الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٢
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء الثاني
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

سورة آل عمران مدنية وهي مائتا آية
1، 2 «بسم الله الرحمن الرحيم»
«ألم الله لا إله إلا هو» قد سلف أن مالا تكون من هذه الفواتح مفردة كصاد وقاف ونون ولا موازنة لمفرد كحاميم وطاسين وياسين الموازنة لقابيل وهابيل وكطاسين ميم الموازنة لدارا بجرد حسبما ذكره سيبويه في الكتاب فطريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف قطعا فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ثم يبدأ بما بعدها كما فعله أبو بكر رضي الله عنه رواية عن عاصم وأما ما فيها من الفتح على القراءة المشهورة فإنما هي حركة همزة الجلالة ألقيت على الميم لتدل على ثبوتها إذ ليس إسقاطها للدرج بل للتخفيف فهي ببقاء حركتها في حكم الثابت المبتدأ به والميم بكون الحركة لغيرها في حكم الوقف على السكون دون الحركة كما توهم واعترض بأنه غير معهود في الكلام وقيل هي حركة لالتقاء السواكن التي هي الياء والميم ولام الجلالة بعد سقوط همزتها وأنت خبير بأن سقوطها مبنى على وقوعها في الدرج وقد عرفت أن سكون الميم وقفى موجب لانقطاعها عما بعدها مستدع لثبات الهمزة على حالها لا كما في الحروف والأسماء المبنية على السكون فإن حقها الاتصال بما بعدها وضعا واستعمالا فتسقط بها همزة الوصل وتحرك أعجازها لالتقاء الساكنين ثم أن جعلت مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها من الإعراب كسائر الفواتح وإن جعلت اسما للسورة فمحلها إما الرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف وإما النصب على إضمار فعل يليق بالمقام ذكر أو اقرأ أو نحوهما وأما الرفع بالابتداء أو النصب بتقدير فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه فلا مساغ لشئ منها لما أن ما بعدها غير صالح للخيرية ولا للإقسام عليه فإن الاسم الجليل مبتدأ وما بعده خبره والجملة مستأنفة أي هو المستحق للمعبودية لا غير وقوله عز وجل
«الحي القيوم» خبر آخر له أو لمبتدأ محذوف أي هو الحي القيوم لا غيره وقيل هو صفة للمبتدأ أو بدل منه أو من الخبر الأول أو هو الخبر وما قبله اعتراض بين المبتدأ مقرر لما يفيده الاسم الجليل أو حال منه وإياه ما كان فهو كالدليل على اختصاص استحقاق المعبودية به سبحانه وتعالى لما مر من أن معنى الحي الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء ومعنى القيوم الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ومن ضرورة اختصاص ذينك الوصفين به تعالى اختصاص استحقاق المعبودية به تعالى لاستحالة
2

تحققه بدونهما وقد روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اسم الله الأعظم في ثلاث سور في سورة البقرة الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي آل عمران ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم وفي طه وعنت الوجوه للحي القيوم وروى ان بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام عن اسم الله الأعظم قال الحي القيوم ويروى ان عيسى عليه السلام كان إذا أراد إحياء الموتى يدعو يا حي يا قيوم ويقال إن آصف بن برخيا حين أتى بعرش بلقيس دعا بذلك وقرئ الحي القيام وهذا رد على من زعم ان عيسى عليه السلام كان ربا فإنه روى ان وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من اشرافهم ثلاثة منهم أكابر إليهم يؤول أمرهم أحدهم أميرهم وصاحب مشورتهم العاقب واسمه عبد المسيح وثانيهم وزيرهم ومشيرهم السيد واسمه الأيهم وثالثهم حبرهم وأسقفهم وصاحب مدارسهم أبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل وقد كان ملوك الروم شرفوه ومولوه وأكرموه لما شاهدوا من علمه واجتهاده في دينهم وبنوا له كنائس فلما خرجوا من نجران ركب أبو حارثة بغلته وكان أخوه كرز بن علقمة إلى جنبه فبينا بغلة أبي حارثة تسير إذ عثرت فقال كرز تعسا للأبعد يريد به رسول اله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو حارثة بل تعست أمك فقال كرز ولم يا أخي قال إنه والله النبي الذي كنا ننتظره فقال له كرز فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا قال لأن هؤلاء الملوك أعطونا أموالا كثيرة وأكرمونا فلو آمنا به لأخذوا منا كلها فوقع ذلك في قلب كرز وأضمره إلى أن أسلم فكان يحدث بذلك فأتوا المدينة ثم دخلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية فاخرة يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا ليصلوا في المسجد فقال عليه السلام دعوهم فصلوا إلى المشرق ثم تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا تارة عيسى هو الله لأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيطير وتارة أخرى هو ابن الله إذ لم يكن له أب يعلم وتارة أخرى إنه ثالث ثلاثة لقوله تعالى فعلنا وقلنا ولو كان واحدا لقال فعلت وقلت فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا قالوا أسلمنا قبلك قال صلى الله عليه وسلم كذبتم يمنعكم من الإسلام دعاؤكم لله تعالى ولدا قالوا إن أم يكن ولدا لله فمن أبوه فقال صلى الله عليه وسلم ألستم تعلمون انه لا يكون ولد إلا ويشبه أباه فقالوا بلى قال ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا قيوم على كل شيء يحفظه ويرزقه قالوا بلى قال عليه السلام فهل يملك عيسى من ذلك شيئا قالوا لا فقال عليه السلام
ألستم تعلمون أن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء قالوا بلى قال عليه السلام فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون أن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء وان ربنا لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث قالوا بلى قال عليه السلام ألستم تعلمون ان عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ووضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث قالوا بلى قال عليه السلام فكيف يكون هذا كما زعمتم فسكتوا وأبوا إلا جحودا فأنزل الله عز وجل من أول السورة إلى نيف وثمانين آية تقريرا لما احتج به عليه السلام عليهم وأجاب
3

به عن شبههم وتحقيقا للحق الذي فيه يمترون
«نزل عليك الكتاب» أي القرآن عبر عنه باسم الجنس إيذانا بكمال تفوقه على بقية الأفراد في حيازة كمالات الجنس كأنه هو الحقيق بان يطلق عليه اسم الكتاب دون ما عداه كما يلوح به التصريح باسمي التوراة والإنجيل وصيغة التفعيل للدلالة على التنجيم وتقديم الظرف على المفعول لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والجملة إما مستأنفة أو خبر آخر عن الاسم الجليل أو هي الخبر وقوله تعالى لا إله إلا هو اعتراض أو حال وقوله عز وجل الحي القيوم صفة أو بدل كما مر وقرئ نزل عليك الكتاب بالتخفيف ورفع الكتاب فالظاهر حينئذ أن تكون مستأنفة وقيل يجوز كونها خبرا بحذف العائد أي نزل الكتاب من عنده
«بالحق» حال من الفاعل أو المفعول أي نزله محقا في تنزيله على ما هو عليه أو ملتبسا بالعدل في أحكامه أو بالصدق في أخباره التي من جملتها خبر التوحيد وما يليه وفي وعده ووعيده أو بما يحقق انه من عند الله تعالى من الحجج البينة
«مصدقا» حال من الكتاب بالاتفاق على تقدير كون قوله تعالى بالحق حالا من فاعل نزل وأما على تقدير حاليته من الكتاب فهو عند من يجوز تعدد الحال بلا عطف ولا بدلية حال منه بعد حال وأما عند من يمنعه فقد قيل إنه حال من محل الحال الأولى على البدلية وقيل من المستكن في الجار والمجرور لأنه حينئذ يتحمل ضميرا لقيامه مقام عامله المتحمل له فيكون حالا متداخلة وعلى كل حال فهي حال مؤكدة وفائدة تقييد التنزيل بها حث أهل الكتابين على الإيمان بالمنزل وتنبيههم على وجوبه فإن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه حتما
«لما بين يديه» مفعول لمصدقا واللام دعامة لتقوية العمل نحو فعال لما يريد أي مصدقا لما قبله من الكتب السالفة وفيه إيماء إلى حضورها وكمال ظهور امرها بين الناس وتصديقه إياها في الدعوة إلى الإيمان والتوحيد وتنزيه الله عز وجل عما لا يليق بشأنه الجليل والأمر بالعدل والإحسان وكذا في انباء الأنبياء والأمم الخالية وكذا في نزوله على النعت المذكور فيها وكذا في الشرائع التي لا تختلف باختلاف للأمم والأعصار ظاهر لا ريب فيه وأما في الشرائع المختلفة باختلافهما فمن حيث إن أحكام كل واحد منها واردة حسبما تقتضيه الحكمة التشريعية بالنسبة إلى خصوصيات الأمم المكلفة بها مشتملة على المصالح اللائقة بشأنهم
«وأنزل التوراة والإنجيل» تعيين لما بين يديه وتبيين لرفعة محله تأكيدا لما قبله وتمهيدا لما بعده إذ بذلك يترقى شأن ما يصدقه رفعة ونباهة ويزداد في القلوب قبولا ومهابة ويتفاحش حال من كفر بهما في الشناعة واستتباع ما سيذكر من العذاب الشديد والانتقام أي أنزلهما جملة على موسى وعيسى عليهما السلام وإنما لم يذكرا لأن الكلام في الكتابين لا فيمن أنزلا عليه وهما اسمان أعجميان الأول عبري والثاني سرياني ويعضده القراءة بفتح همزة الإنجيل فإن أفعيل ليس من أبنية العرب والتصدي لإشتقاقهما من الورى والنجل تعسف
«من قبل» متعلق بأنزل
4

أي أنزلهما من قبل تنزيل الكتاب والتصريح به مع ظهور الأمر للمبالغة في البيان
«هدى للناس» في حيز النصب على أنه علة للإنزال أي أنزلهما لهداية الناس أو على أنه حال منهما أي أنزلهما حال كونهما هدى لهم والإفراد لما أنه مصدر جعلا نفس الهدى مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذوى هدى ثم إن أريد هدايتهما بجميع ما فيهما من حيث هو جميع فالمراد بالناس الأمم الماضية من حين نزولهما إلى زمان نسخهما وأن أريد هدايتهما على الإطلاق وهو الأنسب بالمقام فالناس على عمومه لما أن هدايتهما بما عد الشرائع المنسوخة من الأمور التي يصدقهما القرآن فيها ومن جملتها البشارة بنزوله وبمبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعم الناس قاطبة
«وأنزل الفرقان» الفرقان في الأصل مصدر كالغفران أطلق على الفاعل مبالغة والمراد به ههنا أما جنس الكتب إلهية عبر عنها بوصف شامل لما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم إثر تخصيص بعض مشاهيرها بالذكر كما في قوله عز وجل فأنبتنا فيها حبا وعنبا إلى قوله تعالى وفاكهة وإما نفس الكتب المذكورة أعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريقة العطف بتكرير لفظ الإنزال تنزيلا للتغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي كما في قوله سبحانه ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ وإما الزبور فإنه مشتمل على المواعظ الفارقة بين الحق والباطل الداعية إلى الخير والرشاد الزاجرة عن الشر والفساد وتقديم الإنجيل عليه مع تأخره عنه نزولا لقوة مناسبته للتوراة في الاشتمال على الأحكام والشرائع وشيوع اقترانهما في الذكر وإما القرآن نفسه ذكر بنعت مادح له بعد ما ذكر باسم الجنس تعظيما لشأنه ورفعا لمكانة وقد بين أولا تنزيله التدريجي إلى الأرض وثانيا إنزاله الدفعي إلى السماء الدنيا أو أريد بإنزال القدر المشترك العاري عن قيد التدريج وعدمه وإما المعجزات المقرونة بإنزال الكتب المذكورة الفارقة بين المحق والمبطل
«إن الذين كفروا بآيات الله» وضع موضع الضمير العائد إلى ما فصل من الكتب المنزلة أو منها ومن المعجزات وآيات مضافة إلى الاسم الجليل تعيينا لحيثية كفرهم وتهويلا لأمرهم وتأكيدا لاستحقاقهم العذاب الشديد وإيذانا بأن ذلك الاستحقاق لا يشترط فيه الكفر بالكل بل يكفى فيه الكفر ببعض منها والمراد بالموصول إما أهل الكتابين وهو الأنسب بمقام المحاجة معهم أو جنس الكفرة وهم داخلون فيه دخولا أوليا أي ان الذين كفروا بما ذكر من آيات الله الناطقة بالحق لا سيما بتوحيده تعالى وتنزيهه عما
لا يليق بشأنه الجليل كلا أو بعضا مع ما بها من النعوت الموجبة للإيمان بها بأن كذبوا بالقرآن أصالة وبسائر الكتب الإلهية تبعا لما ان تكذيب المصدق موجب لتكذيب ما يصدقه حتما وأصالة أيضا بأن كذبوا بآياتها الناطقة بالتوحيد والتنزيه وآياتها المبشرة بنزول القرآن ومبعث النبي صلى الله عليه وسلم وغيروها
«لهم» بسبب كفرهم بها
«عذاب» مرتفع إما على الفاعلية من الجار والمجرور أو على الابتداء والجملة خبر أن والتنوين للتفخيم أي أي عذاب
«شديد» لا يقادر قدره وهو وعيد جئ به إثر تقرير أمر التوحيد الذاتي والوصفى والإشارة إلى ما ينطق بذلك من الكتب الإلهية حملا على القبول والإذعان وزجرا عن الكفر والعصيان
«والله عزيز» لا يغالب يفعل ما يشاء ويحكم ما يرد
«ذو انتقام» عظيم خارج عن أفراد جنسه وهو افتعال من النقمة وهي السطورة والتسلط يقال انتقم منه إذا عاقبه بجنايته والجملة اعتراض تذييلى مقرر للوعيد
5

ومؤكد له «إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء» استئناف كلام سيق لبيان سعة علمه تعالى وإحاطته بجميع ما في العالم من الأشياء التي من جملتها ما صدر عنهم من الكفر والفسوق سرا وجهرا إثر بيان كمال قدرته وعزته تربية لما قبله من الوعيد وتنبيها على أن الوقوف على بعض المغيبات كما كان في عيسى عليه السلام بمعزل من بلوغ رتبة الصفات الآلهية وإنما عبر من علمه عز وجل بما ذكر بعدم خفائه عليه كما في قوله سبحانه وما يخفي على الله من شيء في الأرض ولا في السماء إيذانا بأن علمه تعالى بمعلوماته وإن كانت في أقصى الغايات الخفية ليس من شأنه أن يكون على وجه يمكن أن يقارنه شائبه خفاء بوجه من الوجوه كما في علوم المخلوقين بل هو في غاية الوضوح والجلاء والجملة المنفية خبر لأن وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيىء مؤكدة لعمومه المستفادة من وقوعه في سياق النفي أي لا يخفي عليه شئ ما كائن في الأرض ولا في السماء أعم من أن يكون ذلك بطريق الاستقرار فيهما أو الجزئية منهما وقيل متعلقة بيخفى وإنما عبر بهما عن كل العالم لأنهما قطراه وتقديم الأرض على السماء لإظهار الاعتناء بشأن أحوال أهلها وتوسيط حرف النفي بينهما للدلالة على الترقي من الأدنى إلى الاعلى باعتبار القرب والبعد منا المستدعيين للتفاوت بالنسبة إلى علومنا وقوله عز وجل
«هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء» جملة مستأنفة ناطقة ببعض أحكام قيوميته تعالى وجريان أحوال الخلق في أطوار الوجود حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة مقررة لكمال علمه مع زيادة بيان لتعلقه بالأشياء قبل دخولها تحت الوجود ضرورة وجوب علمه تعالى بالصور المختلفة المترتبة على التصوير المترتب على المشيئة قبل تحققها بمراتب وكلمة في متعلقة بيصوركم أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المفعول أي يصوركم وأنتم في الأرحام مضغ وكيف معمول ليشاء والجملة في محل النصب على الحالية إما من فاعل يصوركم أي يصوركم كائنا على مشيئته تعالى أي مريدا أو من مفعوله أي يصوركم كائنين على مشيئته تعالى تابعين لها في قبول الأحوال المتغايرة من كونكم نطفا ثم علقا ثم مضغا غير مخلقة ثم مخلقة وفي الاتصاف بالصفات المختلفة من الذكورة والأنوثة والحسن والقبح وغير ذلك من الصفات وفيه من الدلالة على بطلان زعم من زعم ربوبية عيسى عليه السلام وهو من جملة أبناء النواسيت المتقلبين في هذه الأطوار على مشيئة الباري عز وجل وكمال ركاكة عقولهم مالا يخفي وقرئ تصوركم على صيغة الماضي من التفعل أي صوركم لنفسه وعبادته
«لا إله إلا هو» إذ لا يتصف بشيء مما ذكر من الشؤون العظيمة الخاصة بالألوهية أحد ليتوهم ألوهيته
«العزيز الحكيم» المتناهي في القدرة والحكمة ولذلك يخلقكم على ما ذكر من النمط البديع
6

«هو الذي أنزل عليك الكتاب» شروع في إبطال شبههم الناشئة عما نطق به القرآن في نعت عيسى عليه السلام بطريق الاستئناف إثر بيان اختصاص الربوبية ومناطها به سبحانه وتعالى تارة بعد أخرى وكون كل من عداه مقهورا تحت ملكوته تابعا لمشيئته قيل إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألست تزعم يا محمد أن عيسى كلمة الله وروح منه قال صلى الله عليه وسلم بلى قالوا فحسبنا ذلك فنعى عليهم زيغهم وفتنتهم وبين أن الكتاب مؤسس على أصول رصينة وفروع مبنية عليها ناطقة بالحق قاضية ببطلان ما هم عليه من الضلال والمراد بالإنزال القدر المشترك المجرد عن الدلالة على قيد التدريج وعدمه ولام الكتاب للعهد وتقديم الظرف عليه لما أشير إليه فيما قبل من الاعتناء بشأن بشارته عليه السلام بتشريف الإنزال عليه ومن التشويق إلى ما أنزل فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما بعد الإشعار برفعه شانه أو بمنفعته تبقى مترقبة له فيتمكن لديها عند وروده عليها فضل تمكن وليتصل به تقسيمه إلى قسيمه
«منه آيات» الظرف خبر وآيات مبتدأ أو بالعكس بتأويل مر تحقيقه في قوله تعالى ومن الناس من يقول الآية والأول أوفق بقواعد الصناعة والثاني ادخل في جزالة المعنى إذ المقصود الأصلي انقسام الكتاب إلى القسمين المعهودين لا كونهما من الكتاب فتذكر والجملة مستأنفة أو في حيز النصب على الحالية من الكتاب أي هو الذي أنزل الكتاب كائنا على هذه الحال أي منقسما إلى محكم ومتشابه أو الظرف هو الحال وحده وآيات مرتفع به على الفاعلية
«محكمات» صفة آيات أي قطعية الدلالة على المعنى المراد محكمة العبارة محفوظة من الاحتمال والاشتباه
«هن أم الكتاب» أي أصل فيه وعمدة يرد إليها غيرها فالمراد بالكتاب كله والإضافة بمعنى في كما في واحد العشرة لا بمعنى اللام فإن ذلك يؤدى إلى كون الكتاب عبارة عما عدا المحكمات والجملة إما صفة لما قبلها أو مستأنفة وإنما افرد الام مع تعدد الآيات لما ان المراد بيان أصلية كل واحدة منها أو بيان ان الكل بمنزلة آية واحدة كما في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين وقيل اكتفى بالمفرد عن الجمع كما في قول الشاعر
* بها جيف الحصري فأما عظامها
* فبيض وأما جلدها فصليب
* أي وأما جلودها
«وأخر» لمحذوف معطوف على آيات أي وآيات أخر وهي جمع أخرى وإنما لم ينصرف لأنه وصف معدول عن الأخر أو عن آخر من
«متشابهات» صفة لأخر وفي الحقيقة صفة للمحذوف أي محتملات لمعان متشابهة لا يمتاز بعضها من بعض في استحقاق الإرادة بها ولا يتضح الأمر إلا بالنظر الدقيق والتأمل الأنيق فالتشابه في الحقيقة وصف لتلك المعاني وصف به الآيات على طريقة وصف الدال بوصف المدلول وقيل لما كان من شان الأمور المتشابهة أن يعجز العقل عن التمييز بينها سمى كل ما لا يهتدى إليه العقل متشابها وإن لم يكن ذلك بسبب التشابه
7

كما أن المشكل في الأصل ما دخل في أشكاله وأمثاله ولم يعلم بعينه ثم أطلق على كل غامض وإن لم يكن غموضه من تلك الجهة وإنما جعل ذلك كذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبرها وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد بها من الأحكام الحقة فينالوا بها وبإتعاب القرائح في استخراج مقاصدها الرائفة ومعانيها اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينها وبين المحكمات من اليقين والاطمئنان إلى المعارج القاصية وأما قوله عز وجل «الر كتاب أحكمت آياته» فمعناه أنها حفظت من اعتراء الخلل أو من النسخ أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على حقيتها أو جعلت حكيمة لانطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها وقوله تعالى كتابا متشابها مثاني معناه متشابه الأجزاء أي يشبه بعضها بعضا في صحة المعنى وجزالة النظم وحقية المدلول
«فأما الذين في قلوبهم زيغ» أي ميل عن الحق إلى الأهواء الباطلة قال الراغب الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين وفي جعل قلوبهم مقرا للزيغ مبالغة في عدولهم عن سنن الرشاد وإصرارهم على الشر والفساد
«فيتبعون ما تشابه منه» معرضين عن المحكمات أي يتعلقون بظاهر المتشابه من الكتاب أو بتأويل باطل لا تحريا للحق بعد الإيمان بكونه من عند الله تعالى بل
«ابتغاء الفتنة» أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك والتلبيس ومناقضة المحكم بالمتشابه كما نقل عن الوفد
«وابتغاء تأويله» أي وطلب أن يؤلوه حسبما يشتهونه من التأويلات الزائغة والحال أنهم بمعزل من تلك الرتبة وذلك قوله عز وجل
«وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم» فإنه حال من ضمير فيتبعون باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله والحال أنه مخصوص به تعالى وبمن وفقه له من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام في تعليل الاتباع بابتغاء تأويله دون نفس تأويله وتجريد التأويل عن الوصف بالصحة أو الحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل في شئ وأن ما يبتغونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبة ومن وقف على الا الله فسر المتشابه بما استأثر الله عز وعلا بعلمه كمده بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة وخواص الاعداد كعدد الزبانية أو بما دل القاطع على عدم إرادة ظاهرة ولم يدل على ما هو المراد به
«يقولون آمنا به» أي بالمتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره أو بالكتاب والجملة على الأول استئناف موضح لحال الراسخين أو حال منه وعلى الثاني خبر لقوله تعالى والراسخون وقوله تعالى
«كل من عند ربنا» من تمام المقول مقرر لما قبله ومؤكد له أي كل واحد منه ومن المحكم أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما أو آمنا به وبحقيته على مراده تعالى
«وما يذكر» حق التذكر
«إلا أولوا الألباب» أي العقول الخالصة عن الركون إلى الأهواء الزائغة وهو تذييل سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر وإشارة إلى ما به استعدوا للاهتداء إلى تأويله من تجرد العقل عن غواشى الحس وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إنها جواب عما تشبث به النصارى من نحو قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه على وجه الإجمال وسيجئ الجواب المفصل بقوله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون
8

«ربنا لا تزغ قلوبنا» من تمام مقاله الراسخين أي لا تزغ قلوبنا عن نهج الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه قال صلى الله عليه وسلم قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه على الحق وإن شاء أزاغه عنه وقيل معناه لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا
«بعد إذ هديتنا» أي إلى الحق والتأويل الصحيح أو إلى الإيمان بالقسمين وبعد نصب بلا تزغ على الظرف وإذ في محل الجر بإضافته إليه خارج من الظرفية أي بعد وقت هدايتك إيانا وقيل إنه بمعنى أن
«وهب لنا من لدنك» كلا الجارين متعلق بهب وتقديم الأول لما مر مرارا ويجوز تعلق الثاني بمحذوف هو حال من المفعول أي كائنة من لدنك ومن لابتداء الغاية المجازية ولدن في الأصل ظرف بمعنى أول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات نحو من لدن زيد وليست مرادفة لعند إذ قد تكون فضلة وكذا لدى وبعضهم يخصها بظرف المكان وتضاف إلى صريح الزمان كما في قوله
* تنتفض الرعدة في ظهيرى
* من لدن الظهر إلى العصير
* ولا تقطع عن الإضافة بحال وأكثر ما تضاف إلى المفردات وقد تضاف إلى أن وصلتها كما في قوله
* ولم تقطع أصلا من لدن أن وليتنا
* قرابة ذي رحم ولا حق مسلم
* أي من لدن ولايتك أيانا وقد تضاف إلى الجملة الاسمية كما في قوله
* تذكر نعماه لدن أنت يافع
* وإلى الجملة الفعلية أيضا كما في قوله
* لزمنا لدن سالمتمونا وفاتكم
* فلا يك منكم للخلاف جنوح
* وقلما تخلو عن من كما في البيتين الأخيرين
«رحمة» واسعة تزلفنا إليك ونفور بها عندك أو توفيقا للثبات على الحق وتأخير المفعول الصريح عن الجارين لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة لوروده لا سيما عند الإشعار بكونه من المنافع باللام فإذا أورده يتمكن عندها فضل تمكن
«إنك أنت الوهاب» تعليل للسؤال أو لإعطاء المسؤول وأنت إما مبتدأ أو فصل أو تأكيد لاسم أن وإطلاق الوهاب ليتناول كل موهوب وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى وأنه متفضل بما ينعم به على عباده من غير أن يجب عليه شئ
«ربنا إنك جامع الناس ليوم» أي الحساب يوم أو الجزاء يوم حذف المضاف وأقيم مقامه المضاف إليه تهويلا له وتفظيعا لما يقع فيه
«لا ريب فيه» أي في وقوعه ووقوع ما فيه من الحشر والحساب والجزاء ومقصودهم بهذا عرض كمال افتقارهم إلى الرحمة وأنها المقصد الأسنى عندهم والتأكيد لإظهار ما هم عليه من كمال الطمأنينة وقوة اليقين بأحوال الآخرة
«إن الله لا يخلف الميعاد» تعليل لمضمون الجملة المؤكدة أو لانتفاء الريب والتأكيد لما مر وإظهار الاسم الجليل مع الالتفات لإبراز كمال التعظيم والإجلال الناشئ من ذكر اليوم المهيب الهائل بخلاف ما في آخر السورة الكريمة فإنه مقام طلب الإنعام كما سيأتي وللإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منافية للإخلاف وقد جوز أن تكون الجملة مسوقة من جهته تعالى لتقرير قول الراسخين والميعاد مصدر كالميقات واستدل به الوعيدية
9

وأجيب بأن وعيد الفساق مشروط بعدم العفو بدلائل مفصلة كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا
«إن الذين كفروا» إثر ما بين الدين الحق والتوحيد وذكر أحوال الكتب الناطقة به وشرح شأن القرآن العظيم وكيفية إيمان العلماء الراسخين به شرع في بيان حال من كفر به والمراد بالموصول جنس الكفرة الشامل لجميع الأصناف وقيل وفد نجران أو اليهود من قريظة والنضير أو مشركو العرب
«لن تغني عنهم» أي لن تنفعهم وقرئ بالتذكير وبسكون الياء جدا في استثقال الحركة على حروف اللين
«أموالهم» التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار
«ولا أولادهم» الذين بهم ينتصرون في الأمور المهمة وعليهم يعولون في الخطوب الملمة وتأخير الأولاد عن الأموال مع توسيط حرف النفي بينهما إما لعراقة الأولاد في كشف الكروب أو لأن الأموال أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب
«من الله» من عذابه تعالى
«شيئا» أي شيئا من الأغنياء وقيل كلمة من بمعنى البدل والمعنى بدل رحمة الله أو بدل طاعته كما في قوله تعالى ان الظن لا يغنى من الحق شيئا أي بدل الحق ومنه قوله ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفعه جده بدلك أي بدل رحمتك كما في قوله تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى وأنت خبير بان احتمال سد أموالهم وأولادهم مسد رحمة الله تعالى أو طاعته مما لا يخطر ببال أحد حتى يتصدى لنفيه والأول الأليق بتفظيع حال الكفرة وتهويل أمرهم والأنسب بما بعده من قوله تعالى
«وأولئك هم وقود النار» ومن قوله تعالى فأخذهم الله أي أولئك المتصفون بالكفر حطب النار وحصبها الذي تسعر به فإن أريد بيان حالهم عند التسعير فإيثار الجملة الاسمية للدلالة على تحقق الأمر وتقرره وإلا فهو للإيذان بان حقيقة حالهم ذلك وان أحوالهم الظاهرة بمنزلة العدم فهم حال كونهم في الدنيا وقود النار بأعيانهم وفيه من الدلالة على كمال ملابستهم بالنار مالا يخفى وهم يحتمل الابتداء وأن يكون ضمير الفصل والجملة وإما مستأنفة مقررة لعدم الأغنياء أو معطوفة على خبر أن وأيا ما كان ففيها تعيين للعذاب الذي بين أن أموالهم وأولادهم لا تغنى عنهم منه شيئا وقرئ وقود النار بضم الواو وهو مصدر أي أهل وقودها
«كدأب آل فرعون» الدأب مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه وتعب غلب استعماله في معنى الشأن والحال والعادة ومحل الكاف الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقد جوز لنصب بلن تغنى أو بالوقود أي لن تغنى عنهم كما لم تغن عن أولئك أو توقد بهم النار كما توقد بهم وأنت خبير بان المذكور في تفسير الدأب إنما هو التكذيب والأخذ من غير تعرض لعدم الإغناء لا سيما على تقدير كون من بمعنى البدل كما هو رأى المجوز ولا لإيقاد النار فيحمل على التعليل وهو خلاف
10

الظاهر على أنه يلزم الفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي على تقدير النصب بلن تغني وهو قوله تعالى وأولئك هم وقود النار إلا أن يجعل استئنافا معطوفا على خبر إن فالوجه هو الرفع على الخبرية أي دأب هؤلاء في الكفر وعدم النجاة من أخذ الله تعالى وعذابه كدأب آل فرعون
«والذين من قبلهم» أي من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة فالموصول في محل الجر عطفا على ما قبله وقوله تعالى
«كذبوا بآياتنا» بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريق الاستئناف المبني على السؤال كأنه قيل كيف كان دأبهم فقيل كذبوا بآياتنا وقوله تعالى
«فأخذهم الله» تفسير لدأبهم الذي فعل بهم أي فأخذهم الله وعاقبهم ولم يجدوا من بأس الله تعالى محيصا فدأب هؤلاء الكفرة أيضا كدأبهم وقيل كذبوا الخ حال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد أي دأب هؤلاء كدأب أولئك وقد كذبوا الخ وأما كونه خبر عن الموصول كما قيل فمما يذهب برونق النطم الكريم والالتفات إلى التكلم أولا للجري على سنن الكبرياء وإلى الغيبة ثانيا بإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة
«بذنوبهم» إن أريد بها تكذيبهم بالآيات فالباء للسببية جئ بها تأكيدا لما تفيده الفاء من سببية ما قبلها لما بعدها وإن أريد بها سائر ذنوبهم فالباء للملابسة جيء بها للدلالة على أن لهم ذنوبا أخر أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها كما في قوله تعالى وتزهق أنفسهم وهم كافرون والذنب في الأصل التلو والتابع وسمي الجريمة ذنبا لأنها تتلو أي تتبع عقابها فاعلها
«والله شديد العقاب» تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ وتكملة له
«قل للذين كفروا» المراد بهم اليهود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى وفي التوراة نعته وهموا باتباعه فقال بعضهم لا تعجلوا حتى ننظر إلى واقعة له أخرى فلما كان يوم أحد شكوا وقد كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة فنقضوه وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وعن سعيد بن جبير وعكرمة وعن ابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فحذرهم ان ينزل بهم ما نزل بقريش فقالوا لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس فنزلت أي قل لهم
«ستغلبون» البتة عن قريب في الدنيا وقد صدق الله عز وجل وعده بقتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم وهو من أوضح شواهد النبوة واما ما روى عن مقاتل من أنها نزلت قبل بدر وأن الموصول عبارة عن مشركي مكة ولذلك قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر إن الله غالبكم وحاشركم إلى جهنم وبئس المهاد فيؤدي إلى انقطاع الآية الكريمة عما بعدها لنزوله بعد وقعة بدر
«وتحشرون» أي في الآخرة
«إلى جهنم» وقرئ الفعلان بالياء على أنه عليه السلام أمر بأن يحكي لهم ما أخبر الله تعالى به من وعيدهم بعبارته كأنه قيل أد إليهم هذا القول
«وبئس المهاد» إما من تمام ما يقال لهم أو استئناف لتهويل جهنم وتفظيع حال أهلها والمخصوص بالذم
11

محذوف أي وبئس المهاد جهنم أو ما مهدوه لأنفسهم «قد كان لكم» جواب قسم محذوف وهو من تمام القول المأمور به جيء به لتقرير مضمون ما قبله وتحقيقه والخطاب لليهود أيضا والظرف خبر كان على أنها ناقصة ولتوسطه بينها وبين اسمها ترك التأنيت كما في قوله
* إن امرأ غره منكن واحدة
* بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
* على ان التأنيث ههنا غير حقيقي أو هو متعلق بكان على أنها تامة وإنما قدم على فاعلها لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي والله قد كان لكم أيها المغترون بعددهم وعددهم
«آية» عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم إنكم ستغلبون
«في فئتين» أي فرقتين أو جماعتين فإن المغلوبة منهما كانت مدلة بكثرتها معجبة بعزتها وقد لقيها ما لقيها فسيصيبكم ما يصيبكم ومحل الظرف الرفع على أنه صفة لآية وقيل النصب على خبرية كان والظرف الأول متعلق بمحذوف وقع حالا من آية
«التقتا» في حيز الجر على أنه صفة فئتين أي تلاقتا بالقتال يوم بدر
«فئة» بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي إحداهما فئة كما في قوله
* إذا مت كان الناس حزبين شامت
* وآخر مثن بالذي كنت أصنع
* أي أحدهما شامت والآخر مثن وقوله
* حتى إذا ما استقل النجم في غلس
* وغودر البقل ملوي ومحصود
* والجملة مع ما عطف عليها مستأنفة لتقرير ما في الفئتين من الآية وقوله تعالى
«تقاتل في سبيل الله» في محل الرفع على أنه صفة فئة كاملة كأنه قيل فئة مؤمنة ولكن ذكر مكانه من أحكام الإيمان ما يليق بالمقام مدحا لهم واعتدادا بقتالهم وإيذانا بأنه المدار في تحقق الآية وهي رؤية القليل كثيرا وقرئ يقاتل على تأول الفئة بالقوم أو الفريق
«وأخرى» نعت لمبتدأ محذوف معطوف على ما حذف من الجملة الأولى أي وفئة أخرى وإنما نكرت والقياس تعريفها كقرينتها لوضوح أن التفريق لنفس المثنى المقدم
ذكره وعدم الحاجة إلى التعريف وقوله تعالى
«كافرة» خبر المبتدأ المحذوف وإنما لم توصف هذه الفئة بما يقابل صفة الفئة الأولى إسقاطا لقتالهم عن درجة الاعتبار وإيذانا بأنهم لم يتصدوا للقتال لما اعتراهم من الرعب والهيبة وقيل كل من المتعاطفين بدل من الضمير في التقتا وما بعدهما صفة فلا بد من ضمير محذوف عائد إلى المبدل منه مسوغ لوصف البدل بالجملة العارية عن ضميره أي فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة ويجوز ان يكون كل منهما مبتدأ وما بعدهما خبرا أي فئة منهما تقاتل الخ وفئة أخرى كافرة وقيل كل منهما مبتدأ محذوف الخبر أي منهما فئة تقاتل الخ وقرئ فئة بالجر على البدلية من فئتين بدل بعض من كل وقد مر أنه لا بد من ضمير عائد إلى المبدل منه ويسمى بدلا تفصيليا كما في قول كثير عزة
* وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
* ورجل رمى فيها الزمان فشلت
* وقرئ فئة الخ بالنصب على المدح أو الذم أو على الحالية من ضمير التقتا كأنه قيل التقتا مؤمنة وكافرة فيكون فئة وأخرى توطئة لما هو الحال حقيقة إذ المقصود بالذكر وصفاهما كما في قولك جاءني زيد رجلا صالحا
«يرونهم» أي يرى الفئة الأخيرة الفئة الأولى وإيثار
12

صيغة الجمع للدلالة على شمول الرؤية لكل واحد واحد من آحاد الفئة والجملة في محل الرفع على أنها صفة للفئة الأخيرة أو مستأنفة مبينة لكيفية الآية
«مثليهم» أي مثلي عدد الرائين قريبا من ألفين إذ كانوا قريبا من ألف كانوا تسعمائة وخمسين مقاتلا رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وفيهم أبو سفيان وأبو جهل وكان فيهم من الخيل والإبل مائة فرس وسبعمائة بعير ومن أصناف الأسلحة عدد لا يحصى
عن محمد بن أبي الفرات عن سعد بن أوس أنه قال أسر المشركون رجلا من المسلمين فسألوه كم كنتم قال ثلاثمائة وبضعة عشر قالوا ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا أو مثلي عدد المرئيين أي ستمائة ونيفا وعشرين حيث كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا سبعة وسبعون رجلا من المهاجرين ومأتان وستة وثلاثون من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين وكان صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة الخزرجي وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو والآخر لمرثد بن أبي مرثد وست أدرع وثمانية سيوف وجميع من استشهد يومئذ من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أراهم الله عز وجل كذلك مع قلتهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم مددا لهم منه سبحانه كما أمدهم بالملائكة عليهم السلام وكان ذلك عند التقاء الفئتين بعد أن قللهم في أعينهم عند ترائيهما ليجترئوا عليهم ولا يهربوا من أول الأمر حين ينجيهم الهرب وقيل يرى الفئة الأولى الفئة الأخيرة مثلي أنفسهم مع كونهم ثلاثة أمثالهم ليثبتوا ويطمئنوا بالنصر الموعود في قوله تعالى فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مأتين والأول هو الأولى لأن رؤية المثلين غير المتعينة من جانب المؤمنين بل قد وقعت رؤية المثل بل أقل منه أيضا فإنه روى أن ابن مسعود رضي الله عنه قال قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا ثم قللهم الله تعالى أيضا في أعينهم حتى رأتهم عددا يسيرا أقل من أنفسهم قال ابن مسعود رضي الله عنه لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين قال أراهم مائة فأسرنا منهم رجلا فقلنا كم كنتم قال ألفا فلو أريد رؤية المؤمنين المشركين أقل من عددهم في نفس الأمر كما في سورة الأنفال لكانت رؤيتهم إياهم أقل من أنفسهم أحق بالذكر في كونها آية من رؤيتهم مثليهم على أن إبانة آثار قدرة الله تعالى وحكمته للكفرة بإراءتهم القليل كثيرا والضعيف قويا وإلقاء الرعب في قلوبهم بسبب ذلك أدخل في كونها آية لهم وحجة عليهم وأقرب إلى اعتراف المخاطبين بذلك لكثرة مخالطتهم الكفرة المشاهدين للحال وكذا تعلق الفعل بالفاعل أشد من تعلقه بالمفعول فجعل أقرب المذكورين السابقين فاعلا وابعدهما مفعولا سواء جعل الجملة صفة أو مستأنفة أولى من العكس هذا ما تقتضيه جزالة التنزيل على قراءة الجمهور ولا ينبغي جعل الخطاب لمشركي مكة كما قيل أما إن جعل الوعيد عبارة عن هزيمة بدر كما صرحوا به فظاهر لا سترة به وأما إن جعل عبارة عن هزيمة أخرى فلأن الفئة التي شاهدت تلك الآية الهائلة هم المخاطبون حينئذ فالتعبير عنهم بفئة مبهمة تارة وموصوفة أخرى ثم إسناد المشاهدة إليها مع كون إسنادها إلى المخاطبين أوقع في إلزام الحجة وأدخل في التبكيت مما لا داعي إليه وبهذا يتبين حال جعل الخطاب الثاني للمؤمنين وأما قراءة ترونهم بتاء
13

الخطاب فظاهرها وإن اقتضى توجيه الخطاب الثاني إلى المشركين لكنه ليس بنص في ذلك لأنه وإن اندفع به المحذور الأخير فالأول باق بحاله فلعل رؤية المشركين نزلت منزلة رؤية اليهود لما بينهم من الاتحاد في الكفر والاتفاق في الكلمة لا سيما بعد ما وقع بينهم بواسطة كعب بن الأشرف من العهد والميثاق فأسندت الرؤية إليهم مبالغة في البيان وتحقيقا لعروض مثل تلك الحالة لهم فتدبر وقيل المراد جميع الكفرة ولا ريب في صحته وسداده وقرئ يرونهم وترونهم على البناء للمفعول من الإرادة أي يريهم أو يريكم الله تعالى كذلك
«رأي العين» مصدر مؤكد ليرونهم إن كانت الرؤية بصرية أو مصدر تشبيهى إن كانت قلبية أي رؤية ظاهرة مكشوفة جارية مجرى رؤية العين
«والله يؤيد» أي يقوى
«بنصره من يشاء» أن يؤيده من غير توسيط الأسباب العادية كما أيد الفئة المقاتلة في سبيله بما ذكر من النصر وهو من تمام القول المأمور به
«إن في ذلك» إشارة إلى ما ذكر من رؤية القليل كثيرا المستتبعة لغلبة القليل العديم العدة على الكثير الشاكي السلاح وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار
إليه في الفضل
«لعبرة» العبرة فعلة من العبور كالركبة من الركوب والجلسة من الجلوس والمراد بها الاتعاظ فإنه نوع من العبور أي لعبرة عظيمة كائنة
«لأولي الأبصار» لذوي العقول والبصائر وقيل لمن أبصرهم وهو إما من تمام الكلام الداخل تحت القول مقرر لما قبله بطريق التذييل وإما وارد من جهته تعالى تصديقا لمقالته عليه الصلاة والسلام
«زين للناس» كلام مستأنف سيق لبيان حقارة شأن الحظوظ الدنيوية بأصنافها وتزهيد للناس فيها وتوجيه رغباتهم إلى ما عنده تعالى إثر بيان عدم نفعها للكفرة الذين كانوا يتعززون بها والمراد بالناس الجنس
«حب الشهوات» الشهوة نزوع النفس إلى ما تريده والمراد ههنا المشتهيات عبر عنها بالشهوات مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها كأنها نفس الشهوات أو إيذانا بأنهما كهم في حبها بحيث أحبوا شهواتها كما في قوله تعالى «إني أحببت حب الخير» أو استرذالا لها فإن الشهوة مسترذلة مذمومة من صفات البهائم والمزين هو الباري سبحانه وتعالى إذ هو الخالق لجميع الأفعال والدواعي والحكمة في ذلك ابتلاؤهم قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم الآية فإنها ذريعة لنيل سعادة الدارين عند كون تعاطيها على نهج الشريعة الشريفة وسيلة إلى بقاء النوع وإيثار صيغة المبنى للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرئ على البناء للفاعل وقيل المزين هو الشيطان لما أن مساق الآية الكريمة على ذمها وفرق الجبائي بين المباحات فأسند تزيينها إليه تعالى وبين المحرمات فنسب تزيينها إلى الشيطان
«من النساء والبنين» في محل النصب على أنه حال من الشهوات وهي مفسرة لها في المعنى وقيل من لبيان الجنس وتقديم النساء على البنين لعراقتهن في معنى الشهوة فإنهن حبائل الشيطان وعدم التعرض للبنات لعدم الاطراد في حبهن
«والقناطير المقنطرة» جمع قنطار وهو المال الكثير وقيل مائة الف دينار وقيل ملء مسك ثور وقيل
14

سبعون ألفا وقيل أربعون الف مثقال وقيل ثمانون ألفا وقيل مائة رطل وقيل ألف ومائتا مثقال وقيل ألفا دينار وقيل مائة من ومائة رطل ومائة مثقال ومائة درهم وقيل دية النفس واختلف في أن وزنه فعلال أو فنعال ولفظ المقنطرة مأخود منه للتأكيد كقولهم بدرة مبدرة وقيل المقنطرة المحكمة المحصنة وقيل الكثيرة المنضدة بعضها على بعض أو المدفونة وقيل المضروبة المنقوشة
«من الذهب والفضة» بيان للقناطير أو حال
«والخيل» عطف على القناطير قيل هي جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط الواحد فرس وقيل واحدة خائل وهو مشتق من الخيلاء
«المسومة» أي المعلمة من السومة وهي العلامة أو المرعية من أسام الدابة وسومها إذا أرسلها وسيبها للرعي أو المطهمة التامة الخلق
«والأنعام» أي الإبل والبقر والغنم
«والحرث» أي الزرع مصدر بمعنى المفعول
«ذلك» أي ما ذكر من الأشياء المعهودة
«متاع الحياة الدنيا» أي ما يتمتع به في الحياة الدنيا أياما قلائل فتفنى سريعا
«والله عنده حسن المآب» حسن المرجع وفيه دلالة على أن ليس فيما عدد عاقبة حميدة وفي تكرير الإسناد بجعل الجلالة مبتدأ وإسناد الجملة الظرفية إليه زيادة تأكيد وتفخيم ومزيد اعتناء بالترغيب فيما عند الله عز وجل من النعم المقيم والتزهيد في ملاذ الدنيا وطيباتها الفانية
«قل أؤنبئكم بخير من ذلكم» إثر ما بين شان مزخرفات الدنيا وذكر ما عنده تعالى من حسن المآب إجمالا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفاصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والخطاب للجميع والهمزة للتقرير أي أأخبركم بما هو خير مما فصل من تلك المستلذات المزينة لكم وإبهام الخير لتفخيم شأنه والتشويق إليه وقوله تعالى
«للذين اتقوا عند ربهم جنات» استئناف مبين لذلك المبهم على أن جنات مبتدأ والجار والمجرور خبر أو على أن جنات مرتفع به على الفاعلية عند من لا يشترط في ذلك اعتماد الجار على ما فصل في محلة والمراد بالتقوى هو التبتل إلى الله تعالى والإعراض عما سواه على ما تنبىء عنه النعوت الآتية وتعليق حصول الجنات وما بعدها من فنون الخيرات به للترغيب في تحصيله والثبات عليه وعند نصب على الحالية من جنات أو متعلق بما تعلق به الجار من معنى الاستقرار مفيد لكمال علو رتبة الجنات وسمو طبقتها والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المتقين لإظهار مزيد اللطف بهم وقيل اللام متعلقة بخير وكذا الظرف وجنات خبر مبتدأ محذوف والجملة مبينة لخير ويؤيده قراءة جنات بالجر على البدلية من خير ولا يخفى أن تعليق الإخبار والبيان بما هو خير لطائفة ربما يوهم أن هناك خيرا آخر لآخرين
«تجري» في محل الرفع والجر صفة لجنات على حسب القراءتين
«من تحتها الأنهار» متعلق بتجرى فإن أريد بالجنات نفس الأشجار كما هو الظاهر فجريانها من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض والأشجار فهو باعتبار جزئها الظاهر كما مر تفصيله مرارا
«خالدين فيها» حال مقدرة من المستكن في للذين والعامل ما فيه من معنى الاستقرار
«وأزواج مطهرة» عطف على جنات أي مبرأة مما يستقذر من النساء من
15

الأحوال البدنية والطبيعية «ورضوان» التنوين للتفخيم وقوله تعالى
«من الله» متعلق بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة أي رضوان وأي رضوان لا يقادر قدره كائن من الله عز وجل وقرئ بضم الراء
«والله بصير بالعباد» وبأعمالهم فيثيب ويعاقب حسبما يليق بها أو بصير بأحوال الذين اتقوا ولذلك أعد لهم ما ذكر وفيه إشعار بأنهم المستحقون للتسمية باسم العبد
«الذين يقولون ربنا إننا آمنا» في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك المتقون الفائزون بهذه الكرامات السنية فقيل هم الذين الخ أو النصب على المدح أو الجر على أنه تابع للمتقين نعتا أو بدلا أو للعباد كذلك والأول أظهر وقوله تعالى «والله بصير بالعباد» حينئذ معترضة وتأكيد الجملة لإظهار أن إيمانهم ناشئ من وفور الرغبة وكمال النشاط وفي ترتيب الدعاء بقولهم
«فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار» على مجرد الإيمان دلالة على كفايته في استحقاق المغفرة والوقاية من النار
«الصابرين» هو على تقدير كون الموصول في محل الرفع منصوب على المدح بإضمار أعنى وأما تقدير كونه في محل النصب أو الجر فهو نعت له والمراد بالصبر هو الصبر على مشاق الطاعات وعلى البأساء والضراء وحين البأس
«والصادقين» في أقوالهم ونياتهم وعزائمهم
«والقانتين» المداومين على الطاعات المواظبين على العبادات
«والمنفقين» أموالهم في سبيل الله تعالى
«والمستغفرين بالأسحار» قال مجاهد وقتادة والكلبي أي المصلين بالأسحار وعن زيد بن أسلم هم الذين يصلون الصبح في جماعة وقال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر ثم استغفروا وقال نافع كان ابن عمر رضي الله عنه يحيى الليلة ثم يقول يا نافع أسحرنا فأقول لا فيعاود الصلاة فإذا قلت نعم قعد يستغفر الله ويدعو حتى يصبح وعن الحسن كانوا يصلون في أول الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار وتخصيص الأسحار بالاستغفار لأن الدعاء فيها أقرب إلى الإجابة إذ العبادة حينئذ أشق والنفس أصفى والروح أجمع لا سيما للمجتهدين وتوسيط الواو بين الصفات المعدودة للدلالة على استقلال كل منها وكما لهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها
«شهد الله أنه» بفتح الهمزة أي بأنه أو على أنه
«لا إله إلا هو» أي بين وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك عبر عنه بالشهادة على طريقة الاستعارة إيذانا بقوته في أثبات المطلوب وإشعارا بإنكار المنكر وقرئ إنه بكسر الهمزة إما بإجراء شهد مجرى قال وإما بجعل الجملة اعتراضا وإيقاع الفعل على قوله تعالى إن الدين الخ على قراءة أن بفتح الهمزة كما سيأتي وقرئ شهداء لله بالنصب على أنه
16

حال من المذكورين أو على المدح وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ومآله الرفع على المدح أي هم شهداء لله وهو إما جمع شهيد كظرفاء في جمع ظريف أو جمع شاهد كشعراء في جمع شاعر
«والملائكة» عطف على الاسم الجليل بحمل الشهادة على معنى مجازى شامل للإقرار والإيمان بطريق عموم المجاز أي أقروا بذلك
«وأولو العلم» أي آمنوا به واحتجوا عليه بما ذكر من الأدلة التكوينية والتشريعية قيل المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل المهاجرون والأنصار وقيل علماء مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه وقيل جميع علماء المؤمنين الذين عرفوا وحدانيته تعالى بالدلائل القاطعة وارتفاعهما على القراءتين الأخيرتين قيل بالعطف على الضمير في شهداء لوقوع الفصل بينهما وأنت خبير بأن ذلك على قراءة النصب على الحالية يؤدى إلى تقييد حال المذكورين بشهادة الملائكة وأولى العلم وليس فيه كثير فائدة فالوجه كون ارتفاعهما بالابتداء والخبر محذوف لدلالة الكلام عليه أي والملائكة وأو لو العلم شهداء بذلك ولك أن تحمل القراءتين على المدح نصبا ورفعا فحينئذ يحسن العطف على المستتر على كل حال وقوله تعالى
«قائما بالقسط» أي مقيما للعدل في جميع أموره بيان لكماله تعالى في أفعاله إثر بيان كماله في ذاته وانتصابه على الحالية من الله كما في قوله تعالى وهو الحق مصدقا وإنما جاز افراده مع عدم جواز جاء زيد وعمرو راكبا لعدم اللبس كقوله تعالى «ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة» ولعل تأخيره عن المعطوفين للدلالة على علو رتبتهما وقرب منزلتهما والمسارعة إلى إقامة شهود التوحيد اعتناء بشأنه ورفعا لمحله والسر في تقديمه على المعطوفين مع ما فيه من الإيذان بأصالته تعالى في الشهادة به كما مر في قوله تعالى «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه» أو من هو وهو الأوجه والعامل فيها معنى الجملة أي تفردا وأحقه لأنها حال مؤكدة أو على المدح وقيل على انه صفة للمنفى أي لا اله قائما الخ والفصل بينهما من قبيل توسعاتهم وهو مندرج في المشهود به إذا جعل صفة أو حالا من الضمير أو نصبا على المدح منه وقرئ القائم بالقسط على البدلية من هو فيلزم الفصل بينهما كما في الصفة أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقرئ قيما بالقسط
«لا إله إلا هو» تكرير للتأكيد ومزيد الاعتناء بمعرفة أدلة التوحيد والحكم به بعد إقامة الحجة وليجرى عليه قوله تعالى
«العزيز الحكيم» فيعلم أنه المنعوت بهما ووجه الترتيب تقدم العلم بقدرته على العلم بحكمته تعالى ورفعهما على البدلية من الضمير أو الوصفية لفاعل شهد أو الخبرية لمبتدأ مضمر وقد روى في فضلها أنه عليه السلام قال يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز وجل أن لعبدي هذا عندي عهدا وأنا أحق من وفي بالعهد أدخلوا عبدي الجنة وهو دليل على فضل علم أصول الدين وشرف أهله وروى عن سعيد بن جبير أنه كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فلما نزلت هذه الآية الكريمة خررن سجدا وقيل نزلت في نصارى نجران وقال الكلبي قدم النبي صلى الله عليه وسلم حبران من أحبار الشام فلما أبصر المدينة قال أحدهما ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي
الذي يخرج في آخر الزمان فلما دخلا عليه عليه السلام عرفاه بالصفة فقالا له عليه السلام أنت محمد قال صلى الله عليه وسلم نعم قالا وأنت أحمد قال عليه السلام أنا محمد وأحمد قالا فإنا نسألك عن شئ فإن أخبرتنا به آمنا بك وصدقناك قال عليه السلام سلا فقالا أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله عز وجل فأنزل
17

الله تعالى هذه الآية الكريمة فأسلم الرجلان «إن الدين عند الله الإسلام» جملة مستأنفة مؤكدة
للأولى أي لا دين مرضيا لله تعالى سوى الإسلام الذي هو التوحيد والتدرع بالشريعة الشريفة وعن قتادة أنه شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وقرئ أن الدين عند الله للإسلام وقرئ إن الدين الخ على أنه بدل من أنه بدل الكل إن فسر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمنه وبدل الاشتمال إن فسر بالشريعة أو على أن شهد واقع عليه على تقدير قراءة إنه بالكسر كما أشير إليه
«وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأنكروا نبوته والتعبير عنهم بالموصول وجعل إيتاء الكتاب صلة له لزيادة تقبيح حالهم فأن الاختلاف ممن أوتى ما يزيله ويقطع شأفته في غاية القبح والسماحة وقوله تعالى
«إلا من بعد ما جاءهم العلم» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أي وما اختلفوا في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا بعد أن علموا بأنه الحق الذي لا محيد عنه أو بعد أن علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالحجج النيرة والآيات الباهرة وفيه من الدلالة على ترامى حالهم في الضلالة ما لا مزيد عليه فان الاختلاف بعد حصول تلك المرتبة قما لا يصدر عن العاقل وقوله تعالى
«بغيا بينهم» أي حسدا كائنا بينهم وطلبا للرياسة لا لشبهة وخفاء في الأمر تشنيع
«ومن يكفر بآيات الله» أي بآياته الناطقة بما ذكر من أن الدين عند الله تعالى هو الإسلام ولم يعمل بمقتضاها أو بأية آية كانت من آياته تعالى على أن يدخل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا
«فإن الله سريع الحساب» قائم مقام جواب الشرط علة له أي ومن يكفر بآياته تعالى يجازيه ويعاقبه عن قريب فإنه سريع الحساب أي يأتي حسابه عن قريب أو يتم ذلك بسرعة وإظهار الجلالة لتربية المهابة وإدخال الروعة وفى ترتيب العقاب على مطلق الكفر بآياته تعالى من غير تعرض لخصوصية حالهم من كون كفرهم بعد إيتاء الكتاب وحصول الاطلاع على ما فيه وكون ذلك للبغى دلالة على كمال شدة عقابهم
«فإن حاجوك» أي في كون الدين عند الله الإسلام أو جادلوك فيه بعد ما أقمت عليهم الحجج
«فقل أسلمت وجهي» أي أخلصت نفسي وقلبي وجملتى وانما عبر عنها بالوجه لأنه أشرف الأعضاء الظاهرة ومظهر القوى والمشاعر ومجمع معظم ما يقع به العبادة من السجود والقراءة وبه يحصل التوجه إلى كل شئ
«لله» لا أشرك به فيها غيره وهو الدين القويم الذي قامت عليه الحجج ودعت اليه الآيات والرسل عليهم السلام
«ومن اتبعن» عطف على المتصل في أسلمت وحسن ذلك لمكان الفصل الجاري
18

مجرى التأكيد بالمنفصل أي وأسلم من اتبعني أو مفعول معه
«وقل للذين أوتوا الكتاب» أي من اليهود والنصارى وضع الموصول موضع الضمير لرعاية التقابل بين وصفى المتعاطفين
«والأميين» أي الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب
«أأسلمتم» متبعين لي كما فعل المؤمنون فإنه قد أتاكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه لا محالة فهل أسلمتم وعملتم بقضيتها أو أنتم على كفركم بعد كما يقول من لخص لصاحبه المسألة ولم يدع من طرق التوضيح والبيان مسلكا إلا سلكه فهل فهمتها على منهاج قولة تعالى «فهل أنتم منتهون» إثر تفصيل الصوارف عن تعاطى الخمر والميسر وفيه من استقصارهم وتعييرهم بالمعاندة وقلة الإنصاف وتوبيخهم بالبلادة وكلة القريحة مالا يخفى
«فإن أسلموا» أي كما أسلمتم وأنما لم يصرح به كما في قولة تعالى «فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به» حسما لباب أطلاق اسم الإسلام على شئ آخر بالكلية
«فقد اهتدوا» أي فازوا بالحظ الأوفر ونجوا عن مهاوى الضلال
«وإن تولوا» أي اعرضوا عن الاتباع وقبول الإسلام
«فإنما عليك البلاغ» قائم مقام الجواب أي لم يضروك شيئا إذ ما عليك إلا البلاغ وقد فعلت على أبلغ وجه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية على أهل الكتاب قالوا أسلمنا فقال علية السلام لليهود أتشهدون أن عيسى كلمة الله وعبده ورسوله فقالوا معاذ الله وقال عليه الصلاة والسلام للنصارى أتشهدون أن عيسى عبد الله ورسوله فقالوا معاذ الله أن يكون عيسى عبدا وذلك قوله عز وجل وأن تولوا
«والله بصير بالعباد» عالم بجميع أحوالهم وهو تذييل فيه وعد ووعيد
«إن الذين يكفرون بآيات الله» أي آية كانت فيدخل فيهم الكافرون بالآيات الناطقة بحقية الإسلام على الوجه الذي مر تفصيله دخولا أوليا
«ويقتلون النبيين بغير حق» هم أهل الكتاب قتل أولوهم الأنبياء عليهم السلام وقتلوا أتباعهم وهم راضون بما فعلوا وكانوا قاتلهم الله تعالى حائمين حول قتل النبي صلى الله عليه وسلم لولا أن عصم الله تعالى ساحته المنيعة وقد أشير إليه بصيغة الاستقبال وقرئ بالتشديد للتكثير والتقييد بغير حق للإيذان بأنه كان عندهم أيضا بغير حق
«ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس» أي بالعدل ولعل تكرير الفعل للإشعار بما بين القتلين من التفاوت أو باختلافها في الوقت عن أبى عبيدة بن الجراح قلت يا
رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا امر بمعروف ونهى عن المنكر ثم قرأها ثم قال يا ابا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبي من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بنى إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار وقرئ ويقاتلون الذين
«فبشرهم بعذاب أليم» خبر أن والفاء لتضمن اسمها معنى الشرط فإنها بالنسخ لا تغير معنى الابتداء بل تزيده تأكيدا وكذا الحال في النسخ بأن المفتوحة كما في قوله تعالى واعلموا إنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وكذا النسخ بلكن كما في قوله تعالى واعلموا انما غنمتم من شيء فأن لله خمسة وكذا النسخ بلكن كما في قوله فو الله ما فارقتكم عن ملالة
* ولكن ما يقضى فسوف يكون
* وأنما يتغير معنى الابتداء
19

في النسخ بليت ولعل وقد ذهب سيبويه والأخفش إلى منع دخول الفاء عند النسخ مطلقا فالخبر عندهما قوله تعالى
«أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة» كما في قولك الشيطان فاحذر عدو مبين وعلى الأول هو استئناف واسم الإشارة مبتدأ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم في الضلال وبعد منزلتهم في فظاعة الحال والموصول بما في حيز صلته خبره أي أولئك المتصفون بتلك الصفات القبيحة أو المبتلون بأسوأ الحال الذين بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات ولم يبق لها أثر في الدارين بل بقي لهم اللعنة والخزي في الدنيا وعذاب أليم في الآخرة
«وما لهم من ناصرين» ينصرونهم من بأس الله وعذابه في إحدى الدارين وصيغة الجميع لرعاية ما وقع في مقابلته لا لنفى تعدد الأنصار من كل واحد منهم كما في قوله تعالى «وما للظالمين من أنصار»
«ألم تر» تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يتأتى منه الرؤية من حال أهل الكتاب وسوء صنيعهم وتقرير لما سبق من أن اختلافهم في الإسلام إنما كان بعد ما جاءهم العلم بحقيقة أي ألم تنظر
«إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب» أي التوراة على أن اللام للعهد وحمله على جنس الكتب الإلهية تطويل للمسافة إذ تمام التقريب حينئذ بكون التوراة من جملتها لأن مدار التشنيع والتعجيب انما هو اعراضهم عن المحاكمة إلى ما دعوا اليه وهم لم يدعوا الا إلى التوراة والمراد بما أوتوه منها ما بين لهم فيها من العلوم والأحكام التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقية الاسلام والتعبير عنه بالنصيب للإشعار بكمال اختصاصه بهم وكونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والعمل بموجبها وما فيه من التنكير للتفخيم وحمله على التحقير لا يساعده مقام المبالغة في تقبيح حالهم
«يدعون إلى كتاب الله» الذي أوتوا نصيبا منه وهو التوراة والاظهار في مقام الاضمار لإيجاب الإجابة واضافته إلى الاسم الجليل لتشريفه وتأكيد وجوب المراجعة اليه والجملة استئناف مبين لمحل التعجيب مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يدعون إلى كتاب الله تعالى وقيل حال من الموصول
«ليحكم بينهم» وذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مدارسهم فدعاهم إلى الايمان فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد على أي دين أنت قال عليه الصلاة والسلام على ملة إبراهيم قالا ان إبراهيم كان يهوديا فقال صلى الله عليه وسلم لهما ان بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا وقيل نزلت في الرجم وقد اختلفوا فيه وقيل كتاب الله القرآن فإنهم قد علموا أنه كتاب الله ولم يشكوا فيه وقرئ ليحكم على بناء المجهول فيكون الاختلاف بينهم بأن أسلم بعضهم كعبد الله بن سلام وأضرابه وعاداهم الآخرون
«ثم يتولى فريق منهم» استبعاد لتوليهم بعد علمهم بوجوب الرجوع اليه
«وهم معرضون» اما حال من فريق لتخصصه بالصفة أي يتولون من المجلس وهم معرضون بقلوبهم أو اعتراض أي وهم قوم ديدنهم الاعراض عن الحق والاصرار على الباطل
20

«ذلك» إشارة إلى ما مر من التولي والاعراض وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«بأنهم» أي حاصل بسبب أنهم
«قالوا لن تمسنا النار» باقتراف الذنوب وركوب المعاصي
«إلا أياما معدودات» وهي مقدار عبادتهم العجل ورسخ اعتقادهم على ذلك وهونوا عليهم الخطوب
«وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون» من قولهم ذلك وما أشبهه من قولهم ان آباءنا الأنبياء يشفعون لنا أو إن الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام ان لا يعذب أولاده الا تحلة القسم ولذلك ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح
«فكيف» رد لقولهم المذكور وابطال لما غرهم باستعظام ما سيد همهم وتهويل ما سيحيق بهم من الأهوال أي فكيف يكون حالهم
«إذا جمعناهم ليوم» أي لجزاء يوم
«لا ريب فيه» أي في وقوعه ووقوع ما فيه روى ان أول راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفر راية اليهود فيفضحهم الله عز وجل على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم إلى النار
«ووفيت كل نفس ما كسبت» أي جزاء ما كسبت من غير نقص أصلا كما يزعمون وانما وضع المكسوب موضع جزائه للإيذان بكمال الاتصال والتلازم بينهما كأنهما شيء واحد وفيه دلالة على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء ايمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها فإذن هي بعد الخلاص منها
«وهم» أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس
«لا يظلمون» بزيادة عذاب أو بنقص ثواب بل يصيب كلا منهم مقدار ما كسبه
«قل اللهم» الميم عوض عن حرف النداء ولذلك لا يجتمعان وهذا من خصائص الاسم الجليل كدخوله عليه مع حرف التعريف وقطع همزته ودخول تاء القسم عليه وقيل أصله يا الله امنا بخير أي أقصدنا به فخفف بحذف حرف النداء ومتعلقات الفعل وهمزته
«مالك الملك» أي مالك جنس الملك على الاطلاق ملكا حقيقيا بحيث تتصرف فيه كيفما تشاء ايجادا وإعداما واحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير مشارك ولا ممانع وهو نداء ثان عند سيبويه فإن الميم عنده تمنع الوصفية
«تؤتي الملك» بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة وكون مالكية غيره بطريق المجاز كما ينبئ عنه ايثار الايتاء الذي هو مجرد الاعطاء على التمليك المؤذن بثبوت المالكية حقيقة
«من تشاء» أي ايتاءه إياه
«وتنزع الملك ممن تشاء» أي نزعه منه فالملك الأول حقيقي عام ومملوكيته حقيقية والآخران مجازيان خاصان ونسبتهما إلى صاحبهما مجازية وقيل الملك الأول عام والآخران بعضان منه فتأمل وقيل المراد بالملك النبوة ونزعها نقلها من قوم إلى آخرين
«وتعز من تشاء» ان تعزه في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما بالنصر والتوفيق
«وتذل من تشاء» ان تذله في إحداهما أو فيهما من غير ممانعة من الغير ولا مدافعة
«بيدك الخير» تعريف الخير للتعميم وتقديم الخبر للتخصيص أي بقدرتك الخير كله لا بقدرة أحد غيرك تتصرف
21

فيه قبضا وبسطا حسبما تقتضيه مشيئتك وتخصيص الخير بالذكر لما أنه مقضي بالذات واما الشر فمقضي بالعرض إذ ما من شر جزئي الا وهو متضمن لخير كلي أو لأن في حصول الشر دخلا لصاحبه في الجملة لأنه من أجزية اعماله واما الخير ففضل محض أو لرعاية الأدب أو لأن الكلام فيه فإنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة من أهل المدينة أربعين ذراعا واخذوا يحفرونه خرج من بطن الخندق صخرة كالتل لم تعمل فيها المعاول فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره فجاء عليه السلام واخذ منه المعول فضربها ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر وكبر معه المسلمون وقال أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ثم ضرب الثانية فقال أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ثم ضرب الثالثة فقال أضاءت لي قصور صنعاء وأخبرني جبريل ان أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا فقال المنافقون الا تعجبون يمينكم ويعدكم الباطل ويخبركم انه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم انما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا فنزلت
«إنك على كل شيء قدير» تعليل لما سبق وتحقيق له
«تولج الليل في النهار» أي تدخله فيه بتعقيبه إياه أو بنقص الأول وزيادة الثاني
«وتولج النهار في الليل» على أحد الوجهين
«وتخرج الحي من الميت» أي تنشئ الحيوانات من موادها أو من النطفة وقيل تخرج المؤمن من الكافر
«وتخرج الميت من الحي» أي تخرج النطفة من الحيوان وقيل تخرج الكافر من المؤمن
«وترزق من تشاء بغير حساب» قال أبو العباس المقري ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجه بمعنى التعب قال تعالى «وترزق من تشاء بغير حساب» وبمعنى العدد قال تعالى «إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب» وبمعنى المطالبة قال تعالى «فامنن أو أمسك بغير حساب» والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل ترزق أو من مفعوله وفيه دلالة على أن من قدر على أمثال هاتيك الأفاعيل العظام المحيرة للعقول والافهام فقدرته على ان ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم أهون من كل هين عن على رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان فاتحة الكتاب وآية الكرسي وآيتين من آل عمران شهد الله أنه لا اله الا هو إلى قوله تعالى ان الدين عند الله الاسلام وقل اللهم مالك الملك إلى قوله بغير حساب معلقات ما بينهن وبين الله تعالى حجاب قلن يا رب تهبطنا إلى أرضك والى من يعصيك قال الله تعالى اني حلفت انه لا يقرؤكن أحد دبر كل صلاة الا جعلت الجنة مثواه على ما كان منه وأسكنته في حظيرة القدس ونظرت اليه بعيني كل يوم سبعين مرة وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة واعذته من كل عدو وحاسد ونصرته عليهم وفي بعض الكتب انا الله ملك الملوك قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم لهم رحمة وان العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا
22

تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلى أعطفهم عليكم وهو معنى قوله عليه السلام كما تكونوا يول عليكم
«لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء» نهوا عن موالاتهم لقرابة أو صداقة جاهلية ونحوهما من أسباب المصادقة والمعاشرة كما في قوله سبحانه «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء» وقوله تعالى «لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء» حتى لا يكون حبهم ولا بغضهم إلا لله تعالى أو عن الاستعانة بهم في الغزو وسائر
الأمور الدينية
«من دون المؤمنين» في موضع الحال أي متجاوزين المؤمنين إليهم استقلالا أو اشتراكا وفيه إشارة إلى أنهم الأحقاء بالموالاة وأن في موالاتهم مندوحة عن موالاة الكفرة
«ومن يفعل ذلك» أي اتخاذهم أولياء والتعبير عنه بالفعل للاختصار أو لإيهام الاستهجان بذكره
«فليس من الله» أي من ولايته تعالى
«في شيء» يصح أن يطلق عليه اسم الولاية فإن موالاة المتعاديين مما لا يكاد يدخل تحت الوقوع قال
* تود عدوى ثم تزعم أنني
* صديقك ليس النوك عنك بعازب
* والجملة اعتراضية وقوله تعالى
«إلا أن تتقوا» على صيغة الخطاب بطريق الالتفات استثناء مفرغ من أعم الأحوال والعامل فعل النهى معتبرا فيه الخطاب كأنه قيل لا تتخذوهم أولياء ظاهرا أو باطنا في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم
«منهم» أي من جهتهم
«تقاة» أي انقاء أو شيئا يجب اتقاؤه على أن المصدر واقع موقع المفعول فإنه يجوز إظهار الموالاة حينئذ مع اطمئنان النفس بالعدواة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار ما في الضمير كما قال عيسى عليه السلام كن وسطا وامش جانبا وأصل تقاة وقية ثم أبدلت الواو تاء كتخمة وتهمة وقلبت إلياء ألفا وقرئ تقية
«ويحذركم الله نفسه» أي ذاته المقدسة فإن جواز إطلاق لفظ النفس مرادا به الذات عليه سبحانه بلا مشاكلة مما لا كلام فيه عند المتقدمين وقد صرح بعض محققي المتأخرين بعدم الجواز وإن أريد به الذات إلا مشاكلة وفيه من التهديد ما لا يخفى عظمه وذكر النفس للإيذان بأن له عقابا هائلا لا يؤبه دونه بما يحذر من الكفرة
«وإلى الله المصير» تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومحقق لوقوعه حتما
«قل إن تخفوا ما في صدوركم» من الضمائر التي من جملتها ولاية الكفرة
«أو تبدوه» فيما بينكم
«يعلمه الله» فيؤاخذكم بذلك عند مصيركم إليه وتقديم الإخفاء على الإبداء قد مر سره في تفسير قوله تعالى «وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه» وقوله تعالى «يعلم ما يسرون وما يعلنون»
«ويعلم ما في السماوات وما في الأرض» كلام مستأنف غير معطوف على جواب الشرط وهو من باب إيراد العام بعد الخاص تأكيدا له وتقريرا
«والله على كل شيء قدير» فيقدر على عقوبتكم بما لا مزيد عليه إن لم تنتهوا عما نهيتم عنه وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وتهويل
23

الخطب وهو تذييل لما قبله مبين لقوله تعالى ويحذركم الله نفسه بأن ذاته المقدسة المتميزة عن سائر الذوات المتصفة بما لا يتصف به شئ منها من العلم الذاتي المتعلق بجميع المعلومات متصفة بالقدرة الذاتية الشاملة لجميع المقدورات بحيث لا يخرج من ملكوته شئ قط
«يوم تجد كل نفس» أي من النفوس المكلفة
«ما عملت من خير محضرا» عندها بأمر الله تعالى وفيه من التهويل ما ليس في حاضرا
«وما عملت من سوء» عطف على ما عملت والإحضار معتبر فيه أيضا إلا أنه خص بالذكر في الخير للإشعار بكون الخير مرادا بالذات وكون إحضار الشر من مقتضيات الحكمة التشريعية
«تود» عامل في الظرف والمعنى تود وتتمنى يوم تجد صحائف أعمالها من الخير والشر أو أجزيتها محضرة
«لو أن بينها وبينه» أي بين ذلك اليوم
«أمدا بعيدا» لغاية هوله وفي إسناد الودادة إلى كل نفس سواء كان لها عمل سئ أو لا بل كانت متمحضة في الخير من الدلالة على كمال فظاعة ذلك اليوم وهول مطلعه مالا يخفى اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ويجوز أن يكون انتصاب يوم على المفعولية بإضمار اذكروا وتود أما حال من كل نفس أو استئناف مبنى على السؤال أي اذكروا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير شر محضرا وادة أن بينها وبينه أمدا بعيدا أو كأن سائلا قال حين أمروا بذكر ذلك اليوم فماذا يكون إذ ذاك فقيل تود لو أن بينها الخ أو تجد مقصور على ما عملت من خير وتود خبر ما عملت من سوء ولا تكون ما شرطية لارتفاع تود وقرئ ودت فحينئذ يجوز كونها شرطية لكن الحمل على الخبر أوقع معنى لأنها حكاية حال ماضية وأوفق للقراءة المشهورة
«ويحذركم الله نفسه» تكرير لما سبق وإعادة له لكن لا للتأكد فقط بل لإفادة ما يفيده قوله عز وجل
«والله رؤوف بالعباد» من أن تحذيره تعالى من رأفته بهم ورحمته الواسعة أو أن رأفته بهم لا تمنع تحقيق ما حذرهموه من عقابه وأن تحذيره ليس مبنيا على تناسى صفة الرأفة بل هو متحقق مع تحققها أيضا كما في قوله تعالى «يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم» فالجملة على الأول اعتراض وعلى الثاني حال وتكرير الاسم الجليل لتربية المهابة
«قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني» المحبة ميل النفس إلى الشئ لكمال أدركته فيه بحيث يحملها على ما يقر بها إليه والعبد إذا علم أن الكمال الحقيقي ليس إلا لله عز وجل وأن كل ما يراه كما لا من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله لم يكن حبة إلا لله وفي الله وذلك مقتضى إرادة طاعته والرغبة فيما يقربه إليه فلذلك فسرت المحبة بإرادة الطاعة وجعلت مستلزمة لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم في عبادته والحرص على مطاوعته
«يحببكم الله» أي يرض عنكم
«ويغفر لكم ذنوبكم» أي يكشف الحجب عن قلوبكم بالتجاوز عما فرط منكم فيقربكم من جناب عزة ويبوئكم في جوار قدسه عبر عنه بالمحبة بطريق الاستعارة أو المشاكلة
«والله غفور رحيم» أي لمن يتحبب إليه بطاعته ويتقرب إليه
24

باتباع نبيه عليه الصلاة والسلام فهو تذييل مقرر لما قبله مع زيادة وعد الرحمة ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشعار باستتباع وصف الألوهية للمغفرة والرحمة روى أنها نزلت لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل نزلت في وفد نجران لما قالوا إنا نعبد المسيح حبا لله تعالى وقيل في أقوام زعموا على عهده عليه الصلاة والسلام أنهم يحبون الله تعالى فأمروا أن يجعلوا لقولهم مصداقا من العمل وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قريش وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش لقد خالفتم ملة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام فقالت قريش إنما نعبدها حبا لله تعالى ليقربونا إلى الله زلفى فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام قل إن كنتم تحبون الله تعالى وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه فاتبعوني أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم
«قل أطيعوا الله والرسول» اي في جميع الأوامر والنواهي فيدخل في ذلك الطاعة في اتباعه عليه الصلاة والسلام دخولا أوليا وإيثار الإظهار على الإضمار بطريق الالتفات لتعيين حيثية الإطاعة والإشعار بعلتها فإن الإطاعة المأمور بها إطاعته عليه الصلاة والسلام من حيث أنه رسول الله لا من حيث ذاته ولا ريب في أن عنوان الرسالة من موجبات الإطاعة ودواعيها
«فإن تولوا» إما من تمام مقول القول فهي صيغة المضارع المخاطب بحذف إحدى التاءين أي تتولوا وإما كلام متفرع عليه مسوق من جهته تعالى فهي صيغة الماضي الغائب وفي ترك ذكر احتمال الإطاعة كما في قوله تعالى فإن أسلموا تلويح إلى أنه غير محتمل منهم
«فإن الله لا يحب الكافرين» نفى المحبة كناية عن بغضه تعالى لهم وسخطه عليهم أي لا يرضى عنهم ولا يثنى عليهم وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته فإن سخطه تعالى عليهم بسبب كفرهم والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر وبأن محبته عز وجل مخصوصة بالمؤمنين
«إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين» لما بين الله تعالى أن الدين المرضى عنده هو الإسلام والتوحيد وأن اختلاف أهل الكتابين فيه إنما هو للبغى والحسد وأن الفوز برضوانه ومغفرته ورحمته منوط باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته شرع في تحقيق رسالته وكونه من أهل بيت النبوة القديمة فبدأ ببيان جلالة أقدار الرسل عليهم الصلاة والسلام كافة وأتبعه ذكر مبدأ أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأمة وكيفية دعوته للناس إلى التوحيد والإسلام تحقيقا للحق وإبطالا لما عليه أهل الكتابين في شأنهما من الإفراط والتفريط ثم بين بطلان محاجتهم في إبراهيم عليه الصلاة والسلام وادعائهم الانتماء إلى ملته ونزة ساحته العلية عما هم عليه من اليهودية والنصرانية ثم نص على أن جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى عبادة الله عز وجل وحده وطاعته منزهون عن احتمال الدعوة إلى عبادة
25

أنفسهم أو غيرهم من الملائكة والنبيين وأن أممهم قاطبة مأمورون بالإيمان بمن جاءهم من رسول مصدق لما معهم تحقيقا لوجوب الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وكتابه المصدق لما بين يدية من التوراة والإنجيل وتحتم الطاعة له حسبما سيأتي تفصيله وتخصيص آدم عليه الصلاة والسلام بالذكر لأنه أبو البشر ومنشأ النبوة وكذا حال نوح عليه السلام فإنه آدم الثاني وإما ذكر آل إبراهيم فلترغيب المعترفين باصطفائهم في الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستمالتهم نحو الاعتراف باصطفائه بواسطة كونه من زمرتهم مع ما مر من التنبيه على كونه عليه الصلاة والسلام عريقا في النبوة من زمرة المصطفين الأخيار وأما ما ذكر آل عمران مع اندراجهم في آل إبراهيم فلإظهار مزيد الاعتناء بتحقيق أمر عيسى عليه الصلاة والسلام لكمال رسوخ الخلاف في شانه فإن نسبة الاصطفاء إلى الأب الأقرب أدل على تحققه في الآل وهو الداعي إلى إضافة الآل إلى إبراهيم دون نوح وآدم عليهم الصلاة والسلام والاصطفاء أخذ ما صفا من الشئ كالاستصفاء مثل به اختياره تعالى إياهم النفوس القدسية وما يليق بها من الملكات الروحانية والكمالات الجسمانية المستتبعة للرسالة في نفس المصطفى كما في كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام أو فيمن يلابسه وينشأ منه كما في مريم وقيل اصطفى آدم عليه الصلاة والسلام بأن خلقه بيده في أحسن تقويم وبتعليم الأسماء وإسجاد الملائكة إياه وإسكان الجنة واصطفى نوحا عليه الصلاة والسلام بكونه أول من نسخ الشرائع إذ لم يكن قبل ذلك تزويج المحارم حراما وبإطالة عمره وجعل ذريته هم الباقين واستجابة دعوته في حق الكفرة والمؤمنين وحملة على متن الماء والمراد بآل إبراهيم إسماعيل وإسحق والأنبياء من أولادهما الذين من جملتهم النبي صلى الله عليه وسلم وأما اصطفاء نفسه عليه الصلاة والسلام فمفهوم من اصطفائهم بطريق الأولوية وعدم التصريح به للإيذان بالغنى عنه لكمال شهرة أمره في الخلة وكونه إمام الأنبياء قدوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وكون اصطفاء آله بدعوته بقوله «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم» الآية ولذلك قال عليه الصلاة والسلام أنا دعوة أبي إبراهيم وبآل عمرآن عيسى وأمه مريم ابنة عمرآن بن ماثان بن عازار بن أبي بور بن رب بابل بن ساليان بن يوحنا بن يوشيان بن أمون بن منشا بن حزقيا بن أحز بن يوثم بن عزياهو بن يهورام بن يهوشافاط بن أسا بن رحبعم بن سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام ابن بيشا بن عوفيذ بن بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميوذب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وقيل موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه الصلاة والسلام وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة فيكون اصطفاء عيسى عليه
الصلاة والسلام حينئذ بالاندارج في آل إبراهيم عليه السلام والأول هو الأظهر بدليل تعقيبه بقصة مريم واصطفاء موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام بالإنتظام في سلك آل إبراهيم عليه السلام انتظاما ظاهرا والمراد بالعالمين أهل زمان كل واحد منهم أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه
«ذرية» نصب على البدلية من الآلين أو على الحالية منهما وقد مر بيان اشتقاقها في قوله تعالى ومن ذريتي وقوله
26

تعالى «بعضها من بعض» في محل النصب على أنه صفة لذرية أي اصطفى الآلين حال كونهم ذرية متسلسلة متشعبة البعض من البعض في النسب كما ينبئ عنه التعرض لكونه ذرية وقيل بعضها من بعض في الدين فالاستمالة على الوجه الأول تقريبيه وعلى الثاني برهانية
«والله سميع» لأقوال العباد
«عليم» بأعمالهم البادية والخافية فيصطفى من بينهم لخدمته من تظهر استقامته قولا وفعلا على نهج قوله تعالى الله اعلم حيث يجعل رسالته والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها
«إذ قالت امرأة عمران» في حيز النصب على المفعولية بفعل مقدر على طريقة الاستئناف لتقرير اصطفاء آل عمران وبيان كيفيته أي اذكر لهم وقت قولها ومر مرارا وجه توجيه التذكير إلى الأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث وقيل هو منصوب على الظرفية لما قبله أي سميع لقولها المحكى عليم بضميرها المنوى وقيل هو ظرف لمعنى الاصطفاء المدلول عليه باصطفى المذكور كأنه قيل واصطفى آل عمران إذ قالت الخ فكان من عطف الجمل على الجمل دون عطف المفردات على المفردات ليلزم كون اصطفاء الكل في ذلك الوقت وامرأة عمران هي حنة بنت فاقوذا جدة عيسى عليه الصلاة والسلام وكانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام فظن ان المراد زوجته وليس بذاك فإن قضية كفالة زكريا عليه الصلاة والسلام قاضية بأنها زوجة عمران بن ماثان لأنه عليه الصلاة والسلام كان معاصرا له وقد تزوج إيشاع أخت حنة أم يحيى علية الصلاة والسلام وأما قوله عليه الصلاة والسلام في شأن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام هما ابنا خالة فقيل تأويله أن الأخت كثيرا ما تطلق على بنت الأخت وبهذا الاعتبار جعلهما عليهما الصلاة والسلام ابني خالة وقيل كانت إيشاع أخت حنة من الأم وأخت مريم من الأب على ان عمران نكح أولا أم حنة فولدت له إيشاع ثم نكح حنة بناء على حل نكاح الربائب في شريعتهم فولدت مريم فكانت إيشاع أخت مريم من الأب وخالتها من الأم لأنها أخت حنة من الأم روى أنها كانت عجوزا عاقرا فبينما هي ذات يوم في ظل شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخة خنت إلى الولد وتمنته وقالت اللهم أن لك على نذر أن رزقتني ولدا ان أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وكان هذا النذر مشروعا عندهم في الغلمان ثم هلك عمران وهي حامل وحينئذ فقولها
«رب إني نذرت لك ما في بطني» لا بد من حملة على التكرير لتأكيد نذرها وإخراجه عن صورة التعليق إلى هيئة التنجيز والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميرها لتحريك سلسلة الإجابة ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله بما يناسبه من أسمائه وصفاته وتأكيدا الجملة لإبراز وفور الرغبة في مضمونها وتقديم الجار والمجرور لكمال الاعتناء به وإنما عبر عن الولد بما لإبهام أمره وقصوره عن درجة العقلاء
«محررا» أي معتقا لخدمة بيت المقدس لا يشغله شأن آخر أو مخلصا للعبادة ونصبه
27

على الحالية من الموصول فيه نذرت وقيل من ضميره في الصلة والعامل معنى الاستقرار فإنها في قوة ما استقر في بطني ولا يخفى أن المراد تقييد فعلها بالتحرير ليحصل به التقرب إليه تعالى لا تقييد مالا دخل لها فيه من الاستقرار في بطنها
«فتقبل مني» أي ما نذرته والتقبل أخذ الشئ على وجه الرضا وهذا في الحقيقة استدعاء للولد إذ لا يتصور القبول بدون تحقق المقبول بل للولد الذكر لعدم قبول الأنثى
«إنك أنت السميع» لجميع المسموعات التي من جملتها تضرعي ودعائي
«العليم» بكل المعلومات التي من زمرتها ما في ضميري لاغير وهو تعليل لاستدعاء القبول لا من حيث أن كونه تعالى سميعا لدعائها عليما بما في ضميرها مصحح للتقبل في الجملة بل من حيث أن علمه تعالى بصحة نيتها وإخلاصها مستدع لذلك تفضلا وإحسانا وتأكيد الجملة لعرض قوة يقينها بمضمونها وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لعرض اختصاص دعائها به تعالى وانقطاع حبل رجائها عما عداه بالكلية مبالغة في الضراعة والابتهال
«فلما وضعتها» أي ما في بطنها وتأنيث الضمير العائد إليه لما ان المقام يستدعى ظهور أنوثته واعتباره في حيز الشرط إذ عليه يترتب جواب لما أعنى قوله تعالى
«قالت رب إني وضعتها أنثى» لا على وضع ولد ما كأنه قيل فلما وضعت بنتا قالت الخ وقيل تأنيثه لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو لأنه مؤول بالحبلة أو النفس أو النسمة وأنت خبير بأن اعتبار شئ مما ذكر في حيز الشرط لا يكون مدارا لترتب الجواب عليه وقوله تعالى أنثى حال مؤكدة من الضمير أو بدل منه وتأنيثه للمسارعة إلى عرض ما دهمها من خيبة الرجاء أو لما مر من التأويل بالحبلة أو النسمة فالحال حينئذ مبينة وإنما قالته تحزنا وتحسرا على خيبة رجائها وعكس تقديرها لما كانت ترجو أن تلد ذكرا ولذلك نذرته محررا للسدانة والتأكيد المرد على اعتقادها الباطل
«والله أعلم بما وضعت» تعظيم من جهته تعالى لموضوعها وتفخيم لشأنه وتجهيل لها بقدرة أي والله أعلم بالشئ الذي وضعته وما علق به من عظائم الأمور وجعله وابنه آية للعالمين وهي غافلة عن ذلك والجملة اعتراضية وقرئ وضعت على خطاب الله تعالى لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما أودع الله فيه من علو الشان وسمو المقدار وقرئ وضعت على صيغة التكلم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة إظهارا لغاية الإجلال فيكون ذلك منها اعتذارا إلى الله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من السدانة أو تسلية لنفسها على معنى لعل الله تعالى فيه سرا وحكمة ولعل هذه الأنثى خير من الذكر فوجه الالتفات حينئذ ظاهر وقوله تعالى
«وليس الذكر كالأنثى» اعتراض آخر مبين لما في الأول من تعظيم الموضوع ورفع منزلته واللام في الذكر والأنثى للعهد أي ليس الذكر الذي كانت تطلبه وتتخيل فيه
كما لا قصاراه ان يكون كواحد من السدانة كالأنثى التي وهبت لها فإن دائرة علمها وأمنيتها لا تكاد تحيط بما فيه من جلائل الأمور هذا على القراءتين الأوليين وأما على التفسير الأخير للقراءة
28

الأخيرة فمعناه وليس الذكر كهذه الأنثى في الفضيلة بل أدنى منها وأما على التفسير الأول لها فمعناه تأكيد الاعتذار ببيان أن الذكر ليس كالأنثى في الفضيلة والمزية وصلاحية خدمة المتعبدات فإنهن بمعزل من ذلك فاللام للجنس وقوله تعالى
«وإني سميتها مريم» عطف على أني وضعتها أنثى وغرضها من عرضها على علام الغيوب التقرب إليه تعالى واستدعاء العصمة لها فإن مريم في لغتهم بمعنى العابدة قال القرطبي معناه خادم الرب وإظهار أنها غير راجعة عن نيتها وإن كان ما وضعته أنثى وأنها ان لم تكن خليقة بسدانة بيت المقدس فلتكن من العابدات فيه
«وإني أعيذها بك» عطف على أني سميتها وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار أي أجيرها بحفظك وقرئ بفتح ياء المتكلم في المواضع التي بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين بعهدي أوف آتوني أفرغ
«وذريتها» عطف على الضمير وتقديم الجار والمجرور عليه لإبراز كمال العناية به
«من الشيطان الرجيم» أي المطرود وأصل الرجم الرمي بالحجارة عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من مولود يولد الا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مسه الا مريم وابنها ومعناه ان الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يتأثر منه الا مريم وابنها فإن الله عصمهما ببركة هذه الاستعاذة
«فتقبلها» أي أخذ مريم ورضي بها في النذر مكان الذكر
«ربها» مالكها ومبلغها إلى كمالها اللائق وفيه من تشريفها مالا يخفى
«بقبول حسن» قيل الباء زائدة والقبول مصدر مؤكد للفعل السابق بحذف الزوائد أي تقبلها قبولا حسنا وانما عدل عن الظاهر للإيذان بمقارنة التقبل لكمال الرضا وموافقته للعناية الذاتية فإن صيغة التفعل مشعرة بحسب أصل الوضع بالتكلف وكون الفعل على خلاف طبع الفاعل وان كان المراد بها في حقه تعالى ما يترتب عليه من كمال قوة الفعل وكثرته وقيل القبول ما يقبل به الشيء كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد وهو اختصاصه تعالى إياها بإقامتها مقام الذكر في النذر ولم تقبل قبلها أنثى أو بأن تسلمها من أمها عقيب الولادة قبل أن تنشأ وتصلح للسدانة روى أن حنة حين ولدتها لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة وقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فإن بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وقيل لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى عليه الصلاة والسلام في الكتب الإلهية فقال زكريا عليه الصلاة والسلام انا أحق بها عندي خالتها فأبو الا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفا قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها وقيل هو مصدر وفيه مضاف مقدر أي فتقبلها بذي قبول أي بأمر ذي قبول حسن وقيل تقبل بمعنى استقبل كتقصى بمعنى استقصى وتعجل بمعنى استعجل أي استقبلها في أول أمرها حين ولدت بقبول حسن
«وأنبتها» مجاز عن
29

تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها
«نباتا حسنا» مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد وقيل بل لفعل مضمر موافق له تقديره فنبتت نباتا حسنا
«وكفلها زكريا» أي جعله عليه الصلاة والسلام كافلا لها وضامنا لمصالحها قائما بتدبير أمورها لا على طريقة الوحي بل على ما ذكر من التفصيل فإن رغبته عليه الصلاة والسلام في كفالتها وطفو قلمه ورسوب أقلامهم وغير ذلك من الأمور الجارية بينهم كلها من آثار قدرته تعالى وقرئ أكفلها وقرئ زكرياء بالنصب والمد وقرئ بتخفيف الفاء وكسرها ورفع زكرياء ممدودا وقرئ وتقبلها ربها وانبتها وكفلها على صيغة الامر في الكل ونصب ربها على الدعاء اى فاقبلها يا ربها وربها تربية حسنة واجعل زكريا كافلا لها فهو تعيين لجهة التربية قيل بنى عليه الصلاة والسلام لها محرابا في المسجد أي غرفة يصعد إليها بسلم وقيل المحراب اشرف المجالس ومقدمها كأنها وضعت في اشرف موضع من بيت المقدس وقيل كانت مساجدهم تسمى المحاريب روى أنه كان لا يدخل عليها الا هو وحده وإذا خرج غلق عليها سبعة أبواب
«كلما دخل عليها زكريا المحراب» تقديم الظرف على الفاعل لإظهار كمال العناية بأمرها ونصب المحراب على التوسع وكلمه كلما ظرف على أن ما مصدرية والزمان محذوف أو نكرة موصوفة معناها الوقت والعائد محذوف والعامل فيها جوابها أي كل زمان دخوله عليها أو كل وقت دخل عليها فيه
«وجد عندها رزقا» أي نوعا منه غير معتاد إذ كان ينزل ذلك من الجنة وكان يجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء وفي الشتاء فاكهة الصيف ولم ترضع ثديا قط
«قال» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام عند مشاهدة هذه الآية فقيل قال
«يا مريم أنى لك هذا» أي من اين يجيء لك هذا الذي لا يشبه أرزاق الدنيا والأبواب مغلقة دونك وهو دليل على جواز الكرامة للأولياء ومن أنكرها جعل هذا إرهاصا وتأسيسا لرسالة عيسى عليه الصلاة والسلام واما جعله معجزة لزكريا عليه الصلاة والسلام فيأباه اشتباه الامر عليه عليه السلام وانما خاطبها عليه الصلاة والسلام بذلك مع كونها بمعزل من رتبة الخطاب لما علم بما شاهده انها مؤيدة من عند الله بالعلم والقدرة
«قالت» استئناف كما قبله كأنه قيل فماذا صنعت مريم وهي صغيرة لا قدرة لها على فهم السؤال ورد الجواب فقيل قالت
«هو من عند الله» فلا تعجب ولا تستبعد
«إن الله يرزق من يشاء» ان يرزقه
«بغير حساب» أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق تفضلا منه تعالى وهو تعليل لكونه من عند الله اما من تمام كلامهما فيكون في محل النصب واما من كلامه عز وجل فهو مستأنف روى أن فاطمة الزهراء رضي الله عنها أهدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفين وبضعة لحم فرجع بها إليها فقال هلمي يا بنية فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فقال لها اني لك هذا قالت هو من عند الله ان الله يرزق من يشاء بغير حساب فقال عليه الصلاة والسلام الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة بني إسرائيل ثم جمع عليا والحسن والحسين وجميع أهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين فأكلوا وشبعوا وبقى الطعام كما هو فأوسعت على جيرانها
«هنالك» كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت في تضاعيف
30

حكاية مريم لما بينهما من قوة الارتباط وشدة الاشتباك مع ما في إيرادها من تقرير ما سيقت له حكايتها من بيان اصطفاء آل عمران فإن فضائل بعض الأقرباء أدلة على فضائل الآخرين وهنا ظرف مكان واللام للدلالة على البعد والكاف للخطاب أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم في المحراب أو في ذلك الوقت إذ يستعار هنا وثمة وحيث للزمان
«دعا زكريا ربه» لما رأى كرامة مريم على الله ومنزلتها منه تعالى رغب في أن يكون له من إيشاع ولد مثل ولد حنة في النجابة والكرامة على الله تعالى وأن كانت عاقرا عجوزا فقد كانت خنة كذلك وقيل لما رأى الفواكه في غير أبانها تنبه لجواز ولادة العجوز العاقر من الشيخ الفاني فأقبل على الدعاء من غير تأخير كما ينبئ عنه تقديم الظرف على الفعل لا على معنى أن ذلك كان هو الموجب للإقبال على الدعاء فقط بل كان جزءا أخيرا أخيرا من العلة التامة التي من جملتها كبر سنة عليه الصلاة والسلام وضعف قواه وخوف مواليه حسبما فصل في سورة مريم
«قال» تفسير للدعاء وبيان لكيفيته لا محل له من الإعراب ر «رب هب لي من لدنك» كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف معنييهما فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا أي أعطني من محض قدرتك من غير وسط معتاد
«ذرية طيبة» كما وهبتها لحنة ويجوز أن يتعلق من بمحذوف وقع حالا من ذرية أي كائنة من لدنك والذرية النسل تقع على الواحد والجمع والذكر والأنثى والمراد ههنا ولد واحد فالتأنيث في الصفة لتأنيث لفظ الموصوف كما في قول من قال
* أبوك خليفة ولدته أخرى
* وأنت خليفة ذاك الكمال
* وهذا إذا لم يقصد به واحد معين أما إذا قصد به المعين امتنع اعتبار اللفظ نحو طلحة وحمزة فلا يجوز أن يقال جاءت طلحة وذهبت حمزة
«إنك سميع الدعاء» أي مجيبه وهو تعليل لما قبله وتحريك لسلسلة الإجابة
«فنادته الملائكة» كان المنادى جبريل عليه الصلاة والسلام كما تفصح عنه قراءة من قرأ فناداه جبريل والجمع كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله غير فرس وثوب قال الزجاج أي أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة وقيل لما كان جبرائيل عليه الصلاة والسلام رئيسهم عبر عنه باسم الجماعة تعظيما له وقيل الرئيس لا بد له من اتباع فأسند النداء إلى الكل مع كونه صادرا عنه خاصة وقرئ فناداه بالإمالة
«وهو قائم» جملة حالية من مفعول النداء مقرر لما أفاده الفاء من حصول البشارة عقيب الدعاء وقوله تعالى
«يصلي» إما صفة لقائم أو خبر ثان عند من يرى تعدده عند كون الثاني جملة كما في قوله تعالى فإذا هي حية تسعى أو حال أخرى منه على القول بتعددها بلا عطف ولا بدلية أو حال من المستكن في قائم وقوله تعالى
«في المحراب» أي في المسجد أو في غرفة مريم متعلق بيصلى أو بقائم على تقدير كون يصلى حالا من ضمير قائم لأن العامل فيه وفي الحال حينئذ شئ واحد فلا يلزم الفصل بالأجنبي كما يلزم على التقادير الباقية
«أن الله يبشرك بيحيى» أي بأن الله وقرئ بكسر الهمزة على تقدير القول أو إجراء النداء مجراه لكونه
31

نوعا منه وقرئ يبشرك من الإبشار ويبشرك من الثلاثي وأيا ما كان ينبغي أن يكون هذا الكلام إلى آخره محكيا بعبارته عن الله عز وجل على منهاج قوله تعالى «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة» الآية كما يلوح به مراجعته عليه الصلاة والسلام في الجواب إليه تعالى بالذات لا بواسطة الملك والعدول عن إسناد التبشير إلى نون العظمة حسبما وقع في سورة مريم للجرى على سنن الكبرياء كما في قول الخلفاء أمير المؤمنين يرسم لك بكذا وللإيذان بأن ما حكى هناك من النداء والتبشير وما يترتب عليه من المحاورة كان كل ذلك بتوسط الملك بطريق الحكاية عنه سبحانه لا بالذات كما هو المتبادر وبهذا يتضح اتحاد المعنى في السورتين الكريمتين فتأمل ويحيى اسم أعجمي وإن جعل عربيا فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل روى عن ابن عباس رضى الله عنهما إنما سمى يحيى لأن الله تعالى أحيا به عقر أمه وقال قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان قال القرطبي كان اسمه في الكتاب الأول حيا ولا بد من تقدير مضاف يعود إليه الحال أي بولادة يحيى فإن التبشير لا يتعلق بالأعيان
«مصدقا» حال مقدرة من يحيى
«بكلمة من الله» أي بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما سمى كلمة لأنه وجد بكلمة كن من غير أب فشابه البديعيات التي هي عالم الأمر ومن لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه تعالى قيل هو أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروح منه وقال السدي لقيت أم يحيى أم عيسى فقالت يا مريم أشعرت بحبلى فقالت مريم وأنا أيضا حبلى قالت فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك فذلك قوله تعالى مصدقا بكلمة الخ وقال ابن عباس رضي الله عنهما أن يحيى كان
أكبر من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر وقيل بثلاث سنين وقتل قبل رفع عيسى عليهما الصلاة والسلام بمدة يسيرة وعلى كل تقدير يكون بين ولادة يحيى وبين البشارة بها زمان مديد لما ان مريم ولدت وهي بنت ثلاث عشرة سنة أو بنت عشر سنين وقيل بكلمة من الله أي بكتاب الله سمى كلمة كما قيل كلمة الحويدرة لقصيدته
«وسيدا» عطف على مصدقا أي رئيسا يسود قومه ويفوقهم في الشرف وكان فائقا للناس قاطبة فإنه لم يلم بخطيئة ولم يهم بمعصية فيا لها من سيادة ما أسناها
«وحصورا» عطف على ما قبله أي مبالغا في حصر النفس وحبسها عن الشهوات مع القدرة روى أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال ما للعب خلقت
«ونبيا» عطف على ما قبله مترتب على ما عدد من الخصال الحميدة
«من الصالحين» أي ناشئا منهم لأنه كان من أصلاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو كائنا من جملة المشهورين بالصلاح كما في قوله تعالى «وإنه في الآخرة لمن الصالحين» والمراد بالصلاح ما فوق الصلاح الذي لا بد منه في منصب النبوة البتة من أقاصي مراتبه وعليه مبنى دعاء سليمان عليه السلام «وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين»
«قال» استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قال زكريا عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال
«رب» لم يخاطب الملك المنادى له بملابسة أنه المباشر للخطاب وإن كان ذلك بطريق الحكاية عنه تعالى بل جرى على نهج دعائه السابق مبالغة في التضرع والمناجاة وجدا في التبتل إليه تعالى واحترازا عما عسى يوهم
32

خطاب الملك من توهم أن علمه سبحانه بما يصدر عنه يتوقف على توسطه كما يتوقف وقوف البشر على ما يصدر عنه سبحانه على توسطه في عامة الأحوال وإن لم يتوقف عليه في بعضها
«أنى يكون لي غلام» فيه دلالة على أنه قد أخبر بكونه غلاما عند التبشير كما في قوله تعالى «إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى» وأنى بمعنى كيف أو من أين وكان تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي كيف أو من أين يحدث لي غلام ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له أو ناقصة واسمها ظاهر وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى منصوب على الظرفية
«وقد بلغني الكبر» حال من ياء المتكلم أي أدركني كبر السن وأثر في كقولهم أدركته السن وأخذته السن وفيه دلالة على ان كبر السن من حيث كونه من طلائع الموت طالب للإنسان لا يكاد يتركه قيل كان له تسع وتسعون سنة وقيل اثنتان وتسعون وقيل مائة وعشرون وقيل ستون وقيل خمس وستون وقيل سبعون وقيل خمس وسبعون وقيل خمس وثمانون ولامرأته ثمان وتسعون
«وامرأتي عاقر» أي ذات عقر وهو أيضا حال من ياء لي عند من يجوز تعدد الحال أو من ياء بلغني أي كيف يكون لي ذلك والحال أني وامرأتي على حالة منافية له كل المنافاة وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله تعالى عليه لا سيما بعد مشاهدته عليه الصلاة والسلام للشواهد السالفة استعظاما لقدرة الله سبحانه وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته عز وجل عليه في ذلك لا استبعادا له وقيل بل كان ذلك للاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسي دعاءه وهو بعيد وقيل كان ذلك استفهاما عن كيفية حدوثه
«قال» استئناف كما سلف
«كذلك» إشارة إلى مصدر يفعل في قوله عز وجل
«الله يفعل ما يشاء» أي ما يشاء أن يفعله من تعاجيب الأفاعيل الخارقة للعادات فالله مبتدأ ويفعل خبره والكاف في محل النصب على انها في الأصل نعت لمصدر محذوف أي الله يفعل ما يشاء أن يفعله فعلا مثل ذلك الفعل العجيب والصنع البديع الذي هو خلق الولد من شيخ فإن وعجوز عاقر فقدم على العامل لإفادة القصر بالنسبة إلى ما هو أدنى من المشار إليه واعتبرت الكاف مقحمة لتأكيد ما إفادة اسم الإشارة من الفخامة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا أو على أنها حال من ضمير المصدر المقدر معرفة أي يفعل الفعل كائنا مثل ذلك أو في محل الرفع على أنها خبر والجلالة مبتدأ أي على نحو هذا الشأن البديع شأن الله تعالى ويفعل ما يشاء بيان لذلك الشأن المبهم أو كذلك خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك وقوله تعالى الله يفعل ما يشاء بيان له
«قال رب اجعل لي آية» أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحبل وإنما سألها لان العلوق أمر خفى لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه الله تعالى ليتلقى تلك النعمة الجليلة من حين حصولها بالشكر ولا
33

يؤخره إلى أن يظهر ظهورا معتادا ولعل هذا السؤال وقع بعد البشارة بزمان مديد إذ به يظهر ما ذكر من كون التفاوت بين سنى يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين لأن ظهور العلامة كان عقيب تعيينها لقوله تعالى في سورة مريم «فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم» الآية اللهم إلا أن تكون المجاوبة بين زكريا ومريم في حالة كبرها وقد عدت من جملة من تكلم في الصغر بموجب قولها المحكى والجعل إبداعى واللام متعلقة به والتقديم لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أو بمحذوف وقع حالا من آية وقيل هو بمعنى التصيير المستدعى لمفعولين أولهما آية وثانيهما لي والتقديم لأنه لا مسوغ لكون آية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الجار فلا يتغير حالهما بعد دخول الناسخ
«قال آيتك ألا تكلم الناس» أي أن لا تقدر على تكليمهم
«ثلاثة أيام» أي متوالية لقوله تعالى في سورة مريم «ثلاث ليال سويا» مع القدرة على الذكر والتسبيح وإنما جعلت آيته ذلك لتخليص المدة لذكر الله تعالى وشكره
قضاء لحق النعمة كأنه قيل آية حصول المطلوب ووصول النعمة ان تحبس لسانك إلا عن شكرها وأحسن الجواب ما اشتق من السؤال
«إلا رمزا» أي إشارة بيد أو رأس أو نحوهما وأصله التحرك يقال ارتمز أي تحرك ومنه قيل للبحر الراموز وهو استثناء منقطع لأن الإشارة ليست من قبيل الكلام أو متصل على أن المراد بالكلام ما فهم منه المرام ولا ريب في كون الرمز من ذلك القبيل وقرئ رمزا بفتحتين على انه جمع رامز كخدم وبضمتين على انه جمع رموز كرسل على انه حال منه ومن الناس معا بمعنى مترامزين كقوله
* متى ما تلقنى فردين ترجف
* روانف أليتيك وتستطارا
*
«واذكر ربك» أي في أيام الحبسة شكرا لحصول التفضل والإنعام كما يؤذن به التعرض لعنوان الربوبية
«كثيرا» أي ذكرا كثيرا أو زمانا كثيرا
«وسبح» أي سبحه تعالى أو أفعل التسبيح
«بالعشي» أي من الزوال إلى الغروب وقيل من العصر إلى ذهاب صدر الليل
«والإبكار» من طلوع الفجر إلى الضحى قيل المراد بالتسبيح الصلاة بدليل تقييده بالوقت كما في قوله تعالى «فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون» وقيل الذكر اللساني كما أن المراد بالذكر الذكر القلبي وقرئ الإبكار بفتح الهمزة على انه جمع بكر كسحر وأسحار
«وإذ قالت الملائكة» شروع في شرح بقية أحكام اصطفاء آل عمران إثر الإشارة إلى نبذ من فضائل بعض أقاربهم أعنى زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام لاستدعاء المقام إياهما حسبما أشير إليه وقرئ بتذكير الفعل والمراد بالملائكة جبريل علية الصلاة والسلام وقد مر ما فيه من الكلام وإذ منصوب بمضمر معطوف على المضمر السابق عطف القصة على القصة وقيل معطوف على الظرف السابق أعنى قوله إذ قالت امرأة عمران منصوب بناصبه فتدبر أي واذكر أيضا من شواهد اصطفائهم وقت قول الملائكة عليهم الصلاة والسلام
«يا مريم» وتكرير التذكير للإشعار بمزيد الاعتناء بما يحكى من أحكام الاصطفاء والتنبيه على استقلالها وانفرادها عن الاحكام السابقة فإنها من أحكام التربية الجسمانية اللائقة بحال صغر مريم وهذه من باب التربية
34

الروحانية بالتكاليف الشرعية المتعلقة بحال كبرها قيل كلموها شفاها كرامة لها أو إرهاصا لنبوة عيسى عليه الصلاة والسلام لمكان الاجماع على أنه تعالى لم يستنئ امرأة وقيل ألهموها
«إن الله اصطفاك» أولا حيث تقبلك من أمك بقبول حسن ولم يتقبل غيرك أنثى ورباك في حجر زكريا عليه السلام ورزقك من رزق الجنة وخصك بالكرامات السنية
«وطهرك» أي مما يستقذر من الأحوال والأفعال ومما قذفك به اليهود بإنطاق الطفل
«واصطفاك» آخرا
«على نساء العالمين» بأن وهب لك عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء وجعلكما آية للعالمين فعلى هذا ينبغي أن يكون تقديم حكاية هذه المقاولة على حكاية بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام لما مر مرارا من التنبيه على أن كلا منهما مستحق للاستقلال بالتذكير ولو روعى الترتيب الخارجي لتبادر كون الكل شيئا واحدا وقيل المراد بالاصطفاءين واحد والتكرير للتأكيد وتبيين من اصطفاها عليهن فحينئذ لا اشكال في ترتيب النظم الكريم إذ يحمل حينئذ الاصطفاء على ما ذكر أولا وتجعل هذه المقاولة قبل بشارتها بعيسى عليه الصلاة والسلام إيذانا بكونها قبل ذلك متوفرة على الطاعات والعبادات حسبما أمرت بها مجتهدة فيها مقبلة على الله تعالى متبتلة اليه تعالى منسلخة عن احكام البشرية مستعدة لفيضان الروح عليها
«يا مريم» تكرير النداء للإيذان بأن المقصود بالخطاب ما يرد بعده وأن ما قبله من تذكير النعم كان تمهيدا لذكره وترغيبا في العمل بموجبه
«اقنتي لربك» أي قومي في الصلاة أو أطيلي القيام فيها له تعالى والتعرض لعنوان ربوبيته تعالى لها للإشعار بعلة وجوب الامتثال بالأمر
«واسجدي واركعي مع الراكعين» أمرت بالصلاة بالجماعة بذكر أركانها مبالغة في ايجاب رعايتها وإيذانا بفضيلة كل منها وإصالته وتقديم السجود على الركوع اما لكون الترتيب في شريعتهم كذلك واما لكون السجود أفضل أركان الصلاة وأقصى مراتب الخضوع ولا يقتضي ذلك كون الترتيب الخارجي كذلك بل اللائق به الترقي من الأدنى إلى الاعلى واما ليقترن اركعي بالراكعين للإشعار بأن من لا ركوع في صلاتهم ليسوا مصلين واما ما قيل من أن الواو لا توجب الترتيب فغايته التصحيح لا الترجيح وتجريد الامر بالركنين الأخيرين عما قيد به الأول لما أن المراد تقييد الأمر بالصلاة بذلك وقد فعل حيث قيد به الركن الأول منها وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعات كما في قوله تعالى أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما وبالسجود الصلاة لما مر من أنه أفضل أركانها وبالركوع الخشوع والاخبات قيل لما أمرت بذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دما وقيحا
«ذلك» إشارة إلى ما سلف من الأمور البديعة وما فيه من معنى البعد للتنبيه على علو شأن المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«من أنباء الغيب» أي من الأنباء المتعلقة بالغيب
35

والجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب وقوله تعالى
«نوحيه إليك» جملة مستقلة مبينة للأولى وقيل الخبر هو الجملة الثانية ومن أنباء الغيب اما متعلق بنوحيه أو حال من ضميره أي نوحي من أنباء الغيب أو نوحيه حال كونه من جملة أنباء الغيب وصيغة الاستقبال للإيذان بأن الوحي لم ينقطع بعد
«وما كنت لديهم» أي عند الذين اختلفوا وتنازعوا في تربية مريم وهو تقرير وتحقيق لكونه وحيا على طريقة التهكم بمنكريه كما في قوله تعالى وما كنت بجانب الغربي الآية وما كنت ثاويا في أهل مدين الآية فإن طريق معرفة أمثال هاتيك الحوادث والواقعات اما المشاهدة واما السماع وعدمه محقق عندهم فبقى احتمال المعاينة المستحيلة ضرورة فنفيت تهكما بهم
«إذ يلقون أقلامهم» ظرف للاستقرار العامل في لديهم وأقلامهم أقداحهم التي اقترعوا بها وقيل اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركا
«أيهم يكفل مريم» متعلق بمحذوف دل عليه يلقون أقلامهم أي يلقونها ينظرون أو ليعلموا أيهم يكفلها
«وما كنت لديهم إذ يختصمون» أي في شأنها تنافسا في كفالتها حسبما ذكر فيما سبق وتكرير ما كنت لديهم مع تحقق المقصود بعطف إذ يختصمون على إذ يلقون كما في قوله عز وجل «نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى» للدلالة على أن كل واحد من عدم حضوره عليه الصلاة والسلام عند القاء الأقلام وعدم حضوره عند الاختصام مستقل بالشهادة على نبوته عليه الصلاة والسلام لا سيما إذا أريد باختصامهم تنازعهم قبل الاقتراع فإن تغيير الترتيب في الذكر مؤكد له
«إذ قالت الملائكة» شروع في قصة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو بدل من وإذ قالت الملائكة منصوب بناصبه وما بينهما اعتراض جيء به تقريرا لما سبق وتنبيها على استقلاله وكونه حقيقا بأن يعد على حياله من شواهد النبوة وترك العطف بينهما بناء على اتحاد المخاطب وإيذانا بتقارن الخطابين أو تقاربهما في الزمان وقيل منصوب بمضمر معطوف على ناصبه وقيل بدل من إذ يختصمون كأنه قيل وما كنت حاضرا في ذلك الزمان المديد الذي وقع في طرف منه الاختصام وفي طرف آخر هذا الخطاب اشعارا بإحاطته عليه الصلاة والسلام بتفاصيل أحوال مريم من أولها إلى آخرها والقائل جبريل عليه الصلاة والسلام وايراد صيغة الجمع لما مر
«يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه» من لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لكلمة أي بكلمة كائنة منه عز وجل
«اسمه» ذكر الضمير الراجع إلى الكلمة لكونها عبارة عن مذكر وهو مبتدأ خبره
«المسيح» وقوله تعالى
«عيسى» بدل منه أو عطف بيان وقيل خبر آخر وقيل خبر مبتدأ محذوف وقيل منصوب بإضمار اعني مدحا وقوله تعالى
«ابن مريم» صفة لعيسى وقيل المراد بالاسم ما به يتميز المسمى عمن سواه فالخبر حينئذ مجموع الثلاثة إذ هو المميز له عليه الصلاة والسلام تمييزا عن جميع من عداه والمسيح لقبه عليه الصلاة والسلام وهو من الألقاب
36

المشرفة كالصديق وأصله بالعبرية مشيحا ومعناه المبارك وعيسى معرب من أيشوع والتصدي لاشتقاقهما من المسح والعيس وتعليله بأنه عليه الصلاة والسلام مسح بالبركة أو بما يطهره من الذنوب أو مسحه جبريل عليهما الصلاة والسلام أو مسح الأرض ولم يقم في موضع أو كان عليه الصلاة والسلام يمسح ذا العاهة فيبرأ وبأنه كان في لونه عيس أي بياض يغلوه حمرة من قبيل الرقم على الماء وانما قيل ابن مريم مع كون الخطاب لها تنبيها على أنه يولد من غير أب فلا ينسب الا إلى أمه وبذلك فضلت على نساء العالمين
«وجيها في الدنيا والآخرة» الوجيه ذو الجاه وهو القوة والمنعة والشرف وهو حال مقدرة من كلمة فإنها وان كانت نكرة لكنها صالحة لأن ينتصب بها الحال وتذكيرها باعتبار المعنى والوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة
«ومن المقربين» أي من الله عز وجل وقيل هو إشارة إلى رفعه إلى السماء وصحبة الملائكة وهو عطف على الحال الأولى وقد عطف عليه قوله تعالى
«ويكلم الناس في المهد وكهلا» أي يكلمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت والمهد مصدر سمى به ما يمهد للصبي أي يسوي من مضجعه وقيل انه شاربا رفع والمراد وكهلا بعد نزوله وفي ذكر أحواله المختلفة المتنافية إشارة إلى أنه بمعزل من الألوهية
«ومن الصالحين» حال أخرى من كلمة معطوفة على الأحوال السالفة أو من الضمير في يكلم
«قالت» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قالت مريم حين قالت لها الملائكة ما قالت فقيل قالت متضرعة إلى ربها
«رب أنى يكون» أي كيف يكون أو من أين يكون
«لي ولد» على وجه الاستبعاد العادي والتعجب واستعظام قدرة الله عز وجل وقيل على وجه الاستفهام والاستفسار بأنه بالتزوج أو بغيره ويكون إما تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتأخير الفاعل عن الجار والمجرور لما مر من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من ولد إذ لو تأخر لكان صفة له وإما ناقصة واسمها ولد وخبرها إما أنى واللام متعلقة بمضمر وقع حالا كما مر أو خبر وأني نصب على الظرفية وقوله تعالى
«ولم يمسسني بشر» جملة حالية محققة للاستبعاد أي والحال أنى على حالة منافية للولادة
«قال» استئناف كما سلف والقائل هو الله تعالى أو جبريل عليه الصلاة والسلام
«كذلك الله يخلق ما يشاء» الكلام في إعرابه كما مر في قصة زكريا بعينه خلا أن إيراد يخلق ههنا مكان يفعل هناك لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسها بشر أبدع
وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ فان فكان الخلق المنبئ عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل ولذلك عقب ببيان كيفيته فقيل
«إذا قضى أمرا» من الأمور أي أراد شيئا كما في قوله تعالى «إنما أمره إذا أراد شيئا» واصل القضاء الإحكام أطلق على الإرادة الإلهية القطعية المتعلقة بوجود الشئ لإيجابها إياه
37

البتة وقيل الأمر ومنه قوله تعالى وقضى ربك
«فإنما يقول له كن» لا غير
«فيكون» من غير ريث وهو كما ترى تمثيل لكمال قدرته تعالى وسهولة تأتى المقدورات حسبما تقتضيه مشيئته وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم فيها من طاعة المأمور المطيع للآمر القوى وبيان لأنه تعالى كما يقدر على خلق الأشياء مدرجا بأسباب ومواد معتادة يقدر على خلقها دفعة من غير حاجة إلى شئ من الأسباب والمواد
«ويعلمه الكتاب» أي الكتابة أو جنس الكتب الإلهية
«والحكمة» أي العلوم وتهذيب الأخلاق
«والتوراة والإنجيل» إفرادهما بالذكر على تقدير كون المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة لزيادة فضلهما وإناقتها على غيرها والجملة عطف على يبشرك أو على وجيها أو على يخلق أو هو كلام مبتدأ سيق تطييبا لقلبها وإزاحة لما أهمها من خوف اللائمة لما علمت أنها تلد من غير زوج وقرئ ونعلمه بالنون
«ورسولا إلى بني إسرائيل» منصوب بمضمر يعود إليه المعنى معطوف على يعلمه أي ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل أي كلهم وقال بعض اليهود إنه كان مبعوثا إلى قوم مخصوصين ثم قيل كان رسولا حال الصبا وقيل بعد البلوغ وكان أول أنبياء بنى إسرائيل يوسف عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى
«أني قد جئتكم» معمول لرسولا لما فيه من معنى النطق أي رسولا ناطقا بأنى الخ وقيل منصوب بمضمر معمول لقول مضمر معطوف على من يعلمه أي ويقول أرسلت رسولا بأنى قد جئتكم الخ وقيل معطوف على الأحوال السابقة ولا يقدح فيه كونها في حكم الغيبة مع كون هذا في حكم التكلم لما عرفت من أن فيه معنى النطق كأنه قيل حال كونه وجيها ورسولا ناطقا بأنى الخ وقرئ ورسول بالجر عطفا على كلمة والباء في قوله تعالى
«بآية» متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل الفعل على أنها للملابسة والتنوين للتفخيم دون الوحدة لظهور تعددها وكثرتها وقرئ بآيات أو بجئتكم على أنها للتعدية ومن في قوله تعالى
«من ربكم» لابتداء الغاية مجازا متعلقة بمحذوف وقع صفة لآية إي قد جئتكم ملتبسا بآية عظيمة كائنة من ربكم أو أتيتكم بآية عظيمة كائنة منه تعالى والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأكيد إيجاب الامتثال بما سيأتي من الأوامر وقوله تعالى
«أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير» بدل من قوله تعالى «أني قد جئتكم» ومحله النصب على نزع الجار عند سيبويه والفراء والجر على رأى الخليل والكسائي أو بدل من آية وقيل منصوب بفعل مقدر أي أعنى أبى الخ وقيل مرفوع على أنه خبر مبتدأ أي هي أنى أخلق لكم وقرئ بكسر الهمزة على الاستئناف أي أقدر لكم أي لإجل تحصيل إيمانكم ودفع تكذيبكم إياي من
38

الطين شيئا مثل صورة الطير
«فأنفخ فيه» الضمير للكاف أي في ذلك الشئ المماثل لهيئة الطير وقرئ فأنفخ فيها على أن الضمير للهيئة المقدرة أي أخلق لكم من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيها
«فيكون طيرا» حيا طيارا كسائر الطيور
«بإذن الله» بأمره تعالى أشار عليه الصلاة والسلام بذلك إلى أن إحياءه من الله تعالى لا منه قيل لم يخلق غير الخفاش روى انه عليه الصلاة والسلام لما ادعى النبوة وأظهر المعجزات طالبوه بخلق الخفاش فأخذ طينا وصورة ونفخ فيه فإذا هو يطير بين السماء والأرض قال وهب كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز من خلق الله تعالى قيل إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه أكمل الطير خلقا وأبلغ دلالة على القدرة لأن له ثديا وأسنانا وهي تحيض وتطهر وتلد كسائر الحيوان وتضحك كما يضحك الإنسان وتطير بغير ريش ولا تبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل وإنما ترى في ساعتين ساعة بعد الغروب وساعة بعد طلوع الفجر وقيل خلق أنواعا من الطير
«وأبرئ الأكمه» أي الذي ولد أعمى أو الممسوح العين
«والأبرص» المبتلى بالبرص لم تكن العرب تنفر من شئ نفرها منه ويقال له الوضح أيضا وتخصيص هذين الداءين لأنهما مما أعيا الأطباء وكانوا في غاية الحذاقة في زمنه عليه الصلاة والسلام فأراهم الله تعالى المعجزة من ذلك الجنس روى انه عليه الصلاة والسلام ربما كان يجتمع عليه ألوف من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه الصلاة والسلام وما يداويه إلا بالدعاء
«وأحيي الموتى بإذن الله» كرره مبالغة في دفع وهم من توهم فيه اللاهوتية قال الكلبي كان عليه الصلاة والسلام يحيى الموتى بيا حي يا قيوم أحيا عازر وكان صديقا له فعاش وولد له ومر على ابن عجوز ميت فدعا الله تعالى فنزل عن سريره حيا ورجع إلى أهله وبقى وولد له وبنت العاشر أحياها وولدت بعد ذلك فقالوا إنك تحيى من كان قريب العهد من الموت فلعلهم لم يموتوا بل أصابتهم سكتة فأحى لنا سام بن نوح فقال دلوني على قبره ففعلوا فقام على قبره فدعا الله عز وجل فقام من قبره وقد شاب رأسه فقال عليه السلام كيف شبت ولم يكن في زمانكم شيب قال يا روح الله لما دعوتني سمعت صوتا يقول أجب روح الله فظننت ان الساعة قد قامت فمن هول ذلك شبت
فسأله عن النزع قال يا روح الله إن مرارته لم تذهب من حنجرتي وكان بينه وبين موته أكثر من أربعة آلاف سنة وقال للقوم صدقوه فإنه نبي الله فآمن به بعضهم وكذبه آخرون فقالوا هذا سحر فأرنا آية فقال يا فلان أكلت كذا ويا فلان خبئ لك كذا وذلك قوله تعالى
«وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم» أي بالمغيبات من أحوالكم التي لا تشكون فيها وقرئ تذخرون بالذال والتخفيف
«إن في ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الأمور العظام
«لآية» عظيمة وقرئ لآيات
«لكم» دالة على صحة رسالتي دلالة واضحة
«إن كنتم مؤمنين» جواب الشرط محذوف لإنصباب المعنى إليه أو دلالة المذكور عليه أي انتفعتم بها أو إن كنتم ممن يتأتى منهم الإيمان دلتكم على صحة رسالتي والإيمان بها
«ومصدقا لما بين يدي من التوراة»
39

عطف على المضمر الذي تعلق به قوله تعالى بآية أي قد جئتكم ملتبسا بآية الخ «ومصدقا لما بين يدي» الخ أو على رسولا على الأوجه الثلاثة فإن مصدقا فيه معنى النطق كما في رسولا أي ويجعله مصدقا ناطقا بأني أصدق الخ أو ويقول أرسلت رسولا بأني قد جئتكم الخ ومصدقا الخ أو حال كونه مصدقا ناطقا بأني أصدق الخ أو منصوب بإضمار فعل دل عليه قد جئتكم أي وجئتكم مصدقا الخ وقوله من التوراة إما حال من الموصول والعامل مصدقا وإما من ضميره المستتر في الظرف الواقع صلة والعامل الاستقرار المضمر في الظرف أو نفس الظرف لقيامه مقام الفعل
«ولأحل لكم» معمول لمضمر دل عليه ما قبله أي وجئتكم لأحل الخ وقيل عطف على معنى مصدقا كقولهم جئته معتذرا ولأجتلب رضاه كأنه قيل قد جئتكم لأصدق ولأحل الخ وقيل عطف على بآية أي قد جئتكم بآية من ربكم ولأحل لكم
«بعض الذي حرم عليكم» أي في شريعة موسى عليه الصلاة والسلام من الشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت قيل أحل لهم من السمك والطير مالا صئصئة له واختلف في إحلال السبت وقرئ حرم على تسمية الفاعل وهو ما بين يدي أو الله عز وجل وقرئ حرم بوزن كرم وهذا يدل على أن شرعه كان ناسخا لبعض أحكام التوراة ولا يخل ذلك بكونه مصدقا لها لما أن النسخ في الحقيقة بيان وتخصيص في الأزمان وتأخير المفعول عن الجار والمجرور لما مر مرارا من المبادرة إلى ذكر ما يسر المخاطبين والتشويق إلى ما أخر
«وجئتكم بآية من ربكم» شاهدة على صحة رسالتي وقرئ بآيات
«فاتقوا الله» في عدم قبولها ومخالفة مدلولها
«وأطيعون» فيما أمركم به وأنهاكم عنه بأمر الله تعالى وتلك الآية هي قولي
«إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم» فإنه الحق الصريح الذي أجمع عليه الرسل قاطبة فيكون آية بينة على انه عليه الصلاة والسلام من جملتهم وقرئ ان الله بالفتح بدلا من آية أو قد جئتكم بآية على أن الله ربي وربكم وقوله فاتقوا الله وأطيعون اعتراض والظاهر أنه تكرير لما سبق أي قد جئتكم بآية بعد آية مما ذكرت لكم من خلق الطير وإبراء الأكمه والأبرص والإحياء والإنباء بالخفيات ومن غيره من ولادتي بغير أب ومن كلامي في المهد ومن غير ذلك والأول لتمهيد الحجة والثاني لتقريبها إلى الحكم ولذلك رتب عليه بالفاء قوله فاتقوا الله أي لما جئتكم بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة فاتقوا الله في المخالفة وأطيعون فيما أدعوكم إليه ومعنى قراءة من فتح ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه كقوله تعالى لإيلاف قريش الخ ثم شرع في الدعوة وأشار إليها بالقول المجمل فقال إن الله ربي وربكم إشارة إلى أن استكمال القوة النظرية بالاعتقاد الحق الذي غايته التوحيد وقال فاعبدوه إشارة إلى استكمال القوة العملية فإنه يلازم الطاعة التي هي الإتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي ثم قرر ذلك بأن بين ان الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالإستقامة ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام قل آمنت بالله ثم استقم
«فلما أحس عيسى منهم الكفر» شروع في بيان مآل
40

أحواله عليه السلام إثر ما أشير إلى طرف منها بطريق النقل عن الملائكة والفاء فصيحة تفصح عن تحقق جميع ما قالته الملائكة وخروجه من القوة إلى الفعل حسبما شرحته كما في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله تعالى «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» كأنه قيل فحملته فولدته فكان كيت وكيت وقال ذيت وذيت وإنما لم يذكر اكتفاء بحكاية الملائكة وإيذانا بعدم الخلف وثقة بما فصل في المواضع الأخر وأما عدم نظم بقية أحواله عليه الصلاة السلام في سلك النقل فإما للاعتناء بأمرها أو لعدم مناسبتها لمقام البشارة لما فيها من ذكر مقاساته عليه الصلاة والسلام للشدائد ومعاناته للمكايد والمراد بالإحساس الإدراك القوي الجاري مجرى المشاهدة وبالكفر اصرارهم عليه وعتوهم ومكابرتهم فيه مع العزيمة على قتله عليه الصلاة والسلام كما ينبئ عنه الإحساس فإنه انما يستعمل في أمثال هذه المواقع عند كون متعلقه أمرا محذورا مكروها كما في قوله عز وجل فلما أحسوا بأسنا إذا هم منا يركضون وكلمة من متعلقة بأحس والضمير المجرور لبني إسرائيل أي ابتدأ الإحساس من جهتهم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل متعلقة بمحذوف وقع حالا من الكفر
«قال» أي لخص لأصحابه لا لجميع بني إسرائيل لقوله تعالى «كما قال عيسى ابن مريم للحواريين» الآية وقوله تعالى «فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة» ليس بنص في توجيه الخطاب إلى الكل بل يكفى فيه بلوغ الدعوة إليهم
«من أنصاري» الأنصار جمع نصير كأشراف جمع شريف
«إلى الله» متعلق بمحذوف وقع حالا من الياء أي من أنصاري متوجها إلى الله ملتجئا إليه أو بأنصاري متضمنا معنى الإضافة كأنه قيل من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله عز وجل ينصرونني كما ينصرني وقيل إلى بمعنى في أي في سبيل الله وقيل بمعنى اللام وقيل بمعنى مع
«قال» استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قالوا في جوابه عليه الصلاة والسلام فقيل قال
«الحواريون» جمع حواري يقال فلان حواري فلان أي صفوته وخالصته من الحور وهو البياض الخالص ومنه الحواريات للحضريات لخلوص ألوانهن ونقائهن سمي به أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام لخلوص نياتهم ونقاء سرائرهم وقيل لما عليهم من آثار العبادة وأنوارها وقيل كانوا ملوكا يلبسون البيض وذلك أن واحدا من الملوك صنع طعاما وجمع الناس عليه وكان عيسى عليه الصلاة والسلام على قصعة لا يزال يأكل منها ولا تنقص فذكروا ذلك للملك فاستدعاه عليه الصلاة والسلام فقال له من أنت قال عيسى ابن مريم فترك ملكه وتبعه مع أقاربه فأولئك هم الحواريون وقيل كانوا صيادين يصطادون السمك يلبسون الثياب البيض فيهم شمعون ويعقوب ويوحنا فمر بهم عيسى عليه الصلاة والسلام فقال لهم أنتم تصيدون السمك فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناس بالحياة الأبدية قالوا من أنت قال عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجزة وكان شمعون قد رمى شبكته تلك الليلة فما اصطاد شيئا فأمره عيسى عليه الصلاة والسلام بإلقائها في الماء مرة أخرى ففعل فاجتمع في الشبكة من السمك ما كادت تتمزق واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا السفينتين فعند ذلك آمنوا بعيسى عليه السلام وقيل كانوا اثنى عشر رجلا آمنوا به عليه الصلاة والسلام واتبعوه وكانوا إذا جاعوا قالوا جعنا يا روح الله فيضرب بيده الأرض فيخرج منها لكل واحد رغيفان وإذا عطشوا قالوا
41

عطشنا فيضرب بيده الأرض فيخرج منها الماء فيشربون فقالوا من أفضل منا قال عليه الصلاة والسلام أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه فصاروا يغسلون الثياب بالأجرة فسموا حواريين وقيل إن أمه سلمته إلى صباغ فأراد الصباغ يوما أن يشتغل ببعض مهماته فقال له عليه الصلاة والسلام ههنا ثياب مختلفة قد جعلت لكل واحد منها علامة معينة فاصبغها بتلك الألوان فغاب فجعل عليه الصلاة والسلام كلها في جب واحد وقال كوني بإذن الله كما أريد فرجع الصباغ فسأله فأخبره بما صنع فقال أفسدت على الثياب قال قم فانظر فجعل يخرج ثوبا أحمر وثوبا أخضر وثوبا أصفر إلى أن أخرج الجميع على أحسن ما يكون حسبما كان يريد فتعجب منه الحاضرون وآمنوا به عليه الصلاة والسلام وهم الحواريون قال القفال ويجوز أن يكون بعض هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك وبعضهم من صيادي السمك وبعضهم من القصارين وبعضهم من الصباغين والكل سموا بالحواريين لأنهم كانوا أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام وأعوانه والمخلصين في طاعته ومحبته
«نحن أنصار الله» أي أنصار دينه ورسوله
«آمنا بالله» استئناف جار مجرى العلة لما قبله فإن الإيمان به تعالى موجب لنصرة دينه والذب عن أوليائه والمحاربة مع أعدائه
«واشهد بأنا مسلمون» مخلصون في الايمان منقادون لما تريد منا من نصرتك طلبوا منه عليه الصلاة والسلام الشهادة بذلك يوم القيامة يوم يشهد الرسل عليهم الصلاة والسلام لأممهم وعليهم إيذانا بأن مرمى غرضهم السعادة الأخروية
«ربنا آمنا بما أنزلت» تضرع إلى الله عز وجل وعرض لحالهم عليه تعالى بعد عرضها على الرسول مبالغة في اظهار امرهم
«واتبعنا الرسول» أي في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين فيدخل فيه الاتباع في النصرة دخولا أوليا
«فاكتبنا مع الشاهدين» أي مع الذين يشهدون بوحدنيتك أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنهم شهداء على الناس قاطبة وهو حال من مفعول اكتبنا
«ومكروا» أي الذين علم عيسى عليه الصلاة والسلام كفرهم من اليهود بأن وكلوا به من يقتله غيلة
«ومكر الله» بأن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل والمكر من حيث إنه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرة لا يمكن إسناده اليه سبحانه الا بطريق المشاكلة روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ملك بني إسرائيل لما قصد قتله عليه الصلاة والسلام أمره جبريل عليه الصلاة والسلام أن يدخل بيتا فيه روزنة فرفعه جبريل من تلك الروزنة إلى السماء فقال الملك لرجل خبيث منهم ادخل عليه فاقتله فدخل البيت فألقى الله عز وجل شبهه عليه فخرج يخبرهم أنه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وقيل إنه عليه الصلاة والسلام جمع الحواريين ليلة وأوصاهم ثم قال ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه فنافق أحدهم فقال لهم ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح فجعلوا
42

له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه فألقى الله عز وجل عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام ورفعه إلى السماء فأخذوا المنافق وهو يقول أنا دليلكم فلم يلتفتوا إلى قوله وصلبوه ثم قالوا وجهه يشبه وجه عيسى وبدنه يشبه بدن صاحبنا فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان صاحبنا فأين عيسى فوقع بينهم قتال عظيم وقيل لما صلب المصلوب جاءت مريم ومعها امرأة أبرأها الله تعالى من الجنون بدعاء عيسى عليه الصلاة والسلام وجعلتا تبكيان على المصلوب فأنزل الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام فجاءهما فقال علام تبكيان فقالتا عليك فقال إن الله تعالى رفعني ولم يصبني إلا خير وإن هذا شئ شبه لهم قال محمد بن إسحق إن اليهود عذبوا الحواريين بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ولقوا منهم الجهد فبلغ ذلك ملك الروم وكان ملك اليهود من رعيته فقيل له إن رجلا من بنى إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله وأراهم إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وفعل وفعل فقال لو علمت ذلك ما خليت بينهم وبينه ثم بعث إلى الحواريين فانتزعهم من أيديهم وسألهم عن عيسى عليه الصلاة والسلام فأخبروه فبايعهم على دينهم وأنزل المصلوب فغيبه وأخذ الخشبة فأكرمها ثم غزا بنى إسرائيل وقتل منهم خلقا عظيما ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم
ثم جاء بعده ملك آخر يقال له ططيوس وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بنحو من أربعين سنة فقتل وسبى ولم يترك في مدينة بيت المقدس حجرا على حجر فخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز قال أهل التواريخ حملت مريم بعيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنت ثلاث عشرة سنة وولدته ببيت لحم من أرض أورشليم لمضى خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل وأوحى الله تعالى إليه على رأس ثلاثين سنة ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وعاشت أمه بعد رفعه ست سنين
«والله خير الماكرين» أقواهم مكرا وأنفذهم كيدا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لتربية المهابة والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله
«إذ قال الله» ظرف لمكر الله أو لمضمر نحو وقع ذلك
«يا عيسى إني متوفيك» أي مستوفي أجلك ومؤخرك إلى أجلك المسمى عاصما لك من قتلهم أو قابضك من الأرض من توفيت مالي أو متوفيك نائما إذ روى أنه رفع وهو نائم وقيل مميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن أو مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت وقيل أماته الله تعالى سبع ساعات ثم رفعه إلى السماء وإليه ذهبت النصارى قال القرطبي والصحيح أن الله تعالى رفعه من غير وفاة ولا نوم كما قال الحسن وابن زيد وهو اختيار الطبري وهو الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما وأصل القصة أن اليهود لما عزموا على قتله عليه الصلاة والسلام اجتمع الحواريون وهم إثنا عشر رجلا في غرفة فدخل عليهم المسيح من مشكاة الغرفة فأخبر بهم إبليس جميع اليهود فركب
43

منهم أربعة آلاف رجل فأخذوا باب الغرفة فقال المسيح للحواريين أيكم يخرج ويقتل ويكون معي في الجنة فقال واحد منهم أنا يا نبي الله فألقى عليه مدرعة من صوف وعمامة من صوف وناوله عكازة وألقى عليه شبه عيسى عليه الصلاة والسلام فخرج على اليهود فقتلوه وصلبوه وأما عيسى عليه الصلاة والسلام فكساه الله الريش والنور وألبسه النور وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب وذلك قوله تعالى إني متوفيك فطار مع الملائكة ثم إن أصحابه حين رأوا ذلك تفرقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ثم صعد إلى السماء وهم اليعقوبية وقالت فرقة أخرى كان فينا ابن الله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهم النسطورية وقالت فرقة أخرى منهم كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء هم المسلمون فتظاهرت عليهم الفرقتان الكافرتان فقتلوهم فلم يزل الإسلام منطمسا إلى أن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم
«ورافعك إلي» أي إلى محل كرامتي ومقر ملائكتي
«ومطهرك من الذين كفروا» أي من سوء جوارهم وخبث صحبتهم ودنس معاشرتهم
«وجاعل الذين اتبعوك» قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم دون الذين كذبوه وكذبوا عليه من النصارى
«فوق الذين كفروا» وهم الذين مكروا به عليه الصلاة والسلام ومن يسير بسيرتهم من اليهود فإن أهل الإسلام فوقهم ظاهرين بالعزة والمنعة والحجة وقيل هم الحواريون فينبغي أن تحمل فوقيتهم على فوقية المسلمين بحكم الاتحاد في الإسلام والتوحيد وقيل هم الروم وقيل هم النصارى فالمراد بالأتباع مجرد الادعاء والمحبة وإلا فأولئك الكفرة بمعزل من اتباعه عليه الصلاة والسلام
«إلى يوم القيامة» غاية للجعل أو للاستقرار المقدر في الظرف لا على معنى ان الجعل أو الفوقية تنتهي حينئذ ويتخلص الكفرة من الذلة بل على معنى ان المسلمين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى بهم ما يريد
«ثم إلي مرجعكم» أي رجوعكم بالبعث وثم للتراخي وتقديم الجار والمجرور للقصر المفيد لتأكيد الوعد والوعيد والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام وغيره من المتبعين له والكافرين به على تغليب المخاطب على الغائب في ضمن الالتفات فإنه أبلغ في التبشير والإنذار
«فأحكم بينكم» يومئذ إثر رجوعكم إلي
«فيما كنتم فيه تختلفون» من أمور الذين وفيه متعلق بتختلفون وتقديمه عليه لرعاية الفواصل
«فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا» تفسير للحكم الواقع بين الفريقين وتفصيل لكيفيته والبداية ببيان حال الكفرة لما أن مساق الكلام لتهديدهم وزجرهم عما هم عليه من الكفر والعناد وقوله تعالى
«في الدنيا والآخرة» متعلق بأعذبهم لا بمعنى إيقاع كل واحد من التعذيب في الدنيا والتعذيب في الآخرة وإحداثهما يوم القيامة بل بمعنى إتمام مجموعهما يومئذ وقيل أن المرجع أعم من الدنيوي والأخروي وقوله تعالى إلى يوم القيامة غاية للفوقية لا للجعل والرجوع متراخ عن الجعل وهو غير محدود لا عن الفوقية المحدودة على نهج قولك سأعيرك سكنى هذا البيت شهرا ثم أخلع عليك خلعة فيلزم تأخر الخلع عن الإعارة لا عن الشهر
«وما لهم من ناصرين» يخلصونهم من عذاب الله تعالى في الدارين وصيغة الجمع لمقابلة ضمير الجمع أي
44

ليس لواحد منهم ناصر واحد
«وأما الذين آمنوا» بما أرسلت به
«وعملوا الصالحات» كما هو ديدن المؤمنين
«فيوفيهم أجورهم» أي يعطيهم إياها كاملة ولعل الالتفات إلى الغيبة للإيذان بما بين مصدري التعذيب والإثابة من الاختلاف من حيث الجلال والجمال وقرئ فنوفيهم جريا على سنن العظمة والكبرياء
«والله لا يحب الظالمين» أي يبغضهم فإن هذه الكناية فاشية في جميع اللغات جارية مجرى الحقيقة وإيراد الظلم للإشعار بأنهم بكفرهم متعدون متجاوزون على الحدود واضعون للكفر مكان الشكر والإيمان والجملة تذييل لما قبله مقرر لمضمونه
«ذلك» إشارة إلى ما سلف من نبأ عيسى عليه الصلاة والسلام وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأن المشار إليه وبعد منزلته في الشرف وعلى كونه في ظهور الامر ونباهة الشأن بمنزلة المشاهد المعاين وهو مبتدأ وقوله عز وجل
«نتلوه» خبره وقوله تعالى
«عليك» متعلق بنتلوه وقوله تعالى
«من الآيات» حال من الضمير المنصوب أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وما بينهما حال من أسم الإشارة أو ذلك خبر لمبتدأ مضمر أي الأمر ذلك ونتلوه حال كما مر وصيغة الاستقبال إما
لاستحضار الصورة أو على معناها إذ التلاوة لم تتم بعد
«والذكر الحكيم» أي المشتمل على الحكم أو المحكم الممنوع من تطرق الخلل إليه والمراد به القرآن فمن تبعيضية أو بعض مخصوص منه فمن بيانية وقيل هو اللوح المحفوظ فمن ابتدائية
«إن مثل عيسى» أي شأنه البديع المنتظم لغرابته في سلك الأمثال
«عند الله» أي في تقديره وحكمه
«كمثل آدم» أي كحاله العجيبة التي لا يرتاب فيها مرتاب ولا ينازع فيها منازع
«خلقه من تراب» تفسير لما أبهم في المثل وتفصيل لما أجمل فيه وتوضيح للتمثيل ببيان وجه الشبه بينهما وحسم لمادة شبه الخصوم فإن إنكار خلق عيسى عليه الصلاة والسلام بلا أب من أعترف بخلق آدم عليه الصلاة والسلام بغير أب وأم مما لا يكاد يصح والمعنى خلق قالبه من تراب
«ثم قال له كن» أي أنشأه بشرا كما في قوله تعالى ثم أنشأناه خلقا آخر أو قدر تكوينه من التراب ثم كونه ويجوز كون ثم لتراخي الإخبار لا لتراخي المخبر به
«فيكون» حكاية حال ماضيه روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتم صاحبنا قال وما أقول قالوا تقول إنه عبد قال أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت أنسانا من غير أب فحيث سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله فقال عليه الصلاة والسلام إن آدم عليه الصلاة والسلام ما كان له أب ولا أم ولم يلزم من ذلك كونه أبنا لله سبحانه وتعالى فكذا حال عيسى عليه الصلاة والسلام
«الحق من ربك» خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أي ما قصصنا عليك من نبأ عيسى من عليه الصلاة والسلام
45

وأمه والظرف إما حال أي كائنا من ربك أو خبر ثان أي كائن منه تعالى وقيل هما مبتدأ وخبر أي الحق المذكور من الله تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتشريفه عليه الصلاة والسلام والإيذان بأن تنزيل هذه الآيات الحقة الناطقة بكنه الأمر تربية له عليه الصلاة والسلام ولطف به
«فلا تكن من الممترين» في ذلك والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم على طريقة الإلهاب والتهييج لزيادة التثبيت والأشعار بأن الإمتراء في المحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يكاد يمكن صدوره عنه فكيف بمن هو بصدد الامتراء وإما لكل من له صلاحية الخطاب
«فمن حاجك» أي من النصارى إذ هم المتصدون للمحاجة
«فيه» أي في شأن عيسى عليه السلام وأمه زعما منهم أنه ليس على الشأن المحكى
«من بعد ما جاءك من العلم» أي ما يوجبه إيجابا قطعيا من الآيات البينات وسعوا ذلك منك فلم يرعوو أعماهم عليه من الغى والضلال
«فقل» لهم
«تعالوا» أي هلموا بالرأي والعزيمة
«ندع أبناءنا وأبناءكم» اكتفى بهم عن ذكر البنات لظهور كونهم أعز منهن وأما النساء فتعلقهن من جهة أخرى
«ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم» أي ليدع كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله وألصقهم بقلبه إلى المباهلة ويحملهم عليها وتقديمهم على النفس في إثناء المباهلة التي هي من باب المهالك ومضان التلف مع أن الرجل يخاطر لهم بنفسه ويحارب دونهم للإيذان بكمال أمنه عليه الصلاة والسلام وتمام ثقته بأمره وقوة يقينه بأنه لن يصيبهم في ذلك شائبة مكروه أصلا وهو السر في تقديم جانبه عليه السلام على جانب المخاطبين في كل من المقدم والمؤخر مع رعاية الأصل في الصيغة فإن غير المتكلم تبع
«ثم نبتهل» أي نتباهل بأن نلعن الكاذب منا والبهلة بالضم والفتح اللعنة وأصلها الترك له في الإسناد من قولهم بهلت الناقة أي تركتها بلاصرار
«فنجعل لعنة الله على الكاذبين» عطف على نبتهل مبين لمعناه روى أنهم لما دعوا إلى المباهلة قالوا حتى نرجع وننظر فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم يا عبد المسيح ما ترى فقال والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت
صغيرهم ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا محتضنا الحسين أخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلى خلفها رضي الله عنهم أجمعين وهو يقول إذا أنا دعوت فأمنوا فقال أسقف نجران يا معشر النصارى إني لأري وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يقي على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة فقالوا يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا قال صلى الله عليه وسلم فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين فأبوا قال عليه الصلاة والسلام فإني أناجزكم فقالوا ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة
46

ألفا في صفر وألفا في رجب وثلاثين درعا عادية من حديد فصالحهم على ذلك وقال والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لا عنوا لمسخوا قردة وخنازير ولا ضطرم عليهم الوادي نارا ولا ستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا
«إن هذا» أي ما قص من نبأ عيسى وأمه عليهما السلام
«لهو القصص الحق» دون ما عداه من أكاذيب النصارى فهو ضمير الفصل دخلته اللام لكونه أقرب إلى المبتدأ من الخبر وأصلها أن تدخل المبتدأ وقرئ لهو بسكون الهاء والقصص خبر إن والحق صفته أو هو مبتدأ والقصص خبره والجملة خبر لأن
«وما من إله إلا الله» صرح فيه بمن الإستغراقية تأكيد للرد على النصارى في تثليثهم
«وإن الله لهو العزيز» القادر على جميع المقدورات
«الحكيم» المحيط بالمعلومات لا أحد يشاركه في القدرة والحكمة ليشاركه في الألوهية
«فإن تولوا» عن التوحيد وقبول الحق الذي قص عليك بعد ما عاينوا تلك الحجج المنيرة والبراهين الساطعة
«فإن الله عليم بالمفسدين» أي بهم وإنما وضع موضعه ما وضع للإيذان بان الإعراض عن التوحيد والحق الذي لا محيد عنه بعدما قامت به الحجج إفساد للعالم وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفي
«قل يا أهل الكتاب» أمر بخطاب أهل الكتابين وقيل بخطاب وفد نجران وقيل بخطاب يهود المدينة
«تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم» لا يختلف فيها الرسل والكتب وهي
«ألا نعبد إلا الله» أي نوحده بالعبادة ونخلص فيها
«ولا نشرك به شيئا» ولا نجعل غيره شريكا له في استحقاق العبادة ولا نراه أهلا لأن يعبد
«ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله» بأن نقول عزير ابن الله والمسيح ابن الله ولا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم والتحليل لأن كلا منهم بعضنا بشر مثلنا روى انه لما نزلت «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله» قال عدي بن حاتم ما كنا نعبدهم يا رسول الله فقال عليه السلام أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم قال نعم قال عليه السلام هو ذاك
«فإن تولوا» عما دعوتهم إليه من التوحيد وترك الإشراك
«فقولوا» أي قل لهم أنت والمؤمنون
«اشهدوا بأنا مسلمون» أي لزمتكم الحجة فاعترفوا بأنا مسلمون دونكم أو اعترفوا بأنكم كافرون بما نطقت به الكتب وتطابقت عليه الرسل عليهم السلام تنبيه انظر إلى ما روعى في هذه القصة من المبالغة في الإرشاد وحسن التدرج في المحاجة حيث بين أولا أحوال عيسى عليه السلام وما توارد عليه من الأطوار المنافية للإلهية ثم ذكر كيفية دعوته للناس إلى التوحيد والإسلام فلما ظهر عنادهم دعوا إلى المباهلة بنوع من الإعجاز ثم لما أعرضوا عنها وإنقادوا بعض الانقياد دعوا إلى ما اتفق
47

عليه عيسى عليه السلام والإنجيل وسائر الأنبياء عليهم السلام والكتب ثم لما ظهر عدم إجدائه أيضا أمر بأن يقال لهم اشهدوا بأنا مسلمون
«يا أهل الكتاب» من اليهود والنصارى
«لم تحاجون في إبراهيم» أي في ملته وشريعته تنازعت اليهود والنصارى في إبراهيم عليه السلام وزعم كل منهم أنه عليه السلام منهم وترافعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت والمعنى لم تدعون أنه عليه السلام كان منكم
«وما أنزلت التوراة» على موسى عليه الصلاة والسلام
«والإنجيل» على عيسى عليه الصلاة والسلام
«إلا من بعده» حيث كان بينه وبين موسى عليهما السلام ألف سنة وبين موسى وعيسى عليهما السلام ألفا سنة فكيف يمكن أن يتفوه به عاقل
«أفلا تعقلون» أي ألا تتفكرون فلا تعقلون بطلان مذهبكم أو أتقولون ذلك فلا تعقلون بطلانه
«ها أنتم هؤلاء» جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه ثم بينت بجملة مستأنفة إشعارا بكمال غفلتهم أي أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى حيث
«حاججتم فيما لكم به علم» في الجملة حيث وجدتموه في التوراة والإنجيل
«فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم» أصل إذ لاذكر لدين إبراهيم في أحد الكتابين قطعا وقيل هؤلاء بمعنى الذي وحاججتم صلته وقيل هأنتم أصله أأنتم على على الاستفهام
للتعجب قلبت الهمزة هاء
«والله يعلم» ما حاججتم فيه أو كل شيء فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا
«وأنتم لا تعلمون» أي محل النزاع أو شيئا من الأشياء التي من جملتها ذلك
«ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا» تصريح بما نطق به البرهان المقرر
«ولكن كان حنيفا» أي مائلا عن العقائد الزائغة كلها
«مسلما» أي منقادا لله تعالى وليس المراد انه كان على ملة الإسلام وإلا لإشترك الإلزام
«وما كان من المشركين» تعريض بأنهم مشركون بقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله ورد لإدعاء المشركين أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«إن أولى الناس بإبراهيم» أي أقربهم إليه وأخصهم به
«للذين اتبعوه» أي في زمانه
«وهذا النبي والذين آمنوا» لموافقتهم له في أكثر ما شرع لهم على الأصالة وقرئ والنبي بالنصب عطفا على الضمير في اتبعوه وبالجر عطفا على إبراهيم
«والله ولي المؤمنين» ينصرهم ويجازيهم الحسنى بإيمانهم وتخصيص المؤمنين بالذكر ليثبت الحكم في النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة النص
«ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم»
48

أهل الكتاب لو يضلونكم) نزلت في اليهود حين دعوا حذيفة وعمارا ومعادا إلى اليهودية ولو بمعنى أن
«وما يضلون إلا أنفسهم» جملة حالية جيء بها للدلالة على كمال رسوخ المخاطبين وثباتهم على ما هم عليه من الدين القويم أي وما يتخطاهم الإضلال ولا يعود وباله إلا إليهم لما أنه يضاعف به عذابهم وقيل وما يضلون إلا أمثالهم ويأباه قوله تعالى
«وما يشعرون» أي باختصاص وباله وضرره بهم
«يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله» أي بما نطقت به التوراة والإنجيل ودلت على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
«وأنتم تشهدون» أي والحال أنكم تشهدون أنها آيات الله أو بالقرآن وأنتم تشهدون نعته في الكتابين أو تعلمون بالمعجزات انه حق
«يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل» بتحريفكم وإبراز الباطل في صورته أو بالتقصير في التمييز بينهما وقرئ تلبسون بالتشديد وتلبسون نفتح الباء أي تلبسون الحق مع الباطل كما في قوله عليه السلام كلابس ثوبي زور
«وتكتمون الحق» أي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته
«وأنتم تعلمون» أي حقيته
«وقالت طائفة من أهل الكتاب» وهم رؤساؤهم ومفسدون لأعقابهم
«آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا» أي أظهروا الإيمان بالقرآن المنزل عليهم
«وجه النهار» أي أوله
«واكفروا» أي أظهروا ما أنتم عليه من الكفر به
«آخره» مرائين لهم إنكم آمنتم به بادئ الرأي من غير تأمل ثم تأملتم فيه فوقفتم على خلل رأيكم الأول فرجعتم عنه
«لعلهم» أي المؤمنين
«يرجعون» عما هم عليه من الإيمان به كما رجعتم والمراد بالطائفة كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف قالا لأصحابهما لما حولت القبلة آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم صلوا إلى الصخرة آخره لعلهم يقولون هم أعلم منا وقد رجعوا فيرجعون وقيل هم إثنا عشر رجلا من أحبار خيبر تقاولوا بأن يدخلوا في الإسلام أول النهار ويقولوا آخره نظرنا في كتابنا وشاورنا علماءنا فلم نجد محمدا بالنعت الذي ورد في التوراة لعل أصحابه يشكون فيه
«ولا تؤمنوا» أي لا تقروا بتصديق قلبي
«إلا لمن تبع دينكم» أي لأهل دينكم أولا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلا لمن كان على دينكم من قبل فإن رجوعهم أرجى وأهم
«قل إن الهدى هدى الله» يهدي به من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه
«أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم» متعلق بمحذوف أي
49

دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله تعالى قل إن الهدى هدى الله اعتراض مفيد لكون كيدهم غير مجد لطائل أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى وقرئ أأن يؤتي على الاستفهام التقريعي وهو مؤيد للوجه الأول أي ألأن يؤتي أحد الخ دبرتم وقرئ أن على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتي أحد مثل ما أوتيتم
«أو يحاجوكم عند ربكم» عطف على أن يؤتي على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم
«قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم» رد لهم وإبطال لما زعموه بالحجة الباهرة
«يختص برحمته» أي يجعل رحمته مقصورة على
«من يشاء والله ذو الفضل العظيم» كلاهما تذييل لما قبله مقرر لمضمونه
«ومن أهل الكتاب» شروع في بيان خيانتهم في المال بعد بيان خيانتهم في الدين والجار والمجرور في محل الرفع على الابتداء حسبما مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى «ومن الناس من يقول» الخ خبره قوله تعالى
«من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك» على ان المقصود بيان اتصافهم بمضمون الجملة الشرطية لا كونهم ذوات المذكورين كأنه قيل بعض أهل الكتاب بحيث إن تأمنه بقنطار أي بمال كثير يؤده إليك كعبد الله بن سلام استودعه قرشي ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه
«ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك» كفنحاص بن عازوراء أستودعه قرشي آخر دينارا فجحده وقيل المأمونون على الكثير النصارى إذ الغالب فيهم الأمانة والخائنون في القليل اليهود إذ الغالب فيهم الخيانة
«إلا ما دمت عليه قائما» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات أي لا يؤده إليك في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات إلا في حال دوام قيامك أو في وقت دوام قيامك على رأسه مبالغا في مطالبته بالتقاضي وإقامة البينة
«ذلك» إشارة إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله تعالى لا يؤده وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال غلوهم في الشر والفساد
«بأنهم» أي بسبب انهم
«قالوا ليس علينا في الأميين» اى في شأن من ليس من أهل الكتاب
«سبيل» اى عتاب ومؤاخذة
«ويقولون على الله الكذب» بادعائهم ذلك
«وهم يعلمون» أنهم كاذبون مفترون على الله تعالى وذلك لأنهم إستحلوا أظلم من خالفهم وقالوا لم يجعل في التوراة في حقهم حرمة وقيل عامل اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا سقط حقكم حيث تركتم دينكم وزعموا أنه كذلك في كتابهم وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها كذب أعداء الله
50

ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤادة إلى البر والفاجر
«بلى» إثبات لما نفوه أي بلى عليهم فيهم سبيل وقوله تعالى
«من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين» استئناف مقرر للجملة التي سد بلى مسدها والضمير المجرور لمن أو لله تعالى وعموم المتقين نائب مناب الراجع من الجزاء إلى من ومشعر بأن التقوى ملاك الأمر عام للوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي
«إن الذين يشترون» أي يستبدلون ويأخذون
«بعهد الله» أي بدل ما عاهدوا عليه من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم والوفاء بالأمانات
«وأيمانهم» وبما حلفوا به من قولهم والله لنؤمنن به ولننصرنه
«ثمنا قليلا» هو حطام الدنيا
«أولئك» الموصوفون بتلك الصفات القبيحة
«لا خلاق» لا نصيب
«لهم في الآخرة» من نعيمها
«ولا يكلمهم الله» أي بما يسرهم أو بشيء أصلا وإنما يقع ما يقع من السؤال والتوبيخ والتقريع في أثناء الحساب من الملائكة عليهم السلام أولا ينتفعون بكلمات الله تعالى وآياته والظاهر أنه كناية عن شدة غضبه وسخطه نعوذ بالله من ذلك لقوله تعالى
«ولا ينظر إليهم يوم القيامة» فإنه مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم متفرع على الكناية في حق من يجوز عليه النظر لأن من أعتد بالإنسان ألتفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرد المعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر ويوم القيامة متعلق بالفعلين وفيه تهويل للوعيد
«ولا يزكيهم» أي لا يثني عليهم أو لا يطهرهم من أوضار الأوزار
«ولهم عذاب أليم» على ما فعلوه من المعاصي قيل أنها نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب حرفوا التوراة وبدلوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واخذوا الرشوة على ذلك وقيل نزلت في الأشعث بن قيس حيث كان بينه وبين رجل نزاع في بئر فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له شاهداك أو
يمينه فقال الأشعث أذن يحلف ولا يبالي فقال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يستحق بها ما لا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان وقيل في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد اشتراها بما لم يكن اشتراها به
«وإن منهم» أي من اليهود المحرفين
«لفريقا» ككعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وأضرابهما
«يلوون ألسنتهم بالكتاب» أي يفتلونها بقراءته فيميلونها عن المنزل إلى المحرف أو يعطفونها بشبه الكتاب وقرئ يلوون بالتشديد ويلون بقلب الواو المضمومة همزة ثم تخفيفها بحذفها وإلقاء حركتها على ما قبلها
51

من الساكن «لتحسبوه» أي المحرف المدلول عليه بقوله تعالى يلوون الخ وقرئ بالياء والضمير للمسلمين
«من الكتاب» أي من جملته وقوله تعالى
«وما هو من الكتاب» حال من الضمير المنصوب أي والحال أنه ليس منه في نفس الأمر وفي اعتقادهم أيضا
«ويقولون» مع ما ذكر من اللي والتحريف على طريقة التصريح لا بالتورية والتعريض
«هو» أي المحرف
«من عند الله» أي منزل من عند الله
«وما هو من عند الله» حال من ضمير المبتدأ في الخبر أي والحال انه ليس من عنده تعالى في اعتقادهم أيضا وفيه من المبالغة في تشنيعهم وتقبيح أمرهم وكمال جراءتهم ما لا يخفى وإظهار الاسم الجليل والكتاب في محل الاضمار لتهويل ما أقدموا عليه من القول
«ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون» انهم كاذبون ومفترون على الله تعالى وهو تأكيد وتسجيل عليهم بالكذب على الله والتعمد فيه وعن ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف وغيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اخذت قريظة ما كتبوا فخلطوه بالكتاب الذي عندهم
«ما كان لبشر» بيان لافترائهم على الأنبياء عليهم السلام حيث قال نصارى نجران إن عيسى عليه السلام أمرنا أن نتخذه ربا حاشاه عليه السلام وإبطال له إثر بيان افترائهم على الله سبحانه وإبطاله أي ما صح وما استقام لأحد وإنما قيل لبشر إشعارا بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي اسنده الكفرة إليهم
«أن يؤتيه الله الكتاب» الناطق بالحق الآمر بالتوحيد الناهي عن الإشراك
«والحكم» الفهم والعلم أو الحكمة وهي السنة والنبوة
«ثم يقول» ذلك البشر بعدما شرفه الله عز وجل بما ذكر من التشريفات وعرفه الحق وأطلعه على شؤونه العالية
«للناس كونوا عبادا لي» الجار متعلق بمحذوف هو صفة عبادا اي عبادا كائنين
«من دون الله» متعلق بلفظ عبادا لما فيه من معنى الفعل أو صفة ثانية له ويحتمل الحالية لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى سواء كان ذلك استقلالا أو اشتراكا فإن التجاوز متحقق فيهما حتما قيل إن ابا رافع القرظي والسيد النجراني قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال عليه السلام معاذ الله أن يعبد غير الله تعالى وأن نأمر بعبادة غيره تعالى فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت وقيل قال رجل من المسلمين يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك قال عليه السلام لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله
«ولكن كونوا» أي ولكن يقول كونوا
«ربانيين» الرباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون كاللحياني والرقباني وهو الكامل في العلم والعمل الشديد التمسك بطاعة الله عز وجل ودينه
«بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون» أي بسبب مثابرتكم على تعليم الكتاب ودراسته أي قراءته فإن جعل خبر كان مضارعا لإفادة الاستمرار التجددي وتكرير بما كنتم للإيذان باستقلال كل من استمرار التعليم واستمرار
52

القراءة بالفضل وتحصيل الربانية وتقديم التعليم على الدراسة لزيادة شرفه عليها أو لأن الخطاب الأول لرؤسائهم والثاني لمن دونهم وقرئ تعلمون بمعنى عالمين وتدرسون من التدريس وتدرسون من الإدراس بمعنى التدريس كأكرم بمعنى كرم ويجوز أن تكون القراءة المشهورة أيضا بهذا المعنى على تقدير بما تدرسونه على الناس
«ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا» بالنصب عطفا على ثم يقول ولا مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله تعالى «ما كان لبشر» أي ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى ثم يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا وتوسيط الاستدراك بين المعطوفين للمسارعة إلى تحقيق الحق ببيان ما يليق بشأنه ويحق صدوره عنه إثر تنزيهه عما لا يليق بشأنه ويمتنع صدوره عنه وأما ما قيل من أنها غير مزيدة على معنى أنه ليس له ان يأمر بعبادته ولا يأمر باتخاذ أكفائه أربابا بل ينهى عنه وهو أدنى من العبادة فيقضى بفساده ما ذكر من توسيط الاستدراك بين الجملتين المتعاطفتين ضرورة أنهما حينئذ في حكم جملة واحدة وكذا قوله تعالى
«أيأمركم بالكفر» فإنه صريح في أن المراد بيان انتفاء كلا الأمرين قصدا لا بيان انتفاء الأول لانتفاء الثاني ويعضده قراءة الرفع على الاستئناف وتجويز الحالية بتقدير المبتدأ أي وهو لا يأمركم إلى آخره بين الفساد لما عرفته آنفا وقوله تعالى
«بعد إذ أنتم مسلمون» يدل على أن الخطاب للمسلمين وهم المستأذنون للسجود له عليه السلام
«وإذ أخذ الله ميثاق النبيين» منصوب بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي أذكر وقت أخذه تعالى ميثاقهم
«لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه» قيل هو على ظاهرة وإذا كان هذا حكم الأنبياء عليهم السلام كان الأمم بذلك أولى وأحرى وقيل معناه أخذ الميثاق من النبيين وأممهم واستغنى بذكرهم عن ذكرهم وقيل إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أممهم وقيل المراد أولاد النبيين على حذف المضاف وهم بنو إسرائيل أو سماهم نبيين تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا واللام في لما موطئة للقسم لأن أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف وما تحتمل الشرطية ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط وتحتمل الخبرية وقرئ لما بالكسر على ان ما مصدرية أي لأجل إيتائى إياكم بعض الكتاب ثم لمجئ رسول مصدق أخذ الله لميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه أو موصوله والمعنى أخذه الذي آتيتكموه وجاءكم رسول مصدق له وقرئ لما بمعنى حين آتيتكم أو لمن أجل ما آتيتكم على ان أصله لمن ما بالإدغام فحذف أحدى الميمات الثلاث استثقالا
«قال» أي الله تعالى بعد ما اخذ الميثاق
«أأقررتم» بما ذكر
«وأخذتم على ذلكم إصري»
53

أي عهدي سمى به لأنه يؤصر أي يشد وقرئ بضم الهمزة إما لغة كعبر وعبر أو جمع إصار وهو ما يشد به
«قالوا» استئناف مبنى على السؤال كأنه قيل فماذا قالوا عند ذلك فقيل قالوا
«أقررنا» وإنما لم يذكر أخذهم الإصر اكتفاء بذلك
«قال» تعالى
«فاشهدوا» أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وقيل الخطاب فيه للملائكة
«وأنا معكم من الشاهدين» أي وأنا أيضا على إقراركم ذلك وتشاهدكم شاهد وإدخال مع على المخاطبين لما أنهم المباشرون للشهادة حقيقة وفيه من التأكيد والتحذير مالا يخفى
«فمن تولى» أي أعرض عما ذكر
«بعد ذلك» الميثاق والتوكيد بالإقرار والشهادة فمعنى البعد في اسم الإشارة لتفخيم الميثاق
«فأولئك» إشارة إلى من والجمع باعتبار المعنى كما أن الإفراد في تولى باعتبار اللفظ وما فيه من معنى البعد للدلالة على ترامى أمرهم في السوء وبعد منزلتهم في الشر والفساد أي فأولئك المتولون المتصفون بالصفات القبيحة
«هم الفاسقون» المتمردون الخارجون عن الطاعة من الكفرة فإن الفاسق من كل طائفة من كان متجاوزا عن الحد
«أفغير دين الله يبغون» عطف على مقدر أي أيتولون فيبغون غير دين الله وتقديم المفعول لأنه المقصود إنكاره أو على الجملة المتقدمة والهمزة متوسطة بينهما للإنكار وقرئ بتاء الخطاب على تقدير وقل لهم
«وله أسلم من في السماوات والأرض» جملة حالية مفيدة لوكادة الإنكار
«طوعا وكرها» اى طائعين بالنظر واتباع الحجة وكارهين بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل وإدراك الغرق والإشراف على الموت أو مختارين كالملائكة والمؤمنين ومسخرين كالكفرة فإنهم لا يقدرون على الامتناع عما قضى عليهم
«وإليه يرجعون» أي من فيهما والجمع باعتبار المعنى وقرئ بتاء الخطاب والجملة إما معطوفة على ما قبلها منصوبة على الحالية وإما مستأنفة سيقت للتهديد والوعيد
«قل آمنا بالله» أمر للرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه ومن معه من المؤمنين بالإيمان بما ذكر وجمع الضمير في قوله تعالى
«وما أنزل علينا» وهو القرآن لما أنه منزل عليهم أيضا بتوسط تبليغه إليهم أو لأن المنسوب إلى واحد من الجماعة قد ينسب إلى الكل أو عن نفسه فقط وهو الأنسب بما بعده والجمع لإظهار جلالة قدره عليه السلام ورفعه محلة بأمره بأن يتكلم عن نفسه على ديدن الملوك ويجوز أن يكون الأمر عاما والأفراد لتشريفه عليه السلام والإيذان بأنه عليه السلام أصل في ذلك كما في قوله تعالى يا أيها النبي إذا طلقتم النساء
«وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط» من الصحف والنزول كما يعدى بإلى لانتهائه إلى الرسل يعدى بعلى لأنه من
54

فوق ومن رام بأن على لكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإلى لكون الخطاب للمؤمنين فقد تعسف ألا يرى إلى قوله تعالى «بما أنزل إليك» الخ وقوله «آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا» الخ وإنما قدم المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم على ما أنزل على سائر الرسل عليهم السلام مع تقدمه عليه نزولا لأنه المعروف له والعيار عليه والأسباط جمع سبط وهو الحافد والمراد بهم حفدة يعقوب عليه السلام وأبناؤه الاثنا عشر وذراريهم فإنهم حفدة إبراهيم عليه السلام
«وما أوتي موسى وعيسى» من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات الظاهرة بأيديهما كما ينبئ عنه إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب وتخصيصهما بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى
«والنبيون» عطف على موسى وعيسى عليهما السلام أي وما أوتى النبيون من المذكورين وغيرهم
«من ربهم» من الكتب والمعجزات
«لا نفرق بين أحد منهم» كدأب اليهود والنصارى آمنوا ببعض وكفروا ببعض بل نؤمن بصحة نبوة كل منهم وبحقية ما أنزل إليهم في زمانهم وعدم التعرض لنفى التفريق بين الكتب لاستلزام المذكور إياه وقد مر تفصيله في تفسير قوله تعالى «لا نفرق بين أحد من رسله» وهمزة أحد إما أصلية فهو اسم موضوع لمن يصلح أن يخاطب يستوى فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث ولذلك صح دخول بين عليه كما في مثل المال بين الناس وإما مبدلة من الواو فهو بمعنى واحد وعمومه لوقوعه في حيز النفي وصحة دخول بين عليه باعتبار معطوف قد حذف لظهوره أي بين أحد منهم وغيره كما في قول النابغة
* فما كان بين الخير إذ جاء سالما
* أبو حجر إلا ليال قلائل
* أي بين الخير وبيني
«ونحن له مسلمون» أي منقادون أو مخلصون له تعالى أنفسنا لا نجعل له شريكا فيها وفيه تعريض بإيمان أهل الكتاب فإنه بمعزل من ذلك
«ومن يبتغ غير الإسلام» أي غير التوحيد والانقياد لحكم الله تعالى كدأب المشركين صريحا والمدعين للتوحيد مع إشراكهم كاهل الكتابين
«دينا» ينتحل إليه وهو نصب على انه مفعول ليبتغ وغير الإسلام حال منه لما أنه كان صفة له فلما قدمت عليه انتصبت حالا أو هو المفعول ودينا وتمييز لما فيه من الإبهام أو بدل من غير الإسلام
«فلن يقبل» ذلك
«منه» أبدا بل يرد أشد رد وأقبحه وقوله تعالى
«وهو في الآخرة من الخاسرين» إما حال من الضمير المجرور أو استئناف لا محل له من الإعراب أي من الواقعين في الخسران والمعنى أن المعرض عن الإسلام والطالب لغيره فاقد للنفع واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها وفي ترتيب الرد والخسران على مجرد الطلب دلالة على أن حال من تدين بغير الإسلام واطمأن بذلك أفظع وأقبح واستدل به على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل والجواب أنه ينفى قبول كل دين يغايره لا قبول كل ما يغايره «كيف يهدي الله» إلى الحق
55

«قوما كفروا بعد إيمانهم» قيل هم عشرة رهط ارتدوا بعد ما آمنوا ولحقوا بمكة وقيل هم يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه
«وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات» استبعاد لأن يهديهم الله تعالى فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد وقيل نفى وإنكار له وذلك يقتضى أن لا تقبل توبة المرتد وقوله تعالى وشهدوا عطف على إيمانهم باعتبار انحلاله إلى جملة فعلية كما في قوله تعالى «إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله» الخ فإنه في قوة أن يقال بعد أن آمنوا أو حال من ضمير كفروا بإضمار قد وهو دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان
«والله لا يهدي القوم الظالمين» أي الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم اعرض عنه والجملة اعتراضية أو حالية
«أولئك» إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الشنيعة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا وهو مبتدأ وقوله تعالى
«جزاؤهم» مبتدأ ثان وقوله تعالى
«أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» خبره والجملة خبر لأولئك وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم وبمفهومه ينفى جواز لعن غيرهم ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم انهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون عن الهدى آيسون من الرحمة رأسا بخلاف غيرهم والمراد بالناس المؤمنون أو الكل فإن الكافر أيضا يلعن منكر الحق والمرتد عنه ولكن لا يعرف الحق بعينه
«خالدين فيها» في اللعنة أو العقوبة أو النار وإن لم تذكر لدلالة الكلام عليها
«لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون» أي يمهلون
«إلا الذين تابوا من بعد ذلك» أي من بعد الارتداد
«وأصلحوا» أي ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح
«فإن الله غفور رحيم» فيقبل توبتهم ويتفضل عليهم وهو تعليل لما دل عليه الاستثناء وقيل نزلت في الحرث بن سويد حين ندم على ردته فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي من توبة فأرسل إليه أخوه الحلاس الآية فرجع إلى المدينة فتاب
«إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا» كاليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد الإيمان بموسى عليه السلام والتوراة ثم ازدادوا كفرا حيث كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام والقرآن أو كفروا به عليه السلام بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار عليه والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق أو كقوم
ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص به ريب المنون أو نرجع إليه فننافقه بإظهار الإيمان
«لن تقبل توبتهم» لأنهم لا يتوبون إلا عند إشرافهم على الهلاك فكنى عن
56

عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وازديادهم كفرا ولذلك لم تدخل فيه الفاء
«وأولئك هم الضالون» الثابتون على الضلال
«إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به» لما كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية زيدت الفاء ههنا للإشعار به وملء الشئ ما يملأ به وذهبا تمييز وقرئ بالرفع على أنه بدل من ملء أو خبر لمحذوف ولو افتدى محمول على المعنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا أو معطوف على مضمر تقديره فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في الدنيا ولو افتدى به من العذاب في الآخرة أو المراد ولو افتدى بمثله كقوله تعالى «ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه» والمثل يحذف ويراد كثيرا لأن المثلين في حكم شئ واحد
«أولئك» إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات الشنيعة المذكورة
«لهم عذاب أليم» مؤلم اسم الإشارة مبتدأ والظرف خبره ولاعتماده على المبتدأ ارتفع به عذاب أليم على الفاعلية
«وما لهم من ناصرين» في دفع العذاب عنهم أو في تخفيفه ومن مزيدة للاستغراق وصيغة الجمع لمراعاة الضمير أي ليس لواحد منهم ناصر واحد
«لن تنالوا البر» من ناله نيلا إذا أصابه والخطاب للمؤمنين وهو كلام مستأنف سيق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان مالا ينفع الكفرة ولا يقبل منهم أي لن تبلغوا حقيقة البر الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تدركوا شأوه ولن تلحقوا بزمرة الأبرار أو لن تنالوا بر الله تعالى وهو ثوابه ورحمته ورضاه وجنته
«حتى تنفقوا» أي في سبيل الله عز وجل رغبة فيما عنده ومن في قوله تعالى
«مما تحبون» تبعيضية ويؤيده قراءة من قرأ بعض ما تحبون وقيل بيانية وما موصوله أو موصوفة أي مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبها إليكم كما في قوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم أو مما يعمها وغيرها من الأعمال والمهجة على ان المراد بالإنفاق مطلق البذل وفيه من الإيذان بعزة منال البر مالا يخفى وكان السلف رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئا جعلوه لله عز وجل وروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال يا رسول الله أن أحب أموالي إلى بير حاء فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال عليه السلام بخ بخ ذاك مال رايح أو رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقسمها في أقاربه وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال هذه في سبيل الله فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فكأن زيدا وجد في نفسه وقال إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إن الله تعالى قد قبلها منك قيل وفيه دلالة على أن انفاق أحب الأموال على أقرب الأقارب أفضل وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يشتري له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى فلما جاءت اليه أعجبته
57

فقال إن الله تعالى يقول لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فأعتقها وروى أن عمر بن عبد العزيز كانت لزوجته جارية بارعة الجمال وكان عمر راغبا فيها وكان قد طلبها منها مرارا فلم تعطها إياه ثم لما ولى الخلافة زينتها وأرسلتها إليه فقالت قد وهبتكها يا أمير المؤمنين فلتخدمك قال من أين ملكتها قالت جئت بها من بيت أبي عبد الملك ففتش عن كيفية تملكه إياها فقيل إنه كان على فلان العامل ديون فلما توفي أخذت من تركته ففتش عن حال العامل وأحضر ورثته وأرضاهم جميعا بإعطاء المال ثم توجه إلى الجارية وكان يهواها هوى شديدا فقال أنت حرة لوجه الله تعالى فقالت لم يا أمير المؤمنين وقد أزحت عن أمرها كل شبهة قال لست إذن ممن نهى النفس عن الهوى
«وما تنفقوا من شيء» ما شرطية جازمة لتنفقوا منتصبة به على المفعوليه ومن تبعيضية متعلقة بمحذوف هو صفة لاسم الشرط أي أي شئ تنفقوا كائنا من الأشياء فإن المفرد في مثل هذا الموضع واقع موقع الجمع وقيل محل الجار والمجرور النصب على التمييز أي أي شيء تنفقوا طيبا تحبونه أو خبيثا تكرهونه
«فإن الله به عليم» تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فمجازيكم بحسبه جيدا كان أو رديئا فإنه تعالى عليم بكل شيء تنفقونه علما كاملا بحيث لا يخفى عليه شيء من ذاته وصفاته وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل وفيه من الترغيب في انفاق الجيد والتحذير عن انفاق الرديء مالا يخفى
«كل الطعام» أي كل أفراد المطعوم أو كل أنواعه
«كان حلا لبني إسرائيل» أي حلالا لهم فإن الحل مصدر نعت به ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث كما في قوله تعالى «لا هن حل لهم»
«إلا ما حرم إسرائيل على نفسه» استثناء متصل من اسم كان أي كان كل المطعومات حلالا لبني إسرائيل الا ما حرم إسرائيل أي يعقوب عليه السلام على نفسه وهو لحوم الإبل وألبانها قيل كان به وجع النسا فنذر لئن شفى لا يأكل أحب الطعام اليه وكان ذلك أحبه اليه وقيل فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطباء واحتج به من جوز للنبي الاجتهاد وللمانع أن يقول كان ذلك بإذن من الله تعالى فيه فهو كتحريمه ابتداء
«من قبل أن تنزل التوراة» متعلق بقوله تعالى كان حلا ولا ضير في توسيط الاستثناء بينهما وقيل متعلق بحرم وفيه أن تقييد تحريمه عليه السلام بقبلية تنزيل التوراة ليس فيه مزيد فائدة أي كان ما عدا المستثنى حلالا لهم قبل أن تنزل التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة لهم وتشديدا وهو رد على اليهود في دعواهم البراءة عما نعى عليهم قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وقوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآيتين بأن قالوا لسنا
أول من حرمت عليه وانما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى الأمر الينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا وتبكيت لهم في منع النسخ والطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لإبراهيم عليه السلام بتحليله لحوم الإبل وألبانها
«قل فأتوا بالتوراة فاتلوها»
58

فاتلوها) أمر عليه السلام بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بأن تحريم ما حرم عليهم تحريم حادث مترتب على ظلمهم وبغيهم كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها حرم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم ويكلفهم إخراجه وتلاوته ليبكتهم ويلقمهم الحجر ويظهر كذبهم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاما مع اليهود منقطعا عما قبله وقوله تعالى
«إن كنتم صادقين» أي في دعواكم أنه تحريم قديم وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها فإن صدقكم مما يدعوكم إلى ذلك البتة روى أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا وانقلبوا صاغرين وفي ذلك من الحجة النيرة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وجواز النسخ الذي يجحدونه مالا يخفى والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها
«فمن افترى على الله الكذب» أي اختلقه عليه سبحانه بزعمه أنه حرم ما ذكر قبل نزول التوراة على بني إسرائيل ومن تقدمهم من الأمم
«من بعد ذلك» من بعد ما ذكر من أمرهم بإحضار التوراة وتلاوتها وما ترتب عليه من التبكيت والإلزام والتقييد به للدلالة على كمال القبح
«فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الصلة باعتبار لفظه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الضلال والطغيان أي فأولئك المصرون على الافتراء بعد ما ظهرت حقيقة الحال وضافت عليهم حلبة المحاجة والجدال
«هم الظالمون» المفرطون في الظلم والعدوان المبعدون فيهما والجملة مستأنفة لا محل لها من الاعراب مسوقة من جهته تعالى لبيان كمال عتوهم وقيل هي في محل النصب داخلة تحت القول عطفا على قوله تعالى فأتوا بالتوراة
«قل صدق الله» أي ظهر وثبت صدقه تعالى فيما أنزل في شان التحريم وقيل في قوله تعالى «ما كان إبراهيم يهوديا» الخ أو صدق في كل شأن من الشؤون وهو داخل في ذلك دخولا أوليا وفيه تعريض بكذبهم الصريح
«فاتبعوا ملة إبراهيم» أي ملة الإسلام التي هي في الأصل ملة إبراهيم عليه السلام فإنكم ما كنتم متبعين لملته كما تزعمون أو فاتبعوا مثل ملته حتى تتخلصوا من اليهودية التي اضطرتكم إلى التحريف والمكابرة وتلفيق الأكاذيب لتسوية الأغراض الدنيئة الدنيوية وألزمتكم تحريم طيبات محللة لإبراهيم عليه السلام ومن تبعه والفاء للدلالة على أن ظهور صدقة تعالى موجب للاتباع وترك ما كانوا عليه
«حنيفا» أي مائلا عن الأديان الزائغة كلها
«وما كان من المشركين» أي في أمر من أمور دينه أصلا وفرعا وفيه تعريض بإشراك اليهود وتصريح بأنه عليه السلام ليس بينه وبينهم علاقة دينية قطعا والغرض بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام في الأصول لأنه لا يدعو إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سواه سبحانه وتعالى والجملة تذييل لما قبلها
«إن أول بيت وضع للناس» شروع في بيان كفرهم ببعض آخر
59

من شعائر ملته عليه السلام إثر بيان كفرهم بكون كل المطعومات حلا له عليه السلام روى أنهم قالوا بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة وقال المسلمين بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت أي أن أول بيت وضع للعبادة وجعل متعبدا لهم والواضع هو الله تعالى ويؤيده القراءة على البناء للفاعل وقوله تعالى
«للذي ببكة» خبر لأن وإنما أخبر بالمعرفة مع كون اسمها نكرة لتخصصها بسببين الإضافة والوصف بالجملة بعدها أي للبيت الذي ببكة أي فيها وفي ترك الموصوف من التفخيم مالا يخفى وبكة لغة في مكة فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم ضربة لازب ولازم والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء وقولهم أمر راتب وراتم وسبد رأسه وسمدها واغبطت الحمى وأغمطت وهي علم للبلد الحرام من بكة إذا زحمة لازدحام الناس فيه وعن قتادة يبك الناس بعضهم بعضا أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله عز وجل وقيل بكة اسم لبطن مكة وقيل لموضع البيت وقيل للمسجد نفسه ومكة اسم للبلد كله وأيد هذا بأن التباك وهو الازدحام إنما يقع عند الطواف وقيل مكة اسم للمسجد والمطاف وبكة اسم للبلد لقوله تعالى «للذي ببكة مباركا» روى أنه عليه السلام سئل عن أول بيت وضع للناس فقال المسجد الحرام ثم بيت المقدس وسئل كم بينهما فقال أربعون سنة وقيل أول من بناه إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقيل آدم عليه السلام وقد استوفينا ما فيه من الأقاويل في سورة البقرة وقيل أول بيت وضع بالشرف لا بالزمان
«مباركا» كثير الخير والنفع لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف دونه وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب وهو حال من المستكن في الظرف لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه ما قدر في الظرف من فعل الاستقرار
«وهدى للعالمين» لأنه قبلتهم ومتعبدهم ولأن فيه آيات عجيبة دالة على عظيم قدرته تعالى وبالغ حكمته كما قال
«فيه آيات بينات» واضحات كانحراف الطيور عن موازاة البيت على مدى الأعصار ومخالطة ضوارى السباع الصيود في الحرم من غير تعرض لها وقهر الله تعالى لكل جبار قصدة بسوء كأصحاب الفيل والجملة مفسرة للهدى أو حال أخرى
«مقام إبراهيم» أي أثر قدميه عليه السلام في الصخرة التي كان عليه السلام يقوم عليها وقت رفع الحجارة لبناء الكعبة عند ارتفاعه أو عند غسل رأسه على ما روى أنه عليه السلام جاء زائرا من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام أنزل حتى أغسل رأسك فلم ينزل فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الإيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقة الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقى اثر قدميه عليه وهو اما مبتدأ حذف خبره أي منها مقام إبراهيم أو بدل من آيات بدل البعض من الكل أو عطف بيان إما وحدة باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى وعلى نبوة إبراهيم عليه
60

الصلاة والسلام كقوله تعالى «إن إبراهيم كان أمة قانتا» أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء وغوصه فيها إلى الكعبين وإلانة بعض الصخور دون بعض وإبقائه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام وحفظه مع كثرة الأعداء ألوف سنة آية مستقلة ويؤيده القراءة على التوحيد وإما بما يفهم من قوله عز وجل
«ومن دخله كان آمنا» المعنى فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية لكنها في قوة أن يقال وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل معطوفة على مقام إبراهيم ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفي بذلك أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها ومعنى أمن داخله أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام رب اجعل هذا البلد آمنا وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يطلب وعن عمر رضي الله عنه لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه ولذلك قال أبو حنيفة رحمه الله تعالى من لزمه القتل في الحل بقصاص أو ردة أو زنى فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج وقيل أمنه من النار وعن النبي صلى الله عليه وسلم من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا وعنه عليه الصلاة والسلام الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة عن ابن مسعود رضي الله عنه وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال يبعث الله تعالى من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر وعن النبي صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائتي عام
«ولله على الناس حج البيت» جملة من مبتدأ هو حج وخبر هو لله وقوله تعالى على الناس متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار والعامل فيه ذلك الاستقرار ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ولله متعلق بما تعلق به الخبر ولا سبيل إلى أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في على الناس لاستلزامه تقديم الحال على العامل المعنوي وذلك مما لا مساغ له عند الجمهور وقد جوزة ابن مالك إذا كانت هي ظرفا أو حرف جر وعاملها كذلك بخلاف الظرف وحرف الجر فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي واللام في البيت للعهد وحجة قصده للزيارة على الوجه المخصوص المعهود وكسر الحاء لغة نجد وقيل هو اسم للمصدر وقرئ بفتحها
«من استطاع إليه سبيلا» في محل الجر على انه بدل من الناس بدل البعض من الكل مخصص لعمومه فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف أي من استطاع منهم وقيل بدل الكل على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع فلا حاجة إلى الضمير وقيل في محل الرفع على انه خبر مبتدأ مضمر أي هم من استطاع الخ وقيل في حيز النصب بتقدير أعنى وقيل كلمة من شرطية والجزاء محذوف لدلالة المذكور عليه وكذا العائد إلى الناس أي من استطاع منهم إليه سبيلا فلله عليه حج البيت وقد رجح هذا بكون ما بعده شرطية والضمير المجرور في إليه راجع إلى البيت أو إلى حج والجار متعلق بالسبيل قدم عليه اهتماما بشأنه كما في قوله عز وجل فهل إلى خروج من سبيل وهل إلى مرد من سبيل لما فيه من معنى
61

الإفضاء والإيصال كيف لا وهو عبارة عن الوسيلة من مال أو غيره فإنه قد روى أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال السبيل الزاد والراحلة وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا قال يا رسول الله ما السبيل قال الزاد والرحلة وهو المراد بما روى أنه عليه السلام فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وهكذا روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وعليه أكثر العلماء خلا أن الشافعي أخذ بظاهرة فأوجب الاستنابة على الزمن القادر على اجره من ينوب عنه والظاهر أن عدم تعرضه عليه السلام لصحة البدن لظهور الأمر كيف لا والمفسر في الحقيقة هو السبيل الموصل لنفس المستطيع إلى البيت وذا لا يتصور بدون الصحة وعن ابن الزبير أنه على قدر القوة ومذهب مالك أن الرجل إذا وثق بقوته لزمه وعنه ذلك على قدر الطاقة وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر وقد يقدر عليه من لا راحلة له ولا زاد وعن الضحاك أنه إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع
«ومن كفر» وضع من كفر موضع من لم يحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه ولذلك قال عليه السلام من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه انه عليه السلام قال في خطبته أيها الناس إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا
«فإن الله غني عن العالمين» وعن عبادتهم وحيث كان من كفر من جملتهم داخلا فيها دخولا أوليا اكتفى بذلك عن الضمير الرابط بين الشرط والجزاء ولقد حازت الآية الكريمة من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه مالا مزيد عليه حيث أوثرت صيغة الخبر الدالة على التحقيق أو برزت في صورة الجملة الاسمية الدالة على الثبات والاستمرار على وجه يفيد أنه حق واجب لله سبحانه في ذمم الناس لا انفكاك لهم عن أدائه والخروج عن عهدته وسلك بهم مسلك التعميم ثم التخصيص والإبهام ثم التبيين والإجمال ثم التفصيل لما في ذلك من مزيد تحقيق وتقرير وعبر عن تركه بالكفر الذي لا قبيح وراءه وجعل جزاءه استغناءه تعالى المؤذن
بشدة المقت وعظم السخط لا عن تاركه فقط فإنه قد ضرب عنه صفحا إسقاطا له عن درجة الاعتبار واستهجانا بذكره بل عن جميع العالمين ممن فعل وترك ليدل على نهاية شدة الغضب هذا وقال ابن عباس والحسن وعطاء رضي الله عنهم ومن كفر أي جحد فرض الحج وزعم انه ليس بواجب وعن سعيد بن المسيب نزلت في اليهود فإنهم قالوا الحج إلى مكة غير واجب وروى انه لما نزل قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت» جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال إن الله كتب عليكم الحج فحجوا فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل قالوا لا نؤمن به ولا نصلى إليه ولا نحجه فنزل ومن كفر وعن النبي صلى الله عليه وسلم حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع إلى السماء في الثالثة وروى حجوا قبل أن يمنع البر جانبه وعن ابن مسعود حجوا هذا البيت قبل ان ينبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت وعن عمر رضي الله عنه لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا
«قل يا أهل الكتاب» هم اليهود والنصارى
62

وإنما خوطبوا بعنوان أهليه الكتاب الموجبة للإيمان به وبما يصدقه من القرآن العظيم مبالغة في تقبيح حالهم في كفرهم بها وقوله عز وجل
«لم تكفرون بآيات الله» توبيخ وإنكار لأن يكون لكفرهم بها سبب من الأسباب وتحقيق لما يوجب الاجتناب عنه بالكلية والمراد بآياته تعالى ما يعم الآيات القرآنية التي من جملتها ما تلى في شأن الحج وغيره وما في التوراة والإنجيل من شواهد نبوته عليه السلام وقوله تعالى
«والله شهيد على ما تعملون» حال من فاعل تكفرون مفيدة لتشديد التوبيخ وتأكيد الإنكار وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لتربية المهابة وتهويل الخطب وصيغة المبالغة في شهيد للتشديد في الوعيد وكلمة ما إما عبارة عن كفرهم أو هي على عمومها وهو داخل فيها دخولا أوليا والمعنى لأي سبب تكفرون بآياته عز وجل والحال أنه تعالى مبالغ في الاطلاع على جميع أعمالكم وفي مجازاتكم عليها ولا ريب في أن ذلك يسد جميع أنحاء ما تأتونه ويقطع أسبابه بالكلية
«قل يا أهل الكتاب» أمر بتوبيخهم بالإضلال إثر توبيخهم بالضلال والتكرير للمبالغة في حمله عليه السلام على تقريعهم وتوبيخهم وترك عطفه على الأمر السابق للإيذان باستقلالهم كما ان قطع فوله تعالى
«لم تصدون» عن قوله تعالى لم تكفرون للإشعار بأن كل واحد من كفرهم وصدهم شناعة على حيالها مستقلة في استتباع اللأئمة والتقريع وتكرير الخطاب بعنوان أهلية الكتاب لتأكيد الاستقلال وتشديد التشنيع فإن ذلك العنوان كما يستدعى الإيمان بما هو مصدق لما معهم يستدعى ترغيب الناس فيه فصدهم عنه في أقصى مراتب القباحة ولكون صدهم في بعض الصور بتحريف الكتاب والكفر بالآيات الدالة على نبوته عليه السلام وقرئ تصدون من أصده
«عن سبيل الله» أي دينه الحق الموصل إلى السعادة الأبدية وهو التوحيد وملة الإسلام
«من آمن» مفعول لتصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به كانوا يفتنون المؤمنين ويحتالون لصدهم عنه ويمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ويقولون إن صفته عليه السلام ليست في كتابهم ولا تقدمت البشارة به عندهم وقيل أتت اليهود الأوس والخزرج فذكروهم ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا إلى ما كانوا فيه
«تبغونها» على إسقاط الجار وإيصال الفعل إلى الضمير كما في قوله
* فتولى غلامهم ثم نادى
* أظليما أصيدكم أم حمارا
* بمعنى أصيد لكم أي تطلبون لسبيل الله التي هي أقوم السبل
«عوجا» اعوجاجا بأن تلبسوا على الناس وتوهموا أن فيه ميلا عن الحق بنفي النسخ وتغيير صفة الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك والجملة حال من فاعل تصدون وقيل من سبيل الله
«وأنتم شهداء» حال من فاعل تصدون باعتبار تقييده بالحال الأولى أو من فاعل تبغونها أي والحال أنكم شهداء تشهدون بأنها سبيل الله لا يحوم حولها شائبة اعوجاج وأن الصد عنها إضلال قال ابن عباس رضي الله عنهما اى شهداء ان في التوراة ان دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام أو وأنتم عدول فيما بينكم يثقون بأقوالكم ويستشهدونكم في القضايا
63

وعظائم الأمور «وما الله بغافل عما تعملون» اعتراض تذييلي فيه تهديد ووعيد شديد قيل لما كان صدهم للمؤمنين بطريق الخفية ختمت الآية الكريمة بما يحسم مادة حيلتهم من إحاطة علمه تعالى بأعمالهم كما ان كفرهم بآيات الله تعالى لما كان بطريق العلانية ختمت الآية السابقة بشهادته تعالى على ما يعملون
«يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين تحذيرا لهم عن طاعة أهل الكتاب والافتتان بفتنتهم إثر توبيخهم بالإغواء والإضلال ردعا لهم عن ذلك وتعليق الرد بطاعة فريق منهم للمبالغة في التحذير عن طاعتهم وإيجاب الاجتناب عن مصاحبتهم بالكلية فإنه في قوة ان يقال لا تطيعوا فريقا الخ كما أن تعميم التوبيخ فيما قبله للمبالغة في الزجر أو للمحافظة على سبب النزول فإنه روى أن نفرا من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدثون فمر بهم شاس بن قيس اليهودي وكان عظيم الكفر شديد الحسد للمسلمين فغاظه ما رأى منهم من تألف القلوب واتحاد الكلمة واجتماع الرأي بعد ما كان بينهم من العداوة والشنآن فأمر شابا يهوديا كان معه بأن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث وكان ذلك يوما عظيما اقتتل فيه الحيان وكان الظفر فيه للأوس وينشدهم ما قيل فيه من الأشعار ففعل فتفاخر القوم وتغاضبوا حتى تواثبوا وقالوا السلاح السلاح فاجتمع من القبيلتين خلق عظيم فعند ذلك جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال
أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد ان أكرمكم الله تعالى بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم فعلموا انها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم فألقوا السلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الإمام الواحدي اصطفوا للقتال فنزلت الآية إلى قوله تعالى لعلكم تهتدون فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأهن ورفع صوته فلما سمعوا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنصتوا له وجعلوا يستمعون له فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون وقوله تعالى كافرين إما مفعول ثان ليردوكم على تضمين الرد معنى التصيير كما في قوله
* رمى الحدثان نسوة آل سعد
* بمقدار سمدن له سمودا
* فرد شعورهن السود بيضا ورد وجوههن البيض سودا
* أو حال من مفعول والأول أدخل في تنزيه المؤمنين عن نسبتهم إلى الكفر لما فيه من التصريح بكون الكفر المفروض بطريق القسر وإيراد الظرف مع عدم الحاجة إليه ضرورة سبق الخطاب بعنوان المؤمنين واستحالة تحقق الرد إلى الكفر بدون سبق الإيمان مع توسيطه بين المفعولين لإظهار كمال شناعة الكفر وغاية بعده من الوقوع إما لزيادة قبحه الصارف العاقل عن مباشرته أو لممانعة الإيمان له كأنه قيل بعد إيمانكم الراسخ وفيه من تثبيت المؤمنين مالا يخفى
64

«وكيف تكفرون» استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع كما في قوله تعالى «كيف يكون للمشركين عهد» الخ لا بمعنى إنكار الواقع كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا الخ وفي توجيه الإنكار والاستبعاد إلى كيفية الكفر من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال أتكفرون لأن كل موجود لا بد أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا أنكر ونفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده بالكلية على الطريق البرهاني وقوله تعالى
«وأنتم تتلى عليكم آيات الله» جملة وقعت حالا من ضمير المخاطبين في تكفرون مؤكدة للإنكار والاستبعاد بما فيها من الشؤون الداعية إلى الثبات على الإيمان الوازعة عن الكفر وقوله تعالى
«وفيكم رسوله» معطوف عليها داخل في حكمها فإن تلاوة آيات الله تعالى عليهم وكون رسوله عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم بتحقيق الحق وإزاحة الشبة من أقوى الزواجر عن الكفر وعدم إسناد التلاوة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للإيذان باستقلال كل منهما في الباب
«ومن يعتصم بالله» أي ومن يتمسك بدينه الحق الذي بينه بآياته على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وهو الإسلام والتوحيد المعبر عنه فيما سبق بسبيل الله
«فقد هدي» جواب للشرط وقد لإفادة معنى التحقيق كأن الهدى قد حصل فهو يخبر عنه حاصلا ومعنى التوقع فيه ظاهر فإن المعتصم به تعالى متوقع للهدى كما ان قاصد الكريم متوقع للندى
«إلى صراط مستقيم» موصل إلى المطلوب والتنوين للتفخيم والوصف بالاستقامة للتصريح بالرد على الذين يبغون له عوجا وهذا وإن كان هو دينه الحق في الحقيقة والاهتداء إليه هو الاعتصام به بعينه لكن لما اختلف الاعتباران وكان العنوان الأخير مما يتنافس فيه المتنافسون ابرز في معرض الجواب للحث والترغيب على طريقة قوله تعالى «فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز»
«يا أيها الذين آمنوا» تكرير الخطاب بعنوان الإيمان تشريف إثر تشريف
«اتقوا الله» الاتقاء افتعال من الوقاية وهي فرط الصيانة
«حق تقاته» أي حق تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالموجب والاجتناب عن المحارم كما في قوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم وعن ابن مسعود رضي الله عنه هو ان يطاع ولا يعصى ويذكر ولا ينسى ويشكر ولا يكفر وقد روى مرفوعا إليه عليه السلام وقيل هو ان لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه وقيل هو أن ينزه الطاعة عن الالتفات إليها وعن توقع المجازاة وقد مر تحقيق الحق في ذلك عند قوله عز وجل «هدى للمتقين» والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد وأصلها وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما في تهمة وتخمة وياؤها المفتوحة ألفا
«ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون» أي مخلصون نفوسكم
65

لله تعالى لا تجعلون فيها شركة لما سواه أصلا كما في قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا تموتن على حال من الأحوال الا حال تحقق إسلامكم وثباتكم عليه كما ينبئ عنه الجملة الاسمية ولو قيل إلا مسلمين لم يفد فائدتها والعامل في الحال ما قبل إلا بعد النقض وظاهر النظم الكريم وإن كان نهيا عن الموت المقيد بقيد هو الكون على أي حال من غير حال الإسلام لكن المقصود هو النهى عن ذلك القيد عند الموت المستلزم للأمر بضده الذي هو الكون على حال الإسلام حينئذ وحيث كان الخطاب للمؤمنين كان المراد إيجاب الثبات على الإسلام إلى الموت وتوجيهه النهى إلى الموت للمبالغة في النهى عن قيده المذكور فإنه النهى عن المقيد في أمثاله نهى عن القيد ورفع له من أصله بالكلية مفيد لما لا يفيده النهى عن نفس القيد فإن قولك لا تصل إلا وأنت خاشع يفيد من المبالغة في إيجاب الخشوع في الصلاة مالا يفيده قولك لا تترك الخشوع في الصلاة لما أن هذا نهى عن ترك الخشوع فقط وذاك نهى عنه وعما يقارنه ومفيد لكون الخشوع هو العمدة في الصلاة وأن الصلاة بدونه حقها أن لا تفعل وفيه نوع تحذير عما وراء الموت وقوله عز وجل
«واعتصموا بحبل الله» أي بدين الإسلام أو بكتابه لقوله عليه الصلاة والسلام القرآن حبل الله المتين لا تنقضى عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم إما تمثيل للحالة الحاصلة من استظهارهم به ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلى من مكان رفيع بحبل
وثيق مأمون الانقطاع من غير اعتبار مجاز في المفردات وإما استعارة للحبل لما ذكر من الدين أو الكتاب والاعتصام ترشيح لها أو مستعار للوثوق به والاعتماد عليه
«جميعا» حال من فاعل اعتصموا أي مجتمعين في الاعتصام
«ولا تفرقوا» أي لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا أو لا تحدثوا ما يوجب التفريق ويزيل الألفة التي أنتم عليها
«واذكروا نعمة الله» مصدر مضاف إلى الفاعل وقوله تعالى
«عليكم» متعلق به أو بمحذوف وقع حالا منه وقوله تعالى
«إذ كنتم» ظرف له أو للاستقرار في عليكم أي اذكروا إنعامه عليكم أو اذكروا إنعامه مستقرا عليكم وقت كونكم
«أعداء» في الجاهلية بينكم إلا من والعداوات والحروب المتواصلة وقيل هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بين أولادهما العداوة والبغضاء وتطاولت الحروب فيما بينهم مائة وعشرين سنة
«فألف بين قلوبكم» بتوفيقكم للإسلام
«فأصبحتم» أي فصرتم
«بنعمته» التي هي ذلك التأليف
«إخوانا» خبر أصبحتم أي إخوانا متحابين مجتمعين على الأخوة في الله متراحمين متناصحين متفقين على كلمة الحق وقيل معنى فأصبحتم فدخلتم في الصباح فالباء حينئذ متعلقة بمحذوف وقع حالا من الفاعل وكذا إخوانا أي فأصبحتم
66

ملتبسين حال كونكم إخوانا
«وكنتم على شفا حفرة من النار» شفا الحفرة وشفتها حرفها أي كنتم مشرفين على الوقوع في نار جهنم لكفرهم إذ لم أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتهم فيها
«فأنقذكم» بأن هداكم للإسلام
«منها» الضمير للحفرة أو للنار أو للشفا والتأنيث للمضاف إليه كما في قوله
* كما شرقت صدر القناة من الدم
* أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها جانبها كالجانب وأصله شفو قلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث
«كذلك» إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معني البعد بعلو درجة المشار اليه وبعد منزلته في الفضل وكمال تميزه به عما عداه وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة والكاف مقحمة لتأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة ومحلها النصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي مثل ذلك التبيين الواضح
«يبين الله لكم آياته» أي دلائله
«لعلكم تهتدون» طلبا لثباتكم على الهدى وازديادكم فيه
«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير» أمرهم الله سبحانه بتكميل الغير وإرشاده إثر أمرهم بتكميل النفس وتهذيبها بما قبله من الأوامر والنواهي تثبيتا للكل على مراعاة ما فيها من الأحكام بان يقوم بعضهم بمواجبها ويحافظ على حقوقها وحدودها ويذكرها الناس كافة ويردعهم عن الإخلال بها والجمهور على إسكان لام الأمر وقرئ بكسرها على الأصل وهو من كان التامة ومن تبعيضية متعلقة بالأمر أو بمحذوف وقع حالا من الفاعل وهو أمة ويدعون صفتها اى لتوجد منكم أمة داعية إلى الخير والأمة هي الجماعة التي يؤمها فرق الناس اى يقصدنها ويقتدون بها أو من الناقصة وأمة اسمها ويدعون خبرها أي لتكن منكم أمة داعين إلى الخير وأيا ما كان فتوجيه الخطاب إلى الكل مع إسناد الدعوة إلى البعض لتحقيق معنى فرضيتها على الكفاية وانها واجبة على الكل لكن بحيث إن أقامها البعض سقطت عن الباقين ولو أخل بها الكل أثموا جميعا لا بحيث يتحتم على الكل إقامتها على ما ينبئ عنه قوله عز وجل وما كان المؤمنون لينفروا كافة الآية ولأنها من عظائم الأمور وعزائمها التي لا يتولاها إلا العلماء باحكامه تعالى ومراتب الاحتساب وكيفية إقامتها فإن من لا يعلمها يوشك أن يأمر بمنكر وينهى عن معروف ويغلظ في مقام اللين ويلين في مقام الغلظة وينكر على من لا يزيده الإنكار إلا التمادي والإصرار وقيل من بيانية كما في قوله تعالى «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم» الآية والأمر من كان الناقصة والمعنى كونوا أمة يدعون الآية كقوله تعالى «كنتم خير أمة أخرجت للناس» الآية ولا يقتضى ذلك كون الدعوة فرض عين فإن الجهاد من فروض الكفاية مع ثبوته بالخطابات العامة والدعاء إلى الخير عبارة عن الدعاء إلى ما فيه صلاح ديني أو دنيوي فعطف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عليه بقوله تعالى
«ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» مع اندراجهما فيه من باب عطف الخاص على العام لإظهار فضلهما وإنافتهما على سائر الخيرات كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام وحذف المفعول الصريح من الأفعال الثلاثة إما للإيذان بظهوره أي يدعون الناس ويأمرونهم وينهونهم
67

وإما للقصد إلى إيجاد نفس الفعل كما في قولك فلان يعطى ويمنع أي يفعلون الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
«وأولئك» إشارة إلى الأمة المذكورة باعتبار اتصافهم بما ذكر من النعوت الفاضلة وكمال تميزهم بذلك عمن عداهم وانتظامهم بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضل والإفراد في كاف الخطاب اما لأن المخاطب كل من يصلح للخطاب وأما لأن التعيين غير مقصود أي أولئك
الموصوفون بتلك الصفات الكاملة
«هم المفلحون» أي هم الأخصاء بكمال الفلاح وهم ضمير فصل يفصل بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه أو مبتدأ خبره المفلحون والجملة خبر لأولئك وتعريف المفلحون إما للعهد أو للإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن خير الناس فقال آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم الله وأوصلهم للرحم وعنه عليه السلام من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه وعنه عليه السلام والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله ان يبعث عليكم عذابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجاب لكم وعن على رضي الله عنه أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له والأمر بالمعروف في الوجوب والندب تابع للمأمور به وأما النهى عن المنكر فواجب كله فإن جميع ما أنكره الشرع حرام والعاصي يجب عليه النهى عما أرتكبه إذ يجب عليه تركه وإنكاره فلا يسقط بترك أحدهما وجوب شئ منهما والتوبيخ في قوله تعالى أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم إنما هو على نسيان أنفسهم لا على أمرهم بالبر وعن السلف مروا بالخير وإن لم تفعلوا
«ولا تكونوا كالذين تفرقوا» هم أهل الكتابين حيث تفرقت اليهود فرقا والنصارى فرقا
«واختلفوا» باستخراج التأويلات الزائغة وكتم الآيات الناطقة وتحريفها بما أخلدوا إليه من حطام الدنيا الدنيئة
«من بعد ما جاءهم البينات» أي الآيات الواضحة المبينة للحق الموجبة للاتفاق عليه واتحاد الكلمة فالنهي متوجه إلى المتصدين للدعوة أصالة وإلى أعقابهم تبعا ويجوز تعميم الموصول للمختلفين من الأمم السالفة المشار إليهم بقوله عز وجل «وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات» وقيل هم المبتدعة من هذه الأمة وقيل هم الحرورية وعلى كل تقدير فالمنهى عنه انما هو الاختلاف في الأصول دون الفروع الا ان يكون مخالفا للنصوص البينة أو الاجماع لقوله عليه الصلاة والسلام اختلاف أمتي رحمه وقوله عليه السلام من اجتهد فأصاب فله اجران ومن أخطأ فله اجر واحد وأولئك اشاره إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بما في حيز الصلة وهو مبتدأ وقوله تعالى
«لهم» خبره وقوله تعالى
«عذاب عظيم» مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول وفيه من التأكيد والمبالغة في وعيد المتفرقين والتشديد في تهديد المشبهين بهم مالا يخفى
68

(يوم تبيض وجوه» أي وجوه كثيرة تبياض
«وتسود وجوه» كثيرة وقرئ تسواد وعن عطاء تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بنى قريظة والنضير ويوم منصوب على أنه ظرف للاستقرار في لهم أي لثبوت العذاب العظيم لهم أو على انه مفعول لمضمر خوطب به المؤمنون تحذيرا لهم عن عاقبة التفريق بعد مجئ البينات وترغيبا في الاتفاق على التمسك بالدين أي اذكروا يوم تبيض الخ وبياض الوجه وسواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجه والصحيفة وإشراق البشرة وسعى النور بين يديه وبيمينه وأهل الباطل بأضداد ذلك
«فأما الذين اسودت وجوههم» تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإشارة إليها إجمالا وتقديم بيان هؤلاء لما أن المقام مقام التحذير عن التشبه بهم مع ما فيه من الجمع بين الإجمال والتفصيل والإفضاء إلى ختم الكلام بحسن حال المؤمنين كما بدئ بذلك عند الإجمال
«أكفرتم بعد إيمانكم» على إرادة القول أي فيقال لهم ذلك والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم والظاهر أنهم أهل الكتابين وكفرهم بعد إيمانهم كفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إيمان أسلافهم أو إيمان أنفسهم به قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام أو جميع الكفرة حيث كفروا بعد ما أقروا بالتوحيد يوم الميثاق أو بعد ما تمكنوا من الايمان بالنظر الصحيح والدلائل الواضحة والآيات البنية وقيل المرتدون وقيل أهل البدع والأهواء والفاء في قوله عز وعلا
«فذوقوا العذاب» أي العذاب المعهود الموصوف بالعظم الدلالة على ان الأمر بذوق العذاب على طريق الإهانة مترتب على كفرهم المذكور كما ان قوله تعالى
«بما كنتم تكفرون» صريح في أن نفس الذوق معلل بذلك والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار كفرهم أو على مضيه في الدنيا
«وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله» أعنى الجنة والنعيم المخلد عبر عنها بالرحمة تنبيها على أن المؤمن وإن استغرق عمره في طاعة الله تعالى فإنه لا يدخل الجنة إلا برحمته تعالى وقرئ ابياضت كما قرئ اسوادت
«هم فيها خالدون» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من السياق كأنه قيل كيف يكونون فيها فقيل هم فيها خالدون لا يظعنون عنها ولا يموتون وتقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي
«تلك» إشارة إلى الآيات المشتملة على تنعيم الأبرار وتعذيب الكفار ومعنى البعد للإيذان بعلو شأنها وسمو مكانها في الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى
«آيات الله» خبرة وقوله تعالى
«نتلوها» جملة حالية من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة أو هي الخبر وآيات الله بدل من اسم الإشارة والالتفات إلى التكلم
69

بنون العظمة مع كون التلاوة على لسان جبريل عليه السلام لإبراز كمال العناية بالتلاوة وقرئ يتلوها على إسناد الفعل إلى ضميره تعالى وقوله تعالى
«عليك» متعلق بنتلوها وقوله تعالى
«بالحق» حال مؤكدة من فاعل نتلوها أو من مفعوله أي ملتبسين أو ملتبسة بالحق والعدل ليس في حكمها شائبة جور بنقص ثواب المحسن أو بزيادة عقاب المسئ أو بالعقاب من غير جرم بل كل ذلك موفى لهم حسب استحقاقهم بأعمالهم بموجب الوعد والوعيد وقوله تعالى
«وما الله يريد ظلما للعالمين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله على أبلغ وجه وآكده فإن تنكير الظلم وتوجيه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع دون نفسه وتعليق الحكم بآحاد الجمع المعرف والالتفات إلى الاسم الجليل إشعارا بعلة الحكم بيان لكمال نزاهته عز وجل عن الظلم بما لا مزيد عليه أي ما يريد فردا من افراد الظلم لفرد من أفراد العالمين في وقت من الأوقات فضلا عن أن يظلمهم فإن المضارع كما يفيد الاستمرار في الإثبات يفيده في النفي بحسب المقام كما أن الجملة الاسمية تدل بمعونة المقام على دوام الثبوت وعند دخول حرف النفي تدل على دوام الانتفاء لا على انتفاء الدوام وفي سبك الجملة نوع إيماء إلى التعريض بأن الكفرة هم الظالمون ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد كما في قوله تعالى «إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون»
«ولله ما في السماوات وما في الأرض» أي له تعالى وحده من غير شركة أصلا ما فيهما من المخلوقات الفائتة للحصر ملكا وخلقا إحياء وإماتة وإثابة وتعذيبا وإيراد كلمة ما أما لتغليب غير العقلاء على العقلاء وإما لتنزيلهم منزلة غيرهم إظهارا لحقارتهم في مقام بيان عظمته تعالى
«وإلى الله» أي إلى حكمه وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالا
«ترجع الأمور» أي أمورهم فيجازى كلا منهم بما وعد له وأوعده من غير دخل في ذلك لأحد قط فالجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين وقيل هي معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه فإن كون العالمين عبيده تعالى ومخلوقه ومرزوقه يستدعى إرادة الخير بهم
«كنتم خير أمة» كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير وكنتم من كان الناقصة التي تدل على تحقق شئ بصفة في الزمان الماضي من غير دلالة على عدم سابق أو لاحق كما في قوله تعالى «وكان الله غفورا رحيما» وقيل كنتم كذلك في علم الله أو في اللوح أو فيما بين الأمم السالفة وقيل معناه أنتم خير أمة
«أخرجت للناس» صفة لأمة واللام متعلقة بأخرجت أي أظهرت لهم وقيل بخير أمة أي كنتم خير الناس فهو صريح في أن الخيرية بمعنى النفع للناس وإن فهم ذلك من الإخراج لهم أيضا أي أخرجت لأجلهم ومصلحتهم قال أبو هريرة رضي الله عنه معناه كنتم خير الناس تأتون بهم في السلاسل فتدخلونهم في الإسلام وقال قتادة هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر نبي
70

قبله بالقتال فهم يقاتلون الكفار فيدخلونهم في الإسلام فهم خير أمة للناس
«تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر» استئناف مبين لكونم خير أمة كما يقال زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم أو خبر ثان لكنتم وصيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار وخطاب المشافهة وإن كان خاصا بمن شاهد الوحي من المؤمنين لكن حكمة عام للكل قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقال الزجاج أصل هذا الخطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعم سائر أمته وروى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى «كنتم خير أمة أخرجت للناس» أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى وظاهر أن المراد بكل أمة أوائلهم وأواخرهم لا أوائلهم فقط فلا بد ان تكون أعقاب هذه الأمة أيضا داخلة في الحكم وكذا الحال فيما روى ان مالك بن الصيف ووهب ابن يهوذا اليهوديين مرا بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة رضوان الله عليهم فقالا لهم نحن أفضل منكم وديننا خير مما تدعوننا إليه وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما كنتم خير أمة الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وروى عن الضحاك أنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة الرواة والدعاة الذين امر الله المسلمين بطاعتهم
«وتؤمنون بالله» أي إيمانا متعلقا بكل ما يجب أن يؤمن به من رسول وكتاب وحساب وجزاء وإنما لم يصرح به تفصيلا لظهور أنه الذي يؤمن به المؤمنون وللإيذان بأنه هو الإيمان بالله تعالى حقيقة وأن ما خلا عن شئ من ذلك كإيمان أهل الكتاب ليس من الإيمان به تعالى في شئ قال تعالى «ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا» وإنما أخر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع تقدمه عليهما وجودا ورتبة لأن دلالتهما على خيريتهم للناس أظهر من دلالته عليها وليقترن به قوله تعالى
«ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم» أي لو آمنوا كإيمانكم لكان ذلك خيرا لهم مما هم عليه من الرياسة واستتباع العوام ولازدادت رياستهم وتمتعهم بالحظوظ الدنيوية مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرتين وقيل مما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم وفيه ضرب تهكم بهم وإنما لم يتعرض للمؤمن به أصلا للإشعار بظهور أنه الذي يطلق عليه اسم الإيمان لا يذهب الوهم إلى غيره ولو فصل المؤمن به ههنا أو فيما قبل لربما فهم أن لأهل الكتاب أيضا إيمانا في الجملة لكن إيمان المؤمنين خير منه وهيهات ذلك
«منهم المؤمنون» جملة مستأنفة سيقت جوابا عما نشأ من الشرطية الدالة على انتفاء الخيرية لانتفاء الإيمان عنهم كأنه قيل هل منهم من آمن أو كلهم على الكفر فقيل منهم المؤمنون المعهودون الفائزون بخير الدارين كعبد الله بن سلام وأصحابه
«وأكثرهم الفاسقون» المتمردون في الكفر الخارجون عن الحدود
«لن يضروكم إلا أذى» استثناء مفرغ من المصدر العام أي لن يضروكم أبدا ضررا ما الا ضرر أذى لا يبالي به من طعن وتهديد لا أثر له
«وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار» أي ينهزمون من غير أن ينالوا منكم شيئا من قتل أو أسر
«ثم لا ينصرون» عطف
71

على الشرطية وثم للتراخي في الرتبة أي لا ينصرون من جهة أحد ولا يمنعون منكم قتلا وأخذا وفيه تثبيت لمن آمن منهم فإنهم كانوا يؤذونهم بالتلهي بهم وتوبيخهم وتضليلهم وتهديدهم وبشارة لهم بأنهم لا يقدرون على أن يتجاوزوا الأذى بالقول إلى ضرر يعبأ به مع أنه وعدهم الغلبة عليهم والانتقام منهم وأن عاقبة أمرهم الخذلان والذل وانما لم يعطف نفي منصوريتهم على الجزاء لأن المقصود هو الوعد بنفي النصر مطلقا ولو عطف عليه لكان مقيدا بمقاتلتهم كتولية الأدبار وكم بين الوعدين كأنه قيل ثم شأنهم الذي أخبركم عنه وأبشركم به أنهم مخذولون منتف عنهم النصر والقوة لا ينهضون بعد ذلك بجناح ولا يقومون على ساق ولا يستقيم لهم أمر وكان كذلك حيث لقى بنو قريظة والنضير وبنو قينقاع ويهود خيبر ما لقوا
«ضربت عليهم الذلة» أي هدر النفس والمال والأهل أو ذل التمسك بالباطل
«أينما ثقفوا» أي وجدوا
«إلا بحبل من الله وحبل من الناس» استثناء من أعم الأحوال أي ضربت عليهم الذلة ضرب القبة على من هي عليه في جميع الأحوال الا حال كونهم معتصمين بذمة الله أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين أو بذمة الاسلام واتباع سبيل المؤمنين
«وباؤوا بغضب من الله» أي رجعوا مستوجبين له والتنكير للتفخيم والتهويل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لغضب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والهول أي كائن من الله عز وجل
«وضربت عليهم المسكنة» فهي محيطة بهم من جميع جوانبهم واليهود كذلك في غالب الحال مساكين تحت أيدي المسلمين والنصارى
«ذلك» إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم والبوء بالغضب العظيم
«بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله» أي ذلك الذي ذكر كائن بسبب كفرهم المستمر بآيات الله الناطقة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتحريفهم لها وبسائر الآيات القرآنية
«ويقتلون الأنبياء بغير حق» أي في اعتقادهم أيضا واسناد القتل مع أنه فعل اسلافهم لرضاهم به كما أن التحريف مع كونه من افعال أحبارهم ينسب إلى كل من يسير بسيرتهم
«ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الكفر والقتل
«بما عصوا وكانوا يعتدون» أي كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى على الاستمرار فإن الاصرار على الصغائر يفضي إلى مباشرة الكبائر والاستمرار عليها يؤدي إلى الكفر وقيل معناه أن ضرب الذلة والمسكنة في الدنيا واستيجاب الغضب في الآخرة كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو مسبب عن عصيانهم واعتدائهم من حيث أنهم مخاطبون بالفروع من حيث المؤاخذة
«ليسوا سواء» جملة مستأنفة سيقت تمهيدا لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب وتذكيرا لقوله تعالى «منهم المؤمنون» والضمير في ليسوا لأهل الكتاب جميعا لا للفاسقين منهم خاصة وهو اسم ليس وخبره سواء وانما أفرد لأنه في الأصل مصدر
72

والمراد بنفي المساواة نفى المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح المذكورة لا نفى المساواة في مراتب الاتصاف بها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف بها أي ليس جميع أهل الكتاب متشاركين في الاتصاف بما ذكر من القبائح والابتلاء بما يترتب عليها من العقوبات وقوله تعالى
«من أهل الكتاب أمة قائمة» استئناف مبين لكيفية عدم تساويهم ومزيل لما فيه من الإبهام كما ان ما سبق من قوله تعالى «تأمرون بالمعروف» الآية مبين لقوله تعالى «كنتم خير أمة» الخ ووضع أهل الكتاب موضع الضمير العائد إليهم لتحقيق ما به الاشتراك بين الفريقين والإيذان بان تلك الأمة ممن أوتى نصيبا وافرا من الكتاب لا من أرذالهم والقائمة المستقيمة العادلة من أقمت العود فقام بمعنى استقام وهم الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن عبيد وأضرابهم وقيل هم أربعون رجلا من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثلاثة من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا محمدا عليهما الصلاة والسلام وكان من الأنصار فيهم عدة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم منهم أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وأبو قيس صرمة ابن أنس كانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقومون بما يعرفون من شرائع الحنيفية حتى بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه وقوله تعالى
«يتلون آيات الله» في محل الرفع على أنه صفة أخرى لأمة وقيل في محل النصب على انه حال منها لتخصصها بالنعت والعامل فيه الاستقرار الذي يتضمنه الجار أو من ضميرها في قائمة أو من المستكن في الجار لوقوعه خبرا لأمة والمراد بآيات الله القرآن وقوله تعالى
«آناء الليل» ظرف ليتلون أي في ساعاته جمع أنى بزنة عصا أو أنى بزنة معي أو أنى بزنة ظبي أو أنى بزنة نحى أو أنو بزنة جرو
«وهم يسجدون» أي يصلون إذ لا تلاوة في السجود قال صلى الله عليه وسلم ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا وتخصيص السجود بالذكر من بين سائر أركان الصلاة لكونه أدل على كمال الخضوع والتصريح بتلاوتهم آيات الله في الصلاة مع انها مشتملة عليها قطعا لزيادة تحقيق المخالفة وتوضيح عدم المساواة بينهم وبين الذين وصفوا آنفا بالكفر بها وهو السر في تقديم هذا النعت على نعت الإيمان والمراد بصلاتهم التهجد إذا هو ادخل في مدحهم وفيه يتسنى لهم التلاوة فإنها في المكتوبة وظيفة الإمام واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلاة المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة وقيل
صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخرها ليلة ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال إما أنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم وقرأ هذه الآية وإيراد الجملة اسمية للدلالة على الاستمرار وتكرير الإسناد لتقوية الحكم وتأكيده وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والجملة حال من فاعل يتولون وقيل هي مستأنفة والمعنى أنهم يقومون تارة ويسجدون أخرى يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله عز وجل كما في قوله تعالى والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما وقيل المراد بالسجود هو الخضوع كما في قوله تعالى «ولله يسجد من في السماوات والأرض»
73

«يؤمنون بالله واليوم الآخر» صفة أخرى لأمة مبينة لمباينتهم اليهود من جهة أخرى أي يؤمنون بها على الوجه الذي نطق به الشرع والإطلاق للإيذان بالغنى عن التقييد لظهور أنه الذي يطلق عليه الإيمان بهما لا يذهب الوهم إلى غيره وللتعريض بان إيمان اليهود بهما مع قولهم عزير ابن الله وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف صفته ليس من الإيمان بهما في شئ أصلا ولو قيد بما ذكر لربما توهم أن المنتفى عنهم هو القيد المذكور مع جواز إطلاق الإيمان على إيمانهم بالأصل وهيهات
«ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» صفتان أخريان لأمة أجريتا عليهم تحقيقا لمخالفتهم اليهود في الفضائل المتعلقة بتكميل الغير إثر بيان مباينتهم لهم في الخصائص المتعلقة بتكميل النفس وتعريضا بمداهنتهم في الاحتساب بل بتعكيسهم في الأمر بإضلال الناس وصدهم عن سبيل الله فإنه أمر بالمنكر ونهى عن بالمعروف
«ويسارعون في الخيرات» صفة أخرى لأمة جامعة لفنون المحاسن المتعلقة بالنفس وبالغير والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع في توليته والقيام به وآثر الفور على التراخي اى يبادرون مع كمال الرغبة في فعل أصناف الخيرات اللازمة والمتعدية وفيه تعريض بتباطؤ اليهود فيها بل بمبادتهم إلى الشرور وإيثار كلمة في على ما وقع في قوله تعالى «وسارعوا إلى مغفرة» الخ للإيذان بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه المترتبة في طبقات الفضل لا أنهم خارجون عنها منتهون إليها
«وأولئك» إشارة إلى الأمة باعتبار اتصافهم بما فصل من النعوت الجليلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم في الفضل وإيثاره على الضمير للإشعار بعلة الحكم والمدح أي أولئك المنعوتون بتلك الصفات الفاضلة بسبب اتصافهم بها
«من الصالحين» أي من جملة من صلحت أحوالهم عند الله عز وجل واستحقوا رضاه وثناءه
«وما يفعلوا من خير» كائنا ما كان مما ذكر أو لم يذكر
«فلن يكفروه» أي لن يعدموا ثوابه البتة عبر عنه بذلك كما عبر عن توفية الثواب بالشكر اظهارا لكمال تنزهه سبحانه وتعالى عن ترك إثابتهم بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وتعديته إلى مفعولين بتضمين معنى الحرمان وايثار صيغة البناء للمفعول للجرى على سنن الكبرياء وقرئ الفعلان على صيغة الخطاب
«والله عليم بالمتقين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن علمه تعالى بأحوالهم يستدعي توفية أجورهم لا محالة والمراد بالمتقين اما الأمة المعهودة وضع موضع الضمير العائد إليهم مدحا لهم وتعيينا لعنوان تعلق العلم بهم واشعارا بمناط إثابتهم وهو التقوى المنطوي على الخصائص السالفة واما جنس المتقين عموما وهم مندرجون تحت حكمه اندارجا أوليا
74

«إن الذين كفروا» أي بما يجب أن يؤمن به قال ابن عباس رضي الله عنهما هم بنو قريظة والنضير فإن معاندتهم كانت لأجل المال وقيل هم مشركو قريش فإن ابا جهل كان كثير الافتخار بماله وقيل أبو سفيان وأصحابه فإنه انفق مالا كثيرا على الكفار يوم بدر واحد وقيل هم الكفار كافة فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين فرد الله عز وجل عليهم وقال
«لن تغني عنهم» أي لن تدفع عنهم
«أموالهم ولا أولادهم من الله» أي من عذابه تعالى
«شيئا» أي شيئا يسيرا منه أو شيئا من الإغناء
«وأولئك أصحاب النار» أي مصاحبوها على الدوام وملازموها
«هم فيها خالدون» أبدا
«مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا» بيان لكيفية عدم إغناء أموالهم التي كانوا يعولون عليها في جلب المنافع ودفع المضار ويعلقون بها أطماعهم الفارغة وما موصولة اسمية حذف عائدها أي حال ما ينفقه الكفرة قربة أو مفاخرة وسمعة أو المنافقون رياء وخوفا وقصته العجيبة التي مجرى المثل في الغرابة
«كمثل ريح فيها صر» أي برد شديد فإنه في الأصل مصدر وإن شاع إطلاقه على الريح الباردة كالصر صر وقيل كلمة في تجريدية كما في قوله تعالى «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة»
«أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم» بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله وإنما وصفوا بذلك لأن الإهلاك عن سخط أشد وأفظع
«فأهلكته» عقوبة لهم ولم تدع منه أثرا ولا عثيرا والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه وذهابه بالكلية من غير أن يعود إليهم نفع ما بحرث كفار ضربته صر فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما بوجه من الوجوه وهو من التشبيه المركب الذي مر تفصيله في تفسير قوله تعالى «كمثل الذي استوقد نارا» ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث وقرئ تنفقون
«وما ظلمهم الله» بما بين من ضياع ما أنفقوا من الأموال
«ولكن أنفسهم يظلمون» لما أنهم أضاعوها بإنفاقها لا على ما ينبغي وتقديم المفعول لرعاية الفواصل لا للتخصيص إذ الكلام في الفعل باعتبار تعلقه بالفاعل لا بالمفعول أي ما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقد جوز ان يكون المعنى وما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة ويأباه أنه قد مر التعرض له تصريحا وإشعارا وقرئ ولكن بالتشديد على أن أنفسهم اسمها ويظلمون خبرها والعائد محذوف للفاصلة أي ولكن أنفسهم يظلمونها وأما تقدير ضمير الشأن فلا سبيل إليه لاختصاصه بالشعر ضرورة كما في قوله
* ولكن من يبصر جفونك يعشق
*
75

«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة» بطانة الرجل ووليجته من يعرفه أسراره ثقة به شبه ببطانة الثوب كما شبه بالشعار قال صلى الله عليه وسلم الأنصار شعار والناس دثار قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رجال من المؤمنين يواصلون اليهود لما بينهم من القرابة والصداقة والحلف فأنزل الله تعالى هذه الآسية وقال مجاهد نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يواصلون المنافقين فنهوا عن ذلك ويؤيده قوله تعالى «وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ» وهي صفة المنافق وأيا ما كان فالحكم عام للكفرة كافة
«من دونكم» أي من دون المسلمين وهو متعلق بلا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة أي كائنة من دونكم مجاوزة لكم
«لا يألونكم خبالا» جملة مستأنفة مبينة لحالهم داعية إلى الاجتناب عنهم أو صفة بطانة يقال الا في الأمر إذا قصر فيه ثم استعمل معدي إلى المفعولين في قولهم لا آلوك نصحا ولا آلوك جهدا على تضمين معنى المنع والنقص والخبال الفساد أي لا يقصرون لكم في الفساد
«ودوا ما عنتم» أي تمنوا عنتكم أي مشقتكم وشدة ضرركم وهو أيضا استئناف مؤكد للنهي موجب لزيادة الاجتناب عن المنهي عنه
«قد بدت البغضاء من أفواههم» استئناف آخر مفيد لمزيد الاجتناب عن المنهي عنه أي قد ظهرت البغضاء في كلامهم لما أنهم لا يتمالكون مع مبالغتهم في ضبط أنفسهم وتحاملهم عليها أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين وقرئ قد بدا البغضاء والأفواه جمع فم وأصله فوه فلامه هاء يدل على ذلك جمعه على أفواه وتصغيره على فويه والنسبة اليه فوهي
«وما تخفي صدورهم أكبر» مما بدا لأن بدوه ليس عن روية واختيار
«قد بينا لكم الآيات» الدالة على وجوب الاخلاص في الدين وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين
«إن كنتم تعقلون» أي ان كنتم من أهل العقل أو إن كنتم تعقلون ما بين لكم من الآيات والجواب محذوف لدلالة المذكور عليه
«ها أنتم أولاء» جملة من مبتدأ وخبر صدرت بحرف التنبيه اظهارا لكمال العناية بمضمونها أي أنتم أولاء المخطئون في موالاتهم وقوله تعالى
«تحبونهم ولا يحبونكم» بيان لخطئهم في ذلك وهو خبر ثان لأنتم أو خبر لأولاء والجملة خبر لأنتم كقولك أنت زيد تحبه أو صلة له أو حال والعامل معنى الإشارة ويجوز أن ينتصب أولاء بفعل يفسره ما بعده وتكون الجملة خبرا
«وتؤمنون بالكتاب كله» أي بجنس الكتب جميعا وهو حال من ضمير المفعول في لا يحبونكم والمعنى لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم وفيه توبيخ بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم
«وإذا لقوكم قالوا آمنا» نفاقا
«وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ» أي من أجله تأسفا وتحسرا حيث لم يجدوا إلى التشفي سبيلا
«قل موتوا بغيظكم» دعاء عليهم بدوام الغيظ
76

وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله إلى أن يهلكوا به أو باشتداده إلى ان يهلكهم
«إن الله عليم بذات الصدور» فيعلم ما في صدوركم من العداوة والبغضاء والحنق وهو يحتمل أن يكون من المقول أي وقل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا وأن يكون خارجا عنه بمعنى لا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بذات الصدور وقيل هو أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله تعالى أن يهلكوا غيظا بإعزاز الإسلام وإذلالهم به من غير أن يكون ثمة قول كأنه قيل حدث نفسك بذلك
«إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها» بيان لتناهي عداوتهم إلى حد حسد وأمانا لهم من خير ومنفعة وشمتوا بما أصابهم من ضر وشدة وذكر المس مع الحسنة والإصابة مع السيئة إما للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة وإما لأن المس مستعار لمعنى الإصابة
«وإن تصبروا» أي على عداتهم أو على مشاق التكاليف
«وتتقوا» ما حرم الله تعالى عليكم ونهاكم عنه
«لا يضركم كيدهم» مكرهم وحيلتهم التي دبروها لأجلكم وقرئ لا يضركم بكسر الضاد وجزم الراء على جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره وضمه الراء في القراءة المشهورة للاتباع كضمة مد
«شيئا» نصب على المصدرية أي لا يضركم شيئا من الضرر بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين ولأن المجد في الأمر المتدرب بالاتقاء والصبر يكون جريئا على الخصم
«إن الله بما يعملون» في عداوتكم من الكيد
«محيط» علما فيعاقبهم على ذلك وقرئ بالتاء الفوقانية أي بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله
«وإذ غدوت» كلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة من مضرة كيد الأعداء وإذ نصب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة مع عموم الخطاب فيما قبله وما بعده له وللمؤمنين لاختصاص مضمون الكلام به عليه السلام أي واذكر لهم وقت غدوك ليتذكروا ما وقع فيه من الأحوال الناشئة عن عدم الصبر فيعلمون أنهم إن لزموا الصبر والتقوى لا يضرهم كيد الكفرة وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها واستحضار الحادثة بتفاصيلها كما سلف بيانه في تفسير قوله تعالى «وإذ قال ربك للملائكة» الخ والمراد به خروجه عليه السلام إلى أحد وكان ذلك من منزل عائشة رضي الله عنها وهو المراد بقوله تعالى
«من أهلك» أي من عند أهلك
«تبوئ المؤمنين» أي تنزلهم أو تهيئ وتسوى لهم
«مقاعد» ويؤيد قراءة من قرأ تبوئ للمؤمنين والجملة حال من فاعل غدوت لكن لا على أنها حال مقدرة أي ناويا وقاصدا للتبوئة كما قيل
77

بل على أن المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة وإنما عبر عنه بالغدو الذي هو الخروج غدوة مع كون خروجه عليه السلام بعد صلاة الجمعة كما ستعرفه إذ حينئذ وقعت التبوئة التي هي العمدة في الباب إذ المقصود بتذكير الوقت تذكير مخالفتهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتزايلهم عن أحيازهم المعينة لهم عند التبوئة وعدم صبرهم وبهذا يتبين خلل رأى من احتج به على جواز أداء صلاة الجمعة قبل الزوال واللام في قوله تعالى
«للقتال» إما متعلقة بتبوىء أي لأجل القتال وإما بمحذوف وقع صفة لمقاعد أي كائنة ومقاعد القتال أماكنه ومواقفه فإن استعمال المقعد والمقام بمعنى المكان اتساعا شائع ذائع كما في قوله تعالى «في مقعد صدق» وقوله تعالى «قبل أن تقوم من مقامك» روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يكن دعاه قبل ذلك فاستشاره فقال عبد الله وأكثر الأنصار يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة وإن رجعوا رجعوا خائبين وقال بعضهم يا رسول الله أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم فقال صلى الله عليه وسلم أني قد رأيت في منامي بقرا مذبحة حولى فأولتها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة فتدعوهم فقال رجال من المسلمين قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ أخرج بنا إلى أعدائنا وقال النعمان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة ثم قال بقولي أشهد ان لا إله إلا الله وأنى لا أفر من الزحف فلم يزالوا به عليه السلام حتى دخل فلبس لأمته فلما رأوه كذلك ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله والوحي يأتيه وقالوا اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال ما ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال لسنة ثلاث من الهجرة فمشى على رجليه فجعل يصف أصحابه للقتال فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدرا خارجا قال تأخر وكان نزوله في عدوة الوادي وجعل ظهره وعسكره إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا ولا تبرحوا من مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم
«والله سميع» لأقوالكم
«عليم» بضمائركم والجملة اعتراض للإيذان بأنه قد صدر عنهم هناك من الأقوال والأفعال مالا ينبغي صدوره عنهم
«إذ همت» بدل من إذ غدوت مبين لما هو المقصود بالتذكير أو ظرف لسميع عليم على معنى أنه تعالى جامع بين سماع الأقوال والعلم بالضمائر في ذلك الوقت إذ لا وجه لتقييد كونه تعالى سميعا عليما بذلك الوقت قال الفراء معنى قولك ضربت وأكرمت زيدا أن زيدا منصوب بهما تسلطا عليه معا
«طائفتان منكم أن تفشلا» متعلق بهمت والباء محذوفة أي بأن تفشلا أي تجبنا وتضعفا وهما حيان من
78

الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ألف رجل وقيل تسعمائة وخمسين وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح أن صبروا فلما قاربوا عسكر الكفرة وكانوا ثلاثة آلاف انخذل عبد الله بن أبي بثلث الناس فقال يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري فقال أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم فقال عبد الله لو نعلم قتالا لأتبعناكم فهم الحيان باتباع عبد الله فعصمهم الله تعالى فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أضمروا أن يرجعوا فعزم الله لهم على الرشد فثبتوا والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس قلما تخلو النفس عنه عند الشدائد
«والله وليهما» أي عاصمهما عن اتباع تلك الخطرة والجملة اعتراض ويجوز أن تكون حالا من فاعل همت أو من ضميره في تفشلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما به مع كونهما في ولاية الله تعالى وقرئ والله وليهم كما في قوله تعالى «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا»
«وعلى الله» وحده دون ما عداه مطلقا استقلالا أو اشتراكا
«فليتوكل المؤمنون» في جميع أمورهم فإنه حسبهم وإظهار الاسم الجليل للتبرك والتعليل فإن الألوهية من موجبات التوكل عليه تعالى واللام في المؤمنين للجنس فيدخل فيه الطائفتان دخولا أوليا وفيه إشعار بأن وصف الإيمان من دواعي التوكل وموجباته
«ولقد نصركم الله ببدر» جملة مستأنفة سيقت لإيجاب الصبر والتقوى بتذكير ما ترتب عليهما من النصر اثر تذكير ما ترتب على عدمهما من الضرر وقيل لإيجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه وبدر اسم ماء بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر بن كلدة فسمي باسمه وقيل سمي به لصفائه كالبدر واستدارته وقيل هو اسم الموضع أو الوادي وكانت وقعة بدر في السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة
«وأنتم أذلة» حال من مفعول نصركم وأذلة جمع ذليل وإنما جمع جمع قلة للإيذان بإتصافهم حينئذ بوصفي القلة والذلة إذ كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر وكان ضعف حالهم في الغاية خرجوا على النواضح يتعقب النفر منهم على البعير الواحد ولم يكن في العسكر إلا فرس واحد وقيل فرسان للمقداد ومرثد وتسعون بعيرا وست أدرع وثمانية سيوف وكان العدو زهاء ألف ومعهم مائة فرس وشكة وشوكة
«فاتقوا الله» اقتصر على الأمر بالتقوى مع كونه مشفوعا بالصبر فيما سبق وما لحق للإشعار بإصالته وكون الصبر من مباديه اللازمة له ولذلك قدم عليه في الذكر وفي ترتيب الأمر بالتقوى على الإخبار بالنصر إيذان بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم أي إذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله كما اتقيتم يومئذ
«لعلكم تشكرون» أي راجين أن تشكروا ما ينعم به عليكم بتقواكم من النصرة كما شكرتم فيما قبل أو لعلكم ينعم الله عليكم بالنصر كما فعل ذلك من قبل فوضع الشكر موضع سببه الذي هو الإنعام
«إذ تقول» تلوين للخطاب بتخصيصه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه والإيذان بأن وقوع النصر كان ببشارته عليه السلام وإذ ظرف لنصركم قدم عليه الأمر
79

بالتقوى لإظهار كمال العناية به والمراد به الوقت الممتد الذي وقع فيه ما ذكر بعده وما طوى ذكره تعويلا على شهادة الحال مما يتعلق به وجود النصر وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لإستحضار صورتها أي نصركم وقت قولك
«للمؤمنين» حين أظهروا العجز عن المقاتلة قال الشعبي بلغ المؤمنين أن كرز بن جابر الحنفي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك على المؤمنين فنزل حينئذ ثم حكى ههنا
«ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف» الكفاية سد الخلة والقيام بالأمر والإمداد في الأصل إعطاء الشئ حالا بعد حال قال المفضل ما كان منه بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمدادا وما كان بطريق الزيادة يقال فيه مده يمده مدا ومنه والبحر يمده من بعده سبعة أبحر وقيل المد في الشر كما في قوله تعالى «ويمدهم في طغيانهم يعمهون» وقوله «ونمد له من العذاب مدا» والإمداد في الخير كما في قوله تعالى «وأمددناكم بأموال وبنين» والتعرض لعنوان الربوبية ههنا وفيما سيأتي مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار العناية بهم والإشعار بعلة الإمداد والمعنى إنكار عدم كفاية الإمداد بذلك المقدار ونفيه وكلمة لن للإشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لضعفهم وقلتهم وقوة العدو وكثرتهم
«من الملائكة» بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه أي كائنين من الملائكة
«منزلين» صفة لثلاثة آلاف وقيل حال من الملائكة وقرئ منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج قيل أمدهم الله تعالى أولا بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف وقرئ مبنيا للفاعل من الصيغتين أي منزلين النصر
«بلى» إيجاب لما بعد لن وتحقيق له أي بلى يكفيكم ذلك ثم وعد لهم الزيادة بشرط الصبر والتقوى حثا لهم عليهما وتقوية لقلوبهم فقال
«إن تصبروا» على لقاء العدو ومناهضتهم
«وتتقوا» معصية الله ومخالفة نبيه عليه الصلاة والسلام
«ويأتوكم» أي المشركين
«من فورهم هذا» أي من ساعتهم هذه وهو في الأصل مصدر فارت القدر أي اشتد غليانها ثم استعير للسرعة ثم اطلق على كل حالة لا ريث فيها أصلا ووصفه بهذا لتأكيد السرعة بزيادة تعيينه وتقريبه ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد المستتبعين له وجودا وعدما أعنى الصبر والتقوى مع تحقق الإمداد لا محالة سواء أسرعوا أو أبطئوا لتحقيق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده بتعليقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالطريق الأولى فإن هجوم الأعداء وإتيانهم بسرعة من مظان عدم لحوق المدد عادة فعلق به تحقق الإمداد إيذانا بأنه حيث تحقق مع ما ينافيه عادة فلأن يتحقق بدونه أولى وأحرى كما إذا أردت وصف درع بغاية الحصانة تقول أن لبستها وبارزت بها الأعداء فضربوك بأيد شداد وسيوف حداد لم تتأثر منها قطعا
«يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين» من التسويم الذي هو إظهار سيما الشيء أي معلمين أنفسهم أو خيلهم فقد روى أنهم كانوا بعمائم بيض إلا جبريل عليه السلام فإنه كان بعمامة صفراء على مثال الزبير بن العوام وروى
80

أنهم كانوا على خيل باق قال عروة بن الزبير كانت الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم وقال هشام بن عروة عمائم صفر وقال قتادة والضحاك وكانوا قد أعلموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه تسوموا فإن الملائكة قد تسومت وقرئ مسومين على البناء للمفعول ومعناه معلمين من جهته سبحانه وقيل مرسلين من التسويم بمعنى الإسامة
«وما جعله الله» كلام مبتدأ غير داخل في حيز القول مسوق من جنابه تعالى لبيان ان الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وإن حقيقة النصر مختص به عز وجل ليثق به
المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته معطوف على فعل مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإن الأخبار بوقوع النصر على الإطلاق وتذكير وقته وحكاية الوعد بوقوعه على وجه مخصوص هو الإمداد بالملائكة مرة بعد أخرى وتعيين وقته فيما مضى يقضي بوقوعه حينئذ قضاء قطعيا لكن لم يصرح به تعويلا على تعاضد الدلائل وتآخذ الإمارات والمخايل وإيذانا بكمال الغنى عنه بل احترازا عن شائبة التكرير أو عن إيهام احتمال الخلف في الوعد المحتوم كأنه قيل عقيب قوله تعالى «يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين» فأمدكم بهم «وما جعله الله» الخ والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى مصدر ذلك الفعل المقدر وأما عودة إلى المصدر المذكور أعني قوله تعالى أن يمدكم أو إلى المصدر المدلول عليه بقوله تعالى يمددكم كما قيل فغير حقيق بجزالة التنزيل لأن الهيئة البسيطة متقدمة على المركبة فبيان العلة الغائبة لوجود الإمداد كما هو المراد بالنظم الكريم حقه ان يكون بعد بيان وجوده في نفسه ولا ريب في ان المصدر بن المذكورين غير معتبرين من حيث الوجود والوقوع كمصدر الفعل المقدر حتى يتصدى لبيان أحكام وجودهما بل الأول معتبر من حيث الكفاية والثاني من حيث الوعد على أن الأول هو الإمداد بثلاثة آلاف والواقع هو الإمداد بخمسة آلاف وقوله تعالى
«إلا بشرى لكم» استثناء مفرغ من أعم العلل وتلوين الخطاب لتشريف المؤمنين وللإيذان بأنهم المحتاجون إلى البشارة وتسكين القلوب بتوفيق الأسباب الظاهرة وان رسول الله صلى الله عليه وسلم غني عنه بماله من التأييد الروحاني أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون
«ولتطمئن قلوبكم به» أي بالإمداد وتسكن إليه كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك فكلاهما علة غائية للجعل وقد نصب الأول لاجتماع شرائطه من اتحاد الفاعل والزمان وكونه مصدرا مسوقا للتعليل وبقي الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة أيضا إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى «والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة» وفي قصر الإمداد عليهما إشعار بأن الملائكة عليهم السلام لم يباشروا يومئذ القتال وانما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين بتكثير السواد ونحوه كما هو رأي بعض السلف رضي الله عنه وقيل الجعل متعد إلى
81

اثنين وقوله عز وجل إلا بشرى لكم استثناء من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم فاللام في قوله تعالى ولتطمئن متعلقة بمحذوف تقديره ولتطمئن قلوبكم به فعل ذلك
«وما النصر» أي حقيقة النصر على الإطلاق فيندرج في حكمه النصر المعهود إندراجا أوليا
«إلا من عند الله» أي إلا كائن من عنده تعالى من غير ان يكون فيه شركة من جهة الأسباب والعدد وإنما هي مظاهر له بطريق جريان سنته تعالى أو وما النصر المعهود إلا من عنده تعالى لا من عند الملائكة فإنهم بمعزل من التأثير وإنما قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب
«العزيز» أي الذي لا يغالب في حكمه وأقضيته وإجراء هذا الوصف عليه تعالى للإشعار بعلة اختصاص النصر به تعالى كما أن وصفه بقوله
«الحكيم» أي الذي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة للإيذان بعلة جعل النصر بإنزال الملائكة فأن ذلك من مقتضيات الحكم البالغة
«ليقطع» متعلق بقوله تعالى ولقد نصركم وما بينهما تحقيق لحقيقته وبيان لكيفية وقوعه والمقصور على التعليل بما ذكر من البشرى والاطمئنان إنما هو الإمداد بالملائكة على الوجه المذكور فلا يقدح ذلك في تعليل أصل النصر بالقطع وما عطف عليه أو بما تعلق به الخبر في قوله عز وعلا وما النصر إلا من عند الله على تقدير كونه عبارة عن النصر المعهود وقد أشير إلى أن المعلل بالبشارة والاطمئنان إنما هو الإمداد الصوري لا ما في ضمنه من النصر المعنوي الذي هو ملاك الأمر وأما تغلقه بنفس النصر كما قيل فمع ما فيه من الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي هو الخبر مخل بسداد المعنى كيف لا ومعناه قصر النصر المخصوص المعلل بعلل معينة على الحصول من جهته تعالى وليس المراد إلا قصر حقيقة النصر أو النصر المعهود على ذلك والمعنى لقد نصركم الله يومئذ أو وما النصر الظاهر عند إمداد الملائكة إلا ثابت من عند الله ليقطع أي يهلك وينقص
«طرفا من الذين كفروا» أي طائفة منهم بقتل وأسر وقد وقع ذلك حيث قتل من رؤسائهم وصناديدهم سبعون وأسر سبعون
«أو يكبتهم» أي يخزيهم ويغيطهم بالهزيمة فإن الكبت شدة غيظ أو وهن يقع في القلب من كبته بمعنى كبده إذا ضرب كبده بالغيظ والحرقة وقيل الكبت الإصابة بمكروه وقيل هو الصرع للوجه واليدين فالتاء حينئذ غير مبدلة وأو للتنويع
«فينقلبوا خائبين» أي فينهزموا منقطعي الآمال غير فائزين من مبتغاهم بشئ كما في قوله تعالى «ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا»
«ليس لك من الأمر شيء» اعتراض وسط بين المعطوف عليه المتعلق بالعاجل والمعطوف المتعلق بالآجل لتحقيق أن لا تأثير للمنثورين إثر بيان أن لا تأثير للناصرين وتخصيص النفي برسول صلى الله عليه وسلم على طريق تلوين الخطاب للدلالة على الانتفاء من غيره بالطريق الأولى وإنما خص الاعتراض بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبت من مظان ان يكون فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتال مدخل في الجملة
«أو يتوب عليهم أو يعذبهم» عطف على يكبتهم
82

والمعنى أن مالك أمرهم على الإطلاق هو الله عز وجل نصركم عليهم ليهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء إنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم والمراد بتعذيبهم التعذيب السديد الأخروي المخصوص بأشد الكفرة كفرا وإلا فمطلق التعذيب الأخروي متحقق في الفريقين الأولين أيضا ونظم التوبة والتعذيب المذكور في سلك العلة الغائبة للنصر المترتبة عليه في الوجود من حيث إن قبول توبتهم فرع تحققها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبة أهله المترتبة على النصر وان تعذيبهم بالعذاب المذكور مترتب على إصرارهم على الكفر بعد تبين الحق على الوجه المذكور هذا وقيل إن عتبة بن أبي وقاص شج رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسر رباعيته فجعل صلى الله عليه وسلم يمسح الدم عن وجهه وسالم مولى حذيفة يغسل عن وجهه الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم فنزلت «ليس لك من الأمر شيء» الآية كأنه نوع معاتبة على إنكاره عليه السلام لفلاحهم وقيل أراد أن يدعو عليهم فنهاه الله تعالى لعلمه بأن منهم من يؤمن فقوله تعالى «أو يتوب عليهم» حينئذ معطوف على الأمر أو على شيء بإضمار أن أي ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شيء أو ليس لك من أمرهم شيء أو التوبة عليهم أو تعذبهم ونقل عن الفراء وابن الأنباري ان أو بمعنى الا ان والمعنى ليس لك من امرهم شئ إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح به أو يعذبهم فتشفى منهم وأيا ما كان فهو كلام مستأنف سيق لبيان بعض الأمور المتعلقة بغزوة أحد إثر بيان بعض ما يتعلق بغزوة بدر لما بينهما من التناسب الظاهر لأن كلا منهما مبني على اختصاص الأمر كله بالله تعالى ومنبئ عن سلبه عمن سواه وأما تعلق كل القصة بغزوة أحد على أن قوله تعالى إذ تقول بدل ثان من إذ غدوت وإن ما حكى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقع يوم أحد وأن الإمداد الموعود كان مشروطا بالصبر والتقوى فلما لم يفعلوا لم يتحقق الموعود كما قيل فلا يساعده النظم الكريم اما أولا فلأن المشروط بالصبر والتقوى إنما هو الإمداد بخمسة آلاف لا بثلاثة آلاف مع أنه لم يقع الإمداد يومئذ ولا بملك واحد وأما ثانيا فلأنه كان ينبغي حينئذ أن ينعى عليهم جناياتهم وحرمانهم بسببها تلك النعمة الجليلة ودعوى ظهوره مع عدم دلالة السباق والسياق عليه بل مع دلالتهما على خلافه مما لا يكاد يسمع واما ثالثا فلأنه لا سبيل إلى جعل الضمير في قوله تعالى وما جعله الله الخ عائدا إلى الإمداد الموعود لأنه لم يتحقق فكيف يبين علته الغائية ولا إلى الوعد به على معنى أنه تعالى إنما جعل ذلك الوعد لبشارتكم واطمئنان قلوبكم فلم تفعلوا ما شرط عليكم من الصبر والتقوى فلم يقع إنجاز الموعود لما أن قوله تعالى وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم صريح في أنه قد وقع الإمداد الموعود لكن أثره إنما هو مجرد البشارة والاطمئنان وقد حصلا واما النصر الحقيقي فليس ذلك إلا من عنده تعالى وجعله استئنافا مقررا لعدم وقوع الإمداد على معنى أن النصر الموعود مخصوص به تعالى فلا ينصر من خالف امره بترك الصبر والتقوى اعتساف بين يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله على ان قوله تعالى ليقطع طرفا الآية متعلق حينئذ بما تعلق به قوله تعالى من عند الله من الثبوت والاستقرار وضرورة أن تعلقه بقوله تعالى ولقد نصركم الله ببدر الآية مع كون ما بينهما من التفصيل متعلقا بوقعة أحد من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فلا بد من اعتبار وجود النصر قطعا لأن تفصيل الأحكام المترتبة على وجود شيء
83

بصدد بيان انتفائه مما لم يعهد في كلام الناس فضلا عن الكلام المجيد فالحق الذي لا محيد عنه أن قوله تعالى إذ تقول ظرف لنصركم وأن ما حكى في أثنائه إلى قوله تعالى خائبين متعلق بيوم بدر قطعا وما بعده محتمل الوجهين المذكورين وقوله تعالى
«فإنهم ظالمون» تعليل على كل حال لقوله تعالى أو يعذبهم مبين لكون ذلك من جهتهم وجزاء لظلمهم
«ولله ما في السماوات وما في الأرض» كلام مستأنف سيق لبيان اختصاص ملكوت كل الكائنات به عز وجل إثر بيان اختصاص طرف من ذلك به سبحانه تقريرا لما سبق وتكمله له وتقديم الجار للقصر وكلمة ما شاملة للعقلاء أيضا تغليبا أي له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا لا مدخل فيه لأحد أصلا فله الأمر كله
«يغفر لمن يشاء» أن يغفر له مشيئة مبنية على الحكم والمصالح
«ويعذب من يشاء» أن يعذبه بعمله مشيئة كذلك وإيثار كلمة من في الموضعين لاختصاص المغفرة والتعذيب بالعقلاء وتقديم المغفرة على التعذيب للإيذان بسبق رحمته تعالى غضبه وبأنها من مقتضيات الذات دونه فإنه من مقتضيات سيئات العصاة وهذا صريح في نفي وجوب التعذيب والتقييد بالتوبة وعدمها كالمنافي له
«والله غفور رحيم» تذييل مقرر لمضمون قوله تعالى يغفر لمن يشاء مع زيادة وفي تخصيص التذييل به دون قرينة من الاعتناء بشأن المغفرة والرحمة ما لا يخفى
«يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا» كلام مبتدأ مشتمل على ما هو ملاك الأمر في كل باب لا سيما في باب الجهاد من التقوى والطاعة وما بعدهما من الأمور المذكورة على نهج الترغيب والترهيب جيء به في تضاعيف القصة مسارعة إلى إرشاد المخاطبين إلى ما فيه وإيذانا بكمال وجوب المحافظة عليه فيما هم فيه من الجهاد فإن الأمور المذكورة فيه مع كونها مناطا للفوز في الدارين على الإطلاق عمدة في أمر الجهاد عليها يدور فلك النصرة والغلبة كيف لا ولو حافظوا على الصبر والتقوى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لقوا ما لقوا ولعل إيراد النهي عن الربا في أثنائها لما ان الترغيب في الإنفاق في السراء والضراء الذي عمدته الإنفاق في سبيل الجهاد متضمن للترغيب في تحصيل المال فكان مظنة مبادرة الناس إلى طرق الاكتساب ومن جملتها الربا فنهوا عن ذلك والمراد بأكله أخذه وإنما عبر عنه بالأكل لما أنه معظم ما يقصد بالأخذ ولشيوعه في المأكولات مع ما فيه من زيادة تشنيع وقوله عز وجل
«أضعافا مضاعفة» ليس لتقييد النهي به بل لمراعاة ما كانوا عليه من العادة توبيخا لهم بذلك إذ كان الرجل يربي إلى أجل فإذا حل قال للمدين زدني في المال حتى أزيدك في الأجل فيفعل وهكذا عند محل كل أجل فيستغرق بالشيء الطفيف ماله بالكلية ومحله النصب على الحالية من الربا وقرئ مضعفة
«واتقوا الله» فيما نهيتم عنه من الأمور التي من جملتها الربا
«لعلكم تفلحون» راجين للفلاح
«واتقوا النار التي أعدت للكافرين»
84

بالتحرز عن متابعتهم وتعاطي ما يتعاطونه كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه
«وأطيعوا الله» في كل ما أمركم به ونهاكم عنه
«والرسول» الذي يبلغكم أوامره ونواهيه
«لعلكم ترحمون» راجين لرحمته عقب الوعيد بالوعد ترهيبا عن المخالفة وترغيبا في الطاعة وإيراد لعل في الموضعين للإشعار بعزة منال الفلاح والرحمة قال محمد بن اسحق هذه الآية معاتبة للذين عصوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين امرهم بما امرهم يوم أحد
«وسارعوا» عطف على أطيعوا وقرئ بغير واو على وجه الاستئناف أي بادروا وأقبلوا وقرئ سابقوا
«إلى مغفرة من ربكم وجنة» أي إلى ما يؤدي إليهما وقيل إلى الإسلام وقيل إلى التوبة وقيل إلى الإخلاص وقيل إلى الجهاد وقيل إلى أداء جميع الواجبات وترك جميع المنهيات فيدخل فيها ما مر من الأمور المأمور بها والمنهي عنها دخولا أوليا وتقديم المغفرة على الجنة لما ان التخلية متقدمة على التحلية ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لمغفرة أي كائنة من ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار مزيد اللطف بهم وقوله تعالى
«عرضها السماوات والأرض» أي كعرضهما صفة لجنة وتخصيص العرض بالذكر للمبالغة في وصفها بالسعة والبسطة على طريقة التمثيل فإن العرض في العادة أدنى من الطول وعن ابن عباس رضي الله عنهما كسبع سماوات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض
«أعدت للمتقين» في حيز الجر على انه صفة أخرى لجنة أو في محل النصب على الحالية منها لتخصصها بالصفة أي هيئت لهم وفيه دليل على ان الجنة مخلوقة الآن وانها خارجة عن هذا العالم
«الذين ينفقون» في محل الجر على انه نعت للمتقين مادح لهم أو بدل منه أو بيان أو في حيز النصب أو الرفع على المدح ومفعول ينفقون محذوف ليتناول كل ما يصلح للإنفاق أو متروك بالكلية كما في قولك يعطي ويمنع
«في السراء والضراء» في حالتي الرخاء والشدة واليسر والعسر أو في الأحوال كلها إذ الإنسان لا يخلو عن مسرة أو مضرة أي لا يخلون في حال ما بإنفاق ما قدروا عليه من قليل أو كثير
«والكاظمين الغيظ» عطف على الموصول والعدول إلى صيغة الفاعل للدلالة على الاستمرار واما الإنفاق فحيث كان أمرا متجددا عبر عنه بما يفيد الحدوث والتجدد والكظم الحبس يقال كظم غيظه أي حبسه قال المبرد تأويله أنه كتمه على امتلائه منه يقال كظمت السقاء إذا ملأته وشددت عليه أي الممسكين عليه الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه وعن النبي صلى الله عليه وسلم من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا
«والعافين عن الناس»
85

أي التاركين عقوبة من استحق مؤاخذته روى انه ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله تعالى فلا يقوم إلا من عفا وعن النبي صلى الله عليه وسلم إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيرا في الأمم التي مضت وفي هذين الوصفين إشعار بكمال حسن موقع عفوه عليه الصلاة والسلام عن الرماة وترك مؤاخذتهم بما فعلوا مخالفة أمره عليه السلام وندب له عليه السلام إلى ترك ما عزم عليه من مجازاة المشركين بما فعلوا بحمزة رضي الله عنه حيث قال حين رآه قد مثل به لأمثلن بسبعين مكانك
«والله يحب المحسنين» اللام إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وإما للعهد عبر عنهم بالمحسنين إيذانا بأن النعوت المعدودة من باب الإحسان الذي هو الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره عليه السلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها
«والذين» مرفوع على الابتداء وقيل مجرور معطوف على ما قبله من صفات المتقين وقوله تعالى «والله يحب المحسنين» اعتراض بينهما مشير إلى ما بينهما من التفاوت فإن درجة الأولين من التقوى أعلى من درجة هؤلاء وحظهم أوفى من حظهم أو على نفس المتقين فيكون التفاوت أكثر وأظهر
«إذا فعلوا فاحشة» أي فعلة بالغة في القبح كالزنا
«أو ظلموا أنفسهم» بأن أتوا ذنبا أي ذنب كان وقيل الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة أو الفاحشة ما يتعدى إلى الغير وظلم النفس ما ليس كذلك قيل قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله تعالى منا كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة على عتبة داره افعل كذا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل إن نبهان التمار أتته امرأة حسناء تطلب منه تمرا فقال لها هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فقالت له إتق الله فتركها وندم على ذلك وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فنزلت وقيل جرى مثل هذا بين أنصاري وامرأة ورجل ثقفي كان بينهما مؤاخاة فندم الأنصاري وحثا على رأسه التراب وهام على وجهه وجعل يسيح في الجبال تائبا مستغفرا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت وأيا ما كان فإطلاق اللفظ ينتظم ما فعله الزناة انتظاما أوليا
«ذكروا الله» تذكروا حقه العظيم وجلاله الموجب للخشية والحياء أو وعيده أو حكمه وعقابه
«فاستغفروا لذنوبهم» بالتوبة والندم والفاء للدلالة على أن ذكره تعالى مستتبع للاستغفار لا محالة
«ومن يغفر الذنوب» استفهام إنكاري والمراد بالذنوب جنسها كما في قولك فلان يلبس الثياب ويركب الخيل لا كلها حتى يخل بما هو المقصود من استحالة صدور مغفرة فرد منها عن غيره تعالى وقوله تعالى
«إلا الله» بدل من الضمير المستكن في يغفر أي لا يغفر جنس الذنوب أحد إلا الله خلا أن دلالة الاستفهام على الانتفاء أقوى وأبلغ لإيذانه بأن كل أحد ممن له حظ من الخطاب يعرف ذلك الانتفاء فيسارع إلى الجواب به والمراد به وصفه سبحانه بغاية سعة الرحمة وعموم المغفرة والجملة معترضة بين المعطوفين أو
86

بين الحال وصاحبها لتقرير الاستغفار والحث عليه والإشعار بالوعد بالقبول
«ولم يصروا» عطف على فاستغفروا وتأخيره عنه مع تقدم عدم الإصرار على الاستغفار رتبة لإظهار الاعتناء بشأن الاستغفار واستحقاقه للمسارعة إليه عقيب ذكره تعالى أو حال من فاعله أي ولم يقيموا أو غير مقيمين
«على ما فعلوا» أي ما فعلوه من الذنوب فاحشة كانت أو ظلما أو على فعلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة وأنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار
«وهم يعلمون» حال من فاعل يصروا أي لم يصيروا على ما فعلوا وهم عالمون بقبحه والنهي عنه والوعيد عليه والتقييد بذلك لما أنه قد يعذر من لا يعلم ذلك إذا لم يكن عن تقصير في تحصيل العلم به
«أولئك» إشارة إلى المذكورين آخرا باعتبار اتصافهم بما مر من الصفات الحميدة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم وعلو طبقتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى
«جزاؤهم» بدل اشتمال منه وقوله تعالى
«مغفرة» خبر له أو جزاؤهم مبتدأ ثان ومغفرة خبر له والجملة خبر لأولئك وهذه الجملة خبر لقوله تعالى والذين إذا فعلوا الخ على الوجه الأول وهو الأظهر الأنسب بنظم المغفرة المنبئة عن سابقة الذنب في سلك الجزاء إذ على الوجهين الأخريين يكون قوله تعالى أولئك الخ جملة مستأنفة مبينة لما قبلها كاشفة عن حال كلا الفريقين المحسنين والتائبين ولم يذكر من أوصاف الأولين ما فيه شائبة الذنب حتى يذكر في مطلع الجزاء الشامل لها المغفرة وتخصيص الإشارة بالآخرين مع اشتراكهما في حكم إعداد الجنة لهما تعسف ظاهر
«من ربهم» متعلق بمحذوف وقع صفة لمغفرة مؤكدة لما إفادة التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من جهته تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم للإشعار بعلة الحكم والتشريف
«وجنات تجري من تحتها الأنهار» عطف على مغفرة والتنكر المشعر بكونها أدنى من الجنة مما يؤيد رجحان الوجه الأول
«خالدين فيها» حال مقدرة من الضمير في جزاؤهم لأنه مفعول به في المعنى لأنه في قوة يجزيهم الله جنات خالدين فيها ولا مساغ لأن يكون حالا من جنات في اللفظ وهي لأصحابها في المعنى إذ لو كان كذلك لبرز الضمير
«ونعم أجر العاملين» المخصوص بالمدح محذوف أي ونعم أجر العاملين ذلك أي ما ذكر من المغفرة والجنات والتعبير عنهما بالأجر المشعر بأنهما يستحقان بمقابلة العمل وإن كان بطريق التفضل لمزيد الترغيب في الطاعات والزجر عن المعاصي والجملة تذييل مختص بالتائبين حسب اختصاص التذييل السابق بالأولين وناهيك مضمونها دليلا على ما بين الفريقين من التفاوت النير والتباين البين شتان بين المحسنين الفائزين بمحبة الله عز وجل وبين العاملين الحائزين لأجرتهم وعمالتهم
«قد خلت من قبلكم سنن» رجوع إلى تفصيل بقية القصة بعد تمهيد مبادئ الرشد والصلاح وترتيب مقدمات الفوز والفلاح
87

والخلو المضي والسنن والوقائع وقيل الأمم والظرف إما متعلق بخلت أو بمحذوف وقع حالا من سنن أي قد مضت من قبل زمانكم أو كائنة من قبلكم وقائع سنها الله تعالى في الأمم المكذبة كما في قوله تعالى وقتلوا تقتيلا سنة الله في الذين خلوا الخ والفاء في قوله تعالى
«فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين» للدلالة على سببية خلوها للسير والنظر أو للأمر بهما وقيل المعنى على الشرط أي إن شككتم فسيروا الخ وكيف خبر مقدم لكان معلق لفعل النظر والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض لأن الأصل استعماله بالجار
«هذا» إشارة إلى ما سلف من قوله تعالى «قد خلت» إلى آخره
«بيان للناس» أي تبيين لهم على أن اللام متعلقة بالمصدر أو كائن لهم على انها متعلقة بمحذوف وقع صفة له وتعريف الناس للعهد وهم المكذبون أي هذا إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب فإن الأمر بالسير والنظر وإن كان خاصا بالمؤمنين لكن العمل بموجبه غير مختص بواحد دون واحد ففيه حمل للمكذبين أيضا على أن ينظروا في عواقب من قبلهم من أهل التكذيب ويعتبروا بما يعاينون من أثار دمارهم وإن لم يكن الكلام مسوقا لهم
«وهدى وموعظة» أي وزيادة بصيرة وموعظة لكم وإنما قيل
«للمتقين» للإيذان بعلة الحكم فإن مدار كونه هدى وموعظة لهم إنما هو تقواهم ويجوز أن يراد بالمتقين الصائرين إلى التقوى والهدى والموعظة على ظاهرهما أي هذا بيان لمآل أمر الناس وسوء مغبته وهداية لمن اتقى منهم وزجر لهم عما هم عليه من التكذيب وان يراد به ما يعمهم وغيرهم من المتقين بالفعل ويراد بالهدى والموعظة أيضا ما يعم ابتداءهما والزيادة فيهما وإنما قدم كونه بيانا للمكذبين مع أنه غير مسوق له على كونه هدى وموعظة للمتقين مع أنه المقصود بالسياق لأن أول ما يترتب على مشاهدة آثار هلاك أسلافهم ظهور حال أخلافهم وأما زيادة الهدى أو أصله فأمر مترتب عليه وتخصيص البيان للناس مع شموله للمتقين أيضا لما أن المراد به مجرد البيان العاري عن الهدى والعظة والاقتصار عليهما في جانب المتقين مع ترتبهما على البيان لما انهما المقصد الأصلي ويجوز أن يكون تعريف الناس للجنس أي هذا بيان للناس كافة وهدى وموعظة للمتقين منهم خاصة وقيل كلمة هذا إشارة إلى ما لخص من أمر المتقين والتائبين والمصرين وقوله تعالى قد خلت الآية اعتراض للبعث على الإيمان وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين وأنت خبير بأن الاعتراض لا بد أن يكون مقررا لمضمون ما وقع في خلالة ومعاينة آثار هلاك المكذبين مما لا تعلق له بحال أحد
الأصناف الثلاثة للمؤمنين وإن كان باعثا على الإيمان زاجرا عن التكذيب وفيل إشارة إلى القرآن ولا يخفى بعده
«ولا تهنوا ولا تحزنوا» تشجيع للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتسلية عما أصابهم يوم أحد من القتل والقرح وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن جحش ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبه
88

رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ومن الأنصار سبعون رجلا رضي الله عنهم أي لا تضعفوا عن الجهاد بما نالكم من الجراح ولا تحزنوا على من قتل منكم
«وأنتم الأعلون» جملة حالية من فاعل الفعلين أي والحال انكم الأعلون الغالبون دون عدوكم فإن مصير امرهم إلى الدمار حسبما شاهدتم من أحوال اسلافهم فهو تصريح بالوعد بالنصر والغلبة بعد الإشعار به فيما سبق أو وأنتم المعهودون بغاية علوا الشأن لما انكم على الحق وقتالكم لله عز وجل وقتلاكم في الجنة وهم على الباطل وقتالهم للشيطان وقتلاهم في النار وقيل وأنتم الأعلون حالا منهم حيث أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم اليوم
«إن كنتم مؤمنين» متعلق بالنهى أو بالأعلون وجوابه محذوف لدلالة ما تعلق به عليه أي إن كنتم مؤمنين فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن الإيمان يوجب قوة القلب والثقة بصنع الله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه أو ان كنتم مؤمنين فأنتم الأعلون فإن الإيمان يقتضي العلو لا محالة أو إن كنتم مصدقين بوعد الله تعالى فأنتم الأعلون وأيا ما كان فالمقصود تحقيق المعلق بناء على تحقيق المعلق به كما في قول الأجير إن كنت عملت لك فأعطني أجري ولذلك قيل معناه إذ كنتم مؤمنين وقيل معناه إن بقيتم على الإيمان
«إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله» القرح بالفتح والضم لغتان كالضعف والضعف وقد قرئ بهما وقيل هو بالفتح والجراح وبالضم ألمها وقرئ بفتحين وقيل القرح والقرح كالطرد والطرد والمعنى إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر ثم لم يضعف ذلك قلوبهم ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال فأنتم أحق بأن لا تضعفوا فإنكم ترجون من الله مالا يرجون وقيل كلا المسلمين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلوا منهم نيفا وعشرين رجلا منهم صاحب لوائهم وجرحوا عددا كثيرا وعقروا عامة خيلهم بالنبل
«وتلك الأيام» إشارة إلى الأيام الجارية فيما بين الأمم الماضية والآتية كافة لا إلى الأيام المعهودة خاصة من يوم بدر ويوم أحد بل هي داخلة فيها دخولا أوليا والمراد بها أوقات الظفر والغلبة
«نداولها بين الناس» نصرفها بينهم نديل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقول من قال
* فيوما علينا
* ويوما لنا ويوما نساء ويوما نسر
* والمداولة كالمعاورة يقال داولته بينهم فتداولوه أي عاورته فتعاوره واسم الإشارة مبتدأ والأيام إما صفة له أو بدل منه أو عطف بيان له فنداولها خبره أو خبر فنداولها حال من الأيام والعامل معنى اسم الإشارة أو خبر بعد خبر وصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار للإيذان بأن تلك المداولة سنة مسلوكة فيما بين الأمم قاطبة سابقتها ولاحقتها وفيه ضرب من التسلية وقوله عز وجل
«وليعلم الله الذين آمنوا» إما من باب التمثيل أي ليعاملكم معاملة من يريد أن يعلم المخلصين الثابتين على الإيمان من غيرهم أو العلم فيه مجاز عن التمييز بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب أي ليميز الثابتين على الإيمان من غيرهم كما في قوله تعالى ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز
89

الخبيث من الطيب أو هو على حقيقته معتبر من حيث تعلقه بالمعلوم من حيث إنه موجود بالفعل إذ هو الذي يدور عليه فلك الجزاء لا من حيث إنه موجود بالقوة وإطلاق الإيمان مع أن المراد هو الرسوخ والإخلاص فيه للإيذان بأن أسم الإيمان لا ينطلق على غيره والالتفات إلى الغيبة بإسناده إلى أسم الذات المستجمع للصفات لتربية المهابة والإشعار بأن صدور كل واحد مما ذكر بصدد التعليل من أفعاله تعالى باعتبار منشأ معين من صفاته تعالى مغاير لمنشأ الآخر والجملة عله لما هو فرد من أفراد مطلق المداولة التي نطق بها قوله تعالى نداولها بين الناس من المداولة المعهودة الجارية بين فريقي المؤمنين والكافرين واللام متعلقة بما دل عليه المطلق من الفعل المقيد بالوقوع بين الفريقين المذكورين أو بنفس الفعل المطلق باعتبار وقوعه بينهما والجملة معطوفة على علة أخرى لها معتبرة إما على الخصوص والتعيين محذوفة لدلالة المذكورة عليها لكونها من مباديها كأنه قيل نداولها بينكم وبين عدوكم ليظهر امركم وليعلم الخ فإن ظهور أعمالهم وخروجها من القوة إلى الفعل من مبادى تمييزهم عن غيرهم ومواجب تعلق العلم الأزلي بها من تلك الحيثية وكذا الحال في باب التمثيل فتأمل وإما على العموم والإبهام للتنبيه على أن العلل غير منحصرة فيها عدد من الأمور وأن العبد يسوءه ما يجرى عليه من النوائب ولا يشعر بأن الله تعالى جعل له في ذلك من الألطاف الخفية مالا يخطر بالبال كأنه قيل نداولها بينكم ليكون من المصالح كيت وكيت وليعلم الخ وفيه من تأكيد التسلية ومزيد التبصرة مالا يخفى وتخصيص البيان بعلة هذا الفرد من مطلق المداولة دون سائر أفرادها الجارية فيما بين بقية الأمم تعيينا أو إبهاما لعدم تعلق الغرض العلمي ببيانها ولك أن تجعل المحذوف المبهم عبارة عن علل سائر أفرادها للإشارة إجمالا إلى أن كل فرد من أفرادها له علة داعية إليه كأنه قيل نداولها بين الناس كافة ليكون كيت وكيت من الحكم الداعية إلى تلك الافراد وليعلم الخ فاللام الأولى متعلقة بالفعل المطلق باعتبار تقييده بتلك الأفراد والثانية باعتبار تقييده بالفرد المعهود وقيل هي متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره وليعلم الله الذين آمنوا فعل ذلك
«ويتخذ منكم شهداء» جمع شهيد أي ويكرم ناسا منكم بالشهادة وهم شهداء أحد فمن ابتدائية أو تبعيضية متعلقة بيتخذ أو بمحذوف وقع حالا من شهداء أو جمع شاهد أي ويتخذ منكم شهودا معدلين بما ظهر منهم من الثبات على الحق والصبر على الشدائد وغير ذلك من شواهد الصدق ليشهدوا على الأمم يوم القيامة فمن بيانية لأن تلك الشهادة وظيفة الكل دون المستشهدين فقط وأيا ما كان ففي لفظ الاتخاذ المنبئ عن الاصطفاء والتقريب من تشريفهم وتفخيم شأنهم مالا يخفى وقوله تعالى
«والله لا يحب الظالمين» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ونفى المحبة كناية عن البغض وفي إيقاعه على الظالمين تعريض بمحبته تعالى لمقابليهم والمراد بهم إما غير الثابتين على الإيمان فالتقرير من حيث أن بغضه تعالى لهم من دواعي إخراج المخلصين المصطفين للشهادة من بينهم وإما الكفرة الذين أديل لهم فالتقرير من حيث إن ذلك ليس بطريق النصرة لهم فإنها مختصة بأوليائه تعالى بل لما ذكر من الفوائد العائدة إلى المؤمنين وقوله تعالى
«وليمحص الله الذين آمنوا» أي ليصفيهم ويطهرهم من
90

الذنوب عطف على يتخذ وتكرير اللام لتذكير التعليل لوقوع الفصل بينهما بالاعتراض وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن التمحيص وهذه الأمور الثلاثة علل للمداولة المعهودة باعتبار كونها على المؤمنين قدمت في الذكر لأنها المحتاجة إلى البيان ولعل تأخير العلة الأخيرة عن الاعتراض لئلا يتوهم اندراج المذنبين في الظالمين أو ليقترن بقوله عز وجل
«ويمحق الكافرين» فإن التمحيص فيه محو الآثار وإزالة الأوضار كما أن المحق عبارة عن النقص والإذهاب قال المفضل وهو أن يذهب الشئ بالكلية حتى لا يرى منه شئ ومنه قوله تعالى يمحق الله الربا أي يستأصله وهذه علة للمداولة باعتبار كونها على الكافرين والمراد بهم الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر وقد محقهم الله عز وجل جميعا
«أم حسبتم» كلام مستأنف سيق لبيان ما هي الغاية القصوى من المداولة والنتيجة لما ذكر من تمييز المخلصين وتمحيصهم واتخاذ الشهداء وإظهار عزة منالها والخطاب للذين انهزموا يوم أحد وأم منقطعة وما فيها من كلمة بل للإضراب عن التسلية ببيان العلل فيما لقوا من الشدة إلى تحقيق أنها من مبادى الفوز بالمطلب الأسنى والهمزة للإنكار والاستبعاد أي بل أحسبتم
«أن تدخلوا الجنة» وتفوزوا بنعيمها وقوله تعالى
«ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم» حال من ضمير تدخلوا مؤكدة للإنكار فإن رجاء الأجر بغير عمل ممن يعلم أنه منوط به مستبعد عند العقول وعدم العلم كناية عن عدم المعلوم لما بينهما من اللزوم المبنى على لزوم تحقق الأول لتحقق الثاني ضرورة استحالة تحقق شئ بدون علمه تعالى به وإيثارها على التصريح للمبالغة في تحقيق المعنى المراد فإنها إثبات لعدم جهادهم بالبرهان وللإيذان بأن مدار ترتب الجزاء على الأعمال إنما هو علم الله تعالى بها كأنه قيل والحال أنه لم يوجد الذين جاهدوا منكم وإنما وجه النفي إلى الموصوفين مع أن المنفى هو الوصف فقط وكان يكفى أن يقال ولما يعلم الله جهادكم كناية عن معنى ولما تجاهدوا للمبالغة في بيان انتفاء الوصف وعدم تحققه أصلا وفي كلمة لما إيذان بان الجهاد متوقع منهم فيما يستقبل إلا أنه غير معتبر في تأكيد الإنكار وقرئ يعلم بفتح الميم على أن أصله يعلمن فحذفت النون أو على طريقة اتباع الميم لما قبلها في الحركة لإبقاء تفخيم اسم الله تعالى ومنكم حال من الذين
«ويعلم الصابرين» منصوب بإضمار أن على أن الواو للجمع كما في قولك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن والمعنى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر أي الجمع بينهما وإيثار اسم الفاعل على الموصول للدلالة على أن المعتبر هو الاستمرار على الصبر وللمحافظة على الفواصل وقيل مجزوم معطوف على المجزوم قبله قد حرك لالتقاء الساكنين بالفتح للخفة والاتباع كما مر ويؤيده القراءة بالكسر على ما هو الأصل في تحريك الساكن وقرئ يعلم بالرفع على ان الواو للحال وصاحبها الموصول والمبتدأ محذوف أي وهو يعلم الصابرين كأنه قيل ولما تجاهدوا وأنتم صابرون
91

«ولقد كنتم تمنون الموت» أي تتمنون الحرب فإنها من مبادئ الموت أو الموت بالشهادة والخطاب للذين لم يشهدوا بدرا وكانوا يتمنون أن يشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا لينالوا ما ناله شهداء بدر من الكرامة فألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج ثم ظهر منهم خلاف ذلك
«من قبل أن تلقوه» متعلق بتمنون مبين لسبب إقدامهم على التمني من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا هوله وشدته وقرئ تلاقوه
«فقد رأيتموه» أي ما تتمنونه من أسباب الموت أو الموت بمشاهدة أسبابه وقوله تعالى
«وأنتم تنظرون» حال من ضمير المخاطبين وفي إيثار الرؤية على الملاقاة وتقييدها بالنظر مزيد مبالغة في مشاهدتهم له والفاء فصيحة كأنه قيل إن كنتم صادقين في تمنيكم ذلك فقد رأيتموه معاينين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا فلم فعلتم ما فعلتم وهو توبيخ لهم على تمنيهم الحرب وتسببهم لها ثم جبنهم وانهزامهم لا على تمنى الشهادة بناء على تضمنها لغلبة الكفار لما أن مطلب من يتمناها نيل كرامة الشهداء من غير أن يخطر بباله شئ غير ذلك فلا يستحق العتاب من تلك الجهة
«وما محمد إلا رسول» مبتدأ وخبر ولا عمل لما بالاتفاق لانتقاض نفيه بإلا وقوله تعالى
«قد خلت من قبله الرسل» صفة لرسول منبئة عن كونه في شرف الخلو فإن خلو مشاركيه في منصب الرسالة من شواهد خلوة عليه الصلاة والسلام لا محالة كأنه قيل قد خلت من قبله أمثاله فسيخلو كما خلوا والقصر قلبي فإنهم لما انقلبوا على أعقابهم فكأنهم اعتقدوا أنه عليه الصلاة والسلام رسول لا كسائر الرسل في أنه يخلو كما خلوا ويحب التمسك بدينه بعده كما يجب التمسك بدينهم بعدهم فرد عليهم بأنه ليس إلا رسولا كسائر الرسل فسيخلو كما خلوا ويجب التمسك بدينه كما يجب التمسك بدينهم وقيل هو قصر إفراد فإنهم لما استعظموا عدم بقائه عليه الصلاة والسلام لهم نزلوا منزلة المستبعدين لهلاكه كأنهم يعتقدون فيه عليه الصلاة والسلام وصفين الرسالة والبعد عن الهلاك فرد عليهم بأنه مقصور على الرسالة لا يتجاوزها إلى البعد عن الهلاك فلا بد حينئذ من جعل قوله تعالى قد خلت الخ كلاما مبتدأ مسوقا لتقرير عدم براءته عليه الصلاة والسلام من الهلاك وبيان كونه أسوة لمن قبله من الرسل عليهم السلام وأيا ما كان فالكلام يخرج على خلاف مقتضى الظاهر
«أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» إنكار لارتدادهم وانقلابهم عن الدين بخلوة بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكا به وقيل الفاء للسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سببا لانقلابهم بعد وفاته مع كونه سببا في الحقيقة لثباتهم على الدين وإيراد الموت بكلمة أن مع علمهم به البتة لتنزيل المخاطبين منزلة المترددين فيه لما ذكر من استعظامهم إياه وهكذا الحال في سائر الموارد فإن كلمة إن في كلام الله تعالى لا تجرى على ظاهرها قط ضرورة علمه تعالى بالوقوع
92

أو اللا وقوع بل تحمل على اعتبار حال السامع أو أمر آخر يناسب المقام وتقديم تقدير الموت مع أن تقدير القتل هو الذي ثار منه الفتنة وعظم فيه المحنة لما أن الموت في شرف الوقوع فزجر الناس عن الانقلاب عنده وحملهم على التثبيت هناك أهم ولأن الوصف الجامع بينه وبين الرسل عليهم السلام هو الخلو بالموت دون القتل روى أنه لما التقى الفئتان حمل أبو دجانة في نفر من المسلمين على المشركين فقاتل قتالا شديدا وقاتل على بن أبي طالب رضي الله عنه قتالا عظيما حتى التوى سيفه وكذا سعد بن أبي وقاص فقتلوا جماعة من المشركين وهزموهم فلما نظر الرماة إليهم ورأوا أنهم قد انهزموا أقبلوا على النهب ولم يلتفتوا إلى نهى أميرهم عبد الله بن جبير فلم يبق منهم عنده إلا ثمانية نفر فلما رآهم خالد بن الوليد قد اشتغلوا بالغنيمة حمل عليهم في مائتين وخمسين فارسا من المشركين من قبل الشعب وقتلوا من بقي من الرماة ودخلوا خلف أقفية المسلمين ففرقوهم وهزموهم وحملوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلوهم حتى أصيب هناك نحو ثلاثين رجلا كل منهم يجثوا بين يديه ويقول وجهي لوجهك وقاء ونفسي لنفسك فداء وعليك سلام الله غير مودع ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه الكريم فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يزعم أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال قتلت محمدا وصارخ قيل إنه إبليس ألا إن محمدا قد قتل فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى عباد الله قال كعب بن مالك كنت أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون وقال بعضهم ليت بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان وقال ناس من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنس بن النضر وهو عم أنس بن مالك يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا كراما على ما مات عليه ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل وتجويزهم لقتله عليه الصلاة والسلام مع قوله تعالى «والله يعصمك من الناس» لما أن كل آية ليس يسمعها كل أحد ولا كل من يسمعها يستحضرها في كل مقام لا سيما في مثل ذلك المقام الهائل وقد غفل عمر رضى الله عنه عن هذه الآية الكريمة عند وفاته عليه الصلاة والسلام وقام في الناس فقال إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى وإن رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع والله ليرجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ولم يزل يكرر ذلك إلى أن قام أبو بكر رضي الله عنه فحمد الله عز وجل وأثنى عليه ثم قال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل» الآية قال الراوي والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تلاها أبو بكر وقال عمر رضي الله عنه والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر رضي الله عنه يتلو فعقرت حتى ما تحملني رجلاى وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات
«ومن ينقلب على عقبيه» بإدباره عما كان يقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الجهاد وغيره
93

وقيل بارتداده عن الإسلام وما ارتد يومئذ أحد من المسلمين إلا ما كان من المنافقين
«فلن يضر الله» بما فعل من الانقلاب
«شيئا» أي شيئا من الضرر وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب
«وسيجزي الله الشاكرين» أي الثابتين على دين الإسلام الذي هو أجل نعمة وأعز معروف سموا بذلك لأن الثبات عليه شكر له وعرفان لحقه وفيه إيماء إلى كفران المنقلبين وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد بهم الطائعون لله تعالى من المهاجرين والأنصار وعن على رضي الله عنه أبو بكر وأصحابه رضي الله عنهم وعنه رضي الله عنه أنه قال أبو بكر من الشاكرين ومن أحباء الله تعالى وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لإبراز مزيد الاعتناء بشأن جزائهم
«وما كان لنفس أن تموت» كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موت كل نفس منوط بمشيئة الله عز وجل لا يكاد يقع بدون تعلقها به وإن خاضت موارد الخوف واقتحمت مضايق كل هول مخوف وقد أشير بذلك إلى أنها لم تكن متعلقة بموتهم في الوقت الذي حذروه فيه ولذلك لم يقتلوا حينئذ لا لإحجامهم عن مباشرة القتال وكلمة كان ناقصة اسمها أن تموت وخبرها الظرف على انه متعلق بمحذوف وقوله تعالى
«إلا بإذن الله» استثناء مفرغ من أعم الأسباب أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على ان الإذن مجاز منها لكونها من لوازمه أو إلا بإذنه لملك الموت في قبض روحها وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التي لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى أو بتنزيل إقدامها على مباديه أعنى القتال منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر وفيه من التحريض على القتال مالا يخفى
«كتابا» مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي كتبه الله كتابا
«مؤجلا» موقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر ولو ساعة وقرئ موجلا بالواو بدل الهمزة على قياس التخفيف وبعد تحقيق أن مدار الموت والحياة محض مشيئة الله عز
وجل من غير أن يكون فيه مدخل لأحد أصلا أشير إلى أن توفية ثمرات الأعمال دائرة على إرادتهم ليصرفوها عن الأغراض الدنية إلى المطالب السنية فقيل
«ومن يرد» أي بعمله
«ثواب الدنيا نؤته» بنون العظمة على طريق الالتفات
«منها» أي من ثوابها ما نشاء أن نؤتيه إياه كما في قوله عز وجل من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد وهو تعريض بمن شغلتهم الغنائم يومئذ وقد مر تفصيله
«ومن يرد» أي بعمله
«ثواب الآخرة نؤته منها» أي من ثوابها ما نشاء من الأضعاف حسبما جرى به الوعد الكريم
«وسنجزي الشاكرين» نعمة الإسلام الثابتين عليه الصارفين لما آتاهم الله تعالى من القوى والقدر إلى ما خلقت هي لأجله من طاعة الله تعالى لا يلويهم
94

عن ذلك صارف أصلا والمراد بهم إما المجاهدون المعهودون من الشهداء وغيرهم وإما جنس الشاكرين وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قبله ووعد بالمزيد عليه وفي تصديرها بالسين وإبهام الجزاء من التأكيد والدلالة على فخامة شأن الجزاء وكونه بحيث يقصر عنه البيان مالا يخفى وقرئ الأفعال الثلاثة بالياء
«وكأين» كلام مبتدأ ناع عليهم تقصيرهم وسوء صنيعهم في صدودهم عن سنن الربانيين المجاهدين في سبيل الله مع الرسل الخالية عليهم السلام وكأين لفظة مركبة من كاف التشبيه وأي حدث فيها بعد التركيب معنى التكثير كما حدث في كذا وكذا والنون تنوين أثبتت في الخط على غير قياس وفيها خمس لغات هي إحداهن والثانية كائن مثل كاعن والثالثة كأين مثل كعين والرابعة كيئن بياء ساكنة بعدها همزة مكسورة وهي قلب ما قبلها والخامسة كأن مثل كعن وقد قرئ بكل منها ومحلها الرفع بالابتداء وقوله تعالى
«من نبي» تمييز لها لأنها مثل كم الخبرية وقد جاء تمييزها منصوبا كما في قوله
* أطرد اليأس بالرجاء فكأين
* أملاحم يسره بعد عسره
* وقوله تعالى
«قاتل معه ربيون كثير» خبر لها على أن الفعل مسند إلى الظاهر والرابط هو الضمير المجرور في معه وقرئ قتل وقتل على صيغة المبني للمفعول مخففة ومشددة والربي منسوب إلى الرب كالرباني وكسر الراء من تغييرات النسب وقرئ بضمها وبفتحها أيضا على الأصل وقيل هو منسوب إلى الربة وهي الجماعة أي كثير من الأنبياء قاتل معه لإعلاء كلمة الله وإعزاز دينه علماء أتقياء أو عابدون أو جماعات كثيرة فالظرف متعلق بقاتل أو بمحذوف وقع حالا من فاعله كما في القراءتين الأخيرتين إذ لا احتمال فيهما لتعلقه بالفعل أي قتلوا أو قتلوا كائنين معه في القتال لا في القتل قال سعيد بن جبير ما سمعنا بنبي قتل في القتال وقال الحسن البصري وجماعة من العظماء لم يقتل نبي في حرب قط وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبي والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا منه والرابط هو الضمير المجرور الراجع إليه وهذا واضح على القراءة المشهورة بلا خلاف أي كم من نبي قاتل كائنا معه في القتال ربيون كثير واما على القراءتين الأخيرتين فغير ظاهر لا سيما على قراءة التشديد وقد جوزه بعضهم وأيده بان مدار التوبيخ انخذالهم للإرجاف بقتله عليه السلام أي كم من نبي قتل كائنا معه في القتل أو في القتال ربيون الخ وقوله تعالى
«فما وهنوا» عطف عل قاتل على أن المراد به عدم الوهن المتوقع من القتال كما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه بحسب الظاهر لكنه بحسب الحقيقة صنع جديد مصحح لدخول الفاء المرتبة له على ما قبله أي فما فتروا وما انكسرت همتهم
«لما أصابهم» في أثناء القتال وهو علة للمنفي دون النفي نعم يشعر بعلته قوله تعالى
«في سبيل الله» فإن كون ذلك في سبيله عز وجل مما يقوي قلوبهم ويزيل وهنهم وما موصولة أو موصوفة فإن جعل الضميران لجميع الربيين فهي عبارة عما عدا القتل من الجراح وسائر المكاره المعترية
95

للكل وإن جعلا للبعض الباقين بعد ما قتل الآخرون كما هو الأنسب بمقام توبيخ المنخذلين بعد ما استشهد الشهداء فهي عبارة عما ذكر مع ما اعتراهم من قتل إخوانهم من الخوف والحزن وغير ذلك هذا على القراءة المشهورة وأما على القراءتين الأخيرتين فإن أسند الفعل إلى الربيين فالضميران للباقين منهم حتما وإن أسند إلى ضمير النبي كما هو النسب بالتوبيخ على الإنخذال بسبب الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام فهما للباقين أيضا إن اعتبر كون الربيين مع النبي في القتل وللجميع إن اعتبر كونهم معه في القتال
«وما ضعفوا» عن العدو وقيل عن الجهاد وقيل في الدين
«وما استكانوا» أي وما خضعوا للعدو وأصله استكن من السكون لأن الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده والألف من إشباع الفتحة أو استكون من الكون لأنه يطلب ان يكون لمن يخضع له وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والانكسار عند استيلاء الكفرة عليهم والإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بابن أبي المنافق في طلب الأمان من أبي سفيان
«والله يحب الصابرين» أي على مقاساة الشدائد ومعاناة المكاره في سبيل الله فينصرهم ويعظهم قدرهم والمراد بالصابرين إما المعهودون والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بحسن الصبر والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والجملة تذييل لما قبلها
«وما كان قولهم» كلام مبين لمحاسنهم القولية معطوف على ما قبله من الجمل المبينة لمحاسنهم الفعلية وقولهم بالنصب خبر لكان واسمها أن وما بعدها في قوله تعالى
«إلا أن قالوا» والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء ما كان قولا لهم عند أي لقاء للعدو واقتحام مضايق الحرب وإصابة ما أصابهم من فنون الشدائد والأهوال شئ من الأشياء إلا ان قالوا
«ربنا اغفر لنا ذنوبنا» أي صغائرنا
«وإسرافنا في أمرنا» أي تجاوزنا الحد في ركوب الكبائر أضافوا الذنوب والإسراف إلى أنفسهم مع كونهم ربانيين برءاء من التفريط في جنب الله تعالى هضما لها واستقصارا لهممهم وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم وقدموا الدعاء بمغفرتها على ما هو الأهم بحسب الحال من الدعاء بقولهم
«وثبت أقدامنا» أي في مواطن الحرب بالتقوية والتأييد من عندك أو ثبتنا على دينك الحق
«وانصرنا على القوم الكافرين» تقريبا له إلى حيز القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والخور والتزلزل في مواقف الحرب ومراصد الدين وفيه من التعريض بالمهزمين مالا يخفى وقرا ابن كثير وعاصم في رواية عنهما برفع قولهم على أنه الاسم والخبر أن وما في حيزها أي ما كان قولهم حينئذ شيئا من الأشياء الا هذا القول المنبىء عن أحاسن المحاسن وهذا كما ترى أقعد بحسب المعني وأوفق بمقتضي المقام لما ان الإخبار بكون قولهم المطلق خصوصية قولهم المحكى عنهم مفصلا كما تفيده قراءتهما أكثر إفادة للسامع
96

من الأخبار بكون خصوصية قولهم المذكور قولهم لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل الخبرية هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا يخفى أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل وأما ما تفيده الإضافة من لنسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة جمالية وتجعل عنوانا للموضوع لا مقصودا بالذات في باب البيان وإنما اختار الجمهور ما اختاره لقاعدة صناعية هي أنه إذا اجتمع معرفتان فالأعراف منهما أحق بالاسمية ولا ريب في أعرفية أن قالوا لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث ولأنه يشبه المضمر من حيث أنه لا يوصف ولا يوصف به وقولهم مضاف إلى مضمر فهو بمنزلة العلم فتأمل
«فآتاهم الله» بسبب دعائهم ذلك
«ثواب الدنيا» أي النصر والغنيمة والعز والذكر الجميل
«وحسن ثواب الآخرة» أي وثواب الآخرة الحسن وهو الجنة والنعيم المخلد وتخصيص وصف الحسن به للإيذان بفضله ومزيته وإنه المعتد به عنده تعالى
«والله يحب المحسنين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله فإن محبة الله تعالى للعبد عبارة عن رضاه عنه وإرادة الخير به فهي مبدأ لكل سعادة واللام إما للعهد وإنما وضع المظهر موضع ضمير المعهودين للإشعار بان ما حكى عنهم من الأفعال والأقوال من باب الإحسان وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا وهذا أنسب بمقام ترغيب المؤمنين في تحصيل ما حكى عنهم من المناقب الجليلة
«يا أيها الذين آمنوا» شروع في زجرهم عن متابعة الكفار ببيان استتباعها لخسران الدنيا والآخرة أثر ترغيبهم في الاقتداء بأنصار الأنبياء عليهم السلام ببيان إفضائه إلى فوزهم بسعادة الدارين وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار الاعتناء بما في حيزه ووصفهم بالإيمان لتذكير حالهم وتثبيتهم عليها بإظهار مباينتها لحال أعدائهم كما أن وصف المنافقين بالكفر في قوله تعالى
«إن تطيعوا الذين كفروا» لذلك قصدا إلى مزيد التنفير عنهم والتحذير عن طاعتهم قال على رضي الله عنه نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم فوقوع قوله تعالى
«يردوكم على أعقابكم» جوابا للشرط مع كونه في قوة أن يقال إن تطيعوهم في قولهم ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم يدخلوكم في دينهم باعتبار كونه تمهيدا لقوله تعالى
«فتنقلبوا خاسرين» أي للدنيا والآخرة غير فائزين بشئ منهما واقعين في العذاب الخالد على أن الارتداد على العقب علم في انتكاس الأمر ومثل في الحور بعد الكور وقيل المراد بهم اليهود والنصارى حيث كانوا يستغوونهم ويوقعون لهم الشبة في الدين ويقولون لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوما عليه ويوما له وقيل أبو سفيان وأصحابه والمراد بطاعتهم استئمانهم والاستكانة لهم وقيل الموصول على عمومه والمعنى نهى المؤمنين عن طاعتهم في أمر من الأمور حتى لا يستجروهم إلى الإرتداد عن الدين
97

فلا حاجة على هذه التقادير إلى ما مر من البيان
«بل الله مولاكم» إضراب عما يفهم من مضمون الشرطية كأنه قيل فليسوا أنصاركم حتى تطيعوهم بل الله ناصركم لا غيره فأطيعوه واستغنوا به عن موالاتهم وقرئ بالنصب كأنه قيل فلا تطيعوهم بل أطيعوا الله ومولاكم نصب على أنه صفة له
«وهو خير الناصرين» فخصوه بالطاعة والاستعانة
«سنلقي» بنون العظمة على طريقة الالتفات جريا على سنن الكبرياء لتربية المهابة وقرئ بالياء والسين لتأكيد الإلقاء
«في قلوب الذين كفروا الرعب» بسكون العين وقرئ بضمها على الصل وهو ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب ولهم القوة والغلبة وقيل ذهبوا إلى مكة فلما كانوا ببعض الطريق قالوا ما صنعنا شيئا قتلنا منهم ثم نركناهم ونحن قاهرون ارجعوا فاستأصلوهم فعند ذلك ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب فأمسكوا فلا بد من كون نزول الآية في تضاعيف الحرب أو عقيب انقضائه وقيل هو ما ألقى في قلوبهم من الرعب يوم الأحزاب
«بما أشركوا بالله» متعلق بنلقى دون الرعب وما مصدرية أي بسبب إشراكهم به تعالى فإنه من موجبات خذلانهم ونصر المؤمنين عليهم وكلاهما من دواعي الرعب
«ما لم ينزل به» أبي إشراكه
«سلطانا» أي حجة سميت به لوضوحها وإنارتها أو لقوتها أو لحدتها ونفوذها وذكر عدم تنزيلها مع استحالة تحققها في نفسها من قبيل قوله
* ولا ترى الضب بها ينجر
* أي لاضب ولا انحجار وفيه إيذان بأن المتبع في الباب هو البرهان السماوي دون الآراء والأهواء الباطلة
«ومأواهم» بيان لأحوالهم في الآخرة إثر بيان أحوالهم في الدنيا وهي الرعب أي ما يأوون إليه في الآخرة
«النار» لا ملجأ لهم غيرها
«وبئس مثوى الظالمين» أي مثواهم وإنما وضع موضعه المظهر المذكور للتغليظ والتعليل والإشعار بأنهم في إشراكهم ظالمون واضعون للشئ في غير موضعه والمخصوص بالذم محذوف أي بئس مثوى الظالمين النار وفي جعلها مثواهم بعد جعلها مأواهم نوع رمز إلى خلودهم فيها فإن المثوى مكان الإقامة المنبئة عن المكث وأما المأوى فهو المكان الذي يأوى إليه الإنسان
«ولقد صدقكم الله وعده» نصب على أنه مفعول ثان لصدق صريحا وقيل بنزع الجار أي في وعده نزلت حين قال ناس من المؤمنين عند رجوعهم إلى المدينة من أين أصابنا وقد وعدنا الله تعالى بالنصر وهو ما وعدهم على لسان نبيه غليه السلام من النصر حيث قال للرماة لا تبرحوا مكانكم
98

فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وفي رواية أخرى لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان وقد كان كذلك فإن المشركين لما أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمين على آثارهم يقتلونهم قتلا ذريعا وذلك قوله تعالى
«إذ تحسونهم» أي تقتلونهم قتلا كثيرا فاشيا من حسه إذا أبطل حسه وهو ظرف لصدقكم وقوله تعالى
«بإذنه» أي بتيسيره وتوفيقه لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر وقيل هو ما وعدهم بقوله تعالى «إن تصبروا وتتقوا» الآية وقد مر تحقيق أن ذلك كان يوم بدر كيف لا والموعود بما ذكر إمداده عز وجل بإنزال الملائكة عليهم السلام وتقييد صدق وعده تعالى بوقت قتلهم بإذنه تعالى صريح في أن الموعود هو النصر المعنوي والتيسير لا الإمداد بالملائكة وقيل هو ما وعده تعالى بقوله سنلقى الخ وأنت خبير بأن ألقاء الرعب كان عند تركهم القتال ورجوعهم من غير سبب أو بعد ذلك في الطريق على اختلاف الروايتين وأيا ما كان فلا سبيل إلى كونه مغيا بقوله تعالى
«حتى إذا فشلتم» أي جبنتم وضعف رأيكم أو ملتم إلى الغنيمة فإن الحرص من ضعف القلب
«وتنازعتم في الأمر» فقال بعض الرماة حين انهزم المشركون وولوا هاربين والمسلمون على أعقابهم قتلا وضربا فما موقفنا ههنا بعد هذا وقال أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه لا نخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فثبت مكانه في نفر دون العشرة من أصحابه ونفر الباقون للنهب وذلك قوله تعالى
«وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون» أي من الظفر والغنيمة وانهزام العدو فلما رأى المشركون ذلك حملوا عليهم من قبل الشعب وقتلوا أمير الرماة ومن معه من أصحابه حسبما فصل في تفسير قوله تعالى «أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم» وجواب إذا محذوف وهو منعكم نصره وقيل هو امتحنكم ويرده جعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر وقيل هو انقسمتم إلى قسمين كما ينبئ عنه قوله تعالى
«منكم من يريد الدنيا» وهم الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب
«ومنكم من يريد الآخرة» وهم الذين ثبتوا مكانهم حتى نالوا شرف الشهادة هذا على تقدير كون إذا شرطية وحتى ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية وقيل إذا اسم كما في قولهم إذا يقوم زيد يقوم عمرو وحتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى صدقكم باعتبار تضمنه لمعنى النصر كأنه قيل لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم الخ وعلى هذا فقوله تعالى
«ثم صرفكم عنهم» عطف على ذلك وعلى الأول عطف على الجواب المحذوف كما أشير إليه والجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين أي كفكم عنهم حتى حالت الحال ودالت الدولة وفيه من اللطف بالمسلمين مالا يخفى
«ليبتليكم» أي يعاملكم معاملة من يمتحنكم بالمصائب ليظهر ثباتكم على الإيمان عندها
«ولقد عفا عنكم» تفضلا ولما علم من ندمكم على المخالفة
«والله ذو فضل على المؤمنين» تذييل مقرر لمضمون ما قبله ومؤذن بأن ذلك العفو بطريق التفضل والإحسان لا بطريق الوجوب عليه أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال أديل لهم أو اديل عليهم إذ الابتلاء أيضا رحمة والتنكير للتفخيم والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون والإظهار في موقع الإضمار
للتشريف والإشعار بعلة الحكم وإما الجنس وهم داخلون في الحكم دخولا أوليا
99

«إذ تصعدون» متعلق بصرفكم أو بقوله تعالى ليبتليكم أو بمقدر كما ذكروا والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض وقرئ تصعدون من الثلاثي أي في الجبل وقرئ تصعدون من التفعل بطرح إحدى التاءين وقرئ يصعدون بالالتفات إلى الغيبة
«ولا تلوون على أحد» أي لا تلتفتون إلى ماوراءكم ولا يقف واحد منكم لواحد وقرئ تلون بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفا وقرئ يلوون كيصعدون
«والرسول يدعوكم» كان عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى عباد الله إلى عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وايراده عليه السلام بعنوان الرسالة للإبذان بأن دعوته عليه السلام كانت بطريق الرسالة من جهته سبحانه إشباعا في توبيخ المنهزمين
«في أخراكم» في ساقتكم وجماعتكم الأخرى
«فأثابكم» عطف على صرفكم اى فجازاكم الله تعالى بما صنعتم
«غما» موصولا
«بغم» من الاغتمام بالقتل والجرح وظفر المشركين والإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم وفوت الغنيمة فالتنكير للتكثير أو غما بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له
«لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم» أي لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع فات أو ضر آت وقيل لا زائدة والمعنى لتتأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم وقيل الضمير في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم أي واساكم في الاغتمام فاغتم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثر بكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيسا عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر وما أصابكم من الجراح وغير ذلك
«والله خبير بما تعملون» أي عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها
«ثم أنزل عليكم» عطف على قوله تعالى فأثابكم والخطاب للمؤمنين حقا
«من بعد الغم» أي الغم المذكور والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان وتذكير عظم النعمة كما في قوله تعالى ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا الآية
«أمنة» أي أمنا نصب على المفعولية وقوله تعالى
«نعاسا» بدل منها أو عطف بيان وقيل مفعول له أو هو المفعول وأمنه حال منه متقدمة عليه أو مفعول له أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوى أمنة أو على أنه جمع آمن كبار وبررة وقرئ بسكون الميم كأنها مرة من الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر
100

غير مرة من الاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم حينئذ لما أن المشركين لما انصرفوا كانوا يتوعدون المسلمين بالرجوع فلم يأمنوا كرتهم وكانوا تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى عليهم الأمنة فأخذهم النعاس قال ابن عباس رضي الله عنهما أمنهم يومئذ بنعاس تغشاهم بعد خوف وإنما ينعس من أمن والخائف لا ينام وقال الزبير رضي الله عنه كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأنزل الله علينا النوم والله لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه الا كالحلم يقول لو كان لنا من الأمر شيء ما قلنا إني ههنا وقال أبو طلحة رضى الله عنه رفعت رأسي يوم أحد فجعلت لا أرى أحدا من القوم إلا وهو يميد تحت حجفته من النعاس قال وكنت ممن ألقى عليه النعاس يومئذ فكان السيف يسقط من يدي فآخذه ثم يسقط السوط من يدي فآخذه وفيه دلالة على أن من المؤمنين من لم يلق عليه النعاس كما ينبئ عنه قوله عز وجل
«يغشى طائفة منكم» قال ابن عباس هم المهاجرون وعامة الأنصار ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل والجملة في محل النصب على انها صفة لنعاسا وقرئ بالتاء على أنها صفة لأمنه وفيه أن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه
«وطائفة قد أهمتهم أنفسهم» أي أوقعتهم في الهموم والأحزان أو ما بهم إلا هم أنفسهم وقصد خلاصها من قولهم همني الشئ أي كان من همتي وقصدى والقصر مستفاد بمعونة المقام وطائفة مبتدأ وما بعدها اما خبرها وإنما جاز ذلك مع كونها نكرة لاعتمادها على واو الحال كما في قوله
* سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا
* محياك أخفى ضوءه كل شارق
* أو لوقوعها في موضع التفصيل كما في قوله
* إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق
* وشق عندنا لم يحول
* وإما صفتها والخبر محذوف أي ومعكم طائفة أو وهناك وقيل تقديره ومنكم طائفة وفيه أنه يقتضى دخول المنافقين في الخطاب بإنزال الأمنة وأيا ما ما كان فالجملة إما
حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه كما في قوله تعالى «أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم» وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين وقوله عز وجل
«يظنون بالله» حال من ضمير أهمتهم أو من طائفة لتخصصها بالصفة أو صفة أخرى لها أو خبر بعد خبر أو استئناف مبين لما قبله وقوله تعالى
«غير الحق» في حكم المصدر أي يظنون به تعالى غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه وقوله تعالى
«ظن الجاهلية» بدل منه وهو الظن المختص بالملة الجاهلية والإضافة كما في حاتم الجود ورجل صدق وقوله تعالى
«يقولون» بدل من يظنون لما ان مسئلتهم كانت صادرة عن الظن أي يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد
«هل لنا من الأمر» أي من أمر الله تعالى ووعده من النصر والظفر
«من شيء» أي من نصيب قط أو هل لنا من التدبير من شئ وقوله تعالى
«قل إن الأمر كله لله» أي الغلبة بالآخرة لله تعالى ولأوليائه فإن حزب الله هم الغالبون أو ان التدبير كله لله فإنه تعالى قد دبر الأمر كما جرى في سابق قضائه فلا مرد له وقرئ كله بالرفع على الابتداء وقوله تعالى
«يخفون في أنفسهم» أي يضمرون فيها أو يقولون فيما بينهم بطريق الخفية
«ما لا يبدون لك» استئناف أو حال من ضمير يقولون وقوله تعالى إن الأمر الخ اعتراض بين الحال وصاحبها
101

أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وقوله تعالى
«يقولون» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل أي شئ يخفون فقيل يحدثون أنفسهم أو يقول بعضهم لبعض فيما بينهم خفية
«لو كان لنا من الأمر شيء» كما وعد محمد عليه الصلاة والسلام من ان الغلبة لله تعالى ولأوليائه وأن الأمر كله لله أو لو كان لنا من التدبير والرأي شئ
«ما قتلنا ها هنا» أي ما غلبنا أو ما قتل من قتل منا في هذه المعركة على أن النفي راجع إلى نفس القتل لا إلى وقوعه فيها فقط ولما برحنا من منازلنا كما رآه ابن أبي ويؤيده تعيين مكان القتل وكذا قوله تعالى
«قل لو كنتم في بيوتكم» أي لو لم تخرجوا إلى أحد وقعدتم بالمدينة كما يقولون
«لبرز الذين كتب عليهم القتل» أي في اللوح المحفوظ بسبب من الأسباب الداعية إلى البروز
«إلى مضاجعهم» إلى مصارعهم التي قدر الله تعالى قتلهم فيها وقتلوا هنالك البتة ولم تنفع العزيمة على الإقامة بالمدينة قطعا فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب وفيه مبالغة في رد مقالتهم الباطلة حيث لم يقتصر على تحقيق نفس القتل كما في قوله عز وجل أينما تكونوا يدرككم الموت بل عين مكانه أيضا ولا ريب في تعين زمانه أيضا لقوله تعالى «فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون» روى أن ملك الموت حضر مجلس سليمان عليه الصلاة والسلام فنظر إلى رجل من أهل المجلس نظرة هائلة فلما قام قال الرجل من هذا فقال سليمان عليه السلام ملك الموت قال ارسلني مع الريح إلى عالم آخر فإني رأيت منه مرأى هائلا فأمرها عليه السلام فألقته في قطر سحيق من أقطار العالم فما لبث أن عاد ملك الموت إلى سليمان عليه السلام فقال كنت أمرت بقبض روح ذلك الرجل في هذه الساعة في أرض كذا فلما وجدته في مجلسك قلت متى يصل هذا إليها وقد أرسلته بالريح إلى ذلك المكان فوجدته هناك فقضى أمر الله عز وجل في زمانه ومكانه من غير إخلال بشئ من ذلك وقرئ كتب على البناء للفاعل ونصب القتل وقرئ كتب عليهم القتال وقرئ لبرز بالتشديد على البناء للمعفول
«وليبتلي الله ما في صدوركم» أي ليعاملكم معاملة من يبتلى ما في صدوركم من الإخلاص والنفاق ويظهر ما فيها من السرائر وهو علة لفعل مقدر قبلها معطوفة على علل لها أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليبتلى الخ وجعلها عللا لبرز يأباه الذوق السليم فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض أو لفعل مقدر بعدها أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بأمر المؤمنين ونحو ذلك وتقدير الفعل مقدما خال عن هذه المزية
«وليمحص ما في قلوبكم» من مخفيات الأمور ويكشفها أو يخلصها من الوساوس
«والله عليم بذات الصدور» أي السرائر والضمائر الخفية التي لا تكاد تفارق الصدور بل تلازمها وتصاحبها والجمة إما اعتراض للتنبيه على أن الله تعالى غنى إن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لتمرين المؤمنين وإظهار حال المنافقين أو حال من متعلق الفعلين اي فعل ما فعل للابتلاء والتمحيص والحال أنه تعالى غنى عنهما محيط بخفيات الأمور وفيه وعد ووعيد
102

«إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان»
وهم الذين انهزموا يوم أحد حسبما مرت حكايتهم
«إنما استزلهم الشيطان» أي إنما كان سبب انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل
«ببعض ما كسبوا» من الذنوب والمعاصي التي هي مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وترك المركز والحرص على الغنيمة أو الحياة فحرموا التأييد وقوة القلب وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها إلى بعض كالطاعة وقيل استزلهم بذنوب سبقت منهم وكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة
والخروج من المظلمة
«ولقد عفا الله عنهم» لتوبتهم واعتذارهم
«إن الله غفور» للذنوب
«حليم» لا يعاجل بعقوبة المذنب ليتوب والجملة تعليل لما قبلها على سبيل التحقيق وفي إظهار الجلالة تربية للمهابة وتأكيد للتعليل
«يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا» وهم المنافقون القائلون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا وإنما ذكر في صدر الصلة كفرهم تصريحا بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيرا عن مماثلتهم أثر ذي أثير وقوله تعالى
«وقالوا لإخوانهم» تعيين لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها أي قالوا لأجلهم وفي حقهم ومعنى أخوتهم اتفاقهم نسبا أو مذهبا
«إذا ضربوا في الأرض» أي سافروا فيها وأبعدوا للتجارة أو غيرها وإيثار إذا المفيدة لمعنى الاستقبال على إذا المفيدة المعنى لحكاية الحال الماضية إذ المراد بها الزمان المستمر المنتظم للحال الذي عليه يدور أمر استحضار الصورة قال الزجاج إذا ههنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعنى أنها لمجرد الوقت أو يقصد بها الاستمرار وظرفيتها لقولهم إنما هي باعتبار ما وقع فيها بل التحقيق أنها ظرف له لا لقولهم كأنه قيل قالوا لأجل ما أصاب إخوانهم حين ضربوا الخ
«أو كانوا» أي إخوانهم
«غزى» جمع غاز كعفى جمع عاف قال
* ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى
* لها قلب عفى الحياض أجون
* وقرئ بتخفيف الزاي على حذف التاء من غزاة وإفراد كونهم غزاة بالذكر مع اندراجه تحت الضرب في الأرض لأنه المقصود بيانه في المقام وذكر الضرب في الأرض توطئة له وتقديمه لكثرة وقوعه على أنه قد يوجد بدون الضرب في الأرض إذ المراد به السفر البعيد وإنما لم يقل أو غزوا للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو بانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى وقوله تعالى
«لو كانوا عندنا» أي مقيمين
«ما ماتوا وما قتلوا» مفعول لقالوا ودليل على أن هناك مضمرا قد حذف ثقة به أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا وليس المقصود بالنهى عدم مماثلتهم في النطق بهذا القول بل في الاعتقاد بمضمونه والحكم بموجبه كما أنه المنكر على قائليه ألا يرى إلى قوله عز وجل
«ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم» فإنه الذي جعل حسرة فيها قطعا وإليه أشير كما نقل عن الزجاج أنه إشارة إلى ظنهم أنهم لو لم يحضروا القتال لم يقتلوا وتعلقه بقالوا ليس باعتبار نطقهم بذلك القول بل باعتبار ما فيه من الحكم والاعتقاد واللام
103

لام العاقبة كما في قوله تعالى ليكون لهم عدوا وحزنا أي قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم والمراد بالتعليل المذكور بيان عدم ترتب فائدة ما على ذلك أصلا وقيل هو تعليل للنهي بمعنى لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله تعالى حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم فذلك كما مر إشارة إلى ما دل عليه قولهم من الاعتقاد ويجوز أن يكون إشارة إلى ما دل عليه النهى أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم فإن مضادتكم لهم في القول والاعتقاد مما يغمهم ويغيظهم
«والله يحيي ويميت» رد لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي هو المؤثر في الحياة والممات وحده من غير أن يكون للإقامة أو للسفر مدخل في ذلك فإنه تعالى قد يحيى المسافر والغازى مع اقتحامهما لموارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد مع حيازتهما لأسباب السلامة
«والله بما تعملون بصير» تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم وقرئ بالياء على أنه وعيد للذين كفروا وما يعملون عام متناول لقولهم المذكور ولمنشئه الذي هو اعتقادهم ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإلقاء الروعة والمبالغة في التهديد والتشديد في الوعيد
«ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم» شروع في تحقيق أن ما يحذرون ترتبه على الغزو والسفر من القتل والموت في سبيل الله تعالى ليس مما ينبغي أن يحذر بل مما يجب أن يتنافس المتنافسون إثر إبطال ترتبه عليهما واللام هي الموطئة للقسم وما في قوله تعالى
«لمغفرة من الله ورحمة» لام الابتداء والتنوين في الموضعين للتقليل ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة للمبتدأ وقد حذفت صفة رحمة لدلالة المذكور عليها والجملة جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط والمعنى أن السفر والغزو ليس مما يجلب الموت ويقدم الأجل أصلا ولئن وقع ذلك بأمر الله تعالى لنفحة يسيرة من مغفرة ورحمة كائنتين من الله تعالى بمقابلة ذلك
«خير مما يجمعون» أي الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدة أعمارهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء وقرئ بالتاء أي مما تجمعونه أنتم لو لم تموتوا والاقتصار على بيان خيريتهما من ذلك بلا تعرض للإخبار بحصولهما لهم للإيذان بعدم الحاجة إليه بناء على استحالة التخييب منه تعالى بعد الأطماع وقد قيل لا بد من حذف آخر أي لمغفرة لكم من الله الخ وحينئذ يكون أيضا إخراج المقدر مخرج الصفة دون الخبر لنحو ما ذكر من ادعاء الظهور والغنى عن الإخبار به
وتغيير الترتيب الواقع في قولهم ما ماتوا وما قتلوا المبنى على كثرة الوقوع وقلته للمبالغة في الترغيب في الجهاد ببيان زيادة مزية القتل في سبيل الله وإنافته في استجلاب المغفرة والرحمة وفيه دلالة واضحة على ما مر من أن المقصود بالنهى إنما هو عدم مماثلتهم في الاعتقاد بمضمون القول المذكور والعمل بموجبه لا في النطق به وإضلال الناس به
«ولئن متم أو قتلتم» أي على أي وجه أتفق هلاككم حسب تعلق الإرادة الإلهية وقرئ متم بكسر الميم من مات
104

يمات
«لإلى الله» أي إلى المعبود بالحق العظيم الشأن الواسع الرحمة الجزيل الإحسان
«تحشرون» لا إلى غيره فيوفيكم أجوركم ويجزل لكم عطاءكم والكلام في لامي الجملة كما مر في أختها
«فبما رحمة من الله لنت لهم» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبئ عنه السياق من استحقاقهم اللأئمة والتعنيف بموجب الجبلة البشرية أو من سعة ساحة مغفرته تعالى ورحمته والباء متعلقة بلنت قدمت عليه للقصر وما مزيدة للتوكيد أو نكرة ورحمة بدل منها مبين لإبهامها والتنوين للتفخيم ومن متعلقه بمحذوف وقع صفة لرحمة أي فبرحمة عظيمة لهم كائنة من الله تعالى وهي ربطه على جأشه وتخصيصه بمكارم الأخلاق كنت لين الجانب لهم وعاملتهم بالرفق والتلطف بهم حيث اغتممت لهم بعد ما كان منهم ما كان من مخالفة أمرك وإسلامك للعدو
«ولو» لم تكن كذلك بل
«كنت فظا» جافيا في المعاشرة قولا وفعلا وقال الراغب الفظ هو الكريه الخلق وقال الواحدي هو الغليظ الجانب السئ الخلق
«غليظ القلب» قاسية وقال الكلبي فظا في القول غليظ القلب في الفعل
«لانفضوا من حولك» لتفرقوا من عندك ولم يسكنوا إليك وتردوا في مهاوى الردى والفاء في قوله عز وجل
«فاعف عنهم» لترتيب العفو أو الأمر به على ما قبله أي إذا كان الأمر كما ذكر فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك كما عفا الله عنهم
«واستغفر لهم» الله فيما يتعلق بحقوقه تعالى إتماما للشفقة عليهم وإكمالا للبر بهم
«وشاورهم في الأمر» أي في أمر الحرب إذ هو المعهود أو فيه وفي أمثاله مما تجرى فيه المشاورة عادة استظهارا بآرائهم وتطييبا لقلوبهم وتمهيدا لسنة المشاورة للأمة وقرئ وشاورهم في بعض الأمر
«فإذا عزمت» أي عقيب المشاورة على شئ وأطمأنت به نفسك
«فتوكل على الله» في إمضاء أمرك على ما هو أرشد لك وأصلح فإنه علمه مختص به سبحانه وتعالى وقرئ فإذا عزمت على صيغة التكلم أي عزمت لك على شئ وأرشدتك إليه فتوكل على ولا تشاور بعد ذلك أحدا والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل أو الأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكمال مستدع للتوكل عليه تعالى أو الأمر به
«إن الله يحب المتوكلين» عليه تعالى فينصرهم ويرشدهم إلى ما فيه خير لهم وصلاح والجملة تعليل للتوكل عليه تعالى وقوله تعالى
«إن ينصركم الله فلا غالب لكم» جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفا للمؤمنين لإيجاب توكلهم عليه تعالى وحثهم على اللجأ إليه وتحذيرهم عما يفضى إلى خذلانه أي إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفى الجنس المنتظم لنفى جميع أفراد الغالب ذاتا وصفة ولو قيل فلا يغلبكم أحد لدل على نفى الصفة فقط ثم المفهوم من ظاهر النظم
105

الكريم وإن كان نفى مغلوبيتهم من غير تعرض لنفى المساواة أيضا وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهما قطعيا هو نفى المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين فإذا قلت لا أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمفهوم منه حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص له بالنفي لصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا في مواقع كثيرة من التنزيل ومما هو نص قاطع فيما ذكرنا ما وقع في سورة هود حيث قيل بعده في حقهم لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون فإن كونهم أخسر من كل خاسر يستدعى قطعا كونهم أظلم من كل ظالم
«وإن يخذلكم» كما فعل يوم أحد وقرئ يخذلكم من أخذله إذا جعله مخذولا
«فمن ذا الذي ينصركم» استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر ذاتا وصفة بطريق المبالغة
«من بعده» أي من بعد خذلانه تعالى أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه
«وعلى الله فليتوكل المؤمنون» تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة قصره عليه تعالى والفاء لترتيبه أو ترتيب الأمر به على ما مر من غلبة المخاطبين على تقدير نصرته تعالى لهم ومغلوبيتهم على تقدير خذلانه تعالى إياهم فإن العلم بذلك مما يقتضى قصر التوكل عليه تعالى لا محالة والمراد بالمؤمنين إما الجنس والمخاطبون داخلون فيه دخولا أوليا واما هم خاصة بطريق الالتفات وأيا ما كان ففيه تشريف لهم بعنوان الايمان اشتراكا أو استقلالا وتعليل لتحتم التوكل عليه تعالى فإن وصف الايمان مما يوجبه قطعا
«وما كان لنبي» أي وما صح لنبي من الأنبياء ولا استقام له
«أن يغل» أي يخون في المغنم فإن النبوة تنافيه منافاة بينه يقال غل شيئا من المغنم يغل غلولا وأغل إغلالا إذا أخذه خفية والمراد اما تنزيه ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما ظن به الرماة يوم أحد حين تركوا المركز وأفاضوا في الغنيمة وقالوا نخشى أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري فقالوا تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال عليه السلام بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم بينكم واما المبالغة في النهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روى أنه بعث طلائع فغنم النبي صلى الله عليه وسلم بعدهم غنائم فقسمها بين الحاضر ولم يترك للطلائع شيئا فنزلت والمعنى ما كان لنبي أن يعطي قوما من العسكر ويمنع آخرين بل عليه أن يقسم بين الكل بالسوية وعبر عن حرمان بعض الغزاة بالغلول تغليظا وأما ما قيل من أن المراد تنزيهه عليه السلام عما تفوه به بعض المنافقين إذ روى أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فبعيد جدا وقرئ على البناء للمفعول والمعنى ما كان له أن يوجد غالا أو ينسب إلى الغلول
«ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة» يأت بالذي غله بعينه يحمله على عنقه كما ورد في الحديث الشريف وروى أنه عليه السلام قال ألا لا أعرفن أحدكم يأتي ببعير له رغاء وببقرة لها خوار وبشارة لها ثغاء فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا فقد بلغتك أو يأت
106

بما احتمل من اثمه ووباله
«ثم توفى كل نفس ما كسبت» أي تعطى وافيا جزاء ما كسبت خيرا أو شرا كثيرا أو يسيرا ووضع المكسوب موضع جزائه تحقيقا للعدل ببيان ما بينهما من تمام التناسب كما وكيفا كأنهما شيء واحد وفي اسناد التوفية إلى كل كاسب وتعليقها بكل مكسوب مع أن المقصود بيان حال الغال عند اتيانه بما غله يوم القيامة من الدلالة على فخامة شأن اليوم وهول مطلعه والمبالغة في بيان فظاعة حال الغال مالا يخفى فإنه حيث وفى كل كاسب جزاء ما كسبه ولم ينقص منه شيء وان كان جرمه في غاية القلة والحقارة فلأن لا ينقص من جزاء الغال شيء وجرمه من أعظم الجرائم وأظهر وأجلى
«وهم» أي كل الناس المدلول عليهم بكل نفس
«لا يظلمون» بزيادة عقاب أو بنقص ثواب
«أفمن اتبع رضوان الله» أي سعى في تحصيله وانتحى نحوه حيثما كان بفعل الطاعات وترك المنكرات كالنبي ومن يسير بسيرته
«كمن باء» أي رجع
«بسخط» عظيم لا يقادر قدره كائن
«من الله» تعالى بسبب معاصيه كالغال ومن يدين بدينه والمراد تأكيد نفي الغلول عن النبي عليه الصلاة والسلام وتقريره بتحقيق المباينة الكلية بينه وبين الغال حيث وصف كل منهما ما وصف به الآخر فقوبل رضوانه تعالى بسخطه والاتباع بالبوء والجمع بين الهمزة والفاء لتوجيه الانكار إلى ترتب توهم المماثلة بينهما والحكم بها على ما ذكر من حال الغال كأنه قيل أبعد ظهور حاله يكون من ترقي إلى أعلى عليين كمن تردى إلى أسفل سافلين واظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لإدخال الروعة وتربية المهابة
«ومأواه جهنم» اما كلام مستأنف مسوق لبيان مآل أمر من باء بسخطه تعالى واما معطوف على قوله تعالى باء بسخط عطف الصلة الاسمية على الفعلية وأيا ما كان فلا محل له من الاعراب
«وبئس المصير» اعتراض تذييلي والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المصير جهنم والفرق بينه وبين المرجع أن الأول يعتبر فيه الرجوع على خلاف الحالة الأولى بخلاف الثاني
«هم» راجع إلى الموصولين باعتبار المعنى
«درجات عند الله» أي طبقات متفاوتة في علمه تعالى وحكمه شبهوا في تفاوت الأحوال وتباينها بالدرجات مبالغة وايذانا بأن بينهم تفاوتا ذاتيا كالدرجات أو ذوو درجات
«والله بصير بما يعملون» من الأعمال ودرجاتها فيجازيهم بحسبها
«لقد من الله» جواب قسم محذوف أي والله لقد من أي أنعم
«على المؤمنين» أي من قومه عليه السلام
«إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم» أي من نسبهم أو من جنسهم عربيا مثلهم ليفقهوا كلامه بسهولة ويكونوا واقفين على حاله في الصدق والأمانة مفتخرين به وفي ذلك شرف لهم عظيم قال الله تعالى وانه لذكر لك ولقومك وقرئ من أنفسهم أي أشرفهم فإنه عليه السلام
107

كان من أشرف قبائل العرب وبطونها وقرئ لمن من الله على المؤمنين إذ بعث الخ على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي منه إذ بعث الخ أو على أن إذ في محل الرفع على الابتداء بمعنى لمن من الله على المؤمنين من وقت بعثه وتخصيصهم بالامتنان مع عموم نعمة البعثة للأسود والأحمر لما مر من مزيد انتفاعهم بها وقوله تعالى من أنفسهم متعلق بمحذوف وقع صفة لرسولا أي كائنا من أنفسهم وقوله تعالى
«يتلو عليهم آياته» صفة أخرى أي يتلو عليهم القرآن بعدما كانوا أهل جاهلية لم يطرق أسماعهم شيء من الوحي
«ويزكيهم» عطف على يتلو أي يطهرهم من دنس الطبائع وسوء العقائد وأوضار الأوزار
«ويعلمهم الكتاب والحكمة» أي القرآن والسنة وهو صفة أخرى لرسولا مترتبة في الوجود على التلاوة وإنما وسط بينهما التزكية التي هي عبارة عن تكميل النفس بحسب القوة العملية وتهذيبها المتفرع على تكميلها بحسب القوة النظرية الحاصل بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كل واحد من الأمور المترتبة نعمة جليلة على حيالها مستوجبة للشكر فلو روعى ترتيب الوجود كما في قوله تعالى ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم لتبادر إلى الفهم عد الجميع نعمة واحدة وهو السر في التعبير عن القرآن بالآيات تارة وبالكتاب والحكمة أخرى رمزا إلى أنه باعتبار كل عنوان نعمة على حدة ولا يقدح في ذلك شمول الحكمة لما في مطاوي الأحاديث الكريمة من الشرائع كما سلف في سورة البقرة
«وإن كانوا من قبل» أي من قبل بعثته عليه السلام وتزكيته وتعليمه
«لفي ضلال مبين» أي بين لا ريب في كونه ضلالا وان هي المخففة من المثقلة وضمير الشأن محذوف واللام فارقة بينها وبين النافية والظرف الأول لغو متعلق بكان والثاني خبرها وهي مع خبرها خبر لأن المخففة التي حذف اسمها اعني ضمير الشأن وقيل هي نافية واللام بمعنى الا أي وما كانوا من قبل الا في ضلال مبين وأيا ما كان فالجملة اما حال من الضمير المنصوب في يعلمهم أو مستأنفة وعلى التقديرين فهي مبينة لكمال النعمة وتمامها
«أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا» كلام مبتدأ مسوق لإبطال بعض ما صدر عنهم من الظنون الفاسدة والأقاويل الباطلة الناشئة منها إثر إبطال بعض آخر منها والهمزة للتقريع والتقرير والواو عاطفة لمدخولها على محذوف قبلها ولما ظرف لقلتم مضاف إلى ما بعده وقد أصبتم في محل الرفع على أنه صفة لمصيبة والمراد بها ما أصابهم يوم أحد من قتل سبعين منهم وبمثليها ما أصاب المشركين يوم بدر من قتل سبعين منهم وأسر سبعين وأنى هذا مقول قلتم وتوسيط الظرف وما يتعلق به بينه وبين الهمزة مع أنه المقصود إنكاره والمعطوف بالواو حقيقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع فإن فعل القبيح في غيره وقته أقبح والإنكار على فاعله أدخل والمعنى أحين أصابكم من المشركين نصف ما قد أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا وقد تقدم الوعد بالنصر على توجيه الإنكار والتقريع إلى صدور ذلك القول عنهم في
108

ذلك الوقت خاصة بناء على عدم كونه مظنة له داعيا إليه بل على كونه داعيا إلى عدمه فإن كون مصيبة عدوهم ضعف مصيبتهم مما يهون الخطب ويورث السلوة أو أفعلتم ما فعلتم ولما أصابتكم غائلته أنى هذا على توجيه الإنكار إلى استبعادهم الحادثة مع مباشرتهم لسببها وتذكير اسم الإشارة في أنى هذا مع كونه إشارة إلى المصيبة ليس لكونها عبارة عن القتل ونحوه بل لما أن إشارتهم ليست إلا إلى ما شاهدوه في المعركة من حيث هو هو من غير أن يخطر ببالهم تسميته باسم ما فضلا عن تسميته باسم المصيبة وإنما هي عند الحكاية وقوله عز وجل
«قل هو من عند أنفسكم» أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب عن سؤالهم الفاسد إثر تحقيق فساد بالإنكار والتقريع ويبكتهم أن ما نالهم إنما نالهم من جهتهم بتركهم المركز وحرصهم على الغنيمة وقيل باختيارهم الخروج من المدينة ويأباه أن الوعد بالنصر كان بعد ذلك كما ذكر عند قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده الآية وأن عمل النبي صلى الله عليه وسلم بموجبه قد رفع الخطر عنه وخفف جنايتهم فيه على أن اختيار الخروج والإصرار عليه كان ممن أكرمهم الله تعالى بالشهادة يومئذ وأين هم من التفوه بمثل هذه الكلمة وقيل بأخذهم الفداء يوم بدر قبل أن يؤذن لهم والأول هو الأظهر الأقوى وإنما يعضده توسيط خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم بين الخطابين المتوجهين إلى المؤمنين وتفويض التبكيت إليه عليه السلام فإن توبيخ الفاعل على الفعل إذا كان ممن نهاه عنه كان أشد تأثيرا
«إن الله على كل شيء قدير» ومن جملته النصر عند الطاعة والخذلان عند المخالفة وحيث خرجتم عن الطاعة أصابكم منه تعالى ما أصابكم والجملة تذييل والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها داخل تحت الأمر
«وما أصابكم» رجوع إلى خطاب المؤمنين إثر خطابه عليه السلام بسر يقتضيه وإرشاد لهم إلى طريق الحق فيما سألوا عنه وبيان لبعض ما فيه من الحكم والمصالح ودفع لما عسى أن يتوهم من قوله تعالى هو من عند أنفسكم من استقلالهم في وقوع الحادثة والعدول عن الإضمار إلى ما ذكر للتهويل وزيادة التقرير ببيان وقته بقوله تعالى
«يوم التقى الجمعان» أي جمعكم وجمع المشركين
«فبإذن الله» أي فهو كائن بقضائه وتخليته الكفار سمى ذلك إذنا لكونها من لوازمه
«وليعلم المؤمنين» عطف على قوله تعالى فبإذن الله عطف المسبب على السبب والمراد بالعلم التمييز والإظهار فيما بين الناس
«وليعلم الذين نافقوا» عطف على ما قبله من مثله وإعادة الفعل لتشريف المؤمنين وتنزيههم عن الانتظام في قرن المنافقين وللإيذان باختلاف حال العلم بحسب التعلق بالفريقين فإنه متعلق بالمؤمنين على نهج تعلقه السابق وبالمنافقين على وجه جديد وهو السر في إيراد الأولين بصيغة اسم الفاعل المنبئة عن الاستمرار والآخرين بموصول صلته فعل دال على الحدث والمعنى وما
109

أصابكم يومئذ فهو كائن لتمييز الثابتين على الإيمان والذين أظهروا النفاق
«وقيل لهم» عطف على نافقوا داخل معه في حيز الصلة أو كلام مبتدأ قال ابن عباس رضى الله عنهما هم عبد الله بن أبي وأصحابه حيث انصرفوا يوم أحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم ودعاهم إلى القتال وذلك قوله تعالى
«تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا» قال السدى ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقيل أو ادفعوا عن أهلكم وبلدكم وحريمكم إن لم تقاتلوا في سبيل الله
تعالى وترك العطف بين تعالوا وقاتلوا لما أن المقصود بهما واحد وهو الثاني وذكر الأول توطئة له وترغيب فيه لما فيه من الدلالة على التظاهر والتعاون
«قالوا» استئناف وقع جوابا عن سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا صنعوا حين خيروا بين الخصلتين المذكورتين فقيل قالوا
«لو نعلم قتالا لاتبعناكم» أي لو نحسن قتالا ونقدر عليه وإنما قالوه دغلا واستهزاء وإنما عبر عن نفى القدرة على القتال بنفي العلم به لما أن القدرة على الأفعال الاختيارية مستلزمة للعلم بها أو لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال أصلا وإنما هو إلقاء النفس إلى التهلكة وفي جعلهم التالي مجرد الاتباع دون القتال الذي هو المقصود بالدعوة دليل على كمال تثبيطهم عن القتال حيث لا ترضي نفوسهم بجعله تاليا لمقدم مستحيل الوقوع
«هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان» الضمير مبتدأ وأقرب خبره واللام في للكفر وللإيمان متعلقة به وكذا يومئذ ومنهم وعدم جواز تعلق حرفين متحدين لفظا ومعنى بعامل واحد بلا عطف أو بدلية إنما هو فيما عدا أفعل التفضيل من العوامل لاتحاد حيثية عملها وأما أفعل التفضيل فحيث دل على أصل الفعل وزيادته جرى مجرى عاملين كأنه قيل قربهم للكفر زائدة على قربهم للإيمان وقيل تعلق الجارين به لشبههما بالظرفين أي هم للكفر يوم إذ قالوا ما قالوا أقرب منهم للإيمان فإنهم كانوا قبل ذلك يتظاهرون بالإيمان وما ظهرت منهم أمارة مؤذنة بكفرهم فلما انخذلوا عن عسكر المسلمين وقالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم واقتربوا من الكفر وقيل هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان لأن تقليل سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين وقوله تعالى
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم جمله مستأنفه مقرره لمضمون ما قبلها وذكر الأفواه والقلوب تصوير لنفاقهم وتوضيح لمخالفه ظاهرهم لباطنهم وما عبارة عن القول والمراد به إما نفس الكلام الظاهر في اللسان وتارة وفي القلب أخرى فالمثبت والمنفى متحدان ذاتا وإن اختلفا مظهرا وإما القول الملفوظ فقط فالمنفى حينئذ منشؤه الذي لا ينفك عنه القول أصلا وإنما عبر عنه به إبانة لما بينهما من شدة الاتصال أي يتفوهون بقول لا وجود له أو لمنشئه في قلوبهم أصلا من الأباطيل التي من جملتها ما حكى عنهم آنفا فأنهم أظهروا فيه أمرين ليس في قلوبهم شئ منهما أحدهما عدم العلم بالقتال والآخر الاتباع على تقدير العلم به وقد كذبوا فيهما كذبا بينا حيث كانوا عالمين به غير ناوين للاتباع بل كانوا مصرين مع ذلك على الانخذال عازمين على الارتداد وقوله عز وجل
«والله أعلم بما يكتمون» زيادة تحقيق لكفرهم ونفاقهم ببيان اشتغال قلوبهم بما يخالف أقوالهم من فنون الشر والفساد إثر بيان خلوها عما يوافقها وصيغة التفضيل لما أن بعض ما يكتمونه من أحكام النفاق وذم المؤمنين وتخطئة آرائهم والشماتة بهم وغير ذلك يعلمه المؤمنون على وجه الإجمال وأن تفاصيل ذلك
110

وكيفياته مختصة بالعلم الإلهى
«الذين قالوا» مرفوع على أنه بدل من واو يكتمون أو خبر لمبتدأ محذوف وقيل مبتدأ خبره قل فادرؤا بحذف العائد تقديره قل لهم الخ أو منصوب على الذم أو على أنه نعت للذين نافقوا أو بدل منه وقيل مجرور على أنه بدل من ضمير أفواهم أو قلوبهم كما في قوله
* على جوده لضن بالماء حاتم
* والمراد بهم عبد الله بن أبي وأصحابه
«لإخوانهم» أي لأجلهم وهم من قتل يوم أحد من جنسهم أو من أقاربهم فيندرج فيهم بعض الشهداء
«وقعدوا» حال من ضمير قالوا بتقدير قد أي قالوا وقد قعدوا عن القتال بالانخذال
«لو أطاعونا» أي فيما أمرناهم به ووافقونا في ذلك
«ما قتلوا» كما لم نقتل وفيه إيذان بأنهم أمروهم بالانخذال حين انخذلوا وأغووهم كما غووا وحمل القعود على ما استصوبه ابن أبي عند المشاورة من الإقامة بالمدينة ابتداء وجعل الإطاعة عبارة عن قبول راية والعمل به يرده كون الجملة حالية فإنها لتعيين ما فيه العصيان والمخالفة مع أن ابن أبى ليس من القاعدين فيها بذلك المعنى على أن تخصيص عدم الطاعة بإخوانهم ينادى باختصاص الأمر أيضا بهم فيستحيل أن يحمل على ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم عند المشاورة
«قل» تبكيتا لهم وإظهار لكذبهم
«فادرؤوا عن أنفسكم الموت» جواب لشرط قد حذف تعويلا على ما بعده من قوله تعالى
«إن كنتم صادقين» كما أنه شرط حذف جوابه لدلالة الجواب المذكور عليه أي أن كنتم صادقين فيما ينبئ عنه قولكم من أنكم قادرون على دفع القتل عمن كتب عليه فادفعوا عن أنفسكم الموت الذي كتب عليكم معلقا بسبب خاص موقتا بوقت معين بدفع سببه فإن أسباب الموت في إمكان المدافعة بالحيل وامتناعها سواء وأنفسكم أعز عليكم من إخوانكم وأمرها أهم لديكم من أمرهم والمعنى أن عدم قتلكم كان بسبب أنه لم يكن مكتوبا عليكم لا بسبب أنكم دفعتموه بالقعود ودمع كتابته عليكم فإن ذلك مما لا سبيل اليه بل قد يكون القتال سببا للنجاة والقعود مؤديا إلى الموت روى انه مات يوم قالوا ما قالوا سبعون منافقا وقيل أريد إن كنتم صادقين في مضمون الشرطية والمعنى انهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين كما قتلوا مقاتلين فقوله تعالى فادرءوا عن أنفسكم الموت حينئذ استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادرءوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا كما درأتم في زعمكم هذا السبب الخاص
«ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا» كلام مستأنف مسوق لبيان أن القتل الذي يحذرونه ويحذرون الناس منه ليس مما يحذر بل هو من أجل المطالب التي يتنافس فيها المتنافسون إثر بيان أن الحذر لا يجدى ولا يغني وقرئ ولا تحسبن بكسر السين والمراد بهم شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطالب ومصعب بن عمير وعثمان بن شهاب وعبد الله بن جحش وباقيهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم أجمعين والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل
أحد ممن له حظ من الخطاب وقرئ بالياء على
111

الإسناد إلى ضميره عليه السلام أو ضمير من يحسب وقيل إلى الذين قتلوا والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة والتقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا على أن المراد من توجيه النهي إليهم تنبيه السامعين على أنهم أحقاء بأن يسلوا بذلك ويبشروا بالحياة الأبدية والكرامة السنية والنعيم المقيم لكن لا في جميع أوقاتهم بل عند ابتداء القتل إذ بعد تبين حالهم لهم لا يبقى لاعتبار تسليتهم وتبشيرهم فائدة ولا لتنبيه السامعين وتذكيرهم وجه وقرئ قتلوا بالتشديد لكثرة المقتولين
«بل أحياء» أي بل هم احياء وقرئ منصوبا أي بل أحسبهم احياء على أن الحسبان بمعنى اليقين كما في قوله
* حسبت التقى والمجد خير تجارة
* رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
* أو على انه وارد على طريق المشاكلة
«عند ربهم» في محل الرفع على أنه خبر ثان للمبتدأ المقدر أو صفة لأحياء أو في محل النصب على انه حال من الضمير في أحياء وقيل هو ظرف لأحياء أو للفعل بعده والمراد بالعندية التقرب والزلفى وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم مزيد تكرمة لهم
«يرزقون» أي من الجنة وفيه تأكيد لكونهم احياء وتحقيق لمعنى حياتهم قال الإمام الواحدي الأصح في حياة الشهداء ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن أرواحهم في أجواف طيور خضر وأنهم يرزقون ويأكلون ويتنعمون وروى عنه عليه السلام أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طيور خضر تدور في أنهار الجنة وروى ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش وفيه دلالة على أن روح الإنسان جسم لطيف لا يفنى بخراب البدن ولا يتوقف عليه إدراكه وتألمه والتذاذه ومن قال بتجريد النفوس البشرية يقول المراد أن نفوس الشهداء تتمثل طيورا خضرا أو تتعلق بها فتلتذ بما ذكر وقيل المراد انها تتعلق بالأفلاك والكواكب فتلتذ بذلك وتكتسب زيادة كمال
«فرحين بما آتاهم الله من فضله» وهو شرف الشهادة والفوز بالحياة الأبدية والزلفى من الله عز وجل والتمتع بالنعيم المخلد عاجلا
«ويستبشرون» يسرون بالبشارة
«بالذين لم يلحقوا بهم» أي بإخوانهم الذين لم يقتلوا بعد في سبيل الله فيلحقوا بهم
«من خلفهم» متعلق بيلحقوا والمعنى انهم بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم أو بمحذوف وقع حالا من فاعل يلحقوا أي لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلفين عنهم باقين في الدنيا
«ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون» بدل من الذين بدل اشتمال مبين لكون استبشارهم بحال إخوانهم لا بذواتهم وأن هي المخففة من أن واسمها ضمير الشأن المحذوف وخبرها الجملة المنفية أي ويستبشرون بما تبين لهم من حسن حال إخوانهم الذين تركوهم وهو أنهم عند قتلهم يفوزون بحياة أبدية لا يكدرها خوف وقوع محذور ولا حزن فوات مطلوب أو لا خوف عليهم في الدنيا من القتل فإنه عين الحياة التي يجب أن يرغب فيها فضلا
112

عن أن تخاف وتحذر أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا انه يعتريهم ذلك لكنهم لا يخافون ولا يحزنون والمراد بيان دوام انتفاء الخوف والحزن لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا فإن النفي وإن دخل على نفس المضارع يفيد الدوام والاستمرار بحسب المقام
«يستبشرون بنعمة» كرر لبيان أن الاستبشار المذكور ليس بمجرد عدم الخوف والحزن بل به وبما يقارنه من نعمة عظيمة لا يقادر قدرها وهي ثواب اعمالهم وقد جوز أن يكون الأول متعلقا بحال إخوانهم وهذا بحال أنفسهم بيانا لبعض ما أجمل في قوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله
«من الله» متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة منه تعالى
«وفضل» أي زيادة عظيمة كما في قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
«وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين» بفتح أن عطف على فضل منتظم معه في سلك المستبشر به والمراد بالمؤمنين إما الشهداء والتعبير عنهم بالمؤمنين للإيذان بسمو رتبة الإيمان وكونه مناطا لما نالوه من السعادة وإما كافة أهل الإيمان من الشهداء وغيرهم ذكرت توفية أجورهم على ايمانهم وعدت من جملة ما يستبشر به الشهداء بحكم الأخوة في الدين وقرئ بكسرها على أنه استئناف معترض دال على أن ذلك اجر لهم على إيمانهم مشعر بأن من لا إيمان له أعماله محبطة لا أجر لها وفيه من الحث على الجهاد والترغيب في الشهادة والبعث على ازدياد الطاعة وبشرى المؤمنين بالفلاح ما لا يخفى
«الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح» صفة مادحة للمؤمنين لا مخصصة أو نصب على المدح أو رفع على الابتداء والخبر قوله تعالى
«للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم» بجملته ومن للبيان والمقصود من الجمع بين الوصفين المدح والتعليل لا التقييد لأن المستجيبين كلهم محسنون ومتقون روى أن ابا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يرهبهم من نفسه وأصحابه قوة فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج صلى الله عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الاجر والقى الله تعالى الرعب في قلوب المشركين فذهبوا فنزلت
«الذين قال لهم الناس» يعني الركب الذين
113

استقبلوهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي وإطلاق الناس عليه لما أنه من جنسهم وكلامه كلامهم يقال فلان يركب الخيل ويلبس الثياب وماله سوى فرس فرد وغير ثوب واحد أو لأنه انضم اليه ناس من المدينة وأذاعوا كلامه
«إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم» روى أن ابا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت فقال عليه السلام ان شاء الله تعالى فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران فألقى الله تعالى في قلبه الرعب وبدا له أن يرجع فمر به ركب من بنى عبد قيس يريدون المدينة للميرة فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوا المسلمين وقيل لقى نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فسأله ذلك والتزم له عشرا من الإبل وضمنها منه سهيل بن عمرو فخرج نعيم ووجد المسلمين يتجهزون للخروج فقال لهم أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريد أفترون ان تخرجوا وقد جمعوا لكم ففروا فقال عليه السلام والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معي أحد فخرج في سبعين راكبا كلهم يقولون حسبنا الله ونعم الوكيل قيل هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقى في النار
«فزادهم إيمانا» الضمير المستكن للمقول أو لمصدر قال أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده والمعنى أنهم لم يلتفتوا إلى ذلك بل ثبت به يقينهم بالله تعالى وازداد اطمئنانهم وأظهروا حمية الإسلام وأخلصوا النية عنده وهو دليل على أن الإيمان يتفاوت زيادة ونقصانا فإن ازدياد اليقين بالإلف وكثرة التأمل وتناصر الحجج مما لا ريب فيه ويعضده قول ابن عمر رضي الله عنهما قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص قال نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار
«وقالوا حسبنا الله» أي محسبنا الله وكافيا من أحسبه إذا كفاه والدليل على أنه بمعنى المحسب أنه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك هذا رجل حسبك
«ونعم الوكيل» أي نعم الموكول إليه والمخصوص بالمدح محذوف أي الله عز وجل
«فانقلبوا» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي فخرجوا إليهم ووافوا الموعد روى أنه عليه الصلاة والسلام وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثماني ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا والباء في قوله تعالى
«بنعمة» متعلقة بمحذوف وقع حالا من الضمير في فانقلبوا والتنوين للتفخيم أي فرجعوا من مقصدهم ملتبسين بنعمة عظيمة لا يقادر قدرها وقوله عز وجل
«من الله» متعلق بمحذوف وقع صفة لنعمة مؤكدة لفخامتها الذاتية التي يفيدها التنكير بالفخامة الإضافية أي كائنة من الله تعالى وهي العافية والثبات على الإيمان والزيادة فيه وحذر العدو منهم
«وفضل» أي ربح في التجارة وتنكيره أيضا للتفخيم
«لم يمسسهم سوء» حال أخرى من الضمير في فانقلبوا أومن المستكن في الحال كأنه قيل منعمين حال كونهم سالمين عن السوء والحال إذا كان مضارعا منفيا بلم وفيه ضمير ذي الحال جاز فيه دخول الواو كما في قوله تعالى أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ وعدمه كما في هذه الآية الكريمة وفي قوله تعالى ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا
«واتبعوا» في كل ما اتوا من قول وفعل
«رضوان الله» الذي هو مناط الفوز بخير الدارين
«والله ذو فضل عظيم» حيث تفضل عليهم
114

بالتثبيت وزيادة الإيمان والتوفيق للمبادرة إلى الجهاد والتصلب في الدين وإظهار الجراءة على العدو وحفظهم عن كل ما يسوءهم مع إصابة النفع الجليل وفيه تحسير لمن تخلف عنهم وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء وروى أنهم قالوا هل يكون هذا غزوا فأعطاهم الله تعالى ثواب الغزو ورضى عنهم
«إنما ذلكم» إشارة إلى المثبط أو إلى من حمله على التثبيط والخطاب للمؤمنين وهو مبتدأ وقوله تعالى
«الشيطان» إما خبره وقوله تعالى
«يخوف أولياءه» جملة مستأنفة مبينة لشيطنته أو حال كما في قوله تعالى فتلك بيوتهم خاوية الخ وإما صفته والجملة خبره ويجوز أن تكون الإشارة إلى قوله على تقدير مضاف أي إنما ذلكم قول الشيطان أي إبليس والمستكن في يخوف إما المقدار وإما الشيطان بحذف الراجع إلى المقدر أي يخوف به والمراد بأوليائه إما أبو سفيان وأصحابه فالمفعول الأول محذوف أي يخوفكم أولياءه كما هو قراءة ابن عباس وابن مسعود ويؤيده قوله تعالى
«فلا تخافوهم» أي أولياءه
«وخافون» في مخالفة أمرى وإما القاعدون فالمفعول الثاني محذوف أي يخوفهم الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والضمير البارز في فلا تخافوهم للناس الثاني أي فلا تخافوهم فتقعدوا عن القتال وتجنبوا وخافوني فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به والخطاب لفريقى الخارجين والقاعدين والفاء لترتيب النهى أو الانتهاء على ما قبلها فغن كون المخوف شيطانا مما يوجب عدم الخوف والنهى عنه
«إن كنتم مؤمنين» فإن الإيمان يقتضى إيثار خوف الله تعالى على خوف غيره ويستدعى الأمن من شر الشيطان وأوليائه
«ولا يحزنك» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتشريفه بتخصيصه بالتسلية والإيذان بأصالته في تدبير أمور الدين والاهتمام بشئونه
«الذين يسارعون في الكفر» أي يقعون فيه سريعا لغاية حرصهم عليه وشدة رغبتهم فيه وإيثار كلمة في على ما وقع في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة الآية للإشعار باستقرارهم في الكفر ودوام ملابستهم له في مبدأ المسارعة ومنتهاها كما في قوله تعالى أولئك يسارعون في الخيرات فإن ذلك مؤذن بملابستهم للخيرات وتقلبهم في فنونها
في طرفي المسارعة وتضاعيفها وأما إيثار كلمة إلى في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الخ فلأن المغفرة والجنة منتهى المسارعة وغايتها والمراد بالموصول المنافقون من المتخلفين وطائفة من اليهود حسبما عين في قوله تعالى «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا» وقيل قوم ارتدوا عن الإسلام والتعبير عنهم بذلك للإشارة بما في حيز الصلة إلى مظنة وجود المنهى عنه واعترائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنوك بمسارعتهم في الكفر ومبادرتهم إلى تمشية أحكامه ومظاهرتهم لأهله وتوجيه النهى إلى جهتهم مع ان المقصود نهيه عليه الصلاة والسلام عن التأثر منهم للمبالغة في ذلك لما ان
115

النهى عن التأثير نهى عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما في قولك لا أرينك ههنا وقرأ لا يحزنك من أحزن المنقول من حزن بكسر الزاي والمعنى واحد وقيل معنى حزنه جعل فيه حزنا كما في دهنه أي جعل فيه دهنا ومعنى أحزنه جعله حزينا وقيل معنى حزنه أحدث له الحزن ومعنى أحزنه عرضه للحزن
«إنهم لن يضروا الله» تعليل للنهي وتكميل للتسلية بتحقيق نفى ضررهم أبدا أي لن يضروا بذلك أولياء الله البتة وتعليق نفى الضرر به تعالى لتشريفهم والإيذان بان مضارتهم بمنزلة مضارته سبحانه وفيه مزيد مبالغة في التسلية وقوله تعالى
«شيئا» في حيز النصب على المصدرية أي شيئا من الضرر والتنكير لتأكيد ما فيه من القلة والحقارة وقيل على نزع الجار أي بشئ ما أصلا وقيل المعنى لن ينقصوا بذلك من ملكه تعالى وسلطانه شيئا كما روى أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يقول الله تعالى لو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ولو أن أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا والأول هو الأنسب بمقام التسلية والتعليل
«يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة» استئناف مبين لسر ابتلائهم بما هم فيه من الانهماك في الكفر وفي ذكر الإرادة من الإيذان بكمال خلوص الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم حيث تعلقت بهما إرادة أرحم الراحمين مالا يخفى وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام الإرادة واستمرارها أي يريد الله بذلك ان لا يجعل لهم في الآخرة حظأ من الثواب ولذلك تركهم في طغيانهم يعمهون إلى أن يهلكوا على الكفر
«ولهم» مع ذلك الحرمان الكي
«عذاب عظيم» لا يقادر قدرة قيل ما دلت المسارعة في الشئ على عظم شأنه وجلالة قدره عند المسارع وصف عذابه بالعظم رعاية للمناسبة وتنبيها على حقارة ما سارعوا فيه وخساسته في نفسه والجملة إما مبتدأة مبينة لحظهم من العقاب إثر بيان أن لا شئ لهم من الثواب وإما حال من الضمير في لهم أي يريد الله حرمانهم من الثواب معدا لهم عذاب عظيم
«إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان» أي أخذوه بدلا منه رغبة فيما أخذوه وإعراضا عما تركوه وقد مر تحقيق القول في هذه الاستعارة في تفسير قوله عز وجل «أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى» مستوفى
«لن يضروا الله شيئا» تفسيره كما مر غير أن فيه تعريضا ظاهرا باقتصار الضرر عليهم كأنه قيل وإنما يضرون أنفسهم فإن جعل الموصول عبارة عن المسارعين المعهودين بأن يراد باشتراء الكفر بالإيمان إيثاره عليه إما بأخذه بدلا من الإيمان الحاصل بالفعل كما هو حال المرتدين أو بالقوة القريبة منه الحاصلة بمشاهدة دلائله في التوراة كما هو شأن اليهود ومنافقيهم فالتكرير لتقرير الحكم وتأكيده ببيان علته بتغيير عنوان الموضوع فإن ما ذكر في حيز الصلة من الاشتراء المذكور صريح في لحوق ضرره بأنفسهم وعدم تعديه إلى غيرهم أصلا كيف لا وهو علم في الخسران الكلى والحرمان الأبدي دال على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم فكيف يتأتى منهم ما يتوقف على قوة الحزم ورزانة الرأي ورصانة التدبير من مضارة حزب الله تعالى وهي أعز من الأبلق الفرد وأمنع من عقاب الجو وإن أجرى الموصول على
116

عمومه بأن يراد بالاشتراء المذكور القدر المشترك الشامل للمعنيين المذكورين ولأخذ الكفر بدلا مما نزل منزلة نفس الإيمان من الاستعداد القريب له الحاصل بمشاهدة الوحي الناطق وملاحظة الدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس كما هو دأب جميع الكفرة فالجملة مقررة لمضمون ما قبلها تقرير القواعد الكلية لما اندرج تحتها من جزئيات الأحكام هذا وقد جوز كون الموصول الأول عاما للكفار والثاني خاصا بالمعهودين وأنت خبير بأنه مع خلوه عن النكت المذكورة مما لا يليق بفخامة شأن التنزيل لما ان صدور المسارعة في الكفر بالمعنى المذكور وكونها مظنة لإيراث الحزن لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفهم من النهى عنه إنما يتصور ممن علم اتصافه بها وإما من لا يعرف حاله من الكفرة الكائنين في الأماكن البعيدة فإسناد المسارعة المذكورة إليهم باعتبار كونها من مبادى حزنه عليه السلام ومما لا وجه له وقوله تعالى
«ولهم عذاب أليم» جملة مبتدأة مبينة لكمال فظاعة عذابهم بذكر غاية إيلامه بعد ذكر نهاية عظمه قيل لما جرت العادة باغتباط المشترى بما اشتراه وسروره بتحصيله عند كون الصفقة رابحة وبتألمه عند كونها خاسرة وصف عذابهم بالإيلام مراعاة لذلك
«ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم» عطف على قوله تعالى ولا يحزنك الذين الآية والفعل مسند إلى الموصول وأن بما في حيزها سادة مسد مفعولية عند سيبويه لتمام المقصود بها وهو تعلق الفعل القلبي بالنسبة بين المبتدأ والخبر أو مسد أحدهما والآخر محذوف عند الأخفش وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها ووصلها في الكتابة لاتباع الإمام أي لا يحسبن الكافرون إن إملاءنا لهم أو أن ما نمليه لهم خير لأنفسهم أولا يحسبن الكافرون خيرية إملائنا لهم أو خيرية ما نمليه لهم ثابتة أو واقعة ومآله نهيهم عن السرور بظاهر إملائه تعالى لهم بناء على حسبان خيريته لهم وتحسيرهم ببيان أنه شر بحت وضرر محض كما أن مآل المعطوف عليه نهى
الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحزن بظاهر حال الكفرة بناء على توهم الضرر من قبلهم وتسليته عليه السلام ببيان عجزهم عن ذلك بالكلية والمراد بالموصول إما جنس الكفرة فيندرج تحت حكمة الكلى أحكام المعهودين اندراجا أوليا وإما المعهود دون خاصة فإيثار الإظهار على الإضمار لرعاية المقارنة الدائمة بين الصلة وبين الإملاء الذي هو عبارة عن إمهالهم وتخليتهم وشأنهم دهرا طويلا فإن المقارن له دائما إنما هو الكفر المستمر لا المسارعة المذكورة ولا الاشتراء المذكور فإنهما من الأحوال المتجددة المنقضية في تضاعيف الكفر المستمر وقرئ لا تحسبن بالتاء والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأنسب بمقام التسلية أو لكل من يتأتى منه الحسبان قصدا إلى إشاعة فظاعة حالهم والموصول مفعول وإنما نملى لهم إما بدل منه وحيث كان التعويل على البدل وهو ساد مسد المفعولين كما في قوله تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون اقتصر على مفعول واحد كما في قولك جعلت المتاع بعضه فوق بعض وإما مفعول ثان بتقدير مضاف إما فيه أي لا تحسبن
117

الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم أو في المفعول الأول أي لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم ومعنى التفضيل باعتبار زعمهم
«إنما نملي لهم ليزدادوا إثما» استئناف مبين لحكمة الإملاء وما كافة واللام لام الإرادة وعند المعتزلة لام العاقبة وقرئ بفتح الهمزة ههنا على ايقاع الفعل عليه وكسرها فيما سبق على انه اعتراض بين الفعل ومعموله مفيد لمزيد الاعتناء بإبطال الحسبان ورده على معنى لا يحسبن الكافرون أن إملاءنا لهم لازدياد الإثم حسبما هو شأنهم بل إنما هو لتلافى ما فرط منهم بالتوبة والدخول في الإيمان
«ولهم» في الآخرة
«عذاب مهين» لما تضمن الإملاء التمتيع بطيبات الدنيا وزينتها وذلك مما يستدعى التعزز والتجبر وصف عذابهم بالإهانة ليكون جزاؤهم جزاء وفاقا والجملة إما مبتدأة مبينة لحالهم إثر بيان حالهم في الدنيا وإما حال من الواو ليزدادوا إثما معدا لهم عذاب مهين وهذا متعين على القراءة الأخيرة
«ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه» كلام مستأنف مسوق لوعده المؤمنين ووعيده المنافقين بالعقوبة الدنيوية التي هي الفضيحة والخزي إثر بيان عقوبتهم الأخروية والمراد بالمؤمنين المخلصون وأما الخطاب فقد قيل إنه لجمهور المصدقين من أهل الإخلاص وأهل النفاق ففيه التفات في ضمن التلوين والمراد بما هم عليه اختلاط بعضهم بعضا واستواؤهم في إجراء أحكام الإسلام عليهم إذ هو القدر المشترك بين الفريقين وقيل أنه للكفار والمنافقين وهو قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين ففيه تلوين فقط ولعل المنافقين عطف تفسيري للكفار وإلا فلا شركة بين المؤمنين والمنافقين في أمر من الأمور والمراد بما هم عليه ما مر من القدر المشترك فإنه كما يجوز نسبته إلى الفريقين معا يجوز نسبته إلى كل منهما لا الكفر والنفاق كما قيل فإن المؤمنين ما كانوا مشاركين لهم في ذلك حتى لا يتركوا عليه وقيل إنه للمؤمنين خاصة وهو قول أكثر أهل المعاني ففيه تلوين والتفات كما مر والتعرض لإيمانهم قبل الخطاب للإشعار بعلة الحكم والمراد بما هم عليه ما مر غيره مرة والأول هو الأقرب وإليه جنح المحققون من أهل التفسير لكونه صريحا في كون المراد بما هم عليه ما ذكر من القدر المشترك بين الفريقين من حيث هو مشترك بينهما بخلاف القولين الأخيرين فإنهما بمعزل من ذلك كيف لا والمفهوم مما عليه المنافقين هو الكفر والنفاق ومما عليه المؤمنون هو الإيمان والإخلاص لا القدر المشترك بينهما ولئن فهم ذلك فإنما يفهم من حيث الانتساب إلى أحدهما لا من حيث الانتساب إليهما معا وعليه يدور أمر الاختلاط المحوج إلى الإفراز واللام في ليذر إما متعلقة بالخبر المقدر لكان كما هو رأى البصرية وانتصاب الفعل بعدها بان المقدرة أي ما كان الله مريدا أو متصديا لأن يذر المؤمنين الخ ففي توجيه النفي إلى إرادة الفعل تأكيد ومبالغة ليست في توجيهه إلى نفسه
118

وإما مزيدة للتأكيد ناصبة للفعل بنفسها كما هو رأى الكوفية ولا يقدح في ذلك زيادتها كما لا يقدح زيادة حروف الجر في عملها وقوله عز وجل
«حتى يميز الخبيث من الطيب» غاية لما يفيده النفي المذكور كأنه قيل ما يتركهم الله تعالى على ذلك الاختلاط بل يقدر الأمور ويرتب الأسباب حتى يعزل المنافق من المؤمن وفي التعبير عنهما بما ورد به النظم الكريم تسجيل على كل منهما بما يليق به وإشعار بعلة الحكم وإفراد الخبيث والطيب مع تعدد ما أريد بكل منهما وتكثره لا سيما بعد ذكر ما أريد بأحدهما أعنى المؤمنين بصيغة الجمع للإيذان بأن مدار إفراز أحد الفريقين من الآخر هو اتصافهما بوصفهما لا خصوصية ذاتهما وتعدد آحادهما كما في مثل قوله تعالى «ذلك أدنى ألا تعولوا» ونظيره قوله تعالى «تذهل كل مرضعة عما أرضعت» حيث قصد الدلالة على الاتصاف بالوصف من غير تعرض لكون الموصوف من العقلاء أو غيرهم وتعليق الميز بالخبيث المعبر به عن المنافق مع أن المتبادر مما سبق من عدم ترك المؤمنين على الاختلاط تعليقه بهم وإفرازهم عن المنافقين لما أن الميز الواقع بين الفريقين إنما بالتصرف في المنافقين وتغييرهم من حال إلى حال مغايرة للأولى مع بقاء المؤمنين على ما كانوا عليه من أصل الإيمان وإن ظهر مزيد إخلاصهم لا بالتصرف فيهم وتغييرهم من حال إلى حال أخرى مع بقاء المنافقين على ما هم عليه من الاستتار ولأن فيه مزيد تأكيد للوعيد كما أشير إليه في قوله تعالى «والله يعلم المفسد من المصلح» وإنما لم ينسب عدم الترك إليهم لما أنه مشعر بالاعتناء بشأن من نسب إليه فإن المتبادر منه عدم الترك على حالة غير ملائمة كما يشهد به الذوق السليم وقرئ حتى يميز من التمييز وقوله تعالى
«وما كان الله ليطلعكم على الغيب» تمهيد لبيان الميز الموعود على طريق تجريد الخطاب للمخلصين تشريفا لهم وقوله عز وجل
«ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء» إشارة إلى كيفية وقوعه على سبيل الإجمال وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة فالمعنى ما كان الله ليترك المخلصين على الاختلاط بالمنافقين بل يرتب المبادئ حتى يخرج المنافقين من بينهم وما يفعل ذلك بإطلاعكم على ما في قلوبهم من الكفر والنفاق ولكنه تعالى يوحي إلى رسوله عليه السلام فيخبره بذلك وبما ظهر منهم من الأقوال والأفعال حسبما حكى عنهم بعضه فيما سلف فيفضحهم على رؤوس الإشهاد ويخلصكم من خسة الشركاء وسوء جوارهم والتعرض للاجتباء للإيذان بأن الوقوف على أمثال تلك الأسرار الغيبية لا يتأتي إلى ممن رشحه الله تعالى لمنصب جليل تقاصرت عنه همم الأمم واصطفاه
على الجماهير لإرشادهم وتعميم الاجتباء لسائر الرسل عليهم السلام للدلالة على أن شأنه عليه السلام في هذا الباب أمر متين له أصل أصيل جار على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين الرسل الخالية عليهم السلام وتعميم الأمر في قوله تعالى
«فآمنوا بالله ورسله» مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته عليه الصلاة والسلام والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه عليه السلام فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولا أوليا هذا هو الذي يقتضيه جزالة النظم الكريم وقد جوز أن يكون المعنى لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب بان يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن الله تعالى قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد وإنفاق الأموال في سبيل الله تعالى
119

فيجعل ذلك عيارا على عقائدكم وشاهدا بضمائركم حتى يعلم بعضكم بما في قلب بعض بطريق الاستدلال لا من جهة الوقوف على ذات الصدور فإن ذلك مما استأثر الله تعالى به وأنت خبير بأن الاستدراك باجتباء الرسل المنبئ عن مزيد مزيتهم وفضل معرفتهم على الخلق إثر بيان قصور رتبتهم عن الوقوف على خفايا السرائر صريح في ان المراد إظهار تلك السرائر بطريق الوحي لا بطريق التكليف بما يؤدى إلى خروج أسرارهم عن رتبة الخفاء وأقرب من ذلك حمل الآية الكريمة على أن تكون مسوقة لبيان الحكمة في إملائه تعالى للكفرة إثر بيان شريته لهم فالمعنى ما كان الله ليذر المخلصين على الاختلاط أبدا كما تركهم كذلك إلى الآن لسر يقتضيه بل يفرز عنهم المنافقين ولذلك فعله يومئذ حيث خلى الكفرة وشأنهم فأبرز لهم صورة الغلبة فأظهر من في قلوبهم مرض ما فيها من الخبائث وافتضحوا على رؤوس الأشهاد وقيل قال الكافرون إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فنزلت
«وإن تؤمنوا» أي بما ذكر حق الإيمان
«وتتقوا» أي عدم مراعاة حقوقه أو النفاق
«فلكم» بمقابلة ذلك الإيمان والتقوى أجر عظيم لا يبلغ كنهه ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بيان لحال البخل ووخامة عاقبته وتخطئة لأهله في توهم خيريته حسب بيان حال الإملاء وإيراد ما بخلوا به بعنوان إيتاء الله تعالى إياه من فضله للمبالغة في بيان سوء صنيعهم فإن ذلك من موجبات بذله في سبيله كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه والفعل مسند إلى الموصول والمفعول الأول محذوف لدلالة الصلة عليه وضمير الفصل راجع إليه أي لا يحسبن الباخلون بما آتاهم الله من فضله من غير أن يكون لهم مدخل فيه أو استحقاق له هو خيرا لهم من إنفاقه وقيل الفعل مسند إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى ضمير من يحسب والمفعول الأول هو الموصول بتقدير مضاف والثاني ما ذكر كما هو كذلك على قراءة الخطاب أي ولا يحسبن بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم
«بل هو شر لهم» التنصيص على شريته لهم مع انفهامها من نفى خيريته للمبالغة في ذلك والتنوين للتفخيم وقوله تعالى
«سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة» بيان لكيفية شريته أي سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق على أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه للإيذان بكمال المناسبة بينهما وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من رجل لا يؤدى زكاة ماله إلا جعل الله له شجاعا في عنقه يوم القيامة وقيل يجعل ما بخل به من الزكاة حية في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول أنا مالك
«ولله» وحده لا لأحد غيره استقلالا أو اشتراكا
«ميراث السماوات والأرض» أي ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره من الرسالات التي يتوارثها أهل السماوات والأرض فما لهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله أو أنه يرث منهم ما يمسكونه ولا ينفقونه في سبيله تعالى عند هلاكهم وتبقى عليهم الحسرة والندامة
«والله بما تعملون» من المنع والبخل
«خبير» فيجازيكم على ذلك وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار
120

لتربية المهابة والالتفات للمبالغة في الوعيد والإشعار باشتداد غضب الرحمن الناشئ من ذكر قبائحهم وقرئ بالياء على الظاهر
«لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء» قالته اليهود لما سمعوا قوله تعالى «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» وروى انه عليه السلام كتب مع أبي بكر رضي الله عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا فقال فنحاص إن الله فقير حتى سألنا القرض فلطمه أبو بكر رضي الله عنه في وجهه وقال لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجحد ما قاله فنزلت والجمع حينئذ مع كون القائل واحدا لرضا الباقين بذلك والمعنى أنه لم يخف عليه تعالى واعد له من العذاب كفأه والتعبير عنه بالسماع للإيذان بأنه من الشناعة والسماحة بحيث لا يرضى قائله بأن يسمعه سامع والتوكيد القسمي للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد
«سنكتب ما قالوا» أي سنكتب ما قالوه من العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة أو سنحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه ولا نهمله كما يثبت المكتوب والسين للتأكيد أي لن يفوتنا أبدا تدوينه وإثباته لكونه في غاية العظم والهول كيف لا وهو كفر بالله تعالى واستهزاء بالقرآن العظيم والرسول الكريم ولذلك عطف عليه قوله تعالى
«وقتلهم الأنبياء» إيذانا بأنهما في العظم أخوان وتنبيها على أنه ليس بأول جريمة ارتكبوها بل لهم فيه سوابق وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه أمثال هذه العظائم والمراد بقتلهم الأنبياء رضاهم بفعل أسلافهم وقوله تعالى
«بغير حق» متعلق بمحذوف وقع حالا من قتلهم أي كائنا بغير حق في اعتقادهم أيضا كما هو في نفس الأمر وقرئ سيكتب على البناء للفاعل وسيكتب على البناء للمفعول وقتلهم بالرفع
«ونقول ذوقوا عذاب الحريق» أي وننتقم منهم بعد الكتبة بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق كما أذقتم المسلمين الغصص وفيه من المبالغات مالا يخفى وقرئ ويقول بالياء ويقال على البناء للمفعول
«ذلك» إشارة إلى العذاب المذكور وما فيه من معنى البعد للدلالة على عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«بما قدمت أيديكم» أي بسبب ما اقترفتموه من قتل الأنبياء والتفوه بمثل تلك العظيمة وغيرها من المعاصي والتعبير عن الأنفس بالأيدي لما ان عامة أفاعيلها تزاول بهن ومحل أن في قوله تعالى
«وأن الله ليس بظلام للعبيد» الرفع على انه خبر مبتدأ محذوف والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع ان تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال على الأعمال بإضاعتها مع ان الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها صياغها وصيغة
121

المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم وقيل هي لرعاية جمعية العبيد من قولهم فلان ظالم لعبده وظلام لعبيده على أنها للمبالغة كما لا كيفا هذا وقد قيل محل أن الجر بالعطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث أن نفى الظلم مستلزم للعدل المقتضى لإثابة المحسن ومعاقبة المسئ وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفى الظلم سببا للتعذيب حسبما ذكره القائل في سورة الأنفال وقيل سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة بانضمام انتفاء ظلمه تعالى إليها إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه وإنما يحتاج إلى ذلك أن لو كان المدعى أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين
«الذين قالوا» نصب أو رفع على الذم وهم كعب بن الأشرف ومالك بن صيفي وحيي بن أخطب وفنحاص بن عازوراء ووهب بن يهوذا
«إن الله عهد إلينا» أي أمرنا في التوراة وأوصانا
«ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار» كما كان عليه أمر أنبياء بنى إسرائيل حيث كان يقرب بالقربان فيقوم النبي فيدعو فتنزل نار من السماء فتأكله أي تحيله إلى طبعها بالإحراق وهذا من مفترياتهم وأباطيلهم فإن أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلا لكونه معجزة فهو وسائر المعجزات سواء ولما كان محصل كلامهم الباطل أن عدم إيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم إتيانه بما قالوا ولو تحقق الإتيان به لتحقق الإيمان رد عليهم بقوله تعالى
«قل» أي تبكيتا لهم وإظهارا لكذبهم
«قد جاءكم رسل» كثيرة العدد كبيرة المقدار
«من قبلي بالبينات» أي المعجزات الواضحة
«وبالذي قلتم» بعينه من القربان الذي تأكله النار
«فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين» فيما يدل عليه كلامكم من أنكم تؤمنون لرسول يأتيكم بما اقترحتموه فإن زكريا ويحيى وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد جاءوكم بما قلتم مع معجزات أخر فما لكم لم تؤمنوا لهم حتى اجترأتم على قتلهم
«فإن كذبوك» شروع في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر ما أوحى إليه ما يحزنه عليه الصلاة والسلام من مقالات الكفرة من المشركين واليهود وقوله تعالى
«فقد كذب رسل من قبلك» تعليل لجواب الشرط أي فتسل فقد كذب الخ ومن متعلقة بكذب أو بمحذوف صفة لرسل أي كائنة من قبلك
«جاؤوا بالبينات» أي المعجزات الواضحات صفة لرسل
«والزبر» هو جمع زبور وهو الكتاب المقصود على الحكم من زبرته إذا حسنته وقيل زبر المواعظ والزواجر من زبرته إذا زجرته والكتاب قيل أي التوراة والإنجيل والزبور والكتاب في عرف القرآن ما يتضمن الشرائع والأحكام ولذلك جاء الكتاب والحكمة متعاطفين في عامة وقرئ وبالزبر بإعادة الجار دلالة على أنها مغايرة بالذات
122

للبينات
«كل نفس ذائقة الموت» وعد ووعيد للمصدق والمكذب وقرئ ذائقة الموت بالتنوين وعدمه كما في قوله
* ولا ذاكر الله إلا قليلا
«وإنما توفون أجوركم» أي تعطون أجزية أعمالكم على التمام والكمال
«يوم القيامة» أي يوم قيامكم من القبور وفي لفظ التوفية إشارة إلى أن بعض أجورهم يصل إليهم قبله كما ينبئ عنه قوله عليه الصلاة والسلام القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران
«فمن زحزح عن النار» أي بعد عنها يومئذ ونجى والزحزحة في الأصل تكرير الزح وهو الجذب بعجلة
«وأدخل الجنة فقد فاز» بالنجاة ونيل المراد والفوز الظفر بالبغية وعن النبي صلى الله عليه وسلم من أحب ان يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه
«وما الحياة الدنيا» أي لذاتها وزخارفها
«إلا متاع الغرور» شبهت بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه وهذا لمن آثرها على الآخرة فأما من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ والغرور إما مصدر أو جمع غار
«لتبلون» شروع في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين عما سيلقونه من جهة الكفرة من المكاره إثر تسليتهم عما قد وقع منهم ليوطنوا أنفسهم على احتماله عند وقوعه ويستعدوا للقائه ويقابلوه بحسن الصبر والثبات فإن هجوم الأوجال مما يزلزل أقدام الرجال والاستعداد للكروب مما يهون الخطوب وأصل الابتلاء الاختبار أي تطلب الخبرة بحال المختبر بتعريضه لأمر يشق عليه غالبا ملابسته ومقارفته وذلك إنما يتصور حقيقة مما لا وقوف له على عواقب الأمور وأما من جهة العليم الخبير فلا يكون إلا مجازا من تمكينه للعبد من اختيار أحد الأمرين أو الأمور قبل أن يرتب عليه شيئا هو من مباديه العادية كما مر والجملة جواب قسم محذوف أي والله لتبلون أي لتعاملن معاملة معملة المختبر ليظهر ما عندكم من الثبات على الحق والأعمال الحسنة وفائدة التوكيد إما تحقيق معنى الابتلاء تهوينا للخطب وإما تحقيق وقوع المبتلى به مبالغة في الحث على ما أريد منهم من التهيئو والاستعداد
«في أموالكم» بما يقع فيها من ضروب الآفات المؤدية إلى هلاكها وإما إنفاقها في سبيل الخير مطلقا فلا يليق نظما في سلك الابتلاء لما أنه من باب الأضعاف لا من قبيل الاتلاف
«وأنفسكم» بالقتل والأسر والجراح وما يرد عليها من أصناف المتاعب والمخاوف والشدائد ونحو ذلك وتقديم الأموال لكثرة وقوع الهلكة فيها ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم أي من قبل إيتائكم القرآن وهم اليهود والنصارى عبر عنهم بذلك للإشعار بمدار الشقاق والإيذان بأن بعض ما يسمعونه منهم مستند على زعمهم إلى الكتاب كما في قوله تعالى «إن
123

الله عهد إلينا» الخ والتصريح بالقبلية لتأكيد الإشعار وتقوية المدار فإن قدم نزول كتابهم مما يؤيد تمسكهم به
«ومن الذين أشركوا أذى كثيرا» من الطعن في الدين الحنيف والقدح في أحكام الشرع الشريف وصد من أراد أن يؤمن وتخطئة من آمن وما كان من كعب بن الأشرف وأضرابه من هجاء المؤمنين وتحريض المشركين على مضادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك مما لا خير فيه
«وإن تصبروا» أي على تلك الشدائد والبلوى عند ورودها وتقابلوها بحسن التجمل
«وتتقوا» أي تتبتلوا إلى الله تعالى بالكلية معرضين عما سواه بالمرة بحيث يتساوى عندكم وصول المحبوب ولقاء المكروه
«فإن ذلك» إشارة إلى الصبر والتقوى وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهما وبعد منزلتهما وتوحيد حرف الخطاب إما باعتبار كل واحد من المخاطبين وإما لأن المراد بالخطاب مجرد التنبيه من غير ملاحظة خصوصية أحوال المخاطبين
«من عزم الأمور» من معزوماتها التي يتنافس فيها المتنافسون أي مما يحب أن يعزم عليه كل أحد لما فيه من كمال المزية والشرف أو مما عزم الله تعالى عليه وأمر به وبالغ فيه يعنى أن ذلك عزمه من عزمات الله تعالى لا بد أن تصبروا وتتقوا والجملة تعليل لجواب الشرط واقع موقعه كأنه قيل وإن تصبروا وتتقوا فهو خير لكم أو فافعلوا أو فقد أحسنتم أو فقد أصبتم فإن ذلك الخ ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى صبر المخاطبين وتقواهم فالجملة حينئذ جواب الشرط وفي إبراز الأمر بالصبر والتقوى في صورة الشرطية من إظهار كمال اللطف بالعبادة ما لا يخفى
«وإذ أخذ الله» كلام مستأنف سيق لبيان بعض أذياتهم وهو كتمانهم ما في كتابهم من شواهد نبوته عليه الصلاة والسلام وغيرها وإذ منصوب على المفعولية بمضمر أمر به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بطريق تجريد الخطاب إثر الخطاب الشامل له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين لكون مضمونه من الوظائف الخاصة به عليه الصلاة والسلام وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه من الحوادث مع أنها المقصودة بالذات للمبالغة في إيجاب ذكرها على ما مر بيانه في تفسير قوله تعالى وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل الخ أي اذكر وقت اخذه تعالى
«ميثاق الذين أوتوا الكتاب» وهم علماء اليهود والنصارى ذكروا بعنوان إيتاء الكتاب مبالغة في تقبيح حالهم
«لتبيننه» حكاية لما خوطبوا به والضمير للكتاب وهو جواب لقسم ينبئ عنه أخذ الميثاق كأنه قيل لهم بالله لتبيننه
«للناس» وتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها امر نبوته عليه الصلاة والسلام وهو المقصود بالحكاية وقرئ بالياء لأنهم غيب
«ولا تكتمونه» عطف على الجواب وإنما لم يؤكد بالنون لكونه منفيا كما في قولك والله لا يقوم زيد وقيل اكتفى بالتأكيد في الأول لأنه تأكيد له وقيل هو حال من ضمير المخاطبين إما على إضمار مبتدأ بعد الواو أي وأنتم لا تكتمونه وإما على رأى من جوز دخول الواو على المضارع المنفى عند وقوعه حالا أي لتبيننه غير كاتمين والنهى عن الكتمان بعد الأمر بالبيان
124

وإما للمبالغة في إيجاب المأمور به وإما المراد بالبيان المأمور به ذكر الآيات الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وبالكتمان المنهى عنه إلقاء التأويلات الزائغة والشبهات الباطلة وقرئ بالياء كما قبله
«فنبذوه» النبذ الرمي والإبعاد أي طرحوا ما أخذ منهم من الميثاق الموثق بفنون التأكيد وألقوه
«وراء ظهورهم» ولم يراعوه ولم يلتفتوا إليه أصلا فإن نبذ الشئ وراء الظهر مثل في الاستهانة به والإعراض عنه بالكلية كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به وفيه من الدلالة على تحتم بيان الحق على علماء الدين وإظهار ما منحوه من العلم للناس أجمعين وحرمه كتمانه لغرض من الأغراض الفاسدة أو لطمع في عرض من الأعراض الفانية الكاسدة مالا يخفى وعن النبي صلى الله عليه وسلم من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار وعن طاوس أنه قال لوهب بن منبه إني أرى الله سوف يعذبك بهذه الكتب وقال والله لو كنت نبيا فكتمت العلم كما تكتمه لرأيت أن الله سيعذبك وعن محمد بن كعب لا يحل لأحد من العماء أن يسكت على علمه ولا يحل لجاهل ان يسكت على جهلة حتى يسأل وعن على رضي الله عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا
«واشتروا به» أي بالكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه فإن ذكر نبذ الميثاق يدل على ذلك دلالة واضحة وإيقاع الفعل على الكل مع ان المراد به كتم بعضه كدلائل نبوته عليه الصلاة والسلام ونحوها لما أن ذلك كتم للكل إذ به يتم الكتاب كما أن رفض بعض أركان الصلاة رفض لكلها أو بمنزلة كتم الكل من حيث إنهما سيان في الشناعة واستجرار العقاب كما في قوله تعالى «وإن لم تفعل فما بلغت رسالته» والاشتراء مستعار لاستبدال متاع الدنيا بما كتموه أي تركوا ما أمروا به وأخذوا بدله
«ثمنا قليلا» أي شيئا تافها حقيرا من حطام الدنيا وأعراضها وفي تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة لا سيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ والإعراض عن المعطى والتعبير عن المشترى الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون مصحوبا بالباء الداخلة على الالآت والوسائل من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنئ الحقير على الشريف الخطير وتعكيسهم بجعلهم المقصد الأصلي وسيلة والوسيلة مقصدا ما لا يخفى جلالة شأنه ورفعه مكانه
«فبئس ما يشترون» ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ويشترون صفته والمخصوص بالذم محذوف أي بئس يشترونه ذلك الثمن
«لا تحسبن» الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح له
«الذين يفرحون بما أتوا» أي بما فعلوا كما في قوله تعالى إنه كان وعده مأتيا ويدل عليه قراءة أبي يفرحون بما فعلوا وقرئ بما آتوا بمعنى أعطوا وبما أوتوا أي أي بما أوتوه من علم التوراة قال ابن عباس رضي الله عنهما هم اليهود حرفوا التوراة وفرحوا بذلك وأحبوا أن يوصفوا بالديانة والفضل روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شئ مما في التوراة فكتموا
125

الحق وأخبروه بخلافة وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا وقيل فرحوا بكتمان النصوص الناطقة بنبوته عليه الصلاة والسلام وأحبوا أن يحمدوا بأنهم متبعون ملة إبراهيم عليه السلام فالموصول عبارة عن المذكورين أو عن مشاهيرهم وضع موضع ضميرهم والجملة مسوقة لبيان ما تستتبعه أعمالهم المحكية من العقاب الأخروى إثر بيان قباحتها وقد أدمج فيها بيان بعض آخر من شنائعهم وهو إصرارهم على ما هم عليه من القبائح وفرحهم بذلك ومحبتهم لأن يوصفوا بما ليس فيهم من الأوصاف الجميلة وقد نظم ذلك في سلك الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند المخاطب إيذانا بشهرة اتصافهم بذلك وقيل هم قوم تخلفوا عن الغزو ثم اعتذروا بأنهم أو المصلحة في ذلك واستحمدوا به وقيل هم المنافقون كافة وهو الأنسب بظاهر قوله تعالى
«ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا» لشهرة أنهم كانوا يفرحون بما فعلوا من إظهار الإيمان وقلوبهم مطمئنة بالكفر ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان وهم عن فعله بألف معزل وكانوا يظهرون محبة المؤمنين وهم في الغاية القاصية من العداوة فالموصول عبارة عن طائفة معهودة من المذكورين وغيرهم فإن أكثر المنافقين كانوا من اليهود ولعل الأولى إجراء الموصول على عمومه شاملا لكل من يأتي بشيء من الحسنات فيفرح به فرح إعجاب ويود أن يمدحه الناس بما هو عار منه من الفضائل منتظما للمعهودين انتظاما أولياء وأيا ما كان فهو مفعول أول لتحسبن وقوله تعالى
«فلا تحسبنهم» تأكيد له والفاء زائدة والمفعول الثاني قوله تعالى
«بمفازة من العذاب» أي ملتبسين بنجاة منه على أن المفازة مصدر ميمي ولا يضر تأنيثها بالتاء لما أنها مبنية عليها وليست للدلالة على الوحدة كما في قوله
* فلولا رجاء النصر منك ورهبة
* عقابك قد كانوا لنا بالموارد
* ولا سبيل إلى جعلها اسم مكان على أن الجار متعلق بمحذوف وقع صفة لها أي بمفازة كائنة من العذاب لأنها ليست من العذاب وتقدير فعل خاص ليصح به المعنى أي بمفازة منجية من العذاب مع كونه خلاف الأصل تعسف مستغنى عنه وقرئ بضم الباء في الفعلين على أن الخطاب شامل للمؤمنين أيضا وقرئ بياء الغيبة وفتح الباء فيهما على أن الفعل له عليه الصلاة والسلام أو لكل أحد ممن يتأتى منه الحسبان ومفعولاه كما ذكر وقرئ بضم الباء في الثاني فقط على أن الفعل للموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عين الفاعل والثاني بمفازة أي لا يحسبن الذين يفرحون أنفسهم فائزين وقوله تعالى فلا يحسبنهم تأكيد للأول والفاء زائدة كما مر ويجوز أن يحمل الفعل الأول على حذف المفعولين معا اختصارا لدلالة مفعولى الثاني عليهما على عكس ما في قوله
* بأي كتاب أو بأية سنة
* ترى حبهم عارا على وتحسب
* حيث حذف فيه مفعولا الثاني لدلالة مفعولى الأول عليهما أو على ان الفعل الأول للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب ومفعوله الأول الموصول والثاني
محذوف لدلالة مفعول الفعل الثاني عليه والفعل الثاني مسند إلى ضمير الموصول والفاء للعطف لظهور تفرع عدم حسبانهم على عدم حسبانه عليه السلام ومفعولاه الضمير المنصوب وقوله تعالى بمفازة وتصدير الوعيد بنهيهم عن الحسبان المذكور للتنبيه على بطلان آرائهم الركيكة وقطع أطماعهم الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم ينجون بما صنعوا من عذاب الآخرة كما نجوا به من المؤاخذة الدنيوية وعليه كان مبنى فرحهم وأما نهيه عليه السلام فللتعريض بحسبانهم المذكور لا لاحتمال وقوع الحسبان من جهته عليه السلام
«ولهم عذاب أليم» بعد ما أشير
126

إلى عدم نجاتهم من مطلق العذاب حقق ان لهم فردا منه لا غاية له في المدة والشدة كما تلوح به الجملة الاسمية والتنكير التفخيمى والوصف
«ولله» أي خاصة
«ملك السماوات والأرض» أي السلطان القاهر فيهما بحيث يتصرف فيهما وفيما فيهما كيفما يشاء ويريد إيجادا وإعداما إحياء وإماته تعذيبا وإثابة من غير أن يكون لغيره شائبة دخل في شئ من ذلك بوجه من الوجوه فالجملة مقررة لما قبلها وقوله تعالى
«والله على كل شيء قدير» تقرير لاختصاص ملك العالم الجثماني المعبر عنه بقطرية به سبحانه وتعالى فإن كونه تعالى قادرا على الكل بحيث لا يشذ من ملكوته شئ من الأشياء يستدعى كون ما سواه كائنا ما كان مقدورا له ومن ضرورته اختصاص القدرة به تعالى واستحالة أن يشاركه شئ من الأشياء في القدرة على شئ من الأشياء فضلا عن المشاركة في ملك السماوات والأرض وفيه تقريره لما مر من ثبوت العذاب الأليم لهم وعدم نجاتهم منه أثر تقرير وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بمناط الحكم فإن شمول القدرة لجميع الأشياء من أحكام الألولهية مع ما فيه من الإشعار باستقلال كل من الجملتين بالتقرير
«إن في خلق السماوات» جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما سبق من اختصاصه تعالى بالسلطان القاهر والقدرة التامة صدرت بكلمة التأكيد اعتناء بتحقيق مضمونها أي في إنشائها على ما هي عليه في ذواتها وصفاتها من الأمور التي يحار في فهم أجلاها العقول
«والأرض» على ما هي عليه ذاتا وصفة
«واختلاف الليل والنهار» أي في تعاقبهما في وجه الأرض وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السماوات وسكون الأرض أو في تفاوتهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وإما في أنفسها فإن كرية الأرض تقتضي أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفي مقابلة نهارا وفي بعضها صباحا وفي بعضها ظهرا أو عصرا أو غير ذلك والليل قيل أنه اسم جنس يفرق بين واحده وجمعه بالتاء كتمر وتمرة والليالي جمع جمع والصحيح أنه مفرد ولا يحفظ له جمع والليالي جمع ليلة وهو جمع غريب كأنهم توهموا أنها ليلاه كما في كيكة وكياكى كأنها جمع كيكاة والنهار اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس قاله الراغب وقال ابن فارس هو ضياء ما بينهما وتقديم الليل على النهار إما لأنه الأصل فإن غرر الشهور تظهر في الليالي وإما لتقدمه في الخلفية حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار أي نزيلة منه فيخلفه
«لآيات» اسم إن دخلته اللام لتأخره عن خبرها والتنكير للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة عظيمة لا يقادر قدرها دالة على تعاجيب شؤونه التي من جملتها ما مر من اختصاص الملك العظيم والقدرة التامة به سبحانه وعدم
127

التعرض لما ذكر في سورة البقرة من الفلك والمطر وتصريف الرياح والسحاب لما أن المقصود ههنا بيان استبداده تعالى بما ذكر من الملك والقدرة فاكتفى بمعظم الشواهد الدالة على ذلك وأما هناك فقد قصد في ضمن بيان اختصاصه تعالى بالألوهية بيان اتصافه تعالى بالرحمة الواسعة فنظمت دلائل الفضل والرحمة في سلك دلائل التوحيد فإن ما فصل هناك من آيات رحمته تعالى كما أنه آيات ألوهيته ووحدته
«لأولي الألباب» أي لذوي العقول المجلوة الخالصة عن شوائب الحس والوهم المتجردين عن العلائق النفسانية المتخلصين من العوائق الظلمانية المتأملين في أحوال الحقائق وأحكام النعوت المراقبين في أطوار الملك وأسرار الملكوت المتفكرين في بدائع صنائع الملك الخلاق المتدبرين في روائع حكمه المودعة في الأنفس والآفاق الناظرين إلى العالم بعين الاعتبار والشهود المتفحصين عن حقيقة سر الحق في كل موجود المثابرين على مراقبته وذكراه غير ملتفتين إلى شئ مما سواه إلا من حيث إنه مرآة لمشاهدة جماله وآله لملاحظة صفات كماله فإن كل ما ظهر في مظاهر الإبداع وحضر محاضر التكوين والاختراع سبيل سوى إلى عالم التوحيد ودليل قوى على الصانع المجيد ناطق بآيات قدرته فهل من سامع واع ومخبر بأنباء علمه وحكمته فهل له من داع يكلم الناس على قدر عقولهم ويرد جوابهم بحسب مقولهم يحاور تارة بأوضح عبارة ويلوح أخرى بألطف إشارة مراعيا في الحوار وإبهامهم وتصريحهم وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم فتأمل في هذه الشؤون والأسرار إن في ذلك لعبرة لأولى البصار عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربى فقلت يا رسول الله أنى لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء ثم قام يصلى فقرأ من القرآن وجعل يبكى حتى بلغ الدموع حقويه ثم جلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وجعل يبكى ثم رفع يديه يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له يا رسول الله أتبكى وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا ثم قال وما لي لا أبكى وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلة «إن في خلق السماوات والأرض» الخ ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها وروى ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها وعن على رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا
قام من الليل يتسول ثم ينظر إلى السماء ثم يقول «إن في خلق السماوات والأرض»
«الذين يذكرون الله» الموصول إما موصول بأولى الألباب مجرور على أنه نعت كاشف له بما في حيز الصلة وإما مفصول عنه مرفوع أو منصوب على المدح أو مرفوع على انه خبر لمبتدأ محذوف وقيل هو مرفوع على الابتداء والخبر هو القول المقدر قبل قوله تعالى ربنا وفيه من تفكيك النظم الجليل مالا يخفى وأيا ما ما كان فقد أشير بما في حيز صلته أن
128

المراد بهم الذين لا يغفلون عنه تعالى في عامة أوقاتهم لاطمئنان قلوبهم بذكره واستغراق سرائرهم في مراقبته لما أيقنوا بان كل ما سواه فائض منه وعائد إليه فلا يشاهدون حالا من الأحوال في أنفسهم وإليه أشير بقوله عز وجل
«قياما وقعودا وعلى جنوبهم» ولا في الآفاق وإليه أشير بما بعده إلا وهم يعاينون في ذلك شأنا من شؤونه تعالى فالمراد به ذكره تعالى مطلقا سواء كان ذلك من حيث الذات أو من حيث الصفات والأفعال وسواء قارنه الذكر اللساني أولا وأما ما يحكى عن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة رضى الله عنهم من أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله تعالى فقال بعضهم إما قال الله تعالى «الذين يذكرون الله قياما وقعودا» فقاموا يذكرون الله على أقدامهم فليس مرادهم به تفسير الآية وتحقيق مصداقها على التعيين وإنما أرادوا به التبرك بنوع موافقة لها في ضمن الإيتان بفرد من افراد مدلولها واما حمل الذكر على الصلاة في هذه الأحوال حسب الاستطاعة كما قال عليه السلام لعمران بن الحصين صل قائما فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء فمما لا يساعده سباق لنظم الجليل ولا سياقة ولا قيام والقعود جمع قائم وقاعد كنيام ورقود جمع نائم وانتصابهما على الحالية من ضمير يذكرون أي يذكرونه قائمين وقاعدين وقوله تعالى وعلى جنوبهم متعلق بمحذوف معطوف على الحالين أي وكائنين على جنوبهم أي مضطجعين والمراد تعميم الذكر للأوقات كما مر وتخصيص الأحوال المذكورة بالذكر ليس لتخصيص الذكر بها بل لأنها الأحوال المعهودة التي لا يخلو عنها الإنسان غالبا
«ويتفكرون في خلق السماوات» عطف على يذكرون منتظم معه في حيز الصلة فلا محل له من الإعراب وقيل محله النصب على أنه معطوف على الأحوال السابقة وليس بظاهر وهو بيان لتفكرهم في أفعاله سبحانه إثر بيان تفكرهم في ذاته تعالى على الإطلاق وإشارة إلى نتيجته التي يؤدى إليها من معرفة أحوال المعاد حسبما نطقت به ألسنة الرسل وآيات الكتب فكما أنها آيات تشريعية هادية للخلق إلى معرفته تعالى ووجوب طاعته كذلك المخلوقات آيات تكوينية مرشدة لهم إلى ذلك فالأولى منبهات لهم على الثانية ودواع إلى الاستشهاد بها كهذه الآية الكريمة ونحوها مما ورد في مواضع غير محصورة من التنزيل والثانية مؤيدات للأولى وشواهد دالة على صحة مضمونها وحقية مكنونها فإن من تأمل في تضاعيف خلق العالم على هذا النمط البديع قضى باتصاف خالقه تعالى بجميع ما نطقت به الرسل والكتب من الوجوب الذاتي والوحدة الذاتية والملك القاهر والقدرة التامة والعلم الشامل والحكمة البالغة وغير ذلك من صفات الكمال وحكم بأن من قدر على إنشائه بلا مثال يحتذيه أو قانون ينتحيه فهو على إعادته بالبعث أقدر وحكم بان ذلك ليس إلا لحكمة باهرة هي جزاء المكلفين بحسب استحقاقهم المنوط بأعمالهم أي علومهم واعتقاداتهم التابعة لأنظارهم فيما نصب لهم من الحجج والدلائل والأمارات والمخايل وسائر أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعمل الجوارح بل متناول للعمل القلبي بل هو أشرف أفراده لما أن لكل من القلب والقالب عملا خاصا به ومن قضية كون الأول أشرف من الثاني كون عمله أيضا أشرف من عمله كيف ولا ولا عمل بدون معرفته تعالى التي هي أول الواجبات على العباد والغاية
129

القصوى من الخلق على ما نطق به عز وجل «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» أي ليعرفون كما أعرب عنه قوله عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف وإنما طريقها النظر والتفكر فيما ذكر من شؤونه تعالى وقد روى عنه عليه السلام انه قال لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله تعالى ولذلك قال عليه السلام لا عبادة مثل التفكر وقد عرفت أنه مستتبع لتحقيق ما جاءت به الشريعة الحقة وإلا لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى «وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا» بقوله عليه الصلاة والسلام أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى فإن التورع عن محارمه سبحانه موقوف على معرفة الحلال والحرام المنوط بالكتاب والسنة فحينئذ تتصادق الآيات التكوينية وتتوافق الأدلة السمعية والعقلية وهو السر في نظم ما حكى عن المتفكرين من الأمور المستدعية للإيمان بالشريعة في سلك نتيجة تفكرهم كما ستقف عليه وإظهار خلق السماوات والأرض مع كفاية الإضمار لإبراز كمال العناية ببيان حالهم والإيذان بكون تفكرهم على وجه التحقيق والتفصيل وعدم التعرض لإدراج اختلاف الملوين في سلك التفكر مع ذكره فيما سلف إما للإيذان بظهور اندراجه فيه لما أن ذلك من الأحوال التابعة لأحوال السماوات والأرض كما أشير إليه وإما للإشعار بمسارعتهم إلى الحكم بالنتيجة بمجرد تفكرهم في بعض الآيات من غير حاجة إلى بعض آخر منها في إثبات المطلوب والخلق مصدر على حاله أي يتفكرون في إنشائهما وإبداعهما بما فيهما من عجائب المصنوعات وقيل بمعنى المخلوق على أن الإضافة بمعنى في أي يتفكرون فيما خلق فيهما أعم من أن يكون بطريق الجزئية منهما أو بطريق الحلول فيهما أو على انها بيانية
«ربنا ما خلقت هذا باطلا» كلمة هذا إشارة إلى السماوات والأرض متضمنة لضرب من التعظيم كما في قوله تعالى إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم والتذكير لما أنهما باعتبار تعلق الخلق بهما في معنى المخلوق وباطلا إما صفة لمصدر مؤكد محذوف أو حال من المفعول به أي ما خلقت هذا المخلوق البديع العظيم الشأن عبثا عاريا عن الحكمة خاليا عن المصلحة كما ينبئ عنه أوضاع الغافلين عن ذلك المعرضين عن التفكر فيه بل منتظما لحكم جليلة ومصالح عظيمة من جملتها أن يكون مدارا لمعايش العباد ومنارا يرشدهم إلى معرفة أحوال المبدأ والمعاد حسبما أفصحت عنه الرسل والكتب الإلهية كما تحققته مفصلا والجملة بتمامها في حيز النصب بقول مقدر هو على
تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب استئناف مبين لنتيجة التفكر ومدلول الآيات ناشئ مما سبق فإن النفس عند سماع تخصيص الآيات المنصوبة في خلق العالم بأولى الألباب ثم وصفهم بذكر الله تعالى والتفكر في محال الآيات تبقى مترقبة لما يظهر منهم من آثارها وأحكامها كأنه قيل فماذا يكون عند تفكرهم في ذلك وماذا يترتب عليه من النتيجة فقيل يقولون كيت وكيت مما ينبئ عن وقوفهم على سر الخلق المؤدى إلى معرفة صدق الرسل وحقية الكتب الناطقة بتفاصيل الأحكام الشرعية على التفصيل الذي وقفت عليه هذا وأما جعله حالا من المستكن في الفعل كما أطبق عليه الجمهور فمما لا يساعده النظم الكريم لما أن ما في حيز الصلة وما هو قيد له حقه أن يكون من مبادى
130

الحكم الذي أجرى على الموصول ودواعي ثبوته له كذكرهم الله عز وجل في عامة أوقاتهم وتفكرهم في خلق السماوات والأرض فإنهما مما يؤدى إلى اجتلاء تلك الآيات والاستدلال بها على المطلوب ولا ريب في أن قولهم ذلك ليس من مبادى الاستدلال المذكور بل من نتائجه المترتبة عليه فاعتباره قيدا لما في حيز الصلة مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل نعم هو حال من ذلك على تقدير كون الموصول مرفوعا أو منصوبا على المدح أو مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف إذ لا اشتباه في أن قولهم ذلك من مبادى مدحهم ومحاسن مناقبهم وفي إبراز هذا القول في معرض الحال دون الخبر إشعار بمقارنته لتفكرهم من غير تلعثم وتردد في ذلك وقوله تعالى
«سبحانك» أي تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها خلق مالا حكمة فيه اعتراض مؤكدة لمضمون ما قبله وممهد لما بعده من قوله تعالى
«فقنا عذاب النار» فإن معرفة سر خلق العالم وما فيه من الحكمة البالغة والغاية الحميدة والقيام بما تقتضيه من الأعمال الصالحة وتنزيه الصانع تعالى عن العبث من دواعي الاستعاذة مما يحيق بالمخلين بذلك من وجهين أحدهما الوقوف على تحقق العذاب فالفاء لترتيب الدعاء على ما ذكر والثاني الاستعداد لقبول الدعاء فالفاء لترتيب المدعو أعنى الوقاية على ذلك كأنه قيل وإذ قد عرفنا سرك وأطعنا أمرك ونزهناك عما لا ينبغي فقنا عذاب النار الذي هو جزاء الذين لا يعرفون ذلك
«ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته» مبالغة في استدعاء الوقاية وبيان لسببه وتصدير الجملة بالنداء للمبالغة في التضرع والجؤار وتأكيدها لإظهار كمال اليقين بمضمونها والإيذان بشدة الخوف وإظهار النار في موضع الإضمار لتهويل أمرها وذكر الإدخال في مورد العذاب لتعيين كيفيته وتبيين غاية فظاعته قال الواحدي للإخزاء معان متقاربة يقال أخزاه الله أي أبعده وقيل إهانة وقيل أهلكه وقيل فضحة قال ابن الأنباري الخزي لغة الهلاك بتلف أو بانقطاع حجة أو بوقوع في بلاء والمعنى فقد أخزيته خزيا لا غاية وراءه كقولهم من أدرك مرعى الضمان فقد أدرك أي المرعى الذي لا مري على بعده وفيه من الإشعار بفظاعة العذاب الروحاني مالا يخفى وقوله تعالى
«وما للظالمين من أنصار» تذييل لإظهار نهاية فظاعة حالهم ببيان خلود عذابهم بفقدان من ينصرهم ويقوم بتخليصهم وغرضهم تأكيد الاستدعاء ووضع الظالمين موضع ضمير المدخلين لذمهم والإشعار بتعليل دخولهم النار بظلمهم ووضعهم الأشياء في غير مواضعها وجمع الأنصار بالنظر إلى جمع الظالمين أي ما لظالم من الظالمين نصير من الأنصار والمراد به من ينصر بالمدافعة والقهر فليس في الآية دلالة على نفى الشفاعة على أن المراد بالظالمين هم الكفار
«ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان» حكاية لدعاء آخر لهم مبنى على تأملهم في الدليل السمعي بعد حكاية دعائهم السابق المبنى على التفكر في الأدلة العقلية وتصدير مقدمة الدعاء بالنداء لإظهار كمال الضراعة والابتهال
131

والتأكيد للإيذان بصدور المقال عنهم بوفور الرغبة وكمال النشاط والمراد بالنداء الدعاء وتعديتهما بإلى لتضمنهما معنى الإنهاء وباللام لاشتمالهما على معنى الاختصاص والمراد بالمنادى الرسول صلى الله عليه وسلم وتنوينه للتفخيم وإيثاره على الداعي للدلالة على كمال اعتنائه بشأن الدعوة وتبليغها إلى الداني والقاصى لما فيه من الإيذان برفع الصوت وينادى صفة لمناديا عند الجمهور كما في قولك سمعت رجلا يقول كيت وكيت ولو كان معرفة لكان حالا منه كما إذا قلت سمعت زيدا يقول الخ ومفعول ثان لسمعنا عند الفارسي وأتباعه وهذا أسلوب بديع يصار إليه للمبالغة في تحقيق السماع والإيذان بوقوعه بلا واسطة عند صدور المسموع عن المتكلم وللتوسل إلى تفصيله واستحضار صورته وقد اختص النظم الكريم بمزية زائدة على ذلك حيث عبر عن المسموع منه بالمنادى ثم وصف بالنداء للإيمان على طريقة قولك سمعت متكلما يتكلم بالحكمة لما أن التفسير بعد الإبهام والتقييد بعد الإطلاق أوقع عند النفس وأجدر بالقبول وقيل المنادى القرآن العظيم
«أن آمنوا» أي آمنوا على أن أن تفسيرية أو بأن آمنوا على أنها مصدرية
«بربكم» بما لكم ومتولى أموركم ومبلغكم ومبلغكم إلى الكمال وفي إطلاق الإيمان ثم تقييده تفخيم لشأنه
«فآمنا» أي فامتثلنا بأمره وأجبنا نداءه
«ربنا» تكرير للتضرع وإظهار لكمال الخضوع وعرض للاعتراف بربوبيته مع الإيمان به والفاء في قوله تعالى
«فاغفر لنا» لترتيب المغفرة أو الدعاء بها على الإيمان به تعالى والإقرار بربوبيته فإن ذلك من دواعي المغفرة والدعاء بها
«ذنوبنا» أي كبائرها فإن الإيمان يجب ما قبله
«وكفر عنا سيئاتنا» أي صغائرنا فإنها مكفرة عن مجتنب الكبائر
«وتوفنا مع الأبرار» أي مخصوصين بصحبتهم مغتنمين لجوارهم معدودين من زمرتهم وفيه إشعار بأنهم كانوا يحبون لقاء الله ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه والأبرار جمع بار أو بر كأصحاب وأرباب
«ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك» حكاية لدعاء آخر لهم مسبوق بما قبله معطوف عليه لتأخر التحلية عن التخلية وتكرير النداء لما مر مرارا والمراد بالموعود الثواب
وعلى إما متعلقة بالوعد كما في قولك وعد الله الجنة على الطاعة أي وعدتنا على تصديق رسلك أو بمحذوف وقع صفة لمصدر مؤكد محذوف أي وعدتنا وعدا كائنا على ألسنة رسلك وقيل التقدير منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك ولا يخفى أن تقدير الأفعال الخاصة في مثل هذه المواقع تعسف وجمع الرسل مع ان المنادى هو الرسول صلى الله عليه وسلم وحده لما ان دعوته عليه السلام لا سيما في باب التوحيد وما اجمع عليه الكل من الشرائع منطوية على دعوة الكل فتصديقه تصديق لهم عليهم السلام كيف لا وقد أخذ منهم الميثاق بالإيمان به عليه السلام لقوله تعالى «وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب» الآية وكذا الموعود على لسانه من الثواب موعود على ألسنة الكل وإيثار الجمع لإظهار كمال الثقة بانجاز الموعود بناء على كثرة الشهود
«ولا تخزنا يوم القيامة» قصدوا بذلك تذكير وعده تعالى بقوله يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه مظهرين أنهم ممن آمن معه رجاء للانتظام في سلكهم يومئذ وقوله تعالى
«إنك لا تخلف الميعاد» تعليل لتحقيق ما نظموا في سلك الدعاء وهذه الدعوات وما في تضاعيفها من كمال الضراعة
132

والابتهال ليست لخوفهم من أخلاف الميعاد بل لخوفهم من أن لا يكونوا من جملة الموعودين بتغير الحال وسوء الخاتمة والمآل فمرجعها إلى الدعاء بالتثبيت أو للمبالغة في التعبد والخشوع والميعاد الوعد وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه البعث بعد الموت وفي الآثار عن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال ربنا خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد وقرأ هذه الآية
«فاستجاب لهم ربهم» الاستجابة بمعنى الإجابة وقال تاج القراء الإجابة عامة والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول وتتعدى باللام وبنفسها كما في قوله
* فلم يستجبه عند ذاك مجيب
* وهو عطف على الاستئناف المقدر فيما سلف مترتب على ما في حيزه من الأدعية كما أن قوله عز وجل ثم قيل للذين ظلموا الخ عطف على قيل المقدر قبل آلآن أي قيل لهم آلآن آمنتم به ثم قيل الآية وكما أن قوله تعالى في سورة الأعراف على قلوبهم معطوف على ما دل عليه معنى أو لم يهد الخ كأنه قيل يغفلون عن الهداية ونطبع ونطيع الخ ولا ضير في اختلافهما صيغة لما أن صيغة المستقبل هناك للدلالة على الاستمرار المناسب لمقام الدعاء وصيغة الماضي ههنا للإيذان بتحقق الاستجابة وتقررها كما لا ضير في الاختلاف بين قوله تعالى إذ تستغيثون ربكم وبين ما عطف عليه من قوله تعالى فاستجاب لكم كما سيأتي ويجوز أن يكون معطوفا على مضمر ينساق اليه الذهن أي دعوا بهذه الأدعية فاستجاب الخ واما على تقرير كون المقدر حالا فهو عطف على يتفكرون باعتبار مقارنته لما وقع حالا من فاعله أعني قوله تعالى ربنا ربنا الخ فإن الاستجابة مترتبة على دعواتهم لا على مجرد تفكرهم وحيث كانت هي من أوصافهم الجميلة المترتبة على أعمالهم بالآخرة استحقت الانتظام في سلك محاسنهم المعدودة في أثناء مدحهم وأما على تقدير كون الموصول نعتا لأولى الألباب فلا مساغ لهذا العطف أصلا لما عرفت من أن حق ما في حيز الصلة أن يكون من مبادي جريان الحكم على الموصول وقد عرفت أن دعواتهم السابقة ليست كذلك فأين الاستجابة المتأخرة عنها وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم من تشريفهم واظهار اللطف بهم مالا يخفى
«أني لا أضيع عمل عامل منكم» أي بأني وهكذا قرأ أبي رضي الله عنه والباء للسببية كأنه قيل فاستجاب لهم ربهم بسبب لأنه لا يضيع عمل عامل منهم أي سنته السنية مستمرة على ذلك والالتفات إلى التكلم والخطاب لإظهار كمال الاعتناء بشأن الاستجابة وتشريف الداعين بشرف الخطاب والمراد تأكيدها ببيان سببها والاشعار بأن مدارها أعمالهم التي قدموها على الدعاء لا مجرد الدعاء وتعميم الوعد لسائر العاملين وان لم يبلغوا درجة أولى الألباب لتأكيد استجابة الدعوات المذكورة والتعبير عن ترك الإثابة بالإضاعة مع أنه ليس بإضاعة حقيقية إذ الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه
133

عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول أي قائلا أنى الخ فلا التفات حينئذ وقرئ لا أضيع بالتشديد ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لعامل أي عامل كائن منكم وقوله تعالى
«من ذكر أو أنثى» بيان لعامل وتأكيد لعمومه وقوله تعالى
«بعضكم من بعض» جملة معترضة مبينة لسبب انتظام النساء في سلك الرجال في الوعد فإن كون كل منهما من الآخر لتشعبهما من أصل واحد أو لفرط الاتصال بينهما أو لاتفاقهما في الدين والعمل مما يستدعي الشركة والاتحاد في ذلك روى أن أم سلمة رضي الله عنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أسمع الله تعالى يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت وقوله تعالى
«فالذين هاجروا» ضرب تفصيل لما أجمل في العمل وتعداد لبعض أحاسن أفراده على وجه المدح والتعظيم أي فالذين هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين وقوله تعالى
«وأخرجوا من ديارهم» على الأول عبارة عن نفس الهجرة وعلى الثاني عن كيفيتها وكونها بالقسر والاضطرار
«وأوذوا في سبيلي» أي بسبب إيمانهم بالله ومن أجله وهو متناول لكل أذية نالتهم من قبل المشركين
«وقاتلوا» أي الكفار في سبيل الله تعالى
«وقتلوا» استشهدوا في القتال وقرئ بالعكس لما أن الواو لا تستدعي الترتيب أو لأن المراد قتل بعضهم وقتال آخرين إذ ليس المعنى على اتصاف كل فرد من أفراد الموصول المذكور بكل واحد مما ذكر في حيز الصلة بل على اتصاف الكل بالكل في الجملة سواء كان ذلك باتصاف كل فرد من الموصول بواحد من الأوصاف المذكورة
أو باثنين منها أو بأكثر إما بطريق التوزيع أو بطريق حذف بعض الموصولات من البين كما هو رأي الكوفيين كيف لا ولو أدير الحكم على اتصاف كل فرد بالكل لكان قد أضيع عمل من اتصف بالبعض وقرئ وقتلوا بالتشديد
«لأكفرن عنهم سيئاتهم» جواب قسم محذوف أي والله لأكفرن والجملة القسمية خبر للمبتدأ الذي هو الموصول وهذا تصريح بوعد ما سأله الداعون بخصوصه بعد ما وعد ذلك عموما وقوله تعالى
«ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار» إشارة إلى ما عبر عنه الداعون فيما قبل بقولهم وآتنا ما وعدتنا على رسلك وتفسير له
«ثوابا» مصدر مؤكد لما قبله فإن تكفير السيئات وإدخال الجنة في معنى الإثابة وقوله تعالى
«من عند الله» متعلق بمحذوف هو صفة له مبينة لشرفه أي لأثيبنهم إثابة كائنة أو تثويبا كائنا من عنده تعالى بالغا إلى المرتبة القاصية من الشرف وقوله تعالى
«والله عنده حسن الثواب» اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والاسم الجليل مبتدأ خبره عنده وحسن الثواب مرتفع بالظرف على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ وهو مبتدأ ثان والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والعندية عبارة عن الاختصاص به تعالى مثل كونه بقدرته تعالى وفضله بحيث لا يقدر عليه غيره بحال شيء يكون بحضرة أحد لا يد عليه لغيره فالإختصاص مستفاد من التمثيل سواء جعل عنده خبرا مقدما لحسن الثواب أولا وفي تصدير الوعد الكريم بعدم إضاعة العمل ثم تعقيبه بمثل هذا الإحسان الذي لا يقادر قدره من لطف المسلك المنبئ عن عظم شان المحسن ما لا يخفى
134

«لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد» بيان لقبح ما أوتي الكفرة من حظوظ الدنيا وكشف عن حقارة شأنها وسوء مغبتها إثر بيان حسن ما أوتي المؤمنون من الثواب والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على أن المراد تثبيته على ما هو عليه كقوله تعالى «فلا تطع المكذبين» أو على أن المراد نهي المؤمنين كما يوجه الخطاب إلى مداره القوم ورؤسائهم والمراد أفناؤهم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب من المؤمنين والنهي للمخاطب وإنما جعل للتقلب مبالغة أي لا تنظر إلى ما عليه الكفرة من السعة ووفور الحظ ولا تغتر بظاهر ما ترى منهم من التبسط في المكاسب والمتاجر والمزارع روى أن بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون إن أعداء الله تعالى فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت وقرئ ولا يغرنك بالنون الخفيفة
«متاع قليل» خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع قليل لا قدر له في جنب ما ذكر من ثواب الله تعالى قال عليه السلام ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع فإذن لا يجدي وجوده لواجديه ولا يضر فقدانه لفاقديه
«ثم مأواهم» أي مصيرهم الذي يأوون إليه لا يبرحونه
«جهنم» التي لا يوصف عذابها وقوله تعالى
«وبئس المهاد» ذم لها وإيذان بأن مصيرهم إليها مما جنته أنفسهم وكسبته أيديهم والمخصوص بالذم محذوف أي بئس ما مهدوا لأنفسهم جهنم
«لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» بيان لكمال حسن حال المؤمنين غب بيان وتكرير له إثر قرير مع زيادة خلودهم في الجنات ليتم بذلك سرورهم ويزداد تبجحهم ويتكامل به سوء حال الكفرة وإيراد التقوى في حيز الصلة للإشعار بكون الخصال المذكورة من باب التقوى والمراد به الاتقاء من الشرك والمعاصي فالموصول مبتدأ والظرف خبره وجنات مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على المبتدأ أو الظرف خبر لجنات والجملة خبر للموصول وخالدين فيها أي في الجنات حال مقدرة من الضمير أو من جنات لتخصصها بالوصف والعامل ما في الظرف من معنى الاستقرار
«نزلا من عند الله» وقرئ بسكون الزاي وهو ما يعد للنازل من طعام وشراب وغيرهما قال أبو الشعر الضبي
* وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا
* جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
* وانتصابه على الحالية من جنات لتخصصها بالوصف والعامل فيه ما في الظرف من معنى الاستقرار وقيل هو مصدر مؤكد كأنه قيل رزقا أو عطاء من عند الله
«وما عند الله خير» مبتدأ وخبر وقوله تعالى
«للأبرار» متعلق بمحذوف هو صفة لخير أي ما عنده تعالى من الأمور المذكورة الدائمة خير كائن للأبرار أي مما يتقلب فيه الفجار من المتاع القليل الزائل والتعبير عنهم بالأبرار للإشعار بأن الصفات المعدودة من أعمال البر كما أنها من قبيل التقوى والجملة تذييل لما قبلها
135

«وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله» جملة مستأنفة سيقت لبيان أن أهل الكتاب ليس كلهم كمن حكيت هناتهم من نبذ الميثاق وتحريف الكتاب وغير ذلك بل منهم من له مناقب جليلة قيل هم عبد الله ابن سلام وأصحابه وقيل هم أربعون من أهل نجران واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا وقيل المراد به أصحمه النجاشي فإنه لما مات نعاه جبريل إلى النبي عليه السلام فقال عليه السلام اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم فخرج إلى البقيع فنظر إلى ارض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه واستغفر له فقال المنافقون انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط وليس على دينه فنزلت وإنما دخلت لام الابتداء على اسم إن لفصل الظرف بينهما كما في قوله تعالى وإن منكم لمن ليبطئن
«وما أنزل إليكم» من القرآن
«وما أنزل إليهم» من الكتابين وتأخير إيمانهم بهما عن إيمانهم بالقرآن في الذكر مع أن الأمر بالعكس في الوجود لما انه عيار ومهيمن عليهما فإن إيمانهم بهما إنما يعتبر
بتبعية إيمانهم به إذ لا عبرة بأحكامهما المنسوخة وما لم ينسخ منها إنما يعتبر من حيث ثبوته بالقرآن ولتعلق ما بعده بهما والمراد بإيمانهم بهما إيمانهم بهما من غير تحريف ولا كتم كما هو ديدن المحرفين وأتباعهم من العامة
«خاشعين لله» حال من فاعل يؤمن والجمع باعتبار المعنى
«لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا» تصريح بمخالفتهم للمحرفين والجملة حال كما قبله ونظمها في سلك محاسنهم ليس من حيث عدم الإشتراء فقط بل لتضمن ذلك لإظهار ما في الكتابين من شواهد نبوته عليه السلام
«أولئك» إشارة إليهم من حيث اتصافهم بما عد من صفاتهم الحميدة وما فيه من معنى البعد للدلالة على علو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضيلة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«لهم» وقوله
«أجرهم» أي المختص بهم الموعود لهم بقوله تعالى «أولئك يؤتون أجرهم مرتين» وقوله تعالى «يؤتكم كفلين من رحمته» مرتفع بالظرف على الفاعلية أو على الابتداء والظرف خبره والجلة خبره لأولئك وقوله تعالى
«عند ربهم» نصب على الحالية من أجرهم والمراد به التشريف كالصفة
«إن الله سريع الحساب» لنفوذ علمه بجميع الأشياء فهو عالم بما يستحقه كل عامل من الأجر من غير حاجة إلى تأمل والمراد بيان سرعة وصول الأجر الموعود إليهم
«يا أيها الذين آمنوا» إثر ما بين في تضاعيف السورة الكريمة فنون الحكم والأحكام ختمت بما يوجب المحافظة عليها فقيل
«اصبروا» أي على مشاق الطاعات وغير ذلك من المكاره والشدائد
«وصابروا» أي غالبوا أعداء الله تعالى بالصبر في مواطن الحروب وأعدى عدوكم بالصبر على مخالفة الهوى وتخصيص المصابرة بالأمر بعد الأمر بمطلق الصبر لكونها أشد منه وأشق
«ورابطوا» أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين للغزو مستعدين له قال تعالى «ومن رباط
136

الخيل ترهبون به عدو الله» «وعدوكم» وعن النبي صلى الله عليه وسلم من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر رمضان وقيامه ولا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة
«واتقوا الله» في مخالفة أمره على الإطلاق فيندرج فيه ما ذكر في تضاعيف السورة الكريمة اندراجا أوليا
«لعلكم تفلحون» كي تنتظموا في زمرة المفلحين الفائزين بكل مطلوب الناجين من كل الكروب عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة آل عمران أعطى بكل آية منها أمانا على جسر جهنم وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى عليه وملائكته حتى تحجب الشمس والله أعلم
سورة النساء مدنية وهي مائة وست وسبعون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم»
«يا أيها الناس» خطاب يعم حكمة جميع المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم من الموجودين حينئذ والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة عند انتظامهم فيه لكن لا بطريق الحقيقة فإن خطاب المشافهة لا يتناول القاصرين عن درجة التكليف إلا عند الحنابلة بل إما بطريق تغليب الفريق الأول على الأخيرين وإما بطريق تعميم حكمه لهما بدليل خارجي فإن الإجماع منعقد على أن آخر الأمة مكلف بما كلف به أولها كما ينبئ عنه قوله عليه السلام الحلال ما جرى على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما جرى على لساني إلى يوم القيامة وقد فصل في موضعه وأما الأمم الدارجة قبل النزول فلاحظ لهم في الخطاب لاختصاص الأوامر والنواهي بمن يتصور منه الامتثال وأما اندراجهم في خطاب ما عداهما مما له دخل في تأكيد التكليف وتقوية الإيجاب فستعرف حالة ولفظ الناس ينتظم الذكور والإناث حقيقة وأما صيغة جمع المذكر في قوله تعالى
«اتقوا ربكم» فواردة على طريقة التغليب لعدم تناولها حقيقة للإناث عند غير الحنابلة وإما إدخالهن في الأمر بالتقوى بما ذكر من الدليل الخارجي وإن كان فيه مراعاة جانب الصيغة لكنه يستدعى تخصيص لفظ الناس ببعض أفراده والمأمور به إما مطلق التقوى التي هي التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وإما التقوى فيما يتعلق بحقوق أبناء الجنس أي اتقوه في مخالفة أوامره ونواهيه على الإطلاق أو في مخالفة تكاليفه الواردة ههنا وأيا ما كان فالتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الأمر وتأكيد إيجاب الامتثال به على طريقة الترغيب
137

والترهيب وكذا وصف الرب بقوله تعالى
«الذي خلقكم من نفس واحدة» فإن خلقه تعالى إياهم على هذا النمط البديع لإنبائه عن قدرة شاملة لجميع المقدورات التي من جملتها عقابهم على معاصيهم وعن نعمة كاملة لا يقادر قدرها من أقوى الدواعي إلى الاتقاء من موجبات نقمته وأتم الزواجر عن كفران نعمته وكذا جعله تعالى إياهم صنوانا مفرغة من أرومة واحدة هي نفس آدم عليه السلام من موجبات الاحتراز عن الإخلال بمراعاة ما بينهم من حقوق الأخوة وتعميم الخطاب في ربكم وخلقكم للأمم السالفة أيضا مع اختصاصه فيما قبل بالمأمورين بناء على أن تذكير شمول ربوبيته تعالى وخلقه للكل من مؤكدات الأمر بالتقوى وموجبات الامتثال به تفكيك للنظم الكريم مع الاستغناء عنه لأن خلقه تعالى للمأمورين من
نفس آدم عليه السلام حيث كان بواسطة ما بينهم وبينه عليه السلام من الآباء والأمهات كان التعرض لخلقهم متضمنا للتعرض لخلق الوسايط جميعا وكذا التعرض لربوبيته تعالى لأصولهم قاطبة لا سيما وقد نطق بذلك قوله عز وجل
«وخلق منها زوجها» فإنه مع ما عطف عليه صريح في ذلك وهو معطوف إما على مقدر ينبئ عنه سوق الكلام لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها الخ وهو استئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ وبيان كيفية خلقهم منه وتفصيل ما أجمل أولا أو صفة لنفس مفيدة لذلك وإما على خلقكم داخل معه في حيز الصلة مقرر ومبين لما ذكر وإعادة الفعل مع جواز عطف مفعوله على مفعول الفعل الأول كما في قوله تعالى «يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم» الخ لإظهار ما بين الخلقين من التفاوت فإن الأول بطريق التفريع من الأصل والثاني بطريق الإنشاء من المادة فإن تعالى خلق حواء من ضلع آدم عليه السلام روى أنه عز وجل لما خلقه عليه السلام وأسكنه الجنة ألقي عليه النوم فبينما هو بين النائم واليقظان خلق حواء من ضلع من أضلاعه اليسرى فلما أنتبه وجدها عنده وتأخير ذكر خلقها عن ذكر خلقهم لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على الامتثال بالأمر بالتقوى من تذكير خلقها وتقديم الجار والمجرور للاعتناء ببيان مبدئيته عليه السلام لها مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وإيرادها بعنوان الزوجية تمهيد لما بعده من التناسل
«وبث منهما» أي نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها بطريق التوالد والتناسل
«رجالا كثيرا» نعت لرجالا مؤكدة لما أفاده التنكير من الكثرة والإفراد باعتبار معنى الجمع أو العدد وقيل هو نعت لمصدر مؤكد للفعل أي بثا كثيرا
«ونساء» أي كثيرة وترك التصريح بها للاكتفاء بالوصف المذكور وإيثارهما على ذكورا وإناثا لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره وقرئ وخالق وباث على حذف المبتدأ أي وهو خالق وباث
«واتقوا الله الذي تساءلون به» تكرير للأمر وتذكير لبعض آخر من موجبات الامتثال به فإن سؤال بعضهم بعضا بالله تعالى بان يقولوا أسألك بالله وأنشدك الله على سبيل الاستعطاف يقتضى الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه وتعليق الاتقاء بالاسم الجليل لمزيد التأكيد والمبالغة في الحمل على الامتثال بتربية المهابة وإدخال الروعة لوقوع التساؤل به لا بغيره من أسمائه تعالى وصفاته وتساءلون أصله تتساءلون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا وقرئ بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس
138

وقرئ تسألون من الثلاثي أي تسألون به غيركم وقد فسر به القراءة الأولى والثانية وحمل صيغة التفاعل على اعتبار الجمع كما في قولك رأيت الهلال وتراءيناه وبه فسر عم يتساءلون على وجه وقرئ تسلون بنقل حركة الهمزة إلى السين
«والأرحام» بالنصب عطفا على محل الجار والمجرور كقولك مررت بزيد وعمرا وينصره قراءة تساءلون به وبالأرحام فإنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله عز وجل ويقولون أسالك بالله وبالرحم أو عطفا على الاسم الجليل أي اتقوا الله والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك والفراء والزجاج وقد جوز الواحدي نصبه على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها وقرئ بالجر عطفا على الضمير المجرور بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك أي مما يتقى أو يتساءل به ولقد نبه سبحانه وتعالى حيث قرنها باسمه الجليل على أن صلتها بمكان منه كما في قوله تعالى «ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا» وعنه عليه السلام الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعة الله
«إن الله كان عليكم رقيبا» أي مراقبا وهي صيغة مبالغة من رقب يرقب رقبا إذا أحد النظر لأمر يريد تحقيقه أي حافظا مطلعا على جميع ما يصدر عنكم من الأفعال والأقوال وعلى ما في ضمائركم من النيات مريدا لمجازاتكم بذلك وهو تعليل للأمر ووجوب الامتثال به وإظهار الاسم الجليل لتأكيده وتقديم الجار والمجرور لرعاية الفواصل
«وآتوا اليتامى أموالهم» شروع في تفصيل موارد الاتقاء ومظانه بتكليف ما يقابلها أمرا ونهيا عقيب الأمر ينفسه مرة بعد أخرى وتقديم ما يتعلق باليتامى لإظهار كمال العناية بأمرهم ولملابستهم بالأرحام إذ الخطاب للأولياء والأوصياء وقلما تفوض الوصاية إلى الأجانب واليتيم من مات أبوه من اليتم وهو الانفراد ومنه الدرة اليتيمة وجمعه على يتامى إما لأنه لما جرى مجرى السماء جمع على يتأتم ثم قلب فقيل يتامى أو لأنه لما كان من وادى الآفات جمع على يتمى ثم جمع يتمى على يتامى والاشتقاق يقتضى صحة إطلاقه على الكبار أيضا واختصاصه بالصغار مبنى على العرف وأما قوله عليه السلام لا يتم بعد الحلم فتعليم للشريعة لا تعيين لمعنى اللفظ أي لا يجرى على اليتيم بعده حكم الأيتام والمراد بإيتاء أموالهم قطع المخاطبين أطماعهم الفارغة عنها وكف أكفهم الخاطفة عن اختزالها وتركها على حالها غير متعرض لها بسوء حتى تأتيهم وتصل إليهم سالمة كما ينبئ عنه ما بعده من النهى عن التبدل والأكل لا الإعطاء بالفعل فإنه مشروط بالبلوغ وإيناس الرشد على ما ينطق به قوله تعالى «حتى إذا بلغوا» الآية وإنما عبر عما ذكر بالإيتاء مجازا للإيذان بأنه ينبغي ان يكون مرادهم بذلك إيصالها إليهم لا مجرد ترك التعرض لها فالمراد بهم إما الصغار على ما هو المتبادر والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء وشمول حكمة لأولياء من كان بالغا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة وإما من جرى عليه اليتم في الجملة مجازا أعم من
139

أن يكون كذلك عند النزول أو بالغا فالأمر شامل أولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من حفظ أموالهم والتحفظ عن إضاعتها مطلقا وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به وقيل المراد بهم الصغار وبالإيتاء الإعطاء في الزمان المستقبل وقيل أطلق اسمهم على الكبار بطريق الإتساع لقرب عهدهم باليتم حثا للأولياء على المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم أول ما بلغوا قبل أن يزول عنهم اسمهم المعهود فالإيتاء بمعنى الإعطاء بالفعل ويأباهما ما سيأتي من قوله تعالى «وابتلوا
اليتامى» الخ فإن ما فيه من الأمر بالدفع وارد على وجه التكليف الابتدائي لا على وجه تعيين وقته أو بيان شرطه فقط كما هو مقتضى القولين وأما تعميم الاسم للصغار والكبار مجازا بطريق التغليب مع تعميم الإيتاء للإيتاء حالا وللإيتاء مآلا وتعميم الخطاب لأولياء كلا الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وأن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدا فمع ما سبق تكلف لا يخفى فالأنسب ما تقدم من حمل إيتاء أموالهم إليهم على ما يؤدى إليه من ترك التعرض لها بسوء كما يلوح به التعبير عن الإعطاء بالفعل بالدفع سواء أريد باليتامى الصغار أوما يعم الصغار والكبار حسبما ذكر آنفا وإما ما روى من ان رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له فلما بلغ طلب منه ماله فمنعه فنزلت فلما سمعها قال أطعنا الله وأطعنا الرسول نعوذ بالله من الحوب الكبير فغير قادح في ذلك لما أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب
«ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب» نهى عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهى الضمني عن أخذه على الإطلاق وتبدل الشئ بالشئ واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد ان كان حاصلا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى «ومن يتبدل الكفر بالإيمان» الخ وقوله تعالى أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير وإما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين الخ وأخرى بالعكس كما في قولك بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما نص عليه الأزهري وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعولية بنفسه كما في قوله تعالى يبدل الله سيئاتهم حسنات والمراد بالخبيث والطيب إن كان هو الحرام والحلال فالمنهى عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقا كما قاله الفراء والزجاج وقيل معناه لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهى عنه أكل ماله مكان ما لهم المحقق أو المقدر وقيل هو اختزال ما له مكان حفظه وأيا ما كان فأنما عبر عنهما بهما تنفيرا عما أخذوه وترغيبا فيما أعطوه وتصويرا لمعاملتهم بصورة مالا يصدر عن العاقل وإن كان هو الردئ والجيد فمورد النهى ما كانوا عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الردئ من مال أنفسهم وبه قال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي وتخصيص هذه المعاملة بالنهى لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها وأما التعبير عنها بتبدل الخبيث بالطيب مع أنها تبديله به أو تبدل الطيب بالخبيث فللإيذان بأن الأولياء حقهم أن يكونوا في المعاوضات عاملين لليتيم لا لأنفسهم مراعين لجانبه قاصدين لجلب المجلوب إليه مشترى كان أو ثمنا لا لسلب المسلوب عنه
«ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم» نهى عن منكر آخر كانوا يتعاطونه أي لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم ولا تسووا بينهما وهذا حلال وذاك حرام وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون
140

الولي فقيرا
«أنه» أي الاكل المفهوم من النهي
«كان حوبا» أي ذنبا عظيما وقرئ بفتح الحاء وهو مصدر حاب حوبا وقرئ حابا وهو أيضا مصدر كقال قولا وقالا
«كبيرا» مبالغة في بيان عظم ذنب الاكل المذكور كأنه قيل من كبار الذنوب العظيمة لا من إفنائها
«وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى» الإقساط العدل وقرئ بفتح التاء فقيل هو من قسط أي جار ولا مزيدة كما في قوله تعالى لئلا يعلم وقيل هو بمعنى أقسط فإن الزجاج حكى أن قسط يستعمل استعمال أقسط والمراد بالخوف العلم كما في قوله تعالى «فمن خاف من موص جنفا» عبر عنه بذلك ايذانا بكون المعلوم مخوفا محذورا لا معناه الحقيقي لأن الذي علق به الجواب هو العلم بوقوع الجور المخوف لا الخوف منه والا لم يكن الأمر شاملا لمن يصر على الجور ولا يخافه وهذا شروع في النهي عن منكر آخر كانوا يباشرونه متعلق بأنفس اليتامى اصالة وبأموالهم تبعا عقيب النهى عما يتعلق بأموالهم خاصة وتأخيره عنه لقلة وقوع المنهي عنه بالنسبة إلى الأول ونزوله منه بمنزلة المركب من المفرد وذلك أنهم كانوا يتزوجون من تحل لهم من اليتامى اللاتي يلونهن لكن لا لرغبة فيهن بل في مالهن ويسيئون في الصحبة والمعاشرة ويتربصون بهن ان يمتن فيرثوهن وهذا قول الحسن وقيل هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن الا أن يقسطوا لهن في اكمال الصداق وأمروا ان ينحكوا ما سواهن من النساء وهذا قول الزهري رواية عن عروة عن عائشة رضي الله عنها واما اعتبار اجتماع عدد كثير منهن كما أطبق عليه أكثر أهل التفسير حيث قالوا كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال ويكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره فربما اجتمعت عنده عشر منهن الخ فلا يساعده الأمر بنكاح غيرهن فإن المحذور حينئذ يندفع بتقليل عددهن وان خفتم ألا تعدلوا في حق اليتامى إذا تزوجتم بهن بإساءة العشرة أو بنقص الصداق
«فانكحوا ما طاب لكم» ما موصولة أو موصوفة ما بعدها صلتها أو صفتها أو أوثرت على من ذهابا إلى الوصف وايذانا بأنه المقصود بالذات والغالب في الاعتبار لا بناء على ان الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء لإخلاله بمقام الترغيب فيهن وقرأ ابن أبي عبلة من طاب ومن في قوله تعالى
«من النساء» بيانية وقيل تبعيضية والمراد بهن غير اليتامى بشهادة قرينة المقام أي فانكحوا من استطابتها نفوسكم من الأجنبيات وفي ايثار الأمر بنكاحهن على النهي عن نكاح اليتامى مع أنه المقصود بالذات مزيد لطف في استنزالهم عن ذلك فإن النفس مجبولة على الحرص على ما منعت منه كما ان وصف النساء بالطيب على الوجه الذي أشير اليه فيه مبالغة في الاستمالة إليهن والترغيب فيهن وكل ذلك للاعتناء بصرفهم عن نكاح اليتامى وهو السر في توجيه النهي الضمني إلى النكاح المترقب مع ان سبب النزول هو النكاح المحقق لما فيه من المسارعة إلى دفع الشر قبل وقوعه
141

فرب واقع لا يرفع والمبالغة في بيان حال النكاح المحقق فإن محظورية المترقب حيث كانت للجور المترقب فيه فمحظورية المحقق مع تحقق الجور فيه أولى وقيل المراد بالطيب الحل أي ما حل لكم شرعا لأن ما استطابوه شامل للمحرمات ولا مخصص له بمن عداهن وفيه فرار من محذور من محذور ووقوع فيما هو أفضع منه لأن ماحل
لهم مجمل وقد تقرر أن النص إذا تردد بين الإجمال والتخصيص يحمل على الثاني لأن العالم المخصوص حجة في غير محل التخصيص والمجمل ليس بحجة قبل ورود البيان أصلا ولئن جعل قوله تعالى حرمت عليكم الخ دالا على التفصيل بناء على ادعاء تقدمه في التنزيل فليجعل دالا على التخصيص
«مثنى وثلاث ورباع» معدولة عن أعداد مكررة غير منصرفة لما فيها من العدلين عدلها عن صيغها وعدلها عن تكررها وقيل للعدل والصفة فإنها بنيت صفات وإن لم تكن أصولها كذلك وقرئ وثلث وربع على القصر من ثلاث ورباع ومحلهن النصب على أنها حال من فاعل طاب مؤكدة لما إفادة وصف الطيب من الترغيب فيهن والاستمالة إليهن بتوسيع دائرة الإذن أي فانحكوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا حسبما تريدون على معنى أن لكل واحد منهم ان يختار أي عدد شاء من الأعداد المذكورة لا أن بعضها لبعض منهم وبعضها لبعض آخر كما في قولك اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين وثلاثا ثلاثا وأربعة أربعة ولو أفردت لفهم منه تجويز الجمع بين تلك الأعداد دون التوزيع ولو ذكرت بكلمة أو لفات تجويز الاختلاف في العدد هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمة لما نزلت الآية في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير أخذ الأولياء يتحرجون من ولايتهم خوفا من لحوق الجوب بترك الإقساط مع انهم كانوا لا يتحرجون من ترك العدل في حقوق النساء حيث كان تحت الرجل منهم عشر منهن فقيل لهم إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها فخافوا أيضا ترك العدل بين النساء فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فهو غير متحرج ولا تائب عنه وقيل كانوا لا يتحرجون من الزنى وهم يتحرجون من ولاية اليتامى فقيل إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنى فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحرموا حول المحرمات ولا يخفى أنه لا يساعدهما جزالة النظم الكريم لابتنائهما على تقدم نزول الآية الأولى وشيوعها بين الناس مع ظهور توقف حكمها على ما بعدها من قوله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم إلى قوله تعالى وكفى بالله حسيبا
«فإن خفتم ألا تعدلوا» أي فيما بينهن ولو في أقل الأعداد المذكورة كما خفتموه في حق اليتامى أو كما لو تعدلوا في حقهن أو كما لم تعدلوا فيما فوق هذه الأعداد
«فواحدة» أي فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجميع بالكلية وقرئ بالرفع أي فالمقنع واحدة أو فحسبكم واحدة
«أو ما ملكت أيمانكم» أيمن السراري بالغة ما بلغت من مراتب العدد وهو عطف على واحده على ان اللزوم والاختيار فيه بطريق التسري لا بطريق النكاح كما فيما عطف عليه لا ستلزمه ورود ملك النكاح على ملك اليمين بموجب اتحاد المخاطبين في الموضعين بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى «ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم» فإن المأمور بالنكاح هناك غير المخاطبين بملك اليمين وإنما سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين السراري من غير حصر في عدد لقلة تبعتهن
142

وخفة مؤنتهن وعدم وجوب القسم فيهن وقرئ أو من ملكت أيمانكم وما في القراءة المشهورة للإيذان بقصور رتبتهن عن رتبة العقلاء
«ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة والتسرى
«أدنى ألا تعولوا» العول الميل من قولهم عال الميزان عولا إذا مال وعال في الحكم أي جار والمراد هنا الميل المحظور المقابل للعدل أي ما ذكر من اختيار الواحدة والتسرى أقرب بالنسبة إلى ما عداهما من ان لا تميلوا ميلا محظورا لانتفائه رأسا بانتفاء محله في الأول وانتفاء خطره في الثاني بخلاف اختيار العدد في المهائر فإن الميل المحظور متوقع فيه لتحقق المحل والخطر ومن ههنا تبين أن مدار الأمر هو عدم العول لا تحقق العدل كما قيل وقد فسر بأن لا يكثر عيالكم على أنه من عال الرجل عياله يعولهم أي مانهم فعبر عن كثرة العيال بكثرة المؤنة على طريقة الكناية ويؤيده قراءة أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ووجه كون التسري مظنة قلة العيال مع جواز الاستكثار من السراري أنه يجوز العزل عنهن بغير رضاهن ولا كذلك المهائر والجملة مستأنفة جارية مما قبلها مجرى التعليل
«وآتوا النساء» أي اللاتي أمر بنكاحهن
«صدقاتهن» جمع صدقة كسمرة وهي المهر وقرئ بسكون الدال على التخفيف وبضم الصاد وسكون الدال جمع صدقة كغرفة وبضمها على التوحيد وهو تثقيل صدقة كظلمة في ظلمة
«نحلة» قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد فريضة من الله لأنها مما فرضه الله في النحلة أي الملة والشرعة والديانة فانتصابها على الحالية من الصدقات أي أعطوهن مهورهن حال كونها فريضة منه تعالى وقال الزجاج تدينا فانتصابها على أنها مفعول له أي أعطوهن ديانة وشرعة وقال الكلبي نحلة أي هبة وعطية من الله تعالى وتفضلا منه عليهن فانتصابه على الحالية منها أيضا وقيل عطية من جهة الأزواج من نحلة كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلا والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجبة على الأزواج لإفادة معنى الإيتاء عن كمال الرضا وطيب الخاطر وانتصابها على المصدرية لأن الإيتاء والنحلة بمعنى الإعطاء كأنه قيل وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم أو على الحالية من ضمير آتوا أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس فالخطاب للأزواج وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم وكانوا يقولون هنيئا لك النافجة لمن يولد له بنت يعنون تأخذ مهرها فتنفج به مالك أي تعظمه
«فإن طبن لكم عن شيء منه» الضمير للصدقات وتذكيره لإجرائه مجرى ذلك فإنه قد يشار به إلى المتعدد كما في قوله عز وجل قل أؤنبئكم بخير من ذلكم بعد ذكر الشهوات المعدودة وقد روى عن رؤية أنه حين قيل له في قوله
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
* إن أردت الخطوط ينبغي أن تقول كأنها وإن أردت السواد والبلق ينبغي أن تقول كأنهما قال لكني أردت كأن ذلك أو للصداق الواقع موقعه صدقاتهن كأنه قيل وآتوا النساء صداقهن كما في قوله تعالى «فأصدق وأكن» حيث عطف أكن على ما دل عليه المذكور ووقع موقعه كأنه قيل ان أخرتنى أصدق وأكن واللام متعلقة بالفعل وكذا عن لكن
143

بتضمينه معنى التجافي والتجاوز ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة لشئ أي كائن من الصداق وفيه بعث لهن على تقليل الموهوب
«نفسا» تمييز والتوحيد لما أن المقصود بيان الجنس أي وإن وهبن لكم شيئا من الصداق متجافيا عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم لكن عدل عن لفظ الهبة والسماحة إلى ما عليه النظم الكريم إيذانا بأن العمدة في الأمر إنما هو طيب النفس وتجافيها عن الموهوب بالمرة
«فكلوه» أي فخذوا ذلك الشئ الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه تملكا وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية
«هنيئا مريئا» صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه وقيل الهنئ الذي يلذه الأكل والمرئ ما يحمده عاقبته وقيل ما ينساغ في مجراه الذي هو المرء وهو ما بين الحلقوم إلى فم المعدة سمي بذلك لمروء الطعام فيه أي إنسياغه ونصبهما على أنهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا أو على انهما حالان من الضمير المنصوب أي كلوة وهو هنئ مرئ وقد يوقف على كلوة ويبتدأ هنيئا مريئا على الدعاء وعلى انهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين كأنه قيل هنأ ومرأ وهذه عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعية وروى أن ناسا كانوا يتأثمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا مما ساقه إليها فنزلت
«ولا تؤتوا السفهاء أموالكم» رجوع إلى بيان بقية الأحكام المتعلقة بأموال اليتامى وتفصيل ما أجمل فيما سبق من شرط إيتائها ووقته وكيفيته إثر بيان بعض الأحكام المتعلقة بأنفسهن أعني نكاحهن وبيان بعض الحقوق المتعلقة بغيرهن من الأجنبيات من حيث النفس ومن حيث المال استطرادا والخطاب للأولياء نهوا أن يؤتوا المبذرين من اليتامى أموالهم مخافة أن يضيعوها وإنما أضيفت إليهم وهي لليتامى لا نظرا إلى كونها تحت ولايتهم كما قيل فإنه غير مصحح لإتصافها بالوصف الآتي بل تنزيلا لاختصاصها بأصحابها منزلة اختصاصها بالأولياء فكأن أموالهم عين أموالهم لما بينهم وبينهم من الاتحاد الجنسي والنسبي مبالغة في حملهم على المحافظة عليها كما في قوله تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم» أي لا يقتل بعضكم بعضا حيث عبر عن بني نوعهم بأنفسهم مبالغة في زجرهم عن قتلهم فكأن قتلهم قتل أنفسهم وقد أيد ذلك حيث عبر عن جعلها مناطا لمعاش أصحابها بجعلها مناطا لمعاش الأولياء فقيل
«التي جعل الله لكم قياما» أي جعلها الله شيئا تقومون به وتنتعشون على حذف المفعول الأول فلو ضيعتموه لضعتم ثم زيد في المبالغة حتى جعل ما به القيام قياما فكأنها في أنفسها قيامكم وانتعاشكم وقيل إنما أضيفت إلى الأولياء لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم حيث لم يقصد بها الخصوصية الشخصية بل الجنسية التي هي معنى ما يقام به المعاش وتميل إليه القلوب ويدخر لأوقات الاحتياج وهي بهذا الاعتبار لا تختص باليتامى وأنت خبير بأن ذلك بمعزل من حمل الأولياء على المحافظة المذكورة كيف لا والوحدة الجنسية المالية ليست مختصة بما بين أموال اليتامى وأموال
144

الأولياء بل هي متحققة بين أموالهم وأموال الأجانب فإذن لا وجه لاعتبارها أصلا وقرئ اللاتي واللواتي وقرئ قيما بمعنى قياما كما جاء عوذا بمعنى عياذا وقرئ قواما بكسر القاف وهو ما يقام به الشيء أو مصدر قاوم وقرئ بفتحها
«وارزقوهم فيها واكسوهم» أي واجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم بأن تتجروا وتتربحوا حتى تكون نفقاتهم من الأرباح لا من صلب المال وقيل الخطاب لكل أحد كائنا من كان والمراد نهيه عن أن يفوض أمر ماله إلى من لا رشد له من نسائه وأولاده ووكلائه وغير ذلك ولا يخفى أن ذلك مخل بجزالة النظم الكريم
«وقولوا لهم قولا معروفا» أي كلاما لينا تطيب به نفوسهم وعن سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج عدوهم عدة جميلة بأن تقولوا إذا صلحتم ورسدتم سلمنا إليكم أموالكم وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه شرعا أو عقلا من قول أو عمل فهو معروف وما أنكرته لقبحه شرعا أو عقلا فهو منكر
«وابتلوا اليتامى» شروع في تعيين وقت تسليم أموال اليتامى إليهم وبيان شرطه بعد الأمر بإيتائها على الإطلاق والنهي عنه عند كون أصحابها سفهاء أي واختبروا من ليس منهم بين السفه قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في صلاح الدين والاهتداء إلى ضبط المال وحسن التصرف فيه وجربوهم بما يليق بحالهم فإن كانوا من أهل التجارة فبأن تعطوهم من المال ما يتصرفون فيه بيعا وابتياعا وإن كانوا ممن له ضياع وأهل وخدم فبأن تعطوهم منه ما يصرفونه إلى نفقة عبيدهم وخدمهم وأجرائهم وسائر مصارفهم حتى تتبين لكم كيفية أحوالهم
«حتى إذا بلغوا النكاح» بأن يحتلموا لأنهم يصلحون عنده للنكاح
«فإن آنستم» أي شاهدتم وتبينتم وقرئ أحستم بمعنى أحسستم كما في قول من قال
* خلا أن العتاق من المطايا
* أحسن به وهن إليه شوس
*
«منهم رشدا» أي اهتداء إلى وجوه التصرفات من غير عجز وتبذير وتقديم الجار والمجرور على المفعول للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو للاعتداد بمبدئيته له والتنوين للدلالة على كفاية رشد في الجملة وقرئ بفتح الراء والشين وبضمها
«فادفعوا إليهم أموالهم» من غير تأخير عن حد البلوغ وفي إيثار الدفع على الإيتاء الوارد في أول الأمر إيذان بتفاوتهما بحسب المعنى كما أشير إليه فيما سلف ونظم
الآية الكريمة أن حتى هي التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله
* فما زالت القتلى تمج دماءها
* بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
* وما بعدها جملة شرطية جعلت غاية للإبتلاء وفعل الشرط بلغوا وجوابه الشرطية الثانية كأنه قيل وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد وظاهر الآية الكريمة أن من بلغ غير رشيد إما بالتبذير أو بالعجز لا يدفع إليه ماله أبدا وبه أخذ أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة ينتظر إلى خمس وعشرين سنة لأن البلوغ بالسن ثماني عشرة سنة فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة في أحوال الإنسان لما قاله عليه الصلاة
145

والسلام مروهم بالصلاة لسبع دفع إليه ماله أونس منه رشد أو لم يؤنس
«ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا» أي مسرفين ومبادرين كبرهم أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا والجملة تأكيد للأمر بالدفع وتقرير لها وتمهيد لما بعدها من قوله تعالى
«ومن كان غنيا فليستعفف» الخ أي من كان من الأولياء والأوصياء غنيا فليتنزه عن أكلها وليقنع بما آتاه الله تعالى من الغنى والرزق إشفاقا على اليتيم وإبقاء على ماله
«ومن كان» من الأولياء والأوصياء
«فقيرا فليأكل بالمعروف» بقدر حاجته الضرورية وأجرة سعيه وخدمته وفي لفظ الإستعفاف والأكل بالمعروف ما يدل على أن للوصي حقا لقيامه عليها عن النبي صلى الله عليه وسلم ان رجلا قال له إن في حجري يتيما أفآكل من ماله قال بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ولي يتيم قال له أفأشرب من لبن إبله قال إن كنت تبغي ضالتها وتلوط حوضها وتهنأ جر باها وتسقيها يوم ورودها فاشرب غير مضل بنسل ولا ناهك في الحلب وعن محمد بن كعب يتقرم كما تتقرم البهيمة وينزل نفسه منزلة الأجير فيما لابد منه وعن الشعبي يأكل من ماله بقدر ما يعين فيه وعنه كالميتة يتناول عند الضرورة ويقضي وعن مجاهد يستسلف فإذا أيسر أدى وعن سعيد بن جبير إن شاء شرب فضل اللبن وركب الظهر ولبس ما يستره من الثياب وأخذ القوت ولا يجاوزه فإن أيسر قضاه وإن أعسر فهو في حل وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أني أنزلت نفسي من مال الله تعالى منزلة ولي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف وإذا أيسرت قضيت واستعف أبلغ من عف كأنه يطلب زيادة العفة
«فإذا دفعتم إليهم أموالهم» بعد ما راعيتم الشرائط المذكورة وتقديم الجار والمجرور عن المفعول الصريح للاهتمام به
«فأشهدوا عليهم» بأنهم تسلموها وقبضوها وبرئت عنها ذممكم لما أن ذلك أبعد من التهمة وأنفى للخصومة وادخل في الأمانة وبراءة الساحة وإن لم يكن ذلك واجبا عند أصحابنا فإن الوصي مصدق في الدفع مع اليمين خلافا لمالك والشافعي رحمهما الله
«وكفى بالله حسيبا» أي محاسبا فلا تخالفوا ما أمركم به ولا تجاوزا ما حد لكم
«للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون» شروع في بيان أحكام المواريث بعد بيان احكام أموال اليتامى المنتقلة إليهم بالإرث والمراد بالأقربين المتوارثون منهم ومن في مما متعلقة بمحذوف وقع صفة لنصيب أي لهم نصيب كائن مما ترك وقد جوز تعلقها بنصيب
«وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون» إيراد حكمهن على الاستقلال دون الدرج في تضاعيف أحكامهم بأن يقال للرجال والنساء الخ للاعتناء بأمرهن والإيذان بأصالتهن في استحقاق الإرث والإشارة من أول الأمر إلى تفاوت ما بين نصيبي الفريقين والمبالغة في إبطال حكم الجاهلية فإنهم ما كانوا يورثون النساء والأطفال ويقولون إنما يرث من يحارب ويذب عن الحوزة روى أن أوس بن ثابت الأنصاري
146

خلف زوجته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه سويد وعرفطة أو قتادة وعرفجة ميراثه عنهن على سنة الجاهلية فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فقال ارجعي حتى أنظر ما يحدثه الله تعالى فنزلت فأرسل إليهما إن الله قد جعل لهن نصيبا ولم يبين فلا تفرقا من مال أوس شيئا حتى يبين فنزل يوصيكم الله الخ فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي لا بنى العم وهو دليل على جواز تأخير البيان عن الخطاب وقوله تعالى
«مما قل منه أو كثر» بدل من ما الأخيرة بإعادة الجار وإليها يعود الضمير المجرور وهذا البدل مراد في الجملة الأولى أيضا محذوف للتعويل على المذكور وفائدته دفع توهم اختصاص بعض الأموال ببعض الورثة كالخيل وآلات الحرب للرجال وتحقيق أن لكل من الفريقين حقا من كل ما جل ودق
«نصيبا مفروضا» نصب على أنه مصدر مؤكد كقوله تعالى «فريضة من الله» كأنه قيل قسمة مفروضة أو على الحالية إذ المعنى ثبت لهم نصيب كائن مما ترك الوالدان والأقربون حال كونه مفروضا أو على الاختصاص أي اعني نصيبا مقطوعا مفروضا واجبا لهم وفيه دليل على ان الوارث لو أعرض عن نصيبه لم يسقط حقه
«وإذا حضر القسمة» أي قسمة التركة وإنما قدمت مع كونها مفعولا لأنها المبحوث عنها ولأن في الفاعل تعددا فلو روعى الترتيب يفوت أطراف الكلام
«أولوا القربى» ممن لا يرث
«واليتامى والمساكين» من الأجانب
«فارزقوهم منه» أي أعطوهم شيئا من المال المقسوم المدلول عليه بالقسمة وقيل الضمير لما وهو امر ندب كلف به البالغون من الورثة تطييبا لقلوب الطوائف المذكورة وتصدقا عليهم وقيل أمر وجوب ثم اختلف في نسخة
«وقولوا لهم قولا معروفا» وهو أن يدعوا لهم ويستقلوا ما أعطوهم ويعتذروا من ذلك ولا يمنوا عليهم
«وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم» أمر للأوصياء بأن يخشوا الله تعالى ويتقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم أو لمن حضر المريض من العواد عند الايصاء بان يخشوا ربهم أو يخشوا أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضر بهم بصرف المال عنهم أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصورين أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوزون حرمانهم أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصية ولو بما في حيزها صلة للذين على معنى وليخش الذين حالهم وصفتهم أنهم لو شارفوا أن يخلفوا ورثة ضعافا خافوا عليهم الضياع وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود إلى المقصود منه والعلة فيه وبعث على
147

الترحم وأن يحب لأولاد غيره ما يحب لأولاد نفسه وتهديد للمخالف بحال أولاده وقرئ ضعفاء وضعافى وضعافى
«فليتقوا الله» في ذلك والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها
«وليقولوا قولا سديدا» أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى إذ لا نفع للأول بدون الثاني ثم أمرهم بان يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب أو للمريض ما يصده عن الإسراف في الوصية وتضييع الورثة ويذكره التوبة وكلمة الشهادة أو لحاضرى القسمة عذرا ووعدا حسنا أو يقولوا في الوصية مالا يؤدى إلى تجاوز الثلث وقوله تعالى
«إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» أي على وجه الظلم أو ظالمين استئناف جئ به لتقرير مضمون ما فصل من الأوامر والنواهي
«إنما يأكلون في بطونهم» أي ملء بطونهم
«نارا» أي ما يجر إلى النار ويؤدى إليها وعن أبي بردة أنه صلى الله عليه وسلم قال يبعث الله تعالى قوما من قبورهم تتأجج أفواههم نارا فقيل من هم فقال عليه السلام ألم تر أن الله يقول إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا
«وسيصلون سعيرا» أي سيدخلون نارا هائلة مبهمة الوصف وقرئ بضم الياء مخففا ومشددا من الإصلاء والتصلية يقال صلى النار قاسى حرها وصليته شويته وأصليته ألقيته فيها والسعير فعيل بمعنى مفعول من سعرت النار إذا ألهبتها روى ان آكل مال اليتم يبعث يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا وروى انه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس فاحترزوا عن مخالطة اليتامى بالكلية فصعب الأمر على اليتامى فنزل قوله تعالى وإن تخالطوهم الآية
«يوصيكم الله» شروع في تفصيل أحكام المواريث المجملة في قوله تعالى «للرجال نصيب» الخ وأقسام الورثة ثلاثة قسم لا يسقط بحال وهم الآباء والأولاد والأزواج فهؤلاء قسمان والثالث الكلالة أي يأمركم ويعهد إليكم
«في أولادكم» أولاد كل واحد منكم أي في شأن ميراثهم بدئ بهم لأنهم أقرب الورثة إلى الميت وأكثرهم بقاء بعد المورث
«للذكر مثل حظ الأنثيين» جملة مستأنفة جئ بها لتبيين الوصية وتفسيرها وقيل محلها النصب بيوصيكم على أن المعنى يفرض عليكم ويشرع لكم هذا الحكم وهذا قريب مما رآه الفراء فإنه يجرى ما كان بمعنى القول من الأفعال مجراه في حكاية الجملة بعده ونظيره
148

قوله تعالى «وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة» الآية وقوله تعالى للذكر لا بد له من ضمير عائد إلى الأولاد محذوف ثقة بظهوره كما في قولهم السمن منوان بدرهم أي للذكر منهم وقيل الألف واللام قائم مقامي والأصل لذكرهم ومثل صفة لموصوف محذوف أي للذكر منهم حظ مثل حظ الأنثيين والبداءة ببيان حكم الذكر لإظهار مزيته على الأنثى كما انها المناط في تضعيف حظة وايثار اسمى الذكر والأنثى على ما ذكر أولا من الرجال والنساء للتنصيص على استواء الكبار والصغار من الفريقين في الاستحقاق من غير دخل للبلوغ والكبر في ذلك أصلا كما هو زعم أهل الجاهلية حيث كانوا لا يورثون الأطفال كالنساء
«فإن كن» أي الأولاد والتأنيث باعتبار الخبر وهو قوله تعالى
«نساء» أي خلصا ليس معهن ذكر
«فوق اثنتين» خبر ثان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين
«فلهن ثلثا ما ترك» أي المتوفى المدلول عليه بقرينة المقام
«وإن كانت» أي المولودة
«واحدة» أي امرأة واحدة ليس معها أخ ولا أخت وعدم التعرض للموصوف لظهوره مما سبق
«فلها النصف» مما ترك وقرئ واحدة على كان التامة واختلف في الثنتين فقال ابن عباس حكمهما حكم الواحدة لأنه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما وقال الجمهور حكمهما حكم ما فوقهما لأنه تعالى لما بين حظ الذكر مثل حظ الأنثيين إذا كان معه أنثى وهو الثلثان اقتضى ذلك أن فرضهما الثلثان ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد رد ذلك بقوله تعالى «فإن كن نساء فوق اثنتين» ويؤيد ذلك أن البنت الواحدة لما استحقت الثلث مع أخيها الأقوى منها في الاستحقاق فلأن تستحقه مع مثلها أولى وأحرى وأن البنتين أمس رحما من الأختين وقد فرض الله لهما الثلثين حيث قال تعالى «فلهما الثلثان مما ترك»
«ولأبويه» أي لأبوى الميت غير النظم الكريم لعدم اختصاص حكمه بما قبله من الصور
«لكل واحد منهما» بدل منه بتكرير العامل وسط بين المبتدأ الذي هو قوله تعالى
«السدس» وبين خبره الذي هو لأبويه ونقل الخبرية إليه تنصيصا على استحقاق كل منهما السدس وتأكيدا له بالتفصيل بعد الإجمال وقرئ السدس بسكون الدال تخفيفا وكذلك الثلث والربع والثمن
«مما ترك» متعلق بمحذوف وقع حالا من السدس والعامل الاستقرار المعتبر في الخبر أي كائنا مما ترك المتوفى
«إن كان له ولد» أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى واحدا أو متعددا غير أن الأب في صورة الأنوثة بعد ما أخذ فرضه المذكور يأخذ ما بقي من ذوى الفروض بالعصوبة
«فإن لم يكن له ولد» ولا ولد ابن
«وورثه أبواه» فحسب
«فلأمه الثلث» مما ترك والباقي للأب وإنما لم يذكر لعدم الحاجة إليه لأنه لما فرض انحصار الوارث في أبويه وعين نصيب الأم علم أن الباقي للأب وتخصيص جانب الأم بالذكر وإحالة جانب الأب على دلالة الحال مع حصول البيان بالعكس أيضا لما أن حظها أخصر واستحقاقه أتم وأوفر أو لأن استحقاقه بطريق العصوبة دون الفرض هذا إذا لم يكن معهما أحد الزوجين أما إذا كان معهما ذلك فللأم ثلث ما بقي بعد فرض أحدهما لا ثلث الكل كما قاله ابن عباس رضى الله عنهما فإنه يفضى إلى تفضيل الأم على الأب مع كونه أقوى منها في الإرث بدليل أضعافه عليها عند انفرادهما عن أحد الزوجين وكونه صاحب فرض وعصبة وذلك خلاف وضع الشرع
«فإن كان له إخوة» أي عدد ممن له أخوة من غير اعتبار التثليث سواء كانت من جهة الأبوين أو من جهة أحدهما وسواء كانوا ذكورا أو إناثا
149

مختلطين وساء كان لهم ميراث أو كانوا محجوبين بالأب
«فلأمه السدس» وأما السدس الذي حجبوها عنه فهو للأب عند وجوده ولهم عند عدمه وعليه الجمهور وعند ابن عباس رضي الله عنهما أنه لهم على كل حال خلا أن هذا الحجب عنده لا يتحقق بما دون الثلاث وبالأخوات الخلص وقرئ فلأمه بكسر الهمزة اتباعا لما قبلها
«من بعد وصية» خبر مبتدأ محذوف والجملة متعلقة بما تقدم جميعا لا بما يليها وحده أي هذه الأنصباء للورثة من بعد إخراج وصية
«يوصي بها» أي الميت وقرئ مبنيا للمفعول مخففا ومبنيا للفاعل مشددا وفائدة الوصف الترغيب في الوصية والندب إليها أو دين عطف على وصيه إلا أنه غير مقيد بما قيدت به من الوصف بل هو مطلق يتناول ما ثبت بالبينة أو الإقرار في الصحة وإيثار أو المفيدة للإباحة على الواو للدلالة على تساويهما في الوجوب وتقدمهما على القسمة مجموعين أو منفردين وتقديم الوصية على الدين ذكرا مع تأخرها عنه حكما لإظهار كمال العناية بتنفيذها لكونها مظنة للتفريط في أدائها ولاطرادها بخلاف الدين
«آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا» الخطاب للورثة فآباؤكم مبتدأ وأبناؤكم عطف عليه ولا يدرون خبره وأيهم مبتدأ وأقرب خبره ونفعا نصب على التمييز منه وهو منقول من الفاعلية كأنه قيل أيهم أقرب لكم نفعة والجملة في حيز النصب بلا تدرون والجملة الكبيرة اعتراضية مؤكدة لوجوب تنفيذ الوصية أي أصولكم وفروعكم الذين يتوفون لا تدرون أيهم أنفع لكم أمن يوصى ببعض ماله فيعرضكم لثواب الآخرة بتنفيذ وصيته أم من لا يوصى بشئ فيوفر عليكم عرض الدنيا وليس المراد بنفي الدراية عنهم بيان اشتباه الأمر عليهم وكون أنفعية كل من الأول والثاني في حيز الاحتمال عندهم من غير رجحان أحدهما على الآخر كما في قوله عليه الصلاة والسلام مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره فإن ذلك بمعزل من إفادة التأكيد المذكور والترغيب في تنفيذ الوصية بل تحقيق أنفعية الأول في ضمن التعريض بأن لهم اعتقادا بأنفعية الثاني مبنيا على عدم الدراية وقد أشير إلى ذلك حيث عبر عن الأنفعية بأقربية النفع تذكير المناط زعمهم وتعيينا لمنشأ خطئهم ومبالغة في الترغيب المذكور بتصوير الثواب الآجل بصورة العاجل لما أن الطباع مجبولة على حب الخير الحاضر كأنه قيل لا تدرون أيهم أنفع لكم فتحكمون نظرا إلى ظاهر الحال وقرب المنال بأنفعية الثاني مع ان الأمر بخلافة فإن ثواب الآخرة لتحقق وصوله إلى صاحبه ودوام تمتعه به مع غاية قصر مدة ما بينهما من الحياة الدنيا أقرب وأحضر وعرض الدنيا لسرعة نفاده وفنائه أبعد وأقصى وقيل الخطاب للمورثين والمعنى لا تعلمون من أنفع لكم ممن يرثكم من أصولكم وفروعكم عاجلا وآجلا فتحروا في شأنهم ما أوصاكم الله تعالى به ولا تعمدوا إلى تفضيل بعض وحرمان بعض روى أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنة سأل الله تعالى أن يرفع إليه صاحبه فيرفع إليه بشفاعته قيل فالجملة الاعتراضية حينئذ مؤكدة لأمر القسمة وأنت خبير بأنه مشعر بأن مدار الإرث ما ذكر من أقربيه النفع مع أنه العلاقة النسبية
«فريضة من الله» نصبت نصب مصدر مؤكد لفعل محذوف أي فرض الله ذلك فرضا أو لقوله تعالى «يوصيكم الله» فإنه في معنى يأمركم ويفرض عليكم
«إن الله كان عليما» أي بالمصالح والرتب
«حكيما» في كل ما قضى وقدر فيدخل فيه الأحكام المذكورة دخولا أوليا
150

«ولكم نصف ما ترك أزواجكم» من المال شروع في بيان أحكام القسم الثاني من الورثة ووجه تقديم حكم ميراث الرجال مما لا حاجة إلى ذكره
«إن لم يكن لهن ولد» أي ولد وارث من بطنه أو من صلب بنيها أو بنى بنيها وإن سفل ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو متعددا لأن لفظ الولد ينتظم الجميع منكم أو من غيركم والباقي لورثهتن من ذوى الفروض والعصبات أو غيرهم ولبيت المال إن لم يكن لهن وارث آخر أصلا
«فإن كان لهن ولد» على نحو ما فصل والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن ذكر تقدير عدم الولد وبيان حكمه مستتبع لتقدير وجوده وبيان حكمه
«فلكم الربع مما تركن» من المال والباقي لباقي الورثة
«من بعد وصية» متعلق بكلتا الصورتين لا بما يليه وحده
«يوصين بها» في محل الجر على انه صفة لوصية وفائدتها ما مر من ترغيب الميت في الوصية وحث الورثة على تنفيذها
«أو دين» عطف على وصية سواء كان ثبوته بالبينة أو بالإقرار وإيثار أو على الواو لما ذكر من إبراز كمال العناية بتنفيذها
«ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد» على التفصيل المذكور آنفا والباقي لبقية ورثتكم من أصحاب الفروض والعصبات أو ذوى الأرحام أو لبيت المال إن لم يكن لكم وارث آخر أصلا
«فإن كان لكم ولد» على النحو الذي فصل
«فلهن الثمن مما تركتم» من المال للباقين
«من بعد وصية توصون بها أو دين» الكلام فيه كما فصل في نظيريه فرض للرجل بحق الزواج ضعف ما فرض للمرأة كما في النسب لمزيته عليها وشرفه الظاهر ولذلك اختص بتشريف الخطاب وهكذا قياس كل رجل وامرأة اشتركا في الجهة ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة وتستوى الواحدة والعدد منهن في الربع والثمن
«وإن كان رجل» شروع في بيان أحكام القسم الثالث من الورثة المحتمل للسقوط ووجه تأخيره عن الأولين بين والمراد بالرجل الميت وقوله تعالى
«يورث» على البناء للمفعول من ورث لامن أورث خبر كان أي يورث منه
«كلالة» الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء استعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لضعفها بالإضافة إلى قرابتهما وتطلق على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بوالد ولا ولد من المخلفين بمعنى ذي كلالة كما تطلق القرابة على ذوى القرابة وقد جوز كونها صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق فنصبها إما على أنها مفعول له أي يورث منه لأجل القرابة المذكورة أو على انها حال من ضمير
151

يورث أي حال كونه ذا كلالة أو على أنها خبر لكان ويورث صفة لرجل أي إن كان رجل موروث ذا كلالة ليس له والد ولا ولد وقرئ يورث على البناء للفاعل مخففا ومشددا فانتصاب كلالة إما على أنها حال من ضمير الفعل والمفعول محذوف أي يورث لأجل الكلالة
«أو امرأة» عطف على رجل مقيد بما قيد به أي أو امرأة تورث كذلك ولعل فصل ذكرها عن ذكره للإيذان بشرفه وأصالته في الأحكام
«وله» أي للرجل ففيه تأكيد للإيذان المذكور حيث لم يتعرض لها بعد جريان ذكرها أيضا وقيل الضمير لكل منهما
«أخ أو أخت» أي من الأم فحسب وقد قرئ كذلك فإن أحكام بنى الأعيان والعلات هي التي ذكرت في آخر السورة الكريمة والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير يورث أو من رجل على تقدير كون يورث صفة له ومساقها لتصوير المسألة وذكر الكلالة لتحقيق جريان الحكم المذكور وإن كان مع من ذكر ورثة أخرى بطريق الكلالة وأما جريانه في صورة وجود الأم أو الجدة مع ان قرابتهما ليست بطريق الكلالة فبالإجماع
«فلكل واحد منهما» من الأخ والأخت
«السدس» من غير تفضيل للذكر على الأنثى لأن الإدلاء إلى الميت بمحض الأنوثة
«فإن كانوا أكثر من ذلك» أي أكثر من الأخ أو الأخت المنفردين بواحد أو بأكثر والفاء لما مر من أن ذكر احتمال الانفراد مستتبع لذكر احتمال التعدد
«فهم شركاء في الثلث» يقتسمونه بالسوية والباقي لبقية الورثة من أصحاب الفروض والعصبات هذا وأما تجويز أن يكون يورث في القراءة المشهورة مبنيا للمفعول من أورث على أن المراد به الوارث والمعنى وإن كان رجل يجعل وارثا لأجل الكلالة أو ذا كلالة ة أي غير والده أو ولده ولذلك الوارث أخ أو أخت فلكل واحد من ذلك الوراث وأخيه أو أخته السدس فإن كانوا أكثر من ذلك أي من الاثنين بأن كانوا ثلاثة أو أكثر فهم شركاء في الثلث الموزع للاثنين لا يزاد عليه شئ فبمعزل من السداد اما أولا فلأن المعتبر على ذلك التقدير إنما هي الأخوة بين الوارث وبين شريكه في الإرث من أخيه أو أخته لا ما بينه وبين مورثه من الأخوة التي عليها يترتب حكم الإرث وبها يتم تصوير المسألة وإنما المعتبر بينهما الوراثة بطريق الكلالة وهي عامة لجميع صور القرابات التي لا تكون بالولادة فلا يكون نصيبه ولا نصيب شريكه مما ذكر بعينه ومن ادعى اختصاصها بالأخوة لأم متمسكا بالإجماع على أن المراد بالكلالة ههنا أولاد الأم فقد اعترف ببطلان راية من حيث لا يحتسب كيف لا ومبناه إنما هو الإجماع على أن المراد بالأخوة في قوله تعالى «وله أخ أو أخت» هو الأخوة لأم خاصة حسبما شهدت به القراءة المحكية والآية الآتية في آخر السورة الكريمة ولولا ان الرجل عبارة عن الميت والأخوة معتبرة بينه وبين ورثته لما أمكن كون الكل أولاد الأم ثم إن الكلالة كما نبهت عليه باقية على إطلاقها ليس فيها شائبة اختصاص بأولاد الأم فضلا عن الإجماع على ذلك وإلا لاقتصر البيان على حكم صورة انحصار الورثة فيهم وإنما الإجماع فيما ذكر من أن المراد بالأخ والأخت من كان لأم خاصة وأنت خبير بأن ذلك في قوة الإجماع على أن يورث من ورث لا من أورث فتدبروا أما ثانيا فلأنه يقتضى أن يكون المعتبر في استحقاق الورثة في الفرض المذكور اخوة بعضهم لبعض من جهة الأم لما ذكر من الإجماع مع
152

ثبوت الاستحقاق على تقدير الأخوة من الجهتين وإما ثالثا فلأن حكم صورة انفراد الوارث عن الأخ والأخت يبقى حينئذ غير مبين وليس من ضرورة كون حظ كل منهما السدس عند الإجماع كونه كذلك عند الانفراد إلا يرى أن حظ كل من الأختين الثلث عند الاجتماع والنصف عند الانفراد وأما رابعا فلأن تخصيص أحد الورثة بالتورث وجعل غيره تابعا له فيه مع اتحاد الكل في الإدلاء إلى المورث مما لا عهد به
«من بعد وصية يوصي بها أو دين» الكلام فيه كالذي مر في نظائره خلا ان الدين ههنا موصوف بوصف الوصية جريا على قاعدة تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف
عليه لاتفاق الجمهور على اعتبار عدم المضارة فيه أيضا وذلك إنما يتحقق فيما ثبوته بالإقرار في المرض كأنه قيل أو دين يوصى به
«غير مضار» حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور وما حذف من المعطوف اعتمادا عليه كما أن رجال في قوله تعالى «يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال» على قراءة المبنى للمفعول فاعل لفعل ينبى عنه المذكور ومن فاعل الفعل المذكور والمحذوف اكتفاء به على قراءة البناء للفاعل أي يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه غير مضار للورثة أي بأن يوصى بما زاد على الثلث أو تكون الوصية لقصد الإضرار بهم دون القربة وبأن يقر في المرض بدين كاذبا وتخصيص هذا القيد بهذا المقام لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم
«وصية من الله» مصدر مؤكد لفعل محذوف وتنوينه للتفخيم ومن متعلقة بمضمر وقع صفة له مؤكدة لفخامته الذاتية بالفخامة الإضافية أي يوصيكم بذلك وصية كائنة من الله كقوله تعالى «فريضة من الله» ولعل السر في تخصيص كل منهما بمحله الإشعار بما بين الأحكام المتعلقة بالأصول والفروع وبين الأحكام المتعلقة بغيرهم من التفاوت حسب تفاوت الفريضة والوصية وإن كانت كلتاهما واجبة المراعاة أو منصوب بغير مضار على انه مفعول به فإنه اسم فاعل معتمد على ذي الحال أو منفى معنى فيعمل في المفعول الصريح ويعضده القراءة بالإضافة أي غير مضار لوصية الله وعهده لا في شأن الأولاد فقط كما قيل إذ لا تعلق لهم بالمقام بل في شأن الورثة المذكورة ههنا فإن الأحكام المفصلة كلها مندرجة تحت قوله تعالى «يوصيكم الله» جارية مجرى تفسيره وبيانه ومضارتها الإخلال بحقوقهم ونقصها بما ذكر من الوصية بما زاد على الثلث والوصية لقصد الإضرار دون القربة والإقرار بالدين كاذبا وإيقاعها على الوصية مع أنها واقعة على الورثة حقيقة كما في قوله يا سارق الليلة أهل الدار للمبالغة في الزجر عنها بإخراجها مخرج مضارة أمر الله تعالى ومضادته وجعل الوصية عبارة عن الوصية بالثلث فما دونه يقتضى ان يكون غير مضار حالا من ضمير الفعل المتعلق بالوصية فقط وذلك يؤدى إلى الفصل بين الحال وعاملها بأجنبي هو المعطوف على وصية مع أنه لا تنحسم به مادة المضارة لبقاء الإفرار بالدين على إطلاقة
«والله عليم» بالمضار وغيره
«حليم» لا يعاجل بالعقوبة فلا يغتر بالإمهال وإيراد الاسم الجليل مع كفاية الإضمار لادخال الروعة وتربية المهابة
«تلك» إشارة إلى الأحكام التي تقدمت في شؤون اليتامى والمواريث وغير
153

ذلك «حدود الله» أي شرائعه المحدودة التي لا تجوز مجاوزتها
«ومن يطع الله ورسوله» في جميع الأوامر والنواهي التي من جملتها ما فصل ههنا وإظهار الاسم الجليل لما ذكر آنفا
«يدخله جنات» نصب على الظرفية عند الجمهور وعلى المفعولية عند الأخفش
«تجري من تحتها الأنهار» صفة لجنات منصوبة حسب انتصابها
«خالدين فيها» حال مقدرة من مفعول يدخله وصيغة الجمع بالنظر إلى جمعية من بحسب المعنى كما ان إفراد الضمير بالنظر إلى إفراده لفظا
«وذلك» إشارة إلى ما مر من دخول الجنات الموصوفة بما ذكر على وجه الخلود وما فيه من معنى البعد للإيذان بكمال علو درجته
«الفوز العظيم» الذي لا وصف وراءه وصف الفوز وهو الظفر بالخير بالعظيم إما باعتبار متعلقة أو باعتبار ذاته فإن الفوز بالعظيم عظيم والجملة اعتراض
«ومن يعص الله ورسوله» ولو في بعض الأوامر والنواهي قال مجاهد فيما اقتص من المواريث وقال عكرمة عن ابن عباس من لم يرض بقسم الله تعالى ويتعد ما قاله الله تعالى وقال الكلبي يعنى ومن يكفر بقسمة الله المواريث ويتعد حدوده استحلالا والإظهار في موقع الإضمار للمبالغة في الزجر بتهويل الأمر وتربية المهابة
«ويتعد حدوده» شرائعه المحدودة في جميع الأحكام فيدخل فيها ما نحن فيه دخولا أوليا
«يدخله» وقرئ بنون العظمة في الموضعين
«نارا» أي عظيمة هائلة لا يقادر قدرها
«خالدا فيها» حال كما سبق ولعل إيثار الإفراد ههنا نظرا إلى ظاهر اللفظ واختيار الجمع هناك نظرا إلى المعنى للإيذان بأن الخلود في دار الثواب بصفة الاجتماع أجلب للأنس كما أن الخلود في دار العذاب بصفة الانفراد أشد في استجلاب الوحشة
«وله عذاب مهين» أي وله مع عذاب الحريق الجسماني عذاب آخر مبهم لا يعرف كنهه وهو العذاب الروحاني كما يؤذن به وصفه والجملة حالية
«واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم» شروع في بيان بعض آخر من الأحكام المتعلقة بالنساء إثر بيان أحكام المواريث واللآتى جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ وقيل جمع على غير قياس والفاحشة الفعلة القبيحة أريد بها الزنا لزيادة قبحه والإتيان الفعل والمباشرة يقال أتى الفاحشة أي فعلها وباشرها وكذا جاءها ورهقها وغشيها وقرئ بالفاحشة فالإتيان بمعناه المشهور ومن متعلقة بمحذوف وقع حالا من فاعل يأتين أي اللآتى يفعلن الزنا كائنات من نسائكم أي من أزواجكم كما في قوله تعالى «والذين يظاهرون من نسائهم» وقوله تعالى «من نسائكم اللاتي دخلتم بهن» وبه قال السدى
«فاستشهدوا عليهن أربعة منكم» خبر للموصول والفاء للدلالة على سببية ما في حيز الصلة للحكم أي فاطلبوا أن يشهد عليهن بإتيانها أربعة من رجال المؤمنين وأحرارهم
«فإن شهدوا» عليهن بذلك
«فأمسكوهن في البيوت» أي فاحبسوهن فيها واجعلوها سجنا عليهن
«حتى يتوفاهن» أي إلى ان يستوفى أرواحهن
«الموت» وفيه تهويل للموت وإبراز له في صورة من يتولى قبض الأرواح
154

وتوفيها أو يتوفاهن ملائكة الموت
«أو يجعل الله لهن سبيلا» أي يشرع لهن حكما خاصا بهن ولعل التعبير عنه بالسبيل للإيذان بكونه طريقا مسلوكا فليس فيه دلالة على كونه أخف من الحبس كما قاله أبو مسلم
واللذان يأتيانها منكم هما الزاني والزانية بطرق التغليب قال السندي أريد بهما البكران منهما كما ينبئ عنه كون عقوبتها أخف من الحبس المخلد وبذلك يندفع التكرار خلا أنه يبقى حكم الزاني المحصن مبهما لاختصاص العقوبة الأولى بالمحصنات وعدم ظهور الحاقه بأحد الحكمين دلالة لخفاء الشركة في المناط
«فآذوهما» أي بالتوبيخ والتقريع وقيل بالضرب بالنعال أيضا وظاهر أن إجراء هذا الحكم أيضا إنما يكون بعد الثبوت لكن ترك ذكره تعويلا على ما ذكر آنفا
«فإن تابا» عما فعلا من الفاحشة بسبب ما لقيا من زواجر الأذية وقوارع التوبيخ كما ينبئ عنه الفاء
«وأصلحا» أي أعمالهما
«فأعرضوا عنهما» بقطع الأذية والتوبيخ فإن التوبة والصلاح مما يمنع استحقاق الذم والعقاب وقد جوز أن يكون الخطاب للشهود الواقفين على هناتهما ويراد بالإيذاء ذمهما وتعنيفهما وتهديدهما بالرفع إلى الولاة وبالإعراض عنهما ترك التعرض لهما بالرفع إليهما قيل كانت عقوبة الفريقين المذكورين في أوائل الإسلام على ما مر من التفصيل ثم نسخ بالحد لما روى ان النبي صلى الله عليه وسلم قال خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الثيب ترجم والبكر تجلد وقيل هذه الآية سابقة على الأولى نزولا وكانت عقوبة الزناة مطلقا الأذى ثم الحبس ثم الجلد ثم الرجم وقد جوز ان يكون الأمر بالحبس غير منسوخ بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصى بإمساكهن في البيوت بعد إقامة الحد صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال ولا يخفى أنه مما لا يساعده النظم الكريم وقال أبو مسلم وقد عزاه إلى مجاهد أن الأولى في السحاقات وهذه في اللواطين وما في سورة النور في الزناة والزواني متمسكا بأن المذكور في الولي صيغة الإناث خاصة وفي الثانية صيغة الذكور ولا ضرورة إلى المصير إلى التغليب على انه لا إمكان له في الأولى ويأباه الأمر باستشهاد الأربعة فإنه غير معهود في الشرع فيما عدا الزنا
«إن الله كان توابا» مبالغا في قبول التوبة
«رحيما» واسع الرحمة وهو تعليل للأمر بالإعراض
«إنما التوبة على الله» استئناف مسوق لبيان أن قبول التوبة من الله تعالى ليس على إطلاقه كما ينبئ عنه وصفه تعالى بكونه توابا رحيما بل هو مقيد بما سينطق به النص الكريم فقوله تعالى التوبة مبتدأ وقوله تعالى
«للذين يعملون السوء» خبره وقوله تعالى على الله متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار فإن تقديم الجار والمجرور على عاملة المعنوي مما لا نزاع في جوازه وكذا الظرف أو بمحذوف وقع حالا من ضمير المبتدأ المستكن فيما تعلق به الخبر على رأى من جوز تقديم الحال على عاملها المعنوي عند كونها ظرفا
155

أو حرف جر كما سبق في تفسير قوله تعالى «ولله على الناس حج البيت» وأيا ما كان فمعنى كون التوبة عليه سبحانه صدور القبول عنه تعالى وكلمة على للدلالة على التحقيق البتة بحكم جرى العادة وبسق الوعد حتى كأنه من الواجبات عليه سبحانه وهذا مراد من قال كلمة على بمعنى من وقيل هي بمعنى عند وعن الحسن يعني التوبة التي يقبلها الله تعالى وقيل هي التوبة التي أوجب الله تعالى على نفسه بفضله قبولها وهذا يشير إلى أن قوله تعالى على الله صفة للتوبة بتقدير متعلقة معرفة على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي إنما التوبة الكائنة على الله والمراد بالسوء المعصية صغيرة كانت أو كبيرة وقيل الخبر على الله وقوله تعالى للذين متعلق بما تعلق به الخبر أو بمحذوف وقع حالا من الضمير المستكن في متعلق الخبر وليس فيه ما في الوجه الأول من تقديم الحال على العامل المعنوي إلا أن الذي يقتضيه المقام ويستدعيه النظام هو الأول لما أن ما قبله من وصفة تعالى بكونه توابا رحيما إنما يقتضي بيان اختصاص قبول التوبة منه تعالى بالمذكورين وذلك إنما يكون بجعل قوله تعالى للذين الخ خبرا إلا يرى إلى قوله عز وجل «وليست التوبة للذين يعملون السيئات» الخ فإنه ناطق بما قلنا كأنه قيل إنما التوبة لهؤلاء لا لهؤلاء
«بجهالة» متعلق يمحذوف وقع حالا من فاعل يعملون أي يعملون السوء ملتبسين بها أي جاهلين سفهاء أو بيعملون على أن الباء سببية أي يعملونه بسبب الجهالة لأن ارتكاب الذنب مما يدعو إليه الجهل وليس المراد به عدم العلم بكونه سوءا بل عدم التفكر في العاقبة كما يفعله الجاهل قال قتادة اجتمع أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصى به ربه فهو جهالة عمدا كان أو خطأ وعن مجاهد من عصى الله تعالى فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته وقال الزجاج يعنى بقوله بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية
«ثم يتوبون من قريب» أي من زمان قريب وهو ما قبل حضور الموت كما ينبى عنه ما سيأتي من قوله تعالى حتى إذا حضر أحدهم الموت الخ فإنه صريح في أن وقت الاختصار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة فبقى ما وراءه في حيز القبول وعن ابن عباس رضى الله عنهما قبل أن ينزل به سلطان الموت وعن الضحاك كل توبة قبل الموت فهو قريب وعن إبراهيم النخعي ما لم يؤخذ بكظمه وهو مجرى النفس وروى أبو أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر وعن عطاء ولو قبل موته بفواق ناقة وعن الحسن أن إبليس قال حين أهبط إلى الأرض وعزتك لا أفارق ابن آدم ما دام روحه في جسده فقال تعالى وعزتي لا أغلق عليه باب التوبة ما لم يغرغر ومن تبعيضية أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضور الموت زمانا قريبا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا
الزمان فهو تائب
«فأولئك» إشارة إلى المذكورين من حيث اتصافهم بما ذكر وما فيه من معنى البعد باعتبار كونهم بانقضاء ذكرهم في حكم البعيد والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«يتوب الله عليهم» وما فيه من تكرير الإسناد لتقوية الحكم وهذا وعد بقبول توبتهم إثر بيان أن التوبة لهم والفاء للدلالة على سببيتها للقبول
«وكان الله عليما حكيما» مبالغا في العلم والحكمة فيبنى أحكامه وأفعاله على أساس الحكمة والمصلحة والجملة اعتراضية مقررة لمضمون ما قبلها وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية منشأ لاتصافه تعالى بصفات الكمال
156

«وليست التوبة للذين يعملون السيئات» تصريح بما فهم من قصر القبول على توبة من تاب من قريب وزيادة تعيين له ببيان أن توبة من عداهم بمنزلة العدم وجمع السيئات باعتبار تكرر وقوعها في الزمان المديد لا لأن المراد جميع أنواعها وبما مر من السوء نوع منها
«حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن» حتى حرف ابتداء والجملة الشرطية بعدها غاية لما قبلها أي ليس قبول التوبة للذين يعملون السيئات إلى حضور موتهم وقولهم حينئذ إني تبت الآن وذكر الآن لمزيد تعيين الوقت وإيثار قال على تاب لإسقاط ذلك عن درجة الاعتبار والتحاشى عن تسميته توبة
«ولا الذين يموتون وهم كفار» عطف على الموصول الذي قبله أي ليس قبول التوبة لهؤلاء ولا لهؤلاء وإنما ذكر هؤلاء مع أنه لا توبة لهم رأسا مبالغة في بيان عدم قبول توبة المسوفين وإيذانا بأن وجودها كعدمها بل في تكرير حرف النفي في المعطوف إشعار خفى بكون حال المسوفين في عدم استتباع الجدوى أقوى من حال الذين يموتون على الكفر والمراد بالموصولين إما الكفار خاصة وإما الفساق وحدهم وتسميتهم في الجملة الحالية كفارا للتغليظ كما في قوله تعالى «ومن كفر فإن الله غني عن العالمين» وإما ما يعم الفريقين جميعا فالتسمية حينئذ للتغليب ويجوز أن يراد بالأول الفسقة وبالثاني الكفرة ففيه مبالغة أخرى
«أولئك» إشارة إلى الفريقين وما فيه من معنى البعد للإيذان بترامى حالهم في الفظاعة وبعد منزلتهم في السوء وهو مبتدأ خبره
«اعتدنا لهم» أي هيأنا لهم
«عذابا أليما» تكرير الإسناد لما مر من تقوية الحكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بكون العذاب معدا لهم وتنكير العذاب ووصفه للتفخيم الذاتي والوصفى
«يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها» كان الرجل إذا مات قريبه يلقى ثوبه على إمرأتة أو على خبائها ويقول أرث امرأته كما أرث ماله فيصير بذلك أحق بها من كل أحد ثم أن شاء تزوجها بلا صداق غير الصداق الأول وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا وأن شاء عضلها لتفتدى بما ورثت من زوجها وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل إلقاء الثوب فهي أحق بنفسها فنهوا عن ذلك وقيل لهم لا يحل لكم ان تأخذوا بطريق الإرث على زعمكم كما تحاز المواريث وهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه وقرئ لا تحل بالتاء الفوقانية على أن ان ترثوا بمعنى الوراثة وقرئ كرها بضم الكاف وهي لغة كالضعف والضعف وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن من حاجته حبسها مع سوء العشرة والقهر وضيق عليها
157

لتفتدى منه بما لها وتختلع فقيل لهم
«ولا تعضلوهن» عطفا على ترثوا ولا لتأكيد النفي والخطاب للأزواج والعضل الحبس والتضييق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها فخرج بعضه وبقى بعضه أي ولا أن تضيقوا عليهن
«لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن» أي من الصداق بأن يدفعن إليكم بعضه اضطرارا فتأخذوه منهن وإنما لم يتعرض لفعلهن إيذانا بكونه بمنزلة العدم لصدوره عنهن اضطرارا وإنما عبر عن ذلك بالذهاب به لا بالأخذ ولا بالإذهاب للمبالغة في تقبيحه ببيان تضمنه لأمرين كل منهما محظور شنيع الأخذ والإذهاب منهن لأنه عبارة عن الذهاب مستصحبا به
«إلا أن يأتين بفاحشة مبينة» على صيغة الفاعل من بين بمعنى تبين وقرئ على صيغة المفعول وعلى صيغة الفاعل من أبان بمعنى تبين أي بينة القبح من النشوز وشكاسة الخلق وإيذاء الزوج وأهلة بالبذاء والسلاطة ويعضده قراءة أبي إلا أن يفحشن عليكم وقيل الفاحشة الزنا وهو استثناء من أعم الأحوال أو أعم الأوقات أو أعم العلل أي ولا يحل لكم عضلهن في حال من الأحوال أو في وقت من الأوقات أو لعلة من العلل إلا في حال إتيانهن بفاحشة أو إلا في وقت إتيانهن أو إلا لإتيانهن بها فإن السبب حينئذ يكون من جهتهن وأنتم معذورن في طلب الخلع
«وعاشروهن بالمعروف» خطاب للذين يسيئون العشرة معهن والمعروف مالا ينكره الشرع والمروءة والمراد ههنا النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في المقال ونحو ذلك
«فإن كرهتموهن» وسئمتم صحبتهن بمقتضى الطبيعة من غير أن يكون من قبلهن ما يوجب ذلك من الأمور المذكورة فلا تفارقوهن بمجرد كراهة النفس واصبروا على معاشرتهن
«فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا» علة للجزاء أقيمت مقامه للإيذان بقوة استلزامها إياه كأنه قيل فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكراهة فلعل لكم فيما تكرهونه خيرا كثيرا ليس فيما تحبونه وعسى تامة رافعة لما بعدها مستغنية عن تقدير الخبر أبي فقد قربت كراهتكم شيئا وجعل الله فيه خيرا كثيرا فإن النفس ربما
تكره ما هو أصلح في الدين وأحمد عاقبة وأدنى إلى الخير وتحب ما هو بخلافة فليكن نظركم إلى ما فيه خير وصلاح دون ما تهوى أنفسكم وذكر الفعل الأول مع الاستغناء عنه وانحصار العلية في الثاني للتوسل إلى تعميم مفعوله ليفيد أن ترتيب الخير الكثير من الله تعالى ليس مخصوصا بمكروه دون مكروه بل هو سنة إلهية جارية على الإطلاق حسب اقتضاء الحكمة وان ما نحن فيه مادة من موادها وفيه من المبالغة في الحمل على ترك المفارقة وتعميم الإرشاد ما لا يخفي وقرى ويجعل مرفوعا على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة حالية تقديره وهو أي ذلك الشئ يجعل الله فيه خيرا كثيرا وقيل تقديره والله يجعل بوضع المظهر موضع المضمر وتنوين خيرا لتفخيمه الذاتي ووصفه بالكثرة لبيان فخامته الوصفية والمراد به ههنا الولد الصالح وقيل الألفة والمحبة
«وإن أردتم استبدال زوج» أي تزوج امرأة ترغبون فيها
«مكان زوج» ترغبون عنها بأن تطلقوها
«وآتيتم إحداهن» أي أحدى الزوجات فإن المراد بالزوج هو الجنس
158

والجملة حالية بإضمار قد لا معطوفة على الشرط أي وقد آتيتم التي تريدون أن تطلقوها
«قنطارا» أي مالا كثيرا
«فلا تأخذوا منه» أي من ذلك القنطار
«شيئا» يسيرا فضلا عن الكثير
«أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا» استئناف مسوق لتقرير النهي والتنفير عن المنهي عنه والاستفهام للإنكار والتوبيخ أي أتأخذونه باهتين وآثمين أو للبهتان والاثم فإن أحدهم كان إذا تزوج امرأة بهت التي تحته بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوج الجديدة فنهوا عن ذلك والبهتان الكذب الذي يبهت المكذوب عليه ويدهشه وقد يستعمل في الفعل الباطل ولذلك فسر ههنا بالظلم وقوله عز وجل
«وكيف تأخذونه» انكار لأخذه اثر انكار وتنفير عنه غب تنفير وقد بولغ فيه حيث وجه الانكار إلى كيفية الأخذ ايذانا بأنه مما لا سبيل له إلى التحقق والوقوع أصلا لأن ما يدخل تحت الوجود لابد أن يكون على حال من الأحوال فإذا لم يكن لشيء حال أصلا لم يكن له حظ من الوجود قطعا وقوله عز وجل
«وقد أفضى بعضكم إلى بعض» حال من فاعل تأخذونه مفيدة لتأكيد النكير وتقرير الاستبعاد أي على أي حال أو في أي حال تأخذونه والحال أنه قد جرى بينكم وبينهن أحوال منافية له من الخلوة وتقرر المهر وثبوت حق خدمتهن لكم وغير ذلك
«وأخذن منكم ميثاقا غليظا» عطف على ما قبله داخل في حكمه أي أخذن منكم عهدا وثيقا وهو حق الصحبة والمعاشرة أو ما أوثق الله تعالى عليهم في شأنهن بقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان أو ما أشار اليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى
«ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم» شروع في بيان من يحرم نكاحها من النساء ومن لا يحرم وانما خص هذا النكاح بالنهي ولم ينظم في سلك نكاح المحرمات الآتية مبالغة في الزجر عنه حيث كانوا مصرين على تعاطيه قال ابن عباس وجمهور المفسرين كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك واسم الآباء ينتظم الأجداد مجازا فتثبت حرمة ما نكحوها نصا واجماعا ويستقل في اثبات هذه الحرمة نفس النكاح إذا كان صحيحا واما إذا كان فاسدا فلا بد في اثباتها من الوطء أو ما يجري مجراه من التقبيل والمس بشهوة ونحوهما بل هو المثبت لها في الحقيقة حتى لو وقع شيء من ذلك بحكم ملك اليمين أو بالوجه المحرم تثبت به الحرمة عندنا خلافا للشافعي في المحرم أي لا تنكحوا التي نكحها آباؤكم وايثار ما على من للذهاب إلى الوصف وقيل ما مصدرية على إرادة المفعول من المصدر
«من النساء» بيان لما نكح على الوجهين
«إلا ما قد سلف» استثناء مما نكح مفيد للمبالغة في التحريم بإخراج الكلام مخرج التعليق بالمحال على طريقة قوله
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
* بهن فلول من قراع الكتائب
* والمعنى لا تنكحوا حلائل آبائكم الا من ماتت منهن والمقصود سد طريق الإباحة بالكلية ونظيره قوله تعالى «حتى يلج الجمل في سم الخياط» وقيل هو استثناء مما يستلزمه النهي ويستوجبه مباشرة المنهي عنه
159

كأنه قيل لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فإنه موجب للعقاب الا ما قد مضى فإنه معفو عنه وقيل هو استثناء منقطع معناه لكن ما قد سلف لا مؤاخذة عليه لا أنه مقرر ويأباهما قوله تعالى
«إنه كان فاحشة ومقتا» فإنه تعليل للنهي وبيان لكون المنهي عنه في غاية القبح مبغوضا أشد البغض وأنه لم يزل في حكم الله تعالى وعلمه موصوفا بذلك ما رخص فيه لأمة من الأمم فلا يلائم أن يوسط بينهما ما يهون أمره من ترك المؤاخذة على ما سلف منه
«وساء سبيلا» في كلمة ساء قولان أحدهما أنها جارية مجرى بئس في الذم والعمل ففيها ضمير مبهم يفسره ما بعده والمخصوص بالذم محذوف تقديره وساء سبيلا سبيل ذلك النكاح كقوله تعالى بئس الشراب أي ذلك الماء وثانيهما أنها كسائر الأفعال وفيها ضمير يعود إلى ما عاد اليه ضمير أنه وسبيلا تمييز والجملة اما مستأنفة لا محل لها من الاعراب أو معطوفة على خبر كان محكية بقول مضمر هو المعطوف في الحقيقة تقديره ومقولا في حقه ساء سبيلا فإن ألسنة الأمم كافة لم تزل ناطقة بذلك في
الاعصار والأمصار قيل مراتب القبح ثلاث القبح الشرعي والقبح العقلي والقبح العادي وقد وصف الله تعالى هذا النكاح بكل ذلك فقوله تعالى فاحشة مرتبة قبحه العقلي وقوله تعالى ومقتا مرتبة قبحه الشرعي وقوله تعالى وساء سبيلا مرتبة قبحه العادي وما اجتمع فيه هذه المراتب فقد بلغ أقصى مراتب القبح
«حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت» ليس المراد تحريم ذواتهن بل تحريم نكاحهن وما يقصد به من التمتع بهن وبيان امتناع ورود ملك النكاح عليهن وانتفاء محليتهن له رأسا واما حرمة التمتع بهن بملك اليمين في المواد التي يتصور فيها قرار الملك كما في بعض المعطوفات على تقدير رقهن فثابتة بدلالة النص لاتحاد المدار الذي هو عدم محلية أبضاعهن للملك لا بعبارته بشهادة سباق النظم الكريم وسياقه وانما لم يوجب المدار المذكور امتناع ورود ملك اليمين رأسا ولا حرمة سببه الذي هو العقد أو ما يجري مجراه كما أوجب حرمة عقد النكاح وامتناع ورود حكمه عليهن لأن مورد ملك اليمين ليس هو البضع الذي هو مورد ملك النكاح حتى يفوت بفوات محليته له كملك النكاح فإنه حيث كان مورده ذلك فات بفوات محليته له قطعا وانما مورده الرقبة الموجودة في كل رقيق فيتحقق بتحقق محله حتما ثم يزول بوقوع العتق في المواد التي سبب حرمتها محض القرابة النسبية كالمذكورات ويبقى في البواقي على حاله مستتبعا لجميع
160

أحكامه المقصودة منه شرعا وأما حل الوطء فليس من تلك الأحكام فلا ضير في تخلفه عنه كما في المجوسية والأمهات تعم الجدات وإن علون والبنات تتناول بناتهن وإن سفلن والأخوات ينتظمن الأخوات من الجهات الثلاث وكذا الباقيات والعمة كل أنثى ولدها من ولد والدك والخالة كل أنثى ولدها من ولد والدتك قريبا أو بعيدا وبنات الأخ وبنات الأخت تتناول القربى والبعدى
«وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة» نزل الله تعالى الرضاعة منزلة النسب حتى سمى المرضعة أما للرضيع والمراضعة أختا وكذلك زوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته عمته وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها خالته وكل من ولد من هذا الزوج فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه ومن ولدها من غيره فهم أخوته وأخواته لأمه ومنه قوله عليه السلام يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وهو حكم كلى جار على عمومه وأما أم أخيه لأب وأخت ابنه لأم وأم أم ابنه وأم عمه وأم خاله لأب فليست حرمتهن من جهة النسب حتى يحل بعمومة ضرورة حلهن في صور الرضاع بل من جهة المصاهرة ألا يرى ان الأولى موطوءة أبيه والثانية بنت موطوءته والثالثة أم موطوءته والرابعة موطوءة جده الصحيح والخامسة موطوءة جده الفاسد
«وأمهات نسائكم» شروع في بيان المحرمات من جهة المصاهرة إثر بيان المحرمات من جهة الرضاعة التي لها لحمة كلحمة النسب والمراد بالنساء المنكوحات على الإطلاق سواء كن مدخولا بهن أولا وعليه جمهور العلماء روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في رجل تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها أنه لا بأس بأن يتزوج ابنتها ولا يحل له أن يتزوج أمها وعن عمر وعمران بن الحصين رضى الله عنهما أن الأم تحرم بنفس العقد وعن مسروق هي مرسلة فأرسلوا ما أرسل الله وعن ابن عباس أبهموا ما أبهم الله خلا أنه روى عنه وعن على وزيد وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم قرءوا وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن وعن جابر روايتان وعن سعيد بن المسيب عن زيد أنه إذا ماتت عنده فاخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها وإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل أقام الموت في ذلك مقام الدخول كما قام مقامه في باب المهر والعدة ويلحق بهن الموطوءات بوجه من الوجوه المعدودة فيما سبق والممسوسات ونظائرهن والأمهات تعم المرضعات كما تعم الجدات حسبما ذكر
«وربائبكم اللاتي في حجوركم» الربائب جمع ربيبة فعيل بمعنى مفعول والتاء للنقل إلى الاسمية والربيب ولد المرأة من آخر سمى به لأنه يربه غالبا كما يرب ولده وإن لم يكن ذلك أمرا مطردا وهو المعنى بكونهن في الحجور فإن شأنهن الغالب المعتاد أن يكن في حضانة أمهاتهن تحت حماية أزواجهن لا كونهن كذلك بالفعل وفائدة وصفهن بذلك تقوية علة الحرمة وتكميلها كما أنها النكتة في إيرادهن باسم الربائب دون بنات النساء فإن كونهن بصدد احتضانهم لهن وفي شرف التقلب في حجورهم وتحت حمايتهم وتربيتهم مما يقوى الملابسة والشبه بينهن وبين أولادهم ويستدعى إجراءهن مجرى بناتهم لا تقييد الحرمة بكونهن في حجورهم بالفعل كما روى عن على رضي الله عنه وبه أخذ داود ومذهب جمهور العلماء ما ذكر أولا بخلاف ما في قوله تعالى
«من نسائكم اللاتي دخلتم بهن» فإنه لتقييدها به قطعا فإن
161

كلمة من متعلقة بمحذوف وقع حالا من ربائبكم أو من ضميرها المستكن في الظرف لأنه لما وقع صلة تحمل ضميرا أي وربائبكم اللآتى استقررن في حجوركم كائنات من نسائكم الخ ولا مساغ لجعله حالا من أمهات أو مما أضيفت هي إليه خاصة وهو بين لا سترة به ولا مع ما ذكر أولا ضرورة ان حاليته من ربائبكم أو من ضمير ما تقتضى كون كلمة من ابتدائية وحاليته من أمهات أو من نسائكم تستدعى كونها بيانية وادعاء كونها اتصالية منتظمة لمعنى الابتداء والبيان أو جعل الموصول صفة للنساء مع اختلاف عامليهما مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله مع أنه سعى في إسكات ما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم واتفق عليه الجمهور حسبما ذكر فيما قبل وأما ما نقل من القراءة فضعيفة الرواية وعلى تقدير الصحة محمولة على النسخ ومعنى الدخول بهن إدخالهن الستر والباء للتعدية وهي كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب وفي حكمة اللمس ونظائرها كما مر
«فإن لم تكونوا» أي فيما فبل
«دخلتم بهن» أصلا
«فلا جناح عليكم» أي في نكاح الربائب وهو تصريح بما أشعر به ما قبله والفاء الأولى لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن بيان حكم الدخول مستتبع لبيان حكم عدمه
«وحلائل أبنائكم» أي زوجاتهم سميت الزوجة حليلة لحلها للزوج أو لحلولها في محله وقيل لحل كل منهما إزار صاحبه وفي حكمهن مزنياتهم ومن يجرين مجراهن من الممسوسات ونظائرهن وقوله تعالى
«الذين من أصلابكم» لإخراج الأدعياء دون أبناء الأولاد والأبناء من الرضاع فإنهم وإن سفلوا في حكم الأنباء الصلبية
«وأن تجمعوا بين الأختين» في حيز الرفع عطفا على ما قبله من المحرمات والمراد به جمعهما في النكاح لا في ملك اليمن وأما جمعهما في الوطء بملك اليمن فملحق به بطريق الدلالة لاتحادهما في المدار ولقوله عليه الصلاة والسلام من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين بخلاف نفس ملك اليمين فإنه ليس في معنى النكاح في الإفضاء إلى الوطء ولا مستلزما له ولذلك يصح شراء المجوسية دون نكاحها حتى لو وطئهما لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه وطء الأخرى بسبب من الأسباب وكذا لو تزوج أخت أمته الموطوءة لا يحل له وطء إحداهما حتى يحرم عليه الأخرى لأن المنكوحة موطوءة حكما فكأنه جمعهما وطأ وإسناد الحرمة إلى جمعهما لا إلى الثانية منهما بأن يقال وأخوات نسائكم للاحتراز عن إفادة الحرمة المؤبدة كما في المحرمات السابقة ولكونه بمعزل من الدلالة على حرمة الجمع بينهما على سبيل المعية ويشترك في هذا الحكم الجمع بين المرأة وعمتها ونظائرها بل أولى فإن العمة والخالة بمنزلة الأم فقوله عليه السلام لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها من قبيل بيان التفسير لا بيان التغيير وقيل هو مشهور يجوز به الزيادة على الكتاب
«إلا ما قد سلف» استثناء منقطع أي لكن ما قد مضى لا تؤاخذون به ولا سبيل إلى جعله متصلا بقصد التأكيد والمبالغة كما مر فيما سلف لأن قوله تعالى
«إن الله كان غفورا رحيما» تعليل لما أفاده الاستثناء فيتحتم الانقطاع وقال عطاء والسدي معناه إلا ما كان من يعقوب عليه السلام فإنه قد جمع بين ليا أم يهوذا وبين راحيل أم يوسف عليه الصلاة والسلام ولا يساعده التعليل لأن ما فعله يعقوب عليه السلام كان حلالا في شريعته وقال ابن عباس رضي الله عنهما أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله
162

تعالى امرأة الأب والجمع بين الأختين وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات إلا اثنتين نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين ألا يرى أنه قد عقب النهى عن كل منهما بقوله تعالى إلا ما قد سلف وهذا يشير إلى كون الاستثناء فيهما على سنن واحد ويأباه اختلاف التعليلين
«والمحصنات» بفتح الصاد وهن ذوات الأزواج أحصنهن التزوج أو الأزواج أو الأولياء أعفهن عن الوقوع في الحرام وقرئ على صيغة اسم الفاعل فإنهن أحصن فروجهن عن غير أزواجهن أو أحصن أزواجهن وقيل الصيغة للفاعل على القراءة الأولى أيضا وفتح الصاد محمول على الشذوذ كما في نظيريه ملقح ومسهب من القح وأسهب قيل ورد الإحصان في القرآن بإزاء أربعة معان الأول التزوج كما في هذه الآية الكريمة الثاني العفة كما في قوله تعالى محصنين غير مسافحين الثالث الحرية كما في قوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات والرابع الإسلام كما في قوله تعالى فإذا أحصن قيل في تفسيره أي أسلمن وهي معطوفة على المحرمات السابقة وقوله تعالى
«من النساء» متعلق بمحذوف وقع حالا منها أي كائنات من النساء وفائدته تأكيد عمومها لا دفع توهم شمولها للرجال بناء على كونها صفة للأنفس كما توهم
«إلا ما ملكت أيمانكم» استثناء من المحصنات استثناء النوع من الجنس أي ملكتموه وإسناد الملك إلى الإيمان لما أن سببه الغالب هو الصفة الواقعة بها وقد أشتهر ذلك في الأرقاء لا سيما في إناثهم وهن المرادات ههنا رعاية للمقابلة بينه وبين ملك النكاح الوارد على الحرائر والتعبير عنهن بما لإسقاطهن بما فيهن من قصور الرق عن رتبة العقلاء وهي إما عامة حسب عموم صلتها فالاستثناء حينئذ ليس لإخراج جميع أفرادها من حكم التحريم بطريق شمول النفي بل بطريق نفى الشمول المستلزم لإخراج بعضها أي حرمت عليكم المحصنات على الإطلاق إلا المحصنات اللآتى ملكتموهن فإنهن لسن من المحرمات على الإطلاق بل فيهن من لا يحرم نكاحهن في الجملة وهن المسببات بغير أزواجهن أو مطلقا حسب اختلاف الرأيين وإما خاصة بالمذكورات فالمعنى حرمت عليكم المحصنات إلا اللآتى سبين فإن نكاحهن مشروع في الجملة أي لغير ملاكهن وأما حلهن لهم بحكم ملك اليمين فمفهوم بدلالة النص لاتحاد المناط لا بعبارته لما عرفت من أن مساق النظم الكريم لبيان حرمة التمتع بالمحرمات المعدودة بحكم ملك النكاح وإنما ثبوت حرمة التمتع بهن بحكم ملك اليمن بطريق دلالة النص وذلك مما لا يجرى فيه الاستثناء قطعا وأما عدهن من ذوات الأزواج مع تحقق الفرقة بينهن وبين أزواجهن قطعا بالتباين أو بالسبى على اختلاف الرأيين فمبنى على اعتقاد الناس حيث كانوا حينئذ غافلين عن الفرقة ألا يرى إلى ما روى عن أبي سعيد الخدري رضى الله عنه من أنه قال أصبنا يوم أوطاس سبايا لهن أزواج فكرهنا أن تقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية عنه قلنا يا رسول الله كيف نقع على
163

نساء قد عرفنا أنسابهن وأزواجهن فنزلت والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم فاستحللناهن وفي رواية أخرى عنه ونادى منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض فأباح وطأهن بعد الاستبراء وليس في ترتيب هذا الحكم على نزول الآية الكريمة ما يدل على كونها مسوقة له فإن ذلك إنما يتوقف على إفادتها له بوجه من وجوه الدلالة على إفادتها بطريق العبارة أو نحوها هذا وقد روى عن أبي سعيد رضى الله عنه أنه قال أنها نزلت في نساء كن يهاجرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهن أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهى عن نكاحهن فالمحصنات حينئذ عبارة عن مهاجرات يتحقق أو يتوقع من أزواجهن الإسلام والمهاجرة ولذلك لم يزل عنهن اسم الإحصان والنهى لتحريم المحقق وتعرف حال المتوقع وإلا فما عداهن بمعزل من الحرمة واستحقاق إطلاق الاسم عليهن كيف لا وحين انقطعت العلاقة بين المسببة وزوجها مع اتحادهما في الدين فلأن تنقطع ما بين المهاجرة وزوجها أحق وأولى كما يفصح عنه قوله عز وجل فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولاهم يحلون لهن الآية
«كتاب الله» مصدر مؤكد أي كتب الله
«عليكم» تحريم هؤلاء كتابا وفرضة فرضا وقيل منصوب على الإغراء بفعل مضمر أي مؤكد أي الزموا كتاب الله وعليكم متعلق إما بالمصدر وإما بمحذوف وقع حالا منه وقيل هو إغراء آخر مؤكد لما قبله قد حذف مفعوله لدلالة المذكور عليه أو بنفس عليكم على رأى من جوز تقديم المنصوب في باب الإغراء كما في قوله
* يا أيها المائح دلوى دونكا
* أنى رأيت الناس يحمدونكا
* وقرئ كتب الله بالجمع والرفع أي هذه فرائض الله عليكم وقرئ كتب الله بلفظ الفعل
«وأحل لكم» عطف على حرمت عليكم الخ وتوسيط قوله تعالى كتاب الله عليكم بينهما للمبالغة في الحمل على المحافظة على المحرمات المذكورة وقرئ على صيغة المبنى للفاعل فيكون معطوفا على الفعل المقدر وقيل بل على حرمت الخ فإنهما جملتان متقابلتان مؤسستان للتحريم والتحليل المنوطين بأمر الله تعالى ولا ضير في اختلاف المسند إليه بحسب الظاهر لا سيما بعد ما أكدت الأولى بما يدل على أن المحرم هو الله تعالى
«ما وراء ذلكم» إشارة إلى ما ذكر من المحرمات المعدودة أي أحل لكم نكاح ما سواهن انفرادا وجمعا ولعل إيثار اسم الإشارة المتعرض لوصف المشار إليه وعنوانه على الضمير المتعرض للذات فقط لتذكير ما في كل واحدة منهن من العنوان الذي عليه يدور حكم الحرمة فيفهم مشاركة من في معناهن لهن فيها بطريق الدلالة فإن حرمة الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها ليست بطريق العبارة بل بطريق الدلالة كما سلف وقيل ليس المراد بالإحلال الإحلال مطلقا أي على جميع الأحوال حتى يرد انه يلزم منه حل الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بل إنما هو إحلالهن في الجملة أي على بعض الأحوال ولا ريب في حل نكاحهن بطريق الانفراد ولا يقدح في ذلك حرمته بطريق الجمع إلا يرى أن حرمة نكاح المعتدة والمطلقة ثلاثا والخامسة ونكاح الأمة على الحرة ونكاح الملاعنة لا تقدح في حل نكاحهن بعد العدة وبعد التحليل وبعد تطليق الرابعة وانقضاء العدة وبعد تطليق الحرة وبعد إكذاب الملاعن نفسه وأنت خبير بان الحل يجب أن يتعلق ههنا بما تعلق به الحرمة فيما سلف وقد تعلق ههنا بالجمع فلا بد أن يتعلق الحل به أيضا
«أن تبتغوا» متعلق بالفعلين المذكورين على أنه
164

مفعول له لكن باعتبار ذاتهما بل باعتبار بيانهما وإظهارهما أي بين لكم تحريم المحرمات المعدودة وإحلال ما سواهن إرادة أن تبتغوا بأموالكم والمفعول محذوف أي تبتغوا النساء أو متروك أي تفعلوا الابتغاء
«بأموالكم» بصرفها إلى مهورهن أو بدا اشتمال مما وراء ذلكم بتقدير ضمير المفعول
«محصنين» حال من فاعل تبتغوا والاحصان العفة وتحصين النفس عن الوقوع فيما يوجب اللوم والعقاب
«غير مسافحين» حال ثانية منه أو حال من الضمير في محصنين والسفاح الزنا والفجور من السفح الذي هو صب المني سمى به لأنه الغرض منه ومفعول الفعلين محذوف أي محصنين فروجكم غير مسافحين الزواني وهي في الحقيقة حال مؤكدة لأن المحصن غير مسافح البتة وما في قوله تعالى
«فما استمتعتم به منهن» اما عبارة عن النساء أو عما يتعلق بهن من الأفعال وعلى التقديرين فهي اما شرطية ما بعدها شرطها واما موصولة ما بعدها صلتها وأيا ما كان فهي مبتدأ خبرها على تقدير كونها شرطية اما فعل الشرط أو جوابه أو كلاهما على الخلاف المعروف وعلى تقدير كونها موصولة قوله تعالى
«فآتوهن أجورهن» والفاء لتضمن الموصول معنى الشرط ثم على تقدير كونها عبارة عن النساء فالعائد إلى المبتدأ هو الضمير المنصوب في فآتوهن سواء كانت شرطية أو موصولة ومن بيانية أو تبعيضية محلها النصب على الحالية من الضمير المجرور في به والمعنى فأي فرد استمتعتم به أو فالفرد الذي استمتعتم به حال كونه من جنس النساء أو بعضهن فآتوهن أجورهن وقد روعي تارة جانب اللفظ فأفرد الضمير أولا وأخرى جانب المعنى فجمع ثانيا وثالثا واما على تقدير كونها عبارة عما يتعلق بهن فمن ابتدائية متعلقة بالاستمتاع والعائد إلى المبتدأ محذوف والمعنى أي فعل استمتعتم به من جهتهن من نكاح أو خلوة أو نحوهما أو فالفعل الذي استمتعتم به من قبلهن من الأفعال المذكورة فآتوهن أجورهن لأجله أو بمقابلته والمراد بالأجور المهور فإنها أجور ابضاعهن
«فريضة» حال من الأجور بمعنى مفروضة أو نعت لمصدر محذوف أي إيتاء مفروضا أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة أي لهن عليكم
«ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به» أي لا اثم عليكم فيما تراضيتم به من الحط عن المهر أو الابراء منه على طريقة قوله تعالى «فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه» اثر قوله تعالى «وآتوا النساء صدقاتهن» وقوله تعالى «إلا أن يعفون» وتعميمه للزيادة على المسمى لا يساعده رفع الجناح عن الرجال لأنها ليست مظنة الجناح الا ان يجعل الخطاب للأزواج تغليبا فإن أخذ الزيادة على المسمى مظنة الجناح على الزوجة وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوها وقيل من مقام أو فراق ولا يساعده قوله تعالى
«من بعد الفريضة» إذ لا تعلق لهما بالفريضة الا أن يكون الفراق بطريق المخالعة وقيل نزلت في المتعة التي هي النكاح إلى وقت معلوم من يوم أو أكثر سميت بذلك لأن الغرض منها مجرد الاستمتاع بالمرأة واستمتاعها بما يعطى وقد أبيحت ثلاثة أيام حين فتحت مكة شرفها الله تعالى ثم نسخت لما روى أنه عليه السلام أباحها ثم أصبح يقول يا أيها الناس اني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء الا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة وقيل أبيح مرتين وحرم مرتين وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رجع عن القول بجوازه عند موته وقال اللهم اني أتوب إليك من قولي بالمتعة وقولي في الصرف
«إن الله كان عليما» في مصالح العباد
«حكيما» فيما شرع لهم من الأحكام ولذلك شرع لكم هذه الأحكام اللائقة بحالكم
165

«ومن لم يستطع منكم» من اما شرطية ما بعدها شرطها أو موصولة ما بعدها صلتها والظرف متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل يستطع أي حال كونه منكم وقوله تعالى
«طولا» أو غنى وسعة أي اعتلاء ونيلا وأصله الزيادة أي اعتلاء والفضل مفعول ليستطع وقوله عز وجل
«أن ينكح المحصنات المؤمنات» اما مفعول صريح لطولا فإن اعمال المصدر المنون شائع ذائع كما في قوله تعالى أو اطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة كأنه قيل ومن لم يستطع منكم أن ينال نكاحهن واما بتقدير حرف الجر أي ومن لم يستطع منكم غني إلى نكاحهن أو لنكاحهن فالجار في محل النصب صفة لطولا أي طولا موصلا اليه أو كائنا له أو على نكاحهن على أن الطول بمعنى القدرة في القاموس الطول والطائل والطائلة الفضل والقدرة والغنى والسعة ومحل أن بعد حذف الجار نصب عند سيبويه والفراء وجر عند الكسائي والأخفش واما بدل من طولا لأن الطول فضل والنكاح قدرة واما مفعول ليستطع وطولا مصدر مؤكد له لأنه بمعناه إذ الاستطاعة هي الطول أو تمييز أي ومن لم يستطع منكم نكاحهن استطاعته أو من جهة الطول والغنى أي لا من جهة الطبيعة والمزاج فإن عدم الاستطاعة من تلك الجهة لا تعلق له بالمقام والمراد بالمحصنات الحرائر بدليل مقابلتهن بالمملوكات فإن حريتهن أحصنتهن عن ذل الرق والابتذال وغيرهما من صفات القصور والنقصان وقوله عز وجل
«فمن ما ملكت أيمانكم» اما جواب للشرط أو خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط والجار متعلق بفعل مقدر حذف مفعوله وما موصولة أي فلينكح امرأة أو أمة من النوع الذي ملكته ايمانكم وهو في الحقيقة متعلق بمحذوف وقع صفة لذلك المفعول المحذوف ومن تبعيضية أي فلينكح امرأة كائنة من ذلك النوع وقيل من زائدة والموصول مفعول للفعل المقدر أي فلينكح ما ملكته ايمانكم وقوله تعالى
«من فتياتكم المؤمنات» في محل النصب على الحالية من الضمير المقدر ملكت الراجع إلى ما وقيل هو المفعول للفعل المقدر على زيادة من ومما ملكت متعلق بنفس الفعل ومن لابتداء الغاية أو بمحذوف وقع حالا من فتياتكم ومن للتبعيض أي فلينكح فتياتكم كائنات بعض ما ملكت ايمانكم والمؤمنات صفة لفتياتكم على كل تقدير وقيل هو المفعول للفعل المقدر ومما ملكت على ما تقدم آنفا ومن فتياتكم حال من العائد المحذوف وظاهر النظم الكريم يفيد عدم جواز نكاح الأمة للمستطيع كما ذهب اليه الشافعي رحمه الله تعالى وعدم جواز نكاح الأمة الكتابية أصلا كما هو رأي أهل الحجاز وقد جوزهما أبو حنيفة رحمه الله تعالى متمسكا بالعمومات فمحمل الشرط والوصف هو الأفضلية ولا
166

نزاع فيها لأحد وقد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال ومما وسع الله على هذه الأمة نكاح الأمة واليهودية والنصرانية وإن كان موسرا وقوله تعالى
«والله أعلم بإيمانكم» جملة معترضة جئ بها لتأنيسهم بنكاح الإماء واستنزالهم من رتبة الاستنكاف منه ببيان أن مناط التفاضل ومدار التفاخر هو الإيمان دون الأحساب والأنساب على ما نطق به قوله عز قائلا «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» والمعنى أنه تعالى اعلم منكم بمراتبكم في الإيمان الذي به تنتظم أحوال العباد وعليه يدور فلك المصالح في المعاش والمعاد ولا تعلق له بخصوص الحرية والرق فرب أمة يفوق إيمانها إيمان الحرائر وقوله تعالى
«بعضكم من بعض» إن أريد به الاتصال من حيث الدين فهو بيان لتناسبهم من تلك الحيثية إثر بيان تفاوتهم في ذلك وإن أريد به الاتصال من حيث النسب فهو اعتراض آخر مؤكد للتأنيس من جهة أخرى والخطاب في الموضعين إما لمن كما في الخطاب الذي يعقبه قد روعى فيما سبق جانب اللفظ وههنا جانب المعنى والالتفات للاهتمام بالترغيب والتأنيس وإما لغيرهم من المسلمين كالخطابات السابقة لحصول الترغيب بخطابهم أيضا وأياما كان فإعادة الأمر بالنكاح على وجه الخطاب في قوله تعالى
«فانكحوهن» مع انفهامه من قوله تعالى «فمن ما ملكت أيمانكم» حسبما ذكر لزيادة الترغيب في نكاحهن وتقييده بقوله تعالى
«بإذن أهلهن» وتصديره بالفاء للإيذان بترتبه على ما قبله أي وإذ قد وقفتم على جلية الأمر فانكحوهن بإذن مواليهن ولا تترفعوا عنهن وفي اشتراط إذن الموالى دون مباشرتهم للعقد إشعار بجواز مباشرتهن له
«وآتوهن أجورهن» أي مهورهن
«بالمعروف» متعلق بآتوهن أي أدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار والجاء إلى الاقتضاء واللز حسبما يقتضيه الشرع والعادة ومن ضرورته ان يكون الأداء إليهن بإذن الموالى فيكون ذكر إيتائهن لبيان جواز الأداء إليهن لا لكون المهور لهن وقيل أصله آتوا مواليهن فحذف المضاف وأوصل الفعل إلى المضاف إليه
«محصنات» حال من مفعول فانكحوهن أي حال كونهن عفائف عن الزنا
«غير مسافحات» حال مؤكدة أي غير مجاهرات به
«ولا متخذات أخدان» عطف على مسافحات ولا لتأكيد ما في غير من معنى النفي الخدن الصاحب قال أبو زيد الأخدن الأصدقاء على الفاحشة والواحد خدن وخدين والجمع للمقابلة بالانقسام على معنى ان لا يكون لواحدة منهن خدن لا على معنى أن لا يكون لها أخدان أي غير مجاهرات بالزنا ولا مسرات له وكان الزنا في الجاهلية منقسما إلى هذين القسمين
«فإذا أحصن» أي بالتزويج وقرئ على البناء للفاعل أي أحصن فروجهن أو أزواجهن
«فإن أتين بفاحشة» أي فعلن فاحشة وهى الزنا
«فعليهن» فثابت عليهن شرعا
«نصف ما على المحصنات» أي الحرائر الأبكار
«من العذاب» من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون كما هو كذلك قبل الإحصان فالمراد بيان عدم تفاوت حدهن بالاحصان كتفاوت حد الحرائر فالفاء في فإن أتين
جواب إذا والثانية جواب أن والشرط الثاني مع جوابه مترتب على وجود الأول كما في قولك إذا اتيتنى فإن لم أكرمك فعبدى حر
«ذلك» أي نكاح الإماء
«لمن خشي العنت منكم» أي لمن خاف وقوعه في الإثم الذي تؤدى إليه غلبة الشهوة وأصل العنت انكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر يعترى الإنسان بعد
167

صلاح حاله ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح وقيل أريد به الحد لأنه إذا هويها يخشى أن يواقعها فيحد والأول هو اللائق بحال المؤمن دون الثاني لإبهامه أن المحذور عنده الحد لا ما يوجبه
«وإن تصبروا» أي عن نكاحهن متعففين كافين أنفسكم عما تشتهيه من المعاصي
«خير لكم» من نكاحهن وإن سبقت كلمة الرخصة فيه لما فيه من تعريض الولد للرق قال عمر رضى الله عنه إيما حر تزوج بأمة فقد أرق نصفه وقال سعيد بن جبير ما نكاح الأمة من الزنا إلا قريب ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر وعلى بيعها للحاضر والبادى وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده مالا مزيد عليه ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح والعزة هي اللائقة بالمؤمنين ولأن مهرها لمولاها فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج فلا ينتظم أمر المنزل وقد قال صلى الله عليه وسلم الحرائر صلاح البيت والإماء هلاك البيت
«والله غفور» مبالغ في المغفرة فيغفر لمن لم يصبر عن نكاحهن ما في ذلك من الأمور المنافية لحال المؤمنين
«رحيم» مبالغ في الرحمة ولذلك رخص لكم في نكاحهن
«يريد الله ليبين لكم» استئناف مسوق لتقرير ما سبق من الأحكام وبيان كونها جارية على مناهج المهتدين من الأنبياء والصالحين قيل أصل النظم الكريم يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرداة ومفعول يبين محذوف ثقة بشهادة السباق والسياق اى يريد الله أن يبين لكم ما هو خفى عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم أو ما تعبدكم به من الحلال والحرام وقيل مفعول يريد محذوف تقديره يريد الله تشريع ما شرع من التحريم والتحليل لأجل التبيين لكم وهذا مذهب البصريين ويعزى إلى سيبويه وقيل إن اللام بنفسها ناصبة للفعل من غير إضمار ان وهي وما بعدها مفعول للفعل المتقدم فإن اللام قد تقام مقام ان في فعل الإرادة والأمر فيقال أردت لأذهب وأن أذهب وأمرتك لتقوم وإن تقوم قال تعالى «يريدون ليطفئوا نور الله» وفي موضع «يريدون أن يطفئوا» وقال تعالى «وأمرنا لنسلم» وفي موضع «وأمرت أن أسلم» وفي آخر «وأمرت لأعدل بينكم» اى ان أعدل بينكم وهذا مذهب الكوفيين ومنعه البصريون وقالوا إن وظيفة اللام هي الجر والنصب فيما قالوا بإضمار أن أي أمرنا بما أمرنا لنسلم ويريدون ما يريدون ليطفئوا وقيل يؤول الفعل الذي قبل اللام بمصدر مرفوع بالابتداء ويجعل ما بعده خبرا له كما في تسمع بالمعيدى خير من ان تراه أي ان تسمع به ويعزى به هذا الرأي إلى بعض البصريين
«ويهديكم سنن الذين من قبلكم» من الأنبياء والصالحين لتقتدوا بهم
«ويتوب عليكم» إذا تبتم إليه تعالى عما يقع منكم من التقصير والتفريط في مراعاة ما كلفتموه من الشرائع فإن المكلف قلما يخلو من تقصير يستدعى تلافيه بالتوبة ويغفر لكم ذنوبكم أو يرشدكم إلى ما يردعكم عن المعاصي ويحثكم على التوبة أو إلى ما يكون كفارة لسيئاتكم وليس الخطاب لجميع المكلفين حتى يتخلف مراده تعالى عن إرادته فيمن لم يتب منهم بل لطائفة معينة حصلت لهم هذه التوبة
«والله عليم» مبالغ في العلم بالأشياء التي من جملتها
168

ما شرع لكم من الأحكام
«حكيم» مراع في جميع أفعالة الحكمة والمصلحة
«والله يريد أن يتوب عليكم» جملة مبتدأة مسوقة لبيان كمال منفعة ما أراده الله تعالى وكمال مضرة ما يريد الفجرة لا لبيان إراداته تعالى لتوبته عليهم حتى يكون من باب التكرير للتقرير ولذلك غير الأسلوب إلى الجملة الاسمية دلالة على دوام الإرادة ولم يفعل ذلك في قوله تعالى
«ويريد الذين يتبعون الشهوات» للإشارة إلى الحدوث وللإيماء إلى كمال المباينة مضمونى الجملتين كما مر في قوله تعالى «الله ولي الذين آمنوا» الآية والمراد بمتبعى الشهوات الفجرة فإن اتباعها الائتمار بها وأما المتعاطى لما سوغه الشرع من المشهيات دون غيره فهو متبع له لا لها وقيل هم اليهود والنصارى وقيل هم المجوس حيث كانوا يحلون الأخوات من الأب وبنات الخ وبنات الأخت فلما حرمهن الله تعالى قالوا فإنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة مع أن العمة والخالة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت
«أن تميلوا» عن الحق بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات وتكونوا زناة مثلهم وقرئ بالياء التحتانية والضمير للذين يتبعون الشهوات
«ميلا عظيما» أي بالنسبة إلى ميل من اقترف خطيئة على ندرة بلا استحلال
«يريد الله أن يخفف عنكم» بما مر من الرخص ما في عهدتكم من مشاق التكاليف والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب
«وخلق الإنسان ضعيفا» عاجزا عن مخالفة هواه غير قادر على مقابلة دواعيه وقواه حيث لا يصبر عن اتباع الشهوات ولا يستخدم قواه في مشاق الطاعات وعن الحسن أن المراد ضعف الخلقة ولا يساعده المقام فإن الجلمة اعتراض تذييلى مسوق لتقرير ما قبله من التخفيف بالرخصة في نكاح الإماء وليس لضعف البنية مدخل في ذلك وإنما الذي يتعلق به التخفيف في العبادات الشاقة وقيل المراد به ضعفه في أمر النساء خاصة حيث لا يصبر عنهن وعن سعيد بن المسيب ما أيس الشيطان من بنى آدم قط
إلا أتاهم من قبل النساء فقد اتى على ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وانا أعشوا بالأخرى وإن أخوف ما أخاف على فتنة النساء وقرأ ابن عباس رضى الله عنهما وخلق الإنسان على البناء للفاعل والضمير له عز وجل وعنه رضى الله عنه ثماني آيات في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت «يريد الله ليبين لكم» «والله يريد أن يتوب عليكم» «يريد الله أن يخفف عنكم» «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» «إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها» «ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه» «ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم»
«للناس لعلهم يتقون ولا تأكلوا أموالكم
169

بينكم بالباطل» شروع في بيان بعض الحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان الحرمات المتعلقة بالأبضاع وتصدير الخطاب بالنداء والتنبيه لإظهار كمال العناية بمضمونه والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالغصب والسرقة والخيانة والقمار وعقود الربا وغير ذلك مما لم يبحه الشرع أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير طريق شرعي
«إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم» استثناء منقطع وعن متعلقة بمحذوف وقع صفة لتجارة أي إلا ان تكون التجارة تجارة صادرة عن تراض كما في قوله
* إذا كان يوما ذا كواكب أشنعا
* أي إذا كان اليوم يوما الخ أو إلا أن تكون الأموال أموال تجارة وقرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة أي ولكن اقصدوا كون تجارة عن تراض أي وقوعها أو ولكن وجود تجارة عن تراض غير منهى عنه وتخصيصها بالذكر من بيان سائر أسباب الملك لكونها معظمها وأغلبها وقوعا وأوافقها لذوي المروءات والمراد بالتراضي مراضاة المتبايعين فيما تعاقدا عليه في حال المبايعة وقت الإيجاب والقبول عندنا وعند الشافعي رحمه الله حالة الاقتراق عن مجلس العقد
«ولا تقتلوا أنفسكم» أي من كان من جنسكم من المؤمنين فإن كلهم كنفس واحدة وعن الحسن لا تقتلوا إخوانكم والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل أولا تهلكوا أنفسكم بتعريضها للعقاب باقتراف ما يفضى إليه فإنه القتل الحقيقي لها كما يشعر به إيراده عقيب النهى عن أكل الحرام فيكون مقررا للنهي السابق وقيل لا تقتلوا أنفسكم بالبخع كما يفعله بعض الجهلة أو بارتكاب ما يؤدى إلى القتل من الجنايات وقيل بإلقائها في التهلكة وأيد بما روى عن عمر بن العاص انه تأوله بالتيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقرئ ولا تقتلوا بالتشديد للتكثير وقد جمع في التوصية بين حفظ النفس وحفظ المال لما أنه شقيقها من حيث أنه سبب لقوامها وتحصيل كمالاته واستيفاء فضائلها وتقديم النهى عن التعرض له لكثرة وقوعه
«إن الله كان بكم رحيما» تعليل للنهي بطريق الاستئناف أي مبالغا في الرحمة والرأفة ولذلك نهاكم عما نهى فإن ذلك رحمة عظيمة لكم بالزجر عن المعاصي وللذين هم في معرض التعرض لهم بحفظ أموالهم وأنفسهم وقيل معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما حيث امر بنى إسرائيل بقتلهم أنفسهم ليكون توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم ولم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة
«ومن يفعل ذلك» إشارة إلى القتل خاصة أو لما قبله من أكل الأموال وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهما في الفساد
«عدوانا وظلما» أي إفراطا في التجاوز عن الحد وإتيانا بما لا يستحقه وقيل أريد بالعدوان التعدي على الغير بالظلم الظلم على النفس بتعريضها للعقاب ومحلها النصب على الحالية أو على العلية أي معتديا وظالما أو للعدوان والظلم وقرئ عدوانا بكسر العين
«فسوف نصليه» جواب للشرط أي ندخله وقرئ بالتشديد من صلى وبفتح النون من صلاة يصليه ومنه شاة مصلية ويصليه بالياء والضمير لله تعالى أو لذلك من حيث إنه سبب للصلى
«نارا» أي نارا مخصوصة هائلة شديدة العذاب
«وكان ذلك» أي إصلاؤه النار
«على الله يسيرا» لتحقق الداعي وعدم الصارف وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتربية المهابة وتأكيد استقلال الاعتراض التذييلى
170

«إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» أي كبائر الذنوب التي نهاكم الشرع عنها مما ذكر ههنا وما لم يذكر وقرئ كبير على إرادة الجنس
«نكفر عنكم» بنون العظمة على طريقة الالتفات وقرئ بالياء بالإسناد إليه تعالى والتكفير إماطة المستحق من العقاب بثواب أزيد أو بتوبة أي نغفر لكم
«سيئاتكم» صغائركم ونمحها عنكم قال المفسرون الصلاة إلى الصلاة والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر واختلف في الكبائر والأقرب ان الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه الحد أو صرح بالوعيد وقيل ما علم حرمته بقاطع وعن النبي صلى الله عليه وسلم انها سبع الإشراك بالله تعالى وقتل النفس التي حرمها الله تعالى وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم والربا والفرار من الزحف وعقوق الوالدين وعن على رضى الله عنه التعقب بعد الهجرة مكان عقوق الوالدين وزاد ابن عمر رضى الله عنهما السحر واستحلال البيت الحرام وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن رجلا قال له الكبائر سبع قال هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع روى عنه إلى سبعين إذ لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار وقيل أريد به أنواع الشرك لقوله تعالى «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» وقيل صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها وبحسب فاعلها بل بحسب الأوقات والأماكن أيضا فأكبر الكبائر الشرك وأصغر الصغار حديث النفس وما بينهما وسايط يصدق عليه الأمر أن فمن عن له أمر أن منها ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكبه لما استحق على اجتناب الأكبر من الثواب
«وندخلكم مدخلا» بضم الميم اسم مكان هو الجنة
«كريما» أي حسنا مرضيا أو مصدر ميمى أي ادخالا مع كرامة وقرئ بفتح الميم وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر ونصبه على الثاني بفعل مقدر مطاوع للمذكور أي ندخلكم فتدخلون مدخلا أو دخولا كريما كما في قوله
* وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع
* من المال إلا مسحت أو مجلف
* أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت الخ
«ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض» أي عليكم ولعل إيثار الإبهام عليه للتفادى عن المواجهة بما يشق عليهم قال القفال لما نهاهم الله تعالى عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل الأنفس عقبة بالنهى عما يؤدى إليه من الطمع في أموالهم وتمنيها وقيل نهاهم أولا عن التعرض لأموالهم بالجوارح ثم عن التعرض لها بالقلب على سبيل الحسد لتطهير أعمالهم الظاهرة والباطنة فالمعنى لا تتمنوا ما أعطاه الله تعالى بعضكم من الأمور الدنيوية كالجاه والمال وغير ذلك مما يجرى فيه التنافس دونكم فإن ذلك قسمة من الله تعالى صادرة عن تدبير لائق بأحوال العباد مترتب على الإحاطة بجلائل شؤونهم ودقائقها فعلى كل أحد من المفضل عليهم أن يرضى بما قسم الله له ولا يتمنى حظ المفضل ولا يحسده عليه لما أنه معارضة لحكم القدر المؤسس على
171

الحكم البالغة لا لأن عدمه خير له ولا لأنه لو كان خلافة لكان مفسدة له كما قيل إذ لا يساعده ما سيأتي من الأمر بالسؤال من فضله تعالى فإنه ناطق بأن المنهى عنه تمنى نصيب الغير لاتمنى ما زاد على نصيبه مطلقا هذا وقد قيل لما جعل الله تعالى في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء نحن أحوج أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم واحد لأنا ضعفاء وهم أقوياء وأقدر على طلب المعاش منا فنزلت وهذا هو الأنسب بتعليل النهى بقوله عز وجل
«للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن» فإنه صريح في جريان التمني بين فريقى الرجال والنساء ولعل صيغة المذكر في النهى لما عبر عنهن بالبعض والمعنى لكل من الفريقين في الميراث نصيب معين المقدار مما أصابه بحسب استعداده وقد عبر عنه بالاكتساب على طريقة الاستعارة التبعية المبنية على تشبيه اقتضاء حاله لنصيبه باكتسابه إياه تأكيدا لاستحقاق كل منهما لنصيبه وتقوية لاختصاصه به بحيث لا يتخطاه إلى غيره فإن ذلك مما يوجبه الانتهاء عن التمني المذكور وقوله تعالى
«واسألوا الله من فضله» عطف على النهى وتوسيط التعليل بينهما لتقرير الانتهاء مع ما فيه من الترغيب في الامتثال بالأمر كأنه قيل لا تتمنوا ما يختص بغيركم من نصيبه المكتسب له واسألوا الله تعالى من خزائن نعمة التي لانفاد لها وحذف المفعول الثاني للتعميم أي واسألوه ما تريدون فإنه تعالى يعطيكموه أو لكونه معلوما من السياق أي واسألوه مثله وقيل من زائدة والتقدير وأسألوه فضله وقد جاء في الحديث لا يتمنين أحدكم مال أخيه ولكن ليقل اللهم ارزقني اللهم أعطني مثله وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج وحمل النصيب على الأجر الأخروي وإبقاء الاكتساب على حقيقته بجعل سبب النزول ما روى أن أم سلمة رضي الله عنها قالت ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتبه على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم على أن المعنى لكل من الفريقين نصيب خاص به من الأجر مترتب على عمله فللرجال أجر بمقابلة ما يليق بهم من الأعمال كالجهاد ونحوه وللنساء أجر بمقابلة ما يليق بهن من الأعمال كحفظ حقوق الأزواج ونحوه فلا تتمنى النساء خصوصية أجر الرجال وليسألن من خزائن رحمته تعالى ما يليق بحالهن من الأجر لا يساعده سياق النظم الكريم المتعلق بالمواريث وفضائل الرجال
«إن الله كان بكل شيء عليما» ولذلك جعل الناس على طبقات ورفع بعضهم على بعض درجات حسب مراتب استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية على الحكم الأبية
«ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون» جملة مبتدأة مقررة لمضمون ما قبلها ولكل مفعول ثان لجعلنا قدم عليه لتأكيد الشمول ودفع توهم تعلق الجهل بالبعض دون البعض كما في قوله تعالى «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا» أي ولكل تركة جعلنا ورثة متفاوتة في الدرجة يلونها ويحرزون منها أنصباءهم بحسب استحقاقهم المنوط بما بينهم وبين المورث من العلاقة ومما ترك بيان لكل قد فصل بينهما بما عمل فيه
172

كما فصل في قوله تعالى «قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض» بين لفظ الجلالة وبين صفته بالعامل فيما أضيف إليه أعنى غير أو ولكل قوم جعلناهم موالى اى وراثا نصيب معين مغاير لنصيب قوم آخرين مما ترك الوالدان والأقربون على أن جعلنا موالى صفة لكل والضمير الراجع إليه محذوف والكلام مبتدأ وخبر على طريقة قولك لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله أي حظ منه واما ما قيل من أن المعنى لكل أحد جعلنا موالى مما ترك اى وراثا منه على أن من صلة موالى لأنه في معنى الوارث ضمير مستكن عائد إلى كل وقوله تعالى «الوالدان والأقربون» استئناف مفسر للموالى كأنه قيل من هم فقيل الوالدان الخ ففيه تفكيك للنظم الكريم لأن ببيان الموالى بما ذكر يفوت الإبهام المصحح لاعتبار التفاوت بينهم وبه يتحقق الانتظام كما أشير إليه في تقرير الوجهين الأولين مع ما فيه من خروج الأولاد من الموالى إذ لا يتناولهم الأقربون كما لا يتناول الوالدين
«والذين عقدت أيمانكم» هم موالى الموالاة كان الحليف يورث السدس من مال حليفه فنسخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على ان يرثه ويعقل عنه صح وعليه عقله وله إرثه إن لم يكن له وارث أصلا وإسناد العقد إلى الإيمان لأن المعتاد هو المماسحة بها عند العقد والمعنى عقدت أيمانكم وماسحتموه وهو مبتدأ مضمن لمعنى الشرط ولذلك صدر الخبر أعنى قوله تعالى
«فآتوهم نصيبهم» بالفاء أو منصوب بمضمر يفسره ما بعده كقولك زيدا فاضربه أو مرفوع معطوف على الوالدان والأقربون وقوله تعالى فآتوهم الخ جمله مبينة للجملة قبلها ومؤكدة لها والضمير للموالى
«إن الله كان على كل شيء» من الأشياء التي من جملتها الإيتاء والمنع
«شهيدا» ففيه وعد ووعيد
«الرجال قوامون على النساء» كلام مستأنف مسوق لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلا إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجمالا وإيراد الجملة اسميه والخبر على صيغة المبالغة للإيذان بعراقتهم في الاتصاف بما أسند إليهم ورسوخهم فيه أي شأنهم القيام عليهن بالأمر والنهى قيام الولاة على الرعية وعلل ذلك بأمرين وهبى وكسبى فقيل
«بما فضل الله بعضهم على بعض» الباء سببية متعلقة بقوامون أو بمحذوف وقع حالا من ضميره وما مصدرية والضمير البارز لكلا الفريقين تغليبا أي قوامون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن أو ملتبسين بتفضيله تعالى الخ ووضع البعض موضع الضميرين للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه أصلا ولمثل ذلك لم يصرح بما به التفضيل من صفات كماله التي هي كمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة في الأعمال والطاعات ولذلك خصوا بالنبوة والإمامة والولاية وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك
«وبما
173

أنفقوا من أموالهم» الباء متعلقة بما تعلقت به الأولى وما مصدرية أو موصولة حذف عائدها من الصلة ومن تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفقوا أو بمحذوف وقع حالا من العائد المحذوف أي وبسبب إنفاقهم من أموالهم أو بسبب ما أنفقوه من أموالهم أو كائنا من أموالهم وهو ما أنفقوه من المهر والنفقة روى أن سعد ابن الربيع أحد نقباء الأنصار رضي الله عنهم نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا فقال عليه السلام لتقتص منه فنزلت فقال عليه السلام أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراده الله خير
«فالصالحات» شروع في تفصيل أحوالهن وبيان كيفية القيام عليهن بحسب اختلاف أحوالهن أي فالصالحات منهن
«قانتات» أي مطيعات لله تعالى قائمات بحقوق الأزواج
«حافظات للغيب» أي لموجب الغيب أي لما يجب عليهن حفظه في حال غيبة الأزواج من الفروج والأموال عن النبي صلى الله عليه وسلم خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها وتلا الآية وقيل لأسرارهم وإضافة المال إليها ى للإشعار بأن ماله في حق التصرف في حكم مالها كما في قوله تعالى ولا تؤتوا السفاء أموالكم الآية
«بما حفظ الله» ما مصدرية أي بحفظه تعالى إياهم بالأمر بحفظ الغيب والحث عليه بالوعد والوعيد والتوفيق له أو موصولة أي بالذي حفظ الله لهن عليهم من المهر والنفقة والقيام بحفظهن والذب عنهن وقرئ بما حفظ الله بالنصب على حذف المضاف أي بالأمر الذي حفظ حق الله تعالى وطاعته وهو التعفف والشفقة على الرحال
«واللاتي تخافون نشوزهن» خطاب للأزواج وإرشاد لهم إلى طريق القيام عليهن والخوف حالة تحصل في القلب عند حدوث أمر مكروه أو عند الظن أو العلم بحدوثه وقد يراد به أحدهما أي تظنون عصيانهن وترفعهن عن مطاوعتكم من النشز وهو المرتفع من الأرض
«فعظوهن» فانصحوهن بالترغيب والترهيب
«واهجروهن» بعد ذلك إن لم ينفع الوعظ والنصيحة
«في المضاجع» أي في المراقد فلا تدخلوهن تحت اللحف ولا تباشروهن فيكون كناية عن الجمع وقيل المضاجع المبايت أي لا تبايتوهن وقرئ في المضجع وفي المضطجع
«واضربوهن» أن لم ينجح ما فعلتم من العظة والهجران ضربا غير مبرح ولا شائن
«فإن أطعنكم» بذلك كما هو الظاهر لأنه منتهى ما يعد زاجرا
«فلا تبغوا عليهن سبيلا» بالتوبيخ والأذية أي فأزيلوا عنهن التعرض واجعلوا ما كان منهن كأنه لم يكن فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له
«إن الله كان عليا كبيرا» فاحذروه فإنه تعالى أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم أو أنه تعالى على علو شانه يتجاوز عن سيئاتكم ويتوب عليكم عند توبتكم فأنتم أحق بالعفو عن أزواجكم عند إطاعتهن لكم أو أنه يتعالى ويكبر أن يظلم أحدا أو ينقص حقه وعدم التعرض لعدم إطاعتهن لهم للإيذان بأن ذلك ليس مما ينبغي أن يتحقق أو يفرض تحققه وأن الذي يتوقع منهن ويليق بشأنهن لا سيما بعد ما كان من الزواجر هو الإطاعة ولذلك صدرت الشرطية بالفاء المنبئة عن سببية ما قبلها لما بعدها
«وإن خفتم شقاق بينهما» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الحكام وارد على بناء
174

الأمر على التقدير المسكوت عنه اعني عدم الإطاعة المؤدى إلى المخاصمة والمرافعة إليهم والشقاق المخالفة إما لأن كلا منهما يريد ما يشق على الآخر وإما لأن كلا منهما في شق أي جانب غير شق الآخر والخوف ههنا بمعنى العلم قاله ابن عباس والجزم بوجود الشقاق لا ينافي بعث الحكمين لأنه لرجاء إزالته لا لتعرف وجوده بالفعل وقيل بمعنى الظن وضمير الثنية للزوجين وإن لم يجر لهما ذكر لجرى ما يدل عليها وإضافة الشقاق إلى الظرف إما على إجرائه مجرى المفعول به كما في قوله
* يا سارق الليلة
* أو مجرى الفاعل كما في قولك نهاره صائم أي إن علمتم أو ظننتم تأكد المخالفة بحيث لا يقدر الزوج على إزالتها
«فابعثوا» أي إلى الزوجين لإصلاح ذات البين
«حكما» رجلا وسطا صالحا للحكومة والإصلاح
«من أهله» من أهل الزوج
«وحكما» آخر على صفة الأول
«من أهلها» فإن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال وأطلب للصلاح وهذا على وجه الاستحباب فلو نصبا من الأجانب جاز واختلف في أنهما هل يليان الجمع والتفريق إن رأيا ذلك فقيل لهما ذلك وهو المروى عن على رضى الله عنه وبه قال الشعبي وعن الحسن يجمعان ولا يفرقان وقال مالك لهما أن يتخالعا إن كان الصلاح فيه
«إن يريدا» أي الحكمان
«إصلاحا» أي إن قصدا إصلاح ذات البين وكانت نيتهما صحيحة وقلوبهما ناصحة لوجه الله تعالى
«يوفق الله بينهما» يوقع بين الزوجين الموافقة والألفة وألقى في نفوسهما المودة والرأفة وعدم التعرض لذكر عدم إرادتهما الإصلاح لما ذكر من الإيذان بان ذلك ليس مما ينبغي أن يفرض صدوره عنهما وأن الذي يليق بشأنهما ويتوقع صدوره عنهما هو إرادة الإصلاح وفيه مزيد ترغيب للحكمين في الإصلاح وتحذير عن المساهلة كيلا ينسب اختلال الأمر إلى عدم إرادتهما فإن الشرطية الناطقة بدور أن وجود التوفيق على وجود الإرادة منبئة عن دوران عدمه على عدمها وقيل كلا الضميرين للحكمين أي إن قصد الإصلاح يوفق الله بينهما فتتفق كلمتهما ويحصل مقصودهما وقيل كلاهما للزوجين أي إن أرادا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الألفة والوفاق وفيه تنبيه على ان من أصلح نيته فيما يتوخاه وفقه الله لمبتغاه
«إن الله كان عليما خبيرا» بالظواهر والبواطن فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق
«واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا» كلام مبتدأ مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بحقوق الوالدين والأقارب ونحوهم أثر بيان الأحكام المتعلقة بحقوق الأزواج صدر بما يتعلق بحقوق الله عز وجل التي هي آكد الحقوق وأعظمهما تنبيها على جلالة شأن حقوق الوالدين بنظمها في سلكها كما في سائر المواقع وشيئا نصب على أنه مفعول أي لا تشركوا به شيئا من الأشياء صنما أو غيره أو على أنه مصدر أي لا تشركوا به شيئا من الإشراك جليا أو خفيا
«وبالوالدين إحسانا» أي أحسنوا بهما إحسانا
175

«وبذي القربى» أي بصاحب القرابة من أخ أو عم أو خال أو نحو ذلك
«واليتامى والمساكين» من الأجانب
«والجار ذي القربى» أي الذي قرب جواره وقيل الذي له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحق الجار ذي القربى
«والجار الجنب» أي البعيد أو الذي لا قرابة له وعنه عليه الصلاة والسلام الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق واحد وهو حق الجوار وهو الجار من أهل الكتاب وقرئ والجار الجنب
«والصاحب بالجنب» أي الرفيق في امر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر فإنه صحبك وحصل بجانبك ومنهم من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس أو غير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه وقيل هي المرأة
«وابن السبيل» هو المسافر المنقطع به أو الضيف
«وما ملكت أيمانكم» من العبيد والإماء
«إن الله لا يحب من كان مختالا» أي متكبرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم
«فخورا» يتفاخر عليهم والجملة تعليل للآمر السابق
«الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل» بضم الباء وسكون الخاء وقرئ بفتح الأول وبفتحهما وبضمهما والموصول بدل من قوله تعالى من كان أو نصب على الذم أو رفع عليه أي هم الذين أو مبتدأ خبره محذوف تقديره الذين يبخلون ويفعلون ويصنعون أحقاء بكل ملامة
«ويكتمون ما آتاهم الله من فضله» أي من المال والغنى أو من نعوته عليه السلام التي بينها لهم في التوراة وهو أنسب بأمرهم للناس بالبخل فإن أحبارهم كانوا يكتمونها ويأمرون أعقابهم بكتمها
«وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا» وضع الظاهر موضع المضمر إشعارا بأن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى ومن كان كافرا بنعمة الله تعالى فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء والآية نزلت في طائفة من اليهود وكانوا يقولون للأنصار بطريق النصيحة لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر وقيل في الذين كتموا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم والجملة اعتراض تذييلى مقرر لما قبلها
«والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس» اى للفخار وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا لابتغاء وجه الله تعالى وهو عطف على الذين يبخلون أو على الكافرين وإنما شاركوهم
في الذم والوعيد لأن البخل والسرف الذي هو الإنفاق فيما لا ينبغي من حيث أنهما طرفا تفريط وإفراط سواء في القبح واستتباع اللائمة والذم ويجوز أن يكون العطف بناء على إجراء التغاير الوصفي مجرى التغاير الذاتي كما في قوله
* إلى الملك القرم وابن الهمام
* وليث الكتائب في المزدحم
* أو مبتدأ خبره محذوف يدل عليه قوله تعالى ومن يكن الخ كأنه قيل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس
«ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر»
176

ليتحروا بالإنفاق مراضيه تعالى وثوابه وهم مشركو مكة المنفقون أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل المنافقون
«ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا» أي فقرينهم الشيطان وإنما حذف للإيذان بظهوره واستغنائه عن التصريح به والمراد به إبليس وأعوانه حيث حملوها على تلك القبائح وزينوها لهم كما في قوله تعالى «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين» ويجوز ان يكون وعيدا لهم بأن الشيطان يقرن بهم في النار
«وماذا عليهم» أي على من ذكر من الطوائف
«لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا من ما رزقهم الله» أي ابتغاء لوجه الله تعالى وإنما لم يصرح به تعويلا على التفصيل السابق واكتفاء بذكر الإيمان بالله واليوم الآخر فإنه يقتضى أن يكون الأنفاق لابتغاء وجهه تعالى وطلب ثوابه البتة أي ما الذي عليهم أو وأي تبعه ووبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله وهو توبيخ لهم على الجهل بمكان المنفعة والاعتقاد في الشئ بخلاف ما هو عليه وتحريض على التفكر لطلب الجواب لعله يؤدى بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة والعوائد الجميلة وتنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا فكيف إذا كان فيه منافع لا تحصى وتقديم الإيمان بهما لأهمية في نفسه ولعدم الاعتداد بالإنفاق بدونه وإما تقديم إنفاقهم رئاء الناس على عدم إيمانهم بهما مع كون المؤخر أقبح من المقدم فلرعاية المناسبة بين إنفاقهم ذلك وبين ما قبله من بخلهم وأمرهم للناس به
«وكان الله بهم» وبأحوالهم المحققة
«عليما» فهو وعيد لهم بالعقاب أو بأعمالهم المفروضة فهو بيان لإثابته تعالى إياهم لو كانوا قد آمنوا وأنفقوا كما ينبئ عنه قوله تعالى
«إن الله لا يظلم مثقال ذرة» المثقال مفعال من الثقل كالمقدار من القدر وانتصابه على أنه نعت للمفعول قائم مقامه سواء كان الظلم بمعنى النقص أو بمعنى وضع الشئ في غير موضعه أي لا ينقص من الأجر ولا يزيد في العقاب شيئا مقدار ذرة أو على انه نعت للمصدر المحذوف نائب منابه أي لا يظلم ظلما مقدار ذرة وهي النملة الصغيرة أو كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة وهو الأنسب بمقام المبالغة فإن قلته في الثقل أظهر من قلة النملة فيه وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه أدخل يده في التراب ثم نفخ فيه فقال كل واحد من هؤلاء ذرة
«وإن تك حسنة» أي وإن تك مثقال ذرة حسنة أنث لتأنيث الخبر أو لإضافته إلى الذرة وحذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلة وتخفيفا لكثرة الاستعمال وقرئ حسنة بالرفع على أن كان تامة
«يضاعفها» أي يضاعف ثوابها جعل ذلك مضاعفة لنفس الحسنة تنبيها على كمال الاتصال بينهما كأنهما شئ واحد وقرئ يضعفها وكلاهما بمعنى واحد وقرئ نضاعفها بنون العظمة على طريقة الالتفات عن عثمان النهدي أنه قال لأبى هريرة رضى الله عنه بلغني عنك انك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله تعالى يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة قال أبو هريرة لابل سمعته صلى الله عليه وسلم يقول
177

يعطيه ألفي ألف حسنة ثم تلا هذه الآية الكريمة والمراد الكثرة لا التحديد
«ويؤت من لدنه» ويعط صاحبها من عنده على نهج التفضل زائدا على ما وعده في مقابلة العمل
«أجرا عظيما» عطاء جزيلا وإنما سماه اجرا لكونه تابعا للأجر مزيدا عليه
«فكيف» محلها إما الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف وإما النصب بفعل محذوف على التشبيه بالحال كما هو رأى سيبويه أو على التشبيه بالظرف كما هو رأى الأخفش أي فكيف حال هؤلاء الكفرة من اليهود والنصارى وغيرهم أو كيف يصنعون
«إذا جئنا» يوم القيامة
من كل أمة من الأمم «بشهيد» يشهد عليهم بكا كانوا عليه من فساد العقائد وقبائح الأعمال وهو نبيهم كما في قوله تعالى «وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم» والعامل في الظرف مضمون المبتدأ والخبر من هول الأمر وعظم الشأن أو الفعل المقدر ومن متعلقة بجئنا
«وجئنا بك» يا محمد
«على هؤلاء» إشارة إلى الشهداء المدلول عليهم بما ذكر
«شهيدا» تشهد على صدقهم لعلمك بعقائدهم لاستجماع شرعك لمجامع قواعدهم وقيل إلى المكذبين المستفهم عن حالهم تشهد عليهم بالكفر والعصيان كما يشهد سائر الأنبياء على أممهم وقيل إلى المؤمنين كما في قوله تعالى «لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا» «يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول» استئناف لبيان حالهم التي أشير إلى شدتها وفظاعتها بقوله تعالى فكيف فإن أريد بهم المكذبون لرسول الله صلى الله عليه وسلم فالتعبير عنهم بالموصول لا سيما بعد الإشارة إليهم
بهولاء لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعلة ما اعتراهم من الحال الفظيعة والأمر الهائل وإيراده عليه السلام بعنوان الرسالة لتشريفة وزيادة تقبيح حال مكذبيه فإن حق الرسول أن يؤمن به ويطاع لا أن يكفر به ويعصى وإن أريد بهم جنس الكفرة فهم داخلون في زمرتهم دخولا أولياء والمراد بالرسول حينئذ الجنس المنتظم للنبي عليه السلام انتظاما أوليا وأيا ما كان ففيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال مالا يقادر قدره وقوله تعالى وعصوا عطف على كفروا داخل معه في الصلة والمراد معاصيهم المغايرة لكفرهم ففيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع في حق المؤاخذة وقيل حال من ضمير كفروا وقيل صلة لموصول آخر أي يود في ذلك اليوم الذين جمعوا بين الكفر وعصيان الرسول أو الذين كفروا وقد عصوا الرسول أو الذين كفروا والذين عصوا الرسول ولو في قوله تعالى
«لو تسوى بهم الأرض» إن جعلت مصدرية فالجملة مفعول ليود أي يودون ان يدفنوا فتسوى بهم الأرض كالموتى وقيل يودون انهم لم يبعثوا أو لم يحلقوا وكأنهم والأرض سواء وقيل تصير البهائم ترابا فيودون حالها وإن جعلت جارية على بابها فالمفعول محذوف لدلالة الجملة عليه اى يودون تسوية الأرض وجواب لو أيضا محذوف إيذانا بغاية ظهوره أي لسروا بذلك وقوله تعالى
«ولا يكتمون الله حديثا» عطف على يود أي ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم وقيل الواو للحال
178

أي يودون ان يدفنون في الأرض وهم لا يكتمون منه تعالى حديثا ولا يكذبونه بقولهم والله رنبا ما كنا مشركين إذ روى أنهم إذا قالوا ذلك ختم الله على أفواهم فتشهد عليهم جوارحهم فيشتد الامر عليهم فيتمنون أن تسوى بهم الأرض وقرئ تسوى على أن أصله تتسوى فأدغم التاء في السين وقرئ تسوى بحذف التاء الثانية يقال سويته فتسوى
«يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» لما نهوا فيما سلف عن الإشراك به تعالى نهوا ههنا عما يؤدى إليه من حيث لا يحتسبون فإنه روى أن عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه صنع طعاما وشرابا حين كانت الخمر مباحة فدعا نفرا من الصحابة رضى الله عنهم فأكلوا وشربوا حتى ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب فتقدم أحدهم ليصلى بهم فقرأ أعبد ما تعبدون فنزلت وتصدير الكلام بحر في النداء والتنبية للمبالغة في حملهم على العمل بموجب النهى عن قربان المساجد لقوله عليه السلام جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ويأباه قوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون فالمعنى لا تقيموها في حالة السكر حتى تعلموا قبل الشروع ما تقولونه إذ بتلك التجربة يظهر انهم يعلمون ما سيقرءونه في الصلاة وحمل ما تقولون على ما في الصلاة يستدعى تقدم الشروع فيها على غاية النهى وحمل العلم على ما بالقوة على معنى حتى تكونوا بحيث تعلمون ما ستقرءون في الصلاة تطويل بلا طائل لأن تلك الحيثية إنما تظهر بما ذكر من التجربة على إيثار ما تقولون على ما تقرءون حينئذ يكون عاريا عن الداعي وقيل المراد بالسكر سكر النعاس وغلبة النوم وأيا ما كان فليس مرجع النهى هو المقيد مع كأنه قيل يا أيها الذين آمنوا لا تسكروا في أوقات الصلاة وقد روى انهم كانوا بعد ما نزلت الآية لا يشربون الخمر في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون «ولا جنبا» عطف على قوله تعالى وأنتم سكارى فإنه في حيز النصب كأنه قيل لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا والجنب من أصابه الجنابة يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع لجريانه مجرى المصدر
«إلا عابري سبيل» استثناء مفرغ من أعم الأحوال محلة النصب على أنه حال من ضمير لا تقربوا باعتبار تقيده بالحال الثانية دون الأولى والعامل فيه فعل النهى أي لا تقربوا الصلاة جنبا في حال من الحوال إلا حال كونكم مسافرين على معنى أن في حالة السفر ينتهى حكم النهى لكن لا بطريق شمول النفي لجميع صورها بل بطريق نفى الشمول في الجلمة من غير دلالة على انتفاء خصوصية البعض المنتفى ولا على بقاء خصوصية
179

البعض الباقي ولا على ثبوت نقيضه لا كليا ولا جزئيا فإن الاستثناء لا يدل على ذلك عبارة نعم يشير إلى مخالفة حكم ما بعده لما قبله إشارة إجمالية يكتفى بها في المقامات الخطابية لا في إثبات الأحكام الشرعية فإن ملاك الأمر في ذلك إنما هو الدليل وقد ورد عقيبه على طريقة البيان وقيل هو صفة لجنبا على أن إلى بعني غير أي وإلا جنبا غير عابري سبيل ومن حمل الصلاة على مواضعها فسر العبور بالاجتياز بها وجوز للجنب عبور المسجد وبه قال الشافعي رحمة الله وعندنا لا يجوز ذلك إلا أن يكون الماء أو الطريق فيه وقيل إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد وكان يصيبهم الجنابة ولا يجدون ممرا إلا في المسجد فرخص لهم ذلك
«حتى تغتسلوا» غاية للنهي عن قربان الصلاة حالة الجنابة ولعل تقديم الاستثناء عليه للإيذان من أول الأمر بأن حكم النهى في هذه الصورة ليس على الإطلاق كما في صورة السكر تشويقا إلى البيان وروما لزبادة تقرره في الأذهان وفي الآية الكريمة إشارة إلى أن المصلى حقه أن يتحرز عما يلهيه ويشغل قلبه وأن يزكى نفسه عما يدنسها ولا يكتفى بأدنى مراتب التزكية عند إمكان أعاليها
«وإن كنتم مرضى» شروع في تفصيل ما أجمل في الاستئناف وبيان ما هو في حكم المستثنى من الأعذار والاقتصار فيما قبل على استثناء السفر مع مشاركة الباقي له في حكم الترخيص للإشعار بأنه العذر الغالب المنبئ عن الضرورة التي عليها يدور أمر الرخصة كأنه قيل ولا جنبا الا مضطرين وإليه مرجع ما قيل من انه جعل عابري سبيل كناية عن مطلق المعذورين والمراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا سواء كان ذلك بتعذر الوصول التي اليه أو بتعذر استعماله
«أو على سفر» عطف على مرضى أي أو كنتم على سفر ما طال أو قصر وإيراده صريحا مع سبق ذكره بطريق الاستثناء لبناء الحكم الشرعي عليه وبيان كيفيته فإن الاستثناء كما أشير اليه بمعزل من الدلالة على ثبوته فضلا عن الدلالة على كيفيته وتقديم المرض عليه للإيذان بأصالته واستقلاله بأحكام لا توجد في غيره كالاشتداد باستعمال الماء ونحوه
«أو جاء أحد منكم من الغائط» هو المكان الغائر المطمئن والمجئ منه كناية عن الحدث لأن المعتاد أن من يريده يذهب اليه ليواري شخصه عن أعين الناس وإسناد المجئ منه إلى واحد منهم من المخاطبين دونهم للتفادى عن التصريح بنسبتهم إلى ما يستحيا منه أو يستهجن التصريح به وكذلك إيثار الكناية فيما عطف عليه من قوله عز
وجل
«أو لامستم النساء» على التصريح بالجماع ونظمهما في سلك سببي سقوط الطهارة والمصير إلى التيمم مع كونهما سببي وجوبها ليس باعتبار أنفسهما بل باعتبار قيدهما المستفاد من قوله تعالى
«فلم تجدوا ماء» بل هو السبب في الحقيقة وإنما ذكرا تمهيدا له وتنبيها على أنه سبب للرخصة بعد انعقاد سبب الطهارة الصغرى والكبرى كأنه قيل أو لم تكونوا مرضى أو مسافرين بل كنتم فاقدين للماء بسبب من الأسباب مع تحقق ما يوجب استعماله وتخصيص ذكره بهذه الصورة مع أنه معتبر في صورة المرض والسفر أيضا لندرة وقوعه فيها واستغنائهما عن ذكره إما لان الجنابة معتبرة فيهما قطعا فيعلم من حكمها حكم الحدث الأصغر بدلالة النص لان تقدير النظم لا تقربوا الصلاة في حال الجناية إلا حال كونكم مسافرين فإن كنتم كذلك أو كنتم مرضى الخ وإما لما قيل من أن عموم إعواز الماء في حق المسافر غالب والعجز عن استعمال الماء القائم مقام عدمه في حق المريض مغن عن ذكره لفظا وما قيل من أن هذا القيد راجع إلى الكل وأن قيد وجوب التطهر المكنى عنه بالمجئ من الغائط والملامسة
180

معتبر في الكل مما لا يساعده النظم الكريم
«فتيمموا صعيدا طيبا» فتعمدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا قال الزجاج الصعيد وجه الأرض ترابا أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح لكان ذلك طهوره وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله وعند الشافعي رحمه الله لا بد أن يعلق باليد شئ من التراب
«فامسحوا بوجوهكم وأيديكم» أي إلى المرفقين لما روى أنه صلى الله عليه وسلم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه ولأنه بدل من الوضوء فيتقدر بقدره
«إن الله كان عفوا غفورا» تعليل للترخيص والتيسير وتقرير لهما فإن من عادته المستمرة أن يعفو عن الخاطئين ويغفر للمذنبين لا بد أن يكون ميسرا لا معسرا وقيل هو كناية عنهما فإن الترفيه والمسامحة من روادف العفو وتوابع الغفران
«ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب» كلام مستأنف مسوق لتعجيب المؤمنين من سوء حالهم والتحذير عن موالاتهم والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المؤمنين وتوجيهه إليه ههنا مع توجيهه فيما بعد إلى الكل معا للإيذان بكمال شهرة شناعة حالهم وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها والرؤية بصرية أي ألم تنظر إليهم فإنهم أحقا أن تشاهدهم وتتعجب من أحوالهم وتجويز كونها قلبية على أن إلى لتضمنها معنى الانتهاء لما فعلوه يأباه مقام تشهير شنائعهم ونظمها في سلك الأمور المشاهدة والمراد بهم أحبار اليهود روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنها نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه يثبطانهم عن الإسلام وعنه رضى الله عنه أيضا أنها نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه والمراد بالكتاب هو التوراة وحمله على جنس الكتاب المنتظم لها انتظاما أوليا تطويل للمسافة وبالذي أوتوه ما بين لهم فيها من الأحكام والعلوم التي من جملتها ما علموه من نعوت النبي صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإسلام والتعبير عنه بالنصيب المنبئ عن كونه حقا من حقوقهم التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها للإيذان بكمال ركاكة آرائهم حيث ضيعوه تضييعا وتنوينه تفخيمي مؤيد للتشنيع عليهم والتعجيب من حاله فالتعبير عنهم بالموصول للتنبيه بما في حيز الصلة على كمال شناعتهم والإشعار بمكان ما طوى ذكره في المعاملة المحكية عنهم من الهدى الذي هو أحد العوضين وكلمه من متعلقة إما بأوتوا أو بمحذوف وقع صفة لنصيبا مبينة لفخامته الإضافيه إثر بيان فخامته الذاتية أي نصيبا كائنا من الكتاب وقوله تعالى
«يشترون الضلالة» قيل هو حال مقدرة من واو أوتوا ولا ريب في أن اعتبار تقدير اشترائهم وأنت خبير بأنه خال عن إفادة أن مادة التشنيع والتعجيب هو الاشتراء المذكور وما عطف عليه والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أنه استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجيب المفهومين من صدر الكلام على وجه الإجمال والإبهام مبنى على سئوال نشأ منه كأنه قيل ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم فقيل يأخذون الضلالة ويتركون ما أوتوه من الهداية وإنما طوى المتروك لغاية ظهور الأمر لا سيما بعد الإشعار المذكور والتعبير عن ذلك بالاشتراء الذي هو عبارة عن
181

استبدال السلعة بالثمن أي أخذها بدلا منه أخذا ناشئا عن الرغبة فيها والإعراض عنه للإيذان بكمال رغبتهم في الضلالة التي حقها أن يعرض عنها كل الإعراض وإعراضهم عن الهداية التي يتنافس فيها المتنافسون وفيه من التسجيل على نهاية سخافة عقولهم وغاية ركاكة آرائهم ما لا يخفى حيث صورت حالهم بصورة ما لا يكاد يتعاطاه أحد ممن له أدنى تمييز وليس المراد بالضلالة جنسها الحاصل لهم من قبل حتى يخل بمعنى الاشتراء المنبئ عن تأخرها عنه بل هو فردها الكامل وهو عنادهم وتماديهم في الكفر بعد ما علموا بشأن النبي صلى الله عليه وسلم وتيقنوا بحقية دينه وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة ولا ريب في أن هذه الرتبة لم تكن حاصلة لهم قبل ذلك وقد مر في أوائل سورة البقرة
«ويريدون» عطف على يشترون شريك له في بيان محل التشنيع والتعجيب وصيغة المضارع فيهما للدلالة على الاستمرار التجددي فإن تجدد حكم اشترائهم المذكور وتكرر العمل بموجبه في قوة تجدد نفسه وتكرره أي لا يكتفون بضلال أنفسهم بل يريدون بما فعلوا من كتمان نعوته عليه السلام
«أن تضلوا» أنتم أيضا أيها المؤمنون
«السبيل» المستقيم الموصل إلى الحق
«والله أعلم» أي منكم
«بأعدائكم» جميعا ومن جملتهم هؤلاء وقد أخبركم بعداوتهم لكم وما يريدون بكم لتكونوا على حذر منهم ومن مخالطتهم أو هو أعلم بحالهم ومآل أمرهم والجملة معترضة
لتقرير ارادتهم المذكورة
«وكفى بالله وليا» في جميع أموركم ومصالحكم
«وكفى بالله نصيرا» في كل المواطن فثقوا به واكتفوا بولايته ونصرته ولا تتولوا ولا تبالوا بهم وبما يسومونكم من السوء فإنه تعالى يكفيكم مكرهم وشرهم ففيه وعد ووعيد والباء مزيدة في فاعل كفى لتأكيد الاتصال الإسنادي بالاتصال الإضافي وتكرير الفعل في الجملتين مع إظهار الجلالة في مقام الإضمار لا سيما في الثاني لتقوية استقلالها المناسب للإعتراض وتأكيد كفايته عز وجل في كل من الولاية والنصرة والإ شعار بعليتهما فإن الألوهية من موجباتهما لا محالة
«من الذين هادوا» قيل هو بيان لأعدائكم وما بينهما اعتراض وفيه أنه لا وجه لتخصيص علمه سبحانه بطائفة من أعدائهم لا سيما في معرض الاعتراض الذي حقه العموم والإطلاق وانتظام ما هو المقصود في المقام إنتظاما أوليا كما أشير اليه وقيل هو صلة لنصير أي ينصركم من الذين هادوا كما في قوله تعالى «فمن ينصرني من الله» وفيه ما فيه من تحجير واسع نصرته عز وجل مع أنه لا داعي إلى وضع الموصول موضع ضمير الأعداء لأن ما في حيز الصلة ليس بوصف ملائم للنصر وقيل هو خبر مبتدأ محذوف وقع قوله تعالى
«يحرفون الكلم عن مواضعه» صفة له أي من الذين هادوا قوم أو فريق يحرفون الخ وفيه أنه يقتضي كون الفريق السابق بمعزل من التحريف الذي هو المصداق لاشترائهم في الحقيقة فالذي يليق بشأن
182

التنزيل الجليل أنه بيان للموصول الأول المتناول بحسب المفهوم لأهل الكتابين قد وسط بينهما ما وسط لمزيد الاعتناء ببيان محل التشنيع والتعجيب والمسارعة إلى تنفير المؤمنين منهم وتحذيرهم عن مخالطتهم والاهتمام بحملهم على الثقة بالله عز وجل والاكتفاء بولايته ونصرته وأن قوله تعالى يحرفون وما عطف عليه بيان لإشترائهم المذكور وتفصيل لفنون ضلالتهم وقدر وعيت في النظم الكريم طريقة التفسير بعد الإبهام والتفصيل إثر الإجمال وما لزيادة تقرير يقتضيه الحال والكلم اسم جنس واحده كلمة كتمر وتمرة وتذكير ضميره باعتبار أفراده لفظا وجمعية مواضعه باعتبار تعدده معنى وقرئ بكسر الكاف وسكون اللام جمع كلمة تخفيف كلمة وقرئ يحرفون الكلام والمراد به ههنا إما ما في التوراة خاصة وإما ما هو أعم منه ومما سيحكى عنهم من الكلمات المعهودة الصادرة عنهم في أثناء المحاورة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مساغ لإرادة تلك الكلمات خاصة بأن يجعل عطف قوله تعالى
«ويقولون سمعنا وعصينا» الخ على ما قبله عطفا تفسيريا لما ستقف على سره فإن أريد به الأول كما هو رأي الجمهور فتحريفه إزالته عن مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها من التوراة كتحريفهم في نعت النبي صلى الله عليه وسلم أسمر ربعة عن موضعه في التوراة بأن وضعوا مكانه آدم طوال وكتحريفهم الرجم بوضعهم بدله الحد أو صرفه عن المعنى الذي أنزله الله تعالى فيه إلى مالا صحة له بالتأويلات الزائغة الملائمة لشهواتهم الباطلة وإن أريد به الثاني فلا بد من أن يراد بمواضعه ما يليق به مطلقا سواء كان ذلك بتعيينه تعالى صريحا كمواضع ما في التوراة أو بتعيين العقل أو الدين كمواضع غيره وأياما كان فقولهم سمعنا وعصينا ينبغي ان يجري على إطلاقه من غير تقييد بزمان أو مكان ولا تخصيص بمادة دون مادة بل وأن يحمل على ما هو أعم من القول الحقيقي ومما يترجم عنه عنادهم ومكابرتهم ليندرج فيه ما نطقت به ألسنة حالهم عند تحريف التوراة فإن من لا يتفوه بتلك العظيمة لا يكاد يتجاسر على مثل هذه الجناية وإلا فحمله على ما قالوه في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم من القبائح خاصة يستدعي اختصاص حكم الشرطية الآتية وما بعدها بهن من غير تعرض لتحريفهم التوراة مع أنه معظم جنايتهم المعدودة ومن ههنا انكشف لك السر الموعود فتأمل أي يقولون في كل أمر مخالف لأهوائهم الفاسدة سواء كان بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم أولا بلسان المقال أو الحال سمعنا وعصينا عنادا وتحقيقا للمخالفة وقوله تعالى
«واسمع غير مسمع» عطف على سمعنا وعصينا داخل تحت القول أي ويقولون ذلك في أثناء مخاطبته صلى الله عليه وسلم خاصة وهو كلام ذو وجهين محتمل للشر بأن يحمل على معنى اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أي مدعوا عليك بلا سمعت أو غير مسمع كلاما ترضاه فحينئذ يجوز أن يكون نصبه على المفعولية وللخير بأن يحمل على اسمع منا غير مسمع مكروها كانوا يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء به مظهرين له صلى الله عليه وسلم إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول مطمئنون به
«وراعنا» عطف على اسمع غير مسمع أي ويقولون في أثناء خطابهم له صلى الله عليه وسلم هذا أيضا يوردون كلا من العظائم الثلاث في مواقعها وهي أيضا كلمة ذات وجهين محتملة للخير بحملها على معنى ارقبنا وانظرنا نكلمك وللشر يحملها على السب بالرعونة أي الحمق أو بإجرائها مجرى ما يشبهها من كلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها وهي راعينا كانوا يخاطبونه صلى الله عليه وسلم بذلك ينوون الشتيمة والإهانة ويظهرون التوقير والاحترام ومصيرهم إلى مسلك النفاق في
183

القولين الأخيرين مع تصريحهم بالعصيان في الأول لما قالوا من أن جميع الكفرة كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسب ودعاء السوء وقيل كانوا يقولون الأول فيما بينهم وقيل يجوز أن لا ينطقوا بذلك ولكنهم لما لم يؤمنوا به جعلوا كأنهم نطقوا به
«ليا بألسنتهم» أي فتلا بها وصرفا للكلام عن نهجه إلى نسبة السب حيث وضعوا غير مسمع موضع لا أسمعت مكروها وأجروا راعنا المشابهة لراعينا مجرى انظرنا أو فتلا بها وضما لما يظهرونه من الدعاء والتوقير إلى ما يضمرونه من السب والتحقير
«وطعنا في الدين» أي قدحا فيه بالإستهزاء والسخرية وانتصابهما على العلية ليقولون باعتبار تعلقه بالقولين الأخيرين أي يقولون ذلك لصرف الكلام عن وجهه إلى السب والطعن في الدين أو على الحالية أي لاوين وطاعنين في الدين
«ولو أنهم» عندما سمعوا شيئا من أوامر الله تعالى ونواهيه
«قالوا» بلسان المقال أو بلسان الحال مكان قولهم سمعنا وعصينا
«سمعنا وأطعنا» إنما أعيد سمعنا مع أنه متحقق في كلامهم وإنما الحاجة إلى وضع أطعنا مكان عصينا لا للتنبيه على عدم اعتباره بل على اعتبار عدمه كيف لا وسماعهم سماع الرد ومرادهم بحكايته إعلام عصيانهم للأمر بعد سماعه والوقوف عليه فلا بد من إزالته وإقامة سماع القبول مقامه
«واسمع» أي لو قالوا عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم بدل قولهم اسمع غير مسمع اسمع
«وانظرنا» أي ولو قالوا ذلك بدل قولهم راعنا ولم يدسوا تحت كلامهم شرا وفسادا أي لو ثبت أنهم قالوا هذا مكان ما قالوا من الأقوال
«لكان» قولهم ذلك
«خيرا لهم» مما قالوا
«وأقوم» أي أعدل وأسد في نفسه وصيغة التفضيل إما على بابها واعتبار أصل الفضل في المفضل عليه بناء على اعتقادهم أو بطريق التهكم وإما بمعنى اسم الفاعل وإنما قدم في البيان حاله بالنسبة إليهم على حاله في نفسه لأن هممهم مقصورة على ما ينفعهم
«ولكن لعنهم الله بكفرهم» أي ولكن لم يقولوا ذلك واستمروا على كفرهم فخذلهم الله تعالى وأبعدهم عن الهدى بسبب كفرهم بذلك
«فلا يؤمنون» بعد ذلك
«إلا قليلا» قيل أي إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به وهو الإيمان ببعض الكتب والرسل أو إلا زمانا قليلا وهو زمان الاحتضار فإنهم يؤمنون حين لا ينفعهم الإيمان قال تعالى وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته وكلاهما ليس بإيمان قطعا وقد جوز أن يراد بالقلة العدم بالكلية على طريقة قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى أي إن كان الإيمان المعدوم إيمانا فهم يحدثون شيئا من الإيمان فهو في المعنى تعليق بالمحال وأنت خبير بأن الكل يأباه ما يعقبه من الأمر بالإيمان بالقرآن الناطق بهذا لإفضائه إلى التكليف بالمحال الذي هو إيمانهم بعدم إيمانهم المستمر أما على الوجه الأخير فظاهر واما على الأولين فلأن أمرهم بالإيمان المنجز بجميع الكتب والرسل تكليف لهم بإيمانهم بعدم إيمانهم إلى وقت الاحتضار فالوجه أن يحمل القليل على من يؤمن بعد ذلك لكن لا يجعل المستثنى منه ضمير الفاعل في لا يؤمنون لإفضائه إلى وقوع إيمان من لعنة الله تعالى وخذله مع ما فيه من نسبة القراء إلى الاتفاق على غير المختار بل بجعله ضمير المفعول في لعنهم أي ولكن لعنهم الله إلا فريقا قليلا فإنه تعالى لم يلعنهم فلم ينسد عليهم باب الإيمان وقد آمن بعد ذلك فريق من الأحبار كعبد الله بن سلام وكعب وأضرابهما كما سيأتي
184

«يا أيها الذين أوتوا الكتاب» تلوين للخطاب وتوجيه له إما إلى من حكيت أحوالهم وأقوالهم خاصة بطريق الالتفات ووصفهم تارة بإيتاء الكتاب أي التوراة وأخرى بإيتاء نصيب منها لتوفيه كل من المقامين حقه فإن المقصود فيما سبق بيان اخذهم الضلالة وإزالة ما أوتوه بمقابلتها بالتحريف وليس ما أزالوه بذلك كلها حتى يوصفوا بإيتائه بل هو بعضها فوصفوا بإيتائه وأما ههنا فالمقصود تأكيد إيجاب الامتثال بالأمر الذي يعقبه والتحذير عن مخالفته من حيث إن الإيمان بالمصدق موجب للإيمان بما يصدقه والكفر بالثاني مقتض للكفر بالأول قطعا ولا ريب في ان المحذور عندهم إنما هو لزوم الكفر بالتوراة نفسها لا ببعضها وذلك إنما يتحقق بجعل القرآن مصدقا لكلها وإن كان مناط التصديق بعضا منها ضرورة أن مصدق البعض مصدق للكل المتضمن له حتما وإما إليهم وإلى غيرهم قاطبة وهو الأظهر وأياما كان فتفصيل ما فصل لما كان من مظان إقلاع كل من الفريقين عما كانوا عليه من الضلالة عقب ذلك بالأمر بالمبادرة إلى سلوك محجة الهداية مشفوعا بالوعيد الشديد على المخالفة فقيل
«آمنوا بما نزلنا» من القرآن عبر عنه بالموصول تشريفا له بما في حيز الصلة وتحقيقا لكونه من عنده عز وجل
«مصدقا لما معكم» من التوراة عبر عنها بذلك للإيذان بكمال وقوفهم على حقيقة الحال فإن المعية المستدعية لدوام تلاوتها وتكرير المراجعة إليها من موجبات العثور على ما في تضاعيفها المؤدي إلى العلم بكون القرآن مصدقا لها ومعنى تصديقه إياها نزوله حسبما نعت لهم فيها أو كونه موافقا لها في القصص والمواعيد والدعوة إلى التوحيد والعدل بين الناس والنهي عن المعاصي والفواحش وأما ما يتراءى من مخالفته لها في جزئيات الأحكام بسبب تفاوت الأمم والأعصار فليست بمخالفة في الحقيقة بل هي عين الموافقة من حيث إن كلا منها حق بالإضافة إلى عصره متضمن للحكمة التي عليها يدور فلك التشريع حتى لو تأخر نزول المتقدم لنزل على وفق المتأخر ولو تقدم نزول المتأخر لوافق المتقدم قطعا ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي
«من قبل أن نطمس وجوها» متعلق بالأمر مفيد للمسارعة إلى الامتثال به والجد في الانتهاء عن مخالفته بما فيه من الوعيد الشديد الوارد على أبلغ وجه وآكده حيث لم يعلق وقوع المتوعد به بالمخالفة ولم يصرح بوقوعه عندها تنبيها على أن ذلك أمر محقق غني عن الإخبار به وانه على شرف الوقوع متوجه نحو المخاطبين وفي تنكير الوجوه المفيد للتكثير تهويل للخطب وفي إبهامها لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الإيمان وأصل الطمس محو الآثار وإزالة الأعلام أي آمنوا من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونزيل آثارها قال ابن عباس رضي الله عنهما نجعلها كخف البعير أو كحافر الدابة وقال قتادة والضحاك نعميها كقوله تعالى «فطمسنا أعينهم» وقيل نجعلها منابت الشعر كوجوه القردة
«فنردها على أدبارها» فنجعلها على هيئة أدبارها وأقفائها مطموسة مثلها فالفاء للتسبيب أو ننكسها بعد الطمس فنردها إلى موضع
185

الأقفاء والأقفاء إلى موضعها وقد اكتفى بذكر أشدهما فالفاء للتعقيب وقيل المراد بالوجوه الوجهاء على أن الطمس بمعنى مطلق التغيير أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارا وأدبارا أو نردهم من حيث جاءوا منه وهي أذرعات الشأم فالمراد بذلك إجلاء بني النضير ولا يخفى أنه لا يساعده مقام تشديد
الوعيد وتعميم التهديد للجميع فالوجه ما سبق من الوجوه وقد اختلف في أن الوعيد هل كان بوقوعه في الدنيا أو في الآخرة فقيل كان بوقوعه في الدنيا ويؤيده ما روى أن عبد الله ابن سلام رضي الله تعالى عنه لما قدم من الشأم وقد سمع هذه الآية أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله فأسلم وقال يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي إلى قفاي وفي رواية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويده على وجهه وأسلم وقال ما قال وكذا ما روى أن عمر رضي الله عنه قرأ هذه الآية على كعب الأحبار فقال كعب يا رب آمنت يا رب أسلمت مخافة أن يصيبه وعيدها ثم اختلفوا فقيل إنه منتظر بعد ولابد من طمس في اليهود ومسخ وهو قول المبرد وفيه أن انصراف العذاب الموعود عن أوائلهم وهم الذين باشروا أسباب نزوله وموجبات حلوله حيث شاهدوا شواهد النبوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوها وفي التوراة فحرفوها وأصروا على الكفر والضلالة وتعلق بهم خطاب المشافهة بالوعيد ثم نزوله على من وجد بعد مئات من السنين من أعقابهم الضالين بإضلالهم العالمين بما مهدوا من قوانين الغواية بعيد من حكمة الله تعالى العزيز الحكيم وقيل إن وقوعه كان مشروطا بعدم الإيمان وقد آمن من أحبارهم المذكوران وأضرابهما فلم يقع وفيه أن إسلام بعضهم إن لم يكن سببا لتأكد نزول العذاب على الباقين لتشديدهم النكير والعناد بعد ازدياد الحق وضوحا وقيام الحجة عليهم بشهادة أماثلهم العدول فلا أقل من أن لا يكون سببا لرفعه عنهم وقيل كان الوعيد بوقوع أحد الأمرين كما ينطق به قوله تعالى
«أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت» فإن لم يقع الأمر الأول فلا نزاع في وقوع الثاني كيف لا وهم ملعونون بكل لسان في كل زمان وتفسير اللعن بالمسخ ليس بمقرر البتة وأنت خبير بأن المتبادر من اللعن المشبه بلعن أصحاب السبت هو المسخ وليس في عطفه على الطمس والرد على الأدبار شائبة دلالة على عدم إرادة المسخ ضرورة أنه تغيير مغاير لما عطف عليه على أن المتوعد به لا بد أن يكون أمرا حادثا مترتبا على الوعيد محذورا عندهم ليكون مزجرة عن مخالفة الأمر ولم يعهد أنه وقع عليهم لعن بهذا الوصف إنما الواقع عليهم ما تداولته الألسنة من اللعن المستمر الذي ألفوه وهو بمعزل من صلاحية ان يكون حكما لهذا الوعيد أو مزجرة للعنيد وقيل إنما كان الوعيد بوقوع ما ذكر في الآخرة عند الحشر وسيقع فيها لا محالة أحد الأمرين أو كلاهما على سبيل التوزيع وأما ما روي عن عبد الله بن سلام وكعب فمبني على الاحتياط اللائق بشأنهما والحق أن النظم الكريم ليس بنص في أحد الوجهين بل المتبادر منه بحسب المقام هو الأول لأنه أدخل في الزجر وعليه مبني ما روي عن الحبرين لكن لما لم يتضح وقوعه علم ان المراد هو الثاني والله تعالى اعلم وأيا ما كان فلعل السر في تخصيصهم بهذه العقوبة من بين العقوبات مراعاة المشاكلة بينهما وبين ما أوجبها من جنايتهم التي هي التحريف والتغيير والله هو العليم الخبير
«وكان أمر الله» أي ما أمر به كائنا ما كان أو أمره بإيقاع شئ ما من الأشياء
«مفعولا» نافذا كائنا لا محالة فيدخل فيه ما أوعدتم به
186

دخولا أوليا فالجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق ووضع الاسم الجليل موضع الضمير بطريق الالتفات لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية ما في الاعتراض من الاستقلال
«إن الله لا يغفر أن يشرك به» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من الوعيد وتأكيد وجوب الامتثال بالأمر بالإيمان ببيان استحالة المغفرة بدونه فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون من التحريف ويطمعون في المغفرة كما في قوله تعالى «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى» أي على التحريف «ويقولون سيغفر لنا» والمراد بالشرك مطلق الكفر المنتظم لكفر اليهود انتظاما أوليا فإن الشرع قد نص على إشراك أهل الكتاب قاطبة وقضى بخلود أصناف الكفرة في النار ونزوله في حق اليهود كما قال مقاتل وهو الأنسب بسياق النظم الكريم وسياقه لا يقتضي اختصاصه بكفرهم بل يكفي اندراجه فيه قطعا بل لا وجه له أصلا لاقتضائه جواز مغفرة ما دون كفرهم في الشدة من أنواع الكفر أي لا يغفر الكفر لمن اتصف به بلا توبة وإيمان لأن الحكمة التشريعية مقتضية لسد باب الكفر وجواز مغفرته بلا إيمان مما يؤدي إلى فتحه ولأن ظلمات الكفر والمعاصي إنما يسترها نور الإيمان فمن لم يكن له إيمان لم يغفر له شيء من الكفر والمعاصي
«ويغفر ما دون ذلك» عطف على خبر إن وذلك إشارة إلى الشرك وما فيه من معنى البعد مع قربه في الذكر للإيذان ببعد درجته وكونه في أقصى مراتب القبح أي ويغفر ما دونه في القبح من المعاصي صغيرة كانت أو كبيرة تفضلا من لدنه وإحسانا من غير توبة عنها لكن لا لكل أحد بل
«لمن يشاء» أي لمن يشاء أن يغفر له ممن اتصف به فقط لا بما فوقه فإن مغفرتهما لمن اتصف بهما سواء في استحالة الدخول تحت المشيئة المبنية على الحكمة التشريعية فإن اختصاص مغفرة المعاصي من غير توبة بأهل الإيمان من الترغيب فيه والزجر عن الكفر ومن علق المشيئة بكلا الفعلين وجعل الموصول الأول عبارة عمن لم يتب والثاني عمن تاب فقد ضل سواء الصواب كيف لا وأن مساق النظم الكريم لإظهار كمال عظم جريمة الكفر وامتيازه عن سائر المعاصي ببيان استحالة مغفرته وجواز مغفرتها فلو كان الجواز على تقدير التوبة لم يظهر بينهما فرق للإجماع على مغفرتهما بالتوبة ولم يحصل ما هو المقصود من الزجر البليغ عن الكفر والطغيان والحمل على التوبة والإيمان
«ومن يشرك بالله» إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لزيادة تقبيح الإشراك وتفظيع حال من يتصف به
«فقد افترى إثما عظيما» أي افترى واختلق مرتكبا إثما لا يقادر قدره ويستحقر دونه جميع الآثام فلا تتعلق به المغفرة قطعا
«ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم» تعجيب من حالهم المنافية لما هم عليه من الكفر والطغيان والمراد بهم اليهود الذين يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وقيل ناس من اليهود جاءوا بأطفالهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا هل على هؤلاء ذنب فقال صلى الله عليه وسلم لا قالوا ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر
187

عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار أي انظر إليهم فتعجب من ادعائهم أنهم أزكياء عند الله تعالى مع ما هم عليه من الكفر والإثم العظيم أو من ادعائهم التكفير مع
استحالة أن يغفر للكافر شيء من كفره أو معاصيه وفيه تحذير من إعجاب المرء بنفسه وبعمله
«بل الله يزكي من يشاء» عطف على مقدر ينساق إليه الكلام كأنه قيل هم لا يزكونها في الحقيقة لكذبهم وبطلان اعتقادهم بل الله يزكي من يشاء تزكيته ممن يستأهلها من المرتضين من عباده المؤمنين إذ هو العليم الخبير بما ينطوي عليه البشر من المحاسن والمساوى وقد وصفهم الله بما هم متصفون به من القبائح وأصل التزكية نفى ما يستقبح بالفعل أو القول
«ولا يظلمون» عطف على جملة قد حذفت تعويلا على دلالة الحال عليها وإيذانا بأنها غنية عن الذكر أي يعاقبون بتلك الفعلة القبيحة ولا يظلمون في ذلك العقاب
«فتيلا» أي أدنى ظلم وأصغره وهو الخيط الذي في شق النواة يضرب به المثل في القلة والحقارة وقيل التقدير يثاب المزكون ولا ينقص من ثوابهم شيء أصلا ولا يساعده مقام الوعيد
«انظر كيف يفترون على الله الكذب» كيف نصب إما على التشبيه بالظرف أو بالحال على الخلاف المشهور بين سيبويه والأخفش والعامل يفترون وبه تتعلق على أي في أي حال أو على أي حال يفترون عليه تعالى الكذب والمراد بيان شناعة تلك الحال وكمال فظاعتها والجملة في محل النصب بعد نزع الخافض والنظر متعلق بها وهو تعجيب إثر تعجيب وتنبيه على أن ما ارتكبوه متضمن لأمرين عظيمين موجبين للتعجب ادعاؤهم الاتصاف بما هم متصفون بنقيضه وافتراؤهم على الله سبحانه فإن ادعاءهم الزكاء عنده تعالى متضمن لادعائهم قبول الله وارتضاءه إياهم تعالى عن ذلك علوا كبير ولكون هذا أشنع من الأول جرما وأعظم قبحا لما فيه من نسبته سبحانه وتعالى إلى ما يستحيل عليه بالكلية من قبول الكفر وارتضائه لعباده ومغفرة كفر الكافر وسائر معاصيه وجه النظر إلى كيفيته تشديدا للتشنيع وتأكيدا للتعجيب والتصريح بالكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا للمبالغة في تقبيح حالهم
«وكفى به» أي بافترائهم هذا من حيث هو افتراء عليه تعالى مع قطع النظر عن مقارنته لتزكية أنفسهم وسائر آثامهم العظام
«إثما مبينا» ظاهرا بينا كونه إثما والمعنى كفى ذلك وحده في كونهم أشد إثما من كل كفار أثيم أو في استحقاقهم لأشد العقوبات لما مر سره وجعل الضمير لزعمهم مما لا مساغ له لإخلاله بتهويل أمر الافتراء فتدبر
«ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب» تعجيب من حال أخرى لهم ووصفهم بما ذكر من إيتاء النصيب لما مر من منافاته لما صدر عنهم من القبائح وقوله عز وجل
«يؤمنون بالجبت والطاغوت» استئناف مبين لمادة التعجب مبنى على سؤال ينساق إليه الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون حين ينظر إليهم فقيل يؤمنون الخ والجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله تعالى فقيل أصله الجبس وهو الذي
188

لا خير عنده فأبدل السين تاء وقيل الجبت الساحر بلغة الحبشة والطاغوت الشيطان قيل هو في الأصل كل ما يطغى الإنسان روى أن حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف اليهوديين خرجا إلى مكة في سبعين راكبا من اليهود ليحالفوا قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم فقالوا أنتم أهل الكتاب وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلا نأمن مكركم فاسجدوا لآلهتنا نطمئن إليكم ففعلوا فهذا إيمانهم بالجبت والطاغوت لأنهم سجدوا للأصنام وأطاعوا إبليس فيما فعلوا وقال أبو سفيان لكعب أنك أمرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم فأينا اهدى طريقا نحن أم محمد فقال ماذا يقول محمد قال يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك قال ومادينكم قالوا نحن ولاة البيت نسقى الحاج ونقرئ الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم فقال أنتم أهدى سبيلا وذلك قوله تعالى
«ويقولون للذين كفروا» أي لأجلهم وفي حقهم
«هؤلاء» يعنونهم
«أهدى من الذين آمنوا سبيلا» أي أقوم دينا وأرشد طريقة وإيرادهم بعنوان الإيمان ليس من قبل القائلين بل من جهة الله تعالى تعريفا لهم بالوصف الجميل وتخطئة لمن رجح عليهم المتصفين بأقبح القبائح
«أولئك» إشارة إلى القائلين وما فيه من معنى البعد مع قربهم في الذكر للإشعار ببعد منزلتهم في الضلال وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«الذين لعنهم الله» أي أبعدهم عن رحمته وطردهم والجملة مستأنفة لبيان حالهم وإظهار مصيرهم ومآلهم
«ومن يلعن الله» أي يبعده عن رحمته
«فلن تجد له نصيرا» يدفع عنه العذاب دنيويا كان أو أخرويا لا بشفاعة ولا بغيرها وفيه تنصيص على حرمانهم مما طلبوا من قريش وفي كلمة لن وتوجيه الخطاب إلى كل أحد ممن يتسنى له الخطاب وتوحيد النصر منكرا والتعبير عن عدمه بعدم الوجدان المنبئ عن سبق الطلب مسندا إلى المخاطب العام من الدلالة على حرمانهم الأبدي بالكلية ما لا يخفى
«أم لهم نصيب من الملك» شروع في تفصيل بعض آخر من قبائحهم وأم منقطعة وما فيها من بل للإضراب والانتقال من ذمهم بتزكيتهم أنفسهم وغيرها مما حكى عنهم إلى ذمهم بادعائهم نصيبا من الملك وبخلهم المفرط وشحهم البالغ والهمزة لإنكار أن يكون لهم ما يدعونه وإبطال ما زعموا أن الملك سيصير إليهم وقوله تعالى
«فإذا لا يؤتون الناس نقيرا» بيان لعدم استحقاقهم له بل لاستحقاقهم الحرمان منه بسب أنهم من البخل والدناءة بحيث لو أوتوا شيئا من ذلك لما أعطوا الناس منه أقل قليل ومن حق من أوتى الملك أن يؤثر الغير بشئ منه فالفاء للسببية الجزائية لشرط محذوف أي إن جعل لهم نصيب منه فإذن لا يؤتون الناس مقدار ونقير وهو ما في ظهر النواة من النقرة ويضرب به المثل في القلة والحقارة وهذا هو البيان الكاشف عن كنه حالهم وإذا كان شأنهم كذلك وهم ملوك فما ظنك بهم وهو أذلاء متفاقرون ويجوز أن
لا تكون الهمزة لإنكار الوقوع بل لإنكار الواقع والتوبيخ عليه أي لعدة منكرا غير لائق بالوقوع على أن الفاء للعطف والإنكار متوجه إلى مجموع المعطوفين على معنى ألهم نصيب وافر من الملك حيث
189

كانوا أصحاب أموال وبساتين وقصور مشيدة كالملوك فلا يؤتون الناس مع ذلك نقيرا كما تقول لغنى لا يراعى أباه ألك هذا القدر من المال فلا تنفق على أبيك شيئا وفائدة إذن تأكيد الإنكار والتوبيخ حيث يجعلون ثبوت النصيب سببا للمنع مع كونه سببا للإعطاء وهى ملغاة عن العمل كأنه قيل فلا يؤتون الناس إذن وقرئ فإذن لا يؤتون بالنصيب على إعمالها
«أم يحسدون الناس» منقطعة أيضا مفيدة للانتقال من توبيخهم بما سبق إلى توبيخهم بالحسد الذي هو شر الرذائل وأقبحها لا سيما على ما هم بمعزل من استحقاقه واللام في الناس للعهد والإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وحمله على الجنس إيذانا بحيازتهم الكمالات البشرية قاطبة فكأنهم هم الناس لا غيره لا يلائمه ذكر حديث آل إبراهيم فإن ذلك لتذكير ما بين الفريقين من العلامة الموجبة لاشتراكهما في استحقاق الفضل والهزة لإنكار الواقع واستقباحه فأنهم كانوا يطمعون أن يكون النبي الموعود منهم فلما خص الله تعالى بتلك الكرامة غيرهم حسدوهم أي بل أيحسدونهم
«على ما آتاهم الله من فضله» يعنى النبوة والكتاب وازدياد العز والنصر يوما فيوما وقوله تعالى تعالى
«فقد آتينا» تعليل للإنكار والاستقباح وإلزام لهم بما هو مسلم عندهم وحسم لمادة حسدهم واستبعادهم المبنيين على توهم عدم استحقاق المحسود لما أوتى من الفضل ببيان استحقاقه له بطريق الوراثة كابرا عن كابر وإجراء الكلام على سنن الكبرياء بطريق الالتفات لإظهار كمال العناية بالأمر والمعنى أن حسدهم المذكور في غاية القبح والبطلان فإنا قد آتينا من قبل هذا
«آل إبراهيم» الذين هم أسلاف محمد صلى الله عليه وسلم أو أبناء أعمامه
«الكتاب والحكمة» أي النبوة
«وآتيناهم» مع ذلك
«ملكا عظيما» لا يقادر قدره فكيف يستبعدون نوبته صلى الله عليه وسلم ويحسدونه على إيتائها وتكرير الإيتاء لما يقتضيه مقام التفضيل مع الإشعار بما بين النبوة والملك من المغايرة فإن أريد به الإيتاء بالذات فالمراد بآل إبراهيم أنبياؤهم خاصة والضمير المنصوب في الفعل الثاني لبعضهم إما بحذف المضاف أو بطريق الاستخدام لما أن الملك لم يؤت كلهم قال ابن عباس رضى الله عنهما الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان عليهم السلام وإن أريد به ما يعمه وغيره من الإيتاء بالواسطة وهو اللائق بالمقام والأوفق لما قبله من نسبة إيتاء الفضل إلى الناس فالمراد بآل إبراهيم كلهم فإن تشريف البعض بما ذكر من إيتاء النبوة والملك تشريف للكل لاعتنائهم بآثاره واقتباسهم من أنواره وفي تفصيل ما أوتوه وتكرير الفعل ووصف الملك بالعظم وتنكيره التفخيمى منن تأكيد الإلزام وتشديد الإنكار مالا يخفى هذا هو المتبادر من النظم الكريم وإليه جنح جمهور أئمة التفسير لكن الظاهر حينئذ أن يكون قوله تعالى
«فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه» حكاية لما صدر عن أسلافهم عقيب وقع المحكى من غير ان يكون له دخل في الإلزام الذي سيق له الكلام أي فمن جنس
190

هؤلاء الحاسدين وآبائهم من آمن بما اوتى آل إبراهيم ومنهم من أعرض عنه وأما جعل الضميرين لما ذكر من حديث آل إبراهيم فيستدعى تراخى الآية الكريمة عما قبلها نزولا كيف لا وحكاية إيمانهم بالحديث المذكور وإعراضهم عنه بصيغة الماضي إنما يتصور بعد وقوع الإيمان والإعراض المتأخرين عن سماع الحديث المتأخر عن نزوله وكذا جعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ الظاهر بيان حالهم بعد هذا الإلزام وحملة على حكاية حالهم السابقة لا تساعده الفاء المرتبة لما بعدها على ما قبلها ولا يبعد كل البعد ان تكون الهمزة لتقرير حسدهم وتوبيخهم بذلك ويكون قوله تعالى فقد آتينا الآية تعليلا له بدلالته على إعراضهم عما أوتى آل إبراهيم وإن لم يذكر كونه بطريق الحسد كأنه قيل بل أيحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ولا يؤمنون به وذلك ديدنهم المستمر فإنا قد آتينا آل إبراهيم ما آتينا فمنهم أي من جنسهم من آمن بما آتيناهم ومنهم من أعرض عنه ولم يؤمن به والله سبحانه أعلم وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم
«وكفى بجهنم سعيرا» نارا مسعرة يعذبون بها والجملة تذييل لما قبلها
«إن الذين كفروا بآياتنا» إن أريد بهم الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فالمراد بالآيات إما القرآن أوما يعم كله وبعضه أو ما يعم سائر معجزاته أيضا وان أريد بهم الجنس المتناول لهم تناولا أوليا فالمراد بالآيات ما يعم المذكورات وسائر الشواهد التي أوتيها الأنبياء عليهم السلام
«سوف نصليهم نارا» قال سيبويه سوف كلمة تذكر للتهديد والوعيد وينوب عنها السين وقد يذكران في الوعد فيفيدان التأكيد اى ندخلهم نارا عظيمة هائلة
«كلما نضجت جلودهم» أي احترقت وكلما ظرف زمان والعامل فيه
«بدلناهم جلودا غيرها» من قبيل بدله بخوفه أمنا لا من قبيل يبدل الله سيئاتهم حسنات أي أعطيناهم مكان كل جلد محترق عند احتراقه جلدا جديدا مغايرا للمحترق صورة وإن كان عينه مادة بأن يزال عنه الاحتراق ليعود إحساسه للعذاب والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير نصليهم وقد جوز كونها ضفة لنارا على حذف العائد أي كلما نضجت فيها جلودهم فمعنى قوله تعالى
«ليذوقوا العذاب» ليدوم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز أعزك الله وقيل يخلق مكانه جلدا آخر والعذاب للنفس العاصية لا لآلة إدراكها قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يبدلون جلودا بيضاء كأمثال القراطيس وروى أن هذه الآية قرئت عند عمر رضى الله تعالى عنه فقال للقارئ أعدها فأعادها وكان عنده معاذ بن جبل فقال معاذ عندي
تفسيرها يبدل في ساعة مائة مرة فقال عمر رضى الله عنه هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقال الحسن تأكلهم النار كل يوم سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم عودوا فيعودون كما كانوا وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع وعن أبى هريرة أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام والتعبير عن إدراك العذاب بالذوق ليس لبيان قلته بل
191

لبيان أن أحساسهم بالعذاب في كل مرة كإحساس الذائق بالمذوق من حيث إنه لا يدخله نقصان لدوام الملابسة أو للإشعار بمرارة العذاب مع إيلامه أو للتنبيه على شدة تأثيره من حيث إن القوة الذائقة أشد الحواس تأثيرا أو على سرايته للباطن ولعل السر في تبديل الجلود مع قدرته تعالى على إبقاء إدراك العذاب وذوقه بحاله مع الاحتراق ومع إبقاء أبدانهم على حالها مصونة عن الاحتراق أن النفس ربما تتوهم زوال الإدراك بالاحتراق ولا تستبعد كل الاستبعاد أن تكون مصونه عن التألم والعذاب بصيانة بدنها عن الاحتراق
«إن الله كان عزيزا» لا يمتنع عليه ما يريده ولا يمانعه أحد
«حكيما» يعاقب من يعاقبه على وفق حكمته والجملة تعليل لما قبلها من الإصلاء والتبديل وإظهار الاسم الجليل بطريق الالتفات لتهويل الأمر وتربية المهابة وتعليل الحكم فإن عنوان الألوهية مناط لجميع صفات كماله تعالى
«والذين آمنوا وعملوا الصالحات» عقب بيان سوء حال الكفرة بيان ببيان حسن حال المؤمنين تكميلا لمساءة الأولين ومسرة الآخرين أي الذين أمنوا بآياتنا وعملوا بمقتضياتها وهو مبتدأ خبره قوله تعالى
«سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار» وقرئ سيدخلهم بالياء ردا على الاسم الجليل وفي السين تأكيد للوعد
«خالدين فيها أبدا» حال مقدرة من الضمير المنصوب في سندخلهم وقوله عز وعلا
«لهم فيها أزواج مطهرة» أي مما في نساء الدنيا من الأحوال المستقذرة البدنية والأدناس الطبيعية في محل النصب على أنه حال من جنات أو حال ثانية من الضمير المنصوب أو على انه صفة لجنات بعد صفة أو في محل الرفع على أنه خبر للموصول بعد خبر
«وندخلهم ظلا ظليلا» أي فينانا لا جوب فيه دائما لا تنسخه شمس اللهم ارزقنا ذلك بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين والظليل صفة مشتقة من لفظ الظل للتأكيد كما في ليل أليل ويوم أيوم وقرئ يدخلهم بالياء وهو عطف على سيدخلهم لا على أنه غير الإدخال الأول بالذات بل بالعنوان كما في قوله تعالى «ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ»
«إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» في تصدير الكلام بكلمه التحقيق وإظهار الاسم الجليل وإيراد الأمر على صورة الإخبار من الفخامة وتأكيد وجوب الامتثال به والدلالة على الاعتناء بشأنه ما لا مزيد عليه وهو خطاب يعم حكمه المكلفين قاطبة كما أن الأمانات تعم جميع الحقوق المتعلقة بذمهم من حقوق الله تعالى وحقوق العباد سواء كانت فعلية أو قولية أو اعتقادية وإن ورد في شأن عثمان بن طلحة ابن عبد الدار سادن الكعبة المعظمة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان رضى الله عنه باب الكعبة وصعد السطح وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم
192

أمنعه فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذه منه وفتح ودخل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت فأمر عليا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلى أكرهت وآذيت ثم جئت ترفو فقال لقد أنزل الله تعالى في شأنك قرآنا فقرأ عليه الآية فقال عثمان أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السدانة في أولاد عثمان أبدا وقرئ الأمانة على التوحيد والمراد الجنس لا المعهود وقيل هو أمر للولاة بأداء الحقوق المتعلقة بذمهم من المناصب وغيرها إلى مستحقها كما أن قوله تعالى
«وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» أمر لهم بإيصال الحقوق المتعلقة بذمم الغير إلى أصحابها وحيث كان المأمور به ههنا مختصا بوقت المرافعة قيد به بخلاف المأمور به أو لا فإنه لما لم يتعلق بوقت دون وقت أطلق إطلاقا فقوله تعالى ان تحكموا عطف على ان تؤدوا قد فصل بين العاطف والمعطوف بالظرف المعمول له عند الكوفيين والمقدر يدل هو عليه عند البصريين لأن ما بعد ان لا يعمل فيما قبلها عندهم اى وان تحكموا إذا حكمتم الخ وقوله تعالى بالعدل متعلق بتحكموا أو بمقدر وقع حالا من فاعله اى ملتبسين بالعدل والإنصاف «إن الله نعما يعظكم به» ما إما منصوبه موصوفه بيعظكم به أو مرفوعه موصوله به كأنه قيل نعم شيئا يعظكم به أو نعم الشئ الذي يعظكم به والمخصوص بالمدح محذوف اى نعما يعطكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكومات وقرئ نعما بفتح النون والجملة مستأنفه مقرره لما قبلها متضمنة لمزيد لطف بالمخاطبين وحسن استدعاء لهم إلى الامتثال بالامر واظهار الاسم الجليل لتربية المهابة «إن الله كان سميعا» لأقوالكم «بصيرا» بأفعالكم فهو وعد ووعيد واظهار الجلالة لما ذكر آنفا فإن فيه تأكيدا لكل من الوعد والوعيد
«يا أيها الذين آمنوا» بعد ما أمر الولاة بطريق العموم أو بطريق الخصوص بأداء الأمانات والعدل في الحكومات أمر سائر الناس بطاعتهم لكن لا مطلقا بل في ضمن طاعة الله تعالى وطاعة رسول اله صلى الله عليه وسلم حيث قيل
«أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» وهم أمراء الحق وولاة العدل كالخلفاء الراشدين ومن يقتدى بهم من المهتدين وأما أمراء الجور فبمعزل من استحقاق العطف على الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم في وجوب الطاعة لهم وقيل هم علماء الشرع لقوله تعالى «ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» ويأباه قوله تعالى
«فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله» إذ ليس للمقلد أن ينازع المجتهد في حكمه إلا أن يجعل الخطاب لأولى الأمر بطريق الالتفات وفيه بعد وتصدير الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بيان حكم طاعة أولى الأمر عند موافقتها لطاعة الله تعالى وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يستدعى بيان حكمها عند المخالفة أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في أمر من أمور الدين فراجعوا فيه إلى كتاب الله
«والرسول» أي إلى سنته وقد استدل
193

به منكرو القياس وهو في الحقيقة دليل على حجيته كيف لاورد المختلف فيه إلى المنصوص عليه إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه وهو المعنى بالقياس ويؤيده الأمر به بعد الأمر بطاعة الله تعالى وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يدل على أن الأحكام ثلاثة ثابت بالكتاب وثابت بالسنة وثابت بالرد إليهما بالقياس
«إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» متعلق بالأمر الأخير الوارد في محل النزاع إذ هو المحتاج إلى التحذير من المخالفة وجواب الشرط محذوف عند جمهور البصريين ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فردوه إلخ فإن الإيمان بهما يوجب ذلك إما الإيمان بالله تعالى فظاهر وأما الإيمان باليوم الآخر فلما فيه من العقاب على المخالفة
«ذلك» اى الرد المأمور به
«خير» لكم وأصلح
«وأحسن» في نفسه
«تأويلا» أي عاقبة ومآلا وتقديم خيريته لهم على أحسنيته في نفسه لما مر من تعلق أنظارهم بما ينفعهم والمراد بيان اتصافه في نفسه بالخيرية الكاملة في حد ذاته من غير اعتبار فضله على شئ يشاركه في أصل الخيرية والحسن كما ينبئ عنه التحذير السابق
«ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجيبا له من حال الذين يخالفون ما مر من الأمر المحتوم ولا يطيعون الله ولا رسوله ووصفهم بادعاء الإيمان بالقرآن وبما أنزل من قبله أعنى التوراة لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح ببيان كمال المباينة بين دعواهم وبين ما صدر عنهم وقرئ الفعلان على البناء للفاعل وقوله عز وجل «يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت» استئناف سيق لبيان محل التعجيب مبنى على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعلون فقيل يريدون الخ روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن منافقا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض به المنافق فدعاه إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال اليهودي قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرضى بقضائه فقال عمر للمنافق أهكذا قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله فنزلت فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام وقال إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت الفاروق فالطاغوت كعب بن الأشرف سمى به لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان والتسمية باسمه أو جعل اختيار التحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم على التحاكم إليه تحاكما إلى الشيطان وقال الضحاك المراد بالطاغوت كهنة اليهود وسحرتهم وعن الشعبي ان المنافق دعا خصمه إلى كاهن في جهينة فتحاكما إليه وعن السدى أن الحادثة وقعت في قتيل بين بنى قريظة والنضير فتحاكم المسلمون من الفريقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبى المنافقون منهما إلا التحاكم إلى أبى بردة الكاهن الأسلمي فتحاكموا إليه فيكون الاقتصار حينئذ
194

في معرض التعجيب والاستقباح على ذكر إرادة التحاكم دون نفسه مع وقوعه أيضا للتنبيه على ان إرادته مما يقضى منه العجب ولا ينبغي أن يدخل تحت الوقوع فما ظنك بنفسه وهذا أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة فإنه كما يقتضى كونهم من منافقى اليهود يقتضى كون ما صدر عنهم من التحاكم ظاهر المنافاة لا دعاء الإيمان بالتوراة وليس التحاكم إلى كعب بن الأشرف بهذه المثابة من الظهور وأيضا فالمتبادر من قوله تعالى
«وقد أمروا أن يكفروا به» كونهم مأمورين بكفره في الكتابين وما ذاك إلا الشيطان وأولياؤه المشهورون بولاته كالكهنة ونظائرهم لا من عداهم ممن لم يشتهر بذلك وقرئ أن يكفروا بها على أن الطاغوت جمع كما في قوله تعالى «أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم» والجملة حال من ضمير يريدون مفيدة لتأكيد التعجيب وتشديد الاستقباح كالوصف السابق وقوله عز وجل
«ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا» عطف على يريدون داخل في حكم التعجيب فإن اتباعهم لمن يريد إضلالهم وإعراضهم عمن يريد هدايتهم أعجب من كل عجيب وضلالا وإما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد كما في قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا أي إضلالا بعيدا وإما مصدر مؤكد لفعله المدلول عليه بالفعل المذكور أي فيضلوا إضلالا وأياما كان فوصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة وقوله تعالى
«وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول» تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحا عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت وقرئ تعالوا بضم اللام على أنه حذف لام الفعل تخفيفا كما في قولهم ما باليت بالة أصلها بالية كعافية وكما قالوا في آية إن أصلها أيية فحذفت اللام ووقعت واو الجمع بعد اللام في تعالى فضمت فصار تعالوا ومنه قول أهل مكة للمرأة تعالى بكسر اللام وعليه قول أبى فراس الحمداني
* أيا جارتي ما أنصف الدهر بيننا
* تعالى أقاسمك الهموم تعالى
*
«رأيت المنافقين» إظهار المنافقين في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم والرؤية بصرية وقوله تعالى
«يصدون عنك» حال من المنافقين وقيل الرؤية قلبية والجملة مفعول ثان لها والأول وهو الأنسب بظهور حالهم وقوله تعالى
«صدودا» مصدر مؤكد لفعله أي يعرضون عنك إعراضا واي إعراض وقيل هو اسم للمصدر الذي هو الصد والأظهر أنه مصدر لصد اللازم والصد مصدر للمتعدى يقال صد عنه صدودا أي أعرض عنه وصده عنه صدا أي منعه منه وقوله تعالى
«فكيف» شروع في بيان غائلة جنايتهم المحكية ووخامة عاقبتها اى كيف يكون حالهم
«إذا أصابتهم مصيبة» أي وقت إصابة المصيبة إياهم بافتضاحهم بظهور نفاقهم
«بما قدمت أيديهم» بسبب ما عملوا من الجنايات التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك
«ثم جاؤوك» للاعتذار عما صنعوا
195

من القبائح وهو عطف على أصابتهم والمراد تفظيع حالهم وتهويل مادهمهم من الخطب واعتراهم من شدة الأمر عند إصابة المصيبة وعند المجئ للاعتذار
«يحلفون بالله» حال من فاعل جاءوك
«إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا» أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الفصل بالوجه الحسن والتوفيق بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون عليه حين لا ينفعهم الندم ولا يغنى عنهم الاعتذار وقيل جاء أولياء المنافق يطلبون بدمه وقد أهدره الله تعالى فقالوا ما أردنا أي ما أراد صاحبنا المقتول بالتحاكم إلى عمر رضى الله عنه تعالى إلا أن يحسن إليه ويوفق بينه وبين خصمه
«أولئك» إشارة إلى المنافقين وما فيه من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتهم في الكفر والنفاق وهو مبتدأ خبره
«الذين يعلم الله ما في قلوبهم» أي من فنون الشرور والفسادات المنافية لما اظهروا لك من الأكاذيب
«فأعرض عنهم» جواب شرط محذوف أي إذا كان حالهم كذلك فأعرض عن قبول معذرتهم وقيل عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم ولا تهتك سترهم حتى يبقوا على وجل وحذر
«وعظهم» اى أزجرهم عن النفاق والكيد
«وقل لهم في أنفسهم» في حق أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المنطوية على الشرور التي يعلمها الله تعالى أو في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم مسارا بالنصيحة لأنها في السر انجع
«قولا بليغا» مؤثرا واصلا إلى كنه المراد مطابقا لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر وقيل متعلق ببليغا على رأى من يجيز تقديم معمول الصفة على الموصوف أي قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتنمون به اغتناما ويستشعرون منه الخوف استشعارا وهو التوعد بالقتل والاستئصال والإيذان بأن ما في قلوبهم من مكنونات الشر والنفاق غير خاف على الله تعالى وأن ذلك مستوجب لأشد العقوبات وإنما هذه المكافأة والتأخير لإظهارهم الإيمان والطاعة وإضمارهم الكفر ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق ليمسنهم العذاب إن الله شديد العقاب (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) كلام مبتدأ جئ به تمهيدا لبيان خطئهم في الاشتغال بستر جنايتهم بالاعتذار بالأباطيل وعدم تلافيها بالتوبة أي وما أرسلنا رسولا من الرسل لشئ من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى في طاعته وأمره المرسل إليهم بان يطيعوه ويتبعوه لأنه مؤد عنه تعالى فطاعته طاعة الله تعالى ومعصيته معصيته تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله أو بتيسير الله تعالى وتوفيقه في طاعته
«ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم» وعرضوها لعذاب على عذاب النفاق بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك
«جاؤوك» من غير تأخير كما يفصح عنه تقديم الظرف متوسلين بك في التنصل عن جنايتهم القديمة والحادثة ولم يزدادوا جناية على جناية بالقصد إلى سترها
196

بالاعتذار الباطل والإيمان الفاجر
«فاستغفروا الله» بالتوبة والإخلاص وبالغوا في التضرع إليك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله تعالى واستغفرت لهم وإنما قيل
«واستغفر لهم الرسول» على طريقة لالتفات تفخيما لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما لاستغفاره وتنبيها على أن شفاعته في حيز القبول
«لوجدوا الله توابا رحيما» لعلموه مبالغا في القبول توبتهم والتفضل عليهم بالرحمة وإن فسر الوجدان بالمصادفة كان قوله تعالى توابا حالا ورحيما بدل منه أو حالا من الضمير فيه وأيا ما كان ففيه فضل ترغيب للسامعين في المسارعة إلى التوبة والاستغفار ومزيد تنديم لأولئك المنافقين على ما صنعوا لما أن ظهور تباشير قبول التوبة وحصول الرحمة لهم ومشاهدتهم لآثارهما نعمة زائدة عليهما موجبة لكمال الرغبة في تحصيلها وتمام الحسرة على فواتها
«فلا وربك» أي فوربك ولا مزيده لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعنى قوله «لا يؤمنون» لأنها تزاد في الإثبات أيضا كما في قوله تعالى «فلا أقسم بمواقع النجوم» ونظائره
«حتى يحكموك» أي يتحاكموا إليك ويترافعوا إليك وإنما جئ بصيغة التحكيم مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكم بأمر الله سبحانه إيذانا بان حقهم أن يجعلوه حكما فيما بينهم
ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكما على الإطلاق
«فيما شجر بينهم» أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه
«ثم لا يجدوا» عطف على مقدر ينساق إليه الكلام اى فتقضى بينهم ثم لا يجدوا
«في أنفسهم حرجا» ضيقا
«مما قضيت» أي مما قضيت به أو من قضائك وقيل شكا من أجله إذا الشاك في ضيق من أمره
«ويسلموا» أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له
«تسليما» تأكيد للفعل بمنزلة تكريره أي تسليما تاما بظاهرهم وباطنهم يقال سلم لأمر الله وأسلم له بمعنى وحقيقته سلم نفسه له إذا جعلها سالمة له خالصة أي ينقادوا لحكمك انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم وقيل نزلت في شأن المنافق واليهودي وقيل في شان الزبير ورجل من الأنصار حين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان بها النخل فقال صلى الله عليه وسلم اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال لأن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله ثم قال اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك كان قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم مستوعب للزبير حقه في صريح الحكم ثم خرجا فمرا على المقدار بن السود فقال لمن القضاء فقال الأنصاري قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضى بينهم وأيم الله لقد اذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضى عنا فقال ثابت بن قيس بن شماس اما والله إن الله ليعلم منى الصدق لو أمرني محمد أن اقتل نفسي لقتلتها وروى انه قال ذلك ثابت وابن مسعود وعمار بن ياسر
197

رضى الله عنهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي فنزلت في شأن هؤلاء
«ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم» أي لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على نبي إسرائيل من قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتابتهم من عبادة العجل وأن مصدرية أو مفسرة لأن كتبنا في معنى أمرنا
«ما فعلوه» أي المكتوب المدلول عليه بكتبنا أو أحد مصدري الفعلين
«إلا قليل منهم» أي إلا أناس قليل منهم وهم المخلصون من المؤمنين وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد لله الذي لم يفعل بنا ذلك وقيل معنى اقتلوا أنفسكم تعرضوا بها للقتل بالجهاد وهو بعيد وقرئ إلا قليلا بالنصب على الاستثناء أو إلا فعلا قليلا
«ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به» من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته والانقياد لما يراه ويحكم به ظاهرا وباطنا وسميت أوامر الله تعالى ونواهيه مواعظ لاقترانهما بالوعد والوعيد
«لكان» أي فعلهم ذلك
«خيرا لهم» عاجلا وآجلا
«وأشد تثبيتا» لهم على الإيمان وأبعد من الاضطراب فيه وأشد تثبيتا لثواب أعمالهم
«وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما» جواب لسؤال مقدر كأنه قيل وماذا يكون لهم بعد التثبيت فقيل وإذن لو ثبتوا لآتيناهم فإن إذن جواب وجزاء
«ولهديناهم صراطا مستقيما» يصلون بسلوكه إلى عالم القدس ويفتح لهم أبواب الغيب قال صلى الله عليه وسلم من عمل بما علم ورثه الله تعالى علم ما لم يعلم
«ومن يطع الله والرسول» كلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما ينتهى إليه همم الأمم وأرفع ما يمتد إليه أعناق عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا وأرفعهم منارا متضمن لتفسير ما أبهم في جواب الشرطية السابقة وتفصيل ما أجمل فيه والمراد بالطاعة هو الانقياد التام والامتثال الكامل لجميع الأوامر والنواهي
«فأولئك» إشارة إلى المطيعين والجمع باعتبار معنى من كما أن الإفراد في فعل الشرط باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد مع القرب في الذكر للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف وهو مبتدأ خبره
«مع الذين أنعم الله عليهم» والجملة جواب الشرط وترك ذكر المنعم به للإشعار بقصور العبارة عن تفصيله وبيانه
«من النبيين» بيان للمنعم عليهم والتعرض لمعية سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع ان الكلام في بيان حكم طاعة نبينا صلى الله عليه وسلم لجريان ذكرهم في
198

سبب النزول مع ما فيه من الإشارة إلى أن طاعته صلى الله عليه وسلم متضمنة لطاعتهم لاشتمال شريعته على شرائعهم التي لا تتغير بتغير الأعصار روى أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبي الله إن صرنا إلى الجنة تفضلنا بدرجات النبوة فلا نراك وقال الشعبي جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله وهو يبكي فقال ما يبكيك يا فلان فقال يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو لأنت أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي وولدي وإني لأذكرك وأنا في أهلي فيأخذني مثل الجنون حتى أراك وذكرت موتي وإنك ترقع مع النبيين وإني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت وروى أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه فسأله رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن حاله فقال يا رسول الله ما بي من وجع غير أني إذا لم أراك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت أن لا أراك هناك لأني عرفت انك ترفع مع النبيين وإن أدخلت الجنة كنت في منزلة دون منزلك وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا فنزلت فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين وحكى ذلك عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وروى أن أنسا قال يا رسول الله الرجل يحب قوما ولما يلحق بهم قال عليه الصلاة والسلام المرء مع من أحب
«والصديقين» أي المتقدمين في تصديقهم المبالغين في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال وهم أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم المقربين كأبي بكر الصديق رضي الله عنه
«والشهداء» الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته
«والصالحين» الصارفين أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته وليس المراد بالمعية الاتحاد في الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعد ما بينهما من المسافة
«وحسن أولئك رفيقا» الرفيق الصاحب مأخوذ من الرفق وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولا وفعلا فإن جعل أولئك إشارة إلى النبيين ومن بعدهم على أن ما فيه من معنى البعد لما مر مرارا فرفيقا إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من وجهة كونهم رفقاء للمطيعين أو حال كونهم رفقاء لهم وإفراده لما أنه كالصديق والخليط والرسول يستوي فيه الواحد والمتعدد أو لأنه أريد حسن كل واحد منهم رفيقا وإن جعل إشارة إلى المطيعين فهو تمييز على معنى إنهم وصفوا بحسن الرفيق من النبيين ومن بعدهم لا بنفس الحسن فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأول والجملة تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق قيل فيه معنى التعجب كأنه قيل وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب قرئ وحسن بسكون السين
«ذلك» إشارة إلى ما للمطيعين من عظيم الأجر ومزيد الهداية ومرافقة هؤلاء المنعم عليهم أو إلى فضلهم ومزيتهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد منزلته في الشرف وهو مبتدأ وقوله تعالى
«الفضل» صفته وقوله تعالى
«من الله» خبره أي ذلك الفضل العظيم من الله
199

تعالى لا من غيره أو الفضل خبره ومن الله متعلق بمحذوف وقع حالا منه والعامل فيه معنى الإشارة أي ذلك الذي ذكر الفضل كائنا من الله تعالى لا أن أعمال المكلفين توجبه
«وكفى بالله عليما» بجزاء من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله
«يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم» الحذر والحذر واحد كالأثر والأثر والشبه والشبه أي تيقظوا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم يقال أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه وقيل هو ما يحذر به من السلاح والحزم أي استعدوا للعدو
«فانفروا» بكسر الفاء وقرئ بضمها أي اخرجوا إلى الجهاد عند خروجكم
«ثبات» جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة ووزنها في الأصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها تاء التأنيث وهل هي واو أو ياء فيه قولان قيل إنها مشتقة من ثبا يثبو كحلا يحلو أي اجتمع وقيل من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعت محاسنه ويجمع أيضا على ثبين جبرا لما حذف من عجزه ومحلها النصب على الحالية أي انفروا جماعات متفرقة سرية بعد سرية
«أو انفروا جميعا» أي مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا فتلقوا بأنفسكم إلى التهلكة
«وإن منكم لمن ليبطئن» أي ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم المؤمنين منهم والمنافقين والمبطئون منافقوهم الذين تثاقلوا وتخلفوا عن الجهاد أو ليبطئن غيره ويثبطنه من بطأ منقولا من بطؤ كثقل من ثقل كما بطأ ابن أبي ناسا يوم أحد والأول أنسب لما بعده واللام الأولى للابتداء دخلت على اسم إن للفصل بالخبر والثانية جواب قسم محذوف والقسم بجوابه صلة من والراجع إليه ما استكن في ليبطئن والتقدير وإن منكم لمن أقسم بالله ليبطئن
«فإن أصابتكم مصيبة» كقتل وهزيمة
«قال» أي المبطئ فرحا بصنعه وحامدا لرأيه
«قد أنعم الله علي» أي بالقعود
«إذ لم أكن معهم شهيدا» أي حاضرا في المعركة فيصيبني ما أصابهم والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما ان نفس التبطئة مستدعية لشئ ينتظر المبطئ وقوعه
«ولئن أصابكم فضل» كفتح وغنيمة
«من الله» متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل أي كائن من الله تعالى ونسبة إصابة الفضل إلى جناب الله تعالى دون إصابة المصيبة من العادات الشريفة
التنزيلية كما في قوله سبحانه وإذا مرضت فهو يشفين وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق وأثر نفاقهم فيها أظهر
«ليقولن» ندامة على تثبطه وقعوده وتهالكا على حطام الدنيا وتحسرا على فواته وقرئ ليقولن بضم اللام إعادة للضمير إلى معنى من وقوله تعالى
«كأن لم تكن
200

بينكم وبينه مودة» اعتراض وسط بين الفعل ومفعوله الذي هو
«يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما» لئلا يفهم من مطلع كلامه ان تمنيه لمعية المؤمنين لنصرتهم ومظاهرتهم حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على المال كما ينطق به آخره وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم وقيل الجملة التشبيهية حال من ضمير ليقولن أي ليقولن مشبها بمن لا مودة بينكم وبينه وقيل هي داخلة في المقول أي ليقولن المثبط من المنافقين وضعفه المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد مودة حيث لم يستصحبكم في الغزو حتى تفوزوا بما فاز يا ليتني كنت معهم وغرضه إلقاء العدواة بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام وتأكيدها وكأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وهو محذوف وقرئ لم يكن بالياء والمنادى في يا ليتني محذوف أي يا قوم قيا يا أطلق للتنبيه على الاتساع وقوله تعالى فأفوز نصب على جواب التمني وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فأنا أفوز في ذلك الوقت أو على أنه معطوف على كنت داخل معه تحت التمني
«فليقاتل في سبيل الله» قدم الظرف على الفاعل للاهتمام به
«الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة» أي يبيعونها بها وهم المؤمنون فالفاء جواب شرط مقدر أي إن بطأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب الآخرة أو الذين يشترونها ويختارونها على الآخرة وهم المبطئون فالفاء للتعقيب أي ليتركوا ما كانوا عليه من التثبيط والنفاق وليعقبوه بالقتال في سبيل الله
«ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه» بنون العظمة التفاتا
«أجرا عظيما» لا يقادر قدرة وتعقيب القتال بأحد الأمرين للإشعار بأن المجاهد حقه أن يوطن نفسه بإحدى الحسنيين ولا يخطر بباله القسم الثالث أصلا وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر روى أبو هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تكفل الله تعالى لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيله وتصديق كلمته أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة
«وما لكم» خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض عليه وتأكيدا لوجوبه وهو مبتدأ وخبر وقوله عز وجل
«لا تقاتلون في سبيل الله» حال عاملها ما في الظرف من معنى الفعل والاستفهام للإنكار والنفي أي أي شئ لكم غير مقاتلين أي لا عذر لكم في ترك المقاتلة
«والمستضعفين» عطف على اسم الله أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم من الأسر وصونهم عن العدو أو على السبيل بحذف المضاف أي في
201

خلاص المستضعفين ويجوز نصبه على الاختصاص فإن سبيل الله يعم أبواب الخير وتخليص ضعفه المؤمنين من أيدي الكفرة أعظمها وأخصها
«من الرجال والنساء والولدان» بيان للمستضعفين أو حال منهم وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لصد المشركين أو لضعفهم عن الهجرة مستذلين ممتهنين وإنما ذكر الولدان معهم تكميلا للاستعطاف واستجلاب المرحمة وتنبيها على تناهى ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان لإرغام آبائهم وأمهاتهم وإيذانا بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص ببيان شركتهم في التضرع إلى الله تعالى كل ذلك للمبالغة في الحث على القتال وقيل المراد بالولدان العبيد والإماء إذ يقال لهما الوليد والوليدة وقد غلب الذكور على الإناث فاطلق الولدان على الولائد أيضا
«الذين» محله الجر على أنه صفة للمستضعفين أو لما في حيز البيان أو النصب على الاختصاص «يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها» بالشرك الذي هو ظلم عظيم وبأذية المسلمين وهى مكة والظالم صفتها وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجرى على غير من هو له كان كالفعل في التذكير والتأنيث بحسب ما عمل فيه واجعل لنا من لدنك وليا كلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنييهما وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله فإن تأخير ما حقه التقديم عما هو من أحواله المرغبة فيه كما يورث شوق السامع إلى وروده ينبئ عن كمال رغبة المتكلم فيه واعتنائه بحصوله لا محالة وتقديم اللام على من للمسارعة إلى إبراز كون المسؤول نافعا لهم مرغوبا فيه لديهم ويجوز أن تتعلق كلمة من بمحذوف وقع حالا من وليا قدمت عليه لكونه نكرة وكذا الكلام في قوله تعالى
«واجعل لنا من لدنك نصيرا» قال ابن عباس رضى الله عنهما أي ول علينا واليا من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا ولقد استجاب الله عز وجل دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير ولى وأعز ناصر ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أي تول ونصرهم آية نصرة ثم استعمل عليهم عتاب بن أسيد فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها وقيل المراد واجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال
«الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله» كلام مبتدأ سيق لترغيب المؤمنين في القتال وتشجيعهم ببيان كمال قوتهم بإمداد الله تعالى ونصرته وغاية ضعف أعدائهم أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله الحق الموصل لهم إلى الله عز وجل وفي أعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة
«والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت» أي فيما يوصلهم إلى الشيطان فلا ناصر لهم سواه والفاء في قوله تعالى
«فقاتلوا أولياء الشيطان» لبيان استتباع ما قبلها لما بعدها وذكرهم بهذا العنوان للدلالة على أن ذلك نتيجة لقتالهم في سبيل الشيطان والإشعار بأن المؤمنين أولياء الله تعالى
لما أن قتالهم في سبيله وكل
202

ذلك لتأكيد رغبة المؤمنين في القتال وتقوية عزائمهم عليه فإن ولاية الله تعالى علم في العزة والقوة كما أن ولاية الشيطان مثل في الذلة والضعف كأنه قيل إذا كان الأمر كذلك فقاتلوا يا أولياء الله أولياء الشيطان ثم صرح بالتعليل فقيل
«إن كيد الشيطان كان ضعيفا» أي في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذانا بظهورها قالوا فائدة إدخال كان في أمثال هذه المواقع التأكيد ببيان أنه منذ كان كان كذلك فالمعنى إن كيد الشيطان منذ كان موصوفا بالضعف
«ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم» تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حراصا عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبئ عنه الأمر بكف الأيدي فإن ذلك مشعر بكونهم بصدد بسطها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم قال الكلبي إن جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبى وقاص الزهري رضى اله تعالى عنهم كانوا يلقون من مشركي مكة قبل الهجرة أذى شديدا فيشكون ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون أئذن لنا في قتالهم ويقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم كفوا أيديكم
«وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» فإني لم أومر بقتالهم وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصود بالذات والمعتبر في التعجيب إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهى عنه وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره على طريقة الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض وكانوا في مدة إقامتهم بمكة مستمرين على تلك الحالة فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمروا بالقتال في وقعة بدر كرهه بعضهم وشق ذلك عليه لكن لا شكا في الدين ولا رغبة بل نفورا عن الإخطار بالأرواح وخوفا من الموت بموجب الجبلة البشرية وذلك قوله تعالى
«فلما كتب عليهم القتال» الخ وهو عطف على قيل لهم كفوا أيديكم باعتبار مدلوله الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولى المعطوفين وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل ألم تر إلى الذين كانوا حراصا على القتال فلما كتب عليهم كرهه بعضهم وقوله تعالى
«إذا فريق منهم يخشون الناس» جواب لما على أن فريق مبتدأ ومنهم متعلق بمحذوف وقع صفة له ويخشون خبره وتصديره بإذا المفاجأة لبيان مسارعتهم إلى الخشية آثر ذي أثير من غير تلعثم وتردد أي فاجأ فريق منهم أن يخشوا الكفار أن يقتلوهم ولعل توجيه التعجيب إلى الكل مع صدور الخشية عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر عن أحدهم ما ينافي حالتهم الأولى وقوله تعالى
«كخشية الله» مصدر مضاف إلى المفعول محله النصب على أنه حال من فاعل يخشون أي يخشونهم مشبهين لأهل خشية الله تعالى وقوله تعالى
«أو أشد خشية» عطف عليه بمعنى أو أشد خشية من أهل
203

خشية الله أو على أنه مصدر مؤكد على جعل الخشية ذات خشية مبالغة كما في جد جده أي يخشونهم خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله وأيا ما كان فكلمه أو أما للتنويع على معنى أن خشية بعضهم كخشية الله وخشية بعضهم أشد منها وإما للإبهام على السامع وهو قريب مما في قوله تعالى وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون يعنى ان من يبصرهم يقول إنهم مائة ألف أو يزيدون
«وقالوا» عطف على جواب لما أي فلما كتب عليهم القتال فاجأ فريق منهم خشية الناس وقالوا
«ربنا لم كتبت علينا القتال» في هذا الوقت لا على وجه الاعتراض على حكمه تعالى والإنكار لإيجابه بل على طريق تمنى التخفيف
«لولا أخرتنا إلى أجل قريب» استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر حذرا من الموت وقد جوز أن يكون هذا مما نطقت به ألسنة حالهم من غير أن يتفوهوا به صريحا
«قل» أي تزهيدا لهم فيما يؤملونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيبا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي
«متاع الدنيا» أي ما يتمتع وينتفع به في الدنيا
«قليل» سريع التقضى وشيك الانصرام وإن أخرتم إلى ذلك الأجل
«والآخرة» أي ثوابها الذي من جملته الثواب المنوط بالقتال
«خير» أي لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات وإنما قيل
«لمن اتقى» حثا لهم على اتقاء العصيان والإحلال بمواجب التكليف
«ولا تظلمون فتيلا» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي تجزون فيها ولا تنقصون أدنى شئ من أجور أعمالكم التي من جملتها مسعاكم في شأن القتال فلا ترغبوا عنه والفتيل ما في شق النواة من الخيط يضرب به المثل في القلة والحقارة وقرئ يظلمون بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من
«أينما تكونوا يدرككم الموت» كلام مبتدأ مسوق من قبله تعالى بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المخاطبين اعتناء بالزامهم أثر بيان حقارة الدنيا وعلو شأن الآخرة بواسطته صلى الله عليه وسلم فلا محل له من الإعراب أو في محل النصب داخل تحت القول المأمور به اى أينما تكونوا في الحضر والسفر يدرككم الموت الذي لأجله تكرهون القتال زعما منكم أنه من مظانه وتحبون القعود عنه على زعم انه منجاه منه وفي لفظ الادراك إشعار بأنهم في الهرب من
الموت وهو مجد في طلبهم وقرئ بالرفع على حذف الفاء كما في قوله
* من يفعل الحسنات الله يشكرها
* أو على اعتبار وقوع أينما كنتم في موقع أينما تكونوا أو على أنه كلام مبتدأ وأينما تكونوا متصل بلا تظلمون أي لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم الحروب ومعارك الخطوب
«ولو كنتم في بروج مشيدة» في حصون رفيعة أو قصور محصنة وقال السدى وقتادة بروج السماء يقال شاد البناء وأشاده وشيده رفعه وقرئ مشيدة بكسر الياء وصف لها بفعل فاعلها مجازا كما في قصيدة شاعرة ومشيدة من شاد القصر إذا رفعه أو طلاه بالشيد وهو الجص وجواب لو محذوف اعتمادا على دلالة
204

ما قبله عليه أي ولو كنتم في بروج مشيدة يدرككم الموت والجملة معطوفة على أخرى مثلها أي لو لم تكونوا في بروج مشيدة ولو كنتم الخ وقد اطرد حذفها لدلالة المذكور عليها دلالة واضحة فإن الشئ إذا تحقق المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في لو الوصلية من التأكيد والمبالغة وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون
«وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله» كلام مبتدأ جئ به عقيب ما حكى عن المسلمين لما بينهما من المناسبة في اشتمالها على إسناد ما يكرهونه إلى بعض الأمور وكراهتهم له بسبب ذلك والضمير لليهود والمنافقين روى أنه كان قد بسط عليهم الرزق فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فدعاهم إلى الإيمان فكفروا أمسك عنهم بعض الإمساك فقالوا ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم هذا الرجل وأصحابه وذلك قوله تعالى
«وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك» أي وإن تصبهم نعمة ورخاء نسبوها إلى الله تعالى وإن تصبهم بلية من جدب وغلاء أضافوها إليك كما حكى عن أسلافهم بقوله تعالى «وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه» فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرد زعمهم الباطل ويرشدهم إلى الحق ويلقمهم الحجر ببيان إسناد الكل إليه تعالى على الإجمال إذ لا يجترئون على معارضة أمر الله عز وجل حيث قيل
«قل كل من عند الله» اى كل واحدة من النعمة والبلية من جهة الله تعالى خلقا وإيجادا من غير أن يكون لي مدخل في وقوع شئ منهما بوجه من الوجوه كما تزعمون بل وقوع الأولى منه تعالى بالذات تفضلا ووقوع الثانية بواسطة ذنوب من ابتلى بها عقوبة كما سيأتي بيانه فهذا الجواب المجمل في معنى ما قيل ردا على أسلافهم من قوله تعالى «ألا إنما طائرهم عند الله» أي أنما سبب خيرهم وشرهم أو سبب إصابة السيئة التي هي ذنوبهم عند الله تعالى لا عند غيره حتى يسندوها إليه ويطيروا به وقوله تعالى
«فما لهؤلاء القوم» الخ كلام معترض بين المبين وبيانه مسوق من جهته تعالى لتعييرهم بالجهل وتقبيح حالهم والتعجيب من كمال غباوتهم والفاء لترتيبه على ما قبله وقوله تعالى
«لا يكادون يفقهون حديثا» حال من هؤلاء والعامل فيها ما في الظرف من معنى الاستقرار أي وحيث كان الأمر كذلك فأي شئ حصل لهم حال كونهم بمعزل من أن يفقهوا حديثا أو استئناف مبني على سؤال نشأ من الاستفهام كأنه قيل ما بالهم وماذا يصنعون حتى يتعجب منه أو يسأل عن سببه فقيل لا يكادون يفقهون حديثا من الأحاديث أصلا فيقولون ما يقولون إذ لو فقهوا شيئا من ذلك لفهموا هذا النص وما في معناه وما هو أوضح منه من النصوص القرآنية الناطقة بان الكل فائض من عند الله تعالى وأن النعمة منه تعالى بطريق التفضل والإحسان والبلية بطريق العقوبة على ذنوب العباد لا سيما النص الوارد عليهم في صحف موسى وإبراهيم الذي وفي لا تزر وازرة وزر أخرى ولم يسندوا جناية أنفسهم إلى غيرهم وقوله تعالى
«ما أصابك من حسنة» الخ بيان للجواب المجمل المأمور به واجراؤه
205

على لسان النبي صلى الله عليه وسلم ثم سوق البيان من جهته عز وجل بطريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى كل واحد من الناس والالتفات لمزيد الاعتناء به والاهتمام برد مقالتهم الباطلة والإيذان بأن مضمونه مبنى على حكمة دقيقة حقيقية بأن يتولى بيانها علام الغيوب وتوجيه الخطاب إلى كل واحد منهم دون كلهم كما في قوله تعالى وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم للمبالغة في التحقيق بقطع احتمال سببية معصية بعضهم لعقوبة الآخرين أي ما أصابك من نعمة من النعم
«فمن الله» أي فهي منه تعالى بالذات تفصيلا وإحسانا من غير استيجاب لها من قبلك كيف لا وأن كل ما يفعله المرء من الطاعات التي يفرض كونها ذريعة إلى إصابة نعمة ما فهي بحيث لا تكاد تكافئ نعمة حياته المقارنة لأدائها ولا نعمة إقداره تعالى إياه على أدائها فضلا عن استيجابها لنعمة أخرى ولذلك قال صلى الله عليه وسلم ما أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى قيل ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا
«وما أصابك من سيئة» أي بلية من البلايا
«فمن نفسك» أي فهي منها بسبب اقترافها المعاصي الموجبة لها وإن كانت من حيث الإيجاد منتسبة إليه تعالى نازلة من عنده عقوبة كقوله تعالى «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير» وعن عائشة رضي الله عنها ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قبله وما بعده لكن لا لبيان حاله صلى الله عليه وسلم بل لبيان حال الكفرة بطريق التصوير ولعل ذلك لإظهار كمال السخط والغضب عليهم والإشعار بأنهم لفرط جهلهم وبلادتهم بمعزل من استحقاق الخطاب لا سيما بمثل هذه الحكمة الأنيقة
«وأرسلناك للناس رسولا» بيان لجلالة منصبه صلى الله عليه وسلم ومكانته عند الله عز وجل بعد بيان بطلان زعمهم الفاسد في حقه صلى الله عليه وسلم بناء على
جهلهم بشأنه الجليل وتعريف الناس للاستغراق والجار إما متعلق برسولا قدم عليه للاختصاص الناظر إلى قيد العموم اى مرسلا لكل الناس لا لبعضهم فقط كما في قوله تعالى «وما أرسلناك إلا كافة للناس» وإما بالفعل فرسولا حال مؤكدة وقد جوز أن يكون مصدرا مؤكدا كما في قوله
* لقد كذب الواشون ما فهت عندهم
* بسر ولا أرسلتهم برسول
* أي بإرسال بمعنى رسالة
«وكفى بالله شهيدا» أي على رسالتك بنصب المعجزات التي من جملتها هذا النص الناطق والوحي الصادق والالتفات لتربية المهابة وتقوية الشهادة والجملة اعتراض تذييلى
«من يطع الرسول فقد أطاع الله» بيان لأحكام رسالته صلى الله عليه وسلم إثر بيان تحققها وثبوتها وإنما كان كذلك لأن الآمر والناهي في الحقيقة هو الله تعالى وإنما هو صلى الله عليه وسلم مبلغ لأمره ونهيه فمرجع الطاعة وعدمها هو الله سبحانه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله فقال المنافقون ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك وهو ينهي أن يعبد غير الله ما يريد إلا أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فنزلت والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بالرسول دون الخطاب للإيذان بأن مناط كون طاعته صلى الله عليه وسلم طاعة له تعالى ليس خصوصية ذاته صلى الله عليه وسلم بل من حيثية رسالته وإظهار الجلالة لتربية المهابة وتأكيد وحوب الطاعة بذكر عنوان الألوهية وحمل الرسول على الجنس المنتظم له صلى الله عليه وسلم انتظاما أوليا يأباه تخصيص الخطاب
206

به صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
«ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا» وجواب الشرط محذوف والمذكور تعليل له أي ومن أعرض عن الطاعة فأعرض عنه إنما أرسلناك رسولا مبلغا لا حفيظا مهيمنا تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم بحسبها وحفيظا حال من الكاف وعليهم متعلق به قدم عليه رعاية للفاصلة وجمع الضمير باعتبار معنى من كما أن الإفراد في تولى باعتبار لفظه
«ويقولون» شروع في بيان معاملتهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بيان وجوب طاعته أي يقولون إذا أمرتهم بشئ «طاعة» أي أمرنا وشأننا طاعة أو منا طاعة والأصل النصب على المصدر والرفع للدلالة على الثبات كسلام
«فإذا برزوا من عندك» أي خرجوا من مجلسك
«بيت طائفة منهم» أي من القائلين المذكورين وهم رؤساؤهم
«غير الذي تقول» أي زورت طائفة منهم وسوت خلاف ما قالت لك من القبول وضمان الطاعة لأنهم مصرون على الرد والعصيان وإنما يظهرون ما يظهرون على وجه النفاق أو خلاف ما قلت لها والتبييت إما من البيتوتة لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل يقال هذا أمر بيت بليل وإما من بيت الشعر لأن الشاعر يدبره ويسوبه وتذكير الفعل لأن تأنيث الطائفة غير حقيقي وقرئ بادغام التاء في الطاء لقرب المخرج وإسناده إلى طائفة منهم لبيان أنهم المتصدون له بالذات والباقون أتباع لهم في ذلك لا لأن الباقين ثابتون على الطاعة
«والله يكتب ما يبيتون» أي يكتبه في جمله ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فلا يحسبوا أن مكرهم يخفى عليكم فيجدوا بذلك إلى الإصرار بكم سبيلا أو يثبته في صحائفهم فيجازيهم عليه وأيا ما كان فالجملة اعتراضية
«فأعرض عنهم» أي لا تبال بهم وبما صنعوا أو تجاف عنهم ولا تتصد للانتقام منهم والفاء لسببية ما قبلها لما بعدها
«وتوكل على الله» في كل ما تأتى وما تذر لا سيما في شأنهم وإظهار الجلالة في مقام الإضمار للإشعار بعلة الحكم
«وكفى بالله وكيلا» فيكفيك معرفتهم وينتقم لن منهم والإظهار ههنا أيضا لما مر والتنبية على استقلال الجملة واستغنائها عما عداها من كل وجه
«أفلا يتدبرون القرآن» إنكار واستقباح لعدم تدبرهم القرآن وإعراضهم عن التأمل فيما فيه من موجبات الإيمان وتدبر الشئ تأمله والنظر في أدباره وما يؤول إليه في عاقبته ومنتهاه ثم استعمل في كل تفكر ونظر والفاء للعطف على مقدر أي أيعرضون عن القرآن فلا يتأملون فيه ليعلموا كونه من عند الله تعالى بمشاهدة ما فيه من الشواهد التي من جملتها هذا الوحي الصادق والنص الناطق بنفاقهم المحكى على ما هو عليه
«ولو كان» أي القرآن
«من عند غير الله» كما يزعمون
«لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» بأن يكون بعض أخباره غير مطابق للواقع إذ لا علم با لأمور الغيبية ماضية كانت أو مستقبلة لغيره سبحانه وحيث كانت مطابقة للواقع تعين كونه من عنده تعالى قال الزجاج ولولا أنه من عند الله تعالى لكان ما فيه من الإخبار بالغيب مما يسره المنافقون وما يبيتونه مختلفا بعضه حق وبعضه
207

باطل لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى وقال أبو بكر الأصم إن هؤلاء المنافقين كانوا يتواطؤون في السر على أنواع كثيرة من الكيد والمكر وكان الله تعالى يكلع الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ويخبره بها مفصله فقيل لهم إن ذلك لو ما لم يحصل بأخبار الله تعالى لما أطرد الصدق فيه ولوقع فيه الاختلاف فلما لم يقع ذلك قط علم أنه بإعلامه تعالى هذا هو الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم وأما حمل الاختلاف على التناقض وتفاوت النظم في البلاغة بان كان بعضه دالا على معنى صحيح عند علماء
المعاني وبعضه على معنى فاسد غير ملتئم وبعضه بالغا حدا لإعجاز وبعضه قاصرا عنه يمكن معارضته كما جنح إليه الجمهور فمما لا يساعده السباق ولا السياق ومن رام التقريب وقال لعل ذكره ههنا للتنبيه على ان اختلاف ما سبق من الأحكام ليس لتناقض في الحكم بل لاختلاف في الحكم والمصالح المقتضية لذلك فقد أبعد عن الحق بمراحل «وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به» يقال أذاع السر وأذاع أي أشاعه وأفشاه وقيل معنى أذاعوا به فعلوا به الإذاعة وهو أبلغ من أذاعوه هو كلام مسوق لدفع ما عسى يتوهم في بعض المواد من شائبة الاختلاف بناء على عدم فهم المراد ببيان أن ذلك لعدم وقوفهم على معنى الكلام لا لتخلف مدلوله عنه وذلك أن ناسا من ضعفة المسلمين الذين لا خبرة لهم بالأحوال كانوا إذا أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بما أوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة يذيعونه من غير فهم لمعناه ولا ضبط لفحواه على حسب ما كانوا يفهمونه ويحملونه عليه من المحامل وعلى تقدير الفهم قد يكون ذلك مشروطا بأمور تفوت بالإذاعة فلا يظهر أثره المتوقع فيكون ذلك منشأ لتوهم الاختلاف فنعى عليهم ذلك وقيل
«ولو ردوه» أي ذلك الأمر الذي جاءهم
«إلى الرسول» أي عرضوه على راية صلى الله عليه وسلم مستكشفين لمعناه وما ينبغي له من التدبير والالتفات لما ان عنوان الرسالة من موجبات الرد والمراجعة إلى رأيه صلى الله عليه وسلم
«وإلى أولي الأمر منهم» وهم كبراء الصحابة البصراء في الأمور رضى الله تعالى عنهم
«لعلمه» أي لعلم الرادون معناه وتدبيره وإنما وضع موضع ضميرهم الموصول فقيل
«الذين يستنبطونه منهم» للإيذان بأنه ينبغي أن يكون قصدهم برده إليهم استكشاف معناه واستيضاح فحواه أي لعلمه أولئك الرادون الذين يستبطونه أي يتلقونه ويستخرجون علمه وتدبيره منهم أي من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر من صحابته رضوان الله عليهم أجمعين ولما فعلوا في حقه ما فعلوا فلم يقع ما وقع من الاشتباه وتوهم الاختلاف وقيل لعلمه الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها فكلمة من في منهم بيانية وقيل أنهم كانوا إذا بلغهم خبر عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمن وسلامة أو خوف وخلل أذاعوا به وكانت إذاعتهم مفسدة ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر لعلم تدبير ما أخبروا به الذين يستنبطونه أي بستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها وقيل
208

كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء أو على خوف فيذيعونه فينتشر فيبلغ الأعداء فتعود إذاعتهم مفسدة ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر وفوضوه إليهم وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون وما يذرون فيه وقيل كانوا يسمعون من أفواه المنافقين شيئا من الخبر عن السرايا مظنونا غير معلوم الصحة فيذيعونه فيعود ذلك وبالا على المؤمنين ولو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى أولى الأمر وقالوا نسكت حتى نسمعه منهم ونعلم هل هو مما يذاع أو لا يذاع لعلم صحته وهل مما يذاع أولا يذاع هؤلاء المذيعون وهم الذين يستنبطونه من الرسول وأولى الأمر أي يتلقونه منهم ويستخرجون علمه من جهتهم فمساق النظم الكريم حينئذ لبيان جناية تلك الطائفة وسوء تدبيرهم إثر بيان جناية المنافقين ومكرهم والخطاب في قوله تعالى
«ولولا فضل الله عليكم ورحمته» للطائفة المذكورة على طريقة الالتفات أي لولا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرشادكم إلى طريق الحق الذي هو المراجعة في مظان الاشتباه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأولى الأمر
«لاتبعتم الشيطان» وعملتم بآراء المنافقين فيما تأتون وما تذرون ولم تهتدوا إلى سنن الصواب
«إلا قليلا» وهم أولو الأمر الواقفون على أسرار الكتاب الراسخون في معرفة أحكامه فالاستثناء منقطع وقيل ولولا فضله تعالى عليكم ورحمته بإرسال الرسول وإنزال الكتاب لاتبعتم الشيطان وبقيتم على الكفر والضلالة إلا قليلا منكم قد تفضل عليه بعقل راجح اهتدى به إلى طريق الحق والصواب وعصمه من متابعة الشيطان كقس ابن ساعدة الأيادى وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وأضرابهم فالخطاب للكل والاستثناء متصل وقيل المراد بالفضل والرحمة النصرة والظفر بالأعداء أي ولولا حصول النصر والظفر على التواتر والتتابع لاتبعتم الشيطان وتركتم الدين إلا قليلا منكم وهم أولوا البصائر الناقدة والنيات القوية والعزائم الماضية من أفاضل المؤمنين الواقفين على حقية الدين البالغين إلى درجة حق اليقين المستغنين عن مشاهدة آثار حقيته من الفتح والظفر وقيل إلا اتباعا قليلا
«فقاتل في سبيل الله» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الالتفات وهو جواب شرط محذوف ينساق إليه النظم الكريم أي إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين في مراعاة أحكام الإسلام فقاتل أنت وحدك غير مكترث بما فعلوا وقوله تعالى
«لا تكلف إلا نفسك» أي إلا فعل نفسك استئناف مقرر لما قبله فإن اختصاص تكليفه صلى الله عليه وسلم بفعل نفسه من موجبات مباشرته للقتال وحده وفيه دلالة على أن ما فعلوا من التثبيط لا يضره صلى الله عليه وسلم ولا يؤاخذ به وقيل هو حال من فاعل قاتل أي فقاتل غير مكلف إلا نفسك وقرئ لا تكلف بالجزم على النهى وقيل على جواب الأمر وقرئ بنون العظمة أي لا نكلفك إلا فعل نفسك لا على معنى لا نكلف أحدا إلا نفسك
«وحرض المؤمنين» عطف على الأمر السابق داخل في حكمه فإن كون حال الطائفتين كما
209

حكى سبب للأمر بالقتال وحده وبتحريض خلص المؤمنين التحريض على الشئ الحث عليه والترغيب فيه قال الراغب كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو مالا خير فيه ولا يعتد به أي رغبهم في القتال ولا تعنف بهم وإنما لم يذكر المحرض عليه لغاية ظهوره وقوله تعالى
«عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا» عدة منه سبحانه وتعالى محققة الإنجاز بكف شدة الكفرة ومكرهم فإن ما صدر بلعل وعسى مقرر الوقوع من جهته عز وجل وقد كان كذلك حيث روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعد ابا سفيان بعد حرب أحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا ووافوا الموعد وألقى الله تعالى في قلوب الذين كفروا الرعب فرجعوا من مر الظهران وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وافى بجيشه بدرا وأقام بها ثماني ليال وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا كثيرا وقد مر في سورة آل عمران
«والله أشد بأسا» أي من قريش
«وأشد تنكيلا» أي تعذيبا وعقوبة تنكل من يشاهدها عن مباشرة ما يؤدي إليها والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبلها وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم وتقوية استقلال الجملة وتكرير الخبر لتأكيد التشديد وقوله تعالى
«من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها» أي من ثوابها جملة مستأنفة سيقت لبيان أن له صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من تحريض المؤمنين حظا موفورا فإن الشفاعة هي التوسط بالقول في وصول شخص إلى منفعة من المنافع الدنيوية أو الأخروية أو خلاصه من مضرة ما كذلك من الشفع كأن المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا والحسنة منها ما كانت في أمر مشروع روعي بها حق مسلم ابتغاء لوجه الله تعالى من غير أن يتضمن غرضا من الأغراض الدنيوية وأي منفعة أجل مما قد حصل للمؤمنين بتحريضه صلى الله عليه وسلم على الجهاد من المنافع الدنيوية والأخروية وأي مضرة أعظم مما تخلصوا منه بذلك منه بذلك من التثبط عنه ويندرج فيها الدعاء للمسلم فإنه شفاعة إلى الله سبحانه وعليه مساق آية التحية الآتية روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك وهذا بيان لمقدار النصيب الموعود
«ومن يشفع شفاعة سيئة» وهي ما كانت بخلاف الحسنة
«يكن له كفل منها» أي نصيب من وزرها مساو لها في المقدار من غير أن ينقص منه شئ
«وكان الله على كل شيء مقيتا» أي مقتدرا من أقات على الشيء إذا اقتدر عليه أو شهيدا حفيظا واشتقاقه من القوت فإنه يقوى البدن ويحفظه والجملة تذييل مقرر لما قبلها على كلا المعنيين
«وإذا حييتم بتحية» ترغيب في فرد شائع من أفراد الشفاعة الحسنة إثر ما رغب فيها على الإطلاق وحذر عما يقابلها من الشفاعة السيئة وإرشاد إلى توفية حق الشفيع وكيفية أدائه فإن تحية الإسلام من المسلم شفاعة منه لأخيه إلى الله تعالى والتحية مصدر حيى أصلها تحيية كتسمية من سمى
210

وأصل الأصل تحيي بثلاث ياءات فحذفت الأخيرة وعوض عنها تاء التأنيث وأدغمت الأولى في الثانية بعد نقل حركتها إلى الحاء قال الراغب أصل التحية الدعاء بالحياة وطولها ثم استعملت في كل دعاء وكانت العرب إذا لقي بعضهم بعضا يقول حياك الله ثم استعملها الشرع في السلام وهي تحية الإسلام قال تعالى «تحيتهم فيها سلام» وقال «تحيتهم يوم يلقونه سلام» وقال «فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله» قالوا في السلام مزية على التحية لما أنه دعاء بالسلامة من الآفات الدينية والدنيوية وهي مستلزمة لطول الحياة وليس في الدعاء بطول الحياة ذلك ولأن السلام من أسمائه تعالى فالبداءة بذكره مما لا ريب في فضله ومزيته أي إذا سلم عليكم من جهة المؤمنين
«فحيوا بأحسن منها» أي بتحية أحسن منها بأن تقولوا وعليكم السلام ورحمة الله إن اقتصر المسلم على الأول وبأن تزيدوا وبركاته إن جمعها المسلم وهي النهاية لإنتظامها لجميع فنون المطالب التي هي السلامة عن المضار ونيل المنافع ودوامها ونماؤها
«أو ردوها» أي أجيبوها بمثلها روى أن رجالا قال أحدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم السلام عليك فقال وعليك السلام ورحمة الله وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله فقال وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وقال الآخر السلام عليك ورحمة الله وبركاته فقال وعليك فقال الرجل نقصتني فأين ما قال الله تعالى وتلا الآية فقال صلى الله عليه وسلم إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله وجواب التسليم واجب وإنما التخيير بين الزيادة وتركها وعن النخعي ان السلام سنة والرد فريضة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الرد واجب وما من رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلا نزع الله منهم روح القدس وردت عليه الملائكة ولا يرد في الخطبة وتلاوة القرآن جهرا ورواية الحديث وعند دراسة العلم والأذان والإقامة ولا يسلم على لاعب النرد والشطرنج والمغني والقاعد لحاجته ومطير الحمام والعاري في الحمام وغيره قالوا ويسلم الرجل على امرأته لا على الأجنبية والسنة أن يسلم الماشي على القاعد والراكب على الماشي وراكب الفرس على راكب الحمار والصغير على الكبير والقليل على الكثير وإذا التقيا ابتدرا وعن أبي حنيفة رضي الله عنه لا يجهر بالرد يعني الجهر الكثير وعن النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم أي وعليكم ما قلتم حيث كان يقول بعضهم السلام عليكم وروى لا تبدأ اليهودي بالسلام وإذا بدأك فقل وعليك وعن الحسن أنه يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام دون الزيادة وقيل التحية بالأحسن عند كون المسلم مسلما ورد مثلها عند كونه كافرا
«إن الله كان على كل شيء حسيبا» فيحاسبكم على كل شئ من أعمالكم التي من جملتها ما أمرتم به من التحية فحافظوا على مراعاتها حسبما أمرتم به
«الله لا إله إلا هو» مبتدأ وخبر وقوله تعالى
«ليجمعنكم إلى يوم القيامة» جواب قسم محذوف أي والله ليحشرنكم من قبوركم إلى يوم القيامة وقيل إلى بمعنى في والجملة القسمية إما مستأنفة لا محل لها من الإعراب أو خبر ثان للمبتدأ أو هي الخبر ولا إله إلا هو اعتراض وقوله تعالى
«لا ريب فيه» أي في يوم القيامة أو في الجمع حال من اليوم أو صفة للمصدر أي جمعا لا ريب فيه
«ومن أصدق من الله حديثا» إنكار لأن يكون أحد أصدق منه تعالى في وعده وسائر
211

أخباره وبيان لاستحالته كيف لا والكذب محال عليه سبحانه دون غيره
«فما لكم» مبتدأ وخبر والاستفهام للإنكار والنفي والخطاب لجميع المؤمنين لكن ما فيه من معنى التوبيخ متوجه إلى بعضهم وقوله تعالى
«في المنافقين» متعلق إما بما تعلق به الخبر أي أي شئ كائن لكم فيهم أي في أمرهم وشأنهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وإما بما يدل عليه قوله تعالى
«فئتين» من معنى الافتراق أي فما لكم تفترقون في المنافقين وإما بمحذوف وقع حالا من فئتين أي كائنتين في المنافقين لأنه في الأصل صفة فلما قدمت انتصبت حالا كما هو شأن صفات النكرات على الإطلاق أو من الضمير في تفترقون وانتصاب فئتين عند البصريين على الحالية من المخاطبين والعامل ما في لكم من معنى الفعل كما في قوله تعالى «فما لهم عن التذكرة معرضين» وعند الكوفيين على خبرية كان مضمرة أي فما لكم في المنافقين كنتم فئتين والمراد إنكار أن يكون للمخاطبين شئ مصحح لاختلافهم في أمر المنافقين وبيان وجوب بت القول بكفرهم وإجرائهم مجرى المجاهرين بالكفر في جميع الأحكام وذكرهم بعنوان النفاق باعتبار وصفهم السابق روى أنهم قوم من المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البدو معتلين بإجتواء المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة فمرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلف المسلمون في امرهم وقيل هم قوم هاجروا من مكة إلى المدينة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا وقيل هم ناس اظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة وقيل هم قوم خرجوا مع الرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ثم رجعوا ويأباه ما سيأتي من جعل هجرتهم غاية للنهي عن تولهم وقيل هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرده ما سيأتي من الآيات الناطقة بكيفية المعاملة معهم من السلم والحرب وهؤلاء قد اخذوا وفعل بهم ما فعل من المثلة والقتل ولم ينقل في أمرهم اختلاف المؤمنين
«والله أركسهم» حال من المنافقين مفيدة لتأكيد الإنكار السابق واستبعاد وقوع المنكر ببيان وجود الباقي بعد بيان عدم الداعي وقيل من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو أي أي شئ يدعوكم إلى الاختلاف في كفرهم مع تحقق ما يوجب اتفاقكم على كفرهم وهو ان الله تعالى قد ردهم في الكفر كما كانوا
«بما كسبوا» بسبب ما كسبوه من الارتداد واللحوق بالمشركين والاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعائد إلى الموصول محذوف وقيل ما صدرية أي بكسبهم وقيل معنى أركسهم نكسهم بأن صيرهم للنار وأصل الركس رد الشئ مقلوبا وقرئ ركسهم مشددا وركسهم أيضا مخففا
«أتريدون أن تهدوا من أضل الله» تجريد للخطاب وتخصيص له بالقائلين بإيمانهم من الفئتين وتوبيخ لهم على زعمهم ذلك وإشعار بأنه يؤدى إلى محاولة المحال الذي هو هداية من أضله الله تعالى وذلك لأن الحكم بإيمانهم وادعاء اهتدائهم وهم بمعزل من ذلك سعى في هدايتهم وإرادة لها ووضع الموصول موضع ضمير المنافقين لتشديد الإنكار
212

وتأكيد استحالة الهداية بما ذكر في حيز الصلة وتوجيه الإنكار إلى الإرادة لا إلى متعلقها بأن يقال أتهدون الخ للمبالغة في إنكاره ببيان أنه مما لا يمكن إرادته فضلا عن إمكان نفسه وحمل الهداية والإضلال على الحكم بهما يأباه قوله تعالى
«ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا» أي ومن يخلق فيه الضلال كائنا من كان فلن تجد له سبيلا من السبل فضلا عن أن تهديه إليه وفيه من الإفصاح عن كمال الاستحالة ما ليس في قوله تعالى «ومن يضلل الله فما له من هاد» ونظائره وحمل إضلاله تعالى على حكمه وقضائه بالضلال مخل بحسن المقابلة بين الشرط والجزاء وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المخاطبين للإشعار بشمول عدم الوجدان للكل على طريق التفصيل والجملة إما حال من فاعل تريدون أو تهتدوا والرابط هو الواو أو اعتراض تذييلى مقرر للإنكار السابق ومؤكده لاستحالة الهداية فحينئذ يجوز أن يكون الخطاب لكل أحد ممن يصلح له من المخاطبين أولا ومن غيرهم
«ودوا لو تكفرون» كلام مستأنف مسوق لبيان غلوهم وتماديهم في الكفر وتصديهم لإضلال غيرهم إثر بيان كفرهم وضلالهم في أنفسهم وكلمة لو مصدرية غنية عن الجواب وهى مع ما بعدها نصب على المفعولية أي ودوا أن تكفروا وقوله تعالى
«كما كفروا» نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي كفر مثل كفرهم أو حال من ضمير ذلك المصدر كما هو رأى سيبويه وقوله تعالى
«فتكونون سواء» عطف على تكفرون داخل في حكمه أي ودوا أن تكفروا فتكونوا سواء مستوين في الكفر والضلال وقيل كلمة لو على بابها وجوابها محذوف كمفعول ودوا لتقدير ودوا كفركم لو تكفرون كما كفروا لسروا بذلك
«فلا تتخذوا منهم أولياء» الفاء جواب شرط محذوف وجمع أولياء لمراعاة جمع المخاطبين فإن المراد نهى ان يتخذ واحد من المخاطبين وليا واحدا منهم أي إذا كان حالهم ما ذكر من ودادة كفركم فلا توالوهم
«حتى يهاجروا في سبيل الله» أي حتى يؤمنوا ويحققوا إيمانهم بهجرة كائنة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لا لغرض من أغراض الدنيا
«فإن تولوا» أي عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة
«فخذوهم» أي إذا قدرتم عليهم
«واقتلوهم حيث وجدتموهم» من الحل والحرم فإن حكمهم حكم سائر المشركين أسرا وقتلا
«ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا» أي جانبوهم مجانبة كلية ولا تقبلوا منهم ولاية ولا نصرة أبدا
«إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق» استثناء من قوله تعالى «فخذوهم واقتلوهم» أي إلا الذين يتصلون وينتهون إلى قوم عاهدوكم ولم يحاربوكم وهم
الأسلميون كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت
213

خروجه من مكة قد وادع هلال بن عويمر الأسلمي على أنه لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال وقيل هم بنو بكر بن زيد مناة وقيل هم خزاعة
«أو جاؤوكم» عطف على الصلة أي أو الذين جاءوكم كافين عن قتالكم وقتال قومهم استثنى من المأمور بأخذهم وقتلهم فريقان أحدهما من ترك المحاربين ولحق بالمعاهدين والآخر من اتى المؤمنين وكف عن قتال الفريقين أو على صفة قوم كأنه قيل إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم كافين عن القتال لكم والقتال عليكم والأول هو الأظهر لما سيأتي من قوله تعالى «فإن اعتزلوكم» الخ فإنه صريح في أن كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفى التعرض لهم وقرئ جاءوكم بغير عاطف على أنه صفة بعد صفة أو بيان ليصلون أو استئناف
«حصرت صدورهم» حال بإضمار قد بدليل أنه قرئ حصرة صدورهم وحصرات صدورهم وحاصرات صدورهم وقيل صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل جاءوا أي أو جاءوكم قوما حصرت صدورهم وقيل هو بيان لجاءوكم وهم بنو مدلج جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين والحصر الضيق والانقباض
«أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم» أي من أن يقاتلوكم أو لأن يقاتلوكم أو كراهة ان يقاتلوكم الخ ولو شاء الله لسلطهم عليكم جملة مبتدأة جارية مجرى التعليل لاستثناء الطائفة الأخيرة من حكم الأخذ والقتل ونظمهم في سلك الطائفة الأولى الجارية مجرى المعاهدين مع عدم تعلقهم بنا ولا بمن عاهدونا كالطائفة الأولى أي ولو شاء الله لسلطهم عليكم ببسط صدورهم وتقوية قلوبهم وإزالة الرعب عنها
«فلقاتلوكم» عقيب ذلك ولم يكفوا عنكم واللام جواب لو على التكرير أو الإبدال من الأولى وقرئ فلقتلوكم بالخفيف والتشديد
«فإن اعتزلوكم» ولم يتعرضوا لكم
«فلم يقاتلوكم» مع ما علمتم من تمكنهم من ذلك بمشيئة الله عز وجل
«وألقوا إليكم السلم» أي الانقياد والاستسلام وقرئ بسكون اللام
«فما جعل الله لكم عليهم سبيلا» طريقا بالأسر أو بالقتل فإن مكافتهم عن قتالكم وأن يقاتلوا قومهم أيضا وإلقاءهم إليكم السلم وإن لم يعاهدوكم كافية في استحقاقهم لعدم تعرضكم لهم
«ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم» هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم ليأمنوا قومهم وقيل هم بنو عبد الدار وكان ديدنهم ما ذكر
«كل ما ردوا إلى الفتنة» أي دعوا إلى الكفر وقتال المسلمين
«أركسوا فيها» قلبوا فيها أقبح قلب وأشنعه وكانوا فيها شرا من كل عدو شرير
«فإن لم يعتزلوكم» بالكف عن التعرض لكم بوجه ما
«ويلقوا إليكم السلم» أي لم يلقوا إليكم الصلح والعهد بل نبذوه إليكم
«ويكفوا أيديهم» أي لم يكفوها عن قتالكم
«فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم» أي تمكنتم منهم
«وأولئكم» الموصوفون بما عدد من
214

الصفات القبيحة
«جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا» حجة واضحة في الإيقاع بهم قتلا وسببا لظهور عدواتهم وانكشاف حالهم في الكفر والغدر وإضرارهم بأهل الإسلام أو تسلطا ظاهرا حيث أذنا لكم في أخذهم وقتلهم
«وما كان لمؤمن» اى وما صح له ولا لاق بحاله
«أن يقتل مؤمنا» بغير حق فإن الإيمان زاجر عن ذلك
«إلا خطأ» فإنه ربما يقع لعدم دخول الاحتراز عنه بالكلية تحت الطاقة البشرية وانتصابه إما على أنه حال أي وما كان له أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ أو على أنه مفعول له أي وما كان له أن يقتله لعلة من العلل إلا للخطأ أو على أنه صفة للمصدر أي إلا قتلا خطأ وقيل إلا بمعنى ولا والتقدير وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمدا ولا خطأ وقيل ما كان نفى في معنى النهى والاستثناء منقطع أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما يذكر والخطأ مالا يقارنه القصد إلى الفعل أو إلى الشخص أولا يقصد به زهوق الروح غالبا أو لا يقصد به محظور كرمى مسلم في صف الكفار مع الجهل بإسلامه وقرئ خطأ بالمد وخطا كعصا بتخفيف الهمزة روى أن عياش بن أبى ربيعة وكان أخا أبى جهل لأمه أسلم وهاجر إلى المدينة خوفا من أهله وذلك قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا يأويها سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبى أنيسه فأتياه وهو في أطم ففتل منه أبو جهل في الذروة والغارب وقال أليس محمد يحثك على صلة الرحم انصرف وبر أمك وأنت على دينك حتى نزل وذهب معهما فلما فسحا من المدينة كتفاه وجلده فقال للحرث هذا أخي فمن أنت يا حرث لله على إن وجدتك خاليا ان أقتلك
وقدما به على أمه فحلفت لا يحل كتافه أو يرتد ففعل بلسانه ثم هاجر بعد ذلك واسلم الحرث وهاجر فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه فأنحى عليه فقتله ثم أخبر بإسلامه فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلته ولم أشعر بإسلامه فنزلت
«ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة» أي فعلية أو فموجبة تحرير رقبة أي إعتاق نسمة عبر عنها بها كما يعبر عنها بالرأس
«مؤمنة» أي محكوما بإسلامها وإن كانت صغيرة
«ودية مسلمة إلى أهله» مؤداة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث لقول ضحاك بن سفيان الكلابي كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها
«إلا أن يصدقوا» اى إلا أن يتصدق أهله عليه سمى العفو عنها صدقة حثا عليه وتنبيها على فضله وعن النبي صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وقرئ إلا أن يتصدقوا وهو متعلق بعلية أو بمسلمة أي تجب الدية أو يسلمها إلى أهله إلا وقت تصدقهم عليه فهو في محل النصب على الظرفية أو الإ حال كونهم متصدقين عليه فهو حال من الأهل أو القاتل
«فإن كان» أي المقتول
«من قوم عدو لكم» كفار محاربين
«وهو مؤمن» ولم يعلم به القاتل لكونه بين اظهر قومه
215

بأن أسلم فيما بينهم ولم يفارقهم أو بأن أتاهم بعد ما فارقهم لمهم من المهمات
«فتحرير رقبة مؤمنة» أي فعلى قاتله الكفارة دون الدية إذ لا وراثة بينه وبين أهله لأنهم محاربون
«وإن كان» أي المقتول المؤمن
«من قوم» كفرة
«بينكم وبينهم ميثاق» أي عهد مؤقت أو مؤبد
«فدية» أي فعلى قاتله دية
«مسلمة إلى أهله» من أهل الإسلام إن وجدوا ولعل تقديم هذا الحكم ههنا مع تأخيره فيما سلف للإشعار بالمسارعة إلى تسليم الدية تحاشيا عن توهم نقض الميثاق
«وتحرير رقبة مؤمنة» كما هو حكم سائر المسلمين ولعل إفراده بالذكر مع اندراجه في حكم ما سبق من قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ الخ لبيان أن كونه فيما بين المعاهدين لا يمنع وجوب الدية كما منعه كونه فيما بين المحاربين وقيل المراد بالمقتول الذمي أو المعاهد لئلا يلزم التكرار بلا فائدة ولا التوريث بين المسلم والكافر وقد عرفت عدم لزومها
«فمن لم يجد» أي رقبة ليحررها بأن لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها من الثمن
«فصيام» أي فعليه صيام
«شهرين متتابعين» لم يتخلل بين يومين من أيامهما إفطار
«توبة» نصب على أنه مفعول له أي شرع لكم ذلك توبة أي قبولا لها من تاب الله عليه إذا قبل توبته أو مصدر مؤكد لفعل محذوف أي تاب عليكم توبة وقيل على أنه حال من الضمير المجرور في عليه بحذف المضاف أي فعليه صيام شهرين ذا توبة وقوله تعالى
«من الله» متعلق بمحذوف وقع صفة لتوبة أي كائنة منه تعالى
«وكان الله عليما» بجميع الأشياء التي من جملتها حاله
«حكيما» في كل ما شرع وقضى من الشرائع والأحكام التي من جملتها ما شرعه في شأنه
«ومن يقتل مؤمنا متعمدا» لما بين حكم القتل خطأ وفصل أقسامه الثلاثة عقب ذلك ببيان القتل عمدا خلا أن حكمه الدنيوي لما بين في سورة البقرة اقتصر ههنا على حكمه الأخروي روى أن مقيس بن ضبابة الكناني وكان قد أسلم هو وأخوه هشام وجد أخاه قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له القصة فأرسل عليه السلام معه زبير بن عياض الفهري وكان من أصحاب بدر إلى بني النجار يأمرهم بتسليم القاتل إلى مقيس ليقتص منه إن علموه وبأداء الدية إن لم يعلموه فقالوا سمعا وطاعة لله تعالى ولرسوله عليه السلام ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي ديته فأتوه بمائة من الإبل فانصرفا راجعين إلى المدينة حتى إذا كانا ببعض الطريق أتي الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال أتقبل دية أخيك فيكون مسبه عليك أقتل الذي معك فيكون نفسا بنفس وفضل الدية فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه ثم ركب بعيرا من الإبل وأستاق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وهو يقول
* قتلت به فهرا وحملت عقله
* سراة بني النجار أصحاب قارع
* وأدركت ثأري وأضطجعت موسدا
* وكنت إلى الأوثان أول راجع
* فنزلت وهو الذي استثناه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح ممن آمنه فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة وقوله تعالى معتمدا حال من فاعل يقتل وروى عن الكسائي سكون التاء كأنه فر من توالي الحركات
«فجزاؤه» الذي يستحقه بجنايته
216

«جهنم» وقوله تعالى
«خالدا فيها» حال مقدرة من فاعل فعل مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل فجزاؤه أن يدخل جهنم خالدا فيها وقيل هو حال من ضمير يجزاها وقيل من مفعول جازه وأيد ذلك بأنه أنسب بعطف ما بعده عليه لموافقته له صيغة ولا يخفى أن ما يقدر للحال أو العطف عليه حقه أن يكون مما يقتضيه المقام اقتضاء ظاهرا ويدل عليه الكلام دلالة بينه وظاهر أن كون جزائه ما ذكر لا يقتضي وقوع الجزاء البتة كما ستقف عليه حتى يقدر يجزاها أو جازاه بطريق الإخبار عن وقوعه وأما قوله تعالى
«وغضب الله عليه» فعطف على مقدر يدل عليه الشرطية دلالة واضحة كأنه قيل بطريق الاستئناف تقريرا وتأكيدا لمضمونها حكم الله بأن جزاءه ذلك وغضب عليه أي انتقم منه
«ولعنه»
أي أبعده عن الرحمة بجعل جزائه ما ذكر وقيل هو وما بعده معطوف على الخبر بتقدير أن وحمل الماضي على معنى المستقبل كما في قوله تعالى «ونفخ في الصور» ونظائره أي فجزاؤه جهنم وأن يغضب الله عليه الخ
«وأعد له» في جهنم
«عذابا عظيما» لا يقادر قدره ولما ترى في الآية الكريمة من التهديد الشديد والوعيد الأكيد وفنون الإبراق والإرعاد وقد تأيدت بما روى من الأخبار الشداد كقوله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مؤمن وقوله صلى الله عليه وسلم لو أن رجلا قتل بالمشرق وآخر رضى بالمغرب لأشرك في دمه وقوله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى وبنحو ذلك من القوارع تمسكت الخوارج والمعتزلة بها في خلود من قتل المؤمن عمدا في النار ولا متمسك لهم فيها إلا لما قيل من أنها في حق المستحل كما هو رأى عكرمة وأضرابه بدليل أنها نزلت في مقيس بن ضبابة الكناني المرتد حسبما مرت حكايته فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب بل لأن المراد بالخلود هو المكث الطويل لا الدوام لتظاهر النصوص الناطقة بأن عصاة المؤمنين لا يدوم عذابهم وما روى عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا وكذا ما روى عن سفيان أن أهل العلم كانوا إذا سئلوا قالوا لا توبة له محمول على الاقتداء بسنة الله تعالى في التشديد والتغليظ وعليه يحمل ما روى عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبي الله أن يجعل لقاتل المؤمن توبة كيف لا وقد روى عن أبن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رجلا سأله القاتل المؤمن توبة قال لا وسأله آخر القاتل المؤمن توبة فقال نعم فقيل له قلت لذلك كذا ولهذا كذا قال كان الأول لم يقتل بعد فقلت ما قلت كيلا يقتل وكان هذا قد قتل فقلت له ما قلت لئلا ييأس وقد روى عنه جواز المغفرة بلا توبة أيضا حيث قال في قوله تعالى فجزاؤه جهنم الآية هي جزاؤه فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له وروى مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هو جزاؤه أن جازاه وبه قال عون بن عبد الله وبكر بن عبد الله وأبو صالح قالوا قد يقول الإنسان لمن يزجره عن أمر إن فعلته فجزاؤك القتل والضرب ثم إن لم يجازه بذلك لم يكن ذلك منه كذبا قال الواحدي والأصل في ذلك أن الله عز وجل يجوز أن يخلف الوعيد وإن أمتنع أن يخلف الوعد بهذا وردت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال من وعده الله تعالى على عمله ثوابا فهو منجزه له ومن أوعده على عمله عقابا فهو بالخيار والتحقيق أنه لا ضرورة إلى تفريع
217

ما نحن فيه على الأصل المذكور لأنه إخبار منه تعالى بأن جزاءه ذلك لا بأنه يجزيه بذلك كيف لا وقد قال الله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها ولو كان هذا إخبارا بأنه تعالى يجزي كل سيئة بمثلها لعارض قوله تعالى «ويعفو عن كثير»
«يا أيها الذين آمنوا» إثر ما بين حكم القتل بقسميه وأن ما يتصور صدوره عن المؤمن إنما هو القتل خطأ شرع في التحذير عما يؤدي إليه من قلة المبالاة في الأمور
«إذا ضربتم في سبيل الله» أي سافرتم في الغزو ولما في إذا من معنى الشرط صدر قوله تعالى
«فتبينوا» بالفاء أي فاطلبوا بيان الأمر في كل ما تأتون وما تذرون ولا تعجلوا فيه بغير تدبر وروية وقرئ فتثبتوا أي أطلبوا إثباته وقوله تعالى
«ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام» نهى عما هو نتيجة لترك المأمور به وتعيين لمادة مهمة من المواد التي يجب فيها التبيين وقرئ السلم بغير ألف وبكسر السين وسكون اللام أي لا تقولوا بغير تأمل لمن حياكم بتحية الإسلام أو لمن ألقى إليكم مقاليد الاستسلام والانقياد
«لست مؤمنا» وإنما أظهرت ما أظهرت متعوذا بل أقبلوا منه ما أظهره وعاملوه بموجبه وقرئ مؤمنا بالفتح أي مبذولا لك الأمان وهذا انسب بالقراءتين الأخرتين والاقتصار على ذكر تحية الإسلام في القراءة الأولى مع كونها مقرونة بكلمتى الشهادة كما سيأتي في سبب النزول للمبالغة في النهى والزجر والتنبيه على كمال ظهور خطئهم ببيان أن تحية الإسلام كانت كافية في المكافة والانزجار عن التعرض لصاحبها فكيف وهي مقرونة بهما وقوله تعالى
«تبتغون عرض الحياة الدنيا» حال من فاعل لا تقولوا منبئ عما يحملهم على العجلة وترك التأنى لكن لا على أن يكون النهى راجعا إلى القيد فقط كما في قولك لا تطلب العلم تبتغى به الجاه بل إليهما جميعا أي لا تقولوا له ذلك حال كونكم طالبين لماله الذي هو حطام سريع النفاذ وقوله تعالى
«فعند الله مغانم كثيرة» تعليل للنهي عن ابتغاء ماله بما فيه من الوعد الضمني كأنه قيل لا تبتغوا ماله فعند الله مغانم كثيرة يغنمكموها فيغنيكم عن ارتكاب ما ارتكبتموه وقوله تعالى
«كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم» تعليل للنهي عن القول المذكور ولعل تأخيره لما فيه من نوع تفصيل ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم مع ما فيه من مراعاة المقارنة بين التعليل السابق وبين ما علل به كما في قوله تعالى «يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم» الخ وتقديم خبر كان للقصر المفيد لتأكيد المشابهة بين طرفي التشبيه وذلك إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة والفاء في فمن للعطف على كنتم أي مثل ذلك الذي ألقى إليكم السلام كنتم أنتم أيضا في مبادى إسلامكم لا يظهر منكم للناس غير ما ظهر منه لكم من تحية الإسلام ونحوها فمن الله عليكم بأن قبل منكم تلك المرتبة وعصم بها دماءكم وأموالكم ولم يأمر بالتفحص عن سرائركم والفاء في قوله تعالى
«فتبينوا»
218

فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فاطلبوا بيان هذا الأمر البين وقيسوا حاله بحالكم وافعلوا به ما فعل بكم في أوائل أموركم من قبول ظاهر الحال من غير وقوف على تواطؤ الظاهر والباطن هذا هو الذي تقتضيه جزالة التنزيل وتستدعيه فخامة شأنه الجليل ومن حسب أن المعنى أول ما دخلتم في الإسلام سمعت من أفواهكم كلمة الشهادة فحصنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فمن الله عليكم بالاستقامة والاشتهار بالإيمان والتقدم فيه وإن صرتم أعلاما فيه فعليكم ان تفعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر الإسلام في المكافة ولا تقولوا الخ فقد أبعد عن الحق لأن المراد كما عرفت أن تحصين الدماء والأموال حكم مترتب على ما فيه المماثلة بينه وبينهم من مجرد التفوه بكلمة الشهادة وإظهار أن ترتبه عليه في حقهم يقتضى ترتبه عليه في حقه أيضا إلزاما لهم وإظهارا لخطئهم ولا يخفى أن ذلك إنما يتأتى بتفسير منه تعالى عليهم المترتب على كونهم مثله بتحصين دمائهم وأموالهم حسبما ذكر حتى يظهر عندهم وجوب تحصين دمه وماله أيضا بحكم المشاركة فيما يوجبه وحيث لم يفعل ذلك بل فسره بما فسره به لم يبق في النظم الكريم ما يدل على ترتب تحصين دمائهم وأموالهم على ما ذكر فمن أين له أن يقول فحصنت دماءكم وأموالكم حتى يتأتى البيان وارتكاب تقديره بناء على اقتضاء ما ذكر في تفسير المن إياه بناء على أساس واه كيف لا وإنما ذكره بصدد التفسير وإن كان أمرا متفرعا على ما فيه المماثلة مبنيا عليه في حقهم لكنه ليس بحكم أريد إثباته في وجوب بناء على ثبوته في حقهم كالتحصين المذكور حتى يستحق أن يتعرض له ولا بأمر له دخل في وجوب اعتبار ظاهر الإسلام من الداخلين فيه حتى يصح نظمه في سلك ما فرع عليه قوله فعليكم أن تفعلوا الخ وحمل الكلام على معنى أنكم في أول الأمر كنتم مثله في قصور الرتبة في الإسلام فمن الله عليكم وبلغتم هذه الرتبة العالية منه فلا تستقصروا حالته نظرا إلى حالتكم هذه بل اعتدوا بها نظرا إلى حالتكم السابقة يرده أن قتله لم يكن لاستقصار إسلامه بل لتوهم عدم مطابقة قلبه للسانه فإن الآية الكريمة نزلت في شأن مرداس ابن نهيك من أهل فدك وكان قد أسلم ولم يسلم من قومه غيره فغزتهم سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم غالب ابن فضالة الليثي فهربوا وبقى مرداس لثقته بإسلامه فلما رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول من الجبل وصعد فلما تلاحقوا وكبروا وأكبر وقال لا أله إلا الله محمد رسول الله السلام عليكم فقتله أسامة بن زيد واستاق غنمه فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد وجدا شديدا وقال قتلتموه إرادة ما معه فقال أسامة بن زيد إنه قال بلسانه دون قلبه وفي رواية أنما قالها خوفا من السلاح فقال صلى الله عليه وسلم هلا شققت عن قلبه وفي رواية أفلا شققت عن قلبه ثم قرأ الآية على أسامة فقال يا رسول الله استغفر لي فقال كيف بلا إله ألا الله قال أسامة فما زال صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وددت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال اعتق رقبة وقيل نزلت في رجل قال يا رسول الله كنا نطلب القوم وقد هزمهم الله تعالى فقصدت رجلا فلما أحس بالسيف قال إني مسلم فقتلته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقتلت مسلما قال إنه كان متعوذا فقال صلى الله عليه وسلم أفلا شققت عن قلبه
«إن الله كان بما تعملون» من الأعمال الظاهرة والخفية وبكيفياتها
«خبيرا» فيجازيكم بحسبها إن خيرا فخير وإن شرا فشر فلا تتهاونوا في القتل واحتاطوا فيه والجملة تعليل لما قبلها بطريق الاستئناف وقرئ بفتح
219

أن على أنها معمولة لتبينوا أو على حذف لام التعليل
«لا يستوي القاعدون» بيان لتفاوت طبقات المؤمنين بحسب تفاوت درجات مساعيهم في الجهاد بعد ما مر من الأمر به وتحريض المؤمنين عليه ليأنف القاعد عنه ويترفع بنفسه عن انحطاط رتبته فيهتزله رغبة في ارتفاع طبقته والمراد بهم الذين إذن لهم في القعود عن الجهاد اكتفاء بغيرهم قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هم القاعدون عن بدر والخارجون إليها وهو الظاهر الموافق لتاريخ النزول لا ما روى عن مقاتل من أنهم الخارجون إلى تبوك فإنه مما لا يوافقه التاريخ ولا يساعده الحال إذ لم يكن للمتخلفين يومئذ هذه الرخصة وقوله تعالى
«من المؤمنين» متعلق بمحذوف وقع حالا من القاعدين أي كائنين من المؤمنين وفائدتها الإيذان من أول الأمر بعدم إخلال وصف القعود بإيمانهم والإشعار بعلة استحقاقهم لما سيأتي من الحسنى
«غير أولي الضرر» صفة للقاعدون لجريانه مجرئ النكرة حيث لم يقصد به قوم بأعيانهم أو بدل منه وقرئ بالنصب على أنه حال منه أو استثناء وبالجر على أنه صفة للمؤمنين أو بدل منه والضرر المرض أو العاهة من عمى أو عرج أو زمانه أو نحوها وفي معناه العجز عن الأهبة عن زيد بن ثابت رضى الله تعالى عنه أنه قال كنت إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم فغشيته السكينة فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سرى عنه فقال اكتب فكتبت لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فقال ابن أم مكتوم وكان أعمى يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين فغشيته السكينة كذلك ثم سرى عنه فقال اكتب «لا» يستوى القاعدون
من المؤمنين غير أولى الضرر
«والمجاهدون» إيرادهم بهذا العنوان دون الخروج المقابل لوصف المعطوف عليه كما وقع في عبارة ابن عباس رضى الله تعالى عنهما وكذا تقييد المجاهدة بكونها
«في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم» لمدحهم بذلك والإشعار بعلة استحقاقهم لعلو المرتبة مع ما فيه من حسن موقع السبيل في مقابلة القعود وتقديم القاعدين في الذكر والإيذان من أول الأمر بان القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء من جهتهم لا من جهة مقابليهم فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادة ونقصانا وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد لكن المتبادر اعتباره بحسب قصور القاصر وعليه قوله تعالى «هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور» إلى غير ذلك وإما قوله تعالى «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» فلعل تقديم الفاضل فيه لأن صلته ملكة لصلة المفضول وقوله عز وجل
«فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة» استئناف مسوق لتفضيل ما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم استوائهما إجمالا ببيان كيفيته وكميته مبنى على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل كيف وقع ذلك فقيل الله الخ وأما تقدير ما لهم لا يستوون فإنما يليق بجعل الاستئناف
220

تعليلا لعدم الاستواء مسوقا لإثباته وفيه تعكيس ظاهر فإن الذي يحق أن يكون مقصودا بالذات إنما هو بيان تفاضل الفريقين على درجات متفاوتة وأما عدم استوائهما فقصارى أمره أن يكون توطئه لذكره ولام المجاهدين والقاعدين للعهد فقيد كون الجهاد في سبيل الله معتبر في الأول كما أن قيد عدم الضرر معتبر في الثاني ودرجة نصب على المصدرية لوقوعها موقع المرة من التفضيل أي فضل الله تفضيله أو على نزع الخافض أي بدرجة وقيل على التمييز وقيل على الحالية من المجاهدين أي ذوي درجة وتنوينها للتفخيم وقوله تعالى
«وكلا» مفعول أول لما يعقبه قدم عليه لإفادة القصر تأكيدا للوعد أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين
«وعد الله الحسنى» أي المثوبة الحسنى وهي الجنة لا أحدهما فقط كما في قوله تعالى وأرسلناك للناس رسولا على أن اللام متعلقة برسولا والجملة اعتراض جئ به تداركا لما عسى يوهمه تفضيل أحد الفريقين على الآخر من حرمان المفضول وقوله عز وجل
«وفضل الله المجاهدين على القاعدين» عطف على قوله تعالى فضل الله الخ واللام في الفريقين مغنية لهما عن ذكر القيود التي تركت على سبيل التدريج وقوله تعالى
«أجرا عظيما» مصدر مؤكد لفضل على انه بمعنى اجر وإيثار على ما هو مصدر من فعله للإشعار بكون ذلك التفضيل أجرا لأعمالهم أو مفعول ثان له بتضمينه معنى الإعطاء أي أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما وقيل هو منصوب بنزع الخافض أي فضلهم بأجر عظيم وقوله تعالى
«درجات» بدل من أجرا بدل الكل مبين لكمية التفضيل وقوله تعالى
«منه» متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات دالة على فخامتها وجلالة قدرها أي درجات كائنة منه تعالى قال ابن محير يزهي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمر سبعين خريفا وقال السدى هي سبعمائة درجة وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن في الجنة مائة درجة أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ويجوز أن يكون انتصاب درجات على المصدرية كما في قولك ضربه أسواطا أي ضربات كأنه قيل فضلهم تفضيلات وقوله تعالى
«ومغفرة» بدل من أجرا بدل البعض لأن بعض الأجر ليس من باب المغفرة أي مغفرة لما يفرط منهم من الذنوب التي لا سائر الحسنات التي يأتي بها القاعدون أيضا حتى تعد من خصائصهم وقوله تعالى
«ورحمة» بدل الكل من أجرا مثل درجات ويجوز أن يكون انتصابهما بإضمار فعلهما أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة هذا ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة وتقييده تارة بدرجة وأخرى بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه حسبما يقتضيه الكلام ويستدعيه حسن النظام إما لتنزيل الاختلاف العنواني بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزله الاختلاف الذاتي تمهيدا لسلوك طريق الإبهام ثم التفسير روما لمزيد التحقيق والتقرير كما في قوله تعالى فلما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ كأنه قيل فضل الله المجاهدين على القاعدين درجة لا يقادر قدرها ولا يبلغ كنهها وحيث كان تحقق هذا البون البعيد بينهما موهما لحرمان القاعدين قيل وكلا وعد الله الحسنى ثم أريد تفسير ما أفاده
221

التنكير بطريق الإبهام بحيث يقطع احتمال كونه للوحدة فقيل ما قيل ولله در شأن التنزيل وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات على أن المراد بالتفضيل الأول ما خولهم الله تعالى عاجلا في الدنيا من الغنيمة والظفر والذكر الجميل الحقيق بكونه درجة واحدة وبالتفضيل الثاني ما أنعم به في الآخرة من الدرجات العالية الفائتة للحصر كما ينبئ عنه تقديم الأول وتأخير الثاني وتوسيط الوعد بالجنة بينهما كأنه قيل وفضلهم عليهم في الدنيا درجة واحدة وفي الآخرة درجات لا تحصى وقد وسط بينهما في الذكر ما هو متوسط بينهما في الوجود أعني الواعد بالجنة توضيحا لحالهما ومسارعة إلى تسلية المفضول والله سبحانه اعلم هذا ما بين المجاهدين وبين القاعدين غير أولى الضرر وأما أولوا الضرر فهم مساوون للمجاهدين عند القائلين بمفهوم الصفة وبأن الاستثناء من النفي إثبات وأما عند من لا يقول بذلك فلا دلالة لعبارة النص عليه وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد خلفتم في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم وهم الذين صحت نياتهم ونصحت جيوبهم وكانت أفئدتهم تهوى إلى الجهاد وبهم ما يمنعهم من المسير من ضرار أو غيره وبعبارة أخرى إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه قالوا يا رسول الله وهم بالمدينة قال نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر قالوا هذه المساواة مشروطة بشريطة أخرى سوى الضرر قذ ذكرت في قوله تعالى «ليس على الضعفاء ولا على المرضى» إلى قوله «إذا نصحوا لله ورسوله» وقيل القاعدون الأول هم الأضراء والثاني غيرهم وفيه من تفكيك النظم الكريم ما لا
يخفى ولا ريب في أن الأضراء من غيرهم درجة كما لا ريب في أنهم دون المجاهدين بحسب الدرجة الدنيوية
«وكان الله غفورا رحيما» تذليل مقرر لما وعد من المغفرة والرحمة
«إن الذين توفاهم الملائكة» بيان لحال القاعدين عن الهجرة إثر بيان حال القاعدين عن الجهاد وتوفاهم يحتمل أن يكون ماضيا ويؤيده قرأ توفتهم وأن يكون مضارعا قد حذف منه احدى التاءين واصله تتوفاهم على حكاية الحال الماضية والقصد إلى استحضار صورتها ويعضده قراءة من قرأ توفاهم على مضارع وفيت بمعنى أن الله تعالى يوفى الملائكة أنفسهم فيتوفونها أي يمكنهم من استيفائها فيستوفونها
«ظالمي أنفسهم» حال من ضمير توفاهم فإنه وإن كان مضافا إلى المعرفة الا أنه نكرة في الحقيقة لأن المعنى على الانفصال وان كان موصولا في اللفظ كما في قولة تعالى غير محلى الصيد وهديا بالغ الكعبة وثاني عطفه أي محلين الصيد وبالغا الكعبة وثانيا عطفه كأنه قيل ظالمين أنفسهم وذلك بترك الهجرة واختيار مجاورة الكفرة الموجبة للإخلال بأمور الدين فإنها نزلت في ناس من مكة قد اسلموا ولم يهاجروا حين كانت الهجرة فريضة
«قالوا» أي الملائكة للمتوفين تقريرا لهم بتقصيرهم في إظهار إسلامهم وإقامة احكامه من الصلاة ونحوها وتوبيخها لهم بذلك
«فيم كنتم» أي في أي شئ كنتم من أمور دينكم
«قالوا» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية سؤال الملائكة كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا متجانفين عن الإقرار
222

الصريح بما هم فيه من التقصير متعللين بما يوجبه على زعمهم
«كنا مستضعفين في الأرض» أي في أرض مكة عاجزين عن القيام بمواجب الدين فيما بين أهلها
«قالوا» إبطالا لتعللهم وتبكيتا لهم
«ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها» إلى قطر آخر منها تقدرون فيه على إقامة أمور الدين كما فعله من هاجر إلى المدينة وإلى الحبشة وأما حمل تعللهم على إظهار العجز عن الهجرة وجعل جواب الملائكة تكذيبا لهم في ذلك فيردوه أن سبب العجز عنها لا ينحصر في فقدان دار الهجرة بل قد يكون لعدم الاستطاعة للخروج بسب الفقر أو لعدم تمكين الكفرة منه فلا يكون بيان سعة الأرض تكذيبا لهم وردا عليهم بل لا بد من بيان استطاعتهم أيضا حتى يتم التبكيت وقيل كانت الطائفة المذكورة قد خرجوا مع المشركين إلى بدر منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما فقتلوا فيها فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم وقالوا لهم ما قالوا فيكون ذلك منهم تقريعا وتوبيخا لهم بما كانوا فيه من مساعدة الكفرة وانتظامهم في عسكرهم ويكون جوابهم بالاستضعاف تعللا بأنهم كانوا مقهورين تحت أيديهم وأنهم أخرجوا كارهين فرد عليهم بأنهم كانوا بسبيل من الخلاص عن قهرهم متمكنين من المهاجرة
«فأولئك» الذين حكيت أحوالهم الفظيعة
«مأواهم» أي في الآخرة
«جهنم» كما أن مأواهم في الدنيا دار الكفر لتركهم الفريضة المحتومة فمأواهم مبتدأ وجهنم خبره والجملة خبر لأولئك وهذه الجملة خبر إن والفاء فيه لتضمن اسمها معنى الشرط وقوله تعالى قالوا فيم كنتم حال من الملائكة بإضمار قد عند من يشترطه أو هو الخبر والعائد منه محذوف أي قالوا لهم والجملة المصدرة بالفاء معطوفة عليه مستنتجة منه ومما في حيزه
«وساءت مصيرا» أي مصيرهم أي جهنم وفي الآية الكريمة إرشاد إلى وجوب المهاجرة من موضع لا يتمكن الرجل من إقامة أمور دينه بأي سبب كان وعن النبي صلى الله عليه وسلم من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجبت له الجنة وكان رفيق إبراهيم ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم
«إلا المستضعفين» استثناء منقطع لعدم دخولهم في الموصول وضميره والإشارة إليه ومن في قوله تعالى
«من الرجال والنساء والولدان» متعلقة بمحذوف وقع حالا من المستضعفين أي كائنين منهم وذكر الولدان أن أريد بهم المماليك أو المراهقون ظاهر وأما إن أريد بهم الأطفال فللمبالغة في أمر الهجرة وإبهام انها بحيث لو استطاعها غير المكلفين لوجبت عليهم والإشعار بأنهم لا محيص لهم عنها البتة عليهم كما بلغوا حتى كأنها واجبة عليهم قبل البلوغ لو استطاعوا وأن قومهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت وقوله تعالى
«لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا» صفة للمستضعفين فإن ما فيه من اللام ليس للتعريف أو حال منه أو من الضمير المستكن فيه وقيل تفسير لنفس المستضعفين لكثرة وجوه الاستضعاف واستطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة ومباديها واهتداء السبيل معرفة طريق الموضع المهاجر إليه بنفسه أو بدليل
«فأولئك»
223

إشارة إلى المستضعفين الموصوفين بما ذكر من صفات العجز
«عسى الله أن يعفو عنهم» جئ بكلمة الإطماع ولفظ العفو إيذانا بأن الهجرة من تأكد الوجوب بحيث ينبغي أن يعد تركها ممن تحقق عدم وجوبها عليه ذنبا يجب طلب العفو رجاء وطمعا لا جزما وقطعا
«وكان الله عفوا غفورا» تذييل مقرر لما قبله
«ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا» ترغيب في المهاجرة وتأنيس لها أي يجد فيها متحولا ومهاجرا وإنما عبر عنه بذلك تأكيد للترغيب لما فيه من
الإشعار بكون ذلك المتجول بحيث يصل فيه المهاجر من الخير والنعمة إلى ما يكون سببا لرغم آنف قومه الذين هاجروهم والرغم الذل والهوان وأصله لصوق الآنف بالرغام وهو التراب وقيل يجد فيها طريقا يراغم بسلوكه قومه أي يفارقهم على رغم أنوفهم
«وسعة» أي من الرزق
«ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت» أي قبل أن يصل إلى المقصد وإن كان ذلك خارج بابه كما ينبئ عنه إيثار الخروج من بيته على المهاجرة وهو عطف على فعل الشرط وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقيل هو حركة الهاء نقلت إلى الكاف على نية الوقف كما في قوله
* من عنزى سبني لم أضربه * عجيب والدهر كثير عجبه
وقرى بالنصب على إضمار أن كما في قوله
وألحق بالحجاز فأستريحا
«فقد وقع أجره على الله» أي ثبت ذلك عنده تعالى ثبوت الأمر الواجب روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث بالآيات المتقدمة إلى مسلمى مكة قال جندب بن ضمرة لبنيه وكان شيخا كبيرا احملونى فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدى الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله ثم قال اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك رسولك فمات حميدا فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لو توفى بالمدينة لكان أتم أجرا فنزلت قالوا كل هجرة في غرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد أو نحو ذلك فهي هجرة إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم
«وكان الله غفورا» مبالغا في المغفرة فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي من جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج
«رحيما» مبالغا في الرحمة فيرحمه بإكمال ثواب هجرته
«وإذا ضربتم في الأرض» شروع في بيان كيفية الصلاة عند الضرورات من السفر ولقاء العدو والمرض والمطر وفيه تأكيد لعزيمة المهاجر على المهاجرة وترغيب له فيها لما فيه من تخفيف المؤنة أي إذا سافرتم أي مسافرة كانت ولذلك لم يقيد بما قيد به المهاجرة
«فليس عليكم جناح» أي حرج أو اثم
«أن تقصروا» أي في أن تقصروا والقصر خلاف المد يقال قصرت الشئ اى جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه فمتعلق القصر حقيقة إنما هو ذلك الشئ لا بعضه فإنه متعلق الحذف دون القصر وعلى هذا فقوله تعالى
224

«من الصلاة» ينبغي أن يكون مفعولا لتقصروا على زيادة من حسبما رآه الأخفش وأما على تقدير ان تكون تبعيضية ويكون المفعول محذوفا كما هو رأى سيبويه أي شيئا من الصلاة فينبغي أن يصار إلى وصف الجزء بصفة الكل أو يراد بالقصر معنى الحبس يقال قصرت الشئ إذا حبسته أو يراد بالصلاة الجنس ليكون المقصور بعضا منها وهى الرباعيات اى فليس عليكم جناح في أن تقصروا بعض الصلاة بتنصيفها وقرئ تقصروا من الإقصار وتقصروا من التقصير والكل بمعنى وأدنى مدة السفر الذي يتعلق به القصر عند أبى حنيفة مسيرة ثلاثة أيام ولياليها بسير الإبل ومشى الإقدام بالاقتصاد وعند الشافعي مسيرة يومين وظاهر الآية الكريمة التخيير وأفضلية الإتمام وبه تعلق الشافعي وبما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر وعن عائشة رضى الله عنها أنها أتمت تارة وقصرت أخرى وعن عثمان رضى الله عنه أنه كان يتم ويقصر وعندنا يجب القصر لا محالة خلا أن بعض مشايخنا سماه عزيمة وبعضهم رخصه إسقاط بحيث لا مساغ للإتمام لا رخصة ترفية إذ لا معنى للتخيير بين الأخف والأثقل وهو قول عمر وعلى وابن عباس وابن عمر وجابر ورضوان الله عليهم وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وقد روى عن عمر رضى الله عنه صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وعن أنس رضى الله عنه خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة وعن عمران بن حصين رضى الله عنه ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلى في السفر إلا ركعتين وصلى بمكة ركعتين ثم قال أتموا فإنا قوم سفر وحين سمع بن مسعود ان عثمان رضى الله عنه صلى بمنى أربع ركعات أسترجع ثم قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبى بكر رضى الله عنه بمنى ركعتين وصليت مع عمر رضى الله عنه بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان وقد أعتذر عثمان رضي الله عنه عن إتمامه بأنه تأهل بمكة وعن الزهري أنه إنما أتم لأنه أزمع الإقامة بمكة وعن عائشة رضى الله عنها أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر وفي صحيح البخاري أنها قالت فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر وأما ما روى عنها من الإتمام فقد اعتذرت عنه وقالت أنا أم المؤمنين فحيث حللت فهي دارى وإنما ورد ذلك بنفي الجناح لما أنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة أن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فصرح بنفي الجناح عنهم لتطيب به نفوسهم ويطمئنوا إليه كما في قوله تعالى فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما مع أن ذلك الطواف واجب عندنا ركن عند الشافعي وقوله تعالى
«إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا» جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن خفتم ان يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح الخ وهو شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته حسبما وقفت على تفصيلها وقد ذكر الطحاوي في شرح الآثار مسندا إلى يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب رضى الله عنه إنما قال الله «فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن
يفتنكم الذين كفروا» وقد
225

أمن الناس فقال عمر رضى الله عنه عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وفيه دليل على عدم جواز الإكمال لأن التصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد كما حقق في موضعه ولا يتوهمن أنه مخالف للكتاب لأن التقييد بالشرط عندنا إنما يدل على ثبوت الحكم عند وجود الشرط وأما عدمه عند عدمه فساكت عنه فإن وجد له دليل ثبت عنده أيضا وإلا يبقى على حاله لعدم تحقق دليله لا لتحقق دليل عدمه وناهيك بما سمعت من الأدلة الواضحة وأما عند القائلين بالمفهوم فلأنه إنما يدل على نفي الحكم عند عدم الشرط إذا لم يكن له فائدة أخرى وقد خرج الشرط ههنا مخرج الأغلب كما في قوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا بل نقول ان الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته وفي حق ما يتعلق به من الصلوات وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر فكل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من القصر في حال الامن من وتخصيصه بالرباعيات على وجه التصنيف وبالضرب في المدة المعينة بيان لإجمال الكتاب وقد قيل إن قوله تعالى إن خفتم الخ متعلق بما بعده من صلاة الخوف منفصل عما قبله فإنه روى عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه انه قال نزل قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد حول فنزل إن خفتم الخ أي إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فليس عليكم جناح الخ وقد قرئ من الصلاة أن يفتنكم بغير ان خفتم على انه مفعول له لما دل عليه الكلام كأنه قيل شرع لكم ذلك كراهة أن يفتنكم الخ فإن استمرار الاشتغال بالصلاة مظنة لاقتدارهم على ايقاع الفتنة وقوله تعالى
«إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا» تعليل لذلك باعتبار تعلله بما ذكر أو لما يفهم من الكلام من كون فتنتهم متوقعة فإن كمال عداوتهم للمؤمنين من موجبات التعرض لهم بسوء وقوله تعالى
«وإذا كنت فيهم» بيان لما قبله من النص المجمل الوارد في مشروعية القصر بطريق التفريع وتصوير لكيفيته عند الضرورة التامة وتخصيص البيان بهذه الصورة مع الاكتفاء فيما عداها بالبيان بطريق السنة لمزيد حاجتها اليه لما فيها من كثرة التغيير عن الهيئة الأصلية ومن ههنا ظهر لك ان مورد النص الشريف على المقصورة وحكم ما عداها مستفاد من حكمها والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد وبظاهره يتعلق من لا يرى صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم ولا يخفى ان الأئمة بعده نوابه صلى الله عليه وسلم قوام بما كان يقوم به فيتناولهم حكم الخطاب الوارد له صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقد روى ان سعيد بن العاص لما أراد
226

أن يصلي بطبرستان صلاة الخوف قال من شهد منكم صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فوصف له ذلك فصلى بهم كما وصف وكان ذلك بحضرة الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكره أحد فحل محل الإجماع وروى في السنن انهم غزوا مع عبد الرحمن بن سمرة بابل فصلى بهم صلاة الخوف
«فأقمت لهم الصلاة» أي أردت أن تقيم بهم الصلاة
«فلتقم طائفة منهم معك» بعد أن جعلتهم طائفتين ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو ليحرسوكم منهم وإنما لم يصرح به لظهوره
«وليأخذوا» أي الطائفة القائمة معك
«أسلحتهم» أي لا يضعوها ولا يلقوها وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها ابتداء
«فإذا سجدوا» أي القائمون معك وأتموا الركعة
«فليكونوا من ورائكم» أي فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة
«ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا» بعد وهي الطائفة الواقفة تجاه العدو للحراسة وإنما لم تعرف لما أنها لم تذكر فيما قبل
«فليصلوا معك» الركعة الباقية ولم يبين في الآية الكريمة حال الركعة الباقية لكل من الطائفتين وقد بين ذلك بالسنة حيث روى عن ابن عمرو ابن مسعود رضى الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى صلاة الخوف صلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الأخرى ركعة كما في الآية الكريمة ثم جاءت الطائفة الأولى وذهبت هذه إلى مقابلة العدو حتى قضت الأولى الركعة الأخيرة بلا قراءة وسلموا ثم جاءت الطائفة الأخرى وقضوا الركعة الأولى بقراءة حتى صار لكل طائفة ركعتان
«وليأخذوا» أي هذه الطائفة
«حذرهم وأسلحتهم» لعل زيادة الأمر بالحذر في هذه المرة لكونها مظنة لوقوف الكفرة على كون الطائفة القائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم في شغل شاغل وأما قبلها فربما يظنونهم قائمين للحرب وتكليف كل من الطائفتين بما ذكر لما أن الاشتغال بالصلاة مظنة لإلقاء السلاح والإعراض عن غيرها ومئنة لهجوم العدو كما ينطق به قوله تعالى
«ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة» فإنه استئناف مسوق لتعليل الأمر المذكور والخطاب للفريقين بطريق الالتفات اى تمنوا أن ينالوا غرة وينتهزوا فرصة فيشدوا عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به في الحرب لا مطلقا وهذا الأمر الموجوب لقوله تعالى
«ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم» حيث رخص لهم في وضعها إذا ثقل عليهم استصحابها بسبب المطر أو مرض وأمروا مع ذلك بالتيقظ والاحتياط فقيل
«وخذوا حذركم» لئلا يهجم العدو عليكم غيلة روى الكلبي عن أبى صالح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا محاربا وبنى إنما فنزلوا ولا يرون من العدو أحدا فوضع الناس أسلحتهم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء ترش فحال الوادي بينه صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فبصر به غورث بن الحرث المحاربي فقال قتلني الله إن لم أقتلك ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه وقد سل سيفه من غمده فقال يا محمد من يعصمك منى الآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عز وجل ثم قال اللهم اكفنى غورث بن الحرث بما شئت ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فأكب لوجهه من زلخة زلخها بين كتفيه فبدر سيفه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال يا غورث من يمنعك منى الآن قال لا أحد قال صلى الله عليه وسلم تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأعطيك سيفك قال لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدا ولا أعين عليك عدوا
227

فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه فقال غورث والله لأنت خير منى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أحق بذلك منك فرجع غورث إلى أصحابه فقص عليهم قصته فآمن بعضهم قال وسكن الوادي فقطع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأخبرهم بالخبر وقوله تعالى
«إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا» تعليل للأمر بأخذ الحذر أعد لهم عذابا مهينا بأن يخذلهم وينصركم عليهم فاهتموا بأموركم ولا تهملوا في مباشرة الأسباب كي يحل بهم عذابه بأيديكم وقيل لما كان الأمر بالحذر من العدو موهما لتوقع غلبته واعتزازه نفى ذلك الإيهام بان الله تعالى ينصرهم ويهين عدوهم لتقوى قلوبهم
«فإذا قضيتم الصلاة» أي صلاة الخوف أي أديتموها على الوجه المبين وفرغتم منها
«فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم» أي فداوموا على ذكر الله تعالى وحافظوا على مراقبته ومناجاته ودعائه في جميع الأحوال حتى في حال المسايفة والقتال كما في قوله تعالى إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون
«فإذا اطمأننتم» سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم بعد ما وضعت الحرب أوزارها
«فأقيموا الصلاة» أي الصلاة التي دخل وقتها حينئذ أي أدوها بتعديل أركانها ومراعاة شرائطها وقيل المراد بالذكر في الأحوال الثلاثة الصلاة فيها أي فإذ أردتم أداء الصلاة فصلوا قياما عند المسايفة وقعودا جاثين على الركب عند المراماة وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح فإذا اطمأننتم في الجملة فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج وهو رأى الشافعي رحمه الله وفيه من البعد مالا يخفى
«إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا» أي فرضا مؤقتا قال مجاهد وقته الله عليهم فلا بد من إقامتها في حالة الخوف أيضا على الوجه المشروح وقيل مفروضا مقدرا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين فلا بد أن تؤدى في كل وقت حسبما قدر فيه
«ولا تهنوا في ابتغاء القوم» أي لا تضعفوا ولاتتوانوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بالحراب وقوله تعالى
«إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون» تعليل للنهي وتشجيع لهم أي ليس ما تقاسونه من الآلام مختصا بكم بل هو مشترك بينكم وبينهم ثم أنهم يصبرون على ذلك فما لكم لا تصبرون مع أنكم أولى به منهم حيث ترجون من الله من إظهار دينكم على سائر الأديان ومن الثواب في الآخرة مالا يخطر ببالهم وقرئ أن تكونوا بفتح الهمزة أي لا تهنوا لأن تكونوا تألمون وقوله تعالى فإنهم تعليل للنهي عن الوهن لأجله والآية نزلت في بدر الصغرى
«وكان الله عليما» مبالغا في العلم فيعلم أعمالكم وضمائركم
«حكيما» فيما يأمر وينهى فجدوا في الامتثال بذلك فإن فيه عواقب حميدة
228

«إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق» روى أن رجلا من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بنى ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه فخبأها عند زيد بن السمين اليهودي فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود فقالت بنو ظفر انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وشهدوا ببراءته وسرقة اليهودي فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فنزلت وروى ان طعمة هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله وقيل نزل على رجل من بنى سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن علاط فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع الدخول ولا الخروج فأخذ ليقتل فقيل دعه فإنه قد لجأ إليك فتركه وأخرجوه من مكة فالتحق بتجار من قضاعة نحو الشام فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب فأخذوه ورجموه بالحجارة حتى قتلوه وقيل إنه ركب سفينة إلى جده فسرق فيها كيسا فيه دنانير فأخذ وألقى في البحر
«لتحكم بين الناس بما أراك الله» أي بما عرفك وأوحى به إليك
«ولا تكن للخائنين» أي لأجلهم والذب عنهم وهم طعمة ومن يعينه من قومه أو هو ومن يسير بسيرته
«خصيما» مخاصما للبرآء أي لا تخاصم اليهود لأجلهم والنهى معطوف على أمر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فاحكم به ولا تكن الخ
«واستغفر الله» مما هممت به تعويلا على شهادتهم
«إن الله كان غفورا رحيما» مبالغا في المغفرة والرحمة لمن يستغفره
«ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم» أي يخونونها بالمعصية كقوله تعالى علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم جعلت معصية العصاة خيانة منهم لأنفسهم كما جعلت ظلما
لها لرجوع ضررها إليهم والمراد بالموصول إما طعمة وأمثاله وإما هو ومن عاونه وشهد ببراءته من قومه فإنهم شركاء له في الإثم والخيانة
«إن الله لا يحب من كان خوانا» مفرطا في الخيانة مصرا عليها
«أثيما» منهمكا فيه وتعليق عدم المحبة الذي هو كناية عن البغض والسخط بالمبالغ في الخيانة والإثم ليس لتخصيصه به بل لبيان إفراط طعمه وقومه فيهما
«يستخفون من الناس» يستترون منهم حياء وخوفا من ضررهم
«ولا يستخفون من الله» أي لا يستحيون منه سبحانه وتعالى وهو أحق بان يستحيا منه ويخاف من عقابه
«وهو معهم» عالم بهم وبأحوالهم فلا طريق إلى
229

الاستخفاء سوى ترك ما يستقبحه ويؤاخذ به
«إذ يبيتون» يدبرون ويزورون
«ما لا يرضى من القول» من رمى البرئ والحلف الكاذب وشهادة الزور
«وكان الله بما يعملون» من الأعمال الظاهرة والخافية
«محيطا» لا يعزب عنه شئ منها ولا يفوت
«ها أنتم هؤلاء» تلوين للخطاب وتوجيه له إليهم بطريق الالتفات إيذانا بان تعديد جنايتهم يوجب مشافهتهم بالتوبيخ والتقريع والجملة مبتدأ وخبر وقوله تعالى
«جادلتم عنهم في الحياة الدنيا» جملة مبينة لوقوع أولاء خبرا ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا بمعنى الذين وجادلتم الخ صلة له والمجادلة أشد المخاصمة والمعنى هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وأمثاله في الدنيا
«فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة» فمن يخاصم عنهم يومئذ عند تعذيبهم وعقابهم
«أم من يكون عليهم وكيلا» حافظا ومحاميا من بأس الله تعالى وانتقامه
«ومن يعمل سوءا» قبيحا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي
«أو يظلم نفسه» بما يختص به كالحلف الكاذب وقيل السوء مادون الشرك والظلم الشرك وقيل هما الصغيرة والكبيرة
«ثم يستغفر الله» بالتوبة الصادقة
«يجد الله غفورا» لذنوبه كائنة ما كانت
«رحيما» متفضلا عليه وفيه مزيد ترغيب لطعمة وقومه في التوبة والاستغفار لما أن مشاهدة التائب لآثار المغفرة والرحمة نعمة زائدة كما مر
«ومن يكسب إثما» من الآثام
«فإنما يكسبه على نفسه» حيث لا يتعدى ضرره ووباله إلى غيره فليحترز عن تعريضها للعقاب والعذاب عاجلا وآجلا
«وكان الله عليما» مبالغا في العلم
«حكيما» مراعيا للحكمة في كل ما قدر وقضى ولذلك لا يحمل وازرة وزر أخرى
«ومن يكسب خطيئة» صغيرة أو مالا عمد فيه من الذنوب وقرئ ومن يكسب بكسر الكاف وتشديد السين وأصله يكتسب
«أو إثما» كبيرة أو ما كان من عمد
«ثم يرم به» أي يقذف به ويسنده وتوحيد الضمير مع تعدد المرجع لمكان أو وتذكيره لتغليب الإثم على الخطيئة كأنه قيل ثم يرم بأحدهما وقرئ يرم بهما وقيل الضمير للكسب المدلول عليه بقوله تعالى يكسب وثم للتراخى في الرتبة
«بريئا» اى مما رماه به ليحمله عقوبته العاجلة كما فعله طعمة بزيد
«فقد احتمل» أي بما فعل من تحميل جريرته على البرئ
«بهتانا» وهو الكذب على الغير بما يبهت منه ويتحير عند سماعه لفظاعته وهوله وقيل هو الكذب الذي يتحير في عظمة
«وإثما مبينا» أي بينا فاحشا وهو صفة لإثما وقد اكتفى في بيان عظم البهتان بالتنكير التفخيمى
230

كأنه قيل بهتانا لا يقادر قدره وإثما مبينا على أن وصف الإثم بما ذكر بمنزلة وصف البهتان به لأنهما عبارة عن امر واحد هو رمى البرئ بجناية نفسه قد عبر عنه بهما تهويلا لأمره وتفظيعا لحاله فمدار العظم والفخامة كون المرمى به للرامي فإن رمى البرئ بجناية ما خطيئة كانت أو إثما بهتان وإثم في نفسه أما كونه بهتانا فظاهر وأما كونه إثما فلأن كون الذنب بالنسبة إلى من فعله خطيئة لا يلزم منه كونه بالنسبة إلى من نسبه إلى البرئ منه أيضا كذلك بل لا يجوز ذلك قطعا كيف لا وهو كذب محرم في جميع الأديان فهو في نفسه بهتان وإثم لا محالة وبكون تلك الجناية للرامي يتضاعف ذلك شدة ويزداد قبحا لكن لا لانضمام جنايته المكسوبة إلى رمى البرئ وإلا لكان الرمي بغير جناية مثله في العظم ولا لمجرد اشتماله على تبرئة نفسه الخاطئة وإلا لكان الرمي بغير جناية مع تبرئة نفسه كذلك في العظم بل لاشتماله على قصد تحميل جنايته على البرئ وأجراء عقوبتها عليه كما ينبئ عنه إيثار الاحتمال على الاكتساب ونحوه لما فيه من الإيذان بانعكاس تقديره على ما فيه من الإشعار بثقل الوزر وصعوبة
الأمر نعم بما ذكر من انضمام كسبه وتبرئة نفسه إلى رمى البرئ تزداد الجناية قبحا لكن تلك الزيادة وصف للمجموع لا للإثم
«ولولا فضل الله عليك ورحمته» بإعلامك ما هم عليه بالوحي وتنبيهك على الحق وقيل بالنبوة والعصمة
«لهمت طائفة منهم» أي من بني ظفر وهم الذابون عن طعمة وقد جوز إن يكون المراد بالطائفة كلهم ويكون الضمير راجعا إلى الناس وقيل هم وفد بني ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا جئناك لنبايعك على أن لا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
«أن يضلوك» أي بأن يضلوك عن القضاء بالحق مع علمهم بكنه الأمر والجملة جواب لولا وإنما نفى همهم مع إن المنفي إنما هو تأثيره فقط إيذانا بانتفاء تأثيره بالكلية وقيل المراد هو الهم المؤثر ولا ريب في انتفائه حقيقة وقيل الجواب محذوف أي لأضلوك وقوله تعالى لهمت جملة مستأنفة أي لقد همت طائفة الخ
«وما يضلون إلا أنفسهم» لاقتصار وبال مكرهم عليهم من غير أن يصيبك منهم شئ والجملة اعتراض وقوله تعالى
«وما يضرونك من شيء» عطف عليه ومحل الجار والمجرور النصب على المصدرية أي وما يضرونك شيئا من الضرر لما أنه تعالى عاصمك وأما ما خطر ببالك فكان عملا منك بظاهر الحال ثقة بأقوال القائلين من غير أن يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك
«وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة» أي القرآن الجامع بين العنوانين وقيل المراد بالحكمة السنة
«وعلمك» بالوحي من خفيات الأمور التي من جملتها وجوه إبطال كيد المنافقين أو من أمور الدين وأحكام الشرع
«ما لم تكن تعلم» ذلك إلى وقت التعليم
«وكان فضل الله عليك عظيما» إذ لا فضل أعظم من النبوة العامة والرياسة التامة
231

«لا خير في كثير من نجواهم» أي في كثير من تناجي الناس
«إلا من أمر» أي إلا في نجوى من أمر
«بصدقة أو معروف» وقيل المراد بالنجوى المتناجون بطريق المجاز وقيل النجوى جمع نجى نقله الكرماني وأيا ما كان فالاستثناء متصل ويجوز الانقطاع أيضا على معنى لكن من أمر بصدقة الخ ففي نجواه الخير والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل فينتظم أصناف الجميل وفنون اعمال البر وقد فسر ههنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع على أن المراد بالصدقة الواجبة
«أو إصلاح بين الناس» عند وقوع المشاقة والمعاداة بينهم من غير أن يجاوز في ذلك حدود الشرع الشريف وبين إما متعلق بنفس إصلاح يقال أصلحت بين القوم أو بمحذوف هو صفة له أي كائن بين الناس عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الا أدلك على صدقة خير لك من حمر النعم فقال بلى يا رسول الله قال تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا قالوا ولعل السر في إفراد هذه الاقسام الثلاثة بالذكر أن عمل الخير المتعدي إلى الناس إما لإيصال المنفعة أو لدفع المضرة والمنفعة إما جسمانية كإعطاء المال واليه الإشارة إلى قوله تعالى الا من امر بصدفة وأما روحانية وإليه الإشارة بالأمر بالمعروف وأما دفع الضرر فقد أشير اليه بقوله تعالى أو إصلاح بين الناس
«ومن يفعل ذلك» إشارة إلى الأمور المذكورة اعني الصدقة والمعروف والإصلاح فإنه يشاربه إلى متعدد وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بها للإيذان ببعد منزلتها ورفعة شأنها وترتيب الوعد على فعلها إثر بيان خيرية الأمر بها لما أن المقصود الأصلي هو الترغيب في الفعل وبيان خيرية الأمر به للدلالة على خيريته بالطريق الأولى لما أن مدار حسن الأمر وقبحه حسن المأمور به وقبحه فحيث ثبت خيرية الأمر بالأمور المذكورة فخيرية فعلها أثبت وفيه تحريض للآمر بها على فعلها أو إشارة إلى الأمر بها كأنه قيل ومن يأمر بها والكلام في ترتيب الوعد على فعلها كالذي مر في الخيرية فإن استتباع الأمر بها للأجر العظيم إنما هو لكونه ذريعة إلى فعلها فاستتباعه له أولى وأحق
«ابتغاء مرضات الله» علة للفعل والتقييد به لأن الأعمال بالنيات وأن من فعل خيرا لغير ذلك لم يستحق به غير الحرمان
«فسوف نؤتيه» بنون العظمة على الالتفات وقرئ بالياء
«أجرا عظيما» يقصر عنه الوصف
«ومن يشاقق الرسول» التعرض لعنوان الرسالة لإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه من المشاقة والمخالفة وتعليل الحكم الآتي بذلك
«من بعد ما تبين له الهدى» ظهر له الحق بالوقوف على المعجزات الدالة على نبوته
«ويتبع غير سبيل المؤمنين» أي غير ما هم مستمرون عليه من عقد وعمل وهو الدين القيم
«نوله
232

ما تولى» أي نجعله واليا لما تولاه من الضلال ونخذله بان نخلى بينه وبين ما اختاره
«ونصله جهنم» أي ندخله إياها وقرئ بفتح النون من صلاه
«وساءت مصيرا» أي جهنم وفيها دلالة على حجية الإجماع وحرمة مخالفته
«إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» قد مر تفسيره فيما سبق وهو تكرير للتأكيد والتشديد أو لقصة طعمة وقد مر موته كافرا وروى عن ابن
عباس رضى الله تعالى عنهما ان شيخا من العرب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أنى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ولم اتخذ من دونه وليا ولم أواقع المعاصي جراءة على الله تعالى وما توهمت طرفة عين أنى أعجز الله هربا وإني لنادم تائب مستغفر فما ترى حالي عند الله تعالى فنزلت
«ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا» عن الحق فإن الشرك أعظم أنواع الضلالة وأبعدها عن الصواب والاستقامة كما أنه افتراء وإثم عظيم ولذلك جعل الجزاء في هذه الشرطية فقد ضل الخ وفيما سبق فقد افترى إثما عظيما حسبما يقتضيه سياق النظم الكريم وسياقه
«إن يدعون من دونه» أي ما يعبدون من دونه عز وجل
«إلا إناثا» يعنى اللات والعزى ومناة ونحوها عن الحسن أنه لم يكن من أحياء العرب حي إلا كان لهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بنى فلان قيل لأنهم كانوا يقولون في أصنامهم هن بنات الله وقيل لأنهم كانوا يلبسونها أنواع الحلى ويزينونها على هيئات النسوان وقيل المراد الملائكة لقولهم الملائكة بنات الله وقيل تسميتها إناثا لتأنيث أسمائها أو لأنها في الأصل جماد والجمادات تؤنث من حيث إنها ضاهت الإناث لانفعالها وإيرادها بهذا الاسم للتنبيه على فرط حماقة عبدتها وتناهى جهلهم والإناث جمع أنثى كرباب وربى وقرئ على التوحيد وأنثا أيضا على أنه جمع أنيث كقليب وقلب أو جمع إناث كثمار وثمر وقرئ وثنا واثنا بالتخفيف والتثقيل جمع وثن كقولك أسد وأسد وآسد على الأصل وقلب الواو ألفا نحو أجوه في وجوه
«وإن يدعون» وما يعبدون بعبادتها
«إلا شيطانا مريدا» إذ هو الذي أمرهم بعبادتها وأغراهم عليها فكانت طاعتهم له عبادة والمريد والمارد هو الذي لا يعلق بخير وأصل التركيب للملاسة ومنه صرح ممرد وشجرة مرداء للتي تناثر ورقها
«لعنة الله» صفة ثانية لشيطانا
«وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا» عطف على الجملة المتقدمة أي شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع الصادر عنه عند اللعن ولقد برهن على أن عبادة الأصنام غاية الضلال بطريق التعليل بان ما يعبدونها ينفعل ولا
233

يفعل فعلا اختياريا وذلك ينافي الألوهية غاية المنافاة ثم استدل عليه بان ذلك عبادة للشيطان وهو أفظع الضلال من وجوه ثلاثة الأول أنه منهمك في الغى لا يكاد يعلق بشئ من الخير والهدى فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الحق والثاني أنه ملعون لضلالة فلا تستتبع مطاوعته سوى اللعن والضلال والثالث أنه في غاية السعي في إهلاكهم وإضلالهم فموالاة من هذا شأنه غاية الضلال فضلا عن عبادته والمفروض المقطوع أي نصيبا قدر لي وفرض من قولهم فرض له في العطاء
«ولأضلنهم ولأمنينهم» الأماني الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب ونحو ذلك
«ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام» أي فليقطعنها بموجب أمرى ويشقنها من غير تلعثم في ذلك ولا تأخير وذلك ما كانت العرب تفعله فيه بالبحائر والسوائب
«ولآمرنهم فليغيرن» ممتثلين به
«خلق الله» عن نهجة صورة أو صفة وينتظم فيه ما قيل من فقء عين الحامي وخصاء العبيد والوشم والوشر ونحو ذلك وعموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا لكن الفقهاء رخصوا في البهائم لمكان الحاجة وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا وما فيها من اللامات كلها للقسم والمأمور به في الموضعين محذوف ثقة بدلالة النظم عليه
«ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله» بإيثار ما يدعوا إليه على ما امر الله تعالى به ومجاوزته عن طاعة الله تعالى إلى طاعته
«فقد خسر خسرانا مبينا» لأنه ضيع رأس ماله بالكلية واستبدل بمكانه من الجنة مكانة من النار
«يعدهم» أي مالا يكاد ينجزه
«ويمنيهم» أي الأماني الفارغة أو يفعل لهم الوعد والتمنية على طريقة فلان يعطى ويمنع والضميران لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في يتخذ وخسر باعتبار لفظها
«وما يعدهم الشيطان إلا غرورا» وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر وهذا الوعد إما بإلقاء الخواطر الفاسدة أو بألسنة أوليائه وغرورا إما مفعول ثان للوعد أو مفعول لأجله أو نعت لمصدر محذوف اى وعدا ذا غرور أو مصدر على غير لفظ المصدر لأن يعدهم في قوة يغرهم بوعده والجملة اعتراض وعدم التعرض للتمنية لأنها باب من الوعد
«أولئك» إشارة إلى أولياء الشيطان وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الخسران وهو مبتدأ وقوله تعالى
«مأواهم» مبتدأ ثان وقوله تعالى
«جهنم» خبر للثاني والجملة خبر للأول
«ولا يجدون عنها محيصا» أي معدلا ومهربا من حاص الحمار إذا عدل وقيل خلص ونجا وقيل الحيص هو الروغان بنفور وعنها متعلق بمحذوف وقع حالا من محيصا أي كائنا عنها ولا مساغ لتعلقه بمحيصا أما إذا كان اسم مكان فظاهر وأما إذا كان مصدرا فلأنه لا يعمل فيما قبله
234

«والذين آمنوا وعملوا الصالحات» مبتدأ خبره قوله تعالى
«سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا» قرن وعيد الكفرة بوعد المؤمنين زيادة لمسرة هؤلاء ومساءة أولئك
«وعد الله حقا» أي وعده وعدا وحق ذلك حقا فالأول مؤكد لنفسه لأن مضمون الجملة الاسمية وعد والثاني مؤكد لغيره ويجوز أن ينتصب الموصول بمضمر يفسره ما بعده وينتصب وعد الله بقوله تعالى سندخلهم لأنه في معنى نعدهم ادخال جنات الخ وحقا على أنه حال من المصدر
«ومن أصدق من الله قيلا» جملة مؤكدة بليغة والمقصود من الآية معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه والمبالغة في تأكيده ترغيبا للعباد في تحصيله والقيل مصدر كالقول والقال وقال ابن السكيت القيل والقال اسمان لا مصدران ونصبه على التمييز وقرئ بإشمام الصاد وكذا كل صاد ساكنة بعدها دال
«ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب» أي ليس ما وعد الله تعالى من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون ولا بأماني أهل الكتاب وانما يحصل بالإيمان والعمل الصالح ولعل نظم أماني أهل الكتاب في سلك أماني المسلمين مع ظهور حالها للإيذان بعدم اجداء أماني المسلمين أصلا كما في قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار كما سلف وعن الحسن ليس الايمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل ان قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل وقيل ان المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله تعالى منكم فقال المسلمون نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة فنزلت وقيل الخطاب للمشركين ويؤيده تقدم ذكرهم أي ليس الأمر بأماني المشركين وهو قولهم لا جنة ولا نار وقولهم ان كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا وقولهم لأوتين مالا وولدا ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى وقولهم لن تمسنا النار الا أياما معدودة ثم قرر ذلك بقوله تعالى
«من يعمل سوءا يجز به» عاجلا أو آجلا لما روى أنه لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما تحزن أو تمرض أو يصيبك البلاء قال بلى يا رسول الله قال هو ذاك
«ولا يجد له من دون الله» أي مجاوزا لموالاة الله ونصرته
«وليا» يواليه
«ولا نصيرا» ينصره في دفع العذاب عنه
235

«ومن يعمل من الصالحات» أي بعضها أو شيئا منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفا بها
«من ذكر أو أنثى» في موضع الحال من المستكن في يعمل ومن للبيان أو من الصالحات فمن للابتداء أي كائنة من ذكر الخ
«وهو مؤمن» حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور تنبيها على أنه لا اعتداد به دونه
«فأولئك» إشارة إلى من بعنوان اتصافه بالايمان والعمل الصالح والجمع باعتبار معناها كما أن الافراد فيما سبق باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة من الاشعار بعلو رتبة المشار اليه وبعد منزلته في الشرف
«يدخلون الجنة» وقرئ يدخلون مبنيا للمفعول من الادخال
«ولا يظلمون نقيرا» لا ينقصون شيئا حقيرا من ثواب اعمالهم فإن النقير علم في القلة والحقارة وإذا لم ينقص ثواب المطيع فلأن لا يزاد عقاب العاصي أولى وأحرى كيف لا والمجازي أرحم الراحمين وهو السر في الاقتصار على ذكره عقيب الثواب
«ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله» أي أخلص نفسه له تعالى لا يعرف له ربا سواه وقيل بذل وجهه له في السجود وقيل أخلص عمله له عز وجل وقيل فوض أمره اليه تعالى وهذا انكار واستبعاد لأن يكون أحد أحسن دينا ممن فعل ذلك أو مساويا له وان لم يكن سبك التركيب متعرضا لإنكار المساواة ونفيها يرشدك اليه العرف المطرد والاستعمال الفاشي فإنه إذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل من فلان فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وعليه مساق قوله تعالى ومن أظلم ممن افترى ونظائره ودينا نصب على التمييز من أحسن منقول من المبتدأ والتقدير ومن دينه أحسن من دين من أسلم الخ فالتفضيل في الحقيقة جار بين الدينين لا بين صاحبيهما ففيه تنبيه على أن ذلك أقصى ما تنتهى اليه القوة البشرية
«وهو محسن» أي آت بالحسنات تارك للسيئات أو آت بالأعمال الصالحة على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والجملة حال من فاعل اسلم
«واتبع ملة إبراهيم» الموافقة لدين الاسلام المتفق عل صحتها وقبولها
«حنيفا» مائلا عن الأديان الزائغة وهو حال من فاعل اتبع أو من إبراهيم
«واتخذ الله إبراهيم خليلا» اصطفاه وخصه بكرامات تشبه كرامات الخليل عند خليله واظهاره صلى الله عليه وسلم في مواقع الاضمار لتفخيم شأنه والتنصيص على أنه الممدوح وتأكيد استقلال الجملة الاعتراضية والخلة من الخلال فإنه ود تخلل النفس وخالطها وقيل من الخلل فإن كل واحد من الخليلين يسد خلل الآخر أو من الخل وهو الطريق في الرمل فإنهما يتوافقان في الطريقة أو من الخلة
236

بمعنى الخصلة فإنهما يتوافقان في الخصال وفائدة الاعتراض جملة من جملتها الترغيب في اتباع ملته عليه السلام فإن من بلغ من الزلفى عند الله تعالى مبلغا مصححا
لتسميته خليلا حقيق بان يكون اتباع طريقته أهم ما يمتد إليه أعناق الهمم وأشرف ما يرمق نحوه أحداق الأمم قيل إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى خليل له بمصر في أزمة أصابت الناس يمتار منه فقال خليله لو كان إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكنه يريدها للأضياف وقد أصابنا ما أصاب الناس من الشدة فرجع غلمانه عليه الصلاة والسلام فاجتازوا ببطحاء لينة فملئوا منها الغرائر حياء من الناس وجاؤا بها إلى منزل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وألقوها فيه وتفرقوا وجاء أحدهم فأخبر إبراهيم بالقصة فاغتم لذلك غما شديدا لا سيما لاجتماع الناس ببابه رجاء الطعام فغلبه عيناه وعمدت سارة إلى الغرائر فإذا فيها أجود ما يكون من الحوارى فاختبزت وفي رواية فأطعمت الناس وانتبه إبراهيم عليه السلام فاشتم رائحة الخبز فقال من أين لكم قالت سارة من خليلك المصري فقال بل من عند خليلي الله عز وجل فسماه الله تعالى خليلا
«ولله ما في السماوات وما في الأرض» جملة مبتدأة سيقت لتقرير وجوب طاعة الله تعالى على أهل السماوات والأرض ببين أن جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى خلقا وملكا لا يخرج عن ملكوته شئ منها فيجازى كلا بموجب أعماله خيرا وشرا وقيل لبيان أن اتخاذه عز وجل لإبراهيم عليه السلام خليلا ليس لاحتياجه سبحانه إلى ذلك في شأن من شؤونه كما هو دأب الآدميين فإن مدار خلتهم افتقار بعضهم إلى بعض في مصالحهم بل لمجرد تكرمته وتشريفه عليه السلام وقيل لبيان أن الخلة لا تخرجه عن رتبة العبودية وقيل لبيان أن اصطفاءه عليه السلام للخلة بمحض مشيئته تعالى أي تعالى ما فيهما جميعا يختار منهما ما يشاء وقوله عز وجل
«وكان الله بكل شيء محيطا» تذييل مقرر لمضمون ما قبله على الوجوه المذكورة فإن إحاطته تعالى علما وقدرة بجميع الأشياء التي من جملتها ما فيهما من المكلفين وأعمالهم مما يقرر ذلك أكمل تقرير
«ويستفتونك في النساء» أي في حقهن على الإطلاق كما ينبئ عنه الأحكام الآتية لا في حق ميراثهن خاصة فإنه صلى الله عليه وسلم قد سئل عن أحوال كثيرة مما يتعلق بهن فما بين حكمة فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك من الكتاب وما لم يبين حكمه بعد ههنا وذلك قوله تعالى
«قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب» بإسناد الإفتاء الذي هو تبيين المبهم وتوضيح المشكل إليه تعالى وإلى ما تلى من الكتاب فيما سبق باعتبارين على طريقة قولك أغنانى زيد وعطاؤه بعطف ما على المبتدأ أو ضميره في الخبر لمكان الفصل بالمفعول والجار
237

والمجرور وإيثار صيغة المضارع للإيذان باستمرار التلاوة ودوامها في الكتاب إما متعلق بيتلى أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه أي يتلى كائنا فيه ويجوز ان يكون ما يتلى عليكم مبتدأ وفي الكتاب خبره على أن المراد به اللوح المحفوظ والجملة معترضة مسوقة لبيان عظم شأن المتلو عليهم وأن العدل في الحقوق المبينة فيه من عظائم الأمور التي تجب مراعاتها والمحافظة عليها فما يتلى حينئذ متناول لما تلى وما سيتلى ويجوز أن يكون مجرورا على القسم المنبئ عن تعظيم المقسم به وتفخيمه كأنه قيل قل الله يفتيكم فيهن وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب فالمراد بقوله تعالى يفتيكم بيانه السابق واللاحق ولا مساغ لعطفه على المجرور من فيهن لاختلاله لفظا ومعنى وقوله تعالى
«في يتامى النساء» على الوجه الأول وهو الأظهر متعلق بيتلى أي ما يتلى عليكم في شأنهن وعلى الأخيرين بدل من فيهن وهذه الإضافة بمعنى من لأنها إضافة الشئ إلى جنسه وقرئ ييامى على قلب همزة أيامى ياء
«اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن» أي ما فرض لهن من الميراث وغيره
«وترغبون» عطف على الصلة عطف جملة مثبتة على جملة منفية وقيل حال من فاعل تؤتونهن بتأويل وأنتم ترغبون ولا ريب في أنه لا يظهر لتقييد عدم الإيتاء بذلك فائدة إلا إذا أريد بما كتب لهن صداقهن
«أن تنكحوهن» أي في ان تنكحوهن لا لأجل التمتع بهن بل لأكل ما لهن أوفي أن تنكحوهن بغير إكمال الصداق وذلك ما روى عن عائشة رضى الله تعالى عنها من أنها اليتيمة تكون في حجر وليها هو وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد ان ينكحها بأدنى من سنة نسائها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق أو عن أن تنكحوهن وذلك ما روى عنها رضى الله عنها انها يتيمة يرغب وليها عن نكاحها ولا ينكحها فيعضلها طمعا في ميراثها وفي رواية عنها رضى الله عنه هو الرجل يكون عنده يتيمة ووارثها وشريكها في المال حتى في العذق فيرغب ان ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها فالمراد بما كتب لهن على الوجه الأول والأخير ميراثهن وبما يتلى في حقهن قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقوله تعالى ولا تأكلوها ونحوهما من النصوص الدالة على عدم التعرض لأموالهم وعلى الوجه الثاني صداقهن وبما يتلى فيهن قوله تعالى وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى الآية
«والمستضعفين من الولدان» عطف على يتامى النساء وما يتلى في حقهم قوله تعالى يوصيكم الله الخ وقد كانوا في الجاهلية لا يورثونهم كما لا يورثون النساء وإنما يورثون الرجال القوام بالأمور روى أن عيينة بن حصن الفزاري جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرنا بأنك تعطي الابنة النصف والأخت النصف وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة فقال صلى الله عليه وسلم كذلك أمرت
«وأن تقوموا لليتامى بالقسط» بالجر عطف على ما قبله وما يتلى في حقهم قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ونحو ذلك مما لا يكاد يحصر هذا على تقدير كون في يتامى النساء متعلقا بيتلى وأما على تقدير كونه بدلا من فيهن فالوجه نصبه عطفا على موضع فيهن أي يفتيكم أن تقوموا ويجوز نصبه بإضمار فعل أي ويأمركم وهو خطاب للولاة أو للأولياء والأوصياء
«وما تفعلوا» في حقوق المذكورين
«من خير» حسبما أمرتم به أو ما تفعلوه من خير على الإطلاق فيندرج فيه ما يتعلق بهم اندراجا أوليا
«فإن الله كان به عليما» فيجازيكم بحسبه
238

«وإن امرأة خافت» شروع في بيان ما لم يبين فيما سلف من الأحكام أي إن توقعت امرأة
«من بعلها نشوزا» أي تجافيا عنها وترفعا عن صحبتها كراهة لها ومنعا لحقوقها
«أو إعراضا» بأن يقل محادثتها ومؤانستها لما يقتضي ذلك من الدواعي والأسباب
«فلا جناح عليهما» حينئذ
«أن يصلحا بينهما صلحا» أي في أن يصلحا بينهما بأن تحط له المهر أو بعضه أو القسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فوهبت يومها لعائشة رضي الله عنها أو بأن تهب له شيئا تستميله وقرئ يصالحا من يتصالحا ويصلحا من يصطلحا ويصالحا من المفاعلة وصلحا إما منصوب بالفعل المذكور على كل تقدير على أنه مصدر منه بحذف الزوائد وقد يعبر عنه باسم المصدر كأنه قيل إصلاحا أو تصلحا أو اصطلاحا حسبما قرئ الفعل أو بفعل مترتب على المذكور أي فيصلح حالهما صلحا وبينهما ظرف للفعل أو حال من صلحا والتعرض لنفي الجناح عنهما مع أنه ليس من جانبها الأخذ الذي هو المظنة للجناح لبيان أن هذا الصلح ليس من قبيل الرشوة المحرمة للمعطى والآخذ
«والصلح خير» أي من الفرقة أو من سوء العشرة أو من الخصومة فاللام للعهد أو هو خير من الخيور فاللام للجنس والجملة اعتراض مقرر لما فبله وكذا قوله تعالى
«وأحضرت الأنفس الشح» أي جعلت حاضرة له مطبوعة عليه لا تنفك عنه أبدا فلا المرأة تسمح بحقوقها من الرجل ولا الرجل يجود بحسن المعاشرة مع دمامتها فإن فيه تحقيقا للصلح وتقريرا له بحث كل منهما عليه لكن لا بالنظر إلى حال نفسه فإن ذلك يستدعي التمادي في المماكسة والشقاق بل بالنظر إلى حال صاحبه فإن شح نفس الرجل وعدم ميلها عن حالتها الجبلية بغير استمالة مما يحمل المرأة على بذل بعض حقوقها إليه لاستمالته وكذا شح نفسها بحقوقها مما يحمل الرجل على أن يقتنع من قبلها بشيء يسير ولا يكلفها بذل الكثير فيتحقق بذلك الصلح
«وإن تحسنوا» في العشرة
«وتتقوا» النشوز والإعراض وإن تعاضدت الأسباب الداعية إليهما وتصبروا على ذلك مراعاة لحقوق الصحبة ولم تضطروهن إلى بذل شئ من حقوقهن
«فإن الله كان بما تعملون» أي من الإحسان والتقوى أو بما تعملون جميعا فيدخل ذلك فيه دخولا أوليا
«خبيرا» فيجازيكم ويثيبكم على ذلك البتة لاستحالة أن يضيع أجر المحسنين وفي خطاب الأزواج بطريق الالتفات والتعبير عن رعاية حقوقهن بالإحسان ولفظ التقوى المنبئ عن كون النشوز والإعراض مما يتوقى منه وترتيب الوعد الكريم عليه من لطف الاستمالة والترغيب في حسن المعاملة مالا يخفى روى أنها نزلت في عمرة بنت محمد بن مسلمة وزوجها سعد بن الربيع تزوجها وهي شابة فلما علاها الكبر تزوج شابة وآثرها عليها وجفاها فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكت إليه ذلك وقيل نزلت في أبي السائب كانت له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج غيرها فقالت لا تطلقني ودعني على أولادي فأقسم لي من كل شهرين إن شئت وإن شئت فلا تقسم لي فقال إن كان
239

يصلح ذلك فهو أحب إلي فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فنزلت
«ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء» أي محال أن تقدروا على أن تعدلوا بينهن بحيث لا يقع ميل ما إلى جانب إحداهن في شأن من الشؤون البتة وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك وفي رواية وأنت أعلم بما لا أملك يعنى فرط محبته لعائشة رضى الله عنها
«ولو حرصتم» أي على إقامة العدل وبالغتم في ذلك
«فلا تميلوا كل الميل» أي فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور واعدلوا ما استطعتم فإن عجزكم عن حقيقة العدل إنما يصحح عدم تكليفكم بها لا بما دونها من المراتب الداخلة تحت استطاعتكم
«فتذروها» اى التي ملتم عنها
«كالمعلقة» التي ليست ذات بعل أو مطلقة وقرئ كالمسجونة وفي الحديث من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل
«وإن تصلحوا» ما كنتم تفسدون من أمورهن
«وتتقوا» الميل فيما يستقبل
«فإن الله كان غفورا» يغفر لكم ما فرط منكم من الميل
«رحيما» يتفضل عليكم برحمته
«وإن يتفرقا» وقرئ يتفارقا أي وإن يفارق كل منهما صاحبه بأن لم يتفق بينهما وفاق بوجه ما من الصلح وغيره
«يغن الله كلا» منهما أي يجعله مستغنيا عن الآخر ويكفيه مهماته
«من سعته» من غناه وقدرته وفيه زجر لهما عن المفارقة رغما لصاحبه
«وكان الله واسعا حكيما» مقتدرا متقنا في أفعاله وأحكامه وقوله تعالى
«ولله ما في السماوات وما في الأرض» أي من الموجودات كائنا ما كان من الخلائق وأرزاقهم وغير ذلك جملة مستأنفة منبهة على كمال سعته وعظم قدرته
«ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» أي أمرناهم في كتابهم وهم اليهود والنصارى ومن قبلهم من الأمم واللام في الكتاب للجنس ومن متعلقة بوصينا أو بأوتوا
«وإياكم» عطف على الموصول
«أن اتقوا الله» أي وصينا كلا منكم بان اتقوا الله على أن أن مصدرية حذف عنها الجار ويجوز أن تكون مفسرة لأن التوصية في معنى القول فقوله تعالى
«وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض» حينئذ من تتمة القول المحكى أي ولقد قلنا لهم ولكم اتقوا الله وإن تكفروا إلى آخر الآية وعلى تقدير كون أن مصدرية مبنى الكلام إرادة القول أي أمرناهم وإياكم بالتقوى وقلنا لهم ولكم إن تكفروا الآية وقيل هي جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمة وأيما ما كان فالمترتب على كفرهم ليس مضمون قوله تعالى فإن لله الآية بل هو الأمر بعلمه كأنه قيل وإن تكفروا فاعلموا أن لله ما في السماوات وما في الأرض
240

من الخلائق قاطبة مفتقرون إليه في الوجود وسائر النعم المتفرعة عليه لا يستغنون عن فيضه طرفة عين فحقه أن يطاع ولا يعصى ويتقى عقابه ويرجى ثوابه وقد قرر ذلك بقوله تعالى
«وكان الله غنيا» اى عن الخلق وعبادتهم
«حميدا» محمودا في ذاته حمدوه أو لم يحمدوه فلا يتضرر بكفرهم ومعاصيهم كما لا ينتفع بشكرهم وتقواهم وإنما وصاهم بالتقوى لرحمته لا لحاجته
«ولله ما في السماوات وما في الأرض» كلام مبتدأ مسوق للمخاطبين توطئة لما بعده من الشرطية غير داخل تحت القول المحكى اى له سبحانه ما فيهما من الخلائق خلقا وملكا يتصرف فيهم كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة
«وكفى بالله وكيلا» في تدبير أمور الكل وكل الأمور فلا بد من أن يتوكل عليه لا على أحد سواه
«إن يشأ يذهبكم أيها الناس» أي يفنكم ويستأصلكم بالمرة
«ويأت بآخرين» اى يوجد دفعة مكانكم قوما آخرين من البشر أو خلقا آخرين مكان الإنس ومفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء أي أن يشأ إفناءكم وإيجاد آخرين يذهبكم الخ يعنى ان إبقاءكم على أما أنتم عليه من العصيان إنما هو لكمال غناه عن طاعتكم ولعدم تعلق مشيئته المبنية على الحكم البالغة بإفنائكم لا لعجزه سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا
«وكان الله على ذلك» أي على إفناءكم بالمرة وإيجاد آخرين دفعة مكانكم
«قديرا» بليغ القدرة وفيه لا سيما في توسيط الخطاب بين الجزاء وما عطف عليه من تشديد التهديد ما لا يخفى وقيل هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب أي إن يشأ يمتكم ويأت بأناس آخرين يوالونه فمعناه هو معنى قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ويروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس
«من كان يريد ثواب الدنيا» كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة
«فعند الله ثواب الدنيا والآخرة» أي فعنده تعالى ثوابهما له إن أراده فما له يطلب أخسهما فليطلبهما كمن يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة أو ليطلب أشرفهما فإن من جاهد خالصا لوجه الله تعالى لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شئ أي فعند الله ثواب الدارين فيعطى كلا ما يريده كقوله تعالى من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية
«وكان الله سميعا بصيرا» عالما بجميع المسموعات والمبصرات فيندرج فيها ما صدر عنهم من الأقوال والأعمال المتعلقة بمراداتهم اندراجا أوليا
241

«يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط» مبالغين في العدل وإقامة القسط في جميع الأمور مجتهدين في ذلك حق الاجتهاد
«شهداء لله» بالحق تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى وهو خبر ثان وقيل حال
«ولو على أنفسكم» أي ولو كانت الشهادة على أنفسكم بأن تقروا عليها على أن الشهادة عبارة عن الإخبار بحق الغير سواء كان ذلك عليه أو على ثالث بأن يكون الشهادة مستتبعة لضرر ينالكم من جهة المشهود عليه
«أو الوالدين والأقربين» أي ولو كان على والديكم وأقاربكم
«إن يكن» أي المشهود عليه
«غنيا» ينبغي في العادة رضاه ويتقى سخطه
«أو فقيرا» يترحم عليه غالبا وقرئ إن يكن غنى أو فقير على أن كان تامة وجواب الشرط محذوف لدلالة قوله تعالى
«فالله أولى بهما» عليه أي فلا تمنعوا عنها طلبا لرضا الغنى أو ترحما على الفقير فإن الله تعالى أولى بجنسى الغنى والفقير المدلول عليهما بما ذكر ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها وقرئ أولى بهم
«فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا» أي مخافة أن تعدلوا عن الحق فإن اتباع الهوى من مظان الجور الذي حقه أن يخاف ويحذر وقيل كراهة أن تعدلوا بين الناس أو إرادة ان
تعدلوا عن الحق
«وإن تلووا» أي ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل بأن تأتوا بها لا على وجهها وقرئ وإن تلوا من الولاية والتصدي أي وإن وليتم إقامة الشهادة
«أو تعرضوا» أي عن إقامتها رأسا
«فإن الله كان بما تعملون» من لي الألسنة والإعراض بالكلية أو من جميع الأعمال التي من جملتها ما ذكر
«خبيرا» فيجازيكم لا محالة على ذلك فهو على القراءة المشهورة وعيد محض وعلى القراءة الأخيرة متضمن للوعيد
«يا أيها الذين آمنوا» خطاب لكافة المسلمين فمعنى قوله تعالى
«آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل» اثبتوا على الإيمان بذلك وداوموا عليه وازدادوا فيه طمأنينة ويقينا أو آمنوا بما ذكر مفصلا بناء على أن إيمان بعضهم إجمالى والمراد بالكتاب الثاني الجنس المنتظم لجميع الكتب السماوية لقوله تعالى وكتبه بالإيمان به الإيمان بأن كل كتاب من تلك الكتب منزل منه تعالى على رسول معين لإرشاد أمته إلى ما شرع لهم من الدين بالأوامر والنواهي لكن لا على أن مدار الإيمان بكل واحد من تلك الكتب خصوصية ذلك الكتاب ولا على أن أحكام تلك الكتب وشرائعها باقية بالكلية ولا على أن الباقي منها معتبر بالإضافة إليها بل على أن الإيمان بالكل
242

مندرج تحت الإيمان بالكتاب المنزل على رسوله وأن أحكام كل منها كانت حقه ثابتة إلى ورود ما نسخها وأن ما لم ينسخ منها إلى الآن من الشرائع والأحكام ثابتة من حيث أنها من أحكام هذا الكتاب الجليل المصون عن النسخ والتبديل كما مر في تفسير خاتمة سورة البقرة وقرئ نزل وأنزل على البناء للمفعول وقيل هو خطاب لمؤمني أهل الكتاب لما أن عبد الله بن سلام وابن أخته سلامة وابن أخيه سلمة وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال صلى الله عليه وسلم بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا لا نفعل فنزلت فآمنوا كلهم فامرهم بالإيمان بالكتاب المتناول للتوراة مع أنهم مؤمنون بها من قبل ليس لكون المراد بالإيمان ما يعم إنشاءه والثبات عليه ولا لأن متعلق الأمر حقيقة هو الإيمان بما عداها كأنه قيل آمنوا بالكل ولا تخصوه بالبعض بل لأن المأمور به إنما هو الإيمان بها في ضمن الإيمان بالقرآن على الوجه الذي أشير إليه آنفا لا إيمانهم السابق ولأن فيه حملا لهم على التسوية بينهما وبين سائر الكتب في التصديق لاشتراك الكل فيما يوجبه وهو النزول من عند الله تعالى وقيل خطاب لأهل الكتابين فالمعنى آمنوا بالكل لا ببعض دون بعض وأمر كل طائفة بالإيمان بكتابه في ضمن الأمر بالإيمان بجنس الكتاب لما ذكر وقيل هو للمنافقين فالمعنى آمنوا بقلوبكم لا بألسنتكم فقط
«ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر» أي بشئ من ذلك
«فقد ضل ضلالا بعيدا» عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقة وزيادة الملائكة واليوم الآخر في جانب الكفر لما أن بالكفر بأحدهما لا يتحقق الإيمان أصلا وجمع الكتب والرسل لما أن الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل وتقديم الرسول فيما سبق لذكر الكتاب بعنوان كونه منزلا عليه وتقديم الملائكة والكتب على الرسل لأنهم وسايط بين الله عز وجل وبين الرسل في إنزال الكتب
«إن الذين آمنوا» قال قتادة هم اليهود آمنوا بموسى
«ثم كفروا» بعبادتهم العجل
«ثم آمنوا» عند عودة إليهم
«ثم كفروا» بعيسى والإنجيل
«ثم ازدادوا كفرا» بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل هم قوم تكرر منهم الارتداد وأصروا على الكفر وازدادوا تماديا في الغى
«لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا» لما أنه يستبعد منهم أن يتوبوا عن الكفر ويثبتوا على الإيمان فإن قلوبهم قد ضربت بالكفر وتمرنت على الردة وكان الإيمان عندهم أهون شئ وأدونه لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم يقبل منهم ولم يغفر لهم وخبر كان محذوف أي مريدا ليغفر لهم وقوله عز وجل
«بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما» يدل على أن المراد بالمذكورين الذين آمنوا في الظاهر نفاقا وكفروا في السر مرة بعد أخرى ثم ازدادوا كفرا ونفاقا ووضع
243

بشر موضع أنذر تهكما بهم
«الذين يتخذون الكافرين أولياء» في محل النصب أو الرفع على الذم بمعنى أريد بهم الذين أوهم الذين وقيل نصب على انه صفة للمنافقين وقوله تعالى
«من دون المؤمنين» حال من فاعل يتخذون أي يتخذون الكفرة أنصارا متجاوزين ولاية المؤمنين وكانوا يوالونهم ويقول بعضهم لبعض لا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتولوا اليهود
«أيبتغون عندهم العزة» إنكار لرأيهم وإبطال له وبيان لخيبة رجائهم وقطع لأطماعهم الفارغة والجملة معترضة مقررة لما قبلها أي أيطلبون بموالاة الكفرة القوة والغلبة قال الواحدي أصل العزة الشدة ومنه قيل للأرض الشديدة الصلبة عزاز وقوله تعالى
«فإن العزة لله جميعا» تعليل لما يفيده الاستفهام الإنكارى من بطلان رأيهم وخيبة رجائهم فإن انحصار جميع أفراد العزة في جنابة عز وعلا بحيث لا ينالها إلا أولياؤه الذين كتب لهم العزة والغلبة قال تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين يقضى ببطلان التعزز بغيره سبحانه وتعالى واستحالة الانتفاع به وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه
قيل إن يبتغوا عندهم عزة فإن العزة لله وجميعا حال من المستكن في قوله تعالى لله لاعتماده على المبتدأ
«وقد نزل عليكم» خطاب للمنافقين بطريق الالتفات مفيد لتشديد التوبيخ الذي يستدعيه تعداد جناياتهم وقرئ مبنيا للمفعول من التنزيل والإنزال ونزل أيضا مخففا والجملة حال من ضمير يتخذون أيضا مفيدة لكمال قباحة حالهم ونهاية استعصائهم عليه سبحانه ببيان أنهم فعلوا ما فعلوا من موالاة الكفرة مع تحقق ما يمنعهم من ذلك وهو وردود النهى الصريح عن مجالستهم المستلزم للنهي عن موالاتهم على أبلغ وجه وآكده إثر بيان انتفاء ما يدعوهم إليه بالجملة المعترضة كأنه قيل تتخذونهم أولياء والحال أنه تعالى قد نزل عليكم قبل هذا بمكة
«في الكتاب» أي القرآن الكريم
«أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره» وذلك قوله تعالى وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم الآية وهذا يقتضى الانزجار عن مجالستهم في تلك الحالة القبيحة فكيف بموالاتهم والاعتزاز بهم وأن هي المخففة من ان وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف والجملة الشرطية خبرها وقوله تعالى يكفر بها حال من آيات الله وقوله تعالى ويستهزأ بها عطف عليه داخل في حكم الحالية وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتشريفها وإبانة خطرها وتهويل أمر الكفر بها أي نزل عليكم في الكتاب أنه إذا سمعتم آيات الله مكفورا بها ومستهزأ بها وفيه دلالة على أن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وإن خوطب به خاصة منزل على الأمة وأن مدار الإعراض عنهم هو العلم بخوضهم في الآيات ولذلك عبر عن ذلك تارة بالرؤية
244

وأخرى بالسماع وأن المراد بالإعراض إظهار المخالفة بالقيام عن مجالسهم لا الإعراض بالقلب أو بالوجه فقط والضمير في معهم للكفرة المدلول عليهم بقوله تعالى يكفر بها ويستهزأ بها
«إنكم إذا مثلهم» جملة مستأنفة سيقت لتعليل النهى غير داخلة تحت التنزيل وإذن ملغاة عن العمل لوقوعها بين المبتدأ والخبر أي لا تقعدوا معهم في ذلك الوقت إنكم إن فعلتموه كنتم مثلهم في الكفر واستتباع العذاب وإفراد المثل لأنه كالمصدر أو للاستغناء بالإضافة إلى الجمع وقرئ شاذا مثلهم بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كما في قوله تعالى مثل ما أنكم تنطقون وقيل هو منصوب على الظرفية اى في مثل حالهم
وقوله تعالى «إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا» تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ببيان ما يستلزمه من شركتهم لهم في العذاب والمراد بالمنافقين إما المخاطبون وقد وضع موضع ضميرهم المظهر تسجيلا بنفاقهم وتعليلا للحكم بمأخذ الاشتقاق وإما الجنس وهم داخلون تحته دخولا أوليا وتقديم المنافقين على الكافرين لتشديد الوعيد على المخاطبين ونصب جميعا مثل ما قبله
«الذين يتربصون بكم» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى المؤمنين بتعديد بعض آخر من جنايات المنافقين وقبائحهم وهو إما بدل من الذين يتخذون أو صفة للمنافقين فقط إذ هم المتربصون دون الكافرين أو مرفوع أو منصوب على الذم أي ينتظرون أمركم وما يحدث لكم من ظفر أو إخفاق والفاء في قوله تعالى
«فإن كان لكم فتح من الله» لترتيب مضمونه على ما قبلها فإن حكاية تربصهم مستتبعة لحكاية ما يقع بعد ذلك كما ان نفس التربص يستدعى شيئا ينتظر المتربص وقوعه
«قالوا» أي لكم
«ألم نكن معكم» أي مظاهرين لكم فأسهموا لنا في الغنيمة
«وإن كان للكافرين نصيب» من الحرب فإنها سجال
«قالوا» أي للكفرة
«ألم نستحوذ عليكم» أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتالكم وأسركم فأبقينا عليكم
«ونمنعكم من المؤمنين» بأن ثبطناهم عنكم وخيلنا لهم ما ضعفت به قلوبهم ومرضوا في قتالكم وتوانينا في مظاهرتهم وإلا لكنتم نهبة للنوائب فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم وتسمية ظفر المسلمين فتحا وما للكافرين نصيبا لتعظيم شأن المسلمين وتخسيس حظ الكافرين وقرئ ونمنعكم بإضمار أن
«فالله يحكم بينكم يوم القيامة» حكما يليق بشأن كل منكم من الثواب والعقاب وأما في الدنيا فقد أجرى على من تفوه بكلمة الإسلام حكمه ولم يضع السيف على من تكلم بها نفاقا
«ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» حينئذ كما قد يجعل ذلك في الدنيا بطريق الابتلاء والاستدراج أو في الدنيا على ان المراد بالسبيل الحجة
«إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم» كلام مبتدأ سيق لبيان طرف
245

آخر من قبائح أعمالهم أي يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال نقيضه والله فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع حيث تركهم في الدنيا معصومى الدماء والأموال وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار وقد مر التحقيق في صدر سورة البقرة وقيل يعطون على الصراط نورا كما يعطى المؤمنون فيمضون بنورهم ثم يطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم
«وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى» متثاقلين كالمكره على الفعل وقرئ بفتح الكاف وهما جمعا كسلان
«يراؤون الناس» ليحسبوهم مؤمنين والمراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرئى يرى غيره عمله وهو يريه استحسانه والجملة اما استئناف مبنى على سؤال نشأ من الكلام كأنه قيل فماذا يريدون بقيامهم إليها كسالى فقيل يراءون الخ أو حال من ضمير قاموا
«ولا يذكرون الله إلا قليلا» عطف على يراءون أي لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا وهو ذكرهم باللسان فإنه بالإضافة إلى الذكر بالقلب قليل أو إلا زمانا قليلا أو لا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون إلا بمر أي من الناس وذلك قليل وقيل لا يذكرونه تعالى في الصلاة إلا قليلا عند التكبير والتسليم
«مذبذبين بين ذلك» حال من فاعل يراءون أو منصوب على الذم وذلك إشارة إلى الإيمان والكفر المدلول عليهما بمعونة المقام أي مرددين بينهما متحيرين قد ذبذبهم الشيطان وحقيقة المذبذب ما يذب ويدفع عن كلا الجانبين مرة بعد أخرى وقرئ بكسر الذال أي مذبذبين قلوبهم أو رأيهم أو دينهم أو هو بمعنى متذبذبين كما جاء صلصل بمعنى تصلصل وفي مصحف ابن مسعود رضى الله عنه متذبذبين وقرئ مدبدبين بالدال غير المعجمة وكأن المعنى أخذ بهم تارة في دبة أي طريقة وأخرى في أخرى
«لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء» اى لامنسوبين إلى المؤمنين ولا منسوبين إلى الكافرين أولا صائرين إلى الأولين ولا إلى الآخرين فمحله النصب على أنه حال من ضمير مذبذبين أو على أنه بدل منه أو بيان وتفسير له
«ومن يضلل الله» لعدم استعداده للهداية والتوفيق
«فلن تجد له سبيلا» موصلا إلى الحق والصواب فضلا عن أن تهديه إليه والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان
«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين» نهوا عن موالاة الكفرة صريحا وإن كان في بيان حال المنافقين مزجرة عن ذلك مبالغة في الزجر والتحذير
«أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا» أي أتريدون بذلك أن تجعلوا لله عليكم حجة بينه على أنكم منافقون فإن موالاتهم أوضح أدلة النفاق أو سلطانا يسلط عليكم عقابه وتوجيه الإنكار إلى الإرادة دون متعلقها بأن يقال أتجعلون المبالغة في إنكاره وتهويل أمره ببيان أنه مما لا يصدر عن العاقل أرادته فضلا عن صدور نفسه كما في قوله عز وجل أم تريدون أن تسألوا رسولكم
246

«إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» وهو الطبقة التي في قعر جهنم وإنما كان كذلك لأنهم أخبث الكفرة حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وأهله وخداعهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم انه مسلم من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان ونحوه فمن باب التشديد والتهديد والتغليظ مبالغة في الزجر وتسمية طبقاتها السبع دركات لكونها متداركة متتابعة بعضها تحت بعض وقرئ بفتح الراء وهو لغة كالسطر والسطر ويعضده أن جمعه أدراك
«ولن تجد لهم نصيرا» يخلصهم منه والخطاب كما سبق
«إلا الذين تابوا» أي عن النفاق وهو استثناء من المنافقين بل من ضميرهم في الخبر
«وأصلحوا» ما أفسدوا من أحوالهم في حال النفاق
«واعتصموا بالله» أي وثقوا به وتمسكوا بدينه
«وأخلصوا دينهم» أي جعلوه خالصا
«لله» لا يبتغون بطاعتهم إلا وجهه
«فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد المنزلة وعلو الطبقة
«مع المؤمنين» أي المؤمنين المعهودين الذين لم يصدر عنهم نفاق أصلا منذ آمنوا وإلا فهم أيضا مؤمنون أي معهم في الدرجات العالية من الجنة وقد بين ذلك بقوله تعالى
«وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما» لا يقادر قدره فيساهمونهم فيه
«ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم» استئناف مسوق لبيان أن مدار تعذيبهم وجودا وعدما إنما هو كفرهم لا شئ آخر فيكون مقررا لما قبله من إثابتهم عن توبتهم وما استفهامية مفيدة للنفي على أبلغ وجه وآكده اى أي شئ يفعل الله سبحانه بتعذيبكم أيتشفى به من الغيظ أم يدرك به الثأر أم يستجلب به نفعا أم يستدفع به ضررا كما هو شان الملوك وهو الغنى المتعالى عن أمثال ذلك وإنما هو أمر يقتضيه كفركم فإذا زال ذلك بالإيمان والشكر انتفى التعذيب لا محالة وتقديم الشكر على الإيمان لما أنه طريق موصل إليه فإن النظر يدرك أولا ما عليه من النعم الأنفسية والآفاقية فيشكر شكرا مبهما ثم يترقى إلى معرفة المنعم فيؤمن به وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه
«وكان الله شاكرا» الشكر من الله سبحانه هو الرضا باليسير من طاعة عباده وإضعاف الثواب بمقابلته
«عليما» مبالغا في العلم بجميع المعلومات التي من جملتها شكركم وإيمانكم فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم
«لا يحب الله الجهر بالسوء من القول» عدم محبته تعالى لشيء كناية عن سخطه والباء متعلقة بالجهر 148 ومن بمحذوف وقع حالا من السوء أي لا يحب الله تعالى أن يجهر أحد بالسوء كائنا من القول
«إلا من
247

ظلم» أي إلا جهر من ظلم بأن يدعو على ظالمه أو يتظلم منه ويذكره بما فيه من السوء فإن ذلك غير مسخوط عنده سبحانه وقيل هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم ولمن انتصر بعد ظلمه الآية وقيل ضاف رجلا قوما فلم يطعموه فاشتكاهم فعوتب على الشكاية فنزلت وقرئ إلا من ظلم على البناء للفاعل فالاستثناء منقطع أي ولكن الظالم يرتكب مالا يحبه الله تعالى فيجهر بالسوء
«وكان الله سميعا» لجميع المسموعات فيندرج فيها كلام المظلوم والظالم
«عليما» بجميع المعلومات التي من جملتها حال المظلوم والظالم فالجملة تذييل مقرر لما يفيده الاستثناء
«إن تبدوا خيرا» أي خير كان من الأقوال والأفعال
«أو تخفوه أو تعفوا عن سوء» مع ما سوغ لكم من مؤاخذة المسئ والتنصيص عليه مع اندراجه في إبداء الخير وإخفائه لما انه الحقيق بالبيان وإنما ذكر إبداء الخير وإخفاؤه بطريق التسبيب له كما ينبئ عنه قوله عز وجل
«فإن الله كان عفوا قديرا» فإن إيراده في معرض جواب الشرط يدل على أن العمدة هو العفو مع القدرة أي كان مبالغا في العفو مع كمال قدرته على المؤاخذة وقال الحسن يعفو عن الجانين مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنة الله تعالى وقال الكلبي هو أقدر على عفو ذنوبكم منكم على عفو ذنوب من ظلمكم وقيل عفوا عمن عفا قديرا على إيصال الثواب إليه
«إن الذين يكفرون بالله ورسله» أي يؤدى إليه مذهبهم ويقتضيه رأيهم لا أنهم يصرحون بذلك كما ينبئ عنه قوله تعالى
«ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله» أي بأن يؤمنوا به تعالى ويكفروا بهم لكن لا بان يصرحوا بالإيمان به تعالى وبالكفر بهم قاطبة بل بطريق الاستلزام كما يحكيه قوله تعالى
«ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض» أي نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعضهم كما قالت اليهود نؤمن بموسى والتوراة وعزير ونكفر بما وراء ذلك وما ذاك إلا كفر بالله تعالى ورسله وتفريق بين الله تعالى ورسله في الإيمان لأنه تعالى قد أمرهم بالإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام وما من نبي من الأنبياء إلا وقد أخبر قومه بحقية دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالكل وبالله تعالى أيضا من حيث لا يحتسب
«ويريدون» بقولهم ذلك
«أن يتخذوا بين ذلك» أي بين الإيمان والكفر
«سبيلا» يسلكونه مع انه لا واسطة بينهما قطعا إذ الحق لا يختلف وماذا بعد الحق إلا الضلال
«أولئك» الموصوفون بالصفات القبيحة
«هم الكافرون» الكاملون في الكفر لا عبرة بما يدعونه ويسمونه إيمانا أصلا
«حقا» مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي حق ذلك أي كونهم كاملين في الكفر حقا أو صفة لمصدر الكافرين اى هم الذين كفروا حقا أي
248

ثابتا يقينا لا ريب فيه
«وأعتدنا للكافرين» أي لهم وإنما وضع المظهر مكان المضمر ذما وتذكيرا لوصفهم أو لجميع الكافرين وهم داخلون في زمرتهم دخولا أولياء
«عذابا مهينا» سيذوقونه عند حلوله
«والذين آمنوا بالله ورسله» أي على الوجه الذي بين في تفسير قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله الآية
«ولم يفرقوا بين أحد منهم» بأن يؤمنوا ببعضهم ويكفروا بآخرين كما فعله الكفرة ودخول بين على أحد قد مر تحقيقه في سورة البقرة بما لا مزيد عليه
«أولئك» المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة
«سوف يؤتيهم أجورهم» الموعودة لهم وتصديره بسوف لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تراخى وقرئ نؤتيهم بنون العظمة
«وكان الله غفورا» لما فرط منهم
«رحيما» مبالغا في الرحمة عليهم بتضعيف حسناتهم
«يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء» نزلت في أحبار اليهود حين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه الصلاة والسلام وقيل كتابا محررا بخط سماوي على اللوح كما نزلت التوراة أو كتابا نعاينه حين ينزل أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول الله وما كان مقصدهم بهذه العظيمة إلا التحكم والتعنت قال الحسن ولو سألوه لكي يتبينوا الحق أعطاهم وفيما آتاهم كفاية
«فقد سألوا موسى أكبر من ذلك» جواب شرط مقدر أي إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى شيئا أكبر وقيل تعليل للجواب أي فلا تبال بسؤالهم فقد سألوا موسى أكبر وهذه المسألة وإن صدرت عن أسلافهم لكنهم لما كانوا مقتدين بهم في كل ما يأتون وما يذرون أسندت إليهم والمعنى أن لهم في ذلك عرقا راسخا وأن ما اقترحوا عليك ليس أول جهالاتهم
«فقالوا أرنا الله جهرة» أي أرناه نره جهرة أي عيانا أو مجاهرين معاينين له والفاء تفسيرية
«فأخذتهم الصاعقة» أي النار التي جاءت من السماء فأهلكتهم وقرئ الصعقة
«بظلمهم» أي بسبب ظلمهم وهو تعنتهم وسؤالهم لما يستحيل في تلك الحالة التي كانوا عليها وذلك لا يقتضى امتناع الرؤية مطلقا
«ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات» أي المعجزات التي أظهرها لفرعون من العصا واليد البيضاء وفلق البحر وغيرها لا التوراة لأنها لم تنزل عليهم بعد
«فعفونا عن ذلك» ولم نستأصلهم وكانوا أحقاء به قيل هذا استدعاء لهم إلى التوبة كأنه قيل إن أولئك أجرموا تابوا فعفونا عنهم فتوبوا أنتم أيضا حتى نعفو عنكم
«وآتينا موسى سلطانا مبينا» سلطانا ظاهرا عليهم حيث أمرهم بأن يقتلوا
249

أنفسهم توبة عن معصيتهم
«ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم» أي بسبب ميثاقهم ليعطوه على ما روى أنهم امتنعوا عن قبول شريعة التوراة فرفع الله تعالى عليهم الطور فقبلوها أو ليخافوا فلا ينقضوه على ما روى أنهم هموا بنقضه فرفع الله تعالى عليهم الجبل فخافوا وأقلعوا عن النقض وهو الأنسب بما سيأتي من قوله عز وجل وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
«وقلنا لهم» على لسان موسى عليه السلام والطور مظل عليهم
«ادخلوا الباب» قال قتادة كنا نحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس وقيل هو إيليا وقيل هو أريحا وقيل هو اسم قرية وقيل باب القبة التي كانوا يصلون إليها فإنهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى عليه السلام
«سجدا» أي متطامنين خاضعين
«وقلنا لهم لا تعدوا» أي لا تظلموا باصطياد الحيتان
«في السبت» وقرئ لا تعتدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن أصله تعتدوا فأدغمت التاء في الدال لتقاربهما في المخرج بعد نقل حركتها إلى العين
«وأخذنا منهم» على الامتثال بما كلفوه
«ميثاقا غليظا» مؤكدا وهو العهد الذي أخذه الله عليهم في التوراة قيل إنهم أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عن الدين فالله تعالى يعذبهم بأي أنواع العذاب أراد
«فبما نقضهم ميثاقهم» ما مزيدة للتأكيد أو نكرة تامة ونقضهم بدل منها والباء متعلقة بفعل محذوف أي فبسبب نقضهم ميثاقهم ذلك فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والمسخ وغيرهما من العقوبات النازلة عليهم أو على أعقابهم روى انهم اعتدوا في السبت في عهد داود عليه السلام فلعنوا ومسخوا قردة وقيل متعلقة بحرمنا على أن قوله تعالى فبظلم بدل من قوله تعالى فيما وما عطف عليه فيكون التحريم معللا بالكل ولا يخفى أن قولهم إنا قتلنا المسيح وقولهم على مريم البهتان متأخر عن التحريم ولا مساغ لتعلقها بما دل عليه قوله تعالى بل طبع الله عليها بكفرهم لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة قوله تعالى وقولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره
«وكفرهم بآيات الله» أي بالقرآن أو بما في كتابهم
«وقتلهم الأنبياء بغير حق» كزكريا ويحيى عليهما السلام
«وقولهم قلوبنا غلف» جمع أغلف أي هي مغشاة بأغشية جبلية لا يكاد يصل إليها ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو هو تخفيف غلف جمع غلاف أي هي أوعية للعلوم فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره قاله ابن عباس وعطاء وقال الكلبي يعنون أن قلوبنا بحيث لا يصل إليها حديث إلا وعته ولو كان في حديثك خير لوعته أيضا
«بل طبع الله عليها بكفرهم» كلام معترض بين المعطوفين جئ به على وجه الاستطراد مسارعة إلى رد زعمهم الفاسد أي ليس كفرهم وعدم وصول الحق إلى قلوبهم لكونها غلفا بحسب الجبلة بل الأمر بالعكس حيث ختم الله عليها بسبب كفرهم أو ليست قلوبهم كما زعموا بل هي مطبوع عليها
250

بسبب كفرهم
«فلا يؤمنون إلا قليلا» منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه أو إلا إيمانا قليلا لا يعبأ به
«وبكفرهم» أي بعيسى عليه السلام وهو عطف على قولهم وإعادة الجار لطول ما بينهما بالاستطراد وقد جوز عطفه على بكفرهم فيكون هو ما عطف عليه من أسباب الطبع وقيل هذا المجموع معطوف على مجموع ما قبله وتكرير ذكر الكفر للإيذان بتكرر كفرهم حيث كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة والسلام
«وقولهم على مريم بهتانا عظيما» لا يقادر قدره حيث نسبوها إلى ما هي عنه بألف منزل
«وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله» نظم قولهم هذا في سلك سائر جناياتهم التي نعيت عليهم ليس لمجرد كونه كذبا بل لتضمنه لابتهاجهم بقتل النبي عليه السلام والاستهزاء به فإن وصفهم له بعنوان الرسالة إنما هو بطريق التهكم به عليه السلام كما في قوله تعالى يا أيها الذي نزل عليه الذكر الخ ولإنبائه عن ذكرهم له عليه السلام بالوجه القبيح على ما قيل من أن ذلك وضع للذكر جميل من جهته تعالى مكان ذكرهم القبيح وقيل نعت له عليه السلام من جهته تعالى مدحا له ورفعا لمحله عليه السلام وإظهارا لغاية جراءتهم في تصديهم لقتله ونهاية وقاحتهم في افتخارهم بذلك
«وما قتلوه وما صلبوه» حال واعتراض
«ولكن شبه لهم» روى أن رهطا من اليهود سبوه عليه السلام وأمه فدعا عليهم فمسخهم الله تعالى قردة وخنازير فأجمعت اليهود على قتله فأخبره الله تعالى بأنه يرفعه إلى السماء فقال لأصحابه أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل فيصلب ويدخل الجنة فقال رجل منهم أنا فألقى الله تعالى عليه شبهه فقتل وصلب وقيل كان رجل ينافق عيسى عليه السلام فلما أرادوا قتله قال أنا أدلكم عليه فدخل بيت عيسى عليه السلام فرفع عيسى عليه السلام وألقى شبهة على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى عليه السلام وقيل إن طيطانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فألقى الله تعالى عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى عليه السلام فأخذ وقتل وأمثال هذه الخوارق لا تستبعد في عصر النبوة وقيل إن اليهود لما هموا بقتله عليه السلام فرفعه الله تعالى إلى السماء خاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم فأخذوا إنسانا فقتلوه وصلبوه ولبسوا على الناس وأظهروا لهم أنه هو المسيح وما كانوا يعرفونه إلا بالاسم لعدم مخالطته عليه السلام لهم إلا قليلا وشبه مسندا إلى الجار والمجرور كأنه
قيل ولكن وقع لهم التشبيه بين عيسى عليه السلام والمقتول أوفى الأمر على قول من قال لم يقتل أحد ولكن أرجف بقتله فشاع بين الناس أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم مقتولا
«وإن الذين اختلفوا فيه» أي في شأن عيسى عليه السلام فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود إنه كان كذبا فقتلناه حتما وتردد آخرون فقال بعضهم إن كان هذا عيسى
251

فأين صاحبنا وقال بعضهم الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا وقال من سمع منه عليه السلام إن الله يرفعني إلى السماء إنه رفع إلى السماء وقال قوم صلب الناسوت وصعد اللاهوت
«لفي شك منه» لفي تردد والشك كما يطلق على ما لم يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد وعلى ما يقابل العلم ولذلك أكد بقوله تعالى
«ما لهم به من علم إلا اتباع الظن» استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن ويجوز أن يفسر الشك بالجهل والعلم بالاعتقاد الذي تسمن إليه النفس جزما كان أو غيره فالاستثناء حينئذ متصل
«وما قتلوه يقينا» أي قتلا يقينا كما زعموا بقولهم إنا قتلنا المسيح وقيل معناه وما علموه يقينا كما في قوله من قال كذاك تخبر عنها العالمات بها وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا من قولهم قتلت الشيء علما ونحرته علما إذا تبالغ علمك فيه وفيه تهكم بهم لإشعاره بعلمهم في الجملة وقد نفي ذلك عنهم بالكلية
«بل رفعه الله إليه» رد وإنكار لقتله وإثبات الرفعة
«وكان الله عزيزا» لا يغالب فيما يريده
«حكيما» في جميع أفعاله فيدخل فيها تدبيراته تعالى في أمر عيسى عليه السلام دخولا أوليا
«وإن من أهل الكتاب» أي من اليهود والنصارى وقوله تعالى
«إلا ليؤمنن به قبل موته» جملة قسمية وقعت صفة لموصوف محذوف إليه يرجع الضمير الثاني والأول لعيسى عليه السلام أي وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى عليه السلام قبل أن تزهق روحه بأنه عبد الله ورسوله ولات حين إيمان لانقطاع وقت التكليف ويعضده بأنه قرئ ليؤمنن قبل موتهم بضم النون لما أن أحدا في معنى الجمع وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسره كذلك فقال له عكرمة فإن أتاه رجل فضرب عنقه قال لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه قال فإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع قال يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به وعن شهر بن حوشب قال لي الحجاج آية ما قرأتها إلا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال إني أوتى بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك فقلت إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا يا عدو الله أتاك عيسى عليه السلام نبيا فكذبت به فيقول آمنت أنه عبد نبي وتقول للنصراني أتاك عيسى عليه السلام نبيا فزعمت أنه الله وابن الله فيؤمن أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه قال وكان متكئا فاستولا جالسا فنظر إلي وقال ممن سمعت هذا قلت حدثني محمد بن علي بن الحنفية فأخذ ينكث الأرض بقضيبه ثم قال لقد أخذتها من عين صافية والإخبار بحالهم هذه وعيد لهم وتحريض على المسارعة إلى الإيمان به قبل أن يضطروا إليه مع انتفاء جدواه وقيل كلا الضميرين لعيسى والمعنى وما من أهل الكتاب الموجودين عند نزول عيسى عليه السلام أحد إلا ليؤمنن به قبل موته روي أنه عليه السلام ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ويهلك الله في زمانه الدجال وتقع الأمنة
252

حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمور مع البقر والذئاب مع الغنم ويعلب الصبيان بالحيات ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وقيل الضمير الأول يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم
«ويوم القيامة يكون» أي عيسى عليه السلام
«عليهم» على أهل الكتاب «شهيدا» فيشهد على اليهود بالتكذيب وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
«فبظلم من الذين هادوا» لعل ذكرهم بهذا العنوان للإيذان بكمال عظم ظلمهم بتذكير وقوعه بعد أن هادوا أي تابوا من عبادة العجل مثل تلك التوبة الهائلة المشروطة ببخع النفوس إثر بيان عظمه في حد ذاته بالتنوين التفخيمي أي بسبب ظلم عظيم خارج عن حدود الأشباه والإشكال الصادر عنهم
«حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم» ولمن قبلهم لا بشيء غيره كما زعموا فإنهم كانوا كلما ارتكبوا معصية من المعاصي التي اقترفوها يحرم عليهم نوع من الطيبات التي كانت محللة لهم ولمن تقدمهم من أسلافهم عقوبة لهم وكانوا مع ذلك يفترون على الله سبحانه ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه وإنما كان على نوح وإبراهيم من بعدهما حتى انتهى الامر إلينا فكذبهم الله عز وجل في مواقع كثيرة وبكتهم بقوله تعالى كلك الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أي في ادعاكم أنه تحريم قديم روي أنه عليه السلام لما كلفهم إخراج التوراة لم يجسر أحد على إخراجها لما أن كون التحريم بظلمهم كان مسطورا فيها فبهتوا وانقلبوا صاغرين
«وبصدهم عن سبيل الله كثيرا» أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا
«وأخذهم الربا وقد نهوا عنه» فإن الربا كان محرما عليهم كما هو محرم علينا وفيه دليل على أن النهي يدل على حرمة المنهي عنه
«وأكلهم أموال الناس بالباطل» بالرشوة وسائر الوجوه المحرمة
«وأعتدنا للكافرين منهم» أي للمصرين على الكفر لا لمن تاب وآمن من بينهم
«عذابا أليما» سيذوقونه في الآخرة كما ذاقوا في الدنيا عقوبة التحريم
«لكن الراسخون في العلم منهم» استدراك من قوله تعالى واعتدنا الخ وبيان لكون بعضهم على خلاف حالهم عاجلا أو آجلا أي لكن الثابتون في العلم منهم المتقنون المستبصرون فيه غير التابعين للظن كأولئك الجهلة والمراد بهم عبد الله بن سلام وأصحابه
«والمؤمنون»
أي منهم وصفوا بالإيمان بعد ما وصفوا بما يوجبه من الرسوخ في العلم بطريق العطف المنبئ عن المغايرة بين المعطوفين تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي وقوله تعالى
«يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك» حال من المؤمنون مبينة لكيفية إيمانهم وقيل اعتراض مؤكد لما قبله وقوله عز وجل
«والمقيمين الصلاة» قيل نصب بإضمار
253

فعلى تقديره وأعني المقيمين الصلاة على أن الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر وقيل هو عطف على ما أزل إليك على أن المراد بهم الأنبياء عليهم السلام أي يؤمنون بالكتب وبالأنبياء أو الملائكة قال مكي أي ويؤمنون بالملائكة الذين صفتهم إقامة الصلاة لقوله تعالى يسبحون الليل والنهار لا يفترون وقيل عطف على الكاف في إليك أي يؤمنون بما أنزل إليه وإلى المقيمين الصلاة وقرئ بالرفع على أنه معطوف على المؤمنون بناء على ما مر من تنزيل التغاير العنواني في منزلة التغاير الذاتي وكذا الحال فيما سيأتي من المعطوفين فإن قوله تعالى
«والمؤتون الزكاة» عطف على المؤمنون مع اتحاد الكل ذاتا وكذا الكلام في قوله تعالى
«والمؤمنون بالله واليوم الآخر» فإن المراد بالكل مؤمنو أهل الكتاب قد وصفوا أولا بكونهم راسخين في علم الكتاب إيذانا بأن ذلك موجب للإيمان حتما وأن من عداهم إنما بقوا مصرين على الكفر لعدم رسوخهم فيه ثم بكونهم مؤمنين بجميع الكتب المنزلة على الأنبياء ثم بكونهم عاملين بما فيها من الشرائع والاحكام واكتفى من بينها بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة المستتبعين لسائر العبادات البدنية والمالية ثم بكونهم مؤمنين بالمبدأ والمعاد تحقيقا لحيازتهم الإيمان بقطريه وإحاطتهم به من طرفيه وتعريضا بأن من عداهم من أهل الكتاب ليسوا بمؤمنين بواحد منهما حقيقة فإنهم بقولهم عزير ابن الله مشركون بالله سبحانه وبقولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودة كافرون باليوم الآخر وقوله تعالى
«أولئك» إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما عدد من الصفات الجميلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى
«سنؤتيهم أجرا عظيما» خبره والجملة خبر للمبتدأ الذي هو الراسخون وما عطف عليه والسين لتأكيد الوعد وتنكير الأجر للتفخيم وهذا أنسب بتجاوب طرفي الاستدراك حيث أوعد الأولون بالعذاب الأليم ووعد الآخرون بالأجر العظيم كأنه قيل أثر قوله تعالى وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما لكن المؤمنون منهم سنؤتيهم أجرا عظيما وأما ما اجتح إليه الجمهور من جعل قوله تعالى يؤمنون بما أنزل إليك الخ خبرا للمبتدأ ففي كمال السداد خلا أنه غير معترض لتقابل الطرفين وقرئ سيؤتيهم بالياء مراعاة لظاهر قوله تعالى والمؤمنون بالله
«إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده» جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله عليه الصلاة والسلام أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأنه ليس بدعا من الرسل وإنما شأنه في حقيقة الإرسال وأصل الوحي كشأن سائر مشاهير الأنبياء الذين لا ريب لأحد في نبوتهم والكاف في محل النصب على أنه نعب لمصدر محذوف أي إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح أو على أنه
254

حال من ذلك المصدر المقدر معرفا كما هو رأي سيبويه أي أوحينا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا الخ ومن بعده متعلق بأوحينا وإنما بدئ بذكر نوح لأنه أبو البشر وأول نبي شرع الله تعالى على لسانه الشرائع والاحكام وأول نبي عذبت أمته لردهم دعوته وقد أهلك الله بدعائه أهل الأرض
«وأوحينا إلى إبراهيم» عطف على أوحينا إلى نوح داخل معه في حكم التشبيه أي وكما أوحينا إلى إبراهيم
«وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط» وهم أولاد يعقوب عليهم السلام
«وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان» خصوا بالذكر مع ظهور انتظامهم في سلك النبيين تشريفا لهم وإظهارا لفضلهم كما في قوله تعالى من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال وتصريحا بمن ينتمي إليهم اليهود من الأنبياء وتكرير الفعل لمزيد تقرير الايحاء والتنبيه على أنهم طائفة خاصة مستقلة بنوع مخصوص من الوحي
«وآتينا داود زبورا» قال القرطبي كان فيه مائة وخمسون ليس فيها حكم من الأحكام إنما هي حكم ومواعظ وتحميد وتمجيد وثناء على الله تعالى وقرئ بضم الزاء وهو جمع زبر بمعنى مزبور والجملة عطف على أوحينا داخل في حكمه لأن إيتاء الزبور من باب الإيحاء أي وكما آتينا داود زبورا وإيثاره على وأوحينا إلى داود لتحقيق المماثلة في أمر خاص هو إيتاء الكتاب بعد تحقيقها في مطلق الإيحاء ثم أشير إلى تحقيقها في أمر لازم لهما لزوما كليا وهو الإرسال فإن قوله تعالى
«ورسلا» نصب بمضمر يدل عليه أوحينا معطوف عليه داخل معه في حكم التشبيه كما قبله أي وكما أرسلنا رسلا لا بما يفسره قوله تعالى
«قد قصصناهم عليك» أي وقصصنا رسلا كما قالوا وفرعوا عليه أن قوله تعالى قد قصصناهم على الوجه الأول منصوب على أنه صفة لرسلا وعلى الوجه الثاني لا محل له من الاعراب فإنه مما لا سبيل إليه كما ستقف عليه وقرئ برفع رسل وقوله تعالى
«من قبل» متعلق بقصصنا أي قصصنا من قبل هذه السورة أو اليوم
«ورسلا لم نقصصهم عليك» عطف على رسلا منصوب بناصبه وقيل كلاهما منصوب بنزع الخافض والتقدير كما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل الخ والحق أن يكون انتصابهما بأرسلنا فإن فيه تحقيقا للمماثلة بين شأنه عليه الصلاة والسلام وبين شؤون من يعترفون بنبوته من الأنبياء عليهم السلام في مطلق الإيحاء ثم في إيتاء الكتاب ثم في الإرسال فإن قوله تعالى إنا أوحينا إليك منتظم بمعنى آتيناك وأرسلناك حتما كأنه قيل إنا أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده وآتيناك وأرسلناك حتما كأنه قيل إنا أوحينا إليك إيحاء مثل ما أوحينا إلى نوح ومثل ما أوحينا إلى إبراهيم ومن بعده وآتيناك الفرقان إيتاء مثل ما آتينا داود زبورا وأرسلناك إرسالا مثل ما أرسلنا رسلا قد قصصناهم عليك من قبل رسلنا وآخرين لم نقصصهم عليك من غير تفاوت بيك وبينهم في حقيقة الإيحاء وأصل الإرسال فما للكفرة يسألونك شيئا لم يعطه أحد من هؤلاء الرسل عليهم السلام ومن ههنا اتضح أن رسلا لا يمكن نصبه بقصصنا فإن ناصبه أن يكون معطوفا على أوحينا داخلا معه في حكم التشبيه الذي عليه يدور فلك الاحتجاج على الكفرة ولا ريب في أن قصصنا لا تعلق له بشيء من الإيحاء والإيتاء حتى يمكن اعتباره في ضمن
255

قوله تعالى إنا أوحينا إليك ثم يعتبر بينه وبين المذكور مماثلة مصححة للتشبيه على أن تقديره في رسلا الأول يقتضي تقدير نفيه في الثاني وذلك أشد استحالة وأظهر بطلانا
«وكلم الله موسى» برفع الجلالة ونصب موسى وقرئ على القلب وقوله تعالى
«تكليما» مصدر مؤكد رافع لاحتمال المجاز قال الفراء العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد به لم يكن إلا حقيقة الكلام والجملة إما معطوفة على قوله تعالى إنا أوحينا إليك عطف القصة على القصة لا على آتينا وما عطف عليه وإما حال بتقدير قد كما ينبئ عنه تغيير الأسلوب بالالتفات والمعنى أن التكليم بغير واسطة منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم فلم يكن ذلك قادحا في نبوة سائر الأنبياء علهم السلام فكيف يتوهم كون نزول التوراة عليه عليه السلام جملة قادحا في صحة نبوة من أنزل عليه الكتاب مفصلا مع ظهور أن نزولها كذلك لما آمنوا بها ومع ذلك ما آمنوا بها إلا بعد اللتيا والتي وقد فضل الله تعالى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
«رسلا مبشرين ومنذرين» نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا أو على الحال بأن يكون رسلا موطئا لما بعده أو على البداية من رسلا الأول أي مبشرين لأهل الطاعة بالجنة ومنذرين للعصاة بالنار
«لئلا يكون للناس على الله حجة» أي معذرة يعتذرون بها قائلين لولا أرسلت إلينا رسولا فيبين لنا شرائعك ويعلمنا ما لم نكن ما لم نكن نعلم من أحكامك لقصور القوة البشرية عن إدراك كلياتها كما في قوله عز وجل ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية وإنما سميت حجة مع استحالة أن يكون لأحد عليه سبحانه حجة في فعل من أفعاله بل له أن يفعل ما يشاء كما يشاء للتنبيه على أن المعذرة في القبول عنده تعالى بمقتضى كرمه ورحمته لعباده بمنزلة الحجة القاطعة التي لا مرد لها ولذلك قال تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحد أغير من الله تعالى ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن وما أحد أحب إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه وما أحد أحب إليه العذر من الله تعالى ولذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب فاللام متعلقة بأرسلنا وقيل بقوله تعالى مبشرين ومنذرين وحجة اسم كان وللناس خبرها وعلى الله متعلق بمحذوف وقع حالا من حجة كائنة على الله أو هو الخبر وللناس حال على الوجه المذكور ويجوز أن يتعلق كل منهما بما تعلق به الآخر الذي هو الخبر ولا يجوز التعلق بحجة لأن المعمول المصدر لا يتقدم عليه وقوله تعالى
«بعد الرسل» أي بعد إرسالهم وتبليغ الشرائع إلى الأمم على ألسنتهم متعلق بحجة أو بمحذوف وقع صفة لها لأن الظروف يوصف بها الأحداث كما يخبر بها عنها نحو القتال يوم الجمعة
«وكان الله عزيزا» لا يغالب في أمر من أموره ومن قضيته الامتناع عن الإجابة إلى مسألة المتعنتين
«حكيما» في جميع أفعاله التي من جملتها إرسال الرسل وإنزال الكتب فإن تعدد الرسل والكتب واختلافها في كيفية النزول وتغايرها
256

في بعض الشرائع والأحكام إنما لتفاوت طبقات الأمم في الأحوال التي عليها يدور فلك التكليف فكما أنه سبحانه وتعالى برأهم على أنحاء شتى وأطوار متباينة حسبما تقتضيه الحكمة التكوينية كذلك تعبدهم بما يليق بشأنهم وتقتضيه أحوالهم المتخالفة واستعداداتهم المتغايرة من الشرائع والأحكام حسبما تستدعيه الحكمة التشريعية وراعى في إرسال الرسل وإنزال الكتب وغير ذلك من الأمور المتعلقة بمعاشهم ومعادهم ما فيه مصلحتهم فسؤال تنزيل الكتاب جملة اقتراح فاسد إذ حينئذ تتعاقم التكاليف فيثقل على المكلف قبولها والخروج عن عهدتها وأما التنزيل المنجم الواقع حسب الأمور الداعية إليه فهو أيسر قبولا وأسهل امتثالا
«لكن الله يشهد» بتخفيف النون ورفع الجلالة وقرئ بتشديد النون ونصب الجلالة وهو استدراك عما يفهم مما قبله كأنهم لما تعنتوا عليه بما سبق من السؤال واحتج عليهم بقوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلخ قيل أنهم لا يشهدون بذلك لكن الله يشهد
«بما أنزل إليك» على البناء للفاعل وقرئ على البناء للمفعول والباء صلة للشهادة أي يشهد بحقية ما أنزل إليك من القرآن المعجز الناطق بنبوتك وقيل لما نزل قوله تعالى إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل لكن الله يشهد
«أنزله بعلمه» أي ملتبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره وهو تأليفه على نمط بديع يعجز عنه كل بليغ أو بعلمه بحال من أنزله عليه واستعداده لاقتباس الأنوار القدسية أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم فالجار والمجرور على الأولين حال من الفاعل وعلى الثالث من المفعول والجملة في موقع التفسير لما قبلها وقرئ نزله وقوله تعالى
«والملائكة يشهدون» أي بذلك مبتدأ وخبر والجملة عطف على ما قبلها وقيل حال من مفعول أنزله أي أنزله والملائكة يشهدون بصدقه وحقيته
«وكفى بالله شهيدا» على صحة نبوتك حيث نصب لها معجزات باهرة وحججا ظاهرة مغنية عن الاستشهاد بغيرها
«إن الذين كفروا» أي بما أنزل الله تعالى وشهد به أو بكل ما يجب الإيمان به وهو داخل فيه دخولا أوليا والمراد بهم اليهود حيث كفروا به
«وصدوا عن سبيل الله» وهو دين الإسلام من أراد سلوكه بقولهم ما نعرف صفة محمد في كتابنا وقرئ صدوا مبنيا للمفعول
«قد ضلوا» بما فعلوا من الكفر والصد عن طريق الحق
«ضلالا بعيدا» لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال ولأن المضل يكون أعرق في الضلال وأبعد من الإقلاع عنه
«إن الذين كفروا» أي بما ذكر آنفا
«وظلموا» أي محمدا صلى الله عليه وسلم بإنكار نبوته وكتمان نعوته الجليلة ووضع غيرها مكانها أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد
«لم يكن الله ليغفر لهم» لاستحالة تعلق المغفرة بالكافر
«ولا ليهديهم طريقا»
257

«إلا طريق جهنم» لعدم استعدادهم للهداية إلى الحق والأعمال الصالحة التي هي طريق الجنة والمراد بالهداية المفهومة من الاستثناء بطريق الإشارة خلقه تعالى لأعمالهم السيئة المؤدية بهم إلى جهنم عند صرف قدرتهم واختيارهم إلى اكتسابها أو سوقهم إليها يوم القيامة بواسطة الملائكة والطريق على عمومه والاستثناء متصل وقيل خاص بطريق الحق والاستثناء منقطع
«خالدين فيها» حال مقدرة من الضمير المنصوب والعامل فيها ما دل عليه الاستثناء دلالة واضحة كأنه قيل يدخلهم جهنم خالدين فيها الخ وقوله تعالى
«أبدا» نصب على الظرفية رافع لاحتمال حمل الخلود على المكث الطويل
«وكان ذلك» أي جعلهم خالدين في جهنم
«على الله يسيرا» لاستحالة أن يتعذر عليه شيء من مراداته تعالى
«يا أيها الناس» بعد ما حكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعلل اليهود بالأباطيل واقتراحهم الباطل تعنتا ورد عليهم ذلك بتحقيق نبوته عليه الصلاة والسلام وتقرير رسالته ببيان أن شأنه عليه الصلاة والسلام في أمر الوحي والإرسال كشئون من يعترفون بنبوته من مشاهير الأنبياء عليهم السلام وأكد ذلك بشهادته سبحانه وشهادة الملائكة أمر المكلفون كافة على طريق تلوين الخطاب بالإيمان بذلك أمرا مشفوعا بالوعد بالإجابة والوعيد على الرد تنبيها على أن الحجة قد لزمت ولم يبق بعد ذلك لأحد عذر في عدم القبول وقوله عز وجل
«قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم» تكرير للشهادة وتقرير لحقية المشهود به وتمهيد لما يعقبه من الأمر بالإيمان وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة لتأكيد وجوب طاعته والمراد بالحق هو القرآن الكريم والباء متعلقة بجاءكم فهي للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من الرسول أي ملتبسا بالحق ومن أيضا متعلقة إما بالعقل وإما بمحذوف هو حال من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق ومن أيضا متعلقة إما بالفعل وإما بمحذوف هو حال من الحق أي جاءكم به من عنده تعالى أو جاءكم بالحق كائنا من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين للإيذان بأن ذلك لتربيتهم وتبليغهم إلى كمالهم اللائق بهم ترغيبا لهم في الامتثال بما بعده من الأمر والفاء في قوله عز وجل
«فآمنوا» للدلالة على إيجاب ما قبلها لما بعدها أي فآمنوا به وبما جاء به من الحق وقوله تعالى
«خيرا لكم» منصوب على أنه مفعول لفعل واجب الإضمار كما هو رأي الخليل وسيبويه أي اقصدوا أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر أو على أنه نعت لمصدر محذوف كما هو في رأي الفراء أي آمنوا إيمانا خيرا لكم أو على أنه خبر كان المضمرة الواقعة جوابا للأمر لاجزاء للشرط الصناعي وهو رأي الكسائي وأبي عبيدة أي يكن الإيمان خيرا لكم
«وإن تكفروا» أي إن تصروا وتستمروا على الكفر به
«فإن لله ما في السماوات والأرض» من الموجودات سواء كانت داخلة في حقيقتهما وبذلك يعلم حال أنفسهما على أبلغ وجه وآكده أو خارجة عنهما مستقرة فيهما من العقلاء وغيرهم فيدخل في جملتهم المخاطبون دخولا أوليا أي كلها له عز وجل
258

خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج من ملكوته وقهره شيء منها فمن هذا شأنه فهو قادر على تعذيبكم بكفركم لا محالة أو فمن كان كذلك فهو غني عنكم وعن غيركم لا يتضرر بكفركم ولا ينتفع بإيمانكم وقيل فمن كان كذلك فله عبيد يعبدونه وينقادون لأمره
«وكان الله عليما» مبالغا في العلم فهو أعلم بأحوال الكل فيدخل في ذلك علمه تعالى بكفرهم دخولا أوليا
«حكيما» مراعيا للحكمة في جميع أفعاله التي من جملتها تعذيبه تعالى إياهم بكفرهم
«يا أهل الكتاب» تجريد للخطاب وتخصيص له بالنصارى زجرا لهم عما هم عليه من الكفر والضلال
«لا تغلوا في دينكم» بالإفراط في رفع شأن عيسى عليه السلام وادعاء ألوهيته وأما غلو اليهود في حط رتبته عليه السلام ورميهم له بأنه ولد لغير رشدة فقد نعى عليهم
ذلك فيما سبق
«ولا تقولوا على الله إلا الحق» أي لا تصفوه بما يستحيل اتصافه به من الحلول والاتحاد واتخاذ الصاحبة والولد بل نزهوه عن جميع ذلك
«إنما المسيح» قد مر تفسير في سورة آل عمران وقرئ بكسر الميم وتشديد السين كالسكيت على صيغة المبالغة وهو مبتدأ وقوله تعالى
«عيسى» بدل منه أو عطف بيان له وقوله تعالى
«رسول الله» خبر للمبتدأ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل النهي عن القول الباطل المستلزم للأمر بضده أعني الحق أي أنه مقصور على رتبة الرسالة لا يتخطاها
«وكلمته» عطف على رسول الله أي مكون بكلمته وأمره الذي هو كن من غير واسطة أب ولا نطفة
«ألقاها إلى مريم» أي أوصلها إليها وحصلها فيها بنفخ جبريل عليه السلام وقيل أعلمها إياها وأخبرها بها بطريق البشارة وذلك قوله تعالى إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيس بن مريم وقيل الجملة حال من ضميره عليه السلام المستكن فيما دل عليه وكلمته من معنى المشتق الذي هو العامل فيها وقد مقدرة معها
«وروح منه» قيل هو الذي نفخ جبريل عليه السلام في درع مريم فحملت بإذن الله تعالى سمى النفخ روحا لأنه ريح تخرج من الروح ومن لابتداء الغاية مجازا لا تبعيضية كما زعمت النصارى يحكى أن طبيبا حاذقا نصرانيا للرشيد ناظر علي بن حسين الواقدي المروزي ذات يوم فقال له إن في كتابكم ما يدل على أن عيسى عليه السلام جزء منه تعالى وتلا هذه الآية فقرأ الواقدي وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه فقال إذن يلزم أن يكون جميع تلك الأشياء جزءا من الله تعالى علوا كبيرا فانقطع النصراني فأسلم وفرح الرشيد فرحا شديدا ووصل الواقدي بصلة فاخرة وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لروح أي كائنة من جهته تعالى جعلت منه تعالى وإن كانت بنفخ جبريل عليه السلام لكون النفخ بأمره سبحانه وقيل سمي روحا لإحيائه الأموات وقيل لإحيائه القلوب كما سمي به القرآن
259

لذلك في قوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وقيل أريد بالروح الذي أوحي إلى مريم بالبشارة وقيل جرت العادة بأنهم إذا أرادوا وف شيء بغاية الطهارة والنظافة قالوا إنه روح فلما كان عيسى عليه السلام متكونا من النفخ لا من النطفة وصف بالروح وتقديم كونه عليه السلام رسول الله في الذكر مع تأخره عن كونه كلمته تعالى وروحا منه في الوجود لتحقيق الحق من أول الأمر بما هو نص فيه غير محتمل للتأويل وتعيين مآل ما يحتمله وسد باب التأويل الزائغ
«فآمنوا بالله» وخصوه بالألوهية
«ورسله» أجمعين وصفوهم بالرسالة ولا تخرجوا بعضهم عن سلكهم بوصفه بالألوهية
«ولا تقولوا ثلاثة» أي الآلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم كما ينبئ عنه قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ثلاثة إن صح أنهم يقولون الله جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس وأنهم يريدون بالأول الذات وقيل الوجود وبالثاني العلم وبالثالث الحياة
«انتهوا» أي عن التثليث
«خيرا لكم» قد مر وجوه انتصابه
«إنما الله إله واحد» أي بالذات منزه عن التعدد بوجه من الوجوه فالله مبتدأ وإله خبره وواحد نعت أي منفرد في ألوهيته
«سبحانه أن يكون له ولد» أي أسبحه تسبيحا من ذلك فإنه إنما يتصور فيمن يماثله شيء ويتطرق إليه فناء والله سبحانه منزه عن أمثاله وقرئ أن يكون اي سبحانه ما يكون له ولد وقوله تعالى
«له ما في السماوات وما في الأرض» جملة مستأنفة مسوقة لتعليل التنزيه وتقريره أي له ما فيهما من الموجودات خلقا وملكا وتصرفا لا يخرج عن ملكوته شيء من الأشياء التي من جملتها عيسى عليه السلام فكيف يتوهم كونه ولدا له تعالى
«وكفى بالله وكيلا» إليه يكل كل الخلق أمورهم وهو غني عن العالمين فأني يتصور في حقه اتخاذ الولد الذي هو شأن المعجزة المحتاجين في تدبير أمورهم إلى من يخلفهم ويقوم مقامهم
«لن يستنكف المسيح» استئناف مقرر لما سبق من التنزيه والاستنكاف الأنفة والترفع من نكفت الدمع إذا نجيته عن وجهك بالأصبع أي لن يأنف ولن يترفع
«أن يكون عبدا لله» أي أن يكون عبدا له تعالى مستمرا على عبادته وطاعته حسبما هو وظيفة العبودية كيف وأن ذلك أقصى مراتب الشرف والاقتصار على ذكر عدم استنكافه عليه السلام عنه مع أن شأنه عليه السلام المباهاة به كما يدل عليه أحواله ويفصح عنه أقواله أو لا يرى أن أول مقالة قالها للناس قوله إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا لوقوعه في موقع الجواب عما قاله الكفرة روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم تعيب صاحبنا قال ومن صاحبكم قالوا عيسى قال وأي شيء أقول قالوا تقول إنه عبد الله قال إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله قالوا بلى فنزلت وهو السر في جعل المستنكف عنه كونه عليه السلام عبدا له تعالى دون أن يقال عن عبادة الله ونحو ذلك مع إفادة فائدة جليلة هي كمال نزاهته عليه السلام عن الاستنكاف بالكلية فإن كونه عبدا له تعالى مستمرة لدوام العبادة قطعا فعدم الاستنكاف عنه مستلزم لعدم الاستنكاف
260

عن عبادته تعالى كما أشير إليه بخلاف عبادته تعالى فإنها حالة متجددة غير مستلزمة للدوام يكفي في اتصاف موصوفها بها تحققها مرة فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عن دوامها
«ولا الملائكة المقربون» عطف على المسيح أي ولا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا لله تعالى وقيل إن أريد بالملائكة كل واحد منهم لم يحتج إلى التقدير
واحتج بالآية من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام وقال مسافة لرد النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية وذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم مستلزما لعدم استنكافه عليه السلام وأجيب بأن مناط كفر النصارى ورفعهم له عليه السلام عن رتبة العبودية لما كان اختصاصه عليه السلام وامتيازه عن سائر أفراد البشر بالولادة من غير أب وبالعلم من المغيبات وبالرفع إلى السماء عطف على عدم استنكافه عن عبوديته تعالى عدم استنكاف من هو أعلى درجة منه فيما ذكر فإن الملائكة مخلوقون من غير أب ولا أم وعالمون بما لا يعلمه البشر من المغيبات ومقارهم السماوات العلا ولا نزاع لأحد في علو درجتهم من هذه الحيثية وإنما النزاع في علوها من حيث كثرة الثواب على الطاعات وبأن الآية ليست للرد على النصارى فقط بل على عبدة الملائكة أيضا فلا اتجاه لما قالوا حينئذ وإن سلم اختصاصها بالرد على النصارى فلعله أريد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير والتفصيل لا باعتبار التكبير والتفضيل كما في قولك أصبح الأمير لا يخالفه رئيس ولا مرءوس ولئن سلم إرادة التفضيل فغاية الأمر الدلالة على أفضلية المقربين منهم وهم الكروبيون الذين حول العرش أو من هو أعلى منهم رتبة من الملائكة عليهم السلام على المسيح من الأنبياء عليهم السلام وليس يلزم من ذلك فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا وهل التشاجر إلا فيه
«ومن يستنكف عن عبادته» أي عن طاعته فيشمل جميع الكفرة لعدم طاعتهم الثبوت للكفرة فإن عدم طاعتهم له تعالى مما لا سبيل لهم إن إنكار اتصافهم به إن قيل لم عبر عن عدم طاعتهم له تعالى بالاستنكاف عنها مع أن ذلك منهم كان بطريق إنكار كون الأمر من جهته تعالى لا بطريق الاستنكاف قلنا لأنهم كانوا يستنكفون عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهل هو الاستنكاف عن طاعة الله تعالى إذ لا أمر له عليه الصلاة والسلام سوى أمره تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله
«ويستكبر» الاستكبار الأنفة عما لا ينبغي أن يؤنف عنه وأصله طلب الكبر لنفسه بغير استحقاق له لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله فيه بل بمعنى عد نفسه كبيرا واعتقاده كذلك وإنما عبر عنه بما يدل على الطلب للإيذان بأن مآله محض الطلب بدون حصول المطلوب وقد عبر عن مثل ذلك بنفس الطلب في قوله تعالى يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا فإنهم ما كانوا يطلبون ثبوت العوج لسبيل الله مع اعتقادهم لاستقامتها بل كانوا يعدونها ويعتقدونها معوجة ويحكمون بذلك ولكن عبر عن ذلك بالطلب لما ذكر من الإشعار بأن ليس هناك شيء سوى الطلب والاستكبار دون الاستنكاف المنبئ عن توهم لحقوق العار والنقص من المستنكف عنه
«فسيحشرهم إليه جميعا» أي المستنكفين ومقابليهم المدلول عليه بذكر عدم استنكاف المسيح والملائكة عليهم السلام وقد ترك ذكر أحد الفريقين في المفصل تعويلا على إنباء التفصيل عنه وثقة
261

بظهور اقتضاء حشر أحدهما لحشر الآخر ضرورة عموم الحشر للخلائق كافة كما ترك ذكر أحد الفريقين في التفصيل عند قوله تعالى فأما الذين آمنوا بالله الآية مع عموم الخطاب لهما اعتمادا على ظهور اقتضاء إثابة أحدهما لعقاب الآخر ضرورة شمول الجزاء للكل وقيل الضمير للمستنكفين وهناك مقدر اقتضاء إثابة أحدهما لعقاب الآخر ضرورة شمول الجزاء للكل وقيل الضمير للمستنكفين وهناك مقدر معطوف عليه والتقدير فسيحشرهم وغيرهم وقيل المعنى فسيحشرهم إليه يوم يحشر العباد لمجازاتهم وفيه إن الأنسب بالتفصيل الآتي اعتبار حشر الكل في الإجمال على نهج واحد وقرئ فسيحشرهم بنون العظمة بطريق الالتفات
«فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات» بيان لحال الفريق المطوي ذكره في الإجمال قدم على بيان حال ما يقابله إبانة لفضله ومسارعة إلى بيان كونه حشره أيضا معتبرا في الإجمال وإيراده بعنوان الإيمان والعمل الصالح لا بوصف عدم الاستنكاف المناسب لما قبله وما بعده للتنبيه على أنه المستتبع لما يعقبه من الثمرات
«فيوفيهم أجورهم» من غير أن ينقص منها شيئا أصلا
«ويزيدهم من فضله» بتضعيفها أضعافا مضاعفة وبإعطاء ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
6 «وأما الذين استنكفوا» أي عن عبادته عز وجل
«واستكبروا فيعذبهم» بسبب استنكافهم واستكبارهم
«عذابا أليما» لا يحيط به الوصف
«ولا يجدون لهم من دون الله وليا» بلى أمورهم ويدبر مصالحهم
«ولا نصيرا» بنصرهم من بأسه تعالى وينجيهم من عذابه
«يا أيها الناس» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى كافة المكلفين إثر بيان بطلان ما عليه الكفرة من فنون والضلال وإلزامهم بالبراهين القاطعة التي تخر لها صم الجبال وإزاحة شبههم الواهية بالبينات الواضحة وتنبيه لهم على أن الحجة قد تمت فلم يبق بعد ذلك عله لمتعلل ولا عذر لمعتذر
«قد جاءكم» أي وصل إليكم وتقرر في قلوبكم بحيث لا سبيل لكم إلى الإنكار
«برهان» البرهان ما يبرهن به على المطلوب والمراد به القرآن الدال على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم المثبت لما فيه من الاحكام التي من جملتها ما أشير إليه مما أثبتته الآيات الكريمة من حقية الحق وبطلان الباطل وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر عنه به لما معه من المعجزات التي تشهد بصدقه وقيل هو المعجزات التي أظهرها وقيل هو دين الحق الذي أتى به وقوله تعالى
«من ربكم» إما متعلق بجاءكم أو بمحذوف وقع صفة مشرفة لبرهان مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائن منه تعالى على أن من لابتداء الغاية مجازا وقد جوز على الثاني كونها تبعيضية بحذف المضاف أي كائن من براهين ربكم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لإظهار اللطف بهم والإيذان بأن مجيئه إليهم لتربيتهم وتكميلهم
«وأنزلنا إليكم نورا مبينا» أريد به أيضا القرآن الكريم عبر عنه تارة بالبرهان لما أشير إليه آنفا وأخرى بالنور المنير بنفسه المنور لغيره إيذانا
262

بأنه بين بنفسه مستغن في ثبوت حقيته وكونه من عند الله تعالى بإعجازه غير محتاج إلى غيره مبين لغيره من الأمور المذكورة وإشعارا بهدايته للخلق وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان وقد سلك به مسلك العطف المبني على تغاير الطرفين تنزيلا للمغايرة العنوانية منزلة المغايرة الذاتية وعبر عن ملابسته للمخاطبين تارة بالمجيء المسند إليه المنبىء عن كمال قوته في البرهانية كأنه يجيء بنفسه فيثبت أحكامه من غير أن يجيء به أحد على شبه الكفرة بالإبطال وأخرى بالإنزال الموقع عليه الملائم لحيثية كونه نورا توقيرا له باعتبار كل واحد من عنوانيه حظه اللائق به وإسناد إنزاله إليه تعالى بطريق الالتفات لكمال تشريفه هذا على تقدير كون البرهان عبارة عن القرآن العظيم وأما على تقدير كونه عبارة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن المعجزات الظاهرة على يده أو عن الدين الحق فالأمر هين وقوله تعالى إليكم متعلق بأنزلنا فإن إنزاله بالذات وإن كان إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه منزل إليهم أيضا بواسطته عليه الصلاة والسلام وإنما اعتبر حاله لإظهار كمال اللطف بهم والتصريح بوصوله إليهم مبالغا في الأعذار وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخر عنه لما مر غير مرة من الاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر وللمحافظة على فواصل الآي الكريمة
«فأما الذين آمنوا بالله» حسبما يوجبه البرهان الذي أتاهم
«واعتصموا به» أي عصموا به أنفسهم مما يرديها من زيغ الشيطان وغيره
«فسيدخلهم في رحمة منه وفضل» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الجنة وما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وعبر عن إفاضة الفضل بالإدخال على طريقة قوله علفتها تبنا وماء باردا وتنوين رحمة وفضل تفخيمي ومنه متعلق بمحذوف وقع صفة مشرفة لرحمة
«ويهديهم إليه» أي إلى الله عز وجل وقيل إلى الموعود وقيل إلى عبادته
«صراطا مستقيما» هو الإسلام والطاعة في الدنيا وطريق الجنة في الآخرة وتقديم ذكر الوعد بإدخال الجنة على الوعد بالهداية إليها على خلاف الترتيب في الوجود بين الموعودين للمسارعة إلى التبشير بما هو المقصد الأصلي قبل انتصاب صراطا على أنه مفعول لفعل محذوف ينبئ عنه يهديهم أي يعرفهم صراطا مستقيما
«يستفتونك» أي في الكلالة استغنى عن ذكره بوروده في قوله تعالى
«قل الله يفتيكم في الكلالة» وقد مر تفسيرها في مطلع السورة الكريمة والمستفتي جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه يروى
263

أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع فقال إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت وقيل كان مريضا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني كلالة فكيف أصنع في مالي وروي عنه رضي الله عنه أنه قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب من وضوئه علي فعقلت فقلت يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة فنزلت وقوله تعالى
«إن امرؤ هلك» استئناف مبين للفتيا وارتفع امرؤ أنه مفسر للمحذوف غير مقصود في الكلام أي إن هلك امرؤ غير ذي ولد ذكرا كان أو أنثى واقتصر على ذكر عدم الولد مع أن عدم الولد أيضا معتبر في الكلالة ثقة بظهور الأمر ودلالة تفصيل الورثة عليه وقوله تعالى
«وله أخت» عطف على قوله تعالى ليس له ولد أو حال والمراد بالأخت من ليست لأم فقط فإن فرضها السدس وقد مر بيانه في صدر السورة الكريمة
«فلها نصف ما ترك» أي بالفرض والباقي للعصبة أولها بالرد إن لم يكن له عصبة
«وهو» أي المرء المفروض
«يرثها» أي أخته المفروضة إن فرض هلاكها مع بقائه
«إن لم يكن لها ولد» ذكرا كان أو أنثى فالمراد بإرثه لها إحراز جميع ما لها إذ هو المشروط بانتفاء الولد بالكلية لا إرثه لها في الجملة فإنه يتحقق مع وجود بنتها وليس في الآية ما يدل على سقوط الأخوة بغير الولد ولا على عدم سقوطهم وإنما دلت على سقوطهم مع الأب السنة الشريفة
«فإن كانتا اثنتين» عطف على الشرطية الأولى أي اثنتين فصاعدا
«فلهما الثلثان مما ترك» الضمير لمن يرث بالأخوة والتأنيث والتثنية باعتبار المعنى قيل وفائدة الإخبار عنها باثنتين مع دلالة ألف التثنية على الأثنينية التنبيه على أن المعتبر في اختلاف الحكم هو العدد دون الصغر والكبر وغيرهما
«وإن كانوا» أي من يرث بطريق الأخوة
«إخوة» أي مختلطة
«رجالا ونساء» بدل من أخوة والأصل وإن كانوا أخوة وأخوات فغلب المذكر على المؤنث
«فللذكر» أي فللذكر منهم
«مثل حظ الأنثيين» يقتسمون التركة على طريقة التعصيب وهذا آخر ما أنزل من كتاب الله تعالى في الأحكام روي أن الصديق رضي الله تعالى عنه قال في خطبته ألا إن الآية التي أنزلها الله تعالى في سورة النساء في الفرائض فأولها الولد والوالد وثانيها في الزوج والزوجة والأخوة من الأم والآية التي ختم بها السورة في الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام
«يبين الله لكم» أي حكم الكلالة أو أحكامه وشرائعه التي من جملتها حكمها
«أن تضلوا» أي كراهة أن تضلوا في ذلك وهذا رأي البصريين صرح به المبرد وذهب الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين إلى تقدير اللام في طرفي أن أي لئلا تزولا وقال أبو عبيد رويت للكسائي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وهو لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة أي لئلا يوافق فاستحسنه وليس ما ذكر من الآية والحديث نصا فيما ذهب إليه الكسائي واضرابه فإن التقدير فيهما عند البصريين كراهة أن تزولا وكراهة أن يوافق الخ وقيل ليس هناك حذف ولا تقدير وإنما هو مفعول يبين أي يبين لكم ضلالكم الذي هو من شأنكم إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا
264

عنه وتتحروا خلافه وأنت خبير بأن ذلك إنما يليق بما إذا كان بيانه تعالى تعيين على طريقة مواقع الخطأ والضلال من غير تصريح بما هو الحق والصواب وليس كذلك
«والله بكل شيء» من الأشياء التي من جملتها أحوالكم المتعلقة بمحياكم ومماتكم
«عليم» مبالغ في العلم فيبين لكم ما فيه مصلحتكم ومنفعتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة ورث ميراثا وأعطى من الأجر كمن اشترى محررا وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله تعالى من الذين يتجاوز عنهم والله أعلم
تم بحمد الله تعالى طبع الجزء الثاني مت تفسير العلامة أبي السعود ويليه الجزء الثالث وأوله سورة المائدة
265