الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٦
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة فاطر
(أربعون وخمس آيات مكية)
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحمد لله فاطر السماوات والارض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد فى الخلق ما يشآء إن الله على كل شىء قدير) *.
* (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا) * قد ذكرنا فيما تقدم أن الحمد يكون على النعمة في أكثر الأمر، ونعم الله قسمان: عاجلة وآجلة، والعاجلة وجود وبقاء، والآجلة كذلك إيجاد مرة وإبقاء أخرى، وقوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) * إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإيجاد، واستدللنا عليه بقوله تعالى: * (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) * وقوله في الكهف: * (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * إشارة إلى النعمة العاجلة التي هي الإبقاء، فإن البقاء والصلاح بالشرع والكتاب، ولولاه لوقعت المنازعة والمخاصمة بين الناس ولا يفصل بينهم، فكان يفضي ذلك إلى التقاتل وللتفاني، فإنزال الكتاب نعمة يتعلق بها البقاء العاجل، وفي قوله في سورة سبأ: * (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة) * إشارة إلى نعمة الإيجاد الثاني بالحشر، واستدللنا عليه بقوله: * (يعلم ما يلج في الأرض) * من الأجسام * (وما يخرج منها وما ينزل من السماء) * من الأرواح * (وما يعرج فيها) * وقوله عن الكافرين: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة، قل بلى وربي) * وههنا الحمد إشارة إلى نعمة البقاء في الآخرة، ويدل عليه قوله تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا) * أي يجعلهم رسلا يتلقون عباد الله، كما قال تعالى: * (وتتلقاهم الملائكة) * وعلى هذا فقوله تعالى * (فاطر السماوات) * يحتمل وجهين الأول: معناه مبدعها كما نقل عن ابن عباس والثاني: * (فاطر السماوات والأرض) * أي شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض ويدل عليه قوله تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا) * فإن في ذلك اليوم تكون الملائكة رسلا، وعلى هذا فأول هذه السورة متصل بآخر ما مضى، لأن قوله كما فعل بأشياعهم بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب وتيقنه بأن لا قبول لتوبته ولا فائدة لقوله آمنت. كما قال تعالى عنهم: * (وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش) * فلما ذكر حالهم بين حال الموقن وبشره بإرساله الملائكة إليهم
2

مبشرين، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة.
وقوله تعالى: * (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع) * أقل ما يكون لذي الجناح أن يكون له جناحان وما بعدهما زيادة، وقال قوم فيه إن الجناح إشارة إلى الجهة، وبيانه هو أن الله تعالى ليس فوقه شيء، وكل شيء فهو تحت قدرته ونعمته، والملائكة لهم وجه إلى الله يأخذون منه نعمه ويعطون من دونهم مما يأخذوه بإذن الله، كما قال تعالى: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * وقوله: * (علمه شديد القوى) * وقال تعالى في حقهم: * (فالمدبرات أمرا) * فهما جناحان، وفيهم من يفعل ما يفعل من الخير بواسطة، وفيهم من يفعله لا بواسطة، فالفاعل بواسطة فيه ثلاث جهات، ومنهم من له أربع جهات وأكثر، والظاهر ما ذكرناه أولا وهو الذي عليه إطباق المفسرين.
وقوله تعالى: * (يزيد في الخلق ما يشاء) * من المفسرين من خصصه وقال المراد الوجه الحسن، ومنهم من قال الصوت الحسن، ومنهم من قال كل وصف محمود، والأولى أن يعمم، ويقال الله تعالى قادر كامل يفعل ما يشاء فيزيد ما يشاء وينقص ما يشاء.
وقوله تعالى: * (إن الله على كل شيء قدير) * يقرر قوله: * (يزيد في الخلق ما يشاء) *.
قوله تعالى
* (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) *.
ثم قال تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده) *.
لما بين كمال القدرة ذكر بيان نفوذ المشيئة ونفاذ الأمر، وقال ما يفتح الله للناس، يعني إن رحم فلا مانع له، وإن لم يرحم فلا باعث له عليها، وفي الآية دليل على سبق رحمته غضبه من وجوه: * (أحدها) * التقديم حيث قدم بيان فتح أبواب الرحمة في الذكر، وهو وإن كان ضعيفا لكنه وجه من وجوه الفضل وثانيها: هو أن أنث الكناية في الأول فقال: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) * وجاز من حيث العربية أن يقال له ويكون عائدا إلى ما، ولكن قال تعالى: * (لها) * ليعلم أن المفتوح أبواب الرحمة ولا ممسك لرحمته فهي وصلة إلى رحمته، وقال عند الإمساك * (وما يمسك فلا مرسل له) * بالتذكير ولم يقل لهما فما صرح بأنه لا مرسل للرحمة، بل ذكره بلفظ يحتمل أن يكون الذي لا يرسل هو غير الرحمة فإن قوله تعالى: * (وما يمسك) * عام من غير بيان وتخصيص بخلاف قوله تعالى: * (ما يفتح الله للناس من رحمة) * فإنه مخصص مبين وثالثها: قوله: * (من بعده) * أي من بعد الله، فاستثنى ههنا وقال لا مرسل له إلا الله فنزل له مرسلا. وعند الإمساك
3

الإمساك قال لا ممسك لخا، ولم يقل غير الله لأن الرحمة إذا جاءت لا ترتفع فإن من رحمه الله في الآخرة لا يعذبه بعدها هو ولا غيره، ومن يعذبه الله فقد يرحمه الله بعد العذاب كالفساق من أهل الإيمان.
ثم قال تعالى: * (وهو العزيز) * أي كامل القدرة * (الحكيم) * أي كامل العلم.
قوله تعالى
* (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السمآء والارض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) *.
ثم قال تعالى: * (يا أيها لناس اذكروا نعمت الله عليكم) * لما بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة التي تستوجب الحمد على سبيل التفصيل بين نعمه على سبيل الإجمال فقال: * (اذكروا نعمة الله) * وهي مع كثرتها منحصرة في قسمين نعمة الإيجاد، ونعمة الإبقاء.
فقال تعالى: * (هل من خالق غير الله) * إشارة إلى نعمة الإيجاد في الابتداء.
وقال تعالى: * (يرزقكم من السماء والأرض) * إشارة إلى نعمة الإبقاء بالرزق إلى الانتهاء.
ثم بين أنه * (لا إله إلا هو) * نظرا إلى عظمته حيث هو عزيز حكيم قادر على كل شيء قدير نافذ الإرادة في كل شيء ولا مثل لهذا ولا معبود لذاته غير هذا ونظرا إلى نعمته حيث لا خالق غيره ولا رازق إلا هو.
ثم قال تعالى: * (فأني تؤفكون) * أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر، فكيف تشركون المنحوت بمن له الملكوت.
* (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الامور) *.
ثم لما بين الأصل الأول: وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني: وهو الرسالة فقال تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك) *.
ثم بين من حيث الإجمال أن المكذب في العذاب. والمكذب له الثواب بقوله تعالى: * (وإلى الله ترجع الأمور) * ثم بين الأصل الثالث: وهو الحشر.
قوله تعالى
* (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحيوة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *.
فقال تعالى: * (يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) *
4

أي الشيطان وقد ذكرنا ما فيه من المعنى اللطيف في تفسير سورة لقمان ونعيده ههنا فنقول المكلف قد يكون ضعيف الذهن قليل العقل سخيف الرأي فيغتر بأدنى شيء، وقد يكون فوق ذلك فلا يغتر به ولكن إذا جاءه غار ورزين له ذلك الشيء وهون عليه مفاسده، وبين له منافع، يغتر لما فيها من اللذة مع ما ينضم إليه من دعاء ذلك الغار إليه، وقد يكون قوي الجأش غزير العقل فلا يغتر ولا يغر فقال الله تعالى: * (لا تغرنكم الحياة الدنيا) * إشارة إلى الدرجة الأولى، وقال: * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * إشارة إلى الثانية ليكون واقعا في الدرجة الثالثة وهي العليا فلا يغر ولا يغتر.
ثم قال تعالى: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * لما قال تعالى: * (ولا يغرنكم بالله الغرور) * ذكر ما يمنع العاقل من الاغترار، وقال: * (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) * ولا تسمعوا قوله، وقوله: * (فاتخذوه عدوا) * أي اعملوا ما يسوءه وهو العمل الصالح.
ثم قال تعالى: * (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) * إشارة إلى معنى لطيف وهو أن من يكون له عدو فله في أمره طريقان: أحدهما: أن يعاديه مجازاة له على معاداته والثاني: أن يذهب عداوته بإرضائه، فلما قال الله تعالى: * (إن الشيطان لكم عدوا) * أمرهم بالعداوة وأشار إلى أن الطريق ليس إلا هذا، وأما الطريق الآخر وهو الإرضاء فلا فائدة فيه لأنكم إذا راضيتموه واتبعتموه فهو لا يؤديكم إلا إلى السعير. واعلم أن من علم أن له عدو لا مهرب له منه وجزم بذلك فإنه يقف عنده يصبر على قتاله والصبر معه الظفر، فكذلك الشيطان لا يقدر الإنسان أن يهرب منه فإنه معه، ولا يزال يتبعه إلا أن يقف له ويهزمه، فهزيمة الشيطان بعزيمة الإنسان، فالطريق الثبات على الجادة والاتكال على العبادة.
ثم بين الله تعالى حال حزبه وحال حزب الله. فقال:
* (الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) *.
* (الذين كفروا لهم عذاب شديد) * فالمعادي للشيطان وإن كان في الحال في عذاب ظاهر وليس بشديد، والإنسان إذا كان عاقلا يختار العذاب المنقطع اليسير دفعا للعذاب الشديد المؤبد ألا ترى أن الإنسان إذ عرض في طريقه شوك ونار ولا يكون له بد من أحدهما يتخطى الشوك ولا يدخل النار ونسبة النار التي في الدنيا إلى النار التي في الآخرة دون نسبة الشوك إلى النار العاجلة.
وقال تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) * قد ذكر تفسيره مرارا،
5

وبين فيه أن الإيمان في مقابلته المغفرة فلا يؤيده مؤمن في النار، والعمل الصالح في مقابلته الأجر الكبير.
ثم قال تعالى: * (أمن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون) *.
يعني ليس من عمل سيئا كالذي عمل صالحا، كما قال بعد هذا بآيات وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، وله تعلق بما قبله وذلك من حيث إنه تعالى لما بين حال المسئ الكافر والمحسن المؤمن، وما من أحد يعترف بأنه يعمل سيئا إلا قليل، فكان الكافر يقول الذي له العذاب الشديد هو الذي يتبع الشيطان وهو محمد وقومه الذين استهوتهم الجن فتبعوها، والذي له الأجر العظيم نحن الذين دمنا على ما كان عليه آباؤنا فقال الله تعالى لستم أنتم بذلك فإن المحسن غير، ومن زين له العمل السيء فرآه حسنا غير، بل الذين زين لهم السيء دون من أساء وعلم أنه مسيء فإن الجاهل الذي يعلم جهله والمسئ الذي يعمل سوء عمله يرجع ويتوب والذي لا يعلم يصر على الذنوب والمسئ العالم له صفة ذم بالإساءة وصفة مدح بالعلم. والمسئ الذي يرى الإساءة إحسانا له صفتا ذم الإساءة والجهل، ثم بين أن الكل بمشيئة الله، وقال: * (فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) * وذلك لأن الناس أشخاصهم متساوية في الحقيقة والإساءة والإحسان، والسيئة والحسنة يمتاز بعضها عن بعض فإذا عرفها
البعض دون البعض لا يكون باستقلال منهم، فلا بد من الاستناد إلى إرادة الله.
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حزن من إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة باهرة فقال: * (فلا تذهب نفسك عليهم نفسك حسرات) * كما قال تعالى: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم) *.
ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد إيمانهم وإحسانهم لصدهم عن الضلال وردهم عن الإضلال، وإن كان لما به منهم من الإيذاء فالله عالم بفعله يجازيهم على ما يصنعون.
ثم قال تعالى
* (والله الذى أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الارض بعد موتها كذلك النشور) *.
ثم عاد إلى البيان فقال تعالى: * (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحييناه به الأرض بعد موتها كذلك النشور) *.
6

هبوب الرياح دليل ظاهر على الفاعل المختار وذلك لأن الهواء قد يسكن، وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين، وقد يتحرك إلى اليسار، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب، وقد لا ينشئ، فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر ومؤثر مقدر، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال تعالى: * (والله الذي أرسل) * بلفظ الماضي وقال: * (فتثير سحابا) * بصيغة المستقبل، وذلك لأن لما أسند فعل الإرسال إلى الله وما يفعل الله يكون بقوله كن فلا يبقى في العدم لا زمانا ولا جزأ من الزمان، فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة كونه كأنه كان وكأن فرغ من كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة والتقدير كالإرسال، ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهو يؤلف في زمان فقال: * (تثير) * أي على هيئتها.
المسألة الثانية: قال: * (أرسل) * إسنادا للفعل إلى الغائب وقال: * (سقناه) * بإسناد الفعل إلى المتكلم وكذلك في قوله: * (فأحيينا) * وذلك لأنه في الأول عرف نفسه بفعل من الأفعال وهو الإرسال، ثم لما عرف قال: أنا الذي عرفتني سقت السحاب وأحييت الأرض فنفى الأول كان تعريفا بالفعل العجيب، وفي الثاني كان نذيرا بالنعمة فإن كما (ل) نعمة الرياح والسحب بالسوق والإحياء وقوله: * (سقناه وأحيينا) * بصيغة الماضي يؤيد ما ذكرناه من الفرق بين قوله: * (أرسل) * وبين قوله: * (تثير) *.
المسألة الثالثة: ما وجه التشبيه بقوله: * (كذلك النشور) * فيه وجوه: أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها كذلك الأعضاء تقبل الحياة وثانيها: كما أن الريح يجمع القطع السحابية كذلك يجمع بين أجزاء الأعضاء وأبعاض الأشياء وثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت.
المسألة الرابعة: ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد، فنقول لما ذكر الله أنه فاطر السماوات والأرض، وذكر من الأمور السماوية والأرواح وإرسالها بقوله: * (جاعل الملائكة رسلا) * ذكر من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها بقوله: * (والله الذي أرسل الرياح) *.
ثم قال تعالى
* (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) *.
ثم قال تعالى: * (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه والذي يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) *.
7

لما بين برهان الإيمان إشارة إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إنهم ما كانوا في طاعة أحد ولم يكن لهم من يأمرهم وينهاهم، فكانوا ينحتون الأصنام وكانوا يقولون إن هذه آلهتنا، ثم إنهم كانوا ينقلونها مع أنفسهم وأية عزة فوق المعية مع المعبود فهم كانوا يطلبون العزة وهي عدم التذلل للرسول وترك الأتباع له، فقال إن كنتم تطلبون بهذا الكفر العزة في الحقيقة، فهي كلها لله ومن يتذلل له فهو العزيز، ومن يتعزز عليه فهو الذليل وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال في هذه الآية: * (فلله العزة جميعا) * وقال في آية أخرى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * فقوله: * (جميعا) * يدل على أن لا عزة لغيره فنقول قوله: * (فلله العزة) * أي في الحقيقة وبالذات وقوله: * (ولرسوله) * أي بواسطة القرب من العزيز وهو الله وللمؤمنين بواسطة قربهم من العزيز بالله وهو الرسول، وذلك لأن عزة المؤمنين بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم ألا ترى قوله تعالى: * (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) *.
المسألة الثانية: قوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * تقرير لبيان العزة، وذلك لأن الكفار كانوا يقولون نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده، لأن البعد من الملك ذلة، فقال تعالى: إن كنتم لا تصلون إليه، فهو يسمع كلامهم ويقبل الطيب فمن قبل كلامه وصعد إليه فهو عزيز ومن رد كلامه في وجه فهو ذليل، وأما هذه الأصنام لا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا علم لها فكل أحد يمسها وكذلك يرى علمكم فمن عمل صالحا رفعه إليه، ومن عمل سيئا رده عليه فالعزيز من الذي عمله لوجهه والذليل من يدفع الذي علمه في وجهه، وأما هذه الأصنام فلا تعلم شيئا فلا عزيز يرفع عندها ولا ذليل، فلا عزة بها بل عليها ذلة، وذلك لأن ذلة السيد ذلة للعبد ومن كان معبوده وربه وإلهه حجارة أو خشبا ماذا يكون هو!.
المسألة الثالثة: في قوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * وجوه: أحدها: كلمة لا إله إلا الله هي الطيبة وثانيها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر طيب ثالثها: هذه الكلمات الأربع وخامسة وهي تبارك الله والمختار إن كل كلام هو ذكر الله أو هو لله كالنصيحة والعلم، فهو إليه يصعد.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (والعمل الصالح يرفعه) * وفي الهاء وجهان أحدهما: هي عائدة إلى الكلم الطيب أي العمل الصالح هو الذي يرفعه الكلم الطيب ورد في الخبر " لا يقبل الله قولا بلا عمل " وثانيهما: هي عائدة إلى العمل الصالح وعلى هذا في الفاعل الرافع وجهان: أحدهما: هو الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، وهذا يؤيده قوله تعالى: * (من عمل صالحا) * من ذكر أو أنثى وهو مؤمن وثانيهما: الرافع هو الله تعالى.
المسألة الخامسة: ما وجه ترجيح الذكر على العمل على الوجه الثاني حيث يصعد الكلم
8

بنفسه ويرفع العمل بغير، فنقول الكلام شريف، فإن امتياز الإنسان عن كل حيوان بالنطق ولهذا قال تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * أي بالنفس الناطقة والعمل حركة وسكون يشترك فيه الإنسان وغيره، والشريف إذا وصل إلى باب الملك لا يمنع ومن دونه لا يجد الطريق إلا عند الطلب ويدل على هذا أن الكافر إذا تكلم بكلمة الشهادة إن كان عن صدق أمن عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان ظاهرا أمن في نفسه ودمه وأهله وحرمه في الدنيا ولا كذلك العمل بالجوارح، وقد ذكرنا ذلك في تفسير قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *، ووجه آخر: القلب هو الأصل وقد تقدم ما يدل عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " وما في القلب لا يظهر إلا باللسان وما في اللسان لا يتبين صدقه إلا بالفعل، ألا ترى أن الإنسان لا يتكلم بكلمة إلا عن قلب، وأما الفعل قد يكون لا عن قلب كالعبث باللحية ولأن النائم لا يخلو عن فعل من حركة وتقلب وهو في أكثر الأمر لا يتكلم في نومه إلا نادرا، لما ذكرنا إن الكلام بالقلب ولا كذلك العمل، فالقول أشرف.
المسألة السادسة: قال الزمخشري المكر لا يتعدى فبم انتصاب السيئات؟ وقال بأن معناه الذين يمكرون المكرات السيئات فهو صف مصدر محذوف، ويحتمل أن يقال استعمل المكر استعمال العمل فعداه تعديته كما قال تعالى: * (الذي يعملون السيئات) * وفي قوله: * (الذي يعملون السيئات) * يحتمل ما ذكرناه أن يكون السيئات وصفا لمصدر تقديره الذين يعملون العملات السيئات، وعلى هذا فيكون هذا في مقابلة قوله: * (والعمل الصالح يرفعه) * إشارة إلى بقائه وارتقائه * (ومكر أولئك) * أي العمل السيء * (وهو يبور) * إشارة إلى فنائه.
ثم قال تعالى
* (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا فى كتاب إن ذلك على الله يسير) *.
ثم قال تعالى: * (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير) *.
قد ذكرنا مرارا أن الدلائل مع كثرتها وعدم دخولها في عدد محصور منحصرة في قسمين دلائل الآفاق ودلائل الأنفس، كما قال تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * فلما ذكر دلائل الآفاق من السماوات وما يرسل منها من الملائكة والأرض وما يرسل فيها من الرياح شرع
9

في دلائل الأنفس، وقد ذكرنا تفسيره مرارا وذكرنا ما قيل من أن قوله: * (من تراب) * إشارة إلى خلق آدم * (ثم من نطفة) * إشارة إلى خلق أولاده، وبينا أن الكلام غير محتاج إلى هذا التأويل بل * (خلقكم) * خطاب مع الناس وهم أولاد آدم كلهم من تراب ومن نطفة لأن كلهم من نطفة والنطفة من غذاء، والغذاء بالآخرة ينتهي إلى الماء والتراب، فهو من تراب صار نطفة.
وقوله: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع) * إشارة إلى كمال العمل، فإن ما في الأرحام قبل الانخلاق بل بعده ما دام في البطن لا يعلم حاله أحد، كيف والأم الحاملة لا تعلم منه شيئا، فلما ذكر بقوله: * (خلقكم من تراب) * كمال قدرته بين بقوله: * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * كمال علمه ثم بين نفوذ إرادته بقوله: * (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) * فبين أنه هو القادر العالم المريد والأصنام لا قدرة لها ولا علم ولا إرادة، فكيف يستحق شيء منها العبادة، وقوله: * (إن ذلك على الله يسير) * أي الخلق من التراب ويحتمل أن يكون المراد التعمير والنقصان على الله يسير، ويحتمل أن يكون المراد أن العلم بما تحمله الأنثى يسير والكل على الله يسير والأول أشبه فإن اليسير استعماله في الفعل أليق.
ثم قال تعالى
* (وما يستوى البحران هذا عذب فرات سآئغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) *.
ثم قال تعالى: * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج، ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشركون) *.
قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق الكفر والإيمان أو الكافر والمؤمن، فالإيمان لا يشتبه بالكفر في الحسن والنفع كما لا يشتبه البحران العذب الفرات والملح الأجاج. ثم على هذا، فقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا) * لبيان أن حال الكافر والمؤمن أو الكفر والإيمان دون حال البحرين لأن الأجاج يشارك الفرات في خير ونفع إذا اللحم الطري يوجد فيهما والحلية توجد منهما والفلك تجري فهيما، ولا نفع في الكفر والكافر، وهذا على نسق قوله تعالى: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * وقوله: * (كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار) * والأظهر أن المراد منه ذكر دليل آخر على قدر الله وذلك من حيث
إن البحرين يستويان في الصورة ويختلفان في الماء، فإن أحدهما عذب فرات والآخر ملح
10

أجاج، ولو كان ذلك بإيجاب لما اختلف المستويان، ثم إنهما بعد اختلافهما يوجد منهما أمور متشابهة، فإن اللحم الطريق يوجد فيهما، واللحية تؤخذ منهما، ومن يوجد في المتشابهين اختلافا ومن المختلفين اشتباها لا يكون إلا قادرا مختارا. وقوله: * (وما يستوي البحران) * إشارة إلى أن عدم استوائهما دليل على كمال قدرته ونفوذ إرادته وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: قال أهل اللغة لا يقال في ماء البحر إذا كان فيه ملوحة مالح، وإنما يقال له ملح، وقد يذكر في بعض كتب الفقه يصير بها ماء البحر مالحا، ويؤخذ قائله به. وهو أصح مما يذهب إليه القوم وذلك لأن الماء العذب إذا ألقى فيه ملح حتى ملح لا يقال له إلا مالح، وماء ملح يقال للماء الذي صار من أصل خلقته كذلك، لأن المالح شيء فيه ملح ظاهر في الذوق، والماء الملح ليس ماء وملحا بخلاف الطعام المالح فالماء العذب الملقى فيه الملح ماء فيه ملح ظاهر في الذوق، بخلاف ما هو من أصل خلقته كذلك، فلما قال الفقيه الملح أجزاء أرضية سبخة يصير بها ماء البحر مالحا راعى فيه الأصل فإنه جعله ماء جاوره ملح، وأهل اللغة حيث قالوا في البحر ماؤه ملح جعلوه كذلك من أصل الخلقة، والأجاج المر، وقوله: * (ومن كل تأكلون لحما طريا) * من الطير والسمك وتستخرجون حلية تلبسونها من اللؤلؤ والمرجان * (وترى الفلك فيه مواخر) * أي ماخرات تمخر البحر بالجريان أي تشق، وقوله: * (ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون) * يدل على ما ذكرناه من أن المراد من الآية الاستدلال بالبحرين وما فيهما على وجود الله ووحدانيته وكمال قدرته.
ثم قال تعالى
* (يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *.
ثم قال تعالى: * (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *.
استدلال آخر باختلاف الأزمنة وقد ذكرناه مرارا، وذكرنا أن قوله تعالى بعده: * (وسخر الشمس والقمر) * جواب لسؤال يذكره المشركون وهو أنهم قالوا اختلاف الليل والنهار بسبب اختلاف القسي الواقعة فوق الأرض وتحتها، فإن في الصيف تمر الشمس على سمت الرؤوس في بعض البلاد الماثلة في الآفاق، وحركة الشمس هناك حمائلية فتقع تحت الأرض أقل من نصف دائرة زمان مكثها تحت الأرض فيقصر الليل وفي الشتاء بالضد فيقصر النهار فقال الله
11

تعالى: * (وسخر الشمس والقمر) * يعني سبب الاختلاف وإن كان ما ذكرتم، لكن سير الشمس والقمر بإرادة الله وقدرته فهو الذي فعل ذلك.
ثم قال تعالى: * (ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *.
أي ذلك الذي فعل هذه الأشياء من فطر السماوات والأرض وإرسال الأرواح وإرسال الرياح وخلق الإنسان من تراب وغير ذلك له الملك كله فلا معبود إلا هو لذاته الكامل ولكونه ملكا والملك مخدوم بقدر ملكه، فإذا كان له الملك كله فله العبادة كلها، ثم بين ما ينافي صفة الإلهية، وهو قوله: * (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) *، وههنا لطيفة: وهي أن الله تعالى ذكر لنفسه نوعين من الأوصاف أحدهما: أن الخلق بالقدرة الإرادة والثاني: الملك واستدل بهما على أنه إله معبود كما قال تعالى: * (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) * ذكر الرب والملك ورتب عليهما كونه إلها أي معبودا، وذكر فيمن أشركوا به سلب صفة واحدة وهو عدم الملك بقوله: * (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) * ولم يذكر سلب الوصف الآخر لوجهين أحدهما: أن كلهم كانوا معترفين بأن لا خالق لهم إلا الله وإنما كانوا يقولون بأن الله تعالى فوض أمر الأرض والأرضيات إلى الكواكب التي الأصنام على صورتها وطوالعها فقال: لا ملك لهم ولا ملكهم الله شيئا ولا ملكوا شيئا وثانيهما: أنه يلزم من عدم الملك عدم الخلق لأنه لو خلق شيئا لملكه فإذا لم يملك قطميرا ما خلق قليلا ولا كثيرا.
* (إن تدعوهم لا يسمعوا دعآءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *.
ثم قال تعالى: * (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير) *.
إبطالا لما كانوا يقولون إن في عبادة الأصنام عزة من حيث القرب منها والنظر إليها وعرض الحوائج عليها، والله لا يرى ولا يصل إليه أحد فقال هؤلاء لا يسمعون دعاءكم والله يصعد إليه الكلم الطيب، ليسمع ويقبل ثم نزل عن تلك الدرجة، وقال هب أنهم يسمعون كما يظنون فإنهم كانوا يقولون بأن الأصنام تسمع وتعلم ولكن ما كان يمكنهم أن يقولون إنهم يجيبون لأن ذلك إنكار للمحس به وعدم سماعهم إنكار للمعقول والنزاع وإن كان يقع في المعقول فلا يمكن وقوعه في المحس به، ثم إنه تعالى قال: * (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) * لما بين عدم النفع فيهم في الدنيا بين عدم النفع منهم في الآخرة بل أشار إلى وجود الضرر منهم في الآخرة بقوله: * (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) * أي بإشراككم بالله شيئا، كما قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * أي
12

الإشراك وقوله: * (ولا ينبئك مثل خبير) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون ذلك خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه هو أن الله تعالى لما أخبر أن الخشب والحجر يوم القيامة ينطق ويكذب عابده وذلك أمر لا يعلم بالعقل المجرد لولا إخبار الله تعالى عنه أنهم يكفرون بهم يوم القيامة، وهذا القول مع كون الخبر عنه أمرا عجيبا هو كما قال، لأن المخبر عنه خبير وثانيهما: هو أن يكون ذلك خطابا غير مختص بأحد، أي هذا الذي ذكر هو كما قال: * (ولا ينبئك) * أيها السامع كائنا من كنت * (مثل خبير) *.
ثم قال تعالى: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد) *.
لما كثر الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم والإصرار من الكفار وقالوا إن الله لعله يحتاج إلى عبادتنا حتى يأمرنا بها أمرا بالغا ويهددنا على تركها مبالغا فقال تعالى: *
(أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني) * فلا يأمركم بالعبادة لاحتياجه إليكم وإنما هو لإشفاقه عليكم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: التعريف في الخبر قليل والأكثر أن يكون الخبر نكرة والمبتدأ معرفة وهو معقول وذلك لأن المخبر لا يخبر في الأكثر إلا بأمر لا يكون عند المخبر به علم أو في ظن المتكلم أن السامع لا علم له به، ثم أن يكون معلوما عند السامع حتى يقول له أيها السامع الأمر الذي تعرفه أنت فيه المعنى الفلاني كقول القائل زيد قائم أو قام أي زيد الذي تعرفه ثبت له قيام لا علم عندك به، فإن كان الخبر معلوما عند السامع والمبتدأ كذلك ويقع الخبر تنبيها لا تفهيما يحسن تعريف الخبر غاية الحسن، كقول القائل: الله ربنا ومحمد نبينا، حيث عرف كون الله ربا، وكون محمد نبيا، وههنا لما كان كون الناس فقراء أمرا ظاهرا لا يخفى على أحد قال: * (أنتم الفقراء) *.
المسألة الثانية: قوله: * (إلا الله) * إعلام بأنه لا افتقار إلا إليه ولا اتكال إلا عليه وهذا يوجب عبادته لكونه مفتقرا إليه وعدم عبادة غيره لعدم الافتقار إلى غيره، ثم قال: * (والله هو الغني) * أي هو مع استغنائه يدعوكم كل الدعاء وأنتم من احتياجكم لا تجيبونه ولا تدعونه فيجيبكم.
المسألة الثالثة: في قوله: * (الحميد) * لما زاد في الخبر الأول وهو قوله: * (أنتم الفقراء) * زيادة وهو قوله: * (إلى الله) * إشارة لوجوب حصر العبادة في عبادته زاد في وصفه بالغني زيادة وهو كونه حميدا إشارة إلى كونكم فقراء وفي مقابلته الله غنى وفقركم إليه في مقابلة نعمه عليكم لكونه حميدا واجب الشكر، فلستم أنتم فقراء والله مثلكم في الفقر بل هو غني على الإطلاق ولستم أنتم لما افتقرتم إليه ترككم غير مقضي الحاجات بل قضى في الدنيا حوائجكم، وإن آمنتم يقضي في الآخرة حوائجكم فهو حميد.
13

ثم قال تعالى: * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) * بيانا لغناه وفيه بلاغة كاملة وبيانها أنه تعالى قال: * (إن يشأ يذهبكم) * أي ليس إذهابكم موقوفا إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه، فإن المحتاج لا يقول فيه إن يشأ فلان هدم داره وأعدم عقاره، وإنما يقول لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها أو لولا الافتقار إلى العقار لتركتها، ثم إنه تعالى زاد بيان الاستغناء بقوله: * (ويأت بخلق جديد) * يعني إن كان يتوهم متوهم أن هذا الملك له كمال وعظمة فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر بأن يخلق خلقا جديدا أحسن من هذا وأجمل وأتم وأكمل.
* (وما ذلك على الله بعزيز) *.
ثم قال تعالى: * (وما ذلك على الله بعزيز) * أي الإذهاب والإتيان وههنا مسألة: وهي أن لفظ العزيز استعمله الله تعالى تارة في القائم بنفسه حيث قال في حق نفسه: * (وكان الله قويا عزيزا) * وقال في هذه السورة: * (إن الله عزيز غفور) * واستعمله في القائم بغيره حيث قال: * (وما ذلك على الله بعزيز) * وقال: * (عزيز عليه ما عنتم) * فهل هما بمعنى واحد أم بمعنيين؟ فنقول العزيز هو الغالب في اللغة يقال من عزيز أي من غلب سلب، فالله عزيز أي غالب والفعل إذا كان لا يطيقه شخص يقال هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله: * (وما ذلك على الله بعزيز) * أي لا يغلب الله ذلك الفعل بل هو هين على الله وقوله: * (عزيز عليه ما عنتم) * أي يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.
وقوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى) * متعلق بما قبله، وذلك من حيث إنه تعالى لما بين الحق بالدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة ذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * أي لا تحمل نفس ذنب نفس فالنبي صلى الله عليه وسلم لو كان كاذبا في دعائه لكان مذنبا وهو معتقد بأن ذنبه لا تحملونه أنتم فهو يتوقى ويحترز، والله تعالى غير فقير إلى عبادتكم فتفكروا واعلموا أنكم إن ضللتم فلا يحمل أحد عنكم وزركم وليس كما يقول: * (أكابركم اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (وازرة) * أي نفس وازرة ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى ولا جمع بين الموصوف والصفة فلم يقل ولا تزر نفس وازرة وزرة أخرى لفائدة أما الأول: فلأنه لو قال ولا تزر نفس وزر أخرى، لما علم أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها ووجه آخر: وهو أن قول القائل ولا تزر نفس وزر أخرى، قد يجتمع معها أن
14

لا تزر وزرا أصلا كالمعصوم لا يزر وزر غيره ومع ذلك لا يزر وزرا رأسا فقوله: * (ولا تزر وازرة) * بين أنها تزر وزرها ولا تزر وزر الغير * (وأما) * ترك ذكر الموصوف فلظهور الصفة ولزومها للموصوف.
ثم قال تعالى: * (وإن تدع مثقلة) * إشارة إلى أن أحدا لا يحمل عن أحد شيئا مبتدئا ولا بعد السؤال، فإن المحتاج قد يصبر وتقضى حاجته من غير سؤاله، فإذا انتهى الافتقار إلى حد الكمال يحوجه إلى السؤال.
المسألة الثانية: في قوله: * (مثقلة) * زيادة بيان لما تقدم من حيث إنه قال أولا: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * فيظن أن أحدا لا يحمل عن أحد لكون ذلك الواحد قادرا على حمله، كما أن القوى إذا أخذ بيده رمانة أو سفرجلة لا تحمل عنه، وأما إذا كان الحمل ثقيلا قد يرحم الحامل فيحمل عنه فقال: * (مثقلة) * يعني ليس عدم الوزر لعدم كونه محلا للرحمة بالثقل بل لكون النفس مثقلة ولا يحمل منها شيء.
المسألة الثالثة: زاد في ذلك بقوله: * (ولو كان ذا قربى) * أي المدعو لو كان ذا قربى لا يحمله وفي الأول كان يمكن أن يقال لا يحمله لعدم تعلقه به كالعدو الذي يرى عدوه تحت ثقل، أو الأجنبي الذي يرى أجنبيا تحت حمل لا يحمل عنه فقال: * (ولو كان ذا قربى) * أي يحصل جميع المعاني الداعية إلى الحمل من كون النفس وازرة قوية تحتمل وكون الأخرى مثقلة لا يقال كونها قوية قادرة ليس عليها حمل وكونه سائلة داعية فإن السؤال مظنة الرحمة، لو كان المسؤول قريبا فإذن لا يكون
التخلف إلا لمانع وهو كون كل نفس تحت حمل ثقيل.
ثم قال تعالى: * (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) * إشارة إلى أن لا إرشاد فوق ما أتيت به، ولم يفدهم، فلا تنذر إنذارا مفيدا إلا الذين تمتلئ قلوبهم خشية وتتحلى ظواهرهم بالعبادة كقوله: * (الذين آمنوا) * إشارة إلى عمل القلب * (وعملوا الصالحات) * إشارة إلى عمل الظواهر فقوله: * (الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) * في ذلك المعنى، ثم لما بين * (أن لا تزر وازرة وزر أخرى) * بين أن الحسنة تنفع المحسنين.
فقال: * (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) * أي فتزكيته لنفسه.
ثم قال تعالى: * (وإلى الله المصير) * أي المتزكي إن لم تظهر فائدته عاجلا فالمصير إلى الله يظهر عنده في يوم اللقاء في دار البقاء، والوازر إن لم تظهر تبعة وزره في الدنيا فهي تظهر في الآخرة إذ المصير إلى الله.
15

ثم قال تعالى: * (وما يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات) *.
لما بين الهدى والضلالة ولم يهتد الكافر، وهدى الله المؤمن من ضرب لهم مثلا بالبصير والأعمى، فالمؤمن بصير حيث أبصر الطريق الواضح والكافر أعمى، وفي تفسير الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في تكثير الأمثلة ههنا حيث ذكر الأعمى والبصير، والظلمة والنور، والظل والحرور، والأحياء والأموات؟ فنقول الأول مثل المؤمن والكافر فالمؤمن بصير والكافر أعمى، ثم إن البصير وإن كان حديد البصر ولكن لا يبصر شيئا إن لم يكن في ضوء فذكر للإيمان والكفر مثلا، وقال الإيمان نور والمؤمن بصير والبصير لا يخفى عليه النور، والكفر ظلمة والكافر أعمى فله صاد فوق صاد، ثم ذكر لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور، فالمؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب، ثم قال تعالى: * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * مثلا آخر في حق المؤمن والكافر كأنه قال تعالى حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير، فإن الأعمى يشارك البصير في إدراك ما. والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ويدل على ما ذكرنا أنه تعالى أعاد الفعل حيث قال أولا: * (وما يستوي الأعمى والبصير) * وعطف الظلمات والنور والظل والحرور، ثم أعاد الفعل، وقال: * (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) * كأنه جعل هذا مقابلا لذلك.
المسألة الثانية: كرر كلمة النفي بين الظلمات والنور والظل والحرور والأحياء الأموات، ولم يكرر بين الأعمى والبصير، وذلك لأن التكرير للتأكيد والمنافاة بين الظلمة والنور والظل والحرور مضادة، فالظلمة تنافي النور وتضاده والعمى والبصر كذلك، أما الأعمى والبصير ليس كذلك بل الشخص الواحد قد يكون بصيرا وهو بعينه يصير أعمى، فالأعمى والبصير لا منافاة بينهما إلا من حيث الوصف، والظل والحرور والمنافاة بينهما ذاتية لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة هناك أتم، أكد بالتكرار، وأما الأحياء والأموات، وإن كانوا كالأعمى والبصير من حيث إن الجسم الواحد يكون حيا محلا للحياة فيصير ميتا محلا للموت ولكن المنافاة بين الحي والميت أتم من المنافاة بين الأعمى والبصير، كما بينا أن الأعمى والبصير يشتركان في إدراك أشياء، ولا كذلك الحي والميت، كيف والميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية.
16

المسألة الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحرور، وأخره في مثلين وهو البصر والنور، وفي مثل هذا يقول المفسرون إنه لتواخي أواخر الآي، وهو ضعيف لأن تواخي الأواخر راجع إلى السجع، ومعجزة القرآن في المعنى لا في مجرد اللفظ، فالشاعر يقدم ويؤخر للسجع فيكون اللفظ حاملا له على تغيير المعنى، وأما القرآن فحكمة بالغة والمعنى فيه صحيح واللفظ فصيح فلا يقدم ولا يؤخر اللفظ بلا معنى، فنقول الكفار قبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في ضلالة فكانوا كالعمى وطريقهم كالظلمة ثم لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحق، واهتدى به منهم قوم فصاروا بصيرين وطريقتهم كالنور فقال وما يستوي من كان قبل البعث على الكفر ومن اهتدى بعده إلى الإيمان، فلما كان الكفر قبل الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، والكافر قبل المؤمن قدم المقدم، ثم لما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لقوله في الإلهيات سبقت رحمتي غضبي، ثم إن الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق من جميع الوجوه فقال: * (وما يستوي الأحياء) * أي المؤمنون الذين آمنوا بما أنزل الله والأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات، ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين المعاندين، وقدم الأعمى على البصير لوجود الكفار الضالين قبل البعثة على المؤمنين المهتدين بعدها.
المسألة الرابعة: فإن قلت قابل الأعمى بالبصير بلفظ المفرد وكذلك الظل بالحرور وقابل الأحياء بالأموات بلفظ الجمع، وقابل الظلمات بالنور بلفظ الجمع في أحدهما والواحد في الآخر، فهل تعرف فيه حكمة؟ قلت: نعم بفضل الله وهدايته، أما في الأعمى والبصير والظل والحرور، فلأنه قابل الجنس بالجنس، ولم يذكر الأفراد لأن في العميان وأولى الأبصار قد يوجد فرد من أحد الجنسين يساوي فردا من الجنس الآخر كالبصير الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد الغريب في موضع والأعمى الذي هو تربية ذلك المكان، وقد يقدر الأعمى على الوصول إلى مقصد ولا يقدر البصير عليه، أو يكون الأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البليد البصير، فالتفاوت بينهما في الجنسين مقطوع به فإن جنس البصير خير من جنس الأعمى، وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكثر، إذ ما من ميت يساوي في الإدراك حيا من الأحياء، فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد، وأما الظلمات والنور فالحق واحد وهو التوحيد والباطل كثير وهو طرق الإشراك على ما بينا أن بعضهم يعبدون الكواكب وبعضهم النار وبعضهم الأصنام التي هي على صورة الملائكة
، وإلى غير ذلك والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد بين، فقال الظلمات كلها إذا اعتبرتها لا تجد فيها ما يساوي النور، وقد ذكرنا في تفسير قوله: * (وجعل الظلمات والنور) * السبب في توحيد النور وجمع الظلمات، ومن جملة ذلك أن النور لا يكون إلا بوجود منور ومحل قابل للاستنارة وعدم الحائل بين النور والمستنير. مثاله الشمس
17

إذا طلعت وكان هناك موضع قابل للاستنارة وهو الذي يمسك الشعاع، فإن البيت الذي فيه كوة يدخل منها الشعاع إذا كان في مقابلة الكوة منفذ يخرج منه الشعاع ويدخل بيتا آخر ويبسط الشعاع على أرضه يرى البيت الثاني مضيئا والأول مظلما، وإن لم يكن هناك حائل كالبيت الذي لا كوة له فإنه لا يضيء، فإذا حصلت الأمور الثلاثة يستنير البيت وإلا فلا تتحقق الظلمة بفقد أي أمر كان من الأمور الثلاثة.
* (إن أنت إلا نذير) *.
ثم قال تعالى: * (إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور) * وفيه احتمال معنيين الأول: أن يكون المراد بيان كون الكفار بالنسبة إلى سماعهم كلام النبي والوحي النازل عليه دون حال الموتى فإن الله يسمع الموتى والنبي لا يسمع من مات وقبر، فالموتى سامعون من الله والكفار كالموتى لا يسمعون من النبي والثاني: أن يكون المراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لما بين له أنه لا ينفعهم ولا يسمعهم قال له هؤلاء لا يسمعهم إلا الله، فإنه يسمع من يشاء ولو كان صخرة صماء، وأما أنت فلا تسمع من في القبور، فما عليك من حسابهم من شيء.
ثم قال تعالى: * (إن أنت إلا نذير) * بيانا للتسلية.
* (إنآ أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) *.
ثم قال تعالى: * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) * لما قال: * (إن أنت إلا نذير) * بين أنه ليس نذيرا من تلقاء نفسه إنما هو نذير بإذن الله وإرساله.
ثم قال تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * تقريرا لأمرين أحدهما: لتسلية قلبه حيث يعلم أن غيره كان مثله محتملا لتأذي القوم وثانيهما: إلزام القوم قبوله فإنه ليس بدعا من الرسل وإنما هو مثل غيره يدعى ما ادعاه الرسل ويقرره.
* (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جآءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) *.
وقوله تعالى: * (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) *.
يعني أنت جئتهم بالبينة والكتاب فكذبوك وآذوك وغيرك أيضا أتاهم بمثل ذلك وفعلوا بهم ما فعلوا بك وصبروا على ما كذبوا فكذلك نلزمهم بأن من تقدم من الرسل لم يعلم كونهم رسلا إلا بالمعجزات البينات وقد آتيناها محمدا صلى الله عليه وسلم * (وبالزبر وبالكتاب المنير) *
18

والكل آتيناها محمدا، فهو رسول مثل الرسل يلزمهم قبوله كما لزم قبول موسى وعيسى عليهم السلام أجمعين، وهذا يكون تقريرا مع أهل الكتاب، واعلم أنه تعالى ذكر أمورا ثلاثة أولها البينات، وذلك لأن كل رسول فلا بد له من معجزة وهي أدنى الدرجات، ثم قد ينزل عليه كتاب يكون فيه مواعظ وتنبيهات وإن لم يكن فيه نسخ وأحكام مشروعة شرعا ناسخا، ومن ينزل عليه مثله أعلى مرتبة ممن لا ينزل عليه ذلك وقد تنسخ شريعته الشرائع وينزل عليه كتاب فيه أحكام على وفق الحكمة الإلهية، ومن يكون كذلك فهو من أولي العزم فقال الرسل تبين رسالتهم بالبينات وإن كانوا أعلى مرتبة فبالزبر، وإن كانوا أعلى فبالكتاب والنبي آتيناه الكل فهو رسول أشرف من الكل لكون كتابه أتم وأكمل من كل كتاب.
* (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) *.
ثم قال تعالى: * (ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير) *.
أي من كذب بالكتاب المنزل من قبل وبالرسول المرسل أخذه الله تعالى فكذلك من يكذب بالنبي عليه السلام، وقوله: * (فكيف كان نكير) * سؤال للتقرير فإنهم علموا شدة إنكار الله عليهم وإتيانه بالأمر المنكر من الاستئصال.
* (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) *.
ثم قال تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها) *.
وهذا استدلال بدليل آخر على وحدانية الله وقدرته وفي تفسيرها مسائل:
المسألة الأولى: ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار، وقال: * (ألم تر) * وذكر الدليل المتقدم على طريقة الأخبار وقال: * (والله الذي أرسل الرياح) * وفيه وجهان الأول: أن انزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جدا كما أن من أبصر الهلال وهو خفي جدا، فقال له غيره أين هو، فإنه يقول له في الموضع الفلاني، فإن لم يره، يقول له الحق معك إنه خفي وأنت معذور، وإذا كان بارزا يقول له أما تراه هذا هو ظاهرا والثاني: وهو أنه ذكره بعدما قرر المسألة بدليل آخر وظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات، فقال له أنت صرت بصيرا بما ذكرناه ولم يبق لك عذر، ألا ترى هذه الآية.
المسألة الثانية: المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما: النبي صلى الله عليه وسلم وفيه حكمة وهي أن الله تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم، كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد ومنعهم من الفساد ولا ينفعهم الإرشاد، يقول لغيره اسمع ولا تكن مثل هذا
19

ويكرر معه ما ذكره مع الأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة والآخر: أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول، بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاما آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة.
المسألة الثالثة: هذا استدلال على قدرة الله واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ممرات مختلفة وفيه لطائف الأولى: قال أنزل وقال أخرجنا. وقد ذكرنا فائدته ونعيدها فنقول: قال الله تعالى: * (ألم ترى أن الله أنزل) * فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة الله، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم ووجه آخر: هو أن الله تعالى لما قال: * (إن الله أنزل) * علم الله بدليل، وقرب المتفكر فيه إلى الله تعالى فصار من الحاضرين، فقال له أخرجنا لقربه ووجه ثالث: الإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب.
قوله تعالى
* (ومن الناس والدوآب والانعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) *.
اللطيفة الثانية: قال تعالى: * (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك) *.
كأن قائلا قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع. ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره، فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة الله وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض، والجدد جمع جدة وهي الخطة أو الطريقة، فإن قيل الواو في: * (ومن الجبال) * ما تقديرها؟ نقول هي تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون للاستئناف كأنه قال تعالى وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان، وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة، رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار ثانيهما: أن تكون للعطف تقديرها وخلق من الجبال. قال الزمخشري: أراد ذو جدد واللطيفة الثالثة: ذكر الجبال ولم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر: * (وفي الأرض قطع متجاورات) * مع أن هذا الدليل مثل ذلك، وذلك لأن الله تعالى لما ذكر في الأول: * (أخرجنا به ثمرات) * كان نفس إخراج الثمار دليلا على القدرة ثم زاد عليه بيانا، وقال مختلفا كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة، لأن كون الجبال في بعض نواحي الأرض دون بعضها والاختلاف الذي في هيئة الجبل فإن بعضها يكون أخفض وبعضها أرفع دليل القدرة والاختيار، ثم زاده بيانا وقال جدد بيض، أي مع دلالتها بنفسها هي دالة باختلاف ألوانها، كما أن إخراج الثمرات في نفسها دلائل واختلاف
20

ألوانها دلائل.
المسألة الرابعة: مختلف ألوانها، الظاهر أن الاختلاف راجع إلى كل لون أي بيض مختلف ألوانها وحمر مختلف ألوانها، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص، وقد يكون على لون التراب الأبيض دون بياض الجص، وكذلك الأحمر، ولو كان المراد أن البيض والحمر مختلف الألوان لكان مجرد تأكيد والأول أولى، وعلى هذا فنقول لم يذكر مختلف ألوانها بعد البيض والحمر والسود، بل ذكره بعد البيض والحمر وأخر السود الغرابيب، لأن الأسود لما ذكره مع المؤكد وهو الغرابيب يكون بالغا غاية السواد فلا يكون فيه اختلاف.
المسألة الخامسة: قيل بأن الغربيب مؤكد للأسود، يقال أسود غربيب والمؤكد لا يجيء إلا متأخرا فكيف جاء غرابيب سود؟ نقول قال الزمخشري: غرابيب مؤكد لذي لون مقدر في الكلام كأنه تعالى قال سواد غرابيب، ثم أعاد السود مرة أخرى وفيه فائدة وهي زيادة التأكيد لأنه تعالى ذكره مضمرا ومظهرا، ومنهم من قال هو على التقديم والتأخير، ثم قال تعالى: * (ومن الناس والدواب والأنعام) * استدلالا آخر على قدرته وإرادته، وكأن الله تعالى قسم دلائل الخلق في العالم الذي نحن فيه وهو عالم المركبات قسمين: حيوان وغير حيوان، وغير الحيوان إما نبات وإما معدن، والنبات أشرف، وأشار إليه بقوله: * (فأخرجنا به ثمرات) * ثم ذكر المعدن بقوله: * (ومن الجبال) * ثم ذكر الحيوان وبدأ بالأشرف منها وهو الإنسان فقال: * (ومن الناس) * ثم ذكر الدواب، لأن منافعها في حياتها والأنعام منفعتها في الأكل منها، أو لأن الدابة في العرف تطلق على الفرس وهو بعد الإنسان أشرف من غيره، وقوله: * (مختلف ألوانه) * فذكر لكون الإنسان من جملة المذكورين، وكون التذكير أعلى وأولى.
الخشية بقدر معرفة المخشي، والعالم يعرف الله فيخافه ويرجوه. وهذا دليل على أن العالم أعلى درجة من العابد، لأن الله تعالى قال: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * فبين أن الكرامة بقدر التقوى، والتقوى بقدر العلم. فالكرامة بقدر العلم لا بقدر العمل، نعم العالم إذا ترك العمل قدح ذلك في علمه، فإن من يراه يقول: لو علم لعمل. ثم قال تعالى: * (إن الله عزيز غفور) * ذكر ما يوجب الخوف والرجاء، فكونه عزيزا ذا انتقام يوجب الخوف التام، وكونه غفورا لما دون ذلك يوجب الرجاء البالغ. وقراءة من قرأ بنصب العلماء ورفع الله، معناها إنما يعظم ويبجل.
قوله تعالى
* (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلوة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور) *.
21

ثم قال تعالى: * (إن الذين يتلون كتاب الله) *.
لما بين العلماء بالله وخشيتهم وكرامتهم بسبب خشيتهم ذكر العالمين بكتاب الله العاملين بما فيه. وقوله: * (يتلون كتاب الله) * إشارة إلى الذكر.
وقوله تعالى: * (وأقاموا الصلاة) * إشارة إلى العمل البدني. وقوله: * (وأنفقوا مما رزقناهم) * إشارة إلى العمل المالي، وفي الآيتين حكمة بالغة، فقوله: إنما يغشى الله إشارة إلى عمل القلب، وقوله: * (إن الذين يتلون) * إشارة إلى عمل اللسان. وقوله: * (وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم) * إشارة إلى عمل
الجوارح، ثم إن هذه الأشياء الثلاثة متعلقة بجانب تعظيم الله والشفقة على خلقه، لأنا بينا أن من يعظم ملكا إذا رأى عبدا من عباده في حاجة يلزمه قضاء حاجته وإن تهاون فيه يخل بالتعظيم، وإلى هذا أشار بقوله: عبدي مرضت فما عدتني، فيقول العبد: كيف تمرض وأنت رب العالمين، فيقول الله مرض عبدي فلان وما زرته ولو زرته لوجدتني عنده، يعني التعظيم متعلق بالشفقة فحيث لا شفقة على خلق الله لا تعظيم لجانب الله.
وقوله تعالى: * (سرا وعلانية) * حث على الإنفاق كيفما يتهيأ، فإن تهيأ سرا فذاك ونعم وإلا فعلانية ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، فإن ترك الخير مخافة أن يقال فيه إنه مراء عين الرياء ويمكن أن يكون المراد بقوله: * (سرا) * أي صدقة * (وعلانية) * أي زكاة، فإن الإعلان بالزكاة كالإعلان بالفرض وهو مستحب.
وقوله تعالى: * (يرجون تجارة لن تبور) * إشارة إلى الإخلاص، أي ينفقون لا ليقال إنه كريم ولا لشيء من الأشياء غير وجه الله، فإن غير الله بائر والتاجر فيه تجارته بائرة.
قوله تعالى
* (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) *.
وقوله تعالى: * (ليوفيهم أجورهم) * أي ما يتوقعونه ولو كان أمرا بالغ الغاية * (ويزيدهم فضله) * أي يعطيهم ما لم يخطر ببالهم عند العمل، ويحتمل أن يكون يزيدهم النظر إليه كما جاء في تفسير الزيادة * (إنه غفور) * عند إعطاء الأجور * (شكور) * عند إعطاء الزيادة.
* (والذى أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير) *.
ثم قال تعالى: * (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) *.
لما بين الأصول الأول وهو وجود الله الواحد بأنواع الدلائل من قوله: * (والله الذي أرسل) *
22

الرياح، وقوله: * (والله خلقكم) * وقوله: * (ألم تر أن الله أنزل) * ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، فقال: * (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) * وأيضا كأنه قد ذكر أن الذين يتلون كتاب الله يوفيهم الله فقال: * (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق) * تقريرا لما بين من الأجر والثواب في تلاوة كتاب الله فإنه حق وصدق فتاليه محق ومحقق وفي تفسيرها مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (من الكتاب) * يحتمل أن يكون لابتداء الغاية كما يقال أرسل إلى كتاب من الأمير أو الوالي وعلى هذا فالكتاب يمكن أن يكون المراد منه اللوح المحفوظ يعني الذي أوحينا من اللوح المحفوظ إليك حق، ويمكن أن يكون المراد هو القرآن يعني الإرشاد والتبيين الذي أوحينا إليك من القرآن ويحتمل أن يكون للبيان كما يقال أرسل إلى فلان من الثياب والقماش جملة.
المسألة الثانية: قوله: * (هو الحق) * آكد من قول القائل الذي أوحينا إليك حق من وجهين * (أحدهما) * أن تعريف الخبر يدل على أن الأمر في غاية الظهور لأن الخبر في الأكثر يكن نكرة، لأن الإخبار في الغالب يكون إعلاما بثبوت أمر لا معرفة للسامع به لأمر يعرفه السامع كقولنا زيد قام فإن السامع ينبغي أن يكون عارفا بزيد ولا يعلم قيامه فيخبر به، فإذا كان الخبر أيضا معلوما فيكون الأخبار للتنبيه فيعرفان باللام كقولنا زيد العالم في هذه المدينة إذا كان علمه مشهورا.
المسألة الثالثة: قوله: * (مصدقا لما بين يديه) * حال مؤكدة لكونه حقا لأن الحق إذا لا خلاف بينه وبين كتب الله يكون خاليا عن احتمال البطلان وفي قوله مصدقا تقرير لكونه وحيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن قارئا كاتبا وأتى ببيان ما في كتب الله لا يكون ذلك إلا من الله تعالى وجواب عن سؤال الكفار وهو أنهم كانوا يقولون بأن التوراة ورد فيها كذا والإنجيل ذكر فيه كذا وكانوا يفترون من التثليث وغيره وكانوا يقولون بأن القرآن فيه خلاف ذلك فقال التوراة والإنجيل لم يبق بهما وثوق بسبب تغييركم فهذا القرآن ما ورد فيه إن كان في التوراة فهو حق وباق على ما نزل، وإن لم يكن فيه ويكون فيه خلاف فهو ليس من التوراة، فالقرآن مصدق للتوراة وفيه وجه آخر: وهو أن يقال إن هذا الوحي مصدق لما تقدم لأن الوحي لو لم يكن وجوده لكذب موسى وعيسى عليهما السلام في إنزال التوراة والإنجيل فإذا وجد الوحي ونزل على محد صلى الله عليه وسلم علم جواز وصدق به ما تقدم، وعلى هذا ففيه لطيفة: وهي أنه تعالى جعل القرآن مصدقا لما مضى مع أن ما مضى أيضا مصدق له لأن الوحي إذا نزل على واحد جاز أن ينزل على غيره وهو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل ما تقدم مصدقا للقرآن كونه معجزة يكفي في تصديقه بأنه وحي، وأما ما تقدم فلا بد معه من معجزة تصدقه.
23

المسألة الرابعة: قوله: * (إن الله بعباده لخبير بصير) * فيه وجهان: * (أحدهما) * أنه تقرير لكونه هو الحق لأنه وحي من الله والله خبير عالم بالبواطن بصير عالم بالظواهر، فلا يكون باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر وثانيهما: أن يكون جوابا لما كانوا يقولونه إنه لم لم ينزل على رجل عظيم؟ فيقال إن الله بعباده لخبير يعلم بواطنهم وبصير يرى ظواهرهم فاختار محمدا عليه السلام ولم يختر غيره فهو أصلح من الكل.
قوله تعالى
* (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) *.
ثم قال تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) * اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن وعلى هذا فالذين اصطفيناهم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون والظالم والمقتصد والسابق كلهم منهم ويدل عليه قوله تعالى: * (جنات عدن يدخلونها) * أخبر بدخولهم الجنة وكلمة * (ثم أورثنا) * أيضا تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث والإيراث المراد منه الإعطاء بعد ذهاب
من كان بيده المعطى، ويحتمل أن يقال المراد من الكتاب هو جنس الكتاب كما في قوله تعالى: * (جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) * والمعنى على هذا: إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير ولا كذلك على غيرهم لأن قوله: * (من عبادنا) * دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلما، وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا * (فمنهم ظالم) * وهو المسئ * (ومنهم مقتصد) * وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا * (ومنهم سابق بالخيرات) * وهو الذي أخلص العمل لله وجرده عن السيئات، فإن قال قائل كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم؟ مع أن الظالم يطلب على الكافر في كثير من المواضع، فنقول المؤمن عند المعصية يضع نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن " ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ظالمنا مغفور له " وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه فهو ظالم على الإطلاق، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ولا يضع فيه غير محبة الله، وفي المراتب الثلاث أقوال كثيرة: أحدها: الظالم هو الراجح السيئات والمقتصد هو الذي
24

تساوت سيئاته وحسناته والسابق هو الذي ترجحت حسناته ثانيها: الظالم هو الذي ظاهره خبر من باطنه، والمقتصد من تساوي ظاهره وباطنه، والسابق من باطنه خير ثالثها: الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد ورابعها: الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم خامسها: الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم، والسابق التالي العالم العامل سادسها: الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم سابعها: الظالم أصحاب المشأمة، والمقتصد أصحاب الميمنة، والسابق السابقون المقربون ثامنها: الظالم الذي يحاسب فيدخل النار، والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة، والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب تاسعها: الظالم المصر على المعصية، والمقتصد هو النادم والتائب، والسابق هو المقبول التوبة عاشرها: الظالم الذين أخذ القرآن ولم يعمل، به والمقتصد الذي عمل به، والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل، والمقتصد كامل والظالم ناقص، والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للشيء في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة وإن لم يوفق لذلك وندر منه ذنب وصدر عنه إثم فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله ويدل عليه قوله تعالى: * (بإذن الله) * أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس، والظالم تغلبه النفس، ونقول بعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقصد ومن قهر نفسه فهو السابق وقوله: * (ذلك هو الفضل الكبير) * يحتمل وجوها أحدها: التوفيق المدلول عليه بقوله: * (بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) *، ثانيها: السبق بالخيرات هو الفضل الكبير ثالثها: الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير، أما الوجه الآخر وهو أن يقال: * (ثم أورثنا الكتاب) * أي جنس الكتاب، كما قال تعالى: * (جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) * يرد عليه أسئلة أحدهما: ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن فما المراد بكلمة ثم؟ نقول معناه إن الله خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب كأنه قال تعالى إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عبادا * (ثم أورثناهم الكتاب) *، ثانيها: كيف يكون من الأنبياء ظالم لنفسه؟ نقول منهم غير راجع إلى الأنبياء المصطفين، بل المعنى إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلا وآتيناهم كتبا، ومنهم أي من قومك
25

ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ومقتصد آمن بك وبما إنزل إليك ومقتصد آمن بك ولم يأت بجميع ما أمرته به وسابق آمن وعمل صالحا وثالثها: قوله: * (جنات عدن يدخلونها) * الداخلون هم المذكورون وعلى ما ذكرتم لا يكون الظالم داخلا، نقول الداخلون هم السابقون، وأما المقتصد فأمره موقوف أو هو يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة والبيان لأول الأمر لا لما بعده، ويدل عليه قوله: * (يحلون فيها من أساور من ذهب) * وقوله: * (أذهب عنا الحزن) *.
قوله تعالى
* (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *.
ثم قال: * (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) *.
وفي الداخلين وجوه أحدها: الأقسام الثلاثة وهي على قولنا أن الظالم والمقتصد والسابق أقسام المؤمنين والثاني: الذين يتلون كتاب الله والثالث: هم السابقون وهو أقوى لقرب ذكرهم ولأنه ذكر إكرامهم بقوله: * (يحلون) * فالمكرم هو السابق وعلى هذا فيه أبحاث:
الأول: تقديم الفاعل على الفعل وتأخير المفعول عنه موافق لترتيب المعنى إذا كان المفعول حقيقيا كقولنا: * (الله خلق السماوات) * وقول القائل: زيد بني الجدار فإن الله موجود قبل كل شيء، ثم له فعل هو الخلق، ثم حصل به المفعول وهو السماوات، وكذلك زيد قبل البناء ثم الجدار من بنائه، وإذا لم يكن المفعول حقيقيا كقولنا زيد دخل الدار وضرب عمرا فإن الدار في الحقيقة ليس مفعولا للداخل وإنما فعل من أفعال تحقق بالنسبة إلى الدار، وكذلك عمرو فعل من أفعال زيد تعلق به فسمى مفعولا لا يحصل هذا الترتيب، ولكن الأصل تقديم الفاعل على المفعول ولهذا يعاد المفعول المقدم بالضمير تقول عمرا ضربه زيد فتوقعه بعد الفعل بالهاء العائدة إليه وحينئذ يطول الكلام فلا يختاره الحكيم إلا لفائدة، فما الفائدة في تقديم الجنات على الفعل الذي هو الدخول وإعادة ذكر بالهاء في يدخلونها، وما الفرق بين هذا وبين قول القائل
يدخلونها جنات عدن؟ نقول السامع إذا علم أن له مدخلا من المداخل وله دخول ولم يعلم عين المدخل فإذا قيل له أنت تدخل فإلى أن يسمع الدار أو السوق يبقى متعلق القلب بأنه في أي المداخل يكون، فإذا قيل له دار زيد تدخلها فبذكر الدار، يعلم مدخله وبما عنده من العلم السابق إن له دخولا يعلم الدخول فلا يبقى له توقف ولا سيما الجنة والنار، فإن بني المدخلين بونا بعيدا الثاني: قوله: * (يحلون فيها) * إشارة إلى سرعة الدخول فإن التحلية لو وقعت خارجا لكان فيه تأخير الدخول فقال: * (يدخلونها) * وفيها تقع تحليتهم الثالث: قوله: * (من أساور) * بجمع الجمع فإنه جمع أسورة وهي جمع سوار، وقوله: * (ولباسهم فيها حرير) * ليس كذلك لأن الإكثار من اللباس
26

يدل على حاجة من دفع برد أو غيره والإكثار من الزينة لا يدل إلا على الغنى الرابع: ذكر الأساور من بين سائر الحلي في كثير من المواضع منها قوله تعالى: * (وحلوا أساور من فضة) * وذلك لأن التحلي بمعنيين أحدهما: إظهار كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال لأن التحلي لا يكون حالة الطبخ والغسل وثانيهما: إظهار الاستغناء عن الأشياء وإظهار القدرة على الأشياء وذلك لأن التحلي إما باللآلئ والجواهر وإما بالذهب والفضة والتحلي بالجواهر واللآلئ يدل على أن المتحلي لا يعجز عن الوصول إلى الأشياء الكبيرة عند الحاجة حيث يعجز عن الوصول إلى الأشياء القليلة الوجود لا لحاجة، والتحلي بالذهب والفضلة يدل على أنه غير محتاج حاجة أصلية وإلا لصرف الذهب والفضة إلى دفع الحاجة، إذا عرفت هذا فنقول الأساور محلها الأيدي وأكثر الأعمال باليد فإنها للبطش، فإذا حليت بالأساور علم الفراغ والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحلي.
ثم قال تعالى: * (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) *.
في الحزن أقوال كثيرة والأولى أن يقال المراد إذهاب كل حزن والألف واللام للجنس واستغراقه وإذهاب الحزن بحصول كل ما ينبغي وبقائه دائما فإن شيئا منه لو لم يحصل لكان الحزن موجودا بسببه وإن حصل ولم يدم لكان الحزن غير ذاهب بعد بسبب زواله وخوف فواته، وقوله: * (آن ربنا لغفور شكور) * ذكر الله عنهم أمورا كلها تفيد الكرامة من الله الأول: الحمد فإن الحامد مثاب الثاني: قولهم ربنا فإن الله لم يناد بهذا اللفظ إلا واستجاب لهم، اللهم إلا أن يكون المنادي قد ضيع الوقت الواجب أو طلب ما لا يجوز كالرد إلى الدنيا من الآخرة الثالث: قولهم: * (غفور) *، الرابع: قولهم: * (شكور) * والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بما وجد لهم من الحمد في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم ويزيد لهم بسبب ما وجد لهم في الآخرة من الحمد.
ثم قال تعالى: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * أي دار الإقامة، لما ذكر الله سرورهم وكرامتهم بتحليتهم وإدخالهم الجنات بين سرورهم ببقائهم فيها وأعلمهم بدوامها حيث قالوا: * (الذي أحلنا دار المقامة) * أي الإقامة والمفعول ربما يجيء للمصدر من كل باب يقال ما له معقول أي عقل، وقال تعالى: * (مدخل صدق) * وقال تعالى: * (ومزقناهم كل ممزق) * وكذلك مستخرج للاستخراج وذلك لأن المصدر هو المفعول في الحقيقة، فإنه هو الذي فعل فجاز إقامة المفعول مقامه وفي قوله: * (دار المقامة) * إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل عنها إلى منزلة القبور ومنها إلى منزلة
27

العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق. وقد تكون النار لبعضهم منزلة أخرى والجنة دار المقامة، وكذلك النار لأهلها وقولهم * (من فضله) * أي بحكم وعده لا بإيجاب من عنده.
وقوله تعالى: * (لا يمسنا فيها نصب ولا سمنا فيها لغوب) * اللغوب الإعياء والنصب هو السبب للإعياء فإن قال قائل إذا بين أنه * (لا يمسهم فيها نصب) * علم أنه * (لا يمسهم فيها لغوب) * ولا ينفي المتكلم الحكيم السبب، ثم ينفي مسببه بحرف العطف فلا يقول القائل لا أكلت ولا شبعت أو لا قمت ولا مشيت والعكس كثير فإنه يقال لا شبعت ولا أكلت لما أن نفي الشبع لا يلزمه انتفاء الأكل وسياق ما تقرر أن يقال لا يمسنا فيها إعياء ولا مشقة، فنقول ما قاله الله في غاية الجلالة وكلام الله أجل وبيانه أجمل، ووجه هو أنه تعالى بين مخالفة الجنة لدار الدنيا فإن الدنيا أماكنها على قسمين: أحدهما: موضع نمس فيه المشاق والمتاعب كالبراري والصحاري والطرقات والأراضي والآخر: موضع يظهر فيه الإعياء كالبيوت والمنازل التي في الأسفار من الخانات فإن من يكون في مباشرة شغل لا يظهر عليه الإعياء إلا بعدما يستريح فقال تعالى: * (لا يمسنا فيها نصب) * أي ليست الجنة كالمواضع التي في الدنيا مظان المتاعب بل هي أفضل من المواضع التي هي مواضع مرجع العي، فقال: * (ولا يمسنا فيها لغوب) * أي، لا نخرج منها إلى مواضع نتعب ونرجع إليها فيمسنا فيها الإعياء وقرئ * (لغوب) * بفتح اللام والترتيب على هذه القراءة ظاهر كأنه قال لا نتعب ولا يمسنا ما يصلح لذلك، وهذا لأن القوي السوي إذا قال ما تعبت اليوم لا يفهم من كلامه أنه ما عمل شيئا لجواز أنه عمل عملا لم يكن بالنسبة إليه متعبا لوقته، فإذا قال ما مسني ما يصلح أن يكون متبعا يفهم أنه لم يعمل شيئا لأن نفس العمل قد يصلح أن يكون متعبا لضعيف أو متعبا بسبب كثرته، واللغوب هو ما يغلب منه وقيل النصب التعب الممرض، وعلى هذا فحسن الترتيب ظاهر كأنه قال لا يمسنا مرض ولا دون ذلك وهو الذي يعيا منه مباشرة.
قوله تعالى
* (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور) *.
ثم قال تعالى: * (والذين كفروا لهم نار جهنم) * عطف على قوله: * (إن الذين يتلون كتاب الله) * وما بينهما كلام يتعلق بالذين يتلون كتاب الله على ما بينا وقوله: * (جنات عدن يدخلونها) * قد ذكرنا أنه على بعض الأقوال راجع إلى * (الذين يتلون كتاب الله) *.
ثم قال تعالى: * (لا يقضي عليهم فيموتوا) * أي لا يستريحون بالموت بل العذاب دائم.
وقوله تعالى: * (ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور) * أي النار وفيه لطائف:
28

الأولى: أن العذاب في الدنيا إن دام كثيرا يقتل فإن لم يقتل يعتاده البدن ويصير مزاجا فاسدا متمكنا لا يحس به المعذب، فقال عذاب نار الآخرة ليس كعذاب الدنيا، إما أن يفني وإما أن يألفه البدن بل هو في كل زمان شديد والمعذب فيه دائم الثانية: راعي الترتيب على أحسن وجه وذلك لأن الترتيب أن لا ينقطع العذاب، ولا يفتر فقال لا ينقطع ولا بأقوى الأسباب وهو الموت حتى يتمنون الموت ولا يجابون كما قال تعالى: * (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك) * أي بالموت الثالثة: في المعذبين اكتفى بأنه لا ينقص عذابهم، ولم يقل نزيدهم عذابا. وفي المثابين ذكر الزيادة بقوله: * (ويزيدهم من فضله) * ثم لما بين أن عذابهم لا يخفف.
قوله تعالى
* (وهم يصطرخون فيها ربنآ أخرجنا نعمل صالحا غير الذى كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجآءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) *.
قال تعالى: * (وهم يصطرخون فيها) * أي لا يخفف وإن اصطرخوا واضطربوا لا يخفف الله من عنده إنعاما إلى أن يطلبوه بل يطلبون ولا يجدون والاصطراخ من الصراخ والصراخ صوت المعذب.
وقوله تعالى: * (ربنا أخرجنا) * أي صراخهم بهذا أي يقولون: * (ربنا أخرجنا) * لأن صراخهم كلام وفيه إشارة إلى أن إيلامهم تعذيب لا تأديب، وذلك لأن المؤدب إذا قال لمؤدبه: لا أرجع إلى ما فعلت وبئسما فعلت يتركه، وأما المعذب فلا وترتيبه حسن وذلك لأنه لما بين أنه لا يخفف عنهم بالكلية ولا يعفو عنهم بين أنه لا يقبل منهم وعدا وهذا لأن المحبوس يصير لعله يخرج من غير سؤال فإذا طال لبثه تطلب الإخراج من غير قطيعة على نفسه فإن لم يقده يقطع على نفسه قطيعة ويقول أخرجني أفعل كذا وكذا.
واعلم أن الله تعالى قد بين أن من يكون في الدنيا ضالا فهو في الآخرة ضال كما قال تعالى: * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * ثم إنهم لم يعلموا أن العود إلى الدنيا بعيد محال بحكم الإخبار.
وعلى هذا قالوا: * (نعمل صالحا) * جازمين من غير استعانة بالله ولا مثنوية فهي، ولم يقولوا إن الأمر بيد الله، فقال الله لهم إذا كان اعتمادكم على أنفسكم فقد عمرناكم مقدارا يمكن التذكر فيه والإتيان بالإيمان والإقبال على الأعمال. وقولهم: * (غير الذي كنا نعمل) * إشارة إلى ظهور فساد عملهم ولهم وكأن الله تعالى كما لم يهدهم في الدنيا لم يهدهم في الآخرة، فما قالوا ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعلمهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة، وكما هدى الله المؤمن في الدنيا هداه في العقبى حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الحمد لله وقالوا ربنا غفور اعترافا بتقصيرهم شكور إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وقالوا: * (أحلنا دار المقامة من فضله) * أي لا عمل لنا بالنسبة إلى نعم الله وهم قالوا: * (أخرجنا نعمل صالحا) *
29

إغماضا في حق تعظيمه وإعراضا عن الاعتراف بعجزهم عن الإتيان بما يناسب عظمته، ثم إنه تعالى بن أنه آتاهم ما يتعلق بقبول المحل من العمر الطويل وما يتعلق بالفاعل في المحل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كفاعل الخير فيهم ومظهر السعادات.
فقال تعالى: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) *.
فإن المانع إما أن يكون فيهم حيث لم يتمكنوا من النظر فيما أنزل الله، وإما أن يكون في مرشدهم حيث لم يتل عليهم ما يرشدهم.
ثم قال تعالى: * (فذوقوا فما للظالمين من نصير) * وقوله: * (فذوقوا) * إشارة إلى الدوام وهو أمر إهانة، فما للظالمين الذين وضعوا أعمالهم وأقوالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها من نصير في وقت الحاجة ينصرهم، قال بعض الحكماء قوله: * (فما للظالمين من نصير) * وقوله: * (وما للظالمين من أنصار) * يحتمل أن يكون المراد من الظالم الجاهل جهلا مركبا، وهو الذي يعتقد الباطل حقا في الدنيا * (وما له من نصير) * أي من علم ينفعه في الآخرة، والذي يدل عليه هو أن الله تعالى سمي البرهان سلطانا، كما قال تعالى: * (فأتوا بسلطان) * والسلطان أقوى ناصر إذ هو القوة أو الولاية وكلاهما ينصر والحق التعميم، لأن الله لا ينصره وليس غيره نصيرا فما لهم من نصير أصلا، ويمكن أن يقال إن الله تعالى قال في آل عمران * (وما للظالمين من أنصار) * وقال: * (فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين) * وقال ههنا: * (فما للظالمين من نصر) * أي هذا وقت كونهم واقعين في النار، فقد أيس كل منهم من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة ولم يبق إلا توقعهم من الله فقال: * (ما لكم من نصير) * أصلا، وهناك كان الأمر محكيا في الدنيا أو في أوائل الحشر، فنفى ما كانوا يتوقعون منهم النصرة وهم آلهتهم.
* (إن الله عالم غيب السماوات والارض إنه عليم بذات الصدور) *.
ثم قال تعالى: * (إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور) *.
تقريرا لدوامهم في العذاب، وذلك من حيث إن الله تعالى لما قال: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * ولا يزاد عليها، فلو قال قائل: الكافر ما كفر بالله إلا أياما معدودة، فكان ينبغي أن لا يعذب إلى مثل تلك الأيام، فقال تعالى إن الله لا يخفي عليه غيب السماوات فلا يخفي عليه ما في الصدور، وكان يعلم من الكافر أن في قلبه تمكن الكفر بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده.
وفي قوله تعالى: * (بذات الصدور) * مسألة قد ذكرناها مرة ونعيدها أخرى، وهي أن لقائل أن يقول الصدور هي ذات اعتقادات وظنون، فكيف سمى الله الاعتقادات بذات الصدور؟
30

ويقرر السؤال قولهم أرض ذات أشجار وذات جني إذا كان فيها ذلك، فكذلك الصدر فيه اعتقاد فهو ذو اعتقاد، فيقال له لما كان اعتبار الصدر بما فيه صار ما فيه كالساكن المالك حيث لا يقال الدار ذات زيد، ويصح أن يقال زيد ذو دار ومال وإن كان هو فيها.
* (هو الذى جعلكم خلائف فى الارض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) *.
ثم قال تعالى: * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) *.
تقريرا لقطع حجتهم فإنهم لما قالوا: * (ربنا أخرجنا نعمل صالحا) * وقال تعالى: * (أولم نعمركم ما يتذكر) * إشارة إلى أن التمكين والإمهال مدة يمكن فيها المعرفة قد حصل وما آمنتم وزاد عليه بقوله: * (وجاءكم النذير) * أي آتيناكم عقولا، وأرسلنا إليكم من يؤيد المعقول بالدليل المنقول زاد على ذلك بقوله تعالى: * (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) * أي نبهكم بمن مضى وحال من انقضى فإنكم لو لم يحصل لكم علم بأن من كذب الرسل أهلك لكان عنادكم أخفى وفسادكم أخف، لكن أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلائف في الأرض، أي خليفة بعد خليفة تعلمون حال الماضين وتصبحون بحالهم راضين * (فمن كفر) * بعد هذا كله * (فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) * لأن الكافر السابق كان ممقوتا كالعبد الذي لا يخدم سيده واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت كالعبد الذي ينصحه الناصح ويأمره بخدمة سيده ويعده ويوعده ولا ينفعه النصح ولا يسعده والتالي لهم الذي رأى عذاب من تقدم ولم يخش عذابه أمقت الكل.
ثم قال تعالى: * (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) * أي الكفر لا ينفع عند الله حيث لا يزيد إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يفيدهم إلا الخسارة، فإن العمر كالرأس مال من اشترى به رضا الله ربح، ومن اشترى به سخطه خسر.
قوله تعالى
* (قل أرءيتم شركآءكم الذين تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك فى السماوات أم ءاتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) *.
ثم قال تعالى: * (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) *.
31

تقريرا للتوحيد وإبطالا للإشراك، وقوله: * (أرأيتم) * المراد منه أخبروني، لأن الاستفهام يستدعي جوابا، يقول القائل أرأيت ماذا فعل زيد؟ فيقول السامع باع أو اشترى، ولولا تضمنه معنى أخبرني وإلا لما كان الجواب إلا قوله لا أو نعم، وقوله: * (شركاءكم) * إنما أضاف الشركاء إليهم من حيث إن الأصنام في الحقيقة لم تكن شركاء لله، وإنما هم جعلوها شركاء، فقال شركاءكم، أي الشركاء يجعلكم ويحتمل أن يقال شركاءكم، أي شركاءكم في النار لقوله: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * وهو قريب، ويحتمل أن يقال هو بعيد لاتفاق المفسرين على الأول وقوله: * (أروني) * بدل عن * (أرأيتم) * لأن كليهما يفيد معنى أخبروني، ويحتمل أن يقال قوله: * (أرأيتم) * استفهام حقيقي و * (أروني) * أمر تعجيز للتبين، فلما قال: * (أرأيتم) * يعني أعلمتم هذه التي تدعونها كما هي وعلى ما هي عليه من العجز أو تتوهمون فيها قدرة، فإن كنتم تعلمونها عاجزة فكيف تعبدونها؟ وإن كان وقع لكم أن لها قدرة فأروني قدرتها في أي شيء هي، أهي في الأرض، كما قال بعضهم: إن الله إله السماء وهؤلاء آلهة الأرض، وهم الذين قالوا أمور الأرض من الكواكب والأصنام صورها؟ أم هي في السماوات، كما قال بعضهم: إن السماء خلقت باستعانة الملائكة والملائكة شركاء في خلق السماوات، وهذه الأصنام صورها؟ أم قدرتها في الشفاعة لكم، كما قال بعضهم إن الملائكة ما خلقوا شيئا ولكنهم مقربون عند الله فنعبدها ليشفعوا لنا، فهل معهم كتاب من الله فيه إذنه لهم بالشفاعة؟ وقوله: * (أم آتيناهم كتابا) * في العائد إليه الضمير وجهان أحدهما: أنه عائد إلى الشركاء، أي هل أتينا الشركاء كتابا وثانيهما: أنه عائد إلى المشركين، أي هل آتينا المشركين كتابا وعلى الأول فمعناه ما ذكرنا، أي هل مع ما جعل شريكا كتاب من الله فيه أن له شفاعة عند الله، فإن أحدا لا يشفع عنده إلا بإذنه، وعلى الثاني معناه أن عبادة هؤلاء إما بالعقل ولا عقل لمن يعبد من لم يخلق من الأرض جزءا من الأجزاء ولا في السماء شيئا من الأشياء، وإما بالنقل ونحن ما آتينا المشركين كتابا فيه أمرنا بالسجود لهؤلاء ولو أمرنا لجاز كما أمرنا بالسجود لآدم وإلى جهة الكعبة، فهذه العبادة لا عقلية ولا نقلية فوعد بعضهم بعضا ليس إلا غرورا غرهم الشيطان وزين لهم عبادة الأصنام.
قوله تعالى
* (إن الله يمسك السماوات والارض أن تزولا ولئن زالتآ إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) *.
ثم لما بين أنه لا خلق للأصنام ولا قدرة لها ولا على جزء من الأجزاء بين أن الله قدير بقوله: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا أن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا) * ويحتمل أن يقال لما بين شركهم قال مقتضى شركهم زوال السماوات والأرض كما قال تعالى: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا
32

للرحمن ولدا) * ويدل على هذا قوله تعالى في آخر الآية: * (إنه كان حليما غفورا) * كان حليما ما ترك تعذيبهم إلا حلما منه وإلا كانوا يستحقون إسقاط السماء وانطباق الأرض عليهم وإنما أخر إزالة السماوات إلى قيام الساعة حلما، وتحتمل الآية وجها ثالثا: وهو أن يكون ذلك من باب التسليم وإثبات المطلوب على تقدير التسليم أيضا كأنه تعالى قال شركاؤكم ما خلقوا من الأرض شيئا ولا في السماء جزءا ولا قدروا على الشفاعة، فلا عبادة لهم. وهب أنهم فعلوا شيئا من الأشياء فهل يقدرون على إمساك السماوات والأرض؟ ولا يمكنهم القول بأنهم يقدرون لأنهم ما كانوا يقولون به، كما قال تعالى عنهم: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
الله) * ويؤيد هذا قوله: * (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد بعده) * فإذا تبين أن لا معبود إلا الله من حيث إن غيره لم يخلق من الأشياء وإن قال الكافر بأن غيره خلق فما خلق مثل ما خلق فلا شريك له إنه كان حليما غفورا، حليما حيث لم يعجل في إهلاكهم بعد إصرارهم على إشراكهم وغفورا يغفر لمن تاب ويرحمه وإن استحق العقاب.
قوله تعالى
* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الامم فلما جآءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا فى الارض ومكر السيىء ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة آلاولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) *.
ثم قال تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا، استكبارا في الأرض ومكر السيء ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) *.
لما بين إنكارهم للتوحيد ذكر تكذيبهم للرسول ومبالغتهم فيه حيث إنهم كانوا يقسمون على أنهم لا يكذبون الرسل إذا تبين لهم كونهم رسلا وقالوا: إنما نكذب بمحمد صلى الله عليه وسلم لكونه كاذبا، ولو تبين لنا كونه رسولا لآمنا كما قال تعالى عنهم: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها) * وهذا مبالغة منهم في التكذيب، كما أن من ينكر دين إنسان قد يقول والله لو علمت أن له شيئا علي لقضيته وزدت له، إظهارا لكونه مطالبا بالباطل، فكذلك ههنا عاندوا وقالوا والله لو جاءنا رسول لكنا أهدى الأمم فلما جاءهم نذير أي محمد صلى الله عليه وسلم جاءهم أي صح مجيؤه لهم بالبينة ما زادهم إلا نفورا، فإنهم قبل الرسالة كانوا كافرين بالله وبعدها صاروا كافرين بالله ورسوله ولأنهم قبل الرسالة ما كانوا معذبين كما صاروا، بعد الرسالة وقال بعض المفسرين: إن أهل مكة كانوا يلعنون اليهود والنصارى على أنهم كذبوا برسلهم لما جاءوهم وقالوا لو جاءنا رسول لأطعناه
33

واتبعناه، وهذا فيه إشكال من حيث إن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر مطلقا، فكيف كانوا يعترفون بالرسل، فمن أين عرفوا أن اليهود كذبوا وما جاءهم كتاب ولولا كتاب الله وبيان رسوله من أين كان يعلم المشركون أنهم صدقوا شيئا وكذبوا في شيء؟ بل المراد ما ذكرنا أنهم كانوا يقولون نحن لو جاءنا رسول لا ننكره وإنما ننكر كون محمد رسولا من حيث إنه كاذب ولو صح كونه رسولا لآمنا وقوله: * (فلما جاءهم) * أي فلما صح لهم مجيؤه بالمعجزة، وفي قوله: * (أهدى) * وجهان أحدهما: أن يكون المراد أهدى مما نحن عليه وعلى هذا فقوله: * (من إحدى الأمم) * للنبيين كما يقول القائل زيد من المسلمين ويدل على هذا قوله تعالى: * (فلما جاءهم نذيرا ما زادهم إلا نفورا) * أي صاروا أضل مما كانوا وكانوا يقولون نكون أهدى وثانيهما: أن يكون المراد أن نكون أهدى من إحدى الأمم كما يقول القائل زيد أولى من عمرو، وفي الأمم وجهان أحدهما: أن يكون المراد العموم أي أهدى من أي إحدى الأمم وفيه تعريض وثانيهما: أن يكون المراد تعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى ومن كان في زمانهم.
ثم قال تعالى: * (استكبارا في الأرض) * ونصبه يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون حالا أي مستكبرين في الأرض وثانيها: أن يكون مفعولا له أي للاستكبار وثالثها: أن يكون بدلا عن النفور وقوله: * (ومكر السيء) * إضافة الجنس إلى نوعه كما يقال علم الفقه وحرفة الحدادة وتحقيقه أن يقال معناه ومكروا مكرا سيئا ثم عرف لظهور مكرهم، ثم ترك التعريف باللام وأضيف إلى السيء لكون السوء فيه أبين الأمور، ويحتمل أن يقال بأن المكر يستعمل استعمال العمل كما ذكرنا في قوله تعالى: * (والذين يمكرون السيئات) * أي يعملون السيئات، ومكرهم السيء، وهو جميع ما كان يصدر منهم من القصد إلى الإيذاء ومنع الناس من الدخول في الإيمان وإظهار الإنكار، ثم قال: * (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) * أي لا يحيط إلا بفاعله وفي قوله: * (ولا يحيق) * وقوله: * (إلا بأهله) * فوائد، أما في قوله: * (يحيق) * فهي أنها تنبئ عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل، وأما في قوله: * (بأهله) * ففيه ما ليس في قول القائل ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر، كي لا يأمن المسئ فإن من أساء ومكره سئ آخر قد يلحقه جزاء على سيئة، وأما إذا لم يكن سيئا فلا يكون أهلا فيأمن المكر السيء، وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله، فلا ينبئ عن عدم الحيق بغير أهله، فإن قال قائل: كثيرا ما نرى أن الماكر يمكر ويفيده المكر ويغلب الخصم بالمكر والآية تدل على عدم ذلك، فنقول الجواب عنه من وجوه أحدها: أن المكر المذكور في الآية هو المكر الذي مكروه مع النبي صلى الله عليه وسلم من العزم على القتل والإخراج ولم يحق إلا بهم، حيث قتلوا يوم بدر وغيره وثانيها: هو أن نقول المكر السيء عام وهو الأصح فإن النبي عليه السلام نهى عن المكر وأخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء
34

إلا بأهله " وعلى هذا فذلك الرجل الممكور به (لا) يكون أهلا فلا يرد نقضا وثالثها: أن الأمور بعواقبها، ومن مكر به غيره ونفذ فيه المكر عاجلا في الظاهر ففي الحقيقة هو الفائز والماكر هو الهالك وذلك مثل راحة الكافر ومشقة المسلم في الدنيا، ويبين هذا المعنى قوله تعالى: * (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) * يعني إذا كان لمكرهم في الحال رواج فالعاقبة للتقوى والأمور بخواتيمها، فيهلكون كما هلك الأولون.
وقوله تعالى: * (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) * أي ليس لهم بعد هذا إلا انتظار الإهلاك وهو سنة الأولين وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الإهلاك ليس سنة الأولين إنما هو سنة الله بالأولين، فنقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن المصدر الذي هو المفعول المطلق يضاف إلى الفاعل والمفعول لتعلقه بهما من وجه دون وجه فيقال فيما إذا ضرب زيد عمرا عجبت من ضرب عمرو كيف ضرب مع ماله من العزم والقوة وعجبت من ضرب زيد كيف ضرب مع ماله من العلم والحكمة فكذلك سنة الله بهم أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله:
* (فلن تجد لسنة الله تبديلا) * لأنها سنة من سنن الله، إذا علمت هذا فنقول أضافها في الأول إليهم حيث قال: * (سنة الأولين) * لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت وفي الثاني أضافها إلى الله، لأنها لما علمت فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار، وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها.
المسألة الثانية: التبديل تحويل فما الحكمة في التكرار؟ نقول بقوله: * (فلن تجد لسنت الله تبديلا) * حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره، وبقوله: * (ولن تجد لسنة الله تحويلا) * حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسئ.
المسألة الثالثة: المخاطب بقوله: * (فلن تجد) * يحتمل وجهين وقد تقدم مرارا أحدهما: أن يكون عاما كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلا والثاني: أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فكأنه قال: سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه، فإذا
35

آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح: * (إنك إن تذرهم) * أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك.
قوله تعالى
* (أو لم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الارض إنه كان عليما قديرا) *.
ثم قال تعالى: * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة) *.
لما ذكر أن للأولين سنة وهي الإهلاك نبههم بتذكير حال الأولين فإنهم كانوا مارين على ديارهم رائين لآثارهم وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم، أما الأول فلطول أعمارهم وشدة اقتدارهم، وأما عملهم فلأنهم لم يكذبوا مثل محمد ولا محمدا وأنتم يا أهل مكة كذبتم محمدا ومن تقدمه، وقوله تعالى: * (وكانوا أشد منهم قوة) * قد ذكرناه في سورة الروم، بقي فيه أبحاث:
الأول: قال هناك: * (كانوا أشد) * من غير واو، وقال ههنا بالواو فما الفرق؟ نقول قول القائل: أما رأيت زيدا كيف أكرمني وأعظم منك، يفيد أن القائل يخبره بأن زيدا أعظم، وإذا قال: أما رأيته كيف أكرمني هو أعظم منك يفيد أنه تقرر أن كلا المعنيين حاصل عند السامع كأنه رآه أكرمه ورآه أكبر منه ولا شك أن هذه العبارة الأخيرة تفيد كون الأمر الثاني في الظهور مثل الأول بحيث لا يحتاج إلى إعلام من المتكلم ولا إخبار، إذا علمت هذا فنقول المذكور ههنا كونهم أشد منهم قوة لا غير، ولعل ذلك كان ظاهرا عندهم فقال بالواو أي نظركم كما يقع على عاقبة أمرهم يقع على قوتهم، وأما هناك فالمذكور أشياء كثيرة فإنه قال: * (كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها) * وفي موضع آخر قال: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض) * ولعل علمهم لم يحصل بإثارتهم الأرض أو بكثرتهم ولكن نفس القوة ورجحانهم فيما عليهم كان معلوما عندهم فإن كل طائفة تعتقد فيمن تقدمهم أنهم أقوى منهم ولا نزاع فيه.
وقوله تعالى: * (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون بيانا لهم أي أن الأولين مع شدة قوتهم ما أعجزوا الله وما فاتوه فهم أولى بأن لا يعجزوه والثاني: أن يكون قطعا لأطماع الجهال فإن قائلا لو قال: هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعمارا لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين
36

بأمور أرضية لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار فقال تعالى: * (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما) * بأفعالهم وأقوالهم: * (قديرا) * على إهلاكهم واستئصالهم.
قوله تعالى
* (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *.
ثم قال تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) *.
لما خوف الله المكذبين بمن مضى وكانوا من شدة عنادهم وفساد اعتقادهم يستعجلون بالعذاب ويقولون عجل لنا عذابنا فقال الله: للعذاب أجل والله لا يؤاخذ الله الناس بنفس الظلم فإن الإنسان ظلوم جهول، وإنما يؤاخذ بالإصرار وحصول يأس الناس عن إيمانهم ووجود الإيمان ممن كتب الله إيمانه فإذا لم يبق فيهم من يؤمن يهلك المكذبين ولو آخذهم بنفس الظلم لكان كل يوم إهلاك وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا كان الله يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب يهلكون؟ نقول الجواب من وجوه أحدها: أن خلق الدواب نعمة فإذا كفر الناس يزيل الله النعم والدواب أقرب النعم لأن المفرد أولا ثم المركب والمركب إما أن يكون معدنيا وإما أن يكون ناميا والنامي إما أن يكون حيوانا وإما أن يكون نباتا، والحيوان إما إنسان وإما غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان الثاني: هو أن ذلك بيان لشدة العذاب وعمومه فإن بقاء الأشياء بالإنسان كما أن بقاء الإنسان بالأشياء وذلك لأن الإنسان يدبر الأشياء ويصلحها فتبقى الأشياء ثم ينتفع بها الإنسان فيبقى الإنسان فإذا كان الهلاك عاما لا يبقى من الإنسان من يعمر فلا تبقى الأبنية والزروع فلا تبقى الحيوانات الأهلية لأن بقاءها بحفظ الإنسان إياها عن التلف والهلاك بالسقي والعلف الثالث: هو أن إنزال المطر هو إنعام من الله في حق العباد فإذا لم
يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فتموت جميع الحيوانات وقوله تعالى: * (ما ترك على ظهرها من دابة) * الوجه الثالث: لأن بسبب انقطاع الأمطار تموت حيوانات البر، أما حيوانات البحر فتعيش بماء البحار. المسألة الثانية: قوله تعالى: * (على ظهرها) * كناية عن الأرض وهي غير مذكورة فكيف علم؟ نقول مما تقدم ومما تأخر، أما ما تقدم فقوله: * (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض) * فهو أقرب المذكورات الصالحة لعود الهاء إليها، وأما ما تأخر فقوله: * (من دابة) * لأن الدواب على ظهر الأرض، فإن قيل كيف يقال لما عليه الخلق من الأرض وجه الأرض
37

وظهر الأرض، مع أن الوجه مقابل الظهر كالمضاد؟ نقول من حيث إن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على الظهر يقال له ظهر الأرض، ومن حيث إن ذلك هو المقابل للخلق المواجه لهم يقال له وجهها، على أن الظهر في مقابلة البطن والظهر والظاهر من باب والبطن والباطن من باب، فوجه الأرض ظهر لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
المسألة الثالثة: في قوله تعالى: * (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) * وجوه أحدها: إلى يوم القيامة وهو مسمى مذكور في كثير من المواضع ثانيها: يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن على ما تقدم ثالثها: لكل أمة أجل ولكل أجل كتاب وأجل قوم محمد صلى الله عليه وسلم أيام القتل والأسر كيوم بدر وغيره.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (فإذا جاء أجلهم، فإن الله كان بعباده بصيرا) * تسلية للمؤمنين للمؤمنين، وذلك لأنه تعالى لما قال: * (ما ترك على ظهرها من دابة) * وقال: * (لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * قال: فإذا جاء الهلاك فالله بالعباد بصير، إما أن ينجيهم أو يكون توفيهم تقريبا من الله لا تعذيبا، لا يقال قد ذكرت أن الله لا يؤاخذ بمجرد الظلم، وإنما يؤاخذ حين يجتمع الناس على الضلال ونقول بأنه تعالى عند الإهلاك يهلك المؤمن فكيف هذا، نقول قد ذكرنا أن الإماتة والإفناء إن كان للتعذيب فهو مؤاخذة بالذنب وإهلاك، وإن كان لإيصال الثواب فليس بإهلاك ولا بمؤاخذة، والله لا يؤاخذ الناس إلا عند عموم الكفر، وقوله: * (بصير) * اللفظ أتم في التسلية من العليم وغيره لأن البصير بالشيء الناظر إليه أولى بالإنجاء من العالم بحالة دون أن يراه والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
38

سورة يس
ثمانون وثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يس * والقرءان الحكيم) *.
* (يس والقرآن الحكيم) * قد ذكرنا كلاما كليا في حروف التهجي في سورة العنكبوت وذكرنا أن في كل سورة بدأ الله فيها بحروف التهجي كان في أوائلها الذكر أو الكتاب أو القرآن ولنذكر ههنا أبحاثا:
البحث الأول: هو أن في ذكر هذه الحروف في أوائل السور أمورا تدل على أنها غير خالية عن الحكمة ولكن علم الإنسان لا يصل إليها بعينها فنقول ما هو الكلي من الحكمة فيها، أما بيان أن فيها ما يدل على الحكمة فهو أن الله تعالى ذكر من الحروف نصفها وهي أربعة عشر حرفا وهي نصف ثمانية وعشرين حرفا، وهي جميع الحروف التي في لسان العرب على قولنا الهمزة ألف متحركة، ثم إنه تعالى قسم الحروف ثلاثة أقسام تسعة أحرف من الألف إلى الذال وتسعة أحرف أخر في آخر الحروف من الفاء إلى الياء وعشرة من الوسط من الراء إلى الغين، وذكر من القسم الأول حرفين هما الألف والحاء وترك سبعة وترك من القسم الآخر حرفين هما الفاء والواو وذكر سبعة، ولم يترك من القسم الأول من حروف الحلق والصدر إلا واحدا لم يذكره وهو الخاء، ولم يذكر من القسم الآخر من حروف الشفة إلا واحدا لم يتركه وهو الميم، والعشر الأواسط ذكر منها حرفا وترك حرفا فذكر الراء وترك الزاي وذكر السين وترك الشين وذكر الصاد وترك الضاد وذكر الطاء وترك الظاء وذكر العين وترك الغين، وليس هذا أمرا يقع اتفاقا بل هو ترتيب مقصود فهو لحكمة، وأما أن عينها غير معلومة فظاهر وهب أن واحدا يدعى فيها شيئا فماذا يقول في كون بعض السور مفتتحة بحرف كسورة ن، وق، وص. وبعضها بحرفين كسورة حم. ويس. وطس. وطه. وبعضها بثلاثة أحرف كسورة ألم. وطسم. والر. وبعضها بأربعة كسورتي المر. والمص. وبعضها بخمسة أحرف كسورتي حمعسق. وكهيعص. وهب أن قائلا يقول إن هذا إشارة إلى أن الكلام، إما حرف، وإما فعل، وإما اسم، والحرف كثيرا ما جاء على حرف كواو العطف وفاء التعقيب وهمزة الاستفهام وكاف التشبيه وباء الإلصاق
39

وغيرها وجاء على حرفين كمن للتبعيض وأو للتخيير وأم للاستفهام المتوسط وأن للشرط وغيرها والاسم والفعل والحرف جاء على ثلاثة أحرف كإلى وعلى في الحرف وإلى وعلى في الاسم وألا يألو وعلا يعلو في الفعل، والاسم والفعل جاء على أربعة، والاسم خاصة جاء على ثلاثة وأربعة وخمسة كفجل وسجل وجردحل فما جاء في القرآن إشارة إلى أن تركيب العربية من هذه الحروف على هذه الوجوه، فماذا يقول هذا القائل في تخصيص بعض السور بالحرف الواحد والبعض بأكثر فلا يعلم تمام السر إلا الله ومن أعلمه الله به، إذا علمت هذا فنقول اعلم أن العبادة منها قلبية، ومنها لسانية، ومنها جارحية، وكل واحدة منها قسمان قسم عقل معناه وحقيقته وقسم لم يعلم، أما القلبية مع أنها أبعد عن الشك والجهل ففيها ما لم يعلم دليله عقلا، وإنما وجب الإيمان به والاعتقاد سمعا كالصراط الذي (هو) أرق من الشعرة وأحد من السيف ويمر عليه المؤمن والموقن كالبرق الخاطف والميزان الذي توزن به الأعمال التي لا ثقل لها في نظر الناظر وكيفيات الجنة والنار فإن هذه الأشياء وجودها لم يعلم بدليل عقلي، وإنما المعلوم بالعقل إمكانها ووقوعها معلوم مقطوع به بالسمع ومنها ما علم كالتوحيد والنبوة وقدرة الله وصدق الرسول، وكذلك في العبادات الجارحية ما علم معناه وما لم يعلم كمقادير النصب وعدد الركعات، وقد ذكرنا الحكمة فيه وهي أن العبد إذا أتى بما أمر به من غير أن يعلم ما فيه من الفائدة لا يكون إلا آتيا بمحض
العبادة بخلاف ما لو علم الفائدة فربما يأتي به للفائدة وإن لم يؤمن كما لو قال السيد لعبده انقل هذه الحجارة من ههنا ولم يعلمه بما في النقل فنقلها ولو قال انقلها فإن تحتها كنزا هو لك ينقلها وإن لم يؤمن، إذا علم هذا فكذلك في العبادات اللسانية الذكرية وجب أن يكون منها ما لا يفهم معناه حتى إذا تكلم به العبد علم منه أنه لا يقصد غير الانقياد لأمر المعبود الآمر الناهي فإذا قال: * (حم، يس، ألم، طس) * علم أنه لم يذكر ذلك لمعنى يفهمه أو يفهمه فهو يتلفظ به إقامة لما أمر به.
البحث الثاني: قيل في خصوص يس إنه كلام هو نداء معناه يا إنسان، وتقريره هو أن تصغير إنسان إنيسين فكأنه حذف الصدر منه وأخذ العجز وقال: * (يس) * أي أنيسين، وعلى هذا يحتمل أن يكون الخطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى بعده: * (إنك لمن المرسلين) *.
البحث الثالث: قرىء يس إما بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف هو قوله هذه كأنه قال: هذه يس، وإما بالضم على نداء المفرد أو على أنه مبني كحيث، وقرئ يس إما بالنصب على معنى أتل يس وإما بالفتح كأين وكيف، وقرئ يس بالكسر كجير لإسكان الياء وكسرة ما قبلها ولا يجوز أن يقال بالجر لأن إضمار الجار غير جائز وليس فيه حرف قسم ظاهر وقوله تعالى: * (والقرآن الحكيم) * أي ذي الحكمة كعيشة راضية أي ذات رضا أو على أنه ناطق بالحكمة فهو كالحي المتكلم.
* (إنك لمن المرسلين) *.
وقوله تعالى: * (إنك لمن المرسلين) * مقسم عليه وفيه مسائل:
40

المسألة الأولى: الكفار أنكروا كون محمد مرسلا والمطالب تثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة في الإقسام؟ نقول فيه وجوه الأول: هو أن العرب كانوا يتوقون الأيمان الفاجرة وكانوا يقولون إن اليمين الفاجرة توجب خراب العالم وصحح النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع " ثم إنهم كانوا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه من آلهتهم عذاب وهي الكواكب فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه وبأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأنا وأمنع مكانا فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب الثاني: هو أن المتناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المطلوب إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالك وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه صورة دليل وعجزت أنا عن القدح فيه، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر، لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمرا إلا اليمين، فيقول والله إني لست مكابرا وإن الأمر على ما ذكرت ولو علمت خلافه لرجعت إليه فههنا يتعين اليمين، فكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما أقام البراهين وقالت الكفرة: * (ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم) * * (وقالوا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) * تعين التمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل الثالث: هو أن هذا ليس مجرد الحلف، وإنما هو دليل خرج في صورة اليمين لأن القرآن معجزة ودليل كونه مرسلا هو المعجزة والقرآن كذلك فإن قيل فلم لم يذكر في صورة الدليل؟ وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين؟ قلنا الدليل أن ذكره في صورة اليمين قد لا يقبل عليه سامع فلا يقبله فؤاده فإذا ابتدئ به على صورة اليمين واليمين لا يقع لا سيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين تشرئب إليه الأجسام، ولكونه دليلا شافيا يتشربه الفؤاد فيقع في السمع وينفع في القلب.
المسألة الثانية: كون القرآن حكيما عندهم لكون محمد رسولا، فلهم أن يقولوا إن هذا ليس بقسم، نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن كون القرآن معجزة بين إن أنكروه قيل لهم فأتوا بسورة من مثله والثاني: أن العاقل لا يثق بيمين غيره إلا إذا حلف بما يعتقد عظمته، فالكافر إن حلف بمحمد لا نصدقه كما نصدقه لو حلف بالصليب والصنم، ولو حلف بديننا الحق لا يوثق بمثل ما يوثق به لو حلف بدينه الباطل وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن فحلفه به هو الذي يوجب ثقتهم به.
* (على صراط مستقيم) *.
وقوله تعالى: * (على صراط مستقيم) * خبر بعد خبر أي إنك على صراط مستقيم والمستقيم
41

أقرب الطرق الموصلة إلى المقصد والدين كذلك فإنه توجه إلى الله تعالى وتولى عن غيره والمقصد هو الله والمتوجه إلى المقصد أقرب إليه من المولى عنه والمتحرف منه ولا يذهب فهم أحد إلى أن قوله إنك منهم على صراط مستقيم مميز له عن غيره كما يقال إن محمدا من الناس مجتبى لأن جميع المرسلين على صراط مستقيم، وإنما المقصود بيان كون النبي صلى الله عليه وسلم على الصراط المستقيم الذي يكون عليه المرسلون وقوله: * (على صراط مستقيم) * فيه معنى لطيف يعلم منه فساد قول المباحية الذين يقولون المكلف يصير واصلا إلى الحق فلا يبقى عليه تكليف وذلك من حيث إن الله بين أن المرسلين ما داموا في الدنيا فهم سالكون سائحون مهتدون منتهجون إلى السبيل المستقيم فكيف ذلك الجاهل العاجز.
* (تنزيل العزيز الرحيم) *.
وقوله تعالى: * (تنزيل العزيز الرحيم) * قرىء بالجر على أنه بدل من القرآن كأنه قال: * (والقرآن الحكيم، تنزيل العزيز الرحيم، إنك لمن المرسلين لتنذر) * وقرئ بالنصب وفيه وجهان أحدهما: أنه مصدر فعله منوي كأنه قال نزل تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويكون تقديره نزل القرآن أو الكتاب الحكيم والثاني: أنه مفعول فعل منوي كأنه قال والقرآن الحكيم أعني تنزيل العزيز الرحيم إنك لمن المرسلين لتنذر، وهذا ما اختاره الزمخشري وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ منوي كأنه قال هذا تنزيل العزيز الرحيم لتنذر ويحتمل وجها آخر على هذه القراءة وهو أن يكون مبتدأ خبره لتنذر كأنه قال تنزيل العزيز للإنذار وقوله: * (العزيز الرحيم) * إشارة إلى أن الملك إذا أرسل رسولا فالمرسل إليهم إما أن يخالفوا المرسل ويهينوا المرسل وحينئذ لا يقدر الملك على الانتقام منهم إلا إذا كان عزيزا أو يخافوا المرسل ويكرموا
المرسل وحينئذ يرحمهم الملك، أو نقول المرسل يكون معه في رسالته منع عن أشياء وإطلاق لأشياء فالمنع يؤكد العزة والإطلاق يدل على الرحمة.
* (لتنذر قوما مآ أنذر ءابآؤهم فهم غافلون) *.
وقوله تعالى: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) *.
قد تقدم تفسيره في قوله: * (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) * وقيل المراد الإثبات وهو على وجهين أحدهما: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم، فتكون ما مصدرية الثاني: أن تكون موصولة معناه: لتنذر قوما الذين أنذر آباؤهم فهم غافلون، فعلى قولنا ما نافية تفسيره ظاهر فإن من لم ينذر آباؤه وبعد الإنذار عنه فهو يكون غافلا، وعلى قولنا هي للإثبات كذلك لأن معناه لتنذرهم إنذار آبائهم فإنهم غافلون، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: كيف يفهم التفسيران وأحدهما يقتضي أن لا يكون آباؤهم منذرين والآخر يقتضي أن يكونوا منذرين وبينهما تضاد؟ نقول على قولنا ما نافية معناه ما أنذر آباؤهم وإنذار آبائهم الأولين لا ينافي أن يكون المتقدمون من آبائهم منذرين والمتأخرون منهم غير منذرين.
42

المسألة الثانية: قوله: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * يقتضي أن لا يكون النبي صلى الله عليه وسلم مأمورا بإنذار اليهود لأن آباءهم أنذروا، نقول ليس كذلك، أما على قولنا ما للإثبات لا للنفي فظاهر، وأما على قولنا هي نافية فكذلك، وقد بينا ذلك في قوله تعالى: * (بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) * وقلنا إن المراد أن آباءهم قد أنذروا بعد ضلالهم وبعد إرسال من تقدم فإن الله إذا أرسل رسولا فما دام في القوم من يبين دين ذلك النبي ويأمر به لا يرسل الرسول في أكثر الأمر، فإذا لم يبق فيهم من يبين ويضل الكل ويتباعد العهد ويفشو الكفر يبعث رسولا آخر مقررا لدين من كان قبله أو واضعا لشرع آخر، فمعنى قوله تعالى: * (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) * أي ما أنذروا بعد ما ضلوا عن طريق الرسول المتقدم واليهود والنصارى دخلوا فيه لأنهم لم تنذر آباؤهم الأدنون بعد ما ضلوا، فهذا دليل على كون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا بالحق إلى الخلق كافة.
المسألة الثالثة: قوله: * (فهم غافلون) * دليل على أن البعثة لا تكون إلا عند الغفلة، أما إن حصل لهم العلم بما أنزل الله بأن يكون منهم من يبلغهم شريعة ويخالفونه فحق عليهم الهلاك ولا يكون ذلك تعذيبا من قبل أن يبعث الله رسولا، وكذلك من خالف الأمور التي لا تفتقر إلى بيان الرسل يستحق الإهلاك من غير بعثة، وليس هذا قولا بمذهب المعتزلة من التحسين والتقبيح العقلي بل معناه أن الله تعالى لو خلق في قوم علما بوجوب الأشياء وتركوه لا يكونون غافلين فلا يتوقف تعذيبهم على بعثة الرسل.
* (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *.
ثم قال تعالى: * (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) *.
لما بين أن الإرسال أو الإنزال للإنذار، أشار إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه الهداية المستلزمة للاهتداء، وإنما عليه الإنذار وقد لا يؤمن من المنذرين كثير وفي قوله تعالى: * (لقد حق القول) * وجوه الأول: وهو المشهور أن المراد من القول هو قوله تعالى: * (حق القول مني لأملأن جهنم منك وممن تبعك) *، الثاني: هو أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وأن هذا لا يؤمن فقال في حق البعض أنه لا يؤمن، وقال في حق غيره أنه يؤمن * (فحق القول) * أي وجد وثبت بحيث لا يبدل بغيره الثالث: هو أن يقال المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبأن برهانه فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك لأن من يتوقف لاستماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان، فإذا تحقق وأكد بالإيمان ولم يؤمن من أكثرهم فأكثرهم تبين أنهم لا يؤمنون لمضي وقت رجاء الإيمان ولأنهم لما لم يؤمنوا عندما حق القول واستمروا فإن كانوا يريدون شيئا أوضح من البرهان فهو العيان
43

وعند العيان لا يفيد الإيمان، وقوله: * (على أكثرهم) * على هذا الوجه معناه أن من لم تبلغه الدعوة والبرهان قليلون فحق القول على أكثر من لم يوجد منه الإيمان وعلى الأول والثاني ظاهر فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا * (وفيه وجه رابع) * وهو أن يقال لقد حقت كلمة العذاب العاجل على أكثرهم فهم لا يؤمنون وهو قريب من الأول.
* (إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا فهى إلى الاذقان فهم مقمحون) *.
ثم قال تعالى: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) *.
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال: * (إنا جعلنا) * وفيه وجوه أحدها: أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى: * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * والثاني: أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد، فرآه ساجدا فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه. والثالث: وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام؟ نقول الوجه الأول: له مناسبة وهي أن قوله تعالى: * (فهم لا يؤمنون) * يدخل فيه أنهم لا يصلون كما قال تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * أي صلاتكم عند بعض المفسرين والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا فكأنه قال لا يصلون ولا يزكون، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية وهي أنه لما قال: * (لقد حق القول على أكثرهم) * وذكرنا أن المراد به البرهان قال بعد ذلك بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن علم أنه لا يؤمن أصلا والتفسير هو الوجه الثالث.
المسألة الثانية: قوله: * (فهي) * راجعة إلى ماذا؟ نقول فيها وجان أحدهما: أنها راجعة إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة ولكنها معلومة لأن المغلول تكون أيديه
مجموعة في الغل إلى عنقه وثانيهما: وهو ما اختاره الزمخشري أنها راجعة إلى الأغلال، معناه إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه.
المسألة الثالثة: كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فنقول المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سدا ومن خلفه سدا فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهيده النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعا كالمغلول الذي يجعل ممنوعا من إبصار الطريق الحسي، ويحتمل وجها آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق
44

عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق، ويصدق هذا قوله: * (مقمحون) * فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهم مقمحون) * لا يخضعون الرقاب لأمر الله.
* (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) *.
وعلى هذا فقوله تعالى: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) *.
يكون متمما لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان. إما باتباع الرسول أولا فتلوح له الحقائق ثانيا وإما بظهور الأمور أولا واتباع الرسول ثانيا، ولا يتبعون الرسول أولا لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانيا، ولا يظهر لهم الحق أولا لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانيا وفيه وجه آخر: وهو أن يقال المانع، إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجا عنها، ولهم المانعان جميعا من الإيمان، أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله: * (إنا جعلنا في أعناقهم) * * (وجعلنا من بين أيديهم) * إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق، وفي تفسير قوله تعالى: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا) * مسائل: المسألة الأولى: السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة * (ومن بين أيديهم سدا) * فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟ فنقول الجواب عنه من وجوه الأول: هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول: * (جعلنا من بين أيديهم سدا) * فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني: هو أن الإنسان مبدأه من الله ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من
45

المصير إلى الله ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق الله الثالث: هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم) * إشارة إلى إهلاكهم.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (فأغشيناهم) * بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتبا على جعل السد فكيف ذلك؟ فنقول ذلك من وجهين أحدهما: أن يكون ذلك بيانا لأمور مترتبة يكون بعضها سببا للبعض فكأنه تعالى قال: * (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) * فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: * (وجعلنا على أبصارهم غشاوة) * فلا يبصرون شيئا أصلا وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبا من العين جدا.
المسألة الثالثة: ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟ فنقول، أما على قولنا إنه إشارة إلى الهداية الفطرية والنظرية فظاهر، وأما على غير ذلك فنقول بما ذكر حصل العموم والمنع من انتهاج المناهج المستقيمة، لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك، فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سدا ووجه آخر: أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سببا للإغشاء كان السد ملتزقا به وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال وقوله تعالى: * (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئا، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة، وغير ضال.
* (وسوآء عليهم أءنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) *.
ثم إنه تعالى بين أن الإنذار لا ينفعهم مع ما فعل الله بهم من الغل والسد والإغشاء والإعماء. بقوله تعالى: * (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * أي الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى الإيمان منهم إذ لا وجود له منهم على التقديرين، فإن قيل إذا كان الإنذار وعدمه سواء فلماذا الإنذار؟ نقول قد أجبنا في غير هذا الموضع
أنه تعالى قال: * (سواء عليهم) * وما قال سواء
46

عليك فالإنذار بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس كعدم الإنذار لأن أحدهما مخرج له عن العهدة وسبب في زيادة سيادته عاجلا وسعادته آجلا، وأما بالنسبة إليهم على السواء فإنذار النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج عما عليه وينال ثواب الإنذار وإن لم ينتفعوا به لما كتب عليهم من البوار في دار القرار.
* (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشى الرحمان بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) *.
ثم قال تعالى: * (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم) * والترتيب ظاهر وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: قال من قبل: * (لتنذر) * وذلك يقتضي الإنذار العام على ما بينا وقال: * (إنما تنذر) * وهو يقضي التخصيص فكيف الجمع بينهما؟ نقول من وجوه: الأول: هو أن قوله: * (لتنذر) * أي كيفما كان سواء كان مفيدا أو لم يكن وقوله: * (إنما تنذر) * أي الإنذار المفيد لا يكون إلا بالنسبة إلى من يتبع الذكر ويخشى الثاني: هو أن الله تعالى لما قال إن الإرسال والإنزال، وذكر أن الإنذار وعدمه سيان بالنسبة إلى أهل العناد قال لنبيه: ليس إنذارك غير مفيد من جميع الوجوه فأنذر على سبيل العموم وإنما تنذر بذلك الإنذار العام من يتبع الذكر كأنه يقول: يا محمد إنك بإنذارك تهدي ولا تدري من تهدي فأنذر الأسود والأحمر ومقصودك من يتبع إنذارك وينتفع بذكراك الثالث: هو أن نقول قوله: * (لتنذر) * أي أولا فإذا أنذرت وبالغت وبلغت واستهزأ البعض وتولى واستكبر وولى، فأعرض بعد ذلك فإنما تنذر الذين اتبعوك الرابع: وهو قريب من الثالث إنك تنذر الكل بالأصول، وإنما تنذر بالفروع من ترك الصلاة والزكاة من اتبع الذكر وآمن.
المسألة الثانية: قوله: * (من اتبع الذكر) * يحتمل وجوها الأول: وهو المشهور من اتبع القرآن الثاني: من اتبع ما في القرآن من الآيات ويدل عليه قوله تعالى: * (والقرآن ذي الذكر) * فما جعل القرآن نفس الذكر الثالث: من اتبع البرهان فإنه ذكر يكمل الفطرة وعلى كل وجه فمعناه: إنما تنذر العلماء الذين يخشون وهو كقوله تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * وكقوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فقوله: * (اتبع الذكر) * أي آمن، وقوله: * (وخشي الرحمن) * أي عمل صالحا وهذا الوجه يتأيد بقوله: * (فبشره بمغفرة وأجر كريم) * لأنا ذكرنا مرارا أن الغفران جزاء الإيمان فكل مؤمن مغفور والأجر الكريم جزاء العمل كما قال تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) * وتفسير الذكر بالقرآن يتأيد بتعريف الذكر بالألف واللام، وقد تقدم ذكر القرآن في قوله تعالى: * (والقرآن الحكيم) * وقوله: * (وخشي الرحمن) * فيه لطيفة وهي أن الرحمة تورث الاتكال والرجاء فقال مع أنه رحمن ورحيم فالعاقل
47

لا ينبغي أن يترك الخشية فإن كل من كانت نعمته بسبب رحمته أكثر فالخوف منه أتم مخافة أن يقطع عنه النعم المتواترة وتكملة اللطيفة: هي أن من أسماء الله اسمين يختصان به هما الله والرحمن كما قال تعالى: * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * حتى قال بعض الأئمة: هما علمان إذا عرفت هذا فالله اسم ينبئ عن الهيبة والرحمن ينبئ عن العاطفية فقال في موضع يرجو الله، وقال ههنا: * (وخشي الرحمن) * يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا عنه رجاءكم ومع كونه ذا رحمة لا تأمنوه، وقوله: * (بالغيب) * يعني بالدليل وإن لم ينته إلى درجة المرئي المشاهد فإن عند الانتهاء إلى تلك الدرجة لا يبقى للخشية فائدة، والمشهور أن المراد بالغيب ما غاب عنا وهو أحوال القيامة، وقيل إن الوحدانية تدخل فيه، وقوله: * (فبشره) * فيه إشارة إلى الأمر الثاني من أمري الرسالة فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير وقد ذكر أنه أرسل لينذر وذكر أن الإنذار النافع عند اتباع الذكر، فقال بشر: كما أنذرت ونفعت، وقوله: * (بمغفرة) * على التنكير أي بمغفرة واسعة تستر من جميع الجوانب حتى لا يرى عليه أثر من آثار النفس ويظهر عليه أنوار الروح الزكية * (وأجر كريم) * أي ذي كرم، وقد ذكرنا ما في الكريم في قوله: * (ورزق كريم) * وفي قوله: * (ورزقا كريما) *.
* (إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شىء أحصيناه فى إمام مبين) *.
ثم قال تعالى: * (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) *.
في الترتيب وجوه أحدها: أن الله تعالى لما بين الرسالة وهو أصل من الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنا مسلما ذكر أصلا آخر وهو الحشر وثانيها: وهو أن الله تعالى لما ذكر الانذار والبشارة بقوله: * (فبشره بمغفرة) * ولم يظهر ذلك بكماله في الدنيا فقال: إن لم ير في الدنيا فالله يحيي الموتى ويجزي المنذرين ويجزي المبشرين وثالثها: أنه تعالى لما ذكر خشية الرحمن بالغيب ذكر ما يؤكده وهو إحياء الموتى وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: * (إنا نحن) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون مبتدأ وخبرا كقول القائل: أنا أبو النجم وشعري شعري
ومثل هذا يقال عند الشهرة العظيمة، وذلك لأن من لا يعرف يقال له من أنت؟ فيقول: أنا ابن فلان فيعرف ومن يكون مشهورا إذا قيل له من أنت يقول أنا أي لا معرف لي أظهر من نفسي فقال: إنا نحن معروفون بأوصاف الكمال، وإذا عرفنا بأنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى وثانيهما: أن يكون الخبر * (نحيي) * كأنه قال إنا نحيي الموتى، و * (نحن) * يكون تأكيدا والأول أولى.
48

المسألة الثانية: إنا نحن فيه إشارة إلى التوحيد لأن الاشتراك يوجب التمييز بغير النفس فإن زيدا إذا شاركه غيره في الاسم، فلو قال أنا زبد لم يحصل التعريف التام، لأن للسامع أن يقول: أيما زيد؟ فيقول ابن عمرو ولو كان هناك زيد آخر أبوه عمرو لا يكفي قوله ابن عمرو، فلما قال الله: * (إنا نحن) * أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى تقول أنا كذا فنمتاز، وحينئذ تصير الأصول الثلاثة مذكورة؛ الرسالة والتوحيد والحشر.
المسألة الثالثة: قوله: * (وتكتب ما قدموا) * فيه وجوه أحدها: المراد ما قدموا وأخروا فاكتفى بذكر أحدهما كما في قوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) *
والمراد والبرد أيضا وثانيها: المعنى ما أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة وهو كما قال تعالى: * (بما قدمت أيديهم) * أي بما قدمت في الوجود على غيره وأوجدته وثالثها: نكتب نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم على هذا الوجه.
المسألة الرابعة: وآثارهم فيه وجوه الأول: آثارهم أقدامهم فإن جماعة من أصحابه بعدت دورهم عن المساجد فأرادوا النقلة فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله يكتب خطواتكم ويثيبكم عليه فالزموا بيوتكم " والثاني: هي السنن الحسنة، كالكتب المصنفة والقناطر المبنية، والحبائس الدارة، والسنن السيئة كالظلمات المستمرة التي وضعها ظالم والكتب المضلة، وآلات الملاهي وأدوات المناهي المعمولة الباقية، وهو في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجر العامل شيء، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " فما قدموا هو أفعالهم وآثارهم أفعال الشاكرين فبشرهم حيث يؤاخذون بها ويؤجرون عليها والثالث: ما ذكرنا أن الآثار الأعمال وما قدموا النيات فإن النية قبل العمل.
المسألة الخامسة: الكتابة قبل الإحياء فكيف أخر في الذكر حين قال: نحيي ونكتب ولم يقل نكتب ما قدموا ونحييهم نقول الكتابة معظمة لأمر الإحياء لأن الإحياء إن لم يكن للحساب لا يعظم والكتابة في نفسها إن لم تكن إحياء وإعادة لا يبقى لها أثر أصلا فالإحياء هو المعتبر والكتابة مؤكدة معظمة لأمره، فلهذا قدم الإحياء ولأنه تعالى لما قال: * (إنا نحن) * وذلك يفيد العظمة والجبروت، والإحياء عظيم يختص بالله والكتابة دونه فقرن بالتعريف الأمر العظيم وذكر ما يعظم ذلك العظيم وقوله: * (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) * يحتمل وجوها أحدها: أن يكون ذلك بيانا لكون ما قدموا وآثارهم أمرا مكتوبا عليهم لا يبدل، فإن القلم جف بما هو كائن فلما قال: * (نكتب ما قدموا) * بين أن قبل ذلك كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا وكذا ثم إذا فعلوه كتب عليهم أنهم فعلوه وثانيها: أن يكون ذلك مؤكدا لمعنى قوله: * (ونكتب) * لأن من يكتب شيئا في أوراق ويرميها قد لا يجدها فكأنه لم يكتب فقال: نكتب ونحفظ ذلك في إمام مبين وهذا كقوله تعالى: * (علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى) * وثالثها: أن يكون ذلك تعميما بعد
49

التخصيص كأنه تعالى يكتب ما قدموا وآثارهم وليست الكتابة مقتصرة عليه، بل كل شيء محصي في إمام مبين، وهذا يفيد أن شيئا من الأقوال والأفعال لا يعزب عن علم الله ولا يفوته، وهذا كقوله تعالى: * (وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر) * يعني ليس ما في الزبر منحصرا فيما فعلوه بل كل شيء فعلوه مكتوب، وقوله: * (أحصيناه) * أبلغ من كتبناه لأن من كتب شيئا مفرقا يحتاج إلى جمع عدده فقال: هو محصي فيه وسمي الكتاب إماما لأن الملائكة يتبعونه فما كتب فيه من أجل ورزق وإحياء وإماتة اتبعوه وقيل هو اللوح المحفوظ، وإمام جاء جمعا في قوله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * أي بأئمتهم وحينئذ فإمام إذا كان فردا فهو ككتاب وحجاب وإذا كان جمعا فهو كجبال وحبال والمبين هو المظهر للأمور لكونه مظهرا للملائكة ما يفعلون وللناس ما يفعل بهم وهو الفارق يفرق بين أحوال الخلق فيجعل فريقا في الجنة وفريقا في السعير.
* (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جآءها المرسلون) *.
ثم قال تعالى: * (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذا جاءها المرسلون) *.
وفيه وجهان، والترتيب ظاهر على الوجهين الوجه الأول: هو أن يكون المعنى واضرب لأجلهم مثلا والثاني: أن يكون المعنى واضرب لأجل نفسك أصحاب القرية لهم مثلا أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية وعلى الأول نقول لما قال الله: * (إنك لمن المرسلين) * وقال: * (لتنذر) * قال قل لهم: * (ما كنت بدعا من الرسل) * بل قبلي بقليل جاء أصحاب القرية مرسلون وأنذروهم بما أنذرتكم وذكروا التوحيد وخوفوا بالقيامة وبشروا بنعيم دار الإقامة، وعلى الثاني نقول لما قال الله تعالى إن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال للنبي عليه الصلاة والسلام فلا تأس واضرب لنفسك ولقومك مثلا، أي مثل لهم عند نفسك مثلا حيث جاءهم ثلاثة رسل ولم يؤمنوا وصبر الرسل على القتل والإيذاء، وأنت جئتهم واحدا وقومك أكثر من قوم الثلاثة فإنهم جاؤوا قرية وأنت بعثت إلى العالم، وفي التفسير مسائل:
المسألة الأولى: ما معنى قول القائل ضلاب مثلا؟ وقوله تعالى: * (واضرب) * مع أن الضرب في اللغة، إما إمساس جسم جسما بعنف، وإما السير إذا قرن به حرف في كقوله تعالى: * (إذا ضربتم في الأرض) *؟ نقول قوله ضرب مثلا معناه مثل مثلا، وذلك لأن الضرب اسم للنوع يقال هذه الأشياء من ضرب واحد أي اجعل هذا وذاك من ضرب واحد.
المسألة الثانية: أصحاب القرية، معناه واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية فترك المثل وأقيم الأصحاب مقامه في الإعراب كقوله: * (واسأل القرية) * هذا قول الزمخشري في الكشاف، ويحتمل أن يقال لا حاجة إلى الإضمار بل المعنى اجعل أصحاب القرية لهم مثلا أو مثل أصحاب القرية بهم.
المسألة الثالثة: إذ جاءها المرسلون، إذ منصوبة لأنها بدل من أصحاب القرية كأنه قال تعالى:
50

* (واضرب لهم) * وقت مجيء المرسلين ومثل ذلك الوقت بوقت مجيئك، وهذا أيضا قول الزمخشري وعلى قولنا إن هذا المثل مضروب لنفس محمد صلى الله عليه وسلم تسلية فيحتمل أن يقال إذا ظرف منصوب بقوله: * (واضرب) * أي اجعل الضرب، كأنه حين مجيئهم وواقع فيه، والقرية أنطاكية والمرسلون من قوم عيسى وهم أقرب مرسل أرسل إلى قوم إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة كما بين الله تعالى وقوله: * (إذا أرسلنا) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون إذ أرسلنا بدلا من إذ جاءها كأنه قال الضرب لهم مثلا، إذ أرسلنا إلى أصحاب القرية اثنين وثانيهما: وهو الأصح والأوضح أن يكون إذ ظرفا والفعل الواقع فيه جاءها أي جاءها المرسلون حين أرسلناهم إليهم أي لم يكن مجيئهم من تلقاء أنفسهم وإنما جاءوهم حيث أمروا، وهذا فيه لطيفة: وهي أن في الحكاية أن الرسل كانوا مبعوثين من جهة عيسى عليه السلام أرسلهم إلى أنطاكية فقال تعالى: إرسال عيسى عليه السلام هو إرسالنا ورسول رسول الله بإذن الله رسول الله فلا يقع لك يا محمد أن أولئك كانوا
رسل الرسول وأنت رسول الله فإن تكذيبهم كتكذيبك فتتم التسلية بقوله: * (إذا أرسلنا) * وهذا يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل لا وكيل الوكيل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وهذا على قولنا: * (واضرب لهم مثلا) * ضرب المثل لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ظاهر.
وقوله * (إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما) *
في بعثة الاثنين حكمة بالغة وهي أنهما كانا مبعوثين من جهة عيسى بإذن الله فكان عليهما إنهاء الأمر إلى عيسى والإتيان بما أمر الله، والله عالم بكل شيء لا يحتاج إلى شاهد يشهد عنده، وأما عيسى فهو بشر فأمره الله بإرسال اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة.
وقوله: * (فعززنا بثالث) * أي قوينا وقرئ فعززنا بثالث مخففا، من عز إذا غلب فكأنه قال فغلبنا نحن وقهرنا بثالث والأول أظهر وأشهر وترك المفعول حيث لم يقل فعززناهما لمعنى لطيف وهو أن المقصود من بعثهما نصرة الحق لا نصرتهما والكل مقوون للدين المتين بالبرهان المبين، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: النبي صلى الله عليه وسلم بعث رسله إلى الأطراف واكتفى بواحد وعسى عليه السلام بعث اثنين، نقول النبي بعث لتقرير الفروع وهو دون الأصل فاكتفى بواحد فإن خبر الواحد في الفروع مقبول، وأما هما فبعثنا بالأصول وجعل لهما معجزة تفيد اليقين وإلا لما كفى إرسال اثنين أيضا ولا ثلاثة.
المسألة الثانية: قال الله تعالى لموسى عليه السلام * (سنشد عضدك) * (القصص: 35) فذكر المفعول هناك ولم يذكره ههنا مع أن المقصود هناك أيضا نصرة الحق، نقول موسى عليه السلام كان أفضل من هارون
51

وهارون بعث معه بطلبه حيث قال: * (فأرسله معي) * (القصص: 34) فكان هارون مبعوثا ليصدق موسى فيما يقول ويقوم بما يأمره، وأما هما فكل واحد مستقل ناطق بالحق فكان هناك المقصود تقوية موسى وإرسال من يؤنس معه وهو هارون، وأما ههنا فالمقصود تقوية الحق فظهر الفرق.
* (قالوا مآ أنتم إلا بشر مثلنا ومآ أنزل الرحمن من شىء إن أنتم إلا تكذبون) *
ثم بين الله ما جرى منهم وعليهم مثل ما جرى من محمد صلى الله عليه وسلم وعليه فقالوا: * (إنا إليكم مرسلون) * (يس: 14) كما قال: * (إنك لمن المرسلين) * (يس: 3) وبين ما قال القوم بقوله: * (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء) * جعلوا كونهم بشرا مثلهم دليلا على عدم الإرسال، وهذا عام من المشركين قالوا في حق محمد: * (أأنزل عليه الذكر) * (ص: 8) وإنما ظنوه دليلا بناء على أنهم لم يعتقدوا في الله الاختيار، وإنما قالوا فيه أنه موجب بالذات وقد استوينا في البشرية فلا يمكن الرجحان، والله تعالى رد عليهم قولهم بقوله: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وبقوله: * (الله يجتبي إليه من يشاء) * (الشورى: 13) إلى غير ذلك، وقوله: * (ما أنزل الرحمن من شيء) * يحتمل وجه أحدهما: أن يكون متمما لما ذكروه فيكون الكل شبهة واحدة، ووجهه هو أنهم قالوا أنتم بشر فما نزلتم من عند الله وما أنزل الله إليكم أحدا، فكيف صرتم رسلا لله؟ ثانيهما: أن يكون هذا شبهة أخرى مستقلة ووجه هو أنهم لما قالوا أنتم بشر مثلنا فلا يجوز رجحانكم علينا ذكروا الشبهة من جهة النظر إلى المرسلين، ثم قالوا شبهة أخرى من جهة المرسل، وهو أنه تعالى ليس بمنزل شيئا في هذا العالم، فإنه تصرفه في العالم العلوي وللعلويات التصرف في السفليات على مذهبهم، فالله تعالى لم ينزل شيئا من الأشياء في الدنيا فكيف أنزل إليكم، وقوله: * (الرحمن) * إشارة إلى الرد عليهم، لأن الله لما كان رحمن الدنيا والإرسال رحمة، فكيف لا ينزل رحمته وهو رحمن، فقال إنهم قالوا: ما أنزل الرحمن شيئا، وكيف لا ينزل الرحمن مع كونه رحمن شيئا، هو الرحمة الكاملة.
ثم قال تعالى: * (إن أنتم إلا تكذبون) * أي ما أنتم إلا كاذبين.
* (قالوا ربنا يعلم إنآ إليكم لمرسلون) *
إشارة إلى أنه بمجرد التكذيب لم يسأموا ولم يتركوا، بل أعادوا ذلك لهم وكرروا القول عليهم وأكدوه باليمين وقالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وأكدوه باللام، لأن يعلم الله يجري مجرى القسم، لأن من يقول يعلم الله فيما لا يكون قد نسب الله إلى الجهل وهو سبب العقاب، كما أن الحنث سببه، وفي قوله: * (ربنا يعلم) * إشارة إلى الرد عليهم حيث قالوا أنتم بشر، وذلك لأن الله إذا كان يعلم أنهم لمرسلون، يكون كقوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) يعني هو عالم
بالأمور وقادر فاختارنا بعلمه ورسالته
52

ثم قال
* (وما علينآ إلا البلاغ المبين) * تسلية لأنفسهم، أي نحن خرجنا عن عهدة ما علينا وحثا على النظر، فإنهم لما قولوا: * (ما علينا إلا البلاغ) * كان ذلك يوجب تفكرهم في أمرهم حيث لم يطلبوا منهم أجرا ولا قصدوا رياسة، وإنما كان شغلهم التبليغ والذكر، وذلك مما يحمل العاقل على النظر و * (المبين) * يحتمل أمورا أحدها: البلاغ المبين للحق عن الباطل، أي الفارق بالمعجزة والبرهان وثانيها: البلاغ المظهر لما أرسلنا للكل، أي لا يكفي أن نبلغ الرسالة إلى شخص أو شخصين وثالثها: البلاغ المظهر للحق بكل ما يمكن، فإذا تم ذلك ولم يقبلوا يحق هنالك الهلاك.
* (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) *
ثم كان جوابهم بعد هذا أنهم قالوا إنا تطيرنا بكم وذلك أنه لما ظهر من الرسل المبالغة في البلاغ ظهر منهم الغلو في التكذيب، فلما قال المرسلون: * (إنا إليكم مرسلون) * (يس: 14) قالوا: * (إن أنتم إلا تكذبون) * (يس: 15) ولما أكد الرسل قولهم باليمين حيث قالوا: * (ربنا يعلم) * (يس: 16) أكدوا قولهم بالتطير بهم
فكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين، وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب، حالفين مقسمين عليه، و " اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع " فتشاءمنا بكم ثانيا، وفي الأول كما تركتم ففي الثاني لا نترككم لكون الشؤم مدركنا بسببكم فقالوا: * (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم) * وقوله لنرجمنكم يحتمل وجهين أحدهما: لنشتمنكم منا لرجم بالقول وعلى هذا فقوله: * (وليمسنكم) * ترق كأنهم قالوا ولا يكتفي بالشتم، بل يؤدي ذلك إلى الضرب والإيلام الحسي وثانيهما: أن يكون المراد الرجم بالحجارة، وحينئذ فقوله: * (وليمسنكم) * بيان للرجم، يعني ولا يكون الرجم رجما قليلا نرجمكم بحجر وحجرين، بل نديم ذلك عليكم إلى الموت وهو عذاب أليم، ويكون المراد لنرجمنكم وليمسنكم بسبب الرجم عذاب منا أليم، وقد ذكرنا في الأليم أنه بمعنى لمؤلم، والفعيل معنى مفعل قليل، ويحتمل أني قال هو من باب قوله: * (عشية راضية) * (الحاقة: 21) أي ذات رضا، فالعذاب الأليم هو ذو ألم، وحينئذ يكون فعيلا بمعنى فاعل وهو كثير.
* (قالوا طائركم معكم أءن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) *
ثم أجابهم المرسلون بقولهم: * (قالوا طائركم معكم) * أي شؤمكم معكم وهو الكفر. ثم قالوا: * (أئن ذكرتم) * جوابا عن قولهم: * (لنرجمنكم) * يعني أتفعلون بنا ذلك، وإن ذكرتم أي بين لكم الأمر بالمعجز والبرهان * (يل أنتم قوم مسرفون) * حيث تجعلون من يتبرك به كمن
53

يتشاءم به وتقصدون إيلام من يجب في حقه الإكرام أو (مسرفون) حيث تكفرون، ثم تصرون بعد ظهور الحق بالمعجز والبرهان، فإن الكافر مسيء فإذا تم عليه الدليل وأوضح له السبيل ويصر يكون مسرفا، والمسرف هو المجاوز الحد بحيث يبلغ الضد وهم كانوا كذلك في كثير من الأشياء، أما في التبرك والتشاؤم فقد علم وكذلك في الإيلام والإكرام، وأما في الكفر فلأن الواجب اتباع الدليل، فإن لم يوجد به فلا أقل من أن لا يجزم بنقيضه وهم جزموا بالكفر بعد البرهان على الإيمان، فإن قيل بل للإضرار فما الأمر المضرب عنه؟ نقول يحتمل أن يقال قوله: * (أئن ذكرتم) * وارد على تكذيبهم ونسبتهم الرسل إلى الكذب بقولهم: * (إن أنتم إلا تكذبون) * (يس: 15) فكأنهم قالوا: أنحن كاذبون وإن جئنا بالبرهان، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مشؤومون، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أني قال أنحن مشؤومون، وإن جئنا ببيان صحة ما نحن عليه، لا بل أنتم قوم مسرفون ويحتمل أن يقال أنحن مستحقون للرجم والإيلام، وإن بينا صحة ما أتينا به، لا بل أنتم قوم مسرفون وأما الحكاية فمشهورة، وهي أن عيسى عليه السلام بعث رجلين إلى أنطاكية فدعيا إلى التوحيد وأظهرا المعجزة من إبراء الأمة والأبرص وإحياء الموتى فحسبهما الملك، فأرسل بعدهما شمعون فأتى الملك ولم يدع الرسالة، وقرب نفسه إلى الملك بحسن التدبير، ثم قال له: إني أسمع أن في الحبس رجلين يدعيان أمرا بديعا، أفلا يحضران حتى نسمع كلامهما؟ قال الملك: بلى، فأحضرا وذكرا مقالتهما الحقة، فقال لهما شمعون: فهل لكما بينة؟ قالا: نعم، فأبرآ الأكمة والأبرص وأحييا الموتى، فقال شمعون: أيها الملك، إن شئت أن تغلبهم، فقال للآلهة التي تعبدونها تفعل شيئا من ذلك، قال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تبصر ولا تسمع ولا تقدر ولا تعلم، فقال شمعون: فإذن ظهر الحق من جانبهم، فآمن الملك وقوم وكفر آخرون، وكانت الغلبة للمكذبين. ثم قال تعالى:
* (وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين) *
وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان أحدهما: أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي، وعلى هذا فقوله: * (من أقصى المدينة) * فيه بلاغة باهرة، وذلك لأنه لما جاء من أقصى المدينة رجل وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة وثانيهما: أن ضرب المثل لما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم تسلية لقلبه ذكر بعد الفراغ من ذكر الرسل سعى المؤمنين في تصديق رسلهم وصبرهم على ما أوذوا، ووصول الجزاء الأوفى إليهم ليكون ذلك تسلية لقلب أصحاب محمد، كما أن ذكر المرسلين تسلية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التفسير مسائل.
المسألة الأولى: قوله: * (وجاء من أقصى المدينة رجل) * في تنكير الرجل مع أنه كان معروفا معلوما عند الله فائدتان الأولى: أن يكون تعظيما لشأنه أي رجل كامل في الرجولية
54

: الثانية: أن يكون مفيدا لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا، والرجل هو حبيب النجار كان ينحت الأصنام وقد آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل وجوده حيث صار من العلماء بكتاب الله، ورأى فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته.
المسألة الثانية: قوله: * (يسعى) * تبصرة للمؤمنين وهداية لهم، ليكونوا في النصح باذلين جهدهم، وقد ذكرنا فائدة قوله: * (من أقصى المدينة) * وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة والمدينة هي أنطاكية، وهي كانت كبيرة شاسعة وهي الآن دون ذلك ومع هذا فهي كبيرة وقوله تعالى: * (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) * فيه معان لطيفة الأول: في قوله: * (يا قوم) * فإنه ينبئ عن إشفاق عليهم وشفقة فإن إضافتهم إلى نفسه بقوله: * (يا قوم) * يفيد أنه لا يريد بهم إلا خيرا، وهذا مثل قول مؤمن آل فرعون * (يا قوم اتبعون) * (غافر: 38) فإن قيل قال هذا الرجل * (اتبعوا المرسلين) * وقال ذلك * (اتبعون) * فما الفرق؟ نقول هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم وما رأوا سيرته، فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم واتبع موسى ونصحهم مرارا فقال اتبعوني في الإيمان بموسى وهارون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيرا لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته، ولم يكن للرجل الذي جاء من أقصى المدينة أن يقول أنتم تعلمون اتباعي لهم الثاني: جمع بين إظهار النصحية وإظهار إيمانه فقوله: * (اتبعوا) * نصيحة وقوله: * (المرسلين) * إظهار أنه آمن الثالث: قدم إظهار النصيحة على إظهار الإيمان لأنه كان ساعيا في النصح، وأما الإيمان فكان قد آمن من قبل وقوله: * (رجل يسعى) * يدل على كونه مريدا للنصح وما ذكر في حكايته أنه كان يقتل وهو يقول: " اللهم اهد قومي ". ثم قال تعالى:
* (اتبعوا من لا يسالكم أجرا وهم مهتدون) *
وهذا في غاية الحسن وذلك من حيث إنه لما قال: * (اتبعوا المرسلين) * كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال لا شك أن الخلق في الدنيا سالكون طريقة وطالبون للاستقامة، والطريق إذا حصل فيه دليل يدل يجب اتباعه، والامتناع من الاتباع لا يحسن إلا عند أحد أمرين، إما مغالاة الدليل في طلب الأجرة، وإما عند عدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفته الطريق، لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة وهم مهتدون عالمون بالطريقة المستقيمة الموصلة إلى الحق، فهب أنهم ليسوا بمرسلين هادين، أليسوا بمهتدين،
* (وما لى لا أعبد الذى فطرنى وإليه ترجعون) *
ثم قال تعالى:) * وما لي لا أعبد الذي فطرني) * لما قال: * (وهم مهتدون) * (يس: 21) بين ظهور اهتدائهم بأنهم يدعون من عبادة الجماد إلى عبادة الحي القويم، ومن عبادة ما لا ينفع إلى عبادة من منه كل نفع وفيه لطائف: الأولى قوله: * (مالي) * أي مالي مانع من جانبي. إشارة إلى أن الأمر من جهة المعبود ظاهر لا خفاء فيه، فمن يمتنع من عبادته يكون من جانبه مانع ولا مانع من جانبي فلا جرم
55

عبدته، وفي العدول عن مخاطبة القوم إلى حال نفسه حكمة أخرى ولطيفة ثانية: وهي أنه لو قال مالكم لا تعبدون الذي فطركم، لم يكن في البيان مثل قوله: * (ومالي) * لأنه لما قال: * (ومالي) * وأحد لا يخفى عليه حال نفسه علم كل أحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد لأنه أعلم بحال نفسه فهو يبين عدم المانع، وأما لو قال: (مالكم) جاز أن يفهم منه أنه يطلب بيان العلة لكون غيره أعلم بحال نفسه، فإن قيل قال الله: * (مالكم لا ترجون لله وقارا) * (نوح: 13) نقول القائل هناك غير مدعو، وإنما هو داع وههنا الرجل مدعو إلى الإيمان فقال: ومالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك الثانية: قوله: * (الذي فطرني) * إشارة إلى وجود المقتضى فإن قوله: * (ومالي) * إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى، فقوله: * (الذي فطرني) * ينبئ عن الاقتضاء، فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه، ومنعم بالإيجاد والمنعم يجب على المنعم شكر نعمته الثالثة: قدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضى مع أن المستحسن تقديم المقتضى حيث وجد المقتضى ولا مانع فيوجد لأن المقتضى لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان لوجود الحاجة إليه الرابعة: اختار من الآيات فطرة نفسه لأنه لما قال: * (ومالي لا أعبد) * بإسناد العبادة إلى نفسه اختار ما هو أقرب إلى إيجاب العبادة على نفسه، وبيان ذلك هو أن خالف عمرو يجب على زيد عبادته لأنه من خلق عمرا لا يكون إلا كامل القدرة شامل العلم واجب الوجود وهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجابا.
واعلم أن المشهور في قوله: * (فطرني) * خلقني اختراعا وابتداعا، والغريب فيه أن يقال: فطرني أي جعلني على الفطرة كما قال الله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) * (الروم: 30) وعلى هذا فقوله: * (ومالي لا أعبد) * أي لم يوجد في مانع فأنا باق على فطرة ربي الفطرة كافية في الشهادة والعبادة فإن قيل فعلى هذا يختلف معنى الفطر في قوله: * (فاطر السماوات) * (الأنعام: 14) فنقول قد قيل بأن فاطر السماوات من الفطر الذي هو الشق فالمحذور لازم أو نقول المعنى فيهما واحد كأنه قال فطر المكلف على فطرته وفطر السماوات على فطرتها والأول من التفسير أظهر. وقوله تعالى: * (وإليه ترجعون) * إشارة إلى الخوف والرجاء كما قال: * (ادعوه خوفا وطمعا) * (الأعراف: 56) وذلك لأن من يكون إليه المرجع يخاف منه ويرجى وفيه أيضا معنى لطيف وهو أن العابد على أقسام ثلاثة ذكرناها مرارا فالأول: عابد يعبد الله، لكونه إلها مالكا سواء أنعم بعد ذلك أو لم ينعم، كالعبد الذي يجب عليه خدمة سيده سواء أحسن إليه أو أساء والثاني: عابد يعبد
56

الله للنعمة الواصلة إليه والثالث: عابد يعبد الله خوفا مثال الأول من يخدم الجواد، ومثال الثاني من يخدم الغاشم فجعل القائل نفسه من القسم الأعلى وقال: * (ومالي لا أعبد الذي فطرني) * أي هو مالكي أعبده لأنظر إلى ما سيعطيني ولأنظر إلى أن لا يعذبني وجعلهم دون ذلك فقال: * (وإليه ترجعون) * أي خوفكم منه ورجاؤكم فيه فكيف لا تعبدونه، ولهذا لم يقل وإليه أرجع كما قال فطرني لأنه صار عابدا من القسم الأول فرجوعه إلى الله لا يكن إلا للإكرام وليس سبب عبادته ذلك بل غيره.
* (أءتخذ من دونه ءالهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) *
ثم قال تعالى: * (أأتخذ من دونه آلهة) * ليتم التوحيد، فإن التوحيد بين التعطيل والإشراك، فقال: ومالي لا أعبد إشارة إلى وجود الإله وقال: * (أأتخذ من دونه) * إشارة إلى نفي غيره فيتحقق معنى لا إله إلا الله، وفي الآية أيضا لطائف الأولى: ذكره على طريق الاستفهام فيه معنى وضوح الأمر، وذلك أن من أخبر من شيء فقال مثلا لا أتخذ يصح من السامع أن يقول له لم لا تتخذ فيسأله عن السبب، فإذا قال: أأتخذ يكون كلامه أنه مستغن عن بيان السبب الذي يطالب به عند الإخبار، كأنه يقول استشرتك فدلني والمستشار يتفكر، فكأنه يقول تفكر في الأمر تفهم من غير إخبار مني الثانية: قوله من دونه وهي لطيفة عجيبة: وبيانها هو أنه لما بين أنه يعبد الله بقوله: * (الذي فطرني) * (يس: 22) بين أن من دونه لا تجوز عبادته فإن عبد غير الله وجب عبادة كل شيء مشارك للمعبود الذي اتخذ غير الله، لأن الكل محتاج مفتقر حادث، فلو قال لا أتخذ آلهة لقيل له ذلك يختلف إن اتخذت إلها غير الذي فطرك، ويلزمك عقلا أن تتخذ آلهة لا حصر لها، وإن كان إلهك ربك وخالقك فلا يجوز أن تتخذ آلهة الثالثة: قوله: * (أأتخذ) * إشارة إلى أن غيره ليس بإله لأن المتخذ لا يكون إله، ولهذا قال تعالى: * (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) * (الجن: 3) وقال: * (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا) * (الإسراء: 111) لأنه تعالى لا يكون له ولد حقيقة ولا يجوز، وإنما النصارى قالوا: تبنى الله عيسى وسماه ولدا فقال: * (ولم يتخذ ولدا) * (الفرقان: 2) ولا يقال قال الله تعالى: * (فاتخذه وكيلا) * في حق الله تعالى حيث قال: * (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) * (المزمل: 9) نقول ذلك أمر متجدد، وذلك لأن الإنسان في أول الأمر يكون قليل الصبر ضعيف القوة، فلا يجوز أن يترك أسباب الدنيا ويقول إني
أتوكل فلا يحسن من الواحد منا أن لا يشتغل بأمر أصلا ويترك أطفاله في ورطة الحاجة ولا يوصل إلى أهله نفقتهم ويجلس في مسجد وقلبه متعلق بعطاء زيد وعمرو، فإذا قوي بالعبادة قلبه ونسي نفسه فضلا عن غيره وأقبل على عبادة ربه بجميع قلبه وترك الدنيا وأسبابها وفوض أمره إلى الله حينئذ يكون من الأبرار الأخيار، فقال الله لرسوله: أنت علمت أن الأمور كلها بيد الله وعرفت الله حق المعرفة وتيقنت أن المشرق والمغرب، وما فيهما وما يقع بينهما بأمر الله، ولا إله يطلب لقضاء
57

الحوائج إلا هو فاتخذه وكيلا، وفوض جميع أمورك إليه فقد ارتقيت عن درجة من يؤمر بالكسب الحلال وكنت من قبل تتجر في الحلال ومعنى قوله: * (فاتخذه وكيلا) * أي في جميع أمورك وقوله تعالى: * (لا تغن عني) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون كالوصف كأنه قال: أأتخذ آلهة غير مغنية عند إرادة الرحمن بي ضرا وثانيهما: أن يكون كلاما مستأنفا كأنه قال لا أتخذ من دونه آلهة.
ثم قال تعالى: * (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال: * (إن يردن الرحمن بضر) * ولم يقل إن يرد الرحمن بي ضرا، وكذلك قال تعالى: * (إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره) * (الزمر: 38) ولم يقل إن أراد الله بي ضرا، نقول الفعل إذا كان متعديا إلى مفعول واحد تعدى إلى مفعولين بحرف كاللازم يتعدى بحرف في قولهم ذهب به وخرج به، ثم إن المتكلم البليغ يجعل المفعول بغير حرف ما هو أولى بوقوع الفعل عليه ويجعل الآخر مفعولا بحرف فإذا قال القائل مثلا؟ كيف حال فلان: يقول اختصه الملك بالكرامة والنعمة فإذا قال كيف كرامة الملك؟ يقول: اختصها بزيد فيجعل المسؤول مفعولا بغير حرف لأنه هو المقصود إذا علمت هذا فالمقصود فيما نحن فيه بيان كون العبد تحت تصرف الله يقلبه كيف يشاء في البؤس والرخاء، وليس الضر بمقصود بيانه، كيف والقائل مؤمن يرجو الرحمة والنعمة بناء على إيمانه بحكم وعد الله ويؤيد هذا قوله من قبل * (الذي فطرني) * (يس: 22) حيث جعل نفسه مفعول الفطرة فكذلك جعلها مفعول الإرادة وذكر الضر وقع تبعا وكذا القول في قوله تعالى: * (إن أرادني الله بضر) * (الزمر: 38) المقصود بيان أن يكون كما يريد الله وليس الضر بخصوصه مقصودا بالذكر ويؤيده ما تقدم حيث قال تعالى: * (أليس الله بكاف عبده) * (الزمر: 36) يعني هو تحت إرادته ويتأيد ما ذكرناه بالنظر في قوله تعالى: * (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا) * (الأحزاب: 17) حيث خالف هذا النظم وجعل المفعول من غير حرف السوء وهو كالضر والمفعول بحرف هو المكلف، وذلك لأن المقصود ذكر الضر للتخويف وكونهم محلا له، وكيف لا وهم كفرة استحقوا العذاب بكفرهم فجعل الضر مقصودا بالذكر لزجرهم، فإن قيل فقد ذكر الله الرحمة أيضا حيث قال: * (أو أراد بكم رحمة) * (الأحزاب: 17) نقول المقصود ذلك، ويدل عليه قوله تعالى: * (من بعده ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) * (الأحزاب: 17) وإنما ذكر الرحمة تتمة للأمر بالتقسيم الحاصر، وكذلك إذا تأملت في قوله تعالى: * (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) * (الفتح: 11) فإن الكلام أيضا مع الكفار وذكر النفع وقع تبعا لحصر الأمر بالتقسيم، ويدل عليه قوله تعالى: * (بل كان الله بما تعملون خبيرا) * (الفتح: 11) فإنه للتخويف، وهذا كقوله تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * (سبأ: 24)، والمقصود إني على هدى وأنتم في ضلال، ولو قال هكذا لمنع فقال بالتقسيم كذلك ههنا
58

المقصود الضر واقع بكم ولأجل دفع المانع قال الضر والنفع.
المسألة الثانية: قال ههنا: * (إن يردن الرحمن) * وقال في الزمر: * (إن أرادني الله) * (الزمر: 38) فما الحكمة في اختيار صيغة الماضي هنالك واختيار صيغة المضارع ههنا وذكر المريد باسم الرحمن هنا وذكر المريد باسم الله هناك؟ نقول أما الماضي والمستقبل فإن إن في الشرط تصير الماضي مستقبلا وذلك لأن المذكور ههنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله: * (أأتخذ) * وقوله: * (وما لي لا أعبد) * (يس: 22) والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله: * (أفرأيتم) * (الزمر: 38) وكذلك في قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر) * (الأنعام: 17) لكون المتقدم عليه مذكورا بصيغة المستقبل وهو قوله: * (ومن يصرف عنه) * (الأنعام: 16) وقوله: * (إني أخاف إن عصيت) * (الأنعام: 15) والحكمة فيه هو أن الكفار كانوا يخوفون النبي صلى الله عليه وسلم بضر يصيبه من آلهتهم فكأنه قال صدر منكم التخويف، وهذا ما سبق منكم، وههنا ابتداء كلام صدر من المؤمن للتقرير، والجواب ما كان يمكن صدوره منهم فافترق الأمران، وأما قوله هناك: * (إن أرادني الله) * (الزمر: 38) فنقول قد ذكرنا أن الاسمين المختصين بواجب الوجود الله والرحمن كما قال تعالى: * (قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن) * (الإسراء: 110) والله للهيبة والعظمة الرحمن للرأفة والرحمة، وهناك وصف الله بالعزة والانتقام في قوله: * (أليس الله بعزيز ذي انتقام) * (الزمر: 37) وذكر ما يدل على العظمة ما يدل على العظمة بقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض) * (العنكبوت: 61) فذكر الاسم الدال على العظمة وقال ههنا ما يدل على الرحمة بقوله: * (الذي فطرني) * (يس: 22) فإنه نعمة هي شرط سائر النعم فقال: * (إن يردن الرحمن بضر) * ثم قال تعالى: * (لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقدون) * على ترتيب ما يقع من العقلاء، وذلك لأن من يريد دفع الضر عن شخص أضر به شخص يدفع بالوجه الأحسن فيشفع أو لا فإن قبله ولا يدفع فقال: لا تغن عني شفاعتهم ولا يقدرون على إنقاذي بوجه من الوجوه، وفي هذه الآيات حصل بيان أن الله تعالى معبود من كل وجه إن كان نظرا إلى جانبه فهو فاطر ورب مالك يستحق العبادة سواء أحسن بعد ذلك أو لم يحسن وإن كان نظرا إلى إحسانه فهو رحمن، وإن كان نظرا إلى الخوف فهو يدفع ضره، وحصل بيان أن غيره لا يصلح أن يعبد بوجه من الوجوه، فإن أدنى مراتبه أن يعد ذلك ليوم كريهة وغير الله لا يدفع شيئا إلا إذا أراد الله وإن يرد فلا حاجة إلى دافع. ثم قال تعالى:
* (إنى إذا لفى ضلال مبين) *
يعني إن فعلت فأنا ضال ضلالا بينا، والمبين مفعل بمعنى فعيل كما جاء عكسه فعيل بمعنى مفعل في قوله أليم أي مؤلم، ويمكن أن يقال ضلال مبين أي مظهور الأمر للناظر والأول هو الصحيح. ثم قال تعالى:
* (إنى ءامنت بربكم فاسمعون) *
في المخاطب بقوله: * (بربكم) * وجوه أحدها:
59

هم المرسلون، قال المفسرون: أقبل القوم عليه يريدون قتله فأقبل وعلى المرسلين وقال: إن آمنت بربكم فاسمعوا قولي واشهدوا في ثانيها: هم الكفار كأنه لما نصحهم وما نفعهم قال: فأنا آمنت فاسمعون ثالثها: بربكم أيها السامعون على العموم، كما قلنا في قول الواعظ حيث يقول: يا مسكين ما أكثر أملك وما أنزل عملك يريد به كل سامع يسمعه وفي قوله: * (فاسمعون) * فوائد أحدها: أنه كلام مترو متفكر حيث قال: * (فاسمعون) * فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلامه جماعة سامعين يتفكر وثانيها: أنه ينبه القوم ويقول إني أخبرتكم بما فعلت حتى لا تقولوا لم أخفيت عنا أمرك ولو أظهرت لآمنا معك وثالثها: أن يكون المراد السماع الذي بمعنى القبول، يقول القائل نصحته فسمع قولي أي قبله، فإن قلت لم قال من قبل: * (ومالي لا أعبد الذي فطرني) * (يس: 22) وقال ههنا: * (آمنت بربكم) * ولم يقل آمنت بربي؟ نقول قولنا الخطاب مع الرسل أمر ظاهر، لأنه لما قال آمنت بركم ظهر عند الرسل أنه قبل قولهم وآمن بالرب الذي دعوه إليه ولو قال بربي لعلهم كانوا يقولون كل كافر يقول لي رب وأنا مؤمن بربي، وأما على قولنا الخطاب مع الكفار ففيه بيان للتوحيد، وذلك لأنه لما قال: * (أعبد الذي فطرني) * (يس: 22) ثم قال: * (آمنت بربكم) * فهم أنه يقول ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وهو بعينه ربكم، بخلاف ما لو قال آمنت بربي فيقول الكافر وأنا أيضا آمنت بربي ومثل هذا قوله تعالى: * (الله ربنا وربكم) *. (الشورى: 15).
* (قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومى يعلمون) *
ثم قال تعالى: * (قيل ادخل الجنة) * فيه وجهان أحدهما: أنه قتل ثم قيل ادخل الجنة بعد القتل وثانيهما: قيل ادخل الجنة قيب قوله * (آمنت) * (يس: 25) وعلى الأول. فقوله تعالى: * (قال يا ليت قومي يعلمون) * يكون بعد موته والله أخبر بقوله وعلى الثاني قال ذلك في حياته وكأنه سمع الرسل أنه من الداخلين الجنة وصدقهم وقطع به وعلمه، فقال: يا ليت قومي يعلمون كما علمت فيؤمنون كما آمنت وفي معنى قوله تعالى: * (قيل) * وجهان كما أن في وقت ذلك وجهان أحدهما: قيل من القول والثاني: ادخل الجنة، وهذا كما في قوله تعالى: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن) * (يس: 82) ليس المراد القول في وجه بل هو الفعل أي يفعله في حينه من غير تأخير وتراخ وكذلك في قوله تعالى: * (وقيل يا أرض ابلعي) * (هود: 44) في وجه جعل الأرض بالغة ماءها.
* (بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين) *
وفي قوله تعالى: * (بما غفر لي ربي) * وجو أحدها: أن ما استفهامية كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي حتى يشتغلوا به وهو ضعيف، وإلا لكان الأحسن أن تكون ما محذوفة الألف يقال بم وفيم وعم ولم وثانيها: خبرية كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بالذي غفر لي ربي وثالثها: مصدرية، كأنه قال: يا ليت قومي يعلمون بمغفرة ربي لي، والوجهان الآخران هما المختاران.
60

ثم قال تعالى: * (وجعلني من المكرمين) * قد ذكرنا أن الإيمان والعمل الصالح يوجبان أمرين هما الغفران والإكرام كما في قوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم) * (سبأ: 4) والرجل كان من المؤمنين الصلحاء، والكرم على ضد المهان، والإهانة بالحاجة والإكرام بالاستغناء فيغني الله الصالح عن كل أحد ويدفع جميع حاجاته بنفسه.
ثم إنه تعالى لما بين حاله بين حال المتخلفين المخالفين له من قومه بقوله تعالى:
* (ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين) *
إشارة إلى هلاكهم بعده سريعا على أسهل وجه فإنه لم يحتج إلى إرسال جند يهلكهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ههنا: * (وما أنزلنا) * بإسناد الفعل إلى النفس، وقال في بيان حال المؤمن * (قيل ادخل الجنة) * (يس: 26) بإسناد القول إلى غير مذكور، وذلك لأن العذاب من باب الهيبة فقال بلفظ التعظيم، وأما في: * (ادخل الجنة) * فقال (قيل) ليكون هو كالمهنأ بقول الملائكة حيث يقول له كل ملك وكل صالح يراه ادخل الجنة خالدا فيها، وكثيرا ما ورد في القرآن قوله تعالى: * (وقيل ادخلوا) * إشارة إلى أن الدخول يكون دخولا بإكرام كما يدخل العريس البيت المزين على رؤوس الأشهاد يهنئه كل أحد.
المسألة الثانية: لم أضاف القوم إليه مع أن الرسول أولى بكون الجمع قوما لهم فإن الواحد يكون له قوم هم آله وأصحابه والرسول لكونه مرسلا يكون جميع الخلق وجميع من أرسل إليهم قوما له؟ نقول لوجهين أحدهما: ليبين الفرق بين اثنين هما من قبيلة واحدة أكرم أحدهما غاية الإكرام بسبب الإيمان وأهين الآخر غاية الإهانة بسبب الكفر، وهذا من قوم أولئك في النسب وثانيهما: أن العذاب كان مخصصا بأقارب ذلك، لأن غيرهم من قوم الرسل آمنوا بهم فلم يصبهم العذاب.
المسألة الثانية: خصص عدم الإنزال بما بعده والله تعالى لم ينزل عليهم جندا قبله أيضا فما فائدة التخصيص؟ نقول استحقاقهم العذاب كان بعده حيث أصروا واستكبروا فبين حال الهلاك أنه لم يكن بجند.
المسألة الرابعة: قال: * (من السماء) * وهو تعالى لم ينزل عليهم ولا أرسل إليهم جندا من الأرض فما فائدة التقييد؟ نقول الجواب عنه من وجهين أحدهما: أن يكون
المراد وما أنزلنا عليهم جندا بأمر من السماء فيكون للعموم وثانيهما: أن العذاب نزل عليهم من السماء فبين أن النازل لم يكن جندا لهم عظمة وإنما كان ذلك بصيحة أخمدت نارهم وخربت ديارهم.
61

المسألة الخامسة: * (وما كنا منزلين) * أية فائدة فيه مع أن قوله: * (وما أنزلنا) * يستلزم أنه لا يكون من المنزلين؟ نقول قوله: * (وما كنا) * أي ما كان ينبغي لنا أن ننزل لأن الأمر كان يتم بدون ذلك فما أنزلنا وما كنا محتاجين إلى إنزال، أو نقول: * (وما أنزلنا... وما كنا منزلين) * في مذل تلك الواقعة جندا في غير تلك الواقعة، فإن قيل فكيف أنزل الله جنودا في يوم بدر وفي غير ذلك حيث قال: * (وأنزل جنودا لم تروها) * (التوبة: 26)؟ نقول ذلك تعظيما لمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان تحريك ريشة من جناح ملك كافيا في استئصالهم وما كان رسل عيسى عليه السلام في درجة محمد صلى الله عليه وسلم.
* (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) *
ثم بين الله تعالى ما كان بقوله: * (إن كانت) * الواقعة * (إلا صيحة) * وقال الزمخشري أصله إن كان شيء إلا صيحة فكان الأصل أن يذكر، لكنه تعالى أنث لما بعده من المفسر وهو الصيحة. وقوله تعالى: * (واحدة) * تأكيد لكون الأمر هينا عند الله. وقوله تعالى: * (فإذا هم خامدون) * فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان من الصيحة وفي وقتها لم يتأخر، ووصفهم بالخمود في غاية الحسن وذلك لأن الحي فيه الحرارة الغريزية وكلما كانت الحرارة أوفر كانت القوة الغضبية والشهوانية أتم وهم كانوا كذلك، أما الغضب فإنهم قتلوا مؤمنا كان ينصحهم، وأما الشهوة فلأنهم احتملوا العذاب الدائم بسبب استيفاء اللذات الحالية فإذن كانوا كالنار الموقدة، ولأنهم كانوا جبارين مستكبرين كالنار ومن خلق منها فقال: * (فإذا هم خامدون) * وفيه وجه آخر: وهو أن العناصر الأربعة يخرج بعضها عن طبيعته التي خلقه الله عليها ويصير العنصر الآخر بإرادة الله فالأحجار تصير مياها، والمياه تصير أحجارا وكذلك الماء يصير هواء عند الغليان والسخونة والهواء يصير ماء للبرد ولكن ذلك في العادة بزمان، وأما الهواء فيصير نارا والنار تصير هواء بالاشتعال والخمود في أسرع زمان، فقال خامدين بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة.
* (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون) *
ثم قال تعالى: * (يا حسرة على العباد) * أي هذا وقت الحسرة فاحضري يا حسرة والتنكير للتكثير، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألف واللام في العباد يحتمل وجهين أحدهما: للمعهود وهم الذين أخذتهم الصيحة فيا حسرة على أولئك وثانيهما: لتعريف الجنس جنس الكفار المكذبين.
المسألة الثانية: من المتحسر؟ نقول فيه وجوه الأول: لا متحسر أصلا في الحقيقة إذ المقصود بيان أن ذلك وقت طلب الحسرة حيث تحققت الندامة عند تحقيق العذاب.
62

وههنا بحث لغوي: وهو أن المفعول قد يرفض رأسا إذا كان الغرض غير متعلق به يقال إن فلانا يعطي ويمنع ولا يكون هناك شيء معطي إذ المقصود أن له المنع والإعطاء، ورفض المفعول كثير وما نحن فيه رفض الفاعل وهو قليل، والوجه فيه ما ذكرنا، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني: أن قائل يا حسرة هو الله على الاستعارة تعظيما للأمر وتهويلا له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق الله كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني، أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة، أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أن مخبر عن وقوع الندامة، ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال: * (يا حسرة) * بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء، فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث: المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول: اللهم أهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال: يا ليت قومي يعلمون، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه.
المسألة الثالثة: قرىء * (يا حسرة) * بالتنوين، و (يا حسرة العباد) بالإضافة من غير كلمة على، وقرئ يا حسرة علي بالهاء إجراء للوصل مجرى الوقف.
المسألة الرابعة: من المراد بالعباد؟ نقول فيه وجوه أحدها: الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم وثانيها: هم قوم حبيب وثالثها: كل من كفر وأصر واستكبر وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) وقوله: * (يا عبادي الذين أسرفوا) * (الزمر: 53) وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار، وفرق بين العبد مطلقا وبين المضاف إلى الله تعالى فإنه بالإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفا تقول بيت الله فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت، وعلى هذا فقوله تعالى: * (وعباد الرحمن) * (الفرقان: 63) من قبيل قوله: * (إن عبادي) * (الحجر: 42) وكذلك * (عباد الله) * (الصافات: 74).
ثم بين الله تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى: * (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون) * وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية، وأعرفه نفسه، وطلب منه أمرا هينا فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز الله إياهم وجعلهم نوابه كما قال: * (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * (آل عمران: 31) وجاؤا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند الله لهم، وكان ما يدعون إليه أمرا هينا نفعه عائد إليهم من عبادة الله وما كانوا يسألون عليه أجرا، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزأوا واستخفوا واستهانوا
63

وقوله: * (ما يأتيهم) * الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى قوم حبيب، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة إلا كانوا به يستهزؤون على قولنا الحسرة عليهم، ويجوز أن يكون عائدا إلى الكفار المصرين.
* (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) *
ثم إن الله تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين: * (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) * أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم، ويحتمل أن يقال: إن الذين قيل في حقهم: * (يا حسرة) * (يس: 30) هم الذين قال في حقهم: * (ألم يروا) * ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله. وقوله: * (أنهم إليهم لا يرجعون) * بدل في المعنى عن قوله: * (كم أهلكنا) * وذلك لأن معنى: * (كم أهلكنا) * ألم يروا كثرة إهلاكنا، وفي معنى، ألم يروا المهلكين الكثيرين أنهم إليهم لا يرجعون، وحينئذ يكون كبدل الاشتمال، لأن قوله: * (أنهم إليهم لا يرجعون) * حال من أحوال المهلكين، أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم فيصير كقولك: ألا ترى زيدا أدبه، وعلى هذا فقوله: * (أنهم إليهم لا يرجعون) * فيه وجهان أحدهما: أهلكوا إهلاكا لا رجوع لهم إلى من في الدنيا وثانيهما: هو أنهم لا يرجعون إليهم، أي الباقون لا يرجعون إلى المهلكين بنسب ولا ولادة، يعني أهلكناهم وقطعنا نسلهم، ولا شك في أن الإهلاك الذي يكون مع قطع النسل أتم وأعم، والوجه الأول أشهر نقلا، والثاني أظهر عقلا، ثم قال تعالى:
* (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) *
لما بين الإهلاك بين أنه ليس من أهلكه الله تركه، بل بعده جمع وحساب وحبس وعقاب، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة، ونعم ما قال القائل: ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده من كل شيء
وقوله: * (وإن كل لما) * في إن وجهان أحدهما: أنها مخففة من الثقيلة واللام في لما فارقة بينها وبين النافية، وما زائدة مؤكدة في المعنى، والقراءة حينئذ بالتخفيف في لما وثانيهما: أنها نافية ولما بمعنى إلا، قال سيبويه: يقال نشدتك بالله لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، والقراءة حينئذ بالتشديد في لما، يؤيد هذا ما روي أن أبيا قرأ * (وما كل إلا جميع) * وفي قوله سيبويه: لما بمعنى إلا وارد معنى مناسب وهو أن لما كأنها حرفا نفي جمعا وهما لم وما فتأكد النفي، ولهذا يقال في
64

جواب من قال قد فعل لما يفعل، وفي جواب من قال فعل لم يفعل، وإلا كأنها حرفا نفي إن ولا فاستعمل أحدهما مكان الآخر، قال الزمخشري: فإن قال قائل كل وجميع معنى واحد، فكيف جعل جميعا خبرا لكل حيث دخلت اللام عليه، إذ التقدير وإن كل لجميع، نقول معنى جميع مجموع، ومعنى كل كل فرد حيث لا يخرج عن الحكم أحد، فصار المعنى كل فرد مجموع مع الآخر مضموم إليه، ويمكن أن يقال محضرون، يعني عما ذكره، وذلك لأنه لو قال: وإن جميع لجميع محضرون، لكان كلاما صحيحا ولم يوجد ما ذكره من الجواب، بل الصحيح أن محضرون كالصفة للجميع، فكأنه قال جميع جميع محضرون، كما يقال الرجل رجل عالم، والنبي نبي مرسل، والواو في * (وإن كل) * لعطف الحكاية على الحكاية، كأنه يقول بينت لك ما ذكرت، وأبين أن كلا لدينا محضرون، وكذلك الواو في قوله تعالى:
* (وءاية لهم الارض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون) *
كأنه يقول: وأقول أيضا آية لهم الأرض الميتة وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما وجه تعلق هذا بما قبله؟ نقول مناسب لما قبله من وجهين أحدهما: أنه لما قال: * (وإن كل لما جميع) * (يس: 32) كان ذلك إشارة إلى الحشر، فذكر ما يدل على إمكانه قطعا لإنكارهم واستعدادهم وإصرارهم وعنادهم، فقال: وآية لهم الأرض الميتة أحييناها كذلك نحيي الموتى وثانيهما: أنه لما ذكر حال المرسلين وإهلاك المكذبين وكان شغلهم التوحيد ذكر ما يدل عليه، وبدأ بالأرض لكونها مكانهم لا مفارقة لهم منها عند الحركة والسكون.
المسألة الثانية: الأرض آية مطلقا فلم خصصها بهم حيث قال: * (وآية لهم) * نقول: الآية تعدد وتسرد لمن لم يعرف الشيء بأبلغ الوجوه، وأما من عرف الشيء بطريق الرؤية لا يذكر له دليل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وعباد الله المخلصين عرفوا الله قبل الأرض والسماء، فليست الأرض معرفة لهم، وهذا كما قال تعالى: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * (فصلت: 53) وقال: * (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) * (فصلت: 53) يعني أنت كفاك ربك معرفا، به عرفت كل شيء فهو شهيد لك على كل شيء، وأما هؤلاء تبين لهم الحق بالآفاق والأنفس، وكذلك ههنا آية لهم.
65

المسألة الثالثة: إن قلنا إن الآية مذكورة للاستدلال على جواز إحياء الموتى فيكفي قوله: * (أحييناها) * ولا حاجة إلى قوله: * (وأخرجنا منها حبا) * وغير ذلك، وإن قلنا إنها للاستدلال على وجود الإله ووحدته فلا فائدة في قوله: * (الأرض الميتة أحييناها) * لأن نفس الأرض دليل ظاهر وبرهان باهر، ثم هب أنها غير كافية فقوله: * (الميتة أحييناها) * كاف في التوحيد فما فائدة قوله: * (وأخرجنا منها حبا) * فله فائدة بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى، وذلك لأنه لما أحيا الأرض وأخرج منها حبا كان ذلك إحياء تاما لأن الأرض المخضرة التي لا تنبت الزرع ولا تخرج الحب دون ما تنبته في الحياة، فكأنه قال تعالى الذي أحيا الأرض إحياء كاملا منبتا للزرع يحيي الموتى إحياء كاملا بحيث تدرك الأمور، وأما بالنسبة إلى التوحيد فلأن فيه تعديد النعم كأنه يقول آية لهم الأرض فإنها مكانهم ومهدهم الذي فيه تحريكهم وإسكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم لا بد لهم منها فهي نعمة ثم إحياؤها بحيث تخضر نعمة ثانية فإنها تصير أحسن وأنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم يصير في مكانهم، وكان يمكن أن يجعل الله رزقهم في السماء أو في الهواء فلا يحصل لهم الوثوق، ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة لأن الأرض تنبت الحب في كل سنة، وأما الأشجار بحيث تؤخذ منها الثمار فتكون بعد الحب وجودا، ثم فجرنا فيها العيون ليحصل لهم الاعتماد بالحصول ولو كان ماؤها من السماء لحصل ولكن لم يعلم أنها أين تغرس وأين يقع المطر وينزل القطر بالنسبة إلى بيان إحياء الموتى كل ذلك مفيد وذلك لأن قوله: * (وأخرجنا منها حبا) * كالإشارة إلى الأمر الضروري الذي لا بد منه وقوله: * (وجعلنا فيها جنات) * كالأمر المحتاج إليه الذي إن لم يكن لا يغني الإنسان
لكنه يبقي مختل الحال وقوله: * (وفجرنا فيها من العيون) * إشارة إلى الزينة التي إن لم تكن لا تعني الإنسان ولا يبقى في ورطة الحاجة، لكنه لا يكون على أحسن ما ينبغي، وكأن حال الإنسان بالحب كحال الفقير الذي له ما يسد خلته من بعض الوجوه ولا يدفع حاجته من كل الوجوه وبالثمار ويعتبر حاله كحال المكتفي بالعيون الجارية التي يعتمد عليها الإنسان ويقوي بها قلبه كالمستغني الغني المدخر لقوت سنين، فيقول الله عز وجل كما فعلنا في موات الأرض كذلك نفعل في الأموات في الأرض فنحييهم ونعطيهم ما لا بد لهم منه في بقائهم وتكوينهم من الأعضاء المحتاج إليها وقواها كالعين والقوة الباصرة والأذن والقوة السامعة وغيرهما ونزيد له ما هو زينة كالعقل الكامل والإدراك الشامل فيكون كأنه قال نحيي الموتى إحياء تاما كما أحيينا الأرض إحياء تاما.
المسألة الرابعة: قال عن ذكر الحب * (فمنه يأكلون) * وفي الأشجار والثمار قال: * (ليأكلوا من ثمره) * وذلك لأن الحب قوت لا بد منه فقال: * (فمنه يأكلون) * أي هم آكلوه، وأما الثمار ليست كذلك، فكأنه تعالى قال إن كنا ما أخرجناها كانوا يبقون من غير أكل فأخرجناها ليأكلوها.
66

المسألة الخامسة: خصص النخيل والأعناب بالذكر من سائر الفواكه لأن ألذ المطعوم الحلاوة، وهي فيها أتم ولأن التمر والعنب قوت وفاكهة، ولا كذلك غيرهما ولأنهما أعم نفعا فإنها تحمل من البلاد إلى الأماكن البعيدة، فإن قيل فقد ذكر الله الرمان والزيتون في الأنعام والقضب والزيتون والتين في مواضع، نقول في الأنعام وغيرها المقصود ذكر الفواكه والثمار ألا ترى إلى قوله تعالى: * (أنزل من السماء ماء فأخرجنا به) * (الأنعام: 99) وإلى قوله: * (فلينظر الإنسان إلى طعامه) * (عبس: 24) فاستوفى الأنواع بالذكر وههنا المقصود ذكر صفات الأرض فاختار منها الألذ الأنفع، وقد ذكرنا في سورة الأنعام ما يستفاد منه الفوائد ويعلم منه فائدة قوله تعالى: * (فاكهة ونخل ورمان) * (الرحمن: 68).
المسألة السادسة: في المواضع التي ذكر الله الفواكه لم يذكر التمر بلفظ شجرته وهي النخلة ولم يذكر العنب بلفظ شجرته بل ذكره بلفظ العنب والأعناب، ولم يذكر الكرم وذلك لأن العنب شجرته بالنسبة إلى ثمرته حقيرة قليلة الفائدة والنخل بالنسبة إلى ثمرته عظيمة جليلة القدر كثيرة الجدوى، فإن كثيرا من الظروف منها يتخذ وبلحائها ينتفع ولها شبه بالحيوان فاختار منها ما هو الأعجب منها، وقوله تعالى: * (وفجرنا فيها من العيون) * آية عظيمة لأن الأرض أجزاؤها بحكم العادة لا تصعد ونحن نرى منابع الأنهار والعيون في المواضع المرتفعة وذلك دليل القدرة والاختيار والقائلون بالطبائع قالوا إن الجبال كالقباب المبنية والأبخرة ترتفع إليها كما ترتفع إلى سقوف الحمامات وتتكون هناك قطرات من الماء ثم تجتمع، فإن لم تكن قوية تحصل المياه الراكدة كالآبار وتجري في القنوات، إن كانت قوية تشق الأرض وتخرج أنهارا جارية وتجتمع فتحصل الأنهار العظيمة وتمدها مياه الأمطار والثلوج، فنقول اختصاص بعض الجبال بالعيون دليل ظاهر على الاختيار وما ذكروه تعسف، فالحق هو أن الله تعالى خلق الماء في المواضع المرتفعة وساقها في الأنهار والسواقي أو صعد الماء من المواضع المتسفلة إلى الأماكن المرتفعة بأمر الله وجرى في الأودية إلى البقاع التي أنعم الله على أهلها.
ثم قال تعالى: * (ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون) * والترتيب ظاهر ويظهر أيضا في التفسير وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لم أخر التنبيه على الانتفاع بقوله: * (ليأكلوا) * عن ذكر الثمار حتى قال: * (وفجرنا فيها من العيون) * وقال في الحب: * (فمنه يأكلون) * عقيب ذكر الحب، ولم يقل عقيب ذكر النخيل والأعناب ليأكلوا؟ نقول الحب قوت وهو يتم وجوده بمياه الأمطار ولهذا يرى أكثر البلاد لا يكون بها شيء من الأشجار والزرع والحراثة لا تبطل هناك اعتمادا على ماء السماء وهذا لطف من الله حيث جعل ما يحتاج إليه الإنسان أعم وجودا، وأما الثمار فلا تتم إلا بالأنهار ولا تصير الأشجار حاملة للثمار إلا بعد وجود الأنهار فلهذا أخر.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (من ثمره) * عائد إلى أي شيء؟ نقول المشهور أنه عائد إلى الله أي
67

ليأكلوا من ثمر الله وفيه لطيفة: وهي أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لم توجد إلا بالله تعالى ولولا خلق الله ذلك لم توجد فالثمر بعد جميع ما يظن الظان أنه سبب وجوده ليس إلا بالله تعالى وإرادته فهي ثمره، ويحتمل أن يعود إلى النخيل وترك الأعناب لحصول العلم بأنها في حكم النخيل ويحتمل أن يقال هو راجع إلى المذكور أي من ثمر ما ذكرنا، وهذان الوجهان نقلهما الزمخشري، ويحتمل وجها آخر أغرب وأقرب وهو أن يقال المراد من الثمر الفوائد يقال ثمرة التجارة الربح ويقال ثمرة العبادة الثواب، وحينئذ يكون الضمير عائدا إلى التفجير المدلول عليه بقوله: * (وفجرنا فيها من العيون) * تفجيرا ليأكلوا من فوائد ذلك التفجير وفوائده أكثر من الثمار بل يدخل فيه ما قال الله تعالى: * (أنا صببنا الماء صبا) * (عبس: 25) إلى أن قال: * (فأنبتنا فيها حبا * وعنبا وقصبا * وزيتونا ونخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة وأبا) * (عبس: 27 - - - - 31) والتفجير أقرب في الذكر من النخيل، ولو كان عائدا إلى الله لقال من ثمرنا كما قال (وجعلنا) (وفجرنا).
المسألة الثالثة: ما في قوله: * (وما عملته) * من أي الماءات هي؟ نقول فيها وجوه أحدها: نافية كأنه قال: وما عملت التفجير أيديهم بل الله فجر وثانيها: موصولة بمعنى الذي كأنه قال والذي عملته أيديهم من الغراس بعد التفجير يأكلون مه أيضا ويأكلون من ثمر الله الذي أخرجه من غير سعي من الناس، فعطف الذي عملته الأيدي على ما خلقه الله من غير مدخل للإنسان فيها وثالثها: هي مصدرية على قراءة من قرأ (وما عملت) من غير ضمير عائد معناه ليأكلوا من ثمره وعمل أيديهم يعني يغرسون والله ينبتها ويخلق ثمرها فيأكلون مجموع عمل أيديهم وخلق الله، وهذا الوجه لا يمكن على قراءة من قرأ مع الضمير.
المسألة الرابعة: على قولنا ما موصولة، يحتمل أن يكون بمعنى وما عملته أي بالتجارة كأنه ذكر نوعي ما يأكل الإنسان بهما، وهما الزراعة والتجارة، ومن النبات ما يؤكل من غير عمل الأيدي كالعنب والتمر وغيرهما ومنه ما يعمل فيه عمل صنعة فيؤكل كالأشياء التي لا تؤكل إلا مطبوخة أو كالزيتون الذي لا يؤكل إلا بعد إصلاح، ثم لما عدد النعم أشار إلى الشكر بقوله: * (أفلا يشركون) * وذكر بصيغة الاستفهام لما بينا من فوائد الاستفهام فيما تقدم. ثم قال تعالى:
* (سبحان الذى خلق الازواج كلها مما تنبت الارض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) *
قد ذكرنا أن لفظة سبحان علم دال على التسبيح وتقديره سبح تسبيح الذي خلق الأزواج كلها، ومعنى سبح نزه، ووجه تعلق الآية بما قبلها هو أنه تعالى لما قال: * (أفلا تشكرون) * (يس: 35) وشكر
68

الله بالعبادة وهم تركوها ولم يقتنعوا بالترك بل عبدوا غيره وأتوا بالشرك فقال: سبحان الذي خلق الأزواج وغيره لم يخلق شيئا فقال أو نقول، لما بين أنهم أنكروا الآيات ولم يشكروا بين ما ينبغي أن يكون عليه العاقل فقال: * (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) * أو نقول لما بين الآيات قال: سبحان الذي خلق ما ذكره عن أن يكون له شريك أو يكون عاجزا عن إحياء الموتى وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (كلها) * يدل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن الزوج هو الصنف وأفعال العباد أصناف ولها أشباه واقعة تحت أجناس الأعراض فتكون من الكل الذي قال الله فيها إنه خلق الأزواج كلها، لا يقال مما تنبت الأرض، يخرج الكلام عن العموم لأن من قال أعطيت زيدا كل ما كان لي يكون للعموم إن اقتصر عليه، فإذا قال بعده من الثياب لا يبقى الكلام على عمومه لأنا نقول ذلك إذا كانت من لبيان التخصيص، أما إذا كانت لتأكيد العموم فلا، بدليل أن من قال أعطيته كل شيء من الدواب والثياب والعبيد والجواري يفهم منه أنه يعدد الأصناف لتأكيد العموم ويؤيد هذا قوله تعالى في حم: * (الذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) * (الزخرف: 12) من غير تقييد.
المسألة الثانية: ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة ينحصر فيها المخلوقات فقوله: * (مما تنبت الأرض) * يدخل فيها ما في الأرض من الأمور الظاهرة كالنبات والثمار وقوله: * (ومن أنفسهم) * يدخل فيها الدلائل النفسية وقوله: * (ومما لا يعلمون) * يدخل ما في أقطار السماوات وتخوم الأرضين وهذا دليل على أنه لم يذكر ذلك للتخصيص بدليل أن الأنعام مما خلقها الله والمعادن لم يذكرها وإنما ذكر الأشياء لتأكيد معنى العموم كما ذكرنا في المثال.
المسألة الثالثة: قوله * (ومما لا يعلمون) * فيه معنى لطيف وهو أنه تعالى إنما ذكر كون الكل مخلوقا لينزه الله عن الشريك فإن المخلوق لا يصلح شريكا للخلق، لكن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلا بالاعتراف بأن لا إله إلا الله، فقال تعالى اعلموا أن المانع من التشريك فيما تعلمون وما لا تعلمون لأن الخلق عام والمانع من الشركة الخلق فلا تشركوا بالله شيئا مما تعلمون فإنكم تعلمون أنه مخلوق ومما لا تعلمون فإنه عند الله كله مخلوق لكون كله ممكنا. ثم قال تعالى:
* (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) *
لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي فإن درجة المكان والزمان مناسبة لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض، لأن كل عرض فهو في زمان ومثله مذكور في قوله تعالى: * (ومن آياته الليل والنهار
69

والشمس والقمر) * (فصلت: 37) ثم قال بعده: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * (فصلت: 39) حيث استدل بالزمان والمكان هناك أيضا، لكن المقصود أولا هناك إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس) * (فصلت: 37) ثم الحشر بدليل قوله تعالى: * (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) * (فصلت: 39) وههنا المقصود أولا إثبات الحشر لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر، يدل عليه النظر في السورة، وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى فيه: * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * (فصلت: 9) إلى غيره وآخر السورتين يبين الأمر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المكان يدفع عن أهل السنة شبه الفلاسفة، والزمان يدفع عنهم شبه المشبهة.
أما بيان الأول: فذلك لأن الفلسفي يقول لو كان عدم العالم قبل وجوده لكان عند فرض عدم العالم قبل، وقبل وبعد لا يتحقق إلا بالزمان، فقبل العالم زمان والزمان من جملة العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه وهو محال، فنقول لهم قد وافقتمونا على أن الأمكنة متناهية، لأن الأبعاد متناهية بالاتفاق، فإذن فوق السطح الأعلى من العالم يكون عدما وهو موصوف بالفوقية، وفوق وتحت لا يتحقق إلا بالمكان ففوق العالم مكان والمكان من العالم فيلزم وجود الشيء عند عدمه، فإن أجابوا بأن فوق السطح الأعلى لا خلا ولا ملا، نقول قبل وجود العالم لا آن ولا زمان موجود.
أما بيان الثاني: فلأن المشبهي يقول لا يمكن وجود موجود إلا في مكان، فالله في مكان فنقول فيلزمكم أن تقولوا الله في زمان لأن الوهم كما لا يمكنه أن يقول هو موجود ولا مكان لا يمكنه أن يقول هو كان موجودا ولا زمان وكل زمان هو حادث وقد أجمعنا على أن الله تعالى قديم.
المسألة الثانية: لو قال قائل إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فلم اختار الليل حيث قال: * (وآية لهم الليل) *؟ نقول لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال: * (وآية لهم الأرض) * (يس: 33) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل ووجه آخر: وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض: * (وآية لهم الأرض الميتة) * (يس: 33) فذكر في الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت.
المسألة الثالثة: ما معنى سلخ النهار من الليل؟ نقول معناه تمييزه منه يقال انسلخ النهار من الليل إذا أتى آخر النهار ودخل أول الليل وسلخه الله منه فانسلخ هو منه، وأما إذا استعمل بغير كلمة من فقيل سلخت النهار أو الشمس فمعناه دخلت في آخره، فإن قيل فالليل في نفسه آية فأية حاجة إلى قوله: * (نسلخ منه النهار) *؟ نقول الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه، ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها، وقوله: * (فإذا هم مظلمون) * أي داخلون في الظلام، وإذا للمفاجأة أي ليس بيدها بعد ذكر أمر ولا بد لهم من الدخول فيه
70

وقوله تعالى:
* (والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) *
ويحتمل أن يكون الواو للعطف على الليل تقديره: وآية لهم الليل نسلخ والشمس تجري والقمر قدرناه، فيه كلها آية، وقوله: * (والشمس تجري) * إشارة إلى سبب سلخ النهار فإنها تجري لمستقر لها وهو وقت الغروب فينسلخ النهار، وفائدة ذكر السبب هو أن الله لما قال نسلخ منه النهار وكان غير بعيد من الجهال أن يقول قائل منهم سلخ النهار ليس من الله إنما يسلخ النهار بغروب الشمس فقال تعالى: والشمس تجري لمستقر لها بأمر الله فمغرب الشمس سالخ للنهار فبذكر السبب يتبين صحة الدعوى ويحتمل أن يقال بأن قوله: * (والشمس تجري لمستقر لها) * إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه تعالى لما قال: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * (يس: 37) ذكر أن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار بمنافعه، وقوله: * (لمستقر) * اللام يحتمل أن تكون للوقت كقوله تعالى: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) وقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1) ووجه استعمال اللام للوقت هو أن اللام المكسورة في الأسماء لتحقيق معنى الإضافة لكن إضافة الفعل إلى سببه أحسن الإضافات لأن الإضافة لتعريف المضاف بالمضاف إليه كما في قوله: دار زيد لكن الفعل يعرف بسببه فيقال أتجر للربح واشتر للأكل، وإذا علم أن اللام تستعمل للتعليل فنقول وقت الشيء يشبه سبب الشيء لأن الوقت يأتي بالأمر الكائن فيه، والأمور متعلقة بأوقاتها فيقال خرج لعشر من كذا * (وأقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) لأن الوقت معرف كالسبب وعلى هذا فمعناه تجري الشمس وقت استقرارها أي كلما استقرت زمانا أمرت بالجري فجرت، ويحتمل أن تكون بمعنى إلى أي إلى مستقر لها وتقريره هو أن للام تذكر للوقت وللوقت طرفان ابتداء وانتهاء يقال سرت من يوم الجمعة إلى يوم الخميس فجاز استعمال ما يستعمل فيه في أحد طرفيه لما بينهما من الاتصال ويؤيد هذا قراءة من قرأ * (والشمس تجري إلى مستقر لها) * وعلى هذا ففي ذلك المستقر وجوه الأول: يوم القيامة وعنده تستقر ولا يبقى لها حركة الثاني: السنة الثالث: الليل أي تجري إلى الليل الرابع: أن ذلك المستقر ليس بالنسبة إلى الزمان بل هو للمكان وحينئذ ففيه وجوه الأول: هو غاية ارتفاعها في الصيف وغاية انخفاضها في الشتاء أي تجري إلى أن تبلغ ذلك الموضع فترجع الثاني: هو غاية مشارقها فإن في كل يوم لها مشرق إلى ستة أشهر ثم تعود إلى تلك المقنطرات وهذا هو القول الذي تقدم في الارتفاع فإن اختلاف المشارق بسبب اختلاف الارتفاع الثالث: هو وصولها إلى بيتها في الابتداء الرابع: هو الدائرة التي عليها حركتها حيث لا تميل عن منطقة البروج على مرور الشمس وسنذكرها، ويحتمل أن يقال * (لمستقر لها) * أي تجري مجرى مستقرها. فإن أصحاب الهيئة قالوا الشمس في فلك والفلك يدور فيدير الشمس
71

فالشمس تجري مجرى مستقرها، وقالت الفلاسفة تجري لمستقرها أي لأمر لو وجدها لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة وهو في غاية السقوط، وأجاب الله عنه بقوله: * (ذلك تقدير العزيز العليم) * أي ليس لإرادتها وإنما ذلك بإرادة الله وتقديره وتدبيره وتسخيره إياها، فإن قيل عددت الوجوه الكثيرة وما ذكرت المختار، فما الوجه المختار عندك؟ نقول المختار هو أن المراد من المستقر المكان أن تجري لبلوغ مستقرها وهو غاية الارتفاع والانخفاض فإن ذلك يشمل المشارق والمغارب والمجرى الذي لا يختلف والزمان وهو السنة والليل فهو أتم فائدة، وقوله: * (ذلك) * يحتمل أن يكون إشارة إلى جري الشمس أي ذلك الجري تقدير الله ويحتمل أن يكون إشارة إلى المستقر أي لمستقر لها وذلك المستقر تقدير الله والعزيز الغالب وهو بكمال القدرة يغلب، والعليم كامل العلم أي الذي قدر على إجرائها على الوجه الأنفع وعلم الأنفع فأجراها على ذلك، وبيانه من وجوه الأول: هو أن الشمس في ستة أشهر كل يوم تمر على مسامتة شيء لم تمر من أمسها على تلك المسامتة، ولو قدر الله مرورها على مسامتة واحدة لاحترقت الأرض التي هي مسامتة لممرها وبقي المجموع مستوليا على الأماكن الأخر فقدر الله لها بعدا لتجمع الرطوبات في باطن الأرض والأشجار في زمان الشتاء ثم قدر قربها بتدريج لتخرج النبات والثمار من الأرض والشجر وتضج وتجفف، ثم تبعد لئلا يحترق وجه الأرض وأغصان الأشجار الثاني: هو أن الله قدر لها في كل يوم طلوعا وفي كل ليلة غروبا لئلا تكون القوى والأبصار بالسهر والتعب ولا يخرب العالم بترك العمارة بسبب الظلمة الدائمة، الثالث: جعل سيرها أبطأ من سير القمر وأسرع من سير زحل لأنها كاملة النور فلو كانت بطيئة السير لدامت زمانا كثيرا في مسامتة شيء واحد فتحرقه، ولو كانت سريعة السير لما حصر لها لبث بقدر ما ينضج الثمار في بقعة واحدة. ثم قال تعالى:
* (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم) *
قال الزمخشري: لا بد من تقدير لفظ يتم به معنى الكلام لأن القمر لم يجعل نفسه منازل فالمعنى أنا قدرنا سيره منازل وعلى ما ذكره يحتمل أن يقال المراد منه، والقمر قدرناه ذا منازل لأن ذا الشيء قريب من الشيء ولهذا جاز قول القائل عيشة راضية لأن ذا الشيء كالقائم به الشيء فأتوا بلفظ الوصف. وقوله: * (حتى عاد كالعرجون القديم) * أسي رجع في الدقة إلى حالته التي كان عليها من قبل. والعرجون من الانعراج يقال لعود العذق عرجون، والقديم المتقادم الزمان، قيل إن ما غبر عليه سنة فهو قديم، والصحيح أن هذه بعينها لا تشترط في جواز إطلاق القديم عليه وإنما تعتبر العادة، حتى لا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين إنهاء بناء قديم أو هي قديمة
72

ويقال لبعض الأشياء إنه قديم، وإن لم يكن له سنة، ولهذا جاز أن يقال بيت قديم وبناء قديم ولم يجز أن يقال في العالم إنه قديم، لأن القدم في البيت والبناء يثبت بحكم تقادم العهد ومرور السنين عليه، وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد إلا عند من يعتقد أنه لا أول له ولا سابق عليه. ثم قال تعالى:
* (لا الشمس ينبغى لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل فى فلك يسبحون) *
إشارة إلى أن كل شيء من الأشياء المذكورة خلق على وفق الحكمة، فالشمس لم تكن تصلح لها سرعة الحركة بحيث تدرك القمر وإلا لكان في شهر واحد صيف وشتاء فلا تدرك الثمار وقوله: * (ولا الليل سابق النهار) * قيل في تفسيره إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار، وقيل معناه ولا الليل سابق
النهار أي الليل لا يدخل وقت النهار والثاني بعيد لأن ذلك يقع إيضاحا للواضح والأول صحيح إن أريد به ما بينته وهو أن معنى قوله تعالى: * (ولا الليل سابق النهار) * أن القمر إذا كان على أفق المشرق أيام الاستقبال تكون الشمس في مقابلته على أفق المغرب، ثم إن عند غروب الشمس يطلع القمر وعند طلوعها يغرب القمر، كأن لها حركة واحدة مع أن الشمس تتأخر عن القمر في ليلة مقدارا ظاهرا في الحس، فلو كان للقمر حركة واحدة بها يسبق الشمس ولا تدركه الشمس؛ وللشمس حركة واحدة بها تتأخر عن القمر ولا تدرك القمر؛ لبقي القمر والشمس مدة مديدة في مكان واحد، لأن حركة الشمس كل يوم درجة فخلق الله تعالى جميع الكواكب حركة أخرى غير حركة الشهر والسنة، وهي الدورة اليومية وبهذه الدورة لا يسبق كوكب كوكبا أصلا، لأن كل كوكب من الكواكب إذا طلع غرب مقابله وكلما تقدم كوكب إلى الموضع الذي فيه الكوكب الآخر بالنسبة إلينا تقدم ذلك الكوكب، فبهذه الحركة لا يسبق الشمس، فتبين أن سلطان الليل لا يسبق سلطان النهار فالمراد من الليل القمر ومن النهار الشمس فقوله: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * إشارة إلى حركتها البطيئة التي تتم الدورة في سنة وقوله: * (ولا الليل سابق النهار) * إشارة إلى حركتها اليومية التي بها تعود من المشرق إلى المشرق مرة أخرى في يوم وليلة، وعلى هذا ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الحكمة في إطلاق الليل وإرادة سلطانه وهو القمر، وماذا يكون لو قال ولا القمر سابق الشمس؟ نقول لو قال ولا القمر سابق الشمس ما كان يفهم أن الإشارة إلى الحركة اليومية فكان يتوهم التناقض، فإن الشمس إذا كانت لا تدرك القمر أسرع ظاهرا، وإذا قال
73

ولا القمر سابق يظن أن القمر لا يسبق فليس بأسرع، فقال الليل والنهار ليعلم أن الإشارة إلى الحركة التي بها تتم الدورة في مدة يوم وليلة، ويكون لجميع الكواكب أو عليها طلوع وغروب في الليل والنهار.
المسألة الثانية: ما الفائدة في قوله تعالى: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك) * بصيغة الفعل وقوله: * (ولا الليل سابق النهار) * بصيغة اسم الفاعل، ولم يقل ولا الليل يسبق ولا قال مدركة القمر؟ نقول الحركة الأولية التي للشمس، ولا يدرك بها القمر مختصة بالشمس، فجعلها كالصادرة منها، وذكر بصيغة الفعل لأن صيغة الفعل لا تطلق على من لا يصدر منه الفعل فلا يقال هو يخيط ولا يكون يصدر منه الخياطة. والحركة الثانية ليست مختصة بكوكب من الكواكب بل الكل فيها مشتركة بسبب حركة فلك ليس ذلك فلكا لكوكب من الكواكب، فالحركة ليست كالصادرة منه فأطلق اسم الفاعل لأنه لا يستلزم صدور الفعل يقال فلان خياط وإن يكن خياطا، فإن قيل قوله تعالى: * (يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا) * (الأعراف: 54) يدل على خلاف ما ذكرتم، لأن النهار إذا كان يطلب الليل فالليل سابقه، وقلتم إن قوله: * (ولا الليل سابق النهار) * معناه ما ذكرتم فيكون الليل سابقا ولا يكون سابقا، نقول قد ذكرنا أن المراد بالليل ههنا سلطان الليل وهو القمر، وهو لا يسبق الشمس بالحركة اليومية السريعة، والمراد من الليل هناك نفس الليل وكل واحد لما كان في عقيب الآخر فكأنه طالبه، فإن قيل فلم ذكر ههنا * (سابق النهار) * وقد ذكر هناك يطلبه، ولم يقل طالبه؟ نقول ذلك لما بينا من أن المراد في هذه السورة من الليل كواكب الليل، وهي في هذه الحركة كأنها لا حركة لها ولا تسبق، ولا من شأنها أنها سابقة، والمراد هناك نفس الليل والنهار وهما زمانان والزمان لا قرار له فهو يطلب حثيثا لصدور التقصي منه، وقوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) * يحقق ما ذكرنا أي للكل طلوع وغروب في يوم وليلة لا يسبق بعضها بعضا، بالنسبة إلى هذه الحركة وكل حركة في فلك تخصه وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التنوين في قوله (كل) عوض عن الإضافة معناه كل واحد وإسقاط التنوين للإضافة حتى لا يجتمع التعريف والتنكير في شيء واحد فلما سقط المضاف إليه لفظا رد التنوين عليه لفظا، وفي المعنى معرف بالإضافة، فإن قيل فهل يختلف الأمر عند الإضافة لفظا وتركها؟ فنقول نعم، وذلك لأن قول القائل كل واحد من الناس كذا لا يذهب الفهم إلى غيرهم فيفيد اقتصار الفهم عليه، فإذا قال كل كذا يدخل في الفم عموم أكثر من العموم عند الإضافة، وهذا كما في قبل وبعد إذا قلت افعل قبل كذا فإذا حذفت المضاف وقلت افعل قبل أفاد فهم الفعل قبل كل شيء، فإن قيل فهل بين قولنا كل منهم وبين قولنا كلهم وبين كل فرق؟ نقول نعم عند قولك كلهم تثبت الأمر للاقتصار عليهم، وعند قولك كل منهم تثبت الأمر أولا للعموم، ثم استدركت بالتخصيص فقلت منهم، وعند قولك كل ثبت الأمر على العموم وتتركه عليه.
74

المسألة الثانية: إذا كان كل بمعنى كل واحد منهم والمذكور الشمس والقمر فكيف قال: * (يسبحون) *؟ نقول الجواب عنه من وجوه أحدها: ما بينا أن قوله كل للعموم فكأنه أخبر عن كل كوكب في السماء سيار ثانيها: أن لفظ كل يجوز أن يوحد نظرا إلى كونه لفظا موحدا غير مثنى ولا مجموع، ويجوز أن يجمع لكون معناه جمعا، وأما التثنية فلا يدل عليها للفظ ولا المعنى فعلى هذا يحسن أن يقول القائل زيد وعمرو كل جاء أو كل جاءوا ولا يقول كل جاءا بالتثنية وثالثها: لما قال: * (ولا الليل سابق النهار) * والمراد ما في الليل من الكواكب قال: * (يسبحون) *.
المسألة الثالثة: الفلك ماذا؟ نقول الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة لأن أهل اللغة اتفقوا على أن فلكة المغزل سميت فلكة لاستدارتها وفلكة الخيمة هي الخشبة المسطحة المستديرة التي توضع على رأس العمود لئلا يمزق العمود الخيمة وهي صفحة مستديرة، فإن قيل فعلى هذا تكون السماء مستديرة. وقد اتفق أكثر المفسرين على أن السماء مبسوطة ليس لها أطراف على جبال وهي كالسقف المستوي. ويدل عليه قوله تعالى: * (والسقف المرفوع) * (الطور: 5) نقول ليس في النصوص ما يدل دلالة قاطعة على كون السماء مبسوطة غير مستديرة، ودل الدليل الحسي على كونها مستديرة فوجب المصير إليه. أما الأول فظاهر لأن السقف المقبب لا يخرج من كونه سقفا، وكذلك كونها على جبال، وأما الدليل الحسي فوجوه أحدها: أن من أمعن في السير في جانب الجنوب يظهر له كواكب مثل سهيل وغيره ظهورا أبديا حتى أن من يرصد يراه دائما ويخفى عليه بنات نعش وغيرها خفاء أبديا، ولو كان السماء مسطحا مستويا لبان الكل للكل بخلاف ما إذا كان مستديرا فإن بعضه حينئذ يستتر بأطراف الأرض فلا يرى الثاني: هو أن الشمس إذا كانت مقارنة للحمل مثلا فإذا غربت ظهر لنا كوكب في منطقة البروج من الحمل إلى الميزان ثم في قليل يستتر الكوكب الذي كان غروبه بعد غروب الشمس ويظهر الكوكب الذي كان طلوعه بعد طلوع الشمس وبالعكس هو دليل ظاهر وإن بحث فيه يصير قطعيا
الثالث: هو أن الشمس قبل طلوعها وبعد غروبها يظهر ضوءها ويستنير الجو بعض الاستنارة ثم يطلع ولولا أن بعض السماء مستتر بالأرض وهو محل الشمس فلا يدي جرمها وينتشر نورها لما كان كذا بل كان عند إعادتها إلى السماء يظهر لكل أحد جرمها ونورها معا لكون السماء مستوية حينئذ مكشوفة كلها لكل أحد الرابع: القمر إذا انكسف في ساعة من الليل في جانب الشرق، ثم سئل أهل الغرب عن وقت الكسوف أخبروا عن الخسوف في ساعة أخرى قبل تلك الساعة التي رأى أهل المشرق فيها الخسوف لكن الخسوف في وقت واحد في جميع نواحي العالم والليل مختلف فدل على أن الليل في جانب المشرق قبل الليل في جانب المغرب فالشمس غربت من عند أهل المشرق وهي بعد في السماء ظاهرة لأهل المغرب فعلم استتارها بالأرض ولو كانت مستوية
75

لما كان كذلك الخامس: لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رؤوسنا على المسامتة أقرب إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العموم أصغر من القطر والوتد، وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلك فإن قيل جاز أن يكون وهو على الأفق على سطح السماء وعندما يكون على مسامتة رؤوسنا في بحر السماء غائرا فيها لأن الخرق جائز على السماء، نقول لا تنازع في جواز الخرق لكن القمر حينئذ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم وهو غرضنا ولأنا نقول لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق وهو في منتصف نهارهم أكبر مقدارا لكونه قريبا من رؤوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى وعندنا في بحر السماء، وبالجملة الدلائل كثيرة. والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكا مستديرا.
المسألة الرابعة: هذا يدل على أن لكل كوكب فلكا، فما قولك فيه؟ نقول: أما السبعة السيارة فلكل فلك، وأما الكواكب الأخر فقيل للكل فلك واحد، ولنذكر كلاما مختصرا في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك فنقول: قيل إن للقمر فلكا لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية، وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه فلكل كوكب فلك، ثم إن أهل الهيئة قالوا فكل فلك هو جسم كرة وذلك غير لازم بل اللازم أن نقول لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته، والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة، وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه، وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازنة بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا وتكون الكواكب فيه وهو فلك فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب، والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء فتجعل دائرة متوهمة كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهه تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) * والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك وقالوا لا تجوز الحركة
76

على هذا الوجه لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء وتحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه، لكن الخلاء محال والسماء لا تقبل الشق والالتئام، هذا ما اعتمدوا عليه، ونحن نقول كلاهما جائز. أما الخلاء فلا يحتاج إليه ههنا، لأن قوله تعالى: * (يسبحون) * يفهم منه أنه بشق والتئام، وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة، ثم إنهم قالوا على ما بينا تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات، ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما: مركزه مركز العالم ثانيهما: مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة، فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال إنها في الأوج، وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض، وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير، وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه فلك الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكا، الفلك الأعلى وفلك البروج، ولزحل ثلاثة أفلاك الممثل والحامل وفلك التدوير، وللمشتري ثلاثة كما لزحل، وللمريخ كذلك ثلاثة، وللشمس فلكان الممثل والخارج والمركز، وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات، ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات، وفلك آخر يسمونه المدير، وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر والمدير ليس كالجوزهر لأن المدير غير محيط بالأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط، ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة من ثلاثة أفلاك، وقالوا إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة. هذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ونحن نقول لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك، وأما على سبيل الوجوب فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها هذا تمام الكلام.
المسألة الخامسة: قال المنجمون الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال: * (يسبحون) * وذلك لا يطلق إلا على العاقل، نقول إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله وإن أردتم شيئا آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام * (ما لكم لا تنطقون) * (الصافات: 92) وقوله: (ألا تنطقون).
77

ثم قال تعالى:
* (وءاية لهم أنا حملنا ذريتهم فى الفلك المشحون) *
ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما: أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقا يتخذ من البحر خيرا ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذ كقوله: * (وحملناهم في البر والبحر) * (الإسراء: 70) ويؤيد هذا قوله تعالى: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * (يس: 42) إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما: هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار، ولها وجه ثالث: وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورة ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله: * (وآية لهم الليل) * (يس: 37) أيضا من القبيل الأول، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لم عاش، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهو الزينة آيتين إحداهما: الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى: * (ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك من مثله ما يركبون) * (فاطر: 12) وثانيتهما: الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * (يس: 42) فإن الدواب زينة كما قال تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركوبها وزينة) * (النحل: 8) وقال: * (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) * (النحل: 6) فيكون استدلالا عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله: * (جنات من نخيل وأعناب) * (يس: 34) فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعا للضروري، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله، وأما الفلك فمقصود لا تبع، ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية:
أما اللغوية: قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله: * (واصنع الفلك) * (هود: 37) ومعلوم عند العرب فقال الفلك، هذا قول بعضهم، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلا بد من بيان المعنى، فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح، وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى: * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) * (الزخرف: 12) وقال تعالى: * (وترى الفلك فيه مواخر) * (فاطر: 12) وقال تعالى: * (فإذا ركبوا في الفلك) * (العنكبوت: 65) إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول: أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله:
78

* (حملنا ذريتهم) * بدل قوله: حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة، هذا ما قاله الزمخشري، ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر، لأن الموجودين كانوا كفارا لا فائدة في وجودهم فقال: * (حملنا ذريتهم) * أي لم يكن الحمل حملا لهم، وإنما كان حملا لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقا لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء؟ يقول: لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني: هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري، أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفا غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله: * (أنا حملنا ذريتهم) * أي أمثالهم وآباؤهم حينئذ تدخل فيهم الثالث: هو أن الضمير في قوله: * (وآية لهم) * عائد إلى العباد حيث قال: * (يا حسرة على العباد) * (يس: 30) وقال بعد ذلك: * (وآية لهم الأرض) * (يس: 33) وقال: * (وآية لهم الليل) (يس: 37) وقال: * (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) * إذا علم هذا فكأنه تعالى قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصا معينين كما قال تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * (النساء: 29) ويريد بعضهم بعضا، وكذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال، يقال هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم، فهم في الموضعين يكون عائدا إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصا معينين، بل المراد أن بعضهم قتل بعضا، فكذلك قوله تعالى: * (وآية لهم) * أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية على بعض منهم، أو ذرية بعض منهم. وأما إن قلنا إن المراد جنس الفلك فهو أظهر، لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها، فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد، وقوله تعالى في سفينة نوح: * (وجعلناها آية للعالمين) * (العنكبوت: 15) أي بوجود جنسها ومثلها، ويؤيده قوله تعالى: * (ألم ترى أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) * (لقمان: 31) فنقول قوله تعالى: * (حملنا ذريتهم) * أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم، لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها فقال: * (وآية لهم الأرض الميتة) * إلى أن قال: * (فمنه يأكلون) * (يس: 33) لأن الأكل عام، وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها، ولكن ذرية العباد لا بد لهم من ذلك فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها.
المسألة الثانية: جعل الفلك تارة جمعا حيث قال: * (وترى الفلك فيه مواخر) * (فاطر: 12) جمع ماخرة وأخرى فردا حيث قال: * (في الفلك المشحون) * نقول فيه تدقيق مليح من علم اللغة، وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان مختلفتان في المعنى مثالها قولك: سجد يسجد سجودا للمصدر وهم قوم سجود في جمع ساجد، تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك، بل السجود عند كونه مصدرا حركته أصلية إذا قلنا إن الفعل مشتق من المصدر
79

وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد، وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما، فساجد لما
أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه، وجئنا بلفظ السجود، فإذا السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين، إذا عرفت هذا فنقول الفلك عند كونه واحدا مثل قفل وبرد، وعند كونها جمعا مثل خشب ومرد وغيرهما، فإن قلت فإذا جعلته جمعا ماذا يكون واحدها؟ نقول جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل، وكذا القول في: * (إمام مبين) * (يس: 12) وفي قوله: * (ندعوا كل أناس بإمامهم) * (الإسراء: 71) أي بأئمتهم عند قوله تعالى: * (إمام مبين) * إما كزمام وكتاب وعند قوله تعالى: * (كل أناس بإمامهم) * إمام كسهام وكرام وجعاب وهذا من دقيق التصريف وأما المعنوية: فنذكرها في مسائل:
المسألة الأولى: قال ههنا: * (حملنا ذريتهم) * من عليهم بحمل ذريتهم، وقال تعالى: * (إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) * (الحاقة: 11) من هناك عليهم بحمل أنفسهم، نقول لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير، ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير، بل يكون قد نفعه مثاله من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه، عند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال دفعت عنكم الضرر، ولو قال دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم، وههنا أراد بيان المنافع فقال: * (حملنا ذريتهم) * لأن النفع حاصل بنفع الذرية ويدلك على هذا أن ههنا قال: * (في الفلك المشحون) * فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة، وأما دفع المضرة فلا، لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن، فإن قيل قال تعالى: * (وحملناهم في البر والبحر) * (الإسراء: 70) ولم يقل: وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة، لا دفع النقمة، نقول لما قال: * (في البر والبحر) * عم الخلق، لأن ما من أحد إلا وحمل في البر أو البحر، وأما الحمل في البحر فلم يعلم، فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.
المسألة الثانية: قوله: * (المشحون) * يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق، فحمله في الفلك واقع بقدرته، لكن من الطبيعيين من يقول الخفيف لا يرسب في الماء، لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال: * (الفلك المشحون) * أثقل من الثقال التي ترسب، ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله، فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء نقول قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية، فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله.
80

المسألة الثالثة: قال تعالى: * (وآية لهم الأرض) * (يس: 33) وقال: * (وآية لهم الليل) * (يس: 37) ولم يقل وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم، وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب. أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب. وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله. ثم قال تعالى:
* (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من حيث اللغة فقوله لهم يحتمل أن يكون عائدا إلى الذرية، أي حملنا ذريتهم وخلقنا للمحمولين ما يركبون، ويحتمل أن يكون عائدا إلى العباد الذين عاد إليهم قوله: * (وآية لهم) * (يس: 41) وهو الحق لأن الظاهر عود الضمائر إلى شيء واحد.
المسألة الثانية: * (من) * يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون صلة تقديره وخلقنا لهم مثله، وهذا على رأي الأخفش، وسيبويه يقول: من لا يكون صلة إلا عند النفي، تقول ما جاءني من أحد كما في قوله تعالى: * (وما مسنا من لغوب) * (ق: 38)، وثانيهما: هي مبينة كما في قوله تعالى: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * (الأحقاف: 31) كأنه لما قال: * (خلقنا لهم) * والمخلوق كان أشياء قال من مثل الفلك للبيان.
المسألة الثالثة: الضمير في * (مثله) * على قول الأكثرين عائد إلى الفلك فيكون هذا كقوله تعالى: * (وآخر من شكله أزواج) * (ص: 58) وعلى هذا فالأظهر أن يكون المراد الفلك الآخر الموجود في زمانهم ويؤيد هذا هو أنه تعالى قال: * (وإن نشأ نغرقهم) * (يس: 43) ولو كان المراد الإبل على ما قاله بعض المفسرين لكان قوله: * (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) * فاصلا بين متصلين، ويحتمل أن يقال الضمير عائد إلى معلوم غير مذكور تقديره أن يقال: وخلقنا لهم من مثل ما ذكرنا من المخلوقات في قوله: * (خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض) * (يس: 36) وهذا كما قالوا في قوله تعالى: * (ليأكلوا من ثمره) (يس: 35) أن الهاء عائد إلى ما ذكرنا، أي من ثمر ما ذكرنا، وعلى هذا فقوله: * (خلقنا لهم) * فيه لطيفة، وهي أن ما من أحد إلا وله ركوب مركوب من الدواب وليس كل أحد يركب الفلك فقال في الفلك حملنا ذريتهم وإن كان ما حملناهم، وأما الخلق فلهم عام وما يركبون فيه وجهان أحدهما: هو الفلك الذي مثل فلك نوح ثانيهما: هو الإبل التي هي سفن البر، فإن قيل إذا كان المراد سفينة نوح فما وجه مناسبة الكلام؟ نقول ذكرهم بحال قوم نوح وأن المكذبين هلكوا والمؤمنين فازوا فكذلك هم إن آمنوا يفوزوا وإن كذبوا يهلكوا.
* (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) *
ثم قال تعالى: * (وإن نشأ نغرقهم) * إشارة إلى فائدتين أحداهما: أن في حال النعمة ينبغي أن لا يأمنوا عذاب الله وثانيتهما: هو أن ذلك جواب سؤال مقدر وهو أن الطبيعي يقول السفينة تحمل بمقتضى الطبيعة والمجوف لا يرسب فقال ليس كذلك بل لو شاء الله أغرقهم وليس ذلك بمقتضى الطبع ولو صح كلامه الفاسد لكان القائل أن يقول: ألست توافق أن من السفن ما ينقلب
81

وينكسر ومنها ما يثقبه ثاقب فيرسب وكل ذلك بمشيئة الله فإن شاء الله إغراقهم من غير شيء من هذه الأسباب كما هو مذهب أهل السنة أو بشيء من تلك الأسباب كما تسلم أنت. وقوله تعالى: * (فلا صريخ لهم) * أي لا مغيث لهم يمنع عنهم الغرق.
وقوله تعالى: * (ولا هم ينقذون) * إذا أدركهم الغرق وذلك لأن الخلاص من العذاب، إما أن يكون بدفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال: لا صريخ لهم يدفع ولا هم ينقذون بعد الوقوع فيه، وهذا مثل قوله تعالى: * (لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) * فقوله: * (لا صريخ لهم ولا هم ينقذون) * فيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال لا صريخ لهم ولم يقل ولا منقذ لهم وذلك لأن من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في النصرة مخافة أن يغلب ويذهب ماء وجهه، وإنما ينصر ويغيث من يكون من شأنه أن يغيث فقال لا صريخ لهم، وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعز عليه في ضر يشرع في الإنقاذ، وإن لم يثق بنفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه. وإنما يبذل المجهود فقال: * (ولا هم ينقذون) * ولم يقل ولا منقد لهم.
* (إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين) *
ثم استثنى فقال:
وهو يفيد أمرين أحدهما: انقسام الإنقاذ إلى قسمين الرحمة والمتاع، أي فيمن علم الله منه أنه يؤمن فينقذه الله رحمة، وفيمن علم أنه لا يؤمن فليتمتع زمانا ويزداد إثما وثانيهما: أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه فينقذه الله رحمة ويمتعه إلى حين، ثم يميته فالزوال لازم أن يقع. ثم قال تعالى:
* (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون) *
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله تعالى لما عدد الآيات بقوله: * (وآية لهم الأرض... وآية لهم الليل... وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) * (يس: 33، 37، 41) وكانت الآيات تفيد اليقين وتوجب القطع بما قال تعالى ولم تفدهم اليقين، قال فلا أقل من أن يحترزوا عن العذاب فإن من أخبر بوقوع عذاب يتقيه، وإن لم يقطع بصدق قول المخبر احتياطا فقال تعالى إذا ذكر لهم الدليل القاطع لا يتعرفون به وإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى: * (لعلكم ترحمون) * بحرف التمني أي في ظنكم فإن من يخفى عليه وجه البرهان. لا يترك طريقة الاحتراز والاحتياط، وجواب قوله: * (إذا قيل لهم اتقوا) * محذوف معناه وإذا قيل لهم ذلك لا يتقون أو يعرضون، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى: * (وما تأتيهم من رية من آيات ربهم) * (الأنعام: 4) وفي قوله تعالى: * (ما بين أيديكم وما خلفكم) *
82

وجوه أحدها: * (ما بين أيديكم) * الآخرة فإنهم مستقبلون لها * (وما خلفكم) * الدنيا فإنهم تاركون لها وثانيها: * (وما بين أيديكم) * من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق، وغيرهما المدلول عليه بقوله تعالى: * (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) * (يس: 43) وما خلفكم من الموت الطالب لكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه يدل عليه قوله تعالى: * (ومتاعا إلى حين) * (يس: 44) وثالثها: ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندكم وما خلفكم من أمر الحشر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والتكذيب بالحشر رحمكم الله وقوله تعالى: * (لعلكم ترحمون) * مع أن الرحمة واجبة، فيه وجوه ذكرناها مرارا ونزيد ههنا وجها آخر وهو أنه تعالى لما قال: * (اتقوا) * بمعنى أنكم إن لم تقطعوا بناء على البراهين فاتقوا احتياطا قال: * (لعلكم ترحمون) * يعني أرباب اليقين يرحمون جزما وأرباب الاحتياط يرجى أن يرحموا، والحق ما ذكرنا من وجهين أحدهما: اتقوا راجين الرحمة فإن الله لا يجب عليه شيء وثانيهما: هو أن الاتقاء نظرا إليه أمر يفيد الظن بالرحمة فإن كان يقطع به أحد لأمر من خارج فذلك لا يمنع الرجاء فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدمه أكثر من أجرته أضعافا مضاعفة لكن الخدمة لا تقتضي ذلك، يصح منه أن يقول افعل كذا ولا يبعد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق. ثم قال تعالى:
* (وما تأتيهم من ءاية من ءايات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) *
وهذا متعلق بما تقدم من قوله تعالى: * (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا بيه يستهزءون) * (يس: 30) * (وما تأتيهم من رية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) * يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها وما التفتوا إليها وقوله: * (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) * إلى قوله: * (لعلكم ترحمون) * (يس: 31 - - - - 45) وكان فيه تقدير أعرضوا قال ليس إعراضهم مقتصرا على ذلك بل هم على كل آية معرضون أو يقال إذا قيل لهم اتقوا اقترحوا آيات مثل إنزال الملك وغيره فقال: * (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) * وعلى هذا كانوا في المعنى يكون زائدا معناه إلا يعرضون عنها أي لا ينفعهم الآيات من كذب بالبعض هان عليه التكذيب بالكل. وقوله تعالى:
* (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين ءامنوا أنطعم من
83

لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا فى ضلال مبين) *
إشارة إلى أنهم يبخلون بجميع ما على المكلف، وذلك لأن المكلف عليه التعظيم لجانب الله والشفقة على خلق الله وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم * (اتقوا) * فلم يتقوا حيث قيل لهم * (اتقوا) * فلم يتقوا وتركوا الشفقة على خلق الله حيث قيل لهم: * (أنفقوا) * فلم ينفقوا وفيه لطائف الأولى خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة فلم يأتوا بشيء منه وعباد الله المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب وهو أدنى ما يكون من الاتقاء، وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ومتقى العذاب لا يكون إلا للبعيد، فهم لم يتقوا معصية الله ولم يتقوا عذاب الله، والمخلصون اتقوا الله واجتنبوا مخالفته سواء كان يعاقبهم عليه أو لا يعاقبهم، وأما في الشفقة فقيل لهم: * (انفقوا مما) * أي بعض ما هو لله
في أيديكم فلم ينفقوا، والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم، بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد الله ودفع الضرر عنهم الثانية: كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم راجعة إلا إليهم فإن الله مستغن عن تعظيمهم كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم، فإن من لا يرزقه المتمول لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه، لكن السعيد من قدر الله إيصال الرزق على يده إلى غيره الثالثة: قوله: * (مما رزقكم) * إشارة إلى أمرين أحدهما: أن البخل به في غاية القبح فإن أبخل البخلاء من يخبل بمال الغير وثانيهما: أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن الله رزقكم فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانيا كما رزقكم أولا وفيه مسائل أيضا:
المسألة الأولى: عند قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم أنفقوا) * حذف الجواب، وههنا أجاب وأتى بأكثر من الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال: وإذا قيل لهم أنفقوا قالوا: أنطعم من لو يشاء الله أطعمه لكان كافيا، فما الفائدة في قوله تعالى: * (قال الذين كفروا للذين آمنوا) *؟ نقول الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به، وإنما أرادوا بذلك القول ردا على المؤمنين فقالوا نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء، ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة الضيف وأنتم تقولون إن إلهكم يرزق من يشاء، فلم تقولون لنا أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام. قال تعالى عنهم: * (قال الذين كفروا للذين آمنوا) * إشارة إلى الرد، وأما في قولهم: * (اتقوا ما بين أيديكم) * (يس: 45) فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض الله عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به.
المسألة الثانية: ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا أننفق على من لو يشاء الله رزقه، وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله: * (وإذا قيل لهم أنفقوا) * فكان جوابهم بأن
84

يقولوا أننفق فلم قالوا: * (أنطعم) *؟ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم، وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيدا دينارا يقول لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه دينارا ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا.
المسألة الثالثة: كان كلامهم حقا فإن الله لو شاء أطعمه فلماذا ذكره في معرض الذم؟ نقول لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة الله أو لعدم جواز الأمر بالاتفاق مع قدرة الله وكلاهما فاسد بين الله ذلك في قوله: * (مما رزقكم) * فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزائنه وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي أعطه منه، وقوله: * (إن أنتم إلا في ضلال مبين) * إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة الله ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية معنوية.
أما اللغوية: فنقول: * (إن) * وردت للنفي بمعنى ما، وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي، أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتا أما في ما فظاهر، وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجئ فاستعمل إن مكان ما، وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع، والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلا وما صلة، فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس.
البحث الثاني: قد ذكرنا أن قوله: * (إن أنتم إلا) * يفيد ما لا يفيد قوله: أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال.
البحث الثالث: وصف الضلال بالمبين قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال.
البحث الرابع: قد ذكرنا أن قوله: * (في ضلال) * يفيد كونه مغمورين فيه غائصين، وقوله في مواضع * (على بينة) * (الأنعام: 57) و * (على هدى) * (البقرة: 5) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه.
وأما المعنوية: فهي أنهم إنما وصفوا الذين آمنوا بكونهم في ضلال مبين لكونهم ظانين أن المؤمن كلامه متناقض ومن تناقض كلامه يكون في غاية الضلال، إنما قلنا ذلك لأنهم قالوا: * (أنطعم من
85

لو يشاء الله أطعمه) * إشارة إلى أن الله إن شاء أن يطعمهم كان يطعمهم فلا تدر على إطعامهم لأنه يكون تحصيلا للحاصل، وإن لم يشأ الله إطعامهم لا يقدر أحد على إطعامهم لامتناع وقوع ما لم يشأ الله فلا قدرة لنا على الإطعام، فكيف تأمرونا بالإطعام ووجه آخر: وهو أنهم قالوا أراد الله تجويعهم فلو أطعمناهم يكون ذلك سعيا في إبطال فعل الله وأنه لا يجوز وأنتم تقولون أطعموهم فهو ضلال ولم يكن في الضلال إلا هم حيث نظروا إلى المراد ولم ينظروا إلى الطلب والأمر، وذلك لأن العبد إذا أمره السيد بأمر لا ينبغي أن يكشف سبب الأمر والإطلاع على المقصود الذي أمر به لأجله. مثاله: الملك إذا أراد الركوب للهجوم على عدوه بحيث لا يطلع عليه أحد وقال لعبده أحضر المركوب، فلو تطلع واستكشف المقصود الذي لأجله الركوب لنسب إلى أنه يريد أن يطلع عدوه على الحذر منه وكشف سره، فالأدب في الطاعة وهو اتباع الأمر لا تتبع المراد، فالله تعالى إذا قال: أنفقوا مما رزقكم لا يجوز أن يقولوا: لم لم يطعمهم الله مما في خزائنه. ثم قال تعالى:
* (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) *
وهو إشارة إلى ما اعتقدوه وهو أن التقوى المأمور بها في قوله: * (وإذا قيل لهم اتقوا) * (يس: 45) والإنفاق المذكور في قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم أنفقوا)
* (يس: 47) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له وقوله: * (متى هذا الوعد) * أي متى يقع الموعود به، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وهي أن إن للشرط وهي تستدعي جزاء ومتى استفهام لا يصلح جزاء فما الجواب؟ نقول هي في الصورة استفهام، وفي المعنى إنكار كأنهم إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا متى يكون.
المسألة الثانية: الخطاب مع من في قولهم: * (إن كنتم) *؟ نقول الظاهر أنه مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة قالوا إن كنتم يا أيها المدعوون للرسالة صادقين فأخبرونا متي يكون.
المسألة الثالثة: ليس في هذا الموضع وعد فالإشارة بقوله: * (هذا الوعد) * إلى أي وعد؟ نقول هو ما في قوله تعالى: * (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) * (يس: 45) من قيام الساعة، أو نقول هو معلوم وإن لم يكن مذكورا لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب.
* (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون * فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) *
ثم قال تعالى: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) * أي لا ينتظرون إلا الصحية المعلومة والتنكير للتكثير، فإن قيل هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها، فنقول الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه فإنهم لا يقولون أو نقول لما لم يكن قوله متى استفهاما حقيقا قال ينتظرون انتظارا غير حقيقي، لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظرا إلى قوله. وقد ذكروا ههنا في الصيحة أمورا تدل على
86

هولها وعظمها أحدها: التنكير يقال لفلان مال أي كثير وله قلب أي جريء وثانيها: واحدة أي لا يحتاج معها إلى ثانية وثالثها: تأخذهم أي تعمهم بالأخذ وتصل إلى من في مشارق الأرض ومغاربها، ولا شك أن مثلها لا يكون إلا عظيما. وقوله: * (تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) *، مما يعظم به الأمر لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف المنتظر للصيحة، فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيحاف أعظم، ويحتمل أن يقال: * (يخصمون) * في البعث ويقولون لا يكون ذلك أصلا فيكونون غافلين عنه بخلاف من يعتقد أنه يكون فيتهيأ له وينتظر وقوعه فإنه لا يرتجف وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء) * (الزمر: 68) ممن اعتقد وقوعها فاستعد لها، وقد مثلنا ذلك فيمن شام برقا وعلم أن سيكون رعد ومن لم يشمه ولم يعلم ثم رعد الرعد ترى الشائم العالم ثابتا والغافل الذاهل مغشيا عليه، ثم بين شدة الأخذ وهي بحيث لا تمهلهم إلى أن يوصوا. وفيه أمور مبينة للشدة أحدها: عدم الاستطاعة فإن قول القائل فلأن في هذا الحال لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية لأن من لا يوصي قد يستطيعها الثاني: التوصية وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال: لا يستطيعون كلمة فكيف فعلا يحتاج إلى زمان طويل من أداء الواجبات ورد المظالم الثالث: اختيار التوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس الرابع: التنكير في التوصية للتعميم أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة، ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز من غيرها الخامس: قوله: * (ولا إلى أهلهم يرجعون) * بيان لشدة الحاجة إلى التوصية لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها، وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلا بد له من التوصية، فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة.
وفي قوله: * (ولا إلى أهلهم يرجعون) * وجهان أحدهما: ما ذكرنا أنهم يقطعون بأنهم لا يمهلون إلى أن يجتمعوا بأهالهيم وذلك يوجب الحاجة إلى التوصية وثانيهما: أنهم إلى أهلم لا يرجعون، يعني يموتون ولا رجوع لهم إلى الدنيا، ومن يسافر سفرا ويعلم أنه لا رجوع له من ذلك السفر ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى يأتي بالوصية. ثم بين ما بعده بالصيحة الأول فقال:
* (ونفخ فى الصور فإذا هم من الاجداث إلى ربهم ينسلون) *
87

أي نفخ فيه (مرة) أخرى كما قال تعالى: * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال تعالى في موضع آخر: * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * وقال ههنا: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين: * (فإذا هم) * يقتضي أن يكون معا نقول الجواب: عنه من وجهين أحدهما: أن القيام لا ينافي المشي السريع لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر وثانيهما: أن السرعة مجئ الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل: مكر مفر مقبل مدبر معا * كجلمود صخر حطه السيل من عل
المسألة الثانية: كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الأحياء والإماتة؟ نقول لا مؤثر غير الله والنفخ علامة، ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق، وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلا وانتقالا للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعدن الافتراق تجتمع.
المسألة الثالثة: ما التحقيق في إذا التي للمفاجأة؟ نقول هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفا للشيء معلوما كونه ظرفا، فعند الكلام يعلم كونه ظرفا وعن المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك، فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد، وأما إذا قلت خرجت فإذا أسد بالباب كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب. لكنه لم يكن معلوما فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفا له مفاجأة عند الإحساس فقيل إذا للمفاجأة.
المسألة الرابعة: أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزت الصيحة الجبال؟ نقول يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو
جدثه.
المسألة الخامسة: الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدم ذكر الكافر ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظا دالا على الهيبة هل يكون أليق أم لا؟ قلنا: هذا اللفظ أحسن ما يكون، لأن من أساء واضطر إلى التوجه من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألما وأكثر ندما من غيره.
المسألة السادسة: المسئ إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلا ويؤخر أخرى، والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك؟ نقول: ينسلون من غير اختيارهم، وقد ذكرنا في تفسير قوله: * (فإذا هم ينظرون) * (الصافات: 19) أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ينفخ في الصور، فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد، فقوله: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذا الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب.
88

ثم قال تعالى:
* (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) *
يعني لما بعثوا قالوا ذلك، لأن قوله: * (ونفخ في الصور) * (يس: 51) يدل على أنهم بعثوا وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لو قال قائل: لو قال الله تعالى فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون: يا ويلنا كان أليق، نقول معاذ الله، وذلك لأن قوله: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) * (يس: 51) على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاءهم ويؤلفها ويحييها ويحركها، بحيث يقع نسلانهم في وقت النفخ، مع أن ذلك لا بد له من الجمع والتأليف، فلو قال يقولون، لكان ذلك مثل الحال لينسلون، أي ينسلون قائلين يا ويلنا وليس كذلك، فإن قولهم يا ويلنا قبل أن ينسلوا، وإنما ذكر النسلان لما ذكرنا من الفوائد.
المسألة الثانية: لو قال قائل: قد عرفنا معنى النداء في مثل يا حسرة ويا حسرتا ويا ويلنا، ولكن ما الفرق بين قولهم وقول الله حيث قال: * (يا حسرة على العباد) * (يس: 30) من غير إضافة، وقالوا: يا حسرتا ويا حسرتنا ويا ويلنا؟ نقول حيث كان القائل هو المكلف لم يكن لأحد علم إلا بحالة أو بحال من قرب منه، فكان كل واحد مشغولا بنفسه، فكان كل واحد يقول: يا حسرتنا ويا ويلنا، فقوله: * (قالوا يا ويلنا) * أي كل واحد قال يا ويلي، وأما حيث قال الله قال على سبيل العموم لشمول علمه بحالهم.
المسألة الثالثة: ما وجه تعلق: * (من بعثنا من مرقدنا) * بقولهم: * (يا ويلنا) * نقول لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل، فقالوا: يا ولينا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياما فنبهنا؟ وهذا كمال إذا يسمعون من الرسل، فقالوا: يا ويلنا من بعثنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياما فنبهنا؟ وهذا كما إذا كان إنسان موعودا بأن يأتيه عدو لا يطيقه، ثم يرى رجلا هائلا يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول: هذا ذلك أم لا؟ ويدل على ذكرنا قولهم: * (من مرقدنا) * حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياما فنبهوا أو كانوا موتى وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين، فقالوا: * (من بعثنا) * إشارة إلى ظنهم أنه بعثهم الموعود به، وقالوا: * (من مرقدنا) * إشارة إلى توهمهم احتمال الانتباه.
المسألة الرابعة: * (هذا) * إشارة إلى ماذا؟ نقول فيه وجهان أحدهما: أنه إشارة إلى المرقد كأنهم قالوا: من بعثنا من مرقدنا هذا فيكون صفة للمرقد يقال كلامي هذا صدق وثانيهما: * (هذا) * إشارة إلى البعث، أي هذا البعث ما وعد به الرحمن وصدق فيه المرسلون.
المسألة الخامسة: إذا كان هذا صفة للمرقد فكيف يصح قوله تعالى: * (ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) *؟ نقول يكون ما وعد الرحمن، مبتدأ خبره محذوف تقديره ما وعد الرحمن حق، والمرسلون صدقوا، أو يقال ما وعد الرحمن وصدق فيه المرسلون حق، والأول أظهر لقلة
89

الإضمار، أو يقال ما وعد الرحمن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو ما وعد الرحمن من البعث ليس تنبيها من النوم، وصدق المرسلون فيما أخبروكم به.
المسألة السادسة: إن قلنا: * (هذا) * إشارة إلى المرقد أو إلى البعث، فجواب الاستفهام بقولهم * (من بعثنا) * أن يكون؟ نقول: لما كان غرضهم من قولهم: * (من بعثنا) * حصول العلم بأنه بعث أو تنبيه حصل الجواب بقوله هذا بعث وعد الرحمن به ليس تنبيها، كما أن الخائف إذا قال لغيره ماذا تقول أيقتلني فلان؟ فله أن يقول لا تخف ويسكت، لعلمه أن غرضه إزالة الرعب عنه وبه يحصل الجواب. ثم قال تعالى:
* (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) *
أي ما كانت النفخة إلا صيحة واحدة، يدل على النفخة قوله تعالى: * (ونفخ في الصور) * (يس: 51) ويحتمل أن يقال إن كانت الواقعة، وقرئت الصيحة مرفوعة على أن كان هي التامة، بمعنى ما وقعت إلا صيحة، وقال الزمخشري: لو كان كذلك لكان الأحسن أن يقال: إن كان، لأنا لمعنى حينئذ ما وقع شيء إلا صيحة، لكن التأنيث جائز إحالة على الظاهر، ويمكن أن يقول الذي قرأ بالرفع أن قوله: * (إذا وقعت الواقعة) * (الواقعة: 1) تأنيث تهويل ومبالغة، يدل عليه قوله: * (ليس لوقعتها كاذبة) * (الواقعة: 2) فإنها للمبالغة فكذلك هنا قال: * (إن كانت إلا صيحة) * مؤنثة تأنيث تهويل، ولهذا جاءت أسماء يوم الحشر كلها مؤنثة كالقيامة والقارعة والحاقة والطامة والصاخة إلى غيرها، والزمخشري يقول كاذبة بمعنى ليس لوقعتها نفس كاذبة، وتأنيث أسماء الحشر لكون الحشر مسمى بالقيامة، وقوله: * (محضرون) * دل على أن كونهم * (ينسلون) * (يس: 51) إجباري لا اختياري. ثم بين ما يكون فذلك اليوم بقوله تعالى:
* (فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) *
فقوله: * (لا تظلم نفس) * ليأمن المؤمن * (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) * لييأس المجرم الكافر وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ما الفائدة في الخطاب عند الإشارة إلى يأس المجرم بقوله: * (ولا تجزون) * وترك الخطاب في الإشارة إلى أمان المؤمن من العذاب بقوله: * (لا تظلم) * ولم يقل ولا تظلمون أيها المؤمنون؟ نقول لأن قوله: * (لا تظلم نفس شيئا) * يفيد العموم وهو كذلك فإنها لا تظلم أبدا * (ولا تجزون) * مختص بالكافر، فإن الله يجزي المؤمن وإن لم يفعل فإن الله فضلا مختصا بالمؤمن وعدلا عاما، وفيه بشارة.
90

المسألة الثانية: ما المقتضى لذكر فاء التعقيب؟ نقول لما قال: * (محضرون) * (يس: 53) مجموعون والجمع للفصل والحساب، فكأنه تعالى قال إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للفصل بالعدل، فلا ظلم عند الجمع للعدل، فصار عدم الظلم مترتبا على الإحضار للعدل، ولهذا يقول القائل للوالي أو للقاضي: جلست للعدل فلا تظلم، أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه.
المسألة الثالثة: لا يجزون عين ما كانوا يعلمون، بل يجزون بما كانوا أو على ما كانوا وقوله: * (ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون) * يدل على أن الجزاء بعين العمل، لا يقال جزى يتعدى بنفسه وبالباء، يقال جزيته خيرا وجزيته بخير، لأن ذلك ليس من هذا لأنك إذا قلت جزيته بخير لا يكون الخير مفعولك، بل تكون الباء للمقابلة والسببية كأنك تقول جزيته جزاء بسبب ما فعل، فنقول الجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك إشارة على وجه المبالغة إلى عدم الزيادة وذلك لأن الشيء لا يزيد على عينه، فنقول قوله تعالى: تجزون بما كانوا يعملون في المساواة كأنه عين ما علموا يقال فلان يجاوبني حرفا بحرف أي لا يترك شيئا، وهذا يوجب اليأس العظيم الثاني: هو أن ما غير راجع إلى الخصوص، وإنما هي للجنس تقديره ولا تجزون إلا جنس العمل أي إن كان حسنة فحسنة، وإن كانت سيئة فسيئة فتجزون ما تعملون من السيئة والحسنة، وهذا كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40). ثم بين حال المحسن وقال:
* (إن أصحاب الجنة اليوم فى شغل فاكهون * هم وأزواجهم فى ظلال على الارآئك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) *
وقوله: * (في شغل) * يحتمل وجوها: أحدهما: في شغل عن هول اليوم بأخذ ما آتاهم الله من الثواب، فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب، وقوله: * (فاكهون) * يكون متمما لبيان سلامتهم فالله لو قال: في شغل جاز أن يقال هم في شغل عظم من التفكر في اليوم وأهواله، فإن من يصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره ويخبر بخسران وقع في ماله، يقول أنا مشغول من هذا بأهم منه، فقال: * (فاكهون) * أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور وثانيها: أن يكون ذلك بيانا لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء يل يكون معناه هم في عمل، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق، بل هو ملذ محبوب وثالثها: في شغل عما توقعوه فإنهم تصوروا في الدنيا أمورا وقالوا نحن إذا دخلنا الجنة لا نطلب إلا كذا وكذا، فرأوا ما لم يخطر ببالهم فاشتغلوا به، وفيه وجوه: غير هذه ضعيفة أحدها: قيل افتضاض الأبكار وهذا ما ذكرناه في الوجه الثالث أن الإنسان
91

قد يترجح في نظره الآن مداعبة الكواعب فيقول في الجنة ألتذ بها، ثم إن الله ربما يأتيه ما يشغله عنها وثانيها قيل في ضرب الأوتار وهو من قبيل ما ذكرناه توهم وثالثها في التزاور ورابعها: في ضيافة الله وهو قريب مما قلنا لأن ضيافة الله تكون بألذ مما يمكن وحينئذ تشغله تلك عما توهمه في دنياه وقوله: * (فاكهون) * خبر إن، و * (في شغل) * بيان ما فكاهتهم فيه يقال زيد على عمله مقبل، وفي بيته جالس فلا يكون الجار والمجرور خبرا ولو نصبت جالسا لكان الجار والمحرور خبرا. وكذلك لو قال في شغل فاكهين لكان معناه أصحاب الجنة مشغولون فاكهين على الحال وقرئ بالنصب والفاكه الملتذ المتنعم به ومنه الفاكهة لأنها لا تكون في السعة إلا للذة فلا تؤكل لدفع ألم الجوع، وفيه معنى لطيف. وهو أنه أشار بقوله: * (في شغل) * عن عدمهم الألم فلا ألم عندهم، ثم بين بقوله: * (فاكهون) * عن وجدانهم اللذة وعادم الألم قد لا يكون واجدا للذة. فبين أنهم على أتم حال ثم بين الكمال بقوله: * (هم وأزواجهم) * وذلك لأن من يكون في لذة قد تتنغص عليه بسبب تفكره في حال من يهمه أمره فقال: * (هم وأزواجهم) * أيضا فلا يبقى لهم تعلق قلب، وأما من في النار من أقاربهم وإخوانهم فيكونون هم عنهم في شغل، ولا يكون منهم عندهم ألم ولا يشتهون حضورهم والأزواج يحتلم وجهين: أحدهما: أشكالهم في الإحسان وأمثالهم في الإيمان كما قال تعالى: * (من شكله أزواج) * (ص: 58)، وثانيهما: الأزواج هم المفهومون من زوج المرأة وزوجة الرجل كما في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 30) وقوله تعالى: * (ويذرون أزواجا) * (البقرة: 234) فإن المراد ليس هو الإشكال، وقوله: * (في ظلال) * جمع ظل وظلل جمع ظلة والمراد به الوقاية عن مكان الألم، فإن الجالس تحت كن لا يخشى المطر ولا حر الشمس فيكون به مستعدا لدفع الألم، فكذلك لهم من ظل الله ما يقيهم الأسواء، كما قال تعالى: * (لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) * (فاطر: 35) وقال: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) إشارة إلى عدم الآلام وفيه لطيفة أيضا وهي أن حال المكلف، إما أن يكون اختلالها بسبب ما فيه من الشغل، وإن كان في مكان عال كالقاعد في حر الشمس في البستان المتنزه أو يكون بسبب المكان، وإن كان الشغل مطلوبا كملاعبة الكواعب في المكان المكشوف، وإما أن يكون بسبب المأكل كالمتفرج في البستان إذا أعوزه الطعام، وإما بسبب فقد الحبيب، وإلى هذا يشير أهل القلب في شرائط السماع بقولهم: الزمان والمكان والإخوان قال تعالى: * (في شغل فاكهون) * إشارة إلى أنهم ليسوا في تعب وقال: * (هم وأزواجهم) * إشارة إلى عدم الوحدة الموحشة وقال: * (في ظلال على الأرائك متكئون) * إشارة إلى المكان وقال: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) * إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وقوله: * (متكئون) * إشارة إلى أدل وضع على القوة والفراغة فإن القائم قد يقوم لشغل والقاعد قد يقعد لهم. وأما المتكئ فلا يتكئ إلا عند الفراغ والقدرة لأن المريض لا يقدر على الإتكاء، وإنما يكون مضطجعا أو مستلقيا والأرائك جمع أريكة. وهي السرير الذي عليه الفرش وهو تحت الحجلات فيكون مرئيا هو
92

وما فوقه وقوله: * (لهم فيها فاكهة) * إشارة إلى أن لا جوع هناك، وليس الأكل لدفع ألم الجوع، وإنما مأكولهم فاكهة، ولو كان لحما طريا، لا يقال قوله تعالى:
* (ولحم طير مما يشتهون) * (الواقعة: 21) يدل على التغاير وصدق الشهوة وهو الجوع لأنا نقول قوله: * (مما يشتهون) * يؤكد معنى عدم الألم لأن أكل الشيء قد يكون للتداوي من غير شهوة فقال مما يشتهون لأن لحم الطير في الدنيا يؤكل في حالتين إحداهما: حالة التنعم والثانية: حالة ضعف المعدة وحينئذ لا يأكل لحم طير يشتهيه، وإنما يأكل ما يوافقه ويأمره به الطبيب، وأما أنه يدل على التغاير، فنقول مسلم ذلك لأن الخاص يخالف العام، على أن ذلك لا يقدح في غرضنا، لأنا نقول إنما اختار من أنواع المأكول الفاكهة في هذا الموضع لأنها أدل على التنعم والتلذذ وعدم الجوع والتنكير لبيان الكمال، وقد ذكرناه مرارا وقوله: * (لهم فيها فاكهة) * ولم يقل يأكلون، إشارة إلى كون زمام الاختيار بيدهم وكونهم مالكين وقادرين وقوله: * (ولهم ما يدعون) * فيه وجوه: أحدها لهم فيها ما يدعون لأنفسهم أي دعاؤهم مستجاب، وحينئذ يكون هذا افتعالا بمعنى الفعل كالاحتمال بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحيل، وعلى هذا فليس معناه أنهم يدعون لأنفسهم دعاء فيستجاب دعاؤهم بعد الطلب بل معناه ولهم ما يدعون لأنفسهم أي ذلك لهم فلا حاجة لهم إلى الدعاء والطلب، كما أن الملك إذا طلب منه مملوكه شيئا يقول لك ذلك فيفهم منه تارة أن طلبك مجاب وأن هذا أمر هين بأن تعطي ما طلبت، ويفهم تارة منه الرد وبيان أن ذلك لك حاصل فلم تطلبه فقال تعالى: ولهم ما يدعون ويطلبون فلا طلب لهم وتقريره هو أن يكون ما يدعون بمعنى ما يصح أن يطلب ودعى يعني كل ما يصح أن يطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب، أو نقول المراد الطلب والإجابة وذلك لأن الطلب من الله أيضا فيه لذة فلو قطع الله الأسباب بينهم وبينه لما كان يطيب لهم فأبقى أشياء يعطيهم إياها عند الطلب ليكون لهم عند الطلب لذة وعند العطاء، فإن كون المملوك بحيث يتمكن من أن يخاطب الملك في حوائجه منصب عظيم، والملك الجبار قد يدفع حوائج المماليك بأسرها قصدا منه لئلا يخاطب الثاني: ما يدعون ما يتداعون وحينئذ يكون افتعالا بمعنى التفاعل كالاقتتال بمعنى التقاتل، ومعناه ما ذكرناه أن كل ما يصح أن يدعو أحد صاحبه إليه أو يطلبه أحد من صاحبه فهو حاصل لهم الثالث: ما يتمنونه الرابع: بمعنى الدعوى ومعناه حينئذ أنهم كانوا يدعون في الدنيا أن لهم الله وهو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم. فقال لهم في الجنة ما يدعون به في الدنيا، فتكون الحكاية محكية في الدنيا، كأنه يقول في يومنا هذا لكن أيها المؤمنون غدا ما يدعون اليوم، لا يقال بأن قوله: * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال) * يدل على أن القول يوم القيامة لأنا نقول الجواب عنه عن وجهين أحدهما: أن قوله: * (هم) * مبتدأ * (وأزواجهم) * عطف عليهم فيحتمل أن يكون هذا الكلام في يومنا هذا يخبرنا أن المؤمن وأزواجه في ظلال غدا وله ما يدعيه الجواب الثاني:
93

وهو أولى وهو أن نقول: معناه لهم ما يدعون أي ما كانوا يدعون. لا يقال بأنه إضمار حيث لا ضرورة وإنه غير جائز لأنا نقول على ما ذكرنا يبقى الإدعاء مستعملا في معناه المشهور لأن الدعاء هو الإتيان بالعدوى وإنما قلنا إن هذا أولى لأن قوله: * (سلام قولا من رب رحيم) * (يس: 58) هو في دار الآخرة وهو كالتفسير لقوله: * (ما يدعون) * ولأن قوله: * (ما يدعون) * مذكور بين جمل كلها في الآخرة فما يدعون أيضا ينبغي أن يكون في الآخرة وفي الآخرة لا يبقى دعوى وبينة لظهور الأمور والفصل بين أهل البثور والحبور. وقوله تعالى:
* (سلام قولا من رب رحيم) *
هو أكمل الأشياء وهو آخرها الذي لا شيء فوقه ولنبينه في مسائل:
المسألة الأولى: ما الرافع لقوله * (سلام) *؟ نقول يحتمل ذلك وجوها أحدها: هو بدل مما يدعون كأنه تعالى لما قال: * (لهم ما يدعون) * (يس: 57) بينه ببدله قال لهم سلام فيكون في المعنى كالمبتدأ الذي خبره جار ومجرور، كما يقال في الدار رجل ولزيد مال، وإن كان في النحو ليس كذلك بل هو بدل وبدل النكرة هو المعرفة جائز فتكون ما بمعنى الذي معرفة وسلام نكرة، ويحتمل على هذا أن يقال ما في قوله تعالى: * (ما يدعون) * لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدعون ثم بين بذكر البدل فقال: * (سلام) * والأول هو الصحيح وثانيها سلام خبر ما ولهم لبيان الجهة تقديره ما يدعون سالم لهم أي خالص والسلام بمعنى السالم الخالص أو السليم يقال عبد السلام أي سليم من العيوب كما يقال لزيد الشرف متوفر والجار والمجرور يكون لبيان من له ذلك والشرف هو المبتدأ ومتوفر خبره وثالثها قوله تعالى: * (سلام) * منقطع عما تقدم وسلام مبتدأ وخبره محذوف تقديره سلام عليهم فيكون ذلك إخبارا من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال: * (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل) * (يس: 55) ثم لما بين كمال حالهم قال سلام عليهم، وهذا كما في قوله تعالى: * (سلام على نوح) * (الصافات: 79) * (سلام على المرسلين) * (الصافات: 181) فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه منقول، أو نقول تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال لهم كذا وكذا، ثم قال سلام عليكم.
المسألة الثانية: * (قولا) * منصوب بماذا؟ نقول يحتمل وجوها أحدها: نصب على المصدر تقديره على قولنا المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله الله قولا أو تقوله الملائكة قولا وعلى قولنا ما يدعون سالم لهم تقديره قال الله ذلك قولا ووعدهم بأن لهم ما يدعون سالم وعدا وعلى قولنا سلام عليهم تقديره أقوله قولا وقوله: * (من رب رحيم) * يكون لبيان أن السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولا، ويحتمل أن يقال على هذا إنه تمييز لأن السلام قد يكون قولا وقد
94

يكون فعلا فإن من يدخل على الملك فيطأطئ رأسه يقول سلمت على الملك، وهو حينئذ كقول القائل البيع موجود حكما لا حسا وهذا ممنوع عنه قطعا لا ظنا.
المسألة الثالثة: قال في السلام * (من رب رحيم) * وقال في غيره من أنواع الإكرام * (نزلا من غفور رحيم) * (فصلت: 32) فهل بينهما فرق؟ نقول نعم، أما هناك فلأن النزل ما يرزق النزيل أولا، وذلك وإن كان يدل عليه ما بعده فإن النزيل إذا أكرم أو لا يدل على أنه مكرم وإذا أخل بإكرامه في الأول يدل على أنه مهان دائما غير أن ذلك غير مقطوع به، لجواز أن يكون الملك واسع الرزق فيرزق نزيله أولا ولا يمنع منه الطعام والشراب ويناقشه في غيره فقال غفور لما صدر في العبيد ليأمن العبد ولا يقول بأن الإطعام قد يوجد ممن يعاقب بعده والسلام يظهر مزية تعظيمه للمسلم عليه لا بمغفرة فقال: * (رب غفور) * لأن رب الشيء مالكه الذي إذا
نظر إلى علو مرتبته لا يرجى مه الالتفات إليه بالتعظيم، فإذا سلم عليه يعجب منه وقيل انظر هو سيده ويسلم عليه. ثم قال تعالى:
* (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) *
وفيه وجوه منها تبيين وجه الترتيب أيضا الأول: امتازوا في أنفسكم وتفرقوا كما قال تعالى: * (تكاد تميز من الغيظ) * (الملك: 8) أي بعضه من بعض غير أن تميزهم من الحسرة والندامة ووجه الترتيب حينئذ أن المجرم يرى منزلة المؤمن ورفعته ونزول دركته وضعته فيتحسر فيقال لهم امتازوا اليوم إذ لا دواء لألمكم ولا شفا لسقمكم الثاني: امتازوا عن المؤمنين وذلك لأنهم يكونون مشاهدين لما يصل إلى المؤمن من الثواب والإكرام ثم يقال لهم تفرقوا وادخلوا مساكنكم من النار فلم يبق لكم اجتماع بهم أبدا الثالث: امتازوا بعضكم عن بعض على خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان الذي أشار إليه بقوله تعالى: * (هم وأزواجهم) * (يس: 56) فأهل النار يكون لهم العذاب الأليم وعذاب الفرقة أيضا ولا عذاب فوق الفرقة، بل العقلاء قالوا بأن كل عذاب فهو بسب تفرق اتصال، فإن من قطعت يده أن أحرق جسمه فإنما يتألم بسبب تفرق المتصلات بعضها عن بعض، لكن التفرق الجسمي دون التفرق العقلي الرابع: امتازوا عن شفعائكم وقرنائكم فما لكم اليوم حميم ولا شفيع الخامس: امتازوا عما ترجون واعتزلوا عن كل خير، والمجرم هو الذي يأتي بالجريمة، ويحتمل أن يقال إن المراد منه أن الله تعالى يقول امتازوا فيظهر عليهم سيما يعرفون بها، كما قال تعالى: * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) وحينئذ يكون قوله تعالى امتازوا أمر تكوين، كما أنه يقول: كن فيكون كذلك يقول امتازوا فيتميزون بسيماهم ويظهر على جباههم أو في وجوههم سواء.
95

ثم قال تعالى:
* (ألم أعهد إليكم يابنى ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) *
لما ذكر الله تعالى حال المؤمنين والمجرمين كان لقائل أن يقال: إن الإنسان كان ظلوما جهولا، والجهل من الأعذار، فقال الله ذلك عند عدم الإنذار، وقد سبق إيضاح السبل بإيضاح الرسل، وعهدنا إليكم وتلونا عليكم ما ينبغي أن تفعلوه وما لا ينبغي، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في اللغات التي في * (أعهد) * وهي كثيرة الأولى: كسر همزة إعهد وحروف الاستقبال كلها تكسر إلا الياء فلا يقال يعلم ويعلم الثانية: كسر الهاء من باب ضرب يضرب الثالثة: قلب العين جيما ألم أجهد وذلك في كل عين بعدها هاء الرابعة: إدغام الهاء في الحاء بعد القلب فيقال ألم أحد، وقد سمع قوم يقولون دحاء محا، أي دعها معها.
المسألة الثانية: في معنى أعهد وجوه أقربها وأقربها ألم أوص إليكم.
المسألة الثالثة: في هذا العهد وجوه الأول: أنه هو العهد الذي كان مع أبينا آدم بقوله: * (وعهدنا إلى آدم) * (طه: 115) الثاني: أنه هو الذي كان مع ذرية آدم بقوله تعالى: * (ألست بربكم قالوا بلى) * (الأعراف: 172) فإن ذلك يقتضي أن لا نعبد غير الله الثالث: هو الأقوى، أن ذلك كان مع كل قوم على لسان رسول، ولذلك اتفق العقلاء على أن الشيطان يأمر بالشر، وإن اختلفوا في حقيقته وكيفيته. المسألة الرابعة: قوله: * (لا تعبدوا الشيطان) * معناه لا تطيعوه، بدليل أن المنهي عنه ليس هو السجود له فحسب، بل الانقياد لأمره والطاعة له فالطاعة عبادة، لا يقال فنكون نحن مأمورين بعبادة الأمراء حيث أمرنا بطاعتهم في قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (النساء: 59) لأنا نقول طاعتهم إذا كانت بأمر الله، لا تكون إلا عبادة لله وطاعة له، وكيف لا ونفس السجود والركوع للغير إذا كان بأمر الله لا يكون إلا عبادة لله، ألا ترى أن الملائكة سجدوا لآدم ولم يكن ذلك إلا عبادة لله، وإنما عبادة الأمراء هو طاعتهم فيما لم يأذن الله فيه، فإن قيل بماذا تعلم طاعة الشيطان من طاعة الرحمن، مع أنا لا نسمع من الشيطان خبرا ولا نرى منه أثرا؟ نقول عبادة الشيطان في مخالفة أمر الله أو الإتيان بما أمر الله لا لأنه أمر به، ففي بعض الأوقات يكون الشيطان يأمرك وهو في غيرك، وفي بعض الأوقات يأمرك وهو فيك، فإذا جاءك شخص يأمرك بشيء، فانظر إن كان ذلك موافقا لأمر الله أو ليس موافقا، فإن لم يكن موافقا فذلك الشخص مع الشيطان يأمرك بما يأمرك به، فإن أطعته فقد عبدت الشيطان، وإن دعتك نفسك إلى فعل فانظر أهو مأذون فيه من جهة الشرع أو ليس كذلك، فإن لم يكن مأذونا فيه فنفسك في الشيطان، أو معها الشيطان يدعوك، فإن اتبعته فقد عبدته، ثم إن الشيطان يأمر أولا بمخالفة
96

الله ظاهرا، فمن أطاعه فقد عبده ومن لم يطعه فلا يرجع عنه، بل يقول له أعبد الله كي لا تهان، وليرتفع عند الناس شأنك، وينتفع بك إخوانك وأعوانك، فإن أجاب إليه فقد عبده لكن عبادة الشيطان على تفاوت، وذلك لأن الأعمال منها ما يقع والعامل موافق فيه جنانه ولسانه وأركانه، ومنها ما يقع والجنان واللسان مخالف للجوارح أو للأركان، فمن الناس من يرتكب جريمة كارها بقلبه لما يقترف من ذنبه، مستغفرا لربه، يعترف بسوء ما يقترف فهو عبادة الشيطان بالأعضاء الظاهرة، ومنهم من يرتكبها وقلبه طيب ولسانه رطب، كما أنه تجد كثيرا من الناس يفرح بكون مترددا إلى أبواب الظلمة للسعاية، ويعد من المحاسن كونه ساريا مع الملوك ويفتخر به بلسانه، وتجدهم يفرحون بكونهم آمرين الملك بالظلم والملك ينقاد لهم، أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون، فرحين بما وعد عليهم منا لأمر، إذا عرفت هذا فالطاعة التي لهم، أو يفرحون بكونه يأمرهم بالظلم فيظلمون، فرحين بما ورد عليه من الأمر، إذا عرفت هذا فالطاعة التي بالأعضاء الظاهرة، والبواطن طاهرة مكفرة بالأسقام والآلام، كما ورد في الأخبار، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " الحمى من فيح جهنم " وقوله صلى الله عليه وسلم: " السيف محاء للذنوب "، أي لمثل هذا الذنوب، ويدل عليه ما قال صلى الله عليه وسلم في الحدود " إنها كفارات " وما يكون بالقلوب فلا خلاص عنه إلا بالتوبة والندم وإقبال القلب على الرب، وما يكون باللسان فهو من قبيل ما يكون بالقلب في الظاهر، والمثال يوضح الحال فنقول إذا كان عند السلطان أمير وله غلمان هم من خواص الأمير وأتباع بعداءهم من عوام الناس، فإذا صدر من الأمير مخالة ومسارة مع عدو السلطان ومصادقة بينهما، لا يعفو الملك عن ذلك إلا إذا كان في غاية الصفح، أو يكون للأمير عنده يد سابقة أو توبة لاحقة، فإن
صدر من خواص الأمير مخالفة وهو به عالم ولم يزجره، عدت المخالفة موجودة منه، وإن كان كارها وأظهر الإنكار حسنت معاتبته دون معاقبته، لأن إقدام خواصه على المخالفة دليل على سوء التربية، فإن كان الصادر من الحواشي الأباعد وبلغ الأمير ولم يزجره عوتب الأمير، وإن زجرهم استحق الأمير بذلك الزجر الإكرام، وحسن من الملك أن يسدي إلى المزجور الإحسان والإنعام إن علم حصول انزجاره، إذا علمت هذا فالقلب أمير واللسان خاصته والأعضاء خدمه، فما يصدر من القلب فهو العظيم من الذنب، فإن أقبل على محبة غير الله فهو الويل العظيم والضلال المبين المستعقب للعقاب الأليم والعذاب المهين، وما يصدر من اللسان فهو محسوب على القلب ولا يقبل قوله إن لم ينكر فعله وما يصدر من الأعضاء والقلب قد أظهر عليه الإنكار وحصل له الانزجار فهو الذنب الذي حكى النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه قال: " لو لم تذنبوا لخلقت أقواما يذنبون ويستغفرون فأغفر لهم "، وههنا لطيفة: وهي أن الشيطان قد يرجع عن عبد من عباد الله فرحا فيظن أنه قد حصل مقصوده من الإغواء حيث يرى ذلك العبد ارتكب الذنب ظاهرا ويكون ذلك رافعا لدرجة العبد، فإن بالذنب ينكسر قلب العبد فيتخلص من الإعجاب فنفسه وعبادته، ويصير أقرب من المقربين، لأن من يذنب مقرب عند الله كما قال تعالى: * (لهم درجات عند ربهم) * (الأنفال: 4) والمذنب التائب النادم منكسر القلب والله عنده كما قال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه " أنا عند المنكسرة قلوبهم " وفرق
97

بين من يكون عند الله، وبين من يكون عنده الله، ولعل ما يحكى من الذنوب الصادرة عن الأنبياء من هذا القبيل لتحصل لهم الفضيلة على الملائكة حيث تبجحوا بأنفسهم بقولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) وقد يرجع الشيطان عن آخر يكون قد أمر بشيء فلم يفعله والشخص يظن أنه غلب الشيطان ورده خائبا فيتبجح في نفسه وهو لا يعلم أن الشيطان رجح عنه محصل المقصود مقبولا غير مردود. ومن هذا يتبين أمر أصولي وهو أن الناس اختلفوا في أن المذنب هل يخرج من الإيمان أم لا؟ وسبب النزاع وقوع نظر الخمصين على أمرين متباينين فالذنب الذي بالجسد لا بالقلب لا يخرج بل قد يزيد في الإيمان والذي بالقلب يخاف منه الخروج عن ربقة الإيمان ولذلك اختلفوا في عصمة الأنبياء من الذنوب، والأشبه أن الجسدي جائز عليهم والقرآن دليل عليه، والقلبي لا يجوز عليهم، ثم إنه تعالى لما نهى عباده عن عبادة الشطان ذكر ما يحملهم على قبول ما أمروا به والانتهاء عما نهوا عنه بقوله: * (إنه لكم عدو مبين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من أين حصلت العداوة بين الشيطان والإنسان؟ فنقول ابتداؤها من الشيطان وسببه تكريم الله نبي آدم، لما رأى إبليس ربه كرم آدم وبنيه عاداهم فعاداه الله تعالى والأولى منه لؤم والثاني من الله كرم، أما الأول فلأن الملك إذا أكرم شخصا ولم ينقص من الآخر شيئا إذ لا ضيق في الخزانة، فعداوة من يعادي ذلك المكرم لا تكون إلا لؤما، وأما الثاني فلأن الملك إذا علم أن إكرامه ليس إلا منه وذلك لأن الضعيف ما كان يقدر أن يصل إلى بعض تلك المنزلة لولا إكرام الملك، يعلم أن من يبغضه ينكر فعل الملك أو ينسب إلى خزانته ضيقا، وكلاهما يحسن التعذيب عليه فيعاديه إتماما للإكرام وإكمالا للإفضال، ثم إن كثيرا من الناس على مذهب إبليس إذا رأوا واحدا عند ملك محترما بغضوه وسعوا فيه إقامة لسنة إبليس، فالملك إن لم يكن متخلقا بأخلاق الله لا يبعد الساعي ويسمع كلامه ويترك إكرام ذلك الشخص واحترامه.
المسألة الثانية: من أين إبانة عداوة إبليس؟ نقول لما أكرم الله آدم عاده إبليس وظن أنه يبقى في منزلته وآدم في منزلته مثل متباغضين عند الملك والله كان عالما بالضمائر فأبعده وأظهر أمره فأظهر هو من نفسه ما كان يخفيه لزوال ما كان يحمله على الإخفاء فقال: * (لأقعدن لهم صراطك المستقيم) * (الأعراف: 16) وقال: * (لأحتنكن ذريته) * (الإسراء: 62). المسألة الثالثة: إذا كان الشيطان للإنسان عدوا مبينا فما بال الإنسان يميل إلى مراضيه من الشرب والزنا، ويكره مساخطه من المجاهدة والعبادة؟ نقول سبب ذلك استعانة الشيطان بأعوان من عند الإنسان وترك استعانة الإنسان بالله، فيستعين بشهوته التي خلقها الله تعالى فيه لمصالح بقائه وبقاء نوعه ويجعلها سببا لفساد حالة ويدعوه بها إلى مسالك المهالك، وكذلك يستعين بغضبه الذي خلقه الله لدفع المفاسد عنه ويجعله سببا لوبالة وفساد أحواله، وميل الإنسان إلى المعاصي كيل المريض إلى المضار وذلك حيث ينحرف المزاج عن الاعتدال، فترى المحموم يريد الماء البارد
98

وهو يريد في مرضه. ومن به فساد المعدة فلا يهضم القيل من الغذاء يميل إلى الأكل الكثير ولا يشبع بشيء وهو يزيد في معدته فسادا، وصحيح المزاج لا يشتهي إلا ما ينفعه فالدنيا كالهواء الوبئ لا يستغني الإنسان فيه عن استنشاق الهواء وهو المفسد لمزاجه ولا طريق له غير إصلاح الهواء بالروائح الطيبة والأشياء الزكية والرش بالخل والماورد من جملة المصلحات، فكذلك الإنسان في الدنيا لا يستغني عن أمورها وهي المعنيات للشيطان وطريقه ترك الهوى تقليل التأمين وتحريف الهوى بالذكر الطيب والزهد، فإذا صح مزاج عقله لا يميل إلا إلى الحق ولا يبقى عليه في التكاليف كلفة ويحصل له مع الأمور الإلهية ألفة، وهنالك يعترف الشيطان بأنه ليس له عليه سلطان. ثم قال تعالى:
* (وأن اعبدونى هذا صراط مستقيم) *
لما منع عبادة الشيطان حمل على عبادة الرحمن والشارع طبيب الأرواح كما أن الطبيب طبيب الأشباح، وكما أن الطبيب يقول للمريض لا تفعل كذا ولا تأكل من ذا وهي الحمية التي هي رأس الدواء لئلا يزيد مرضه، ثم يقول له تناول الدواء الفلاني تقوية لقوته المقاومة للمرض، كذلك الشارع منع من المفسد وهو اتباع الشيطان وحمل على المصالح وهو عبادة الرحمن وفيه مسائل:
المسألة الأولى: عند المنع من عبادة الشيطان قال: * (إنه لكم عدو مبين) * (يس: 60) لأن العداوة أبلغ الموانع من الاتباع، وعند الأمر بعبادة الرحمن لم يقل إنه لكم حبيب لأن المحبة لا توجب متابعة المحبوب بل ربما يورث ذلك الاتكال على المحبة. فيقول إنه يحبني فلا حاجة إلى تحمل المشقة في تحصيل مراضيه، بل ذكر ما هو أبلغ الأشياء في الحمل على العبادة وذلك كونه طريقا مستقيما، وذلك لأن الإنسان في دار الدنيا في منزل قفر مخوف وهو متوجه إلى دار إقامة فيها إخوانه، والنازل
في بادية خالية يخاف على روحه وماله ولا يكون عنده شيء أحب من طريق قريب آمن، فلما قال الله تعالى: * (هذا صراط مستقيم) * كان ذلك سببا حاثا على السلوك، وفي ضمن قوله تعالى: * (هذا صراط) * إشارة إلى أن الإنسان مجتاز لأنه لو كان في دار إقامة فقوله: * (هذا صراط مستقيم) * لا يكون له معنى لأن المقيم يقول وماذا أفعل بالطريق وأنا من المقيمين.
المسألة الثانية: ماذا يدل على كونه طريقا مستقيما؟ نقول الإنسان مسافر إما مسافرة راجع إلى وطنه، وإما مسافرة تاجر له متاع يتجر فيه، وعلى الوجهين فالله هو المقصد، وأما الوطن فلأنه لا يوطن في مأمن ولا أمن إلا بملك لا يزول ملكه لأن عند زوال ملك الملوك لا يبقى الأمن والراحة، والله سبحانه هو الذي ملكه دائم وكل ما عداه فهو فان، وأما التجارة فلأن التاجر لا يقصد إلا إلى موضع يسمع أو يعلم أن لمتاعه هنا رواجا والله تعالى يقول إن العمل الصالح
99

عنده مثاب عليه مقابل بأضعاف ما يستحق، والله عون المقصد، وعبادته توجه إليه، ولا شك أن القاصد لجهة إذا توجه إليها يكون على الطريق المستقيم.
المسألة الثالثة: العبادة تنبئ عن معنى التذلل، فلما قال لا تعبدوا الشيطان لزم أن يتكبر الإنسان على ما سوى الله ولما قال: * (وأن اعبدوني) * ينبغي أن لا يتكبر على الله لكن التكبر على ما سوى الله ليس معناه أن يرى نفسه خيرا من غيره، فإن نفسه من جملة ما سوى الله، فينبغي أن لا يلتفت إليها ولو كانت متجملة بعبادة الله، بل معنى التكبر على ما سوى الله أن لا ينقاد لشيء إلا بإذن الله وفي هذا التكبر غاية التواضع فإنه حينئذ لا ينقاد إلى نفسه وحظ نفسه في التفوق على غيره فلا يتفوق فيحصل التواضع التام ولا ينقاد لأمر الملوك إذا خالفوا أمر الله فيحصل التكبر التام فيرى نفسه بهذا التكبر دون الفقير وفوق الأمير.
* (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الجبل ست لغات كسر الجيم والباء مع تشديد اللام وضمهما مع التشديد وكسرهما مع التخفيف وضمهما معه وتسكين الباء وتخفيف اللام مع ضم الجيم ومع كسره.
المسألة الثانية: في معنى الجبل الجيم والباء واللام لا تخلو عن معنى الاجتماع والجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة، وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير، لا يقال البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنا نقول هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات، فإن البلجة والبلدة بمعنى والبلد سمي بلدا للاجتماع لا للتفرق، فالجبل الجمع العظيم حتى قيل إن دون العشرة آلاف لا يكون جبلا وإن لم يكن صحيحا.
والمسألة الثالثة: كيف الإضلال؟ نقول على وجهين: أحدهما: أن الإضلال توليه عن المقصد وصد عنه فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة الله وبعبادة غيره فهو توليه فإن لم يقدر يأمره بعبادة الله لأمر غير الله من رياسة وجاه غيرهما فهو صد، وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك الله وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية.
ثم بين مآل أهل الضلال بقوله تعالى:
* (هذه جهنم التى كنتم توعدون) *
وحال الضال كحال شخص خرج من وطنه مخافة عدوه فوقع في مشقة ولو أقام في وطنه لعل
100

ذلك العدو كان لا يظفر به أو يرحمه، كذلك حال من لم يتحرك لطاعة ولا عصيان كالمجانين وحال من استعمال عقله فأخطأ الطريق، فإن المجنون من أهل النجاة وإن لم يكن من أهل الدرجات، وقد قيل بأن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، وذلك ظاهر في المحسوس فإن من لم يعرف الطريق إذا أقام بمكانه لا يبعد عن الطريق كثيرا ومن سار إلى خلاف المقصد يبعد عنه كثيرا.
ثم بين أنهم واصلون إليها حاصلون فيها بقوله تعالى:
* (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) *
وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه أحدها: قوله تعالى: * (اصلوها) * فإنه أمر تنكيل وإهانة كقوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49)، والثاني: قوله: * (اليوم) * يعني العذاب حاضر ولذاتك قد مضت وأيامها قد انقضت وبقي اليوم العذاب الثالث: وقوله تعالى: * (بما كنتم تكفرون) * فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت يكفر بها وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام. ولهذا كثيرا ما يقول العبد المجرم افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه وإلى هذا المعنى أشار القائل: أليس بكاف لذي نعمة حياء المسئ من المحسن
ثم قال تعالى:
* (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) *
في الترتيب وجوه الأول: أنهم حين يسمعون قوله تعالى: * (بما كتم تكفرون) * (يس: 64) يريدون (أن) ينكروا كفرهم كما قال تعالى عنهم ما أشركنا وقالوا آمنا به فيختم الله على أفواههم فلا يقدرون على الإنكار وينطق الله غير لسانه منا لجوارح فيعترفون بذنوبهم الثاني: لما قال الله تعالى لهم: * (ألم أعهد إليكم) * (يس: 60) لم يكن لهم جواب فسكتوا وخرسوا وتكلمت أعضاؤهم غير اللسان، وفي الختم على الأفواه وجوه: أقواها، أن الله تعالى يسكت ألسنتهم فلا ينطقون بها وينطق جوارحهم فتشهد عليهم، وإنه في قدرة الله يسير، أما الإسكات فلا خفاء فيه، وأما الإنطاق فلأن اللسان عضو متحرك بحركة مخصوصة فكما جاز تحركه بها جاز
تحري غيره بمثلها والله قادر على الممكنات والوجه الآخر أنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانتهاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليؤوس لا يجد عذرا فيعتذر ولا مجال توبة فيستغفر، وتكلم الأيدي ظهور الأمور بحيث لا يسع معه الإنكار حتى تنطق به الأيدي والأبصار، كم يقال القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار، إشارة إلى ظهور الحزن، والأول الصحيح وفيه لطائف لفظية ومعنوية.
أما اللفظية فالأولى منها: هي أن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه وقال: * (نختم) * وأسند
101

الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل، لأنه لو قال تعالى: نختم على أفواههم وتنطق أيديهم يكون فيه احتمال أن ذلك منهم كان جبرا وقهرا والإقرار بالإجبار غير مقبول قال تعالى: * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم * () * أي باختيارها بعد ما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم الثانية: منها هي أن الله تعالى قال: * (تكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) * جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي لأن الأفعال تسند إلى الأيدي قال تعالى: * (وما علمته أيديهم) * (يس: 35) أي ما عملوه وقال: * (ولا تلقوا بأيديكم) * (البقرة: 195) أي ولا تلقوا بأنفسكم فإذا الأيدي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها، وأما المعنوية فالأولى: منها أن يوم القيامة من تقبل شهادته من القربين والصديقين كلهم أعداء للمجرمين وشهادة العدو على العدو غير مقبولة، وإن كان من الشهود العدول وغير الصديقين من الكفار والفساق غير مقبول الشهادة فجعل الله الشاهد عليهم منهم، لا يقال الأيدي والأرجل أيضا صدرت الذنوب منها فهي فسقة فينبغي أن لا تقبل شهادتها، لأنا نقول في رد شهادتها قبول شهادتها، لأنها إن كذبت في مثل ذلك اليوم فقد صدر الذنب منها في ذلك اليوم، والمذنب في ذلك اليوم مع ظهور الأمور، لا بد من أن يكون مذنبا في الدنيا، وإن صدقت في ذلك اليوم فقد صدر منها الذنب في الدنيا، وهذا كمن قال لفاسق: إن كذبت في نهار هذا اليوم فعبدي حر، فقال الفاسق: كذبت في نهار هذا اليوم عتق العبد، لأنه إن صدق في قوله كذبت في نهار هذا اليوم فقد وجد الشرط ووجب الجزاء، وإن كذب في قوله كذبت فقد كذب في نهار ذلك اليوم، فوجد الشرط أيضا بخلاف ما لو قال في اليوم الثاني كذبت في نهار اليوم الذي علقت عتق عبدك على كذبي فيه.
المسألة الثانية: الختم لازم الكفار في الدنيا على قلوبهم وفي الآخرة على أفواههم، ففي الوقت الذي كان الختم على قلوبهم كان قولهم بأفواههم، كما قال تعالى: * (ذلك قولهم بأفواههم) * (التوبة: 30) فلما ختم على أفواههم أيضا لزم أن يكون قولهم بأعضائهم، لأن الإنسان لا يملك غير القلب واللسان والأعضاء، فإذا لم يبق القلب والفم تعين الجوارح والأركان. ثم قال تعالى:
* (ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون * ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) *
وقد ذكرنا مرارا أن الصراط المستقيم هو بين الجبر والقدر هو الطريقة الوسطى، والله تعالى في كل موضع ذكر ما يتمسك به المجبرة ذكر عقيبه ما يتمسك به القدرية وبالعكس، وههنا
102

كذلك لما قال الله تعالى: * (وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) * (يس: 65) وقال: * (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) * (يس: 64) وكان ذلك متمسك القدرية حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم وأحال الخير والشر عليهم، ذكر عقيبه ما يدل على أن كفرهم وكسبهم بمشيئة الله، وذلك لأن الكفر يعمي البصيرة ويضعف القوة العقلية، وعمى البصيرة بإرادة الله ومشيئته، إذا شاء أعمى البصائر، كما أنه لو شاء لطمس على أعينهم المبصرة، وسلب القوة العقلية باختياره ومشيئته، كما أن سلب القوة الجسمية بمشيئته، حتى لو شاء لمسخ المكلف على مكانته وأقامه بحيث لا يتحرك يمنة ولا يسرة، ولا يقدر على المضي والرجوع، فإعماء البصائر عنده كإعماء الأبصار، وسلب القوة العقلية كسلب القوة الجسمية، فقال: * (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) * إشارة إلى أنه لو شاء وأراد إعماء بصائرهم فضلوا، وأنه لو شاء طمس أعينهم لما اهتدوا إلى طريقتهم الظاهرة، وشاء واختار سلب قوة عقولهم فزلوا، وإنه لو شاء سلب قوة أجسامهم ومسخهم لما قدروا على تقدم ولا تأخر. وفي الآيتين أبحاث لفظية: البحث الأول: في قوله: * (فاستبقوا الصراط) * قال الزمخشري فيه وجوه الأول: أنه يكون فيه حذف حرف إلى واتصال الفعل من غير حرف وأصله فاستبقوا إلى الصراط الثاني: أن يكون المراد من الاستباق الابتدار مبالغة في الاهتداء إلى الطريق، كأنه يقول الصراط الذي هو معهم ليسوا طالبين له قاصدين إياه، وإنما هم عليه إذا همس الله على أعينهم لا يبصرونه، فكيف إن لم يكونوا على الصراط.
البحث الثاني: قدم الطمس والإعمار على المسخ والإعجاز ليكون الكلام مدرجا، كأنه قال: إن أعماهم لم يروا الطريق الذي هم عليه وحينئذ لا يهتدون إليه، فإن قال قائل: الأعمى قد يهتدي إلى الطريق بأمارات عقلية أو حسية غير حس البصر كالأصوات والمشي بحس اللمس، فارتقى وقال: فلو مسخهم وسلب قوتهم بالكلية لا يهتدون إلى الصراط بوجه من الوجوه.
البحث الثالث: قدم المضي على الرجوع، لأن الرجوع أهون من المضي، لأن المضي لا ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبئ عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رؤي مرة أهون من سلوك طريق لم ير فقال: لا يستطيعون مضيا ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي.
* (ومن نعمره ننكسه فى الخلق أفلا يعقلون) *
فقد ذكرنا أن قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم) * (يس: 60) قطع للأعذار بسبق الإنذار، ثم لما قرر ذلك
103

وأتمه شرع في قطع عذر آخر، وهو أن الكافر يقول لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا، ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا، فقال الله تعالى: * (أفلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرناكم مقدار ما تتمكنون من البحث والإدراك، كما قال تعالى: * (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) * (فاطر: 37) ثم إنكم علمتم
أن الزمان كلما يعبر علكيم يزداد ضعفكم فضيعتم زمان الإمكان، فلو عمرناكم أكثر من ذلك لكان بعده زمان الإزمان، ومن لم يأت بالواجب زمان الإمكان ما كان يأتي به زمان الإزمان.
* (وما علمناه الشعر وما ينبغى له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين) *
في الترتيب وجهان، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والحشر، ذكر الأصل الثالث منها، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر، أما الوحدانية ففي قوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) * (يس: 60) وفي قوله: * (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) * (يس: 61) وأما الحشر ففي قوله تعالى: * (اصلوها اليوم) * (يس: 64) وفي قوله: * (اليوم نختم على أفواههم) * (يس: 65) إلى غير ذلك، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * وقوله: * (وما علمناه الشعر) * إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد، وفي تفسير الآية مباحث:
البحث الأول: خص الشعر بنفي التعليم، مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر، ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة، ولم يقل وما علمناه الكهانة، فنقول: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك. وأما الشعر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن، كما قال تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) * (البقرة: 23) إلى غير ذلك، ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب، فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
البحث الثاني: ما معنى قوله: * (وما ينبغي له) * قلنا: قال قوم ما كان يتأتي له، وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفا يروي أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: " ويأتيك من لم تزود بالأخبار ". وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير
104

المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى، والشاعر: يكون المعنى منه تبعا للفظ، لأنه يقصد لفظا به يصح وزن الشعر أو قافيته فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ، وعلى هذا نقول: الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصدا أوليا، وأما من يقصد المعنى فيصدر موزونا مقفى فلا يكون شاعرا، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 92) ليس بشعر، والشاعر إذا صدر منه كلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن يكون شعرا لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك والمعنى تبعه، والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ، وعلى هذا يحصل الجواب عن قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بيت شعر وهو قوله: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
أو بيتين لأنا نقول ذلك ليس بشعر لعدم قصده إلى الوزن والقافية، وعلى هذا لو صدر من النبي صلى الله عليه وسلم كلام كثير موزون مقفى لا يكون شعرا، لعدم قصده اللفظ قصدا أوليا، ويؤيد ما ذكرنا أنك إذا تتبعت كلام الناس في الأسواق تجد فيه ما يكون موزونا واقعا في بحر من بحور الشعر ولا يسمى المتكلم به شاعرا ولا الكلام شعرا لفقد القصد إلى اللفظ أولا، ثم قوله تعالى: * (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * يحقق ذلك المعنى أي هو ذكر وموعظة للقصد إلى المعنى، والشعر لفظ مزخرف بالقافية والوزن وههنا لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من الشعر لحكمة " يعني: قد يقصد الشاعر اللفظ فيوافقه معنى حكمي كما أن الحكيم قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري، لكن الحكيم بسبب ذلك الوزن لا يصير شاعرا والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيما حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلم شعره حكمة، ونفى الله كون النبي شاعرا والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيما حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلم شعره حكمة، ونفي الله كون النبي شاعرا، وذلك لأن اللفظ قالت المعنى والمعنى: قلب اللفظ وروحه فإذا وجد القلب لا نظر إلى القالب، فيكون الحكيم الموزون كلامه حكيما، ولا يخرجه عن الحكمة وزن كلامه، والشاعر الموعظ كلامه حكيما.
* (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) *
قرئ بالتاء والياء، خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم وبالياء على وجهين أحدهما: أن يكون المنذر هو النبي صلى الله عليه وسلم حيث سبق ذكره في قوله: * (وما علمناه) * (يس: 69) وقوله: * (وما ينبغي له) * (يس: 69). وثانيهما: أن يكون المراد أن القرآن ينذر والأول أقرب إلى المعنى والثاني: أقرب إل اللفظ، أما الأول: فلأن المنذر صفة للرسل أكثر ورودا من المنذر صفة للكتب وأما الثاني: فلأن القرآن أقرب المذكورين إلى قوله: * (لينذر) * وقوله: * (من كان حيا) * أي: من
105

كان حي القلب، ويحتمل وجهين أحدهما: أن يكون المراد من كان حيا في علم الله فينذره به فيؤمن الثاني: أن يكون المراد لينذر به من كان حيا في نفس الأمر، أي: من آمن فينذره بما على المعاصي من العقاب وبما على الطاعة من الثواب * (ويحق القول على الكافرين) * أما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى: * (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * (السجدة: 13) وقوله تعالى: * (حقت كلمة العذاب) * (الزمر: 71) وذلك لأن الله تعالى قال: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب، وأما القول المقول في الوحدانية والرسالة والحشر وسائر المسائل
الأصولية الدينية فإن القرآن فيه ذكر الدلائل التي بها تثبت المطالب.
* (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينآ أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) *
ثم إنه تعالى أعاد الوحدانية ودلائل دالة عليها فقال تعالى: * (أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * أي) من جملة ما عملت أيدينا أي ما عملناه من غير معين ولا ظهير بل عملناه بقدرتنا وإرادتنا.
وقوله تعالى: * (فهم لها مالكون) * إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها.
وقوله: * (وذللناها لهم) * زيادة إنعام فإن المملوك إذا كان آبيا متمردا لا ينفع، فلو كان الإنسان يملك الأنعام وهي نادة صادة لما تم الإنعام الذي في الركوب وإن كان يحصل الأكل كما في الحيوانات الوحشية، بل ما كان يكمل نعمة الأكل أيضا إلا بالتعب الذي في الاصطياد، ولعل ذلك لا يتهيأ (إلا) للبعض وفي البعض.
وقوله تعالى: * (فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) * بيان لمنفعة التذليل إذ لولا التذليل لما وجدت إحدى المنفعتين وكانت الأخرى قليلة الوجود.
* (ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون) *
ثم بين تعالى غير الركوب والأكل من الفوائد بقوله تعالى: * (ولهم فيها منافع ومشارب) * وذلك لأن من الحيوانات ما لا يركب كالغنم فقال: منافع لتعمها والمشارب كذلك عامة، إن قلنا بأن المراد جمع مشرب وهو الآنية فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها، وإن قلنا: إن المراد المشروب وهو الألبان والأسمان فهي مختصة بالإناث ولكن بسبب الذكور فإن ذلك متوقف على الحمل وهو بالذكور والإناث.
ثم قال تعالى: * (أفلا يشكرون) * هذه النعم التي توجب العبادة شكرا، ولو شكرتم لزادكم
106

من فضله، ولو كفرتم لسلبها منكم، فما قولكم، أفلا تشكرون استدامة لها واستزادة فيها؟. ثم قال تعالى:
* (واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون) *
إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها، فإنهم كان الواجب عليهم عبادة الله شكرا لأنعمه، فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم: * (حرقوه وانصروا آلهتكم) * (الأنبياء: 68) وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة. وقوله تعالى:
* (لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون) *
إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد، وهذا كقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98) وقوله: * (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * (الصافات: 22، 23) وقوله: * (أولئك في العذاب) * (سبأ: 38) وهو يحتمل معنيين أحدهما: أن يكون العابدون جندا لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا الثاني: أن يكون الأصنام جندا للعابدين، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال: * (لا يستطيعون نصرهم) * أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندا لهم ومحضرون لنصرتهم فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف م نلم يكن متأهبا ولم يجمع أنصاره.
* (فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون * أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحى العظام وهى رميم * قل يحييها الذى أنشأهآ أول مرة وهو بكل خلق عليم) *
وقوله تعالى: * (فلا يحزنك قولهم) * إشارة إلى الرسالة لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه دليل اجتبائه واختياره إياه. وقوله تعالى: * (إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون يحتمل وجوها أحدها: أن يكون ذلك تهديدا للمنافقين والكافرين فقوله: * (ما يسرون) * من النفاق * (وما يعلنون) * من الشرك والثاني: ما يسرون من العلم بك وما يعلنون من الكفر بك الثالث: ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة.
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما) * (يس: 71) ذكر دليلا من الأنفس. فقال: * (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) * قيل إن المراد بالإنسان أبي بن خلف فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظما باليا وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ويدخلك جهنم، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ
107

لا بخصوص السبب ألا ترى أن قوله تعالى: * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها) * (المجادلة: 1) عمومها فنقول فيها لطائف:
اللطيفة الأولى: قوله: * (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا) * (يس: 71) معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى: * (أولم ير الإنسان) * كلام أعم من قوله: * (أو لم يروا) * لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الإنعام وخلقها عند غيبتها ولكن (لا يغفل) هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون. فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يعيب عن نفسه، فما باله أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة، فإن سائر النعم بعد وجوده وقوله: * (من نطفة) * إشارة إلى وجه الدلالة، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة مختلفة الصور كان يمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو، وكذلك الحال في كل عضو، ولما كان خلقه عن خطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى: * (يسقى بماء واحد) * (الرعد: 4).
وقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) * فيه لطيفة غريبة وهي أنه تعالى قال اختلاف صور أعضائه مع تشابه أجزاء ما خلق منه آية ظاهرة ومع هذا فهنالك ما هو أظهر
وهو نطقه وفهمه، وذلك لأن النطفة جسم، فهب أن جاهلا يقول إنه استحال وتكون جسما آخر، لكن القوة الناطقة والقوة الفاهمة من أين تقتضيهما النطفة؟ فإبداع النطق والفهم أعجب وأغرب من إبداع الخلق والجسم وهو إلى إدراك القدرة والاختيار منه أقرب فقوله: * (خصيم) * أي ناطق وإنما ذكر الخصيم مكان النطق لأنه أعلى أحوال الناطق، فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثل ما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصما لا يبين ولا يجتهد مثل ما يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه وقوله: * (مبين) * إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه، لأن المبين بان عنده الشيء ثم أبانه فقوله تعالى: * (من نطفة) * إشارة إلى أدنى ما كان عليه وقوله:) * خصيم مبين) * إشارة إلى أعلى ما حصل عليه وهذا مثل قوله تعالى: * (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة) * إلى أن قال تعالى: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * (المؤمنون: 14) فما تقدم من خلق النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظاما إشارة إلى التغيرات في الجسم وقوله: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * إشارة إلى ما أشار إليه بقوله: * (فإذا هو خصيم مبين) * أي ناطق عاقل.
ثم قوله تعالى: * (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) * إشارة إلى بيان الحشر وفي هذه الآيات إلى
108

آخر السورة غرائب وعجائب نذكرها بقدر الإمكان إن شاء الله تعالى، فنقول المنكرون للحشر منهم من لم يذكر فيه دليلا ولا شبهة واكتفى بالاستبعاد وادعى الضرورة وهم الأكثرون، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عنهم في كثير من المواضع بلفظ الاستبعاد كما قال: * (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض أئنا لفي خلق جديد) * (السجدة: 10) * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * (الصافات: 16) * (أئنك لمن المصدقين) * (الصافات) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون) * (الصافات: 53) إلى غير ذلك فكذلك ههنا قال: * (قال من يحيي العظام وهي رميم) * على طريق الاستبعاد فبدأ أولا بإبطال استبعادهم بقوله: * (ونسي خلقه) * أي نسي أنا خلقناه من تراب ومن نطفة متشابهة الأجزاء، ثم جعلنا لهم من النواصي إلى الأقدام أعضاء مختلفة الصور والقوام وما اكتفينا بذلك حتى أودعناهم ما ليس من قبيل هذه الأجرام وهو النطق والعقل لذي (ن) بهما استحقوا الإكرام فإن كانوا يقنعون بمجرد الاستبعاد فهلا يستبعدون خلق الناطق العاقل من نطفة قذرة لم تكن محل الحياة أصلا، ويستبعدون إعادة النطق والعقل إلى محل كانا فيه، ثم إن استبعادهم كان من جهة ما في المعاد من التفتت والتفرق حيث قالوا: * (من يحيي العظام وهي رميم) * اختاروا العظم للذكر لأنه أبعد عن الحياة لعدم الإحساس فيه ووصفوه بما يقوي جانب الاستبعاد من البلى والتفتت والله تعالى دفع استبعادهم من جهة ما في المعيد من القدرة والعلم فقال: * (وضرب لنا مثلا) * أي جعل قدرتنا كقدرتهم ونسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، ومنهم من ذكر شبهة وإن كانت في آخرها تعود إلى مجرد الاستبعاد وهي على وجهين أحدهما: أنه بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح على العدم الحكم بالوجود، وأجاب عن هذه الشبهة. بقوله تعالى:
* (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده وإن لم يبق شيئا مذكورا وثانيها: أن من تفرقت أجزاؤه فمشارق العالم ومغاربه وصار بعضه في أبدان السباع وبعضه في جدران الرباع كيف يجمع؟ وأبعد من هذا هو أن إنسانا إذا أكل إنسانا وصار أجزاء المأكول في أجزاء الآكل فإن أعيد فأجزاء المأول، إما أن تعاد إلى بدن الآكل فلا يبقى للمأكول أجزاء تخلق منها أعضاؤه، وإما أن تعاد إلى بدن المأكول منه فلا يبقى للآكل أجزاء. فقال تعالى في إبطال هذه الشبهة: وهو بكل خلق عليم) * ووجهه هو أن في الآكل أجزاء أصلية وأجزاء فضلية، وفي المأكول كذلك، فإذا أكل إنسان إنسانا صار الأصلي من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل والأجزاء الأصلية للآكل هي ما كان له قبل الأكل. * (وهو بكل
109

خلق عليم) * يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلي للآكل وينفخ فيها روحه ويجمع الأجزاء الأصلية للمأكول وينفخ فيها روحه، وكذلك يجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع، المبددة في الأصقاع بحكمته الشاملة وقدرته الكاملة.
ثم إنه تعالى عاد إلى تقرير ما تقدم من دفع استبعادهم وإبطال إنكارهم وعنادهم. فقال تعالى:
* (الذى جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فإذآ أنتم منه توقدون) *
ووجهه هو أن الإنسان مشتمل على جسم يحس به وحياة سارية فيه، وهي كحرارة جارية فيه فإن استبعدتم وجود حرارة وحياة فيه فلا تستبعدوه، فإن النار في الشجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب وأغرب وأنتم تحضرون حيث من توقدون، وإن استبعدتم خلق جسمه فخلق السماوات والأرض أكبر من خلق أنفسكم فلا تستبعدوه فإن الله خلق السماوات والأرض فبان لطف قوله تعالى: * (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) *.
* (أو ليس الذى خلق السماوات والارض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) *
وقوله تعالى: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * قدم ذكر النار في الشجر على ذكر الخلق الأكبر، لأن استبعادهم كان بالصريح واقعا على الأحياء حيث قالوا: * (من يحيي العظام) * (يس: 78) ولم يقولوا من يجمعها ويؤلفها والنار في الشجر تناسب الحياة.
وقوله تعالى: * (بلى وهو الخلاق) * إشارة إلى أنه في القدرة كامل. وقوله تعالى: * (العليم) * إشارة إلى أن علمه شامل. ثم أكد بيانه بقوله تعالى:
* (إنمآ أمره إذآ أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) *
وهذا إظهار فساد تمثيلهم وتشبيههم وضرب مثلهم حيث ضربوا لله مثلا وقالوا لا يقدر أحد على مثل هذا قياسا للغائب على الشاهد فقال في الشاهد الخلق يكون بالآلات البدنية والانتقالات المكانية ولا يقع إلا في الأزمنة الممتدة والله يخلق بكن فيكون، فكيف تضربون المثل الأدنى وله المثل الأعلى من أن يدرك. وفي الآية مباحث:
البحث الأول: قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن المعدوم شيء لأنه يقول لما أراده: * (كن فيكون) * فهو قبل القول له كن لا يكون وهو في تلك الحالة شيء حيث قال: * (إنما أمره إذا أراد شيئا) * والجواب أن هذا بيان لعدم تخلف الشيء عن تعلق إرادته به، فقوله: * (إذا) * مفهوم
110

الحين والوقت والآية دالة على أن المراد شيء حين تعلق الإرادة به ولا دلالة فيها على أنه شيء قبل ما إذا أراد وحينئذ لا يرد ما ذكروه لأن الشيء حين تعلق الإرادة به شيء موجود لا يريده في زمان ويكون في زمان آخر بل يكون في زمان تعلق إرادة، فإذا الشيء هو الموجود لا المعدوم لا يقال كيف يريد الموجود وهو موجود فيكون ذلك إيجادا لموجود؟ نقول هذا الإشكال من بال المعقولات ونجيب عنه في موضعه، وإنما غرضنا إبطال تمسكهم باللفظ، وقد ظهر أن المفهوم من هذا الكلام أنه يريد ما هو شيء إذا أراد، وليس في الآية أنه إذا أراد ما كان شيئا قبل تعلق الإرادة.
البحث الثاني: قالت الكرامية لله إرادة محدثة بدليل قوله تعالى: * (إذا أراد) * ووجه دلالته من أمرين أحدهما: من حيث إنه جعل للإرادة زمانا، فإن إذا ظرف زمان وكل ما هو زماني فهو حادث وثانيهما: هو أنه تعالى جعل إرادته متصلة بقوله: * (كن) * وقوله: * (كن) * متصل بكون الشيء ووقوعه لأنه تعالى قال: * (يكون) * بفاء التعقيب لكن الكون حادث، وما قبل الحادث متصل به حادث، والفلاسفة وافقوهم في هذا الإشكال من وجه آخر فقالوا إرادته متصلة بأمره وأمره متصل بالكون ولكن إرادته قديمة فالكون قديم فمكونات الله قديمة، وجواب الضالين من التمسك باللفظ هو أن المفهوم من قوله: * (إذا أراد) * من حيث اللغة إذا تعلقت إرادته بالشئ لأن قوله: * (أراد) * فعل ماض، وإذا دخلت كلمة إذا على الماضي تجعله في معنى المستقبل، ونحن نقول أن مفهوم قولنا أراد ويريد وعلم ويعلم يجوز أن يدخله الحدوث، وإنما نقول لله تعالى صفة قديمة هي الإرادة وتلك الصفة إذا تعلقت بشيء نقول أراد ويريد، وقبل التعلق لا نقول أراد وإنما نقول له إرادة وهو بها مريد، ولنضرب مثالا للأفهام الضعيفة ليزول ما يقع في الأوهام السخيفة، فنقول قولنا فلان خياط يراد به أن له صنعة الخياطة فلو لم يصح منا أن نقول إنه خاط ثوب زيد أو يخيط ثوب زيد لا يلزم منه نفي صحة قولنا إنه خياط بمعنى أن له صنعة بها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان ماض خاط ثوبه، وبها يطلق عليه عند استعماله تلك الصنعة في ثوب زيد في زمان مستقبل يخيط ثوبه، ولله المثل الأعلى فافهم أن الإرادة أمر ثابت إن تعلقت بوجود شيء نقول أراد وجوده أي يريد وجوده، وإذا علمت هذا فهو في المعنى من كلام أهل السنة تعلق الإرادة حادث وخرج بما ذكرنا جواب الفريقين.
البحث الثالث: قالت المعتزلة والكرامية كلام الله حرف وصوت وحادث لأن قوله: * (كن) * كلام * (وكن) * من حرفين، والحرف من الصوت، ويلزم من هذا أن كلامه من الحروف والأصوات، وأما أنه حادث فلما تقدم من الوجهين أحدهما: أنه زماني والثاني: أنه متصل بالكون والكون حادث، والجواب يعلم مما ذكرنا، وذلك لأن الكلام صفة إذا تعلقت بشيء تقول قال ويقول فتعلق الخطاب حادث والكلام قديم فقوله تعالى: * (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * فيه تعلق وإضافة لأن قوله تعالى: * (يقول له) * باللام للإضافة صريح في التعلق
111

ونحن نقول إن قوله للشيء الحادث حادث لأنه مع التعلق، وإنما القديم قوله وكلامه لا مع التعلق وكل قديم وحادث إذا نظرت إلى مجموعهما لا تجدهما في الأزل وإنما تجدهما جميعا فيما لا يزال فله معنى الحديث ولكن الإطلاق موهم، فتفكر جدا ولا تقل المجموع حادث من غير بيان مرادك، فإن ذلك قد يفهم منه أن الجميع حادث، بل حقق الإشارة وجود العبارة وقل أحد طرفي المجموع قديم والآخر حادث ولم يكن الآخر معه في الأزل، وأما قوله: * (كن) * من الحروف، نقول الكلام يطلق على معنيين أحدهما: ما عند المتكلم والثاني: ما عند السامع، ثم إن أحدهما يطلق عليه أنه هو الآخر ومن هذا يظهر فوائد. أما بيان ما ذكرناه، فلأن الإنسان إذا قال لغيره عندي كلام أريد أن أقوله لك غدا، ثم إن السامع أتاه غدا وسأله عن الكلام لذي كان عنده أمس، فيقول له: إني أريد أن تحضر عندي اليوم، فهذا الكلام أطلق عليه المتكلم أنه كان عندك أمس ولم يكن عند السامع، ثم حصل عند السامع بحرف وصوت ويطلق عليه أن هذا الذي سمعت هو الذي كان عندي، ويعلم كل عاقل أن الصوت لم يكن عند المتكلم أمس ولا الحرف، لأن الكلام الذي عنده جاز أن يذكره بالعربي فيكون له حروف، وجاز أن يذكره بالفارسية فيكون له حروف أخر، والكلام الذي عنده ووعد به واحد والحروف مختلفة كثيرة، فإذا معنى قوله هذا ما كان عندي، هو أن هذا يؤدي إليك ما كان عندي، وهذا أيضا مجاز، لأن الذي عنده ما انتقل إليه، وإنما علم ذلك وحصل عنده به علم مستفاد من السمع أو البصر في القراءة والكتابة أو إشارة، إذا علمت هذا فالكلام الذي عند الله وصفة له ليس بحرف على ما بان، والذي يحصل عند السامع حرف وصوت وأحدهما الآخر لما ذكرنا من المعنى وتوسع الإطلاق، فإذا قال تعالى: (يقول له) حصل قائل وسامع. فاعتبرها من جانب السامع لكون وجود الفعل من السامع لذلك القول فعبر عنه بالكاف والنون الذي يحدث عند السامع ويحدث به المطلوب. ثم قال تعالى:
* (فسبحان الذى بيده ملكوت كل شىء وإليه ترجعون) *
لما تقررت الوحدانية والإعادة وأنكروها وقالوا: بأن غير الله آلهة، قال تعالى وتنزه عن الشريك: * (الذي بيده ملكوت كل شيء) * وكل شيء ملكه فكيف يكون المملوك للمالك شريكا، وقالوا: بأن الإعادة لا تكون، فقال: وإليه ترجعون) * ردا عليهم في الأمرين، وقد ذكرنا ما يتعلق بالنحو في قوله: سبحان، أي سبحوا تسبيح الذي أو سبح من في السماوات والأرض تسبيح الذي * (فسبحان) * علم للتسبيح، والتسبيح هو التنزيه، والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت، وهو فعلول أو فعلوت فيه كلام، ومن قال هو فعلول جعلوه ملحقا به.
112

ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس " وقال الغزالي فيه: إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر، والحشر مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه، فجعله قلب القرآن لذلك، واستحسنه فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام.
ويمكن أن يقال بأن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير لأصول الثلاثة بأقوى البراهين فابتداؤها بيان الرسالة بقوله: * (إنك لمن المرسلين) * (يس: 3) ودليلها ما قدمه عليها بقوله: * (والقرآن الحكيم) * (يس: 2) وما أخره عنها بقوله: * (لتنذر قوما) * (يس: 6) وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله: * (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) * إشارة إلى التوحيد، وقوله: * (وإليه ترجعون) * إشارة إلى الحشر، وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه، ومن
حصل من القرآن هذا القدر فقد حصل نصيب قلبه وهو التصديق الذي بالجنان. وأما وظيفة اللسان التي هي القول، فكما في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) * (الأحزاب: 70) وفي قوله تعالى: * (ومن أحسن قولا) * (فصلت: 33) وقوله تعالى: * (بالقول الثابت) * (إبراهيم: 27) * (وألزمهم كلمة التقوى) * (الفتح: 26) * (وإليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) إلى غير هذه مما في غير هذه السورة ووظيفة الأركان وهو العمل، كما في قوله تعالى: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * (البقرة: 110) وقوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا.. ولا تقتلوا النفس) * (الإسراء: 32، 33) وقوله: * (واعملوا صالحا) * (المؤمنون: 51) وأيضا مما في غير هذه السورة، فلما لم يكن فيها إلا أعمال القلب لا غير سماها قلبا، ولهذا ورد في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى تلقين يس لمن دنا منه الموت، وقراءتها عند رأسه، لأن في ذلك الوقت يكون اللسان ضعيف القوة، والأعضاء الظاهرة ساقطة البنية، لكن القلب يكون قد أقبل على الله ورجع عن كل ما سواه، فيقرأ عند رأسه ما يزاد به قوة قلبه، ويشتد تصديقه بالأصول الثلاثة وهي شفاء له وأشرار كلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعلمها إلا الله وروله، وما ذكرناه ظن لانقطع به، ونرجو الله أن يرحمنا وهو أرحم الراحمين.
113

سورة الصافات
مائه واثنتان وثمانون آية مكية
* (والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد * رب السماوات والارض وما بينهما ورب المشارق) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وحمزة * (والصافات صفا) * بإدغام التاء فيما يليه، وكذلك في قوله: * (فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا) * والباقون بالإظهار، وقال الواحدي رحمه الله: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا يسمعان في الهمس، ولا مدغم فيه يزيد على المدغم بالإطباق والصفير، وإدغام الأنقص في الأزيد حسن، ولا يجوز أن يدغم الأزيد صوتا في الأنقص، وأيضا إدغام التاء في الزاي في قوله: * (فالزاجرات زجرا) * حسن لأن التاء مهموسة والزاي مجهورة وفيها زيادة صفير كما كان في الصاد، وأيضا حسن إدغام التاء في الذي في قوله: * (فالتاليات ذكرا) * لاتفاقهما في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، وأما من قرأ باظهار وترك الإدغام فذلك لاختلاف المخارج والله أعلم.
المسألة الثانية: في هذه الأشياء الثلاثة المذكورة المقسم بها يحتمل أن يتكون صفات ثلاثة لموصوف واحد، ويحتمل أن تكون أشياء ثلاثة متباينة، أما على التقدير الأول ففيه وجوه الأول: أنها صفات الملائكة، وتقديره أن الملائكة يقفون صفوفا. إما في السماوات لأداء العبادات كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: * (وإنا لنحن الصافون) * (الصافات: 165) وقيل إنهم يصفون أجنحتهم في الهواء يقفون منتظرين وصول أمر الله إليهم، ويحتمل أيضا أن يقال معنى كونهم صفوفا أن لكل واحد منهم مرتبة معينة ودرجة معينة في الشرف والفضيلة أو في الذات والعلية وتلك الدرجة المرتبة باقية غير متغيرة وذلك يشبه الصفوف. وأما قوله: * (فالزاجرات زجرا) * فقال الليث: يقال زجرت البعير فأنا أجزره زجرا إذا حثثته ليمضي، وزجرت فلانا عن سوء فانزجر أي نهيته فانتهى، فعلى هذا الزجر للبعير كالحث وانسان
114

كالنهي، إذا عرفت هذا فنقول في وصف الملائكة بالزجر وجوه الأول: قال ابن عباس يريد الملائكة الذي وكلوا بالسحاب يزجرونها بمعنى أنهم يأتون بها من موضع إلى موضع الثاني: المراد منه أن الملائكة لهم تأثيرات في قلوب بني آدم على سبيل الإلهامات فهم يزجرونهم عن المعاصي زجرا الثالث: لعل الملائكة أيضا يزجرون الشياطين عن التعرض لبني آدم بالشر والإيذاء، وأقول قد ثبت في العلوم العقلية أن الموجودات على ثلاثة أقسام مؤثر لا يقبل الأثر وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الموجودات ومتأثر لا يؤثر وهم عالم الأجسام وهو أخس الموجودات وموجود يؤثر في شيء ويتأثر عن شيء آخر وهو عالم الأرواح وذلك لأنها تقبل الأثر عن عالم كبرياء الله، ثم إنها تؤثر في عالم الأجسام، واعلم أن الجهة التي باعتبارها تقبل الأثر من عالم كبرياء الله غير الجهة التي باعتبارها تستولي على عالم الأجسام وتقدر على التصرف فيها وقوله: * (فالتاليات ذكرا) * إشارة إلى الأشرف من الجهة التي باعتبارها تقوى على التأثير في عالم الأجسام إذا عرفت هذا فقوله: * (والصافات صفا) * إشارة إلى وقوفها صفا صفا في مقام العبودية والطاعة بالخشوع والخضوع وهي الجهة التي باعتبارها تقبل تلك الجواهر القدسية أصناف الأنوار الإلهية والكمالات الصمدية وقوله تعالى: * (فالزاجرات زجرا) * إشارة إلى تأثير الجواهر الملكية في تنوير الأرواح القدسية البشرية وإخراجها من القوة إلى الفعل، وذلك لما ثبت أن هذه الأرواح النطقية البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى أرواح الملائكة كالقطرة بالنسبة إلى البحر وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس، وأن هذه الأرواح البشرية إنما تنتقل من القول إلى الفعل في المعارف الإلهية والكمالات الروحانية بتأثيرات جواهر الملائكة ونظيره قوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) وقوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 192، 193) وقوله تعالى: * (فالملقيات ذكرا) * (المرسلات: 5) إذا عرفت هذا فنقول في هذه الآية دقيقة أخرى وهي أن الكمال المطلق للشيء إنما يحصل إذا كان تاما وفوق التام والمراد بكونه تاما أن تحصل جميع الكمالات اللائقة به حصولا بالفعل والمراد بكونه فوق التام أن تفيض منه أصناف الكمالات والسعادات على غيره، ومن المعلوم أن كونه كاملا في ذاته مقدم على كونه مكملا لغيره، إذا عرفت هذا فقوله: * (والصافات صفا) * إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها وقت وقوفها في مواقف العبودية وصفوف الخدمة والطاعة وقوله تعالى: * (فالزاجرات زجرا) * إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي عن جواهر الأرواح البشرية وقوله تعالى: * (فالتاليات ذكرا) * إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الناطقة البشرية، فهذه مناسبات عقلية واعتبارات حقيقية تنطبق عليها هذه الألفاظ الثلاثة، قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة لأنها مشعرة
بالتأنيث والملائكة مبرؤون عن هذه الصفة، والجواب من وجهين الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال جماعة صافة ثم يجمع على صافات والثاني: أنهم مبرؤون عن التأنيث المعنوي، أما التأنيث في
115

اللفظ فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة في هذا الوجه الثاني: أن تحمل هذه الصافات على النفوس البشرية الطاهرة المقدسة المقبلة على عبودية الله تعالى الذين هم ملائكة الأرض وبيانه من وجهين الأول: أن قوله تعالى: * (والصافات صفا) * المراد الصفوف الصحالة عند أداء الصلوات بالجماعة وقوله: * (فالزاجرات زجرا) * إشارة إلى قراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كأنهم بسبب قراءة هذه الكلمة يزجرون الشياطين عن إلقاء الوساوس في قلوبهم في أثناء الصلاة وقوله: * (فالتاليات ذكرا) * إشارة إلى قراءة القرآن في الصلاة وقيل: * (فالزاجرات زجرا) * إشارة إلى رفع الصوت بالقراءة كأنه يزجر الشيطان بواسطة رفع الصوت، روى أنه صلى الله عليه وسلم طاف على بيوت أصحابه في الليالي فسمع أبا بكر يقرأ بصوت منخفض وسمع عمر يقرأ بصوت رفيع فسأل أبا بكر لم تقرأ هكذا؟ فقال: المعبود سميع عليم وسأل عمر: لم تقرأ هكذا؟ فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان الوجه الثاني: في تفسير هذه الألفاظ الثلاث في هذه الآية أن المراد من قوله: * (والصافات صفا) * الصفوف الحاصلة من العلماء المحقين الذين يدعون إلى دين الله تعالى والمراد من قوله: * (فالزاجرات زجرا) * اشتغالهم بالزجر عن الشبهات والشهوات، والمراد من قوله تعالى: * (فالتاليات ذكرا) * اشتغالهم بالدعوة إلى دين الله والترغيب في العمل بشرائع الله الوجه الثالث: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نحملها على أحوال الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقوله: * (والصافات صفا) * المراد منه صفوف القتال لقوله تعالى: * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا) * (الصف: 4) وأما (الزاجرات زجرا) فالزجرة والصيحة سواء، والمراد منه رفع الصوت بزجر الخيل، وأما (التاليات ذكرا) فالمراد اشتغال الغزاة وقت شروعهم في محاربة العدو بقراءة القرآن وذكر الله تعالى بالتهليل والتقديس الوجه الرابع: في تفسير هذه الألفاظ الثلاثة أن نجعلها صفات لآيات القرآن فقوله: (والصافات صفا) المراد آيات القرآن فإنها أنواع مختلفة بعضها في دلائل التوحيد وبعضها في دلائل العلم والقدرة والحكمة وبعضها في دلائل النبوة وبعضها في دلائل المعاد وبعضها في بيان التكاليف والأحكام وبعضها في تعليم الأخلاق الفاضلة، وهذه الآيات مرتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فهذه الآيات تشبه أشخاصا واقفين في صفوف معينة وقوله: * (فالزاجرات زجرا) * المراد منه الآيات الزاجرة عن الأفعال المنكرة وقوله: * (فالتاليات ذكرا) * المراد منه الآيات الدالة على وجوب الإقدام على أعمال البر والخير وصف الآيات بكونها تالية على قانون ما يقال شعر شاعر وكلام قائل قال تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * (الإسراء: 9) وقال: * (يس * والقرآن الحكيم) * (يس: 1، 2) قيل الحكيم بمعنى الحاكم فهذه جملة الوجوه المحتملة على تقدير أن تجعل هذه الألفاظ الثلاثة صفات لشيء واحد وأما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد بهذه الثلاثة أشياء متغايرة فقيل الرماد بقوله: * (والصافات صفا) * الطير من قوله تعالى: * (والطير صافات) * (النور: 41) (والزاجرات) كل ما زجر عن معاصي الله (والتالي) كل ما يتلى من كتاب الله وأقول فيه
116

وجه آخر وهو أن مخلوقات الله إما جسمانية وإما روحانية، أما الجسمانية فإنها مرتبة على طبقات ودرجات لا تتغير البتة، فالأرض وسط العالم وهي محفوفة بكرة الماء والماء محفوف بالهواء، والهواء محفوف بالنار، ثم هذه أربعة محفوفة بكرات الأفلاك إلى آخر العالم الجسماني فهذه الأجسام كأنها صفوف واقفة على عتبة جلال الله تعالى، وأما الجواهر الروحانية فهي على اختلاف درجاتها وتباين صفاتها مشتركة في صفتين أحدهما التأثير في عالم الأجسام بالتحريك والتصريف وإليه الإشارة بقوله: * (فالزاجرات زجرا) * فإنا قد بينا أن المراد من هذا الزجر السوق والتحريك، والثاني الإدراك والمعرفة والاستغراق في معرفة الله تعالى والثناء عليه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (فالتاليات ذكرا) * ولما كان الجسم أدنى منزلة من الأرواح المستقلة فالتصرف في الجسمانيات أدون منزلة من الأرواح المستغرقة في معرفة جلال الله المقبلة على تسبيح الله كما قال: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * (الأنبياء: 19) لا جرم بدأ في المرتبة الأولى بذكر الأجسام فقال: * (والصافات صفا) * ثم ذكر في المرتبة الثانية الأرواح المدبرة لأجسام هذا العالم ثم ذكر في هذه المرتبة الثالثة أعلى الدرجات وهي الأرواح المقدسة المتوجهة بكليتها إلى معرفة جلال الله والاستغراق في الثناء عليه، فهذه احتمالات خطرت بالبال، والعالم بأسرار كلام الله تعالى ليس إلا الله.
المسألة الثالثة: للناس في هذا الموضع قولان الأول: قول من يقول المقسم به ههنا خالق هذه الأشياء لا أعيان هذه الأشياء، واحتجوا عليه بوجوه الأول: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف بغير الله فكيف يليق بحكمة الله أن يحلف بغير الله والثاني: أن الحلف بالشيء في مثل هذا الموضع تعظيم عظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم * (والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها) * (الشمس: 5 - - - - 7)، والقول الثاني: قول من يقول إن القسم واقع بأعيان هذه الأشياء واحتجوا عليه بوجوه الأول: أن القسم وقع بهذه الأشياء بحسب ظاهر اللفظ فالعدول عنه خلال الدليل والثاني: أنه تعالى قال: * (والسماء وما بناها) * فعلق لفظ القسم بالسماء، ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء، فلو كان المراد من القسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد وأنه لا يجوز الثالث: أنه لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم من الله تعالى بهذه الأشياء التنبيه على شرف ذواتها وكمال حقائقها، لا سيما إذا حملنا هذه الألفاظ على الملائكة فإنه تكون الحكمة في القسم بها التنبيه على جلالة درجاتها وكمال مراتبها والله أعلم، فإن قيل ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجوه الأول: أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو عند الكافر والأول باطل لأن المؤمن مقر به سواء حصل الحلف أو لم يحصل، فهذا الحلف عديم الفائدة على كل التقديرات
117

الثاني: أنه تعالى حلف في أول هذه السورة على أن الإله واحد، وحلف في أول سورة والذاريات على أن القيامة حق فقال: * (والذاريات ذروا) * إلى قوله: * (إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع) * (الذاريات: 1 - - - - 6) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف واليمين لا يليق بالعقلاء، والجواء من وجوه الأول: أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في سائر السور بالدلائل اليقينية، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها فذكر
القسم تأكيدا لما تقدم لا سيما والقرآن إنما أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب والوجه الثاني: في الجواب أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى: * (إن إلهكم لواحد) * ذكر عقيبه ما هو كالدليل اليقيني في كون الإله واحدا، وهو قوله تعالى: * (رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) * وذلك لأنه تعالى بين في قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) أن انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد، فهنا لما قال: * (إن إلهكم لواحد) * أردفه بقوله: * (رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق) * كأنه قيل قد بينا أن النظر في انتظام هذا العالم دل على كون الإله واحدا فتأملوا في ذلك الدليل ليحصل لكم العلم بالتوحيد الوجه الثالث: في الجواب أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة والله أعلم.
المسألة الرابعة: أما دلالة أحوال السماوات والأرض على وجود الإله القادر العالم الحكيم، وعلى كونه واحدا منزها عن الشريك فقد سبق تقريرها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا وأما قوله تعالى: * (ورب المشارق) * فيحتمل أن يكون المراد مشارق الشمس قال السدي: المشارق ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب فإنه تطلع الشمس كل يوم من مشرق وتغرب كل يوم في مغرب، ويحتمل أن يكون المراد مشارق الكواكب لأن لكل كوكب مشرقا ومغربا، فإن فيل لم أكتفي بذكر المشارق؟ قلنا لوجهين الأول: نه اكتفى بذكر المشارق كقوله: * (تقيكم الحر) * (النحل: 81) والثاني أن الشرق أوقى حالا من الغروب وأكثر نفعا من الغروب فذكر الشرق تنبيها على كثرة إحسان الله تعالى على عباده، ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم عليه السلام بالمشرق فقال: * (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق) * (لبقرة: 258).
المسألة الخامسة: احتج الأصحاب بقوله تعالى: * (رب السماوات والأرض وما بينهما) * على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد، قالوا: لأن أعمال العباد موجود فيما بين السماوات والأرض، وهذه الآية دالة على أن كل ما حصل بين السماوات والأرض فالله ربه ومالكه، فهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله، وإن قالوا: الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماوات والأرض لأن هذا الوصف إنما يليق بما يكون حاصلا في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك، قلنا: إنها لما
118

كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماوات والأرض فهي أيضا حاصلة بين السماء والأرض. ثم قال تعالى:
* (إنا زينا السمآء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملإ الاعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة وحفص عن عاصم زينة منونة الكواكب بالجر وهو قراءة مسروق بن الأجدع، قال الفراء وهو رد معرفة على نكرة كما قال: * (بالناصية * ناصية) * (العلق: 15، 16) فرد نكرة على معرفة وقال الزجاج: الكواكب بدل من الزينة، لأنها هي كما تقول مررت بأبي عبد الله زيد. وقرأ عاصم بالتنوين في الزين ونصب الكواكب قال الفراء: يريد زينا الكواكب، وقال الزجاج: يجوز أن تكون الكواكب في النصف بدلا من قوله بزينة، لأن بزينة في موضع نصب وقرأ الباقون (بزينة الكواكب) بالجر على الإضافة.
المسألة الثانية: بين تعالى أنه زين السماء الدنيا، وبين أنه إنما زينها لمنفعتين إحداهما: تحصيل الزينة والثانية: الحفظ من الشيطان المارد، فوجب أن نحقق الكلام في هذه المطالب الثلاثة أما الأول: وهو تزيين السماء الدنيا بهذه الكواكب، فلقائل أن يقول إنه ثبت في علم الهيئة أن هذه الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة، وأن السيارات الستة مركوزة في الكرات الست المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله: * (إنا زين السماء الدنيا بزينة الكواكب) * والجواب أن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إذا نظروا إلى السماء فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب، وعلى أنا قد بينا في علم الهيئة أن الفلاسفة لم يتم لهم دليل في بيان أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن، ولعلنا شرحنا هذا الكلام في تفسير سورة * (تبارك الذي بيده الملك) * (الملك: 1) في تفسير قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * (الملك: 5)، وأما المطلوب الثاني: وهو كون هذه الكواكب زينة السماء الدنيا ففيه بحثان:
البحث الأول: أن الزينة مصدر كالنسبة واسم لما يزن به، كالليقة اسم لما تلاق به الدواة قال صاحب الكشاف وقوله: * (بزينة الكواكب) * يحتملهما فإن أردت المصدر فعلى إضافته إلى الفاعل أي بأن زينتها الكواكب أو على إضافته إلى المفعول أي بأن زان الله الكواكب وحسنها، لأنا
119

إنما زينت السماء بحسنها في أنفسها، وإن أردت الاسم فللإضافة وجهان أن تقع الكواكب بيانا للزينة، لأن الزينة قد تحصل بالكواكب وبغيرها، وأن يراد ما زينت به الكواكب.
البحث الثاني: في بيان كيفية كون الكواكب زينة للسماء وجوه الأول: أن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، فإن تحصل هذه الكواكب المشرقة المضيئة في سطح الفلك لا جرم بقي الضوء والنور في جرم الفلك بسبب حصول هذه الكواكب فيها قال ابن عباس: * (بزينة الكواكب) * أي بضوء الكواكب الوجه الثاني: يجوز أن يراد أشكالها المتناسبة المختلفة كشكل الجوزاء وبنات نعش والثريا وغيرها الوجه الثالث: يجوز أن يكون المراد بهذه الزينة كيفية طلوعها وغروبها الوجه الرابع: أن الإنسان إذا نظر في الليلة الظلماء إلى سطح الفلك ورأى هذه الجواهر الزواهر مشرقة لامعة متلألئة على ذلك السطح الأزرق، فلا شك أنها أحسن الأشياء وأكملها في التركيب والجوهر، وكل ذلك يفيد كون هذه الكواكب زينة وأما المطلوب الثالث: وهو قوله: * (وحفظا من كل شيطان مارد) * ففيه بحثان:
البحث الأول: فيما يتعلق باللغة فقوله: * (وحفظا) * أي وحفظناها، قال المبرد: إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله، مثل قولك أفعل وكرامة لأنه لما قال أفعل علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال، فكان المعنى أفعل ذلك وأكرمك كرامة، قال ابن عباس يريد حفظ السماء
بالكواكب و * (من كل شيطان مارد) * يريد الذي تمرد على الله قيل إنه الذي لا يتمكن منه، وأصله من الملاسة ومنه قوله: * (صرح ممرد) * (النمل: 44) ومنه الأمرد: وذكرنا تفسير المارد عند قوله: * (مردوا على النفاق) * (التوبة: 101).
البحث الثاني: فيما يتعلق بالمباحث العقلية في هذا الموضع، فنقول الاستقصاء فيه مذكور في قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) قال المفسرون الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب، وكانوا يخبرونهم به ويوهمونهم أنهم يعلمون الغيب فمنعهم الله تعالى من الصعود إلى قرب السماء بهذه الشهب فإنه تعالى يرميهم بها فيحرقهم بها، وبقي ههنا سؤالات:
السؤال الأول: هذه الشهب هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا؟ والأول باطل لأن هذه الشهب تبطل وتضمحل فلو كانت هذه الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير من أعداد كواكب السماء، ومعلوم أن هذا المعنى لم يوجد البتة فإن أعداد كواكب السماء باقية في حالة واحدة من غير تغير البتة، وأيضا فجعلها رجوما للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء فكأن الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض، وأما القسم الثاني: وهو أن يقال إن هذه الشهب جنس آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهذا أيضا مشكل لأنه تعالى قال في سورة: * (تبارك الذي بيده الملك) * (الملك: 1)، * (ولقد زينا السماء الدنيا
120

بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) فالضمير في قوله: * (وجعلناها) * عائد إلى المصابيح، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوع بأعيانها من غير تفاوت، والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية، وأما قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد، ومنها ما لا يكون كذلك، وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال، والله أعلم.
السؤال الثاني: كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز، أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة، وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل، فكيف من الشياطين الذين لهم مزبة في معرفة الحيل الدقيقة والجواب: أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه، وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات، وسلموا في بعض الأوقات، جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره. ولقائل أن يقول: إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة، أو إلى غير تلك المواضع، فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احتلقوا، وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلا، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل، إذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافرين في البحر، فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود، أما ههنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود، فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل البتة، والأقرب في الجواب أن نقول هذه الوقعة إنما تتفق في الندرة، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين والله أعلم.
السؤال الثالث: قالوا: دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، إذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم، أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكنها كثرت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فصارت بسبب الكثرة معجزة.
121

السؤال الرابع: الشيطان مخلوق من النار، قال تعالى حكاية عن إبليس * (خلقتني من نار) * (الأعراف: 12) وقال: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر؛ 27) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السماوات، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟ والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة، فإن وصلت نيران الشهب إليهم، وتلك النيران أقوى حالا منهم لا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك ههنا.
السؤال الخامس: أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى الأقرب من السطح الأسفل من الفلك، فيبقى جرم الفلك مانعا من وصول الشياطين إلى القرب من الملائكة، ولعل الفلك عظيم المقدار دفع حصول هذا المانع العظيم، كيف يعقل أن تسمع الشياطين كلام الملائكة، فإن قلتم إن الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، فنقول فعلى هذا التقدير إذا كان الله تعالى يقوي سمع الشيطان حتى يسمع كلام الملائكة، وجب أن لا ينفي سمع الشيطان، وإن كان لا يريد منع الشيطان من العمل فما الفائدة في رميه بالرجوم؟ فالجواب: مذهبنا أن أفعال الله تعالى غير معللة، فيفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، فهذا ما يتعلق بمباحث هذا الباب، وإذا أضيف ما كتبناه ههنا إلى ما كتبناه في سورة الملك، وفي سائر الآيات المشتملة على هذه المسألة بلغ تمام الكفاية في هذا الباب، والله أعلم.
وأما قوله: * (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (لا يسمعون) * بتشديد السين والميم وأصله يتسمعون، فأدغمت التاء في السين لاشتراكهما في الهمس،
والتسمع تطلب السماع يقال تسمع سمع أو لم يسمع، والباقون بتخفيف السين، واختار أبو عبيد التشديد في يسمعون، قال: لأن العرب تقول تسمعت إلى فلان ويقولون سمعت فلانا، ولا يكادون يقولون سمعت إلى فلان، وقيل في تقوية هذه القراءة إذا نفى التسمع، فقد نفى سمعه، وحجة القراءة الثانية قوله تعالى: * (إنهم عن السمع لمعزولون) * (الشعراء: 212) وروى مجاهد عن ابن عباس: أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى، ثم يمنعون فلا يسمعون، وللأولين أن يجيبوا فيقولون التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضا عن التسمع بدلالة هذه الآية، بل هو أقوى في ردع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء، فإن الذي منع من الاستماع فبأن يكون ممنوعا من السمع أولى.
المسألة الثانية: الفرق بين قولك سمعت حديث فلان، وبين قولك سمعت إلى حديثه، بأن قولك سمعت حديثه يفيد الإدراك، وسمعت إلى حديثه يفيد الإصغاء مع الإدراك.
122

المسألة الثالثة: في قوله: * (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) * قولان الأول: وهو المشهور أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا، فلما حذف الناصب عاد الفعل إلى الرفع كما قال: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) وكما قال: * (رواسي أن تميد بكم) * (لقمان: 10) قال صاحب " الكشاف ": حذف أن واللام كل واحد منهما جائز بانفراده. أما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صوت القرآن عنها والقول الثاني: وهو الذي اختاره صاحب " الكشاف " أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله، وهو حكاية حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب، مدحورون عن ذلك المقصود.
المسألة الرابعة: الملأ الأعلى لملائكة لأنهم يسكنون السماوات. وأما الإنس والجن فهم الملأ الأسفل لأنهم سكان الأرض.
واعلم أنه تعالى وصف أولئك الشياطين بصفات ثلاثة الأولى: أنهم لا يسمعون الثانية: أنهم يقذفون من كل جانب دحورا وفيه أبحاث: الأول: قد ذكرنا معنى الدحور في سورة الأعراف عند قوله: * (اخرج منها مذءوما مدحورا) * (الأعراف: 18) قال المبرد الدحور أشد الصغار والذل وقال ابن قتيبة دحرته دحرا ودحورا أي دفعته وطردته.
البحث الثاني: في انتصاب قوله: * (دحورا) * وجوه الأول: أنه انتصب بالمصدر على معنى يدحرون دحورا، ودل على الفعل قوله تعالى: * (ويقذفون) * الثاني: التقدير ويقذفون للدحول ثم حذف اللام الثالث: قال مجاهد دحورا مطرودين، فعلى هذا هو حال سميت بالمصدر كالركوع والسجود والحضور.
البحث الثالث: قرأ أبو عبد الرحمن السلمي دحورا بفتح الدال قال الفراء كأنه قال يقذفون يدحرون بما يدحر، ثم قال ولست أشتهي الفتح، لأنه لو وجد ذلك على صحة لكان فيها الباء كما تقول يقذفون بالحجارة ولا تقول يقذفون الحجارة إلا أنه جائز في الجملة كما قال الشاعر: تعال اللحم للأضياف نيئا (c)
أي تعالى باللحم الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (ولهم عذاب واصب) * والمعنى أنهم مرجومون بالشهب وهذا العذاب مسلط عليهم على سبيل الدوام، وذكرنا تفسير الواصب في سورة النحل عند قوله تعالى: وله الدين واصبا) * (النحل: 52) قالوا كلهم إنه الدائم، قال الواحدي ومن فسر الواصب بالشديد والموجع فهو معنى وليس بتفسير.
ثم قال تعالى: * (إلا من خطف الخطفة) * ذكرنا معنى الخطف في سورة الحج قال الزجاج وهو أخذ الشيء بسرعة، وأصل خطف اختطف قال صاحب " الكشاف " * (من) * في محل الرفع بدل من الواو في لا يسمعون أي لا يسمع الشياطين إلا الشيطان الذي خطف الخطبة أي اختلس الكلمة على
123

وجه المسارقة * (فأتبعه) * يعني لحقه وأصابه يقال تبعه وأتبعه إذا مضى في أثره وأتبعه إذا لحقه وأصله من قوله تعالى: * (فأتبعه الشيطان) * (الأعراف: 175) وقد مر تفسيره وقوله تعالى: * (شهاب ثاقب) * قال الحسن ثاقب أي مضيء وأقول سمي ثاقبا لأنه يثقب بنوره الهواء، قال ابن عباس في تفسير قوله: * (والنجم الثاقب) * (الطارق: 3) قال: إنه رجل سمي بذلك لأنه يثقب بنوره سمك سبع سماوات والله أعلم.
* (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من خلقنآ إنا خلقناهم من طين لازب) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في بيان النظم اعلم أنا قد ذكرنا أن المقصد الأقصى من هذا الكتاب الكريم إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوة وإثبات القضاء والقدر. فنقول إنه تعالى افتتح هذه السورة بإثبات ما يدل على وجود الصانع ويدل على وحدانيته وهو خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب، فلما أحكم الكلام في هذا الباب فرع عليها إثبات القول بالحشر والنشر والقيامة.
واعلم أن الكلام في هذه المسألة يتعلق بطرفين أولهما إثبات الجواز العقلي وثانيهما إثبات الوقوع أما الكلام في المطلوب الأول فاعلم أن الاستدلال على الشيء يقع على وجهين أحدهما: أن يقال إنه قدر على ما هو أصعب وأشد وأشق منه فوجب أيضا أن يقدر عليه والثاني: أن يقال إنه قدر عليه في إحدى الحالتين والفاعل والقابل باقيين كما كانا، فوجب أن تبقى القدرة عليه في الحالة الثانية والله تعالى ذكر هذين الطريقين في بيان أن القول بالبعث والقيامة أمر جائز ممكن. أما الطريق الأول: فهو المراد من قوله: * (فاستفتهم أهم أشد خلقا) * والتقدير كأنه تعالى يقول: استفت يا محمد هؤلاء المنكرين أهم أشد خلقا من خلق السماوات والأرض وما بينهما وخلق المشارق والمغارب وخلق الشياطين الذين يصعدون الفلك، ولا شك أنهم يعترفون بأن خلق هذا القسم أشق وأشد في العرف من خلق القسم الأول، فلما ثبت بالدلائل المذكورة في إثبات التوحيد كونه تعالى قادرا على هذا القسم الذي هو أشد وأصعب، فبأن يكون قادرا على إعادة الحياة في هذه الأجساد كان أولى، ونظير هذه الدلالة قوله تعالى في آخر يس * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) * (يس: 81) وقوله تعالى: * (لخلق السماوات والأرض أكبر من
خلق الناس) * (غافر: 57) وأما الطريق الثاني: فهو المراد من قوله: * (إنا خلقناهم من طين لازب) * والمعنى أن هذه الأجسام قابلة للحياة إذ لو لم تكن قابلة للحياة لما صارت حية في المرة الأولى والإله قادر على خلق هذه الحياة في هذه الأجسام، ولولا كونه تعالى قادرا على هذا المعنى لما حصلت الحياة في المرة الأولى، ولا شك أن قابلية تلك الأجسام باقية وأن قادرية الله تعالى باقية لأن هذه القابلية وهذه القادرية من الصفات الذاتية فامتنع زوالها فثبت بهذين الطريقين أن القول بالبعث والقيامة أمر
124

ممكن، ولما بين تعالى إمكان هذا المعنى بهذين الطريقين بين وقوعه بقوله؛ * (قل نعم وأنتم داخرون) * (الصافات: 18) وذلك لأنه ثبت صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل ظهور المعجزات عليه والصادق إذا أخبر عن أمر ممكن الوقوع وجب الاعتراف بوقوعه فهذا تقرير نظم هذه الآية وهو في غاية الحسن والله أعلم.
المسألة الثانية: في تفسير ألفاظ هذه الآية، أما قوله: * (فاستفتهم) * يعني أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة كونه تعالى خالقا للسموات والأرض وما بينهما فاستفت هؤلاء المنكرين وقل لهم * (أهم أشد خلقا) * أم هذه الأشياء التي بينا كونه تعالى خالقا لها ولم يحك عنهم أنهم أقروا أن خلق هذه الأشياء أصعب لأجل أن ظهور ذلك كالمعلوم بالضرورة فلا حاجة أن يحكى عنهم صحة أن الأمر كذلك.
ثم قال تعالى: * (إنا خلقناهم من طين لازب) * يعني أنا لما قدرنا على خلق الحياة في ذواتهم أولا وجب أن نبقى قادرين على خلق الحياة فيهم ثانيا، لما بينا أن حال القابل وحال الفاعل ممتنع التغير. وفيه دقيقة أخرى وهي أن القوم قالوا كيف يعقل تولد الإنسان لا من النطفة ولا من الأبوين؟ فكأنه قيل لهم إنكم لما أقررتم بحدوث العالم واعترفتم بأن السماوات والأرض وما بينهما إنما حصل بتخليق الله تعالى وتكوينه فة بد وأن تعترفوا بأن الإنسان الأول إنما حدث لا من الأبوين؟ فإذا عقلتم ذلك واعترفتم به فقد سقط قولكم الإنسان كيف يحدث من غير النطفة ومن غير الأبوين، وأيضا قد اشتهر عند الجمهور أن آدم مخلوق من الطين اللازب ومن قدر على خلق الحياة في الطين اللازب فكيف يعجز عن إعادة الحياة إلى هذه الذوات. وأما كيفية خلق الإنسان من الطين اللازب فهي مذكورة في السورة المتقدمة، واعلم أن هذا الوجه أنما يحسن إذا قلنا المراد من قوله تعالى: * (إنا خلقناهم من طين لازب) * هو أنا خلقنا أباهم آدم من طين لازب، وفيه وجوه أخر وهو أن يكون المراد أنا خلقنا كل إنسان من طين لازب، وتقريره أن الحيوان إنما يتولد من المني ودم الطمث والمني يتولد من الدم فالحيوان إنما يتولد من الدم والدم إنما يتولد من الغذاء، والغذاء إما حيواني وإما نباتي أما تولد الحيوان الذي صار غذاء فالكلام في كيفية تولده كالكلام في تولد الإنسان، فثبت أن الأصل في الأغذية هو النبات والنبات إنما يتولد من امتزاج الأرض بالماء وهو الطين اللازب وإذا كان الأمر كذلك فقد ظهر أن كل الخلق متولدون من الطين اللازب، وإذا ثبت هذا فنقول إن هذه الأجزاء التي منها تركب هذا الطين اللازب قابلة للحياة والله تعالى قادر عليها، وهذه القابلية والقادرية واجبة البقاء فوجب بقاء هذه الصحة في كل الأوقات وهذه بيانات ظاهرة واضحة، وأما اللازب فقل اللاصق، وقيل اللزج وقيل الحتد، وأكثر أهل اللغة على أن الباء في لازب بدل من الميم يقال لازب ولازم.
125

ثم قال تعالى:
* (بل عجبت ويسخرون) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: تقرير الكلام أن يقال إن هؤلاء المنكرين أقروا بأنه تعالى قادر على تكوين أشياء أصعب من إعادة الحياة إلى هذه الأجساد، وقد تقرر في صرائح العقول أن القادر على الأشق الأشد يكون قادرا على أو سهل أو يسر، ثم مع قيام هذه الحجة البديهية بقي هؤلاء الأقوام مصرين على إنكار البعث والقيامة وهذا في موضع التعجب الشديد فإن مع ظهور هذه الحجة الجلية الظاهرة كيف يعقل بقاء القوم على الإصرار فيه. فأنت يا محم تتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم في طرف الإنكار وصلوا إلى حيث يستخرون منك في قولك بإثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، فهذا هو المراد من قوله: * (بل عجبت ويسخرون) *.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي * (عجبت) * بضم التاء والباقون بفتحها قال الواحدي: والضم قراءة ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم ويحيى بن وثاب والأعمش وقراءة أهل الكوفة واختيار أبي عبيدة، أما الذين قرأوا بالفتح فقد احتجوا بوجوه الأول: أن القراءة بالضم تدل على إسناد العجب إلى الله تعالى وذلك محال، لأن التعجب حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء ومعلوم أن الجهل على الله محال والثاني: أن الله تعالى أضاف التعجب إلى محمد صلى الله عليه وسلم في آية أخرى في هذه المسألة فقال: وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا) * (الرعد: 5)، والثالث: أنه تعالى قال: * (بل عجبت ويسخرون) * والظاهر أنهم سخروا لأجل ذلك التعجب فلما سخروا منه وجب أن يكون ذلك التعجب صادرا منه، وأما الذين قرأوا بضم التاء، فقد أجابوا عن الحجة الأولى من وجوه الأول: أن القراءة بالضم لا نسلم أنها تدل على إسناد التعجب إلى الله تعالى، وبيانه أنه يكون التقدير قل يا محمد (بل عجبت ويسخرون) ونظيره قوله تعالى: * (أسمع بهم وأبصر) * (مريم: 38) معناه أن هؤلاء ما تقولون فيه أنتم هذا النحو من الكلام، وكذلك قوله تعالى: * (فما أصبرهم على النار) * (البقرة: 175) الثاني: سلمنا أن ذلك يقتضي إضافة التعجب إلى الله تعالى فلم قلتم إن ذلك محال؟ ويروى أن شريحا كان يختار القراءة بالنصب ويقول العجب لا يليق إلا بمن لا يعلم، قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: إن شريحا يعجب بعلمه وكان عبد الله أعلم، وكان يقرأ بالضم وتحقيق القول فيه أن نقول: دل القرآن والخبر على جواز إضافة العجب إلى الله تعالى، أما القرآن فقوله تعالى: وإن تعجب فعجب قولهم) * (الرعد: 5) والمعنى إن تعجب يا محمد من قولهم، فهو أيضا عجب عندي، وأجيب عنه أنه لا يمتنع أن يكون المراد وإن تعجب فعجب قولهم عندكم، وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم: " عجب ربكم من إلكم وقنوطكم، وعجب ربكم من شاب ليست له صبوة " وإذا ثبت هذا فنقول العجب من الله تعالى خلاف العجب من الآدميين كما قال: * (ويمكرون ويمكر
126

الله) * (الأنفال: 30) وقال: * (سخر الله منهم) * (التوبة: 79) وقال تعالى: * (وهو خادعهم) * (النساء: 142) والمكر والخداع والسخرية من الله تعالى بخلاف هذه الأحوال من العباد، وقد ذكرنا أن القانون في هذا الباب أن هذه الألفاظ محمولة على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض. وكذلك ههنا من تعجب من شيء فإنه يستعظمه فالتعجب في حق الله تعالى محمول على أنه تعالى يستعظم تلك الحالة إن كانت قبيحة فيترتب العقاب العظيم عليه، وإن كانت حسنة فيترتب الثواب العظيم عليه، فهذا تمام الكلام في هذه المناظرة، والأقرب أن يقال القراءة بالضم إن ثبت بالتواتر وجب المصير إليها ويكون التأويل ما ذكرناه وإن لم تثبت هذه القراءة بالتواتر كانت القراءة بفتح التاء أولى والله أعلم. ثم قال تعالى:
* (وإذا ذكروا لا يذكرون * وإذا رأوا ءاية يستسخرون * وقالوا إن هذآ إلا سحر مبين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * أو ءابآؤنا الاولون * قل نعم وأنتم داخرون) *
اعلم أنه تعالى لما قرر الدليل القادع في إثبات إمكان البعث والقيامة حكى عن المنكرين أشياء أولها: النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب من إصرارهم على الإنكار وهم يسخرون منه في إصراره على الإثبات، وهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع أولئك الأقوام كانوا في غاية التباعد وفي طرفي النقيض وثانيها قوله: * (وإذا ذكروا لا يذكرون) *، وثالثها قوله: * (وإذا رأوا آية يستسخرون) * ويجب أن يكون المراد من هذا الثاني والثالث غير الأول لأن العطف يوجب التغاير ولأن التكرير خلاف الأصل، والذي عندي في هذا الباب أن يقال القوم كانوا يستبعدون الحشر والقيامة ويقولون: من مات وصار ترابا وتفرقت أجزاؤه في العالم كيف يعقل عوده بعينه؟ وبلغوا في هذا الاستبعاد إلى حيث كانوا يسخرون ممن يذهب إلى هذا المذهب وإذا كان كذلك فلا طريق إلى إزالة هذا الاستبعاد عنهم إلا من وجهين أحدهما: أن يذكر لهم الدليل الدال على صحة الحشر والنشر مثل أن يقال لهم: هل تعلمون أن خلق السماوات والأرض أشد وأصعب من إعادة إنسان بعد موته؟ وهل تعلمون أن القادر على أو صعب الأشق يجب أن يكون قادرا على الأسهل الأيسر؟ فهذا الدليل وإن كان جليا قويا إلا أن أولئك المنكرين إذا عرض على عقولهم هذه المقدمات لا يفهمونها ولا يقفون عليها، وإذا ذكروا لم يذكروها لشدة
127

بلادتهم وجهلهم، فلا جرم لم ينتفعوا بهذا النوع من البيان.
الطريق الثاني: أن يثبت الرسول صلى الله عليه وسلم جهة رسالته بالمعجزات ثم يقول لما ثبت بالمعجز كوني رسولا صادقا من عند الله فأنا أخبركم بأن البعث والقيامة حق، ثم إن أولئك المنكرين لا ينتفعون بهذا الطريق أيضا لأنهم إذا رأوا معجزة قاهرة وآية باهرة حملوها على كونها سحرا وسخروا بها واستهزؤا منها وهذا هو الراد من قوله: وإذا رأوا آية يستسخرون) * فظهر بالبيان الذي ذكرناه أن هذه الألفاظ الثلاثة منبهة على هذه الفوائد الجليلة.
واعلم أن أكثر الناس لم يقفوا على هذه الدقائق، فقالوا إنه تعالى قال: * (بل عجبت ويسخرون) * (الصافات: 12). ثم قال: * (وإذا رأوا آية يستسخرون) * فوجب أن يكون المراد من قوله: * (يستسخرون) * غير ما تقدم ذكه من قوله: * (ويسخرون) * فقال هذا القائل المراد من قوله: * (ويسخرون) * إقدامهم على السخرية والمراد من قوله: * (يستسخرون) * طلب كل واحد منهم من صاحبه أن يقدم على السخرية وهذا التكليف إنما لزمهم لعدم وقوفهم على الفوائد التي ذكرناها والله أعلم والرابع: من الأمور التي حكاها الله تعالى عنهم أنهم قالوا: * (إن هذا إلا سحر مبين) * يعني أنهم إذا رأوا آية ومعجزة سخروا منها، والسبب في تلك السخرية اعتقادهم أنها من باب السحر وقوله: * (مبين) * معناه أن كونه سحرا أمر بين لا شبهة لأحد فيه، ثم بين تعالى أن السبب الذي يحملهم على الاستهزاء بالقول بالبعث وعلى عدم الالتفات إلى الدلائل الدالة على صحة القول وعلى الاستهزاء بجميع المعجزات هو قولهم إن الذي مات وتفرقت أجزاؤه في جملة العالم فما فيه من الأرضية اختلط بتراب الأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حيا فاهما؟ فهذا الكلام هو الذي يحملهم على تلك الأحوال الثلاثة المتقدمة، ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال: قال يا محمد نعم وأنتم داخرون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب لأنه ذكر في الآية المتقدمة بالبرهان اليقيني القطعي أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق، فلما قامت المعجزات على صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله: * (قل نعم) * دليلا قاطعا على الوقوع. ومن تأمل في هذه الآيات علم أنها وردت على أحسن وجوه الترتيب، وذلك لأنه بين الإمكان بالدليل العقلي وبين وقوع ذلك الممكن بالدليل السمعي، ومن المعلوم أن الزيادة على هذا البيان كالأمر الممتنع.
أما قوله: * (أو آباؤنا) * فالمعنى أو تبعث آباؤنا وهذه ألف الاستفهام دخلت على حرف العطف وقرأ نافع وابن عامر ههنا، وفي سورة الواقعة ساكنة الواو وذكرنا الكلام في هذا في سورة الأعراف عن قوله: * (أو أمن أهل القرى) * (الأعراف: 98).
أما قوله تعالى: * (قل نعم) * فنقول قرأ الكسائي وحده (نعم) بكسر العين.
أما قوله تعالى: * (وأنتم داخلون) * أي صاغرون، قال أبو عبيد الدخور أشد الصغار، وذكرنا تفسير هذه اللفظة عند قوله: * (سجدا لله وهم داخرون) * (النحل: 48).
128

قوله تعالى
* (فإنما هى زجرة واحدة فإذا هم ينظرون * وقالوا ياويلنا هذا يوم الدين * هذا يوم الفصل الذى كنتم به تكذبون) *
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما يدل على إمكان البعث والقيامة، ثم أردفه بما يدل على وقوع القيامة، ذكر في هذه الآيات بعض تفاصيل أحوال القيامة، وأنه تعالى ذكر في هذه الآية أنواعا من تلك الأحوال فالحالة الأولى: قوله تعالى: * (فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قوله: * (فإنما) * جواب شرط مقدر والتقدير إذا كان كذلك فما هي إلا زجرة واحدة.
البحث الثاني: الضمير في قوله: * (فإنما هي) * ضمير على شريطة التفسير، والتقدير فإنما البعث زجرة واحدة.
البحث الثالث: الزجرة في اللغة الصيحة التي يزجر بها كالزجرة بالنعم والإبل عند البحث ثم كثر استعمالها حتى صارت بمعنى الصيحة وإن لم يكن فيها معنى الزجر كما في هذه الآية وأقول لا يبعد أن يقال إن تلك الصيحة إنما سميت زجرة لأنها تزجر الموتى عن الرقود في القبور وتحثهم على القيام من القبور والحضور في موقف القيامة، فإذا عرفت هذا فنقول المراد من هذه الزجرة ما ذكره الله تعالى في قوله: * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68) فبالنفخة الأولى يموتون وبالنفخة الثانية يحيون ويقومون، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في هذه الصيحة فإن القوم في تلك الساعة أموات لأن النفخة جارية مجرى السبب لحياتهم فتكون مقدمة على حصول حياتهم فثبت أن هذه الصيحة إنما حصلت حال كون الخلق أمواتا، فتكون تلك الصيحة عديمة الفائدة فهي عبث والعبث لا يجوز في فعل الله والجواب: أما أصحابنا فيقولون يفعل الله ما يشاء، وأما المعتزلة فقال القاضي فيه وجهان الأول: أن تعتبر بها الملائكة الثاني: أن تكون الفائدة التخويف والإرهاب.
السؤال الثاني: هل لتلك الصيحة تأثير في إعادة الحياة؟ الجواب: لا، بدليل أن الصيحة الأولى استعقبت الموت والثانية الحياة وذلك يدل على أن الصيحة لا أثر لها في الموت ولا في الحياة، بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2).
السؤال الثالث: تلك الصيحة صوت الملائكة أو الله تعالى يخلقها ابتداء؟ الجواب: الكل
129

جائز إلا أنه روي أن الله تعالى يأمر إسرافيل حتى ينادي: أيتها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى: اللفظ الرابع: من الألفاظ المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (فإذا هم ينظرون) * فيحتمل أن يكون المراد ينظرون ما يحدث بهم ويحتمل ينظر بعضهم إلى بعض وأن يكون المراد ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به الحالة الثانية: من وقائع القيامة ما أخبر الله عنهم أنهم بعد القيام من القبور قالوا: * (يا ويلنا هذا يوم الدين) * قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة والمقصود أنهم لما شاهدوا القيامة قالوا: * (هذا يوم الدين) * أي يوم الجزاء هذا، والمقصود أن الله تعالى ذكر في آيات كثيرة من القرآن، أنا نرى في الدنيا محسنا ومسيئا وعاصيا وصديقا وزنديقا، ورأينا أنه لم يصل إليهم في الدنيا ما يليق بهم من الجزاء فوجب القول بإثبات القيامة: * (ليجزي الذين أساؤا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 31) وبالجملة فهذا يدل على أن الجزاء إنما يحصل بعد الموت، والكفار وإن سمعوا هذا الدليل القوي لكنهم أنكروا وتمردوا ثم إنه تعالى إذا أحياهم يوم القيامة فإذا شاهدوا القيامة يذكرون ذلك اليوم ويقولون: * (هذا يوم الدين) * أي يوم الجزاء الذي ذكر الله الدلائل الكثيرة عليه في القرآن فكفرنا بها، ونظيره أن من خوف بشيء ولم يتلفت إليه، ثم عاينه بعد ذلك فقد يقول هذا يوم الواقعة الفلانية فكذا ههنا، وفيه احتمال آخر وهو أنه تعالى قال في سورة الفاتحة * (مالك بن الدين) * (الفاتحة: 4) فبين أنه لا مالك في ذلك اليوم إلا الله فقولهم هذا يوم الدين، إشارة إلى أن هذا هو اليوم الذي لا حكم فيه لأحد إلا لله، وإنما ذكروه لما حصل في قلوبهم من الخوف الشديد.
أما قوله تعالى: * (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) * ففيه بحثان:
الأول: اختلفوا في أن هذا هو من بقية كلام الكفار أو يقال تم كلامهم عند قوله تعالى: * (هذا يوم الدين) *. وأما قوله: * (هذا يوم الفصل) * فهو كلام غيرهم، فبعضهم قال بالأول وزعم أن قوله: * (هذا يوم الفصل) * الآية من كلام بعضهم لبعض، والأكثرون على القول الثاني واحتجوا بوجهين: الأول: أن قوله: * (كنتم به تكذبون) * من كلام بعضهم لبعض خطاب مع جميع الكفار فقائل هذا القول لا بد وأن يكون غير الكفار الثاني: أن قوله: احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) * (الصافات: 22) منسوق على قوله: * (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) * فلما كان قوله: احشروا الذين ظلموا) * كلام غير الكفار فكذلك قوله: * (هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) * يجب أن يكون كلام غير الكفار، وعلى هذا التقدير فقوله: * (هذا يوم الدين) * من كلام الكفار، وقوله: * (هذا يوم الفصل) * من كلام الملائكة جوابا لهم، والوجه في كونه جوابا لهم أن أولئك الكفار، إنما اعتقدوا في أنفسهم كونهم محقين في إنكار دعوة الأنبياء عليهم السلام وكونهم محقين في تلك الأديان الفاسدة فقالوا: * (هذا يوم الدين) * أي هذا اليوم الذي يصل فيه إلينا جزاء طاعتنا وخيراتنا، فالملائكة يقولون لهم إنه لا اعتبار بظواهر الأمور في هذا اليوم فإن هذا اليوم
130

يفصل فيه الجزاء الحقيقي عن الجزاء الظاهري وتميز فيه الطاعات الحقيقية عن الطاعات المقرونة بالرياء والسمعة فبهذا الطريق صار هذا الكلام من الملائكة جوابا لما ذكره الكفار. ثم قال تعالى:
* (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم * وقفوهم إنهم مسئولون * ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون) *
وفي الآية أبحاث:
البحث الأول: اعلم أنه لا نزاع في أن هذا من كلام الملائكة فإن قيل ما معنى: * (احشروا) * مع أنهم قد حشروا من قبل وحضروا في محفل القيامة وقالوا: * (هذا يوم الدين) * (الصافات: 20) وقالت الملائكة لهم بل: * (هذا يوم الفصل) * (الصافات: 21) أجاب القاضي عنه، فقال المراد احشروهم إلى دار الجزاء وهي النار، ولذلك قال بعده: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * أي خذوهم إلى ذلك الطريق ودلوهم عليه ثم سأل نفسه فقال: كيف يصح ذلك وقد قال بعده * (
وقفوهم إنهم مسؤولون) * ومعلوم أن حشرهم إلى الجحيم، إنما يكون بعد المسألة، وأجاب أنه ليس في العطف بحرف الواو ترتيب فلا يمتنع أن يقال احشروهم وقفوهم، مع أنا بعقولنا نعلم أن الوقوف كان قبل الحشر إلى النار، هذا ما قاله القاضي، وعندي فيه وجه آخر وهو أن يقال إنهم إذا قاموا من قبورهم لم يبعد أن يقفوا هناك بحيرة تلحقهم بسبب معاينة أهوال القيامة، ثم إن الله تعالى يقول للملائكة: احشروا الذين ظلموا واهدوهم إلى صراط الجحيم، أي سوقوهم إلى طريق جهنم وقفوهم هناك وتحصل المسألة هناك ثم من هناك يساقون إلى النار وعلى هذا التقدير فظاهر النظم موافق لما عليه الوجه.
البحث الثاني: الآمر في قوله تعالى: * (احشروا الذين ظلموا) * هو الله فهو تعالى أمر الملائكة أن يحشروا الكفار إلى موقف السؤال والمراد من الحشر أن الملائكة يسوقونهم إلى ذلك الموقف.
البحث الثالث: أن الله أمر الملائكة بحشر ثلاثة أشياء: الظالمين، وأزواجهم، والأشياء التي كانوا يعبدونها. وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أنه تعالى قال: * (احشروا الذين ظلموا) * ثم ذكر من صفات الذين ظلموا كونهم عابدين لغير الله وهذا يدل على أن الظالم المطلق هو الكافر وذلك يدل على أن كل وعيد ورد في حق الظالم فهو مصروف إلى الكفار ومما يؤكد هذا قوله تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (البقرة: 254).
الفائدة الثانية: اختلفوا في المراد بأزواجهم وفيه ثلاثة أقوال الأول: المراد بأزواجهم أشباههم أي أحزابهم ونظراؤهم من الكفر فاليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني والذي يدل على جواز أن يكون المراد من الأزواج الأشباه وجوه الأول: قوله تعالى: * (وكنتم
131

أزواجا ثلاثة) * (الواقعة: 7) أي أشكالا وأشباها الثاني: أنك تقول عندي من هذا أزواج أي أمثال وتقول زوجان من الخف لكون كل واحد منهما نظير الآخر وكذلك الرجل والمرأة سميا زوجين لكونهما متشابهين في أكثر أحكام النكاح وكذلك العدد الزوج سمي بهذا الاسم لكون كل واحد من سميه مثالا للقسم الثاني في العدد الصحيح، قال الواحدي فعلى هذا القول يجب أن يكون المراد بالذين ظلموا الرؤساء ونك لو جعلت الذين ظلموا عاما في كل من أشرك لم يكن للأزواج معنى القول الثاني: في تفسير الأزواج أن المراد قرناؤهم من الشياطين لقوله تعالى: وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) * (الأعراف: 202)، والقول الثالث: أن المراد نساؤهم اللواتي على دينهم. أما قوله: * (وما كانوا يعبدون * من دون الله) * ففيه قولان الأول: المراد ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان والطواغيت، ونظيره قوله: * (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) * (البقرة: 24) قيل المراد بالناس عباد الأوثان والمراد بالحجارة الأصنام التي هي أحجار منحوتة، فإن قيل إن تلك الأحجار جمادات فما الفائدة في حشرها إلى جهنم؟ أجاب القاضي بأنه ورد الخبر بأنها تعاد وتحيا لتحصل المبالغة في توبيخ الكفار الذين كانوا يعبدونها ولقائل أن يقول هب أن الله تعالى يحيي تلك الأصنام إلا أنه لم يصدر عنها ذنب، فكيف يجوز من الله تعالى تعذيبها؟ والأقرب أن يقال إن الله تعالى لا يحيي تلك الأصنام بل يتركها على الجمادية. ثم يلقيها في جهنم لأن ذلك مما يزيد في تخجيل الكفار القول الثاني:: أن المراد من قوله: * (وما كانوا يعبدون * من دون الله) * الشياطين الذين دعوهم إلى عبادة ما عبدوا فلما قبلوا منهم ذلك الدين صاروا كالعابدين لأولئك الشياطين وتأكد هذا بقوله تعالى: * (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيان) * (يس: 60) والقول الأول أولى لأن الشياطين عقلاء وكلمة ما لا تليق بالعقلاء والله أعلم.
ثم قال: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * قال ابن عباس: دلوهم يقال هديت الرجل إذا دللته وإنما استعملت الهداية ههنا، لأنه جعل بدل الهداية إلى الجنة، كما قال: * (فبشرهم بعذاب أليم) * (آل عمران: 21) فوقعت البشارة بالعذاب لهؤلاء بدل البشارة بالنعيم لأولئك، وعن ابن عباس * (فاهدوهم سوقوهم وقال الأصم: قدموهم، قال الواحدي: وهذا وهم. لأنه يقال هدى إذا تقدم ومنه الهداية والهوادية والهاديات الوحش، قال: ولا يقال هدى بمعنى قدم، ثم قال: * (وقفوهم) * يقال: وقفت الدابة اقفها وقفا فوقفت هي وقوفا، والمعنى احبسوهم وفي الآية قولان أحدهما:: على التقديم والتأخير، والمعنى قفوهم واهدوهم، والأصوب أنه لا حاجة إليه، بل كأنه قيل: فاهدوهم إلى صراط الجحيم فإذا انتهوا إلى الصراط قيل * (وقفوهم) * فإن السؤال يقع هناك وقوله: * (إنهم مسؤولون) * قيل عن أعمالهم في الدنيا وأقوالهم، وقيل المراد سألتهم الخزنة * (ألم يأتكم رسل منكم... قالوا: بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) * (الزمر: 71) ويجوز أن يكون هذا السؤال ما ذكر بعد ذلك وهو قوله تعالى: * (ما لكم لا تناصرون) * أي أنهم يسألون توبيخا لهم، فيقال: * (ما لكم لا تناصرون) * قال ابن عباس
132

رضي الله عنهما: لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر فقيل لهم يوم القيامة ما لكم غير متناصرين، وقيل يقال لكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
ثم قال تعالى: * (بل هم اليوم مستسلمون) * يقال استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، ومعناه في الأصل طلب السلامة بترك المنازعة، والمقصود أنهم صاروا منقادين لا حيلة لهم في دفع تلك المضار لا العابد ولا المعبود.
* (وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *
ثم قال تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض) * قيل هم والشياطين، وقيل الرؤساء والأتباع. * (يتساءلون) * أي يسأل بعضهم بعضا، وهذا التساؤل عبارة عن التخاصم وهو سؤال التبكيت يقولون غررتمونا، ويقول: أولئك لم قبلتم منا، وبالجملة فليس ذلك تساؤل المستفهمين، بل هو تساؤل التوبيخ واللوم، والله أعلم.
قوله تعالى
* (قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين * قالوا بل لم تكونوا مؤمنين * وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين * فحق علينا قول ربنآ إنا الذآئقون * فأغويناكم إنا كنا غاوين * فإنهم يومئذ فى العذاب مشتركون * إنا كذلك نفعل بالمجرمين * إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أءنا لتاركو ءالهتنا لشاعر مجنون *
بل جآء بالحق وصدق
133

المرسلين * إنكم لذآئقو العذاب الاليم * وما تجزون إلا ما كنتم تعملون * إلا عباد الله المخلصين) *
واعلم أن الله تعالى لما حكى عنهم أنه أقبل بعضهم على بعض يتساءلون شرح كيفية ذلك التساؤل فقال: * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * وهذا قول الأتباع لمن دعاهم إلى الضلالة، وفي تفسير اليمين وجوه الأول: أن لفظ اليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات، وبيان كيفية هذه الاستعارة، أن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر لوجوه أحدها: اتفاق الكل على أن أشرف الجانبين هو اليمين والثاني: لا يباشرون الأعمال الشريفة إلا باليمين مثل مصافحة الأخيار والأكل والشرب وما على العكس منه يباشرونه باليد اليسرى الثالث: أنهم كانوا يتفاءلون وكانوا يتيمنون بالجانب الأيمن ويسمونه بالبارح الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء الخامس: أن الشريعة حكمت بأن الجانب الأيمن لكاتب الحسنات والأيسر لكاتب السيئات السادس: أن الله تعالى وعد لمحسن أن يؤتى كتابه بيمينه، والمسئ أن يؤتى كتابه بيساره، فثبت أن الجانب الأيسر، وإذا كان كذلك لا جرم، استعير لفظ اليمين للخيرات والحسنات والطاعات، فقوله: * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * يعني أنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون لنا أن مقصودكم من الدعوة إلى تلك الأديان نصرة الحق وتقوية الصدق والوجه الثاني: في التأويل أنه يقال فلان يمين فلان، إذا كان عنده بالمنزلة الحسنة، فقال هؤلاء الكفار لأئمتهم الذين أضلوهم وزينوا لهم الكفر: إنكم كنتم تخدعونا وتوهمون لنا، أننا عندكم بمنزلة اليمين، أي بالمنزلة الحسنة، فوثقنا بكم وقبلنا عنكم الوجه الثالث: أن أئمة الكفار كانوا قد حلفوا لهؤلاء المستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق، فوثقوا بإيمانهم وتمسكوا بعهودهم التي عهدوها لهم، فمعنى قوله: * (كنتم تأتوننا عن اليمين) * أي من ناحية المواثيق والأيمان التي قدمتموها لنا الوجه الرابع: أن لفظ اليمين مستعار من القوة والقهر، لأن اليمين موصوفة بالقهر وبها يقع البطش، والمعنى أنكم كنتم تأتوننا عن القوة والقهر، وتقصدوننا عن السلطان والغلبة حتى تحملونا على الضلال وتعيرونا عليه، ثم حكى الله تعالى عن الرؤساء أنهم أجابوا الأتباع من وجوه الأول: أنهم قالوا لهم * (بل لم تكونوا مؤمنين) * يعني أنكم ما كنتم موصوفين بالإيمان حتى يقال إنا أزلناكم عنه الثاني: قولهم: * (وما كان لنا عليكم من سلطان) * يعني لا قدرة لنا عليكم حتى نقهركم ونجبركم الثالث: * (بل كنتم قوما طاغين) * أي ضالين غالين في معصية الله الرابع: قولهم: * (فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون) * والمعنى أن الله تعالى لما أخبر عن
134

وقوعنا في العذاب، فلو لم يحصل وقوعنا في العذاب لما كان خبر الله حقا، بل كان باطلا، ولما كان خبر الله أمرا واجبا لا جرم، كان الوقوع في العذاب الأليم لازما، قال مقاتل قوله تعالى: * (فحق علينا قول ربنا) * إشارة إلى قول الله لإبليس: * (لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) * (ص: 85) وقوله تعالى: * (إنا لذائقون) * يعني لما وجب أن يحق علينا قول ربنا وجب أن نكون ذائقين لهذا العذاب الخامس قولهم: * (فأغويناكم إنا كنا غاوين) * والمعنى أنا إنما أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، وفيه دقيقة أخرى، كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر ولزم التسلسل وذلك محال، فعلمنا أن حصول الغواية والرشاد ليس من قبلنا، بل من قبل غيرنا، وذلك الغير هو الذي ذكره فيما قبل، وهو قوله: * (فحق علينا قول ربنا) * ولما حكى الله تعالى كلام الأتباع للرؤساء وكلام الرؤساء للأتباع قال بعده: * (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون) * يعني فالمتبوع والتابع والمخدوم والخادم مشتركون في الوقوع في العذاب كما كانوا في الدنيا مشتركين في الغواية، ثم قال أيضا: * (إنا كذلك نفعل بالمجرمين) * وعني بالمجرمين ههنا الكفار بدليل أنه تعالى قال بعد هذه الكلمة: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) * والضمير في قوله: * (إنهم) * عائد إلى المذكور السابق وهو قوله: * (بالمجرمين) * وهذا يدل على أن لفظ المجرم المطلق مختص في القرآن بالكافر، ثم بين تعالى أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لأنهم كانوا مكذبين بالتوحيد وبالنبوة، أما التكذيب بالتوحيد فهو قوله تعالى: * (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) * يعني ينكرون ويتعصبون لإثبات الشرك ويستنكفون عن الإقرار بالتوحيد. وأما التكذيب بالنبوة فهو قولهم: * (أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) * ويعنون محمدا، ثم إنه تعالى كذبهم في ذلك الكلام فقال: * (بل جاء بالحق وصدق المرسلون) * وتقرير هذا الكلام أنه جاء بالدين الحق لأنه ثبت بالعقل أنه تعالى منزه عن الضد والند والشريك فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم بتقرير هذه المعاني كان مجيئه بالدين الحق، قرأ ابن كثير * (أينا لتاركوا آلهتنا) * بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد، وقرأ نافع في رواية قالون وأبو عمرو على هذا التفسير يمدان والباقون بهمزتين بلا مد وقوله تعالى: * (وصدق المرسلون) * يعني صدقهم في مجيئهم بالتوحيد ونفي الشريك، وهذا تنبيه على أن القول بالتوحيد دين لكل الأنبياء، ولما حكى الله عنهم تكذيبهم بالتوحيد والنبوة نقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال: * (إنكم لذائقون العذاب الأليم) * كأنه قيل فكيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عباده فأجاب عنه بقوله: * (وما تجزون إلا ما كنتم تعملون) * والمعنى أن الحكم يقتضي الأمر بالحسن والطاعة والنهي عن القبيح والمعصية والأمر والنهي لا يكمل المقصود منهما
135

إلا بالترغيب في لثواب والترهيب بالعقاب وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحقيقه صونا للكلام عن الكذب، فلهذا السبب وقعوا في العذاب ثم قال: * (إلا عباد الله المخلصين) * يعني ولكن عباد الله (المخلصين ناجون وهو) من الاستثناء المنقطع.
* (أولئك لهم رزق معلوم * فواكه وهم مكرمون * فى جنات النعيم * على سرر متقابلين * يطاف عليهم بكأس من معين * بيضآء لذة للشاربين * لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون * وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنهن بيض مكنون * فأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون) *
اعلم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين علي إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخلصين قراءتين فالفتح أن الله تعالى أخلصهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوما، ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال، فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية، قال تعالى: * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (مريم: 62)، وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها الله فيه من طيب طعم ورائحة ولذة حسن منظر، وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع، وقيل معناه: القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله وكرامته عليهم، وقد بين الله تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل، ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقا بين أن ذلك الرزق ما هو فقال: * (فواكه) * وفيه قولان الأول: أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات
136

فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني: أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الأدام أولى بالحضور، والقول الأول أقرب إلى التحقيق، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال: * (وهم مكرمون) * لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال: * (في جنات النعيم * على سرر متقابلين) * ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي الله أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم، ولما شرح الله صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشرب فقال: * (يطاف عليهم بكأس من معين) * يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأسا قال: وكأس شرت على لذة * وأخرى تداويت منها بها
وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقوله: * (من معين) * أي من شراب معين، أو من نهر معين، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معينا لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جاريا، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل، وقيل سمي معينا لأنه يجري ظاهر العين، ويجوز أن يكون فعيلا من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه، وقوله: * (بيضاء) * صفة للخمر، قال الأخفش، خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وقوله: * (لذة) * فيه وجوه أحدها: أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين وثانيها: قال الزجاج أي ذات لذة فعلى هذا حذف المضاف وثالثها: قال الليث: اللذ واللذيذ يجريان مجرى واحدا في النعت ويقال شراب لذ ولذيذ قال تعالى: * (بيضاء لذة للشاربين) * وقال تعالى: * (من خمر لذة للشاربين) * (محمد: 15) ولذلك سمي النوم لذا لاستلذاذه، وعلى هذا لذة بمعنى لذيذة، والأقرب من هذه الوجوه الأول.
ثم قال تعالى: * (لا فيها غول) * وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الفراء العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء، وقال أبو عبيدة الغول أن يغتال عقولهم، وأنشد قول مطيع بن إياس: وما زالت الكأس تغتالهم * وتذهب بالأول الأول
وقال الليث: الغول الصداع والمعنى ليس فيها صداع كما في خمر الدنيا، قال الواحدي رحمه الله وحقيقته الإهلاك، يقال غاله غولا أي أهلكه، والغول والغائل المهلك، ثم سمي الصداع غولا لأنه يؤدي إلى الهلاك.
ثم قال تعالى: * (ولا هم عنها ينزفون) * وقرئ بكسر الزاي قال الفراء من كسر الزاي فله معنيان يقال أنزف الرجل إذا نفدت خمرته، وأنزف إذا ذهب عقله من السكر ومن فتح الزاي فمعناه
137

لا يذهب عقولهم أي لا يسكرون يقال نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، والمعنى ليس فيها قط نوع من أنواع الفساد التي تكون في شرب الخمر من صداع أو خمار أو عربدة ولا هم يسكرون أيضا، وخصه بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر، ولما ذكر الله تعالى صفة مشروبهم ذكر عقيبه صفة منكوحهم من ثلاثة أوجه الأول: قوله: * (وعندهم قاصرات الطرف) * ومعنى القصر في اللغة الحبس ومنه قوله تعالى: * (حور مقصورات في الخيام) * (الرحمن: 72) والمعنى أنهن يحبسن نظرهن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن.
الصفة الثانية: قوله تعالى: * (عين) * قال الزجاج: كبار الأعين حسانها واحدها عيناء.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (كأنهن بيض مكنون) * المكنون في اللغة المستور يقال كننت الشيء وأكنته، ومعنى هذا التشبيه أن ظاهر البيض بياض يشوبه قليل من الصفرة، فإذا كان مكنونا كان مصونا عن الغبرة والقترة، فكان هذا اللون في غاية الحسن والعرب كانوا يسمون النساء بيضات الخدور.
ولما تمم الله صفات أهل الجنة قال: * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * فإن قيل على أي شيء عطف قوله: * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) *؟ قلنا على قوله: * (يطاف عليهم) * والمعنى يشربون ويتحادثون على الشراء قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا * محادثة الكرام على المدام
والمعنى فيقبل بعضهم على بعض يتساءلون عما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
قوله تعالى
* (قال قآئل منهم إنى كان لى قرين * يقول أءنك لمن المصدقين * أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون * قال هل أنتم مطلعون * فاطلع فرءاه فى سوآء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربى لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين * إن هذا لهو الفوز العظيم * لمثل هذا فليعمل العاملون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى كما ذكر في أهل الجنة أنهم يتساءلون عند الاجتماع على
138

شرب خمر الجنة فإن محادثة العقلاء بعضهم مع بعض على لشرب من الأمور اللذيذة، وتذكر الخلاص عند اجتماع أسباب الهلاك من الأمور اللذيذة، ذكر تعالى في هذه الآية أن أهل الجنة إذا اجتمعوا على الشرب وأخذوا في المكالمة والمساءلة كان من جملة تلك الكلمات أنهم يتذكرون أنهم كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالسعادة الأبدية، والمقصود من ذكر هذه الأشياء أن أهل الجنة يتكامل سرورهم وبهجتهم.
أما قوله: * (قال قائل منهم إني كان لي قرين) * أي قال قائل: من أهل الجنة إني كان لي قرين في الدنيا * (يقول أئنك لمن المصدقين) * أي كان يوبخني على التصديق بالبعث والقيامة ويقول تعجبا: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون) * أي لمحاسبون ومجازون، والمعنى أن ذلك القرين كان يقول هذه الكلمات على سبيل الاستنكار، ثم إن ذلك الرجل الذي هو من أهل الجنة يقول لجلسائه يدعوهم إلى كمال السرور بالاطلاع إلى النار لمشاهدة ذلك القرين ومخاطبته * (هل أنتم مطلعون * فاطلع) * والأقرب أنه تكلف أمرا اطلع معه لأنه لو كان مطلعا بلا تكلف لم يكن إلى اطلاعه حاجة فلذلك قال بعضهم إنه ذهب إلى بعض أطراف الجنة فاطلع عندها إلى النار * (فرآه في سواء الجحيم) * أي في وسط الجحيم قال له موبخا: * (تالله إن كدت لتردين) * أي لتهلكني بدعائك إياي إلى إنكار البعث والقيامة * (ولولا نعمة ربي) * بالإرشاد إلى الحق والعصمة عن الباطل * (لكنت من المحضرين) * في النار مثلك، ولما تمم ذلك الكلام حصل قبل ذبح الموت والثاني: أن الذي يتكامل خيره وسعادته فإذا عظم تعجبه بها قد يقول أيدوم هذا لي؟ أفيبقى هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه، ثم عند فراغهم من هذه المباحثات يقولون: * (إن هذا لهو الفوز العظيم) *.
وأما قوله: * (لمثل هذا فليعمل العاملون) * فقيل إنه من بقية كلامهم، وقيل إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي لطلب مثل هذه السعادات يجب أن يعمل العاملون.
المسألة الثانية: قال بعضهم المراد من هذا القائل ومن قرينه ما ذكره الله تعالى في سورة الكهف (32) في قوله: * (واضرب لهم مثلا رجلين) * إلى آخر الآيات، وروي أن رجلين كانا شريكين فحصل لهما ثمانية آلاف دينار فقال أحدهما للآخر أقاسمك فقاسمه واشترى دارا بألف دينارا فأراها صاحبه وقال: كيف ترى حسنها فقال: ما أحسنها فخرج وقال: اللهم إن صاحبي هذا قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك دارا من دور الجنة، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج بامرأة حسناء بألف دينار فتصدق هذا بألف دينار لأجل أن يزوجه الله من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار فتصدق هذا بألفي دينار، ثم إن الله أعطاه في الجنة ما طلب
139

فعند هذا قال: * (إني كان لي قرين) * إلى قوله: * (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) * (الصافات: 55).
المسألة الثالثة: قوله: * (أئنك لمن المصدقين * أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون) * اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة قرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة غير ممدودة والثالثة بكسر الألف من غير استفهام، ووافقه الكسائي إلا نه يستفهم الثالثة بهمزتين، وقرأ ابن عامر الأولى والثالثة بالاستفهام بهمزتين والثانية بكسر الألف من غير استفهام، وقرأ الباقون بالاستفهام في جميعها، ثم اختلفوا فإبن كثير يستفهم بهمزة واحدة غير مطولة وبعدها ياء ساكنة خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين.
وأما قوله: * (إن كدت لتردين) * قرأ نافع برواية ورش لترديني بإثبات الياء في الوصل والباقون بحذفها.
المسألة الرابع: احتج أصحابنا على أن الهدى والضلال من الله تعالى بقوله تعالى: * (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) * وقالوا: مذهب الخصم أن كل ما فعله الله تعالى من وجوه الإنعام في حق المؤمن فقد فعله في حق الكافر، وإذا كان ذلك الإنعام مشتركا فيه امتنع أن يكون سببا لحصول الهداية للمؤمن. وأن يكون سببا لخلاصه من الكفر والردى فوجب أن تكون تلك النعمة المخصوصة أمرا زائدا على تلك الإنعامات التي حصل الاشتراك فيها، وما ذلك إلا بقوة الداعي إلى الإيمان وتكميل الصارف عن الكفر.
المسألة الخامسة: احتج نفاة عذاب القبر بقول الرجل الذي من أهل الجنة * (أفما نحن بميتين * إلا موتتنا الأولى) * فهذا يدل على أن الإنسان لا يموت إلا مرة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلا مرتين والجواب: أن قوله: * (إلا موتتنا الأولى) * المراد منه كل ما وقع في الدنيا والله أعلم.
* (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها شجرة تخرج فى أصل الجحيم * طلعها كأنه رءوس الشياطين * فإنهم لاكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها
140

لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم * إنهم ألفوا ءابآءهم ضآلين * فهم على ءاثارهم يهرعون * ولقد ضل قبلهم أكثر الاولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين * فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * إلا عباد الله المخلصين) *
إعلم أنه تعالى لما قال بعد ذكر أهل الجنة ووصفها * (لمثل هذا فليعمل العاملون) * (الصافات: 61) أتبعه بقوله: * (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يورد ذلك على كفار قومه ليصير ذلك زاجرا لهم عن الكفر، وكما وصف من قبل مآكل أهل الجنة ومشاربهم وصف أيضا في هذه الآية مآكل أهل النار ومشاربهم.
أما قوله: * (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) * فالمعنى أن الرزق المعلوم المذكور لأهل الجنة * (خير نزلا) * أي خير حاصلا * (أم شجرة الزقوم) * وأصل النزل الفضل الواسع في الطعام يقال طعام كثير النزل، فاستعير للحاصل من الشيء، ويقال أرسل الأمير إلى فلان نزلا وهو الشيء الذي يصلح حال من ينزل بسبه، إذا عرفت هذا فنقول حاصل بالرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور، وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام، إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم، والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم فقيل لهم ذلك توبيخا لهم على سوء اختيارهم، وأما * (الزقوم) * فقال الواحدي رحمه الله لم يذكر المفسرون. للزقوم تفسيرا إلا الكلبي فإنه روي أنه لما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعري أكثر الله في بيوتكم الزقوم، فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد بالزقوم، فقال أبو جهل لجاريته زقمينا فأتته بزبد وتمر، وقال: تزقموا. ثم قال الواحدي ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا الزبد والتمر، قال ابن دريد لم يكن للزقوم اشتقاق من التزقم وهو الإفراط من أكل الشيء حتى يكره ذلك يقال بات فلان يتزقم. وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعام منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات كل من تناولها عظم من تناولها، ثم إنه تعالى يكره أهل النار على تتناول بعض أجزائها.
أما قوله تعالى: * (إنا جعلناها فتنة للظالمين) * ففيه أقوال: الأول: أنها إنما صارت فتنة للظالمين، من حيث إن الكفار لما سمعوا هذه الآية، قالوا: كيف يعقل أن تنبت الشجرة في جهنم
141

مع أن النار تحرق الشجرة؟ والجواب عنه أن خالق النار قادر على أن يمنع النار من إحراق الشجر، ولأنه إذا جاز أن يكون في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فلم لا يجوز مثله في هذه الجشرة؟ إذا عرفت هذا السؤال والجواب بمعنى كون شجرة الزقوم فتنة للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وقعت تلك الشبهة في قلوبهم وصارت تلك الشبهة سببا لتماديهم في الكفر فهذا هو المراد من كونها فتنة لهم والوجه الثاني: في التفسير أن يكون المراد صيرورة هذه الشجرة فتنة لهم في النار لأنهم إذا كلفوا تناولها وشق ذلك عليهم، فحينئذ يصير ذلك فتنة في حقهم الوجه الثالث: أن يكون المراد من الفتن الامتحان والاختبار، فإن هذا شيء بعيد عن العرف والعادة مخالف للمألوف والمعروف، فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن والنبوة.
ثم إنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وصفها بصفات الصفة الأولى: قوله إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم قيل منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها الصفة الثانية: قوله: * (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) * قال صاحب " الكشاف ": الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها، إما استعارة لفظية أو معنوية، وقال ابن قتيبة سمي (طلعا) لطلوعه كل سنة، ولذلك قيل طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره، وأما تشبيه هذا الطلع برؤوس الشياطين ففيه سؤال، لأنه قيل إنا ما رأينا رؤوس الشياطين فكيف يمكن تشبيه شيء بها؟ وأجابوا عنه من وجوه: الأول: وهو الصحيح أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة كمال الفضل في الصورة والسيرة واعتقدوا في الشياطين نهاية القبح والتشويه في الصورة والسيرة، فكما حسن التشبيه بالملك عند إرادة تقرير الكمال والفضيلة في قوله: * (إن هذا إلا ملك كريم) * (يوسف: 31) فكذلك وجب أن يحسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، والحاصل أن هذا من باب التشبيه لا بالمحسوس بل بالمتخيل، كأنه قيل إن أقبح الأشياء في الوهم والخيار هو رؤوس الشياطين فهذه الشجرة تشبهها في قبح النظر وتشويه الصورة، والذي يؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئا شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة، قالوا: إنه شيطان، وإذا رأوا شيئا حسن الصورة والسيرة، قالوا إنه ملك، وقال امرؤ القيس: أتقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والقول الثاني: أن الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات، وبها يضرب المثل في القبح، والعرب إذا رأت منظرا قبيحا قالت: كأنه شيطان الحماطة، والحماطة شجرة معينة والقول الثالث: أن رؤوس الشياطين، نبت معروف قبيح الرأس، والوجه الأول هو الجواب الحق، واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه الشجرة وذكر صفتها بين أن الكفار * (لآكلون منها فمالئون منها البطون) * واعلم أن إقدامهم على ذلك الأكل يحتمل وجهين: الأول: أنهم أكلوا منها لشدة الجوع، فإن قيل وكيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة
142

طعمها؟ قلنا: إن الواقع في الضرر العظيم ربما استروح منه إلى ما يقاربه في الضرر، فإذا جوعهم الله الجوع الشديد فزعوا في إزالة ذلك الجوع إلى تناول هذا الشيء وإن كان بالصفة التي ذكرتموها الوجه الثاني: أن يقال الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة تكميلا لعذابهم.
وعلم أنهم إذا شبعوا فحينئذ يشتد عطشهم ويحتاجون إلى الشراب، فعند هذا وصف الله شرابهم، فقال: * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) * (الصافات: 67) قال الزجاج: الشوب اسم عام في كل ما خلط بغيره، والحميم الماء الحار المتناهي في الحرارة، والمعنى أنه إذا غلبهم ذلك العطش الشديد سقوا من ذلك الحميم، فيحنئذ يشوب الزقوم بالحميم نعوذ بالله منهما.
واعلم أن الله وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها كونه غساقا، ومنها قوله: * (وسقوا ماء حميما، فقطع أمعاءهم) * (محمد: 15) ومنها ما ذكره في هذه الآية، فإن قيل ما الفائدة في كلمة * (ثم) * في قوله: * (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم) *؟ قلنا فيه وجهان الأول: أنهم يملأن بطونهم من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم فيعظم عطشهم، ثم إنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة والغرض تكميل التعذيب، والثاني: أنه تعالى ذكر الطعام بتلك البشاعة والكراهة، ثم وصف الشراب بما هو
أبشع منه، فكان المقصود من كلمة ثم بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول، ثم قال تعالى: * (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) * قال مقاتل: أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم، وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، وذلك بأن يكون الحميم من موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يوردون إلى الجحيم، فهذا قول مقاتل، واحتج على صحته بقوله تعالى: * (هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن) * (الرحمن: 43، 44) وذلك يدل على صحة ما ذكرناه، ثم إنه تعالى لما وصف عذابهم في أكلهم وشربهم قال: * (إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون) * قال الفراء: الإهراع الإسراع يقال هرع وأهرع إذا استحث، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعا في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، والمقصود من الآية أنه تعالى علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين وترك ابتاع الدليل، ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد لكفي.
ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم، فقال: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين * ولقد أرسلنا فيهم منذرين) * فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف، ويجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا، ويستمر على الدعاء إلى الله وإن تمردوا، فليس عليه إلا البلاغ.
ثم قال تعالى: * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * وهذا وإن كان في الظاهر خطابا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم، فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن
143

يكون زاجرا لهم عن كفرهم. وقوله تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) * فيه قولان أحدهما: أنه استثناء من قوله: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) * والثاني: أنه استثناء من قوله: * (كيف كان عاقبة المنذرين) * (يونس: 73) فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد الله المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.
* (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون * ونجيناه وأهله من الكرب العظيم * وجعلنا ذريته هم الباقين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على نوح فى العالمين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * ثم أغرقنا الاخرين) *
اعلم أنه تعالى لما قال من قبل: * (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) * (الصافات: 71) وقال: * (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) * (الصافات: 73) أتبعه بشرح وقائع الأنبياء عليهم السلام فالقصة الأولى: حكاية حال نوح عليه السلام وقوله: * (ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون) * فيه مباحث:
الأول: أن اللام في قوله: * (فلنعم المجيبون) * جواب قسم محذوف والمخصوص بالمدح محذوف، أي فلنعم المجيبون نحن.
البحث الثاني: أنه تعالى ذكر أن نوحا نادى ولم يذكر أن ذلك النداء في أي الوقائع كان؟ لا جرم حصل فيه قولان الأول: وهو المشهور عند الجمهور أنه نادى الرب تعالى في أن ينجيه من محنة الغرق وكرب تلك الواقعة والقول الثاني: أن نوحا عليه السلام لما اشتغل بدعوة قومه إلى الدين الحق بالغوا في إيذائه وقصدوا قتله، ثم إنه عليه السلام نادى ربه واستنصره على كفار قومه، فأجابه الله تعالى ومنعهم من قتله وإيذائه، واحتج هذا القائل على ضعف القول الأول بأنه عليه السلام إنما دعا عليهم لأجل أن ينجيه الله تعالى وأوله، وأجاب الله دعاءه فيه فكان حصول تلك النجاة كالمعلوم المتيقن في دعائه، وذلك يمنع من أن يقال المطلوب من هذا النداء حصول هذه النجاة.
ثم إنه تعالى لما حكى عن نوح أنه ناداه قال بعده: * (فلنعم المجيبون) * وهذه اللفظة تدل على أن
144

تلك الإجابة كانت من النعم العظيمة، وبيانه من وجوه الأول: أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال: * (ولقد نادانا نوح) * والقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم والثاني: أنه أعاد صيغة الجمع في قوله: * (فلنعم المجيبون) * وذلك أيضا يدل على تعظيم تلك النعمة. لا سيما وقد وصف تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة والثالث: أن الفاء في قوله: * (لنعم المجيبون) * يدل على أن حصول هذه الإجابة مرتب على ذلك النداء، والحكم المرتب على الوصف المناسب يقتضي كونه معللا به، وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة، ثم إنه تعالى لما بين أنه سبحانه نعم المجيب على سبيل الإجمال، بين أن الإنعام حصل في تلك الإجابة من وجوه الأول: قوله تعالى: * (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم) * وهو على القول الأول الكرب الحاصل بسبب الخوف من الغرق، وعلى الثاني الكرب الحاصل من أذى قومه والثاني: قوله: * (وجعلنا ذريته هم الباقين) * يفيد الحصر وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا، قال ابن عباس: ذريته بنوه الثلاثة: سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك.
النعمة الثالثة: قوله تعالى: * (وتركنا عليه في الآخرين * سلام على نوح في العالمين) * يعني يذكرون هذه الكلمة، فإن قيل فما معنى قوله: * (في العالمين) * قلنا معناه الدعاء بثبوت هذه التحية فيهم جميعا أي لا يخلو أحد منهم منها، كأنه قيل أثبت الله التسليم على نوح وأدامه في الملائكة والثقلين فيسلمون عليه بكليتهم، ثم إنه تعالى لما شرح تفاصيل إنعامه عليه قال: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * والمعنى أنا إنما خصصنا نوحا عليه السلام بتلك التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن تبقية ذكره الحسن في ألسنة جميع العالمين لأجل أنه كان محسنا، ثم علل كونه محسنا بأنه كان عبدا لله مؤمنا، والمقصود منه بيان أن أعظم الدرجات وأشرف المقامات الإيمان بالله والانقياد لطاعته.
* (وإن من شيعته لإبراهيم * إذ جآء ربه بقلب سليم * إذ قال لابيه وقومه ماذا تعبدون * أءفكا ءالهة دون الله تريدون * فما ظنكم برب العالمين * فنظر نظرة فى النجوم
* فقال إنى سقيم * فتولوا
145

عنه مدبرين * فراغ إلى ءالهتهم فقال ألا تأكلون * ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا باليمين * فأقبلوا إليه يزفون) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: الضمير في قوله من شيعته إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: وهو الأظهر أنه عائد إلى نوح عليه السلام أي من شيعة نوح أي من أهل بيته وعلى دينه ومنهاجه لإبراهيم، قالوا: وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وروى صاحب " الكشاف " أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة الثاني: قال الكلبي المراد من شيعة محمد لإبراهيم بمعنى أنه كان على دينه ومنهاجه فهو من شيعته وإن كان سابقا له والأول أظهر، لأنه تقدم ذكر نوح عليه السلام، ولم يتقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فعود الضمير إلى نوح أولى.
المسألة الثانية: العامل في * (إذ) * ما دل عليه قوله: * (وإن من شيعته) * من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم.
أما قوله: * (إذ جاء ربه بقلب سليم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (بقلب سليم) * قولان: الأول: قال مقاتل والكلبي يعني خالص من الشرك، والمعنى أنه سلم من الشرك فلم يشرك بالله والثاني: قال الأصوليون المراد أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل دنس من المعاصي، فيدخل فيه كونه سليما عن الشرك وعن الشك وعن الغل والغش والحقد والحسد. عن ابن عباس أنه كان يحب للناس ما يحب لنفسه، وسلم جميع الناس من غشه وظلمه وأسلمه الله تعالى فلم يعدل به أحدا، واحتج الذاهبون إلى القول الأول بأنه تعالى ذكر بعد هذه الكلمة إنكاره على قومه الشرك بالله، وهو قوله: * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) * واحتج الذاهبون إلى القول الثاني بأن اللفظ مطلق فلا يقيد بصقة دون صفة، ويتأكد هذا بقوله تعالى: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين) * (الأنبياء: 51) مع أنه تعالى قال: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وقال: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * (الأنعام: 75) فإن قيل ما معنى المجئ بقلبه ربه؟ قلنا معناه أنه أخلص لله قلبه، فكأنه أتحف حضرة الله بذلك القلب، ورأيت في التوراة أن الله قال لموسى أجب إلهك بكل قلبك.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن إبراهيم جاء ربه بقلب سليم ذكر أن من جملة آثار تلك السلامة أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد فقال: * (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) * والمقصود من هذا الكلام تهجين تلك الطريقة وتقبيحها.
146

ثم قال: * (أئفكا آلهة دون الله تريدون) * قال صاحب " الكشاف " أئفكا مفعول له تقديره أتريدون آلهة من دونه إفكا، وإنما قدم المفعول على الفعل للعناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يقرر عندهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به يعني أتريدون إفكا، ثم فسر الإفك بقوله: * (آلهة دون الله) * على أنها إفك في أنفسها، ويجوز أن يكون حالا بمعنى تريدون آلها من دون الله آفكين.
ثم قال: * (فما ظنكم برب العالمين) * وفيه وجهان أحدهما: أتظنون برب العالمين أنه يجوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في المعبودية وثانيها: أتظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في المعبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء.
ثم قال: * (فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم) * عن ابن عباس أنهم كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خاليا في بيت الأصنام فيقدر على كسرها وههنا سؤالان الأول: أن النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أقدم عليه إبراهيم والثاني: أنه عليه السلام ما كان سقيما فلما قال إني سقيم كان ذلك ذنبا، واعلم أن العلماء ذكروا في الجواب عنهما وجوها كثيرة الأول: أنه نظر نظرة في النجوم في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه سقامة كالحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي في تلك الساعة وقال: * (إني سقيم) * فجعله عذرا في تخلفه عن العيد الذي لهم وكان صادقا فيما قال، لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت، وإنما تخلف لأجل تكسير أصنامهم الوجه الثاني: في الجواب أن قوم إبراهيم عليه السلام كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على غائب الأمور، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علوم النجوم وفي معانيه لا أنه نظر بعينه إليها، وهو كما يقال فلان نظر في الفقه وفي النحو وإنما أراد أن يوهمهم أنه يعلم ما يعلمون ويتعرف من حيث يتعرفون حتى إذا قال: * (إني سقيم) * سكنوا إلى قوله.
أما قوله: * (إني سقيم) * فمعناه سأسقم كقوله: * (إنك ميت) * (الزمر: 30) أي ستموت الوجه الثالث: أن قوله: * (فنظر نظرة في النجوم) * هو قوله تعالى: * (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا) * (الأنعام: 76) إلى آخر الآيات وكان ذلك النظر لأجل أن يتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة، وقوله: * (إني سقيم) * يعني سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ الوجه الرابع: قال ابن زيد كان له نجم مخصوص، وكلما طلح على صفة مخصوصة مرض إبراهيم ولأجل هذا الاستقراء لما رآه في ذلك الوقت طالعا على تلك الصفة المخصوصة قال: * (إني سقيم) * أي هذا السقم واقع لا محالة الوجه الخامس: أن قوله: * (إني سقيم) * أي مريض القلب سبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك، قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (لعلك باخع نفسك) * (الشعراء: 3) الوجه السادس: في الجواب أنا لا نسلم أن النظر في
147

علم النجوم والاستدلال بمقايستها حرام، لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بقوة وبخاصية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص، فهذا العلم على هذا
الوجه ليس بباطل. وأما الكذب فغر لازم لأنه ذكر قوله: * (إني سقيم) * على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة، إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم. الوجه السابع: قال بعضهم ذلك القول عن إبراهيم عليه السلام كذبة ورووا فيه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات " قلت لبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل لأن نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز فقال ذلك الرجل فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟ فقلت لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل عليه السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى، ثم نقول لم لا يجوز أن يكون المراد بكونه كذبا خبرا شبيها بالكذب؟ والوجه الثامن: أن المراد من قوله * (فنظر نظرة في النجوم) * أي نظر في نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال إنها منجمة أي متفرقة ومنه نجوم الكتابة، والمعنى أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها كي يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذرا أحسن من قوله: * (إني سقيم) * والمراد أنه لا بد من أن أصير سقيما كما تقول لمن رأيته على أوقات السفر إنك مسافر. واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما قال: * (إني سقيم) * تولوا عنه معرضين فتركوه وعذروه في أن لا يخرج اليوم فكان ذلك مراده * (فراغ إلى آلهتهم) * يقال: راغ إليه إذا مال إليه في السر على سبيل الخفية، ومنه روغان الثعلب. وقوله: * (ألا تأكلون) * يعني الطعام الذي كان بين أيديهم، وإنما قال ذلك استهزاء بها، وكذا قوله: * (ما لكم لا تنطقون * فراغ عليهم ضربا) * فأقبل عليهم مستخفيا كأنه قال فضربهم ضربا لأن راغ عليهم في معنى ضربهم أو فراغ عليهم ضربا بمعنى ضاربا. وفي قوله: * (باليمين) * قولان الأول: معناه بالقوة والشدة لأن اليمين أقوى الجارحتين والثاني: أنه أتى بذلك الفعل بسبب الحلف، وهو قوله تعالى عنه: * (وتالله لأكيدن أصنامكم) * (الأنبياء: 57) ثم قال: * (فأقبلوا إليه يزفون) * قرأ حمزة * (يزفون) * بضم الياء والباقون بفتحها وهما لغتان، قال ابن عرفة من قرأ بالنصب فهو من زف يزف، ومن قرأ بالضم فهو من أزف يزف، قال الزجاج: يزفون يسرعون وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء عدوها، وقرأ حمزة يزفون أي يحملون غيرهم على الزفيف، قال الأصمعي يقال أزففت الإبل إذا حملتها على أن تزف، قال وهو سرعة الخطوة ومقاربة المشي والمفعول محذوف على قراءته كأنهم حملوا دوابهم على اسراع في المشي، فإن قيل مقتضى هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لما كسرها عدوا إليه وأخذوه، وقال في سورة أخرى في عين هذه القصة * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين * قالا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * (الأنبياء: 59، 60) وهذا يقتضي أنهم في أول الأمر ما عرفوه فبين هاتين الآيتين تناقض؟ قلنا: لا يبعد أن يقال إن جماعة
148

عرفوه فعمدوا إليه مسرعين. والأكثرون ما عرفوه فتعرفوا أن ذلك الكاسر من هو، والله أعلم.
* (قال أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون * قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه فى الجحيم * فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين * وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين * رب هب لى من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم) *
وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن القوم لما عاتبوا إبراهيم على كسر الأصنام فهو أيضا ذكر لهم الدليل الدال على فساد المصير إلى عبادتها فقال: * (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) * ووجه الاستدلال ظاهر وهو أن الخشب والحجر قبل النحت والإصلاح ما كان معبودا للإنسان البتة، فإذا نحته وشكله على الوجه المخصوص لم يحدث فيه إلا آثار تصرفه، فلو صار معبودا عند ذلك لكان معناه أن الشيء الذي ما كان معبودا لما حصلت آثار تصرفاته فيه صار معبودا عند ذلك، وفساد ذلك معلوم ببديهة العقل.
المسألة الثانية: احتج جمهور الأصحاب بقوله: * (والله خلقكم وما تعملون) * على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى فقال النحويون: اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله: * (وما تعملون) * معناه وعملكم، وعلى هذا التقدير صار معنى الآية والله خلقكم وخلق عملكم، فإن قيل هذه الآية حجة عليكم من وجوه الأول: أنه تعالى قال: أتعبدون ما تنحتون) * أضاف العبادة والنحت إليهم إضافة العفل إلى الفاعل ولو كان ذلك واقعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا للعبد الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة الأصنام، لأنه تعالى بين أنه خالقهم وخالق لتلك الأصنام والخالق هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته سبحانه وهو خالقهم وعبدوا الأصنام لا جرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على هذا الخطأ العظيم فقال: * (أتعبدون ما تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) * ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها سلمنا أن هذه الآية ليست حجة عليكم لكن لا نسلم أنها حجة لكم، قوله لفظة ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، قلنا هذا ممنوع وبيانه أن سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل يجوز أن يقال أعجبني
149

ما قمت أي قيامك فجوزه سيبويه ومنعه الأخفش وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي وذلك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند الأخفش، سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر، لكنه أيضا قد يكون بمعنى المفعول ويدل عليه وجوه الأول: قوله: * (أتعبدون ما تنحتون) * والمراد بقوله: * (ما تنحتون) * المنحوت لا النحت لأنهم ما عبدوا النحت وإنما عبدوا المنحوت فوجب أن يكون المراد بقوله: * (ما تعملون) * المعمول لا العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر والثاني: أنه تعالى قال: * (فإذا هي تلقف ما يأفكون) * (الأعراف: 117) وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصي والجبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا ههنا الثالث: أنا لعرب تسمي محل العمل عملا يقال في الباب والخاتم هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء بمعنى المصدر فقد تجيء أيضا بمعنى المفعول فكان حمله ههنا على المفعول أولى لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون إفعال أنفسهم، لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال، واعلم أن هذه السؤالات
قوية وفي دلائلنا كثيرة، فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية والله أعلم. واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم هذه الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء فقالوا: ابنوا له بنيانا واعلم أن كيفية ذلك البناء لا يدل عليها لفظ القرآن، قال ابن عباس: بنو حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملأه نارا فطرحوه فيها، وذلك هو قوله تعالى: * (فألقوه في الجحيم) * وهي النار العظيمة، قال الزجاج: كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية والمعنى في جحيمه، أي في جحيم ذلك البنيان، ثم قال تعالى: * (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين) * والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له، وعندما ألقوه في النار صرف الله عنه ضرر النار، فصار هو الغالب عليهم. واعلم أنه لما انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * ونظير هذه الآية قوله تعالى: وقال إني مهاجر إلى ربي) * (العنكبوت: 26) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته، وذلك لأن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، مع أن الله سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية: في قوله * (إني ذاهب إلى ربي) * قولان الأول: المراد منه مفارقة تلك الديار، والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي والثول الثاني: قال الكلبي: ذاهب بعبادتي إلى ربي، فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، وبه اقتدى موسى حيث قال: * (كلا إن معي ربي سيهدين) * (الشعراء: 62) وعلى القول الثاني المراد رعاية أحوال القلوب، وهو أن لا يأتي
150

بشيء من الأعمال إلا لله تعالى، كما قال: * (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 79) قيل إن القول الأول أولى، لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض الشأم، وأيضا يبعد حمله على الهداية في الدين، لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه، أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين.
المسألة الثالثة: قوله: * (سيهدين) * يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من الله تعالى، كما يقول أصحابنا ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار، لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي، وقوله: * (سيهدين) * يدل على اختصاص تلك الهدية بالمستقبل، فوجب حمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه، فإن قيل إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه، وأن موسى عليه السلام لم يجزم به، بل قال: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * (القصص: 22) فما الفرق؟ قلنا العبد إذا تجلى له مقامات رحمة الله فقد يجزم بحصول المقصود، وإذا تجلى له مقامات كونه غنيا عن العالمين، فحينئذ يستحقر نفسه فلا يجزم، بل لا يظهر إلا الرجاء والطمع.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (إني ذاهب إلى ربي) * يدل على فساد تمسك المشبهة بقوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) لأن كلمة إلى موجودة في قوله: * (إني ذاهب إلى ربي) * مع أنه لم يلزم أن يكون الإله موجودا في ذلك المكان، فكذلك ههنا.
واعلم أنه صلوات الله عليه لما هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال: * (هب لي من الصالحين) * أي هب لي بعض الصالحين، يريد الولد، لأن لفظ الهبة غلب في الولد، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: * (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) * (مريم: 53) وقال تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) * (الأنبياء: 72) * (ووهبنا له يحيى) * (الأنبياء: 90) وقال علي بن أبي طالب لابن عباس رضي الله عنهم حين هنأه بولده: على أبي الأملاك شكرت الواهب، وبورك لك في الموهوب، ولذلك وقعت التسمية بهبة الله تعالى وبهبة الوهاب وبموهوب ووهب.
واعلم أن هذا الدعاء اشتمل على ثلاثة أشياء: على أن الولد غلام ذكر، وأنه يبلغ الحلم، وأنه يكون حليما، وأي حلم يكون أعظم من ولد حين عرض عليه أبوه الذبح * (قال ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * (الصافات: 102) ثم استسلم لذلك، وأيضا فإن إبراهيم عليه السلام كان موصوفا بالحلم، قال تعالى: * (إن إبراهيم لأواه حليم) * (التوبة: 114) * (إن إبراهيم لحليم أواه منيب) * (هود: 75) فبين أن ولده موصوف بالحلم، وأنه قائم مقامه في صفات الشرف والفضيلة، واعلم أن الصلاح أفضل الصفات بدليل أن الخليل عليه السلام طلب الصلاح لنفسه، فقال: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83) وطلبه للولد فقال: * (رب هب لي من الصالحين) * وطلبه سليمان عليه السلام بعد كمال درجته في الدين والدنيا، فقال: * (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) * (النمل: 19) وذلك يدل على أن الصلاح أشرف مقامات العباد.
151

قوله تعالى
* (فلما بلغ معه السعى قال يابنى إنى أرى فى المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدنى إن شآء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيآ إنا كذلك نجزى المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين * وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين * وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) *
واعلم أن سبحانه وتعالى لما قال: * (فبشرناه بغلام حليم) * (الصافات: 101) أتبعه بما يدل على حصول ما بشر به وبلغه، فقال: * (فلما بلغ معه السعي) * ومعناه فلما أدرك وبلغ الحد الذي يقدر فيه على السعي، وقوله: * (معه) * في موضع الحال والتقدير كائنا معه، والفائدة في اعتبار هذا المعنى أن الأب أرفق الناس بالولد، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته، قال بعضهم: كان في ذلك الوقت ابن ثلاث عشرة سنة، والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى لما وعده في الآية الأولى بكون ذلك الغلام حليما، بين في هذه الآية ما يدل على كمال حلمه، وذلك لأنه كان به من كمال الحلم وفسحة الصدر ما قواه على احتمال
تلك البلية العظيمة، والإتيان بذلك الجواب الحسن.
152

أما قوله: * (إني أرى في المنام أني أذبحك) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذه اللفظة وجهان الأول: قال السدي: كان إبراهيم حين بشر بإسحق قبل أن يولد له قال: هو إذن لله ذبيح فقيل يا إبراهيم قد نذرت نذرا فف بنذرك فلما أصبح * (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) *.
وروي من طريق آخر أنه رأى ليلة التروية في منامه، كأن قائلا يقول له إن الله يأمرك بذبح ابنك هدا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح، أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فمن ثم سمي يوم التروية، فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله فسمي يوم عرفة، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر وهذا هو قول أهل التفسير وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة، وعلى هذا فتقدير اللفظ: إني أرى في المنام ما يوجب أن أذبحك والقول الثاني: أنه رأى في المنام أنه يذبحه ورؤيا الأنبياء عليهم السلام من باب الوحي، وعلى هذا القول فالمرئي في المنام ليس إلا أنه يذبح، فإن قيل إما أن يقال إنه ثبت بالدليل عند الأنبياء عليهم السلام أن كل ما رآه في المنام فهو حق حجة أو لم يثبت ذلك بالدليل عندهم، فإن كان الأول فلم راجع الولد في هذه الواقعة، بل كان من الواجب عليه أن يشتغل بتحصيل ذلك المأمور، وأن لا يراجع الولد فيه، وأن لا يقول له؛ * (فانظر ماذا ترى) * وأن لا يوقف العمل على أن يقول له الولد * (افعل ما تؤمر) *؟، وأيضا فقد قلتم إنه بقي في اليوم الأول متفكرا، ولو ثبت عنده بالدليل أن كل ما رآه في النوم فهو حق لم يكن إلى هذا التروي والتفكر حاجة، وإن كان الثاني، وهو أنه لم يثبت بالدليل عندهم أن ما يرونه في المنام حق، فكيف يجوز له أن يقدم على ذبح ذلك الطفل بمجرد رؤيا لم يدل الدليل على كونها حجة؟ والجواب: لا يبعد أن يقال إنه كان عند الرؤيا مترددا فيه ثم تأكدت الرؤيا بالوحي الصريح، والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذا الذبيح من هو؟ فقيل إنه إسحق وهذا قول عمر وعلي والعباس بن عبد المطلب وابن مسعود وكعب الأحبار وقتادة وسعيد بن جبير ومسروق وعكرمة والزهري والسدي ومقاتل رضي الله عنهم، وقيل إنه إسماعيل وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومجاهد والكلبي، واحتج القائلون بأنه إسماعيل بوجوه: الأول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أنا ابن الذبيحين " وقال له أعرابي: " يا ابن الذبيحين فتبسم فسئل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده، فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا له افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، والذبيح الثاني إسماعيل ".
الحجة الثانية: نقل عن الأصمعي أنه قال سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عقلك، ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه المنحر بمكة؟.
الحجة الثالثة: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحق في قوله: * (وإسماعيل
153

واليسع وذا الكفل كل من الصابرين) * (الأنبياء: 85) وهو صبره على الذبح، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: * (إنه كان صادق الوعد) * (مريم: 54) لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به.
الحجة الرابعة: قوله تعالى: * (فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب) * (هود: 71) فنقول لو كان الذبيح إسحق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب، منه أو بعد ذلك فالأول: باطل لأنه تعالى لما بشرها بإسحق، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه، وإلا حصل الخلف في قوله: * (ومن وراء إسحق) * والثاني: باطل لأن قوله: * (فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) * يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحق.
الحجة الخامسة: حكى الله تعالى عنه أنه قال: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * (الصافات: 99) ثم طلب من الله تعالى ولدا يستأنس به في غربته فقال: * (رب هب لي من الصالحين) * (الصافات: 100) وهذا السؤال إنما يحسن قبل أن يحصل له الولد، لأنه لو حصل له ولد واحد لما طلب الولد الواحد، لأن طلب الحاصل محال وقوله: * (هب لي من الصالحين) * لا يفيد إلا طلب الولد الواحد، وكلمة من للتبعيض وأقل درجات البعضية الواحد فكأن قوله: * (من الصالحين) * لا يفيد إلا طلب الولد الواحد فثبت أن هذا السؤال لا يحسن إلا عند عدم كل الأولاد فثبت أن هذا السؤال وقع حال طلب الولد الأول، وأجمع الناس على أن إسماعيل متقدم في الوجود على إسحق، فثبت أن المطلوب بهذا الدعاء وهو إسماعيل، ثم إن الله تعالى ذكر عقيبه قصة الذبيح فوجب أن يكون الذبيح هو إسماعيل.
الحجة السادسة: الأخبار الكثيرة في تعليق قرن الكبش بالكعبة، فكأن الذبيح بمكة. ولو كان الذبيح إسحق كان الذبح بالشام، واحتج من قال إن ذلك الذبيح هو إسحق بوجهين: الوجه الأول: أن أول الآية وآخرها يدل على ذلك، أما أولها فإنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام قبل هذه الآية أنه قال: * (إني ذاهب إلى ربي سيهدين) * وأجمعوا على أن المراد منه مهاجرته إلى الشام ثم قال: فبشرناه بغلام حليم) * (الصافات: 101) فوجب أن يكون هذا الغلام ليس إلا إسحق، ثم قال بعده: * (فلما بلغ معه السعي) * وذلك يقتضي أن يكون المراد من هذا الغلام الذي بلغ معه السعي هو ذلك الغلام الذي حصل في الشام، فثبت أن مقدمة هذه الآية تدل على أن الذبيح هو إسحق، وأما آخر الآية فهو أيضا يدل على ذلك لأنه تعالى لما تمم قصة الذبيح قال بعده: * (وبشرناه بإسحق نبيا من الصالحين) * ومعناه أنه بشره بكونه نبيا من الصالحين، وذكر هذه البشارة عقيب حكاية تلك القصة يدل على أنه تعالى إنما بشره بهذه النبوة لأجل أنه تحمل هذه الشدائد في قصة الذبيح، فثبت بما ذكرنا أن أول
الآية وآخرها يدل على أن الذبيح هو إسحق عليه السلام. الحجة الثانية: على صحة ذلك ما اشتهر من كتاب يعقوب إلى يوسف عليه السلام من
154

يعقوب إسرائيل نبي الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فهذا جملة الكلام في هذا الباب، وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح والله أعلم. واعلم أنه يتفرع على ما ذكرنا اختلافهم في موضع الذبح فالذين قالوا الذبيح هو إسماعيل قالوا: كان الذبح بمنى، والذين قالوا: إنه إسحق قالوا: هو بالشام وقيل ببيت المقدس، والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلف الناس في أن إبراهيم عليه السلام كان مأمورا بهذا بما رأى، وهذا الاختلاف مفرع على مسألة من مسائل أصول الفقه، وهي أنه هل يجوز نسخ الحكم قبل حضور مدة الامتثال فقال أكثر أصحابنا إنه يجوز، وقالت المعتزلة وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية إنه لا يجوز، فعلى القول الأول أنه سبحانه وتعالى أمره بالذبح، ثم إنه تعالى نسخ هذا التكليف قبل حضور وقته، وعلى القول الثاني أنه تعالى ما أمره بالذبح، وإنما أمره بمقدمات الذبح وهذه مسألة شريفة من مسائل باب النسخ، واحتج أصحابنا على أنه يجوز نسخ الأمر قبل مجيء مدة الامتثال بأن الله تعالى أمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم إنه تعالى نسخه عنه قبل إقدامه عليه وذلك يفيد المطلوب إنما قلنا إنه تعالى أمره بذبح الولد لوجهين الأول: أنه عليه السلام قال لولده إني أرى في المنام أني أذبحك فقال الولد افعل ما تؤمر وهذا يدل على أنه عليه السلام كان مأمورا بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح، ثم إنه أتى بمقدمات الذبح وأدخلها في الوجود، فحينئذ يكون قد أمر بشيء وقد أتى به، وفي هذا الموضع لا يحتاج إلى الفداء، لكنه احتاج إلى الفداء بدليل قوله تعالى: * (وفديناه بذبح عظيم) * فدل هذا على أنه أتى بالمأمور به، وقد ثبت أنه أتى بكل مقدمات الذبح، وهذا يدل على أنه تعالى كان قد أمره بنفس الذبح، وإذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى نسخ ذلك الحكم قبل إثباته وذلك يدل على المقصود، وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الله أمره بذبح الولد بل نقول إنه تعالى أمره بمقدمات الذبح، ويدل عليه وجوه الأول: أنه ما أتى بالذبح وإنما أتى بمقدمات الذبح، ثم إن الله تعالى أخبر عنه بأنه أتى بما أمر به بدليل قوله تعالى: * (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا) * وذلك يدل على أنه تعالى إنما أمره في المنام بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح وتلك المقدمات عبارة عن إضجاعه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل إن ورد الأمر الثاني: الذبح عبارة عن قطع الحلقوم فلعل إبراهيم عليه السلام قطع الحلقوم إلا أنه كلما قطع جزءا أعاد الله التأليف إليه، فلهذا السبب لم يحصل الموت والوجه الثالث: وهو الذي عليه تعويل القوم أنه تعالى لو أمر شخصا معينا بإيقاع فعل معين في وقت معين، فهذا يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت حسن، فإذا أنهاه عنه فذلك النهي يدل على أن إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت قبيح، فلو حصل هذا النهي عقيب ذلك الأمر لزم أحد أمرين، لأنه تعالى إن كان عالما بحال ذلك الفعل لزم أن يقال إنه أمر بالقبيح أو نهى عن الحسن، وإن لم يكن عالما به لزم جهل الله تعالى الحسن، وإن لم يكن عالما به لزم جهل الله تعالى وإنه محال، فهذا تمام الكلام في هذا الباب والجواب: عن الأول أنا قد دللنا على أنه تعالى إنما أمره بالذبح.
155

أما قوله تعالى: * (قد صدقت الرؤيا) * فهذا يدل على أنه اعترف بكون تلك الرؤيا واجب العمل بها ولا يدل على أنه أتى بكل ما رآه في ذلك المنام. وأما قوله ثانيا كلما قطع إبراهيم عليه السلام جزءا أعاد الله تعالى التأليف إليه، فنقول هذا باطل لأن إبراهيم عليه السلام لو أتى بكل ما أمر به لما احتاج إلى الفداء وحيث احتاج إليه علمنا أنه لم يأت بما أمر به. وأما قوله ثالثا إنه يلزم، إما الأمر بالقبيح وإما الجهل، فنقول هذا بناء على أن الله تعالى لا يأمر إلا بما يكون حسنا في ذاته ولا ينهي إلا عما يكون قبيحا في ذاته، وذلك بناء على تحسين العقل وتقبيحه وهو باطل، وأيضا فهب أنا نسلم ذلك إلا أنا نقول لم لا يجوز أن يقال إن الأمر بالشيء تارة يحسن لكون المأمور به حسنا وتارة لأجل أن ذلك الأمر يفيد صحة مصلحة من المصالح وإن لم يكن المأمور به حسنا ألا ترى أن السيد إذا أراد أن يروض عبده، فإنه يقول له إذا جاء يوم الجمعة فافعل الفعل الفلاني، ويكون ذلك الفعل من الأفعال الشاقة، ويكون مقصود السيد من ذلك الأمر ليس أن يأتي ذلك العبد بذلك الفعل، بل أن يوطن العبد نفسه على الإنقياد والطاعة، ثم إن السيد إذا علم منه أنه وطن نفسه على الطاعة فقد يزيل الألم عنه ذلك التكليف، فكذا ههنا، فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا الاحتمال لم يتم كلامكم.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد وقوعه، والدليل عليه أنه أمر بالذبح وما أراد وقوعه، أما أنه أمر بالذبح فلما تقدم في المسألة الأولى. وأما أنه ما أراد وقوعه فلأن عندنا أن كل ما أراد الله وقوعه فإنه يقع، وحيث لم يقع هذا الذبح علمنا أنه تعالى ما أراد وقوعه، وأما عند المعتزلة فلأن الله تعالى نهى عن ذلك الذبح، والنهي عن الشيء يدل على أن الناهي لا يريد وقوعه فثبت أنه تعالى أمر بالذبح، وثبت أنه تعالى ما أراده، وذلك يدل على أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة، وتمام الكلام في أن الله تعالى أمر بالذبح ما تقدم في المسألة المتقدمة، والله أعلم.
المسألة الخامسة: في بيان الحكمة في ورود هذا التكليف في النوم لا في اليقظة وبيانه من وجوه الأول: أن هذا التكليف كان في نهاية المشقة على الذابح والمذبوح، فورد أولا في النوم حتى يصير ذلك كالمنبه لورود هذا التكليف الشاق، ثم يتأكد حال النوم بأحوال اليقظة، فحينئذ لا يهجم هذا التكليف دفعة واحدة بل شيئا فشيئا الثاني: أن الله تعالى جعل رؤيا الأنبياء عليهم السلام حقا، قال الله تعالى في حق محمد صلى الله عليه وسلم: * (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام) * (الفتح: 27) وقال عن يوسف عليه السلام: * (إني رأيت أح عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) وقال في حق إبراهيم عليه السلام: * (إني أرى في المنام أني أذبحك) * (الصافات: 102) والمقصود من ذلك تقوية الدلالة على كونهم صادقين، لأن الحال إما حال يقظة وإما حال منام، فإذا تظاهرت الحالتان على الصدق، كان ذلك هو النهاية في بيان كونهم محقين صادقين في كل الأحوال، والله أعلم.
156

ثم نقول مقامات الأنبياء عليهم السلام على ثلاثة أقسام منها ما يقع على وفق الرؤية كما في قوله تعالى في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم: * (لتدخلن المسجد الحرام) * ثم وقع ذلك الشيء بعينه، ومنها ما يقع على الضد كما في حق إبراهيم عليه السلام فإنه رأى الذبح وكان الحاصل هو الفداء والنجاة، ومنها ما يقع على ضرب من
التأويل والمناسبة كما في رؤيا يوسف عليه السلام، فلهذا السبب أطبق أهل التعبير على أن المنامات واقعة على هذه الوجوه الثلاثة.
المسألة السادسة: قرأ حمزة والكسائي: * (ترى) * بضم التاء وكسر الراء، أن ما ترى من نفسك من الصبر والتسليم؟ وقيل ما تشير، والباقون بفتح التاء، ثم منهم من يميل ومنهم من لا يميل.
المسألة السابعة: الحكمة في مشاورة الابن في هذا الباب أن يطلع ابنه على هذه الواقعة ليظهر له صبره في طاعة الله فتكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحلم إلى هذا الحد العظيم، وفي الصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالمية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا، ثم إنه تعالى حكى من ولد إبراهيم عليه السلام أنه قال: * (افعل ما تؤمر) * ومعناه افعل ما تؤمر به، فحذف الجار كما حذف من قوله: أمرتك الخبر فافعل ما أمرت (به)
ثم قال: * (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) * وإنما علق ذلك بمشيئة الله تعالى على سبيل التبرك والتيمن، وأنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله.
ثم قال تعالى: * (فلما أسلما) * يقال سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد، وقد قرىء بهن جميعا إذ انقاد له وخضع، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له، ومعناه سلم من أن ينازع فيه، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة، وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله وعن قتادة في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه، ثم قال تعالى: وتله للجبين) * أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض وللوجه جبينان، والجبهة بينهما، قال ابن الأعرابي التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع، فالمعنى أنه صرعه على جبينه، وقال مقاتل كبه على جبهته، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة.
ثم قال تعالى: * (وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا) * وفيه قولان الأول: أن هذا جواب فلما عند الكوفيين والفراء والواو زائدة والقول الثاني: أن عند البصريين لا يجوز ذلك والجواب مقدر والتقدير: فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب، قالوا: وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفا كان أعظم وأفخم، قال المفسرون لما أضجعه للذبح نودي من الجبل: * (يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) * قال المحققون: السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذا التكلف الشاق الشديد وظهر منه كمال الطاعة وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد، لا جرم قال قد صدقت الرؤيا، يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا.
157

وقوله: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * ابتداء إخبار من الله تعالى، وليس يتصل بما تقدم من الكلام، والمعنى أن إبراهيم وولده كانا محسنين في هذه الطاعة، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين.
ثم قال تعالى: * (إن هذا لهو البلاء المبين) * أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها * (وفديناه بذبح عظيم) * الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضا ما يذبح وهو المراد في هذه الآية، وههنا مباحث تتعلق بالحكايات فالأول: حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم عليه السلام لما أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب، فلما تسوطا شعب ثبير أخبره بما أمر به، فقال: يا أبت اشدد رباطي في كيلا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها، فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا بني على أمر الله، ثم أقب عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ثم وضع السكين على حلقه فقال: كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا.
البحث الثاني: اختلفوا في ذلك الكبش فقيل إنه الكبش لذي تقرب به هابيل بن آدم إلى الله تعالى فقبله، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل، وقال آخرون أرسل الله كبشا من الجنة قد رعى أربعين خريفا، وقال السدي: نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل، فقام عنه إبراهيم فأخذه فذبحه، وخلى عن ابنه، ثم اعتنق ابنه وقال: يا بني اليوم وهبت لي، وأما قوله: * (عظيم) * فقيل سمي عظيما لعظمه وسمنه، وقال سعيد بن جبير حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا، وقيل سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم، ثم قال تعالى: * (إنه من عبادنا المؤمنين) * الضمير في قوله: * (إنه) * عائد إلى إبراهيم، ثم قال تعالى: * (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) * فقوله: * (نبيا) * حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق مقدرة نبوته، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل أن يحتج بهذه الآية، وذلك لأن قوله: * (نبيا) * حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق حال كون إسحق نبيا لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبيا، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق حال ما قدرناه نبيا، وحال ما حكمنا عليه فصبر، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق حاصلة بعد قصة الذبيح، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق، أقصى ما في الباب أن يقال لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود، إلا أنا نقول الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم، والله أعلم بالصواب.
158

ثم قال تعالى: * (وباركنا عليه وعلى إسحق) * وفي تفسير هذه البركة وجهان الأول: أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق والثاني: أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات، ثم قال تعالى: * (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) * وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن، لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود، ودخلت تحت قوله: * (محسن) * الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله:
* (محسن) * الأنبياء والمؤمنون وتحت قوله: * (ظالم) * الكافر والفاسق والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم فكانوا هم الغالبون * وءاتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم * وتركنا عليهما فى الاخرين * سلام على موسى وهارون * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنهما من عبادنا المؤمنين) *
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن وجوه الأنعام وإن كانت كثيرة إلا أنها محصورة في نوعين إيصال المنافع إليه ودفع المضار عنه والله تعالى ذكر القسمين ههنا، فقوله: * (ولقد مننا على موسى وهارون) * إشارة إلى إيصال المنافع إليهما، وقوله: * (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) * إشارة إلى دفع المضار عنهما.
أما القسم الأول: وهو إيصال المنافع، فلا شك أن المنافع على قسمين: منافع الدنيا ومنافع الدين، أما منافع الدنيا فالوجود والحياة والعقل والتربية الصحة وتحصيل صفات الكمال في ذات كل واحد منهما، وأما منافع الدين فالعلم والطاعة، وأعلى هذه الدرجات النبوة الرفيعة المقرونة بالمعجزات الباهرة القاهرة، ولما ذكر الله تعالى هذه التفاصيل في سائر السور، لا جرم اكتفى ههنا بهذا الرمز.
159

وأما القسم الثاني: وهو دفع الضرر فهو المراد من قوله: * (ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) * وفيه قولان: قيل إنه الغرق، أغرق الله فرعون وقومه، ونجى الله بني إسرائيل، وقيل الرماد أنه تعالى نجاهم من إيذاء فرعون حيث كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أنه من على موسى وهارون، فصل أقسام تلك المنة. والهاء في قوله: * (ونصرناهم) * أي نصرنا موسى وهارون وقومهما: * (وكانوا هم الغالبين) * في كل الأحوال بظهور الحجة وفي آخر الأمر بالدورة والرفعة وثانيهما: قوله تعالى: * (وآتيناهما الكتاب المستبين) * والمراد منه التوراة، وهو الكتاب المشتمل على جميع العلوم التي يحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا، كما قال: * (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) * (المائدة: 44)، وثالثها: قوله تعالى: * (وهديناهما الصراط المستقيم) * أي دللناهما على طريق الحق عقلا وسمعا، وأمددناهما بالتوفيق والعصمة، وتشبيه الدلائل الحقة بالطريق المستقيم واضح ورابعها: قوله تعالى: * (وتركنا عليهما في الآخرين) * وفيه قولان الأول: أن المراد * (وتركنا عليهما في الآخرين) * وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قولهم: * (سلام على موسى وهارون) * والثاني: أن المراد * (وتركنا عليهما في الآخرين) * وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الثناء الحسن والذكر الجميل، وعلى هذا التقدير فقوله بعد ذلك: * (سلام على موسى وهارون) * هو كلام الله تعالى، ولما ذكر تعالى هذه الأقسام الأربعة من أبواب التعظيم والتفضيل قال: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * وقد سبق تفسيره، ثم قال تعالى: * (إنما من عبادنا المؤمنين) * والمقصود التنبيه، على أن الفضيلة الحاصلة بسبب الإيمان أشرف وأعلى وأكمل من كل الفضائل، ولولا ذلك لما حسن ختم فضائل موسى وهارون بكونهما من المؤمنين، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن إلياس لمن المرسلين * إذ قال لقومه ألا تتقون * أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين * الله ربكم ورب ءابآئكم الاولين * فكذبوه فإنهم لمحضرون * إلا عباد الله المخلصين * وتركنا عليه فى الاخرين * سلام على إل ياسين * إنا كذلك نجزى المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) *
160

اعلم أن هذه القصة الرابعة من القصص المذكورة في هذه السورة وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر: * (وإن إلياس) * بغير همزة على وصل الألف والباقون بالهمزة وقطع الألف، قال أبو بكر بن مهران: من ذكر عند الوصل الألف فقد أخطأ، وكان أهل الشام ينكرونه ولا يعرفونه، قال الواحدي وله وجهان أحدهما: أنه حذف الهمزة من إلياس حذفا، كما حذفها ابن كثير من قوله: * (إنها لإحدى الكبر) * (المدثر: 35) وكقول الشاعر: ويلمها في هواء الجو طالبة
والآخر أنه جعل الهمزة التي تصحب اللام للتعريف كقوله: * (واليسع) *.
المسألة الثانية: في إلياس قولان: يروى عن ابن مسعود أنه قرأ وإن إدريس، وقال إن إلياس هو إدريس، وهذا قول عكرمة، وأما أكثر المفسرين فهم متفقون على أنه نبي من أنبياء بني إسرائيل وهو إلياس بن ياسين، من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام، ثم قال تعالى: * (إذ قال لقومه ألا تتقون) * والتقدير أذكر يا محمد لقومك: * (إذ قال لقومك ألا تتقون) * أي ألا تخافون الله، وقال الكلبي ألا تخافون عبادة غير الله. واعلم أنه لما خوفهم أولا على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك الخوف فقال: * (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) * وفيه أبحاث:
الأول: في (بعل) قولان أحدهما: أنه اسم علم لصنم كان لهم كمناة وهبل، وقيل كان من ذهب، وكان طوله عشرين ذراعا وله أربعة أوجه، وفتنوا به وعظموه، حتى عينوا له أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة، والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشأم، وبه سميت مدينتهم بعلبك. واعلم أن قولهم بعل اسم لصنم من أصنامهم لا بأس به، وأما قولهم إن الشيطان كان يدخل في جوف بعلبك ويتكلم بشريعة الضلالة. فهذا مشكل لأنا إن جوزنا هذا كان ذلك قادحا في كثير من المعجزات، لأنه نقل في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم كلام الذئب معه وكلام الجمل معه وحنين الجذع، ولو جوزنا أن يدخل الشيطان فيجوف جسم ويتكلم. فحينئذ يكون هذا الاحتمال قائما في الذئب والجمل والجذع، وذلك يقدح في كون هذه الأشياء معجزات القول الثاني: أن البعل هو الرب بلغة اليمن، يقال من بعل هذه الدار، أي من ربها، وسمي الزوج بعلا لهذا المعنى، قال تعالى: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (البقرة: 228)
وقال تعالى: * (وهذا بعلي شيخا) * (هود: 72) فعلى هذا التقدير المعنى، أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة الله.
البحث الثاني: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد خالقا لأفعال نفسه، فقالوا: لو لم يكن غير الله خالقا لما جاز وصف الله بأنه أحسن الخالقين، والكلام فيه قد تقدم في قوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 14).
البحث الثالث: كان الملقب بالرشيد الكاتب يقول لو قيل: أتدعون بعلا وتدعون أحسن الخالقين. أوهم أنه أحسن، لأنه كان قد تحصل فيه رعاية معنى التحسين وجوابه: أن فصاحة
161

القرآن ليست لأجل رعاية هذه التكاليف، بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ. واعلم أنه لما عابهم على عبادة غير الله صرح بالتوحيد ونفى الشركاء، فقال: * (الله ربكم ورب آبائكم الأولين) * وفيه مباحث.
الأول: أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن حدوث الأشخاص البشرية كيف يدل على وجود الصانع المختار، وكيف يدل على وحدته وبراءته عن الأضداد والأنداد، فلا فائدة في الإعادة.
البحث الثاني: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (الله ربكم ورب آبائكم) * كلها بالنصب على البدل من قوله: * (أحسن الخالقين) * والباقون بالرفع على الاستئناف، والأول اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، ونقل صاحب " الكشاف " أن حمزة إذا وصل نصب، وإذا وقف رفع، ولما حكى الله عنه أنه قرر مع قومه التوحيد قال: * (فكذبوه فإنهم لمحضرون) * أي لمحضرون النار غدا، وقد ذكرنا الكلام فيه عند قوله: * (لكنت من المحضرين) * (الصافات: 57) ثم قال تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) * وذلك لأن قومه ما كذبوه بكليتهم، بل كان فيهم من قبل ذلك التوحيد فلهذا قال تعالى: * (إلا عباد الله المخلصين) * يعني الذين أتوا بالتوحيد الخالص فإنهم لا يحضرون ثم قال: * (وتركنا عليه في الآخرين * سلاك على إل ياسين) * قرأ نافع وابن عامر ويعبوب (آل ياسين) على إضافة لفظ آل إلى لفظ ياسين والباقون بكسر الألف وجزم اللام موصولة بياسين، أما القراءة الأولى ففيها وجوه الأول: وهو الأقرب أنا ذكرنا أنه إلياس بن ياسين فكان إلياس آل ياسين الثاني: (آل ياسين) آل محمد صلى الله عليه وسلم والثالث: أن ياسين اسم القرآن، كأنه قيل سلام الله على من آمن بكتاب الله الذي هو ياسين، والوجه هو الأول لأنه أليق بسياق الكلام، وأما القراءة الثانية ففيها وجوه الأول: قال الزجاج يقال ميكال وميكائيل وميكالين، فكذا ههنا إلياس وإلياسين والثاني: قال الفراء هو جمع وأراد به إلياس وأتباعه من المؤمنين، كقولهم المهلبون والسعدون قال: أنا ابن سعد أكرم السعدينا
ثم قال تعالى: * (إنا كذلك نجزي المحسنين * إنه من عبادنا المؤمنين) * وقد سبق تفسيره والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن لوطا لمن المرسلين * إذ نجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا فى الغابرين * ثم دمرنا الاخرين * وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل أفلا تعقلون) *
162

هذا هو القصة الخامسة، وإنه تعالى إنما ذكر هذه القصة ليعتبر بها مشركو العرب، فإن الذين كفروا من قومه هلكوا والذين آمنوا نجوا، وقد تقدم شرح هذه القصة، وقد نبههم بقوله تعالى: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل) * وذلك لأن القوم كانوا يسافرون إلى الشام والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في الليل وفي أول النهار، فلهذا السبب عين تعالى هذين الوقتين.
ثم قال تعالى: * (أفلا تعقلون) * يعني أليس فيكم عقول تعتبرون بها، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون * فساهم فكان من المدحضين * فالتقمه الحوت وهو مليم * فلولا أنه كان من المسبحين * للبث فى بطنه إلى يوم يبعثون * فنبذناه بالعرآء وهو سقيم * وأنبتنا عليه شجرة من يقطين * وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون * فامنوا فمتعناهم إلى حين) *
واعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة، وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص، لأجل أنه لما لم يصبر على أذى قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصبر هذا سببا لتصبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى قومه.
أما قوله: * (وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك المشحون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " قرئ يونس بضم النون وكسرها.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولا، لأن قوله: * (وإن يونس لمن المرسلين * إذ أبق إلى الفلك) * معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك، ويمكن أن يقال: إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله، ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله الله تعالى، والحاصل أن قوله: * (لمن المرسلين) * لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلا من عند الله تعالى، ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من
163

قوله: * (لمن المرسلين) * أنه من المرسلين عند الله تعالى.
المسألة الثالثة: أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم: إنه أبق من الله تعالى، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئا، فقيل: لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضبا لربه، وهذا بعيد شواء
أمره الله تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر، وقيل: إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه، ولم يصبر عليهم. وهذا أيضا بعيد لأن الله تعالى لما أمره بهذا العمل فلا يجوز أن يتركه، والأقرب فيه وجهان الأول: أن ذنبه كان لأن الله تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم الله بالعذاب وإن أنزله، وهذا هو الأقرب لأنه قادم على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمدا للمعصية، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله: * (إذ أبق إلى الفلك) * ما ذكرناه الوجه الثاني: أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة، فذلك هو قوله: * (إذ أبق إلى الفلك) * وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) * (الأنبياء: 87) وقوله: * (إلى الفلك المشحون) * مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة، ثم قال تعالى: * (فساهم) * المساهمة هي المقارعة، يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا، قال المبرد: وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة * (فكان من المدحضين) * أي: المغلوبين يقال: أدحض الله حجته فدحضت أي: أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق، يقال: دحضت رجل البعير إذا زلقت، وذكر ابن عباس في قصة يونس عليه السلام أنه كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف، وكان الله تعالى أوحي إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحي الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن أذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له حتى يبعث إلى بني إسرائيل نبيا، فاختار يونس عليه السلام لقوته وأمانته، قال يونس: الله أمر بهذا قال: لا ولكن أمرت أن أبعث قويا أمينا وأنت كذلك، فقال يونس: وفي بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لا تبعثه، فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مسجونة فحملوه فيها، فلما دخلت لجة البحر أشرفت على الغرق، فقال الملاحون: إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ربح ولا سبب ظاهر، وقال التجار: قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع، فمن خرج سهمه نغرقه، فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل فخرج سهم يونس، فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله، ثم عادوا ثانيا وثالثا يقترعون فيخرج سهم
164

يونس، فقال: يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كساء ورمي بنفسه فابتلعته السمكة فأوحي الله تعالى إلى الحوت: " لا تكسر منه عظما ولا تقطع له وصلا " ثم إن السمكة أخرجته إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى بحر البطائح ثم دجلة فصعدت به ورمته بأرض نصيبين بالعراء، وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين، فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى تشدد، ثم إن الأرض أكلتها فخرت من أصلها فحزن يونس لذلك حزنا شديدا، فقال: يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت، فقيل له يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة واقتلعت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم! انطلق إليهم، والله أعلم بحقيقة الواقعة.
ثم قال تعالى: * (فالتقمه الحوت وهو مليم) * يقال: القمة والتهمة والكل بمعنى واحد، وقوله تعالى: * (وهو مليم) * يقال: ألام إذا أتى بما يلام عليه، فالمليم المستحق للوم الآتي بما يلام عليه.
ثم قال تعالى: * (فلولا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) * وفي تفسير كونه من المسبحين قولان الأول: أن المراد منه ما حكي الله تعالى عنه في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * (الأنبياء: 87) الثاني: أنه لولا أنه كان قبل أن التقمه الحوت من المسبحين يعني المصلين وكان في أكثر الأوقات مواظبا على ذكر الله وطاعته للبث في بطن ذلك الحوت، وكان بطنه قبرا له إلى يوم البعث، قال بعضهم: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، فإن يونس عليه السلام كان عبدا صالحا ذاكرا لله تعالى، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: * (آلآن وقد عصيت قبل) * (يونس: 91) واختلفوا في أنه كم لبث في بطن الحوت، ولفظ القرآن لا يدل عليه. قال الحسن: لم يلبث إلا قليلا وأخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقمه، وعن مقاتل بن حيان ثلاثة أيام وعن عطاء سبعة أيام وعن الضحاك عشرين يوما وقيل شهرا ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة، فقال: ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال: نعم، فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل " فذاك هو قوله: * (فنبذناه بالعراء) * وفيه مباحث:
الأول: العراء المكان الخالي قال أبو عبيدة: إنما قيل له العراء لأنه لا شجر فيه ولا شيء يغطيه.
الثاني: أنه تعالى قال: فنبذناه بالعراء) * فأضاف ذلك النبذ إلى نفسه، والنبذ إنما حصل بفعل الحوت، وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق الله تعالى.
165

ثم قال تعالى: * (وهو سقيم) * قيل: المراد أنه بلي لحمه وصار ضعيفا كالطفل المولود كالفرخ الممعط الذي ليس عليه ريش، وقال: مجاهد سقيم أي: سليب.
ثم قال تعالى: * (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) * ظاهر اللفظ يدل على أن الحوت لما نبذه في العراء فالله تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين وذلك المعجز له، قال: المبرد والزجاج كل شجر لا يقوم على ساق وإنما يمتد على وجه الأرض فهو يقطين، نحو الدباء والحنظل والبطيخ، قال: الزجاج أحسب اشتقاقها من قطن بالمكان إذا أقام به وهذا الشجر ورقة كله على وجه الأرض فلذلك قيل له اليقطين، روي الفراء أنه قيل عند ابن عباس هو ورق القرع، فقال: ومن جعل القرع من بين الشجر يقطينا كل ورقة اتسعت وسترت فهي يقطين، قال: الواحدي رحمه الله والآية تقتضي شيئين لم يذكرهما المفسرون أحدهما: أن هذا اليقطين لم يكن قبل فأنبته الله لأجله والآخر: أن اليقطين كان معروشا ليحصل له ظل، لأنه لو كان منبسطا على الأرض لم يمكن أن يستظل به.
ثم قال تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * وفيه مباحث:
الأول: يحتمل أن يكون المراد وأرسلناه قبل أن يلتقمه الحوت وعلى هذا الإرسال وإن ذكر بعد الالتقام، فالمراد به التقديم والواو معناها الجمع، ويحتمل أن يكون المراد به الإرسال بعد الالتقام، عن ابن عباس رضي الله تهما أنه قال: كانت رسالة يونس عليه السلام بعد ما نبذه الحوت، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون أرسل إلى قوم آخرين سوى القوم الأول، ويجوز أن يكون أرسل إلى الأولين ثانيا بشريعة فآمنوا بها.
البحث الثاني: ظاهر قوله: * (أو يزيدون) * يوجب الشك وذلك على الله تعالى محال ونظيره قوله تعالى: * (عذرا أو نذرا) * (المرسلات: 6) وقوله تعالى: * (لعله يتذكر أو يخشى) * (طه: 44) وقوله تعالى: * (لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا) * (طه: 113) وقوله تعالى: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * (النحل: 77) وقوله تعالى: * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * (النحل: 77) وقوله تعالى: * (فكان قاب قوسين أو أدنى) * (النجم: 9) وأجابوا عنه من وجوه كثيرة والأصح منها وجه واحد وهو أن يكون المعنى أو يزيدون في تقديركم بمعنى أنهم إذا رآهم الرائي قال: هؤلاء مائة ألف أو يزيدون على المائة، وهذا هو الجواب عن كل ما يشبه هذا.
ثم قال تعالى: * (فآمنوا فمتعناهم إلى حين) * والمعنى: أن أولئك الأقوام لما آمنوا أزال الله الخوف عنهم وآمنهم من العذاب ومتعهم الله إلى حين، أي: إلى الوقت الذي جعله الله أجلا لكل واحد منهم.
قوله تعالى
* (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون *
166

ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين * مالكم كيف تحكمون * أفلا تذكرون * أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين * وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون * سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر أقاصيص الأنبياء عليهم السلام عاد إلى شرح مذاهب المشركين وبيان قبحها وسخافتها، ومن جملة أقوالهم الباطلة أنهم أثبتوا الأولاد لله سبحانه وتعالى، ثم زعموا أنها من جنس الإناث لا من جنس الذكور فقال: * (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون) * وهذا معطوف على قوله في أول السورة: * (فاستفتهم أهم أشد خلقا أمن خلقنا) * (الصافات: 11) وذلك لأنه تعالى أم رسوله صلى الله عليه وسلم باستفتاء قريش عن وجه إنكار البعث أولا ثم ساق الكلام موصولا بعضه ببعض إلى أن أمره بأن يستفتيهم في أنهم لم أثبتوا لله سبحانه البنات ولأنفسهم البنين، ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا: إن قريشا وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا: الملائكة بنات الله، واعلم أن هذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما: إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه كيف يمكن إثباته للخالق والثاني: إثبات أن الملائكة إناث، وهذا أيضا باطل لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر، أما الحس: فمفقود ههنا لأنهم ما شهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله: * (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون) * وأما الخبر: فمنقود أيضا لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقا قطعا وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة، وهو المراد من قوله: * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون * ولد الله وإنهم لكاذبون) * وأما النظر: فمفقود وبيانه من وجهين
167

الأول: أن دليل العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبرا في هذا الباب كان قولكم باطلا والوجه الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا ذلك الدليل فضده يظهر أنه لم يوجد ما يدل على صحة قولهم وهذا هو المراد من قوله: * (أم لكم سلطان مبين * فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) * فثبت بما ذكرنا أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته، لا الحس ولا الخبر ولا النظر، فكان المصير إليه باطلا قطعا، واعلم أنه تعالى لما طالبهم بما يدل على صحة مذهبهم دل ذلك على أن التقليد باطل، وأن الدين لا يصح إلا بالدليل.
المسألة الثانية: قوله: * (اصطفى البنات على البنين) * قراءة العامة بفتح الهمزة وقطعها من * (اصطفى) * ثم بحذف ألف الوصل وهو استفهام توبيخ وتقريع، كقوله تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق بنات) * (الزخرف: 16) وقوله تعالى: * (أم له البنات ولكم البنون) * (الطور: 39) وقوله تعالى: * (ألكم الذكر وله الأنثى) * (النجم: 21) وكما أن هذه المواضع كلها استفهام فكذلك في هذه الآية، وقرأ نافع في بعض الروايات: * (لكاذبون * اصطفى) * موصولة بغير استفهام، وإذا ابتدأ كسر الهمزة على وجه الخبر والتقدير اصطفى البنات في زعمهم كقوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) في زعمه واعتقاده.
ثم قال تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * واختلفوا في المراد بالجنة على وجوه الأول: قال مقاتل: أثبتوا نسبا بين الله تعالى وبين الملائكة حين زعموا أنهم بنات الله، وعلى هذا القول فالجنة: هم الملائكة سموا جنا لاجتنانهم عن الأبصار أو لأنهم حزان الجنة، وأقول هذا القول عندي مشكل، لأنه تعالى أبطل قولهم الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * والعطف يقتضي كون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية غير ما تقدم الثاني: قال: مجاهد قالت: كفار قريش الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا: سروات الجن، وهذا أيضا عندي بعيد لأن المصاهرة لا تسمى نسبا والثالث: روينا في تفسير قوله تعالى: * (وجعلوا لله شركاء الجن) * (الأنعام: 100) أن قوما من الزنادقة يقولون: الله وإبليس أخوان فالله: الخير الكريم وإبليس: هو الأخ الشرير الخسيس، فقوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * المراد منه هذا المذهب، وعندي أن هذا القول أقرب الأقاويل.
وهو مذهب المجوس القائلين بيزدان واهرمن ثم قال تعالى: * (وقد علمت الجنة أنهم لمحضرون) * أي: قد علمت الجنة أن الذين قالوا: هذا القول محضرون النار ويعذبون وقيل المراد ولقد علمت الجنة أنهم سيحضرون في العذاب، فعلى القول الأول: الضمير عائد إلى قائل هذا القول، وعلى القول الثاني: عائد إلى الجنة أنفسهم، ثم إنه تعالى
168

نزه نفسه عما قالوا من الكذب فقال: * (سبحان الله عما يصفون * إلا عباد الله المخلصين) * وفي هذا الاستثناء وجوه، قيل: استثناء من المحضرين، يعني: أنهم ناجون، وقيل هو استثناء من قوله تعالى: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * وقيل: هو استثناء منقطع من المحضرين، ومعناه ولكن المخلصين برآء من أن يصفوه بذلك، والمخلص بكسر اللام من أخلص العباة والاعتقاد لله وبفتحها من أخلصه الله بلطفه والله أعلم.
* (فإنكم وما تعبدون * مآ أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم * وما منآ إلا له مقام معلوم * وإنا لنحن الصآفون * وإنا لنحن المسبحون * وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الاولين * لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون) *
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد مذهب الكفار أتبعه بما نبه تبه على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على حمل أحد على الضلال إلا إذا كان قد سبق حكم الله في حقه بالعذاب والوقوع في النار، وذكر صاحب " الكشاف " في قوله: * (فإنكم وما تعبدون * ما أنت عليه بفاتنين) * قولين الأول: الضمير في * (عليه) * الله عز وجل معناه فإنكم ومعبوديكم ما أنت وهم جميعا بفاتنين على الله إلا أصحاب النار الذين سبق في علم الله كونهم من أهل النار، فإن قبل كيف يفتنونهم على الله؟ قلنا يفتنونهم عليه بإغوائهم من قولك فتن فلان على فلان امرأته كما تقول أفسدها عليه والوجه الثاني: أن تكون الواو في قوله: * (وما تعبدون) * بمعنى مع كما في قولهم كل رجل وضيعته، فكما جاز السكوت على كل رجل وضيعته، فكذلك جاز أن يسكت على قوله: * (فإنكم وما تعبدون) * لأن قوله: * (وما تعبدون) * ساد مسد الخبر، لأن معناه فإنكم مع ما تعبدون، والمعنى فإنكم مع آلهتكم أي فإنكم قرناؤهم وأصحابهم لا تتركون عبادتها، ثم قال تعالى: * (ما أنت عليهم) * أي على ما تعبدون * (بفاتنين) * بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة والإضلال * (إلا من هو صال الجحيم) * مثلكم. وقرأ الحسن * (صال الجحيم) * بضم اللام ووجهه أن يكون جمعا وسقوط واوه لالتقاء
169

الساكنين، فإنه قيل كيف يستقيم الجمع مع قوله: * (من هو) * قلنا * (من) * موحد اللفظ مجموع المعنى فحمل هو على لفظه والصالون على معناه.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه لا تأثير لإغواء الشيطان ووسوسته، وإنما المؤثر قضاء الله تعالى وتقديره، لأن قوله تعالى: * (فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين) * تصريح بأنه لا تأثير لقولهم ولا تأثير لأحوال معبوديهم في وقوع الفتنة والضلال، وقوله تعالى: * (إلا من هو صال الجحيم) * يعني إلا من كان كذلك في حكم الله وتقديره، وذلك تصريح بأن المقتضي لوقوع هذه الحوادث حكم الله تعالى، وكان عمر بن عبد العزيز يحتج بهذه الآية في إثبات هذا المطلوب، قال الجبائي: المراد أن الذين عبدوا الملائكة يزعمون أنهم بنات الله لا يكفرون أحدا إلا من ثبت في معلوم الله أنه سيكفر، فدل هذا على أن من ضل بدعاء الشيطان لم يكن ليؤمن بالله لو منع الله الشيطان من دعائه وإلا كان يمنع الشيطان، فصح بهذا أن كل من يعصي لم يكن ليصلح عنه شيء من الأفعال والجواب: حاصل هذا الكلام أنه لا تأثير لإغواء شياطين الإنس والجن. وهذا لا نزاع فيه إلا أن وجه الاستدلال أنه تعالى بين أنه لا تأثير لكلامهم في وقوع الفتنة، ثم استثنى منه ما في قوله تعالى: * (إلا من هو صال الجحيم) * فوجب أن يكون المراد من وقوع الفتنة هو كونه الشقاوة والسعادة. واعلم أن أصحابنا قرروا هذه الحجة بالحديث المشهور وهو أنه حج آدم موسى، قال القاضي هذا الحديث لم يقبله علماء التوحيد، لأنه يوجب أن لا يلام أحد على شيء من الذنوب، لأنه إن كان آدم لا يجوز لموسى أن يلومه على عمل كتبه الله عليه قبل أن يخلقه، فكذلك كان مذهب. فإن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام، فلماذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان، إنه عدو مضل مبين؟ ولما قال فلن أكون ظهيرا للمجرمين؟ ولماذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه الله عليهم؟ ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية، وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدريا، فلزمهم أن يكفروه، وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) * (الأعراف: 23) أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه، وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه، هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر، فهل ترد هذه الآية أم لا، فإنا بينا أن صريح هذه الآية يدل على أنه لا تأثير للوساوس في هذا الباب، فإن الكل يحصل بحكمة الله تعالى، والذي يدل عليه وجوه الأول: أن الكافر إن ضال بسبب وسوسة الشيطان فضلال الشيطان إن كان بسبب شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وهو محال، وإن انتهى إلى ضلال لم يحصل بسبب وسوسة متقدمة فهو المطلوب الثاني: أن كل أحد يريد أن يحصل لنفسه الاعتقاد الحق والدين الصدق، فحصول ضده يدل على أن ذلك ليس منه الثالث: أن الأفعال موقوفة على الدواعي وحصول الدواعي بخلق الله، فيكون الكل
170

من الله تعالى الرابع: أنه تعالى لما اقتضت حكمته شيئا، وعلم وقوعه، فلو لم يقع ذلك الشيء لزم انقلاب ذلك الحكم كذبا وانقلاب ذلك العلم جهلا وهو محال، وأما الآيات التي تمسك بها القاضي فهي معارضة بالآيات الدالة على أن الكل من الله والقرآن كالبحر المملوء من هذه الآيات فتبقى الدلائل العقلية التي ذكرناها سليمة، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * فالجمهور على أنهم الملائكة، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية، فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد الله وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة
فأولها قوله تعالى: * (وما منا إلا مقام معلوم) * وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم إلى درجاتهم في معرفة الله تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله: * (وإنا لنحن الصافون) * والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى: * (وإنا لنحن المسبحون) * والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
واعلم أن قوله: * (وإنا لنحن الصافون * وإنا لنحن المسبحون) * يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر. وبالجملة فهذه الألفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلا عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا.
وأما قوله: * (وإن كانوا ليقولون * لو أن عندنا ذكرا من الأولين * لكنا عباد الله المخلصين) * فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون: * (لو أن عندنا ذكرا) * أي كتابا م كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله، ولما كذبنا كما كذبوا. ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن فكفروا به. ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا) * ثم قال تعالى: * (فسوف يعلمون) * أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.
قوله تعالى
* (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون *
171

فتول عنهم حتى حين * وأبصرهم فسوف يبصرون * أفبعذابنا يستعجلون * فإذا نزل بساحتهم فسآء صباح المنذرين * وتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون * سبحان ربك رب العزة عما يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين) *
اعلم أنه تعالى لما هدد الكفار بقول تعالى: * (فسوف يعلمون) * أي عاقبة كفرهم أردفه بما يقوي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) * فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى: * (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون) * فبين أن وعده بنصرته قد تقدم والدليل عليه قوله تعالى: * (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) * (المجادلة: 21) وأيضا أن الخير مقضى بالذات والشر مقضى بالعرض، وما بالذات أقوى مما بالعرض، وأما لنصرة والغلبة فقد تكون بقوة الحجة، وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات فالمؤمن وإن صار مغلوبا في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب، ولا يلزم على هذه الآية أن يقال: فقد قتل بعض الأنبياء وقد هزم كثير من المؤمنين ثم قال تعالى لرسوله وقذ أخبره بما تقدم * (فتولى عنهم حتى حين) * والمراد إلى يوم بدر، وقيل إلى فتح مكة، وقيل إلى يوم القيامة، ثم قال: * (وأبصر فسوف يبصرون) * والمعنى بأبصارهم وما يقضي عليهم من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة، فسوف يبصرونك مع ما قدر لك من النصرة والتأييد في الدنيا والثواب العظيم في الآخرة، والمراد من الأمر المشاهد بأبصارهم على الحال المنتظرة الموعودة الدلالة على أنها كائنة واقعة لا محالة، وأن كينونتها قريبة كأنها قدام ناظريك، وقوله: * (فسوف يبصرون) * للتهديد والوعيد، ثم قال: * (أفبعذابنا يستعجلون) * والمعنى أن الرسول عليه السلام كان يهددهم بالعذاب، وما رأوا شيئا فكانوا يستعجلون نزول ذلك العذاب على سبيل الاستهزاء، فبين تعالى أن ذلك الاستعجال جهل، لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتا معينا لا يتقدم ولا يتأخر، فكأن طلب حدوثه قبل مجيء ذلك الوقت جهلا، ثم قال تعالى: في صفة العذاب الذي يستعجلونه * (فإذا نزل بساحتهم) * أي هذا العذاب * (فساء صباح المنذرين) * وإنما وقع
172

هذا التعبير عن هذه المعاني كأنهم كانوا يقدمون على العادة في وقت الصباح، فجعل ذكر ذلك الوقت كناية عن ذلك العمل، ثم أعاد تعالى قوله: * (فتول عنهم حتى حين * وأبصر فسوف يبصرون) * فقيل المراد من هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا، وفي هذه الكلمة أحوال القيامة، وعلى هذا التقدير فالتكرير زائل، قيل أن المراد من التكرير المبالغة في التهديد والتهويل، ثم إنه تعالى ختم السورة بخاتمة شريفة جامعة لكل المطالب العالية، وذلك لأنه أهم المهمات للعاقل معرفة أحوال ثلاثة فأولها: معرفة إله العالم بقدر الطاقة البشرية، وأقصى ما يمكن عرفانه من صفات الله تعالى ثلاثة أنواع أحدهما: تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية، وهو لفظة سبحان وثانيها: وصفه بكل ما يليق بصفات الإلهية وهو قوله: * (رب العزة) * تفيد الاستغراق، وإذا كل الكل ملكا له وملكا له ولم يبق لغيره شيء، فثبت أن قوله: * (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) * كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات في معرفة إله العالم والمهم الثاني: من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف ينبغي أن يعامل نفسه ويعامل الخلق في هذه الحياة الدنيوية.
واعلم أن أكثر الخلق ناقصون ولا بد لهم من مكمل يكملهم، ومرشد يرشدهم، وهاد يهديهم، وما ذلك إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وبديهة الفطرة شاهدة بأنه يجب على الناقص الاقتداء بالكامل، فنبه على هذا الحرف يقوله: * (وسلام على المرسلين) * لأن هذا اللفظ يدل على أنهم في الكمال اللائق بالبشر فاقوا غيرهم، ولا جرم يجب على كل من سواءهم الاقتداء بهم والمهم الثالث: من مهمات العاقل أن يعرف أنه كيف يكون حاله بعد الموت.
واعلم أن معرفة هذه الحالة قبل الموت صعبة، فالاعتماد فيها على حرف واحد، وهو أنه إله العالم غني رحيم، والغني الرحيم ولا يعذب فنبه على هذا الحرف بقوله: * (والحمد لله رب العالمين) * وذلك لأن استحقاق الحمد لا يحصل إلا بالإنعام العظيم، فبين بهذا كونه منعما، وظاهر كونه غنيا عن العالمين، ومن هذا وصفه كان الغالب منه هو الرحمة والفضل والكرم، فكان هذا الحرف منبها على سلامة الحال بعد الموت، فظهر بما ذكرنا أن هذه الخاتمة كالصدفة المحتوية على درر أشرف من
دراري الكواكب، ونسأل الله سبحانه وتعالى حسن الخاتمة والعافية في الدنيا والآخرة.
173

سورة ص
ثمانون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ص والقرءان ذى الذكر * بل الذين كفروا فى عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص) *
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الكلام المستقصى في أمثال هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة ولا بأس بإعادة بعض الوجوه فالأول: أنه مفتاح أسماء الله تعالى التي أولها صاد، كقولنا صادق الوعد، صانع المصنوعات، صمد والثاني: معناه صدق محمد في كل ما أخبر به عن الله الثالث: معناه صد الكفار عن قبول هذا الدين، كما قال تعالى: * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * (النحل: 88) الرابع: معناه أن القرآن مركب من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها ولستم قادرين على معارضة القرآن، فدل ذلك على أن القرآن معجز الخامس: أن يكون صاد بكسر الدال من المصادة وهي المعارضة ومنها الصدى وهو ما يعارض صوتك في الأماكن الخالية من الأجسام الصلبة، ومعناه عارض القرآن بعملك فاعلم بأوامره وانته عن نواهيه السادس: أنه اسم السورة والتقدير هذه صاد، فإن قيل ههنا إشكالان أحدهما: أن قوله: * (والقرآن ذي الذكر) * قسم وأين المقسم عليه؟ والثاني: أن كلمة (بل) تقتضي رفع حكم ثبت قلبها، وإثبات حكم بعدها يناقض الحكم السابق، فأين هذا المعنى ههنا؟ والجواب: عن الأول من وجوه الأول: أن يكون معنى صاد، بمعنى صدق محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون صاد هو المقسم عليه، وقوله: * (والقرآن ذي الذكر) * هو القسم الثاني: أن يكون المقسم عليه محذوفا، والتقدير سورة (ص والقرآن ذي الذكر) أنه لكلام معجز، لأنا بينا أن قوله * (ص) * تنبيه على التحدي والثالث: أن يكون صاد اسما للسورة، ويكون التقدير هذه ص والقرآن ذي الذكر، ولما كان المشهور، أن محمدا عليه السلام يدعي في هذه السورة كونها معجزة، كان قوله هذه ص جاريا مجرى قوله: هذه هي السورة العجزة، ونظيره قوله هذا حاتم والله، أي هذا هو المشهور
174

بالسخاء والجواب: عن السؤال الثاني أن الحكم المذكور قبل كلمة * (بل) * أما ما ذكره المفسر كون محمد صادقا في تبليغ الرسالة أو كون القرآن أو هذه السورة معجزة والحكم المذكور بعد كلمة * (بل) * ههنا هو المنازعة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب، والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ الحسن صاد بكسر الدال لأجل التقاء الساكنين، وقرأ عيسى بن عمر بنصب صاد ونون وبحذف حرف القسم وإيصال فعله كقولهم الله لأفعلن، وأكثر القراء على الجزم لأن الأسماء العارية عن العوامل تذكر موقوفة الأواخر.
المسألة الثالثة: في قوله ذي الذكر وجهان الأول: المراد ذي الشرف، قال تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وقال تعالى: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم) * (الأنبياء: 10) ومجاز هذا من قولهم لفلان ذكر في الناس، كما يقولون له صيت الثاني: ذي البيانين أي فيه قصص الأولين، والآخرين، وفيه بيان العلوم الأصلية والفرعية ومجازه من قوله: * (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * (القمر: 22). المسألة الرابعة: قالت المعتزلة القرآن ذي الذكر والذكر محدث بيان الأول: قوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) * (وهذا ذكر مبارك) * (الأنبياء: 50) * (والقرآن ذي الذكر) * (ص: 1) * (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * (يس: 69) وبيان الثاني: قوله: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) * (الأنبياء: 2) وقوله * (ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث) * والجواب: أنا نصرف دليلكم إلى الحروف والأصوات وهي محدثه.
أما قوله: * (بل الذي كفروا) * فالمراد منه الكفار من رؤساء قريش الذين يجوز على مثلهم الإجماع على الحسد والكبر على الإنقياد إلى الحق، والعزة ههنا التعظيم وما يعتقده الإنسان في نفسه من الأحوال التي تمنعه من متابعة الغير لقوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * (البقرة: 206) والشقاق هو إظهار المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضلية عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه المخالفة على جهة المساواة للمخالف أو على جهة الفضيلة عليه، وهو مأخوذ من الشق كأنه يرتفع عن أن يلزمه الانقياد له بل يجعل نفسه في شق وخصمه في شق، فيريد أن يكون في شقة نفسه ولا يجري عليه حكم خصمه، ومثله العاداة وهو أن يكون أحدهما في عدوة والآخر في عدوة، وهي جانب الوادي، وكذلك المحادة أن يكون هذا في حد غير حد الآخر، ويقال انحرف فلان عن فلان وجانب فلان فلانا أي صار منه على حرف وفي جانب غير جانبه والله أعلم، ثم إنه تعالى لما وصفهم بالعزة والشقاق خوفهم فقال: * (كما أهلكنا قلبهم من قرن فنادوا) * والمعنى أنهم نادوا عند نزول العذاب في الدنيا عند نزول العذاب في الدنيا ولم يذكر بأي شيء نادوا، وفيه وجوه الأول: وهو الأظهر أنهم نادوا بالاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب ليس إلا بالاستغاثة الثاني: نادوا بالإيمان والتوبة عند معاينة العذاب الثالث: نادوا أي رفعوا أصواتهم، يقال فلان أندى صوتا من فلان أي ارفع صوتا، ثم قال: * (ولات حين مناص) * يعني
175

ولم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب وهو كقوله: * (فلما رأوا بأسنا قالا آمنا) * (غافر: 84) وقال: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون) * (المؤمنون: 64) والجؤار رفع الصوت بالتضرع والاستغاثة وكقوله: * (الآن وقد عصيت قبل) * (يونس: 91) وقوله: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) * (غافر: 85) بقي ههنا أبحاث:
البحث الأول: في تحقيق الكلام في لفظ * (لات) * الخليل وسيبويه أن لات هي لا المشبهة بليس زيدت عليها تاء التأنيث كما زيدت على رب وثم للتأكيد، وبسب هذه
الزيادة حدثت لها أحكام جديدة، منها أنها لا تدخل إلا على الأحيان، ومنها أن لا يبرز إلا أحد جزءيها، إما الاسم وأما الخبر ويمتنع بروزهما جميعا، وقال الأخفش إنها لا النافية للجنس زيدت عليها التاء، وخصت بنفي الأحيان * (وحين مناص) * منصوب بها كأنك قلت ولات حين مناص لهم ويرتفع بالابتداء أي ولات حين مناص كائن لهم.
البحث الثاني: الجمهور يقفون على التاء من قوله: * (ولات) * والكسائي يقف عليها بالهاء كما يفق على الأسماء المؤنثة، قال صاحب " الكشاف ": وأما قول أبي عبيدة التاء داخلة على الحين فلا وجه له، واستشهاده بأن التاء ملتزقة بحين في مصحف عثمان فضعيف فكم وقعت في المصحف أشياء خارجة عن قياس الخط.
البحث الثالث: المناص المنجا والغوث، يقال ناصه إذا أغاثه، واستناص طلب المناص، والله أعلم.
قوله تعالى
* (وعجبوا أن جآءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الالهة إلها واحدا إن هذا لشىء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على ءالهتكم إن هذا لشىء يراد * ما سمعنا بهذا فى الملة الاخرة إن هذا إلا اختلاق) *
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * في قوله: * (منهم) * وجهان الأول: أنهم قالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات والرفيعة والثاني: أن الغرض من هذه الكلمة لا التنبيه على كمال
176

جهالتهم، وذلك أنه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة، والتنفير عن الدنيا، ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا من الكذب والتهمة؛ وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه، ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله، ونظيره قوله: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) * (المؤمنون: 69) فقال: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم) * ومعناه أن محمدا كان من رهطهم وعشيرتهم وكان مساويا لهم في الأسباب الدنيوية فاستنكفوا من الدخول تحت طاعته ومن الانقياد لتكاليفه، وعجبوا أن يختص هو من بينهم برسالة الله وأن يتميز عنهم بهذه الخاصية الشريفة، وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد.
ثم قال تعالى: * (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) * وإنما لم يقل وقالوا بل قال: * (وقال الكافرون) * إظهارا للتعجب ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان ودلالة على أن هذا القول لا يصدر إلا عن الكفر التام، فإن الساحر هو الذي يمنع من طاعة الله ويدعو إلى طاعة الشيطان وهو عندكم بالعكس من ذلك والكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم عن الكذاب هو الذي يخبر عن الشيء لا على ما هو عليه وهو يخبر عن وجود الصانع القديم الحكيم العليم وعن الحشر والنشر وسائر الأشياء التي تثبت بدلائل العقول صحتها فكيف يكون كذابا، ثم إنه تعالى حكى جميع ما عولوا عليه في إثبات كونه كاذبا وهي ثلاثة أشياء أحدها: ما يتعلق بالإلهيات وثانيها: ما يتعلق بالنبوات وثالثها: ما يتعلق بالمعاد، أما لشبهة المتعلقة بالإلهيات فهي قولهم: * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * روي أنه لما أسلم عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا وشق ذك على قريش فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ومشوا إلى أبي طالب وقالوا أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء يعنون المسلمين فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل كل الميل على قومك، فقال صلى الله عليه وسلم ماذا يسألونني، قالوا ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك، فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم العجم؟ قالوا: نعم، قال تقولوا لا إله إلا الله، فقاموا وقالوا: * (أجعل الآلهة إلها واحدا وإن هذا لشيء عجاب) * أي بليغ في التعجب وأقول منشأة التعجب من وجهين الأول: هو أن القوم ما كانوا من أصحاب النظر والاستدلال بل كانت أوهامهم تابعة للمحسوسات فلما وجدوا في الشاهد أن الفاعل الواحد لا تفي قدرته وعلمه بحفظ الخلق العظيم قاسوا الغائب على الشاهد، فقالوا: لا بد في حفظ هذا العالم الكثير من آلهة كثيرة يتكفل كل واحد منهم بحفظ نوع آخر الوجه الثاني: أن أسلافهم لكثرتهم وقوة عقولهم كانوا جاهلين مبطلين، وهذا الإنسان الواحد يكون محقا صادقا، وأقول لعمري لو سلمنا إجراء حكم الشاهد على الغائب من غير ديل وحجة، لكانت الشبهة الألى لازمة، بطل أصل كلام المشبهة في الذات وكلام المشبهة في الأفعال، أما المشبهة
177

في الذات فهو أنهم يقولون لما كان كل موجود في الشاهد يجب أن يكون جسما ومختصا بحيز وجب في الغائب أن يكون كذلك، أما المشبهة في الأفعال فهم المعتزلة الذين يقولون أن الأمر الفلاني قبيح منا، فوجب أن يكون قبيحا من الله، فثبت بما ذكرنا أنه إن صح كلام هؤلاء المشبهة في الذات وفي الأفعال لزم القطع بصحة شبهة هؤلاء المشركين، وحيث توافقنا على فسادها على فسادها علمنا أن عمدة المجسمة وكلام المعتزلة باطل فاسد. وأما الشبهة الثانية فلعمري لو كان التقيد حقا لكانت هذه الشهبة لازمة وحيث كانت فاسدة علمنا أن التقليد باطل بقي ههنا أبحاث:
البحث الأولى: أن العجاب هو العجيب إلا أنه أبلغ من العجيب كقولهم طويل وطوال وعريض وعراض وكبير وكبار وقد يشدد للمبالغة كقوله تعالى: * (ومكروا مكرا كبارا) * (نوح: 22).
الثاني: قال صاحب " الكشاف " قرىء عجاب بالتخفيف والتشديد فقال والتشديد أبلغ من التخفيف كقوله تعالى: * (مكرا كبارا) *.
ثم قال تعالى: * (وانطلق الملأ منهم أن أمشوا وأصبروا على آلهتكم) * قد ذكرنا أن لملأ عبارة عن القوم الذين إذا حضروا في المجلس فإنه تمتلئ القلوب والعيون من
مهابتهم وعظمتهم، قوله: * (منهم) * أي من قريش انطلقوا عن مجلس أبي طالب بن، بعد ما بكتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجواب العتيد قائلين بعضهم البعض * (أن امشوا واصبروا على آلهتكم) * وفيه مباحث:
البحث الأول: القراءة المشهورة (أن امشوا) وقرأ ابن أبي عبلة امشوا بحذف أن، قال صاحب: " الكشاف " (أن) بمعنى أي لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما يجري في المجلس المتقدم، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول، وعن ابن عباس: وأنطبق الملأ منهم يمشون.
البحث الثاني: معنى أن امشوا أنه قال بعضهم امشوا واصبروا، فلا حيلة لكم في دفع أمر محمد، إن هذا لشيء يراد، وفيه ثلاثة أوجه أحدهما: ظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم ليس له سبب ظاهر يثبت أن تزايد ظهوره، ليس إلا لأن الله يريده، وما أراد الله كونه فلا دافع له وثانيها: أن الأمر كشئ من نوائب الدهر فلا انفكاك لنا منه وثالثها: أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم، قال القفال هذه كلمة تذكر للتهديد والتخويف وكأن معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين، وإنما عرضه أن يستولي علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
ثم قال: * (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) * والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد صلى الله عليه وسلم ما سمعناه في دين النصارى، أو يكون المراد بالمراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليهم، ثم قالوا: * (إن هذا إلا اختلاق) * افتعال وكذب، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد، فوجب أن يكون باطلا، ولو كان القول بالتقليد حقا لكان كلام هؤلاء المشركين حقا، وحيث كان باطلا علمنا أن القول بالتقليد باطل.
178

قوله تعالى
* (أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم فى شك من ذكرى بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزآئن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السماوات والارض وما بينهما فليرتقوا فى الاسباب * جند ما هنالك مهزوم من الاحزاب) *
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمدا لما كان مساويا لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذا الدرجة العالية والمنزلة الشريفة؟ وهو المراد من قولهم: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) * فإنه استفهام على سبيل الإنكار، وحكى الله تعالى عن قوم صالح أنه قالوا مثل هذا القول فقالوا: * (أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشهر) * (القمر: 25) وحكى الله تعالى عن قوم محمد صلى الله عليه وسلم أيضا أنهم قالوا: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة: أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليظ عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل، فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه، فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه، فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه الأول: قوله تعالى: * (بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب) * وفيه وجهان أحدهما: أن قوله: * (بل هم في شك من ذكري) * أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته، فهي دلائل قاطعة فلو تأملوا حق التأمل في الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال النبوة، ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركوا النظر والاستدلال، فأما قوله تعالى: * (بل لما
179

يذوقوا عذاب) * فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي، ولو ذاقوه لم يقع منهم " إلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات وثانيها: أن يكون المراد في قوله؛ * (بل هم في شك من ذكري) * هو أن النبي صلى الله عليه وسلم يخوفهم من عذاب الله لو أصروا على الكفر، ثم أنهم أصروا على الكفر، ولم ينزل عليهم العذاب، فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه، وقالوا: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) * (الأنفال: 32) فقال: * (بل هم شك من ذكري) * معناه ما ذكرناه، وقوله تعالى: * (بل لما يذوقوا عذاب) * معناه أن ذلك الشك إنما حصل بسبب عدم نزول العذاب والوجه الثاني: من الوجوه التي ذكرها الله تعالى في الجواب عن تلك الشبهة قوله تعالى: * (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب) * وتقرير هذا الجواب أن منصب النبوة منصب عظيم ودرجة عالية والقادر على هبتها يجب أن يكون عزيزا أي كامل القدرة ووهابا أي عظيم الجود وذلك هو لله سبحانه وتعالى، وإذا كان هو تعالى كامل القدرة وكامل الجود، لم يتوقف كونه واهبا لهذه النعمة على كون الموهوب منه غنيا أو فقيرا، ولم يختلف ذلك أيضا بسبب أن أعداءه يحبونه أو يكرهونه والوجه الثالث: في الجواب عن هذه الشبهة قوله تعالى: * (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب) * واعلم أنه يجب أن يكون المراد من هذا الكلام مغايرا للمراد من قوله: * (أم عندهم خزائن رحمة ربك) * يعني أن هذه الأشياء أحد ذكرنا الخزائن أولا على عمومها أردفها بذكر * (ملك السماوات والأرض وما بينهما) * يعني أن هذه الأشياء أحد أنواع خزائن الله، فإذا كنتم عاجزين عن هذا القسم، فبأن تكونوا عاجزين عن كل خزائن الله كان أولى، فهذا ما أمكنني ذكره في الفرق بين الكلامين، أما قوله تعالى: * (فليرتقوا في الأسباب) * فالمعنى أنهم أن ادعوا أن لهم ملك السماوات والأرض فعند هذا يقال لهم
ارتقوا في الأسباب واصعدوا في المعارج التي يتوصل بها إلى العرش حتى يرتقوا عليه ويدبروا أمر العالم وملكوت الله وينزلوا الوحي على من يختارون، واعلم أن حكماء الإسلام استدلوا بقوله: * (فليرتقوا في الأسباب) * على أن الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب لحوادث العالم السفلي لأن الله تعالى سمى الفلكيات أسبابا وذلك يدل على ما قلناه والله أعلم، أما قوله تعالى: * (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) * ففيه مقامات من البحث أحدهما: في تفسير هذه الألفاظ والثاني: في كيفية تعلقها بما قبلها أما المقام الأول: فقوله: * (جند) * مبتدأ وما للإيهام كقوله جئت لأمر ما، وعندي طعام ما، و * (من الأحزاب) * صفة لجند و * (مهزوم) * خبر المبتدأ وأما قوله: * (هنالك) * فيجوز أن يكون صفة لجند أي جند ثابت هنالك، ويجوز أن يكون متعلقا بمهزوم معناه أن الجند من الأحزاب مهزوم هنالك، أي في ذلك الموضع الذي كانوا يذكرون
180

فيه هذه الكلمات الطاعنة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأما المقام الثاني: فهو أنه تعالى لما ضعيفون، فكيف يكونون مالكي السماوات والأرض وما بينهما، قال قتادة هنالك إشارة إلى يوم بدر فأخبر الله تعالى بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر، وقيل يوم الخندق، والأصوب عندي حمله على يوم فتح مكة، وذلك لأن المنى أنهم جند سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات وذلك الموضع هو مكة، فوجب أن يكون المراد أنهم سيصيرون منهزمين في مكة وما ذاك إلا يوم الفتح. والله أعلم.
قوله تعالى
* (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الاوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الايكة أولئك الاحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب * وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الايد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وءاتيناه الحكمة وفصل الخطاب) *
قوله تعالى: * (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد، وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب، وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر في الجواب عن شبهة القوم أنهم أنما توانوا وتكاسلوا في النظر والاستدلال، لأجل أنهم لم ينزل بهم العذاب، بين تعالى في هذه الآية أن أقوام سائر الأنبياء هكذا كانوا ثم بالآخرة نزل ذلك العقاب، والمقصود منه تخويف أولئك الكفار الذين كانوا يكذبون الرسول في إخباره عن نزول العقاب عليهم، فذكر الله ستة أصناف منهم أولهم قوم نوح عليه السلام ولما كذبوا نوحا أهلكهم الله بالغرق والطوفان والثاني: عاد قوم هود لما كذبوه أهلكهم الله بالريح والثالث: فرعون لما كذب موسى أهلكه الله مع قومه بالغرق والرابع: ثمود قوم صالح لما كذبوه فأهلكوا بالصيحة والخامس: قوم لوط كذبوه بالخسف والسادس: أصحاب الأيكة وهم قوم شعيب كذبوه فأهلكوا بعذاب يوم الظلة، قالوا: وإنما وصف الله فرعون بكونه ذا الأوتاد لوجوه الأول: أن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاده، ثم استعير لإثبات العز والملك قال الشاعر: ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة في ظل مالك ثابت الأوتاد
قال القاضي حمل الكلام على هذا الوجه أولى لأنه لما وصف بتكذيب الرسل، فيجب فيما وصف به أن يكون تفخيما لأمر ملكه ليكون الزجر بما ورد من قبل الله تعالى عليه من الهلاك
181

مع قوة أمره أبلغ والثاني: أنه كان ينصب الخشب في الهواء وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا، ويتركه معلقا في الهواء إلى أن يموت والثالث: أنه كان يمد المعذب بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات والرابع: قال قتادة كانت أوتادا وأرسانا وملاعب يلعب بها عنده والخامس: أن عساكره كانوا كثيرين، وكانوا كثيري الأهبة عظيمي النعم، وكانوا يكثرون من الأوتاد لأنهم يقرون أمره ويشدون مملكته كما يقوي الوتد البناء. وأما الأيكة فهي الغيضة المتلفة.
ثم قال تعالى: * (أولئك الأحزاب) * وفيه أقوال الأول: أن هؤلاء الذين ذكرناهم من الأمم هم الذين تحزبوا على أنبيائهم فأهلكناهم، فذلك نفعل بقومك، لأنه تعالى بين بقوله: (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) (ص: 11) أن قوم محمد صلى الله عليه وسلم جند من الأحزاب، أي من جنس الأحزاب المتقدمين، فلما ذكر أنه عامل الأحزاب المتقدمين بالإهلاك كان ذلك تخويفا شديدا لقوم محمد صلى الله عليه وسلم الثاني: أن معنى قوله: * (أولئك الأحزاب) * مبالغة لوصفهم بالقوة والكثرة، كما يقال فلان هو الرجل، والمعنى أن حال أولئك الأحزاب مع كمال قوتهم لما كان هو الهلاك والبوار، فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين.
واعلم أن هؤلاء الأقوام إن صدقوا بهذه الأخبار فهو تحذير، وإن لم يصدقوا بها فهو تحذير أيضا، لأن آثار هذه الوقائع باقية وهو يفيد الظن القوي فيحذرون، ولأن ذكر ذلك على سبيل التكرير يوجب الحذر أيضا ثم قال: * (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) * أي كل هذه الطوائف لما كذبوا أنبياءهم في الترغيب والترهيب، لا جرم نزل العقاب عليهم وإن كان ذلك بعد حين، والمقصود منه زجر السامعين، ثم بين تعالى أن هؤلاء المكذبين وإن تأخر هلاكهم فكأنه واقع بهم فقال: * (وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق) * وفي تفسير هذه الصيحة قولان الأول: أن يكون المراد عذابا يفجؤهم ويجيئهم دفعة واحدة، كما يقال صاح الزمان بهم إذا هلكوا قال الشاعر: صاح الزمان بآل برمك صيحة خروا لشدتها على الأذقان
ويشبه أن يكون أصل ذلك من الغارة إذا عافصت القوم فوقعت الصحية فيهم، ونظيره قوله تعالى: * (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذي خلوا من قبلهم) * (يونس: 102) الآية والقول الثاني: أن هذه الصيحة هي صيحة النفخة الأولى في الصور، كما قال تعالى في سورة يس: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم
يخصمون) * (يس: 49) والمعنى أنهم وإن لم يذوقوا عذابي في الدنيا فهو معد لهم يوم القيامة، فكأنهم بذلك العذاب وقد جاءهم فجعلهم منتظرين لها على معنى قربها منهم، كالرجل الذي ينتظر الشيء فهو ماد الطرف إليه يطمع كل ساعة في حضوره، ثم إنه سبحانه وصف هذه الصيحة فقال: * (ما لها من فواق) * قرأ حمزة والكسائي * (فواق) * بضم الفاء، والباقون بفتحها، قال الكسائي والفراء
182

وأبو عبيدة والأخفش: هما لغتان من فواق الناقة. وهو ما بين حلبتي الناقة وأصله من الرجوع، يقال أفاق من مرضه، أي رجع إلى الصحة، فالزمان الحاصل بين الحلبتين لعود اللبن إلى الضرع يسمى فواقا بالفتح وبالضم، كقولك قصاص الشعر وقصاصه، قال الواحدي: والفواق والفواق إسمان من الأفاقة، والأفاقة معناها الرجوع والسكون كأفاقة المريض، إلا أن الفواق بالفتح يجوز أن يقام مقام المصدر، والفواق بالضم اسم لذلك الزمان الذي يعود فيه اللبن إلى الضرع، وروى الواحدي في البسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: " يأمر الله إسرافيل فينفخ نفخة الفزع، قال فيمدها ويطولها " وهي التي يقول: * (ما لها من فواق) * ثم قال الواحدي: وهذا يحتمل معنيين أحدهما: ما لها سكون والثاني: ما لها رجوع، والمعنى ما تسكن تلك الصيحة ولا ترجع إلى السكون، ويقال لكل من بقي على حالة واحدة، إنه لا يفيق منه ولا يستفيق، والله أعلم.
قوله تعالى: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) *.
اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله: * (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب) * (ص: 4) أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أولها: تتعلق بالإلهيات، وهو قوله: * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * والثانية: تتعلق بالنبوات، وهو قوله: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) * (ص: 8) والثالثة: تتعلق بالمعادة، وهو قوله تعالى: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر، فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته، والقط والقطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط، ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد المؤمنين بالجنة، قالوا على سبيل الاستهزاء: عجل لنا نصيبنا من الجنة، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها.
واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء: * (عجل لنا قطنا) * أمره الله بالصبر على سفاهتهم، فقال: * (اصبر على ما يقولون) * فإن قيل. أي تعلق بين قوله: * (اصبر على ما يقولون) * وبين قوله: * (واذكر عبدنا داود) *؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول: كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جرائتهم على الله وإنكارهم الحشر والنشر، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من الله تعالى ومن
183

يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا والثاني: كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر، من الأنبياء وافقوك والثالث: أن للناس في قصة داود قولين: منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال: الخصمان لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر الله تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس: أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس: أن قوله تعالى: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال: * (اصبر على ما يقولون) * واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند الله لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وههنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجئ ذكره إن شاء الله تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله: * (كتاب أنزلنا إليك مبارك ليدبروا آياته) * (ص: 29) واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
فالقصة الأولى: قصة داود، واعلم أن مجامع ما ذكره الله تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول: تفصيل ما آتي الله داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني: شرح تلك الواقعة التي وقعت له من أمر الخصمين والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد وقوع تلك الواقعة أما النوع الأول: وهو شرح الصفات التي آتاها الله داود من الصفات الموجبة لكمال السعادة فهي عشرة الأول: قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * فأمر محمدا صلى الله عليه وسلم على جلالة قدره بأن يقتدي في الصبر على طاعة الله بداود وذلك تشريف عظيم وإكرام لداود حيث أمر الله أفضل الخلق محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به مكارم الأخلاق والثاني: أنه قال في حقه: * (عبدنا داود) * فوصفه بكونه عبدا له وعبر عن نفسه بصيغة الجمع الدالة على نهاية التعظيم، وذلك غاية التشريف، ألا ترى أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن يشرف محمدا عليه السلام ليلة المعراج قال: * (سبحان الذي أسري بعبده) * (الإسراء: 1)
184

فههنا يدل على ذلك التشريف لداود فكان ذلك دليلا على علو درجته أيضا، فإن وصف الله تعالى الأنبياء بعبوديته مشعر بأنهم قد حققوا معنى العبودية بسبب الاجتهاد في الطاعة والثالث: قوله: * (ذا الأيد) * أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، وذلك لأنه تعالى لما مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبة للمدح، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه * (والأيد) * المذكور ههنا كالقوة المذكورة في قوله: * (يا يحيى خذ
الكتاب بقوة) * (مريم: 12) وقوله تعالى: * (وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة) * (الأعراف: 145) أي باجتهاد في أداء الأمانة وتشدد في القيام بالدعوة وترك إظهار الوهن والضعف والأيد والقوة سواء ومنه قوله تعالى: * (هو الذي أيدك بنصره) * (الأنفال: 62) وقوله تعالى: * (وأيدناه بروح القدس) * (البقرة: 87) وقال: * (والسماء بنيناها بأيد) * (الذاريات: 47) وعن قتادة أعطى قوة في العبادة وفقها في الدين، وكان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر الرابع: قوله: * (إنه أواب) * أي أن داود كان رجاعا في أموره كلها إلى طاعتي والأواب فعال من آب إذا رجع كما قال تعالى: * (إن إلينا إيابهم) * (الغاشية: 25) وفعال بناء المبالغة كما يقال قتال وضراب فإنه أبلغ من قاتل وضارب الخامس: قوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) * ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (يا جبال أوبي معه والطير) * (سبأ: 10) وفيه مباحث:
البحث الأول: وفيه وجوه الأول: أن الله سبحانه خلق في جسم الجبل حياة وعقلا وقدرة ومنطقا وحينئذ صار الجبل مسبحا لله تعالى ونظيره قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل) * (الأعراف: 143) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلا وقدرة ومنطقا وحينئذ صار الجبل مسبحا صلى الله عليه وسلم تعالى ونظيره قوله تعالى: * (فلما تجلى ربه للجبل) * (الأعراف: 143) فإن معناه أنه تعالى خلق في الجبل عقلا وفهما، ثم خلق فيه رؤية الله تعالى فكذا ههنا الثاني: في التأويل ما رواه القفال في تفسيره أنه يجوز أن يقال إن داود عليه السلام قد أوتي من شدة الصوت وحسنه ما كان له في الجبال دوي حسن، وما يصغي الطير إليه لحسنه فيكون دوي الجبال وتصويت الطير معه وإصغاؤه إليه تسبيحا، وذكر محمد بن إسحاق أن الله تعالى لم يعط أحدا من خلقه مثل صوت داود حتى أنها كانت تسير إلى حيث يريده داود وجعل ذلك السير تسبيحا لأنه كان يدل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف " * (يسبحن) * في معنى مسبحات، فإن قالوا هل من فرق بين يسبحن ومسبحات قلنا نعم، فإن صيغة الفعل تدل على الحدوث التجدد، وصيغة الاسم على الدوام على ما بينه عبد القاهر النحوي في كتاب دلائل الإعجاز، إذا ثبت هذا فنقول قوله: * (يسبحن) * يدل على
185

حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال وكان السامع حاضر تلك الجبال يسمعها تسبح.
والبحث الثالث: قال الزجاج يقال شرقت الشمس إذا طلعت وأشرقت إذا أضاءت وقيل هما بمعنى، والأول أكثر تقول العرب شرقت الشمس والماء يشرق.
والبحث الرابع: احتجوا على شرعية صلاة الضحى بهذه الآية، عن أم هانئ قالت: " دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى، وقال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق " وعن طاووس عن ابن عباس قال: " هل تجدون ذكر صلاة الضحى في القرآن؟ قالوا لا، فقرأ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق " وقال كان يصليها داود عليه السلام وقال لم يزل في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في قوله: * (يسبحن بالعشي والإشراق) *.
الصفة السادسة: من صفات داود عليه السلام وقوله تعالى: * (والطير محشورة كل له أواب) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله: * (والطير) * معطوفة على الجبال والتقدير وسخرنا الطير محشورة، قال ابن عباس رضي الله عنهما كان داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه، واجتماعها إليه هو حشرها فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله * (فإن قيل) * كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها، قلنا لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلا حتى تعرف الله فتسبحه حينئذ، وكان معجزة لداود عليه السلام.
البحث الثاني: قال صاحب " الكشاف " قوله: * (محشورة) * في مقابلة * (يسبحن) * إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء، فلا جرم جيء به اسما لا فعلا، وذلك أنه قال لو قيل وسخرنا الطير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور والله أعلم.
البحث الثالث: قرىء * (والطير محشورة) * بالرفع.
الصفة السابقة: من صفات داود عليه السلام، قوله تعالى: * (كل له أواب) * ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته، فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها، والفرق بين هذه الصفة وبين ما قلبها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة وقيل الضمير في قوله: * (كل له أواب) * لله تعالى أي كل من داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح.
الصفة الثامنة: قوله تعالى: * (وشددنا ملكه) * أي قويناه وقال تعالى: * (سنشد عضدك
186

بأخيك) * (القصص: 35) وقيل شددنا على المبالغة، وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة، وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية، أما الأول فذكروا فيه وجهين الأول: روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله، وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفا. قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطانا، وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا ادعى عند داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعي عليه، فقال داود للمدعي أقم البينة فلم يقمها، فرأى داود في منامه. أن الله يأمره أن يقتل المدعي عليه فثبت داود وقال هو منام فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فأحضره وأعلمه أن أمره بقتله، فقال المدعي عليه صدق الله إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة فقتله داود. فهذه الواقعة شددت ملكه، وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل.
الصفة التاسعة: قوله: * (وآتيناه الحكمة) * واعلم أنه تعالى قال: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) واعلم أن الفضائل على ثلاثة
أقسام النفسانية والبدنية والخارجية، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين العلم والعمل، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضي الطاقة البشرية، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة، فهذا هو الحكمة وإنما سمي هذا بالحمة لأن اشتقاق الحكمة من إحكام الأمور وتقويتها وتبعيدها عن أسباب الرخاوة والضعف، والاعتقادات الصائبة الصحيحة لا تقبل النسخة والنقض فكانت في غاية الإحكام، وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل النقض والنسخ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة.
الصفة العاشرة: قوله: * (وفضل الخطاب) * واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام أحدهما: ما تكون خالية عن الإدراك والشعور وهي الجمادات والنباتات وثانيها: التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان وثالثها: الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة، له، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف الغير الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه، ومنهم من يكون قادرا على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى
187

أقص الغايات، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف، ولما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله: * (وآتيناه الحكمة) * أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة فقال وفصل الخطاب وهذا الترتيب في غاية الجلالة، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد، وأقول حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما والله أعلم، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال، بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام والله أعلم، وههنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام.
قوله تعالى
* (وهل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنآ إلى سوآء الصراط * إن هذآ أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطآء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له
188

ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) *
اعلم أن الله تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقا للثناء والمدح العظيم.
أما قوله تعالى: * (وهل أتاك نبأ الخصم) * فهو نظير قوله تعالى: * (هل أتاك حديث موسى) * (طه: 9) وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعيا إلى الإصغاء لها والاعتبار بها، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها: ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها: دلالتها على الصغيرة وثالثها: بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها؛ أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل الله إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه. فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول: أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول: فأمر منكر قال صلى الله عليه وسلم: " من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله " وأما الثاني: فمنكر عظيم قال صلى الله عليه وسلم: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث: أن الله تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.
فنقول أما الصفات الأولى: فهي أنه تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعي في إراقة دم امرئ مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمدا أفضل الرسل بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله.
وأما الصفة الثانية: فهي أن وصفه بكونه عبدا له، وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملا في موقف العبودية تاما في القيام بأدار الطاعات والاحتراز عن المحظورات، ولو قلنا إن داود عليه السلام اشتغل بتلك الأعمال الباطلة، فحينئذ ما كان داود كاملا
189

في عبوديته لله تعالى بل كان كاملا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثالثة: هو قوله: * (ذا الأيد) * (ص: 17) أي ذا القوة، ولا شك أن المراد منه القوة في الدين، لأن القوة في غير الدين كانت موجودة في ملوك الكفار، ولا معنى للقوة في الدين إلا القوة الكاملة على أداء الواجبات، والاجتناب عن المحظورات، وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم؟
الصفة الرابعة: كونه أوابا كثير الرجوع إلى الله تعالى، وكيف يليق هذا بمن يكون قلبه مشغوفا بالقتل والفجور؟.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: * (إنا سخرنا الجبال معه) * (ص: 18) أفترى أنه سخرت له الجبال ليتخذه وسيلة إلى القتل والفجور؟.
الصفة السادسة: قوله: * (والطيور محشورة) * (ص: 19)، وقيل إنه كان محرما عليه صيد شيء من الطير وكيف يعقل أن يكون الطير آمنا منه ولا ينجو منه الرجل المسلم على روحه ومنكوحه؟.
الصفة السابعة: قوله: * (وشددنا ملكه) * ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شدد ملكه بأسباب الدنيا، بل المراد أنه تعالى شد ملكه بما يقوي الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لا يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك؟.
الصفة الثامنة: قوله تعالى: * (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * (ص: 20) والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علما وعملا، فكيف يجوز أن يقول الله تعالى: إنا * (آتيناه الحكمة وفصل الخطاب) * مع إصراره على ما يستنكف عنه الخبيث الشيطان من مزاحمة أخلص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات المذكورة قبل شرح تلك القصة دالة على براءة ساحته عن تلك الأكاذيب.
وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة فهي عشرة الأول: قوله: * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * وذكر هذا الكلام إنما يناسب لو دلت القصة المتقدمة على قوته في طاعة الله، أما لو كانت القصة المتقدمة دالة على سعيه في القتل والفجور لم يكن قوله: * (وإن له عندنا لزلفى) * لائقا به الثاني: قوله تعالى: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * وهذا يدل على كذب تلك القصة من وجوه أحدهما: أن الملك الكبير إذا حكى عن بعض عبيده " أنه قصد دماء الناس وأموالهم وأزواجهم فبعد فراغه من شرح القصة على ملأ من الناس يقبح منه أن يقول عقيبه أيها العبد أني فوضت إليك خلافتي ونيابتي، وذلك لأن ذكر تلك القبائح والأفعال المنكرة يناسب الزجر والحجر، فأما جعله نائبا وخليفة لنفسه فذلك البتة مما لا يليق وثانيها: أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فلما حكى الله تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده: * (إنا جعلناك خليفة في الأرض) * أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة؛ ومعلوم أن هذا فاسد، أم لو
190

ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة الله تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه * (إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (ص: 26) فثبت أن هذا الذي نختاره أولى والثالث: وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة الله يقتل ويزني ويسرق وقد جعله الله خليفة في أرضه وصوب أحكامه، وكما أن هذه الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا ههنا، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع: وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى الله إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء، فأوحى الله إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة، فنقول أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل أول حكايتهم يدل على أن الله تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها أخرها الخامس: أن داود عليه السلام قال: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلى الذين آمنوا) * استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفا بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعد الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس: حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال الله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) ومن مدحه الله تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ الطعن فيه، وأيضا فبتقدير أنه ما كان نبيا فلا شك أنه كان مسلما، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: " لا تذكروا موتاكم إلا بخير " ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعلوم بالضرورة أن تقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئا من الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا شأنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت. ولم يذكر شيئا السابع: أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة فوجب أن يكون محرما لقوله تعالى: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) * (النور: 19) الثامن: لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت قوله: " من سعى
191

في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله " وأيضا لو فعل ذلك لكان ظالما فكان يدخل تحت قوله: * (ألا لعنة الله على الظالمين) * التاسع: عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: " من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين " وهو حد الفرية على
الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زني وشهد ثلاثة من عدول الصحابة بذلك، وأما الرابع فإنه لم يقل بأني رأيت ذلك العمل. يعني فإن عمر بن الخطاب كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد منهم ثمانين جلدة لأجل أنهم قذفوا، وإذا كان الحال في واحد من آحاد الصحابة كذلك، فكيف الحال مع داود عليه السلام مع أنه من أكابر الأنبياء عليهم السلام العاشر: روي أن بعضهم ذكر هذه القصة على ما في كتاب الله تعالى فقال لا ينبغي أن يزاد عليها، وإن كانت الواقعة على ما ذكرت، ثم إنه تعالى لم يذكرها لأجل أن يستر تلك الواقعة على داود عليه السلام، فلا يجوز للعاقل أن يسعى في هتك ذلك الستر بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر فقال عمر: " سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس " فثبت بهذه الوجوه التي ذكرناها أن القصة التي ذكروها فاسدة باطلة، فإن قال قائل: إن كثيرا من أكابر المحدثين والمفسرين ذكروا هذه القصة، فكيف الحال فيها؟ فالجواب الحقيقي أنه لما وقع التعارض بين الدلائل القاطعة وبين خبر واد من أخبار الآحاد كان الرجوع إلى الدلائل القاطعة أولى، وأيضا فالأصل بين الذمة، وأيضا فلما تعارض دليل التحريم والتحليل كان جانب التحريم أولى، وأيضا طريقة الاحتياط توجب ترجيح قولنا، وأيضا فنحن نعلم بالضرورة أن بتقدير وقوع هذه الواقعة لا يقول الله لنا يوم القيامة لم لم تسعوا في تشهير هذه الواقعة؟ وأما بتقدير كونها باطلة فإن علينا في ذكرها أعظم العقاب، وأيضا فقال عليه السلام: التي ذكرناها قائمة فوجب أن لا تجوز الشهادة بها، وأيضا كل المفسرين لم يتفقوا على هذا القول بل الأكثرون المحقون والمحققون منهم يردونه ويحكمون عليه بالكذب والفساد، وأيضا إذا تعارضت أقوال المفسرين والمحدثين فيه تساقطت وبقي الرجوع إلى الدلائل التي ذكرناها فهذا تمام الكلام في هذه القصة.
أما الاحتمال الثاني: وهو أن تحمل هذه القصة على وجه يوجب حصول الصغيرة ولا يوجب حصول الكبير، فنقول في كيفية هذه القصة على هذا التقدير وجوه الأول: أن هذه المرأة خطبها أوريا فأجابوه ثم خطبها داود فأثره أهلها، فكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه الثاني: قالوا إنه وقع بصره عليها فمال قلبه إليها وليس له في هذا ذنب البتة، أما وقع بصره عليها من غير قصد فذلك لي بذنب، وأما حصول الميل عقيب النظر فليس أيضا ذنبا لأن هذا الميل ليس في وسعه، فلا يكون مكلفا به بل لما اتفق أن قتل زوجها لم يتأذ تأذيا عظيما بسبب
192

قتله لأجل أنه طمع أن يتزوج بتلك المرأة فحصلت الزلة بسبب هذا المعنى وهو أنه لم يشق عليه قتل ذلك الرجل والثالث: أنه كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها وكانت عادتهم في هذا المعنى مألوفة معروفة أوى أن الأنصار كانوا يساوون المهاجرين بهذا المعنى فاتفق أن عين داود عليه السلام وقعت على تلك المرأة فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا أن يرده ففعل وهي أم سليمان فقيل له هذا وإن كان جائزا في ظاهر الشريعة، إلا أنه لا يليق بك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فهذه وجوه ثلاثة لو حملنا هذه القصة على واحد منها لم يلزم في حق داود عليه السلام إلا ترك الأفضل والأولى.
وأما الإحتمال الثالث: وهو أن هذه القصة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي الله داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه نفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذبا، فقالوا خصمان بغي بعضنا على بعض إلى آخر القصة، ولي في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة أحدهما: قوله: * (وظن داود أنما فتناه) *، وثانيها: قوله تعالى: (فاستغفر ربه) وثالثها: قوله: * (وأناب) * ورابعها: قوله: * (فغفرنا له ذلك) * ثم نقول، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه الأول: أنهم لما دخول عليه لطلب قتله بهذا الطريق، وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلا أنه قال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة الله، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعز والثاني: أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن، وقال: لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الردئ، فكان هذا هو المراد من قوله: * (وظن داود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * منه فغفر الله له ذلك الثالث: أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد صلى الله عليه وسلم: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19) فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب، أي رجع إلى الله تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل، وقوله: * (فغفرنا له ذلك) * أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام داوود ولتعظيمه، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) * (الفتح: 2) أن معناه أن الله تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع: هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة، فلم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة إنما حصلت، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الخصم الثاني، فإن
193

لما قال: * (لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا في باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآثار على هذا الوجه، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني: أنه أحوط والثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (واصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * (ص: 17) فإن قوم محمد عليه السلام لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: * (هذا ساحر كذاب) * (ص: 4) واستهزأوا به حيث قالوا: * (ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * (ص: 16) فقال تعالى في أول الآية: اصبر يا محمد على سفاهتهم وتحمل وتحلم ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود، فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على إيذائهم وتحمل سفاهتهم وحلم ولم يظهر الطيش والغضب، وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه، أما إذا حملناها
على ما ذكروه صار الكلام متناقضا فاسدا والرابع: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا الخصمان كانا ملكين، ولما كانا من الملائكة وما كان بينهما مخاصمة وما بغى أحدهما على الآخر كان قولهما خصمان بغى بعضنا على بعض كذبا، فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة والثاني: أن يتوسل بإسناد الكذب إلى الملائكة إلى إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء، فأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة، وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى، فهذا ما عندنا في هذا الباب، والله أعلم بأسرار كلامه، ونرجع الآن إلى تفسير الآيات. أما قوله: * (وهل أتاك نبأ الخصم) * قال الواحدي: الخصم مصدر خصمته أخصمه خصما، ثم يسمى به الاثنان والجمع ولا يثنى ولا يجمع، يقال هما خصم وهم خصم، كما يقال هما عدل وهم عدل، والمعنى ذوا خصم وذوو خصم، وأريد بالخصم ههنا الشخصان اللذان دخلا على داود عليه السلام، وقوله تعالى: * (إذ تسوروا المحراب) * يقال تسورت السور تسورا إذا علوته، ومعنى: * (تسوروا المحراب) * أي أتوه من سوره وهو أعلاه، يقال تسور فلان الدار إذا أتاها من قبل سورها. وأما المحراب فالمراد منه البيت الذي كان داود يدخل فيه ويشتغل بطاعة ربه، وسمي ذلك البيت المحراب لاشتماله على المحراب، كما يسمى الشيء بأشرف أجزائه، وههنا مسألة من علم أصول الفقه، وهي أن أقل الجمع اثنان عند بعض الناس، وهؤلاء تمسكوا بهذه الآية، لأنه تعالى ذكر صيغة الجمع في هذه الآيات في
194

أربعة مواضع أحدهما: قوله تعالى: * (إذ تسوروا المحراب) * (ص: 21)، وثانيها: قوله: * (إذ دخلوا) *، وثالثها: قوله: * (منهم) *، ورابعها: قوله: * (قالوا لا تخف) * فهذه الألفاظ الأربعة لها صيغ الجمع، وهم كانوا اثنين بدليل أنهم قالوا خصمان، قالوا فهذه الآية تدل على أن أقل اسما فإنه لا يثنى ولا يجمع، ثم قال تعالى: * (إذ دخلوا على داود) * والفائدة فيه أنهم ربما تسوروا المحراب وما دخلوا عليه، فلما قال: * (إذ دخلوا عليه) * دل على أنهم بعد التسور دخلوا عليه، قال الفراء: وقد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد، كقولك ضربتك إذ دخلت علي إذ اجترأت، مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا، ثم قال تعالى: * (ففزع منهم) * والسبب أن داود عليه السلام لما رآهما قد دخلوا عليه لا من الطريق المعتاد، علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر، فلا جرم فزع منهم، ثم قال تعالى: * (قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: خصمان خبر مبتدأ محذوف، أي نحن خصمان.
المسألة الثانية: ههنا قولان الأول: أنهما كانا ملكين نزلا من السماء وأراد تنبيه داود عليه السلام على قبح العمل الذي أقدم عليه والثاني: أنهما كانا إنسانين دخلا عليه للشر والقتل، فظنا أنهما يجدانه خاليا، فلما رأيا عنده جماعة من الخدم اختلقا ذلك الكذب لدفع الشر، وأما المنكرون لكونهما ملكين فقد احتجوا عليه بأنهما لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما * (خصمان) * فإنه ليس بين الملائكة خصومة، ولكانا كاذبين في قولهما: * (بغى بعضنا على بعض) * ولكانا كاذبين في قولهما: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) * فثبت أنهما لو كانا ملكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى: * (لا يسبقونه بالقول) * (الأنبياء: 27) ولقوله: * (ويفعلون ما يؤمرون) * (النخل: 50) أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب، وأجيب عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل، فحينئذ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول والله أعلم، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجا بوجوه الأول: اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني: أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث: أن قوله تعالى: * (قالوا لا تخف) * كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع: أن قولهما: * (ولا تشطط) * كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحدا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له تظلم ولا تتجاوز عن الحق، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر، ولا حاجة إلى الجواب، والله أعلم.
المسألة الثالثة: * (بغى بعضنا على بعض) * أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح
195

إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية، وقال بغت المرأة إذا زنت، لأن الزنا كبيرة منكرة، قال تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) * (النور: 33) ثم قال: * (فاحكم بيننا بالحق) * معنى الحكم إحكام الأمر في إمضاء تكليف الله عليهما في الواقعة، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح، ومنه بناء محكم إذا كان قويا، وقوله: * (بالحق) * أي بالحكم الحق وهو الذي حكم الله به * (ولا تشطط) * يقال شط الرجل إذا بعد، ومنه قوله: شطت الدار إذا بعدت، قال تعالى: * (لقد قلنا إذا شططا) * (الكهف: 14) أي قولا بعيدا عن الحق، فقوله: * (ولا تشطط) * أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق، ثم قال: * (واهدنا إلى سواء الصراط) * وسواء الصراط هو وسطه، قال تعالى: * (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) * (الصافات: 55) ووسط الشيء أفضله وأعدله، قال تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها: قولهم فاحكم بالحق وثانيها: قولهم: * (ولا تشطط) * وهي نهي عن الباطل وثالثها: قولهم: * (واهدنا إلى سواء الصراط) * يعنى يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق. وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل، فقال: * (إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صحاب " الكشاف " * (أخي) * يدل من هذا أو خبر لقوله: * (إن) * والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء) * وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء.
المسألة الثانية: قال صاحب " الكشاف " قرىء * (تسع وتسعون) * بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع، ولقوة وهي الأنثى من العقبان.
المسألة الثالثة: قال الليث: النعجة الأنثى من الضأن والبقرة الوحشية والشاة الجبلية، والجمع النعجات، والعرب جرت عادتهم بجعل النعجة والظبية كناية عن المرأة.
المسألة الرابعة: قرأ عبد الله: * (تسع وتسعون نعجة أنثى) * وهذا يكون لأجل التأكيد كقوله تعالى: * (وقال الله لا تتخذوا إليهن اثنين إنما هو إله واحد) * (النحل: 51)، ثم قال: * (أكفلنيها وعزني في الخطاب) * قال صاحب " الكشاف ": * (أكفلنيها) * حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي * (وعزني) * غلبني، يقال عزه يعزه، والمعنى جاءني بحجاج لم أقدر أن أورد عليه ما أورده به، وقرئ وعازني من المعازة، وهي المغالبة، واعلم أن الذين قالوا إن هذين الخصمين كانا من الملائكة زعموا أن المقصود من ذكر النعاج التمثيل، لأن داود كان تحته تسع وتسعون امرأة ولم يكن لأوريا إلا امرأة واحدة، فذكرت الملائكة تلك الواقعة على سبيل الرمز والتمثيل.
ثم قال تعالى: * (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) * أي سؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه، وروي أنه قال: إن رمت ذلك ضربنا منك هذا وهذا، وأشار إلى الأنف والجبهة
196

فقال: يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا، وأشار إلى الأنف والجبهة
197

فقال: يا داود أنت أحق أن نضرب منك هذا وهذا، وأنت فعلت كيت وكيت، ثم نظر داود فلم ير أحدا فعرف الحال، فإن قيل كيف جاز لداود أن يحكم على أحد الخصمين بمجرد قول خصمه؟ قلنا ذكروا فيه وجوها الأول: قال محمد بن إسحاق: فما فرغ الخصم الأول من كلامه نظر داود إلى الخصم الذي لم يتكلم وقال لئن صدق لقد ظلمته، والحاصل أن هذا الحكم كان مشروطا بشرط كونه صادقا في دعواه والثاني: قال ابن الأنباري: لما ادعى أحد الخصمين اعترف الثاني فحكم داود عليه السلام ولم يذكر الله تعالى ذلك الاعتراف لدلالة ظاهر الكلام عليه، كما تقول أمرتك بالتجارة فكسبت تريد اتجرت فكسبت، وقال تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * (الشعراء: 63) أي فضرب فانفلق، والثالث: أن يكون التقدير أن الخصم الذي هذا شأنه يكون قد ظلمك.
ثم قال تعالى: * (وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض) * قال: الليث خليط الرجل مخالطه، وقال الزجاج: الخلطاء الشركاء، فإن قيل لم خص داود الخلطاء يبغي بعضهم على بعض مع أن غير الخلطاء قذ يفعلون ذلك، والجواب لا شك أن المخالطة توجب كثرة المنازعة والمخاصمة، وذلك لأنهما إذا اختلطا اطلع كل واحد منهما على أخوال الآخر فكل ما يملكه من الأشياء النفيسة إذا اطلع عليه عظمت رغبته فيه، فيفضي ذلك إلى زيادة المخاصمة والمنازعة، فلهذا السبب خص داود عليه السلام الخلطاء بزيادة البغي والعدوان، ثم استثنى عن هذا الحكم الذي آمنوا وعلموا الصالحات لأن مخالطة هؤلاء لا تكون إلا لأجل الدين وطلب السعادات الروحانية الحقيقية، فلا جرم مخالطتهم لا توجب المنازعة، وأما الذين تكون مخالطتهم لأجل حب الدنيا لا بد وأن تصير مخالطتهم سببا لمزيد البغي والعدوان، واعلم أن هذا الاستثناء يدل على أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يبغي بعضهم على بعض، فلو كان داود عليه السلام قد بغى وتعدى على ذلك الرجل لزم بحكم فتوى داود أن لا يكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ومعلوم أن ذلك باطل، فثبت أن قول من يقول المراد من واقعة النعجة قصة داود قوله باطل.
ثم قال تعالى: * (وقيل ما هم) * واعلم أن الحكم بقلة أهل الخير كثير في القرآن، قال تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وقال داود عليه السلام في هذا الموضع * (وقليل ما هم) * وحكى تعالى عن إبليس أنه قال: * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (الأعراف: 17) وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهود والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر واقفون على باب جهنم البدن، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية، وأما الداعي إلى الق والدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر، قال صاحب " الكشاف " وما في قوله: * (وقيل ما هم) * للإبهام وفيه تعجب من قلتهم، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس؛ وحديث ما على قصره - - - - وانظر هل بقي له معنى قط.
ثم قال تعالى: * (وظن داود أنما فتناه) * قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه، قالوا
198

والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم ههنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، ثم صعد إلى السماء قبل وجهه، فعلم داود أن الله ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة، والمشابهة علة لجواز المجاز، وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من الله تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أما قوله: * (فاستغفر ربه) * أي سأل الغفران من ربه، ثم ههنا وجهان إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه، حملنا هذا الاستغفار عليها، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه الأول: أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله، وإنه كان سلطانا شديد القهر عظيم القوة، ثم أنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئا قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى الله، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق الله، فغفر الله له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر الثاني: لعله هم بإيذاء القوم، ثم قال: إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم الثالث: لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى الله، فغفر الله ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه
، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملا لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم الله هذه القصة بقوله: * (وإن له عندنا الزلفى وحسن مآب) * ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن من حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة، وتحمل أنواعا من الشدائد في الموافقة والانقياد، أما إذا كان المذكور السابق هو القادم على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به، قال مالك بن دينار؛ إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة، ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا والله أعلم، بقي ههنا مباحث فالأول: قرىء فتناه وفتناه على أن الألف ضمير الملكين الثاني: المشهور أن الاستغفار إنما كان بسبب قصة النعجة والنعاج، وقيل أيضا إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاني وذلك غير جائز الثالث: قوله؛ * (خر راكعا وأناب) * يدل على حصول الركوع، وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوما ثبت بالأخبار الرابع: أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة قال لأن توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة الخامس: استشهد أبو خنيفة رضي الله عنه بهذه الآية في سجود التلاوة على أن الركوع يقوم مقام السجود.
* (يا داوود إنا جعلناك خليفة فى الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السمآء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الارض أم نجعل المتقين كالفجار * كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الالباب) *
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان أنه تعالى فوض إلى داود خلافة الأرض، وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة، لأن من البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دماء المسلمين، راغبا في انتزاع أزواجهم منهم ثم يذكر عقيبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه، ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان الأول: جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه، وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة، وذلك على الله مجال الثاني: إنا جعلناك مالكا للناس ونافذ الحكم فيهم فبهذا التأويل يسمى خليفة، ومنه يقال خلفاء الله في أرضه، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله، فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم.
ثم قال تعالى: * (فاحكم بين الناس بالحق) * واعلم أن الإنسان خلق مدنيا بالطبع، لأن الإنسان الواحد لا ينتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث، وذلك يطحن، وذلك يخبز، وذلك ينسج، وهذا يخيط، وبالجملة فيكون كل واحدة منهم مشغولا بمهم، وينتظم من
199

أعمال الجميع مصالح الجميع. فثبت أن الإنسان مدني بالطبع وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل فثبت أنه لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان قاهر سائس، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه والطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك، أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحق الإلهية انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه. فهذا هو المراد من قولهم: * (فاحكم بين الناس بالحق) * يعني لا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم ثم قال: * (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * الآية، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله، والضلال عن سبيل الله يوجب العذاب، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب.
أما المقام الأول: وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات، لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر. أما المقام الثاني: وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب، فالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم ألفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق، ودخل ديارا ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعينه قوة مطالعة أنوار تلك الديار، فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله. وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب، وهذا بيان في غاية الكمال.
ثم قال تعالى: * (بما نسوا يوم الحساب) * يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب، لأنه لو كان متذكرا ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد، ولما صار مستغرقا في هذه اللذات الفاسدة.
روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية؟ فقال: يا أمير المؤمنين الخلفاء أفضل أم الأنبياء؟ ثم تلا هذه الآية: * (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب) * ثم قال تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * ونظيره قوله تعالى: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) * (آل عمران: 191) وقوله تعالى: * (ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * (الروم: 8) وفيه مسائل:
200

المسألة الأولى: احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمال العباد قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق وكلها أباطيل. فلما بين تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد. ومثله قوله تعالى: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * (
الحجر: 85) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر والكفر باطل، وقد خلق الباطل، ثم أكد تعالى ذلك بأن قال: * (ذلك ظن الذين كفروا) * أي كل من قال بهذا القول فهو كافر، فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر، واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا لأعمال العباد فقالوا هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا لكل ما بين السماوات والأرض، وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على صحة القول بالحشر والنشر والقيامة، وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم، فإما أن يقال إنه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع أو للإضرار والأول باطل لأن ذلك لا يليق بالرحيم الكريم، والثالث أيضا باطل لأن هذه الحالة حاصلة ين كانوا معدومين، فلم يبق إلا أن يقال إنه خلقهم للإنفاع، فنقول وذلك الإنفاع، إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة، وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة لا يليق بالحكمة، ولما بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية، وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة، واعلم أن هذا الدليل يمكن تقريره من وجوه كثيرة، وقد لخصناها في أول سورة يونس بالاستقصاء، فلا سبيل إلى التكرير فثبت بما ذكرا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا وإذا لم يكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر لازما، وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله في خلق السماء والأرض، وهذا هو المراد من قوله: * (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) * ولما بين الله تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة الله تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل، فقال: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة الله.
ثم قال تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية، وهذا يفيد أمرين أحدهما: أن أفعال الله معللة برعاية المصالح والثاني: أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر.
201

المسألة الثانية: في تقرير نظم هذه الآيات فنقول، لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار، أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة، وقالوا: * (ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * (ص: 16) ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب، بل قال: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * (ص: 17) ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق، ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود، ثم أتبعه بقوله: * (وما خلقنا السماء والأرض) * ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة الله بقصة داود، ثم لما ذكر إثبات حكمة الله وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق، ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير، ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة، وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولا متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض، فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتابا شريفا فاضلا؟ هذا تمام السؤال والجواب أن نقول: أن العقلاء قالوا من أبلى بخصم جاهل مصر متعصب، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى، فحينئذ يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة، فإذا سلمها، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعا مفحما، إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء * (ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * (ص: 16) فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة، واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة، وهي قصة داود عليه السلام، فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر، ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة، ثم قال في آخر القصة: * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) * (ص: 26) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق، ثم كأنه تعالى قال: وأنا لا آمرك بالحق فقط، بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق، ولا أفضي بالباطل، فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل، لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر، لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحا على المسلم في إيصال الخيرات إليه، وذلك ضد الحكمة وعين الباطل، فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيرادا لا يمكنهم الخلاص عنه، فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحما ملزما بهذا
202

الطريق، ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل، فقال: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الألباب) * فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم، حيث يراه في ظاهر الحال مقرونا بسوء الترتيب، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات، وبالله التوفيق.
قوله تعالى
* (ووهبنا لداوود سليم ان نعم العبد إنه أواب * إذ عرض عليه بالعشى الصافنات الجياد * فقال إنى أحببت حب الخير عن ذكر ربى حتى توارت بالحجاب * ردوها على فطفق مسحا بالسوق والاعناق) *
واعلم أن هذا هو القصة الثانية وقوله: * (نعم العبد) * فيه مباحث:
الأول: نقول المخصوص بالمدح في * (نعم العبد) * محذوف، فقيل هو سليمان، وقيل داود، والأول أولى لأنه أقرب المذكورين، ولأنه قال بعده * (إنه أواب) * ولا يجوز أن يكون المراد هو داود، لأن وصفه بهذا المعنى قد تقدم في الآية المتقدمة حيث قال: * (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) * (ص: 17) فلو قلنا لفظ الأواب ههنا أيضا صفة داود لزم التكرار، ولو قلنا إنه صفة لسليمان لزم كون الابن شبيها لأبيه في صفات الكمال في الفضيلة، فكان هذا أولى.
الثاني: أنه قال أولا * (نعم العبد) * ثم قال بعده * (إنه أواب) * وهذه الكلمة للتعليل، فهذا يدل على أنه إنما كان * (نعم العبد) * لأنه كان أوابا، فيلزم أن كل من كان كثير الرجوع إلى الله تعالى في أكثر الأوقات وفي أكثر المهمات كان موصوفا بأنه * (نعم العبد) * وهذا هو الحق الذي لا شبهة فيه، لأن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ورأس المعارف ورئيسها معرفة الله تعالى، ورأس الطاعات ورئيسها الاعتراف بأنه لا يتم شيء من الخيرات إلا بإعانة الله تعالى، ومن كان كذلك كان كثير الرجوع إلى الله تعالى فكان أوابا، فثبت أن كل من كان أوابا وجب أن يكون * (نعم العبد) *.
أما قوله: * (إذ عرض عليه) * ففيه وجوه الأول: التقدير * (نعم العبد) * هو إذ كان من أعماله أنه فعل كذا الثاني: أنه ابتداء كلام. والتقدير أذكر يا محمد إذ عرض عليه كذا وكذا، والعشي
203

هو من حين العصر إلى آخر النهار عرض الخيل عليه لينظر إليها ويقف على كيفية أحوالها، والصافنات الجياد الخيل وصفت بوصفين أولهما: الصافنات، قال صاحب " الصحاح ": الصافن الذي يصفن قدميه، وفي الحديث " كنا إذا صلينا خلفه فرفع رأسه من الركوع قمنا صفونا " أي قمنا صافنين أقدامنا، وأقول على كلا التقديرين فالصفون صفة دالة على فضيلة الفرس والصفة الثانية: للخيل في هذه الآية الجياد، قال المبرد: والجياد جمع جواد وهو الشديد الجري، كما أن الجواد من الناس هو السريع البذل، فالمقصود وصفها بالفضيلة والكمال حالتي وقوفها وحركتها. أما حال وقوفها فوصفها بالصفون، وأما حال حركتها فوصفها بالجودة، يعني أنها إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال، فإذا جرت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق، ثم قال تعالى: * (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) * وفي تفسير هذه اللفظة وجوه الأول: أن يضمن أحببت معنى فعل يتعدى بعن، كأنه قيل أنبت حب الخير عن ذكر ربي والثاني: أن أحببت بمعنى ألزمت، والمعنى أني ألزمت حب الخيل عن ذكر ربي، أي عن كتاب ربي وهو التوراة، لأن ارتباط الخيل كما أنه في القرآن ممدوح فكذلك في التوراة ممدوح والثالث: أن الإنسان قد يحب شيئا لكنه يحب أن لا يحبه كالمريض الذي يشتهي ما يزيد في مرضه، والأب الذي يحب ولده الردئ، وأما من أحب شيئا، وأحب أن يحبه كان ذلك غاية المحبة فقوله أحببت حب الخير بمعنى أحببت حبي لهذه الخيل.
ثم قال: * (عن ذكر ربي) * بمعنى أن هذه المحبة الشديدة إنما حصلت عن ذكر الله وأمره لا عن الشهوة والهوى، وهذا الوجه أظهر الوجوه.
ثم قال تعالى: * (حتى توارت) * أقول الضمير في قوله: * (حتى توارت) *، وفي قوله: * (ردوها) * يحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الشمس، لأنه جرى ذلك ماله تعلق بها وهو العشي ويحتمل أن يكون كل واحد منهما عائدا إلى الصافنات، ويحتمل أن يكون الأول متعلقا بالشمس والثاني بالصافنات، ويحتمل أن يكون بالعكس من ذلك، فهذه احتمالات أربعة لا مزيد عليها فالأول: أن يعود الضميران معاني إلى الصافنات، كأنه قال حتى توارت الصافنات بالحجاب ردوا الصافنات علي، والاحتمال الثاني: أن يكون الضميران معا عائدين إلى الشمس كأنه قال حتى توارت الشمس بالحجاب ردوا الشمس، وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما اشتغل بالخيل فاتته صلاة العصر، فسأل الله أن يرد الشمس فقوله: * (ردوها على) * إشارة إلى طلب رد الشمس، وهذا الاحتمال عندي بعيد والذي يدل عليه وجوه الأول: أن الصافنات مذكورة تصريحا، والشمس غير مذكورة وعود الضمير إلى المذكور أولى من عوده إلى المقدر الثاني: أنه قال: * (إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب) * وظاهر هذا اللفظ يدل على أن سليمان عليه السلام كان يقول إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي. وكان يعيد هذه الكلمات إلى أن
204

توارت بالحجاب، فلو قلنا المراد حتى توارت الصافنات بالحجاب كان معناه أنه حين وقع بصره عليها حال جريها كان يقول هذه الكلمة إلى أن غابت عن عينه وذلك مناسب، ولو قلنا المراد حتى توارت الشمس بالحجاب كان معناه أنه كان يعيد عين هذه الكلمة من وقت العصر إلى وقت المغرب، وهذا في غاية البعد الثالث: أنا لو حكمنا بعود الضمير في قوله حتى توارت إلى الشمس وحملنا اللفظ على أنه ترك صلاة العصر كان هذا منافيا لقوله: * (أحببت حب الخير عن ذكر ربي) * فإن تلك المحبة لو كانت عن ذكر الله لما نسي الصلاة ولما ترك ذكر الله الرابع: أنه بتقدير أنه عليه السلام بقي مشغولا بتلك الخيل حتى غربت الشمس وفاتت صلاة العصر؟، فكان ذلك ذنبا عظيما وجرما قويا، فالأليق لهذه الحالة التضرع والبكاء والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين، ردوها علي بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير، فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكر! الخامس: أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو الله تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي، فإن قالوا إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب فنقول قوله: * (ردوها) * لفظ مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم السادس: أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره، وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده السابع: أنه تعالى قال: * (إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد) * ثم قال: * (حتى توارت بالحجاب) * وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى، وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد، وأما العشي فأبعدهما فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى، فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله: * (حتى توارت بالحجاب) * على تواري الشمس وأن حمل قوله: * (ردوها علي) * على أن المراد منه طلب أن يرد الله الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم.
ثم قال تعالى: * (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) * أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها، قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى الله تعالى، وعندي أن هذا أيضا بعيد، ويدل عليه وجوه الأول: أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) * (المائدة: 6) قطعها، وهذا مما لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم البتة من المسح العقر والذبح الثاني: القائلون لهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة فأولها: ترك الصلاة وثانيها: أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: " حب الدنيا رأس كل خطيئة " وثالثها:
205

أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة ورابعها: أنه خاطب رب العالمين بقوله: * (ردوها علي) * وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها: أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله "، فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها: وسادسها: أن هذه القصص إنما ذكرها الله تعالى عقيب قوله: * (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) * (ص: 17) وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود: وذكر قصة داود، ثم ذكر عقبيها قصة سليمان، وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه اللام اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة الله، وأعرض عن الشهوات واللذات، فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقا بهذا الموضع، فثبت أن كتاب الله تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال بل التفسير المطابق للحق للألفاظ القرآن والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم كما أنه كذلك في دين محمد صلى الله عليه وسلم ثم إن سليمان عليه السلام احتاج إلى الغزو فجلس وأمر بإحضاء الخيل وأمر بإجرائها وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا ونصيب النفس، وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله عن ذكر ربي، ثم إنه عليه السلام أمر بإعدائها وتسييرها حتى توارت بالحجاب أي غابت عن بصره، ثم أمر الرائضين بأن يردوا تلك الخيل إليه فلما عادت إليه طفق يمسح سوقها وأعناقها، والغرض من ذلك المسح أمور الأول: تشريفا لها وإبانة لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدو الثاني: أنه أراد أن يظهر أنه في ضبط السياسة والملك يتضع إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه الثالث: أنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، فكان يمتحنها ويمسح سوقها وأعناقها حتى يعلم هل فيها ما يدل على المرض، فهذا التفسير الذي ذكرناه ينطبق عليه لفظ القرآن انطباقا مطابقا موافقا، ولا يلزمنا نسبة شيء من تلك المنكرات والمحذورات، وأقول أنا شديد التعجب من الناس كيف قبلوا هذه الوجوه السخيفة مع أن العقل والنقل يردها، وليس لهم في إثباتها شبهة فضلا عن حجة، فإن قيل فالجمهور فسروا الآية بذلك الوجه، فما قولك فيه؟ فنقول لنا ههنا مقامان:
المقام الأول: أن ندعي أن لفظ الآية لا يدل على شيء من تلك الوجوه التي يذكرونها، وقد ظهر والحمد لله أن الأمر كما ذكرناه، وظهوره لا يرتاب العاقل فيه.
المقام الثاني: أن يقال هب أن لفظ الآية لا يدل عليه أنه كلام ذكره الناس، فما قولك
206

فيه وجوابنا أن الدلالة الكثيرة قامت على عصمة الأنبياء عليهم السلام، ولم يدل دليل على صحة هذه الحكايات ورواية الآحاد لا تصلح معارضة للدلائل القوية، فكيف الحكايات عن أقوام لا يبالي بهم ولا يلتفت إلى أقوالهم، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب * قال رب اغفر لى وهب لى ملكا لا ينبغى لاحد من بعدى إنك أنت الوهاب * فسخرنا له الريح تجرى بأمره رخآء حيث أصاب * والشياطين كل بنآء وغواص * وءاخرين مقرنين فى الاصفاد * هذا عطآؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) *
اعلم أن هذه الآية شرح واقعة ثانية لسليمان عليه السلام واختلفوا في المراد من قوله: * (ولقد فتنا سليمان) * ولأهل الحشو والرواية فيه قول، ولأهل العلم والتحقيق قول آخر، أما قول أهل الحشو فذكروا فيه حكايات:
الأولى: قالوا إن سليمان بلغه خبر مدينة في البحر فخرج إليها بجنوده تحمله الريح فأخذها وقتل ملكها، وأخذ بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس فاصطفاها لنفسه وأسلمت فأحبها وكانت تبكي أبدا على أبيها فأمر سليمان الشيطان فمثل لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تذهب إلى تلك الصورة بكرة وعشيا مع جواريها يسجدن لها، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وعاقب المرأة، ثم خرج وحده إلى فلاة وفرش الرماد فجلس عليه تائبا إلى الله تعالى، وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها وكان ملكه في خاتمه فوضعه عندها يوما، فأتاها الشيطان ساحب البحر على صورة سليمان. وقال يا أمينة خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان فأتى عليه الطير والجن والإنس، وتغيرت هيئة سليمان فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته. فعرف أن الخطيئة قد أدركته فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال
207

أنا سليمان حثوا عليه التراب وسبوه، ثم أخذ يخدم السماكين ينقل لهم السمك فيعطونه كل يوم سمكتين فمكث على هذه الحالة أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته، فأنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم الشيطان وسأل آصف نساء سليمان، فقلن ما يدع امرأة منا في دمها ولا يغتسل من جنابة، وقيل بل نفذ حكمه في كل شيء إلا فيهن، ثم طار الشيطان وقذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة ووقعت السمكة في يد سليمان فبقر بطنها فإذا هو بالخاتم فتختم به ووقع ساجدا لله، ورجع إليه ملكه وأخذ ذلك
الشيطان وأدخله في صخرة وألقاها في البحر.
والرواية الثانية: للحشوية أن تلك المرأة لما أقدمت على عبادة تلك الصورة افتتن سليمان وكان يسقط الخاتم من يده ولا يتماسك فيها، فقال له آصف إنك لمفتون بذنبك فتب إلى الله.
والرواية الثالثة: لهم قالوا إن سليمان قال لبعض الشياطين كيف تفتنون الناس؟ فقال أرني خاتمك أخبرك فلما أعطاه إياه نبذه في البحر فذهب ملكه وقعد هذا الشيطان على كرسيه، ثم ذكر الحكاية إلى آخرها.
إذا عرفت هذه الروايات فهؤلاء قالوا المراد من قوله: * (ولقد فتنا سليمان) * أن الله تعالى ابتلاه وقوله: * (وألقينا على كرسيه جسدا) * هو جلوس ذلك الشيطان على كرسيه.
والرواية الرابعة: أنه كان سبب فتنته احتجابه عن الناس ثلاثة أيام فسلب ملكه وألقى على سريره شيطان عقوبة له.
واعلم أن أهل التحقيق استبعدوا هذا الكلام من وجوه الأول: أن الشيطان لو قدر على أن يتشبه بالصورة والخلقة بالأنبياء، فحينئذ لا يبقى اعتماد على شيء من الشرائع. فلعل هؤلاء الذين رآهم الناس في صورة محمد وعيسى وموسى عليهم السلام ما كانوا أولئك بل كانوا شياطين تشبهوا بهم في الصورة لأجل الإغواء والإضلال، ومعلوم أن ذلك يبطل الدين بالكلية الثاني: أن الشيطان لو قدر على أن يعامل نبي الله سليمان بمثل هذه المعاملة لوجب أن يقدر على مثلها مع جميع العلماء والزهاد، وحينئذ وجب أن يقتلهم وأن يمزق تصانيفهم وأن يخرب ديارهم، ولما بطل ذلك في حق آحاد العلماء فلأن يبطل مثله في حق أكابر الأنبياء أولى والثالث: كيف يليق بحكمة الله وإحسانه أن يسلط الشيطان على أزواج سليمان؟ ولا شك أنه قبيح الرابع: لو قلنا إن سليمان أذن لتلك المرأة في عبادة تلك الصورة فهذا كفر منه، وإن لم يأذن فيه البتة فالذنب على تلك المرأة، فكيف يؤاخذ الله سليمان بفعل لم يصدر عنه؟ فأما الوجوه التي ذكرها أهل التحقيق في هذا الباب فأشياء: الأول: أن فتنة سليمان أنه ولد له ابن فقالت الشياطين إن عاش صار مسلطا علينا مثل أبيه فسبيلنا أن نقتله فعلم سليمان ذلك فكان يربيه في السحاب فبينما هو مشتغل بمهماته إذ ألقى ذلك الولد ميتا على كرسيه فتنبه على خطيئته في أنه لم يتوكل فيه على الله فاستغفر ربه وأناب الثاني: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " قال سليمان لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في
208

سبيل الله ولم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فجيء به على كرسيه فوضع في حجره، فوالذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا كلهم في سبيل الله فرسانا أجمعون، فذلك قوله: * (ولقد فتنا سليمان) * الثالث: قوله: * (ولقد فتنا سليمان) * بسبب مرض شديد ألقاه الله عليه، * (وألقينا على كرسيه) * منه * (جسدا) * وذلك لشدة المرض. والعرب تقول في الضعيف إنه لحم على وضع وجسم بلا روح * (ثم أناب) * أي رجع إلى حال الصحة، فاللفظ محتمل لهذه الوجوه ولا حاجة البتة إلى حمله على تلك الوجوه الركيكة الرابع: أقول لا يبعد أيضا أن يقال إنه ابتلاه الله تعالى بتسليط خوف أو توقع بلاء من بعض الجهات عليه، وصار بسبب قوة ذلك الخوف كالجسد الضعيف الملقى على ذلك الكرسي، ثم إنه أزال الله عنه ذلك الخوف، وأعاد إلى ما كان عليه من القوة وطيب القلب.
أما قوله تعالى: * (قال رب اغفر لي) * فاعلم أن الذين حملوا الكلام المتقدم على صدور الزلة منه تمسكوا بهذه الآية، فإنه لولا تقدم الذنب لما طلب المغفرة، ويمكن أن يجاب عنه بأن الإنسان لا ينفك البتة عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ولأنهم أبدا في مقام هضم النفس، وإظهار الذلة والخضوع، كما قال صلى الله عليه وسلم: " إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " ولا يبعد أن يكون المراد من هذه الكلمة هذا المعنى والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * دلت هذه الآية على أنه يجب تقديم مهم الدين على مهم الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم بعده طلب المملكة. وأيضا الآية تدل على أن طلب المغفرة من الله تعالى سبب لانفتاح أبواب الخيرات في الدنيا، لأن سليمان طلب المغفرة أولا ثم توسل به إلى طلب المملكة، ونوح عليه السلام هكذا فعل أيضا لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 10 - - - - 12) وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك) * فإن قيل قوله عليه السلام: * (ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * مشعر بالحسد، والجواب عنه أن القائلين بأن الشيطان استولى على مملكته قالوا معنى قوله لا ينبغي لأحد من بعدي، هو أن يعطيه الله ملكا لا تقدر الشياطين أن يقوموا مقامه البتة، فأما المنكرون لذلك فقد أجابوا عنه من وجوه الأول: أن الملك هو القدرة فكان المراد أقدرني على أشياء لا يقدر عليها غيري البتة، ليصير اقتداري عليها معجزة تدل على صحة نبوتي ورسالتي. والدليل على صحة هذا الكلام أنه تعالى قال: * (عقيبه فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) * فكون الريح جاريا بأمره قدرة عجيبة وملك عجيب، ولا شك أنه معجزة دالة على نبوته فكان قوله: * (هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * هو هذا المعنى لأن شرط المعجزة أن لا يقدر غيره على معارضتها، فقوله: * (لا ينبغي لأحد من بعدي) * يعني لا يقدر
209

أحد على معارضته والوجه الثاني: في الجواب أنه عليه السلام لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا صائرة إلى الغير بإرث أو بسبب آخر، فسأل ربه ملكا لا يمكن أن ينتقل منه إلى غيره، وذلك الذي سأله بقوله: * (ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) * أي ملكا لا يمكن أن ينتقل عني إلى غيري الوجه الثالث: في الجواب أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق من الاحتراز عنها حال القدرة عليها، فكأنه قال: يا إلهي أعطني مملكة فائقة على ممالك البشر بالكلية، حتى
أحترز عنها مع القدرة عليها ليصير ثوابي أكمل وأفضل الوجه الرابع: من الناس من يقول إن الاحتراز عن لذات الدنيا عسر صعب، لأن هذه اللذات حاضرة وسعادات الآخرة نسيئة، والنقد يصعب بيعه بالنسيئة، فقال سليمان أعطني يا رب مملكة تكون أعظم الممالك الممكنة للبشر، حتى أني أبقى مع تلك القدرة الكاملة في غاية الاحتراز عنها ليظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى الوجه الخامس: أن من لم يقدر على الدنيا يبقى ملتفت القلب إليها فيظن أن فيها سعادات عظيمة وخيرات نافعة، فقال سليمان يا رب العزة أعطني أعظم الممالك حتى يقف الناس على كمال حالها، فحينئذ يظهر للعقل أنه ليس فيها فائدة وحينئذ يعرض القلب عنها ولا يلتفت إليها، وأشتغل بالعبودية ساكن النفس غير مشغول القلب بعلائق الدنيا، ثم قال: * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) * رخاء أي رخوة لينة وهي من الرخاوة والريح إذا كانت لينة لا تزعزع ولا تمتنع عليه كانت طيبة، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في آية أخرى * (ولسليمان الريح عاصمة تجري بأمره) * قلنا الجواب من وجهين الأول: لا منافاة بين الآيتين فإن المراد أن تلك الريح كانت في قوة الرياح العاصة إلا أنها لما جرت بأمره كانت لذيذة طيبة فكانت رخاء والوجه الثاني: من الجواب أن تلك الريح كانت لينة مرة وعاصفة أخرى ولا منافاة بين الأمرين وقوله تعالى: * (حيث أصاب) * أي قصد وأراد، وحكى الأصمعي عن العرب أنهم يقولون أصاب الصواب فأخطأ الجواب. وعن رؤبة أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن هذه الكلمة فخرج إليهما، فقال أين تصيبان؟ فقالا هذا مطلوبنا. وبالجملة فالمقصود أنه تعالى جعل الريح مسخرة له حتى صارت تجري بأمره على وفق إرادته، ثم قال والشياطين كل بناء وغواص، قال صاحب " الكشاف " الشياطين عطف على الريح وكل بناء بدل من الشياطين وآخرين عطف على قوله: * (كل بناء) * وهو بدل الكل من الكل كانوا يبنون له ما شاء من الأبنية ويغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ، وقوله: * (مقرنين) * يقال قرنهم في الحبال والتشديد للكثرة * (والأصفاد) * الأغلال واحدها صفد والصفد العطية أيضا، قال النابغة: ولم أعرض أبيت اللعن بالصفد فعلى هذا الصفد القيد لكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته، وكل من أعطيته عطاء جزيلا فقد أصفدته، وههنا بحث، وهو أن هذه الآيات دالة على أن الشياطين لها قوة عظيمة، وبسبب تلك القوة قدروا على بناء الأبنية القوية التي لا يقدر عليها البشر، وقدروا
210

على الغوص في البحار، واحتاج سليمان عليه السلام إلى قيدهم، ولقائل أن يقول إن هذه الشياطين إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة، فإن كان الأول وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة، إذ لو جاز أن لا نراهم مع كثافة أجسادهم، فليجز أن تكون بحضرتنا جبال عالية وأصوات هائلة ولا نراها ولا نسمعها، وذلك دخول في السفسطة، وإن كان الثاني وهو أن أجسادهم ليست كثيفة، بل لطيفة رقيقة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة، وأيضا لزم أن تتفرق أجسادهم وأن تتمزق بسبب الرياح القوية وأن يموتوا في الحال، وذلك يمنع من وصفهم ببناء الأبنية القوية، وأيضا الجن والشياطين إن كانوا موصوفين بهذه القوة والشدة، فلم لا يقتلون العلماء والزهاد في زماننا؟ ولم لا يخربون ديار الناس؟ مع أن المسلمين مبالغون في إظهار لعنهم وعداوتهم. وحيث لم يحس شيء من ذلك، علمنا أن القول بإثبات الجن والشياطين ضعيف.
واعلم أن أصحابنا يجوزون أن تكون أجسامهم كثيفة مع أنا لا نراها، وأيضا لا يبعد أن يقال أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون، ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التفرق والتمزق. وأما الجبائي فقد سلم أنها كانت كثيفة الأجسام، وزعم أن الناس كانوا يشاهدونهم في زمن سليمان، ثم إنه لما توفي سليمان عليه السلام، أمات الله أولئك الجن والشياطين، وخلق نوعا آخر من الجن والشياطين تكون أجسامهم في غاية الرقة، ولا يكون لهم شيء من القوة، والموجود في زماننا من الجن والشياطين ليس إلا من هذا الجنس.
ثم قال تعالى: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) * وفيه قولان الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أعط من شئت وامنع من شئت بغير حساب، أي ليس عليك حرج فيما أعطيت وفيما أمسكت الثاني: أن هذا في أمر الشياطين خاصة، والمعنى هؤلاء الشياطين المسخرون عطاؤنا فامنن على من شئت من الشياطين فحل عنه، واحبس من شئت منهم في العمل بغير حساب.
ولما ذكر الله تعالى ما أنعم به على سليمان في الدنيا، أردفه بإنعامه عليه في الآخرة، فقال: * (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) * وقد سبق تفسيره.
قوله تعالى
* (واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب * اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب * ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لاولى الالباب *
211

وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب) *
اعلم أن هذا هو القصة الثالثة من القصص المذكورة في هذه السورة، واعلم أن داود وسليمان كانا ممن أفاض الله عليه أصناف الآلاء والنعماء، وأيوب كان ممن خصه الله تعالى بأنواع البلاء، والمقصود من جميع هذه القصص الاعتبار. كأن الله تعالى قال: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليه السلام، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد، وأن العاقل لا بد له من الصبر على المكاره، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": أيوب عطف بيان، وإذ بدل اشتمال منه * (أني مسني) * أي بأني مسني حكاية لكلامه الذي ناداه بسببه، ولو لم يحك لقال بأنه مسه لأنه غائب، وقرئ: * (بنصب) * بضم النون وفتحها مع سكون الصاد وفتحها وضمها، فالنصب والنصب، كالرشد والرشد، والعدم والعدم، والسقم والسقم، والنصب على أصل المصدر، والنصب تثقيل نصب، والمعنى واحد، وهو التعب والمشقة والعذاب والألم.
واعلم أنه كان قد حصل عنده نوعان من المكروه: الغم الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات، والألم الشديد في الجسم ولما حصل هذان النوعان لا جرم، ذكر الله تعالى لفظين وهما النصب والعذاب.
المسألة الثانية: للناس في هذا الموضع قولان الأول: أن الآلام والأسقام الحاصلة في جسمه إنما حصلت بفعل الشيطان الثاني: أنها إنما حصلت بفعل الله، والعذاب المضاف في هذه الآية إلى الشيطان هو عذاب الوسوسة، وإلقاء الخواطر الفاسدة.
وأما القول الأول: فتقريره ما روي أن إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال الله: نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال: يا رب إنه قد امتنع علي فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له: هلك من مالك كذا وكذا، فيقول الله أعطى والله أخذ، ثم يحمد الله، فقال: يا رب إني أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف بالله لئن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال:
212

* (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * فأجاب الله دعاءه، وأوحى إليه * (أن اركض برجلك) * فأظهر الله من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها، فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه، ورد عليه أهله وماله.
والقول الثاني: أن الشيطان لا قدرة له البتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، والدليل عليه وجوه الأول: أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم، هو الله تعالى الثاني: أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادكم الثالث: أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال: * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (إبراهيم: 22) فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، وذلك يدل على قول من يقول إن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات، فإن قال قائل: لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو الله تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟ قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو الله تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟ بل الحق أن المراد من قوله: * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوها الأول: أن علته كانت شديدة الألم، ثم طالت مدة تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته، ولم يبق له شيء من الأموال البتة. وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن الاشتغال بخدمتهم، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى الله، وقال: * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) * لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد. الثاني: أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى الله تعالى وقال: * (إني مسني الشيطان) *، الثالث: قيل إن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى الله تعالى وقال: * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) *، الرابع: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه بقي أيوب في البلاء ثمان عشرة سنة حتى رفضه القريب والبعيد إلا رجلين، ثم قال أحدهما لصاحبه لقد أذنب أيوب ذنبا ما أتى به أحد من العالمين، ولولاه ما وقع في مثل هذا البلاء، فذكروا ذلك
213

لأيوب عليه السلام، فقال: لا أدري ما تقولان غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله تعالى فأرجع إلى بيتي فأنفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في الحق " الخامس: قيل إن امرأته كانت تخدم الناس فتأخذ منهم قدر القوت وتجئ به إلى أيوب، فاتفق أنهم ما استخدموها البتة وطلب بعض النساء منها قطع إحدى ذؤابتيها على أن تعطيها قدر القوت ففعلت، ثم في اليوم الثاني ففعلت مثل ذلك فلم يبق لها ذؤابة. وكان أيوب عليه السلام إذا أراد أن يتحرك على فراشه تعلق بتلك الذؤابة، فلما لم يجد الذؤابة وقعت الخواطر المؤذية في قلبه واشتد غمه، فعند ذلك قال: * (إني مسني الشيطان بنصب وعذاب) *، السادس: قال في بعض الأيام: يا رب لقد علمت ما اجتمع علي أمران إلا آثرت طاعتك، ولما أعطيتني المال كنت للأرامل قيما، ولابن السبيل معينا، ولليتامى أبا! فنودي من غمامة يا أيوب ممن كان ذلك التوفيق؟ فأخذ أيوب التراب ووضعه على رأسه، وقال منك يا رب ثم خاف من الخاطر الأول فقال: * (مسني الشيطان بنصب وعذاب) * وقد ذكروا أقوالا أخرى، والله أعلم بحقيقة الحال، وسمعت بعض اليهود يقول: إن لموسى بن عمران عليه السلام كتابا مفردا في واقعة أيوب، وحاصل ذلك الكتاب أن أيوب كان رجلا كثير الطاعة لله تعالى مواظبا على العبادة، مبالغا في التعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله، ثم إنه وقع في البلاء الشديد والعناء العظيم، فهل كان ذلك لحكمة أم لا؟ فإن كان ذلك لحكمة فمن المعلوم أنه ما أتى بجرم في الزمان السابق حتى يجعل ذلك العذاب في مقابلة ذلك الجرم، وإن كان ذلك لكثرة الثواب فالإله الحكيم الرحيم قادر على إيصال كل خير ومنفعة إليه من غير توسط تلك الآلام الطويلة والأسقام الكريهة. وحينئذ لا يبقى في تلك الأمراض والآفات فائدة، وهذه كلمات ظاهرة جلية وهي دالة على أن أفعال ذي الجلال منزهة عن التعليل بالمصالح والمفاسد، والحق الصريح أنه * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23).
المسألة الثالثة: لفظ الآية يدل على أن ذلك النصب والعذاب إنما حصل من الشيطان ثم ذلك العذاب على القول الأول عبارة عما حصل في بدنه من الأمراض، وعلى القول الثاني عبارة عن الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب إلقاء الوساوس، وعلى التقديرين فيلزم إثبات الفعل للشيطان، وأجاب أصحابنا رحمهم الله بأنا لا ننكر إثبات الفعل للشيطان لكنا نقول فعل العبد مخلوق لله تعالى على التفصيل المعلوم.
أما قوله تعالى: * (أركض برجلك) * فالمعنى أنه لما شكى من الشيطان، فكأنه سأل ربه أن يزيل عنه تلك البلية فأجابه الله إليه بأن قال له: * (أركض برجلك) * والركض هو الدفع القوي بالرجل، ومنه ركضك الفرس، والتقدير قلنا له اركض برجلك، قيل إنه ضرب رجله تلك الأرض فنبعت عين فقيل: * (هذا مغتسل بارد وشراب) * أي هذا ماء تغتسل به فيبرأ باطنك، وظاهر اللفظ يدل على أنه نبعت له عين واحدة من الماء اغتسل فيه وشرب منه. والمفسرون قالوا نبعت له
214

عينان فاغتسل من إحداهما وشرب من الأخرى، فذهب الداء من ظاهره ومن باطنه بإذن الله، وقيل ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها ثم باليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها.
ثم قال تعالى: * (ووهبنا له أهله) * فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم، وقيل غيرهم مثلهم، والأول: أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة، ثم اختلفوا فقال بعضهم: معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء، وقال بعضهم: بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا. وقال بعضهم: بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة.
أما قوله: * (ومثلهم معهم) * فالأقرب أنه تعالى متعه بحصته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وقال الحسن رحمه الله: المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا.
ثم قال: * (رحمة منا) * أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة، لا على سبيل اللزوم.
ثم قال: * (وذكرى لأولي الألباب) * يعني سلطنا البلاء عليه أولا فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى الآلاء والنعماء، تنبيها لأولي الألباب على أن من صبر ظفر، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد: * (اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود) * وقالت المعتزلة قوله تعالى: * (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) * يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد، وذلك يدل على أن أفعال الله وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.
أما قوله تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا) * فهو معطوف على اركب والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضا ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برئ، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء
عليه وعليها، وهذه الرخصة باقية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتي بمجذم خبث بأمة فقال " خذوا عثكالا
فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة ".
ثم قال تعالى (إنا وجدناه صابرا) فان قيل كيف وجده صابرا وقد شكى اليه، والجواب
من وجوه: (الاول) أنه شكى من الشيطان اليه وما شكى منه الى أحد (الثاني) أن الألم حين كان
على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين فتضرع (الثالث) أن
الشيطان عدو، والشكاية من العدو الى الحبيب لا تقدح في الصبر، ثم قال (نعم العبد إنه أواب)
215

وهذا يدل على ان تشريف نعم العبد، إنما حصل لكونه أوابا، وسمعت بعضهم قال لما نزل قوله
تعالى (نعم العبد) في حق سليمان عليه السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم
في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن قوله تعالى: * (نعم العبد) * في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا
إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل
بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله. فأنزل الله تعالى قوله: * (نعم المولى ونعم النصير) * (الأنفال: 40) والمراد أنك إن لم تكن * (نعم العبد) * فأنا * (نعم المولى) * وإن كان منك الفضول، فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير.
* (واذكر عبادنآ إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الايدى والابصار * إنآ أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الاخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) *
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: * (عبدنا) * على الواحد وهي قراءة ابن عباس، ويقول إن قوله: * (عبدنا) * تشريف عظيم، فوجب أن يكون هذا التشريف مخصوصا بأعظم الناس المذكورين في هذه الآية وهو إبراهيم وقرأ الباقون: * (عبادنا) * قالوا: لأن غير إبراهيم من الأنبياء قد أجري عليه هذا الوصف فجاء في
عيسى: * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) * (الزخرف: 59) وفي أيوب: * (نعم العبد) * (ص: 44) وفي نوح: * (إنه كان عبدا شكورا) * (الإسراء: 3) فمن قرأ (عبدنا) جعل إبراهيم وحده عطف بيان له، ثم عطف ذريته على عبدنا وهي إسحق ويعقوب، ومن قرأ (عبادنا) جعل إبراهيم وإسحق ويعقوب عذف بيان لعبادنا.
المسألة الثانية: تقدير آية كأنه تعالى قال: فاصبر على ما يقولون واذكر عبادنا داود إلى أن قال: واذكر عبادنا إبراهيم أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار، وصبر إسحق للذبح، وصب يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره. ثم قال: * (أولي الأيدي والأبصار) *، واعلم أن اليد آلة لأكثر الأعمال والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد وعن الإدراك بالبصر. إذا عرفت هذا فنقول النفس الناطقة الإنسانية لها قوتان عاملة وعالمة، أما القوة العاملة فأشرف ما يصدر عنها طاعة الله، وأما القوة العالمة فأشرف ما يصدر عنها معرفة
216

الله، وما سوى هذين القسمين من الأعمال والمعارف فكالعبث والباطل، فقوله: * (أولي الأيدي والأبصار) * إشارة إلى هاتين الحالتين. ثم قال تعالى: * (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (بخالصة) * قرىء بالتنوين والإضافة فمن نون كان التقدير أخلصناهم أي جعلناهم خالصين لنا بسبب خالصة لا شوب فيها وهي ذكرى الدار، ومن قرأ بالإضافة فالمعنى بما خلص من ذكرى الدار، يعني أن ذكرى الدار قد تكون لله وقد تكون لغير الله، فالمعنى إنا أخلصناهم بسبب ما خلص من هذا الذكر.
المسألة الثانية: في ذكرى الدار وجوه الأولى: المراد أنهم استغرقوا في ذكرى الدار الآخرة وبلغوا في هذا الذكر إلى حيث نسوا الدنيا الثاني: المراد حصول الذكر الجليل الرفيع لهم في الدار الآخرة الثالث: المراد أنه تعالى أبقى لهم الذكر الجميل في الدنيا وقبل دعاءهم في قوله: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84).
ثم قال تعالى: * (وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) * أي المختارين من أبناء جنسهم والأخيار جمع خير أو خير على التخفيف كأموات في جمع ميت أو ميت، واحتج العلماء بهذه الآية في إثبات عصمة الأنبياء قالوا لأنه تعالى حكم عليهم بكونهم أخيارا على الإطلاق، وهذا يعم حصول الخيرية في جميع الأفعال والصفات بدليل صحة الاستثناء وبدليل دفع الإجمال. ثم قال: * (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار) * وهم قوم آخرون من الأنبياء تحملوا الشدائد في دين الله، وقد ذكرنا الكلام في شرح هذه الأسماء وفي صفات هؤلاء الأنبياء في سورة الأنبياء وفي سورة الأنعام، فلا فائدة في الإعادة، وههنا آخر الكلام في قصص الأنبياء في هذه السورة.
* (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب * جنات عدن مفتحة لهم الابواب * متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب * وعندهم قاصرات الطرف أتراب * هذا ما توعدون ليوم الحساب *
217

إن هذا لرزقنا ما له من نفاد) *
اعلم أن في قوله: * (ذكر) * وجهين الأول: أنه تعالى إنما شرح ذكر أحوال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام لأجل أن يصبر محمد عليه السلام على تحمل سفاهة قومه فلما تمم بيان هذا الطريق وأراد أن يذكر عقيبه طريقا آخر يوجب الصبر على سفاهة الجهال، وأراد أن يميز أحد البابين عن الآخر، لا جرم قال: * (هذا ذكر) *، ثم شرع في تقرير الباب الثاني فقال: * (وإن للمتقين) * كما أن المصنف إذا تمم كلاما قال هذا باب، ثم شرع في باب آخر، وإذا فرغ الكاتب من فصل من كتابه وأراد الشروع في آخر هذا وقد كان كيت وكيت، والدليل عليه أنما لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يردفه بذكر أهل النار قال: * (هذا وإن للطاغين) * (ص: 55) الوجه الثاني: في التأويل، أن المراد هذا شرف وذكر جميل لهؤلاء الأنبياء عليهم السلام به أبدا، والأول هو الصحيح.
أما قوله: * (وإن للمتقين لحسن مآب) *.
فاعلم أنه تعالى لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بأن وصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا له على سبيل الاستهزاء * (ربنا عجل لنا قطنا) * (ص: 16) فعند هذا أمر محمدا بالصبر على تلك السفاهة، وبين أن ذلك الصبر لازم من وجهين الأول: أنه تعالى لما بين أن الأنبياء المتقدمين صبروا على المكاره والشدائد، فيجب عليك أن تقدي بهم في هذا المعنى الثاني: أنه تعالى بين في هذه الآية أن من أطاع الله كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك يوجب الصبر على تكاليف الله تعالى، وهذا نظم حسن وترتيب لطيف.
أما فقوله تعالى: * (وإن للمتقين لحسن مآب) * المآب المرجع. واحتج القائلون بقدم الأرواح بهذه الآية، وبكل آية تشتمل على لفظ الرجوع ووجه الاستدلال، أن لفظ الرجوع إنما يصدق لو كانت هذه الأرواح موجودة قبل الأجساد، وكانت في حضرة جلال الله ثم تعلقت بالأبدان، فعند انفصالها عن الأبدان يسمى ذلك رجوعا وجوابه: أن هذا إن دل فإنما يدل على أن الأرواح كانت موجودة قبل الأبدان، ولا يدل على قدم الأرواح.
ثم قال تعالى: * (جنات عدن) * وهو بدل من قوله: * (لحسن مآب) * ثم قال: * (مفتحة لهم الأبواب) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تأويل هذا اللفظ وجوها الأول: قال الفراء: معناه مفتحة لهم أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة، تقول العرب: مررت برجل حسن الوجه، فالألف واللام في الوجه يدل من الإضافة والثاني: قال الزجاج: المعنى: مفتحة لهم الأبواب منها الثالث: قال صاحب " الكشاف " * (الأبواب) * بدل من الضمير، وتقديره مفتحة
218

هي الأبواب، كقولك ضرب زيد اليد والرجل، وهو من بدل الاشتمال.
المسألة الثانية: قرىء: * (جنات عدن) * مفتحة بالرفع على تقدير أن يكون قوله: * (جنات عدن) * مبتدأ و * (مفتحة) * خبره، وكلاهما خبر مبتدأ محذوف، أي هو جنات عدن مفتحة لهم.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى وصف من أحوال أهل الجنة في هذه الآية أشياء الأول: أحوال مساكنهم، فقوله: * (جنات عدن) * يدل على أمرين أحدهما: كونها جنات وبساتين والثاني: كونها دائمة آمنة من الانقضاء.
وفي قوله: * (مفتحة لهم الأبواب) * وجوه الأول: أن يكون المعنى أن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام، فيدخل كذلك محفوفا بالملائكة على أعز حال وأجمل هيئة، قال تعالى: * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) * (الزمر: 73). الثاني: أن تلك الأبواب كلما أرادوا انفتاحها انفتحت لهم، وكلما أرادوا انغلاقها انغلقت لهم الثالث: المراد من هذا الفتح، وصف تلك المساكن بالسعة، ومسافرة العيون فيها، ومشاهدة الأحوال اللذيذة الطيبة.
ثم قال تعالى: * (متكئين فيها) * يدعون فيها، وفيه مباحث:
البحث الأول: أنه تعالى ذكر في هذه الآية كونهم متكئين في الجنة، وذكر في سائر الآيات كيفية ذلك الاتكاء، فقال في آية: * (على الأرائك متكئون) * (يس: 56) وقال في آية أخرى: * (متكئين على رفرف خضر) * (الرحمن: 76).
البحث الثاني: قوله: * (متكئين فيها) * حال قدمت على العامل فيها وهو قوله: * (يدعون فيها) * والمعنى يدعون في الجنات متكئين فيها ثم قال: * (بفاكهة كثيرة وشراب) * والمعنى بألوان الفاكهة وألوان الشراب، والتقدير بفاكهة كثيرة وشراب كثير، والسبب في ذكر هذا المعنى أن ديار العرب حارة قليلة الفواكه والأشربة، فرغبهم الله تعالى فيه.
ولما بين تعالى أمر المسكن وأمر المأكول والمشروب ذكر عقيبه أمر المنكوح، فقال: * (وعندهم قاصرات الطرف) * وقد سبق تفسيره في سورة والصافات، وبالجملة فالمعنى كونهن قاصرات عن غيرهم مقصورات القلب على محبتهم، وقوله: * (أتراب) * أي على سن واحد، ويحتمل كون الجواري أترابا، ويحتمل كونهن أترابا للأزواج، قال القفال: والسبب في اعتبار هذه الصفة، أنهن لما تشابهن في الصفة والسن والحلية كان الميل إليهن على السوية، وذلك يقتضي عدم الغيرة.
ثم قال تعالى: * (هذا ما توعدون ليوم الحساب) * يعني أن الله تعالى وعد المتقين بالثواب الموصوف بهذه الصفة، ثم إنه تعالى أخبر عن دوام الثواب فقال: * (إن هذا لرزقنا ماله من نفاد) *.
219

قوله تعالى
* (هذا وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق * وءاخر من شكله أزواج * هذا فوج مقتحم معكم لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار * قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار * قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا فى النار * وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار * إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) *
اعلم أنه تعالى لما وصف ثواب المتقين، وصف بعده عقاب الطاغين، ليكون الوعيد مذكورا عقيب الوعد، والترهيب عقيب الترغيب.
واعلم أنه تعالى ذكر من أحوال النار أنواعا فالأول: مرجعهم ومآبهم، فقال: * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) * (ص: 55) وهذا في مقابلة قوله: * (وإن للمتقين لحسن مآب) * (ص: 49) فبين تعالى أن حال الطاغين مضاد لحال المتقين، واختلفوا في المراد بالطاغين، فأكثر المفسرين حملوه على الكفار، وقال الجبائي: إنه محمول على أصحاب الكبائر سواء كانوا كفارا أو لم يكونوا كذلك، واحتج الأولون بوجوه الأول: أن قوله: * (لشر مآب) * يقتضي أن يكون مآبهم شرا من مآب غيرهم، وذلك لا يليق إلا بالكفار الثاني: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا: * (اتخذناهم سخريا) * وذلك لا يليق إلا بالكفار، لأن الفاسق لا يتخذ المؤمن سخريا الثالث: أنه اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل، والكامل في الطغيان هو الكافر، واحتج الجبائي على صحة قوله بقوله تعالى:
220

* (إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7) وهذا يدل على أن الوصف بالطغيان قد يحصل في حق صاحب الكبيرة، ولأن كل من تجاوز عن تكاليف الله تعالى وتعداها فقد طغى، ذا عرفت هذا فنقول: قال ابن عباس رضي الله عنهما، المعنى أن الذين طغوا وكذبوا رسلي لهم شر مآب، أي شر مرجع ومصير، ثم قال: * (جهنم يصلونها) * والمعنى أنه تعالى لما حكم بأن الطاغين لهم شر مآب فسره بقوله: * (جهنم يصلونها) * ثم قال: * (فبئس المهاد) * وهو كقوله: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * (الأعراف: 41) شبه الله ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.
ثم قال تعالى: * (هذا فليذوقوه حميم وغساق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه وجهان الأول: أنه على التقديم والتأخير، والتقدير هذا حميم وغساق فليذوقوه الثاني: أن يكون التقدير جهنم يصلونها فبئس المهاد هذا فليذوقوه، ثم يبتدئ فيقول: حميم وغساق.
المسألة الثانية: الغساق بالتخفيف والتشديد فيه وجوه الأول: أنه الذي يغسق من صديد أهل النار، يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وقال ابن عمر هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه الثاني: قيل الحميم يحرق بحره، والغساق يحرق ببرده، وذكر الأزهري: أن الغاسق البارد، ولهذا قيل لليل غاسق لأنه أبرد من النهار الثالث
: أن الغساق المنتن حكى الزجاج لو قطرت منه قطرة في المشرق لأنتنت أهل المغرب، ولو قطرت منه قطرة في المغرب لأنتنت أهل المشرق الرابع: قال كعب: الغساق عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذات حمة من عقرب وحية.
المسألة الثالثة: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم غساق بتشديد السين حيث كان والباقون بالتخفيف. قال أبو علي الفارسي الاختيار التخفيف لأنه إذا شدد لم يخل من أن يكون اسما أو صفة، فإن كان اسما فالأسماء لم تجيء على هذا الوزن إلا قليلا، وإن كان صفة فقد أقيم مقام الموصوف والأصل أن لا يجوز ذلك.
ثم قال تعالى: * (وآخر من شكله أزواج) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو عمر * (وأخر) * بضم الألف على جمع أخرى أي أصناف أخر من العذاب، وهو قراءة مجاهد والباقون آخر على الواحد أي عذاب آخر، أما على قراءة الأولى فقوله وأخر أي ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، أي من مثله في الشدة والفظاعة، أزواج أي أجناس، وأما على القراءة الثانية فالتقدير وعذاب أو مذوق آخر، وأزواج صفة لآخر لأنه يجوز أن يكون ضروبا أو صفة للثلاثة وهم حميم وغساق وآخر من شكله. قال صاحب " الكشاف ": وقرئ من شكله بالكسر وهي لغة، وأما الغنج فبالكسر لا غير.
واعلم أنه تعالى لما وصف مسكن الطاغين ومأكولهم حكى أحوالهم الذين كانوا أحباء لهم
221

في الدنيا أولا، ثم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا ثانيا أما الأول: فهو قوله: * (هذا فوج مقتحم معكم) * واعلم أن هذا حكاية كلام رؤساء أهل النار يقوله بعضهم لبعض بدليل أن ما حكى بعد هذا من أقوال الأتباع وهو قوله: * (قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا) *، وقيل إن قوله: * (هذا فوج مقتحم معكم) * كلام الخزنة لرؤساء الكفرة في أتباعهم، وقوله: * (لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار) * كلام الرؤساء، وقوله: * (هذا فوج مقتحم معكم) * أي هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار كما كانوا قد اقتحموا معكم في الجهل والضلال، ومعنى اقتحم معكم النار أي دخل النار في صحبتكم، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها، والقحمة الشدة.
وقوله تعالى: * (لا مرحبا بهم) * دعاء منهم على أتباعهم، يقول الرجل لمن يدعو له مرحبا أي أتيت رحبا في البلاد لا ضيقا أو رحبت بلادك رحبا، ثم يدخل عليه كلمة لا في دعاء السوء، وقوله: * (بهم) * بيان للمدعو عليهم أنهم صالوا النار تعليل لاستيجابهم الدعاء عليهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (كلما دخلت أمة لعنت أختها) * (الأعراف: 38) قالوا أي الأتباع * (بل أنتم لا مرحبا بكم) * يريدون أن الدعاء الذي دعوتم به علينا أيها الرؤساء أنتم أحق به، وعللوا ذلك بقولهم: * (أنتم قدمتموه لنا) * والضمير للعذاب أو لصليهم، فإن قيل ما معنى تقديمهم العذاب لهم؟ قلنا الذي أوجب التقديم هو عمل السوء قال تعالى: * (ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم) * (آل عمران: 181، 182) إلا أن الرؤساء لما كانوا هم السبب فيه بإغوائهم وكان العذاب جزاءهم عليه قيل أنتم قدمتموه لنا فجعل الرؤساء هم المقدمين وجعل الجزاء هو المقدم، والضمير في قوله: * (قدمتموه) * كناية عن الطغيان الذي دل عليه قوله: * (وإن للطاغين شر مآب) * وقوله: * (فبئس القرار) * أي: بئس المستقر والمسكن جهنم، ثم قالت الأتباع * (ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا) * أي مضاعفا ومعناه ذا ضعف ونظيره قوله تعالى: * (ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا) * (الأعراف: 38) وكذلك قوله تعالى: * (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب) * (الأحزاب: 67، 68) فإن قيل كل مقدار يفرض من العذاب فإن كان بقدر الاستحقاق لم يكن مضاعفا، وإن كان زائدا عليه كان ظالما وإنه لا يجوز. قلنا المراد منه قوله عليه السلام: " ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " والمعنى أنه يكون أحد القسمين عذاب الضلال، والثاني عذاب الإضلال والله أعلم.
وهذا آخر شرح أحوال الكفار مع الذين كانوا أحبابا لهم في الدنيا، وأما شرح أحوالهم مع الذين كانوا أعداء لهم في الدنيا فهو قوله: * (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) * يعني أن الكفار إذا نظروا إلى جوانب جهنم فيحنئذ يقولون: * (ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) * يعنون فقراء المسلمين الذين لا يؤبه بهم وسموهم من الأشرار، إما بمعنى الأراذل الذين لا خير فيهم ولا جدوى، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم فكانوا عندهم أشرارا ثم قالوا: * (اتخذناهم سخريا) * وفيه مسائل:
222

المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي * (من الأشرار اتخذناهم) * بوصل ألف * (اتخذناهم) * والباقون بفتحها على الاستفهام، قال أبو عبيد وبالوصل يقرأ لأن الاستفهام متقدم في قوله: * (ما لنا لا نرى رجالا) *، ولأن المشركين لا يشكون في اتخاذهم المؤمنين في الدنيا سخريا، لأنه تعالى قد أخبر عنهم بذلك في قوله: * (فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري) * (المؤمنون: 110) فكيف يحسن أن يستفهموا عن شيء علموه؟ أجاب الفراء عنه بأن قال هذا من الاستفهام الذي معناه التعجيب والتوبيخ، ومثل هذا الاستفهام جائز عن الشيء المعلوم، أما وجه قول من ألحق الهمزة للاستفهام أنه لا بد من المصير إليه ليعادل قوله: * (اتخذناهم) * بأم في قوله: * (أم زاغت فيهم) * فإن قيل فما الجملة المعادلة لقوله: * (أم زاغت) * على القراءة الأولى؟ قلنا إنها محذوفة والمعنى المقصودون أم زاغت عنهم الأبصار.
المسألة الثانية: قرأ نافع * (سخريا) * بضم السين والباقون بكسرها، وقيل هما بمعنى واحد وقيل بالكسر هو الهزء وبالضم هو التذليل والتسخير.
المسألة الثالثة: اختلفوا في نظم الآية على قولين بناء على القراءتين المذكورتين أما القراءة على سبيل الإخبار فالتقدير ما لنا لا نراهم حاضرين لأجل أنهم لحقارتهم تركوا، أو لأجل أنهم زاغت عنهم الأبصار. ووقع التعبير عن حقارتهم بقولهم * (اتخذناهم سخريا) * وأما القراءة على سبيل الاستفهام، فالتقدير لأجل أنا قد اتخذناهم سخريا وما كانوا كذلك فلم يدخلوا النار، أم لأجل أنه زاغت عنهم الأبصار، واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم هذه المناظرة قال إن ذلك الذي حكينا عنهم لحق لا بد وأن
يتكلموا به، ثم بين أن الذي حكيناه عنهم ما هو، فقال: * (تخاصم أهل النار) * وإنما سمى الله تعالى تلك الكلمات تخاصما لأن قول الرؤساء * (لا مرحبا بهم) * وقول الأتباع * (بل أنتم لا مرحبا بكم) * من باب الخصومة.
قوله تعالى
* (قل إنمآ أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار * رب السماوات والارض وما بينهما العزيز الغفار * قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون * ما كان لى من علم بالملإ الاعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلى إلا أنمآ أنا نذير مبين) *
223

اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا الله واحد، وإلى أنه رسول مبين من عند الله، وإلى أن القول بالقيامة حق، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول: ليصير ذلك حاملا لمحمد صلى الله عليه وسلم على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني: ليصير ذلك رادعا للكفار على الإصرار على الكفر والسفاهة وداعيا إلى قبول الإيمان، ولما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقدير التوحيد والنبوة والبعث، فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب، فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم.
أما قوله: * (قل إنما أنا منذر) * يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، وأحوال ثواب من أقربها، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا * (أجعل الآلهة إلها واحدا) * (ص: 5) فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال: * (وما من إله إلا الله الواحد القهار) * وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزها عن الشريك والنظير، وبيانه أن الذي يجعل شريكا له في الإلهية، إما أن يكون موجودا قادرا على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك، بل يكون جمادا عاجزا والأول: باطل لأنه لو كان شريكه قادرا على الإطلاق لم يكن هو قادرا قاهرا، لأن بتقدير أن يريد هو شيئا ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر، وحينئذ لا يكون قادرا قاهرا بل كان عاجزا ضعيفا، والعاجز لا يصلح للإلهية، فقوله: * (لا الله الواحد القهار) * إشارة إلى أن كونه قهارا يدل على كونه واحدا وأما الثاني: وهو أن يقال إن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء البتة مثل هذه الأوثان، فهذا أيضا فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقوله: * (وما من إله إلا الله الواحد القهار) * يدل على هذه الدلائل، واعلم أن كونه سبحانه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف، فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار) * فكونه ربا مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود، وكونه غفارا مشعر بالترغيب، وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته، لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه.
224

ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات، فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسة الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار، أما كونه واحدا فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين واستدل تعالى على كونه واحدا بكونه قهارا وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهارا وإن دل على إثبات الوحدانية إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاثة دالة على الرحمة والفضل والكرم أولها: كونه ربا للسموات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة الله تعالى في خلق السماوات والأرض والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة، وذلك بحر لا ساحل له فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل وذلك يفيد الرجاء العظيم وثانيها: كونه عزيزا والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومربي وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات، فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء وثالثها: كونه غفارا والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة، فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار، واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال: * (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون) * وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوها فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم، ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم، ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم، وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ولأجلها أنجز الكلام إلى كل ما سبق ذكره، ويمكن أيضا أن يكون المراد كون القرآن معجزا لأن هذا أيضا قد تقدم ذكره في قوله: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) * (ص: 29) وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال * (قل هو نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون) * واعلم أن قوله: * (أنتم عنه معرضون) * ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من التقليد، لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبوابا الشقاوة فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية، وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة.
أما قوله تعالى: * (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) * فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربعة، وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه: الأول: أن كل واحد منها نبأ عظيم، والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه الثاني: أن الملأ الأعلى اختصموا وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال: * (إني جاعل
في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون) * (البقرة: 30) والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق
225

البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله: * (من يفسد فيها) * وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله: * (ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك) * فقال الله سبحانه وتعالى: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * وتقرير هذا الجواب والله أعلم، أن يقال أن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة: أحدها: الذين حصل لهم العقل والحكمة، ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم الملائكة فقط ثانيها: الذين حصل لهم النفس والشهوة، ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي البهائم وثالثها: الأشياء الخالية عن القسمين، وهي الجمادات وبقي في التقسيم قسم رابع: وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان والمقصود من تخليق الإنسان ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة، فقوله * (إني أعلم ما لا تعلمون) * يعني أن هذا النوع من المخلوقات، وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء، لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة، وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات، وأن يجتهد في اكتسابها، وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر، وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعيا له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجرا له عن أضدادها ومقابلاتها، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام. فإن قيل الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم: * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * (البقرة: 30) فإن المخاصمة مع الله كفر، قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه، ولما أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول: * (إن يوحى إلي أنما أنا نذير مبين) * يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي، وإنما أوحى الله إلي هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد.
قوله تعالى
* (إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين *
226

قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدى أستكبرت أم كنت من العالين * قال أنا خير منه خلقتنى من نار وخلقته من طين * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتى إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال فالحق والحق أقول * لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) *
اعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة المنع من الحسد والكبر، وذلك لأن إبليس، إنما وقع فيما وقع فيه بسبب الحسد والكبر، والكفار إنما نازعوا محمدا عليه السلام بسبب الحسد والكبر، فالله تعالى ذكر هذه القصة ههنا ليصير سماعها زاجرا لهم عن هاتين الخصلتين المذمومتين والحاصل أنه تعالى رغب المكلفين في النظر والاستدلال، ومنعهم عن الإصرار والتقليد وذكر في تقريره أمورا أربعة أولها: أنه نبأ عظيم فيجب الاحتياط فيه والثاني: أن قصة سؤال الملائكة عن الحكمة في تخليق البشر يدل على أن الحكمة الأصلية في تخليق آدم هو المعرفة والطاعة لا الجهل والتكبر الثالث: أن إبليس إنما خاصم آدم عليه السلام لأجل الحسد والكبر فيجب على العاقل أن يحترز عنهما، فهذا هو وجه النظم في هذه الآيات، واعلم أن هذه القصة قد تقدم شرحها في سور كثيرة، فلا فائدة في الإعادة إلا ما لا بد منه وفيها مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (إني خالق بشرا من طين) * سؤالات:
الأول: أن هذا النظم إنما يصح لو أمكن خلق البشر لا من الطين، كما إذا قيل أنا متخذ سوارا من ذهب، فهذا إنما يستقيم لو أمكن اتخاذه من الفضة.
227

الثاني: ذكر ههنا أنه خلق البشر من طين، وفي سائر الآيات ذكر أنه خلقه من سائر الأشياء كقوله تعالى في آدم إنه خلقه من تراب وكقوله: * (من صلصال من حمأ مسنون) * (الحجر: 26) وكقوله: * (خلق الإنسان من عجل) * (الأنبياء: 37).
الثالث: أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لما أخبر الملائكة بأنه خلق بشرا من طين. لم يقولوا شيئا، وفي الآية الأخرى وهي التي قال: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (البقرة: 30) بين أنهم أوردوا السؤال والجواب فبينهما تناقض، والجواب عن الأول أن التقدير كأنه سبحانه وصف لهم أولا أن البشر شخص جامع للقوة البهيمية والسبعية والشيطانية والملكية، فلما قال: * (إني خالق بشرا من طين) * فكأنه قال ذلك الشخص المستجمع لتلك الصفات، إنما أخلقه من الطين، والجواب عن الثاني أن المادة البعيدة هو التراب، وأقرب منه الطين، وأقرب منه الحمأ المسنون، وأقرب منه الصلصال فثبت أنه لا منافاة بين الكل، والجواب عن الثالث أنه في الآية المذكورة في سورة البقرة بين لهم أنه يخلق في الأرض خليفة، وبالآية المذكورة ههنا بين أن ذلك الخليفة بشر مخلوق من الطين.
المسألة الثانية: قال * (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) * وهذا يدل على أن تخليق البشر لا يتم إلا بأمرين التسوية أولا، ثم نفخ الروح ثانيا، وهذا حق لأن الإنسان مركب من جسد ونفس.
أما الجسد فإنه إنما يتولد من المني، والمني إنما يتولد من دم الطمث وهو إنما يتولد من الأخلاط الأربعة، وهي إنما تتولد من الأركان الأربعة، ولا بد في حصول هذه التسوية من رعاية مقدار مخصوص لكل واحد منها، ومن رعاية كيفية امتزاجاتها وتركيباتها، ومن رعاية المدة التي في مثلها حصل ذلك المزاج الذي لأجله يحصل
الاستعداد لقبول النفس الناطقة.
وأما النفس فإليها الإشارة بقوله: * (ونفخت فيه من روحي) * ولما أضاف الروح إلى نفسه دل على أنه جوهر شريف علوي قدسي، وذهبت الحلولية إلى أن كلمة (من) تدل على التبعيض، وهذا يوهم أن الروح جزء من أجزاء الله تعالى، وهذا غاية الفساد، لأن كل ما له جزء وكل، فهو مركب وممكن الوجود لذاته ومحدث.
وأما كيفية نفخ الروح، فاعلم أن الأقرب أن جوهر النفس عبارة عن أجسام شفافة نورانية، علوية العنصر، قدسية الجوهر، وهي تسري في البدن سريان الضوء في الهواء، وسريان النار في الفحم، فهذا القدر معلوم. أما كيفية ذلك النفخ فمما لا يعلمه إلا الله تعالى.
المسألة الثالثة: الفاء في قوله: * (فقعوا له ساجدين) * تدل على أنه كما تم نفخ الروح في الجسد توجه أمر الله عليهم بالسجود، وأما أن المأمور بذلك السجود ملائكة الأرض، أو دخل فيه ملائكة السماوات مثل جبريل وميكائيل، والروح الأعظم المذكور في قوله: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * (النبأ: 38) ففيه مباحث عميقة. وقال بعض الصوفية: الملائكة الذين أمروا بالسجود لآدم، هم القوى النباتية والحيوانية الحسية والحركية، فإنها في بدن الإنسان خوادم النفس الناطقة،
228

وإبليس الذي لم يسجد هو القوة الوهمية التي هي المنازعة لجوهر العقل، والكلام فيه طويل. وأما بقية المسائل وهي: كيفية سجود الملائكة لآدم، وأن ذلك هل يدل على كونه أفضل من الملائكة أم لا، وأن إبليس هل كان من الملائكة أم لا، وأنه هل كان كافرا، أصليا أم لا، فكل ذلك تقدم في سورة البقرة وغيرها.
المسألة الرابعة: احتج من أثبت الأعضاء والجوارح لله تعالى بقوله تعالى: * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * في إثبات يدين لله تعالى، بأن قالوا ظاهر الآية يدل عليه، فوجب المصير إليه، والآيات الكثيرة واردة على وفق هذه الآية، فوجب القطع به.
واعلم أن الدلائل الدالة على نفي كونه تعالى جسما مركبا من الأجزاء والأعضاء، قد سبقت إلا أنا نذكر ههنا نكتا جاريا مجرى الإلزامات الظاهرة فالأول: أن من قال إنه مركب من الأعضاء والأجزاء، فإما أن يثبت الأعضاء التي ورد ذكرها في القرآن ولا يزيد عليها، وإما أن يزيد عليها، فإن كان الأول لزمه إثبات صورة لا يمكن أن يزاد عليها في القبح، لأنه يلزمه إثبات وجه بحيث لا يوجد منه إلا مجرد رقعة الوجه لقوله: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * (القصص: 88) ويلزمه أن يثبت في تلك الرقعة عيونا كثيرة لقوله: * (تجري بأعيننا) * (القمر: 14) وأن يثبت جنبا واحدا لقوله تعالى: * (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * (الزمر: 56) وأن يثبت على ذلك الجنب أيدي كثيرة لقوله تعالى: * (مما عملت أيدينا) * (يس: 71) وبتقدير أن يكون له يدان فإنه يجب أن يكون كلاهما على جانب واحد لقوله صلى الله عليه وسلم: " الحجر الأسود يمين الله في الأرض " وأن يثبت له ساقا واحدا لقوله تعالى: * (يوم يكشف عن ساق) * (القلم: 42) فيكون الحاصل من هذه الصورة، مجرد رقعة الوجه ويكون عليها عيون كثيرة، وجنب واحد ويكون عليه أيد كثيرة وساق واحد، ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور، ولو كان هذا عبدا لم يرغب أحد في شرائه، فكيف يقول العاقل إن رب العالمين موصوف بهذه الصورة.
وأما القسم الثاني: وهو أن لا يقتصر على الأعضاء المذكورة في القرآن، بل يزيد وينقص على وفق التأويلات، فحينئذ يبطل مذهبه في الحمل على مجرد الظواهر، ولا بد له من قبول دلائل العقل.
الحجة الثانية: في إبطال قولهم إنهم إذا أثبتوا الأعضاء لله تعالى، فإن أثبتوا له عضو الرجل فهو رجل وأن أثبتوا له عضو النساء فهو أنثى، وإن نفوهما فهو خصي أو عنين، وتعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
الحجة الثالثة: أنه في ذاته سبحانه وتعالى، إما أن يكون جسما صلبا لا ينغمز البتة، فيكون حجرا صلبا، وإما أن يكون قابلا للانغماز، فيكون لينا قابلا للتفرق والتمزق. وتعالى الله عن ذلك.
الحجة الرابعة: أنه إن كان بحيث لا يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان كالزمن المعقد العاجز، وإن كان بحيث يمكنه أن يتحرك عن مكانه، كان محلا للتغيرات، فدخل تحت قوله: * (لا أحب الآفلين) * (الأنعام: 76).
229

الحجة الخامسة: إن كان لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يتحرك كان كالميت، وإن كان يفعل هذه الأشياء، كان إنسانا كثير التهمة محتاجا إلى الأكل والشرب والوقاع وذلك باطل.
الحجة السادسة: أنهم يقولون إنه ينزل كل ليلة من العرش إلى السماء الدنيا، فنقول لهم حين نزوله: هل يبقى مدبرا للعرش ويبقى مدبرا للسماء الدنيا حين كان على العرش، وحينئذ لا يبقى في النزول فائدة، وإن لم يبق مدبرا للعرش فعند نزوله يصير معزولا عن إلهية العرش والسماوات.
الحجة السابعة: أنهم يقولون إنه تعالى أعظم من العرش، وإن العرش لا نسبة لعظمته إلى عظمة الكرسي، وعلى هذا الترتيب حتى ينتهي إلى السماء الدنيا، فإذا كان كذلك كانت السماء الدنيا بالنسبة إلى عظمة الله كالذرة بالنسبة إلى البحر، فإذا نزل فإما أن يقال إن الإله يصير صغيرا بحيث تسعه السماء الدنيا، وإما أن يقال إن السماء الدنيا تصير أعظم من العرش، وكل ذلك باطل.
الحجة الثامنة: ثبت أن العالم كرة، فإن كان فوق بالنسبة إلى قوم كانت تحت بالنسبة إلى قوم آخرين وذلك باطل، وإن كان فوق بالنسبة إلى الكل، فحينئذ يكون جسما محيطا بهذا العالم من كل الجوانب، فيكون إله العالم على هذا القول فلكا من الأفلاك.
الحجة التاسعة: لما كانت الأرض كرة، وكانت السماوات كرات، فكل ساعة تفرض الساعات فإنها تكون ثلث الليل في حق أقوام معينين من سكان كرة العوارض، فلو نزل من العرش في ثلث الليل وجب أن يبقى أبدا نازلا عن العرش، وأن لا يرجع إلى العرش البتة.
الحجة العاشرة: أنا إنما زيفنا إلهية الشمس والقمر لثلاثة أنواع من العيوب أولها: كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض وثانيها: كونه محدودا متناهيا وثالثها: كونه موصوفا بالحركة والسكون والطلوع والغروب، فإذا كان إله المشبهة مؤلفا من الأعضاء والأجزاء كان مركبا، فإذا كان العرش كان محدودا متناهيا، وإن كان ينزل من العرش ويرجع إليه كان موصوفا بالحركة والسكون، فهذه الصفات الثلاثة إن كانت منافية للإلهية وجب تنزيه الإله عنها بأسرها، وذلك يبطل قول المشبهة، وإن لم تكن منافية للأهلية فحينئذ لا يقدر أحد على الطعن في إلهية الشمس والقمر.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * (الإخلاص: 1) ولفظ الأحد مبالغة في الوحدة، وذلك ينافي كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض.
الحجة الثانية عشرة: قوله تعالى: * (والله الغني وأنتم الفقراء) * (محمد: 38) ولو كان مركبا من الأجزاء والأبعاض لكان محتاجا إليها وذلك يمنع من كونه غنيا على الإطلاق، فثبت بهذه الوجوه أن القول بإثبات الأعضاء والأجزاء لله محال، ولما ثبت بالدلائل اليقينية وجوب تنزيه الله تعالى، عن هذه الأعضاء، فنقول ذكر العلماء في لفظ اليد وجوها الأول: أن اليد عبارة عن القدرة تقول العرب ما لي بهذا الأمر من يد، أي من قوة وطاقة، قال تعالى: * (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * (البقرة: 237)،
230

الثاني: اليد عبارة عن النعمة يقال أيادي فلان في حق فلان ظاهرة والمراد النعم والمراد باليدين النعم الظاهرة والباطنة أو نعم الدين والدنيا الثالث: أن لفظ اليد قد يزاد للتأكيد كقول القائل لمن جنى باللسان هذا ما كسبت يداك وكقوله تعالى: * (بشرا بين يدي رحمته) * (الأعراف: 57).
ولقائل أن يقول حمل اليد على القدرة ههنا غير جائز، ويدل عليه وجوه الأول: أن ظاهر الآية يقتضي إثبات اليدين، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لزم إثبات قدرتين لله وهو باطل والثاني: أن الآية تقتضي أن كون آدم مخلوقا باليدين يوجب فضيلته وكونه مسجودا للملائكة، فلو كانت اليد عبارة عن القدرة لكان آدم مخلوقا بالقدرة، لكن جميع الأشياء مخلوقة بقدرة الله تعالى فكما أن آدم عليه السلام مخلوق بيد الله تعالى، فكذلك إبليس مخلوق بيد الله تعالى، وعلى تقدير أن تكون عبارة عن القدرة، لم تكن هذه العلة علة لكون آدم مسجودا لإبليس أولى من أن يكون إبليس مسجودا لآدم، وحينئذ يختل نظم الآية ويبطل الثالث: أنه جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: " كلتا يديه يمنى " ومعلوم أن هذا الوصف لا يليق بالقدرة.
وأما التأويل الثاني: وهو حمل اليدين على النعمتين فهو أيضا باطل لوجوه الأول: أن نعم الله تعالى كثيرة كما قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * (إبراهيم: 34) وظاهر الآية يدل على أن اليد لا تزيد على الإثنتين الثاني: لو كانت اليد عبارة عن النعمة فنقول النعمة مخلوقة لله فحينئذ لا يكون آدم مخلوقا لله تعالى بل يكون مخلوقا لبعض المخلوقات، وذلك بأن يكون سببا لمزيد النقصان أولى من أن يكون سببا لمزيد الكمال الثالث: لو كانت اليد عبارة عن النعمة لكان قوله: * (تبارك الذي بيده الملك) * (الملك: 1) معناه تبارك الذي بنعمته الملك ولكان قوله: " بيدك الخير " معناه بنعمتك الخير ولكان قوله: * (يداه مبسوطتان) * (المائدة: 64) معناه نعمتان مبسوطتان، ومعلوم أن كل ذلك فاسد.
وأما التأويل الثالث: وهو قوله إن لفظ اليد قد يذكر زيادة لأجل التأكيد فنقول لفظ اليد قد يستعمل في حق من يكون هذا العضو حاصلا له وفي حق من لا يكون هذا العضو حاصلا في حقه أما الأول: فكقولهم في حق من جنى بلسانه هذا ما كسبت يداك والسبب في هذا أن محل القدرة هو اليد فطلق اسم اليد على القدرة، وعلى هذا التقدير فيصير المراد من لفظ اليد القدرة، وقد تقدم إبطال هذا الوجه وأما الثاني: فكقوله * (بين يدي عذاب شديد) * (سبأ: 46) وقوله: (بين يدي الساعة) إلا أنا نقول هذا المجاز بهذا اللفظ مذكور والمجاز لا يقاس عليه ولا يكون مطردا، فلا جرم لا يجوز أن يقال إن هذا المعنى إنما حصل بيد العذاب وبيد الساعة، ونحن نسلم أن قوله: * (لا تقدموا بين يد الله ورسوله) * (الحجرات: 1) قد يجوز أن يراد به التأكيد والصلة، أما المذكور في هذه الآية ليس هذا اللفظ بل قوله تعالى: * (خلقت بيدي) * وإن كان القياس في المجازات باطلا فقد سقط كلامكم بالكلية، فهذا منتهى البحث في هذا الباب.
والذي تلخص عندي في هذا الباب أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيده إلا إذا كانت
231

غاية عنايته مصروفة إلى ذلك العمل، فإذا كان العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنه عند قيام الدلائل القاهرة. فهذا ما لخصناه في هذا الباب، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (استكبرت أم كنت من العالين) * فالمعنى: استكبرت الآن أم كنت أبدا من المتكبرين العالين، فأجاب إبليس بقوله: * (أنا خير من خلقتني من نار وخلقته من طين) * فالمعنى أني لو كنت مساويا له في الشرف لكان يقبح أمري بسجودي له فكيف وأنا خير منه ثم بين كونه خيرا منه بأن أصله من النار والنار أشرف من الطين، فصح أن أصله خير من أصل آدم ومن كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه فهذه مقدمات ثلاثة: المقدمة الأولى: أن إبليس مخلوق من النار، يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * وقوله تعالى: * (والجان خلقناه من قبل من نار السموم) * (الحجر: 27).
المقدمة الثانية: أن النار أفضل من الطين ويدل عليه وجوه الأول: أن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية والنار أقرب العناصر من الفلك والأرض أبعدها عنه فوجب كون النار أفضل من الأرض الثاني: أن النار خليفة الشمس والقمر في إضاءة هذا العالم عند غيبتهما والشمس والقمر أشرف من الأرض، فخليفتهما في الإضاءة أفضل من الأرض الثالث: أن الكيفية الفاعلة الأصلية، إما الحرارة أو البرودة والحرارة أفضل من البرودة لأن الحرارة تناسب الحياة والبرودة تناسب الموت الرابع: الأرض كثيفة والنار لطيفة واللطافة أشرف من الكثافة الخامس: النار مشرقة والأرض مظلمة والنور خير من الظلمة السادس: النار خفيفة تشبه الروح والأرض ثقيلة تشبه الجسد والروح أفضل من الجسد فالنار أفضل من الأرض ولذلك فإن الأطباء أطبقوا على أن العنصرين الثقيلين أعون على تركيب الأجساد وأن العنصرين الخفيفين
أعون على تولد الأرواح السابع: النار صاعدة والأرض هابطة والصاعد أفضل من الهابط الثامن: أن أول بروج الفلك هو الحمل لأنه هو الذي يبدأ من نقطة الاستواء الشمالي، ثم إن الحمل على طبيعة النار وأشرف أعضاء الحيوان والقلب والروح وهما على طبيعة النار وأخس أعضاء الحيوان هو العظم وهو بارد يابس أرضي التاسع: أن الأجسام الأرضية كلما كانت أشد نورانية ومشابهة بالنار كانت أشرف وكلما كانت أكثر غبرة وكثافة وكدورة ومشابهة بالأرض كانت أخس، مثاله الأجسام الشبيهة بالنار الذهب والياقوت والأحجار الصافية النورانية ومثاله أيضا من الثياب الإبريسم وما يتخذ منه، وأما أن كل ما كان أكثر أرضية وغبرة فهو أخس فالأمر ظاهر العاشر: أن القوة الباصرة قوة في غاية الشرف والجلالة ولا يتم عملها إلا بالشعاع وهو جسم شبيه بالنار الحادي عشر: أن أشرف أجسام العالم الجسماني هو الشمس ولا شك أنه شبيه بالنار في صورته وطبيعته وأثره الثاني عشر: أن النضج والهضم والحياة لا تتم إلا بالحرارة ولولا قوة الحرارة لما تم المزاج وتولدت المركبات الثالث عشر: أن أقوى العناصر
232

الأربعة في قوة الفعل هو النار وأكملها في قوة الانفعال هو الأرض والفعل فضل من الانفعال فالنار أفضل من الأرض. أما القائلون بتفضيل الأرض على النار فذكروا أيضا وجوها الأول: أن الأرض أمين مصلح فإذا أودعتها حبة ردتها إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني: أن الحس البصري أثنى على النار فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث: أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة.
وأما المقدمة الثالثة: فهي أن من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدا وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة وهو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضا بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه، إلا أن الذي لا يكون نسبيا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة، فإن قال قائل هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة؟ وبيان هذا السؤال من وجوه الأول: أن قوله: * (اسجدوا) * أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر، وأيضا فالذين يقولون: إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا للندب احتمالا ظاهرا ومع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر الثاني: هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث: خب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع: هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر الجواب: هب أن صيفة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب، وههنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى: * (استكبرت أم كنت من العالين) * فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر الله وتكليفه وذلك يوجب الكفر. إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى: * (أخرج منها فإنك رجيم) *.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف وههنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما حكي عنه أنه خصص النص بالقياس، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم، وقوله: * (منها) * أي: من الجنة أو من السماوات والرجيم المرجوم وفيه قولان:
233

الأول: أنه مجاز عن الطرد، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمي بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا: الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله: * (رجيم) * على الطرد لكان قوله بعد ذلك: * (وإن عليك لعنتي) * تكرارا والجواب من وجهين الأول: أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السماوات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة الله والثاني: أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله: * (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) * على أن ذلك الطرد يمتد إلى آخر القيامة فيكون هذا فائدة زائدة ولا يكون تكريرا.
والقول الثاني: في تفسير الرجيم أن نحمله على الحقيقة وهو كون الشياطين مرجومين بالشهب والله أعلم. فإن قيل كلمة إلى الإنتهاء الغاية فقوله: * (إلى يوم الدين) * يقتضي انقطاع تلك اللعنة عند مجيء يوم الدين، أجاب صاحب " الكشاف " بأن اللعنة باقية عليه في الدنيا فإذا جاء يوم القيامة جعل مع اللعنة أنواع من العذاب تصير اللعنة مع حضورها منسية.
واعلم أن إبليس لما صار ملعونا قال: * (فأنظرني إلى يوم يبعثون) * قيل إنما طلب الإنظار إلى يوم يبعثون لأجل أن يتخلص من الموت لأنه إذا نظر إلى يوم البعث لم يمت قبل يوم البعث وعند مجيء يوم البعث لا يموت أيضا فحينئذ يتخلص من الموت فقال تعالى: * (إنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم) * ومعناه إنك من المنظرين إلى يوم يعلمه الله ولا يعلمه أحد سواه، فقال إبليس: * (فبعزتك) * وهو قسم بعزة الله وسلطانه * (لأغوينهم أجمعين) * فههنا أضاف الإغواء إلى نفسه وهو على مذهب القدر وقال مرة أخرى: * (رب بما أغويتني) * فأضاف الإغواء إلى الله على ما هو مذهب الجبر وهذا يدل على أنه متحير في هذه المسألة.
وأما قوله: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * ففيه فوائد:
الفائدة الأولى: قيل غرض إبليس من ذكره هذا الاستثناء أن لا يقع في كلامه الكذب لأنه لو لم يذكر هذا الاستثناء وادعى أنه يغوي الكل لكان يظهر كذبه حين يعجز عن إغواء عباد الله الصالحين، فكأن إبليس قال: إنما ذكرت هذا الاستثناء لئلا يقع الكذب في هذا الكلام، وعن هذا يقال: إن الكذب شيء يستنكف منه إبليس فكيف يليق بالمسلم الإقدام عليه؟ فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقي الشيطان في أمنيته) *؟ (الحج: 52
) قلنا: إن إبليس لم يقل إني لم أقصد إغواء عباد الله الصالحين بل قال: لأغوينهم وهو وإن كان يقصد الإغواء إلا أنه لا يغويهم.
الفائدة الثانية: هذه الآية تدل على أن إبليس لا يغوي عباد الله المخلصين، وقال تعالى في صفة يوسف: * (إنه من عبادنا المخلصين) * (يوسف: 24) فنصل من مجموع هاتين الآيتين أن إبليس ما أغوي يوسف عليه السلام، وذلك يدل على كذب الحشوية فيما ينسبون إلى يوسف عليه السلام من القبائح. واعلم أن إبليس لما ذكر هذا الكلام قال الله تعالى: * (فالحق والحق أقول لأملأن جهنم وممن تبعك منهم أجمعين) * وفيه مسائل:
234

المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة * (فالحق) * بالرفع * (والحق) * بالنصب، والباقون بالنصب فيهما. أما الرفع فتقديره فالحق قسمي. وأما النصب فعلى القسم، أي فبالحق، كقولك والله لأفعلن. وأما قوله: * (والحق أقول) * انتصب قوله: * (والحق) * بقوله: * (أقول) *.
المسألة الثانية: قوله: * (منك) * أي من جنسك، وهم الشياطين * (وممن تبعك منهم) * من ذرية آدم، فإن قيل قوله: * (أجمعين) * تأكيد لماذا؟ قلنا, يحتمل أن يؤكد به الضمير في * (منهم) *، أو الكاف في * (منك) * مع من تبعك، ومعناه لأملأن جهنم من المتبوعين والتابعين لا أترك منهم أحدا.
المسألة الثالثة: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة أن الكل بقضاء الله من وجوه الأول: أنه تعالى قال في حق إبليس: * (فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) * فهذا إخبار من الله تعالى بأنه لا يؤمن، فلو آمن لانقلب خبر الله الصدق كذبا وهو محال، فكان صدور الإيمان منه محالا مع أنه أمر به والثاني: أنه قال: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * فالله تعالى علم منه أنه يغويهم، وسمع منه هذه الدعوى، وكان قادرا على منعه عن ذلك، والقادر على المنع إذا لم يمنع كان راضيا به، فإن قالوا: لعل ذلك المنع مفسد، قلنا: هذا قول فاسد، لأن ذلك المنع يخلص إبليس عن الإضلال، ويخلص بني آدم عن الضلال، وهذا عين المصلحة الثالث: أنه تعالى أخبر أنه يملأ جهنم من الكفرة، فلو لم يكفروا لزم الكذب والجهل في حق الله تعالى الرابع: أنه لو أراد أن لا يكفر الكافر لوجب أن يبقى الأنبياء والصالحين، وأن يميت إبليس والشياطين، وحيث قلب الأمر علمنا أنه فاسد الخامس: أن تكليف أولئك الكفار بالإيمان، يقتضي تكليفهم بالإيمان بهذه الآيات التي هي دالة على أنهم لا يؤمنون البتة، وحينئذ يلزم أن يصيروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون البتة، وذلك تكليف بما لا يطاق، والله أعلم.
قوله تعالى
* (قل مآ أسالكم عليه من أجر ومآ أنآ من المتكلفين * إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حين) *
اعلم أن الله تعالى ختم هذه السورة بهذه الخاتمة الشريفة، وذلك لأنه تعالى ذكر طرقا كثيرة دالة على وجوب الاحتياط في طلب الدين، ثم قال عند الختم: هذا الذي أدعو الناس إليه يجب أن ينظر في حال الداعي، وفي حال الدعوة ليظهر أنه حق أبو باطل. أما الداعي وهو أنا. فأنا لا أسألكم على هذه الدعوة أجرا ومالا، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طعمه عن طلب المال البتة، وكان من الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان بعيدا عن الدنيا عديم الرغبة فيها، وأما كيفية الدعوة
235

فقال: وما أنا من المتكلفين، والمفسرون ذكروا فيه وجوها، والذي يغلب على الظن أن المراد أن هذا الذي أدعوكم إليه دين ليس يحتاج في معرفة صحته إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد صريح العقل بصحته، فإني أدعوكم إلى الإقرار بوجود الله أولا: ثم أدعوكم ثانيا: إلى تنزيهه وتقديسه عن كل ما لا يليق به، يقوي ذلك قوله: * (ليس كمثله شيء) * وأمثاله، ثم أدعوكم ثالثا: إلى الإقرار بكونه موصوفا بكمال العلم والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم رابعا: إلى الإقرار بكونه منزها عن الشركاء والأضداد، ثم أدعوكم خامسا: إلى الإمتناع عن عبادة هذه الأوثان، التي هي جمادات خسيسة ولا منفعة في عبادتها ولا مضرة في الإعراض عنها، ثم أدعوكم سابعا: إلى الإقرار بالبعث والقيامة: * (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * (النجم: 31) ثم أدعوكم ثامنا: إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، فهذه الأصول الثمانية، هي الأصول القوية المعتبرة في دين الله تعالى، ودين محمد صلى الله عليه وسلم وبداهة العقول، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة التي أدعو الخلق إليها. بل كان عقل سليم وطبع مستقيم، فإنه يشهد بصحتها وجلالتها، وبعدها عن الباطل والفساد وهو المراد من قوله: * (إن هو إلا ذكر للعالمين) * ولما بين هذه المقدمات قال: * (ولتعلمن نبأه بعد حين) * والمعنى أنكم إن أصررتم على الجهل والتقليد، وأبيتم قبول هذه البيانات التي ذكرناها، فستعلمون بعد حين أنكم كمنتم مصيبين في هذا الإعراض أو مخطئين، وذكر مثل هذه الكلمة بعد تلك البيانات المتقدمة مما لا مزيد عليه في التخويف والترهيب، والله أعلم.
236

سورة غافر
سبعون وخمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إنآ أنزلنآ إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أوليآء ما نعبدهم إلا ليقربونآ إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فى ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار * لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشآء سبحانه هو الله الواحد القهار) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الفراء والزجاج: في رفع * (تنزيل) * وجهين أحدهما: أن يكون قوله: * (تنزيل) * مبتدأ وقوله: * (من الله العزيز الحكيم) * خبر الثاني: أن يكون التقدير هذا تنزيل الكتاب، فيضمر المبتدأ كقوله: سورة أنزلناها) * (النور: 1) أي هذه سورة، قال بعضهم: الوجه الأول لوجوه الأول: أن الإضمار
خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا لضرورة، ولا ضرورة ههنا الثاني: أنا إذا قلنا: * (تنزيل الكتاب من الله) * جملة تامة من المبتدأ والخبر أفاد قائدة شريفة، وهي أن تنزيل
237

الكتاب يكون من الله، لا من غيره وهذا الحصر معنى معتبر، أما إذا أضمرنا المبتدأ لم تحصل هذه الفائدة الثالث: أنا إذا أضمرنا المبتدأ صار التقدير هذا تنزيل الكتاب من الله، وحينئذ يلزمنا مجاز آخر، لأن هذا إشارة إلى السورة، والسورة ليست نفس التنزيل، بل السورة منزلة، فحينئذ يحتاج إلى أن نقول المراد من المصدر المفعول وهو مجاز تحملناه لا لضرورة.
المسألة الثانية: القائلون بخلق القرآن احتجوا بأن قالوا: إنه تعالى وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمحدث المخلوق والجواب: أنا نحمل هذه اللفظة على الصيغ والحروف.
المسألة الثالثة: الآيات الكثير تدل على وصف القرآن بكونه تنزيلا وآيات أخر تدل على كونه منزلا.
أما الأول: فقوله تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين) * (الشعراء: 192)، وقال: * (تنزيل من حكيم حميد) * (فصلت: 42) وقال: * (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم) * (فصلت: 1، 2). وأما الثاني: فقوله: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9) وقال: * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * (الإسراء: 105) وأنت تعلم أن كونه منزلا أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلا، فكونه منزلا مجاز أيضا لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات الله فهو لا يقبل الإنفصال والنزول، وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول، بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة، وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى: عزيزا حكيما يدل على هذه الصفات الثلاثة، العلم بجميع المعلومات، والقدرة على كل الممكنات، والإستغناء عن كل الحاجات، فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح، وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصوابا. إذا ثبت هذا فنقول الإنتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما: أن يعلم أن القرآن كلام الله، والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقا، وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام الله فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام الله والأصل الثاني: أن الله أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها، أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيسا، وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين، وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيما، وثبت أن لا سبيل
238

إلى إثبات كونه حكيما إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزا، فلهذا السبب قال: تنزيل الكتاب من الله العزيم الحكيم) *.
أما قوله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجما على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب: إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكما كليا جزما بأن يوصل إليك هذا الكتاب، وهذا هو الإنزال، ثم أوصلناه نجما إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) *؟ والجواب: فيه وجهان الأول: المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبسا بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني: أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن الكتاب نازل من عند الله، وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا لما عجزوا عن معارضته.
ثم قال: * (فاعبد الله مخلصا له الدين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما بين في قوله: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق) * أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف ها بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير الله تعالى بالكلية، فأما اشتغاله بعبادة الله تعالى على سبيل الإخلاص فهو المراد من قوله تعالى: * (فاعبد الله مخلصا) *، وأما براءته من عبادة غير الله تعالى فهو المراد بقوله: * (ألا لله الدين الخالص) * لأن قوله: * (ألا لله) * يفيد الحصر، ومعنى الحصر أن يثبت الحكم في المذكور وينتفي عن غير المذكور، واعلم أن العبادة مع الإخلاص لا تعرف حقيقة إلا إذا عرفنا أن العبادة ما هي وأن الإخلاص ما هو وأن الوجوه المنافية للإخلاص ما هي فهذه أمور ثلاثة لا بد من البحث عنها:
أما العبادة: فهي فعل أو قول أو ترك فعل أو ترك قول ويؤتي به لمجرد اعتقاد أن الأمر به عظيم يجب قبوله.
وأما الإخلاص: فهو أن يكون الداعي له إلى الإتيان بذلك الفعل أو الترك مجرد هذا الانقياد والامتثال، فإن حصل منه داع آخر فإما أن يكون جانب الداعي إلى الطاعة راجحا على الجانب الآخر أو معادلا له أو مرجوحا. وأجمعوا على أن المعادل والمرجوح ساقط، وأما إذا كان الداعي إلى طاعة الله راجحا على الجانب الآخر فقد اختلفوا في أنه هل يفيد أم لا، وقد ذكرنا هذه المسألة مرارا ولفظ القرآن يدل على وجوب الإتيان به على سبيل الخلوص، لأن قوله: * (فاعبد الله مخلصا) *
239

صريح في أنه يجب الإتيان بالعبادة على سبيل الخلوص وتأكد هذا بقوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعدوا الله مخلصين له الدين) * (البينة: 5) وأما بيان الوجوه
المنافية للإخلاص فهي الوجوه الداعية للشريك وهي أقسام أحدها: أن يكون للرياء والسمعة فيه مدخل وثانيها: أن يكون مقصودة من الإتيان بالطاعة الفوز بالجنة والخلاص من النار وثالثها: أن يأتي بها ويعتقد أن لها تأثيرا في إيجاب الثواب أو دفع العقاب ورابعها: وهو أن يخلص الطاعات عن الكبائر حتى تصير مقبولة، وهذا القول إنما يعتبر على قول المعتزلة.
المسألة الثانية: من الناس من قال: فاعبد الله مخلصا له الدين) * المراد منه شهادة أن لا إله إلا الله، واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا إله إلا الله حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي " وهذا قول من يقول: لا تضر المعصية مع الإيمان كما لا تنفع الطاعة مع الكفر، وأما الأكثرون فقالوا: الآية متناولة لكل ما كلف الله به من الأوامر والنواهي، وهذا الأولى لأن قوله: * (فاعبد الله) * عام، وروي أن امرأة الفرزدق لما قرب وفاتها وأصت أن يصلي الحسن البصري عليها، فلما صلى عليها ودفنت، قال للفرزدق: يا أبا فراس ما الذي أعددت لهذا الأمر؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، فقال الحسن رضي الله عنه: هذا العمود فأين الطنب؟ فبين بهذا أن عمود الخيمة لا ينتفع به إلا مع الطنب حتى يمكن الانتفاع بالخيمة، قال القاضي: فأما ما يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي الدرداء: " وإن زني وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء " فإن صح فإنه يجب أن يحمل عليه بشرط التوبة وإلا لم يجز قبول هذا الخبر لأنه مخالف للقرآن، ولأنه يوجب أن لا يكون الإنسان مزجورا عن الزنا والسرقة، وأن لا يكون متعديا بفعلهما لأنه مع شدة شهوته للقبيح يعلم أنه لا يضره مع تمسكه بالشهادتين فكأن ذلك إغراء بالقبيح، لأنا نقول إن من اعتقد أن ضرره يزول بالتوبة فقد اعتقد أن فعل القبيح مضرة إلا أنه يزيل ذلك الضرر بفعل التوبة بخلاف قول من يقول إن فعل القبيح لا يضر مع التمسك بالشهادتين. هذا تمام كلام القاضي، فيقال له: أما قولك إن القول بالمغفرة مخالف للقرآن فليس كذلك بل للقرآن يدل عليه قال تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وقال: * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * (الرعد: 6) أي: حال ظلمهم كما يقال رأيت الأمير على أكله وشربه أي حال كونه آكلا وشاربا، وقال: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53)، وأما قوله: إن ذلك يوجب الإغراء بالقبيح، فيقال له إن كان الأمر كذلك وجب أن يقبح غفرانه عقلا، وأيضا فيلزم عليه أن لا يحصل الغفران بالتوبة، لأنه إذا علم أنه إذا أذنب ثم تاب غفر الله له لم ينزجر وأما
240

الفرق الذي ذكره القاضي فبعيد، لأنه إذا عزم على أن يتوب عنه في الحال علم أنه لا يضره ذلك الذنب البتة. ثم نقول مذهبنا أنا نقطع بحصول العفو عن الكبائر في الجملة، فأما في حق كل واحد من الناس فذلك مشكوك فيه لأنه تعالى قال: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * فقطع بحصول المغفرة في الجملة، إلا أنه سبحانه وتعالى لم يقطع بحصول هذا الغفران في حق كل أحد بل في حق من شاء وإذا كان كذلك كان الخوف حاصلا فلا يكون الإغراء حاصلا والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف " قرئ الدين بالرفع، ثم قال: وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا بفتح اللام لقوله تعالى: * (وأخلصوا دينهم لله) * (النساء: 146) حتى يطابق قوله: * (ألا لله الدين الخالص) * والخالص واحد إلا أنه وصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازي كقولهم شعر شاعر، واعلم أنه تعالى لما بين أن رأس العبادات ورئيسها الإخلاص في التوحيد أردفه بذم طريقة المشركين فقال: * (والدين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * وتقدير الكلام والذين اتخذوا من دونه أولياء يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وعلى هذا التقدير فخبر الذين محذوف وهو قوله يقولون، واعلم أن الضمير في قوله: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * عائد على الأشياء التي عبدت من دون الله، وهي قسمان العقلاء وغير العقلاء، أما العقلاء فهو أن قوما عبدوا المسيح وعزيزا والملائكة، وكثير من الناس يعبدون الشمس والقمر والنجوم ويعتقدون فيها أنها أحياء عاقلة ناطقة، وأما الأشياء التي عبدت مع أنها ليست موصوفة بالحياة والعقل فهي الأصنام، إذا عرفت هذا فنقول الكلام الذي ذكره الكفار لائق بالعقلاء، أما بغير العقلاء فلا يليق، وبيانه من وجهين الأول: أن الضمير في قوله: * (ما نعبدهم) * ضمير للعقلاء فلا يليق بالأصنام الثاني: أنه لا يبعد أن يعتقد أولئك الكفار أنها تقربه إلى الله، وعلى هذا التقدير فمرادهم أن عبادتهم لها تقربهم إلى الله، ويمكن أن يقال: إن العاقل لا يبعد الصنم من حيث إنه خشب أو حجر، وإنما يعبدونه لاعتقادهم أنها تماثيل الكواكب أو تماثيل الأرواح السماوية، أو تماثيل الأنبياء والصالحين الذين مضوا، ويكون مقصودهم من عبادتها توجيه تلك العبادات إلى تلك الأشياء التي جعلوا هذه التماثيل صورا لها.
وحاصل الكلام لعباد الأصنام أن قالوا: إن الإله الأعظم أجل من أن يعبده البشر اللائق بالبشر أن يشتغلوا بعبادة الأكابر من عباد الله مثل الكواكب ومثل الأرواح السماوية، ثم إنها تشتغل بعبادة الإله الأكبر، فهذا هو المراد من قولهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) *.
واعلم أن الله تعالى لما حكى مذاهبهم أجاب عنها من وجوه: الأول: أنه اقتصر في الجواب على مجرد التهديد فقال: * (إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون) * واعلم أن الرجل المبطل إذا ذكر مذهبا باطلا وكان مصرا عليه، فالطريق في علاجه أن يحتال بحيلة توجب زوال ذلك الإصرار عن
241

قلبه، فإذا زال الإصرار عن قلبه فبعد ذلك يسمعه الدليل الدال على بطلانه، فيكون هذا الطريق أقضى إلى المقصود. والأطباء يقولون: لا بد من تقديم المنضج على سقي المسهل فإن بتناول المنضج تصير المواد الفاسدة رخوة قابلة للزوال، فإذا سقيته المسهل بعد ذلك حصل النقاء التام، فكذلك ههنا سماع التهديد والتخويف أولا يجري مجرى سقي المنضج أولا، وإسماع الدليل ثانيا يجري مجرى سقي المسهل ثانيا. فهذا هو الفائدة في تقديم هذا التهديد.
ثم قال تعالى: * (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) * والمراد أن من أصر على الكذب والكفر بقي محروما عن الهداية، والمراد بهذا الكذب وصفهم بهذه الأصنام بأنها آلهة مستحقة للعبادة مع علمهم بأنها جمادات خسيسة وهم نحتوها وتصرفوا فيها، والعلم الضروري حاصل بأن وصف هذه الأشياء بالإلهية كذب محض، وأما الكفر فيحتمل أن يكون المراد منه الكفر الراجع إلى الإعتقاد، والأمر ههنا كذلك فإن وصفهم لها بالإلهية كذب، واعتقادهم فيها بالإلهية جهل وكفر. ويحتمل أن يكون المراد
كفران النعمة، والسبب فيه أن العبدة نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وذلك المنعم هو الله سبحانه وتعالى وهذه الأوثان لا مدخل لها في ذلك الإنعام فالاشتغال بعبادة هذه الأوثان يوجب كفران نعمة المنعم الحق.
ثم قال تعالى: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) * والمراد من هذا الكلام: إقامة الدلائل القاهرة على كونه منزها عن الولد وبيانه من وجوه الأول: أنه لو اتخذ ولدا لما رضي إلا بأكمل الأولاد وهو الابن فكيف نسبتم إليه البنت الثاني: أنه سبحانه واحد حقيقي والواحد الحقيقي يمتنع أن يكون له ولد، أما أنه واحد حقيقي فلأنه لو كان مركبا لاحتاج إلى كل واحد من أجزائه وجزؤه غيره، فكان يحتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يكون واجب الوجود لذاته، وأما أن الواحد لا يكون له ولد فلوجوه الأول: أن الولد عبارة عن جزء من أجزاء الشيء ينفصل عنه، ثم يحصل له صورة مساوية لصورة الوالد. وهذا إنما يعقل في الشيء الذي ينفصل منه جزء والفرد المطلق لا يقال ذلك فيه الثاني: شرط الولد أن يكون مماثلا في تمام الماهية للوالد فتكون حقيقة ذلك الشيء حقيقة نوعية محمولة على شخصين، وذلك محال لأن تعيين كل واحد منهما إن كان من لوازم تلك الماهية لزم أن لا يحصل من تلك الماهية إلا الشخص الواحد، وإن لم يكن ذلك التعيين من لوازم تلك الماهية كان ذلك التعيين معلوما بسبب منفصل، فلا يكون إلها واجب الوجود لذاته. فثبت أن كونه إلها واجب الوجود لذاته يوجب كونه واحدا في حقيقته، وكونه واحدا في حقيقته يمنع من ثبوت الولد له، فثبت أن كونه واحدا يمنع من ثبوت الولد الثالث: أن الولد لا يحصل إلا من الزوج والزوجة والزوجان لا بد وأن يكونا من جنس واحد، فلو كان له ولد لما كان واحدا بل كانت زوجته من جنسه، وأما أن كونه قهارا يمنع من ثبوت الولد له، فلأن المحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيحتاج
242

إلى ولد يقوم مقامه، فالمحتاج إلى الولد هو الذي يكون مقهورا بالموت، أما الذي يكون قاهرا ولا يقهره غيره كان الولد في حقه محالا، فثبت أن قوله: * (هو الله الواحد القهار) * ألفاظ مشتملة على دلائل قاطعة في نفي الولد عن الله تعالى.
قوله تعالى
* (خلق السماوات والارض بالحق يكور اليل على النهار ويكور النهار على اليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى ألا هو العزيز الغفار * خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج يخلقكم فى بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق فى ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون * إن تكفروا فإن الله غنى عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور) *
اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا وقهارا غالبا أي: كامل القدرة، فلما بني تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء، وأيا فإنه تعالى طعن في إلهية الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في
243

إثبات إلهيته، إما أن تكون فلكية أو عنصرية، أما الفلكية فأقسام أحدها: خلق السماوات والأرض، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى: * (الحمد الله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1) والثاني: اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد ههنا من قوله: * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) * وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة، وذلك هذا أخرى. وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان. تحت تدبيره وقهره وهو الله سبحانه وتعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث: " نعوذ الله من الحور بعد الكور " أي: من الإدبار بعد الإقبال، واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله: * (يكور الليل على النهار) * وبقوله: * (يغشى الليل النهار) * (الأعراف: 54) وبقوله: * (يولج الليل في النهار) * (فاطر: 13) وبقوله: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر) * (الفرقان: 62) والثالث: اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل، وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله: كل يجري لأجل مسمى) * الأجل المسمى يوم القيامة، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، ونظيره قوله تعالى: * (وجمع الشمس والقمر) * (القيامة: 9) والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطري السماء كطي السجل للكتب.
ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال: * (ألا هو العزيز الغفار) * والمعنى: أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزا أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفارا يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة، ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل، فبدأ بذكر الإنسان فقال: * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) * ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مرارا كثيرة، فإن قيل كيف جاز أن يقول: * (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) * والزوج مخلوق قبل خلقهم؟ أجابوا عنه من وجوه الأول: أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية، فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر، كقول القائل بلغني ما صنعت اليوم، ثم ما صنعت أمس كان أعجب، ويقول أيضا قد أعطيتك اليوم شيئا، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر الثاني: أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ثم جعل منها زوجها الثالث: أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ثم خلق بعد ذلك حواء.
واعلم أنه تعالى بما ذكر الاستدلال بخلقة الإنسان على وجود الصانع ذكر عقيبه الاستدلال
244

بوجود الحيوان عليه فقال: * (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) * وهي الإبل والبقر والضأن والمعز وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله: * (والأنعام خلقها لكم فيها دفء) * (النحل: 5) وفي تفسير قوله تعالى: * (وأنزل لكم) * وجوه: الأول: أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوظ كال كائن يكون الثاني: أن شيئا من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب، والماء ينزل من السماء فصار التقدير كأنه أنزلها الثالث: أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض وقوله: * (ثمانية أزواج) * أي ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز، والزوج اسم لكل واحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد منه قال تعالى: * (فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى) * (القيامة: 39).
ثم قال تعالى: * (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) * وفيه أبحاث:
الأول: قرأ حمزة بكسر الألف والميم، والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم، والباقون أمهاتكم بضم الألف وفتح الميم.
الثاني: أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام أردفه بتخليق الأنعام، وإنما خصها بالذكر لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان، ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم وقوله: * (خلقا من بعد خلق) * المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 12 - - - - 14) وقوله: * (في ظلمات ثلاثة) * قيل: الظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة وقيل: الصلب والرحم والبطن ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال: * (ذلك الله ربكم) * أي: ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم، وفي هذه الآية: دلالة على كونه سبحانه وتعالى منزها عن الأجزاء والأعضاء وعلى كونه منزها عن الجسمية والمكانية، وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلا لهذه الأشياء، ولو كان جسما مركبا من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفا للشيء بأجزاء حقيقته، وأما كان ذلك القسم ممكنا لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيرا ونقصا وذلك غير جائز، فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود، وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعاليا عن الجسمية والأعضاء والأجزاء. ثم قال تعالى: * (له الملك) * وهذا يفيد الحصر أي له الملك لا لغيره، ولما ثبت أنه لا ملك
245

إلا له وجب القول بأنه لا إله إلا هو لأنه لو ثبت إله آخر، فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك، فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكا قادرا ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وذلك محال، وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصا ولا يصلح للإلهية، فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا الله، وجب أن يقال لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد، ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله سبحانه وحكمته ورحمته، رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه الأول: قوله: * (فأنى تصرفون) * يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة. أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية: أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات بل صرفها عنهم غيرهم، وما ذاك الغير إلا الله، وأيضا فدليل العقل يقوي ذلك لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب، فلما لم يحصل ذلك وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه، وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم: أن قوله: * (فأنى تصرفون) * تعجب من هذا الانصراف، ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى.
ثم قال تعالى: * (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) * والمعنى أن الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة أو ليدفع عن نفسه مضرة، وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق، ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة، وإنما قلنا إنه غني لوجوه: الأول: واجب الوجود لذاته وواجب الوجود في جميع صفاته، ومن كان كذلك كان غنيا على الإطلاق الثاني: أنه لو كان محتاجا لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة. والأول باطل وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجا إليه وذلك محال، لأن الخلق والأزل متناقض. والثاني باطل لأن الحاجة نقصان والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه الثالث: هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا؟ أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو، وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك، فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل فإن الله غني عنهم.
ثم قال تعالى بعده: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر، واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين: الأول: أن المجبرة يقولون إن الله تعالى خلق كفر العباد وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب، قال ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضى الكفر من الوجه الذي خلقه، وذلك ضد الآية الثاني: لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به لأن الرضا بقضاء الله تعالى واجب، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بالكفر كفر ثبت أنه ليس بقضاء الله وليس أيضا برضاء الله تعالى، وأجاب
246

الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه الأول: أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين، قال الله تعالى: * (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا) * (الفرقان: 63) وقال: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) وقال: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42) فعلى هذا التقدير
قوله: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * ولا يرضى للمؤمنين الكفر، وذلك لا يضرنا الثاني: أنا نقول الكفر بإرادة الله تعالى ولا نقول إنا برضا الله لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله، قال الله تعالى: * (لقد رضي الله عن المؤمنين) * (الفتح: 18) أي يمدحهم ويثني عليهم الثالث: كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول: الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض، وليس عبارة عن الإرادة، والديل عليه قول ابن دريد: رضيت قسرا وعلى القسر رضا من كان ذا سخط على صرف القضا أثبت الرضا مع القسر وذلك يدل على ما قلناه والرابع: هب أن الرضا هو الإرادة إلا أن قوله: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * عام، فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * (الإنسان: 30) والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وإن تشكروا يرضه لكم) * والمراد أنه لما بين أنه لا يرضى الكفر بين أنه يرضى الشكر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلف القراء في هاء * (يرضه) * على ثلاثة أوجه أحدها: قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء مختلسة غير متبعة وثانيها: قرأ أبو عمرو وحمزة في بعض الروايات يرضه ساكنة الهاء للتخفيف وثالثها: قرأ نافع في بعض الروايات ابن كثير وابن عامر والكسائي مضمومة الهاء مشبعة، قال الواحدي رحمه الله من القراء من أشبع الهاء حتى ألحق بها واوا، لأن ما قبل الهاء متحرك فصار بمنزلة ضربه وله، فكما أن هذا مشبع عند الجميع كذلك يرضه، ومنهم من حرك الهاء ولم يلحق الواو، لأن الأصل يرضاه والألف المحذوفة للجزم ليس يلزم حذفها فكانت كالباقية، ومع بقاء الألف لا يجوز إثبات الواو فكذا ههنا.
المسألة الثانية: الشكر حالة مركبة من قول واعتقاد وعمل أما القول فهو الإقرار بحصول النعمة وأما الاعتقاد فهو اعتقاد صدور النعمة من ذلك المنعم.
ثم قال تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * قال الجبائي هذا يدل على أنه تعالى لا يعذب أحدا على فعل غيره، فلو فعل الله كفرهم لما جاز أن يعذبهم عليه، وأيضا لا يجوز أن يعذب الأولاد بذنوب الآباء، بخلاف ما يقول القوم. واحتج أيضا من أنكر وجوب ضرب الدية على العاقلة بهذه الآية.
ثم قال تعالى: * (ثم إلى ربكم مرجعكم) * واعلم أنا ذكرنا كثيرا أن أهم المطالب للإنسان أن يعرف خالقه بقدر الإمكان، وأن يعرف ما يضره وما ينفعه في هذه الحياة الدنيوية، وأن يعرف أحواله بعد الموت، ففي هذه الآية ذكر الدلائل الكثيرة من العالم الأعلى والعالم الأسفل على كمال
247

قدرة الصانع وعلمه وحكمته، ثم أتبعه بأن أمره بالشكر ونهاه ع ن الكفر ثم بين أحواله بعد الموت بقوله: * (ثم إلى ربكم مرجعكم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المشبهة تمسكوا بلفظ إلى علم أن إله العالم في جهة وقد أجبنا عنه مرارا.
المسألة الثانية: زعم القوم أن هذه الأرواح كانت قبل الأجساد وتمسكوا بلفظ الرجوع الموجود في هذه الآية وفي سائر الآيات.
المسألة الثالثة: دلت هذه الآية على إثبات البعث والقيامة.
ثم قال: * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * وهذا تهديد للعاصي وبشارة للمطيع، وقوله تعالى: * (إنه عليم بذات الصدور) * كالعلة لما سبق، يعني أنه يمكنه أن ينبئكم بأعمالكم، لأنه عالم بجميع المعلومات، فيعلم ما في قلوبكم من الدواعي والصوارف، وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أقوالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
* (وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسى ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار * أمن هو قانت ءانآء اليل ساجدا وقآئما يحذر الاخرة ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب) *
اعلم أن الله تعالى لما بين فساد القول بالشرك وبين أن الله تعالى هو الذي يجب أن يعبد، بين في هذه الآية أن طريقة هؤلاء الكفار الذين يعبدون الأصنام متناقضة وذلك لأنهم إذا مسهم نوع من أنواع الضر لم يرجعوا في طلب دفعه إلا إلى الله، وإذا زال ذلك الضر عنهم رجعوا إلى عبادة الأصنام ومعلوم أنهم إنما رجعوا إلى الله تعالى عند حصول الضر، لأنه هو القادر على إيصال الخير ودفع الضر، وإذا عرفوا أن الأمر كذلك في بعض الأحوال كان الواجب عليهم أن يعترفوا
248

به في كل الأحوال فثبت أن طريقتهم في هذا الباب متناقضة.
أما قوله تعالى: * (وإذا مس الإنسان) * فقيل المراد بالإنسان أقوام معينون مثل عتبة بن ربيعة وغيره، وقيل المراد به الكافر الذي تقدم ذكره، لأن الكلام يخرج على معهود، تقدم.
أما قوله * (ضر) * فيدخل فيه جميع المكاره سواء كان في جسمه أو في ماله أو أهله وولده، لأن اللفظ مطلق فلا معنى للتقييد * (ودعا ربه) * أي استجار بربه وناداه ولم يؤمل في كشف الضر سواء، فلذلك قال: * (منيبا إليه) * أي راجعا إليه وحده في إزالة ذلك الضر لأن الإنابة هي الرجوع * (ثم إذا خوله نعمة منه) * أي أعطاه، قال صاحب " الكشاف ": وفي حقيقته وجهان أحدهما: جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال، إذا كان متعهدا له حسن القيام به ومنه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه كان يتخول أصحابه بالموعظة " والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي المعنى قالت العرب: إن الغنى طويل الذيل مياس (c)
ثم قال تعالى: * (نسي ما كان يدعو إليه من قبل) * أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من كقوله تعالى: * (وما خلق الذكر والأنثى) * (الليل: 3) وقوله تعالى: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * (الكافرون: 3) وقوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) وقيل نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه والمراد من قوله نسي أن ترك دعاءه كأنه لم يفزع إلى ربه، ولو أراد به النسيان الحقيقي لما ذمه عليه، ويحتمل أن يكون المراد أنه نسي أن لا يفزع، وأن لا إله سواه فعاد إلى اتخاذ الشركاء مع الله.
ثم قال تعالى: * (وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليضل بفتح الياء والباقون ليضل بضم الياء على معنى ليضل غيره.
المسألة الثانية: المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواء وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه. ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين بما يوجب المناقضة وقلة العقل.
المسألة الثالثة: معنى قوله: * (ليضل عن سبيله) * أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه، واللام في قوله * (ليضل) * لام العاقبة كقوله: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * (القصص: 8) ولما ذكر الله تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال: * (قل تمتع بكفرك قليلا) * وليس المراد منه الأمر بل
249

الزجر، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا، ثم يكون مصيره إلى النار.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين والضالين، ثم تمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا الله ولا اعتماد لهم إلا على فضل الله، فقال: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وحمزة * (أمن) * مخففة الميم والباقون بالتشديد، أما التخفيف ففيه وجهان الأول: أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك، وقيل كالذي جعل لله أندادا فاكتفى بما سبق ذكره والثاني: أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.
المسألة الثانية: القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه قوله: " أفضل الصلاة صلاة القنوت " وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائما. عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا * (أمن هو قانت) * وعن ابن عباس القنوت طاعة الله، لقوله: * (كل له قانتون) * (البقرة: 116) أي مطيعون، وعن قتادة * (آناء الليل) * ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه الأول: أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني: أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة الله وخدمته الثالث: أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع: قوله تعالى: * (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا) * (المزمل: 6) وقوله: * (ساجدا) * حال، وقرئ ساجد وقائم على أنه خبر عبد خبر الواو للجميع بين الصفتين.
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العلم وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما، وأما العلم فقوله: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.
الفائدة الثانية: أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت عبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العلم إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان، وقوله: * (ساجدا وقائما) * إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله: * (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله: * (يحذر الآخرة) * ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله: * (ويرجو رحمة ربه) * ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) *.
250

الفائدة الثالثة: أنه قال في مقام الخوف * (يحذر الآخرة) * فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة الله تعالى.
المسألة الثالثة: قيل المراد من قوله: * (أمن هو قانت آناء الليل) * عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه.
المسألة الرابعة: لا شبهة في أن في الكلام حذفا، والتقدير أمن هو قانت كغيره، وإما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجدا وقياما، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف الله الكفار بأنهم لا يعلمون، لأنهم وإن آتاهم الله العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.
وأما قوله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: * (وعلم آدم الأسماء كلها) * (البقرة: 31) قال صاحب " الكشاف " أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند الله جهلة.
ثم قال تعالى: * (إنما يتذكر أولوا الألباب) * يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء: إنكم تقولون
العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
قوله تعالى
* (قل ياعباد الذين ءامنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب * قل إنى أمرت أن أعبد الله مخلصا
251

له الدين * وأمرت لان أكون أول المسلمين * قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل الله أعبد مخلصا له دينى * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين * لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ياعباد فاتقون) *
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام:
النوع الأول: قوله: * (قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم) * والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية، قال القاضي: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم، لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى، لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمنا مع عدم التقوى، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان.
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد، فقال تعالى: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * فقوله: * (في هذه الدنيا) * يحتمل أن يكون صلة لقوله: * (أحسنوا) * أو لحسنة، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة، وهي دخول الجنة، والتنكير في قوله: * (حسنة) * للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها. وأما على التقدير الثاني: فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن والصحة والكفاية " ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول: أن التنكير في قوله: * (حسنة) * يدل على النهاية والجلالة والرفعة، وذلك لا يليق
252

بأحوال الدنيا، فإنها خسيسة ومنقطعة، وإنما يليق بأحوال الآخرة، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني: أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * وأيضا فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار، وأيضا فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن، كما قال صلى الله عليه وسلم: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " وقال تعالى: * (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون) * (الزخرف: 33)، الثالث: أن قوله: * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * يفيد الحصر، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا، وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى، ثم قال الله تعالى: * (وأرض الله واسعة) * وفيه قولان الأول: المراد أنه لا عذر البتة للمقصرين في الإحسان، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم، وطاعة إلى طاعتهم، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن، ونظيره قوله تعالى: * (قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * (النساء: 97) والقول الثاني: قال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة، وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله، أي جنته واسعة، لقوله تعالى: * (نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * (الزمر: 74) وقوله تعالى: * (وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133) والقول الأول عندي أولى، لأن قوله: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * لا يليق إلا بالأول، وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر، فقد ذكرناه في سورة البقرة، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى.
المسألة الثانية: تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب، لأن الأجر هو المستحق، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرا بحسب الوعد، لا بحسب الاستحقاق.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب، وفيه وجوه الأول: قال الجبائي: المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلا فهو بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابا، قال القاضي هذا ليس بصحيح، لأن الله تعالى وصف الأجر
253

بأنه بغير حساب، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق، والأجر غير التفضل الثاني: أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها: أنها تكون دائمة الأجر لهم، وقوله: * (بغير حساب) * معناه بغير نهاية، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه، فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب وثانيها: أنها تكون منافع كاملة في أنفسها، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب، قال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه، وما لا يتوقعه الإنسان، فقد يقال إنه ليس في حسابه، فقوله: * (بغير حساب) * محمول على هذا المعنى والوجه الثالث: في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال، روى صاحب " الكشاف " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ينصب الله الموازين يوم القيامة،
فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا " قال الله تعالى: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل.
النوع الثاني: من البيانات أمر الله رسوله أن يذكرها قوله تعالى: * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات قومك يعبدون اللات والعزى! فأنزل الله، قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين، وأقول إن التكليف نوعان أحدهما: الأمر بالاحتراز عما لا ينبغي والثاني: الأمر بتحصيل ما ينبغي، والمرتبة الأولى مقدمة على المرتبة الثانية بحسب الرتبة الواجبة اللازمة، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قدم الأمر بإزالة ما ينبغي فقال: * (اتقوا ربكم) * لأن التقوى هي الاحتراز عما لا ينبغي ثم ذكر عقيبه الأمر بتحصيل ما ينبغي فقال: * (إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * وهذا يشتمل على قيدين أحدهما: الأمر بعبادة الله الثاني: كون تلك العبادة خالصة عن شوائب الشرك الجلي وشوائب الشرك الخفي، وإنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أن غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير، وقوله تعالى: * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * لا شبهة في أن المراد إني أول من تمسك بالعبادات التي أرسلت بها، وفي هذه الآية فائدتان:
الفائدة الأولى: كأنه يقول إني لست من الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلون ذلك، بل كل ما أمرتكم به فأنا أول الناس شروعا فيه وأكثرهم مداومة عليه.
الفائدة الثانية: أنه قال: * (إني أمرت أن أعبد الله) * والعبادة لها ركنان عمل القلب وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف من عمل الجوارح، فقدم ذكر الجزء الأشرف وهو قوله: * (مخلصا له الدين) * ثم ذكر عقيبه الأدون وهو عمل الجوارح وهو الإسلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
254

فسر الإسلام في خبر جبريل عليه السلام بالأعمال الظاهرة، وهو المراد بقوله في هذه الآية: * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * وليس لقائل أن يقول ما الفائدة في تكرير لفظ * (أمرت) * لأنا نقول ذكر لفظ * (أمرت) * أولا في عمل القلب وثانيا في عمل الجوارح ولا يكون هذا تكريرا.
الفائدة الثالثة: في قوله: * (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) * التنبيه على كونه رسولا من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ، ولما بين الله تعالى أمره بالإخلاص بالقلب وبالأعمال المخصوصة، وكان الأمر يحتمل الوجوب ويحتمل الندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال: * (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * وفيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن الله أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجري هذا الكلام على نفسه، والمقصود منه المبالغة في زجر الغير عن المعاصي، لأنه مع جلالة قدرة وشرف نبوته إذا وجب أن يكون خائفا حذرا عن المعاصي فغيره بذلك أولى.
الفائدة الثانية: دلت الآية على أن المرتب على المعصية ليس حصول العقاب بل الخوف من العقاب، وهذا يطابق قولنا: إن الله تعالى قد يعفو عن المذنب والكبيرة، فيكون اللازم عند حصول المعصية هو الخوف من العقاب لا نفس حصول العقاب.
الفائدة الثالثة: دلت هذه الآية على أن ظاهر الأمر للوجوب، وذلك لأنه قال في أول الآية: * (إني أمرت أن أعبد الله) * ثم قال بعده: * (قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * فيكون معنى هذا العصيان ترك الأمر الذي تقدم ذكره، وذلك يقتضي أن يكون تارك الأمر عاصيا، والعاصي يترتب عليه الخوف من العقاب، ولا معنى للوجوب إلا ذلك.
النوع الثالث: من الأشياء التي أمر الله رسوله أن يذكرها قوله: * (قل الله أعبد مخلصا له ديني) * فإن قيل ما معنى التكرير في قوله: * (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) * وقوله: * (قل الله أعبد مخلصا له ديني) *؟، قلنا هذا ليس بتكرير لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة، والثاني إخبار بأنه أمر بأن لا يعبد أحدا غيره، وذلك لأن قوله: * (أمرت أن أعبد الله) * لا يفيد الحصر وقوله تعالى: * (قل الله أعبد) * يفيد الحصر يعني الله أعبد ولا أعبد أحدا سواه، والدليل عليه أنه لما قال بعد: * (قل الله أعبد) * قال بعده: * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * ولا شبهة في أن قوله: * (فاعبدوا ما شئتم من دونه) * ليس أمرا بل المراد منه الزجر، كأنه يقول لما بلغ البيان في وجوب رعاية التوحيد إلى الغاية القصوى فبعد ذلك أنتم أعرف بأنفسكم، ثم بين تعالى كمال الزجر بقوله: * (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) * لوقوعها في هلاك لا يعقل هلاك أعظم منه، وخسروا أهليهم أيضا لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة، فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده البتة، وقال ابن عباس: إن لكل رجل
255

منزلا وأهلا وخدما في الجنة، فإن أطاع أعطى ذلك، وإن كان من أهل النار حرم ذلك فخسر نفسه وأهله ومنزله وورثه غيره من المسلمين، والخاسر المغبون، ولما شرح الله خسرانهم وصف ذلك الخسران بغاية الفظاعة فقال: * (ألا ذلك هو الخسران المبين) * كان التكرير لأجل التأكيد الثاني: أنه تعالى ذكر في أول هذه الكلمة حرف ألا وهو للتنبيه، وذكر التنبيه في هذا الموضع يدل على التعظيم كأنه قيل إنه بلغ في العظمة إلى حيث لا تصل عقولكم إليها فتنبهوا لها الثالث: أن كلمة (هو): في قوله: * (هو الخسران المبين) * تفيد الحصر كأنه قيل كل خسران فإنه يصير في مقابلته كلا خسران الرابع: وصفه بكونه (مبينا): يدل على التهويل، وأقول قد بينا أن لفظ الآية يدل على كونه خسرانا مبينا فلنبين فحسب المباحث العقلية كونه خسرانا مبينا، وأقول نفتقر إلى بيان أمرين إلى أن يكون خسرانا ثم كونه مبينا أما الأول: فتقريره أنه تعالى أعطى هذه الحياة وأعطى العقل، وأعطى المكنة وكل ذلك رأس المال، أما هذه الحياة فالمقصود منها أن يكتسب فيها الحياة الطيبة في الآخرة.
وأما العقل فإنه عبارة عن العلوم البديهية وهذه العلوم هي رأس المال والنظر، والفكر لا معنى له إلا ترتيب علوم ليتوصل بذلك الترتيب إلى تحصيل علوم كسبية، فتلك العلوم البديهية المسماة بالعقل رأس المال وتركيبها على الوجوه المخصوصة يشبه تصرف التاجر في رأسه المال وتركيبها على الوجوه بالبيع والشراء، وحصول العلم بالنتيجة يشبه حصول الربح، وأيضا حصول القدرة على الأعمال يشبه رأس المال، واستعمال تلك القوة في تحصيل أعمال البر والخير يشبه تصرف التاجر في رأس المال، وحصول أعمال الخير والبر يشبه الربح، إذا ثبت هذا فنقول: إن من أعطاه الله الحياة والعقل والتمكن، ثم إنه لم يستفد منها لا معرفة الحق ولا عمل الخير البتة كان محروما عن الربح بالكلية، وإذا مات فقد ضاع رأس المال بالكلية فكان ذلك خسرانا، فهذا بيان كونه خسرانا وأما الثاني: وهو بيان كون ذلك الخسران مبينا فهو أن من لم يربح الزيادة ولكنه مع ذلك سلم من الآفات والمضار، فهذا كما لم يحصل له مزيد نفع لم يحصل له أيضا مزيد ضرر، أما هؤلاء الكفار فقد استعملوا عقولهم التي هي رأس مالهم في استخراج وجوه الشبهات وتقوية الجهالات والضلالات، واستعملوا قواهم وقدرهم في أفعال الشر والباطل والفساد، فهم قد جمعوا بين أمور في غاية الرداءة أولها: أنهم أتعبوا أبدانهم وعقولهم طلبا في تلك العقائد الباطلة والأعمال الفاسدة وثانيها: أنهم عند الموت يضيع عنهم رأس المال من غير فائدة وثالثها: أن تلك المتاعب الشديدة التي كانت موجودة في الدنيا في نصرة تلك الضلالات تصير أسبابا للعقوبة الشديدة والبلاء العظيم بعد الموت، وعند الوقوف على هذه المعاني يظهر أنه لا يعقل خسران أقوى من خسرانهم، ولا حرمان أعظم من حرمانهم، ونعوذ بالله منه.
ولما شرح الله تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد، فقال: * (لهم من
256

فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل * (والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان، فإن قيل الظلل ما على الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلل؟ والجواب من وجوه الأول: أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40)، الثاني: أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث: أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء، أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة. قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * (العنكبوت: 55) وقوله تعالى: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * (الأعراف: 41).
ثم قال تعالى: * (ذلك يخوف الله به عباده) * أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله: * (ذلك) * مبتدأ وقوله: * (يخوف الله به عباده) * خبر، وفي قوله: * (يخوف الله به عباده) * قولان الأول: التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف الله به عباده أي المؤمنين، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفا للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني: أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال، لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود تحصيلا لذلك المطلوب الذي هو التكليف، والوجه الأول عندي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده: * (يا عباد فاتقون) * وقوله: * (يا عباد) * الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى.
قوله تعالى
* (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الالباب *
257

أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار * لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجرى من تحتها الانهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد) *
اعلم أن الله تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد أبدا فيحصل كمال الترغيب والترهيب، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": الطاغوت فعلوت من الطغيات كالملكوت والرحموت إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين، وفي هذا اللفظ أنواع من المبالغة أحدها: التسمية بالمصدر كأن عين ذلك الشيء الطغيان وثانيها: أن البناء بناء المبالغة فإن الرحموت الرحمة الواسعة والملكوت الملك المبسوط وثالثها: ما ذكرنا من تقديم اللام على العين ومثل هذا إنما يصار إليه عند المبالغة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن المراد من الطاغوت ههنا الشيطان أم الأوثان، فقيل إنه الشيطان فإن قيل إنهم ما عبدوا الشيطان وإنما عبدوا الصنم، قلنا الداعي إلى عبادة الصنم لما كان هو الشيطان كان الإقدام على عبادة الصنم عبادة للشيطان، وقيل المراد بالطاغوت الصنم وسميت طواغيت على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها، والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان عند مشاهدتها والقرب منها، وصفت بهذه الصفة إطلاقا لاسم المسبب على السبب بحسب الظاهر، وقيل كل ما يعبد ويطاع من دون الله فهو طاغوت، ويقال في التواريخ إن الأصل في عبادة الأصنام، أن القوم كانوا مشبهة اعتقدوا في الإله أنه نور عظيم، وفي الملائكة أنها أنوار مختلفة في الصغر والكبر، فوضعوا تماثيل وصورا على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل على اعتقاد أنهم يعبدون الله والملائكة، وأقول حاصل الكلام في قوله: * (
والذين اجتنبوا الطاغوت) * أي أعرضوا عن عبودية كل ما سوى الله. قوله تعالى: * (وأنابوا إلى الله) * أي رجعوا بالكلية إلى الله. ورأيت في السفر الخامس من التوراة، أن الله تعالى قال لموسى: يا موسى أجب إلهك بكل قلبك. وأقول ما دام يبقى في القلب التفات إلى غير الله فهو ما أجاب إلهه بكل قلبه، وإنما تحصل الإجابة بكل القلب إذا أعرض القلب عن كل ما سوى الله من باب الطاعات فكيف يعرض عنها مع
258

أنه بالحس يشاهد الأسباب المفضية إلى المسببات في هذا العالم، قلنا ليس المراد من إعراض القلب عنها أن يقضي عليها بالعدم فإن ذلك دخول في السفسطة وهو باطل، بل المراد أن يعرف أن واجب الوجود لذاته واحد، وأن كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته وكل ما كان ممكنا لذاته فإنه لا يوجد إلا بتكوين الواجب وإيجاده، ثم إنه سبحانه وتعالى جعل تكوينه للأشياء على قسمين منها ما يكون بغير واسطة وهي عالم السماوات والروحانيات، ومنها ما يكون بواسطة وهو عالم العناصر والعالم الأسفل، فإذا عرفت الأشياء على هذا الوجه عرفت أن الكل لله ومن الله وبالله، وأنه لا مدبر إلا هو ولا مؤثر غيره، وحينئذ ينقطع نظره عن هذه الممكنات ويبقى مشغول القلب بالمؤثر الأول والموجد الأول، فإنه إن كان قد وضع الأسباب الروحانية والجسمانية بحيث يتأذى إلى هذا المطلوب، فهذا الشيء يحصل وإن كان قد وضع بحيث لا يفضي إلى حصول هذا الشيء لم يحصل، وبهذا الطريق ينقطع نظره عن الكل ولا يبقى في قلبه التفات إلى شيء إلا إلى الموجود الأول، وقد اتفق أني كنت أنصح بعض الصبيان في حفظ العرض والمال فعارضني وقالا يجوز الاعتماد على الجد والجهد بل يجب الاعتماد على قضاء الله وقدره، فقلت هذه كلمة حق سمعتها ولكنك ما عرفت معناها، وذلك لأنه لا شبهة أن الكل من الله تعالى إلا أنه سبحانه دبر الأشياء على قسمين منها ما جعل حدوثه وحصوله معلقا بأسباب معلومة ومنها ما يحدثه من غير واسطة هذه الأسباب.
أما القسم الأول: فهو حوادث هذا العالم الأسفل.
وأما القسم الثاني: فهو حوادث هذا العالم الأعلى، وإذا ثبت هذا فنقول من طلب حوادث هذا العالم الأسفل لا من الأسباب التي عينها الله تعالى كان هذا الشخص منازعا لله في حكمته مخالفا في تدبيره، فإن الله تعالى حكم بحدوث هذه الأشياء بناء على تلك الأسباب المعينة المعلومة وأنت تريد تحصيلها لا من تلك الأسباب، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقوله تعالى: * (والذين اجتنبوا الطاغوت) * إشارة إلى الإعراض عن غير الله وقوله تعالى: * (وأنابوا إلى الله) * إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة الله، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها: قوله تعالى: * (لهم البشرى) * واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها: أن هذه البشارة متى تحصل؟ فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعندما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعندما يدخل المؤمنون الجنة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والرحة والريحان وثانيها: أن هذه البشارة فبماذا تحصل؟ فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات، أما زوال المكروهات فقوله تعالى: * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * (فصلت: 30) والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله: * (أن
259

لا تخافوا) * يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا، ولما أزال الله عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال: * (وأبشروا بالجنة) * (فصلت: 30) وقال أيضا في آية أخرى: * (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار) * (الحديد: 12) وقال أيضا: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) * (الزخرف: 71) والثالث: أن المبشر من هو؟ فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة، إما عند الموت فقوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم) * (النحل: 32) وإما بعد دخول الجنة فقوله: * (الملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23، 24) ويحتمل أن يكون هو الله سبحانه كما قال: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * (الأحزاب: 44).
واعلم أن قوله: * (لهم البشرى) * فيه أنواع من التأكيدات أحدها: أنه يفيد الحصر فقوله: * (لهم البشرى) * أي لهم لا لغيرهم، وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير الله تعالى وأقبل بالكلية على الله تعالى وثانيها: أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء، ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها: أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات، إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخبارا، فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل الله تعالى الفوز بها، قال تعالى: * (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) * (السجدة: 17) ورابعها: أن المخبر بقوله: * (لهم البشرى) * هو الله تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى الله تعالى والإقبال بالكلية على الله والسلطان العظيم إذا ذكر شرطا عظيما. ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار، فثبت أن قوله: * (لهم البشرى) * يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه والله أعلم.
واعلم أنه تعالى: لما قال: * (لهم البشرى) * وكان هذا المجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير والشرح له فقال تعالى: * (فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) * وأراد بعباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم وهذا يدل على أن رأس السعادات ومركز الخيرات ومعدن الكرامات هو الإعراض عن غير الله تعالى، والإقبال بالكلية على طاعة الله، والمقصود من هذا اللفظ التنبيه على أن الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا، هم الموصوفون بأنهم هم
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، فوضع الظاهر موضع المضمر تنبيها
260

على هذا الحرف، ومنهم من قال إنه تعالى لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأولون، وقصر السعادة عليهم يقتضي الحرمان للأكثرين، وذلك لا يليق بالرحمة التامة، لا جرم جعل الحكم أعم فقال كل من اختار الأحسن في كل باب كان في زمرة السعداء، واعلم أن هذه الآية تدل على فوائد:
(الفائدة الأولى) وجوب النظر والاستدلال، وذلك لأنه تعالى بين أن الهداية والفلاح
مرتبطان بما إذا سمع الانسان أشياء كثيرة، فإنه يختار منها ما هو الأحسن الأصوب، ومن
المعلوم أن تمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يحصل بالسماع، لان السماع صار قدرا مشتركا
بين الكل، لان قوله (الذين يستمعون القول) يدل على أن السماع قدر مشترك فيه، فثبت أن تمييز
المدح حسن عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما يتأتى بحجة العقل، وهذا يدل على أن الموجب لاستحقاق
المدح والثناء متابعة حجة العقل وبناء الامر على النظر والاستدلال.
(الفائدة الثانية) أن الطريق إلى تصحيح المذاهب والأديان قسمان (أحدهما) إقامة الحجة
والبنية على صحته على سبيل التحصيل، وذلك أمر لا يمكن تحصيله إلا بالخوض في كل واحد من
المسائل على التفصيل (والثاني) أنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نعرض
تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا، فكل ما حكم أول العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول.
مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الاقرار بأن إله العالم حي عالم قادر حليم حكيم رحيم، أولى من إنكار
ذلك، فكان ذلك المذهب أولى، والاقرار بأن الله تعالى لا يجرى في ملكه وسلطانه إلا ما كان
على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجرى في سلطان الله على خلاف إرادته، وأيضا
الاقرار بأن الله فرد أحد صمد منزه عن التركيب الأعضاء أولى من القول بكونه متبعضا مؤلفا،
وأيضا القول باستغنائه عن الزمان المكان أولى من القول باحتياجه إليهما، وأيضا القول بأن الله
رحيم كريم قد يعفو عن العقاب أولى من القول بأنه لا يعفو عنه البتة، وكل هذه الأبواب تدخل
تحت قوله (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) فهذا ما يتعلق باختيار الأحسن في أبواب
الانتقادات.
وأما ما يتعلق بأبواب التكاليف فهو على قسمين: منها ما يكون من أبواب العبادات، ومنها
ما يكون من أبواب المعاملات، فأما العبادات فمثل قولنا الصلاة التي يذكر في تحريمها الله الكبر
وتكون النية فيها مقارنة للتكبير، ويقرأ فيها سورة الفاتحة، ويؤتى فيها بالطمأنينة في المواقف
الخمسة، ويقرأ فيها التشهد، ويخرج منها بقوله السلام عليكم، فلا شك أنها أحسن من الصلاة التي
لا يراعى فيها شئ من هذه الأحوال، وتوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة، وأن يترك
ما سواها، وكذلك القول في جميع أبواب العبادات. وأما المعاملات فكذلك مثل أنه تعالى شرع
القصاص والدية والعفو، ولكنه ندب إلى العفو فقال (وأن تعفوا أقرب للتقوى) وعن ابن عباس
261

أن المراد منه الرجل يجلس مع القوم ويسمع الحديث فيه محاسن ومساوئ، فيحدث بأحسن
ما سمع ويترك ما سوه.
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال (أولئك الذين هداهم
الله وأولئك هم أولوا الألباب) وفى ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح
أمر حادث، ولا بدله من فاعل وقابل. أما الفاعل فهو الله سبحانه وهو المراد من قوله (أولئك
الذين هداهم الله) وأما القابل فإليه الإشارة بقوله (وأولئك هم أولوا الألباب) فإن الانسان
ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه. وإنما قلنا إن الفاعل لهذه
الهداية هو الله، وذلك لان جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد
الباطل، وإذا كان الشئ قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الامر
كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا
للحركة والسكون على السوية، امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر،
فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد
الطرفين، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان، فنقول هذا باطل، لان ذات النفس كون جوهر
النفس سببا لتلك الإرادة، فثبت أن حصول الهداية لابد لها من فاعل ومن قابل (أما الفاعل)
فيمتنع أن يكون هو النفس، بل الفاعل هو الله تعالى (وأما القابل) فهو جوهر النفس، فلهذا
السبب قال (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) ثم قال (أفمن حق عليه كلمة العذاب
أفانت تنفذ من في النار) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال: * (أفمن حق عليه كلمة العذاب) * ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الاسم وعلى الخبر معا، فلا يقال أزيد أتقتله، بل ههنا شيء آخر، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معا وهو قوله: * (أفمن حق) *، * (أفأنت تنقذ) * ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوها الأول: قال الكسائي: الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب، أفأنت تحميه، أفأنت تنقذ من في النار الثاني: قال صاحب " الكشاف ": أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، والآية على هذا جملة واحدة الثالث: لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد ههنا لإفادة معنى الإنكار، ولما كان استنكاره هذا
262

المعنى كاملا تاما. لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيها على المبالغة التامة في ذلك الإنكار.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، وذلك لأنه تعالى قال: * (أفمن حق عليه كلمة العذاب) * فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة، وإلا لزم انقلاب خبر الله الصدق كذبا، وانقلاب علمه جهلا وهو محال والوجه الثاني: في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الإستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه، ولو كان ذلك ممكنا ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى.
المسألة الثالثة: احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشفع لأهل الكبائر، قال لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جارية مجرى إنقاذهم من النار، وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والإستبعاد، فيقال له لا نسلم أن أهل الكبائر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق العذاب عليهم مع أن الله تعالى قال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) ومع قوله: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (الزمر: 53) والله أعلم.
النوع الثاني: من الأشياء التي وعدها الله هؤلاء الذين اجتنبوا وأنابوا قوله تعالى: * (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية) * وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار * (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) * (الزمر: 16) فإن قيل ما معنى قوله * (مبنية) *؟ قلنا لأن المنزل إذا بنى على منزل آخر تحته كان الفوقاني أضعف بناء من التحتاني فقوله: * (مبنية) * معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساو للمنزل الأسفل، والحاصل أن المنزل الفوقاني والتحتاني حصل في كل واحد منهما فضيلة ومنقصة، أما الفوقاني ففضيلته العلو والارتفاع ونقصانه الرخاوة والسخافة، وأما التحتاني فبالضد منه، أما منازل الجنة فإنها تكون مستجمعة لكل الفضائل وهي عالية مرتفعة وتكون في غاية القوة والشدة، وقال حكماء الإسلام هذه الغرف المبنية بعضها فوق البعض، مثاله من الأحوال النفسانية العلوم الكسبية فإن بعضها يكون مبنيا على البعض والنتائج الآخرة التي هي عبارة عن معرفة ذات الله وصفاته تكون في غاية القوة بل تكون في القوة والشدة كالعلوم الأصلية البديهية.
ثم قال: * (تجري من تحتها الأنهار) * وذلك معلوم، ثم ختم الكلام فقال: * (وعد الله لا يخلف الله الميعاد) * فقوله: * (وعد الله) * مصدر مؤكد لأن قوله * (لهم غرف) * في معنى وعدهم الله ذلك وفي الآية دقيقة شريفة، وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد صرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية، وذلك يدل على أن جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف ما يقوله المعتزلة، فإن قالوا أليس أنه قال في جانب الوعيد * (ما يبدل
263

القول لدى وما أنا بظلام للعبيد) * قلنا قوله ما يبدل القول لدي ليس تصريحا بجانب الوعيد بل هو كلام عام يتناول القسمين أعني الوعد والوعيد، فثبت أن الترجيح الذي ذكرناه حق والله أعلم.
قوله تعالى
* (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فسلكه ينابيع فى الارض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما إن فى ذلك لذكرى لاولى الالباب) *.
اعلم أنه تعالى لما وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة العظيمة الأول الألباب فيها وصف الدنيا بصفة توجب اشتداد النفرة عنها، وذلك أنه تعالى بين أنه أنزل من السماء ماء وهو المطر وقيل كل ما كان في الأرض فهو من السماء، ثم إنه تعالى ينزله إلى بعض المواضع ثم يقسمه فيسلكه ينابيع في الأرض، أي فيدخله وينظمه ينابيع في
الأرض عيونا، ومسالك ومجاري كالعروق في الأجسام، يخرج به زرعا مختلفا ألوانه من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، أو مختلفا أصنافه من بر وشعير وسمسم ثم يهيج، وذلك لأنه إذا تم جفافه جاز له أن ينفصل عن منابته، وإن لم تتفرق أجزاؤه، فتلك الأجزاء كأنها هاجت لأن تتفرق ثم يصير حطاما يابسا * (إن في ذلك لذكرى) * يعني أن من شاهد هذه الأحوال في النبات علم أن أحوال الحيوان والإنسان كذلك وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء إلى أن يصير مصفر اللون منحطم الأعضاء والأجزاء، ثم تكون عاقبته الموت. فإذا كانت مشاهدة هذه الأحوال في النبات تذكره حصول مثل هذه الأحوال في نفسه وفي حياته، فحينئذ تعظم نفرته في الدنيا وطيباتها. والحاصل أنه تعالى في الآيات المتقدمة ذكر ما يقوى الرغبة في الآخرة، وذكر في هذه الآية ما يقوي النفرة عن الدنيا، فشرح صفات القيامة يقوي الرغبة في طاعة الله، وشرح صفات الدنيا يقوي النفرة عن الدنيا، وإنما قدم الترغيب في الآخرة على التنفير عن الدنيا، لأن الترغيب في الآخرة مقصود بالذات، والتنفير عن الدنيا مقصود بالعرض، والمقصود بالذات مقدم على المقصود بالعرض، فهذا تمام الكلام في تفسير الآية، بقي ههنا ما يتعلق بالبحث عن الألفاظ، قال الواحدي: والينابيع جمع ينبوع وهو يفعول من نبع ينبع يقال نبع الماء ينبع وينبع وينبع ثلاث لغات ذكرها الكسائي والفراء، وقوله * (ينابيع) * نصب بحذف الخافض لأن التقدير فسلكه في ينابيع ثم يهيج أي يخضر، والحطام ما يجف ويتفتت ويكسر من النبت.
264

قوله تعالى
* (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك فى ضلال مبين * الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشآء ومن يضلل الله فما له من هاد * أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون * كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * فأذاقهم الله الخزى فى الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون * ولقد ضربنا للناس فى هذا القرءان من كل مثل لعلهم يتذكرون * قرءانا عربيا غير ذى عوج لعلهم يتقون) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله تعالى ووجوب الإعراض عن الدنيا بين بعد ذلك أن الانتفاع بهذه البيانات لا يكمل إلا إذا شرح الله الصدور ونور القلوب فقال: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) *.
واعلم أنا بالغنا في سورة الأنعام في تفسير قوله: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) * (الأنعام: 125)
265

في تفسير شرح الصدر وفي تفسير الهداية، ولا بأس بإعادة كلام قليل ههنا، فنقول إنه تعالى خلق جواهر النفوس مختلفة بالماهية فبعضها خيرة نورانية شريفة مائلة إلى الإلهيات عظيمة الرغبة في الاتصال بالروحانيات، وبعضها نذلة كدرة خسيسة مائلة إلى الجسمانيات وفي هذا التفاوت أمر حاصل في جواهر النفوس البشرية، والاستقراء يدل على أن الأمر كذلك، إذا عرفت هذا فنقول المراد بشرح الصدر هو ذلك الاستعداد الشديد الموجود في فطرة النفس، وإذا كان ذلك الاستعداد الشديد حاصلا كفى خروج تلك الحالة من القوة إلى الفعل بأدنى سبب، مثل الكبريت الذي يشتعل بأدنى نار، أما إذا كانت النفس بعيدة عن قبول هذه الجلايا القدسية والأحوال الروحانية، بل كانت مستغرقة في طلب الجسمانيات قليلة التأثر عن الأحوال المناسبة للإلهيات فكانت قاسية كدرة ظلمانية، وكلما كان إيراد الدلائل اليقينية والبراهين الباهرة عليها أكثر كانت قسوتها وظلمتها أقل. إذا عرفت هذه القاعدة فنقول. أما شرح الصدر فهو ما ذكرناه، وأما النور فهو عبارة عن الهداية والمعرفة، وما لم يحصل شرح الصدر أولا لم يحصل النور ثانيا، وإذا كان الحاصل هو القوة النفسانية لم يحصل الانتفاع البتة بسماع الدلائل، وربما صار سماع الدلائل سببا لزيادة القسوة ولشدة النفرة فهذه أصول يقينية يجب أن تكون معلومة عند الإنسان حتى يمكنه الوقوف على معاني هذه الآيات، أما استدلال أصحابنا في مسألة الجبر والقدر وكلام الخصوم عليه فقد تقدم هناك والله أعلم.
المسألة الثانية: من محذوف الخبر كما في قوله: * (أمن هو قانت) * (الزمر: 9) والتقدير: أفمن شرح الله صدره للإسلام فاهتدى كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته، والجواب متروك لأن الكلام المذكور دل عليه وهو قوله تعالى: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) * فيه سؤال، وهو أن ذكر الله سبب لحصول النور والهداية وزيادة الاطمئنان كما قال: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) فكيف جعله في هذه الآية سببا لحصول قسوة القلب، والجواب أن نقول إن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطبائع البهيمية والأخلاق الذميمة، فإن سماعها لذكر الله يزيدها قسوة وكدورة، وتقرير هذا الكلام بالأمثلة فإن الفاعل الواحد تختلف أفعاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنسانا واحدا يذكر كلاما واحدا في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره، وما ذاك إلا ما ذكرناه من اختلاف جواهر النفوس، ومن اختلاف أحوال تلك النفوس، ولما نزل قوله تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وكان قد حضر هناك عمر بن الخطاب وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * قال كل واحد منهم * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * (المؤمنون: 12 - 14) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
266

" اكتب فهكذا أنزلت " فازداد عمر إيمانا على إيمان وازداد ذلك الإنسان كفرا على كفر، إذا عرفت هذا لم يبعد أيضا أن يكون ذكر الله يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية، ويوجب القسوة والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة الشيطانية، إذا عرفت هذا فنقول إن رأس الأدوية التي تفيد الصحة الروحانية ورئيسها هو ذكر الله تعالى، فإذا اتفق لبعض النفوس أن صار ذكر الله تعالى سببا لازدياد مرضها كان مرض تلك النفس مرضا لا يرجى زواله ولا يتوقع علاجه وكانت
في نهاية الشر والرداءة، فلهذا المعنى قال تعالى: * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) * وهذا كلام كامل محقق، ولما بين تعالى ذلك أردفه بما يدل على أن القرآن سبب لحصول النور والشفاء والهداية وزيادة الاطمئنان، والمقصود منه بيان أن القرآن لما كان موصوفا بهذه الصفات، ثم إنه في حق ذلك الإنسان صار سببا لمزيد القسوة دل ذلك على أن جوهر تلك النفس قد بلغ في الرداءة والخساسة إلى أقصى الغايات، فنقول إنه تعالى وصف القرآن بأنواع من صفات الكمال.
الصفة الأولى: قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه حديثا في هذه الآيات وفي آيات أخرى منها قوله تعالى: * (فليأتوا بحديث مثله) * (الطور: 34) ومنها قوله تعالى: * (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون) * (الواقعة: 81) والحديث لا بد وأن يكون حادثا، قالوا بل الحديث أقوى في الدلالة على الحدوث من الحادث لأنه يصح أن يقال هذا حديث وليس بعتيق، وهذا عتيق وليس بحادث، فثبت أن الحديث هو الذي يكون قريب العهد بالحديث، وسمي الحديث حديثا لأنه مؤلف من الحروف والكلمات، وتلك الحروف والكلمات تحدث حالا فحالا وساعة فساعة، فهذا تمام تقرير هذا الوجه.
أما الوجه الثاني: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إنه تعالى وصفه بأنه نزله والمنزل يكون في محل تصرف الغير. وما يكون كذلك فهو محدث وحادث.
وأما الوجه الثالث: في بيان استدلال القوم أن قالوا: إن قوله أحسن الحديث يقتضي أن يكون هو من جنس سائر الأحاديث كما أن قوله زيد أفضل الإخوة يقتضي أن يكون زيد مشاركا لأولئك الأقوام في صفة الأخوة ويكون من جنسهم، فثبت أن القرآن من جنس سائر الأحاديث، ولما كان سائر الأحاديث حادثة وجب أيضا أن يكون القرآن حادثا.
أما الوجه الرابع: في الاستدلال أن قالوا: إنه تعالى وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الكتبة وهي الاجتماع، وهذا يدل على أنه مجموع جامع ومحل تصرف متصرف. وذلك يدل على كونه محدثا والجواب: أن نقول نحمل هذا الدليل على الكلام المؤلف من الحروف والأصوات والألفاظ والعبارات، وذلك الكلام عندنا محدث مخلوق والله أعلم.
267

المسألة الثانية: كون القرآن أحسن الحديث، إما أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه أو بحسب معناه.
القسم الأول: أن يكون أحسن الحديث بحسب لفظه وذلك من وجهين: الأول: أن يكون ذلك الحسن لأجل الفصاحة والجزالة الثاني: أن يكون بحسب النظم في الأسلوب، وذلك لأن القرآن ليس من جنس الشعر، ولا من جنس الخطب. ولا من جنس الرسائل، بل هو نوع يخالف الكل، مع أن كل ذي طبع سليم يستطيبه ويستلذه.
القسم الثاني: أن يكون كونه أحسن الحديث لأجل المعنى، وفيه وجوه: الأول: أنه كتاب منزه عن التناقض، كما قال تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) ومثل هذا الكتاب إذا خلا عن التناقض كان ذلك من المعجزات الوجه الثاني: اشتماله على الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل الوجه الثالث: أن العلوم الموجودة فيه كثيرة جدا.
وضبط هذه العلوم أن نقول: العلوم النافعة هي ما ذكره الله في كتابه في قوله: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) * (البقرة: 285) فهذا أحسن ضبط يمكن ذكره للعلوم النافعة.
أما القسم الأول: وهو الإيمان بالله، فاعلم أنه يشتمل على خمسة أقسام: معرفة الذات والصفات والأفعال والأحكام والأسماء. أما معرفة الذات فهي أن يعلم وجود الله وقدمه وبقاءه. وأما معرفة الصفات فهي نوعان:
أحدهما: ما يجب تنزيهه عنه، وهو كونه جوهرا ومركبا من الأعضاء والأجزاء وكونه مختصا بحيز وجهة، ويجب أن يعلم أن الألفاظ الدالة على التنزيه أربعة: ليس ولم وما ولا، وهذه الأربعة المذكورة، مذكورة في كتاب الله تعالى لبيان التنزيه.
أما كلمة ليس، فقوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) وأما كلمة لم، فقوله: * (لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) * (الإخلاص: 3، 4) وأما كلمة ما، فقوله: * (وما كان ربك نسيا) * (مريم: 64)، * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) وأما كلمة لا، فقوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (البقرة: 255)، * (وهو يطعم ولا يطعم) * (الأنعام: 14)، * (وهو يجير ولا يجار عليه) * (المؤمنون: 88)، وقوله في سبعة وثلاثين موضعا من القرآن * (لا إله إلا الله) * (محمد: 19).
وأما النوع الثاني: وهي الصفات التي يجب كونه موصوفا بها من القرآن فأولها العلم بالله، والعلم بكونه محدثا خالقا، قال تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1) وثانيها: العلم بكونه قادرا، قال تعالى في أول سورة القيامة * (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) * (القيامة: 4) وقال في آخر هذه السورة * (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * (القيامة: 40) وثالثها: العلم بكونه تعالى عالما، قال تعالى: * (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) * (الحشر: 22) ورابعها: العلم بكونه عالما بكل المعلومات، قال تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وقوله تعالى: * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) * (الرعد: 8) وخامسها: العلم
268

بكونه حيا، قال تعالى: * (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين) * (غافر: 65) وسادسها: العلم بكونه مريدا، قال الله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) * (الأنعام: 125) وسابعها: كونه سميعا بصيرا، قال تعالى: * (وهو السميع البصير) * (الشورى: 11) وقال تعالى: * (إنني معكما أسمع وأرى) * (طه: 46) وثامنها: كونه متكلما، قال تعالى: * (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله
) * (لقمان: 27) وتاسعها: كونه أمرا، قال تعالى: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) * (الروم: 4) وعاشرها: كونه رحمانا رحيما مالكا، قال تعالى: * (الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 3، 4) فهذا ما يتعلق بمعرفة الصفات التي يجب اتصافه بها.
وأما القسم الثالث: وهو الأفعال، فاعلم أن الأفعال إما أرواح وإما أجسام. أما الأرواح فلا سبيل للوقوف عليها إلا للقليل، كما قال تعالى: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * (المدثر: 31) وأما الأجسام، فهي إما العالم الأعلى وإما العالم الأسفل. أما العالم الأعلى فالبحث فيه من وجوه أحدها: البحث عن أحوال السماوات، وثانيها: البحث عن أحوال الشمس والقمر كما قال تعالى: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره) * (الأعراف: 54) وثالثها: البحث عن أحوال الأضواء، قال الله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35) وقال تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (يونس: 5) ورابعها: البحث عن أحوال الظلال، قال الله تعالى: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا) * (الفرقان: 45) وخامسها: اختلاف الليل والنهار، قال الله تعالى: * (يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) * (الزمر: 50) وسادسها: منافع الكواكب، قال تعالى: * (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر) * (الأنعام: 97) وسابعها: صفات الجنة، قال تعالى: * (وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) * (الحديد: 21) وثامنها: صفات النار، قال تعالى: * (لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) * (الحجر: 44) وتاسعها: صفة العرش، قال تعالى: * (الذين يحملون العرش ومن حوله) * (غافر: 7) وعاشرها: صفة الكرسي، قال تعالى: * (وسع كرسيه السماوات والأرض) * (البقرة: 255) وحادي عشرها: صفة اللوح والقلم. أما اللوح، فقوله تعالى: * (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) * (البروج: 21، 22) وأما القلم، فقوله تعالى: * (ن والقلم وما يسطرون) * (القلم: 1).
وأما شرح أحوال العالم الأسفل فأولها: الأرض، وقد وصفها بصفات كثيرة إحداها: كونه مهدا، قال تعالى: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * (طه: 53) وثانيها: كونه مهادا، قال تعالى: * (ألم نجعل الأرض مهادا) * (النبأ: 6) وثالثها: كونه كفاتا، قال تعالى: * (كفاتا * أحياء وأمواتا) * (المرسلات: 24، 25) ورابعها: الذلول، قال تعالى: * (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) * (الملك: 15) وخامسها: كونه بساطا، قال تعالى: * (والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) * (نوح: 19، 20) والكلام فيه طويل وثانيها: البحر، قال تعالى: * (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) * (النحل: 14) وثالثها: الهواء والرياح. قال تعالى:
269

* (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * (الأعراف: 57) وقال تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * (الحجر: 22) ورابعها: الآثار العلوية كالرعد والبرق، قال تعالى: * (ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته) * (الرعد: 13) وقال تعالى: * (فترى الودق يخرج من خلاله) * ومن هذا الباب ذكر الصواعق والأمطار وتراكم السحاب وخامسها: أحوال الأشجار والثمار وأنواعها وأصنافها، وسادسها: أحوال الحيوانات، قال تعالى: * (وبث فيها من كل دابة) * (البقرة: 164) وقال: * (والأنعام خلقها لكم) * (النحل: 5) وسابعها: عجائب تكوين الإنسان في أول الخلقة، قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * (المؤمنون: 12) وثامنها: العجائب في سمعه وبصره ولسانه وعقله وفهمه وتاسعها: تواريخ الأنبياء والملوك وأحوال الناس من أول خلق العالم إلى آخر قيام القيامة، وعاشرها ذكر أحوال الناس عند الموت وبعد الموت، وكيفية البعث والقيامة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، فقد أشرنا إلى عشرة أنواع من العلوم في عالم السماوات، وإلى عشرة أخرى في عالم العناصر، والقرآن مشتمل على شرح هذه الأنواع من العلوم العالية الرفيعة.
وأما القسم الرابع: وهو شرح أحكام الله تعالى وتكاليفه، فنقول هذه التكاليف إما أن تحصل في أعمال القلوب أو في أعمال الجوارح.
أما القسم الأول: فهو المسمى بعلم الأخلاق وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب، قال الله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) * (النحل: 90)، وقال: * (خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199).
وأما الثاني: فهو التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح وهو المسمى بعلم الفقه والقرآن مشتمل على جملة أصول هذا العلم على أكمل الوجوه.
وأما القسم الخامس: وهو معرفة أسماء الله تعالى فهو مذكور في قوله تعالى: * (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) * (الأعراف: 180) فهذا كله يتعلق بمعرفة الله.
وأما القسم الثاني: من الأصول المعتبرة في الإيمان الإقرار بالملائكة كما قال تعالى: * (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته) * (البقرة: 285) والقرآن يشتمل على شرح صفاتهم تارة على سبيل الإجمال وأخرى على طريق التفصيل، أما بالإجمال فقوله: * (وملائكته) * وأما بالتفصيل فمنها ما يدل على كونهم رسل الله قال تعالى: * (جاعل الملائكة رسلا) * (فاطر: 1) ومنها أنها مدبرات لهذا العالم، قال تعالى: * (فالمقسمات أمرا) * (الذاريات: 4) * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) وقال تعالى: * (والصافات صفا) * (الصافات: 1) ومنها حملة العرش قال: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) ومنها الحافون حول العرش قال: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * (الزمر: 75) ومنها خزنة النار قال تعالى: * (عليها ملائكة غلاظ شداد) * (التحريم: 6) ومنها الكرام الكاتبون قال: * (وإن عليكم لحافظين * كرما كاتبين) * (الانفطار: 10، 11) ومنها المعقبات قال تعالى: * (له معقبات من بين يديه ومن خلفه) * (الرعد: 11) وقد يتصل بأحوال الملائكة أحوال الجن والشياطين.
270

وأما القسم الثالث: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الكتب والقرآن يشتمل على شرح أحوال كتاب آدم عليه السلام قال تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * (البقرة: 37) ومنها أحوال صحف إبراهيم عليه السلام قال تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة: 124) ومنها أحوال التوراة والإنجيل والزبور.
وأما القسم الرابع: من الأصول المعتبرة في الإيمان معرفة الرسل والله تعالى قد شرح أحوال البعض وأبهم أحوال الباقين قال: * (منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك) * (غافر: 78).
القسم الخامس: ما يتعلق بأحوال المكلفين وهي على نوعين الأول: أن يقروا بوجوب هذه التكاليف عليهم وهو المراد من قوله: * (وقالوا سمعنا وأطعنا) *، الثاني: أن يعترفوا بصدور التقصير عنهم في تلك الأعمال ثم طلبوا المغفرة وهو المراد من قوله: * (غفرانك ربنا) * ثم لما كانت مقادير رؤية التقصير في مواقف العبودية بحسب المكاشفات في مطالعة عزة الربوبية أكثر، كانت المكاشفات في تقصير العبودية أكثر وكان قوله: * (غفرانك ربنا) * أكثر.
القسم السادس: معرفة المعاد والبعث والقيامة وهو المراد من قوله: * (وإليك المصير) * (البقرة: 285) وهذا هو الإشارة إلى معرفة المطالب المهمة في طلب الدين، والقرآن بحر لا نهاية له في تقرير هذه المطالب وتعريفها وشرحها ولا ترى في مشارق الأرض ومغاربها كتابا يشتمل على جملة هذه العلوم كما يشتمل القرآن عليها. ومن تأمل في هذا التفسير علم أنا لم نذكر من بحار فضائل القرآن إلا قطرة، ولما كان الأمر على هذه الجملة، لا جرم مدح الله عز وجل القرآن فقال تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث) * (الزمر: 23) والله أعلم.
الصفة الثانية: من صفات القرآن قوله تعالى: * (كتابا متشابها) * (الزمر: 23) أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 2) وأما كونه متشابها فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه. وقوله: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * (آل عمران: 7) يدل على كون البعض متشابها دون البعض. وأما كونه كله متشابها كما في هذه الآية، فقال ابن عباس: معناه أنه يشبه بعضه بعضا، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها: أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا، ويكون البعض غير فصيح، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها: أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، والله تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها: أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضا ويؤكد بعضها بعضا ورابعها: أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى
271

الدين وتقرير عظمة الله، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابها، والله الهادي.
الصفة الثالثة: من صفات القرآن كونه * (مثاني) * (الزمر: 23) وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، وأحوال السماوات والأرض، والجنة والنار، والظلمة والضوء، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو الله سبحانه.
الصفة الرابعة: من صفات القرآن قوله: * (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * (الزمر: 23) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: معنى * (تقشعر جلودهم) * تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف، قال المفسرون: والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر الله، وأقول إن المحققين من العارفين قالوا: السائرون في مبدأ إجلال الله إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير، فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه الله عن التحيز والجهة. فهنا يقشعر جلده، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فردا أحدا، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله. وأيضا إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضا بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد، وأما إذا ترك هذا الاعتبار وقال ههنا موجود والموجود إما واجب وإما ممكن، فإن كان واجبا فهو دائما منزه عن الأول والآخر وإن كان ممكنا فهو محتاج إلى الواجب فيكون أزليا أبديا، فإذا اعتبر العقل فهم معنى الأزلية فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله، فثبت أن المقامين المذكورين في الآية لا يجب قصرهما على سماع آية العذاب وآية الرحمة، بل ذاك أول تلك المراتب وبعده مراتب لا حد لها ولا حصر في حصول تلك الحالتين المذكورتين.
المسألة الثانية: روى الواحدي في " البسيط " عن قتادة أنه قال: القرآن دل على أن أولياء
272

الله موصوفون بأنهم عند المكاشفات والمشاهدات، تارة تقشعر جلودهم وأخرى تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. وليس فيه أن عقولهم تزول وأن أعضاءهم تضطرب، فدل هذا على أن تلك الأحوال لو حصلت لكانت من الشيطان، وأقول ههنا بحث آخر وهو أن الشيخ أبا حامد الغزالي أورد مسألة في كتاب إحياء علوم الدين، وهي أنا
نرى كثيرا من الناس يظهر عليه الوجد الشديد التام عند سماع الأبيات المشتملة على شرح الوصل والهجر، وعند سماع الآيات لا يظهر عليه شيء من هذه الأحوال، ثم إنه سلم هذا المعنى وذكر العذر فيه من وجوه كثيرة، وأنا أقول: إني خلقت محروما عن هذا المعنى، فإني كلما تأملت في أسرار القرآن اقشعر جلدي وقف على شعري وحصلت في قلبي دهشة وروعة، وكلما سمعت تلك الأشعار غلب الهزل علي وما وجدت البتة في نفسي منها أثرا، وأظن أن المنهج القويم والصراط المستقيم هو هذا، وبيانه من وجوه الأول: أن تلك الأشعار كلمات مشتملة على وصل وهجر وبغض وحب تليق بالخلق، وإثباته في حق الله تعالى كفر، وأما الانتقال من تلك الأحوال إلى معان لائقة بجلال الله فلا يصل إليها إلا العلماء الراسخون في العلم، وأما المعاني التي يشتمل عليها القرآن فهي أحوال لائقة بجلال الله، فمن وقف عليها عظم الوله في قلبه، فإن من كان عنده نور الإيمان وجب أن يعظم اضطرابه عند سماع قوله: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) إلى آخر الآية والثاني: وهو أني سمعت بعض المشايخ قال كما أن الكلام له أثر فكذلك صدور ذلك الكلام من القائل المعين له أثر، لأن قوة نفس القائل تعين على نفاذ الكلام في الروح، والقائل في القرآن هنا هو الله بواسطة جبريل بتبليغ الرسول المعصوم، والقائل هناك شاعر كذاب مملوء من الشهوة وداعية الفجور والثالث: أن مدار القرآن على الدعوة إلى الحق قال تعالى: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * (الشورى: 52، 53) وأما الشعر فمداره على الباطل قال تعالى: * (والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون) * (الشعراء: 224، 226) فهذه الوجوه الثلاثة فروق ظاهرة، وأما ما يتعلق بالوجدان من النفس فإن كل أحد إنما يخبر عما يجده من نفسه والذي وجدته من النفس والعقل ما ذكرته والله أعلم.
المسألة الثالثة: في بيان ما بقي من المشكلات في هذه الآية ونذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: كيف تركيب لفظ القشعريرة الجواب: قال صاحب " الكشاف " تركيبه من حروف التقشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها حرف رابع وهو الراء ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، وذلك مثل في شدة الخوف.
السؤال الثاني: كيف قال: * (تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) * وما الوجه في تعديه
273

بحرف إلى؟ والجواب: التقدير تلين جلودهم وقلوبهم حال وصولها إلى حضرة الله وهو لا يحس بالإدراك.
السؤال الثالث: لم قال إلى ذكر الله ولم يقل إلى ذكر رحمة الله؟ والجواب: أن من أحب الله لأجل رحمته فهو ما أحب الله، وإنما أحب شيئا غيره، وأما من أحب الله لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية، فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة الله بل قال إلى ذكر الله، وقد بين الله تعالى هذا المعنى في قوله تعالى: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) * (الأنعام: 125) وفي قوله: * (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (الرعد: 28) وأيضا قال لأمة موسى: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * (البقرة: 40) وقال أيضا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم: * (فاذكروني أذكركم) * (البقرة: 152).
السؤال الرابع: لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معا؟ والجواب: لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح والله أعلم.
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال: * (ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) * فقوله: * (ذلك) * إشارة إلى الكتاب وهو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولا لقبول هذه الهداية * (ومن يضلل الله) * أي من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم منافيا لقبول هذه الهداية * (فما له من هاد) * واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) * (الأنعام: 125).
أما قوله تعالى: * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) * فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * (الرعد: 33) وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله: * (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) * وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة، وهو أيضا صومعة الحواس، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة) * (عبس: 38 - 42) ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداء له، وإذا عرفت هذا فنقول: إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء، ونظيره قول النابغة:
274

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه، فكذا ههنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء البتة، ويقال أيضا إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، إذا عرفت هذا فنقول: جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره، وسوء العذاب شدته.
ثم قال تعالى: * (وقيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون) * ولما بين الله تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضا كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال:
* (كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) * وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله: * (فأتاهم العذاب) * تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلا ههنا لزم حصول العذاب استدلالا بالعلة على المعلول، وقوله: * (من حيث لا يشعرون) * أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضا أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقرونا بالهوان والذل.
ثم قال: * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع. والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب، فلما ذكر الله تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب، بين تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون) * والمقصود ظاهر، وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال الله وأحكامه معللة، ودلت أيضا على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله: * (ولقد ضربنا للناس) * مشعر بالتعليل، وقوله في آخر الآية: * (لعلهم يتذكرون) * مشعر بالتعليل أيضا، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء، فقال: * (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه الأول: أن قوله: * (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون) * يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا، فإن القديم هو الذي يكون موجودا في الأزل، وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا،
275

والثاني: أنه وصفه بكونه عربيا وإنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقا محدثا الثالث: أنه وصفه بكونه قرآنا والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلا ومفعولا والجواب: أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة.
المسألة الثانية: قال الزجاج قوله: * (عربيا) * منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح.
المسألة الثالثة: أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها: كونه قرآنا، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9)، وثانيها: كونه عربيا والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (الإسراء: 88) وثالثها: كونه * (غير ذي عوج) * والمراد براءته عن التناقض، كما قال: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * وأما قوله: * (لعلهم يتقون) * فالمعتزلة يتمسكون به في تعليل أحكام الله تعالى.
وفيه بحث آخر: وهو أنه تعالى قال في الآية الأولى: * (لعلهم يتذكرون) * وقال في هذه الآية: * (لعلهم يتقون) * والسبب فيه أن التذكر متقدم على الاتقاء، لأنه إذا تذكره وعرفه ووقف على فحواه وأحاط بمعناه، حصل الاتقاء والاحتراز والله أعلم.
* (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركآء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون * فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جآءه أليس فى جهنم مثوى للكافرين) *.
اعلم أنه تعالى لما بالغ في شرح وعيد الكفار أردفه بذكر مثل ما يدل على فساد مذهبهم وقبح طريقتهم فقال: * (ضرب الله مثلا) * وفيه مسائل:
276

المسألة الأولى: المتشاكسون المختلفون العسرون يقال شكس يشكس شكوسا وشكسا إذا عسر، وهو رجل شكس، أي عسر وتشاكس إذا تعاسر، قال الليث: التشاكس التنازع والاختلاف، ويقال الليل والنهار متشاكسان، أي أنهما متضادان إذا جاء أحدهما ذهب الآخر، وقوله فيه صلة شركاء كما تقول اشتركوا فيه.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو سالما بالألف وكسر اللام يقال سلم فهو سالم والباقون سلما بفتح السين واللام بغير الألف، ويقال أيضا بفتح السين وكسرها مع سكون العين أما من قرأ سالما فهو اسم الفاعل تقدير مسلم فهو سالم، وأما سائر القراءات فهي مصادر سلم والمعنى ذا سلامة، وقوله: * (لرجل) * أي ذا خلوص له من الشركة من قولهم: سلمت له الضيعة، وقرئ بالرفع على الابتداء أي وهناك رجل سالم لرجل.
المسألة الثالثة: تقدير الكلام: اضرب لقومك مثلا وقل لهم ما يقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف وتنازع، كل واحد منهم يدعي أنه عبده فهم يتجاذبونه في حوائجهم وهو متحير في أمره، فكلما أرضى أحدهم غضب الباقون، وإذا احتاج في مهم إليهم فكل واحد منهم يرده إلى الآخر، فهو يبقى متحيرا لا يعرف أيهم أولى بأن يطلب رضاه، وأيهم يعينه في حاجاته، فهو بهذا السبب في عذاب دائم وتعب مقيم، ورجل آخر له مخدوم واحد يخدمه على سبيل الإخلاص، وذلك المخدوم يعينه على مهماته، فأي هذين العبدين أحسن حالا وأحمد شأنا، والمراد تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، فإن أولئك الآلهة تكون متنازعة متغالبة، كما قال تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) وقال: * (ولعلا بعضهم على بعض) * (المؤمنون: 91) فيبقى ذلك المشرك متحيرا ضالا، لا يدري أي هؤلاء الآلهة يعبد وعلى ربوبية أيهم يعتمد، وممن يطلب رزقه، وممن يلتمس رفقه، فهمه شفاع، وقلبه أوزاع. أما من لم يثبت إلا إلها واحدا فهو قائم بما كلفه عارف بما أرضاه وما أسخطه، فكان حال هذا أقرب إلى الصلاح من حال الأول، وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد، فإن قيل: هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات، فليس بينها منازعة ولا مشاكسة، قلنا إن عبدة الأصنام مختلفون منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب السبعة
، فهم في الحقيقة إنما يعبدون الكواكب السبعة، ثم إن القوم يثبتون بين هذه الكواكب منازعة ومشاكسة، ألا ترى أنهم يقولون زحل هو النحس الأعظم، والمشتري هو السعد الأعظم، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأرواح الفلكية، والقائلون بهذا القول زعموا أن كل نوع من أنواع حوادث هذا العالم يتعلق بروح من الأرواح السماوية، وحينئذ يحصل بين تلك الأرواح منازعة ومشاكسة، وحينئذ يكون المثل مطابقا، ومنهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله، والقائلون
277

بهذا القول تزعم كل طائفة منهم أن المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه، وأن من سواه مبطل، وعلى هذا التقدير أيضا ينطبق المثال، فثبت أن هذا المثال مطابق للمقصود.
أما قوله تعالى: * (هل يستويان مثلا) * فالتقدير هل يستويان صفة، فقوله: * (مثلا) * نصب على التمييز، والمعنى هل تستوي صفتاهما وحالتاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس وقرئ مثلين، ثم قال: * (الحمد لله) * والمعنى أنه لما بطل القول بإثبات الشركاء والأنداد، وثبت أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الحق، ثبت أن الحمد له لا لغيره، ثم قال بعده: * (بل أكثرهم لا يعلمون) * أي لا يعلمون أن الحمد له لا لغيره، وأن المستحق للعبادة هو الله لا غيره، وقيل المراد أنه لما سبقت هذه الدلائل الظاهرة والبينات الباهرة، قال: الحمد لله على حصول هذه البيانات وظهور هذه البينات، وإن كان أكثر الخلق لم يعرفوها ولم يقفوا عليها، ولما تمم الله هذه البيانات قال: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * والمراد أن هؤلاء الأقوام وإن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا سيموتون، ثم تحشرون يوم القيامة وتختصمون عند الله تعالى، والعادل الحق يحكم بينكم فيوصل إلى كل واحد ما هو حقه، وحينئذ يتميز المحق من المبطل، والصديق من الزنديق، فهذا هو المقصود من الآية، وقوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * أي إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فإنك وإياهم في أعداد الموتى، لأن كل ما هو آت آت، ثم بين تعالى نوعا آخر من قبائح أفعالهم، وهو أنهم يكذبون ويضمون إليه أنهم يكذبون القائل المحق. أما أنهم يكذبون، فهو أنهم أثبتوا لله ولدا وشركاء. وأما أنهم مصرون على تكذيب الصادقين، فلأنهم يكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم بعد قيام الدلالة القاطعة على كونه صادقا في ادعاء النبوة، ثم أردفه بالوعيد فقال: * (أليس في جهنم مثوى للكافرين) * ومن الناس من تمسك بهذه الآية في تكفير المخالف من أهل القبلة، وذلك لأن المخالف في المسائل القطعية كلها يكون كاذبا في قوله، ويكون مكذبا للمذهب الذي هو الحق، فوجب دخوله تحت هذا الوعيد.
قوله تعالى
* (والذى جآء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك جزآء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذى كانوا
278

يعملون * أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذى انتقام) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * تقديره: والذي جاء بالصدق والذي صدق به، وفيه قولان الأول: أن المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد، والذي صدق به هو أبو بكر، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام وجماعة من المفسرين رضي الله عنهم والثاني: أن المراد منه كل من جاء بالصدق، فالذي جاء بالصدق الأنبياء، والذي صدق به الأتباع، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال: * (أولئك هم المتقون) *.
المسألة الثانية: أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة: المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه، والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق، فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال، وسمعت بعض القاصين من الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة ".
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة، فإن أبا بكر داخل فيه ".
أما على التقدير الأول: فدخول أبي بكر فيه ظاهر، وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق، وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى، لأن عليا عليه السلام كان وقت البعثة صغيرا، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت، ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة. أما أبو بكر فإنه كان رجلا كبيرا في السن كبيرا في المنصب، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام، فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى.
وأما على التقدير الثاني: فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفا بهذه الصفة، وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلا فيه.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " قرىء وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس، ولم
279

يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف، وقيل صار صادقا به أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة وقرئ وصدق.
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاما كثيرة.
فالحكم الأول: قوله: * (أولئك هم المتقون) * وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل، ولما كان
التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء، والآتي بأحد الضدين يكون تاركا للضد الثاني، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركا للشرك الذي هو أخس الأشياء وأرذلها، فلهذا المعنى وصف المصدقين بكونهم متقين.
الحكم الثاني: للمصدقين قوله تعالى: * (لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين) *، وهذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه، فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته، وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة، والعلم بالشيء من حيث إنه كمال، وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه، وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية، وأيضا فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب، وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة، وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا، ومن الناس من تمسك بهذه الآية في أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة، قالوا إن الذين يعتقدون أنهم يرون الله تعالى لا شك أنهم داخلون تحت قوله تعالى: * (وصدق به) * لأنهم صدقوا الأنبياء عليهم السلام، ثم إن ذلك الشخص يريد رؤية الله تعالى فوجب أن يحصل له ذلك لقوله تعالى: * (لهم ما يشاءون عند ربهم) * فإن قالوا لا نسلم أن أهل الجنة يشاءون ذلك، قلنا هذا باطل لأن الرؤية أعظم وجوه التجلي وزوال الحجاب، ولا شك أنها حالة مطلوبة لكل أحد نظرا إلى هذا الاعتبار، بل لو ثبت بالدليل كون هذا المطلوب ممتنع الوجود لعينه فإنه يترك طلبه، لا لأجل عدم المقتضى للطلب، بل لقيام المانع وهو كونه ممتنعا في نفسه، فثبت أن هذه الشبهة قائمة والنص يقتضي حصول كل ما أرادوه وشاءوه فوجب حصولها.
واعلم أن قوله: * (عند ربهم) * لا يفيد العندية بمعنى الجهة والمكان بل بمعنى الصمدية والإخلاص كما في قوله تعالى: * (عند مليك مقتدر) * (القمر: 55) واعلم أن المعتزلة تمسكوا بقوله: * (وذلك جزاء المحسنين) * على أن هذا الأجر مستحق لهم على إحسانهم في العبادة.
الحكم الثالث: قوله تعالى: * (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) * فقوله: * (لهم ما يشاءون عند ربهم) * يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه
280

وقوله: * (ليكفر الله عنهم) * يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه، فقيل المراد أنهم إذا صدقوا الأنبياء عليهم فيما أوتوا فإن الله يكفر عنهم أسوأ أعمالهم وهو الكفر السابق على ذلك الإيمان، ويوصل إليهم أحسن أنواع الثواب، وقال مقاتل يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ، واعلم أن مقاتلا كان شيخ المرجئة وهم الذين يقولون لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان، كما لا ينفع شيء من الطاعات مع الكفر، واحتج بهذه الآية فقال: إنها تدل على أن من صدق الأنبياء والرسل فإنه تعالى يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا، ولا جوز حمل هذا الأسوأ على الكفر السابق، لأن الظاهر من الآية يدل على أن التكفير إنما حصل في حال ما وصفهم الله بالتقوى وهو التقوى من الشرك، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد منه الكبائر التي يأتي بها بعد الإيمان، فتكون هذه الآية تنصيصا على أنه تعالى يكفر عنهم بعد إيمانهم أسوأ ما يأتون به وذلك هو الكبائر.
الحكم الرابع: أنه جرت العادة أن المبطلين يخوفون المحقين بالتخويفات الكثيرة، فحسم الله مادة هذه الشبهة بقوله تعالى: * (أليس الله بكاف عبده) * وذكره بلفظ الاستفهام والمراد تقرير ذلك في النفوس والأمر كذلك، لأنه ثبت أنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات غني عن كل الحاجات فهو تعالى عالم حاجات العباد وقادر على دفعها وإبدالها بالخيرات والراحات، وهو ليس بخيلا ولا محتاجا حتى يمنعه بخله وحاجته عن إعطاء ذلك المراد، وإذا ثبت هذا كان الظاهر أنه سبحانه يدفع الآفات ويزيل البليات ويوصل إليه كل المرادات، فلهذا قال: * (أليس الله بكاف عبده) * ولما ذكر الله المقدمة رتب عليها النتيجة المطلوبة فقال: * (ويخوفونك بالذين من دونه) * يعني لما ثبت أن الله كاف عبده كان التخويف بغير الله عبثا وباطلا، قرأ أكثر القراء عبده بلفظ الواحد وهو اختيار أبي عبيدة لأنه قال له: * (ويخوفونك) * روي أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقرأ جماعة: * (عباده) * بلفظ الجميع قيل المراد بالعباد الأنبياء فإن نوحا كفاه الغرق، وإبراهيم النار، ويونس بالإنجاء مما وقع له، فهو تعالى كافيك يا محمد كما كفى هؤلاء الرسل قبلك، وقيل أمم الأنبياء قصدوهم بالسوء لقوله تعالى: * (وهمت كل أمة برسولهم) * (غافر: 5) وكفاهم الله شر من عاداهم.
واعلم أنه تعالى لما أطنب في شرح الوعيد والوعد والترهيب والترغيب ختم الكلام بخاتمة هي الفصل الحق فقال: * (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل) * يعني هذا الفضل لا ينفع والبينات إلا إذا خص الله العبد بالهداية والتوفيق وقوله: * (أليس الله بعزيز ذي انتقام) * تهديد للكفار.
واعلم أن أصحابنا يتمسكون في مسألة خلق الأعمال وإرادة الكائنات بقوله: * (ومن يضلل الله فما له من هاد * ومن يهد الله فما له من مضل) * والمباحث فيه من الجانبين معلومة والمعتزلة يتمسكون
281

على صحة مذهبهم في هاتين المسألتين بقوله: * (أليس الله بعزيز ذي انتقام) * ولو كان الخالق للكفر فيهم هو الله لكان الانتقام والتهديد غير لائق به.
قوله تعالى
* (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون * قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل فسوف تعلمون * من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *.
اعلم أنه تعالى لما أطنب في وعيد المشركين وفي وعد الموحدين، عاد إلى إقامة الدليل على تزييف طريقة عبدة الأصنام، وبنى هذا التزييف على أصلين:
الأصل الأول: هو أن هؤلاء المشركين مقرون بوجود الإله القادر العالم الحكيم الرحيم وهو المراد بقوله: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) *
واعلم أن من الناس من قال إن العلم بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم متفق عليه بين جمهور الخلائق لا نزاع بينهم فيه، وفطرة العقل شاهدة بصحة هذا العلم فإن من تأمل في عجائب أحوال السماوات والأرض وفي عجائب أحوال النبات والحيوان خاصة وفي عجائب بدن الإنسان وما فيه من أنواع الحكم الغريبة والمصالح العجيبة، علم أنه لا بد من الاعتراف بالإله القادر الحكيم الرحيم.
والأصل الثاني: أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله: * (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته) * فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر، وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة الله كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا وهو المراد من قوله: * (قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) * فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل
282

إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره الله تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى: * (ويخوفونك بالذين من دونه) * وقرئ: * (كاشفات ضره) * و * (ممسكات رحمته) * (الزمر: 38) بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف، فإن قيل كيف قوله: * (كاشفات) * و * (ممسكات) * على التأنيث بعد قوله: * (ويخوفونك بالذين من دونه) *؟ قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة، ولما أورد الله عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد: * (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) * أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضا في تقرير ديني * (فسوف تعلمون) * أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف.
* (إنآ أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنت عليهم بوكيل * الله يتوفى الانفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * أم اتخذوا من دون الله شفعآء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والارض ثم إليه ترجعون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال: * (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا) * (الكهف: 6) وقال: * (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) * (الشعراء: 3) وقال تعالى: * (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) * (فاطر: 8) فلما أطنب الله تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل
283

ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (إنا أنزلنا عليك الكتاب) * الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقرونا بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند الله فمن اهتدى فنفعه يعود إليه، ومن ضل فضير ضلاله يعود إليه * (وما أنت عليهم بوكيل) * والمعنى أنك لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر، ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم، وكما أن الحياة واليقظة وكذلك الموت والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله عز وجل وإيجاده فكذلك الهداية والضلال لا يحصلان إلا من الله تعالى، ومن عرف هذه الدقيقة فقد عرف سر الله تعالى في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فيصير التنبيه على هذه الدقيقة سببا لزوال ذلك الحزن عن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا وجه النظم في الآية، وقيل نظم الآية أنه تعالى ذكر حجة أخرى في إثبات أنه الإله العالم ليدل على أنه بالعبادة أحق من هذه الأصنام. المسألة الثانية: المقصود من الآية أنه تعالى يتوفى الأنفس عند الموت وعند النوم إلا أنه يمسك الأنفس التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى وهي النائمة إلى أجل مسمى أي إلى وقت ضربه لموتها فقوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * يعني أنه تعالى يتوفى الأنفس التي يتوفاها عند الموت يمسكها ولا يردها إلى البدن وقوله: * (ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * يعني أن النفس التي يتوفاها عند النوم يردها إلى البدن عند اليقظة وتبقى هذه الحالة إلى أجل مسمى، وذلك الأجل هو وقت الموت فهذا تفسير لفظ الآية وهي مطابقة للحقيقة، ولكن لا بد فيه من مزيد بيان، فنقول النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة، فنقول إنه في وقت الموت ينقطع تعلقه عن ظاهر هذا البدن وعن باطنه وذلك هو الموت، وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه، وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر العالم الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه أحدها: أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه وذلك اليقظة وثانيها: أن يرتفع ضوء النفس عن ظاهر البدن من بعض الوجوه دون باطنه وذلك هو النوم وثالثها: أن يرتفع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفيا للنفس، ثم يمتاز أحدهما عن الآخر بخواص معينة في صفات معينة، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر العليم الحكيم، وهو المراد من قوله: * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * ويحتمل أن يكون المراد بهذا أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلها موصوفا بهذه القدرة وبهذه الحكمة
284

وأن لا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك، واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالا، فقالوا نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله من المقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله فأجاب الله تعالى بأن قال: * (أم اتخذوا من دون الله شفعاء، قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) * وتقرير الجواب أن هؤلاء الكفار إما أن يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الأصنام أو من أولئك
العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الأصنام تماثيل لها والأول: باطل لأن هذه الجمادات وهي الأصنام لا تملك شيئا ولا تعقل شيئا فكيف يعقل صدور الشفاعة عنها والثاني: باطل لأن في يوم القيامة لا يملك أحد شيئا ولا يقدر أحد على الشفاعة إلا بإذن الله، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله الذي يأذن في تلك الشفاعة، فكان الاشتغال بعبادته أولى من الاشتغال بعبادة غيره وهذا هو المراد من قوله تعالى: * (قل لله الشفاعة جميعا) * ثم بين أنه لا ملك لأحد غير الله بقوله: * (له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون) * ومنهم من تمسك في نفي الشفاعة مطلقا بقوله تعالى: * (قل لله الشفاعة جميعا) * وهذا ضعيف لأنا نسلم أنه سبحانه ما لم يأذن في الشفاعة لم يقدر أحد على الشفاعة، فإن قيل قوله: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * فيه سؤال لأن هذا يدل على أن المتوفى هو الله فقط، وتأكد هذا بقوله: * (الذي خلق الموت والحياة) * (الملك: 2) وبقوله: * (ربي الذي يحيي ويميت) * (البقرة: 258) وبقوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) ثم إن الله تعالى قال في آية أخرى: * (قل يتوفاكم ملك الموت) * (السجدة: 11) وقال في آية ثالثة: * (حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا) * وجوابه أن المتوفى في الحقيقة هو الله، إلا أنه تعالى فوض في عالم الأسباب كل نوع من أنواع الأعمال إلى ملك من الملائكة، ففوض قبض الأرواح إلى ملك الموت وهو رئيس وتحته أتباع وخدم فأضيف التوفي في هذه الآية إلى الله تعالى بالإضافة الحقيقية، وفي الآية الثانية إلى ملك الموت لأنه هو الرئيس في هذا العمل وإلى سائر الملائكة لأنهم هم الأتباع لملك الموت والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذا ذكر الله وحده شمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون * قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم
285

بين عبادك فى ما كانوا فيه يختلفون * ولو أن للذين ظلموا ما فى الارض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون * وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) *.
اعلم أن هذا نوع آخر من الأعمال القبيحة للمشركين، وهو أنك إذا ذكرت الله وحده تقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرت آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرت الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وأما ذكر الأصنام التي هي الجمادات الخسيسة، فهو رأس الجهالات والحماقات، فنفرتهم عن ذكر الله وحده واستبشارهم بذكر هذه الأصنام من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ والحمق الشديد، قال صاحب " الكشاف " وقد يقابل الاستبشار والاشمئزاز إذ كل واحد منهما غاية في بابه لأن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى يظهر أثر ذلك السرور في بشرة وجهه ويتهلل، والاشمئزاز أن يعظم غمه وغيظه فينقبض الروح إلى داخل القلب فيبقى في أديم الوجه أثر الغبرة والظلمة الأرضية، ولما حكى عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد فطرة العقل بفساده أردفه بأمرين أحدهما: أنه ذكر الدعاء العظيم، فوصفه أولا بالقدرة التامة وهي قوله: * (قل اللهم فاطر السماوات والأرض) * وثانيا بالعلم الكامل وهو قوله تعالى عالم الغيب والشهادة، وإنما قدم فذكر القدرة على ذكر العلم لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما، ولما ذكر هذا الدعاء قال: * (أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون) * يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم عند سماع الشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل، ومع ذلك، القوم قد أصروا عليه، فلا يقدر أحد على إزالتهم عن هذا الاعتقاد الفاسد والمذهب الباطل إلا أنت. عن أبي سلمة قال: سألت عائشة بم كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته بالليل؟ قالت " كان يقول اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك وانك لتهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل ذكر في وعيدهم أشياء أولها: أن هؤلاء
286

الكفار لو ملكوا كل ما في الأرض من الأموال وملكوا مثله معه لجعلوا الكل فدية لأنفسهم من ذلك العذاب الشديد وثانيها: قوله تعالى: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * أي ظهرت لهم أنواع من العقاب لم تكن في حسابهم، وكما أنه صلى الله عليه وسلم قال في صفة الثواب في الجنة " فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " فكذلك في العقاب حصل مثله وهو قوله: * (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) * وثالثها: قوله تعالى: * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) * ومعناه ظهرت لهم آثار تلك السيئات التي اكتسبوها أي ظهرت لهم أنواع من العقاب آثار تلك السيئات التي اكتسبوها. ثم قال: * (وحاق بهم) * من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به، فنبه تعالى بهذه الوجوه على عظم عقابهم.
قوله تعالى
* (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنمآ أوتيته على علم بل هى فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون * قد قالها الذين من قبلهم فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين * أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إن فى ذلك لايات لقوم يؤمنون) *.
اعلم أن هذا حكاية طريقة أخرى من طرائقهم الفاسدة، وذلك لأنهم عند الوقوع في الضر الذي هو الفقر والمرض يفزعون إلى الله تعالى، ويرون أن دفع ذلك لا يكون إلا منه، ثم إنه تعالى إذا خولهم النعمة، وهي إما السعة في المال أو العافية في النفس، زعم أنه إنما حصل ذلك بكسبه وبسبب جهده وجده، فإن كان مالا قال إنما حصل بكسبي، وإن كان صحة قال إنما حصل ذلك بسبب العلاج الفلاني، وهذا تناقض عظيم، لأنه كان في حال العجز والحاجة أضاف الكل
287

إلى الله وفي حال السلامة والصحة قطعه عن الله، وأسنده إلى كسب نفسه، وهذا تناقض قبيح، فبين تعالى قبح طريقتهم فيما هم عليه عند الشدة والرخاء بلفظة وجيزة فصيحة، فقال * (بل هي فتنة) * يعني النعمة التي خولها هذا الكافر فتنة، لأن عند حصولها يجب الشكر، وعند فواتها يجب الصبر، ومن هذا حاله يوصف بأنه فتنة من حيث يختبر عنده حال من أوتي النعمة، كما يقال فتنت الذهب بالنار، إذا عرضته على النار لتعرف خلاصته.
ثم قال تعالى: * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * والمعنى ما قدمنا أن هذا التخويل إنما كان لأجل الاختبار. وبقي في الآية أبحاث نذكرها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء ههنا، وعطف مثلها في أول السورة بالواو؟ والجواب: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنهم يشمئزون من سماع التوحيد ويستبشرون بسماع ذكر الشركاء، ثم ذكر بفاء التعقيب أنهم إذا وقعوا في الضر والبلاء والتجأوا إلى الله تعالى وحده، كان الفعل الأول مناقضا للفعل الثاني، فذكر فاء التعقيب ليدل على أنهم واقعون في المناقضة الصريحة في الحال، وأنه ليس بين الأول والثاني فاصل مع أن كل واحد منهما مناقض للثاني، فهذا هو الفائدة في ذكر فاء التعقيب ههنا. فأما الآية الأولى فليس المقصود منها بيان وقوعهم في التناقض في الحال، فلا جرم ذكر الله بحرف الواو لا بحرف الفاء.
السؤال الثاني: ما معنى التخويل؟ الجواب: التخويل هو التفضل، يعني نحن نتفضل عليه وهو يظن أنه إنما وجده بالاستحقاق.
السؤال الثالث: ما المراد من قوله: * (إنما أوتيته على علم) *؟ الجواب: يحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علم الله بكوني مستحقا لذلك، ويحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علمي بكوني مستحقا له، ويحتمل أن يكون المراد، إنما أوتيته على علم لأجل ذلك العلم قدرت على اكتسابه مثل أن يكون مريضا فيعالج نفسه، فيقول إنما وجدت الصحة لعلمي بكيفية العلاج، وإنما وجدت المال لعلمي بكيفية الكسب.
السؤال الرابع: النعمة مؤنثة، والضمير في قوله: * (أوتيته) * عائد على النعمة، فضمير التذكير كيف عاد إلى المؤنث، بل قال بعده: * (بل هي فتنة) * فجعل الضمير مؤنثا فما السبب فيه؟ والجواب: أن التقدير حتى إذا خولناه شيئا من النعمة، فلفظ النعمة مؤنث ومعناه مذكر، فلا جرم جاز الأمران.
ثم قال تعالى: * (قد قالها الذين من قبلهم) * فما أغنى عنهم الضمير في قالها راجح إلى قوله: * (إنما أوتيته على علم) * عندي لأنها كلمة أو جملة من المقول * (والذين من قبلهم) * هم قارون وقومه حيث قال: * (إنما أوتيته على علم) * عندي وقومه راضون به فكأنهم قالوها، ويجوز أيضا أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها.
288

ثم قال تعالى: * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * أي ما أغنى عنهم ذلك الاعتقاد الباطل والقول الفاسد الذي اكتسبوه من عذاب الله شيئا بل أصابهم سيئات ما كسبوا، ولما بين في أولئك المتقدمين أنهم أصابهم سيئات ما كسبوا أي عذاب عقائدهم الباطلة وأقوالهم الفاسدة قال: * (وما هم بمعجزين) * أي لا يعجزونني في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: * (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * يعني: أو لم يعلموا أن الله تعالى هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء تارة، ويقبض تارة أخرى، وقوله: * (ويقدر) * أي ويقتر ويضيق، والدليل عليه أنا نرى الناس مختلفين في سعة الرزق وضيقه ولا بد له من سبب، وذلك السبب ليس هو عقل الرجل وجهله، لأنا نرى العاقل القادر في أشد الضيق، ونرى الجاهل المريض الضعيف في أعظم السعة، وليس ذلك أيضا لأجل الطبائع والأنجم والأفلاك لأن في الساعة التي ولد فيها ذلك الملك الكبير والسلطان القاهر، قد ولد فيه أيضا عالم من الناس وعالم من الحيوانات غير الإنسان، ويولد أيضا في تلك الساعة عالم من النبات، فلما شاهدنا حدوث هذه الأشياء الكثيرة في تلك الساعة الواحدة مع كونها مختلفة في السعادة والشقاوة، علمنا أنه ليس المؤثر في السعادة والشقاوة هو الطالع، ولما بطلت هذه الأقسام، علمنا أن المؤثر فيه هو الله سبحانه، وصح بهذا البرهان العقلي القاطع على صحة قوله تعالى: * (أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *.
قال الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشترى * ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء * وقاضي القضاة تعالى وجل
289