الكتاب: البرهان
المؤلف: الزركشي
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٩٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٦ - ١٩٥٧ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاءه
ردمك:
ملاحظات:

البرهان
في علوم القرآن
للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الثاني
الطبعة الأولى
1376 ه‍ - 1957 م
دار احياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاه
1

(جميع الحقوق محفوظة)
2

بسم الله الرحمن الرحيم
النوع الثاني والثلاثون
معرفة أحكامه
وقد اعتنى بذلك الأئمة وأفردوه، وأولهم الشافعي، ثم تلاه من أصحابنا الكيا الهراسي (1)،
ومن الحنفية أبو بكر الرازي (2)، ومن المالكية القاضي إسماعيل (3)، وبكر بن العلاء
القشيري (4)، وابن بكير، ومكي، وابن العربي (5)، وابن الفرس (6)، ومن الحنابلة
القاضي أبو يعلى الكبير (7).
ثم قيل: إن آيات الأحكام خمسمائة آية وهذا ذكره الغزالي وغيره، وتبعهم الرازي،
ولعل مرادهم المصرح به، فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير
3

من الأحكام، ومن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتاب الإمام الشيخ عز الدين بن
عبد السلام.
ثم هو قسمان: أحدهما ما صرح به في الأحكام، وهو كثير، وسورة البقرة والنساء
والمائدة والأنعام مشتملة على كثير من ذلك، والثاني ما يؤخذ بطريق الاستنباط. ثم هو
على قسمين (1):
أحدهما ما يستنبط من غير ضميمة إلى آية أخرى، كاستنباط الشافعي تحريم الاستمناء
باليد من قوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) (1) إلى قوله: (فمن
ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) (2). واستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله
تعالى: (امرأة فرعون) (3)، (وامرأته حمالة الحطب) (4) ونحوه. واستنباطه
عتق الأصل والفرع بمجرد الملك من قوله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ".
إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ") (5)، فجعل العبودية منافية "
للولادة حيث ذكرت في مقابلتها، فدل على أنهما لا يجتمعان. واستنباطه حجية الاجماع
من قوله: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) (6). واستنباطه (7) صحة صوم الجنب من
قوله تعالى: (فالآن باشروهن) إلى قوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود من الفجر) (8)، فدل على جواز الوقاع في جميع الليل، ويلزم منه تأخير
الغسل إلى النهار، وإلا لوجب أن يحرم الوطء إلى آخر جزء من الليل بمقدار ما يقع (9)
الغسل فيه.
4

والثاني ما يستنبط مع ضميمة آية أخرى، كاستنباط علي وابن عباس رضي الله عنهما
أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ") (1) مع قوله:
(وفصاله في عامين) (2)، وعليه جرى الشافعي، واحتج بها أبو حنيفة على أن أكثر
الرضاع سنتان ونصف (ثلاثون شهرا) ووجهه أن الله تعالى قدر لشيئين مدة " واحدة
فانصرفت المدة بكمالها إلى كل واحد منهما، فلما قام النص في أحدهما بقي الثاني (3) على
أصله، ومثل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فإنه مضروب بكماله لكل واحد منهما،
وأيضا فإنه لا بد من اعتبار مدة يبقى فيها الانسان بحيث يتغير الغذاء، فاعتبرت مدة
يعتاد الصبي فيها غذاء طبيعيا غير اللبن، ومدة الحمل قصيرة، فقدمت الزيادة
على الحولين.
فإن قيل: العادة الغالبة في مدة الحمل تسعة أشهر، وكان المناسب في مقام الإمتنان
ذكر الأكثر المعتاد، لا الأقل النادر، كما في جانب الفصال!
قلنا: لأن هذه المدة أقل مدة الحمل، ولما كان الولد لا يعيش غالبا إذا وضع لستة
أشهر، كانت مشقة الحمل في هذه المدة موجودة " لا محالة في حق كل مخاطب، فكان
ذكره أدخل في باب المناسبة، بخلاف الفصال، لأنه لا حد لجانب القلة فيه، بل يجوز
أن يعيش الولد بدون ارتضاع من الأم، ولهذا اعتبر فيه الأكثر، لأنه الغالب، ولأنه
اختياري، كأنه قيل: حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله أكثر.
ومثله استنباط الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: (أفعصيت
أمري) (4) مع قوله: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) (5)، وكذلك
5

استنباط بعض المتكلمين أن الله خالق لأفعال العباد، من قوله تعالى: (وما تشاءون إلا أن
يشاء الله) (1)، مع قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) (2)، فإذا ثبت أنه
يخلق ما يشاء، وأن مشيئة العبد لا تحصل إلا إذا شاء الله أنتج أنه تعالى خالق لمشيئة العبد.
فائدة
[في ضرورة معرفة المفسر قواعد أصول الفقه]
ولا بد من معرفة قواعد أصول الفقه، فإنه من أعظم الطرق في استثمار الأحكام
من الآيات.
فيستفاد عموم الفكرة في سياق النفي من قوله تعالى: (ولا يظلم ربك أحدا ") (3)
وقوله: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) (4).
وفي الاستفهام من قوله: (هل تعلم له سميا) (5).
وفي الشرط من قوله: (فإما ترين من البشر أحدا ") (6)، (وإن أحد من
المشركين استجارك) (7).
وفي النهي من قوله: (ولا يلتفت منكم أحد) (8).
وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله: (علمت نفس ما أحضرت) (9)
6

وقوله: (ونفس وما سواها) (1). وإذا أضيف إليها (كل)، نحو: (وجاءت كل
نفس) (2).
ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله: (إن الانسان لفي خسر) (3)،
(وسيعلم الكفار) (4)، (ويقول الكافر) (5).
وعموم المفرد المضاف من قوله: (وصدقت بكلمات ربها وكتبه) (6)، وقوله:
(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) (7)، والمراد جميع الكتب التي اقتضت
فيها أعمالهم.
وعموم الجمع المحلى باللام في قوله: (وإذا الرسل أقتت) (8) وقوله: (وإذ
أخذنا من النبيين ميثاقهم) (9)، وقوله: (إن المسلمين والمسلمات...) (10) إلى آخرها.
والشرط من قوله: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما " ولا
هضما ") (11)، وقوله: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا " يره) (12)، وقوله: (وما تفعلوا
من خير يعلمه الله) (13)، (أينما تكونوا يدرككم الموت) (14)، وقوله:
(وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره) (15)، وقوله: (وإذا رأيت الذين
7

يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم) (1) وقوله: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا
فقل سلام عليكم) (2).
هذا إذا كان الجواب طلبا " مثل هاتين الآيتين، فإن كان ماضيا لم يلزم العموم.
وكقوله: (وإذا رأوا تجارة " أو لهوا " انفضوا إليها) (3)، (وإذا جاءك المنافقون
قالوا نشهد إنك لرسول الله) (4). وإن كان مستقبلا فأكثر موارده للعموم كقوله:
(وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) (5) وقوله: (وإذا مروا بهم يتغامزون) (6)،
وقوله: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) (7).
وقد لا يعم كقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم) (8).
ويستفاد كو الأمر المطلق للوجوب من ذمه لمن خالفه وتسميته إياه عاصيا،
وترتيبه العقاب العاجل أو الآجل على فعله.
ويستفاد كون النهي من ذمه لمن ارتكبه وتسميته عاصيا، وترتيبه العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بالإيجاب، والفرض، والكتب، ولفظة
(على)، ولفظة (حق على العباد)، و (على المؤمنين)، وترتيب الذم والعقاب على الترك،
وإحباط العمل بالترك، وغير ذلك.
ويستفاد التحريم من النهي، والتصريح بالتحريم، والحضر، والوعيد على الفعل،
وذم الفاعل، وإيجاب الكفارة، وقوله (لا ينبغي) فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع شرعا
أو عقلا، ولفظة (ما كان لهم، كذا وكذا)، و (لم يكن لهم)، وترتيب الحد على
8

الفعل، ولفظة (لا يحل)، و (لا يصلح)، ووصف الفعل بأنه فساد، أو من تزيين
الشيطان وعمله، وأن الله لا يحبه، وأنه لا يرضاه لعباده، ولا يزكى فاعله، ولا يكلمه
ولا ينظر إليه، ونحو ذلك.
ويستفاد الإباحة من الإذن، والتخيير، والأمر بعد الحضر، ونفي الجناح والحرج
والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه يعفو عنه، وبالإقرار على فعله في زمن الوحي،
وبالإنكار على من حرم الشئ، والإخبار بأنه خلق لنا، وجعله لنا، وامتنانه علينا به،
وإخباره عن فعل من قبلنا له، غير ذام لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على رجحانه
استحبابا أو وجوبا.
فصل
ويستفاد التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب، كقوله تعالى: (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) (1)، (الزانية والزاني فاجلدوا) (2)، فكما يفهم
منه وجوب الجلد والقطع، يفهم منه كون السرقة والزنا علة، وأن الوجوب كان لأجلهما،
مع أن اللفظ من حيث النطق لم يتعرض لذلك، بل يتبادر إلى الفهم من فحوى الكلام.
وكذلك قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم) أي لبرهم، (وإن الفجار لفي
جحيم) (3)، أي لفجورهم.
كذا كل كلام خرج مخرج الذم والمدح في حق العاصي والمطيع، وقد يسمى هذا في علم
الأصول لحن الخطاب.
9

فصل
وكل فعل عظمه الله ورسوله، أو مدحه أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه، أو أحب
فاعله، أو رضى (1) به، أو رضى عن فاعله، أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن.
أو نصبه سببا لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل. أو نصبه سببا " لذكره لعبده،
أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته،
أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارة فاعله. أو وصف فاعله بالطيب. أو وصف الفعل
بكونه معروفا، أو نفي الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه
سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو أقسم به وبفاعله،
كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب.
فصل
وكل فعل طلب الشرع تركه، أو ذم فاعله، أو عتب عليه، أو لعنه، أو مقت
فاعله، أو نفى محبته إياه أو محبة فاعله، أو نفى الرضا به، أو الرضا عن فاعله، أو شبه فاعله
بالبهائم، أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهة،
أو استعاذ الأنبياء منه، أو أبغضوه، أو جعل سببا " لنفي الفلاح أو لعذاب عاجل أو آجل،
أو لذم أو لوم أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس، أو نجس، أو بكونه فسقا
أو إثما، أو سببا لإثم أو رجس أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من
10

الحدود أو قسوة أو خزى أو امتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته والاستهزاء به،
أو سخريته. أو جعله الرب سببا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو بالحلم
أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى
عمل الشيطان وتزيينه، أو تولى الشيطان لفاعله. أو وصف بصفة ذم، مثل كونه ظلما
أو بغيا أو عدوانا أو إثما، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله،
أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو ترتب عليه
حرمان من الجنة، أو وصف فاعله بأنه عدو لله، أو أعلم فاعله بحرب [من] (1) الله ورسوله،
أو حمل فاعله إثم غيره. أو قيل فيه: (لا ينبغي هذا) و (لا يصلح)، أو أمر بالتقوى
عند السؤال عنه، أو أمر بفعل يضاده. أو هجر فاعله، أو يلاعن في الآخرة،
أو يتبرأ بعضهم من بعض، أو وصف صاحبه بالضلالة، أو أنه ليس من الله في شئ،
أو أنه ليس من الرسول وأصحابه، أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم، أو أخبر (2)
عنهما بخبر واحد. أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء
بين المسلمين، أو قيل لفاعله: (هل أنت منته)، أو نهى الأنبياء، عن الدعاء لفاعله، أو رتب
عليه أبعادا " وطردا، أو لفظة (قتل من فعله)، أو (قاتل الله من فعله)، أو أخبر أن
فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه، أو أن الله لا يصلح عمله،
أو لا يهدى كيده، أو أن فاعله لا يفلح، أو لا يكون في القيامة من الشهداء، ولا من
الشفعاء، أو أن الله تعالى يغار من فعله، أو نبه على وجود المفسدة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل
من فاعله صرفا " ولا عدلا، أو أخبر أن من فعله قيض له الشيطان فهو له قرين، أو جعل
الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وفهم الآية، وسؤاله سبحانه عن
11

علة الفعل، نحو: (لم تصدون عن سبيل الله من آمن) (1)، (لم تلبسون
الحق بالباطل) (2)، (ما منعك أن تسجد) (3)، (لم تقولون ما لا
تفعلوا ن) (4)، ما لم يقترن به جواب عن السؤال، فإذا قرن به جواب كان بحسب جوابه.
فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل، ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على
مجرد الكراهة.
وأما لفظ (يكرهه الله ورسوله)، وقوله: (عند ربك مكروها ")، (5) فأكثر
ما يستعمل في المحرم، وقد يستعمل في كراهة التنزيه، وأما لفظ (أما أنا فلا أفعل)
فالمحقق فيه الكراهة، كقوله: (أما أنا فلا آكل متكئا)، وأما لفظ (ما يكون لك)
و (ما يكون لنا) فاطرد استعمالها في المحرم، نحو: (ما يكون لك أن تتكبر
فيها) (6)، (وما يكون لنا أن نعود فيها) (7)، (ما يكون لي أن أقول ما ليس
لي بحق) (8).
فصل
وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن، والعفو، و (إن شئت
فافعل)، و (إن شئت فلا تفعل)، ومن الإمتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها من
12

الأفعال، نحو: (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ") (1)، (وبالنجم هم يهتدون) (2)،
ومن السكوت عن التحريم، ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي، وهو نوعان:
إقرار الرب تعالى، وإقرار رسوله إذا علم الفعل فمن إقرار الرب قول جابر: (كنا
نعزل والقرآن ينزل)، ومن إقرار رسوله قول حسان: (كنت أنشد وفيه من هو خير منك).
فائدة
قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا
تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) (3) جمعت أصول أحكام الشريعة كلها، فجمعت الأمر
والنهي والإباحة والتخيير.
فائدة
تقديم العتاب على الفعل من الله تعالى يدل على تحريمه، فقد عاتب الله سبحانه في
خمسة مواضع من كتابه: في الأنفال (4)، وبراءة (5)، والأحزاب (6)، والتحريم (7)،
13

وعبس (1) خلافا للشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث جعل العتب من أدلة النهى.
فائدة
لا يصح الإمتنان بممنوع عنه، خلافا لمن زعم أنه يصح، ويصرف الامتنان إلى خلقه
للصبر عليهم.
فائدة
التعجب كما يدل على محبة الله للفعل، نحو (عجب ربك من شاب ليست له صبوة)،
و (تعجب ربك من رجل ثار من فراشه ووطائه إلى الصلاة)، ونحو ذلك فقد يدل على
بغض الفعل كقوله: (وإن تعجب فعجب قولهم) (2)، وقوله: (بل عجبت
ويسخرون) (3) وقوله: (كيف تكفرون بالله) (4)، (وكيف تكفرون
وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله) (5).
وقد يدل على امتناع الحكم وعدم حسنه، كقوله: (كيف يكون للمشركين
عهد عند الله وعند رسوله (6).
ويدل على حسن المنع منه وأنه لا يليق به فعله، كقوله: (كيف يهدي الله قوما "
كفروا بعد إيمانهم) (7).
14

قاعدة
في الإطلاق والتقييد (1)
إن وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا، والمطلق على إطلاقه، والمقيد على
تقييده، لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب. والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شئ بصفة
أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقا نظر، فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك
الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى
من الآخر.
فالأول مثل اشتراط الله العدالة في الشهود على الرجعة والفراق والوصية، وإطلاقه
الشهادة في البيوع وغيرها، والعدالة شرط في الجميع.
ومنه تقييد ميراث الزوجين بقوله: (من بعد وصية يوصين بها أو دين) (2)
وإطلاقه الميراث فيما أطلق فيه، وكان ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين.
وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من الرقبة المؤمنة، وأطلقها في كفارة الظهار
واليمين، والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة.
وكذلك تقييد الأيدي إلى المرافق في الوضوء، وإطلاقه في التيمم.
وكذلك: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)، فأطلق الإحباط عليه
وعلقه بنفس الردة، ولم يشترط الموافاة عليه. وقال في الآية الأخرى: (ومن يرتدد
15

منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) (1) وقيد الردة بالموت
عليها والموافاة على الكفر، فوجب رد الآية المطلقة إليها وألا يقضي بإحباط الأعمال
إلا بشرط الموافاة عليها، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإن كان قد تورع في هذا
التقرير.
ومن هذا الإطلاق تحريم الدم وتقييده في موضع آخر بالمسفوح، وقوله: (فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم) (2)، وقال في موضع آخر: (منه) (3).
وقوله: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد
حرث الدنيا نؤته منها) (4). فإنه لو قيل: نحن نرى من يطلب الدنيا طلبا حثيثا
ولا يحصل له منها شئ! قلنا: قال الله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها
ما نشاء لمن نريد) (5)، فعلق ما يريد بالمشيئة والإرادة.
ومثله قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان)، وقوله: (ادعوني
أستجب لكم) (7)، فإنه معلق.
تنبيه
اختلف الأصوليون في أن حمل المطلق على المقيد: هل هو من وضع اللغة أو بالقياس
على مذهبين، والأولون يقولون: العرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالمقيد
16

وطلبا للإيجاز والاختصار، وقد قال تعالى: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) (1).
والمراد (عن اليمين قعيد)، ولكن حذف لدلالة الثاني عليه.
وزعم بعضهم أن القرآن كالآية الواحدة، لأن كلام الله تعالى واحد، فلا بعد أن
يكون المطلق كالمقيد.
قال إمام الحرمين: وهذا غلط، لأن الموصوف بالاتحاد الصفة القديمة المختصة بالذات،
وأما هذه الألفاظ والعبارات فمحسوس تعددها، وفيها الشئ ونقيضه، كالإثبات والنفي،
والأمر والنهي، إلى غير ذلك من أنواع النقائض التي لا يوصف الكلام القديم
بأنه [اشتمل] (2) عليها.
والثاني كإطلاق صوم الأيام في كفارة اليمين، وقيدت بالتتابع في كفارة الظهار
والقتل، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الأصل تركناه على إطلاقه.
هذا كله إذا كان الحكمان بمعنى واحد، وإنما اختلفا في الإطلاق والتقييد، فأما
إذا حكم في شئ بأمور لم يحكم في شئ آخر ينقض تلك الأمور وسكت فيه عن بعضها -
فلا يقتضي الإلحاق، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، وذكر في التيمم عضوين فلم
يكن في الأمر بمسح الرأس وغسل الرجلين في الوضوء دليل على مسحهما بالتراب في التيمم..
ومن ذلك ذكر العتق والصوم والطعام في كفارة الظهار، ولم يذكر الإطعام في كفارة
القتل، فلم يجمع بينهما في إبدال الطعام عن الصيام.
وقريب من هذا قول السلف في قوله تعالى: (وأمهات نسائكم وربائبكم) (3)
أن اللام مبهمة، وعنوا بذلك أن الشرط في الربائب خاصة.
17

قاعدة
في العموم والخصوص
لا يستدل (1) بالصفة العامة إذا لم يظهر تقييد عدم التعميم، ويستفاد ذلك من السياق،
ولهذا قال الشافعي: اللفظ بين في مقصوده، ويحتمل في غير مقصوده.
فمنه قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة) (2) لا يصلح الإحتجاج
بها في إيجاب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيره، وفي المتنوع منهما من الحلي وغيره.
ألا ترى أن من ملك دون النصاب منهما غير داخل في جملة المتوعدين بترك الانفاق
منهما! وهذا يدل على إن القصد من الآية إثبات الحكم في ترك أداء الواجب من
الزكاة منهما، وفيها دليل على وجوب الزكاة فيهما، وليس فيها بيان مقدار ما يجب من
الحق فيهما.
وقوله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون...) (3) الآية، القصد منها
مدح قوم صانوا فروجهم عما لا يحل ولم يواقعوا بها إلا من كان بملك النكاح
أو اليمين، وليس في الآية بيان ما يحل منها وما لا يحل (4)، ثم إذا احتيج إلى تفصيل
ما يحل بالنكاح وملك اليمين صير إلى ما قصد، وتفصيله بقوله: (حرمت عليكم
أمهاتكم...) (5) الآية.
18

كذا قاله القفال الشاشي (1)، وفيه نظر لما سبق.
ومثله قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام) (2) إلى قوله: (من الخيط
الأسود) (2) فلو تعلق متعلق بقوله: (وكلوا واشربوا) (2) في إباحة أكل أو شرب
كل شئ قد اختلف فيه لكان لا معنى له، لأن المخاطب قد غفل عن أنها لم ترد مبينة لذلك،
بل مبينة لحكم جواز الأكل والشرب والمباشرة إلى الفجر دفعا " لما كان الناس عليه من حظر
ذلك على من نام، فبين في الآية إباحة ما كان محظورا، ثم أطلق لفظ الأكل والشرب
والمباشرة لا على معنى إبانة الحكم فيما يحل من ذلك وما يحرم. ألا ترى أنه لا يدخل فيه
شرب الخمر والدم وأكل الميتة ولا المباشرة فيما لا يبتغى منه الولد، ومثله في القرآن كثير.
وهذا يدل على أن النظر في العموم إلى المعاني لا لإطلاق اللفظ.
قال القفال: ومن ضبط هذا الباب أفاد علما كثيرا ".
فصل
[الأحكام المستنبطة من تنبيه الخطاب]
ومما تستثمر منه الأحكام تنبيه الخطاب، وهو إما في الطلب كقوله تعالى: (فلا تقل
لهما أف) (3) فنهيه عن القليل منبه على الكثير، وقوله: (ولا تأكلوا أموالهم
إلى أموالكم) (4) يدل على تحريم الإحراق والإتلاف.
19

وإما في الخبر:
فإما أن يكون بالتنبيه بالقليل (1) على الكثير، كقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا ") (2) فنبه على أن الرطل والقنطار لا يضيع لك عنده. وكقوله: (ما يملكون
من قطمير) (3)، (ولا يظلمون نقيرا ") (4)، (ولا يظلمون فتيلا ") (5)، (وما يعزب
عن ربك من مثقال ذرة) (6) فإنه يدل على أن من لم يملك نقيرا أو قطميرا مع قلتهما، فهو عن
ملك ما فوقهما أولى. وعلم أن من لم يعزب عنه مثقال ذرة مع خفائه ودقته، فهو بألا يذهب
عنه الشئ الجليل الظاهر أولى.
وإما بالكثير على القليل، كقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار
يؤده إليك) (7) فهذا من التنبيه على أنه (8) يؤدى إليك الدينار وما تحته. ثم قال:
(ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) (7) فهذا من الأول، وهو التنبيه بالقليل
على الكثير، فدل بالتنبيه على أنك لا تأمنه بقنطار، بعكس الأول.
ومثل قوله في فرش أهل الجنة: (بطائنها من إستبرق) (9)، وقد علمنا إن أعلى
ما عندنا هو الإستبرق الذي هو الخشن من الديباج، فإذا كان بطائن [فرش] (10) أهل
الجنة ذلك، فعلم أن وجوهها في العلو إلى غاية لا يعقل معناها.
وكذلك قوله في شراب أهل الجنة: (ختامه مسك) (11) وإنما يرى من
الكأس الختام، وأعلى ما عندنا رائحة المسك، وهو أدنى شراب أهل الجنة، فليتبين
20

اللبيب إذا كان الثفل الذي فيه المسك أيش يكون حشو الكأس فيظهر فضل حشو الكأس
بفضل الختام، وهذا من التنبيه [الخفي] (1).
وقوله: (الذي باركنا حوله) (2) فنبه على حصول البركة فيه من باب أولى.
واعلم (3) أن هذا النوع البديع ينظر إليه من ستر رقيق، وطريق تحصيله فهم المعنى
وتقييده من سياق الكلام، كما في آية التأفيف، فإنا نعلم أن الآية إنما سيقت لاحترام
الوالدين وتوقيرهما، ففهمنا منه تحريم الشتم والضرب، ولو لم يفهم المعنى لا يلزم ذلك، لأن
الملك الكبير يتصور أن يقول لبعض عبيده: اقتل قرني ولا تقل له: أف، ويكون قصده
الأمن عن مزاحمته في الملك، فثبت أن ذلك إنما جاء لفهم المعنى.
فإن قيل: فإذا ابتنى الفهم على تخيل المعنى كان بطريق القياس كما صار
إليه الشافعي!
قيل: ما يتأخر من نظم الكلام وما يتقدم فهمه على اللفظ ويقترن به لا يكون قياسا
حقيقيا، لأن القياس ما يحتاج فيه إلى استنباط وتأمل، فإن أطلق القائل بأنه قياس اسم
القياس عليه وأراد ما ذكرناه فلا مضايقة في التسمية.
فصل
[في الحكم على الشئ مقيدا بصفة]
وقد (4) عبد يحكم على الشئ مقيدا بصفة، ثم قد يكون ما سكت عنه بخلافه، وقد يكون
21

مثله، فمن الأول قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم)، وقوله: (إن جاءكم
فاسق بنبأ فتبينوا)، وقوله: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم)،
فاشترط أولاد الصلب تنبيها على إباحة حلائل أبناء الرضاع (4)، وليس في ذكر الحلائل
إباحة من وطئه الأبناء من الإماء بملك اليمين. وهذه الآية مما اجتمع فيه النوعان - أعني
المخالفة والمماثلة.
وكذلك قوله: (لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن...) (5) الآية، فيه
وقوع الجناح في إبداء الزينة لمن عدا المذكورين من الأجانب، ولم يكن فيه إبداؤها
لقرابة الرضاع.
ومن الثاني قوله تعالى في الصيد: (و من قتله منكم متعمدا " فجزاء مثل ما قتل
من النعم). فإن القتل إتلاف والإتلاف عمده وخطؤه، فيستدل به على أن التعمد
ليس بشرط.
فإن قيل: فما فائدة التقييد في هذا القسم إذا كان المسكوت عنه مثله، وهلا حذفت
الصفة واقتصر على قوله: (ومن قتله منكم)؟
قلنا: لتخصيص الشئ بالذكر فوائد: منها اختصاصه في جنسه بشئ لا يشركه فيه
غيره من جملة الجنس، كما في هذه الآية - أعني قوله: (ومن قتله منكم متعمدا ")
22

إلى قوله: (فينتقم الله منه) إن المتعمد إنما خص بالذكر لما عطف عليه في آخر
الآية من الانتقام الذي لا يقع إلا في العمد دون الخطأ.
ومنها ما يخص بالذكر تعظيما له على سائر ما هو من جنسه، كقوله تعالى: (منها
أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) فخص النهى عن الظلم
فيهن، وإن كان الظلم منهيا عنه في جميع الأوقات تفضيلا لهذه الأشهر وتعظيما للوزر فيها.
وقوله: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج).
ومنها أن يكون ذلك الوصف هو الغالب عليه، كقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي
في حجوركم...) الآية، فإن الغالب من حال الربيبة أنها تكون في حجر أمها. ونحو:
(يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم...) (5) إلى قوله:
(ثلاث مرات...) (5) الآية خص هذه الأوقات الثلاثة بالاستئذان، لأن الغالب تبذل
البدن فيهن، وإن كان في غير هذه الأوقات ما يوجب الاستئذان فيجب. وكذلك قوله:
(فإن خفتم ألا يقيما حدود الله) (6) فالافتداء يجوز مع الأمر. وقوله: (فليس
عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم). وقوله: (فإن لم يكونا
رجلين فرجل وامرأتان)، وقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا " فرهان
مقبوضة) فجرى التقييد بالسفر، لأن الكاتب إنما يعدم غالبا فيه، ولا يدل على منع
الرهن إلا في السفر، كما صار إليه مجاهد.
23

النوع الثالث والثلاثون
في معرفة جدله
وقد أفرده من المتأخرين بالتصنيف العلامة نجم الدين الطوفي (1) ما رضي الله عنه.
اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما من برهان
ودلالة وتقسيم وتحديد شئ من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى
قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام
المتكلمين لأمرين:
أحدهما بسبب ما قاله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم...) (2) الآية.
والثاني أن المائل (3) إلى دقيق المحاجة (4) هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل
من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط
إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة
خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم
الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء.
24

وعلى هذا حمل الحديث المروي: (إن لكل آية ظهرا وبطنا " ولكل حرف حدا
ومطلعا)، لا على ما ذهب إليه الباطنية، ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان
نصيبه من علم القرآن أكثر. ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها
مرة بإضافته إلى أولي العقل، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المفكرين، ومرة إلى
المتذكرين، تنبيها أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقته منها، وذلك نحو
قوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون)، وغيرها من الآيات.
واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين،
فمن ذلك الاستدلال على حدوث العالم بتغير الصفات عليه وانتقاله من حال إلى حال،
وهو آية الحدوث، وقد ذكر الله تعالى في احتجاج إبراهيم الخليل (2) عليه السلام
استدلاله بحدوث الأقل على وجود المحدث والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات
الثلاث وهو الحدوث، طردا " للدليل في كل ما هو مدلوله، لتساويها في علة الحدوث
وهي الجسمانية.
ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالم واحد بدلالة التمانع المشار إليه في قوله تعالى:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)، لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري
تدبيرهما على نظام، ولا يتسق على إحكام، ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما، وذلك
لو أراد أحدهما إحياء جسم، وأراد الآخر إماتته، فإما أن تنفذ إرادتهما فتتناقض لاستحالة
تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق، أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف. وإما
25

لا تنفذ إرادتهما فيؤدى إلى عجزهما، أولا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه، والإله
لا يكون عاجزا.
ومن ذلك الاستدلال على المعاد الجسماني بضروب:
أحدها: قياس الإعادة على الابتداء، قال تعالى: (كما بدأكم تعودون)،
(كما بدأنا أول خلق نعيده)، (أفعيينا بالخلق الأول).
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى نحو: (أو ليس
الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم)، لخلق السماوات
والأرض أكبر من خلق الناس) (5).
ثالثها: قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات، وهو في كل
موضع ذكر فيه إنزال المطر غالبا، نحو: (ويحي الأرض بعد موتها وكذلك
تخرجون).
رابعها: قياس الإعادة على اخراج النار من الشجر الأخضر، وقد ورد أن أبي بن
خلف لما جاء بعظام بالية ففتها وذرها في الهواء وقال: يا محمد، من يحي العظام وهي رميم!
فأنزل الله تعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم)،
فعلم سبحانه كيفية الاستدلال برد النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث، ثم
زاد في الحجاج بقوله: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ")، وهذا في
26

غاية البيان في رد الشئ إلى نظيره، والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما.
خامسها: في قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت
بلى وعدا " عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ليبين لهم الذي يختلفون فيه
وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين) (1). وتقريرها كما قاله ابن السيد (2):
إن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلاب الحق في نفسه، وإنما تختلف
الطرق الموصلة إليه، والحق في نفسه واحد، فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة
لا محالة، وكان لا سبيل لنا في حياتنا هذه إلى الوقوف عليها وقوفا يوجب
الائتلاف، ويرفع عنا الاختلاف، إذ كان الاختلاف مركوزا في فطرنا، وكان
لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجبلة، ونقلها إلى جبلة غيرها - صح ضرورة "
أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة، فيها يرتفع الخلاف والعناد، وهذه هي الحال التي وعد
الله بالمصير إليها فقال: (ونزعنا ما في صدورهم من غل)، (1) ولا بد من كون ذلك
باضطرار، إذ كان جواز الخلاف يقتضي الائتلاف، لأنه نوع من المضاف، وكان لا بد من
حقيقته، فقد صار الخلاف الموجود كما ترى أوضح دليل على كون البعث الذي
ينكره المنكرون.
27

النوع الرابع والثلاثون
معرفة ناسخه من منسوخه
والعلم به عظيم الشأن، وقد صنف فيه جماعة كثيرون منهم قتادة بن دعامة (1)
السدوسي، وأبو عبيد القاسم بن سلام (2)، وأبو داود السجستاني (3)، وأبو جعفر (4)
النحاس، وهبة الله بن سلام (5) الضرير، وابن العربي (6)، وابن الجوزي (7)، وابن
الأنباري (8)، ومكي (9)، وغيرهم.
28

ومن ظريف ما حكى في كتاب هبة الله أنه قال في قوله تعالى: (ويطعمون الطعام
على حبه مسكينا " ويتيما " وأسيرا ") (1) منسوخ من هذه الجملة (وأسيرا)، والمراد بذلك
أسير المشركين، فقرئ الكتاب عليه وابنته تسمع، فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت:
أخطأت يا أبت في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية؟ قالت: أجمع المسلمون على
أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا.
قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ
والمنسوخ، وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم،
قال: هلكت وأهلكت.
والنسخ يأتي بمعنى الإزالة، ومنه قوله تعالى: (فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم
يحكم الله آياته) (2).
يأتي بمعنى التبديل كقوله: (وإذا بدلنا آية مكان آية) (3).
وبمعنى التحويل كتناسخ المواريث - يعني تحويل الميراث من واحد إلى واحد.
ويأتي بمعنى النقل من موضع إلى موضع، ومنه: (نسخت الكتاب) إذا نقلت
ما فيه حاكيا للفظه وخطه. قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن، وأنكر
على النحاس إجازته ذلك، محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ، وإنما يأتي بلفظ
آخر. وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدي: يشهد (4) لما قاله النحاس قوله تعالى:
29

(إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) (1) وقال: (وإنه في أم الكتاب لدينا
لعلي حكيم) (2)، ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوما " جميعه في أم الكتاب، وهو
اللوح المحفوظ كما قال: (في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) (3).
ثم اختلف العلماء، فقيل: المنسوخ ما رفع تلاوة تنزيله، كما رفع العمل به. ورد
بما نسخ الله من التوراة بالقرآن والإنجيل وهما متلوان.
وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل. والنسخ مما خص الله به هذه الأمة في حكم
من التيسير (4)، ويفر (5) هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا " بعد نزوله والعمل به،
وهذا مذهب اليهود في الأصل، ظنا (6) منهم أنه بداء، كالذي يرى الرأي ثم يبدو له،
وهو باطل، لأنه بيان مدة الحكم، ألا ترى الإحياء بعد الإماتة وعكسه، والمرض بعد
الصحة وعكسه، والفقر بعد الغنى وعكسه، وذلك لا يكون بداء، فكذا الأمر
والنهي.
وقيل: إن الله تعالى نسخ القرآن من اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب، فأنزله على
نبيه، والنسخ لا يكون إلا من أصل.
والصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا.
ثم اختلفوا فقيل: لا ينسخ قرآن إلا بقرآن، لقوله تعالى: (ما ننسخ من آية
30

أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (1)، قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرا " منه
إلا قرآن.
وقيل: بل السنة لا تنسخ السنة.
وقيل: السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت، وإن كانت باجتهاد
فلا تنسخه. حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره.
وقيل: بل إحداهما تنسخ الأخرى، ثم اختلفوا فقيل: الآيتان إذا أوجبتا حكمين
مختلفين وكانت إحداهما متقدمة الأخرى، فالمتأخرة ناسخة للأولى، كقوله تعالى: (إن
ترك خيرا " الوصية للوالدين والأقربين) (2) ثم قال بعد ذلك: (ولأبويه لكل
واحد منهما السدس) (3)، وقال: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه
الثلث) (3) قالوا: فهذه ناسخة للأولى، ولا يجوز أن يكون لهما الوصية والميراث.
وقيل: بل ذلك جائز، وليس فيهما ناسخ ولا منسوخ، وإنما نسخ الوصية للوارث
بقوله عليه السلام: (لا وصية لوارث). وقيل: ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة.
ويجوز نسخ الناسخ فيصير الناسخ منسوخا، وذلك كقوله: (لكم دينكم
ولي دين) (4)، نسخها بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) (5)، ثم نسخ هذه
أيضا بقوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد) (6). وقوله: (فاعفوا واصفحوا حتى
يأتي الله بأمره) (7) وناسخه قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) (5) ثم نسخها:
(حتى يعطوا الجزية) (6).
31

مسألة
[في جواز النسخ بالكتاب]
لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب، قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية
أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) (1) وقال: (وإذا بدلنا آية مكان آية
والله أعلم بما ينزل) (2)، ولذلك نسخ السنة بالكتاب كالقصة في صوم عاشوراء
برمضان وغيره.
واختلف في نسخ الكتاب بالسنة، قال ابن عطية: حذاق الأمة على الجواز، وذلك
موجود في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وصية لوارث)، وأبى الشافعي ذلك (3)، والحجة
عليه من قوله في اسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رجم، فإنه لا مسقط لذلك إلا
السنة فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
قلنا: أما آية الوصية فقد ذكرنا أن ناسخها القرآن، وأما ما نقله عن الشافعي فقد
اشتهر ذلك لظاهر لفظ ذكره في الرسالة (3)، وإنما مراد الشافعي أن الكتاب والسنة
لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له، وهذا تعظيم لقدر الوجهين وإبانة تعاضدهما
وتوافقهما، وكل من تكلم على هذه المسألة لم يفهم مراده.
وأما النسخ بالآية فليس بنسخ بل تخصيص، ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت
تلاوته، وهو: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما) (4).
32

فصل
[فيما يقع فيه النسخ]
الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي. وزاد بعضهم الأخبار وأطلق،
وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي.
تنبيهات
التنبيه الأول
[في تقسيم سور القرآن بحسب ما دخله من النسخ وما لم يدخله]
اعلم أن سور القرآن العظيم [تنقسم] بحسب ما دخله النسخ وما لم يدخل إلى أقسام (1):
أحدهما ما ليس فيه ناسخ ولا منسوخ، وهي ثلاث وأربعون سورة: وهي الفاتحة،
ثم يوسف، ثم يس، ثم الحجرات، ثم الرحمن، ثم الحديد، ثم الصف، ثم الجمعة،
ثم التحريم، ثم الملك، ثم الحاقة، ثم نوح، ثم الجن، ثم المرسلات، ثم النبأ، ثم
النازعات، ثم الانفطار، ثم المطففين، ثم الانشقاق، ثم البروج، ثم الفجر، ثم البلد،
ثم الشمس، ثم الليل، ثم الضحى، ثم الإنشراح، ثم القلم، [ثم القدر]، (2)، ثم
الانفكاك، ثم الزلزلة، ثم العاديات، ثم القارعة، ثم ألهاكم، ثم الهمزة، ثم الفيل،
ثم قريش، ثم الدين، ثم الكوثر، ثم النصر، ثم تبت، ثم الإخلاص، ثم
المعوذتين (3).
33

وهذه السور تنقسم إلى ما ليس فيه أمر ولا نهي وإلى ما فيه نهي لا أمر (1).
والثاني: ما فيه ناسخ وليس فيه منسوخ، وهي ست سور: الفتح، والحشر، والمنافقون،
والتغابن، والطلاق، والأعلى.
الثالث: ما فيه منسوخ وليس فيه ناسخ، وهو أربعون: الأنعام، والأعراف،
ويونس، وهود، والرعد، والحجر، والنحل، وبنو إسرائيل، والكهف، وطه،
والمؤمنون، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان، والمضاجع (2)، والملائكة،
والصافات، وص، والزمر، والمصابيح (3)، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف،
وسورة محمد، صلى الله عليه وسلم، والباسقات، والنجم، والقمر، والرحمن، والمعارج،
والمدثر، والقيامة، والإنسان، وعبس، والطارق، والغاشية، والتين، والكافرون.
الرابع: ما اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ، وهي إحدى وثلاثون سورة (4): البقرة
وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأعراف، والأنفال، والتوبة، وإبراهيم، والنحل، وبنو
إسرائيل، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور، والفرقان، والشعراء،
والأحزاب، وسبأ، والمؤمن، والشورى، والقتال، والذاريات، والطور، والواقعة،
والمجادلة، والممتحنة، والمزمل، والمدثر، والتكوير، والعصر.
ومن غريب هذا النوع آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ، قيل ولا نظير لها في القرآن،
وهي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
34

اهتديتم) (1)، يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا ناسخ لقوله: (عليكم
أنفسكم) ذكره ابن العربي في أحكامه (2).
التنبيه الثاني (3)
[في ضروب النسخ في القرآن]
النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب:
الأول: ما نسخ في تلاوته وبقي حكمه فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول، كما روى أنه كان
يقال في سورة النور: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله)، ولهذا
قال عمر: لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله، لكتبتها بيدي. رواه البخاري
في صحيحه معلقا (4).
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب
توازي سورة النور، فكان فيها: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما).
وفي هذا سؤالان: الأول: ما الفائدة في ذكر الشيخ والشيخة؟ وهلا قال: المحصن والمحصنة؟
وأجاب ابن الحاجب في أماليه عن هذا بأنه من البديع في المبالغة، وهو أن يعبر
عن الجنس في باب الذم بالأنقص فالأنقص في، وفي باب المدح بالأكثر والأعلى، فيقال:
لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده، والمراد: يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى
ما يسرق. وقد يبالغ فيذكر مالا تقطع به، كما جاء في الحديث: (لعن الله السارق
35

يسرق البيضة فتقطع يده) (1) وقد علم أنه لا تقطع في البيضة، وتأويل من أوله ببيضة
الحرب تأباه الفصاحة.
الثاني: أن ظاهر قوله: (لولا أن يقول الناس...) الخ أن كتابتها جائزة، وإنما منعه
قول الناس، والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه، وإذا كانت جائزة لزم
أن تكون ثابتة، لأن هذا شأن المكتوب. وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية
لبادر عمر رضي الله عنه ولم يعرج على مقال الناس، لأن مقال الناس لا يصلح مانعا.
وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة، ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد، والقرآن لا يثبت به،
وإن ثبت الحكم، ومن هنا أنكر ابن ظفر في " الينبوع " (2) عد هذا مما نسخ
تلاوته، قال: لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن. قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ،
وهما مما يلتبسان (3)، والفرق بينهما أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه ويثبت أيضا، وكذا قاله
غيره القراءات الشاذة، كإيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين ونحوه أنها كانت قرآنا
فنسخت تلاوتها، لكن في العمل بها الخلاف المشهور في القراءة الشاذة (4).
ومنهم من أجاب عن ذلك بأن هذا كان مستفيضا " عندهم وأنه كان متلوا من القرآن
فأثبتنا الحكم بالإستفاضة، وتلاوته غير ثابتة بالإستفاضة. ومن هذا الضرب ما رواه مسلم
في صحيحه (5) عن أبي موسى الأشعري إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة
ببراءة فأنسيتها، غير أنى أحفظ منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا
36

ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى
المسبحات (1) فأنسيتها، غير أنى حفظت منها: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا
تفعلون. فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة).
وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر (2) المنادى في كتابه " الناسخ
والمنسوخ ": مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر،
قال: ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة
إلى أبي بن كعب، وأنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقرأه إياهما، وتسمى سورتا
الخلع والحفد.
وهنا سؤال، وهو أن يقال: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا
أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب " الفنون " (3)
فقال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق
الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به، فيسرعون بأيسر شئ، كما سارع الخليل
إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي.
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه وبقي تلاوته، وهو في ثلاث وستين سورة، كقوله
تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا...) (4) الآية، فكانت المرأة إذا
مات زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولا كاملا، ونفقتها في مال الزوج، ولا
ميراث لها، وهذا معنى قوله: (متاعا " إلى الحول غير اخراج...) (5) الآية، فنسخ الله
37

ذلك بقوله: (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ") (1)، وهذا الناسخ مقدم
في النظم على المنسوخ.
قال القاضي أبو المعالي: وليس في القرآن ناسخ تقدم على المنسوخ، إلا في موضعين
هذا أحدهما، والثاني قوله: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك...) (2) الآية،
فإنها ناسخة لقوله: (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج) (3).
قلت: وذكر بعضهم موضعا آخر، وهو قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) (4) هي متقدمة في التلاوة، ولكنها منسوخة
بقوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء) (5).
وقيل: في تقديم الناسخة فائدة، وهي أن تعتقد حكم المنسوخة قبل العلم بنسخها.
ويجئ موضع رابع وهو آية الحشر في قوله تعالى: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى
فلله وللرسول...) (6) الآية، فإنه لم يذكر فيها شئ للغانمين، ورأى الشافعي أنها منسوخة
بآية الأنفال، وهي قوله: (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه) (7).
واعلم أن هذا الضرب ينقسم إلى ما يحرم العمل به ولا يمتنع كقوله: (إن يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) (8) ثم نسخ الوجوب.
ومنه قوله: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (9) قيل: منسوخ بقوله تعالى:
(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) (10).
38

وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) (1) نسختها آيات القيامة والكتاب
والحساب.
وهنا سؤال، وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟
والجواب من وجهين: أحدهما أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه، والعمل به،
فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه، فتركت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيهما أن النسخ غالبا يكون للتخفيف، فأبقيت التلاوة تذكيرا " بالنعمة ورفع المشقة،
وأما حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر.
الثالث: نسخهما جميعا، فلا تجوز قراءته ولا العمل به، كآية التحريم بعشر رضعات
فنسخن بخمس، قالت عائشة: كان مما أنزل عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس
معلومات، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي مما يقرأ من القرآن.
رواه مسلم.
وقد تكلموا في قولها: (وهي مما يقرأ) فإن ظاهره بقاء التلاوة، وليس كذلك، فمنهم
من أجاب بأن المراد قارب الوفاة، والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا " ولم يبلغ ذلك كل
الناس إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتوفي وبعض الناس يقرؤها.
وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت.
وجعل الواحدي من هذا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنا نقرأ:
(لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر) وفيه نظر.
وحكى القاضي أبو بكر في " الانتصار " عن قوم إنكار هذا القسم، لأن
39

الأخبار، فيه أخبار آحاد، ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد
لا حجة فيها.
وقال أبو بكر الرازي: نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه
من أوهامهم، ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف، فيندرس على الأيام
كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: (إن هذا لفي الصحف الأولى.
صحف إبراهيم وموسى) (1)، ولا يعرف اليوم منها شئ. ثم لا يخلو ذلك من أن
يكون في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا توفي لا يكون متلوا في القرآن، أو يموت
وهو متلو موجود في الرسم، ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم، وغير جائز نسخ شئ
من القرآن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فائدة
قال ابن العربي (2): قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) (3) ناسخة لمائة
وأربع عشرة آية، ثم صار آخرها ناسخا لأولها، وهي قوله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) (4).
قالوا: وليس في القرآن آية من المنسوخ ثبت حكمها ست عشرة سنة إلا قوله في
الأحقاف: (قل ما كنت بدعا " من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) (5)،
وناسخها أول سورة الفتح.
40

قال ابن العربي (1): ومن أغرب آية في النسخ قوله تعالى: (خذ العفو وأمر
بالعرف وأعرض عن الجاهلين) (2)، أولها وآخرها منسوخان، ووسطها محكم.
وقسمه الواحدي أيضا " إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات، وإلى نسخ ما هو
ثابت التلاوة بما ليس بثابت التلاوة كنسخ الجلد في حق المحصنين بالرجم، والرجم غير
متلو الآن، وأنه كان يتلى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحكم ثبت
والقراءة لا تثبت، كما يجوز أن تثبت التلاوة في بعض ولا يثبت الحكم. وإذا جاز أن
يكون قرآن ولا يعمل به جاز أن يكون قرآن يعمل به ولا يتلى، وذلك أن الله عز وجل
أعلم بمصالحنا، وقد يجوز أن يعلم من مصلحتنا تعلق العمل بهذا الوجه.
التنبيه الثالث
[في تقسيم القرآن على ضروب من وجه آخر]
قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب:
الأول: نسخ المأمور به قبل امتثاله، وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة، كأمر الخليل
بذبح ولده، وكقوله تعالى: (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ") (3)
ثم نسخه سبحانه بقوله: (أأشفقتم...) (3) الآية.
الثاني: ويسمى نسخا تجوزا، وهو ما أوجبه الله على من قبلنا كحتم هذه القصاص، (4)
41

ولذلك قال عقب تشريع الدية: (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) (1).
وكذلك ما أمرنا الله به أمرا إجماليا ثم نسخ، كنسخه التوجه إلى بيت الله المقدس
بالكعبة، فإن ذلك كان واجبا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله، وكنسخ صوم يوم
عاشوراء برمضان.
الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب، كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة
للذين يرجون (2) لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة، وإنما هو نسء، كما
قال تعالى: (أو ننسئها) (3) فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي
حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.
وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف
أنها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى أن كل أمر ورد
يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم
آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا. وإلى هذا أشار الشافعي في
" الرسالة " إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الرأفة، ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله
منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته، حتى لو فاجأ أهل ناحية جماعة مضرورون
تعلق بأهلها النهى.
ومن هذا قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم...) (4) الآية،
كان ذلك في ابتداء الأمر، فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
42

والمقاتلة عليه. ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:
(بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ) عاد الحكم، وقال صلى الله عليه وسلم:
(فإذا رأيت هوى متبعا وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك).
وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم حين ضعفه ما يليق
بتلك الحال رأفة " بمن تبعه ورحمة، إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة، فلما أعز الله
الاسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار
بالإسلام أو بأداء الجزية - إن كانوا أهل كتاب - أو الاسلام أو القتل إن لم يكونوا
أهل كتاب.
ويعود هذان الحكمان - أعني المسألة عند الضعف والمسايفة عند القوة - بعود سببهما،
وليس حكم المسايفة ناسخا " لحكم المسالمة، بل كل منهما يجب امتثاله في وقته.
فائدة
قيل في قوله تعالى: (ما ننسخ من آية) (1) ولم يقل (من القرآن)، لأن
القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب، وليس يأتي بعده ناسخ له، وما فيه من ناسخ
ومنسوخ فمعلوم وهو قليل، بين الله ناسخه عند منسوخه، كنسخ الصدقة عند مناجاة
الرسول والعدة والفرار في الجهاد ونحوه، وأما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب
ذلك من المنسأ، ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل، كالسبيل في حق الآتية بالفاحشة،
فبينته السنة، وكل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم
43

القرآن، وقال سبحانه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس) (1)، وأما بالقرآن
على ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ، وإنما هو نسأ وتأخير، أو مجمل أخر بيانه
لوقت الحاجة، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره، أو مخصوص من عموم،
أو حكم عام لخاص أو لمداخلة معنى في معنى. وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا
وليس به، وأنه الكتاب المهيمن على غيره، وهو في نفسه متعاضد، وقد تولى الله حفظه
فقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (2).
44

النوع الخامس والثلاثون
معرفة موهم المختلف
وهو ما يوهم التعارض بين آياته، وكلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف، كما
قال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا " كثيرا ") (1)، ولكن
قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به، فاحتيج لإزالته، كما صنف في مختلف الحديث
وبيان الجمع بينهما، وقد رأيت لقطرب (2) فيه تصنيفا حسنا، جمعه على السور.
وقد تكلم فيه الصدر الأول، ابن عباس (3) وغيره.
وقال الإمام: وقد وفق الحسن البصري بين قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين
ليلة) (4)، وقوله: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " وأتممناها بعشر) (5)، بأن قال:
ليس المراد في آية الأعراف على ظاهره، من أن الوعد كان ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك وعده
بعشر، لكنه وعده أربعين ليلة جميعا. انتهى.
وقيل: تجري آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين، ثم أتم بالعشر،
فاستقرت الأربعون، ثم أخبر في آية البقرة بما استقر.
45

وذكره الخطابي قال: وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج
قال: سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) (1)، فأخبر أنه
لا يقسم بهذا، ثم أقسم به في قوله: (وهذا البلد الأمين) (2) فقال ابن سريج: أي
الأمرين أحب إليك؟ أجيبك ثم أقطعك، أو أقطعك ثم أجيبك؟ فقال: بل اقطعني ثم
أجنبي، فقال: اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرة رجال،
وبين ظهراني قوم، وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا، وعليه مطعنا، فلو
كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به، وأسرعوا بالرد عليه، ولكن القوم علموا وجهلت،
فلم ينكروا منه ما أنكرت، ثم قال له: إن العرب قد تدخل (لا) في أثناء كلامها وتلغى
معناها، وأنشد فيه أبياتا. والقاعدة في هذا أشباهه أن الألفاظ إذا اختلفت وكان مرجعها
إلى أمر واحد لم يوجب ذلك اختلافا.
فائدة
[عن الغزالي في معنى الاختلاف]
سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا "
كثيرا ") (3)، فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان، وليس المراد نفي
اختلاف الناس فيه، بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن، يقال: هذا كلام مختلف، أي
لا يشبه أوله آخره في الفصاحة، إذ هو مختلف، أي بعضه يدعو إلى الدين، وبعضه يدعو
إلى الدنيا. أو هو مختلف النظم، فبعضه على وزن الشعر، وبعضه منزحف، وبعضه على
46

أسلوب مخصوص في الجزالة، وبعضه على أسلوب يخالفه، وكلام الله تعالى منزه (1) عن هذه
الاختلافات، فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره، وعلى مرتبة واحدة في
غاية الفصاحة، فليس يشتمل على الغث والسمين، ومسوق لمعنى واحد، وهو دعوة الخلق
إلى الله تعالى، وصرفهم عن الدنيا إلى الدين، وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات،
إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم، ثم اختلاف
في درجات الفصاحة، بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين، فلا تتساوى
رسالتان ولا قصيدتان، بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة، وأبيات سخيفة، وكذلك تشتمل
القصائد والأشعار على أغراض مختلفة، لأن الشعراء والفصحاء (في كل واد يهيمون) (2)،
فتارة يمدحون الدنيا، وتارة يذمونها، وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما، وتارة يذمونه
ويسمونه ضعفا، وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة، وتارة يذمونها ويسمونها تهورا،
ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات، لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض،
واختلاف الأحوال، والإنسان تختلف أحواله، فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع
وفرحه، ويتعذر عليه عند الإنقباض. ولذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشئ مرة
ويميل عنه أخرى، فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة،
فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة، وهي مدة نزول القرآن، فيتكلم على
غرض واحد، وعلى منهج واحد، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرا " تختلف
أحواله، فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير، فأما اختلاف
الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن، وكيف يكون هذا المراد، وقد قال
تعالى: (يضل به كثيرا " ويهدي به كثيرا ") (3)، فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه
47

غير مختلف، وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق (1) في الضلال والهدى، فلو لم
يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا، وهي أشد أنواع الاختلاف. والله أعلم.
فصل
[في القول عند تعارض الآي] (2)
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني (3): إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب
[والجمع] (4) طلب التاريخ وترك المتقدم منهما بالمتأخر، ويكون ذلك نسخا " له، وإن لم
يوجد التاريخ وكان الاجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا
على العمل بها.
قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان بين عن هذين الوصفين.
وذكروا عند التعارض مرجحات:
الأول: تقديم المكي على المدني، وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه
صلى الله عليه وسلم بعد عوده إلى مكة والمدنية قبلها، فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية
في التخصيص والتقديم إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة.
الثاني: أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة، والآخر على غالب
48

أحوال أهل المدينة، فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحول أهل المدينة، كقوله تعالى:
(ومن دخله كان آمنا ") (1)، مع قوله: (كتب عليكم القصاص في القتلى) (2).
فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى: (ومن
دخله كان آمنا ") (1) كأنه قال: إلا من وجب عليه القصاص. ومثل قوله:
(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) (3) ونهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل صيد مكة، مع
قوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين (4)، فجعل النهى فيمن اصطاده في الحرم، وخص من اصطاده في الحل وأدخله
حيا " فيه.
الثالث: أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه، والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه،
فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب، كقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة
لله) (5)، مع قوله: (فإن أحضرتم فما استيسر من الهدى) (5)، وقد أجمعت
الأمة على أن الهدى لا يجب بنفس الحصر، وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا "
له، فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) (5) على
ما عارضه من الآية.
الرابع: أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند
الاجتهاد، فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر، كقوله: (وأن
تجمعوا بين الأختين) (6)، بقوله: (وما ملكت أيمانكم) (6) فيخص الجمع بملك
49

اليمين، بقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) (1) فتحمل آية
الجمع على العموم، والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم، وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم
فيمن أتى بحال.
الخامس: أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه،
كقوله: (شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل
منكم أو آخران من غيركم) (2) مع قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبإ
فتبينوا..) (3) الآية، فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق، إذا كان
ذلك من كافر على مسلم، أو مسلم فاسق على كافر، وأن يقبل الكافر على الكافر
وإن كان فاسقا، أو يحمل ظاهر قوله: (أو آخران من غيركم) (2) على القبيلة دون
الملة، ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة، لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ
وتخصيص الغير بالقبيلة، لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير.
السادس: ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا، كتقديم قوله
تعالى: (وأحل الله البيع) (4) على قوله: (وذروا البيع) (5) فإن قوله: (وأحل) (4)
يدل على حل البيع ضرورة. ودلالة النهى على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة " أصلا،
أو تكون ظاهرة " منحطة " عن النص.
50

فصل
[في القول عند تعارض آي القرآن والآثار] (1)
قال القاضي أبو بكر في " التقريب ": لا يجوز تعارض آي القرآن والآثار وما
توجبه أدلة العقل، فلذلك لم يجعل قوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (2) معارضا لقوله:
(وتخلقون إفكا ") (3)، وقوله: (وإذ تخلق من الطين) (4)، وقوله: (فتبارك
الله أحسن الخالقين) (5)، لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالى، فيتعين
تأويل ما عارضه، فيؤول قوله: (وتخلقون) (3)، بمعنى (تكذبون) لأن الإفك
نوع من الكذب، وقوله: (وإذ تخلق من الطين) (4) أي (تصور).
ومن ذلك قوله: (إن الله بكل شئ عليم) (6) لا يعارضه قوله: (أتنبئون
الله بما لا يعلم) (7)، فإن المراد بهذا مالا يعلمه أنه غير كائن، ويعلمونه وقوع ما ليس
بواقع، لا على أن من المعلومات ما هو غير عالم به وإن علمتموه.
وكذلك لا يجوز جعل قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شئ) (8) معارضا
لقوله: (حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين) (9)، وقوله: (إلى ربها
ناظرة) (10)، معارضا لقوله: (لا تدركه الأبصار) (11) في تجويز الرؤية وإحالتها،
51

لأن دليل العقل يقضي بالجواز، ويجوز تخليص النفي بالدنيا والإثبات بالقيامة.
وكذلك لا يجوز جعل قوله: (وما مسنا من لغوب) (1)، معارضا لقوله: (وهو
أهون عليه) (2)، بل يجب تأويل (أهون) على (هين).
ولا جعل قوله تعالى: (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) (3) معارضا
لأمره نبيه وأمته بالجدال في قوله: (وجادلهم بالتي هي أحسن) (4) فيحمل الأول
على ذم الجدال الباطل.
ولا يجوز جعل قوله: (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) (5) معارضا
لقوله: (كل من عليها فان) (6).
فصل
[في تعارض القراءتين في آية واحدة] (7)
وقد جعلوا تعارض القراءتين في آية واحدة كتعارض الآيتين كقوله:
(وأرجلكم) (8) بالنصب والجر، وقالوا: يجمع بينهما بحمل إحداهما على مسح الخف،
والثانية على غسل الرجل إذا لم يجد متعلقا " سواهما.
52

وكذلك قراءة: (يطهرن)، و (يطهرن) (1)، حملت الحنفية إحداهما على
ما دون العشرة، والثانية على العشرة.
واعلم أنه إذا لم يكن لها متعلق سواهما تصدى لنا الإلغاء أو الجمع، فأما إذا وجدنا
متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع.
فائدة
[في القول في الاختلاف والتناقض]
قال أبو بكر (2) الصيرفي في شرح " رسالة الشافعي ": جماع الاختلاف والتناقض
أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه
تناقض، وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء،
ولن يوجد في الكتاب ولا في السنة شئ من ذلك أبدا، وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين،
بأن يوجب حكما ثم يحله، وهذا لا تناقض فيه، وتناقض الكلام لا يكون إلا في إثبات
ما نفي، أو نفي ما أثبت، بحيث يشترك المثبت والمنفي في الاسم والحدث و الزمان والأفعال
والحقيقة، فلو كان الاسم حقيقة في أحدهما، وفي الآخر مستعارا، ونفي أحدهما، وأثبت
الآخر لم يعد تناقضا.
هذا كله في الأسماء، وأما المعاني وهو باب القياس، فكل من أوجد علة وحررها،
53

وأوجب بها حكما من الأحكام، ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم، فقد تناقض.
فإن رام الفرق لم يسمع منه، لأنه في فرقه تناقض، والزيادة في العلة نقص، أو تقصير عن
تحريرها في الابتداء، وليس هذا على السائل.
وكل مسألة يسأل عنها فلا تخلو من أحد وجهين: إما أن يسأل فيما يستحق
الجواب عنه أولا، فأما المستحق للجواب فهو ما يمكن كونه ويجوز، وأما ما استحال كونه
فلا يستحق جوابا، لأن من علم أنه لا يجتمع القيام والقعود، فسأل: هل يكون الانسان
قائما منتصبا " جالسا في حال واحدة؟ فقد أحال وسأل عن محال، فلا يستحق الجواب.
فإن كان لا يعرف القيام والقعود عرف، فإذا عرفه فقد استحال عنده ما سأله.
قال: وقد رأيت كثيرا " مما يتعاطى العلم يسأل عن المحال ولا يدري أنه محال، ويجاب
عنه والآفات تدخل على هؤلاء لقلة علمهم بحق الكلام.
فصل
[في الأسباب الموهمة الاختلاف]
وللاختلاف أسباب:
الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى، كقوله تعالى في خلق آدم
إنه: (من تراب) (1)، ومرة (من حمإ مسنون) (2)، ومرة (من طين لازب) (3)،
ومرة (من صلصال كالفخار) (4): وهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلف،
54

لأن الصلصال غير الحمأ، والحمأ غير التراب، إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب،
ومن التراب تدرجت هذه الأحوال.
ومنه قوله تعالى: (فإذا هي ثعبان مبين) (1) وفي موضع: (تهتز كأنها
جان) (2)، والجان الصغير من الحيات، والثعبان الكبير منها، وذلك لأن خلقها
خلق الثعبان العظيم، واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته.
السبب الثاني: لاختلاف الموضوع، كقوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون) (3)،
وقوله: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) (4) مع قوله: (فيومئذ
لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) (5). قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال
عن التوحيد وتصديق الرسل، والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين
وفروعه. حمله غيره على اختلاف الأماكن، لأن في القيامة مواقف كثيرة، فموضع يسأل
ويناقش، وموضع آخر يرحم ويلطف به، وموضع آخر يعنف ويوبخ - وهم الكفار -
وموضع آخر لا يعنف - وهم المؤمنون.
وقوله: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) (6) مع قوله: (فوربك لنسألنهم
أجمعين. عما كانوا يعملون) (7). وقيل: المنفي كلام التلطف والإكرام والمثبت
سؤال التوبيخ والإهانة، فلا تنافي.
وكقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) (8)، مع قوله: (يضاعف لهم
55

العذاب) (1). والجواب أن التضعيف هنا ليس على حد التضعيف في الحسنات، بل هو
راجع لتضاعيف مرتكباتهم، فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه، فليس التضعيف
من هذا الطريق على ما هو في الطريق الآخر، وإنما المراد هنا تكثيره بحسب كثرة
المجترحات، لأنه لأن السيئة الواحدة يضاعف الجزاء عليها، بدليل سياق تلك الآية، وهو قوله:
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد
هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين. الذين يصدون عن
سبيل الله ويبغونها عوجا " وهم بالآخرة هم كافرون) فهؤلاء كذبوا على ربهم،
وصدوا عن سبيله وبغوها عوجا وكفروا، فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب منها.
وكقوله: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) (3) مع
قوله: (ولا يكتمون الله حديثا ") (4)، فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق.
والجواب من وجهين: أحدهما أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب،
وفي بعضها لا يقع كما سبق. والثاني أن الكذب يكون بأقوالهم (5)، والصدق يكون
من جوارحهم، فيأمرها الله تعالى بالنطق، فتنطق بالصدق.
وكقوله: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) (6) مع قوله: (لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت) (7)، والجواب أن المراد: لا تكسب شرا ولا إثما، بدليل سبب
56

النزول (1)، أو ضمن معنى (تجنى) وهذه الآية أقتصر فيها على الشر والأخرى ذكر
فيها الأمران، ولهذا لما (2) ذكر القسمين ذكر ما يميز أحدهما عن الآخر، وها هنا لما كان
المراد ذكر أحدهما اقتصر عليه ب‍ (فعل) ولم يأت ب‍ (افتل).
ومنه قوله تعالى: (اتقوا الله حق تقاته) (3) مع قوله: (فاتقوا الله ما استطعتم) (4)،
يحكى عن الشيخ العارف (5) أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه جمع بينهما، فحمل الآية
الأولى على التوحيد، والثانية على الأعمال، والمقام يقتضي ذلك، لأنه قال بعد الأولى:
(ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (3).
وقيل: بل الثانية ناسخة، قال ابن المنير: الظاهر أن قوله: (اتقوا الله حق تقاته) (3)
إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم (حق تقاته) بأن
قال: (هو أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر) فقالوا: أينا يطيق
ذلك؟ فنزلت (فاتقوا الله ما استطعتم) (4)، وكان التكليف أولا " باستيعاب العمر
بالعبادة بلا فترة ولا نعاس، كما كانت الصلاة خمسين، ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا،
والاقتدار منزل على هذا الاعتبار، ولم ينحط من درجاته.
57

وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني (1): وفي كون ذلك منسوخا نظر، وقوله:
(ما استطعتم) هو (حق تقاته) إذ به أمر، فإن (حق تقاته) الوقوف على أمره
ودينه. وقد قال بذلك كثير من العلماء. انتهى.
والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره: (حق تقاته) (2) لم يثبت مرفوعا،
بل هو من كلام ابن مسعود، رواه النسائي وليس فيه قول الصحابة: (أينا يطيق ذلك)
ونزول قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم).
ومنه قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ") (3)، مع قوله في أواخر السورة:
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) (4)، فالأولى تفهم إمكان العدل،
والثانية تنفيه.
والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن، وهذا
ممكن الوقوع وعدمه، والمراد به في الثانية الميل القلبي، فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض
زوجاته دون بعض، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ثم يقول: (اللهم هذا
قسمي في ما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك) - يعني ميل القلب. وكان عمر يقول:
(الله قلبي فلا أملكه، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل).
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام، أشار إليه ابن عطية.
وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير فيرتفع به الإشكال، كقوله تعالى: (لا يستوي
58

القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة " وكلا "
وعد الله الحسنى) (1) ثم قال سبحانه: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا "
عظيما " (1)، والأصل في الأولى: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر
درجة. والأصل في الثانية: وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات.
وممن ذكر أن المحذوف كذلك الإمام بدر الدين بن مالك (2) في شرح:
" الخلاصة " في الكلام على حذف النعت. وللزمخشري فيه كلام آخر (3).
وكقوله تعالى: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) (4) مع قوله: (أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها) (5)، والمعنى: أمرناهم وملكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا. والمراد
بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا " ولكن قضاء، لاستحالة أن يجري في ملكه
مالا يريد، وفرق بين الأمر الكوني والديني.
الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل، كقوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله
قتلهم) (6) أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة، ونفاه عنهم باعتبار التأثير،
ولهذا قال الجمهور: إن الأفعال مخلوقة لله تعالى مكتسبة للآدميين، فنفي الفعل بإحدى
الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى.
59

وكذا قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (1)، أي ما رميت خلقا
إذ رميت كسبا. وقيل: إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال، وهما بكسب الرامي، وعلى
التبليغ والإصابة، وهما بفعل الله عز وجل. قال ابن جرير الطبري: (2) وهي الدليل على
أن الله خالق لأفعال العباد، فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه، وذلك فعل واحد
لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم، ومن نبيه بالحذف والإرسال، وإذا ثبت هذا لزم
مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة، فمن الله تعالى الانشاء والإيجاد، ومن الخلق الاكتساب
بالقوى.
ومثله قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) (3)، وقال تعالى: (وقوموا
لله قانتين) (4)، فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر، لاختلاف جهتي الفعل.
الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز، كقوله: (وترى الناس سكارى وما
هم بسكارى) (5)، (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) (6)،
وهو يرجع لقول المناطقة: الاختلاف بالإضافة، أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى
أهوال القيامة مجازا، وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة.
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى: (آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين) (7)
وقوله: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) (8)، وقوله تعالى:
60

(وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) (1)، فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار
لجواز قولهم: (نظرت إليه فلم أبصره).
الخامس: بوجهين واعتبارين، وهو الجامع للمفترقات، كقوله: (فبصرك اليوم
حديد) (2)، وقال: (خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) (3)، قال
قطرب: (فبصرك) (2)، أي علمك ومعرفتك بها قوية، من قولهم: (بصر بكذا
وكذا) أي علم، وليس المراد رؤية العين، قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله:
(فكشفنا عنك غطاءك) (2)، وصف البصر بالحدة.
وكقوله تعالى: (وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا
في الأرض ويذرك وآلهتك) (4)، مع قوله: (أنا ربكم الأعلى) (5)، فقيل:
يجوز أن يكون معناه: ويذرك وآلهتك، إن ساغ لهم، ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا
كان يعبد في دين قومه، ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى، كما تقول العرب: موالي
من فوق وموالي من أسفل، فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له، فيحسن
قولهم: (وآلهتك).
وقوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) (6)، مع قوله: (إنما
المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) (7) فقد يظن أن الوجل خلاف
61

الطمأنينة، وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد،
والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل مع القلوب لذلك. وقد جمع
بينهما في قوله: (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم
إلى ذكر الله) (1)، فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به، فانتفى
عنهم الشك.
وكقوله: (خمسين ألف سنة) (2) وفي موضع (ألف سنة) (2)، وأجيب
بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر، بدليل: (وكان يوما " على الكافرين عسيرا ") (3).
وكقوله: (بألف من الملائكة مردفين) (4) وفي آية أخرى: (بثلاثة
آلاف من الملائكة منزلين) (5)، قيل إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف، وكان
الأكثر مددا للأقل، وكان (الألف مردفين) بفتحها.
وكقوله تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا " ثم استوى إلى السماء) (6).
وفي آية أخرى: (والأرض بعد ذلك دحاها) (7)، ولا تنافي بينهما،
فالأول (8) دال على أن الأرض وما فيها خلقت (9) قبل السماء، وذلك صحيح،
ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبذلك تتفق معاني الآيات في سورة القمر والمؤمن
والنازعات.
62

وكقوله تعالى: (ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام) (1)،
وقوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا "
ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في
أربعة أيام سواء " للسائلين) إلى قوله: (فقضاهن سبع سموات في يومين) (2)
وذلك يبلغ ثمانية أيام. والجواب أن المراد بقوله: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق
الأرض في يومين) إلى قوله: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) مع اليومين المتقدمين،
ولم يرد بذكر (الأربعة) غير ما تقدم ذكره، وهذا كما يقول الفصيح: (سرت
من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام)، (وسرت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يوما) ولا
يريد سوى العشرة، بل يريد مع العشرة ثلاثة، ثم قال تعالى: (فقضاهن سبع سموات
في يومين) (3)، وأراد سوى الأربعة، وذلك لا مخالفة فيه، لأن المجموع يكون ستة.
ومنه قوله تعالى في السجدة: (عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) (4)،
بلفظ (الذي) على وصف العذاب، وفي سبأ (عذاب النار التي) (5) بلفظ (التي)
على وصف النار، وفيه أربعة أوجه: أحدها أنه وصف العذاب في السجدة لوقع (النار)
موقع الضمير الذي لا يوصف، وإنما وقعت موقع الضمير لتقدم إضمارها، مع قوله: (وأما
الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) (4)، فحق
الكلام: (وقيل لهم ذوقوا عذابها)، فلما وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف
63

عدل إلى وصف العذاب، وأما في (سبأ) فوصفها لعدم المانع من وصفها. والثاني أن
الذي في (السجدة) وصف النار أيضا، وذكر حملا " على معنى الجحيم والحريق. والثالث
أن الذي في (السجدة) في حق من يقر بالنار ويجحد العذاب، وفي (سبأ) في حق
من يجحد أصل النار. والرابع أنه إنما وصف العذاب في السجدة لأنه لما تقدم ذكر النار
مضمرا ومظهرا عدل إلى وصف العذاب، ليكون تلوينا للخطاب، فيكون أنشط للسامع
بمنزلة العدول من الغيبة إلى الخطاب.
ومنه قوله تعالى: (توفته رسلنا) (1)، وقوله: (تتوفاهم الملائكة) (2)،
وبين قوله: (قل يتوفاكم ملك الموت) (3)، وبين قوله: (الله يتوفى
الأنفس) (4)، (وهو الذي يتوفاكم بالليل) (1). وجمع البغوي بينها، لأن توفى
الملائكة بالقبض والنزع، وتوفي ملك الموت بالدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم
يأمر أعوانه بقبضها، وتوفي الله سبحانه خلق الموت فيه.
ومنه قوله تعالى في البقرة: (فاتقوا النار) (5)، وفي سورة التحريم: (نارا ") (6)،
بالتنكير، لأنها نزلت بمكة قبل آية البقرة، فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة
معروفة فنكرها، ثم نزلت آية البقرة بالمدينة مشارا " بها إلى ما عرفوه أولا.
وقال في سورة البقرة: (رب اجعل هذا بلدا آمنا ") (7)، وفي سورة إبراهيم:
(رب اجعل هذا البلد آمنا ") (8) لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا "، فطلب منه أن يجعله بلدا "
آمنا، وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرفه وطلب له الأمن، أو كان بلدا آمنا وطلب
64

ثبات الأمن ودوامه، وكون سورة البقرة مدنية وسورة إبراهيم مكية لا ينافي هذا، لأن
الواقع من إبراهيم كونه على الترتيب المذكور، والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك
الترتيب. أو لأن المكي منه ما نزل قبل الهجرة فيكون المدني متأخرا " عنها، ومنه ما نزل
بعد فتح مكة فيكون متأخرا " عن المدني، فلم قلتم: إن سورة إبراهيم من المكي الذي نزل
قبل الهجرة!
فصل
[في الإجابة عن بعض الاستشكالات]
ومما استشكلوه قوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى
ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ") (1)، فإنه
يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين، وقد قال تعالى في الآية الأخرى،
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا "
رسولا ") (2)، فهذا حصر في ثالث غيرهما.
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: وما منع الناس أن يؤمنوا إلا إرادة أن
تأتيهم سنة من الخسف وغيره، (أو يأتيهم العذاب قبلا ") في الآخرة، فأخبر أنه
أراد أن يصيبهم أحد الأمرين. ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد، فهذا
حصر في السبب الحقيقي، لأن الله هو المانع في الحقيقة. ومعنى الآية الثانية: (وما منع
65

الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) إلا استغراب بعثه بشرا رسولا، لأن قولهم ليس مانعا
من الإيمان، لأنه يصلح لذلك، وهو يدل على الاستغراب بالالتزام، وهو المناسب
للمانعية، واستغرابهم وفي ليس مانعا حقيقيا بل عاديا، لجواز خلو الإيمان معه، بخلاف
إرادة الله تعالى، فهذا حصر في المانع العادي، والأولى حصر في المانع الحقيقي،
فلا تنافي. انتهى.
وقوله: (ليس مانعا من الإيمان) فيه نظر، لأن إنكارهم بعثه بشرا رسولا
كفر مانع من الإيمان، وفيه تعظيم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وإن إنكارهم بعثته مانع
من الإيمان.
فصل
[في وقوع التعارض بين الآية والحديث]
وقد يقع التعارض بين الآية والحديث، ولا بأس يذكر شئ للتنبيه لأمثاله، فمنه قوله
تعالى: (والله يعصمك من الناس) (1) وقد صح أنه شج يوم أحد.
وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن هذا كان قبل نزول هذه الآية، لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاث من
الهجرة، وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة.
والثاني: بتقدير تسليم الأخير، فالمراد العصمة من القتل. وفيه تنبيه على أنه يجب
عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء!
66

ومنه قوله تعالى: (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) (1) مع قوله صلى الله عليه
وسلم: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله).
وأجيب بوجهين:
أحدهما - ونقل عن سفيان وغيره - كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول
الجنة برحمته (2)، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبي هريرة:
(إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم). رواه الترمذي.
والثاني: أن الباء في الموضعين مدلولها مختلف، ففي الآية باء المقابلة، وهي الداخلة
على الأعراض، وفي الحديث للسببية، لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا، وأما المسبب
فلا يوجد بدون السبب. ومنهم من عكس هذا الجواب وقال: الباء في الآية للسببية،
وفي الحديث للعوض، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (سددوا وقاربوا واعلموا
أن أحدا " منكم لن ينجو بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن
يتغمدني الله برحمته). ومنه قوله تعالى مخبرا عن خلق السماوات والأرض وما بينهما:
(في ستة أيام) (3) فإنه يقتضي أن يكون يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شئ.
والظاهر من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يوم الأحد وخلق آدم يوم الجمعة آخر
الأشياء، فهذا يستقيم مع الآية الشريفة، ووقع في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يوم
السبت، فهذا بخلاف الآية، اللهم إلا أن يكون أراد في الآية الشريفة جميع الأشياء
غير آدم، ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شئ مما بين السماء والأرض، لأن آدم
حينئذ لم يكن فيما بينهما.
67

النوع السادس والثلاثون
معرفة المحكم من المتشابه
قال الله تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) (1)،
قيل: ولا يدل على الحصر في هذين الشيئين، فإنه ليس فيه شئ من الطرق الدالة عليه،
وقد قال: (لتبين للناس ما نزل إليهم) (2) والمتشابه لا يرجى بيانه، والمحكم
لا توقف معرفته على البيان.
وقد حكى الحسين بن محمد بن حبيب النيسابوري في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته) (3).
والثاني: كله متشابه لقوله تعالى: (الله نزل أحسن الحديث كتابا " متشابها ") (4).
والثالث - وهو الصحيح - أن منه محكما " ومنه متشابها، لقوله تعالى: (منه
آيات محكمات هن أم الكتاب) (5).
فأما المحكم فأصله لغة المنع، تقول: أحكمت بمعنى رددت. ومنعت، والحاكم لمنعه
الظالم من الظلم، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب.
وأما في الاصطلاح فهو ما أحكمته بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام.
68

وقيل: هو مثل قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (1).
وقيل: هو الذي لم ينسخ لقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم
عليكم) (2) وقوله: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه...) (3) إلى آخر الآيات.
وهي سبعة عشر حكما مذكورة في سورة الأنعام وفي سورة بني إسرائيل.
وقيل: هو الناسخ.
وقيل: الفرائض والوعد والوعيد.
وقيل: الذي وعد عليه ثوابا أو عقابا، وقيل الذي تأويله تنزيله بجعل القلوب تعرفه عند
سماعه، كقوله: (قل هو الله أحد) (4) و (ليس كمثله شئ) (5).
وقيل: مالا يحتمل في التأويل إلا وجها واحدا.
وقيل: ما تكرر لفظه.
وأما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني، كما قال تعالى في
وصف ثمر الجنة: (وأتوا به متشابها ") (6)، أي متفق المناظر، مختلف الطعوم، ويقال
للغامض: متشابه، لأن جهة الشبه فيه كما تقول لحروف التهجي. والمتشابه مثل المشكل،
لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره وشاكله. واختلفوا فيه، فقيل: هو المشتبه
الذي يشبه بعضه بعضا. وقيل: هو المنسوخ الغير معمول به. وقيل: القصص والأمثال.
وقيل: ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى عالمه. وقيل: فواتح السور. وقيل:
69

ما لا يدرى إلا بالتأويل، ولا بد من صرفه إليه، كقوله: (تجري بأعيننا) (1)
و (على ما فرطت في جنب الله) (2). وقيل: الآيات التي يذكر فيها وقت الساعة،
ومجئ الغيث، وانقطاع الآجال، كقوله: (إن الله عنده علم الساعة) (3). وقيل:
ما يحتمل وجوها، والمحكم ما يحتمل وجها واحدا. وقيل: مالا يستقل بنفسه، إلا برده إلى
غيره. وقيل: غير ذلك. وكلها متقارب.
وفصل الخطاب في ذلك أن الله سبحانه قسم الحق بين عباده، فأولاهم بالصواب من
عبر بخطابه عن حقيقة المراد، قال سبحانه: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس
ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) (4) ثم قال: (ثم إن علينا بيانه) (5) أي على لسانك
وألسنة العلماء من أمتك، وكلام السلف راجع إلى المشتبه بوجه لا إلى المقصود المعبر عنه
بالمتشابه في خطابه، لأن المعاني إذا دقت تداخلت وتشابهت على من لا علم له بها،
كالأشجار إذا تقارب بعضها من بعض تداخلت أمثالها (6) واشتبهت، أي على من لم يمعن
النظر في البحث عن منبعث كل فن منها، قال تعالى: (وهو الذي أنشأ جنات
معروشات) (7) إلى قوله: (متشابها ")، وهو على اشتباكه غير متشابه. وكذلك سياق
معاني القرآن العزيز قد تتقارب المعاني ويتقدم الخطاب بعضه على بعض، ويتأخر بعضه
عن بعض، لحكمة الله في ترتيب الخطاب والوجود، فتشتبك المعاني وتشكل إلا على
أولى الألباب، فيقال في هذا الفن متشابه بعضه ببعض. وأما المتشابه من القرآن العزيز فهو
يشابه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز والبشارة والنذارة وكل ما جاء به وأنه من
70

عند الله، فذم سبحانه الذين يتبعون ما تشابه منه عليهم افتتانا وتضليلا، فهم بذلك يتبعون
ما تشابه عليهم تناصرا وتعاضدا للفتنة والإضلال.
تفريعات
الأول: الأشياء التي يجب ردها عند الإشكال إلى أصولها.
فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم (ليس كمثله شئ) (1).
ورد المتشابهات في الأفعال إلى قوله: (قل فلله الحجة البالغة) (2).
وكذلك الآيات الموهمة نسبة الأفعال لغير الله تعالى من الشيطان والنفس ترد إلى محكم
قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا " حرجا ") (3).
وما كان من ذلك عن تنزل الخطاب أو ضرب مثال أو عبارة عن مكان أو زمان أو
معية، أو ما يوهم التشبيه، فمحكم ذلك قوله: (ليس كمثله شئ) (1)، وقوله: (ولله
المثل الأعلى) (4)، وقوله: (قل هو الله أحد) (5).
ومنه ضرب في تفصيل ذكر النبوة ووصف إلقاء الوحي، ومحكمه قوله تعالى: (إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (6) وقوله: (وما ينطق عن الهوى) (7).
ومنه ضرب في الحلال والحرام، ومن ثم اختلف الأئمة في كثير من الأحكام بحسب
فهمهم لدلالة القرآن.
71

ومنه شئ يتقارب فيه بين اللمتين: لمة الملك ولمة الشيطان لعنه الله، ومحكم ذلك
قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان...) (1) الآية، ولهذا قال عقبة:
(يعظكم لعلكم تذكرون) (1)، أي عندما يلقى العدو الذي لا يأمر بالخير بل
بالشر والإلباس.
ومنه الآيات التي اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة تحتملها الآية، ولا يقطع
على واحد من الأقوال، وأن مراد الله منها غير معلوم لنا مفصلا بحيث يقطع به.
الثاني: أن هذه الآية من المتشابه - أعني قوله: (وأخر متشابهات) (2)... الآية
من حيث تردد الوقف فيها بين أن يكون على (إلا الله) وبين أن يكون على
(والراسخون في العلم يقولون آمنا به)، وتردد الواو في (والراسخون) بين الاستئناف
والعطف، ومن ثم ثار الخلاف في ذلك.
فمنهم من رجح أنها للاستئناف، وأن الوقف على (إلا الله) وأن الله تعبد من
كتابه بما لا يعلمون - وهو المتشابه - كما تعبدهم من دينه بما لا يعقلون - وهو التعبدات -
ولأن قوله: (يقولون آمنا به) متردد بين كونه حالا فضلة، وخبرا عمدة.
والثاني أولى.
ومنهم من رجح أنها للعطف: لأن الله تعالى لم يكلف الخلق بما لا يعلمون، وضعف
الأول، لأن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده، ويدل به على معنى " أراده،
فلو كان المتشابه لا يعلمه غير الله (3) للزمنا، ولا يسوغ لأحد أن يقول: إن رسول الله
72

صلى الله عليه وسلم لم يعلم المتشابه، فإذا جاز أن يعرفه الرسول مع قوله: (وما يعلم تأويله
إلا الله) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته، والمفسرون من أمته. ألا ترى أن ابن
عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، ويقول عند قراءة قوله في أصحاب
الكهف: (ما يعلمهم إلا قليل) (1): أنا من أولئك القليل.
وقال مجاهد في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم):
يعلمونه و (يقولون آمنا به)، ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن
يقولوا: (آمنا) لم يكن لهم فضل على الجاهل: لأن الكل قائلون ذلك، ونحن لم نر
المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شئ من القرآن فقالوا: هو متشابه لا يعلمه إلا الله،
بل أمروه على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة.
فإن قيل: كيف يجوز في اللغة أن يعلم الراسخون، والله يقول: (والراسخون في العلم
يقولون آمنا به)، وإذا أشركهم في العلم انقطعوا عن قوله: (يقولون) لأنه ليس
هنا عطف حتى يوجب للراسخين فعلين!
قلنا: إن (يقولون) هنا في معنى الحال، كأنه قال: (والراسخون في العلم)
قائلين آمنا، كما قال الشاعر (2):
الريح تبكي شجوها * والبرق يلمع في غمامه
أي لامعا ".
وقيل: المعنى: (يعلمون ويقولون)، فحذف واو العطف، كقوله: (وجوه
يومئذ ناضرة) (3)، والمعنى: يقولون: علمنا وآمنا، لأن الإيمان قبل العلم محال
73

إذ لا يتصور الإيمان مع الجهل. وأيضا لو لم يعلموها لم يكونوا من الراسخين، ولم يقع الفرق
بينهم وبين الجهال.
الثالث: ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في أنه: هل في القرآن شئ لا تعلم الأمة
تأويله؟ قال الراغب في مقدمة تفسيره: وذهب (1) عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن
يجب أن يكون معلوما، وإلا لأدى (2) إلى إبطال فائدة الانتفاع به، وحملوا قوله:
(والراسخون) بالعطف على قوله: (إلا الله)، وقوله: (يقولون) جملة حالية.
قال: ذهب كثير من المفسرين إلى أنه يصح أن يكون في القرآن بعض مالا يعلم
تأويله إلى الله، قال ابن عباس: أنزل الله القرآن على أربعة أوجه: حلال، وحرام، ووجه
لا يسع أحد جهالته، ووجه تعرفه العرب، ووجه تأويل لا يعلمه إلا الله.
وقال بعضهم: المتشابه اسم لمعنيين:
أحدهما: لما التبس من المعنى لدخول شبهة بعضه في بعض، نحو قوله: (إن البقر
تشابه علينا...) (3) الآية.
والثاني: اسم لما يوافق بعضه بعضا، ويصدقه قوله تعالى: (كتابا " متشابها "
مثاني...) (4) الآية.
فإن كان المراد بالمتشابه في القرآن الأول فالظاهر أنه لا يمكنهم الوصول إلى مراده،
وإن جاز أن يطلعهم عليه بنوع من لطفه، لأنه اللطيف الخبير. وإن كان المراد الثاني جاز
أن يعلموا مراده.
74

الرابع: قيل: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى.؟
قلنا: إن كان ممن يمكن علمه فله فوائد:
منها: ليحث العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه، والبحث عن دقائق معانيه، فإن
استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب، وحذرا مما قال المشركون: (إنا وجدنا آباءنا على
أمة) (1)، وليمتحنهم ويثيبهم كما قال: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده...) (2) الآية.
وقوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات) (3) فنبههم على أن أعلى المنازل
هو الثواب، فلو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة، وبطل
التفاضل، واستوت منازل الخلق، ولم يفعل الله ذلك، بل جعل بعضه محكما ليكون أصلا
للرجوع إليه، وبعضه متشابها يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المحكم،
ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض، وقد قال تعالى: (ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم ويعلم الصابرين) (4).
ومنها: إظهار فضل العالم على الجاهل، ويستدعيه علمه إلى المزيد (5) في
الطلب في تحصيله، ليحصل له درجة الفضل، والأنفس الشريفة تتشوف لطلب العلم
وتحصيله.
وأما إن كان ممن لا يمكن علمه فله فوائد:
منها: إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء
فرضها، وإن لم يقفوا على ما فيها من المراد الذي يجب العمل به، اعتبارا بتلاوة المنسوخ من
75

القرآن وإن لم يعجز العمل بما فيه من المحكم. ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها حيث ادعوا
وجوب رعاية الأصلح.
ومنها: إقامة الحجة بها عليهم، وذلك إنما نزل بلسانهم ولغتهم، ثم عجزوا عن الوقوف
على ما فيها مع بلاغتهم وإفهامهم، فيدل على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم
عن تكرر الوقوف عليها، وهو الله سبحانه!
الخامس: أثار بعضهم سؤالا، وهو: هل للمحكم مزية على المتشابه بما يدل عليه،
أو هما سواء؟ والثاني خلاف الاجماع، والأول ينقض أصلكم أن جميع كلامه سبحانه
سواء، وأنه نزل بالحكمة!
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أحمد البكراباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه، و يخالفه
من وجه، فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع، وأنه
لا يختار (1) القبيح. ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد، فمن
سمعه أمكنه أن يستدل به (2) في الحال، والمتشابه يحتاج إلى ذكر مبتدأ ونظر مجدد
عند سماعه ليحمله على الوجه المطابق، ولأن المحكم أصل، والعلم بالأصل أسبق، ولأن
المحكم يعلم مفصلا، والمتشابه لا يعلم إلا مجملا.
فإن قيل: إذا كان المحكم بالوضع كالمتشابه، وقد قلتم إن من حق هذه اللغة أن
يصح فيها الاحتمال ويسوغ التأويل، فبماذا يميز المحكم في أنه لا بد له من مزية، سيما
والناس قد اختلفوا فيهما كاختلافهم في المذاهب، فالمحكم عند السني متشابه عند القدري؟
فالجواب أن الوجه الذي أوردته (3) يلجئ إلى الرجوع إلى العقول فيما يتعلق
76

بالتفريد والتنزيه، فإن العلم بصحة خطابه يفتقر إلى العلم بحكمته، وذلك يتعلق بصفاته،
فلا بد من تقدم معرفته ليصح له مخرج كلامه، فأما في الكلام فيما يدل على الحلال
والحرام فلا بد من مزية للمحكم، وهو أن يدل ظاهره على المراد أو يقتضى بانضمامه
أنه مما لا يحتمل الوجه الواحد.
وللمحكم في باب الحجاج عند غير المخالف مزية، لأنه لا يمكن أن يبين له أنه مخالف
للقرآن، وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه، وإن تمسك بمتشابه القرآن،
وعدل عن محكمه لما أنه تمسك بالشبه العقلية وعدل عن الأدلة السمعية، وذلك لطف
وبعث على النظر، لأن المخالف المتدين يؤثر ذلك ليتفكر فيه ويعمل، فإن اللغة وإن
توقفت محتملة، ففيها ما يدل ظاهره على أمر واحد، وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل،
ثم يختلف، ففيه ما يكره صرفه لاستبعاده في اللغة.
77

النوع السابع والثلاثون
في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات
وقد اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث على ثلاث فرق:
أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها، بل تجري على ظاهرها، ولا تؤول شيئا " منها،
وهم المشبهة.
والثاني: أن لها تأويلا، ولكنا نمسك عنه، مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل،
ونقول: لا يعلمه إلا الله، وهو قول السلف.
والثالث: أنها مؤولة، وأولوها على ما يليق به.
والأول باطل، والأخيران منقولان عن الصحابة، فنقل الإمساك عن أم سلمة أنها
سئلت عن الاستواء فقالت: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب،
والسؤال عنه بدعة. وكذلك سئل عنه مالك فأجاب بما قالته أم سلمة، إلا أنه زاد فيها
أن من عاد إلى هذا السؤال عنه أضرب عنقه. وكذلك سئل سفيان الثوري فقال:
أفهم من قوله: (الرحمن على العرش استوى) (1) ما أفهم من قوله: (ثم استوى
إلى السماء) (2). وسئل الأوزاعي عن تفسير هذه الآية فقال: (الرحمن على العرش
استوى) (1) كما قال: وإني لأراك ضالا. وسئل ابن راهويه عن الاستواء: أقائم هو
أم قاعد؟ فقال: لا يمل القيام حتى يقعد، ولا يمل القعود حتى يقوم، وأنت إلى
غير هذا السؤال أحوج.
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها،
78

وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها، وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين
من أصحابنا يصدف عنها ويأباها.
وأفصح الغزالي عنهم في غير موضع بتهجين ما سواها حتى ألجم آخرا في " إلجامه "
كل عالم أو عامي عما عداها.
قال: وهو كتاب " إلجام العوام عن علم الكلام " (1) آخر تصانيف الغزالي
مطلقا، أو آخر تصانيفه في أصول الدين، حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم.
وممن نقل عنه التأويل علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم.
وقال الغزالي في كتاب " التفرقة بين الاسلام والزندقة " (2): إن الإمام أحمد
أول في ثلاثة مواضع (3)، وأنكر ذلك عليه بعض المتأخرين.
قلت: وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى:
(أو يأتي ربك) (4)، قال: وهل هو إلا أمره، بدليل قوله: (أو يأتي أمر
ربك) (5)!
واختار ابن برهان (6) وغيره من الأشعرية التأويل، قال: ومنشأ الخلاف بين
79

الفريقين: أنه هل يجوز في القرآن شئ لا يعلم معناه؟ فعندهم يجوز، فلهذا منعوا التأويل،
واعتقدوا التنزيه على ما يعلمه الله.
وعندنا لا يجوز ذلك، بل الراسخون يعلمونه.
قلت: وإنما حملهم على التأويل وجوب حمل الكلام على خلاف المفهوم من
حقيقته لقيام الأدلة على استحالة المتشابه والجسمية في حق البارئ تعالى، والخوض في مثل
هذه الأمور خطره عظيم، وليس بين المعقول والمنقول تغاير في الأصول، بل التغاير إنما
يكون في الألفاظ، واستعمال المجاز لغة العرب. وإنما قلنا لا تغاير بينهما في الأصول لما علم
بالدليل أن العقل لا يكذب ما ورد به الشرع، إذ لا يرد الشرع بما لا يفهمه العقل، إذ
هو دليل الشرع وكونه حقا، ولو تصور كذب العقل في شئ لتصور كذبه في صدق
الشرع، فمن طالت ممارسته العلوم، وكثر خوضه في بحورها أمكنه التلفيق بينهما، لكنه
لا يخلو من أحد أمرين، إما تأويل يبعد عن الأفهام، أو موضع لا يتبين فيه وجه التأويل
لقصور الأفهام عن إدراك الحقيقة، والطمع في تلفيق كل ما يرد مستحيل (1) المرام، والمرد
إلى قوله: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (2).
ونحن نجري في هذا الباب على طريق المؤولين، حاكين كلامهم.
فمن ذلك صفة الاستواء، فحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى (3) بمعنى
استقر، وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل، فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم.
وعن المعتزلة بمعنى (استولى وقهر)، ورد بوجهين:
80

أحدهما: بأن الله تعالى مستول على (1) الكونين، والجنة والنار وأهلهما، فأي فائدة في
تخصيص العرش!
الثاني: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منزه عن ذلك، قاله
ابن الأعرابي.
وقال أبو عبيد: بمعنى (صعد)، ورد بأنه يوجب هبوطا " منه تعالى حتى يصعد، وهو
منفى عن الله.
وقيل: (الرحمن على والعرش استوى) فجعل (علا) فعلا لا حرفا، حكاه الأستاذ
إسماعيل الضرير (2) في تفسيره، ورد (3) بوجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة فعلا، ومصاحف أهل الشام والعراق والحجاز قاطعة بأن
(على) هنا حرف، ولو كان فعلا لكتبوها باللام ألف كقوله: (ولعلا بعضهم
على بعض) (4).
والثاني: أنه رفع العرش ولم يرفعه أحد من القراء.
وقيل: تم الكلام عند قوله: (الرحمن على العرش)، ثم ابتدأ بقوله: (استوى
له ما في السماوات وما في الأرض) (5)، وهذا ركيك يزيل الآية عن نظمها ومرادها.
81

قال الأستاذ: والصواب ما قاله الفراء (1) والأشعري (2) وجماعة من أهل المعاني: إن معنى
قوله: (استوى) أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه، فسماه استواء، كقوله: (ثم
استوى إلى السماء وهي دخان) (3) أي قصد وعمد إلى خلق السماء، فكذا ها هنا،
قال: وهذا القول مرضى عند العلماء ليس فيه تعطيل ولا تشبيه.
قال الأشعري: (على) هنا بمعنى (في) كما قال تعالى: (على ملك سليمان) (4)
ومعناه أحدث الله في العرش فعلا سماه استواء، كما فعل فعلا سماه فضلا ونعمة، قال تعالى:
(ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر
والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون. فضلا " من الله ونعمة ") (5)، فسمى التحبيب
والتكريه فضلا ونعمة. وكذلك قوله: (فأتى الله بنيانهم من القواعد) (6)، أي
فخرب الله بنيانهم، وقال: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) (7) أي قصدهم. وكما أن
التخريب والتعذيب سماهما إتيانا "، فكذلك أحدث فعلا بالعرش سماه استواء.
قال: وهذا قول مرضى عند العلماء لسلامته من التشبيه والتعطيل، وللعرش خصوصية
ليست لغيره من المخلوقات، لأنه أول خلق الله وأعظم، والملائكة حافون به، ودرجة
الوسيلة متصلة به، وأنه سقف الجنة، وغير ذلك.
82

وقوله تعالى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك) (1)، قيل: النفس
هاهنا الغيب، تشبيها له بالنفس، لأنه مستتر كالنفس.
وقوله: (ويحذركم الله نفسه) (2) أي عقوبته. وقيل: يحذركم الله إياه.
قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) (3) اختار البيهقي، معناه أنه
المعبود في السماوات والأرض، مثل قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفى الأرض
إله) (4) وهذا القول هو أصح الأقوال. وقال الأشعري في " الموجز ": (وهو الله
في السماوات وفى الأرض يعلم)، أي عالم بما فيهما، وقيل: (وهو الله في
السماوات) جملة تامة: (وفى الأرض يعلم) كلام آخر، وهذا قول المجسمة،
واستدلت الجهمية بهذه الآية على أنه تعالى في كل مكان، وظاهر ما فهموه من الآية من
أسخف الأقوال.
قوله تعالى: (وجاء ربك والملك) (5)، قيل: استعار الواو موضع الباء لمناسبة بينهما
في معنى الجمع، إذ الباء موضوعة للإلصاق وهو جمع، والواو موضوعة للجمع، والحروف
ينوب بعضها عن بعض، وتقول عرفا: جاء الأمير بالجيش، إذا كان مجيئهم مضافا
إليه بتسليطه أو بأمره، ولا شك أن الملك إنما يجئ بأمره على ما قال تعالى: (وهم بأمره
يعملون) (6)، فصار كما لو صرح به. وقال: جاء الملك بأمر ربك، وهو كقوله:
83

(أذهب أنت وربك) (1) أي اذهب أنت بربك، أي بتوفيق ربك وقوته، إذ معلوم
أنه إنما يقاتل بذلك من حيث صرف الكلام إلى المفهوم في العرف.
قوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) (2) قال قتادة: عن شدة، وقال إبراهيم
النخعي: (3) أي عن أمر عظيم، قال الشاعر:
* وقامت الحرب عن ساق *
وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة ويجد فيه شمر عن ساقه،
فاستعيرت الساق في موضع الشدة.
قوله تعالى: (ما فرطت في جنب الله) (4)، قال اللغويون: معناه ما فرطت في
طاعة الله وأمره، لأن التفريط لا يقع إلا في ذلك، والجنب المعهود من ذوي الجوارح
لا يقع فيه تفريط البتة، فكيف يجوز وصف القديم سبحانه بما لا يجوز!
قوله تعالى: (سنفرغ لكم أيه الثقلان) (5)، فرغ يأتي بمعنى قطع شغلا،
أتفرغ لك، أي أقصد قصدك، والآية منه، أي سنقصد لعقوبتكم، ونحكم جزاءكم.
قوله تعالى: (وإني لأظنه كاذبا ") (6)، إن قيل لأي علة نسب الظن إلى الله
وهو شك؟
84

قيل: فيه جوابان:
أحدهما: أن يكون الظن لفرعون، وهو شك لأنه قال قبله: (فأطلع إلى إله موسى)
وإني لأظن موسى كاذبا، فالظن على هذا لفرعون.
والثاني: أن يكون تم الكلام عند قوله: (أسباب السماوات فاطلع إلى إله
موسى وإني لأظنه) على معنى: وإني لأعلمه كاذبا، فإذا كان الظن لله. كان علما ويقينا،
ولم يكن شكا كقوله: (إني ظننت أني ملاق حسابيه) (1).
وقوله: (لا تأخذه سنة ولا نوم) (2) لم يرد سبحانه بنفي النوم والسنة عن نفسه
إثبات اليقظة والحركة، لأنه لا يقال لله تعالى: يقظان ولا نائم، لأن اليقظان لا يكون
إلا عن نوم، ولا يجوز وصف القديم به، وإنما أراد بذلك نفى الجهل والغفلة، كقوله: ما أنا
عنك بغافل.
قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (3) قال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر،
عبارة عن صفة لموصوف، ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الإبصار في قوله:
(أولى الأيدي والإبصار) (4) ولم يمدحهم بالجوارح، لأن المدح إنما يتعلق بالصفات
لا بالجواهر، قال: وإذا ثبت هذا فصح قول الأشعري: إن اليدين (5) في قوله تعالى: (لما
خلقت بيدي) (6) صفة ورد بها الشرع ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون
من أصحابه، ولا بمعنى النعمة، ولا قطع بشئ من التأويلات تحرزا منه عن مخالفة السلف،
وقطع بأنها صفة تحرزا عن مذاهب المشبهة.
85

فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يعلمون إذ اليد بمعنى الصفة لا يعرفونه، ولذلك
لم يسأل أحد منهم عن معناها، ولا خاف على نفسه توهم التشبيه، ولا احتاج إلى شرح
وتنبيه، وكذلك الكفار، لو كان لا يعقل عندهم إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى
التناقض، واحتجوا بها على الرسول، ولقالوا: زعمت أن الله ليس كمثله شئ، ثم تخبر
أن له يدا "، ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر، علم أن الأمر عندهم كان جليا لاخفاء به،
لأنها صفة سميت الجارحة بها مجازا "، ثم استمر المجاز (1) فيها حتى نسيت الحقيقة، ورب
مجاز كثير استعمل حتى نسي أصله، وتركت صفته - والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها
قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص، والقدرة أعم، كالمحبة مع الإرادة والمشيئة، فاليد
أخص من معنى القدرة، ولذا كان فيها تشريف لازم.
وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: (لما خلقت بيدي) (2): في تحقيق الله التثنية
في اليد دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة، وإنما هما صفتان من صفات ذاته.
قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة مجازه (لما خلقت) كقوله: (ويبقى وجه
ربك) (3)، قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي، لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس
أن يقول: إن كنت خلقته فقد خلقتني، وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم
في الخلق مزية على إبليس. وأما قوله تعالى: (مما عملت أيدينا) (4) فإن العرب
تسمى الاثنين جمعا، كقوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا) (5)
86

وأما العين في الأصل فهي صفة ومصدر لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشئ بالعين
قال: وحينئذ فإضافتها للبارئ في قوله: (ولتصنع على عيني) (1) حقيقة - لا مجاز
كما توهم أكثر الناس - لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك، وإنما المجاز في تسمية
العضو بها، وكل شئ يوهم الكفر والتجسيم، فلا يضاف إلى البارئ سبحانه
لا حقيقة ولا مجازا ".
قال السهيلي: ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي لأجله قال:
(ولتصنع على عيني) (2) بحرف (على)، وقال: (تجرى بأعيننا) (3)، (واصنع
الفلك بأعيننا) (4) وما الفرق؟ والفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا
وإبداء ما كان مكنونا، فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون شرا "، فلما أراد
أن يصنع موسى ويغذى ويربى على جلى أمن وظهور أمر لا تحت خوف واستسرار دخلت
(على) في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطى معنى الاستعلاء، والاستعلاء ظهور وإبداء،
فكأنه سبحانه يقول: ولتصنع على أمن لا تحت خوف، وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية
والكلأ. وأما قوله: (تجرى بأعيننا) (3)، (واصنع الفلك بأعيننا) (4) فإنه
إنما يريد في رعاية منا وحفظ، ولا يريد إبداء شئ ولا إظهاره بعد كم، فلم يحتج الكلام
إلا معنى (على).
ولم يتكلم السهيلي على حكمة الإفراد في قصة موسى والجمع في الباقي، وهو سر لطيف،
وهو إظهار الاختصاص الذي خص به موسى في قوله: (واصطنعتك لنفسي) (5)
87

فاقتضى الاختصاص الاختصاص الآخر في قوله: (ولتصنع على عيني) (1)، بخلاف
قوله: (تجرى بأعيننا) (2)، (واصنع الفلك بأعيننا) (3) فليس فيه من الاختصاص
ما في صنع موسى على عينه سبحانه.
قال السهيلي رحمه الله: وأما النفس فعبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد، وقد
استعمل من لفظها النفاسة والشئ النفيس، فصلحت للتعبير عنه سبحانه، بخلاف ما تقدم
من الألفاظ المجازية.
وأما الذات فقد استوى أكثر الناس بأنها معنى النفس والحقيقة، ويقولون: ذات
البارئ هي نفسه، ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته. ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم
في قصة إبراهيم: (ثلاث كذبات كلهن في ذات الله).
قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا، وإلا لقيل: عبدت
ذات الله، واحذر ذات الله، وهو غير مسموع، ولا يقال إلا بحرف في المستحل معناه في
حق البارئ تعالى، لكن حيث وقع فالمراد به الديانة والشريعة التي هي ذات الله،
فذات وصف للديانة. هذا هو المفهوم من كلام العرب، وقد بان غلط من جعلها عبارة "
عن نفس ما أضيف إليه، ومنه إطلاق العجب على الله تعالى في قوله: (بل
عجبت) (4) على قراءة حمزة والكسائي، بضم التاء على معنى أنهم قد حلوا محل من
يتعجب منهم.
قال الحسين بن الفضل: العجب من الله تعالى إنكار الشئ وتعظيمه، وهو لغة
88

العرب، وفى الحديث: (عجب ربكم من زللكم وقنوطكم) وقوله: (إن الله يعجب من
الشاب إذا لم يكن له صبوة).
قال البغوي: وسمعت أبا القاسم النيسابوري قال: سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول:
سئل الجنيد عن هذه الآية فقال: إن الله لا يعجب من شئ، ولكن الله وافق رسوله
فقال: (وإن تعجب فعجب قولهم) (1) أي هو كما يقوله.
فائدة
كل ما جاء في القرآن العظيم من نحو قوله تعالى: (لعلكم تفلحون) أو (تتقون)
أو (تشكرون) فالمعتزلة يفسرونه بالإرادة، لأن عندهم أنه تعالى لا يريد إلا الخير
ووقوع الشر على خلاف إرادته، وأهل السنة يفسرونه بالطلب لما في الترجي من معنى
الطلب، والطلب غير الإرادة على ما تقرر في الأصول، فكأنه قال: كونوا متقين،
أو مفلحين، إذ يستحيل وقوع شئ في الوجود على خلاف إرادته تعالى، بل كل
الكائنات مخلوقة له تعالى ووقوعها بإرادته، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
89

النوع الثامن والثلاثون
معرفة إعجازه
وقد اعتنى بذلك الأئمة، وأفردوه بالتصنيف، منهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني (1)،
قال ابن العربي: ولم يصنف مثله، وكتاب الخطابي (2)، والرماني، والبرهان
لعزيزي (3) وغيرهم.
وهو علم جليل، عظيم القدر، لأن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معجزتها
الباقية القرآن، وهو يوجب الاهتمام بمعرفة الإعجاز، قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك
لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) (4)،
وقال سبحانه: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام
الله) (5) فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه، ولا تكون حجة إلا وهي
معجزة. وقال تعالى: (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله
وإنما أنا نذير مبين. أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (6) فأخبر
90

أن الكتاب آية من آياته، وأنه كاف في الدلالة، قائم مقام معجزات غيره وآيات سواه
من الأنبياء.
ولما جاء به صلى الله عيه وسلم إليهم - وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء -
تحداهم على أن يأتوا بمثله، وأمهلهم طول السنين (1 فلم يقدروا، يقال تحدى فلان فلانا
إذا دعاه إلى أمر ليظهر عجزه فيه ونازعه الغلبة في قتال أو كلام غيره، ومنه أنا حدياك، أي
أبرز لي وحدك.
واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم تحدى العرب قاطبة بالقرآن حين قالوا: افتراه. فأنزل
الله عز وجل عليه: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله) (2) فلما عجزوا
عن الإتيان بنشر سور تشاكل القرآن، قال تعالى: (قل فأتوا بسورة من مثله) (3)،
ثم كرر هذا فقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله (3)
أي من كلام مثله، وقيل: من بشر مثله، ويحقق القول الأول الآيتان السابقتان، فلما
عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء 1)، قال: (قل لئن
اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان
بعضهم لبعض ظهيرا ") (4)، فقد ثبت أنه تحداهم به، وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه،
لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا، ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى، فتارة
قالوا: (سحر) وتارة قالوا: (شعر) وتارة قالوا: (أساطير الأولين) كل ذلك من
التحير والانقطاع.
91

قال [ابن أبي] (1) طالب مكي (1) في " اختصاره نظم القرآن للجرجاني "، قال
المؤلف: أنزله بلسان عربي مبين بضروب من النظم مختلفة على عادات العرب، ولكن
الأعصار تتغير وتطول، فيتغير النظم عند المتأخرين لقصور أفهامهم، والنظر كله جار على لغة
العرب، ولا يجوز أن ينزله على نظم ليس من لسانهم، لأنه لا يكون حجة عليهم، بدليل
قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله) (2)، وفي قوله: (بل
كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتيهم تأويله) (3) فأخبر أنهم لم يعلموه لجهلهم به،
وهو كلام عربي.
قال أبو محمد: لا يحتمل أن يكون جهلهم إلا من قبل أنهم أعرضوا عن قبوله،
ولا يجوز أن يكون نزل بنظم لم يعرفوه، إذ لا يكون عليهم حجة، وجهلنا بالنظم لتأخرنا
عن رتب القوم الذي نزل عليهم جائز، ولا يمنع. فمن (4) نزل عليهم كان يفهمه إذا تدبره،
لأنه بلغته، ونحن إنما (5) نفهم بالتعليم. انتهى.
وهذا الذي قاله مشكل، فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم حفظوا البقرة في مدة
متطاولة، لأنهم كانوا يحفظون مع التفهم.
وإعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما: إعجاز متعلق بنفسه.
والثاني: بصرف الناس عن معارضته.
92

ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز، واختلفوا في إعجازه، فقيل: إن التحدي:
وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات، وإن العرب كلفت في ذلك مالا تطيق،
وفيه وقع عجزها. والجمهور على أنه إنه إنما وقع بالدال على القديم (1) وهو الألفاظ.
فإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يصح التحدي بشئ مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها
التحدي، ولا يتجه قول القائل لمثله: إن صنعت خاتما كنت قادرا على أن تصنع مثله،
إلا بعد أن يمكنه من الجهة التي تدعى عجز المخاطب عنها، فنقول: الإعجاز في القرآن
العظيم إما أن يعنى بالنسبة إلى ذاته، أو إلى عوارضه من الحركات والتأليف، أو إلى مدلوله،
أو إلى المجموع، أو إلى أمر خارج عن ذلك، لا جائز أن يكون الإعجاز حصل من جهة
ذوات الكلم المفردة فقط، لأن العرب قاطبة كانوا يأتون بها، ولا جائز أن يكون الإعجاز
وقع بالنسبة إلى العوارض من الحركات والتأليف فقط، لأنه يحوج إلى ما تعاطاه مسيلمة
من الحماقة: (إنا أعطيناك الجواهر - فصل لربك وهاجر - إن شانئك هو الكافر).
ولو كان الإعجاز راجعا في الإعراب والتأليف المجرد لم يعجز صغيرهم عن تأليف ألفاظ
معربة فضلا عن كبيرهم، ولا جائز أن يقع بالنسبة إلى المعاني فقط، لأنها ليست من صنيع
البشر، وليس لهم قدرة على إظهارها، من غير ما يدل عليها، ولا جائز أن ترجع إلى المجموع
لأنا قد بينا بطلانه بالنسبة إلى كل واحد، فيتعين أن يكون الإعجاز لأمر خارج غير ذلك.
[بيان الأقوال المختلفة في وجوه الإعجاز]
وقد اختلف فيه على أقوال:
أحدهما - وهو قول النظام (2): إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم، وكان
93

مقدورا " لهم، لكن عاقهم أمر خارجي، فصار كسائر المعجزات.
وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا
بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ") (1)، فإنه يدل
على عجزهم مع بقاء قدرتهم، ولو سئلوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم، لمنزلته منزلة اجتماع
الموتى، وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره، هذا مع أن الاجماع منعقد على إضافة
الإعجاز إلى القرآن، فكيف يكون معجزا " غيره وليس فيه صفة إعجاز، بل المعجز هو الله
تعالى، حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله.
وأيضا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر، وهو زوال الإعجاز بزوال زمان
التحدي، وخلو القرآن من الإعجاز، وفي ذلك خرق لإجماع الأمة، فإنهم أجمعوا
على بقاء معجزة الرسول العظمى، ولا معجزة له باقية سوى القرآن، وخلوه من الإعجاز
يبطل كونه معجزة.
قال القاضي أبو بكر (2): (ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة
ممكنة - وإنما منع منها الصرفة - لم يكن الكلام معجزا، وإنما يكون المنع معجزا (3)
فلا يتضمن الكلام فضلا (4) على غيره في نفسه).
(وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله،
وإنما تأخروا (5) عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه، ولا بأعجب من قول
94

فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله في هذا الباب، [وإنما يصح من كل
واحد منهما الإعجاز على حد واحد]) (1).
(وزعم قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما وضع حكما) (2).
الثاني: أن وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به، لا مطلق التأليف، وهو بأن
اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة، وعلت مركباته معنى، بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا
في اللفظ والمعنى.
واختاره ابن الزملكاني (3) في البرهان.
الثالث: ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة، ولم يكن ذلك من شأن العرب، كقوله
تعالى: (قل للمخلفين من الأعراب) (4) وقوله في أهل بدر: (سيهزم الجمع
95

ويولون الدبر) (1) وقوله: (لقد صدق الله رسوله الرؤيا) (2) وكقوله: (وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) (3)، وقوله: (الم.
غلبت الروم) (4) وغير ذلك مما أخبر به بأنه سيقع فوقع.
ورد هذا القول بأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها بذلك لا إعجاز فيها، وهو باطل،
فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها.
الرابع: ما تضمن من اخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين، حكاية من شاهدها
وحضرها، وقال: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا
قومك من قبل هذا...) (5) الآية.
وهو مردود بما سبق، نعم هذا والذي قبله من أنواع الإعجاز، إلا أنه منحصر فيه.
الخامس: اخباره عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل، كقوله: (إذ
همت طائفتان منكم أن تفشلا) (6)، وقوله: (وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك
به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) (7)، وقوله: (وإذ يعدكم الله
إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون...) (8) الآية، وكإخباره عن اليهود أنهم لا يتمنون
الموت أبدا.
96

السادس: وصححه ابن (1) عطية وقال: إنه الذي عليه الجمهور والحذاق - وهو الصحيح
في نفسه - وأن التحدي إنما وقع بنظمه، وصحة معانيه، وتوالى فصاحة ألفاظه، ووجه
إعجازه أن الله أحاط بكل شئ علما، وأحاط بالكلام كله علما، فإذا ترتبت اللفظة
من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلى الأولى، ويتبين المعنى بعد المعنى، ثم كذلك
من أول القرآن إلى آخره. والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول، ومعلوم بالضرورة (2)
أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك (3)، وبهذا [جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من
الفصاحة، وبهذا النطق] (4) يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان (5)
بمثله، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه.
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم (6 يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ولهذا
ترى البليغ ينقح الخطبة أو القصيدة حولا، ثم ينظر فيها، فيغير فيها، وهلم جرا. وكتاب الله 6)
سبحانه لو نزعت منه لفظة، ثم أدبر لسان العرب على لفظة (7) أحسن منها لم توجد.
ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره، ويخفي علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة
العرب يومئذ في سلامة الذوق. وجودة القريحة، [وميز الكلام] (4).
وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة، كما قامت
97

الحجة في معجزة عيسى بالأطباء، و [في] (1) معجزة موسى بالسحرة، فإن الله تعالى
إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما تكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره،
فكان السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته، وكذا الطب في زمان عيسى، والفصاحة
في مدة محمد صلى الله عليه وسلم.
السابع: أن وجه الإعجاز الفصاحة، وغرابة الأسلوب، والسلامة من جميع العيوب وغير
ذلك مقترنا بالتحدي، واختاره الإمام فخر الدين (2)، وهو قريب مما سبق، وقد قال تعالى:
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله) (3)، والمراد: بمثل نظمه، بدليل قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (4):
وقول من قال: إن الضمير في (من مثله) عائد على الله ضعيف، بقوله: (بعشر سور
مثله) (5)، والسياق واحد.
الثامن: ما فيه من النظم والتأليف والترصيف، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد
في كلام العرب، ومباين لأساليب خطاباتهم، واختاره القاضي أبو بكر (6).
قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته.
98

قال: (1) ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن (2 من أصناف البديع التي أدعوها
في الشعر، لأنه ليس مما يخرق العادة 2)، بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدريب والتصنع
له، كقول الشعر، ورصف الخطب، وصناعة الرسالة، والحذق في البلاغة، وله طريق
يسلك (3)... فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه، ولا إمام يقتدى به،
ولا يصح وقوع مثله اتفاقا...
قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر، وفي بعض أدق وأغمض.
ثم قال القاضي: فإن قيل (4) ما الذي وقع التحدي به؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو
الكلام القائم بالذات؟ أو غيره؟
قلنا: الذي تحداهم به أن يأتوا على الحروف التي هي نظم القرآن منظومة حكمها،
متتابعها كتتابعها، مطردة كاطرادها، ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بالكلام القديم الذي
لا مثل له (5).
وقال بعض الأئمة: ليس الإعجاز المتحدي به إلا في النظم، لا في المفهوم، لأن المفهوم
99

لم يمكن الإحاطة به، ولا الوقوف على حقيقة المراد منه، فكيف يتصور أن يتحدى بما
لا يمكن الوقوف عليه، إذ هو يسع كل شئ فأي شئ، قوبل به ادعى أنه غير المراد، ويتسلسل!
التاسع: أنه شئ لا يمكن التعبير عنه - وهو اختيار السكاكي حيث قال في " المفتاح " (1):
واعلم أن شأن الإعجاز [عجيب] (2) يدرك ولا يمكن وصفه، كاستقامة الوزن تدرك
ولا يمكن وصفها، وكالملاحة. وكما يدرك (2 طيب النغم العارض لهذا الصوت، ولا طريق
إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما 2).
وقال أبو حيان التوحيدي في " البصائر " (3): لم أسمع كلاما ألصق بالقلب، وأعلق
بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي - وكان بحرا في العلم - وقد سئل
عن موضع الإعجاز من القرآن فقال: هذه - مسألة فيها حيف على المفتى (4)، وذلك أنه شبيه
بقولك: ما موضع الانسان من الانسان؟ فليس للإنسان موضع من الانسان، بل متى
أشرت إلى جملته فقد حققته، ودللت على ذاته، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شئ منه
إلا وكان ذلك المعنى آية " في نفسه، ومعجزة لمحاوله، وهدى لقائله، وليس في طاقة البشر
الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه، فلذلك حارت العقول وتاهت
البصائر عنده.
100

العاشر: وهو قول حازم (1) في " منهاج البلغاء ": إن الإعجاز فيه من حيث استمرت
الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا " لا توجد له فترة، ولا يقدر عليه
أحد من البشر، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع
أنحائها في العالي منه إلا في الشئ اليسير المعدود، ثم تعرض الفترات الانسانية، فتقطع طيب
الكلام ورونقه، فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه، بل توجد في تفاريق وأجزاء منه،
والفترات وإن في الفصاحة تقع للفصيح، إما بسهو يعرض له في الشئ من غير أن يكون جاهلا به،
أو من جهل به، أو من سآمة تعتري فكره، أو من هوى للنفس يغلب عليها فيما يحوش
عليها خاطره، من اقتناص المعاني سمينا كان أو غثا "، فهذه آفات لا يخلو منها الانسان الفاضل
الطبع الكامل، وهو قريب مما ذكره ابن الزملكاني وابن عطية.
الحادي عشر: قال الخطابي (2) في كتابه - وإليه (3) ذهب الأكثرون من علماء
النظر -: إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة، لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه
إلى حكم الذوق والقبول عند النفس.
قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في درجة البيان متفاوتة (4)،
[ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية] (5)، فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح
101

القريب السهل، ومنها الجائز الطلق الرسل، وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود
[دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شئ منه البتة] (1).
فالقسم الأول أعلاه، والثاني أوسطه، والثالث أدناه وأقربه 2)، فحازت بلاغات
القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة، وأخذت من كل نوع شعبة، فانتظم لها
بامتزاج هذه الأوصاف [نمط] (1) من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على
الانفراد في نعوتهما كالمتضادين، لأن العذوبة نتاج السهولة، والجزالة والمتانة [في الكلام] (1)
يعالجان نوعا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة
خص بها القرآن. [يسرها الله بلطيف قدرته]، ليكون آية بينة لنبيه [ودلالة على
صحة ما دعا إليه من أمر دينه] (1).
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور:
منها أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني
[والحوامل] (1).
ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ، ولا تكمل معرفتهم
باستيفاء جميع وجوه النظوم هو التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا
باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها، إلا أن يأتوا بكلام مثله.
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط
لهما ناظم.
وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة، حتى لا ترى
102

شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظما أحسن تأليفا "
وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه. وأما معانيه، فكل ذي لب يشهد له بالتقديم
في أبوابه، والرقى في أعلى درجاته.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، وأما أن توجد
مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، [الذي أحاط بكل شئ علما،
وأحصى كل شئ عددا].
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن
نظوم التأليف، مضمنا أصح المعاني، من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته، ودعاء
إلى طاعته، وبيان لطريق عبادته، في تحليل وتحريم، وحظر وإباحة، ومن وعظ
وتقويم، وأمر بمعروف ونهى عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن
مساويها، واضعا " كل شئ منها موضعه الذي لا يرى شئ أولى منه، ولا يتوهم
في صورة العقل أمر أليق به منه، مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله
بمن عصى وعاند منهم، منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان، جامعا "
في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا
إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.
103

ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين أشتاتها إلا حتى تنتظم وتتسق، أمر
تعجز عنه قوى البشر، ولا تبلغه قدرتهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله،
ومناقضته في شكله، ثم صار المعاندون له [ممن كفر به وأنكره] يقولون مرة:
إنه شعر لما رأوه منظوما، ومرة إنه سحر لما صلى رأوه معجوزا عنه، غير مقدور عليه. وقد كانوا
يجدون له وقعا " في القلب، وقرعا في النفس، يريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به
نوعا من الاعتراف، ولذلك قالوا: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة. وكانوا مرة "
لجهلهم وحيرتهم يقولون: (أساطير الأولين اكتتبها فهي أنه تملى عليه وهو بكرة "
وأصيلا ") مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملى أو يكتب شيئا،
ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز. وقد حكى الله عن بعض
مردتهم - وهو الوليد بن المغيرة المخزومي - أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه،
وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس، فلم يقدر على أكثر من قوله: (إن هذا
إلا قول البشر) عنادا وجهلا به، وذهابا عن الحجة، وانقطاعا دونها.
ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ
104

التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أبدل مكانه غيره
جاء منه، إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة،
وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس، كالعلم والمعرفة،
والشح والبخل، والنعت والصفة، وكذا بلى ونعم، ومن وعن، ونحوها من الأسماء والأفعال
والحروف، والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك، لأن كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن
صاحبتها في بعض معانيها، وإن اشتركا في بعضها.
ولهذا قال أبو العالية في قوله تعالى: (الذين هم عن صلاتهم ساهون)
أنه الذي ينصرف ولا يدرى عن شفع أو وتر. فرد عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال:
(الذين هم في صلاتهم)، فلم يفرق أبو العالية بين (في)، و (عن) حتى تنبه له الحسن
وقال: المراد به أخرجها عن وقتها.
فإن قيل: فهلا جعل في كل سورة نوعا من الأنواع؟
قيل: إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة
الواحدة، وفى الآي المجموعة القليلة العدد، ليكون أكثر لفائدته، وأعم لمنفعته، ولو كان
لكل باب منه قبيل، ولكل معنى سورة مفردة، لم تكثر عائدته، ولكان الواحد من
الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع السورة لا تعوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد
الذي تضمنته السورة الواحدة فقط، وكان في اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة
أوفر حظا، وأجدى نفعا من التخيير لما ذكرناه.
105

قال الخطابي: وقلت في إعجاز القرآن وجها [آخر] ذهب عنه الناس [فلا
يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم] وهو صنيعه بالقلوب، وتأثيره في النفوس، فإنك
لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب
من اللذة والحلاوة في حال، ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه. قال
الله تعالى: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا " متصدعا " من خشية
الله) وقال تعالى: (الله تزل أحسن الحديث كتابا " متشابها " مثاني تقشعر منه
جلود الذين يخشون ربهم) الآية.
قلت: ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للطور حتى انتهى
إلى قوله: (إن عذاب ربك لواقع) قال: حشيت أن يدركني العذاب. وفى لفظ:
(كاد قلبي يطير فأسلم). وفى أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم، وغير ذلك
وقد صنف بعضهم كتابا فيمن مات بسماع آية من القرآن.
الثاني عشر، وهو قول أهل التحقيق: إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال،
لا بكل واحد عن انفراده، فإنه جمع ذلك كله، فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع
اشتماله على الجميع، بل وغير ذلك مما لم يسبق.
فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم، سواء المقرين والجاحدين، ثم إن
سامعه إن كان مؤمنا به يداخله روعة في أول سماعه وخشية، ثم لا يزال يجد في قلبه
106

هشاشة " إليه، ومحبة له. وإن كان جاحدا وجد فيه مع تلك الروعة نفورا وعيا، لانقطاع
مادته بحسن سمعه.
ومنها أنه لم يزل ولا يزال ولا يزال غضا طريا " في أسماع السامعين، وعلى ألسنة القارئين.
ومنها ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله
لرسوله تارة "، ومخاطبة أخرى لخلقه، لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف
في قلبه، وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه، فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها
بألفاظه التي يكسوها إياه، كما يشاهد من الكتب المتقدمة.
ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين، لا يجتمعان غالبا في كلام
البشر، لإن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة،
والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة، فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد
الفخامة والروعة في الأسماع، مثل الفصحاء من الأعراب، وفحول الشعراء منهم، ومن
نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ، مثل أشعار المخضرمين
ومن داناهم من المولدين المتأخرين. وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين،
وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز.
ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى
بيان يرجع فيه إليه، كما قال تعالى: (هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر
الذي هم فيه مختلفون).
107

فصل
في قدر المعجز من القرآن
قال: القاضي أبو بكر: ذهب عامة أصحابنا - وهو قول أبى الحسن الأشعري
في كتبه - إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة أو ما كان
بقدرها.
قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز.
قال: ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر.
وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة.
وقد حكى عنهم نحو قولنا، إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة، بل
شرط الآيات الكبيرة.
وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها، ولم يخص. ولم يأتوا بشئ منها، فعلم أن
جميع ذلك معجز.
وأما قوله تعالى: (فليأتوا بحديث مثله) فلا يخالف هذا، لأن الحديث التام
لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة. وهو يؤكد مذهب أصحابنا وإن كان
قد يتأول قوله: (فليأتوا بحديث مثله) على القبيل دون التفصيل [وكذلك يحمل
108

قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله) على القبيل، لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله
إلى آخره].
فإن قيل: هل يعرف إعجاز السور القصار بما يعرف به إعجاز الطوال؟ وهل
يعرف [إعجاز] كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه على ما تعرفون به
إعجاز هذا سورة البقرة ونحوها؟
قلنا: إن أبا الحسن الأشعري قد أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد علم كونها
معجزة بعجز العرب عنها. وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول: إنه
يصح أن يكون علم ذلك توقيفا والطريقة الأولى أسد، وتظهر فائدتهما في أن الأولى
تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا موجود في كل سورة، قصرت أو طالت،
فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا. والأخرى تتضمن تقدير معرفة إعجاز القرآن
بالطريق التي سلكناها.
109

فصل
اعلم أنه سبحانه تحداهم أولا في الإتيان بمثله، فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس
والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا ")، ثم تحداهم بعشر سور منه وقطع عذرهم بقوله: (قل فأتوا بعشر سور
مثله مفتريات)، وإنما قال (مفتريات) من أجل أنهم قالوا: لا علم لنا بما فيه من
الأخبار الخالية، والقصص البالغة، فقيل لهم. (مفتريات) إزاحة لعللهم، وقطعا لأعذارهم،
فعجزوا، فردهم من العشر إلى سورة واحدة من مثله، مبالغة في التعجيز لهم، فقال: (وإن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون
الله إن كنتم صادقين)، أي يشهدون لكم أنها في نظمه وبلاغته وجزالته، فعجزوا
فقال تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم (فاتقوا
النار) وهذه مبالغة في الوعيد، مع أن اللغة لغتهم، والكلام كلامهم، وناهيك
بذلك أن الوليد بن المغيرة لعنه الله كان سيد قريش، وأحد فصحائهم لما سمعه أخرس
لسانه، وبلد جنانه، وأطفئ بيانه، وقطعت حجته، وقصم ظهره، وظهر عجزه، وذهل عقله، حتى
قال: (قد عرفنا الشعر كله هزجه ورجزه، وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر
قالت له قريش: فساحر؟ قال: وما هو بساحر، قد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه
ولا عقده، والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر،
110

وإنه ليعلو ولا يعلى، سمعت قولا يأخذ القلوب: قالوا: مجنون؟ قال: لا والله ما هو بمجنون
ولا بخنقه ولا بوسوسته ولا رعشته، قالوا: كاهن. قال: قد رأينا الكهان فما هو بزمزمة
الكهان ولا بسجعهم. ثم حملته الحمية فنكص على عقبيه وكابر حسه فقال: (إن هذا
إلا سحر يؤثر. إن هذا إلا قول البشر).
مسألة
[في أن التحدي إنما وقع للإنس دون الجن]
التحدي إنما وقع للإنس دون الجن، لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي
جاء القرآن على أساليبه، وإنما ذكروا في قوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن)
تعظيما لإعجازه، لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد، فإذا فرض اجتماع
جميع الإنس والجن، وظاهر بعضهم بعضا، وعجزوا عن العارضة كان الفريق الواحد
أعجز، ونظيره في الفقه تقدم والأخ الشقيق على الأخ للأب في ولاية النكاح، مع أن الأمومة
ليس لها مدخل في النكاح.
فصل
في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة
قال القاضي: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه
111

وسلم يعلم ضرورة، وكونه معجزا يعلم بالاستدلال، وهذا المذهب يحكى عن المخالفين.
والذي نقوله: إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا، وكذلك من ليس
ببليغ، فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة، فإنه يعلم من نفسه
ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله.
مسألة
[في الحكمة في تنزيه النبي عليه السلام عن الشعر]
قيل: للحكمة تنزيه الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الشعر وجوه:
أحدها: أنه سبحانه أخبر عن الشعراء بأنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون
مالا يفعلون، وأن للشعر شرائط لا يسمى الانسان بغيرها شاعرا، كما قال بعضهم
وقد سئل عن الشاعر، فقال: إن هزل أضحك، وإن جد كذب، فالشاعر له بين كذب،
وإضحاك. فنزه الله نبيه عن هاتين الخصلتين، وعن كل أمر دنئ، وإنا لا نكاد نجد
شاعرا إلا مادحا ضارعا، أو هاجيا ذا قذع، وهذه أوصاف لا تصلح للنبي.
والثاني: أن أهل العروض مجمعون كما قال ابن فارس، على أنه لا فرق بين صناعة
العروض وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض تقسمه
112

بالحروف المتنوعة، فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع، والإيقاع ضرب من
الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: (لست من دد
ولا دد منى).
وأما ما حكى عنه صلى الله عليه وسلم من ألفاظ الوزن، فالجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أنه لم يقصد بها الشعر، ومن حقيقة الشعر قصده، قال ابن فارس: الشعر
كلام موزون مقفى دال على معنى، ويكون أكثر من بيت. لأنه يجوز اتفاق
شطر واحد بوزن يشبه وزن الشعر من غير قصد.
والثاني: أنه صلى الله عليه سلم كان إذا أنشد شيئا من ذلك غيره.
فصل
في تنزيه الله القرآن عن أن يكون شعرا
مع أن الموزون في الكلام رتبته فوق رتبة المنظوم غير الموزون، فإن كل موزون
منظوم ولا عكس، وقال تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا
ذكر وقرآن مبين)، فأعلم سبحانه أنه نزة القرآن عن نظم الشعر والوزن، لأن القرآن مجمع
الحق، ومنبع الصدق، وقصارى أمر الشاعر التحصيل بتصوير الباطل في صورة الحق،
والإفراط في الإطراء، والمبالغة في الذم إلى الإيذاء دون إظهار الحق، وإثبات الصدق منه كان
بالعرض، ولهذا قال تعالى: (وما هو بقول شاعر)، أي كاذب، ولم يعن أنه
113

ليس بشعر، فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفى عنه،
ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى المنطقيون القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان
والكذب شعرية.
فإن قيل: فقد وجد في القرآن ما وافق شعرا موزونا، إما بيت تام، أو أبيات،
أو مصراع، كقول القائل:
وقلت لما حاولوا سلوتي كان (هيهات هيهات لما توعدون)
وقوله: (وجفون كالجواب وقدور راسيات) قالوا: هذا من الرمل.
وكقوله: (من تزكى فإنما يتزكى لنفسه) قالوا: هو [مجزوء] من الخفيف.
وقوله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ". ويرزقه من حيث لا يحتسب)
قالوا: هو من المتقارب، أي بإسقاط (مخرجا).
وقوله: (ودانية عليهم ظلالها وذلك قطوفها تذليلا ")، ويشبعون حركة
الميم فيبقى من الرجز، وحكى أن أبا نواس ضمنه فقال:
وفتية في مجلس وجوههم * ريحانهم، قد عدموا التثقيلا
دانية عليهمو ظلالها * (وذللت قطوفها تذليلا)
114

وقوله تعالى: (ويخزهم وينصر كم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين)
قالوا: هو من الوافر.
وقوله تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم)
قالوا: هو من الخفيف.
وقوله تعالى: (والعاديات ضبحا " فالموريات قدحا ") ونحوه قوله: (والذاريات
ذروا " فالحاملات وقرا " فالجاريات يسرا ") وهو عندهم شعر من بحر البسيط.
وقوله تعالى: (ومن الليل فسبحه عليه وأدبار السجود).
وقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).
وقوله تعالى: (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ").
وقوله تعالى: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
وقوله تعالى: (تبت يدا أبى لهب).
115

وقوله تعالى: (نصر من الله وفتح قريب).
وقوله تعالى: (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف).
وقوله تعالى: (إن قارون كان من قوم موسى).
ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة
شئ عظيم) فقال كسرت إنما قال: (يا أيها الناس اتقوا ربكم... زلزلة الساعة
شئ عظيم) فقيل له: هذا القرآن وليس بشعر.
فالجواب قال القاضي أبو بكر: إن الفصحاء منهم لما أورد عليهم القرآن لو اعتقدوه
شعرا [ولم يروه خارجا " عن أساليبهم] لبادروا إلى معارضته، لأن الشعر منقاد إليهم،
فلما لم يعمدا أبي إلى ذلك دل على أنهم لم يعتقدوا فيه ذلك، فمن استدرك فيه شعرا " زعم أنه خفى
على أولئك النفر، وهم ملوك الكلام مع شدة حاجتهم إلى الطعن في القرآن، والغض
منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه، فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه
ويعرفه من جاء الآن، فهو بالجهل حقيق.
116

وحينئذ فالذي أجاب به العلماء عن هذا بأن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون
شعرا "، وأقل الشعر بيتان فصاعدا "، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من
أهل الاسلام.
وقالوا أيضا: إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر
[أصلا].
ثم منهم من قال: إن الرجز ليس بشعر أصلا، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا، وكذا
ما يقاربه في قلة الأجزاء، وعلى هذا نسقط السؤال.
ثم نقول: إن الشعر إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك،
ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوى فيه العامي والجاهل [والعالم بالشعر
واللسان وتصرفه] وما يتفق من كل واحد، فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعرا،
وإلا لكان الناس كلهم شعراء، لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه
ما يتزن بوزن الشعر [وينتظم بانتظامه].
وقيل: أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات، وليس ذلك في القرآن بحال.
قال القاضي: وهذه الطريق التي سلكوها في الجواب معتمدة، أو أكثرها.
ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته، لأن طريق الشعر
غير مستصعب على أهل الزمان [الواحد، وأهله يتقاربون فيه، أو يضربون فيه
بسهم].
117

فصل
[في اختلاف المقامات ووضع كل شئ في موضع يلائمه]
مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما يلائمه، ووضع
الألفاظ في كل موضع ما يليق به، وإن كانت مترادفة، حتى لو أبدل واحد منها بالآخر
ذهبت تلك الطلاوة، وفاتت تلك الحلاوة.
فمن ذلك أن لفظ (الأرض) لم ترد في التنزيل إلا مفردة، وإذا ذكرت
والسماء مجموعة لم يؤت بها معها إلا مفردة، ولما أريد الإتيان بها مجموعة قال: (ومن
الأرض مثلهن)، تفاديا من جمعها.
ولفظ (البقعة) لم تستعمل فيه إلا مفردة، كقوله تعالى: (في البقعة المباركة)
فإن جمعت حسن ذلك ورودها مضافة، كقولهم: (بقاع الأرض).
وكذلك لفظ (اللب) مرادا به العقل، كقوله تعالى: (وذكرى لأولى الألباب)
(لذكرى لأولى الألباب) فإنه يعذب دون الإفراد.
وكذلك قوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) وفى موضع آخر:
(في بطني محررا ")، استعمل (الجوف) في الأول (والبطن) في الثاني مع اتفاقهما
118

في المعنى، ولو استعمل في أحدهما في موضع الآخر لم يكن له من الحسن والقبول عند الذوق
والاستعمال كل واحد منهما في موضعه.
وأما بالنسبة إلى المقامات، فانظر إلى مقام الترغيب، وإلى مقام الترهيب، فمقام
الترغيب كقوله تعالى: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
إن الله يغفر الذنوب جميعا ") نجده تأليفا لقلوب العباد، وترغيبا لهم في الاسلام.
قيل: وكان سبب نزولها أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد،
ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا قال: وكنا نقول: قوم لا يقبل الله منهم صرفا
ولا عدلا أبدا، [قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به] فنزلت - [وكان عمر
كاتبا "] - فكتب بها عمر بن الخطاب إليهم رضي الله عنه حين فهم قصد الترغيب،
فآمنوا وأسلموا وهاجروا.
ولا يلزم دلالتها على مغفرة الكفر، لكونه من الذنوب، فلا يمكن حملها على فضل
الترغيب في الاسلام وتأليف القلوب له لوجوه:
منها أن قوله: (يغفر الذنوب جميعا ") عام دخله التخصيص بقوله: (إن الله لا يغفر
أن يشرك به) فيبقى معتبرا فيما عداه.
ومنها أن لفظ (العباد) مضافا إليه في القرآن مخصوص بالمؤمنين، قال تعالى: (عينا "
يشرب بها عباد الله).
119

فإن قلت: فلم يكونوا مؤمنين حال الترغيب!
قلت: كانوا مؤمنين قبله، بدليل سبب نزولها، وعوملوا هذه المعاملة من الإضافة مبالغة "
في الترغيب.
وأما مقام الترهيب فهو مضاد له، كقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد
حدوده يدخله نارا " خالدا " فيها)، ويدل على قصد مجرد الترهيب بطلان النصوصية
من ظاهرها على عدم المغفرة لأهل المعاصي، لأن (من) للعموم لأنها في سياق الشرط،
فيعم في جميع المعاصي فقد حكم عليهم بالخلود، وهو ينافي المغفرة، وكذلك كل مقام يضاد
الآخر، ويعتبر التفاضل بين العبارتين من وجوه:
أحدها المعاني الإفرادية، بأن يكون بعضها أقوى دلالة " وأفخم مسمى، وأسلس
لفظا ونحوه.
الثاني: المعاني الإعرابية بأن يكون مسماها أبلغ معنى، كالتمييز مع البدل في قوله تعالى:
(واشتعل الرأس شيبا ") مع اشتعل الرأس سيبه، وهذا أبلغ من: (اشتعل شيب الرأس).
الثالث: مواقع التركيب، كقوله تعالى: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين)
فإن الأولى جعل (اثنين) مفعول: (يتخذوا) و (إلهين) صفة له تقدمت، فانتصبت
على الحال، والتقدير: اتخذوا إلهين اثنين، لأن (اثنين) أعم من (إلهين).
120

فصل
في اشتمال القرآن على أعلى أنواع الإعجاز
وهو أن يقع التركيب بحيث لا يمتنع أن يوجد ما هو أشد تناسبا ولا اعتدالا في إفادة
ذلك المعنى.
وقد اختلف في أنه: هل تتفاوت فيه مراتب الفصاحة؟ واختار القاضي أبو بكر
ابن الطيب في كتاب " الإعجاز " المنع، وأن كل كلمة موصوفة بالذروة العليا، وإن
كان بعض الناس أحسن إحساسا " له من بعض، وهذا كما أن بعضهم يفطن للوزن
بخلاف بعض.
واختار أبو بصر بن القشيري في تفسيره التفاوت فقال: وقد رد على الزجاج
وغيره تضعيفهم قراءة (والأرحام) بالجر: [ومثل] هذا من الكلام مردود
عند أئمة الدين لأن القراءات السبع متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا ثبت
[شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم] فمن رد ذلك، فكأنما رد على النبوة وهذا
121

مقام محذور، لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، [فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم،
ولا يشك أحد في فصاحته]. ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح، وإن كان غيره أفصح
منه، فإنا لا ندعى أن كل ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة.
وإلى هذا نحا الشيخ عز الدين في كتاب " المجاز " وأورد سؤالا فقال: فإن قلت:
فلم لم يأت القرآن جميعه بالأفصح والأملح؟ وقال فيه إشكال يسر الله حله.
قال القاضي صدر الدين موهوب الجزري رحمه الله: وقد وقع لي حل هذا الإشكال بتوفيق
الله تعالى فأقول: البارئ جلت قدرته، له أساليب مختلفة على مجارى تصريف أقداره فإنه
كان قادرا على إلجاء المشركين إلى الإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (إن
نشأ ننزل عليهم من السماء آية " فظلت أعناقهم لها خاضعين)، ولكنه
سبحانه أرسل رسوله على أساليب الأسباب والمسببات، وجارى العوائد الواقعة من أهل
الزمان، ولذلك تكون حروب الأنبياء سجالا بينهم وبين الكفار، ويبتدئ أمر الأنبياء
بأسباب خفيفة، ولا تزال تنمى وتشتد، كل ذلك يدل على أن أساليبهم في الإرسال على
ما هو المألوف والمعتاد من أحوال غيرهم.
إذا عرف ذلك كان مجئ القرآن بغير الأفصح والأملح جميعه، لأنه تحداهم بمعارضته
على المعتاد فلو وقع على غير المعتاد لكان ذلك نمطا " غير النمط الذي أراده الله عز وجل
في الإعجاز.
ولما كان الأمر على ما وصفنا جاء القرآن على نهج إنشائهم روى الخطب والأشعار وغيرها،
ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزوا عنها، فيظهر الفلج بالحجة، لأنهم لو لم يتمكنوا
لكان لهم أن يقولوا: قد أتيت بما لا قدرة لنا عليه، فكما لا يصح من أعمى معارضة المبصر
122

في النظر، لا يحسن من البصير أن يقول: غلبتك أيها الأعمى بنظري، فإن للأعمى أن يقول:
إنما تم لك الغلبة لو كنت قادرا وكان نظرك أقوى من نظري، فأما إذا فقد أصل النظر
فكيف تصح المعارضة!
فإن قلت: فلو كانت المعجزة شيئا " لا يقدر عليه البشر، كإحياء الموتى وأمثاله، فكيف
كان ذلك أدعى إلى الانقياد
قلت: هذا السؤال سبق الجواب عنه في الكلام، وإن أساليب الأنبياء تقع على
نهج أساليب غيرهم.
فإن قلت: فما ذكرته يدل على أن عجز العرب عن معارضته وإنما كانت لصرف
دواعيهم، مع أن المعارضة كانت مقدورة لهم.
قلت: قد ذهب بعض العلماء إلى ذلك، ولكن لا أراه حقا، ويندفع السؤال
المذكور. وإن كان الإعجاز في القرآن بأسلوبه الخاص به، إلا أن الذين قالوا: بأن
المعجز فيه هو الصرفة مذهبهم أن جميع أساليبه جميعا ليس على نهج أساليبهم، ولكن
شاركت أساليبهم في أشياء:
منها أنه بلغتهم.
ومنها أن آحاد الكلمات قد كانوا يستعملونه في خطهم وأشعارهم، ولكن تمتاز
بأمور أخر، منها غرابة نظمه الخاص الذي ليس مشابها لأجزاء الشعر وأوزانه وهزجه
ورجزه وغير ذلك من ضروبه، فأما توالى نظمه من أوله إلى آخره، بأن يأتي بالأفصح
والأملح، فهذا مما وقعت فيه المشاركة، لكلامهم فبذلك امتاز هذا المذهب عن مذهب
من يقول: إنه كان جميعه مقدورا لهم وإنما صرفت دواعيهم عن المعارضة. انتهى.
وقد سبق اختيار القاضي أنه ليس على أساليبهم البتة فيبقى السؤال بحاله.
123

تنبيه
[في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق]
ذكر ابن أبي الحديد:
اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح، والرشيق ولم والرشق، والجلي والأجلى، والعلى
والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه، وهو
بمنزلة جاريتين: إحداهما بيضاء مشربة حمرة، ودقيقة الشفتين، نقية الشعر، كحلاء العين،
أسيلة الخد، دقيقة الأنف، معتدلة القامة. والأخرى دونها في هذه الصفات والمحسن، لكنها
أحلى في العيون والقلوب منها، وأليق وأملح، ولا يدرى لأي سبب كان ذلك، لكنه
بالذوق والمشاهدة يعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام، نعم يبقى الفرق بين
الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها، وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين
صحيحة، وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق، وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة
أو بالفقه كان من أهل الذوق، وممن يصلح لانتقاد الكلام، وإنما أهل الذوق هم الذين
اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر، وصارت لهم
بذلك دربة وملكة تامة، فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام، وفضل بعضه
على بعض.
124

النوع التاسع والثلاثون
معرفة وجوب تواتره
لإخلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله حديث وأجزائه، وأما
في محله ووضعه وترتيبه، فعند المحققين من علماء أهل السنة كذلك، أي يجب أن يكون
متواترا، فإن العلم اليقيني حاصل أن العادة قاضية بأن مثل هذا الكتاب العزيز، الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه الهادي للخلق إلى الحق المعجز الباقي على
صفحات الدهر، الذي هو أصل الدين القويم، والصراط المستقيم، فمستحيل ألا يكون
متواترا في ذلك كله، إذ الدواعي تتوافر على نقله على وجه التواتر، وكيف لا وقد قال
تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والحفظ إنما يتحقق بالتواتر،
وقالى تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت
رسالته)، والبلاغ العام إنما هو بالتواتر، فما لم يتواتر مما نقل آحادا يقطع بأنه ليس
من القرآن.
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب
أصله، وليس بشرط في محله ووضعه وتربيبه، بل يكثر فيها نقل الآحاد، وهو الذي يقتضيه
صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة.
ورد بأن الدليل السابق يقتضى التواتر في الجميع، ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط
125

كثير من القرآن المكرر، وثبوت كثير مما ليس بقرآن.
أما الأول فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات
الواقعة في القرآن، مثل: (فبأي آلاء ربكما تكذبان)، و (ويل يومئذ
للمكذبين).
وأما الثاني فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في
الموضع بنقل الآحاد.
وقال القاضي أبو بكر في " الانتصار ": ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى
إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحق، وامتنعوا
منه. وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة، وأوجه
وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية، وإن لم يثبت أن النبي صلى
الله عليه وملم قرأها، بخلاف موجب رأى القياسيين، واجتهاد المجتهدين. وأبى ذلك أهل
الحق وأنكروه، وخطأوا من قال بذلك، وصار إليه.
قال القاضي: وقد رد الله عنه طعن الطاعنين، واختلاف الضالين، وليس المعتبر في العلم
بصحة النقل والقطع على فنونه بأن لا يخالف فيه مخالف، وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن
قوم بهم ثبت التواتر، وتقوم الحجة، سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه، ولهذا
لا يبطل النقل إذا ظهر واستفاض، واتفق عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن
من قبل.
وبذلك يسقط اعتراض الملحدين في القرآن، وذلك دليل على صحة نقل القرآن
126

وحفظه وصيانته من التغيير، ونقض مطاعن الرافضة فيه من دعوى الزيادة والنقص، كيف
وقد قال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، وقوله: (إن علينا
جمعه وقرآنه) وأجمعت الأمة أن المراد بذلك حفظه على المكلفين للعمل به وحراسته
من وجوه الغلط والتخليط، وذلك وجب القطع على صحة نقل مصحف الجماعة وسلامته.
فصل
والمعوذتان من القرآن واستفاضتهما كاستفاضة جميع القرآن، وأما ما روي عن ابن
مسعود. قال القاضي أبو بكر: فلم يصح عنه أنهما ليسا بقرآن، ولا حفظ عنه
أنه حكمها وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلات.
قال القاضي: ولا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب، أو زيد أو عثمان
أو علي، أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله وتغييره أو قراءته
على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد، وأن ذلك لا يحل، ولا
يسمع، بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا، فضلا عن أضافته إلى رجل من
127

الصحابة، وإن كلام القنوت المروى عن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم حجة بأنه
قرآن منزل، بل هو ضرب من الدعاء، وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل العلم
بصحته، وأنه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به، وخلط
بكلام ليس بقرآن، ولم يصح ذلك عنه، وإنما روى عنه أنه أثبته في مصحفه، وقد ثبت
في مصحفه ما ليس بقرآن، من دعاء وتأويل.
وقال النووي في شرح " المهذب " أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة
من القرآن، وأن من جحد منها شيئا كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل، وليس بصحيح.
وقال ابن خزم في أول كتابه " المحلى ": هذا كذب على ابن مسعود
موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه، وفيها المعوذتان والفاتحة.
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب " التقريب ": لم ينكر عبد الله بن
مسعود كون المعوذتين والفاتحة من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد،
لأنه كانت السنة عنده ألا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإثباته وكتبه، ولم
يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به.
وهذا تأويل منه وليس جحدا أخبرنا لكونهما قرآنا.
وفي صحيح ابن حبان عن زر: قلنا لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب في
مصحفه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله صلى عليه وسلم: قال لي جبريل: (قل أعوذ
برب الفلق) فقلتها، وقال لي: (قل أعوذ برب الناس) فقلتها، فنحن نقول
ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
128

النوع الأربعون
في بيان معاضدة السنة للقرآن
اعلم أن القرآن والحديث أبدا " متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج
الحكمة، حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر، ويبين إجماله.
ثم منه ما هو ظاهر، ومعه ما يغمض، وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف: الإمام أبو الحكم
ابن برجان في كتابه المسمى " بالإرشاد " وقال: ما قال النبي صلى الله عليه وسلم من
شئ فهو في القرآن، وفيه أصله، قرب أو بعد، فهمه من فهمه، وعمه عنه من عمه، قال الله
تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ)، ألا تسمع إلى قوله صلى الله عليه وسلم
في حديث الرجم: (لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس في نص كتاب الله الرجم.
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهما بكتاب الله، ولكن الرجم فيه تعريض
مجمل في قوله تعالى: (ويدرأ عنها العذاب).
وأما تعيين الرجم من عموم ذكر العذاب، وتفسير هذا المجمل، فهو مبين بحكم الرسول
وبأمره به، وموجود في عموم قوله: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) وقوله من يطع الرسول فقد أطاع الله).
129

وهكذا حكم جميع قضائه، وحكمه على طرقه التي أتت عليه، وإنما يدرك الطالب من
ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه، ويبلغ منه الراغب فيه حيث بلغه ربه تبارك وتعالى، لأنه
واهب النعم، ومقدر القسم.
وهذا البيان من العلم جليل، وحظه من اليقين جزيل، وقد نبهنا صلى الله عليه وسلم
على هذا المطلب في مواضع كثيرة من خطابه.
منها، حين ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه في الجنة فقال: (فيها ما لا عين رأت،
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بله ما اطلعتم عليه)، ثم قال: (اقرأوا إن
شئتم: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين).
ومنها، قالوا: يا رسول الله، ألا نتكل وندع العمل؟ فقال: (اعملوا فكل ميسر
لما خلق له)، ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى. وصدق بالحسنى. فسنيسره لليسرى.
وأما من بخل واستغنى. وكذب بالحسنى. فسنيسره للعسرى).
ووصف الجنة فقال: (فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ولا يقطعها)
ثم قال: (اقرأوا إن شئتم: (وظل ممدود)).
فأعلمهم مواضع حديثه من القرآن، ونبههم على مصداق خطابه من الكتاب،
ليستخرج علماء أمته معاني حديثه طلبا لليقين، ولتستبين لهم السبيل، حرصا منه عليه السلام
على أن يزيل عنهم الارتياب، وأن يرتقوا في الأسباب. ثم بدأ رضي الله عنه بحديث
(إنما الأعمال بالنيات) وقال: موضعه نصا في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا
له فيها ما نشاء لمن نريد) إلى قوله: (فأولئك كان سعيهم مشكورا ").
130

ونظيرها في هود والشورى.
وموضع التصريح به قوله: (ولكن يؤاخذ كم بما كسبت قلوبكم)
و (بما عقدتم الأيمان).
وأما التعريض بكثير، مثل قوله: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا ")، (من كان يريد العزة
فلله العزة جميعا ")، قد علم الله عز وجل أنهم كانوا يريدون الاعتزاز، لأن الانسان
مجبول على طلب العزة، فمخطئ أو مصيب، فمعنى الآية والله أعلم: بلغ هؤلاء المتخذين
الكافرين أولياء من دون الله من ابتغاء العزة بهم، أنهم قد أخطئوا مواضعها وطلبوها
في غير مطلبها، فإن كانوا يصدقون أنفسهم في طلبها فليوالوا يكون الله جل جلاله، وليوالوا
من والاه (و لله العزة ولرسوله وللمؤمنين).
فكان ظاهر آية النساء تعريضا " لظاهر آية المنافقين، وظاهر أية المنافقين تعريضا "
بنص الحديث المروى.
ومن ذلك حديث جبريل في الإيمان والإسلام، بين فيه أن الشهادة بالحق
والأعمال الظاهرة هي الاسلام، وأن عقد القلب على التصديق بالحق هو الإيمان، وهو
131

نص الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة في مسنده: الاسلام ظاهر والإيمان في القلب
موضعه من القرآن: (وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا " وكرها ")،
وقوله: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان)، ونظائرها (وأيدهم بروح منه)،
قال: بنيت هاتين الصفتين على الصفات العليا صفات الله - تعالى ظهورها - من الأسماء
الحسنى: اسم السلام، واسم المؤمن.
ومن ذلك حديث ضمام بن ثعلبة: (أفلح إن صدق) في قوله: (ما على المحسنين
من سبيل).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار) في قوله:
(الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن)، وهو مفهوم من
قوله: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)، فأخبر أنهم دخلوا
النار من أجل استكبارهم وإبائهم من قول: (لا إله إلا الله)، مفهوم هذا أنهم إذا قالوها
مخلصين بها حرموا على النار.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)،
في قوله تعالى: (حديث ضيف إبراهيم المكرمين) وقوله: (والجار الجنب
والصاحب بالجنب وابن السبيل)، وهذه الأربع كلمات جمعن حسن الصحبة
للخلق، لأن من كف سره وأذاه، وقال خيرا " أو صمت عن الشر، وأفضل على جاره،
وأكرم ضيفه، فقد نجا من النار، ودخل الجنة إذا كان مؤمنا، وسبقت له الحسنى، فإن
132

العاقبة مستورة، والأمور بخواتيمها، ولهذا قيل: لا يغرنكم صفاء الأوقات، فإن تحتها
غوامض الآفات.
وقوله: (رأس الكفر نحو المشرق) في قوله تعالى: (و كذلك نرى إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل
رأى...) الآية، فأخبر أن الناظر في ملكوت الله لا بد له من ضروب الامتحان،
وأن الهداية يمنحها الله للناظر بعد التبري منها، والمعصوم من عصمه الله، قال تعالى: (إني
ذاهب إلى ربى سيهدين) وقال: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله
وهبنا له إسحاق ويعقوب) وطلوع الكواكب نحو المشرق ومن هناك إقبالها،
وذلك أشرف لها وأكبر لشأنها عند المفتونين، وغروبها إدبارها، وطلوعها بين قرني الشيطان
من أجل ذلك ليزينها لهم، قال تعالى: (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون
الله وزين لهم الشيطان أعمالهم)، ولما كان في مطلع النيرات من العبر بطلوعها
من هناك وظهورها عظمت المحنة بهن، ولما في الغروب من عدم تلك العلة التي تتبين هناك
[قرن] بتزيين العدو لها، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (وتغرب بين قرني
الشيطان). ولأجل ما بين معنى الإقبال والإدبار كان باب التوبة مفتوحا من جهته إلى
يوم تطلع الشمس منه، ألا تسمع إلى قوله تعالى: (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم
من دونها سترا ")، أي وقعت عقولهم عليها، وحجبت بها عن حالتها، مع قوله:
(لا تسجدوا للشمس ولا للقمر).
133

قوله عند طلوعها: (هذا ربى)، وعند غروبها: (لا أحب
الآفلين)، (لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الضالين) ما يبين
تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (رأس الفتنة والكفر نحو المشرق، وإن باب
التوبة مفتوح من قبل المغرب).
ومن ذلك بدء الوحي في قوله سبحانه: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) إلى
قوله: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده).
وقول خديجة: (والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم) وقوله تعالى: (ادع
لنا ربك بما عهد عندك)، وقوله: (فلولا أنه كان من المسبحين)، وفى هذا
بين صلى الله عليه وسلم أصحاب الغار الثلاثة، إذ قال بعضهم لبعض: ليدع كل واحد منكم
بأفضل أعماله، لعل الله تعالى أن يفرج عنا.
وقول ورقة: (يا ليتني حي إذ يخرجك قومك) إلخ، وقوله تعالى: (لنخرجنك
يا شعيب)، وقوله تعالى: (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا
أو لتعودن في ملتنا).
وكذلك قوله: (لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي) من قوله تعالى: (كذلك
ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم
قوم طاغون).
ومن ذلك حديث المعراج، مصداقه في سورة الإسراء وفى صدر سورة النجم.
134

وقوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به) من مفهوم قوله تعالى:
(ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ").
وبتصديق كلمة الله، اتبعه كونا " وملة، وهكذا حاله حيث جاءت (صدقا)
و (عدلا). فتطلب صدق كلماته بترداد تلاوتك لكتابه، ونظرك في مصنوعاته، فهذا هو
قصد سبيل المتقين، وأرفع مراتب الإيمان، قال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي
الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته) وقال لزكريا: (أن الله يبشرك بيحيى
مصدقا " بكلمة من الله وسيدا "). ولما كان عيسى عليه السلام من أسماء كلماته لم يأت
يوم القيامة بذنب لطهارته وزكاته.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام) في قوله: (سنة ولا نوم).
وقوله: (ولا ينبغي له أن ينام) من قوله (القيوم)، وفسره صلى الله عليه
وسلم بقوله: (يخفض القسط ويرفعه، ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار
قبل عمل الليل)، ومصداقه أيضا قوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك
من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس كفارات لما بينهن) وقال:
(الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام)، (ورمضان إلى رمضان كفارة
لما بينهما) في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) فهذا رمضان
بعشرة أشهر العام، ويبقى شهران داخلان في كرم الله تعالى وحسن معاملته.
135

قلت: قد جاء في حديث آخر: (وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر)،
مع قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). انتهى.
وقال في الجمعة: (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن
كنتم تعلمون) وكذلك قال في الصوم: (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم
تعلمون)، أشار إلى سر في الجمعة، وفضل عظيم، أراهما الزيارة والرؤية في الجنة،
فإنها تكون في يوم الجمعة. وكذلك أشار في الصيام بقوله: (إن كنتم تعلمون)
إلى سر في الصيام، وهو حسن عاقبته وجزيل عائدته، فنبه صلى الله عليه وسلم بقوله:
(لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك).
وقوله وقد رأى أعقابهم تلوح لم يصبها الماء: (ويل للأعقاب من النار)، في
مفهوم (فاغسلوا)، في معنى قوله: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، وغسل
هو قدميه وعمهما غسلا.
وقال: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب
أليم) مع قوله: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا " خالدا " فيها
وله عذاب مهين).
وقوله: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه وخرج من كل خطيئة نظر إليها بعينيه...)
الحديث، من قوله تعالى: (ولكن يريد ليطهركم) أي من ذنوبكم (وليتم نعمته
عليكم لعلكم تشكرون) أي ترقون في درجة الشكر فيتقبل أعمالكم القبول الأعلى.
136

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة فله الشكر، والشكر
درجات). وإنما يتبين بأن يبقى من العمل بعد الكفارة فضل، وهو النافلة، وهو المسمى
بالباقيات الصالحات، لمن قلت ذنوبه، وكثرت صالحاته. فذلك الشكر. ومن
كثرت ذنوبه وقلت صالحاته فأكلتها الكفارات، فذلك المرجو له دخول الجنة. ومن زادت
ذنوبه فلم تقم صالحاته بكفارة ذنوبه، فذلك المخوف عليه، (إلا أن يشاء ربى
شيئا).
قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم الغر المحجلون يوم القيامة) في قوله تعالى: (يوم
ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم).
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء)، وهذا
كله داخل في قوله تعالى: (وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون) وجاءت
(لام كي) ها هنا إشعارا ووعدا وبشارة لهم بنعم أخرى واردة عليهم من الشرائع لم تأت
بعد، ولذلك قال يوم الإكمال في حجة الوداع: (اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي).
ومن ذلك حديث الأذان وكيفيته بقوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) من قوله:
(شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) وتكرارها في قوله:
(لا إله إلا هو).
وقوله: (أشهد أن محمدا رسول الله) في قوله تعالى: (محمد رسول الله)،
137

(وما محمد إلا رسول) مع قوله: (لكن الله يشهد بما كل أنزل إليك أنزله
بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا "). وتكرار الشهادة للرسول في معنى
قوله: (وكفى بالله شهيدا ") مع قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا "
كثيرا ") والتنبيه أول الكثرة، ولأنها عبارة شرعت للإعلام، فتكرارها آكد
فيما شرعت له.
وأما إسراره بهما - يعنى بالشهادتين - فمن مفهوم قوله: (واذكر ربك في نفسك
تضرعا " وخيفة " ودون الجهر من القول). وأما إجهاره بهما ففي قوله تعالى: (يا أيها
الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) والنداء الإعلام، ولا يكون إلا
بنهاية الجهر.
وقوله: (حي على الصلاة في قوله: (وإذا ناديتم إلى الصلاة)، (إذا
نودي للصلاة).
وقوله: (حي على الفلاح) في قوله: (اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا
الخير لعلكم تفلحون).
وقوله: (الصلاة خير من النوم) في قوله: (وذكر فإن الذكرى تنفع
المؤمنين)، وقوله: (ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون).
وقوله: (الله أكبر، الله أكبر) من قوله: (ولتكبروا الله على ما هداكم
ولعلكم تشكرون).
138

وقوله: (لا إله إلا الله) كررها وختم بها في قوله: (واذكروه كما هداكم).
(وأفضل الذكر لا إله إلا الله) فختم بما بدأ به لقوله: (هو الأول والآخر).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على فإنه من صلى على واحدة صلى الله عليه بها
عشرا) في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم سلوا الله لي الوسيلة) في قوله: (عسى أن يبعثك
ربك مقاما " محمودا ")، (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة).
وقوله: (حلت له شفاعتي يوم القيامة) في قوله: (من يشفع شفاعة " حسنة "
يكن له نصيب منها).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك
موكل به، كلما دعا لأخيه بشئ قال الملك: آمين).
(ولك بمثله) في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم) إلى أخر السورة،
هذا دعاء من يأتي به لنفسه ولجماعة المسلمين بظهر الغيب، تقول الملائكة في السماء: (آمين)
وقد قال تعالى: (ولعبدي ما سأل).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة).
وقوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد) يريد مكة، ثم قال: (وأنت حل بهذا
139

البلد) يمكن أن يريد به المدينة، ويكون في الآية تعريض بحرمة البلدين، حيث
أقسم بهما، وتكراره البلد مرتين دليل على ذلك، وجعل الإسمين لمعنيين أولى من
أن يكونا لمعنى واحد، وأن يستعمل الخطاب في البلدين أولى من استعماله في أحدهما، بدليل
وجود الحرمة فيهما.
ومن ذلك حديث الدجال.
قلت: وقع سؤال بين جماعة من الفضلاء في أنه: ما الحكمة أنه لم يذكر الدجال
في القرآن! وتلمحوا منه في ذلك حكما "، ثم رأيت هذا الإمام قال: إن في القرآن تعريضا "
بقصته في قصة السامري وقوله سبحانه: (وإن لك موعدا " لن تخلفه)، وقوله
في سورة الإسراء في قوله: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في
الأرض مرتين ولتعلن علوا " كبيرا ". فإذا جاء وعد أولاهما)، فذكر الوعد
الأول، ثم ذكر الكرة التي لبني إسرائيل عليه، ثم ذكر الآخرة فقال: (فإذا جاء
وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم...) الآية، ثم قال: (وإن عدتم عدنا)،
وفيه إشارة إلى خروج عيسى.
وكذلك هو في الآيات الأول من سورة الكهف في قوله: (وإنا لجاعلون ما عليها
صعيدا جرزا ")، والدجال مما على الأرض، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من
قرأ الآيات من أول سورة الكهف عصمه الله من فتنة الدجال)، يريد والله أعلم: من
140

قرأها بعلم ومعرفة. وهو أيضا في المفهوم من قوله: (محمد رسول الله)، (وخاتم
النبيين).
ومن الأمر بمجاهدة المشركين والمنافقين قوله صلى الله عليه وسلم: (تخرج الأرض
أفلاذ كبدها، ويحسر الفرات عن جبل من ذهب) في قوله تعالى: (وأخرجت
الأرض أثقالها)، فإن الأرض تلقى ما فيها من الذهب والفضة، حتى يكون آخر
ما تلقى الأموات أحياء.
ومصداقه أيضا في عموم قوله: (يخرج الخبء في السماوات والأرض)،
فتوجه القرآن إلى الإخبار عن اخراجها الأموات أحياء، وتوجه الحديث إلى الإخبار عن
اخراجها كنوزها ومعادنها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تعود أرض العرب مروجا) في قوله تعالى:
(حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها)
أتاها أمرنا ليلا " أو نهارا " فجعلناها حصيدا " كأن لم تغن بالأمس...) الآية. وذلك
يكون عند إتمام كلمة الحق: (وإن تتولوا يستبدل قوما " غيركم) وقد تولوا، وقوله:
(وآخرين منهم لما يلحقوا بهم) يومئذ تظهر العقبة ونلقى الأمر بجرانه، وتضع
الحرب أوزارها، ويكون ذلك علما " على الساعة، وآية على قرب الانقراض.
وقوله صلى الله عليه وسلم في مثل الدنيا: (إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من
141

زهرة الدنيا وزينتها) في قوله تعالى: (كلا إن الانسان ليطغى. أن رآه استغنى).
وقوله: (أنما الحياة الدنيا لعب).
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت
أبواب النار وصفدت الشياطين) في مفهوم قوله تعالى: (كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) إلى أن الصوم ينتهى نفعه إلى
اكتساب التقوى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة) ولا يكون ذلك
إلا بضعف حزب الشيطان، فتغلق عنه أبواب المعاصي، وهي أبواب جهنم، وتفتح له
أبواب الطاعة والقربات، وهي أبواب الجنات.
وقوله صلى الله عليه وسلم (تسحروا فإن في السحور بركة) من آثار قوله تعالى: (وكلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض)، ومن بركته حضوره الذي هو وصف
نزوله جل وعلا إلى سماء الدنيا كل ليلة، فكأنه صلى الله عليه وسلم يبتغى البركة في
موضع خطاب ربه، وفى موضع حضوره أو ذكره، أو اسم من أسمائه، ومن هنا وقع التعبد
باسم المبارك، واسم القدوس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا فقد
أفطر الصائم) في قوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل)، وقوله: (حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) والبركة في اتباع مجارى
خطابه، وإن كان الخطاب حكمه حكم إباحة، كما أن البركة في اتباع السنة والاقتداء،
ولهذا كان أكثر الصحابة: لا يصلون المغرب إلا على فطر، وكانوا يؤخرون السحور إلى
142

بزوغ الفجر ابتغاء البركة في ذلك، والخير الموعود به.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إني أبيت عند ربى يطعمني ويسقين) في معنى قوله حكاية
عن خليله: (والذي هو يطعمني ويسقين) والمعنى بما يفتح الله لخاصته من خلقه
الذين لا يطعمون، إنما غذاؤهم التسبيح والتهليل والتحميد.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة: (إنا لم نرده عليك إلا أنا
حرم) في مفهوم قوله تعالى: (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم)، والآكل راض
والراضي شريك.
وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث حنظلة: (لو أنكم تدومون على ما كنتم عندي
لصافحتكم الملائكة، ولكن ساعة وساعة) في قوله: (وإذا مس الانسان الضر دعانا
لجنبه أو قاعدا " أو قائما " فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه)،
وقوله: (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون. ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق
منكم بربهم يشركون) فذكر تعالى اللجأ إليه عندما يلحق الانسان الضر، وهو
ذكر صوري، فلو كان الذكر بينهم على الدوام، لم تفارقهم الملائكة السياحون الملازمون
حلق الذكر، كما قال تعالى عنهم: (يسبحون الليل والنهار لا يفترون)، ولو قربوا
من الملائكة هذا القرب لبدت لهم عيانا، ولأكرمهم الله منه بحسن الصحبة
وجميل الألفة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) في قوله تعالى:
143

(سواء محياهم ومماتهم).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان منهم ثم يبعثون
على أعماهم) في قوله تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ").
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الاسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل
بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الاسلام سنة سيئة
كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة) في قوله تعالى: (من يشفع شفاعة "
حسنة " يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئة " يكن له كفل منها)، ومع قوله:
(ليحملوا أوزارهم كاملة " يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)،
وقوله: (وليحملن أثقالهم وأثقالا " مع أثقالهم) مع ما جاء من نبأ ابني آدم.
وقوله صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله: أي الصدقة أعظم؟ قال: (أن تصدق
وأنت صحيح شحيح ولا تمهل، (حتى إذا بلغت الحلقوم...) والحديث) في قوله تعالى:
(قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا " وعلانية " من
قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال).
وقوله: (اليد العليا خير من اليد السفلى) في قوله تعالى: (والله الغنى وأنتم
الفقراء)، وقد جاء أن اليد السفلى الآخذة، والعليا هو المعطية، وشاهده قوله
تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا " حسنا ").
وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: (من يقرض غير عديم ولا
144

ظلوم)، ووجه ذلك أن العطية من أيدينا مفتقرة إلى من يضع فيها حقا وجب عليها،
ويطهرها بذلك من ذنوبها وأنجاسها، ولولا اليد الآخذة ما قدر صاحب المال على صدقة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيرا يفقهه) في قوله تعالى: (وإلهكم إله
واحد) إلى قوله: (لآيات لقوم يعقلون)، وقوله: (انظر كيف نصرف
الآيات لعلهم يفقهون)، وقوله: (تحسبهم جميعا " وقلوبهم شتى ذلك بأنهم
قوم لا يعقلون)، ووصف من لم يفهم عن المخلوقات بقوله: (لا تفقهون
تسبيحهم)، ثم أعلم سبحانه سعة مغفرته لمن في الأرض الذين لا يسبحونه ولا تفقهون
تسبيح المسبحين من خلقه، ثم أعلم بالعلة التي لأجلها حرموا الفقه عن ربهم، وأن ذلك
هو ختم عقوبة الإعراض بقوله: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين
لا يؤمنون بالآخرة حجابا " مستورا ". وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه...) الآية.
وبالجملة فالقرآن كله لم ينزله تعالى، إلا ليفهمه، ويعلم ويفهم، ولذلك خاطب به
أولى الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكرون، ليدبروا
آياته، وليتذكر أولو الألباب.
وكذلك ما خلق الله الدنيا إلا مثالا للآخرة، فمن فقه عن ربه عز وجل مراده منها،
فقد أراح نفسه، وأجم فكره من هذه الجملة.
وفى هذا النوع من الفقه أفنى أولو الألباب أعمارهم، وفى تعريفه أتعبوا قلوبهم،
وواصلوا أفكارهم.
رزقنا الله من فضله العظيم نورا " نمشي به في الظلمات، وفرقانا نفرق به بين المتشابهات!
145

النوع الحادي والأربعون
معرفة تفسيره وتأويله
[معاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء]
وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه:
قال ابن فارس: معاني العبارات التي يعتبر بها عن الأشياء، ترجع إلى ثلاثة:
المعنى، والتفسير، والتأويل، وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة.
فأما المعنى فهو القصد والمراد، يقال: عنيت بهذا الكلام كذا، أي قصدت وعمدت.
وهو مشتق من الإظهار، يقال: عنت القربة، إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته، ومنه
عنون الكتاب.
وقيل: مشتق من قولهم: عنت الأرض بنبات حسن، إذا أنبتت نباتا حسنا.
قلت: وحيث قال المفسرون: (قال أصحاب العاني) فمرادهم مصنفو الكتب في
146

معاني القرآن، كالزجاج ومن قبله وغيرهم، وفى بعض كلام الواحدي: أكبر أهل المعاني
الفراء والزجاج وابن الأنباري، قالوا كذا كذا، ومعاني القرآن للزجاج لم يصنف مثله.
وحيث أطلق المتأخرون أهل المعاني، فمرادهم بهم مصنفو العلم المشهور.
وأما التفسير في اللغة، فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف، وأصله في اللغة من
التفسرة، الذي وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء، فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف
عن علة المريض، فكذلك المفسر، يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها، والسبب
الذي أنزلت فيه، وكأنه تسمية بالمصدر، لأن مصدر (فعل) جاء أيضا على (تفعلة)،
نحو: جرب تجربة، وكرم تكرمة.
وقال ابن الأنباري: قول العرب: فسرت الدابة وفسرتها، إذا ركضتها محصورة
لينطلق حصرها، وهو يؤول إلى الكشف أيضا.
فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه، وإطلاق للمحتبس عن الفهم به، ويقال:
فسرت الشئ أفسره تفسيرا، وفسرته أفسره فسرا، والمزيد من الفعلين أكثر في
الاستعمال، وبمصدر الثاني منها سمى أبو الفتح بن جنى كتبه الشارحة حتى (الفسر).
وقال آخرون: هو مقلوب من (سفر) ومعناه أيضا الكشف، يقال: سفرت المرأة
سفورا، إذا ألقت خمارها عن وجهها، وهي سافرة، وأسفر الصبح أضاء، وسافر فلان،
وإنما بنوه على التفعيل، لأنه للتكثير، كقوله تعالى: (يذبحون أبناءكم)،
(وغلقت الأبواب)، فكأنه يتبع سورة بعد سورة، وآية بعد أخرى.
147

وقال ابن عباس في قوله تعالى: (وأحسن تفسيرا) أي تفصيلا.
وقال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما، لكن جعل الفسر
لإظهار المعنى المعقول، ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة وسمى بها قارورة الماء، وجعل
السفر لإبراز الأعيان للأبصار، فقيل سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح.
وفى الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقصيصها، والإشارات النازلة فيها،
ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامتها،
ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها.
وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها
وأمثالها، وهذا الذي منع فيه القول بالرأي.
وأما التأويل فأصله في اللغة من الأول، ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟
أي إلام تؤول العاقبة في المراد به؟ كما قال تعالى: (يوم يأتي تأويله) أي تكشف
عاقبته، ويقال: آل الأمر إلى كذا، أي صار إليه، وقال تعالى: (ذلك تأويل ما لم تسطع
عليه صبرا ").
وأصله من المآل، وهو العاقبة والمصير، وقد أولته فآل، أي صرفته فانصرف،
فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني.
وإنما بنوه على التفعيل لما تقدم ذكره في التفسير.
148

وقيل: أصله من الإيالة، وهي السياسة، فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام،
ويضع المعنى فيه موضعه.
[الفرق بين التفسير والتأويل]
ثم قيل: التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال: والصحيح تغايرهما.
واختلفوا، فقيل: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل، ورد أحد الاحتمالين
إلى ما يطابق الظاهر.
قال الراغب: التفسير أعم من التأول، وأكثر استعماله في الألفاظ، وأكثر استعمال
التأويل في المعاني، كتأويل الرؤيا، وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية، والتفسير
يستعمل في غيرها. والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ.
واعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن، وبيان المراد، أعم من
أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره، وبحسب المعنى الظاهر وغيره، والتفسير أكثره
في الجمل.
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ، كالبحيرة والسائبة والوصيلة، أو في وجيز
مبين بشرح، كقوله: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)، وإما في كلام مضمن لقصة
لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها، كقوله: (إيما النسئ زيادة في الكفر)، وقوله:
(وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة
عاما، ومرة خاصا، نحو (الكفر) يستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود
149

البارئ خاصة، و (الإيمان) المستعمل في التصديق المطلق تارة، وفى تصديق الحق تارة. وإما
في لفظ مشترك بين معان مختلفة.
وقيل: التأويل كشف ما انغلق من المعنى، ولهذا قال البجلي: التفسير يتعلق بالرواية،
والتأويل يتعلق بالدراية، وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم
القائم بذات الرب تعالى.
قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع، وإنما الاستنباط فيما يتعلق
بالتأويل، وما لا يحتمل إلا معنى " واحدا حمل عليه. وما احتمل معنيين أو أكثر، فإن
وضع لأشياء متماثلة كالسواد، حمل على الجنس عند الإطلاق، وإن وضع لمعان مختلفة،
فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر، إلا أن يقوم الدليل، وإن استويا سواء كان
الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا، أو في أحدهما حقيقة وفى الآخر مجاز كلفظه (المس)
فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره. وإن تنافيا، فقد قال قوم: يحمل على
المعنيين. والوجه عندنا التوقف.
وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم: التأويل
صرف الآية إلى معنى " موافق لما قبلها وما بعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب
والسنة من طريق الاستنباط.
قالوا: وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير، وقد رخص فيه أهل العلم، وذلك
مثل قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، قيل: هو الرجل يحمل في
الحرب على مائة رجل، وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله. وقيل: الذي يمسك عن
النفقة. وقيل: هو الذي ينفق الخبيث من ماله. وقيل: الذي يتصدق بماله كله، ثم يتكفف
الناس، ولكل منه مخرج ومعنى.
150

ومثل قوله تعالى للمندوبين إلى الغزو، عند قيام النفير: (انفروا خفافا " وثقالا ")،
قيل: شيوخا وشبابا. وقيل: أغنياء وفقراء، وقيل: عزابا ومتأهلين، وقيل: نشاطا وغير
نشاط. وقيل: مرضى وأصحاء، وكلها سائغ جائز، والآية محمولة عليها، لأن الشباب
والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف، وضدهم ثقال.
ومثل قوله تعالى: (ويمنعون الماعون)، قيل: الزكاة المفروضة، وقيل:
العارية، أو الماء، أو النار، أو الكلأ، أو الرفد، أو المغرفة، وكلها صحيح، لأن مانع
الكل آثم.
وكقوله تعالى: (الناس من يعبد الله على حرف) فسره أبو عبيد،
أي لا يدوم، وقال ثعلب: أي على شك. وكلاهما قريب، لأن المراد أنه غير ثابت على
دينة، ولا تستقيم البصيرة فيه.
وقيل: في القرآن ثلاث آيات، في كل منها مائة قول، قوله: (فاذكروني
أذكركم)، (وإن عدتم عدنا)، (وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه، بل معرفة واجبة، ولهذا قال تعالى:
(وابتغاء تأويله).
ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه سبحانه. والوقف على قوله:
(والراسخون). قال القاضي أبو المعالي: إنه قول الجمهور، وهو مذهب ابن مسعود،
151

وأبي بن كعب، وابن عباس،، وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط.
فأما التأويل المخالف للآية والشرع، فمحظور لأنه تأويل الجاهلين، مثل تأويل
الروافض لقوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان) انهما على وفاطمة، (يخرج
منهما اللؤلؤ والمرجان) يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما.
وكذلك قالوا في قوله تعالى: (وإذا تولى سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك
الحرث والنسل) إنه معاوية، وغير ذلك.
قال الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري رحمه الله: وقد نبغ في زماننا مفسرون
لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه، لا يحسنون وإن القرآن تلاوة، ولا يعرفون
معنى السورة أو الآية، ما عندهم الا التشنيع عند العوام، والتكثير عند الطغام، لنيل ما عندهم
من الحطام، أعفوا أنفسهم من الكد والطلب، وقولبهم من الفكر والتعب، لاجتماع
الجهال عليهم، وازدحام ذوي الأغفال لديهم، لا يكفون الناس من السؤال، ولا يأنفون
عن مجالسة الجهال، مفتضحون كما عند السبر والذواق، زائغون هو عن العلماء عند التلاق، يصادرون
الناس مصادرة السلطان، ويختطفون وسلم ما عندهم اختطاف السرحان، يدرسون بالليل صفحا "
ويحكونه بالنهار شرحا، إذا سئلوا غضبوا، وإذا نفروا هربوا، القحة رأس مالهم، والخرق
والطيش خير خصالهم، يتحلون بما ليس فيهم، ويتنافسون فيما يرذلهم، الصيانة عنهم
بمعزل، وهم من الخنى والجهل في جوف منزل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (المتشبع بما لم
يعط كلابس ثوبي زور) وقد قيل:
152

من تحلى بغير ما هو فيه * فضحته شواهد الامتحان
وجرى في السباق جرية سكيت نفته الجياد عند الرهان
قال: حكي عن بعضهم أنه سئل عن (الحاقة) فقال: الحاقة: جماعة من الناس
إذا صاروا في المجلس قالوا: كنا في الحاقة. وقال آخر في قوله تعالى: (يا أرض ابلعي
ماءك ويا سماء أقلعي) قال: أمر الأرض باخراج الماء، والسماء بصب الماء وكأنه
على القلب. وعن بعضهم في قوله تعالى: (الموءودة سئلت) قال: إن الله
ليسألكم عن الموؤودات فيما بينكم في الحياة الدنيا.
وقال آخر في قوله: (فليتنافس المتنافسون) قال: إنهم تعبوا في الدنيا، فإذا
دخلوا الجنة تنعموا.
قال أبو القاسم: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى
ابن معاذ الرازي يقول: أفواه الرجال حوانيتها، وأسنانها صنائعها، فإذا فتح الرجل باب حانوته
تبين العطار من البيطار، والتمار من الزمار، والله المستعان على سوء الزمان، وقلة الأعوان.
فصل
[في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم]
كتاب الله بحره عميق، وفهمه دقيق، لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم،
وعامل الله بتقواه في السر والعلانية، وأجله عند مواقف الشبهات. واللطائف والحقائق
لا يفهمها فيه إلا من القى السمع وهو شهيد، فالعبارات للعموم وهي للسمع، والإشارات
153

للخصوص وهي للعقل، وللطائف للأولياء وهي المشاهد، والحقائق للأنبياء،
وهي الاستسلام.
وللكل وصف ظاهر وباطن، وحد ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم،
والحد إحكام الحلال والحرام، والمطلع - أي الإشراق - من الوعد والوعيد، فمن فهم هذه
الملاحظة بان له بسط الموازنة، وظهر له حال المعاينة. وفى صحيح ابن حبان عن ابن مسعود
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية
منه ظهر وبطن).
ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه، فمن سمعه من التالي ففائدته فيه علم أحكامه، ومن
سمعه كأنما يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته،
وانشراح صدره بلطائف خطابه، ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام، يقرؤه على
النبي صلى الله عليه وسلم، يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب، والنطق إلى ما فيه من الوعود،
ومن سمع الخطاب فيه من الحق فنى عنده، وامحت صفاته، وصار موصوفا بصفات التحقيق
عن مشاهدة علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه:
لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجها.
وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن.
قال ابن سبع في " شفاء الصدور ": هذا الذي قاله أبو الدرداء وابن مسعود
لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر، وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون الف فهم، وما
بقي من فهمها أكثر. وقال آخر: القرآن يحوى سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم،
154

إذ لكل كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعة، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع.
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وصفاته
وأفعاله، فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا " رحبا، ومتسعا بالغا، وأن
المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل، والسماع لا بد منه في ظاهر
التفسير، ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم ولاستنباط، والغرائب التي لا تفهم
إلا باستماع فنون كثيرة. ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها،
ويعلم انه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا، ولا مطمع في الوصول إلى الباطن
قبل إحكام الظاهر.
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمن ادعى البلوغ
إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب، فظاهر التفسير يجرى مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها
للفهم، وما لا بد فيها من استماع كثير، لأن القرآن نزل بلغة العرب، فما كان الرجوع فيه
إلى لغتهم، فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها، إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على
طريق الفهم ليفتح بابه، ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم
القرآن ظاهره، على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له، كما لا نهاية للمتكلم به، فأما
الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر، ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة
القرآن شيئا.
ومن أحاط بظاهر التفسير - وهو معنى الألفاظ في اللغة - لم يكف ذلك في فهم حقائق
المعاني، ومثاله قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، فظاهر
تفسيره واضح، وحقيقة معناه غامضة، فإنه إثبات للرمي، ونفى له، وهما متضادان
155

في الظاهر، ما لم يفهم أنه رمى من وجه، ولم يرم من جه، ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه
الله عز وجل.
وكذلك قال: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم)، فإذا كانوا هم القاتلين
كيف يكون الله تعالى هو المعذب، وإن كان تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم، فما معنى
أمرهم بالقتال!
فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات، فلا بد أن يعلم وجه ارتباط
الأفعال بالقدرة، وتفهم وجه ارتباط القدرة بقدره الله تعالى حتى تتكشف وتتضح،
فمن هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير.
فصل
[في أمهات مآخذ التفسير للناظر في القرآن]
لطالب التفسير مآخذ كثيرة، أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا هو الطراز الأول، لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع، فإنه كثير.
وإن سواد الأوراق سواد في القلب. قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاث
كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير. قال المحققون من أصحابه: ومراد
أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة، وإلا فقد صح من ذلك كثير.
فمن ذلك تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)،
156

وتفسير (الحساب اليسير) بالعرض، رواهما البخاري.
وتفسير (القوة) في: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) بالرمي،
رواه مسلم.
وبذلك يرد تفسير مجاهد بالخيل.
وكتفسير العبادة بالدعاء، في قوله: (إن الذين يستكبرون عن عبادتي).
الثاني: الأخذ بقول الصحابي
فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما قاله الحاكم
في تفسيره.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل ألا يرجع إليه إذا قلنا إن قوله ليس بحجة:
والصواب الأول، لأنه من باب الرواية لا الرأي.
وقد اخرج ابن جرير عن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله إلا هو،
ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت، ولو أعلم مكان أحد
أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته. وقال أيضا: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم
يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن، والعمل بهن.
وصدور المفسرين من الصحابة: على، ثم ابن عباس - وهو تجرد لهذا الشأن،
والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي، إلا ابن عباس كان أخذ عن علي - ويتلوه
عبد الله بن عمرو بن العاص، وكل ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدم.
157

مسألة
[في الرجوع إلى أقوال التابعين، ثم ذكر طبقات المفسرين]
وفى الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد، واختار ابن عقيل المنع، وحكوه
عن شعبة، لكن عمل المفسرين على خلافه. وقد حكوا في كتبهم أقوالهم، كالضحاك
ابن مزاحم، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأبى العالية الرياحي، والحسن البصري،
والربيع بن انس، ومقاتل بن سليمان، وعطاء بن أبي سلمة الخراساني، ومرة الهمداني
وعلي بن أبي طلحة الوالبي، ومحمد بن كعب القرظي، وأبى بكر الأصم عبد الرحمن بن
كيسان، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطية الموفى،
وعطاء بن أبي رباح، وعبد الله بن زيد بن أسلم.
فهذه تفاسير القدماء المشهورين، وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة، ولعل اختلاف
الرواية عن أحمد إنما هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم.
ومن المبرزين في التابعين الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ثم يتلوهم عكرمة
والضحاك - وإن لم يلق ابن عباس، وإنما أخذ عن ابن جبير.
وأما عامر السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما
مقصرين في النظر.
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدى في كتابه " الكامل ": للكلبي أحاديث
صالحة، وخاصة عن أبي صالح، وهو معروف بالتفسير، وليس لأحد تفسير أطول منه،
158

ولا أشيع فيه. وبعده مقاتل بن سليمان، إلا أن الكلبي يفضل على مقاتل، لما في مقاتل
من المذاهب الرديئة. ثم بعد هذه الطبقة ألفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين،
كتفسير سفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وشعبة بن الحجاج، ويزيد بن هارون،
والمفضل، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني، وإسحاق بن راهويه، وروح بن عبادة، ويحيى
ابن قريش، ومالك بن سليمان الهروي، وعبد بن حميد الكشي، وعبد الله بن
الجراح، وهشيم بن بشير، وصالح بن محمد اليزيدي، وعلي بن حجر بن إياس السعدي،
ويحيى بن محمد بن عبد الله الهروي، وعلي بن أبي طلحة، وابن مردويه، وسنيد،
والنسائي، وغيرهم.
ووقع في مسند أحمد والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم كثير من ذلك.
ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع على الناس أشتات التفاسير، وقرب البعيد.
وكذلك عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي. وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس،
فكثيرا ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما مكي، والمهدوي حسن التأليف، وكذلك
من تبعهم كابن عطية، وكلهم متقن مأجور، فجزاهم الله خيرا.
تنبيه
[فيما يجب أن يلاحظ عند نقل أقوال المفسرين]
يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم، ويحكيه المصنفون للتفسير بعبارات
متباينة الألفاظ، ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا، وليس
كذلك، بل يكون كل واجد منهم ذكر معنى ظهر من الآية، وإنما اقتصر
عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل، أو لكونه أليق بحال السائل. وقد يكون
159

بعضهم يخبر عن الشئ بلازمه ونظيره، والآخر بمقصوده وثمرته، والكل يؤول إلى
معنى واجد غالبا، والمراد الجميع، فليتفطن لذلك، ولا يفهم من اختلاف العبارات، اختلاف
المرادات، كما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
هذا كله حيث أمكن الجمع، فأما إذا لم يمكن الجمع، فالمتأخر من القولين عن الشخص
الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة، وإلا فالصحيح المقدم، وكثيرا ما يذكر المفسرون شيئا
في الآية على جهة التمثيل لما دخل في الآية، فيظن بعض الناس أنه قصر الآية على ذلك ولقد
بلغني عن شخص أنه أنكر على الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله في قوله: (نأت بخير منها
أو مثلها): ما ذهب الله مولى إلا أتى بخير منه أو مثله.
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة
فإن القرآن نزل (بلسان عربي مبين). وقد ذكره جماعة، ونص عليه
أحمد بن حنبل في مواضع، لكن نقل الفضل بن زياد عنه - وقد سئل عن القرآن - تمثل
له رجل ببيت من الشعر، فقال: ما يعجبني. فقيل: ظاهره المنع، ولهذا قال بعضهم: في
جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد. وقيل: الكراهة تحمل على من يصرف
الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة، يدل عليها القليل من كلام العرب، ولا يوجد
غالبا إلا في الشعر ونحوه، ويكون المتبادر خلافها.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال: لا أوتي برجل غير عالم بلغات
العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا ".
160

الرابع: التفسير بالمقتضى
من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع
وهذا هو الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس في قوله: (اللهم فقهه
في الدين وعلمه التأويل).
وروى البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي: هل خصكم
رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ؟ فقال: ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم
يؤتاه الرجل.
وعلى هذا قال بعض أهل الذوق: للقرآن نزول وتنزل، فالنزول قد مضى، والتنزل
باق إلى قيام الساعة.
ومن ها هنا اختلف الصحابة في معنى الآية، فأخذ كل واحد برأيه على مقتضى
نظره في المقتضى.
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل، لقوله تعالى: (ولا
تقف ما ليس لك به علم)، وقوله: (وأن تقولوا على الله مالا تعلمون)،
وقوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) فأضاف البيان إليهم.
وعليه حملوا قوله صلى الله عليه وسلم (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من
النار)، رواه البيهقي من طرق، من حديث ابن عباس. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من
تلكم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ)، أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي، وقال:
غريب من حديث ابن جندب.
161

وقال البيهقي في " شعب الإيمان ": هذا إن صح، فإنما أراد - والله أعلم - الرأي الذي
يغلب من غير دليل قام عليه، فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل، وكذلك لا يجوز
تفسير القرآن به.
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز، وهذا معنى قول الصديق:
(أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي!).
وقال في " المدخل ": في هذا الحديث نظر، وإن صح فإنما أراد - والله أعلم: فقد أخطأ
الطريق، فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة، وفى معرفة ناسخه ومنسوخه
وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة، الذين شاهدوا تنزيله، وأدوا
إلينا من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكون تبيانا لكتاب الله، قال الله تعالى:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع، ففيه كفاية عن ذكره من بعده، وما لم يرد عنه بيان
ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده، ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد.
قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه،
فتكون موافقته للصواب - وإن وافقه من حيث لا يعرفه - غير محمودة.
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في نكته: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على
ظاهره، وامتنع من أن يستنبط به معاني القرآن باجتهاده. ولو صحبتها الشواهد، ولم يعارض
شواهدها نص صريح. وهذا عدول عما تعبدنا من معرفته من النظر في القرآن واستنباط
الأحكام منه، كما قال تعالى (لعلمه الذين يستنبطونه منهم).
162

ولو صح ما ذهب إليه لم نعلم شئ بالاستنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا "،
وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه
وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق، وإصابته اتفاق، إذ الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له،
وفى الحديث ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (القرآن ذلول ذو وجوه محتملة، فاحملوه على
أحسن وجوهه).
وقوله (ذلول) يحتمل وجهيه: أحدهما أنه مطيع لحامليه، ينطق بألسنتهم. الثاني
أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين.
وقوله: (ذو وجوه) يحتمل معنيين: أحدهما أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها " من
التأويل، والثاني أنه قد جمع وجوها " من الأوامر والنواهي، والترغيب و الترهيب، والتحليل
والتحريم.
وقوله (فاحملوه على أحسن وجوهه) يحتمل أيضا " وجهين: أحدهما الحمل على أحسن
معانيه. والثاني أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص، والعفو دون الانتقام، وفيه دلالة
ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله.
وقال أبو الليث:
النهى إنما انصرف إلى المتشابه منه، لا إلى جميعه، كما قال تعالى: (فأما الذين
في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه)، لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق، فلو لم يجز
التفسير لم تكن الحجة بالغة، فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول
أن يفسره، وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة، فلا يجوز أن يفسره
إلا بمقدار ما سمع، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير، فلا بأس به،
ولو أنه يعلم التفسير، فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به.
163

ولو قال: المراد من الآية كذا من غير أن سمع منه شيئا " فلا يحل، وهو الذي نهى
عنه. انتهى.
وقال الراغب في مقدمة تفسيره:
اختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل ذي علم الخوض فيه؟ فمنهم من
بالغ ومنع الكلام - ولو تفنن الناظر في العلوم، واتسع باعه في المعارف - إلا بتوقيف عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة أو من أخذ منهم من التابعين،
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ)، وفى رواية: (من
قال في القرآن برأيه فقد كفر).
وقيل: إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره، والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة
الأغراض، واحتجوا بقوله تعالى: (ليدبروا آياته وليذكر أولوا الألباب)
[أقسام التفسير]
وقد روى عبد الرزاق في تفسيره: حدثنا الثوري عن ابن عباس، أنه قسم
التفسير إلى أربعة أقسام: قسم تعرفه العرب في كلامها، وقسم لا يعذر أحد بجهالته، يقول
من الحلال والحرام، وقسم يعلمه العلماء خاصة، وقسم لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه
فهو كاذب.
وهذا تقسيم صحيح.
فأما الذي تعرفه العرب، فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم، وذلك شأن اللغة
والإعراب.
164

فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها، ومسميات أسمائها، ولا يلزم ذلك القارئ. ثم إن كان
ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم، كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد
بالبيت والبيتين، وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك، بل لا بد أن يستفيض ذلك
اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر.
وأما الإعراب، فما كان اختلافه محيلا " للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه، ليتوصل
المفسر إلى معرفة الحكم، وليسلم القارئ من اللحن، وإن لم يكن محيلا " للمعنى وجب
تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن، ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه،
على أن جهله نقص في حق الجميع.
إذا تقرر ذلك، فما كان من التفسير راجعا " إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه
على ما ورد في لسان العرب، وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شئ من
الكتاب العزيز ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها، فقد يكون اللفظ مشتركا " وهو يعلم
أحد المعنيين.
الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله، وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص
المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد، وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم
أنه مراد الله تعالى.
فهذا القسم لا يختلف حكمه، ولا يلتبس تأويله، إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد
من قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)، وأنه لا شريك له في إلهيته،
165

وإن لم يعلم أن (لا) موضوعة في اللغة للنفي، و (إلا) للإثبات وأن مقتضى هذه
الكلمة الحصر، ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة)، ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود،
وإن لم يعلم أن صيغة (أفعل) مقتضاها الترجيح وجوبا " أو ندبا، فما كان من هذا القسم
لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه، لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة.
الثالث: ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة
قيام الساعة، ونزول الغيث، وما في الأرحام، وتفسير الروح، والحروف المقطعة.
وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق، فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره، ولا طريق إلى ذلك
إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه: إما نص من التنزيل، أو بيان من النبي صلى الله عليه
وسلم، أو إجماع الأمة على تأويله، فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما
استأثر الله تعالى بعلمه.
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء، وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل، وهو
صرف اللفظ إلى ما يئول إليه، فالمفسر ناقل، والمؤول مستنبط، وذلك استنباط الأحكام،
وبيان المجمل، وتخصيص العموم.
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه، وعلى
العلماء اعتماد الشواهد والدلائل، وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه، على ما تقدم بيانه.
وكل لفظ احتمل معنيين، فهو قسمان:
166

أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر، فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم
دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه.
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة. وهذا على ضربين:
أحدهما: أن تختلف أصل الحقيقة فيهما، فيدور اللفظ بين معنيين، هو في أحدهما حقيقة لغوية،
وفى الآخر حقيقة شرعية، فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية، نحو قوله
تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، وكذلك إذا دار بين اللغوية
والعرفية، فالعرفية ولا أولى لطريانها على اللغة، ولو دار بين الشرعية والعرفية، فالشرعية أولى
لأن الشرع ألزم.
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة، بل كلا المعنيين استعمل فيهما، في اللغة
أو في الشرع أو العرف على حد سواء. وهذا أيضا على ضربين:
أحدهما أن يتنافيا اجتماعا، ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد، كالقرء، حقيقة في الحيض
والطهر، فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه، فإذا وصل إليه كان هو
مراد الله في حقه، وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد
الله تعالى في حقه، لأنه نتيجة اجتهاده، وما كلف به، فإن لم يترجح أحد الأمرين
لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال يخير في الحمل على أيهما شاء،
ومنهم من قال: يأخذ بأعظمهما حكما. ولا يبعد اطراد وجه ثالث، وهو أن يأخذ بالأخف.
كاختلاف جواب المفتين.
167

الضرب الثاني ألا يتنافيا اجتماعا، فيجب الحمل عليهما عند المحققين، ويكون ذلك أبلغ
في الإعجاز والفصاحة، وأحفظ في حق المكلف، إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما.
وهذا أيضا ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية " لبطلان المعنى الآخر، فيتعين المدلول عليه للإرادة.
الثاني ألا يقتضى بطلانه، وهذا اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: يثبت حكم
المدلول عليه ويكون مرادا، ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر، بل يجوز أن يكون مرادا
أيضا، وإن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما، فاستويا في حكمه
وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج. ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج أثبت
حكما " من الآخر لقوته بمظاهرة حدثنا الدليل الآخر.
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل، والله أعلم.
إذا تقرر ذلك فينزل قوله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ
مقعده عن النار) على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب.
الثاني حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه، لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم
العربية واللغة والتبحر فيهما، ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء، وصيغ الأمر
والنهي، والخبر، والمجمل والمبين، والعموم والخصوص، والظاهر والمضمر، والمحكم
والمتشابه والمؤول، والحقيقة والمجاز، والصريح والكناية، والمطلق والمقيد. ومن علوم
الفروع ما يدرك به استنباطا، والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه، ومع ذلك فهو على
خطر، فعليه أن يقول: يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به، فأدى
اجتهاده إليه، فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله.
168

فإن قيل: فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما نزل من القرآن من
آية إلا ولها ظهر وبطن ولكن حرف حد، ولكل حد مطلع)، فما معنى ذلك؟
قلت: أما قوله: (ظهر وبطن) ففي تأويله أربعة أقوال:
أحدها - وهو قول الحسن - انك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقعت
على معناها.
الثاني - قول أبي عبيدة - إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين، وباطنها
عظة للآخرين.
الثالث - قول ابن مسعود رضي الله عنه - انه ما من آية إلا عمل بها قوم، ولها قوم
سيعملون بها.
الرابع - قاله بعض المتأخرين - إن ظاهرها لفظها، وباطنها تأويلها.
وقول أبي عبيدة أقربها.
وأما قوله (ولكل حرف حد)، ففيه تأويلان:
أحدهما: لكل حرف منتهي فيما أراد الله من معناه.
الثاني: معناه أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب.
وأما قوله: (ولكل حد مطلع) ففيه قولان:
أحدهما: لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته، ويوقف
على المراد به.
والثاني: لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة، ويراه عند المجازاة.
وقال بعضهم: منه ما لا يعلم تأويله الا الله الواحد القهار، وذلك آجال حادثة في
أوقات آتية، كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم وما أشبه ذلك
169

لقوله: (لا يجليها لوقتها الا هو ثقلت في السماوات والأرض) ومنه ما يعلم
تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن، وذلك إبانه غرائبه، ومعرفة
المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها، والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها،
فإن ذلك لا يجهله ابن أحد منهم، وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا " يتلو: (وإذا قيل لهم
لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. ألا إنهم هم المفسدون ولكن
لا يشعرون)، لم يجهل أن معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة، وأن الصلاح
مما ينبغي فعله مما هو منفعة، وإن جهل الله المعاني التي جعلها الله افسادا "، والمعاني التي جعلها الله
إصلاحا "، فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم، كتعليم الأحكام
من الحلال والحرام.
تنبيه
[في كلام الصوفية في تفسير القرآن]
فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن، فقيل ليس تفسيرا، وإنما هي معان ومواجيد
يجدونها عند التلاوة، كقول بعضهم في. (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من
الكفار): إن المراد النفس، فأمرنا بقتال من يلينا، لأنها أقرب شئ إلينا وأقرب
شئ إلى الانسان نفسه.
قال ابن الصلاح في فتاويه: وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي أنه
170

صنف أبو عبد الرحمن السلمي " حقائق التفسير " فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير
فقد كفر.
قال: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا " من أمثال ذلك أنه لم
يذكره تفسيرا، ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم، فإنه لو كان
كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية، وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن، فإن
النظير يذكر بالنظير، فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة، فكأنه قال: أمرنا بقتال
النفس ومن يلينا من الكفار، ومع ذلك فيا ليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك، لما فيه من
الإبهام والالتباس! انتهى.
فصل
حكى الشيخ أبو حيان عن بعض من عاصره أن طالب علم التفسير مضطر إلى النقل في
فهم معاني تركيبه، بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم، وأن فهم الآيات
يتوقف على ذلك ثم بالغ الشيخ في رده لأثر على السابق.
والحق ان علم التفسير، منه ما يتوقف على النقل، كسبب النزول، والنسخ، وتعيين
المبهم، وتبيين المجمل. ومنه ما لا يتوقف، ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر.
171

وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول
والمستنبط، ليحمل على الاعتماد في المنقول، وعلى النظر في المستنبط، تجويزا " له وازديادا "،
وهذا من الفروع في الدين.
تنخيل لما سبق
واعلم أن القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره، وقسم لم يرد.
والأول ثلاثة أنواع: إما ان يرد التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة
أو عن رؤوس التابعين، فالأول يبحث في عن صحة السند، والثاني ينظر في تفسير الصحابي،
فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم، وإن فسره بما شاهده من
الأسباب والقرائن فلا شك فيه، وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة، فإن أمكن
الجمع فذاك، وإن تعذر قدم ابن عباس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بذلك حيث
قال: (اللهم علمه التأويل) وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض، لقوله صلى الله
عليه وسلم (أفرضكم زيد) فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء. وأما الثالث،
وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا إلى أحد من الصحابة،
رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق، فكذا هنا، وإلا وجب الاجتهاد.
الثاني ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين، وهو قليل، وطريق التوصل إلى فهمه النظر
إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق، وهذا يعتنى به
الراغب كثيرا " في كتاب " المفردات " فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول
اللفظ، لأنه اقتنصه من السياق.
172

فصل
[فيما يجب على المفسر البداءة به]
الذي يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية، وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق
الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن، لمن يريد أن
يدرك معانيه، وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه.
قالوا: وليس ذلك في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع
وغيره، وهو كما قالوا: إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته، لأن الجزء سابق
على الكل في الوجود الذهني والخارجي، فنقول النظر في التفسير هو بحسب
أفراد الألفاظ وتراكيبها.
أما بحسب الأفراد فمن وجوه ثلاثة:
من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بإزائها، وهو يتعلق بعلم اللغة.
ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالة على المعاني المختلفة، وهو من
علم التصريف.
ومن جهة رد الفروع المأخوذة من الأصول إليها، وهو من علم الاشتقاق.
وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:
الأول: باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدية
أصل المعنى، وهو ما دل عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلق بعلم النحو.
173

الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى، أعني لازم أصل
المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء، وهو الذي يتكلف بإبراز
محاسنه علم المعاني.
الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها، وباعتبار
الحقيقة والمجاز، والاستعارة والكناية والتشبيه، وهو ما يتعلق بعلم البيان.
والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابلة، وهو يتعلق
بعلم البديع.
مسألة
[في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة]
وقد سبق لنا في باب الإعجاز أن إعجاز القرآن لاشتماله على تفرد الألفاظ التي يتركب
منها الكلام، مع ما تضمنه من المعاني، مع ملاءمته التي هي نظوم تأليفه.
فأما الأول: وهو معرفة الألفاظ، فهو أمر نقلي يؤخذ عن أرباب التفسير، ولهذا كان
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى: (فاكهة " وأبا ")، فلا يعرفه،
فيراجع نفسه ويقول: ما الأب؟ ويقول: إن هذا منك تكلف. وكان ابن عباس -
174

وهو ترجمان القرآن - يقول: لا أعرف (حنانا) ولا (غسلين) ولا
(الرقيم).
وأما المعاني التي تحتملها الألفاظ، فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول.
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر، لأنها لجام الألفاظ،
وزمام المعاني، وبه يتصل اجزاء الكلام، ويتسم بعضه ببعض، فتقوم له صورة في
النفس يتشكل بها البيان، فليس المفرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا لهذا الشأن، ولا كل
من أوتى خطاب بديهة ناهضة بحمله ما لم يجمع إليها سائر الشروط.
مسألة
[في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن]
قيل: أحسن طريق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان
فقد فصل في موضع آخر، وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر، فإن
أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له، قال تعالى: (وما
175

أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى " ورحمة " لقوم
يؤمنون)، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه -، يعني
السنة، فإن لم يوجد في السنة يرجع إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من
القرائن، ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب، فإن لم يوجد ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط
بالشرط السابق.
مسألة
[فيما يحب على المفسر من التحوط في التفسير]
ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر، وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر
عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر، أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق
بالغرض، أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقه، حتى يكون
غير مناسب له ولو من بعض أنحائه، بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء
وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازى، ومراعاة التأليف، وأن يوافى بين المفردات وتلميح
الوقائع، فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد.
ومن شواهد الإعراب قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) ولولا
الإعراب لما عرف الفاعل من الفعول به.
ومن شواهد النظم قوله تعالى: (واللائي لم يحضن) فإنها منتظمة مع ما قبلها
منقطعة عما بعدها.
176

وقد يظهر الارتباط، وقد يشكل أمره، فمن الظاهر قوله تعالى: (هل من شركائكم
من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده) ووجه ظهوره، أنه
لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد، فتعين أن يكون قوله: (قل الله)
جواب سؤال، كأنهم لما سألوا، سمعوا ما قبله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: (من
يبدأ الخلق ثم يعيده) أجابهم بقوله: (قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده)، فترك
ذكر السؤال.
ونظيره: (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق)
مسألة
في النهى عن ذكر لفظ الحكاية عن الله تعالى ووجوب تجنب
إطلاق الزائد على بعض الحروف الواردة في القرآن
وكثيرا " ما يقع في كتب التفسير (حكى الله تعالى)، وينبغي تجنبه.
قال الإمام أبو نصر القشيري في كتابه " المرشد ": قال معظم أئمتنا: لا يقال (كلام
الله يحكى)، ولا يقال: (حكى الله) لأن الحكاية الإتيان بمثل الشئ، وليس لكلامه
مثل. وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار، وكثيرا " ما يقع في كلامهم إطلاق
177

الزائد على بعض الحروف، ك‍ (ما) في نحو: (فبما رحمة من الله)، والكاف في
نحو: (ليس كمثله شئ) ونحوه.
والذي عليه المحققون تجنب هذا اللفظ في القرآن، إذ الزائد ما لا معنى له، وكلام الله
منزه عن ذلك.
وممن نص على منع ذلك في المتقدمين الإمام داود الظاهري، فذكر أبو عبد الله
أحمد بن يحيى بن سعيد الداودي في الكتاب " المرشد " له، في أصول الفقه على مذهب
داود الظاهري: وروى بعض أصحابنا عن أبي سليمان أنه كان يقول: ليس في القرآن
صلة بوجه، وذكر أبو محمد بن داود وغيره من أصحابنا مثل ذلك، والذي عليه أكثر
النحويين خلاف هذا، ثم حكى عن أبي داود مثله، يزعم الصلة فيها، كقوله تعالى:
(مثلا " ما بعوضة ")، وقال: إن (ما) ها هنا للتعليل، مثل: (أحبب حبيبك
هونا " ما).
فصل
[في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره]
التأويل ينقسم إلى منقاد ومستكره:
فالأول ما لا تعرض فيه بشاعة أو استقباح، وقد يقع فيه الخلاف بين الأئمة:
إما الاشتراك في اللفظ، نحو: (لا تدركه الأبصار)، هل هو من بصر العين أو القلب؟
178

وأما لأمر راجع إلى النظم كقوله تعالى: (إلا الذين تابوا)، هل هذا الاستثناء
مقصور على المعطوف وجده أو عائد إلى الجميع؟
وأما لغموض المعنى ووجازة النظم، كقوله تعالى: (وإن عزموا الطلاق فإن الله
سميع عليم).
وإما لغير ذلك.
وأما المستكره فما يستبشع إذا عرض على الحجة، وذلك على أربعة أوجه:
الأول: أن يكون لفظا عاما "، فيختص ببعض ما يدخل تحته، كقوله: (وصالح
المؤمنين)، فحمله بعضهم على علي رضي الله عنه فقط.
والثاني: أن يلفق بين اثنين، كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله: (وإن
من أمة إلا خلا فيها نذير) مع قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر
يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم): إنهم مكلفون كما نحن.
الثالث: ما استعير فيه، كقوله تعالى: (يوم يكشف عن ساق) في حمله على حقيقته.
الرابع: ما أشعر به باشتقاق بعيد، كما قال بعض الباطنية في البقرة إنه انسان يبقر
عن أسرار العلوم، وفى الهدهد إنه انسان موصوف بجودة البحث والتنقيب.
والأول أكثر ما يروج على المتفقهة الذين لم يتبحروا في معرفة الأصول، والثاني على
المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم، والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب
في شرائط قبول الأخبار، والرابع على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات
والاشتقاقات.
179

فائدة
[فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات]
روى عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (أو خلقا " مما يكبر في صدوركم)
فقال: الموت.
قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج لتفسير.
ورأيت لبعض المتأخرين أن مراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شئ،
كما جاء أنه يذبح على الصراط، فكأن المعنى: لو كنتم حجارة أو حديدا لبادر
إليكم الموت، ولو كنتم الموت الذي يكبر في صدوركم فلا بد لكم من الموت. والله أعلم
بتأويل ذلك.
قال: وبقي في نفسي من تأويل هذه الآية شئ حتى يكمل الله نعمته في فهمها.
فصل
[أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر]
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر. واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم
معاني الوحي حقيقة، ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفى قلبه بدعة أو إصرار
على ذنب، أو في قلبه كبر أو هوى "، أو حب الدنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان
180

أو ضعيف التحقيق، أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر، أو يكون
راجعا " إلى معقوله، وهذه كلها حجب وموانع، وبعضها آكد من بعض، إذا كان العبد
مصغيا " إلى كلام ربه، ملقى السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه، ناظرا " إلى قدرته،
تاركا للمعهود من علمه ومعقوله، متبرئا من حوله وقوته، معظما للمتكلم، مفتقرا إلى
التفهم، بحال مستقيم، وقلب سليم، وقوة علم، وتمكن سمع لفهم الخطاب، وشهادة
غيب الجواب، بدعاء وتضرع، وابتئاس وتمسكن، وانتظار للفتح عليه من عند
الفتاح العليم. وليستعن على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف
المتكلم، من الوعد بالتشويق، والوعيد بالتخيف، والإنذار بالتشديد، فهذا القارئ
أحسن الناس صوتا " بالقرآن، وفى مثل هذا قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب
يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به).
وهذا هو الراسخ في العلم، جعلنا الله من هذا الصنف، (والله يقول الحق وهو يهدى
السبيل).
فصل
[في القرآن علم الأولين والآخرين]
وفى القرآن علم الأولين والآخرين، وما من شئ إلا ويمكن استخراجه منه لمن
فهمه الله تعالى، حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا " وستين من قوله
تعالى في سورة المنافقين: (ولن يؤخر الله نفسا " إذا جاء أجلها)، فإنها رأس ثلاث
181

وستين سورة، وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده.
وقوله تعالى مخبرا " عن عيسى: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب) إلى قوله:
(أبعث حيا ") ثلاث وثلاثون كلمة، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.
وقد استنبط الناس زلزلة عام اثنين وسبعمائة من قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض).
فإن الألف باثنين والدال بسبعمائة.
وكذلك استنبط بعض أئمة العرب فتح بيت المقدس وتخليصه من أيدي العدو في أول
سورة الروم بحساب الجمل، وغير ذلك.
فصل
[قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشئ]
وقد يستنبط الحكم من السكوت عن الشئ، كقوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا
لبعولتهن...) الآية، ولم يذكر الأعمام والأخوال، وهم من المحارم، وحكمهم حكم
182

من سمى في الآية. وقد سئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يضعها العم عند ابنه وهو ليس
بمحرم لها، وكذا الخال، فيفضي إلى الفتنة. والمعنى فيه أن كل من استثنى مشترك بابنه
في المحرمية إلا العم والخال. وهذا من الدلائل البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن.
ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في أبناء بعولتهن، لاحتمال أن يذرها أبو البعل
عند ابنه الآخر، وهو ليس بمحرم لها، وأبو البعل ينقض: قولهم إن من استثنى اشترك
هو وابنه في المحرمية.
ومنه قوله تعالى: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم...) الآية،
ولم يذكر الأولاد، فقيل لدخولهم في قوله: (بيوتكم).
فصل
في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس
ببين ما في نفسه فيحتاج إلى بيان
ينقسم القرآن العظيم إلى:
ما هو بين بنفسه، بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره، وهو كثير. ومنه قوله
تعالى: (التائبون العابدون...) الآية.
وقوله: (إن المسلمين والمسلمات...) الآية.
183

وقوله: (قد أفلح المؤمنون).
وقوله: واضرب لهم مثلا " أصحاب القرية)
وقوله: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا ").
وإلى ما ليس ببين بنفسه فيحتاج إلى بيان.
وبيانه إما فيه في آية أخرى، أو في السنة، لأنها موضوعة للبيان، قال تعالى: (لتبين
للناس ما نزل إليهم).
والثاني ككثير من أحكام الطهارة، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج والمعاملات،
والأنكحة، والجنايات، وغير ذلك، كقوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده)،
ولم يذكر كيفية الزكاة، ولا نصابها، ولا أوقاصها، ولا شروطها، ولا أحوالها،
ولا من تجب عليه ممن لا تجب عليه، وكذا لم يبين عدد الصلاة ولا أوقاتها.
وكقوله: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (ولله على الناس حج
البيت) ولم يبين أركانه ولا شروطه، ولا ما يحل في الإحرام وما لا يحل، ولا ما يوجب
الدم ولا مالا يوجبه، وغير ذلك. والأول قد أرشدنا النبي صلى الله عليه
وسلم إليه، بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود لما نزل: (الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم)، شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله، وأينا لا يظلم نفسه!
184

قال. ليس ذلك، إنما هو الشرك، ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه: (يا بني لا تشرك بالله
إن الشرك لظلم عظيم)! فحمل النبي صلى الله عليه وسلم الظلم ها هنا على الشرك،
لمقابلته بالإيمان. واستأنس عليه بقول لقمان.
وقد يكون بيانه مضمرا " فيه، كقوله تعالى: (حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها)،
فهذا يحتاج إلى بيان، لأن (حتى) لا بد لها من تمام، وتأويله: حتى إذا جاؤوها جاؤوها
وفتحت أبوابها.
ومثله: (ولو أن قرآنا " سيرت به الجبال) أي (لكان هذا القرآن)، على
رأى النحويين.
قال ابن فارس: ويسمى هذا عند العرب الكف.
وقد يومئ إلى المحذوف، إما متأخر كقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره
للإسلام) فإنه لم يجئ له جواب في اللفظ، لكن أومأ إليه قوله: (فويل للقاسية
قلوبهم من ذكر الله)، وتقديره: (أفمن شرح الله صدره للإسلام) كمن قسا قلبه!
وإما متقدم كقوله تعالى: (أمن هو قانت آناء الليل)، فإنه أومأ إلى ما قبله:
(وإذا مس الانسان ضر دعا ربه منيبا " إليه)، كأنه قال: أهذا الذي هو
هكذا خير أم من هو قانت؟ فأضمر المبتدأ.
185

ونظيره: (مثل الجنة التي وعد المتقون)، ومن هذه صفته (كمن هو
خالد في النار)!
وقد يكون بيانه واضحا " وهو أقسام:
أحدها: أن يكون عقبه، كقوله تعالى: (الله الصمد) قال محمد بن كعب القرظي:
تفسيره: (لم يلد. ولم يولد. ولم يكن له كفوا " أحد).
وكقوله تعالى: (إن الانسان خلق هلوعا ") قال أبو العالية تفسيره: (إذا مسه
الشر جزوعا ". وإذا مسه الخير منوعا ") وقال ثعلب: سألني محمد بن طاهر: ما الهلع؟
فقلت: قد فسره الله تعالى.
وكقوله: (فيه آيات بينات) فسره بقوله: (مقام إبراهيم ومن دخله
كان آمنا ").
وقوله: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) ومعلوم أنه
لم يرد به المسيح وعزيرا فنزلت الآية مطلقة، اكتفاء بالدلالة الظاهرة، على أنه
لا يعذبهما الله، وكان ذلك بمنزلة الاستثناء باللفظ، فلما قال المشركون: هذا المسيح وعزير
قد عبدا من دون الله أنزل الله: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها
مبعدون).
186

وقوله: (يريكم البرق خوفا " وطمعا ") ففسر رؤية البرق بأنه ليس في
رؤيته إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار. وفيها لطيفة، وهي تقديم الخوف
على الطمع إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة، ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر
البرقات، فإن تواترها لا يكاد يكذب، فقدم الخوف على الطمع، ناسخا للخوف،
كمجئ الفرج بعد الشدة.
وكقوله: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه...)
الآية، وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي على بطنه، فإنها سيقت لبيان القدرة، وهو أعجب من
الذي بعده، وكذا ما يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع.
وكقوله تعالى: (فمما ملكت أيمانكم)، فهذا عام في المسلم والكافر،
ثم بين أن المراد (المؤمنات) بقوله: (من فتياتكم المؤمنات) فخرج
تزوج الأمة الكافرة.
وقوله تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) فإن الأول
اسم منه والثاني (أفعل) تفضيل، بدليل قوله بعده: (وأضل سبيلا ")، ولهذا قرأ
أبو عمرو الأول بالإمالة لأنه اسم، والثاني بالتصحيح ليفرق بين ما هو اسم، وما هو (أفعل)
منه بالإمالة وتركها.
فإن قلت: فقد قال النحويون: (أفعل) التفضيل لا يأتي من الخلق، فلا يقال:
زيد أعمى من عمرو، لأنه لا يتفاوت!
قلت: إنما جاز في الآية لأنه من عمى القلب، أي من كان في هذه الدنيا
187

أعمى القلب عما يرى من القدرة الإلهية، ولا يؤمن به فهو عما يغيب عنه من أمر الآخرة
أعمى أن يؤمن به، أي أشد عمى "، ولا شك أن عمى البصيرة متفاوت.
ومنه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) قال:
البيهقي في " شعب الإيمان ": الأشبه أن المراد بالصبر ها هنا الصبر على الشدائد، لأنه
أتبع مدح الصابرين بقوله: (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل
أحياء) إلى قوله: (وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبة).
الثاني: أن يكون بيانه منفصلا عنه في السورة معه أو في غيره، كقوله تعالى:
(مالك يوم الدين) وبيانه في سورة الانفطار، بقوله: (وما أدراك ما يوم
الدين. ثم ما أدراك ما يوم الدين. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا " والأمر
يومئذ لله).
وقوله في سورتي النمل والقصص: (من جاء بالحسنة فله خير منها)، ولم
يبين في ليل ولا نهار، وبينه في سورة الدخان بقوله: (في ليلة مباركة) ثم بينها في
ليلة القدر بقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فالمباركة في الزمان، هي ليلة القدر
في هذه السورة، لأن الإنزال واحد، وبذلك يرد على من زعم أن المباركة ليلة النصف
من شعبان، وعجب كيف غفل عن ذلك.
وقد استنبط بعضهم هنا بيانا آخر، وهو أنها ليلة سبعة عشر، من قوله تعالى: (وما
188

أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) وذلك ليلة سبع عشرة من
رمضان وفى ذلك كلام.
وقوله تعالى: (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) فسره في آية الفتح:
(أشداء على الكفار رحماء بينهم).
وقوله تعالى: (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا " ولباسهم فيها حرير.
وهدوا إلى الطيب من القول)، وقد فسره في سورة فاطر: (وقالوا الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور).
وقوله: (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ")، بين ذلك بقوله في
النحل: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى).
وذكر الله الطلاق مجملا، وفسره في سورة الطلاق.
وقال تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)، فاستثنى
الأزواج وملك اليمين، ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين، وبين الأم والابنة والرابة بالآية
الأخرى.
ومنه قوله تعالى: (إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار) فإن ظاهره
مشكل، لأن الله سبحانه قد هدى كفارا كثيرا وماتوا مسلمين، وإنما المراد: لا يهدى
من كان في علمه أنه قد حقت عليه كلمة العذاب، وبيانه بقوله تعالى في السور: (أفمن
189

حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار). وقوله في سورة أخرى:
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون. ولو جاءتهم كل آية حتى يروا
العذاب الأليم).
ومنه قوله تعالى: (أجيب دعوة الداع إذا دعان) وكثير من الناس يدعون
فلا يستجاب لهم، وبيانه بقوله تعالى: (بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن
شاء)، فبين أن الإجابة متعلقة بالمشيئة، على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فسر الإجابة
بقوله: (مامن مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث
خصال، إما أن يعجل دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من
السوء مثلها).
ومنه قوله تعالى: (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) وكثير من الناس
يريد ذلك فلا يحصل له، وبيانه في قوله: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها
ما نشاء لمن نريد)، فهو كالذي قبله متعلق بالمشيئة.
ومنه قوله تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله)، وقال في
آية أخرى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)، فإنه قد
يستشكل اجتماعهما، لأن الوجل خلاف الطمأنينة، وهذا غفلة عن المراد، لأن الاطمئنان
إنما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم، وما يتبع ذلك من الدرجة
الرفيعة والثواب الجزيل، والوجل إنما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى،
190

وما يستحق به الوعيد بتوجيل القلوب كذلك. وقد اجتمعا في قوله تعالى: (تقشعر
منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك
هدى الله يهدى به من يشاء) لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم، ووثقوا به،
فانتفى عنهم الشك والارتياب الذي يعرض إن كان كلامهم فيمن أظهر الاسلام تعوذا،
فجعل لهم حكمة دون العلم الموجب لثلج الصدور وانتفاء الشك، ونظائره كثيرة.
ومنه قوله تعالى في قصة لوط: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم
أحد وأمضوا حيث تؤمرون)، فلم يستثن امرأته في هذا الموضوع، وهي مستثناة في
في المعنى بقوله في الآية الأخرى: (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم
أحد إلا امرأتك) فأظهر الاستثناء في هذه الآية.
وكقوله تعالى: (إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما " قال إنا منكم وجلون)،
اختصر جوابه لبيانه في موضع آخر: (فقالوا سلاما " قال سلام). وكقوله: (الحر بالحر والعبد بالعبد...) الآية، فإنها نزلت تفسيرا " وبيانا "
لمجمل قوله: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)، لأن هذه لما نزلت لم
يفهم مرادها.
وقوله: (حرمت عليكم) هي تفسير لقوله: (ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء...) الآية.
191

وقوله: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب...)
الآية، فإن هذه الآية مجملة، لا يعلم منها من يرث من الرجال والنساء بالفرض والتعصيب،
ومن يرث ومن لا يرث، ثم بينه في آية أخرى بقوله: (يوصيكم الله في أولادكم...)
الآيات.
وكقوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) فهذا،
الاستثناء مجمل، بينه في آية أخرى بقوله: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم
الخنزير).
وكقوله: (ليبلونكم الله بشئ من الصيد...) الآية، فهذا الابتلاء
مجمل لا يعلم أحد في الحل أم في الحرم! بينه قوله: (لا تقتلوا الصيد وأنتم
حرم...) الآية.
وكقوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) وهذا المجمل بينه في آية أخرى
بقوله: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق...) الآية.
وكقوله تعالى: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم)، قال العلماء: بيان هذا
العهد قوله تعالى: (لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم..)
الآية، فهذا عهده عز وجل، وعهدهم تمام الآية: في قوله: (لأكفرن عنكم
سيئاتكم...) فإذا وفوا العهد الأول أعطوا ما وعدوا.
192

وقوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلا ") يرد عليهم بقوله:
(يس. والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين).
وقوله تعالى: (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون)، فقيل لهم: (ولو
رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)، وقيل بل نزل بعده:
(إنا كاشفو العذاب) والتقدير: إن كشفنا العذاب تعودوا.
وقوله: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم)، فرد عليهم
بقوله: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة).
وقوله: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)، بيانه:
(الرحمن. علم القرآن).
وقوله: قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا) فقيل لهم: (لئن اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله).
وقوله: (وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم)، فقيل لهم
في الجواب: (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم...) الآية.
ومنه: (أم يقولون نحن جميع منتصر) فقيل لهم: (ما لكم
لا تناصرون).
193

ومنه: (لو أطاعونا ما قتلوا)، فرد عليهم بقوله: (لو كنتم في بيوتكم
لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم).
وقوله: (أم يقولون تقوله) رد عليهم بقوله: (ولو تقول علينا بعض
الأقاويل. لأخذنا منه باليمين).
وقوله: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام)، فقيل لهم: (وما أرسلنا قبلك
من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق).
وقوله: (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ") فقيل في
سورة أخرى: (وقرآنا " فرقناه لتقرأه على الناس على مكث)
وقوله: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا " أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان
يختصمون)، تفسير هذا الاختصام ما قال في سورة أخرى: (قال الملأ الذين
استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا " مرسل من
ربه...) الآية.
وقوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الآخرة) وفسرها في موضع
آخر بقوله: (تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي
كنتم توعدون).
194

ومنه حكاية عن فرعون لعنه الله: (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد)، فرد عليه في
قوله: (وما أمر فرعون برشيد).
وقوله: (يوم يبعثهم الله جميعا " فيحلفون له)، وذكر هذا الحلف في
قوله: (قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).
وقوله في قصة نوح عليه السلام: (أني مغلوب فانتصر) بين في مواضع أخر:
(ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا).
وقوله: (وقالوا قلوبنا غلف) أي أوعية للعلم، فقيل لهم: (وما أوتيتم من
العلم قليلا ").
وجعل بعضهم من هذا قوله تعالى: (و إذ قال رب أرني أنظر إليك)
قال: فإن آية البقرة وهي قوله: (حتى نرى الله جهرة) تدل على أن قوله: (رب
أرني) لم يكن عن نفسه، وإنما أراد به مطالبة قومه، ولم يثبت في التوراة أنه سأل
الرؤية إلا وقت حضور قومه معه، وسؤالهم ذلك.
ومن ذلك قوله تعالى: (صراط الذين أنعمت عليهم) بينة في آية النساء
بقوله: (من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين).
فإن قيل: فهلا فسرها آية مريم: (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين
195

من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح...) الآية! قيل لا نسلم أولا أن هذه الآية في
النبيين فقط، لقوله: (وممن حملنا مع نوح)، وقوله: (وممن هدينا واجتبينا)،
وهذا تصريح بالأنبياء وغيرهم. كيف وقد ذكرت مريم وهي صديقة على أحد القولين! ولو
سلم أنها في الأنبياء خاصة، فهم بعض من أنعم الله عليهم، وجعلهم في آية النساء صنفا من
المنعم عليهم، فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير قوله: (صراط الذين
أنعمت عليهم)، ولأن آية مريم ليس فيها إلا الإخبار بأن الله أنعم عليهم، وذلك
هو معنى قوله: (اهدنا الصراط المستقيم).
والرغبة إلى الله تعالى في الثبات عليها، هي نفس الطاعة لله ولرسوله، فإن العبد إذا
هدي إلى الصراط المستقيم، فقد هدى إلى الطاعة المقتضية أن يكون مع المنعم عليهم.
وظهر بهذا أن آية النساء أمس بتفسير سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم.
فصل
[قد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره]
وقد يكون اللفظ مقتضيا " لأمر ويحمل على غيره، لأنه أولى بذلك الاسم منه، وله أمثلة:
منها تفسيرهم السبع المثاني بالفاتحة مع أن الله تعالى أخبر أن القرآن كله مثاني.
196

ومنها قوله عن أهل الكساء: (هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا)، وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج، وفيهن نزلت، ولا يمكن
خروجهن عن الآية، لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير: (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) فعلم أن هذه الإرادة شاملة لجميع أهل
البيت: الذكور والإناث. بخلاف قوله: (يا نساء النبي). ودل أن عليا وفاطمة
أحق بهذا الوصف من الأزواج.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى: (هو مسجدي
هذا) وهو يقتضي أن ما ذكره أحق بهذا الاسم من غيره، والحصر المذكور حصر الكمال،
كما يقال: هذا هو العالم العدل، وإلا فلا شك أن مسجد قباء هو مؤسس على التقوى،
وسياق القرآن يدل على أنه مراد بالآية.
فصل
[قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع، ويعين في موضع آخر]
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وفى موضع آخر ما يعينه لأحدهما، كقوله تعالى في
سورة البقرة: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)
فيحتمل أن يكون السمع معطوفا على (ختم) ويحتمل الوقف على (قلوبهم) لأن
الختم إنما يكون على القلب، وهذا أولى، لقوله في الجاثية: (وختم على سمعه وقلبه
وجعل على بصره غشاوة).
197

وقوله تعالى في سورة الحجر: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك
من الغاوين)، فالإستثناء منقطع لقوله في الإسراء: (إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان وكفى بربك وكيلا ")، ولو كان متصلا لاستثناهم، عن فلما لم يستثنهم دل على
أنهم لم يدخلوا.
وقوله: (وجعلنا من الماء كل شئ حي) فقد قيل: إن حياة كل شئ
إنما هو بالماء، قال ابن درستويه، وهذا غير جائز في العربية، لأنه لو كان المعنى كذلك
لم يكن (حي) مجرورا، ولكان منصوبا، وإنما (حي) صفة لشئ. ومعنى
الآية: خلق الخلق من الماء، ويدل له قوله في موضع آخر: (والله خلق كل دابة
من ماء).
ومما يحتمل قوله تعالى: (فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل)، فإن
(فليلقه) يحتمل الأمر والخبر، كأنه قال: (فاقذفيه في اليم يلقيه اليم) ويحتمل
أن يكون أمرا بإلقائه.
ومنه قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا ")، فإنه يحتمل أن يكون
خلقته وحيدا فريدا من ماله وولده. وفى الآية بحث آخر، وهو أن أبا البقاء أجاز
فيها، وفى قوله: (وذرني والمكذبين)، أن تكون الواو عاطفة، وهو فاسد لأنه
يلزم منه أن يكون الله قد أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتركه، وكأنه قال: اتركني
واترك من خلقت وحيدا، وكذلك اتركني واترك المكذبين، فيتعين أن يكون
198

المراد: خل بيني وبينهم، وهي واو (مع) كقوله: (لو تركت الناقة وفصيلها
لرضعها).
وقد يكون للفظ ظاهر وباطن، كقوله تعالى: (أن طهرا بيتي للطائفين)،
ظاهره الكعبة، وباطنه القلب، قال العلماء: ونحن نقطع أن المراد بخطاب إبراهيم الكعبة،
لكن العالم يتجاوز إلى القلب بطريق الاعتبار عند قوم، والأولى عند آخرين، ومن
باطنه إلحاق سائر المساجد به، ومن ظاهره عند قوم العبور فيه.
فصل
[في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال]
ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور:
أحدها: رد الكلمة لضدها، كقوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما " أو كفورا ")
أي (ولا كفورا) والطريقة أن يرد النهى منه إلى الأمر، فنقول معنى: (أطع هذا أو هذا):
أطع أحدهما، وعلى هذا معناه في النهى: ولا تطع واحدا منهما.
الثاني: ردها إلى نظيرها، كما في قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم)،
فهذا عام، وقوله: (فوق اثنتين) قول حد أحد طرفيه وأرخى الطرف الآخر
إلى غير نهاية، لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث وآخره لا نهاية له. وقوله: (وإن كانت
199

واحدة) محدودة الطرفين، فالثنتان خارجتان من هذا الفصل، وأمسك الله عن ذكر
الثنتين وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها. وأما قوله في الأخوات: (إن امرؤ هلك
ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك...) الآية فذكر الواحدة والاثنتين،
وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقهن، فضمن كل واحد من الفصلين ما كف عن ذكره
في الآخر، فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره.
الثالث: ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر، كقوله تعالى:
(من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ")، يحتمل أن يكون معناها: من كان
يريد أن يعز أو تكون العزة له، لكن قوله تعالى: (فلله العزة جميعا ")، يحتمل
أن يكون معناها: من كان أن يعلم لمن العزة فإنها لله.
وكذلك قوله: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله)، فإنه لا دلالة فيها
على الحال التي هي شرط في عقوبته المعينة، وأنواع المحاربة والفساد كثيرة، وإنما استفيدت
الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال، والصلب على من
جمعهما، والقطع على من أخذ المال ولم يقتل، والنفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى
السعي في الأرض بالفساد.
الرابع: دلالة السياق، فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد،
وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد
المتكلم، فمن أهمله غلط في نظيره، وغالط في مناظراته، وانظر إلى قوله تعالى: (ذق إنك
200

أنت العزيز الكريم) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير!.
الخامس: ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي، وذلك أنه قد يستعار الشئ لمشابهة، ثم
يستعار من المشابه لمشابه المشابه، ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات، فيذهب عن
الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر، وطريق معرفة ذلك بالتدريج، كقوله
تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين)، وذلك أن
أصل (دون) للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره، ومنه الشئ الدون للحقير، ثم
استعير للتفاوت في الأحوال والرتب، فقيل: زيد دون عمرو في العلم والشرف، ثم اتسع
فيه، فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد، وتخطى حكما إلى حكم آخر، كما في الآية
المذكورة، والتقدير: لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.
وكذلك قوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله) أي تجاوزوا الله في
دعائكم إلى دعاء آلهتكم، الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة، أي لا تستشهدوا بالله
فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس، بل ائتوا ببينة تكون حجة عند
الحكام. وهذا يؤذن بأنه لم يبق تشبث سوى قولهم: (الله يشهد لنا عليكم) هذا إذا
جعلت (من دون الله) متعلقا (بادعوا) فإن جعلته متعلقا ب‍ (شهداءكم) احتمل
معنيين: أحدهما أن يكون المعنى: ادعوا الذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله، أي شهادتهم
لكم يوم القيامة. والثاني على أن يراد بشهدائكم آلهتكم، أي ادعوا الذين تجاوزتم في
اتخاذكم ألوهية الله، إلى ألوهيتهم.
201

ويحتمل أن يكون التقدير: (من دون الله) أي من غير المؤمنين يشهدون لكم
أنكم آمنتم بمثله، وفى هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة
الحق الجلي بالباطل اللجلجي. وتعليقه بادعوا على هذا جائز.
ومنه قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية)، فإنه عطفه على قوله: (ألم
تر) لأنها بمعنى (هل رأيت).
السادس: معرفة النزول، وهو من أعظم المعين على فهم المعنى، وسبق منه في أول
الكتاب جملة، وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه، وكان عروة بن الزبير، قد
فهم من قوله تعالى: (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) أن السعي ليس بركن،
فردت عليه عائشة ذلك وقالت: لو كان كما قلت، لقال: (فلا جناح عليه ألا يطوف
بهما)، وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة، لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس
كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام، فلما جاء الاسلام، كرهوا الفعل
الذي كانوا يشركون به، فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم، وأمرهم بالطواف. رواه البخاري
في صحيحه. فثبت أنها نزلت ردا على من كان يمتنع من السعي.
ومن ذلك قصة مروان بن الحكم في سؤاله ابن عباس: (لئن كان كل امرئ فرح
بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون). فقال ابن عباس: هذه الآيات
202

نزلت في أهل الكتاب، ثم تلا: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه)، وتلا: (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون
أن يحمدوا بما لم يفعلوا)، قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ
فكتموه، وأخبروه بغيره فخرجوا، وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا
بذلك إليه، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه.
وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره.
ومن هذا ما قاله الشافعي في قوله تعالى: (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما ")
أنه لا متمسك فيها لمالك على العموم، لأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء
فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء، وحكاه غير سعيد بن جبير.
السابع: السلامة من التدافع، كقوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة "
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين)، فإنه يحتمل أن الطوائف
لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة، بل بعضهم لتحصيل التفقه بوفودهم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم. والفائدة في كونهم
لا ينفرون جميعا " عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ من يتخلف من بعضهم ممن
لا يمكن نفيره.
203

ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مغازيه وسراياه، والمعنى حينئذ: أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم في مغازيه لتحصيل المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في المدينة، والفئة النافرة مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه، فإذا رجعوا
إلى من بقي بالمدينة أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم من العلم.
والاحتمالان قولان للمفسرين.
قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأقرب عندي هو الاحتمال الأول، لأنا لو
حملناه على الاحتمال الثاني لخالفه روى ظاهر قوله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم
من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه)، وقوله
تعالى: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ") فإن ذلك يقتضي إما طلب الجميع بالنفير،
أو إباحته: وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع، وإذا تعارض محملان يلزم من
من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر، فالثاني أولى، ولا نعني بلزوم التعارض لزوما " لا يجاب
عنه، ولا يتخرج على وجه مقبول، بل ما هو أعم من ذلك، فإن ما أشرنا إليه من الآيتين
يجاب عنه بحمل، (أو) في قوله: (أو انفروا جميعا ") على التفصيل دون التخيير، كما رضيه
بعض المتأخرين من النحاة، فيكون نفيرهم ثبات مما لا يدعون الحاجة إلى نفيرهم فيه جميعا.
ونفيرهم جميعا فيما تدعو الحاجة إليه، ويحمل قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم
من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد
ولم تحصل الكفاية إلا بنفير الجميع ممن يصلح للجهاد، فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ،
204

أو ان تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا ".
ومن المفسرين من يقول: إن منع النفير جميعا " حيث يكون رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمدينة، فليس لهم ان ينفروا جميعا " ويتركوه وحده.
والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا، لأن اللفظ يقتضي أن
نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار، ونفيرهم مع بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدهم لا يناسبه
التعليل بالتفقه في الدين، إذ التفقه منه صلى الله عليه وسلم وتعلم الشرائع من جهته، فكيف
يكون خروجهم عليه معللا للتفقه في الدين!
ومنه قوله تعالى: (فاتقوا الله ما استطعتم) فإنه يحتمل ان يكون من باب
التسهيل والتخفيف، ويحتمل أن يكون من باب التشديد، بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة
فاتقوا، أي لا تبقى من الاستطاعة شئ.
وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم، أو ما أمكنكم
من غير عسر.
قال الشيخ تقي الدين القشيري: ويصلح معنى التخصيص قوله صلى الله عليه وسلم:
(إذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم).
فصل
[في الظاهر والمؤول]
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين، وهو في أحدهما أظهر، فيسمى الراجح ظاهرا،
والمرجوح مؤولا.
205

مثال المؤول قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم)، فإنه يستحيل حمل المعية
على القرب بالذات، فتعين صرفه عن ذلك، وحمله إما على الحفظ والرعاية، أو على القدرة
والعلم والرؤية، كما قال تعالى: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد).
وكقوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)، فإنه يستحيل حمله
على الظاهر، لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة، فيحمل على الخضوع وحسن الخلق.
وكقوله: (وكل انسان ألزمناه طائرة في عنقه)، يستحيل أن يشد في القيامة
في عنق كل طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور، فوجب حمله على التزام الكتاب
في الحساب لكل واحد منهم بعينه.
ومثال الظاهر قوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)، فإن الباغي يطلق
على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب، كقوله: (ثم بغي عليه لينصرنه
الله).
وقوله: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، فيقال للانقطاع طهر، وللوضوء
والغسل، غير أن الثاني أظهر.
وكقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله)، فيقال: للابتداء التمام والفراغ،
غير أن الفراغ أظهر.
وقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف) فيحتمل أن يكون
206

الخيار في الأجل أو بعده، والظاهر الأول، لكنه يحمل على أنه مفارقة الأجل.
وقوله: (فلا جناح عليه ان يطوف بهما)، والظاهر يقتضي حمله على
الاستحباب، لأن قوله: (لا جناح) بمنزلة قوله: (لا بأس) وذلك لا يقتضي الوجوب،
ولكن هذا الظاهر متروك بل هو واجب، لأن طواف الإفاضة واجب، ولأنه ذكره بعد
التطوع فقال: (ومن تطوع خيرا ")، فدل على أن النهي السابق نهي عن ترك واجب،
لا نهي حديث عن ترك مندوب أو مستحب.
وقد يكون الكلام ظاهرا في شئ فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر، كقوله تعالى:
(الحج أشهر معلومات)، ولأشهر اسم لثلاثة، لأنه أقل الجمع.
وكقوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) فالظاهر اشتراط
ثلاثة من الإخوة لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان، لأنهما يحجبانها عن
الثلث إلى السدس.
فصل
[في اشتراك اللفظ بين حقيقتين، أو حقيقة ومجاز]
قد يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز، ويصح حمله عليهما جميعا " كقوله
تعالى: (لا يضار كاتب ولا شهيد) قيل: المراد (يضارر) وقيل: (يضارر)
أي الكاتب والشهيد لا يضارر، فيكتم الشهادة والخط، وهذا أظهر.
207

ويحتمل أن من دعا الكاتب والشهيد لا يضارره عند فيطلبه في وقت فيه ضرر.
وكذلك قوله: (لا تضار والدة بولدها)، فعلى هذا يجوز أن يقال: أراد الله
بهذا اللفظ كلا المعنيين على القولين، أما إذا قلنا: بجواز استعمال المشترك في معنييه فظاهر،
وأما إذا قلنا بالمنع، فبأن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين: مرة أريد هذا ومرة هذا.
وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها
كثيرة. رواه احمد. أي اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة، ولا يقتصر به على ذلك المعنى،
بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا.
وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يحتمل إلا معنى " واحدا حمل عليه،
وما احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع لأشياء متماثلة، كالسواد حمل على الجنس
عند الإطلاق، وإن وضع لمعان مختلفة، فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم
الدليل، وإن استويا، سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا، أو في أحدهما حقيقة
وفي الآخر مجازا كلفظ العين والقرء واللمس، فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل، فيطلب البيان
من غيره وإن لم يتناف، فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين، والوجه التوقف فيه، لأنه
ما وضع للجميع، بل وضع لآحاد مسميات على البدل، وادعاء إشعاره بالجميع بعيد، نعم يجوز
أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك عقلا، وفي مثل هذا يقال: يحتمل
أن يكون المراد كذا، ويحتمل أن يكون كذا.
فصل
[قد ينفي الشئ وثبت باعتبارين]
وقد ينفى الشئ ويثبت باعتبارين كما سبق في قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن
208

الله رمى)، ثم أثبته لسر غامض، وهو أن الرمي الثاني غير الأول، فإن الأول عني
به الرمي بالرعب، والثاني عني به بالتراب حين رمى النبي صلى الله عليه وسلم في وجوه
أعدائه بالتراب والحصى وقال: (شاهت الوجوه) فانهزموا فأنزل الله يخبره أن انهزامهم
لم يكن لأجل التراب، وإنما هو بما أوقع في قلوبهم من الرعب.
فصل
[في الاجمال ظاهرا وأسبابه]
وأما ما فيه من الاجمال في الظاهر فكثير، وله أسباب.
أحدها: أن يعرض من ألفاظ مختلفه مشتركة وقعت في التركيب، كقوله تعالى:
(فأصبحت كالصريم)، قيل: معناه كالنهار مبيضة لا شئ فيها، وقيل كالليل
مظلمة لا شئ فيها.
وكقوله: (والليل إذا عسعس)، قيل: أقبل، وأدبر.
وكالأمة في قوله تعالى: (وجد عليه أمة ") بمعنى الجماعة، وفي قوله: (إن
إبراهيم كان أمة ") بمعنى الرجل الجامع للخير المقتدى به. وبمعنى الدين في قوله
209

تعالى: (إنا وجدنا آباءنا على أمة). وبمعنى الزمان في قوله تعالى: (وادكر
بعد أمة).
وكالذرية فإنها في الاستعمال العرفي (الأدنى)، ومنه: (ومن ذريته داود وسليمان،
وقد يطلق على (الأعلى) بدليل قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم...) الآية، ثم
قال: (ذرية) وبها يجاب عن الإشكال المشهور في قوله تعالى: (حملنا ذريتهم
في الفلك المشحون) على بحث فيه.
وقال مكي في قوله تعالى: (فأنا أول العابدين) أي أول من يعبد الله.
ومن قال: (الأنفين) فقوله مردود، لأنه يلزم أن يكون العبدين لأنه إنما يقال:
عبد من كذا، أي أنف.
الثاني: من حذف في الكلام، كقوله: (وترغبون أن تنكحوهن) قيل معناه
ترغبون في نكاحهن لما 2 لهن. وقيل معناه: عن نكاحهن لزمانتهن وقلة مالهن.
والكلام يحتمل الوجهين، لأن العرب تقول: رغبت عن الشئ إذا زهدت فيه، ورغبت في
الشئ إذا حرصت عليه، فلما ركب الكلام تركيبا حذف معه حرف الجر احتمل
التأويلين جميعا. وجعل منه بعضهم قوله تعالى في سورة النساء: (فمال هؤلاء القوم
210

لا يكادون يفقهون حديثا ". ما أصابك من حسنة فمن الله)، أي يقولون:
(ما أصابك)، قال: ولولا هذا التقدير لكان مناقضا لقوله: (قل كل من عند الله).
وقوله: (وآتينا ثمود الناقة مبصرة ")، أي آية مبصرة "، فظلموا أنفسهم
بقتلها، وليس المراد أن الناقة كانت مبصرة لا عمياء.
الثالث: من تعيين الضمير، كقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة
النكاح)، فالضمير في (يده) يحتمل عوده على الولي وعلى الزوج، ورجح الثاني
لموافقته للقواعد، فإن الولي لا يجوز ان يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه، وحمل
الكلام المحتمل على القواعد الشرعية أولى.
فإن قيل: لو كان خطابا للأزواج لقال (إلا أن تعفو) بالخطاب، لأن صدر الآية
خطاب لهم بقوله: (وإن طلقتموهن)، إلى قوله: (فنصف ما فرضتم).
قلنا: هو التفات من الخطاب إلى الغيبة، وهو من أنواع البديع.
ومنه قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه)،
فيحتمل أن يكون الضمير الفاعلي الذي في (يرفعه) عائدا على العمل، والمعنى أن الكلم
الطيب - وهو التوحيد - يرفع العمل الصالح، لأنه لا تصلح الأعمال إلا مع الإيمان. ويحتمل
أن يكون الضمير عائدا على الكلم، ويكون معناه أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم
الطيب، وكلاهما صحيح لأن الإيمان فعل وعمل ونية لا يصح بعضها إلا ببعض.
211

وقوله تعالى: (فأثرن به نقعا ". فوسطن به جمعا ")، فالهاء الأولى كناية عن
الحوافر وهي موريات، أي أثرن بالحوافر نقعا "، والثانية كناية عن الإغارة، أي المغيرات
صبحا، (فوسطن به جمعا ") جمع المشركين، فأغاروا بجمعهم.
وقد صنف ابن الأنباري كتابا " في تعيين الضمائر الواقعة في القرآن في مجلدين.
الرابع: من مواقع الوقف والابتداء، كقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم)، فقوله: (الراسخون)، يحتمل أن يكون معطوفا " على اسم الله
تعالى، ويحتمل ان يكون ابتداء كلام. وهذا الثاني هو الظاهر ويكون حذف (أما)
المقابلة كقوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ)، ويؤيده آية البقرة: (فأما الذين
آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا
مثلا ").
الخامس: من جهة غرابة اللفظ كقوله تعالى: (فلا تعضلوهن).
(ومن الناس من يعبد الله على حرف).
(وسيدا " وحصورا ")، وغير ذلك مما صنف فيه العلماء من كتب غريب القرآن،
السادس: من جهة كثرة استعماله الآن، كقوله تعالى: (أو القي السمع وهو
شهيد).
212

و (يلقون السمع وأكثرهم كاذبون) بمعنى (يسمعون) ولا يقول أحد الآن:
ألقيت سمعي.
وكذا قوله: (ثاني عطفه) أي متكبرا ".
وقوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم)، أي يسرون ما في ضمائرهم.
وكذا: (فأصبح يقلب كفيه) أي نادما ".
وكذا: (فردوا أيديهم في أفواهم) أي لم يتلقوا النعم بشكر.
السابع: من جهة التقديم والتأخير، كقوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك
لكان لزاما " وأجل مسمى ")، تقديره: (ولو كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى
لكان لزاما) ولولا هذا التقدير لكان منصوبا كالإلزام.
وقوله تعالى: (يسألونك كأنك حفي عنها)، أي يسألونك عنها كأنك.
وقوله: (لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم. كما أخرجك ربك)،
فهذا غير متصل وإنما هو عائد على قوله: (قل الأنفال لله والرسول)، (كما
أخرجك ربك من بيتك) فصارت أنفال الغنائم لك إذا أنت راض بخروجك
وهم كارهون، فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره.
وقوله: (حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه) معناه (قد كانت
213

لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم).
الثامن: من جهة المنقول المنقلب، كقوله تعالى: (وطور سينين)، أي (طور سينا)
وقوله: (سلام على إلياسين) أي الناس، وقيل: (إدريس) وفي حرف ابن
مسعود: (إدراس).
التاسع: المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر، كقوله تعالى: (وما يتبع الذين
يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن) معناه يدعون من دون الله
شركاء إلا الظن.
وقوله تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن
منهم) معناه الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا.
فصل
فيما ورد فيه مبينا للإجمال
اعلم أن الكتاب هو القرآن المتلو، وهو إما نص، وهو مالا يحتمل إلا معنى، كقوله
تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة)
وإما ظاهر، وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره.
214

و الرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية، واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة.
أما المتصلة فنوعان: نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة
لحمل عليه، ويسمى تخصيصا وتأويلا. ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا.
فالأول كقوله تعالى: (حرم الربا)، فإنه دل على أن المراد من قوله سبحانه:
(وأحل الله البيع) البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع، وبين أنه
ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام، وللشافعي رحمه الله قول
بإجمال البيع، لأن الربا مجمل، وهو في حكم المستثنى من البيع، واستثناء المجهول من
المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام. والصحيح الأول، فإن الربا عام في الزيادات
كلها، وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع.
ومثال النوع الثاني قوله تعالى: (من الفجر) فإنه فسر مجمل قوله تعالى: (حتى
يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)، إذ لولا (من الفجر) لبقي
الكلام الأول على تردده وإجماله.
وقد ورد ان بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود، ولا يزال
يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما، فأنزل الله تعالى بعد ذلك (من الفجر)،
فعلموا أنه أراد الليل والنهار.
وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا ": تأويل وبيان.
فمثال الأول قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح روجا "
غيره)، فإنه دل على أن المراد بقوله تعالى: (الطلاق مرتان) الطلاق
215

الرجعى، إذا لولا هذا القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين، وهذه القرينة وإن
كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى، فلهذا جعلت من
قسم المنفصلة.
ومثال الثاني قوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) فإنه دل على
جواز الرؤية، ويفسر به قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)، حيث كان مترددا بين
نفي الرؤية أصلا " وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية.
وأيضا قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون)، فإنه لما
حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار، وارتفع به الاجمال في قوله:
(لا تدركه الأبصار).
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر. ومن مثله قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن
بأنفسهن ثلاثة قروء)، فإن صيغته صيغة الخبر، ولكن لا يمكن حمله على حقيقته،
فإنهن قد لا يتربصن فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال، فوجب اعتبار هذه القرينة
حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال.
ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر، والمراد بها الأمر.
216

النوع الثاني والأربعون
في وجوه المخاطبات والخطاب
في القرآن
يأتي على نحو من أربعين وجها ":
الأول
خطاب العام المراد به العموم
كقوله تعالى: (إن الله بكل شئ عليم).
وقوله: (إن الله لا يظلم الناس شيئا ").
وقوله: (ولا يظلم ربك أحدا ").
وقوله: (الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم)
(هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة). (الله الذي جعل لكم
الأرض قرارا "). وهو كثير في القرآن.
(يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم).
الثاني
خطاب الخاص والمراد به الخصوص
من قوله تعالى: (أكفرتم بعد إيمانكم).
217

(هذا ما كنزتم لأنفسكم).
(ذق إنك أنت العزيز الكريم).
(يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك)
وقوله: (فلما قضى زيد منها وطرا " زوجناكها لكيلا)، وغير ذلك
الثالث
خطاب الخاص والمراد به العموم
كقوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)، فافتتح الخطاب بالنبي صلى
الله عليه وسلم والمراد سائر من يملك الطلاق.
ومنه قوله تعالى: (يا أيها الني إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن
وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك
وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة " مؤمنة " إن وهبت نفسها للنبي إن أراد
النبي أن يستنكحها خالصة " لك من دون المؤمنين).
وقال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له فلما قال في الموهوبة: (خالصة "
لك) علم أن ما قبلها له ولغيره وصلى الله عليه وسلم.
218

وقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) وجرى أبو يوسف
على الظاهر فقال: إن صلاة الخوف من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم.
وأجاب الجمهور بأنه لم يذكر (فيهم) على أنه شرط، بل على أنه صفة حال والأصل
في الخطاب أن يكون لمعين.
وقد يخرج على غير معين ليفيد العموم، كقوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أن لهم جنات)، وفائدته الإيذان بأنه خليق بأن يؤمر به كل أحد
ليحصل مقصوده الجميل.
وكقوله: (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت)، أخرج في صورة الخطاب لما أريد
العموم، للقصد إلى تقطيع حالهم، وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا تخص بها
رؤية راء، بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب، كقوله تعالى: (وإذا
رأيت ثم رأيت نعيما " وملكا " كبيرا ")، لم يرد به مخاطب معين، بل عبر بالخطاب
ليحصل لكل واحد فيه مدخل، مبالغة فيما قصد الله من وصف ما في ذلك المكان من
النعيم والملك، ولبناء الكلام في الموضعين على العموم لم يجعل ل‍: (ترى) و لا ل‍: (رأيت)
مفعولا ظاهرا " ولا مقدرا ليشيع ويعم.
وأما قوله تعالى: (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم)،
فقيل إنه من هذا الباب، ومنعه قوم وقال: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو للتمني
لرسول الله صلى الله عليه وسلم كالترجي في: (لعلهم يهتدون)، لأنه تجرع من
219

عداوتهم الغصص، فجعله الله كأنه تمنى أن يراهم على تلك الحالة الفظيعة، من نكس
الرؤوس صما عميا ليشمت بهم.
ويجوز أن تكون: (لو) (امتناعية)، وجوابها محذوف، أي لرأيت أسوأ
حال يرى.
الرابع
خطاب العام والمراد الخصوص
وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن، فأنكره بعضهم، لأن الدلالة الموجبة
للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة، كقوله تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة
إلا خمسين عاما ")، والصحيح أنه واقع.
وكقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم) وعمومه يقتضي
دخول جميع الناس في اللفظين جميعا "، والمراد بعضهم، لأن القائلين غير المقول لهم، والمراد بالأول
نعيم بن سعيد الثقفي، والثاني أبو سفيان وأصحابه. قال الفارسي: ومما يقوى أن المراد بالناس
في قوله: (إن الناس قد جمعوا لكم) واحد قوله: (إنما ذلكم الشيطان
يخوف أولياءه)، فوقعت الإشارة بقوله: (ذلكم) إلى واحد بعينة، ولو كان
المعنى به جمعا " لكان (إنما الشياطين) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ وقيل بل وضع
فيه (الذين) موضع (الذي).
220

وقوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) يعني عبد الله بن سلام.
وقوله: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) قال الضحاك: وهو
الأقرع بن حابس.
وقوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) لم يدخل فيه الأطفال والمجانين.
ثم التخصيص يجئ تارة في آخر الآية، كقوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن
نحلة ")، فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقله أو مجنونة، ثم خص في آخرها بقوله: (فأن
طبن لكم عن شئ منه نفسا "...) الآية، فخصها بالعاقلة البالغة، لأن من عداها
عبارتها ملغاة في العفو.
ونظيره قوله: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن)، فإنه عام في البائنة والرجعية
ثم خصها بالرجعية بقوله: (وبعولتهن أحق بردهن في ذلك)، لآن البائنة لا تراجع.
وتارة في أولها، كقوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن
شيئا ")، فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج. ثم قال بعد: (فإن خفتم ألا يقيما
حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به)، فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره
إذا كان ملكا " لها.
وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ
221

دبره...) الآية، فهذا عام في المقاتل كثيرا " أو قليلا " ثم قال: (إن يكن منكم عشرون
صابرون...) الآية.
ونظيره قوله: (حرمت عليكم الميتة) وهذا عام في جميع الميتات، ثم
خصه بقوله: (فكلوا مما أمسكن عليكم)، فأباح الصيد الذي يموت في فم
الجارح المعلم.
وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا "
لكم) تقديره: (وإن كانت ميتة) فخص بهذه الآية عموم تلك.
ومثله قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا " غير مسكونة فيها متاع لكم).
ونظيره قوله: (والدم) وقال في آية أخرى: (إلا أن يكون ميتة " أو دما "
مسفوحا ") يعني إلا الكبد والطحال، فهو حلال.
ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام وهي مكية، والآية العامة في سورة المائدة
وهي مدينة، وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع، كما تقدم في النزول آية الوضوء،
على أنه التيمم، وهذا ماش على مذهب الشافعي في أن العبرة بالخاص سواء تقدم أم تأخر.
222

ومثله قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا "...) والآية، وهذا عام سواء رضيت
المرأة أم لا، ثم خصها بقوله: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا " فكلوه)،
وخصها بقوله: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به).
ومثله قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن...) الآية، فهذا عام
في المدخول بها وغيرها، ثم خصها فقال: (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات
ثم طلقتموهن...) الآية، فخص الآيسة والصغيرة والحامل، فالآيسة والصغيرة بالأشهر،
والحامل بالوضع.
ونظيره قوله: (والذين يتوفون منكم...) الآية، وهذا عام في الحامل والحائل،
ثم خص بقوله: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن).
ونظيره قوله تعالى: (فانكحوا منه ما طاب لكم من النساء...)، الآية وهذا عام
في ذوات المحارم والأجنبيات، ثم خص بقوله: (حرمت عليكم أمهاتكم...) الآية.
وقوله: (الزانية والزاني) عام في الحرائر والإماء، ثم خصه بقوله: (فعليهن
نصف ما على المحصنات من العذاب).
وقوله: (لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) فإن الخلة عامة، ثم خصها بقوله:
(الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
وكذلك قوله: (ولا شفاعة) بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
223

فائدة
[في العموم والخصوص]
قد يكون الكلامان متصلين، وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما، وذلك نحو
قولهم لمن أعطى زيدا درهما: أعط عمرا، فإن لم تفعل فما أعطيت، يريد: إن لم تعط عمرا
فأنت لم تعط زيدا أيضا، وذاك غير محسوب لك.
ذكره ابن فارس، وخرج عليه قوله تعالى: (بلغ ما أنزل إليك من ربك)
قال: فهذا خاص به. يريد هذا الأمر المحدد بلغه (فإن لم تفعل) ولم تبلغ [هذا]
(فما بلغت رسالته)، يريد جميع ما أرسلت به.
قلت وهو وجه حسن، وفي الآية وجوه أخر:
أحدها: أن المعنى انك إن تركت منها شيئا " كنت كمن لا يبلغ شيئا منها فيكون
ترك البعض محبطا للباقي. قال الراغب: وكذلك أن حكم الأنبياء عليهم السلام في
تكليفاتهم أشد، وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا
صالحا وآخر سيئا، وروى هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما.
والثاني قال الإمام فخر الدين إنه من باب قوله:
* أنا أبو النجم وشعري شعري *
معناه: أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شئ قيل في نظم إنه شعري فقد
224

انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه. وكذا جواب
الشرط ها هنا، يعني به أنه لا يمكن أي يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك
التبليغ، فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد. وضعف الوجه الذي قبله بأن من
أتى بالبعض وترك البعض، لو قيل إنه ترك الكل كان كذبا، ولو قيل: إن الخلل في ترك
البعض، كالخلل في ترك الكل، فإنه أيضا محال.
وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر، لأنه إذا كان متى أتى به غير معتد به
فوجده كالعدم، كقول الشاعر:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا * فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي، ولم تعط ما يعد نائلا، وإلا يتكاذب البيت.
الثالث: أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل، كما في قوله تعالى:
(فكأنما قتل الناس جميعا ").
الرابع: أنه وضع السبب موضع المسبب، ومعناه: إن لم تفعل ذلك [فلك] ما يوجبه
[كتمان الوحي كله من العذاب].
ذكر هذا والذي قبله صاحب الكشاف.
225

تنبيه: قال الإمام أبو بكر الرازي: وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما كان من الأحكام
للناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة، وإنما وروده ينبغي
أن يكون من طريق التواتر، نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة، ومما مست النار
ونحوها، لعموم البلوى بها، فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر،
علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل. انتهى.
وهذه الدلالة ممنوعة، لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى،
فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل. ومن المعلوم أن الله سبحانه لم يكلف رسوله صلى الله عليه
وسلم إشاعة شئ إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن، لأنه المعجز الأكبر، وطريق
معرفته القطع، فأما باقي الاحكام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل بها إلى الآحاد
والقبائل، وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا ".
الخامس
خطاب الجنس
نحو (يا أيها الناس)، فإن المراد جنس الناس لاكل فرد، وإلا فمعلوم أن
غير المكلف لم يدخل تحت هذا الخطاب، وهذا يغلب في خطاب أهل مكة كما سبق، ورجح
الأصوليون دخول النبي صلى الله عليه وسلم في الخطاب ب‍ (يا أيها الناس). وفي القرآن
سورتان، أولهما (يا أيها الناس)، إحداهما في النصف الأول، وهي السورة الرابعة منه،
226

وهي سورة النساء، والثانية في النصف الثاني منه، وهي سورة الحج. والأولى تشتمل على
شرح المبدأ، والثانية تشتمل على شرح المعاد، فتأمل هذا الترتيب ما أوقعه في البلاغة!
قال الراغب: (و (الناس) قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم (الناس) تجوزا،
وذلك إذا اعتبر معنى الانسانية، وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به، فإن كل
شئ عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه، كاليد، فإنها إذا عدمت فعلها الخاص بها،
فإطلاق اليد عليها كإطلاق على يد السرير، ومثله بقوله تعالى: (آمنوا كما آمن
الناس) أي، كما يفعل من يوجد فيه معنى الانسانية، ولم يقصد بالإنسان عينا " واحدا، بل
قصد المعنى، وكذلك قوله: (أم يحدون الناس) أي من وجد فيهم معنى الانسانية،
أي انسان كان.
قال: (وربما قصد به النوع من حيث هو، كقوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس
بعضهم ببعض لفسدت الأرض)).
السادس
خطاب النوع
نحو: (يا بني إسرائيل)، والمراد (بنو يعقوب)، وإنما صرح به للطيفة سبقت
في النوع السادس وهو علم المبهمات.
227

السابع
خطاب العين
نحو (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة).
(يا نوح اهبط بسلام).
(يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا).
(يا موسى).
(يا عيسى).
ولم يقع في القرآن النداء ب‍ (يا محمد) بل، ب‍ (يا أيها النبي)، و (يا أيها الرسول) تعظيما له
وتبجيلا، وتخصيصا بذلك عن سواه.
الثامن
خطاب المدح
نحو: (يا أيها الذين آمنوا)، وهذا وقع خطابا لأهل المدينة الذين آمنوا
وهاجروا، تمييزا " لهم عن أهل مكة، وقد سبق أن كل آية فيها: (يا أيها الناس)
228

لأهل مكة، وحكمه ذلك أنه يأتي بعد (يا أيها الناس) الأمر بأصل الإيمان، ويأتي
بعد (يا أيها الذين آمنوا) الأمر بتفاصيل الشريعة، وإن جاء بعدها الأمر بالإيمان
كان من قبيل الأمر بالاستصحاب.
وقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا " أيه المؤمنون)، قيل: يرد الخطاب
بذلك باعتبار الظاهر عند المخاطب، وهم المنافقون، فإنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان، كما قال
سبحانه: (قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم).
وقد جوز الزمخشري في تفسير سرة المجادلة في قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إذا ناجيتم الرسول) أن يكون خطابا " للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، وأن
يكون للمؤمنين.
ومن هذا النوع الخطاب ب‍ (يا أيها النبي) (يا أيها الرسول)، ولهذا تجد الخطاب
بالنبي في محل لا يليق به الرسول، وكذا عكسه، كقوله في مقام الأمر بالتشريع العام:
(يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك)، وفي مقام الخاص: (يا أيها
النبي لم تحرم ما أحل الله لك)، ومثله: (إن أراد النبي أن يستنكحها
خالصة لك من دون المؤمنين).
وتأمل قوله: (وقد بين يدي الله ورسوله) في مقام الاقتداء بالكتاب
والسنة، ثم قال: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) فكأنه جمع له المقامين:
معنى النبوة والرسالة، تعديدا " للنعم في الحالين.
229

و قريب منه في المضاف إلى الخاص: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)،
ولم يقل: (يا نساء الرسول) لما قصد اختصاصهن عن بقية الأمة.
وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام، لكن مع قرينة إرادة التعميم، كقوله:
(يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)، ولم يقل: (طلقت).
التاسع
خطاب الذم
نحو: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم).
(قل يا أيها الكافرون).
ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين.
وكثر الخطاب ب‍ (يا أيها الذين آمنوا) على المواجهة، وفي جانب الكفار على الغيبة،
إعراضا عنهم، كقوله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين)، ثم قال: (وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة)، فواجه بالخطاب المؤمنين، وأعرض بالخطاب عن الكافرين، ولهذا كان
صلى الله عليه وسلم إذا عتب على قوم قال: (ما بال رجال يفعلون كذا!)، فكنى عنهم
تكرما، وعبر عنهم بلفظ الغيبة إعراضا ".
230

العاشر
خطاب الكرامة
نحو: (ويا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة).
وقوله: (أدخولها بسلام آمنين).
الحادي عشر
خطاب الإهانة
نحو قوله لإبليس: (فإنك رجيم. وإن عليك اللعنة).
وقوله: (قال اخسأوا فيها ولا تكلمون).
وقوله: (وأجلب عليهم بخيلك ورجلك).
قالوا: ليس هذا إباحة لإبليس، وإنما معناه أن ما يكون منك لا يضر عبادي،
كقوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان).
الثاني عشر
خطاب التهكم
وهو الاستهزاء بالمخاطب، مأخوذ من (تهكمت البئر) إذا تهدمت، كقوله تعالى:
(ذق إنك أنت العزيز الكريم)، وهو خطاب لآبي جهل، لأنه قال: (ما بين
231

جبليها - يعني مكة - أعز ولا أكرم).
وقال: (فبشرهم بعذاب اليم)، جعل العذاب مبشرا به.
وقوله: (هذا نزلهم يوم الدين).
وقوله: (وأما إن كان من المكذبين الضالين. فنزل من حميم. وتصلية
جحيم)، والنزل لغة: هو الذي يقدم للنازل تكرمه له قبل حضور الضيافة.
وقوله تعالى: (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف
بالليل وسارب بالنهار. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله).
على تفسير (المعقبات) بالحرس حول السلطان، يحفظونه - على زعمه - من أمر الله، وهو
تهكم، فإنه لا يحفظه من أمر الله شئ إذا جاءه.
وقوله تعالى: (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم
إلينا)، وهو تعالى يعلم حقيقتهم، و (يعلم ما يسرون وما يعلنون)، لا تخفى
عليه خافية!
وقوله تعالى: (وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم)، وذلك لأن الظل
232

من شأنه الاسترواح واللطافة، فنفي هنا، وذلك انهم لا يستأهلون تعالى الظل الكريم.
الثالث عشر
خطاب الجمع بلفظ الواحد
كقوله: (يا أيها الانسان إنك كادح).
(يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم).
والمراد الجميع بدليل قوله: (إن الانسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا).
وكان الحجاج يقول في خطبته: (يا أيها الانسان، وكلكم ذلك الانسان).
وكثيرا " ما يجئ ذلك في الخبر، كقوله تعالى: (إن هؤلاء ضيفي)، ولم يقل:
(ضيوفي)، لأنه مصدر.
وقوله: (هم العدو فاحذرهم) ولم يقل الأعداء.
وقوله: (وحسن أولئك رفيقا ") أي رفقاء.
وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله). (فما منكم من أحد عنه
حاجزين).
وفي الوصف كقوله تعالى: (و إن كنتم جنبا فاطهروا).
233

وقوله: (والملائكة بعد ذلك ظهير).
وقوله: (فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا)، وجمعه أنجية، من المناجاة.
وقوله: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء)، فأوقع
الطفل جنسا.
قال ابن جني: وهذا باب يغلب عليه الاسم لا الصفة، نحو الشاة والبعير والإنسان
والملك، قال تعالى: (والملك على أرجائها). (وجاء ربك والملك صفا صفا).
(إن الانسان لفي خسر). ومن مجيئه في الصفة قوله تعالى: (ويوم يعض الظالم
على يديه)، وقوله: (وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار).
وقال: وكل واحد من هذه الصفات لا تقع هذا الموقع إلا بعد أن تجري مجرى
الاسم الصريح.
الرابع عشر
خطاب الواحد بلفظ الجمع
كقوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ") إلى قوله:
(فذرهم في غمرتهم حتى حين) فهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وحده إذ لا نبي
معه قبله ولا بعده.
234

وقوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير
للصابرين)، خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله: (واصبر وما صبرك
الا بالله...) الآية.
وقوله: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى...)
الآية، خاطب بذلك أبا بكر الصديق لما حرم مسطحا رفده حين تكلم في حديث الإفك.
وقوله: (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا)، والمخاطب النبي صلى الله عليه
وسلم أيضا "، لقوله: (قل فأتوا).
وقوله تعالى: (ففررت منكم لما خفتكم).
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: (قل رب ارجعون) أي (أرجعني)، وإنما خاطب
الواحد المعظم بذلك، لأنه يقول: نحن فعلنا، فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب.
وقيل: (رب) استغاثة، و (ارجعون) خطاب الملائكة، فيكون التفاتا " أو جمعا "
لتكرار القول، كما قال: (قفا نبك).
وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية النبي العذاب، فاختلط ولا يدري
ما يقول من الشطط، وقد اعتاد أمرا يقوله في الحياة، من رد الأمر إلى المخلوقين.
235

ومنه قوله تعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا...) الآية.
وهذا مما لا تشريك كما فيه.
وقال المبرد في " الكامل ": لا ينبغي أن يستعمل ضمير الجمع في واحد من
المخلوقين على حكم الاستلزام، لأن ذلك كبر وهو، مختص به سبحانه.
ومن هذا ما حكاه الحريري في شرح " الملحة " عن بعضهم أنه منع من إطلاق
لفظه (نحن) على غير الله تعالى من المخلوقين، لما فيها من التعظيم، وهو غريب. وحكى
بعضهم خلافا في نون الجمع الواردة في كلامه سبحانه وتعالى، فقيل: جاءت للعظمة
يوصف بها سبحانه، وليس لمخلوق أن ينازعه فيها، فعلى هذا [القول] يكره للملوك
استعمالها في قولهم: (نحن نفعل كذا). وقيل في علتها: إنها كانت لما كانت تصاريف أقضيته تجري
على أيدي خلقه تنزلت أفعالهم منزلة فعله، فلذلك ورد الكلام مورد الجمع، فعلى هذا
[القول] يجوز مباشرة النون لكل من لا يباشر بنفسه.
فأما قول العالم: (نحن نبين) و (نحن نشرح) فمسفوح له فيه، لأنه يخبر بنون الجمع
عن نفسه وأهل مقالته.
236

وقوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم)، والمراد
الإنس، لأن الرسل لا تكون إلا من بني آدم. وحكى بعضهم فيه الاجماع، لكن عن
الضحاك ان من الجن رسولا اسمه يوسف، لقوله تعالى: (وإن من أمة إلا خلا فيها
نذير) واحتج الجمهور بقوله: (ولو جعلناه ملكا " لجعلناه رجلا ") ليحصل
الاستئناس، وذلك مفقود في الجن، وبقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا "...) الآية،
وأجمعوا أن المراد بالاصطفاء النبوة.
وأجيب عن تمسك الضحاك بالآية بأن البعضية صادقة بكون الرسل من بني آدم، ولا
يلزم إثبات رسل من الجن بطريق إثبات نفر من الجن، يستمعون القرآن من رسل
الإنس، ويبلغونه إلى قومهم، وينذرونهم، ويصدق على أولئك النفر - من حيث إنهم رسل -
الرسل. وقد سمى الله رسل عيسى بذلك حيث قال: (إذ أرسلنا إليهم اثنين).
وفي تفسير القرآن لقوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الحوري قال قوم: من
الجن رسل، للآية.
وقال الأكثرون: الرسل من الإنس، ويحى من الجن، كقوله في قصة بلقيس:
(فناظرة بم يرجع المرسلون)، والمراد به واحد، بدليل قوله: (ارجع
إليهم). وفيه نظر، من جهة أنه يحتمل أن يكون الخطاب لرئيسهم، فإن العادة جارية
237

لا سيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا وقرأ ابن مسعود: (ارجعوا إليهم)، أراد الرسول ومن معه.
وقوله: (أولئك مبرأون مما يقولون) - يعني عائشة وصفوان.
وقوله تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين) والمراد بالمرسلين نوح، كقولك:
فلان يركب الدواب ويلبس البرود، وماله إلا دابة وبرد. قله الزمخشري.
وقوله تعالى: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة ") قال قتادة: هذا
رجل كان لا يمالئهم على ما كانوا يقولون في النبي صلى الله عليه وسلم، فسماه الله سبحانه
طائفة. وقال البخاري: ويسمى الرجل طائفة.
وقوله: (لا بيع فيه ولا خلال) والمراد (خلة)، بدليل الآية الأخرى،
والموجب للجمع مناسبة رؤوس الآي.
فائدة
وأما قوله تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما ") فجوز الفارسي فيه تقديرين:
أحدهما: أن (إمام) هنا جمع، لأنه المفعول والثاني لجعل، والمعفول الأول جمع،
والثاني هو الأول، فوجب أن يكون جمعا، وواحدة (آم) لأنه قد سمع هذا في واحده،
238

قال تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) فهذا جمع (آم) مسلما وقياسه على حد
قيام وقائم، فأما أئمة فجمع (إمام) الذي هو مقدر، على حد عنان وأعنه، وسنان وأسنة،
والأصل أيمة، فقلبت الفاء.
والثاني: أنه جمع الإمام، لأن المعنى (أئمة) فيكون (إمام) على هذا واحدا،
وجمعه أئمة [وإمام].
وقال ابن الضائع: قيدت عن شيخنا الشلوبين فيه احتمالين غير هذين: أن
يكون مصدرا كالإمام، وأن يكون من الصفات المجراة مجرى المصادر في ترك التثنية والجمع
كحسب. ويحتمل أن يكون محمولا " على المعنى، كقولهم: دخلنا على الأمير وكسانا حلة،
والمراد: كل واحد منا حلة، وكذلك هو (واجعل كل واحد منا إماما).
الخامس عشر:
خطاب الواحد والجمع بلفظ الاثنين
كقوله تعالى: (ألقيا في جهنم)، والمراد: مالك، خازن النار.
وقال الفراء: الخطاب لخزنة النار والزبانية، وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما تكون
من ثلاثة نفر، فجرى كلام الواحد على صاحبيه. ويجوز أن يكون الخطاب للملكين
الموكلين، من قوله: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد).
239

وقال أبو عثمان: لما ثنى الضمير استغنى عن أن يقول: ألق ألق، يشير إلى إرادة
التأكيد اللفظي.
وجعل المهدوي منه قوله تعالى: (قال قد أجيبت دعوتكما)، قال: الخطاب
لموسى وحده لأنه الداعي، وقيل: لهما - وكان هارون قد أمن على دعائه، والمؤمن أحد
الداعيين.
السادس عشر:
خطاب الاثنين بلفظ الواحد
كقوله تعالى: (فمن ربكما يا موسى)، أي (ويا هارون)، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفرد موسى عليه السلام بالنداء بمعنى التخصيص والتوقف، إذا كان هو
صاحب عظيم الرسالة وكريم الآيات. وذكره ابن عطية.
والثاني: لما كان هارون أفصح لسانا " منه على ما نطق به القرآن ثبت عن جواب الخصم
الألد. ذكره صاحب الكشاف. وانظر إلى الفرق بين الجوابين.
ومثله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى)، قال ابن عطية: إنما أفرده
بالشقاء من حيث كان المخاطب أولا والمقصود في الكلام. وقيل بل ذلك لأن الله جعل
240

الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال، ويحتمل الإغضاء عن ذكر المرأة، ولهذا قيل: من
الكرم ستر الحرم.
وقوله: (فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين).
ونحوه في وصف الاثنين بالجمع قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما).
وقال: (هذان خصمان اختصموا)، ولم يقل: (اختصما).
وقال: (فتاب عليه)، ولم يقل: (عليهما) اكتفاء بالخبر عن أحدهما
بالدلالة عليه.
السابع عشر
خطاب الجمع بعد الواحد
كقوله تعالى: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعلمون من عمل
إلا كنا...) الآية، فجمع ثالثها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن الآنباري:
إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع الني صلى الله عليه وسلم وحده،
وإنما جمع تفخيما له وتعظيما، كما في قوله تعالى: (أفتطعمون أن يؤمنوا لكم).
وكذلك قوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا "
واجعلوا بيوتكم قبلة " وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) فثني في الأول، ثم
جمع، ثم أفرد، لأنه خوطب أولا موسى وهارون، لأنهما المتبوعان، ثم سيق الخطاب عاما
241

لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنه واجب عليهم، ثم خص موسى بالبشارة
تعظيما له.
الثامن عشر
خطاب عين والمراد غيره
كقوله: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنافقين)، الخطاب
له والمراد المؤمنون، لأنه صلى الله عليه وسلم كان تقيا، وحاشاه من طاعة الكافرين
والمنافقين! والدليل على ذلك قوله في سياق الآية: (و اتبع ما يوحى إليك من ربك إن الله
كان بما تعملون خبيرا ").
وقوله تعالى: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون
الكتاب من قبلك)، بدليل قوله في صدر الآية [بعدها]: (قل يا أيها الناس
إن كنتم في شك من ديني).
ومنهم من أجراه على حقيقته وأوله، قال أبو عمر الزاهد في " الياقوتة ": سمعت
الإمامين ثعلب والمبرد يقولان: معنى (فإن كنت في شك) أي قل يا محمد: إن كنت في
شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود، إنهم أعلم به من أجل أنهم أصحاب كتاب.
242

وقوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) قال ابن فورك: معناه وسع الله عنك!
على وجه الدعاء، و (لم أذنت لهم) تغليظ على المنافقين وهو في الحقيقة عتاب راجع
إليهم، وإن كان في الظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (فإن كنت في شك مما
أنزلنا إليك).
وقوله: (عبس وتولى)، قيل إنه أمية، وهو الذي تولى دون الني صلى
الله عليه وسلم، ألا ترى أنه لم: (يقل عبست)!
وقوله: (ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين).
وقوله: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا " لمن
الظالمين).
وبهذا يزول الإشكال المشهور في أنه: كيف يصح خطابه صلى الله عليه وسلم
مع ثبوت عصمته عن ذلك كله؟ ويجاب أيضا بأن ذلك على سبيل الفرض، والمحال يصح
فرضه لغرض.
والتحقيق أن هذا ونحوه من باب خطاب العام من غير قصد شخص معين، والمعنى
243

اتفاق جميع الشرائع على ذلك. ويستراح حينئذ من إيراد هذا السؤال من أصله.
وعكس هذا أن يكون المراد عاما، والمراد الرسول قوله: (لقد أنزلنا إليكم كتابا "
فيه ذكركم...) بدليل قوله في سياقها: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا
مؤمنين).
وأما قوله في سورة الأنعام: (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من
الجاهلين) فليس من هذا الباب.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التقدير: (فلا تكونن من الجاهلين) في ألا تعلم
أن الله لو شاء لجمعهم. ويحتمل ان يهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده.
ثم قال: ويظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: (فلا تكونن
من الجاهلين) وبين قوله عز وجل لنوح عليه السلام: (إني أعظك أن تكون من
الجاهلين)، وقد تقرر أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء.
وقال مكي والمهدوي: الخطاب بقوله: (فلا تكونن من الجاهلين) للنبي
صلى الله عليه وسلم، والمراد أمته، وهذا ضعيف ولا يقتضيه اللفظ.
وقال قوم: وقر نوح عليه السلام لسنه وشبيه.
وقال قوم: جاء الحمل على النبي صلى الله عليه وسلم لقربه من الله ومكانته، كما يحمل
العاتب على قريبة أكثر من حمله على الأجانب.
قال: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجئ بحسب النبيين، وإنما جاء
بحسب الأمر من الله، ووقع النبي عنهما والعقاب فيهما.
244

التاسع عشر
خطاب الاعتبار
كقوله تعالى حاكيا عن صالح لما هلك قومه: (فتولى عنهم وقال يا قوم لقد
أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين)، خاطبهم بعد
هلاكهم، إما لأنهم يسمعون ذلك كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأهل بدر وقال: (والله
ما أنتم بأسمع منهم)، وإما للاعتبار كقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا).
وقوله: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر).
العشرون
خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره
كقوله: (فإن لم يستجيبوا لكم)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال
للكفار: (فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)، بدليل قوله: (فهل أنتم
مسلمون).
وقوله: (ذلك أدنى ألا تعولوا).
قال ابن خالويه: في كتاب " المبتدأ ".
245

الحادي والعشرون
خطاب التلوين
وسماه الثعلبي المتلون. كقوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء).
(فمن ربكما يا موسى). وتسميه أهل المعاني الالتفات، وسنتكلم عليه
إن شاء الله تعالى بأقسامه.
الثاني والعشرون
خطاب الجمادات خطاب من يعقل
كقوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا " أو كرها " قالتا أتينا طائعين)
تقديره: (طائعة).
وقيل: لما كانت ممن يقول، وهي حالة عقل، جرى الضمير في (طائعين) عليه،
كقولهم: (رأيتهم لي ساجدين).
وقد اختلف - أن هذه المقالة حقيقة، بأن جعل لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها،
أو مجازا، بمعنى ظهر فيها من اختيار الطاعة والخضوع بمنزلة هذا القول - على قولين:
قال ابن عطية: والأول أحسن، لأنه لا شئ يدفعه، والعبرة فيه أتم، والقدرة
فيه أظهر.
246

ومنه قوله تعالى: (يا جبال أوبي معه)، فأمرها كما تؤمر الواحدة المخاطبة المؤنثة
لأن جميع مالا يعقل كذلك يؤمر.
الثالث والعشرون
خطاب التهييج
كقوله: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)، ولا يدل على أن من لم
يتوكل ينتفي عنهم الإيمان، بل حث لهم على التوكل.
وقوله: (فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين).
وقوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم
مؤمنين)، فإنه سبحانه وصفهم بالإيمان عند الخطاب ثم قال: (إن كنتم
مؤمنين)، فقصد حثهم على ترك الربا، وأن المؤمنين حقهم أن يفعلوا ذلك.
وقوله: (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين).
وقوله: (إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين).
وقوله: (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى
الجمعان).
وهذا أحسن من قول من قال: (إن) هاهنا بمعنى: (إذ).
247

الرابع والعشرون
خطاب الإغضاب
كقوله تعالى: (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من
دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
وقوله: (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين
بدلا ").
وقوله تعالى: (ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء " فلا تتخذوا منهم
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله).
الخامس والعشرون
خطاب التشجيع والتحريض
وهو الحث على الاتصاف بالصفات الجميلة، كقوله تعالى: (إن الله يحب الذين
يقاتلون في سبيله صفا " كأنهم بنيان مرصوص)، وكفى بحث الله سبحانه
تشجيعا على منازلة الأقران، ومباشرة الطعان!
وقوله تعالى: (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم
ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين).
وقوله تعالى: (ومن يولهم يومئذ دبره) وكيف لا يكون للقوم صبر والملك
248

الحق جل جلاله قد وعدهم بالمدد الكريم فقال: (وما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم) وقوله تعالى: (فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله
مالا يرجون).
وقد جاء في مقابلة هذا القسم ما يراد منه الأخذ بالحزم والتأني بالحرب والاستظهار عليها
بالعدة، كقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)، وقوله تعالى: (وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة).
ونحو ذلك في الترغيب والترهيب ما جاء في قصص الأشقياء تحذيرا لما نزل من العذاب،
وإخبارا " للسعداء فيما صاروا إليه من الثواب.
السادس والعشرون
خطاب التنفير
كقوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا " أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه
ميتا " فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم) فقد جمعت هذه الآية أوصافا "
وتصويرا لما يناله المغتاب من عرض من يغتابه على أفظع وجه، وفي ذلك محاسن
كالاستفهام الذي معناه التقريع والتوبيخ، وجعل ما هو الغاية في الكراهة موصولا
بالمحبة، وإسناد الفعل إلى (أحدكم). وفيه إشعار بأن أحدا لا يحب ذلك ولم يقتصر
على تمثيل الاعتبار بأكل لحم الانسان حتى جعله (أخا)، ولم يقتصر على لحم الأخ حتى
249

جعله (ميتا) وهذه مبالغات عظيمة، ومنها أن المغتاب غائب وهو لا يقدر على الدفع لما
قيل فيه فهو كالميت.
السابع والعشرون
خطاب التحنن والاستعطاف
كقوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله).
الثامن والعشرون
خطاب التحبيب
نحو: (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر)
(يا بني إنها إن تك مثقال حبة).
(يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (يا عباس يا عم رسول الله).
التاسع والعشرون
خطاب التعجيز
نحو: (فأتوا بسورة من مثله).
(فليأتوا بحديث مثله).
250

(قل فأتوا بعشر سور مثله).
(فادرءوا عن أنفسكم الموت).
وجعل منه بعضهم: (قل كونوا حجارة " أو حديدا ")، ورده ابن عطية بأن
التعجيز يكون حيث يقتضي بالأمر فعل مالا يقدر عليه المخاطب، وإنما معنى الآية: كونوا
بالتوهم والتقدير كذا.
الثلاثون
التحسير والتلهف
كقوله تعالى: (قل موتوا بغيظكم).
الحادي والثلاثون
التكذيب
نحو قوله: (قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين).
(قل هلم شهداءكم الذين يشهدون).
الثاني والثلاثون
خطاب التشريف
وهو كل ما في القرآن العزيز مخاطبة بقل، كالقلاقل.
وكقوله: (قل آمنا)، وهو تشريف منه سبحانه لهذه الأمة، بأن يخاطبها
251

بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة، إذ ليس من الفصيح أن يقول الرسول للمرسل إليه:
قال لي المرسل: (قل كذا وكذا)، ولأنه لا يمكن اسقاطها، فدل على أن المراد بقاؤها،
ولابد لها من فائدة، فتكون أمرا من المتكلم للمتكلم بما يتكلم به أمره شفاها بلا واسطة،
كقولك لمن تخاطبه: افعل كذا.
الثالث والثلاثون
خطاب المعدوم
ويصح ذلك تبعا " لموجود، كقوله تعالى: (يا بني آدم)، فإنه خطاب لأهل
ذلك الزمان، ولكل من بعدهم، وهو على نحو ما يجري من الوصايا في خطاب الانسان لولده
وولد ولده ما تناسلوا بتقوى الله وإتيان طاعته.
قال الرماني في تفسيره: وإنما جاز خطاب المعدوم لأن الخطاب يكون بالإرادة
للمخاطب دون غيره، وأما قوله تعالى: (كن فيكون) فعند الأشاعرة أن وجود
العالم حصل بخطاب (كن).
وقالت: الحنفية: التكوين أزلي قائم بذات الباري سبحانه، وهو تكوين لكل
جزء من أجزاء العالم عند وجوده، لا أنه يوجد عند (كاف ونون).
وذهب فخر الاسلام شمس الأئمة منهم إلى أن خطاب (كن) موجود عند إيجاد كل
شئ، فالحاصل عندهم في إيجاد الشئ شيئان: الإيجاد وخطاب (كن).
252

واحتج الأشاعرة بظاهر قوله تعالى: (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له
كن فيكون)، وقوله: (إنما أمره إذا أراد شيئا " أن يقول له كن فيكون)
وقوله: (بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا " فإنما يقول له كن
فيكون) ولو حصل وجود العلم بالتكوين لم يكن في خطاب (كن) فائدة عند الإيجاد.
وأجاب الحنفية بأنا نقول لموجدها ولا تستقل بالفائدة، كالمتشابه، فيقول بوجود خطاب
(كن) عند الإيجاد في غير تشبيه ولا تعطيل.
253

النوع الثالث والأربعون
في بيان حقيقته ومجازه
لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق، وهي كل كلام بقي على موضوعه
كالآيات التي لم يتجوز فيها، وهي الآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله تعالى وتوحيده
وتنزيهه، والداعية إلى أسمائه وصفاته، كقوله تعالى: (هو الله الذي لا إله إلا هو
عالم الغيب والشهادة...) الآية.
وقوله: (أمن خلق السماوات والأرض...)، (أمن جعل الأرض
قرارا "...)، (أمن يجيب المضطر إذا دعاه...)، (أمن يهديكم في
ظلمات البر والبحر)، (أمن يبدأ الخلق ثم يعيده).
وقوله تعالى: (من يحي العظام وهي رميم).
وقوله تعالى: (أفرأيتم ما تمنون). (أفرأيتم ما تحرثون). (أفرأيتم
الماء الذي تشربون). (أفرأيتم النار التي تورون).
قيل: ومنه الآيات التي لم تنسخ، وهي كالآيات المحكمات،؟ والآيات المشتملة،
254

ولا تقديم فيه ولا تأخير، كقول القائل: أحمد الله على نعمائه وإحسانه، وهذا أكثر الكلام،
قال الله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة
هم يوقنون)، وأكثر ما يأتي من الآي على هذا.
وأما المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن، والجمهور على الوقوع، وأنكره جماعة، منهم
ابن القاص من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية. وحكى عن داود
الظاهري وابنه، وأبي مسلم الأصبهاني.
وشبهتهم أن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير،
وهو مستحيل على الله سبحانه.
وهذا باطل، ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف،
وتثنية القصص وغيره، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن.
وقد أفرده بالصنيف الإمام أبو محمد بن عبد السلام، وجمع فأوعى.
255

وأما معناه، فقال الحاتمي: معناه طريق القول، ومأخذه مصدر (جزت مجازا)
كما يقال: (قمت مقاما).
قال الأصمعي: كلام العرب إنما هو مثال شبه الوحي.
[نوعا المجاز]
وله سببان: أحدهما الشبه، ويسمى المجاز اللغوي وهو الذي يتكلم فيه الأصولي.
والثاني الملابسة، وهذا هو الذي يتكلم فيه أهل اللسان، ويسمى المجاز العقلي، وهو
ان تسند الكلمة إلى غير ما هي له أصالة " بضرب من التأويل، كسب زيد أباه، إذا كان
سببا " فيه.
[المجاز في المركب وأقسامه]
والأول مجاز في المفرد، وهذا مجاز في المركب.
ومنه قوله تعالى: (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا ")، نسبت الزيادة
التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها.
وكذا قوله تعالى: (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم).
وقوله: (يذبح أبناءهم)، والفاعل غيره، ونسب الفعل إليه لكونه
الآمر به.
وكقوله: (ينزع عنهما لباسهما)، نسب النزع الذي هو فعل الله إلى إبليس
256

لعنه الله، لأن سببه أكل الشجرة، وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما
لمن الناصحين.
وقوله تعالى: (فما ربحت تجارتهم)، جعل التجارة الرابحة.
وقوله: (فإذا عزم الأمر)، لأن الأمر هو المعزوم عليه، بدليل: (فإذا
عزمت فتوكل على الله).
وقوله: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " وأحلوا قومهم دار البوار)،
فنسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم، لأن سببه كفرهم، وسبب كفرهم أمر
أكابرهم إياهم بالكفر.
وقوله تعالى: (يوما " يجعل الولدان شيبا ")، نسب الفعل إلى الظرف
لوقوعه فيه.
وقوله تعالى: (وأخرجت الأرض أثقالها).
وقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى).
وقد يقال إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما، فالمجاز إفرادي
لا إسنادي.
وقوله: (يوما " يجعل الولدان شيبا ")، يحتمل معناه: يجعل هوله، فهو من
مجاز الحذف.
257

واما قوله تعالى: (في عيشة راضية) (1)، فقيل على النسب، أي ذات رضا ".
وقيل: بمعنى (مرضية)، وكلاهما مجار إفراد لا مجاز إسناد، لأن المجاز في لفظ
(راضية) لا في اسنادها، ولكنهم كأنهم قدروا أنهم قالوا: رضيت عيشته، فقالوا:
(عيشة راضية).
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما طرفاه حقيقتان، نحو: أنبت المطر البقل، وقوله تعالى: (وإذا
تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا ") (2)، وقوله: (وأخرجت الأرض
أثقالها) (3).
والثاني: مجازيان، نحو: (فما ربحت تجارتهم) (4). والثالث: ما كان أحد طرفيه مجازا (5) دون الآخر، كقوله: (تؤتى أكلها
كل حين بإذن ربها) (6)، وقوله: (حتى تضع الحرب أوزارها) (7).
قال بعضهم: ومن شرط هذا المجاز أن يكون للمسند إليه شبه بالمتروك، في
تعلقه بالعامل.
[المجاز الإفرادي وأقسامه]
وأنواع الإفرادي في القرآن كثيرة يعجز العد عن إحصائها.
258

كقوله: (كلا إنها لظى. نزاعة " للشوى تدعو) (1) قال: الدعاء من النار مجاز.
وكقوله تعالى (أم أنزلنا عليهم سلطانا "...) (2) الآية، والسلطان هنا هو
البرهان، أي برهانا يستدلون به (3)، فيكون صامتا ناطقا، كالدلائل المخبرة، والعبرة والموعظة.
وقوله: (فأمه هاوية) (4) فاسم الأم الهاوية مجاز، أي كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ
له، كذلك أيضا النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع.
وقوله: (قتل الخراصون) (5)، (قتل الانسان ما أكفره) (6) (قاتلهم الله
أنى يؤفكون) (7)، والفعل في هذه المواضع مجاز أيضا، لأنه بمعنى أبعده الله وأذله.
وقيل: قهره وغلبه وهو كثير، فلنذكر (8) أنواعه لتكون ضوابط لبقية الآيات الشريفة.
الأول
إيقاع المسبب موقع السبب
كقوله تعالى: (قد أنزلنا عليكم لباسا ") (9) وإنما نزل سببه، وهو الماء.
وكقوله: (يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من
الجنة) (9)، ولم يقل: (كما فتن أبويكم)، لأن الخروج من الجنة هو المسبب الناشئ
عن الفتنة، فأوقع المسبب موقع السبب، أي لا تفتتنوا بفتنة الشيطان، فأقيم فيه السبب مقام
المسبب، وهو سبب خاص، فإذا عدم فيعدم المسبب، فالنهي في الحقيقة لبنى آدم، والمقصود
عدم وقوع هذا الفعل منهم، فلما أخرج السبب من أن يوجد بإيراد النهى عليه، كان أدل
على امتناع النهى بطريق الأولى.
259

وقوله تعالى: (مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) وهم لم يدعوه
إلى النار، إنما دعوه إلى الكفر، بدليل قوله: (تدعونني لأكفر بالله)، لكن
لما كانت النار مسببة عنه أطلقها عليه.
وقوله تعالى: (فاتقوا النار) أي العناد المستلزم للنار.
وقوله: (إنما يأكلون في بطونهم نارا ") لاستلزام أموال اليتاما إياها.
وقوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ") إنما أرد - والله أعلم -
الشئ الذي ينكح به، من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه.
وقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) أي لا تأكلوها
بالسبب الباطل الذي هو القمار.
وقوله: (والرجز فاهجر)، أي عبادة الأصنام لأن العذاب مسبب عنها.
وقوله: (وليجدوا فيكم غلطة ") أي وأغلظوا عليهم، ليجدوا ذلك،
وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها " على أنه المقصود لذاته، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته
بل لتجدوه.
الثاني
عكسه، وهو إيقاع السبب موقع المسبب
كقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها).
وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)
260

سمى الجزاء الذي هو السبب سيئة واعتداء، فسمى الشئ باسم سببه وإن عبرت السيئة
عما ساء - أي أحزن - لم يكن من هذا الباب، لأن الإساءة تحزن في الحقيقة، كالجناية.
ومنه: (ومكروا ومكر الله) تجوز بلفظ (المكر) عن عقوبته لأنه
سبب لها.
ومنه قوله: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) إنما جعلت
المرأتان للتذكير إذا وقع الضلال لا ليقع الضلال، فلما كان الضلال سببا " للتذكير أقيم مقامه.
ومنه إطلاق اسم الكتاب على الحفظ، أي المكتوب فإن الكتابة سبب له،
كقوله تعالى: (سنكتب ما قالوا) أي سنحفظه حتى نجازيهم عليه.
ومنه إطلاق اسم السمع على القبول، كقوله تعالى: (ما كانوا يستطيعون
السمع)، أي ما كانوا يستطيعون قبول ذلك والعمل به، لأن قبول الشئ مرتب على
سماعة ومسبب عنه، ويجوز أن يكون نفي السمع لابتغاء فائدته.
ومنه قول الشاعر:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها * فليس لمخضوب البنان يمين
أي وفاء يمين.
ومنه إطلاق الإيمان على ما نشأ عنه من الطاعة، كقوله تعالى: (وما كان الله
ليضيع إيمانكم). (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) أي
أفتعملون ببعض التوراة - وهو فداء الأسارى - وتتركون العمل ببعض - وهو قتل
إخوانهم وإخراجهم من ديارهم؟
261

وجعل الشيخ عز الدين من الأنواع نسبة الفعل إلى سبب سببه، كقوله تعالى:
(فأخرجهما مما كانا فيه) أي كما أخرج أبويكم فلا يخرجنكما من الجنة. (ينزع
عنهما لباسهما).
المخرج والنازع في الحقيقة هو الله عز وجل، وسبب ذلك أكل الشجرة، وسبب
أكل الشجرة وسوسة الشيطان ومقاسمته على أنه من الناصحين. وقد مثل البيانيون بهذه
الآية للسبب وإنما هي لسبب السبب.
وقوله: (وأحلوا قومهم دار البوار) لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار
[نسب ذلك إليهم لأنهم أمروهم به، فالله هو المحل لدار البوار، وسبب إحلالها كفرهم،
وسبب كفرهم أمروا أكابرهم إياهم بالكفر الموجب لحلول النار].
الثالث
إطلاق اسم الكل على الجزء
قال تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق) أي أناملهم، وحكمة
التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى أنهم يدخلون أناملهم في آذانهم بغير المعتاد، فرارا من
الشدة، فكأنهم جعلوا الأصابع.
وقال تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) وليد حقيقة إلى المنكب،
هذا إن جعلنا (إلى) بمعنى (مع)، ولا يجب غسل جميع الوجه إذا ستره بعض الشعور
الكثيفة.
262

وقوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما)، والمراد هو البعض الذي
هو الرسغ.
وقال تعالى: (ومن لم يطعمه) اي من لم يذق.
وقوله: (تعجبك أجسامهم) والمراد وجوههم، لأنه لم ير جملتهم.
ومنه قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) استشكله الإمام في
تفسيره، من جهة أن الجزاء إنما يكون بعد تمام الشرط والشرط أن يشهد الشهر، وهو اسم لثلاثين
يوما. وحاصل جوابه أنه أوقع الشهر وأراد جزاء منه، وإرادة الكل باسم الجزء مجاز شهير
ونقل عن علي رضي الله عنه أن المعنى من شهد أول الشهر فليصم جميعه، وأن الشخص
متى كا مقيما أو في البر ثم سافر، يجب عليه صوم الجميع. والجمهور على أن هذا
عام، مخصص بقوله: (فمن كان منكم مريضا "...) الآية. ويتفرع على هذا
أن من أدرك الجزء الأخير من رمضان: هل يلزمه صوم ما سبق إن كان مجنونا في أوله؟
فيه قولان:
الرابع
إطلاق اسم الجزء على الكل
كقوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه)، أي ذاته. (ويبقى وجه
ربك).
263

وقوله: (وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره).
وقوله: (وجوه يومئذ خاشعة. عاملة ناصبة)، يريد الأجساد، لأن العمل
والنصب من صفاتها. وأما قوله: (وجوه يومئذ ناعمة)، فيجوز أن يكون
من هذا، عبر بالوجوه عن الرجال. ويجوز أن يكون من وصف البعض بصفة الكل لأن
التنعم منسوب إلى جميع الجسد.
ومنه: (وجوه يومئذ ناضرة)، فالوجه المراد به جميع ما تقع به المواجهة
لا الوجه وحده.
وقد اختلف في تأويل (الوجه) الذي جاء مضافا إلى الله في مواضع من القرآن،
فنقل ابن عطية عن الحذاق أنه راجع إلى الوجود، والعبارة عنه بالوجه مجاز، إذ هو أظهر
الأعضاء في المشاهدة وأجلها قدرا. وقيل - وهو الصواب - هي صفة ثابتة بالسمع، زائدة
على ما توجبه العقول من صفات الله تعالى. وضعفه إمام الحرمين. وأما قوله تعالى: (فثم
وجه الله) فالمراد الجهة التي وجهنا إليها في القبلة. وقيل: المراد به الجاه، أي فثم
جلال الله وعظمته.
وقوله: (فبما كسبت أيديكم). (ولا تلقوا بأيديكم) تجوز بذلك
عن الجملة.
و قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، البنان الإصبع، تجوز بها عن الأيدي
264

والأرجل، عكس قوله تعالى: (يجعلون أصابعهم).
وقوله: (فتحرير رقبة).
وقوله (سنسمه على الخرطوم)، عبر بالأنف عن الوجه.
(لأخذنا منه باليمين).
وكقوله تعالى: (فإنه آثم قلبه)، أضاف الإثم إلى القلب وإن كانت الجملة كلها
آثمة، من حيث كان محلا لاعتقاد الإثم والبر كما نسبت الكتابة إلى اليد من حيث إنها
تفعل بها في قوله تعالى: (مما كتبت أيديهم)، وإن كانت الجملة كلها كاتبة
ولهذا قال: (وويل لهم مما يكسبون).
وكذا قوله: (ولا تدركه الأبصار). وقيل: المعنى على حذف المضاف، لأن
المدرك هو الجملة دون الحاسة، فأسند الإدراك إلى الأبصار، لأنه بها يكون.
وكقوله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، أي إياه.
(تعلم ما في نفسي).
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم). وحكى
ابن فارس عن جماعة أن (من) هنا للتبعيض، لأنهم أمروا بالغض عما يحرم النظر إليه.
وقوله: (قم الليل)، أي صل في الليل، لأن القيام بعض الصلاة.
265

وكقوله: (وقرآن الفجر) (1)، أي صلاة الفجر.
ومنه (المسجد الحرام) والمراد جميع الحرم.
وقوله: (واركعوا مع الراكعين) (2) أي المصلين.
(يخرون للأذقان سجدا ") (3)، (ويخرون للأذقان يبكون) (3)،
أي الوجوه.
وقوله: (إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء) (4) فعبر بالأرض
والسماء عن العالم، لأن المقام الوعيد، والوعيد إنما يحصل لو بين أن الله لا يخفى عليه
أحوال العباد، حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم، والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض
بل من العالم، فيكون المراد بالسماء والأرض العالم، إطلاقا للجزء على الكل.
وقوله: (قل أذن خير لكم) (5)، قال الفارسي: جعله على المجاز (أذنا ") لأجل
إصغائه، قال: ولو صغرت (أذنا) هذه التي في هذه الآية، كان في لحاق التاء فيها
وتركها نظر.
وجعل الإمام فخر الدين قوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابة " للناس وأمنا ")
المراد به جميع الحرم، لا صفة الكعبة فقط، بدليل قوله: (أنا جعلنا حرما " آمنا ") (7)،
وقوله: (هديا " بالغ الكعبة) (8)، والمراد الحرم كله، لأنه لا يذبح في الكعبة،
قال: وكذلك (المسجد الحرام) في قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم
266

هذا) (1)، والمراد منعهم من الحج وحضور مواضع النسك.
وقيل في قوله تعالى: (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) (2)، أي نجعلها
صفحة " مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة
والخياطة ونحوها من الأعمال التي يستعان فيها بالأصابع، قالوا: وذكرت البنان لأنه
قد ذكرت اليدان، فاختص منها ألطفها.
وجوز أبو عبيدة ورود (3) البعض وإرادة الكل، وخرج عليه قوله تعالى:
(ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي
تختلفون فيه) (4) أي كله، وقوله تعالى: (وإن يك صادقا " يصبكم بعض الذي
يعدكم) (5) وأنشد بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يعتلق بعض النفوس حمامها (6)
قال: والموت لا يعتلق بعض النفوس دون بعض، ويقال للنية: علوق،
وعلاقة. انتهى.
وهذا الذي قاله فيه أمران:
أحدهما: أنه ظن أن النبي يجب عليه أن يبين في شريعته جميع ما اختلفوا فيه،
وليس كذلك، بدليل سؤالهم عن الساعة وعن الروح وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله. وأما الآية
267

الأخرى، فقال ثعلب: إنه كان وعدهم بشئ من العذاب: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
فقال: يصبكم هذا العذاب في الدنيا، - وهو بعض الوعيد - من غير نفي عذاب الآخرة.
الثاني: أنه أخطأ في فهم البيت، وإنما مراد الشاعر ببعض النفوس نفسه هو، لأنها
بعض النفوس حقيقة، ومعنى البيت: أنا إذا لم أرض الأمكنة أتركها إلى أن أموت، أي
إذا تركت شيئا " لا أعود إليه إلى أن أموت، كقول الآخر:
إذا انصرفت نفسي عن الشئ لم تكد * إليه بوجه آخر الدهر ترجع
وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة، فيدخل فيه قول المازني في
مسألة (العلقي): كان أجفى من أن يفقه ما أقول له. وأشار الزمخشري بذلك إلى أن
أبا عبيدة قال للمازني: ما أكذب النحويين! [فقلت له: لم قلت ذلك؟ قال]: يقولون:
هاء التأنيث تدخل على ألف التأنيث وإن الألف [التي] في (علقي) ملحقة
[لست للتأنيث]، قال: فقلت له: وما أنكرت من ذلك؟ قال سمعت رؤبة ينشد:
* فحط في علقي وفي مكور *
فلم ينونها، فقلت: ما واحد العقلي؟ فقال: علقاه، قال المازني: فأسفت ولم أفسر له
لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا!
268

قلت: ويحتمل قوله: (يصبكم بعض الذي يعدكم) أن الوعيد مما
لا يستنكر ترك جميعه، فكيف بعضه! ويدل قوله في آخر هذه السورة: (فاصبر إن
وعد الله حق فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون)،
وفيها تأييد لكلام ثعلب أيضا ".
وقد يوصف البعض، كقوله تعالى: (يعلم خائنة الأعين) وقوله:
(ناصبة كاذبة خاطئة) الخطأ صفة الكل فوصف به الناصية، وأما الكاذبة
فصفة اللسان.
وقد يوصف الكل بصفة البعض كقوله: (إنا منكم وجلون)، والوجل
صفة القلب.
وقوله (ولملئت منهم رعبا ")، والرعب إنما يكون في القلب.
الخامس
اطلاق اسم الملزوم على اللازم
كقوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطانا " فهو يتكلم بما كانوا به يشركون)،
أي أنزلنا برهانا " يستدلون به، وهو يدلهم، سمي الدلالة (كلاما)، لأنها من لوازم الكلام.
وقوله: (صم وبكم في الظلمات) فإن الأصل (عمي) لقوله في موضع آخر:
(صم بكم عمى)، لكن أتى بالظلمات لأنها من لوزام العمى.
269

فإن قيل: ما الحكمة في دخول الواو هنا وفى التعبير بالظلمات عن العمى بخلافه في الآية
الأخرى (1).
السادس
إطلاق اسم اللازم على الملزوم
كقوله تعالى: (فلولا أنه كان من المسبحين) (2) أي المصلين.
السابع
إطلاق اسم المطلق على المقيد
كقوله: (فعقروا الناقة) (3)، والعاقر لها من قوم صالح قدار، لكنهم لما رضوا الفعل
نزلوا منزلة الفاعل.
الثامن
عكسه
كقوله تعالى: (تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) (4)، والمراد كلمة
الشهادة، وهي عدة كلمات.
التاسع
إطلاق اسم الخاص وإرادة العام
كقوله تعالى: (إني رسول رب العالمين) (5) أي رسله.
وقال: (هم العدو فاحذرهم)، أي الأعداء.
270

(وخضتم كالذي خاضوا) (1) أي الذين.
وقوله: (علمت نفس) (2)، أي كل نفس.
وقوله: (وجزاء سيئته سيئة مثلها) (3)، أي كل سيئة.
وقوله تعالى: (يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين)، (4) الخطاب للنبي
صلى الله عليه وسلم، والمراد الناس جميعا.
العاشر
إطلاق اسم العام وإرادة الخاص
كقوله تعالى: (ويستغرون لمن في الأرض) (5) أي للمؤمنين، بدليل قوله في
في موضع آخر: (ويستغفرون للذين آمنوا) (6)، ولما خفى هذا على بعضهم زعم أن
الأولى منسوخة بالثانية.
وكقوله تعالى: (كل له قانتون) (7)، أي أهل طاعته، لا الناس أجمعون،
حكاه الواحدي عن ابن عباس وغيره، واختاره الفراء (8).
وقوله: (كان الناس أمة " واحدة ") (9)، قيل: المراد بالناس هنا نوح ومن معه في
السفينة، وقيل آدم وحواء.
وقوله: (وآل عمران على العالمين) (10)، أي عالمي زمانه، ولا يصح العموم،
271

لأنه إذا فضل أحدهم على العالمين فقد فضل على سائرهم، لأنه من العالمين، فإذا فضل
الآخرين على العالمين فقد فضلهم أيضا على الأول، لأنه من العالمين، فيصير الفاضل مفضولا،
ولا يصح.
وقوله: (ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم) أي شئ يحكم
عليه بالذهاب، بدليل قوله: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم).
وقوله: (تدمر كل شئ بأمر ربها)، ولم تجتح هودا والمسلمين معه.
وقوله: (وأوتيت من كل شئ)، مع أنها لم تؤت لحية ولا ذكرا ".
وقوله: (فتحنا عليهم أبواب كل شىء) أي [كل شئ] أحبوه.
وقوله: (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ") أي مما ظنه وقدره.
وقوله حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم: (وأنا أول المسلمين) وعن
موسى (وأنا أول المؤمنين) ولم يرد الكل، لأن الأنبياء قبله ما كانوا مسلمين
ولا مؤمنين.
وقال: (والشعراء يتبعهم الغاوون)، ولم يعن كل الشعراء.
وقوله: (فإن كان له إخوة)، أي أخوان فصاعدا.
وقوله: (وادخلوا الباب سجدا ") أي بابا " من أبوابها، قاله المفسرون.
272

وقوله: قالت الاعراب آمنا)، وإنما قاله فريق منهم.
(وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون)، وأراد الآيات
التي إذا كذب بها نزل العذاب على المكذب.
وقوله: (ويستغفرون لمن في الأرض)، أي من المؤمنين.
وقوله: (ويستغفرون للذين آمنوا).
وقوله: (وكذب به قومك وهو الحق)، والمراد بعضهم، فإن منهم أفاضل
المسلمين والصديق وعليا رضي الله عنهما.
وقوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم)، فإن (الناس)
الأولى لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله تعالى بعد ذلك: (إن الناس)، ولأن
(الذين) من (الناس)، فلا يكون الثاني مستغرقا، ضرورة خروج (الذين) منهم،
لأنهم لم يقولوا لأنفسهم.
وقوله: (الحج أشهر معلومات) والمراد شهران وبعض الثالث.
الحادي عشر
إطلاق الجمع وإرادة المثنى
كقوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما)، أطلق اسم القلوب على القلبين.
273

الثاني عشر
النقصان
ومنه حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كقوله: (واسأل القرية)،
أي أهلها.
وقوله: (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) أي على لسان رسلك.
وقالوا: (نحن أنصار الله)، أي أنصار دين الله.
وقال: (وأشربوا في قلوبهم العجل) أي حبة.
(واختار موسى قومه)، أي من قومه. قالوا: وإنما يحسن الحذف إذا كان
فيه زيادة مبالغة، والمحذوفات في القرآن على هذا النمط، وسيأتي الإشباع فيه وفي شروطه
إن شاء الله تعالى. وذهب المحققون إلى أن حذف المضاف ليس من المجاز، لأنه استعمال
اللفظ فيما وضع له، ولأن الكلمة المحذوفة ليست كذلك، وإنما التجوز في أن ينسب إلى
المضاف إليه ما كان منسوبا " إلى المضاف، كالأمثلة السابقة.
الثاني عشر
الزيادة
كقوله تعالى: (ليس كمثله شئ)، ذكره الأصوليون.
274

والنحويين فيها قولان:
أحدهما: أن (مثل) زائدة، والتقدير: ليس كهو شئ.
والثاني - وهو المشهور -: أن الكاف هي الزائدة، وأن (مثل) خبر ليس، ولا خفاء
أن القول بزيادة الحرف أسهل من القول بزيادة الاسم.
وممن قال به ابن حني والسيرافي وغيرهما، فقالوا: المعنى ليس مثله شئ، والكاف
زائدة، وإلا لاستحال الكلام، لأنها لو لم تكن زائدة كانت بمعنى (مثل)، وإن كانت
حرفا، فيكون التقدير: ليس مثل مثله شئ، وإذا قدر هذا التقدير ثبت له مثل، ونفى
الشبه عن مثله، وهذا محال من وجهين:
أحدهما: أن الله عز وجل لا مثل له.
والثاني: أن نفس اللفظ به محال في حق كل أحد، وذلك أنا لو قلنا: ليس مثل مثل زيد،
لاستحال ذلك، لأن فيه إثبات أن لزيد مثلا، وذلك يستلزم جعل زيد مثلا له، لأن
ما ماثل الشئ فقد ماثله ذلك الشئ. وغير جائز أن يكون زيد مثلا لعمرو، وعمرو
ليس مثلا " لزيد، فإذا نفينا المثل عن مثل زيد، وزيد هو مثل مثله، فقد اختلفا. ولأنه
يلزم منه التناقص على تقدير إثبات المثل، لإن مثل المثل لا يصح نفيه ضرورة كونه مثلا
لشئ وهو مثل له.
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم لزوم إثبات المثل، غاية ما فيه نفي مثل مثل الله،
وذلك يستلزم ألا يكون له مثل أصلا، ضرورة أن مثل كل شئ فذلك الشئ مثله،
فإذا انتفى عن شئ أن يكون مثل عمرو انتفى عن عمرو أن يكون مثله.
275

وأما الثاني فهو مبني على أن هذه العبارات يلزم منها إثبات المثل، ونحن قد منعناه، بل
أحلناه من العبارة.
وقيل: ليست زائدة، إما لاعتبار جواز سلب الشئ عن المعدوم، كما تسلب الكتابة
عن زيد وهو معدوم، أو يحمل المثل على المثل، أي الصفة، كقوله تعالى: (مثل الجنة)،
اي صفتها، فالتقدير: ليست كصفته شئ.
وبهذين التقديرين يحصل التخلص عن لزوم إثبات (مثل) وإن لم تكن زائدة.
وأما القائلون بأن الزائد (مثل)، وإلا لزم إثبات المثل، ففيه نظر، لاستلزام تقدير
دخول الكاف على الضمير، وهو ضعيف لا يجئ إلا في الشعر. وقد ذكرنا ما يخلص من
لزوم إثبات المثل.
وقيل: المراد الذات والعين، كقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به)
وقول امرئ القيس:
* على مثل ليلى يقتل المرء نفسه *
فالكاف على بابها، وليس كذاك، بل المراد حقيقة المثل ليكون نفيا عن الذات
بطريق برهاني كسائر الكنايات. ثم لا يشترط على هذا أن يكون لتلك الذات الممدوحة
مثل في الخارج حصل النفي عنه، بل هو من باب التخييل في الاستعارة التي يتكلم
فيها البياني.
فإن قيل: إنما يكون هذا نفيا عن الذات بطريق برهاني أن لو كانت المماثلة تستدعي
المساواة في الصفات الذاتية وغيرها من الأفعال، فإن اتفاق الشخصيتين بالذاتيات لا يستلزم
اتحاد أفعالهما.
276

قيل: ليس المراد بالمثل هنا المصطلح عليه في العلوم العقلية، بل المراد من هو مثل
حالة في الصفات المناسبة لما سيق الكلام له، وليس المراد من هو مثل في كل شئ
لأن لفظه (مثل) لا تستدعي المشابهة من كل وجه.
قال الكواشي: يجوز أن يقال: إن الكاف و (مثل) ليسا زائدتين، بل يكون
التمثيل هنا على سبيل الفرض، كقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)،
وتقدير الكلام: لو فرضنا له مثلا لامتنع أن يشبه ذلك المثل المفروض شئ، وهذا أبلغ
في نفي المماثلة.
وأما قوله تعالى: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، فقيل: إن
(ما) فيه مصدرية. وهذا فيه نظر، لأن (ما) لو كانت مصدرية لم يعد إليها من الصلة
ضمير، وهو الهاء في (به) لأن الضمير لا يعود على الحروف، ولا يعتبر اسما إلا بالصلة،
والاسم لا يعود عليه ما هو صفته، إذ لا يحتاج في ذلك إلى ربط.
وجوابه أن تكون (ما) موصولة، صلتها (آمنتم به).
وقيل: مزيدة، والتقدير: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، أي بالله وملائكته وكتبه ورسله
وجميع ما جاء به الأنبياء.
وقيل: إن (مثلا) صفة لمحذوف تقديره: فإن آمنوا بشئ مثل ما آمنتم به. وفيه
نظر، لأن ما أمنوا به ليس له مثل حتى يؤمنوا بذلك المثل.
277

وحكي الواحدي عن أكثر المفسرين في قوله تعالى: (فأينما تولوا فثم
وجه الله)، أن (الوجه) صلة، والمعنى: فثم الله يعلم ويرى، قال: والوجه قد ورد
صلة مع اسم الله كثيرا "، كقوله: (ويبقى وجه ربك)، (إنما نطعمكم لوجه
الله)، (كل شئ هلك إلا وجهه).
قلت: والأشبه حمله على أن المراد به الذات، كما في قوله تعالى: (بلى من أسلم
وجهه الله) وهو أولى من دعوى الزيادة.
ومن الزيادة دعوى أبى عبيدة (يسمعونكم إذ تدعون) إن (إذ) زائدة.
وقوله: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم).
وقوله: (وإن يك صادقا " يصبكم بعض الذي يعدكم)، وقد سبق.
الرابع عشر
تسمية الشئ بما يئول إليه
كقوله تعالى؟: (ولا يلدوا إلا فاجرا " كفارا ")، أو اي صائرا إلى الفجور
والكفر.
وقوله: (أني أراني أحمل فوق رأسي خبزا ")، أي لأن الذي تأكل الطير منه إنما
هو البر لا الخبز. ولم يذكر العلماء هذا من جملة الأمثلة، إنما اقتصروا في التمثيل على قوله:
278

(أعصر خمرا ")، أي عنبا، فعبر عنه لأنه آيل إلى الخمرية. وقيل: لا مجاز فيه، فإن
الخمر العنب بعينه، لغة لأزد عمان، نقله الفارسي في " التذكرة "، عن " غريب
القرآن " لابن دريد.
وقيل: اكتفى بالمسبب الذي هو الخمر، عن السبب، الذي هو العنب. قاله ابن جني
في " الخصائص "
وقيل: ولا مجاز في الاسم بل في الفعل، وهو (أعصر)، فإنه أطلق وأريد به أستخرج،
وإليه ذهب ابن عزيز في غريبه.
وقوله: (حتى تنكح زوجا " غيره)، سماه زوجا " لأن العقد يئول إلى زوجية،
لأنها لا تنكح في حال كونه زوجا.
وقوله (فبشرناه بغلام حليم)، (وبشروه بغلام عليم) وصفة في
حال البشارة بما يئول إليه من العلم والحلم.
تنبيه: ليس هذا من الحال المقدرة - كما يتبادر إلى الذهن - لأن الذي يقترن بالفاعل،
أو المفعول إنما هو تقدير ذلك وإرادته، فيكون المعنى في قوله: (فتبسم ضاحكا ")
مقدار ضحكه.
279

وكذا قوله: (وخروا له سجدا ") على قول أبي علي. وهذا حمل منه للخرور
على ابتدائه، وإن حمله على انتهائه كانت الحال الملفوظ بها ناجزة غير مقدرة.
وكذلك قوله: (فادخلوها خالدين) أي ادخلوها مقدرين الخلود فيها، فإن
من دخل مدخلا كريما " مقدرا " ألا يخرج منه أبدا كان ذلك أتم لسروره ونعيمه، ولو توهم
انقطاعه لتنغص عليه النعيم الناجز مما يتوهمه من الانقطاع اللاحق.
الخامس عشر
تسمية الشئ بما كان عليه
كقوله تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم)، أي الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد
البلوغ. وقيل: بل هم يتامى حقيقة، وأما حديث: (لا يتم بعد احتلام) فهو من تعليم
الشرع لا اللغة، وهو غريب.
وقوله: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم)، وإذا متن لم يكن أزواجا،
فسماهن بذلك لأنهن كن أزواجا.
وقوله: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)، أي الذين كانوا أزواجهن.
وكذلك: (ويذرون أزواجا ") لانقطاع الزوجية بالموت.
وقوله: (من يأت ربه مجرما ")، سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا
من الإجرام.
280

وقوله: (هذه بضاعتنا ردت إلينا)، ولكن ما رد عليهم مالهم، وإنما كانوا
قد اشتروا بها الميرة، فجعلها يوسف في متاعهم، وهي له دونهم، فنسبها الله إليهم، بمعنى
أنها كانت لهم.
السادس عشر
إطلاق اسم المحل على الحال
كقوله: (فليدع ناديه).
وقوله تعالى: (وفرش مرفوعة)، أي نساؤه، بدليل قوله: (إنا أنشأناهن
إنشاء).
وكالتعبير باليد عن القدرة، كقوله: (بيده الملك)، ونحوه.
والتعبير بالقلب عن الفعل، كقوله: (لهم قلوب لا يفقهون بها) أي عقول.
وبالأفواه عن الألسن، كقوله: (الذين قالوا آمنا بأفواههم)، (يقولون
بأفواههم).
وإطلاق الألسن على اللغات، كقوله: (بلسان عربي مبين).
والتعبير بالقرية عن ساكنها، نحو: (واسأل القرية).
281

السابع عشر
إطلاق اسم الحال على المحل
كقوله تعالى: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون)،
أي في الجنة لأنها محل الرحمة.
وقوله: (بل مكر الليل والنهار)، أي في الليل.
وقال الحسن في قوله: (إذ يريكهم الله في منامك)، أي في عينك،
واستبعده الزمخشري وقدر: يعني في رؤياك.
وقوله: (رب اجعل هذا البلد آمنا ")، وصف البلد بالأمن، وهو
صفة لأهله. ومثله: (وهذا البلد الأمين). (إن المتقين في مقام أمين).
وقوله: (بلدة طيبة)، وصفها بالطيب وهو صفة لهوائها.
وقد اجتمع هذا والذي قبله في قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند
كل مسجد)، وذلك لأن أخذ الزينة غير ممكن، لأنها مصدر فيكون المراد
محل الزينة، ولا يجب أخذ الزينة للمسجد نفسه فيكون المراد بالمسجد الصلاة، فأطلق
اسم المحل على الحال وفي الزينة بالعكس.
الثامن عشر
إطلاق اسم آلة الشئ عليه
كقوله تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين)، أي ذكرا حسنا،
282

أطلق اللسان وعبر به عن الذكر، لأن اللسان آية للذكر.
وقال تعالى: (تجري بأعيننا)، أي بمرأى منا، لما كانت العين آلة الرؤية.
وقوله: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)، أي بلغة قومه.
التاسع عشر
إطلاق اسم الضدين على الآخر
كقوله تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وهي من المبتدئ سيئة ومن الله
حسنة، فحمل اللفظ على اللفظ.
وعكسه: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان)، سمي الأول إحسانا " لأنه مقابل
لجزائه وهو الإحسان، والأول طاعة، كأنه قال: هل جزاء الطاعة إلا الثواب!
وكذلك: (ومكروا ومكر الله)، حمل اللفظ على اللفظ، فخرج الانتقام
بلفظ الذنب، لأن الله لا يمكر.
وأما قوله تعالى: (أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون)،
فهو وإن لم يتقدم ذكر مكرهم في اللفظ لكن تقدم في سياق الآية قبله ما يصير إلى
مكر، والمقابلة لا يشترط فيها ذكر المقابل لفظا، بل هو، أوما في معناه.
وكذلك قوله: (فبشرهم بعذاب أليم)، لما قال: بشر هؤلاء بالجنة قال:
بشر هؤلاء بالعذاب، والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر.
وقوله: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم)، والفعل الثاني ليس بسخرية.
283

العشرون
تسمية الداعي إلى الشئ باسم الصارف عنه
لما بينهما من التعلق، ذكره السكاكي، وخرج عليه قوله تعالى: (ما منعك أن
لا تسجد) يعني (ما دعاك ألا تسجد)؟ واعتصم بذلك في عدم زيادة (لا):
وقيل: معناه: ما حماك في ألا تسجد - أي من العقوبة - أي ما جعلك في منعة
من عقوبة ترك السجود.
وهذا لا يصح، أما الأول فلم يثبت في اللغة وأما الثاني فكأن تركيبه: (ما يمنعك)
سؤالا عما يمنعه لا بلفظ الماضي، لأنه لا تخويف بماض.
ويجاب بأن المخالفة تقتضي الأمنة، كأنه قيل: ما أمنك حتى خالفت! بيانا لاغتراره
وعدم رشده، وأنه إنما خالف وحاله حال من امتنع بقوته من عذاب ربه، فكني عنه
ب‍ (ما منعك) تهكما، لا أنه امتنع حقيقة وإنما جسر جسارة من هو في منعة.
ورد أيضا بأنه أجاب ب‍ (أنا خير)، وهو لا يصلح جوابا إلا لترك السجود.
وأجيب بأنه لم يجب، ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه.
284

الحادي والعشرون
إقامة صيغة مقام أخرى
وله صور:
فمنه (فاعل) بمعنى (مفعول)، كقوله: (لا عاصم اليوم من أمر الله)،
اي لا معصوم.
وقوله تعالى: (من ماء دافق) اي مدفوق.
و (في عيشه راضية)، اي مرضية بها. وقيل على النسب، اي ذات رضا "، وهو
مجاز إفراد لا تركيب.
وقوله: (أنا جعلنا حرما " آمنا ") أي مأمونا.
وعكسه: (إنه كان وعده مأتيا ")، أي آتيا ".
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: (حجاجا " مستورا ") أي ساترا، وحكى
الهروي في " الغريب " عن أصل اللغة، (وتأويل الحجاب الطبع).
وقال السهيلي: الصحيح أنه على بابه، أي مستورا " عن العيون، ولا يحس
285

به أحد، والمعنى (مستور عنك وعنهم)، كما قال تعالى: (وما يعلم جنود ربك
إلا هو).
وقال الجوهري: (أي حجابا " على حجاب، والأول مستور بالثاني، يراد بذلك
كثافة الحجاب، لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا ").
قال أبو الفتح في كتابه " هذا القد ": وسألته - يعني الفارسي - إذا جعلت
فاعلا بمعنى مفعول، فعلام ترفع الضمير الذي فيه؟ أعلى حد ارتفاع الضمير في اسم الفاعل
أم اسم المفعول؟ فقال: إن كان بمعنى (مفعول) ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم
الفاعل، وإن جاء على لفظ اسم الفاعل.
ومنه (فعيل) بمعنى (مفعول) كقوله (وكان الكافر على ربه ظهيرا ") أي
مظهورا فيه، ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه.
أما نحو: (فله عذاب أليم) فقال بعض النحويين: إنه بمعنى (مؤلم)
ورده النحاس، بأن (مؤلما) يجوز أن يكون قد آلم ثم زال، و (أليم) أبلغ، لأنه يدل على
الملازمة، قال: ولهذا منع النحويون إلا سيبويه أن يعدى (فعيل).
ومنه مجئ المصدر على (فعول)، كقوله تعالى: (لمن أراد أن يذكر أو أراد
شكورا "). وقوله: (لا نريد منكم جزاء " ولا شكورا ")، فإنه ليس المراد
286

الجمع هنا، بل المراد: لا نريد منكم شكرا أصلا "، وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في
نفي الأنواع.
وزعم السهيلي انه جمع (شكر)، وليس كذلك لفوات هذا المعنى.
ومنها إقامة الفاعل مقام المصدر، نحو: (ليس لوقعها كاذبة) أي تكذيب،
وإقامة المفعول مقام المصدر، نحو: (بأيكم المفتون)، أي الفتنة.
ومنه وصف الشئ بالمصدر، كقوله تعالى: (فإنهم عدو لي)، قالوا:
إنما وحده، لأنه في معنى المصدر، كأنه قال: (فإنهم عداوة).
ومجئ المصدر بمعنى المفعول، كقوله تعالى: (ولا يحيطون بشئ من علمه)،
أي من معلومه.
وقوله: (ذلك مبلغهم من العلم)، أي من العلوم.
وقوله: (صنع الله)، أي مصنوعه.
وقوله: (هذا رحمة من ربي)، اي مترحم، قاله الفارسي.
وكذا قوله: (فأعينوني بقوة)، أي مقوى به، ألا ترى أنه أراد منهم
زبر الحديد والنفخ عليها!
وقوله: (وقد خاب من حمل ظلما ")، أي مظلوما فيه.
287

وقوله تعالى: (وجاؤوا على قميصة بدم كذب)، أي مكذوب فيه،
وإلا لو كان على ظاهره لأشكل، لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام. وقال
الفراء: يجوز في النحو (بدم كذبا) بالنصب على المصدر، لأن (جاءوا) فيه معنى
(كذبوا كذبا)، كما قال تعالى: (والعاديات ضبحا "). لأن (العاديات) بمعنى
(الضابحات).
وعكسه: (وإنه لذو علم لما علمناه).
ومنه (فعيل) بمعنى الجمع، كقوله تعالى: (والملائكة بعد ذلك ظهير).
وقوله: (خلصوا نجيا ").
وقوله: (وحسن أولئك رفيقا ").
وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا، وانه لا يجئ ذلك في المثنى، ويرده قوله
تعالى: (اليمين وعن الشمال قعيد)، فإنه نقل الواحدي عن المبرد، وابن عطية
عن الفراء أن (قعيد) أسند لهما.
وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع، وان أريد معناه لنكتة، كقوله تعالى:
(أم يقولون نحن جميع منتصر)، فإن سبب النزول وهو قول أبي جهل (نحن
ننتصر اليوم) يقضي بإعراب (منتصر) خبرا.
288

ومنه إطلاق الخبر وإرادة الأمر، كقوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن)،
أي ليرضع الوالدات أولادهن.
وقوله: (يتربصن بأنفسهن) أي تتربص المتوفى عنها.
وقوله: (تزرعون سبع سنين دأبا ")، والمعنى: (ازرعوا سبع سنين)، بدليل
قوله: (فذروه في سنبله).
وقوله: (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون)، معناه: آمنوا وجاهدوا، ولذلك
أجيب بالجزم في قوله: (يغفر لكم من ذنوبكم ويدخلكم جنات)، ولا يصح
أن يكون جوابا للاستفهام في قوله: (هل أدلكم)، لأن المغفرة وإدخال الجنان
لا يترتبان على مجرد الدلالة، قاله أبو البقاء والشيخ عز الدين.
والتحقيق ما قاله النبالي أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها، والتجارة هي
الإيمان، ولذلك فسرها بقوله: (تؤمنون)، فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي
الإيمان، فالدلالة سبب الإيمان، والإيمان سبب الغفران، وسبب السبب سبب. وهذا
النوع فيه تأكيد، وهو من مجاز التشبيه، شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لابد
289

من وقوعه، وإذا شبهه بالخبر الماضي كان آكد.
ومنه عكسه كقوله تعالى: (فليمدد له الرحمن مدا ") والتقدير: مده
الرحمن مدا.
وقوله: (اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم)، أي نحمل.
قال الكواشي: والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم، نحو: إن زرتنا
فلنكرمك. يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم، كذا قال الشيخ عز الدين، مقصوده
تأكيد الخبر، لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبر في إيجابه.
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: (إنما أمرنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن
فيكون)، قال: (كن) لفظه أمر والمراد الخبر، والتقدير: (يكون فيكون) أو على
أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فهو يكون، قال: ولهذا أجمع القراء على رفع (فيكون) ورفضوا
فيه النصب، إلا ما روي عن ابن عامر، وسوغ النصب لكونه بصيغة الأمر قال:
ولا يجوز أن يكون معطوفا على (نقول) فيجئ النصب على الفعل المنصوب، لأن ذلك
لا يطرد، بدليل قوله: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم
قال له كن فيكون)، إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور، لأن (قال) ماض
290

(ويكون) مضارعا، فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما،
قلت: وهذا الذي قاله الفارسي ضعيف مخالف لقواعد أهل السنة.
ومنه إطلاق الخبر وإرادة النهي، كقوله: (لا تعبدون إلا الله)، ومعناه:
(لا تعبدوا).
وقوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم)، أي لا تسفكوا
ولا تخرجوا.
وقوله: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله)، أي ولا تنفقوا.
الثاني والعشرون
إطلاق الأمر وإرادة التهديد والتلوين
وغير ذلك من المعاني الستة عشر وما زيد عليها من أنواع المجاز، ولم يذكروه
هنا في أقسامه.
الثالث والعشرون
لإضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل له في الحقيقة
إما على التشبيه، كقوله تعالى: (جدارا " يريد أن ينقض)، فإنه شبه ميله
للوقوع بشبه المريد له.
وإما لأنه وقع فيه ذلك الفعل، كقوله تعالى: (الم. غلبت الروم)، فالغلبة
واقعة بهم من غيرهم، ثم قال: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون)، فأضاف
الغلب إليهم، وإنما كان كذلك، لأن الغلب وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم
لوقوعه بهم.
291

ومثله: (وآتى المال على حبه) (ويطعمون الطعام على حبه) فالحب
في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال، وهو في الحقيقة لصاحبهما.
ومثله: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، (ذلك لمن خاف مقامي)
أي مقامه بين يدي.
وإما لوقوعه فيه، كقوله تعالى: (يوما " يجعل الولدان شيبا ").
وإما لأنه سببه، كقوله تعالى: (فزادتهم ايمانا "). (وذلكم ظنكم الذي
ظننتم بربكم أرداكم). (ينزع عنهما لباسهما). (وأحلوا قومهم دار
البوار)، كما تقدم في أمثلة المجاز العقلي.
وقد يقال: إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما، فالمجاز إفرادي لا إسنادي.
وقوله تعالى: (يوما " يجعل الولدان شيبا ")، أي يجعل هوله فهو من
مجاز الحذف.
الرابع والعشرون
إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته
كقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن)، أي قاربن بلوغ الأجل،
أي انقضاء العدة، لأن الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة، فيكون بلوغ الأجل تمامه،
292

كقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن)، أي أتمن العدة، وأردن
مراجعة الأزواج. ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة، لأنها بيد الزوج،
ولو كان الطلاق غير رجعي لم يكن للولي أيضا " عليها حكم قبل تمام العدة، ولا تسمى
عاضلا حتى يمنعها تمام العدة من المراجعة.
ومثله قوله تعالى: (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون)، المعنى قارب، وبه يندفع
السؤال المشهور فيها، إن عند مجئ الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير.
وقوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت)، أي قارب
حضور الموت.
وقوله تعالى: (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين. لا يؤمنون به حتى يروا
العذاب الأليم. فيأتيهم بغتة ")، أي حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها.
ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها، وذلك على أن يكون: يرونه فلا يظنونه عذابا.
(وإن يروا كسفا " من السماء ساقطا " يقولوا سحاب مركوم)، ولا يظنونه واقعا " بهم،
وحينئذ فيكون أخذه لهم بغته بعد رؤيته.
ومن دقيق هذا النوع قوله تعالى: (ونادي نوح ربه)، المراد قارب النداء،
لا أوقع النداء، لدخول الفاء في (فقال) فإنه لو وقع النداء لسقطت، وكان ما ذكر
293

تفسيرا " للنداء، كقوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه قال)، وقوله: (إذا نادى
ربه نداء " خفيا ". قال رب)، لما فسر النداء سقطت الفاء.
وذكر النجاة ان هذه الفاء تفسيريه، لأنها عطفت مفسرا على مجمل، كقوله: (توضأ
فغسل وجهه)، وفائدة ذلك أن نوحا " عليه السلام أراد ذلك، فرد القصد إليه ولم يقع،
لا عن قصد.
ومنه قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية " ضعافا " خافوا
عليهم)، أي وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا، وإنما أول الترك بمشارفة
الترك، لأن الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك، لأنهم بعده أموات.
وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته، كقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن
فاستعذ)، أي إذا أردت.
وقوله: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا)، أي إذا أردتم، لأن الإرادة
سبب القيام
(إذا قضى أمرا ")، أي أراد.
(وإن حكمت فاحكم بينهم)، أي أردت الحكم.
ومثله: (وإذا حكمتم بين الناس).
(إذا ناجيتم الرسول) أي أردتم مناجاته.
294

(إذا طلقتم النساء).
وقوله: (من يهد الله فهو المهتدي)، قال ابن عباس: من يرد الله
هدايته، ولقد أحسن رضي الله عنه لئلا يتحد الشرط والجزاء.
وقوله: (وإذا قلتم فاعدلوا)، أي أردتم القول.
(والذين إذ أنفقوا لم يسرفوا)، أي أرادوا الانفاق.
وقوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) لأن الإهلاك إنما هو
بعد مجئ البأس، وإنما خص هذين الوقتين - أعني البيات والقيلولة - لأنها وقت الغفلة
والدعة، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع.
وقوله تعالى: (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها)، أي أردنا إهلاكها.
(فانتقمنا منهم فأغرقناهم)، أي فأردنا الانتقام منهم، وحكمته أنا إذا
أردنا أمرا " نقدر فيه إرادتنا، وإن كان خارقا للعادة.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (قالوا يا نوح قد جادلتنا) أي أردت جدالنا
وشرعت فيه، وكان الموجب لهذا التقدير خوف التكرار، لأن (جادلت) (فاعلت)، وهو
يعطي التكرار، أو أن المعنى: لم ترد منا غير الجدال له لا النصيحة.
قلت: وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل، لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته
وقصده إليه، كما عبر بالفعل من القدرة على الفعل في قولهم: الانسان لا يطير، والأعمى
295

لا يبصر، أي لا يقدر على الطيران والإبصار، وإنما حمل على ذلك دون الحمل على
ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء واحد، والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس
يتوضأ. ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر، فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصلاة.
وفساده بين.
الخامس والعشرون
إطلاق الأمر بالشئ للتلبس به والمراد دوامه
كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا) هكذا أجاب به الزمخشري وغيره،
وأصل السؤال غير وارد، لأن الأمر لا يتعلق بالماضي ولا بالحال، وإنما يتعلق بالمستقبل
المعدوم حالة توجه الخطاب، فليس ذلك تحصيلا للحاصل بل تحصيلا للمعدوم، فلا فرق بين
أن يكون المخاطب حالة الخطاب على ذلك الفعل أم لا، لأن الذي هو عليه عند الخطاب
مثل المأمور به لا نفس المأمور به. والحاصل أن الكل مأمور بالإنشاء، فالمؤمن بشئ
ما سبق له أمثاله، والكافر ينشئ ما لم يسبق منه أمثاله.
السادس والعشرون
إطلاق اسم البشرى على المبشر به
كقوله تعالى: (بشراكم اليوم جنات)، قال أبو علي الفارسي: التقدير: بشراكم
دخول جنات أو خلود جنات، لأن البشرى مصدر، والجنات ذات، فلا يخبر بالذات
عن المعنى.
296

ونحوه إطلاق اسم المقول على القول، كقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة
كما يقولون).
ومنه: (سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا ")، أي عن مدلول قولهم.
ومنه: (فبرأه الله مما قالوا)، أي من مقولهم، وهو الأدرة.
وإطلاق الاسم على المسمى، كقوله تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها)
أي مسميات.
(سبح اسم ربك الأعلى)، أي ربك.
وإطلاق اسم الكلمة على المتكلم كقوله تعالى: (لا تبديل لكلمات الله)،
أي لمقتضى عذاب الله، و (إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم)،
تجوز بالكلمة عن المسيح، لكونه تكون بها من غير أب، بدليل قوله: (وجيها " في
الدنيا والآخرة ومن المقربين) ولا تتصف الكلمة بذلك.
وأما قوله تعالى: (اسمه المسيح عيسى)، فإن الضمير فيه عائد إلى مدلول
الكلمة، والمراد بالاسم المسمى، فالمعنى: المسمى المبشر به المسيح بن مريم.
297

وإطلاق اسم اليمين على المحلوف به، كقوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة "
لأيمانكم)، أي لا تجعلوا يمين الله أو قسم الله مانعا لما تحلفون عليه من البر والتقوى
بين الناس.
إطلاق الهوى عن المهوي، ومنه: (ونهى النفس عن الهوى) أي عما تهواه من
المعاصي، ولا يصح نهيها عن هواها، وهو ميلها، لأنه تكليف لما لا يطاق، إلا على حذف
مضاف، أي نهى النفس عن اتباع الهوى.
التجوز عن المجاز بالمجاز
وهو أن تجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر، فتتجوز
بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما.
مثاله قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سرا ")، فإنه مجاز عن مجاز، فإن الوطء
تجوز عنه بالسر، لأنه لا يقع غالبا إلا في السر وتجوز بالسر عن العقد، لأنه مسبب عنه،
فالصحيح للمجاز الأول الملازمة، والثاني السببية، والمعنى: (لا تواعدوهن عقد نكاح).
وكذلك قوله تعالى: (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله)، إن حمل على
ظاهره كان من مجاز المجاز، لأن قوله: (لا إله إلا الله) مجاز عن تصديق القلب بمدلول
هذا اللفظ، والتعبير بلا إله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالمقول عن المقول فيه،
298

والأول من مجاز السببية، لأن توحيد اللسان، مسبب عن توحيد الجنان.
قلت: وهذا يسميه ابن السيد مجاز المراتب، وجعل منه قوله تعالى: (يا بني آدم
قد أنزلنا عليكم لباسا ")، فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس، بل الماء المنبت
للزرع، المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس.
299

النوع الرابع والأربعون
في الكنايات والتعريض
في القرآن
اعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة، وهي عندهم أبلغ من التصريح.
قال الطرطوسي: وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات، وقد ألف
أبو عبيد (1) وغيره كتبا في الأمثال (2)، ومنها قولهم: فلان عفيف الإزار، طاهر الذيل
ولم يحصن فرجه. وفي الحديث: (كان إذا دخل العشر أيقظ أهله، وشد المئزر)،
فكنوا عن ترك الوطء بشد المئزر، وكنى عن الجماع بالعسيلة (3)، وعن النساء بالقوارير (4)
لضعف قلوب النساء. ويكنون عن الزوجة بربة البيت، وعن الأعمى بالمحجوب
300

والمكفوف، وعن الأبرص بالوضاح، وبالأبرش، وغير ذلك، وهو كثير في القرآن، قال الله
تعالى: (و لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم) (1).
والكناية عن الشئ الدلالة عليه من غير تصريح باسمه.
وهي عند أهل البيان أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا بذكره باللفظ
الموضوع له من اللغة، ولكن يجئ إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود، فيومىء به إليه،
ويجعله دليلا " عليه، فيدل على المراد من طريق أولى، مثاله، قولهم: (طويل النجاد)
و (كثير الرماد)، يعنون طويل القامة وكثير الضيافة، فلم يذكروا المراد بلفظ الخاص به، ولكن
توصلوا إليه بذكر معنى آخر، هو رديفه في الوجود: لأن القامة إذا طالت طال النجاد،
وإذا كثر القرى كثر الرماد.
وقد اختلف في أنها حقيقة أو مجاز، فقال الطرطوسي (2) في العمدة: (قد اختلف في وجود
الكناية في القرآن، وهو كالخلاف في المجاز، فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية،
وهو قول الجمهور، ومن أنكر ذلك أنكر هذا.
وقال الشيخ عز الدين: الظاهر أنها ليست بمجاز، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له
وأردت به الدلالة على غيره، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له، وهذا شبيه
بدليل الخطاب، في مثل قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) (3). انتهى.
[أسباب الكناية]
ولها أسباب:
أحدها: التنبيه على عظم القدرة، كقوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس
واحدة) (4) كناية عن آدم.
301

ثانيها: فطنة المخاطب، كقوله تعالى في قصة داود: (خصمان بغى بعضنا على
بعض)، فكنى داود يخصم على لسان ملكين تعريضا ".
وقوله في قصة النبي صلى الله عليه وسلم وزيد: (ما كان محمد أبا أحد من
رجالكم) أي زيد (ولكن رسول الله).
وقوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة)، فإنه كناية عن ألا
تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة.
وكذا قوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة
من مثله).
وقوله تعالى: (جعلنا في أعناقهم أغلالا "...) (5) الآيات، فإن هذه تسلية
للنبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: لا تظن أنك مقصر في إنذارهم، فإنا نحن المانعون
لهم من الايمان، فقد جعلناهم حطبا " للنار، ليقوى التذاذ المؤمن بالنعيم، كما لا تتبين لذة
الصحيح إلا عند رؤية المريض.
ثالثها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه، كقوله تعالى: (إن هذا أخي له تسع
وتسعون نعجة " ولي نعجة واحدة)، فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب، أنها تكنى
بها عن المرأة.
وقوله: (إلا متحرفا " لقتال أو متحيزا " إلى فئة) (7)، كنى بالتحيز عن الهزيمة.
302

وقوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا " لن تقبل
توبتهم) (1)، كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر، لأنه يرادفه.
رابعها: أن يفحش ذكره في السمع، فيكنى عنه بما لا ينبو عن الطبع، قال تعالى:
(وإذا مروا باللغو مروا كراما ") (2)، أي كنوا عن لفظه، ولم يوردوه على صيغته.
ومنه قوله تعالى في جواب قوم هود: (إنا لنراك في سفاهة). (قال يا قوم
ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين)، فكنى عن
تكذيبهم بأحسن.
ومنه قوله: (لكن لا تواعدوهن سرا ") (5)، فكنى عن الجماع بالسر.
وفيه لطيفة أخرى، لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا، ولا يسره - ما عدا
الآدميين - إلا الغراب. فإنه يسره، ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى أبي على الحاتمي
كلاما فقال: (ليكن عندك أخفى من سفاد الغراب، ومن الراء في كلام الألثغ)،
فقال: نعم يا سيدنا، ومن ليلة القدر، وعلم الغيب.
ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث، والدخول،
والنكاح، ونحوهن، قال تعالى: (فالآن باشروهن) (6)، فكنى بالمباشرة عن الجماع
لما فيه من النقاء البشرتين.
وقوله تعالى: (أو لامستم النساء) (7) إذ لا يخلوا الجماع من الملامسة.
303

وقوله في الكناية عنهن: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) (1)، واللباس
من الملابسة، وهي الاختلاط والجماع.
وكنى عنهن في موضع آخر بقوله: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم
أنى شئتم).
قوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها) (3)، كناية عما تطلب المرأة
من الرجل.
وقوله تعالى: (فلما تغشاها حملت حملا " خفيفا ") (4).
ومنه قوله تعالى في مريم وابنها: (كانا يأكلان الطعام)، (5) فكنى بأكل
الطعام عن البول والغائط، لأنهما منه مسببان، إذ لابد للآكل منهما، لكن استقبح
في المخاطب ذكر الغائط، فكنى به عنه.
فإن قيل: فقد صرح به في قوله تعالى: (أو جاء أحد منكم من الغائط) (5).
قلنا: لأنه جاء على خطاب العرب وما يألفون، والمراد تعريفهم الأحكام فكان
لا بد من التصريح به، على أن الغائط أيضا كناية عن النجو، وإنما هو في الأصل اسم
للمكان المنخفض من الأرض، وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون
إلى منخفض من الأرض، فسمى به لذلك، ولكنه كثر استعماله في كلامهم، فصار
بمنزلة التصريح.
وما ذكرنا وفي في قوله تعالى: (كانا يأكلان الطعام) هو المشهور، وأنكره
الجاحظ، وقال: بل الكلام على ظاهره، ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل
304

الطعام، لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شئ يأكله، ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود
محدثا، كذلك لا يجوز أن يكون طاعما، قال الخفاجي: (وهذا صحيح) (1).
ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذها آلهة، فأما قوله
تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون كل الطعام ويمشون في
الأسواق)، فهو على حقيقته.
قال الوزير ابن هبيرة (3): وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع،
فإن النبي كالطبيب والطبيب يكون عند المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.
ومنه قوله تعالى: (فجعلهم كعصف مأكول)، كنى به عن مصيرهم إلى
العذرة، فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك.
وقوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا)، أي لفروجهم، فكنى عنها
بالجلود، على ما ذكره المفسرون.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: (والتي أحصنت فرجها)، فصرح بالفرج؟
قلنا: أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها،
وهي كناية عن فرج القميص، أي لم يعلق ثوبها ريبة، فهي طاهرة الأثواب، وفروج
القميص أربعة: الكمان والأعلى والأسفل، وليس المراد غير هذا، فإن القرآن أنزه معنى،
305

وألطف إشارة وأملح (1) عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل، لا سيما والنفخ من
روح القدس بأمر القدوس، فأضيف القدس إلى القدوس، ونزهت القانتة المطهرة عن الظن
الكاذب والحدس. ذكره صاحب " التعريف والاعلام " (2).
ومنه وقوله تعالى: (الخبيثات للخبيثين) (3)، يريد الزناة.
وقوله تعالى: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن) (4)، فإنه
كناية عن الزنا. وقيل: أراد طرح الولد على زوجها من غيره، لأن بطنها بين يديها ورجليها
وقت الحمل.
وقوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) (5)، وإنما يوضع في الأذن السبابة،
فذكر الإصبع وهو الاسم العام أدبا "، لاشتقاقها من السب، ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة،
والدعاءة، وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة! قاله الزمخشري.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح " الالمام " (6): يمكن أن يقال إن ذكر
الإصبع هاهنا جامع لأمرين: أحدهما التنزه عن اللفظ المكروه، والثاني حط منزلة الكفار
عن التعبير باللفظ المحمود، والأعم يفيد المقصودين معا، فأتى به وهو لفظ الإصبع، وقد جاء
في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما في حديث: (من سبقه الحدث في الصلاة
فليأخذ بأنفه ويخرج)، أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث، وهو الرعاف،
وهو أدب حسن من الشرع في ستر العورة وإخفاء القبيح. وقد صح نهيه عليه السلام
306

أن يقال [لشجر العنب] (1): الكرم، وقال: (إنما الكرم الرجل المسلم)، كره الشارع
تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث.
وحديث: (كان يصيب من الرأس وهو صائم)، قيل هو إشارة إلى القبلة، وليس لفظ
القبلة مستهجنا ".
وقوله: (إياكم وخضراء الدمن).
خامسها: تحسين اللفظ، كقوله تعالى: (بيض مكنون) (2)، فإن العرب كانت من
عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض، قال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها * تمتعت من لهو بها غير معجل (3)
وقوله تعالى: (و ثيابك فطهر)، ومثله قول عنترة:
فشككت بالرمح الطويل ثيابه * ليس الكريم على القنا بمحرم (6)
سادسها: قصد البلاغة، كقوله تعالى: (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام
غير مبين) (7)، فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل
307

عن النظر في الأمور ودقيق المعاني، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك، والمراد نفي
ذلك - أعني الأنوثة - عن الملائكة، وكونهم بنات الله تعالى الله عن ذلك.
وقوله: (فما أصبرهم على النار)، أي هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه
بهذا التعجب.
سابعها: قصد المبالغة في التشنيع، كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله: (وقالت
اليهود يد الله مغلولة) فإن الغل كناية عن البخل، كقوله تعالى (ولا تجعل يدك
مغلولة إلى عنقك)، لأن جماعة كانوا متمولين، فكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم
فكف الله عنهم ما أعطاهم، وهو سبب نزولها.
وأما قوله تعالى: (غلت أيديهم) (2) فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة
للفظ، ولهذا قيل: إنهم أبخل خلق الله، والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار، وفي
الآخرة بالعذاب وإغلال النار.
وقوله: (بل يداه مبسوطتان)، كناية عن كرمه، وثنى اليد - وإن أفردت
في أول الآية - ليكون أبلغ في السخاء والجود.
ثامنها: التنبيه على مصيره، كقوله تعالى: (تبت يدا أبي لهب)، أي جهنمي
مصيره إلى اللهب.
وكقوله: (حمالة الحطب)، أي نمامة، ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم.
308

تاسعها: قصد الاختصار، ومنه الكناية عن أفعال متعددة بلفظ (فعل)، كقوله تعالى:
(ولبئس ما كانوا يفعلون)، (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به)، (فإن
لم تفعلوا ولن تفعلوا)، أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا.
عاشرها: أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر، فيأخذ الخلاصة منها
من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز، فتعبر بها عن مقصودك، وهذه الكناية استنبطها
الزمخشري، وخرج عليها قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (4)، فإنه كناية
عن الملك، لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك، فجعلوه كناية عنه.
وكقوله تعالى: (والأرض جميعا " قبضته يوم القيامة...) (5) الآية، إنه كناية
عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين: حقيقة ومجاز.
وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية، فلهم أن
يقولوا: المراد من قوله: (فاخلع نعليك) (6) الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب
إلى نعل وخلعه، وكذا نظائره. انتهى.
وهذا مردود لأن الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره،
كما سبق من الأمثلة، بخلاف خلع النعلين ونحوه.
309

تنبيهان
الأول: في أنه هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز؟
هذا ينبني على الخلاف السابق إنها مجاز أم لا. وقال الزمخشري في قوله تعالى:
(ولا ينظر إليهم) (1)، في سورة آل عمران: أنه مجاز (2) عن الاستهانة بهم،
والسخط عليهم، تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه،
قال: (3) وأصله فيمن يجوز عليه [النظر] (4) الكناية، لأن من اعتد بالإنسان
التفت إليه، وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداء والإحسان،
وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا " لمعنى الإحسان، مجازا عما وقع
كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. انتهى.
وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية، وفيه تصريح بأن الكناية مجاز،
وبه صرح في قوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء).
وصرح الشيخ عبد القادر الجرجاني (6) في " الدلائل " بأن الكناية لا بد لها من قرينة.
الثاني: قيل من عادة العرب أنها لا تكنى عن الشئ بغيره، إلا إذا كان يقبح
310

ذكره، وذكروا احتمالين في قوله: (وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم
إلى بعض) (1).
أحدهما: أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة.
الثاني: أنه كنى عن الخلوة.
ورجحوا الأول، لأن العرب إنما تكنى عما يقبح ذكره في اللفظ، ولا يقبح ذكر
الخلوة. وهذا حسن، لكنه يصلح للترجيح.
وأما دعوى كون العرب لا تكنى إلا عما يقبح ذكره فغلط، فكنوا عن القلب
بالثوب، كما في قوله تعالى: (وثيابك فطهر) (2)، وغير ذلك مما سبق.
[التعريض والتلويح]
وأما تعريض، فقيل: إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم، وسمي تعريضا لأن
المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ، أي من جانبه، ويسمى التلويح، لأن المتكلم يلوح
منه للسامع ما يريده، كقوله تعالى: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا
ينطقون) (3)، لأن غرضه بقوله: (فاسألوهم)، على سبيل الاستهزاء وإقامة الحجة
عليهم بما عرض لهم به، من عجز كبير الأصنام عن الفعل، مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم
إذا سئلوا، ولم يرد بقوله: (فعله كبيرهم هذا) (3)، نسبة الفعل الصادر عنه
إلى الصنم، فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة.
ومن أقسامه أن يخاطب الشخص والمراد غيره، سواء كان الخطاب مع نفسه، أو مع
311

غيره، كقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك).
(ولئن اتبعت أهواءهم) (2).
(فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات)، تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا
أهواءهم، وزلوا فيما مضى من الزمان، لأن الرسول لم يقع منه ذلك، فأبرز غير الحاصل في معرض
الحاصل ادعاء.
وقوله: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات)، فإن الخطاب للمؤمنين
والتعريض لأهل الكتاب، لأن الزلل لهم لا للمؤمنين.
فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة أمور: مخاطبة النبي صلى الله عليه والمراد غيره، وإخراج
المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره، واستعمال المستقبل بصيغة الماضي. وأمر رابع وهو
(إن) الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء، مع العلم
باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه.
وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره، إذ لا يلزم من
فرض أمر - لابد - منه - صحة وقوعه، بل يكون في الممكن والواجب والمحال.
ومنه قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (5)، إذا جعلت
شرطية لا نافية.
ومنه: (إن كنا فاعلين) (6).
312

ومنه قوله تعالى: (ومالي لا أعبد الذي فطرني) (1)، المراد: مالكم لا تعبدون،
بدليل قوله: (إليه ترجعون) (1)، ولولا التعريض لكان المناسب (واليه أرجع).
وكذا قوله: (أأتخذ من دونه آلهة ") (1)، والمراد: أتتخذون من دون آلهة.
(إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا " ولا ينقذون. إني إذا " لفي ضلال
مبين) (2)، ولذلك قيل: (آمنت بربكم فاسمعون) دون (ربي)، (وأتبعه)،
(فاسمعوه).
ووجه حسنه ظاهر، لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب
المنكر، كأنك لم تعنه، وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول، وأدعى للتواضع،
والكلام ممن هو رب العالمين نزله بلغتهم، وتعليما للذين يعقلون.
قيل: ومنه قوله تعالى: (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون)، فحصل
المقصود في قالب التلطف، وكان حق الحال من حيث الظاهر، لولاه أن يقال: (لا تسألون
عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون).
وكذا مثله: (وإنا أو إياكم لعلى هدى " أو في ضلال مبين)، حيث ردد
الضلال بينهم وبين نفسهم، والمراد: إنا على هدى وأنتم في ضلال، وإنما لم يصرح به لئلا
تصير هنا نكته، هو أنه خولف في هذا الخطاب بين (على)، و (في) بدخول (على) على
الحق، و (في) علي الباطل، لأن صاحب الحق، كأنه على فرس جواد يركض به،
حيث أراد، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه.
قال السكاكي: ويسمى هذا النوع الخطاب المنصف، أي لأنه يوجب أن
313

أن ينصف المخاطب إذا رجع إلى نفسه استدراجا لاستدراجه الخصم إلى الاذعان والتسليم،
وهو شبيه بالجدل، لأنه تصرف في المغالطات الخطابية.
ومنه قوله تعالى: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) (1)، المقصود التعريض
بذم من ليست له هذه الخشية، وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع، ولا
قلب يعقل، وأن الإنذار له كلا إنذار، وأنه قد أنذر من له هذه الصفة، وليست له.
وقوله: (إنما يتذكر أولو الألباب) القصد التعريض، وأنهم لغلبه هواهم في
حكم من ليس له عقل.
وقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم)، نزلت في أبي جهل لأنه قال:
(ما بين أخشبيها - أي جبليها، يعني مكة - أعز مني ولا أكرم)، وقيل: بل خوطب
بذلك استهزاء.
[التوجيه]
وأما التوجيه، وهو ما احتمل معنيين ويؤتى به عند فطنة المخاطب، كقوله تعالى
حكاية عن أخت موسى عليه السلام: (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
وهم له ناصحون) (4)، فإن الضمير في (له) يحتمل أن يكون لموسى، وأن يكون
لفرعون.
قال ابن جريج: وبهذا تخلصت أخت موسى من قولهم: (إنك عرفته)، فقالت:
أردت: (ناصحون للملك)، واعترض عليه بأن هذا في لغة العرب لا في كلامها المحكي
314

وهذا مردود، فإن الحكاية مطابقة لما قالته، وإن كانت بلغة أخرى.
ونظيره جواب ابن الجوزي لمن قال له: من كان أفضل عند النبي صلى الله عليه وسلم؟
أبو بكر أم علي؟ فقال: من كانت ابنته تحته (1).
وجعل السكاكي من هذا القسم مشكلات القرآن.
315

النوع الخامس والأربعون
في أقسام معنى الكلام
زعم قوم أن معاني القرآن لا تنحصر، ولم (1) يتعرضوا لحصرها، وحكاية ابن السيد
عن أكثر البصريين في زمانه.
وقيل: قسمان (2): خبر، وغير خبر.
وقيل: عشرة: نداء، ومسالة، وأمر، وتشفع، وتعجب، وقسم، وشرط، ووضع،
وشك، واستفهام.
وقيل: تسعة، وأسقطوا الاستفهام لدخوله في المسألة
وقيل: ثمانية، وأسقطوا التشفع لدخوله في المسألة.
وقيل: سبعة، وأسقطوا الشك لأنه في قسم الخبر.
وكان أبو الحسن الأخفش يرى أنها ستة أيضا، وهي عنده: الخبر، والاستخبار،
والأمر، والنهي، والنداء، والتمني.
وقيل: خمسة: الخبر، والأمر والتصريح، والطلب، والنداء، وقيل غير ذلك.
316

[الخبر]
الأول الخبر (1) والقصد به إفادة المخاطب وقد يشرب مع ذلك معاني أخر:
منها التعجب، قال ابن (2) فارس: وهو تفضيل الشئ على أضرابه [بوصف] (3).
وقال ابن الضائع: استعظام صفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره، نحو: ما أحسن
زيدا! وأحسن به! استعظمت حسنه على حسن غيره.
وقال الزمخشري في تفسير سورة الصف (4): معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب
السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شئ خارج عن نظائره وأشكاله.
وقال الرماني: المطلوب في التعجب الإبهام، لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما
لا يعرف سببه، وكلما (5) استبهم السبب كان التعجب أحسن، قال: وأصل التعجب إنما
هو للمعنى الخفي سببه، والصيغة الدالة عليه تسمى تعجبا، يعني مجازا. قال: ومن
أجل الإبهام لم تعمل (نعم) إلا في الجنس من أجل التفخيم، ليقع التفسير على نحو التفخيم
بالإضمار قبل الذكر.
ثم قد وضعوا للتعجب صيغا من لفظه، وهي: (ما افعله) و (أفعل به)، وصيغا من
317

غير لفظه نحو (كبر) [في] نحو: (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) (1)، كبر مقتا ")
عند الله)، (كيف تكفرون بالله).
واحتج الثمانيني (4) على أنه خبر بقوله تعالى: (أسمع بهم وأبصر)، تقديره:
ما أسمعهم وأبصرهم! والله سبحانه لم يتعجب بهم، ولكن دل المكلفين على أن هؤلاء
قد نزلوا منزلة من يتعجب منه.
وهنا مسألتان:
الأولى: قيل لا يتعجب من فعل الله، فلا يقال: (ما أعظم الله!)، لأنه يئول:
(إلى شئ عظم الله) كما في غيره من صيغ التعجب، وصفات الله تعالى قديمة. وقيل:
بجوازه باعتبار أنه يحب تعظيم الله بشئ من صفاته، فهو يرجع لاعتقاد العباد عظمته وقدرته،
وقد قال الشاعر:
ما أقدر الله أن يدني على شحط * من داره الحزن ممن داره صول
والأولون قالوا: هذا أعرابي جاهل بصفات الله. وقال بعض المحققين: التعجب إنما
يقال لتعظيم الأمر المتعجب منه، ولا يخطر بالبال أن شيئا صيره كذلك وخفي علينا،
فلا يمتنع حينئذ التعجب من فعل الله.
والثانية: هل يجوز إطلاق التعجب في حق الله تعالى؟ فقيل بالمنع، لأن التعجب
استعظام ويصحبه الجهل والله سبحانه منزه عن ذلك، وبه جزم ابن عصفور (6) في
" المقرب ".
318

قال: فإن ورد ما ظاهره ذلك صرف إلى المخاطب، كقوله: (فما أصبرهم على
النار) (1)، أي (2) هؤلاء يجب أن يتعجب منهم (2).
وقيل: بالجواز، لقوله: (فما أصبرهم على النار)، إن قلنا: (ما) تعجبية ثم
لا استفهامية، وقوله: (بل عجبت) في قراءة بعضهم بالضم.
والمختار الأول، وما وقع منه أول بالنظر إلى المخاطب، أي علمت أسباب ما يتعجب منه
العباد، فسمي العلم بالعجب عجبا.
وأصل الخلاف في هذه المسألة يلتف على خلاف آخر، وهو أن حقيقة التعجب،
هل يشترط فيه خفاء سببه فيتحيز رسول فيه المتعجب منه، أولا؟
ولم يقع في القرآن صيغة التعجب إلا قوله: (فما أصبرهم على النار)، وقوله:
(قتل الانسان ما أكفره) (4)، (يا أيها والانسان ما أغرك) (5)، ولا في قراءة
من زاد الهمزة.
ثم قال المحققون: التعجب مصروف إلى المخاطب، ولهذا تلطف الزمخشري فيعبر عنه
بالتعجب، ومجئ التعجب من الله كمجئ الدعاء منه والترجي، وإنما هذا بالنظر إلى
ما تفهمه العرب، أي هؤلاء عندكم ممن يجب أن تقولوا لهم هذه. وكذلك تفسير سيبويه
319

قوله تعالى: (لعله يتذكر أو يخشى) قال: المعنى: اذهبا على رجائكما وطمعكما (2)
قال ابن الضائع (3): وهو حسن جدا.
قلت: وذكر سيبويه أيضا قوله تعالى: (ويل يومئذ للمكذبين) (4)، (ويل
للمطففين) (5)، فقال: لا [ينبغي] (6) أن تقول [إنه] (6) دعاء ها هنا، لأن الكلام
بذلك (7) [واللفظ به] (6) قبيح، ولكن العباد إنما كلموا (8) بكلامهم، وجاء القرآن
على لغتهم وعلى ما يعنون، فكأنه - والله أعلم - قيل لهم: (ويل للمطففين)،
و (ويل ويومئذ للمكذبين)، أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم، لأن هذا
الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة، فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة، ووجب
لهم هذا. (9). انتهى.
منها الأمر، كقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن) (10)، (والوالدات
يرضعن)، فإن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك، لا أنه خبر، وإلا لزم الخلف
في الخبر، وسبق في المجاز.
320

ومنها النهي، كقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) (1).
منها الوعد، كقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق) (2).
منها الوعيد، كقوله تعالى: (و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).
منها الانكار والتبكيت، نحو: (ذق إنك أنت العزيز الكريم).
ومنها الدعاء، كقوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) (5)، أي أعنا
على عبادتك.
وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء، كقوله: (إنا كاشفوا العذاب قليلا " إنكم
عائدون)، فظاهره خبر، والمعنى (7): إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا.
ومنه قوله: (الطلاق مرتان)، المعنى: من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما
بمعروف، أو يسرحها بإحسان.
ومنها التمني، وكلمته الموضوعة له (ليت)، وقد تستعمل ثلاثة أحرف:
أحدها: (هل)، كقوله: (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا)، حملت
(هل) على إفادة التمني لعدم التصديق بوجود شفيع في ذلك المقام، فيتولد (10) التمني.
بمعونة قرينة الحال.
321

والثاني: (لو) سواء كانت مع (ود) كقوله تعالى: (ودوا لو تدهن فيدهنوا) (1)
بالنصب، أو لم تكن، كقوله تعالى: (لو أن بكم لي قوة)، وقوله: (لو أن لنا
كرة فنتبرأ منهم)، (لو أن لي كرة فأكون).
والثالث: (لعل)، كقوله تعالى: (لعل أبلغ الأسباب أسباب السماوات
فاطلع)، في قراءة النصب.
واختلف: هل التمني خبر ومعناه النفي، أو ليس بخبر ولهذا لا يدخله التصديق
والتكذيب؟ قولان عن أهل العربية، حكاهما ابن فارس في كتاب " فقه العربية " (6).
والزمخشري بنى كلامه على أنه ليس بخبر، واستشكل دخول التكذيب في جوابه،
وفي قوله تعالى: (ليتنا نرد ولا نكذب) (7)، إلى قوله: (و إنهم لكاذبون)،
وأجاب بتضمنه معنى العدة فدخله التكذيب (9).
322

وقال ابن الضائع: التمني حقيقة لا يصح فيه الكذب، وإنما يرد الكذب في التمني
الذي يترجح عند صاحبه وقوعه، فهو إذن وارد على ذلك الاعتقاد، الذي هو ظن، وهو
خبر صحيح.
قال: وليس المعنى في قوله: (وإنهم لكاذبون) أن ما تمنوا ليس بواقع، لأنه ورد
في معرض الذم لهم، وليس في ذلك المعنى ذم، بل التكذيب ورد على إخبارهم عن أنفسهم
أنهم لا يكذبون، وأنهم يؤمنون.
ومنها الترجي، والفرق بينه وبين التمني أن الترجي لا يكون إلا في الممكنات، والتمني
يدخل المستحيلات.
ومنها النداء، وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بحرف مخصوص، وإنما يصحب في
الأكثر الأمر والنهي، كقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) (1). (يا أيها النبي
اتق الله). (يا عباد فاتقون) (3). (و يا قوم استغفروا ربكم). (يا أيها
الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا
اليوم) (6).
وربما تقدمت جملة الامر جملة النداء، كقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعا " أيها
المؤمنون).
323

وإذا جاءت جملة الخبر بعد النداء (1) تتبعها جملة الأمر، كما في قوله تعالى: (يا أيها
الناس ضرب مثل فاستمعوا له).
وقد تجئ معه الجمل الاستفهامية والخبرية، كقوله تعالى في الخبر: (يا عباد لا خوف
عليكم)، وفي الاستفهام: (يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر) (4). (و يا قوم
مالي أدعوكم إلى النجاة). (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون). (6).
(يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك).
هانا فائدتان:
إحداهما: قال الزمخشري رحمه الله: كل نداء في كتاب الله يعقبه فهم في الدين، إما
من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين، وإما مواعظ وزواجر وقصص
لهذا المعنى، كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله، وقامت السماوات والأرض
به، فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة.
الثانية: النداء إنما يكون للبعيد حقيقة أو حكما، وفي قوله تعالى: (و ناديناه من جانب
الطور الأيمن وقربناه نجيا) لطيفة، فإنه تعالى بين أنه كما ناداه ناجاه أيضا،
والنداء مخاطبة الأبعد، والمناجاة كان مخاطبة الأقرب، ولأجل هذه اللطيفة أخبر سبحانه عن
مخاطبة لآدم وحواء بقوله: (و قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة)، و في
324

موضع: (و يا آدم أسكن) (1)، ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة، قال في وصف
خطابه لهما: (و ناداهما ربهما) (2)، فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة، كما أشعر اللفظ
الأول بالقرب عند السلامة منها.
وقد يستعمل النداء في غير معناه مجازا في مواضع:
الأول: الاغراء والتحذير، وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ناقة الله وسقياها)،
والإغراء أمر معناه الترغيب والتحريض، ولهذا خصوا به المخاطب.
الثاني: الاختصاص، وهو كالنداء إلا أنه لا حرف فيه.
الثالث: التنبيه، نحو: (يا ليتني مت قبل هذا) (4)، لأن حرف النداء
يختص بالأسماء.
وقال النحاس في قوله تعالى: (يا ويلتي) (5) نداء مضاف، والفائدة فيه أن معناه:
هذا وقت حضور الويل. وقال الفارسي في قوله تعالى: (يا حسرة على العباد)، (6)،
معناه أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداه لكان هذا وقتها.
وقد اختلف في أن النداء خبر أم لا، قال أبو البقاء (7) في شرح " الايضاح ":
ذهب الجميع إلى أن قولك: (يا زيد) ليس بخبر محتمل للتصديق والتكذيب، إنما هو
بمنزلة الإشارة والتصويت.
واختلفوا في قولك (8): (يا فاسق)، فالأكثرون على أنه ليس بخبر أيضا، قال أبو علي
325

الفارسي: خبر، لأنه تضمن نسبته للفسق.
ومنها الدعاء، نحو: (تبت يدا أبي لهب) (1)، وقوله: (قاتلهم الله)، (2)
(حصرت صدورهم)، (و يل للمطففين).
قال سيبويه: هذا دعاء، وأنكره ابن الطراوة (6) لاستحالته هنا، وجوابه أنه
مصروف للخلق وإعلامهم بأنهم أهل لان يدعى عليهم، كما في الرجاء وغيره مما سبق.
فائد
ذكر (7) الزمخشري أن الاستعطاف، نحو (تالله هل قام زيد) قسم، والصحيح أنه
ليس، بقسم، لكونه خبرا.
[الاستخبار، وهو الاستفهام]
الثاني الاستخبار، وهو طلب خبر ما ليس عندك، وهو بمعنى الاستفهام، أي طلب
الفهم، ومنهم من فرق بينهما بأن الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم، فإذا
سألت عنه ثانيا كان استفهاما، حكاه ابن فارس في " فقه العربية " (8).
ولكون الاستفهام طلب ما في الخارج أو تحصيله في الذهن لزم ألا يكون حقيقة
326

إلا إذا صدر من شاك مصدق بإمكان الاعلام، فإن غير الشاك إذا استفهم يلزم تحصيل
الحاصل، وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت فائدة الاستفهام.
وفي الاستفهام فوائد:
الأولى: قال بعض الأئمة: ما جاء على لفظ الاستفهام في القرآن فإنما يقع في خطاب الله
تعالى على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل، فيستفهم عنه نفسه تخبره
به، إذ قد وضعه الله عندها، فالاثبات كقوله تعالى: (ومن أصدق من الله حديثا ")
والنفي كقوله تعالى: (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا " مذكورا ")
(فهل أنتم مسلمون) (3)، ومعنى ذلك أنه قد حصل لكم العلم بذلك تجدونه عندكم إذا
استفهمتم أنفسكم عنه، فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شئ، وإنما يستفهمهم
ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشئ، فهذا أسلوب بديع انفرد به خطاب
القرآن، وهو في كلام البشر مختلف.
الثانية: الاستفهام إذا بني عليه أمر قبل ذكر الجواب فهم ترتب ذلك الأمر على
جوابه، أي جواب كان لأن سبقه على الجواب يشعر بأن ذلك حال من يذكر في الجواب،
لئلا يكون إيراده قبله عبثا، فيفيد حينئذ تعميما، نحو (من جاءك فأكرمه) بالنصب،
فإنه لما قال قبل ذكر جواب الاستفهام (أكرمه) علم أنه يكرم من يقول المجيب: إنه جاء،
أي جاء كان، وكذا حكم (من ذا جاءك أكرمه)، بالجزم.
327

الثالثة: قد يخرج الاستفهام عن حقيقته، بأن يقع ممن يعلم ويستغني عن طلب الإفهام.
[أقسام الاستفهام]
وهو قسمان: بمعنى الخبر، وبمعنى الانشاء:
[الاستفهام بمعنى الخبر]
الأول: بمعنى الخبر، وهو ضربان: أحدهما نفي و إثبات، فالوارد للنفي يسمى استفهام
إنكار، والوارد للأثبات يسمى استفهام تقرير، لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب،
وبالثاني اقراره به.
[استفهام الانكار]
فالأول: المعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفي. ولذلك تصحبه ما (إلا)، كقوله تعالى:
(فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) (1).
وقوله تعالى: (وهل نجازي إلا الكفور) (2).
ويعطف عليه المنفي، كقوله تعالى: (فمن يهدي من أضل الله وما لهم من
ناصرين)، أي لا يهدي، وهو كثير.
ومنه (أفأنت تنقذ من في النار) (4)، أي لست تنقذ من في النار.
(أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (5).
328

(أفغير الله ابتغي حكما ").
وكقوله تعالى: (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) (2).
(قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون)، أي لا نؤمن.
وقوله: (أم له البنات ولكم البنون) (4)، أي لا يكون هذا.
وقوله تعالى: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) (5)، أي ما أنزل.
وقوله تعالى: (أشهدوا خلقهم) (6)، أي ما شهدوا ذلك.
وقوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) (7)، أي ليس ذلك إليك،
كما قال تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء).
وقوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الأول) (9)، أي لم يع به.
هنا أمران:
أحدهما: أن الانكار قد يجئ لتعريف المخاطب أن ذلك المدعي ممتنع عليه، وليس
من قدرته، كقوله تعالى: (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي)، لأن أسماع
الصم لا يدعيه أحد، بل المعنى ان إسماعهم لا يمكن، لأنهم بمنزلة الصم والعمي، وإنما قدم
الاسم في الآية، ولم يقل: (أتسمع الصم)؟ إشارة إلى إنكار موجه عن تقدير ظن منه
عليه السلام أنه يختص باسماع من به صمم، وأنه ادعى القدرة على ذلك، وهذا أبلغ من
إنكار الفعل.
329

وفيه دخول الاستفهام على المضارع، فإذا قلت: أتفعل؟ أو أأنت تفعل؟ احتمل وجهين:
أحدهما: إنكار وجود الفعل، كقوله تعالى: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) (1)،
والمعنى لسنا بمثابة من يقع منه هذا الالزام، وإن عبرنا بفعل ذلك، جل الله تعالى
عن ذلك، بل المعنى إنكار أصل الالزام.
والثاني: قولك لمن يركب الخطر: أتذهب في غير طريق؟ انظر لنفسك واستبصر. فإذا
قدمت المفعول توجه الانكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل، كقوله: (قل
أغير الله أتخذ وليا) (2)، وقوله: (أغير الله تدعون) (3)، المعنى: أغير الله بمثابة من
يتخذ وليا!
منه: (أبشرا " منا واحدا " نتبعه)، لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة
من يتبع صيغة المستقبل، إما أن يكون للحال، نحو: (أفأنت تكره الناس حتى
يكونوا) (5). أو للاستقبال، نحو: (أهم يقسمون رحمة ربك) (6).
الثاني: قد يصحب الانكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد
تكذيبه، كقوله تعالى: (أصطفى البنات على البنين) (7). (ألكم عن الذكر وله
الأنثى). (أ إله مع الله) (9).
330

وسواء كان زعمهم له صريحا، مثل: (أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون) (1)،
أو التزاما، مثل: (أشهدوا خلقهم) (2)، فإنهم لما جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق
الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم.
تسمية هذا استفهام إنكار، من أنكر إذا جحد، وهو إما بمعنى (لم يكن)
كقوله تعالى: (أفأصفاكم)، أو بمعنى (لا يكون) نحو: (أنلزمكموها) (3).
والحاصل أن الانكار قسمان: إبطالي وحقيقي.
فإلا أن يكون ما بعدها غير واقع، ومدعيه كاذب كما ذكرنا، والحقيقي يكون
ما بعدها واقع وأن فاعله ملوم، نحو: (أتعبدون ما تنحتون) (4). (أغير الله
تدعون) (5). (إفكا آلهة) (6). (أتأتون الذكران). (أتأخذونه
بهتانا ") (8).
[استفهام التقرير]
وأما الثاني، فهو استفهام التقرير، والتقرير حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف
بأمر قد استقر عنده، قال أبو الفتح في " الخاطريات " (9): ولا يستعمل ذلك بهل، وقال
في قوله:
331

* جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط * (1)
و (هل) لا تقع تقريرا كما يقع غيرها مما هو للاستفهام. انتهى.
وقال الكندي: (2) ذهب كثير من العلماء في قوله تعالى: (هل يسمعونكم)
إلى أن (هل) تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ، إلا أني رأيت أبا علي أبي ذلك،
وهو معذور، فإن ذلك من قبيل الانكار. انتهى.
ونقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بهل، إنما تستعمل
فيه الهمزة. ثم نقل عن بعضهم أن (هل) تأتي تقريرا، كما في قوله تعالى: (هل
في ذلك قسم لذي حجر).
والكلام مع التقرير موجب، ولذلك يعطف عليه صريح الموجب، ويعطف على
صريح الموجب.
فالأول كقوله: (ألم يجدك يتيما " فآوى. ووجدك ضالا فهدى)، وقوله:
(ألم نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك) (6). (ألم يجعل كيدهم في
تضليل).
332

الثاني: كقوله: (أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما ") (1)، على ما قرره
الجرجاني في النظم، حيث جعلها مثل قوله: (وجحدوا بها واستقينتها
أنفسهم) (2).
ويجب أن يلي الأداة الشئ الذي تقرر بها، فتقول في تقرير الفعل: (أضربت
زيدا؟)، والفاعل نحو: (أأنت ضربت؟)، أو المفعول (أزيدا ضربت)، كما يجب
في الاستفهام الحقيقي.
وقوله تعالى: (أأنت فعلت هذا بآلهتنا)، يحتمل الاستفهام الحقيقي، بأن
يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل، والتقرير بأن يكونوا علموا، ولا يكون استفهاما عن الفعل،
ولا تقريرا له، لأنه لم يله، ولأنه أجاب بالفاعل بقوله: (بل فعله كبيرهم) (4).
وجعل الزمخشري منه: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) (5).
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي لا التقرير بالنفي، والأولى أن يجعل على الانكار،
أي، ألم تعلم أيها المنكر للنسخ (6)!
وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار، والإنكار نفي، وقد دخل على المنفي
ونفي المنفي إثبات. والذي يقرر عندك أن معنى التقرير الإثبات قول ابن السراج: فإذا
أدخلت على (ليس) ألف الاستفهام كانت تقريرا ودخلها معنى الإيجاب فلم يحسن معها (أحد)،
لأن (أحدا) إنما يجوز مع حقيقة النفي، لا تقول: أليس أحد في الدار، لأن المعنى يؤول إلى
333

قولك: أحد في الدار، وأحد لا تستعمل في الواجب. انتهى.
وأمثلته كثيرة، كقوله تعالى: (ألست بربكم)، أي أنا ربكم.
وقوله (أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى (2).
(أوليس الذي خلق السماوات والأرض).
(أليس الله بكاف عبده).
(أليس الله بعزيز ذي انتقام) (4).
(أليس في جهنم مثوى للكافرين).
(أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) (6)، ومنه قوله صلى الله
عليه وسلم: (أينقص الرطب إذا جف)، وقوله جرير:
* ألستم خير من ركب المطايا (7) *
واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا، لأنه لو خرج الكلام عن النفي
لجاز أن يجاب بنعم، وقد قيل: إنهم لو قالوا: (نعم) كفروا، ولما حسن دخول الباء في
الخبر، ولو لم تفد لفظة الهمزة استفهاما " لما استحق الجواب، إذ لا سؤال حينئذ.
والجواب يتوقف على مقدمه، وهي أن الاستفهام إذا دخل على النفي، يدخل بأحد
وجهين:
334

أما أن يكون الاستفهام عن النفي: هل وجد أم لا؟ فيبقى النفي على ما كان عليه،
أو للتقرير كقوله: ألم أحسن إليك! وقوله تعالى: (ألم نشرح لك صدرك)، (1) (ألم
يجدك يتيما ").
فإن كان بالمعنى الأول لم يجز دخول (نعم) في جوابه إذا أردت ايجابه، بل تدخل
عليه (بلى). وإن كان بالمعنى الثاني - وهو التقرير - فللكلام يا حينئذ لفظ و معنى، فلفظه
نفي داخل عليه الاستفهام، ومعناه الإثبات، فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى، وبالنظر إلى معناه،
وهو كونه اثباتا " تجيبه بنعم.
وقد أنكر عبد القاهر كون (3) الهمزة للإيجاب، لأن الاستفهام يخالف الواجب،
وقال: إنها إذا دخلت على (ما) أو (ليس) يكون تقريرا " وتحقيقا "، فالتقرير كقوله تعالى:
(أ أنت قلت للناس) (4)، (أأنت فعلت هذا) (5).
واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه:
الأول: مجرد الاثبات، كما ذكرنا.
الثاني: الأثبات مع الافتخار، كقوله تعالى عن فرعون: (أليس لي ملك
مصر) (6).
335

الثالث: الإثبات مع التوبيخ، كقوله تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة)
أي هي واسعة، فهلا هاجرتم فيها!
الرابع: مع العتاب، كقوله تعالى: (ألم يإن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم
لذكر الله)، قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية (3)
إلا أربع سنين. وما ألطف ما عاتب الله به خير خلقه بقوله تعالى: (عفا الله عنك
لم أذنت لهم)، ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله تعالى في هذه الآية.
الخامس: التبكيت، كقوله تعالى: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين) (5)
هو تبكيت للنصارى فيما ادعوه، كذا جعل السكاكي وغيره هذه الآية من نوع
التقرير (6). وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه.
السادس: التسوية (7)، وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها، كقوله تعالى:
(وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، أي سواء عليهم الأنذار وعدمه، مجردة
للتسوية، مضمحلا عنها معنى الاستفهام.
ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم، لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن،
336

إما الإنذار وإما عدمه، ولكن لا يعينه، وكلاهما معلوم بعلم غير معين.
فان قيل: الاستواء يعلم من لفظه (سواء)، لا من الهمزة، مع أنه لو علم منه
لزم التكرار.
قيل: هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظه (سواء).
وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرد عن الاستفهام، وبقي الحديث عن
المستويين. ولا يكون ضرر في إدخال (سواء) عليه لتغايرهما، لأن المعنى أن المستويين في
العلم يستويان في عدم الإيمان. وهذا - أعني حذف مقدر واستعماله فيما بقي - كثير في
كلام العرب، كما في النداء، فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله، فيحذف قيد الطلب،
ويستعمل في مطلق الاختصاص، نحو (اللهم اغفر لنا أيتها العصابة)، فإنه ينسلخ عن معنى
الكلمة، لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب.
ومنه قوله تعالى: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا) (1).
وقوله تعالى: (سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) (2).
(أوعضت أم لم تكن من الواعظين) (3).
وتارة تكون التسوية مصرحا بها كما ذكرناه، وتارة لا تكون، كقوله تعالى:
(وإن أدرى أقريب أم بعيد).
السابع: التعظيم، كقوله تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه).
337

الثامن: التهويل، نحو: (الحاقة ما الحاقة) (1).
وقوله تعالى: (وما أدراك ما هيه) (2).
وقوله: (ماذا يستعجل منه المجرمون) (3)، تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه.
التاسع: التسهيل والتخفيف، كقوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله).
العاشر: التفجع، نحو: (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها ").
الحادي عشر: التكثير، نحو: (وكم من قرية أهلكناها).
الثاني عشر: الاسترشاد، نحو: (أتجعل فيها من يفسد فيها)، والظاهر
أنهم استفهموا مسترشدين، وإنما فرق بين العبارتين أدبا. وقيل: هي هنا للتعجب.
[الاستفهام بمعنى الانشاء]
القسم الثاني: الاستفهام المراد به الانشاء، وهو على ضروب:
338

الأول: مجرد الطلب، وهو الأمر، كقوله تعالى: (أفلا تذكرون) (1)، أي اذكروا.
وقوله: (وقل للذين أوتوا الكتاب والنبيين أأسلمتم) أي أسلموا.
وقوله: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (3) أي أحبوا.
وقوله: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله) (4)، أي قاتلوا.
وقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن).
وقوله: (فهل أنتم منتهون) أو انتهوا، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (انتهينا).
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) (7).
وقوله تعالى: (أتصبرون) (8)، وقال ابن عطية والزمخشري: المعنى أتصبرون أم لا تصبرون؟
والجرجاني في (النظم) على حذف مضاف، أي لنعلم أتصبرون.
الثاني: النهي، كقوله تعالى: (ما غرك بربك الكريم)، أي لا يغرك.
وقوله في سورة التوبة: (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه) (10)، بدليل قوله:
(فلا تخشوا الناس).
الثالث: التحذير كقوله: (ألم نهلك الأولين)، أي قدرنا عليهم فنقدر عليكم.
339

الرابع: التذكير، كقوله تعالى: (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) (1).
وجعل بعضهم منه: (ألم يجدك يتيما فآوى) (2). (ألم نشرح لك
صدرك) (3).
الخامس: التنبيه، وهو من أقسام الأمر، كقوله تعالى: (ألم تر إلى الذي حاج
إبراهيم في ربه) (4).
(ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) (5).
(ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) (6).
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) (7)، المعنى في كل ذلك: انظر
بفكرك في هذه الأمور وتنبه.
وقوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) (8)،
حكاه صاحب " الكافي " (9) عن الخليل، ولذلك رفع الفعل ولم ينصبه.
وجعل منه بعضهم (فأين تذهبون) (10)، للتنبيه على الضلال.
وقوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) (11).
340

السادس: الترغيب، كقوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا " حسنا ") (1).
(هل أدلكم على تجارة تنجيكم).
السابع: التمني، كقوله: (فهل لنا من شفعاء) (3).
(أنى يحيى هذه الله بعد موتها) (4)، قال العزيزي (5) في تفسيره: أي كيف،
وما أعجب معاينة الإحياء!
الثامن: الدعاء، وهو كالنهي، إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى، كقوله تعالى:
(أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) (6).
وقوله: (أتجعل فيها من يفسد فيها) (7)، وهم لم يستفهموا، لأن الله قال: (إني
جاعل في الأرض خليفة) (7).
وقيل: المعنى إنك ستجعل، وشبهة أبو عبيدة (8) بقوله الرجل لغلامه وهو يضربه:
الست الفاعل كذا!
وقيل: بل هو تعجب، وضعف.
وقال النحاس: الأولى ما قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، ولا مخالف لهما:
341

أن الله تعالى لما قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) (1) قالوا: وما ذاك الخليفة! يكون له
ذرية يفسدون، ويقتل بعضهم بعضا!
وقيل: المعنى: أتجعلهم فيها أم تجعلنا، وقيل: المعنى: تجعلهم وحالنا هذه أم يتغير.
التاسع والعاشر: العرض والتحضيض، والفرق بينهما: الأول طلب برفق، والثاني بشق،
فالأول كقوله تعالى: (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) (2)، (ألا تقاتلون قوما نكثوا
أيمانهم) (3).
ومن الثاني: (أن أئت القوم الظالمين. قوم فرعون ألا يتقون) (4)، المعنى
ائتهم وأمرهم بالاتقاء.
الحادي عشر: الاستبطاء، كقوله: (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) (5)،
بدليل: (ويستعجلونك بالعذاب).
منه ما قال صاحب الإيضاح (7) البياني: (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
متى نصر الله) (8).
وقال الجرجاني: في الآية تقديم وتأخير، أي (حتى يقول الرسول: ألا إن
342

نصر الله قريب، والذين آمنوا: متى نصر الله؟) وهو حسن.
الثاني عشر: الإياس، (فأين تذهبون) (1).
الثالث عشر: الإيناس، نحو: (وما تلك بيمينك يا موسى) (2).
وقال ابن فارس: [المراد به] (3) الإفهام، فإن الله تعالى قد علم أن لها أمرا قد خفي على
موسى عليه السلام فأعلم من حالها ما لم يعلم (4).
وقيل: هو للتقرير، فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية.
الرابع عشر: التهكم والاستهزاء، (أصلاتك تأمرك) (5).
(ألا تأكلون. مالكم لا تنطقون) (6).
الخامس عشر: التحقير، كقوله تعالى: (وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا " أهذا
الذي بعث الله رسولا ") (7)، ومنه ما حكى صاحب الكتاب: من أنت زيدا، على معنى
من أنت تذكر زيدا!
343

السادس عشر: التعجب، نحو: (مالي لا أرى الهدهد).
(كيف تكفرون بالله) (2).
ومنهم من جعله للتنبيه.
السابع عشر: الاستبعاد، كقوله: (أني لهم الذكرى وقد جاءهم رسول
مبين) (3)، أي يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا.
الثامن عشر: التوبيخ، كقوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون) (4).
(لم تقولون ما لا تفعلون) (5).
(أفتتخذونه وذريته أولياء) (6)، ولا تدخل همزة التوبيخ إلا على فعل قبيح
أو ما يترتب عليه فعل قبيح.
الفائدة الرابعة: قد يجتمع الاستفهام الواحد للإنكار والتقرير، كقوله: (فأي
الفريقين أحق بالأمن) (7)، أي ليس الكفار آمنين، والذين آمنوا أحق بالآمن،
ولما كان أكثر مواقع التقرير دون الانكار، فقال: (الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم...)، الآية.
344

وقد يحتملهما، كقوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا ").
ويحتمل أنه استفهام تقرير، وأنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم تقرير ذلك، ولهذا
قال مجاهد: التقدير (لا) فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا إن يقولوا
(لا) جعلوا كأنهم قالوا، وهو قول الفارسي والزمخشري.
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار، بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم
فيكون (ميتة)، والمراد محبتهم له غيبته على سبيل المجاز، و (فكرهتموه)) بمعنى الأمر،
أي اكرهوه.
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب، أنهم لما كانت حالهم حال من يدعي
محبة أكل لحم أخيه نسب ذلك إليهم، وكذبوا فيه، فيكون (فكرهتموه).
الخامسة: إذا خرج الاستفهام عن حقيقته، فإن أريد التقرير ونحوه لم يحتج إلى معادل،
كما في قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) (2)، فان معناه التقرير.
وقال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المحض، والمعادل على قول جماعة: (أم يريدون).
وقيل (أم) منقطعة فالمعادل عندهم محذوف، أي (أم علمتم)، وهذا كله على أن
القصد مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة أمته، وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل
محذوف لا غير، وكلا القولين مروي. انتهى.
وما قاله غير ظاهر، والاستفهام هنا للتقرير فيستغنى عن المعادل، أما إذا كان على حقيقته،
فلا بد من تقدير المعادل، كقوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم
القيامة) (3)، أي، كمن ينعم في الجنة؟
345

وقوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا ") (1)، أي كمن هداه الله،
بدليل قوله تعالى: (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) (1)، التقدير: ذهبت
نفسك عليهم حسرات، بدليل (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) (2).
وقد جاء في التنزيل موضع صرح فيه بهذا الخبر، وحذف المبتدأ، على العكس مما نحن
فيه، وهو قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما " فقطع أمعاءهم)،
أي أكمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار، كمن هو خالد في النار؟ على أحد الأوجه.
وجاء مصرحا بهما على الأصل في قوله تعالى: (أو من كان ميتا " فأحييناه وجعلنا
له نورا " يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات) (4)
(أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله).
السادسة: استفهام الانكار لا يكون إلا على ماض، وخالف في ذلك صاحب (6)
" الأقصى القريب " وقال: قد يكون عن مستقبل، كقوله تعالى: (أفحكم الجاهلية
يبغون)، وقوله تعالى: (أليس الله بعزيز ذي انتقام) (8)، قال: أنكر أن
حكم الجاهلية مما يبغي لحقارته، وأنكر عليهم سلب العزة عن الله تعالى، وهو منكر في
الماضي والحال والاستقبال.
وهذا الذي قاله مخالف لإجماع البيانيين، ولا دليل فيما ذكره، بل الاستفهام في الآيتين
عن ماض ودخله الاستقبال، تغليبا لعدم اختصاص المنكر بزمان. ولا يشهد له قوله
346

تعالى: (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) (1)، لأن الاستبدال - وهو طلب
البدل - وقع ماضيا، ولا: (أتقتلون رجلا " أن يقول ربي الله) (2) وإن كانت (أن)
تخلص المضارع للاستقبال، لأنه كلام ملموح به جانب المعنى. وقد ذكر ابن جني في
" التنبيه " (3) أن الإعراب قد يرد خلاف ما عليه المعنى.
السابعة: هذه الأنواع من خروج الاستفهام عن حقيقته في النفي، هل تقول: إن
معنى الاستفهام فيه موجود، وانضم إليه معنى أخر؟ أو تجرد عن الاستفهام بالكلية؟
لا ينبغي أن يطلق أحد الأمرين، بل منه ما تجرد كما في التسوية، ومنه ما يبقى، ومنه
ما يحتمل ويحتمل، ويعرف ذلك بالتأمل. وكذلك الأنواع المذكورة في الإثبات، وهل
المراد بالتقرير الحكم بثبوته، فيكون خبرا محضا؟ أو أن المراد طلب إقرار المخاطب به مع كون
السائل يعلم فهو استفهام تقرير المخاطب، أي يطلب أن يكون مقررا به؟ وفي كلام النحاة
والبيانيين، كل من القولين، وقد سبق الإشارة إليه.
الثامنة: الحروف الموضوعة للاستفهام ثلاثة: الهمزة، وهل، وأم، وأما غيرها مما
يستفهم به كمن، وما، ومتى، وأين، وأنى، وكيف، وكم، وأيان فأسماء استفهام،
استفهم بها نيابة عن الهمزة. وهي تنقسم إلى ما يختص بطلب التصديق، باعتبار الواقع،
كهل وأم المنقطعة، وما يختص بطلب التصور كأم المتصلة، وما لا يختص كالهمزة.
[أحكام اختصت بها همزة الاستفهام]
ولكون الهمزة أم الباب اختصت بأحكام لفظية، ومعنوية.
347

فمنها كون الهمزة لا يستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه،
بخلاف (هل) فإنه لا ترجح عنده بنفي ولا إثبات. حكاه الشيخ أبو حيان عن بعضهم.
ومنها اختصاصها باستفهام التقرير، وقد سبق عن سيبويه وغيره أن التقرير لا يكون
بهل، والخلاف فيه.
وقال الشيخ أبو حيان: إن طلب بالاستفهام تقرير، أو توبيخ، أو إنكار،
أو تعجب، كان بالهمزة دون (هل)، وإن أريد الجحد كان بهل، ولا يكون بالهمزة.
ومنها أنها تستعمل لإنكار إثبات ما يقع بعدها، كقولك: أتضرب زيدا وهو
أخوك؟ قال تعالى: (أتقولون على الله مالا تعلمون)، ولا تقع (هل) هذا
الموقع. وأما قوله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) فليس منه، لأن هذا
نفي له من أصله، والممنوع من إنكار إثبات ما وقع بعدها. قاله ابن الحاجب.
ومنها أنها يقع الاسم منصوبا بعدها بتقدير ناصب، أو مرفوعا بتقدير رافع يفسره
ما بعده، كقولك: أزيدا ضربت؟ وأزيد قام؟ ولا تقول: (هل زيدا ضربت؟)
ولا (هل زيد قائم؟) إلا على ضعف.
وإن شئت فقل: ليس في أدوات الاستفهام ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل يليه
الاسم في فصيح الكلام إلا الهمزة، فتقول: أزيد قام؟ ولا تقول: هل زيد قام؟
إلا في ضرورة، بل الفصيح: هل قام زيد؟
ومنها أنها تقع مع (أم) المتصلة، ولا تقع مع (هل)، وأما المنقطعة فتقع فيهما
348

جميعا. فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو؟ فهذا الموضع لا تقع فيه (هل) ما لم تقصد إلى
المنقطعة. ذكره ابن الحاجب.
ومنها أنها تدخل على الشرط، تقول: أإن أكرمتني أكرمتك. وإن تخرج أخرج
معك؟ أإن تضرب أضرب؟ ولا تقول: هل إن تخرج أخرج معك؟
ومنها جواز حذفها، كقوله تعالى: (وتلك نعمة تمنها على) (1)، وقوله تعالى:
(هذا ربي) (2)، في أحد الأقوال، وقراءة ابن محيصن: (سواء عليهم
أأنذرتهم) (3).
ومنها زعم ابن الطراوة أنها لا تكون أبدا إلا معادلة أو في حكمها، بخلاف غيرها،
فتقول: أقام زيد أم قعد؟ ويجوز ألا يذكر المعادل، لأنه معلوم من ذكر الضد.
ورد عليه الصفار وقال: لا فرق بينها وبين غيرها، فإنك إذا قلت: هل قام زيد؟
فالمعنى هل قام أم لم يقم؟ لأن السائل إنما يطلب اليقين، وذلك مطرد في جميع أدوات
الاستفهام. قال: وأما قوله: إنه عزيز في كلامهم لا يأتون لها بمعادل فخطأ، بل هو أكثر
من أن يحصر، قال تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ") (4). (أفرأيت الذي
تولى) (5). (أفرأيت اللات والعزى) (6). (أفرأيت الذي كفر بآياتنا).
وهو كثير جدا.
349

ومنها تقديمها على الواو وغيرها من حروف العطف، فتقول: (أفلم أكرمك؟)
(أو لم أحسن إليك؟)، قال الله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم)، وقال تعالى:
(أو كلما عاهدوا عهدا ") (1)، وقال تعالى: (أثم إذا ما وقع آمنتهم به)، فتقدم
الهمزة على حروف العطف: الواو، والفاء، وثم. وكان القياس تأخيرها عن العاطف،
فيقال: (فألم أكرمك؟)، (وألم أحسن إليك؟) كما تقدم على سائر أدوات الاستفهام،
نحو قوله تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم
رسوله)، وقوله تعالى: (أم هل تستوي الظلمات والنور) (4)، وقوله تعالى:
(فأين تذهبون)، فلا يجوز أن يؤخر العاطف عن شئ من هذه الأدوات، لأن
أدوات الاستفهام جزء من جملة الاستفهام، والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف،
وإنما خولف هذا في الهمزة، لأنها أصل أدوات الاستفهام، فأرادوا تقديمها تنبيها على أنها
الأصل في الاستفهام، لأن الاستفهام له صدر الكلام.
والزمخشري اضطرب كلامه، فتارة يجعل الهمزة في مثل هذا داخلة على محذوف عطف
عليه الجملة التي بعدها، فيقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها، وتارة يجعلها
متقدمة على العاطف كما ذكرناه، وهو الأولى.
وقد رد عليه في الأول بأن ثم مواضع لا يمكن فيها تقدير فعل قبلها، كقوله تعالى:
(أو من ينشأ في الحلية) (6)، (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق) (7)،
(أفمن هو قائم) (7).
350

وقال ابن خطيب زملكا (1): الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة قبل الفاء تكون
الفاء عاطفة عليه، ففي مثل قوله تعالى: (أفإن مات) لو صرح به لقيل: (أتؤمنون به
مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملك
أنبيائهم بعد موتهم)؟ وهذا مذهب الزمخشري.
فائدة
زعم ابن سيدة (3) في كلامه على إثبات الجمل أن كل فعل يستفهم عنه ولا يكون إلا مستقبلا ".
ورد عليه الأعلم (4)، وقال: هذا باطل، ولم يمنع أحد: (هل قام زيد أمس؟)
و (هل أنت قائم أمس؟)، وقد قال تعالى: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا) فهذا
كله ماض غير آت.
[الشرط]
الثالث: الشرط، ويتعلق به قواعد.
القاعدة الأولى: المجازاة إنما تنعقد بين جملتين:
351

أولاهما فعلية، لتلائم الشرط، مثل قوله تعالى: (يرد الله أن يهديه)، (كنت
جئت بآية) (2)، (استقر مكانه) (3)، (نرينك بعض الذي نعدهم) (4).
(يأتينكم مني هدى ") (5).
وثانيهما قد تكون اسمية، وقد تكون فعلية جازمة، وغير جازمة، أو ظرفية أو شرطية،
كما يقال: (فأولئك يدخلون الجنة) (6). (شرح الله صدرة للإسلام) (7).
(فأت بآية) (8). (فسوف تراني) (9). (إلينا مرجعهم) (10). (فمن
تبع هداي) (11).
فإذا جمع بينهما وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة، نحو قوله: (ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة)، وقوله سبحانه:
(فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للإسلام) (13)، وقوله: (إن كنت جئت
بآية فأت بها) (14)، وقوله: (فإن استقر مكانه فسوف تراني)، وقوله:
(وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم) (16)، وقوله: (فإما
يأتينكم منى هدى " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى)، فالأولى من جملة المجازاة
تسمى شرطا "، والثانية تسمى جزاء.
ويسمى المناطقة الأول مقدما والثاني تاليا.
فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عادة الكلام جملتين كما كان.
352

فإن قيل: فمن أي أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين؟
قلنا: قال صاحب " المستوفى " (1): العبرة في هذا بالتالي، إن كان التالي قبل
الانتظام جازما كان هذه الشرطية جازمة - أعني خبرا محضا - ولذلك جاز أن توصل
بها الموصولات، كما في قوله تعالى: (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة)، وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة، بل إن كان التالي أمرا، فهي
في عداد الأمر، كقوله تعالى: (إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من
الصادقين) (3)، وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء، كقوله تعالى: (فإن استقر
مكانه فسوف تراني) (4)، أي فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب. فإن جعلت
(سوف) بمعنى (أمكن) كان الكلام خبرا صرفا "، فأما الفاء التي تلحق التالي
معقبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته ارتباطا، وذلك إن كان
افتتح بغير الفعل، كقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) (5) وقوله سبحانه: (من
جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (6)، لأن الاسم لا يدل على الزمان فيجازي به.
وكذلك الحرف إن كان مفتتحا بالأمر، كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم
فاسق بنبإ فتبينوا) (7) لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط، فإن كان مفتتحا " بفعل ماض أو
مستقبل ارتبط بذاته، نحو قولك: (إن جئتني أكرمتك)، ونحو قوله تعالى: (إن تنصروا
الله ينصركم) (8)، وكذا قوله: (وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها) (9)، لأن
353

هذه كالجزء من الفعل، وتخطاها العامل، وليست ك‍ (إن) في قوله تعالى: (وإن تدعهم
إلى الهدى فلن يهتدوا إذا " ابدا ") (1).
فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (2)
وقوله: (ومن عاد فينتقم الله منه) (3)؟
قلنا: الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا " على الاسم، كما أن التقدير (فأنتما
قد صغت قلوبكما) و (فهو ينتقم الله منه)، يدلك على هذا أن (صغت) لو جعل نفسه
الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال، وهذا غير مسوغ هنا. ولو جاز
لجاز أن تقول: (أنما إن تتوبا إلى الله صغت - أو فصغت قلوبكما) لكن المعنى: (إن
تتوبا فبعد صغو من قلوبكما) ليتصور فيه معنى الاستقبال، مع بقاء دلالة الفعل على الممكن،
وأن (ينتقم) لو جعل وحده جزاء لم يدل على تكرار الفعل كما هو الآن، والله أعلم بما أراد.
الثانية: أصل الشرط والجزاء أن يتوفق الثاني على الأول، بمعنى أن الشرط إنما
يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه، كقولك: (إن زرتني أحسنت إليك)، فالإحسان
إنما استحق بالزيارة، وقولك: (إن شكرتني زرتك)، فالزيارة إنما استحقت بالشكر،
هذا هو القاعدة.
وقد أورد على هذا آيات كريمات:
منها قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) (4)، وهم عباده، عذبهم أو رحمهم.
354

وقوله: (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (1)، وهو العزيز الحكيم،
غفر لهم أو لم يغفر لهم.
وقوله: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما)، وصغوا القلوب هنا لأمر قد
وقع، فليس بمتوقف على ثبوته.
والجواب أن هذه في الحقيقة ليست أجوبة، وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة،
لكونها أسبابا لها.
فقوله: (فإنهم عبادك) (1)، الجواب في الحقيقة: فتحكم فيمن يحق لك التحكم
فيه، وذكر العبودية التي هي سبب القدرة.
وقوله: (وإن تغفر) (1) فالجواب: فأنت متفضل عليهم، بألا تجازيهم بذنوبهم
فكمالك غير مفتقر إلى شئ، فإنك أنت العزيز الحكيم.
وقال صاحب " المستوفى ": اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا " على
الشرط أبدا، ولا أن يكون الشرط موقوفا " على الجزاء أبدا، بحيث يمكن وجوده، ولا
أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب، بل الواجب فيها أن
يكون الشرط بحيث إذا فرض حاصلا " لزم مع حصوله حصول الجزاء، سواء كان الجزاء قد
يقع، لامن جهة وقوع الشرط، كقول الطبيب: من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن
جسده، لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك، أو لم يكن كذلك، كقولك: إن
كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا ".
وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة، أو مستحيلا، كما في قوله تعالى:
355

(قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (1).
وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصله إليه، كقوله تعالى: (وإن تؤمنوا وتتقوا
يؤتكم أجوركم) أو كان الأمر بالعكس، كقوله: (ما أصابك من حسنه
فمن الله) (3)، أو كان لا هذا ولا ذاك، فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر،
كقوله تعالى: (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا ") (4) إذ لا يجوز أن
تكون الدعوة سببا " للضلال ومفضية إليه، ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة.
وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله تعالى: (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء) (5).
وعلى هذا ما يكون من باب قوله تعالى: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح
مثله) (6) فإن التأويل (إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسهم قبل). والله
أعلم بمراده.
الثالثة: أنه لا يتعلق إلا بمستقبل، فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى، كقولك:
(إن مت على الاسلام دخلت الجنة). ثم للنجاة فيه تقديران:
أحدهما: أن الفعل يغير لفظا لا معنى فكأن الأصل: (إن تمت مسلما تدخل الجنة)،
فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلا " له منزلة المحقق.
والثاني: أنه تغير معنى، وأن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال،
وبقي لفظه على حاله.
356

والأول أسهل، لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى.
وذهب المبرد إلى فعل الشرط إذا كان لفظ (كان) بقي على حاله من المضي، لأن
(كان) جردت عنده للدلالة على الزمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط. وقال: إن
(كان) مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال، وجعل منه قوله تعالى: (إن كنت قلته)
(وإن كان قميصه) (2).
والجمهور على المنع، وتأولوا ذلك، ثم اختلفوا:
فقال ابن عصفور والشلوبين وغيرهما: إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل
محذوف، أي إن أكن كنت قلته، أي إن أكن فيما يستقبل موصوفا بأني كنت
قلته فقد علمته. ففعل الشرط محذوف مع هذا، وليست (كان) المذكورة بعدها هي
فعل الشرط.
قال ابن الضائع: وهذا تكلف لا يحتاج إليه، بل (كنت) بعد (إن) مقلوبة المعنى إلى
الاستقبال، ومعنى (إن كنت) (إن أكن)، فليست هذه التي بعدها هي التي يراد بها
الاستقبال، لا أخرى محذوفة، وأبطلوا مذهب المبرد بأن (كان) بعد أداة الشرط في
غير هذا الموضع قد جاءت مرادا " بها الاستقبال، كقوله تعالى: (وإن كنت جنبا "
فاطهروا).
وقد نبه في " التسهيل " (4) في باب الجوازم على أن فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل
المعنى، واختار في (كان) مذهب الجمهور، إذ قال: ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى
بلفظ (كان) أو غيرها إلا مؤولا ".
357

واستدرك عليه (لو) (ولما) الشرطيتين، فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا "
فتعين استثناؤه من قوله: (لا يكون إلا مستقبل المعنى).
وأما قوله تعالى: (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى (إن وهبت) (1) فوقع
فيها (أحللنا) المنطوق به أو المقدر، على القولين، جواب الشرط، مع كون الإحلال
قديما "، فهو ماض. وجوابه أن المراد: (إن وهبت فقد حلت)، فجواب الشرط حقيقة
الحل المفهوم من الإحلال لا الإحلال نفسه، وهذا كما أن الظرف من قولك: (قم غدا)
ليس هو لفعل الأمر، بل للقيام المفهوم منه.
وقال البيانيون: يجئ فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب:
منها: إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل، كقوله تعالى: (وإذا رأيت ثم
رأيت نعيما ") (2).
ومنها: إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه، كقولهم: (إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك)،
وعليه قوله تعالى: (إن أردن تحصنا ") (3)، أي امتناعا من الزنا، جئ بلفظ الماضي ولم يقل
(يردن) إظهارا لتوفير رضا الله، ورغبة في إرادتهن التحصين.
ومنها: التعريض، بأن يخاطب واحدا ومراده غيره، كقوله تعالى: (لئن أشركت
ليحبطن عملك).
358

الرابعة: جواب الشرط أصله الفعل المستقبل، وقد يقع ماضيا، لا على أنه جواب
في الحقيقة، نحو: (إن أكرمتك فقد أكرمتني) اكتفاء بالموجود عن المعدوم.
ومثله قوله تعالى: (ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله) (1)، ومس
القرح قد وقع بهم، والمعنى: إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع، فالمقصود ذكر الألم
الواقع لجميعهم، فوقع الشرط والجزاء على الألم.
وأما قوله تعالى: (إن كنت قلته فقد علمته) (2)، فعلى وقوع الماضي موقع
المستقبل فيهما، دليله قوله تعالى: (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق)،
أي: (إن كنت قلته) (تكن قد علمته) وهو عدول إلى الجواب إلى ما هو
أبدع منه كما سبق.
وأما قوله تعالى: (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) (3)، فالمعنى - والله
أعلم -: (ما أنت بمصدق لنا ولو ظهرت لك براءتنا، بتفضيلك إياه علينا)، وقد أتوه بدلائل
كاذبة ولم يصدقهم، وقرعوه بقولهم: (إنك لفي ضلالك القديم) (4)، وإجماعهم
على إرادة قتله، ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم: (ولو كنا صادقين) (3) عندك.
الخامسة: أدوات الشرط: حروف، وهي (إن)، وأسماء مضمنة معناها.
ثم منها ما ليس بظرف، كمن، وما، وأي، ومهما. وأسماء هي ظروف: أين، وأينما،
ومتى، وحيثما، وإذ ما.
359

وأقواها دلالة على الشرط دلالة (إن) لبسطتها، ولهذا كانت أم الباب.
وما سواها فمركب من معنى (إن) وزيادة معه، فمن معناه كل في حكم إن، وما معناه
كل شئ إن، وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن، وإذ ما ومن يدلان على
الشرط والزمان.
وقد تدخل (ما) على (إن) وهي أبلغ في الشرط من (إن) ولذلك تتلقى بالنون
المبني عليها المضارع، نحو: (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ) (1)، وقوله تعالى:
(إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) (2).
ومما ضمن معنى الشرط (إذا)، وهي ك‍ (إن)، ويفترقان في أن (إن) تستعمل
في المحتمل المشكوك فيه، ولهذا يقبح: إن احمر البسر كان كذا، وإن انتصف النهار
آتك، وتكون (إذا) للجزم، فوقوعه، إما تحقيقا نحو: إذا أطلعت الشمس كان كذا،
أو اعتبارا كما سنذكره.
قال ابن الضائع: ولذلك إذا قيل: (إذا احمر البسر فأنت طالق) وقع الطلاق في الحال
عند مالك، لأنه شئ لابد منه، وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون،
وهذا هو الأصل فيهما.
وقد تستعمل (إن) في مقام الجزم لأسباب:
منها أن تأتي على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا لتبيين
360

مشروطة تحقيقا، كقوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد) (1)، وقوله تعالى:
(لو كان فيهما آلهة إلا الله) (2)، وقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة) (3).
ومنها أن تأتي على طريق تبيين الحال، على وجه يأنس به المخاطب، وإظهارا
للتناصف في الكلام، كقوله تعالى: (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن
اهتديت فبما يوحى إلي ربي) (4).
ومنها تصوير أن المقام لا يصلح إلا بمجرد فرض الشرط، كفرض الشئ المستحيل،
كقوله تعالى: (ولو سمعوا ما استجابوا لكم) (5)، والضمير للأصنام. ويحتمل منه
ما سبق فيه قوله تعالى: (إن كان للرحمن ولد) (1).
ومنها لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب مدلول الشرط وأنه واجب الانتفاء،
حقيق ألا يكون، كقوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا " إن كنتم قوما "
مسرفين)، فيمن يكسر (إن)، فاستعملت (إن) في مقام الجزم، بكونهم
(مسرفين) لتصور أن الإسراف ينبغي أن يكون منتفيا، فأجراه لذلك مجرى
المحتمل المشكوك.
ومنها تنبيه المخاطب وتهييجه، كقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم
واشكروا لله ان كنتم إياه تعبدون) (7)، والمعنى عبادتكم لله تستلزم شكركم له،
فإن كنتم ملتزمين عبادته فكلوا من رزقه واشكروه، وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج
والإلزام، تقول: (إن كان لقاء الله حقا فاستعد له).
وكذا قوله تعالى: (إن كنتم بآياته مؤمنين).
361

ومنها التغليب، كقوله تعالى: (إن كنتم في ريب من البعث) (1)، وقوله تعالى:
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) (2)، فاستعمل (إن) مع تحقق
الارتياب منهم، لأن الكل لم يكونوا مرتابين فغلب غير المرتابين منهم على المرتابين،
لأن صدور الارتياب من غير الارتياب مشكوك في كونه، فلذلك استعمل (إن) على حد
قوله: (إن عدنا في ملتكم) (3).
واعلم (أن) لأجل أنها لا تستعمل إلا في المعاني المحتملة كان جوابها معلقا على
ما يحتمل أن يكون وألا يكون، فيختار فيه أن يكون بلفظ المضارع المحتمل للوقوع و عدمه،
ليطابق اللفظ والمعنى، فإن عدل عن المضارع إلى الماضي لم يعدل الا لنكتة، كقوله تعالى:
(إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا
لو تكفرون) (4)، فاتى الجواب مضارعا، وهو (يكونوا) وما عطف عليه، وهو (يبسطوا)
مضارعا أيضا "، وأنه قد عطف عليه (ودوا) بلفظ الماضي، وكان قياسه المضارع، لأن
المعطوف على الجواب جواب، ولكنه لما لم يحتمل ودادتهم لكفرهم من الشك فيها ما يحتمله
أنهم إذا ثقفوهم فقال صاروا لهم أعداء، وبسطوا أيديهم إليهم بالقتل، وألسنتهم بالشتم أتى
فيه يلفظ الماضي، لأن ودادتهم في ذلك مقطوع بها، وكونهم أعداء وباسطي الأيدي
والألسن بالسوء مشكوك، لاحتمال أن يعرض ما يصدهم عنه، فلم يتحقق وقوعه.
وأما (إذا) فلما كانت في المعاني المحققة غلب لفظ الماضي معها، لكونه أدل على
الوقوع باعتبار لفظه في المضارع، قال تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن
362

تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) بلفظ الماضي مع (إذا) في جواب الحسنة
حيث أريد مطلق الحسنة، لا نوع منها، ولهذا عرفت تعريف العهد، ولم تنكر كما نكر
المراد به نوع منها في قوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله)،
وكما نكر الفعل حيث أريد به نوع في قوله تعالى: (ولئن أصابكم فضل من الله)، (3)
وبلفظ المضارع مع (إن) في جانب السيئة وتنكيرها بقصد النوع.
وقال تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم
إذا هم يقنطون) (4) لفظ الماضي مع (إذا) والمضارع مع (إن) إلا أنه نكرت الرحمة
ليطابق معنى الإذاقة بقصد نوع منها، والسيئة بقصد النوع أيضا ".
ومن ذلك قوله تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا
إياه) (5) أتى بإذا لما كان مس الضر لهم في البحر محققا "، بخلاف قوله تعالى: (لا يسأم
الانسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط) فإنه لم يقيد مس الشر هاهنا،
بل أطلقه.
وكذلك قوله تعالى: (وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى ثنا بجانبه وإذا مسه
الشر كان يؤوسا ")، فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الضر له، فكان الإتيان بإذا
أدل على المقصود من (إن)، بخلاف قوله تعالى: (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) (8)،
فإنه لقلة صبره وضعف احتماله في موقع الشر أعرض، والحال في الدعاء، فإذا تحقق وقوعه
كان يؤوسا "، وأما قوله: (إن امرؤ هلك) (9) مع أن الهلاك محقق، لكن جهل وقته،
فلذلك جئ (بإن).
363

ومثله قوله تعالى: (أفإن مات أو قتل) (1)، فأتى بإن المقتضية للشك، والموت
أمر محقق، ولكن وقته معلوم، فأورد مورد المشكوك فيه، المتردد بين الموت والقتل.
وأما قوله تعالى: (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) (2) مع أن
مشيئة الله محققه، فجاء على تعليم الناس كيف يقولون، وهم يقولون في كل شئ على
جهة الاتباع، لقوله تعالى: (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا ". إلا أن يشاء
الله) (3) فيقول الرجل في كل شئ: إن شاء الله، على مخبر به، مقطوعا أو غير مقطوع،
وذلك سنة متبعة.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). ويحتمل أن تكون
للإبهام في وقت اللحوق متى يكون.
تنبيه: سكت البيانيون عما عدا (إذا) و (إن)، والحق صاحب " البسيط " (4)
وابن الحاجب (متى) بأن قال: لا تقول: متى طلعت الشمس؟ مما علم أنه كائن،
بل بقول: متى تخرج أخرج. وقال الزمخشري في الفصل بين متى وإذ: إن
(متى) للوقت المهم و (إذا) للمعين، لأنهما ظرفا زمان، ولابهام (متى) جزم بها
دون (إذا).
السادسة: قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر، وتصدق الشرطية دون
364

مغرديها، أما صدقها فلاستلزام المحال، وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما.
وعليه قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (1).
وقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) (2).
وقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون...) الآية.
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران: أحدهما بيان استلزام إحدى القضيتين
للأخرى، والثاني أن اللازم منتف، فالملزوم كذلك.
وقد تبين بهذا أن الشرط يعلق به المحقق الثبوت، والممتنع الثبوت و الممكن الثبوت.
السابعة: الاستفهام إذا دخل على الشرط، كقوله تعالى: (أفإن مات أو قتل
انقلبتم) (4)، وقوله تعالى: (أفإن مت فهم الخالدون) (5)، ونظائره، فالهمزة
في موضعها، ودخولها على أداة الشرط. والفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس جزاء
للشرط، وإنما هو المستفهم عنه، والهمزة داخله عليه تقديرا، فينوي به التقديم، وحينئذ
فلا يكون جوابا، بل الجواب محذوف، والتقدير عنده: (أأنقلبتم أعقابكم إن مات
محمد؟)، لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته.
ويقول يونس: قال كثير من النحويين، إنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير
موضعها، لأن الغرض إنما هو: (أتنقلبون إن مات محمد).
وقال أبو البقاء: (قال يونس: الهمزة في مثل هذا أحقها أن تدخل على جواب
365

الشرط، تقديره: أتنقلبون [على أعقابكم] (1) إن مات محمد؟ لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ
على هذا الفعل المشروط، ومذهب سيبويه الحق لوجهين: أحدهما أنك لو قدمت الجواب
لم يكن للفاء وجه، إذ لا يصح أن تقول: أتزورني فإن زرتك، ومنه قوله: (أفإن
مت فهم الخالدون) (2). والثاني أن الهمزة لها صدر الكلام، و (إن) لها صدر
الكلام، فقد وقعا في موضعهما، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط و الجواب،
لأنهما كالشئ الواحد. (3) انتهى.
وقد رد النحويون على يونس بقوله: (أفإن مت فهم الخالدون) (2)، لا يجوز
في (فهم) أن ينوي به التقديم، لأنه يصير التقدير: (أفهم الخالدون فإن مت؟)، وذلك
لا يجوز، لئلا يبقى الشرط بلا جواب، إذ لا يتصور أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه
ما قبله، لأن الفاء المتصلة بأن تمنعه من ذلك، ولهذا يقولون: (أنت ظالم إن فعلت)،
ولا يقولون: (أنت ظالم فإن فعلت)، فدل ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت
لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب.
الثامنة: إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء، ثم ذكر فعل الشرط
ولم يذكر له جواب، نحو: (أقوم إن قمت)، (وأنت طالق إن دخلت الدار)، فلا تقدير عند
الكوفيين، بل المقدم هو جواب، وعند البصريين دليل الجواب.
والصحيح هو الأول، لأن الفاء لا تدخل عليه، ولو كان جوابا " لدخلت، ولأنه
لو كان مقدما " من تأخير لما افترق المعنيان، وهما مفترقان، ففي التقدم بني الكلام على الخبر
366

ثم طرأ التوقف، وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط، كذا قاله ابن السراج
وتابعه ابن مالك وغيره.
وتوزعا في ذلك، بل مع التقديم الكلام مبني على الشرط، كما لو قال: (له
على عشرة إلا درهما) فإنه لم يقر بالعشرة، ثم أنكر منها درهما، ولو كان كذلك لم ينفعه
الاستثناء. ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة، وهو مردود بوقوعه في
القرآن، كقوله: (و اشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون).
التاسعة: إذا دخل على أداة الشرط واو الحال لم يحتج إلى جواب، نحو: أحسن إلى زيد
وإن كفرك، واشكره وإن أساء إليك، أي أحسن إليه كافرا " لك، واشكره مسيئا " إليك.
فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة، لا للحال، نحو: أحسن إليه، وإن كفرك فلا تدع
الإحسان إليه، واشكره وإن أساء إليك فأقم على شكره. ولو كانت الواو هنا للحال لم يكن
هناك جواب.
قال ابن جني: وإنما كان كذلك، لأن الحال فضله، وأصل وضع الفضلة أن تكون
مفردا "، كالظرف والمصدر والمفعول به، فلما كان كذلك لم يجب الشرط إذا وقع موقع
الحال، لأنه لو أجيب لصار جملة، والحال إنما هي فضله، فالمفرد أولى بها من الجملة، والشرط
وإن كان جملة فإنه يجري عندهم مجرى الآحاد، من حيث كان محتاجا إلى جوابه احتياج
المبتدأ إلى الخبر.
367

العاشرة: الشرط والجزاء لابد أن يتغاير لفظا، وقد يتحدان، فيحتاج إلى التأويل،
كقوله: (إلا من تاب وآمن)، والآية التي تليها: (ومن تاب وعمل صالحا ")
ثم قال: (فإنه يتوب إلى الله متابا ")، فقيل على حذف الفعل، أي من أراد التوبة فإن التوبة معرضة له، لا يحول بينه بينها حائل. ومثله: (فإذا قرأت
القرآن) أي أردت. ويدل لهذا تأكيد التوبة بالمصدر.
وأما قوله تعالى: (جزاءه من وجد في رحلة فهو جزاؤه)، فقال الزمخشري:
يجوز أن يكون (جزاؤه) مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، على إقامة الظاهر
مقام المضمر، والأصل، (جزاؤه من وجد في رحلة فهو هو) فوضع الجزاء موضع (هو).
وقوله: (من يهد الله فهو المهتدي)، قدره ابن عباس: (من يرد الله
هدايته)، لئلا يتحد الشرط والجزاء.
ومثله قوله تعالى: (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) وقد سبق فيها
أقوال كثيرة.
وقد يتقاربان في المعنى، كقوله تعالى: (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)
وقوله: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)، وقوله (ومن يبخل
فإنما يبخل عن نفسه).
368

والنكتة في ذلك كله تفخيم الجزاء، والمعنى أن الجزاء هو الكامل البالغ النهاية، يعني:
من يبخل في أداء ربع العشر فقد بالغ في البخل، وكان هو البخيل في الحقيقة.
الحادية عشرة: في اعتراض الشرط على الشرط، وقد عدوا من ذلك آيات شريفة،
بعضها مستقيم، وبعضها بخلافه.
الآية الأولى: قوله تعالى: (فأما إن كان من المقربين. فروح وريحان...) الآية.
قال الفارسي: قد اجتمع هنا شرطان وجواب واحد، فليس يخلو: إما أن يكون جوابا "
لأما، أو لإن، ولا يجوز أن يكون جوابا " لهما، لأنا لم نر شرطين لهما جواب واحد، ولو كان
هذا لجاز شرط واحد له جوابان، ولا يجوز أن يكون جوابا " لإن دون (أما)، لأن (أما)
لم تستعمل بغير جواب، فجعل جوابا " لأما، فتجعل (أما) وما بعدها جوابا " لإن.
وتابعه ابن مالك في كون الجواب لأما.
وقد سبقهما إليه امام الصناعة سيبويه. ونازع بعض المتأخرين في عد هذه الآية من هذا،
قال: وليس من الاعتراض أن يقرن الثاني بفاء الجواب لفظا "، نحو إن تكلم زيد فإن
أجاد فأحسن إليه، لأن الشرط الثاني، وجوابه جواب الأول. أو يقرن بفاء الجواب
تقديرا " كهذه الآية الشريفة، لأن الأصل عند النجاة: (مهما يكن من شئ، فإن كان
المتوفى من المقربين فجزاؤه روح)، فحذف (مهما) وجملة شرطها، وأنيب عنها (أما)
369

فصار (أما، فأن كان) مفردا " من ذلك لوجهين: أحدهما أن الجواب لا يلي أداة الشرط بغير
فاصل، وثانيهما أن الفاء في الأصل للعطف، فحقها أن تقع بين سببين، وهما المتعاطفان، فلما
أخرجوها من باب العطف، حفظوا عليها المعنى الاخر، وهو التوسط، فوجب أن يقدم شئ
مما في حيزها عليها اصلاحا " للفظ، فقدمت جملة الشرط الثاني، لأنها كالجزاء الواحد، كما
قدم المفعول في قوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر)، فصار (فأما إن كان من
المقربين. فروح)، فحذفت الفاء التي في جواب (إن) لئلا يلتقي فاءان.
فتخلص أن جواب (أما) ليس محذوفا "، بل مقدما بعضه على الفاء، فلا اعتراض.
الآية الثانية: قوله تعالى عن نوح: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن
أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم)، وإنما يكون من هذا
لو كان (لا ينفعكم يضحي) مؤخرا " بعد الشرطين، أو لازما أن يقدر كذلك، وكلا
الأمرين منتف.
أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن (لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح
لكم) جملة تامة، أما على مذهب الكوفيين فمن شرط مؤخر وجزاء مقدم، وأما على
مذهب البصريين فالمقدم دليل الجزاء، والمدلول عليه محذوف فيقدر بعد شرطه، فلم يقع
الشرط الثاني معترضا، لأن المراد بالمعترض ما اعترض بين الشرط وجوابه، وهنا ليس
كذلك، فإن على مذهب الكوفيين لا حذف، والجواب مقدم، وعلى قول البصريين
الحذف بين الشرطين.
370

وهنا فائدة، وهي أنه لم عدل عن (إن نصحت) (إن أردت أن أنصح)؟
وكأنه - والله أعلم - أدب مع الله تعالى، حيث أراد الإغواء.
وقد أحسن الزمخشري فلم يأت بلفظ الاعتراض في الآية، بل سماه مرادفا، وهو
صحيح، وقال: إن قوله تعالى: (إن كان الله يريد أن يغويكم)، جزاؤه ما دل
عليه قوله: (ولا ينفعكم نصحي).
وجعل ابن مالك تقدير الآية: (إن أردت أن أنصح لكم) مرادا ذلك منكم،
لا ينفعكم نصحي، وهو يجعله من باب الاعتراض، وفيه ما ذكرنا.
الآية الثالثة: قوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي...) الآية،
وهي كالتي قبلها لتقدم الجزاء أو دليله على الشرطين، فالاحتمال فيها كما قدمنا.
وقال الزمخشري: (شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة إرادة الاستنكاح،
كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها لك، وأنت تريد أن تنكحها، لأن ارادته هي قبول
الهبة، وما به تم).
وحاصله أن الشرط الثاني مقيد للأول.
ويحتمل أن يكون من الاعتراض، كأنه قال: إن وهبت نفسها، إن أراد النبي، أحللناها،
فيكون جوابا للأول، ويقدر جواب الثاني محذوفا.
الآية الرابعة: قوله تعالى: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم
371

مسلمين)، وغلط من جعلها من الاعتراض، لأن الشرط الأول اقترن بجوابه،
ثم أتى بالثاني بعد ذلك، وإذا ذكر جواب الثاني تاليا " له فأي إعتراض هنا؟ لهذا قال
المجوزون لهذه المسألة: إن الجواب المذكور للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول
وجوابه عليه، والتقدير في الآية: (إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا)،
فحذف الجواب لدلالة السابق عليه.
الآية الخامسة: قوله تعالى: (وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم
أموالكم. إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا)، وكلام ابن مالك يقتضي أنها
من الاعتراض، وليس كذلك، بل عطف هل الشرط على فعل آخر.
الآية السادسة: قوله تعالى: (ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات) إلى
قوله: (لعذبنا) وهذه الآية هي العمدة في هذا الباب، فالشرطان وهما (لولا)،
و (لو) قد اعترضا، وليس معهما إلا جوابا واحدا، وهو متأخر عنهما وهو (لعذبنا).
الآية السابعة: قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا " الوصية)
وهذه تأتي على مذهب الأخفش، فإنه يزعم أن قوله تعالى: (الوصية) على تقدير الفاء،
أي (فالوصية)، فعلى هذا يكون مما نحن فيه. فأما إذا رفعت (الوصية) ب‍ (كتب)
فهي كالآيات السابقة في حذف الجوابين.
372

تنبيه
[في ضابط اعتراض الشرط على الشرط]
ذكر بعضهم ضابطا في هذه المسألة فقال: إذا دخل الشرط على الشرط، فإن كان
الثاني بالفاء فالجواب المذكور جوابه، وهو وجوابه جواب الشرط الأول، كقوله تعالى:
(فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم).
وإن كان بغير الفاء، فإن كان الثاني متأخرا " في الوجود عن الأول، كان مقدر بالفاء
وتكون الفاء جواب الأول، والجواب المذكور جواب الثاني، نحو (إن دخلت المسجد إن
صليت فيه فلك أجر) تقديره: (فإن صليت فيه) فحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها.
وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول، فهو في نية التقديم وما قبله جوابه،
والفاء مقدرة فيه، كقوله تعالى: (ولا ينفعكم نصحي)، تقديره: (إن أراد الله
أن يغويكم، فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي).
وأما إن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود، وكان كل واحد منهما صالحا لأن يكون هو
المتقدم، والآخر متأخرا، كقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت) كان الحكم
راجعا إلى التقدير والنية، فأيهما قدرته الشرط كان الآخر جوابا له.
وإن كان مقدرا " بالفاء كان المتقدم في اللفظ أو المتأخر، فإن قدرنا الهبة شرطا كانت
الإرادة جوابا "، ويكون التقدير: (أن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها.
وإن قدرنا الإرادة شرطا " كانت الهبة جزاء، وكان التقدير: إن أراد النبي أن يستنكحها
فإن وهبت نفسها للنبي).
373

وعلى كلا التقديرين، فجواب الشرط الذي هو الجواب محذوف، والتقدير: (فهي
حلال لك). وقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب.
فائدة
[قد يسمى الشرط يمينا]
قال ابن حني في كتاب " القد ": يجوز أن يسمى الشرط يمينا، لأن كل واحد
منهما مذكور لما بعده، وهو جملة مضمومه إلى أخرى، وقد جرت الجملتان مجرى
الجملة الواحدة، فمن هنا يجوز أن يسمى الشرط يمينا، ألا ترى أن كل واحد منهما
مذكور لما بعده!
القسم وجوابه
وهما جملتان بمنزلة الشرط وجوابه، وسنتكلم عليه في الأساليب إن شاء الله تعالى في
باب التأكيد والقسم لفظه لفظ الخبر، ومعناه الانشاء والالتزام بفعل المحلوف عليه
أو تركه، وليس باخبار عن شئ وقع أو لا يقع، وإن كان لفظه المضي أو الاستقبال. وفائدته
تحقق الجواب عند السامع وتأكده إلى ليزول عنه التردد فيه.
[الأمر]
الأمر حيث وقع في القرآن كان بغير الحرف كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة) (ادخلوا مساكنكم)، (اخرجوا من دياركم)، (كلوا من ثمره).
374

وجاء بالحرف في مواضع يسيرة على قراءة بعضهم: (فبذلك فلتفرحوا) ووجهه
أنه من باب حمل المخاطب على الغائب إلى الخطاب، فكأنه لا غائب كان ولا حاضر، وذلك
لأن قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فلتفرحوا) فيه خطاب للنبي صلى
الله عليه وسلم مع المؤمنين، وخطاب الله تعالى مع النبي للمؤمنين كخطاب الله تعالى لهم،
فكأنهما اتحدا في الحكم ووجود الاستماع والاتباع، فصار المؤمنون كأنهم مخاطبون في
المعنى، فأتى بالأم كأنه يأمر قوما غيبا، وبالتاء للخطاب كأنه يأمر حضورا. ويؤيد هذا
قوله تعالى في أول الآية: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم...) الآية،
فصار المؤمنون مخاطبين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل بفضل الله وبرحمته
فبذلك) ينبغي أن يكون فرحهم، فصاروا مخاطبين من وجه دون وجه.
ونظيره: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) إلا أن ذلك جعل في كلمتين
وحالتين، وهذا في كلمة واحدة.
ومنها قوله تعالى: (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد).
ومنها قوله تعالى: (ليقض علينا ربك).
النفي
هو شطر الكلام كله، لأن الكلام إما إثبات أو نفي، وفيه قواعد:
375

الأولى: في الفرق بينه وبين الجحد، قال ابن الشجري: إن كان النافي صادقا فيما
قاله، سمي كلامه نفيا "، وإن كان يعلم كذب ما نفاه كان جحدا، فالنفي أعم، لإن كل
جحد نفي من غير عكس، فيجوز أن يسمى الجحد نفيا "، لأن النفي أعم، ولا يجوز أن
يسمى النفي جحدا.
فمن النفي: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم).
ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات موسى عليه السلام، قال الله تعالى: (فلما
جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين. وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما "
وعلوا)، أي وهم يعلمون أنها من عند الله.
وكذلك إخبار الله عمن كفر من أهل الكتاب: (ما جاءنا من بشير ولا نذير)
فأكذبهم الله بقوله: (أنظر كيف كذبوا على أنفسهم).
وقوله: (يحلفون بالله ما قالوا)، فأكذبهم الله بقوله: (ولقد قالوا كلمة
الكفر).
قال: ومن العلماء من لا يفرق بينهما، والأصل ما ذكرته.
الثانية: زعم بعضهم أن من شرط صحة النفي عن الشئ صحة اتصاف المنفي عنه بذلك
376

الشئ، ومن ثم قال بعض الحنفية: إن النهي عن الشئ يقتضي الصحة، وذلك باطل،
بقوله تعالى: (وما الله بغافل عما يعملون)، (وما كان ربك نسيا)، (لا تأخذه
سنة ولا نوم)، (وهو يطعم ولا يطعم)، ونظائره.
والصواب أن انتفاء الشئ عن الشئ قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا "، وقد
يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه، فنفى الشئ عن الشئ لا يستلزم إمكانه.
الثالثة: المنفي ما ولى حرف النفي، فإذا قلت: (ما ضربت زيدا) كنت نافيا "
للفعل الذي هو ضربك إياه، وإذا قلت: (ما أنا ضربته) كنت نافيا لفاعليتك للضرب.
فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب، فما الفرق بينهما؟.
قلت. من وجهين:
أحدهما: أن الأولى نفت ضربا " خاصا، وهو ضرك إياه، ولم تدل على وقوع
ضرب غيرك ولا عدمه، إذا نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ولا ثبوته. والثانية نفت
كونك ضربته، ودلت على أن غيرك ضربه، بالمفهوم.
الثاني: أن الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة، والثانية دلت على نفيه بواسطة.
وأما قوله: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به).
377

الرابعة: إذا كان الكلام عاما ونفيته، فان تقدم حرف النفي أداة العموم، كان
نفيا " للعموم، وهو لا ينافي الإثبات الخاص، فإذا قلت: (لم أفعل كل ذا، بل بعضه)
استقام، وإن تقدم صيغه العموم على النفي فقلت: (كل ذا لم أفعله) كان النفي عاما،
ويناقضه الإثبات الخاص.
وحكى الإمام في " نهاية الإيجاز " عن الشيخ عبد القاهر أن نفى العموم
يقتضى خصوص الإثبات. فقوله: (لم أفعل كله) يقتضى أنه فعل بعضه. قال: وليس
كذلك إلا عند من يقول بدليل الخطاب، بل الحق أن نفي العموم كما لا يقتضي عموم
النفي لا يقتضى خصوص الإثبات.
الخامسة: أدواته كثيرة، قال الخويي: وأصلها (لا) و (ما) لأن النفي
إما في الماضي، وإما في المستقبل، والاستقبال أكثر من الماضي أبدا، و (لا) أخف من
(ما)، فوضعوا الأخف للأكثر.
ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيا واحدا " مستمرا "، وإما أن يكون نفيا فيه أحكام
متعددة، وكذلك النفي في المستقبل، فصار النفي على أربعة أقسام، واختاروا له أربع كلمات:
ما، لم، لن، لا.
وأما (إن) و (لما) فليسا بأصليين.
378

فما و (لا) في الماضي والمستقبل متقابلان، و (لم) و (لن) في الماضي والمستقبل
متقابلان، و (لم) كأنه مأخوذ من (لا) (وما) نفي للاستقبال لفظا "، فأخذ
اللام من (لا) التي هي لنفي الأمر في المستقبل، والميم من (ما) التي هي لنفي الأمر في الماضي،
وجمع بينهما إشارة إلى أن في (لم) المستقبل والماضي، وقدم اللام على الميم إشارة إلى أن
(لا) هو أصل النفي، ولهذا ينفي بها في أثناء الكلام، فيقال: (لم يفعل زيد ولا عمرو)
و (لن أضرب زيدا " ولا عمرا ").
أما (لما) فتركيب بعد تركيب، كأنه قال: (لم) و (ما)، لتوكيد معنى النفي في الماضي،
وتفيد الاستقبال أيضا "، ولهذا تفيد (لما) الاستمرار، كما قال الزمخشري: إذا قلت: (ندم
زيد ولم ينفعه الندم) أي حال الندم لم ينفعه وإذا قلت: (ندم زيد ولما ينفعه الندم)
أي حال الندم، واستمر عدم نفعه.
قلت: وقال الفارسي: إذا نفي بها الفعل اختصت بنفي الحال، ويجوز أن يتسع فيها
فينفي بها الحاضر، نحو: (ما قام وما قعد).
قال الخويي: والفرق بين النفي (بلم) و (ما) أن النفي (بما) كقولك: (ما قام زيد)
معناه أن وقت الإخبار هذا الوقت، وهو إلى الآن ما فعل، فيكون النفي في الماضي، وأن
النفي (بلم) كقولك: (لم يقم) تجعل المخبر نفسه بالعرض متكلما في الأزمنة الماضية، ولأنه
يقول في كل زمان في تلك الأزمنة: أنا أخبرك بأنه لم يقم.
وعلى هذا فتأمل السر في قوله تعالى: (لم يتخذ ولدا ") وفي موضع آخر: (ما اتخذ
الله من ولد)، لأن الأول في مقام طلب الذكر والتشريف به للثواب، والثاني في
مقام التعليم، وهو لا يفيد إلا بالنفي عن جميع الأزمنة.
379

و كذلك قوله: (ما كان أبوك أمرأ سوء وما كانت أمك بغيا ")، وقوله:
(ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ") فإن مريم كأنها قالت: إني تفكرت في أزمنة
وجودي ومثلتها عليه في عيني: (لم أك بغيا) فهو أبلغ في التنزيه، فلا يظن ظان أنها تنفي
نفيا كليا "، مع أنها نسيت بعض أزمنة وجودها، وأما هم لما قالوا: (وما كانت أمك بغيا)
ما كان يمكنهم أن يقولوا: نحن تصورنا كل زمان من أزمنة وجود أمك، وتنفي
عن كل واحد منها كونها بغيا، لأن أحدا " لا يلازم غيره، فيعلم كل زمان من أزمنة وجوده،
وإنما قالوا لها: إن أمك اشتهرت عند الكل، حتى حكموا عليها حكما " واحدا " عاما " أنها
ما بغت في شئ من أزمنة وجودها.
وكذلك قوله تعالى: (ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها
غافلون). وقوله: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا ")،
فإنه سبحانه لما قال: (بظلم) كان سبب حسن الهلاك قائما، وأما الظلم فكان يتوقع في كل
زمن الهلاك، سواء كانوا غافلين أم لا، لكن الله برحمته يمسك عنهم في كل زمان وافقته
غفلتهم. واما قوله: (وأهلها غافلون) وإن جد الظلم لكن لم يبق سببا " مع الإصلاح، فبقي
النفي العام بعدم تحقيق المقتضى في كل زمان.
وكذلك قوله: (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)، لأنه لما لم
يذكر الظلم لم يتوقع الهلاك، فلم يبق متكررا " في كل زمان.
وكذلك قوله: (ذلك بأن الله لم يك مغيرا " نعمة " أنعمها أبي على قوم حتى يغيروا
ما بأنفسهم). وقوله: (وما كان الله معذبهم) ذكر عند ذكر النعمة لم يكن إشارة
380

إلى الحكم في كل زمان تذكيرا " بالنعمة، قال تعالى: (وما كان الله معذبهم) نفيا " واحدا "
عاما عند ذكر العذاب، لئلا يتكرر ذكر العذاب، ويتكرر ذكر النعمة لا للمنة بل للتنبيه
على سعة الرحمة.
وكذلك قال تعالى: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه)، وقال:
(وما جعل عليكم في الدين من حرج)، (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة)
وقوله تعالى: (لم يجعل له من قبل سميا ")، وقال تعالى: (ولم يجعلني جبارا "
شقيا ")، وقال تعالى: (لم نجعل لهم من دونها سترا ")، في جميع مواضع ما حصل
المذكور أمورا " لا يتوقع تجددها، وفي جميع المواضع لم يحصل توقع تجدد المذكور.
فاستمسك بما ذكرنا واجعله أصلا "، فإنه من المواهب الربانية.
381

النوع السادس والأربعون
في أساليب القرآن
وفنونه البليغة
وهو المقصود الأعظم من هذا الكتاب، وهو بيت القصيدة، وأول الجريدة، وغرة
الكتيبة، وواسطة القلادة، ودرة التاج، وإنسان الحدقة، على أنه قد تقدمت الإشارة
للكثير من ذلك.
اعلم أن هذا علم شريف المحل، عظيم المكان، قليل الطلاب، ضعيف الأصحاب،
ليست له عشيرة تحميه، ولا ذوو بصيرة تستقصيه، وهو أرق من الشعر، وأهول من البحر،
وأعجب من السحر، وكيف لا يكون! وهو المطلع على أسرار القرآن العظيم، الكافل
بإبراز إعجاز النظم المبين ما أودع من حسن التأليف، وبراعة التركيب، وما تضمنه في
الحلاوة، وجلله في رونق الطلاوة، مع سهولة كلمه وجزالتها، وعذوبتها وسلاستها، ولا
فرق بين ما يرجع الحسن إلى اللفظ أو المعنى.
وشذ بعضهم فزعم أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني، فلم يعد الأساليب
البليغة، والمحاسن اللفظية.
والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ إذ اللفظ مادة الكلام الذي منه
يتألف، ومتى أخرجت الألفاظ عن أن تكون موضوعا خرجت عن جملة الأقسام المعتبرة،
إذ لا يمكن أن توجد إلا بها.
382

وها أنا القي إليك منه ما يقضي له البليغ عجبا، ويهتز به الكاتب طربا:
فمنه التوكيد بأقسامه، والحذف بأقسامه، الإيجاز، التقديم، والتأخير، القلب،
المدرج، الاقتصاص، التغليب، الالتفات، وضع الخبر موضع الطلب، وضع
الطلب موضع الخبر، وضع النداء موضع التعجب، وضع جملة القلة موضع الكثرة، تذكير
المؤنث، تأنيث المذكر، التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي، عكسه، مشاكله اللفظ للمعنى،
البحث، الإبدال، المحاذاة، قواعد في النفي والصفات، اخراج الكلام مخرج الشك
في اللفظ دون الحقيقة، الإعراض عن صريح الحكم، الهدم، التوسع، الاستدراج
التشبيه، الاستعارة، التورية، التجريد، التجنيس، المقابلة، إلجام الخصم بالحجة،
التقسيم، التعديد، مقابلة الجمع بالجمع، قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا تارة ومفردا أخرى،
وحكمه ذلك، قاعدة أخرى في الضمائر، قاعدة في السؤال والجواب، الخطاب بالشئ عن
اعتقاد المخاطب، التأدب في الخطاب، تقديم ذكر الرحمة على العذاب، الخطاب بالاسم،
الخطاب بالفعل، قاعدة في ذكر الموصولات والظرف تارة وحذفها أخرى، قاعدة في النهي
ودفع التناقض عما يوهم ذلك. وملاك ذلك الإيجاز والإطناب، قال صاحب الكشاف:
كما أنه يجب على البليغ في مظان الاجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز، فكذلك الواجب عليه
في موارد التفصيل ان يفصل ويشبع، وأنشد الجاحظ:
يرمون بالخطب الطوال وتارة " * وحي الملاحظ خيفة الرقباء
383

الأسلوب الأول
التأكيد
والقصد منه الحمل على ما لم يقع، ليصير واقعا، ولهذا لا يجوز تأكيد الماضي ولا الحاضر،
لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وإنما يؤكد المستقبل، وفيه مسائل:
الأولى: جمهور الأمة على وقوعه في القرآن والسنة، وقال قوم: ليس فيهما تأكيد
ولا في اللغة، بل لابد أن يفيد معنى زائدا على الأول. واعترض الملحدون على القرآن
والسنة بما فيهما من التأكيدات، وأنه لا فائدة في ذكرها، وأن من حق البلاغة في
النظم إيجاز اللفظ واستيفاء المعنى، وخير الكلام ما قل ودل ولا يمل، والإفادة خير من
الإعادة، وظنوا أنه إنما يجئ لقصور النفس عن تأدية المراد بغير تأكيد، ولهذا أنكروا
وقوعه في القرآن.
وأجاب الأصحاب بأن القرآن نزل على لسان القوم وفي لسانهم التأكيد والتكرار،
وخطابه أكثر، بل هو عندهم معدود في الفصاحة والبراعة، ومن أنكر وجوده في اللغة
فهو [مكابر] إذ لولا وجوده لم يكن لتسميته تأكيدا فائدة، فإن الاسم لا يوضع
إلا لمسمى معلوم لا فائدة فيه، بل فوائد كثيرة كما سنبينه.
الثانية: حيث وقع فهو حقيقة. وزعم قوم أنه مجاز، لأنه لا يفيد إلا ما أفاده المذكور
الأول حكاه الطرطوشي في العمد ثم قال: ومن سمى التأكيد مجازا؟ فيقال له: إذا كان
384

التأكيد بلفظ الأول، نحو عجل عجل ونحوه. فإن جاز أن يكون الثاني مجازا " جاز في
الأول، لأنهما في لفظ واحد، وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه،
لأنه قبل الأول.
الثالثة: أنه خلاف الأصل، فلا يحمل اللفظ على التأكيد إلا عند تعذر حمله على
مدة محددة.
الرابعة: أنه يكتفي في تلك بأي معنى كان وشرط. وما قاله ضعيف، لأن المفهوم
من دلالة اللفظ ليس من باب الألفاظ حتى يحذو به حذو الألفاظ.
الخامسة: في تقسيمه: وهو صناعي - يتعلق باصطلاح النحاة - ومعنوي. وأقسامه
كثيرة، فلنذكر ما تيسر منها.
القسم الأول
التوكيد الصناعي
وهو قسمان: لفظي ومعنوي. فاللفظي تقرير معنى الأول بلفظه أو مرادفه، فمن المرادف
(فجاجا " سبلا "). (ضيقا " حرجا ") في قراءة كسر الراء. (وغرابيب
سود).
385

وجعل الصفار منه قوله تعالى: (فيما إن مكناكم فيه) على القول بأن
كلاهما للنفي.
واللفظي يكون في الاسم النكرة بالإجماع، نحو: (قواريرا. قوارير)، وجعل
ابن مالك وابن عصفور [منه]: (دكا دكا)، و (صفا " صفا ")، وهو مردود
لأنه جاء في التفسير أن معنى (دكا " دكا ") [دكا] بعد دك، وأن الدك كرر
عليها حتى صار هباء منثورا، وأن معنى: (صفا " صفا ") انه تنزل ملائكة كل
سماء يصطفون صفا بعد صف، محدقين بالإنس والجن. وعلى هذا فليس الثاني منهما
تكرارا " للأول، بل المراد به التكثير، نحو جاء القوم رجلا رجلا، وعلمته الحساب
بابا بابا.
وقد ذكر ابن جني في قوله تعالى (إذا وقعت الواقعة) (إذا رجت)
أن (رجت) بدل من (وقعت)، وكررت (إذا) تأكيدا لشدة امتزاج المضاف
بالمضاف إليه.
ويكون في اسم الفعل، كقوله تعالى: (هيهات هيهات لما توعدون).
وفي الجملة، نحو: (فان مع العسر يسرا ". إن مع العسر يسرا "). ولكون
386

الجملة الثانية للتوكيد سقطت من مصحف ابن مسعود، ومن قراءته.
والأكثر فصل الجملتين بثم، كقوله: (وما أدراك ما يوم الدين. ثم ما أدراك)،
(كلا سوف تعلمون. ثم كلا سوف تعلمون).
ويكون في المجرور، كقوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها)
والأكثر فيه اتصاله بالمذكور.
وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الفصل بين لتوكيد المؤكد، قال الصفار في شرح
سيبويه: والسماع يرده، قال تعالى: (وهم بالآخرة هم كافرون) فإن (هم) الثانية
تأكيد للأولى. وقوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها). وقوله:
(فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) ألا ترى أن قبله: (ولما جاءهم كتاب)
فأكد (لما) وبينهما كلام، وأصله: (يستفتحون على الذين كفروا) فكرر
للطول الذي بين (لما) وجوابها. وقوله: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا " وعظاما "
أنكم مخرجون) في أحد القولين، لأنه أكد (أن) بعد ما فصل.
وقوله تعالى: (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين).....
ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك وإن قوم موسى اجتمعوا في النجاة.
ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف: (وأتوني بأهلكم أجمعين) فلم يرد بهذا
أن يجتمعوا عنده، وان جاءوا واحدا " بعد واحدا "، وإنما أراد اجتماعهم في المعنى إليه، وألا
387

يتخلف منهم أحد، وهذا يعلم من السياق والقرينة.
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا أن قوله (كلهم)
يفيد الشمول والإحاطة، فلا بد أن يفيد (أجمعون) قدرا زائدا على ذلك وهو اجتماعهم في
السجود، [هذا في اللفظ]، وأما المعنى فلان الملائكة لم تكن ليتخلف أحد منهم عن امتثال
الأمر، ولا يتأخر عنده، ولا سيما وقد وقت لهم بوقت وحد لهم بحد، وهو التسوية ونفخ
الروح، فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آن واحد ولم يتخلف منهم أحد، فعلى
هذا يخرج كلام المبرد الزمخشري.
وما نقل عن بعض المتكلمين أن السجود لم يستعمل على الكل بدليل قوله:
(أستكبرت أم كنت من العالين) مردود، بل (العالون) المتكبرون، وفي
رسائل إخوان الصفاء أن العالين هم العقول العاقة التي لم تسجد، وهذا تحريف، ولم
يقم دليل على إثبات العقول التي تدعيها الفلاسفة.
ووقع خلاف في أن إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا، ففي
صحيح مسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من النار، وخلق
آدم مما وصف لكم)، وهو منهم حكما " لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم، ولو كان
من غيرهم لم يدخل معهم.
وأما قوله: (إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين) فلم يذكر قبله (كلهم) لما
388

لم يكن المراد كل واحد واحد من الآية لم تحسن الزيادة في التأكيد، بدليل الاستثناء بعده
من قوله: (إلا امرأته).
ومنها قصد تحقيق المخبر به كقوله: (إني جاعل)، فأكد بإن وباسم الفاعل،
مع أنهم ليسوا بشاكين في الخبر.
ومثله: (إنك ميت وإنهم ميتون).
وقال حاكيا " عن نوح: (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك).
ومنها قصد إغاظة السامع بذلك الخبر، كقوله: (إنك لمن المرسلين).
ومنها الترغيب، كقوله: (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) (6) أكده
بأربع تأكيدات، وهي: إن، وضمير الفصل، والمبالغتان مع الصفتين له، ليدل على
ترغيب الله العبد في التوبة، فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوة. وقوله: (لا تحزن إن
الله معنا).
ومنها الإعلام بأن المخبر به كله من عند المتكلم، كقوله: (فإما يأتينكم مني
هدى ")، دون الاقتصار على (يأتينكم هدى)، قال المفسرون: فيه إشارة إلى أن الخير
كله منه.
وعليه قوله: (قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور). (قد
جاءكم برهان من ربكم).
389

ومنها التعريض بأمر آخر، كقوله تعالى: (رب إني ظلمت نفسي)، وقول موسى:
(رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير)، وقوله تعالى: (قال رب إني وضعتها
أنثى)، تعريضا بسؤال قبولها، فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا.
تنبيهان
الأول: قالوا: إنما يؤتى به للحاجة للتحرز عن ذكر مالا فائدة له، فإن كان
المخاطب ساذجا ألقى إليه الكلام خاليا عن التأكيد وإن كان مترددا فيه حسن تقويته
بمؤكد، وإن كان منكرا " وجب تأكيده. ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر،
كما في قوله تعالى عن رسل عيسى: (ربنا يعلم...)، الآية، وذلك أن الكفار
نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء: أحدها قولهم: (ما أتم إلا بشر مثلنا)، والثاني
قولهم: (ما أنزل الرحمن من شئ)، والثالث قولهم: (إن أنتم إلا تكذبون)،
فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء: أحدها قولهم: (ربنا يعلم...)، ووجه التأكيد فيه
أنه في معنى قسم، والثاني قوله: (إنا إليكم لمرسلون)، والثالث قوله تعالى:
(وما علينا إلا البلاغ المبين).
390

وقد ينزل المنكر كغير المنكر وعكسه. وقد اجتمعا في قوله تعالى: (ثم إنكم بعد
ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون). أكدت [الإماتة] تأكيدين
وإن لم ينكروا، لتنزيل المخاطبين لمناديهم يحيى في الغفلة منزلة من ينكر الموت، وأكد
إثبات البعث تأكيدا " واحدا " وإن كان أكثر، لأنه لما كانت أدلته ظاهرة " كان جديرا بألا
يتكرر ويتردد فيه، حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة.
الثاني: قال التنوخي في " أقصى القرب ": إذا قصدوا مجرد الخبر أتوا
بالجملة الفعلية، وإن أكدوا فبالاسمية، ثم بأن، ثم بها وباللام. وقد تؤكد الفعلية بقد.
وإن احتيج بأكثر جئ بالقسم مع كل من الجملتين، وقد تؤكد الاسمية باللام فقط،
نحو: (لزيد قائم)، وقد تجئ مع الفعلية مضمرة بعد اللام. وحاصله أن الخطاب على
درجات: قام زيد، ثم لقد قام - فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية - ثم إن زيدا قائم،
ولزيد قائم.
[ما يلتحق بالتأكيد الصناعي]
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور:
أحدها: تأكيد الفعل بالمصدر، ومنه قوله تعالى: (جزاؤكم جزاء " موفورا "). وقوله
تعالى: (وكلم الله موسى تكليما ")، (وسلموا تسليما ")، وقوله تعالى: (يوم تمور
السماء مورا ". وتسير الجبال سيرا ")، (وهي تمر مر السحاب)، (فد كتا دكة "
391

واحدة ")، (إذا زلزلت الأرض زلزالها)، (فيكيدوا لك كيدا ").
وهو كثير.
قالوا: وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين، فقولك: (ضربت ضربا) بمنزلة
قولك: (ضربت، ضربت) ثم عدلوا عن ذلك واعتاضوا عن الجملة بالمفرد.
وليس منه قوله تعالى: (وتظنون بالله الظنونا)، بل هو جمع (ظن)، وجمع
لاختلاف أنواعه، قاله ابن الدهان.
ثم اختلفوا في فائدته، فقيل: إنه يرفع المجاز عن الفاعل، فإنك تقول: (ضرب الأمير
اللص)، ولا يكون باشر بل أمر به، فإذا قلت: (ضربا) علم أنه باشر.
وممن نص على ذلك ثعلب في " أماليه "، وابن عصفور في شرح " الجمل
الصغير ".
والصواب أنه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدث عنه، فإذا قلت: (ضرب الأمير) احتمل مجازين: أحدهما إطلاق الضرب على مقدماته، والثاني إطلاق
الأمير
على أمره، فإذا أردت رفع الأول اتيت بالمصدر، فقلت: (ضربا)، وإن أردت الثاني
قلت: (نفسه) أو (عينه).
ومن هذا يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله لموسى، في قوله
392

تعالى: (وكلم الله موسى تكليما ")، فإنه لما أريد كلام الله نفسه قال (تكليما)
ودل على وقوع الفعل حقيقة، أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له. ولقد سخف عقل من
تأوله على أنه كلمة بأظفار المحن، من الكلم وهو الجرح، لأن الآية مسوقة في بيان
الوحي. ويحكى أنه استدل بعض علماء السنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة
بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكد، فسلم المعتزلي له هذه القاعدة وأراد دفع الاستدلال من
جهة أخرى، فادعى أن اللفظ إنما هو (وكلم الله موسى) بنصب لفظ الجلالة،
وجعل موسى فاعلا ب‍ (كلم) وأنكر القراءة المشهورة وكابر، فقال السني: فماذا تصنع
بقوله تعالى: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه)!؟ فانقطع المعتزلي عند ذلك.
قال ابن الدهان: ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر:
قرعت ظنانيت الهوى يوم عالج * ويوم اللوى حتى قسرت الهوى قسرا
قلت: وكذا قوله: (ومكروا مكرا " ومكرنا مكرا ").
وأما قوله تعالى: (ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا ")، فمفعول
(أسررت) محذوف، أي الدعاء والإنذار ونحوه.
فإن قلت: التأكيد ينافي الحذف، فالجواب من وجهين:
393

أحدهما: أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد وإن كان بصورته، لأن المعنى
ليس على ذلك، وإنما أتى به لأجل الفواصل، ولهذا لم يؤت بمصدر (أعلنت)،
وهو مثله.
والثاني: أن (أسر) وإن كان متعديا في الأصل، إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله،
وجعل نسيا، كما في قولهم: (فلان يعطى ويمنع)، فصار لذلك كاللازم، وحينئذ فلا منافاة
بين المجئ به بالمصدر لو كان.
ثم التأكيد بالمصدر تارة يجئ من لفظ الفعل كما سبق، وتارة يجئ من مرادفه،
كقوله تعالى: (إني دعوتهم جهارا ") فإن الجهار أحد نوعي الدعاء، وقوله: (ليا "
بألسنتهم)، فإنه منصوب بقوله: (يحرفون الكلم)، لأن (ليا ") نوع
من التحريف
ويحتمل أن يكون منه: (أتأخذونه بهتانا ")، لأن البهتان ظلم، والأخذ على
نوعين: ظلم وغيره.
وزعم الزمخشري قوله: (نافلة " لك)، وضع [نافلة "] موضع،
(تهجدا)، لأن التهجد عبادة زائدة، فكأن التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد.
394

وقوله: (وعد الله حقا " ومن أصدق من الله قيلا ")، قيل: كأن الأصل تكرار
الصدق بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب، فعدل إلى ما يجاريه خفة "، ولتجزي المصادر الثلاثة
مجرى واحد، خفة ووزنا، إحرازا " للتناسب.
وأما قوله: (والله أنبتكم من الأرض نباتا ". ثم يعيدكم فيها ويخرجكم
إخراجا ") ففائدة (إخراجا ") أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم منها بعينه، دفعا "
لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم، وأن المبعوث الأرواح المجردة.
فإن قيل: هذا يبطل بقوله تعالى: (أنبتكم من الأرض نباتا ") فإنه أكد
بالمصدر، وليس المراد حقيقة النبات.
قلت: لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسي، بل
عدل به إلى غيره، وذلك لأن مصدر أنبت (الإنبات) والنبات اسمه لا هو، كما قيل في
(الكلام) و (السلام): اسمان للمصدر الأصلي الذي هو (التكليم) و (التسليم)، وأما
قوله: (وتبتل إليه تبتيلا ") وإن لم يكن جاريا على (تبتل) لكنه ضمن معنى
(بتل نفسك تبتلا).
ومثله قوله: (وتعالى عما يقولون علوا " كبيرا ") قال أبو البقاء: هو موضع
(تعاليا ") لأنه مصدر قوله (وتعالى)، ويجوز أن يقع مصدرا " في موضع آخر من
معناه، وكذا قال الراغب، قال: وإنما عدل عنه لأن لفظ التفاعل من التكلف، كما يكون
من البشر.
395

وأما قوله: (يوم تمور السماء مورا ". وتسير الجبال سيرا ") فقال بعضهم: الجملة
الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا " وفي كل منهما، مثاله ها هنا أنه يحتمل أن المجاز في
(تمور)، وأنها ما تمور، بل تكاد أو يخيل إلى الناظر أنها تمور. ويحتمل أن المجاز في
السماء، وأن المور الحقيقي لكأنها وأهلها لشدة الأمر.
وكذلك الكلام في (وتسير الجبال سيرا ")، فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة
نفي احتماله في الآخر، فلم تحصل فائدة التأكيد.
وأجيب بهذه القاعدة: وهي أن (مورا ") في تقدير (تمور) فكأنه، قال:
(تمور السماء، تمور السماء)، و (تسير الجبال، تسير الجبال)، فأكد كلا " من الجزأين
بنظيره، وزال الإشكال.
وأما قوله تعالى: (إلا أن يشاء ربي شيئا ") فيحتمل أن يكون (شيئا ") من
تأكيد الفعل بالمصدر، كقوله: (بعت بيعا)، ويجوز أن يكون الشئ بمنزلة الأمر
والتبيان، والمعنى: (إلا أن يشاء ربي أمرا) أو وضع موضع المصدر. وانظر كيف ذكر
مفعول المشيئة. وقول البيانيين: إنه يجب حذفه إذا كان عاما. وأما قوله تعالى:
(دكا " دكا ") فالمراد به التتابع، أي دكا بعد دك، وكذا قوله: (صفا " صفا ")
أي صفا يتلوه صف، ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفا واحدا.
وأما قوله تعالى: (إذا زلزلت الأرض زلزالها) فإن إضافة الزلزال إليها
يفيد معنى ذاتها وهو زلزالها المختص بها، المعروف منها المتوقع، كما تقول: غضب زيد
غضبه، وقاتل زيد قتاله، أي غضبه الذي يعرف منه، وقتاله المختص به، كقوله:
396

* أنا أبو النجم وشعري شعري *
واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكد أن يجئ اتباعا " لفعله، نحو: (وكلم الله
موسى تكليما ") وقد يخرج عنها نحو قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا ")
وقوله تعالى: (فإني أعذبه عذابا ") وقوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله
قرضا " حسنا ") وقوله تعالى: (أنبتكم من الأرض نباتا ") ولم يقل (تبتلا)
و (تعذيبا) و (إقراضا ") و (إنباتا).
واختلف في ذلك على أقوال:
أحدها - أنه وضع الاسم منها موضع المصدر.
الثاني - أنه منصوب بفعل مضمر يجرى عليه المصدر، ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا
على المضمر، فالمعنى (والله أنبتكم من الأرض نباتا ") فنبتم نباتا "، وهو قول المبرد،
واختاره ابن خروف، وزعم أنه مذهب سيبويه، وكذا قال ابن يعيش، ونازعه
ابن عصفور.
397

والثالث - أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة، وإن لم تكن جارية عليها.
والرابع - التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبر بمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر
فهو منصوب بفعل مضمر، يدل عليه ذلك الفعل الظاهر، كقوله تعالى: (والله أنبتكم
من الأرض نباتا ")، أي ونبتم. وساغ إضماره لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا،
ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر، لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي
نصبه، أو تبيين معناه. وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك
الغرض المقصود، لأن (النبات) ليس بمعنى الإنبات، وإذا لم يكن بمعناه فكيف يؤكده
أو يبينه!
وأما قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين)، فإنما ذكر قوله:
(بدين) مع (تداينتم) يدل عليه لوجوه:
أحدها - ليعود الضمير في (فاكتبوه) عليه إذا لو لم يذكره لقال: (فاكتبوا الدين)،
ذكره الزمخشري، وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من (تداينتم) لأنه
يدل على الدين.
الثاني - أن (تداينتم) مفاعلة من (الدين) ومن (الدين)، فاحتيج إلى قوله:
(بدين) ليبين أنه من (الدين) لا من (الدين).
وهذا أيضا " فيه نظر، لأن السياق يرشد إلى إرادة الدين
الثالث - أن قوله: (بدين) إشارة إلى امتناع بيع الدين بالدين، كما فسر قوله صلى الله
398

عليه وسلم، هو بيع الكالئ بالكالئ، ذكره الإمام فخر الدين.
وبيانه أن قوله تعالى: (تداينتم) مفاعلة من الطرفين، وهو يقتضي وجود الدين
من الجهتين، فلما قال (بدين) علم أنه دين واحد من الجهتين.
الرابع - أنه أتى به ليفيد أن الإشهاد مطلوب سواء كان الدين صغيرا " أو كبيرا "، كما سبق
نظيره في قوله تعالى: (فإن كانتا اثنتين). ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك:
(ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا " أو كبيرا " إلى أجله).
الخامس - أن (تداينتم) مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة، وذكر (الدين)
لتمييز المراد، قال الحماسي:
ولم يبق سوى العدوان * دناهم كما دانوا
ونظير هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: (فتقبلها ربها
بقبول حسن)، وقوله تعالى: (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به):
وقوله: (سأل سائل)، فيقال: ما الحكمة في التصريح بالمصدر فيهما، أو بضميره مع
أنه مستفاد مما قبله.
وقد يجئ التأكيد به لمعنى الجملة، كقوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن
399

كل شئ) فإنه تأكيد لقوله تعالى: (تحسبها جامدة " وهي تمر مر السحاب)
لأن ذلك صنع الله، وقوله تعالى: (وعد الله)، تأكيد لقوله: (ويومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله)، لأن هذا وعد الله.
وقوله تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا " مؤجلا ")،
انتصب (كتابا) على المصدر بما دل عليه السياق، تقديره (وكتب الله)، لأن قوله:
(وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله)، يدل على (كتب).
وقوله تعالى: (كتاب الله عليكم)، تأكيد لقوله: (حرمت
عليكم...)، الآية، لأن هذا مكتوب علينا، وانتصب المصدر بما دل عليه سياق الآية،
فكأنه فعل، تقديره (كتب الله عليكم).
وقال الكسائي: انتصب (بعليكم) على الإغراء، وقدم المنصوب. والجمهور
على منع التقدير.
وقوله: (صبغة الله)، تأكيد لقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد
اهتدوا)، لأن هذا دين الله، وقيل منصوبه على الأمر.
وقوله تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)، منصوبة على المصدر
بما دل عليه الكلام، لأن الزلفى مصدر كالرجعي، (ويقربونا) يدل على (يزلفونا)
فتقديره (يزلفونا زلفى).
400

وقد يجئ التأكيد به مع حذف عاملة، كقوله: (فإما منا بعد وإما فداء)،
والمعنى: (فإما تمنوا منا، وإما أن تفادوا فداء) فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر.
وجعل سيبويه من المصدر المؤكد لنفسه قوله تعالى: (الذي أحسن كل شئ
خلقه)، لأنه إذا أحسن كل شئ فقد خلقه خلقا " حسنا، فيكون (خلقه) على
معنى (خلقه خلقا)، والضمير هو الله تعالى.
ويجوز أن يكون بدل اشتمال، أي أحسن خلق كل شئ.
قال الصفار: والذي قاله سيبويه. أولى الأمرين أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول
وإضافته إلى الفاعل أكثر، وأن المعنى الذي أصار إليه أبلغ في الامتنان، وذلك أنه إذا
قال: (أحسن كل شئ) فهو أبلغ من قولك: (أحسن خلق كل شئ) لأنه قد يحسن
الخلق وهو المحاولة، ولا يكون الشئ في نفسه حسنا، وإذا قال: أحسن كل شئ اقتضى أن
كل شئ خلقه حسن، بمعنى أنه وضع كل شئ موضعه، فهو أبلغ في الامتنان.
فائدتان
الأولى: هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل؟ قال بعضهم: المصدر أولى، لأنه
اسم، وهو أخف من الفعل، وأيضا فلأن الفعل يحتمل الضمير فيكون جملة، فيزداد ثقلا،
ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار.
الثانية: حيث أكد المصدر النوعي، فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه، نحو
401

قمت قياما " حسنا ")، (وسرحوهن سراحا " جميلا ")، وقوله: (اذكروا الله ذكرا "
كثيرا ").
وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطي حكم المصدر، قال تعالى: (اتقوا الله حق
تقاته).
الثاني: الحال المؤكدة، وهي الآتية على حال واحدة، عكس المبينة، فإنها لا تكون
إلا منتقله، وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه، وسميت مؤكدة لأنها
نعلم قبل ذكرها، فيكون ذكرها توكيدا، لأنها معلومة من ذكر صاحبها.
كقوله تعالى: (ويوم أبعث حيا ").
وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين).
(فتبسم ضاحكا " من قولها)، لأن معنى (تبسم) ضحك مسرورا.
وقوله: (وأرسلناك للناس رسولا ").
(ثم توليتم إلا قليلا " منكم وأنتم معرضون)، وذكر الإعراض للدلالة
على تناهي حالهم في الضلال.
ومثله: (أقررتم وأنتم تشهدون)، إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة،
ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار.
402

يقول: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد).
وقوله: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض)، فإنه حال مؤكدة
لقوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها)، وبهذا يزول الإشكال في أن
شرط الحال الانتقال، ولا يمكن ذلك هنا، فإنا نقول: ذلك شرط في غير المؤكدة ولما لم يقف
ابن جنى على ذلك قدر محذوفا، أي معتقدا خلودهم فيها، لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير
المؤمنين، فلهذا ساغ مجيئها غير منتقله.
ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق، لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم
عاملها، وليس كذلك التبسم والضحك، فإنه قد يكون من غير ضحك، بدليل قوله:
(تبسم تبسم الغضبان).
وكذلك التولية والإدبار في قوله تعالى: (ولى مدبرا ")، (ثم وليتم
مدبرين)، فإنهما بمعنيين مختلفين، فالتولية أن يولى الشئ ظهره، والإدبار أن
يهرب منه، فليس كل مول مدبرا، ولا كل مدبر موليا.
ونظيره قوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا
مدبرين)، فلو كان أصم مقبلا لم يسمع، فإذا ولي ظهره كان أبعد له من السماع، فإذا
أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع.
ومن الدليل على أن التولي لا يتضمن الإدبار قوله: (فول وجهك شطر المسجد
الحرام)، فإنه بمعنى الإقبال.
403

وقوله: (ولم يعقب)، إشارة إلى استمراره في الهروب وعدم رجوعه، يقال:
فلان ولى إذا رجع، وكل راجع معقب، وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت.
وكذلك قوله: (وأرسلناك للناس رسولا ")، قيل: ليست بمؤكدة، لأن
الشئ المرسل قد لا يكون رسولا، كما قال تعالى: (إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم).
وقوله: (وهو الحق مصدقا ")، جعلها كثير من المعربين مؤكدة، لأن صفة
الحق التصديق.
قيل: ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل، وأن يريدوا به تأكيد
ما تضمنته الجملة.
ودعوى التأكيد غير ظاهرة، لأنه يلزم من كون الشئ حقا في نفسه أن يكون مصدقا
لغيره، والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران، وهو كونه حقا وكونه مصدقا لغيره من
الكتب، فالظاهر أن (مصدقا) حال مبينة لا مؤكدة، ويكون العامل فيها (الحق)
لكونه بمعنى الثابت، وصاحب الحال الضمير الذي تحمله (الحق) لتأوله بالمشتق.
وقوله: (قائما " بالقسط)، فقائما " حال مؤكدة، لأن الشاهد به لا إله إلا هو
قائم بالقسط، فهي لازمة مؤكدة وقد وقعت بعد الفعل والفاعل.
قال ابن أبي الربيع: ويجوز أن يكون حالا على جهة أخرى، على معنى (شهد الله أنه
منفرد بالربوبية وقائم بالقسط) فإنه سبحانه بالصفتين لم ينتقل عنهما، فهو متصف
بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى، وهو سبحانه لم يزل بهما لأن صفاته
ذاتية قديمة.
404

فائدة
[عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية]
قال صاحب " المفصل ": لا تقع المؤكدة إلا بعد الجملة الاسمية، وهو خلاف
قول أبي علي: إنها تكون بعد الجملتين، محتجا بما سبق، وكذا بقوله تعالى: (ولا تسمع
الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين). وقوله تعالى: (ولى مدبرا " ولم يعقب).
ف‍ (مدبرين) و (ومدبرا) حال مؤكدة لفعل التولية.
فصل
في أدوات التأكيد
[مؤكدات الجمل الإسمية]
الأول: التأكيد ب‍ (إن)، قال تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق)،
وقوله تعالى: (اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم)، وهي أقوى من
التأكيد باللام كما قاله عبد القاهر في " دلائل الاعجاز " قال: وأكثر مواقع
(إن) بحكم الاستقراء هو الجواب، لكن بشرط أن يكون للسائل فيه ظن بخلاف
ما أنت تجيبه به، فأما أن تجعل مرد الجواب أصلا فيها فلا، لأنه يؤدي إلى قولك:
405

(صالح) في جواب: كيف زيد؟ حتى تقول: إنه صالح، ولا قائل به، بخلاف اللام فإنه لا يلحظ
فيها غير أصل الجواب.
وقد يجئ مع التأكيد في تقدير سؤال السائل إذا تقدمها من الكلام ما يلوح نفسه
للنفس، كقوله تعالى: (اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم)، أمرهم
بالتقوى ثم علل وجوبها مجيبا لسؤال مقدر بذكر الساعة، واصفا " لها بأهول وصف، ليقرر
عليه الوجوب.
وكذا قوله تعالى: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون)، أي لا تدعني
في شأنهم واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك، لأنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد جف به
القلم فلا سبيل إلى كفه عنهم.
ومثله في النهي عن الدعاء لمن وجبت شقاوته قوله تعالى: (يا إبراهيم أعرض عن
هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود).
ومنه قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن
ربي غفور رحيم)، فإن قوله تعالى: (وما أبرئ نفسي) أورث للمخاطب حيرة:
كيف لا ينزه نفسه مع كونها مطمئنة زكية! فأزال حيرته بقوله تعالى: (إن النفس
لأمارة) في جميع الأشخاص (بالسوء) إلا المعصوم.
وكذا قوله تعالى: (وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم).
واعلم أن كل جملة صدرت بإن مفيدة للتعليل وجواب سؤال مقدر، فإن الفاء
406

يصح أن تقوم فيها مقام (أن) مفيدة للتعليل، حسن تجريدها عن كونها جوابا " للسؤال
المقدر، كما سبق من الأمثلة.
وإن صدرت لإظهار فائدة الأولى لم يصح قيام الفاء مقامها، كقوله: (إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون)، بعد قوله: (لهم فيها زفير وهم فيها
لا يسمعون).
ومن فوائدها تحسين ضمير الشأن معها إذا فسر بالجملة الشرطية مالا يحسن بدونها،
كقوله: (إنه من يتق ويصبر). (أنه من يحادد الله ورسوله). (إنه من
عمل منكم سوءا بجهالة). (إنه لا يفلح الكافرون)، وأما حسنه بدونها
في قوله تعالى: (قل هو الله أحد) فلفوات الشرط.
الثاني: (أن) المفتوحة، نحو (علمت أن زيدا " قائم) وهي، حرف مؤكد كالمكسورة،
نص عليه النحاة.
واستشكله بعضهم قال: لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا، ويقال:
التوكيد للمصدر المنحل لأن محلها مع ما بعدها المفرد، وبهذا يفرق بينها وبين (إن)
المكسورة، فإن التأكيد في المكسورة للإسناد، وهذه لأحد الطرفين.
الثالث: (كأن)، وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة، وإن كانت مركبة من
407

كاف التشبيه و (إن)، فهي متضمنه لأن فيها ما سبق وزيادة.
قال الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل - أي بين قولك: (كأنه أسد)، وبين
(إنه كالأسد) - أنك مع كأن بان على التشبيه من أول الأمر، وثم بعد مضى صدره
على الإثبات.
وقال الإمام في " نهاية الإيجاز " اشترك الكاف وكأن في الدلالة على التشبيه،
وكأن أبلغ، وبذلك جزم حازم في " منهج البلغاء " وقال: وهي إنما تستعمل حيث يقوى
الشبه، حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره، ولذلك قالت بلقيس:
(كأنه هو).
الرابع: (لكن) لتأكيد الجمل، ذكره ابن عصفور، والتنوخي في " الأقصى "
وقيل: للتأكيد مع الاستدراك. وقيل: للاستدراك المجرد، وهي أن يثبت لما بعدها حكم
يخالف ما قبلها، ومثلها (ليت) و (لعل) و (لعن) في لغة بني تميم لأنهم يبدلون همزة
(أن) المفتوحة عينا، وممن ذكر أنها من المؤكدات التنوخي.
الخامس: لام الابتداء نحو: (إن ربي لسميع الدعاء) وهي تفيد تأكيد
مضمون الجملة، ولهذا زحلقوها في باب (إن) عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام
بمؤكدين، ولأنها تدل بجهة التأكيد، وإن تدل بجهتين: العمل والتأكيد، والدال بجهتين
مقدم على الدال بجهة كنظيره في الإرث وغيره. وإذا جاءت مع (إن) كان بمنزلة تكرار
الجملة ثلاث مرات، لأن (إن) أفادت التكرير مرتين، فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا ".
408

وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر (وإن) لتأكيد الاسم، وفيه تجوز، لأن
لتأكيد إنما هو للنسبة لا للاسم والخبر.
السادس: الفصل، وهو من مؤكدات الجملة، وقد نص سيبويه على أنه يفيد التأكيد، وقال
في قوله تعالى: (إن ترن أنا أقل منك مالا " وولدا ") (أنا) وصف للياء في (ترن) يزيد
تأكيدا وهذا صحيح، لأن المضمر يؤكد الضمير، وأما تأكيد المظهر بالمضمر فلم يعهد
ولهذا سماه بعضهم (دعامة)، لأنه يدعم به الكلام، أي يقوى، ولهذا قالوا: لا يجاء مع
التوكيد، فلا يقال: (زيد نفسه هو الفاضل). ووافق على ذلك ابن الحاجب في شرح
" المفصل " وخالف في أماليه فقال: ضمير الفصل ليس توكيدا "، لأنه لو كان، فإما لفظيا
أو معنويا، لا جائز أن يكون لفظيا، لأن اللفظي إعادة اللفظ الأول كزيد زيد، أو معناه
كقمت [أنا]، والفصل ليس هو المسند إليه ولا معناه لأنه ليس مكنيا عن المسند إليه،
ولا مفسرا، ولا جائز أن يكون معنويا، لأن ألفاظه محصورة، كالنفس والعين، وهذا منه
نفي للتوكيد الصناعي ولبس للكلام.
وفي " البسيط " للواحدي عند قوله تعالى: (وأولئك هم المفلحون)،
قال سيبويه: دخل الفصل في قوله تعالى: (تجدوه عند الله هو خيرا ")، وفي
قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا " لهم)،
وفي قوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق)،
409

وفي قوله تعالى: (إن كان هذا هو الحق من عندك)، وذكر أن هذا بمنزلة ما في
قوله تعالى: (فبما رحمة). انتهى.
السابع: ضمير البيان للمذكر، والقصة للمؤنث، ويقدمونه قبل الجملة نظرا لدلالته على
تعظيم الأمر في نفسه، والإطناب فيه، ومن ثم قيل له الشأن: والقصة، وعادتهم إذا أرادوا
ذكر جملة قد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبرا عنه،
ومفسرة له، ويفعلون ذلك في مواضع التفخيم، والغرض منه أن يتطلع السامع إلى الكشف عنه
وطلب تفسيره، وحينئذ تورد الجملة المفسرة له.
وقد يكون لمجرد التعظيم، كقوله تعالى: (إنني أنا الله لا إله إلا أنا).
وقد يفيد معه الانفراد، نحو قوله تعالى: (قل هو الله أحد) أي المنفرد
بالأحدية.
قال جماعة من النحاة: (هو) ضمير الشأن (والله) مبتدأ ثان (وأحد) خبر المبتدأ الثاني،
والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، ولم يفتقر إلى عائد لأن الجملة تفسير له، ولكونها مفسرة
لم يجب تقديمها عليه، وقيل: هو كناية عن (الله) لأنهم سألوه أن يصف ربه فنزلت.
ومنه: (وأنه لما قام عبد الله) ويجوز تأنيثه إذا كان في الكلام مؤنث،
كقوله تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار)، فالهاء في (فإنها) ضمير القصة (وتعمى الأبصار)
في موضع رفع، خبر إن. وقوله تعالى: (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل).
410

بقراءة الياء، وأن (يعلمه) بمبتدأ، و (آية) الخبر، والهاء ضمير القصة، وأنث لوجود
(آية) في الكلام.
الثامن: تأكيد الضمير، ويجب أن يؤكد المتصل بالمنفصل إذا عطف عليه
كقوله تعالى: (اسكن أنت وزوجك الجنة)، وقوله تعالى: (اذهب أنت
وربك).
وقيل: لا يجب التأكيد، بل يشترط الفاصل بينهما، بدليل قوله تعالى: (ما أشركنا
ولا آباؤنا)، فعطف (آباؤنا) على المضمر المرفوع، وليس هنا تأكيد بل
فاصل، وهو (لا).
وهذا لا حجة فيه، لأنها دخلت بعد واو العطف، والذي يقوم مقام التأكيد إنما
يأتي قبل واو العطف، كالآيات المتقدمة، بدليل قوله: (فاستقم كما أمرت ومن
تاب معك).
ومنهم من لم يشترط فاصلا، بدليل قوله: (إما أن تلقى وإما ان نكون نحن
الملقين)، فأكد السحر ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى، حيث لم يقولوا:
(إما أن تلقي أنت).
وفيه دليل على أنهم أحبوا التقديم في الإلقاء لعلمهم بأنهم يأتون بسحر عظيم يقرر
عظمته في أذهان الحاضرين فلا يرفعها ما يأتي بعدها على زعمهم، وإنما ابتدأوا بموسى
411

فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم. ومن ثم قيل:
تأدبوا تهذبوا.
وأجيب بأنه إنما لم يؤكد في الآية لأنه استغنى عن التأكيد بالتصريح بالأولية في
قوله: (وإما أن نكون أول من ألقي)، وهذا جواب بياني لا نحوي.
فإن قيل: ما وجه هذا الإطناب؟ وهلا قالوا: (إما أن تلقى وإما أن نلقى)؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: لفظي، وهو المزاوجة لرؤوس الآي على سياق خواتمها، من أول السورة
إلى آخرها.
والثاني: معنوي، وهو أنه سبحانه أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم
عند أنفسهم على موسى، فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منه في إسنادهم الفعل إليه.
ذكر ذلك ابن جني في " خاطرياته " ثم أورد سؤالا " وهو: إنا نعلم أن السحرة لم
يكونوا أهل لسان فيذهب بهم هذا المذهب من صيغة الكلام! وأجاب بأن جميع ما ورد
في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم،
وليست بحقيقة ألفاظهم، ولهذا لا يشك في أن قوله تعالى: (قالوا إن هذان لساحران يريدان
أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى) أن هذه الفصاحة
لم تجر على لغة العجم.
التاسع: تصدير الجملة بضمير مبتدأ يفيد التأكيد، ولهذا قيل بإفادة الحصر، ذكره
الزمخشري في مواضع من كشافه.
412

قال في قوله تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون) معناه الحصر، أي لا يؤمن
بالآخرة إلا هم.
وقال في قوله: (أم اتخذوا آلهة " من الأرض هم ينشرون) أن معناه
لا ينشر إلا هم، وإن المنكر عليهم ما يلزمهم حصر الألوهية فيهم. ثم خالف هذه القاعدة
لما خالف مذهبه الفاسد في قوله تعالى: (وما هم بخارجين من النار)، فقال: هم هنا
بمنزلتها في قوله: * وهو يفرشون اللبد كل طمرة *
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم، لا على الاختصاص. انتهى.
وبيانه أن مقتضى قاعدته في هذه الآية يدل على خروج المؤمنين الفساق من النار،
وليس هذا معتقده، فعدل عن ذلك إلى التأويل للآية بفائدة تتم له، فجعل الضمير المذكور
يفيد تأكيد نسبة الخلود لهم لا اختصاصه بهم، وهم عنده بهذه المثابة لأن عصاة المؤمنين
وإن خلدوا في النار على زعمه إلا أن الكفار عنده أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه
من عصاة المؤمنين، فتخيل في تخريج الآية على قاعدة مذهبه من غير خروج عن قاعدة أهل
المعاني في اقتضاء تقديم الضمير الاختصاص. والجواب عن هذا أن إفادة تقديم الضمير
المبتدأ للاختصاص والحصر أقوى وأشهر عندهم من إفادة مجرد التمكن في الصفة، وقد
نص الجرجاني في " دلائل الاعجاز " على أن إفادة تقديم الفاعل على الفعل للاختصاص جليلة
وأما إرادة تحقيق الأمر عند السامع أنهم بهذه الصفة، وأنهم متمكنون منها فليست جليلة،
وإذا كان كذلك فلا يعدل عن المعنى الظاهر إلا بدليل، وليس هنا ما يقتضي اخراج
الكلام عن معناه الجلي، كيف وقد صحت الأحاديث وتواترت على أن العصاة يخرجون
من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم وشفاعة غيره، حتى لا يبقى فيها موحد أبدا! فهذه
413

الآية فيها دليل لأهل السنة على انفراد الكفار بالخلود في النار واختصاصهم بذلك، والسنة
المتواترة موافقه، ولا دليل للمخالف سوى قاعدة الحسن والقبيح العقليين وإلزامهم الله تعالى
مما لا ينبغي لهم أن يلزموه من عدم العفو وتحقيق العقاب والخلود الأبدي للمؤمنين في النار.
نعوذ بالله من ذلك!
فائدة
[مواضع إفادة الحصر]
لا تخص إفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ، بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل،
أو المفعول، أو الجار أو المجرور المتعلقات بالفعل، ومن أمثلته قوله تعالى: (قل هو
الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) فإن الإيمان لما لم يكن منحصرا في الإيمان بالله
بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر، وغيره مما يتوقف صحة الإيمان
عليه بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين
- قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره،
لأن غيره لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه، ولذلك قدم الظرف في قوله:
(لا فيها غلول)، ليفيد النفي عنها فقط واختصاصها بذلك، بخلاف تأخيره في:
(لا ريب فيه)، لأن نفي الريب لا يختص بالقرآن بل سائر الكتب المنزلة،
كذلك.
414

العاشر: منها (هاء) التنبيه في النداء، نحو: (يا أيها)، قال سيبويه: وأما
الألف والهاء اللتان لحقتا (أيا) توكيدا فكأنك كررت (يا) مرتين إذا قلت: (يا أيها)
وصار الاسم تنبيها.
هذا كلامه. وهو حسن جدا، وقد وقع عليه الزمخشري فقال: وكلمة التنبيه المقحمة
بين الصفة وموصوفها لفائدة تبيين معاضدة حرف النداء ومكاتفته بتأكيد معناه ووقوعها
عوضا مما يستحقه، أي من الإضافة.
الحادي عشر: (يا) الموضوعة للبعيد إذا نودي بها القريب الفطن قال الزمخشري: إنه
للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا.
الثاني عشر: (الواو)، زعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة التأكيد
ثبوت الصفة بالموصوف، كما تدخل على الجملة الحالية، كقوله تعالى: (وما أهلكنا من
قرية إلا ولها كتاب معلوم)، وقوله تعالى: (منه سبعة وثامنهم
كلبهم)، والصحيح أن الجملة الموصوف بها لا تقترن بالواو، لأن الاستثناء المفرغ
لا يقع في الصفات بل الجملة حال من (قرية) لكونها عامة بتقديم (إلا) عليها.
الثالث عشر: إما المكسورة، كقوله تعالى: (فإما يأتينكم منى هدى "،
أصلها (إن) الشرطية زيدت (ما) تأكيدا. وكلام الزجاج يقتضي أن سبب اللحاق
نون التوكيد.
415

وقال الفارسي: الأمر بالعكس، لمشابهة فعل الشرط بدخول (ما) للتأكيد بالفعل
المقسم عليه من جهة أنها كالعدم في القسم لما فيها من التأكيد. وجميع ما في القرآن من
الشرط بعد (إما) توكيده بالنون، قال أبو البقاء: وهو القياس، لأن زيادة (ما) مؤذنة
بإرادة شدة التوكيد. واختلف النحاة: أتلزم النون المؤكدة فعل الشرط عند وصل (إما)
أم لا؟ فقال المبرد والزجاج: يلزم ولا تحذف إلا ضرورة. وقال سيبويه وغيره: لا تلزم
فيجوز إثباتها وحذفها، ولاثبات أحسن. ويجوز حذف (ما) وإثبات النون، قال
سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون، كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما. انتهى.
وجاء السماع بعدم النون بعد (إما) كقول الشاعر:
فإما به تريني ولي لمة * فإن الحوادث أودى بها
الرابع عشر: أما المفتوحة، قال الزمخشري في قوله تعالى: (فأما الذين آمنوا
فيعلمون أنه الحق من ربهم)، إنها تفيد التأكيد.
الخامس عشر: ألا الاستفتاحية، كما صرح به الزمخشري، في قوله تعالى: (ألا إنهم
هم المفسدون)، ويدل عليه قولهم: إنها للتحقيق، أي تحقيق الجملة بعدها، وهذا معنى
التأكيد، قال الزمخشري: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها
إلا مصدره بنحو ما يتلقى به القسم نحو: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون).
416

السادس عشر: ما النافية، نحو: ما زيد قائما أو قائم، على لغة تميم، جعل سيبويه فيها
معنى التوكيد، لأنه جعلها في النفي جوابا لقد في الإثبات، كما أن (قد) فيها معنى التوكيد،
فكذلك ما جعل جوابا لها. ذكره ابن الحاجب في شرح المفصل.
السابع عشر: الباء في الخبر، نحو ما زيد بمنطلق، قال الزمخشري في كشافه القديم:
هي عند البصريين لتأكيد النفي. وقال الكوفيون: قولك: ما زيد بمنطلق، جواب
إن زيدا " لمنطلق، (ما) بإزاء (إن) والباء بإزاء اللام، والمعنى راجع إلى أنها للتأكيد،
لأن اللام لتأكيد الإيجاب، فإذا كانت بإزائها كانت لتأكيد النفي.
هذا كله في مؤكدات الجملة الاسمية.
[مؤكدات الجملة الفعلية]
وأما مؤكدات الفعلية فأنواع:
أحدها: (قد) فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد، وإليه أشار الزمخشري في
قوله تعالى: (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) معناه [حصل له
الهدى] لا محالة.
وحكى الجوهري عن الخليل أنه لا يؤتي بها في شئ إلا إذا كان السامع متشوقا " إلى سماعه،
كقولك لمن يتشوق سماع قدوم زيد: قد قدم زيد، فإن لم يكن، لم يحسن المجئ بها، بل
تقول: قام زيد.
وقال بعض النحاة في قوله تعالى: (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل
417

مثل) وفي قوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت): قد في
الجملة الفعلية المجاب بها القسم مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد.
وتدخل على الماضي، نحو (قد أفلح من زكاها).
والمضارع، نحو: (قد نعلم إنه ليحزنك)، (قد يعلم ما أنتم عليه)،
قال الزمخشري: دخلت قد لتوكيد العلم.
ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد، وبهذا يجاب عن قولهم: إنما تفيد التعليل
مع المضارع.
وقال ابن إبان: تفيد مع المستقبل التعليل في وقوعه أو متعلقه، فالأولى كقولك: زيد
قد يفعل كذا، وليس ذلك منه بالكثير، والثاني كقوله تعالى: (قد يعلم ما أنتم
عليه)، المعنى والله أعلم: أقل معلوماته ما أنتم عليه.
ثانيا: السين التي للتنفيس، قال سيبويه في قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله)
معنى السين أن ذلك كائن لا محالة، إن تأخر إلى حين.
وجرى عليه الزمخشري فقال في قوله تعالى: (أولئك سيرحمهم الله) السين تفيد
وجود الرحمة لا محالة، فهي تؤكد [الوعد، كما تؤكد] الوعيد، في قولك: (سأنتقم
منك يوما) يعني أنك لا تفوتني وإن تبطأت.
418

ونحوه: (سيجعل لهم الرحمن ودا "). (ولسوف يعطيك ربك فترضى)
(سوف يؤتيهم أجورهم)، لكن قال في قوله تعالى: (ولسوف يعطيك
ربك فترضى) معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير، أن العطاء كائن لا محالة
وإن تأخر.
وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل لا من السين، وبأن الوجوب
المشار إليه بقوله (لا محالة) لا إشعار للسين به.
وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن السين موضوعه للدلالة على الوقوع مع التأخر، فإذا كان المقام ليس مقام
تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع، وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب.
وفيه نظر لأن ذلك يستفاد من المقام لا من السين.
والثاني: أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة، لأنها تفيد أمرين: الوعيد والإخبار
بطرقه، وأنه متراخ، فهو كالإخبار بالشئ مرتين، ولا شك أن الإخبار بالشئ وتعيين طرقه
مؤذن بتحققه عند المخبر به.
ثالثها: النون الشديدة، وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات، وبالخفيفة، فهي بمنزلة
ذكره مرتين.
قيل: وهذان النونان لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بإن واللام، ولم يقع
419

في القرآن التأكيد بالخفيفة إلا في موضعين: (وليكونا من الصاغرين)، وقوله
تعالى: (لنسفعا " بالناصية).
ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء فكذلك لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال، قال
تعالى: (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا ")، لم يزد على ثلاثة: مهل، وأمهل،
ورويدا، كلها بمعنى واحد، وهن: فعلان واسم فعل.
رابعا ": (لن)، لتأكيد النفي كأن في تأكيد الإثبات، فتقول: لا أبرح، فإذا
أردت تأكيد النفي، قلت: لن أبرح.
قال سيبويه: هي جواب لمن قال: سيفعل. يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك.
وقال الزمخشري: (لن) تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل، بخلاف (لا)،
وكذا قال في " المفصل ": لن لتأكيد ما تعطيه، لا من نفي المستقبل. وبني على ذلك
مذهب الاعتزال في قوله تعالى: (لن تراني) قال: هو دليل عن نفي الرؤية في
الدنيا والآخرة، وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين في " الشامل " عن المعتزلة
ورد عليهم بقوله تعالى لليهود: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين. ولن يتمنوه أبدا "
ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة فيقولون: (يا ليتها كانت القاضية)،
يعني الموت.
ومنهم من قال: لا تنفي الأبد، ولكن إلى وقت، بخلاف قول المعتزلة، وأن النفي (بلا) أطول
من النفي (بلن)، لأن آخرها ألف، وهو حرف يطول فيه النفس، فناسب طول المدة بخلاف لن
420

ولذلك قال تعالى: (لن تراني) وهو مخصص بدار الدنيا.
وقال: (لا تدركه الأبصار)، وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة،
وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصت لا بزيادة له مدة.
وهذا ألطف من رأى المعتزلة، ولهذا أشار ابن الزملكاني في " التبيان " بقوله:
لا تنفي ما بعد، ولن تنفى ما قرب. وبحسب المذهبين أولوا الآيتين: قوله تعالى: (ولن
يتمنوه أبدا ")، (ولا يتمنونه أبدا ").
ووجه القول الثاني أن (لا يتمنونه) إلى جاء بعد الشرط في قوله تعالى: (إن زعمتم
أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت)، وحرف الشرط يعم كل الأزمنة،
فقوبل بلا، ليعمم ما هو جواب له، أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم: تمنوا الموت، وأما
(ولن يتمنوه)، فجاء بعد قوله: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله
خالصة ")، أي إن كانت لكم الدار الآخرة فتمنوا الموت الآن، استعجالا للسكون
في دار الكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأحبائه. وعلى وفق هذا القول جاء قوله
(لن تراني).
قلت: والحق أن لا ولن لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة، والتأبيد وعدمه يؤخذان
من دليل خارج، ومن احتج على التأبيد بقوله: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا).
وبقوله: (لن يخلقوا ذبابا ")، عورض بقوله: (فلن أكلم اليوم إنسيا)،
ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم، وبقوله: (ولن يتمنوه ابدا ")، ولو كانت
421

للتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا والأصل عدمه، وبقوله: (لن نبرح عليه
عاكفين حتى يرجع إلينا موسى)، لا يقال: هي مقيدة فلم تفد التأبيد، والكلام
عند الإطلاق، لأن الخصم يدعى أنها موضوعه لذلك، فلم تستعمل في غيره. وقد استعملت
لا للاستغراق الأبدي في قوله تعالى: (لا يقضي عليهم فيموتوا)، وقوله:
(لا تأخذه سنة ولا نوم)، ولا يؤوده كان حفظهما)، وقوله:
(ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)، وغيره مما هو للتأبيد،
وقد استعملت فيه (لا) دون (لن)، فهذا يدل على أنها لمجرد النفي، والتأبيد يستفاد
من دليل آخر.
القسم الثاني
الصفة
وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة، وموضحة للمعرفة
[الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها]
وتأتي لأسباب:
أحدها: لمجرد المدح والثناء، ومنه صفات الله تعالى، كقوله: (بسم الله الرحمن
الرحيم)، فليس ذكر الوصف هنا للتمييز لأنه ليس له مثل - تعالى الله عن ذلك -
422

حتى يوضح بالصفة. وأخذ أبو الطيب هذا المعنى فذكر أسامي بعض ممدوحه،
ثم قال:
أساميا " لم تزده معرفة " * وإنما لذة " ذكرناها
فقوله: (لم تزده) بيان أنها للإطناب والثناء، لا للتعريف والتبيين.
وقيل: إن الصفات الجارية على القديم سبحانه المراد بها التعريف، فإن تلك
الصفات حاصلة له، لا لمجرد الثناء، ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها، ومنه قوله تعالى:
(يحكم بها النبيون الذين أسلموا)، فهذا الوصف للمدح ليس غير، لأنه ليس
يمكن أن يكون ثمة نبيون غير مسلمين، كذا قاله الزمخشري.
قال: وأريد بها التعريض باليهود، وانهم بعداء من ملة الاسلام التي هي دين الأنبياء
كلهم [في القديم والحديث]، وأن اليهود بمعزل عنها.
والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز، وقد أطلق الله وصف الاسلام على الأنبياء وأتباعهم،
والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة، والإسلام وصف عام،
فوصفهم بالإسلام، إما باعتبار الثناء عليه أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا " له، أو
باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته، لأن معنى ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام
والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية، التي هي أشرف أوصاف العباد، فكذلك
يوصفون بها في أشرف حالاتهم، وأكمل أوقاتهم. وقوله تعالى حكاية " عن إبراهيم
423

وإسماعيل: (ربنا واجعلنا مسلمين لك) أي، مستسلمين لأمرك، لقضائك، وكذا
قول يوسف: (توفني مسلما ")، وكذلك قوله: (النبيون الذين أسلموا للذين
هادوا) تنويه بقدر الاسلام، وتنبيه على عظم أمره، فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها
كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به)
تنويها " بقدر الإيمان، وحضا للبشر على التحلي به، ليكونوا كالمقربين عليه في وصف الإيمان،
حتى قيل: أوصاف الأشراف، أشرف الأوصاف.
الثاني: لزيادة البيان، كذا قاله ابن مالك، ومثله بقوله تعالى: (فآمنوا بالله
ورسوله النبي الأمي).
وليس ما قاله بواضح، فإن (رسول الله) كما يستعمل في نبينا صلوات الله وسلامه
عليه، يستعمل في غيره بطريق الوضع، وتعريفه إنما حصل بالإضافة.
فإن قال: قد كثر استعماله في نبينا صلى الله عليه وسلم، حتى إنه لم يبق الذهن
يتبادر إلا إليه!
قلنا: ليس هذا من وضعه بل ذلك من الاستعمال، وقد استعمل في غيره، قال
تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله) وفي موضع آخر: (رسل الله) وفي حق
عيسى: (ورسولا " إلى بني إسرائيل)، وفي حق موسى: (كما أرسلنا إلى
فرعون رسولا ").
424

ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف، وأما أن تكون فوقه
فلا، لأنها على كل حال تابعة والتابع دون المتبوع.
فإن قيل: كيف يصح أن يزال إبهام الشئ بما هو أبهم منه؟
فالجواب: أن التعريف لم يقع بمجرد الصفة، وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف،
لأنهما كالشئ الواحد.
الثالث: لتعيينه للجنسية، كقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر
يطير بجناحيه)، لأن المعنى بدابة والذي سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد، بدليل
قوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم)، فجمع (أمم) محقق إرادة الجنس من الوصف
اللازم للجنس المذكور، وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض، وكون الطائر
غير منفك كونه طائرا بجناحيه، لينتفي توهم الفردية، هذا معنى ما أشار إليه السكاكي
في " المفتاح ".
وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابة " مخصوصة،
وهو بعيد، لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف، لأن النكرة المنفية - لا سيما مع (من)
الاستغراقية - قطعية.
وقال الزمخشري: إن معنى زيادة (في الأرض) و (يطير بجناحيه) يفيد زيادة
425

التعميم والإحاطة، حتى كأنه قيل: (وما من دابة من جميع ما في الأرض، وما من
طائر [في جو السماء] من جميع ما يطير بجناحيه [إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير
مهمل أمرها]).
ويحتمل أن يقال: إن الطيران لما كان يوصف به من يعقل كالجان والملائكة، فلو لم
يقل: (بجناحيه) لتوهم الاقتصار على جنسها ممن يعقل، فقيل: (بجناحيه) ليفيد إرادة هذا
الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه.
وقيل: إن الطيران يستعمل لغة في الخفة، وشدة الإسراع في المشي، كقول
الحماسي:
* طاروا إليه زرافات ووحدانا *
فقوله: (يطير بجناحيه) رافع لاحتمال هذا المعنى.
وقيل: لو اقتصر على ذكر الطائر فقال: (وما من دابة في الأرض ولا طائر) لكان
ظاهر العطف يوهم: (ولا طائر في الأرض)، لأن المعطوف عليه إذا قيد بظرف أو حال يقيد به
المعطوف، وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه، كالدجاج والإوز
والبط ونحوها، فلما قال: (يطير بجناحيه) زال هذا الوهم، وعلم أنه ليس بطائر مقيد،
إنما تقيدت به الدابة.
وأما قوله تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) مع أن المعلوم أن الفساد
426

لا يقع إلا في الأرض، قيل: في ذكرها تنبيه على أن المحل الذي فيه شأنكم وتصرفكم،
ومنه مادة حياتكم - وهي سترة أموالكم - جدير ألا يفسد فيه، إذا محل الإصلاح
لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد.
وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة: (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير)
لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض، فلو لم يذكر لاحتمل أن يكون ذلك
خاصا " ببعضها.
وأما قوله تعالى: (ذلك قولهم بأفواهم)، وقوله تعالى: (إنما يأكلون في
بطونهم نارا ")، وقوله تعالى: (ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)
ونحوها من المقيد - إذ القول لا يكون إلا بالفم، والأكل إنما يكون في البطن -
ففوائده مختلفة:
فقيل: (بأفواهم) للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه، بل ليس فيه إلا مجرد اللسان،
أي لا يعضده على حجة ولا برهان، وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته، كالألفاظ المهملة التي هي
أجراس ونغم، لا تدل على شئ مؤثر، لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب،
وما لا معنى له مقول بالفم لا غير، أو المراد بالقول المذهب: أي هو مذهبهم بأفواههم
لا بقلوبهم، لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب.
وقيل: إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس، كما في قوله تعالى: (ويقولون في
أنفسهم).
427

وقيل: لأن القول يطلق على الاعتقاد، فأفاد (بأفواههم) التنصيص على أنه
باللسان دون القلب، ولو لم يقيد لم يستفد هذا المعنى، ويشهد له: (إذا جاءك المنافقون
قالوا نشهد إنك...) الآية، فلم يكذب ألسنتهم، بل كذب ما انطوى عن ضمائرهم،
من خلافه.
وإنما قال: (في بطونهم نارا ")، لأنه يقال: أكل في بطنه إذا أمعن، وفي
بعض بطنه، إذا اقتصر، قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا * فإن زمانكم زنن خميص
فكأنه قيل: يأكلون ما يجر - إذا امتلأت بطونهم - نارا ".
وإنما قال: (التي في الصدور)، فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير والتعقل
وسماع أخبار من مضى من الأمم، وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال:
(أولم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها)
قال ابن قتيبة: وهل شئ أبلغ في العظمة والعزة من هذه الآية! لأن الله تعالى أراد: أفلم يسيروا
في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتو فيروا بيوتا خاوية قد سقطت
على عروشها، وبئرا يشرب أهلها فيها قد عطلت، وقصرا " بناه ملكه بالشيد خلا من
السكن، وتداعى بالخراب، فيتعظوا بذلك، ويخافوا من عقوبة الله، مثل الذي نزل بهم!
428

ثم ذكر تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي
في صدورهم.
وقيل: لما كانت العين قد يعني بها القلب، في نحو قوله تعالى: (الذين كانت
أعينهم في غطاء عن ذكري)، جاز أن يعنى بالقلب العين، فقيد القلوب بذكر محلها
رفعا " لتوهم إرادة غيرها.
وقيل: ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند
الغضب)، أي هذا أولى بأن يكون شديدا منه، فعمى القلب هو الحقيقي لا عمى البصر،
فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين، فنبه بقوله: (التي في الصدور)
على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر، لا العمى الظاهر في العين التي
محلها الوجه.
فوائد تتعلق بالصفة
الأولى
[الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة]
اعلم أن الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة، لا تقول: هذا رجل فصيح متكلم،
لأن المتكلم أعم من الفصيح، إذ كل فصيح متكلم ولا عكس.
وإذا تقرر هذا أشكل قوله تعالى: (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق
429

الوعد وكان رسولا " نبيا) إذ لا يجوز أن يكون (نبيا) صفة ل‍ (رسول)، لأن الني
أعم من الرسول، إذ كل رسول من الآدميين نبي ولا عكس.
والجواب أن يقال: إنه حال من الضمير في (رسولا ") والعامل في الحال ما في (رسول)
من معنى (يرسل)، أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته، وهي حال مؤكدة، كقوله:
(وهو الحق مصدقا ").
الثانية
تأتي الصفة لازمة لا للتقييد
كقوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) قال الزمخشري:
هي كقوله: (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ")، وهي صفة لازمة
نحو قوله: (يطير بجناحيه) جئ بها للتوكيد، لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن
يقوم عليه برهان. ويجوز أن يكون اعتراضا " بين الشرط والجزاء، كقولك: من أحسن
إلى زيد - لا أحق بالاحسان منه - فالله مثيبه.
وقال الماتريدي: هذا لبيان خاصة الإشراك بالله ألا تقوم على صحته حجة،
لا بيان أنه نوعان، كما في قوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) هو بيان خاصة الطيران،
لا أنه نوعان.
430

وقوله: (سفها " بغير علم) والسفه لا يكون إلا عن جهل. وقيل (بغير علم)
بمقدار قبحه.
وقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق)، ولا يكون قتلهم إلا كذلك لأن
معناه (بغير الحق) في اعتقادهم، لأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم وإن
كانت تلك الصفة لازمه للفعل، كما في عكسه: (قال رب احكم بالحق) لزيادة
معنى في التصريح بالصفة.
وقال بعضهم: ولأن قتل النبي قد يكون بحق، كقتل إبراهيم عليه السلام ولده، ولو
وجد لكان بحق. وقال الزمخشري: إنما قيده لأنهم لم يقتلوا ولم يفسروا في الأرض،
وإلا استوجبوا القتل بسبب كونه شبهة.
وإنما نصحوهم بن ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم، ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها
يوجب عندهم القتل.
وكقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج)، مع أن ذلك منهى
عنه في غير الحج أيضا "، لكن خصص بالذكر هنا لتأكيد الأمر وخطره في الحج، وأنه
لو قدر جواز مثل ذلك في غير الحج لم يجز في الحج، كيف وهو لا يجوز مطلقا "!
وقوله تعالى: (وأتموا الحج والعمرة لله) ولم يذكر مثل ذلك في قوله تعالى:
(ثم أتموا الصيام إلى الليل)، لأن الرياء يقع في الحج كثيرا، فاعتنى فيه بالأمر
بالاخلاص.
وقوله تعالى: (ومن أصل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) واتباع
الهوى لا يكون إلا كذلك.
431

و قيل: بل يكون الهوى في الحق، فلا يكون من هذا النوع.
وقوله تعالى: (و من أحسن من الله حكما " لقوم يوقنون)، فإن حكمه تعالى حسن
لمن يوقن ولمن لا يوقن، لكن لما كان القصد ظهور حسنة والاطلاع عليه وصفة بذلك،
لأن المؤمن هو الذي يطلع على ذلك دون الجاهل.
وقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم)، و الكتابة لا تكون
إلا باليد، ففائدته مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم، وذلك زيادة في تقبيح فعلهم،
فإنه يقال: كتب فلان كذا وإن لم يباشره بل أمر به، كما في قول علي: (كتب النبي
صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية).
الثالثة
قد تأتي الصفة بلفظ والمراد غيره
كقوله تعالى: (صفراء فاقع لونها)، قيل. المراد: (سوداء ناصع)، وقيل:
بل على بابها.
ومنه قوله تعالى: (كأنه جمالة صفر) قيل: كأنه أينق سنة سود، وسمي الأسود
من الإبل أصفر، لأنه سواد تعلوه صفرة.
الرابعة
قد تجئ للتنبيه على التعميم
كقوله تعالى: (كلوا من ثمره إذا أثمر) مع أن المعلوم أنما يؤكل إذا أثمر،
432

فقيل: فائدته نفي توهم توقف الإباحة على الادراك قبل والنضج بدلالته على الإباحة من أول
اخراج الثمرة.
وقوله تعالى: (ومن شر حاسد إذا حسد).
وقوله: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) فإن غير مال اليتيم
كذلك، لكن إنما خصه بالذكر، لأن الطمع فيه أكثر لعجزه وقلة الناصر له،
بخلاف ما البالغ. أو لان التخصيص بمجموع الحكمين، وهما النهي عن قربانه
بغير الأحسن.
وقوله: (و إذا قلتم فاعدلوا)، مع أن الفعل كذلك، وقصد به ليعلم وجوب
العدل في الفعل من باب أولى، كقوله: (فلا تقل لهما أف).
الخامسة
قد يحتمل اللفظ كثيرا " من الأسباب السابقة
وله أمثله، منها قوله تعالى: (وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله
واحد)، فإن ابن مالك وغيره من النحويين جعلوه نعتا، قصد به مجرد التأكيد.
ولقائل أن يقول: إن (إلهين) مثنى و (الاثنان) للتثنية، فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدهما: قاله ابن الخباز: إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه، و ذلك
433

لأن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين، إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط، ولو وصف (إلهين)
بغير ذلك من الصفات، كقوله: (لا تتخذوا الهين عاجزين) لأشعر بأن القادرين
يجوز أن يتخذا، فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات، فسبحان من دقت حكمته
في كل شئ!
ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله: (فإن كانتا اثنتين).
الثاني: أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما نحن
وبنو عبد المطلب شئ واحد)، وتطلق ويراد بها العدد، نحو (إنما زيد رجل واحد)،
فالتثنية باعتبارها. فلو قيل: (لا تتخذوا إلهين) فقط لصح في موضوعه أن يكون نهيا
عن اتخاذ جنسين آلهة، وجاز أن يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة، لأنه يطلق عليهم أنهم
واحد، لا سيما وقد يتخيل أن الجنس الواحد لا تتضاد الرحمن مطلوباته، فيصح، فلما قال: (اثنين)
بين فيه قبح التعديد للإله وأنه منزه عن العددية. وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله:
(ألا ترى أنك لو قلت: إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن، وقيل لك: إنك نفيت
الإلهية لا الوحدانية).
الثالث: أنه لما كان النهي واقعا " على التعدد والاثنينية دون الواحد أتى بلفظ الاثنين،
لأن قولك: (لا تتخذ ثوبين) يحتمل النهي عنهما جميعا "، ويحتمل النهي عن الاقتصار
عليهما، فإذا قلت: (ثوبين اثنين) علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينية دون
الواحد، وأنك إنما أردت منه الاقتصار على ثوب واحد، فتوجه النفي إلى نفس التعدد العدد،
434

فأنى باللفظ الموضوع له، الدال عليه فكأنه قال: (لا تعدد روى الآلهة، ولا تتخذ عددا " تعبده،
إنما هو إله واحد).
الرابع: أن (اتخذ) هي التي تتعدى إلى مفعولين، ويكون (اثنين) مفعولهما الأول
و (إلهين) مفعولهما الثاني، وأصل الكلام: (لا تتخذوا اثنين إلهين) ثم قدم المفعول
الثاني على الأول. ويدل على التقديم والتأخير أن إلهين أخص من (اثنين)،
واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز، وعلى مالا يجوز، وأما اتخاذ اثنين إلهين فلا يقع إلا على ما يجوز.
وقدم (إلهين) على (اثنين) إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين، فالنهي وقع على
معنيين: الآلهة المتخذة، وعلى هذا فلا بد من ذكر (الاثنين) و (الإلهين)، إذ هما
مفعولا لاتخاذ.
قال صاحب " البسيط ": وهذا الوجه هو الجيد، ليخرج بذلك على التأكيد،
وأما إذا جعل (إلهين) مفعول (تخذوا) و (اثنين) صفة، فإنه أيضا " لا يخرج عن
الوصف إلى التأكيد، لأنه لا يستفاد من (اثنين) ما استفيد من (إلهين)، لأن الأول
يدل على العدد والجنس، والثاني على مجرد الاثنينية،
قال: وهذا الحكم في قوله تعالى: (من كل زوجين اثنين) في دخول
(اثنين) في حد الوصف، إلا إن من قرأ بتنوين (كل) فإنه حذف المضاف إليه، وجعل
التنوين عوضا " عنه، (وزوجين) مفعول (احمل) أو (فاسلك) و (اثنين)) نعت.
و (من) يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف، لكونه حالا من
نكرة تقدم عليها، والتقدير: احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف. ومن قرأ
بإضافة (كل) احتمل وجهين: أحدهما أن تجعل: (اثنين) المفعول، والجار والمجرور متعلق
435

بفعل الأمر المحذوف كما تقدم. والثاني جعل (من) زائدة على رأي الأخفش، و (كل)
هي المفعول و (اثنين) صفة.
الخامس: أنه بدل، وينوي بالأول الطرح، واختاره النيلي في " شرح الحاجبية " قال:
لما فيه من حسم مادة التأويل. ونظير السؤال في الآية قوله تعالى: (فإن كانتا
اثنتين)، فإن مروان بن سعد المهلبي سأل أبا الحسن الأخفش، فقال: ما الفائدة
في هذا الخبر؟ أراد مروان أن لفظ (كانتا) تفيد التثنية، فما فائدة تفسيره الضمير المسمى
باثنتين مع أنه لا يجوز (فإن كانتا ثلاثا) ولا فوق ذلك، فلم يفصل الخبر الاسم في شئ؟
فأجاب أبو الحسن، بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة، أي قد كان يجوز أن يقال:
(فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا) أو (كبيرتين فلهما كذا) أو (صالحتين)) أو غير ذلك
من الصفات، فلما قال: (اثنتين) أفهم أن فرض الثلثين [للأختين] تعلق بمجرد
كونهما انثنتين فقط [على أي صفة]، وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى. ومعناه أنهم
كانوا في الجاهلية يورثون البنين دون البنات، وكانوا يقولون: لا نورث إلا من يحمل
الكل وينكئ العدو، فلما جاء الاسلام بتوريث البنات أعلمت الآية أن العبرة في أحد
الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات، من غير اعتبار أمر زائد
على العدد.
قال الحريري: و [العمري] لقد أبدع حديث مروان في استنباطه وسؤاله، وأحسن
أبو الحسن في كشف إشكاله!
ولقد نقل ابن الحاجب في " أماليه " هذا الجواب عن أبي علي الفارسي - وقد بينا
436

أنه من كلام الأخفش - ثم اعترض عليه بأن اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه على المثنى
مجردا عن الصفات لا يصح إطلاقه خبرا " دالا على التجريد من الصفات، وإنما يعنى
باللفظ ذاته الموضوعة له، ألا ترى أنك إذا قلت: (جاءني رجل)، لا يفهم إلا ذات،
من غير أن يدل على تجريد عن مرض أو جنون أو عقل، فكذلك (اثنتين) لا تدل
إلا على مسمى (اثنتين) فقط فلم يستفد منه شئ زائد على المستفاد من ضمير التثنية. ثم لو سلم
صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصح هاهنا، إذ لو صح لجاز أن يقال: (فإن كانتا على أي
صفة حصل) ولو قيل ذلك لم يصح، لأن تثنية الضمير في (كانتا) عائد على الكلالة
والكلالة تكون واحدا " واثنين وجماعة، فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة.
ثم لما كان الضمير الذي في (كانتا) العائد على الكلالة هو في معنى اثنين
صح أن تثنية لأن تثنيته فرع عن الإخبار باثنين، إذ لولاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية
إلا من اثنين.
وقد أورد على ذلك اعتراض آخر، وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى: (يوصيكم
الله في أولادكم)، ثم قال: (فإن كن نساء)، (فإن كانت واحدة)
ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة،
وإلا لكان الضمير لغير مذكور!
والجواب بشئ يشمل الجميع، وهو أن الضمير قد يعود على الشئ باعتبار المعنى الذي
سيق إليه ونسب إلى صاحبه، فإذا قلت: إذا جاءك رجال، فإن كان واحدا فافعل به كذا،
وإن كان اثنين فكذا، صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين، لأن المقصود الجائي، وكأنك
قلت: وإن كان الجائي من الرجال، لأنه علم من قولك: (إذا جاءك) والآية سيقت لبيان
437

الوارثين الأولاد، فكأنه قيل: (فإن كان الوارث من الأولاد)، لأنه المعنى الذي سيق له
الكلام، فقد دخلت (الاثنان) باعتبار هذا المعنى.
ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه.
قلت: وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة أخر:
أحدها: أنه كلام محمول على المعنى، أي: (فإن كان من ترك اثنتين)، وهذا مفيد،
فأضمره عند على ما بعد، و (من) يسوغ معها ذكر الاثنين، لأنه لفظ مفرد يعبر به عن الواحد
والاثنين والجمع، فإذا وقع الضمير موقع (من) جرى مجراها في جواز الإخبار عنها بالاثنين.
الثاني: يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة، كقوله تعالى:
(استحوذ عليهم الشيطان)، وذلك أن حكم الأعداد فيما دون العشرة أن تضاف
إلى المعدود، كثلاثة رجال، وأربعة أبواب، فكان القياس أن يقول: اثنين رجل،
وواحد رجل، ولكنهم رفضوا ذلك لأنك تجد لفظه تجمع العدد والمعدود، فتغنيك عن
إضافة أحدهما إلى الآخر، وهو قولك: رجلان ورجل، وليس كذلك ما فوق الاثنتين،
ألا ترى أنك إذا قلت: ثلاثة، لم يعلم المعدود ما هو؟ وإذا قلت: رجال، لم يعلم عددهم
ما هو؟ فأنت مضطر إلى ذكر العدد والمعدود، فلذلك قيل: كان الرجال ثلاثة ولم يقل:
كان الرجلان اثنتين، ولا الرجلان كانا اثنين، فإذا استعمل شئ من ذلك كان استعمالا للشئ
المرفوض، كقوله:
* ظرف عجوز فيه اثنتا حنظل *
438

فإن قيل: كيف يحمل القرآن عليه، وإنما هو الشعر؟
قيل: إنا وجدنا في القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة (كالمستحوذ)
ونظائرها.
الثالث: أن المراد (فان كانتا اثنتين فصاعدا)، فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه.
قال ابن الضائع النحوي.
قلت: ونظائرها قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) فإن الرجولية المثناة
فهمت من الضمير، بدليل: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم)، فالظاهر أن قوله:
(رجلين) حال لا خبر، فكأنا لمعنى: (فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين).
ومثله قوله تعالى: (إني وضعتها أنثى)، فإن الأنوثة فهمت من قوله:
(وضعتها).
وأورد بعضهم السؤال في الأول، فقال: الضمير في (يكونا) للرجلين، لأن
(الشهيدين) قيدا بأنهما من الرجال، فكأن الكلام: (فإن لم يكن الرجلان
رجلين)، وهذا محال.
وأجاب بعضهم بما أجاب به الأخفش في آية المواريث: إن الخبر هنا أفاد العدد
المجرد عن الصفة.
وهذا ضعيف، إذ وضع فيه (الرجلين) موضع (الاثنين)، وهو تجوز بعيد،
والذي ذكره الفارسي: المجرد منهما، الرجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات، فكيف
يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها!
439

على أن في جواب الفارسي هناك نظرا، فإنه لم يزد على أن جعل نفس السؤال جوابا!
كأنه قيل: لم ذكر العدد وهو متضمن للضمير فقال: لأنه يفيد العدد المجرد، فلم يزد
الألفاظ تجردا.
قال: وأما من أجاب بأن (رجلين) منصوب على الحال المبينة و (كان) تامة
فهو أظرف من الأول، فإنه سئل عن وجه النظم، وأسلوب البلاغة ونفي مالا يليق بها من
الحشو، فأجاب بالإعراب، ولم يجب عن السؤال بشئ، والذي يرد عليه وهو خبر يرد
عليه وهو حال، وما زادنا إلا التكلف في جعله حالا.
والذي يظهر في جواب السؤال هو أن (شهيدين) لما صح أن يطلق على المرأتين
بمعنى (شخصين شهيدين) قيده قوله تعالى: (من رجالكم)، ثم أعاد الضمير
في قوله تعالى: (فإن لم يكونا) على (الشهيدين المطلقين)، وكان عودة عليهما أبلغ
ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما، فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين المطلقين
لأن قوله: (من رجالكم)، كالشرط، كأنه قال: (إن كانا رجلين)، وفي النظم على
هذا الأسلوب من الارتباط وجرى الكلام على نسق واحد مالا خفاء به. وأما في آية
المواريث، فالظاهر أن الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى، بدليل أنه لم
يتقدمه ما يدل عليه لفظا، فكأنه قال: (فإن كان الوارث اثنين)، ثم وضع ضمير الاثنين
موضع الوارث الذي هو جنس، لما كان المراد به منه (الاثنان). وأيضا فإن الإخبار عن
الوارث - وإن كان جمعا - باثنين ففيه تفاوت ما، لكونه مفرد اللفظ، فكان الأليق
بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر، ثم يجرى الخبر على من حدث عنه - وهو الوارث -
فيجري الكلام في طريقه، مع الإيجاز في وضع المضمر الظاهر، والسلامة من تفاوت
اللفظ، في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى.
440

ونظير هذا - مما وقع فيه اسم موضع غيره إيجازا ثم جرى الكلام مجراه في الحديث
عمن هو له، وإن لم يذكر - قوله تعالى: (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا "
أو هم قائلون)، فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الذين أقيمت القرية في
الذكر مقامهم، فجرى الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها،
وفهم المعنى بغير كلفة، وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الانسان.
ومنها قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)، قال ابن عمرون:
لما فهم منها التأكيد ظن بعضهم أنها ليست بصفة. وليس بجيد، لأنها دلالة على بعض
أحوال الذات، وليس في (واحدة) دلالة على نفخ، فدل على أنها ليست تأكيدا ". انتهى.
وفي فائدة (واحدة) خمسة أقوال:
أحدها: التوكيد، مثل قولهم: (أمس الدابر).
الثاني: وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل، لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل
إلا إذا وصف. ورد بان تحديدها بتاء التأنيث مصحح لقيامها مقام الفاعل.
الثالث: أن الوحدة لم تعلم من (نفخة) إلا ضمنا " وتبعا "، لأن قولك: (نفخة) يفهم
منه أمران: النفخ والوحدة، فليست (نفخة) موضوعة للوحدة، فلذلك صح وصفها.
الرابع: وصفه النفخة بواحدة لأجل [نفي] توهم الكثرة، كقوله تعالى: (وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها) فالنعمة في اللفظ واحدة وقد علق عدم الإحصاء بعدها.
441

الخامس: أتى بالوحدة ليدل على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها، فهي واحدة بالنوع،
كقوله: (وما أمرنا إلا واحدة)، أي لا اختلاف في حقيقته.
ومنها قوله تعالى: (وإلهكم إله واحد)، قيل ما فائدة (إله)؟ وهلا جاء
(وإلهكم واحد) وهو أوجز؟
قيل: لو قال: (وإلهكم واحد) لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته،
يعني لا إله غيره، ولم يكن إخبارا " عن توحده في ذاته، بخلاف ما إذا كرر ذكر الإله، والآية
إنما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ونفي ما يقوله النصارى إنه إله واحد والأقانيم ثلاثة، أي
الأصول، كما أن زيدا واحدا وأعضاؤه متعددة، فلما قال: (إله واحد) دل على أحدية
الذات والصفة.
ولقائل أن يقول: قوله: (واحد) يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات، سواء
ذكر (الإله) أولا، فلا يتم الجواب.
ومنها قوله: (ومناة الثالثة الأخرى)، ومعلوم بقوله: (الثالثة) أنها
(الأخرى)، وفائدته التأكيد. ومثله على رأي الفارسي: (وأنه أهلك عادا "
الأولى).
وأما قوله: (فخر عليهم السقف من فوقهم)، قيل بمعنى (عن) أي خر
عن كفرهم بالله، كما تقول: اشتكى فلان عن دواء شربه، أي من أجل كفرهم. أو بمعنى
اللام، أي فخر لهم. وقيل: لأن العرب لا تستعمل لفظه (على) في مثل هذا الموضع
إلا في الشر والأمر المكروه، تقول: خربت على فلان ضيعته، كقوله: (واتبعوا
442

ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان)، (ويقولون على الله الكذب)،
(أتقولون على الله مالا تعلمون). وقيل: لأنه يقال: سقط عليه موضع كذا،
إذا كان يملكه، وإن لم يكن من فوقه بل تحته، فدل قوله تعالى: (من فوقهم) على
الفوقية الحقيقية، وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما تقدم من قوله: (فأتى الله بنيانهم
من القواعد)! كما تقول: أخذ برجله فسقط على رأسه.
السادسة
[إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل]
إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل قدم الاسم المفرد، ثم الظرف أو عديله،
ثم الجملة، كقوله تعالى: (اسمه المسيح عيسى بن مريم وجيها " في الدنيا والآخرة ومن
المقربين. ويكلم الناس في المهد وكهلا " ومن الصالحين)، فقوله (وجيها) حال،
وكذلك (من المقربين)، وقوله (يكلم) وقوله: (من الصالحين)، فهذه أربعة أحوال انتصبت
عن قوله: (كلمة) والحال الأولى جئ بها على الأصل اسما صريحا، والثانية في
تأويله، جار ومجرور، [وجئ] بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام، ولو جئ بها اسما
صريحا لناسبت الفواصل، والثالثة جملة فعلية، والرابعة جار ومجرور.
ومنه قوله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)، (قال
443

رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما)، ولما كان الظرف فيه شبه من المفرد
وشبه من الجملة جعل بينهما.
وقد أوجب ابن عصفور، ذلك وليس كما قال، فقد قال تعالى: (فسوف يأتي الله
بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين) ولا يقال: إن (أذلة) بدل لأنه مشتق،
والبدل إنما يكون في الجوامد، كما نص عليه هو وغيره.
وأما قوله تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك)، فقيل: إنه من تقديم الجملة
على المفرد، ويحتمل أن يكون (مبارك) خبرا " لمحذوف، فلا يكون من هذا الباب.
السابعة
[في اجتماع التابع والمتبوع]
في اجتماع التابع والمتبوع أنهم يقدمون المتبوع، فيقولون: (أبيض ناصع) و (أصفر
فاقع) و (أحمر قان) و (أسود غربيب)، قال الله تعالى: (صفراء فاقع لونها)،
والمعنى أن التبع فيه زيادة الوصف، فلو قدم لكان ذكر الموصوف بعده عيبا "، إلا أن يكون
لمعنى أوجب تقديمه.
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: (وغرابيب سود)، وهي من الآيات التي صدئت
فيها الأذهان الصقيلة، وعادت بها أسنة الألسنة مفلولة، ومن جملة العجائب أن شيخا " أراد أن يحتج
على مدرس لما ذكر له هذا السؤال، فقال: إنما ذكر السواد لأنه قد يكون في الغربان ما فيه
بياض، وقد رأيته ببلاد المشرق! فلم يفهم من الآية إلا أن الغرابيب هو الغراب، ولا قوة إلا بالله!
444

والذي يظهر في ذلك أن الموجب لتقديم (الغرابيب) هو تناسب الكلم وجريانها
على نمط متساوي التركيب، وذلك أنه لما تقدم البيض والحمر دون اتباع كان الأليق بحسن
النسق وترتيب النظام أن يكون (السود) كذلك، ولكنه لما كان في (السود) هنا
زيادة الوصف، كان الأليق في المعنى أن يتبع بما يقتضي ذلك، وهو الغرابيب، فيقابل حظ
اللفظ وحظ المعنى، فوفى الخطاب وكمل الغرضان جميعا، ولم يطرح أحدهما الآخر، فيقع
النقص من جهة الطرح، وذلك بتقديم (الغرابيب) على (السود) فوقع في لفظ
(الغرابيب) حظ المعنى في زيادة الوصف. وفي ذكر (السود) مفردا " من الاتباع حظ
اللفظ، إذا جاء مجردا " عن صورة البيض والحمر، فاتسقت الألفاظ كما ينبغي، وتم المعنى
كما يجب، ولم يخل بواحدة من الوجهين، ولم يقتصر على (الغرابيب) وإن كانت
متضمنه لمعنى (السود)، لئلا تتنافر الألفاظ، فإن ضم الغربيب إلى البيض والحمر ولزها
في قرن واحد:
* كابن اللبون إذا ما لز في قرن *
غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها، وبذكر السود وقع الالتئام واتسق
نسق النظام، وجاء اللفظ والمعنى في درجة التمام، وهذا لعمر الله من العجائب التي تكل
دونها العقول، وتعيابها الألسن لا تدري ما تقول! والحمد لله.
445

ثم رأيت أبا القاسم السهيلي، أشار إلى معنى غريب، فنقل عن أبي حنيفة الدينوري
أن (الغربيب) اسم لنوع من العنب وليس بنعت، قال: ومن هذا يفهم معنى الآية،
و (سود) عندي بدل لا نعت، وإن كان (الغربيب) إذا أطلق لفظه ولم يقيد بذكر
شئ موصوف قلما يفهم منه العنب الذي هو اسمه خاصة، فمن ثم حسن التقييد.
الثامنة
[عند تكرار النعوت لواحد]
إذا تكررت النعوت لواحدة، فتارة يترك العطف، كقوله: (و لا تطع كل حلاف
مهين هماز مشاء بنميم)، وتارة تشترك بالعطف كقوله: (سبح اسم ربك الأعلى.
الذي خلق فسوى. والذي قدر فهدى) ويشترط في ذلك اختلاف معانيها، قال
الزمخشري وأبو البقاء: دخول العاطف يؤذن بأن كل صفة مستقلة. انتهى.
والعطف أحسن إن تباعد معنى الصفات، نحو: (هو الأول والآخر والظاهر
والباطن)، وإلا فلا.
التاسعة
فصل الجمل في مقام المدح والذم أبلغ من جعلها نمطا " واحدا "
قال أبو على الفارسي: إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم، فالأحسن أن يخالف
في إعرابها، لأن المقام يقتضي الإطناب، فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل،
لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن، وعند الإيجاز تكون نوعا " واحدا ".
446

ومثله في المدح قوله: (والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة) فانتصب (المقيمين) على القطع، وهو من
صفة المرفوع الذي هو (المؤمنون). وقيل: بل انتصب بالعطف على قوله: (بما أنزل
إليك)، وهو مجرور، وكأنه قال: (يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين) أي
بإجابة المقيمين، والأول أولى، لأن الموضع للتفخيم فالأليق به إضمار الفعل، حتى يكون
الكلام جملة لا مفردا.
ومثله قوله تعالى: (ولكن البر من آمن بالله) إلى قوله: (والموفون
بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين) نص عليه سيبويه.
وجوز السيرافي أن يحمل على قوله: (وآتى المال على حبه ذوي القربى)
إلى أن قال: (والصابرين)، ورده الصفار بأنه لا يعطف على الموصول قبل
تمام الصلة، وإن كان (والصابرين) معطوفا على (والسائلين) فهو من صلة (من)
فكذلك المعطوف عليه.
والصواب أن يكون المعطوف من صلة (من)، وتكون الصلة كملت
447

عند قوله تعالى: (وآتى الزكاة) ثم أخذ في القطع.
ومثاله في الذم: (وامرأته حمالة الحطب) بنصب (حمالة).
تنبيهان
الأول: إنما يحسن القطع بشرطين: أحدهما أن يكون الموصوف معلوما "، أو منزلا
منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول. وقولنا (أو منزلا تعالى منزلة المعلوم) لابد منه
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (الذي له ملك السماوات والأرض): رفع على
الإبدال من (الذي نزل) أو رفع على المدح، أو نصب عليه.
قال الطيبي: والإبدال أولى، لأن من حق صلة الموصول أن تكون
معلومة عند المخاطب، وكونه تعالى: (نزل الفرقان على عبده) لم يكن معلوما
للعالمين، فأبدل بقوله: (له ملك السماوات والأرض) بيانا " وتفسيرا " وتبين لك المدح.
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم، وها هنا لقوة دليله أجرى
مجرى المعلوم، وجعلت صلة، نص عليه سيبويه والجمهور.
وثانيهما أن يكون الصفة للثناء والتعظيم.
وشرط بعضهم ثالثا، وهو تقدم الاتباع، حكاه ابن بابشاذ.
448

وزيفة الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، وقال: إنما يتم ذلك إذا كان الموصوف يفتقر
إلى زيادة بيان، فحينئذ يتقدم الاتباع ليستحكم العلم بالموصوف، أما إذا كان معلوما " فلا يفتقر
إلى زيادة بيان. قال: والأصل - فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم - قطع الضمير،
وهو الأفصح، ولا يشترط غير ذلك.
وقد أورد على دعوى أفصحية القطع عند ذلك إجماع القراء السبعة على الاتباع في قوله
تعالى: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين)، فضعفوا
قراءة النصب على القطع مع حصول شرطي القطع.
وأجاب ابن الزبير بأن اختيار القطع مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بمن جرت عليه،
لا يليق ولا يتصف بها سواه. ولا شك أن هذا الضرب قليل جدا "، فكذلك لم يفصح
سيبويه باشتراطه. فإذا كانت الصف ممن لا يشارك فيها الموصوف غيره، وكانت مختصة
بمن جرت عليه، فالوجه فيها الاتباع.
ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره، فلذلك لم يقطع، وعليه
ورد السماع لهذه الآيات الشريفة.
وكذلك قوله تعالى: (حم: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب
وقابل التوب شديد العقاب. ذي الطول)، لما كان وصفه تعالى ب‍ (غافر الذنب) وما
بعده لا يليق بغيره، لم يكن فيه إلا الاتباع، والاتباع لا يكون إلا بعد القطع، ويلزم
الاتباع في الكل.
وهذا مع تكرر الصفات، وذلك من مسوغات القطع على صفة ما، وعند بعضهم من
غير تقييد بصفة.
449

وأما الاتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير، فهذا هو السماع، وله وجه
في القياس، وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم، في قوله تعالى: (وأنه هو أضحك وأبكى.
وأنه هو أمات وأحيا)، ثم قال بعد: (وأنه هو أغنى وأقنى. وأنه هو رب
الشعرى) فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إن وخبرها،
ليتحدد بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار، وكان الكلام في قوة أن
لو قيل: (وأنه هو لا غيره).
ولم يرد هذا الضمير في قوله تعالى: (وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى)،
لأن ذلك مما لا يتعاطاه وإن أحد، لا حقيقة " ولا مجازا " ولا ادعاء، بخلاف الإحياء والإماتة، فيما حكاه
الله تعالى عن نمروذ.
قلت: وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى: (التائبون العابدون...)
الآية، وقوله تعالى: (أن يبدله أزواجا " خيرا " منكن مسلمات...) الآيات.
ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله: (ولا تطع كل حلاف مهين هماز...)
الآية، قد جرت كلها على ما قبلها بالاتباع، ولم يجئ فيها القطع.
وقرأ الحسن: (عتل) بالرفع على الذم، قال الزمخشري: وهذه القراءة تقوية لما
يدل عليه بعد ذلك.
الثاني: قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص، وقد فرق سيبويه بينهما فيما بين،
450

والفرق أن المنصوب على المدح أن يكون المنتصب كما لفظا " يتضمن نفسه مدحا، نحو (هذا زيد
عاقل قومه) وفي الاختصاص لا يقتضي اللفظ ذلك، كقوله تعالى: (رحمة الله وبركاته
عليكم أهل البيت) فيمن نصب (أهل).
العاشرة
[في وصف الجمع بالمفرد]
يوصف الجمع بالمفرد، قال تعالى: (ممن خلق الأرض والسماوات العلى)
فوصف الجمع بالمفرد.
وقال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)، فوصف (الأسماء) وهي جمع اسم
بالحسنى وهو مفرد، تأنيث الأحسن.
وكذلك قوله تعالى: (فما بال القرون الأولى)، فإن (الأولى) تأنيث
(الأول) وهو صفة لمفرد.
وإنما وصف الجمع بالمفرد، لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على جماعة المؤنث،
بخلاف لفظ المذكر. وأما قوله تعالى: (وكنتم قوما " بورا ")، والبور: الفاسد، فقال
الرماني: هو بمعنى الجمع إلا أنه ترك جمعه في اللفظ، لأنه مصدر وصف.
وقد يوصف الجمع بالجمع، ولا يوصف مفرد كل منهما بالمفرد، ومنه: (فوجد فيها
451

رجلين يقتتلان) فثنى الضمير، ولا يقال في الواحد (يقتتل).
ومنه: (وأخر متشابهات)، ولا يقال (وأخرى متشابهة).
الحادية عشر
قد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة تأكيدا
ذكره الزمخشري، وجعل منه قوله تعالى: (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب
معلوم) قال: الجملة صفة لقرية، والقياس عدم دخول الواو فيها، كما في قوله تعالى:
(وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون)، وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة
بالموصوف.
وقد أنكره عليه ابن مالك والشيخ أبو حيان وغيرهما، والقياس مع الزمخشري،
لأن الصفة كالحال في المعنى.
وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بالواو في الصفات إلا إذا تكررت النعوت، وليس
كذلك، ومنه قوله تعالى: (ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم)، وقوله تعالى:
(آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء " وذكرا للمتقين)، وتقول: جاءني
زيد والعالم.
452

الثانية عشرة
الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا على استكراه
لأنها إنما يؤتى بها للبيان والتخصيص، أو المدح والذم، وهذا في موضع الإطالة
لا الاختصار، فصار من باب نقص الغرض.
وقال ابن عمرون: عندي أن البيان حصل بالصفة والموصوف معا "، فحذف الموصوف
بنقص الغرض، ولأنه ربما أوقع لبسا، ألا ترى أن قولك: (مررت بطويل) يحتمل أنه
رجل أو قوس أو غير ذلك، إلا إذا ظهر أمره ظهورا " يستغنى به عن ذكره، كقوله تعالى:
(وعندهم قاصرات الطرف عين).
قال السخاوي: ولا فرق في صفة النكرة بين أن يذكر معها أولا.
قال ابن عمرون: وليس قوله بشئ.
القسم الثالث
البدل
والقصد به الإيضاح بعد الإبهام، وهو يفيد البيان والتأكيد، أما البيان فإنك إذا
قلت: (رأيت زيدا أخاك) بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير، وأما التأكيد فلأنه
453

على نية تكرار العامل، ألا ترى [أنك] إذا قلت: (ضربت زيدا) جاز أن تكون
ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه، فإذا قلت: (يده) فقد رفعت ذلك الإبهام، فالبدل
جار مجرى التأكيد، لدلالة الأولى عليه، أو المطابقة كما في بدل الكل، أو التضمن
كما في بدل البعض، أو الالتزام عنه كما في بدل الاشمال، إن فإذا قلت: (ضربت زيدا رأسه)
فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين، مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة، وإذا قلت:
(شربت ماء البحر بعضه) فإنه مفهوم من قولك: (شربت ماء البحر) أنك لم تشربه كله
فجئت بالبعض تأكيدا ".
وهذا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الاسم تأكيدا، وجرى مجرى الصفة
في الإيضاح، لأنك إذا قلت: (رأيت أبا عمرو زيدا)، (ورأيت غلامك زيدا ")،
(ومررت برجل صالح زيد)، فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك، أو بأنه رجل صالح،
ولا يعرف أنه زيد، وعلى العكس، فلما ذكرتهما أثبت باجتماعهما المقصود.
وهذا معنى قول الزمخشري: وإنما يذكر الأول لتجوز التوطئة، وليفاد
بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد.
وقال ابن السيد: ليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه،
بل من البدل ما يراد به التأكيد، وإن كان ما قبله غنيا عنه، كقوله تعالى: (وإنك
لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله)، ألا ترى أنه لو لم يذكر (الصراط)
الثاني لم يشك أجد أن الصراط المستقيم هو صراط الله. وقد نص سيبويه على أن من
البدل ما الغرض منه التأكيد، ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر، كلقيته أباه. انتهى.
454

والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل، وكأنه في التقدير من جملتين،
بدليل تكرر حرف الجر في قوله: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا
لمن آمن منهم)، وبدليل بدل النكرة من المعرفة والمظهر من المضمر، وهذا مما
يمتنع في الصفة، فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم، فكذلك تكرار العامل الرافع
أو الناصب في تقدير التكرار، وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين
للأول كالصفة.
وقيل لأبي علي: كيف يكون البدل إيضاحا " للمبدل منه، وهو من غير جملته؟ فقال:
لما لم يظهر العامل في البدل، وإنما دل عليه العامل في المبدل منه، واتصل البدل بالمبدل منه
في اللفظ، جاز أن يوضحه.
ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح فقولك: هل أدلك على أكرم الناس
وأفضلهم؟ فلان، أبلغ من قولك: فلان الأكرم والأفضل، بذكره مجملا ثم مفصلا.
وقال الأخفش والواحدي في بدل البعض من الكل، نحو: (ولله على الناس حج
البيت من استطاع إليه سبيلا "): يسمى هذا بدل البيان، لأن الأول يدل على
العموم، ثم يؤتى بالبدل إن أريد البعض.
واعلم أن في كلام البدلين - أعني بدل البعض وبدل الاشتمال - بيانا " وتخصيصا " للمبدل
منه، وفائدة البدل أن ذلك الشئ يصير مذكورا مرتين: إحداهما بالعموم، والثانية بالخصوص.
ومن أمثلته قوله تعالى: (إهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين).
455

(آمنا برب العالمين. رب موسى وهارون).
وقوله: (لنسفعا " بالناصية. ناصية كاذبة) وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت
للتخصيص على (ناصية)، والثانية على علة السفع، ليشمل بذلك ظاهر كل ناصية
هذه صفتها.
ويجوز بدل المعرفة من المعرفة، نحو: (الصراط المستقيم. صراط الذين).
وبدل النكرة من المعرفة، نحو: (بالناصية. ناصية كاذبة). قال ابن بعيش:
ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية، لأن البيان مرتبط بهما جميعا ".
والنكرة من النكرة كقوله تعالى: (إن للمتقين مفازا ". حدائق وأعنابا " وكواعب
أترابا ". وكأسا " دهاقا ")، فحدائق وما بعدها بدل من (مفازا ").
ومنه قوله تعالى: (وغرابيب سود)، فان (سود) بدل من (غرابيب)
لأن الأصل (سود غرابيب) فغرابيب في الأصل صفة لسود، ونزع الضمير منها، وأقيمت
مقام الموصوف، ثم أبدل منها الذي كا موصوفا، بها كقوله تعالى: (و من يبتغ غير
الاسلام دينا ") وقوله: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) فهذا بدل نكرة موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى.
ومثل إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة: (وإنك
لتهدي إلى صراط مستقيم. صراط الله) لأن (صراط الله) مبين إلى الصراط
456

المستقيم، فإن مجئ الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير، ولهذا المعنى قال الحذاق
في قوله تعالى: (ما يلفظ من قول): إنه لو عكس فقيل: (ما يقول من لفظ) لم
يجز، لأن القول أخص من اللفظ، لاختصاصه بالمستعمل، واللفظ يشمل المهمل الذي
لا معنى له.
وقد يجئ للاشتمال، والفرق بينه وبين بدل البعص، أن البدل في البعض جر في
الاشتمال وصفا "، كقوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) فإن (أذكره)
بمعنى (ذكره)، وهو بدل من الهاء في (أنسانيه) العائدة إلى الحوت، وتقديره:
(وما أنساني ذكره إلا الشيطان).
وقوله: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه) ف‍ (قتال) بدل من (الشهر)
بدل الاشتمال، لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره، كما كان زيد يشتمل على العقل
وغيره، وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام فإنهم يعلمونه، وإنما سألوا عن القتال فيه،
فجاء به تأكيدا ".
وقوله: (قتل أصحاب الأخدود. النار)، فالنار بدل من (الأخدود) بدل
اشتمال، لأنه يشتمل على النار وغيرها، والعائد محذوف تقديره: (الموقدة فيه).
ومن بدل البعض قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا ") فالمستطيعون بعض الناس، لا كلهم.
وقال ابن برهان: بل هذه بدل كل من كل، واحتج بأن الله لم يكلف الحج من لا يستطيعه
فيكون المراد بالناس بعضهم، على حد قوله: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا
457

لكم)، في أنه لفظ عام أريد به خاص، لأن (الناس) في اللفظ الأول لو كان المراد به
الاستغراق لما انتظم قوله بعده: (إن الناس)، فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين
في كميتهم، وهم بعض الناس لا جميعهم.
والصحيح ما صار عليه الجمهور، لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول،
بأن يذكر الخاص بعد العام مبينا وموضحا.
ولا بد في إبدال البعض من ضمير، كقوله: (ولولا دفع الله الناس بعضهم
ببعض). (ويجعل الخبيث بعضه على بعض).
وقد يحذف لدليل، كقوله: (ولله على الناس حج البيت من استطاع)،
(منهم)، وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى، وهي قوله: (وارزق أهله من
الثمرات من آمن منهم)، ف‍ (من آمن) بدل من (أهله)، وهم بعضهم.
وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله، نحو: (جاء القوم أكثرهم، وأعجبني زيد
ثوبه). وقال ابن عصفور: ولا يصح (غلمانه).
وعدل عن البدل في قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم
لا يعقلون)، لأنه أريد الإخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو (ولو أنهم
صبروا)، فلو أبدل لأوهم، بخلاف: (إنك أن تقوم خير لك) البدل أرجح.
والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة، ولكنه في تقدير جملتين بدليل
تكرير حرف الجر.
458

قد يكرر عامله إذا كان حرف جر، كقوله: (ومن النخل من طلعها قنوان
دانية)، ف‍ (طلعها) بدل اشتمال من (النخل) وكرر العامل فيه، وهو (من).
وقوله تعالى: (قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن
منهم)، (لمن آمن)، بدل بعض من كل، من (الذين استضعفوا)، لأن المؤمنين
بعض المستضعفين، وقد كرر اللام.
وقوله: (ولولا أن يكون الناس أمة " واحدة " لجعلنا لمن يكفر بالرحمن
لبيوتهم سقفا " من فضة)، فقوله: (لبيوتهم) بدل اشتمال من قوله: (لمن يكفر
بالرحمن). وجعل ابن عطية اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص، فعلى هذا يمتنع
البدل لاختلاف معنى الحرفين.
وقوله تعالى: (تكون لنا عيدا " لأولنا وآخرنا)، ف‍ (لأولنا وآخرنا) بدل من
الضمير في (لنا)، وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل.
ومنه قراءة يعقوب: (وترى كل أمة جاثية "، كل أمة تدعى إلى
كتابها)، قال أبو الفتح: جاز إبدال الثانية من الأولى، لأن في الثانية ذكر
سبب الجثو.
قيل: ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف، جر إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول، فإن
حروف الجر مفتقرة، ولم يظهر الفعل، إذا لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية،
لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه.
459

واعلم أنه لا خلاف في جواز إطهار العامل في البدل إذا كان حرف جر كالآيات
السابقة، فإن كان رافعا أو ناصبا " ففيه خلاف، والمجوزون احتجوا بقوله تعالى: (فاتقوا
الله وأطيعون. واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون. أمدكم) فيجوز أن يكون
(أمدكم) الثاني بدلا من (أمدكم) الأول. وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة،
وتكون الثانية صلة (الذي) كالأولى. ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى،
كقولك: (ضربت رأس زيد قذفته بالحجر). ثم قوله تعالى: (يا قوم اتبعوا المرسلين.
اتبعوا من لا يسألكم)، أبدل قوله: (اتبعوا من لا يسألكم) من قوله:
(اتبعوا المرسلين) لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم. وقوله تعالى: (ومن
يفعل ذلك يلق أثاما ". يضاعف له العذاب) ف‍ (يلق) مجزوم بحذف الألف
لأنه جواب الشرط، ثم أبدل منه: (يضاعف له العذاب) فبين بها (الأثام) ما هو.
[تقسيم البدل باعتبار آخر]
ينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد، وجملة، من جملة وقد سبقا، وجملة
من مفرد، كقوله تعالى: (كمثل آدم خلقه من تراب)، وقوله: (ما يقال لك
إلا ما قد قيل للرسل إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم) وجاز
إسناد (يقال) إلى ما علمت فيه، كما جاز إسناد (قيل) في (و إذ قيل إن وعد
الله حق).
ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى: (وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا
460

إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون) قال الزمخشري: هذا الكلام
كله في محل نصب، بدلا من (النجوى).
ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان: كقوله تعالى: (ومن
يفعل ذلك يلق أثاما ". يضاعف له العذاب...) الآية.
والرابع: بدل المفرد من الجملة، كقوله: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من
القرون أنهم إليهم لا يرجعون)، ف‍ (أنهم) بدل، لأن الإهلاك وعدم الرجوع
بمعنى واحد.
فإن قلت: لو كان بدلا لكان معه الاستفهام.
قيل: هو بدل معنوي.
تنبيه
[في تكرار البدل]
وقد يكرر البدل كقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا
ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه)، فقوله: (إذ هما) بدل من قوله:
(إذ أخرجه الذين كفروا)، وقوله: (إذ يقول لصاحبه) بدل من:
(إذ هما في الغار).
461

تنبيه
[في إعراب كلمة (آزر) في سورة الأنعام]
أعربوا (آزر) من قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر) بدلا ".
قال ابن عبد السلام: والبدل لا يكون إلا للبيان، والأب لا يلتبس بغيره فكيف
حسن البدل؟ انتهى.
والجواب أن الأب يطلق على الجد، بدليل قوله: (آبائي إبراهيم وإسحاق
ويعقوب)، فقال: (آزر) لدفع توهم المجاز.
هذا كله إذا قلنا: إن (آزر) اسم أبيه لكن في " المعرب " للجواليقي الزجاج:
لا خلاف أن اسم أبي إبراهيم [(تارح) والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر] وقيل:
(آزر) ذم في لغتهم، وكأنه: (يا مخطئ) وهو من العجمي الذي وافق لفظه لفظ العربي،
نحو الإزار والإزرة، قال تعالى: (أخرج شطأه فآزره).
وعلى هذا فالوجه الرفع، في قراءة (آرز)
القسم الرابع
عطف البيان
وهو كالنعت في الإيضاح وإزالة الاشتراك الكائن فيه.
وشرط صاحب الكشاف فيه أن يكون وضوحه زائدا على وضوح متبوعه.
462

ورد ما قاله بأن الشرط حصول زيادة الوضوح بسبب انضمام عطف البيان مع متبوعه،
لا أن الشرط كونه أوضح وأشهر من الأول، لأن من الجائز أن يحصل باجتماع الثاني مع
الأول زيادة وضوح لا تحصل حال انفراد كل واحد منهما، كما في (خالي) أبو عبد الله زيد)
مع أن اللقب أشهر، فيكون في كل واجد منهما خفاء بانفراده ويرفع بالانضمام.
وقال سيبويه: جعل (يا هذا الحمد) عطف بيان مع أن اسم الإشارة أعرف من
المضاف إلى ذي اللام.
وقيل: يشترط ان يكون عطف البيان معرفة ".
والصحيح أنه ليس بشرط، كقولك: (لبست ثوبا جبة).
وقد أعرف الفارسي: (من شجرة مباركة زيتونه) وكذا: (فكفارته
إطعام عشرة مساكين)، وكذلك صاحب المفتاح في (لا تتخذوا إلهين اثنين
إنما هو اله واحد).
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين الصفة؟.
قلت: عطف البيان وضع ليدل على الإيضاح باسم يختص به، وإن استعمل في غير
الإيضاح، كالمدح في قوله تعالى: (جعل الله الكعبة البيت الحرام) فإن
(البيت الحرام) عطف بيان جئ به للمدح لا للإيضاح، وأما الصفة فوضعت لتدل على معنى
حاصل في متبوعه، وإن كانت في بعض الصور مفيدة للإيضاح للعلم بمتبوعها من غيرها.
وكقوله تعالى: (إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله)، وقوله تعالى (آيات
بينات مقام إبراهيم).
463

وزعم الزمخشري في قوله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم)
أن (من وجدكم) عطف بيان.
وهو مردود، فإن العامل إنما يعاد في البدل لا في عطف البيان.
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين البدل؟.
قلت: قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أحدا فرق بينهما إلا ابن كيسان، فإن
الفرق بينهما أن البدل يقرر الثاني في موضع الأول، وكأنك لم تذكر الأول، وعطف البيان
أن تقدر أنك إن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني، وإن ذكرت الثاني لم يعرف
إلا بالأول، فجئت بالثاني مبينا للأول، قائما له مقام النعت والتوكيد.
قال: وتظهر فائدة هذا في النداء، تقول: (يا أخانا زيد أقبل)، على البدل، كأنك
رفعت الأول وقلت: (يا زيد أقبل)، فإن أردت عطف البيان قلت: (يا أخانا
زيدا أقبل).
القسم الخامس
ذكر الخاص بعدم العام
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه على فضله، حتى كأنه ليس من جنس العام، تنزيلا
للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات، وعلى هذا بنى المتنبي قوله:
فإن تفق الأنام وأنت منهم * فإن المسك بعض دم الغزال
464

وابن الرومي أيضا " حيث قال:
كم من أب قد علا بابن ذرا شرف * كما علت برسول الله عدنان
وحكى الشيخ أثير الدين عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: إن هذا العطف
يسمى بالتجريد، كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفصيلا.
وله شرطان ذكرهما ابن مالك: أحدهما كون العطف بالواو، والثاني كون المعطوف
ذا مزية. وحكي قولين في العام المذكور: هل يتناول الخاص المعطوف عليه، أو لا يتناوله؟
فعلى القول الأول يكون هذا نظير مسألة: (نعم الرجل زيد) على المشهور فيه، وهو
الظاهر من لفظ العام، وعلى الثاني يكون عطف الخاص قرينة " دالة على إرادة التخصيص
في العام، وأنه لم يتناوله، وهو نظير بحث الاستثناء في نحو قولك: (قام القوم إلا زيدا)
من أن (زيدا) لم يدخل في القوم، وقد يتقوى هذا بقوله:
يا حب ليلى لا تغير وازدد * وانم كما ينمو الخضاب في اليد
وإن كان هذا ليس من العطف العام.
وقد أشار الزمخشري إلى القولين في سورة الشعراء. في قوله: (في جنات وعيون.
وزروع ونخل طلعها هضيم).
465

وقد يقال: آية الشعراء إنما جاز فيها الاحتمالان من جهة أن لفظ (جنات) وقع بلفظ
التنكير، ولم يعم الجنس، وأما الآية السابقة فالإضافة تعم. ولا ينبغي أن يجعل
من هذا قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان) أما على قول أبي حنيفة ومحمد
فواضح، لأنهما يقولان: إن النخل والرمان ليس بفاكهة، وأما على قول أبي يوسف فقوله:
(فاكهة) مطلق وليس بعام.
ومن أمثلته قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى)، على
القول بأنها إحدى الصلوات الخمس.
قلنا: إن المراد غيرها كالوتر والضحى والعيد، فليس من هذا الباب.
وقوله تعالى: (والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة)، مع أن
لتمسك بالكتاب يشمل كل عبادة، ومنها الصلاة، لكن خصها بالذكر إظهارا " لمرتبتها
لكونها عماد الدين.
وقوله تعالى: (قل من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال)،
فإن عداوة الله راجعه إلى عداوة حزبه، فيكون جبريل كالمذكور أربع مرات،
فإنه اندرج تحت عموم ملائكته، وتحت عموم رسله، ثم عموم حزبه، ثم خصوصه
بالتنصيص عليه.
ويجوز أن يكون عومل معاملة العدد، فيكون الذكر ثلاثا، وذكرهما بعد الملائكة
- مع كونهما من الجنس - دليل على قصد التنويه بشرفهما. على أن التفصيل
466

إن كان بسبب الإفراد فقد عدل للملائكة مثله بسبب الإضافة، وقد يلحظ شرفهما
على غيرهما.
وأيضا فالخلاف السابق في أن ذكر بعض أفراد العام بعد العام، هل يدل على أنه
لم يدخل في العام فرارا من التكرار أو يدخل؟
وفائدته التوكيد، وحكاه الروياني في " البحر " من كتاب الوصية، وخرج
عليه ما إذا أوصي [رجل] لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء، وزيد فقير، فهل يجمع له
بين ما أوصى لديه وبين شئ من الثلث على ما أراد الوصي؟ وجهان، والأصح انه لا يعطى
غير الدينار، لأنه بالتقدير قطع اجتهاد الوصي.
قلت: والقول بعدم دخوله تحت اللفظ هو قول أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني،
وعلى هذا القول فلا يحسن عد هذه الآية من هذا النوع.
وأيضا فإذا اجتمع في الكلام معطوفان، هل يجعل الآخر معطوفا على الأول؟
أو على ما يليه؟ وقع في كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف تجويزا للأمرين.
فذكر في قوله تعالى: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت
ومخرج الميت من الحي)، أن (مخرجا) معطوف على (فالق) لا على
(يخرج)، فرارا " من عطف الاسم على الفعل، وخالفه ابن مالك وأوله.
وذكر أيضا في قوله تعالى: (إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة
467

وقضى الأمر)، على هذه القراءة أنه معطوف على (الله) لأن قضاءه قديم.
وذكر أيضا في قوله تعالى: (الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها
وبث منهما رجالا " كثيرا " ونساء ")، حاصله أن قوله: (يا أيها الناس) إذا أريد به
العموم كان قوله: (و خلق منها زوجها) عطفا " على مقدر، أي أنشأها وأوجدها، (وخلق
منها زوجها وبث منهما رجالا " كثيرا ")، يعني خلقكم من نفس هذه صفتها. وإن أريد به
المخاطبون بمكة كان قوله: (وخلق) عطفا على (خلقكم)، وموجب ذلك الفرار
من التكرار.
وعلى هذا فيجوز ان يكون (جبريل) معطوفا على لفظ الجلالة، فلا تكون الآية
من هذا النوع. ولو سلمنا بعطفه على (رسله) فكذلك، لكن الظاهر أن المراد بالرسل
من بني آدم لعطفهم على الملائكة، فليسوا منه.
وفي الآية سؤالان:
أحدهما: لم خص جبريل وميكائيل بالذكر؟ الثاني: لم قدم جبريل عليه؟
والجواب عن الأول أنه سبحانه وتعالى خصهما بالحياة، فجبريل بالوحي الذي
هو حياة القلوب، وميكائيل بالرزق الذي هو حياة الأبدان، ولأنهما كانا سبب النزول
في تصريح اليهود بعداوتهما.
وعن الثاني: أن حياة القلوب أعظم من حياة الأبدان، ومن ثم قيل:
468

عليك بالنفس فاستكمل فضائلها * فأنت بالنفس لا بالجسم انسان
ومنه قوله تعالى: (فيهما فاكهة ونخل ورمان)، وغلط بعضهم من عد
هذه الآية من هذا النوع، من جهة أن (فاكهة) نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها.
وهو غلط لأمرين:
أحدهما: أنها في سياق الإثبات، وهو مقتضى العموم، كما ذكره القاضي أبو الطيب
الطبري.
والثاني: أنه ليس المراد بالخاص والعام هاهنا المصطلح عليه في الأصول، بل كل ما كان
الأول فيه شاملا للثاني.
وهذا الجواب أحسن من الأول، لعمومه بالنسبة إلى كل مجموع يشتمل على متعدد.
ولما لمح أبو حنيفة معنى العطف وهو المغايرة لم يحنث الحالف على أكل الفاكهة
بأكل الرمان.
ومنه قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر)، إذ الأمر والنهي من جملة الدعاء إلى الخير.
وقوله تعالى: (و الذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد)،
والقصد تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم، وما نزل، عليه إذ لا يتم الإيمان إلا به.
وقوله: (ولهم فيها منافع ومشارب).
469

وقوله: (ولتجدنهم ما أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا)،
ففائدة قوله: (ومن الذين أشركوا) مع دخولهم في عموم الناس، أن حرصهم على الحياة
أشد، لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث.
وقوله: (الذين يؤمنون بالغيب)، فهذا عام، (وبالآخرة لا هم
يوقنون)، وإن كان الإيمان بالغيب يشملها، ولكن خصها لإنكار المشركين لها
في قولهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا)، فكان في تخصيصهم بذلك
مدح لهم.
وقوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق)، فعم بقوله: (خلق) جميع مخلوقاته،
ثم خص فقال: (خلق الانسان من علق).
وقوله تعالى: (إلا أن يكون ميتة " أو دما " مسفوحا " أو لحم خنزير)، فإنه
عطف (اللحم) على (الميتة) مع دخوله في عموم الميتة، لأن الميتة كل ما ليس له ذكاة
شرعية، والقصد به التنبيه على شدة التحريم فيه.
تنبيه
ظاهر كلام الكثيرين تخصيص هذا العطف بالواو، وقد سبق عن ابن مالك وآخرين
مجيئه في (أو) في قوله: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه)، مع أن ظلم النفس
470

من عمل السوء، فقيل هو بمعنى الواو، والمعنى يظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية.
وقوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " أو قال أوحي إلي)، فإن
الوحي مخصوص بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء، خص بالذكر تنبيها " على مزيد العقاب
فيه والإثم.
وقوله تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم)، مع أن فعل الفاحشة
داخل فيه. قيل: أريد به نوع من أنواع ظلم النفس، وهو الربا، أو كل كبيرة، فخص بهذا
الاسم تنبيها " على زيادة قبحه، وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب.
القسم السادس
ذكر العام بعد الخاص
وهذا أنكر بعض الناس وجوده، وليس بصحيح.
والفائدة في هذا القسم واضحة، والاحتمالان المذكوران في العام قبله ثابتان هنا أيضا ".
ومنه قوله: (إن صلاتي ونسكي): والنسك العبادة، فهو أعم من الصلاة.
وقوله: (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب).
وقوله: (ولقد آتيناك سبعا " من المثاني والقرآن العظيم).
وقوله، إخبارا " عن نوح: (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا "
وللمؤمنين والمؤمنات).
471

وقوله: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك
ظهير).
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: (ومن يدبر الأمر) بعد قوله: (قل من
يرزقكم).
واعلم أن هذين النوعين يقعان في الأفعال والأسماء، لكن وقوعهما في الأفعال لا يأتي
إلا في النفي، وأما في الإثبات فليس من هذا، الباب بل من عطف المطلق على المقيد،
أو المقيد على المطلق.
القسم السابع
عطف أحد المترادفين على الآخر أو ما هو قريب منه
في المعنى، والقصد منه التأكيد
وهذا إنما يجئ عند اختلاف اللفظ، وإنما يحسن بالواو، ويكون في الجمل كقوله:
(أولى لك فأولى. ثم أولى لك فأولى).
ويكثر في المفردات كقوله: (فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا
وما استكانوا).
وقوله: (فلا يخاف ظلما " ولا هضما ")، (لا تخاف دركا " ولا تخشى).
472

وقوله: (ثم عبس وبسر).
وقوله: (إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله).
وقوله: (لا تبقى ولا تذر).
وقوله: (وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه).
وقوله: (لا ترى فيها عوجا " ولا أمتا ")، قال الخليل: العوج والأمت بمعنى
واحد. وقيل. الآمت أن يغلظ مكان ويرق مكان، قاله ابن فارس في " المقاييس "
وهو راجع لما قاله الخليل.
وقوله: (أنا لا نسمع سرهم ونجواهم).
وقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ").
وقوله: (إلا دعاء ونداء).
وفرق الراغب بين النداء والدعاء بأن النداء، قد يقال إذا قيل (يا) أو (أيا)
ونحوه من غير أن يضم إليه الاسم، والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم، نحو:
(يا فلان).
وقوله: (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا).
وقوله: (و إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض).
473

وقوله: (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب)، فإن (نصبا) مثل
(لغب) وزنا ومعنى ومصدرا.
وقوله: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)، على قول من فسر
الصلاة بالرحمة، والأحسن خلافه، وأن الصلاة للاعتناء وإظهار الشرف، كما قاله الغزالي
وغيره، وهو قدر مشترك بين الرحمة والدعاء والاستغفار، وعلى هذا فهو من عطف المتغايرين.
وقال الزمخشري في قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من
قبلك): إنهم هم المذكورون أولا، وهو من عطف الصفة على الصفة.
واعترض عليه بأن شرط عطف الصفة على الصفة تغاير الصفتين في المعنى، تقول:
(جاء زيد العالم والجواد والشجاع) أي الجامع لهذه المعاني الثلاثة المتغايرة، ولا تقول:
(زيد العالم والعالم) فإنه تكرار، والآية من ذلك، لأن المعطوف عليه قوله تعالى:
(الذين يؤمنون بالغيب)، والمعطوف قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل
إليك)، والمنزل هو الغيب بعينه.
ويحتمل أن يقال: المعطوف عليه مطلق الغيب، والمعطوف غيب خاص، فيكون
من عطف الخاص على العام.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم
جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير)، فإن المراد بالكتاب المنير
474

هو الزبور، ونقله عن إجماع المفسرين لما تضمنه من النعت، كما تعطف النعوت بعضها
على بعض، وهذا يرده تكرار الباء، فإنه يشعر بالفصل، لأن فائدة تكرار العامل
بعد حرف العطف إشعار بقوة الفصل من الأول والثاني، وعدم التجوز في عطف الشئ
على نفسه.
والذي يظهر أنه للتأسيس، وبيانه وجوه:
أحدها أن قوله تعالى: (جاءتهم) يعود الضمير فيه على المكذبين للنبي صلى الله عليه وسلم
وعلى الذين من قبلهم، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلا في المرسلين المذكورين،
والكتاب المنير هو القرآن، وقوله تعالى: (ثم أخذت الذين كفروا)، معطوف على
قوله تعالى: (فقد كذب الذين من قبلهم)، أي كذبوا ثم اخذتهم بقيام الحجة
عليهم (بالبينات وبالزبر والكتاب المنير). وجاء تقديم قيام الحجة عليهم
قبل العطف اعتراضا " للاهتمام به، وهو من أدق وجوه البلاغة. ومثله في آية آل عمران قوله
تعالى: (فقد كذب رسل من قبلك)، وقوله: (جاءوا) انصراف من الخطاب
إلى الغيبة، كأنه قال: (جاء هؤلاء المذكورون)، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم داخلا
في الضمير، وهو في موضع (جئتم بالبينات) فأقام الإخبار عن الغائب مقام المخاطب، كقوله
تعالى: (جرين بهم)، وفيه وجه من التعجب، كأن المخاطب إذا استعظم الامر
رجع إلى الغيبة ليعم الإخبار به جميع الناس، وهذا موجود في الآيتين.
والثاني: أن يكون على حذف مضاف، كأنه قيل: (الكتاب المنير) يعني القرآن،
475

فيكون مثل قوله: (ومبشرا " برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد).
وهذا وجه حسن.
تنبيهات
الأول: أنكر المبرد هذا النوع، ومنع عطف الشئ على مثله، إذا لا فائدة فيه،
وأول ما سبق باختلاف المعنيين، ولعله ممن ينكر أصل الترادف في اللغة كالعسكري وغيره.
الثاني: ما ذكرناه من تخصيص هذا النوع بالواو هو المشهور، وقال ابن مالك:
وقد أنيبت (أو) عنها، كما في قوله تعالى: (نشوزا " أو إعراضا ")، (ومن يكسب
خطيئة " أو إثما ").
قال شيخنا: وفيه نظر، لأمكان أن يراد بالخطيئة ما وقع خطأ، وبالإثم ما وقع عمدا.
قلت: ويدل له قوله تعالى قبل ذلك: (ومن يكسب إنما " فإنما يكسبه
على نفسه).
وجعل منه بعضهم قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك
سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم
الغيب عندك).
قلت: ما ذكره ابن مالك قد سبقه به ثعلب، فيما حكاه ابن سيده في " المحكم "
فقال: فقال ثعلب في قوله تعالى: (عذرا " أو نذرا "): العذر والنذر واحد.
476

قال اللحياني: وبعضهم يثقل.
وعن الفراء: أنه يجري في العطف بثم، وجعل منه قوله: (ويا قوم استغفروا
ربكم ثم توبوا إليه)، قال: معناه: وتوبوا إليه، لأن التوبة الاستغفار.
وذكر بعضهم أنه قد تجرد عن العطف، وجعل منه قوله تعالى: (وغرابيب
سود) والغرابيب هي السود، (سبلا " فجاجا ")، (الرحمن الرحيم)،
وغير ذلك.
الثالث: مما يدفع وهم التكرار في مثل هذا النوع، أن يعتقد أن مجموع المترادفين
يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما، فإن التركيب يحدث معنى زائدا، وإذا كانت
كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى، فكذلك كثرة الألفاظ.
القسم الثامن
الإيضاح بعد الإبهام
ليرى المعنى في صورتين، أو ليكون بيانه بعد التشوف إليه، لأنه يكون ألذ للنفس
وأشرف عندها، وأقوى لحفظها وذكرها، كقوله تعالى: (وقضينا إليه ذلك الامر أن
دابر هؤلاء مقطوع مصبحين).
477

وقوله تعالى: (هو الله أحد) فإن وضع الضمير موضع الظاهر معناه البيان
أو الحديث، أو الأمر لله أحد مكفوا بها ثم فسر، وكان أوقع في النفس من الإتيان به
مفسرا من أول الأمر، ولذلك وجب تقديمه. وتفيد به الجملة المراد، تعظيما له.
وسيأتي عكسه في وضع الظاهر موضع المضمر.
ومثله التفصيل بعد الاجمال كقوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر
شهرا " في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم).
وعكسه كقوله تعالى: (ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة
كاملة).
وقوله تعالى: (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة " وأتممناها بعشرة فتم ميقات ربه
أربعين ليلة ")، وأعاد قوله: (أربعين) وإن كان معلوما من (الثلاثين) و (العشر)
أنها أربعون لنفي اللبس، لأن العشر لما أتت بعد الثلاثين، التي هي نص في المواعدة
دخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة، فأعاد ذكر (الأربعين) نفيا " لهذا الاحتمال،
وليعلم أن جميع العدد للمواعدة.
وهكذا قوله تعالى: (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة
كاملة) أعاد ذكر العشرة، لما كانت الواو تجئ في بعض المواضع للإباحة، وقوله:
(كاملة) تحقيق لذلك وتأكيد له.
فإن قلت: فإذا كان زمن المواعدة أربعين فلم كانت (ثلاثين) ثم عشرا؟
478

أجاب ابن عساكر في " التكميل و الإفهام " بأن العشر إنما فصل من أولئك،
ليتحدد قرب انقضاء المواعدة، ويكون فيه متأهبا مجتمع الرأي، حاضر الذهن، لأنه
لو ذكر (الأربعين) أولا لكانت متساوية، فإذا جعل العشر فيها إتماما لها استشعرت
النفس قرب التمام، وتجدد بذلك عزم لم يتقدم.
قال: وهذا شبيه بالتلوم الذي جعله الفقهاء في الآجال المضروبة في الأحكام، ويفصلونه
من أيام الأجل، ولا يجعلونها شيئا " واحدا، ولعلهم استنبطوه من هذا.
فإن قلت: فلم ذكر في هذه السورة - أعني الأعراف - الثلاثين ثم العشر، وقال في
البقرة: (وإذا واعدنا موسى أربعين ليلة ") ولم يفصل العشر منها؟
والجواب، والله أعلم: أنه قصد في الأعراف ذكر صفة المواعدة والإخبار عن كيفية
وقوعها فذكر على صفتها، وفي البقرة: إنما ذكر الامتنان على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم،
فذكر نعمة عليهم مجملة، فقال: (وإذ فرقنا بكم البحر)، (وإذا أنجيناكم من
آل فرعون).
واعلم أنه يخرج لنا مما سبق جوابان في ذكر العشرة بعد الثلاثة والسبعة، إما الاجمال
بعد التفصيل، وإما رفع الالتباس، ويضاف إلى ذلك أجوبه:
479

ثالثها: أنه قصد رفع ما قد يهجس في النفوس، من أن المتمتع إنما عليه صوم سبعة أيام
لا أكثر، ثلاثة منها في الحج، ويكمل سبعا إذا رجع.
رابعها: أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المكفر الجمع بينهما،
فلا يلزم الحالف أن يطعم المساكين ويكسوهم، ولا المظاهر العتق والصوم، فلما اختلف
محل هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع، صارا باختلاف المحلين
كالجنسين، والجنسان لا يجمع بينهما. وأفادت هذه الزيادة - وهي قوله: (تلك عشرة
كاملة) - رفع ما قد يهجس في النفوس، من أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاث
وإما السبع.
الخامس: أن المقصود ذكر كمال لا ذكر العشرة، فليست العشرة مقصودة بالذات،
لأنها لم تذكر إلا للإعلام بأن التفصيل المتقدم عشرة، لأن ذلك من المعلوم بالضرورة
وإنما ذكر لتوصف سنة بالكامل الذي هو مطلوب في القصة.
السادس: أن في الكلام تقديما " وتأخيرا "، والتقدير: فصيام عشرة أيام: ثلاثة في
الحج، وسبعة إذا رجعتم، وهذا وإن كان خلاف الأصل، لكن الإشكال ألجأنا إليه.
السابع: أن الكفارات في الغالب إنما تجب متتابعة ككفارات الجنايات، ولما فصل
هاهنا بين صوم هذه الكفارة بالإفطار قبل صومها بذكر الفدية ليعلم أنها وإنما كانت
منفصله فهي كالمتصلة.
فإن قلت: فكفارة اليمين لا تجب متتابعة، ومن جنس هذه الكفارة ما يجب على
480

المحرم إذا حلق ثلاث شعرات، ومن عجز عن الفدية فإنه يصوم ثلاثة أيام ولا
يشترط التتابع.
قلت: هي في حكم المتتابعة بالنسبة إلى الثواب، إلا أن الشرع خفف بالتفريق.
ثامنها: أن السبع قد تذكر والمراد به الكثرة لا العدد، والذي فوق الستة ودون الثمانية،
وروى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: سبع الله لك الأجر، أي
أكثر ذلك، يريدون التضعيف.
وقال الأزهري في قوله تعالى: (إن تستغفر لهم سبعين مرة) هو جمع السبع،
الذي يستعمل للكثرة، وإذا كان كذلك فاحتمل أن يتوهم أن المراد بالسبع ما هو أكثر
من السبع، ولفظها معطوف على الثلاثة بآلة الجمع، فيفضي إلى الزيادة في الكفارة على العدد
المشروع، فيجب حينئذ رفع هذا الاحتمال بذكر الفذلكة، وللعرب مستند قوي في إطلاق
السبع والسبعة، وهي تريد الكثرة ليس هذا موضع ذكره.
تاسعها: أن الثلاثة لما عطف عليها السبعة احتمل أن يأتي بعدها ثلاثة أو غيرها من
الأعداد، فقيد بالعشرة ليعلم أن المراد كمل، وقطع الزيادة المفضية للتسلسل.
عاشرها: أن السبعة المذكورة عقب الثلاثة يحتمل أن تكون الثلاثة داخلة فيها، كما
في قوله: (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام)، أي مع اليومين اللذين خلق الأرض
481

فيها، فلا بد من اعتقاد هنا التأويل ليندفع ظاهر التناقض، فجاء التقييد بالعشرة لرفع
توهم التداخل.
وهذا الجواب أشار إليه الزمخشري، ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام
ترجيحه، وردده ابن أبي الإصبع بأن احتمال التداخل لا يظن إلا بعددين منفصلين
لم يأت بهما جملة، فلو اقتصر على التفصيل احتمل ذلك، فالتقييد مانع من هذا الاحتمال.
وهذا أعجب منه، فإن مجئ الجملة رافع لذلك الاحتمال.
الحادي عشر: أن حروف السبعة والتسعة مشتبهة، فأزيل الإشكال بقوله: (تلك
عشرة كاملة) لئلا يقرؤوها (تسعة)، فيصير العدد اثنى عشر. ونظير هذا قوله
صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا).
فائدة
[في التأكيد بمائة إلا واحدا "]
التأكيد بمائة إلا واحدا "، لإزالة إلباس التسعة والتسعين بالسبعة والسبعين لكن
مثل هذا مأمون في القرآن، لأن الله حفظه.
القسم التاسع
وضع الظاهر موضع المضمر
لزيادة التقرير، والعجب أن البيانيين لم يذكروه في أقسام الإطناب.
482

ومنه بيت الكتاب:
إذا الوحش ضم الوحش في ظللاتها سواقط وكان من حر وقد كان أظهرا
ولو أتى على وجهه لقال: (إذا الوحش ضمها).
وإنما يسأل عن حكمته إذا وقع في الجملة الواحدة، فإن كان في جملتين مستقلتين كالبيت
سهل الأمر، لكن الجملتين فيه كالجملة الواحدة، لأن الرافع للوحش الأول فعل محذوف كما
يقول البصريون، والفعل المذكور ساد مسد الفعل المحذوف، حتى كأنه هو، ولهذا
لا يجتمعان، وإن قدر رفع الوحش بالابتداء فالكلام جملة واحدة.
ويسهل عند اختلاف اللفظين كقوله:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت * حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا
فاختلاف لفظين ظاهرين أشبها لفظي الظاهر والمضمر في اختلاف اللفظ، وعليه قوله
تعالى: (ومنهم الذين يؤذون النبي) ثم قال: (والذين يؤذون رسول الله) ولم
يقل: (يؤذونه) مع ما في ذلك من التعظيم، فالجمع بين الوصفين، كقوله في الحديث: (نبيك
الذي أرسلت)، وقوله: (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير...) الآية، فإنه
قد تكرر اسم الله ظاهرا " في هذه الجمل الثلاث، ولم يضمر لدلالته على استقلال كل جملة
منها، وأنها لم تحصل مرتبطة ببعضها ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
وقوله: (والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان)،
483

وفيه دلالة على أن الطاغوت هو الشيطان، وحسن ذلك هنا تنبيها على تفسيره.
وقال ابن السيد: إن كان في جملتين حسن الإظهار والاضمار، لأن كل جملة تقوم
بنفسها، كقولك: (جاء زيد، وزيد رجل فاضل) وإن شئت قلت: (وهو رجل
فاضل).
وقوله: (مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته).
وإن كان في جملة واحدة قبح الإظهار، ولم يكد يوجد إلا في الشعر، كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
قال: وإذا اقترن بالاسم الثاني حرف الاستفهام بمعنى التعظيم والتعجب كان المناسب
الإظهار، كقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و (القارعة. ما القارعة)، والإضمار جائز
كقوله تعالى: (فأمه هاوية. وما أدراك ما هيه).
[الخروج على خلاف الأصل وأسبابه]
واعلم أن الأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة، وأصل المحدث عنه كذلك. والأصل
أنه إذا ذكر ثانيا " أن يذكر مضمرا " للاستغناء عنه بالظاهر السابق، كما أن الأصل في الأسماء
الإعراب، وفي الأفعال البناء، وإذا جرى المضارع مجرى الاسم أعرب، كقوله تعالى:
(فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون)
484

وقوله تعالى: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين).
وقوله تعالى: (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ").
وللخروج على خلاف الأصل أسباب:
أحدها: قصد التعظيم
كقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم).
وقوله تعالى: (أولئك حزب الله الا إن حزب الله هم المفلحون).
وقوله تعالى: (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
وقوله تعالى: (لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ")، فأعاد ذكر (الرب)
لما فيه من التعظيم والهضم للخضم.
وقوله تعالى: (الله أحد. الله الصمد).
(وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).
(هو الله ربي ولا أشرك بربي).
(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ").
(بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا ").
485

(وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ").
(وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب).
وقوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة)، (القارعة ما القارعة)، كان القياس - لولا ما
أريد به من التعظيم والتفخيم - (الحاقة ما هي).
ومثله: (فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة. وأصاحب المشأمة ما أصاحب
المشأمة) تفخيما " لما ينال الفريقين من جزيل الثواب وأليم العقاب.
الثاني
قصد الإهانة والتحقير
كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع
خطوات الشيطان).
وقوله تعالى: (أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان).
وقوله: (إن الشيطان ينزع بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ").
وقوله تعالى: (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد
فرعون).
486

وقول الشاعر:
فما للنوى لا بارك الله في النوى * وعهد النوى عند الفراق ذميم
وسمع الأصمعي من ينشد:
فما للنوى جد النوى قطع النوى * كذاك النوى قطاعة للقرائن
فقال: لو قيض لهذا البيت شاة لأتت عليه.
الثالث
الاستلذاذ بذكره
كقوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) إن كان (الحق) الثاني
هو الأول.
وقوله: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا ").
وقوله تعالى: (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء)، ولم يقل:
(منها) ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة، وإن كان المراد بالأرض الجنة،
ولله در القائل:
كرر على السمع منى أيها الحادي * ذكر المنازل والأطلال والنادي
وقوله:
يا مطربي بحديث من سكن الغضى * هجت الهوى وقدحت في حراق
كرر حديثك يا مهيج لوعتي * إن الحديث عن الحبيب تلاق
487

الرابع
زيادة التقدير
كقوله تعالى: (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل).
وقوله: (الله الصمد)، بعد قوله: (الله أحد)، ويدل على إرادة
التقدير سبب نزولها، وهو ما نقل عن ابن عباس أن قريشا " قالت: يا محمد، صف لنا ربك
الذي تدعوننا إليه، فنزل (الله أحد)، معناه أن الذي سألتموني وصفه هو الله
ثم لما أريد تقدير كونه (الله) أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره.
وقوله: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون).
وقوله تعالى: (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله).
(يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب).
الخامس
إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنه غير المراد
كقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء)، لو قال:
(تؤتيه) لأوهم أنه الأول، قاله ابن الخشاب.
وقوله تعالى: (يظنون بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء)، كرر السوء
488

لأنه [لو] قال: (عليهم دائرته) لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى. قاله
الوزير المغربي في تفسيره.
ونظيره: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا ")، وتبيينه: الأول النطفة أو التراب، والثاني الوجود في الجنين
أو الطفل، والثالث الذي بعد الشيخوخة وهو أرذل العمر، والقوة الأولى التي تجعل للطفل
التحرك والاهتداء للثدي، والثانية بعد البلوغ، قاله ابن الحاجب ويؤيد الغيرية التنكير.
ونحوه قوله تعالى: (وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا "...) الآية،
لو قال: (إنه) لأوهم عود الضمير إلى الفجر.
وقوله تعالى: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها)، فلم يقل (عنها)
لئلا يتحد الضميران فاعلا ومفعولا، مع إن المظهر السابق لفظ النفس، فهذا أبلغ من
(ضرب زيد نفسه).
وكقوله تعالى: (ثم استخرجها من وعاء أخيه)، وإنما حسن إظهار الوعاء
مع أن الأصل (فاستخرجها منه) لتقدم ذكره، لأنه لو قيل ذلك لأوهم عود الضمير
على الأخ، فيصير كأن الآخ مباشر لطلب خروج الوعاء، وليس كذلك لما في المباشر من
الآذى [الذي] تأباه النفوس الأبية، فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا.
489

وإنما لم يضمر الأخ، فيقال: (ثم استخرجها من وعائه) لأمرين:
أحدهما: أن ضمير الفاعل في (استخرجها) ليوسف عليه السلام، فلو قال: (من
وعائه) لتوهم أنه يوسف، لأنه أقرب مذكور فأظهر لذلك.
والثاني: أن لأخ مذكور مضاف إليه، ولم يذكر فيما تقدم مقصودا بالنسبة الإخبارية،
فلما احتيج إلى إعادة ما وأضيف إليه أظهره أيضا ".
وقوله تعالى: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال).
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس
كعذاب الله).
السادس
أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة في ضمير السامع
بذكر الاسم المقتضى لذلك، كما يقول الخليفة لمن يأمره بأمر: (أمير المؤمنين يأمرك
بكذا) مكان: (أنا أمرك بكذا).
ومنه قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة).
وقوله: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (إن الله يأمر
بالعدل والإحسان).
وقوله: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم)، ولم يقل: (لخزنتها).
490

السابع
قصد تقوية داعية المأمور
كقوله تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين)،
ولم يقل (على) وحين قال: (على الله) لم يقل: (إنه يحب) أو (إني أحب) تقوية
لداعية المأمور بالتوكل بالتصريح باسم المتوكل عليه.
وقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم).
الثامن
تعظيم الأمر
كقوله تعالى: (أولم يرو كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله
يسير. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الحلق).
وقوله: (هل أتى على الناس حين من الدهر لم يكن شيئا " مذكورا ": إنا خلقنا
الانسان) ولم يقل (خلقناه) للتنبيه على عظم خلقه للإنسان.
وقوله: (يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا " مهيلا ")، فإنما أعيد لفظ
(الجبال) والقياس الإضمار لتقدم ذكرها، مثل ما ذكرنا في آلم السجدة في أحد القولين،
491

وهو قوله: (كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب
النار)، وهو أن الآيتين سيقتا للتخويف والتنبيه على عظم الأمر، فإعادة الظاهر أبلغ.
وأيضا " فلو لم يذكر (الجبال) لاحتمل عود الضمير إلى الأرض.
التاسع
أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف
كقوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته)
بعد قوله في صدر الآية: (إني رسول الله إليكم جميعا ") (فآمنوا بالله
ورسوله) دون (فأمنوا بالله وبي)، ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها: من
النبي الأمي الذي يؤمن بالله، فإنه لو قال: (وبي) لم يتمكن من ذلك، لأن الضمير لا يوصف
ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الصفات كائنا من كان، أنا
أو غيري إظهارا للنصفة، وبعدا من التعصب لنفسه.
العاشر
التنبيه على علة الحكم
كقوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم).
وقوله: (فإن الله عدو للكافرين) أعلما أنه من كان عدوا لهؤلاء
فهو كافر، هذا إن خيف الإلباس لعودة للمذكورين
وكذا قوله: (فإن الله) دون (فإنه).
492

وكقوله تعالى: (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا " من السماء)، ولم يقل (عليهم)
لأنه ليس في الضمير ما في قوله: (الذين ظلموا) من ذكر الظلم المستحق به العذاب.
وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع
أجر من أحسن عملا ").
وقوله تعالى: (فلعنة الله على الكافرين) والأصل (عليهم) لدلالة على
أن اللعنة لحقتهم لكفرهم.
ولبس من ذلك قوله تعالى: (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر
المحسنين)، فإن العلة قد تقدمت في الشرط، وإنما فائدة ذلك إثبات منه صفة أخرى
زائدة. وقال الزمخشري: فائدته اشتماله على المتقين والصابرين.
ومنه قوله: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله فاستغفر لهم
الرسول) لأنه شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان عظيم.
وقوله: (ومن أظلم ممن أفترى على الله كذبا " أو كذب بآياته إنه لا يفلح
الظالمون)، والقياس (أنهم لا يفلحون)، ولو ذكر الظاهر لقال: (لا يفلح المفترون)
أو (الكاذبون) لكن صرح بالظلم تنبيها على أن علة عدم الفلاح الظلم.
وقوله: (والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر
المصلحين)، ولم يقل: (أجرهم) تنبيها " على أن صلاحهم علة لنجاتهم.
وقوله: (إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر) ولم يقل: (لنا)، لينبه
493

على أنه أهل لأن يصلى له، لأنه ربه الذي خلقه وأبدعه ورباه بنعمته.
وكقوله تعالى: (من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله
عدو للكافرين) قال الزمخشري: أراد (عدوا " لهم)، فجاء بالظاهر ليدل على أن الله
إنما عاداهم لكفرهم، وأن عداوة الملائكة كفر، وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا "، فما بال
الملائكة وهم أشرف!. والمعنى: ومن عاداهم عاداه الله وعاقبه أشد العقاب المهين.
وقد أدمج في هذا الكلام مذهبه في تفضيل الملك على النبي و إن لم يكن مقصودا
فهو كما قيل:
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى * إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل
ومثله قول مطيع:
أمي الضريح الذي اسمى * ثم استهل على الضريح
إلا ترى أنه لم يقل: (عليه) لأنه باك بذكر الضريح الذي من عادته أن يبكي
عليه ويحزن لذكراه.
الحادي عشر
قصد العموم
كقوله تعالى: (حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها) ولم يقل: (استطعمهم)
للإشعار بتأكيد العموم، وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها إلا استطعماه وأبى، ومع ذلك قابلهم
494

بأحسن الجزاء وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق، ودفع السيئة الحسنة.
وقوله تعالى: (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) فإنه لو قيل:
(إنها لأمارة) لاقتضى تخصيص ذلك، فأتى بالظاهر ليدل على أن المراد التعميم، مع أنه
برئ من ذلك بقوله بعده: (إلا ما رحم ربي) وقوله: (إن ربي غفور رحيم)
ولم يقل: (إنه) إما للتعظيم وإما للاستلذاذ.
وقوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ").
وقوله تعالى: (و إنا إذا أذقنا الانسان منا رحمة فرح بها) ثم قال: (فإن
الانسان كفور) ولم يقل: (فإنه) مبالغة في اثبات أن هذا الجنس شأنه
كفران النعم.
الثاني عشر
قصد الخصوص
كقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)، ولم يقل: (لك)
لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره، كما في قوله تعالى: (وبنات عمك)، فعدل عنه
إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وأنه ليس لغيره ذلك.
495

الثالث عشر
مراعاة التجنيس
ومنه: (قل أعوذ برب الناس...) السورة، ذكره الشيخ عز الدين
ابن عبد السلام رحمه الله.
الرابع عشر
أن يتحمل ضميرا الأبد منه
كقوله: (أتيا أهل قرية استطعما أهلها).
الخامس عشر
كونه أهم من الضمير
كقوله تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى). وقال بعضهم:
إنما أعيد (إحداهما) لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ في التركيب، وهو المعنى في الترصيع
البديعي بل هذا أبلغ من الترصيع، فإن الترصيع توازن الألفاظ من حيث صيغها، وهذا
من حيث تركيبها، فكأنه ترصيع معنوي، وقلما يوجد إلا في نادر من الكلام،
وقد استغرب أبو الفتح ما حكى عن المتنبي في قوله:
وقد عادت الأجفان قرحى من البكا * وعادت بهارا " في الخدود الشقائق
496

قال: سألته: هل هو (قرحى) أو (قرحا) منون؟ فقال لي: (قرحا) منون،
ألا ترى أن بعدها (وعادت بهارا)! قال: يعني أن (بهارا): جمع بهار، وقرحى: جمع
قرحة، ثم أطنب في الثناء على المتنبي واستغرب فطنته لأجل هذا.
وبيان ما ذكرت في الآية أنها متضمنه لقسمين: قسم الظلال وقسم التذكير، فأسند
الفعل الثاني إلى ظاهر حيث أسند الأول، ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما،
فأتى بالثاني على صورته من التجرد عن المفعول، ثم أتى به خبرا بعد الكلام
وحصول التماثل في تركيبه.
ولو قيل: إن المرفوع حرف لكان أبلغ في المعنى المذكور، ويكون الأخير بدلا "
أو نعتا على وجه البيان، كأنه قال: (إن كان ضلال من إحداهما كان تذكير من الأخرى)،
وقدم على (الأخرى) لفظ (إحداهما) ليسند الفعل الثاني إلى مثل ما أسند إليه الأول
لفظا ومعنى. والله أعلم.
السادس عشر
كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له
كقوله: (رسل الله الله أعلم)، وكقول الشاعر:
تبكي على زيد ولا زيد مثله * برئ من الحمى سليم الجوانح
497

السابع عشر
الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى
كقوله تعالى: (فإن يشاء الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل) في سورة
الشورى، فإن (يمح) استئناف وليس عطفا " على الجواب، لأن المعلق على الشرط عدم
قبل وجوده، وهذا صحيح في (يختم على قلبك) وليس صحيحا في (يمح الله الباطل) لأن
محو الباطل ثابت، فلذلك أعيد الظاهر، وأما حذف الواو من الخط فاللفظ، وأما حذفها في
الوقف كقوله تعالى: (يدع الداعي) و (سندع الزبانية) فللوقف، ويؤكد
ذلك وقوف يعقوب عليها بالواو.
وهذا ملخص كلام عبد العزيز في كلامه على البزدوي، وفيما ذكره نزاع، وهذا
أنا لا نسلم أن المعلق ها هنا بالشرط هو موجود قبل الشرط، لأن الشرط هنا المشيئة وليس
المحو ثابتا " قبل المشيئة، فإن قيل: إن الشرط هنا مشيئة خاصة وهي مشيئة الختم، وهذا وإن
كان محذوفا فهو مذكور بالقوة. شائع في كثير من الأماكن، كقوله تعالى: (ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى)، (ولو شاء الله ما أشركوا)، (ولو شاء الله
ما اقتتلوا) المعنى: (ولو شاء الله جمعهم لجمعهم) و (لو شاء الله عدم إيمانهم
ما أشركوا) و (لو شاء الله عدم قتالهم ما اقتتلوا).
498

قيل: لا يكاد يثبت مفعول المشيئة إلا نادرا كما سيأتي في الحذف إن شاء الله تعالى،
وإذا ثبت هذا صح ما ادعيناه، فإن محو الله ثابت قبل مشيئة الله الختم.
فإن قلت: سلمنا أن الشرط مشيئة خاصة، لكنها إنما تختص بقرينة الجواب.
والجواب: هنا شيئان، فالمعنى: إن يشأ الله الختم ومحو الباطل يختم على قلبك، ويمح
الباطل، وحينئذ لا يتم ما ادعاه.
وجوابه أن الشرط لا بد أن يكون غير ثابت وغير ممتنع، و لذي (ويمحو الباطل) كان
ثابتا فلا يصح دخوله في جواب الشرط. وهذا أحسن جدا.
بقي أن يقال: إن الجواب ليس كلا من الجملتين، بل مجموع الجملتين و المجموع ومعدوم
قبل وجود الشرط، وإن كان أحدهما ثابتا ".
تنبيهان
الأول
قد سبق أنه لا يشترط في وضع الظاهر موضع المضمر أن يكون بلفظ الأول، ليشمل
مثل قوله تعالى: (إنا لا نضيع أجد من أحسن عملا ").
وقوله تعالى: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن
ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء)، لأن إنزال
الخير هنا سبب للربوبية، وأعاده (بلفظ) الله لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب
للإلهية، لأن دائرة الربوبية أوسع.
ومثله: (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) كما سبق.
499

ومن فوائده: التلذذ بذكره وتعظيم المنة بالنعمة.
ومن فوائده: قصد الذم، وجعل الزمخشري قوله تعالى: (يوم ينظر المرء
ما قدمت يداه ويقول الكافر)، فقال: المراء هو الكافر وهو ظاهر، وضع
موضع الضمير لزيادة الذم.
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر
لهم لن يفقد الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) إن (الفاسقين) يراد بهم
المنافقون، ويكون قد أقام الظاهر مقام المضمر، والتصريح بصفة الفسق سبب لهم. ويجوز
أن يكون المراد العموم لكل فاسق، ويدخل فيه المنافقون دخولا أوليا، وكذا سائر
هذه النظائر.
وليس من هذا الباب قوله تعالى: (إن تكونوا صالحين)، أي في معاملة
(الأبوين) فإنه كان للأوابين غفورا.
وقوله تعالى: (من كان عدوا لجبريل) إلى قوله: (فإن الله عدو
للكافرين).
وكذلك كل ما فيه شرط فإن الشرط أسباب، ولا يكون الإحسان للوالدين سببا
لغفران الله لكل تائب، لأنه يلزم أن يثاب غير الفاعل بفعل غيره، وهو خلاف الواقع.
وكذلك معاداة بعض الكفرة لا يكون سببا لمعاداة كل كافر، فتعين في هذه المواضع
أن يكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ليس إلا.
500

الثاني
قد مر أن سؤال وضع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة، نحو:
(الحاقة ما الحاقة) فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل وهو أفصح من وقوعه
في الجملة الواحدة، لأن الكلام جملتان، فحسن فيها ما مالا يحسن في الجملة الواحدة، ألا
ترى إلى قوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فتكرار (الموت) في عجز البيت أوسع من تكراره في صدره، لأنا إذا عللنا هذا
إنما نقول: أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره، فإذا عللها
مكرره في عجزه عللناه بهذا، وبأن الكلام جملتان.
إذا علمت هذا، فمثاله في الجملتين كقوله تعالى: (واتقوا الله ويعلمكم الله
وقوله: (إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين).
وقد أشكل الإظهار هاهنا والإضمار في المثل قوله: (إلى فرعون وملئه إنهم كانوا
قوما فاسقين)
وأجيب بأنه لما كان المراد في المدائن لوط إهلاك القرى صرح في الموضعين بذكر
القرية التي يحل بها الهلاك، كأنها اكتسبت الظلم معهم واستحقت الهلاك معهم إذ للبقاع
تأثير في الطباع، ولما كان المراد في قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم، حيث كانوا ولم
يهلك بلدهم أتى بالضمير العائد على ذواتهم، من حيث هي من غير تعرض للمكان.
501

واعلم أنه متى طال الكلام حسن إيقاع الظاهر موضع المضمر كيلا يبقى الذهن متشاغلا
بسبب ما يعود عليه اللفظ فيفوته ما شرع فيه، كما إذا كان ذلك في ابتداء آية أخرى،
كقوله تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم...) الآية.
وقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس).
وقوله: (يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس).
وقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة).
القسم العاشر
تجئ اللفظة الدالة على التكثير والمبالغة بصيغ من صيغ المبالغة
كفعال وفعيل وفعلان، فإنه أبلغ من (فاعل). ويجوز أن يعد هذا من أنواع
الاختصار، فإن أصله وضع لذلك، فإن (ضروبا) ناب عن قولك: (ضارب
وضارب وضارب).
[ما جاء على فعلان]
أما (فعلان) فهو أبلغ من (فعيل)، ومن ثم قيل: الرحمن أبلغ من الرحيم -
وإن كانت صيغة (فعيل) - من جهة أن (فعلان) من أبنية المبالغة، كغضبان للممتلئ
غضبا، ولهذا لا يحوز علي التسمية به، وحكاه الزجاج في تأليفه المفرد على البسملة.
وأما قول الشاعر اليمامة:
502

* وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا *
فهو من كفرهم وتعنتهم كذا أجاب به الزمخشري.
ورده بعضهم بأن النعت لا يدفع وقوع إطلاقهم، وغايته أنه ذكر السبب الحامل
لهم على الإطلاق، وإنما الجواب أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام، وإنما
استعملوه مضافا ومنكرا، وكلامنا إنما هو في المعرف باللام.
وأجاب ابن مالك: بأن الشاعر أراد: (لا زلت ذا رحمة)، ولم يرد بالاسم المستعمل بالغلبة.
ويدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: (قل أدعوا الله أو ادعوا
الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى). وأما قوله: (وما الرحمن)، فقال
ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف، ولذلك لم يقولوا: (ومن الرحمن).
وذكر البرزاباذاني أنهم غلطوا في تفسير (الرحمن) حيث جعلوه بمعنى المتصف بالرحمة.
قال: وإنما معناه الملك العظيم العادل، بدليل: (الملك يومئذ الحق للرحمن
إذا الملك يستدعي العظمة والقدرة والرحمة لخلقه، لا أنه يتوقف عليها.
(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن) وإنما يصلح السجود لمن له العظمة والقدرة،
و (أني أعوذ بالرحمن) ولا يعاذ إلا بالعظيم القادر على الحفظ والذب.
503

(وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ")، أي وما ينبغي للعظيم القادر على كل
شئ المستغني عن معاونة الوالد وغيره أن يتخذ ولدا.
(الرحمن لا يملكون منه خطابا ").
(وخشعت الأصوات للرحمن).
(قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن) ولا يحتاج الناس إلى حافظ
يحفظهم من ذي الرحمة والواسعة.
(إلا أتى الرحمن عبدا "):
(إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن).
(وربنا الرحمن المستعان).
(من خشي الرحمن بالغيب).
ولا مناسبة لمعنى الرحمة في شئ من هذه المواضع، وأما (رحيم) فهو من صفات
الذات، كقولهم: (كريم).
وما ذكرناه من أن (الرحمن) أبلغ ذهب إليه أبو عبيد والزمخشري وغيرهما، وحكاه
ابن عساكر في " التكميل والإفهام " عن الأكثرين.
504

وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق عليه. ونصره السهيلي بأنه ورد على لفظ
التنبيه، والتنبيه تضعيف. وكأن البناء تضاعفت فيه الصفة.
وقال قطرب: المعنى فيهما واحد، وإنما جمع بينهما في الآية للتوكيد.
وكذلك قال ابن فورك: قال: وليس قول من زعم أن (رحيما) أبلغ [من رحمن]
يجيد، إذ لا فرق بينهما في المبالغة، ولو قيل (فعلان) أشد مبالغة كان أولى، ولهذا
خص بالله فلا يوصف به غيره، ولذلك قال بعض التابعين: الرحمن اسم ممنوع، وأراد به منع
الخلق أن يتسموا به، ولا وجه لهذا الكلام إلا التوكيد واتباع الأول ما هو في معنى الثاني.
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر.
وعن الخطابي استشكال هذا، وقال: لعله أرفق، كما جاء في الحديث (إن الله
رفيق يحب الرفق في الأمر كله).
وقال ابن الأنباري في " الزاهر ": الرحيم أبلغ من الرحمن.
ورجحه ابن عساكر بوجوه: منها أن الرحمن جاء متقدما على الرحيم، ولو كان أبلغ منه
لكان متأخرا " عنه، لأنهم في كلامهم إنما يخرجون من الأدنى إلى الأعلى، فيقولون:
فقيه عالم، وشجاع باسل، وجواد فياض، ولا يعكسون هذا لفساد المعنى، لأنه لو تقدم الأبلغ
لكان الثاني داخلا " تحته، فلم يكن لذكره معنى.
وهذا قدر ذكره الزمخشري وأجاب عنه بأنه من باب الإرداف، وأنه أردف الرحمن
الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم، ليكون كالتتمة فإن والرديف، ليتناول مارق
منها ولطف.
505

وفيه ضعف لا سيما إذا قلنا: إن الرحمن علم لا صفة، وهو قول الأعلم وابن مالك.
وأجاب الواحدي في " البسيط " بأنه لما كان الرحمن كالعلم - إذ لا يوصف به إلا الله -
قدم، لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها، ثم يتبع الأنكر، وما كان من
التعريف أنقص.
قال: وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين، فجاء هذا على منهاج
كلام العرب.
وأجاب الجويني بأن الرحمن للخلق، والرحيم لهم بالرزق، والخلق قبل الرزق.
ومنها أن أسماء الله تعالى إنما يقصد بها المبالغة في حقه، والنهاية في صفاته وأكثر
صفاته سبحانه جارية على (فعيل) كرحيم، وقدير، وعليم، وحكيم، وحليم، وكريم،
ولم يأت على (فعلان) إلا قليل. ولو كان (فعلان) أبلغ لكان صفات الباري تعالى
عليه أكثر.
قلت: وجواب هذا أن ورود (فعلان) بصيغة التكثير كان في عدم تكرار
الوصف به، بخلاف (فعيل) فإنه لما لم يرق في الكثرة رقته كثر في مجئ الوصف.
ومنها: أنه إن كانت المبالغة في (فعلان) من جهة موافقه لفظ التثنية - كما زعم السهيلي -
ففعيل من أبنية جمع الكثرة كعبيد. وكليب، ولا شك أن الجمع أكثر من التثنية -
وهذا أحسنها.
قال: وقول قطرب (إنهما بمعنى واحد) فاسد، لأنه لو كان كذلك لتساويا في التقديم
والتأخير، وهو ممتنع.
506

تنبيهات
الأول
نقل عن الشيخ برهان الدين الرشيدي أن صفات الله التي هي صيغة المبالغة كغفار
ورحيم وغفور ومنان كلها مجاز، إذ هي موضوعه للمبالغة، ولا مبالغة فيها، لأن المبالغة هي
أن تثبت للشئ أكثر مما له، وصفات الله متناهية في الكمال، لا يمكن المبالغة فيها،
والمبالغة أيضا " تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان، وصفات الله تعالى منزهة عن
ذلك. انتهى.
وذكر هذا للشيخ ابن الحسن السبكي فاستحسنه، وقال: إنه صحيح إذا قلنا:
إنها صفات.
فإن قلنا: أعلام زال ذلك.
قلت: والتحقيق أن صيغ المبالغة على قسمين:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل.
والثاني: بحسب تعدد المفعولات.
ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة، إذ الفعل الواحد قد يقع على
جماعة متعددين.
وعلى هذا التقسيم يحب تنزيل جميع أسماء الله تعالى التي وردت على صيغة المبالغة
كالرحمن والغفور والتواب ونحوها، ولا يبقى إشكال حينئذ، لهذا قال بعض المفسرين في حكم
معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع.
وقال الزمخشري في سورة الحجرات: المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من
507

يتوب إليه من عباده، [أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة]،
أو لأنه بليغ في قبول التوبة، نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه.
وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا في قوله تعالى: (والله على كل شئ قدير)،
وهو أن (قديرا ") من صيغ المبالغة يستلزم الزيادة على معنى (قادر)، والزيادة على معنى
(قادر) محال، إذ الاتحاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل، باعتبار كل فرد فرد.
وأجيب عنه بأن المبالغة لما لم يقدر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى مجموع
الأفراد التي دل السياق عليها، والمبالغة إذن بالنسبة إلى تكثير التعلق لا بالنسبة إلى
تكثير الوصف.
وكذلك قوله تعالى: (والله بكل شئ عليم)، يستحيل عود المبالغة
إلى نفس الوصف، إذ العلم بالشئ لا يصح التفاوت فيه، فيجب صرف المبالغة فيه
إلى المتعلق، إما لعموم كل أفراده، وإما لأن يكون المراد الشئ ولواحقه، فيكون من باب
إطلاق الجزء وإرادة الكل.
الثاني
سئل أبو علي الفارسي: هل تدخل المبالغة في صفات الله تعالى فيقال: (علامة)؟
فأجاب بالمنع، لأن الله تعالى ذم من نسب إليه الإناث لما فيه من النقص، فلا يجوز إطلاق
اللفظ المشعر بذلك.
حكاه الجرجاني في " شرح الإيضاح ".
508

الثالث
أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع
العلمية أو الصفة.
وأورد الزمخشري بأنه لا يمنع (فعلان) صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه،
(فعلى) كغضبان وغضبي، وما لم يكن مؤنثه (فعلى) ينصرف، كندمان وندمانة
وتبعه ابن عساكر بأن (رحمن) وإن لم يكن له مؤنث على (فعلى) فليس له مؤنث
على (فعلانة) لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه، فإذا عدم ذلك
رجع فيه إلى القياس، وكل ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف.
قال الجويني: وهذا فيه ضعف في الظاهر، وإن كان حسنا " في الحقيقة، لأنه إذا لم
يشبه (غضبان) ولم يشبه (ندمان) من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه، مع أن الأصل
الصرف بل كان ينبغي أن يقال: ليس هو كغضبان، فلا يكون غير منصرف، ولا يصح
أن يقال: ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا، لأن الصرف ليس بالشبه، إنما هو بالأصل كما
وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد.
قلت: والتقدير الذي نقلناه عن ابن عساكر يدفع هذا عن الزمخشري، نعم أنكر
ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله ب‍ (الرحمن) لزيادة الألف والنون في منع الصرف، وقال:
لم يمثل به غيره، ولا ينبغي التمثيل به، فإنه اسم علم بالغلبة لله، مختص به، وما كان كذلك
لم يجرد من (أل) ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا، مثل يا رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة.
509

قال: وقد أنكر على الشاطبي:
* تبارك رحمانا رحيما وموئلا *
لأنه أراد الاسم المستعمل بالعلبة.
ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب، فذكر أنه من تعنتهم في كفرهم كما سبق.
[ما جاء على فعيل]
وأما (فعيل) فعند النحاة أنه من صيغ المبالغة والتكرار، كرحيم، وسميع، وقدير،
وخبير، وحفيظ، وحكيم، وحليم، وعليم، فإنه محول عن (فاعل) بالنسبة، وهو
إنما يكون كذلك للفاعل لا للمفعول به، بدليل قولهم: قتيل وجريح، والقتل لا يتفاوت.
وقد يجئ في معنى الجمع كقوله تعالى: (وحسن أولئك رفيقا ")، وقوله: (والملائكة بعد ذلك ظهير)، وقوله: (خلصوا نجيا)، وغير ذلك.
ومن المشكل: (وما كان ربك نسيا)، فإن النفي متوجه على الخبر وهو صيغة
مبالغة، ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل، فلا يلزم نفي أصل النسيان، وهو كالسؤال
الآتي في (ظلام للعبيد).
ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة. ويختص هذا بجواب آخر، وهو مناسبة رؤوس
الآي قبله.
510

[ما جاء على فعال]
وأما فعال، فنحو: غفار، ومنان، وتواب، ووهاب، (فعال لما يريد).
(علام الغيوب)، ونحو: (لكل صبار شكور)، ونحو: (نزاعة
للشوى).
ومن المشكل قوله تعالى: (وما ربك بظلام للعبيد) وتقريره أنه لا يلزم من
نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم، والواقع نفيه، قال الله تعالى: (إن الله لا يظلم
الناس شيئا ")، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة).
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا ":
أحدها: أن (ظلاما) وإن كان يراد به الكثرة لكنه جاء في مقابله العبيد وهو
جمع كثرة إذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا.
ويرشح هذا الجواب أنه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر: (علام الغيوب)،
فقابل صيغة (فعال) بالجمع، وقال في موضع آخر: (عالم الغيب) فقابل صيغة (فاعل)
الدالة على أصل الفعل بالواحد.
وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون
عبدا " لله ولا الملائكة المقربون) حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة
على الأنبياء.
511

وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة، وليس النزاع في تفضيل الجمع
على الواحد.
الثاني: أنه نفي الظلم الكثير، فينتفي القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه
بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع كان الظلم القليل
في المنفعة أكثر.
الثالث: أنه على النسب. واختاره ابن مالك، وحكاه في شرح الكافية عن المحققين،
أي ذا ظلم كقوله: (وليس بنبال) أي بذي نبل. أي لا ينسب إلى الظلم فيكون من باب
بزاز، وعطار.
الرابع: أن فعالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقوله طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة " * ولكن متى يسترفد القوم أرفد
لا يريد أنه يحل التلاع قليلا، لأن ذلك يدفعه قوله: (يسترفد القوم أرفد)، هذا
يدل على نفي الحال في كل حال، لأن تمام المدح لا يصل بإيراد الكثرة.
الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه - وقد جل عنه - لكان كثيرا،
لاستغنائه عنه كما يقال: (زلة العالم كبيرة).
ذكره الحريري في الدرة، قال: وإليه أشار المخزومي في قوله:
كفوفه الظفر تخفى من حقارتها * ومثلها في سواد العين مشهور
512

السادس: أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد، ويصدق بنفي كل واحد، ويعين
الثاني في الآية للدليل الخارجي، وهو قوله: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة).
السابع: أنه أراد: (ليس بظالم، ليس بظالم، ليس بظالم). فجعل في مقابله ذلك
(وما ربك بظلام).
الثامن: أنه جواب لمن قال: ظلام، والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص
لم يكن له مفهوم كما إذا خرج مخرج الغالب.
التاسع: أنه قال: (بظلام)، لأنه قد يظن أن من يعذب غيره عذابا شديدا ظلام
قبل الفحص عن جرم الذنب.
العاشر: أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة فيها وغير المبالغة سواء في الإثبات
جرى النفي على ذلك.
الحادي عشر: أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلاما للعبيد من ولاة الجور.
وأما (فعال) بالتخفيف والتشديد، نحو عجاب وكبار، قال تعالى: (إن هذا لشئ
عجاب)، وقال: (ومكروا مكرا " كبارا ")، قال المعري في " اللامع
العزيزي ": (فعيل) إذا أريد به المبالغة نقل به إلى (فعال) وإذا أريد به الزيادة
شددوا فقالوا: (فعال)، ذلك، من عجيب وعجاب وعجاب، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي:
513

(إن هذا لشئ عجاب) بالتشديد، وقالوا: طويل و طوال وطوال، ويقال: نسب
قريب، وقراب، وهو أبلغ، قال الحارث بن ظالم:
وكنت إذا رأيت بني لؤي * عرفت الود والنسب القرابا
[ما جاء على فعول]
وأما فعول، كغفور، وشكور، وودود، فمنه قوله تعالى: (إن الانسان لظلوم
كفار).
وقوله تعالى في نوح: (إنه كان عبدا " شكورا ").
وقد أطربني قوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور)، فقلت: الحمد لله الذي
ما قال: (الشاكر).
فإن قيل: قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا " وإما كفورا ")، كيف
غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران؟.
قلت: هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، فأجاب بأن
نعم الله على عباده كثيرة، وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل، وكل كفر يأتي في مقابلتها
عظيم، فجاء شكور بلفظ (فاعل) وجاء كفور بلفط (فعول) على وجه المبالغة. فتهلل
وجه الصاحب.
[ما جاء على فعل]
وأما فعل فقوله تعالى: (وإنا لجميع حاذرون).
514

وقوله تعالى: (كذاب أشر)، قرن (فعلا) بفعال.
[ما جاء على فعل]
وأما فعل فيكون صفة، كقوله تعالى: (أهلكت مالا " لبدا ")، اللبد: الكثير.
وقوله تعالى: (إنها لإحدى الكبر).
ويكون مصدر كهدى وتقى، ويكون معدولا عن أفعل من كذا، كقوله تعالى:
(وأخر متشابهات)، وقوله تعالى: (فعدة من أيام أخر)، كما قال:
(أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة " أخرى).
[ما جاء على فعلى]
وأما فعلى فيكون اسما، كالشورى والرجعي، قال الله تعالى: (إن إلى ربك
الرجعى)، وقال تعالى: (وكلمة الله هي العليا).
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن، والسوءى في تأنيث الأسوأ، قال تعالى:
(ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوءى أن كذبوا بآيات الله).
قال الفارسي: يحتمل السوء تأويلين:
أحدهما: أن يكون تأنيث (الأسوأ)، والمعنى: كان عاقبتهم خلة السوءى فتكون
515

(السوءى) على هذا خارجة من الصلة، فتنصب على الموضع، وموضع (أن) نصب، فإنه
مفعول له، أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لتكذيبهم.
الثاني: أن يكون السوءى مصدرا، مثل الرجعى، وعلى هذا فهي داخلة في الصلة،
ومنتصبة بأساؤوا، كقوله تعلى: (وتبتل إليه تبتيلا ")، ويكون (أن كذبوا)
نصبا، لأنه خبر كان.
ويجوز في إعراب (السوءى) وجه ثالث، وهو أن يكون في موضع رفع صفة
ل‍ (العاقبة)، وتقديرها: ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب.
و (الفعلي) في هذا الباب وإن كانت في الأصل صفة، بدليل قوله تعالى: (وهم
بالعدوة القصوى)، وقوله تعالى: (فأراه الآية الكبرى)، فجرت
صفة على موصوفها، فإنها في كثير من الأمور تجرى مجرى الأسماء، كالأبطح،
والأجرع، والأدهم.
تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الثاني من كتاب البرهان في علوم القرآن
للامام بدر الدين الزركشي
ويليه الجزء الثالث وأوله القسم الحادي عشر من أقسام التوكيد: المثنى وإرادة الواحد
من أساليب القرآن، وهو النوع السادس والأربعون
516