الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ٥
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

((سورة التوبة))
2 (* (برآءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا فى الا رض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الا كبر أن الله برىء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بأايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم سآء ما كانوا يعملون * لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولائك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءااتوا الزكواة فإخوانكم في الدين ونفصل الا يات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون
3

ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشآء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر أولائك حبطت أعمالهم وفى النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الا خر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولائك أن يكونوا من المهتدين * أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الا خر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين * الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولائك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيهآ أبدا إن الله عنده أجر عظيم * ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءابآءكم وإخوانكم أوليآء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولائك هم الظالمون * قل إن كان ءاباؤكم وأبنآؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونهآ أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره والله لا يهدى القوم الفاسقين * لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذالك جزآء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذالك على من يشآء والله غفور رحيم * ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا وإن خفتم عيلة
4

فسوف يغنيكم الله من فضله إن شآء إن الله عليم حكيم * قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الا خر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون * وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) *))
) *
المرصد: مفعل من رصد يرصد رقب، يكون مصدرا وزمانا ومكانا. وقال عامر بن الطفيل:
* ولقد علمت وما إخالك ناسيا
*
أن المنية للفتى بالمرصد
*
الآل الحلف والجؤار، ومنه قول أبي جهل.
* لآل علينا واجب لا نضيعه
*
متين قواه غير منتكث الحبل
كانوا إذا تسامحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم وشهروه من الآل وهو الجؤار، وله أليل أي أنين يرفع به صوته. وقيل: القرابة. وأنشد أبو عبيدة على القرابة قول الشاعر:
* أفسد الناس خلوف خلفوا
*
قطعوا الآل وأعراق الرحم
*
وظاهر البيت أنه في العهد. ومن القرابة قول حسان:
* لعمرك أن لك من قريش
*
كل السقب من رأل النعام
*
وسميت إلا لأنها عقدت ما لا يعقد الميثاق. وقيل: من أل البرق لمع. وقال الأزهري: الأليل البريق، يقال: أل يؤل صفا ولمع. وقال القرطبي: مأخوذ من الحدة، ومنه الآلة الحربة. واذن مؤللة محددة، فإذا قيل للعهد والجؤار والقرابة إل فمعناه: أن الإذن منصرف إلى تلك الجهة التي يتحدد لها، والعهد يسمى إلا لصفائه، ويجمع في القلة الآل، وفي الكثرة الأل وأصل جمع القلة أألل، فسهلت الهمزة الساكنة التي هي فاء الكلمة فأبدلها ألفا، وأدغمت اللامفي اللام، الذمة؛ العهد. وقال أبو عبيدة: الأمان. وقال الأصمعي: كل ما يجب أن يحفظ ويحمى.
أبى يأبى منع، قال:
5

* أبى الضيم والنعمان يخرق نابه
*
عليه فافضى والسيوف معاقله
*
وقال:
* أبى الله إلا عدله ووفاءه
*
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
*
ومجئ مضارعه على فعل بفتح العين شاذ، ومنه آبى اللحم لرجل من الصحابة.
شفاه: أزال سقمه. العشيرة جماعة بسبب أو عقد أو وداد كعقد العشيرة. اقترف اكتسب. كسد الشيء كسادا وكسودا بار ولم يكن له نفاق. الموطن: الموقف والمقام، قال الشاعر:
* وكم موطن لولاي طحت كما هوى
*
بإجرامه من قلة النيق منهوي
*
ومثله الوطن. حنين: واد بين مكة والطائف، وقيل: واد إلى جنب ذي المجاز.
العيلة: الفقر، عال يعيل افتقر. قال:
* وما يدري الفقير متى غناه
*
وما يدري الغني متى يعيل
*
الجزية: ما أخذ من أهل الذمة على مقامهم في بلاد الإسلام، سميت بذلك لأنهم يجزونها أي يقضونها. أو لأنها تجزى بها من من عليهم بالإعفاء عن القتل.
المضاهاة: المماثلة والمحاكاة، وثقيف تقول: المضاهأة بالهمز، وقد ضاهأت فمادتها مخالفة للتي قبلها، إلا إن كان ضاهت يدعى أن أصلها الهمز كقولهم في توضأت وقرأت وأخطأت: توضيت، وقريت، وأخطيت فيمكن. وأما ضهيأ بالهمز مقصورا فهمزته زائدة كهمزة عرفىء، أو ممدودا فهمزته للتأنيث زائدة، أو ممدودا بعده هاء التأنيث. حكاه البحتري عن أبي عمرو الشيباني في النوادر قال: جمع بين علامتي تأنيث. ومدلول هذه اللفظة في ثلاث لغاتها المرأة التي لا تحيض، أو التي لا ثدي لها شابهت بذلك الرجال. فمن زعم أن المضاهاة مأخوذة من ضهياء فقوله خطأ لاختلاف المادتين، لأصالة همزة المضاهأة، وزيادة همزة ضهياء في لغاتها الثلاث.
* (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا فى الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزى الكافرين) * هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتين من آخرها فإنهما نزلتا بمكة، وهذا قول الجمهور. وذكر المفسرون لها اسما واختلافا في سبب ابتدائها بغير بسملة، وخلافا عن الصحابة:
أهي والأنفال سورة واحدة، أو سورتان؟ ولا تعلق لمدلول اللفظ بذلك، فأخلينا كتابنا منه، ويطالع ذلك في كتب المفسرين.
ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة، ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم. ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، أو على إضمار مبتدأ أي: هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب.
6

قال ابن عطية: أي الزموا، وفيه معنى الاغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة. قال: فإن قلت: بم تعلقت البراءة، بالله ورسوله والمعاهدة بالمسلمين؟ قلت: قد أذن الله تعالى في معاهدة المشركين أولا، فاتفق المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعاهدوهم، فلما نقضوا العهد أوجب الله تعالى النبذ إليهم، فخوطب المسلمون بما تجدد من ذلك فقيل لهم: إعلموا أن الله تعالى ورسوله قد برئا مما عاهدتم به المشركين. وقال ابن عطية: لما كان عهد الرسول صلى الله عليه وسلم) لازما لجميع أمته حسن أن يقول: عاهدتم. وقال ابن إسحاق وغيره: كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم) عهدا عاما على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات، فنقض ذلك بهذه الآية، وأحل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع الرسول عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتم له عهده، وإذا كان ممن يحتبس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة يسيح في الأرض أي: يذهب فيها مسرحا آمنا. وظاهر لفظة من المشركين العموم، فكل من عاهده المسلمون داخل فيه من مشركي مكة وغيرهم.
وروي أنهم نكثوا إلا بني ضمرة وكنانة فنبذ العهد إلى الناكثين. وقال مقاتل: المراد بالمشركين هنا ثلاث قبائل من العرب: خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة. وقيل: هذه الآية في أهل مكة، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم) صالح قريشا عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس، فدخلت خزاعة في عهد الرسول، وبنو بكر بن عبد مناة في عهد قريش، وكان لبني الديل من بني بكر دم عند خزاعة فاغتنموا الفرصة وغفلة خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر وبيتوا خزاعة فاقتتلوا، وأعانت قريش بني بكر بالسلاح، وقوم أعانوهم بأنفسهم، فهزمت خزاعة إلى الحرم، فكان ذلك نقضا لصلح الحديبية، فخرج من خزاعة بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم في ناس من قومهم، فقدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم) مستغيثين، وأنشده عمرو فقال:
* يا رب إني ناشد محمدا
*
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
*
* كنت لنا أبا وكنا ولدا
*
ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا
*
* فانصر هداك الله نصرا عبدا
*
وادع عباد الله يأتوا مددا
*
* فيهم رسول الله قد تجردا
*
أبيض مثل الشمس ينمو صعدا
*
* إن سيم خسفا وجهه تريدا
*
في فيلق كالبحر يجري مزبدا
*
* إن قريشا أخلفوك الموعدا
*
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
*
* وزعموا أن لست تدعو أحدا
*
وهم أذل وأقل عددا
*
* هم بيتونا بالحطيم هجدا
*
وقتلونا ركعا وسجدا
*
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لا نصرت إن لم أنصركم)
7

فتجهز إلى مكة وفتحها سنة ثمان، ثم خرج إلى غزوة تبوك وتخلف من تخلف من المنافقين وأرجفوا الأراجيف، فجعل المشركون ينقضون عهودهم، فأمره الله تعالى بإلقاء عهدهم إليهم، وأذن في الحرب فسيحوا أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد وهو التفات من غيبة إلى خطاب أي: قل لهم سيحوا. يقال: ساح سياحة وسوحا وسيحانا، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. وقال طرفة:
* لو خفت هذا منك ما نلتني
*
حتى ترى خيلا أمامي تسيح
*
قال ابن عباس والزهري: أول الأشهر شوال حتى نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين، فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان. وقال السدي وغيره: أولها يوم الأذان، وآخرها العشر من ربيع الآخر. وقيل: العشر من ذي القعدة إلى عشرين من شهر ربيع الأول، لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة غير معجزي الله لا تفوتونه وإن أملهكم وهو مخزيكم أي: مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب. وحكى أبو عمرو عن أهل نجران: أنهم يقرأون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين، واتباعا لكسرة النون. * (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برىء من المشركين ورسوله) * قرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرأ الحسن والأعرج: إن الله بكسر الهمزة فالفتح على تقدير بأن، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين، أو لأن الأذان في معنى القول فكسرت على مذهب الكوفيين. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وزيد بن علي: ورسوله بالنصب، عطفا على لفظ اسم أن. وأجاز الزمخشري أن ينتصب على أنه مفعول معه. وقرئ بالجر شاذا، ورويت عن الحسن. وخرجت على العطف على الجوار كما أنهم نعتوا وأكدوا على الجوار. وقيل: هي واو القسم. وروي أن أعرابيا سمع منم يقرأ بالجر فقال: إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء، فلببه القارئ إلى عمر، فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعليم العربية. وأما قراءة الجمهور بالرفع فعلى الابتداء، والخبر محذوف أي: ورسوله بريء منهم، وحذف لدلالة ما قبله عليه. وجوزوا فيه أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في بريء، وحسنه كونه فصل بقوله: من المشركين، بين متحمله، والمعطوف. ومن أجاز العطف على موضع اسم إن المكسورة أجاز ذلك، مع أن المفتوحة. ومنهم من أجاز ذلك مع المكسورة، ومنع مع المفتوحة.
قال ابن عطية: ومذهب الأستاذ يعني أبا الحسن بن الباذش على مقتضى كلام سيبويه: أن لا موضع لما دخلت عليه إن لا موضع لما دخلت عليه هذه انتهى. وهذا كلام فيه تعقب، لأن علة كون إن موضع لما دخلت عليه، ليس ظهور عمل العامل، بدليل ليس زيد بقائم، وما في الدار من
8

رجل، فإنه ظهر عمل العامل، ولهما موضع. وقوله: والإجماع إلى آخره يريد: أن ليت لا موضع لها من الإعراب بالإجماع، وليس كذلك، لأن الفراء خالف وجعل حكم ليت ولعل وكان ولكن، وأن حكم إن في كون اسمهن له موضع. وإعراب وأذان كإعراب براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها ولا وجه لقول من قال: إنه معطوف على براءة، كما لا يقال عمرو معطوف على زيد في زيد قام وعمرو قاعد.
والأذان بمعنى الإيذان وهو الإعلام كما أن الأمان والعطاء يستعملان بمعنى الإيمان والإعطاء، ويضعف جعله خيرا عن. وأذان إذا أعربناه مبتدأ، بل الخبر قوله: إلى الناس. وجاز الابتداء بالنكرة لأنها وصفت بقوله: من الله ورسوله. ويوم منصوب بما يتعلق به إلى الناس، وقد أجاز بعضهم نصبه بقوله: وأذان، وهو بعيد من جهة أن المصدر إذا وصف قبل أخذه معموله لا يجوز إعماله فيما بعد الصفة، ومن جهة أن لا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد أخذه معموله، وقد أخبر عنه بقوله: إلى الناس.
لما كان سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يحج، فكره أن يرى المشركين يطوفون عراة، فبعث أبا بكر أميرا على الموسم، ثم أتبعه عليا ليقرأ هذه الآيات على أهل الموسم راكبا ناقته العضباء، فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال: (لا يؤدي عني إلا رجل مني) فلما اجتمعا قال: أبو بكر أمير أو مأمور، قال: مأمور. فلما كان يوم التروية خطب أبو بكر وقام علي يوم النحر بعد جمرة العقبة فقال: (يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم)، فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم
ثلاثين آية أو أربعين. وعن مجاهد: ثلاث عشرة ثم قال: (أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وأن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده) فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف. وقيل: عادة العرب في نقض عهودها أن يتولى رجل من القبيلة، فلو تولاه أبو بكر لقالوا هذا خلاف ما يعرف منا في نقض العهود، فلذلك جعل عليا يتولاه، وكان أبو هريرة مع علي، فإذا صحل صوت علي نادى أبو هريرة. والظاهر أن يوم الحج الأكبر هو يوم أحد. فقال عمر، وابن الزبير، وأبو جحيفة، وطاووس، وعطاء، وابن المسيب: هو يوم عرفة، وروى مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال أبو موسى، وابن أبي أوفى، والمغيرة بن شعبة، وابن جبير، وعكرمة، والشعبي، والنخعي، والزهري، وابن زيد، والسدي: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قال سفيان بن عيينة. قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أن عليا أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع فتتبعهم بالأذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، ويتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان. ويقول: كان هذا يوم صفين، ويوم الجمل، يريد جميع أيامه. وقال مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومجنة حتى نودي فيهم: إن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ووصفه بالأكبر. قال الحسن، وعبد الله بن الحرث بن نوفل: لأنه حج ذلك العام المسلمون والمشركون، وصادف عيد اليهود والنصارى، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم في قلب كل مؤمن وكافر. وضعف هذا القول بأنه تعالى لا يصفه بالأكبر لهذا. وقال الحسن أيضا: لأنه حج فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. قال ابن عطية: وهذا هو القول الذي
9

يشبه نظر الحسن، وبيانه أن ذلك اليوم كان المفتتح بالحق وأمارة الإسلام بتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ونبذت فيه العهود، وعز فيه الدين، وذل فيه الشرك، ولم يكن ذلك في عام ثمان حين ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) عتاب بن أسد كان أمير العرب على أوله، فكل حج بعد حج أبي بكر فمتركب عليه، فحقه لهذا أن يسمى أكبر انتهى. ومن قال: إنه يوم عرفة، فسمي الأكبر لأنه معظم واجباته، فإذا فات فات الحج. ومن قال: إنه يوم منى فلأن فيه معظم الحج، وتمام أفعاله من الطواف والنحر والحلق والرمي. وقيل: وصف بالأكبر لأن العمرة تسمى بالحج الأصغر. وقال منذر بن سعيد وغيره: كان الناس يوم عرفة مفترقين إذا كانت الحمس تقف بالمزدلفة، وكان الجمع يوم النحر بمنى، ولذلك كانوا يسمونه يوم الحج الأكبر أي الأكبر من الأصغر الذي هم فيه مفترقون. وقد ذكر المهدوي: أن الحمس ومن اتبعها وقفوا بالمزدلفة في حجة أبي بكر رضي الله عنه. وحكى القرطبي عن ابن سيرين: أن يوم الحج الأكبر أراد به العام الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في حجة الوداع، وحج معه الأمم، وهذا يحتاج إلى إضمار، كأنه قال: هذا الأذان حكمه متحقق يوم الحج الأكبر وهو عام حج رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى. وسمي أكبر لأنه فيه ثبتت مناسك الحج. وقال فيه: (خذوا عني مناسككم) وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة وأذان من الله ورسوله إخبار بوجوب الإعلام بما ثبت، فافترقتا وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الأذان بالناس لشموله معاهدا وغيره ناكثا، وغيره مسلما وكافرا، هذا هو قول الجمهور. قيل: ويجوز أن يكون الخطاب للكفار بدليل آخر الآية، وبدليل مناداة علي بالجمل الأربع. فظاهره أن المخاطب بتلك الجمل الكفار، ولما كان المجرور خبرا عن قوله وأذان، كان بإلى أي مفتد إلى الناس وواصل إليهم. ولو كان المجرور في موضع المفعول لكان باللام، ومن في من المشركين متعلقة بقوله بريء تعلق المفعول. تقول: برئت منك، وبرئت من الدين بخلاف من في قوله: براءة من الله، فإنها في موضع الصفة * (فإن تبتم) * أي: من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم. * (فهو) * أي التوب * (خير لكم) * في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار. * (وإن توليتم) * أي عن الإسلام * (فاعلموا أنكم غير معجزى الله) * أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته * (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) * جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.
* (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن) * قال قوم: هذا استثناء منقطع، التقدير: لكن الذين عاهدتم فثبتوا على العهد أتموا إليهم عهدهم. وقال قوم منهم الزجاج: هو استثناء متصل من قوله: إلى الذين عاهدتم من المشركين. وقال الزمخشري: وجهه أن يكون مستثنى من قوله: * (فسيحوا فى الارض) * لأن الكلام خطاب للمسلمين ومعناه: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سيحوا، إلا الذين عاهدتم منهم، ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. والاستثناء بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في الناكثين: ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر. وقيل: هو استثناء متصل، وقبله جملة محذوفة تقديرها: اقتلوا المشركين المعاهدين إلا الذين عاهدتم، وهذا قول ضعيف جدا، والأظهر أن يكون منقطعا لطول الفصل بجمل كثيرة بين ما يمكن أن يكون مستثنى منه وبينه. قال مجاهد وغيره: هم قوم كان بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم) عهد لمدة، فأمر أن يفي لهم. وعن ابن عباس لما قرأ علي براءة قال لبني ضمرة وحي من كنانة وحي من سليم: إن الله قد استثناكم ثم قرأ هذه الآية. والظاهر أن قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين الرسول أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر، فأتم إليهم
10

عهدهم. وعنه أيضا: إلى مدتهم، إلى الأربعة الأشهر التي في الآية. وهذا بعيد، لأنه يكون الاستثناء لا يفيد تجديد حكم، إذ يكون حكم هؤلاء المستثنين حكم باقي المعاهدين الذين لم يتصفوا بما اتصف به هؤلاء من عدم النقص وعدم المظاهرة.
وقرأ عطاء بن السائب الكوفي وعكرمة، وأبو زيد، وابن السميفع: ينقضوكم بالضاد معجمة وتناسب العهد، وهي بمعنى قراءة الجمهور، لأن من نقص من العهد فقد نقص من الأجل المضروب. وهو على حذف مضاف، أي ولم ينقضوا عهدكم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لدلالة الكلام عليه. وقال الكرماني: هي
بالضاد أقرب إلى معنى العهد، إلا أن القراءة بالصاد أحسن ليقع في مقابلته التمام في قوله: فأتموا إليهم. والتمام ضد النقص. وانتصب شيئا على المصدر، أي: لا قليلا من النقص ولا كثيرا، ولم يظاهروا عليكم أحدا كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتوا بإلى لتضمنه معنى فأدوا، أي: فأدوه تاما كاملا. وقول قتادة: إن المستثنين هم قريش عوهدوا زمن الحديبية مردود بإسلام قريش في الفتح قبل الإذن بهذا كله. وقوله: يحب المتقين، تنبيه على أن الوفاء العهد من التقوى، وأن من التقوى أن لا يسوي بين القبيلتين.
* (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) * تقدم الكلام على انسلخ في قوله: فانسلخ. وقال أبو الهيثم: يقال أهللنا هلال شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه، فنحن نزداد كل ليلة إلى مضي نصفه لباسا منه، ثم نسلخه عن أنفسنا بعد تكامل النصف منه جزءا حتى نسلخه عن أنفسنا كله، فينسلخ. وأنشد:
* إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
*
كفي قاتلا سلخ الشهور وإهلال
*
والظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها.
وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه أن تذكر بالضمير نحو: لقيت رجلا فضربته. ويجوز أن يعاد اللفظ معرفا بل نحو: لقيت رجلا فضربت الرجل، ولا يجوز أن يوصف بوصف يشعر بالمغايرة لو قلت: لقيت رجلا فضربت الرجل الأزرق، وأنت تريد الرجل الذي لقيته، لم يجز بل ينصرف ذلك إلى غيره، ويكون المضروب غير الملقى. فإن وصفته بوصف لا يشعر بالمغايرة جاز نحو: لقيت رجلا فضربت الرجل المذكور. وهنا جاء الأشهر الحرم، لأن هذا الوصف مفهوم من قوله: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، إذ التقدير أربعة أشهر حرم لا يتعرض إليكم فيها، فليس الحرم وصفا مشعرا بالمغايرة. وقيل: الأشهر الحرم هي غير هذه الأربعة، وهي الأشهر التي حرم الله فيها القتال منذ خلق السماوات والأرض، وهي التي جاء في الحديث فيها (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب) فتكون الأربعة من سنتين. وقيل: أولها المحرم، فتكون من سنة. وجاء الأمر بالقتل على سبيل التشجيع وتقوية النفس، وأنهم لا منعة عندهم من أن يقتلوا. وفي إطلاق الأمر بالقتل دليل على قتلهم بأي وجه كان،
11

وقد قتل أبو بكر أصحاب الردة بالإحراق بالنار، وبالحجارة، وبالرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار. وتعلق بعموم هذه الآية، وأحرق علي قوما من أهل الردة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن المثلة. ولفظ المشركين عام في كل مشرك، وجاءت السنة باستثناء الأطفال والرهبان والشيوخ الذين ليسوا ذوي رأي في الحرب، ومن قاتل من هؤلاء قتل. وقال الزمخشري: يعني الذي نقصوكم وظاهروا عليكم. ولفظ: (حيث وجدتموهم) عام في الأماكن من حل وحرم. (وخذوهم) عبارة عن الأسر، والأخيذ الأسير. ويدل على جواز أسرهم: واحصروهم، قيدوهم وامنعوهم من التصرف في البلاد. وقيل: استرقوهم. وقيل: معناه حاصروهم إن تحصنوا. وقرئ: فحاصروهم شاذا، وهذا القول يروى عن ابن عباس. وعنه أيضا: حولوا بينهم وبين المسجد الحرام. وقيل: امنعوهم عن دخول بلاد الإسلام والتصرف فيها إلا بإذن. قال القرطبي في قوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأن المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أن المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق، إما بطريق القتال، وإما بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، وإسلال خيلهم، وإتلاف مواشيهم إذا عجز عن الخروج بها إلى دار الإسلام، إلا أن يصالحوا على مثل ذلك.
قال الزمخشري: (كل مرصد) كل ممر ومجتاز ترصدونهم فيه، وانتصابه على الظرف كقوله: * (لاقعدن لهم صراطك المستقيم) * انتهى. وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد ظرف، كقولك: ذهبت مذهبا ورده أبو علي، لأن المرصد المكان الذي يرصد فيه العدو، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا كما حكى سيبويه: دخلت البيت، وكما غسل الطريق الثعلب انتهى. وأقول: يصح انتصابه على الظرف، لأن قوله: (واقعدوا لهم) ليس معناه حقيقة القعود، بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه، ولما كان بهذا المعنى جاز قياسا أن يحذف منه في كما قال: وقد قعدوا منها كل مقعد.
فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملا من لفظه أو من معناه، جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد. فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه، فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد، فحذف وأعمل الفعل، وحذف على، ووصول الفعل إلى مجرورها فتنصبه، يخصه أصحابنا بالشعر. وأنشدوا:
* تحن فتبدي ما بها من صبابة
*
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
*
أي لقضي علي.
* (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم) * أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي، ثم نبه على أعظم الشعائر الإسلامية، وذلك إقامة الصلاة وهي أفضل الأعمال البدنية، وإيتاء الزكاة وهي أفضل الأعمال المالية، وبهما
12

تظهر القوة العملية، كما بالتوبة تظهر القوة العلمية عن الجهل. فخلوا سبيلهم، كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤوا، ولا تتعرضوا لهم كقول الشاعر:
* خل السبيل لمن يبنى المنار به أو يكون المعنى: فأطلقوهم من الأسر والحصر. والظاهر الأول، لشمول الحكم لمن كان مأسورا وغيره.
*
وقال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعا، وأبى الله أن لا تقبل الصلاة إلا بالزكاة، وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه في قوله: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) وناسب ذكر وصف الغفران والرحمة منه تعالى لمن تاب عن الكفر والتزم شرائع الإسلام. قال الحافظ أبو بكر بن العربي: لا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة وسائر الفرائض مستحلا كفر، ودفن في مقابر الكفار، وكان ماله فيئا. ومن ترك السنن فسق، ومن ترك النوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها فيكفر، لأنه يصير رادا على النبي صلى الله عليه وسلم) ما جاء به وأخبر عنه انتهى. والظاهر أن مفهوم الشرط لا ينتهض أن يكون دليلا على تعيين قتل من ترك الصلاة والزكاة متعمدا غير مستحل ومع القدرة لأن انتفاء تخلية السبيل تكون بالحبس وغيره، فلا يتعين القتل. وقد اختلف العلماء في ذلك، فقال مكحول، ومالك، والشافعي، وحماد بن زيد، ووكيع، وأبو ثور: يقتل. وقال ابن شهاب، وأبو حنيفة، وداود: يسجن ويضرب، ولا يقتل. وقال جماعة من الصحابة والتابعين: يقتل كفرا، وماله مال مرتد، وبه قال إسحاق. قال إسحاق: وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم) إلى زماننا.
* (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذالك بأنهم قوم لا يعلمون) * قال الضحاك والسدي: هي منسوخة بآية الأمر بقتل المشركين. وقال الحسن ومجاهد: هي محكمة إلى يوم القيامة. وعن ابن جبير: جاء رجل إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل ليسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا، لأن الله تعالى قال: وإن أحد من المشركين استجارك الآية انتهى. وقيل: هذه الآية إنما كان حكمها مدة الأربعة الأشهر التي ضربت لهم أجلا، والظاهر أنها محكمة. ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا، وأخذهم وحصرهم وطلب غرتهم، ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون ويؤسرون، وتلك إذا جاء واحد منهم مسترشدا طالبا للحجة والدلالة على ما يدعوا إليه من الدين. فالمعنى: وإن أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيرا له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله وما تضمنه من التوحيد، ويقف على ما بعثت به، فكن مجيرا له حتى يسمع كلام الله ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، ثم أبلغه داره التي يأمن فيها إن لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة. وحتى يصح أن تكون للغاية أي: إلى أن يسمع. ويصح أن تكون للتعليل، وهي متعلقة في الحالين بأجره. ولا يصح أن يكون من باب التنازع، وإن كان يصح من حيث المعنى أن يكون متعلقا باستجارك أو بفأجره، وذلك لمانع لفظي وهو: أنه لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، وحتى لا تجر المضمر، فلذلك لا يصح أن يكون من باب التنازع. لكن من ذهب من النحويين إلى أن حتى تجر المضمر يجوز أن يكون ذلك عنده من باب التنازع، وكون حتى لا تجر المضمر هو مذهب الجمهور. ولما كان القرآن أعظم المعجزات، علق السماع به، وذكر السماع لأنه الطريق إلى الفهم. وقد يراد بالسماع الفهم تقول لمن خاطبته فلم يقبل منك: أنت لم تسمع، تريد لم تفهم. وكلام الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، لا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ومأمنه مكان أمنه. وقيل: مأمنه مصدر، أي ثم أبلغه أمنه. وقد استدلت المعتزلة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) على حدوث كلام الله، لأنه لا يسمع إلا الحروف والأصوات. ومعلوم بالضرورة حدوث ذلك، وهذا مذكور في علم الكلام.
وفي هذه الآية دلالة على أن النظر في التوحيد أعلى المقامات، إذ عصم دم الكافر المهدر الدم بطلبه النظر والاستدلال، وأوجب على الرسول أن يبلغه مأمنه. ومنها دلالة على أن التقليد غير كاف في الدين، إذ كان لا يمهل بل
13

يقال له: إما أن تسلم، وإما أن تقتل. وفيها دلالة على أنه بعد سماع كلام الله لا يقر بأرض الإسلام، بل يبلغ مأمنه، وأنه يجب حفظه وحوطته مدة يسمع فيها كلام الله. والخطاب بقوله: استجارك وفأجره، يدل على أن أمان السلطان جائز، وأما غيره فالحر يمضي أمانه. وقال ابن حبيب: ينظر الإمام فيه والعبد. قال الأوزاعي، والثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن، وأبو ثور، وداود: له الأمان، وهو مشهور مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: لا أمان له، وهو قول في مذهب مالك. والحرة لها الأمان على قول الجمهور. وقال عبد الملك بن الماجشون: لا، إلا أن يجيره الإمام، وقوله شاذ. والصبي إذا أطاق القتال جاز أمانه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون، أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: إشارة إلى هذا اللطف في الإجارة والإسماع وتبليغ المأمن، لا يعلمون نفي علمهم بمراشدهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم).
* (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) * هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد. قال التبريزي والكرماني: معناه النفي، أي لا يكون لهم عهد وهم لكم ضد. ونبه على علة انتفاء العهد بالوصف الذي قام به وهو الإشراك. وقال القرطبي: وفي الآية إضمار، أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث؟ انتهى. والاستفهام يراد به النفي كثيرا، ومنه قول الشاعر:
* فها ذي سيوف يا هدى بن مالك
*
كثير ولكن ليس بالسيف ضارب
*
أي ليس بالسيف ضارب. ولما كان الاستفهام معناه النفي، صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. قال الحوفي: ويجوز أن يكون الذين في موضع خبر على البدل من المشركين، لأن معنى ما تقدم النفي، أي: ليس يكون للمشركين عهد إلا الذين لم ينكثوا. قال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو جذيمة بن الديل. وقال ابن إسحاق: قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين الرسول صلى الله عليه وسلم) وقريش. وقال الزمخشري: كبني كنانة وبني ضمرة. وقال قوم منهم مجاهد: هم خزاعة ورد بإسلامهم عام الفتح. وقال ابن زيد: هم قريش نزلت فلم يستقيموا، فنزل تأجيلهم أربعة أشهر بعد ذلك. وضعف هذا القول بأن قريشا بعد الأذان بأربعة أشهر لم يكن فيهم إلا مسلم، وذلك بعد فتح مكة بسنة، وكذلك خزاعة قاله الطبري. فما استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على الوفاء.
وجوز أبو البقاء أن يكون خبر يكون كيف، لقوله: كيف كان عاقبة مكرهم، وأن يكون الخبر للمشركين. وعند على هذين ظرف للعهد، أو ليكون، أو للحال، أو هي وصف للعهد. وأن يكون الخبر عند الله، وللمشركين تبيين، أو تعلق بيكون، وكيف حال من العهد انتهى. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية، أي: استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله: * (ما يفتح الله للناس من رحمة) * انتهى. فكان التقدير: ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا، فاستقيموا لهم الفاء جواب الشرط انتهى. فكان التقدير فأي: وقت استقاموا فيه لكم فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا، لأن المصدرية الزمانية لا
14

تحتاج إلى الفاء. وقد أجاز ابن مالك في المصدرية الزمانية أن تكون شرطية وتجزم، وأنشد على ذلك ما يدل ظاهره على صحة دعواه. وقد ذكرنا ذلك في كتاب التكميل، وتأولنا ما استشهد به. فعلى قوله تكون زمانية شرطية: أن الله يحب المتقين، يعني أن الوفاء بالعهد من أخلاق المتقين، والتربص بهؤلاء إن استقاموا من أعمال المؤمنين، والتقوى تتضمن الإيمان والوفاء بالعهد.
* (كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون) * كيف تأكيد لنفي ثباتهم على العهد. والظاهر أن الفعل المحذوف بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها، وحذف للعلم به في كيف السابقة، والتقدير: كيف لهم عهد وحالهم هذه؟ وقد جاء حذف الفعل بعد كيف لدلالة المعنى عليه كقوله تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) *. وقال الشعر:
ضع وخبرتماني إنما الموت بالقرى
فكيف وهاتا هضبة وكثيب
*
أي: فكيف مات وليس في قرية؟ وقال الحطيئة:
* فكيف ولم أعلمهم خذلوكم
*
على معظم وأن أديمكم قدوا
*
أي فكيف تلومونني على مدحهم؟ واستغنى عن ذلك لأنه جرى في القصيدة ما دل على ما أضمر. وقدر أبو البقاء الفعل المحذوف بعد كيف بقوله: كيف تطمئنون إليهم؟ وقدره غيره: كيف لا يقتلونهم؟ والواو في (وإن يظهروا) واو الحال. وتقدم الكلام على وقوع جملة الشرط حالا في قوله: * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * ومعنى الظهور العلو والظفر، تقول: ظهرت على فلان علوته. والمعنى: وإن يقدروا عليكم ويظفروا بكم. وقرأ زيد بن علي: وإن يظهروا مبنيا للمفعول. لا يرقبوا: لا يحفظوا ولا يرعوا إلا عهدا أو قرابة أو حلفا أو سياسة أو الله تعالى، أو جؤارا أي: رفع صوت بالتضرع، أقوال.
قال مجاهد وأبو مجلز: إن اسم الله بالسريانية وعرب. ومن ذلك قول أبي بكر حين سمع كلام مسيلمة، فقال: هذا كلام لم يخرج من إل. وقرأت فرقة: ألا بفتح الهمزة، وهو مصدر من فعل الأل الذي هو العهد. وقرأ عكرمة: إيلا بكسر الهمزة وياء بعدها، فقيل: هو اسم الله تعالى. ويجوز أن يراد به إلى أبدل من أحد المضاعفين ياء، كما قالوا في: إما إيما. قال الشاعر:
* يا ليتما أمنا سالت نعامتها
*
إيما إلى الجنة إيما إلى نار
*
قال ابن جني: ويجوز أن يكون مأخوذا من آل يؤول إذا ساس، أبدل من الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، أي: لا يرقبون فيكم سياسة ولا مداراة ولا ذمة، من رأى أن الإل هو العهد جعله والذمة لفظين لمعنى واحد أو متقاربين، ومن رأى أن الإل غير العهد فهما لفظان متباينان. ولما ذكر حالهم مع المؤمنين أن ظهروا عليهم ذكر حالهم معهم ذا كانوا غير ظاهرين، فقال: يرضونكم بأفواههم. واستأنف هذا الكلام أي: حالهم في الظاهر يخالف لباطنهم، وهذا كله تقرير واستبعاد لثبات قلوبهم على العهد، وإباء القلب مخالفته لما يجري على اللسان من القول الحسن. وقيل: يرضونكم بأفواههم في العدة بالإيمان، وتأبى قلوبهم إلا الكفر. وقيل: يرضونكم في الطاعة، وتأبى قلوبهم
15

إلا المعصية. والظاهر بقاء الأكثر على حقيقته فقيل: وأكثرهم، لأن منهم من قضى الله له بالإيمان. وقيل: لأن منهم من له حفظ لمراعاة الحال الحسنة من التعفف عما يثلم العرض، ويجر أحدوثة السوء، وأكثرهم خبثا لأنفس خريجون في الشر لا مروءة تردعهم، ولا طباع مرضية تزعهم، لا يحترزون عن كذب ولا مكر ولا خديعة، ومن كان بهذا الوصف كان مذموما عند الناس وفي جميع الأديان. ألا ترى إلى أهل الجاهلية وهم كفار كيف يمدحون أنفسهم بالعفاف وبالصدق وبالوفاء بالعهد وبالأخلاق الحسنة. وقيل: معنى وأكثرهم وكلهم فاسقون، قاله ابن عطية والكرماني.
* (اشتروا بئايات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون) * الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى: اشتروا بالقرآن وما يدعو إليه من الإسلام ثمنا قليلا، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر، كان ذلك كالشراء والبيع. وقال مجاهد: هم الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان على طعامه. وقال أبو صالح: هم قوم من اليهود، وآيات الله التوراة. وقال ابن عباس: هم أهل الطائف كانوا يمدون الناس بالأموال يمنعونهم من الدخول في الإسلام، فصدوا عن سبيله أي صرفوا أنفسهم عن دين الله وعدلوا عنه. والظاهر أن ساء هنا محولة إلى فعل. ومذهب بابها مذهب بئس، ويجوز إقرارها على وصفها الأول، فتكون متعدية أي: أنهم ساءهم ما كانوا يعملون، فحذف المفهوم لفهم المعنى.
* (لا * يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون) * هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان، ولما كان قوله: * (لا يرقبوا فيكم) * يتوهم أن ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبه على علة ذلك، وأن سبب المنافاة هو الإيمان، وأولئك أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة هم المعتدون المجاوزون الحد في الظلم والشر ونقض العهد.
* (فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فإخوانكم في الدين) * أي فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام فإخوانكم، أي: فهم إخوانكم، والإخوان، والإخوة جمع أخ من نسب أو دين. ومن زعم أن الإخوة تكون في النسب، والإخوان في الصداقة، فقد غلط. قال تعالى: * (إنما المؤمنون إخوة) * وقال: أو بيوت إخوانكم، وعلق حصول الأخوة في الدين على الالتباس بمجموع الثلاثة، ويظهر أن مفهوم الشرط غير مراد.
* (ونفصل الايات لقوم يعلمون) * أي نبينها ونوضحها. وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين، بين قوله: فإن تابوا، وقوله: وإن نكثوا، بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام، وقال لقوم يعلمون لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.
* (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون) * أي: وإن نقضوا إقسامهم من بعدما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا. وطعنوا: أي عابوه وثلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز، وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه، وهو هنا بمعنى العيب كما جاء في حديث إمارة أسامة: (إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل) أي عبتموها واستنقصتموها. والظاهر أن هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلا، لأن من أسلم ثم ارتد فيكون قوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي رؤساء الكفر وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. وقال الكرماني: كل كافر إما نفسه، فالمعنى فقاتلوا كل كافر. وقيل: من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين صار رأسا في الكفر، فهو من أئمة الكفر. وقال ابن عباس: أئمة الكفر زعماء قريش. وقال القرطبي: هو بعيد، لأن الآية في سورة براءة، وحين نزلت كان الله قد استأصل شأفة
16

قريش ولم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم. وقال قتادة: المراد أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة، وغيرهم، وهذا ضعيف إن لم يؤخذ على جهة المثال، لأن الآية نزلت بعد بدر بكثير. وروي عن حذيفة أنه قال: لم يجئ هؤلاء بعد، يريد لم ينقرضوا فهم يجيئون أبدا ويقاتلون. وقال ابن عطية: أصوب ما في هذا أن يقال: إنه لا يعني بها معين، وإنما دفع الأمر بقتال أئمة الناكثين العهود من الكفرة إلى يوم القيامة دون تعيين، واقتضت حال كفار العرب ومحاربي رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون الإشارة إليهم أولا بقوله: أئمة الكفر، وهم حصلوا حينئذ تحت اللفظة، إذ الذي يتولى قتال النبي صلى الله عليه وسلم) والدفع في صدر شريعته هو إمام كل من يكفر بذلك الشرع إلى يوم القيامة، ثم يأتي في كل جيل من الكفار أئمة خاصة بجيل جيل انتهى. وقيل: المراد بالعهد الإسلام، فمعناه كفروا بعد إسلامهم. ولذلك قرأ بعضهم: وإن نكثوا إيمانهم بالكسر، وهو قول الزمخشري، قال: فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم، فوضع أئمة الكفر موضع ضميرهم، إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حالة الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهد، وقعدوا يطعنون في دين الله تعالى ويقولون ليس دين محمد بشيء، فهم أئمة الكفر وذوو الرئاسة والتقدم فيه، لا يشق كافر غبارهم. والمشهور من مذهب مالك أن الذمي إذا طعن في الدين ففعل شيئا مثل تكذيب الشريعة والسب للنبي صلى الله عليه وسلم) ونحوه قتل. وقيل: إن أعلن بشيء مما هو معهود من معتقده وكفره أدب على الإعلان وترك، وإن كفر بما هو ليس من معتقده كالسب ونحوه قتل. وقال أبو حنيفة: يستتاب، واختلف إذا سب الذمي ثم أسلم تقية القتل. فالمشهور من مذهب مالك أنه يترك، لأن الإسلام يجب ما قبله، وفي العتبية أنه يقتل، ولا يكون أحسن حالا من المسلم.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بإبدال الهمزة الثانية ياء. وروي عن نافع مد الهمزة. وقرأ باقي السبعة وابن أبي أويس عن نافع: بهمزتين، وأدخل هشام بينهما ألفا وأصله أأممة على وزن أفعلة جمع إمام، أدغموا الميم في الميم فنقلت حركتها إلى الهمزة قبلها. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف لفظ أئمة؟ قلت: همزة بعدها همزة بين بين، أي بين مخرج الهمزة والياء. وتحقيق الهمز هي قراءة مشهورة، وإن لم تكن مقبولة عند البصريين، وأما التصريح بالياء فليس بقراءة، ولا يجوز أن تكون. ومن صرح بها فهو لاحن محرف انتهى. وذلك دأبه في تلحين المقرئين. وكيف يكون ذلك لحنا وقد قرأ به رأس البصريين النحاة أبو عمرو بن العلاء، وقارىء مكة ابن كثير، وقارىء مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم) نافع، ونفى إيمانهم لما لم يثبتوا عليها ولا وفوا بها جعلوا لا أيمان لهم، أو يكون على حذف الوصف أي: لا أيمان لهم يوفون بها. وقرأ الجمهور: بفتح الهمزة. وقرأ الحسن، وعطاء، وزيد بن علي، وابن عامر: لا إيمان لهم أي لا إسلام ولا تصديق. قال أبو علي: وهذا غير قوي، لأنه تكرار وذلك لأنه وصف أئمة الكفر بأنهم لا إيمان لهم، فالوجه في كسر الألف أنه مصدر أمنه إيمانا، ومنه قوله تعالى: * (الذى أطعمهم من) * فالمعنى أنهم لا يؤمنون أهل الذمة، إذ المشركون لم يكن لهم إلا الإسلام أو السيف. قال أبو حاتم: فسر الحسن قراءته لا إسلام لهم انتهى. وكذا تبعه الزمخشري، فقال: وقرئ لا إيمان لهم، أي لا إسلام لهم، ولا يعطون الأمان بعد الردة والنكث، ولا سبيل إليه. وبقراءة الفتح استشهد أبو حنيفة على أن يمين الكافر لا يكون يمينا وعند الشافعي يمينهم يمين، وقال: معناه أنهم لا يوفون بها بدليل الله تعالى وصفهم بالنكث لعلهم ينتهون متعلق بقوله: فقاتلوا أئمة الكفر، أي ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعدما وجد منهم من العظائم ما وجد انتهاءهم عما هم فيه، وهذا من كرمه سبحانه وفضله وعوده على المسئ
17

بالرحمة.
* (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) * ألا حرف عرض، ومعناه هنا الحض على قتالهم. وزعموا أنها مركبة من همزة الاستفهام، ولا النافية، فصار فيها معنى التخصيص. وقال الزمخشري: دخلت الهمزة على تقرير على انتفاء المقاتلة، ومعناها: الحض عليها على سبيل المبالغة. ولما أمر تعالى بقتل أهل الكفر أتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا أيمانهم: نقض العهد. قال السدي، وابن إسحاق، والكلبي: نزلت في كفار مكة، نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة انتهى. وهمهم هو هم قريش بإخراج الرسول من مكة حين تشاوروا بدار الندوة، فأذن الله في الهجرة، فخرج بنفسه، أو بنو بكر بإخراجه من المدينة لما أقدموا عليه من المشاورة والاجتماع، أو اليهود، هموا بغدر الرسول صلى الله عليه وسلم) ونقضوا عهده وأعانوا المنافقين على إخراجه من المدينة، ثلاثة أقوال أولها للسدي. وقال الحسن: من المدينة. قال ابن عطية: وهذا مستقيم لغزوة أحد والأحزاب وغيرهما، وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم) جاءهم أولا بالكتاب المبين وتحداهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم البادئون، والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله تصدمونهم بالشر كما صدموكم؟ وبخهم بترك مقاتلتهم، وحضهم عليها، ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها. وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهود وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرط فيها، قاله: الزمخشري وهو تكثير. وقال ابن عطية: أول مرة. قيل: يريد أفعالهم بمكة بالنبي صلى الله عليه وسلم) وبالمؤمنين. وقال مجاهد: ما بدأت به قريش من معونة بني بكر حلفائهم على خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم)، فكان هذا بدء النقض. وقال الطبري: يعني فعلهم يوم بدر انتهى.
وقرأ زيد بن علي: بدوكم بغير همز، ووجهه أنه سهل الهمزة من بدأت بإبدالها ياء، كما قالوا في قرأت: قريت، فصار كرميت. فلما أسند الفعل إلى واو الضمير سقطت، فصار بدوكم كما تقول: رموكم. أتخشونهم تقرير للخشية منهم، وتوبيخ عليها. فالله أحق أن تخشوه فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق، وأن تخشوه بدل من الله أي: وخشية الله أحق من خشيتهم وأن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن تكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر، وتقديره: بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره أن تخشوه، والجملة خبر عن الأول. وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفة خبرا للنكرة في نحو: اقصد رجلا خير منه أبوه. إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان، لأنهم كانوا مؤمنين. وقال الزمخشري: يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: * (ولا يخشون أحدا إلا الله) *.
* (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم) * قررت الآيات قبل هذا أفعال الكفرة المقتضية لقتالهم، والحض على القتال، وحرم الأمر بالقتال في هذه، وتعذيبهم بأيدي المؤمنين هو في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وهذه وعود ثبتت قلوبهم وصححت نياتهم، وخزيهم هو إهانتهم وذلهم، وينصركم يظفركم بهم، وشفاه الصدور بإعلاء دين الله وتعذيب الكفار وخزيهم.
وقرأ زيد بن علي: ونشف بالنون على الالتفات، وجاء التركيب صدور قوم مؤمنين ليشمل المخاطبين وكل مؤمن، لأن ما يصيب أهل الكفر من العذاب والخزي هو شفاء لصدر كل مؤمن. وقيل: المراد قوم معينون. قال ابن عباس: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) يشكون إليه فقال: (أبشروا فإن الفرج قريب) وقال مجاهد والسدي: هم خزاعة. ووجه تخصيصهم أنهم هم الذين نقض فيهم
18

العهد ونالتهم الحرب، وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير. ألا ترى إلى قول الخزاعي المستنصر بالنبي صلى الله عليه وسلم):
* ثمت أسلمنا قلم ننزع يدا وفي آخر الرجز:
*
* وقتلونا ركعا وسجدا وإذهاب الغيظ بما نال الكفار من المكروه، وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها، لأن شفاء الصدر من آلة الغيظ هو إذهاب الغيظ. وقرأ فرقة: ويذهب فعلا لازما غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي: كذلك إلا أنه رفع الباء. وهذه المواعيد كلها وجدت، فكان ذلك دليلا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم) وصحة نبوته وبدىء أولا فيها بما تسبب عن النصر وهو تعذيب الله الكفار وبأيدي المؤمنين وإخزاؤهم، إذا كانت البداءة بما ينال الكفار من الشر هي التي يسر بها المؤمنون، ثم ذكر ما السبب وهو نصر الله المؤمنين على الكافرين، ثم ذكر ما تسبب أيضا عن النصر من شفاء صدور المؤمنين وإذهاب غيظهم تتميما للنعم، فذكر ما تسبب عن النصر بالنسبة للكفار، وذكر ما تسبب للمسلمين من الفرح والسرور بإدراك الثأر، ولم يذكر ما نالوه من المغانم والمطاعم، إذ العرب قوم جبلوا على الحمية والأنفة، فرغبتهم في إدراك الثأر وقتل الأعداء هي اللائقة بطباعهم.
*
* إن الأسود أسود الغاب همتها
*
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
*
وقرأ الجمهور: ويتوب الله رفعا، وهو استئناف إخبار بأن بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره، وكان ذلك عالم كثيرون وحسن إسلامهم. قال الفراء والزجاج وأبو الفتح: وهذا أمر موجود سواء قوتلوا أو لم يقاتلوا، فلا وجه لإدخال اليوم في جواب الشرط الذي في قاتلوهم انتهى. وقرأ زيد بن علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعيسى الثقفي، وعمرو بن عبيد، وعمر بن قائد، وأبو عمرو، ويعقوب فيما روي عنهما: ويتوب الله بنصب الباء، جعله داخلا في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أن التوبة يراد بها أن قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لإيمانكم، فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال. وقال غيره: لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلة صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة من تلك الكراهة. وقيل: حصول الكفر وكثرة الأموال لذة تطلب بطريق حرام، فلما حصلت لهم طريق حلال كان ذلك داعيا لهم إلى التوبة مما تقدم، فصارت التوبة متعلقة بتلك المقاتلة انتهى. وهذا الذي قرروه من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة للمؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر أن ذلك بالنسبة إلى الكفار، فالمعنى على من يشاء من الكفار، وذلك أن قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس، وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام، ولا داعية قبل القتال. ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أهل مكة كيف كان سببا لإسلامهم، لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة، وقد يدخل على كره واضطرار، ثم قد تحسن حاله في الإسلام. ألا ترى إلى عبد الله بن أبي سرح كيف كان حاله أولا في الإسلام، ثم صار أمره إلى أحسن حال ومات أحسن ميتة في السجود في صلاته، وكان
19

من خيار الصحابة؟ والله عليم يعلم ما سيكون مثل ما يعلم ما قد كان، وفي ذلك تقرير لما رتب من تلك الموعيد، وأنها كائنة لا محالة حكيم في تصريف عباده من حال إلى حال على ما تقتضيه حكمته تعالى.
* (أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * تقدم تفسير نظير هذه الجملة، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهم المجاهدون في سبيل الله الذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.
* (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) * ولم يتخذوا معطوف على جاهدوا. غير متخذين وليجة، والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل، وهي البطانة. والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار، شبه النفاق به. وقال قتادة: الوليجة الخيانة. وقال الضحاك: الخديعة. وقال عطاء: الأوداء. وقال الحسن: الكفر والنفاق. وقال أبو عبيدة: كل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، والرجل يكون في القوم وليس منهم، وليجة يكون للواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد. وليجة الرجل من يختص بدخيلة أمره من الناس، وجمعها ولائج وولج، كصحيفة وصحائف وصحف. وقال عبادة بن صفوان الغنوي:
* ولائجهم في كل مبدي ومحضر
*
إلى كل من يرجى ومن يتخوف
*
وفي هذه الآية طعن على المنافقين الذين اتخذوا الولائج لا سيما عند فرض القتال، والمعنى: لا بد من اختباركم أيها المؤمنون كقوله: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون) * ولما كان الرجل قد يجاهد وهو منافق نفى هذا الوصف عنه، فبين أنه لا بد للجهاد من الإخلاص خاليا عن النفاق والرياء والتودد إلى الكفار.
* (والله خبير بما تعملون) * قرأ الجمهور بالتاء على الخطاب مناسبة لقوله: أم حسبتم. وقرأ الحسن ويعقوب في رواية رويس وسلام بالياء على الغيبة التفاتا.
* (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شهدين على أنفسهم بالكفر) * قرأ ابن السميفع: أن يعمروا بضم الياء وكسر الميم، أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والجحدري: مسجد بالإفراد، وباقي السبعة ومجاهد وقتادة وأبو جعفر والأعرج وشبية بالجمع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر البراءة من المشركين وأنواعا من قبائحهم توجب البراءة منهم، ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدة توجب انتفاء البراءة منها كونهم عامري المسجد الحرام. روي أنه أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق علي يوبخ العباس، فقال الرسول: واقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول. فقال العباس: تظهرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم. ومعنى ما كان للمشركين: أي بالحق الواجب، وإلا فقد عمروه قديما وحديثا على سبيل التغلب. وقال الزمخشري: أي ما صح وما استقام انتهى. وعمارته وحوله والقعود فيه والمكث من قولهم: فلان يعمر المسجد أي يكثر غشيانه، أو رفع بنائه، وإصلاح ما تهدم منه، أو التعبد فيه، والطواف به. والصلاة ثلاثة أقوال. ومن قرأ بالإفراد فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام لقوله: * (وعمارة المسجد الحرام) * أو الجنس فيدخل تحته المسجد الحرام، إذ هو صدر ذلك الجنس مقدمته. ومن قرأ بالجمع فيحتمل أن يراد به المسجد الحرام، وأطلق عليه الجمع إما باعتبار أن كل مكان منه مسجد، وإما لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فكان عامره عامر المساجد. ويحتمل أن يراد الجمع، فيدخل تحته المسجد الحرام وهو آكد، لأن طريقته طريقة الكناية كما لو
20

قلت: فلان لا يقرأ كتب الله، كنت أنفي لقراءة القرآن من تصريحك بذلك. وانتصب شاهدين على الحال، والمعنى: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر به وبعبادته.
وقرأ زيد بن علي: شاهدون على إضمارهم شاهدون، وشهادتهم على أنفسهم بالكفر قولهم في الطواف: لبيك لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم: نعبد اللات والعزى، أو تكذيبهم الرسول، أو قول المشرك: أنا مشرك كما يقول اليهودي: هو يهودي، والنصراني هو نصراني، والمجوسي هو مجوسي، والصابىء هو صابىء، أو ظهور أفعال الكفرة من نصب أصنامهم وطوافهم بالبيت عراة، وغير ذلك أقوال خمسة، هذا إذا حمل على أنفسهم على ظاهره، وقيل: معناه شاهدين على رسولهم، وأطلق عليه أنفسهم لأنه ما من بطن من بطون العرب إلا وله فيهم ولادة، ويؤيد هذا القول قراءة من قرأ على أنفسهم بفتح الفاء، أي أشرفهم وأجلهم قدرا.
* (أولئك حبطت أعمالهم) * التي هي العمارة والحجابة والسقاية وفك العناة وغيرها مما ذكر أنه من الأعمال الحميدة. قال الزمخشري: وإذا هدم الكفر أو الكبيرة الأعمال الثابتة الصحيحة إذا تعقبها، فما ظنك بالمقارن؟ وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: * (شاهدين) * حيث جعله حالا عنهم، ودل على أنهم قارنون بين العمارة والشهادة بالكفر على أنفسهم في حال واحدة، وذلك محال غير مستقيم انتهى. وقوله: أو الكبيرة، دسيسة اعتزال لأن الكبيرة عندهم من المعاصي تحبط الأعمال.
* (وفى النار هم خالدون) * ذكر مآل المشركين وهو النار خالدين فيها. وقرأ زيد بن علي: بالياء نصبا على الحال، وفي النار هو الخبر. كما تقول: في الدار زيد قاعدا. وقال الواحدي: دلت الآية على أن الكفار ممنوعون من عمارة مسجد المسلمين، ولو أوصى لم تقبل وصيته، ويمنع من دخول المساجد، فإن دخل بغير إذن مسلم استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظم المساجد ومنعها منهم. وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفد ثقيف وهم كفار المسجد، وربط ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد وهو كافر.
* (إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الاخر وأقام الصلواة وءاتى الزكواة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك) * قرأ الجحدري، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير: مسجدا لله بالتوحيد. وقرأ السبعة وجماعة: بالجمع، والمعنى إنما يعمرها بالحق والواجب، ويستقيم ذلك فيمن اتصف بهذه الأوصاف. وفي ضمن هذا الخبر أمر المؤمنين بعمارة المساجد، ويتناول عمارتها رم ما تهدم منها، وتنظيفها، وتنويرها، وتعظيمها، واعتيادها للعبادة والذكر. ومن الذكر درس العلم بل هو أجله، وصونها عما لم تبن له من الخوض في أحوال الدنيا. وفي الحديث: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان) ولم يذكر الإيمان بالرسول، لأن الإيمان باليوم الآخر إنما هو متلقف من أخبار الرسول، فيتضمن الإيمان بالرسول. أو لم يذكر لما علم وشهر من أن الإيمان بالله تعالى قرينته الإيمان بالرسول، لاشتمال كلمة الشهادة والأذان والإقامة وغيرها عليهما مقترنين مزدوجين، كأنهما شيء واحد لا ينفك أحدهما عن صاحبه، فانطوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: دل عليه بذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، إذ لا يتلقى ذلك إلا منه. والمقصود من بناء المساجد وعمارتها هو كونها مجتمعا لإقامة الصلوات فيها والتعبدات من الذكر والاعتكاف وغيرهما، وناسب ذكر إيتاء الزكاة مع عمارة المساجد أنها لما كانت مجمعا للناس بأن فيها أمر الغني والفقير، وعرفت أحوال من يؤدي الزكاة ومن يستحقها، ولم يخش إلا الله. قال ابن عطية: يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره، ويخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه. وقال الزمخشري: هي الخشية والتقوى في أبواب الدنيا، وأن لا يختار على رضا الله رضا غيره، وإذا اعترضه أمر أن أحدهما حق الله تعالى، والآخر حق نفسه، خاف الله وآثر حق الله على حق نفسه. وقيل: كانوا يخشون الأصنام ويرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم انتهى. وعسى من الله تعالى واجب حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له الهداية، فكيف بمن هو عار منها: وفي ذلك ترجيح الخشية على الرجاء، ورفض الاغترار بالأعمال الصالحة، فربما دخلها بعض المفسدات وصاحبها لا
21

يشعر بها. وقال تعالى: أن يكونوا من المهتدين، أي: من الذين سبقت لهم الهداية ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين، بل جعلوا بعضا من المهتدين، وكونهم منهم أقل
في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية.
* (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن ءامن بالله واليوم الاخر وجاهد فى سبيل الله لا يستوون عند الله) * في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية. وذكر ابن عطية وقوله أقوالا آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة.
وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعمل من آمن. وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة. وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة. وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة. وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها، ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (أقيموا عليها فهي لكم خير) وعمارة المسجد هي السدانة، وكان في بني عبد الدار، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعلي، وقال صلى الله عليه وسلم) لعثمان وشيبة: (خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم) يعني السدانة. ومعنى الآية: إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة. ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وأن الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله، وبما جاء به الرسول، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبدا له فجعلوه متعبدا لأوثانهم. وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله: * (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) * وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله: والله يهدي القوم الظالمين.
* (الذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون) * زادت هذه الآية وضوحا في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة، فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن الرسول وترك ديارهم التي نشأوا عليها، ثم بالغوا بالجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، المعرضين بالجهاد للتلف. فهذه الخصال أعظم درجات البشرية، وأعظم هنا يسوغ أن تبقى على بابها من التفضيل، ويكون ذلك على تقدير اعتقاد المشركين بأن في سقايتهم وعمارتهم فضيلة، فخوطبوا على اعتقادهم. أو يكون التقدير أعظم درجة من الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا. وقيل: أعظم ليست على بابها، بل
22

هي كقوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) *. وقول حسان:
* فشركما لخيركما الفداء وكأنه قيل: عظيمون درجة. وعند الله بالمكانة لا بالمكان كقوله: * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته) * قال أبو عبد الله الرازي: الأرواح المقدسة البشرية إذا تطهرت عن دنس الأوصاف البدنية والقاذورات الجسدانية أشرقت بأنوار الجلال وغلا فيها أضواء عالم الجمال، وترقت من العبدية إلى العندية، بل كأنه لا كمال في العبدية إلا بمشاهدة الحقيقة العندية، ولذلك قال تعالى: * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) * انتهى، وهو شبيه بكلام الصوفية، ثم ذكر تعالى أن من اتصف بهذه الأوصاف هو الفائز الظافر بأمنيته، الناجي من النار.
*
* (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم) * قال ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة انتهى، وأسند التبشير إلى قوله: ربهم، لما في ذلك من الإحسان إليهم بأن مالك أمرهم والناظر في مصالحهم هو الذي يبشرهم، فذلك على تحقيق عبوديتهم لربهم. ولما كانت الأوصاف التي تحلوا بها وصاروا بها عبيدة حقيقة هي ثلاثة: الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال والنفس، قوبلوا ي التبشير بثلاثة: الرحمة، والرضوان، والجنات. فبدأ بالرحمة لأنها الوصف الأعم الناشئ عنها تيسير الإيمان لهم، وثنى بالرضوان لأنه الغاية من إحسان الرب لعبده وهو مقابل الجهاد، إذ هو بذل النفس والمال، وقد على الجنات لأن رضا الله عن العبد أفضل من إسكانهم الجنة. وفي الحديث الصحيح: (إن الله تعالى يقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك، فيقول: لكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها) وأتى ثالثا بقوله: وجنات لهم فيها نعيم مقيم، أي دائم لا ينقطع. وهذا مقابل لقوله (وهاجروا) لأنهم تركوا أوطانهم التي نشأوا فيها وكانوا فيها منعمين، فآثروا الهجرة على دار الكفر إلى مستقر الإيمان والرسالة، فقوبلوا على ذلك بالجنات ذوات النعيم الدائم، فجاء الترتيب في أوصافهم على حسب الواقع: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد. وجاء الترتيب في المقابل على حسب الأعم، ثم الأشرف، ثم التكميل. قال التبريزي: ونكر الرحمة والرضوان للتفخيم والتعظيم. برحمة أي: رحمة لا يبلغها وصف واصف.
وقرأ الأعمش، وطلحة بن مصرف، وحميد بن هلال: يبشرهم بفتح الياء وضم الشين خفيفة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: ورضوان بضم الراء، وتقدم ذكر ذلك في أوائل آل عمران. وقرأ الأعمش: بضم الراء والضاد معا. قال أبو حاتم: لا يجوز هذا انتهى. وينبغي أن يجوز، فقد قالت العرب: سلطان بضم اللام، وأورده
التصريفيون في أبنية الأسماء.
* (عظيم ياأيها الذين ءامنوا لا تتخذوا ءاباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) * كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصادم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت كادتنا وهلكت أموالنا، وخرجت ديارنا، ويقينا ضائعين، فنزلت. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه، ثم رخص لهم بعد ذلك. فعلى هذا الخطاب للمؤمنين الذين كانوا بمكة وغيرها من بلاد العرب خوطبوا أن لا يوالوا الآباء والإخوة، فيكونوا لهم تبعا في سكنى بلاد الكفر. وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة، فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم. وذكر الآباء والإخوان لأنهم أهل الرأي والمشورة، ولم يذكر الأبناء لأنهم في الغالب تبع لآبائهم.
وقرأ عيسى بن عمران: استحبوا بفتح الهمزة جعله تعليلا، وغيره بكسر الهمزة جعله شرطا. ومعنى استحبوا: آثروا وفضلوا، استفعل من المحبة أي طلبوا محبة الكفر. وقيل: بمعنى أحب. وضمن معنى اختار وآثر، ولذلك عدي بعلى. ولما نهاهم عن اتخاذهم أولياء أخبر أن من تولاهم فهو ظالم، فقال ابن عباس: هو مشرك
23

مثلهم، لأن من رضي بالشرك فهو مشرك. قال مجاهد: وهذا كله كان قبل فتح مكة. وقال ابن عطية: وهذا ظلم المعصية لا ظلم الكفر.
* (قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله) * هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة وذكر الأبناء لأنه ذكر المحبة، وهم أعلق بالنفس، بخلاف الآية قبلها فلم يذكروا، لأن المقصود منها الرأي والمشورة. وقدم الآباء لأنهم الذي يجب برهم وإكرامهم وحبهم، وثنى بالأبناء لكونهم أعلق بالقلوب. ولما ذكر الأصل والفرع ذكر الحاشية وهي الإخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: وعشيرتكم.
وقرأ الجمهور: بغير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو رجاء، وأبو عبد الرحمن: بألف على الجمع. وزعم الأخفش أن العرب تجمع عشيرة على عشائر، ولا تكاد تقول عشيرات بالجمع بالألف والتاء، ثم ذكر وأموال اقترفتموها أي اكتسبتموها، لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة، بل حبها أشد، كانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة، وأكثر الناس كانوا فقراء. ثم ذكر: وتجارة تخشون كسادها، والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال، وجعل تعالى التجارة سببا لزيادة الأموال ونمائها. وتفسير ابن المبارك بأن ذلك إشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لقلة خطابهن، تفسير غريب ينبو عنه اللفظ. وقال الشاعر:
* كسدن من الفقر في قومهن
*
وقد زادهن مقامي كسودا
*
ثم ذكر: ومساكن ترضونها، وهي القصور والدور. ومعنى: ترضونها، تختارون الإقامة بها. وهذه الدواعي الأربعة سبب لمخالطة الكفار حب الأقارب، والأموال، والتجارة، والمساكن. فذكر تعالى أن مراعاة الدين خير من مراعاة هذه الأمور. وفي الكلام حذف أي: أحب إليكم من امتثال أمر الله تعالى ورسوله في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. والقراء على نصب أحب لأنه خبر كان. وكان الحجاج بن يوسف يقرأ: أحب بالرفع، ولحنه يحيى بن يعمر، وتلحينه إياه ليس من جهة العربية، وإنما هو لمخالفة إجماع القراء النقلة، وإلا فهو جائز في علم العربية على أن يضمر في كان ضمير الشأن، ويلزم ما بعدها بالابتداء والخبر، وتكون الجملة في موضع نصب على أنها خبر كان. وتضمن الأمر بالتربص التهديد والوعيد حتى يأتي الله بأمره. قال ابن عباس ومجاهد: الإشارة إلى فتح مكة. وقال الحسن: الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله، والفاسقين عموم يراد به الخصوص فيمن توافى على فسقه، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق، وفي التحرير الفسق هنا الكفر، ويدل عليه ما قابله من الهداية. والكفر ضلال، والضلال ضد الهداية، وإن كان ذلك في المؤمنين الذين لم يهاجروا، فيكون الفسق الخروج عن الطاعة، فإنهم لم يمتثلوا أمر الله ولا أمر رسوله في الهجرة.
* (لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الارض بما) * لما تقدم قوله: * (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم) * واستطرد بعد ذلك بما استطرد ذكرهم تعالى نصره إياهم في مواطن كثيرة، والمواطن مقامات الحرب وموافقها. وقيل: مشاهد الحرب توطنون أنفسكم فيها على لقاء العدو، وهي جمع موطن بكسر الطاء قال:
* وكم موطن لولاي طحت كما هوى
*
بإجرامه من قلة النيق منهوى
*
24

وهذه المواطن: وقعات بدر، وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة. ووصفت بالكثرة لأن أئمة التاريخ والعلماء والمغازي نقلوا أنها كانت ثمانين موطنا. وحنين واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز. وصرف مذ هو بابه مذهب المكان، ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف كما قال:
* نصروا نبيهم وشدوا أزره
*
بحنين يوم تواكل الأبطال
*
وعطف الزمان على المكان. قال الزمخشري: وموطن يوم حنين أوفى أيام مواطن كثيرة، ويوم حنين. وقال ابن عطية: ويوم عطف على موضع قوله: في مواطن، أو على لفظه بتقدير: وفي يوم، فحذف حرف الخفض انتهى. وإذ بدل من يوم وأضاف الإعجاب إلى جميعهم، وإن كان صادرا من واحد لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة. والقائل قال ابن المسيب: هو أبو بكر، أو سلمة بن سلامة بن قريش، أو ابن عباس، أو رجل من بني بكر. ونقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ساءه كلام هذا القائل، ووكلوا إلى كلام الرجل.
والكثرة بفتح الكاف، ويجمع على كثرات. وتميم تكسر الكاف، وتجمع على كثر كشذوة وشذر، وكسرة وكسر، وهذه الكثرة عن ابن عباس ستة عشر ألفا، وعن النحاس أربعة عشر ألفا، وعن قتادة وابن زيد وابن إسحاق والواقدي: اثنا عشر ألفا، وعن مقاتل عن ابن عباس: أحد عشر ألفا وخمسمائة. والباء في بما رحبت للحال، وما مصدرية أي: ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبا واسعة لشدة الحال عليهم وصعوبتها كأنهم لا يجدون مكانا يستصلحونه للهرب والنجاة لفرط ما لحقهم من الرعب، فكأنها ضاقت عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحبا ورحابة. وقرأ زيد بن علي: بما رحبت في الموضعين بسكون الحاء وهي لغة تميم، يسكنون ضمة فعل فيقولون في ظرف ظرف. ثم وليتم مدبرين أي: وليتم فارين على أدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم). وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم، إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره إن شاء الله، فيقول لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه، وانضاف إليه الفان من الطلقاء فصاروا اثني عشر ألفا إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم، وبني كلاب، وعبس، وذبيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم، فجمعت له هوزان وألفافها وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة، حتى اجتمعوا بحنين، فلما تصاف الناس حمل المشركون من مجاني الوادي وكان قد كمنوا بها، فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين، وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم) في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذا بلجامها، وابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وربيعة بن الحرث، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن، وقتل بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم) هؤلاء من أهل بيته، وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال، ولهذا قال العباس
25

* نصرنا رسول الله في الحرب تسعة
*
وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
*
* وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه
*
بما مسه في الله لا يتوجع
*
وثبتت أم سليم في جملة من ثبت ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر، ونزل صلى الله عليه وسلم) عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله، وأخذ قبضة من تراب وحصا فرمى بها في وجوه الكفار وقال: (شاهت الوجوه) قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلى دخل عينية من ذلك التراب، وقال للعباس وكان صيتا: ناد أصحاب السمرة، فنادى الأنصار فخذا فخذا، ثم نادى يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقا واحدا وهم يقولون: لبيك لبيك، وانهزم المشركون فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى قتال المسلمين فقال: (هذا حين حمي الوطيس) وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم) خلفهم على بغلته. وفي صحيح مسلم من حديث البراء: أن هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:
(أنا النبي لا كذب
أنا ابن عبد المطلب
اللهم أنزل نصرك)
قال البراء: كنا والله إذا حمي البأس نتقي به صلى الله عليه وسلم)، وأن الشجاع منا الذي يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم). وفي أول هذا الحديث: (أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة؟) فقال: اشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ما ولى.
* (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) * السكينة: النصر الذي سكنت إليه النفوس، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: رحمته التي سكنوا بها. وقيل: الوقاء والثبات بعد الاضطراب والقلق، ويخرج من هذا القول الرسول صلى الله عليه وسلم)، فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه، وعلى المؤمنين ظاهره شمول من فر ومن ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كروا وردوا الهزيمة. وقيل: من ثبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم) حالة فر الناس. وقرأ زيد بن علي: سكينته بكسر السين وتشديد الكاف مبالغة في السكينة. نحو شريب وطبيخ.
* (وأنزل جنودا لم تروها) * هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرض الآية لعددهم. فقال الحسن: ستة عشر ألفا. وقال مجاهد: ثمانية آلاف. وقال ابن جبير: خمسة آلاف. وهذا تناقض في الأخبار، والجمهور على أنها لم تقاتل يوم حنين. وعن ابن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسانها فقالوا: شاهت الوجوه، ارجعوا فرجعنا، فركبوا أكتافنا. والظاهر انتفاء الرؤية عن المؤمنين، لأن الخطاب هو لهم. وقد روي أن رجلا من بني النضير قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق والرجال الذين
26

كانوا عليها بيض ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟ فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم) فقال: (تلك الملائكة). وقيل: لم تروها، نفى عن الجميع، ومن رأى بعضهم لم ير كلهم. وقيل: لم يرها أحد من المسلمين ولا الكفار، وإنما أنزلهم يلقون التثبيت في قلوب المؤمنين والرعب والجبن في قلوب الكفار. وقال يزيد بن عامر: كان في أجوافنا مثل ضربة الحجر في الطست من الرعب.
* (وعذب الذين كفروا وذالك جزاء الكافرين) * أي بالقتل الذي استحر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم، وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: سنة آلاف، ومن الإبل اثنا عشر ألفا سوى ما لا يعلم من الغنم، وقسمها الرسول بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره. وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عليها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة قال: هو يرد المنهزم شيء؟ وفي ذلك اليوم قتل دريد القتلة المشهورة، قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي ويقال له: ابن الدغنة.
* (ثم يتوب الله من بعد ذالك على * ما يشاء والله * غفور رحيم) * إخبار بأن الله يتوب على من يشاء فيهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام، ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن ومن أسلم معه من قومه. وروي أن ناسا منهم جاؤوا فبايعوا على الإسلام وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال: (إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم) فقالوا: ما نعدل بالأحساب شيئا. وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم زذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحملت منه فلم يردها.
أخبرنا القاضي العالم أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص القرشي قراءة مني عليه بمدينة مالقة. قال: أخبرنا أبو الحسن بن محمد بن بيقي بن حبلة الخزرجي باوو بولة، قال: أخبرنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي الأصبهاني باسكندرية (ح) وأخبرنا أستاذنا الإمام العلامة الحافظ أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير قراءة مني عليه بغرناطة عن القاضي أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني عن أبي طاهر السلفي وهو آخر من حدث عنه بالغرب، (ح) وأخبرنا عاليا القاضي السعيد صفي الدين أبو محمد عبد الوهاب بن حسن بن الفرات قراءة عليه مرتين بثغر الإسكندرية، عن أبي الطاهر إسماعيل بن صالح بن ياسين الجبلي وهو آخر من حدث عنه قالا: أعني السلفي والجبلي أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن بقاء بن محمد الوراق بمصر أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسين بن عمر اليمني التنوخي بانتفاء خلف الواسطي الحافظ (ح) وأخبرنا المحدث العدل نجيب الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني عرف بابن العجمي قراءة مني عليه بالقاهرة قلت له: أخبرك أبو الفخر أسعد بن أبي الفتوح بن روح وعفيفة بنت أحمد بن عبد الله في كتابيهما قالا: أخبرتنا فاطمة بنت عبد الله بن أحمد بن عقيل الجوزدانية. قالت: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن ريذة الضبي، قال: أخبرنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني الحافظ قالا: أعني التنوخي والطبراني أخبرنا عبيد الله بن رماحس زاد التنوخي بن محمد بن خالد بن حبيب بن قيس بن رمادة من الرملة على بريدين في ربيع الآخر من سنة ثمانين ومائتين، وقال الطبراني ابن رماحس الجشمي القيسي برمادة الرملة سنة سبع وسبعين ومائتين، قال: حدثنا أبو عمرو زياد بن طارق زاد التنوخي الجشمي. وقال الطبراني وكان قد أتت عليه عشرون ومائة سنة قال التنوخي عن زياد أنبأنا زهير أبو جندل وكان سيد قومه وكان يكنى أبا صرد. قال: لما كان يوم حنين أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فبينا هو يميز بين الرجال والنساء، وثبت حتى قعدت بين يديه أذكره حيث شب ونشأ في هوازن، وحيث أرضعوه فأنشأت أقول: وقال الطبراني عن زياد قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي يقول: لما أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم حنين قوم هوازن، وذهب يفرق السبي
27

والشاء، فأتيته فأنشأت أقوال هذا الشعر:
* امنن علينا رسول الله في كرم
*
فإنك المرء نرجوه وننتظر
*
* امنن على بيضة قد عاقها قدر
*
مفرق شملها في دهرها غير
*
* أبقت لنا الحرب هتافا على حرن
*
على قلوبهم الغماء والغمر
*
* إن لم تداركهم نعماء تنشرها
*
يل أرجح الناس حلما حين يختبر
*
* امنن على نسوة قد كنت ترضعها
*
إذ فوك يملأوها من محضها الدرر
*
* إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها
*
وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
*
* يا خير من مرحت كمت الجياد به
*
عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
*
* لا تجعلنا كمن شالت نعامته
*
واستبق منا فإنا معشر زهر
*
* إنا نؤمل عفوا منك نلبسه
*
هذى البرية أن تعفو وتنتصر
*
* إنا لنشكر للنعمى وقد كفرت
*
وعندنا بعد هذا اليوم مدخر
*
* فألبس العفو من قد كنت ترضعه
*
من أمهاتك أن العفو مشتهر
*
* واعف عفا الله عما أنت راهبه
*
يوم القيامة إذ يهدي لك الظفر
*
وفي رواية الطبراني تقديم وتأخير في بعض الأبيات، وتغيير لبعض ألفاظ، فترتيب الأبيات بعد قوله: إذ أنت طفل قوله: لا تجعلنا، ثم إنا لنشكر، ثم فالبس العفو، ثم تأخير من مرحت، ثم إنا نؤمل، ثم فاعف. وتغيير الألفاظ قوله: وإذ يربيك بالراء والباء مكان الزاي والنون. وقوله للنعماء: إذ كفرت. وقوله: إذ تعفو. وفي رواية الطبراني قال: فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم) هذا الشعر قال صلى الله عليه وسلم): (ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. وفي رواية التنوخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فلله ولكم) وقالت الأنصار: ما كان لنا فلله ولرسوله، ردت الأنصار ما كان في أيديها من الذراري والأموال.
* (رحيم ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من) * لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم) عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأن الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة وانقطاع السبل وفقد الحمولات فنزلت. وقيل: لما نزل إنما المشركون نجس، شق على المسلمين وقالوا: من يأتينا بطعامنا، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة، فنزلت: وإن خفتم عيلة الآية. والجمهور على أن المشرك من اتخذ مع الله إلها آخر، وعلى أن أهل الكتاب ليسوا بمشركين. ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الاشراك لقوله: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * أي يكفر به. وقرأ الجمهور: نجس بفتح النون والجيم، وهو مصدر نجس نجسا أي قذر قذرا، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس. قال ابن عباس، والحسن، وعمر بن عبد العزيز،
28

وغيره: الشرك هو الذي نجسهم، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركا فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجب من مس المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة، ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب، إذ غسله من الجنابة ليس بغسل، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين، وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة.
وقرأ أبو حيوة: نجس بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف، أي: جنس نجس، أو ضرب نجس، وهو اسم فاعل من نجس، فخففوه بعد الاتباع كما قالوا في كبد كبد وكرش كرش. وقرأ ابن السميفع: أنجاس، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل. وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين، أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام. والظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام، وهذا مذهب أبي حنيفة. وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الزمخشري: إن معنى قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام) فلا يحجوا ولا يعتمروا، ويدل على قول علي حين نادى ببراءة: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، قال: ولا يمنعون من دخول الحرم، والمسجد الحرام، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى. وقال الشافعي: هي عامة في الكفار، خاصة في المسجد الحرام، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد. وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد. وقال عطاء: المراد بالمسجد الحرام الحرم، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله. وقيل: المراد من القربان أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه، ويعزلوا عن ذلك. وقال جابر بن عبد الله وقتادة: لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية، أو عبد المسلم، والمعنى بقوله بعد عامهم هذا: هو عام تسع من الهجرة، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم وأتبع بعلي ونودي فيها ببراءة. وقال قتادة: هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والعيلة الفقر. وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه: عائلة وهو مصدر كالعاقبة، أو نعت لمحذوف أي: حالا عائلة، وإن هنا على بابها من الشرط. وقال عمرو بن قائد: المعنى وإذ خفتم كقولهم: إن كنت ابني فأطعني، أي: إذ كنت. وكون إن بمعنى إذ قول مرغوب عنه. وتقدم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى. قال الضحاك: ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة. وقال عكرمة: أغناهم بادرار المطر عليهم، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم، وعلق الاغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت. وقيل: لإجراء الحكم على الحكمة، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم. وقال القرطبي: إعلاما بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد، وإنما هو فضل الله. ويروي للشافعي:
* لو كان بالحيل الغنى لوجدتني
*
بنجوم أقطار السماء تعلقي
*
* لكن من رزق الحجا حرم الغنى
*
ضدان مفترقان أي تفرق
*
* ومن الدليل على القضاء وكونه
*
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
*
29

إن الله بأحوالكم حكيم لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة. وقال ابن عباس: عليم بما يصلحكم، حكيم فيما حكم في المشركين.
* (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من) * نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم) بغزو الروم، وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم، وكانت أول جزية أصابها المسلمون، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم، لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله، آذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به قاله الكرماني. وقال الزجاج: لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم، وحرموا ما لم يحرم، وحللوا ما لم يحلل. وقال ابن عطية: لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع مالهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ يلقونها من غير طريقها. وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة، لأنهم شبهوا وقالوا: عزير ابن الله وثالث ثلاثة، وغير ذلك. ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان. وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى. وفي الغيبان نفي عنهم الإيمان لأنهم مجسمة، والمؤمن لا يجسم انتهى. والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني ما حرم الله في كتابه ورسوله في السنة. وقيل: في التوراة والإنجيل، لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل، والرسول على هذا موسى وعيسى، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم). وقيل: ولا يحرمون الخمر والخنزير. وقيل: ولا يحرمون الكذب على الله، قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) *، * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * وقيل: ما حرم الله من الربا وأموال الأميين، والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن. ولا يدينون دين الحق أي: لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق، وما سواه باطل. وقيل: دين الحق دين الله، والحق هو الله قاله: قتادة. يقال: فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده. وقال أبو عبيدة: معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه وقد دان له وخضع. قال زهير:
* لئن حللت بجوفي بني أسد
*
في دين عمرو وحلت بيننا فدك
*
* (من الذين أوتوا الكتاب) * بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا. وأجمع الناس على ذلك. وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم انتهى. وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب. وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم جزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية، ولا تؤكل ذبائحهم. وقال الأوزاعي: تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جامد مكذب. وقال أبو حنيفة: لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية. وقال مالك: تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد. وقال الشافعي، وأحمد، وأبو ثور: لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط. والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية. وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين. وقال مالك في الواضحة: إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط، وتضرب على رهبان الكنائس. واختلف في الشيخ الفاني، ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس ولا لوقت إعطائها. فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون
30

درهما على أهل الفضة، وفرض عمر ضيافة وأرزاقا وكسوة. وقال الثوري: رويت عن عمر ضرائب مختلفة، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم. وقال الشافعي وغيره: على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة: على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له. قال ابن عطية: وهذا كله في الفترة. وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير. وأما وقتها فعند
أبي حنيفة أول كل سنة، وعند الشافعي آخر السنة. وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن، وهي كالعقدة والجلسة، ومن هذا المعنى قول الشاعر:
* نجزيك أو نثني عليك وأن من
*
أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
*
وقيل: لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه عن يد. قال ابن عباس: يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها. وقال عثمان: يعطونها نقدا لا نسيئة. وقال قتادة: يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم. وقيل: عن اعتراف. وقيل: عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم، كما تقول: اليد في هذا لفلان أي الأمر له. وقيل: عن إنعام عليهم بذلك، لأن قبولها منهم عوضا عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم له: علي يد أي: نعمة. وقال القتبي: يقال أعطاه عن يد وعن ظهر يد، إذا أعطاه مبتدئا غير مكافىء. وقيل: عن يد عن جماعة أي: لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله. واليد جماعة القوم، يقال القوم على يد واحدة أي: هم مجتمعون. وقيل: عن يد أي عن غنى، وقدرة فلا تؤخذ من الفقير. ولخص الزمخشري في ذلك فقال: أما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم. وإما أن يريد المعطى فالمعنى عن يد مواتية غير ممتنعة، لأن من أبي وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده إذا انقاد واحتجب. ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، أو عن يد إلى يد أي نقدا غير نسيئة، أولا مبعوثا على يد آخر ولكن عن يد المعطى البريد الآخذ. وهم صاغرون جملة حالية أي: ذليلون حقيرون. وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية. قال ابن عباس: يمشون بها ملببين. وقال سليمان الفارسي: لا يحمدون على إعطائهم. وقال عكرمة: يكون قائما والآخذ جالسا. وقال الكلبي: يقال له عند دفعها أد الجزية ويصك في قفاه. وحكى البغوي: يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته.
* (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذالك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) * بين تعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك في فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأن الشرك هو أن يتخذ مع الله معبودا، بل عابد الوثن أخف كفرا من النصراني، لأنه لا يعتقد أن الوثن خالق العالم، والنصراني يقول بالحلول والاتحاد، وقائل ذلك قوم من اليهود كانوا بالمدينة. قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم: سلام بن مشكم، ونعمان بن أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف. وقيل: قاله فنحاص. وقال النقاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا، وتذم الطائفة أو تمدح بصدور ما يناسب ذلك من بعضهم. قيل: والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب، وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض، فأتاه
31

جبريل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا فقالوا: ما جمع الله تعالى التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه، ونقلوا حكايات في ذلك. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله نبوة النسل كما قالت العرب في الملائكة، وكذا يقتضي قول الضحاك والطبري وغيرهما عنهم: أن المسيح إله، وأنه ابن الإله. ويقال: إن بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة، وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوة المحمدية وظهور دلائل صدقها، وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم، فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى.
وقرأ عاصم، والكسائي عزير منونا على أنه عربي، وباقي السبعة بغير تنوين ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كعاذر وغيذار وعزرائيل، وعلى كلتا القرائتين فابن خبر. وقال أبو عبيد: هو أعجمي خفيف فانصرف كنوح ولوط وهود. قيل: وليس قوله بمستقيم، لأنه على أربعة أحرف وليس بمصغر، إنما هو اسم أعجمي جاء على هيئة المصغر، كسليمان جاء على هيئة عثمان وليس بمصغر. ومن زعم أن التنوين حذف من عزير لالتقاء الساكنين كقراءة: * (قل هو الله أحد * الله الصمد) * وقول الشاعر:
* إذا غطيف السلمى فرا أو لأن ابنا صفة لعزير وقع بين علمين فحذف تنوينه، والخبر محذوف أي: إلاا هنا ومعبودنا. فقوله متمحل، لأن الذي أنكر عليهم إنما هو نسبة البنوة إلى الله تعالى. ومعنى بأفواههم: أنه قول لا يعضده برهان، فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على معان، وذلك أن القول الدال على معنى لفظة مقول بالفم ومعناه مؤثر في القلب، وما لا معنى له يقال بالفم لا غير. وقيل: معنى بأفواهم إلزامهم المقالة والتأكيد، كما قال: * (يكتبون الكتاب بأيديهم) * * (ولا طائر يطير بجناحيه) * ولا بد من حذف مضاف في قوله: يضاهون أي يضاهي قولهم والذين كفروا قدماؤهم فهو كفر قديم فيهم أو المشركون القائلون الملائكة بنات الله، وهو قول الضحاك. أو الضمير عائد على النصارى والذين كفروا اليهود أي: يضاهي قول النصارى في دعواهم بنوة عيسى قول اليهود في دعواهم بنوة عزير، واليهود أقدم من النصارى، وهو قول قتادة. وقرأ عاصم وابن مصرف: يضاهئون بالهمز، وباقي السبعة بغير همز. قاتلهم الله أنى يؤفكون: دعاء عليهم عام لأنواع الشر، ومن قاتله الله فهو المقتول. وقال ابن عباس: معناه لعنهم الله. وقال أبان بن تغلب:
*
* قاتلها الله تلحاني وقد علمت
*
إني لنفسي إفسادي وإصلاحي
*
وقال قتادة: قتلهم، وذكر ابن الأنباري عاداهم. وقال النقاش: أصل قاتل الدعاء، ثم كثر استعمالهم حتى قالوه على جهة التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء. وأنشد الأصمعي:
* يا قاتل الله ليلى كيف تعجبني
*
وأخبر الناس أني لا أباليها
*
وليس من باب المفاعلة بل من باب طارقت النعل وعاقبت اللص. أنى يؤفكون: كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل على سبيل التعجبا.
2 (* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه إلا هو سبحانه عما يشركون * يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذيأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) *)) 2
* (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم) * تعدت اتخذ هنا المفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. قال حذيفة: لم يعبدوهم ولكن أحلوا لهم الحرام فأحلوه، وحرموا عليهم الحلال فحرموه، وقد جاء هذا مرفوعا في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) من حديث عدي بن حاتم. وقيل: كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله، والسجود لا يكون إلا لله، فأطلق عليهم ذلك مجازا. وقيل: علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم، فهؤلاء اتخذوهم أربابا حقيقة. ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيرا، وقالوا بالاتحاد. وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر. وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشيا في زمانه، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه: أنتم عبيدي، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتابا في هذه الطائفة، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان، وإبراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة، وأبا عبد الله بن العربي الطائي، وعمر بن علي بن الفارض، وعبد الحق بن سبعين، وأبا الحسن الششتري من أصحابه، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى، والصفيفير من أصحابه أيضا، والعفيف التلمساني. وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب. وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره، وكان يتكتم هذا المذهب. وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطا له خلطة كثيرة، وكان متهما بهذا المذهب، وخرج التلمساني من القاهرة هاربا إلى الشام من القتل على الزندقة. وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد. والأحبار علماء اليهود، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع، وعاد كل ما يناسبه. أي: اتخذ اليهود أحبارهم، والنصارى رهبانهم. والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم.
32

* (وما أمروا إلا ليعبدوا إلاها واحدا لا إلاه هو سبحانه عما يشركون) * الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا، أي: أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم. وقيل: في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: في الكتب الثلاثة. وقيل: في الكتب المنزلة، وعلى لسان جميع الأنبياء. وقال الزمخشري: أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام، أنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة. وقيل: الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أربابا أي: وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه، فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون؟ وفي قوله: عما يشركون، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى
33

* (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) * مثلهم ومثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق، ونور الله هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث، فمن حيث سماه نورا سمى محاولة إفساده إطفاء. وقالت فرقة: النور القرآن وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها. أخبر أنهم يحاولون أمرا جسيما بسعي ضعيف، فكان الإطفاء بنفخ الأفواه. ويحتمل أن يراد بأقوال لا برهان عليها، فهي لا تتجاوز الأفواه إلى فهم سامع، وناسب ذكر الإطفاء الأفواه. وقيل: إن الله لم يذكر قولا مقرونا بالأفواه والألسن إلا وهو زور، ومجئ إلا بعد ويأبى يدل على مستثنى منه محذوف، لأنه فعل موجب، والموجب لا تدخل معه إلا، لا تقول كرهت إلا زيدا. وتقدير المستثنى منه: ويأبى الله كل شيء إلا أن يتم قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: جاز هذا في أبي، لأنه منع وامتناع، فضارعت النفي. وقال الكرماني: معنى أبى هنا لا يرضى إلا أن يتم نوره بدوام دينه إلى أن تقوم الساعة. وقال الفراء: دخلت إلا لأن في الكلام طرفا من الجحد. وقال الزمخشري: أجرى أبى مجرى لم يرد. ألا ترى كيف قوبل يريدون أن يطفئوا بقوله: ويأبى الله، وكيف أوقع موقع ولا يريد الله إلا أن يتم نوره؟
* (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، والهدى التوحيد، أو القرآن، أو بيان الفرائض أقوال ثلاثة. ودين الحق: الإسلام * (إن الدين عند الله الإسلام) * والظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على الرسول لأنه المحدث عنه، والدين هنا جنس أي: ليعليه على أهل الأديان كلهم، فهو على حذف مضاف. فهو صلى الله عليه وسلم) غلبت أمته اليهود وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناحية الروم والمغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند، وكذلك سائر الأديان. وقيل: المعنى يطلعه على شرائع الدين حتى لا يخفى عليه شيء منه، فالدين هنا شرعه الذي جاء به. وقال الشافعي: قد أظهر الله رسول صلى الله عليه وسلم) على الأديان بأن أبان لكل من سمعه أنه الحق، وما خالفه من الأديان باطل. وقيل: الضمير يعود على الدين، فقال أبو هريرة، والباقر، وجابر بن عبد الله: إظهار الدين عند نزول عيسى ابن مريم ورجوع الأديان كلها إلى دين الإسلام، كأنها ذهبت هذه الفرقة إلى إظهاره على أتم وجوهه حتى لا يبقى معه دين آخر. وقالت فرقة: ليجعله أعلاها وأظهرها، وإن كان معه غيره كان دونه، وهذا القول لا يحتاج معه إلى نزول عيسى، بل كان هذا في صدر الأمة، وهو كذلك باق إن شاء الله تعالى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام وأدى الخراج. وقيل: مخصوص بجزيرة العرب، وقد حصل ذلك ما أبقى فيها أحدا من الكفار. وقيل: مخصوص بقرب الساعة، فإنه إذ ذاك يرجع الناس إلى دين آبائهم. وقيل: ليظهره بالحجة والبيان. وضعف هذا القول لأن ذلك كان حاصلا أول الأمر.
وقيل: نزلت على سبب وهو أنه كان لقريش رحلتان: رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام والعراقين، فلما أسلموا انقطعت الرحلتان لمباينة الدين والدار، فذكروا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم) فنزلت هذه الآية. فالمعنى: ليظهره على الدين كله في بلاد الرحلتين، وقد حصل هذا أسلم أهل اليمن وأهل الشام والعراقين. وفي الحديث: (رويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها) قال بعض العلماء: ولذلك اتسع
34

مجال الإسلام بالمشرق والمغرب ولم يتسع في الجنوب انتهى. ولا يسما اتساع الإسلام بالمشرق في زماننا، فقل ما بقي فيه كافر، بل أسلم معظم الترك التتار والخطا، وكل من كان يناوىء الإسلام، ودخلوا في دين الله أفواجا والحمد لله. وخص المشركون هنا بالذكر لما كانت كراهة مختصة بظهور دين محمد صلى الله عليه وسلم)، وخص الكافرون قبل لأنها كراهة إتمام نور الله في قديم الدهر، وباقيه يعم الكفرة من لدن خلق الدنيا إلى انقراضها، ووقعت الكراهة والإتمام مرارا كثيرة.
(* (ياأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الا حبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون * إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والا رض منهآ أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين * إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين * ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الا رض أرضيتم بالحيواة الدنيا من الا خرة فما متاع الحياة الدنيا فى الا خرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شىء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز حكيم * انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون * لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم
35

لكاذبون * عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين * لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الا خر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين * إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الا خر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين * لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جآء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون * ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين * إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون * قل لن يصيبنآ إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون * قل هل تربصون بنآ إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون * قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين * وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجئا أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون * ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا مآ ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنآ إلى الله راغبون * إنما الصدقات للفقرآء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين
36

وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) *))
) *
أصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة. قال:
* لا در دري إن أطعمت ضائعهم
*
قرف الجثى وعندي البر مكنوز
*
وقالوا: رجل مكتنز الخلق أي مجتمعه. وقال الراجز:
* على شديد لحمه كناز
*
بات ينزيني على أوفاز
*
ثم غلب استعماله في العرف على المدفون من الذهب والفضة. الكي: معروف وهو إلزاق الحار بعضو من البدن حتى يتمزق الجلد. والجبهة: معروفة وهي صفحة أعلى الوجه. والغاز: معروف وهو نقر في الجبل يمكن الاستخفاء فيه، وقال ابن فارس: الغار الكهف، والغار نبت طيب الريح، والغار الجماعة، والغاران البطن والفرج. ثبطه عن الأمر أبطأ به عنه، وناقة ثبطة أي بطيئة السير. وأصل التثبيط التعويق، وهو أن يحول بين الإنسان وبين أمر يريده بالتزهيد فيه. الزهق: الخروج بصعوبة، قال الزجاج: بالكسر خروج الروح، وقال الكسائي والمبرد: زهقت نفسه وزهقت لغتان، والزهق الهلاك، وزهق الحجر من تحت حافر الدابة إذا ندر، والزهوق البعد، والزهوق البئر البعيدة المهواة. الملجأ: مفعل من لجأ إلى كذا انحاز والتجأ وألجأته إلى كذا اضطررته. جمح نفر بإسراع من قولهم فرس جموح أي لا يرده اللجام إذا حمل. قال:
* سبوحا جموحا وإحضارها
*
كمعمعة السعف الموقد
*
وقال مهلهل:
* وقد جمحت جماحا في دمائهم
*
حتى رأيت ذوي أجسامهم جمدوا
*
وقال آخر:
37

* إذا جمحت نساؤكم إليه
*
اشظ كأنه مسد مغار
*
حمز قفر، وقيل: بمعنى جمح. قال رؤبة:
* قاربت بين عنقي وجمزي اللمز قال الليث: هو كالغمز في الوجه. وقال الجوهري: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها. وقال الأزهري: أصل اللمز الدفع، لمزته دفعته. الغرم: أصله لزوم ما يشق، والغرام العذاب الشاق، وسمي العشق غراما لكونه شاقا ولازما.
*
* (المشركون ياأيها الذين ءامنوا إن كثيرا من الاحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة) * لما ذكر أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ذكر ما هو كثير منهم تنقيصا من شأنهم وتحقيرا لهم، وأن مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم، فضلا عن اتخاذهم أربابا لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله. واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين المذمومتين: أكل المال بالباطل، وكنز المال إن ضنوا أن ينفقوها في سبيل الله، وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع، وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله، وهم يحجبون تلك الأموال كالراهب الذي استخرج سلمان كنزه. وكما يأخذونه من الرشا في الأحكام، كإيهام حماية دينهم، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام واتباع الرسول. وقيل: الجور في الحكم، ويحتمل أن يكون يصدون متعديا وهو أبلغ في الذم، ويحتمل أن يكون قاصرا.
وقرأ الجمهور: والذين بالواو، وهو عام يندرج فيه من يكنز من المسلمين. وهو مبتدأ ضمن معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: فبشرهم. وقيل:
والذين يكنزون من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان. وروي هذا القول عن عثمان ومعاوية. وقيل: كلام مبتدأ أراد به مانعي الزكاة من المسلمين، وروي هذا القول عن السدي، والظاهر العموم كما قلناه، فيقرن بين الكانزين من المسلمين، وبين المرتشين من الأحبار والرهبان تغليظا ودلالة على أنهم سواء في التبشير بالعذاب. وروي العموم عن أبي ذر وغيره. وقرأ ابن مصرف: الذين بغير واو، وهو ظاهر في كونه من أوصاف من تقدم، ويحتمل الاستئناف والعموم. والظاهر ذم من يكنز ولا ينفق في سبيل الله. وما جاء في ذم من ترك صفراء وبيضاء، وأنه يكوى بها إلى غير ذلك من أحاديث هو قبل أن تفرض الزكاة، والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، فلذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، فأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (كل ما أديت زكاته فليس بكنز) وعن عمر أنه قال لرجل باع أرضا أحرز مالك الذي أخذت أحفر له تحت فراش امرأتك فقال: أليس بكنز، فقال: (ما أدى زكاته فليس بكنز). وعن ابن عمر وعكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم مثل ذلك. وقال علي: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته. وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل على حاجة نفسه فهو كنز. وهذان القولان يقتضيان أن الذم في جنس المال، لا في منع الزكاة فقط. وقال عمر بن عبد العزيز: هي منسوخة بقوله: (خذ من أموالهم صدقة) فأتى فرض الزكاة على هذا كله، كأن الآية تضمنت: لا تجمعوا مالا فتعذبوا، فنسخه التقرير الذي في قوله: خذ من أموالهم صدقة، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده مالا من جهة أذن له فيها ويؤدى عنه ما أوجبه عليه فيه ثم يعاقبه
38

وكان كثير من الصحابة رضوان الله عليهم كعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن الفتنة، لأن الإعراض اختيار للأفضل والأدخل في الورع والزهد في الدنيا، والإقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، وما روي عن علي كلام في الأفضل.
وقرأ أبو السمال ويحيى بن يعمر: يكنزون بضم الياء، وخص بالذكر الذهب والفضة من بين سائر الأموال لأنهما قيم الأموال وأثمانها، وهما لا يكنزان إلا عن فضلة وعن كثرة، وممن كنزهما لم يعدم سائر أجناس الأموال، وكنزهما يدل على ما سواهما. والضمير في: ولا ينفقونها، عائد على الذهب، لأن تأنيثه أشهر، أو على الفضة. وحذف المعطوف في هذين القولين أو عليهما باعتبار أن تحتهما أنواعا، فروعي المعنى كقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * أو لأنهما محتويان على جمع دنانير ودراهم، أو على المكنوزات، لدلالة يكنزون. أو على الأموال، أو على النفقة وهي المصدر الدال عليه. ولا ينفقونها، أو على الزكاة أي: ولا ينفقون زكاة الأموال أقوال. وقال كثير من المفسرين: عاد على أحدهما كقوله: * (وإذ * رأوا تجارة أو لهوا) * وليس مثله، لأن هذا عطف بأو، فحكمهما أن الضمير يعود على أحد المتعاطفين بخلاف الواو، إلا أن ادعى أن الواو في والفضة بمعنى أو ليمكن، وهو خلاف الظاهر.
* (يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هاذا ما كنزتم لانفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) * يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضا فحميت. وقرأ الجمهور: يوم يحمى عليها بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أن ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء. وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود. ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار. والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى. وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقيا، ووقع الفصل أيضا ذكر، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير، كما أدغم مناسككم وما سلككم، وخصت هذه المواضع بالكي. قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع. وقيل: لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل. وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم. وقيل: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم. وقال الزمخشري: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم. لا يخطرون ببالهم قول
39

رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ذهب أهل الدثور بالأجور) وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوا ظهورهم. وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم. ومعنى لأنفسكم: لتنتفع به أنفسكم وتلتذ، فصار عذابا لكم، وهذا القول توبيخ لهم. فذوقوا ما كنتم أي: وبال المال الذي كنتم تكنزون. ويجوز أن تكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين. وقرئ يكنزون بضم النون. وفي حديث أبي ذر: (بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم) وفي حصحي البخاري وصحيح مسلم: (الوعيد الشديد لمانع الزكاة).
* (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق * السماوات والارض * منها أربعة حرم ذالك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله) * كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد،
ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام. وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهرا أي: أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، فيغيرون فيه ويعيشون. ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة، ويسمون ذلك الصفر المحرم، ويسمون ربيعا الأول صفرا، وربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.
قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم) سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله: (إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان).
ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعا من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضا نوعا منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى، لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله. والشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة، بخلاف قوله: (الحج أشهر معلومات) فجاء بلفظ جمع القلة، والمعنى: شهور السنة القمرية، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية، توارثوه عن إسماعيل وإبراهيم. ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة. وقيل: التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر. وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما
40

روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا. وقرأ طلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهرا على التمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلا. ومعنى في كتاب الله قال بان عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: في إيجاب الله. وقيل: في حكمه. وقيل: في القرآن، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية، وهذا الحكم في القرآن. قال تعالى: * (والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) * وقال: * (يسئلونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج) * قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض انتهى. وعند الله متعلق بعدة. وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السماوات والأرض متعلق أيضا بعدة. وقال أبو علي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهرا، ولأنه لا يجوز انتهى. وهو كلام صحيح. وقال أبو البقاء: عدة مصدر مثل العدد، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدرا لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى. وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السماوات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.
وأربعة حرم سميت حرما لتحريم القتال فيها، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها. وتسكين الراء لغة. وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا، والصحيح: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وأولها عند كثير من العلماء رجب، فيكون من سنتين. وقال قوم: أولها المحرم، فيكون من سنة واحدة. ذلك الدين القيم أي: القضاء المستقيم، قاله ابن عباس. وقيل: العدد الصحيح. وقيل: الشرع القويم، إذ هو دين إبراهيم. فلا تظلموا فيهن أنفسكم، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهرا، قاله ابن عباس: والمعنى: لا تجعلوا حلالا حراما، ولا حراما حلالا كفعل النسيء. ويؤيده كون الظلم منهيا عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم. وقال قتادة والفراء: هو عائد على الأربعة الحرم، نهى عن المظالم فيها تشريفا لها وتعظيما بالتخصيص بالذكر، وإن كانت المظالم منهيا عنها في كل زمان. وقال الزمخشري: فلا تظلموا فيهن أي: في الأشهر الحرم، أي: تجعلوا حرامها حلالا. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله. وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى: * (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور انتهى. ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجئ بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول: الجذوع انكسرت، وأن النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح. وقد يعكس قليلا فتقول: الجذوع انكسرن، والاجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال، أو بترك المحارم لعددكم أقوال. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعا. ولا يثنى، ولا يجمع، ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال. وتقدم بسط الكلام فيها في قوله: * (ادخلوا في السلم كافة) * فأغنى عن إعادته. والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
* (إنما النسىء زيادة فى الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا) *
41

(سقط: زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين) يقال: نسأه وأنسأه إذا أخره، حكاه الكسائي. قال الجوهري وأبو حاتم: النسيء فعيل بمعنى مفعول، من نسأت الشيء فهو منسوء إذا أخرته، ثم حول إلى نسيء كما حول مقتول إلى قتيل. ورجل ناسىء، وقوم نسأة، مثل فاسق وفسقة انتهى. وقيل: النسيء مصدر من أنسأ، كالنذير من أنذر، والنكير من أنكر، وهو ظاهر قول الزمخشري لأنه قال: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. وقال الطبري: النسيء بالهمز معناه
الزيادة انتهى. فإذا قلت: أنسأ الله؛ الله أجله بمعنى أخر، لزم من ذلك الزيادة في الأجل، فليس النسيء مرادفا للزيادة، بل قد يكون منفردا عنها في بعض المواضع. وإذا كان النسيء مصدرا كان الإخبار عنه بمصدر واضحا، وإذا كان بمعنى مفعول فلا بد من إضمار إما في النسيء أي: إن نسأ النسيء، أو في زيادة أي: ذو زيادة. وبتقدير هذا الإضمار يرد على ما يرد على قوله. ولا يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، لأنه يكون المعنى: إنما المؤخر زيادة، والمؤخر الشهر، ولا يكون الشهر زيادة في الكفر.
وقرأ الجمهور: النسيء مهموز على وزن فعيل. وقرأ الزهري وحميد وأبو جعفر وورش عن نافع والحلواني: النسي بتشديد الياء من غير همز، وروى ذلك عن ابن كثير سهل الهمزة بإبدالها ياء، وأدغم الياء فيها، كما فعلوا في نبىء وخطيئة فقالوا: نبي وخطية بالإبدال والإدغام. وفي كتاب اللوامح قرأ جعفر بن محمد والزهري بإسكان السين. وقرأ مجاهد: النسوء على وزن فعول بفتح الفاء، وهو التأخير. ورويت هذه عن طلحة والسلمي. وقول أبي وائل: إن النسيء رجل من بني كنانة قول ضعيف. وقول الشاعر:
* أنسنا الناسئين على معد
*
شهور الحل نجعلها حراما
*
وقال آخر:
* نسؤ الشهور بها وكانوا أهلها
*
من قبلكم والعز لم يتحول
*
وأخبر أن النسيء زيادة في الكفر أي: جاءت مع كفرهم بالله، لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. قال تعالى: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * كما أن المؤمن إذا أحدث طاعة ازداد إيمانا. قال تعالى: * (فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون) * وأعاد الضمير في به على النسيء، لا على لفظ زيادة. وقرأ ابن مسعود والأخوان وحفص: يضل مبنيا للمفعول، وهو مناسب لقوله: زين، وباقي السبعة مبنيا للفاعل. وابن مسعود في رواية، والحسن ومجاهد وقتادة وعمرو بن ميمون ويعقوب: يضل أي الله، أي: يضل به الذين كفروا اتباعهم. ورويت هذه القراءة عن: الحسن، والأعمش، وأبي عمرو، وأبي رجاء. وقرأ أبو رجاء: يضل بفتحتين من ضللت بكسر اللام، أضل بفتح الضاد منقولا، فتحها من فتحة اللام إذ الأصل أضلل. وقرأ النخعي ومحبوب عن الحسن: نضل بالنون المضمومة وكسر الضاد، أي: نضل نحن. ومعنى تحريمهم عاما وتحليلهم عاما: لا يرادان ذلك، كان مداولة في الشهر بعينه عام حلال وعام حرام. وقد تأول بعض الناس القصة على أنهم كانوا إذا شق عليهم توالي الأشهر الحرم أحل لهم المحرم وحرم صفرا بدلا من المحرم، ثم مشت الشهور مستقيمة على أسمائها المعهودة، فإذا كان من قابل حرم المحرم على حقيقته وأحل صفر ومشت الشهور مستقيمة، وإن هذه كانت حال القوم.
وتقدم لنا أن الذي انتدب أولا للنسيء القلمس. وقال ابن عباس
42

وقتادة والضحاك: الذين شرعوا النسيء هم بنو مالك من كنانة وكانوا ثلاثة. وعن ابن عباس: إن أول من فعل ذلك عمرو بن لحي، وهو أول من سيب السوائب، وغير دين إبراهيم. وقال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له: نعيم بن ثعلبة. والمواطأة: الموافقة، أي ليوافقوا العدة التي حرم الله وهي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أصل الواجبين. والواجبان هما العدد الذي هو أربعة في أشخاص أشهر معلومة وهي: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة والمحرم كما تقدم. ويقال: تواطؤا على كذا إذا اجتمعوا عليه، كان كل واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. ومنه الإيطاء في الشعر، وهو أن يأتي في الشعر بقافيتين على لفظ واحد ومعنى واحد، وهو عيب إن تقارب. واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله: ويحرمونه، وذلك على طريق الأعمال. ومنن قال: إنه متعلق بيحلونه ويحرمونه معا، فإنه يريد من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب. قال ابن عطية: ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد، فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحدها، بمثابة أن يفطر رمضان، ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر انتهى. وقرأ الأعمش وأبو جعفر: ليواطيوا بالياء المضمومة لما أبدل من الهمزة ياء عامل البدل معاملة المبدل منه، والأصح ضم الطاء وحذف الياء لأنه أخلص الهمزة ياء خالصة عند التخفيف، فكنت لاستثقال الضمة عليها، وذهبت لالتقاء الساكنين، وبدلت كسرة الطاء ضمة لأجل الواو التي هي ضمير الجماعة كما قيل في رضيوا رضوا. وجاء عن الزهري: ليواطيوا بتشديد الياء، هكذا الترجمة عنه. قال صاحب اللوامح: فإن لم يرد به شدة بيان الياء وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهه انتهى. فيحلوا ما حرم الله أي بمواطأة العدة وحدها من غير تخصيص ما حرم الله تعالى من القتال، أو من ترك الاختصاص للأشهر بعينها. وقرأ الجمهور: زين لهم سوء أعمالهم مبنيا للمفعول. والأولى أن يكون المنسوب إليه التزيين الشيطان، لأن ما أخبر به عنهم سيق في المبالغة في معرض الذم. وقرأ زيد بن علي: زين لهم سوء بفتح الزاي والياء والهمزة، والأولى أن يكون زين لهم ذلك الفعل سوء أعمالهم. قال الزمخشري: خذلهم الله تعالى فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة. والله لا يهدي أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
وقال أبو علي: لا يهديهم إلى طريق الجنة والثواب. وقال الأصم: لا يحكم لهم بالهداية. وقيل: لا يفعل بهم خيرا، والعرب تسمي كل خير هدى، وكل شر ضلالة انتهى. وهذا إخبار عمن سبق في علمه أنهم لا يهتدون.
* (الكافرين ياأيها الذين ءامنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا فى سبيل الله اثاقلتم إلى الارض أرضيتم بالحيواة الدنيا من الاخرة) *: لما أمر الله رسوله بغزاة تبوك، وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار، عظم ذك على الناس وأحبوا المقام، نزلت عتابا على من تخلف عن هذه الغزوة، وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام، غزا فيها الروم في عشرين ألفا من راكب وراجل، وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون. وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة، إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم لغير علة حسبما يأتي إن شاء الله تعالى. ولما شرح معاتب الكفار رغب في مقابلتهم. وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع، وبني قيل للمفعول، والقائل هو الرسول صلى الله عليه وسلم) لم يذكر إغلاظا ومخاشنة لهم وصونا لذكره. إذ أخلد إلى الهوينا والدعة: من أخلد وخالف أمره صلى الله عليه وسلم).
وقرأ الأعمش: تثاقلتم وهو أصل قراءة الجمهور اثاقلتم، وهو ماض بمعنى المضارع، وهو في موضع الحال، وهو عامل في إذ أي: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا. وقال أبو البقاء: الماضي هنا بمعنى
43

المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وموضعه نصب. أي: أي شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على مذهب الخليل انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه يلزم منه حذف أن، لأنه لا ينسبك مصدر إلا من حرف مصدري والفعل، وحذف أن في نحو هذا قليل جدا أو ضرورة. وإذا كان التقدير في التثاقل فلا يمكن عمله في إذا، لأن معمول المصدر الموصول لا يتقدم عليه فيكون الناصب لإذا، والمتعلق به في التثاقل ما هو معلوم لكم الواقع خبرا لما. وقرئ: اثاقلتم على الاستفهام الذي معناه الإنكار والتوبيخ، ولا يمكن أن يعمل في إذ ما بعد حرف الاستفهام. فقال الزمخشري: يعمل فيه ما دل عليه، أو ما في ما لكم من معنى الفعل، كأنه قال: ما تصنعون إذا قيل لكم، كما تعمله في الحال إذا قلت: ما لك قائما. والأظهر أن يكون التقدير: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم انفروا، وحذف لدلالة اثاقلتم عليه. ومعنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها قاله مجاهد وكرهتم مشاق السفر. وقيل ملتم إلى الإقامة بأرضكم قاله: الزجاج. ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجب أي: أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي. ومن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي: بدل الآخرة كقوله: * (لجعلنا منكم ملئكة) * أي بدلا، ومنه قول الشاعر:
* فليت لنا من ماء زمزم شربة
*
مبردة باتت على طهيان
*
أي بدلا من ماء زمزم، والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى تبرد. وأصحابنا لا يثبتون أن تكون هن للبدل. ويتعلق في الآخرة بمحذوف التقدير: فما متاع الحياة الدنيا محسوبا في نعيم الآخرة. وقال الحوفي: في الآخر متعلق بقليل، وقليل خبر الابتداء. وصلح أن يعمل في الظرف مقدما، لأن رائحة الفعل تعمل في الظرف. ولو قلت: ما زيد عمرا إلا يضرب، لم يجز.
* (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شىء قدير) *: هذا سخط على المتثاقلين عظيم، حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين، وأنه يهلكهم ويستبدل قوما آخرين خيرا منهم وأطوع، وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا. وقيل: يعذبكم بإمساك المطر عنكم. وروي عن ابن عباس أنه قال: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم) قبيلة فقعدت، فأمسك الله عنها المطر وعذبها بها به. والمستبدل الموعود بهم، قال: جماعة أهل اليمن. وقال ابن جبير: أبناء فارس. وقال ابن عباس: هم التابعون، والظاهر مستغن عن التخصيص. وقال الأصم: معناه أنه تعالى يخرج رسوله من بين أظهرهم إلى المدينة. قال القاضي: وهذا ضعيف، لأن اللفظ لا دلالة فيه على أنه ينتقل من المدينة إلى غيرها، ولا يمتنع أن يظهر في المدينة أقواما يعينونه على الغزو، ولا يمتنع أن يعينه بأقوام من الملائكة أيضا حال كونه هناك. والضمير في: ولا تضروه شيئا، عائد على الله تعالى أي: ولا تضروا دينه شيئا. وقيل: على الرسول، لأنه تعالى قد عصمه ووعده بالنصر، ووعده كائن لا محالة. ولما رتب على انتفاء نفرهم التعذيب والاستبدال وانتفاء الضرر، أخبر تعالى أنه على كل شيء تتعلق إرادته به قدير من التعذيب والتغيير وغير ذلك.
* (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما فى الغار إذ يقول لصاحبه لا) *: ألا تنصروه فيه انتفاء النصر بأي طريق كان من نفر أو
44

غيره. وجواب الشرط محذوف تفسيره: فسينصره، ويدل عليه فقد نصره الله أي: ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف يكون قوله تعالى: فقد نصره الله جوابا للشرط؟ (قلت): فيه وجهان: أحدهما: فسينصره، وذكر معنى ما قدمناه. والثاني: أنه تعالى أوجب له النصرة وجعله منصورا في ذلك الوقت فلم يخذل من بعده انتهى. وهذا لا يظهر منه جواب الشرط، لأن إيجاب النصرة له أمر سبق، والماضي لا يترتب على المستقبل، فالذي يظهر الوجه الأول. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه: فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة. ونسب الإخراج إليهم مجازا، كما نسب في قوله: * (التى أخرجتك) * وقصة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على
الحال أي: أحد اثنين وهما: رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأبو بكر رضي الله عنه.
وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام: (من يخرج معي؟) قال: أبو بكر. وقال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مثل أبي بكر. وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ألا تنصروه. قال ابن عطية: بل خرج منها كل من شاهد غزوة تبوك، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط، وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام. وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصرة دين الله، إذ بين فيها أن الله ينصره كما نصره، إذ كان في الغار وليس معه فيه أحد سوى أبي بكر. وقرأت فرقة: ثاني اثنين بسكون ياء ثاني. قال ابن جني: حكاها أبو عمرو، ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف. والغار: نقب في أعلى ثور، وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة، مكث فيه ثلاثا. هذ هما: بدل. وإذ يقول: بدل ثان. وقال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى، وليس ذلك لسائر الصاحبة. وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنهاه الرسول تسكينا لقلبه، وأخبره بقوله: إن الله معنا، يعني: بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة وذهب دين الله، فقال صلى الله عليه وسلم): (ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟) وقال أبو بكر رضي الله عنه:
* قال النبي ولم يجزع يوقرني
*
ونحن في سدف من ظلمة الغار
*
* لا تخش شيئا فإن الله ثالثنا
*
وقد تكفل لي منه بإظهار
*
* وإنما كيد من تخشى بوارده
*
كيد الشياطين قد كادت لكفار
*
* والله مهلكهم طرا بما صنعوا
*
وجاعل المنتهى منهم إلى النار
*
* (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا والله عزيز) * قال ابن عباس: السكينة الرحمة. وقال قتادة في آخرين: الوقار. وقال ابن قتيبة: الطمأنينة. وهذه الأقوال متقاربة. والضمير في عليه عائد على صاحبه، قاله حبيب بن أبي ثابت، أو على الرسول قاله الجمهور، أو عليهما. وأفرده لتلازمهما، ويؤيده أن في مصحف حفصة: فأنزل الله سكينته عليهما وأيدهما. والجنود: الملائكة يوم بدر، والأحزاب
45

وحنين. وقيل: ذلك الوقت يلقون البشارة في قلبه، ويصرفون وجوه الكفار عنه. والظاهر أن الضمير عليه عائد على أبي بكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم) كان ثابت الجأش، ولذلك قال: لا تحزن إن الله معنا. وأن الضمير في وأيده عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم) كما جاء: * (لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه) * يعني الرسول، وتسبحوه: يعني الله تعالى. وقال ابن عطية: والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله على أنبيائه من الحياطة لهم، والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله: * (فيه سكينة من ربكم) * ويحتمل أن يكون قوله: فأنزل الله سكينته إلى آخر الآية يراد به ما صنعه الله لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح، لا أن يكون هذا يختص بقصة الغار. وكلمة الذين كفروا هي الشرك، وهي مقهورة. وكلمة الله: هي التوحيد، وهي ظاهرة. هذا قول الأكثرين. وعن ابن عباس: كلمة الكافرين ما قرروا بينهم من الكيد به ليقتلوه، وكلمة الله: أنه ناصره. وقيل: كلمة الله لا إله إلا الله، وكلمة الكفارقولهم في الحرب: يا لبني فلان، ويا لفلان. وقيل: كلمة الله قوله تعالى: * (لاغلبن أنا ورسلى) * وكلمة الذين كفروا قولهم في الحرب: أعل هبل، يعنون صنمهم الأكبر. وقرأ مجاهد وأيده والجمهور وأيده بتشديد الياء. وقرئ: وكلمة الله بالنصب أي: وجعل. وقراءة الجمهور بالرفع أثبت في الإخبار. وعن أنس رأيت في مصحف أبي: وجعل كلمته هي العلياء، وناسب الوصف بالعزة الدالة على القهر والغلبة، والحكمة الدالة على ما يصنع مع أنبيائه وأوليائه، ومن عاداهم من إعزاز دينه وإخماد الكفر.
* (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *: لما توعد تعالى من لا ينفر مع الرسول صلى الله عليه وسلم) وضرب له من الأمثال ما ضرب، أتبعه بهذا الأمر الجزم. والمعنى: انفروا على الوصف الذي يحف عليكم فيه الجهاد، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا
مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة، ومن يمكنه بصعوة ب، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا. وروي أن ابن أم مكتوم جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: أعلي أن أنفر؟ قال: نعم، حتى نزلت: * (ليس على الاعمى حرج) * وذكر المفسرون من معاني الخفة والثقل أشياء لا على وجه التخصيص بعضها دون بعض، وإنما يحمل ذلك على التمثيل لا على الحصر. قال الحسن وعكرمة ومجاهد: شبابا وشيوخا. وقال أبو صالح: أغنياء وفقراء في اليسر والعسر. وقال الأوزاعي: ركبانا ومشاة. وقيل: عكسه. وقال زيد بن أسلم: عزبانا ومتزوجين. وقال جويبر: أصحاء ومرضى. وقال جماعة: خفافا من السلاح أي مقلين فيه، وثقالا أي مستكثرين منه. وقال الحكم بن عيينة وزيد بن علي: خفافا من الإشغال وثقالا بها. وقال ابن عباس: خفافا من العيال، وثقالا بهم. وحكى التبريزي: خفافا من الأتباع والحاشية، ثقالا بهم. وقال علي بن عيسى: هو من خفة اليقين وثقله عند الكراهة. وحكى الماوردي: خفافا إلى الطاعة، وثقالا عن المخالفة. وحكى صاحب الفتيان: خفافا إلى المبارزة، وثقالا في المصابرة. وحكى أيضا: خفافا بالمسارعة والمبادرة، وثقالا بعد التروي والتفكر. وقال ابن زيد: وقال ابن زيد: ذوي صنعة وهو الثقيل، وغير ذوي صنعة وهو الخفيف. وحكى النقاش: شجعانا وجبنا. وقيل: مهازيل وسماتا. وقيل: سباقا إلى الحرب كالطليعة وهو مقدم الجيش، والثقال الجيش بأسره. وقال ابن عباس وقتادة: النشيط والكسلان. والجمهور على أن الأمر موقوف على فرض الكفاية، ولم يقصد به فرض الأعيان. وقال الحسن وعكرمة: هو فرض على المؤمنين عنى به فرض الأعيان في تلك المدة، ثم نسخ بقوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * وانتصب خفافا وثقالا على الحال. وذكر بأموالكم وأنفسكم إذ ذلك وصف لأكمل ما يكون من
46

الجهاد وأنفعه عند الله، فحض على كمال الأوصاف وقدمت الأموال إذ هي أول مصرف وقت التجهيز، وذكر ما المجاهد فيه وهو سبيل الله. والخيرية هي في الدنيا بغلبة العدو، ووراثة الأرض، وفي الآخرة بالثواب ورضوان الله. وقد غزا أبو طلحة حتى غزا في البحر ومات فيه، وغزا المقداد على ضخامته وسمنه، وسعيد بن المسيب وقد ذهبت إحدى عينيه، وابن أم مكتوم مع كونه أعمى.
* (لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولاكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم) *: أي لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال، وسفرا قاصدا وسطا مقاربا. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا، واعتذر منهم فريق لأصحابه، لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة. وليس قوله: * (الكافرين ياأيها الذين ءامنوا ما لكم) * خطابا للمنافقين خاصة، بل هو عام. واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، فابتدأ تعالى بذكر المنافقين وكشف ضمائرهم. لاتبعوك: لبادروا إليه، لا لوجه الله، ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة أي: المسافة الطويلة في غزو الروم. والشقة بالضم من الثياب، والشقة أيضا السفر البعيد، وربما قالوه بالكسر قاله: الجوهري. وقال الزجاج: الشقة الغاية التي تقصد. وقال ابن عيسى: الشقة القطعة من الأرض يشق ركوبها. وقال ابن فارس: الشقة المسير إلى أرض بعيدة، واشتقاقها منه الشق، أو من المشقة. وقرأ عيسى بن عمر: بعدت عليهم الشقة بكسر العين والشين، وافقه الأعرج في بعدت. وقال أبو حاتم: إنها لغة بني تميم في اللفظين انتهى. وحكى الكسائي: شقة وشقة. وسيحلفون: أي المنافقون، وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، ما نصه بالله متعلق بسيحلفون، أو هو من كلامهم. والقول مراد في الوجهين أي: سيحلفون متخلصين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين، يقولون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم، أو وسيحلفون بالله يقولون لو استطعنا. وقوله: لخرجنا سد مسد جواب القسم. ولو جميعا والإخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم، وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة، واستطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا انتهى. وما ذهب إليه من أن قوله: لخرجنا، سد مسد جواب القسم. ولو جميعا ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: إن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم والشرط إذا تقدم القسم على الشرط، وهذا اختيار أبي الحسن بن عصفور. والآخران لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها، وهذا اختيار ابن مالك. إن لخرجنا يسد مسدهما، فلا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك. ويحتمل أن يتأول كلامه على أنه لما حذف جواب لو، ودل عليه جواب القسم جعل، كأنه سد مسد جواب القسم وجواب لو جميعا.
وقرأ الأعمش وزيد بن علي: لو استطعنا بضم الواو، وفر من ثقل الكسرة على الواو وشبهها بواو الجمع عند تحريكها لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسن: بفتحها كمتا جاء: * (اشتروا الضلالة) * بالأوجه الثلاثة يهلكون أنفسهم بالحلف الكاذب، أي: يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه تعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، وما يخلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لخرجنا أي، لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما يحملها من المسير في تلك الشقة، وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. ألا ترى أنه لو قيل: سيلحفون بالله لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا؟ يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الإخبار، والتكلم على الحكام انتهى. أما كون يهلكون بدلا من سيحلفون فبعيد، لأن الإهلاك ليس مرادفا للحلف، ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه. وأما
47

كونه حالا من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز، لأن قوله لخرجنا فيه ضمير التكلم، فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم. فلو كان حالا من ضمير لخرجنا لكان التركيب: نهلك أنفسنا أي: مهلكي أنفسنا. وأما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلن ولأفعلن فليس بصحيح، لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منهم إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وأنا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالا من ضمير ليفعلن لم يجز، وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائما لم يجز. وأما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فهي مغالطة ليس مخبرا عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى
لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا إلى آخره كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخبارا عنهم، بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي، فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالدا، تريد اضرب خالدا، لم يجز. ولو قلت: قالت هند: خرج زيد أضرب خالدا، تريد خرج زيد ضاربا خالدا، لم يجز.
* (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) *: قال ابن عطية: هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق. واستأذنوا دون اعتذار منهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، ومن اتبعهم. فقال بعضهم: ائذن لي ولا تفتني. وقال بعضهم: ائذن لنا في الإقامة، فأذن لهم استبقاء منه عليهم، وأخذا بالأسهل من الأمور، وتوكلا على الله. قال مجاهد: قال بعضهم: نستأذنه، فإن أذن في القعود قعدنا، وإن لم يأذن فعدنا، فنزلت الآية في ذلك انتهى. وقال أبو عبد الله إبراهيم بن عرفة النجوي الداودي المنبوذ بنفطويه: ذهب ناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم) معاتب بهذه الآية، وحاشاه من ذلك، بل كان له أن يفعل وأن لا يفعل حتى ينزل عليه الوحي كما قال: * (لو) * لأنه كان له أن يفعل وأن لا يفعل. وقد قال الله تعالى: * (ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء) * لأنه كان له أن يفعل ما يشاء مما لم ينزل عليه فيه وحي. واستأذنه المخلفون في التخلف واعتذروا، اختار أيسر الأمرين تكرما وتفضلا منه صلى الله عليه وسلم)، فأبان الله تعالى أنه لو لم يأذن لهم لأقاموا للنفاق الذي في قلوبهم، وأنهم كاذبون في إظهار الطاعة والمشاورة، فعفا الله عنك عنده افتتاح كلام أعلمه الله به، أنه لا حرج عليه فيما فعله من الإذن، وليس هو عفوا عن ذنب، إنما هو أنه تعالى أعلمه أنه لا يلزمه ترك الإذن لهم كما قال صلى الله عليه وسلم): (عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق) وما وجبتا قط ومعناه: ترك أن يلزمكم ذلك انتهى. ووافقه عليه قوم فقالوا: ذكر العفو هنا لم يكن عن تقدم ذنب، وإنما هو استفتاح كلام جرت عادة العربان تخاطب بمثله لمن تعظمه وترفع من قدره، يقصدون بذلك الدعاء له فيقولون: أصلح الله الأمير كان كذا وكذا، فعلى هذا صيغته صيغة الخبر، ومعناه الدعاء انتهى.
ولم ولهم متعلقان بأذنت، لكنه اختلف مدلول اللامين، إذ لام لم للتعليل، ولام لهم للتبليغ، فجاز ذلك لاختلاف معنييهما. ومتعلق الإذن غير مذكور، فما قدمناه يدل على أنه القعود أي: لم أذنت لهم في القعود والتخلف عن الغزو حتى تعرف ذوي العذر في التخلف ممن لا عذر له. وقيل: متعلق الإذن هو الخروج معه للغزو، لما ترتب على خروجهم من المفاسد، لأنهم كانوا عينا للكفار على المسلمين. ويدل عليه قوله: * (وفيكم سماعون لهم) * وكانوا يخذلون المؤمنين ويتمنون أن تكون الدائرة عليهم فقيل: لم أذنت لهم في إخراجهم وهم على هذه الحالة السيئة؟ وبين أن خروجهم معه ليس مصلحة بقوله: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) *. وحتى غاية لما تضمنه الاستفهام أي: ما كان أن تأذن لهم حتى يتبين من له العذر، هكذا قدره الحوفي. وقال أبو البقاء: حتى يتبين متعلق
48

بمحذوف دل عليه الكلام تقديره: هلا أخرتهم إلى أن يتبين أو ليتبين. وقوله: لم أذنت لهم يدل على المحذوف. ولا يجوز أن تتعلق حتى بأذنت، لأن ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التبيين، وهذا لا يعاتب عليه انتهى. وكلام الزمخشري في تفسير قوله: عفا الله عنك لم أذنت لهم، مما يجب اطراحه، فضلا عن أن يذكر فيرد عليه. وقوله: الذين صدقوا أي: في استئذانك. وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك. وتعلم الكاذبين: تريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن. وقال الطبري: حتى نعلم الصادقين في أن لهم عذرا، ونعلم الكاذبين في أن الأعذار لهم. وقال قتادة: نزلت بعد هذه الآية آية النور، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم. وهذا غلط، لأن النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين الرسول في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله أن يأذن، فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى.
* (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الاخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين) *: قال ابن عباس: لا يستأذنك أي بعد غزوة تبوك. وقال الجمهور: ليس كذلك، لأن ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك، والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم) أبدا، ويقولون: لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا. وقيل: التقدير لا يستأذنك المؤمنون في الخروج ولا القعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرت بشيء ابتدروا إليه، وكان الاستئذان في ذلك الوقت علامة على النفاق. وقوله: والله عليم بالمتقين، شهادة لهم بالانتظام في زمرة المتقين، وعدة لهم بأجزل الثواب.
* (إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الاخر وارتابت قلوبهم فهم فى ريبهم يترددون) *: هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ومعنى ارتابت: شكت. ويترددون: يتحيرون، لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر الرسول، وتارة يخطر لهم خلاف ذلك.
* (ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولاكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين) * قال ابن عباس: عدة من الزاد والماء والراحلة، لأن سفرهم بعيد في زمان حر شديد. وفي تركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف. وقال قوم: كانوا قادرين على تحصيل العدة والإهبة. وروى الضحاك عن ابن عباس: العدة النية الخالصة في الجهاد. وحكى الطبري: كل ما يعد للقتال من الزاد والسلاح. وقرأ محمد بن عبد الملك بن مروان وابنه معاوية: عد بضم العين من غير تاء، والفراء يقول: تسقط التاء للإضافة، وجعل من ذلك وإقام الصلاة أي وإقامة الصلاة. وورد ذلك في عدة أبيات من لسان العرب، ولكن لا يقيس ذلك، إنما نقف فيه مع مورد السماع. قال صاحب اللوامح: لما أضاف جعل الكناية تائبة عن التاء فأسقطها، وذلك لأن العد بغير تاء، ولا تقديرها هو البثر الذي يخرج في الوجه. وقال أبو حاتم: هو جمع عدة كبرة وبر ودرة ودر، الوجه فيه عدد، ولكن لا يوافق خط المصحف. وقرأ ذر بن حبيش وإبان عن عاصم: عده بكسر العين، وهاء إضمار. قال ابن عطية: وهو عندي اسم لما يعد كالذبح والقتل للعد، وسمي قتلا إذ حقه أن يقتل. وقرئ أيضا: عبة بكسر العين، وبالتاء دون إضافة أي: عدة من الزاد والسلاح، أو مما لهم مأخوذ من العدد. ولما تضمنت الجملة انتفاء الخروج والاستعداد، وجاء بعدها ولكن، وكانت لا تقع إلا بين نقيضين أو ضدين أو خلافين على خلاف فيه، لا بين
متفقين، وكان ظاهر ما بعد لكن موافقا لما قبلها.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف موقع حرف الاستدراك
49

(قلت): لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكن تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلي زيد ولكن أساء إلي انتهى. وليست اة ية نظير هذا المثال، لأن المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية واقع فيها لكن بين متفقين من جهة المعنى، والانبعاث الانطلاق والنهوض. قال ابن عباس: فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم. وبنى وقيل للمفعول، فاحتمل أن يكون القول: أذن الرسول لهم في القعود، أو قول بعضهم لبعض إما لفظا وإما معنى، أو حكاية عن قول الله في سابق قضائه. وقال الزمخشري: جعل القاء الله تعالى في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود. وقيل: هو من قول الشيطان بالوسوسة. قال: (فإن قلت): كيف جاز أن يوقع الله تعالى في نفوسهم كراهة الخروج إلى الغزو وهي قبيحة، وتعالى الله عن إلهام القبيح. (قلت): خروجهم كان مفسدة لقوله تعالى: * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * فكان إيقاع كراهة ذلك الخروج في نفوسهم حسنا ومصلحة انتهى. وهذا السؤال والجواب على طريقة الاعتزال في المفسدة والمصلحة، وهذا القول هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاق بالنساء والصبيان والزني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت، وهم القاعدون والخلفون والخوالف، ويبينه قوله تعالى: * (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) * والقعود هنا عبارة عن التخلف والتراخي كما قال:
* دع المكارم لا ترحل لبغيتها
*
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
*
* (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين) *: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) ضرب عسكره على ثنية الوداع، وضرب عبد الله بن أبي عسكره أسفل منها، ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت بعرى الله ورسوله إلى قوله: وهم كارهون. وفيكم أي: في جيشكم أو في جملتكم. وقيل: في بمعنى مع. قال ابن عباس: الخبال الفساد ومراعاة إخماد الكلمة. وقال الضحاك: المكر والغدر. وقال ابن عيسى: الاضطراب. وقال الكلبي: الشر، وقاله: ابن قتيبة. وقيل: إيقاع الاختلاف والأراجيف، وتقدم شرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ، إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر، وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير، ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال. وقال الزمخشري: المستثنى منه غير مذكور، فالاستثناء من أعم العام الذي هو الشيء، فكان هو استثناء متصلا لأن بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا. وقيل: هو استثناء منقطع، وهذا قولمن قال: إنه لم يكن في عسكر الرسول خبال. فالمعنى: ما زادوكم قوة ولا شدة لكن خبالا. وقرأ ابن أبي عبلة: ما زادوكم بغير واو، ويعني: ما زادكم خروجهم إلا خبالا. والإيضاع الإسراع قال:
* أرانا موضعين لأمر غيب
*
ونسحر بالطعام وبالشراب
*
50

ويقال: وضعت الناقة تضع وضعا ووضوعا قال:
* يا ليتني فيها جذع
*
أخب فيها وأضع
*
قال الحسن: معناه لأسرعوا بالنميمة. وقرأ محمد بن القاسم: لأسرعوا بالفرار. ومفعول أوضعوا محذوف تقديره: ولا وضعوا ركائبكم بينكم، لأن الراكب أسرع من الماشي. وقرأ مجاهد ومحمد بن زيد: ولا وفضوا أي أسرعوا كقوله: * (إلى نصب يوفضون) * وقرأ ابن الزبير: ولا رفضوا بالراء من رفض أسرع في مشيه رفضا ورفضانا قال حسان:
* بزجاجة رفضت بما في جوفها
*
رفض القلوص براكب مستعجل
*
وقال غيره:
والرافضات إلى منى فالقبقب
والخلاف جمع الخلل، وهو الفرجة بين الشيئين. وقال الأصمعي: تخللت القوم دخلت بين خللهم وخلالهم، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي: بينها، ويبغون حال أي: باغين. قال الفراء: يبغونها لكم. والفتنة هنا الكفر قاله: مقاتل، وابن قتيبة، والضحاك. أو العيب والشر قاله: الكلبي. أو تفريق الجماعة أو المحنة باختلاف الكلمة أو النميمة. وقال الزمخشري: يحاولون أن يفتنوكم بأن يوقعوا الخلاف فيما بينكم، ويفسدوا نياتكم في مغزاكم. وفيكم سماسعون لهم أي: ضامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يستمعون للمنافقين ويطيعونهم انتهى. فاللام في القول الأول للعليل، وفي الثاني لتقوية التعدية كقوله: * (فعال لما يريد) * والقول الأول قاله: سفيان بن عيينة، والحسن، ومجاهد، وابن زيد، قالوا: معناه جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، ورجحه الطبري. والقول الثاني قول الجمهور قالوا: معناه وفيكم مطيعون سماعون لهم. ومعنى وفيكم في خلالكم منهم، أو منكم ممن قرب عهده بالإسلام. والله عليم بالظالمين يعم كل ظالم. ومعنى ذلك: أنه يجازيه على ظلمه. واندرج فيه من يقبل كلام المنافقين، ومن يؤدي إليهم أخبار المؤمنين، ومن تخلف عن هذه الغزاة من المنافقين.
* (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الامور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون) * تقدم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي وأصحابه في هذه الغزاة، حقر شأنهم في هذه الآية، وأخبر أنهم قديما سعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم، وفي الأمور المقلبة أقوال. قال ابن عباس: بغوا لك الغوائل. وقال ابن جريج: وقف اثنا عشر من المنافقين على التثنية ليلة العقبة كي يفتكوا به. وقال أبو سليمان الدمشقي: احتالوا في تشتيت أمرك وإبطال دينك. قال ابن جريج: كانصراف ابن أبي يوم أحد بأصحابه. ومعنى من قبل أي: منن قبل هذه الغزاة، وذلك ما كان من حالهم
51

وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ورجوعهم عنه في أحد وغيرها. وتقليب الأمور: هو تدبيرها ظهر البطن، والنظر في نواحيها وأقسامها، والسعي بكل حيلة. وقيل: طلب المكيدة من قولهم: هو حول قلب. وقرأ مسلمة بن محارب: وقلبوا بتخفيف اللام. حتى جاء الحق أي: القرآن وشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم). ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب. وظهر أمر الله وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور أي: غلب وعلا دين الله. وهم كارهون لمجيء الحق وظهور دين الله. وفي ذلك تنبيه على أنه لا تأثير لمكرهم وكيدهم، ومبالغتهم في إثارة الشر فإنهم مذ راموا ذلك رده الله في نحرهم، وقلب مرادهم، وأتى بضد مقصودهم، فكما كان ذلك في الماضي كذا يكون في المستقبل.
* (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنى ألا فى الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) *: نزلت في الجد بن قيس، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس: (هل لك العام في جلاد بني الأصفر) وقال له وللناس: (اغزوا تغنموا بنات الأصفر). فقال الجد: ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكربنات الأصفر، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهم وتفتنني، ولا تفتني بالنساء. هو قول ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وقيل: ولا تفتني أي ولا تصعب علي حتى احتاج إلى مواقعة معصيتك فسهل علي، ودعني غير مختلج. وقال قريبا منه الحسن وقتادة والزجاج قالوا: لا تكسبني الإثم بأمرك إياي بالخروج وهو غير متيسر لي، فآثم بمخالفتك. وقال الضحاك: لا تكفرني بإلزامك الخروج معك. وقال ابن بحر: لا تصرفني عن شغلي معك هلك مالي وعيالي. وقيل: إنه قال: ولكن أعينك بمالي. ومتعلق الإذن محذوف تقديره: في القعود وفي مجاورته الرسول صلى الله عليه وسلم) على نفاقه. وقرأ ورش: بتخفيف همزة إئذن لي بإبدالها واوا لضمة ما قبلها. وقال النحاس ما معناه: إذا دخلت الواو أو الفاء على أأئذن، فهجاؤها في الخط ألف وذال ونون بغير ياء، أو ثم فالهجاء ألف وياء وذال ونون، والفرق أن ثم يوقف عليها وتنفصل بخلافهما. وقرأ عيسى بن عمرو: لا تفتني بضم التاء الأولى من أفتن. قال أبو حاتم هي لغة تميم، وهي أيضا قراءة ابن السميقع، ونسبها ابن مجاهد إلى إسماعيل المكي. وجمع الشاعر بين اللغتين فقال:
* لئن فتنتني فهي بالأمس أفتنت
*
سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم
*
والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف، وظهور كفرهم، ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها. وقال قتادة: الإثم بخلافهم الرسول في أمره، وإحاطة جهنم بهم إما يوم القيامة، أو الآن على سبيل المجاز. لأن أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها، أو لأن مصيرهم إليها.
* (إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون) *: قال ابن عباس: الحسنة في يوم بدر، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه، وسياق الحمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو، ولذلك قالوا: الحسنة الظفر والغنيمة، والمصيبة الخيبة والهزيمة، مثل ما جرى في أول غزوة أحد. ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم في التخلف عن الغزو، من قبل ما وقع من المصيبة. ويحتمل أن يكون التولي حقيقة أي: ويتولوا عن مقام التحديث بذلك، والاجتماع له إلى أهليهم وهم مسرورون. وقيل: أعرضوا عن الإيمان. وقيل:
52

عن الرسول، فيكون التولي مجازا.
* (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *: قرأ ابن مسعود وابن مصرف: هل يصيبنا مكان لن يصيبنا. وقرأ ابن مصرف أيضا وأعين قاضي الري: هل يصيبنا بتشديد الياء، وهو مضارع فيعل نحو: بيطر، لا مضارع فعل، إذ لو كان كذلك لكان صوب مضاعف العين. قالوا: صوب رأيه لما
بناه على فعل، لأنه من ذوات الواو. وقالوا: صاب يصوب ومصاوب جمع مصيبة، وبعض العرب يقول: صاب السهم يصيب، جعله من ذوات الياء، فعلى هذا يجوز أن يكون يصيبنا مضارع صيب على وزن فعل، والصيب يحتمل أن يكون كسيدوكلين. وقال عمرو بن شقيق: سمعت أعين قاضي الري يقول: قل لن يصيبنا بتشديد النون. قال أبو حاتم: ولا يجوز ذلك، لأن النون لا تدخل مع لن، ولو كانت لطلحة بن مصرف الحارث، لأنها مع هل. قال تعالى: * (هل يذهبن كيده ما يغيظ) * انتهى. ووجه هذه القراءة تشبيه لن بلا وبلم، وقد سمع لحاق هذه النون بلا وبلم، فلما شاركتهما لن في النفي لحقت معها نون التوكيد، وهذا توجيه شذوذ. أي: ما أصابنا فليس منكم ولا بكم، بل الله هو الذي أصابنا وكتب أي: في اللوح المحفوظ أو في القرآن من الوعد بالنصر، ومضاعفة الأجر على المصيبة، أو ما قضى وحكم ثلاثة أقوال: هو مولانا، أي ناصرنا وحافظنا قاله الجمهور. وقال الكلبي: أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل: مالكنا وسيدنا، فلهذا يتصرف كيف شاء. فيجب الرضا بما يصدر من جهته. وقال ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا، وأن الكافرين لا مولى لهم، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه.
* (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا) *: أي ما ينتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين، كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب: إما النصرة، وإما الشهادة. فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة. وقال ابن عباس: إن الحسينيين الغنيمة والشهادة. وقيل: الأجر والغنيمة. وقيل: الشهادة والمغفرة. وفي الحديث: (تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله، وتصديق كلمته أن يدخل الجنة، أو رجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر وغنيمة، والعذاب من عند الله) قال ابن عباس: هو هنا الصواعق. وقال ابن جريج: الموت. وقيل: قارعة من السماء تهلكهم كما نزلت على عاد وثمود. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون توعدا بعذاب الآخرة، أو بأيدينا بالقتل على الكفر. فتربصوا مواعيد الشيطان إنا معكم متربصون إظهار دينه واستئصال من خالفه، قاله الحسن. وقال الزمخشري: فتربصوا بنا ما ذكرنا من عواقبنا أنا معكم متربصون ما هو عاقبتكم، فلا بد أن نلقى كلنا ما نتربصه لا نتجاوزه انتهى. وهو أمر يتضمن التهديد والوعيد. وقرأ ابن محيصن الأحدي: بإسقاط الهمزة. قال ابن عطية: فوصل ألف إحدى وهذه لغة وليست بالقياس، وهذا نحو قول الشاعر:
يابا المغيرة رب أمر معضل
ونحو قول الآخر:
53

إن لم أقاتل فألبسني برقعا
انتهى.
* (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين) *: قرأ الأعمش وابن وثاب: كرها بضم الكاف، ويعني: في سبيل الله ووجوه البر. قيل: وهو أمر ومعناه التهديد والتوبيخ. وقال الزمخشري: هو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى: * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) * ومعناه لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها. ونحوه قوله تعالى: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) * وقوله: أسيىء بنا أو أحسني لا ملومة. أي لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أسأت إلينا أم أحسنت انتهى. وعن بعضهم غير هذا بأن معناه الجزاء والشرط أي: إن تتفقوا طوعا أو كرها لم يتقبل منك، وذكر الآية وبيت كثير على هذا المعنى. قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء، وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير: إن تنفقوا لن نتقبل منكم. وأما إذا عرى الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط انتهى. ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط، فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب فلن يتقبل بالفاء، لأن لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء، فكذلك ما ضمن معناه. ألا ترى جزمه الجواب في مثل اقصد زيدا يحسن إليك، وانتصب طوعا أو كرها على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله، والكره إلزام ذلك. وسمى الإلزام كراها لأنهم منافقون، فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه. أو يكون من غير إلزام من رؤسائكم، أو إلزام منهم لأنهم كانوا يحملونهم على الإنفاق لما يرون فيه من المصلحة.
والجمهور على أن هذه نزلت بسبب الجد بن قيس حين استأذن في القعود وقال: هذا مالي أعينك به. وقال ابن عباس: فيكون من إطلاق الجمع على الواحد أوله ولمن فعل فعله. فقد نقل البيهقي وغيره من الأئمة أنهم كانوا ثلاثة وثمانين رجلا، استثنى منهم الثلاثة الذين خلفوا وأهلك الباقون، ونفى التقبل إما كون الرسول لم يقبله منهم ورده، وإما كون الله لا يثيب عليه، وعلل انتفاء التقبل بالفسق. قال الزمخشري: وهو التمرد والعتو، والأولى أن يحمل على الكفر. قال أبو عبد الله الرازي: هذه إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين، فدل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى. وأكد الجبائي ذلك بدليله المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين استحقاقهما محالا، وقد أزال الله هذه الشبهة بقوله: * (وما منعهم) * الآية وأن تصريح هذا اللفظ لا يؤثر في القول إلا الكفر. ودل ذلك على أن مطلق الفسق لا يحبط الطاعات، فنفى تعالى أن عدم القبول ليس معللا بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا، فثبت أن استدلال الجبائي باطل انتهى. وفيه بعض تلخيص.
* (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلواة إلا وهم كسالى ولا ينفقون) *.
ذكر السبب الذي هو بمفرده
54

مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، وأتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه. وذلك هو إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون. فالكسل في الصلاة وترك النشاط إليها وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر، فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا، ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا. وكذلك الإنفاق للأموال لا يكرهون
ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا. وذكر من أعمال البر هذين العملين الجليلين وهما الصلاة والنفقة، واكتفى بهما وإن كانوا أفسد حالا في سائر أعمال البر، لأن الصلاة أشرف الأعمال البدنية، والنفقة في سبيل الله أشرف الأعمال المالية، وهما وصفان المطلوب إظهارهما في الإسلام، ويستدل بهما على الإيمان، وتعداد القبائح يزيد الموصوف بها ذما وتقبيحا. وقرأ الأخوان وزيد بن علي: أن يقبل بالياء، وباقي السبعة بالتاء، ونفقاتهم بالجميع، وزيد بن علي بالإفراد. وقرأ الأعرج بخلاف عنه: أن تقبل بالتاء من فوق نفقتهم بالإفراد. وفي هذه القراءات الفعل مبني للمفعول. وقرأت فرقة: أن نقبل منهم نفقتهم بالنون ونصب النفقة. قال الزمخشري: وقراءة السلمي أن نقبل منهم نفقاتهم على أن الفعل لله تعالى انتهى. والأولى أن يكون فاعل منع قوله: ألا أنهم أي كفرهم، ويحتمل أن يكون لفظ الجلالة أي: وما منعهم الله، ويكون إلا أنهم تقديره: إلا لأنهم كفروا. وأن تقبل مفعول ثان إما لوصول منع إليه بنفسه، وإما على تقدير حذف حرف الجر، فوصل الفعل إليه.
* (فلا * كارهون * فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحيواة الدنيا وتزهق أنفسهم) *: لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها الله تعالى أسبابا ليعذبهم بها في الدنيا أي: ولا يعجبك أيها السامع بمعنى لا يستحسن ولا يفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا كقوله: * (ولا تمدن عينيك) * وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي وابن قتيبة: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة انتهى. ويكون إنما يريد الله ليعذبهم بها جملة اعتراض فيها تشديد للكلام وتقوية لانتفاء الإعجاب، لأن من كان مآل إتيانه المال والولد للتعذيب لا ينبغي أن تستحسن حاله ولا يفتتن بها، إلا أن تقييد الإيجاب المنهى عنه الذي يكون ناشئا عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنه لا يكون إلا في الحياة الدنيا، فنفى ذلك، كأنه زيادة تأكيد بخلاف التعذيب، فإنه قد يكون في الدنيا كما يكون في الآخرة، ومع أن التقديم والتأخير لخصه أصحابنا بالضرورة. وقال الحسن: الوجه في التعذيب إنه بما ألزمهم فيها من أداء الزكاة والنفقة في سبيل الله، فالضمير في قوله: بها، عائد في هذا القول على الأموال فقط. وقال ابن زيد وغيره: التعذيب هو مصائب الدنيا ورزاياها هي لهم عذاب، إذ لا يؤجرون عليها انتهى. ويتقوى هذا القول بأن تعذيبهم بإلزام الشريعة أعظم من تعذيبهم بسائر الرزايا، وذلك لاقتران الذلة والغلبة وأمر الشريعة لهم قاله: ابن عطية، وقد جمع الزمخشري هذا كله فقال: إنما أعطاهم ما أعطاهم للعذاب بأن عرضهم للمغنم والسبي، وبلاهم فيه بالآفات والمصائب، وكلفهم الإنفاق منه في أبواب الخير وهم كارهون له على رغم أنوفهم، وأذاقهم أنواع الكلف والمجاشم في جمعه واكتسابه وفي تربية أولادهم. وقيل: أموالهم التي ينفقونها فإنها لا تقبل منهم ولا أولادهم المسلمون، مثل عبد الله بن عبد الله بن أبي وغيره، فإنهم لا ينفعون آباءهم المنافقين حكاه القشيري. وقيل: يتمكن حب المال من قلوبهم، والتعب في جمعه، والوصل في حفظه، والحسرة على تخلفته عند من لا يحمده، ثم يقدم على ملك لا يعذره. وقدم الأموال على الأولاد لأنها كانت أعلق بقلوبهم، ونفوسهم أميل إليها، فإنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية ذهاب أموالهم. قال تعالى: * (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) *.
قال الزمخشري: (فإن قلت): إن صح تعليق العذاب بإرادة الله تعالى، فما بال زهوق أنفسهم وهم كافرون؟ (قلت): المراد الاستدراج بالنعم كقوله تعالى: * (إنما نملى لهم ليزدادوا إثما) *
55

كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمته إلى أن يموتوا وهم كافرون ملتهون بالتمتع عن النظر للعاقبة انتهى. وهو بسط كلام ابن عيسى وهو الرماني، وهما كلاهما معتزليان. قال ابن عيسى: المعنى إنما يريد الله أن يملي لهم ويستدرجهم ليعذبهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والذي يظهر من حيث عطف وتزهق على ليعذب أن المعنى ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ونبه على عذاب الآخرة بعلته وهو زهوق أنفسهم على الكفر، لأن من مات كافرا عذب في الآخرة لا محالة. والظاهر أن زهوق النفس هنا كناية عن الموت. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد وتزهق أنفسهم من شدة التعذيب الذي يننالهم.
* (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولاكنهم قوم يفرقون) *: أي لمن جملة المسلمين. وأكذبهم الله بقوله: وما هم منكم. ومعنى يفرقون: يخافون القتل. وما يفعل بالمشركين فيتظاهرون بالإسلام تقية، وهم يبطنون النفاق، أو يخافون اطلاع الله المؤمنين على بواطنهم فيحل بهم ما يحل بالكفار. ولما حقر تعالى شأن المنافقين وأموالهم وأولادهم عاد إلى ذكر مصالحهم وما هم عليه من خبث السريرة فقال: ويحلفون بالله على الجملة لا على التعيين، وهي عادة الله في ستر أشخاص العصاة.
* (لو يجدون * ملجأ * أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون) *: لما ذكر فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهروب منهم لهربوا، ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار. قال ابن عباس: الملجأ الحرز. وقال قتادة: الحصن. وقال السدي: المهرب. وقال الأصمعي: المكان الذي يتحصن فيه. وقال ابن كيسان: القوم يأمنون منهم. والمغارات جمع مغارة وهي الغار، ويجمع على غيران بني من غار يغور إذا دخل مفعلة للمكان كقولهم: مزرعة. وقيل: المغارة السرب تحت الأرض كنفق اليربوع.
وقرأ سعد بن عبد الرحمن بن عوف: مغارات بضم الميم، فيكون من أغار. قيل: وتقول العرب: غار الرجل وأغار بمعنى دخل، فعلى هذا يكون مغارات من أغار اللازم. ويجوز أن يكون من أغار المنقول بالهمزة من غار، أي أماكن في الجبال يغيرون فيها أنفسهم. وقال الزجاج: ويصح أن يكون من قولهم: جبل مغار أي مفتول. ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم، فيجيء التأويل على هذا لو يجدون نصرة أو أمورا مرتبطة مشددة تعصمهم منكم أو مدخلا لولوا إليه. وقال الزمخشري ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع، بمعنى مهارب ومغار انتهى. والمدخل قال مجاهد: المعقل يمنعهم من المؤمنين. وقال قتادة: السرب يسيرون فيه على خفاء. وقال الكلبي: نفقا كنفق اليربوع. وقال الحسن: وجها يدخلون فيه على خلاف الرسول. وقيل: قبيلة يدخلون فيها تحميهم من الرسول ومن المؤمنين. وقال الجمهور: مدخلا وأصله مدتخل، مفتعل من ادخل، وهو بناء تأكيد ومبالغة، ومعناه السرب والنفق في الأرض قاله: ابن عباس. بدىء أولا بالأعم وهو الملجأ، إذ
ينطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثا بالمدخل وهو النفق باطن الأرض. وقال الزجاج: المدخل قوم يدخلونهم في جملتهم. وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، ومسلمة بن محارب، وابن محيصن، ويعقوب، وابن كثير بخلاف عنه: مدخلا بفتح الميم من دخل. وقرأ محبوب عن الحسن: مدخلا بضم الميم من أدخل. وروى ذلك عن الأعمش وعيسى ابن عمر. وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش: مدخلا بتشديد الدال والخاء معا أصله متدخل، فأدغمت التاء في الدال. وقرأ أبي مندخلا بالنون من اندخل. قال:
ولا يدي في حميت السمن تندخل
56

وقال أبو حاتم: قراءة أبي متدخلا بالتاء. وقرأ الأشهب العقيلي: لوالوا إليه لتابعوا إليه وسارعوا. وروي ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة أنه قرأ لوالوا إليه من الموالاة، وأنكرها سعيد بن مسلم وقال: أظنها لو ألوا بمعنى للجأوا. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي: وهذا مما جاء فيه فاعل وفعل بمعنى واحد، ومثله ضاعف وضعف انتهى. وقال الزمخشر: وقرأ أبي بن كعب متدخلا لوالوا إليه لا لتجأوا إليه انتهى. وعن أبي لولوا وجوههم إليه. ولما كان العطف بأو عاد الضمير إليه مفردا على قاعدة النحو في أو، فاحتمل من حيث الصناعة أن يعود على الملجأ، أو على المدخل، فلا يحتمل على أن يعود في الظاهر على المغارات لتذكيره، وأما بالتأويل فيجوز أن يعود عليها. وهم يجمحون يسرعون إسراعا لا يردهم شيء. وقرأ أنس بن مالك والأعمش: وهم يجمزون. قيل: يجمحون، ويجمزون، ويشتدون واحد. وقال ابن عطية: يجمزون يهرولون، ومنه قولهم في حديث الرجم: فلما إذ لقته الحجارة جمز.
* (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) *: اللامز حرقوص بن زهير التميمي، وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان الرسول صلى الله عليه وسلم) يقسم غنائم حنين فقال: إعدل يا رسول الله الحديث. وقيل: هو ابن الجواظ المنافق قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم. وقيل: ثعلبة بن حاطب كان يقول: إنما يعطى محمد قريشا. وقيل: رجل من الأنصار أتى الرسول بصدقة يقسمها، فقال: ما هذا بالعدل؟ وهذه نزغة منافق.
والمعنى: من يعيبك في قسم الصدقات. وضمير ومنهم للمنافقين، والكاف للرسول. وهذا الترديدين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم، وإن لمزهم الرسول إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وأن رضاهم وسخطهم إنما متعلة العطاء. والظاهر حصول مطلق الإعطاء أو نفيه. وقيل: التقدير فإن أعطوا منها كثيرا يرضوا، وإن لم يعطوا منها كثيرا بل قليلا، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين، لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يعتقبه، بل قد يجوز أن يتأخر نحو: إن أسلمت دخلت الجنة، فإنما يقتضي مطلق الترتب. وأما جواب الشرط الثاني فجاء إذا الفجائية، وأنه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم، ولم يمكن تأخره لما جبلوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها. ومفعول رضوا محذوف أي: رضوا ما أعطوه. وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين، بل للدنيا. وقرأ الجمهور: يلمزك بكسر الميم. وقرأ يعقوب وحماد بن سلمة عن ابن كثير والحسن وأبو رجاء وغيرهم: بضمها، وهي قراءة المكيين، ورويت عن أبي عمرو. وقرأ الأعمش: يلمزك. وروى أيضا حماد بن سلمة عن ابن كثير: يلامزك، وهي مفاعلة من واحد. وقيل: وفرق الرسول صلى الله عليه وسلم) قسم أهل مكة في الغنائم استعطافا لقلوبهم، فضج المنافقون.
* (ولو أنهم رضوا ما ءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون) *:) * هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلا على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأن ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون: سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي. قال الزمخشري: والمعنى: ولو أنهم رضوا ما
57

أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله تعالى وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا سيرزقنا غنيمة أخرى، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر مما آتانا اليوم، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس: راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب. وقال التبريزي: راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا ماد لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.
* (*) * هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله، وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم، وكانت رغبتهم إلى الله لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره: لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم. وكان ذلك الفعل دليلا على انتقالهم من النفاق إلى محض الإيمان، لأن ذلك تضمن الرضا بقسم الله، والإقرار بالله وبالرسول إذ كانوا يقولون: سيؤتينا الله من فضله ورسوله. وقيل: جواب لو هو قوله: وقالوا على زيادة الواو، وهو قول كوفي. قال الزمخشري: والمعنى: ولو أنهم رضوا ما أصابهم به الرسول من الغنيمة وطابت به نفوسهم وإن قل نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله تعالى وصنعه، وحسبنا ما قسم لنا
سيرزقنا غنيمة أخرى، فسيؤتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر مما آتانا اليوم، إنا إلى الله في أن يغنمنا ويخولنا فضله راغبون انتهى. وقال ابن عباس: راغبون فيما يمنحنا من الثواب ويصرف عنا من العقاب. وقال التبريزي: راغبون في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها مما في أيدي الناس. وقيل: ما آتاهم الله بالتقدير، ورسوله بالقسم انتهى. وأتى أولا بمقام الرضا وهو فعل قلبي يصدر عمن علم أنه تعالى منزه عن العتب والخطأ عليم بالعواقب، فكل قضائه صواب وحق، لا اعتراض عليه. ثم ثنى بإظهار آثار الوصف القلبي وهو الإقرار باللسان، فحسبنا ما رضي به. ثم أتى ثالثا بأنه تعالى ما داموا في الحياة الدنيا ماد لهم بنعمه وإحسانه، فهو إخبار حسن إذ ما من مؤمن إلا ونعم الله مترادفة عليه حالا ومآلا، إما في الدنيا، وإما في الآخرة. ثم أتى رابعا بالجملة المقتضية الالتجاء إلى الله لا إلى غيره، والرغبة إليه، فلا يطلب بالإيمان أخذ الأموال والرئاسة في الدنيا ولما كانت الجملتان متغايرتين وهما ما تضمن الرضا بالقلب، وما تضمن الإقرار باللسان، تعاطفتا. ولما كانت الجملتان الأخيرتان من آثار قولهم: حسبنا الله لم تتعاطفا، إذ هما كالشرح لقولهم: حسبنا الله، فلا تغاير بينهما.
* (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله) *: لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه، أو يأخذ لنفسه ما بقي. وكانوا يسألون فوق ما يستحقون، بين تعالى مصرف الصدقات، وأنه صلى الله عليه وسلم) إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. ولفظه إنما إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير، فتكون الفقراء عين المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائما، إذ لم يرد نص في نسخ شيء منها. والظاهر أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجودا، والخلاف في كل شيء من هذه الظواهر. فأما أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف، فذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أنه يجوز أن يقتصر على بعض هؤلاء الأصناف، ويجوز أن يصرف إلى جميعها. فمن الصحابة: عمر، وعلي، ومعاذ، وحذيفة، وابن عباس، ومن التابعين النخعي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو العالية، وابن جبير، قالوا: في أي صنف منها وضعتها أجزأتك. قال ابن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فخيرتهم بها كان أحب إلي. قال الزمخشري: وعليه مذهب أبي حنيفة قال غيره: وأبي يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك. وقال جماعة من التابعين: لا يجوز الاقتصار على أحد هذه الأصناف منهم: زين العابدين علي بن الحسين، وعكرمة، والزهري، بل يصرف إلى الأصناف الثمانية. وقد كتب الزهري لعمر بن عبد العزيز: يفرقها على الأصناف الثمانية، وهو مذهب الشافعي قال: إلا المؤلفة، فإنهم انقطعوا. وأما أن الفقراء غير المساكين، فذهب جماعة من السلف إلى أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما في المعنى، وإن افترقا في الاسم، وهما صنف واحد سمي باسمين ليعطي سهمين نظرا لهم ورحمة. قال في التحرير: وهذا هو أحد قولي الشافعي. وذهب الجمهور إلى أنهما صنفان يجمعهما الإقلال والفاقة، واختلفوا فيما به الفرق. فقال الأصمعي وغيره منهم أحمد بن حنبل وأحمد بن عبيد الفقير: أبلغ فاقة. وقال غيره منهم أبو حنيفة، ويونس بن حبيب، وابن السكيت، وابن قتيبة المسكين: أبلغ فاقة، لأنه لا شيء له. والفقير من له بلغة من الشيء. وقال الضحاك: الفقراء هم من المهاجرين، والمساكين من لم يهاجر. وقال النخعي نحوه. وقال عكرمة: الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الذمة. لا نقول لفقراء المسلمين مساكين. وروى عنه بالعكس حكاه مكي. وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر: الفقير من لا مال له ولا حرفة، سائلا كان أو متعففا. والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلا كان أو غير سائل. وقال قتادة: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج. وقال ابن عباس: والحسن، ومجاهد، والزهري، وابن
58

زيد، وجابر بن زيد، والحكم، ومقاتل، ومحمد بن مسلمة: المساكين الذين يسعون ويسألون، والفقراء هم الذين يتعاونون.
وأما بقاء الحكم للأصناف الثمانية فذهب عمر بن الخطاب والحسن والشعبي وجماعة: إلى أنه انقطع صنف المؤلفة بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك وأبي حنيفة، قال بعض الحنفيين: أجمعت الصحابة على سقوط سهمهم في خلافة أبي بكر لما أعز الله الإسلام وقطع دابر الكافرين. وقال القاضي عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقات. وقال كثير من أهل العلم: المؤلفة قلوبهم موجودون إلى يوم القيامة. قال ابن عطية: وإذا تأملت الثغور وجدت فيها الحاجة إلى الائتلاف انتهى. وقال يونس: سألت الزهري عنهم فقال: لا أعلم نسخا في ذلك. قال أبو جعفر النحاس: فعل هذا الحكم فيهم ثابت، فإن كان أحد يحتاج إلى تألفه ويخاف أن تلحق المسلمين منه آفة أو يرجى حسن إسلامه بعد دفع إليه. وقال القاضي أبو بكر بن العربي: الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعطيهم. فإن في الصحيح: (بدا الإسلام غريبا وسيعود كما بدا) وفي كتاب التحرير قال الشافعي: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في هذا الزمان، بقيت الأصناف الستة، فالأولى صرفها إلى الستة. وأما أنه يعتبر في كل صنف منها ما دل عليه لفظه إن كان موجودا فهو مذهب الشافعي، ذهب إلى أنه لا بد في كل صنف من ثلاثة، لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز أن يعطي جميع زكاته مسكينا واحدا. وقال مالك: لا بأس أن يعطي الرجل زكاة الفطر عن نفسه وعياله واحدا، واللام في للفقراء. قيل: للملك. وقيل: للاختصاص.
والظاهر عموم الفقراء والمساكين، فيدخل فيه الأقارب والأجانب وكل من اتصف بالفقر والمسكنة فأما ذو وقربى الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال أصحاب أبي حنيفة: تحرم عليهم الصدقة منهم: آل العباس، وآل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحرث بن عبد المطلب. وروى عن أبي حنيفة وليس بالمشهور أن فقراء بني هاشم يدخلون في آية الصدقة. وقال أبو يوسف: لا يدخلون. قال أبو بكر الرازي: المشهور عن أصحابنا أنهم من تقدم من آل العباس ومن ذكر معهم، ويخص التحريم
الفرض لا صدقة التطوع. وقال مالك: لا تحل الزكاة لآل محمد، ويحل التطوع. وقال الثوري: لا تحل لبني هاشم، ولم يذكر فرقا بين النفل والفرض. وقال الشافعي: تحرم صدقة الفرض على بني هاشم وبني المطلب، وتجوز صدقة التطوع على كل أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فإنه كان لا يأخذها. وقال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ: وابن حبيب: لا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة، ولا من التطوع. وقال مالك في الواضحة: لا يعطى آل محمد من التطوع.
وأما أقارب المزكي فقال أصحاب أبي حنيفة: لا يعطى منها والد وإن علا، ولا ابن وإن سفل، ولا زوجة. وقال مالك والثوري والحسن بن صالح والليث: لا يعطى من تلزمه نفقته. وقال ابن شبرمة: لا يعطى قرابته الذين يرثونه، وإنما يعطى من لا يرثه وليس في عياله. وقال الأوزاعي: لا يتخطى بزكاة ماله فقراء أقاربه إذا لم يكونوا من عياله، ويتصدق على مواليه من غير زكاة ماله. وقال مالك والثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب أبي حنيفة: لا يعطى الفرض من الزكاة. وقال عبيد الله بن الحسن: إذا لم يجد مسلما أعطى الذمي، فكأنه يعني الذمي الذي هو بين ظهرانيهم. وقال مالك وأبو حنيفة: لا تعطى الزوجة زوجها من الزكاة. وقال الثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد: تعطيه، واختلفوا في المقدار الذي إذا ملكه الإنسان دخل به في حد الغنى وخرج عن حد الفقر وحرمت عليه الصدقة. فقال قوم: إذا كان عند أهله ما يغديهم ويعشيهم حرمت عليه الصدقة، ومن كان عنده دون ذلك حلت له. وقال قوم: حتى يملك أربعين درهما، أوعد لها من الذهب. وقال قوم: حتى تملك خمسين درهما أو عد لها من الذهب، وهذا مروي عن علي وعبد الله والشعبي. قال مالك: حتى تملك مائتي درهم أو عد لها من عرض أو غره فاضلا عما يحتاج إليه من مسكن وخادم وأثاث وفرش، وهو قول أصحاب أبي حنيفة. فلو دفعها إلى من ظن أنه فقير فتبين أنه غنى، أو تبين أن المدفوع إليه أبوه أو ذمي ولم يعلم بذلك وقت الدفع. فقال أبو حنيفة ومحمد: يجزئه. وقال أبو يوسف: لا يجزئه.
والعامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جميع الصدقات، وكل من يصرف ممن لا
59

يستغنى عنه فيها فهو من العاملين، ويسمى جابي الصدقة والساعي قال:
* إن السعاة عصوك حين بعثتهم
*
لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
*
وقال:
* سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا
*
فكيف لو قد سعى عمرو عقالين
*
أراد بالعقال هنا زكاة السنة، وتعدى بعلى ولم يقل فيها، لأن على للاستعلاء. المشعر بالولاية. والجمهور على أن للعامل قدر سعيه، ومؤنته من مال الصدقة. وبه قال مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر، وأبو حنيفة وأصحابه، فلو تجاوز ذلك من الصدقة، فقيل: يتم له من سائر الأنصباء. وقيل: من خمس الغنيمة. وقال مجاهد والضحاك والشافعي: هو الثمن على قسم القرآن. وقال مالك من رواية ابن أبي أويس وداود بن سعيد عنه: يعطون من بيت المال.
واختلف في الإمام، هل له حق في الصدقات؟ فهمنهم من قال: هو العامل في الحقيقة، ومنهم من قال: لا حق له فيها. والجمهور على أن أخذها مفوض للإمام ومن استنابه، فلو فرقها المزكي بنفسه دون إذن الإمام أخذها منه ثانيا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يعمل على الصدقة أحد من بني هاشم ويأخذ عمالته منها، فإن تبرع فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه. وقال آخرون: لا بأس لهم بالعمالة من الصدقة. وقيل: إن عمل أعطيها من الخمس.
والمؤلفة قلوبهم أشراف العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، أعطاهم ليتمكن الإيمان من قلوبهم، أو كفار لهم اتباع أعطاهم ليتألفهم واتباعهم على الإسلام. قال الزهري: المؤلفة من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنيا فمن المؤلفة: أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، والحرث بن هشام، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، ومالك بن عوف النضري، والعلاء بن حارثة الثقفي، فهؤلاء أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم) مائة بعير مائة بعير. ومخرمة بن نوفل الزهري، وعمير بن وهب الجمحي، وهشام بن عمرو العابدي، أعطاهم دون المائة. ومن
60

المؤلفة: سعيد بن يربوع، والعباس بن مرداس، وزيد الخيل، وعلقمة بن علانة، وأبو سفيان الحرث بن عبد المطلب، وحكيم بن حزام، وعكرمة بن أبي جهل، وسعيد بن عمرو، وعيينة بن حصن. وحسن إسلام المؤلفة حاشا عيينة فلم يزل مغموصا عليه.
وأما قوله وفي الرقاب فالتقدير: وفي فك الرقاب فيعطي ما حصل به فك الرقاب من ابتداء عتق يشتري منه العبد فيعتق، أو تخليص مكاتب أو أسير. وقال النخعي، والشعبي، وابن جبير، وابن سيرين: لا يجزئ أن يعتق من الزكاة رقبة كاملة، وهو قول أصحاب أبي حنيفة والليث والشافعي. وقال ابن عباس وابن عمر: أعتق من زكاتك. وقال ابن عمر والحسن وأحمد وإسحاق: يعتق من الزكاة، وولاؤه لجماعة المسلمين لا للمعتق. وعن مالك والأوزاعي: لا يعطي المكاتب من الزكاة شيئا، ولا عبد كان مولاه موسرا أو معسرا. وعن ابن عباس والحسن ومالك: هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته. والجمهور على أن المكاتبين يعانون في فك
رقابهم من الزكاة. ومذهب أبي حنيفة وابن حبيب: أن فك رقاب الأساري يدخل في قوله: وفي الرقاب، فيصرف في فكاكها من الزكاة. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان: نصف للمكاتبين، ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى.
والغارم من عليه دين قاله: ابن عباس، وزاد مجاهد وقتادة: في غير معصية ولا إسراف. والجمهور على أنه يقضي منها دين الميت إذ هو غارم. وقال أبو حنيفة وابن المواز: لا يقضى منها. وقال أبو حنيفة: ولا يقضي منها كفارة ونحوها من صنوف الله تعالى، وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه. وقيل: يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر وإن كان غنيا إذا كان ذلك يجحف بماله، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد.
وفي سبيل الله هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيرا. والجمهور على أنه يعطي منها وإن كان غنيا ما ينفق في غزوته. وقال الشافعي، وأحمد، وعيسى بن دينار، وجماعة: لا يعطي الغني إلا إن احتاج في غزوته، وغاب عنه وفره. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطي إلا إذا كان فقيرا أو منقطعا به، وإذا أعطي ملك، وإن لم يصرفه في غزوته. وقال ابن عبد الحكم: ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من آلات الحرب وكف العدو عن الحوزة، لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته. والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وإن كانوا أغنياء. وقال الزمخشري: وفي سبيل الله فقراء الغزاة، والحجيج المنقطع بهم انتهى.
والذي يقتضيه تعداد هذه الأوصاف أنها لا تتداخل، واشتراط الفقر في بعضها يقضي بالتداخل. فإن كان الغازي أو الحاج شرط إعطائه الفقر، فلا حاجة لذكره لأنه مندرج في عموم الفقراء، بل كل من كان بوصف من هذه الأوصاف جاز الصرف
61

إليه على أي حال كان من فقر أو غنى، لأنه قام به الوصف الذي اقتضى الصرف إليه. قال ابن عطية: ولا يعطى منها في بناء مسجد، ولا قنطرة، ولا شراء مصحف انتتهى.
وابن السبيل قال ابن عباس: هو عابر السبيل. وقال قتادة في آخرين: هو الضيف. وقال جماعة: هو المسافر المنقطع به وإن كان له مال في بلده. وقالت جماعة: هو إلحاج المنقطع. وقال الزجاج: هو الذي قطع عليه الطريق. وفي كتاب سحنون قال مالك: إذا وجد المسافر المنقطع به من يسلفه لم يجز له أن يأخذ من الصدقة، والظاهر الصرف إليه. وإن كان له ما يغنيه في طريقه لأنه ابن سبيل، والمشهور أنه إذا كان بهذا الوصف لا يعطى.
قال الزمخشري: (فإن قلت): لم عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة؟ (قلت): للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، لأن في للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات ويجعلوا مظنة لها ومصبا، وذلك لما في فك الرقاب من الكتابة أو الرق أو الأسر، وفي فك الغارمين من الغرم من التخليص والإنقاذ، ولجمع الغازي الفقير أو المنقطع في الحج بين الفقر والعبادة، وكذلك ابن السبيل جامع بين الفقر والغربة عن الأهل والمال. وتكرير في في قوله تعالى: وفي سبيل الله وابن السبيل، فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين. (فإن قلت): فكيف وقعت هذه الآية في تضاعيف ذكر المنافقين ومكائدهم؟ (قلت): ذل بكون هذه الأوصاف مصارف الصدقات خاصة دون غيرهم، على أنهم ليسوا منهم حسما لا طعاممهم وإشعارا باستيجابهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها، فما لهم ولها، وما سلطهم على الكلام لها ولمن قاسمها. وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد، لأن قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء، معناه فرض من الله الصدقات لهم. وقرئ فريضة بالرفع على تلك فريضة انتهى. وقال الكرماني وأبو البقاء: فريضة حال من الضمير في الفقر، أي مفروضة. قال الكرماني: كما تقول هي لك طلقا انتهى. وذكر عن سيبويه أنها مصدر، والتقدير: فرض الله الصدقات فريضة. وقال الفراء: هي منصوبة على القطع. والله عليم حكيم، لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أو عليم بمقادرير المصالح، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح.
2 (* (ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم * يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين * ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم * يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون * ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طآئفة منكم نعذب طآئفة بأنهم كانوا مجرمين * المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين
62

والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم * كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وأولائك هم الخاسرون * ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليآء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولائك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم * وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم) *))
) *
الاعتذار التنصل من الذنب، فقيل: أصله المحو، من قولهم: اعتذرت المنازل ودرست، فالمعتذر يحاول إزالة ذنبه. قال ابن أحمر:
* قد كنت تعرف آيات فقد جعلت
*
إطلال إلفك بالوعساء تعتذر
*
وعن ابن الأعرابي: إن الاعتذار هو القطع، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع، واعتذرت المياه انقطعت، والعذر سبب لقطع الذم. عدن بالمكان يعدن عدونا أقام، قاله: أبو زيد وابن الأعرابي. قال الأعشى:
* وإن يستضيفوا إلى حلمه
*
يضافوا إلى راجح قد عدن
*
وتقول العرب: تركت إبل فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه ولا تبرحه. وسمي المعدن معدنا لا نبات الله الجوهر فيه وإثباته إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت. وعدن مدينة باليمن لأنها أكثر مدائن
63

اليمن قطانا ودورا.
* (ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين ءامنوا منكم) *: كان قدام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخين يؤذون الرسول صلى الله عليه وسلم) فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول بما شئنا، فإن محمدا أذن سامعة، ثم نأتيه فيصدقنا فنزلت. وقيل: نزلت في نبتل بن الحرث كان ينم حديث الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل، فقال ذلك القول. وقيل: نزلت في الجلاس وزمعة بن ثابت في آخرين أرادوا أن يقعوا في الرسول وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس فحقروه، فقالوا: لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير، فغضب الغلام فقال: والله إن ما يقول محمد حق، وأنتم لشر من الحمير، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأخبره فدعاهم، فسألهم، فحلفوا أن عامرا كاذب، وحلف عامر أنهم كذبة وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق وكذب الكاذب، ونزلت هذه الآية يحلفون بالله لكم ليرضوكم، فقال رجل: أذن إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع قاله الجوهري. وقال الزمخشري: الأذن الرجل الذي يصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، سمي بالجارحة التي هي آلة السماع، كان جملته أذن سامعة ونظيره قولهم للرئية: عين. وقال الشاعر:
* قد صرت أذنا للوشاة سميعة
*
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
*
وهذا منهم تنقيص للرسول صلى الله عليه وسلم)، إذ وصفوه بقلة الحزامة والانخداع. وقيل: المعنى ذو أذن، فهو على حذف مضاف قاله ابن عباس. وقيل: أذن حديد السمع، ربما سمع مقالتنا. وقيل: أذن وصف بنى على فعل من أذن يأذن أذنا إذا استمع، نحو أنف وشلل وارتفع. أذن على إضمار مبتدأ أي: قل هو أذن خير لكم. وهذه الإضافة نظيرها قولهم: رجل صدق، تريد الجودة والصلاح. كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الإذن. ويجوز أن يراد هو أذن في الخير والحق وما يجب سماعه وقبوله، وليس بإذن في غير ذلك. ويدل عليه خير ورحمة في قراءة من جرها عطفا على خير أي: هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم في رواية قل: أذن بالتنوين خير بالرفع. وجوزوا في أذن أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وخير خبر ثان لذلك المحذوف أي: هو أذن هو خير لكم، لأنه صلى الله عليه وسلم) يقبل معاذيركم ولا يكافئكم على سوء خلتكم. وأن يكون خير صفة لأذن أي: أذن ذو خير لكم. أو على أن خيرا أفعل تفضيل أي: أكثر خيرا لكم، وأن يكون أذن مبتدأ خبره خبر. وجاز أن يخبر بالنكرة عن النكرة مع حصول الفائدة فيه قاله صاحب اللوامح، وهو جائز على تقدير حذف وصف أي: أذن لا يؤاخذكم خير لكم، ثم وصفه تعالى بأنه يؤمن بالله، ومن آمن بالله كان خائفا منه لا يقدم على الإيذاء بالباطل. ويؤمن للمؤمنين أي: يسمع من المؤمنين ويسلم لهم ما يقولون ويصدقهم لكونهم مؤمنين، فهم صادقون. ورحمة للذين آمنوا منكم، وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين، لأن ما حصل لهم بالإيمان بسبب الرسول لم يحصل لغيرهم، وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم. وهذه الأوصاف الثلاثة مبينة جهة الخيرية، ومظهرة كونه صلى الله عليه وسلم) أذن خير. وتعدية يؤمن أولا بالباء، وثانيا باللام. قال ابن قتيبة: هما زائدان، والمعنى: يصدق الله، ويصدق المؤمنين.
وقال الزمخشري: قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدى بالباء، وقصد الاستماع للمؤمنين، وإن يسلم لهم ما يقولون فعدى باللام. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * ما أنباه عن الباء ونحوه * (فما ءامن لموسى إلا ذرية من قومه) * * (أنؤمن لك واتبعك الارذلون) *
64

* (قال ءامنتم له قبل أن ءاذن) * انتهى. وقال ابن عطية: يؤمن بالله يصدق بالله، ويؤمن للمؤمنين. قيل: معناه ويصدق المؤمنين، واللام زائدة كما هي في * (
ردف لكم) * وقال المبرد: هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل، كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين أي: وتصديقه. وقيل: يقال آمنت لك بمعنى صدقتك، ومنه قوله: * (وما أنت بمؤمن لنا) * وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى: ويصدق للمؤمنين فيما يخبرونه به، وكذلك وما أنت بمؤمن لنا بما نقوله لك انتهى. وقرأ أبي، وعبد الله، والأعمش، وحمزة: ورحمة بالجر عطفا على خبر، فالجملة من يؤمن اعتراض بين المتعاطفين، وباقي السبعة بالرفع عطفا على يؤمن، ويؤمن صفة لأذن خير. وابن أبي عبلة: بالنصب مفعولا من أجله حذف متعلقه التقدير: ورحمة يأذن لكم، فحذف لدلالة أذن خير لكم عليه. وأبرز اسم الرسول ولم يأت به ضميرا على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيما لشأنه، وجمعا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه، وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم، وحق لهم ذلك والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين أذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم.
* (يحلفون بالله ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) *: الظاهر أن الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون: هو أذن أنكره وحلفوا أنهم ما قالوه. وقيل: عائد على الذين قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن شر من الحمير، وتقدم ذكر ذلك. وقيل: عائد على الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون اعتذروا وحلفوا واعتلوا، قاله: ابن السائب، واختاره البيهقي. وكانوا ثلاثة وثمانين حلف منهم ثمانون، فقبل الرسول أعذارهم واعترف منهم بالحق ثلاثة، فأطلع الله رسوله على كذبهم ونفاقهم، وهلكوا جميعا بآفات، ونجا الذين صدقوا. وقيل: عائد على عبد الله بن أبي ومن معه حلفوا أن لا يتخلفوا عن رسول الله وليكونوا معه على عدوه. وقال ابن عطية المراد جميع المنافقين الذين يحلفون للرسول والمؤمنين أنهم معهم في الدين وفي كل أمر وحرب، وهم يبطنون النفاق، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، وهذا قول جماعة من أهل التأويل. واللام في ليرضوكم لام كي، وأخطأ من ذهب إلى أنها جواب القسم، وأفرد الضمير في أن يرضوه لأنهما في حكم مرضي واحد، إذ رضا الله هو ضا الرسول، أو يكون في الكلام حذف. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان، حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وهذا كقول الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف ومذهب المبرد: أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله. وقيل: الضمير عائد على المذكور كما قال رؤبة:
* فيها خطوط من سواد وبلق
*
كأنه في الجلد توليع البهق
*
انتهى. فقوله: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الأولى لدلالة الثانية عليها أن كان الضمير في أنهما عائدا على كل واحدة من الجملتين، فكيف تقول حذفت الأولى ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها؟، وإن كان الضمير عائدا على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا يكون جملة إلا باعتقاد كون أن يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره، لكن لا يتعين هذا
65

القول: إذ يجوز أن يكون الخبر مفردا بأن يكون التقدير: أحق بأن يرضوه. وعلى التقدير الأول يكون التقدير: والله إرضاؤه أحق. وقدره الزمخشري: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. إن كانوا مؤمنين كما يزعمون، فأحق من يرضونه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم) بالطاعة والوفاق.
* (ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذالك الخزى العظيم) * أي ألم يعلم المنافقون؟ وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار. وقرأ الحسن والأعرج: بالتاء على الخطاب، فالظاهر أنه التفات، فهو خطاب للمنافقين. قيل: ويحتمل أن يكون خطابا للمؤمنين، فيكون معنى الاستفهام التقرير. وإن كان خطابا للرسول فهو خطاب تعظيم، والاستفهام فيه للتعجب، والتقدير: ألا تعجب من جهلهم في محادة الله تعالى: وفي مصحف أبي ألم يعلم. قال ابن عطية: على خطاب النبي عليه السلام انتهى. والأولى أن يكون خطابا للسامع، قال أهل المعاني: ألم تعلم، الخطاب لمن حاول تعليم إنسان شيئا مدة وبالغ في ذلك التعليم فلم يعلم فقال له: ألم تعلم بعد المباحث الظاهرة والمدة المديدة، وحسن ذلك لأنه طال مكث النبي صلى الله عليه وسلم) معه، وكثر منه التحذير عن معصية الله والترغيب في طاعة الله. قال بعضهم: المحادة المخالفة، حاددته خالفته، واشتقاقه من الحد أي كان على حد غير حادة كقولك: شاقة، كان في شق غير شقه. وقال أبو مسلم: المحادة مأخوذة من الحديد، حديد السلاح. والمحادة هنا، قال ابن عباس: المخالفة. وقيل: المحاربة. وقيل: المعاندة. وقيل: المعادة. وقيل: مجاوزة الحد في المخالفة. وهذه أقوال متقاربة. وقرأ الجمهور فإن له بالفتح، والفاء جواب الشرط. فتقتضي جملة وإن له مفرد في موضع رفع على الابتداء، وخبره محذوف قدره الزمخشري: مقدما نكرة أي: فحق أن يكون وقدره غيره: متأخرا أي فإن له نار جهنم واجب، قاله: الأخفش، ورد عليه بأن أن لا يبتدأ بها متقدمة على الخبر، وهذا مذهب سيبويه والجمهور. وأجاز الأخفش والفراء وأبو حاتم الابتداء بها متقدمة على الخبر، فالأخفش خرج ذلك على أصله. أو في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالواجب أن له النار. قال علي بن سليمان: وقال الجرمي والمبرد: إن الثانية مكررة للتوكيد، كان التقدير: فله نار جهنم، وكرر أن توكيدا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون فإن له معطوفا على أنه، على أن جواب من محذوف تقديره: ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم انتهى، فيكون فإن له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لا يصح، لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ، أو مضارعا مجزوما بلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أن تفعل، وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعا مقرونا بلم، وذلك إن جاء في كلامهم
فمخصوص بالضرورة. وأيضا فتجد الكلام تاما دون تقدير هذا الجواب. ونقلوا عن سيبويه أن أن بدل من أنه. قال ابن عطية: وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى. والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد أن لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر. وأيضا فإن الفاء مانع البدل وأيضا، فهي معنى آخر غير الأول، فيقلق البدل. وإذا تلطف للبدل فهو بدل اشتمال انتهى. وقال أبو البقاء: وهذا يعني البدل ضعيف لوجهين: أحدهما: أن الفاء التي معها تمنع من ذلك، والحكم بزيادتها ضعيف. والثاني: أن جعلها بدلا يوجب سقوط جواب الكلام انتهى. وقيل: هو على إسقاط اللام أي: فلأن له نار جهنم، فالفاء جواب الشرط، ويحتاج إلى إضمار ما يتم به جواب الشرط جملة أي: فمحادته لأن له نار جهنم. وقرأ ابن أبي عبلة: فإن له بالكسر في الهمزة حكاها عنه أبو عمرو الداني، وهي قراءة محبوب عن الحسن، ورواية أبي عبيدة عن أبي عمرو، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي الاستئناف، والكسر مختار لأنه لا يحتاج إلى إضمار، بخلاف الفتح. وقال الشاعر:
* فمن يك سائلا عني فإني
*
وجروة لا ترود ولا تعار
*
وعلى هذا يجوز في أن بعد فاء الجزاء وجهان: الفتح، والكسر. ذلك لأن كينونة النار له خالدا فيها هو الهوان
66

العظيم كما قال: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) *.
* (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون) *: كان المنافقون يعيبون الرسول ويقولون: عسى الله أن لا يفشي سرنا فنزلت، قاله مجاهد. وقال السدي: قال بعضهم: وددت أني جلدت مائة ولا ينزل فيناشىء يفضحنا، فنزلت. وقال ابن كيسان: وقف جماعة منهم للرسول صلى الله عليه وسلم) في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام فنزلت. وقيل قالوا في غزوة تبوك: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها: هيهات هيهات فأنزل الله قل استهزؤوا. والظاهر أن يحذر خبر، ويدل عليه أن الله مخرج ما تحذرون. فقيل: هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسوليخبرهم بما يكتمونه، وقع الحذر والخوف في قلوبهم. وقال الأصم: كانوا يعرفونه رسولا من عند الله فكفروا حسدا، واستبعد القاضي في العالم بالله ورسوله وصحة دينه أن يكون محادا لهما وليس ببعيد، فإنه إذا استحكم الحسد نازع الحاسد في المحسوسات. وقيل: هو حذر أظهروه على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول يذكر أشياء وأنها عن الوحي وكانوا يكذبون بذلك، فأخبر الله رسوله بذلك، وأعلم أنه مظهر سرهم، ويدل عليه قوله: قل استهزؤوا. وقال الزجاج وغيره ممن ذهب إلى التحرز من أن يكون كفرهم عنادا: هو مضارع في معنى الأمر أي: ليحذر المنافقون، ويبعده مخرج ما تحذرون، وأن تنزل مفعول يحذر، وهو متعد. قال الشاعر:
* حذر أمورا لا تضر وآمن
*
ما ليس ينجيه من الأقدار
*
وقال تعالى: * (ويحذركم الله نفسه) * لما كان قبل التضعيف متعديا إلى واحد، عداه بالتضعيف إلى اثنين. وقال المبرد: حذر إنما هي من هيئات الأنفس التي لا تتعدى مثل فزع، والتقدير: يحذر المنافقون من أن تنزل، ولا يلزم ذلك: ألا ترى أن خاف من هيئات النفس وتتعدى؟ والظاهر أن قوله عليهم: وتنبئهم، الضمير أن فيهما عائدان على المنافقين، وجاء عليهم لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة علهم قاله: الكرماني، والزمخشري. قال الكرماني: ويحتمل أنه من قولك: هذا عليك لا لك.
ومعنى تنبئهم بما في قلوبهم: تذيع أسرارهم حتى يسمعوها مذاعة منتشرة، فكأنها تخبرهم بها. وقال الزمخشري: والضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين، وفي قلوبهم للمنافقين، وصح ذلك لأن المعنى يعود إليه انتهى. والأمر بالاستهزاء أمر تهديد ووعيد كقوله: * (اعملوا ما شئتم) * ومعنى مخرج ما تحذرون مبرز إلى حيز الوجود، ما تحذرونه من إنزال السورة، أو مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم. وفعل ذلك تعالى في هذه السورة فهي تسمى الفاضحة، لأنها فضحت المنافقين. قيل: كانوا سبعين رجلا أنزل الله أسماءهم وأسماء آبائهم في القرآن، ثم رفع ذلك ونسخ رحمة ورأفة منه على خلقه، لأن أبناءهم كانوا مسلمين.
* (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وءاياته ورسوله كنتم) *: أي: ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام، وقول بعضهم: كأنكم غدا في الجبال أسرى لبني الأصفر، وقول بعضهم: ما رأيت كهؤلاء لا أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء، فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم، فقالوا: يا نبي الله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك، إنما كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، كنا في غير جد. قل: أبالله تقرير على استهزائهم، وضمنه الوعيد، ولم يعبأ باعتذارهم
67

لأنهم كانوا كاذبين فيه، فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم، حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء، حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير.
وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته قاله: الزمخشري، وهو حسن. وتقديم بالله وهو معمول خبر كان عليها، يدل على جواز تقديمه عليها. وعن ابن عمر: رأيت قائل هذه المقالة يعني: إنما كنا نخوض ونلعب وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم) يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟) وذكر أن هذا المتعلق عبد الله بن أبي بن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك.
* (تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين) *: نهوا عن الاعتذار، لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم أظهرتم الكفر بعد إيمانكم أي: بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم، وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة، والتعذيب لطائفة. وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم: (جاهد الكفار والمنافقين) وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف، فعذبوا بإخراجهم من المسجد، وانكشاف معظم أحوالهم. وصنف ضعفه مظهرون الإيمان وإن أبطنوا الكفر، لم يؤذوا الرسول فعفى عنهم، وهذا العذاب والعفو في الدنيا. وقيل: المعفو عنها من علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان، والمعذبون من مات منهم على نفاقه. وقيل: المعفو عنه رجل واحد اسمه مخشى بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء، كان مع الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب) وقيل: كان منافقا ثم تاب توبة صحيحة. وقيل: إنه كان مسلما مخلصا، إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم، فعفا الله عنه، واستشهد باليمامة وقد كان تاب، ويسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهدوا ويجهل أمره، فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده.
وقرأ زيد بن ثابت، وأبو عبد الرحمن، وزيد بن علي، وعاصم من السبعة: إن نعف بالنون، نعذب بالنون طائفة. ولقيني شيخنا الأديب الحامل أبو الحكم مالك بن المرحل المالقي بغرناطة فسألني قراءة من تقرأ اليوم على الشيخ أبي جعفر بن الطباغ؟ فقلت: قراءة عاصم، فأنشدني:
* لعاصم قراءة
*
لغيرها مخالفة
*
* إن نعف عن طائفة
*
منكم نعذب طائفة
*
وقرأ باقي السبعة: إن تعف تعذب طائفة، مبنيا للمفعول. وقرأ الجحدري: أن يعف بعذب مبنيا للفاعل فيهما، أي: أن يعف الله. وقرأ مجاهد: أن تعف بالتاء مبنيا للمفعول، تعذب مبنيا للمفعول بالتاء أيضا. قال ابن عطية: على تقدير إن تعف هذه الذنوب. وقال الزمخشري: الوجه التذكير لأن المسند إليه الظرف كما تقول: سير بالدابة، ولا تقول سيرت بالدابة، ولكنه ذهب إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة فأنث لذلك، وهو غريب. والجيد قراءة العامة إن تعف عن طائفة بالتذكير، وتعذب طائفة بالتأنيث انتهى. مجرمين: مصرين على النفاق غير تائبين.
* (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون) *: بين تعالى أن ذكورهم وإناثهم ليسوا من المؤمنين كما قال تعالى: * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم) * بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد. وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم يأمرون بالمنكر وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي، وينهون عن المعروف
68

لأن الذين نزلت فيهم لم يكونوا أهل قدرة ولا أفعال ظاهرة، وذلك بظهور الإسلام وعزته. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل الله قاله الحسن. وقال قتادة: عن كل خير. وقال ابن زيد: عن الجهاد وحمل السلاح في قتال أعداء الدين. وقال سفيان: عن الرفع في الدعاء. وقيل ذلك كناية عن الشح في النفقات في المبار والواجبات، والنسيان هنا الترك. قال قتادة: تركوا طاعة الله وطاعة رسوله فنسيهم، أي: تركهم من الخير، أما من الشر فلم ينسهم. وقال الزمخشري: أغفلوا ذكره فنسيهم تركهم من رحمته وفضله، ويغبر بالنسيان عن الترك مبالغة في أنه لا يخطر ذلك ببال. هم الفاسقون أي: هم الكاملون في الفسق الذي هو التمرد في الكفر والانسلاخ من كل خير، وكفى المسلم زاجرا أن يلم بما يكسب هذا الاسم الفاحش الذي وصف الله به المنافقين.
* (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) *: الكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة، لأن الخلود لم يقارن الوعد. وحسبهم كافيهم، وذلك مبالغة في عذابهم، إذ عذابهم شيء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المقربين. مقيم: مؤبد لا نقلة فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد ولهم عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكون عنه، وهو ما يقاسونه من تعب النفاق. والظاهر المخالف للباطن خوفا من المسلمين، وما يحذرونه أبدا من الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع على أسرارهم.
* (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم) *: هذا التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب. قال الفراء: التشبيه من جهة الفعل أي: فعلتم كأفعال الذين من قبلكم فتكون الكاف في موضع نصب. وقال الزجاج: المعنى وعد كما وعد الذين من قبلكم، فهو متعلق بوعد. وقال ابن عطية: وفي هذا قلق. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون متعلقة بيستهزؤون، وهذا فيه بعد. وقيل: في موضع رفع التقدير أنتم
كالذين. والتشبيه وقع في الاستمتاع والخوض. وقوله: كانوا أشد، تفسير لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم. والخلاق: النصيب أي: ما قدر لهم.
قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فائدة في قوله: فاستمتعوا بخلاقهم، وقوله: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم مغن عنه، كما أغنى كالذي خاضوا؟ (قلت): فائدته أن قدم الأولين بالاستمتاع ما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم، فشبهوا بهم الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع ويهجن أمر الراضي به، ثم شبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم كما يريد أن ينبه بعض الظلمة على سماجة فعله فيقول: أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله. وأما وخضتم كالذي خاضوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك المقدمة انتهى. يعني: استغنى عن أن يكون التركيب، وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا. قال ابن عطية: كانوا أشد منكم وأعظم فعصوا فهلكوا، فأنتم أحرى بالإهلاك لمعصيتكم وضعفكم والمعنى: عجلوا حظهم في دنياهم، وتركوا باب الآخرة، فاتبعتموهم أنتم انتهى. ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد، واستمتاعهم بما قدر لهم من الأنصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم، وأبرزهم بالاسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم، كذلك بدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى: * (سويا ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمان عصيا) * وكقوله: * (إن المنافقين هم الفاسقون) * ولم يأت التركيب أنه كان، ولا أنهم هم. وخضتم: أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء، ولا يستعمل إلا في الباطل، لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه: رب متخوض في
69

مال الله له النار يوم القيامة. كالذي خاضوا: أي كالخوض الذي خاضوا قاله الفراء. وقيل: كالخوض الذين خاضوا. وقيل: النون محذوفة أي: كالذين خاضوا، أي كخوض الذين. وقيل: الذي مع ما بعدها يسبك منهما مصدر أي: كخوضهم. والظاهر أن أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد، والمعنى: وأنتم كذلك يحبط أعمالكم. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بأولئك المنافقين المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم)، ويكون الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك خروج من خطاب إلى خطاب غير الأول. وقوله: في الدنيا ما يصيبهم في الدنيا من التعب وفساد أعمالهم، وفي الآخرة نار لا تنفع ولا يقع عليها جزاء. ويقوي الإشارة بأولئك إلى المنافقين قوله في الآية المستقبلة * (ألم يأتهم) * فتأمله انتهى. وقال الزمخشر: حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، نقيض قوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا فى ذريته النبوة والكتاب) *.
* (ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما) *: لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء، وكان لفظ الذين من قبلكم فيه إبهام، نص على طوائف بأعيانها ستة، لأنهم كان عندهم شيء من أنبائهم، وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عددا، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء: نوح أول الرسل، وإبراهيم الأب الأقرب للعرب وما يليها من الأمم مقاربون لهم في الشدة وكثرة المال والولد. فقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل، وأمطار الحجارة عليهم.
قال الواحدي: معنى الائتفاك الانقلاب، فأفكته فائتفك أي قلبته فانقلب. والمؤتفكات صفة للقرى التي ائتفكت بأهلها، فجعل أعلاها أسفلها. والمؤتفكات مدائن قوم لوط. وقيل: قريات قوم لوط وهود وصالح. وائتفاكهن: انقلاب أحوالهن عن الخير إلى الشر. قال ابن عطية: والمؤتفكات أهل القرى الأربعة. وقيل: التسعة التي بعث إليهم لوط عليه السلام، وقد جاءت في القرآن مفردة تدل على الجمع، ومن هذه اللفظة قول عمران بن حطان:
* لمنطق مستبين غير ملتبس
*
به اللسان ورأي غير مؤتفك
*
أي غير منقلب متصرف مضطرب. ومنه يقال للريح: مؤتفكة لتصرفها، ومنه * (أنى يؤفكون) * والإفك صرف القول من الحق إلى الكذب انتهى.
وفي قوله: ألم يأتهم، تذكير بأنباء الماضين وتخويف أن يصيبهم مثل ما أصابهم، وكان أكثرهم عالمين بأحوال هذه الأمم، وقد ذكر شيء منها في أشعار جاهليتهم كالأفوه الأزدي، وعلقمة بن عبدة، وغيرهما. ويحتمل أن يكون قوله: ألم يأتهم تذكيرا بما قص الله عليهم في القرآن من أحوال هؤلاء وتفاصيلها. والظاهر أن الضمير في أتتهم رسلهم بالبينات عائد على الأمم الستة المذكورة، والجملة شرح للنبأ. وقيل: يعود على المؤتفكات خاصة، وأتى بلفظ رسل وإن كان نبيهم واحدا، لأنه كان يرسل إلى كل قرية رسولا داعيا، فهم رسول رسول الله، ذكره الطبري. وقال الكرماني: قيل: يعود على المؤتفكات أي: أتاهم رسول بعد رسول. والبينات المعجزات، وهي وأصحاب بالنسبة إلى الحق، لا بالنسبة إلى المكذبين. قال ابن عباس: ليظلمهم ليهلكهم حتى يبعث فيهم نبيا ينذرهم. والمعنى: أنهم أهلكوا باستحقاقهم. وقال مكي: فما كان الله ليضع عقوبته في غير مستحقها، إذ الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون إذ عصوا الله وكذبوا رسله حتى أسخطوا ربهم واستوجبوا العقوبة، فظلموا بذلك أنفسهم. وقال الكرماني: ليظلمهم بإهلاكهم، يظلمون بالكفر والتكذيب. وقال
70

الزمخشري: فما صح منه أن يظلمهم وهو حكيم لا يجوز عليه القبيح، وأن يعاقبهم بغير جرم، ولكن ظلموا أنفسهم حيث كفروا به فاستحقوا عقابه انتهى. وذلك على
طريقة الاعتزال. ويظهر أن بين قوله بالبينات. وقوله: فما كان كلاما محذوفا تقديره والله أعلم فكذبوا فأهلكهم الله، فما كان الله ليظلمهم.
* (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون * من * المنكر ويقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم) *: لما ذكر المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض. قال ابن عطية: إذ. لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولاية في الله خاصة. وقال أبو عبد الله الرازي: بعضهم من بعض يدل على أن نفاق الاتباع وكفرهم حصل بسبب التقليد لأولئك الأكابر، وسبب مقتضى الطبيعة والعادة. أما الموافقة الحاصلة بين المؤمنين فإنما حصلت لا بسبب الميل والعادة، بل بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية، والولاية ضد العداوة. ولما وصف المؤمنين بكون بعضهم أولياء بعض ذكر بعده ما يجري كالتفسير والشرح له، وهي الخمسة التي يميز بها المؤمن على المنافق. فالمنافق يأمر بالمنكر، وينهى عن المعروف ولا يقوم إلى الصلاة إلا وهو كسلان، ويبخل بالزكاة، ويتخلف بنفسه عن الجهاد، وإذا أمره الله تثبط وثبط غيره. والمؤمن بضد ذلك كله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والجهاد. وهو المراد في هذه الآية بقوله: ويطيعون الله ورسوله انتهى، وفيه بعض تلخيص. وقال أبو تلخيص. وقال أبو العالية: كل ما ذكره الله في القرآن من الأمر بالمعروف فهو دعاء من الشرك إلى الإسلام، وما ذكر من النهي عن المنكر فهو النهي عن عبادة الأصنام والشياطين. وقال ابن عباس: ويقيمون الصلاة هي الصلوات المس. قال ابن عطية: وبحسب هذا تكون الزكاة المفروضة والمدح عندي بالنوافل أبلغ، إذ من يقيم النوافل أجدى بإقامة الفروض، ويطيعون الله ورسوله جامع للمندوبات انتهى، سيرحمهم الله. قال ابن عطية: السين مدخلة في الوعد مهلة، لتكون النفوس تتنعم برجائه وفضله تعالى. وقال الزمخشري: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: سأنتقم منك يوما يعني: إنك لا تفوتني وإن تبطأ ذلك. ونحوه: * (سيجعل لهم الرحمان ودا) * * (ولسوف يعطيك ربك) * * (سوف * فيوفيهم أجورهم) * انتهى. وفيه دفينة خفية من الاعتزال بقوله: السين مفيدة وجوب الرحمة لا محالة، يشير إلى أنه يجب على الله تعالى إثابة الطائع، كما تجب عقوبة العاصي. وليس مدلول السين توكيد ما دخلت عليه، إنما تدل على تخليص المضارع للاستقبال فقط. ولما كانت الرحمة هنا عبارة عما يترتب على تلك الأعمال الصالحة من الثواب والعقاب في الآخرة، أتى بالسين التي تدل على استقبال الفعل أن الله عزيز غالب على كل شيء، قادر عليه، حكيم واضع كلا موضعه.
* (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة فى جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذالك هو الفوز العظيم) *: لما أعقب المنافقين بذكر ما وعدهم به من نار جهنم، أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنان. ولما كان قوله: * (سيرحمهم الله) * وعدا إجماليا فصله هنا تنبيها على أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء، ومساكن طيبة. قال ابن عباس: هي دور المقربين. وقيل: دور في جنات عدن مختلفة في الصفات باختلاف حال الحالين بها. وقيل: قصور زبرجد ودر وياقوت يفوح طيبها من مسيرة خمسمائة عام في أماكن إقامتهم. وفي الحديث: (قصر في الجنة من اللؤلؤ فيه سبعون دارا من ياقوته حمراء، وفي كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا) وذكر في آخر هذا الحديث أشياء، وإن صح هذا النقل عن الرسول وجب المصير إليه. في جنات عدن أي: إقامة. وقال كعب الأحبار: هي بالفارسية الكروم والأعناب.
71

قال ابن عطية: وأظن هذا ما اختلط بالفردوس. وقال ابن مسعود: عدن بطنان الجنة وشرقها، وعنه: وسط الجنة. وقال عطاء: نهر في الجنة، جنانه على حافيته. وقال الضحاك وأبو عبيدة: مدينة الجنة، وعظمها فيها الأنبياء والعلماء والشهداء وأئمة العدل والناس حولهم بعد، والجنات حولها. وقال الحسن: قصر في الجن لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل، ومدتها صوته. وعنه: قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد. وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (عدن دار الله التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، ولا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصديقون، والشهداء يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك) وإن صح هذا عن الرسول وجب المصير إليه. وقال مقاتل: هي أعلى درجة في الجنة. وقال عبد الله بن عمرو: قصر حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب، على كل باب خيرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد. وقي: قصته الجنة فيها نهر على حافتيه بساتين. وقيل: التسنيم، وفيه قصور الدر والياقوت والذهب، والأرائك عليها الخيرات الحسان، سقفها عرش الرحمن لا ينزلها إلا الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، يفوح ريحها من مسيرة خمسمائة عام. وهذه أقوال عن السلف كثيرة الاختلاف والاضطراب، وبعضها يدل على التخصيص وهو مخالف لظاهر الآية، إذ وعد الله بها المؤمنين والمؤمنات. وقال الزمخشري: وعدن علم لقوله تعالى: * (جنات عدن التى وعد الرحمان عباده) * ويدل عليه ما روى أبو الدرداء، وساق الحديث المتقدم الذكر عن أبي الدرداء، وإنما استدل بالآية على أن عدنا علم، لأن المضاف إليها وصف بالتي وهي معرفة، فلو لم تكن جنات مضافة لمعرفة لم توصف بالمعرفة ولا يتعين ذلك، إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف، أو منصوبا بإضمار أعني: أو أمدح، أو بدلا من جنات. ويبعد أن تكون صفة لقوله: الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات، والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت، وجئ بعده بالبدل.
وقرأ الأعمش ورضوان: بضمتين. قال صاحب اللوامح: وهي لغة، ورضوان مبتدأ. وجاز الابتداء به لأنه موصوف بقوله: من الله، وأتى به نكرة ليدل على مطلق أي: وشئ من رضوانه أكبر من كل ما ذكر. والعبد إذا علم برضا مولاه عنه كان أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما يتهيأ له النعيم بعامه برضاه عنه. كما أنه إذا علم بسخطه تنغصت حاله، ولم يجد لها لذة. ومعنى هذه الجملة موافق لما روي في الحديث: (أن الله تعالى يقول لعباده إذا استقروا في الجنة: هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى يا ربنا؟ فيقول: إني سأعطيكم أفضل من هذا كله رضواني، أرضى عنكم فلا أسخط عليكم أبدا) وقال الحسن: وصل إلى قلوبهم برضوان
الله من اللذة والسرور ما هو ألذ عندهم وأقر لأعينهم من كل شيء أصابوه من لذة الجنة. قال ابن عطية: ويظهر أن يكون قوله تعالى: ورضوان من الله أكبر، إشارة إلى منازل المقربين الشاربين من تشنيم، والذين يرون كما يرى النجم الغائر في الأفق، وجميع من في الجنة راض، والمنازل مختلفة، وفضل الله تعالى متسع انتهى. وقال الزمخشري: رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة انتهى. والإشارة بذلك إلى جميع ما سبق، أو إلى الرضوان قولان، والأظهر الأول.
(* (ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير * يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والا خرة وما لهم فى الا رض من ولي ولا نصير * ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلمآ ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون * فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بمآ أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب * الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم * استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين * فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله وقالوا لا تنفروا فى الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون * فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزآء بما كانوا يكسبون * فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون * ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون * وإذآ أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين * رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون * لاكن الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولائك لهم الخيرات وأولائك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الا نهار خالدين فيها ذالك الفوز العظيم * وجآء المعذرون من الا عراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم * ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا مآ أتوك لتحملهم قلت لا أجد مآ أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون) *))
) *
* (العظيم ياأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *: لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأبهم في ذلك بقوله: وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار
72

نار جهنم) * ولما ذكر أمر الجهاد، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسبابا في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال، قال: جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم. قال ابن عباس وغيره: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان. وقال الحسن وقتادة: والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. وقال ابن مسعود: جاهدهم باليد، فإن لم تستطع فباللسان، فإن لم تستطع فبالقلب، وإلا كفرار في وجوههم، وأغلظ عليهم في الجهادين. والغلظ ضد الرقة، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين. واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد، فهذا حكمه يجاهد بالحجة، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن.
* (*) * ولما ذكر أمر الجهاد، وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسبابا في القتال وإنكاء بتصديهم للقتال، قال: جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم. قال ابن عباس وغيره: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان. وقال الحسن وقتادة: والمنافقين بإقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. وقال ابن مسعود: جاهدهم باليد، فإن لم تستطع فباللسان، فإن لم تستطع فبالقلب، وإلا كفرار في وجوههم، وأغلظ عليهم في الجهادين. والغلظ ضد الرقة، والمراد خشونة الكلام وتعجيل الانتقام على خلاف ما أمر به في حق المؤمنين. واخف جناحك للمؤمنين وكل من وقف منه على فساد في العقائد، فهذا حكمه يجاهد بالحجة، ويستعمل معه الغلظ ما أمكن.
* (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن) *: الضمير عائد على المنافقين. فقيل: هو حلف الجلاس، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس. وقيل: حلف عبد الله بن أبي أنه ما قال * (لئن رجعنا إلى المدينة) * الآية. وقال الضحاك: حلفهم حين نقل حذيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) أصحابه وإياه في خلوتهم، وأما وهموا بما لم ينالوا فنزلت قيل: في ابن أبي في قوله: ليخرجن، قاله قنادة، وروي عن ابن عباس. وقيل: بقتل الرسول، والذي هم به رجل يقال له: الأسود من قريش، رواه مجاهد عن ابن عباس. وقال مجاهد: نزلت في خمسة عشر هموا بقتله وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذ اتسم العقبة، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة يوقع إخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم يا أعداء الله فهربوا، وكان منهم عبد الله بن أبي، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وطعيمة بن أبيرق، والجلاس بن سويد، وأبو عامر بن نعمان، وأبو الأحوص. وقيل: همهم بما لم ينالوا، هو أن يتوجوا عبد الله بن أبي إذا رجعوا من غزوة تبوك يباهون به الرسول صلى الله عليه وسلم)، فلم ينالوا ما هموا به، فنزلت. وعن ابن عباس: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم) جالسا في ظل شجرة فقال: إنه سيأتلكم إنسان فينظر إليكم شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق لرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فأنزل الله هذه الآية.
وكلمة الكفر قول ابن أبي لما شاور الجهجاه الغفاري وسنان بن وبرة الجهني، وقد كسع أحدهما رجل الآخر في غزوة المريسيع، فصاح الجهجاه: يا للأنصار، وصاح سنان: يا للمهاجرين، فثار الناس، وهدأهم الرسول فقال ابن أبي: ما أرى هؤلاء إلا قد تداعوا علينا ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك، أو الاستهزاء
، أو قول الجلاس المتقدم، أو قولهم: نعقد التاج، أو قولهم: ليس بنبي، أو القول: لئن رجعنا إلى المدينة أقوال. وكفروا: أي أظهروا الكفر بعد إسلامهم أي إظهار إسلامهم. ولم يأت التركيب بعد إيمانهم لأن ذلك لم يتجاوز ألسنتهم. والهم دون العزم، وتقدم الخلاف في الهام والمهموم به. وقيل: هو هم المنافقين أو الجلاس بقتل ناقل حديث الجلاس إلى
73

الرسول، وفي تعيين اسم الناقل خلاف، فقيل: عاصم بن عدي. وقيل: حذيفة. وقيل: ابن امرأة الجلاس عمير بن سعد. وقيل: اسمه مصعب. وقيل: هموا بالرسول والمؤمنين أشياء لم ينالوها (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) هذا مثل قوله: * (هل تنقمون منا إلا أن ءامنا) * * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا) * وكان حق الغني من الله ورسوله أن يشكر لا أين ينقم، جعلوا الغنى سببا ينتقم به، فهو كقوله:
* ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
*
بهن فلول من قراع الكتائب
*
وكان الرسول قد أعطى لعبد الله بن أبي دية كانت قد تغلظت له، قال عكرمة: اثنا عشر ألفا. وقيل: بل كانت للجلاس. وكانت الأنصار حين قدم الرسول صلى الله عليه وسلم) المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل. ولا يجوزون الغنيمة، فأثروا وقال الرسول للأنصار: * (وكنتم * حتى يحكم الله بيننا) * وقيل: كان على الجلاس دين كثير فقضاه الرسول، وحصل له من الغنائم مال كثير. وقوله: وما نقموا الجملة كلام أجرى مجرى التهكم به، كما تقول: ما لي عندك ذنب إلا إني أحسنت إليك، فإن فعلهم يدل على أنهم كانوا لئاما. وقال الشاعر:
* ما نقموا من بني أمية إلا
*
أنهم يحلمون إن غضبوا
*
* وأنهم سادة الملوك ولا
*
يصلح إلا عليهم العرب
*
وقال الآخر وهو نظير البيت السابق:
* ولا عيب فينا غير عرق لمعشر
*
كرام وإنا لا نحط على النمل
*
فإن يتوبوا هذا إحسان منه تعالى ورفق ولطف بهم، حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة. وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أن قال ما نقل عنه قد اعترف، وصدق الناقل عنه وتاب وحسنت توبته، ولم يرد أن أحدا قبلت توبته منهم غير الجلاس. قيل: وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المس الكفر المظهر للإيمان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا تقبل فإن جاء تائبتا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف، وإن يتولوا أي: عن التوبة، أو الإيمان، أو الإخلاص، أو الرسول. والمعنى: وإن يديموا التولي إذ هم متولون في الدنيا بإلحاقهم بالحربيين إذ أظهروا الكفر، فيحل قتالهم وقتلهم، وسبي أولادهم وأزواجهم، وغنم أموالهم. وقيل: ما يصيبهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: عذاب القبر. وقيل: التعب والخوف والهجنة عند المؤمنين، وفي الآخرة بالنار.
* (ومنهم من عاهد الله لئن ءاتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما ءاتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم * معرضون * فأعقبهم نفاقا فى قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون * ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) *
74

قال الضحاك: هم نبتل بن الحرث، وجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وثعلبة بن حاطب، وفيهم نزلت الآية. وقال الحسن ومجاهد: في معتب وثعلبة خرجا على ملأ فقالا ذلك. وقال ابن السائب: في رجل من بني عمرو بن عوف كان له مال بالشام فأبطأ عنه، فجهد لذلك جهدا شديدا، فحلف بالله لئن آتانا من فضله أي من ذلك المال لأصدقن منه ولأصلن، فآتاه فلم يفعل. والأكثر على أنها نزلت في ثعلبة، وذكروا له حديثا طويلا وقد لخصت منه: أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم) أن يدعو الله أن يرزقه مالا فقيل له: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، فألح عليه، فدعا الله، فاتخذ غنما كثرت حتى ضاقت عنها المدينة، فنزل واديا وما زالت تنمو،
واشتغل بها حتى ترك الصلوات، وبعث إليه الرسول صلى الله عليه وسلم) المصدق فقال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلا أخت الجزية، فنزلت هذه الآية. فأخبره قريب له بها، فجاء بصدقته إلى الرسول فلم يقبلها، فلما قبض الرسول أتى أبا بكر فلم يقبلها، ثم عمر فلم يقبلها، ثم عثمان فلم يقبلها، وهلك في أيام عثمان.
وقرأ الأعمش: لنصدقن ولنكونن بالنون الخفيفة فيهما، والظاهر والمستفيض من أسباب النزول أنهم نطقوا بذلك ولفظوا به. وقال معبد بن ثابت وفرقة: لم يتلفظوا به، وإنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: * (ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم) * من الصالحين. أي من أهل الصلاح في أموالهم بصلة الرحم والإنفاق في الخير والحج وأعمال البر. وقيل: من المؤمنين في طلب الآخرة. بخلوا به أي: بإخراج حقه منه، وكل بخل أعقب بوعيد فهو عبارة عن منع الحق الواجب. والظاهر أن الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله، عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه. قال الزمخشري: خذلهم حين نافقوا، وتمكن من قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح وكونهم كاذبين، ومنه خلف الموعد ثلث النفاق انتهى. وقوله: خذلهم هو لفظ المعتزلة. وقال الحسن وقتادة: الضمير في فأعقبهم للبخل، أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم. وقال أبو مسلم: فأعقبهم أي البخل والتولي والإعراض. قال ابن عطية: يحتمل أن يكون نفاق كفر، ويكون تقرير ثعلبة بعد هذا النص والإبقاء عليه لمكان إظهاره الإسلام، وتعلقه بما فيه احتمال. ويحتمل أن يكون نفاق معصية وقلة استقامة، فيكون تقريره صحيحا، ويكون ترك قبول الزكاة منه عقابا له ونكالا. وهذا نحو ما روي أن عاملا كتب إلى عمر بن عبد العزيز أن فلانا يمنع الزكاة، فكتب إليه: أن دعه، واجعل عقوبته أن لا يؤدي الزكاة مع المسلمين، يريد لما يلحقه من المقت في ذلك. والظاهر عود الضمير في: يلقونه، على الله تعالى. وقيل: يلقون الجزاء. فقيل: جزاء بخلهم. وقيل: جزاء أفعالهم.
وقرأ أبو رجاء: يكذبون بالتشديد. ولفظه: فأعقبهم، نفاقا لا تدل ولا تشعر بأنه كان مسلما، ثم لما بخل ولم يف بالعهد صار منافقا كما قال أبو عبد الله الرازي، لأن المعقب نفاق متصل إلى وقت الموافاة، فهو نفاق مقيد بغاية، ولا يدل المقيد على انتفاء المطلق قبله. وإذا كان الضمير عائدا على الله فلا يكون اللقاء متضمنا رؤية الله لإجماع العلماء على أن الكفار لا يرون الله، فالاستدلال باللقاء على الرؤية من قوله تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * ليس بظاهر، ولقوله: * (من * يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين * ولما رجع موسى إلى قومه غضبان) * وأجمعوا على أن المراد هنا لقي ما عند الله من العقاب. ألم يعلموا هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع.
وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن: تعلموا بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير. وأنه تعالى فاضح المنافقين، ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئا فشيئا سرهم ونجواهم. هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علم الله بهم. والظاهر أن
75

الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيرهم، وخصتها فرقة بمن عاهد وأخلف. فقال الزمخشري: ما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية، وتدبير منعها. وقيل: أشار بسرهم إلى ما يخفونه من النفاق، وبنجواهم إلى ما يفيضون به بينهم من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم)، وتعييب المؤمنين. وقيل: سرهم ما يسار به بعضهم بعضا، ونجواهم ما تحدثوا به جهرا بينهم، وهذه أقوال متقاربة متفقة في المعنى.
* (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب) *: نزلت فيمن عاب المتصدقين. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) حث على الصدقة، فتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وأمسك مثلها، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم) فيما أمسك وفيما أعطى. وتصدق عمر بنصف ماله، وعاصم بن عدي بمائة وسق، وعثمان بصدقة عظيمة، وأبو عقيل الأرلشي بصاع تمر، وترك لعياله صاعا، وكان آجر نفسه لسقي نخيل بهما، ورجل بناقة عظيمة قال: هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله، وألقى إلى الرسول خطامها فقال المنافقون ما تصدق هؤلاء إلا رياء وسمعة، وما تصدق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر، أو ليذكر بنفسه فيعطي من الصدقات، والله غني عن صاعه. وقال بعضهم: تصدق بالناقة وهي خير منه. وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سوادا، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم) وقال: قل هو خير منك، ومنها يقولها ثلاثا. وأصل المطوعين المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، وهم المتبركون كعبد الرحمن وغيره. والذين لا يجدون إلا جهدهم هم مندرجون في المطوعين، ذكروا تشريفا لهم، حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشيء، وإن كانوا أشد الناس حاجة إليه، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل، وأبي خيثمة، وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظر أيهما. وكان أبو علي الفارسي يذهب إلى أن المعطوف في هذا وشبهه لم يندرج فيما عطف عليه قال: لأنه لا يسوغ عطف الشيء على مثله. وكذلك كان يقول في وملائكته ورسله وجبريل وميكال، وفي قوله: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * وإلى هذا كان يذهب تلميذه ابن جني، وأكثر الناس على خلافهما. وتسمية بعضهم التجريد، جردوا بالذكر على سبيل التشريف، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) *. وقرأ ابن هرمز وجماعة: جهدهم بالفتح. فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقال القتبي بالضم الطاقة، وبالفتح المشقة. وقال الشعبي: بالضم القوت، وبالفتح في العمل. وقيل: بالضم شيء قليل يعاش به. والأحسن في الإعراب أن يكون الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، والذين لا يجدون معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر الله منهم وما بعده خبر عن الذين يلمزون. وذكر أبو البقاء أن قوله: والذين لا يجدون، معطوف على
76

الذين يلمزون، وهذا غير ممكن، لأن المعطوف على المبتدأ مشارك له في الخبر، ولا يمكن مشاركة الذين لا يجدون إلا جهدهم مع الذين يلمزون إلا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: والذين لا يجدون معطوف على المؤمنين، وهذا بعيد جدا. قال: وخبر الأول على هذه الوجوه فيه وجهان: أحدهما فيسخرون. ودخلت الفاء لما
في الذين من التشبيه بالشرط انتهى هذا الوجه. وهذا بعيد، لأنه إذ ذاك يكون الخبر كأنه مفهوم من المبتدأ، لأن من عاب وغمز أحدا هو ساخر منه، فقرب أن يكون مثل سيد الجارية مالكها، وهو لا يجوز. قال: والثاني: أن الخبر سخر الله منهم، قال: وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون الذين يلمزون في موضع نصب بفعل محذوف يفسره سخر، تقديره عاب الذين يلمزون. وقيل: الخبر محذوف تقديره: منهم الذين يلمزون. وقال أبو البقاء أيضا: من المؤمنين حال من الضمير في المطوعين، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لئلا يفصل بينهما بأجنبي انتهى. وليس بأجنبي لأنه حال كما قرر، وإذا كان حالا جاز الفصل بها بين العامل فيها، وبين المعمول أخر، لذلك العامل نحو: جاءني الذي يمر راكبا بزيد. والسخرية: الاستهزاء. والظاهر أن قوله: سخر الله منهم خبر لفظا ومعنى، ويرجحه عطف الخبر عليه. وقيل: صيغته خبر، ومعناه الدعاء. ولما قال: فيسخرون منهم قال: سخر الله منهم على سبيل المقابلة، ومعناه: أمهلهم حتى ظنوا أنه أهملهم. قال ابن عباس: وكان هذا في الخروج إلى غزوة تبوك. وقيل: معنى سخر الله منهم جازاهم على سخريتهم، وجزاء الشيء قد يسمى باسم الشيء كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * قال ابن عطية: تسمية للعقوبة باسم الذنب، وهي عبارة عما حل بهم من المقت والذل في نفوسهم انتهى. وهو قريب من القول الذي قبله. وقال الأصم: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم) أن يقبل معاذيرهم الكاذبة في الظاهر، ووبال فعلهم عليهم كما هو، فكأنه سخر منهم ولهذا قال: ولهم عذاب أليم، وهو عذاب الآخرة المقيم انتهى. وفي هذه الآية دلالة على أن لمز المؤمن والسخرية منه من الكبائر، لما يعقبهما من الوعيد.
* (واستغفر لهم * أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة * فان * يغفر الله لهم ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين) *: سأل عبد الله بن عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم): (قد رخص لي فأزيد على السبعين) فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. وقيل: لما نزل سخر الله منهم ولهم عذاب أليم، سألوا الرسول أن يستغفر لهم فنزلت. وعلى هذا فالضمائر عائدة على الذين سبق ذكرهم، أو على جميع المنافقين قولان. والخطاب بالأمر للرسول، والظاهر أن المراد بهذا الكلام التخيير، وهو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد قال له عمر: كيف تستغفروا لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟ فقال صلى الله عليه وسلم): (ما نهاني ولكنه خيرني) فكأنه قال له عليه السلام: إن شئت فاستغفر، وإن شئت فلا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة. وقيل: لفظه أمر ومعناه الشرط، بمعنى إن استغفرت أو لم تستغفر لن يغفر الله، فيكون مثل قوله: * (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) * وبمنزلة قول الشاعر
77

* أسيء بنا أو أحسني لا ملومة
*
لدينا ولا مقلية إن تقلت
*
ومر الكلام في هذا في قوله: * (قل أنفقوا طوعا أو كرها) * وإلى هذا المعنى ذهب الطبري وغيره، وهو اختيار الزمخشري قال: وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت أم لم تستغفر، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر انتهى. يعني في تفسير قوله تعالى: * (قل أنفقوا) * وكان قال هناك. (فإن قلت): كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: لن يتقبل؟ (قلت): هو أمر في معنى الخبر كقوله: * (قل من كان فى الضلالة فليمدد له الرحمان مدا) * ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعا أو كرها، ونحوه قوله: أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم، وقوله:
أسيء بنا أو أحسنيي لا ملومة
أي: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أو لا تستغفر لهم، ولا نلومك أحسنت إلينا أو أسأت. فإن قيل: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دل الكلام عليه كما كان في قولك: غفر الله لزيد ورحمة. (فإن قلت): لم فعل ذلك؟ (قلت): لنكتة وهي أن كثيرا كأنه يقول لعزة: امتحني لطف محلك عندي، وقوة محبتي لك، وعامليني بالإساءة والإحسان، وانظري هل تتفاوت خالي معك مسيئة كنت أو محسنة. وفي معناه قول القائل:
* أحول الذي إن قمت بالسيف عامدا
*
لتضربه لم يستغشك في الود
*
وكذلك المعنى أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم، واستغفر لهم أو لا تستغفر لهم. وانظر هل ترى خلافا بين حالي الاستغفار وتركه؟ انتهى. وقيل: هو أمر مبالغة في الإياس ومعناه: إنك لو طلبت الاستغفار لهم طلب المأمور، أو تركته ترك المنهى عنه، لم يغفر لهم. وقيل: معناه الاستزاء أي: استغفارك لهم وترك الاستغفار سواء. (فإن قلت): كيف جاز أن يستغفر لهم وقد أخبر أنهم كفروا؟ فالجواب قالوا من وجوه: أحدها: أن ذلك كان على سبيل التأليف ليخلص إيمان كثير منهم. وقد روي أنه لما استغفر لابن سلول وكساه ثوبه، وصلى عليه، أسلم ألف من الخزرج لما رأوه يطلب الاستشفاء بثوب الرسول، وكان رأس المنافقين وسيدهم. وقيل: فعل ذلك تطييبا لقلب ولده ومن أسلم منهم، وهذا قريب مما قبله. وقيل: كان المؤمنون يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم) أن يستغفر لقومهم المنافقين في حياتهم رجاء أن يخلصوا في إيمانهم، وبعد مماتهم رجاء الغفران، فنهاه الله عن ذلك وأيأسهم منه، وقد سأل عبد الله بن عبد الله الرسول أن يستغفر لأبيه رجاء أن يخفف عنه. وقيل:
إنما استغفر لقوم منهم على ظاهر إسلامهم من غير أن يحقق خروجهم عن الإسلام، ورد هذا القول بأنه تعالى أخبر بأنهم كفروا فلا يصح أن يقال إنه غير عالم بكفرهم. وقال أبو عبد الله الرازي: الأقرب في تعلق هذه الآية بما قبلها ما ذكره ابن عباس: أن الذين كانوا يلمزون هم الذين طلبوا الاستغفار، ولا يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم) اشتغل بالاستغفار فنهاه عنه لوجوه: الأول: أن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه عليه السلام أن الاستغفار للكافر لا يجوز، فلهذا السبب أمره الله تعالى بالاقتداء بإبراهيم عليهما السلام إلا في قوله: * (لاستغفرن لك) * وإذا كان هذا مشهورا في الشرع، فكيف يجوز الإقدام عليه؟ الثاني: أن استغفار
78

الغير للغير لا ينفعه إذا كان ذلك الغير مصرا على القبيح والمعصية. الثالث: أن إقدامه على الاستغفار لمنافقين يجري مجرى إغرائهم بالإقدام على الذنب. الرابع: أنه إذا كان لا يجيبه بقي دعاء الرسول مردودا عند الله، وذلك يوجب نقصان منصبه صلى الله عليه وسلم). الخامس: أن هذا الدعاء لو كان مقبولا من الرسول لكان قليله مثل كثيره في حصول الإجابة، فثبت أن المقصود من هذا الكلام أن القوم لما طلبوا منه أن يستغفر لهم منعه الله منه، وليس المقصود من ذكر هذا العدد تحديد المنع، بل هو كما يقول القائل: إن سأله حاجة لو سألتني سبعين مرة لم أقضها لك لا يريد بذلك أنه إذا زاد قضاها، فكذا ههنا. والذي يؤكد ذلك قوله تعالى في الآية: ذلك بأنهم كفروا. فبين أن العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول لهم، وإن بلغ سبعين مرة، هي كفرهم وفسقهم. وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين، فصار هذا القليل شاهدا بأن المراد إزالة الطمع أن ينفعهم استغفار الرسول مع إصرارهم على كفرهم، ويؤكد: والله لا يهدي القوم الفاسقين. والمعنى: أنن فسقهم مانع من الهداية، فثبت أن الحق ما ذكرناه. وقال الأزهري في جماعة من أهل اللغة: السبعون هنا جمع السبعة المستعملة للكثرة، لا السبعة التي فوق الستة انتهى. والعرب تستكثر في الآحار بالسبعة، وفي العشرات بالسبعين، وفي المئين بسبعمائة. قال الزمخشري: والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير. قال علي رضي الله تعالى عنه:
* لأصبحن العاص وابن العاصي
*
سبعين ألفا عاقدي النواصي
*
قال ابن عطية: وأما تمثيله بالسبعين دون غيرها من الإعداد فلأنه عدد كثيرا ما يجيء غاية ومقنعا في الكثرة. ألا ترى إلى القوم الذين اختارهم موسى، وإلى أصحاب العقبة؟ وقد قال بعض اللغويين: إن التصريف الذي يكون من السين والباء والعين شديد الأمر من ذلك السبعة، فإنها عدد مقنع هي في السماوات وفي الأرض، وفي خلق الإنسان، وفي بدنه، وفي أعضائه التي بها يطيع الله، وبها يعصيه، وبها ترتيب أبواب جهنم فيما ذكر بعض الناس، وهي: عيناه، وأذناه، وأسنانه، وبطنه، وفرجه، ويداه، ورجلاه. وفي سهام الميسر، وفي الأقاليم، وغير ذلك ومن ذلك السبع العبوس، والعنبس، ونحو هذا من القول انتهى ى واستدل القائلون بدليل الخطاب وأن التخصيص بالعدد يدل على أن الحكم فيما وراء ذلك بخلافه بما روى أنه قال: * (والله) * ولم ينصرف حتى نزل: * (يصدون وهم مستكبرون سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) * فكف عنه. قيل: ولقائل أن يقول هذا الاستدلال بالعكس أولى، لأنه تعالى لما بين أنه لا يغفر لهم البتة ثبت أن الحال فيما وراء العدد مساو للحال في العدد، وذلك يدل على أن التقييد بالعدد لا يوجب أن يكون الحكم فيما رآه بخلافه.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستفغار كيف؟ وقد تلاه بقوله تعالى ذلك بأنهم كفروا الآية، فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: * (* رخص لي ربي فأزيد على السبعين) *؟ (قلت): لم يخف عليه صلى الله عليه وسلم) ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه كما قال إبراهيم عليه السلام: * (من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) * وفي إظهار النبي صلى الله عليه وسلم) الرأفة والرحمة لطف لأمته، ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض انتهى. وفي هذا السؤال والجواب. غض من منصب النبوة، وسوء أدب على الأنبياء، ونسبته إلهم ما لا يليق بهم. وإذا كان صلى الله عليه وسلم) يقول: (لم
79

يكن لنبي خائنة الأعين) أو كما قال: وهي الإشارة، فكيف يكون له النطق بشيء على سبيل التحييل؟ حاشا منصب الأنبياء عن ذلك، ولكن هذا الرجل مسرح الألفاظ في حق الأنبياء بما لا يليق بحالهم، ولقد تكلم عند تفسير قوله: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * بكلام في حق الرسول نزهت كتابي هذا أن أنقله فيه، والله تعالى يعصمنا من الزلل في القول والعمل، ذلك إشارة إلى انتفاء الغفران وتبيين العلة الموجبة لذلك، وانتفاء هداية الله الفاسقين هو للذين حتم لهم بذلك، فهو عام مخصوص.
* (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله وقالوا لا تنفروا فى الحر) *: لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين، ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة، حتى أذن لهم، فكشف الله للرسول صلى الله عليه وسلم) عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم، فأنزل الله عليه: فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله الآية: أي: عن غزوة تبوك. وكان الرسول قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا، فأذن لهم. وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد. ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهي أمكن من لفظة المتخلفين، إذ هم مفعول بهم ذلك، ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر. ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان، والمصدر وهو هنا للمصدر أي: بقعودهم، وهو عبارة عن الإقامة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف، أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقال: فلان أقام خلاف الحي، أي بعدهم. إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. قاله أبو عبيدة، والأخفش، وعيسى بن عمرو. قال الشاعر:
* عقب الربيع خلافهم فكأنما
*
بسط السواطب بينهن حصيرا
*
ومنه قول الشاعر:
* فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
*
تأهب لأخرى مثلها وكأن قد
*
ويؤيد هذا التأويل: قراءة ابن عباس، وأبي حيوة، وعمرو بن ميمون خلف رسول الله. وقال قطرب، ومؤرج،
80

والزجاج، والطبري: انتصب خلاف على أنه مفعول لأجله أي: لمخالفة رسول الله، لأنهم خالفوه حيث نهض للجهاد وقعدوا. ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ خلف بضم الخاء، وما تظاهرت به الروايات من أنه أمرهم بالنفر فغضبوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين وغير مستأذنين، وكراهتهم للجهاد هي لكونهم لا يرجون به ثوابا، ولا يدفعون بزعمهم عنهم عقابا. وفي قوله: فرح وكرهوا مقابلة معنوية، لأن الفرح من ثمرات المحبة. وفي قوله: أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم تعريض بالمؤمنين ويتحملهم المشاق العظيمة أي: كالمؤمنين الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله، وآثروا ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان. والفرح بالقعود يتضمن الكراهة للخروج، وكأن الفرج بالقعود هو لمثل الإقامة ببلده لأجل الألفة والإيناس بالأهل والولد، وكراهة الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والتلف. واستعذروا بشدة الحر، فأجاب الله تعالى عما ذكروا أنه سبب لترك النفر، وقالوا: إنه قال بعضهم لبعض وكانوا أربعة وثمانين رجلا. وقيل: قالوا للمؤمنين لم يكفهم ما هم عليه من النفاق والكسل حتى أرادوا أن يكسبوا غيرهم وينبهوهم على العلة الموجبة لترك النفر. قال ابن عباس، وأبو رزثن والربيع: قال رجل: يا رسول الله، الحر شديد، فلا ننفر في الحر. وقال محمد بن كعب هو رجل من بني سلمة انتهى. أي: قال ذلك عن لسانهم، فلذلك جاء وقالوا بلفظ الجمع. وكانت غزوة تبوك في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال، فأمر الله نبيه أن يقول لهم: قل نار جهنم أشد حرا، أقام الحجة عليهم بأنه قيل لهم: إذا كنتم تجزعون من حر القيظ، فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فقهتم. قال الزمخشري: قل نار جهنم أشد حرا استجهال لهم، لأن من تصون من مشقة ساعة فوقع بذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل. ولبعضهم:
* مسرة أحقاد تلقيت بعدها
*
مساءة يوم اربها شبه الصاب
*
* فكيف بأن تلقى مسرة ساعة
*
وراء تقضيها مساءة أحقاب
*
انتهى. وقرأ عبيد الله: يعلمون مكان يفقهون، وينبغي أن يحمل ذلك على معنى التفسير، لأنه مخالف لسواد ما أجمع المسلمون عليه، ولما روي عنه الأئمة. والأمر بالضحك والبكاء في معنى الخبر، والمعنى: فسيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، إلا أنه أخرج على صيغة الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره. روي أن أهل النفاق يكونون في النار عمرالدنيا، لا يرقأ لهم دمع، ولا يكتحلون بنوم. والظاهر أن قوله: فليضحكوا قليلا إشارة إلى مدة العمر في الدنيا، وليبكوا كثيرا إشارة إلى تأييد الخلود، فجاء بلفظ الأمر ومعناه الخبر عن حالهم. قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون صفة حالهم أي: هم لما هم عليه من الحظر مع الله وسوء الحال، بحيث ينبغي أن يكون ضحكهم قليلا وبكاؤهم كثيرا من أجل ذلك، وهذا يقتضي أن يكون وقت الضحك والبكاء في الدنيا نحو قوله عليه السلام لأمته: (لو يعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا) وانتصب قليلا وكثيرا على المصدر، لأنهما نعت للمصدر أي: ضحكا قليلا
81

وبكاء كثيرا. وهذا من المواضع التي يحذف فيها المنعوت، ويقوم نعته مقامه، وذلك لدلالة الفعل عليه. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكونا نعتا لظرف محذوف أي: زمانا قليلا، وزمانا كثيرا انتهى. والأول أجود، لأن دلالة الفعل على المصدر بحروفه ودلالته على الزمان بهيئته، فدلالته على المصدر أقوى. وانتصب جزاء على أنه مفعول لأجله، وهو متعلق بقوله: وليبكوا كثيرا.
* (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معى أبدا ولن تقاتلوا معى عدوا إنكم رضيتم) *: الخطاب للرسول والمعنى: فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك. قيل: ودخول إن هنا وهي للمكن وقوعه غالبا إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم) لا يعلم بمستقبلات أمره من أجل وغيره، إلا أن يعلمه
الله، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: * (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدرى ما * فعل * بى ولا بكم * ولا * كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء) * قال نحوه ابن عطية وغيره، إلى طائفة منهم لأن منهم من مات، ومنهم من تاب وندم، ومنهم من تخلف لعذر صحيح. فالطائفة هنا الذين خلصوا في النفاق وثبتوا عليه هكذا قيل. وإذا كان الضمير في منهم عائدا على المخلفين الذين خرجوا وكرهوا أن يجاهدوا، فالذي يظهر أن ذكر الطائفة هو لأجل أن منهم من مات. قال ابن عطية: ويشبه أن تكون هذه الطائفة قد حتم عليها بالموافاة على النفاق، وعينوا للنبي صلى الله عليه وسلم)، وإلا فكيف يترتب على أن يصلي على موتاهم إن لم يعينهم. وقوله: وما تواوهم فاسقون، نص في موافاتهم. ومما يؤيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم) عينهم لحذيفة بن اليمان، وكانت الصحابة إذا رأوا حذيفة تأخر عن الصلاة على جنازة رجل تأخروا هم عنها. وروي عن حذيفة أنه قال يوما: بقي من المنافقين كذا وكذا. وقال له عمرو بن الخطاب: أنشدك الله أنا منهم؟ فقال: لا والله، لا أمنت منها أحدا بعدك. وأمر الله نبيه أن يقول لهم: لن تخرجوا معي هو عقوبة لهم وإظهار لدنائة منزلتهم وسوء حالهم، وهذا هو المقصود في قصة ثعلبة بن حاطب التي تقدمت في الامتناع من أخذ صدقته، ولا خزي أعظم من أن يكون إنسان قدر فضه الشرع ورده كالجمل الأجرب.
قال الزمخشري: فاستأذنوك للخروج يعني إلى غزوة بعد غزوة تبوك، وكان إسقاطهم من ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم الله تعالى أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المحلفين انتهى. وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة، إلى الأشق وهو قتال العدو، لأنه عظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة، ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله في قوله: * (انفروا خفافا وثقالا) * وقالوا هم: لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشئ عن السبب وهو النفاق. وأولمرة هي الخرجة إلى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل: أو خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول للغزاة، فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزوة الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان. وقال أبو البقاء: أول مرة ظرف، ونعني ظرف زمان، وهو بعيد.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): مرة نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها
82

وهو دال على واحدة من المرات؟ (قلت): أكثر اللغتين هند. أكبر النساء، وهي أكبرهن. ثم إن قولك هي كبرى امرأة لا تكاد تعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة انتهى. فاقعدوا مع الخالفين أي: أقيموا، وليس أمرا بالقعود الذي هو نظير الجلوس، وإنما المراد منعهم من الخروج معه. قال أبو عبيدة: الخالف الذي خلف بعد خارج فقعد في رحله، وهو الذي يتخلف عن القوم. وقيل: الخالفين المخالفين من قولهم: عبد خالف أي: مخالف لمولاه. وقيل: الإخساء الأدنياء من قولهم: فلان خالفة قومه لا خسهم وأرذلهم. ودلت هذه الآية على توقي صحبة من يظهر منه مكر وخداع وكيد، وقطع العلقة بينهما، والاحتراز منه. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا. قال ابن عطية: والخالفون جميع من تخلف من نسائ وصبيان وأهل عذر. غلب المذكر، فجمع بالواو والنون، وإن كان ثم نساء وهو جمع خالف. وقال قتادة: الخالفون النساء، وهذا مردود. وقال ابن عباس: هم الرجال. وقال الطبري: يحتمل قوله في الحالتين أن يريد الفاسدين، فيكون ذلك مأخوذا من خلف الشيء إذا فسد، ومنه خلوف فم الصائم. وقرأ مالك بن دينار وعكرمة: مع الخلفين، وهو مقصور من الخالفين كما قال: عددا وبددا يريد عاددا وباددا، وكما قال الآخر:
مثل النقي لبده ضرب الظلل
يريد الظلال.
* (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون) *: النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية وخزي متأبد عليهم. وكان فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا، ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام، فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة، ويصلون، ويصومون، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم، ووكل سرائرهم إلى الله، ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبي. وطول الزمخشري وغيره في قصته، فتظافرت الروايات أنه صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فنزلت هذه الآية بعد ذلك. وروى أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجذبه بثوبه وتلا عليه: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا، فانصرف ولم يصل. وذكروا محاورة عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم) حين جاء ليصلي عليه. ومات صفة لا حد، فقدم الوصف بالمجرور ثم بالجملة، وهو ماض بمعنى المستقبل، لأن الموت غير موجود لا محالة. نهاه الله عن الصلاة عليه، والقيام على قبره وهو الوقوف عند قبره حتى يفرغ من دفنه. وقيل: المعنى ولا تتولوا دفنه وقبره، فالقبر مصدره. كان صلى الله عليه وسلم) إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له، فنهي عن ذلك في حق المنافقين، فلم يصل بعد على منافق، ولا قام على قبره. إنهم كفروا تعليل للمنع من الصلاة والقيام بما يقتضي الامتناع من ذلك، وهو الكفر والموافاة عليه.
* (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها فى الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) *
83

تقدم نظير هذه الآية وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية به، لا سيما إذا تراخى ما بين النزولين. فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه، ويتخلص إليه. وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه قاله: الزمخشري. وقال ابن عطية: ووجه تكريرها توكيد هذا المعنى. وقال أبو علي: ظاهره أنه تكرير وليس بتكرير، لأن الآيتين في فريقين من المنافقين، ولو كان تكريرا لكان مع تباعد الآيتين لفائدة التأكيد والتذكير. وقيل: أراد بالأولى لا تعظمهم في حال حياتهم بسبب كثرة المال والولد، وبالثانية لا تعظمهم بعد وفاتهم لمانع الكفر والنفاق. وقد تغايرت الآيتان في ألفاظ هنا، ولا، وهناك، فلا ومناسبة الفاء أنه عقب قوله: ولا ينفقون إلا وهم كارهون أي:
للإنفاق، فهم معجبون بكثرة الأموال والأولاد، فنهاه عن الإعجاب بفاء التعقيب. ومناسبة الواو أنه نهي عطف على نهي قبله. ولا تصل، ولا تقم، ولا تعجبك، فناسبت الواو وهنا وأولادهم وهناك، ولا أولادهم، فذكر لا مشعر بالنهي عن الإعجاب بكل واحد واحد على انفراد. ويتضمن ذلك النهي عن المجموع، وهنا سقطت، فكان نهيا عن إعجاب المجموع. ويتضمن ذلك النهي عن الإعجاب بكل واحد واحد. فدلت الآيتان بمنطوقهما ومفهومهما على النهي عن الإعجاب بالأموال والأولاد مجتمعين ومنفردين. وهنا أن يعذبهم، وهناك ليعذبهم، فأتى باللام مشعرة بالتعليل. ومفعول يريد محذوف أي: إنما يريد الله ابتلاءهم بالأموال والأولاد لتعذيبهم. وأتى بأن لأن مصب الإرادة هو التعذيب أي: إنما يريد الله تعذيبهم. فقد اختلف متعلق الفعل في الآيتين هذا الظاهر، وإن كان يحتمل زيادة اللام. والتعليل بأن وهناك الدنيا، وهنا في الحياة الدنيا، فأثبت في الحياة على الأصل، وحذفت هنا تنبيها على خسة الدنيا، وأنها لا تستحق أن تسمى حياة، ولا سيما حين تقدمها ذكر موت المنافقين، فناسب أن لا تسمى حياة.
* (وإذا أنزلت سورة أن ءامنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين رضوا) * الجمهور على أن السورة هنا كل سورة كان فيها الأمر بالإيمان والجهاد. وقيل: براءة لأن فيها الأمر بهما. وقيل: بعض سورة، فأطلق عليه سورة، كما يطلق على بعض القرآن قرآن وكتاب. وهذه الآية وإن تقدم أنهم كانوا استأذنوا الرسول في القعود، فيها تنبيه على أنهم كانوا متى تنزل سورة فيها الأمر بالإيمان والجهاد استأذنوا، وليست هنا إذا تفيد التعليق فقط، بل انجر معها معنى التكرار سواء كان ذلك فيها بحكم الوضع أنه بحكم غالب الاستعمال، لا الوضع. وهي مسألة خلاف في النحو، ومما وجد معها التكرار قول الشاعر:
* إذا وجدت أوار النار في كبدي
*
أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
*
ألا ترى أن المعنى متى وجدت وإن آمنوا يحتمل أن أن تكون تفسيرية، لأن قبلها شرط ذلك؟ ويحتمل أن
84

تكون مصدرية أي: بأن آمنوا أي: بالإيمان. والظاهر أن الخطاب للمنافقين أي: آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم. قيل: ويحتمل أن يكون خطابا للمؤمنين ومعناه: الاستدامة والطول. قال ابن عباس والحسن: الغنى. وقيل: القوة والقدرة. وقال الأصم: أولو الطول الكبراء والرؤساء. وأولو الأمر منهم أي: من المنافقين كعبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وإضرابهم. وأخص أولو الطول لأنهم القادرون على التنفير والجهاد، ومن لا مال له، ولا قدرة لا يحتاج إلى الاستئذان، والاستئذان مع القدرة على الحركة أقبح وأفحش. والمعنى: استأذنك أولو الطول منهم في القعود، وفي استأذنك التفات، إذ هو خروج من لفظ الغيبة وهو قوله: ورسوله، إلى ضمير الخطاب. وقالوا: درنا نكن مع القاعدين الزمني وأهل العذر، ومن ترك لحراسة المدينة، لأن ذلك عذر. وفي قوله: رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، تهيجن لهم، ومبالغة في الذم. والخوالف: النساء قاله: الجمهور كابن عباس، ومجاهد وقتادة، وشمر بن عطية، وابن زيد، والفراء، وذلك أبلغ في الذم كما قال:
* وما أدري وسوف إخال أدري
*
أقوم آل حصن أم نساء
*
* فإن تكن النساء مخبآت
*
فحق لكل محصنة هداء
*
وقال آخر:
* كتب القتل والقتال علينا
*
وعلى الغانيات جر الذيول
*
فكونهم رضوا بأن يكونوا قاعدين مع النساء في المدينة أبلغ ذم لهم وتهجين، لأنهم نزلوا أنفسهم منزلة النساء العجزة اللواتي لا مدافعة عندهن ولا غنى. وقال النضر بن شميل: الخوالف من لا خير فيه. وقال النحاس: يقال للرجل الذي لا خير فيه خالفة، وهذا جمعه بحسب اللفظ، والمراد أخساء الناس وأخلافهم. وقالت فرقة: الخوالف جمع خالف، فهو جار مجرى فوارس ونواكس وهوالك، والظاهر أن قوله: وطبع خبر من الله بما فعل بهم. وقيل: هو استفهام أي: أو طبع على قلوبهم،
فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال.
* (ولاكن * الرسول والذين ءامنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون * أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ذالك
85

الفوز العظيم) *: لما ذكر أن أولئك المنافقين اختاروا الدعة وكرهوا الجهاد، وفروا من القتال، وذكر ما أثر ذلك فيهم من الطبع على قلوبهم، ذكر حال الرسول والمؤمنين في المثابرة على الجهاد، وذلك ما لهم من الثواب. ولكن وضعها أن تقع بين متنافيين. ولما تضمن قول المنافقين ذرنا، واستئذانهم في القعود، كان ذلك تصريحا بانتفاء الجهاد. فكأنه قيل: رضوا بكذا ولم يجاهدوا، ولكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا. والمعنى: إن تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية. كقوله تعالى: * (فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين) * * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار) * والخيرات: جمع خيرة وهو المستحسن من كل شيء، فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ، وكثرة استعماله في النساء ومنه فيهن خيرات حسان. وقال الشاعر:
* ولقد طعنت مجامع الربلات
*
ربلات هند خيرة الملكات
*
وقيل: المراد بالخيرات هنا الحور العين. وقيل: المراد بها الغنائم من الأموال والذراري. وقيل: أعد الله لهم جنات، تفسير للخيرات إذ هو لفظ مبهم.
* (وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) *: ولما ذكر أحوال المنافقين الذين بالمدينة شرح أحوال المنافقين من الإعراب. قرأ الجمهور: المعذبون بفتح العين وتشديد الذال، فاحتمل وزنين: أحدهما: أن يكون فعل بتضعيف العين ومعناه: تكلف العذر ولا عذر له، ويقال عذر في الأمر قصر فيه وتوانى، وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل، وأصله اعتذر كاختصم، فأدغمت التاء في الذال. ونقلت حركتها إلى العين، فذهبت ألف الوصل. ويؤيده قراءة سعيد بن جبير: المعتذرون بالتاء من اعتذر. وممن ذهب إلى أن وزنه افتعل. الأخفش، والفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزجاج، وابن الأنباري. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، والأعرج، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، ويعقوب، والكسائي، في رواية المعذرون من أعذر. وقرأ مسلمة: المعذرون بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر. قال أبو حاتم: أراد المتعذرين، والتاء لا تدغم في العين لبعد المخارج، وهي غلط منه أو عليه. واختلف في هؤلاء المعذرين أهم مؤمنون أم كافرون؟ فقال ابن عباس ومجاهد وجماعة: هو مؤمنون، وأعذارهم صادقة. وقال قتادة وفرقة: هم كافرون وأعذارهم كذب. وكان ابن عباس يقول: رحم الله المعذرين ولعن المعذرين. قيل: هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالا وأن بنا جهدا، فأذن لهم في
86

التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك غارات إعراب طي على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وسلم): (سيعني الله عنكم) وعن مجاهد: نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله تعالى. قال ابن إسحاق: نفر من غفار منهم خفاف بن إيماء، وهذا يقتضي أنهم مؤمنون، والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك. ألا ترى إلى قوله: * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) * فلو كان الجميع كفارا لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون التركيب سيصيبهم عذاب أليم. ويحتمل أن يكونوا كفارا كما قال قتادة، فانقسموا إلى جاء معتذر وإلى قاعد، واستؤنف إخبار بما يصيب الكافرين. ويكون الضمير في منهم عائدا على الإعراب، أو يكون المعنى: سيصيب الذين يوافون على الكفر من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل والسبي، وفي الآخرة بالنار. وقرأ الجمهور: كذبوا بالتخفيف أي: في إيمانهم فاظهروا ضد ما أخفوه. وقرأ أبي والحسن في المشهور عنه: ونوح وإسماعيل كذبوا بالتشديد أي لم يصدقوه تعالى ولا رسوله، وردوا عليه أمره والتشديد أبلغ في الذم.
* (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا * الله ورسوله * ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا) *: لما ذكر حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه، ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد المخافة والضؤلة، بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض من عرض له المرض، أو كان زمنا ويدخل فيه العمى والعرج. والذين لا يجدون ما ينفقون هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو، فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلا عليهم، كان له في ذلك ثواب جزيل. فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار، وهو في أول الجيش، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن الله قد عذرك) فقال: والله لأحقرن بعرجتي هذه في الجنة. وكان ابن أم مكتوم أعمى، فخرج إلى أحد وطلب أن يعطي اللواء فأخذه، فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى، فضربت فأمسكه بصدره. وقرأ: * (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل) * وشرط في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله، وهو أن يكون نياتهم وأقوالهم سرا وجهرا خالصة لله من الغش، ساعية في إيصال الخير للمؤمنين، داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود (لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم مسيرا ولا أنفقتم
من نفقة ولا قطعتم واديا إلا هم معكم فيه) قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: (حبسهم العذر). وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله بنصب الجلالة، والمعطوف ما على المحسنين من سبيل أي: من لائمة تناط بهم أو عقوبة. ولفظ المحسنين عام يندرج فيه هؤلاء المعذورون الناصحون غيرهم، وقيل: المحسنين هنا المعذورون الناصحون، ويبعد الاستدلال بهذه الجملة على نفي القياس. وإن المحسن هو المسلم، لانتفاء جميع السبيل، فلا يتوجه عليه شيء من التكاليف إلا بدليل منفصل، فيكون يخص هذا العام الدال على براءة الذمة. وقال الكرماني: المحسنين هم الذين أطاعوا الله ورسوله في أقوالهم، ثم أكد الرجاء
87

فقال: والله عفو رحيم، وقراءة ابن عباس: والله لأهل الإساءة غفور رحيم على سبيل التفسير، لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف. قيل: وقوله: ما على المحسنين من سبيل، فيه نوع من أنواع البديع يسمى: التمليح، وهو أن يشار في فحوى الكلام إلى مثل سائر، أو شعر نادر، أو قصة مشهورة، أو ما يجري مجرى المثل. ومنه قول يسار بن عدي حين بلغه قتل أخيه، وهو يشرب الخمر:
* اليوم خمر ويبدو في غد خبر
*
والدهر من بين إنعام وإيئاس
*
* (ولا على الذين * ماذا * ما أتوك لتحملهم) *، معطوف على ما قبله، وهم مندرجون في قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وأنهم بالغوا في تحصيل ما يخرجون به إلى الجهاد حتى أقضي بهم الحال إلى المسألة، والحاجة لبذل ماء وجوههم في طلب ما يحملهم إلى الجهاد، والاستعانة به حتى يجاهدوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولا يفوتهم أجر الجهاد. ويحتمل أن لا يندرجوا في قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون، بأن يكون هؤلاء هم الذين وجدوا ما ينفقون، إلا أنهم لم يجدوا المركوب، وتكون النفقة عبارة عن الزارد لا عبارة عما يحتاج إليه المجاهد من زاد ومركوب وسلاح وغير ذلك مما يحتاج إليه. وهذه نزلت في العرباض بن سارية. وقيل: في عبد الله بن مغفل. وقيل: في عائذ بن عمرو. وقيل: في أبي موسى الأشعري ورهطه. وقيل: في تسعة نفر من بطون شتى فهم البكاؤون وهم: سالم بن عمير من بني عوف، وحرمي بن عمرو من بني واقف، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب من بني مازن بن النجار، وسلمان بن صخر من بني المعلى وأبو رعيلة عبد الرحمن بن زيد بن بني حارثة، وعمرو بن غنمة من بني سلمة، وعائذ بن عمرو المزني. وقيل: عبد الله بن عمرو المزني. وقال مجاهد: البكاؤن هم بنو بكر من مزينة. وقال الجمهور: نزلت في بني مقرن، وكانوا ستة أخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم)، وليس في الصحابة ستة أخوة غيرهم. ومعنى لتحملهم أي: على ظهر مركب، ويحمل عليه أثاب المجاهد. قال معناه: ابن عباس. وقال أنس بن مالك: لتحملهم بالزاد. وقال الحسن بن صالح: بالبغال. وروي أن سبعة من قبائل شتى قالوا: يا رسول الله قد ندبتنا إلى الخروج معك، فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغر معك فقال: * (لا أجد ما أحملكم عليه) * فتولوا وهم يبكون.
وقرأ معقل بن هارون: لنحملهم بنون الجماعة، وإذا تقتضي جوابا. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو قلب، ويكون قوله: تولوا جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم إذ أجابهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض. وقيل: جواب إذا تولوا، وقلب جملة في موضع الحال من الكاف، أي: إذا ما آتوك قائلا لا أجد، وقد قبله مقدر كما قيل في قوله: حصرت صاورهم قاله الزمخشري. أو على حذف حرف العطف أي: وقلت، قاله الجرجاني وقاله ابن عطية وقدره: فقلت بالفاء وأعينهم تفيض جملة حالية. قال الزمخشري: (فإن قلت): فهل يجوز أن يكون قوله: قلت لا أجد استئنافا مثله يعني: مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف؟ كأنه قيل: إذا
88

ما أتوك لنحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملهم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض (قلت): نعم، ويحسن انتهى. ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب، فيكف في كلام الله وهو فهم أعجمي؟ وتقدم الكلام على نحو وأعينهم تفيض من الدمع في أوائل حزب * (لتجدن) * من سورة المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعا، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ومن للبيان كقولك: أفديك من رجل، ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز انتهى. ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضا فإنه معرفة، ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة. وانتصب حزنا على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال. وأن لا يجدوا مفعول له أيضا، والناصب له حزنا قال أبو البقاء: ويجوز أن يتعلق بتفيض انتهى. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزنا مفعولا له والعامل فيه تفيض، لأن العامل لا يقض اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. 2 (* (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون * يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزآء بما كانوا يكسبون * يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين * الا عراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود مآ أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم * ومن الا عراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دآئرة السوء والله سميع عليم * ومن الا عراب من يؤمن بالله واليوم الا خر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألاإنها قربة لهم سيدخلهم الله فى رحمته إن الله غفور رحيم * والسابقون الا ولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبدا ذالك الفوز العظيم * وممن حولكم
89

من الا عراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم * وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم * خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم * ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم * وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون * وءاخرون مرجون لا مر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم * والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون * لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين * أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به فى نار جهنم والله لا يهدى القوم الظالمين * لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم * إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرءان ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذى بايعتم به وذالك هو الفوز العظيم * التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الا مرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين * ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم * وما كان استغفار إبراهيم لابيه إلا عن موعدة وعدهآ إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم * وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم *
90

إن الله له ملك السماوات والا رض يحى ويميت وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير * لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والا نصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين * ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الا عراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذالك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة فى سبيل الله ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) *))
) *
الإعراب صيغة جمع، وفرق بينه وبن العرب. فالعربي من له نسب في العرب، والأعرابي البدوي منتجع الغيث والكلأ، كان من العرب أو من مواليهم. وللفرق نسب إليه على لفظه فقيل: الأعرابي، وجمع الأعراب على الأعارب جمع الجمع.
أجدر أحق وأحرى، قال الليث: جدر جدارة فهو جدير وأجدر، به يؤنث ويثني ويجمع. قال الشاعر:
* نخيل عليها جنة عبقرية
*
جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا
*
أسس على وزن فعل مضعف العين، وآسس على وزن فاعل وضع الأساس وهو معروف، ويقال فيه: أس. والجرف: البئر التي لم تطوه، وقال أبو عبيدة: الهوة وما يجرفه السيل من الأودية. هار: منهال ساقط يتداعى بعضه في إثر بعض، وفعله هار يهور ويهار ويهير، فعين هار يحتمل أن تكون واوا أو ياء، فاصله هاير أو هاور فقلبت، وصنع به ما صنع بقاض وغاز، وصار منقوصا مثل شاكي السلاح ولاث قال: لاث به الآشاء والعبري.
91

وقيل: هار محذوف العين لفرعله فتجري الراء بوجوه الإعراب. وحكى الكسائي: تهور وتهير. أواه كثير قول أوه، وهي اسم فعل بمعنى أتوجع، ووزنه فعال للمبالغة. فقياس الفعل أن يكون ثلاثيا، وقد حكاه قطرب: حكى آه يؤوه أوها كقال يقول قولا ونقل عن النحويين أنهم أنكروا ذلك وقالوا: ليس من لفظ أوه فعل ثلاثي، إنما يقال: أوه تأويها وتأوه تأوها. قال الراجز: فأوه الداعي وضوضأ أكلبه.
وقال المثقب العبدي:
* إذا ما قمت أرحلها بليل
*
تأوه آهة الرجل الحزين
*
وفي أوه اسم الفعل لغات ذكرت في علم لنحو. الظمأ: العطش الشديد، وهو مصدر ظمىء يظمأ فهو ظمآن وهي ظمآن، ويمد فيقال ظماء. الوادي: ما انخفض من الأصل مستطيلا كمحاري السيول ونحوها، وجمعته العرب على أودية وليس بقياسه، قال تعالى: * (فسالت أودية بقدرها) * وقياسه فواعل، لكنهم استثقلوه لجمع الواوين. قال النحاس: ولا أعرف فاعلا أفعلة سواه، وذكر غيره ناد وأندية قال الشاعر:
* وفيهم مقامات حسان وجوههم
*
وأندية ينتابها القول والفعل
*
والنادي: المجلس، وحكى الفراء في جمعه أو داء، كصاحب وأصحاب قال جرير:
* عرفت ببرقة الأوداء رسما
*
مجيلا طال عهدك من رسوم
*
وقال الزمخشري: الوادي كل منعرج من جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودي إذا سال، ومنه الودي. وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض تقول: لا تصل في وادي غيرك.
* (إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون) *: أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين، فدل لأجل المقابلة أن هؤلاء مسيؤن، وأي إساءة أعظم من النفاق والتخلف عن الجهاد والرغبة بأنفسهم عن رسول الله، وليست إنما للحصر، إنما هي للمبالغة في التوكيد، والمعنى: إنما السبيل في اللائمة والعقوبة والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن الجهاد وهم قادرون عليه لغناهم، وكان خبر السبيل على وإن كان قد فصل بإلى كما قالت:
* هل من سبيل إلى خمر فاشربها
*
أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
92

لأن على تدل على الاستعلاء وقلة منعة من دخلت عليه، ففرق بين لا سبيل لي على زيد، ولا سبيل لي إل زيد. وهذه الآية في المنافقين المتقدم ذكرهم: عبد الله بن أبي، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، وغيرهم. ورضوا: استئناف كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا في القعود بالمدينة وهم قادرون على الجهاد، فقيل: رضوا بالدناءة وانتظامهم في سلك الخوالف. وعطف وطبع تنبيها على أن السبب في تخلفهم رضاهم بالدناءة، وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون ما يترتب على الجهاد من منافع الدين والدنيا.
*
* (يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم) *: لن نؤمن لكم علة للنهي عن الاعتذار، لأن عرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه. قد نبأنا الله من أخباركم علة لانتفاء التصديق، لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد، لم يمكن تصديقهم في معاذيرهم. قال ابن عطية: والإشارة بقوله: قد نبأ الله من أخباركم إلى قوله: ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلالكم، ونحو هذا. ونبأ هنا تعدت إلى مفعولين كعرف، نحو قوله: من أنبأك هذا؟ والثاني هو من أخباركم أي: جملة من أخباركم، وعلى رأى أبي الحسن الأخفش تكون من زائدة أي أخباركم. وقيل: نبأ بمعنى أعلم المتعدية إلى ثلاثة، والثالث محذوف اختصارا لدلالة الكلام عليه أي: من أخباركم كذبا أو نحوه. وسيرى الله توعد أي: سيراه في حال وجوده، فيقع الجزاء منه عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وقال الزمخشري: وسيرى الله عملكم أتنيبون أم تثبتون على الكفر، ثم تردون إشارة إلى البعث من القبور والتنبؤ بأعمالهم عبارة عن جزائهم عليها. قال ابن عيسى: وسيرى لجعله من الظهور بمنزلة ما يرى، ثم يجازى عليه. وقيل: كانوا يظهرون للرسول عند تقريرهم معاذيرهم حبا وشفقة فقيل: وسيرى الله عملكم هل يبقون على ذلك أو لا يبقون؟ والغيب والشهادة هما جامعان لأعمال العبد لا يخلو منهما. وفي ذلك دلالة على أنه مطلع على ضمائرهم كاطلاعه على ظواهرهم، لا تفاوت عنده في ذلك.
* (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) *: لما ذكر أنهم يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وأن سبب الحلف هو طلبتهم أن يعرضوا عنهم فلا يلوموهم ولا يوبخوهم، فاعرضوا عنهم أي: فأجيبو إلى طلبتهم. وعلل الإعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق، فتجب مباعدتهم واجتنابهم كما قال: * (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) * فمن كان رجسا لاة تنفع فيه المعاتبة، ولا يمكن تطهير الرجس. ويحتمل أن يكون سبب الحلف مخافتهم أن يعرضوا عنهم فلا يقبلوا عليهم ولا يوادوهم، فأمر تعالى بالإعراض عنهم وعدم توليهم، وبين العلة في ذلك برجسيتهم، وبأن مآل أمرهم إلى النار. قال ابن عباس: فاعرضوا عنهم لا تكلموهم. وفي الخبر أنه عليه السلام لما قدم من تبوك قال: لا تجالسوهم ولا تكلموهم.
قيل: إن هذه الآية من أول ما نزل في شأن المنافقين في غزوة تبوك، وكان قد اعتذر بعض المنافقين واستأذنوه في القعود قبل مسيره، فأذن فخرجوا وقال أحدهم: ما
هو إلا شحمة لأول آكل، فلما خرج الرسول نزل فيهم القرآن، فانصرف رجل من القوم فقال للمنافقين في مجلس منهم: نزل فيكم قرآن فقالوا له: وما ذلك؟ قال: لا أحفظ، إلا إني سمعت وصفكم فيه بالرجس، فقال لهم مخشي: لوددت أن أجلد مائة ولا أكون معكم، فخرج حتى لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم) فقال له: (ما جاء بك)؟ فقال له: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) تسفعه الريح، وأنا في لكن. فروي أنه ممن تاب. قال ابن عطية: فاعرضوا عنهم أمر بانتهارهم وعقوبتهم بالإعراض والوصم بالنفاق، وهذا مع إجمال لا مع تعيين
93

مصرح من الله ولا من رسوله، بل كان لكل واحد منهم ميدان المقالة مبسوطا. وقوله: رجس أي نتن وقذر. وناهيك بهذا الوصف محطة دنيوية، ثم عطف لمحطة الآخرة. ومن حديث كعب بن مالك: أنهم جاءوا يعتذرون ويحلفون لما قدم المدينة، وكانوا بضعة وثمانين، فقبل منهم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله.
* (يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) *: قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف بن أبي سرح لنكونن معه على عدوه، وطلب من الرسول أن يرضى عنه، فنزلت، وهنا حذف المحلوف به، وفي قوله: * (سيحلفون بالله) * أثبت كقوله: * (إذا * أقسموا ليصرمنها) * وقوله: * (وأقسموا بالله) * فلا فرق بين حذفه وإثباته في انعقاد ذلك يمينا. وغرضهم في الحلف رضا الرسول والمؤمنين لنفعهم في دنياهم، لا أن مقصدهم وجه الله تعالى. والمراد: هي أيمان كاذبة، وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض، جاء الأمر بالإعراض نصا، لأن الإعراض من الأمور التي تظهر للناس، وهنا ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية، لأن الرضا من الأمور القلبية التي تخفى، وخرج مخرج المتردد فيه، وجعل جوابه انتفاء رضا الله عنهم، فصار رضا المؤمنين عنهم أبعد شيء في الوقوع، لأنه معلوم منهم أنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضا وهو الفسق، وجاء اللفظ عاما، فيحتمل أن يراد به لخصوص كأنه قيل: فإن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول، إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
* (الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر * أن لا * يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم) *: نزلت في أعراب من أسد، وتميم، وغطفان. ومن أعراب حاضري المدينة أي: أشد كفرا من أهل الحضر. وإذا كان الكفر متعلقا بالقلب فقط، فالتقدير أشد أسباب كفر، وإذا دخلت فيه أعمال الجوارح تحققت فيه الشدة. وكانوا أشد كفرا ونفاقا لتوحشهم واستيلاء الهواء الحار عليهم، فيزيد في تيههم ونخوتهم وفخرهم وطيشهم وتربيتهم بلا سائس ولا مؤدب ولا ضابط، فنشأوا كما شاؤوا لبعدهم عن مشاهدة العلماء ومعرفة كتاب الله وسنة رسول الله، ولبعدهم عن مهبط الوحي. كانوا أطلق لسانا بالكفر والنفاق من منافقي المدينة، إذ كان هؤلاء يستولي عليهم الخوف من المؤمنين، فكان كفرهم سرا ولا يتظاهرون به إلا تعريضا. وأجدر أي: أحق أن لا يعلموا أي بأن لا يعلموا. والحدود: هنا الفرائض. وقيل: الوعيد عل مخالفة لرسول، والتأخر عن الجهاد. وقيل: مقادير التكاليف والأحكام. وقال قتادة: أقل علما بالسنن. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن الجفاء والقسوة في الفدادين) والله عليم يعلم كل أحد من أهل الوبر والمدر، حكيم فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من ثواب وعقاب.
* (ومن الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم) *: نزلت في أعراب أسد، وغطفان، وتميم، كانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات. وقيل: من الزكاة، ولذلك قال بعضهم: ما هي إلا جزية أو قريبة من الجزية. وقيل: كل نفقة لا تهواها أنفسهم وهي مطلوبة شرعا، وهو ما ينفقه الرجل وليس يلزمه، لأنه لا ينفق إلا تقية من المسلمين ورياء، لا لوجه الله تعالى وابتغاء المثوبة عنده. فعل هذا المغرم إلزام ما لا يلزم. وقيل: المغرم الغرم والخسر، وهو قول: ابن قتيبة، وقريب من الذي قبله. وقال ابن فارس: المغرم ما لزم أصحابه والغرام اللازم، ومنه الغريم للزومه وإلحاحه. والتربص: الانتظار. والدوائر: هي المصائب التي لا مخلص منها، تحيط به كما تحيط الدائرة. وقيل: تربص الدوائر هنا موت الرسول صلى الله عليه وسلم) وظهور الشرك. وقال الشاعر:
94

* تربص بها ريب المنون لعلها
*
تطلق يوما أو يموت حليلها
*
وتربص الدوائر ليخلصوا من إعياء النفقة، وقوله: عليهم دائرة السوء، دعا معترض، دعاء عليهم بنسبة ما أخبر به عنهم كقوله: * (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم) * والدعاء من الله هو بمعنى إنجاب الشيء، لأنه تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته. وقال الكرماني: عليهم تدور المصائب والحروب التي يتوقعونها على المسلمين، وهنا وعد للمسلمين وإخبار. وقيل: دعاء أي: قولوا عليهم دائرة السوء أي المكروه، وحقيقة الدائرة ما تدور به الأيام. وقيل: يدور به الفلك في سيره، والدوائر انقلاب النعمة إلى ضدها. وفي الحجة يجوز أن تكون الدائرة مصدرا كالعاقبة، ويجوز أن تكون صفة. وقرأ ابن كثير وأبو عمر: والسوء هنا. وفي سورة الفتح ثانية بالضم، وباقي السبعة بالفتح، فالفتح مصدر. قال الفراء: سوأته سوأ ومساءة وسوائية، والضم الاسم وهو الشر والعذاب، والفتح ذم الدائرة وهو من باب إضافة الموصوف إلى صفته، وصفت الدائرة بالمصدر كما قالوا: رجل سوء في نقيض رجل صدق، يعنون في هذا الصلاح لا صدق اللسان، وفي ذلك
الفساد. ومنه * (ما كان أبوك امرأ سوء) * أي أمرأ فاسدا. وقال المبرد: لسوء بالفتح الرداءة، ولا يجوز ضم السين في رجل سوء، قاله أكثرهم. وقد حكي بالضم وقال الشاعر:
* وكنت كذيب السوء لما رأى دما
*
بصاحبه يوما أحال على الدم
*
والله سميع لأقوالهم عليم بنياتهم.
* (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم) *: نزلت في بني مقرن من مزينة قاله مجاهد. وقال عبد الرحمان بن مغفل بن مقرن: كنا عشرة ولد مقرن فنزلت: ومن الأعراب من يؤمن الآية يريد: الستة والسبعة الإخوة على الخلاف في عددهم وبنيهم. وقال الضحاك: في عبد الله ذي النجادين ورهطه. وقال الكلبي: في أسلم وغفار وجهينة. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرما ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنما، وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر، إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان، وهو اتخاذه ما ينفق مغرما وتربصه بالمؤمنين الدوائر. والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة، والمعنى: يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول، وكان يدعو للمصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم): (اللهم صل على آل أبي أوفى) وقال تعالى: * (وصل عليهم) * والظاهر عطف وصلوات على قربات. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون وصلوات الرسول عطفا على ما ينفق، أي: ويتخذ بالأعمال الصالحة صلوات الرسول قربة. قال ابن عباس: صلوات الرسول هي استغفاره لهم. وقال قتادة: أدعيته بالخير والبركة سماها صلوات جريا على الحقيقة اللغوية، أو لأن الدعاء فيها، وحين جاء ابن أبي أوفى بصدقته قال: (آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا) والضمير في أنها قيل: عائد على الصلوات. وقيل: عائد على النفقات. وتحرير هذا القول أنه عائد على ما على معناها، والمعنى: قربة لهم عند الله. وهذه شهادة من الله للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات وتصديق رجائه على طريق الاستئناف مع حرف التنبيه، وهو ألا وحرف التوكيد هو أن. قال الزمخشري: وما في السين
95

من تحقيق الوعد، وما أدل هذا الكلام على رضا الله تعالى عن المتصدقين، وأن الصدقة منه تعالى بمكان إذا خلصت النية من صاحبها انتهى. وتقدم الكلام معه في دعواه أن السين تفيد تحقيق الوعد. وقرأ ورش: قربة بضم الراء، وباقي السبعة بالسكون، وهما لغتان. ولم يختلفوا في قربات أنه بالضم، فإن كان جمع قربة فجاء الضم على الأصل في الوضع، وإن كان جمع قربة بالسكون فجاء الضم اتباعا لما قبله، كما قالوا: ظلمات في جمع ظلمة.
* (والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الانهار) *: قال أبو موسى الأشعري، وابن المسيب، وابن سيرين، وقتادة: السابقون الأولون من صلى إلى القبلتين. وقال عطاء: من شهد بدرا قال: وحولت القبلة قبل بدر بشهرين. وقال الشعبي: من أدرك بيعة الرضوان، بيعة الحديبية ما بين الهجرتين. ومن فسر السابقين بواحد كأبي بكر أو علي، أو زيد بن حارثة، أو خديجة بنت خويلد، فقوله بعيد من لفظ الجمع، وإنما يناسب ذلك في أول من أسلم. والظاهر أن السبق هو إلى الإسلام والإيمان. وقال ابن بحر: هم السابقون بالموت أو بالشهادة من المهاجرين والأنصار، سبقوا إلى ثواب الله وحسن جزائه، ومن المهاجرين والأنصار أي: ومن الأنصار وهم أهل بيعة العقبة أولا وكانوا سبعة نفر، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. قال ابن عطية: ولو قال قائل: إن السابقين الأولين هم جميع من هاجر إلى أن انقضت الهجرة، لكان قولا يقتضيه اللفظ، وتكون من لبيان الجنس. والذين اتبعوهم بإحسان هم سائر الصحابة، ويدخل في هذا اللفظ التابعون، وسائر الأمة لكن بشرط الإحسان. وقد لزم هذا الاسم الذي هو التابعون من رأى من رأى النبي صلى الله عليه وسلم). وقال أبو عبد الله الرازي: الصحيح عندي أنهم السابقون في الهجرة والنصر، لأن في لفظ السابقين إجمالا، ووصفهم بالمهاجرين والأنصار يوجب صرف ذلك إلى ما اتصف به وهي الهجرة والنصرة، والسبق إلى الهجرة صفة عظيمة من حيث كونها شاقة على النفس ومخالفة للطبع، فمن أقدم أولا صار قدوة لغيره فيها، وكذلك السبق في النصرة فازوا بمنصب عظيم انتهى ملخصا.
ولما بين تعالى فضائل الأعراب المؤمنين المتصدقين، وما أعد لهم من النعيم، بين حال هؤلاء السابقين وما أعد لهم، وشتان ما بين الإعدادين والثناءين، هناك قال: * (ألا إنها قربة لهم) * وهنا * (رضى الله عنهم) *، وهناك * (سيدخلهم الله فى رحمته) * وهنا * (وأعد لهم جنات تجري) *، وهناك ختم: * (إن الله غفور رحيم) * وهنا * (ذالك الفوز العظيم) *. وقرأ عمر بن الخطاب، والحسن، وقتادة، وعيسى الكوفي، وسلام، وسعيد بن أبي سعيد، وطلحة، ويعقوب، والأنصار: برفع الراء عطفا على والسابقون، فيكون الأنصار جميعهم مندرجين في هذا اللفظ. وعلى قراءة الجمهور وهي الجر، يكونون قسمين: سابق أول، وغير أول. ويكون المخبر عنهم بالرضا سابقوهم، والذين اتبعوهم الضمير في القراءتين عائد على المهاجرين والأنصار. والظاهر أن السابقون مبتدأ ورضي الله الخبر، وجوزوا في الخبر أن يكون الأولون أي: هم الأولون من المهاجرين. وجوزوا في قوله: والسابقون، أن يكون معطوفا على قوله: من يؤمن أي: ومنهم السابقون. وجوزوا في والأنصار أن يكون مبتدأ، وفي قراءة الرفع خبره رضي الله عنهم، وذلك على وجهين. والسابقون وجه العطف، ووجه أن لا يكون الخبر رضي الله، وهو أعاريب متكلفة لا تناسب إعراب القرآن. وقرأ ابن كثير: من تحتها بإثبات من الجارة، وهي ثابتة في مصاحف مكة. وباقي السباعة بإسقاطها على ما رسم في
مصاحفهم. وعن عمر أنه كان يرى: والذين اتبعوهم بإحسان، بغير واو صفة للأنصار، حتى قال له زيد بن ثابت: إنها بالواو فقال: ائتوني بأبي فقال: تصديق ذلك في كتاب الله في أول الجمعة * (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم) * وأوسط الحشر: * (والذين جاءوا من بعدهم) * وآخر الأنفال: * (والذين ءامنوا من بعد) *. وروي أنه سمع رجلا يقرؤه بالواو فقال: من أقرأك؟ فقال: أبي فدعاه فقال: أقرأنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومن ثم قال عمر: لقد كنت أرانا
96

وقعنا وقعة لا يبلغها أحد بعدنا.
* (وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون) *: لما شرح أحوال منافقي المدينة، ثم أحوال منافقي الأعراب، ثم بين أن في الأعراب، من هو مخلص صالح، ثم بين رؤساء المؤمنين من هم ذكر في هذه الآية أن منافقين حولكم من الإعراب، وفي المدينة لا تعلمونهم أي: لا تعلمون أعيانهم، أو لا تعلمونهم منافقين. ومعنى حولكم: حول بلدتكم وهي المدينة. والذين كانوا حول المدينة جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ومزينة، وعصية، ولحيان، وغيرهم ممن جاوز المدينة. ومن أهل المدينة يجوز أن يكون من عطف المفردات، فيكون معطوفا على من في قوله: وممن، فيكون المجرور أن يشتركان في المبتدأ الذي هو منافقون، ويكون مردوا استئنافا، أخبر عنهم أنهم خريجون في النفاق. ويبعد أن يكون مردوا صفة للمبتدأ الذي هو منافقون، لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالمعطوف على وممن حولكم، فيصير نظير في الدار زيد وفي القصر العاقل، وقد أجازه الزمخشري تابعا للزجاج. ويجوز أن يكون من عطف الجمل، ويقدر موصوف محذوف هو المبتدأ أي: ومن أهل المدينة قوم مردوا، أو منافقون مردوا. قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. انتهى. فإن كان شبهه في مطلق حذف الموصوف، وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامه، وهي في تقدير الاسم، ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام. وأما أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله:
* يرمي بكفي كان من أرمى البشر
*
أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره: أنا ابن رجل جلا أي كشف الأمور. وبينها وعلى الوجه الأول يكون مردوا شاملا للنوعين، وعلى الوجه الثاني يكون مختصا بأهل المدينة. وتقدم شرح مردوا في قوله: * (شيطانا مريدا * لعنه الله) * وقال هنا ابن عباس: مردوا، مرنوا وثبتوا، وقال أبو عبيدة: عتوا من قولهم تمرد. وقال ابن زيد: أقاموا عليه لم يتوبوا لا تعلمهم أي: حتى نعلمك بهم، أو لا تعلم عواقب أمرهم، حكاه ابن الجوزي. أو لا تعلمهم منافقين، لأن النفاق مختص بالقلب. وتقدم لفظ منافقين فدل على المحذوف، فتعدت إلى اثنين قاله: الكرماني. وقال الزمخشري: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم. وأسند الطبري عن قتادة في قوله: لا تعلمهم نحن نعلمهم قال: فما بال أقوام يتكلفون علم الناس؟ فلان في الجنة، فلان في النار، فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري أنت لعمري بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الرسل. قال نبي الله نوح: * (وما علمى بما كانوا يعملون) * وقال نبي الله شعيب: * (بقيت الله
97

خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) * وقال الله تعالى لنبيه: * (لا تعلمهم نحن نعلمهم) * انتهى. فلو عاش قتادة إلى هذا العصر الذي هو قرن ثمانمائة وسمع ما أحدث هؤلاء المنسوبون إلى الصوف من الدعاوى والكلام المبهرج الذي لا يرجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم)، والتجري على الإخبار الكاذب عن المغيبات، لقضى من ذلك العجب. وما كنت أظن أن مثل ما حكى قتادة يقع في ذلك الزمان لقربه من الصحابة وكثرة الخير، لكن شياطين الإنس يبعد أن يخلو منهم زمان. نحن نعلمهم. قال الزمخشري: نطلع على سرهم، لأنهم يبطنون الكفر في سويداء قلوبهم إبطانا، ويبرزون لك ظاهرا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروبه، ولهم فيه اليد الطولى انتهى. وفي قوله: نحن نعلمهم تهديد وترتب عليه بقوله: سنعذبهم مرتين. والظاهر إرادة التثنية ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد، بل يكون المعنى على التكثير كقوله: * (ثم ارجع البصر كرتين) * أي كرة بعد كرة. كذلك يكون معنى هذا سنعذبهم مرة بعد مرة. وإذا كانت التثنية مرادة فأكثر الناس على أن العذاب الثاني هو عذاب القبر، وأما المرة الأولى فقال ابن عباس في الأشهر عنه: هو فضيحتهم ووصمهم بالنفاق. وروي في هذا التأويل أنه عليه السلام خطب يوم جمعة بدر فندر بالمنافقين وصرح وقال: (اخرج يا فلان من المسجد فإنك منافق، واخرج أنت يا فلان، واخرج أنت يا فلان) حتى أخرج جماعة منهم، فرآهم عمر يخرجون من المسجد وهو مقبل إلى الجمعة فظن أن الناس انتشروا، وأن الجمعة فاتته، فاختفى منهم حياء، ثم وصل المسجد فرأى أن الصلاة لم تقض وفهم الأمر. قال ابن عطية: وفعله صلى الله عليه وسلم) على جهة التأديب اجتهاد منه فيهم، ولم يسلخهم ذلك من الإسلام، وإنما هو كما يخرج العصاة والمتهمون، ولا عذاب أعظم من هذا. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) كثيرا ما يتكلم فيهم على الإجمال دون تعيين، فهذا أيضا من العذاب انتهى. ويبعد ما قال ابن عطية لأنه نص على نفاق من أخرج بعينه، فليس من باب إخراج العصاة. بل هؤلاء كفار عنده وإن أظهروا الإسلام. وقال قتادة وغيره: العذاب الأول علل وأدواء أخبر الله نبيه أنه سيصيبهم بها، وروي أنه أسر إلى حذيفة باثني عشر منهم وقال: (سنة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم تأخذ في كتف أحدهم حتى تفضي إلى صدره، وستة يموتون موتا) وقال مجاهد: هو عذابهم بالقتل والجوع. قيل: وهذا بعيد، لأن منهم من لم يصبه هذا. وقال ابن عباس أيضا: هو هو أنهم بإقامة حدود الشرع عليهم مع كراهيتهم فيه. وقال ابن إسحاق: هو همهم بظهور الإسلام وعلو كلمته. وقيل: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم. وقال الحسن: الأول ما يؤخذ من أموالهم قهرا، والثاني الجهاد الذي يؤمرون به قسرا لأنهم يرون ذلك عذابا. وقال ابن زيد: مرتين هما عذاب الدنيا بالأموال والأولاد كل صنف عذاب فهو مرتان، وقرأ * (فلا تعجبك) *. وقيل: إحراق مسجد الضرار، والآخر إحراقهم بنار جهنم
. ولا خلاف أن قوله: إن عذاب عظيم هو عذاب الآخرة وفي مصحف أنس سيعذبهم بالياء، وسكن عياش عن أبي عمر والياء.
* (وءاخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وءاخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) *: نزلت في عشرة رهط تخلفوا عن غزوة تبوك فلما دنا الرسول صلى الله عليه وسلم) من المدينة أوثق سبعة منهم. وقيل: كانوا ثمانية منهم: كردم، ومرداس، وأبو قيس، وأبو لبابة. وقيل: سبعة. وقيل: ستة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فيهم أبو لبابة. وقيل: كانوا خمسة. وقيل: ثلاثة أبو لبابة بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن خذام الأنصاري. وقيل: نزلت في أبي لبابة وحده. ويبعد ذلك من لفظ وآخرون، لأنه جمع، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) المسجد حين قدم فصلى فيه ركعتين، وكانت عادته
98

كلما قدم من سفر، فرآهم موثقين فسأل عنهم: فذكروا أنهم أقسموا لا يحلون أنفسهم حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو الذي يحلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم، رغبوا عني، وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين) فنزلت، فأطلقهم وعذرهم. وقال مجاهد: نزلت في أبي لبابة في شأنه مع بني قريظة حين استشاروه في النزول على حكم الله ورسوله، فأشار هو لهم إلى حلقه يريد أن الرسول صلى الله عليه وسلم) يذبحهم إن نزلوا، فلما افتضح تاب وندم، وربط نفسه في سارية في المسجد، وأقسم أن لا يطعم ولا يشرب حتى يعفو الله عنه أو يموت، فمكث كذلك حتى عفا الله عنه. والاعتراف: الإقرار بالذنب عملا صالحا توبة وندما، وآخر سيئا. أي تخلفا عن هذه الغزاة قاله: الطبري، أو خروجا إلى الجهاد قبل. وتخلفا عن هذه قاله: الحسن وغيره. أو توبة وإثما قاله: الكلبي. وعطف أحدهما على الآخر دليل على أن كل واحد منهما مخلوط ومخلوط به، كقولك: خلطت الماء واللبن، وهو بخلاف خلطت الماء باللبن، فليس فيه إلا أن الماء خلط باللبن، قال معناه الزمخشري: ومتى خلطت شيئا بشيء صدق على كل واحد منهما أنه مخلوط ومخلوط به، من حيث مدلولية الخلط، لأنها أمر نسبي. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من قولهم: بعت الشاء شاة ودرهما، بمعنى شاة بدرهم.
والاعتراف بالذنب دليل على التوبة، فلذلك قيل: عسى الله أن يتوب عليهم. قال ابن عباس: عسى من الله واجب انتهى. وجاء بلفظ عسى ليكون المؤمن على وجل، إذ لفظة عسى طمع وإشفاق، فأبرزت التوبة في صورته، ثم ختم ذلك بما دل على قبول التوبة وذلك، صفة الغفران والرحمة. وهذه الآية وإن نزلت في ناس. مخصوصين فهي عامة في الأمة إلى يوم القيامة. وقال أبو عثمان: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه الأمة من قوله: وآخرون عترافوا بذنوبهم. وفي حديث الإسراء والمعراج من تخريج البيهقي: أن الذين خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا وتابوا رآهم الرسول صلى الله عليه وسلم) حول إبراهيم، وفي ألوانهم شيء، وأنهم خلطت ألوانهم بعد اغتسالهم في أنهر ثلاثة، وجلسوا إلى أصحابهم البيض الوجوه.
* (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم) *: الخطاب للرسول، والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا) فنزلت. فيروى أنه أخذ ثلث أموالهم مراعاة لقوله: خذ من أموالهم. والذي تظاهرت به أقوال المتأولين ابن عباس وغيره: أنها في هؤلاء المتخلفين، وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة. فقوله: على هذا من أموالهم هو لجميع الأموال، والناس عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالرباع والثياب. وفي المأخوذ منهم كالعبيد، وصدقة مطلق، فتصدق بأدنى شيء. وإطلاق ابن عطية على أنه مجمل فيحتاج إلى تفسير ليس بجيد. وفي قوله: خذ، دليل على أن الإمام هو الذي يتولى أخذ الصدقات وينظر فيها. ومن أموالهم: متعلق بخذ وتطهرهم، وتزكيهم حال من ضمير خذ، فالفاعل ضمير خذ. وأجازوا أن يكون من أموالهم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالا، وأجازوا أن يكون تطهرهم صفة، وأن يكون استئنافا، وأن يكون ضمير تطهرهم عائدا على صدقة، ويبعد هذا العطف، وتزكيهم فيختلف الضميران، فأما ما حكى مكي من أن تطهرهم صفة للصدقة وتزكيهم حال من فاعل خذ، فقدر رد بأن الواو للعطف، فيكون التقدير: صدقة مطهرة ومزكيا بها، وهذا فاسد المعنى، ولو كان بغير واو جاز انتهى. ويصح على تقدير مبتدأ محذوف، والواو للحال أي: وأنت تزكيهم، لكن هذا التخريج ضعيف لقلة نظيره في كلام العرب. والتزكية مبالغة في التطهر وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال. وقرأ الحسن: تطهرهم من أطهر وأطهر وطهر للتعدية من طهر. وصل عليهم أي ادع لهم، أو استغفر لهم، أو صل عليهم إذا ماتوا، أقوال.
99

ومعنى سكن: طمأنينة لهم، إن الله قبل صدقتهم مقاله: ابن عباس. أو رحمة لهم قاله أيضا، أو قربة قاله أيضا، أو زيادة وقار لهم قاله: قتادة، أو تثبيت لقلوبهم قاله: أبو عبيدة، أو أمن لهم. قال:
* يا جارة الحي إن لا كنت لي سكنا
*
إذ ليس بعض من الجيران أسكنني
*
وهذه أقوال متقاربة. وقال أبو عبد الله الرازي: إنما كانت سكنا لهم لأن روحه صلى الله عليه وسلم) كانت روحا قوية مشرقة صافية، فإذا دعا لهم وذكرهم بالخير ثارت آثار من قوته الروحانية على أرواحهم فأشرقت بهذا السبب أرواحهم، وصفت سرائرهم، وانقلبوا من الظلمة إلى النور، ومن الجسمانية إلى الروحانية. قال الشيخ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سليمان عرف بابن النقيب في كتابه التحرير والتحبير: كلام الرازي كلام فلسفي يشير فيه إلى أن قوى الأنفس مؤثرة فعاله، وذلك غير جائز على طريقة أهل التفسير انتهى. وقال الحسن وقتادة: في هؤلاء المعترفين المأخوذ منهم الصدقة هم سوى الثلاثة الذين خلفوا. وقرأ الأخوان وحفص: إن
صلاتك هنا، وفي هود صلاتك بالتوحيد، وباقي السبعة بالجمع. والله سميع باعترافهم، عليم بندامتهم وتوبتهم.
* (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) *: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون، فنزلت. وفي مصحف أبي وقراءة الحسن بخلاف عنه: ألم تعلموا بالتاء على الخطاب، فاحتمل أن يكون خطابا للمتخلفين الذين قالوا: ما هذه الخاصة التي يخص بها هؤلاء؟ واحتمل أن يكون على معنى: قل لهم يا محمد، وأن يكون خطابا على سبيل الالتفات من غير إضمار للقول، ويكون المراد به التائبين كقراءة الجمهور بالياء. وهو تخصيص وتأكيد أن الله من شأنه قبول توبة من تاب، فكأنه قيل: أما علموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أنه تعالى يقبل التوبة الصحيحة، ويقبل الصدقات الخالصة النية لله؟ وقيل: وجه التخصيص بهو، هو أن قبول التوبة وأخذ الصدقات إنما هو لله لا لغيره، فاقصدوه ووجهوها إليه. قال الزجاج: وأخذ الصدقات معناه قبولها، وقد وردت أحاديث كنى فيها عن القبول بأن الصدقة تقع في يد الله تعالى قبل أن تقع في يد السائل، وأن الصدقة تكون قدر اللقمة، فيأخذها الله بيمينه فيربيها حتى تكون مثل الجبل. وقال ابن عطية: المعنى يأمر بها ويشرعها كما تقول: أخذ السلطان من الناس كذا إذا حملهم على أدائه. وعن بمعنى من، وكثيرا ما يتوصل في موضع واحد بهذه، وهذه تقول: لا صدقة إلا عن غنى ومن غنى، وفعل ذلك فلان من أسره ونظره، وعن أسره ونظره انتهى. وقيل: كلمة من وكلمة عن متقاربتان، إلا أن عن تفيد البعد. فإذا قيل: جلس عن يمين الأمير أفاد أن جلس في ذلك الجانب، ولكن مع ضرب من البعد فيفيدها أن التائب يجب أن يعتقد في نفسه أنه بعيد عن قبول الله توبته بسبب ذلك الذنب، فيحصل له انكسار العبد الذي طرده مولاه وبعده عن حضرته. فلفظه عن كالتنبيه على أنه لا بد من حصول هذا المعنى للتائب انتهى. والذي يظهر من موضوع عن أنها للمجاوزة. فإن قلت: أخذت العلم عن زيد فمعناه أنه جاوز إليك، وإذا قلت: من زيد دل على ابتداء الغاية، وأنه ابتداء أخذك إياه من زيد. وعن أبلغ لظهور الانتقال معه، ولا يظهر مع من. وكأنهم لما جاوزت توبتهم عنهم إلى الله، اتصف هو تعالى بالتوبة عليهم. ألا ترى إلى قوله: وأن الله هو التواب الرحيم، فكل منهما متصف بالتوبة وإن اختلفت جهتا النسبة. ألا ترى إلى ما روي: (ومن تقرب إلي شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة).
* (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *: صيغة أمر ضمنها الوعيد، والمعتذرون التائبون من المتخلفين، هم المخاطبون. وقيل: هم المعتذرون الذين لم يتوبوا. وقيل: المؤمنون والمنافقون. فسيرى الله إلى
100

آخرها تقدم شرح نظيره. وإذا كان الضمير للمعتذرين الخالطين التائبين وهو الظاهر، فقد أبرزوا بقوله: فسيرى الله عملكم، إبراز المنافقين الذين قيل لهم: * (لا تعتذروا قد * نبأنا الله من) * وسيرى الآية تنقيصا من حالهم وتنفيرا عما وقعوا فيه من التخلف عن الرسول، وأنهم وإن تابوا ليسوا كالذين جاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم لا يرغبون بأنفسهم عن نفسه.
* (تعملون وءاخرون مرجون لامر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) *: قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن إسحاق: نزلت في الثلاثة الذين خلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي، ومرارة بن الربيع العامري، وكعب بن مالك. وقيل: نزلت في المنافقين المعرضين للتوبة مع بنائهم مسجد الضرار. وقرأ الحسن، وطلحة، وأبو جعفر، وابن نصاح، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي، وحفص: مرجون وترجى بغير همز. وقرأ باقي السبعة: بالهمز، وهما لغتان، لأمر الله أي لحكمة، إما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا، وإما يتوب عليهم إن تابوا. وقال الحسن: هم قوم من المنافقين أرجأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن حضرته. وقال الأصم: يعني المنافقين أرجأهم الله فلم يخبر عنهم بما علم منهم، وحذرهم بهذه الآية إن لم يتوبوا. وإما معناها الموضوعة له هو أحد الشيئين أو الأشياء، فينجر مع ذلك أن تكون للشك أو لغيره، فهي هنا على أصل موضوعها وهو القدر المشترك الذي هو موجود في سائر ما زعموا أنها وضعت له وضع الاشتراك. والله عليم بما يؤول إليه أمرهم، حكيم فيما يفعله بهم.
* (والذين اتخذوا مسجدا ضرارا * كفرا * وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) * لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالا وأفعالا لأذكر أن منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعا للمنافقين يدبرون فيه ما شاءوا من الشر، وسموه مسجدا. ولما بنى عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم) فجاء وصلى فيه ودعا لهم، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف، وبنو سالم بن عوف، وحرضهم أبو عمر والفاسق على بنائه حين نزل الشام هاربا من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر آتى بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، فبنوه إلى مسجد قباء، وكانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين: خذام بن خالد. ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحرث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبخرج بن عمرو، ورجل من بني ضبيعة، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم): بنينا مسجد الذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية، ونحن نحب أن تصلي لنا فيه، وتدعوا لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم): (إني على جناح سفر وحال شغل، وذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه) وكان إمامهم مجمع بن جارية وكان غلاما قارئا للقرآن حسن الصوت، وهو ممن حسن إسلامه، وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم) من غزوة تبوك نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصما ابني عدي. وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشيا قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرق بنار في سعف، واتخذ كناسة ترمى فيها الجيف والقمامة. وقال ابن جريج: صلوا فيه الجمعة والسبت والأحد وانهار يوم الاثنين ولم يحرق. وقرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون
بدلا من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبد. قال ابن عطية: ويتجه بإضمار إما في أول الآية، وإما في آخرها بتقدير لا تقم في مسجدهم. وقال
101

النحاس والحوفي: الخبر لا يزال بنيانهم. وقال المهدوي: الخبر محذوف تقديره معذبون أو نحوه.
وقرأ جمهور القراء: والذين بالواو وعطفا على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبر بغير الواو إذا أعرب مبتدأ. وقال الزمخشري: (فإن قلت): والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت): محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى: * (والمقيمين الصلواة) * وقيل: هو مبتدأ وخبره محذوف، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى: * (والسارق والسارقة) * وانتصب ضرارا على أنه مفعول من أجله أي: مضارة لإخوانهم أصحاب مسجد قباء، ومعازة وكفرا وتقوية للنفاق، وتفريقا بين المؤمنين، لأنهم كانوا يصلون مجتمعين في مسجد قباء فيغتص بهم، فأرادوا أن يفترقوا عنه وتختلفم كلمتهم، إذ كان من يجاوز مسجدهم يصرفونه إليه، وذلك داعية إلى صرفه عن الإيمان. ويجوز أن ينتصب على أنه مصدر في موع الحال. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولا ثانيا لاتخذوا، وإرصادا أي: إعدادا لأجل من حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب أعدوه له ليصلي فيه، ويظهر علي رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وكان قد تعبد في الجاهلية فسمى الراهب، وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم) الفاسق، وكان سيدا في قومه نظيرا وقريبا من عبد الله بن أبي بن سلول، فلما جاء الله بالإسلام نافق ولم يزل مجاهرا بذلك، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد محاورة: (لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم) فلم يزل يقاتله وحزب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأحزاب، فلما ردهم الله بغيظهم أقام بمكة مظهرا للعداوة، فلما كان الفتح هرب إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف هرب إلى الشام يريد قيصر مستنصرا على الرسول، فمات وحيدا طريدا غريبا بقنسرين، وكان قد دعا بذلك على الكافرين وأمن الرسول، فكان كما دعا، وفيه يقول كعب بن مالك:
* معاذ الله من فعل خبيث
*
كسعيك في العشيرة عبد عمرو
*
* وقلت بأن لي شرفا وذكرا
*
فقد تابعت إيمانا بكفر
*
وقرأ الأعمش: وإرصادا للذين حاربوا الله ورسوله، والظاهر أن من قبل متعلقا بحارب، يريد في غزوة الأحزاب وغيرها، أي: من قبل اتخاذ هذا المسجد. وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتصل قوله تعالى: من قبل؟ (قلت): باتخذوا أي: اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف انتهى. وليس بظاهر، والخالف هو الذي لا يخرج أي للغزو: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الحسنى والتوسعة علينا وعلى من ضعف أو عجز عن المسير إلى مسجد قباء. قال الزمخشري: ما أردنا ببناء هذا المسجد إلا الخصلة الحسنى، أو لإرادة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله تعالى والتوسع على المصلين انتهى. كأنه في قوله: إلا الخصلة الحسنى جعله مفعولا، وفي قوله: أو لإرادة الحسنى جعله عله، وكأنه ضمن أراد معنى قصد أي: ما قصدنا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإرادة الحسنى وهي الصلاة، وهذا وجه متكلف، فأكذبهم الله في قولهم، ونهاه أن يقوم فيه فقال: لا تقم فيه أبدا نهاه لأن بناته كانوا خادعوا الرسول، فهم الرسول صلى الله عليه وسلم) بالمشي معهم، واستدعى قميصه لينهض فنزلت: لا تقم فيه أبدا، وعبر بالقيام عن الصلاة فيه.
قال ابن عباس وفرقة من الصحابة والتابعين: المؤسس على التقوى مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وصلى فيه أيام مقامه بقباء، وهي: يوم الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخيمس، وخرج يوم الجمعة، وهو أولى لأن الموازنة بين مسجد قباء ومسجد الضرار أوقع منها بين مسجد الرسول ومسجد الضرار، وذلك لائق بالقصة. وعن زيد بن ثابت، وأبي سعيد، وابن عمر: أنه مسجد الرسول. وروي أنه صلى الله عليه وسلم) قال: (هو مسجدي هذا) لم اسئل عن المسجد الذي أسس على التقوى. وإذا صح هذا النقل لم يمكن خلافه، ومن هنا دخلت على الزمان، واستدل بذلك الكوفيون على أن من تكون لابتداء الغاية في الزمان، وتأوله
102

البصريون على حذف مضاف أي: من تأسيس أول يوم، لأن من مذهبهم أنها لا تجر الأزمان، وتحقيق ذلك في علم النحو. قال ابن عطية: ويحسن عندي أن يستغني عن تقدير، وأن تكون من تجر لفظة أول لأنها بمعنى البداءة، كأنه قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكى لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو انتهى. وأحق بمعنى حقيق، وليست أفعل تفضيل، إذ لا اشتراك بين المسجدين في الحق، والتاء في أن تقوم تاء خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم).
وقرأ عبد الله بن يزيد: فيه بكسر الهاء فيه الثانية بضم الهاء جمع بين اللغتين، والأصل الضم، وفيه رفع توهم التوكيد، ورفع رجال فيقوم إذ فيه الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع. وجوزوا في فيه رجال أن يكون صفة لمسجد، ولحال، والاستئناف. وفي الحديث قال لهم: (يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون)؟ قالوا: يا رسول الله إنا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك، فلما جاء الإسلام لم ندعه فقال: (فلا تدعوه إذا) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث زيادة واختلاف.
وقد اختلف أهل العلم في الاستنجاء بالحجارة أو بالماء أيهما أفضل؟ ورأت فرقة الجمع بينهما، وشذ ابن حبيب فقال: لا يستنجى بالحجارة حيث يوجد الماء، فعلى ما روي في هذا الحديث يكون التطهير عبارة عن استعمال الماء في إزالة النجاسة في الاستنجاء. وقيل: هو عام في النجاسات كلها. وقال الحسن: من التطهير من الذنوب بالتوبة. وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة للذنوب، فحموا عن آخرهم. وفي دلائل النبوة للبيهقي. أن أهل قباء شكوا الحمى فقال (إن شئتم دعوت الله فأزالها عنكم، وإن شئتم جعلتها لكم طهرة) فقالوا: بل اجعلها لنا طهرة. ومعنى محبتهم التطهير أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحب الشيء المشتهى له على أشياء، ومحبة الله إياهم أنه يحسن إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. وقرأ ابن مصرف والأعمش: يطهروا بالإدغام، وقرأ ابن أبي طالب المتطهرين.
* (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به) *: قرأ نافع وابن عامر: أسس بنيانه مبنيا للمفعول في الموضعين. وقرأ باقي السبعة وجماعة ذلك مبنيا للفاعل، وبنصب بنيان. وقرأ عمارة بن عائذ الأولى على بناء الفعل للمفعول، والثانية على بنائه للفاعل. وقرأ نصر بن علي، ورويت عن نصر بن عاصم أسس بنيانه، وعن نصر بن علي وأبي حيوة ونصر بن عاصم أيضا، أساس جمع أس. وعن نصر بن عاصم آسس بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرئ إساس بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى البنيان. وقرئ أساس بفتح الهمزة، وأس بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان، فهذه تسع قراءات. وفي كتاب اللوامح نصر بن عاصم: أفمن أسس بالتخفيف والرفع، بنيانه بالجر على الإضافة، فأسس مصدر أس: الحائط يؤسة أسا وأسسا. وعن نصر أيضا أساس بنيانه كذلك، إلا أنه بالألف، وأس وأس وأساس كل مصادر انتهى. والبنيان مصدر كالغفران، أطلق على المبنى كالخلق بمعنى المخلوق. وقيل: هو جمع واحده بنيانه قال الشاعر:
* كبنيانة القاري موضع رحلها
*
وآثار نسعيها من الدف أبلق
*
وقرأ عيسى بن عمر على تقوى بالتنوين، وحكى هذه القراءة سيبويه، وردها الناس. قال ابن جني: قياسها
103

أن تكون ألفها للإلحاق كارطي. وقرأ جماعة منهم: حمزة، وابن عامر، وأبو بكر، جرف بإسكان الراء، وباقي السبعة وجماعة بضمها، وهما لغتان. وقيل: الأصل الضم. وفي مصحف أبي فانهارت به قواعده في نار جهنم، والظاهر أن هذا الكلام فيه تبيين حالي المسجدين: مسجد قباء، أو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم) ومسجد الضرار، وانتفاء تساويهما والتفريق بينهما، وكذلك قال كثير من المفسرين. وقال جابر بن عبد الله: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار وانهار يوم الاثنين. وروى سعيد بن جبير: أنه إذ أرسل الرسول بهدمه رؤي منه الدخان يخرج، وروي أنه كان الرجل يدخل فيه سعفة من سعف النخل فيخرجها سوداء محترقة، وكان يحفر ذلك الموضع الذي انهار فيخرج منه دخان. وقيل: هذا ضرب مثل أي من أسس بنيانه على الإسلام خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق، وبين أن بناء الكافر كبناء على شفا جرف هار يتهور أهله في جهنم. قال ابن عطية: قيل: بل ذلك حقيقة، وأن ذلك المسجد بعينه انهار في نار جهنم قاله: قتادة، وابن جريج. وخير لا شركة بين الأمرين في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار، فبحسب ذلك المعتقد صح التفضيل.
وقال الزمخشري: والمعنى: أفمن أسس بنيان دينه على قاعدة قوية محكمة وهي الحق الذي هو تقوى الله تعالى ورسوله خير، أم من أسس على قاعدة هي أضعف القواعد وأوهاها وأقلها بقاء وهو الباطل والنفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار في قلة الثبات والاستمساك؟ وضع شفا الجرف في مقابلة التقوى، لا جعل مجازا عن ما ينافي التقوى. (فإن قلت): فما معنى قوله: تعالى فانهار به في نار جهنم؟ (قلت): لما جعل الجرف الهائر مجازا عن الباطل قيل: فانهار به على معنى فطاح به الباطل في نار جهنم، إلا أنه رشح المجاز فجيء بلفظ الانهيار الذي هو للجرف، ولتصور أن الباطل كأنه أسس بنيانه على شفا جرف من أودية جهنم فانهار به ذلك الجرف فهوى في قعرها، ولا نرى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل. وكنه أمره والفاعل فانهار أي: البنيان أو الشفا أو الجرف به، أي: المؤسس الباني، أو أنهار الشفا أو الجرف به أي: بالبنيان. ويستلزم انهيار الشفا والبنيان، ولا يستلزم انهيار أحدهما انهياره. والله لا يهدي القوم الظالمين، إشارة إلى تعديهم ووضع الشيء في غير موضعه حيث بنوا مسجد الضرار، إذ المساجد بيوت الله يجب أن يخلص فيها القصد والنية لوجه الله وعبادته، فبنوه ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله.
* (لا يزال بنيانهم الذى بنوا ريبة فى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيم) *: يحتمل أن يكون البنيان هنا مصدرا أي: لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان، ويحتمل أن يراد به المبني، فيكون على حذف مضاف أي: لا يزال بناء المبنى. قال ابن عباس: لا يزالون شاكين. وقال حبيب بن أبي ثابت: غيظا في قلوبهم، أي سبب غيظ. وقيل: كفرا في قلوبهم. وقال عطاء: نفاقا في قلوبهم. وقال ابن جبير: أسفا وندامة. وقال ابن السائب ومقاتل: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنيانه. وقال قتادة: في الكلام حذف تقديره: لا يزال هدم بنيانهم الذي بنوا ريبة أي: حزازة وغيظا في قلوبهم. وقال ابن عطية: الذي بنوا تأكيد وتصريح بأمر المسجد ورفع الإشكال، والريبة الشك، وقد يسمى ريبة فساد المعتقد واضطرابه، والإعراض في الشيء والتخبيط فيه. والحزازة من أجله، وإن لم يكن شكا فقد يرتاب من لا يشك، ولكنها في معتاد اللغة تجري مع الشك. ومعنى الريبة في هذه الآية تعم الحيق، واعتقاد صواب فعلهم، ونحو هذا مما يؤدي كله إلى الريبة في الإسلام. فمقصد الكلام: لا يزال هذا البنيان الذي هدم لهم يبقي في قلوبهم حزازة وأثر سوء. وبالشك فسر ابن عباس الريبة هنا، وفسرها السدي بالكفر. وقيل له: أفكفر مجمع بن جارية؟ قال: لا،
ولكنها حزازة. قال ابن عطية: ومجمع رحمه الله، قد أقسم لعمر أنه ما علم باطن القوم، ولا قصد سوء. والآية إنما عنت من أبطن سوأ. وليس مجمع
104

منهم. ويحتمل أن يكون المعنى لا يزالون مريبين بسبب بنيانهم الذي اتضح فيه نفاقهم. وجملة هذا أن الريبة في الآية تعم معاني كثيرة يأخذ كل منافق منها بحسب قدره من النفاق. وقال أبو عبد الله الرازي: جعل نفس البنيان ريبة لكونه سببا لها، وكونه سببا لها أنه لما أمر بتخريب ما فرحوا ببنائه ثقل ذلك عليهم، وازداد بعضهم له، وارتيابهم في نبوته، أو اعتقدوا هدمه من أجل الحسد، فارتفع إيمانهم وخافوا الإيقاع بهم قتلا ونهبا، أو بقوا شاكين: أيغفر الله لهم تلك المعصية؟ انتهى، وفيه تلخيص.
وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص: إلا أن تقطع قلوبهم بفتح التاء أي: يتقطع، وباقي السبعة بالضم، مضارع قطع مبنيا للمفعول. وقرئ يقطع بالتخفيف. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، ويعقوب: إلى أن نقطع، وأبو حيوة إلى أن تقطع بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددة، ونصب قلوبهم خطابا للرسول أي: تقتلهم، أو فيه ضمير الريبة. وفي مصحف عبد الله: ولو قطعت قلوبهم، وكذلك قرأها أصحابه. وحكى أبو عمرو هذه القراءة: إن قطعت بتخفيف الطاء. وقرأ طلحة: ولو قطعت قلوبهم خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، أو كل مخاطب. وفي مصحف أبي: حتى الممات، وفيه حتى تقطع. فمن قرأ بضم التاء وكسر الطاء ونصب القلوب فالمعنى: بالقتل. وأما على من قرأه مبنيا للمفعول، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم: بالموت أي: إلى أن يموتوا. وقال عكرمة: إلى أن يبعث من في القبور. وقال سفيان: إلى أن يتوبوا عما فعلوا، فيكونون بمنزلة من قطع قلبه. قال ابن عطية: وليس هذا بظاهر، إلا أن يتأول أن يتوبوا توبة نصوحا يكون معها من الندم والحسرة ما يقطع القلوب هما. وقال الزمخشري: لا يزال يبديه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم، لا يزال وسمه في قلوبهم ولا يضمحل أمره إلا أن تقطع قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء، فحينئذ يسألون عنه، وأما ما دامت سليمة مجتمعة قائمة فيها متمكنة. ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم، أو في القبور، أو في النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم. والله عليم بأحوالهم، حكيم فيما يجري عليهم من الأحكام، أو عليم بنياتهم، حكيم في عقوباتهم.
* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا) *:
نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو. وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) عند العقبة فقالوا: اشترط لك ولربك، والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة، فاشترط صلى الله عليه وسلم) حمايته مما يحمون منه أنفسهم، واشترط لربه التزام الشريعة وقتال الأحمر والأسود في الدفع عن الحوزة فقالوا: ما لنا على ذلك؟ قال: الجنة، فقالوا: نعم ربح البيع، لا تقيل ولا نقال. وفي بعض الروايات: ولا نستقيل، فنزلت.
والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) إلى يوم القيامة، وعن جابر بن عبد الله: نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم) في المسجد فكبر الناس، فأقبل رجل من الأنصار ثانيا طرف ركابه على أحد عاتقيه فقال: يا رسول الله أنزلت هذه الآية؟ قال: (نعم) فقال: بيع ربح لا تقيل ولا نستقيل. وفي بعض الروايات: فخرج إلى الغزو فاستشهد. وقال الحسن: لا والله إن في الأرض مؤمن إلا وقد أحدث بيعته. وقرأ عمر بن الخطاب والأعمش: وأموالهم بالجنة، مثل تعالى إثابتهم بالجنة على بذل أنفسهم وأموالهم في سبيله بالشراء، وقدم الأنفس على الأموال ابتداء بالأشرف وبما لا عوض له إذا فقد. وفي لفظة اشترى لطيفة وهي: رغبة المشتري فيما اشتراه واغتباطه به، ولم يأت التركيب أن المؤمنين باعوا، والظاهر أن هذا الشراء هو مع المجاهدين. وقال ابن عيينة: اشترى منهم أنفسهم أن لا يعملوها إلا في طاعة، وأموالهم أن لا ينفقوها إلا في سبيل الله، فالآية على هذا أعم من القتل في سبيل الله. وعلى هذا القول يكون
105

يقاتلون مستأنفا، ذكر أعظم أحوالهم، ونبه على أشرف مقامهم. وعلى الظاهر وقول الجمهور يكون يقاتلون، في موضع الحال. وقرأ الحسن، وقتادة، وأبو رجاء، والعربيان، والحرميان، وعاصم: أولا على البناء للفاعل، وثانيا على البناء للمفعول. وقرأ النخعي وابن وثاب وطلحة والأعمش والإخوان بعكس ذلك، والمعنى واحد، إذ الغرض أن المؤمنين يقاتلون ويؤخذ منهم من يقتل، وفيهم من يقتل، وفيهم من يجتمع له الأمران، وفيهم من لا يقع له واحد منهما، بل تحصل منهم المقاتلة. وقال الزمخشري: يقاتلون فيه معنى الأمر لقوله تعالى: * (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * انتهى. فعلى هذا لا تكون الجملة في موضع الحال، لأن ما فيه معنى الأمر لا يقع حالا. وانتصب وعدا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، لأن معنى اشترى بأن لهم الجنة وعدهم الله الجنة على الجهاد في سبيله، والظاهر من قوله: في التوراة والإنجيل والقرآن، أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقا بقوله: اشترى. ويحتمل أن يكون متعلقا بتقدير قوله مذكورا، وهو صفة فالعامل فيه محذوف أي: وعدا عليه حقا مذكورا في التوراة، فيكون هذا الوعد بالجنة إنما هدى هذه الأمة قد ذكر في التوراة والإنجيل والقرآن. وقيل: الأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع، ومن أوفى استفهام على جهة التقرير أي: لا أحد، ولما أكد الوعد بقوله عليه حقا أبرزه هنا في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد، إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائز إخلافه، والعهد لا يجوز إلا الوفاء به، إذ هو آكد من الوعد. قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله، لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط؟ ولا ترى تر غيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، واستعمال قط في غير موضوعة، لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي. ثم قال: فاستبشروا، خاطبهم على سبيل الالتفات لأن في مواجهته تعالى لهم بالخطاب تشريف لهم، وهي حكمة الالتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب، بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد. والذي بايعتم به وصف على سبيل التوكيد، ومحيل على البيع السابق. ثم قال: وذلك هو الفوز العظيم أي: الظفر للحصول على الربح التام
، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.
* (التائبون العابدون الحامدون السائحون الركعون الساجدون الامرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين) *: قال ابن عباس: لما نزل أن الله اشترى من المؤمنين الآية قال رجل: يا رسول الله وإن زنا، وإن سرق، وإن شرب الخمر: فنزلت التائبون الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله تعالى ليستبق إلى التحلي بها عباده، وليكونوا على أوفى درجات الكمال. وآية أن الله اشترى مستقلة بنفسها، لم يشترط فيها شيء سوى الإيمان، فيندرج فيها كل مؤمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وإن لم تكن فيه هذه الصفات. والشهادة ماحية لكل ذنب، حتى روي أنه تعالى يحمل عن الشهيد مظالم العباد ويجازيهم عنه. وقالت فرقة: هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الصفات شرط في المجاهد. والآيتان مرتبطتان فلا يدخل في المبايعة إلا المؤمنون الذين هم على هذه الأوصاف، ويبذلون أنفسهم في سبيل الله. وسأل الضحاك رجل عن قوله تعالى: * (إن الله اشترى) * الآية وقال: لأحملن على المشركين فأقاتل حتى أقتل، فقال الضحاك: ويلك أين الشرط التائبون العابدون الآية؟ وهذا القول فيه حرج وتضييق، وعلى هذين القولين نرتب إعراب التائبون، فقيل: هو مبتدأ خبره مذكور وهو العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي: التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الخصال. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف، وتقديره: من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهد قاله الزجاج كما قال تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * ولذلك جاء: * (وبشر المؤمنين) * وعلى هذه الأعاريب تكون الآية معناها منفصل من معنى التي قبلها. وقيل: التائبون خبر مبتدأ محذوف تقديره هم التائبون، أي الذين بايعوا الله هم التائبون، فيكون صفة مقطوعة للمدح، ويؤيده قراءة أبي وعبد الله والأعمش: التايبين بالياء إلى
106

والحافظين نصبا على المدح. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة للمؤمنين، وقاله أيضا: ابن عطية. وقيل: يجوز أن يكون التائبون بدلا من الضمير في يقاتلون. قال ابن عباس: التائبون من الشرك. وقال الحسن: من الشرك والنفاق. وقيل: عن كل معصية. وعن ابن عباس: العابدون بالصلاة. وعنه أيضا المطيعون بالعبادة، وعن الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء. وعن ابن جبير: الموحدونن لسائحون. قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما: الصائمون شبهوا بالسائحين في الأرض، لامتناعهم من شهواتهم. وعن عائشة: سياحة هذه الأمة الصيام، ورواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم). قال الأزهري: قيل: للصائم سائح، لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه، كان ممسكا عن الأكل والصائم، ممسك عن الأكل. وقال عطاء: السائحون المجاهدون. وعن أبي أمامة: أن رجلا استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) في السياحة فقال: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله) صححه أبو محمد عبد الحق. وقيل: المراد السياحة في الأرض. فقيل: هم المهاجرون من مكة إلى المدينة. وقيل: المسافرون لطلب الحديث والعلم. وقيل: المسافرون في الأرض لينظروا ما فيها من آيات الله، وغرائب ملكه نظر اعتبار. وقيل: الجائلون بأفكارهم في قدرة الله وملكوته. والصفات إذا تكررت وكانت للمدح أو الذم أو الترحم جاز فيها الاتباع للمنعوت والقطع في كلها أو بعضها، وإذا تباين ما بين الوصفين جاز العطف. ولما كان الأمر مباينا للنهي، إذ الأمر طلب فعل والنهي ترك فعل، حسن العطف في قوله: والناهون ودعوى الزيادة، أو واو الثمانية ضعيف. وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن، إذا بدأ أولا بما يخص الإنسان مرتبة على ما سعى، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما شمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله. ولما ذكر تعالى مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله صلى الله عليه وسلم) بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها فاستبشروا أمرهم بالاستبشار، فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار، وأمر رسوله أن يبشرهم.
* (ما كان للنبى والذين ءامنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب) *: قال الجمهور: ومداره على ابن المسيب، والزهري، وعمرو بن دينار، نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه وقال: (أي عم قل لا إله إلا لله كلمة أحاج لك بها عند الله) وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقالا له: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد لولا أني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدي لا قررت بها عينك، ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب، ومات فنزلت: * (إنك لا تهدى من أحببت) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية، فترك الاستغفار لأبي طالب. وروي أن المؤمنين لما رأوه يستغفر لأبي طالب جعلوا يستغفرون لموتاهم، فلذلك ذكروا في قوله: ما كان للنبي والذين
107

آمنوا.
وقال فضيل بن عطية وغيره: لما فتح مكة أتى قبر أمه ووقف عليه حتى سخنت عليه الشمس، وجعل يرغب في أن يؤذن له في الاستغفار فلم يؤذن له، فأخبر أنه أذن له في زيارة قبرها ومنع أن يستغفر لها، ونزلت الآية وقالت فرقة: نزلت بسبب قوله صلى الله عليه وسلم): * (والله) * وقال ابن عباس وقتادة وغيرهما: بسبب جماعة من المؤمنين قالوا: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. وتضمن قوله ما كان للنبي الآية النهي عن الاستغفار لهم على أي حال كانوا، ولو في حال كونهم أولى قربى. فقوله: ولو كانوا جملة معطوفة على حال مقدرة، وتقدم لنا الكلام على مثل هذا التركيب أن ولو تأتي لاستقصاء ما لولاها لم يكن ليدخل فيما قبلها ما بعدها. ودلت الآية على المبالغة في إظهار البراءة عن المشركين والمنافقين والمنع من مواصلتهم ولو كانوا في غاية القرب، ونبه على الوصف الشريف من النبوة والإيمان، وأنه مناف للاستغفار لمن مات على ضده وهو الشرك بالله. ومعنى من بعد ما تبين أي: وضح لهم أنهم أصحاب الجحيم لموافاتهم على الشرك، والتبين هو بإخبار الله تعالى * (أمر الله مفعولا إن الله لا يغفر أن يشرك به) * والظاهر أن الاستغفار هنا هو طلب المغفرة، وبه تظافرت أسباب النزول. وقال عطاء بن أبي رباح: الآية في النهي عن الصلاة على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة. قالوا: والاستغفار للمشرك الحي جائز إذ يرجى إسلامه، ومن هذا قول أبي هريرة: رحم الله
رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمه، قيل له: ولأبيه؟ قال: لا لأن أبي مات كافرا، فإن ورد نص من الله على أحد إنه من أهل النار وهو حي كأبي لهب امتنع الاستغفار له، فتبين كينونة المشرك أنه من أصحاب الجحيم تمويه على الشرك وبنص الله عليه وهي حي، أنه من أهل النار. ويدخل على جواز الاستغفار للكفار إذا كانوا أحياء، لأنه يرجى إسلامهم ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم): عن نبي قبله شجه قومه، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم) يخبر عنه بأنه قال: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدى به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: نستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه، بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه، وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم. والموعدة التي وعدها إبراهيم أباه هي قوله: * (سأستغفر لك ربي) * وقوله: * (لاستغفرن لك) *. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم، وكان أبوه بقيد الحياة، فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافرا وانقطع رجاؤه منه، تبرأ منه وقطع استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم: قراءة الحسن، وحماد الراوية، وابن السميقع، وأبي نهيك، ومعاذ القارئ، وعدها أباه. وقيل: لفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم، وعده أبوه أنه سيؤمن فكان إبراهيم قد قوي طمعه في إيمانه، فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.
وقرأ طلحة: وما استغفر إبراهيم، وعنه وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال. والذي يظهر أن استغفار إبراهيم لأبيه كان في حالة الدنيا. ألا ترى إلى قوله: * (واغفر لابى إنه كان من الضالين) * وقوله: * (رب اغفر لى ولوالدى) * ويضعف ما قاله ابن جبير: من أن هذا كله يوم القيامة، وذلك أن إبراهيم يلقى أباه فيعرفه ويتذكر قوله: سأستغفر لك ربي، فقول له: إلزم حقوى فلن أدعك اليوم لشيء، فيدعه حتى يأتي الصراط، فيلتفت إليه فإذا هو قد مسخ ضبعانا، فيتبرأ منه حينئذ انتهى ما قاله ابن جير، ولا يظهر ربطه بالآخرة.
قال الزمخشري: (فإن قلت): خفي على إبراهيم عليه السلام أن الاستغفار للكافر غير جائز حتى وعده. (قلت): يجوز أن يظن أنه ما دام يرجى له الإيمان جاز الاستغفار له على أن امتناع جواز الاستغفار للكافر إنما علم بالوحي، لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم): (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) وعن الحسن قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم): إن فلانا يستغفر لآبائه المشركين فقال: (ونحن نستغفر لهم) وعن علي رضي الله عنه: رأيت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت له: فقال: أليس قد استغفر إبراهيم انتهى؟ وقوله: لأن العقل يجوز أن يغفر الله للكافر رجوع إلى قول أهل السنة.
والأواه: الدعاء، أو
108

المؤمن، أو الفقيه، أو الرحيم، أو المؤمن التواب، أو المسيح، أو الكثير الذكر له، أو التلاء لكتاب الله، أو القائل من خوف الله، أواه المكثر ذلك، أو الجامع المتضرع، أو المؤمن بالحبشية، أو المعلم للخير، أو الموفى، أو المستغفر عند ذكر الخطايا، أو الشفيق، أو الراجع عن كل ما يكرهه الله، أقوال للسلف، وقد ذكرنا مدلوله في اللغة في المفردات. وقال الزمخشري: أواه فقال: من أوه كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورقته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر ويستغفر له مع شكاسته عليه. وقوله: لأرجمنك انتهى. وتشبيه أواه من أوه بلال من اللؤلؤ ليس بجيد، لأن مادة أوه موجودة في صورة أواه، ومادة لؤلؤة مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لآل ثلاثي، ولؤلؤ رباعي، وشرط الاشتقاق التوفق في الحروف الأصلية. وفسروا الحليم هنا بالصافح عن الذنب الصابر على الأذى، وبالصبور، وبالعاقل، وبالسيد، وبالرقيق القلب الشديد العطف.
* (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم إن) *: مات قوم كان عملهم على الأمر الأول: كاستقبال بيت المقدس، وشرب الخمر، فسأل قوم الرسول بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك فنزلت. وقال الكرماني: أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس، وصيام لأيام البيض، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان، فقالوا: يا رسول الله دنا بعدك بالضلال، إنك على أمر وأنا على غيره فنزلت. وقيل: خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله فنزلت الآية مؤنسة أي: ما كان الله بعد أن هدى للإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمقارفتهم ذنبا لم يتقدم منه نهى عنه. فأما إذ بين لهم ما يتقون من الأمر، ويتجنبون من الأشياء، فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة. وقال الزمخشري: يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهى عنه، وبين أنه محظور، ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام، ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم، وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب، وأما قبل العلم والبيان فلا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون بشرب الخمر ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. وهذا بيان لعذر من خاف المؤاخذة بالاستغفار للمشركين قبل ورود النهي في هذه الآية شديدة ما ينبغي أن يغفل عنها، وهي أن المهدي للإسلام إذا أقبل على بعض محظورات الله داخل في حكم الضلال، والمراد بما بتقون ما يجب اتقاؤه للنهي. فأما ما يعلم بالعقل كالصدق في الخبر ورد الوديعة فغير موقوف على التوقيف انتهى. وفي هذا الأخير من كلامه وفي قوله: قبل في تفسير ليضل ولا يسميهم ضلالا ولا يخذلهم دسيسة الاعتزال، وفي كلامه إسهاب، وهو بسط ما قال مجاهد، قال: ما كان ليضلكم بالاستغفار للمشركين بعد إذ هداكم للإيمان حتى يتقدم بالنهي عن ذلك، وبينه لكم فتتقوه انتهى. وتقدم في أسباب النزول ما يشرح به الآية من سؤالهم عمن مات، وقد صلى إلى بيت المقدس، وشرب الخمر، ومن قصة الأعراب.
والذي يظهر في مناسبة هذه الآية لما قبلها وفي شرحها: أنه تعالى لما بين أنه لا يستغفر للمشركين ولو كانوا أولي قربى، كان في هذه الآية وفي التي بعدها تباين ما بين القرابة حتى منعوا من الاستغفار لهم، فمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الاستغفار لعمه أبي طالب وهو الذي تولى تربيته ونصره وحفظه إلى أن مات، ومنع
إبراهيم من الاستغفار لأبيه وهو أصل نشأته ومربيه، وكذلك منع المسلمون من الاستغفار للمشركين أقرباء وغير أقرباء
109

فكأنه قيل: لا تعجب لتباين هؤلاء، هذا خليل الله، وهذا حبيب الله، والأقرباء المختصون بهم المشركون أعداء الله، فإضلال هؤلاء لم يكن إلا بعد أن أرشدهم الله إلى طريق الحق بما ركز فيهم من حجج العقول التي أغفلوها، وتبيين ما يتقون بطريق الوحي، فتظافرت عليهم الحجج العقلية والسمعية، ومع ذلك لم يؤمنوا ولم يتبعوا ما جاءت الرسل به عن الله تعالى، ولذلك ختمها بقوله: إن الله بكل شيء عليم، فيضل من يشاء ويختص بالهداية من يشاء. فالمعنى: وما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي: يجتنبونه فلا يجدي ذلك فيهم، فحنيئذ يدوم إضلالهم. ولما ذكر تعالى علمه بكل شيء، فهو يعلم ما يصلح لكل أحد، وما هيىء له في سابق الأزل، ذكر ما دل على القدرة الباهرة من أنه له ملك السماوات والأرض، فيتصرف في عباده بما شاء، ثم ذكر من أعظم تصرفاته الأحياء والإماتة أي: الإيجاد والإعدام. وتفسير الطبري هنا قوله: يحيي ويميت، بأنه إشارة إلى أنه يجب للمؤمنين أن لا يجزعوا من عدو وإن كثر، ولا يهابوا أحدا فإن الموت المخوف، والحياة المحتومة إنما هي بيد الله، غير مناسب هنا وإن كان في نفسه قولا صحيحا. وتقدم شرح قوله: * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * في البقرة.
* (لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه فى ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق) *: لما تقدم الكلام في أحوال المنافقين من تخلفهم عن غزوة تبوك، واستطرد إلى تقسيم المنافقين إلى أعراب وغيرهم، وذكر ما فعلوا من مسجد الضرار، وذكر مبايعة المؤمنين الله في الجهاد وأثنى عليهم، وأنه ينبغي أن يباينوا المشركين حتى الذين ماتوا منهم بترك الاستغفار لهم، عاد إلى ذكر ما بقي من أحوال غزوة تبوك، وهذه شنشنة كلام العرب يشرعون في شيء ثم يذكرون بعده أشياء مناسبة ويطيلون فيها، ثم يعودون إلى ذلك الشيء الذي كانوا شرعوا فيه.
قال ابن عطية: التوبة من الله رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منه، وقد يكون في الأكثر رجوعا عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد يكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها. وهذه توبته في هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم)، لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشاقها، إلى حاله بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة الدين، وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضا. وقال الزمخشري: تاب الله على النبي كقوله تعالى: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * * (واستغفر لذنبك) * وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرون والأنصار، وإبانة الفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى، وأن صفة الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين لتظهر فضيلة الصلاح. وقيل: معناه تاب الله عليه من إذنه للمنافقين في التخلف عنه لقوله تعالى: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * انتهى. وقيل: لا يبعد إن صدر عن المهاجرين والأنصار أنواع من المخالفات، إلا أنه تعالى تاب عليهم وعفا عنهم لأجل أنهم تحملوا مشاق ذلك السفر، ثم إنه تعالى ضم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم) إلى ذكرهم تنبيها على عظم مراتبهم في قبول التوبة. اتبعوه: أي اتبعوا أمره، فهو من مجاز الحذف. ويجوز أن يكون هو ابتدأ بالخروج، وخرجوا بعده فيكون الاتباع حقيقة ساعة العسرة أي: في وقت العسرة، والتباعة مستعارة للزمان المطلق، كما استعاروا الغداة والعشية واليوم. قال:
* غداة طفت علماء بكر بن وائل
* سقط: وقال آخر)
110

عشية قارعنا جذام وحميرا
*
وآخر:
إذا جاء يوما وارثي يبتغي الغنى
وهي غزوة تبوك كانت تسمى غزوة العسرة، ويجوز أن يريد بساعة العسرة الساعة التي وقع فيها عزمهم وانقيادهم لتحمل المشقة، إذ السفرة كلها تبع لتلك الساعة، وبها وفيها يقع الأجر على الله وترتبط النية، فمن اعتزم على الغزو وهو معسر فقد أنفع في ساعة عسرة، ولو اتفق أن يطرأ لهم غنى في سائر سفرهم لما اختل كونهم متبعين في ساعة العسرة. والعسرة: الضيق والشدة والعدم، وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم): (من جهز جيش العسرة فله الجنة) فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قلب الدنانير بيده وقال: (وما على عثمان ما عمل بعد هذا) وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من بر. وقال مجاهد، وقتادة، والحسن: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء، ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فرفع يديه يدعو، فما رجعها حتى انسكبت سحابة، فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإذا السحابة لم تخرج عن العسكر. وفي هذه الغزوة هموا من المجاعة بنحر الإبل، فأمر بجمع فضل أزوادهم حتى اجتمع منه على النطع شيء يسير، فدعا فيه بالبركة ثم قال: (خذوا في أوعيتكم فملأوها حتى لم يبق وعاء) وأكل القوم كلهم حتى شبعوا، وفضلت فضلة. وكان الجيش ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم)، وفيها خلف عليا بالمدينة. وقال المنافقون خلفه بغضا له، فأخبره بقولهم فقال: (أما
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى)؟ ووصل صلى الله عليه وسلم) إلى أوائل بلاد العدو، وبث السرايا، فصالحه أهل أذرح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف.
* (يزيغ قلوب فريق) * قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من المشقة. وقيل: زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول على تلك الغزوة، لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر، وبعد الشقة، وقوة العدو المقصود. وقال ابن عباس: تزيغ، تعدل عن الحق في المبايعة. وكاد تدل على القرب، لا على التلبس بالزيغ. وقرأ حمزة وحفص: يزيغ بالياء، فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن، وارتفاع قلوب بتزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد وتزيغ في موضع الخبر، لأن النية به التأخير. ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرأ باقي السبعة: بالتاء، فاحتمل أن يكون قلوب اسم كاد، وتزيغ الخبر وسط بينهما، كما فعل ذلك بكان. قال أبو علي: ولا يجوز ذلك في عسى، واحتمل أن يكون فاعل كاد ضمير يعود على الجمع الذي يقتضيه ذكر المهاجرين والأنصار، أي من بعد ما كاد هو أي: الجمع. وقد قدر المرفوع بكاد باسم ظاهر
111

وهو القوم ابن عطية وأبو البقاء، كأنه قال: من بعد ما كاد القوم. وعلى كل واحد من هذه الأعاريب الثلاثة إشكال على ما تقرر في علم النحو: من أن خبر أفعال المقاربة لا يكون إلا مضارعا رافعا ضمير اسمها. فبعضهم أطلق، وبعضهم قيد بغير عسى من أفعال المقاربة، ولا يكون سببا، وذلك بخلاف كان. فإن خبرها يرفع الضمير، والسبي لاسم كاد، فإذا قدرنا فيها ضمير الشأن كانت الجملة في موضع نصب على الخبر، والمرفوع ليس ضميرا يعود على اسم كادبل ولا سببا له، وهذا يلزم في قراءة الياء أيضا. وأما توسيط الخبر فهو مبني على جواز مثل هذا التركيب في مثل كان: يقوم زيد، وفيه خلاف، والصحيح المنع. وأما توجيه الآخر فضعيف جدا من حيث أضمر في كاد ضمير ليس له على من يعود إلا بتوهم، ومن حيث يكون خبر كاد واقعا سببيا، ويخلص من هذه الإشكالات اعتقاد كون كاد زائدة، ومعناها مراد، لا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكون مثل كان إذا زيدت، يراد معناها ولا عمل لها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: من بعد ما زاغت، بإسقاط كاد. وقد ذهب الكوفيون إلا زيادتها في قوله تعالى: * (لم يكد يراها) * مع تأثيرها للعامل، وعملها هي. فأحرى أن يدعي زيادتها، وهي ليست عاملة ولا معمولة.
وقرأ الأعمش والجحدري: تزيغ برفع التاء. وقرأ أبي: من بعد ما كادت تزيغ ثم تاب عليهم، الضمير في عليهم عائد على الأولين، أو على الفريق فالجملة كررت تأكيدا. أو يراد بالأول إنشاء التوبة، وبالثاني استدامتها. أو لأنه لما ذكر أن فريقا منهم كادت قلوبهم تزيغ نص على التوبة ثانيا رفعا لتوهم أنهم مسكوت عنهم في التوبة، ثم ذكر سبب التوبة وهو رأفته بهم ورحمته لهم. والثلاثة الذين خلفوا تقدمت أسماؤهم، ومعنى خلفوا عن الغزو غزو تبوك قاله: قتادة. أو خلفوا عن أبي لبابة وأصحابه، حيث تيب عليهم بعد التوبة على أبي لبابة وأصحابه إرجاء أمرهم خمسين يوما ثم قبل توبتهم. وقد رد تأويل قتادة كعب بن مالك بنفسه فقال: معنى خلفوا تركوا عن قبول العذر، وليس بتخلفنا عن الغزو. وقرأ الجمهور: خلفوا بتشديد اللام مبنيا للمفعول. وقرأ أبو مالك كذلك وخفف اللام. وقرأ عكرمة بن هارون المخزومي، وذر ابن حبيش، وعمرو بن عبيد، ومعاذ القاري، وحميد: بتخفيف اللام مبنيا للفاعل، ورويت عن أبي عمرو أي: خلفوا الغازين بالمدينة، أو فسدوا من الخالفة. وقرأ أبو العالية أبو الجوزاء كذلك مشدد اللام. وقرأ أبو زيد، وأبو مجلز، والشعبي، وابن يعمر، وعلي بن الحسين، وابناه زيد، ومحمد الباقر، وابنه جعفر الصادق: خالفوا بألف أي: لم يوافقوا على الغزو. وقال الباقر: ولو خلفوا لم يكن لهم. وقرأ الأعمش وعلى الثلاثة المخلفين، ولعله قرأ كذلك على سبيل التفسير، لأنها قراءة مخالفة لسواد المصحف. حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت تقدم تفسير نظيرها في هذه السورة في قصة حنين. وضاقت عليهم أنفسهم استعارة، لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور، وخرجت عن فرط الوحشة والغم، وظنوا أي: علموا. قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: أيقنوا، كما قالوا في قول الشاعر:
* فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج
*
سراتهم في الفارسي المسرد
*
وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين، لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن، أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة قصيرة. وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب، فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم، ونبوة الناس عن كلامهم. وثانيا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم، والغم على قلوبهم، حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولا ضيق المحل، ثم ثانيا ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة.
112

سم الخياط مع المحبوب ميدان. ثم ثالثا لما يئسوا من الخللق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه، وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى * (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون) * وإذا إن كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره: تاب عليهم، ويكون قوله: ثم تاب عليهم، نظير قوله: ثم تاب عليهم، بعد قوله * (لقد تاب الله على النبى) * الآية. ودعوى أن ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدا، وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم. ومن زعم أن إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله: خلفوا أي: خلفوا إلى هذا الوقت، ثم تاب عليهم ليتوبوا، ثم رجع عليهم بالقبول
والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا، أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علما منهم أن الله ثواب على من تاب، ولو عاد في اليوم مائة مرة. وقيل: معنى ليتوبوا ليدوموا على التوبة ولا يراجعوا ما يبطلها. وقيل: ليتوبوا، ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم من الاختلاط بالمؤمنين، وتستكن نفوسهم عند ذلك. قال ابن عطية: وقوله: ثم تاب عليهم ليتوبوا، لما كان هذا القول في تعديد نعمه بدأ في ترتيبه بالجهة التي هي عن الله تعالى ليكون ذلك منبها على تلقي النعمة من عنده لا رب غيره، ولو كان القول في تعديد ذنب لكان الابتداء بالجهة التي هي عن المذنب كما قال تعالى: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * ليكون هذا أشد تقريرا للذنب عليهم، وهذا من فصاحة القرآن وبديع نظمه ومعجز اتساقه. وبيان هذه الآية ومواقع ألفاظها أنها تكمل مع مطالعة حديث الثلاثة الذين خلفوا، وقد خرج حديثهم بكماله البخاري ومسلم وهو في السير، فلذلك اختصرت سوقه. وإنما عظم ذنبهم واستحقوا عليه ذلك لأن الشرع يطالبهم من الحد فيه بحسب منازلهم منه وتقدمهم فيه، إذ هو أسوة وحجة للمنافقين والطاعنين، إذ كان كعب من أهل العقبة، وصاحباه من أهل بدر، وفي هذا ما يقتضي أن الرجل العالم والمقتدي به أقل عذرا في السقوط من سواه. وكتب الأوزاعي إلى المنصور أبي جعفر في آخر رسالة: واعلم أن قرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم) لن تزيد حق الله عليك إلا عظما، ولا ظاعته إلا وجوبا، ولا الناس فيما خالف ذلك منك إلا إنكارا والسلام. ولقد أحسن القاضي التنوخي في قوله:
والعيب يعلق بالكبير كبير
وروي أن أناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ومنهم من بدا له فيلحق بهم كأبي خيثمة، ومنهم من بقي لم يلحق بهم منهم الثلاثة. وسئل أبو بكر الوراق عن التوبة النصوح فقال: إن تضيق إلى التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه كتوبه كعب بن مالك وصاحبيه.
* (الرحيم ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *: هو خطاب للمؤمنين، أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وأزاحهم عن ربقة النفاق. واعترضت هذه الجملة تنبيها على رتبة الصدق، وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين) * قال ابن جريج وغيره: الصدق هنا صدق الحديث. وقال الضحاك ونافع: ما معناه اللفظ أعم من صدق الحديث، وهو بمعنى الصحة في الدين، والتمكن في الخير، كما تقول العرب: رجل صدق. وقالت هذه الفرقة: كونوا مع محمد وأبي بكر وعمر وخيار المهاجرين الذين صدقوا الله في
113

الإسلام. وقيل: هم الثلاثة أي: كونوا مثل هؤلاء في صدقهم وثباتهم. وقال الزمخشري: هم الذين صدقوا في إيمانهم ومعاهدتهم الله ورسوله من قوله: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * وهم الذين صدقوا في دين الله نية وقولا وعملا انتهى. وقيل: الخطاب بالذين آمنوا لمن تخلف من الطلقاء عن غزوة تبوك. وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي: كونوا مع المهاجرين والأنصار، ومع تقتضي الصحبة في الحال والمشاركة في الوصف المقتضي للمدح. وقرأ ابن مسعود وابن عباس: من الصادقين، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم). وكان ابن مسعود يتأوله في صدق الحديث وقال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، ولا إن يعد منكم أحد صببه ثم لا ينجزه، اقرؤوا إن شئتم: وكونوا مع الصادقين. وقال صاحب اللوامح: ومن أعم من مع، لأن كل ن كان من قوم فهو معهم في المعنى المأمور به، ولا ينعكس ذلك. وقرأ زيد بن علي، وابن السميقع، وأبو المتوكل، ومعاذ القاري: مع الصادقين بفتح القاف وكسر النون على التثنية، ويظهر أنهما الله ورسوله لقوله تعالى: * (ولما رأى المؤمنون الاحزاب قالوا هاذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله) * ولما تقدم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، أمروا بأن يكونوا مع الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب المنهى عنه كما يقال: كن مع الله يكن معك.
* (ما كان لاهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذالك) *: نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار. ومناسبتها لما قبلها: أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله، وأمر بكينونتهم مع الصادقين، وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم المهاجرون والأنصار، اقتضى ذلك موافقة الرسول وصحبته أنى توجه من الغزوات والمشاهد، فعوتب العتاب الشديد من تخلف عن الرسول في غزوة، واقتضى ذلك الأمر لصحبته وبذل النفوس دونه. قال الزمخشري: بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأمروا أن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط، وأن يلقوا أنفسهم في الشدائد ما يلقاه نفسه صلى الله عليه وسلم)، علما بأنها أعز نفس عند الله تعالى وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في شدة وهون وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه، فضلا أن يربؤوا بأنفسهم عن متابعتها ومصاحبتها، ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ مع تقبيح لأمرهم وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفة وحمية. قال الكرماني: هذا نفي معناه النهي، وخص هؤلاء بالذكر وكل الناس في ذلك سواء لقربهم منه، وأنه لا يخفى عليهم خروجه. قال قتادة: كان هذا الإلزام خاصا مع النبي صلى الله عليه وسلم) وجواب النفر إلى الغزو إذا خرج هو بنفسه، ولم يبق هذا الحكم مع غيره من الخلفاء. وقال زيد بن أسلم: كان هذا الأمر والإلزام في قلة الإسلام، واحتياج إلى اتصال الأيدي، ثم نسخ عند قوة الإسلام بقوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * قال: وهذا كله في الانبعاث إلى غزو العدو على الدخول في الإسلام، وأما إذا ألم العدو بجهة فيتعين على كل أحد القيام بذنبه ومكافحته، والإشارة بذلك إلى ما تضمنه انتفاء التخلف من وجوب الخروج معه وبذل الفس دونه، كأنه قيل: ذلك الوجوب للخروج وبذل النفس هو بسبب ما أعد الله لهم من
114

الثواب الجسيم على المشاق التي تنالهم، وما يتسنى على أيديهم من إيذاء أعداء الإسلام. والظمأ العطش.
وقرأ عبيد بتن عمير ظماء بالمد مثل: سفه سفاها، ولما كان العطش أشق الأشياء المؤدية للمسافر بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصا في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولا، وثنى بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشئ عن العطش والسير، وأتى ثالثا بالجوع لأنه حاله يمكن الصبر عليها الأوقات
العديدة، بخلاف العطش والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر. فكان الإخبار بما يعرض للمسافر أولا فثانيا فثالثا. وموطئا مفعل من وطئ، فاحتمل أن يكون مكانا، واحتمل مصدرا. والفاعل في يغيظ عائد على المصدر، إما على موطىء إن كان مصدرا، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكانا، أي يغيظ وطؤهم إياه الكفار. وأطلق موطئا إذا كان مكانا ليعم كل موطىء يغيظ وطؤه الكفار، سواء كان من أمكنة الكفار، أم من أمكنة المسلمين إذا كان في سلوكه غيظهم. والوطء يدخل فيه بالحوافر والإخفاف والأرجل. وقرأ زيد بن علي: يغيظ بضم الياء. والنيل مصدر، فاحتمل أن يبقى على موضوعه، واحتمل أن يراد به المنيل. وأطلق نيلا ليعم القليل والكثير مما يسوءهم قتلا وأسرا وغنيمة وهزيمة، وليست الياء في نيل بدلا من واو خلافا لزاعم ذلك، بل نال مادتان: إحداهما من ذوات الواو نلته أنولة نولا ونوالا من العطية، ومنه التناول. والأخرى: هذه من ذوات الياء، نلته ناله نيلا إذا أصابه وأدركه. وبدىء في هاتين الجملتين بالأسبق أيضا وهو الوطء، ثم ثنى بالنيل من العدو. جاء العموم في الكفار بالألف واللام، وفي من عدو لكونه في سياق النفي، وبدىء أولا بما يحض المسافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانيا بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالوطء الإيقاع والإبادة، لا الوطء بالأقدام والحوافر كقوله عليه السلام: * (ءاخر) *.
والكتب هنا يحتمل أن يكون حقيقة أي: كتب في الصحائف، أو في اللوح المحفوظ، ليجازي عليه يوم القيامة. ويحتمل أن يكون استعارة، عبر عن الثبوت بالكتابة لأن من أراد أن يثبت شيئا كتبه. والجملة من كتب في موضع الحال، وبه أفرد الضمير إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: إلا كتب لهم بذلك عمل صالح أي: بإصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل. وفي الحديث: (من أغرث قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار) وقال ابن عباس: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعون ألف حسنة. والنفقة الصغيرة قال ابن عباس: كالثمرة ونحوها، والكبيرة ما فوقها. وقال الزمخشري: صغيرة ولو تمرة، ولو علاقة سوط،. ولا كبيرة مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة انتهى. وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله: * (ياويلتنا ما لهاذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة) * * (ولا أصغر من ذالك ولا أكبر) * وإذا كتب أجر الصغيرة فأحرى أجر الكبيرة. ومفعول كتب مضمر يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الإنفاق والقطع، ويجوز أن يعود على قوله: عمل صالح المتقدم الذكر. وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجمل السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى في العدو، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو، سواء حصل غيظ الكفار والنيل من العدو أم لم يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد، إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأن، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيها على أنهم حازوا رتب الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين. وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير: أحسن جزاء الذي كانوا يعملون، لأن عملهم له جزاء حسن، وله جزاء أحسن، وهنا الجزاء أحسن جزاء. وقال أبو عبد الله الرازي: أحسن ما كانوا يعملون فيه وجهان: الأول: أن أحسن من صفة فعلهم، وفيها الواجب والمندوب دون المباح اننتهى. هذا الوجه
115

فاحتمل أن يكون أحسن بدلا من ضمير ليجزيهم بدل اشتمال، كأنه قيل: ليجزي الله أحسن أفعالهم بالأحسن من الجزاء، أو بما شاء من الجزاء. ويحتمل أن يكون ذلك على حذف مضاف فيكون التقدير: ليجزيهم جزاءا أحسن أفعالهم. والثاني: أن الأحسن صفة للجزاء أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأجل وأفضل، وهو الثواب انتهى، هذا الوجه، وإذا كان الأحسن من صفة الجزاء فكيف أضيف إلى الأعمال وليس بعضها منها؟ وكيف يقع التفضيل إذ ذاك بين الجزاء وبين الأعمال، ولم يصرح فيه بمن؟.
2 (* (وما كان المؤمنون لينفروا كآفة فلولا نفر من كل فرقة منهم طآئفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون * ياأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين * وإذا مآ أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين فى قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون * أولا يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون * وإذا مآ أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون * لقد جآءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبى الله لاإلاه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *)) 2
* (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا) *: لما سمعوا ما كان لأهل المدينة الآية أهمهم ذلك، فنفروا إلى المدينة إلى الرسول فنزلت. وقيل: قال المنافقون حين نزلت: ما كان لأهل المدينة الآية هكذا أهل البوادي فنزلت. وقيل: لما دعا الرسول على مضر بالسنن أصابتهم مجاعة، فنفروا إلى المدينة للمعاش وكادوا يفسدونها، وكان أكثرهم غير صحيح الإيمان، وإنما أقدمه الجوع فنزلت الآية فقال: وما كان من ضعفة الإيمان لينفروا مثل هذا النفير أي: ليس هؤلاء بمؤمنين. وعلى هذه الأقوال لا يكون النفير إلى الغزو، والضمير الذي في ليتفقهوا عائد على الطائفة النافرة، وهذا هو الظاهر. وقال ابن عباس: الآية في البعوث والسرايا. والآية المتقدمة ثابتة الحكم مع خروج الرسول في الغزو، وهذه ثابتة الحكم إذا لم يخرج أي: يجب إذا لم يخرج أن لا ينفر الناس كافة، فيبقى هو مفردا. وإنما ينبغي أن ينفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين، وتنذر النافرين إذا رجعوا إليهم. وقالت فرقة: هذه الآية ناسخة لكل ما ورد من إلزام الناس كافة النفير والقتال، فعلى هذا وعلى قول ابن عباس يكون الضمير في ليتفقهوا عائدا على الطائفة المقيمة مع النبي صلى الله عليه وسلم)، ويكون معنى ولينذروا قومهم أي: الطائفة النافرة إلى الغزو يعلمونهم بما تجدد من أحكام الشريعة وتكاليفها، وكان ثم جملة محذوفة دل عليها تقسيمها أي: فهلا نفر من كل فرقة منهم طائفة مقعدت أخرى ليتفقهوا. وقيل: على أن يكون النفير إلى الغزو يصح أن يكون الضمير في ليتفقهوا عائدا على النافرين، ويكون تفقههم في الغزو بما يرون من نصرة الله لدينه، وإظهاره الفئة القليلة من المؤمنين على الكثيرة من الكافرين، وذلك دليل على صحة الإسلام، وإخبار الرسول بظهور هذا الدين. والذي
يظهر أن هذه الآية إنما جاءت للحض على طلب العلم والتفقه في دين الله، وأنه لا يمكن أن يرحل المؤمنون كلهم في ذلك فتعرى بلادهم منهم ويستولي عليها وعلى ذراريهم أعداؤهم، فهلا رحل طائفة منهم للتفقه في الدين ولإنذار قومهم، فذكر العلة للنفير وهي التفقه أولا، ثم الإعلام لقومهم بما علموه من أمر الشريعة أي: فهلا نفر من كل جماعة كثيرة جماعة قليلة منهم فكفوهم النفير، وقام كل بمصلحة هذه بحفظ بلادهم، وقتال أعدائهم، وهذه لتعلم العلم وإفادتها المقيمين إذا رجعوا إليهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن كلا النفيرين هو في سبيل الله وإحياء دينه هذا بالعلم، وهذا بالقتال. قال الزمخشري: ليتفقهوا في الدين، ليتكلفوا الفقاهة فيه، ويتجشموا المشاق في أخذها وتحصيلها، ولينذروا قومهم، وليجعلوا غرضهم ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم وإرشادهم والنصيحة لهم، لعلهم يحذرون
116

إرادة أن يحذروا الله تعالى، فيعملوا عملا صالحا. ووجه آخر: وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان إذا بعث بعثا بعد غزوة تبوك وبعد ما نزل في المتخلفين من الآيات الشدائد استبق المؤمنون عن آخرهم إلى النفير، وانقطعوا جميعا عن الوحي والتفقه في الدين، فأمروا بأن ينفر من كل فرقة منهم طائفة إلى الجهاد، وتبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطعوا عن التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجهاد بالحجة أعظم أمرا من الجهاد بالسيف. وقوله تعالى: ليتفقهوا، الضمير فيه للفرق الباقية بعد الطوائف النافرة، ولينذروا قومهم، ولينذر الفرق الباقية قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم ما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم، وعلى الأول الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقه.
* (قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين) *: لما خص تعالى على التفقه في الدين، وحرض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه، أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار، فجمع من الجهاد جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء في ذلك:
* من لا يعدله القرآن كان له
*
من الصغار وبيض الهند تعديل
*
قيل: نزلت قبل الأمر بقتل الكفار كافة، فهي من التدريج الذي كان في أول الإسلام. وضعف هذا القول بأن هذه الآية ما نزل. وقالت فرقة: إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) ربما تجاوز قوما من الكفار غازيا لقوم آخرين أبعد منهم، فأمر الله بغزو الأدنى فالأدنى إلى المدينة. وقالت فرقة: الآية مبينة صورة القتال كافة، فهي مترتبة مع الأمر بقتال الكفار كافة، ومعناها أن الله تعالى أمر فيها المؤمنين أن يقاتل كل فريق منهم الجيش الذي يضايقه من الكفرة، وهذا هو القتال لكملة الله ورد البأس إلى الإسلام. وأما إذا مال العدو إلى صقع من أصقاع المسلمين ففرض على من اتصل به من المؤمنين كفاية عدو ذلك الصقع وإن بعدت الدار ونأت البلاد. وقال: قاتلوا هذه المقالة نزلت الآية مشيرة إلى قتال الروم بالشام، لأنهم كانوا يومئذ العدو الذي يلي ويقرب، إذ كانت العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق بعيدة، ثم لما اتسع نطاق الإسلام توجه الفرض في قتال الفرس والديلم وغيرهما من الأمم، وسأل ابن عمر رجل عن قتال الديلم فقال: عليك بالروم. وقال علي بن الحسين والحسن: هم الروم والديلم، يعني في زمنه. وقال ابن زيد: المراد بهذه الآية وقت نزولها العرب، فلما فرغ منهم نزلت في الروم وغيرهم: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر) * إلى آخرها. وقيل: هم قريظة والنضير وفدك وخيبر. وقال قوم: تحرجوا أن يقاتلوا أقرباءهم وجيرانهم، فأمروا بقتالهم. ويلونكم: ظاهره القرب في المكان. وقيل: هو عام في القرب في المكان، والنسب والبداءة بقتال من يلي لأنه متعذر قتال كلهم دفعة واحدة، وقد أمرنا بقتال كلهم، فوجب الترجيح بالقرب كما في سائر المهمات كالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولأن النفقات فيه، والحاجة إلى الدواب والأدوات أقل، ولأن قتال الأبعد تعريض لتدارك المسلمين إلى الفتنة، ولأن الدين يكون إن كانوا ضعفاء كان الاستيلاء عليهم أسهل، وحصول غير الإسلام أيسر. وإن كانوا أقوياء كان تعرضهم لدار الإسلام أشد، ولأن المعرفة بمن يلي آكد منها بمن بعد للوقوف على كيفية أحوالهم وعددهم وعددهم، فترجحت البداءة بقتال من يلي على قتال من بعد. وأمر تعالى المؤمنين بالغلظة على الكفار والشدة عليهم كما قال تعالى: * (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) * وذلك ليكون ذلك أهيب وأوقع للفزع في قلوبهم. وقال تعالى: * (أعزة على الكافرين) * وفي الحديث: * (ألقوا * الكفار) * وقال تعالى * (وموعظة للمتقين ولا تهنوا ولا تحزنوا) * وقال: * (فما وهنوا لما أصابهم فى سبيل الله
117

وما ضعفوا وما استكانوا) * والغلظة: تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة، والغلظة حقيقة في الأجسام، واستعيرت هنا للشدة في الحرب. وقرأ الجمهور: غلظة بكسر الغين وهي لغة أسد، والأعمش وابان بن ثعلب والمفضل كلاهما عن عاصم بفتحها وهي لغة الحجاز، وأبو حيوة والسلمي وابن أبي عبلة والمفضل وابن أيضا بضمها وهي لغة تميم، وعن أبي عمر وثلاثة اللغات ثم قال: واعلموا أن الله مع المتقين لينبه على أن يكون الحامل على القتال ووجود الغلظة إنما هو تقوى الله تعالى، ومن اتقى الله كان الله معه بالنصر والتأييد، ولا يقصد بقتاله الغنيمة، ولا الفخر، ولا إظهار البسالة.
* (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هاذه إيمانا فأما الذين ءامنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما) *: قال ابن عباس: نزلت هذه والثانية في المنافقين، كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعرض بهم في خطبته، فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب ويقولون: هل يراكم من أحد إن قمتم؟ فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد. ولما استطرد من سفر الغزو وتأنيب المتخلفين عن الرسول إلى سفر التفقه في الدين، ثم أمر بقتال من يلي من الكفار والغلظة عليهم، عاد إلى ذكر مخازي المنافقين إذ هم الذين نزل معظم السورة فيهم. وكان في الآية قبلها إشارة إلى الغلظة على الكفار وهم منهم، وقولهم: أيكم زادته هذه إيمانا، يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين، ويحتمل أن يقولوا: ذلك لقراباتهم المؤمنين يستقيمون
إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم ذلك: هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها، كما تقول: أي غريب في هذا وأي دليل في هذا، وفي الفتيان قيل: هو قول المؤمنين للبحث والتنبيه. وقرأ الجمهور: أيكم بالرفع. وقرأ زيد بن علي، وعبيد بن عمير: أيكم بالنصب على الاشتغال، والنصب فيه عند الأخفش أفصح كهو بعد أداة الاستفهام نحو: أريد اضربته. والتقسيم يقتضي أن الخطاب من أولئك المنافقين المستهزئين عام للمنافقين والمؤمنين، وزيادة الإيمان عبارة عن حدوث تصديق خاص لم يكن قبل نزول السورة من قصص وتجديد حكم من الله تعالى، أو عبارة عن تنبيه على دليل تضمنته السورة ويكون قد حصلت له معرفة الله بأدلة، فنبهته هذه السورة على دليل راد في أدلته، أو عبارة عن إزالة شك يسير، أو شبهة عارضة غير مستحكمة، فيزول ذلك الشك وترتفع الشبهة بتلك السورة. وأما على قول من يسمى الطاعة إيمانا، وذلك مجاز عند أهل السنة، فتترتب الزيادة بالسورة إذ يتضمن أحكاما. وقال الربيع: فزادتهم إيمانا أي خشية أطلق اسم الشيء على بعض ثمراته. وقال الزمخشري: فزادتهم إيمانا لأنها أزيد للمتقين على الثبات، وأثلج للصدور. أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان، لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل
118

انتهى. وهي نزعة اعتزالية، وهم يستبشرون بما تضمنته من رحمة الله ورضوانه. وأما الذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، والصحة والمرض في الأجسام، فنقل إلى الاعتقاد مجازا والرجس القذر، والرجس العذاب، وزيادته عبارة عن تعمقهم في الكفر وخبطهم في الضلال. وإذا كفروا بسورة. فقد زاد كفرهم واستحكم وتزايد عقابهم. قال قطرب والزجاج: أراد كفرا إلى كفرهم. وقال مقاتل: إثما إلى إثمهم. وقال السدي والكلبي: شكا إلى شكهم. وقال ابن عباس: أراد ما أعد لهم من الخزي والعذاب المتجدد عليهم في كل وقت في الدنيا والآخرة، وأنتج نزول السورة للمؤمنين شيئين: زيادة الإيمان، والاستبشار بما لهم عند الله. وللذين في قلوبهم مرض زيادة رجس، والموافاة على الكفر أذاهم كفرهم الأصلي، والزيادة إلى أن ماتوا على الكفر.
* (أو لا * يرون أنهم يفتنون فى كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) *: لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة، ذكر أنهم أيضا في الدنيا لا يخلصون من عذابها. والضمير في يرون عائد على الذين في قلوبهم مرض، وذلك على قراءة الجمهور بالياء. وقرأ حمزة: بالتاء خطابا للمؤمنين. والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب، ومن رؤية البصر. وقرأ أبي وابن مسعود، والأعمش: أو لا ترى أي أنت يا محمد؟ وعن الأعمش أيضا: أو لم تروا؟ وقال أبو حاتم عنه: أو لم يروا؟ قال مجاهد: يفتنون، يختبرون بالسنة والجوع. وقال النقاش عنه: مرضه أو مرضتين. وقال الحسن وقتادة: يحتبرون بالأمر بالجهاد. قال ابن عطية: والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة. وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه، فمعنى الآية على هذا: أفلا يزدرج هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون، ويذكرون وعد الله ووعيده انتهى. وقاله مختصرا مقاتل قال: يفضحون بإظهار نفاقهم، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين، وقد كان الحسن ينشد:
* أفي كل عام مرضة ثم نقهة
*
فحتى متى حتى متى وإلى متى
*
وقالت فرقة: معنى يفتنون بما يشبعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم) من الأكاذيب والأراجيف، وأن ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم، وإليه الإشارة بقوله: * (لئن لم ينته المنافقون والذين فى قلوبهم مرض) * فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك. وحكى الطبري هذا القول عن حذيفة، وهو غريب من المعنى. وقال الزمخشري: يفتنون يبتلون بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيقتلهم وينكل بهم، ثم لا ينزجرون. وقرأ ابن مسعود: ولا هم يتذكرون
119

* (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم) *. ذكر أولا ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء، ثم ذكر ثانيا ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكارا للوحي، وسخرية قائلين: هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون: هل يراكم من أحد؟ والظاهر إطلاق السورة أية سورة كانت. وقيل: ثم صفة محذوفة أي: سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير، يفهم من تلك النظرة التقرير: هل يراكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم؟ ثم انصرفوا أي: عن طريق الاهتداء، وذلك أنهم حين ما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء. قال الضحاك: هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل ثم انصرفوا إن كان حقيقة فالمعنى: قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة أو مجازا، فالمعنى: انصرفوا عن الإيمان، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه، قاله الكلبي، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله، وهذا القول راجع لقول الكلبي.
صرف الله قلوبهم صيغته خبر، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان، قاله الفراء. والظاهر أنه خير لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب، بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله: ثم انصرفوا، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) *. قال الزجاج: أضلهم. وقيل: عن فهم القرآن والإيمان به. وقال ابن عباس: عن كل رشد وخير وهدى. وقال الحسن: طبع عليها بكفرهم. قال الزمخشري: صرف الله قلوبهم دعاء عليهم بالخذلان، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراخ بأنهم قوم لا يفقهون يحتمل أن يكون متعلقا بانصرفوا، أو بصرف، فيكون من باب الإعمال أي: بسبب انصرافهم، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده.
* (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين * رءوف * رحيم) *: لما بدرأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم، أو من نسبهم عربيا قرشيا يبلغهم عن الله متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب، ويحرص على هداهم، ويرأف بهم، ويرحمهم. قال ابن عباس: ما من قبيلة من العرب إلا ولدت النبي صلى الله عليه وسلم)، فكأنه قال: يا معشر العرب لقد جاءكم رسول من بني إسماعيل، ويحتمل أن يكون الخطاب لمن بحضرته من أهل الملل والنحل، ويحتمل أن يكون حطابا لبني آدم، والمعنى: أنه لم يكن من غير جنس بني آدم، لما في ذلك من التنافر بين الأجناس كقوله: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * ولما كان المخاطبون عاما، إما عامة العرب، وإما عامة بني آدم، جاء الخطاب عاما بقوله: عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم أي: على هدايتكم حتى لا يخرج أحد عن اتباعه فيهلك. ولما كانت الرأفة والرحمة خاصة جاء متعلقها خاصا وهو قوله: بالمؤمنين رؤوف رحيم. ألا ترى إلى قوله: * (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم
120

وقال: * (أعزة على الكافرين) * وقال في زناة المؤمنين: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر * (. قال ابن عطية: وقوله من أنفسكم، يقتضي مدحا لنسب النبي صلى الله عليه وسلم) وأنه من صميم العرب وأشرفها، وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام: * (إن الله اصطفى كناية من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بني هاشم من قريش، واصطفاني من بني هاشم) * ومنه قوله صلى الله عليه وسلم): (إني من نكاح ولست من سفاح) معناه أن نسبه صلى الله عليه وسلم) إلى آدم عليه السلام لم يكن النسل فيه إلا من نكاح ولم يكن فيه زنا انتهى. وصف الله نبيه عليه السلام بستة: أوصاف الرسالة وهي صفة كمال الإنسان لما احتوت عليه من كمال ذات الرسول وطهارة نفسه الزكية، وكونه من الخيار بحيث أهل أن يكون واسطة بين الله وبين خلقه، ولما كانت هذه الصفة أشرف بدىء بذكرها. وكونه من أنفسهم وهي صفة مؤثرة في التبليغ والفهم عنه والتآنس به، فإن كان خطابا للعرب ففي هذه الصفة التنبيه على شرفهم والتحريض على اتباعه، وإن كان الخطاب لبني آدم ففيه التنويه بهم واللطف في إيصال الخبر إليهم، وأنه معروف بينهم بالصدق والأمانة والعفاف والصيانة. وكونه يعز عليه ما يشق عليكم، فهذا الوصف من نتائج الرسالة. ومن كونه من أنفسهم، لأن من كان منك وادلك الخير وصعب عليه إيصال ما يؤذي إليك وكونه حريصا على هدايتهم، وهو أيضا من نتائج الرسالة، لأنه بعث ليعبد الله ويفرد بالألوهية. وكونه رؤوفا رحيما بالمؤمنين، وهما وصفان من نتائج التبعية له، والدخول في دين الله. * (إنما المؤمنون إخوة) * * (المؤمن) *.
وقرأ ابن عباس، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب، عن أبي عمرو وعبد الله بن قسيط المكي، ويعقوب من بعض طرقه: من أنفسكم بفتح الفاء. ورويت هذه القراءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعن فاطمة، وعائشة رضي الله عنهما، والمعنى: من أشرفكم وأعزكم، وذلك من النفاسة، وهو راجع لمعنى النفس، فإنها أعز الأشياء. والظاهر أن ما مصدرية في موضع الفاعل بعزيز أي: يعز عليه مشقتكم كما قال:
* يسر المرء ما ذهب الليالي
*
وكان ذهابهن له ذهابا
*
أي يسر المرء ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون ما عنتم مبتدأ أي: عنتكم عزيز عليه، وقدم خبره، والأول أعرب. وأجاز الحوفي أن يكون عزيز مبتدأ، وما عنتم الخبر، وأن تكون ما بمعنى لذي، وأن تكون مصدرية، وهو إعراب دوب الإعرابين السابقين. وقال ابن القشيري: عزيز صفة للنبي صلى الله عليه وسلم)، وإنما وصف بالعزة لتوسطه في قومه وعراقة نسبه وطيب جرثومته، ثم استأنف فقال: عليه ما عنتم أي: يهمه أمركم انتهى. والعنت: تقدم شرحه في البقرة في قوله * (خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لاعنتكم) *. وقال ابن عباس: هنا مشقتكم. وقال الضحاك: إثمكم. وقال
121

سعيد بن أبي عروبة: ضلالكم. وقال العتبي: ما ضركم. وقال ابن الأنباري: ما أهلككم. وقيل: ما عمكم. والأولى أن يضمر في عليكم أي: على هداكم وإيمانكم كقوله: ك * (إن تحرص على هداهم) * وقوله: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *. وقيل: حريص على إيصال الخيرات لكم في الدنيا والآخرة. وقال الفراء: الحريص هو الشحيح، والمعنى: أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار. وقيل: حريص على دخولكم الجنة. وإنما احتيج إلى الإضمار، لأن الحرص لا يتعلق بالذوات. ويحتمل بالمؤمنين أن يتعلق برؤوف، ويحتمل أن يتعلق برحيم، فيكون من باب التنازع. وفي جواز تقدم معمول المتنازعين نظر، فالأكثرون لا يذكرون فيه تقدمة عليهما، وأجاز بعض النحويين التقديم فتقول: زيدا ضربت وشتمت على التنازع، والظاهر تعلق الصفتين بجميع المؤمنين. وقال قوم: بالتوزيع، رؤوف
بالمطيعين، رحيم بالمذنبين. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. وقيل: رؤوف بأقربائه، رحيم بغيرهم. وقال الحسن بن الفضل: لم يجمع الله لنبي بين اسمين من أسمائه إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم)، فإنه قال: بالمؤمنين رؤوف رحيم، وقال تعالى: * (إن الله بالناس * لرؤوف رحيم) *.
* (فإن تولوا فقل حسبى الله لا إلاه إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) *: أي فإن أعرضوا عن الإيمان بعد هذه الحالة التي من الله عليهم بها من إرسالك إليهم واتصافك بهذه الأوصاف الجميلة فقل: حسبي الله أي: كافي من كل شيء، عليه توكلت أي: فوضت أمري إليه لا إلى غيره، وقد كفاه الله شرهم ونصره عليهم، إذ لا إله غيره. وهي آية مباركة لأنها من آخر ما نزل، وخص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات. وقال ابن عباس: العرش لا يقدر أحد قدره انتهى. وذكر في معرض شرح قدرة الله وعظمته، وكان الكفار يسمعون حديث وجود العرش وعظمته من اليهود والنصارى، ولا يبعد أنهم كانوا سمعوا ذلك من أسلافهم. وقرأ ابن محيصن: العظيم برفع الميم صفة للرب، ورويت عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: وهذه القراءة أعجب إلي، لأن جعل العظيم صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش، وعظم العرش يكبر جثته واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار، وعظم الرب بتقديسه عن الحجمية والأجزاء والإبعاض، وبكمال العلم والقدرة، وتنزيهه عن أن يتمثل في الأوهام، أو تصل إليه الأفهام. وعن ابن عباس: آخر ما نزل لقد جاءكم إلى آخرها. وعن أبي أقرب القرآن عهدا بالله لقد جاءكم الآيتان، وهاتان الآيتان لم توجدا حين جمع المصحف إلا في حفظ خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، فلما جاء بها تذكرها كثير من الصحابة، وقد كان زيد يعرفها، ولذلك قال: فقدت آيتين من آخر سورة التوبة، ولو لم يعرفها لم ندر هل فقد شيئا أولا، فإنما ثبتت الآية بالإجماع لا بخزيمة وحده. وقال عمر بن الخطاب: ما فرغ من تنزل براءة حتى ظننا أن لن يبقى منا أحد إلا سينزل فيه شيء. وفي كتاب أبي داود عن أبي الدرداء قال: من قال: (إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات كفاه الله تعالى ما أهمه).
122

((سورة يونس))
مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينآ إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هاذا لساحر مبين * إن ربكم الله الذي خلق السماوات والا رض فى ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الا مر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذالكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون * إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون * هو الذى جعل الشمس ضيآء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون * إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى السماوات والا رض لآيات لقوم يتقون * إن الذين لا يرجون لقآءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون * أولائك مأواهم النار بما كانوا يكسبون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الا نهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين * ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقآءنا فى طغيانهم يعمهون * وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قآئما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنآ إلى ضر مسه كذالك زين للمسرفين ما كانوا يعملون * ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجآءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم
123

المجرمين * ثم جعلناكم خلائف فى الا رض من بعدهم لننظر كيف تعملون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقآءنا ائت بقرءان غير هاذآ أو بدله قل ما يكون لىأن أبدله من تلقآء نفسىإن أتبع إلا ما يوحىإلى إنىأخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم * قل لو شآء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون * فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون * ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هاؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم فى السماوات ولا فى الا رض سبحانه وتعالى عما يشركون * وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون * ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * وإذآ أذقنا الناس رحمة من بعد ضرآء مستهم إذا لهم مكر فىءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما تمكرون * هو الذى يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جآءتها ريح عاصف وجآءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه لنكونن من الشاكرين * فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون فى الا رض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون) *))
) *
القدم: قال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة. قال ذو الرمة:
* وأنت امرؤ من أهل بيت دؤابة
*
لهم قدم معروفة ومفاخر
*
وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق في خير أو شر فهو قدم. وقال الأخفش: سابقة إخلاص كما في قول حسان:
* لنا القدم العليا إليك وخلفنا
*
لا ولنا في طاعة الله تابع
*
124

وقال أحمد بن يحيى: كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: العمل الذي يتقدم فيه ولا يقع فيه تأخير ولا إبطاء.
المرور: مجاوزة الشيء والعبور عليه، تقول: مررت بزيد جاوزته. والمرة: القوة، ومنه ذو مرة. ومرر الحبل قواه، ومنه: (لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي) العاصف الشديد يقال: عصفت الريح. قال الشاعر:
* حتى إذا عصفت ريح مزعزعة
*
فيها قطار ورعد صوته زجل
*
وأعصف الريح. قال الشاعر:
* ولهت عليه كل معصفة
*
هو جاء ليس للبهارير
*
وقال أبو تمام:
* إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
*
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
*
الموح: ما ارتفع من المساء عند هبوب الهواء، سمى موجا لاضطرابه.
* (الر تلك ءايات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قدم صدق عند) *: هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات، فإنها نزلت بالمدينة، وهي فإن كنت في شك إلى آخرهن، قاله ابن عباس. وقال الكلبي: إلا قوله ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به فإنها نزلت في اليهود بالمدينة. وقال قوم: نزل من أولها نحو من أربعية آية بمكة، ونزل باقيها بالمدينة. وقال الحسن وعطاء وجابر: هي مكية وسبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولا إلا يتيم أبي طالب فنزلت. وقال ابن جريج: عجبت قريش أن يبعث رجل منهم فنزلت. وقيل: لما حدثهم عن البعث والمعاد والنشور تعجبوا.
ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل * (وإذا ما أنزلت سورة) * وذكر تكذيب المنافقين ثم قال: * (لقد جاءكم رسول) * وهو محمد صلى الله عليه وسلم) أتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن ديدن الضالين وأحد متابعيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدما على ذكر الرسول في آخر السورة، جاء في أول هذه السورة كذلك فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول، وتقدم ما قاله المفسرون في أوائل هذه السورة المفتتحة بحروف المعجم، وذكروا هنا أقوالا عن المفسرين منها: أنا الله أرى، ومنها أنا الله الرحمن، ومنها أنه يتركب منها ومن رحم ومن نون الرحمن. فالراء بعض حروف الرحمن مفرقة، ومنها أنا الرب وغير ذلك. والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها البعد المشار إليه. فقال مجاهد وقتادة: أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل
125

والزبور، فيكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب. وقال الزجاج: إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها. وقيل: إشارة إلى الكتاب المحكم الذي هو محزون مكتوب عند الله، ومنه نسخ كل كتاب كما قال: * (بل هو قرءان مجيد * فى لوح محفوظ) * وقال: * (وإنه فى أم الكتاب) * وقيل: إشارة إلى الرائ وأخواتها من حروف المعجم، أي تلك الحروف المفتتح بها السور وإن قربت ألفاظها فمعانيها بعيدة المنال. وهي آيات الكتاب أي الكتاب بها يتلى، وألفاظه إليها ترجع ذكره ابن الأنباري. وقيل: استعمل تلك بمعنى هذه، والمشار إليه حاضر قريب قاله ابن عباس، واختاره أبو عبيدة. فقيل: آيات القرآن. وقيل: آيات السور التي تقدم ذكرها في قوله: * (وإذا ما أنزلت سورة) * وقيل: المشار إليه هو الراء، فإنها كنوز القرآن، وبها العلوم التي استأثر الله بها. وقيل: إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة.
والحكيم: الحاكم، أو ذو الحكمة لاشتماله عليها. وتعلقه بها، أو المحكم، أو المحكوم به، أو المحكم أقوال. والهمزة في أكان للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير، أي: لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة، أوحي إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم. واسم كان إن أوحينا، وعجبا الخبر، وللناس فقيل: هو في موضع الحال من عجبا لأنه لو تأخر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعنى للناس. وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها إن تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله: عجب، فقيل: عجب اسم كان، وأن أوحينا هو الخبر، فيكون نظير: يكون مزاجها عسل وماء، وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية. وقيل: كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا، وهذا التوجيه حسن. ومعنى للناس عجبا: أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علما لم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وقرأ رؤبة: إلى رجل بسكون الجيم وهي لغة تميمية يسكنون فعلا نحو سبع وعضد في سبع وعضد. ولما كان الإنذار عاما كان متعلقه وهو الناس عاما، والبشارة خاصة، فكان متعلقها خاصا وهو الذين آمنوا. وأن أنذر: أن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله أنه أنذر الناس على معنى أن الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشري: ويجوز أن تكون أن المصدرية الثنائية الوضع، لا المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر، وينسبك منها معه مصدر تقديره: بإنذار
126

الناس. وهذا الوجه أولى من التفسيريه، لأن الكوفيين لا يثبتون لأن أن تكون تفسيرية. ومن المصدرية المخففة من الثقيلة لتقدير حذف اسمها وإضمار خبرها، وهو القول فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر، ولأن التأصيل خبر من دعوى الحذف بالتحفيف. وبشر الذين آمنوا أن لهم أي: بأن لهم، وحذفت الباء. وقدم صدق قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع بن أنس، وابن زيد: هي الأعمال الصالحة من العبادات. وقال الحسن وقتادة: هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال زيد بن أسلم وغيره: هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عباس وغيره: هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ. وقال مقاتل: سابقة خير عند الله قدموها. وإلى هذا المعنى أشار وضاح اليمن في قوله:
* ما لك وضاح دائم الغزل
*
ألست تخشى تقارب الأجل
*
* صل لذي العرش واتخذ قدما
*
ينجيك يوم العثار والزلل
*
وقال قتادة أيضا: سلف صدق. وقال عطاء: مقام صدق. وقال يمان: إيمان صدق. وقال الحسن أيضا: ولد صالح قدموه. وقيل: تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة، كما قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة) وقيل: تقدم شرف، ومنه قول العجاج:
* ذل بني العوام من آل الحكم
*
وتركوا الملك لملك ذي قدم
*
وقال الزجاج: درجة عالية وعنه منزلة رفيعة. ومنه قول ذي الرمة:
* لكم قدم لا ينكر الناس أنها
*
مع الحسب العادي طمت على البحر
*
وقال الزمخشري: قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما، كما سميت النعمة يدا، لأنها تعطى باليد وباعا لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان: قدم في الخير، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة. وقال ابن عطية: والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول: رجل صدق. وعن الأوزاعي: قدم بكسر القاف تسمية بالمدر، قال: الكافرون. ذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفا يدل الظاهر عليه تقديره: فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا. قال ابن عطية: قال الكافرون: يحتمل أن يكون تفسيرا لقوله: أكان للناس وحينا إلى بشر عجبا قال الكافرون عنه كذا وكذا.
وقرأ الجمهور والعربيان ونافع: لسحر إشارة إلى الوحي، وباقي السبعة، وابن مسعود، وأبو رزين، ومسروق، وابن جبير، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وابن محيصن، وابن كثير، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر. وقرأ الأعمش أيضا: ما هذا إلا ساحر. قال ابن عطية: وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم، وحال بين القريب وقريبه، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري: وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرا. ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد، لم يحتج قولهم إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تشمنها يقضي بفساد مقالتهم، وقولهم ذلك هو
127

ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال: فرعون وقومه في موسى عليه السلام: * (إن هاذا لساحر عليم) * * (قالوا) * وقوم عيسى عليه السلام: * (كفروا منهم إن هاذا إلا سحر مبين) * ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد.
* (إن ربكم الله الذى خلق * السماوات والارض * في ستة أيام ثم استوى على العرش) * تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد. ففي الأعراف: * (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه) * وقوله: * (يوم يأتى تأويله) * وهنا تلك آيات الكتاب. وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد. ومناسبة هذه لما قبلها أن من كان قادرا على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر ف مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثا بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، هذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.
* (يدبر الامر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) *: قال مجاهد: أي يقضيه وحده. والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها، والأمر قيل: الخلق كله علوية وسفليه. وقيل: يبعث بالأمر ملائكة، فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وعزرائيل للقبض، وإسرافيل للصور. وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه. ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور، وأنه لمنفرد به إيجادا وتدبيرا لا يشركه أحد في ذلك، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * الآية. ولما كان الخطاب عاما وكان الكفار يقولون عن أصنامهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، رد ذلك تعالى عليهم، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين: الابتداء والانتهاء. وقال أبو مسلم الأصبهاني: الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر، فمعنى الآية: أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له: كن. وقال أبو البقاء: يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفا وخبرا ثانيا وحالا.
* (ذالكم الله ربكم فاعبدوه) *: أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء هو ربكم الناظر في مصالحكم، فهو المستحق للعبادة، إذ لا يصلح لأن يعبد إلا هو تعالى، فلا تشركوا به بعض خلقه.
* (أفلا تذكرون) *: حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له.
* (إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده ليجزى الذين ءامنوا وعملوا الصالحات بالقسط والذين كفروا) *: ذكر ما يقتضي التذكير وهو كون مرجع الجميع إليه، وأكد هذا الإخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه ثم استأنف الإخبار وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق وإعادته وأن مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وانتصب وعد الله وحقا على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة والتقدير: وعد الله وعدا، فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله: * (صبغة الله) * * (عبد الله) * والتقدير: في حقا حق ذلك حقا. وقيل: انتصب حقا بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق. وقال علي بن سليمان التقدير: وقت حق وأنشد:
* أحقا عباد الله أن لست خارجا
*
ولا والجا إلا علي رقيب
*
128

وقرأ عبد الله، وأبو جعفر، والأعمش، وسهل بن شعيب: أنه يبدأ بفتح الهمزة. قال الزمخشري: هو منصوب بالفعل، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادة الخلق بعد بدنة. وعد الله على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا أي: حق حقا بدء الخلق كقوله:
* أحقا عباد الله أن لست جائيا
*
ولا ذاهبا إلا علي رقيت
*
انتهى. وقال ابن عطية: وموضعها النصب على تقدير أحق أنه. وقال الفراء: موضعها رفع على تقدير لحق أنه. قال ابن عطية: ويجوز عندي أن يكون أنه بدلا من
قوله: وعد الله. قال أبو الفتح: إن شئت قدرت لأنه يبدأ، فمن في قدرته هذا فهو غني عن إخلاف الوعد، وإن شئت قدرت وعد الله حقا أنه يبدأ ولا يعمل فيه المصدر الذي هو وعد الله، لأنه قد وصف ذلك بتمامه وقطع عمله. وقرأ ابن أبي عبلة: حق بالرفع، فهذا ابتداء وخبره أنه انتهى. وكون حق خبر مبتدأ، وأنه هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب كما تقول: صحيح إنك تخرج، لأن اسم أن معرفة، والذي تقدمها في نحو هذا المثال نكرة. والظاهر أن بدء الخلق هو النشأة الأولى، وإعادته هو البعث من القبور، وليجزي متعلق بيعيده أي: ليقع الجزاء على الأعمال. وقيل: البدء من التراب، ثم يعيده إلى التراب، ثم يعيده إلى البعث. وقيل: البدء نشأته من الماء، ثم يعيده من حال إلى حال. وقيل: يبدؤه من العدم، ثم يعيده إليه، ثم يوجده. وقيل: يبدؤه في زمرة الأشقياء، ثم يعيده عند الموت إلى زمرة الأولياء، وبعكس ذلك. وقرأ طلحة: يبدىء من أبدأ رباعيا، وبدأ وأبدأ بمعنى، وبالقسط معناه بالعدل، وهو متعلق بقوله: ليجزي أي: ليثيب المؤمنين بالعدل والإنصاف في جزائهم، فيوصل كلا إلى جزائه وثوابه على حسب تفاضلهم في الأعمال، فينصف بينهم ويعدل، إذ ليسوا كلهم مساوين في مقادير الثواب، وعلى هذا يكون بالقسط منه تعالى. قال الزمخشري: أو يقسطهم بما أقسطوا أو عدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا الصالحات، لأن الشرك ظلم قال الله تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * والعصاة ظلام لأنفسهم، وهذا أوجه لمقابلة قوله: بما كانوا يكفرون انتهى، فجعل القسط من فعل الذين آمنوا وهو على طريقة الاعتزال، والظاهر أن والذين كفروا مبتدأ، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: الذين آمنوا، فيكون الجزاء بالعدل قد شمل الفريقين. ولما كان الحديث مع الكفارة مفتتح السورة معهم، ذكر شيئا من أنواع عذابهم فقال: * (لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون) * وتقدم شرح هذا في سورة الأنعام.
*
* (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذالك إلا بالحق) *: لما ذكرتعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي، ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذين الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياء أي: ذات ضياء أو مضيئة، أو نفس الضياء مبالغة وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير، فيكون ضياء مفعولا ثانيا. ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فيكون حالا، والقمر نورا أي: ذا نور، أو منور أو نفس النور مبالغة، أو هما مصدران. وقيل: يجوز أن يكون ضياء جمع كحوض وحياض، وهذا فيه بعد. ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور. قال أرباب علم الهيئة: الشمس قدر الأرض مائة مرة وأربعا وستين مرة، والقمر ليس
129

كذلك، فخص الأعظم بالأعظم. وقد تقدم الفرق بين الضياء والنور في قوله: * (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم) * وقوله تعالى: * (الله نور * السماوات والارض) * يقتضي أن النور أعظم وأبلغ في الشروق، وإلا فلم عدل إلى الأقل الذي هو النور. فقال ابن عطية: لفظة النور أحكم أبلغ، وذلك أنه شبه هداه ولطفه الذي يصيبه لقوم يهتدون، وآخرين يضلون معه بالنور الذي هو أبدا موجود في الليل وأثناء الظلام. ولو شبهه بالضياء لوجب أن لا يضل أحدا، إذ كان الهدى يكون كالشمس التي لا تبقى معها ظلمة. فمعنى الآية؛ أنه تعالى جعل هداه في الكفر كالنور في الظلام، فيهتدي قوم ويضل قوم آخرون. ولو جعله كالضياء لوجب أن لا يضل أحد، وبقي الضياء على هذا أبلغ في الشروق كما اقضت هذه الآية.
وقرأ قنبل: ضياء هنا، وفي الأنبياء والقصص بهمزة قبل الألف بدل الياء. ووجهت على أنه من المقلوب جعلت لأمه عينا، فكانت همزة. وتطرفت الواو التي كانت عينا بعد ألف زائدة فانقلبت همزة، وضعف ذلك بأن القياس الفرار من اجتماع همزتين إلى تخفيف إحداهما، فكيف يتخيل إلى تقديم وتأخير يؤدي إلى اجتماعهما ولم يكونا في الأصل، والظاهر عود الضمير على القمير أي: مسيره منازل، أو قدره ذا منازل، أو قدر له منازل، فحذف وأوصل الفعل، فانتصب بحسب هذه التقادير على الظرف أو الحال أو المفعول كقوله: * (والقمر قدرناه منازل) * وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعى في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريدهما معا بحسب أنهما مصرفان في معرفة عدد السنين والحساب، لكنه اجتزىء بذكر أحدهما كما قال: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * وكما قال الشاعر:
* رماني بأمر كنت منه ووالدي
*
بريئا ومن أجل الطوى رماني
*
والمنازل هي البروج، وكانت العرب تنسب إليها الأنواء، وهي ثمانية وعشرون منزلة: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والدبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانان، والإكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلغ، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المؤخر، والرشاء وهو الحوت. واللام متعلقة بقوله: وقدره منازل. قال الأصمعي: سئل أبو عمرو عن الحساب، أفبنصبه أو بجره؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ انتهى. يريد أن الجر إنما يكون مقتضيا أن الحساب يكون يعلم عدده، والحساب لا يمكن أن يعلم منتهى عدده والحساب حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي مما ينتفع به في المعاش والإجارات وغير ذلك مما يضطر فيه إلى معرفة التواريخ. وقيل: اكتفى بذكر عدد السنين من عدد الشهور، وكنى بالحساب عن المعاملات، والإشارة بذلك إلى مخلوقه. وذلك يشار بها إلى الواحد، وقد يشار بها إلى الجمع. ومعنى بالحق متلبسا بالحق الذي هو الحكمة البالغة، ولم يخلقه عبثا كما جاء * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * * (وما خلقنا * السماوات والارض * وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق) *
وقال ابن جرير: الحق هنا هو الله تعالى، والمعنى: ما خلق الله ذلك إلا بالله وحده لا شريك معه انتهى. وما قاله تركيب قلق، إذ يصير ما ضرب زيد عمرا إلا بزيد. وقيل: الباء بمعنى اللام، أي للحق، وهو إظهار صنعته وبيان قدرته ودلالة على وحدانيته. وقرأ ابن مصرف: والحساب بفتح الحاء، ورواه أبو توبة عن العرب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو وحفص: يفصل بالياء جريا على لفظة الله، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات والإخبار بنون العظمة، وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم،
130

لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح. والآيات العلامات الدالة أو آيات القرآن.
* (إن فى اختلاف اليل والنهار وما خلق الله فى * السماوات والارض * لآيات لقوم يتقون) * والاختلاف تعاقب الليل والنهار، وكون أحدهما يخلف الآخر. وما خلق الله في السماوات من الأجرام النيرة التي فيها، والملائكة المقيمين بها وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى. والأرض من الجوامد والمعادن والنبات والحيوان، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم.
* (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحيواة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن ءاياتنا غافلون * أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) *: الظاهر أن الرجاء هو التأيل والطمع أي: لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا. وقيل: معناه لا يخافون. قال ابن زيد: وهذه الآية في الكفار، والمعنى أن المكذب بالبعث ليس يرجو رحمة في الآخرة، ولا يحسن ظنا بأنه يلقى الله. وفي الكلام محذوف أي: ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة كقوله: * (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم) * والمعنى أن منتهى غرضهم وقصارى آمالهم إنما هو مقصور على ما يصلون إليه في الدنيا. واطمأنوا أي سكنوا إليها، وقتعوا بها، ورفضوا ما سواها. والظاهر أن قوله: والذين هم، هو قسم من الكفار غير القسم الأول، وذلك التكرير الموصول، فيدل على المغايرة، ويكون معطوفا على اسم إن ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله، بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالبعث والجزاء، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية. ويحتمل أن يكون من عطف الصفات، فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون، هم الذين لا يرجون لقاء الله. والظاهر أن واطمأنوا بها عطف على الصلة، ويحتمل أن يكون واو الحال أي: وقد اطمأنوا بها. والآيات قيل: آيات القرآن. وقيل: العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة. وقال ابن زيد: ما أنزلناه من حلال وحرام وفرض من حدود وشرائع أحكام، وبما كانوا يكسبون إشعارا بأن الأعمال السابقة يكون عنها العذاب، وفي ذلك رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالكسب. ومجيئه بالمضارع دليل على أنهم لم يزالوا مستمرين على ذلك ماضي زمانهم ومستقبله.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجرى من تحتهم الانهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وءاخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) *: أي يزيد في هواهم بسبب إيمانهم السابق وتثبتهم، فأما الذين آمنوا فزادتهم أو يهديهم إلى طريق الجنة بنور إيمانهم كما قال: * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم) * قال مجاهد: يكون لهم إيمانهم نورا يمشون به. وفي الحديث: (إذا قام من قبره يمثل له رجل جميل الوجه طيب الرائحة فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقوده إلى الجنة) وبعكس هذا في الكافر. وقال ابن الأنباري: إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة، ومزايا في الألطاف تسر بها قلوبهم وتزول بها الشكوك والشبهات عنهم كقوله: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * وهذه الزوائد والفوائد يجوز حصولها في الدنيا قبل الموت، ويجوز حصولها بعد الموت. قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا كان المعنى يديهم ربهم بإيمانهم، وتجري من تحتهم الأنهار، إلا أنه حذف الواو. وقيل: معناه تقدمهم إلى الثواب من قول العرب: القدم تهدي الساق. وقال الحسن: يرحمهم. وقال الكلبي: يدعوهم. والظاهر أن تجري مستأنفا فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين: أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخر بجريان الأنهار، وذلك في الآخرة. كما تضمنت الآية في الكفار شيئين: أحدهما: اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه، والثاني: مقرهم ومأواهم وذلك النار، فصار تقسيما للفريقين في المعنى. وتقدم قول القفال: أن يكون تجري معطوفا حذف منه الحرف، وأن يكون حالا ومعنى من تحتهم أي: من تحت منازلهم. وقيل: من بين أيديهم، وليس التحت الذي هو بالمسافة، بل يكون إلى ناحية من الإنسان. ومنه: * (قد جعل ربك تحتك سريا) *
131

وقال: وهذه الأنهار تجري من تحتي.
قال الزمخشري: (فإن قلت): دلت هذه الآية على أن الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة هو الإيمان المقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لم يقترن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. (قلت): الأمر كذلك، ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعا فيها بين الإيمان والعمل كأنه قال: إن الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ثم قال: بإيمانهم، أي بإيمانهم المضموم إليه هذا العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وجوزوا في جنات النعيم أن يتعلق بتجري، وأن يكون حالا من الأنهار، وأن يكون خبرا بعد خبر، لأن ومعنى دعواهم: دعاؤهم ونداؤهم، لأن اللهم نداء الله، والمعنى: اللهم إنا نسبحك كقول القانت في دعاء القنوت: اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد. وقيل: عبادتهم كقوله: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * ولا تكليف في الجنة، فيكون ذلك على سبيل الابتهاج والالتذاذ، وأطلق عليه العبادة مجازا. وقال أبو مسلم: فعلهم وإقرارهم. وقال القاضي: طريقهم في تقديس الله وتحميده. وتحيتهم أي ما يحيي به بعضهم بعضا، فيكون مصدرا مضافا للمجموع لا على سبيل العمل، بل يكون كقوله: * (وكنا لحكمهم شاهدين) * وقيل: يكون مضافا إلى المفعول، والفاعل الله تعالى أو الملائكة أي: تحية الله إياهم، أو تحية الملائكة إياهم. وآخر دعواهم أي: خاتمة دعائهم وذكرهم. قال الزجاج: أعلم تعالى أنهم يبتدئون بتنزيهه وتعظيمه، ويختمونن بشكره والثناء عليه. وقال ابن كيسان: يفتتحون بالتوحيد، ويختمون بالتحميد. وعن الحسن البصري: يعزوه إلى الرسول أن أهل الجنة يلهمون التحميد والتسبيح. وأن المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف، والجملة بعدها خبر إن، وأن وصلتها خبر قوله: وآخر. وقرأ
عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وابن محيصن، ويعقوب: أن الحمد بالتشديد ونصب الحمد. قال ابن جني: ودلت على أن قراءة الجمهور بالتخفيف، ورفع الحمد هي على أن هي المخففة كقول الأعشى:
* في فتية كسيوف الهند قد علموا
*
أن هالك كل من يحفى وينتعل يريد أنه هالك إذا خففت لم تعمل في غير ضمير أمر محذوف. وأجاز المبرد إعمالها كحالها مشددة، وزعم صاحب النظم أن أن هنا زائدة، والحمد لله خبر، وآخر دعواهم. وهو مخالف لنص سيبويه والنحويين، وليس هذا من محال زيادتها.
*
* (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا * في طغيانهم يعمهون) *: قال مجاهد: نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا. فأخبر تعالى لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله منهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم، ثم حذف بعد ذلك من القول جملة يتضمنها الظاهر تقديره: فلا يفعل ذلك، ولكن نذر الذين لا يرجون فاقتضب القول، ووصل إلى هذا المعنى بقوله: فنذر
132

الذين لا يرجون، فتأمل هذا التقدير تجده صحيحا قاله ابن عطية. وقيل: نزلت في قولهم: إئتنا بما تعدنا، وما جرى مجراه. وقال الزمخشري: والمراد أهل مكة. وقولهم: * (فأمطر علينا حجارة) * يعني: ولو عجلنا لهم الشر الذي عوا به كما نعجل لهم الخير لأميتوا وأهلكوا. قال: (فإن قلت): كيف اتصل به فنذر الذين لا يرجون لقاءنا، وما معناه؟ (قلت): قوله: ولو يعجل الله متضمن معنى نفي التعجيل كأنه قال: ولا نعجل لهم الشر ولا نقضي إليهم أجلهم، فنذرهم في طغيانهم، أو فنمهلهم، ونقيض عليهم النعمة مع طغيانهم إلزاما للحجة عليهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر عجب الناس من إيحاء الله إلى رجل منهم، وكان فيما أوحي إليه الإنذار والتبشير، وكانوا يستهزؤون بذلك ولا يعتقدون حلول ما أنذروه بهم فقالوا: (فأمطر علينا حجارة) وقال إخبارا عنهم: * (ويستعجلونك بالعذاب) * وقالوا: * (فأتنا بما تعدنا) * ثم استطرد من ذلك إلى وحدانيته تعالى، وذكر إيجاده العالم، ثم إلى تقسيم الناس إلى مؤمن وكافر، وذكر منازل الفريقين ثم رجع إلى أن ذلك المنذر به الذي طلبوا وقوعه عجلا لو وقع لهلكوا، فلم يكن في إهلاكهم رجاء إيمان بعضهم، وإخراج مؤمن من صلهم بل اقتضت حكمته أن لا يعجل لهم ما طلبوه، لما ترتب على ذلك. وانتصب استعجالهم على أنه مصدر مشبه به. فقال الزمخشري: أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير، فوضع استعجاله لهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم. وقال الحوفي وابن عطية: التقدير مثل استعجالهم، وكذا قدره أبو البقاء. ومدلول عجل غير مدلول استعجل، لأن عجل يدل على الوقوع، واستعجل يدل على طلب التعجيل، وذاك واقع من الله، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، فشبه التعجيل بالاستعجال، لأن طلبهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شيء. والثاني: أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره: ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير، لأنهم كانوا يستعجلون بالشر ووقوعه على سبيل التهكم، كما كانوا يستعجلون بالخير. وقرأ ابن عامر: لقضى مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب، والأعمش لقضينا، وباقي السبعة مبنيا للمفعول، وأجلهم بالرفع. وقضى أكمل، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره: فنحن نذر قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره: ولكن نمهلهم فنذر.
* (وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى) *: ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من يرجو لقاءه يعم في طغيانه، بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم، وأن من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حاله مس الضر له، فكل يلجأ إليه حينئذ ويفرده بأنه القادر على كشف الضر. والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين كما قيل: إنه أبو حذيفة هاشم بن المغيرة بن عبد الله المخزومي قاله: ابن عباس ومقاتل. وقيل: عقبة بن ربيعة. وقيل: الوليد بن المغيرة. وقيل: هما قاله عطاء. وقيل: النضر بن الحرث، وأنه لا يراد به الكافر، بل، المراد الإنسان من حيث هو، سواء كان كافرا أم عاصيا بغير الكفر. واحتملت هذه الأقوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد، واحتملت أن تكون لأشخاص، إذ الإنسان جنس. والمعنى: أن الذي أصابه الضر لا يزال داعيا ملتجئا راغبا إلى الله في جميع حالاته كلها. وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض، وهي أعظم في الدعاء وآكد ثم بما يليها، وهي حالة القعود، وهي حالة العجز عن القيام، ثم بما يليها
133

وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي، فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم. ولجنبه حال أي: مضطجعا، ولذلك عطف عليه الحالان، واللام على بابها عند البصريين والتقدير: ملقيا لجنبه، لا بمعنى على خلافا لزاعمه. وذو الحال الضمير في دعانا، والعامل فيه دعانا أي: دعانا ملتبسا بأحد هذه الأحوال. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالا من الإنسان، والعامل فيه مس. ويجوز أن يكون حالا من الفاعل في دعانا، والعامل فيه دعا وهما معنيان متباينان. والضر: لفظ عام لجميع الأمراض. والرزايا في النفس والمال والأحبة، هذا قول اللغويين. وقيل: هو مختص برزايا البدن الهزال والمرض انتهى. والقول الأول قول الزجاج. وضعف أبو البقاء أن يكون لجنبه فما بعده أحوالا من الإنسان والعامل فيها مس، قال: لأمرين: أحدهما: أن الحال على هذا واقع بعد جواب إذا وليس بالوجه. والثاني: أن المعنى كثرة دعائه في كل أحواله، لا على الضر يصيبه في كل أحواله، وعليه آيات كثيرة في القرآن انتهى. وهذه الثاني يلزم فيه من مسه الضر في هذه الأحوال دعاؤه في هذه الأحوال، لأنه جواب ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقيد في حيز الشرط قيد في الجواب كما تقول: إذا جاءنا زيد فقيرا أحسنا إليه، فالمعنى:
أحسنا إليه في حال فقره، فالقيد في الشرط قيد في الجزاء. ومعنى كشف الضر: رفعه وإزالته، كأنه كان غطاء على الإنسان ساترا له. وقال صاحب النظم: وإذا مس الإنسان وصفه للمستقبل، وفلما كشف للماضي فهذا النظم يدل على أن معنى الآية: أنه هكذا كان فيما مضى وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الفعل الماضي على ما فيه من المعنى الماضي انتهى. والمرور هنا مجاز عن المضي على طريقته الأول من غير ذكر لما كان عليه من البلاء والضر. وقال مقاتل: أعرض عن الدعاء. وقيل: مر عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به، وهذا قريب من القول الذي قبله. والجملة من قوله: كان لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسه. قال ابن عطية: وقوله مر، يقتضي أن نزولها في الكفار، ثم هي بعد تتناول كل من دخل تحت معناها من كافر وعاص يعني الآية مر في إشراكه بالله وقلة توكله عليه انتهى. والكاف من كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك. وذلك إشارة إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك، وزين مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون الفاعل الله إما على سبيل الخلق ذلك واختراعه في قلوبهم كما يقول أهل السنة، وإما بتخليته وخذلانه كما تقول المعتزلة، أو الشيطان بوسوسته ومخادعته. قيل: أو النفس. وفسر المسرفون بالكافرين والكافر مسرف لتضييعه السعادة الأبدية بالشهوة الخسيسة المنقضية، كما يضيع المنفق ماله متجاوزا فيه الحد ما كانوا يعملون من الإعراض عن جناب الله وعن اتباع الشهوات.
* (ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذالك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف فى الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون) *: هذا إخبار لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر، على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار، والوعيد لهم، وضرب الأمثال، فكما فعل بهؤلاء، يفعل بكم. ولفظة لما مشعرة بالعلية، وهي حرف تعليق في الماضي. ومن ذهب إلى أنها ظرف معمول لأهلكنا كالزمخشري متبعا لغيره، فإنما يدل إذ ذاك على وقوع الفعل في حين الظلم، فلا يكون لها إشعار إذ ذاك بالعلية. لو قلت: جئت حين قام زيد، لم يكن مجيئك متسببا عن قيام زيد، وأنت ترى حيثما جاءت لما كان جوابها أو ما قام مقامه متسببا عما بعدها، فدل ذلك على صحة مذهب سيبويه من أنها حرف وجوب لوجوب. وجاءتهم ظاهرة أنه
134

معطوف على ظلموا أي: لما حصل هذان الأمران: مجيء الرسل بالبينات، وظلمهم أهلكوا.
وقال الزمخشري: والواو في وجاءتهم للحال أي: ظلموا بالتكذيب، وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات انتهى. وقال مقاتل: البينات مخوفات العذاب، والظاهر أن الضمير في قوله وما كانوا عائدا على القرون، وأنه معطوف على قوله: ظلموا. وجوز الزمخشري أن يكون اعتراضا لا معطوفا قال: واللام لتأكيد النفي بمعنى: وما كانوا يؤمنون حقا تأكيدا لنفي إيمانهم، وأن الله تعالى قد علم أنهم مصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم والمعنى: أن السبب في إهلاكهم تعذيبهم الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل انتهى. وقال مقاتل: الضمير في قوله: وما كانوا ليؤمنوا، عائد على أهل مكة، فعلى قوله يكون التفاتا، لأنه خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، ويكون متسقا مع قوله: وإذا تتلى عليهم. والكاف في كذلك في موضع نصب أي: مثل ذلك الجزاء، وهو الإهلاك. نجزي القوم المجرمين فهذا وعيد شديد لمن أجرم، يدخل فيه أهل مكة وغيرهم. وقرأت فرقة: يجزى بالياء، أي يجزى الله، وهو التفات. والخطاب في جعلناكم لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: خطاب لمشركي مكة، والمعنى: استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة للنظر أتعملون خيرا أم شرا فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى لننظر: لنتبين في الوجود ما عملناه أولا، فالنظر مجاز عن هذا.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ (قلت): هو مستعار للعلم المحقق الذي هو علم بالشيء موجود، أشبه بنظر الناظر وعيان المعاين في حقيقته انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال، وأنه يلزم من النظر المقابلة، وفيه إنكار وصفه تعالى بالبصير ورده إلى معنى العلم. وقيل: لننظر، هو على حذف مضاف أي: لينظر رسلنا وأولياؤنا. وأسند النظر إلى الله مجازا، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحرث الزماري: لنظر، بنون واحدة وتشديد الظاء وقال: هكذا رأيته في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه، ويعني: أنه رآها بنون واحدة، لأن النقط والشكل بالحركات والتشديدات إنما حدث بعد عثمان، ولا يدل كتبه بنون واحدة على حذف النون من اللفظ، ولا على إدغامها في الظاء، لأن أدغام النون في الظاء لا يجوز، ومسوغ حذفها أنه لا أثر لها في الأنف، فينبغي أن تحمل قراءة يحيى على أنه بالغ في إخفاء الغنة، فتوهم السامع أنه إدغام، فنسب ذلك إليه. وكيف معموله لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر، لأنها معلقة. وجاز التعليق في نظر وإن لم يكن من أفعال القلوب، لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم.
* (وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرءان غير هاذا أو بدله قل ما يكون) *: قال ابن عباس والكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة قالوا: يا محمد ائت بقرآن غير هذا فيه، ما نسألك. وقال مجاهد وقتادة: نزلت في جماعة من مشركي مكة. وقال مقاتل: في خمسة نفر: عبد الله بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن
135

أبي قيس العامري، والعاص بن وائل. وقيل: الخمسة الوليد، والعاصي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحرث بن حنظلة، وروي هذا عن ابن عباس.
قال الزمخشري: غاظهم ما في القرآن من ذم عبادة الأوثان والوعيد للمشركين فقالوا: ائت بقرآن آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك. وقال ابن عطية: نزلت في قريش لأن بعض كفار قريش قال هذه المقالة على معنى: ساهلنا يا محمد، واجعل هذا الكلام الذي من قبلك هو باختيارنا، وأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته، ليكون
أمرنا حينئذ واحدا وكلمتنا متصلة انتهى. ونبه تعالى على الوصف الحامل لهم على هذه المقالة، وهو كونهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء على ما اقترفوه، والمعنى: وإذا تسرد عليهم آيات القرآن واضحات نيرات لا لبس فيها قالوا كيت وكيت، وأضيفت الآيات إليه تعالى لأنها كلامه جل وعز، والتبديل يكون في الذات بأن يجعل بدل ذات ذات أخرى، ويكون في الصفة. والتبديل هنا هو في الصفة، وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب آية الرحمة، ولا يراد بالتبديل هنا أن يكون في الذات، لأنه يلزم جعل الشيء المقتضي للتغابر هو الشيء بعينه، لأن التبديل في الذات هو الإتيان بقرآن غير هذا. ولما كان الآيتان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان، وإن كان مستحيلا ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم) فقيل له: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي. وانتفاء الكون هنا هو كقوله تعالى: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * أي يستحيل ذلك. ويحتمل أن يكون التبديل في الذات عل أن يلحظ في قوله: ائت بقرآن غير هذا، بقاء هذا القرآن ويؤتى بقرآن غيره، فيكون أو بدله بمعنى أزله بالكلية وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين: إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه فيحصل التغاير بين المطلوبين. وتلقاء مصدر التبيان، ولم يجيء مصدر على تفعال غيرهما، ويستعمل ظرفا للمقابلة تقول: زيد تلقاءك. وقرئ بفتح التاء، وهو قياس المصادر التي للمبالغة كالتطواف والتجوال والترداد والمعنى: من قبل نفسي أن أتبع فيما آمركم به وما أنهاكم عنه من غير زيادة ولا نقصان، ولا تبديل إلا ما يجيئني خبره من السماء. واستدل بقوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلي على نفي الحكم بالاجتهاد، وعلى نفي القياس، وإنما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، لأنهم كانوا لا يعترفون بأن القرآن معجز، أو إن كانوا عاجزين عن الإتيان بمثله. ألا ترى إلى قولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا وقولهم: * (افترى على الله كذبا) * ولا يمكن أن يريدوا إئت بقرآن غير هذا أو بدله من جهة الوحي لقوله: إني أخاف.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح؟ (قلت): المكر والكيد. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه إنه من عندك، وإنك لقادر على مثله، فأبدل مكانه آخر. وأما اقتراح التبديل والتغيير فللظمع ولاختبار الحال، وأنه إن وجد منه تبديل فإما أن يهلكه الله فننجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحا لافترائه على الله تعالى انتهى. وإن عصيت بالتبديل من تلقاء نفسي، وتقدم اتباع الوحي، وتركي العمل به، وهو شرط جوابه محذوف دل عليه ما قبله. واليوم العظيم: هو يوم القيامة، ووصف بالعظم لطوله، أو لكثرة شدائده، أو للمجموع. وانظر إلى حسن هذا الجواب
136

لما كان أحد المطلوبين التبديل بدأ به في الجواب، ثم أتبع بأمر عام يشمل انتفاء التبديل وغيره، ثم أتى بالسبب الحامل على ذلك وهو الخوف، وعلقه بمطلق العصيان، فبأدنى عصيان ترتب الخوف.
* (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) *: هذه مبالغة في التبرئة مما طلبوا منه أي: إن تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو بمشيئة الله تعالى وإحداثه أمرا عجيبا خارجا عن العادات، وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتابا فصيحا يبهر كلام كل فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحونا بعلوم من علوم الأصول والفروع، وإخبار ما كان وما يكون، ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفي عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس إليه وألصقتم به. ومفعول شاء محذوف أي: قل لو شاء الله أن لا أتلوه، وجاء جواب * (لو) * على الفصيح من عدم إتيان اللام، لكونه منفيا بما، ويقال: دريت به، وأدريت زيدا به، والمعنى: ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ قنبل والبزي من طريق النقاش عن أبي ربيعة عنه: ولأدراكم بلام دخلت على فعل مثبت معطوف على منفي، والمعنى: ولأعلمكم به من غير طريقي وعل لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلا دون الناس.
وقراءة الجمهور: ولا أدراكم به فلا مؤكدة، وموضحة أن الفعل منفي لكونه معطوفا على منفي، وليست لا هي التي نفي الفعل بها، لأنه لا يصح نفي الفعل بلا إذا وقع جوابا، والمعطوف على الجواب جواب. وأنت لا تقول: لو كان كذا لا كان كذا، إنما يكون ما كان كذا. وقرأ ابن عباس، وابن سيرين، والحسن، وأبو رجاء: ولا ادرأتكم به بهمزة ساكنة، وخرجت هذه القراءة على وجهين: أحدهما: أن الأصل أدريتكم بالياء فقلبها همزة عل لغة من قال: لبأت بالحج، ورثأت زوجي بأبيات، يريد: لبيت ورثيت. وجاز هذا البدل لأن الألف والهمزة من واد واحد، ولذلك إذا حركت الألف انقلبت همزة كما قالوا في العالم العألم، وفي المشتاق المشتأق. والوجه الثاني: أن الهمزة أصل وهو من الدرء، وهو الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال: * (ويدرؤا عنها العذاب) * ودرأته جعلته دارئا، والمعنى: ولأجعلنكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وزعم أبو الفتح إنما هي أدريتكم، فقلب الياء ألفا لا نفتاح ما قبلها، وهي لغة لعقيل حكاها قطرب يقولون في أعطيتك: أعطأتك. وقال أبو حاتم: قلب الحسن الياء ألفا كما في لغة بني الحرث بن كعب السلام علاك، قيل: ثم همز على لغة من قال في العالم العألم. وقرأ شهر بن حوشب والأعمش، ولا أندرتكم به بالنون والذال من الإنذار، وكذا هي في حرف ابن مسعود، ونبه على أن ذلك وحي من الله تعالى بإقامته فيهم عمرا وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعا وكهلا، لم تجربوني في كذب، ولا تعاطيت شيئا من هذا، ولا عانيت اشتغالا، فكيف أتهم باختلاقه؟ أفلا تعقلون أن من كان بهذه الطريقة من مكثه الأزمان الطويلة من غير تعلم، ولا تلمذ، ولا مطالعة كتاب، ولا مراس جدال، ثم أتى بما ليس يمكن أن يأتي به أحد، ولا يكون إلا محقا فيما أتى به مبلغا عن ربه ما أوحى إليه وما اختصه به؟ كما جاء في حديث هرقل: هل جربتم عليه كذبا؟ قال: لا فقال: لم يكن ليدع الكذب على الخلق ويكذب على الله. وأدغم ثاء لبثت أبو عمرو، وأظهرها باقي السبعة. وقرأ الأعمش: عمرا بإسكان الميم، والظاهر وعود الضمير في من قبله على القرآن. وأجاز الكرماني أن يعود على التلاوة، وعلى النزول، وعلى الوقت يعني: وقت نزوله.
* (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون) *: تقدم تفسير مثل هذا الكلام، ومساقه هنا باعتبارين: أحدهما: أنه لما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذبا كما قال: فمن
137

أظلم ممن افترى على الله كذبا، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أن هذا القرآن هو من عند الله، وقد كذبتم بآياته، فلا أحد أظلم منكم. والاعتبار الثاني: أن ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي: لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أن له شريكا، وأن له ولدا، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم.
* (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا) *: الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم. وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. قيل: إن عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم. ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة معاقبا على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وأسافا ونائلة وهبل، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة. وفي قوله: من دون الله، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله. قال ابن إسحاق: يعنون في الآخرة. وقال النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى. وقال الحسن: شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث. وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه، وما موصولة بمعنى الذي.
قال الزمخشري: بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى، وإذا لم يكن معلوما له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئا لأن الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبرا ليس له مخبر عنه انتهى. فتكون ما واقعة على الشفاعة، والفاعل بيعلم هو الله، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما. وقوله: في السماوات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري. وفي التحرير: أتنبئون، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار، والمعنى على هذا: أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السماوات والأرض، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي. وقيل: أتخبرون الله بما لا يعلمه موجودا في السماوات والأرض، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله، وهو كما يقال للرجل: قد قلت كذا، فيقول: ما علم الله هذا مني، أي ما كان هذا قط، إذ لو كان لعلمه الله انتهى.
والذي يظهر أن ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله، وذلك على حذف مضاف والمعنى: قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السماوات والأرض أي: ليست متصفة بعلم البتة، فيكون ذلك ردا عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله، لأن من كان منتفيا عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه، ولا ما يشفع فيه، ولا من تشفع عنده؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله: ما لا يضرهم ولا ينفعهم، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة، ويكون قوله: في السماوات والأرض على هذا تنبيها على محال المعبودات المدعي شفاعتهم، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى. وقرئ: أتنبئون بالتخفيف من أنبأ. ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع، وكان ذلك إشراكا، استأنف تنزيها بقوله سبحانه وتعال. وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي: شركاهم الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم. وقرأ العربيان والحرميان وعاصم: يشركون بالياء على الغيبة هنا، وفي حرفي النحل، وحرفي في الروم. وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش. وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر، في النمل فقط بالياء على الخطاب، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب، وأتى بالمضارع ولم
138

يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي.
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك * لقضى بينهم * فيما فيه يختلفون) *: لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس، والظاهر عموم الناس. ويتصور في آدم وبينه إلى أن وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر، وقاله: أبي بن كعب. وقال الضحاك: المراد أصحاب سفينة نوح، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام. وعن ابن عباس: من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود، وسواغ. وحكى ابن القشيري أن الناس قوم إبراهيم إلى أن غير الدين عمرو بن لحي. وقال ابن زيد: هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم: * (ألست بربكم) * لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم. وقال الأصم: هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ، وأبعد من ذهب إلى أن المراد بالناس هنا آدم وحده، وهو مروي عن: مجاهد، والسدي، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير. وهذه الأقوال هي على أن المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان. وقيل: في الشرك. وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر، فآمن بعضهم، واستمر بعضهم على الكفر. أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) فآمن بعضهم، أو العرب خاصة، أقوال ثالثها للزجاج. والظاهر أن المراد بقوله: أمة واحدة في الإسلام، لأن هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام، فلا يناسب أن يقوي عباد الأصنام. فإن الناس كانوا على ملة الكفر، إنما المناسب أن يقال: إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه. وأيضا فقوله: ولولا كلمة، هو وعيد، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر، هو المقتضي للوعيد، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان، إذ لا يصلح أن يكون سببا للوعيد، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله: * (كان الناس أمة واحدة) * ولكن أعدنا الكلام فيه لبعده.
والكلمة هنا هو القضاء، والتقدير: لبني آدم بالآجال المؤقتة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة، وأن العقاب والثواب إنما يكون حينئذ. وقال الزمخشري: هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلا فيما اختلفوا فيه، وتمييز المحق من المبطل. وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقال الكلبي: الكلمة أن الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب، أو بإقامة الساعة. وقيل: الكلمة السابقة أن لا يأخذ أحدا إلا بحجة وهو إرسال الرسل. وقيل: الكلمة قوله: * (سبقت * رحمتى * غضبى) * ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة.
* (ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *: هذا من اقتراحهم. قال الزمخشري: وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم تنزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي فقل: إنما الغيب لله أي: هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لا حد به. يعني: أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات. وقال ابن عطية: آية من ربه، آية تضطر الناس إلى الإيمان، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط، ولا من المعجزات اضطرارية، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، فقل: إنما الغيب لله إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد. وقوله: فانتظروا، ووعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمدا صلى الله عليه وسلم). وقيل: الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى: * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا * الاية) * وقيل: آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء، وإحياء الموتى، طلبوا ذلك على سبيل
139

التعنت.
* (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر فىءاياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا) *: لما ذكر تعالى قوله: * (وإذ * تتلى عليهم ءاياتنا بينات قال الذين لا يرجون) *. الآية ثم ذكر قوله: * (وقالوا لولا أنزل عليه * ءاية) * وذلك على سبيل التعنت أخبر أن هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأن إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقا بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته. وإعراضهم عن الآيات نظير قوله: * (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) *. وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: إدع لنا بالخصب، فإن أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير. تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته. والرحمة هنا الغيث بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن، والشك فيه قاله الجماعة. وقال مجاهد ومقاتل: الاستهزاء والتكذيب. وقال أبو عبيدة: الرد والجحود. وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو شبيه بما قال الزمخشري: إن المكر أخفى الكيد. وقال ابن عطية: والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى. والإذاقة والمس هنا مجازان، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي: ينشئ المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك. وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جوابا لإذا الشرطية، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجاؤا بالمكر. ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل: قل الله أسرع مكرا فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالأسرعية: أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم، وهو موقعه بكم، واستدرجكم بإمهاله. قال ابن عطية: أسرع من سرع، ولا يكون من أسرع يسرع، حكى ذلك أبو علي. ولو كان من أسرع لكان شاذا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (في نار جهنم لهي أسود من القار) وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم) فليس بشاذ انتهى. وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبي على هو مذهب. وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب: المنع مطلقا وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقا، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو: أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سود وحمر وأدم إلا لكونه لونا، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقا، وبعضهم في السواد والبياض فقط.
والرسل هنا الحفظة بلا خلاف. والمعنى: أن ما تظنونه خافيا مطويا عن الله لا يخفى عليه، وهو منتقم منكم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وأبو عمر: ورسلنا بالتخفيف. وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ورويت عن نافع: يمكرون على الغيبة جريا على ما سبق. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، وأبو جعفر، وابن أبي إسحاق، وعيسى، وطلحة، والأعمش، والجحدري، وأيوب بن المتوكل، وابن محيصن، وشبل، وأهل مكة، والسبعة: بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتا لقوله: قل الله أي: قل لهم، فناسب الخطاب. وفي قوله: إن رسلنا التفات أيضا، إذ لم يأت أن رسله. وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي: يا أيها الناس إن الله أسرع مكرا،
140

وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف.
* (وهو الذى * يسيركم فى البر والبحر حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها * ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هاذه) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أن الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته. وكان قبل ذلك قد ذكر نحوا من هذا في قوله: * (وإذا مس الإنسان الضر) * الآية. وكان المذكور في الآيتين أمرا كليا، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم. وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، وأبو العالية، وزيد بن علي، وأبو جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبو عبد الرحمن، وشيبة، وابن عامر: ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحس أيضا: ينشركم من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: يسيركم من التيسير. قال أبو علي: هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيرته، ومنه قول الهذلي:
* فلا تجز عن من سنة أنت سرتها
*
فأول راض سنه من يسيرها
*
قال ابن عطية: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكونن شاهدا في هذا، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول: سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي لا يتعين، بل الظاهر أن التضعيف فيه للتعدية، لأن سار الرجل لازما ما أكثر من سرت الرجل متعديا فجعله ناشأ عن الأكثر أحسن من جعله ناشئا عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول: سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل غيره. دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أن لا يتعدى إليه الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في. وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل يغر وساطة في، وهو زعم مردود في النحو.
ومعنى يسيركم: يجعلكم تسيرون، والسير معروف، وفي قوله: والبحر دلالة على جواز ركوب البحر. ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه
141

حالة الرخاء. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ (قلت): لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء للانجاء انتهى. وهو حسن، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء: في الفلكي بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة في نحو: أحمري وزواري، وفي العلم كقول الصلتان: أنا الصلتاني الذي قد علمتم. وعلى إرادة النسب مراد به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفردا وجمعا، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى. والذي يظهر والله أعلم أن حكمة الالتفات هنا هي أن قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر. ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أن الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقال ابن عطية: بهم خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قوله: كنتم في الفلك، هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى، فكأنه قدر مفردا غائبا يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه) * أي، أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائبا على اسم غائب، فلا يكون ذلك من باب الالتفات. والباء في بهم وبريح قال العكبري: تتعلق الباآن بجرين انتهى. والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو: مررت بزيد. وأن الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب، فاختلف المدلول في البائين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز أن تكون الباء للحال أي: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق بمحذوف كما تقول: جاء زيد بثيابه أي ملتبسا بها. وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: وجرين بهم، ويحتمل أن يكون حالا أي: وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله: وجرين أن يكون معطوفا على كنتم، وأن يكون حالا. والظاهر أن قوله: جاءتها ريح عاصف، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله: وجرين بهم، وقاله مقاتل. وجوزوا أن يعود على الريح
الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.
وقرأ ابن أبي عبلة: جاءتهم، ومعنى من كل من أمكنة الموج. والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. وقيل: معناها التيقن، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك. وقرأ زيد بن علي: حيط بهم ثلاثيا والجملة من قوله: دعوا الله قال أبو البقاء: هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره: لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل منه شيء. وقال الطبري: جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف، وجواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو مخالف للظاهر، لأن قوله: وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا، لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل. كما تقول: إذا زارك فلان
142

فأكرمه، وجاءك خالد فأحسن إليه، وكأن أداة الشرط مذكورة. وقال الزمخشري: هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك، فهو ملتبس به انتهى. وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخرج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول: هو جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الله مخلصين له الدين انتهى. ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها، قال معناه: ابن عباس وابن زيد. وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان، لكن لأجعل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله، فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري انتهى. والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف، وذلك القسم وما بعده محكي بقول أي: قائلين. أو أجرى دعوا مجرى قالوا، لأنه نوع من القول، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها. وقال الكلبي: إلى الريح العاصف.
* (فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق ياأيها * أيها الناس * فلما أنجاهم إذا هم يبغون فى الارض بغير الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على) *: قال ابن عباس: يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد. قال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى قوله بغير الحق، والبغي لا يكون بحق؟ (قلت): بلى وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم، وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ببني قريظة انتهى. وكأنه قد شرح قوله: يبغون بأنهم يفسدون، ويبعثون مترقين في ذلك ممعنين فيه من بغي الجرح إذا ترقى للفساد انتهى. قال الزجاج: البغي الترقي في الفساد. وقال الأصمعي: بغي الجرح ترقي إلى الفساد، وبغت المرأة فجرت انتهى. ولا يصح أن يقال في المسلمين إنهم باغون على الكفرة، إلا إن ذكر أن أصل البغي هو الطلب مطلقا ولا يتضمن الفساد، فحينئذ ينقسم إلى طلب بحق، وطلب بغير حق. ولما حمل ابن عطية البغي هنا على الفساد قال: أكد ذلك بقوله بغير الحق. وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها، ومجئ إذا وما بعدها جوابا لها دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبله من الفعل الذي بعد لما، وأنها تفيد الترتب والتعليق في المضي، وأنها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره أنها ظرف، وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم، بل بنفس ما وقع الإنجاء وقع البغي، والخطاب بيا أيها الناس، قال الجمهور: لأهل مكة. والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله وبغوا، ويحتمل كما قالوا: العموم، فيندرج أولئك فيهم، وهذا ذم للبغي في أوجز لفظ. ومعنى على أنفسكم. وبال البغي عليكم، ولا يجني ثمرته لا أنتم. فقوله: على أنفسكم، خبر للمبتدأ الذي هو بغيكم، فيتعلق بمحذوف. وعلى هذا التوجيه انتصب متاع في قراءة زيد بن علي وحفص، وابن أبي إسحاق، وهارون، عن ابن كثير: على أنه مصدر في موضع الحال أي: متمتعين، أو باقيا على المصدرية أي: يتمتعون به متاع، أو نصبا على الظرف نحو: مقدم الحاج أي وقت متاع الحياة الدنيا. وكل هذه التوجيهات منقولة. والعامل في متاع إذا كان حالا أو ظرفا ما تعلق به خبر بعيكم أي: كائن على أنفسكم، ولا ينتصبان ببغيكم، لأنه مصدر قد فصل بينه وبين معموله بالخبر، وهو غير جائز. وارتفع متاع في قراءة الجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف. وأجاز النحاس، وتبعه الزمخشري، أن يكون على أنفسكم متعلقا بقوله: بغيكم، كما تعلق في قوله، فبغى عليهم، ويكون الخبر متاع إذا رفعته. ومعنى على أنفسكم: على أمثالكم. والذين جنسكم جنسهم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا. وقرأ ابن أبي إسحاق أيضا: متاعا الحياة الدنيا بنصب متاع وتنوينه، ونصب الحياة. وقال سفيان بن عيينة: في هذه الجملة تعجل لكم عقوبته في الحياة الدنيا. وقرأ فرقة: فينبئكم بالياء على
143

الغيبة، والمراد لله تعالى.
2 (* (إنما مثل الحيواة الدنيا كمآء أنزلناه من السمآء فاختلط به نبات الا رض مما يأكل الناس والا نعام حتى إذآ أخذت الا رض زخرفها وازينت وظن أهلهآ أنهم قادرون عليهآ أتاهآ أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالا مس كذالك نفصل الآيات لقوم يتفكرون * والله يدعوإلى دار السلام ويهدى من يشآء إلى صراط مستقيم) *)) 2
* (إنما مثل الحيواة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض مما يأكل الناس والانعام حتى إذا أخذت) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما قال: * (الحق ياأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحيواة الدنيا) * ضرب مثلا عجيبا غريبا للحياة الدنيا تذكر من يبغي فيها على سرعة زوالها وانقضائها، وأنها بحال ما تعز وتسر، تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. وقال الزمخشري: هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضها وانقراض نعيمها بعد الإقبال بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطافا بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه انتهى. وإنما هنا ليست للحصر لا وضعا ولا استعماا لا، لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالا غير هذا، والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول. والظاهر تشبيه صفة الحياة الدنيا بماء فيما يكون به، ويترتب عليه من الانتفاع ثم الانقطاع. وقيل: شبهت الحياة الدنيا بالنبات على تلك الأوصاف، فيكون التقدير: كنبات ماء، فحذف المضاف. وقيل: شبهت الحياة بحياة
مقدرة على هذه الأوصاف، فيكون التقدير: كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء. قيل: ويقوي هذا قوله: وظن أهلها أنهم قادرون عليها. والسماء إما أن يراد من السحاب، وإما أن يراد من جهة السماء، والظاهر أن النبات اختلط بالماء. ومعنى الاختلاط: تشبثه به، وتلقفه إياه، وقبوله له، لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة. وكل مخلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه، فلذلك فسره بعضهم بقوله: خالطه الماء وداخله، فغذى كل جزء منه. وقال الكرماني: فاختلط به اختلاط مجاورة، لأن الاختلاط تداخل الأشيائ بعضها في بعض انتهى. ولا يمنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل، فلا تقول: إنه اختلاط مجاورة. وقيل: اختلط اختلف وتنوع بالماء، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير. وقيل: معنى اختلط تركب. وقيل: امتد وطال. وقال الزمخشري: فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. وقال ابن عطية: وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي: اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى. وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله: فاختلط، هو ضمير يعود على الماء أي: فاختلط الماء بالأرض. ويقف هذا المذهب على قوله: فاختلط، ويستأنلف به نبات على الابتداء، والخبر المقدم. قال ابن عطية: يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى. والوقف على قوله: فاختلط، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى، الفصيح اللفظ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد، والمعنى الضعيف. ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض، أو بالماء نبات الأرض، لم يكد ينعقد كلاما من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة، ولولا أن ابن عطية ذكره وخرجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا. ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره، بين أن المراد أحد القسمين بمن فقال: مما يأكل الناس، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام، كالحشيش وسائر ما يرعى. قال الحوفي: من متعلقه باختلط. وقال أبو البقاء: مما
144

يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفا لأن المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفا. وقول أبي البقاء: هو الظاهر، وتقديره: كائنا مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولا حتى تصح الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي: فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
وقوله: أخذت الأرض زخرفها وازينت، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي: بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله: وازينت تأكيدا لقوله: أخذت الأرض زخرفها. واحتمل أن لا يكون تأكيدا، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل: وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين. ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة. وقرأ الجمهور: وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش: وتزينت على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي: وأزينت على وزن أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت. وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعبلت المرأة. والقياس: وأزانت، كقولك وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت، قاله عنه صاحب اللواح قال: كأنه كانت في الوزن بوزن احكارت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة. ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال: وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر:
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرت
وقرأ أشياخ عوف ابن أبي جميلة: وازيانت بنون مشددة وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية: وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرقة: وازاينت، والأصل وتزاينت فأدغم، والظن هنا على بابه من ترجيح أحد الجائزين. وقيل: بمعنى أيقنوا وليس بسديد، ومعنى القدرة عليها التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها، وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات. والضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف أي: أهل نباتها. وقيل: الضمير عائد على الغلة. وقيل: على الزينة، وهو ضعيف. وجواب إذا قوله: أتاها أمرنا كالريح والصر والسموم وغير ذلك من الآفات كالفار والجراد. وقيل: أتاها أمرنا بإهلاكها، وأبهم في قوله: ليلا أو نهارا، وقد علم تعالى متى يأتيها أمره، أو تكون أو للتنويع، لأن بعض الأرض يأتيها أمره تعالى ليلا وبعضها نهارا، ولا يخرج كائن عن وقوعه فيهما. والحصيد: فعيل بمعنى مفعول أي: المحصود، ولم يؤنث كما لم تؤنث امرأة جريج. وقال أبو عبيدة: الحصيد المستأصل انتهى. وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيدا العلامة ما بينهما من الطرح على الأرض. وقيل: يجوز أن تكون تشبيها بغير الأداة والتقدير: فجعلناها كالحصيد. وقوله: كأن لم تغن بالأمس، مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل، ولم يقم بالأرض بهجة خضرة
145

نضرة تسر أهلها.
وقرأ الحسن وقتادة: كأن لم يغن بالياء على التذكير. فقيل: عائد على المضاف المحذوف الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله: عليها، وفي قوله: أتاها فجعلناها. وقيل: عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد أي: كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر: كأن لم تتغن بتائين مثل تتفعل. وقال الأعشى: طويل الثواء طويل التغني، وهو من غنى بكذا أقام به. قال الزمخشري: والأمس مثل في الوقت. كأنه قيل: كأن لم تغن آنفا انتهى. وليس الأمس عبارة عن مطلق الوقت، ولا هو مرادف كقوله: آنفا، لأن آنفا معناه الساعة، والمعنى: كأن لم يكن لها وجود فيما مضى من الزمان. ولولا أن قائلا قال في
غير القرآن كأن لم يكن لها وجود الساعة لم يصح هذا المعنى، لأنه لا وجود لها الساعة، فكيف تشبه وهي لا وجود لها حقيقة بما لا وجود لها حقيقة؟ إنما يشبه ما انتفى وجوده الآن بما قدر انتفاء وجوده في الزمان الماضي، لسرعة انتقاله من حالة الوجود إلى جالة العدم، فكان حالة الوجود ما سبقت له. وفي مصحف أبي: كأن لم تغن بالأمس، وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير نفصل الآيات، رواه عنه ابن عباس. وقيل في مصحفه: وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها. وفي التحرير: وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبي كأن لم تغن بالأمس، وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها، ولا يحسن أن يقرأ حد بهذه القراءة لأنها مخالفة لخط المصحف الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون انتهى. كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي، نفصل في المستقبل. وقرأ أبو الدرداء: لقوم يتذكرون بالذال بدل الفاء.
* (والله يدعو إلى دار السلام ويهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) *: لما ذكر مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات، ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة، إذ أهلها سالمون من كل مكروه. ويجوز أن يكون تعالى أضافها إلى اسمه الشريف على سبيل التعظيم لها والتشريف كما قيل: بيت الله، وناقة الله، ويجوز أن تكون مضافة إلى السلامة بمعنى التسليم لفشو ذلك بينهم، ولتسليم الملائكة عليهم كما قال: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما) *. قال الحسن: إن السلام لا ينقطع عن أهل الجنة وهو تحيتهم كما قال تعالى: * (تحيتهم فيها سلام) * وقد وردت في دعوة الله عباده أحاديث. وقال قتادة: ذكر لنا أن في التوراة مكتوبا يا باغي الخير هلم، ويا باغي الشر انته. ولما كان الدعاء عاما لم تتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال: ويهدي من يشاء. وقال الزمخشري: ويهدي يوفق من يشاء، وهم الذين علم أن اللطف يجدي عليهم، لأن مشيئته تابعة لحكمته.
2 (* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * والذين كسبوا السيئات جزآء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من اليل مظلما أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركآؤكم فزيلنا بينهم وقال شركآؤهم
146

ما كنتم إيانا تعبدون * فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين * هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون * قل من يرزقكم من السمآء والا رض أمن يملك السمع والا بصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ومن يدبر الا مر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون * فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون * قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون * قل هل من شركآئكم من يهدىإلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدىإلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدىإلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون * وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون * وما كان هاذا القرءان أن يفترى من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين * وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون ممآ أعمل وأنا برىء مما تعملون * ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون * ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقآء الله وما كانوا مهتدين * وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون * ولكل أمة رسول فإذا جآء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين * قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شآء الله لكل أمة أجل إذا جآء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآأن وقد كنتم به تستعجلون * ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون * ويستنبئونك
147

أحق هو قل إى وربىإنه لحق ومآ أنتم بمعجزين * ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الا رض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون * ألاإن لله ما فى السماوات والا رض ألا إن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * هو يحى ويميت وإليه ترجعون * ياأيها الناس قد جآءتكم موعظة من ربكم وشفآء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين * قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون * قل أرأيتم مآ أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءآلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون * وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الا رض ولا فى السمآء ولا أصغر من ذالك ولاأكبر إلا فى كتاب مبين) *))
) *
رهقه غشيه، وقيل: لحقه ومنه. ولا ترهقني من أمري عسرا، ورجل مرهق يغشاه الأضياف. وقال الأزهري: الرهق اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيق. يقال: أرهقته أن يصلي إذا أعجلته عن الصلاة. وقيل: أصل الرهق المقاربة، يقال: غلام مراهق أي قارب الحلم. وفي الحديث: (أرهقوا القبلة) أي ادنوا منها. ويقال: رهقت الكلاب الصيد إذا لحقته، وأرهقنا الصلاة أخرناها حتى تدنو من الأخرى.
القتر والقترة الغبار الذي معه سواد، وقال ابن عرفة: الغبار. وقال الفرزدق:
* متوج برداء الملك يتبعه
*
موج ترى فوقه الرايات والقترا
*
أي غبار العسكر. وقال ابن بحر: أصل القتر دخان النار، ومنه قتار القدر انتهى. ويقال: القتر بسكون التاء الشأن والأمر، وجمعه شؤون. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. عزب يعزب ويعزب بكسر الزاي وضمها غاب حتى خفي، ومنه الروض العازب. وقال أبو تمام:
* وقلقل نأى من خراسان جأشها
*
فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه
*
148

وقيل للغائب عن أهله عازب، حتى قالوه لمن لا زوجة له.
* (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) *: أحسنوا قال ابن عباس: ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وقال الأصم: أحسنوا في كل ما تعبدوا به أي: أتوا بالمأمور به كما ينبغي، واجتنبوا المنهى. وقيل: أحسنوا معاملة الناس. وروي أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أحسنوا العمل في الدنيا) وفي الصحيح: (ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) وعن عيسى عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذلك مكافأة، ولكن الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك).
والحسنى قال الأكثرون: هي الجنة، وروي ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولو صح وجب المصير إليه. وقال الطبري: الحسنى عام في كل حسن، فهو يعم جميع ما قبل ووعد الله في جميعها بالزيادة، ويؤيد ذلك أيضا قوله: أولئك أصحاب الجنة. ولو كان معنى الحسنى الجنة لكان في القول تكرير في المعنى. وقال عبد الرحمن بن سابط: هي النضرة. وقال ابن زيد: الجزاء في الآخرة. وقيل: الأمنية ذكره ابن الأنباري. وقال الزمخشري: المثوبة الحسنى وزيادة، وما يزيد على المثوبة وهو التفضل، ويدل عليه قوله تعالى: * (ويزيدهم من فضله) * وعن علي: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس: الحسنى الحسنة والزيادة عشرة أمثالها. وعن الحسن: عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن زياد بن شجرة: الزيادة أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث موضوع: * (إذا دخلوا * أهل * الجنة * الجنة * الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم * هو الذى أنزل عليك الكتاب منه) * انتهى. أما تفسيره أولا ونقله عمن ذكر تفسير الزيادة فهو نص الجبائي ونقله، وأما قوله: وجاءت بحديث موضوع فليس بموضوع، بل خرجه مسلم في صحيحه عن صهيب، والنسائي عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم)، وخرجه ابن المبارك في دقائقه موقوفا على أبي موسى وقال: بأن الزيادة هي النظر إلى الله تعالى أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رواية وحذيفة، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وأبو موسى، وصهيب، وابن عباس في رواية، وهو قول جماعة من التابعين. ومسألة الرؤية يبحث فيها في أصول الدين. قال مجاهد: أراد ولا يلحقها خزي، والخزي يتغير به الوجه ويسود. قال ابن ابن عباس: والذلة الكآبة. وقال غيره: الهوان. وقيل: الخيبة نفي عن المحسنين ما أثبت للكفار من قوله: * (وترهقهم ذلة) * وقوله: * (عليها غبرة * ترهقها قترة) * وكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرور والحزن فيه. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى بن عمر، والأعمش: قتر بسكون التاء، وهي لغة كالقدر، والقدر وجعلوا أصحاب الجنة لتصرفهم فيها كما يتصرف الملاك على حسب اختيارهم.
* (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من) *: لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا وحالهم يوم القيامة ومآلهم إلى الجنة، ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم، وجاءت صلة المؤمنين أحسنوا، وصلة الكافرين كسبوا السيئات، تنبيها على أن المؤمن لما خلق على الفطرة وأصلها بالإحسان، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة انتقل عنها وكسب السيئات، فجعل ذلك محسنا، وهذا كاسبا للسيئات، ليدل على أن المؤمن سلك ما ينبغي، وهذا سلك ما لا ينبغي. والظاهر أن والذين مبتدأ، وجوزوا في الخبر وجوها أحدها: أنه الجملة التي بعده وهي جزاء سيئة بمثلها
149

وجزاء مبتدأ فقيل: خبره مثبت وهو بمثلها. واختلفوا في الباء فقيل: زائدة قاله ابن كيسان أي جزاء سيئة مثلها، كما قال: وجزاء سيئة سيئة مثلها، كما زيدت في الخبر في قوله:
فمنعكها بشييء يستطاع
أي شيء يستطاع. وقيل: ليست بزائدة، والتقدير: مقدر بمثلها أو مستقر بمثلها. وقيل: محذوف، فقدره الحوفي: لهم جزاء سيئة قال: ودل على تقدير لهم قوله: * (للذين أحسنوا الحسنى) * حتى تشاكل هذه بهذه. وقدره أبو البقاء جزاء سيئة بمثلها واقع، والباء في قولهما متعلقة بقوله: جزاء، والعائد من هذه الجملة الواقعة
خبرا عن الذين محذوف تقديره: جزاء سيئة منهم، كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه بدرهم. وعلى تقدير الحوفي: لهم جزاء يكون الرابط لهم. الثاني: أن الخبر قوله: ما لهم من الله من عاصم، ويكون قد فصل بين المبتدأ والخبر بجملتين على سبيل الاعتراض، ولا يجوز ذلك عند أبي علي الفارسي، والصحيح جوازه. الثالث: أن يكون الخبر كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما. الرابع: أن يكون الخبر أولئ وما بعده، فيكون في هذا القول فصل بين المبتدأ والخبر بأربع جمل معترضة، وفي القول الثالث بثلاث جمل، والصحيح منع الاعتراض بثلاث الجمل وبأربع الجمل، وأجاز ابن عطية أن يكون الذين في موضع جر عطفا على قوله: للذين أحسنوا، ويكون جزاء مبتدأ خبره قوله: والذين على إسقاط حرف الجر أي: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، فيتعادل التقسيم، كما تقول: في الدار زيد، والقصر عمر، وأي: وفي القصر عمرو. وهذا التركيب مسموع من لسان العرب، فخرجه الأخفش على أنه من العطف على عاملين. وخرجه الجمهور على أنه مما حذف منه حرف الجر، وجره بذلك الحرف المحذوف لا بالعطف على المجرور، وهي مسألة خلاف وتفصيل يتكلم فيها في علم النحو.
والظاهر أن السيئات هنا هي سيئات الكفر، ويدل عليه ذكر أوصافهم بعد. وقيل: السيئات المعاصي، فيندرج فيها الكفر وغيره. ولهذا قال ابن عطية: وتعم السيئات هاهنا الكفر والمعاصي، فمثل سيئة الكفر التخليد في النار، ومثل سيئات المعاصي مصروف إلى مشيئة الله تعالى، ومعنى بمثلها أي: لا يزاد عليها. قال الزمخشري: وفي هذا دليل على أن المراد بالزيادة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودل بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله انتهى. وقيل: معنى بمثلها أي: بما يليق بها من العقوبات، فالعقوبات تترتب على قدر السيئات، ولهذا كانت جهنم دركات، وكان المنافقون في الدرك الأسفل لقبح معصيتهم. وقرئ: ويرهقهم باليا، لأن تأنيث الذلة مجاز، وفي وصف المنافقين نفي القتر والذلة عن وجوههم، وهنا غشيتهم الذلة، وبولغ فيما يقابل القتر فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما، وهذه مبالغة في سواد الوجوه. وقد جاء مصرحا في قوله: * (وتسود وجوه) * من الله أي من سخطه وعذابه، أو من جهته تعالى، ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وأغشيت: كسبت، ومنه الغشاء. وكون وجوههم مسودة هي حقيقة لا مجاز، فتكون ألوانهم مسودة. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أن حكماء الإسلام قالوا: المراد من هذا السواد ههنا سواد الجهل وظلمة الضلال، فإن الجهل طبعه طبع الظلمة. فقوله: وجوه يومئذ سفرة ضاحكة مستبشرة،
150

المراد نور العلم وروحه وبشره وبشارته، ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى. وكثيرا ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير، وينقل كلامهم تارة منسوبا إليهم، وتارة مستندا به ويعني: بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية، وهم أحق بأن يسموا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى. وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتابا إلهيا، فلأن ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق. وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس، ويسمونها الحكمة، ويستجهلون من عرى عنها، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس، ويعكفون على دراستها، ولا تكاد تلقى أحدا منهم يحفط قرآنا ولا حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا: كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم، أغرى به علمائ الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الإشهاد، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء:
* خليفتنا جزاك الله خيرا
*
عن الإسلام والسعي الكريم
*
* فحق جهاده جاهدت فيه
*
إلى أن فزت بالفتح العظيم
*
* وصيرت الأنام بحسن هدى
*
على نهج الصراط المستقيم
*
* فجاهد في أناس قد أضلوا
*
طريق الشرع بالعلم القديم
*
* وحرق كتبهم شرقا وغربا
*
ففيها كامنا شر العلوم
*
* يدب إلى العقائد من أذاها
*
سموم والعقائد كالجسوم
*
* وفي أمثالها إذ لا دواء
*
يكون السيف ترياق السموم
*
وقال:
* يا وحشة الإسلام من فرقة
*
شاغلة أنفسها بالسفه
*
* قد نبذت دين الهدى خلفها
*
وادعت الحكمة والفلسفة
*
وقال:
* قد ظهرت في عصرنا فرقة
*
ظهورها شؤم على العصر
*
* لا تقتدي في الدين إلا بما
*
سن ابن سينا أو أبو نصر
*
ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيرا من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهرا من غير أن ينكر ذلك أحد
151

تعجبت من ذلك، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له، وأنه إذا بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق، إنما يسمونه المفعل، حتى أن صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتابا من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتابا لبعض شيوخنا في المنطق، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير، فسماه في كتابه لي بالمفعل. ولما ألبست وجوههم السواد قال: كأنما أغشيت وجوههم، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته.
وقرأ ابن كثير والكسائي قطعا بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع. وقال الأخفش في قوله: بقطع من الليل، بسواد من الليل. وأهل اللغة يقولون: القطع ظلمة آخر الليل. وقال بعضهم: طائفة من الليل. وعلى هذه القراءة يكون قوله: مظلما صفة لقوله: قطعا، كما جاء ذلك في قراءة أبي: كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء. وقيل: قطع جمع قطعة، نحو سدر وسدرة، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو: نخل منقعر، وبالمؤنث
نحو نخل خاوية، ويجوز على هذا أن يكون مظلما حالا من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة، كأنما أغشيت وجوههم قطعا بتحريك الطاء بالفتح من الليل: مظلما بالنصب.
قال الزمخشري: (فإن قلت): إذا جعلت مظلما حالا من الليل، فما العامل فيه؟ (قلت): لا يخلو إما أن يكون أغشيت، من قبل أن من الليل صفة لقوله: قطعا، فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. وإما أن يكون معنى الفعل في من الليل انتهى. أما الوجه الأول فهو بعيد، لأن الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل في الليل هو مستقر الواصل إليه بمن، وأغشيت عامل في قوله: قطعا الموصوف بقوله: من الليل، فاختلفا فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي: قطعا مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه. وقيل: مظلما حال من قوله: قطعا، أو صفة. وذكر في هذين التوجيهين لأن قطعا في معنى كثير، فلوحظ فيه الإفراد والتذكير. وجوزوا أيضا في قراءة من سكن الطاء أن يكون مظلما حالا من قطع، وحالا من الضمير في من. قال ابن عطية: فإذا كان نعتا يعني: مظلما نعتا لقطع، فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة، قطعا استقر من الليل مظلما على نحو قوله: * (وهاذا كتاب أنزلناه مبارك) * انتهى. ولا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فيكون جملة، بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد والتقدير: كائنا من الليل مظلما.
* (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى) *: الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم ذكرهم من * (الذين أحسنوا) * * (والذين كسبوا) * وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة: نحشرهم بالنون، وقرأت فرقة بالياء.
152

وقيل: يعود الضمير على الذين كسبوا السيئات، ومنهم عابد غير الله، ومن لا يعبد شيئا. وانتصب يوم على فعل محذوف أي: ذكرهم أو خوفهم ونحوه. وجميعا حال، والشركاء الشياطين أو الملائكة أو الأصنام أو من عبد من دون الله كائنا من كان أربعة أقوال. ومن قال: الأصنام، قال: ينفخ فيها الروح فينطقها الله بذلك مكان الشفاعة التي علقوا بها أطماعهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم): (أن الكفار إذا رأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب قيل لهم: اتبعوا ما كنتم تعبدون، فيقولون والله لإياكم كنا نعبد، فتقول الآلهة: فكفى بالله شهيدا) الآية. قال ابن عطية: فظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هي مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ابن مريم، بدليل القول لهم: مكانكم أنتم وشركاؤكم، ودون فرعون ومن عبد من الجن بدليل قولهم: إن كنا عن عبادتكم لغافلين. وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. ومكانكم عده النحويون في أسماء الأفعال، وقد ربا ثبتوا كما قال:
* وقولي كلما جشأت وجاشت
*
مكانك تحمدي أو تستريحي
*
أي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي، وتحملت ضميرا فأكد وعطف عليه في قوله: أنتم وشركاؤكم. والحركة التي في مكانك ودونك، أهي حركة إعراب، أو حركة بناء تبتني على الخلاف الذي بين النحويين في أسماء الأفعال؟ ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فمن قال: هي في موضع نصب جعل الحركة إعرابا، ومن قال: لا موضع لها من الإعراب جعلها حركة بناء. وعلى الأول عول الزمخشري فقال: مكانكم الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. واختلفوا في أنتم، فالظاهر ما ذكرناه من أنه تأكيد للضمير المستكن في مكانكم، وشركاؤكم عطف على ذلك الضمير المستكن وهو قول الزمخشري قال: وأنتم أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا وشركاؤكم عطف عليه انتهى. يعني عطفا على الضمير المستكن، وتقديره: الزموا، وأن مكانكم قام مقامه، فيحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانك الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا. ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازما كان اسم الفعل لازما، وإذا كان متعديا كان متعديا مثال ذلك: عليك زيدا لما ناب مناب، الزم تعدى. وإليك لما ناب مناب تنح، لم يتعد. ولكون مكانك لا يتعدى، قدره النحويون أثبت، وأثبت لا يتعدى. قال الحوفي: مكانكم نصب بإضمار فعل أي: الزموا مكانكم أو اثبتوا. وقال أبو البقاء: مكانكم ظرف مبني لوقوعه موقع الأمر، أي الزموا انتهى. وقد بينا أن تقدير الزموا ليس بجيد، إذ لم تقل العرب مكانك زيدا فتعديه، كما تعدى الزم. وقال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه انتهى. فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض، ولتقدير إضمارلا ضرورة تدعو إليه، ولقوله: فزيلنا بينهم، إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤكم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق. ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه تقول: كل رجل
153

وضيعته بالرفع، ولا يجوز فيه النصب. وقال ابن عطية أيضا: ويجوز أن يكون أنتم تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه انتهى. وهذا ليس بجيد، إذ لو كان تأكيدا لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف، إذ الظرف لم يتحمل ضميرا على هذا القول فيلزم تأخيره عنه، وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أن لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا، لأن التأكيد ينافي الحذف. وليس من كلامهم: أنت زيدا لمن رأيته قد شهر سيفا، وأنت تريد ضرب أنت زيد، إنما كلام العرب زيدا تريد اضرب زيدا.
يقال زلت الشيء عن مكانه أزيله. قال الفراء: تقول العرب: زلت الضأن من المعز فلم تزل. وقال الواحدي: التزييل والتزيل والمزايلة التمييز والتفرق انتهى. وزيل
مضاعف للتكثير، وهو لمفارقة الخبث وهن من ذوات الياء، بخلاف زال يزول فمادتهما مختلفة. وزعم ابن قتيبة أن زيلنا من مادة زال يزول، وتبعه أبو البقاء. وقال أبو البقاء: فزيلنا عين الكلمة وأو لأنه من زال يزول، وإنما قلبت لأن وزن الكلمة فيعل أي: زيولنا مثل بيطر وبيقر، فلما اجتعمت الواو والياء على الشرط المعروف قلبت ياء انتهى. وليس بجيد، لأن فعل أكثر من فيعل، ولأن مصدره تزييل. ولو كان فيعل لكان مصدره فيعله، فكان يكون زيلة كبيطرة، لأن فيعل ملحق بفعلل، ولقولهم في قريب من معناه: زايل، ولم يقولوا زاول بمعنى فارق، إنما قالوه بمعنى حاول وخالط وشرح، فزيلنا ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم، والوصل التي كانت بينهم في الدنيا، أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف وبين شركائهم كقوله تعالى: * (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون * قالوا ضلوا عنا) * وقرأت فرقة: فزايلنا حكاه الفراء. قال الزمخشري: كقولك صاعر خده، ووصعر، وكالمته وكلمته انتهى. يعني أن فاعلبمعنى فعل، وزايل في لسان العرب بمعنى فارق. قال:
* وقال العذارى إنما أنت عمنا
*
وكان الشباب كالخليط يزايله
*
وقال آخر:
* لعمري لموت لا عقوبة بعده
*
لذي البث أشفى من هوى لا يزايله
*
والظاهر أن التزييل أو المزايلة هو بمفارقة الأجسام وتباعده. وقيل: فرقنا بينهم في الحجة والمذهب قاله ابن عطية، وفزيلنا. وقال: هنا ماضيان لفظا، والمعنى: فنزيل بينهم ونقول: لأنهما معطوفان على مستقبل، ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا نعبد، والمعنى: إنكم كنتم تعبدون من أمركم أن تتخذوا لله تعالى أندادا فأطعتموهم، ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى. وانتصب شهيدا، قيل: على الحال، والأصح على التمييز لقبوله من. وتقدم الكلام في كفى وفي الياء، وأن هي الخفيفة من الثقيلة. وعند القراء هي النافية، واللام بمعنى إلا، وقد تقدم الكلام في ذلك. واكتفاؤهم بشهادة الله هو على انتفاء أنهم عبدوهم. ثم استأنفوا جملة خبرية أنهم كانوا غافلين عن عبادتهم أي: لا شعور لنا بذلك. وهذا يرجح أن الشركاء هي الأصنام كما قال ابن عطية، لأنه لو كان الشركاء ممن يعقل من إنسي أو جني أو ملك لكان له شعور بعبادتهم، ولا شيء أعظم سببا للغفلة من الجمادية، إذ لا تحس ولا تشعر بشيء البتة.
* (هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) *: هنالك ظرف مكان أي: في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. وقيل: هو إشارة إلى
154

الوقت، استعير ظرف المكان للزمان أي: في ذلك الوقت. وقرأ الإخوان وزيد بن علي: تتلوا بتاءين أي: تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها، قاله السدي. ومنه قول الشاعر:
* إن المريب يتبع المريبا
*
كما رأيت الذيب يتلو الذيبا
*
قيل: ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي: تقرأ كتبها التي تدفع إليها. وقرأ باقي السبعة: تبلوا بالتاء والبائ أي: تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره. وروي عن عاصم: نبلوا بنون وباء أي: نختبر. وكل نفس بالنصب، وما أسلفت بدل من كل نفس، أو منصوب على إسقاط الخافض أي: ما أسلفت. أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي: نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسئ. وعن الحسن تبلو تتسم. وعن الكلبي: تعلم. وقيل: تذوف. وقرأ يحيى بن وثاب: وردوا بكسر الراء، لما سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها. ومعنى إلى الله إلى عقابه. وقيل: إلى موضع جزائه مولاهم الحق، لا ما زعموه من أصنامهم، إذ هو المتولي حسابهم. فهو مولاهم في الملك والإحاطة، لا في النصر والرحمة. وقرئ الحق بالنصب على المدح نحو: الحمد لله أهل الحمد. وقال الزمخشري: كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله: ردوا إلى الله انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: وردوا إلى الله، جعلوا ملجين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله، ولذلك قال: مولاهم الحق. وضل عنهم أي: بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب، أو من دعواهم أن أصنامهم شركاء لله سافعون لهم عنده.
* (قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى) *: لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة. فبدأ بما فيه قوام
حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه، فمن السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة، تعالى توسعة منه وإحسانا. ومن ذهب إلى أن التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان. ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين: السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر الذي يرى ملكوت السماوات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب. وقال الزمخشري: من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى. ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار. وعن علي كرم الله وجهه: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم. وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى: * (أم * ماذا * كنتم تعملون) * فلا تتقدر ببل، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء. ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت، والميت من الحي، وذلك من باهر قدرته، وهو إخراج الضد من ضده. وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها
155

تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور. واعترافهم بأن الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي: لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه. ومعنى أفلا تتقون: أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟ وقيل: أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة.
* (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون * كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) *: فذلك إشارة إلى من اختص بالأوصاف السابقة، الحق الثابت الربوبية المستوجبة للعبادة، واعتقاد اختصاصه بالألوهية أصنامكم المربوطة الباطلة. وماذا استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلا، وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل: ما بعد الحق إلا الضلال، فالحق والضلال لا واسطة بينهما، إذ هما نقيضان، فمن يخطئ الحق وقع في الضلال. وماذا مبتدأ تركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهاما، كأنه قيل: أي شيء. والخبر بعد الحق، ويجوز أن يكون ذا موصولة ويكون خبر ما، كأنه قيل: الذي بعد الحق؟ وبعد صلة كذا. ولما ذكر تعالى تلك الصفات، وأشار إلى أن المتصف بها هو الله، وأنه مالكهم وأنه هو الحق، ثم وبخهم على اتباع الضلال بعد وضوح الحق قال تعالى: فأنى تصرفون، أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف تشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شيء من تلك الأوصاف. واستنباط كون الشطرنج ضلالا من قوله: فماذا بعد الحق إلا الضلال، لا يكاد يظهر، لأن الآية إنما مساقها في الكفر والإيمان وعبادة الأصنام وعبادة الله، وليس مساقها في الأمور الفرعية التي تختلف فيها الشرائع، وتختلف فيها أقوال علماء ملتنا. وقد تعلق الجبائي بهذه الآية في الرد على المجبرة إذ يقولون: إنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان. قال: لو كان كذلك ما قال: أنى تصرفون. كما لو أعمى بصر أحدهم لا يقول: إني عميت. كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب، والإشارة بذلك قيل: إلى المصدر المفهوم من تصرفون، مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله: فسيقولون الله حق العذاب عليهم أي: جازاهم مثل أفعالهم. وقيل: إشارة إلى الحق. قال الزمخشري: كذلك مثل ذلك الحق حقت كلمة ربك، أي كما حق وثبت أن الحق بعد الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقت كلمة ربك. وقال ابن عطية: كذلك أي كما كانت صفات الله كما وصف، وعبادته واجبة كما تقرر، وانصراف هؤلاء كما قدر عليهم، واكتسبوا كذلك حقت. ومعنى فسقوا: تمردوا في كفرهم وخرجوا إلى الحد الأقصى فيه، وأنهم لا يؤمنون بدل من كلمة ربك أي: حق عليهم انتفاء الإيمان. ويجوز أن يراد بالكلمة عدة العذاب، ويكون أنهم لا يؤمنون تعليلا أي: لأنهم لا يؤمنون. ويوضح هذا الوجه قراءة ابن أبي عبلة: أنهم لا يؤمنون بالكسر، وهذا إخبار منه تعالى أن في الكفار من حتم الله بكفره وقضى بتخليده. وقرأ أبو جعفر وشيبة والصاحبان: كلمات على الجمع هنا وفي آخر السورة. وقرأ باقي السبعة على الافراد.
* (قل هل
156

من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون) *: لما استفهمهم عن أشياء من صفات الله تعالى واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله، استفهم عن شيء هو سبب العبادة: وهو إبداء الخلق، وهم يسلمون ذلك. * (ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن الله) * ثم أعاد الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطفه على يسلمونه ليعلم أيهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله، وأن ذلك لوضوحه وقيام برهانه، قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر، إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه، فوجب اعتقاده. ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم) أن يجيب فقال: قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده، وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بخبرها، فعاد الخبر فيها مطابقا لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبيت. ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفا منها أحد جزءيها في قوله: فسيقولون الله، ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح خبرها. ومعنى تؤفكون تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.
* (قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع) *: لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية إلى الحق وإلى مناهج الصواب، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع قال تعالى حكاية عن الكليم: * (قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى) * وقال: * (الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى) * فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع، وهما حالان للجسد والروح. ولما كانت العقول يلحقها الاضطراب والغلط، بين تعالى أنه لا يهديهما إلا هو بخلاف أصنامهم ومعبوداتهم، فإنه ما كان منها لا روح فيه جماد لا تأثير له، وما فيه روح فليس قادرا على الهداية، بل الله تعالى هو الذي يهديه. وهدى تتعدى بنفسها إلى اثنين، وإلى الثاني بإلى
وباللام. ويهدي إلى الحق حذف مفعوله الأول، ولا يصح أن يكون لازما بمعنى يهتدي، لأن مقابله إنما هو متعد، وهو قوله قل: الله يهدي للحق أي يهدي من يشاء إلى الحق. وقد أنكر المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري من أن يكون هدى بمعنى اهتدى، وقال: لا نعرف هذا، وأحق ليست أفعل تفضيل، بل المعنى حقيق بأن يتبع. ولما كانوا معتقدين أن شركاءهم تهدي إلى الحق، ولا يسلمون حصر الهداية لله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم) بأن يبادر بالجواب فقال: قل الله يهدي للحق، ثم عادل في السؤال بالهمزة وأم بين من هو حقيق بالاتباع، ومن هو غير حقيق، وجاء على الأفصح الأكثر من فصل أم مما عطفت عليه بالخبر كقوله: * (أذالك خير أم جنة الخلد) * بخلاف قوله: * (أقريب أم بعيد ما توعدون) * وسيأتي القول في ترجيح الوصل هنا في موضعه إن شاء الله تعالى.
وقرأ أهل المدينة: إلا ورشا أمن لا يهدي بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس: لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة، وسيبويه يسمي هذا اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون في رواية كذلك: إلا أنه اختلس الحركة. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، وورش، وابن محيصن: كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء وأصله يهتدي، فقلب حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ حفص، ويعقوب، والأعمش عن أبي بكر كذلك، إلا أنهم كسروا الهاء لما اضطر إلى الحركة حرك بالكسر. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر في رواية يحيى بن آدم كذلك، إلا أنه كسر الياء. ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز يهدي، ويجيز تهدي ونهذي وأهدى قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويحيى بن وثاب، والأعمش: يهدي مضارع هدى. قال الزمخشري: هذه الهداية أحق بالاتباع أم الذي لا يهدي، أي لا يهتدي بنفسه أو لا يهدي غيره، إلا أن يهديه الله. وقيل: معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه، إلا أن يهدي، إلا أن ينقل أولا يهتدي، ولا يصح منه الاهتداء إلا بنقلة الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مطلقا فيهديه انتهى. وتقدم إنكار المبرد ما قاله الكسائي والفراء وتبعهما الزمخشري: من أن هدى بمعنى اهتدى. وقال أبو علي الفارسي: وصف الأصنام بأنها لا تهتدي إلا أن تهدى، ونحن نجدها لا نهتدي وإن هديت. فوجه ذلك أنه عامل في العبادة عنها معاملتهم في وصفها بأوصاف من يعقل، وذلك مجاز وموجود في كثير من القرآن. وقال ابن عطية: والذي أقول إن قراءة حمزة والكسائي يحتمل أن يكون المعنى أم من لا يهدي أحدا إلا أن يهدي ذلك الأحد بهداية من عند الله، وأما على غيرها من القراءات التي مقتضاها أم من لا يهتدي إلا أن يهدي فيتجه المعنى على ما تقدم لأبي علي الفارسي، وفيه تجوز كثير. ويحتمل أن يكون ما ذكر الله من تسبيح الجمادات هو اهتداؤها. وقيل: ثم الكلام عند قوله: أم من لا يهدي أي لا يهدي غيره، ثم قال: إلا أن
157

يهدي استثناء منقطع، أي لكنه يحتاج إلى أن يهدي كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي لكنه يحتاج إلى أن يسمع. وقيل: أم من لا يهدي في الرؤساء المضلين انتهى. ويكون استثناء متصلا لأنه إذ ذاك يكون فيهم قابلية الهداية، بخلاف الأصنام. فما لكم استفهام معناه التعجب والإنكار أي: أي شيء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذ كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ كيف تحكمون استفهام آخر أي: كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادا وشركاء؟ وهاتان جملتان أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثاني حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.
* (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) *: الظاهر أن أكثرهم على بابه، لأن منهم من تبصر في الأصنام ورفضها كما قال:
* أرب يبول الثعلبان برأسه
*
لقد هان من بالت عليه الثعالب
*
وقيل: المراد بأكثرهم جميعهم، والمعنى: ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظنا، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئا أي: من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع. وقيل: وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه. وقرأ عبد الله: تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتا والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن، وتقليد الآباء. وقيل: نزلت في رؤساء اليهود قريش.
* (وما كان هاذا القرءان أن * يفترى * من دون الله ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) *: لما تقدم قولهم: * (ائت بقرءان غير هاذا أو بدله) * وكان من قولهم: إنه افتراه قال تعالى: وما كان هذا القرآن أن يفتري أي: ما صح، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى. والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعا للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى. والظاهر أن أن يفتري هو خبر كان أي: افتراء، أي: ذا افتراء، أو مفترى. ويزعم بعض النحويين أن أن هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك: ما كان زيد ليفعل، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أن وأن اللام وأن يتعاقبان، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أن. والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أن يفتري خبرا لكان، بل الخبر محذوف. وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما: الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدقا لما معكم. وعم الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها، ولا هي في بلده
ولا قومه، لا بتصديق الإشراط، لأنهم لم يشاهدوا شيئا منها. وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع. وقرأ الجمهور: تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي: ولكن كان تصديق أي مصدقا ومفصلا. وقيل: انتصب مفعولا من أجله، والعامل
158

محذوف، والتقدير: ولكن أنزل للتصديق. وقيل: انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر: تفصيل وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي: ولكن هو تصديق. كما قال الشاعر:
* ولست الشاعر السفساف فيهم
*
ولكن مده الحرب العوالي
*
أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه أن العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف. وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل: ولكن تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب، كائنا من رب العالمين. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه في ذلك، فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل، ويكون لا ريب فيه اعتراضا كما تقول: زيد لا شك فيه كريم انتهى. فقوله: فيكون من رب العالمين متعلقا بتصديق وتفصيل، إنما يعني من جهة المعنى، وأما من جهة في البقرة في قوله: * (ذالك الكتاب لا ريب فيه) * وجمع بينه وبين قوله: * (وإن كنتم فى ريب مما نزلنا) *.
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) *: لما نفى تعالى أن يكون القرآن مفترى، بل جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب وبيانا لما فيها، ذكر أعظم دليل على أنه من عند الله وهو الإعجاز الذي اشتمل عليه، فأبطل بذلك دعواهم افتراءه، وتقدم الكلام على ذلك مشبعا في البقرة في قوله: * (وإن كنتم فى ريب) * الآية. وأم متضمنة معنى بل، والهمزة على مذهب سيبويه أي: أيقولون اختلقه. والهمزة تقرير لالتزام الحجة عليهم، أو إنكار لقولهم واستبعاد. وقالت فرقة: أم هذه بمنزلة همزة استفهام. وقال أبو عبيدة: أم بمعنى الواو ومجازه، ويقولون افتراه. وقيل: الميم صلة، والتقدير أيقولون. وقيل: أم هي المعادلة للهمزة، وحذفت الجملة قبلها والتقدير: أيقرون به أم يقولون افتراه. وجعل الزمخشري قل فأتوا جملة شرط محذوفة فقال: قل إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا أنتم على وجه الافتراء بسورة مثله، فأنتم مثله في العربية والفصاحة والألمعية، فأتوا بسورة مثله شبيهة به في البلاغة وحسن النظم انتهى. والضمير في مثله عائد على القرآن أي: بسورة مماثلة للقرآن، وتقدم الكلام لنا فيما وقع به الإعجاز.
وقرأ عمرو بن قائد بسورة مثله على الإضافة أي: بسورة كتاب أو كلام مثله أي: مثل القرآن. وقال صاحب اللوامح: هذا مما حذف الموصوف منه وأقيمت الصفة مقامه أي: بصورة بشر مثله، فالهاء في ذلك واقعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي العامة إلى القرآن. وادعوا من استطعتم أن تدعوه من خلق الله إلى الاستعانة على الإتيان بمثله من دونن الله أي: من غير الله، لأنه لا يقدر على أن يأتي بمثله أحد إلا الله، فلا تستعينوه وحده، واستعينوا بكل من دونه إن كنتم صادقين في أنه افتراه. وقد تمسك المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن قالوا: لأنه تحدى به وطلب الإتيان بمثله وعجزوا، ولا يمكن هذا إلا إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان قديما لكان الإتيان بمثل القديم محالا في نفس الأمر، فوجب أن لا يصح التحدي به. وقال أبو عبد الله الرازي: مراتب التحدي بالقرآن ست تحد بكل القرآن في: * (قل لئن اجتمعت) * الآية، وتحد بعشر سور، وتحد بسورة واحدة، وتحد بحديث مثله في قوله: * (فليأتوا بحديث مثله) * وفي هذه الأربع طلب أن يعارض رجل يساوي الرسول في عدم التتلمذ والتعليم، وتحد طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إسنان كان تعلم العلوم أو لم يتعلمها، وفي هذه المراتب الخمس تحدى كل واحد من الخلق، وتحد طلب من المجموع واستعانة بعض ببعض انتهى ملخصا
159

* (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) *: قال الزمخشري: بل كذبوا، بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجأوه في بديهة السماع قبل أن يفهموه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويفقهوا تأويله ومعانيه، وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم، وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم. وقال ابن عطية: هذا اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريد بما الوعيد الذي توعدهم الله على الكفر، وتأويله على هذا يريد به ما يؤول إليه أمره كما هو في قوله: * (هل ينظرون إلا تأويله) * والآية محملها على هذا التأويل يتضمن وعيدا، والمعنى الثاني: أنه أراد بل كذبوا بهذا القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم يتقدم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. وقال أبو عبد الله الرازي: يحتمل وجوها، الأول: كلما سمعوا شيئا من القصص قالوا * (أساطير الاولين) * ولم يعرفوا أن المقصود منها ليس نفس الحكاية، بل قدرته تعالى على التصرف في هذا العالم، ونقله أهله من عز إلى ذل، ومن ذل إلى عز، وبفناء الدنيا، فيعتبر بذلك. وأن ذلك القصص بوحي من الله، إذ أعلم بذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم) من غير تحريف مع كونه لم يتعلم ولم يتتلمذ. الثاني: كلما سمعوا خروف التهجي ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم، وقد أجاب الله بقوله: * (منه آيات * بينات) * الآية. الثالث: ظهور القرآن شيئا فشيئا، فساء ظنهم وقالوا: * (لولا نزل عليه القرءان جملة واحدة) * وقد أجاب تعالى وشرح في مكانه. الرابع: القرآن مملوء من الحشر، وكانوا ألفوا المحسوسات، فاستبعدوا حصول الحياة بعد الموت، فبين الله صحة المعاد بالدلائل الكثيرة. الخامس: أنه مملوء من الأمر بالعبادات، وكانوا يقولون: إله العالم غني
عن طاعتنا، وهو أجل أن يأمرنا بما لا فائدة له فيه. وأجاب تعالى بقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم) * الآية وبالجملة فشبه الكفار كثيرة، فلما رأوا القرآن مشتملا على أمور ما عرفوا حقيقتها ولا اطلعوا على وجه الحكمة فيها كذبوا بالقرآن فقوله: بما لم يحيطوا بعلمه، إشارة إلى عدم علمهم هذه الأشياء وقوله: ولما يأتهم تأويله، إشارة إلى عدم جهدهم واجتهادهم في طلب أسرار ما تضمنه القرآن انتهى ملخصا.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى التوقع في قوله تعالى: ولم ايأتهم تأويله؟ (قلت): معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر، ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوه بعد التدبر تمردا وعنادا فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرر عليهم التحدي ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغيا وحسدا انتهى. ويحتاج كلامه هذا إلى نظر. وقال أيضا: ويجوز أن يكون المعنى: ولما يأتهم تأويله، ولما يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته، حتى يتبين لهم أكذب هو أم صدق؟ يعني: أنه كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب. فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقبل أن يخبروا إخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه انتهى. وبقيت جملة الإحاطة بلم، وجملة إتيان التأويل بلما، ويحتاج في ذلك إلى فرق دقيق. والكاف في موضع نصب أي: مثل ذلك التكذيب كذب الذين من قبلهم، يعني: قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء عاندوا. قال ابن عطية: قال الزجاج: كيف، في موضع نصب على خبر كان، لا يجوز أن يعمل فيه انظر، لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانون النحويين لأنهم عاملوا كيف في كل مكان معاملة الاستفهام المحض. في قولك: كيف زيد؟ ولكيف تصرفات غير هذا تحل محل المصدر الذي هو كيفية، وينخلع معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضع أن يكون منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، وانظر قول البخاري: كيف كان بدء الوحي، فإنه لم يستقيم انتهى. وقول الزجاج: لا يجوز أن يعمل فيه انظر، وتعليله: يريد لا يجوز أن تعمل فيه انظر لفظا، لكن الجملة في موضع نصب لا نظر معلقة، وهي من نظر القلب. وقولابن عطية: هذا قانون النحويين إلى آخر تعليله، ليس كما
160

ذكر، بل لكيف كعنيان: أحدهما: الاستفهام المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلا أن تعلق عنها العامل فمعناها معنى الأسماء التي يستفهم بها إذا علق عنها العامل. والثاني: الشرط. لقول العرب: كيف تكون أكون وقوله: ولكيف تصرفات إلى آخره، ليس كيف تحل محل المصدر، ولا لفظ كيفية هو مصدر، إنما ذلك نسبة إلى كيف. وقوله: ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها قولهم: كن كيف شئت، لا يحتمل أن يكون منها، لأنه لم يثبت لها المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية. وأما كن كيف شئت، فكيف ليست بمعنى كيفية، وإنما هي شرطية وهو المعنى الثاني الذي لها. وجوابها محذوف التقدير: كيف شئت فكن، كما تقول: قم متى شئت، فمتى اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه كقولهم: اضرب زيدا إن أساء إليك، التقدير: إن أساء إليك فاضربه، وحذف فاضربه لدلالة اضرب المتقدم عليه. وأما قول البخاري: كيف كان بدء الوحي؟ فهو استفهام محض، إما على سبيل الحكاية كأن قائلا سأله فقال: كيف كان بدء الوحي؟ فأجاب بالحديث الذي فيه كيفية ذلك. والظالمين: الظاهر أنه أريد به الذين من قبلهم، ويحتمل أن يراد به من عاد عليه ضمير بل كذبوا.
* (ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين) *: الظاهر أنه إخبار بأن من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر. وقيل: هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم، فمنهم من يؤمن به باطنا ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناد، ومنهم من لا يؤمن به لا باطنا ولا ظاهرا، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها. وفيه تفريق كلمة الكفار، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر. وقيل: الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم.
* (وإن كذبوك فقل لى عملى ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون) *: أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله: * (فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون) * ومعنى لي عملي أي: جزاء عملي ولكم جزاء عملكم. ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان. والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة، وضمنها الوعيد كقوله: * (قل ياأهل * أيها * الكافرون) * السورة. وقيل: المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم. وقال قوم منهم ابن زيد: هي منسوخة بالقتال لأنها مكية، وهو قول: مجاهد، والكلبي، ومقاتل. وقال المحققون: ليست بمنسوخة، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، ولم ترفع آية السيف شيئا من هذا. وبدأ في المأمور بقوله: لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله: أنتم بريئون مما أعمل، لأن هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها، فناسب أن تلي قوله: ولكم عملكم. ولمراعاة الفواصل، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل.
* (ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون * ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو كانوا لا يبصرون * إن الله لا يظلم الناس شيئا ولاكن الناس أنفسهم يظلمون) *: قال ابن عباس: نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين. وقال ابن الأنباري: في قوم من اليهود انتهى. وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن، والضمير في يستمعون عائد على معنى من، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله: * (ومن الشياطين من يغوصون له) * والمعنى: من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله: أفأنت تسمع الصم أي هم، وإن استعموا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم
161

انتفاء العقل، فجرى بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله: ومنهم من ينظر إليك الضمير مفردا مذكرا على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب. والمعنى: أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل فقد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ من كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذه قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وقوله: أفأنت: تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم)، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإن الهداية إنما هي لله. قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولا فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفردا مذكرا، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمقصود من الآيتين: إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة، لأن من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء. وقال الشاعر:
* وإذا خفيت على المعني فعاذر
*
أن لا تراءى مقلة عمياء
*
ولما ذكر تعالى هؤلاء الأشقياء، ذكر تعالى أنه لا يظلمهم شيئا، إذ قد أزاح عللهم ببعثة الرسل وتحذيرهم من عقابه، ولكن هم ظالمو أنفسهم بالكفر والتكذيب. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي: لا يظلمهم شيئا من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وأن ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه، لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم كما قدر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل. وتقدم خلاف القراء في، ولكن الناس من تشديد النون ونصب الناس وتخفيفها والرفع.
* (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا) *: قرأ الأعمش وحفص: يحشرهم بالياء راجعا الضمير غائبا عائدا على الله، إذ تقدم * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * ولما ذكر أولئك الأشقياء أتبعه بالوعيد، ووصف حالهم يوم القيامة والمعنى: كأن لم يلبثوا في الدنيا أو في القبور يعني: فقليل لبثهم، وذلك لهول ما يعاينون من شدائد القيامة، أو لطول يوم القيامة ووقوفهم للحساب. قال ابن عباس: رأوا أن طول أعمارهم في مقابلة الخلود كساعة. قال ابن عطية: ويوم ظرف، ونصبه يصح بفعل مضمر تقديره: واذكر. ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه قوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار، ويصح نصبه بيتعارفون، والكاف من
162

قوله: كأن، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم، ويصح أن تكون في موضع نعت للمصدر كأنه قال: ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا، ويصح أن يكون قوله: كأن لم يلبثوا في موضع الحال من الضمير في نحشرهم انتهى. أما قوله: ويصح أن ينتصب بالفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا فإنه كلام مجمل لم يبين الفعل الذي يتضمنه كأن لم يلبثوا، ولعله أراد ما قاله الحوفي: من أن الكاف في موضع نصب بما تضمنت من معنى الكلام وهو السرعة انتهى. فيكون التقدير: ويوم نحشرهم يسرعون كأن لم يلبثوا، وأما قوله: والكاف من قوله كأن، يصح أن تكون في موضع الصفة لليوم، فلا يصح لأن يوم نحشرهم معرفة، والجمل نكرات، ولا تنعت المعرفة بالنكرة. لا يقال: إن الجمل الذي يضاف إليها أسماء الزمان نكرة على الإطلاق، لأنها إن كانت في التقدير تنحل إلى معرفة، فهن ما أضيف إليها يتعرف وإن كانت تنحل إلى نكرة كان ما أضيف إليها نكرة، تقول: مررت في يوم قدم زيد الماضي، فتصف يوم بالمعرفة، وجئت ليلة قدم زيد المباركة علينا. وأيضا فكأن لم يلبثوا لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأن ذلك من وصف المحشورين لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلف بعضهم تقدير محذوف بربط فقدره: كأن لم يلبثوا قبله، فحذف قبله أي قبل اليوم، وحذف مثل هذا الرابط لا يجوز. فالظاهر أنها جملة حالية من مفعول نحشرهم كما قاله ابن عطية آخرا، وكذا أعربه الزمخشري وأبو البقاء.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كأن لم يلبثوا ويتعارفون كيف موقعهما؟ (قلت): أما الأولى فحال منهم أي: نحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف يعني: فتكون حالا، وإما أن تكون مبينة لقوله: كأن لم يلبثوا إلا ساعة، لأن التعارف يبقى مع طول العهد وينقلب تناكرا انتهى. وقال الحوفي: يتعارفون فعل مستقبل في موضع الحال من الضمير في يلبثوا وهو العامل، كأنه قال: متعارفين، المعنى: اجتمعوا متعارفين. ويجوز أن يكون حالا من الهاء والميم في نحشرهم وهو العامل انتهى. وأما قول ابن عطية: ويصح أن يكون في موضع نصب للمصدر، كأنه قال: ويوم نحشرهم حشرا كأن لم يلبثوا، فقد حكاه أبو البقاء فقال: وقيل هو نعت لمصدر محذوف أي حشرا كأن لم يلبثوا قبله انتهى. وقد ذكرنا أن حذف مثل هذا الرابط لا يجوز. وجوزوا في يتعارفون أن يكون حالا على ما تقدم ذكره من الخلاف في ذي الحال والعامل فيها، وأن يكون جملة مستأنفة، أخبر تعالى أنه يقع التعارف بينهم. وقال الكلبي: يعرف بعضهم بعضا كمعرفتهم في الدنيا إذا خرجوا من قبورهم، وهو تعارف توبيخ وافتضاح، يقول بعضهم لبعض: أنت أضللتني وأغويتني، وليس تعارف شفقة وعطف، ثم تنقطع المعرفة إذا عاينوا أهوال القيامة، كما قال تعالى: * (ولا يسئل حميم حميما * يبصرونهم) *. وقيل: يعرف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطأ والكفر. وقال الضحاك: تعارف تعاطف
المؤمنين، والكافرون لا أنساب بينهم. وقيل: القيامة مواطن، ففي موطن يتعارفون وفي موطن لا يتعارفون، والظاهر أن قوله: قد خسر الذين إلى آخره جملة مستأنفة، أخبر تعالى بخسران المكذبين بلقائه. قال الزمخشري: هو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أخسرهم. وقال أيضا: وابتدأ به قد خسر على إرادة القول أي: يتعارفون بينهم قائلين ذلك. قال ابن عطية: وقيل إنه إخبار المحشورين على جهة التوبيخ لأنفسهم انتهى. وهذا يحتمل أن يكون كقول الزمخشري: يتعارفون بينهم قائلين ذلك، وأن يكون كقول غيره: نحشرهم قائلين قد خسر، فاحتمل هذا المقدر أن يكون معمولا ليتعارفون، وأن يكون معمولا لنحشرهم، ونبه على العلة الموجبة للخسران وهو التكذيب بلقاء الله. وما كانوا مهتدين: الظاهر أنه معطوف على قوله: قد خسر، فيكون من كلام المحشورين إذا قلنا: إن قوله قد خسر من كلامهم، أخبروا عن أنفسهم بخسرانهم في الآخرة وبانتفاء هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن يكون معطوفا على صلة الذين أي: كذبوا بلقاء الله، وانتفت هدايتهم في الدنيا. ويحتمل أن تكون الجملة كالتوحيد بجملة الصلة، لأن من كذب بلقاء الله هو غير مهتد. وقيل: وما كانوا مهتدين إلى غاية مصالح التجارة. وقيل: للإيمان. وقيل: في علم الله، بل هم ممن حتم ضلالهم وقضى به.
* (وإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) *: إما هي إن
163

الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة. ولو كانت أن وحدها لم يجز انتهى. يعني أن دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد إن، وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه. قال ابن خروف: أجاز سيبويه الإتيان بما، وأن لا يؤتى بها، والإتيان بالنون مع ما وإن لا يؤتى بها، والإراءة هنا بصرية، ولذلك تعدى الفعل إلى اثنين، والكاف خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). وبعض الذي نعدهم يعني: من العذاب في الدنيا. وقد أراه الله تعالى أنواعا من عذاب الكفار في الدنيا قتلا وأسرا ونهبا للأموال وسبيا للذراري، وضرب جزية، وتشتيت شمل بالجلاء إلى غير بلادهم، وما يحصل لهم في الآخرة أعظم، لأنه العذاب الدائم الذي لا ينقطع. والظاهر أن جواب الشرط هو قوله: فإلينا مرجعهم، وكذا قاله الحوفي وابن عطية. قال ابن عطية: ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تبارك وتعالى أي: إن أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليمهم على جميع أعمالهم. فثم هاهنا لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها. وقال الزمخشري: فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل: وإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه، فنحن نريك في الآخرة انتهى. فجعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف، لأن قوله: فإلينا مرجعهم صالح أن يكون جوابا للشرط والمعطوف عليه. وأيضا فقول الزمخشري: فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح منها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله فذاك الجزء الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد. وقرأ ابن أبي عبلة: ثم الله بفتح الثاء أي: هنالك. ومعنى شهادة الله على ما يفعلون مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال: ثم الله معاقبهم، وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه تعالى مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
* (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *: لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم) في قومه بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، تسلية له وتظمينا لقلبه. ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة، بل بعث إليها رسولا كما قال تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * وقوله: فإذا جاء رسولهم، إما أن كون إخبارا عن حالة ماضية فيكون ذلك في الدنيا، ويكون المعنى: أنه بعث إلى كل أمة رسولا يدعوهم إلى دين الله وينبئهم على توحيده، فلما جاءهم بالبينات كذبوه، فقضى بينهم أي: بين الرسول وأمته، فأنجى الرسول وعذب المكذبون. وإما أن يكون على حالة مستقبلة أي: فإذا جاءهم رسولهم يوم القيامة للشهادة عليهم قضى بينهم، أي: بين الأمة بالعدل، فصار قوم إلى الجنة وقوم إلى النار، فهذا هو القضاء بينهم قاله: مجاهد وغيره. ويكون كقوله تعالى: * (وجىء بالنبيين والشهداء * وقضى بينهم) *.
* (ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) *: الضمير في ويقولون، عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الشحر، استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد، أو على سبيل الاستخفاف، ولذلك قالوا: إن كنتم صادقين أي: لستم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شيء منه. وقولهم: هذا ليشهد للقول الأول في الآية قبلها، وأنها حكاية حال ماضية. وأن معنى ذلك: فإذا جاءهم الرسول وكذبوه قضى بينهم في الدنيا، وأن كل رسول وعد أمته بالعذاب في الدنيا وإن هي كذبت.
* (قل لا أملك لنفسى ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون) *: لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة، أمره عليه السلام أن يقول لهم: ليس ذلك إلي، بل ذلك إلى الله تعالى. وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فكيف أملكه لغيري؟ أو كيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله؟ ولكن لكل أمة أجل انفرد بعلمه تعالى. وتقدم الكلام على نظير قوله لكل أمة
164

أجل إلى آخر الآية في الأعراف. وقرأ ابن سيرين: آجالهم على الجمع. وإلا ما شاء الله ظاهره أنه استثناء متصل، إلا ما شاء الله أن أملكه وأقدر عليه. وقال الزمخشري: هو استثناء منقطع أي: ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب. ولكل أمة أجل أي: إن عذابكم له أجل مضروب عند الله.
* (قل أرءيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع ءامنتم به ءآلن وقد كنتم به تستعجلون) *: تقدم الكلام في أرأيتم في سورة الأنعام وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني، وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وأن المفعول الثاني أكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها ما قبلها مبتدأ وخبر كقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع؟ المعنى: أخبرني عن زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام: زيد ما صنع؟ وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف، والمسألة من باب الإعمال تنازع. أرأيت وإن أتاكم على قوله: عذابه، فأعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به السماع أكثر
من إعمال الأول. فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر، لأن إضماره مختص بالشعر، أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك. والمعنى: قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شيء تستعجلون منه، وليس شيء من العذاب يستعجله عاقل، إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم، والتنبيه لهم أن العذاب لا ينبغي أن يستعجل. ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب أي: أي شيء شديد تستعجلون منه، أي: ما أشد وأهول ما تستعجلون من العذاب. وقال الحوفي: الرؤية من رؤية القلب التي بمعنى العلم، لأنها داخلة على الجملة من الاستفهام ومعناها التقرير. وجواب الشرط محذوف، وتقدير الكلام: أرأيتم ما تستعجل من العذاب المجرمون إن أتاكم عذابه انتهى. فظاهر كلام الحوفي: أن أرأيتم باقية على موضوعها الأول لم تضمن معنى أخبروني، وأنها بمعنى أعلمتم، وأن جملة الاستفهام سدت مسد
المفعولين، وأنه استفهام معناه التقرير، ولم يبين الحوفي ما يفيد جواب الشرط المحذوف.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ (قلت): تعلق بأريأتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف: وهو تندموا على الاستعجال وتعرفوا الخطأ فيه انتهى. وما قدره الزمخشري غير سائغ، لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا تقول: أنت ظالم إن فعلت، فالتقدير إن فعلت فأنت ظالم. وكذلك وإنا إن شاء الله لمهتدون التقدير: إن شاء الله نهتد. فالذي يسوغ أن يقدر إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا والمعنى: إن أتاكم عذابه أأمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان؟ انتهى. أما تجويزه أن يكون ماذا جوابا للشرط فلا يصح، لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء، تقول: إن زارنا فلان فأي رجل هو، وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة، والمثال الذي ذكره وهو: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ هو من تمثيله، لا من كلام العرب. وأما قوله: ثم تتعلق الجملة بأرأيتم، إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جوابا للشرط، وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبرني، وأخبرني تطلب متعلقا مفعولا، ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني. وأما تجويزه أن يكون أثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط، وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا فلا يصح أيضا، لما ذكرناه من أن جملة الاستفهام لا تقع جوابا للشرط إلا ومعها فاء الجواب. وأيضا فثم هنا وهي حرف عطف، تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها، فالجملة الاستفهامية معطوفة، وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط. وأيضا فأرأيتم بمعنى أخبرني تحتاج
165

إلى مفعول، ولا تقع جملة الشرط موقعه.
وتقدم الكلام في قوله: * (بياتا) * في الأعراف مدلولا وإعرابا. والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون، مما بنوم وإما باشتغال بالمعاش والكسب، وهو نظير قوله: * (بغتة) * لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب، بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله، وهذا كقوله تعالى: بياتا وهم نائمون ضحى وهم يلعبون. ويجوز في ماذا أن يكون ما مبتدأ وذا خبره، وهو بمعنى الذي، ويستعجل صلته، وحذف الضمير العائد على الموصول التقدير أي: شيء يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولا كأنه قيل: أي شيء يستعجله من العذاب المجرمون. وقد جوز بعضهم أن يكون ماذا كله مبتدأ، وخبره الجملة بعده. وضعفه أبو علي لخلو الجملة من ضمير يعود على المبتدأ. والظاهر عود الضمير في منه على العذاب، وبه يحصل الربط لجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. وقيل: يعود على الله تعالى. والمجرمون هم المخاطبون في قوله: أرأيتم إن أتاكم. ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعا من مجيئه وإن أبطأ، فكيف يستعجله؟ وثم حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو والفاء في: * (أفلم يسيروا) * وفي * (أو لم * يسيروا) * وتقدم الكلام على ذلك. وخلاف الزمخشري للجماعا في دعواه أن بين الهمزة وحرف العطف جملة محذوفة عطفت عليها الجملة التي بعد حرف العطف. وقال الطبري في قوله: أثم بضم الثاء، أن معناه أهنالك قال: وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف انتهى. وما قاله الطبري من أن ثم هنا ليست للعطف دعوى، وأما قوله: إن المعنى أهنالك، فالذي يبنغي أن يكون ذلك تفسير معنى، لا أن ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك.
وقرأ طلحة بن مصرف: أثم بفتح الثاء، وهذا يناسبه تفسير الطبري أهنالك. وقرأ الجمهور آلآن على الاستفهام بالمد، وكذا آلآن وقد عصيت. وقرأ طلحة والأعرج: بهمزة الاستفهام بغير مد، وهو على إضمار القول أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به، فالناصب لقوله: الآن هو آمنتم به، وهو محذوف. قيل: تقول لهم ذلك الملائكة. وقيل: الله، والاستفهام على طريق التوبيخ. وفي كتاب اللوامح عيسى البصري وطلحة: آمنتم به الآن بوصل الهمزة من غير استفهام، بل على الخبر، فيكون نصبه على الظرف من آمنتم به المذكور. وأما في العامة فنصبه بفعل مضمر يدل عليه آمنتم به المذكور، لأن الاستفهام قد أخذ صدر الكلام، فيمنع ما قبله أن يعمل فيما بعده انتهى. وقد كنتم جملة حالية. قال الزمخشري: وقد كنتم به تستعجلون يعني تكذبون، لأن استعجالكم كان على جهة التكذيب والإنكار. وقال ابن عطية: تستعجلون مكذبين به.
* (ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) *: أي تقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام. والظلم ظلم الكفر لا ظلم المعصية، لأن من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخلد فيها. وثم قيل عطف على المضمر قبل الآن. ومن قرأ بوصل ألف الآن فهو استئناف إخبار عما يقال لهم يوم القيامة، وهل تجزون توبيخ لهم وتوضيح أن الجزاء هو على كسب العبد.
* (ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) *: أي يستخبرونك. وأحق هو الضمير عائد على العذاب. وقيل: على الشرع والقرآن. وقيل:
على الوعيد، وقيل: على أمر الساعة، والجملة في موضع نصب فقال الزمخشري: بيقولون أحق هو فجعل يستنبئونك تتعدى إلى واحد. وقال ابن عطية: معناه يستخبرونك، وهي على هذا تتعدى إلى مفعولين: أحدهما الكاف، والآخر في الابتداء، والخبر فعلى ما قال: يكون يستنبئونك معلقة. وأصل استنبأ أن يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بعن، تقول: استنبأت زيدا عن عمرو أي طلبت منه أن ينبئني عن عمرو، والظاهر أنها معلقة
166

عن المفعول الثاني. قال ابن عطية: وقيل هي بمعنى يستعلمونك. قال: فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة: أحدها: الكاف، والابتداء، والخبر سد مسد المفعولين انتهى. وليس كما ذكر، لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة، لا يحفظ استعلمت زيدا عمرا قائما فتكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أن تتعدى إلى ثلاثة، لأن استعلم لا يتعدى إلى ثلاثة كما ذكرنا. وارتفع هو على أنه مبتدأ، وحق خبره. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون حق مبتدأ وهو فاعلى به سد مسد الخبر، وحق ليس اسم فاعلى ولا مفعول، وإنما هو مصدر في الأصل، ولا يبعد أن يرفع لأنه بمعنى ثابت. وهذا الاستفهام منهم على جهة الاستهزاء والإنكار. وقرأ الأعمش: الحق. قال الزمخشري: وهو أدخل في الاستهزاء لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل، وذلك أن اللام للجنس، فكأنه قيل: أهو الحق لا الباطل، أو أهو الذي سميتموه الحق؟ انتهى. وأمر تعالى نبيه أن يقول مجيبا لهم: قل إي وربي، أي نعم وربي. وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل هل بمعنى قد فيه خاصة. قال معناه الزمخشري قال: وسمعتهم يقولون في التصديق أي، وفيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده انتهى. ولا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجية في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة. وقال ابن عطية: هي لفظة تتقدم القسم، وهي بمعنى نعم، ويجيء بعدها حرف القسم وقد لا يجيء، تقول: أي ربي أي وربي انتهى. وقد كان يكتفي في الجواب بقوله: أي وربي، إلا أنه أوكد بإظهار الجملة التي كانت تضمر بعد قوله: * (أي) *، مسوقة مؤكدة بأن. واللام مبايعة في التوكيد في الجواب، ولما تضمن قولهم أحق هو السؤال عن العذاب، وكان سؤالا عن العذاب اللاحق بهم لا عن مطلق عذاب يقع بمن يقع. قيل: وما أنتم بمعجزين أي فائتين العذاب المسؤول عنه، بل هو لاحق بكم. واحتملت هذه الجملة أن تكون داخلة في جواب القسم، فتكون معطوفة على الجواب قبلها. واحتمل أن تكون إخبارا، معطوفا على الجملة المقولة لا على جواب القسم. وأعجز الهمزة فيه للتعدية كما قال: ولن نعجزه هربا، لكنه كثر فيه حذف المفعول حتى قالت العرب: أعجز فلان إذا ذهب في الأرض فلم يقدر عليه، وقال الزجاج: أي ما أنتم ممن يعجز من يعذبكم.
* (ولو أن لكل نفس ظلمت ما فى الارض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) *:) * ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. وظلمت صفة لنفس. والظلم الشرك والكفر، وافتدى يأتي مطاوعا لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين. وما في الأرض أي: ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر. قال الفرزدق:
* ولما رأى الحجاج جرد سيفه
*
أسر الحروري الذي كان أطهرا
*
وقال آخر:
* فأسررت الندامة يوم نادى
*
برد جمال غاضرة المنادي
*
وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله: * (*) * ولما ذكر العذاب وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه، ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة. وظلمت صفة لنفس. والظلم الشرك والكفر، وافتدى يأتي مطاوعا لفدى، فلا يتعدى تقول: فديته فافتدى، وبمعنى فدى فيتعدى، وهنا يحتمل الوجهين. وما في الأرض أي: ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع، وأسروا من الأضداد تأتي بمعنى أظهر. قال الفرزدق:
* ولما رأى الحجاج جرد سيفه
*
أسر الحروري الذي كان أطهرا
*
وقال آخر:
* فأسررت الندامة يوم نادى
*
برد جمال غاضرة المنادي
*
وتأتي بمعنى أخفى وهو المشهور فيها كقوله: * (يعلم ما يسرون وما يعلنون) * ويتمل هنا الوجهين. أما الإظهار فإنه ليس بيوم تصبر ولا تجلد ولا يقدر فيه الكافر على كتمان ما تاله، ولأن حالة رؤية العذاب يتحسر الإنسان على اقترافه ما أوجبه، ويظهر الندامة على ما فاته من الفوز ومن الخلاص من العذاب، وقد قالوا: ربنا
167

غلبت علينا شقوتنا وأما إخفاء الندامة فقيل: أخفى رؤساؤهم الندامة من سفلتهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم، وهذا فيه بعد، لأن من عاين العذاب هو مشغول بما يقاسيه منه فكيف له فكر في الحياء وفي التوبيخ الوارد من السفلة. وأيضا وأسروا عائد على كل نفس ظلمت على المعنى، وهو عام في الرؤساء والسفقلة. وقيل: إخفاء الندامة هو من كونهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحسبوه ولا خطر ببالهم، ومعاينتهم ما أوهى قواهم فلم يطيقوا عند ذلك بكاء ولا صراخا. ولا ما يفعله الجازع سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما يعرض لمن يقدم للصلب لا يكاد ينبس بكملة، ويبقى مبهوتا جامدا. وأما من قال: إن معنى قوله: وأسروا الندامة، أخلصوا لله في تلك الندامة، أو بدت بالندامة أسرة وجوههم أي: تكاسير جباههم ففيه بعد عن سياق الآية. والظاهر أن قوله: وقضى بينهم بالقسط، جملة أخبار مستأنفة، وليست معطوفة على ما في حيز لما، وأن الضمير في بينهم عائد على كل نفس ظلمت. وقال الزمشري: بين الظالمين والمظلومين دل على ذلك ذكر الظلم انتهى. وقيل: يعود على المؤمن والكافر. وقيل: على الرؤساء والأتباع.
* (ألا إن لله ما فى * السماوات والارض * ألا إن وعد الله حق ولاكن أكثرهم لا يعلمون * وهو يحى * ويميت وإليه ترجعون) *: قيل: تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة أنه فرض أن النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لافتدت به، وهي لا شئ لها البتة، لأن جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك لله تعالى، وهو المتصرف فيها، إذ له الملك والملك. ويظهر أن مناسبتها لما قبلها أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب أحق هو؟ وأجيبوا بأنه حق لا محالة، وكان ذلك جوابا كافيا لمن وفقه الله تعالى للإيمان، كما كان جوابا للأعرابي حين سأل الرسول صلى الله عليه وسلم): آلله أرسلك؟ قوله عليه السلام: (اللهم نعم) فقنع منه بإخباره صلى الله عليه وسلم) إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق، كما قال هرقل: لم يكن ليدع الكذب على الناس. ويكذب على الله انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته. وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وأن ما سواه فهو ملكه وملكته؟ وعن هذا بهذه الآية، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه السورة في قوله: * (إن فى اختلاف اليل والنهار) * الآية وقوله: * (هو الذى جعل الشمس ضياء) * فاكتفى هنا عن ذكرها. وإذا كان جميع ما في العالم ملكه، وملكه كان قادرا على كل الممكنات، عالما بكل المعلومات، غنيا عن جميع الحاجات، منزها عن النقائص والآفات، وبكونه قادرا على الممكنات كان قادرا على إنزال العذاب على الكفار في الدنيا والآخرة، وقادرا على تأييد رسوله بالدلائل وإعلاء دينه، فبطل الاستهزاء والتعجيز. وبتنزيهه عن النقائص كان منزها عن الخلف والكذب، فثبت أن قوله: إلا أن لله ما في السماوات والأرض مقدمة توجب الجزم بصحة قوله. ألا إن وعد الله حق. وألا كلمة تنبيه دخلت على الجملتين تنبيها للغافل، إذ كانوا مشغولين بالنظر إلى الأسباب الظاهرة من نسبة أشياء إلى أنها مملوكة لمن جعل له بعض تصرف فيها واستخلاف، ولذلك قال تعالى: ولكن أكثرهم لا يعلمون يعني: لغفلتهم عن هذه الدئل، ثم أتبع ذلك بذكر قدرته على الإحياء والإماتة. فيجب أن يكون قادرا على إحيائه مرة ثانية، ولذلك قال: وإليه ترجعون، فترون ما وعد به. وقرأ الحسن بخلاف عنه، وعيسى ابن عمر: يرجعون بالياء على الغيبة. وقرأ الجمهور: بالتاء على الخطاب.
* (ترجعون ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما فى الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين) *: قيل: نزلت في قريش الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم) أحق؟ هو فالناس هم كفار قريش. وقال ابن عطية: هو خطاب لجميع العالم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة، ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي
168

إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن. قال الزمخشري: أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد، هو شفاء أي: دواء لما في صدوركم من العقائد الفاسدة، ودعاء إلى الحق ورحمة لمن آمن به منكم انتهى. ومن ربكم يحتمل أن يتعلق بجاءتكم، فمن لابتداء الغاية. ويحتمل أن يكون في موضع الصفة أي: من مواعظ ربكم، فتتعلق بمحذوف، فمن للتبعيض. وفي قوله: من ربكم تنبيه على أنه من عند الله ليس من عند أحد. قال ابن عطية: وجعله موعظة بحسب الناس أجمع، وجعله هدى ورحمة بحسب المؤمنين، وهذا تقسيم صحيح المعنى إذا تؤول بأن وجهه انتهى. وذكر أبو عبد الله الرازي هنا كلاما كثيرا ممزوجا بما يسمونه حكمة، نعلم قطعا أن العرب لا تفهم ذلك الذي قرره من ألفاظ القرآن، وطول في ذلك، وضرب أمثلة حسية يوقف عليها من تفسيره، ثم قال آخر كلامه: فالحاصل أن الموعظة إشارة إل تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الذميمة وهو الريقة، والهدى إشارة إل ظهور نور الحق في قلوب الصديقين وهو الحقيقة، والرحمة إشارة إل كونها بالغة في الكمال، والإشراق إل حيث تصير تكمل الناقصين وهي النبوة. فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الألفاظ القرآنية، لا يمكن تأخر ما تقدم ذكره، ولا تقدم ما تأخر ذكره.
* (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) *: قال الزمخشري عن أبي بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قرأ: قل بفضل الله وبرحمته فقال: * (بكتاب * الله) * فضله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه انتهى. ولو صح هذا الحديث لم يمكن خلافه. قال ابن عباس، والحسن، وقتادة، وهلال بن يساف: فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن. وقال الضحاك وزيد بن أسلم عكس هذا، وقال أبو سعيد الخدري: الفضل القرآن، والرحمة أن جعلهم من أهله. وقال ابن عباس فيما روى الضحاك عنه: الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عمر: الفضل الإسلام، والرحمة تزيينه في القلوب. وقال مجاهد:
الفضل والرحمة القرآن، واختاره الزجاج. وقال خالد بن معدان: الفضل القرآن، والرحمة السنة. وعنه أيضا أن الفضل الإسلام، والرحمة الستر. وقال عمرو بن عثمان: فضل الله كشف الغطاء، ورحمته الرؤية واللقاء. وقال الحسين بن فضل: الفضل الإيمان، والرحمة الجنة. وقيل: الفضل التوفيق، والرحمة العصمة. وقيل: الفضل نعمه الظاهرة، والرحمة نعمه الباطنة. وقال الصادق: الفضل المغفرة، والرحمة التوفيق. وقال ذون النون: الفضل الجنان، ورحمته النجاة من النيران. وهذه تخصيصات تحتاج إلى دلائل، وينبغي أن يعتقد أنها تمثيلات، لأن الفضل والرحمة أريد بهما تعيين ما ذكر وحصرهما فيه.
وقال ابن عطية: وإنما الذي يقتضيه اللفظ ويلزم منه أن الفضل هو هداية الله إلى دينه والتوفيق إلى اتباع الشرع، والرحمة هي عفوه وسكنى جنته التي جعلها جزاء على اتباع الإسلام والإيمان. ومعنى الآية: قل يا محمد لجميع الناس بفضل الله وبرحمته فليقع الفرح منكم، لا بأمور الدنيا وما يجمع من حطامها، فالمؤمنون يقال لهم: فليفرحوا وهم ملتبسون بعلة الفرح وسببه، ومخلصون لفضل الله منتظرون لرحمته، والكافرون يقال لهم: بفضل الله ورحمته فليفرحوا على معنى أن لو اتفق لكم أو لو سعدتم بالهداية إلى تحصيل ذلك انتهى. والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته، فبذلك فليفرحوا جملتان، وحذف ما تتعلق به الباء والتقدير: قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا بذلك، فليفرحوا. ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي: فمجيئهما فليفرحوا انتهى. أما إضمار
169

فليعنتوا فلا دليل عليه، وأما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي أن يقدر ذلك محذوفا بعد قل، ولا يكون متعلقا بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل. وقال الحوفي: الباء متعلقة بما دل على المعنى أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله. وقيل: الفاء الأولى زائدة، ويكون بذلك بدلا قبله، وأشير به إلى الاثنين الفضل والرحمة. وقيل: كررت الفاء الثانية للتوكيد، فعلى هذا لا تكون الأولى زائدة، ويكون أصل التركيب فبذلك ليفرحوا، وفي القول قبله يكون أصل التركيب بذلك فليفرحوا، ولا تنافي بين الأمر بالفرح هنا وبين النهي عنه في قوله: * (قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين) * لاختلاف المتعلق، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته، والمنهى هناك الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر، ولذلك جاء بعده: * (وابتغ فيما ءاتاك الله الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا) * وقبله: * (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم) * وقوله: * (لفرح فخور) * جاء ذلك على سبيل الذم لفرحه بإذاقة النعماء بعد الضراء، وبأسه وكفرانه للنعماء إذا نزعت منه، وهذه صفة مذمومة، وليس ذلك من أفعال الآخرة. وقول من قال: إذا أطلق الفرح كان مذموما، وإذا قيد لم يكن مذموما كما قال: * (فرحين بما ءاتاهم الله من فضله) * ليس بمطرد، إذ جاء مقيدا في الذم في قوله تعالى: * (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة) * وإنما يمدح الفرح ويذم بحسب متعلقه، فإذا كان بنيل ثواب الآخرة وإعمال البر كان محمودا، وإذا كان بنيل لذات الدنيا وحطامها كان مذموما.
وقرأ عثمان بن عفان، وأبي، وأنس، والحسن، وأبو رجاء، وابن هرمز، وابن سيرين، وأبو جعفر المدني، والسلمي، وقتادة، والجحدري، وهلال بن يساف، والأعمش، وعمرو بن قائد، والعباس بن الفضل الأنصاري: فلتفرحوا بالتاء على الخطاب، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم). قال صاحب اللوامح: وقال وقد جاء عن يعقوب كذلك، انتهى. وقال ابن عطية: وقرأ أبي وابن القعقاع، وابن عامر، والحسن: على ما زعم هارون. ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم) فلتفرحوا وتجمعون بالتاء فيهما على المخاطبة، وهي قراءة جماعة من السلف كثيرة، وعن أكثرهم خلاف انتهى. والجمهور بالياء على أمر الغائب. وما نقله ابن عطية أن ابن عامر قرأ فلتفرحوا بالتاء ليس هو المشهور عنه، إنما قراءته في مشهور السبعة بالياء أمرا للغائب، لكنه قرأ تجمعون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالتاء على الخطاب. وفي مصحف أبي: فبذلك فافرحوا، وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب. وأما فليفرحوا بالياء فهي لغة قليلة. وفي الحديث: * (* لتأخذوا مصافكم) * وقرأ أبو التياح والحسن: فليفرحوا بكسر اللام، ويدل على أن ذلك أشير به إلى واحد عود الضمير عليه موحدا في قوله: هو خير مما يجمعون، فالذي ينبغي أن قوله تعالى: بفضل الله وبرحمته، على أنهما شيء واحد عبر عنه باسمين على سبيل التأكيد، ولذلك أشير إليه بذلك، وعاد الضمير عليه مفردا. وقوله: مما يجمعون يعني من حطام الدنيا ومتاعها.
* (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل * الله * أذن لكم أم على الله تفترون) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها هي أنه لما ذكر تعالى: * (ترجعون ياأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) * وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم، بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحي. وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني. وجوزوا في ما أنزل أن تكون موصولة مفعولا أولا لأرأيتم، والعائد عليها محذوف، والمفعول الثاني قوله: آلله أذن لكم، والعائد على المبتدأ من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم فيه، وكرر قل قبل الخبر على سبيل التوكيد. وأن تكون ما استفهامية منصوبة بأنزل قاله: الحوفي والزمخشري. وقيل: ما استفهامية مبتدأة، والضمير من الخبر محذوف تقديره: آلله أذن لكم
170

فيه أو به، وهذا ضعيف لحذف هذا العائد. وجعل ما موصولة هو الوجه، لأن فيه إبقاء. أرأيت على بابها من كونها تتعدى إلى الأول فتؤثر فيه، بخلاف جعلها استفهامية، فإن أرأيت إذ ذاك تكون معلقة، ويكون ما قد سدت مسد المفعولين، والظاهر أن أم متصلة والمعنى: أخبروني آلله إذن لكم في التحليل والتحريم، فأنتم تفعلون ذلك بأذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه؟ فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين، وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى بل، أتفترون على الله تقريرا للافتراء انتهى، وأنزل هنا قيل معناه: خلق كقوله: * (وأنزلنا الحديد) * * (
وأنزل لكم من الانعام ثمانية أزواج) *. وقيل: أنزل على بابها وهو على حذف مضاف أي: من سبب رزق وهو المطر. وقال ابن عطية: أنزل لفظة فيها تجوز، وإنزال الرزق إما أن يكون في ضمن إنزال المطر بالمآل، ونزول الأمر به الذي هو ظهور الأثر في المخلوق منه المخترع والمجعول حراما وحلالا. قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو إشارة إلى قوله: * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا) *.
* (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثرهم لا يشكرون) *: ما استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى: أي شي ظن المفترين يوم القيامة، أبهم الأمر على سبيل التهديد، والإبعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة. ويوم منصوب بظن، ومعمول الظن قيل: تقدير ما ظنهم أن الله فاعل بهم، أينجيهم أم يعذبهم. وقرأ عيسى بن عمرو: ما ظن جعله فعلا ماضيا أي أي ظن الذين يفترون، فما في موضع نصب على المصدر، وما الاستفهامية قد تنوب عن المصدر تقول: ما تضرب زيدا تريد أي: رب تضرب زيدا.
وقال الشاعر:
* ماذا يغير ابنتي ريع عويلهما
*
لا يرقدان ولا بؤسي لمن رقدا
*
وجئ بلفظ ظن ماضيا لأنه كائن لا محالة فكأن قد كان، والأولى أن يكون ظن في معنى يظن، لكونه عاملا في يوم القيامة. وهو ظرف مستقبل، وفضله تعالى على الناس حيث أنعم عليهم ورحمهم، فأرسل إليهم الرسل، وفصل لهم الحلال والحرام، وأثرهم لا يشكر هذه النعمة.
* (وما تكون فى شأن وما تتلوا منه من قرءان ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الارض ولا فى السماء ولا أصغر من ذالك) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم، ومحاورة الرسول صلى الله عليه وسلم) لهم، وذكر فضله تعالى على الناس وأن أكثرهم لا يشكره على فضله، ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى، ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن. والخطاب في قوله تعالى: وما تكون في شأن، وما تتلوا للرسول صلى الله عليه وسلم) وهو عام بجميع شؤونه عليه السلام. وما تتلوا مندرج تحت عموم شأن، واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن. وما في الجملتين نافية، والضمير في منه عائد على شأن، ومن قرآن تفسير للضمير، وخص من العموم لأن القرآن هو أعظم شؤونه عليه السلام. وقيل: يعود على التنزيل، وفسر بالقرآن لأن كل جزء منه قرآن، وأضمر قبل الذكر على سبيل التفخيم له. وقيل: يعود على الله تعالى أي: وما تتلوا من عند الله من قرآن. والخطاب في قوله: ولا تعملون عام، وكذا إلا كنا عليكم شهودا. وولى إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد، لأنه قد تقدم الأفعل. والجملة بعد إلا حال وشهودا رقباء نحصي عليكم، وإذ معمولة لقوله: شهودا. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وتنسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضيا، وكان المعنى: وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن
171

ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ أفضتم فيه. وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي، ولما كان قوله: إلا كنا عليكم شهودا فيه تحذير وتنبيه عدل عن خطابه صلى الله عليه وسلم) إلى خطاب أمته بقوله: ولا تعملون من عمل، وإن كان الله شهيدا على أعمال الخلق كلهم. وتفيضون: تخوضون، أو تنشرون، أو تدفعون، أو تنهضون، أو تأخذون، أو تنقلون، أو تتكلمون، أو تسعون، أقوال متقاربة ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله: وما يعزب عن ربك، تشريفا له وتعظيما. ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض الذي هي محل المخاطبين على السماء، بخلاف ما في سورة سبأ، وإن كان الأكثر تقديمها على الأرض.
وقرأ ابن وثاب، والأعمش، وابن مصرف، والكسائي، يعزب بكسر الزاي، وكذا في سبأ. والمثقال اسم لا صفة، ومعناه هنا وزن ذرة. والذر صغار النمل، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثالا لأقل الأشياء وأحقرها، إذ هي أحقر ما نشاهد. ثم قال: ولا أصغر من ذلك أي: من مثقال ذرة. ولما ذكر تعالى أنه لا يغيب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهدها، ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك، ثم أتى بقوله: ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء. ومعلوم أن من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقا بأكبر الأشياء وأظهرها. وقرأ الجمهور: لا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على ذرة أو على مثقال على اللفظ. وقرأ حمزة وحده: برفع الراء فيهما، ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب، هكذا وجهه الحوفي وابن عطية وأبو البقاء. وقال الزمخشري نابعا لاختيار الزجاج: والوجه النصب على نفي الجنس، والرفع على الابتداء، يكون كلاما مبتدأ. وفي العطف عل محل مثقال ذرة أو لفظه فتحا في موضع الجر أشكال، لأن قولك: لا يعزب عنه شيء إلا في كتاب مشكل انتهى. وإنما أشكل عنده، لأن التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب، وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره: لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الإشكال. وقال أبو عبد الله الرازي: أجاب بعض المحققين من وجهين: أحدهما: أن الاستثناء منقطع، والآخر أن العزوب عبارة عن مطلق البعد، والمخلوقات قسم أوجده الله ابتداء من غير واسطة كالملائكة والسماوات والأرض، وقسم أوجده بواسطة القسم الأول مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعد في سلسلة العلية والمملوكية عن مرتبة وجود واجب الوجود، فالمعنى: لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء إلا وهو في كتاب مبين، كتبه الله، وأثبت صور تلك المعلومات فيها انتهى،
وفيه بعض تلخيص. وقال الجرجاني صاحب النظم: إلا بمعنى الواو أي: وهو في كتاب مبين. والعرب تضع إلا موضع واو النسق كقوله: * (إلا من ظلم) * إلا الذين ظلموا منهم) * انتهى. وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو، وتقدم الكلام على قوله: * (*) * انتهى. وهذا قول ضعيف لم يثبت من لسان العرب وضع إلا موضع الواو، وتقدم الكلام على قوله: * (إلا الذين ظلموا منهم) * وسيأتي على قوله: إلا من ظلم إن شاء الله تعالى.
(* (ألاإن أوليآء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الا خرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم * ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألاإن لله من فى السماوات ومن فى الا رض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركآء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون * هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون * قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما فى السماوات وما فى الا رض إن عندكم من سلطان بهاذآ أتقولون على الله ما لا تعلمون * قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع فى الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون * واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركآءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين * ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجآءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *))
) *
* (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين ءامنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحيواة الدنيا وفى الاخرة لا تبديل لكلمات الله ذالك هو الفوز العظيم) *
172

أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وقد فسر ذلك في قوله: * (الذين ءامنوا وكانوا يتقون) * وعن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) سئل عن أولياء الله فقال: * (هم الذين * يذكرون الله) * يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس: الإخبات والسكينة. وقيل: هم المتحابون في الله. قال ابن عطية: وهذه الآية يعطي ظاهرها أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذرا من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي انتهى. وإنما قال: حذرا من مذهب الصوفية، لأن بعضهم نقل عنه أن الولي أفضل من النبي، وهذا لا يكاد يخطر في قلب مسلم. ولابن العربي الطائي كلام في الولي وفي غيره نعوذ بالله منه. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله) قالوا: يا رسول الله ومن هم؟ قال: (قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لتنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ: ألا إن أولياء الله) الآية وتقدم تفسير لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يحتمل أن يكون منصوبا على الصفة قاله الزمخشري، أو على البدل قاله ابن عطية، أو بإضمار أمدح، ومرفوعا على إضمارهم، أو على الابتداء، والخبر لهم البشرى. وأجاز الكوفيون رفعه على موضع أولياء نعتا، أو بدلا، وأجيز فيه الخبر بدلا من ضمير عليهم. وفي قوله: وكانوا يتقون، إشعار بمصاحبتهم للتقوى مدة حياتهم، فحالهم في المستقبل كحالهم في الماضي. وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) (أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن) أو (ترى له) فسرها بذلك وقد سئل. وعنه في صحيح مسلم: (لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة) وقال قتادة والضحاك: هي ما يبشر به المؤمن عند موته وهو حي عند المعاينة. وقيل: هي محبة الناس له، والذكر الحسن. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس: فقال: (تلك عاجل بشرى المؤمن) وعن عطاء: لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال تعالى: * (استقاموا تتنزل عليهم الملئكة) * الآية قال ابن عطية: ويصح أن تكون بشرى الدنيا في القرآن من الآيات المبشرات، ويقوي ذلك قوله في هذه الآية: لا تبديل لكلمات الله، وإن كان ذلك كله يعارضه قول النبي صلى الله عليه وسلم): (هي الرؤيا) إلا إن قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم) أعطى مثالا من البشرى وهي تعم جميع البشر. وبشراهم في الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالنور والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم، وإعطاء الصحف بأيمانهم، وما يقرؤون منها، وغير ذلك من البشارات. لا تبديل لكلمات الله، لا تغيير لأقواله، ولا خلف في مواعيده كقوله: * (ما يبدل القول لدى) * والظاهر أن ذلك إشارة إلى التبشير والبشرى في معناه. قال الزمخشري: وذلك إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين. وقال ابن عطية: إشارة إلى النعيم الذي وقعت به البشرى.
* (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم * ألا إن لله من فى * السماوات * ومن فى الارض وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *:
173

إما أن يكون قولهم أريد به بعض أفراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم)، فيكون من إطلاق العام وأريد به الخاص. وإما أن يكون مما حذفت منه الصفة المخصصة أي: قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك، ثم استأنف بقوله: إن العزة لله جميعا أي: لا عزة لهم ولا منعة، فهم لا يقدرون لك على شيء ولا يؤذونك، إن الغلبة والقهر لله، وهو القادر على الانتقام منهم، فلا يعازه شيء ولا يغالبه. وكأن قائلا قال: لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن؟ فقيل: إن العزة لله جميعا، ليس لهم منها شيء. وقرأ أبو حيوة: أن العزة بفتح الهمزة وليس معمولا لقولهم: لأن ذلك لا يحزن الرسول صلى الله عليه وسلم)، إذ هو قول حق. وخرجت هذه القراءة على التعليل أي: لا يقع منك حزن لما يقولون، لأجل أن العزة لله جميعا. ووجهت أيضا على أن يكون إن العزة بدل من قولهم ولا يظهر
هذا التوجيه.
قال الزمخشري: ومن جعله بدلا من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه لا ما أنكره من القرآن. وقال القاضي: فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب. وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح إن في هذا الموضع وهو كفر وغلو، وإنما قال القاضي وابن قتيبة بناء منهما على أن أن معمولة لقولهم، وقد ذكرنا توجيه ذلك على التعليل وهو توجيه صحيح. هو السميع لما يقولون، العليم لما يريدون.
وفي هذه الآية تأمين للرسول صلى الله عليه وسلم) من إضرار الكفار، وأن الله تعالى يديه عليهم وينصره. * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) * * (إنا لننصر رسلنا) * وقال الأصم: كانوا يتعززون بكثرة خدمهم وأموالهم، فأخبر أنه قادر على أن يسلب منهم ملك الأشياء، وأن ينصرك وينقل إليك أموالهم وديارهم انتهى. ولا تضاد بين قوله: إن العزة لله جميعا، وقوله: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * لأكن عزتهم إنما هي بالله، فهي كلها لله. * (ألا إن لله من فى * السماوات * ومن فى الارض) * وما يبتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) *.
المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكا له تعالى، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب، وحيث جيء بما كان تغليبا للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل. وقال الزمخشري: يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم، لا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا فيها، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون ندا وشريكا. ويدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسي فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر. والظاهر أن ما نافية، وشركاء مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره: آلهة أو شركاء أي: أن الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء. وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع، وشركاء منصوب بيدعون أي: وأي شيء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو شريكا لله لا يتبع شيئا. وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفا على من، والعائد محذوف أي: والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي: وله شركاؤهم. وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والذي يتبعه المشركون باطل. وقرأ السلمي: تدعون بالتاء على الخطاب. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وقال الزمخشري: وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى: * () *.
المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكرأن العزة له تعالى وهي القهر والغلبة، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات ملكا له تعالى، ومن الأصل فيها أن تكون للعقلاء، وهنا هي شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب، وحيث جيء بما كان تغليبا للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا تعقل. وقال الزمخشري: يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصهم ليؤذن أن هؤلاء إذا كانوا له في ملكه فهم عبيد كلهم، لا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكا فيها، فما دونهم مما لا يعقل أحق أن لا يكون ندا وشريكا. ويدل على أن من اتخذ غيره ربا من ملك أو إنسي فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدى إليه التقليد وترك النظر. والظاهر أن ما نافية، وشركاء مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره: آلهة أو شركاء أي: أن الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة، إذ الشركة في الألوهية مستحيلة، وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء. وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع، وشركاء منصوب بيدعون أي: وأي شيء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو شريكا لله لا يتبع شيئا. وأجاز الزمخشري أن تكون ما موصولة عطفا على من، والعائد محذوف أي: والذي يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي: وله شركاؤهم. وأجاز غيره أن تكون ما موصولة في موضع رفع على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والذي يتبعه المشركون باطل. وقرأ السلمي: تدعون بالتاء على الخطاب. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وقال الزمخشري: وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه تدعون بالتاء، ووجهه أن يحمل وما يتبع على الاستفهام أي: وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنهم يبتعون الله تعالى ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل كقوله تعالى: * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * انتهى. وأن نافية أي: ما يتبعون إلا ظنهم أنهم شركاء. ويخرصون: يقدرون. ومن قرأ تدعون بالتاء كان
174

قوله: إن يتبعون التفاتا، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة.
* (هو الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن فى ذالك لآيات لقوم يسمعون) *: هذا تنبيه منه تعالى على عظيم قدرته وشمول نعمته لعباده، فهو المستحق لأن يفرد بالعبادة لتسكنوا فيه مما تقاسون من الحركة والتردد في طلب المعاش وغيره بالنهار، وأضاف الأبصار إلى النهار مجازا، لأن الأبصار تقع فيه كما قال:
ونمت وما ليل المطي بنائم
أي: يبصرون فيه مطالب معايشهم. وقال قطرب: يقال أظلم الليل صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر انتهى. وذكر علة خلق الليل وهي قوله: لتسكنوا فيه، وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل على مقابله، والتقدير: جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة، ومعنى تسمعون: سماع معتبر.
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون. قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا
يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) *: الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد، ممن قال الملائكة بنات الله، أو عزير ابن الله، أو المسيح ابن الله، وسبحانه: تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك، هو الغني علة لنفي الولد، لأن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتف عنه، وكل ما في السماوات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد. وأن نافية، والسلطان الحجة أي: ما عندكم من حجة بهذا القول. قال الحوفي: وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني: الذي تعلق به الظرف. وتبعه الزمخشري فقال: الباء حقها أن تتعلق بقوله: إن عندكم على أن يجعل القول مكانا للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم نور، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. وقال أبو البقاء: وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد. ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم. والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد، ومن قال في الله وفي صفاته قولا بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل: متاع قليل جواب على تقدير سؤال، كان قائلا قال: كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به، فقيل: ذلك متاع في الدنيا، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة.
2 (* (*) *: الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله الولد، ممن قال الملائكة بنات الله، أو عزير ابن الله، أو المسيح ابن الله، وسبحانه: تنزيه من اتخاذ الولد وتعجب ممن يقول ذلك، هو الغني علة لنفي الولد، لأن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شيء، فالولد منتف عنه، وكل ما في السماوات والأرض ملكه فهو غني عن اتخاذ الولد. وأن نافية، والسلطان الحجة أي: ما عندكم من حجة بهذا القول. قال الحوفي: وبهذا متعلق بمعنى الاستقرار يعني: الذي تعلق به الظرف. وتبعه الزمخشري فقال: الباء حقها أن تتعلق بقوله: إن عندكم على أن يجعل القول مكانا للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم نور، كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. وقال أبو البقاء: وبهذا متعلق بسلطان أو نعت له، وأتقولون استفهام إنكار وتوبيخ لمن اتبع ما لا يعلم، ويحتج بذلك في إبطال التقليد في أصول الدين، واستدل بها نفاة القياس وإخبار الآحاد. ولما نفى البرهان عنهم جعلهم غير عالمين، فدل على أن كل قول لا برهان عليه لقائله فذلك جهل وليس بعلم. والذين يفترون على الله الكذب عام يشمل من نسب إلى الله الولد، ومن قال في الله وفي صفاته قولا بغير علم وهو داخل في الوعيد بانتفاء الإفلاح، ولما نفى عنهم الفلاح وكان لهم حظ من إفلاحهم في الدنيا لحظوظ فيها من مال وجاه وغير ذلك قيل: متاع قليل جواب على تقدير سؤال، كان قائلا قال: كيف لا يفلحون وهم في الدنيا مفلحون بأنواع مما يتلذذون به، فقيل: ذلك متاع في الدنيا، أو لهم متاع في الدنيا زائل لا بقاء له، ثم يلقون الشقاء المؤبد في الآخرة.
(* (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جآءهم الحق من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جآءكم أسحر هاذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه ءاباءنا وتكون لكما الكبريآء فى الا رض وما نحن لكما بمؤمنين * وقال فرعون ائتونى بكل ساحر عليم * فلما جآء السحرة قال لهم موسى ألقوا مآ أنتم ملقون * فلمآ ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون * فمآ ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الا رض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين * وأوحينآ إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين) *))
) *
175

لفت عنقه لوها وصرفها. وقال الأزهري: لفت الشيء وقتله لواه، وهذا من المقلوب انتهى. ومطاوع لفت التفت، وقيل: انفتل.
* (واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم * قوم أن * كان كبر عليكم مقامى وتذكيرى بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) *: لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار، ذكر قصصا من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم)، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع، وليعلم المتلو عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتابا ولا صحب عالما، وأنها طبق ما أخبر به. فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به، وأنه نبي لا شك فيه. والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم. وكبر معناه عظم مقامي أي: طول مقامي فيكم، أو قيامي للوعظ. كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما ليروه وهم قعود، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول: فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل. قال ابن عطية: ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى. وليس كما ذكر، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء. والمقام الإقامة بالمكان، والمقام مكان القيام. والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي، وجواب الشرط محذوف تقديره: فافعلوا ما شئتم. وقيل: الجواب فعلى الله توكلت. وفأجمعوا معطوف على الجواب، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائما. وقال الأكثرون
176

الجواب فأجمعوا، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله:
* أما تريني قد نحلت ومن يكن
*
غرضا لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل ثقلك بادن ضخم على ظهر الجواد مهبل
*
وقرأ الجمهور: فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه. قال الشاعر:
* أجمعوا أمرهم بليل فلما
*
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
*
وقال آخر:
* يا ليت شعري والمنى لا تنفع
*
هل أعذرت يوما وأمري مجمع
*
وقال أبو قيد السدوسي: أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره جعله مجموعا بعدما كان متفرقا، قال: وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي: جعله جميعا، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى، فقيل: أجمعت على الأمر أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر انتهى. وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفا على أمركم على حذف مضاف أي: ك وأمر شركائكم، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف. لأنه يقال أيضا: أجمعت شركائي، أو منصوبا بإضمار فعل أي: وادعوا شركاءكم، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر، فيكون نظير قوله:
* فعلفتها تبنا وماء باردا
*
حتى شتت همالة عيناها
*
في أحد المذهبين أي: وسقيتها ماء باردا، وكذا هي في مصحف أبي. وادعوا شركاءكم، وقال أبو علي: وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا: جاء البرد والطيالسة. ولم يذكر الزمخشري في نصب، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم، وذلك على أشهر الاستعمالين. لأنه يقال: أجمع الشركاء، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا
177

قليلا، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلا. وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولا معه خلاف، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى. وقرأ الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبو رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع، ويعقوب: بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال: شركائي، أو على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف أي: ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف، لو ثبت قاله أبو علي. وفي كتاب اللوامح: أجمعت الأمر أي جعلته جميعا، وجمعت الأموال جميعا، فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر. وفي التنزيل: * (فجمع كيده) * انتهى.
وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وسلام، ويعقوب فيما روي عنه: وشركاؤكم بالرفع، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي: وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة: وشركائكم بالخفض عطفا على الضمير في أمركم أي: وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر:
* أكل امرئ تحسبين أمرءا
*
وتار توقد بالليل نارا
*
أي وكل نار، فحذف كل لدلالة ما قبله عليه. والمراد بالشركاء الأنداد من دون الله، أضافهم إليهم إذ هم يجعلونهم شركاء بزعمهم، وأسند الإجماع إلى الشركاء على وجه التهكم كقوله تعالى: * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون) * أو يراد بالشركاء من كان على دينهم وطريقتهم. قال ابن الأنباري: المراد من الأمر هنا وجود كيدهم ومكرهم، فالتقدير: لا تتركوا من أمركم شيئا إلا أحضرتموه انتهى. وأمره إياهم بإجماع أمرهم دليل على عدم مبالاته بهم ثقة بما وعده ربه من كلاءته وعصمته، ثم لا
يكن أمركم عليكم غمة أي حالكم معي وصحبتكم لي غما، وهما أي: ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة، وحالكم عليكم غمة. والغم والغمة كالكرب، والكربة قال أبو الهيثم: هو من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم إذا التمس فلم ير. وقال طرفة:
* لعمرك ما أمري علي بغمة
*
نهاري ولا ليلي علي بسرمد
*
وقال الليث: يقال: إنه لفي غمة من أمره إذا لم يتبين له. وقال الزجاج: أمركم ظاهرا مكشوفا، وحسنه الزمخشري فقال: وقد ذكر القول الأول الذي يراد بالأمر فقال: والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأول. والغمة السترة، من عمه إذا ستره. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم): (ولا غمة في فرائض الله تعالى) أي لا تستر ولكن يجاهر بها، يعني: ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستورا عليكم، بل مكشوفا مشهورا تجاهرون به انتهى. ومعنى اقضوا: إلى أنفذوا قضاءكم
178

نحوي، ومفعول اقضوا محذوف أي: اقضوا إلي ذلك الأمر وامضوا في أنفسكم، واقطعوا ما بيني وبينكم. وقرأ السري بن ينعم: ثم أفضوا بالفاء وقطع الألف، أي: انتهوا إلي بشركم من أقضى بكذا انتهى إليه. وقيل: معناه أسرعوا. وقيل: من أفضى إذا خرج إلى الفضاء أي: فاصحروا به إلي وأبرزوه. ومنه قول الشاعر:
* أبى الضيم والنعمان تحرق نابه
*
عليه فأفضى والسيوف معاقله
*
* (فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن معه فى الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) *: أي: فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم، لأن توليكم لا يضرني في خاصتي، ولا قطع عني صلة منكم، إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم، لم أسألكم عليه أجرا، إنما يثيبني عليه الله تعالى أي: ما نصحتكم إلا لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا، ثم أخبر أنه أمره أن يكون من المسلمين من المنقادين لأمر الله الطائعين له، فكذبوه، فتموا على تكذيبه، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان. وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه، أو بفنجيناه. وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من، وخلائف يخلفون الفارقين المهلكين. ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب، وإلى ما صار إليه حالهم. وفي هذا الإخبار توعد للكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالهم كحالهم في التعذيب. والخطاب في فانظر للسامع لهذه القصة، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم الرسول، وتسلية له صلى الله عليه وسلم).
* (ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين) *: من بعده أي: من بعد نوح رسلا إلى قومهم، يعني هودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وشعيبا. والبينات: المعجزات، والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤوا به. وجاء النفي مصحوبا بلام الجحود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع، والضمير في كذبوا عائد على من عاد عليه ضمير كانوا وهم قوم الرسل. والمعنى: أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق، فتساوت حالتهم قبل البعثة وبعدها، كأن لم يبعث إليهم أحد. ومن قبل متعلق بكذبوا أي: من قبل بعثة الرسل. وقيل: المعنى أنهم بادروا رسلهم بالتكذيب كلما جاء رسول، ثم لحوا في الكفر وتمادوا، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لحهم في الكفر وتماديهم. وقال يحيى بن سلام: من قبل معناه من قبل العذاب، وهذا القول فيه بعد. وقيل: الضمير في كذبوا عائد على قوم نوح أي: فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، يعني: أن شنشنتهم واحدة في التكذيب. قال ابن عطية، ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو: أن تكون ما مصدرية، والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل أي: من سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل كذلك نطبع انتهى. والظاهر أن ما موصولة، ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به. ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور، فتحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. وقرأ الجمهور: نطبع بالنون، والعباس بن الفضل بالياء، والكاف للتشبيه أي: مثل ذلك الطبع المحكم الذي يمتنع زواله نطبع على قلوب المعتدين المجاوزين طورهم والمبالغين في الكفر.
* (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين * فلما جاءهم الحق
179

من عندنا قالوا إن هاذا لسحر مبين * قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هاذا ولا يفلح الساحرون) * أي: من بعد أولئك الرسل بآياتنا وهي المعجزات التي ظهرت على يديه، ولا يخص قوله: وملائه بالإشراف، بل هي عامة لقوم فرعون شريفهم ومسروفهم. فاستكبروا تعاظموا عن قبولها، وأعظم الكبر أن يتعاظم العبيد عن قبول رسالة ربهم بعد تبينها واستيضاحها، وباجترامهم الآثام العظيمة استكبروا واجترؤوا على ردها. والحق هو العصا واليد قالوا لحبهم الشهوات: إن هذا لسحر مبين، وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلا تمويها وباطلا، ولم يقولوا إن هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها، واليد وخروجها بيضاء، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا وهي معجزة موسى الذي وقع فيها عجز المعارض. وقرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: لساحر مبين، جعل خبر إن اسم فاعل لا مصدرا كقراءة الجماعة. ولما كابروا موسى فيما جاء به من الحق أخبروا على جهة الجزم بأن ما جاء به سحر مبين فقال لهم موسى: أتقولون؟ مستفهما على جهة
الإنكار والتوبيخ، حيث جعلوا الحق سحرا، أسحر هذا أي: مثل هذا الحق لا يدعى أنه سحر. وأخبر أنه لا يفلح من كان ساحرا لقوله تعالى: * (ولا يفلح الساحر * ثم أتى) * والظاهر أن معمول أتقولون محذوف تقديره: ما تقدم ذكره وهو أن هذا لسحر، ويجوز أن يحذف معمول القول للدلالة عليه نحو قول الشاعر:
* لنحن الألى قلتم فإني ملتئم
*
برؤيتنا قبل اهتمام بكم رعبا
*
ومسألة الكتاب متى رأيت، أو قلت زيدا منطلقا. وقيل: معمول أتقولون هو أسحر هذا إلى آخره، كأنهم قالوا: أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح الساحرون. كما قال موسى للسحرة: ما جئتم به السحر إن الله سيبطله. والذين قالوا: بأن الجملة وأن الاستفهام هي محكية لقول اختلفوا فقال بعضهم: قالوا ذلك على سبيل التعظيم للسحر الذي رأوه بزعمهم، كما تقول لفرس تراه يجيد الجري: أفرس هذا على سبيل التعجيب والاستغراب، وأنت قد علمت أنه فرس، فهو استفهام معناه التعجيب والتعظيم. وقال بعضهم: قال ذلك منهم كل جاهل بالأمر، فهو يسأل أهو سحر؟ لقول بعضهم: إن هذا لسحر، وأجاز الزمخشري أن يكون معنى قوله: أتقولون للحق، أتعيبونه وتطعنون فيه، فكان عليكم أن تدعنوا له وتعظموه، قال: من قولهم فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوء، ونحو القول الذكر في قوله: سمعنا فتى يذكرهم ثم قال أسحر هذا فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه.
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم. فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون. فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين. ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) *: أجئتنا خطاب لموسى وحده، لأنه هو الذي ظهرت على يديه معجزة العصا واليد. لتصرفنا وتلوينا عن ما وجدنا عليه آباءنا كامن عبادة غير الله، واتخاذ إله دونه. والكبرياء مصدر. قال ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأكثر
180

المتأولين: المراد به هنا الملك، إذ الملوك موصوفون بالكبر، ولذلك قيل للملك الجبار، ووصف بالصد والشرس. وقال ابن الرقيات في مصعب بن الزبير:
* ملكه ملك رأفة ليس فيه
*
جبروت منه ولا كبرياء
*
يعني ما عليه الملوك من ذلك. وقال ابن الرقاع:
* سؤدد غير فاحش لا يداني
*
ه تحبارة ولا كبرياء
*
وقال الأعمش: الكبرياء العظمة. وقال ابن زيد: العلو. وقال الضحاك أيضا: الطاعة، والأرض هنا أرض مصر. وقرأ ابن مسعود، وإسماعيل، والحسن فيما زعم خارجة، وأبو عمرو، وعاصم: بخلاف عنهما، وتكون بالتاء لمجاز تأنيث الكبرياء، والجمهور بالياء لمراعاة اللفظ، والمعنى: أنهم قالوا مقصودك في مجيئك إلينا بما جئت، هو أن ننتقل من دين آبائنا إلى ما تأمر به ونطيعك، ويكون لكما العلو والملك علينا بطاعتنا لك، فنصير أتباعا لك تاركين دين آبائنا، وهذا مقصود لا نراه، فلا نصدقك فيما جئت به إذ غرضك إنما هو موافقتك على ما أنت عليه، واستعلاؤك علينا. فالسبب الأول هو التقليد، والثاني الجد في الرئاسة حتى لا تكونوا تبعا. واقتضى هذان السببان اللذان توهموا هما مقصودا التصريح بانتفاء الإيمان الذي هو سبب لحصول السببين. ويجوز أن يقصدوا الذم بأنهما إن ملكا أرض مصر تكبروا وتجبرا كما قال القبطي: إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. ولما ادعوا أن ما جاء به موسى هو سحر، أخذوا في معارضته بأنواع من السحر، ليظهر لسائر الناس أن ما أتى به موسى من باب السحر. والمخاطب بقوله: ائتوني، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه. وقرأ ابن مصرف، وابن وثاب، وعيسى، وحمزة، والكسائي: بكل سحار على المبالغة. وفي قوله: ألقوا ما أنتم ملقون، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم. وفي إيهام ما أنتم ملقون، تخسيس له وتقليل، وإعلام أنه لا شيء يلتفت إليه. قال أبو عبد الله الرازي: كيف أمرهم، فالكفر والسحر والأمر بالكفر كفر، قلنا: إنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بإلقاء الحبال والعصى ليظهر للخلق أن ما ألقوا عمل فاسد وسعى باطل، لا على طريق أنه عليه السلام أمرهم بالسحر انتهى. وقرأ أبو عمرو، ومجاهد وأصحابه، وابن القعقاع: بهمزة الاستفهام في قوله: آلسحر ممدودة، وباقي السبعة والجمهور بهمزة الوصل، فعلى الاستفهام قالوا: يجوز أن تكون ما استفهامية مبتدأ، والسحر بدل منها،. وأن تكون منصوبة بمضمر تفسيره جئتم به، والسحر خبر مبتدأ محذوف. ويجوز عندي في هذا الوجه أن تكون ما موصولة مبتدأة، وجملة الاستفهام خبر، إذ التقدير: أهو السحر، أو آلسحر هو، فهو الرباط كما تقول: الذي جاءك أزيد هو؟ وعلى همزة الوصل جاز أن نكون ما موصولة مبتدأة، والخبر السحر، ويدل عليه قراءة عبد الله والأعمش: سحر. وقراءة أبي ما أتيتم به سحر. ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهامية في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصب على الاشتغال، وهو استفهام على سبيل
التحقير والتعليل لما جاؤوا به، والسحر خير مبتدأ محذوف أي: هو السحر. قال ابن عطية: والتعريف هنا في السحر أرتب، لأنه قد تقدم منكرا في قولهم: إن هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال: أول الرسالة سلام عليك، وفي آخرها والسلام عليك
181

انتهى. وهذا أخذه من الفراء. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام، لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكر له انتهى. وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة، ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بالألف واللام هو النكرة المتقدم، ولا يكون غيره كما قال تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) * وتقول: زارني رجل فأكرمت الرجل، ولما كان إياه جاز أن يأتي بالضمير بدله فتقول: فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي هو في قوله: أن هذا لسحر، لأن الذي أخبروا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى عليه السلام من معجزة العصا، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان وقالوا هم عن معجزة موسى وقال موسى عما جاؤوا به، ولذلك لا يجوز أن يأتي هنا بالضمير بدل السحر، فيكون عائدا على قولهم السحر. والظاهر أن الجمل بعده من كلام موسى عليه السلام. وسيبطله يمحقه، بحيث يذهب أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة. وقيل: هذه الجمل من كلام الله تعالى. ومعنى بكلماته، بقضاياه السابقة في وعده. وقال ابن سلام: بكلماته بقوله: * (لا تخف إنك أنت الاعلى) * وقيل بكلماته بحججه وبراهينه وقرئ بكلمته على التوحيد أي بأمره ومشيئته.
* (فما ءامن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين * وقال موسى ياقوم إن كنتم ءامنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين * فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) *: الظاهر في الفاء من حيث أن مدلولها التعقيب أن هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء. والظاهر أن الضمير في قومه عائد على موسى، وأنه لا يعود على فرعون، لأن موسى هو المحدث عنه في هذه الآية، وهو أقرب مذكور. ولأنه لو كان عائدا على فرعون لم يظهر لفظ فرعون، وكان التركيب على خوف منه. ومن ملأتهم أن يفتنهم، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم، كان أولا دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وإجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقال مجاهد والأعمش: معنى الآية أن قوما أدركهم موسى ولم يؤمنوا، وإنما آمن ذراريهم بعد هلاكهم لطول الزمن. قال ابن عطية: وهذا قول غير صحيح، إذا آمن قوم بعد موت آبائهم، فلا معنى لتخصيصهم باسم الذرية. وأيضا فما روي من أخبار بني إسرائيل لا يعطي هذا، ويفيه قوله: فما آمن، لأنه يعطي تقليل المؤمنين به، لأنه نفي الإيمان ثم أوجبه لبعضه، ولو كان الأكثر مؤمنا لأوجب الإيمان أولا ثم نفاه عن الأقل، وعلى هذا الوجه يتخرج قول ابن عباس في الذرية: إنه القليل، إلا أنه أراد أن لفظ الذرية بمعنى القليل كما ظن مكي
182

وغيره. وقالت فرقة: إنما سماهم ذرة لأن أمهاتهم كانت من بني إسرائيل، وإماؤهم من القبط. رواه عكرمة عن ابن عباس: فكان يقال لهم الذرية كما قيل لفرس اليمن الأبناء، وهم الفرس المنتقلون مع وهوز بسعاية سيف بن ذي يزن. وممن ذهب إلى أن الضمير في قومه على موسى: ابن عباس قال: وكانوا ستماة ألف، وذلك أن يعقوب عليه السلام دخل مصرفي اثنين وسبعين نفسا، فتوالدوا بمصر حتى صاروا ستمائة ألف. وقيل: الضمير في قومه يعود على فرعون، روي أنه آمنت زوجة فرعون وخازنه وامرأة خازنه وشباب من قومه. قال ابن عباس أيضا: والسحرة أيضا، فإنهم معدودون في قوم فرعون. وقال السدي: كانوا سبعين أهل بيت من قوم فرعون. قال ابن عطية: ومما يضعف عود الضمير على موسى عليه السلام أن المعروف من أخبار بني إسرائيل أنهم كانوا قوما قد فشت فيهم السوآت، وكانوا في مدة فرعون قد نالهم ذل مفرط، وقد رجوا كشفه على يد مولود يخرج فيهم يكون نبيا، فلما جاءهم موسى عليه السلام أصفقوا عليه وبايعوه، ولم يحفظ قط أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به، فكيف تعطى هذه الآية أن الأقل منهم كان الذي آمن، فالذي يترجح بحسب هذا أن الضمير عائد على فرعون. ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم من محاورة موسى ورده عليهم، وتوبيخهم على قولهم هذا سحر، فذكر الله ذلك عنهم ثم قال: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون الذي هذه أقوالهم. وتكون القصة على هذا التأويل بعد ظهور الآية والتعجيز بالعصا، وتكون الفاء مرتبة للمعاني التي عطفت انتهى. ويمكن أن يكون معنى فما آمن أي: ما أظهر إيمانه وأعلن به إلا ذرية من قوم موسى، فلا يدل ذلك على أن طائفة من بني إسرائيل كفرت به. والظاهر عود الضمير في قوله: وملاهم، على الذرية وقاله الأخفش، واختاره الطبري أي: أخوف بني إسرائيل الذرية وهم أشراف بني إسرائيل إن كان الضمير في قومه عائدا على موسى، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون على أنفسهم. ويدل عليه قوله تعالى: أن يفتنهم أي يعذبهم. وقال ابن عباس: أن يقتلهم. وقيل: يعود على قومه أي: وملا قوم موسى، أو قوم فرعون. وقيل: يعود على المضاف المحذوف تقديره: على خوف من آل فرعون، قاله الفراء. كما حذف في، * (واسئل القرية) * ورد عليه بأن الخوف يمكن من فرعون، ولا يمكن سؤال القرية، فلا يحذف إلا ما دل عليه الدليل. وقد يقال: ويدل على هذا المحذوف جمع الضمير في وملاهم. وقيل: ثم معطوف محذوف يدل عليه كون الملك لا يكون وحده، بل له حاشية وأجناد، وكأنه قيل: على خوف من فرعون وقومه وملاهم أي: ملا فرعون وقومه، وقاله الفراء أيضا: وقيل: لما كان ملكا جبارا أخبر عنه بفعل الجميع. وقيل: سميت الجماعة بفرعون مثل هود. وأن يفتنهم بدل من فرعون بدل اشتمال أي: فتنته، فكون في موضع جر، ويجوز أن يكون في موضع نصب بخوف إما على التعليل، وإما على أنه في موضع المفعول به، أي: على خوف لأجل فتنته، أو على خوف فتنته. وقرأ الحسن وجراح ونبيج: يفتنهم بضم الياء من أفتن، ولعال متجر أو باع ظالم، أو متعال أو قاهر كما قال:
* فاعمد لما تعلو فما لك بالذي
*
لا تستطيع من الأمور يدان أي لما تقهر أقوال متقاربة، وإسرافه كونه كثير القتل والتعذيب. وقيل: كونه من أخس العبيد فادعى الإلهية، وهذا الإخبار مبين سبب خوف أولئك المؤمنين منه.
*
وفي الآية مسلاة للرسول صلى الله عليه وسلم) بقلة من آمن لموسى ومن استجاب له مع ظهور ذلك المعجز الباهر، ولم يؤمن له إلا ذرية من قومه، وخطاب موسى عليه السلام لمن آمن بقوله: يا قوم، دليل على أن المؤمنين الذرية كانوا من قومه، وخاطبهم بذلك حين اشتد خوفهم مما توعدهم به فرعون من
183

قتل الآباء وذبح الذرية. وقيل: قال لهم ذلك حين قالوا إنا لمدركون. وقيل: حين قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قيل: والأول هو الصواب، لأن جواب كل من القولين مذكور بعده وهو: * (كلا إن معى ربى سيهدين) * وقوله: * (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) * الآية وعلق توكلهم على شرطين: متقدم، ومتأخر. ومتى كان الشرطان لا يترتبان في الوجود فالشرط الثاني شرط في الأول، فمن حيث هو شرط فيه يجب أن يكون متقدما عليه. فالإسلام هو الانقياد للتكاليف الصادرة من الله، وإظهار الخضوع وترك التمرد، والإيمان عرفان القلب بالله تعالى ووحدانيته وسائر صفاته، وأن ما سواه محدث تحت قهره وتدبيره. وإذا حصل هذان الشرطان فو العبد جميع أموره إلى الله تعالى، واعتمد عليه في كل الأحوال. وأدخل أن على فعلي الشرط وإن كانت في الأغلب إنما تدخل على غير المحقق مع علمه بإيمانهم على وجه إقامة الحجة وتنبيه الأنفس وإثارة الأنفة، كما تقول: إن كنت رجلا فقاتل، تخاطب بذلك رجلا تريد إقامة البينة. وطول ابن عطية هنا في مسألة التوكل بما يوقف عليه في كتابه، وأجابوا موسى عليه السلام بما أمرهم به من التوكل على الله لأنهم كانوا مخلصين في إيمانهم وإسلامهم، ثم سألوا الله تعالى شيئين: أحدهما: أن لا يجعلهم فتنة للقوم الظالمين. قال الزمخشري: أي موضع فتنة لهم، أي عذاب تعذبوننا أو تفتنوننا عن ديننا، أو فتنة لهم يفتنون بها ويقولون: لو كان هؤلاء على الحق ما أصيبوا. وقال مجاهد وأبو مجلز وأبو الضحى وغيرهم: معنى القول الآخر قال: المعنى لا ينزل بنا ملأنا بأيديهم أو بغير ذلك مدة محاربتنا لهم فيفتنون ويعتقدون أن هلا كنا إنما هو بقصد منك لسوء ديننا وصلاح دينهم وأنهم أهل الحق. وقالت فرقة: المعنى لا نفتنهم ونبتليهم بقتلنا وإذايتنا فنعذبهم على ذلك في الآخرة. قال ابن عطية: وفي هذا التأويل قلق. وقال ابن الكلبي: لا تجعلنا فتنة بتقتير الرزق علينا وبسطه لهم. والآخر: ينجيهم من الكافرين أي: من تسخيرهم واستعبادهم. والذي يظهر أنهم سألوا الله تعالى أن لا يفتنوا عن دينهم، وأن يخلصوا من الكفار، فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم، إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الأبدان.
* (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلواة وبشر المؤمنين) *: لم يصرح باسم أخيه لأنه قد تقدم أولا في قوله: * (ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون) * وتبوآ اتخذا مباءة أي مرجعا للعبادة والصلاة كما تقول: توطن اتخذ موطنا، والظاهر اتخاذ البيوت بمصر. قال الضحاك: وهي مصر المحروسة، ومصر من البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر. وقال مجاهد: هي الإسكندرية، وكان فرعون قد استولى على بني إسرائيل خرب مساجدهم ومواضع عباداتهم، ومنعهم من الصلوات، وكلفهم الأعمال الشاقة. وكانوا في أول أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم في خفية من الكفرة لئلا يظهروا عليهم، فيردوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام. وقرأ حفص في رواية هبيرة: تبويا بالياء، وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس لكان بين الهمزة والألف، والظاهر أن المأمور بأن يجعل قبلة هي المأمور بتبوئها. ومعنى قبلة مساجد: أمروا بأن يتخذوا بيوتهم مساجد قاله: النخعي، وابن زيد، وروي عن ابن عباس. وعن
184

ابن عباس أيضا: واجعلوا بيوتكم قبل القبلة، وعنه أيضا: قبل مكة. وقال مجاهد وقتادة ومقاتل والفراء: أمروا بأن يجعلوها مستقبلة الكعبة. وعن ابن عباس أيضا وابن جبير: قبلة يقابل بعضها بعضا. وأقيموا الصلاة وهذا قبل نزول التوراة، لأنها لم تنزل إلا بعد إجارة البحر. وبشر المؤمنين يعني: بالنصر في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وهو أمر لموسى عليه السلام أن يتبوآ لقومهما ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم نسق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيما له وللمبشر به.
2 (* (وقال موسى ربنآ إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الا ليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعآن سبيل الذين لا يعلمون * وجاوزنا ببني إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذآ أدركه الغرق قال ءامنت أنه لاإلاه إلا الذىءامنت به بنوا إسراءيل وأنا من المسلمين * ءاأن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين * فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك ءاية وإن كثيرا من الناس عن ءاياتنا لغافلون * ولقد بوأنا بنىإسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جآءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * فإن كنت في شك ممآ أنزلنآ إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جآءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين * إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جآءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الا ليم * فلولا كانت قرية ءامنت فنفعهآ إيمانها إلا قوم يونس لمآ ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم إلى حين * ولو شآء ربك لآمن من فى الا رض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون * قل انظروا ماذا فى السماوات والا رض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين * ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين * قل ياأيها الناس إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولاكن أعبد الله الذى يتوفاكم وأمرت أن أكون من المؤمنين * وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين * ولا
تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا رآد لفضله يصيب به من يشآء من عباده وهو الغفور الرحيم * قل ياأيها الناس قد جآءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ومآ أنا عليكم بوكيل * واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) *)) 2
* (وقال موسى ربنا إنك ءاتيت فرعون وملاه زينة وأموالا فى الحيواة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على) *: لما بالغ موسى عليه السلام في إظهار المعجزات وهم مصرون على العناد واشتد أذاهم عليه وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا، وعلى الإنذار إلا استكبارا. أو علم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى، دعا الله تعالى عيهم بما علم أنه لا يكون غيره كما تقول: لعن الله إبليس وأخزى الكفرة. كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه * (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا) * وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله من النعمة في الدنيا وكان ذلك سببا للإيمان به ولشكر نعمه، فجعوا ذلك سببا لجحوده ولكفر نعمه. والزينة عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. قال المؤرخون والمفسرون: كان لهم فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن الذهب والفضة والزبرجد والياقوت. وفي تكرار ربنا توكيد للدعاء والاستغاثة، واللام في ليضلوا الظاهر أنها لام كي على معنى: آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج، فكان الإتيان لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة كقوله: * (فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) * وكما قال الشاعر:
* وللمنايا تربي كل مرضعة
*
وللخراب يجد الناس عمرانا
*
وقال الحسن: هو دعاء عليهم، وبهذا بدأ الزمخشري قال: كأنه قال ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونوا ضلالا، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا. ويبعد أن يكون دعاء قراءة من قرأ ليضلوا بضم الياء، إذ يبعد أن يدعو بأن يكونوا مضلين غيرهم، وهي قراءة الكوفيين، وقتادة والأعمش، وعيسى، والحسن، والأعرج بخلاف عنهما. وقرأ الحرميان، والعربيان، ومجاهد، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، وأهل مكة: بفتحها. وقرأ الشعبي بكسرها، ولى بين الكسرات الثلاث. وقيل: لا محذوفة، التقدير لئلا يضلوا عن سبيلك قاله: أبو علي الجبائي. وقرأ أبو الفضل الرقاشي: أإنك آتيت على الاستفهام. ولما تقدم ذكر الأموال وهي أعز ما ادخر دعا بالطموس عليها
185

وهي التعفية والتغيير أو الإهلاك. قال ابن عباس، ومحمد بن كعب: صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحا وأثلاثا وأنصافا، ولم يبق لهم معدن إلاطمس الله عليه فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة: بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد وعطية: أهلكها حتى لا ترى. وقال ابن زيد: صارت دنانيرهم ودراهمهم وفرضهم وكل شيء لهم حجارة. قال محمد بن كعب: سألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك له، فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير، وأنها الحجارة. وقال قتادة، والضحاك، وأبو صالح، والقرطبي: جعل سكرهم حجارة. وقال السدي: مسخ الله الثمار والنخل والأطعمة حجارة. وقال شيخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان المقدسي عرف بابن النقيب وهو جامع كتاب التحرير والتحبير في هذا الكتاب: أخبرني جماعة من الصالحين كان شغلهم السياحة أنهم عاينوا بجبال مصر وبراريها حجارة على هيئة الدنانير والدراهم، وفيها آثار النفس، وعلى هيئة الفلوس، وعلى هيئة البطيخ العبد لاوي، وهيئة البطيخ الأخضر، وعلى هيئة الخيار، وعلى هيئة القثاء، وحجارة مطولة رقيقة معوجة على هيئة النقوش، وربما رأوا على صورة الشجر. واشدد على قلوبهم: وقال ابن عباس ومقاتل والفراء والزجاج اطبع عليها وامنعها من الإيمان. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: أهلكهم كفارا. وقال مجاهد: اشدد عليها بالضلالة. وقال ابن قتيبة: قس قلوبهم. وقال ابن بحر: اشدد عليها بالموت. وقال الكرماني: أي لا تجذوا سلوا عن أموالهم، ولا صبرا على ذهابها. وقرأ الشعبي وفرقة: اطمس بضم الميم، وهي لغة مشهورة. فلا يؤمنوا مجزوم على أنه دعاء عند الكسائي والفراء، كما قال الأعشى:
* فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى
*
ولا تلفين إلا وأنفك راغم ومنصوب على أنه جواب اشدد بدأ به الزمخشري، ومعطوف على ليضلوا على أنه منصوب قاله: الأخفش وغيره. وما بينهما اعتراض، أو على أنه مجزوم عل قول من قال: إن لام ليضلوا لام الدعاء، وكان رؤية العذاب غاية ونهاية، لأن الإيمان إذ ذاك لا ينفع ولا تخرج من الكفر، وكان العذاب الأليم غرقهم. وقال ابن عباس: قال محمد بن كعب: كان موسى يدعو وهارون يؤمن، فنسبت الدعوة إليهما. ويمكن أن يكونا دعوا، ويبعد قول من قال: كنى عن الواحد بلفظ التثنية، لأن الآية تضمنت بعد مخاطبتهما في غير شيء. وروي عن ابن جريج، ومحمد بن علي، والضحاك: أن الدعوة لم تظهر إجابتها إلا بعد أربعين سنة، وأعلما أن دعاء هما صادف مقدورا، وهذا معنى إجابة الدعاء. وقيل لهما: لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون أي في أن تستعجلا قضائي، فإن وعدي لا خلف له. وقرأ السلمي والضحاك: دعواتكما على الجمع. وقرأ ابن السميقع: قد أجبت دعوتكما خبرا عن الله تعالى، ونصب دعوة والربيع دعوتيكما، وهذا يؤكد قول من قال: إن هارون دعا مع موسى. وقراءة دعوتيكما تدل على أنه قرأ قد أجبت على أنه فعل وفاعل، ثم أمرا بالاستقامة، والمعنى: الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة
إلى الله تعالى، وإلزام حجة الله. وقرأ الجمهور: تتبعان بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان بتخفيف التاء وشد النون، وابن ذكوان أيضا بتشديد التاء وتخفيف النون، وفرقة بتخفيف التاء وسكون النون، وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورة فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة، وكسرت كما كسرت الشديدة. وقد حكى النحويون كسر النون الخفيفة
186

في مثل هذا عن العرب، ومذهب سيبويه والكسائي أنها لا تدخل هنا الخفيفة، ويونس والفراء يريان ذلك. وقيل: النون المكسورة الخفيفة هي علامة الرفع، والفعل منفي، والمراد منه النهي، أو هو خبر في موضع الحال أي: غير متبعين قاله الفارسي. والذين لا يعلمون فرعون وقومه قاله: ابن عباس. أو الذين يستعجلون القضاء قبل مجيئه، ذكره أبو سليمان.
*
* (وجاوزنا ببنى إسراءيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال ءامنت أنه لا إلاه إلا) *: قرأ الحسن وجوزنا بتشديد الواو، وتقدم الكلام في الباء في ببني إسرائيل، وكم كان الذين جازوا مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف. وقرأ الحسن وقتادة فاتبعهم بتشديد التاء. وقرأ الجمهور: وجاوزنا فاتبعهم رباعيا، قال الزمخشري: وليس من جوز الذي في بيت الأعشى:
وإذا تجوزها جبال قبيلة
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال: وجوزنا ببني إسرائيل في البحر كما قال:
* كما جوز السبكي في الباب فينق
*
انتهى
وقال الحوفي: تبع واتبع بمعنى واحد. وقال الزمخشري: فاتبعهم لحقهم، يقال: تبعه حتى اتبعه. وفي اللوامح: تبعه إذا مشى خلفه، واتبعه كذلك، إلا أنه حاذاه في المشي واتبعه لحقه، ومنه العامة يعني: ومنه قراءة العامة فاتبعهم وجنود فرعون قيل: ألف ألف وستمائة ألف. وقيل: غير ذلك. وقرأ الحسن: وعدوا على وزن علو، وتقدمت في الإنهام. وعدوا وعدوا من العدوان، واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر. روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر فوجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه: إنما انلفق بأمري، وكان على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل عليه السلام على فرس أنثى، ودنوا فدخل بها البحر ولج فرس فرعون ورآه ونب الجيوش خلفه، فلما رأى أن الانفراق ثبت له
187

استمر، وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم. وقرأ الجمهور: أنه بفتح الهمزة على حذف الباء. وقرأ الكسائي وحمزة: بكسرها على الاستئناف ابتداء كلام، أو بدلا من آمنت، أو على إضمار القول أي: قائلا أنه. ولما حلقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات، إما على سبيل التلعثم إذ ذلك مقام تحار فيه القلوب، أو حرصا على القبول ولم يقبل الله منه إذ فاته وقت القبول وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف، والتوبة بعد المعاينة تنفع. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا * سنت * الله التى قد خلت فى عباده) * وتقدم الخلاف في قراءة آلآن في قوله: * (وقد كنتم به) * والمعنى: أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك؟ قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق. وقيل: بعد أن غرق في نفسه. قال الزمخشري: والذي يحكى أنه حين قال: آمنت، أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه، فللغضب في الله تعالى على حال الكافر في وقت قد علم أن إيمانه لا ينفعه. وأما ما يضم إليه من قولهم خشيت أن تدركه رحمة الله تعالى فمن زيادات الباهتين لله تعالى وملائكته، وفيه جهالتان: إحداهما: أن الإيمان يصح بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والآخر: أن من كره الإيمان الكافر وأحب بقاءه على الكفر فهو كافر، لأن الرضا بالكفر كفر. والظاهر أن قوله: آلآن إلى آخره من كلام الله له على لسان ملك. فقيل: هو جبريل. وقيل: ميكائيل. وقيل: غيرهما، لخطابه فاليوم ننجيك. وقيل: من قول فرعون في نفسه وإفساده ولضلالة الناس، ودعواه الربوبية. * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله * زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون) * فاليوم ننجيك الظاهر أنه خبر. وقيل: هو استفهام فيه تهديد أي: أفاليوم ننجيك؟ فهلا كان الإيمان قبل الإشراف على الهلاك، وهذا بعيد لحذف همزة الاستفهام ولقوله: لتكون لمن خلفك لآية، لأن التعليل لا يناسب هنا الاستفهام. قال ابن عباس: ننجيك نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع، ببدنك بدرعك، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له. وقيل: من ذهب. وقيل: من حديد وفيها سلاسل من ذهب. والبدن بدن الإنسان، والبدن الدرع القصيرة. قال:
* ترى الأبدان فيها مسبغات
*
على الأبطال والكلب الحصينا
*
يعني: الدروع. وقال عمرو بن معدي كرب:
* أعاذل شكتي بدني وسيفي
*
وكل مقلص سلس القياد
*
وكانت له درع من ذهب يعرف بها، وقيل: نلقيك ببدنك عريانا ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته. وقيل: نخرجك صحيحا لم يأكلك شيء من الدواب. وقيل: يدنا بلا روح قاله مجاهد. وقيل: نخرجك من ملكك وحيدا فريدا. وقيل: نلقيك في البحر من النجاء، وهو ما سلخته عن الشاة أو ألقيته عن نفسك من ثياب أو
188

سلاح. وقيل: نتركك حتى تغرق، والنجاء الترك. وقيل: نجعلك علامة، والنجاء العلامة. وقيل: نغرقك من قولهم: نجى البحر أقواما إذا أغرقهم. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون من النجاة وهو الإسراع أي: نسرع بهلاكك. وقيل: معنى ببدنك بصورتك التي تعرف بهما، وكان قصيرا أشقر أزرق قريب اللحية من القامة، ولم يكن في بني إسرائيل شبيه لع يعرفونه بصورته، وببدنك إذا غنى به الجثة تأكيد كما تقول: قال فلان بلسانه وجاء بنفسه.
وقرأ يعقوب: ننجيك مخففا مضارع أنجى. وقرأ أبي وابن السميقع، ويزيد البربري: ننحيك بالحاء المهملة من التنحية. ورويت عن ابن مسعود أي: نلقيك بناحية مما يلي البحر. قال كعب: رماه البحر إلى الساحل كأنه نور. وقرأ أبو حنيفة: بأبدانك أي بدروعك، أو جعل كل جزء من البدن بدنا كقولهم: شابت مفارقه. وقرأ ابن مسعود، وابن السميقع: بندائك مكان ببدنك، أي: بدعائك، أي بقولك آمنت إلى آخره. لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع، أو بما ناديت به في قومك. ونادى فرعون في قومه فحشر فنادى فقال: أنا ربكم الأعلى، ويا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري. ولما كذبت بنو إسرائيل بغرق فرعون رمى به البحر على ساحله حتى رأوه قصيرا أحمر كأنه ثور. لمن خلفك لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأنا من أن يغرق، وكان مطرحه على ممر بني إسرائيل حتى قيل لمن خلفك آية. وقيل: لمن يأتي بعدك من القرون، وقيل: لمن بقي من قبط مصر وغيرهم. وقرئ: لمن خلفك بفتح اللام أي: من الجبابرة والفراعنة ليتعظوا بذلك، ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. ومعنى كونه آية: أن يظهر للناس عبوديته ومهانته، أو ليكون عبرة يعتبر بها الأمم. وقرأت فرقة: لمن خلقك من الخلق وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده. وقيل: المعنى ليكون طرحك على الساحل وحدك، وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادعائك العظمة: إن مثله لا يغرق ولا يموت، آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وإن كثيرا من الناس ظاهره الناس كافة، قاله الحسن. وقال مقاتل: من أهل مكة عن آياتنا أي: العلامات الدالة على الوحدانية وغيرها من صفنات العلى، لغافلون لا يتدبرون، وهذا خبر في ضمنه توعد.
* (ولقد بوأنا بنى إسراءيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم يوم) *: لما ذكر تعالى ما جرى لفرعون وأتباعه من الهلاك، ذكر ما أحسن به لبني إسرائيل وما امتن به عليهم، إذ كان بنو إسرائيل قد أخرجوا من مساكنهم خائفين من فرعون، فذكر تعالى أنه اختار لهم من الأماكن أحسنها. والظاهر أن بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى ونجوا من الغرق، وسياق الآيات يشهد لهم. وقيل: هم الذين كانوا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم) من بني إسرائيل قريظة والنضير وبني قينقاع، وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا كقوله: * (لنبوئنهم من الجنة غرفا) * وقيل: يجوز أن يكون مصدرا. ومعنى صدق أي: فضل وكرامة ومنة * (فى مقعد صدق) *. وقيل: مكان صدق الوعد، وكان وعدهم فصدقهم وعده. وقيل: صدق تصدق به عليهم، لأن الصدقة والبر من الصدق. وقيل: صدق فيه ظن قاصده وساكنه. وقيل: منزلا صالحا مرضيا، وعن ابن عباس: هو الأردن وفلسطين. وقال الضحاك وابن زيد، وقتادة: الشام وبيت المقدس. وقال مقاتل: بيت المقدس. وعن الضحاك أيضا: مصر، وعنه أيضا: مصر والشام. قال ابن عطية: والأصح أنه الشام وبيت المقدس
189

بحسب ما حفظ من أنهم لم يعودوا إلى مصر، على أنه في القرآن كذلك. * (وأورثناها بنى إسراءيل) * يعني ما ترك القبط من جنات وعيون وغير ذلك. وقد يحتمل أن يكون وأورثناها معناها الحالة من النعمة وإن لم تكن في قطر واحد انتهى. وقيل: ما بين المدينة والشام من أرض يثرب ذكره علي بن أحمد النيسابوري، وهذا على قول من قال: إن بني إسرائيل هم الذين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم). ولما ذكر أنه بوأهم مبوأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي: المآكل المستلذات، أو الحلال، فما اختلفوا أي: كانوا على ملة واحدة وطريقة واحدة مع موسى عليه السلام في أول حاله، حتى جاءهم العلم أي: علم التوراة فاختلفوا، وهذا ذم لهم. أي أن سبب الإيقاف هو العلم، فصار عندهم سبب الاختلاف، فتشعبوا شعبا بعدما قرؤوا التوراة. وقيل: العلم بمعنى المعلوم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، لأن رسالته كانت معلومة عندهم مكتوبة في التوراة، وكانوا يستفتحون به أي: يستنصرون، وكانوا قبل مجيئه إلى المدينة مجمعين على نبوته يستنصرون به في الحروب يقولون: اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان انصرنا فينصرون، فلما جاء قالوا: النبي الموعود به من ولد يعقوب، وهذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك، فآمن به بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: العلم القرآن، واختلافهم قول بعضهم هو من كلام محمد، وقول بعضهم من كلام الله وليس لنا إنما هو للعرب. وصدق به قوم فآمنوا، وهذا الاختلاف لا يمكن زواله في الدنيا، وأنه تعالى يقضي فيه في الآخرة فيميز المحق من المبطل.
* (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين * ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين) *: الظاهر أن إن شرطية. وروي عن الحسن والحسين بن الفضل أن إن نافية. قال الزمخشري: أي مما كنت في شك فسئل، يعني: لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقينا كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى انتهى. وإذا كانت إن شرطية فذكروا أنها تدخل على الممكن وجوده، أو المحقق وجوده، المنبهم زمان وقوعه، كقوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من) * والذي أقوله: إن إن الشرطية تقتضي تعليق شيء على شيء، ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا كقوله تعالى: * (قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين) * ومستحيل أن يكون له ولد، فكذلك هذا مستحيل
أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا فى الارض أو) * أي فافعل. لكن وقوع إن للتعليق على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج إن للتعليق على المستحيل قليل، وهذه الآية من ذلك. ولما خفي هذا الوجه على أكثر الناس اختلفوا في تخريج هذه الآية، فقال ابن عطية: الصواب أنها مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم)، والمراد بها سواه من كل من يمكن أن يشك أو يعارض انتهى. ولذلك جاء: * (قل ياأهل * أيها الناس * إن كنتم فى شك من دينى) * وقال قوم: الكلام بمنزلة قولك: إن كنت ابني فبرني، وليس هذا المثال بجيد، وإنما مثال هذه قوله تعالى لعيسى عليه السلام: * (قلت للناس اتخذونى) * انتهى. وهذا القول مروي عن الفراء. قال الكرماني: واختاره جماعة، وضعف بأنه يصير تقدير الآية: أأنت
190

في شك؟ إذ ليس في الآية ما يدل على نفي الشك. وقيل: كنى هنا بالشك عن الضيق أي: فإن كنت في ضيق من اختلافهم فيما أنزل إليك وتعنتهم عليك. وقيل: كنى بالشاك عن العجب أي: فإن كنت في تعجب من عناد فرعون. ومناسبة المجاز أن التعجب فيه تردد، كما أن الشك تردد بين أمرين. وقال الكسائي: معناه إن كنت في شك أن هذا عادتهم مع الأنبياء فسلهم كيف كان صبر موسى عليه السلام حين اختلفوا عليه؟ وقال الزمخشري: فإن كنت في شك بمعنى العرض والتمثيل، كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا وخيل لك الشيطان خيالا منه تقديرا فسئل الذين يقرؤون الكتاب، والمعنى: أن الله تعالى قدم ذكر بني إسرائيل وهم قراءة الكتاب، ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أن يؤكد عليهم بصحة القرآن وصحة نبكوة محمد صلى الله عليه وسلم)، ويبالغ في ذلك فقال تعالى: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحق انتهى. وقيل أقوال غير هذه، وقرأ يحيى وإبراهيم: يقرؤون الكتب على الجمع. والحق هنا: الإسلام، أو القرآن، أو النبوة، أو الآيات، والبراهين القاطعة، أقوال: فاثبت ودم على ما أنت فيه من انتفاء المرية والتكذيب، والخطاب للسامع غير الرسول. وكثيرا ما يأتي الخطاب في ظاهره لشخص، والمراد غيره، وروي أنه عليه السلام قال: * (لا * وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * وعن ابن عباس: والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم. والامتراء التوقف في الشيء والشك فيه، وأمره أسهل من أمر المكذب فبدىء به أولا. فنهى عنه، واتبع بذكر المكذب ونهى أن يكون منهم.
* (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل ءاية حتى يروا العذاب الاليم) *: ذكر تعالى عبادا قضى عليهم بالشقاوة فلا تتغير، والكلمة التي حقت عليهم قال قتادة: هي اللعنة والغضب. وقيل: وعيده أنهم يصيرون إلى العذاب. وقال الزمخشري: قول الله تعالى الذي كتب في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفارا فلا يكون غيره، وتلك كتابه معلوم لا كتابة مقدر ومراد الله تعالى عن ذلك انتهى. وكلامه أخيرا على طريقة الاعتزال. وقال أبو عبد الله الرازي: المراد من هذه الكلمة كلم الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والداعية وهو موجب لحصول ذلك الأمر. وقال ابن عطية: المعنى أن الله أوجب لهم سخطه من الأزل وخلقهم لعذابه، فلا يؤمنون ولو جاءهم كل بيان وكل وضوح إلا في الوقت الذي لا ينفعهم فيه الإيمان، كما صنع فرعون وأشباهه، وذلك وقت المعاينة. وفي ضمن الألفاظ التحذير من هذه الحال، وبعث كل على المبادرة إلى الإيمان والفرار من سخط الله. ويجوز أن يكون العذاب الأليم عند تقطع أسبابهم يوم القيامة، وتقدم الخلاف في قراءة كلمة بالإفراد وبالجمع.
191

* (فلولا كانت قرية ءامنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزى فى الحيواة الدنيا ومتعناهم) *: لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيرا ما جاءت في القرآن للتحضيض، فهي بمعنى هلا. وقرأ أبي وعبد الله فهلا، وكذا هو في مصحفيها، والتحضيض أن يريد الإنسان فعل الشيء الذي يحض عليه، وإذا كانت للتوبيخ فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشيء، كقول الشاعر:
* تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
*
بني ضوطري لولا الكمي المقنعا
*
لم يقصد حضهم على عقر الكمي المقنع، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع. والمعنى: فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم، فيكون الإيمان نافعا لهم في هذه الحال. وقوم منصوب على الاستثناء المنقطع، وهو قول سيبويه والكسائي والفراء والأخفش، إذ ليسوا مندرجين تحت لفظ قرية. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس. وقال ابن عطية: هو بحسب اللفظ استثناء منقطع، وكذلك رسمه النحويون، وهو بحسب المعنى متصل، لأن تقديره ما آمن أهل قرية إلا قوم يونس، والنصب هو الوجه، ولذلك أدخله سيبويه في باب ما لا يكون فيه إلا النصب، وذلك مع انقطاع الاستثناء. وقالت فرقة: يجوز فيه الرفع، وهذا مع اتصال الاستثناء. وقال المهدوي: والرفع على البدل من قرية، وقال الزمخشري: وقرئ بالرفع على البدل عن الحرمي والكسائي، وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها، وذكر جواز فتحها.
وقوم يونس: هم أهل نينوي من بلاد الموصل، كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم يونس فأقاموا على تكذيبه سبع سنين، وتوعدهم العذاب بعد ثلاثة أيام. وقيل: بعد أربعين يوما. وذكر المفسرون قصة قوم يونس وتفاصيل فيها، وفي كيفية عذابهم الله أعلم بصحة ذلك، ويوقف على ذلك في كتبهم. وقال الطبري: وذكره عن جماعة
أن قوم يونس خصوا من بين الأمم بأن تنب عليهم بعد معاينة العذاب. وقال الزجاج: هؤلاء دنا منهم العذاب ولم يباشرهم كما باشر فرعون، فكانوا كالمريض الذي يخاف الموت ويرجو العافية، فأما الذي يباشره العذاب فلا توبة له. وقال ابن الأنباري: علم منهم صدق النيات بخلاف من تقدمهم من الهالكين. قال السدي: إلى حين، إلى وقت انقضاء آجالهم. وقيل: إلى يوم القيامة، وروي عن ابن عباس. ولعله لا يصح، فعلى هذا يكونون باقين أحياء، وسترهم الله عن الناس.
* (ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين * وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) *: قيل: نزلت في أبي طالب، لأنه صلى الله عليه وسلم) أسف بموته على ملة عبد المطلب وكان حريصا على إيمانه. ولما كان أخرص الناس على هدايتهم وأسعى في وصول الخير إليهم والفوز بالإيمان منهم وأكثر اجتهادا في نجاة العالمين من العذاب، أخبره
192

تعالى أنه خلق أهلا للسعادة وأهلا للشقاوة، وأنه لو أراد إيمانهم كلهم لفعل، وأنه لا قدرة لأحد على التصرف في أحد. والمقصود بيان أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا له تعالى. وتقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل، لكن من غير ذلك الاسم فلله تعالى أن يكره الناس على الإيمان لو شاء، وليس ذلك لغيره.
وقال الزمخشري: ولو شاء ربك مشيئة القسر وإلا لجاء لآمن من في الأرض كلهم على وجه الإحاطة والشمول جميعا، مجتمعين على الإيمان، مطبقين عليه، لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (أفأنت تكره الناس) * يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم على الإيمان هؤلاء أنت. وإتلاء الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشان في المكره من هو، وما هو إلا هو وحده ولا يشارك فيه، لأنه تعالى هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشير انتهى. وقوله: مشيئة القسر والإلجاء هو مذهب المعتزلة. وقال ابن عطية: المعنى أن هذا الذي تقدم ذكره إنما كان جميعه بقضاء الله عليهم ومشيئته فيهم، ولو شاء الله لكان الجميع مؤمنا، فلا تتأسف أنت يا محمد على كفر من لم يؤمن بك، وادع ولا عليك، فالأمر محتوم. أتريد أنت أن تكره الناس بإدخال الإيمان في قلوبهم، وتضطرهم إلى ذلك والله عز وجل قد شاء غيره؟ فهذا التأويل الآية عليه محكمة أي: ادع وقاتل من خالفك، وإيمان من آمن مصروف إلى المشيئة. وقالت فرقة: المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يدخلوا في الإيمان؟ وزعمت أن هذه الآية في صدر الإسلام، وأنها منسوخة بآية السيف، والآية على كلا التأويلين رادة على المعتزلة انتهى. ولذلك ذهب الزمخشري إلى تفسير المشيئة بمشيئة القسر والإلجاء، وهو تفسير الجبائي والقاضي. ومعنى إلا بإذن الله. أي بإرادته وتقديره لذلك والتمكن منه. وقال الزمخشري: بتسهيله وهو منح الإلطاف. ويجعل الرجس: وهو الخذلان على الذين لا يعقلون، وهم المصرون على الكفر. وسمى الخذلان رجسا وهو العذاب، لأنه سببه انتهى. وهو على طريق الاعتزال. وقال ابن عباس: الرجس السحط، وعنه الإثم والعذوان. وقال مجاهد: ما لا خير فيه. وقال الحسن، وأبو عبيدة، والزجاج: العذاب. وقال الفراء: العذاب والغضب. وقال الحسن أيضا: الكفر. وقال قتادة: الشيطان، وقد تقدم تفسيره، ولكن نقلنا ما قاله العلماء هنا. وقرأ أبو بكر، وزيد بن علي: ونجعل
بالنون، وقرأ الأعمش: ويجعل الله الرجز بالزاي.
* (قل انظروا ماذا فى * السماوات والارض * وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون * فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إنى معكم من المنتظرين) *: أمر تعالى بالفكر فيما أودعه تعالى في السماوات والأرض، إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب، وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان، وخصوصا حال الإنسان. وكثيرا ما ذكر الله تعالى في كتابه الحض على الفكر في مخلوقاته تعالى وقال: ماذا في السماوات والأرض تنبيها على القاعدة الكلية، والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها. ثم لما أمر بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات.
والنذر جمع نذير، إما مصدر فمعناه الإنذارات، وإما بمعنى منذر فمعناه المنذرون والرسل. وما الظاهر أنها للنفي، ويجوز أن تكون استفهاما أي: وأي شيء تغني الآيات وهي الدلائل؟ وهو استفهام على جهة التقرير. وفي اة ية توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المشركين. وقرأ الحرميان
193

والعربيان، والكسائي: قل انظروا بضم اللام، وقرئ: وما تغني بالتاء، وهي قراءة الجمهور وبالياء. وماذا يحتمل أن يكون استفهاما في موضع رفع بالابتداء، والخبر في السماوات. ويحتمل أن يكون الخبر ذا بمعنى الذي، وصلته في السماوات. وانظروا معلقة، فالجملة الابتدائية في موضع نصب، ويبعد أن تكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي، ويكون مفعولا لقوله: انظروا، لأنه إن كانت بصرية تعدت بإلى، وإن كانت قلبية تعدت بفي. وقال ابن عطية: ويحتمل أن تكون ما في قوله: وما تغني، مفعولة لقوله: انظروا، معطوفة على قوله: ماذا أي: تأملوا نذر غنى الآيات. والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك، كفعل قوم يونس، فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة وينجي من الهلكات. والآية على هذا تحريض على الإيمان، وتجوز اللفظ على هذا التأويل، إنما هو في قوله: لا يؤمنون انتهى. وهذا احتمال فيه ضعف. وفي قوله: مفعولة معطوفة على قوله ماذا، تجوز يعني أن الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السماوات والأرض في موضع المفعول، لأن ماذا منصوب وحده بانظروا، فيكون ماذا موصولة. وانظروا بصرية لما تقدم، والأيام هنا وقائع الله فيم، كما يقال أيام العرب لوقائعها. وفي الاستفهام تقرير وتوعد، وحض على الإيمان، والمعنى: إذا لجوا في الكفر حل بهم العذاب، وإذا آمنوا نجوا، هذه سنة الله في الأمم الخالية. قل فانتظروا أمر تهديد أي: انتظروا ما يحل بكم كما خل بمن قبلكم من مكذبي الرسل.
* (ثم ننجى رسلنا والذين ءامنوا كذلك حقا علينا * ننجى المؤمنين) *: لما تقدم قوله: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، وكان ذلك مشعرا بما حل بالأمم
الماضية المكذبة ومصرحا بهلاكهم في غير ما آية، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى: إن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين. ولذلك قال الزمخشري: ثم ننجي معطوف على كلام محذوف يدل عليه إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم، كأنه قيل: نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا على مثل الحكايات الماضية. والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم، ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون حقا على تقدير: حق ذلك حقا. وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون حقا بدلا من المحذوف النائب عنه الكاف تقديره: إنجاء مثل ذلك حقا. وأجاز أن يكون كذلك، وحقا منصوبين بننجي التي بعدهما، وأن يكون كذلك منصوبا بننجي الأولى، وحقا بننجي الثانية، وأجاز هو تابعا لابن عطية أن تكون الكاف في موضع رفع، وقدره الأمر كذلك: وحقا منصوب بما بعدها. وقال الزمخشري مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم ونهلك المشركين، وحقا علينا اعتراض يعني حق ذلك علينا حقا. قال القاضي: حقا علينا المراد به الوجوب، لأن تخليص الرسول صلى الله عليه وسلم) والمؤمنين من العذاب إلى الثواب واجب، ولولاه ما حسن من الله أن يلزمهم: الأفعال الشاقة. وإذا ثبت لهذا السبب جرى مجرى قضاء الدين للسبب المتقدم، وأجيب بأنه حق. بحسب الوعد والحكم لا بحسب الاستحقاق، لما ثبت أن العبد لا يستحق على خالقه شيئا. وقرأ الكسائي، وحفص: ننجي المؤمنين بالتخفيف مضارع أنجى، وخط المصحف ننج بغير ياء.
* (قل ياأهل * أيها الناس * إن كنتم فى شك من دينى فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولاكن أعبد الله
194

الذى يتوفاكم وأمرت) * (سقط: وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين، ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك لأن فعلت فإنك إذا من الظالمين، وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يرد بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم) خطاب لأهل مكة يقول: إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم، فبدأ أولا بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيها لآرائهم، وأثبت ثانيا من الذي يعبده وهو الله الذي يتوفاكم. وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي. دلالة على البدء وهو الخلق، وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيرا ما صرح في القرآن بهذه الأطوار الثلاثة، وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله بعده، فهو الجدير بأن يخاف ويتقي ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها. وأمرت أن أكون من المؤمنين لما ذكر أنه يعبد الله، وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له، المفرد له بالعبادة، وانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر. قال الزمخشري: يعني أن الله تعالى أمرني بما ركب في من العقل، وبما أوحي إلي في كتابه. وقيل معناه إن كنتم في شك من ديني ومما أنا عليه، أأثبت أم أتركه وأوافقكم، فلا تحدثوا أنفسكم بالمحال، ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا أختار الضلالة على الهدى كقوله: * (قل ياأهل * أيها * الكافرون * لا أعبد ما تعبدون) * وأمرت أن أكون أصله: بأن أكون، فحذف الجار وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارة، مع أن وإن يكون من الحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير * (فاصدع بما تؤمر) * انتهى يعني بالحذف غير المطرد وهو قوله: أمرتك الخير، إنه لا يحذف حرف الجر من المفعول الثاني إلا في أفعال محصورة سماعا لا قياسا وهي: اختار، واستغفر، وأمر، وسمى، ولبى، ودعا بمعنى سمى، وزوج، وصدق، خلافا لمن قاس الحذف بحرف الجر من المفعول الثاني، حيث يعني الحرف ووموضع الحذف نحو: بريت القلم بالسكين، فيجيز السكين بالنصب. وجواب إن كنتم في شك قوله: فلا أعبد، والتقدير: فأنا لا أعبد، لأن الفعل المنفي بلا إذا وقع جوابا انجزم، فإذا دخلت عليه الفاء علم أنه على إضمار المبتدأ. وكذلك لو ارتفع دون لا لقوله.
ومن عاد فينتقم الله منه أي: فهو ينتقم الله منه. وتضمن قوله: فلا أعبد، معنى فأنا مخالفكم. وأن أقم يحتمل أن تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعى فيها المعنى. لأن معنى قوله أن أكون كن من المؤمنين، فتكون أن مصدرية صلتها الأمر. وقد أجاز ذلك النحويون، فلم يلتزموا في صلتها ما التزم في صلات الأسماء الموصولة من كونها لا تكون إلا خبرية بشروطها المذكورة في النحو. ويحتمل أن تكون على إضمار فعل أي: وأوحي إلي أن أقم، فاحتمل أن تكون مصدرية، واحتمل أن تكون حرف تفسير، لأن الجملة المقدرة فيها معنى القول وإضمار الفعل أولى، ليزول قلق العطف لوجود الكاف، إذ لو كان وأن أقم عطفا على أن أكون، لكان التركيب وجهي بياء المتكلم ومراعاة المعنى فيه ضعف، وإضمار الفعل أكثر من مراعاة العطف على المعنى. والوجه هنا المنحى، والمقصد أي: استقم للدين ولا تحد عنه، وكنى بذلك عن صرف العقل بالكلية إلى طلب الدين. وحنيفا: حال من الضمير في أقم، أو من المفعول. وأجاز الزمخشري أن تكون حالا من الدين، ولا تدع يحتمل أن يكون استئناف
195

نهي، ويحتمل أن يكون معطوفا على أقم، فيكون في حيز أن على قسميها من كونها مصدرية، وكونها حرف تفسير. وإذا كان دعاء الأصنام منهيا عنه فأحرى أن ينهي عن عبادتها، فإن فعلت كنى بالفعل عن الدعاء إيجازا أي: فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك. وجواب الشرط فإنك وخبرها، وتوسطت إذا بين اسم إن والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكن روعي في ذلك الفاصلة. قال الحوفي: الفاء جواب الشرط، وإذا متوسطة لا عمل لها يراد بها في هذا إذا كان ذلك هذا تفسير، المعنى لا يجيء على معنى الجواب انتهى. وقال الزمخشري: إذا جواب الشرط، وجواب لجواب مقدر كان سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان، وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، * (إن الشرك لظلم عظيم) * انتهى. وكلامه في إذا يحتاج إلى تأمل، وقد تقدم لنا الكلام فيها مشبعا في سورة البقرة. ولما وقع النهي عن دعاء الأصنام وهي لا تضر ولا تنفع، ذكر أن الحول والقوة والنفع والضر ليس ذلك إلا لله، وأنه تعالى هو المنفرد بذلك، وأتى في الضر بلفظ المس، وفي الخير بلفظ الإرادة، وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأن مقابل الضر النفع ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر، وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع، ولفظة المس أوجز من لفظ الإرادة وأنص على الإصابة وأنسب لقوله: فلا كاشف له إلا هو، ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت
الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير، وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة. وجاء جواب: وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب، وجاء جواب: وإن يردك بنفي عام، لأن ما أراده لا يرده راد لا هو ولا غيره، لأن إرادته قديمة لا تتغير، فلذلك لم يجيء التركيب فلا راد له إلا هو. والمس من حيث هو فعل صفة فعل يوقعه ويرفعه بخلاف الإرادة، فإنها صفة ذات، وجاء فلا راد لفضله سمى الخير فضلا إشعارا بأن الخيور من الله تعالى، هي صادرة على سبيل الفضل والإحسان والتفضل. ثم اتسع في الإخبار عن الفضل والخير فقال: يصيب به من يشاء من عباده، ثم أخبر بالصفتين الدالتين على عدم المؤاخذة وهما: الغفور الذي يستر ويصفح عن الذنوب، والرحيم الذي رحمته سبقت غضبه. ولما تقدم قوله: ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، فأخر الضر، ناسب أن تكون البداءة بجملة الشرط المتعلقة بالضر. وأيضا فإنه لما كان الكفار يتوقع منهم الضر للمؤمنين والنفع لا يرجى منهم، كان تقديم جملة الضر آكد في الإخبار فبدىء بها. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم ذكر المس في أحدهما، والإرادة في الثاني؟ (قلت): كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعا: الإرادة، والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا راد لما يريد منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المس وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الإنجاز، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله: يصيب به من يشاء من عباده، والمراد بالمشيئة المصلحة.
* (قل ياأهل * أيها الناس * قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدى * لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل * واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) * الحق: القرآن، أو الرسول، أو دين الإسلام، ثلاثة أقوال والمعنى: فإنما ثواب هدايته حاصل له، ووبال ضلاله عليه، والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى من العبد، هذا مذهب أهل السنة. وأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع ذلك، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في ذلك. وقال القاضي: إنه تعالى بين أنه أكمل الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم
196

بوكيل، فلا يجب علي من السعي في إيصالكم إلى الثواب العظيم، وفي تخليصكم من العذاب الأليم، أزيد مما فعلت. وقال الزمخشري: لم يبق لكم عذر ولا على الله تعالى حجة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فما ضر إلا نفسه. واللام وعلى على معنى النفع والضر، وكل إليهم الأمر بعد إزاحة العلل وإبانة الحق. وفيه حث على إتيان الهدى واطراح الضلال مع ذلك، وما أنا عليكم بوكيل بحفيظ موكول إلي أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير انتهى. وكلامه تذييل كلام القاضي، وهو جار على مذهب المعتزلة. وأمره تعالى نبيه باتباع ما يوحى إليه أمر بالديمومة وبالصبر على ما ينالك في الله من أذى الكفار وإعراضهم، وغيا الأمر بالصبر بقوله: حتى يحكم الله وهو وعد منه تعالى بإعلاء كلمته ونصره على أعدائه كما وقع. وذهب ابن عباس وجماعة إلى أن قوله: وما أنا عليكم بوكيل واصبر، منسوخ بآية السيف. وذهب جماعة إلى أنه محكم، وحملوا وما أنا عليكم بوكيل على أنه ليس بحفيظ على أعمالهم ليجازيهم عليها، بل ذلك لله. وقوله: واصبر على، الصبر على طاعة الله وحمل أثقال النوبة وأداء الرسالة، وعلى هذا لا تعارض بين هاتين الآيتين وبين آية السيف، وإلى هذا مال المحققون. وروي أنه لما نزلت: واصبر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم) الأنصار فقال: (إنكم ستجدون بعدي إثرة فاصبروا حتى تلقوني) قال الزمخشري: يعني أني أمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامني الكفرة، فصبرت واصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة. قال أنس: فلم نصبر، ثم ذكر حكاية جرت بين أبي قتادة ومعاوية رضي الله عنهما يوقف عليها من كتابه.
197

((سورة هود))
بسم الله الرحمن الرحيم 2 (* (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * ألا تعبدوا إلا الله إننى لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإنيأخاف عليكم عذاب يوم كبير * إلى الله مرجعكم وهو على كل شىء قدير * ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور * وما من دآبة في الا رض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين * وهو الذى خلق السماوات والا رض فى ستة أيام وكان عرشه على المآء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هاذآ إلا سحر مبين * ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعمآء بعد ضرآء مسته ليقولن ذهب السيئات عنيإنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولائك لهم مغفرة وأجر كبير * فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضآئق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جآء معه ملك إنمآ أنت نذير والله على كل شىء وكيل * أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين * فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا أنمآ أنزل بعلم الله
198

وأن لا إلاه إلا هو فهل أنتم مسلمون * من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولائك الذين ليس لهم فى الا خرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون * أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولائك يؤمنون به ومن يكفر به من الا حزاب فالنار موعده فلا تك فى مرية منه إنه الحق من ربك ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولائك يعرضون على ربهم ويقول الا شهاد هاؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين * الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالا خرة هم كافرون * أولائك لم يكونوا معجزين فى الا رض وما كان لهم من دون الله من أوليآء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون * أولائك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون * لا جرم أنهم فى الا خرة هم الا خسرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالا عمى والا صم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنىأخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملأ الذين
كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين * قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربىوءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * وياقوم لاأسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله ومآ أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكني أراكم قوما تجهلون * وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندى خزآئن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما فى أنفسهم إنىإذا لمن الظالمين * قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنآ إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شآء ومآ أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحى صلى الله عليه وسلم
199

1764 إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون * أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون * وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون * ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم * حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل) *))
) *
ثنى الشيء ثنيا طواه، يقال: ثنى عطفه، وثنى صدره، وطوى كشحه. الحزب: جماعة من الناس يجتمعون على أمر يتعصبون فيه. رذل الرجل رذالة فهو رذل إذا كان سفلة لا خلاق له، ولا يبالي بما يقول ما يفعل. الإخبات: التواضع والتذلل، مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض. وقيل: البراح القفر المستوي، ويقال: أخبت دخل في الخبت، مأنجد دخل نجدا وأنهم دخل تهامة، ثم توسع فيه فقيل: خبت ذكره خمد. ويتعدى أخبت بإلى وباللام، ويقال للشيء الدنيء: الخبيث. قال الشاعر:
* ينفع الطيب الخبيث من الرز
*
ق ولا ينفع الكثير الخبيث
*
لزم الشيء واظب عليه لا يفارقه، ومنه اللزام. زرى يزري حقر، وأزرى عليه عابه، وازدرى افتعل من زرى أي: احتقر. التنور مستوقد النار، ووزنه فعول عند أبي علي، وهو أعجمي وليس بمشتق. وقال ثعلب: وزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فهمزت الواو ثم خففت، وشدد الحرف الذي قبله كما قال:
* رأيت عرابة اللوسي يسمو
*
إلى الغايات منقطع القرين
*
يريد عرابة الأوسي. وللمفسرين أقوال في التنور ستأتي إن شاء الله تعالى.
* (الر كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير * أن لا تعبدوا إلا الله * إننى لكم منه نذير وبشير * وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا) *: قال ابن عباس، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وجابر بن زيد: هذه السورة مكية كلها، وعن ابن عباس: مكية كلها إلا قوله: * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * الآية.
200

وقال مقاتل: مكية إلا قوله: فلعلك تارك الآية. وقوله: * (أولئك يؤمنون به) * نزلت في ابن سلام وأصحابه. وقوله: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) * نزلت في نبهان التمار.
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله: ألم ذلك الكتاب، وأحكمت صفة له. ومعنى الأحكام: نظمه نظما رضيا لا نقص فيه ولا خلل، كالبناء المحكم. وهو الموثق في الترصيف، وعلى هذا فالهمزة في أحكمت ليست للنقل، ويجوز أن تكون للنقل من حكم بضم الكاف إذا صار حكيما، فالمعنى: جعلت حكيمة كقولك: تلك آيات الكتاب الحكيم على أحد التأويلين في قوله: * (الكتاب الحكيم) * وقيل: من أحكمت الدابة إذا منعها من الجماح بوضع الحكمة عليها، فالمعنى: منعت من النساء كما قال جرير:
* أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم
*
إني أخاف عليكم أن أغضبا
*
وعن قتادة: أحكمت من الباطل. قال ابن قتيبة: أحكمت أتقنت شبه ما يحكم من الأمور المتقنة الكاملة، وبهذه الصفة كان القرآن في الأول، ثم فصل بتقطيعه وتبيين
أحكامه وأوامره عل محمد صلى الله عليه وسلم) فثم على بابها، وهذه طريقة الإحكام والتفصيل. إذ الإحكام صفة ذاتية، والتفصيل إنما هو بحسب من يفصل له، والكتاب أجمعه محكم مفصل، والإحكام الذي هو ضد النسخ، والتفصيل الذي هو خلاف الإجمال، إنما يقالان مع ما ذكرناه باشتراك. وحكى الطبري عن بعض المتأولين: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. وعن بعضهم: أحكمت من الباطل، وفصلت بالحلال والحرام، ونحو هذا من التخصيص الذي هو صحيح المعنى، ولكن لا يقتضيه اللفظ. وقيل: فصلت معناه فسرت، وقال الزمخشري: ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد أي بين ولخص. وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري، وزيد بن علي، وابن كثير في رواية: ثم فصلت بفتحتين، خفيفة على لزوم الفعل للآيات. قال صاحب اللوامح: يعني انفصلت وصدرت. وقال ابن عطية: فصلت بين المحق والمبطل من الناس، أو نزلت إلى الناس كما تقول: فصل فلان بسفره.
قال الزمخشري: وقرئ أحكمت آياته ثم فصلت أي: أحكمتها أنا نائم، فصلتها. (فإن قلت): ما معنى؟ ثم (قلت): ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال، كما تقول: هي محكمة أحسن الأحكام، ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل، ثم كريم الفعل انتهى. يعني أن ثم جاءت لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان، واحتمل من لدن أن يكون في موضع الصفة. ومن أجاز تعداد الأخبار إذا لم تكن في معنى خبر واحد أجاز أن يكون خبرا بعد خبر. قال الزمخشري: أن يكون صلة أحكمت وفصلت أي: من عنده أحكامها وتفصيلها. وفيه طباق حسن، لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها أي: بينها وشرحها خبير بكيفيات الأمور انتهى. ولا يريد أن من لدن متعلق بالفعلين معا من حيث صناعة الإعراب، بل يريد أن ذلك من باب الاعمال، فهي متعلقة بهما من حيث المعنى. وأن لا تعبدوا يحتمل أن يكون أن حرف تفسير، لأن في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر، لأنه لا يحتاج إلى إضمار. وقيل: التقدير لأن لا تعبدوا أو بأن لا تعبدوا، فيكون مفعولا من أجله، ووصلت أن بالنهي. وقيل
201

أن نصبت لا تعبدوا، فالفعل خبر منفي. وقيل: أن هي المخففة من الثقيلة، وجملة النهي في موضع الخبر، وفي هذه الأقوال العامل فصلت. وأما من أعربه أنه بدل من لفظ آيات أو من موضعها، أو التقدير: من النظر أن لا تعبدوا إلا الله، أو في الكتاب ألا تعبدوا، أو هي أن لا تعبدوا، أو ضمن أن لا تعبدوا، أو تفصله أن لا تعبدوا، فهو بمعزل عن علم الإعراب. والظاهر عود الضمير في منه إلى الله أي: إني لكم نذير من جهته وبشير، فيكون في موضع الصفة، فتعلق بمحذوف أي: كائن من جهته. أو تعلق بنذير أي: أنذركم من عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. وقيل: يعود على الكتابة أي: نذير لكم من مخالفته، وبشير منه لمن آمن وعمل به. وقدم النذير لأن التخويف هو الأهم. وأن استغفروا معطوف على أن لا تعبدوا، نهي أو نفي أي: لا يعبد إلا الله. وأمر بالاستغفار من الذنوب، ثم بالتوبة، وهما معنيان متباينان، لأن الاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى: أنه لا يبقى لها تبعة. والتوبة الانسلاخ من المعاصي، والندم على ما سلف منها، والعزم على عدم العود إليها. ومن قال: الاستغفار توبة، جعل قوله: ثم توبوا، بمعنى أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. قال ابن عطية: وثم مرتبة، لأن الكافر أول ما ينيب، فإنه في طلب مغفرة ربه، فإذا تاب وتجرد من الكفر تم إيمانه.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثم في قوله: ثم توبوا إليه؟ (قلت): معناه استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقرأ الحسن، وابن هرمز، وزيد بن علي، وابن محيصن: يمتعكم بالتخفيف من أمتع، وانتصب متاعا على أنه مصدر جاز على غير الفعل، أو على أنه فمعول به. لأنك تقول: متعت زيدا ثوبا، والمتاع الحسن الرضا بالميسور والصبر على المقدور، أو حسن العمل وقطع الأمل، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية، أو الحلال الذي لا طلب فيه ولا تعب، أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة أقوال. وقال الزمخشري: يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية، وعيشة واسعة، ونعمة متتابعة. قال ابن عطية: وقيل هو فوائد الدنيا وزينتها، وهذا ضعيف. لأن الكفار يشاركون في ذلك أعظم مشاركة، وربما زادوا على المسلمين في ذلك. قال: ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل، وفي ثوابه وفرحه بالتقرب إليه بمفروضاته، والسرور بمواعيده، والكافر ليس في شيء من هذا، والأجل المسمى هو أجل الموت قاله: ابن عباس والحسن. وقال ابن جبير: يوم القيامة، والضمير في فضله يحتمل أن يعود على الله تعالى أي: يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير، وزيادة ما تفضل به تعالى وزاده. ويحتمل أن يعود على كل أي: جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء، كما قال: * (نوف إليهم أعمالهم فيها) * أي جزاءها. والدرجات تتفاضل في الجنة بتفاضل الطاعات، وتقدم أمران بينهما تراخ، ورتب عليهما جوابان بينهما تراخ، ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا، كما قال: فقلت * (استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا) * الآية وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة، وناسب كل جواب لما وقع جوابا له، لأن الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله، فناسب أن يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار، والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والظاهر أن تولوا مضارع حذف منه التاء أي: وإن تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين، والتقدير قيل لهم: إني أخاف عليكم. وقرأ اليماني، وعيسى بن عمر: وإن تولوا بضم التاء واللام، وفتح الواو، مضارع ولي، والأولى مضارع تولى. وفي كتاب اللوامح اليماني وعيسى البصرة: وإن تولوا بثلاث ضمات مرتبا للمفعول به، وهو ضد التبري. وقرأ الأعرج: تولوا بضم التاء واللام. وسكون الواو، مضارع أولى، ووصف يوم بكبير وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال. وقيل: هو يوم بدر وغيره من الأيام التي رموا فيها بالخذلان والقتل والسبي والنهب وأبعد من ذهب إلى أن كبير صفة لعذاب، وخفض على الجوار. وباقي الآية تضمنت تهديدا عظيما وصرحت بالبعث، وذكر أن قدرته عامة لجميع ما يشاء، ومن ذلك البعث،
202

فهو لا يعجزه ما شاء من عذابهم.
* (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) *: نزلت في الأخنس بن شريق، كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر قاله ابن عباس. وعنه أيضا: في ناس كانوا يستحيون أن يفضوا إلى السماء في الخلاء ومجامعة النساء. وقيل: في بعض المنافقين، كان إذا مر بالرسول صلى الله عليه وسلم) ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يرى الرسول قاله: عبد الله بن شداد. وقيل: في طائفة قالوا إذا أغلقنا أبوابنا، وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا، على عداوته كيف يعلم بنا؟ ذكره الزجاج. وقيل: فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول صلى الله عليه وسلم)، ولا يدخل أسماعهم القرآن ذكره ابن الأنباري. ويثنون مضارع ثنى قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير: يثنون بضم الياء مضارع أثنى صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح: ولا يعرف الأثناء في هذا الباب إلا أن يراد به وجدتها مثنية مثل أحمدته وأمجدته، ولعله فتح النون وهذا مما فعل بهم، فيكون نصب صدورهم بنزع الجار، ويجوز على ذلك أن يكون صدورهم رفعا على البدل بدل البعض من الكل. وقال أبو البقاء: ماضية أثنى، ولا يعرف في اللغة إلا أن يقال معناه: عرضوها للأثناء، كما يقال: أبعت الفرس إذا عرضته للبيع. وقرأ ابن عباس، وعلي بن الحسين، وابناه زيد ومحمد، وابنه جعفر، ومجاهد، وابن يعمر، ونصر بن عاصم، وعبد الرحمن بن ابزي، والجحدري، وابن أبي إسحاق، وأبو الأسود الدؤلي، وأبو رزين، والضحاك: تثنوني بالتاء مضارع اثنوني على وزن افعوعل نحو اعشوشب المكان صدورهم بالرفع، بمعنى تنطوي صدورهم. وقرأ أيضا ابن عباس، ومجاهد، وابن يعمر، وابن أبي إسحاق: يثنوني بالياء صدورهم بالرفع، ذكر على معنى الجمع دون الجماعة. وقرأ ابن عباس أيضا ليثنون بلام التأكيد في خبر إن، وحذف الياء تخفيفا وصدورهم رفع. وقرأ ابن عباس أيضا، وعروة، وابن أبي أبزي، والأعشى: يثنون ووزنه يفعوعل من الثن، بنى منه افعوعل وهو ما هش وضعف من الكلأ، وأصله يثنونن يريد مطاوعة نفوسهم للشيء، كما ينثني الهش من النبات. أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم وصدورهم بالرفع. وقرأ عروة ومجاهد أيضا: كذلك إلا أنه همز فقرأ يثنئن مثل يطمئن، وصدورهم رفع، وهذه مما استثقل فيه الكسر على الواو كما قيل: أشاح. وقد قيل أن يثنئن يفعئل من الثن. المتقدم، مثل تحمار وتصفار، فحركت الألف لالتقائهما بالكسر، فانقلبت همزة. وقرأ الأعشى: يثنؤون مثل يفعلون مهموز اللام، صدورهم بالنصب. قال صاحب اللوامح: ولا أعرف وجهه لأنه يقال: ثنيت، ولم أسمع ثنأت. ويجوز أنه قلب الياء ألفا على لغة من يقول: أعطأت في أعطيت، ثم همز على لغة من يقول: * (ولا الضالين) * وقرأ ابن عباس: يثنوي بتقديم الثاء على النون، وبغير نون بعد الواو على وزن ترعوي. قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلط لا تتجه انتهى. وإنما قال ذلك لأنه لاحط الواو في هذا الفعل لا يقال: ثنوته فانثوى كما يقال: رعوته أي كففته فارعوى فانكف، ووزنه أفعل. وقرأ نضير بن عاصم، وابن يعمر، وابن أبي إسحاق: يثنون بتقديم النون على الثاء، فهذه عشر قراءات في هذه الكلمة. والضمير في أنهم عائد على بعض من بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم) من الكفار أي: يطوون صدورهم على عدوانه. قال الزمخشري: يثنون صدورهم يزورون عن الحق وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه، يعني: ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * معناه: فضرب فانفلق. ومعنى ألا حين: يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضا كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام: * (جعلوا أصابعهم فى واستغشوا ثيابهم وأصروا) * انتهى. فالضمير في منه على قوله عائد على الله، قال
203

ابن عطية: وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى. ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم) كما قال ابن عطية. قال: قيل: إن هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر، وردوا إليه ظهورهم، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منهم وكراهية للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى. فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقا بقوله يثنون، وكذا قال الحوفي. وقيل: هي استعارة للغل، والحقد الذي كانوا ينطون عليه كما تقول: فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها، فمعنى الآية: ألا أنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها، ليخفي في ظنهم عن الله عز وجل، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى. فعلى هذا يكون حين معمولا لقوله: يعلم، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله: ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم. وقال أبو البقاء: ألا حين العامل في الظرف محذوف أي: ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفا ليعلم. وقيل: كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أن ذلك يخفى على الله تعالى. قال قتادة: أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همته. وقال مجاهد: يطوونها على الكفر. وقال ابن عباس: يخفون ما في صدورهم من الشحناء. وقال قتادة: يخفون ليسمعوا كلام الله. وقال ابن زيد: يكتمونها إذا ناجى بعضا في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: يثنونها حياء من الله تعالى، ومعنى يستغشون: يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء:
* أرعى النجوم وما كلفت رعيتها
*
وتارة أتغشى فضل أطماري
*
وقيل: المراد بالثياب الليل، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم: الليل أخفى للويل، وقرأ ابن عباس: على حين يستغشون. قال ابن عطية: ومن هذا الاستعمال قول النابغة:
* على حين عاتبت المشيب على الصبا
*
وقلت ألما أصح والشيب وازع
*
انتهى.
وقال ابن عباس: ما يسرون بقلوبهم، وما يعلنون بأفواههم. وقيل: ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار. وقال ابن الأنباري: معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم. وقال الزمخشري: يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم، واستغشائهم بثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده. وقال صاحب التحرير: الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، لأن ذلك كله من أعمال
204

القلوب، وأعمال القلوب خفيه جدا، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى الله عليه وسلم) وتغشيه ثيابهم، وسد آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى.
* (وما من دابة في الارض إلا على رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل فى كتاب مبين) *: الدابة هنا عام في كل حيوان يحتاج إلى رزق، وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل، ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل به عليهم أبرزه في حيز الوجوب. قال ابن عباس: مستقرها حيث تأوى إليه من الأرض، ومستودعها الموضع الذي تموت فيه فتدفن. وعنه أيضا: مستقرها في الرحم، ومستودعها في الصلب. وقال الربيع بن أنس: مستقرها في أيام حياتها، ومستودعها حين تموت وحين تبعث. وقيل: مستقرها في الجنة أو في النار، ومستودعها في القبر، ويدل عليه: * (حسنت مستقرا) * * (وساءت * مستقرا) * وقيل: ما يستقر عليه عملها، ومستودعها ما تصير إليه. وقيل: المستقر ما حصل موجودا من الحيوان، والمستودع ما سيوجد بعد المستقر. وقال الزمخشري: المستقر مكانه من الأرض ومسكنه، والمستودع حيث كان موجودا قبل الاستقرار من صلب أو رحم أو بيضة انتهى. ومستقر ومستودع يحتمل أن يكونا مصدرين، ويحتمل أن يكونا اسمي مكان، ويحتمل مستودع أن يكون اسم مفعول لتعدي الفعل منه، ولا يحتمله مستقر للزوم فعله كل أي: كل من الرزق والمستقر والمستودع في اللوح يعني: وذكرها مكتوب فيه مبين. وقيل: الكتاب هنا مجاز، وهو إشارة إلى علم الله، وحمله على الظاهر أولى.
* (وهو الذى خلق * السماوات والارض * فى ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن) *: لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالما، ذكر ما يدل على كونه قادرا، وتقدم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أن قوله: وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السماوات والأرض، وفي هذا دليل على أن الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له: على أي شيء كان الماء؟ قال: كان على متن الريح، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق. قال الزمخشري: أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أن يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون. (فإن قلت): كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ (قلت): لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق الله، فهو ملابس له كما تقول: انظر أيهم أحسن وجها، واستمع أيهم أحسن صوتا، لأن النظر والاستماع من طرق العلم انتهى. وفي قوله: ومن كفر وعصى عاقبه، دسيسة الاعتزال. وأما قوله: واستمع أيهم أحسن صوتا، فلا أعلم أحدا ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف. وقيل: ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا التأوي أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل: تقدير الفعل، وخلقكم ليبلوكم. وقيل: في الكلام جمل محذوفة، التقدير: وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى، وفعل ذلك ليبلوكم. ومعنى أيكم أحسن عملا: أهذا أحسن أم هذا. قال ابن بحر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم) (أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله) ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلم) لم يعدل عنه. وقال الحسن: أزهد في الله. وقال مقاتل: أتقى لله. وقال الضحاك: أكثركم شكرا.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فكيف قيل: أيكم
205

أحسن عملا وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ (قلت): الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده، فخصهم بالذكر، واطرح ذكر من وراءهم تشريفا لهم وتنبيها على مكانهم، وليكون ذلك تيقظا للسامعين وترغيبا في حيازة فضلهم انتهى. ولئن قلت، خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). وقرأ عيسى الثقفي: ولئن قلت بضم التاء إخبارا عنه تعالى، والمعنى: ولئن قلت مستدلا على البعث من بعد الموت، إذ في قوله تعالى: وهو الذي خلق، دلالة على القدرة: العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه. وقرئ: أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق إنك تشتري لحما، بمعنى علك أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا: ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت انتهى يعني: فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت،
والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي: إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث. أي: إن البعث. وقيل: أشاروا بهذا إلى القرآن، وهو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. قال ابن عطية: كذبوا وقالوا: هذا سحر، فهذا تناقض منهم إن كان مفطورا بقربات الله فاطر السماوات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور، إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وفرقة من السبعة: سحر. وقرأت فرقة: ساحر، يريدون والساحر كاذب مبطل، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعا آخر من أباطيلهم واستهزائهم، والعذاب هنا عذاب القيامة. وقيل: عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين، والظاهر العذاب الموعود به، والأمة هنا المدة من الزمان قاله: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والجمهور، ومعناه: إلى حين. ووقت معلوم ما يحبسه استفهام، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء. قال الطبري: سميت المدة أمة، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى، فهي على هذا المدة الطويلة، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يرده شيء ولا يصرفه. والظاهر أن يوم منصوب بقوله: مصروفا، فهو معمول لخبر ليس. وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد: إلى أنه لا يجوز ذلك، وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل. وأيضا فإن الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: إن اليوم زيدا مسافر، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها، ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
* فيأبى فما يزداد إلا لجاجه
*
وكنت أبيا في الخفا لست أقدم
*
وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.
* (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير) *: لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإن تأخر لا بد أن يحيق بهم، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله. والظاهر أن الإنسان هنا هو جنس، والمعنى إن هذا الخلق في سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلا. وقيل: المراد هنا بالإنسان الكافر
206

وقيل: المراد به إنسان معين، فقال ابن عباس: هو الوليد بن المغيرة، وفيه نزلت. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعا ومعنى رحمة: نعمة من صحة، وأمن وجدة، ثم نزعناها أي سلبناها منه. ويؤوس كفور، صفتا مبالغة والمعنى: إنه شديد اليأس كثيرة، ييأس أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه. كفور كثير الكفر، إن لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدىء بالنعمة ولم يسبقه الضر، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر. ومعنى ذهب السيئات أي: المصائب التي تسوءني. وقوله هذا يقتضي نظرا وجهلا، لأن ذلك بإنعام من الله، وهو يعتقد أن ذلك اتفاق أو يسعد، وهو اعتقاد فاسد. إنه لفرح أشر بطر، وهذا الفرح مطلق، فلذلك ذم المتصف به، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيدا بما فيه خير كقوله: * (فرحين بما ءاتاهم الله من فضله) * وقرأ الجمهور: لفرح بكسر الراء، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم. وقرأت فرقة: لفرح بضم الراء، وهي كما تقول: ندس، ونطس. وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات. ومنها الشكر على النعماء. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه، وأجر كبير هو الجنة، فيقتضي الفوز بالثواب. ووصف الأجر بقوله: كبير، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف، وإلا من العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إلى وجهه الكريم.
* (فلعلك تارك بعض ما * يوحى إليك * وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل) *: قال الزمخشري: كانوا يقترحون عليه آيات تعنتا لا استرشاد، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، وكانوا لا يعتدون بالقرآن، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي: لعلك تترك أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به، وضائق به صدرك بأن تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم قال: إنما أنت نذير أي: ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه.
وقال ابن عطية: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك، وقالوا: إئت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو
هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم) على هذه الصورة من المخاطبة، وقفه بها توقيفا رادا على أقوالهم، ومبطلا لها. وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم
207

وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان. ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يوحي إليه هو القرآن والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم، وتسفيه آبائهم أو غيره. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم) قد عظم عليه ما يلقى من الشدة، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم) كما جاءت آيات الموادعة. وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وإن كان ضيق أكثر استعمالا، لأنه وصف لازم، وضائق وصف عارض. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ (قلت): ليدل على أن ضيق عار غير ثابت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان أفسح الناس صدا. ومثله قولك: سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد انتهى. وليس هذا الحكم مختصا بهذه الألفاظ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول: حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
* بمنزلة أما اللئيم فسامن بها
*
وكرام الناس باد شحوبها
*
والظاهر عود الضمير في به على بعض. وقيل: على ما، وقيل: عل التبليغ، وقيل: على التكذيب، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل، والمعنى: هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك؟ وقدروا كراهته أن يقولوا، ولئلا يقولوا، وبأن يقولوا، ثلاثة أقوال. والكنز المال الكثير. وقالوا: أنزل، ولم يقولوا أعطى، لأن مرادهم التعجيز، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة، فإن الكنوز إنما تكون في الأرض. وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال، كالناقة لثمود، وآنسه تعالى بقوله؛ إنما أنت نذير، أي: الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم، فإن ذلك إنما هو لله تعالى. وقال مقاتل: وقيل: كافل بالمصالح قادر عليها. وقال ابن عطية: المحصي لإيمان من شاء، وكفر من شاء. قيل: وهذه الآية منسوخة، وقيل: محكمة.
* (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإلم) *: الظاهر أن أم منقطعة تتقدر ببل، والهمزة أي: أيقولون افتراه. وقال ابن القشيري: أم استفهام توسط الكلام على معنى: أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله، فإن قالوا: إنه ليس من عند الله فليأتوا بمثله انتهى. فجعل أم متصلة، والظاهر الانقطاع كما قلنا، والضمير في افتراه عائد على قوله: ما يوحى إليك، وهو القرآن.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم، أنه ليس من عند الله، وأنه هو الذي افتراه، وإنما تحداهم أولا بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة، إذ كانت هذه السورة مكية، والبقرة مدنية، وسورة يونس أيضا مكية، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم، وكأنه يقول: هبوا إني اختلقته ولم يوح إلي فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام، وإنما عين بقوله: مثله، في حسن النظم والبيان وإن كان مفتري وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولا بأن يفعل أمثالا مما فعل هو، ثم إذا تبين عجزه قال له: افعل مثلا واحدا ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى: * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله: * (ثم لا يكونوا أمثالكم) * * (وحور عين * كأمثال اللؤلؤ
208

المكنون) * وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى، والمجموع أي: مثلين وأمثال. والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهابا إلى مماثلة كل سورة منها له. وقال ابن عطية: وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم: عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفتري لا يبقى لكم إلا نظمه، فهذه غاية التوسعة. وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأكن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة. وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افتراه وكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفتري. وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة انتهى. والظاهر أن قوله: مثله، لا يراد به الثلية في كون المعارض عشر سور، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن. وروي عن ابن عباس: أن السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود. فقوله: مثله، أي مثل هذه عشر السور، وهذه السور أكثرها مدني، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس. والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم، عائد على ن طلب مهم المعارضة، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين. وجوز أن
يكون خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم) على سبيل التعظيم، كما جاء (فإن لم يستجيبوا لك) قاله: مجاهد. وقيل: ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإن لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبسا بما لا يعلمه لا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه. واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو، وأن توحيده واجب، فهل أنتم مسلمون؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي: دوموا على العلم وازدادوا يقينا وثبات قدم أنه من عند الله. ومعنى فهل أنتم مسلمون: أي مخلصو الإسلام، وقال مقاتل: بعلم الله، بإذن الله. وقال الكلبي: بأمره. وقال القتبي: من عند الله، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم، وفي لكم عائد على الكفار، لعود الضمير على أقرب مذكور، ولكون الخطاب يكون لواحد. ولترتب الجواب على الشرط ترتبا حقيقيا من الأمر بالعلم، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو، ولأن يكون قوله: فهل أنتم مسلمون تحريضا على تحصيل الإسلام، لا أنه يراد به الإخلاص. ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم، أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفتري فتمكن معارضته، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب. وقرأ زيد بن علي: إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي: أن التنزيل، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي: إن الذي نزله، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف.
* (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم فى الاخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الكفار المناقضين في القرآن، ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى: * (من كان يريد العاجلة عجلنا
209

له فيها ما نشاء) * الآية. وقال مجاهد: في في الكفرة، وفي أهل الرياء من المؤمنين. وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم) في المرائين، فتلا هذه الآية. وقال أنس: هي في اليهود والنصارى. قال ابن عطية: ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم. وقيل: في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فأسهم لهم، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط، ولا يعتقد آخره. فإن الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته. وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماما يتنغم بألفاظ القرآن، ويرتله أحسن ترتيل، ويطيل ركوعه وسجوده، ويتباكى في قراءته، وإذا صل وحده اختلسها اختلاسا، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس، وأهل الرباط المتصدق عليهم. وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه، كما جاء في: (السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه) وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جدا، وإذا تعلم علما راءى به وتبجح، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا. وقد فشا الرياء في هذه الآية فشوا كثيرا حتى لا تكاد ترى مخلصا لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. وقرأ الجمهور: نوف بنون العظمة، وطلحة بن ميمون: يوف بالياء على الغيبة. وقرأ زيد بن علي: يوف بالياء مخففا مضارع أوفى. وقرئ توف بالتاء مبنيا للمفعول، وأعمالهم بالرفع، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في قوله: * (من كان يريد حرث الاخرة نزد له فى حرثه) * وحكي عن الفراء أن كان زائدة، ولهذا جزم الجواب. ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان يكون مجزوما، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا ليس مخصوصا بكان، بل هو جائز في غيرها. كما روي في بيت زهير:
* ومن أهاب أسباب المنايا ينلنه
*
ولو رام أن يرقى السماء بسلم
*
وقرأ الحسن: توفي بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزوما بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال: ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعا كما ارتفع في قول الشاعر:
* وإن شل ريعان الجميع مخافة
*
يقول جهارا ويلكم لا تنفروا
*
والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أن الآية في الكفار، فإن اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم: ليس يجب لهم أو لا يحق لهم إلا النار كقوله: * (فجزاؤه جهنم) * وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير. والضمير في قوله: ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور متعلق بحبط، والمعنى: وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن تتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائدا على الحياة الدنيا، كما عاد عليها في فيها قبل. وما في ما
صنعوا بمعنى الذي. أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيدا لقوله: وحبط ما صنعوا
210

وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبرا بعد خبر ارتفع ما بباطل على الفاعلية. وقرأ زيد بن علي: وبطل جعله فعلا ماضيا. وقرأ أبي، وابن مسعود: وباطلا بالنصب، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان متقدما. وما زائدة أي: وكانوا يعملون باطلا، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين. وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى: * (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) * ومن منع تأول. وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلا على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون، فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له.
* (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن) *: لما ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير: كمن يريد الحياة الدنيا. وكثيرا ما حذف في القرآن كقوله: * (أفمن زين له سوء عمله فرءاه حسنا) * وقوله: * (أمن هو قانت ءاناء اليل) * وهذا استفهام معناه اتقرير. قال الزمخشري: أي، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم، يريد أن بين الفريقين تفاوتا بعيدا وتباينا بينا، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة من ربه أي: على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي: شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله، أو شاهد من القرآن ومن قبله. ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي: ويتلو ذلك أيضا من قبل القرآن كتاب موسى. وقرئ كتاب موسى بالنصب، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أن القرآن حق، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه، شاهد ممن كان على بينة كقوله: * (وشهد شاهد من بنى إسراءيل على مثله) * قل: * (كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * * (ومن قبله كتاب موسى) * ويتلوه ومن قبل التوراة إماما كتابا مؤتما في الدين قدوة فيه انتهى. وقيل في أفمن كان: المؤمنون بالرسول، وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم) خاصة. وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك: محمد والمؤمنون جميعا، والبينة القرآن أو الرسول، والهاء للمبالغة والشاهد. قال ابن عباس، والنخعي، ومجاهد، والضحاك، وأبو صالح، وعكرمة: هو جبريل. وقال الحسن بن علي: هو الرسول. وقال أيضا مجاهد: هو ملك وكله الله بحفظ القرآن. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل، وقيل: هو علي بن أبي طالب. وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله، قال علي كرم الله وجهه: ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل: فما نزل فيك؟ قال: ويتلوه شاهد منه، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي. وقيل: هو الإنجيل قاله: الفراء. وقيل: هو القرآن، وقيل: هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل، وقيل: صورة الرسول صلى الله عليه وسلم) ووجهه ومخايله، لأن كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقيل: هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول، أو إلى القرآن. ويتلوه بمعنى يتعه، أو يقرؤه، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه.
وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره: كتاب موسى بالنصب عطفا على مفعول يتلوه، أو بإضمار فعل. وإذا لم يعن بالشاهد الإنجيل فإنما خص التوراة بالذكر، لأن الملتين مجتمعتان على أنها من عند الله، والإنجيل يخالف فيه اليهود، فكان الاستشهاد بما تقوم
211

به الحجة على الفريقين أولى. وهذا يجري مع قول الجن: * (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) * ومع قول النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. وانتصب إماما على الحال، والذي يظهر في تفسير هذه الآية أنه تعالى لما ذكر الكفار وأنهم ليس لهم إلا النار، أعقب بضدهم وهم المؤمنون، وهم الذين على بينة من ربهم، والشاهد القرآن، ومنه عائد على ربه. ويدل على أن الشاهد القرآن ذكر قوله: ومن قبله، أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى، فمعناه: أنه تظافر على هدايته شيئان: كونه على أمر واضح من برهان العقل، وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين القرآن والتوراة، فاجتمع له العقل والنقل. والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعي معنى مع، فجمع والضمير في به يعود إلى التوراة، أو إلى القرآن، أو إلى الرسول، ثلاثة أقوال. والأحزاب جميع الملل قاله: ابن جبير، أو اليهود، والنصارى، قاله قتادة. أو قريش قاله: السدي، أو بنو أمية وبنو المغيرة بن عبد الله المخزومي، وآل أبي طلحة بن عبيد الله، قاله مقاتل. وقال الزمخشري: يعني أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم) انتهى. فالنار موعده أي: مكان وعده الذي يصيرون إليه. وقال حسان:
* أوردتمونا حياض الموت ضاحية
*
فالنار موعدها والموت لاقيها
*
والضمير في منه عائد على القرآن، وقيل: على الخبر، بأن الكفار موعدهم النار. وقرأ الجمهور: في مرية بكسر الميم، وهي لغة الحجاز. وقرأ السلمي، وأبو رجاء، وأبو الخطاب السدوسي، والحسن: بضمها وهي لغة أسد وتميم والناس أهل مكة قاله: ابن عباس، أو جميع الكفار من شاك وجاهل ومعاند قاله: صاحب العيتان.
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا) *: لما سبق قولهم: أم يقولون افتراه، ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، وهم المفترون الذين نسبوا إلى الله الولد، واتخذوا معه آلهة، وحرموا وحللوا من غير شرع الله، وعرضهم على الله بمعنى التشهير
لخزيهم والإشارة بكذبهم، وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله * (وعرضوا على ربك صفا) * والاشهاد: جمع شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف، والأشهاد الملائكة الذين يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا، أو الأنبياء، أو هما المؤمنون، أو ما يشهد عليهم من أعضائهم أقوال. وفي قوله: هؤلاء إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله: على ربهم أي: على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم، وكانوا جديرين أن لا يكذبوا عليه، وهذا كما تقول إذا رأيت مجرما: هذا الذي فعل كذا وكذا. وتقدم تفسير الجملة بعد هذا. وهم تأكيد لقوله: وهم، وقوله: معجزين، أي كانوا لا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من ينصرهم ويمنعهم من العقاب، ولكنه أراد انظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم. قال الزمخشري: وهو كلام الاشهاد يعني: أن كلامهم من قولهم هؤلاء إلى آخر هذه الجملة التي هي وما كان لهم من دون الله من أولياء. وقد يظهر أن قوله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين من كلام الله تعالى لا على سبيل الحكاية، ويدل لقول الزمخشري قوله: * (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين) * الآية فكما أنه من كلام المخلوقين في تلك الآية، فكذلك هنا يضاعف لهم العذاب يشدد ويكثر، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة، لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله، وصد عباده عن سبيل الله، وبغي العوج لها
212

وهي الطريقة المستقيمة. ما كانوا يستطيعون السمع أخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة يعني: السمع للقرآن، ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم). وما كانوا يبصرون أي: ينظرون إليه لبغضهم فيه. ألا ترى إلى حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف، وإباية قريش أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام الرسول حتى تردهم عن ذلك مشيختهم؟ أو أخبار عن حالهم إذا ضعف لهم العذاب أي: أنه تعالى حتم عليهم بذلك، فهم لا يسمعون لذلك سماعا ينتفعون به، ولا يبصرون لذلك. وقيل: الضمير في كانوا عائد على أولياؤهم آلهتهم أي: فما كان لهم في الحقيقة من أولياء وإن كانوا يعتقدون أنهم أولياء. ويعني أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية؟ ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضا، وما على هذه الأقوال نفي. وقيل: ما مصدرية أي: يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وأبصارهم، والمعنى: أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد. وأجاز الفراء أن تكون ما مصدرية، وحذف حرف الجر منها كما يحذف مع إن وأن أختيها، وهذا فيه بعد في اللفظ وفي المعنى. وقال الزمخشري: أراد أنهم لفرط تصامهم عن اتباع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع، ولعل بعض المجبرة يتوثب إذا عثر عليه فيوعوع به على أهل العدل، كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان هذا الكلام لا أستطيع أسمعه، وهذا مما يمجه سمعي انتهى. يعني: أنه يمكن أن يستدل به على أن العبد لا قدرة له، لأن الله تعالى قد نفى عنه استطاعة السمع، وإذا انتفت الاستطاعة منه انتفت قدرته. والزمخشري على عادته في السفه على أهل السنة وخسرانهم أنفسهم، كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى، فخسروا في تجارتهم خسرانا لا خسران أعظم منه. وهو على حذف مضاف أي: راحة أو سعادة أنفسهم، وإلا فأنفسهم باقية معذبة. وبطل عنهم ما افتروه من عبادة الآلهة، وكونهم يعتقدون شفاعتها إذا رأوا أنها لا تشفع ولا تنفع. لا جرم مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم، وبنيا، والمعنى: حق، وما بعده رفع به على الفاعلية. وقال الحوفي: جرم منفي بلا بمعنى حق، وهو مبني مع لا في موضع رفع بالابتداء، وأنهم في موضع رفع على خبر جرم. وقال قوم: إن جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل، ومعناها لا بد ولا محالة. وقال الكسائي: معناها لا ضد ولا منع، فتكون اسم لا وهي مبنية على الفتح كالقول الذي قبله، وتكون جرم هنا من معنى القطع، نقول: جرمت أي قطعت. وقال الزجاج: لا تركيب بينهما ولا رد عليهم. ولما تقدم من كل ما قبلها مما قالوا: إن الأصنام تنفعهم. وجرم فعل ماض معناه كسب، والفاعل مضمر أي كسب، هو أي: فعلهم، وأن وما بعدها في موضع نصب على المفعول به، وجرم القوم كاسبهم. وقال الشاعر:
* نصبنا رأسه في جذع نخل
*
بما جرمت يداه وما اعتدينا
*
وقال آخر:
* جريمة ناهض في رأس نيق
*
ترى لعظام ما جمعت صليبا
*
ويقال: لا جرم بالكسر، ولا جر يحذف الميم. قال النحاس: وزعم الكسائي أن فيها أربع لغات: لا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، قال: وناس من فزارة يقولون: لا جرم. وحكى الفراء فيه لغتين أخريين، قال: بنو عامر يقولون: لا ذا جرم، وناس من العرب يقولون: لا جرم بضم الجمي. وقال الجبائي في نوادره: حكى عن فزارة لا جر والله لا أفعل ذاك، قال: ويقال لا ذا جرم، ولا ذو جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أن ذا جرم، ولا أن
213

جرم، ولا عن جرم، ولا ذا جر، والله بغير ميم لا أفعل ذاك. وحكى بعضهم بغير لا جرم: أنك أنك فعلت ذاك، وعن أبي عمرو: لأجرم أن لهم النار على وزن لا كرم، ولا جر حذفوه لكثرة الاستعمال كما قالوا: سو ترى يريدون سوف ترى. ولما كان خسران النفس أعظم الخسران، حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم من العصاة مآله إلى الراحة، وإلى انقطاع خسرانه بخلاف هؤلاء، فإن خسرانهم لا انقطاع له.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولائك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * مثل الفريقين كالاعمى والاصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون) *: لما ذكر ما يؤول إليه الكفار من النار، ذكر ما يؤول إليه المؤمنون من الجنة، والفريقان هنا الكافر والمؤمن. ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين، جاء التمثيلم هنا مبتدأ بالكافر فقال: كالأعمى والأصم. ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين، فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضا، والعمى والصمم آفتان تمنعان من البصر والسمع، وليستا بضدين، لأنه لا تعاقب بينهما. ويحتمل أن يكون من تشبيه واحد بوصفيه بواحد بوصفيه، فيكون من عطف الصفات كما قال الشاعر:
* إلى الملك القرن وابن الهمام
*
وليث الكريهة في المزدحم
*
ولم يجيء التركيب كالأعمى والبصير والأصم والسميع فيكون مقابلة في لفظ الأعمى وضده، وفي لفظة الأصم وضده، لأنه تعالى لما ذكرانسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع، وذلك هو الأسلوب في المقابلة، والأتم في الإعجاز. ويأتي إن شاء الله تعالى نظير هذه المقابلة في قوله في طه: * (إن لك * أن لا * تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) * واحتمل أن تكون الكاف نفسها هي خبر المبتدأ، فيكون معناها معنى المثل، فكأنه قيل: مثل الفريقين مثل الأعمى. واحتمل أن يراد بالمثل الصفة، وبالكاف مثل، فيكون على حذف مضاف أي: كمثل الأعمى، وهذا التشبيه تشبيه معقول بمحسوس، فأعمى البصيرة أصمها، شبه بأعمى البصر أصم السمع، ذلك في ظلمات الضلالات متردد تائه، وهذا في الطرقات محير لا يهتدي إليها. وجاء أفلا تذكرون لينبه على أنه يمكن زوال هذا العمى وهذا الصمم المعقول، فيجب على العاقل أن يتذكر ما هو فيه، ويسعى في هداية نفسه. وانتصب مثلا على التمييز، قال ابن عطية: ويجوز أن يكون حالا انتهى. وفيه بعد، والظاهر التمييز وأنه منقول من الفاعل أصله: هل يستوي مثلاهما.
* (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إنى لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إنى أخاف عليكم عذاب يوم أليم * فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم * أراد * لنا * بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين) *: هذه السورة في قصصها شبيهة بسورة الأعراف بدىء فيها بنوح، ثم يهود، ثم بصالح، ثم بلوط، مقدما عليه إبراهيم بسبب قوم لوط، ثم بشعيب، ثم بموسى وهارون، صلى الله على نبينا وعليهم أجمعين. وذكروا وجوه حكم وفوائد لتكرار هذه القصص في القرآن.
وقرأ النحويان وابن كثير: أني بفتح الهمزة أي: بأبي، وباقي السبعة بكسرها على إضمار القول. وقال أبو علي في قراءة الفتح: خروج من الغيبة إلى المخاطبة، قال ابن عطية: وفي هذا نظر، وإنما هي حكاية مخاطبة لقومه وليس هذا حقيقة الخروج من غيبة إلى مخاطبة، ولو كان الكلام أن أنذرهم أو نحوه لصح ذلك انتهى. وأن لا تعبدوا إلا الله ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرحا في غير هذه السورة، وأن بدل من أي لكم في قراءة من فتح، ويحتمل أن تكون أن المفسرة. وأما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة، والمراعى قبلها: أما
214

أرسلنا وإما نذير مبين، ويحتمل أن تكون معمولة لأرسلنا أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، وإسناد الألم إلى اليوم مجاز لوقوع الألم فينه لا به.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فإذا وصف به العذاب؟ (قلت): مجازى مثله، لأن الأليم في الحقيقة هو المعذب، ونظيرهما قولك: نهاره صائم انتهى. وهذا على أن يكون أليم صفة مبالغة من آلم، وهو من كثر ألمه. فإن كان أليم بمعنى مؤلم، فنسبته لليوم مجاز، وللعذاب حقيقة. لما أنذرهم من عذاب الله وأمرهم بإفراده بالعبادة، وأخبر أنه رسول من عند الله، ذكروا أنه مماثلهم في البشرية، واستبعدوا أن يبعث الله رسولا من البشر، وكأنهم ذهبوا إلى مذهب البراهمة الذين ينكرون نبوة البشر على الإطلاق، ثم عيروه بأنه لم يتبعه إلا الأراذل أي: فنحن لا نساويهم، ثم نفوا أن يكون له عليهم فضل. أي: أنت مساوينا في البشرية ولا فضل لك علينا، فكيف امتزت بأنك رسول الله؟ وفي قوله: إلا الذين هم أراذلنا، مبالغة في الأخبار، وكأنه مؤذن بتأكيد حصر من اتبعه، وأنهم هم الأراذل لم يشركهم شريف في ذلك. وفي الحديث (إنهم كانوا حاكة وحجامين) وقال النحاس: هم الفقراء والذين لا حسب لهم، والخسيسوا الصناعات. وفي حديث هرقل: (أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال: هم أتباع الرسل قبل) وإنما كان كذلك لاستيلاء الرئاسة على الأشراف وصعوبة الانفكاك عنها، والأنفة من الانقياد لغيرهم، والفقير خلى عن تلك الموانع فهو سريع إلى الإجابة والانقياد. ونراك يحتمل أن تكون بصرية، وأن تكون علمية. قالوا: وأراذل جمع الجمع، فقيل: جمع أرذل ككلب وأكلب وأكالب. وقيل: جمع أرذلنا، وقياسه أزاذيل. والظاهر أنه جمع أرذل التي هي أفعل التفضيل وجاء جمعا، كما جاء أكابر مجرميها وأحاسنكم أخلاقا. وقال الزمخشري: ما نراك إلا بشرا مثلنا، تعريض بأنهم أحق منه بالنبوة، وأن الله لو أراد أن يجعلها في أحد من البشر لجعلها فيهم، فقالوا: هب أنك واحد من الملأ وموازيهم في المنزلة، فما جعلك أحق منهم؟ ألا ترى إلى قولهم: وما نرى لكم علينا من فضل، أو أرادوا أنه كان ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، ولا يظهر ما قاله الزمخشري من الآية.
وقرأ أبو عمرو، وعيسى الثقفي: بادىء الرأي من بدأ يبدأ ومعناه: أول الرأي. وقرأ باقي السبعة: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي. وقيل: بادي بالياء معناه بادىء بالهمز، فسهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسر ما قبلها. وذكروا أنه منصوب على الظرف، والعامل فيه نراك أو اتبعك أو أراذلنا أي: وما نراك فيما يظهر لنا
من الرأي، أو في أول رأينا، أو وما نراك اتبعك أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم. واحتمل هذا الوجه معنيين: أحدهما: أن يريد اتبعك في ظاهر أمرهم، وعسى أن تكون بواطنهم ليست معك. والمعنى الثاني: أن يريد اتبعوك بأول نظر وبالرأي البادىء دون تعقب، ولو تثبتوا لم يتبعوك، وفي هذا الوجه ذم الرأي غير المروي. وقال الزمخشري: اتبعوك أول الرأي، أو ظاهر الرأي، وانتصابه على الظرف أصله وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم، فحذف ذلك، وأقيم المضاف إليه مقامه، أرادوا أن اتباعهم لك إنما هو شيء عن لهم بديهة من غير روية ونظر انتهى. وكونه منصوبا على الظرف هو قول أبي على في الحجة، وإنما حمله على الظرف وليس بزمان ولا مكان، لأن في مقدرة فيه أي: في ظاهر الأمر، أو في أول الأمر. وعلى هذين التقديرين أعني أن يكون العامل فيه نراك، أو اتبعك يقتضي أن لا يجوز ذلك، لأن ما بعد إلا لا يكون معمولا لما قبلها إلا إن كان مستثنى منه نحو: قام إلا زيدا القوم، أو مستثنى نحو: جاء القوم إلا زيدا، أو تابعا للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحد إلا زيد أخبرني عمرو، وبادىء الرأي ليس واحدا من هذه الثلاثة. وأجيب بأنه ظرف، أو كالظرف مثل جهد رأي أنك ذاهب، أي أنك ذاهب في جهد رأي، والظروف يتسع فيها. وإذا كان العامل أراذل فمعناه الذين هم أراذلنا بأدل نظر فيهم، وببادىء الرأي يعلم ذلك منهم. وقيل: بادي الرأي نعت لقوله: بشرا. وقيل: انتصب حالا من ضمير نوح في اتبعك، أي: وأنت
215

مكشوف الرأي لا حصافة لك. وقيل: انتصب على النداء لنوح أي: يا بادي الرأي، أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، قالوا: ذلك تعجيزا له. وقيل: انتصب على المصدر، وجاء الظرف والمصدر على فاعل، وليس بالقياس. فالرأي هنا إما من رؤية العين، وإما من الفكر. قال الزمخشري: وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم وتأخرهم في الأسباب الدنيوية، لأنهم كانوا جهالا ما كانوا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا، فكان الأشرف عندهم من له جاه ومال انتهى. وظاهر الخطاب في لكم شامل لنوح ومن اتبعه، والمعنى: ليس لكم علينا زيادة في مال، ولا نسب، ولا دين. وقال ابن عباس: في الخلق والخلق، وقيل: بكثرة الملك والملك، وقيل: بمتابعتكم نوحا ومخالفتكم لنا، وقيل: من شرف يؤهلكم للنبوة، وقال الكلبي: نظنكم نتيقنكم، وقال مقاتل: نحسبكم أي في دعوى نوح وتصديقكم، وقال صاحب العتيان: بل نظنكم كاذبين توسلا إلى الرئاسة والشهرة.
* (قال ياءادم * قوم * قال ياقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم) *: لما حكى شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام وهي قولهم: * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * ذكر أن المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده، وما يجب له وما يمتنع، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق، وقيام الحجة على الخصم، ولو قال: على إني على حق من ربي لقالوا له كذبت، كقوله: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله) * الآية فقال فيها: وإن يك كاذبا فعليه كذبه. والبينة البرهان، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوة والحكمة. والظاهر أن البينة غير الرحمة، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوة. ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة، فعميت عليكم. الظاهر أن الضمير عائد على البينة، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها. فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفردا ظاهر، وإن كانت غيرها كما اخترناه. فقوله: وآتاني رحمة من عنده، اعتراض بين المتعاطفين. قال الزمخشري: حقه أن يقال: فعميتا. (قلت): الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة، وإما على الرحمة، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد. ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له الغمام لأنه يغمه. وقيل: هذا من المقلوب، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر:
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
قال أبو علي: وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن: * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * انتهى. والقلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر: فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف. وأما الآية فأخلف يتعدى إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا،
216

ولا تقول عميت على كذا؟ وقرأ الإخوان وحفص: فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنيا للمفعول، أي أبهمت عليكم وأخفيت، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل. وقرأ أبي، وعلي، والسلمي، والحسن، والأعمش: فعماها عليكم. وروى الأعمش عن أبي وثاب: وعميت بالواو خفيفة. قال الزمخشري: (فإن قلت): فما حقيقته؟ (قلت): حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأن الأعمى لا يهتدي، ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. (فإن قلت): فما معنى قراءة أبي؟ (قلت): المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون؟ يعني: أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين انتهى. وتوجيهه قراءة أبي هو على طريقة المعتزلة، وتقدم في سورة الأنعام الكلام على * (أرءيتم) * مشبعا، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين: أحدهما منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول: أرأيتك زيدا ما صنع، وليس استفهاما حقيقيا عن الجملة. وأن العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله: * (أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله) * أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله. أرأيتكم يطلبه منصوبا، وفعل الشرط يطلبه مرفوعا، فأعمل الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضا، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير: أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها؟ فهذه الجملة
الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله: أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجئ بالضميرين متصلين في أنلزمكموها، لتقدم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافا لمن أجاز الاتصال. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الثاني منفصلا كقولك: أنلزمكم إياها ونحوه، فسيكفيكهم الله، ويجوز فسيكفيك إياهم، وهذا الذي قاله الزمخشري من جواز انفصال الضمير في نحو أنلزمكموها، هو نحو قول ابن مالك في التسهيل. قال: وتختار اتصال نحوها ءأعطيتكه. وقال ابن أبي الربيع: إذا قدمت ما له الرتبة اتصل لا غير، تقول: أعطيتكه. قال تعالى: أنلزمكموها؟ وفي كتاب سيبويه ما يشهد له، قال سيبويه: فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا، فبدأت بالمخاطب قبل الغائب، فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك قولك: أعطيتكه وقد أعطاكه. قال الله تعالى: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون، فهذا كهذا، إذا بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى. فهذا نص من سيبويه على ما قاله ابن أبي الربيع خلافا للزمخشري وابن مالك ومن سبقهما إلى القول بذلك. وقال الزمخشري: وحكى عن أبي عمرو إسكان الميم، ووجهه أن الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة، فظنها الراوي سكونا. والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين، لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر انتهى. وأخذه الزمخشري من الزجاج، قال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر، فأما ما روي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يخف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق. وإنما يجوز الإسكان في الشعر نحو قول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
217

والزمخشري على عادته في تجهيل القراء وهم أجل من أن يلتبس عليهم الاختلاس بالسكون، وقد حكى الكسائي والفراء أنلزمكموها بإسكان الميم الأولى تخفيفا. قال النحاس: ويجوز على قول يونس أنلزمكمها، كما تقول: أنلزمكم ذلك ويريد إلزام جبر بالقتل ونحوه، وأما إلزام الإيجاب فهو حاصل، وقال النحاس: أنوحيها عليكم، وقوله في ذلك خطأ. قال ابن عطية: وفي قراءة أبي بن كعب أنلزمكموها من شطر أنفسنا، ومعناه من تلقاء أنفسنا. وروي عن ابن عباس أنه قرأ ذلك من شطر قلوبنا انتهى. ومعنى شطر نحو، وهذا على جهة التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
* (لها كارهون وياقوم لا أسألكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين ءامنوا إنهم ملاقو ربهم ولاكنى أراكم قوما تجهلون وياقوم من ينصرنى من الله إن طردتهم أفلا تذكرون ولا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إنى ملك ولا أقول للذين تزدرى أعينكم لن) *: تلطف نوح عليه السلام بندائه بقوله: ويا قوم، استدراجا لهم في قبول كلامه، كما تلطف إبراهيم عليه السلام بقوله * (* يا أبت يا أبت) * وكما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله * (افتراه وأعانه عليه قوم) * والضمير في عليه عائد إلى الإنذار. وإفراد الله بالعبادة المفهوم من قوله لهم: * (إنى لكم نذير مبين * ألا تعبدوا إلا الله) *، وقيل: على الدين، وقيل: على الدعاء إلى التوحيد، وقيل: على تبليغ الرسالة. وكلها أقوال متقاربة، والمعنى: إنكم وهؤلاء الذين اتبعونا سواء في أن أدعوكم إلى الله، وإني لا أبتغي عما ألقيه إليكم من شرائع الله مالا، فلا يتفاوت حالكم وحالهم. وأيضا فلعلهم ظنوا أنه يريد الاسترفاد منهم، فنفاه بقوله: لا أسألكم عليه مالا إن أجري على الله، فلا تحرموا أنفسكم السعادة الأبدية بتوهم فاسد. ثم ذكر أنه قام بهؤلاء وصف يجب العكوف عليهم به والانضواء معهم، وهو الإيمان فلا يمكن طردهم، وكانوا سألوا منه طرد هؤلاء المؤمنين رفعا لأنفسهم من مساواة أولئك الفقراء. ونظير هذا ما اقترحت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم) من طرد أتباعه الذين لم يكونوا من قريش.
وقرئ: بطارد بالتنوين، قال الزمخشري: على الأصل يعني: أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال أصله أن يعمل ولا يضاف، وهذا ظاهر كلام سيبويه. ويمكن أن يقال: إن الأصل الإضافة لا العمل، لأنه قد اعتوره شبهان أحدهما شبه بالمضارع وهو شبهه بغير جنسه. والآخر شبه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، فكان إلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه. إنهم ملاقوا ربهم: ظاهره التعليل لانتفاء طردهم، أي: إنهم يلاقون الله، أي: جزاءه، فيوصلهم إلى حقهم عندي إن ظلمتهم بالطرد. وقال الزمخشري: معناه أنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي منهم، وما أعرف غيره منهم، أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادىء الرأي من غير نظر ولا تفكر، وما علي أن أشق على قلوبهم وأتعرف ذلك منهم حتى أطردهم ونحوه * (ولا تطرد الذين يدعون) * الآية أو هم مصدقون بلقاء ربهم، موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة انتهى. ووصفهم بالجهل لكونهم بنوا أمرهم على الجهل بالعواقب، والاغترار بالظواهر. أو لأنهم
218

يتسافلون على المؤمنين ويدعونهم أراذل من قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا. أو تجهلون لقاء ربكم، أو تجهلون أنهم خير منكم، أو وصفهم بالجهل في هذا الاقتراح، وهو طرد المؤمنين ونحوه: من ينصرني، استفهام معناه لا ناصر لي من عقاب الله إن طردتهم عن الخير الذي قد قبلوه، أو لأجل إيمانهم قاله: الفراء، وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به أنفة منهم أن يكونوا معهم على سواء، ثم وقفهم بقوله: أفلا تذكرون، على النظر المؤدي إلى صحة هذا الاحتجاج. وتقدم تفسير الجمل الثلاث في الأنعام. وتزدري تفتعل، والدال بدل من التاء قال:
* ترى الرجل النحيف فتزدريه
*
وفي أثوابه أسد هصور
*
وأنشد الفراء:
* يباعده الصديق وتزدريه
*
حليلته وينهره الصغير
*
والعائد على الموصول محذوف أي: تزدرونهم، أي: تستحقرهم أعينكم. ولن يؤتيهم معمول لقوله: ولا أقول، وللذين معناه لأجل الذين. ولو كانت اللام للتبليغ لكان القياس لن يؤتيكم بكاف الخطاب، أي: ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله ولا يبطل أجورهم، الله أعلم بما في أنفسهم، تسليم لله أي: لست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك لله تعالى الذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه. وقيل: هو رد على قولهم: اتبعك أراذلنا، أي لست أحكم عليهم بأن لا يكونن لهم خير لظنكم بهم، إن بواطنهم ليست كظواهرهم، الله عز وجل أعلم بما في نفوسهم، إني لو فعلت ذلك لمن الظالمين، وهم الذين يضعون الشيء في غير مواضعه، قد جادلتنا الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة. وقال الكلبي: دعوتنا. وقيل: وعظتنا، وقيل: أتيت بأنواع الجدال وفنونه فما صح دعواك.
وقرأ ابن عباس: فأكثرت جدلنا كقوله: * (وكان الإنسان أكثر شىء جدلا) * فأتنا بما تعدنا من العذاب المعجل وما بمعنى الذي، والعائد محذوف أي بما تعدناه، أو مصدرية، وإنما كثرت مجادته لهم لأنه أقام فيهم ما أخبر الله به ألف سنة إلا خمسين عاما، وهو كل وقت يدعوهم إلى الله وهم يجيبونه بعبادتهم أصنامهم. قال: إنما يأتيكم به الله، أي ليس ذلك إلي إنما هو للإله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء أي: إن اقتضت حكمته أن يعجل عذابكم وأنتم في قبضته لا يمكن أن تفلتوا منه، ولا أن تمتنعوا. ولما قالوا: قد جادلتنا، وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله قال: ولا ينفعكم نصحي.
وقرأ عيسى بن عمر الثقفي: نصحي بفتح النون، وهو مصدر. وقراءة الجماعة بضمها، فاحتمل أن يكون مصدرا كالشكر، واحتمل أن يكون اسما. وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره: إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي، والشرط الثاني: اعتقب الشرط الأول وجوابه أيضا ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره: إن كان
219

الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي. وصار الشرط الثاني شرطا في الأول، وصار المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما، وكأن التركيب إن أردت أن أنصح لكم أن كان الله يريد أن يغويكم، فلا ينفعكم نصحي، وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان الله يريد أن يغويكم. فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. ونظيره: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبى إن أراد النبى أن يستنكحها) * وقال الزمخشري: قوله إن كان الله يريد أن يغويكم جزاؤه ما دل عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، وهذا الدليل في حكم ما دل عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قوله: إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني. وقال ابن عطية: وليس نصحي لكم بنافع، ولا إرادتي الخير لكم مغنية إذا كان الله تعالى قد أراد بكم الإغواء والإضلال والإهلاك. والشرط الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغة من اقتران الإرادتين، وأن إرادة البشر غير مغنية، وتعلق هذا الشرط هو بنصحي، وتعلق الآخر هو بلا ينفع انتهى. وكذا قال أبو الفرج بن الجوزي قال: جواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع.
والظاهر أن معنى يغويكم يضلكم من قوله: غوى الرجل يغوي وهو الضلال. وفيه إسناد الإغواء إلى الله، فهو حجة على المعتزلة إذ يقولون: إن الضلال هو من العبد. وقال الزمخشري: إذا عرف الله من الكافر الإصرار فخلاه وشأنه ولم يلجئه سمى ذلك إغواء وإملاء، كما إنه إذا عرف منه أن يتوب ويرعوي فلطف به سمى إرشادا وهداية انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، ونصوا على أنه لا يوصف الله بأنه عارف، فلا ينبغي أن يقال: إذا عرف الله كما قال الزمخشري، وللمعتزلي أن يقول: لا يتعين أن تكون إن شرطية، بل هي نافية والمعنى: ما كان الله يريد أن يغويكم، ففي ذلك دليل على نفي الإضلال عن الله تعالى، ويكون قوله: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح، إخبار منه لهم وتعزية لنفسه عنهم، لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر. وقيل: معنى يغويكم يهلككم، والغوي المرض والهلاك. وفي لغة طيء: أصبح فلان غاويا أي مريضا، والغوي بضم الفصيل وقاله: يعقوب في الإسلاح. وقيل: فقده اللبن حتى يموت جوعا قاله: الفراء، وحكاه الطبري يقال منه: غوى يغوي. وحكى الزهراوي أنه الذي قطع عنه اللبن حتى كاد يهلك، أو لما يهلك بعد. قال ابن الأنباري: وكون معنى يغويكم يهلككم قول مرغوب عنه، وأنكر مكي أن يكون الغوي بمعنى الهلاك موجودا في لسان العرب، وهو محجوج بنقل الفراء وغيره. وإذا كان معنى يغويكم يهلككم، فلا حجة فيه لا لمعتزلي ولا لسني، بل الحجة من غير هذا، ومعناه: أنكم إذا كنتم من التصميم على الكفر فالمنزلة التي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟ وفي قوله: هو ربكم، تنبيه على المعرفة بالخالق، وأنه الناظر في مصالحكم، إن شاء أن يغويكم، وإن شاء أن يهديكم. وفي قوله: وإليه ترجعون، وعيد وتخويف.
* (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامى وأنا برىء مما تجرمون) *: قيل: هذه الآية اعترضت في قصة نوح، والأخبار فيها عن قريش. يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: افترى القرآن، وافترى هذا الحديث عن نوح وقومه، ولو صح ذلك بسند صحيح لوقف عنده، ولكن الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي: بل أيقولون افترى ما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه، فقال عليه السلام قل: إن افتريته فعلي إثم إجرامي، والإجرام مصدر أجرم، ويقال: أجرم وهو الكثير، وجرم بمعنى. ومنه قول الشاعر:
* طريد عشيرة ورهين ذنب
*
بما جرمت يدي وجنى لساني
*
وقرئ أجرامي بفتح الهمزة جمع جرم، ذكره النحاس، وفسر بآثامي. ومعنى مما تجرمون من إجرامكم في إسناد الافتراء إلي، وقيل: مما تجرمون من الكفر والتكذيب.
* (وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون * واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون) *: قرأ الجمهور وأوحي
220

مبنيا للمفعول، أنه بفتح الهمزة. وقرأ أبو البر هشيم: وأوحي مبنيا للفاعل، إنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين، وعلى إجراء أوحى مجرى قال: على مذهب الكوفيين، أيأسه الله من إيمانهم، وأنه صار كالمستحيل عقلا بأخباره تعالى عنهم. ومعنى إلا من قد آمن أي: من وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه، ونهاه تعالى عن ابتآسه بما كانوا يفعلون، وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتأس افتعل من البؤس، ويقال: ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وقال الشاعر:
* وكم من خليل أو حميم رزئته
*
فلم نبتئس والرزء فيه جليل
*
وقال آخر:
* ما يقسم الله أقبل غير مبتئس
*
منه واقعد كريما ناعم البال
*
وقال آخر:
* فارس الخيل إذا ما ولولت
*
ربة الخدر بصوت مبتئس
*
وقال آخر:
* في مأتم كنعاج صا
*
رة يبتئسن بما لقينا
*
صارة موضع بما كانوا يفعلون من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام منهم. واصنع عطف على فلا تبتئس، بأعيننا بمرأى منا، وكلاءة وحفظ فلا تزيغ صنعته عن الصواب فيها، ولا يحول بين العمل وبينه أحد. والجمع هنا كالمفرد في قوله: ولتصنع على عيني، وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها. وقرأ طلحة بن مصرف: باعينا مدغمة. ووحينا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. قيل: ويحتمل قوله بأعيننا أي بملائكتنا الذي نجعلناهم عيونا على مواضع حفظك ومعونتك، فيكون اللفظ هنا للجمع حقيقة. وقول من قال: معنى ووحينا بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله: واصنع الفلك، مغن عن ذلك. وفي الحديث: (كان زان سفينة نوح جبريل) والزان القيم بعمل السفينة. والذين ظلموا قوم نوح، تقدم إلى نوح أن لا يشفع فيهم فيطلب إمهالهم، وعلل منع مخاطبته بأنه حكم عليهم بالغرق، ونهاه عن سؤال الإيجاب إليه كقوله: * (منيب يإبراهيم أعرض عن هاذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم اتيهم عذاب غير مردود) * وقيل الذين ظلموا واعلة زوجته وكنعان ابنه.
ف * (ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) * ويصنع الفلك حكاية حال ماضية، والفلك السفينة. ولما أمره تعالى بأن يصنع الفلك قال: يا رب ما أنا بنجار، قال: بلى، ذلك بعيني. فأخذ القدوم، وجعلت
221

يده لا تخطىء، فكانوا يمرون به ويقولون: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا؟ وقيل: كانت الملائكة تعلمه، واستأجر أجراء كانوا ينحتون معه، وأوحى الله إليه أن عجل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على من عصاني، وكان سام وحام ويافث ينحتون معه، والخشب من الساج قاله: قتادة، وعكرمة، والكلبي. قيل: وغرسه عشرين
سنة. وقيل: ثلاثمائة سنة يغرس ويقطع وييبس. وقال عمرو بن الحرث: لم يغرسها بل قطعها من جبل لبنان. وقال ابن عباس: من خشب الشمشار، وهو البقص قطعة من جبل لبنان. واختلفوا في هيئتها من التربيع والطول، وفي مقدار مدة عملها، وفي المكان الذي عملت فيه، ومقدار طولها وعرضها، على أقوال متعارضة لم يصح منها شيء. وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت، قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: ابني بيتا يمشي على الماء، فعجبوا من قوله وسخروا منه قاله: مقاتل. وقيل: لكونه يبني في قرية لا قرب لها من البحر، فكانوا يتضاحكون ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعدما كنت نبيا. وكلما ظرف العامل فيه سخروا منه، وقال: مستأنف على تقدير سؤال سائل. وجوزوا أن يكون العامل قال: وسخروا صفة لملا، أو بدل من مر، ويبعد البدل لأن سخر ليس في معنى مر لا يراد ذا ولا نوعا منه. قال ابن عطية: وسخروا منه استجهلوه، فإن كان الأمر كما روي أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط، ولا كانت، فوجه الاستجهال واضح، وبذلك تظاهرت التفاسير، وإن كانت السفائن جينئذ معروفة فاستجهلوه في أن صنعها في قرية لا قرب لها من البحر انتهى، فأنا نسخر منكم في المتقبل كما تسخرون منا الآن أي: مثل سخريتكم إذا أغرقتم في الدنيا، وأحرقتم في الآخرة، أو إن تستجهلونا فيما نصنع فإنا نستجهلكم فيما أنتم عليه من الكفر والتعريض لسخط الله وعذابه، فأنتم أولى بالاستجهال منا قال: قريبا من معناه الزجاج. أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم، لأنكم لا تستجهلون إلا عن جهل بحقيقة الأمر، وبناء على ظاهر الحال، كما هو عادة الجهلة في البعد عن الحقائق. وقال ابن جريج: إن يسخروا منا في الدنيا فإنا نسخر منكم في الآخرة. والسخرية استجهال مع استهزاء. وفي قوله: فسوف تعلمون، تهديد بالغ، والعذاب المخزي الغرق، والعذاب المقيم عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد. ومن يأتيه مفعول بتعلمون، وما موصولة، وتعدى تعلمون إلى واحد استعمالا لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد. وقال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحد انتهى. ولا يجوز حذف الثاني اقتصارا، لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارا هنا، لأنه لا دليل على حذفه وتعنتهم بقوله: من يأتيه. وقيل: من استفهام في موضع رفع على الابتداء، ويأتيه الخبر، والجملة في موضع نصب، وتعلمون معلق سدت الجملة مسد المفعولين. وحكى الزهراوي أنه يقرأ ويحل بضم الحاء، ويحل بكسرها بمعنى ويجب. قال الزمخشري: حلول الدين والحق اللازم الذي لا انفكاك له عنه، ومعنى يخزيه: يفضحه، أو يهلكه، أو يذله، وهو الغرق. أقوال متقاربة حتى إذا جاء أمرنا تقدم الكلام على دخول حتى على إذا في أوائل سورة الأنعام، وهي هنا غاية لقوله: ويصنع الفلك. ويصنع كما قلنا حكاية حال أي: وكان يصنع الفلك إلى أن جاء وقت الوعد الموعود. والجملة من قوله: وكلما مر عليه حال، كأنه قيل: وينصعها، والحال أنه كلما مر، وأمرنا واحد الأمور، أو مصدر أي: أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال، وللملائكة بالتصرف في ذلك، ونحو هذا مما يقدر في النازلة. وفار: معناه انبعث بقوة، والتنور وجه الأرض، والعرب تسميه تنورا قاله: ابن عباس، وعكرمة، والزهري، وابن عيينة، أو التنور الذي يخبز فيه، وكان من حجارة، وكان لحواء حتى صار لنوح قاله: الحسن، ومجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس. وقيل: كان لآدم، وقيل: كان تنور، نوح، أو أعلى الأرض والمواضع المرتفعة قاله: قتادة، أو العين التي بالجزيرة عين الوردة رواه عكرمة، أو من أقصى دار نوح قاله: مقاتل، أو موضع اجتماع الماء في السفينة، روي عن الحسن، أو طلوع الشمس وروي عن علي، أو نور الصبح من قولهم:
222

نور الفجر تنويرا قاله: علي ومجاهد، أو هو مجاز والمراد غلبة الماء وظهور العذاب كما قال صلى الله عليه وسلم) لشدة الحرب: * (* حمي الوطيس) * والوطيس أيضا مستوقد النار، فلا فرق بين حمى وفار، إذ يستعملان في النار. قال الله تعالى: * (ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور) * ولا فرق بين الوطيس والتنور. والظاهر من هذه الأقوال حمله على التنور الذي هو مستوقد النار، ويحتمل أن تكون أل فيه للعهد لتنور مخصوص، ويحتمل أن تكون للجنس. ففار النار من التنانير، وكان ذلك من أعجب الأشياء أن يفور الماء من مستوقد النيران. ولا تنافي بين هذا وبين قوله: * (وفجرنا الارض عيونا) * إذ يمكن أن يراد بالأرض أماكن التنانير، والتفجير غير الفوران، فحصل الفوران للتنور، والتفجير للأرض. والضمير في فيها عائد على الفلك، وهو مذكر أنث على معنى السفينة، وكذلك قوله: وقال اركبوا فيها.
وقرأ حفص: من كل زوجين بتنوين، كل أي من كل حيوان وزوجين مفعول، واثنين نعت توكيد، وباقي السبعة بالإضافة، واثنين مفعول احمل، وزوجين بمعنى العموم أي: من كل ما له ازدواج، هذا معنى من كل زوجين قاله أبو علي وغيره. قال ابن عطية: ولو كان المعنى احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كل نوع أربعة، والزوج في مشهور كلام العرب للواحد مما له ازدواج، فيقال: هذا زوج، هذا وهما زوجان، وهذا هو المهيع في القرآن في قوله تعالى: * (ثمانية أزواج) * ثم فسرها وفي قوله * (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى) * وقال الأخفش: وق يقال في كلام العرب للاثنين زووج، هكذا تأخذه العدديون. والزوج أيضا في كلام العرب النوع كقوله تعالى: * (وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) * وقال تعالى: * (سبحان الذى خلق الازواج كلها) * انتهى.
ولما جعل المطر ينزل كأفواه القرب جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هربا من الماء، حتى اجتمعن عند السفينة فأمره الله أن يحمل من الزوجين اثنين، يعني: ذكرا وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى، وكانت السفينة ثلاث طبقات: السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن. وأهلك معطوف على زوجين إن نون كل، وعلى اثنين إن أضيف، واستثنى من أهله من سبق عليه القول بالهلاك وأنه من أهل النار. قال الزمخشري: سبق عليه القول أنه يختار الكفر لا لتقديره عليه وإرادته تعالى غير ذلك انتهى. وهو على طريقة الاعتزال، والذي سبق عليه القول امرأته واعلة بالعين المهملة، وابنه كنعان. ومن آمن عطف على وأهلك، قيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة، وقيل: كانوا ثلاثة وثمانين. وقال ابن عباس: آمن معه ثمانون رجلا، وعنه ثمانون إنسانا، ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاث كنائن له، ولما خرجوا من السفينة بنوا قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل. وقيل: كانوا ثمانية وسبعين، نصفهم رجال، ونصفهم نساء. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح، وبنوه سام وحام ويافث، وستة ناس من
كان آمن به وأزواجهم جميعا. وعن ابن إسحاق: كانوا عشرة: خمسة رجال، وخمس نسوة. وقيل: كانوا تسعة ونوح، وثمانية أبناء له وزوجته. وقيل: كانوا ثمانية ونوح وزوجته غير التي عوقبت، وبنوه الثلاثة وزوجاتهم، وهو قول: قتادة، والحكم، وابن عيينة، وابن جريج، ومحمد بن كعب. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن، وثلاث بنين. وهذه أقوال متعارضة، والذي أخبر الله تعالى به أنه ما آمن معه إلا قليل، ولا يمكن التنصيص على عدد هذا النفر القليل الذي أبهم الله عددهم إلا بنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
2 (* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم * وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى اركب معنا ولا تكن مع الكافرين
223

قال سآوىإلى جبل يعصمنى من المآء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين * وقيل ياأرض ابلعى مآءك وياسمآء أقلعى وغيض المآء وقضى الا مر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى ما ليس لك به علم إنىأعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنىأعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنىأكن من الخاسرين * قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنبآء الغيب نوحيهآ إليك ما كنت تعلمهآ أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين * وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون * ياقوم لاأسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنىأفلا تعقلون * وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السمآء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين * قالوا ياهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنىأشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دآبة إلا هو ءاخذ بناصيتهآ إن ربى على صراط مستقيم * فإن تولوا فقد أبلغتكم مآ أرسلت به إليكم ويستخلف ربى قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربى على كل شىء حفيظ * ولما جآء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا فى هاذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألاإن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) *))
) *
رسا الشيء يرسو، ثبت واستقر. قال:
* فصبرت نفسنا عند ذلك حرة
*
ترسو إذا نفس الجبان تطلع
*
224

البلع: معروف، والفعل منه بلع بكسر اللام وبفتحها لغتان حكاهما الكسائي والفراء، يبلع بلعا، والبالوعة الموضع الذي يشرب الماء. الإقلاع: الإمساك، يقال: أقلع المطر، وأقلعت الحمى، أي أمسكت عن المحموم. وقيل: أقلع عن الشيء 0 تركه، وهو قريب من الإمساك. غاض الماء نقص في نفسه، وغضته نقصته، جاء لازما ومتعديا. الجودي: علم لجبل بالموصل، ومن قال بالجزيرة أو بآمد، فلأنهما قريبان من الموصل. وقيل الجودي: اسم لكل جبل، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل:
* سبحانه ثم سبحانا نعوذ له
*
وقبلنا سبح الجودي والجمد
*
اعتراه بكذا: أصابه به، وقيل افتعل من عراه يعروه. الناصية: منبت الشعر في مقدم الرأس، ويسمى الشعر النابت هناك ناصية باسم منبته. ونصوت الرجل انصوه نصوا، مددت ناصيته. الجبار: المتكبر. العنيد: الطاغي الذي لا يقبل الحق ولا يصغي إليه، من عند يعند حاد عن الحق إلى جانب، وقيل: ومنه عندي كذا أي: في جانبي. وقال أبو عبيدة: العنيد والعنود والمعاند والعاند المعارض بالخلاف، ومنه قيل للعرق الذي ينفجر بالدم: عاند.
* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم * وهى تجرى بهم فى موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان فى معزل يابنى * بنى * اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال ساوى إلى جبل يعصمنى من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما) *: الضمير في: وقال، عائد على نوح أي: وقال نوح حين أمر بالجمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله: اركبوا فيها. وقيل: الضمير عائد على الله، والتقدير: وقال الله لنوح ومن معه، ويبعد ذلك قوله: إن ربي لغفور رحيم. قيل: وغلب من يعقل في قوله: اركبوا، وإن كانوا قليلا بالنسبة لما لا يعقل ممن حمل فيها، والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة، لأنه لا يليق بما لا يعقل. وعدي اركبوا بفي لتضمينه معنى صيروا فيها، أو معنى ادخلوا فيها. وقيل: التقدير اركبوا الماء فيها. وقيل: في زائدة للتوكيد أي: اركبوها. والباء في
بسم الله في موضع الحال، أو متبركين بسم الله. مجراها ومرساها منصوبان إما على أنهما ظرفا زمان أو مكان، لأنهما يجيئان لذلك. أو ظرفا زمان على جهة الحذف، كما حذف من جئتك مقدم إلحاح، أي: وقت قدوم الحاج، فيكون مجراها ومرساها مصدران في الأصل حذف منهما المضاف، وانتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل. ويجوز أن يكون باسم الله حالا من ضمير فيها، ومجراها ومرساها مصدران مرفوعان على الفاعلية، أي: اركبوا فيها ملتبسا باسم الله إجراؤها وإرساؤها أي: ببركة اسم الله. أو يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء، وباسم الله الخبر، والجملة حال من الضمير في فيها. وعلى هذه التوجيهات الثلاثة فالكلام جملة واحدة، والحال مقدرة. ولا يجوز مع رفع مجراها ومرساها على الفاعلية أو الابتداء أن يكون حالا من ضمير اركبوا، لأنه لا عائد عليه فيما وقع حالا. ويجوز أن يكون باسم الله مجراها ومرساها جملة ثانية من مبتدإ وخبر، لا تعلق لها بالجملة الأولى من حيث الإعراب أمرهم أولا بالركوب، ثم أخبر أن مجراها ومرساها بذكر الله أو بأمره وقدرته، فالجملتان كلامان محكيان. يقال: كما أن الجملة الثانية محكية أيضا بقال. وقال الضحاك: إذا أراد جري السفينة قال بسم الله مجراها فتجري، وإذا أراد وقوفها قال بسم الله مرساها فتقف.
وقرأ مجاهد، والحسن، وأبو رجاء، والأعرج، وشيبة، والجمهور من السبعة الحرميان، والعربيان، وأبو بكر: مجراها بضم الميم. وقرأ الأخوان، وحفص: بفتحها، وكلهم ضم ميم مرساها. وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي، وزيد بن علي، والأعمش، ومجراها
225

ومرساها بفتح الميمين، ظرفي زمان أو مكان، أو مصدرين على التقارير السابقة. وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثاب، وأبو رجاء، ومجاهد، وابن جند، والكلبي، والجحدري، مجريها ومرسيها اسمي فاعل من أجرى وأرسى على البدل من اسم الله، فهما في موضع خبر، ولا يكونان صفتين لكونهما نكرتين. وقال ابن عطية: وهما على هذه القراءة صفتان عائدتان على ذكره في قولهم بسم الله انتهى. ولا يكونان صفتين إلا على تقدير أن يكونا معرفتين. وقد ذهب الخليل إلى أن ما كانت إضافته غير محضة قد يصح أن تجعل محضة، فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف. إن ربي لغفور ستور عليكم ذنوبكم بتوبتكم وإيمانكم، رحيم لكم إذا نجاكم من الغرق. وروي في الحديث: (أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب، وصام الشهر أجمع) وعن عكرمة: لعشر خلون من رجب. وهي تجري بهم إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة، وبهم حال أي: ملتبسة بهم، والمعنى: تجري وهم فيها في موج كالجبال، أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها. روي أن السماء أمطرت جميعها حتى لم يكن في الهواء جانب إلا أمطر، وتفجرت الأرض كلها بالنبع، وهذا معنى التقاء الماء. وروي أن الماء علا على الجبال وأعالي الأرض أربعين ذراعا، وقيل: خمسة عشر. وكون السفينة تجري في موج دليل على أنه كان في الماء موج، وأنه لم يطبق الماء ما بين السماء والأرض، وأن السفينة لم تكن تجري في جوف الماء والماء أعلاها وأسفلها، فكانت تسبح في الماء كما تسبح السمكة، كما أشار إليه الزجاج والزمخشري وغيرهما. وقد استبعد ابن عطية هذا قال: وأين كان الموج كالجبال على هذا؟ ثم كيف استقامت حياة من في السفينة؟ وأجاب الزمخشري: بأن الجريان في الموج كان قبل التطبيق، وقيل أن يعم الماء الجبال. ألا ترى إلى قول ابنه: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء. ونادى نوح ابنه، الواو لا ترتب. وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله: وهي تجري بهم في موج، وفي إضافته إليه هنا وفي قوله: إن ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، والضحاك، وابن جبير، وميمون بن مهران، والجمهور، واسمه كنعان. وقيل: يام، وقيل: كان ابن قريب له ودعاه بالبنوة حنانا منه وتلطفا. وقرأ الجمهور: بكسر تنوين نوح، وقرأ وكيع بن الجراح: بضمه، أتبع حركته حركة الإعراب في الحاء. قال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف. وقرأ الجمهور: بوصل هاء الكناية بواو، وقرأ ابن عباس: أنه بسكون الهاء، قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي: وهذا على لغة الأزد الشراة، يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قول الشاعر:
ونضواي مشتاقان له أرقان
وذكر غيره أنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشدون:
* وأشرب الماء ما بي نحوه عطش
*
إلا لأن عيونه سيل واديها
*
وقرأ السدي ابناه بألف وهاء السكت. قال أبو الفتح: ذلك على النداء. وذهبت فرقة إلى أنه على الندبة والرثاء. وقرأ علي، وعروة، وعلي بن الحسين، وابنه أبو جعفر، وابنه جعفر: ابنه بفتح الهاء من غير ألف أي: ابنها مضافا لضمير امرأته، فاكتفى بالفتحة عن الألف. قال ابن عطية: وهي لغة، ومنه قول الشاعر:
* إما تقود بها شاة فتأكلها
*
أو أن تبيعه في بعض الأراكيب
*
226

وأنشد ابن الأعرابي على هذا:
* فلست بمدرك ما فات مني
*
بلهف ولا بليت ولا لواني
*
انتهى. يريد تبيعها وتلهفا، وخطأ النحاس أبا حاتم في حذف هذه الألف، قال ابن عطية: وليس كما قال انتهى. وهذا أعنى مثل تلهف بحذف الألف عند أصحابنا ضرورة، ولذلك لا يجيزون يا غلام بحذف الألف، والاجتزاء بالفتحة عنها كما اجتزؤوا بالكسرة في يا غلام عن الياء، وأجاز ذلك الأخفش. وقرأ أيضا علي وعروة ابنها بفتح الهاء وألف أي: ابن امرأته. وكونه ليس ابنه لصلبه، وإنما كان ابن امرأته قول: علي، والحسن، وابن سيرين، وعبيد بن عمير. وكان الحسن يحلف أنه ليس ابنه لصلبه، قال قتادة: فقلت له: إن الله حكى عنه أن ابني من أهلي، وأنت تقول: لم يكن ابنه، وأهل الكتاب لا يختلفون في أنه كان ابنه فقال: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب؟ واستدل بقوله من أهلي ولم يقل مني، فعلى هذا يكون ربيبا. وكان عكرمة، والضحاك، يحلفان على أنه ابنه، ولا يتوهم أنه كان لغير رشدة، لأن ذلك غضاضة عصمت منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وروي ذلك عن الحسن وابن جريج، ولعله لا يصح عنها. وقال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه ابنه، وأما قراءة من قرأ ابنه أو ابنها فشاذة، ويمكن أن نسب إلى أمه وأضيف إليها، ولم يضف إلى أبيه لأنه كان كافرا مثلها، يلحظ فيه هذا المعنى ولم يضف إليه استبعادا له، ورعيا أن لا يضاف إليه كافر، وإنما ناداه ظنا منه أنه مؤمن، ولولا ذلك ما أحب نجاته. أو ظنا منه أنه يؤمن إن كان كافرا لما شاهد من الأهوال العظيمة، وأنه يقبل الإيمان. ويكون قوله: اركب معنا كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان، وتأكد بقوله: ولا تكن مع الكافرين، أي اركب مع المؤمنين، إذ لا يركب معهم إلا مؤمن لقوله: ومن آمن.
وفي معزل أي: في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن مركب المؤمنين. وقيل: في معزل عن دين أبيه، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة، والمعنى: اركب معنا في السفينة فتنجو ولا تكن مع الكافرين فتهلك. وقرأ عاصم يا بني بفتح الياء، ووجه على أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، وأصله يا بنيا كقولك: يا غلاما، كما اجتزأ باقي السبعة بالكسرة عن الياء في قراءتهم يا بني بكسر الياء، أو أن الألف انحذفت لالتقائها مع راء اركب. وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجير على العادة، فلذلك قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء أي: من وصول الماء إلي فلا أغرق، وهذا يدل على عادته في الكفر، وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر به.
قيل: والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه، والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وأنه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت، وأن من رحم يقع فيه من على المعصوم. والضمير الفاعل يعود على الله تعالى، وضمير الموصول محذوف، ويكون الاستثناء منقطعا أي: لكن من رحمة الله معصوم، وجوزوا أن يكون من الله تعالى أي لا عاصم إلا الراحم، وأن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة، كما قالوا لاين أي: ذو لبن، وذو عصمة، مطلق على عاصم وعلى معصوم، والمراد به هنا المعصوم. أو فاعل بمعنى مفعول، فيكون عاصم بمعنى معصوم، كماء دافق بمعنى مدفوق. وقال الشاعر:
* بطيء الكلام رخيم الكلام
*
أمسى فؤادي به فاتنا
*
أي مفتونا. ومن للمعصوم أي: لا ذا عصمة، أو لا معصوم إلا المرحوم. وعلى هذين التجويزين يكون استثناء
227

متصلا، وجعله الزمخشري متصلا بطريق أخرى: وهو حذف مضاف وقدره: لا يعصمك اليوم معتصم قط من جبل ونحوه سوى معتصم واحد، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة انتهى. والظاهر أن خبر لا عاصم محذوف، لأنه إذا علم كهذا الموضع التزم حذفه بنو تميم، وكثر حذفه عند أهل الحجاز، لأنه لما قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال له نوح: لا عاصم، أي لا عاصم موجود. ويكون اليوم منصوبا على إضمار فعل يدل عليه عاصم، أي: لا عاصم يعصم اليوم من أمر الله، ومن أمر متعلق بذلك الفعل المحذوف. ولا يجوز أن يكون اليوم منصوبا بقوله: لا عاصم، ولا أن يكون من أمر الله متعلقا به، لأن اسم لا إذ ذاك كان يكون مطولا، وإذا كان مطولا لزم تنوينه وإعرابه، ولا يبنى وهو مبنى، فبطل ذلك. وأجاز الحوفي وابن عطية أن يكون اليوم خبرا لقوله: لا عاصم. قال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم خبرا ويتعلق بمعنى الاستقرار، وتكون من متعلقة بما تعلق به اليوم. وقال ابن عطية: واليوم ظرف وهو متعلق بقوله: من أمر الله، أو بالخبر الذي تقديره: كائن اليوم انتهى. ورد ذلك أبو البقاء فقال: فأما خبر لا فلا يجوز أن يكون اليوم، لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجنة، بل الخبر من أمر الله، واليوم معمول من أمر الله. وقال الحوفي: ويجوز أن يكون اليوم نعتا لعاصم ومن الخبر انتهى. ويرد بما رد به أبو البقاء من أن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث، كما لا يكون خبرا. وقرئ إلا من رحم بضم الراء مبنيا للمفعول، وهذا يدل على أن المراد بمن في قراءة الجمهور الذين فتحوا الراء هو المرحوم لا الراحم، وحال بينهما أي بين نوح وابنه. قيل: كانا يتراجعان الكلام، فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة، وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وحيل بينه وبين نوح فغرق. وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح والجبل الذي ظن أنه يعصمه.
* (وقيل ياأرض * أرض * ابلعى ماءك وياسماء * سماء * أقلعى وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم الظالمين * ونادى نوح ربه فقال
رب إن ابنى من أهلى وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال ياءادم * نوح إنه * ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنى * ما ليس لك به علم إنى أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إنى أعوذ بك أن أسألك ما ليس لى به علم وإلا تغفر لى وترحمنى أكن من الخاسرين) *: قال الزمخشري: نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله: يا أرض ويا سماء، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله: ابلعي ماءك وأقلعي، من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه، وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب. فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولا لا حبس ولا بطء. وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن، قال الحسن: يدل على عظمة هذه الأجسام، والحق تعال مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء، وأراد فصار ذلك سببا لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلو قدرته وهيبته انتهى. وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر. قال الزمخشري: ومجئ أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أت تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره. ولما ذكرناه من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: ابلعي واقلعي، وذلك وأن كان الكلام لا يخلو من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب، وما عداها قشور انتهى. وأكثره خطابة،
228

وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق. وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكا وفهما لمعاني الخطاب. وروي أن أعرابيا سمع هذه الآية فقال: هذا كلام القادرين، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال: هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله. وقال ابن عباس في قوله: وقضي الأمر، غرق من غرق، ونجا من نجا. وقال مجاهد: قضي الأمر بهلاكهم، وقال ابن قتيبة، قضي الأمر فرغ منه، وقال ابن الأنباري: أحكمت هلكة قوم نوح، وقال الزمخشري: أنجز ما وعد الله نوحا من هلاك قومه. واستوت أي استقرت السفينة على الجودي، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرم قاله: ابن عباس، والضحاك. وقيل: يوم الجمعة، وقيل: في ذي الحجة. وأقامت على الجوي شهرا، وهبط بهم يوم عاشوراء. وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي. وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك.
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة. قال ابن عطية: وهما لغتان، وقال صاحب اللوامح: هو تخفيف ياءي النسب، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه، والظاهر أن قوله: وقيل بعدا من قول الله تعالى كالأفعال السابقة، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل، وقيل: من قول نوح والمؤمنين، قيل: ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، قيل: ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن، ثم قول محسوس. ومعنى بعد إهلاكا يقال: بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك، واللام في للقوم من صلة المصدر. وقيل: تتعلق بقوله: وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. ومعنى ونادى نوح ربه أي: أراد أن يناديه، ولذلك أدخل الفاء، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال: ولسقطت كما لم تدخل في قوله: * (إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب) * والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضا، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن. وفي قوله: إن ابني من أهلي، ظهور أنه ولده لصلبه. ومعنى من أهلي أي: الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله: * (احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك) * ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله: إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله: ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله، وحسن الخطاب بقوله: وإن وعدك الحق، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون من الحكمة حاكم بمعنى النسبة، كما يقال: دارع من الدرع، وحائض وطالق على مذهب الخليل انتهى. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال: إنه ابنه لصلبه أي الناجين، أو الذين عمهم الوعد. ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة، إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة، فعلى هذا نفي ما قدر أنه داخل في قوله: وأهلك، ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله بأنه عمل غير صالح. والظاهر أن الضمير في أنه عائد على ابن نوح لا على النداء المفهوم من قوله: ونادى المتضمن سؤال ربه، وجعله نفس العمل مبالغة في ذمه كما قال: فإنما هي إقبال وإدبار، هذا على قراءة جمهور السبعة. وقرأ الكسائي: عمل غير صالح جعله فعلا ناصبا غير صالح، وهي قراءة: علي، وأنس، وابن عباس، وعائشة، وروتها عائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وهذا يرجح أن الضمير يعود على ابن نوح. قيل: ويرجح كون الضمير في أنه عائد على نداء نوح المتضمن السؤال أن في مصحف ابن مسعود أنه عمل غير صالح إن تسألني ما ليس لك به علم. وقيل: يعود على الضمير في هذه القراءة على ركوب ولد نوح معهم الذي تضمنه سؤال نوح المعنى: أن كونه مع الكافرين وتركه الركوب مع المؤمنين عمل غير صالح، وكون الضمير في أنه عائدا على غير ابن نوح عليه السلام تكلف وتعسف لا يليق بالقرآن. قال الزمخشري: (فإن قلت): فهلا قيل إنه عمل فاسد؟ (قلت): لما نفاه من
229

أهله نفى عنه صفتهم بكلمة النفي التي يستنفي معها لفظ المنفي وأذن بذلك أنه إنما أنجى من أنجى من أهله بصلاحهم، لا لأنهم أهلك وأقاربك، وإن هذا لما انتفي عنه الصلاح لم تنفعه أبوتك. وقرأ الصاحبان: تسألن بتشديد النون مكسورة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي كذلك، إلا أنهم أثبتوا الباء بعد النون، وابن كثر بتشديدها مفتوحة وهي قراءة ابن عباس. وقرأ الحسن وابن أبي مليكة: تسألني من غير همز، من سال يسال، وهما يتساولان، وهي لغة سائرة. وقرأ باقي السبعة بالهمز
وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها، وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون. قال الزمخشري: فلا تلتمس ملتمسا أو التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه، وذكر المسألة دليل على أن النداء كان قبل أن يغرق حين خاف عليه. (فإن قلت): لم سمي نداءه سؤالا ولا سؤال فيه؟ (قلت): قد تضمن دعاؤه معنى السؤال وإن لم يصرح به، لأنه إذا ذكر الموعد بنجاة أهله في وقت مشارفة الغرق فقد استنجز، وجعل سؤال ما لا يعرف كنهه جهلا وغباوة ووعظه أن لا يعود إليه وإلى أمثاله من أفعال الجاهلين. (فإن قلت) قد وعد الله أن ينجي أهله، وما كان عنده أن ابنه ليس منهم دينا، فلما أشفي على الغرق تشابه عليه الأمر، لأن العدة قد سبقت له، وقد عرف الله حكيما لا يجوز عليه فعل القبيح وخلف الميعاد، فطلب إماطة الشبهة وطلب إماطة الشبهة واجب، فلم زجر وجعل سؤاله جهلا؟ (قلت): أن في جملة أهله من هو مستوجب العذاب لكونه غير صالح، وأن كلهم ليسوا بناجين، وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم، فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب بما يجب أن لا يشتبه. وقال ابن عطية: معنى قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد، فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان الواجب عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله، ولكن نوحا عليه السلام حملته شفقة البنوة وسجية البشر على التعرض لنفحات الرحمة والتذكير، وعلى هذا القدر وقع عقابه، ولذلك جاء بتلطف وترج في قوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين. ويحتمل قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، أي: لا تطلب مني أمرا لا تعلم المصلحة فيه علم يقين، ونحا إلى هذا أبو علي الفارسي وقال: إن به يجوز أن يتعلق بلفظ عام كما قال الشاعر:
كأن جزائي بالعصا أن أجلدا
ويجوز أن يكون به بمنزلة فيه، فتتعلق الباء بالمستقر. واختلاف هذين الوجهين إنما هو لفظي، والمعنى في الآية واحدة. وذكر الطبري عن ابن زيد تأويلا في قوله: إني أعظك أن تكون من الجاهلين لا يناسب النبوة تركناه، ويوقف عليه في تفسير ابن عطية. وقيل: سأل نوح ربه حين صار عنه ابنه بمعزل، وقيل: قبل أن عرف هلاكه، وقيل: بعد أن عرف هلاكه سأل الله له المغفرة أن أسألك من أن أطلب في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديبا بأدبك، واتعاظا بموعظتك، وهذه إنابة من نوح عليه السلام وتسليم لأمر الله. قال ابن عطية: والسؤال الذي وقع النهي عنه والاستعاذة والاستغفار منه هو سؤال العزم الذي معه محاجة، وطلبه ملحة فيما قد حجب وجه الحكمة فيه. وأما السؤال في الأمور على جهة التعلم والاسترشاد فغير داخل في هذا، وظاهر قوله: فلا تسألن ما ليس لك به علم، يعم النحوين من السؤال، ولذلك نبهت على أن المراد أحدهما دون الآخر، والخاسرون هم المغبونون حظوظهم من الخير انتهى، ونسب نوح النقص والذنب إلى نفسه تأدبا مع ربه فقال: وألا تغفر لي، أي ما فرط من سؤالي وترحمني بفضلك، وهذا كما قال آدم عليه السلام.
230

* (قيل يانوح * نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم * تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هاذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) *: بني الفعل للمفعول، فقيل: القائل هو الله تعالى، وقيل: الملائكة تبليغا عن الله تعالى. والظاهر الأول لقوله: منا. وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة ومن الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض، والباء للحال أي: مصحوبا بسلامة وأمن وبركات، وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن تكون اللام بمعنى التسليم أي: اهبط مسلما عليك مكرما. وقرئ اهبط بضم الباء، وحكى عبد العزيز بن يحيى وبركة على التوحيد عن الكسائي وبشر بالسلامة إيذانا له بمغفرة ربه له ورحمته إياه، وبإقامته في الأرض آمنا من الآفات الدنيوية، إذ كانت الأرض قد خلت مما ينتفع به من النبات والحيوان، فكان ذلك تبشيرا له بعود الأرض إلى أحسن حالها، ولذلك قال: وبركات عليك أي دائمة باقية عليك. والظاهر أن من لابتداء الغاية أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. قال الزمخشري: ويحتمل أن تكون من للبيان فتراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات. وقيل لهم: أمم، لأن الأمم تشعبت منهم انتهى. وهذا فيه بعد تكلف، إذ يصير التقدير: وعلى أمم هم من معك، ولو أريد هذا المعنى لا غنى عنه، وعلى أمم معك أو على من معك، فكان يكون أخضر وأقرب إلى الفهم، وأبعد عن اللبس. وارتفع أمم على الابتداء. قال الزمخشري: وسنمتعهم صفة، والخبر محذوف تقديره وممن معك أمم سنمتعهم، وإنما حذف لأن قوله: ممن معك، والمعنى: أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشئون ممن معك، وأمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار انتهى. ويجوز أن يكون أمم مبتدأ، ومحذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة، والتقدير: وأمم منهم أي ممن معك، أي ناشئة ممن معك، وسنمتعهم هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، أي منوان منه، فحذف منه وهو صفة لمنوان، ولذلك جاز الابتداء بمنوان وهو نكرة. ويجوز أن يقدر مبتدأ ولا يقدر صفة الخبر سنمتعهم، ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، فكان مثل قول الشاعر:
* إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
*
بشق وشق عندنا لم يحول
*
وقال القرطبي: ارتفعت وأمم على معنى: ويكون أمم انتهى. فإن كان أراد تفسير معنى فحسن، وإن أراد الإعراب ليس بجيد، لأن هذا ليس من مواضع إضمار يكون، وقال الأخفش: هذا كما تقول كلمت: زيدا وعمر وجالس انتهى. فاحتمل أن يكون من باب عطف الجمل، واحتمل أن تكون الواو للحال، وتكون حالا مقدرة لأنه وقت الأمر بالهبوط لم تكن تلك الأمم موجودة. وقال أبو البقاء: وأمم معطوف على الضمير في اهبط تقديره: اهبط أنت وأمم، وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد،
وسنمتعهم نعت لأمم انتهى. وهذا التقدير والمعنى لا يصلحان، لأن الذين كانوا مع نوح في السفينة إنما كانوا مؤمنين لقوله: ومن آمن، ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين، فتكون الكفار مأمورين بالهبوط مع نوح، إلا إن قدر أن من أولئك المؤمنين من يكفر بعد الهبوط، وأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها فيمكن على بعد، والذي ينبغي أن يفهم من الآية أن من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون، ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الآخرة، وذلك من باب الكناية كقولهم: فلان طويل
231

النجاد كثير الرماد. وظاهر قوله: ممن معك يدل على أن المؤمنين والكافرين نشأوا ممن معه، والذين كانوا معه في السفينة إن كانوا أولاده الثلاثة فقط، أو معهم نساؤهم، انتظم قول المفسرين أن نوحا عليه السلام هو أبو الخلق كلهم، وسمي آدم الأصغر لذلك وإن كانوا أولاده وغيرهم على الاختلاف في العدد، فإن كان غير أولاده مات ولم ينسل صح أنه أبو البشر بعد آدم، ولم يصح أنه نشأ ممن معه مؤمن وكافر، إلا إن أريد بالذين معه أولاده، فيكون من إطلاق العام ويراد به الخاص. وإن كانوا نسلوا كما عليه أكثر المفسرين فلا ينتظم أنه أبو البشر بعد آدم بل الخلق بعد الطوفان منه، وممن كان معه في السفينة والأمم الممتعة ليسوا معينين، بل هم عبارة عن الكفار. وقيل: هم قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب، عليهم الصلاة والسلام.
تلك إشارة إلى قصة نوح، وتقدمت أعاريب في مثل هذا التركيب في قوله: * (ذالك من أنباء الغيب نوحيه إليك) * في آل عمران، وتلك إشارة للبعيد، لأن بين هذه القصة والرسول مددا لا تحصى. وقيل: الإشارة بتلك إلى آيات القرآن، ومن أنباء الغيب وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله، ونوحيها إليك ليكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء، ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها ليكون مثالا لهم وتحذيرا أن يصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك، وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة قوله: فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن الله، فالعاقبة لك كما كانت لنوح في هذا القصة. ومعنى ما كنت تعلمها: أي مفصلة كما سردناها عليك، وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال، والمجوس الآن ينكرونه. والجملة من قوله: ما كنت في موضع الحال من مفعول نوحيها، أو من مجرور إليك، وقدرها الزمخشري تقدير معنى فقال: أي مجهولة عندك وعند قومك ويحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، والإشارة بقوله: من قبل هذا إلى الوقت أو إلى الإيحاء أو إلى العلم الذي اكتسبه بالوحي احتمالات، وفي مصحف ابن مسعود من قبل هذا القرآن. وقال الزمخشري: ولا قومك معناه: أن قومك الذين أنت منهم على كثرتهم ووفور عددهم إذا لم يكن ذلك شأنهم، ولا سمعوه ولا عرفوه، فكيف برجل منهم كما تقول: لم يعرف هذا عبد الله ولا أهل بلده؟.
* (وإلى عاد أخاهم هودا قال ياقوم * قوم * اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره إن أنتم إلا مفترون * إلا مفترون * ياقوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجرى إلا على الذى فطرنى أفلا تعقلون * وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين) *: وإلى عاد أخاهم معطوف على قوله: أرسلنا نوحا إلى قومه، عطف الواو على المجرور، والمنصوب على المنصوب، كما يعطف المرفوع والمنصوب على المرفوع والمنصوب نحو: ضرب زيد عمرا، وبكر خالدا، وليس من باب الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف والمعطوف نحو: ضربت زيدا، وفي البيت عمرا، فيجيء منه الخلاف الذي بين النحويين: هل يجوز في الكلام، أو يختص بالشعر؟ وتقدير الكلام في هود وعاد وأخوته منهم في الأعراف، وقراءة الكسائي غيره بالخفض، وقيل: ثم فعل محذوف أي: وأرسلنا إلى عاد أخاهم، فيكون إذ ذاك من عطف الجمل، والأول من عطف المفردات، وهذا أقرب لطول الفصل بالجمل الكثيرة بين المتعاطفين. وهودا بدل أو عطف بيان. وقرأ محيصن: يا قوم بضم الميم كقراءة حفص: قل رب احكم بالحق بالضم، وهي لغة في المنادي المضاف حكاها سيبويه وغيره، وافتراؤهم قال الحسن: في جعلهم الألوهية لغير الله تعالى. وقال الزمخشري: باتخاذكم الأوثان له شركاء. والضمير في عليه عائد على الدعاء إلى الله، ونبه بقوله: الذي فطرني، على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام، واعتقادهم أنها تفعل، وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة. وأفلا تعقلون توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر، ويحتمل أن يكون أفلا تعقلون راجعا إلى أنه إذا لم أطلب عرضا منكم، وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم، كأنه قيل: أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلا من الله تعالى، وهو ثواب الآخرة، ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك. وتقدم الكلام في * (استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * أول هذه السورة قصد هود استمالتهم إلى الإيمان وترغيبهم فيه بكثرة المطر وزيادة القوة، لأنهم كانوا أصحاب زورع وبساتين
232

وعمارات حراصا عليها أشد الحرص، فكانوا أحوج شيء إلى الماء، وكانوا مدلين بما أوتوا من هذه القوة والبطش والبأس مهيئين في كل ناحية. وقيل: أراد القوة في المال، وقيل: في النكاح. قيل: وحبس عنهم المطر ثلاث سنين، وعقمت أرحام نسائهم. وقد انتزع الحسن بن علي رضي الله عنه من هذا ومن قوله: ويمددكم بأموال وبنين، أن كثرة الاستغفار قد يجعله الله سببا لكثرة الولد. وأجاب من سأله وأخبره أنه ذو مال ولا يولد له بالاستغفار، فأكثر من ذلك فولد له عشر سنين. وروى أبو صالح عن ابن عباس في قوله: ويزدكم قوة إلى قوتكم، أنه الولد وولد الولد. وقال مجاهد وابن زيد: في الجسم والبأس، وقال الضحاك: خصبا إلى خصبكم، وقيل: نعمة إلى نعمته الأولى عليكم، وقيل: قوة في إيمانكم إلى قوة في أبدانكم.
* (قالوا يأبانا * هود * ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركى ءالهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض ءالهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برىء مما تشركون * من دونه فكيدونى جميعا ثم لا تنظرون * إنى توكلت على الله ربى وربكم ما من دابة إلا هو ءاخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم * فإن) *: ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم: * (لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * وقد جاءهم بآيات كثيرة، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا: ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم): * (ما من * نبى إلا * وقد * أوتي * من الايات ما * مثله * من * عليه * البشر) * وعن في عن
قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك، قاله الزمخشري. وقيل: عن للتعليل كقوله تعالى: * (إلا عن موعدة وعدها إياه) * فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية، فقال: أي لا يكون قولك سببا لتركنا، إذ هو مجرد عن آية، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين، كما قالت قريش: معلم مجنون * (أم يقولون به جنة) * واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع المفعول، ودلت على بله شديد وجهل مفرط، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. وقول هود لهم في جواب ذلك: إني أشهد الله إلى آخره، حيث تبرأ من آلهتهم، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة. ومثله قول نوح لقومه: * (ثم * اقضوا إلى ولا تنظرون) * وأكد براءته من آلهتهم وشركهم، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد.
قال الزمخشري: (فإن قلت): هلا قيل: إني أشهد الله وأشهدكم (قلت): لأن إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجئ به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى. وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحا، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيدا ووهبت لعمرو دينارا، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو: قام وضربت زيدا. وما في ما تشركون موصولة، إما مصدرية، وإما بمعنى الذي أي: بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو
233

من الذين تشركون، وجميعا حال من ضمير كيدوني الفاعل، والخطاب إنما هو لقومه. وقال الزمخشري: أنتم وآلهتكم انتهى. قيل: ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، ثم ذكر توكله عل الله معلما أنه ربه وربهم، ومنبها على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه، ومفوضا أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه، فأنتم من جملة أولئك المقهورين. وقوله: آخذ بناصيتها تمثيل، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته، حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته. قال ابن جريج: وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنسانا بالذلة والخضوع قالت: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أن أفعاله تعالى في غاية الإحكام، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه، قوله الصدق، ووعده الحق.
وقرأ الجمهور: فإن تولوا أي تتولوا مضارع تولى. وقرأ الأعرج وعيسى الثقفي: تولوا بضم التاء، واللام مضارع ولي، وقيل: تولوا ماض ويحتاج في الجواب إلى إضمار قول، أي: فقل لهم فقد أبلغتكم، ولا حاجة تدعو إلى جعله ماضيا وإضمار القول. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تولوا فعلا ماضيا، ويكون في الكلام رجوع من غيبة إلى خطاب أي: فقد أبلغتكم انتهى. فلا يحتاج إلى إضمار، والظاهر أن الضمير في تولوا عائد على قوم هود، وخطاب لهم من تمام الجمل المقولة قبل. وقال التبريزي: هو عائد على كفار قريش، وهو من تلوين الخطاب، انتقل من خطاب قوم هود إلى الإخبار عمن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم)، وكأنه قيل: أخبرهم عن قصة قوم هود، وادعهم إلى الإيمان بالله لئلا يصيبهم كما أصاب قوم هود، فإن تولوا فقل لهم: قد أبلغتكم. وجواب الشرط هو قوله: فق أبلغتكم، وصح أن يكون جوابا، لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل، فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله: ويستخلف ربي قوما غيركم.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): الإبلاغ كان قبل التولي، فكيف وقع جزاء للشرط؟ (قلت): معناه فإن تولوا لم أعاقب على تفريط في الإبلاغ، فإن ما أرسلت به إليكم قد بلغكم فأبتم إلا تكذيب الرسالة وعداوة الرسول. وقال ابن عطية: المعنى أنه ما علي كبيرهم منكم إن توليتم فقد برئت ساحتي بالتبليغ، وأنتم أصحاب الذنب في الإعراض عن الإيمان. وقرأ الجمهور: ويستخلف بضم الفاء على معنى الخبر المستأنف أي: يهلككم ويجيء بقوم آخرين يخلفونكم في دياركم وأموالكم. وقرأ حفص في رواية هبيرة: بجزمها عطفا على موضع الجزاء، وقرأ عبد الله كذلك، وبجزم ولا تضروه، وقرأ الجمهور: ولا تضرونه أي شيئا من الضرر بتوليتكم، لأنه تعالى لا تجوز عليه المضار والمنافع. قال ابن عطية: يحتمل من المعنى وجهين: أحدهما: ولا تضرونه بذهابكم وهلاككم شيئا أي: لا ينقص ملكه، ولا يختل أمره، وعلى هذا المعنى قرأ عبد الله بن مسعود ولا تنقصونه شيئا. والمعنى الآخر: ولا تضرونه أي: ولا تقدرون إذا أهلككم على إضراره بشيء، ولا على انتصار منه، ولا تقابلون فعله بشيء يضره انتهى. وهذا فعل منفي ومدلوله نكرة، فينتفي جميع وجوه الضرر، ولا يتعين واحد منها. ومعنى حفيظ رقيب محيط بالأشياء علما لا يخفى عليه أعمالكم، ولا يغفل عن مؤاخذتكم، وهو يحفظني مما تكيدونني به.
* (ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين ءامنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ * عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد * وأتبعوا * وأتبعوا فى هاذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود) *: الأمر واحد الأمور، فيكون كناية عن العذاب، أو عن القضاء بهلاكهم. أو مصدر أمر أي أمرنا للريح أو
234

لخزنتها. والذين آمنوا معه قيل: كانوا أربعة آلاف، قيل: ثلاثة آلاف. والظاهر تعلق برحمة منا بقوله: نجينا أي، نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم، لا بأعمالهم
الصالحة. أو كنى بالرحمة عن أعمالهم الصالحة، إذ توفيقهم لها إنما هو بسبب رحمته تعالى إياهم. ويحتمل أن يكون متعلقا بآمنوا أي: أن إيمانهم بالله وبتصديق رسوله إنما هو برحمة الله تعالى إياهم، إذ وفقهم لذلك. وتكررت التنجية على سبيل التوكيد، ولفلق من لو لاصقت منا فأعيدت التنجية وهي الأولى، أو تكون هذه النتيجة هي من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه، فأعيدت لأجل اختلاف متعلقيها.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى تكرير التنجية؟ (قلت): ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم ثم قال ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى، وكانت التنجية من عذاب غليظ قال: وذلك أن الله عز وعلا بعث عليهم السموم، فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعم عضوا عضوا انتهى. وهذا قاله الزجاج. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد، وكانت النجاة المتقدمة من عذاب غليظ يريد الريح، فيكون المقصود على هذا تعديد النعمة، والمشهور في عذابهم بالريح أنها كانت تحملهم وتهدم مساكنهم وتنسفها، وتحمل الظعينة كما هي، ونحو هذا. وتلك عاد إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: * (فسيحوا فى الارض) * فانظروا إليها واعتبروا، ثم استأنف الأخبار عنهم فقال: جحدوا بآيات ربهم أي: أنكروها. وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيها على أنه مالكهم ومربيهم، فأنكروا آياته، والواجب إقرارهم بها. وأصل جحد أن يتعدى بنفسه، لكنه أجرى مجرى كفر فعدى بالباء، كما عدى كفر بنفسه في قوله: إلا أن عادا كفروا ربهم، إجراء له مجرى جحد. وقيل: كفر كشكر يتعدى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر. وعصوا رسله، قيل: عصوا هودا والرسل الذين كانوا من قبله، وقيل: ينزل تكذب الرسول الواحد منزلة تكذيب الرسل، لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار بربوبيته كقوله: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * وأتبعوا أي: اتبع سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم، والمعنى: أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به. قال الكلبي: الجبار هو الذي يقتل على الغضب، ويعاقب على المعصية، وقال الزجاج: هو الذي يجبر الناس على ما يريد. وذكر ابن الأنباري: أنه العظيم في نفسه، المتكبر على العباد. والظاهر أن قوله: واتبعوا عام في جميع عاد. وقال الزمخشري: لما كانوا تابعين له دون الرسل جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين تكبهم على وجوههم في عذاب الله انتهى. فظاهر كلامه يدل على أن اللعنة مختصة بالتابعين للرؤساء، ونبه على علة اتباع اللعنة لهم في الدارين بأنهم كفروا ربهم، فالكفر هو الموجب للعنة. ثم كرر التنبيه بقوله: ألا في الدعاء عليهم تهويلا لأمرهم، وتفظيعا له، وبعثا على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم. وفائدة قوله: قوم هود مزيد التأكيد للمبالغة في التنصيص، أو تعيين عاد هذه من عاد ارم، لأن عاد اثنان ولذلك قال تعالى: وأنه أهلك، عاد الأولى فتحقق أن الدعاء على عاد هذه، ولم تلتبس بغيرها.
2 (* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره هو أنشأكم من الا رض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى قريب مجيب * قالوا ياصالح قد كنت فينا مرجوا قبل هاذا أتنهانآ أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا وإننا لفى شك مما تدعونآ إليه مريب * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما تزيدوننى
235

غير تخسير * وياقوم هاذه ناقة الله لكم ءاية فذروها تأكل فىأرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب * فعقروها فقال تمتعوا فى داركم ثلاثة أيام ذالك وعد غير مكذوب * فلما جآء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز * وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود * ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جآء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قآئمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن ورآء إسحاق يعقوب * قالت ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد * فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجآءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * يإبراهيم أعرض عن هاذآ إنه قد جآء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود * ولما جآءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب * وجآءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هاؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو آوىإلى ركن شديد * قالوا يالوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها مآ أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب * فلما جآء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود * مسومة عند ربك وما هى من الظالمين ببعيد) *))
) *
الصيحة: فعلة للمرة الواحدة من الصياح، يقال: صاح يصبح إذا صوت بقوة. حنذت الشاة أحنذها حنذا شويتها،
236

وجعلت فوقها حارة لتنضجها فهي حنيذ، وحنذت الفرس أحضرته شوطا أو شوطين ثم ظاهرت عليه الجلال في الشمس ليعرق. أوجس الرجل قال الأخفش: خامر قلبه، وقال الفراء: اتشعر، وقيل: أحسن. والوجيس ما يعتري النفس عند أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا خطر بها يجس وجسا ووجوسا وتوجس تسمع وتحسن. قال:
* وصادقتا سمع التوجس للسرى
*
لهجس خفي أو لصوت مندد
*
الضحك معروف، وكان ينبغي أن يذكر في سورة التوبة في قوله: * (فليضحكوا قليلا) * ويقال: ضحك بفتح الحاء، والضحكة الكثير الضحك، والضحكة المضحوك منه، ويقال: ضحكت الأرنب أي حاضت، وأنكر أبو عبيدة والفراء وأبو عبيد: ضحك بمعنى حاض، وعرف ذلك غيرهم. وقال الشاعر أنشده اللغويون:
* وضحك الأرانب فوق الصفا
*
كمثل دم الجوف يوم اللقا
*
وقال الآخر:
* وعهدي بسلمى ضاحكا في لبانة
*
ولم يعد حقا ثديها أن يحلما
*
أي حائضا في لبانة، واللبانة والعلاقة والشوذر واحد. ومنه ضحكت الكافورة إذا انشقت، وضحكت الشجرة سال منا صمغها وهو شبه الدم، وضحك الحوض امتلأ وفاض.
الشيح: معروف، والفعل شاخ يشيخ، وقد يقال للأنثى: شيخة. قال:
وتضحك مني شيخة عبشمية
ويجمع على أشياخ وشيوخ وشيخان، ومن أسماء الجموع مشيخة ومشيوخا. المجيد قال ابن الأعرابي: الرفيع. يقال: مجد يمجد مجدا ومجادة ومجد، لغتان أي كرم وشرف، وأصله من قولهم: مجدت الإبل تمجد مجدا شبعت. وقال: أمجدت الدابة أكثرت علفها، وقال أبو حية النميري:
* تزيد على صواحبها وليست
*
بماجدة الطعام ولا الشراب
*
237

أي: ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب. وقال الليث: أمجد فلان عطاء ومجده إذا كثره، ومن أمثالهم (في كل شجر نار) واستمجد المرخ والعفار أي استكثر من النار. وقال ابن عطية: مجد الشيء إذا حسنت أوصافه. الروع: الفزع قال الشاعر:
* إذا أخذتها هزة الروع أمسكت
*
بمنكب مقدام على الهول أروعا
*
والفعل راع يروع قال:
* ما راعني إلا حمولة أهلها
*
وسط الديار نسف حب الخمخم
*
وقال النابغة:
* فارتاع من صوت كلاب فبات له
*
طوع الشوامت من خوف ومن صرد
*
والروع بضم الراء النفس، لأنها موضع الروع. الذرع مصدر ذرع البعير بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، مأخوذ من الذراع، ثم وضع موضع الطاقة فقيل: ضاق به ذرعا. وقد يجعلون الذراع موضع الذراع قال:
إليك إليك ضاق بها ذرعا
وقيل: كنى بذلك عن ضيق الصدر. العصيب والعصبصب والعصوصب الشديد اللازم، الشر الملتف بعضه ببعض قال:
* وكنت لزاز خصمك لم أعدد
*
وقد سلكوك في يوم عصيب
*
قال أبو عبيدة: سمى عصيبا لأنه يعصب الناس بالشر، والعصبة والعصابة الجماعة المجتمعة كلمتهم، أو المجتمعون في النسب. وتعصبت لفلان وفلان معصوب أي: مجتمع الخلق. الإهراغ: قال شمر مشي بين الهرولة والجمز. وقال الهروي: هرع الرجل وأهرع استحث. الضيف: مصدر، وإذا أخبر به أو وصف لم يطابق في تثنية ولا جمع، هذا المشهور. وسمع فيه ضيوف وأضياف وضيفان. الركن: معروف وهو الناحية من البيت، أو الجبل. ويقال: ركن بضم الكاف، ويجمع على أركان وأركن. وركنت إلى فلان انضويت إليه. سرى وأسرى بمعنى واحد قاله أبو عبيدة والأهري، وعن الليث أسرى سار أو الليل، وسرى سار آخره، ولا يقال في النهار إلا سار. السجيل والسجين الشديد من الخجر قاله أبو عبيدة. وقال الفراء: طين طبخ حتى صار بمنزلة الآجر. وقيل: هو فارسي، وسنك
238

الحجر، وكل الطين يعرب فقيل: سجين. المنضود: المجمعول بعضه فوق بعض.
* (وإلى ثمود أخاهم صالحا قال ياقوم * قوم * اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربى) *: قرأ ابن وثاب والأعمش: وإلى ثمود بالصرف على إرادة الحي، والجمهور على منع الصرف ذهابا إلى القبيلة. أنشأكم اخترعكم وأوجدكم، وذلك باختراع آدم أصلهم، فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع. وقيل: من الأرض باعتبار الأصل المتولد منه النبات، المتولد منه الغذاء، المتولد منه المني ودم الطمث، المتولد منهما الإنسان. وقيل: من بمعنى في واستعمركم جعلكم عمارا. وقيل: استعمركم من العمر أي: استبقاكم فيها قاله الضحاك أي، أطال أعماركم. وقيل: من العمرى، قاله مجاهد: فيكون استعمر في معنى أعمر، كاستهلكه في معنى أهلكه. والمعنى: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم. أو بمعنى: جعلكم معمرين دياركم فيها، لأن من ورث داره من بعده فإنه أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره. وقال زيد بن أسلم: استعمركم أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه من بناء مساكن وغرس أشجار. وقيل: ألهمكم عمارتها من الحرث والغرس وحفر الأنهار وغيرها، إن ربي قريب أي: داني الرحمة، مجيب لمن دعاه. قد كنت فينا مرجوا. قال كعب: كانوا يرجوه للملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة. وعن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقال مقاتل: كانوا يرجعون رجوعه إلى دينهم، إذ كان يبغض أصنامهم، ويعدل عن دينهم، فلما أظهر إنذارهم انقطع رجاؤهم منه. وذكر الماوردي يرجون خيره، فلما أنذرهم انقطع رجاؤه خيره. وبسط الزمخشري هذا القول فقال: فينا فيما بيننا مرجوا كانت تلوح فيك مخايل الخير وجمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورا في الأمور مسترشدا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك، وعلمنا أن لا خير فيك انتهى. وقيل: لما كان قوى الخاطر، وكان من قبيلتهم، قوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ويقوي مذهبهم. وقال ابن عطية: والظاهر الذي حكاه الجمهور أن قوله: مرجوا مشورا، نؤمل فيك أن تكون سيدا سادا مسد الأكابر، ثم قرروه على التوبيخ في زعمهم بقولهم: أتنهانا. وحكى النقاش عن بعضهم أنه قال: معناه حقيرا، فإما أن يكون لفظ مرجو بمعنى حقير، فليس ذلك في كلام العرب، وإنما يتجه ذلك على جهة التفسير للمعنى، وذلك أن القصد بقولهم: مرجوا بقول: لقد كنت فينا سهلا مرامك، قريبا رد أمرك ممن لا يظن أن يستعجل من أمره مثل هذا. فمعنى مرجوا أي: مؤخرا اطراحه وغلبته. ونحو هذا فيكون ذلك على جهة الاحتقار، ولذلك فسر بحقير، ثم يجيء قولهم: أتنهانا، على جهة التوعد والاستبشاع لهذه المقالة منه انتهى. وما يعبد آباؤنا حكاية حال ماضية، وأنا وإننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال إننا أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين نا، فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال: أنا استثقل، اجتماعها، فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين انتهى. والذي أختاره أن نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وبقي منه حرف ساكن، وإنما المحذوفة النون الثانية أن فحذفت لاجتماع الأمثال، وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة، وهذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين، ولم يعهد حذف نون نا، فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو من لازم أراب الرجل إذا كان ذا ريبة، وأسند ذلك إلى الشك إسنادا مجازيا، ووجود مثل هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.
* (قال ياءادم * قوم * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى وءاتانى منه رحمة فمن ينصرنى من الله إن عصيته فما) *: تقدم الكلام في أرأيتم في قصة نوح، والمفعول الثاني هنا لا رأيتم محذوف يدل عليه قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته،
239

والتقدير: أعصيه في ترك ما أنا عليه من البينة. وقال ابن عطية: أرأيتم هو من رؤية القلب، والشرط الذي بعده وجوابه يسد مسد مفعولي علمت وأخواتها، وإدخال أداة الشرط التي هي إن على جملة محققة، وهي كان على بينة من ربه، لكنه خاطب الجاحدين للبينة فكأنه قال: قدروا أني على بينة من ربي وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي في أو أمره، فمن يمنعني من عذابه؟ قال ابن عطية: وفي الكلام محذوف تقديره: أيضرني شككم، أو أيمكنني طاعتكم، ونحو هذا مما يليق بمعنى الآية انتهى. وهذا التقدير الذي قدره استشعار منه بالمفعول الثاني الذي يقتضيه أرأيتم، وأن الشرط وجوابه لا يقعان ولا يسدان مسد مفعولي أرأيتم، والذي قدرناه نحن هو الظاهر لدلالة قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته، فما تزيدونني غير تخسير. قال الزمخشري: غير أن أخسركم أي أنسبكم إلى الخسران، وأقول أنكم خاسرون
انتهى. يفعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته أي: نسبته أي الفق والفجور. قال ابن عباس: معناه ما تزيدونني بعبادتكم إلا بصارة في خسرانكم انتهى. فهو على حذف مضاف أي: غير بصاوة تخسيركم. وقال مجاهد: ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان سألهم الإيمان. وقال ابن عطية: فما تعطوني فيما اقتضيته منكم من الإيمان غير تخسير لأنفسكم، وهو من الخسارة وليس التخسير إلا لهم، وفي حيزهم، وأضاف الزيادة إليه من حيث هو مقتض لأقوالهم موكل بإيمانهم كما تقول لمن توصيه: أنا أريدك خيرا وأنت تريدني سوأ، وكان الوجه البين أن يقول: وأنت تريد شرا، لكن من حيث كنت مريد خير، ومقتضى ذلك حسن أن يضيف الزيادة إلى نفسك انتهى. وقيل: التقدير فما تحملونني عليه، غير أني أخسركم أي: أرى منكم الخسران. وقيل: التقدير تخسروني أعمالكم وتبطلونها. قيل وهذا أقرب، لأن قوله: فمن ينصرني من الله إن عصيته كالدلالة على أنه أراد إن اتبعتكم فيما أنتم عليه ودعوتموني إليه لم أزدد إلا خسرانا في الدين، فأصبر من الهالكين الخاسرين. وانتصب آية على الحال، والخلاف في الناصب في نحو هذا زيد منطلقا، أهو حرف التنبيه؟ أو اسم الإشارة؟ أو فعل محذوف؟ جاز في نصب آية ولكم في موضع الحال، لأنه لو تأخر لكان نعتا لآية، فلما تقدم على النكرة كان حالا، والعامل فيها محذوف.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): فبم يتعلق لكم؟ (قلت): بآية حالا منها متقدمة، لأنها لو تأخرت لكان صفة لها، فلما تقدمت انتصب على الحال انتهى. وهذا متناقض، لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولا لآية، وإذا كان معمولا لها امتنع أن يكون حالا منها، لأن الحال تتعلق بمحذوف، فتناقض هذا الكلام، لأنه من حيث كونه معمولا لها كانت هي العاملة، ومن حيث كونه حالا منها كان العامل غيرها، وتقدم الكلام على الجمل التي بعد آية. وقرأت فرقة: تأكل بالرفع على الاستئناف، أو على الحال. وقريب عاجل لا يستأخر عن مسكموها بسوء إلا يسيرا، وذلك ثلاثة أيام، ثم يقع عليكم، وهذا الإخبار بوحي من الله تعالى فعقروها نسب إلى جميعهم وإن كان العاقر واحدا لأنه كان برضا منهم، وتمالؤا. ومعنى تمتعوا استمتعوا بالعيش في داركم في بلدكم، وتسمي البلاد الديار لأنها يدار فيها أي: يتصرف، يقال: ديار بكر لبلادهم قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: في داركم جمع دارة، كساحة وساح وسوح، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
* له داع بمكة مشمعل
*
وآخر فوق دارته ينادي
*
ويمكن أن يسمي جميع مسكن الحي دارا انتهى. ذلك أي: الوعد بالعذاب غير مكذوب، أي صدق حق. والأصل غيره مكذوب فيه، فاتسع فحذف الحرف وأجرى الضمير مجرى المفعول به، أو جعل غير مكذوب لأنه وفى به فقد صدق، أو على أن المكذوب هنا مصدر عند من يثبت أن المصدر يجيء على زنة مفعول.
* (فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين ءامنوا معه برحمة منا ومن خزى يومئذ إن ربك هو القوى العزيز وأخذ (سقط: الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم) *
240

(سقط: جائمين كأن، لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود) والكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة قوم هود. قيل: الواو زائدة في ومن أي من خزي يومئذ فيتعلق من بنجينا، وهذا لا يجوز عند البصريين، لأن الواو لا تزاد عندهم بل تتعلق من بمحذوف أي: ونجيناهم من خزي، أي وكانت التنجية من خزي يومئذ. وقرأ طلحة وأبان بن تغلب: ومن خزي بالتنوين، ونصب يومئذ على الظرف معمولا لخزي. وقرأ الجمهور بالإضافة، وفتح الميم نافع والكسائي، وهي فتحة بناء لإضافته إلى إذ، وهو غير متمكن. وقرأ باقي السبعة بكسر الميم وهي حركة إعراب، والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي: ومن فضيحة يوم إذ جاء الأمر وحل بهم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة انتهى. وهذا ليس مجيد، لأن التنوين في إذ تنوين العوض ولم يتقدم إلا قوله، فلما جاء أمرنا ولم تتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها، فيكون هذا التنوين عوضا من الجملة التي تكون في يوم القيامة. وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز، فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام، والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الأعراف ألا إن ثمود، منع حمزة وحفص صرفه، وصرفه الباقون، لثمود صرفه الكسائي، ومنعه باقي السبعة.
* (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ * فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف * إننا * أرسلنا إلى قوم لوط * وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب * قالت ياأيها * ياويلتا ءألد وأنا عجوز وهاذا بعلى شيخا إن هاذا لشىء عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) *: تقدم أن ترتيب قصص هذه السورة كترتيب قصص الأعراف، وإنما أدرج شيئا من أخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط، لأن له مدخلا في قصة لوط، وكان إبراهيم بن خالة لوط. والرسل هنا الملائكة، بشرت إبراهيم بثلاث بشائر: بالولد، وبالخلة، وبإنجاء لوط ومن آمن معه. قيل: كانوا اثنى عشر ملكا، روى ذلك عن ابن عباس. وقال السدي: أحد عشر، وحكى صاحب الغنيان عشرة منهم جبريل. وقال الضحاك: تسعة، وقال محمد بن كعب: ثمانية، وحكى الماوردي: أربعة، وقال ابن عباس وابن جبير: ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل. وقال مقاتل: جبريل، وميكائيل، وملك الموت. وروي: أن جبريل عليه السلام كان مختصا بإهلاك قوم لوط، وميكائيل ببشرى إبراهيم بإسحاق عليهما السلام، وإسرافيل بإنجاء لوط ومن آمن معه. قيل: وكانت الملائكة جردا مردا على غاية من الحسن والجمال والبهجة، ولهذا يضرب بهم المثل في الحسن كما قال تعال حكاية عما قيل في يوسف: * (ما هاذا بشرا إن هاذا إلا ملك كريم) * وقال الغزي:
* قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
*
حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
*
وانتصب سلاما على إضمار الفعل أي: سلمنا عليك سلاما، فسلاما قطعه معمولا للفعل المضمر المحكى بقالوا، قال ابن عطية: ويصح أن يكون سلاما حكاية لمعنى ما قالوا، لا حكاية للفظهم، قاله: مجاهد، والسدي. ولذلك عمل فيه القول، كما تقول لرجل قال: لا إله إلا الله قلت: حقا وإخلاصا، ولو حكيت لفظهم لم يصح أن يعمل فيه القول انتهى. ويعني لم يصح أن يعمل في لفظهم القول، يعني في اللفظ، وإن كان ما لفظوا به في موضع المفعول للقول. وسلام خبر مبتدأ محذوف أي: أمري أو أمركم سلام، أو مبتدأ محذوف الخبر أي: عليكم سلام، والجملة محمية وإن كان حذف منها أحد جزءيها كما قال:
241

إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
أي طعمه طعم مدامة.
وقرأ الإخوان قال: سلم، والسلم السلام كحرم وحرام، ومنه قول الشاعر:
* مررنا فقلنا ايه سلم فسلمت
*
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح
*
اكتل اتخذ إكليلا. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالسلم ضد الحرب تقول: نحن سلم لكم انتهى. ونصب سلاما يدل على التجدد، ورفع سلام يدل على الثبوت والاستقرار، والأقرب في إعراب فما لبث أن تكون ما نافية، ولبث معناه تأخر وأبطأ، وأن جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه قاله: الفراء. وجوزوا أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل، وأن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن، وبفي، وجعل بعضهم أن بمعنى حتى حكاه ابن العربي. وأن تكون ما مصدرية، وذلك المصدر في موضع رفع بالابتداء، وأن تكون بمعنى الذي أي: فلبثه، أو الذي لبثه، أو الذي لبثه، والخبر أن جاء على حذف أي: قدر مجيئه، وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى. وكان مال إبراهيم البقر، فقدم أحسن ما فيه وهو العجل. قال مجاهد: حنيذ مطبوخ، وقال الحسن: نضج مشوي سمين يقطر ودكا. وقال السدي: سمين، وقيل: سميط لا يصل إليه، أي إلى العجل. والمعنى: لا يمدون أيديهم إلى أكله، فلم ينف الوصول الناشئ عن المدبل، جعل عدم الوصول استعارة عن امتناعهم من الأكل. نكرهم أي أنكرهم قال الشاعر:
* وأنكرتني وما كان الذي نكرت
*
من الحوادث إلا الشيب والصلعا. وقيل: نكر فيما يرى، وأنكر فيما لا يرى من المعاني، فكأن الشاعر قال: وأنكرت مودتي ثم جاءت بنكر الشيب والصلع مما يرى بالبصر. ومنه قول أبي ذؤيب:
*
فنكرنه فنفرن وامترست به
هو جاء هادية وهاد جرشع
*
وروي أنهم كانوا ينكثون بقداح كانت بأيديهم في اللحم ولا تصل أيديهم إليه، وينبغي أن ينظر من الضيف هل يأكل أولا ويكون بتلفت ومسارعة، لا بتحديد النظر، لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل. قيل: كان إبراهيم عليه السلام ينزل في طرف من الأرض مخافة أن يريدوا به مكروها. وقيل: كانت عادتهم إذا مس من يطرقهم طعامهم أمنوا وإلا خافوه. قال الزمخشري: ويظهر أنه أحس بأنهم ملائكة ونكرهم، لأنه تخوف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله عليه، أو لتعذيب قومه. ألا ترى إلى قولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيما أرسلوا. قال مقاتل: فأوجس وقع في قلبه. وقال الحسن: حدث به نفسه، قيل: وأصل الوجوس الدخول، فكان الخوف دخل عليه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر، وكان مشغوفا بإكرام الأضياف، فلذلك جاؤوا في صورهم، ولمسارعته إلى إحضار الطعام إليهم، ولأن امتناع الملائكة من الأكل لا يدل على حصول الشر، وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فنهوه عن شيء وقع في نفسه، وعرفوا خيفته بكون الله جعل لهم من الاطلاع ما لم يجعل لغيرهم كقوله تعالى: * (يعلمون ما تفعلون) * وفي الحديث
242

الصحيح: * (قالت الملئكة * ربى * رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة) * الحديث، أو بما يلوح في صفحات وجه الخائف. وامرأته قائمة جملة من ابتداء وخبر قال الحوفي وأبو البقاء: في موضع الحال، قال أبو البقاء: من ضمير الفاعل في أرسلنا، يعني المفعول الذي لم يسم فاعله، والزمخشري يسميه فاعلا لقيامه مقام الفاعل. وقال الحوفي: والتقدير أرسلنا إلى قوم لوط في حال قيام امرأته، يعني امرأة إبراهيم. والظاهر أنه حال من ضمير قالوا أي: قالوا لا إبراهيم لا تخف في حال قيام
امرأته وهي سارة بنت هاران بن ناخور وهي ابنة عمه، قائمة أي: لخدمة الأضياف، وكانت نساؤهم لا تحتجب كعادة الأعراب، ونازلة البوادي والصحراء، ولم يكن التبرج مكروها، وكانت عجوزا، وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق قاله: مجاهد. وجاء في شريعنا مثل هذا من حديث أبي أسيد الساعدي: وكانت امرأته عروسا، فكانت خادمة الرسول ومن حضر معه من أصحابه. وقال وهب: كانت قائمة وراء الستر تسمع محاورتهم. وقال ابن إسحاق: قائمة تصلي. وقال المبرد: قائمة عن الولد. قال الزمخشري: وفي مصحف عبد الله وامرأته قائمة وهو قاعد. وقال ابن عطية: وفي قراءة ابن مسعود: وهي قائمة وهو جالس. ولم يتقدم ذكر امرأة إبراهيم فيضمر، لكنه يفسره سياق الكلام.
قال مجاهد وعكرمة: فضحكت حاضت. قال الجمهور: هو الضحك المعروف. فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه، يقال: أتيت على روضة تضحك أي مشرقة. وقيل: هو حقيقة. فقال مقاتل: وروي عن ابن عباس ضحكت من شدة خوف إبراهيم وهو في أهله وغلمانه. والذين جاؤه ثلاثة، وهي تعهده يغلب الأربعين، وقيل: المائة. وقال قتادة: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم. وقال السدي: ضحكت من إمساك الأضياف عن الأكل وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا، وهم لا يأكلون طعامنا. وقال وهب بن منبه: وروي عن ابن عباس: ضحكت من البشارة بإسحاق، وقال: هذا مقدم بمعنى التأخير. وذكر ابن الأنباري أن ضحكها كان سرورا بصدق ظنها، لأنها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك ابن أخيك لوطا وكان أخاها، فإنه سينزل العذاب بقومه. وقيل: ضحكت لما رأت من المعجز، وهو أن الملائكة مسحت العجل الحنيذ فقام حيا يطفر، والذي يظهر والله أعلم أنهم لما لم يأكلوا، وأوجس في نفسه خيفة بعدما نكر حالهم، لحق المرأة من ذلك أعظم ما لحق الرجل. فلما قالوا: لا تخف، وذكروا سبب مجيئهم زال عنه الخوف وسر، فلحقها هي من السرور إن ضحكت، إذ النساء في باب الفرح والسرور أطرب من الرجال وغالب عليهن ذلك. وقد أشار الزمخشري إلى طرف من هذا فقال: ضحكت سرورا بزوال الخيفة. وذكر محمد بن قيس سببا لضحكها تركنا ذكره لفظاعته، يوقف عليه في تفسير ابن عطية: وقرأ محمد بن زياد الأعرابي رجل من قراء مكة: فضحكت بفتح الحاء. قال المهدوي: وفتح الحاء غير معروف، فبشرناها هذا موافق لقوله تعالى: ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى، والمعنى: فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق، وبأن إسحاق سيلد يعقوب. قال ابن عطية: أضاف فعل الملائكة إلى ضمير اسم الله تعالى، إذ كان ذلك بأمره ووحيه. وقال غيره: لما ولد لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام من هاجر تمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست لكبر سنها، فبشرت بولد يكون نبيا وبلد نبيا، فكان هذا بشارة لها بأن ترى ولد ولدها. وإنما بشروها دونه، لأن المرأة أعجل فرحا بالولد، ولأن إبراهيم قد بشروه وأمنوه من خوفه، فأتبعوا بشارته ببشارتها. وقيل: خصت بالبشارة حيث لم يكن لها ولد، وكان لإبراهيم عليه السلام ولده إسماعيل.
والظاهر أن وراء هنا ظرف استعمل اسما غير ظرف بدخول من عليه كأنه قيل: ومن بعد إسحاق، أو من خلف إسحاق، وبمعنى بعد، روي عن ابن عباس واختاره مقاتل وابن قتيبة، وعن ابن عباس أيضا: أن الوراء ولد الولد، وبه قال الشعبي: واختاره أبو عبيدة. وتسميته وراء هي قريبة من معنى وراء الظرف، إذ هو ما يكون خلف الشيء وبعده. فإن قيل: كيف يكون يعقوب وراء لإسحاق وهو ولده لصلبه، وإنما الوراء ولد الولد؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري فقال:
243

المعنى ومن الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإبراهيم من جهة إسحاق، فلو قال: ومن الوراء يعقوب، لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس انتهى. وبشرت من بين أولاد إسحاق بيعقوب، لأنها رأته ولم تر غيره، وهذه البشارة لسارة كانت وهي بنت تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقيل: كان بينهما غير ذلك، وهي أقوال متناقضة.
وهذه الآية تدل على أن إسماعيل هو الذبيح، لأن سارة حين أخدمها الملك الجبار هاجر أم إسماعيل كانت شابة جميلة، فاتخذ إبراهيم هاجر سرية، فغارت منها سارة، فخرج بها وبابنها إسماعيل من الشام على البراق، وجاء من يومه مكة، وانصرف إلى الشام من يومه، ثم كانت البشارة بإسحاق وسارة عجوز محالة، وسيأتي الدليل على ذلك أيضا من سورة والصافات. ويجوز أن يكون الله سماها حالة البشارة بهذين الاسمين، ويجوز أن يكون الإسمان حدثا لها وقت الولادة، وتكون البشارة بولد ذكر بعده ولد ذكر، وحالة الإخبار عن البشارة ذكرا باسمها كما يقول المخبر: إذا بشر في النوم بولد ذكر فولد له ولد ذكر فسماه مثلا عبد الله: بشرت بعبد الله. وقرأ الحرميان، والنحويان، وأبو بكر يعقوب: بالرفع على الابتداء ومن وراء الخبر كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب كائن، وقدره الزمخشري مولود أو موجود. قال النحاس: والجملة حال داخلة في البشارة أي: فبشرناها بإسحاق متصلا به يعقوب. وأجاز أبو علي أن يرتفع بالجار والمجرور، كما أجازه الأخفش أي: واستقر لها من وراء إسحاق يعقوب. وقالت فرقة: رفعه على القطع بمعنى ومن وراء إسحاق يحدث يعقوب. وقال النحاس: ويجوز أن يكون فاعلا بإضمار فعل تقديره: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب. قال ابن عطية: وعلى هذا لا تدخل البشارة انتهى. ولا حاجة إلى تكلف القطع والعدول عن الظاهر المقتضى للدخول في البشارة.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص، وزيد بن علي: يعقوب بالنصب. قال الزمخشري: كأنه قيل ووهبنا له إسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب على طريقة قوله: ليسوا مصلحين عشيرة، ولا ناعب، انتهى. يعني أنه عطف على التوهم، والعطف على التوهم لا ينقاس، والأظهر أن ينتصب يعقوب بإضمار فعل تقديره: ومن وراء إسحاق وهبنا يعقوب، ودل عليه قوله: فبشرناها لأن البشارة في معنى الهبة، ورجح هذا الوجه أبو علي ومن ذهب إلى أنه مجرور معطوف على لفظ بإسحاق، أو على موضعه. فقوله ضعيف، لأنه لا يجوز الفصل بالظرف أو المجرور بين حرف العطف ومعطوفه المجرور، لا يجوز مررت بزيد اليوم وأمس عمرو، فإن جاء ففي شعر. فإن كان المعطوف منصوبا أو مرفوعا، ففي جواز ذلك خلاف نحو: قام زيد واليوم عمرو، وضربت زيدا واليوم عمرا والظهر أن الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة نحو: يا لهفا ويا عجبا، وأمال الألف من يا ويلتا عاصم وأبو عمرو والأعشى، إذ هي بدل من الياء. وقرأ الحسن: يا ويلتي بالياء على الأصل. وقيل: الألف ألف الندبة، ويوقف عليها بالهاء. وأصل الدعاء بالويل ونحوه في التفجع لشدة مكروه يدهم النفس، ثم استعمل بعد في عجب يدهم النفس. ويا ويلتا كلمة تخف
على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يعجبن منه، واستفهمت بقولها أألد استفهام إنكار وتعجب، وأنا عجوز وما بعده جملتا حال، وانتصب شيخا على الحال عند البصريين، وخبر التقريب عند الكوفيين. ولا يستغنى عن هذه الحال إذا كان الخبر عروفا عند المخاطب، لأن الفائدة إنما تقع بهذه الحال، أما إذا كان مجهولا عنده فأردت أن تفيد المخاطب ما كان يجهله، فتجيء الحال على بابها مستغنى عنها.
وقرأ ابن مسعود وهو في مصحفه والأعمش، شيخ بالرفع. وجوزوا فيه. وفي بعلي أن يكونا خيرين كقولهم: هذا حلو حامض، وأن يكون بعلى الخبر، وشيخ خبر محذوف، أو بدل من بعلي، وأن يكون بعلي بدلا أو عطف بيان، وشيخ الخبر. والإشارة بهذا إلى الولادة أو البشارة بها تعجبت من حدوث ولد بين شيخين هرمين، واستغربت ذلك من حيث العادة، لا إنكارا لقدرة الله تعالى. قالوا: أي الملائكة أتعجبين؟ استفهام إنكار لعجبها. قال الزمخشري: لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادة، فكان عليها أن تتوفر ولا يزدهيها ما
244

يزدهي سائر النساء في غير بيت النبوة، وأن تسبح الله وتمجده مكان التعجب. وإلى ذلك أشارت الملائكة في قولهم: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوة؟ فليست بمكان عجيب، وأمر الله قدرته وحكمته. وقوله: رحمة الله وبركاته عليكم كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإن أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من الله عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بني إسرائيل، لأن الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم انتهى. وقيل: رحمته تحيته، وبركاته فواضل خيره بالخلة والإمامة. وروي أن سارة قالت لجبريل عليه السلام: ما آية ذلك؟ فأخذ عودا بابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فسكن روعها وزال عجبها. وهذه الجملة المستأنفة يحتمل أن تكون خبرا وهو الأظهر، لأنه يقتضي حصول الرحمة والبركة لهم، ويحتمل أن يكون دعاء وهو مرجوح، لأن الدعاء إنما يقتضي أنه أمر يترجى ولم يتحصل بعد. وأهل منصوب على النداء، أو على الاختصاص، وبين النصب على المدح والنصب على الاختصاص فرق، ولذلك جعلهما سيبويه في بابين وهو أن المنصوب على المدح لفظ يتضمن بوضعه المدح، كما أن المنصوب على الذم يتضمن بوضعه الذم، والمنصوب على الاختصاص لا يكون إلا لمدح أو ذم، لكن لفظه لا يتضمن بوضعه المدح ولا الذم كقوله: بنا تميما يكشف الضباب. وقوله: ولا الحجاج عيني بنت ماء. وخطاب الملائكة أياها بقولهم: أهل البيت، دليل على اندراج الزوجة في أهل البيت، وقد دل على ذلك أيضا في سورة الأحزاب خلافا للشيعة إذ لا يعدون الزوجة من أهل بيت زوجها، والبيت يراد به بيت السكنى. إنه حميد: وقال أبو الهيثم تحمد أفعاله وهو بمعنى المحمود. وقال الزمخشري: فاعل ما يستوجب من عباده، مجيد كريم كثير الإحسان إليهم.
* (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا فى قوم لوط * إن إبراهيم لحليم أواه منيب * منيب * يإبراهيم أعرض عن هاذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم اتيهم عذاب غير مردود) * الروع الخيفة التي كان أو جسها في نفسها حين نكر أضيافه، والمعنى: اطمأن قلبه بعلمه أنهم ملائكة. والبشرى تبشيره بالولد، أو بأن المراد بمجيئهم غيره. وجواب لما محذوف كما حذف في قوله: * (فلما ذهبوا به) * وتقديره: اجترأ على الخطاب إذ فطن للمجادلة، أو قال: كيت وكيت. ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا، قال معناه الزمخشري. وقيل: الجواب يجادلنا وضع المضارع موضع الماضي، أي جادلنا. وجاز ذلك لوضوح المعنى، وهذا أقرب الأقوال. وقيل: يجادلنا حال من إبراهيم، وجاءته حال أيضا، أو من ضمير في جاءته. وجواب لما محذوف تقديره: قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا، واختار هذا التوجيه أبو علي. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ظل أو أخذ يجادلنا، فحذف اختصارا لدلالة ظاهر الكلام عليه. والمجادلة قيل: هي سؤاله العذاب واقع بهم لا محالة، أم على سبيل الإخافة ليرجعوا إلى الطاعة. وقيل: تكلما على سبيل الشفاعة، والمعنى: تجادل رسلنا. وعن حذيفة انهم لما قالوا له: إنا مهلكوا أهل هذه القرية قال: أرأيتم ان كان فيها خمسون من المسلمين، أتهكلونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، قال: فعشرون؟ قالوا: لا. قال: فإن كان فيهم عشرة أو خمسة شك الراوي؟ قالوا: لا. قال: أرأيتم
245

إن كان فيها رجل. واحد من المسلمين أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطا، قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجينه وأهله. وكان ذلك من إبراهيم حرصا على إيمان قوم لوط ونجاتهم، وكان في القرية أربعة آلاف ألف انسان وتقدم تفسير حليم وأواه ومنيب. يا إبراهيم أي: قالت الملائكة، والإشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شيء مفروغ منه، والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة. ولا مرد له بجدال، ولا دعاء، ولا غير ذلك. وقرأ عمرو بن هرم: وإنهم أتاهم بلفظ الماضي، وعذاب فاعل به عبر بالماضي عن المضارع لتحقق وقوعه كقوله * (أتى أمر الله) *.
* (ولما جاءت رسلنا لوطا سىء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هاذا يوم عصيب * وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم * قوم * هؤلاء بناتى هن أطهر لكم فاتقوا الله * تخزون فى ضيفى أليس منكم رجل رشيد * قالوا لقد علمت ما لنا فى بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد * قال لو أن لى بكم قوة أو اوى إلى ركن شديد) * خرجت الملائكة من قرية إبراهيم إلى قرية لوط وبنيهما قيل: ثمانية أميال. وقيل: أربعة فراسخ، فأتوها عشاء. وقيل: نصف النهار، ووجدوا لوطا في حرث له. وقيل: وجدوا ابنته تستقي ماء في نهر سدوم، وهي أكبر حواضر قوم لوط، فسألوها الدلالة على من يضيفهم، ورأت هيئتهم فخافت عليهم منقوم لوط وقالت لهم: مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيفنا الليلة فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله انهم شر قوم في الأرض. وقد كان الله قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما قال هذه قال جبريل: هذه واحدة، وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات، ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سئ بهم أي: لحقه سوء بسببهم، وضاق ذرعه بهم، وقال: هذا يوم عصيب أي شديد، لما كان يتخوفه من تعدى قومه على أضيافه. وجاءه قومه يهرعون إليه، لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحدا لا أهل بيته، فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: إن
لوطا قد أضاف الليلة فتية ما رؤي مثلهم جمالا وكذا وكذا، فحينئذ جاؤوا يهرعون أي: يسرعون، كما يدفعون دفعا فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه. وقرأ الجمهور: يهرعون مبنيا للمفعول من أهرع أي يهرعهم الطمع. وقرأت فرقة: يهرعون بفتح الياء من هرع. وقال مهلهل:
* فجاؤوا يهرعون وهم أسارى
*
يقودهم على رغم الأنوف
*
ومن قبل كانوا يعملون السيئة أي: كان ذلك ديدنهم وعادتهم، أصروا على ذلك ومرنوا عليه، فليس ذلك بأول انشاء هذه المعصية، جاؤوا يهرعون لا يكفهم حياء لضراوتهم عليها، والتقدير في ومن قبل أي: من قبل مجيئهم. إلى هؤلاء الأضياف وطلبهم إياهم. وقيل: ومن قبل بعث لوط رسولا إليهم. وجمعت السيئات وإن كان المراد بها معصية اتيان الذكور، إما باعتبار فاعليها، أو باعتبار تكررها. وقيل: كانت سيآت كثيرة باختلاف أنواعها، منها اتيان الذكور، واتيان النساء في غير المأتي، وحذف الحصا، والحيق في المجالس والأسواق، والمكاء، والصفير، واللعب بالحمام، والقمار، والاستهزاء بالناس في الطرقات، ووضع درهم على الأرض وهم بعيدون منه فمن أخذه صاحوا عليه وخجلوه، وإن أخذه صبي تابعوه وراودوه. هؤلاء بناتي: الأحسن أن تكون الإضافة مجازية، أي: بنات قومي، أي البنات أطهر لكم، إذا لنبي يتنزل منزلة الأب لقومه. وفي قراءة ابن مسعود: * (النبى أولى
246

بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) * وهو أب لهم ويدل عليه أنه فيما قيل: لم يكن له الابنتان، وهذا بلفظ الجمع. وأيضا فلا يمكن أن يزوج ابنتيه من جميع قومه. وقيل: أشار إلى بنات نفسه وندبهم إلى النكاح، إذ كان من سنتهم تزويج المؤمنة بالكافر. أو على أن في ضمن كلامه أن يؤمنوا. وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه زغورا وزيتا. وقيل: كن ثلاثا.
ومعنى أطهر: أنظف فعلا. وقيل: أحل وأطهر بيتا ليس أفعل التفضيل، إذ لا طهارة في اتيان الذكور. وقرأ الجمهور: أطهر بالرفع والأحسن في الإعراب أن يكون جملتان كل منهما مبتدأ وخبر. وجوز في بناتي أن يكون بدلا، أو عطف بيان، وهن فصل وأطهر الخبر. وقرأ الحسن، وزيد بن علي، وعيسى بن عمر، وسعيد بن جبير، ومحمد بن مروان السدي: أطهر بالنصب. وقال سيبويه: هو لحن. وقال أبو عمرو بن العلاء: احتبي فيه ابن مروان في لحنه يعني: تربع. ورويت هذه القراءة عن مروان بن الحكم، وخرجت هذه القراءة على أن نصب أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدأ، وبناتي هن مبتدأ وخبر في موضع خبر هؤلاء، وروي هذا عن المبرد. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن مبتدأ ولكم خبره، والعامل قيل: المضمر. وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر، وهن فصل، وأطهر حال. ورد بأن الفصل لا يقع إلا بين جزءي الجملة، ولا يقع بين الحال وذي الحال. وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه عن العرب، لكنه قليل. ثم أمرهم بتقوى الله في أن يؤثروا البنات على الأضياف. ولا تخزون: يحتمل أن يكون من الخزي وهو الفضيحة، أو من الخزاية وهو الاستحياء، لأنه إذا خزي ضيف الرجل أو جاره فقد خزي هو، وذلك من عراقة الكرم وأصل المروءة أليس منكم رجل يهتدي إلى سبيل الحق وفعل الجميل، والكف عن السوء؟ وفي ذلك توبيخ عظيم لهم، حيث لم يكن منهم رشيد البتة. قال ابن عباس: رشيد مؤمن. وقال أبو مالك: ناه عن المنكر. ورشيد ذو رشد، أو مرشد كالحكيم بمعنى المحكم، والظاهر أن معنى من حق من نصيب، ولا من غرض ولا من شهوة، قالوا له ذلك على وجه الخلاعة. وقيل: من حق، لأنك لا ترى منا كحتنا، لأنهم كانوا خطبوا بناته فردهم، وكانت سنتهم إن من رد في خطبة امرأة لم تحل له أبدا. وقيل: لما اتخذوا اتيان الذكران مذهبا كان عندهم أنه هو الحق، وإن نكاح الإناث من الباطل. وقيل: لأن عادتهم كانت أن لا يتزوج الرجل منهم إلا واحدة، وكانوا كلهم متزوجين. وإنك لتعلم ما نريد يعني: من اتيان الذكور، ومالهم فيه من الشهوة. قال: لو أن لي بكم قوة، قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو محذوف كما حذف في: * (ولو أن قرانا سيرت به الجبال) * وتقديره: لفعلت بكم وصنعت والمعنى في إلى ركن شديد: من يستند إليه ويمتنع به من عشيرته، شبه الذي يمتنع به بالركن من الجبل في شدته ومنعته، وكأنه امتنع عليه أن ينتصر ويمتنع بنفسه أو بغيره مما يمكن أن يستند إليه. وقال الحوفي، وأبو البقاء: أو آوي عطف على المعنى تقديره: أو أني آوي. والظاهر أن أو عطف جملة فعلية، على جملة فعلية إن قدرت إني في موضع رفع على الفاعلية على ما ذهب إليه المبرد أي: لو ثبت أن لي بكم قوة، أو آوي. ويكون المضارع المقدر وآوى هذا وقعا موقع الماضي، ولو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره نقلت المضارع إلى الماضي، وإن قدرت أن وما بعدها جملة اسمية على مذهب سيبويه فهي عطف عليها من حيث أن لو تأتي بعدها الجملة المقدرة اسمية إذا كان الذي ينسبك إليها أن ومعمولاها. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون أو آوي مستأنفا انتهى. ويجوز على رأي الكوفيين أن تكون أو بمعنى بل، ويكون قد أضرب عن الجملة السابقة وقال: بل آوى في حالي معكم إلى ركن شديد، وكنى به عن جناب الله تعالى. وقرأ شيبة، وأبو جعفر: أو آوي بنصب الياء بإضمار أن بعد، أو فتتقدر بالمصدر عطفا على قوله: قوة. ونظيره من النصب بإضمار أن بعد أو قول الشاعر:
247

* ولولا رجال من رزام أعزة
*
وآل سبيع أو يسوؤك علقما
*
أي أو ومساءتك علقما.
* (قالوا يأبانا * لوط إنا * رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من اليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما) *: روي أن لوطا عليه السلام غلبوه، وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل: تنح عن الباب فتنحى، وانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه، فطمس أعينهم وعموا، وانصرفوا على أعقابهم يقولون: النجاة النجاة، فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطا، فحينئذ قالوا له: إنا رسل ربك. وروي أن جبريل نقب من خصاص الباب، ورمى في أعينهم فعموا. وقيل: أخذ قبضة من تراب وأذراها في وجوههم، فأوصل إلى عين من بعد ومن قرب من ذلك التراب، فطمست أعينهم فلم يعرفوا طريقا ولم يهتدوا إلى بيوتهم. وقيل: كسروا بابه وتهجموا عليه، ففعل بهم جبريل ما فعل. والجملة من قوله: لن يصلوا إليك، موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لن يصلوا إليه، ولم يقدروا على ضرره، ثم أمروه بأن يسري بأهله. وقرأ الحرميان: فاسر، وإن أسر بوصل الألف من سرى، وباقي السبعة بقطعها، وأهله ابنتاه، وطائفة يسيرة من المؤمنين بقطع من الليل. قال ابن عباس: بطائفة من الليل، وقال الضحاك: ببقية من آخره، وقال قتادة: بعد مضي صدر منه، وقال ابن الأعرابي: أي ساعة من الليل، وقيل: بظلمة، وقيل: إنه نصف، وقيل: إنه نصف الليل مأخوذ من قطعه نصفين. وقال الشاعر:
* ونائحة تنوح بقطع ليل
*
على رجل بقارعة الصعيد
*
وقال محمد بن زياد: السحر، لقوله: نجيناهم بسحر. قال ابن عطية: ويحتمل أنه أسرى بأهله من أول الليل حتى جاوز البلد المقتلع، ووقعت نجاته بسحر. فتجتمع هذه الآية مع قوله * (إلا ال لوط نجيناهم بسحر) * انتهى.
وقال ابن الأنباري: القطع بمعنى القطعة، مختص بالليل، ولا يقال عندي قطع من الثوب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: إلا امرأتك بالرفع، وباقي السبعة بالنصب، فوجه النصب على أنه استثناء من قوله بأهلك، إذ قبله أمر، والأمر عندهم كالواجب. ويتعين النصب على الاستثناء من أهلك في قراءة عبد الله، إذ سقط في قراءته وفي مصحفه: ولا يلتفت منكم أحد. وجوزوا أن يكون منصوبا على الاستثناء من أحد وإن كان قبله نهى، والنهي كالنفي على أصل الاستثناء، كقراءة ابن عامر: ما فعلوه إلا قليلا منهم بالنصب، وإن كان قبله نفي. ووجه الرفع على أنه بدل من أحد، وهو استثناء متصل. وقال أبو عبيد: لو كان الكلام ولا يلتفت برفع الفعل، ولكنه نهى. فإذا استثنيت المرأة من أحد وجب أن تكون المرأة أبيح لها الالتفات، فيفيد معنى الآية يعني أن التقدير يصير إلا امرأتك، فإنها لم تنه عن الالتفات. قال ابن عطية: وهذا الاعتراض حسن يلزم أن الاستثناء من أحد رفعت التاء أو نصبت، والانفصال عنه يترتب بكلام محكي عن المبرد وهو أن النهي إنما قصد به لوط وحده، والالتفات منفي عنهم، فالمعنى: أن لا تدع أحدا منهم يلتفت. وهذا كما تقول لرجل: لا يقم من هؤلاء أحد، وأولئك لم يسمعوك، فالمعنى: لا تدع من هؤلاء يقوم، والقيام في المعنى منفى عن المشار إليهم.
وقال
248

الزمخشري: وفي إخراجها مع أهله روايتان: روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي، فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه، فأدركها حجر فقتلها. وروي أنه أمر بأن يخلفها مع قومها، وأن هواها إليهم، ولم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين انتهى. وهذا وهم فاحش إذ بنى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها، أو أنه لم يسر بها، وهذا تكاذب في الأخبار يستحيل أن تكون الفراءتان وهما من كلام الله تترتبان على التكاذب. وقيل في الاستثناء من الأهل إشكال من جهة المعنى، إذ يلزم أن لا يكون سري بها، ولما التفتت كانت قد سرت معهم قطعا، وزال هذا الإشكال أن يكون لم يسر بها، ولكنها لما تبعتهم التفتت. وقيل: الذي يظهر أن الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصد به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الأخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتك يجري لها كذا وكذا. ويؤيد هذا المعنى أن مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجر، وليس فيها استثناء البتة قال تعالى: فاسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون، فم تقع العناية في ذلك إلا بذكر من أنجاهم الله تعالى. فجاء شرح حال امرأته في سورة هود تبعا لا مقصودا بالإخراج مما تقدم، وإذا اتضح هذا المعنى علم أن القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، ففيه النصب والرفع. فالنصب لغة أهل الحجاز وعليه الأكثر، والرفع لبني تميم وعليه اثنان من القراء انتهى. وهذا الذي طول به لا تحقيق فيه، فإنه إذا لم يقصد إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهييين عن الالتفات، وجعل استثناء منقطعا كان الاستثناء المنقطع الذي لم يتوجه عليه العامل بحال، وهذا النوع من الاستثناء المنقطع يجب فيه النصب بإجماع من العرب، وليس فيه النصب والرفع باعتبار اللغتين، وإنما هذا في الاستثناء المنقطع، وهو الذي يمكن توجه العامل عليه. وفي كلا النوعين يكون ما بعد إلا من غير الجنس المستثنى منه، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنه مما يمكن أن يتوجه عليه العامل، وهو قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها عن المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، فكان يجب فيه إذذاك النصب قولا واحدا. والظاهر أن قوله ولا يلتفت، من التفات البصر. وقالت فرقة: من لفت الشيء يلفته إذا ثناه ولواه، فمعناه: ولا يتثبط. وفي كتاب الزهراوي أن المعنى: ولا يلتفت أحد إلى ما خلف بل يخرج مسرعا. والضمير في أنه ضميرالشأن، ومصيبها مبتدأ، وما أصابهم الخبر. ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون مصيبها خبر إن، وما أصابهم فاعل به، لأنهم يجيزون أنه قائم أخواك. ومذهب البصريين أن ضمير الشان لا
يكون خبره إلا جملة مصرحا بجزءيها، فلا يجوز هذا الإعراب عندهم.
وقرأ عيسى بن عمر: الصيح بضم الباء. قيل: وهي لغة، فلا يكون ذلك اتباعا وهو على حذف مضاف أي: إن موعد هلاكهم الصبح. ويروى أن لوطا عليه السلام قال: أريد أسرع من ذلك، فقالت له الملائكة: أليس الصبح بقريب؟ وجعل الصبح ميقاتا لهلاكهم، لأن النفوس فيه أودع، والراحة فيه أجمع. ويروى أن لوطا خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا، ووصل إلى إبراهيم عليهما السلام. والضمير في عاليها عائد على مدائن قوم لوط، جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة، ثم قلبها عليهم، وأتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن. وقيل: خمس عدها المفسرون، وفي ضبطها إشكال، فأهملت ذكرها. وسدوم في القرية العظمى، وأمطرنا عليها أي على أهلها. وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلتهم أجمعين، وأن رجلا كان في الحرم فبقي الحجر معلقا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر. قال أبو العالية، وابن زيد: السجيل اسم لسماء الدنيا، وهذا ضعيف لوصفه بمنضود، وتقدم شرحه في المفردات. وقيل: من أسجله إذا
249

أرسله، وقيل: مما كتب الله أن يعذب به من السجل، وسجل لفلان. ومعنى هذه اللفظة: ماء وطين، هذا قول: ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والسدي، وغيرهم. وذهبوا إلى أن الحجارة التي رموا بها كانت كالآجر المطبوخ. وقيل: حجر مخلوط بطين أي حجر وطين، ويمكن أن يعود هذا إلى الآجر. وقال أبو عبيدة: الشديد من الحجارة الصلب، مسومة عليها سيما يعلم بها أنها ليست من حجارة الأرض قاله: ابن جريج. وقال عكرمة وقتادة: إنه كان فيها بياض. وقيل: مكتوب على كل حجر اسم من رمى به، قاله الربيع. وعن ابن عباس، والحسن: بياض في حمرة. وعن ابن عباس أيضا: الحجر أبيض فيه نقطة سوداء، وأسود فيه نقطة بيضاء. وعن عكرمة وقتادة أيضا: فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. وقيل: وكانت مثل رؤوس الإبل، ومثل مبارك الإبل. وقيل: قبضة الرجل. قال ابن عباس ومقاتل: معنى من عند ربك، جاءت من عند ربك. وقيل: معدة عند ربك قاله: أبو بكر الهذلي. قال ابن الأنباري: المعنى لزم هذا التسويم الحجارة عند الله إيذانا بنفاذ قدرته وشدة عذابه. والظاهر أن ضمير هي عائد على القرى التي جعل الله أعاليها أسافلها، والمعنى: أن ذوات هذه المدن كانت بين المدينة والشام، يمر عليها قريش في مسيرهم، فالنظر إليه وفيها فيه اعتبار واتعاظ. وقيل: هي عائدة على الحجارة، وهي أقرب مذكور. وقال ابن عباس: وما عقوبتهم ممن يعمل عملهم ببعيد، والظاهر عموم الظالمين. وقيل: عنى به قريش. وفي الحديث: (إنه سيكون في أمتي خسف ومسخ وقذف بالحجارة) وقيل: مشركو العرب. وقيل: قوم لوط أي: لم تكن الحجارة تخطئهم. وفي الحديث: (سيكون في أواخر أمتي قوم يكتفي رجالهم بالرجال والنساء بالنساء فإذا كان كذلك فارتقبوا عذاب قوم لوط أن يرسل الله عليهم حجارة من سجيل ثم تلا وما هي من الظالمين ببعيد) وإذا كان الضمير في قوله: وما هي، عائد على الحجارة، فيحتمل أن يراد بشيء بعيد، ويحتمل أن يراد بمكان بعيد، لأنها وإن كانت في السماء وهي مكان بعيد إلا أنها إذا هويت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى، فكأنها بمكان قريب منه.
2 (* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنىأراكم بخير وإنىأخاف عليكم عذاب يوم محيط * وياقوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشيآءهم ولا تعثوا فى الا رض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين ومآ أنا عليكم بحفيظ * قالوا ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ أو أن نفعل فىأموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا ومآ أريد أن أخالفكم إلى مآ أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقىإلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * وياقوم لا يجرمنكم شقاقىأن يصيبكم مثل مآ أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربى رحيم ودود * قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك ومآ أنت علينا بعزيز * قال ياقوم أرهطىأعز عليكم من الله واتخذتموه ورآءكم ظهريا إن ربى بما تعملون محيط * وياقوم اعملوا على مكانتكم إنى عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إنى معكم رقيب * ولما جآء أمرنا نجينا شعيبا والذين ءامنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا فى ديارهم جاثمين * كأن لم يغنوا فيهآ ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود * ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملإيه فاتبعوا أمر فرعون ومآ أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود * ذالك من أنبآء القرى نقصه عليك منها قآئم وحصيد * وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جآء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب * وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الا خرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد * فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والا رض إلا ما شآء ربك عطآء غير مجذوذ) *)) *
250

الرهط: قال ابن عطية جماعة الرجل، وقيل: الرهط والراهط اسم لما دون العشرة من الرجال، ولا يقع الرهط والعصبة والنفر إلا على الرجال. وقال الزمخشري: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى التسعة، ويجمع على أرهط، ويجمع أرهط على أراهط، فهو جمع جمع. قال الرماني: وأصل الرهط الشد، ومنه الرهيط شدة الأكل، والراهط اسم لجحر اليربوع لأنه يتوثق به ويخبأ فيه ولده.
الورد قال ابن السكيت: هو ورود القوم الماء، والورد الإبل الواردة انتهى. فيكون مصدرا بمعنى الورود، واسم مفعول في المعنى كالطحن بمعنى المطحون.
رفد الرجل يرفده رفا ورفدا أعطاه وأعانه، من رفد الحائط دعمه، وعن الأصمعي الرفد بالفتح القدح، والرفد بالكسر ما في القدح من
251

الشراب. وقال الليث: أصل الرفد العطاء والمعونة، ومنه رفادة قريش يقال رفده يرفده رفدا ورفدا بكسر الراء وفتحها، ويقال بالكسر الاسم وبالفتح المصدر. التتبيب
التخسير، تب خسر، وتبه خسره. وقال لبيد:
* ولقد بليت وكل صاحب جدة
*
يبلى بعود وذاكم التتبيب
*
الزفير والشهيق: زعم أهل اللغة من الكوفيين والبصريين أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشهيق بمنزلة آخر نهيقه. وقال رؤبة:
* حشرج في الصدر صهيلا وشهق
*
حتى يقال ناهق وما نهق
*
وقال ابن فارس: الشهيق ضد الزفير، لأن الشهيق رد النفس، والزفير إخراج النفس من شدة الجري، مأخوذ من الزفر وهو الحمل على الظهر لشدته. وقال الشماخ:
* بعيد مدى التطريب أول صوته
*
زفير ويتلوه شهيق محشرج
*
والشهيق النفس الطويل الممتد، مأخوذ من قولهم: جبل شاهق أي طويل. وقال الليث: الزفير أن يملأ الرجل صدره حال كونه في الغم الشديد من النفس ويخرجه، والشهيق أن يخرج ذلك النفس بشدة يقال: إنه عظيم الزفرة.
الشقاء نكد العيش. وسوؤه. يقال منه: شقي يشقى شقاء وشقوة وشقاوة والسعادة ضده، يقال منه: سعد يسعد، ويعديان بالهمزة فيقال: أشقاه الله، وأسعده الله. وقد قرىء شقوا وسعدوا بضم الشين والسين، فدل على أنهما قد يتعديان. ومنه قولهم مسعود، وذكر أن الفراء حكى أن هذيلا تقول: سعده الله بمعنى أسعده. وقال الجوهري: سعد بالكسر فهو سعيد، مثل سلم فهو سليم، وسعد فهو مسعود. وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري: ورد سعده الله فهو مسعود، وأسعده الله فهو مسعد.
الجذ القطع بالمعجمة والمهملة. قال ابن قتيبة: جذذت وجددت، وهو بالذال أكثر. قال النابغة:
* تجذ السلوقي المضاعف يسجه
*
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
*
* (وإلى مدين أخاهم شعيبا قال ياقوم * قوم * اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إنى أراكم بخير وإنى أخاف عليكم عذاب يوم) *: كان قوم شعيب عبدة أوثان، فدعاهم إلى عبادة الله وحده. وبالكفر استوجبوا العذاب، ولم يعذب الله أمة عذاب استئصال إلا بالكفر، وإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة. قال ابن عباس: بخير أي: في رخص الأسعار وعذاب اليوم المحيط، هو حلول الغلاء المهلك. وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم): (ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق) ونبه بقوله بخير على العلة المقتضية للوفاء لا للنقص. وقال غيره: بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو بنعمة من الله حقها
252

أن تقابل بغير ما تفعلون، أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه. يوم محيط أي: مهلك من قوله: * (وأحيط بثمره) * وأصله من إحاطة العدو، وهو العذاب الذي حل بهم في آخره. ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب به، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه، كما إذا أحاط بنعيمه. ونهوا أولا: عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه وهو نقص المكيال والميزان، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهى وتعيير له. وأمروا ثانيا: بإيفائهما مصرحا بلفظهما ترغيبا في الإيفاء، وبعثا عليه. وجئ بالقسط ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية وهو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر منذوب إليه. ونهوا ثالثا: عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانت مما تكال وتوزن أو غير ذلك. ونهوا رابعا: عن الفساد في الأرض وهو أعم من أن يكون نقصا أو غيره، فبدأهم أولا بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله، ثم ارتقى إلى عام، ثم إلى أعم منه وذلك مبالغة في النصح لهم ولطف في استدراجهم إلى طاعة الله. وتفسير معاني هذه الجمل سبق في الأعراف. بقية الله قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد الإيفاء خير من البخس، وعنه رزق الله. وقال مجاهد والزجاج: طاعة الله. وقال قتادة: حظكم من الله. وقال ابن زيد: رحمة الله. وقال قتادة: ذخيرة الله. وقال الربيع: وصية الله. وقال مقاتل: ثواب الله في الآخرة، وذكر الفراء: مراقبة الله. وقال الحسن: فرائض الله. وقيل: ما أبقاه الله حلالا لكم ولم يحرمه عليكم. قال ابن عطية: وهذا كله لا
يعطيه لفظ الآية، وإنما المعنى عندي إبقاء الله عليكم إن أطعتم. وقوله: إن كنتم مؤمنين، شرط في أن يكون البقية خيرا لهم، وأما من الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال. وجواب هذا الشرط متقدم. والحفيظ المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب، والمعنى: إنما أنا مبلغ، والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال انتهى. وليس جواب الشرط متقدما كما ذكر، وإنما الجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين. وقال الزمخشري: وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان، ويجوز أن يريد ما يبقى لهم عند الله من الطاعات كقوله: * (والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا) * وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه، وأما الحرام فلا يجوز أن يضاف إلى الله، ولا يسمى رزقا انتهى، على طريق المعتزلة في الرزق، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة: بقية بتخفيف الياء. قال ابن عطية: هي لغة انتهى. وذلك أن قياس فعل اللازم أن يكون على وزن فعل نحو: سجيت المرأة فهي سجية، فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة. وقرأ الحسن: تقية بالتاء، وهي تقواه ومراقبته الصارفة عن المعاصي.
* (قالوا يأبانا * شعيب * بحفيظ * قالوا ياشعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد ءاباؤنا أو أن نفعل فى أموالنا ما نشؤا إنك لانت الحليم الرشيد * قال ياقوم أرءيتم إن كنت على بينة من ربى ورزقنى منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما) *: لما أمرهم شعيب بعبادة الله عبادة أوثانهم، وبإيفاء المكيال والميزان، ردوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزء بقولهم: أصلاتك، وكان كثير الصلاة، وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا أن نترك ما يعبد آباؤنا مقابل لقوله: * (اعبدوا الله ما لكم من إلاه غيره) * أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء مقابل لقوله: * (ولا تنقصوا المكيال والميزان) * وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز، كما كانت ناهية في قوله: * (اتل ما أوحى إليك من الكتاب) * أو يقال: إنها تأمر بالجميل والمعروف أي: تدعو إليه وتبعث عليه. إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز، وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته. والمعنى: فأمرك بتكليفنا أن نترك، فحذف
253

المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة. وقال الحسن: لم يبعث الله نبيا إلى فرض عليه الصلاة والزكاة. وقيل: أريد قراءتك. وقيل: مساجدك. وقيل: دعواتك. وقرأ ابن وثاب والأخوان وحفص: أصلاتك على التوحيد. وقرأ الجمهور: أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء بالنون فيهما. وقرأ الضحاك بن قيس، وابن أبي عبلة، وزيد بن علي: بالتاء فيهما على الخطاب، ورويت عن أبي عبد الرحمن. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة: نفعل بالنون، ما نشاء بالتاء على الخطاب، ورويت عن ابن عباس. فمن قرأ بالنون فيهما فقوله: أو أن نفعل معطوف على قوله: ما يعبد أي: أن نترك ما يعبد آباؤنا وفعلنا في أموالنا ما نشاء. ومن قرأ بالتاء فيهما أو بالنون فيهما فمعطوف على أن نترك أي: تأمرك بترك ما يعبد آباؤنا، وفعلك في أموالنا ما تشاء، أو وفعلنا في أموالنا ما تشاء. وأو للتنويع أي: تأمرك مرة بهذا، ومرة بهذا. وقيل: بمعنى الواو. والظاهر أن الذي كانوا يفعلونه في أموالهم هو بخس الكيل والوزن المقدم ذكره. وقال محمد بن كعب: قرضهم الدينار والدرهم، وإجراء ذلك مع الصحيح على جهة التدليس، وعن ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض. وقيل: تبديل السكك التي يقصد بها أكل أموال الناس. ومن قرأ بالتاء فيهما أو في نشاء، والظاهر أنه إيفاء المكيال والميزان. وقال سفيان الثوري: كان يأمرهم بالزكاة. وقوله: إنك لأنت الحليم الرشيد ظاهره أنه إخبار منهم عنه بهذين الوصفين الجميلين، فيحتمل أن يريدوا بذلك الحقيقة أي: أنك للمتصف بهذين الوصفين، فكيف وقعت في هذا الأمر من مخالفتك دين آبائنا وما كانوا عليه، ومثلك من يمنعه حلمه ورشده عن ذلك. أو يحتمل أن يريدوا بذلك إنك لأنت الحليم الرشيد بزعمك إذ تأمرنا بما تأمر به. أو يحتمل أن قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء والتهكم، قاله قتادة. والمراد: نسبته إلى الطيش والعي كما تقول للشحيح: لو رآك حاتم لسجد لك، وقالوا للحبشي: أبو البيضاء. قال: يا قوم أرأيتم إن كنت هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن، واستدعاء رقيق، ولذلك قال فيه رسول لله صلى الله عليه وسلم): (ذلك خطيب الأنبياء) وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان، وهو نوع لطيف غريب المغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض، وقد ورد منه في قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه، وفي قصة نوح وهود وصالح، وفي قصة مؤمن آل فرعون مع قومه.
قال الزمخشري: فإن قلت: أين جواب أرأيتم، وما له لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأن إثباته في الصفتين دل على مكانه، ومعنى الكلام يناوي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي، وكنت نبيا على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي، والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك انتهى. وتسمية هذا جوابا لأرأيتم ليس بالمصطلح، بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، لأن أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت إلى مفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية تنعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتك زيدا ما صنع. وقال الحوفي: وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه، والتقدير: فاعدل عن ما أنا عليه من عبادته على هذه الحال. وقال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله: إن كنت على بينة من ربي محذوف تقديره: أضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ الرسالة ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة انتهى. وليس قوله: أضل جوابا للشرط، لأنه إن كان مثبتا فلا يمكن أن يكون جوابا لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاما حذف منه الهمزة، فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف تدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها. والظاهر في قوله: رزقا حسنا أنه الحلال الطيب من غير بخس ولا تطفيف أدخلتموه أموالكم. قال ابن عباس: الحلال، وكان شعيب عليه السلام كثير المال. وقيل: النبوة. وقيل: العلم. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه المعنى: لست أريد أن أفعل الشيء الذي نهيتكم عنه من نقص الكيل والوزن واستأثر بالمال قاله: ابن عطية. وقال قتادة: لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه. وقال صاحب الغنيان: ما أريد أن أخالفكم في السر إلى ما أنهاكم عنه في العلانية. ويقال: خالفني فلان إلى كذا إذا
254

قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولي عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فتقول: خالفني إلى الماء، تريد أنه قد ذهب إليه
واردا، وأنا ذاهب عنه صادرا. والمعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لاستبد بها دونكم، فعلى هذا الظاهر أن قوله: أن أخالفكم في موضع المفعول لا ريد، أي وما أريد مخالفتكم، ويكون خالف بمعنى خلف نحو: جاوز وجاز أي: وما أريد أن أخلفكم أي: أكون خلفا منكم. وتتعلق إلى باخالفكم، أو بمحذوف أي: مائلا إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال بعضهم: فيه حذف يقتضيه إلى تقديره: وأميل إلى، أو يبقى أن أخالفكم على ظاهر ما يفهم من المخالفة، ويكون في موضع المفعول به بأريد، وتقدر: مائلا إلى، أو يكون أن أخالفكم مفعولا من أجله، وتتعلق إلى بقوله وما أريد بمعنى، وما أقصد أي: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية أي مدة استطاعتي للإصلاح، وما دمت متمكنا منه لا آلوا فيه جهدا. وأجاز الزمخشري في ما وجوها أحدها: أن يكون بدلا من الإصلاح أي: المقدر الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، فهذان وجهان في البدل. والثالث: أن يكون مفعولا كقوله:
ضعيف النكاتة أعداءه. أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم، وهذا الثالث ضعيف، لأن المصدر المعرف بأل لا يجوز إعماله في المفعول به عند الكوفيين، وأما البصريون فإعماله عندهم فيه قليل.
وما توفيقي أي لدعائكم إلى عبادة الله وحده، وترك ما نهاكم عنه إلا بموعونة الله. أو وما توفيقي لأن تكون أفعالي مسددة موافقة لرضا الله لا بمعونته، عليه توكلت لا على غيره، وإليه أنيب أرجع في جميع أقوالي وأفعالي. وفي هذا طلب التأييد من الله تعالى، وتهديد للكفار وحسم لأطماعهم أن ينالوه بشر. ومعنى لا يجرمنكم: لا يكسبنكم شقاقي، أي خلافي وعداوتي. قال السدي: كأنه في شق وهم في شق. وقال الحسن: ضراري جعله من المشقة. وقيل: فراقي. وقرأ ابن وثاب والأعمش: بضم الياء من أجرم، ونسبها الزمخشري إلى ابن كثير، وجرم في التعدية مثل كسب يتعدى إلى واحد. جرم فلان الذنب، وكسب زيد المال، ويتعدى إلى اثنين جرمت زيدا الذنب، وكسبت زيدا المال. وبالألف يتعدى إلى اثنين أيضا، أجرم زيد عمرا الذنب، وأكسبت زيدا المال، وتقدم الكلام في جرم في العقود. وقرأ مجاهد، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ورويت عن نافع: مثل بفتح اللام، وخرج على وجهين: أحدهما: أن تكون الفتحة فتحة بناء، وهو فاعل كحاله حين كان مرفوعا، ولما أضيف إلى غير متمكن جاز فيه البناء، كقراءة من قرأ أنه لحق مثل ما أنكم تنطقون. والثاني: أن تكون الفتحة فتحة إعراب، وانتصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي: إصابة مثل إصابة قوم نوح. والفاعل مضمر يفسره سياق الكلام أي: إن يصيبكم هو أي العذاب. وما قوم لوط منكم ببعيد، إما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم، إذ هم أقرب الهالكين، وإما في الكفر والمعاصي وما يستحق به الهلاك. وأجرى بعيدا على قوم إما باعتبار الزمان أو المكان، أي: بزمان بعيد، أو بمكان بعيد. أو باعتبار موصوف غيرهما أي: بشيء بعيد، أو باعتبار مضاف إلى قوم أي: وما إهلاك قوم لوط. ويجوز أن يسوي في قريب وبعيد وكثير وقليل بين المفرد والجمع، وبين المذكر والمؤنث، كما قالوا: هو صديق، وهم صديق، وهي صديق، وهن صديق. وودود بناء مبالغة من ود الشيء أحبه وآثره، وهو على فعل. وسمع الكسائي: وددت بفتح العين، والمصدر ودود بناء مبالغة ود الشيء أحبه وآثره، وهو على فعل. وسمع الكسائي. وددت بفتح العين، والمصدر ود وداد وودادة. وقال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون ودود فعول بمعنى مفعول. وقال المفسرون: ودود متحبب إلى عباده بالإحسان إليهم. وقيل: محبوب المؤمنين ورحمته لعباده، ومحبته لخم سبب في استغفارهم وتوبتهم، ولولا ذلك ما وفقهم إلى استغفاره والرجوع إليه، فهو يفعل بهم فعل الواد بمن يوده من الإحسان إليه.
255

كانوا لا يلقون إليه أذهانهم، ولا يصغون لكلامه رغبة عنه وكراهة له كقوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * أو كانوا يفهمونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه، أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدري ما تقول، أو جعلوا كلامه هذيانا وتخليطا لا يتفهم كثير منه، وكيف لا يتفهم كلامه وهو خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ثم الذي جاورهم به من الكلام وخاطبهم به هو من أفصح الكلام وأجله وأدله على معانيه بحيث يفقهه من كان بعيدا لفهم، فضلا عن الأذكياء العقلاء، ولكن الله تعالى أراد خذلانهم. ومعنى ضعيفا: لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منه إن أردناك بمكروه، وعن الحسن: ضعيفا مهينا. وقيل: كان ناحل البدن زمنه لا يقع في القلب منه هيبة ولا في العين منه امتلاء، والعرب تعظم بكبر الأجسام، وتذم بدمامتها. وقال الباقر: مهجورا لا تجالس ولا تعاشر. وقال مقاتل: ضعيفا أي لم يؤمن بك رهطك. وقال السدي: وحيدا في مذهبك واعتقادك. وقال ابن جبير وشريك القاضي: ضعيفا ضرير البصر أعمى. وحكى الزهراوي والزمخشري: أن حمير تسمي الأعمى ضعيفا، ويبعده تفسيره هنا بأعمى أو بناحل البدن أو بضعيف البصر كما قاله الثوري. وزعم أبو وق: أن الله لم يبعث نبيا أعمى، ولا نبا به زماتة، بل الظاهر أنه ضعيف الانتصار والقدرة. ولولا رهطك احترموه لرهطه إذ كانوا كفارا مثلهم، أو كان في عزة ومنعة منهم لرجمناك. ظاهره القتل بالحجارة، وهي من شر القتلات، وبه قال ابن زيد، وقال الطبري: رجمناك بالسب، وهذا أيضا تستعمله العرب ومنه: * (لارجمنك واهجرنى مليا) * وقيل: لأبعدناك وأخرجناك من أرضنا. وما أنت علينا بعزيز أي: لا تعز ولا تكرم حتى نكرمك من القتل، ونرفعك عن الرجم. وإنما يعز علينا رهطك لأنهم من أهل ديننا لم يحتاجوك علينا. وقيل: بعزيز بذي منعة، وعزة منزلة في نفوسنا. وقيل: بذي غلبة. وقيل: بملك، وكانوا يسمون الملك عزيزا. قال الزمخشري: وقد دل إيلاء ضميره حرف النفي على أن الكلام واقع في الفاعل، لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم: أرهطي أعز عليكم من الله؟ ولو قيل: وما عززمت علينا لم يصح هذا الجواب. (فإن قلت): فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: أرهطي أعز عليكم من الله؟ (قلت): تهاونهم به وهو نبي الله تهاون بالله فحين عز عليهم رهطه دونه، كان رهطه أعز عليهم من الله. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * انتهى. والظاهر في قوله: واتخذتموه، أن الضمير عائد على الله تعالى أي: ونسيتموه وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به. والظهري بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب، ونظيره قولهم في النسب إلى الأمس أمسى بكسر الهمزة
، ولما خاطبوه خطاب الإهانة والجفاء جريا على عادة الكفار مع أنبيائهم، خاطبهم خطاب الاستعطاف والتلطف جريا على عادته في إلا أنه القول لهم، والمعنى: أعز عليكم من الله حتى جعلتم مراعاتي من أجلهم ولم يسندوها إلى الله، وأنا أولى وأحق أن أراعي من أجله، فالمراعاة لأجل الخالق أعظم من المراعاة لأجل المخلوق، والظهري المنسي المتروك الذي جعل كأنه خلف الظهر. وقيل:
256

الضمير في واتخذتموه به عائد على الشرع الذي جاء شعيب عليه السلام. وقيل: الظهري العون وما يتقوى به. قال المبرد: فالمعنى واتخذتم العصيان عنده لدفعي انتهى. فيكون على حذف مضاف أي: واتخذتموه أي عصيانه. قال ابن عطية: وقالت فرقة: واتخذتموه أي وأنتم متخذون الله سند ظهوركم وعماد آمالكم. فقول الجمهور: على أن كفر قوم شعيب كان جحدا بالله وجهلا به، وهذا القول الثاني على أنهم كانوا يقرون بالخالق الرازق ويعتقدون الأصنام وسائط ووسائل، ومن اللفظة الاستظهار بالبينة. وقال ابن زيد: الظهري الفضل، مثل الحمل يخرج معه بابل ظهارية يعدها إن احتاج إليها، وإلا فهي فضلة. محيط أحاط بأعمالكم فلا يخفى عليه شيء منها، وفي ضمنه توعد وتهديد، وتقدم تفسير نظير قوله: * (لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم) * وخلاف القراء في مكانتكم. وجوز الفراء، والزمخشري: في من يأتيه أن تكون موصولة مفعولة بقوله: تعلمون أي: تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب، واستفهامية في موضع رفع على الابتداء، وتعلمون معلق كأنه قيل: أين يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب. قال ابن عطية: والأول أحسن، يعني كونها مفعولة قال: لأنها موصولة، ولا يوصل في الاستفهام، ويقضي بصلتها إن المعطوفة عليها موصولة لا محالة انتهى. وقوله: ويقضي بصلتها الخ لا يقضي بصلتها، إذ لا يتعين أن تكون موصولة لا محالة كما قال، بل تكون استفهامية إذا قدرتها معطوفة على من الاستفهامية، كما قدرناه وأينا هو كاذب.
قال الزمخشري: (فإن قلت): أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في سوف تعلمون؟ (قلت): أدخال الفاء وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها وصل خفي تقديري بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا، وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، يوصل تارة بالفاء، وتارة بالاستئناف، كما هو عادة البلغاء من العرب. وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. قال الزمخشري: (فإن قلت): قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول من يأتيه عذاب يجزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. (قلت): القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يعدونه كاذبا قال: ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم انتهى. وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب، والذي قاله ليس بقياس، لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه، ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله: سوف تعلمون، إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم، وأعمل على مكانتي، ولا سوف تعلمون. واعلم أن التهديد مختص بهم. واستسلف الزمخشري قوله: قد ذكر عملهم على مكانتهم، وعمله على مكانته، فبنى على ذلك سؤالا فاسدا، لأن المترتب على ما ليس مذكورا لا يصح البتة، وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد، ونظيره في سورة تنزيل: * (فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم) *، فهذا جاء بالنبة للمخاطبين في قوله: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم كما جاء هنا، وارتقبوا: انتظروا العاقبة، وما أقول لكم. والرقيب بمعنى الراقب فعيل للمبالغة، أو بمعنى المراقب كالعشير والجليس، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع، ويحسن هذا مقابلة فارتقبوا.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما بال ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو والساقتان الوسطيان بالفاء؟ (قلت): قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد وذلك قوله: * (إن موعدهم الصبح) * * (ذالك وعد غير مكذوب) * فجيء بالفاء التي للتسبب كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت، وأما الأخريان فلم يقعا بتلك المنزلة، وإنما وقعتا مبتدأتين، فكان حقهما أن يعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما؟ كما تعطف قصة على قصة انتهى. وتقدم تفسير مثل ولما جاء أمرنا إلى قوله كان لم يغنوا فيها. وقرأ السلمي وأبو حيوة: كما بعدت بضم العين من البعد الذي هو ضد القرب، والجمهور بكسرها، أرادت العرب التفرقة بين البعد من جهة الهلاك، وبين غيره، فغيروا البناء وقراءة السلمي جاءت على الأصل اعتبار المعنى البعد من غير تخصيص كما يقال: ذهب فلان، ومضى في معنى القرب.
257

وقيل: معناه بعدا لهم من رحمة الله كما بعدت ثمود منها. وقال ابن قتيبة: بعد يبعد إذا كان بعده هلكة، وبعد يبعد إذ أتاني. وقال النحاس: المعروف في اللغة بعد يبعد بعدا وبعدا إذا هلك. وقال المهدوي: بعد يستعمل في الخير والشر، وبعد في الشر خاصة. وقال ابن الأنباري: من العرب من يسوي بين الهلاك والبعد الذي هو ضد القرب، فيقول فيهما بعد يبعد، وبعد يبعد. وقال مالك بن الريب: في بعد بمعنى هلك؛
* يقولون لا تبعدوهم يدفنونني
*
وأين مكان البعد إلا مكانيا
*
وبعد الفلان دعاء عليه، ولا يدعى به إلا على مبغض كقولك: سحقا للكافرين. وقال أهل علم البيان: لم يرد في القرآن استطراد إلا هذا الموضع، والاستطراد قالوا: هو أن تمدح شيئا أو تذمه، ثم تأتي في آخر الكلام بشيء هو غرضك في أوله. قال حسان:
* إن كنت كاذبة الذي حدثتني
*
فنجوت منجى الحرث بن هشام
*
* ترك الأحبة أن يقاتل دونهم
*
ونجا برأس طمرة ولجام
*
* (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون * وملإيه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد * يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود * وأتبعوا فى هاذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) *: الآيات المعجزات التسع: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ومنهم من أبدل النقص بإظلال الجبل. وقيل: الآيات التوراة، وهذا ليس بسديد، لأنه قال إلى فرعون وملائه، والتوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون وملائه. والسلطان المبين هو الحجج الواضحة، ويحتمل أن يريد بقوله: وسلطان مبين فيها أي في الآيات، وهي دالة على صدق موسى عليه السلام. ويحتمل أن يريد بها العصا لأنها أبهر تلك الآيات، فنص عليها كما نص على جبريل وميكائيل بعد ذكر الملائكة على سبيل التشريف بالذكر. والظاهر أن يراد بقوله: أمر فرعون أمره إياهم بالكفر وجحد معجزات موسى، ويحتمل أن يريد الطريق والشان. وما أمر فرعون برشيد: نفى عنه الرشد، وذلك تجهيل لمتبعيه حيث شايعوه على أمره، وهو ضل مبين لا يخفى على من فيه أدنى مسكة من العقل. وذلك أنه ادعى الإلهية وهو بشر مثلهم. عاينوا الآيات والسلطان المبين في أمر موسى عليه السلام، وعلموا أن معه الرشد والحق، ثم عدلوا عن اتباعه إلى اتباع من ليس في اتباعه رشد. ويحتمل أن يكون رشيد بمعنى راشد، ويكون رشيد بمعنى مرشد أي بمرشد إلى خير. وكان فرعون دهريا نافيا للصانع والمعاد، وكان يقول: لا إله للعالم، وإنما يجب على أهل كل بلد أن يشتغلوا بطاعة سلطانهم، فلذلك كان أمره خاليا عن الرشد بالكلية. والرشد يستعمل في كل ما يحمد ويرتضى، والغي ضده. ويقال: قدم زيد القوم يقدم قدما، وقدوما تقدمهم والمعنى: أنه يقدم قومه المغزقين إلى النار، وكما كان قدوة في الضلال متبعا كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه، ويحتمل أن يكون قوله: برشيد بحميد، العاقبة، ويكون قوله: يقدم قومه، تفسيرا لذلك وإيضاحا أي: كيف يرشد أمر من هذه عاقبته؟ وعدل عن قبوردهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة، فكأنه قد وقع، ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف. أو هو ماض حقيقة أي: فأوردهم في الدنيا النار أي: موجبه وهو الكفر. ويبعد هذا التأويل الفاء والورود في هذه الآية. ورود الخلود وليس بورود الإشراف على الشيء والإشفاء كقوله: * (ولما ورد ماء مدين) * ويحتمل أن تكون النار تصيبه على إعمال الثاني لأنه تنازعه يقدم
258

أي: إلى النار وفأوردهم، فأعمل الثاني وحذف معمول الأول. والهمزة في فأوردهم للتعدية، ورد يتعدى إلى واحد، فلما أدخلت الهمزة تعدى إلى اثنين، فتضمن واردا ومورودا. ويطلق الورد على الوارد، فالورد لا يكون المورود، فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم، فالتقدير: وبئس مكان الورد المورود ويعني به النار. فالورد فاعل ببئس، والمخصوص بالذم المورود وهي النار. ويجوز في إعراب المورود ما يجوز في زيد من قولك: بئس الرجل زيد، وجوز ابن عطية وأبو البقاء أن يكون المورود صفة للورد أي: بئس مكان الورد المورود النار، ويكون المخصوص محذوفا لفهم المعنى، كما حذف في قوله: * (فبئس المهاد) * وهذا التخريج يبتني على جواز وصف فاعل نعم وبئس، وفيه خلاف. ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز، وقال الزمخشري: والورد المورود الذي وردوه شبهه بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وشبه اتباعه بالواردة، ثم قيل: بئس الورد الذي يردونه النار، لأن الورد إنما يورد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنار ضده انتهى. وقوله: والورد المورود إطلاق الورد على المورود مجاز، إذ نقلوا أنه يكون صدرا بمعنى الورود، أو بمعنى الواردة من الإبل وتقديره: بئس الورد الذي يردونه النار، يدل على أن المورود صفة للورد، وأن المخصوص بالذم محذوف، ولذلك قدره النار. وقد ذكرنا أن ذلك يبتني على جواز وصف فاعل بئس ونعم. وقيل: التقدير بئس القوم المورود بهم هم، فيكون الورد عنى به الجمع الوارد، والمورود صفة لهم، والمخصوص بالذم الضمير المحذوف وهو هم، فيكون ذلك ذما للواردين، لإذ ما لموضع الورود. والإشارة بقوله: في هذه إلى الدنيا وقد جاء مصرحا بها في قصة هود، ودل عليها قوله: ويوم القيامة، لأنه الآخرة. فيوم معطوف على موضع في هذه، والمعنى: أنهم ألحقوا لعنة في الدنيا وفي الآخرة. قال الكلبي: في هذه لعنة من المؤمنين أو بالغرق، ويوم القيامة من الملائكة أو بالنار. وقال مجاهد: فلهم لعنتان، وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة، ويوم القيامة يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا، وقبح ارفاد آخر انتهى. وهذا لا يصح لأن هذا التأويل يدل على أن يوم القيامة معمول لبئس، وبئس لا يتصرف، فلا يتقدم معمولها عليها، فلو تأخر يوم القيامة صح كما قال الشاعر:
* ولنعم حشو الدرع أنت إذا
*
دعيت نزال ولج في الذعر
*
. وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود رفدهم، أي: بئس العون المعان، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له، وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطى انتهى. ويظهر من كلامه أن المرفود صفة للرفد، وأن المخصوص بالذم محذوف تقديره: رفدهم، وما ذكر من تفسيره أي بئس العون المعان هو قول
أبي عبيدة، وسمى العذاب رفدا على نحو قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع. وقال الكلبي: الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار.
* (ذالك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد * وما ظلمناهم ولاكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم ءالهتهم التى يدعون من دون الله من شىء لما جاء أمر) *: الإشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم، وما حل بهم من العفو، بات أي ذلك النباء بعض أنباء القرى. ويحتمل أن يعني بالقرى قرى أولئك المهلكين المتقدم ذكرهم، وأن يعني القرى عموما أي:
259

هذا النبأ المقصوص عليك هو ديدن المدن إذ كفرت، فدخل المدن المعاصرة. والضمير في منها عائد على القرى. قال ابن عباس: قائم وحصيد عامر كزغر وداثر، وهذا على تأويل عموم القرى. وقال قتادة وابن جريج: قائم الجدران ومنهدم، وهذا على تأويل خصوص القرى، وأنها قرى أولئك الأمم المهلكين، وقال الزمخشري: بعضها باق وبعضها عافى الأثر كالزرع القائم على ساقه، والذي حصد انتهى. وهذا معنى قول قتادة، قال قتادة: قائم الأثر ودارسه، جعل حصد الزرع كناية عن الفناء قال الشاعر:
* والناس في قسم المنية بينهم
*
كالزرع منه قائم وحصيد
*
. وقال الضحاك: قائم لم يخسف، وحصيد قد خسف. وقال ابن إسحاق: قائم لم يهلك بعد، وحصيد قد أهلك. وقيل: قائم أي باق نسله، وحصيد أي منقطع نسله. وهذا يتمشى على أن يكون التقدير ذلك من أنباء أهل القرى. وقد قيل: هو على حذف مضاف أي: من أنباء أهل القرى، ويؤيده قوله: وما ظلمناهم، فعاد الضمير على ذلك المحذوف. وقال الأخفش: حصيد أي محصود، وجمعه حصدى وحصاد، مثل: مرضى ومراض، وباب فعلى جمعا لفعيل بمعن مفعول، أن يكون فيمن يعقل نحو: قتيل وقتلى. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها انتهى. وقال أبو البقاء: منها قائم ابتداء، وخبر في موضع الحال من الهاء في نقصه، وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي: ومنها حصيد انتهى. وما ذكره تجوز أي: نقصه عليك وحال القرى ذلك، والحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي: نقص عليك بعض أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل الله بها. وما ظلمناهم أي: بإهلاكنا إياههم، بل وضعنا عليهم من العذاب ما يستحقونه، ولكن ظلموا أنفسهم بوضع الكفر موضع الإيمان، وارتكاب ما به أهلكوا. والظاهر أن قوله: فما أغنت، نفي أي، لم ترد عنهم من بأس الله شيئا ولا أجدت. يدعون حكاية حال أي: التي كانوا يدعون، أي يعبدون، أو يدعونها اللات والعزى وهبل. قال الزمخشري: ولما منصوب بما أغنت انتهى. وهذا بناء على أن لما ظرف، وهو خلاف مذهب سيبويه، لأن مذهبه أنها حرف وجوب لوجوب. وأمر ربك هو عذابه ونقمته. وما زادوهم عومل معاملة العقلاء في الإسناد إلى واو الضمير الذي هو لمن يعقل، لأنهم نزلوهم منزلة العقلاء في اعتقادهم أنها تنفع، وعبادتهم إياهم. والتتبيب التخسير. قال ابن زيد: الشر، وقال قتادة: الخسران والهلاك، وقال مجاهد: التخسير، وقيل: التدمير. وهذه كلها أقوال متقاربة. قال ابن عطية: وصورة زيادة الأصنام التتبيب، إنما هو يتصور بأن تأميلها والثقة بها والتعب في عبادتها شغلت نفوسهم عن النظر في الشرع وعاقبته، فلحق من ذلك عقاب وخسران. وأما بأن عذابهم على الكفر يزاد به عذاب على مجرد عبادة الأوثان.
* (وكذالك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهى ظالمة إن أخذه أليم شديد * إن فى ذالك لآية لمن خاف عذاب الاخرة ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود * وما نؤخره إلا لاجل معدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقى وسعيد) *: أي ومثل ذلك الأخذ أخذ الله الأمم السابقة أخذ ربك. والقرى عام في القرى الظالمة، والظلم يشمل ظلم الكفر وغيره. وقد يمهل الله تعالى بعض الكفرة. وأما الظلمة في الغالب فمعاجلون، وفي الحديث: (إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) ثم قرأ: وكذلك أخذ ربك إذا. وقرأ أبو رجاء والجحدري: وكذلك أخذ ربك، إذ أخذ على أن أخذ ربك فعل وفاعل، وإذ ظرف لما مضى، وهو إخبار عما جرب به عادة الله في
260

إهلاك من تقدم من الأمم. وقرأ طلحة بن مصرف: وكذلك أحذ ربك هذا أخذ. قال ابن عطية: وهي قراءة متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعة تعطي الوعيد واستمراره في الزمان، وهو الباب في وضع المستقبل موضع الماضي، والقرى مفعول بأخذ على الإعمال إذ تنازعه المصدر وهو: أخذ ربك، وأخذ، فاعمل الثاني وهي ظالمة جملة حالية إن أخذه أليم موجع صعب على المأخوذ. والأخذ هنا أخذ الإهلاك.
إن في ذلك أي: فيما قص الله من أخبار الأمم الماضية وإهلاكهم لآية لعلامة لمن خاف عذاب الآخرة، أي: إنهم إذا عذبوا في الدنيا لأجل تكذيبهم الأنبياء وإشراكهم بالله، وهي دار العمل فلأن يعذبوا على ذلك في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى، وذلك أن الأنبياء أخبروا باستئصال من كذبهم، وأشركوا بالله. ووقع ما أخبروا به وفق إخبارهم، فدل على أن ما أخبروا به من البعث والجزاء صدق لا شك فيه. قال الزمخشري: لآية لمن خاف لعبرة له، لأنه ينظر إلى ما أحل الله بالمجرمين في الدنيا، وما هو إلا أنموذج مما أعد لهم في الآخرة، فإذا رأى عظمته وشدته اعتبر به من عظيم العذاب الموعود فيكون له عظة وعبرة ولطفا في زيادة التقوى والخشية من الله ونحوه: * (إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى) * ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله: عذاب الآخرة، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مموع، وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ، ومجموع خبر مقدم، وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع، وقياسه على إعرابه مجموعون، ومجموع له الناس عبارة عن الحشر، ومشهود عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان في قول الجمهور.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): أي فائدة في أن أوثر اسم المفعول على فعله؟ (قلت): لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنه لا بد أن يكون ميعاد مضروبا لجمع الناس له، وأنه هو الموصوف بذلك صفة لازمة، وهو أثبت أيضا لإسناد الجمع إلى الناس وأنهم لا ينفكون منه، وفيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل. ومعنى مشهود، مشهود فيه، فاتسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به على السعة لقوله:
ويوما شهدناه سليما وعامرا
والمعنى: يشهد فيه الخلائق الموقف لا يغيب عنه أحد، ومنه قولهم لفلان: مجلس مشهود، وطعام محضور. وإنما لم يجعل اليوم مشهودا في نفسه كما قال: * (فمن شهد منكم الشهر) * لأن الغرض وصف ذلك اليوم بالهول والعظم وغيره من بين الأيام، وكونه مشهودا في نفسه لا يميزه، إذ هو موافق لسائر الأيام في كونها مشهودة. وما نؤخره أي: ذلك اليوم. وقيل: يعود على الجزاء قاله الحوفي، إلا لأجل معدود أي لقضاء سابق قد نفذ فيه بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. وقرأ الأعمش: وما يؤخره بالياء، وقرأ النحويان ونافع: يأتي بإثبات الياء وصلا، وحذفها وقفا، وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا، وهي ثابتة في مصحف أبي. وقرأ باقي السبعة بحذفها وصلا ووقفا، وسقطت في مصحف الإمام عثمان. وقرأ الأعمش يأتون، وكذا في مصحف عبد الله، وإثباتها وصلا ووقفا هو الوجه، ووجه حذفها في الوقف التشبيه بالفواصل، وقفا ووصلا التخفيف كما قالوا: لا أدر ولا أبال. وذكر الزمخشري أن الاجتزاء بالكسرة عن الياء كثير في لغة هذيل. وأنشد الطبري:
261

* كفاك كف ما يليق درهما
*
جود وأخرى تعط بالسيف الدما
*
والظاهر أن الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره وهو قوله: ذلك يوم، والناصب له لا تكلم، والمعنى: لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذن الله، وذلك من عظم المهابة والهول في ذلك اليوم. وهو نظير: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان) * هو ناصب كقوله: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * والمراد بإتيان اليوم إتيان أهواله وشدائده، إذ اليوم لا يكون وقتا لإتيان اليوم.
وأجاز الزمخشري أن يكون فاعل يأتي ضميرا عائدا على الله قال: كقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * * (أو يأتى ربك) * وجاء ربك، ويعضده قراءة وما يؤخره بالياء، وقوله: * (بإذنه) * وأجاز أيضا أن ينتصب يوم يأتي باذكر أو بالانتهاء المحذوف في قوله: إلا لأجل معدود، أي ينتهي الأجل يوم يأتي. وأجاز الحوفي أن يكون لا تكلم حالا من ضمير اليوم المتقدم في مشهود، أو نعتا لأنه نكره، والتقدير: لا تكلم نفس فيه يوم يأتي إلا بإذنه. وقال ابن عطية: لا تكلم نفس، يصح أن يكون جملة في موضع الحال من الضمير الذي في يأتي، وهو العائد على قوله ذلك يوم، ويكون على هذا عائد محذوف تقديره: لا تكلم نفس فيه إلا بإذنه. ويصح أن يكون قوله: لا تكلم نفس، صفة لقوله: يوم يأتي، أو يوم يأتي يراد به الحين والوقت لا النهار بعينه. وما ورد في القرآن من ذكر كلام أهل الموقف في التلازم والتساؤل والتجادل، فإما أن يكون بإذن الله، وإما أن يكون هذه مختصة هنا في تكلم شفاعة أو إقامة حجة انتهى. وكلامه في إعراب لا تكلم كأنه منقول من كلام الحوفي. وقيل: يوم القيامة يوم طويل له مواقف، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يؤذن لهم فيتكلمون، وفي بعضها يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم، والضمير في منهم عائد على الناس في قوله: مجموع له الناس. وقال الزمخشري: الضمير لأهل الموقف، ولم يذكروا إلا أن ذلك معلوم، ولأن قوله: لا تكلم نفس، يدل عليه، وقد مر ذكر الناس في قوله: مجموع له الناس. وقال ابن عطية فمنهم عائد على الجميع الذي تضمنه قوله: نفس، إذ هو اسم جنس يراد به الجميع انتهى. قال ابن عباس: الشقي من كتبت عليه الشقاوة، والسعيد الذي كتبت له السعادة. وقيل: معذب ومنعم، وقيل: محروم ومرزوق، وقيل: الضمي في منهم عائد على أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، ذكره ابن الأنباري.
* (فأما الذين شقوا ففى النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت * السماوات والارض * إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد * وأما الذين سعدوا ففى الجنة خالدين فيها ما دامت * السماوات والارض * إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ) * قال الضحاك ومقاتل والفراء: الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره، وروي عن ابن عباس، وقال أبو العالية والربيع بن أنس: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، وروي عن ابن عباس أيضا. وقال ابن السائب: الزفير زفير الحمار، والشهيق شهيق البغال. وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة، وما مصدرية ظرفية أي: مدة دوام السماوات والأرض، والمراد بهذا التوقيت التأييد كقول العرب: ما أقام ثبير وما لاح كوكب، وضعت العرب ذلك للتأييد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب، أو عدم فنائهما. وقيل: سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة لا بد، يدل على ذلك * (يوم تبدل الارض غير الارض) * وقوله: * (وعده وأورثنا الارض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * ولأنه لا بد لأهل الآخرة مما يقلهم ويظلمهم، إما سماء يخلقها الله، أو يظلهم العرش وكلما أظلك فهو سماء. وعن ابن عباس: إن السماوات والأرض في الآخرة يردان إلى النور الذي أخذتا منه
262

فهما دائمتان أبدا في نور العرش. والظاهر أن قوله: إلا ما شاء ربك استثناء من الزمان الدال عليه قوله: خالدين فيهما ما دامت السماوات والأرض. والمعنى: إلا الزمان الذي شاءه الله تعالى، فلا يكون في النار، ولا في الجنة، ويمكن أن يكون هذا الزمان المستثنى هو الزمان الذي يفصل الله بين الخلق يوم القيامة، إذا كان الاستثناء من الكون في النار والجنة، لأنه زمان يخلو فيه الشقي والسعيد من دخول النار أو الجنة. وأما إن كان الاستثناء من الخلود فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكون الزمان المستثنى، هو الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين الذين يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فليسوا خالدين في النار إذ قد أخرجوا منها
وصاروا في الجنة، وهذا روى معناه عن قتادة والضحاك وغيرهما، ويكون الذين شقوا شاملا للكفار وعصارة المسلمين. وأما بالنسبة إلى أهل الجنة فلا يتأتى منهم ما تأتى في أهل النار، إذ ليس منهم من يدخل الجنة ثم لا يخلد فيها، لكن يمكن ذلك باعتبار أن يكون أريد الزمان الذي فات أهل النار العصاة من المؤمنين، أو الذي فات أصحاب الأعراف، فإنهم بفوات تلك المدة التي دخل المؤمنون فيها الجنة وخلدوا فيها صدق على العصاة المؤمنين وأصحاب الأعراف أنهم ما خلدوا في الجنة تخليد من دخلها لأول وهلة، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستكن في الجار والمجرور، أو في خالدين، وتكون ما واقعة على نوع من يعقل، كما وقعت في قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * أو تكون واقعة على من يعقل على مذهب من يرى وقوعها على من يعقل مطلقا، ويكون المستثنى في قصة النار عصاة المؤمنين، وفي قصة الجنة هم، أو أصحاب الأعراف لأنهم لم يدخلوا الجنة لأول وهلة، ولا خلدوا فيها خلود من دخلها أول وهلة.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى الاستثناء في قوله: إلا ما شاء ربك، وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار في الآية من غير استثناء؟ (قلت): هو استثناء من الخلود في عذاب النار، ومن الخلود في نعيم أهل الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب النار وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب يساوي عذاب النار، وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم. وهكذا أهل الجنة لهم مع تبوء الجنة ما هو أكبر منها وأحل موقعا منهم، وهو رضوان الله تعالى. كما قال: * (وعد الله) * الآية إلى قوله: * (ورضوان من الله أكبر) * ولهم ما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة ما لا يعرف كنهه إلا هو، فهو المراد بالاستثناء، والدليل عليه قوله: عطاء غير مجذوذ. ومعنى قوله في مقابلته: إن ربك فعال لما يريد، أنه يفعل بأهل النار، ما يريد من العذاب، كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، فتأمله فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا يخدعنك عنه قول المجبرة: المراد بالاستثناء خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة، فإن الاستثناء الثاني ينادي على تكذيبهم ويسجل بافترائهم. وما ظنك بقوم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم لما روي لهم بعض الثوابت عن عبد الله بن عمرو بن العاص: ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد، وذلك عندما يلبثون فيها أحقابا. وقد بلغني أن من الضلال من اعتبر هذا الحديث، فاعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وهذا ونحوه والعياذ بالله من الخذلان المبين زادنا الله هداية إلى الحق ومعرفة بكتابه، وتنبيها عن أن نغفل عنه. ولئن صح هذا عن أبي العاص فمعناه يخرجون من النار إلى برد الزمهرير، فذلك خلو جهنم وصفق أبوابها انتهى. وهو على طريق الاعتزال في تخليد أهل الكبائر غير التائبين من المؤمنين في النار، وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل النار من كونهم لا يخدلون في عذاب النار، إذ ينتقلون إلى الزمهرير فلا يضيق عليهم أنهم خالدون في عذاب النار، فقد يتمشى. وأما ما ذكره من الاستثناء في أهل الجنة من قوله: خالدين، فلا يتمشى لأنهم مع ما أعطاهم الله من رضوانه، وما تفضل عليهم به منسوى ثواب الجنة، لا يخرجهم ذلك عن كونهم خالدين في الجنة، فلا يصح الاستثناء على هذا، بخلاف أهل النار فإنه لخروجهم من عذابها إلى الزمهرير يصح الاستثناء.
وقال ابن عطية: وأما قوله إلا ما شاء ربك، فقيل فيه:
263

إن ذلك على طريق الاستثناء الذي ندب الشرع إلى استعماله في كل كلام، فهو على نحو قوله: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله ءامنين) * استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشرط كأنه قال: إن شاء الله، فليس يحتاج أن يوصف بمتصل ولا منقطع. وقيل: هو استثناء من طول المدة، وذلك على ما روي أن جهنم تخرب ويعدم أهلها، وتخفق أبوابها، فهم على هذا يخدلون حتى يصير أمرهم إلى هذا، وهذا قول محيل. والذي روى ونقل عن ابن مسعود وغيره: أنها تخلو من النار إنما هو الدرك الأعلى المختص بعصاة المؤمنين، وهو الذي يسمى جهنم، وسمى الكل به تجوزا. وقيل: إلا بمعنى الواو، وفمعنى الآية: وما شاء الله زائدا على ذلك. وقيل: في هذه الآية بمعنى سوى، والاستثناء منقطع كما تقول: لي عندك ألفا درهم إلا الألف التي كنت أسلفتك، بمعنى سوى تلك الألف. فكأنه قال: خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض، سوى ما شاء الله زائدا على ذلك، ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا: عطاء غير مجذوذ، وهذا قول الفراء. وقيل: سوى ما أعد لهم من أنواع العذاب مما لا يعرف كالزمهرير. وقيل: استثناء من مدة السماوات والأرض التي فرطت لهم في الحياة الدنيا. وقيل: في البرزخ بين الدنيا والآخرة. وقيل: في المسافات التي بينهم في دخول النار إذ دخولهم إنما هو زمرا بعد زمر. وقيل: الاستثناء من قوله ففي النار، كأنه قال: إلا ما شاء ربك من تأخير قوم عن ذلك، وهذا قول رواه أبو نصرة عن جابر، أو عن أبي سعيد الخدري، ثم أخبر منبها على قدرة الله تعالى فقال: إن ربك فعال لما يريد انتهى. وقال أبو مجلز: إلا ما شاء ربك أن يتجاوز عنه بعذاب يكون جزاؤه الخلود في النار، فلا يدخله النار. وقيل: معنى إلا ما شاء ربك كما شاء ربك قيل: كقوله: * (ولا تنكحوا ما نكح ءاباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) * أي كما قد سلف. وقرأ الحسن: شقوا بضم الشين، والجمهور بفتحها. وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وابن وثاب، والأعمش، وحمزة، والكسائي، وحفص سعدوا بضم السين، وباقي السبعة والجمهور بفتحها. وكان علي بن سليمان يتعجب من قراءة الكسائي سعدوا مع علمه بالعربية، ولا يتعجب من ذلك إذ هي قراءة منقولة عن ابن مسعود ومن ذكرنا معه. وقد احتج الكسائي بقولهم: مسعود، قيل: ولا حجة فيه لأنه يقال: مكان مسعود فيه، ثم حذف فيه وسمى به، وقال المهدوي: من قرأ سعدوا فهو محمول على مسعود، وهو شاذ قليل لأنه لا يقال سعده الله، إنما يقال: أسعده الله. وقال الثعلبي: سعد وأسعد بمعنى واحد، وانتصب عطاء على المصدر أي: أعطوا عطاء بمعنى إعطاء كقوله: * (والله أنبتكم من الارض نباتا) * أي إنباتا. ومعنى غير مجذوذ: غير مقطوع، بل هو ممتد إلى غير نهاية.
2 (* (فلا تك فى مرية مما يعبد هاؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير * فاستقم كمآ أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير * ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أوليآء ثم لا تنصرون * وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن
السيئات ذالك ذكرى للذاكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون
264

عن الفساد فى الا رض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا مآ أترفوا فيه وكانوا مجرمين) *))
) *
الزلفة قال الليث: طائفة من أول الليل، والجمع الزلف، وقال ثعلب: الزلف أول ساعات الليل، واحدها زلفة. وقال أبو عبيدة، والأخفش، وابن قتيبة، الزلف ساعات الليل وآناؤه، وكل ساعة زلفة. وقال العجاج:
* ناح طواه الأين مما وجفا
*
طي الليالي زلفا فزلفا
*
سماؤه الهلال حتى احقوقنا
وأصل الكلمة من الزلفى وهي القربة، ويقال: أزلفه فازدلف أي قربه فاقترب، وأزلفني أدناني. الترف: النعمة، صبي مترف منعم البدن، ومترف أبطرته النعمة وسعة العيش. وقال الفراء: أترف عود الترفة وهي النعمة.
* (فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد ءاباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير) *: لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة، واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء، شرح للرسول صلى الله عليه وسلم) أحوال الكفار من قومه، وإنهم متبعو آبائهم كحال من تقدم من الأمم في اتباع آبائهم في الضلال. وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق، وأن ديدنهم كديدن الأمم الماضية في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج. وهذه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم)، وعدة بالانتقام منهم، إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة، والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة. والتشبيه في قوله: كما يعبد، معناه أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت، وقد بلغك ما نزل بأسلافهم، فسينزل بهم مثله. وما يعبد استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية، وما في مما وفي كما يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي. وقرأ الجمهور: لموفوهم مشددا من وفى، وابن محيصن مخففا من أوفى، والنصيب هنا قال ابن عباس: ما قدر لهم من خير ومن شر. وقال أبو العالية: من الرزق. وقال ابن زيد: من العذاب، وكذا قال الزمخشري قال: كما وفينا آباءهم أنصباءهم، وغير منقوص حال من نصيبهم، وهو عندي حال مؤكدة، لأن التوفية تقتضي التكميل.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف نصب غير منقوص حالا من النصيب الموفى؟ (قلت): يجوز أن يوفى وهو ناقص، ويوفى وهو كامل. ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه، وثلث حقه، وحقه كاملا وناقصا؟ انتهى وهذه مغلطة إذا قال: وفيته شطر حقه، فالتوفية وقعت في الشطر، وكذا ثلث حقه، والمعنى أعطيته الشطر أو الثث كاملا لم أنقصه منه شيئا. وأما قوله: وحقه كاملا وناقصا، أما كاملا فصحيح، وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الإكمال، وأما وناقصا فلا يقال لمنافاته التوفية. والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، والمعنى: والله أعلم قل يا محمد لكل من شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء، فإن الله لم يأمرهم بذلك، وإنما اتبعوا في ذلك آباءهم تقليدا لهم وإعراضا عن حجج العقول.
* (ولقد ءاتينا موسى الكتاب
265

فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم * لفى شك * مريب) *: لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوة الرسول والقرآن الذي أتى به، بين أن الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاخرة مع أنبيائهم، فليس ذلك ببدع من من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم)، وضرب لذلك مثلا وهو: إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها. والكتاب هنا التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض، كما اختلف هؤلاء في القرآن. والظاهر عود الضمير فيه على الكتاب لقربه، ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام. ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر. وجوز أن تكون في بمعنى على، أي: فاختلف عليه، وكان بنو إسرائيل أشد تعنتا على موسى وأكثر اختلافا عليه. وقد تقدم شرح: * (ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم) * والظاهر عود الضمير في بينهم على قوم موسى عليه السلام، إذ هم المختلفون فيه، أو في الكتاب. وقيل: يعود على المختلفين في الرسول من معاصريه. قال ابن عطية: وأن يعمهم اللفظ أحسن عندي، وهذه الجملة من جملة تسليته أيضا.
* (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير) *: الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر. وقال الزمخشري: التنوين عوض من المضاف إليه يعني: وإن كلهم، وإن جميع المختلفين فيه. وقال مقاتل: يعني به كفار هذه الأمة. وقرأ الحرميان وأبو بكر: وإن كلا بتخفيف النون ساكنة. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة: لما بالتشديد هنا وفي * (يس) * و * (الطارق) * وأجمعت السبعة على نصب كلا، فتصور في قراءتهم أربع قراآت: إحداها: تخفيف أن ولما، وهي قراءة الحرميين. والثانية: تشديدهما، وهي قراءة ابن عامر وحمزة وحفص. والثالثة: تخفيف إن وتشديد لما وهي قراءة أبي بكر. والرابعة: تشديد أن وتخفيف لما، وهي قراءة الكسائي وأبي عمرو. وقرأ أبي والحسن بخلاف عه، وإبان بن ثعلب وإن بالتخفيف كل بالرفع لما مشددا. وقرأ الزهري وسليمان بن أرقم: وإن كلا لما بتشديد الميم وتنوينها، ولم يتعرضوا لتخفيف إن ولا تشديدها. وقال أبو حاتم: الذي في مصحف أبي وإن من كل إلا ليوفينهم. وقرأ الأعمش: وإن كل إلا، وهو حرف
ابن مسعود، فهذه أربعة وجوه في الشاذ. فأما القراءة الأولى فأعمال أن مخففة كأعمالها مشددة، وهذا المسألة فيها خلاف: ذهب الكوفيون إلى أن تخفيف أن يبطل عملها، ولا يجوز أن تعمل. وذهب البصريون إلى أن إعمالها جائز، لكنه قليل إلا مع المضمر، فلا يجوز إلا أن ورد في شعر، وهذا هو الصحيح لثبوت ذلك في لسان العرب. حكى سيبويه أن الثقة أخبره أنه سمع بعض العرب أن عمر المنطلق، ولثبوت هذه القراءة المتواترة وقد تأولها الكوفيون. وأما لما فقال الفراء: فاللام فيها هي اللام الداخلة على خبر إن، وما موصولة بمعن الذي كما جاء: * (فانكحوا ما طاب لكم) * والجملة من القسم المحذوف وجوابه الذي هو ليوفينهم صلة، لما نحو قوله تعالى: * (وإن منكم لمن ليبطئن) * وهذا وجه حسن، ومن إيقاع ما على من يعقل قولهم: لا سيما زيد بالرفع، أي لاسي الذي هو زيد. وقيل: ما نكرة موصوفة وهي لمن يعقل، والجملة القسمية وجوابها قامت مقام الصفة، لأن المعنى: وإن كلا لخلق موفى عمله، ورجح الطبري هذا القول واختاره. وقال أبو علي: العرف أن تدخل لام الابتداء على الخير، والخبر هنا هو القسم وفيه لام تدخل على جوابه، فلما اجتمع اللامان والقسم محذوف، واتفقا في اللفظ، وفي تلقي القسم فصل بينهما بما كما فصلوا بين أن واللام انتهى. ويظهر من كلامه أن اللام في لما هي اللام التي تدخل في الخبر، ونص الحوفي على أنها لام إن، إلا أن المنقول عن أبي علي أن الخبر هو ليوفينهم، وتحريره ما ذكرنا وهو القسم وجوابه. وقيل: اللام في لما موطئة للقسم، وما مزيدة، والخبر الجملة القسمية وجوابها، وإلى هذا القول في التحقيق يؤول قول أبي علي. وأما القراءة الثانية فتشديد إن وإعمالها في كل واضح. وأما تشديد لما فقال المبرد: هذا لحن، لا تقول العرب إن زيدا لما خارج، وهذه جسارة من المبرد على عادته. وكيف تكون قراءة متواترة لحنا وليس تركيب الآية كتركيب المثال الذي قال: وهو أن زيدا لما خارج هذا المثال لحن، وأما في الآية فليس لحنا، ولو سكت وقال كما قال
266

الكسائي: ما أدري ما وجه هذه القراءة لكن قد وفق، وأما غير هذين من النحويين فاختلفوا في تخريجها. فقال أبو عبيد: أصله لما منونا وقد قرىء كذلك، ثم بني منه فعلى، فصار كتتري نون إذ جعلت ألفه للإلحاق كارطي، ومنع الصرف إذ جعلت ألف تأنيث، وهو مأخوذ من لممته أي جمعته، والتقدير: وإن كلا جميعا ليوفينهم، ويكون جميعا فيه معنى التوكيد ككل، ولا يقال لما هذه هي لما المنونة وقف عليها بالألف، لأنها بدل من التنوين، وأجرى الأصل مجرى الوقف، لأن ذلك إنما يكون في الشعر. وما قاله أبو عبيد بعيد، إذ لا يعرف بناء فعلى من اللم، ولما يلزم لمن أمال، فعلى أن يميلها ولم يملها أحد بالإجماع، ومن كتابتها بالياء ولم تكتب بها، وقيل: لما المشددة هي لما المخففة، وشددها في الوقف كقولك: رأيت فرحا يريد فرحا، وأجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا بعيد جدا، وروي عن المازني. وقال ابن جني وغيره: تقع إلا زائدة، فلا يبعد أن تقع لما بمعناها زائدة انتهى. وهذا وجه ضعيف مبني على وجه ضعيف في إلا. وقال المازني: إن هي المخفف ثقلت، وهي نافية بمعنى ما، كما خففت إن ومعناها المثقلة، ولما بمعنى إلا، وهذا باطل لأنه لم يعهد تثقيل إن النافية، ولنصب كل وإن النافية لا تنصب. وقيل: لما بمعنى إلا كقولك: نشدتك بالله لما فعلت، تريد إلا فعلت، وقاله الحوفي، وضعفه أبو علي قال: لأن لما هذه لا تفارق القسم انتهى. وليس كما ذكر، قد تفارق القسم. وإنما يبطل هذا الوجه، لأنه ليس موضع دخول إلا، لو قلت: إن زيدا إلا ضربته لم يكن تركيبا عربيا. وقيل: لما أصلها لمن ما، ومن هي الموصولة، وما بعدها زائدة، واللام في لما هي داخلة في خبر إن، والصلة الجملة القسمية، فلما أدغمت من في الزائدة اجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت الوسطى منهن وهي المبدلة من النون، فاجتمع المثلان، فأدغمت ميم من في ميم ما، فصار لما وقاله المهدوي. وقال الفراء، وتبعه جماعة منهم نصر الشيرازي: أصل لما لمن ما دخلت من الجارة على ما، كما في قول الشاعر:
* وإنا لمن ما يضرب الكبش ضربة
*
على رأسه تلقى اللسان من الفم
*
فعمل بها ما عمل في الوجه الذي قبله. وهذان الوجهان ضعيفان جدا لم يعهد حذف نون من، ولا حذف نون من إلا في الشعر، إذا لقيت لام التعريف أو شبهها غير المدغمة نحو قولهم: ملمال يريدون من المال.
*
وهذه كلها تخريجات ضعيفة جدا ينزه القرآن عنها. وكنت قد ظهر لي فيها وجه جار على قواعد العربية، وهو أن لما هذه هي لما الجارمة حذف فعلها المجزوم لدلة المعنى عليه، كما حذفوه في قولهم قاربت المدينة، ولما يريدون ولما أدخله. وكذلك هنا التقدير وإن كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل عليه قوله تعالى: ليوفينهم ربك أعمالهم، لما أخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم فقال: ليوفينهم ربك أعمالهم، وكنت اعتقدت إني سبقت إلى هذا التخريج السائغ العاري من التكلف وذكرت ذلك لبعض من يقرأ علي فقال: قد ذكر ذلك أبو عمرو وابن الحاجب، ولتركي النظر في كلام هذا الرجل لم أقف عليه، ثم رأيت في كتاب التحرير نقل هذا التخريج عن ابن الحاجب قال: لما هذه هي الجازمة حذف فعلها للدلالة عليه لما ثبت من جواز حذف فعلها في قولهم: خرجت ولما سافرت، ولما ونحوه، وهو سائغ فصيح، فيكون التقدير: لما يتركوا، لما تقدم من الدلالة عليه من تفصيل المجموعين في قوله: * (فمنهم شقى وسعيد) * ثم ذكر الأشقياء والسعداء ومجازاتهم، ثم بين ذلك بقوله: ليوفينهم ربك أعمالهم، قال: وما أعرف وجها أشبه من هذا، وإن كان النفوس تستبعده من جهة أن مثله لم يقع في القرآن.
وأما القراءة الثالثة والرابعة
267

فتخريجهما مفهوم من تخريج القراءتين قبلهما، وأما قراءة أبي ومن ذكر معه فإن نافية، ولما بمعنى إلا، والتقدير: ما كل إلا والله ليوفينهم. وكل مبتدأ الخبر الجملة القسمية وجوابها التي بعد لما كقراءة من قرأ * (وإن كل لما جميع) * * (إن كل نفس لما عليها حافظ) * ولا التفات إلى قول أبي عبيد والفراء من إنكارهما أن لما تكون بمعنى إلا. قال أبو عبيد: لم نجد هذا في كلام العرب، ومن قال هذا لزمه أن يقول: رأيت القوم لما أخاك يريد إلا أخاك، وهذا غيره موجود. وقال الفراء: أما من جعل لما بمعنى إلا، فإنه وحجه لا نعرفه، وقد قالت العرب مع اليمين بالله: لما قمت عنا، وإلا قمت عنا، فأما في الاستثناء فلم ننقله في شعر. ألا ترى أن ذلك لو جاز لسمع في الكلام: ذهب الناس لما زيدا؟ والقراءة المتواترة في قوله: وإن كل لما، وإن كل نفس لما، حجة عليهما. وكون لما بمعنى إلا نقله الخليل وسيبويه والكسائي، وكون العرب خصصت مجيئها ببعض التراكيب لا يقدح ولا يلزم اطرادها في باب الاستثناء، فكم من شيء خص بتركيب دون ما أشبهه. وأما قراءة الزهري، وابن أرقم: لما بالتنوين والتشديد، فلما مصدر من قولهم: لممت الشيء جمعته، وخرج نصبه على وجهين: أحدهما: أن يكون صفة لكلا وصف بالمصدر وقدر كل مضافا إلى نكرة حتى يصح الوصف بالنكرة، كما وصف به في قوله: * (أكلا لما) * وهذا تخريج أبي علي. والوجه الثاني: أن يكون منصوبا بقوله: ليوفينهم، على حد قولهم: قياما لأقومن، وقعودا لا قعدن، فالتقدير توفية جامعة لأعمالهم ليوفينهم. وهذا تخريج ابن جني وخبر إن على هذين الوجهين هو جملة القسم وجوابه. وأما ما في مصحف أبي فإن نافية، ومن زائدة. وأما قراءة الأعمش فواضحة، والمعنى: جميع ما لهم. قيل: وهذه الجملة تضمنت توكيدات بأن وبكل وباللام في الخبر وبالقسم، وبما إذا كانت زائدة، وبنون التوكيد وباللام قبلها وذلك مبالغة في وعد الطائع ووعيد العاصي، وأردف ذلك بالجملة المؤكدة وهي: أنه بما يعملون خبير. وهذا الوصف يقتضي علم ما خفي. وقرأ ابن هرمز: بما تعملون على الخطاب.
* (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) *: قال ابن عيينة وجماعة: معناه استقم على القرآن، وقال الضحاك: استقم بالجهاد، وقال مقاتل: امض على التوحيد، وقال جماعة: استقم على أمر ربك بالدعاء إليه، وقال جعفر الصادق: استقم في الأخبار عن الله بصحة العزم، وقال الزمخشري: فاستقم استقامة مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادة الحق غير عادل عنها. وقال ابن عطية: أمر بالاستقامة وهو عليها، وهو أمر بالدوام والثبوت. والخطاب للرسول وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة، فالمعنى: وأمرت مخاطبة تعظيم انتهى. وقيل: استفعل هنا للطلب أي: اطلب الإقامة على الدين، كما تقول: استغفر أي اطلب الغفران. ومن تاب معطوف على الضمير المستكن في فاستقم، وأغنى الفاصل عن التوكيد. ولا تطغوا قال ابن عباس: في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به. وقال ابن زيد: لا تعصوا ربكم. وقال مقاتل: لا تخلطوا التوحيد بالشك. وقال الزمخشري: لا تخرجوا عن حدود الله. وقرأ الحسن والأعمش: بما يعملون بالياء على الغيبة، ورويت عن عيسى الثقفي بصير مطلع على أعمالهم يراها ويجازى عليهتا.
* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) *: قال ابن عباس: معنى الركون الميل. وقال السدي، وابن زيد: لا تداهنوا الظلمة. وقال قتادة: لا تلحقوا بهم. وقال سفيان: لا تدنوا إلى الذين ظلموا. وقال أبو العالية: لا ترضوا أعمالهم، وقيل: لا تجالسوهم، وقال جعفر الصادق: إلى الذين ظلموا إلى أنفسكم فإنها ظالمة، وهذا شبيه بتفسير الباطنية. وقيل: لا تتشبهوا بهم. وقرأ الجمهور: تركنوا بفتح الكاف، والماضي ركن بكسرها، وهي لغة قريش. وقال الأزهري: هي اللغة الفصحى. وعن أبي عمرو: بكسر التاء على لغة تميم في مضارع علم غير الياء. وقرأ قتادة، وطلحة، والأشهب، ورويت عن أبي عمر: وتركنوا بضم الكاف ماضي ركن بفتحها، وهي لغة قيس وتميم، وقال الكسائي: وأهل نجد. وشد يركن بفتح الكاف، مضارع ركن بفتحها. وقرأ ابن أبي عبلة: ولا تركنوا مبنيا للمفعول من أركنه إذا أماله، والنهي متناول لانحطاط في هواهم، والانقطاع إليهم، ومصاحبتهم،
268

ومجالستهم، وزيارتهم، ومداهتنهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومدالعين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم. وتأمل قوله: ولا تركنوا، فإن الركون هو الميل اليسير. وقوله: إلى الذين ظلموا، أي الذين وجد منهم الظلم، ولم يقل الظالمين، قاله: الزمخشري. وقال ابن عطية: ومعناه السكون إلى الشيء والرضا به. قال أبو العالية: الركون الرضا. وقال ابن زيد: الركون الإدهان، والركون يقع في قليل هذا وكثيره. والنهي هنا يترتب من معنى الركون عن الميل إليهم بالشرك معهم إلى أقل الرتب، من ترك التعبير عليهم مع القدرة، والذين ظلموا هنا هم الكفرة، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي انتهى. وقال سفيان الثوري: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون الملوك. وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت، فقال: دعه يموت. وفي الحديث: (من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصي الله في أرضه) وكتب إلى الزهري حين خالط السلاطين أخ له في الدين كتابا طويلا قرعه فيه أشد التقريع، يوقف عليه في تفسير الزمخشري. وقرأ ابن وثاب، وعلقمة، والأعمش، وابن مصرف، وحمزة فيما روي عنه: فتمسكم بكسر التاء على لغة تميم، والمس كناية عن الإصابة. وانتصب الفعل في جواب النهي، والجملة بعدها حال. ومعنى من أولياء، من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه. ثم لا تنصرون قال الزمخشري: ثم لا ينصركم هو لأنه وجب في حكمته تعذيبكم، وترك الإبقاء عليكم. (فإن قلت): ما معنى؟ ثم قلت: معناها الاستبعاد، لأن النصرة من الله مستبعدة مع استيجابهم العذاب وقضاء حكمته له انتهى، وهي ألفاظ المعتزلة. وقرأ زيد بن علي: ثم لا تنصروا بحذف النون، والفعل منصوب عطفا على قوله: فتمسكم، والجملة حال، أو اعتراض بين المتعاطفين.
* (وأقم الصلواة طرفى النهار وزلفا من اليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذالك ذكرى للذكرين * واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) *: سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه، فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت. وقيل: نزلت قبل ذلك، واستعملها الرسول صلى الله عليه وسلم) في قصة هذا الرجل فقال رجل: أله خاصة؟ قال: (لا، بل للناس عامة) وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات، حيث جاء الخطاب في الأمر، * (واستقم كما أمرت
) *، وأقم الصلاة، موحدا في الظاهر، وإن كان المأمور به من حيث المعنى عاما، وجاء الخطاب في النهي: * (ولا تركنوا) * موجها إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم)، مخاطبا به أمته، فحيث كان بأفعال الخير توجه الخطاب إليه، وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته، وهذا من جليل الفصاحة. ولا خلاف أن المأمور بإقامتها هي الصلوات المكتوبة، وإقامتها دوامها، وقيل: أداؤها على تمامها، وقيل: فعلها في أفضل أوقاتها، وهي ثلاثة الأقوال التي في قوله تعالى: وأقيموا الصلاة.
وانتصب طرفي النهار على الظرف. وطرف الشيء يقتضي أن يكون من الشيء، فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر، لأنهما طرفا النهار، ولذلك وقع الإجماع، إلا من شذ على أن من أكل أو جامع بعد طلوع الفجر متعمدا أن يومه يوم فطر وعليه القضاء والكفارة، وما بعد طلوع الفجر من النهار. وقد ادعى الطبري والماوردي: الإجماع على أن أحد الطرفين الصبح، والخلاف في ذلك على ما نذكره. وممن قال: هما الصبح والعصر الحسن، وقتادة، والضحاك، وقال: الزلف المغرب والعشاء، وليست الظاهر في هذه الآية على هذا القول، بل هي في غيرها. وقال مجاهد ومحمد بن كعب: الطرف الأول الصبح، والثاني الظهر والعصر، والزلف المغرب والعشاء،
269

وليست الصبح في هذه الآية. وقال ابن عباس والحسن أيضا: هما الصبح والمغرب، والزلف العشاء، وليست الظهر والعصر في الآية. وقيل: هما الظهر والعصر، والزلف المغرب والعشاء والصبح، وكان هذا القائل راعي الجهر بالقراءة والإخفاء. واختار ابن عطية قول مجاهد، وجعل الظهر من الطرف الثاني ليس بواضح، إنما الظهر نصف النهار، والنصف لا يسمى طرفا إلا بمجاز بعيد، ورجح الطبري قول ابن عباس: وهو أن الطرفين هما الصبح والمغرب، ولا تجعل المغرب طرفا للنهار إلا بمجاز، إنما هو طرف الليل. وقال الزمخشري: غدوة وعشية قال: وصلاة الغدوة الصبح، وصلاة العشية الظهر والعصر، لأن ما بعد الزوال عشي، وصلاة الزلف المغرب والعشاء انتهى. ولا يلزم من إطلاق العشي على ما بعد الزوال أن يكون الظهر طرفا للنهار، لأن الأمر إنما جاء بالإقامة للصلاة في طرفي النهار، لا في الغداة والعشي.
وقرأ الجمهور: وزلفا بفتح اللام، وطلحة وعيسى البصرة وابن أبي إسحاق وأبو جعفر: بضمها كأنه اسم مفرد. وقرأ ابن محيصن ومجاهد: بإسكانها وروي عنهما: وزلفى على وزن فعلى على صفة الواحد من المؤنث لما كانت بمعنى المنزلة. وأما القرءات الأخر من الجموع فمنزلة بعد منزلة، فزلف جمع كظلم، وزلف كبسر في بسر، وزلف كبسر في بسرة، فهما اسما جنس، وزلفى بمنزلة الزلفة. والظاهر عطف وزلفا من الليل على طرفي النهار، عطف طرفا على طرف. وقال الزمخشري: وقد ذكر هذه القراءات وهو ما يقرب من آخر النهار من الليل. وقيل: زلفا من الليل، وقربا من الليل، وحقها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة أي: أقم الصلاة في النهار، وأقم زلفى من الليل على معنى صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل. والظاهر عموم الحسنات من الصلوات المفروضة، وصيام رمضان، وما أشبههما من فرائض الإسلام. وخصوص السيئات وهي الصغائر، ويدل عليه الحديث الصحيح: (ما اجتنبت الكبائر) وذهب جمهور المتأولين من الصحابة والتابعين: إلى أن الحسنات يراد بها الصلوات الخمس، وإليه ذهب عثمان عند وضوءه على المقاعد، وهو تأويل مالك. وقال مجاهد: الحسنات قول الرجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وينبغي أن يحمل هذا كله على جهة المثال في الحساب، ومن أجل أن الصلوات الخمس هي أعظم الأعمال. والصغائر التي تذهب هي بشرط التوبة منها وعدم الإصرار عليها، وهذا نص حذاق الأصوليين. ومعنى إذهابها: تكفير الصغائر، والصغائر قد وجدت وأذهبت الحسنات ما كان يترتب عليها، لا أنها تذهب حقائقها، إذ هي قد وجدت. وقيل: المعنى إن فعل الحسنات يكون لطفا في ترك السيئات، لا أنها واقعة كقوله: * (اتل ما أوحى إليك من الكتاب) * والظاهر أن الإشارة قوله ذلك، إلى أقرب مذكور وهو قوله: أقم الصلاة أي إقامتها في هذه الأوقات. ذكرى أي: سبب عظة وتذكرة للذاكرين أي المتعظين. وقيل: إشارة إلى الإخبار بأن الحسنات يذهبن السيئات، فيكون في هذه الذكرى حضا على فعل الحسنات. وقيل: إشارة إلى ما تقدم من الوصية بالاستقامة وإقامة الصلاة، والنهي عن الطغيان، والركون إلى الظالمين، وهو قول الزمخشري. وقال الطبري: إشارة إلى الأوامر والنواهي في هذه السورة، وقيل: إشارة إلى القرآن، وقيل: ذكرى معناها توبة، ثم أمر تعالى بالصبر على التبليغ والمكاره في ذات الله بعدما تقدم من الأوامر والنواهي، ومنبها على محل الصبر، إذ لا يتم شيء مما وقع الأمر به والنهي عنه إلا به، وأتى بعام وهو قوله: أجر المحسنين، ليندرج فيه كل من أحسن بسائر خصال الإحسان مما يحتاج إلى الصبر فيه، وما قد لا يحتاج كطبع من خلق كربما، فلا يتكلف الإحسان إذ هو مركوز في طبعه. وقال ابن عباس: المحسنون هم المصلون، كأنه نظر إلى سياق الكلام. وقال مقاتل: هم المخلصون، وقال أبو سليمان: المحسنون في أعمالهم.
* (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد فى الارض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع) *: لولا هنا للتحضيض، صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم
270

تهتد، وهذا نحو قوله: * (خامدون ياحسرة على العباد) * والقرون: قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر والجزم في الدين، وسمي الفضل والجود بقية، لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا في الجودة والفضل. فلان من بقية القوم أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة: إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم. ومنه قولهم: في الزوايا خبايا، وفي الرجال بقايا. وإنما قيل: بقية لأن الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول. وبقية فعيلة اسم فاعل للمبالغة. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوي، كالتقية بمعنى التقوى أي: فلا كان منهم ذوو بقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه. وقرأت فرقة: بقية بتخفيف الياء اسم فاعل من بقي، نحو: شجيت فهي شجية. وقرأ
أبو جعفر، وشيبة: بقية بضم الباء وسكون القاف، وزن فعله. وقرئ: بقية على وزن فعله للمرة من بقاه يبقيه إذا رقبه وانتظره، والمعنى: فلولا كان منهم أولو مراقبة وخشية من انتقام الله، كأنهم ينتظرون إيقاعه بهم لإشفاقهم. والفساد هنا الكفر وما اقترن به من المعاصي، وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة وحض لها على تغيير المنكر. إلا قليلا استثناء منقطع أي: لكن قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم، ولا يصح أن يكون استثناء متصلا مع بقاء التحضيض على ظاهره لفساد المعنى، وصيرورته إلى أن الناجين لم يحرضوا على النهي عن الفساد. والكلام عند سيبويه بالتحضيض واجب، وغيره يراه منفيا من حيث معناه: أنه لم يكن فيهم أولو بقية، ولهذا قال الزمخشري بعد أن منع أن يكون متصلا: (فإن قلت): في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم، فكأنه قيل: ما كان من القرون أولوا بقية إلا قليلا، كان استثناء متصلا، ومعنى صحيحا، وكان انتصابه على أصل الاستثناء وإن كان الأفصح أن يرجع على البدل انتهى. وقرأ زيد بن علي: إلا قليل بالرفع، لحظ أن التحضيض تضمن النفي، فأبدل كما يبدل في صريح النفي. وقال الفراء: المعنى فلم يكن، لأن في الاستفهام ضربا من الجحد، وأبي الأخفش كون الاستثناء منقطعا، والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركو النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه أي: ما نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهني، ورفضوا ما فيه صلاح دينهم. واتبع استئناف أخبار عن حال هؤلاء الذين ظلموا، وأخبار عنهم أنهم مع كونهم تاركي النهي عن الفساد كانوا مجرمين أي: ذوي جرائم غير ذلك. وقال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر، لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض، واتبع الذين ظلموا شهواتهم، فهو عطف على نهوا، وإن كان معناه: واتبعوا جزاء الإتراف. قالوا وللحال، كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم. وقال: وكانوا مجرمين، عطف على أترفوا، أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين، لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام انتهى. فجعل ما في قوله: ما أترفوا، فيه مصدرية، ولهذا قدره: اتبعوا الإتراف، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضا أن يكون معطوفا على اتبعوا أي: اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. قال: ويجوز أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون انتهى. ولا يسمى هذا اعتراضا في اصطلاح النحو، لأنه آخر آية، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر. وقرأ جعفر بن محمد، والعلاء بن سيابة كذا في كتاب اللوامح،
271

وأبو عمر في رواية الجعفي: واتبعوا ساكنة التاء مبنية للمفعول على حذف مضاف، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين، أي جزاء ما أترفوا فيه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى في القراءة المشهورة أنهم اتبعوا جزاء إترافهم، وهذا معنى قوي لتقدم الإنجاء كأنه قيل: إلا قليلا ممن أنجينا منهم وهلك السائر.
2 (* (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون * ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين * وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجآءك فى هاذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والا رض وإليه يرجع الا مر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) *)) 2
* (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) *: تقدم تفسير شبيه هذه الآية في الأنعام، إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي، لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد، وعلى مذهب البصريين نوجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام، وهنا وأهلها مصلحون. قال الطبري: بشرك منهم وهم مصلحون أي: مصلحون في أعمالهم وسيرهم، وعدل بعضهم في بعض أي: أنه لا بد من معصيتة تقترن بكفرهم، قاله الطبري ناقلا. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، وإنما ذهب قائله إلى نحو ما قال: إن الله يمهل الدول على الكفر ولا يمهلها على الظلم والجور، ولو عكس لكان ذلك متجها أي: ما كان الله ليعذب أمة بظلمهم في معاصيهم وهم مصلحون في الإيمان. والذي رجح ابن عطية أن يكون التأويل بظلم منه تعالى عن ذلك. وقال الزمخشري: وأهلها مصلحون تنزيها لذاته عن الظلم، وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم انتهى. وهو مصادم للحديث: (أنهلك وفينا الصالحون) قال: نعم، (إذا كثر الخبث) وللآية: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *.
* (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذالك خلقهم وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) *: قال الزمخشري: يعني لاضطرارهم إلى أن يكونوا أهل ملة واحدة وهي مبلة الإسلام كقوله: * (وأن هاذا * أمتكم أمة واحدة) * وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار، وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق، ولكنه مكنهم من الاختبار الذي هو أساس التكليف، فاختار بعضهم الحق، وبعضهم الباطل، فاختلفوا ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك الا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر، لكنه تعالى لم يشأ ذلك. وقال الضحاك: لو شاء لجعلهم على هدى أو ضلالة، والظاهر أن قوله: ولا يزالون مختلفين، هو من الاختلاف الذي هو ضد الاتفاق، وأن المعنى في الحق والباطل قاله: ابن عباس، وقال مجاهد: في الأديان، وقال الحسن: في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم لبعض، وقال عكرمة: في الأهواء، وقال ابن بحر: المراد أن بعضهم يخلف بعضا، فيكون الآتي خلفا للماضي. قال: ومنه قولهم: ما اختلف الجديدان، أي خلف أحدهما صاحبه. وإلا من رحم استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين، ولا ضرورة تدعو إلى أنه بمعنى لكن، فيكون استثناء منقطعا كما ذهب إليه الحوفي، والإشارة بقوله: ولذلك خلقهم، إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال: إذا نهى السفيه جرى إليه. فعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قيل: وللاختلاف خلقهم، ويكون على حذف مضاف أي
272

لثمرة الاختلاف من الشقاوة والسعادة خلقهم. ودل على هذا المحذوف أنه قد تقرر من قاعدة الشريعة أن الله تعالى خلق خلقا للسعادة، وخلقا للشقاوة، ثم يسر كلا لما
خلق له، وهذا نص في الحديث الصحيح.
وهذه اللام في التحقيق هي لام الصيرورة في ذلك المحذوف، أو تكون لام الصيرورة بغير ذلك المحذوف، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. ولا يتعارض هذا مع قوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * لأن معنى هذا الأمر بالعبادة. وقال مجاهد وقتادة: ذلك إشارة إلى الرحمة التي تضمنها قوله: إلا من رحم ربك، والضمير في خلقهم عائد على المرحومين. وقال ابن عباس، واختاره الطبري: الإشارة بذلك إلى الاختلاف والرحمة معا، فيكون على هذا أشير بالمفرد إلى اثنين كقوله: * (عوان بين ذالك) * أي بين الفارض والبكر، والضمير في خلقهم عائد على الصنفين: المستثني، والمستثنى منه، وليس في هذه الجملة ما يمكن أن يعود عليه الضمير إلا الاختلاف كما قال الحسن وعطاء، أو الرحمة كما قال مجاهد، وقتادة، أو كلاهما كما قال ابن عباس. وقد أبعد المتأولون في تقدير غير هذه الثلاث، فروي أنه إشارة إلى ما عده. وفيه تقديم وتأخير أي: ونمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، ولذلك خلقهم أي لملء جهنم منهم، وهذا بعيد جدا من تراكيب كلام العرب. وقيل: إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود، وقيل: إلى قوله: * (فمنهم شقى وسعيد) * وقيل: إشارة إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل: إشارة إلى قوله: * (ينهون عن الفساد فى الارض) * وقيل: إشارة إلى العبادة، وقيل: إلى الجنة والنار، وقيل: للسعادة والشقاوة. وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام، أولا من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف، خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. ولولا أن هذه الأقوال سطرت في كتب التفسير لضربت عن ذكرها صفحا.
وتمت كلمة ربك أي: نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في لأملأن، هي التي يتلقى بها القسم، أو الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * ثم قال: * (لتؤمنن به) * والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة، وإن كان الجن يقع على الواحد، فالجنة جمعه انتهى. فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء، وجمعه بالهاء لقول بعض العرب: كمء للواحد، وكمأة للجمع.
* (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك فى هاذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين) *: الظهر أن كلا مفعول به، والعامل فيه نقص، والتنوين عوض من المحذوف، والتقدير: وكل نبأ نقص عليك. ومن أنباء الرسل في موضع الصفة لقوله: وكلا إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة، وما صلة كما هي في قوله: * (قليلا ما تذكرون) * قيل: أو بدل، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو ما نثبت، فتكون ما بمعنى الذي، أو مصدرية. وأجازوا أن ينتصب كلا على المصدر، وما نثبت مفعول به بقولك نقص، كأنه قيل: ونقص علك الشيء الذي نثبت به فؤادك كل قص. وأجازوا أن يكون كلا نكرة بمعنى جميعا، وينتصب على الحال من المفعول الذي هو ما، أو من المجرور الذي هو الضمير في به على مذهب من يجوز تقديم حال المجرور
273

بالحرف عليه، التقدير: ونقص عليك من أنباء الرسل الأشياء الت نثبت بها فئادك جميعا أي: المثبتة فؤادك جميعا. قال ابن عباس: نثبت نسكن، وقال الضحاك: نشد، وقال ابن جريج: نقوي. وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولاتباعهم المؤمنين، وما لقوا من مكذبيهم من الأذى، ففي هذا كله أسوة بهم، إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإنسان من الأذى، ثم الإعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع من العذاب من غرق وريح ورجفة وخسف، وغير ذلك فيه طمأنينة للنفس، وتأنيس بأن يصب الله من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم) بالعذاب، كما جرى لمكذبي الرسل. وإنباء له عليه الصلاة والسلام بحسن العاقبة له ولأتباعه، كما اتفق للرسل وأتباعهم. والإشارة بقوله: في هذه، إلى أنباء الرسل التي قصها الله تعالى عليه، أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق بما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف، كما ينقل شيئا من ذلك المؤرخون. وموعظة أي: اتعاظ وازدجار لسامعه، وذكرى لمن آمن، إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بها إلا المؤمن كقوله * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * وقوله: * (سيذكر من يخشى * ويتجنبها الاشقى) * وقال ابن عباس: الإشارة إلى السورة والآيات التي فيها تذكر قصص الأمم، وهذا قول الجمهور. ووجه تخصيص هذه أسورة بوصفها بالحق، والقرآن كله حق، أن ذلك يتضمن معنى الوعيد للكفرة والتنبيه للناظر، أي: جاءك في هذه السورة الحق الذي أصاب الأمم الظالمة. وهذا كما يقال عند الشدائد: جاء الحق، وإن كان الحق يأتي في غير شديدة وغير ما وجه، ولا تستعمل في ذلك جاء الحق. وقال الحسن وقتادة: الإشارة إلى دار الدنيا. قال قتادة: والحق النبوة. وقيل: إشارة إلى السورة مع نظائرها.
* (وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون) *: اعملوا صيغة أمر ومعناه: التهديد والوعيد، والخطاب لأهل مكة وغيرها. على مكانتكم أي: جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. وقيل: اعملوا في هلاكي على إمكانكم، وانتظروا بناء الدوائر، إنا منتظرون أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم. ويشبه أن يكون إيتاء موادعة، فلذلك قيل: إنهما منسوختان، وقيل: محكمتان، وهما للتهديد والوعيد والحرب قائمة.
* (ولله غيب * السماوات والارض * إليه يرجعون * الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون) *: لا يخفى عليه شيء من أعمالكم، ولاحظ لمخلوق في علم الغيب. وقرأ نافع وحفص: يرجع مبنيا للمفعول، الأمر كله أمرهم وأمرك، فينتقم لك منهم. وقال أبو علي الفارسي: علم ما غاب في السماوات والأرض، أضاف الغيب إليهما توسعا انتهى. والجملة الأولى دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط، إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية دلت على القدرة النافذة والمشيئة. والجملة الثالثة دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد. والجملة الرابعة دلت على الأمر بالتوكل، وهي آخرة الرتب، لأنه بنور العبادة أبصر أن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى
274

وأنه هو المتصرف وحده في جميعها، لا يشركه في شيء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى، ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شيء منها. والجملة الخامسة تضمنت التنبيه على المجازاة، فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد. وقرأ الصاحبان، وحفص، وقتادة، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر، والجحدري:
تعملون بتاء الخطاب، لأن قبله اعملوا على مكانتكم. وقرأ باقي السبعة: بالياء على الغيبة، واختلف عن الحسن وعيسى بن عمر.
275

((سورة يوسف))
مائة وإحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (الر تلك ءايات الكتاب المبين * إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص بمآ أوحينآ إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين * إذ قال يوسف لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين * قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الا حاديث ويتم نعمته عليك وعلىءال يعقوب كمآ أتمهآ على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم * لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسآئلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين * قال قآئل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه فى غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين * قالوا ياأبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إنى ليحزننىأن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنآ إذا لخاسرون * فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينآ إليه لتنبئنهم بأمرهم هاذا وهم لا يشعرون * وجآءوا أباهم عشآء يبكون * قالوا ياأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب ومآ أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجآءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما
276

تصفون * وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هاذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون * وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين * وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنآ أو نتخذه ولدا وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض ولنعلمه من تأويل الا حاديث والله غالب على أمره ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذالك نجزى المحسنين * وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الا بواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربىأحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون * ولقد همت به وهم بها لولاأن رأى برهان ربه كذالك لنصرف عنه السوء والفحشآء إنه من عبادنا المخلصين * واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزآء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلهآ إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين * وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين * فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم * يوسف أعرض عن هاذا واستغفرى لذنبك إنك كنت من الخاطئين) *))
) *
الطرح للشيء رميه وإلقاؤه، وطرح عليه الثوب ألقاه، وطرحت الشيء أبعدته ومنه قول عروة بن الورد:
* ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا
*
من المال يطرح نفسه كل مطرح والنوى: الطروح البعيدة. الجب: الركية التي لم تطو، فإذا طويت فهي بئر. قال الأعشى:
لئن كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
*
ويجمع على جبب وجباب وأجباب، وسمى جبا لأنه قطع في الأرض، من جببت أي قطعت. الالتقاط: تناول الشيء من الطريق، يقال: لقطه والتقطه. وقال: ومنهل لقطته التقاطا. ومنه: اللقطة واللقيط.
ارتعى افتعل من الرعي بمعنى المراعاة وهي الحفظ للشيء، أو من الرعي وهو أكل الحشيش والنبات، يقال: رعت الماشية الكلأ ترعاه رعيا أكلته، والرعي بالكسر الكلأ، ومثله ارتعى. قال الأعشى:
* ترتعي السفح فالكثيب فذاقا
*
رفروض القطا فذات الرمال
*
رتع أقام في خصب وتنعم، ومنه قول الغضبان بن القبعثري: القيد، والمتعة، وقلة الرتعة. وقول الشاعر:
* أكفرا بعد رد الموت عني
*
وبعد عطائك المائة الرتاعا
*
277

الذئب: سبع معروف، وليس في صقعنا الأندلسي، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان قال:
* وأزور يمطوفي بلاد بعيدة
*
تعاوى به ذؤبانه وثعالبه
*
وأرض مذأبة كثيرة الذئاب، وتذاءبت الريح جاءت من هنا ومن هنا، فعل الذئب ومنه الذؤابة من الشعر لكونها تنوس إلى هنا وإلى هنا. الكدب بالدال المهملة الكدر، وقيل: الطري. سول من السول، ومعناه سهل، وقيل: زين. أدلى الدلو أرسلها ليملأها، ولادها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر. قال: لا تعقلواها وادلواها دلوا. والدهر معروف، وهي مؤنثة فتصغر على دليته، وتجمع على أدل ودلاء ودلى. البضاعة: القطعة من المال تجعل للتجارة، من بضعته إذا قطعته، ومنه المبضع. المراودة الطلب برفق ولين القول، والرود التأني يقال: أرودني أمهلني، والريادة طلب النكاح. ومشى رويدا أي برفق أغلق الباب وأصفده وأقفله بمعنى. وقال الفرزدق:
* ما زالت أغلق أبوابا وأفتحها
*
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
*
هيت اسم فعل بمعنى أسرع. قد الثوب: شقه. السيد فيعل من ساد يسود، يطلق على المالك، وعلى رئيس القوم. وفيعل بناء مختص بالمعتل، وشذ بيئس وصيقل اسم امرأة. السجن: الحبس.
* (الر تلك ءايات الكتاب المبين * إنا أنزلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون) *: هذه السورة مكية كلها. وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات من أولها. وسبب نزولها أن كفار مكة أمرتهم اليهود أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن السبب الذي أحل بني إسرائيل بمصر فنزلت. وقيل: سببه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم) عما كان يفعل به قومه بما فعل أخوة يوسف به. وقيل: سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يحدثهم أمر يعقوب وولده، وشأن يوسف. وقال سعد بن أبي وقاص: أنزل القرآن فتلاه عليهم زمانا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا، فنزلت.
ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم، فاتبع ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من أخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل للرسول صلى الله عليه وسلم) التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن، أو إلى التوراة والإنجيل، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود، أو إلى آيات السورة. والكتاب المبن السورة أي: تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال. والظاهر أن المراد بالكتاب القرآن. والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من
278

أمر الدين، قاله: ابن عباس ومجاهد، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة، أو المبين ما سألت عنه اليهود، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان، روي هذا عن معاذ بن جبل. قال المفسرون: وهي الطاء، والظاء، والضاد، والصاد، والعين، والخاء انتهى. والضمير في إنا أنزلناه، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف، وقيل: على القرآن، وقيل: على نبأ يوسف، قاله الزجاج وابن الأنباري. وقيل: هو ضمير الإنزال. وقرآنا هو المطعوف به، وهذان ضعيفان. وانتصب قرآنا، قيل: على البدل من الضمير، وقيل على الحال الموطئة. وسمي القرآن قرآنا لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وعربيا منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي، كروم ورومي، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال الشاعر:
* وعربة أرض ما يحل حرامها
*
من الناس إلا اللوذعي الحلاحل
*
ويعني النبي صلى الله عليه وسلم) أحلت له مكة. وسكن راء عربة الشاعر ضرورة. قيل: وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي: على لغة أهل هذه الناحية. لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون، إذ لو كان بغير العربية لقيل: * (لولا فصلت ءاياته) *.
* (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هاذا القرءان وإن كنت من قبله لمن الغافلين * إذ قال يوسف لابيه ياأبت * لابيه ياأبت إنى رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين * قال يابنى لا تقصص رءياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذالك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الاحاديث ويتم نعمته عليك وعلىءال يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل) *: القصص: مصدر قص، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر، وأما لكون الفعل يكون للمفعول، كالقبض والنقص. والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة. فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة، وأحسن أسلوب. ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقاربا لاقتصاصه في القرآن، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليستفي غيره. والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل: هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه.
وقيل: كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطير، وسير الملوك، والممالك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن ومكرهن، مع ما فيها من ذكر التوحيد، والفقه، والسير، والسياسة، وحسن الملكة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحيل، وتدبير المعاش، والمعاد، وحسن العاقبة، في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب والمحبوب، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا. وقيل: كانت أحسن القصص لأن كل من ذكر فيها كان مآله إلى السعادة. انظر إلى يوسف وأبيه وأخوته وامرأة العزيز والملك أسلم بيوسف وحسن إسلامه. ومعبر الرؤيا الساقي، والشاهد فما يقال. وقيل: أحسن هنا ليست أفعل التفضيل، بل هي بمعنى حسن، كأنه قيل: حسن القصص، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف أي: القصص الحسن. وما في بما أوحينا مصدرية أي: بإيحائنا. وإذا كان القصص مصدرا فمفعول نقص من حيث المعنى هو هذا القرآن، إلا أنه من باب الإعمال، إذ تنازعه نقص. وأوحينا فاعمل الثاني على الأكثر، والضمير في من قبله يعود على الإيحاء. وتقدمت مذاهب النحاة في أن المخففة ومجئ اللام في ثاني الجزءين. ومعنى من الغافلين: لم يكن لك شعور
279

بهذه القصة، ولا سبق لك علم فيها، ولا طرق سمعك طرف منها. والعامل في إذ قال الزمخشري وابن عطية: اذكر. وأجاز الزمخشري أن تكون بدلا من أحسن القصص قال: وهو بدل اشتمال، لأن الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص، فإذا قص وقته فقد قص. وقال ابن عطية: ويجوز أن يعمل فيه نقص كان المعنى: نقص عليك الحال، إذ وهذه التقديرات لا تتجه حتى تخلع إذ من دلالتها على الوقت الماضي، وتجرد للوقت المطلق الصالح للأزمان كلها على جهة البدلية.
وحكى مكي أن العامل في إذ الغافلين، والذي يظهر أن العامل فيه قال: يا بني، كما تقول: إذ قام زيد قام عمر، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفا لما مضى. ويوسف اسم عبراني، وتقدمت ست لغات فيه. ومنعه الصرف دليل على بطلان قول من ذهب إلى أنه عربي مشتق من الأسف، وإن كان في بعض لغاته يكون فيه الوزن الغالب، لامتناع أن يكون أعجميا غير أعجمي. وقرأ طلحة بن مصرف بالهمز وفتح السين. وقرأ ابن عامر، وأبو جعفر، والأعرج: يا أبت بفتح التاء، وباقي السبعة والجمهور بكسرها، ووقف الابنان عليها بالهاء، وهذه التاء عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء قال: يا أبتا علك أو عساكا. ووجه الاقتصار على التاء مفتوحة أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف، أو رخم بحذف التاء، ثم أقحمت قاله أبو علي. أو الألف في أبتا للندبة، فحذفها قاله: الفراء، وأبو عبيد، وأبو حاتم، وقطرب. ورد بأنه ليس موضع ندبة أو الأصل يا أبة بالتنوين، فحذف والنداء ناد حقف قاله قطرب، ورد بأن التنوين لا يحذف من المنادي المنصوب نحو: يا ضاربا رجلا، وفتح أبو جعفر ياء إني.
وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وطلحة بن سليمان: أحد عشر بسكون العين لتوالي الحركات، وليظهر جعل الاسمين اسما واحدا ورأيت هي حلمية لدلالة متعلقها على أنه منام، والظاهر أنه رأى في منامه كواكب الشمس والقمر. وقيل: رأى إخوته وأبويه، فعبر عنهم بذلك، وعبر عن الشمس عن أمه. وقيل: عن خالته راحيل، لأن أمه كانت ماتت. ومن حديث جابر بن عبد الله: أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف، فسكت عنه، ونزل جبريل فأخبره بأسمائها، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) اليهودي فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ فقال: نعم. قال: جريان، والطارق، والذيال، وذو الكتفين، وقابس، ووثاب، وعمودان، والفليق، والمصبح، والضروح، والفرغ، والضياء، والنور. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. وذكر السهيلي مسندا إلى الحرث بن أبي أسامة فذكر الحديث، وفيه بعض اختلاف، وذكر النطح عوضا عن المصبح. وعن وهب أن يوسف رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة، وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها، فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك، ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب سجودا له
280

فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل، وكان بين رؤيا يوسف ومسير أخوته إليه أربعون سنة، وقيل: ثمانون. وروي أن رؤيا يوسف كانت ليلة القدر ليلة جمعة. والظاهر أن الشمس والقمر ليسا مندرجين في الأحد عشر كوكبا، ولذلك حين عدهما الرسول لليهودي ذكر أحد عشر كوكبا غير الشمس والقمر، ويظهر من كلام الزمخشري أنهما مندرجان في الأحد عشر.
قال الزمخشري: (فإن قلت): لم أخر الشمس والقمر؟ (قلت): أخرهما ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص إثباتا لفضلهما، واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع، كما أخر جبريل وميكائيل عن الملائكة ثم عطفهما عليهما. لذلك ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع، أي: رأيت الكواكب مع الشمس والقمر انتهى. والذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جريا على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه. قال تعالى: * (الشمس والقمر بحسبان) * وقال: وجمع الشمس والقمر * (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * وقدمت عليه لسطوع نورها وكبر جرمها
وغرابة سيرها، واستمداده منها، وعلو مكانها. والظاهر أن رأيتهم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل، كما كرر إنكم في قوله * (أنكم مخرجون) * لطول الفصل بالظرف وما تعلق به.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى تكرار رأيتهم؟ (قلت): ليس بتكرار، إنما هو كلام مستأنف على تقدير سؤال وقع جوابا له، كان يعقوب عليه السلام قال له عند قوله: إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، كيف رأيتها سائلا عن حال رؤيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين انتهى. وجمعهم جمع من يعقل، لصدور السجود له، وهو صفة من يعقل، وهذا سائغ في كلام العرب، وهو أن يعطي الشيء حكم الشيء للاشتراك في وصف ما، وإن كان ذلك الوصف أصله أن يخص أحدهما. والسجود: سجود كرامة، كما سجدت الملائكة لآدم. وقيل: كان في ذلك الوقت السجود تحية بعضهم لبعض. ولما خاطب يوسف أباه بقوله: يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه بقوله: يا بني، تصغير التحبيب والتقريب والشفقة. وقرأ حفص هنا وفي لقمان، والصافات: يا بني بفتح الياء. وابن كثير في لقمان * (يعظه يابنى لا تشرك) * وقنبل يا بني أقم بإسكانها، وباقي السبعة بالكسر. وقرأ زيد بن علي: لا تقص مدغما، وهي لغة تميم، والجمهور بالفك وهي لغة الحجاز. والرؤيا مصدر كالبقيا. وقال الزمخشري: الرؤيا بمعنى الرؤية، إلا أنها مختصة بما كان في النوم دون اليقظة، فرق بينهما بحر في التأنيث كما قيل: القربة والقربى انتهى. وقرأ الجمهور: رؤياك والرؤيا حيث وقعت بالهمز من غير إمالة. وقرأ الكسائي: بالإمالة وبغير الهمز، وهي لغة أهل الحجاز.
وإخوة يوسف: هم كاذ، وبنيامين، ويهوذا، ونفتالي، وزبولون، وشمعون، وروبين، ويقال باللام كجبريل، وجبرين، ويساخا، ولاوي، وذان، وياشير، فيكيدوا لك: منصوب بإضمار أن على جواب النهي، وعدي فيكيدوا باللام، وفي (فكيدون) بنفسه، فاحتمل أن يكون من باب شكرت زيدا وشكرت لزيد، واحتمل أن يكون من باب التضمين، ضمن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد، والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين، وللمبالغة أكد بالمصدر. ونبه يعقوب على سبب الكيد وهو: ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما، فهو يجتهد دائما أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويحضه عليها، وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليهما السلام على أن الله تعالى يبلغه مبلغا من الحكمة، ويصطفه للنبوة، وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه، فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه من أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف تنهيه عن أن يقص على إخوته مخافة كيدهم، دلالة على تحذير المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق، ولا يكون ذلك داخلا في باب الغيبة. وكذلك يجتبيك ربك أي:
281

مثل ذلك الاجتباء، وهو ما أراه من تلك الرؤيا التي دلت على جليل قدره، وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك. ويجتبيك: يختارك ربك للنبوة والملك. قال الحسن: للنبوة، وقال مقاتل: للسجود لك، وقال الزمخشري: لأمور عظام. ويعلمك من تأويل الأحاديث كلام مستأنف ليس داخلا في التشبيه، كأنه قال: وهو يعلمك. قال مجاهد والسدي: تأويل الأحاديث عبارة الرؤيا. وقال الحسن: عواقب الأمور، وقيل: عامة لذلك ولغيره من المغيبات، وقال مقاتل: غرائب الرؤيا، وقال ابن زيد: العلم والحكمة.
وقال الزمخشري: الأحاديث الرؤى، لأن الرؤى إما حديث نفس أو ملك أو شيطان، وتأويلها عبارتها وتفسيرها، فكان يوسف عليه السلام أعبر الناس للرؤيا وأصحهم عبارة. ويجوز أن يراد بتأويل الأحاديث معاني كتب الله وسير الأنبياء، وما غمض واشتبه على الناس في أغراضها ومقاصدها، يفسرها لهم ويشرحها، ويدلهم على مودعات حكمها. وسميت أحاديث لأنها تحدث بها عن الله ورسله فيقال: قال الله: وقال الرسول: كذا وكذا. ألا ترى إلى قوله: * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * * (الله نزل أحسن الحديث) * كتابا وهي اسم جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة انتهى. وليس باسم جمع كما ذكر، بل هو جمع تكسير لحديث على غير قياس، كما قالوا: أباطل وأباطيل، ولم يأت اسم جمع على هذا الوزن. وإذا كانوا يقولون في عباديد ويناذير أنهما جمعا تكسير ولم يلفظ لهما بمفرد، فكيف لا يكون أحاديث وأباطيل جمعي تكسير؟.
ويتم نعمته عليك، وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكا، بنعمة الآخرة بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة. وقال مقاتل: بإعلاء كلمتك وتحقيق رؤياك، وقال الحسن: هذا شيء أعلمه الله يعقوب من أنه سيعطي يوسف النبوة. وقيل: بأن يحوج إخوتك إليك، فتقابل الذنب بالغفران، والإساءة بالإحسان. وقيل: بإنجائك من كل مكروه،. وآل يعقوب الظاهر أنه أولاده ونسلهم أي: نجعل النبوة فيهم. وقال الزمخشري: هن نسلهم وغيرهم. وقيل أهل دينه وأتباعهم، كما جاء في الحديث: من آلك؟ فقال: * (كل) * وقيل: امرأته وأولاده الأحد عشر. وقيل: المراد يعقوب نفسه خاصة. وإتمام النعمة على إبراهيم بالخلة، والإنجاء من النار، وإهلاك عدوه نمروذ. وعلى إسحاق بإخراج يعقوب والأسباط من صلبه. وسمي الجدو أبا الجد أبوين، لأنهما في عمود النسب كما قال: * (إلاهك وإلاه آبائك) * ولهذا يقولون: ابن فلان، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب. إن ربك عليم بمن يستحق الاجتباء، حكيم يضع الأشياء مواضعها. وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما الصلاة والسلام في قوله: وكذلك يجتبيك ربك قيل: وعلم يعقوب عليه السلام ذلك من دعوة إسحاق عليه السلام حين تشبه له بعيصو.
* (لقد كان فى يوسف وإخوته ءايات للسائلين * إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفى ضلال مبين * اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين) *: آيات أي: علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء للسائلين من سأل عنهم وعرف قصتهم. وقيل: آيات على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم) للذين سألوه من اليهود عنها، فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد، ولا قراءة كتاب. والذي يظهر أن الآيات الدلالات
على صدق الرسول وعلى ما أظهر الله في قصة يوسف من عواقب البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها حتى قام بحق الأمانة، وحدوث السرور بعد اليأس. وقيل: المعنى لمن سأل ولمن لم يسأل لقوله: * (سواء للسائلين) * أي سواء لمن سأل ولمن لم يسأل. وحسن الحذف لدلالة قوة الكلام عليه لقوله: * (سرابيل تقيكم الحر) * أي والبرد. وقال ابن عطية: وقوله للسائلين، يقتضي تحضيضا للناس على تعلم هذه الأنباء لأنه إنما المراد آيات للناس، فوصفهم بالسؤال، إذ كل أحد ينبغي أن يسأل عن مثل هذه القصص، إذ هي مقر العبر والاتعاظ. وتقدم لنا ذكر أسماء أخوة يوسف منقولة من خط الحسين بن أحمد بن القاضي الفاضل عبد الرحيم البياسني، ونقلها من خط الشريف النقيب النسابة أبى البركات محمد بن أسعد الحسيني الجواني محررة
282

بالنقط، وتوجد في كتب التفسير محرفة مختلفة، وكان روبيل أكبرهم، وهو ويهوذا، وشمعون، ولاوي، وزبولون، ويساخا، شقائق أمهم ليا بنت ليان بن ناهر بن آزر وهي: بنت خال يعقوب، وذان ونفتالي، وكاذوياشير، أربعة من سريتين كانتا لليا وأختها راحيل، فوهبتا هما ليعقوب، فجمع بينهما ولم يحل الجمع بين الأختين لأحد بعده. وأسماء السريتين فيما قيل: ليا، وتلتا، وتوقيت أم السبعة فتزوج بعدها يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين، وماتت من نفاسه.
وقرأ مجاهد، وشبل وأهل مكة، وابن كثير: آية على الإفراد. والجمهور آيات، وفي مصحف أبي عبرة للسائلين مكان آية. والضمير في قالوا عائد على أخوة يوسف وأخوه هو بنيامين، ولما كانا شقيقين أضافوه إلى يوسف. واللام في ليوسف لام الابتداء، وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي: كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه. وأحب أفعل تفضيل، وهي مبني من المفعول شذوذا، ولذلك عدى بإلى، لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلا من حيث المعنى عدى إليه بإلى، وإذا كان مفعولا عدى إليه بفي، تقول: زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى، وعمرو هو المحب. وإذا قلت: زيد أحب إلى عمرو من خالد، كان الضمير فاعلا وعمرو هو المحبوب. ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يبن أحب لتعديه بمن. وكان بنيامين أصغر من يوسف، فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر. وقيل لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يدم، والمريض حتى يفيق. وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدته التي بعث بها إلى أولاده وهو في السجن
* وصغيركم عبد العزيز فإنني
*
أطوي لفرقته جوي لم يصغر
*
* ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا
*
كفؤالكم في المنتمي والعنصر
*
* إن البنات الخمس أكفاء معا
*
والحلى دون جميعها للخنصر
*
* وإذا الفتى بعد الشباب سما له
*
حب البنين ولا كحب الأصغر
*
ونحن عصبة جملة حالية أي: تفضلهما علينا في المحبة، وهما ابنان صغيران لا كفاية فيهما ولا منفعة، ونحن جماعة عشرة رجال كفاة نقوم بمرافقة، فنحن أحق بزيادة المحبة منهما. وروى النزال بن سبرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ونحن عصبة. وقيل: معناه ونحن نجتمع عصبة، فيكون الخبر محذوفا وهو عامل في عصبة، وانتصب عصبة على الحال، وهذا كقول العرب: حكمك مسمطا حذف الخبر. قال المبرد: قال الفرزدق:
يا لهذم حكمك مسمطا
أراد لك حكمك مسمطا، واستعمل هذا فكثر حتى حذف استخفا، فالعلم السامع ما يريد القائل كقولك: الهلال والله أي: هذا الهلال، والمسمط المرسل غير المردود. وقال ابن الأنباري: هذا كما تقول العرب: إنما العامري عمته، أي يتعمم عمته انتهى. وليس مثله، لأن عصبة ليس مصدرا ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب حكمك مسمطا. وقدره بعضهم: حكمك ثبت مسمطا.
وعن ابن عباس: العصبة ما زاد على العشرة، وعنه: ما بين العشرة إلى
283

الأربعين، وعن قتادة: ما فوق العشرة إلى الأربعين، وعن مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر، وعن مقاتل: عشرة، وعن ابن جبير: ستة أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن الفراء: عشرة فما زاد، وعن ابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة: العصبة ثلاثة نفر، فإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة، فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة عصبة. والضلال هنا هو الهوى قاله ابن عباس، أو الخطأ من الرأي قاله ابن زيد، أو الجور في الفعل قاله ابن كامل، أو الغلط في أمر الدنيا. روي أنه بعد إخباره لأبيه بالرؤيا كان يضمه كل ساعة إلى صدره، وكأن قلبه أيقن بالفراق فلا يكاد يصبر عنه، والظاهر أن اقتلوا يوسف من جملة قولهم، وقيل: هو من قول قوم استشارهم أخوة يوسف فيما يفعل به فقالوا ذلك. والظاهر أن اطرحوه هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين، ويجوز أن تكون أو للتنويع أي: قال بعض: اقتلوا يوسف، وبعض اطرحوه، وانتصب أرضا على إسقاط حرف الجر قاله الحوفي وابن عطية، أي: في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها، قريب من أرض يعقوب. وقيل: مفعول ثان على تضمين اطرحوه معنى أنزلوه، كما تقول: أنزلت زيدا الدار. وقالت فرقة: ظرف، واختاره الزمخشري، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: أرضا منكورة مجهولة بعيدة من العمران، وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس، ولا يهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة. وقال ابن عطية: وذلك خطأ بمعنى كونها منصوبة على الظرف قال: لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك، فزال بذلك إبهامها. ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه انتهى. وهذا الرد صحيح، لو قلت: جلست دارا بعيدة، أو قعدت مكانا بعيد لم يصح إلا بوساطة في، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أو متعدية. والوجه هنا قيل: الذات، أي يخل لكم أبوكم. وقيل: هو استعارة عن شغله بهم، وصرف مودته إليهم، لأن من أقبل عليك صرف وجهه إليك وهذا كقول نعامة حين أحبته أمه لما قتل أخوته وكانت قبل لا تحبه. قال: الثكل أرامها أي: عطفها، والضمير في بعده عائد على يوسف، أو قتله، أو طرحه. وصلاحهم إما صلاح حالهم عند أبيهم وهو قول مقاتل، أو صلاحهم بالتوبة والتنصل من هذا الفعل وهذا أظهر، وهو قول الجمهور منهم الكلبي. واحتمل تكونوا أن. يكون مجزوما عطفا على مجزوم، أو منصوبا على إضمار أن. والقائل: لا تقتلوا يوسف، روبيل قاله قتادة وابن إسحاق، أو شمعون قاله مجاهد، أو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأيا وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض قال لهم: القتل عظيم، قاله السدي، أوذان: أربعة أقوال، وهذا عطف منهم على أخيه. لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقاء على نفسه، وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل. قال الهروي: الغيابة في الجب شبه لحف، أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون. وقال الكلبي: الغيابة كمون في قعر الجب، لأن أسفله واسع ورأيه ضيق، فلا يكاد الناظر يرى ما في جوانبه. وقال الزمخشري: غوره وهو ما غاب منه عن عين الناظر وأظلم من أسفله انتهى. منه قيل للقبر: غيابة، قال المنحل السعدي:
284

* فإن أنا يوما غيبتني غيابتي
*
فسيروا بسيري في العشيرة والأهل
*
. وقرأ الجمهور: غيابة على الإفراد، ونافع: غيابات على الجمع، جعل كل جزء مما يغيب فيه غيابة. وقرأ ابن هرمز: غيابات بالتشديد والجمع، والذي يظهر أنه سمى باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه أبو علي بالاسم الجائي على فعال نحو ما ذكر سيبويه من الغياد. قال أبو الفتح: ووجدت من ذلك المبار المبرح والفخار الخزف. وقال صاحب اللوامح: يجوز أن يكون على فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون على فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وكل للمبالغة. وقرأ الحسن: في غيبة، فاحتمل أن يكون في الأصل مصدرا كالغلبة، واحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة. وفي حرف أبي في غيبة بسكون الياء، وهي ظلمة الركية. وقال قتادة في جماعة: الجب بئر بيت المقدس، وقال وهب: بأرض الأردن، وقال مقاتل: على ثلاث فراسخ من منزل يعقوب، وقيل: بين مدين ومصر. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، وأبو رجاء: تلتقطه بتاء التأنيث، أنث على المعنى كما قال:
* إذا بعض السنين تعرفتنا
*
كفى الأيتام فقد أبى اليتيم
*
والسيارة جمع سيار، وهو الكثير السير في الأرض. والظاهر أن الجب كان فيه ماء، ولذلك قالوا: يلتقطه بعض السيارة. وقيل: كان فيه ماء كثير يغرق يوسف، فنشرز حجر من أسفل الجب حتى ثبت يوسف عليه. وقيل: لم يكن ماء فأخرجه الله فيه حتى قصده الناس. وروي: أنهم رموه بحبل في الجب، فتماسك بيديه حتى ربطوا يديه ونزعوا قميصه ورموه، حينئذ وهموا بعد برضحه بالحجارة فمنعهم أخوهم المشير بطرحه من ذلك. ومفعول فاعلين محذوف أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه.
* (قالوا يأبانا * أبا * مالك * لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون * قال إنى ليحزننى أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله
الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون) *: لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه، أعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم، وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم من انشراح صدره بالارتعاء واللعب، إذ هو مما يشرح الصبيان، وذكروا حفظهم له مما يسوؤه. وفي قولهم: ما لك لا تأمنا، دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أن يخرج معهم، وذكروا سبب الأمن وهو النصح أي: لم لا تأمنا عليه وحالتنا هذا؟ والنصح دليل على الأمانة، ولهذا قرنا في قوله: ناصح أمين، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب أن لا يأمنهم عليه. ولا تأمنا جملة حالية، وهذا الاستفهام صحبة التعجب.
وقرأ زيد بن علي، وأبو جعفر، والزهري، وعمرو بن عبيد: بإدغام نون تأمن في نون الضمير من غير إشمام ومجيئه بعد مالك، والمعنى: يرشد إلى أنه نفي لا نهي، وليس كقولهم: ما أحسننا في التعجب، لأنه لو أدغم لالتبس بالنفي. وقرأ الجمهور: بالإدغام والإشمام للضم، وعنهم إخفاء الحركة، فلا يكون إدغاما محضا. وقرأ ابن هرمز: بضم الميم، فتكون الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد
285

سلب الميم حركتها، وإدغام النون في النون. وقرأ أبي، والحسن، وطلحة بن مصرف، والأعمش: لا تأمننا بالإظهار، وضم النون على الأصل، وخط المصحف بنون واحدة. وقرأ ابن وثاب، وأبو رزين: لا يتمنا على لغة تميم، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب. وفي لفظه: أرسله، دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائما. وانتصب غدا على الظرف، وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك. وأصله: غدو، فحذفت لامه وقد جاء تاما. وقرأ الجمهور: يرتع ويلعب بالياء والجزم، والإبنان وأبو عمر وبالنون والجزم وكسر العين الحرميان، واختلف عن قنبل في إثبات الياء وحذفها. وروي عن ابن كثي: ويلعب بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد. وقرأ العلاء بن سيابة: يرتع بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام، ويلعب بالياء وضم الباء خبر مبتدأ محذوف أي: وهو يلعب. وقرأ مجاهد، وقتادة، وابن محيصن: بنون مضمومة من ارتعنا ونلعب بالنون، وكذلك أبو رجاء، إلا أنه بالياء فيهما يرتع ويلعب، والقراءتان على حذف المفعول أي: يرتع المواشي أو غيرها. وقرأ النخعي: نرتع بنون، ويلعب بياء، بإسناد اللعب إلى يوسف وحده لصباه، وجاء كذلك عن أبي إسحاق، ويعقوب. ولك هذه القراءات الفعلان فيها مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي: يرتع ويلعب بضم الياءين مبنيا للمفعول، ويخرجها على أنه أضمر المفعول الذي لم يسم فاعله وهو ضمير غد، وكان أصله يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف واتسع، فعدى الفعل للضمير، فكان التقدير: يرتعه ويلعبه، ثم بناه للمفعول فاستكن الضمير الذي كان منصوبا لكونه ناب عن الفاعل. واللعب هنا هو الاستباق والانتضال، فيدربون بذلك لقتال العدو، سموه لعبا لأنه بصورة اللعب، ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم: إننا ذهبنا نستبق، ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب. ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل. قال مجاهد: هي من المراعاة أي: يراعي بعضنا بعضا ويحرسه. وقال ابن زيد: من رعى الإبل أي يتدرب في الرعي، وحفظ المال، أو من رعى النبات والكلأ، أي: يرتفع على حذف مضاف أي: مواشينا. ومن أثبت الياء. فقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة لا تجوز إلا في الشعر كقول الشاعر:
* ألم يأتيك والأنباء تنمي
*
بما لاقت لبون بني زياد
*
انتهى. وقيل: تقدير حذف الحركة في الياء لغة، فعلى هذا لا يكون ضرورة. ومن قرأ بسكون العين فالمعنى: نقم في خصب وسعة، ويعنون من الأكل والشرب. وإنا له لحافظون جملة حالية، والعامل فيه الأمر أو الجواب، ولا يكون ذلك من باب الإعمال، لأن الحال لا تضمر، وبأن الإعمال لا بد فيه من الإضمار إذا أعمل الأول، ثم اعتذر لهم يعقوب بشيئين: أحدهما: عاجل في الحال، وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه. والثاني: خوفه عليه من الذئب إن غفلوا عنه برعيهم ولعبهم، أو بقلة اهتمامهم بحفظه وعنايتهم، فيأكله ويحزن عليه الحزن المؤبد. وخص الذئب لأنه كان السبع الغالب على قطره، أو لصغر يوسف فخاف عليه هذا السبع الحقير، وكان تنبيها على خوفه عليه ما هو أعظم افتراسا. ولحقارة الذئب خصه الربيع بن ضبع الفزاري في كونه يخشاه لما بلغ من السن في قوله:
* والذئب أخشاه إن مررت به
*
وحدي وأخشى الرياح والمطرا
*
وكان يعقوب بقوله: وأخاف أن يأكله الذئب لقنهم ما يقولون من العذر إذا جاؤوا وليس معهم يوسف، فلقنوا ذلك
286

وجعلوه عدة للجواب، وتقدم خلاف القراء في يحزن. وقرأ زيد بن علي، وابن هرمز، وابن محيصن: ليحزني بتشديد النون، والجمهور بالفك. وليحزنني مضارع مستقبل لا حال، لأن المضارع إذا أسند إلى متوقع تخلص للاستقبال، لأن ذلك المتوقع مستقبل وهو المسبب لأثره، فمحال أن يتقدم الأثر عليه، فالذهاب لم يقع، فالحزن لم يقع. كما قال:
* يهولك أن تموت وأنت ملغ
*
لما فيه النجاة من العذاب
*
وقرأ زيد بن علي: تذهبوا به من أذهب رباعيا، ويخرج على زيادة الباء في به، كما خرج بعضهم تنبت بالدهن. في قراءة من ضم التاء وكسر الباء أي: تنبت الدهن وتذهبوه. وقرأ الجمهور: والذئب بالهمز، وهي لغة الحجز. وقرأ الكسائي، وورش، وحمزة: إذا وقف بغير همز. وقال نصر: سمعت أبا عمر ولا يهمز. وعدل إخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن، وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه عن قريب، وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن تذهبوا به، فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم، وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب. إنهم إذا لقوم خاسرون أي: هالكون ضعفاء وجورا وعجزا، أو مستحقون أن يهلكوا، لأنهم لا غنى عندهم ولا جدوى في حياتهم، أو مستحقون بأن يدعى عليهم بالخسار والدمار، وأن يقال: خسرهم الله ودمرهم حين أكل الذئب بعضهم وهم حاضرون. وقيل: إن لم نقدر على حفظه بعضنا فقد هلكت مواشينا، إذا وخسرنا. وروي أن يعقوب رأى في منامه كأنه على ذروة جبل، وكان يوسف في بطن الوادي، فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته يردن أكله، فدرأ عنه واحد، ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام.
* (فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هاذا وهم لا يشعرون لا يشعرون * وجاءوا أباهم عشاء يبكون * قالوا يأبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين * وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون * وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هاذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون) *: حكي أنهم قالوا ليوسف: اطلب من أبيك أن يبعثك معنا، فأقبل على يوسف فقال: أتحب ذلك؟ قال: نعم. قال يعقوب: إذا كان غدا أذنت لك، فلما أصبح يوسف لبس ثيابه وشد عليه منطقته، وخرج مع أخوته فشيعهم يعقوب وقال: يا بني أوصيكم بتقوى الله وبحبيبي يوسف، ثم أقبل على يوسف وضمه إلى صدره وقبل بين عينيه ثم قال: استودعتك الله رب العالمين، وانصرف. فحملوا يوسف على أكتافهم ما دام يعقوب يراهم، ثم لما غابوا عن عينه طرحوه ليعدا معهم إضرارا به. وذكر المسفرون أشياء كثيرة تتضمن كيفية إلقائه في غيابة الجب ومجاورته لهم بما يلين الصخر، وهم لا يزدادون إلا قساوة. ولم يتعرض القرآن ولا الحديث الصحيح لشيء منها، فيوقف عليها في كتب التفسير. وبين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره: فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف، فلما ذهبوا به وأجمعوا أي: عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب، وأن يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال: أجمع الأمر وأزمعه بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء، وبمعنى التصيير. واختلفوا في جواب لما أهو مثبت؟ أو محذوف؟ فمن قال: مثبت، قال: هو قولهم قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق أي: لما كان كيت وكيت، قالوا وهو تخريج حسن. وقيل: هو أوحينا، والواو زائدة، وعلى هذا مذهب الكوفيين يزاد عندهم بعد لما، وحتى إذا. وعلى ذلك خرجوا قوله: فلما أسلما وتله للجيين وناديناه أي: ناديناه وقوله: حتى إذا جاؤوها وفتحت أي: فتحت. وقول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
287

أي: انتحى. ومن قال: هو محذوف، وهو رأي البصريين، فقدره الزمخشري: فعلوا به ما فعلوا من الأذى، وحكى الحكاية الطويلة فيما فعلوا به، وما حاوروه وحاورهم به. قدره بعضهم: فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب عظمت فتنتهم، وقدره بعضهم جعلوه فيها، وهذا أولى إذ يدل عليه قوله: وأجمعوا أن يجعلوه والظاهر أن الضمير في وأوحينا إليه عائد على يوسف، وهو وحي إلهام قاله مجاهد. وروي عن ابن عباس: أو منام. وقال الضحاك وقتادة: نزل عليه جبريل في البئر. وقال الحسن: أعطاه الله النبوة في الجب وكان صغيرا، كما أوحى إلي يحيى وعيسى عليهما السلام، وهو ظاهر أوحينا، ويدل على أن الضمير عائد على يوسف قوله لهم قال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون. وقيل: الضمير في إليه عائد على يعقوب، وإنما أوحي إليه ليأنس في الظلمة من الوحدة، وليبشر بما يؤول إليه أمره، ومعناه: للتخلص مما أنت فيه، ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك. وهم لا يشعرون جملة حالية من قوله: لتنبئنهم بهذا أي: غير عالمين أنك يوسف وقت التنبئة قاله ابن جريج، وذلك لعلو شأنك وعظمة سلطانك، وبعد حالك عن أذهانهم، ولطول العمر المبدل للهيئات والأشكال. وذكر أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون، دعا بالصواغ فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له: يوسف، وكان يدنيه دونكم، وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم: أكله الذئب. وبيع بثمن بخس، ويجوز أن يكون وهم لا يشعرون حالا من قوله: وأوحينا أي: وهم لا يشعرون، قاله قتادة. أي: بإيحائنا إليك وما أخبرناك به من نجاتك وطول عمرك، إلى أن تنبئهم بما فعلوا بك. وقرأ الجمهور لتنبئنهم بتاء الخطاب، وابن عمر بياء الغيبة، وكذا في بعض مصاحف البصرة. وقرأ سلام بالنون.
والذي يظهر من سياق الأخبار والقصص أن يوسف كان صغيرا، فقيل: كان عمره إذ ذاك سبع سنين. وقيل: ست، قاله الضحاك. وأبعد من ذهب إلى أنه اثنتا عشرة سنة، وثمان عشرة سنة، وكلاهما عن الحسن، أو سبع عشرة سنة قاله ابن السائب. ويدل على أنه كان صغيرا بحيث لا يدفع نفسه قوله: وأخاف أن يأكله الذئب ويرتع ويلعب وإنا له لحافظون، وأخذ السيارة له، وقول الوارد: هذا غلام، وقول العزيز: عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا، وما حكى من حملهم إياه واحدا بعد واحد، ومن كلامه لأخيه يهوذا: ارحم ضعفي وعجزي وحداثة سني، وارحم قلب أبيك يعقوب. ومن هو ابن ثمان عشرة سنة لا يخاف عليه من الذئب ولا سيما إن كان في رفقة، ولا يقال فيه: وإنا له لحافظون، لأنه إذ ذاك قادر على التحيل في نجاة نفسه، ولا يسمى غلاما إلا بمجاز، ولا يقال فيه: أو نتخذه ولدا. وعشاء نصب على الظرف،
أو من العشوة والعشوة: الظلام، فجمع على فعال مثل راع ورعاء، ويكون انتصابه على الحال كقراءة الحسن عشا على وزن دجى، جمع عاش، حذف منه الهاء كما حذفت في مالك، وأصله مالكة. وعن الحسن عشيا على التصغير. قيل: وإنما جاؤوا عشاء ليكون أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة
288

بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر في النهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. وفي الكلام حذف تقديره: وجاؤوا أباهم دون يوسف عشاء يبكون، فقال: أين يوسف؟ قالوا: إنا ذهبنا. وروي أن يعقوب لما سمع بكاءهم قال: ما لكم، أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا. قال: فأين يوسف؟ قالوا: إنا ذهبنا نستبق فأكله الذئب، فبكى، وصاح، وخر مغشيا عليه، فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك، ونادوه فلم يجب، ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفسه ولا تحرك له عرق فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين الذي ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا، فلم يفق لا ببرد السحر. قال الأعمش: لا يصدق باك بعد أخوة يوسف. ونستبق. أي: نترامى بالسهام، أو نتجارى على الأقدام أينا أشد عدوا، أو نستبق في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب، أو نتصيد. أربعة أقوال. عند متاعنا أي: عند ثيابنا، وما تجردنا له حالة الاستباق، وهذا أيضا يدل على صغر يوسف، إذ لو كان ابن ثمان عشرة سنة أو سبع عشرة لكان يستبق معهم، فأكله الذئب قد ذكرنا أنهم تلقنوا هذا الجواب من قول أبيهم، وأخاف أن يأكله الذئب، لأن أكل الذئب إياه كان أغلب ما كان خاف عليه. وما أنت بمؤمن لنا أي: بمصدق لنا الآن ولو كنا صادقين. أو لست مصدقا لنا على كل حال حتى في حالة الصدق، لما غلب عليك من تهمتنا وكراهتنا في يوسف، وإنا نرتاد له الغوائل، ونكيد له المكائد، وأوهموا بقولهم: ولو كنا صادقين أنهم صادقون في أكل الذئب يوسف، فيكون صدقهم مقيدا بهذه النازلة. أو من أهل الصدق والثقة عند يعقوب قبل هذه النازلة، لشدة محبتك ليوسف، فكيف وأنت سيىء الظن بنا في هذه النازلة، غير واثق بقولنا فيه؟.
روي أنهم أخذوا سخلة أو جديا فذبحوه، ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا: ليعقوب هذا قميص يوسف فأخذه، ولطخ به وجهه وبكى، ثم تأمله فلم ير خرقا ولا ارتاب، فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا وقال لهم: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟ قيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات، كان دليلا ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب، وألقاه عل وجهه فارتد بصيرا، ودليلا على براءة يوسف حين قد من دبر. قال الزمخشري: (فإن قلت): على قميصه ما محله؟ (قلت): محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤوا فوق قميصه بدم كما تقول: جاء على جماله بأحمال. (فإن قلت): هل يجوز أن يكون حالا مقدمة؟ (قلت): لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه انتهى. ولا يساعد المعنى على نصب على على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤوا، وليس الفوق ظرفا لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم. وقال الحوفي: على متعلق بجاؤوا، ولا يصح أيضا. وأما المثال الذي ذكره الزمخشري وهو جاء على جماله بأحمال فيمكن أن يكون ظرفا للجائي، لأنه تمكن الظرفية فيه باعتبار تبدله من جمل على جمل، ويكون بأحمال في موضع الحال أي: مصحوبا بأحمال. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالا من الدم، لأن التقدير: جاؤوا بدم كذب على قميصه انتهى. وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف، ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب، وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى: يرشد إلى ما قاله أبو البقاء.
وقرأ الجمهور: كذب وصف لدم على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف أي: ذي كذب، لما كان دالا على الكذب وصف به، وإن كان الكذب صادرا من غيره. وقرأ زيد بن علي: كذبا بالنصب، فاحتمل أن يكون مصدرا في موضع الحال، وأن يكون مفعولا من أجله. وقرأت عائشة، والحسن: كدب بالدال غير معجمة، وفسر بالكدر، وقيل: الطري، وقيل: اليابس، وقال صاحب اللوامح: ومعناه ذي كذب أي: أثر لأن الكذب هو بياض يخرج في أظافير الشبان ويؤثر فيها، كالنقش، ويسمى ذلك البياض الفوف، فيكون هذا استعارة لتأثيره
289

في القميص، كتأثير ذلك في الأظافير. قال: بل سولت هنا محذوف تقديره: لم يأكله الذئب، بل سولت. قال ابن عباس: أمرتكم أمرا، وقال قتادة: زينت، وقيل: رضيت أمرا أي: صينعا قبيحا. وقيل: سهلت. فصبر جميل أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أمثل. وقرأ أبي، والأشهب، وعيسى بن عمر: فصبرا جميلا بنصبهما، وكذا هي في مصحف أبي، ومصحف أنس بن مالك. وروي كذلك عن الكسائي. ونصبه على المصدر الخبري أي: فاصبر صبرا جميلا. قيل: وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه، ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر، وكذلك يحسن النصب في قوله:
* شكا إلي جملي طول السرى
*
صبرا جميلا فكلانا مبتلي
*
ويروى صبر جميل في البيت. وإنما تصح قراءة النصب على أن يقدر أن يعقوب رجع إلى مخاطبة نفسه فكأنه قال: فاصبري يا نفس صبرا جميلا. وفي الحديث: (أن الصبر الجميل أنه الذي لا شكوى فيه) أي: إلى الخلق. ألا ترى إلى قوله: * (إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله) * وقيل: أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه، وعبوس الجبين، بل على ما كنت عليه معكم. وقال الثوري: من الصبر أن لا تحدث بما يوجعك ولا بمصيبتك ولا تبكي نفسك. والله المستعان أي: المطلوب منه العون على احتمال ما تصفون من هلاك يوسف، والصبر على الرزية. وجاءت سيارة قيل: كانوا من مدين قاصدين إلى مصر، وقيل: في الكلام حذف تقديره: وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وكان أخوه يهوذا يأتيه بالطعام خفية من إخوته. وقيل: جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب. وقيل: كان التسبيح غذاءه في الجب. قيل: وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض، وقيل: سيارة في الطريق أخطئه فنزلوا قريبا من الجب، وكان في قفرة بعيدة من
العمران لم تكن إلا للرعاة، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء. والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله: ألقيت كاسبهم. ليست إضافة إلى المفعول، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم. والظاهر أن الوارد واحد. وقال ابن عطية: والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى. وحمل على معنى السيارة في قوله: فأرسلوا، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها. فأدلى دلوه أي: أرسلها ليستقي الماء قال: يا بشراي. في الكلام حذف تقديره: فتعلق يوسف بحبل الدلو، فلما بصر به المدلي قال: يا بشراي. وتلقه بالحبل يدل على صغره، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالبا، ولفظه غلام ترجح ذلك، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف:
غلام إذا هز القناة سقاها
290

وقوله: يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف، هذ رأى أحسن ما خلق. وأبعد السدي في زعمه أن بشرى اسم رجل، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى: فهذا من آونتك. وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون، وروى ورش عن نافع: يا بشراي: بسكون ياء الإضافة، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في * (ومحياى) * وقرأ أبو الطفيل، والحسن، وابن أبي إسحاق، والجحدري: يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة، وهي لغة لهذيل. ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة، في * (فمن تبع هداي) * قيل: ذهب به الوارد، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك، فبشرهم به وأسروه. الظاهر أن الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي: أخفوه من الرفقة، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. وقال ابن عباس: الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف، وأنهم قالوا للرفقة: هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة. وانتصب بضاعة على الحال أي: متجرا لهم ومكسبا. والله عليم بما يعملون أي: لم تخف عليه أسرارهم، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم، أو والله عليم بعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف. قيل: أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله، لحكمة أراد مضاءها، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض، وإحواج أخواته إليه، ورفع أبويه على العرش، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنونا في القدر.
* (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزهدين * وقال الذى اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذالك مكنا ليوسف فى الارض) *: شرى بمعنى باع، وبمعنى اشترى قال يزيد بن مفرع الحميري:
* وشريت بردا ليتني
*
من بعد برد كنت هامه
*
أي بعت بردا، وبرد غلامه. وقال الآخر:
* ولو أن هذا الموت يقبل فدية
*
شريت أبا زيد بما ملكت يدي
*
أي اشتريت أبا زيد. والظاهر أن الضمير في وشروه عائد على السيارة، أي: وباعوا يوسف. ومن قال: إن الضمير في وأسروه عائد على إخوة يوسف جعله عائدا عليهم أي: باعوا أخاهم يوسف بثمن بخس. وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس. وقال مقاتل: زيف ناقص العيار. وقال عكرمة: والشعبي: قليل. وهو معنى
291

الزمخشري: ناقص عن القيمة نقصا ظاهرا. وقال ابن قتيبة: البخس الخسيس الذي بخس به البائع. وقال قتادة: بخس ظلم، لأنهم ظلموه في بيعه. وقال ابن عباس وقتادة أيضا في آخرين: بخس حرام. وقال ابن عطاء: إنما جعله بخسا لأنه عوض نفس شريفة لا تقابل بعوض وإن جل انتهى. وذلك أن الذين باعوه إن كانوا الواردة فإنهم لم يعطوا به ثمنا، فما أخذوا فيه ربح كله وإن كانوا إخوته، فالمقصود خلو وجه أبيهم منه لا ثمنه. ودراهم بدل من ثمن، فلم يبيعوه بدنانير. ومعدودة إشارة إلى القلة، وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما، لأن الكثيرة يعسر فيها العد، بخلاف القليلة. قال عكرمة في رواية عن ابن عباس وابن إسحاق: أربعون درهما. وقيل: ثلاثون درهما، ونعلام وحلة. وقال السدي: كانت اثنين وعشرين درهما، كذا نقله الزمخشري عنه، ونقله ابن عطية عن مجاهد: أخذها أخوته درهمين درهمين، وصاحب التحرير عنه، وعن ابن عباس. وقال ابن مسعود وابن عباس في رواية، وعكرمة في رواية، ونوف الشامي، ووهب، والشعبي، وعطية، والسدي، ومقاتل في آخرين: عشرون درهما. وعن ابن عباس أيضا: عشرون، وحلة، ونعلان. وقيل: ثمانية عشر درهما اشتروا بها أخفافا ونعالا. وقيل: عشرة دراهم، والظاهر عود الضمير في فيه إلى يوسف أي: لم يعلموا مكانه من الله تعالى قاله: الضحاك، وابن جريج. وقيل: يعود على الثمن، وزهدهم فيه لرداءة الثمن، أو لقصد إبعاد يوسف لا الثمن. وهذا إذا كان الضمير في وشروه وكانوا عائدا على أخوة يوسف، فأما إذا كان عائدا على السيارة فزهدهم فيه لكونهم
ارتابوا فيه، أو لوصف أخوته بالخيانة والاباف، أو لعلمهم أنه حر. وقال الزمخشري: من الزاهدين، ممن يرغب عما في يده فيبيعه بما طف من الثمن، لأنهم التقطوه، والملتقط للشيء متهاون به لا يبالي بما باعه، ولأنه يخاف أن يعرض له مستحق فينزعه من يده فيبيعه من أول مساوم بأوكس الثمن. ويجوز أن يكون معنى وشروه اشتروه، يعني الرفقة من أخوته. وكانوا فيه من الزاهدين لأنهم اعتقدوا فيه أنه آبق، فخافوا أن يخاطروا بما لهم فيه. ويروى أن أخوته اتبعوهم يقولون: استوثقوا منه لا يأبق انتهى. وفيه تقدم نظيره في * (إني لكما لمن الناصحين) * وأنه خرج تعلق الجار إما باعني مضمره، أو بمحذوف يدل عليه من الزاهدين. أي: وكانوا زاهدين فيه من الزاهدين، أو بالزاهدين لأنه يتسامح في الجار والظرف. فجوز فيهما ما لا يجوز في غيرهما.
وقال الذي اشتراه من مصر: ذكروا أقوالا متعارضة فيمن اشتراه، وفي الثمن الذي اشتراه به، ولا يتوقف تفسير كتاب الله على تلك الأقوال المتعارضة. فقيل: اشتراه رجل من العماليق وقد آمن بيوسف، ومات في حياة يوسف. قيل: وهو إذ ذاك الملك بمصر، واسمه الريان بن الوليد بن بروان بن أراشه بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، فملك بعده قابوس بن مصعب بن تمر بن السلواس بن فاران بن عمرو المذكور في نسب الريان، فدعاه يوسف إلى الإيمان فأبى، فاشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان بن الوليد وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه الله الحكمة والعلم وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى عاش أربعمائة سنة، بدليل قوله: * (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) * وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، وقيل: عرض في السوق وكان أجمل الناس، فوقعت فيه مزايدة حتى بلغ ثمنا عظيما. فقيل: وزنه من ذهب ومن فضة ومن حرير، فاشتراه العزيز وهو كان صاحب الملك وخازنه، واسم الملك الريان بن الوليد. وقيل: مصعب بن الريان، وهو أحد الفراعنة، واسم العزيز قطفير، قاله ابن عباس، وقيل: اطفير، وقيل: قنطور، واسم امرأته راعيل، وقيل: زليخا.
292

قال ابن عطية: وظاهر أمر العزيز أنه كان كافرا، ويدل على ذلك كون الصنم في بيته حسبما يذكر. وقال مجاهد: كان مسلما، واسم امرأة العزيز راعيل بنت رعاييل. وقال السدي: العزيز هو الملك، واسم امرأته زليخا بنت تمليخا، ومثواه مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس. ولام لامرأته تتعلق بقال فهي للتبليغ، نحو قلت لك: لا باشتراه عسى أن ينفعنا، لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده، فينفعنا بكفايته، أو نتبناه ونقيمه مقام الولد، وكان قطفير عقيما لا يولد له، فتفرس فيه الرشد فقال ذلك. وكذلك أي: مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه، وأمر امرأته بإكرام مثواه. مكنا ليوسف في الأرض أي: أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه، أي: حكمناه فيها. ولام ولنعلمه متعلقة بمحذوف، إما قبله لتملكه ولنعلمه، وإما بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك الإنجاء والتمكين، أو الواو مقحمة أي: مكنا ليوسف في الأرض لنعلمه وكل مقول. والأحاديث: الرؤيا، قاله مجاهد. وقيل: أحاديث الأنبياء والأمم. والضمير في علي أمره الظاهر عوده على الله قاله ابن جبير، لا يمنع عما يشاء ولا ينازع فيما يريد، ويقضي. أو على يوسف قاله الطبري، أي: يديره ولا يكله إلى غيره. قد أراد أخوته به ما أرادوا، ولم يكن إلا ما أراد الله ودبره، وأكثر الناس المنفى عنهم العلم هم الكفار قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: لا يعملون أن الأمر بيد الله، وقيل: المراد بالأكثر الجميع أي: لا يطلعون على غيبه. وقيل: المراد بأكثر الناس أهل مصر، وقيل: أهل مكة. والأشد عند سيبويه جمع واحد شدة، وأشد كنعمة وأنعم. وقال الكسائي: شد وأشد نحو صك وأصك، وقال الشاعر:
* عهدي به شد النهار كأنما
*
خضب البنان ورأسه بالعظلم
*
وزعم أبو عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عند العرب والأشد بلوغ الحلم قاله: الشعبي، وربيعة، وزيد بن أسلم، أو سبعة عشر عاما إلى نحو الأربعين قاله الزجاج، أو ثمانية عشر إلى ستين أو ثمانية عشر قاله عكرمة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، أو عشرون قاله الضحاك، أو إحدى وعشرون سنة أو ثلاثون أو ثلاثة وثلاثون قاله مجاهد وقتادة. ورواه ابن جبير عن ابن عباس، أو ثمان وثلاثون حكاه ابن قتيبة، أو أربعون قاله الحسن. وسئل الفاضل النحوي مهذب الدين محمد بن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه الخيمي عن الأشد فقال: هو خمس وثلاثون، وتمامه أربعون. وقيل: أقصاه اثنان وستون. والحلم الحكم، والعلم النبوة. وقيل: الحكم بين الناس، والعلم: الفقه في الدين. وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة بعد هذه القصة، وكذلك أي: مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير نجزي المحسنين. وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسنا في عنفوان شبابه فآتاه الله الحكم والعلم جزاء على إحسانه. وعن الحسن: من أحسن عبادة الله في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله. وقال ابن عباس: المحسنين المهتدين، وقال الضحاك: الصابرين على النوائب.
* (وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى) *: المراودة: المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب وجاء، وهي مفاعلة من واحد نحو: داويت المريض، وكنى به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله. كان المعنى
293

وخادعته عن نفسه، ولذلك عداه بعن. وقال التي هو في بيتها، ولم يصرح باسمها، ولا بامرأة العزيز، سترا على الحرم. والعرب تضيف البيوت إلى النساء فتقول: ربة البيت، وصاحبة البيت قال الشاعر:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
وغلقت الأبواب هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب باب. قيل: وكانت سبعة أبواب هيت اسم فعل بمعنى أسرع. ولك للتبيين أي: لك أقول، أمرته بأن يسرع إليها. وزعم الكسائي والفراء أنها لغة حورانية وقعت إلى أهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها: تعال، وقاله عكرمة. وقال أبو زيد: هي عبرانية. هيتلخ أي تعاله فأعربه القرآن، وقال ابن عباس والحسن: بالسريانية، وقال السدي: بالقبطية هلم لك، وقال مجاهد وغيره: عربية تدعوه بها إلى نفسها، وهي كلمة حث وإقبال انتهى. ولا يبعد اتفاق اللغات في لفظ، فقد وجد ذلك في كلام العرب مع لغات غيرهم. وقال الجوهري: هوت وهيت به صاح به فدعاه، ولا يبعد أن يكون مشتقا من اسم الفعل، كما اشتقوا من الجمل نحو سبح وحمدك. ولما كان اسم فعل لم يبرز فيه الضمير، بل يدل على رتبة الضمير بما يتصل باللام من الخطاب نحو: هيت لك، وهيت لك، وهيت لكما، وهيت لكم، وهيت لكن. وقرأ نافع، وابن ذكوان، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر: هيت بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وفتح التاء، والحلواني عن هشام كذلك إلا أنه همز وعلى، وأبو وائل، وأبو رجاء، ويحيى، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وطلحة، والمقري، وابن عباس، وأبو عامر في رواية عنهما، وأبو عمرو في رواية وهشام في رواية كذلك، إلا أنهم ضموا التاء. وزيد بن علي وابن أبي إسحاق كذلك، إلا أنهما سهلا الهمزة. وذكر النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة، وكسر التاء. وقرأ ابن كثير وأهل مكة: بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء، وباقي السبعة أبو عمرو، والكوفيون، وابن مسعود، والحسن، والبصريون، كذلك، إلا أنهم فتحوا التاء. وابن عباس وأبو الأسود، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وعيسى البصرة كذلك. وعن ابن عباس: هييت مثل حييت، فهذه تسع قراءات هي فيها اسم فعل، إلا قراءة ابن عباس الأخيرة فإنها فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء، وإلا من ضم التاء وكسر الهاء سواء همز أم لم يهمز، فإنه يحتمل أن يكون اسم فعل كحالها عند فتح التاء أو كسرها، ويحتمل أن يكون فعلا واقعا ضمير المتكلم من هاء الرجل يهيىء إذا أحسن هيئته على مثال: جاء يجيء، أو بمعنى تهيأت. يقال: هيت وتهيأت بمعنى واحد. فإذا كان فعلا تعلقت اللام به، وفي هذه الكلمة لغات أخر. وانتصب معاد الله على المصدر أي: عياذا بالله من فعل السوء، والضمير في أنه الأصح أنه يعود على الله تعالى أي: إن الله ربي أحسن مثواي إذ نجاني من الجب، وأقامني في أحسن مقام. وإما أن يكون ضمير الشأن وغني بربه سيده العزيز فلا يصلح لي أن أخونه، وقد أكرم مثواي وائتمني قاله: مجاهد، والسدي، وابن إسحاق. ويبعد جدا، إذ لا يطلق نبي كريم على مخلوق أنه ربه، ولا بمعنى السيد، لأنه لم يكن في الحقيقة مملوكا له. إنه لا يفلح الظالمون أي المجازون الإحسان بالسوء. وقيل: الزناة، وقيل: الخائنون. وقرأ أبو الطفيل والجحدري مثوي، كما قرأ يا بشرى، وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء. استعاذ أولا بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شيء، ثم نبه على أن إحسان الله أو إحسان العزيز الذي سبق منه لا يناسب أن يجازى بالإساءة، ثم نفى الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالما أضع الشيء غير موضعه، وأتعدى ما حده الله تعالى لي.
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه طول المفسرون في تفسير هذين الهمين، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق.
294

والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: لقد قارفت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إن جواب لولا متقدم عليها وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري، وأبو العباس المبرد. بل نقول: إن جواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل. وكذلك هنا التقدير لولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فكان موجدا لهم على تقدير انتفاء رؤية البرهان، لكنه وجد رؤية البرهان فانتفي الهم. ولا التفات إلى قول الزجاج. ولو كان الكلام ولهم بها كان بعيدا فكيف مع سقوط اللام؟ لأنه يوهم أن قوله: وهم بها هو جواب لولا، ونحن لم نقل بذلك، وإنما هو دليل الجواب. وعلى تقدير أن يكون نفس الجواب فاللام ليست بلازمة لجواز أن ما يأتي جواب لولا إذا كان بصيغة الماضي باللام، وبغير لام تقول: لولا زيد لأكرمتك، ولولا زيد أكرمتك. فمن ذهب إلى أن قوله: وهم بها هو نفس الجواب لم يبعد، ولا التفات لقول ابن عطية إن قول من قال: إن الكلام قد تم في قوله: ولقد همت به، وإن جواب لولا في قوله وهم بها، وإن المعنى لولا أن رأى البرهان لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام قال، وهذا قول يرده لسان العرب وأقوال السلف انتهى. أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر، وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب قال الله تعالى: * (إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين) * فقوله: إن كادت لتبدي به، إما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدى به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا، مع كونها قادحة في بعض فساق المسلمين، فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفا، ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا لهم بها. ولا يدل كلام العرب إلا على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشيء لغير دليل عليه. وقد طهرنا كتابنا هذا عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب، ومساق الآيات التي في هذه السورة مما يدل على العصمة، وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين. ومن أراد أن يقف على ما نقل عن المفسرين في هذه الآية فليطالع ذلك في تفسير الزمخشري، وابن عطية، وغيرهما.
والبرهان الذي رآه يوسف هو ما آتاه الله تعالى من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله، والله لا يمكن الهم به فضلا عن الوقوع فيه. كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء. قال الزمخشري: الكاف منصوب المحل أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو مرفوعة أي: الأمر مثل ذلك. وقال ابن عطية: والكاف من قوله: كذلك، متعلة بمضمر تقديره: جرت أفعالنا وأقدارنا كذلك لنصرف. ويصح أن تكون الكاف في موضع رفع بتقدير عصمته، كذلك لنصرف. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: همت به
وهم بها كذلك، ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، لنصرف عنه ما هم به انتهى. وقال الحوفي: كذلك الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: أريناه البراهين كذلك. وقيل: في موضع رفع أي: أمر البراهين كذلك، والنصب أجود لمطالبة حروف الجر للأفعال أو معانيها. وقال أبو البقاء: كذلك في موضع رفع أي الأمر كذلك. وقيل: في موضع نصب أي: نراعيه كذلك، انتهى. وأقول: إن التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي، نرى براهيننا لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرأي أو الرؤية، والناصب للكاف ما دل عليه قوله: لولا أن رأى برهان ربه. ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف. ومصدر رأى رؤية ورأي قال:
295

* ورأى عيني الفتى أباكا
*
يعطي الجزيل فعليك ذاكا
*
وقرأ الأعمش: ليصرف، بياء الغيبة عائدا على ربه. وقرأ العربيان، وابن كثير: المخلصين إذا كان فيه إلى حيث وقع بكسر اللام، وباقي السبعة بفتحها. وفي صرف السوء والفحشاء عنه وكونه من المخلصين دليل على عصمته.
* (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم * قال هى راودتنى عن نفسى وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين) *: أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها، وهذه لمنعه ومراودته. وأصل استبق أن يتعدى بإلى، فحذف اتساعا. وتقدم أن الأبواب سبعة، فكان تنفتح له الأبواب بابا بابا من غير مفتاح، على ما نقل عن كعب أن فراش القفل كان يتناثر ويسقط، حتى خرج من الأبواب. ويحتمل أن تكون الأبواب المغلقة ليست على الترتيب بابا فبابا، بل تكون في جهات مختلفة كلها منافذ للمكان الذي كانا فيه، فاستبقا إلى باب يخرج منه. ولا يكون السابع على الترتيب، بل أحدها. وقدت يحتمل أن يكون معطوفا على واستبقا، ويحتمل أن يكون حالا أي: وقد قدت جذبته من خلفه بأعلى القميص من طوقه، فانخرق إلى أسفله. والقد: القطع والشق، وأكثر استعماله فيما كان طولا قال:
* تقد السلوقي المضاعف نسجه
*
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
*
والقط: يستعمل فيما كان عرضا، وقال المفضل بن حرب: رأيت في مصحف قط من دبر أي شق. قال يعقوب: الشق في الجلد في الصحيح، والثوب الصحيح. وقال ابن عطية: وقرأت فرقة قط. وألفيا سيدها أي: وجد أو صادفا زوجها وهو قطفير. والمرأة تقول لبعلها: سيدي، ولم يضف إليهما، لأن قطفير ليس سيد يوسف على الحقيقة. ويقال: ألفاه ووارطه وصادفه ووالطه ولاظه، كله بمعنى واحد. قيل: ألفياه مقبلا يريد أن يدخل،
296

وقيل: مع ابن عم المرأة. وفي الكلام حذف تقديره: فرابه أمرهما وقال: ما لكما؟ فلما سأل وقد خافت لومه، أو سبق يوسف بالقول، بادرت أن جاءت بحيلة جمعت فيها بين تبرئة ساحتها من الريبة، وغضبها على يوسف وتخويفه طمعا في مواقعتها خيفة من مكرها، كرها لما آيست أن يواقعها طوعا ألا ترى إلى قولها: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجن؟ ولم تصرح باسم يوسف، بل أتت بلفظ عام وهو قولها: ما جزاء من أراد، وهو أبلغ في التخويف. وما الظاهر أنها نافية، ويجوز أن تكون استفهامية أي: أي شيء جزاؤه إلا السجن؟ وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها، ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط. وقولها: ما جزاء أي: إن الذنب ثابت متقرر في حقه، وأتت بلفظ بسوء أي: بما يسوء، وليس نصا في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها، أو ضربه إياها. وقوله: إلا أن يسجن أو عذاب، يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم.
وقرأ زيد بن علي: أو عذابا أليما، وقدره الكسائي أو يعذب عذابا أليما. ولما أغرت بيوسف وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه فقال: هي راودتني عن نفسي، ولم يسبق إلى القول أولا سترا عليها، فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي، وأتى بضمير الغيبة، إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعينها بالإشارة فيقول: هذه راودتني، أو تلك راودتني، لأكن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة. ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلا فيه إناءة ونصفة، طلب الشاهد من كل منهما، فشهد شاهد من أهلها. فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وهلال بن يساف، والضحاك: كان ابن خالتها طفلا في المهد أنطقه الله تعالى ليكون أدل على الحجة. وروي في الحديث: * (إنه من * نكلم من كان فى المهد) * وأسنده الطبري. وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة، عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء) وقيل: كان ابن عمها الذي كان مع زوجها لدى الباب، ولا ينافي هذا قول قتادة، كان رجلا حليما من أهلها ذا رأي يأخذ الملك برأيه ويستشيره. وقيل: كان حكما حكمه زوجها فحكم بينهما، وكان الشاهد من أهلها ليكون أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف، وأنفى للتهمة. ويحتمل أن يكون معهما في الدار بحيث لا يشعر به، فبصر بما جرى بينهما، فأغضبه الله ليوسف، وشهد بالحق. ويبعد قول مجاهد وابن حبيب أن الشاهد هو القميص المقدود لقوله: شاهد من أهلها، ولا يوصف القميص بكونه شاهدا من أهل المرأة. وسمى الرجل شاهدا من حيث دل على الشاهد، وهو تخريق القميص. وقال الزمخشري: سمى قوله شهادة لأنه أدى تأديتها في ثبت قول يوسف وبطل قولها، وإن كان قميصه محكي إما بقال مضمرة على مذهب البصريين، وإما
بشهد، لأن الشهادة قول من الأقوال على مذهب الكوفيين. وكان هنا دخلت عليها أداة الشرط، وتقدم خلاف المبرد والجمهور فيها، هل هي باقية على مضيها ولم تقلها أداة الشرط؟ أو المعنى: أن يتبين كونه. فأداة الشرط في الحقيقة إنما دخلت على هذا المقدر. وجواب الشرط فصدقت وفكذبت، وهو على إضمار قد أي: فقد صدقت، وفقد كذبت. ولو كان فعلا جامدا أو دعاء لم يحتج إلى تقدير قد.
وقرأ الجمهور: من قبل، ومن دبر، بضم الباء فيهما والتنوين. وقرأ الحسن وأبو عمر، وفي رواية: بتسكينها وبالتنوين، وهي لغة الحجاز وأسد. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والعطاردي، وأبو الزناد، ونوح القارئ، والجار ودبن أبي سبرة بخلاف عنه: من قبل، ومن دبر، بثلاث سمات. وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق، والجارود أيضا في رواية عنهم: بإسكان الباء مع بنائهما على الضم، جعلوها غاية نحو: من قبل. ومعنى الغاية أن يصير المضاف غاية نفسه بعدما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما لأنهما اسمان
297

متمكنان، وليسا بظرفين. وقال أبو حاتم: وهذا رديء في العربية، وإنما يقع هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: والمعنى من قبل القميص ومن دبره، وأما التنكير فمعناه من جهة يقال لها: قبل، ومن جهة يقال لها: دبر. وعن ابن أبي إسحاق: أنه قرأ من قبل ومن دبر بالفتح، كان جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعلمية والتأنيث. وقال أيضا: (فإن قلت): إن دل قد قميصه من دبر على أنها كاذبة وأنها هي التي تبعته واجتذبت ثوبه إليها فقدته، فمن أين دل قده من قبل على أنها صادقة، وأنه كان تابعها؟ (قلت): من وجهين: أحدهما: أنه إذا كان تابعها وهي دافعة عن نفسها فقدت قميصه من قدامه بالدفع. والثاني: أن يسرع خلفها ليلحقها، فيتعثر في قدام قميصه فيشقه انتهى. وقوله: وهو من الكاذبين، وهو من الصادقين، جملتان مؤكدتان لأن من قوله: فصدقت، يعلم كذبه. ومن قوله: فكذبت، يعلم صدقه. وفي بناء قد للمفعول ستر على من قده، ولما كان الشاهد من أهلها راعي جهة المرأة فبدأ بتعليق صدقها على تبين كون القميص قد من قبل، ولما كانت كل جملة مستقلة بنفسها أبرز اسم كان بلفظ المظهر، ولم يضمر ليدل على الاستقلال، ولكون التصريح به أوضح. وهو نظير قوله: * (من يطع * الله ورسوله فقد * إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى) * فلما رأى العزيز، وقيل: الشاهد قميصه قد من دبر قال: إنه أي إن قولك: ما جزاء إلى آخره قاله الزجاج، أو أن هذا الأمر وهو طمعها في يوسف ذكره الماوردي والزمخشري، أو إلى تمزيق القميص قاله: مقاتل والخطاب في من كيدكن لها ولجواريها، أولها وللنساء. ووصف كيد النساء بالعظم، وإن كان قد يوجد في الرجال، لأنهن ألطف كيدا بما جبلن عليه وبما تفرغن له، واكتسب بعضهن من بعض، وهن أنفذ حيلة. وقال تعالى: * (ومن شر النفاثات فى العقد) * وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن، لكونهن أكثر تفرغا من غيرهن، وأكثر تأنسا بأمثالهن.
يوسف أعرض عن هذا أي: عن هذا الأمر واكتمه، ولا تتحدث به. وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها وقال: واستغفري لذنبك، والظاهر أن المتكلم بهذا هو العزيز. وقال ابن عباس: ناداه الشاهد وهو الرجل الذي كان مع العزيز وقال: استغفري لذنبك، أي لزوجك وسيدك انتهى. ثم ذكر سبب الاستغفار وهو قوله: لذنبك، ثم أكد ذلك بقوله: إنك كنت من الخاطئين، ولم يقل من الخاطئات، لأن الخاطئين أعم، لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب. يقال: خطىء إذا أذنب متعمدا. قال الزمخشري: وما كان العزيز إلا حليما، روي أنه كان قليل الغيرة انتهى. وتربة إقليم قطفير اقتضت هذا، وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس أنه وجارية تغنيهم من وراء ستر، فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما، فما لبث أن جيء برأس الجارية مقطوعا في طست وقال له الملك: استعد البيتين من هذا الرأس، فسقط في يد ذلك المستعيد، ومرض مدة حياة ذلك الملك.
2 (* (وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضلال مبين * فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هاذا بشرا إن هاذآ إلا ملك كريم * قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل مآ ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين * قال رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه
298

هو السميع العليم * ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين * ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين * قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربىإنى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالا خرة هم كافرون * واتبعت ملة آبآءي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نشرك بالله من شىء ذالك من فضل الله علينا وعلى الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * ياصاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار * ما تعبدون من دونه إلا أسمآء سميتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذالك الدين القيم ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ياصاحبى السجن أمآ أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الا خر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الا مر الذى فيه تستفتيان * وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين * وقال الملك إنىأرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ياأيها الملأ أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الا حلام بعالمين) *))
) *
النسوة بكسر النون فعلة، وهو جمع تكسير للقلة لا واحد له من لفظه. وزعم ابن السراج أنه اسم جمع. وقال الزمخشري: النسوة اسم مفرد لجمع المرأة، وتأنيثه غير حقيقي، ولذا لم تلحق فعله تاء التأنيث انتهى. وعلى أنه جمع تكسير لا يلحق التاء لأنه يجوز: قامت الهنود، وقام الهنود. وقد تضم نونه فتكون إذ ذاك اسم جمع،
وتكسيره للكثرة على نسوان، والنساء جمع تكسير للكثرة أيضا، ولا واحد له من لفظه.
شغف: خرق الشغاف، وهو حجاب القلب. وقيل: سويداؤه، وقيل: داء يصل إلى القلب فينفذ إلى القلب. وكسر الغين لغة تميم. وقيل: الشغاف جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب، شغف وصلت الحدة إلى القلب فكان يحترق من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران، والمشغوف الذي أحرق الحب قلبه. ومنه قول الأعشى:
* يعصي الوشاة وكان الحب آونة
*
مما يزين للمشفوف ما صنعا
*
299

وقد تكسر غينه. المتكأ: الوسادة، والنمرقة. المتك: الأترج، والواحد متكة قال الشاعر:
فاهدت متكة لهي أبيها
وقيل: اسم يعم جميع ما يقطع بالسكين الأترج وغيره من الفواكه. قال:
* يشرب الإثم بالصواع جهارا
*
ونرى المتك بيننا مستعارا
*
وهو من متك بمعنى بتك الشيء أي قطعه. وقال صاحب اللوامح: المتك بالضم عند الخليل، العسل، وعند الأصمعي الأترج. وقال أبو عمر: والشراب الخالص. وقال أبو عمر: وفيه ثلاث لغات، المتك بالحركات الثلاث، وقيل: بالكسر الخلال، وقيل: بل المسك. وقال الكسائي أيضا: فيه اللغات الثلاث، وقد يكون بالفتح المجمر عند قضاعة. وقال أيضا: قد يكون في اللغات الثلاث الفالوذ المعقد. وقال الفضل: في اللغات الثلاث هو المبزماورد، وكل ملفوف بلحم ورقاق. وقال أيضا: المتك بالضم المائدة، أو الخمر في لغة كندة. السكين: تذكر وتؤنث، قاله الفراء والكسائي. ولم يعرف الأصمعي فيه إلا التذكير. حاش: قال الفراء من السرب من يتمها، وفي لغة الحجاز: حاش لك، وبعض العرب: حشى زيد كأنه أراد حشى لزيد، وهي في أهل الحجاز انتهى. وقال الزمخشري: حاشى كلمة تفيد معنى التنزيه في الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشى زيد. قال:
* حاشى أبي ثوبان أن لنا
*
ضنا عن الملحاة والشتم
*
وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة، فمعنى حاش الله: براءة الله، وتنزيه الله انتهى. وما ذكر أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين، لا فرق بين قولك: قام القوم إلا زيدا، وقام القوم حاشى زيد. ولما مثل بقوله أساء القوم حاشى زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيد من الإساءة، جعل ذلك مستفادا منها في كل موضع. وأما ما أنشده من قوله: حاشى أبي ثوبان، فكذا ينشده ابن عطية، وأكثر النحاة. وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز آخر، وهما من بيتين وهما:
حاشى أبي ثوبان أن أبا ثوبان ليس ببكمة فدم
* عمرو بن عبد الله إن به
*
ضنا عن الملحاة والشتم
*
عصر العنب وغيره أخرج ما فيه من المائع بقوة. الخبر: معروف، وجمعه اخباز، ومعانيه خباز. البضع: ما بين الثلاث إلى التسع قاله قتادة. وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة، وقال أبو عبيدة: البضع لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى العشرة. وقال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، ولا يذكر مع مائة ولا
300

ألف. السمن: معروف وهو مصدر سمن يسمن، واسم الفاعل سمين، والمصدر واسم الفاعل على غير قياس. العجفاء: المهذولة جدا قال:
ورجال مكة مستنون عجاف
الضغث أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب من جنس واحد أو، من أخلاط النبات والعشب فمن جنس واحد ما روي في قوله: * (وخذ بيدك ضغثا
فاضرب به) * إنه أخذ عثكالا من النخل. وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم) فعل نحو هذا في إقامة حد على رجل. وقال ابن مقبل:
* خود كأن راشها وضعت به
*
أضغاث ريحان غداة شمال
*
ومن الأخلاط قول العرب في أمثالها: ضغث على إمالة.
* (وقال نسوة فى المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها فى ضلال مبين) *: لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث، ويجوز فيه الوجهان. ونسوة كما ذكرنا جمع قلة. وكن على ما نقل خمسا: امرأة خبازة، وامرأة ساقية، وامرأة بوابة، وامرأة سجانة، وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر. ومعنى في المدينة: أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف، وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع، لأن النفوس أقبل لسماع ذوي الأخطار وما يجري لهم. وعبرت بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها، تخادعه دائما عن نفسه كما تقول: زيد يعطي ويمنع. ولم يقلن: راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونه قد شغفها حبا أي: بلغ حبه شغاف قلبها. وانتصب حبا على التمييز المنقول من الفاعل كقوله: ملأت الإناء ماء، أصله ملأ الماء الإناء. وأصل هذا شغفها حبه، والفتى الغلام وعرفه في المملوك. وفي الحديث: (لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي)، وقد قيل في غير المملوك. وأصل الفتى في اللغة الشاب، ولكنه لما كان جل الخدمة شبانا استعير لهم اسم الفتى. وقرأ ثابت البناتي: شغفها بكسر الغين المعجمة، والجمهور بالفتح. وقرأ علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد، والشعبي، وعوف الأعرابي: بفتح العين المهملة، وكذلك قتادة وابن هرمز ومجاهد وحميد والزهري بخلاف عنهم، وروي عن ثابت البناني وابن رجاء كسر العين المهملة. قال ابن زيد: الشغف ف يالحب، والشغف في البغض. وقال الشعبي: الشغف والمشغوف بالغين منقوطة في الحب، والشغف الجنون، والمشعوف المجنون. وأدغم النحويان، وحمزة، وهشام، وابن محيصن دال قد في شين شغفها. ثم نقمن عليها ذلك فقلن: إنا لنراها في ضلال مبين أي: في تحير واضح للناس.
* (فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وءاتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه) *: روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بامرأة العزيز ليغضبنها حتى تعرض عليهن يوسف ليبين عذرها، أو يحق لومها ومكرهن هو اغتيابهن إياها، وسوء مقالتهن فيها أنها عشقت يوسف. وسمي الاغتياب مكرا، لأنه في خفية وحال غيبة، كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت استكتمتهن سرها فأفشينه عليها، أرسلت إليهن ليحضرن. قيل: دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات. والظاهر عود الضمير على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.
وأعتدت لهن متكئا أي: يسرت
301

وهيئأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخاد والوسائد، وغير ذلك مما يكون في مجلس أعد للكرامة. ومن المعلوم أن هذا النوع من الإكرام لا يخلو من طعام وشراب، وهنا محذوف تقديره: فجئن واتكأن. ومتكئا إما أن يراد به الجنس، وإما أن يكون المراد وأعتدت لكل واحدة منهن متكئا، كما جاءت وآتت كل واحدة منهن سكينا. قال ابن عباس متكئا مجلسا، ذكره الزهراوي، ويكون متكئا ظرف مكان أي: مكانا يتكئن فيه. وعلى ما تقدم تكون الآلات التي يتكأ عليها. وقال مجاهد: المتكأ الطعام يحز حزا. قال القتبي: يقال اتكأ عند فلان أي أكلنا، ويكون هذا من المجاز عبر بالهيئة التي يكون عليها الآكل المترف بالمتكأ وهي عادة المترفين، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم): * (أما * أنا * فلا * أكل * متكئا) * أو كما قال: وإذا كان المتكأ ليس معبرا به عما يؤكل، فمعلوم أن مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب، فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين. فقيل: كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم، إنما كانوا يأكلونه حزا بالسكاكين. وقيل: كان أترجا، وقيل: كان بزماورد وهو شبيه بالأترج موجود في تلك البلاد. وقيل: هو مصنوع من سكر ولوز وأخلاط، ومضمونه: أنه يحتاج إلى أن يقطع بالسكين، وعادة من يقطع شيئا أن يعتمد عليه، فيكون متكئا عليه. قيل: وكان قصدها في بروزهن على هذه الهيئات متكئات في أيديهن سكاكين يحززن بها شيئين: أحدهما: دهشن عند رؤيته وشغلهن بأنفسهن، فتقع أيديهن على أيديهن فيقطعنها فتبكتهن، ويكون ذلك مكرا بهن إذ ذهلن عما أصابهن من تقطيع أيديهن، وما أحسسن به مع الألم الشديد لفرط ما غلب عليهن من استحسان يوسف وسلبه عقولهن. والثاني: التهويل على يوسف بمكرها إذا خرج على نساء مجتمعات في أيديهن الخناجر، توهمه أنهن يثبن عليه، فيكون يحذر مكرها دائما. ولعله يجيبها إلى مرادها على زعمها ذلك، ويوسف قد عصمه الله من كل ما تريده به من السوء.
وقرأ الزهري، وأبو جعفر، وشيبة: متكي مشدد التاء من غير همز بوزن متقي، فاحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يكون من الاتكاء، وفيه تخفيف الهمز كما قالوا في توضأت توضئة. والثاني: يكون مفتعلا من أوكيت السقاء إذا شددته أي: ما يشتددن عليه، إما بالاتكاء، وإما بالقطع بالسكين. وقرأ الأعرج: متكئا مفعلا من تكأ يتكأ إذا اتكأ. وقرأ الحسن: وابن هرمز: متكأ بالمد والهمز، وهو مفتعل من الاتكاء، إلا أنه أشبع الفتحة فتولدت منها الألف كما قالوا: ومن ذم الرجال بمنتزاح. وقالوا:
* أعوذ بالله من العقراب
*
الشائلات عقد الأذناب
*
وقرأ ابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والجحدري، والكلبي، وإبان بن تغلب: متكئا بضم الميم وسكون التاء وتنوين الكاف، وجاء كذلك عن ابن هرمز. وقرأ عبد الله ومعاذ، وكذلك إلا أنهما فتحا الميم، وتقدم تفسير متك، ومتك في المفردات. وقالت: اخرج عليهن، هذا الخطاب ليوسف عليه السلام. وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه، وفي الكلام حذف تقديره: فخرج عليهن. ومعنى أكبرنه: أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع. قيل: كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء. وفي حديث الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم) لما أخبر بلقيا يوسف قيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: (كالقمر ليلة البدر) وقيل: كان إذا سار في أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس. وقيل: كان يشبه آدم يوم خلقه ربه. وقيل: ورث الجمال عن جدته سارة. وقال عبد الصمد بن علي الهاشمي، عن أبيه، عن جده: معناه حضن، وأنشد بعض النساء حجة لهذا التأويل:
302

* تأتي النساء على أطهارهن ولا
*
تأتي النساء إذا أكبرن إكبارا
*
قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف، والبيت مصنوع مختلق، كذلك قال الطبري وغيره من المحققين، وليس عبد الصمد من رواة العلم رحمة الله. وقال الزمخشري: وقيل أكبرن بمعنى حضن، والهاء للسكت يقال: أكبرت المرأة إذا حاضت، وحقيقته من الكبر لأنها بالحيض تخرج عن حد الصغر إلى حد الكبر، وكأن أبا الطيب أخذ من هذا التفسير قوله:
* خف الله واستر ذا الجمال ببرقع
*
فإن لحت حاضت في الخدور العواتق انتهى. وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل دليل على أنها ليست هاء السكت، إذ لو كانت هاء السكت، وكان من أجرى الوصل مجرى الوقف، لم يضم الهاء. والظاهر أن الضمير يعود في أكبرنه على يوسف إن ثبت أن أكبر بمعنى حاض، فتكون الهاء عائدة على المصدر أي: أكبرن الإكبار. وقطعن أيديهن أي جرحنها، كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي. والتضعيف للتكثير إما بالنسبة لكثرة القاطعات، وإما بالنسبة لتكثير الحز في يد كل واحدة منهن. فالجرح كأنه وقع مرارا في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهبت بما راعها من جمال يوسف، فكأنها غابت عن حسها. والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم.
*
وقال عكرمة: الأيدي هنا الأكمام، ولما فعلن هذا الفعل الصعب من جرح أيديهن، وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه قلن: حاش لله. قرأ الجمهور: حاش لله بغير ألف بعد الشين، ولله بلام الجر. وقرأ أبو عمرو: حاشا لله بغير ألف، ولام الجر. وقرأت فرقة منهم الأعمش: حشى على وزن رمى لله بلام الجر. وقرأ الحسن: حاش بسكون الشين وصلا، ووقفا بلام الجر. وقرأ أبي وعبد الله: حاشى الله بالإضافة، وعنهما كقراءة أبي عمرو، قاله صاحب اللوامح. وقرأ الحسن: حاش الإله. قال ابن عطية: محذوفا من حاشى. وقال صاحب اللوامح: بحذف الألف، وهذه تدل على كونه حرف جر يجر ما بعده. فأما الإله فإنه فكه عن الإدغام، وهو مصدر أقيم مقام المفعول، ومعناه المألوه بمعنى المعبود. قال: وحذفت الألف من حاش للتخفيف انتهى. وهذا الذي قاله ابن عطية وصاحب اللوامح: من أن الألف في حاشى في قراءة الحسن محذوفة لا تتعين، إلا أن نقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشين، فإن لم ينقل عنه في ذلك شيء فاحتمل أن تكون الألف حذفت لالتقاء الساكنين، إذ الأصل حاشى الإله، ثم نقل فحذف الهمزة وحرك اللام بحركتها، ولم يعتد بهذا التحريك لأنه عارض، كما تنحذف في يخشى الإله. ولو اعتد بالحركة لم تحذف الألف. وقرأ أبو السمأل: حاشا لله بالتنوين كرعيا لله، فأما القرءات لله بلام الجر في غير قراءة أبي السمأل فلا يجوز أن يكون ما قبلها من حاشى، أو حاش، أو حشى، أو حاش حرف جر، لأن حرف الجر لا يدخل على حرف الجر، ولأنه تصرف فيهما بالحذف، وأصل التصرف بالحذف أن لا يكون في الحروف. وزعم المبرد وغيره كابن عطية: أنه يتعين فعليتها، ويكون الفاعل ضمير يوسف أي: حاشى يوسف أن يقارف ما رمته به. ومعنى لله: لطاعة الله، أو لمكانة من الله، أو لترفيع الله أن يرمي بما رمته به، أو يذعن إلى مثله، لأن ذلك أفعال البشر، وهو ليس منهم، إنما هو ملك. وعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي: جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله، أو لما ذهب قبل. وذهب غير المبرد إلى أنها اسم، وانتصابها انتصاب المصدر الواقع بدلا من اللفظ بالفعل كأنه قال: تنزيها لله. ويدل على اسميتها قراءة أبي السمال حاشا
303

منونا، وعلى هذا القول يتعلق لله بمحذوف على البيان كلك بعد سقيا، ولم ينون في القراءات المشهورة مراعاة لأصله الذي نقل منه وهو الحرف. ألا تراهم قالوا: من عن يمينه، فجعلوا عن اسما ولم يعربوه وقالوا: من عليه فلم يثبتوا ألفه مع المضمر، بل أبقوا عن علي بنائه، وقلبوا ألف على مع الضمير مراعاة لأصلها، وأما قراءة الحسن وقراءة أبي بالإضافة فهو مصدر مضاف إلى ألفه كما قالوا: سبحان الله، وهذا اختيار الزمخشري. وقال ابن عطية: وأما قراءة أبي بن كعب وابن مسعود فقال أبو علي: إن حاشى حرف استثناء، كما قال الشاعر:
حاشى أبي ثوبان
وأما قراءة الحسن حاش بالتسكين ففيها جمع بين ساكنين، وقد ضعفوا ذلك. قال الزمخشري: والمعنى تنزيه الله من صفات العجز، والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله. وأما قوله: حاشى لله، ما علمنا عليه من سوء، فالتعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. ما هذا بشرا لما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان، نفين عنه البشرية، وأثبتن له الملكية، لما كان مركوزا في الطباع حسن الملك، وإن كان لا يرى. وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب:
* فلست لأنسى ولكن لملاك
*
تنزل من جو السماء يصوب
*
وقال بعض المحدثين:
* قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
*
حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
*
وانتصاب بشرا على لغة الحجاز، ولذا جاء * (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم) * وما منكم من أحد عنه حاجزين، ولغة تميم الرفع. قال ابن عطية: ولم يقرأ به. وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع، وهي قراءة ابن مسعود انتهى. وقرأ الحسن وأبو الحويرث الحنفي: ما هذا بشرى، قال صاحب اللوامح: فيحتمل أن يكون معناه بمبيع أو بمشرى أي: ليس هذا مما يشترى ويباع. ويجوز أن يكون ليس بثمن كأنه قال: هو أرفع من أن يجري عليه شيء من هذه الأشياء، فالشراء هو مصدر أقيم مقام المفعول به. وتابعهما عبد الوارث عن أبي عمرو على ذلك، وزاد عليهما: إلا ملك بكسر اللام واحد الملوك، فهم نفوا بذلك عنه ذل المماليك وجعلوه في حيز الملوك، والله أعلم انتهى. ونسب ابن عطية كسر اللام للحسن وأبي الحويرث اللذين قرآ بشرى قال: لما استعظمن حسن صورته قلن هذا ما يصلح أن يكون عبدا بشرى، إن هذا إلا يصلح أن يكون ملكا كريما. وقال الزمخشري: وقرئ ما هذا بشرى أي: بعبد مملوك لئيم، إن هذا إلا ملك كريم. تقول: هذا بشرى أي حاصل بشرى، بمعنى هذا مشتري. وتقول: هذا لك بشرى، أي بكرا. وقال: وإعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية، وبها ورد القرآن انتهى. وإنما قال القدمي، لأن الكثير في لغة الحجاز إنما هو جر الخبر بالباء، فتقول: ما زيد بقائم، وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة، حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر:
304

* وأنا النذير بحرة مسودة
*
تصل الجيوش إليكم أقوادها
*
* أبناؤها متكنفون أباهم
*
حنقو الصدور وما هم أولادها
*
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز، ينطقون إلا بالباء، فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري: اللغة القدمى الحجازية، فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها.
* (قالت فذالكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما ءامره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) *: ذا اسم الإشارة، واللام لبعد المشار، وكن خطاب لتلك النسوة. واحتمل أن يكون لما رأى دهشهن وتقطيع أيديهن بالسكاكين وقولهن: ما هذا بشرا، بعد عنهن إبقاء عليهن في أن لا تزداد فتنتهن، وفي أن يرجعن إلى حسنهن، فأشارت إليه باسم الإشارة الذي للبعيد، ويحتمل أن تكون أشارت إليه وهو للبعد قريب بلفظ البعيد رفعا لمنزلته في الحسن، واستبعاد المحله فيه، وأنه لغرابته بعيد أن يوجد منه. واسم الإشارة تضمن الأوصاف السابقة فيه كأنه قيل: الذي قطعتن أيديكن بسببه وأكبرتنه وقلتن فيه ما قلتن من نفي البشرية عنه وإثبات الملكية له، هو الذي لمتنني فيه أي: في محبته وشغفي به، قال الزمخشري: ويجوز أن يكون إشارة إلى المعنى بقولهن: عشقت عبدها الكنعاني تقول: هذا ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه، يعني: إنكن لو تصورنه بحق صورته، ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتننان به انتهى. والضمير في فيه عائد
على يوسف. وقال ابن عطية: ويجوز أن تكون الإشارة إلى حب يوسف، والضمير عائد على الحب، فيكون ذلك إشارة إلى غائب على بابه انتهى. ثم أقرت امرأة العزيز للنسوة بالمراودة، واستنامت إليهن في ذلك، إذ علمت أنهن قد عذرنها.
فاستعصم قال ابن عطية: معناه طلب العصمة، وتمسك بها وعصاني. وقال الزمخشري: والاستعصام بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، ونحو: استمسك، واستوسع،، واستجمع الرأي، واستفحل الخطب. وهذا بيان لما كان من يوسف عليه السلام لا مزيد عليه، وبرهان لا شيء أنور منه على أنه بريء مما أضاف إليه أهل الحشو مما فسروا به الهم والبرهان انتهى. والذي ذكر التصريفيون في استعصم أنه موافق لاعتصم، فاستفعل فيه موافق لافتعل، وهذا أجود من جعل استفعل فيه للطلب، لأن اعتصم يدل على وجود اعتصامه، وطلب العصمة لا يدل على حصولها. وأما أنه بناء مبالغة يدل على الاجتهاد في الاستزادة من العصمة، فلم يذكر التصريفيون هذا المعنى لاستفعل. وأما استمسك واستوسع واستجمع الرأي فاستفعل فيه موافقة لافتعل، والمعنى: امتسك واتسع واجتمع الرأي، وأما استفحل الخطب فاستفعل فيه موافقة لتفعل أي: تفحل الخطب نحو: استكبر وتكبر. ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها بقولها: ولئن لم يفعل ما آمره. والضمير في آمره عائد على الموصول أي: ما آمر به، فحذف الجار، كما حذف في أمرتك الخير. ومفعول آمر الأول محذوف، وكان التقدير ما آمره به. وإن جعلت ما مصدرية جاز، فيعود الضمير على يوسف أي: أمري إياه، ومعناه: موجب أمري. وقرأت فرقة: وليكونن بالنون المشددة، وكتبها في المصحف بالألف مراعاة لقراءة الجمهور بالنون الخفيفة، ويوقف عليها بالألف كقول الأعشى:
ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا
305

ومن الصاغرين: من الأذلاء، ولم يذكر هنا العذاب الأليم الذي ذكرته في ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، لأنها إذ ذاك كانت في طراوة غيظها ومتنصلة من أنها هي التي راودته، فناسب هناك التغليظ بالعقوبة. وأما هنا فإنها في طماعية ورجاء، وأقامت عذرها عند النسوة، فرقت عليه، فتوعدته بالسجن. وقال له النسوة: أطع وافعل ما أمرتك به، فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه. فأسند الفعل إليهن لما ينصحن له وزين له مطاوعتها، ونهينه عن الفاء نفسه في السجن والصغار، فالتجأ إلى الله تعالى. والتقدير: دخول السجن. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والزهري، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي: حبسهم إياي في السجن أحب إلي وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل، لأنه لم يحب ما يدعونه إليه قط، وإنما هذان شران، فآثر أحد الشرين على الآخر، وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة، لكن لما يترتب على تلك اللذة من معصية الله وسوء العاقبة، ولم يخطر له ببال. ولما في الآخر من احتمال المشقة في ذات الله، والصبر على النوائب، وانتظار الفرج، والحضور مع الله تعالى في كل وقت داعيا له في تخليصه. آثره ثم ناط العصمة بالله، واستسلم لله كعادة الأنبياء والصالحين، وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو، فقال: وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن أي: أمل إلى ما يدعونني إليه. وجعل جواب الشرط قوله: أصب، وهي كلمة مشعرة بالميل فقط، لا بمباشرة المعصية. وقرئ أصب إليهن من صببت صباة فأنا صب، والصبابة إفراط الشوق، كأنه ينصب فيما يهوي. وقراءة الجمهور: أصب من صبا إلى اللهو يصبو صبا وصبوا، ويقال: صبا يصبا صبا، والصبا بالكسر اللهو واللعب. وأكن من الجاهلين من الذين لا يعلمون، لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء، أو من السفهاء لأن الوقوع في موافقة النساء والميل إليهن سفاهة. قال الشاعر:
* إحدى بليلي وما هام الفؤاد بها
*
إلا السفاه وإلا ذكرة حلما وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: وإلا تصرف عني، فيه معنى طلب الصرف والدعاء، وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن، فصرف عنه كيدهن أي: حال بينه وبين المعصية. إنه هو السميع لدعاء الملتجئين إليه، العليم بأحوالهم وما انطوت عليه نياتهم. ثم بدا لهم أي: ظهر لهم، والفاعل لبدا ضمير يفسره ما يدل عليه المعنى أي: بدا لهم هو أي رأى أو بدا. كما قال:
بدا لك من تلك القلوص بداء
*
هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله: ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي: سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو. والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله: ليسجنن، أو من قوله: السجن على قراءة الجمهور، أو
306

على السجن على قراءة من فتح السين. والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي: الشواهد الدالة على براءة يوسف. قال مجاهد وغيره: قد القميص، فإن كان الشاهد طفلا فهي آية عظيمة، وإن كان رجلا فيكون استدلالا بالعادة. والذي يظهر أن الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد. وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره. وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها، والسدي من حز أيديهن، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين. وقرأ الحسن: لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ ابن مسعود: عتى بإبدال حاء حتى عيتا، وهي لغة هذيل. وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرئ بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل، والمعنى: إلى زمان. والحبن يدل على مطلق الوقت، ومن عين له هنا زمانا فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف، لا أنه موضوع في اللغة كذلك، وكأنها اقترحت زمانا حتى تبصر ما يكون منه. وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء،
واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها، وعشقه لها، وجعله زمام أمره بيدها، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف. روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها: إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإلا حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه، قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أن يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاؤه أن يسجن. قال أبو صالح: ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي.
* (ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما أرانى أعصر خمرا وقال الآخر إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من) *: في الكلام حذف تقديره: فسجنوه، فدخل معه السجن غلامان. وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما قاله: السدي. ومع تدل على الصحبة واستحداثها، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة. ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسال لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزمان، وأحبه صاحب السجن والقيم عيه وقال له: كن في أي البيوت شيئت فقال له يوسف: لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت على المحبة مضرات، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى. وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن: إني أعبر الرؤيا وأجيد. وروي أن الفيتين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال: أنشدكما الله أن لا تحباني، وذكر ما تقدم. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول: اصبروا وأبشروا تؤجروا أن لهذا لأجرا فقالوا: بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال يوسف: ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك.
وهذه الرؤيا التي للفتيين قال مجاهد: رأيا ذلك حقيقة فأراد سؤاله. وقال ابن مسعود والشعبي: استعملاها ليجرباه. والذي رأى عصر لخمر اسمه بنو قال: رأيت حبلة من كرم لها ثلاثة أغصان حسان، فيها عناقيد عنب حسان، فكنت أعصرها وأسقي الملك. والذي رأى الخبز اسمه ملحب قال: كنت أرى أن أخرج من مطبخة الملك وعلى رأسي ثلاث سلال فيها
307

خبز، والطير تأكل من أعلاه، ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى، فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن، وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع للضمير المتصل، وكلاهما لمدلول واحد. ولا يجوز أن يقول: اضربني ولا أكرمني. وسمى العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة غسان اسم العنب. وقيل: في لغة ازدعمان. وقال المعتمر: لقيت أعرابيا يحمل عنبا في وعاء فقلت: ما تحمل؟ قال: خمرا، أراد العنب. وقرأ أبي وعبد الله: أعصر عنبا، وينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لمخالفته سواد المصحف، وللثابت عنهما بالتواتر قراءتهما أعصر خمرا. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون وصف الخمر بأنها معصورة، إذ العصر لها ومن أجلها. وفي مصحف عبد الله: فوق رأسي ثريدا تأكل الطير منه، وهو أيضا تفسير لا قراءة. والضمير في تأويله عائدا إلى ما قصا عليه، أجرى مجرى اسم الإشارة كأنه قيل: بتأويل ذلك. وقال الجمهور: من المحسنين أي في العلم، لأنهما رأيا سنة ما علما به أنه عالم. وقال الضحاك وقتادة: من المحسنين في حديثه مع أهل السجن وإجماله معهم. وقال ابن إسحاق: أرادا إخباره أنهما يريان له إحسانا عليهما ويدا، إذا تأول لهما ما رأياه.
* (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذالكما مما علمنى ربى إنى تركت ملة قوم) *: قال الزمخشري: لما استعداه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك، فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما، ويصفه لهما ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما، ويجعل ذلك تخليصا إلى أن يذكر لهما التوحيد، ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما، ويقبح لهما الشرك بالله، وهذه طريقة على كل ذي علم أن يسلكها مع الجهال والفسقة إذا استفتاه واحد منهم أن يقدم الإرشاد والموعظة والنصيحة أولا، ويدعوه إلى ما هو أولى به وأوجبه عليه مما استفتى فيه، ثم يفتيه بعد ذلك. وفيه أن العالم إذا جهلت منزلته في العلم فوصف نفسه بما هو بصدده، وغرضه أن يقتبس منه، وينتفع به في الدين، لم يكن من باب التزكية بتأويله ببيان ماهيته وكيفيته، لأن ذلك يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معاينة انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري يدل على أن إتيان الطعام يكون في اليقظة، وهو قول ابن جريج قال: أراد يوسف لا يأتيكما في اليقظة ترزقانه إلا نبأتكما منه بعلم، وبما يؤول إليه أمركما أن يأتيكما، فعلى هذا أراد أن يعلمهم أنه يعلم مغيبات لا تتعلق بالرؤيا، وهذا على ما روي أنه نبىء في السجن. وقال السدي وابن إسحاق، لما علم من تعبير منامه رأى الخبز أنها تؤذن بقتله، أخذ في غير ذلك الحديث تنسية لهما أمر المنام، وطماعية في أيمانهما، ليأخذ المقتول بحظه من الإيمان، وتسلم له آخرته فقال لهما معلنا بعظيم علمه للتعبير: إنه لا يجيئكما طعام في يومكما تريان أنكما رزقتماه ألا أعلمتكما بتأويل ذلك الطعام أي: بما يؤول إليه أمره في اليقظة، قبل أن يظهر ذلك التأويل الذي أعلمكما به. فروى أنهما قالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: ذلك مما علمني ربي. والظاهر أن قوله لا يأتيكما إلى آخره، أنه في اليقظة، وأن قوله: مما علمني ربي دليل على أني إذ ذاك كان نبيا يوحى إليه. والظاهر أن قوله: إني تركت، استئناف إخبار بما هو عليه، إذ كانا قد أحباه وكلفا بحبه وبحسن أخلاقه، ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه. وفي الحديث: (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم) وعبر بتركت مع أنه لم يتشبث بتلك الملة قط، إجراء للترك مجرى التجنب من أول حالة، واستجلابا لهما لأن يتركا تلك الملة التي كانا فيها. ويجوز أن يكون إني تركت تعليلا لما قبله أي: علمني ذلك، وأوحي إلي لأني رفضت ملة أولئك، واتبعت ملة الأنبياء، وهي الملة الحنيفية. وهؤلاء الذين لا يؤمنون هم أهل مصر، ومن كان الفتيان على دينهم. ونبه على أصلين عظيمين وهما:
الإيمان بالله، والإيمان بدار الجزاء، وكررهم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل. وقال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة، وأن
308

غيرهم مؤمنون بها. ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيها على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي لا يرتكبها إلا من هو كافر بدار الجزاء انتهى. وليست عندنا هم تدل على الخصوص، وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة. ولما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة، بعد أن عرفهما أنه نبي، بما ذكر من أخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله. وقرأ الأشهب العقيلي والكوفيون: آبائي بإسكان الياء، وهي مروية عن أبي عمرو. ما كان لنا ما صح ولا استقام لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله من شيء عموم في الملك والجني والإنسي، فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر؟ فشئ يراد به المشرك. ويجوز أن يراد به المصدر أي: من شيء من الإشراك، فيعم الإشراك، ويلزم عموم متعلقاته. ومن زائدة لأنها في حيز النفي، إذ المعنى: ما نشرك بالله شيئا، والإشارة بذلك إلى شركهم وملتهم أي: ذلك الدين والشرع الحنيفي الذي انتفى فيه الإشراك بالله، ومن فضل الله علينا أي: على الرسل، إذ خصوا بأن كانوا وسائط بين الله وعباده. وعلى الناس أي: على المرسل إليهم، إذ يساقون به إلى النجاة حيث أرشدوهم اليه. وقوله: لا يشكرون أي: لا يشكرون فضل الله فيشركون ولا ينتبهون. وقيل: ذلك من فضل الله علينا، لأنه نصب لنا الأدلة التي ننظر فيها ونستدل بها، وقد نصب مثل ذلك لسائر الناس من غير تفاوت، ولكن أكثر الناس لا ينظرون ولا يشكرون اتباعا لأهوائهم، فيبقون كافرين غير شاكرين.
* (يشكرون ياصاحبى السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وءاباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله) *: لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفتيين من عبادة الأصنام، فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتتمخض فيه النصيحة. واحتمل قوله: يا صاحبي السجن، أن يكون من باب الإضافة إلى الظرف، والمعنى: يا صاحبي في السجن، واحتمل أن يكون من إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل: يا ساكني السجن، كقوله * (أصحاب النار) * * (وأصحاب الجنة) * ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب، فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام. وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها، فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها، ثم كذلك إلى أن يصل إلى الإذعان بالحق. وقابل تفرق أربابهم بالواحد، وجاء بصفة القهار تنبيها على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة، وإعلاما بعرو أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به، وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد. والمعنى: أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله؟ فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادته، ثم استطرد بعد الاستفهام إلى إخبار عن حقيقة ما يعبدون. والخطاب بقوله: ما تعبدون، لهما ولقومهما من أهل. ومعنى إلا أسماء: أي ألفاظا أحدثتموها أنتم وآباؤكم فهي فارغة لا مسميات تحتها، وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في الأعراف. إن الحكم إلا لله أي: ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه. ومعنى القيم: الثابت الذي دلت عليه البراهين. لا يعلمون بجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.
* (يعلمون ياصاحبى السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذى فيه تستفتيان وقال للذى ظن أنه ناج منهما اذكرنى عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث فى السجن بضع سنين) *: لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهما، ناداهما ثانيا لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب، فروي أنه قال: لبنو: أما أنت فتعود إلى مرتبتك وسقاية ربك، وما رأيت من الكرامة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال لملحب: أما أنت فما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب، فروي أنهما قالا: ما رأينا شيئا، وإنما تحالمنا لنجربك. وروي أنه لم يقل ذلك إلا الذي حدثه بالصلب. وروي أنهما رأيا ثم أنكرا. وقرأ الجمهور: فيسقي ربه من سقى، وفرقة: فيسقي من أسقى، وهما
309

لغتان بمعنى واحد. وقرئ في السبعة: نسقيكم ونسقيكم. وقال صاحب اللوامح: سقى وأسقى بمعنى واحد في اللغة، والمعروف أن سقاه ناوله ليشرب، وأسقاه جعل له سقيا. ونسب ضم الفاء لعكرمة والجحدري، ومعنى ربه. سيده. وقال ابن عطية: وقرأ عكرمة والجحدري: فيسقي ربه خمرا بضم الياء وفتح القاف، أي ما يرويه. وقال الزمخشري: وقرأ عكرمة فيسقى ربه، فيسقى ما يروى به على البناء للمفعول، ثم أخبرهما يوسف عليه السلام عن غيب علمه من قبل الله أن الأمر قد قضى ووافق القدر، وسواء كان ذلك منكما حلم، أو تحالم. وأفرد الأمر وإن كان أمر هذا، لأن المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن، هو اتهام الملك إياهما بسمه، فرأيا ما رأيا، أو تحالما بذلك، فقضيت وأمضيت تلك العاقبة من نجاة أحدهما، وهلاك الآخر. وقال أي: يوسف للذي ظن: أي أيقن هو أي يوسف: إنه ناج وهو الساقي. ويحتمل أن يكون ظن على بابه، والضمير عائد على الذي وهو الساقي أي: لما أخبره يوسف بما أخبره، ترجح عنده أنه ينجو، ويبعد أن يكون الظن على بابه، ويكون مسندا إلى يوسف على ما ذهب إليه قتادة والزمخشري. قال قتادة: الظن هنا على بابه، لأن عبارة الرؤيا ظن. وقال الزمخشري: الظان هو يوسف عليه السلام إن كان تأويله بطريق الاجتهاد فيبعد، لأنه قوله: قضي الأمر، فيه تحتم ما جرى به القدر وإمضاؤه، فيظهر أن ذلك بطريق الوحي، إلا أن حمل قضي الأمر على قضى كلامي، وقلت ما عندي، فيجوز أن يعود على يوسف. فالمعنى أن يوسف عليه السلام قال لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك: اذكرني عند الملك أي: بعلمي ومكانتي وما أنا عليه مما آتاني الله، أو اذكرني بمظلمتي وما امتحنت به بغير حق. وهذا من يوسف على سبيل الاستعانة والتعاون في تفريج كربه، وجعله بإذن الله وتقديره سببا للخلاص كما جاء عن عيسى عليه السلام: * (من أنصارى إلى الله) * وكما كان الرسول يطلب من يحرسه. والذي أختاره أن يوسف إنما قال لساقي الملك: اذكرني عند ربك ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله، كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه. والضمير في فأنساه عائد على الساقي
، ومعنى ذكر ربه: ذكر يوسف لربه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة. وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف، لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن. ويضع سنين مجمل، فقيل: سبع، وقيل: اثنا عشر. والظاهر أن قوله: فلبث في السجن، إخبار عن مدة مقامه في السجن، منذ سجن إلى أن أخرج. وقيل: هذا اللبث هو ما بعد خروج الفتيين وذلك سبع. وقيل: سنتان. وقيل: الضمير في أنساه عائد على يوسف. ورتبوا على ذلك أخبارا لا تليق نسبتها إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
* (وقال الملك إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يأيها * أيها * الملا أفتونى فى رؤياى إن كنتم للرؤيا تعبرون * قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين) *: لما دنا فرج يوسف عليه السلام رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته، فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف، فابتلعت العجاف السمان. ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها، وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها. أرى: يعني في منامه، ودل على ذلك: أفتوني في رؤياي. وأرى حكاية حال، فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت. وسمان صفة لقوله: بقرات، ميز العدد بنوع من البقرات وهي السمان منهن لا يحسنهن. ولو نصب صفة لسبع لكان التمييز بالجنس لا بالنوع، ويلزم من وصف البقرات بالسمن وصف السبع به، ولا يلزم من وصف السبع به وصف الجنس به، لأنه يصير المعنى سبعا من البقرات سمانا. وفرق بين قولك: عندي ثلاث رجال كرام، وثلاث رجال كرام، لأن المعنى في الأول ثلاثة من الرجال الكرام، فيلزم كرم الثلاثة لأنهم بعض من الرجال الكرام. والمعنى في الثاني: ثلاثة من الرجال كرام، فلا يدل على وصف الرجال بالكرم. ولم يضف سبع إلى عجاف لأن اسم العدد لا
310

يضاف إلى الصفة إلا في الشعر، إنما تتبعه الصفة. وثلاثة فرسان، وخمسة أصحاب من الصفات التي أجريت مجرى الأسماء. ودل قوله: سبع بقرات على أن السبع العجاف بقرات، كأنه قيل: سبع بقرات عجاف، أو بقرات سبع عجاف. وجاء جمع عجفاء على عجاف، وقياسه عجف كخضراء أو خضر، حملا على سمان لأنه نقيضه. وقد يحمل النقيض على النقيض، كما يحمل النظر على النظير. والتقسيم في البقرات يقتضي التقسيم في السنبلات، فيكون قد حذف اسم العدد من قوله: وأخر يابسات، لدلالة قسمية وما قبله عليه، فيكون التقدير: وسبعا أخر يابسات. ولا يصح أن يكون وأخر مجرورا عطفا على سنبلات خضر، لأنه من حيث العطف عليه كان من جملة مميز سبع، ومن جهة كونه أخر كان مباينا لسبع، فتدافعا بخلاف أن لو كان التركيب سبع سنبلات خضر ويابسات، فإنه كان يصح العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى خضر ويابسات. والملأ: أشراف دولته وأعيانهم الذين يحضرون عند الملك. وقرأ أبو جعفر: بالإدغام في الرؤيا، وبابه بعد قلب الهمزة واوا، ثم قلبها ياء، لاجتماع الواو والياء، وقد سبقت إحداهما بالسكون. ونصوا على شذوذه، لأن الواو هي بدل غير لازم، واللام في الرؤيا مقوية لوصول الفعل إلى مفعوله إذا تقدم عليه، فلو تأخر لم يحسن ذلك بخلاف اسم الفاعل فإنه لضعفه قد تقوى بها فتقول: زيد ضارب لعمر وفصيحا. والظاهر أن خبر كنتم هو قوله: تعبرون. وأجاز الزمخشري فيه وجوها متكلفة أحدها: أن تكون الرؤيا للبيان قال: كقوله: وكانوا فيه من الزاهدين، فتتعلق بمحذوف تقديره أعني فيه، وكذلك تقدير هذا إن كنتم أعني الرؤيا تعبرون، ويكون مفعول تعبرون محذوفا تقديره تعبرونها. والثاني: أن تكون الرؤيا خبر كان قال: كما تقول: كان فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه، وتعبرون خبرا آخر أو حالا. والثالث: أن يضمن تعبرون معنى فعل يتعدى باللام، كأنه قيل: إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا، وعبارة الرؤيا مأخوذة من عبر النهر إذا جازه من شط إلى شط، فكان عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها. وعبر الرؤيا بتخفيف الباء ثلاثيا وهو المشهور، وأنكر بعضهم التشديد، وأنشد المبرد في الكامل قول الشاعر:
* رأيت رؤيا ثم عبرتها
*
وكنت للأحلام عبارا
*
وأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام، وهي ما يكون من حديث النفس، أو وسوسة الشيطان، أو مزاج الإنسان. وأصله أخلاط النبات، استعير للأحلام، وجمعوا الأحلام. وأن رؤياه واحدة إما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء، وإما باعتبار جواز ذلك كما تقول: فلان يركب الخيل وإن مل يركب إلا فرسا واحدا، تعليقا بالجنس. وإما بكونه قص عليهم مع هذه الرؤيا غيرها. والأحلام جمع حلم، وأضغاث خبر مبتدأ محذوف أي: هي أضغاث أحلام. والظاهر أنهم نفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي: لسنا من أهل تعبيير الرؤيا. ويجوز أن تكون الأحلام المنفي علمها أرادوا بها الموصوفة بالتخليط والأباطيل أي: وما نحن بتأويل الأحلام التي هي أضغاث بعالمين أي: لا يتعلق علم لنا بتأويل تلك، لأنه تأويل لها إنما التأويل للمنام الصحيح، فلا يكون في ذلك نفي للعلم بتأويل المنام الصحيح، ولا تصور علمهم. والباء في بتأويل متعلقة بقوله بعالمين.
2 (* (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق
311

أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلىأرجع إلى الناس لعلهم يعلمون * قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه فى سنبله إلا قليلا مما تأكلون * ثم يأتى من بعد ذالك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون * ثم يأتى من بعد ذالك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون * وقال الملك ائتونى به فلما جآءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن ربى بكيدهن عليم * قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن
حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت العزيز اأن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين * ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * ومآ أبرىء نفسىإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم * وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزآئن الا رض إنى حفيظ عليم * وكذالك مكنا ليوسف فى الا رض يتبوأ منها حيث يشآء نصيب برحمتنا من نشآء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الا خرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون * وجآء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنىأوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم يعرفونهآ إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون * فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا ياأبانا منع منا الكيل فأرسل معنآ أخانا نكتل وإنا له لحافظون * قال هل آمنكم عليه إلا كمآ أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين) *))
) *
أمة يأمه أمها وأمها نسي. يغاث: يحتمل أن يكون من الغوث وهو الفرج، يقال: أغاثهم الله فرج عنهم، ويحتمل أن يكون من الغيث تقول: غيثت البلاد إذا أمطرت، ومنه قول الأعرابية: غثنا ما شئنا. الخطب: الشان والأمر الذي فيه خطر، ويجمع على خطوب قال:
* وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
*
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
*
312

حصحص تبين بعد الخفاء، قاله الخليل. وقيل: مأخود من الحصة حصحص الحق بانت حصته من حصة الباطل. وقيل: ثبت واستقر، ويكون متعديا من حصحص البعير ألقى ثفناته للإناخة قال: حصحص في صم الصفا ثفناته. الجهاز: ما يحتاج إليه المسافر من زاد ومتاع، وكل ما يحمل، وجهاز العروس ما يكون معها من الأثاث والشورة، وجهاز الميت ما يحتاج إليه في دفنه. الرحل: ما على ظهر المركوب من متاع الراكب أو غيره، وجمعه رحال في الكثرة، وأرحل في القلة. مار يمير، وأمار يمير، إذا جلب الخير وهي الميرة قال:
* بعثتك مائرا فمكثت حولا
*
متى يأتي غياثك من تغيث
*
البعير في الأشهر الجمل مقابل الناقة، وقد يطلق على الناقة، كما يطلق على الجمل فيقول: على هذا نعم البعير، الجمل لعمومه، ويمتنع على الأشهر لترادفه. وفي لغة تكسر باؤه، ويجمع في القلة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران.
* (وقال الذى نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون * يوسف أيها الصديق أفتنا فى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلى أرجع إلى) *: لما استثنى الملك في رؤياه وأعضل على الملأ تأويلها، تذكر الناجي من القتل وهو ساقي الملك يوسف، وتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وطلبه إليه ليذكره عند الملك. وادكر أي تذكر ما سبق له مع يوسف بعد أمة أي: مدة طويلة. والجملة من قوله وادكر حاليه، وأصله: واذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الذال فيها فصار ادكر، وهي قراءة الجمهور. وقرأ الحسن: واذكر بإبدال التاء ذالا، وإدغام الذال فيها. وقرأ الأشهب العقيلي: بعد إمة بكسر الهمزة أي: بعد نعمة أنعم عليه بالنجاة من القتل. وقال ابن عطية: بعد نعمة نعم الله بها على يوسف في تقريب إطلاقه، والأمة النعمة قال:
* ألا لا أرى ذا إمة أصبحت به
*
فتتركه الأيام وهي كما هيا
*
قال الأعلم: الأمة النعمة، والحال الحسنة. وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، والضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وشبيل بن عزرة الضبعي، وربيعة بن عمرو: بعد أمه بفتح الهمزة، والميم مخففة، وهاء، وكذلك قرأ ابن عمر، ومجاهد، وعكرمة، واختلف عنهم. وقرأ عكرمة وأيضا مجاهد، وشبيل بن عزرة: بعد أمه بسكون الميم، مصدر أمه على غير قياس، وقال
313

الزمخشري: ومن قرأ بسكون الميم فقد أخطأ انتهى. وهذا على عادته في نسبته الخطأ إلى الفراء. أنا أنبئكم بتأويله أي أخبركم به عمن عنده علمه لا من جهتي. وقرأ الحسن أنا أتيكم مضارع أتى من الإتيان، وكذا في الإمام. وفي مصحف أبي: فأرسلون، أي ابعثوني إليه لأسأله، ومروني باستعباره، استأذن في المضي إلى يوسف. فقال ابن عباس: كان في السجن في غير مدينة الملك، وقيل: كان فيها، ويرسم الناس اليوم سجن يوسف في موضع على النيل بينه وبين الفسطاط ثمانية أميال. وفي
الكلام حذف التقدير: فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال: والصديق بناء مبالغة كالشريب والكبر، وكان قد صحبه زمانا وجرب صدقه في غير ما شيء كتأويل رؤياه ورؤيا صاحبه، وقوله: لعلي أرجع إلى الناس أي: بتفسير هذه الرؤيا. واحترز بلفظة لعلي، لأنه ليس على يقين من الرجوع إليهم، إذ من الجائز أن يخترم دون بلوغه إليهم. وقوله: لعلهم يعلمون، كالتعليل لرجوعه إليهم بتأويل الرؤيا. وقيل: لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبونك ويخلصونك من محنتك، فتكون لعل كالتعليل لقوله: أفتنا. قال: تزرعون إلى آخره، تضمن هذا الكلام من يوسف ثلاثة أنواع من القول: أحدها: تعبير بالمعنى لا باللفظ. والثاني: عرض رأي وأمر به، وهو قوله: فذروه في سنبله. والثالث: الإعلام بالغيب في أمر العام الثامن، قاله قتادة. قال ابن عطية: ويحتمل هذا أن لا يكون غيبا، بل علم العبارة أعطى انقطاع الخوف بعد سبع، ومعلوم أنه الأخصب انتهى. والظاهر أن قوله: تزرعون سبع سنين دأبا خبرا، أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد. وقال الزمخشري: تزرعون خبر في معنى الأمر كقوله: * (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون) * وإنما يخرج الأمر في صورة الخبر للمبالغة في إيجاب إنجاز المأمور به، فيجعل كأنه وجد فهو يخبر عنه. والدليل على كونه في معنى الأمن قوله: فذروه في سنبله انتهى. ولا يدل الأمر بتركه في سنبله على أن تزرعون في معنى ازرعوا، بل تزرعون إخبار غيب بما يكون منهم من توالي الزرع سبع سنين. وأما قوله: فذروه فهو أمر إشارة بما ينبغي أن يفعلوه. ومعنى دأبا: ملازمة، كعادتكم في المزارعة. وقرأ حفص: دأبا بفتح الهمزة، والجمهور بإسكانها، وهما مصدران لدأب، وانتصابه بفعل محذوف من لفظه أي: تدابون دابا، فهو منصوب على المصدر. وعند المبرد بتزرعون بمعنى تدأبون، وهي عنده مثل قعد القرفصاء. وقيل: مصدر في موضع الحال أي: دائبين، أو ذوي دأب حالا من ضمير تزرعون. وما في قوله: فما حصدتم شرطية أو موصولة، بذروه في سنبله إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل، فإذا بقيت فيها انحفظت، والمعنى: اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل، فيجتمع الطعام ويتركب ويؤكل الأقدم فالأقدم، فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر. وقرأ السلمي: مما يأكلون بالياء على الغيبة أي: يأكل الناس، وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي: سبع سنين شداد، لدلالة قوله: سبع سنين عليه. وأسند الأكل الذي في قوله: أكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيهما كما قال: * (والنهار مبصرا) *. ومعنى تحصنون تحرزون وتخبؤون، مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ. وقال ابن عباس ومجاهد والجمهور: يغاث من الغيث، وقيل: من الغوث، وهو الفرج. ففي الأول بني من ثلاثي، وفي الثاني من رباعي، تقول: غاثنا الله من الغيث، وأغاثنا من الغوث. وقرأ الأخوان: تعصرون بالتاء على الخطاب، وباقي السبعة بالياء على الغيبة، والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر، ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة والحلب منه، لأنه عصر للضروع. وروي أنهم لم يعصروا شيئا مدة الجدب. وقال أبو عبيدة وغيره: مأخوذ من العصرة، والعصر وهو المنجي، ومنه قول أبي زبيد في عثمان رضي الله عنه:
* صاديا يستغيث غير مغاث
*
ولقد كان عصرة المنجود
*
314

فالمعنى: ينجون بالعصرة. وقرأ جعفر بن محمد، والأعرج، وعيسى البصرة يعصرون بضم الياء وفتح الصاد مبنيا للمفعول، وعن عيسى أيضا: تعصرون بالتاء على الخطاب مبنيا للمفعول، ومعناه: ينجون من عصره إذا أنجاه، وهو مناسب لقوله: يغاث الناس. وقال ابن المستنير: معناه يمطرون، من أعصرت السحابة ماءها عليهم فجعلوا معصرين مجازا بإسناد ذلك إليهم، وهو للماء الذي يمطرون به. وقرى زيد ابن علي: وفيه تعصرون، بكسر التاء والعين والصاد وشدها، وأصله تعتصرون، فأدغم التاء في الصاد ونقل حركتها إلى العين، واتبع حركة التاء لحركة العين. واحتمل أن يكون من اعتصر العنب ونحوه. ومن اعتصر بمعنى نجا قال الشاعر:
* لو بغير الماء حلقي شرق
*
كنت كالغصان بالماء اعتصاري
*
أي نجاتي. تأول يوسف عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسين مخصبة، والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، ثم بشرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بمجيء العام الثامن مباركا خصيبا كثير الخير غزير النعم، وذلك من جهة الوحي. وعن قتادة: زاده الله علم سنة، والذي من جهة الوحي هو التفضيل بحال العام بأنه فيه يغاث الناس، وفيه يعصرون، وإلا فمعلوم بانتهاء السبع الشداد مجيء الخصب.
* (وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة الاتى قطعن أيديهن إن) *: في الكلام حذف تقديره: فحفظ الرسول ما أول به يوسف الرؤيا، وجاء إلى الملك ومن أرسله وأخبرهم بذلك، وقال الملك: وقال ابن عطية: في تضاعيف هذه الآيات محذوفات يعطيها ظاهر الكلام ويدل عليها، والمعنى: فرجع الرسول إلى الملك ومن مع الملك فنص عليهم مقالة يوسف، فرأى الملك وحاضروه نبل التعبير، وحسن الرأي، وتضمن الغيب في أمر العام الثامن مع ما وصفه به الرسول من الصدق في المنام المتقدم، فعظم يوسف في نفس الملك وقال: ائتوني به، فلما وصل الرسول في إخراجه إليه وقال: إن الملك قد أمر بأن
تخرج إليه، قال له: ارجع إلى ربك أي: إلى الملك وقل له: ما بال النسوة؟ ومقصد يوسف عليه السلام إنما كان وقل له يستقصي عن ذنبي، وينظر في أمري، هل صجنت بحق أو بظلم؟ وكان هذا الفعل من يوسف إناءة وصبرا وطلبا لبراءة الساحة، وذلك أنه فيما روي خشي أن يخرج وينال من الملك مرتبة، ويسكت عن أمر دينه صفحا، فيراه الناس بتلك العين أبدا ويقولون: هذا الذي راود امرأة مولاه، فأراد يوسف عليه السلام أن يبين براءته ويتحقق منزلته من العفة والخير، وحينئذ يخرج للأحظاء والمنزلة.
وقال الزمخشري: إنما تأتي وتثبت في إجابة الملك، وقدم سؤال النسوة لتظهر براءة ساحته عما فرق به وسجن فيه، لئلا يتسلق به الحاسدون إلى تقبيح أمره عنده، ويجعلوه سلما إلى حط منزلته لديه، ولئلا يقولوا: ما خلد في السجن سبع سنين إلا أمر عظيم وجرم كبير حق به أن يسجن ويعذب، ويكشف سره، وفيه دليل على أن الاجتهاد في نفي التهم واجبة وجوب ابقاء الوقوف في مواقفها. قال عليه السلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم) انتهى ولأجل هذا كان الزمخشري، وكان مقطوع الرجل قد أثبت على القضاة أن رجله لم تقطع في خيانة ولا فساد، وكان يظهر ذلك المكتوب في كل بلد دخله خوفا من تهمة السوء. وإنما قال: سل الملك عن شأن النسوة، ولم يقل سله أن يفتش عنهن، لأن السؤال مما يهيج الإنسان ويحركه للبعث عنما سئل عنه، فأراد أن يورد عليه السؤال ليجري التفتيش عن حقيقة
315

القصة، وقص الحديث حتى يتبين له براءته بيانا مكشوفا يتميز فيه الحق من الباطل. ومن كرم يوسف عليه السلام أنه لم يذكر زوج العزيز مع ما صنعت به وتسببت فيه من السجن والعذاب، واقتصر على ذكر المقطعات الأيدي. وقرأ أبو حيوة وأبو بكر عن عاصم في رواية النسوة بضم النون، وقرأت فرقة اللاي بالياء، وكلاهما جمع التي. إن ربي أي: إن الله بكيدهن عليم. أراد أن كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد عوده، واستشهد بعلم الله على أنهن كدنه، وأنه بريء مما قذف به. أو أراد الوعيد لهن، أو هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالرب العزيز مولاه، ففي ذلك استشهاد به وتقريع. وما ذكره ابن عطية من هذا الاحتمال لا يسوغ، والضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس، لأنها حالة توقيف على ذنب. قال: ما خطبكن في الكلام حذف تقديره: فرجع الرسول فأخبره بما قال يوسف، فجمع الملك النسوة وامرأة اعزيز وقال لهن: ما خطبكن؟ وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة، ونزه جانب يوسف بقوله: إذ راودتن يوسف عن نفسه، ومراودتهن له قولهن ليوسف: أطع مولاتك. وقال الزمخشري: هل وجدتن منه ميلا لكن قلن: حاش لله تعجبا من عفته، وذهابه بنفسه عن شيء من الريبة، ومن نزاهته عنها. وقال ابن عطية: أجاب النساء بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة، وأعطين يوسف بعض براءة، وذلك أن الملك لما قررهن أنهن راودته قلن جوابا عن ذلك: حاش لله. ويحتمل أن يكون قولهن: حاش لله، في جهة يوسف عليه السلام. وقولهن ما علمنا عليه من سوء ليس بإبراء تام، وإنما كان الإبراء التام وصف القصة على وجهها حتى يتقرر الخطأ في جهتهن، فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن وحيدتهن عن الوقوع في الخزي قالت: الآن حصحص الحق. وقرئ حصحص على البناء للمفعول، أقرت على نفسها بالمراودة، والتزمت الذنب، وأبرأت يوسف البراءة التامة.
* (ذالك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين * وما أبرىء نفسى إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم) *: الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت. والمعنى: ذلك الإقرار والاعتراف بالحق، ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته والذب عنه، وأرميه بذنب هو منه بريء. ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها: وما أبرىء نفسي، والنفوس مائلة إلى الشهوات إمارة بالسوء. وقال الزمخشري: وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة فإني قد خنته حين قذفته وقلت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن، وأودعته السجن تريد الاعتذار لما كان منها أن كل نفس لأمارة بالسوء إلا نفسا رحمها الله بالعمصة إن ربي غفور رحيم، استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. ومن ذهب إلى أن قوله: ذلك ليعلم إلى آخره، من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله، ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف. فقال ابن جريج: في الكلام تقديم وتأخير، وهذا الكلام متصل بقول يوسف: إن ربي بكيدهن عليم، وعلى هذا فالإشارة بقوله ذلك إلى إلقائه في السجن والتماسه البراءة أي: هذا العلم سيدي أني لم أخنه. وقال بعضهم: إنما قال يوسف هذه المقالة حين قالت امرأة العزيز كلامها إلى قولها: وإنه لمن الصادقين، فالإشارة على هذا إلى قولها وصنع الله فيه، وهذا يضعف، لأنه يقتضي حضوره مع النسوة عند الملك. فكيف يقول الملك بعد ذلك: ائتوني به؟ وفسر الزمخشري الآية أولا على أنها من كلام يوسف فقال: أي ذلك التنبت والتشمر لظهور البراءة، ليعلم العزيز أني لم أخنه بظهر الغيب في حرمته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وكأنه تعريض بامرأته في خيانتها في أمانة زوجها، وبه في خيانته أمانة الله حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه. ويجوز أن يكون توكيدا لأمانته، وأنه لو كان خائنا لما هدى الله كيده، ولا سدده، ثم أراد أن يتواضع لله ويهضم نفسه لئلا يكون لها مزكيا، ولحالها في الأمانة معجبا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم): (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وليبين أن ما فيه من الأمانة ليس به وحده، وإنما هو بتوفيق الله ولطفه وعصمته. فقال: وما أبرىء نفسي من الزلل، وما أشهد لها بالبراءة الكلية، ولا أزكيها، إن النفس لأمارة بالسوء. أراد
316

الجنس أي: هذا الجنس يأمر بالسوء، ويحمل على ما فه من الشهوات انتهى. وفيه تكثير وتحميل للفظ ما ليس فيه، ويزيد على عادته في خطابته. ولما أحس الزمخشري بأشكال قول من قال: إنه من كلام يوسف قال: (فإن قلت): كيف صح أن يجعل من كلام يوسف ولا دليل على ذلك؟ (قلت): كفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلامه، ونحوه قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون؟ وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم انتهى. وهذا ليس كما ذكر، إذ لا يتعين في هذا التركيب أن يكون من كلام فرعون، بل هو من كلام الملأ تقدمهم فرعون إلى هذه المقالة، فقالوا ذلك بعض لبعض، فيكون في قول فرعون: يريد أن يخرجكم خطابا للملأ من فرعون، ويكون في هذا التركيب خطابا من بعضهم لبعض، ولا يتنافى اجتماع المقالتين. وبالغيب
يحتمل أن يكون حالا من الفاعل أي: غائبا عنه، أو من المفعول أي: غائبا عني، أو ظرفا أي بمكان الغيب. والظاهر أن إلا ما رحم ربي استثناء متصل من قوله: لأمارة بالسوء، لأنه أراد الجنس بقوله: إن النفس، فكأنه قال: إلا النفس التي رحمها ربي فلا تأمر بالسوء، فكون استثناء من الضمير المستكن في أمارة. ويجوز أن يكون مستثنى من مفعول أمارة المحذوف إذ التقدير: لأمارة بالسوء صاحبها، إلا الذي رحمه ربي فلا تأمره بالسوء. وجوزوا أن يكون مستثنى من ظرف الزمان المفهوم عمومه من ما قبل الاستثناء، وما ظرفية إذ التقدير: لأمارة بالسوء مدة بقائها إلا وقت رحمة الله العبد وذهابه بها عن اشتهاء المعاصي. وجوزوا أن يكون استثناء منقطعا، وما مصدرية. وذكر ابن عطية أنه قول الجمهور أي: ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة.
* (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين * قال اجعلنى على خزائن الارض إنى حفيظ عليم * وكذالك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين * ولاجر الاخرة خير للذين ءامنوا وكانوا يتقون) *: روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك يخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال: رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفا، وقال له: من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك. وكان يوسف قصد أولا بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولا بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال: ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانيا ومقصوده: استخلاصه لنفسه. ومعنى أستخلصه: أجعله خالصا لنفسي وحاصا بي، وسمى الله فرعون مصر ملكا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حيا لكان حكما له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكا ولا أميرا، لأن ذلك حكم. والجواب مسلم وتسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما
317

تقلب. وفي الكلام حذف التقدير: فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال: ائتنوني به، فلما كلمه. والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي: فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته. ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي: فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال: إنك اليوم لدينا مكين أي: ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء. وقيل: أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف. ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال: اجعلني على خزائن الأرض أي: ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف. وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل. وقيل: حفيظ للحساب، عليم بالألسن. وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع. وهذا التخصيص لا وجه له، ودل إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها. وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. فإن كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافرا ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به. وقيل: كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع. وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا. وكذلك أي: مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكنا ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي: يتخذ منها مباءة ومنزلا كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه. روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، لأن العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين: افراثيم، ومنشأ. وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى؟ قال: الرأي رأيك قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم. وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين. وقرأ الحسن وابن كثير: بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع: حيث نشاء بالنون، والجمهور بالياء. والظاهر أن قراءة الياء يكون فاعل نشاء ضميرا يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله. وإما أن يكون الضمير عائدا على الله أي: حيث يشاء الله، فيكون التفاتا. نصيب برحمتنا أي: بنعمتنا من الملك والغني وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أسن. ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى. وقال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية. وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان،
وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.
* (وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون * ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أنى أوفى الكيل وأنا خير المنزلين * فإن لم تأتونى به فلا كيل لكم
318

عندى ولا تقربون * قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون * وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم فى رحالهم لعلهم * يعرفونهم * إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون) *: أي جاؤوا من القريات من أرض فلسطين بأرش الشام. وقيل: من الأولاج من ناحية الشعب إلى مصر ليمتاروا منها، فتوصلوا إلى يوسف للميرة، فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال، ورأى زيهم قريبا من زيهم إذ ذاك، ولأن همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم، فكان يتأمل ويتفطن. وروي أنهم انتسبوا في الاستئذان عليه فعرفهم، وأمر بإنزالهم. ولذلك قال الحسن: ما عرفهم حتى تعرفوا له، وإنكارهم إياه كان. قال الزمخشري: لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة، ولاعتقادهم أنه قد هلك، ولذهابه عن أوهامهم لقلة فكرهم فيه، ولبعد حاله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحا في البئر مشريا بدراهم معدودة، حتى لو تخيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم. ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف. وقيل: رأوه على زي فرعون عليه ثياب الحرير جالسا على سرير في عنقه طوق من ذهب، وعلى رأسه تاج، فما خطر لهم أنه هو. وقيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم وبينه مسافة وحجاب، وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج.
ولما جهزهم بجهازهم، وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه. وفي الكلام حذف تقديره: وقد كان استوضح منهم أنهم لهم أخ قعد عند أبيهم. روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم، فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه: أظنكم جواسيس، فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا: نحن أبناء رجل صديق، وكنا اثنى عشر، ذهب منا واحد في البرية، وبقي أصغرنا عند أبينا، وجئنا نحن للميرة، وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة ولهم أحد عشر بعيرا. فقال لهم يوسف: ولم تخلف أحدكم؟ قالوا: المحبة أبينا فيه قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم، وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين؟ وأورد الزمخشري هذا القصص بألفاظ أخر تقارب هذه في المعنى، وفي آخره قال: فمن يشهد لكم؟ إنكم لستم بعيون، وإن الذي تقولون حق. قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا فيها أحد يشهد لنا. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو حمل سالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون، وكان أحسنهم رأيا في يوسف، فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم. وقيل: لم يرتهن أحدا، وروي غير هذا في طلب الأخ من أبيهم. قيل: كان يوسف ملثما أبدا سترا لجماله، وكان ينقر في الصواع فيفهم من طنينه صدق الحديث أو كذبه، فسئلوا عن أخبارهم، فكلما صدقوا قال لهم: صدقتم، فلما قالوا: وكان لنا أخ أكله الذئب أطن يوسف الصواع وقال: كذبتم، ثم تغير لهم وقال: أراكم جواسيس، وكلفهم سوق الأخ الباقي ليظهر صدقهم. وقرئ: بجهازهم بكسر الجيم، وتنكر أخ، ولم يقل بأخيكم وإن كان قد عرفه وعرفهم مبالغة في كونه لا يريد أن يتعرف لهم، ولا أنه يدري من هو. ألا ترى فرقا بين مررت بغلامك، ومررت بغلام لك؟ إنك في التعريف تكون عارفا بالغلام، وفي التنكير أنت جال به. فالتعريف يفيد فرع عهد في الغلام بينك وبين المخاطب، والتنكير لا عهد فيه البتة. وجائز أن نخبر عمن تعرفه أخبار النكرة فتقول: قال رجل لنا وأنت تعرفه لصدق إطلاق النكرة على المعرفة، ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله: ألا ترون إني أوف الكيل وأنا خير المنزلين أي المضيفين؟ يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم، ثم توعدهم إن لم يأتوا به إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل. واحتمل قوله: ولا تقربون، أن يكون نهيا، وأن يكون نفيا مستقلا ومعناه النهي. وحذفت النون وهو مرفوع، كما حذفت في فبم تبشرون أن يكون نفيا داخلا في الجزاء معطوفا على محل فلا كيل لكم عندي، فيكون مجزوما والمعنى: أنهم لا يقربون له بكذا ولا طاعة. وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي، وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه، لكن الله تعالى أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته: ولتتفسر الرؤيا الأولى قالوا: سنراود عنه أباه أي:
319

سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك، ثم أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلو ذلك لا محالة، لا نفرط فيه ولا نتوانى. وقرأ الأخوان وحفص: لفتيانه، وباقي السبعة لفتيته، فالكثرة على مراعاة المأمورين، والقلة على مراعاة المتأولين. فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم لعلهم يعرفونها أي: يعرفون حق ردها، وحق التكرم بإعطاء البدلين فيرغبون فينا إذا انقلبوا إلى أهلهم، وفرغوا ظروفهم. ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل، ولعلهم يرجعون تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف. قيل: وكانت بضاعتهم النعال والأدم. وقيل: يرجعون متعد، فالمعنى لعلهم يردون البضاعة. وقيل: تخوف أن لا يكون عند أبيه من المتاع ما يرجعون به. وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة، لا يستحلون إمساكها فيرجعون لأجلها. وقيل: جعلها توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك، ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة. قال ابن عطية: ويظهر أن ما فعله يوسف من صلتهم وجبرهم في تلك الشدة كان واجبا عليه، هذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة.
* (فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا * أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون * هل امنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الرحمين) *: أي: رجعوا من مصر ممتارين، بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم. وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس، وقولهم: منع منا الكيل، إشارة إلى قول يوسف: فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي. ويكون منع يراد به في المستأنف، وإلا فقد كيل لهم. وجاؤوا أباهم بالميرة، لكن لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع. وقيل: أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة، وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة، ولقولهم: فأرسل معنا أخانا نكتل،
ويقويه قراءة يكتل بالياء أي: يكتل أخونا، فإنما منع كيل بعيره لغيبته، أو يكن سببلا للاكتيال. فإن امتناعه في المستقبل تشبيه، وهي قراءة الأخوين. وقرأ باقي السبعة بالنون أي: نرفع المانع من الكيل، أو نكتل من الطعام ما نحتاج إليه، وضمنوا له حفظه وحياطته. قال: هل آمنكم، هذا توقيف وتقرير. وتألم من فراقه بنيامين، ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة. وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف. قلتم فيه: وإنا له لحافظون، كما قلتم في هذا، فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك، لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف، واستسلم لله وقال: فالله خير حفظا، وقرأ الأخوان وحفص: حافظا اسم فاعل، وانتصب حفظا وحافظا على التمييز، والمنسوب له الخير هو حفظ الله، والحافظ الذي من جهة الله. وأجاز الزمخشري أن يكون حافظا حالا، وليس بجيد، لأن فيه تقييد خير بهذه الحال. وقرأ الأعمش: خير حافظ على الإضافة، فالله تعالى متصف بالحفظ وزيادته على كل حافظ. وقرأ أبو هريرة: خير الحافظين، كذا نقل الزمخشري. وقال ابن عطية: وقرأ ابن مسعود، فالله خير حافظا وهو خير الحافظين. وينبغي أن تجعل هذه الجملة تفسيرا لقوله: فالله خير حافظا، لا أنها قرآن. وهو أرحم الراحمين اعتراف بأن الله هو ذو الرحمة الواسعة، فأرجو منه حفظه، وأن لا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.
2 (* (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا ياأبانا ما نبغى هاذه بضاعتنا
320

ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذالك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم فلمآ ءاتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل * وقال يابنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة ومآ أغنى عنكم من الله من شىء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شىء إلا حاجة فى نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولاكن أكثر الناس لا يعلمون) *))
) *
* (ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يأبانا * أبانا ما نبغى هاذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل * بغير * ذالك كيل يسير * قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتننى به إلا أن يحاط بكم فلما ءاتوه موثقهم قال) *.
قرأ علقمة، ويحيى بن وثاب، والأعمش، ردت بكسر الراء، نقل حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة، وهي لغة لبني ضبة، كما نقلت العرب في قيل وبيع. وحكى قطرب: النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو: ضرب زيد، سموا المشدود المربوط بجملته متاعا، فلذلك حسن الفتح فيه وما نبغي، ما فيه استفهامية أي: أي شيء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا قاله قتادة. وكانوا قالوا لأبيهم: قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة، لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته. وقال الزجاج: يحتمل أن تكون ما نافية أي: ما بقي لنا ما نطلب. ويحتمل أيضا أن تكون نافية من البغي أي: ما افترينا فكذبنا على هذا الملك، ولا في وصف إجماله وإكرامه هذه البضاعة مردودة، وهذا معنى قول الزمخشري ما نبغي في القول ما تتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك والكرامة. وقيل: معناه ما نريد منك بضاعة أخرى. وقرأ عبد الله وأبو حيوة: ما تبغي بالتاء على خطاب يعقوب، وروتها عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم)، ويحتمل ما في هذه القراءة الاستفهام والنفي كقراءة النون. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي: ونميز بضم النون، والجملة من قولهم هذه بضاعتنا ردت إلينا موضحة لقولهم: ما نبغي، والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير: فنستظهر بها ونستعين بها ونمير أهلنا في رجوعنا إلى الملك، ونحفظ أخانا فلا يصيبه شيء مما تخافه. وإذا كان ما نبغي ما نتزيد وما نكذب، جاز أن يكون ونمير معطوفا على ما نبغي أي: لا نبغي فيما نقول، ونمير أهلنا ونفعل كيت وكيت. وجاز أن يكون كلاما مبتدأ، وكرروا حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله، ونزداد باستصحاب أخينا. وسق بعير على أوساق بعيرنا، لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة، ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه. والظاهر أن البعير هو من الإبل. وقال مجاهد: كيل حمار، قال: وبعض العرب تقول للحمار: بعير، وهذا شاذ. والظاهر أن قوله: ذلك كيل يسير، من كلامهم لا من كلام يعقوب، والإشارة بذلك الظاهر أنها إلى كيل بعير أي: يسير، بمعنى قليل، يحببنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه، أو يسير بمعنى سهل متيسر لا يتعاظمه. وقيل: يسير عليه أن يعطيه. وقال الحسن: وقد كان يوسف عليه السلام وعدهم أن يزيدهم حمل بعير بغير ثمن. قال الزمخشري: أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني: ما يكال لهم، فازدادوا إليه ما يكال لأخيه. ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي: حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، كقوله: ذلك ليعلم انتهى. ويعني أن ظاهر الكلام أنه من كلامهم، وهو من كلام يعقوب، كما أن قوله: ذلك ليعلم، ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز، وهو من كلام يوسف. وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله، وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل. ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه، وألحوا عليه في ذلك، علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله، إذ به تؤكد العهود وتشدد
321

ولتأتني به جواب للحلف، لأن معنى حتى تؤتون موثقا: حتى تحلفوا لي لتأتنني به. وقوله: إلا أن يحاط بكم، لفظ عام لجميع وجوه الغلبة، والمعنى: نعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا يكون لكم حيلة ولا وجه تخلص. وقال مجاهد: إلا أن تهلكوا. وعنه أيضا: إلا أن تطيقوا ذلك. وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله: لتأتنني، وإن كان مثبتا معنى النفي، لأن المعنى: لا تمتنعون من الإتيان به لشيء من الأشياء إلا لأن يحاط بكم. ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم: أنشدك الله إلا فعلت أي: ما أنشدك إلا الفعل. ولا يجوز أن يكون مستثنى من الأحوال مقدرا بالمصدر الواقع حالا، وإن كان صريح المصدر قد يقع حالا، فيكون التقدير: لتأتنني به على كل حال إلا إحاط بكم أي: محاطا بكم، لأنهم نصوا على أن أن الناصبة للفعل لا تقع حالا وإن كانت مقدرة بالمصدر الذي قد يقع بنفسه حالا. فإن جعلت أن والفعل واقعة موقع المصدر الواقع ظرف زمان، ويكون التقدير: لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي: إلا وقت إحاطة بكم. قلت: منع ذلك ابن الأنباري فقال: ما معناه: يجوز خروجنا صياح الديك أي: وقت صياح الديك، ولا يجوز خروجنا أن يصيح الديك، ولا ما يصيح الديك. وإن كانت أن وما مصدريتين
، وإنما يقع ظرفا المصدر المصرح بلفظه. وأجاز ابن جني أن تقع أن ظرفا، كما يقع صريح المصدر، فأجاز في قول تأبط شرا:
* وقالوا لها لا تنكحيه فإنه
*
لأول فصل أن يلاقي مجمعا
*
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
* وتالله ما أن شهلة أم واحد
*
بأوجد مني أن يهان صغيرها
*
أن يكون أن تلاقي تقديره: وقت لقائه الجمع، وأن يكون أن يهان تقديره: وقت إهانة صغيرها. فعلى ما أجازه ابن جني يجوز أن تخرج الآية ويبقى لتأتنني به على ظاهره من الإثبات، ولا يقدر فيه معنى النفي. وفي الكلام حذف تقديره: فأجابوه إلى ما طلبه، فلما آتوه موثقهم قال يعقوب: الله على ما نقول من طلب الموثق وإعطائه وكيل رقيب مطلع.
ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد هو خشية العين، وكانوا أحد عشر لرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله: ابن عباس، والضحاك، وقتادة، وغيرهم، والعين، حق. وفي الحديث: (إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وفي التعوذ ومن كل عين لامة) وخطب الزمخشري فقال: لأنهم كانوا ذوي بهاء وشارة حسنة، وقد أشهرهم أهل مصر بالقربة عند الملك والكرامة الخاصة التي لم تكن لغيرهم، فكانوا مظنة لطموح الأبصار إليهم من الوفود، وأن يشار إليهم بالأصابع، ويقال: هؤلاء أضياف الملك انظروا إليهم ما أحسنهم من فتيان، وما أحقهم بالإكرام، لأمر ما أكرمهم الملك وقربهم وفضلهم على الوافدين عليه. فخاف لذلك أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا لجمالهم وجلالة أمرهم في الصدور، ويصيبهم ما يسوءهم، ولذلك لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى، لأنهم كانوا مجهولين معمورين بين الناس انتهى. ويظهر أن خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أن محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف، ولم يكن فيهم
322

في الكرة الأولى، فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف. وقيل: نهاهم خشية أن يستراب بهم لقول يوسف: أنتم جواسيس. وقيل: طمع فافتراقهم أن يتسمعوا خبر يوسف، ثم نفى عن نفسه أن يغني عنهم شيئا يعني: بوصاته، إن الحكم إلا لله أي: هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد، فعليه وحده توكلت. ومن حيث أمرهم أبوهم أي: من أبواب متفرقة. روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: إن أبانا يصلي عليك، ويدعو لك، ويشكر صنيعك معنا. وفي كتاب أبي منصور المهراني: أنه خاطبة بكتاب قرىء على يوسف فبكى. وجواب لما قوله: ما كان يغني عنهم من الله من شيء، وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا، ظرف زمان بمعنى حين، إذ لو كانت ظرف زمان ما جاز أن تكون معمولة لما بعد ما النافية. لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو، ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو، فدل ذلك على أن لما حرف يترتب جوابه على ما بعده. وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون جواب لما محذوفا مقدرا، ثم يخبر عن دخولهم أنه ما كان يغني. ومعنى الجملة: لم يكن في دخولهم متفرقين دفع قدر الله الذي قضاه عليهم من تشريفهم وافتضاحهم بذلك، وأخذ أخيهم بوجدان الصاع في رحله، وتزايد مصيبته على أبيهم، بل كان إربا ليعقوب قضاه وتطييبا لنفسه. وقيل: معنى ما كان يغني عنهم من الله من شيء، ما يرد عنهم قدرا لأنه لو قضى أن يصيبهم عين لإصابتهم متفرقين أو مجتمعين، وإنما طمع يعقوب أن تصادف وصيته قدر السلامة، فوصى وقضى بذلك حاجة نفسه في أن بقي يتنعم برجائه أن يصادف وصيته القدر في سلامتهم. وإنه لذو علم يعني لقوله: إن الحكم إلا لله، وما بعده وعلمه بأن القدر لا يدفعه الحذر. وهذا ثناء من الله على يعقوب عليه السلام. وقال قتادة: لعامل بما علمناه. وقال سفيان: من لا يعمل لا يكون عالما، ولفظة ذو وعلم لا تساعده على هذا التفسير وإن كان صحيحا في نفسه. وقرأ الأعمش: مما علمناه.
2 (* (ولما دخلوا على يوسف آوىإليه أخاه قال إنىأنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جآء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الا رض وما كنا سارقين * قالوا فما جزآؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذالك نجزى الظالمين * فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه ثم استخرجها من وعآء أخيه كذالك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشآء الله نرفع درجات من نشآء وفوق كل ذى علم عليم * قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله أعلم بما
323

تصفون * قالوا ياأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنآ إذا لظالمون * فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم فى يوسف فلن أبرح الا رض حتى يأذن لىأبىأو يحكم الله لى وهو خير الحاكمين * ارجعوا إلى أبيكم فقولوا ياأبانا إن ابنك سرق وما شهدنآ إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين * واسئل القرية التى كنا فيها والعير التىأقبلنا فيها وإنا لصادقون * قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم * وتولى عنهم وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من
الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنمآ أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يابنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايأسوا من روح الله إنه لا يايأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *))
) *
العير الإبل التي عليها الأحمال، سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير، كأنها جمع عير. وأصلها فعل كسقف، وسقف فعل به ما فعل ببيض وعيد، والعير مؤنث. وقالوا في الجمع: غيرات، فشذوا في جمعه بالألف والتاء، وفي فتح يائه وقال الشاعر:
* غشيت ديار الحي بالبكرات
*
فعارمة فبرقة العيرات
*
قال الأعلم: هنا مواضع الأعيار، وهي الحمير. الصواع الصاع، وفيه لغات تأتي في القرآن، ويؤنث ويذكر. الوعاء: الظرف الذي يحفظ فيه الشيء، وتضم واوه، ويجوز أن تبدل واوه همزة. فتىء من أخوات كان الناقصة قال أوس بن حجر:
* فما فتئت حي كان غبارها
*
سرادق بوم ذي رياح يرفع
*
وقال أيضا:
* فما فتئت خيل تثوب وتدعي
*
ويلحق منها لاحق وتقطع
*
ويقال فيها: فتأ على وزن ضرب، وأفتأ على وزن أكرم. وزعم ابن مالك أنها تكون بمعنى سكن وأطفأ، فتكون تامة. ورددنا عليه ذلك في شرح التسهيل، وبينا أن ذلك تصحيف منه. صحف الثاء بثلاث، بالتاء بثنتين من فوق، وشرحها بسكن وأطفأ. الحرض: المشفي على الهلاك يقال: حرض فهو حرض بكسر الراء، حرضا بفتحها وهو
324

المصدر، ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث والمفرد والجمع. وأحرضه المرض فهو محرض قال:
* أرى المرء كالأزواد يصبح محرضا
*
كأحراض بكر في الديار مريض
*
وقال الآخر:
* إني امرؤ لج بي حب فأحرضني
*
حتى بليت وحتى شفني السقم وقال: رجل حرض بضمتين كجنب وشلل.
*
* (ولما دخلوا على يوسف اوى إليه أخاه قال إنى أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون * فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية فى رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون * قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون * قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم * قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد فى الارض وما كنا سارقين * قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين * قالوا جزؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه كذالك نجزى الظالمين) *: روى أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم، وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح، وسأله عن ولده فقال: لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل
أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا فيما مضى، فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك. وعن ابن عباس: تعرف إليه أنه أخوه، وهو الظاهر. وهو قول ابن إسحاق وغيره، أعلمه أنه أخوه حقيقة واستكتمه، وقال له: لا تبالي بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم. قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير بقوله: بما كانوا يعملون إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك انتهى. ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا، لأمكن على بعده، لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف. وأما ذكر فتيانه فبعيد جدا، لأنهم لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: وقال لفتيانه، وقد حال بينهما قصص. واتسق الكلام مع الأخوة اتساقا لا ينبغي أن يعدل عن الضمير عائد إليهم، وأن ذلك إشارة إلى ما كان يلقى منهم قديما من الأذى، إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف. وقال وهب: إنما أخبر أنه أخوه في الود مقام أخيه الذاهب، ولم يكشف إليه الأمر، بل تركه تجوز عليه الحيلة كسائر إخوته.
والظاهر أن الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف، ويظهر من حيث كونه ملكا أنه لم يباشر ذلك بنفسه، بل جعل غيره من فتيانه، أو غيرهم أن يجعلها. وتقدم قول وهب: إنه لم يكشف له أنه أخوه، وأنه تركه تجوز عليه الحيلة. وروي أنه قال ليوسف: أنا لا أفارقك قال: قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يحمل. قال؛ لا أبالي، فافعل ما بدا لك. قال: فإني أدس صاعي في رحلك، ثم أنادي
325

عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم، قال: فافعل. وقرأ عبد الله فيما نقل الزمخشري: وجعل السقاية في رحل أخيه، أمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن. وفي نقل ابن عطية وجعل السقاية بزيادة واو في جعل دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله: في رحل أخيه، فاحتمل أن تكون الواود زائدة على مذهب الكوفيين، واحتمل أن يكون جواب لما محذوفا تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنما أوحى إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط، ثم إن حافظها فقدها، فنادى برأيه على ما ظهر له، ورجحه الطبري. وتفتيش الأوعية يرد هذا القول، والذي يظهر أن تأذين المؤذن كان عن أمر يوسف. وقال السدي: كان هذا الجعل من غير علم من بنيامين، وما تقدم يدل على أنه كان يعلم منه.
وقال الجمهور: وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد: السقاية إناء يشرب به الملك، وبه كان يكال الطعام للناس. وقيل: كان يسقي بها الملك ثم جعلت صاعا يكال به، وقيل: كانت الدواب تسقي بها ويكال بها. وقال ابن جبير: الصواع هو مثل المكوك الفارسي، وكان إناء يوسف الذي يشرب فيه، وكان إلى الطول ماهر. قال: وحدثني ابن عباس أنه كان للعباس مثله يشرب في الجاهلية. وقال ابن جبير أيضا: الصواع المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه. كانت تشرب به الأعاجم. والسقاية من فضة أو ذهب أو فضة مموهة بالذهب، أو نحاس، أو مسك، أو كانت مرصع بالجواهر أقوال أولها للجمهور، ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك الإناء.
ثم أذن مؤذن أي: نادى مناد، أذن: أعلم. وآذن أكثر الإعلام، ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه. وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين، فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم ذلك. وقيل: قبل الخروج من مصر أمر بهم فحبسوا، وأذن مؤذن. والظاهر وقول الجمهور: إن العير رالإبل. وقال مجاهد: كانت دوابهم حميرا، ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: يا خيل الله اركبي، ولذلك جاء الخطاب: إنكم لسارقون، فروعي المحذوف، ولم يراع العير كما روعي في اركبي. وفي قوله: والعير التي أقبلنا فيها. ويجوز أن تطلق العير على القافلة، أو الرفقة، فلا يكون من مجاز الحذف: والذي يظهر أن هذا التحيل، ورمى أبرياء السرقة، وإدخال الهم على يعقوب، بوحي من الله. لما علم تعالى في ذلك من الصلاح، ولما أراد من محنتهم بذلك. ويقويه قوله: كذلك كدنا ليوسف. وقيل: لما كانوا باعوا يوسف استجيز أن يقال لهم هذا، ونسبة السرقة إليهم جميعا: وإن كان الصواع إنما وجد في رحل واحد منهم كما تقول: بنو فلان فتلوا فلانا، والقاتل واحد منهم. قالوا: أي أخوة يوسف، وأقبلوا جملة حالية أي: وقد أقبلوا عليهم، أي: على طالبي السقاية، أو على المؤذن إن كان أريد به جمع. كأنه جعل مؤذنين ينادون، وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة وقالوا: ماذا تفقدون؟ ليقع التفتيش فتظهر براءتهم، ولم يلوذوا بالإنكار من أول، بل سألوا كمال الدعوى رجاء أن يكون فيها ما تبطل به فلا يحتاج إلى خصام. واحتمل أن يكون ماذا استفهاما في موضع نصب بتفقدون، ويحتمل أن يكون ما وحدها استفهاما مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما، وتفقدون صلة لذا، والعائذ محذوف أي: تفقدونه. وقرأ السلمي تفقدون بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيدا نحو: أحمدته إذا أصبته محمودا. وضعف هذه القراءة أبو حاتم، وجهها ما ذكرناه.
وصواع الملك هو المكيال، وهو السقاية سماه أولا بإحدى جهتيه، وآخرا بالثانية. وقرأ الجمهور صواع بضم الصاد، بعدها واو مفتوحة، بعدها ألف، بعدها عين مهملة. وقرأ أبو حيوة، والحسن، وابن جبير فيما نقل ابن عطية كذلك، إلا أنه كسر الصاد. وقرأ أبو هريرة، ومجاهد: صاع بغير واو على وزن فعل، فالألف فيها بدل من الواو المفتوحة. وقرأ أبو رجاء: صوع على وزن قوس. وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطيان: صوع بضم الصاد، وكلها لغات في الصاع. وقرأ الحسن، وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح: صواغ بالغين المعجمة على وزن غراب. وقرأ يحيى بن يعمر كذلك، إلا أنه يحذف الألف ويسكن الواو. وقرأ زيد بن علي: صوغ مصدر صاغ، وصواغ صوغ مشتقان من الصوغ مصدر صاغ يصوغ، أقيما مقام المفعول بمعنى مصوغ الملك. ولمن جاء به أي: ولمن دل على
326

سارقه وفضحه، وهذا جعل وأنابه زعيم من كلام المؤذن. وأنا بحملالبعير كفيل أؤديه إلى ما جاء به، وأراد به وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله. قالوا: تالله أقسموا بالتاء من حروف القسم، لأنها تكون فيها التعجب غالبا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر. وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الطعام وتحرجوا من أكل الطعام بلا ثمن، وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح، وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس، فأقسموا على إثبات شيء قد علموه منهم، وهو أنكم قد
علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد، ثم استأنفوا الأخبار عن نفي صفة السرقة عنهم، وأن ذلك لم يوجد منهم قط. ويحتمل أن يكون في حيز جواب القسم، فيكون معطوفا على قوله: لقد علمتم. قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل من واو، كما أبدلت في تراث، وفي التوراة، والتخمة، ولا تدخل التاء في القسم إلا في المكتوبة من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول: تالرحمن، ولا تالرحيم انتهى. أما قوله: والتاء في تالله بدل من واو، فهو قول أكثر النحويين. وخالفهم السهيلي فزعم أنها أصل بنفسها وليست بدلا من واو، وهو الصحيح على ما قررناه في النحو. وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أن الأصل. ووراه من ورى الزند. ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة، وذلك مذكور في النحو. وأما قوله: ولا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب، وعلى الرحمن، وعلى حياتك، قالوا: ترب الكعبة، وتالرحمن، وتحياتك. والخطاب في لقد علمتم لطالبي الصواع، والضمير في جزاؤه عائد على السارق. فما جزاء السارق إن كنتم كاذبين في قولكم: وما كنا سارقين له؟ قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: فما جزاؤه الضمير للصواع أي: فما جزاء سرقته إن كنتم كاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة منه انتهى. وقوله: هو الظاهر لاتحاد الضمائر في قوله: قالوا جزاؤه من وجد في رحله، إذ التقدير إذ ذاك قال: جزاء الصاع، أي: سرقته من وجد الصاع في رحله. وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله، كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به، ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته، فكأنهم يقولون: لا يمكن أن نسرق، ألا يمكن أن يوجد الصاع في رحالنا. وكان في دين يعقوب استعباد السارق. قال الزمخشري: سنة، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم، ولذلك أجابوا على شريعتهم، وجوزوا في إعراب هذا الكلام وجوه: أحدها: أن يكون جزاؤه مبتدأ، ومن شرطية أو موصولة مبتدأ ثان، فهو جزاؤه جواب الشرط، أو خبر ما الموصولة، والجملة من قوله: من وجد إلى آخره خبر المبتدأ الأول، والضمير في قالوا: جزاؤه للسارق قاله ابن عطية: وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط. الثاني: أن المعنى قالوا: جزاء سرقته، ويكون جزاؤه مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر. والأصل جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو. فموضع الجزاؤ موضع هو، كما تقول لصاحبك: من أخو زيد؟ فتقول: أخوه من يقعد إلى جنبه، فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من، والثاني إلى الأخ. ثم تقول: فهو أخوه مقيما للمظهر مقام المضمر قاله الزمخشري. ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو: زيد قام زيد. وينزه القرآن عنه. قال سيبويه: لو قلت كان زيد منطلقا زيد، لم يكن ضد الكلام، وكان ههنا ضعيفا، ولم يكن كقولك: ما زيد منطلقا هو، لأنك قد استغنيت عن إظهاره، وإنما ينبغي لك أن تضمر. الثالث: أن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي لنسؤل عنه جزاؤه ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول: من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم، ثم تقول: * (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) * قاله الزمخشري. وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله: المسؤول عنه جزائه، على هذا التقدير ليس فيه كثير فائدة، إذ قد علم من قوله: فما جزاؤه أن الشيء المسؤول عنه جزاء سرقته، فأي فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي. الرابع: أن يكون جزاؤه مبتدأ أي: جزاء سرقة الصاع، والخبر من وجد في رحله أي: أخذ من وجد في رحله. وقولهم:
327

فهو جزاؤه، تقرير لحكم أي: فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كقولك: حق زيد أن يكسى ويطعم وينعم عليه فذلك جزاؤوه، أو فهو حقه، لتقرر ما ذكرته من استحقاقه قاله الزمخشري، وقال معناه ابن عطية إلا أنه جعل القول الواحد قولين قال: ويصح أن يكون من خبرا على أن على أن المعنى جزاء السارق من وجد في رحله عائد على من، ويكون قوله: فهو جزاؤه، زيادة بيان وتأكيد. ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد بقوله: فهو جزاؤه. وهذا القول هذا الذي قبله، غير أنه أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بد من تقديره، لأن الذات لا تكون خبرا عن المصدر، فالتقدير في القول قبله جزائه أخذ من وجد في رحله، أو استرقاق هذا لا بد منه على هذا الإعراب. وهذا الوجه هو أحسن الوجوه، وأبعدها من التكلف. كذلك أي: مثل الجزاء، وهو الاسترقاق. نجزي الظالمين أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنافى أهل السرقة * (فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه كذالك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه فى دين) * قيل: قال لهم: من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف، فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة، وتمكين الحيلة، وإبقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه، فقال: ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا: والله ما تتركه حتى تنظر في رحله، فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا، فاستخرجوه منه.
وقرأ الحسن من وعاء بضم الواو، وجاء كذلك عن نافع. وقرأ ابن جبير: من إعاء بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا: إشاح وإسادة في وشاح ووسادة، وذلك مطرد في لغة هذيل، يبدلون من الواو المكسورة الواقعة أولا همزة، وأنث في قوله ثم استخرجها على معنى السقاية، أو لكون الصواغ يذكر ويؤنث. وقال أبو عبيد: يؤنث الصواع من حيث سمى سقاية، ويذكر من حيث هو صاع، وكان أبا عبيد لم يحفظ تأنيث الصواع. وقيل: الضمير في قوله: ثم استخرجها عائد على السرقة، كذلك أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف يعني: علمناه إياه، وأوحينا به إليه. وقال الضحاك، والسدي: كدنا صنعنا. قال ابن عطية: وأضاف الله تعالى الكيد إلى ضميره، لما أخرج القدر الذي أباح ليوسف أخذ أخيه مخرج ما هو في اعتياد الناس كيد. وفسر ابن عباس في دين الملك بسلطانه، وفسره قتادة بالقضاء والحكم انتهى. وقال الزمخشري: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك تفسير للكيد وبيان له، لأنه كان في دين ملك مصر، وما كان يحكم به في السارق أن يغرم مثلي ما أخذ إلا أن يلزم ويستعبد، إلا أن يشاء الله، إلا بمشيئته وإذنه. وقال ابن عطية: والاستثناء حكاية حال التقدير: إلا أن يشاء الله ما وقع من هذه الحيلة انتهى. والذي يظهر أنه استثناء منقطع أي: لكن بمشيئة الله أخذه في دين غير الملك، وهو دين آل يعقوب: أن الاسترقاق جزاء السارق.
وقرأ الكوفيون، وابن محيصن: نرفع بنون درجات منونا من نشاء بالنون، وباقي السبعة كذلك، إلا أنهم أضافوا درجات. وقرأ يعقوب بالياء في يرفع، ويشاء أي:
يرفع الله درجات من يشاء رفع درجاته. وقرأ عيسى البصرة: نرفع بالنون درجات منونا من يشاء بالياء. قال صاحب اللوامح: وهذه قراءة مرغوب عنها تلاوة وجملة، وإن لم يمكن إنكارها. وقال ابن عطية: وقرأ الجمهور نرفع على ضمير المعظم وكذلك نشاء. وقرأ الحسن وعيسى ويعقوب: بالياء أي: الله تعالى انتهى. ومعناه في العلم كما رفعنا درجة يوسف فيه. وعليم صفة مبالغة. وقوله: ذي علم أي: عالم. فالمعنى أن فوقه أرفع منه درجة في علمه، وهذا معنى قول الحسن وقتادة وابن عباس. وعن أن العليم هو الله عز وجل. قيل: روى عنه أنه حدث بحديث عجيب، فتعجب منه رجل ممن حضر فقال: الحمد لله، وفوق كل ذي علم عليم، فقال له ابن عباس: بئس ما قلت، إنما العليم الله، وهو فوق كل ذي علم. وقرأ عبد الله: وفوق كل ذي عالم، فخرجت على زيادة ذي، أو على أن قوله عالم مصدر بمعنى علم كالباطل، أو على أن التقدير:
328

وفوق كل ذي شخص عالم.
روي أن أخوة يوسف عليه السلام لما رأوا إخراج الصواع من رحل أخيهم بنيامين قالوا: يا بنيامين ابن راحيل قبحك الله، ولدت أمك أخوين لصين، كيف سرقت هذه السقاية؟ فرفع يديه إلى السماء وقال: والله ما فعلت، فقالوا: فمن وضعها في رحلك؟ قال: الذي وضع البضاعة في رحالكم. وقال الزمخشري ما معناه: رموا بالسرقة تورية عما جرى مجرى السرقة من فعلهم بيوسف. وإن كنتم كاذبين، فرض لانتفاء براءتهم، وفرض التكذيب لا يكون تكذيبا على أنه لو صرح به كما صرح بالتسريق لكان له وجه، لأنهم قالوا: * (وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب) * والكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية كقوله: وخذ بيدك ضغثا فيتخلص من جلدها ولا يحنث. وقول إبراهيم عليه السلام: هي أختي لتسلم من يد الكافر. وعلم الله في هذه الحيلة التي لقنها ليوسف مصالح عظيمة، فجعلهاسلما وذريعة إليها، فكانت حسننة جميلة انتهى. وقولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، لا يدل على الجزم بأنه سرق، بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي: إن كان وقعت منه سرقة فهو يتأسى ممن سرق قبله، فقد سرق أخ له من قبل. والتعليق على الشرط على أن السرقة في حق بنيامين وأخيه ليس مجزوما بها، كأنهم قالوا: إن كان هذا الذي رمى به بنيامين حقا فالذي رمى به يوسف من قبل حق، لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين، ولذلك قالوا: إن ابنك سرق. وقيل: حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر، فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل، لأن أخاه يوسف قد كان سرق، فعلى هذا القول يكون قولهم أنحاء على يوسف وبنيامين. وقيل: التقدير فقد قيل عن يوسف إنه سرق، وقولهم هذا هو بحسب الظاهر والإخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم، وتختص بالشقيقين. وتنكير أخ في قوله: فقد سرق أخ له من قبل، لأن الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له: لأنه كان شقيقه. والجمهور على أن السرقة التي نسبت هي أن عمته ربته وشب، وأراد يعقوب أخذه، فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق، وكانت متوارثة عندهم، فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت: فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف، فاسترقته حسبما كان في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت، فصار عند أبيه. وقال قتادة وابن جبير: أمرت أمه أن يسرق صنما. وفي كتاب الزجاج: من ذهب لأبيها فسرقه وكسره، وكان ذلك منها تغييرا للمنكر. وقال ابن إدريس عن أبيه: إنما أكل بنو يعقوب طعاما، فأخذ يوسف عرقا فنحاه. وقيل: كان في البيت غاق أو دجاجة، فأعطاها السائل. وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي، وابن أبي شريح عن الكسائي، والوليد بن حسان عن يعقوب وغيرهم: فقد سرق بالتشديد مبنيا للفعول بمعنى نسب إلى السرقة، بمعنى جعل سارقا ولم يكن كذلك حقيقة. والضمير في قوله: فأسرها يفسره سياق لا كلام أي: الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم كما فسره في قول حاتم:
* لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
*
إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدر. وقيل: أسر المجازاة، وقيل: الحجة. وقال الزمخشري: اختار على شريطة التفسير تفسيره أنتم شر مكانا، وإنما أنث لأن قوله: أنتم شر مكانا جملة أو كلمة على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة، كأنه قيل: فأسر الجملة أو الكلمة التي هي قوله. وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: فأسره بضمير تذكير. قال الزمخشري: يريد القول أو الكلام انتهى.
329

والظاهر من قوله: أنتم شر مكانا، خطابهم بهذا القول في الوجه، فكأنه أسر كراهية مقالتهم، ثم وبخهم بقوله: أنتم شر مكانا، وفيه إشارة إلى تكذيبهم وتقوية أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم، وعدلوا إلى الشفاعة بأبيه الشيخ يعقوب عليه السلام. وقال قوم: لم يقل يوسف هذا الكلام لهم مواجهة، إنما قاله في نفسه، وهو تفسير قوله: الذي أسر في نفسه، وهو قول الزمخشري المتقدم. ومعنى شر مكانا أي منزلة في السرق، لأنكم سارقون بالصحة لسرقتكم أخاكم من أبيكم. ومعنى أعلم بما تصفون يعني: هو أعلم بما تصفون منكم، لأنه عالم بحقائق الأمور، وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه. وروي أن روبيل غضب ووقف شعره حتى خرج من ثيابه، فأمر يوسف ابنا له يمسه فسكن غضبه فقال روبيل: لقد مسني أحد من ولد يعقوب، ثم أنهم تشاوروا في محاربة يوسف وكانوا أهل قوة لا يدانون في ذلك، فلما أحس يوسف بذلك قام إلى روبيل فلببه وصرعه، فرأوا من قوته ما استعظموه وعند ذلك.
*
* (قالوا يأبانا * أيها * العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا * مكانه إنا نراك من المحسنين * قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون) *: استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق. ومعنى كبيرا في السن، أو القدر. وكانوا قد أعلموا يوسف بأنه كان له ابن قد هلك، وهذا شقيقه يستأنس به، وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير، أو موته على ما سبق. ومعنى مكانه أي: بدله على جهة الاسترهان أو الاستعباد، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية:
يحتمل قولهم أن يكون مجازا، وهم يعلمون أنه لا يصح أخذ حر بسارق بدل من قد أحكمت السنة رقة، وإنما هذا كمن يقول لمن يكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وكذا، وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، وعلى هذا يتجه قول يوسف: معاذ الله لأنه تعود من غير جائز. ويحتمل أن يكون قولهم حقيقة، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر، فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك طريق الجمالة، أي: خذ أحدنا حتى ينصرف إليك صاحبك. ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه ويعرف يعقوب جلية الأمر. وقوله: من المحسنين، وصفوه بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد إن أسديتها إلينا، وهذا تأويل ابن إسحاق ومعاذ الله تقدم الكلام فيه في قوله: معاذ الله إنه ربي، والمعنى: وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده. فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلما في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم، وباطنه أن الله أمرني وأوحى إلي بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة، أو مصالح جمة علمها في ذلك. فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالما وعاملا على خلاف الوحي. وأن نأخذ تقديره: من أن نأخذ، وإذا جواب وجزاء أي: إن أخذنا بدله ظلمنا. وروي أنه قال لما أيأسهم من حمله معهم: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله.
* (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل) *: استفعل هنا بمعنى المجرد، يئس واستيأس بمعنى واحد نحو: سخر واستسخر، وعجب واستعجب. وزعم الزمخشري أن زيادة السين والتاء في المبالغة قال: نحو ما مر في استعصم انتهى. وقرأ ابن كثير: استيأسوا استفعلوا، من أيس مقلوبا من يئس، ودليل القلب كون ياء أيس لم تنقلب ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها. ومعنى خلصوا نجيا: انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضا. والنجي فعيل بمعنى مفاعل، كالخليط والعشير. ومعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل: النجوى بمعنى التناجي، وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحدا كان أو جماعة، مؤنثا أو مذكرا، فهو كعدل، ويجمع على أنجية قال لبيد:
330

* وشهدت أنجية الأفاقة عاليا
*
كعبي وأرداف الملوك شهود
*
وقال آخر:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيه
ويقول قوم: نجى وهم نجوى تنزيلا للمصدر منزلة الأوصاف. ويجوز أن يكون هم نجى من باب هم صديق، لأنه بزنة المصادر محصوا للتناجي، ينظرون ماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم لهذا الذي دهمهم من الخطب فيه، فاحتاجوا إلى التشاور. وكبيرهم أي: رأيا وتدبيرا وعلما، وهو شمعون قاله: مجاهد. أو كبيرهم في السن وهو روبيل قاله: قتادة. وقيل: في العقل والرأي، وهو يهوذا. ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، وما زائدة أي: ومن قبل هذا فرطتم في يوسف. ومن قبل متعلق بفرطتم، وقد جوزوا في إعرابه وجوها: أحدها: أن تكون ما مصدرية أي: ومن قبل تفريطكم. قال الزمخشري: على أن محل المصدر الرفع على الابتداء، وخبره الظرف، وهو ومن قبل ومعناه: ووقع من قبل تفريطكم في يوسف. وقال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون قوله: من قبل، متعلقا بما فرطتم، وإنما تكون على هذا مصدرية، التقدير: من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر. وبهذا القدر يتعلق قوله من قبل انتهى. وهذا وقول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو: إن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء، ومن قبل في موضع الخبر، وذهلا عن قاعدة عربية، وحق لهما أن يذهلا وهو أن هذه الظروف التي هي غايات إذا ثببتت لا تقع أخبارا للمبتدأ جرت أو لم تجر، تقول: يوم السبت مبارك والسفر بعده، ولا يجوز والسفر بعد وعمر وزيد خلفه. ولا يقال: عمر وزيد خلف. وعلى ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ، ومن قبل خبر، وهو مبني، وذلك لا يجوز وهذا مقرر في علم العربية. ولهذا ذهب أبو علي إلى أن المصدر مرفوع بالابتداء، وفي يوسف هو الخبر أي: كائن أو مستقر في يوسف. والظاهر أن في يوسف معمول لقوله: فرطتم، لا أنه في موضع خبر. وأجاز الزمخشري وابن عطية: أن تكون ما مصدرية، والمصدر المسبوك في موضع نصب، والتقدير: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا من قبل وتفريطكم في يوسف. وقدره الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد، لأكن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد، وبين المعطوف، فصار نظير: ضربت زيدا وبسيف عمرا. وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر. وأما تقدير الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف، فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه، وهو لا يجوز. وأجاز أيضا أن تكون موصولة بمعنى الذي. قال الزمخشري: ومحله الرفع أو النصب على الوجهين انتهى. يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز. ويعني بالنصب أن يكون عطفا على المصدر. المنسبك من قوله: إن أباكم قد أخذ، وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو، وبين المعطوف. وأحسن هذه الأوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة، وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر، ومنه برح الخفاء أي ظهر. وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها، إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح بمعنى فارق، فانتصب الأرض على أنه مفعول به. ولا يجوز أن تكون ناقصة لأنه لا ينعقد من اسمها، والأرض المنصوب على الظرف مبتدأ وخبر، لأنه لا يصل إلا بحرف في. لو قلت: زيد الأرض لم يجز، وعني بالأرض
331

أرض مصر التي فيها الواقعة، ثم غيا ذلك بغايتين: إحداهما: خاصة وهي قوله: حتى يأذن لي أبي، يعني في الانصراف إليه. والثانية: عامة وهي قوله: أو يحكم
الله لي، لأن إذن الله له هو من حكم الله له في مفارقة أرض مصر، وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضا لحكم الله تعالى، ورجوعا لي من له الحكم حقيقة، ومقصوده التضييق على نفسه، كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه إبلاء لعذره. وحكم الله تعالى له بجميع أنواع العذر كالموت، وخلاص أخيه، أو انتصافه من أخذ أخيه. وقال أبو صالح: أو يحكم الله لي بالسيف، أو غير ذلك. والظاهر أن ويحكم معطوف على يأذن. وجوز أن يكون منصوبا بإضمار أن بعد أو في جواب النفي، وهو: فلن أبرح الأرض أي: إلا أن يحكم الله لي، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي، أي: إلا أن تقضيني، ومعناها ومعنى الغاية متقاربان.
روي أنهم لما وصلوا إلى يعقوب أخبروه بالقصة فبكى وقال: يا بني ما تذهبون عني مرة إلا نقصتم، ذهبتم فنقصت مشمعون حيث ارتهن، ثم ذهبتم فنقصتم بنيامين وروبيل. والظاهر أن الأمر بالرجوع هو من قول كبيرهم. وقيل: من قول يوسف لهم. وقرأ الجمهور: سرق ثلاثيا مبنيا للفاعل، إخبارا بظاهر الحال. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، والكسائي في رواية سرق بتشديد الراء مبنيا للمفعول، لم يقطعوا عليه بالسرقة بل ذكروا أنه نسب إلى السرقة. ويكون معنى: وما شهدنا إلا بما علمنا من التسريق. وما كنا للغيب أي: للأمر الخفي حافظين، أسرق بالصحة أم دس الصاع في رحله ولم يشعر؟ وقرأ الضحاك: سارق اسم فاعل، وعلى قراءة سرق وسارق اختلف التأويل في قوله: إلا بما علمنا. قال الزمخشري: بما علمنا من سرقته، وتيقنا لأن الصواع أخرج من وعائه، ولا شيء أبين من هذا. وقال ابن عطية: أي، وقولنا لك إن ابنك سرق إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى، والعلم في الغيب إلى الله تعالى ليس ذلك في حفظنا، هذا قول ابن إسحاق: وقال ابن زيد: أرادوا وما شهدنا به عند يوسف أن السارق يسترق في شرعك، إلا بما علمنا من ذلك، وما كنا للغيب حافظين أن السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا. ويحتمل قوله: وما كنا للغيب حافظين أي: حين واثقناك، إنما قصدنا أن لا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه. وقال الزمخشري: وما كنا للغيب حافظين، وما علمنا أنه يسترق حين أعطيناك الموثق، أو ربما علمنا أنك تصاب كما أصبت بيوسف. ومن غريب التفسير أن المعنى قولهم: للغيب، لليل والغيب الليل بلغة حمير، وكأنهم قالوا: وما شهدنا إلا بما علمنا من ظاهر حاله، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو، أو التدليس عليه. وفي الكلام حذف تقديره: رجعوا إلى أبيهم وأخبر بالقصة. وقول من قال: ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله: ابن عباس أي: أرسل إلى القرية واسأل عن كنه القصة. والعير كانوا قوما من كنعان من جران يعقوب. وقيل: من أهل صنعاء. فالظاهر أن ذلك على إضمار أهل كأنه قيل: وسل أهل القرية وأهل العير، إلا أن أريد بالعير القافلة، فلا إضمار في قوله والعير. وأحالوا في توضيح القصة على ناس حاضرين الحال فيشهدون بما سمعوا، وعلى ناس غيب يرسل إليهم فيسألون. وقالت فرقة: بل أحالوه على سؤال الجمادات والبهائم حقيقة، ومن حيث هو نبي، ولا يبعد أن يخبره بالحقيقة، وحذف المضاف هو قول الجمهور. قال ابن عطية: وهذا مجاز. وحكى أبو المعالي عن بعض المتكلمين أنه قال: هذا من الحذف وليس من المجاز قال: وإنما المجاز لفظة استعيرت لغير ما هي له قال: وحذف المضاف هو عين المجاز، وعظمة هذا مذهب سيبويه وغيره. وحكى أنه قول الجمهور أو نحو هذا انتهى. وفي المحصول لأبي عبد الله محمد الرازي، وفي مختصر أنه إن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر. وبل للإضراب، فيقتضي كلاما محذوفا قبلها حتى يصح الإضراب فيها وتقديره: ليس الأمر حقيقة كما أخبرتم، بل سولت. قال ابن عطية: والظاهر أن قوله بل سولت لكم أنفسكم أمرا، إنما هو ظن سوء بهم كما كان في قصة يوسف
332

قبل، فاتفق أن صدق ظنه هناك، ولم يتحقق هنا. وقال الزمخشري: بل سولت لكم أنفسكم أمرا أردتموه، وإلا فما أدري ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته لولا فتواكم وتعليمكم. وتقدم شرح سولت، وإعراب فصبر جميل. ثم ترجى أن الله يجمعهم عليه وهم: يوسف، وبنيامين، وكبيرهم على الخلاف الذي فيه. وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف، فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله في كل حال. ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه، ووصفه الله بهاتين الصفتين لأئق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه، وتسليم لحكمة الله فيما جرى عليه.
* (وتولى عنهم وقال ياأسفا وقال ياأسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم * قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين * قال إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون * يبنى اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تايئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون) *: وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤوا به، وأنه ساء ظنه بهم، ولم يصدق قولهم، وجعل يتفجع ويتأسف. قال الحسن: خصت هذه الأمة بالاسترجاع. ألا ترى إلى قول يعقوب: يا أسفي، ونادى الأسف على سبيل المجاز على معنى: هذا زمانك فاحضر. والظاهر أنه يضاف إلى ياء المتكلم قلبت ألفا، كما قالوا: في يا غلامي يا غلاما. وقيل: هو على الندبة، وحذف الهاء التي للسكت. قال الزمخشري: والتجانس بين لفظتي الأسف ويوسف مما يقع مطبوعا غير مستعمل فيملح ويبدع، ونحوه: اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم، وهم ينهون عنه وينأون عنه يحسبون أنهم يحسنون صنعا من سبأ بنبأ انتهى. ويسمى هذا تجنيس التصريف، وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف. وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين، والقائل لن أبرح الأرض فقدانه يوسف، فتأسف عليه وحده، ولم يتأسف عليهما، لأنه هو الذي لا يعلم أحي هو أم ميت؟ بخلاف أخوته. ولأنه كان أصل الرزايا عنده، إذ ترتبت عليه، وكان أحب أولاده إليه، وكان دائما يذكره ولا ينساه. وابيضاض عينيه من توالي العبرة، فينقلب سواد العين إلى بياض كدر. والظاهر أنه كان عمي لقوله: فارتد بصيرا. وقال: * (وما يستوى الاعمى والبصير) * فقابل البصير بالأعمى. وقيل: كان يدرك ادراكا ضعيفا، وعلل الابيضاض بالحزن، وإنما هو من البكاء المتوالي، وهو ثمرة الحزن، فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن. وقرأ ابن عباس ومجاهد: من الحزن بفتح الحاء والزاي، وقتادة: بضمها، والجمهور: بضم الحاء وإسكان الزاي. والكظيم إما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي
: شديد الكظم كما قال: * (والكاظمين الغيظ) * ولم يشك يعقوب إلى أحد، وإنما كان يكتمه في نفسه، ويمسك همه في صدره، فكان يكظمه أي: يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر. وإما أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، وهو لا ينقاس، وقاله قوم كما قال في يونس: * (إذ نادى وهو مكظوم) *. قال ابن عطية: وإنما يتجه على تقدير أنه مليء بحزنه، فكأنه كظم حزنه في صدره. وفسر ناس الكظيم بالمكروب وبالمكمود. وروي: أنه ما جفت عيناه من فراق يوسف إلى
333

لقائه ثمانين عاما، وأن وجده عليه وجد سبعين ثكلى، وأجره أجر مائة شهيد. وقال الزمخشري: فهو كظيم، فهو مملوء من الغيظ على أولاده، ولا يظهر ما يسوؤهم انتهى. وقد ذكرنا أن فعيلا بمعنى مفعول لا ينقاس، وجواب القسم تفتؤ حذفت منه، لا لأن حذفها جائز، والمعنى: لا تزال. وقال مجاهد: لا تفتر من حبه، كأنه جعل الفتوء والفتور أخوين، والحرض الذي قدرنا موته. قال مجاهد: ما دون الموت. وقال قتادة: البالي الهرم، وقال نحوه: الضحاك والحسن. وقال ابن إسحاق: الفاسد الذي لا عقل له. وكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي: لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك، أو إلى أن تهلك فقال هو: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله أي: لا أشكو إلى أحد منكم، ولا غيركم. وقال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن، سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله، فيبثه أي ينشره. وقرأ الحسن وعيسى: وحزني بفتحتين. وقرأ قتادة: بضمتين. وأعلم من الله ما لا تعلمون أي: أعلم من صنعه ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب، قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: ويحتمل أنه أشار إلى الرؤيا المنتظرة، أو إلى ما وقع في نفسه منن قول ملك مصر إني أدعو له برؤيته ابنه قبل الموت. وقيل: رأى ملك الموت في منامه فسأله: هل قبضت روح يوسف؟ فقال: لا، هو حي فاطلبه. اذهبوا: أمر بالذهاب إلى الأرض التي جاؤوا منها وتركوا بها أخويهم بنيامين والمقيم بها، وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء، والطلب بالحواس، ويستعمل في الخير والشر. وقرئ: بالجيم، كالذي في الحجرات: * (ولا تجسسوا) * والمعنى: فتحسسوا نبأ من أمر يوسف وأخيه، وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال: فلن أبرح الأرض، إنما أقام مختارا. وقرأ الجمهور: تيأسوا، وفرقة: تأيسوا. وقرأ الأعرج: تئسوا بكسر التاء. وروح الله رحمته، وفرجه، وتنفيسه. وقرأ عمر بن عبد العزيز، والحسن، وقتادة: من روح الله بضم الراء. قال ابن عطية: وكان معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه، فإن من بقي روحه يرجى. ومن هذا قول الشاعر:
وفي غير من قدورات الأرض فاطمع
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص:
* وكل ذي غيبة يؤوب
*
وغائب الموت لا يؤوب
*
وقال الزمخشري: من روح الله بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد انتهى. وقرأ أبي من رحمة الله من صفات الكافر، إذ فيه التكذيب بالربوبية، أو الجهل بصفات الله.
2 (* (فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا
334

الكيل وتصدق علينآ إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون * قالوا أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهاذا أخى قد من الله علينآ إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين * قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين * اذهبوا بقميصى هاذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا وأتونى بأهلكم أجمعين * ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلمآ أن جآء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنىأعلم من الله ما لا تعلمون * قالوا ياأبانا استغفر لنا ذنوبنآ إنا كنا خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربىإنه هو الغفور الرحيم * فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شآء الله ءامنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال ياأبت هاذا تأويل رؤياىمن قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بىإذ أخرجنى من السجن وجآء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بينى وبين إخوتىإن ربى لطيف لما يشآء إنه هو العليم الحكيم * رب قد آتيتنى من الملك وعلمتنى من تأويل الا حاديث فاطر السماوات والا رض أنت ولى فى الدنيا والا خرة توفنى مسلما وألحقنى بالصالحين) *))
) *
المزجاة: المدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا من أزجيته إذا دفعته وطردته، والريح تزجي السحاب. وقال حاتم الطائي:
* لبيك على ملحان ضيف مدفع
*
وأرملة تزجي مع الليل أرملا
*
الإيثار: لفظ يعم جميع التفضل وأنواع العطايا. التثريب: التأنيب والعتب، وعبر بعضهم عنه بالتعبير. ومنه * (إذا * وإذ قالت طائفة منهم ياأهل. يثرب) * أي لا
يعبر. وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غائشة الكرش، ومعناه: إزالة الثرب، كما أن التجليد والتقريع إزالة الجلد والقرع، لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال، فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق الأعراض، ويذهب بهاء الوجه. الفند: الفساد، قال:
* ألا سليمان إذ قال الإله له
*
قم في البرية فاحددها عن الفندوفندت الرجل أفسدت رأيه ورددته قال:
يا عاذلي دعا لومي وتفيدي فليس ما قلت من أمر بمردود
*
وأفند الدهر فلانا أفسده. قال ابن مقبل:
335

* دع الدهر يفعل ما أراد فإنه
*
إذا كلف الإفناد بالناس أفندا القديم: الذي مرت عليه إعصار، وهو أمر نسبي. البدو البادية وهي خلاف الحاضرة.
*
* (فلما دخلوا عليه قالوا ياأيها * أيها * العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين * قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون) *: في الكلام حذف تقديره: فذهبوا من الشام إلى مصر ودخلوها، فلما دخلوا عليه، والضمير في عليه عائد على يوسف، وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسس نبأ يوسف وأخيه. والضر: الهزال من الشدة والجوع، والبضاعة كانت زيوفا قاله ابن عباس. وقال الحسن: قليلة. وقال ابن جبير: ناقصة. وقيل: كانت عروضا. قيل: كانت ضوفا وسمنا. وقيل: صنوبرا وحبة الخضراء وهي الفستق قاله: أبو صالح، وزيد بن أسلم، وقيل: سويق المقل والأقط، وقيل: قديد وحش. وقيل: حبالا وإعدالا وهقتابا، ثم التمسوا منه إيفاء الكيل. وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه. وتصدق علينا أي: بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة، أو زدنا على حقنا، فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة. قيل: لأن الصدقات محرمة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل: كانت تحل لغير نبينا صلى الله عليه وسلم). وسئل ابن عيينة عن ذلك فقال: ألم تسمع وتصدق علينا، أراد أنها كانت حلالا لهم. وقال الزمخشري: والظاهر أنهم تمسكنوا له وطلبوا أن يتصدق عليهم، ومن ثم رق لهم وملكته الرحمة عليهم، فلم يتمالك أن عرفهم نفسه. وقوله إن الله يجزي المتصدقين شاهد، لذلك لذكر الله وجزائه انتهى. وقيل: كانت الصدقة محرمة، ولكن قالوها تجوز استعطافا منهم له في المبايعة كما تقول لمن ساومته في سلعة: هبني من ثمنها كذا، فلم يقصد أن يهبك، وإنما حسنت معه الأفعال حتى يرجع منك إلى سومك. وقال ابن جريج: إنما خصوا بقولهم: وتصدق علينا أمر أخيهم بنيامين أي: أوف لنا الكيل في المبايعة، وتصدق علينا برد أخينا على أبيه. وقال النقاش في قوله: إن الله يجزي المتصدقين، هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب، وذلك أنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا على غير دينهم. ولو قالوا: إن الله يجزيك بصدقتك في الآخرة كذبوا، فقالوا له لفظا يوهم أنهم أرادوه، وهم يصح لهم إخراجه منه بالتأويل. وروي أنهم لما قالوا له: مسنا وأهلنا الضر واستعطفوه، رق لهم ورحمهم. قال ابن إسحاق: وارفض دمعه باكيا، فشرع في كشف أمره إليهم. فيروي أنه حسر قناعة وقال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه أي: من التفريق بينهما في الصغر، وإذاية بنيامين بعد مغيب يوسف؟ وكانوا يذلونه ويشتمونه. قال ابن عطية: ونسبهم إما إلى جهل المعصية، وإما إلى جهل السيئات وقلة الحنكة. وقال الزمخشري: أتاهم من جهة الدين وكان حليما موفقا، فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال: هل علمتم قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه، فلذلك أقدمتم عليه يعني: هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه؟ لأن علم القبح يدعو إلى الاستقباح، والاستقباح يجر التوبة، فكان كلامه شفقة عليهم وتنصحا لهم في الدين، وإيثارا لحق الله على حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور، فلله أخلاق الأنبياء ما أوطاها وأسمحها، ولله حصى عقولهم ما أرزنها وأرجحها انتهى وقيل: لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء، ولكنهم لما فعلوا ما لا يقتضيه العلم، وتقدم عليه إلا جاهل سماهم جاهلين. وفي التحرير ما لخص منه وهو أن قول الجمهور: هل علمتم استفهام معناه التقريع
336

والتوبيخ، ومراده تعظيم الواقعة أي: ما أعظم ما ارتكبتم من يوسف. كما يقال: هل تدري من عصيت؟ وقيل: هل بمعنى قد، لأنهم كانوا عالمين، وفعلتم بيوسف إفراده من أبيهم، وقولهم: بأن الذئب أكله، وإلقاؤه في الجب وبيعه بثمن بخس إن كانوا هم الذين باعوه، وقولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل، والذي فعلوا بأخيه أذاهم له وجفاؤهم له، واتهامه بسرقة الصاع، وتصريحهم بأنه سرق، ولم يذكر لهم ما إذ واجه أباهم تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه. قال ابن عباس، والحسن: جاهلون صبيان. وقال مقاتل: مذنبون. وقيل: جاهلون بما يجب من بر الأب، وصلة الرحم، وترك الهوى. وقيل: جاهلون بما يؤول إليه أمر يوسف. وقيل: جاهلون بالفكر في العاقبة، وعدم النظر إلى المصلحة. وقال المفسرون: وغرض يوسف توبيخ أخوته وتأنيبهم على ما فعلوا في حق أبيهم وفي حق أخويهم، قال: والصحيح أنه قال ذلك تأنيسا لقلوبهم، وبسط عذر كأنه قال: إنما أقدمكم على ذلك الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور، وكأنه لقنهم الحجة كقوله: * (ما * غرك بربك الكريم) * وما حكاه ابن الهيصم في قصة من أنه صلبهم، والثعلبي في حكايته أنه غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا، فرق لهم وقال: هل علمتم
الآية: لا يصح البتة، وكان يوسف من أرق خلق الله وأشفقهم على الأجانب، فكيف مع إخوته ولما اعترفوا بالخطأ قال: لا تثريب عليكم الآية.
* (قالوا * أءنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهاذا أخى قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع) *: لما خاطبهم بقوله: هل علمتم؟ أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم، ولا تتبع أحوالهم، وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم بحالهم فيقال: إنه كان يكلمهم من وراء حجاب، فرفعه ووضع التاج وتبسم، وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه أو رأوا لمعة بيضاء كالشامة في فرقه حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة، فتوسموا أنه يوسف، واستفهموه استفهام استخبار. وقيل: استفهام تقرير، لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف عرفوه؟ (قلت): رأوا في روائه وشمائله حين كلمهم بذلك ما شعروا به أنه هو، مع علمهم بأن ما خاطبهم به لا يصدر إلا عن حنيف مسلم من نسل إبراهيم عليه السلام، لا عن بعض أعزاء مصر. وقرأ الجمهور: أئنك على الاستفهام، والخلاف في تحقيق الهمزتين، أو تليين الثانية وإدخال ألف في التلين، أو التحقيق مذكور في القراءات السبع. وقرأ قتادة، وابن محيصن، وابن كثير: إنك بغير همزة استفهام، والظاهر أنها مرادة. ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون في القول وهو الظاهر، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر، ونسب في كل من القراءتين إلى المجموع قول بعضهم: أمكن، وهو مع ذلك بعيد. وقرأ أبي: أئنك أو أنت يوسف. وخرجه ابن جني على حذف خبر إن وقدره: أئنك لأنت يوسف، أو أنت يوسف. وقدره الزمخشري: أئنك يوسف، أو أنت يوسف، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه قال: وهذا كلام مستعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرر الاتسثبات انتهى. وحكى أبو عمرو الداني في قراءة أبي بن كعب قالوا: أو أنت يوسف؟ وفي قراءة الجمهور: أئنك لأنت، يجوز أن تكون اللام دخلت على أنت، وهو فصل: وخبر إن يوسف كما تقول: إن كان زيد لهو الفاضل. ويجوز أن تكون دخلت على أنت وهو مبتدأ، ويوسف خبره، والجملة في موضع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت توكيدا للضمير الذي هو اسم إن لحيلولة اللام بينهما. ولما استفهموه أجابهم فقال: أنا يوسف كاشفا لهم أمره، وزادهم في الجواب قوله: وهذا أخي، لأنه سبق قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟ وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه، وإن كان معلوما عندهم وتوطئه لما ذكر بعد من هو بالتقوى والصبر، والأحسن أن لا تخص التقوى بحالة ولا الصبر.
337

وقال مجاهد: من يتقي في تركه المعصية ويصبر في السجن. وقال النخعي: من يتقي الزنا ويصبر على العزوبة. وقيل: ومن يتق الله ويصبر على المصائب. وقال الزمخشري: من يتق، من يخف الله. وعقابه ويصبر عن المعاصي، وعلى الطاعات. وقيل: من يتقي معاصي الله، ويصبر على أذى الناس، وهذه كلها تخصيصات بحسب حالة يوسف ونوازله.
وقرأ قنبل: من يتقي، فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة، وهذه الياء إشباع. وقيل: جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول: لم يرمي زيد، وقد حكوا ذلك لغة. وقيل: هو مرفوع، ومن موصول بمعنى الذي، وعطف عليه مجزوم وهو: ويصبر، وذلك على التوهم. كأنه توهم أن من شرطية، ويتقي مجزوم. وقيل: ويصبر مرفوع عطفا على مرفوع، وسكنت الراء لا للجزم، بل لتوالي الحركات، وإن كان ذلك من كلمتين، كما سكنت في يأمركم، ويشعركم، وبعولتهن، أو مسكنا للوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف. والأحسن من هذه الأقوال أن يكون يتقي مجزوما على لغة، وإن كانت قليلة، ولا يرجع إلى قول أبي علي قال: وهذا مما لا يحمل عليه، لأنه إنما يجيء في الشعر لا في الكلام، لأن غيره من رؤساء النحويين قد نقلوا أنه لغة.
والمحسنين: عام يندرج فيه من تقدم، أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين كأنه قيل: لا يضيع أجرهم. وآثرك: فضلك بالملك، أو بالصبر، والعلم قالهما ابن عباس، أو بالحلم والصفح ذكره أبو سليمان الدمشقي، أو بحسن الخلق والخلق، والعلم، والحلم، والإحسان، والملك، والسلطان، وبصبرك على أذانا قاله: صاحب الغنيان. أو بالتقوى، والصبر وسيرة المحسنين قاله: الزمخشري، وهو مناسب لقوله: * (إنه من يتق) * الآية وخطابهم إياه بذلك استنزال لإحسانه، واعتراف بما صدر منهم في حقه. وخاطئين: من خطىء إذا تعمد. وأما أخطأ فقد الصواب ولم يوفق له. ولا تثريب: لا لوم ولا عقوبة. وتثريب اسم لا، وعليكم الخبر، واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي: لا تثريب مستقر عليكم اليوم. وقال الزمخشري: (فإن قلت): بم تعلق اليوم؟ (قلت): بالتثريب، أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار، أو بيغفر. والمعنى: لا أثربكم اليوم، وهذا اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام. ثم ابتدأ فقال: يغفر الله لكم، قد عالهم بمغفرة ما فرط منهم. يقال: غفر الله لك، ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعا، ومنه قول المشمت: يهديكم الله ويصلح بالكم. أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران، لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم انتهى. أما قوله: إن اليوم يتعلق بالتثريب، فهذا لا يجوز، لأن التثريب مصدر، وقد فصل بينه وبين معموله بقوله: عليكم. إما أن يكون خبرا، أو صفة لتثريب، ولا يجوز الفصل بينهما، لأن معمول المصدر من تمامه. وأيضا لو كان اليوم متعلقا بتثريب لم يجز بناؤه، وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف، وهو الذي يسمى المطول، ويسمى الممطول، فكان يكون معربا منونا. وأما تقديره الثاني فتقدير حسن، ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء. وابتدأوا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء، وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. وأما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقا بيغفر فمقبول، وقد وقف بعض القراء على عليكم، وابتدأ اليوم يغفر الله لكم. قال ابن عطية: والوقف على اليوم أرجح في المعنى، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله اللهم، إلا أن يكون ذلك بوحي. وأما قوله: فبشارة إلى آخره، فعلى طريقة المعتزلة، فإن الغفران لا يكون إلا لمن تاب. قال ابن الأنباري: إنما أشار إلى ذلك اليوم لأنه أول أوقات العفو، وسبيل العافي في مثله أن لا يراجع عقوبة،. وأجاز الحوفي أن يكون عليكم في موضع الضفة لتثريب، ويكون الخبر اليوم، وهو وجه حسن. وقيل: عليكم بيان كذلك في قولهم: سقيا لك، فيتعلق بمحذوف. ونصوا على أنه لا يجوز أن يتعلق عليكم بتثريب، لأنه كان يعرب، فيكون منونا لأنه يصير من باب المشبه بالمضاف
. ولو قيل: إن الخبر محذوف، وعليكم متعلق بمحذوف يدل عليه تثريب،
338

وذلك المحذوف هو العامل في اليوم وتقديره: لا تثريب عليكم اليوم، كما قدروا في * (لا عاصم اليوم من أمر الله) * أي: يعصم اليوم، لكان وجها قويا، لأن خبر لا إذا علم كثر حذفه عند أهل الحجاز، ولم يلفظ به بنو تميم. ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله بالصفة التي هي سبب الغفران، وهو أنه تعالى أرحم الرحماء، فهو يرجو منه قبول دعائه لعم بالمغفرة.
والباء في بقميصي الظاهر أنها للحال أي: مصحوبين أو ملتبسين به. وقيل: للتعدية أي: اذهبوا قميصي، أي احملوا قميصي. قيل: هو القميص الذي توارثه يوسف وكان في عنقه، وكان من الجنة، أمره جبريل عليه السلام أن يرسله إليه فإن فيه ريح الجنة، لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي. وقيل: كان لإبراهيم كساه الله إياه من الجنة حين خرج من النار، ثم لإسحاق، ثم ليعقوب، ثم ليوسف. وقيل: هو القميص الذي قد من دبر، أرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة. والظهر أنه قميص من ملبوس يوسف بمنزلة قميص كل واحد، قال ذلك: ابن عطية. وهكذا تتبين الغرابة في أنوجد يعقوب ريحه من بعد، ولو كان من قمص الجنة ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد. وقوله: فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، يدل على أنه علم أنه عمى من الحزن، إما بإعلامهم، وإما بوحي. وقوله: يأت بصيرا، يظهر أنه بوحي. وأهلوه الذين أمر بأن يؤتي بهم سبعون، أو ثمانون، أو ثلاثة وتسعون، أو ستة وتسعون، أقوال أولها للكلبي وثالثها المسروق. وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى عليه السلام ستمائة ألف. ومعنى: يأت، يأتيني، وانتصب بصيرا على الحال.
* (ولما فصلت العير قال أبوهم إنى لاجد ريح يوسف لولا أن تفندون * قالوا تالله إنك لفى ضلالك القديم * فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إنى أعلم من الله ما لا) *: فصل من البلد يفصل فضولا انفصل منه وجاوز حيطانه، وهو لازم. وفصل الشيء فصلا فرق، وهو متعد. ومعنى فصلت العير: انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب، وكان قريبا من بيت المقدس. وقيل: بالجزيرة، وبيت المقدس هو الصحيح، لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن. وقرأ ابن عباس: ولما انفصل العير، قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام، هاجت ريح فحملت عرفه. وقال الحسن وابن جريج: من ثمانين فرسخا، وكان مدة فراقه منه سبعا وسبعين سنة. وعن الحسن أيضا: وجده من مسيرة ثلاثين يوما، وعنه: مسيرة عشر ليال. وعن أبي أيوب المهروي: أن الريح استأذنت في إيصال عرف يوسف إلى يعقوب، فأذن لها في ذلك. وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا، واتصلت بيعقوب فوجد ريح الجنة، فعلم أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. ومعنى لأجد: لأشم فهو وجود حاسة الشم. وقال الشاعر:
* وإني لأستشفي بكل غمامة
*
يهب بها من نحو أرضك ريح
*
ومعنى تفندون قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: تسفهون. وعن ابن عباس أيضا: تجهلون، وعنه أيضا: تضعفون. وقال عطاء وابن جبير: تكذبون. وقال الحسن: تهرمون. وقال ابن زيد، والضحاك ومجاهد أيضا: تقولون ذهب عقلك وخرفت. وقال أبو عمرو: تقبحون. وقال الكسائي: تعجزون. وقال أبو عبيدة: تضللون. وقيل: تخطئون. وهذه كلها متقاربة في المعنى، وهي راجعة لاعتقاد فساد رأي المفند إما لجهله، أو لهوى غالب عليه، أو لكذبه، أو لضعفه وعجزه لذهاب عقله بهرمه. وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شيج مفند أي: قد فسر
339

رأيه، ولا يقال: عجوز مفندة، لأن المرأة لم يكن لها رأي قط أصيل فيدخله التفنيد. وقال معناه الزمخشري قال: التفنيد النسبة إلى الفند وهو الخوف وإنكارالعقل، من هرم يقال: شيخ مفند، ولا يقال عجوز مفندة، لأنها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فنفند في كبرها، ولولا هنا حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف. قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني انتهى. وقد يقال: تقديره لولا أن تفندوني لأخبرتكم بكونه حيا لم يمت، لأن وجداني ريحه دال على حياته. والمخاطب بقوله: تفندون، الظاهر من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غير الذين راحوا يمتارون، إذ كان أولاده جماعة. وقيل: المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته. والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرشاد، قال ابن عباس: المعنى إنك لفي خطئك، وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين، ولذلك يقال له: ذو الحزنين. وقال مقاتل: الشقاء والعناء. وقال ابن جبير: الجنون، ويعني والله أعلم غلبة المحبة. وقيل: الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي: ذهب فيه. وقيل: الحب، ويطلق الضلال على المحبة. وقال ابن عطية: ذلك من الجفاء الذي لا يسوغ لهم مواجهته به، وقد تأوله بعض الناس على ذلك، ولهذا قال قتادة: قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم، ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم). وقال الزمخشري: لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف، ولهجك بذكره، ورجاءك لقاءه، وكان عندهم أنه قد مات. روي عن ابن عباس أن البشير كان يهوذا، لأنه كان جاء بقميص الدم. وقال أبو الفضل الجوهري: قال يهوذا لإخوته: قد علمتم أني ذهبت إليه بقميص القرحة، فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة فتركوه، وقال هذا المعنى: السدي. وأن تطرد زيادتها بعد لما، والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير، وهو الظاهر، هو لقوله: فألقوه. وقيل: يعود على يعقوب، والظاهر أنه أريد الوجه كله كما جرت العادة أنه متى وجد الإنسان شيئا يعتقد فيه البركة مسح به وجهه. وقيل: عبر بالوجه عن العينين لأنهما فيه. وقيل: عبر بالكل عن البعض. وارتد عده بعضهم في أخوات كان، والصحيح أنها ليست من أخواتها، فانتصب بصيرا على الحال والمعني: أنه رجع إلى حالته الأولى من سلامة البصر. ففي الكلام ما يشعر أن بصره عاد أقوى مما كان
عليه وأحسن، لأن فعيلا من صيغ المبالغة، وما عدل من مفعل إلى فعيل إلا لهذا المعنى انتهى. وليس كذلك لأن فعيلا هنا ليس للمبالغة، إذ فعيل الذي للمبالغة هو معدول عن فاعل لهذا المعنى. وأما بصيرا هنا فهو اسم فاعل من بصر بالشيء، فهو جار على قياس فعل نحو ظرف فهو ظريف، ولو كان كما زعم بمعنى مبصر لم يكن للمبالغة أيضا، لأن فعيلا بمعنى ليس للمبالغة نحو: أليم وسميع بمعنى مؤلم ومسمع. وروي أن يعقوب سأل البشيركيف يوسف؟ قال: ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟ قال: على أي دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمت النعمة. وقال الحسن: لم يجد البشير عند يعقوب شيئا ببيته به وقال: ما خبرنا شيئا منذ سبع ليال، ولكن هون الله عليك سكرات الموت. وقال الضحاك: رجع إليه بصره بعد العمى، والقوة بعد الضعف، والشباب بعد الهرم، والسرور بعد الكرب. والظاهر أن قوله: إني أعلم، محكي بالقول ويريد به إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله، وأعلم من الله ما لا تعلمون. فقيل: ما لا تعلمون من حياة يوسف، وأن الله يجمع بيننا وبينه. وقيل: من صحة رؤيا يوسف عليه السلام، وقيل: من بلوى الأنبياء بالحزن، ونزول الفرج، وقيل: من أخبار ملك الموت إياي، وكان أخبره أنه لم يقبض روحه. وقال ابن عطية: ما لا تعلمون هو انتظاره لتأويل الرؤيا، ويحتمل أن يشير إلى حسن ظنه بالله فقط. وقال الزمخشري: ألم أقل لكم يعني قوله: إني لأجد ريح يوسف، أو قوله: ولا تيأسوا من روح الله. وقوله إني أعلم، كلام مبتدأ لم يقع عليه القول انتهى. وهو خلاف الظاهر الذي قدمناه. ولما رجع إليه بصره وقرت عينه بالمسير إلى ابنه يوسف، وقررهم على قوله: ألم أقل لكم طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم، واعترفوا بالخطأ السابق منهم، وسوف أستغفر لكم: عدة لهم بالاستغفار بسوف، وهي أبلغ في التنفيس من السين. فعن ابن
340

مسعود: أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر. وعن ابن عباس: إلى ليلة الجمعة، وعنه: إلى سحرها. قال السدي، ومقاتل، والزجاج: أخر لإجابة الدعاء، لا ضنة عليهم بالاستغفار. وقالت فرقة: سوف إلى قيام الليل. وقال ابن جبير وفرقة: إلى الليالي البيض، فإن الدعاء فيها يستجاب. وقال الشعبي: أخره حتى يسأل يوسف، فإن عفا عنهم استغفر لهم. وقيل: أخرهم ليعلم حالهم في صدق التوبة وإخلاصها. وقيل: أراد الدوام على الاستغفار لهم. ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله: إنه هو الغفور الرحيم.
* (فلما دخلوا على يوسف ءاوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله ءامنين * ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يأبت * يأبت هاذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن وجاء بكم من) *: في الكلام حذف تقديره: فرحل يعقوب بأهله أجمعين، وساروا حتى تلقوا يوسف. قيل: وجهز يوسف إلى أبيه جهازا، ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف قيل: والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم، فتلقوا يعقوب عليه السلام وهو يمشي يتوكأ على يهوذ، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ فقال: لا، هذا ولدك. فلما لقيه يعقوب عليه السلام قال: السلام عليك يا مذهب الأحزان. وقيل: إن يوسف قال له لما التقيا: يا أبت، بكيت علي حتى ذهب بصرك، ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك. آوي إليه أبويه أي: ضمهما إليه وعانقهما، والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل. فقال الحسن وابن إسحاق: كانت أمه بالحياة. وقيل: كانت ماتت من نفاس بنيامين، وأحياها له ليصدق رؤياه في قوله: * (والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين) * حكي هذا عن الحسن وابن إسحاق أيضا. وقيل: أبوه وخالته، وكان يعقوب تزوجها بعد موت راحيل، والخالة أم. روي عن ابن عباس، وكانت ربت يوسف، والرابة تدعى أما. وقال بعضهم: أبوه وجدته أم أمه، حكاه الزهراوي. وفي مصحف عبد الله آوى إليه أبويه وإخوته وظاهر قوله: ادخلوا مصر، إنه أمر بإنشاء دخول مصر. قال السدي: قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم انتهى. فيبقى قوله: فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب له مضرب، أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه. وقيل: دخلوا عليه في مصر. ومعنى ادخلوا مصر أي: تمكنوا منها واستقروا فيها. والظاهر تعلق الدخول على مشيئة الله لما أمرهم بالمدخول، علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئة الله، وما لا يشاء لا يكون. قال الزمخشري: التقدير ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، إن شاء الله دخلتم آمنين، ثم حذف الجزاء لدلالة الكلام، ثم اعترض بالجملة الجزائية بين الحال وذي الحال. ومن بدع التفاسير أن قوله: إن شاء الله من باب التقديم والتأخير، وأن موضعه بعد قوله: سوف أستغفر لكم ربي في كلام يعقوب انتهى. وهذا البدع من التفسير مروي عن ابن جريج، وهو في غاية البعد، بل في غاية الامتناع.
والعرش سرير الملك. ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره، واجتمعوا إليه، أكرم أبويه فرفعهما معه على السرير. ويحتمل أن يكون الرفع والخرور قبل دخول مصر بعد قوله: ادخلوا مصر، فكان يكون في
341

قبة من قباب الملوك التي تحمل على البغال أو الإبل، فحين دخلوا إليه آوى إليه أبويه وقال: ادخلوا مصر، ورفع أبويه. وخروا له، والضمير في وخروا عائد على أبويه وعلى إخوته. وقيل: الضمير في وخروا عائد على إخوته وسائر من كان يدخل عليه لأجل هيبته، ولم يدخل في الضمير أبواه، بل رفعهما على سرير ملكة تعظيما لهما. وظاهر قوله: وخروا له سجدا أنه السجود المعهود، وأن الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله: * (إنى رأيت أحد عشر كوكبا) * الآية وكان السجود إذ ذاك جائزا من باب التكريم بالمصافحة، وتقبيل اليد، والقيام مما شهر بين الناس في باب التعظيم والتوقير. وقال قتادة: كانت تحية الملوك عندهم، وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة. وقيل: هذا السجود كان إيماء بالرأس فقط. وقيل: كان كالركوع البالغ دون وضع الجبهة على الأرض. ولفظة وخروا تأبى هذين التفسرين. قال الحسن: الضمير في له عائد على الله أي: خروا الله سجدا شكرا على ما أوزعهم من هذه النعمة، وقد تأول قوله: رأيتهم لي ساجدين، على أن معناه رأيتهم لأجلي ساجدين. وإذا كان الضمير ليوسف فقال المفسرون: كان السجود تحية لا عبادة. وقال أبو عبد الله الداراني: لا يكون السجود إلا لله لا ليوسف، ويبعد من عقله ودينه أن يرضي بأن يسجد له أبوه مع سابقته من صون أولاده، والشيخوخة، والعلم، والدين، وكمال النبوة. وقيل: الضمير وإن عاد على يوسف
فالسجود كان لله تعالى، وجعلوا يوسف قبلة كما تقول: صليت للكعبة، وصليت إلى الكعبة، وقال حسان:
* ما كنت أعرف أن الدهر منصرف
*
عن هاشم ثم عنها عن أبي حسن أليس أول من صلى لقبلتكموأعرف الناس بالأشياء والسنن
*
وقيل: السجود هنا التواضع، والخرور بمعنى المرور لا السقوط على الأرض لقوله: * (والذين إذا ذكروا بئايات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) * أي لم يمروا عليها. وقال ثابت: هذا تأويل رؤياي من قبل أي: سجودكم هذا تأويل، أي: عاقبة رؤياي أن تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين: ومن قبل متعلق برؤياي، والمحذوف في من قبل تقديره: من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي. ومن تأول أن أبويه لم يسجدا له زعم أن تعبير الرؤيا لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه، فسجود الكواكب والشمس والقمر يعبر بتعظيم الأكابر من الناس. ولا شك أن ذهاب يعقوب عليه السلام مع ولده من كنعان إلى مصر لأجل يوسف نهاية في التعظيم له، فكفى هذا القدر في صحة الرؤيا وعن ابن عباس: أنه لما رأى سجود أبويه وأخوته هاله ذلك واقشعر جلده منه. وقال ليعقوب: هذا تأويل رؤياي من قبل، ثم ابتدأ يوسف عليه السلام بتعديد نعم الله عليه فقال: قد جعلها ربي حقا أي: صادقة، رأيت ما يقع في في المنام يقظة، لا باطل فيها ولا لغو. وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض. قيل: ثمانون سنة، وقيل: ثمانية عشر عاما. وقيل: غير ذلك من رتب العدد. وكذا المدة التي أقام يعقوب فيها بمصر عند ابنه يوسف خلاف متناقض، وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * وقد يتعدى بالباء قال تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) * كما يقال أساء إليه، وبه قال الشاعر:
* أسيء بنا أو أحسني لا ملومة
*
لدينا ولا مقلية إن تقلت
*
وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف، فعداه بالباء، وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحا
342

عن ذكر ما تعلق بقول إخوته، وتناسيا لما جرى منهم إذ قال: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) * وتنبيها على طهارة نفسه، وبراءتها مما نسب إليه من المراودة. وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب، إلى أن بيع مع العبيد، وجاء بكم من البدو من البادية. وكان ينزل يعقوب عليه السلام بأطراف الشام ببادية فلسطين، كان رب إبل وغنم وبادية. وقال الزمخشري: كانوا أهل عمد وأصحاب مواش يتنقلون في المياه والمناجع. قيل: كان تحول إلى بادية وسكنها، فإن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية. وقيل: كان خرج إلى بدا وهو موضع وإياه عني جميل بقوله:
* وأنت التي جببت شعبا إلى بدا
*
إلي وأوطاني بلاد سواهما
*
وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال: بدا القوم بدوا، إذا أتوا بدا كما يقال: غاروا غورا. إذ أتوا الغور. والمعنى: وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وأخوته، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث: * (من يرد * الله به * خيرا) * من بعد أن نزغ أي أفسد، وتقدم الكلام على نزع، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال: * (هاذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها) * وذكر هذا القدر من أمر أخوته، لأن النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعا. إن ربي لطيف، أي: لطيف التدبير لما يشاء من الأمور، رفيق. ومن في قوله من الملك، وفي من تأويل للتبعيض، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا، ولا علمه إلا بعض التأويل. ويبعد قول من جعل من زائدة، أو جعلها البيان الجنس، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر. وقيل: ملك نفسه من إنفاذ شهوته. وقال عطاء: ملك حساده بالطاعة، ونيل الأماني من الملك. وقرأ عبد الله، وعمرو بن ذر: آتيتن، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما، مع كونهما ثابتتين خطا. وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة: قرأ رب آتيتني بغير قد، وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء. وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي. وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه، ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت. وقال ابن عباس: لم يتمن الموت حي غير يوسف، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت، وإنما عدد نعمه عليه، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي: توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين. وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام، وله من الولد: افراثيم، ومنشأ، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام. قال الذهبي: وولد لافراثيم نون،
ولنون يوشع، وهو فتى موسى عليه السلام. وولد لمنشأ موسى، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، وكان ابن عباس ينكر ذلك. وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران، وتوارثت الفراعنة ملك مصر، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام.
2 (* (ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * ومآ
343

أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين * وكأين من ءاية فى السماوات والا رض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون * قل هاذه سبيلىأدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله ومآ أنا من المشركين * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحىإليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الا رض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الا خرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون * حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جآءهم نصرنا فنجى من نشآء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين * لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *))
) *
* (ذالك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت * إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون * وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين * وما تسألهم عليه من * إن هو إلا ذكر للعالمين * وكأين من ءاية فى السماوات والارض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون) * قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحا وافيا، وأمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم، فخالفوا تأميله، فعزاه الله تعالى بقوله: وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات. وقيل: في المنافقين، وقيل: التوبة، وقيل: في النصارى. وقال ابن عباس: في تلبية المشركين. وقيل: في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فجمعوا بين الإيمان والشرك. والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته. وما كنت لديهم أي: عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب، ولا حين ألقوه فيه، ولا حين التقطته السيارة، ولا حين بيع. وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف، ويتشاورون فيما يفعلون به. أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخا بالدم، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود. وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحدا ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه * (وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الامر) *. فقوله: وما كنت، هنا تهكم بهم، لأنه قد علم كل أحد أن محمدا صلى الله عليه وسلم) ما كان معهم. وأجمعوا أمرهم أي: عزموا على إلقاء يوسف في الجب، وهم يمكرون جملة حالية. والمكر: أن يدبر على الإنسان تدبيرا يضره ويؤذيه والناس، الظاهر العموم لقوله: ولكن أكثر الناس لا يؤمنون. وعن ابن عباس: أنهم أهل مكة. ولو حرصت: ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر. وجواب لو محذوف أي: ولو حرصت لم يؤمنوا، إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه. والضمير في عليه عائد على دين الله أي: ما تبتغي عليه أجرا على دين الله، وقيل: على القرآن، وقيل: على التبليغ، وقيل: على الأنباء بمعنى القول. وفيه توبيخ للكفرة، وإقامة الحجة عليهم. أو وما تسألهم على ما تحدثهم به وتذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى، كما يعطي جملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا موعظة وذكر من الله للعالمين عامة، وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ا وقرأ بشر بن عبيد: وما نسألهم بالنون. ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سببا للإيمان ولا تؤثر فيهم، وأن تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي وتقدم قراءة ابن كثير وكأين. قال ابن عطية وهو اسم فاعل من كان فهو كائن ومعناها معنى كم في التكثير انتهى. وهذا شيء يروي عن يونس، وهو قول مرجوح في النحو. والمشهور عندهم أنه مركب من كاف التشبيه ومن أي، وتلاعبت العرب به فجاءت به لغات. وذكر صاحب اللوامح أن الحسن قرأ وكي بياء مكسورة من غير هم ولا ألف ولا تشديد، وجاء كذلك عن ابن محيصن، فهي لغة انتهى. من آية علامة على توحيد الله وصفاته، وصدق ما جيء به عنه. وقرأ عكرمة وعمرو بن قائد: والأرض بالرفع على الابتداء، وما بعده خبر. ومعنى يمرون عليها فيشاهدون ما فيها من الآيات. وقرأ السدي: والأرض بالنصب، وهو من باب الاشتغال أي: ويطوون الأرض يمرون عليها على آياتها، وما أودع فيها من الدلالات.
344

والضمير في عليها وعنها في هاتين القراءتين يعود على الأرض، وفي قراءة الجمهور وهي بجر الأرض، يعود الضمير على آية أي: يمرون على تلك الآيات ويشاهدون تلك الدلالات، ومع ذلك لا يعتبرون. وقرأ عبد الله: والأرض برفع الضاد، ومكان يمرون يمشون، والمراد: ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. وهم مشركون جملة حالية أي: إيمانهم ملتبس بالشرك. وقال ابن عباس: هم أهل الكتاب، أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه، أو من حيث ما قالوا في عزير والمسيح. وقال عكرمة، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: هم كفار العرب أقروا بالخالق الرازق المحيي المميت، وكفروا بعبادة الأوثان والأصنام. وقال ابن عباس: هم الذين يشبهون الله بحلقه. وقيل: هم أهل مكة قالوا: لله ربنا لا شريك له، والملائكة بناته، فأشركوا ولم يوحدوا. وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والشعبي، وقتادة أيضا ذلك في تلبيتهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك. وفي الحديث كان صلى الله عليه وسلم) إذا سمع أحدهم يقول: لبيك لا شريك لك بقول له: (قط قط) أي قف هنا ولا تزد إلا شريك هولك وقيل: هم الثنوية قالوا بالنور والظلمة. وقال عطاء: هذا في الدعاء ينسى الكفار ربهم في الرخاء،
فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء. وقيل: هم المنافقون، جهروا بالإيمان وأخفوا الكفر. وقيل: على بعض اليهود عبدوا عزيرا، والنصارى عبدوا الكواكب. وقيل: قريش لما غشيهم الدخان في سني القحط قالوا: إنا مؤمنون، ثم عادوا إلى الشرك بعد كشفه. وقيل: جميع الخلق مؤمنهم بالرسول وكافرهم، فالكفار تقدم شركهم، والمؤمنون فيهم الشرك الخفي، وأقربهم إلى الكفر المشبهة. ولذلك قال ابن عباس: آمنوا محملا، وكفروا مفصلا. وثانيها من يطيع الخلق بمعصية الخالق، وثالثها من يقول: نفعني فلان وضرني فلان.
أفأمنوا: استفهام إنكار فيه توبيخ وتهديد، غاشية نقمة تغشاهم أي، تغظيهم كقوله: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وقال الضحاك: يعني الصواعق والقوارع انتهى. وإتيان الغاشية يعني في الدنيا، وذلك لمقابلته بقوله أو تأتيهم الساعة أي يوم القيامة، بغتة أي: فجأة في الزمان من حيث لا يتوقع، وهم لا يشعرون تأكيد لقوله بغتة. قال الكرماني: لا يشعرون بإتيانها أي: وهم غيره مستعدين لها. قال ابن عباس: تأخذهم الصيحة على أسواقهم ومواضعهم. وقرأ أبو حفص، وبشر بن عبيد: أو يأتيهم الساعة.
* (قل هاذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى وسبحان الله وما أنا من المشركين * وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة) *: لما تقدم من قول يوسف عليه السلام: * (توفنى مسلما) * وكان قوله تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) * دالا على أنه حارص على إيمانهم، مجتهد في ذلك، داع إليه، مثابر عليه. وذكر * (وما تسألهم عليه من أجر) * أشار إلى فيهم من
345

ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان، وتوحيد الله. فقال: قل يا محمد هذا الطريقة والدعوة طريقي التي سلكتها وأنا عليها، ثم فسر تلك السبيل فقال: أدعو إلى الله يعني: لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم، إنما دعاني إلى الله وحده. قال ابن عباس: سبيلي أي دعوتي. وقال عكرمة: صلاتي، وقال ابن زيد: سنتي، وقال مقاتل والجمهور: ديني.
وقرأ عبد الله: قل هذا سبيلي على التذكير. والسبيل يذكر ويؤنث، ومفعول أدعو هو محذوف تقديره: أدعو الناس. والظاهر تعلق على بصيرة بأدعو، وإنا توكيد للضمير المستكن في ادعو، ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى: أدعو أنا إليها من اتبعني. ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما، وإنا مبتدأ، ومن معطوف عليه. ويجوز أن يكون على بصيرة حالا من ضمير ادعو، فيتعلق بمحذوف، ويكون أنا فاعلا بالجار والمجرور النائب عن ذلك المحذوف، ومن اتبعني معطوف على أنا. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي: داع إلى الله على بصيرة. ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله: * (قد جاءتكم * بصائر من ربكم) * وسبحان الله داخل تحت قوله قل: أي قل، وتبرئة الله من الشركاء أي: براءة الله من أن يكون له شريك. ولما أمر بأن يخبر عن نفسه أنه يدعو هو ومن اتبعه إلى الله، وأمر أن يخبر أنه ينزه الله عن الشركاء، أمر أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك، وأنه ليس ممن أشرك. وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منهم، ولا في وقت من الأوقات. إلا رجالا حصر في الرسل دعاة إلى الله، فلا يكون ملكا. وهذا رد على من قال: * (لو شاء ربنا لانزل ملائكة) * وكذلك، قال: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * وقال ابن عباس: يعني رجالا لا نساء، فالرسول لا يكون امرأة، وهل كان في النساء نبية فيه خلاف؟ والنبي أعم من الرسول، لأنه منطلق على من يأتيه الوحي سواء أرسل أو لم يرسل، قال الشاعر في سجاح المتنبئة:
* أمست نبيتنا أنثى نطيف بها
*
ولم تزل أنبياء الله ذكرانا
* فلعنة الله والأقوام كلهم
*
على سجاح ومن بالإفك أغرانا
*
* أعني مسيلمة الكذاب لا سقيت
*
أصداؤه ماء مزن أينما كانا
*
وقرأ أبو عبد الرحمن، وطلحة، وحفص: نوحي بالنون وكسر الحاء، موافقا لقوله: وما أرسلنا. وقرأ الجمهور بالياء وفتح الحاء مبنيا للمفعول. والقرى المدن. قال ابن زيد: أهل القرى أعلم وأحلم من أهل البادية، فإنهم قليل نبلهم، ولم ينشئ الله قط منهم رسولا. وقال الحسن: لم يبعث الله رسولا من أهل البادية، ولا من النساء، ولا من الجن. والتبدي مكروه إلا في الفتن، ففي الحديث: (من بدا جفا) ثم استفهم استفهام توبخ وتفريع. والضمير في يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر، ومن عاند الرسول وأنكر رسالته كفر أي: هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر أخبار الرسل السابقة، ويرون مصارع الأمم المكذبة، فيعتبرون بذلك؟ ولدار الآخرة خير، هذا حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها، واتقاء المهلكات، ففي هذه الإضافة تخريجان: أحدهما: أنها من إضافة الموصوف إلى صفته،
وأصله: ولدار الآخرة. والثاني: أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه، وأصله: ولدار المدة الآخرة أو النشأة الآخرة. والأول: تخريج كوفي، والثاني: تخريج بصرى.
وقرأ الجمهور: أفلا يعقلون بالياء رعيا لقوله: أفلم يسيروا. وقرأ الحسن، وعلقمة، والأعرج، وعاصم، وابن عامر، ونافع: بالتاء على خطاب هذه الأمة تحذيرا لهم مما وقع فيه أولئك، فيصيبهم ما أصابهم. قال الكرماني: أفلا يعقلون أنها خير. فيتوسلوا إليها بالإيمان انتهى.
346

والاستيئاس من النصر، أو من إيمان قومهم قولان. وحتى غاية لما قبلها، وليس في اللفظ ما يكون له غاية، فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا، فتراخى نصرهم حتى إذا استيأسوا عن النصر. وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا إلى ما قبلهم، أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم المثلات، فصاروا في حيزة من يعتبر بعاقبته، فلهذا المضمن حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل انتهى. ولم يتحصل لنا من كلامه شيء يكون ما بعد حتى غاية له، لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية. وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يدعوا قومهم فكذبوهم، وصبروا وطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل. وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل. وقرأ أبي، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، وطلحة، والأعمش، والكوفيون: كذبوا بتخفيف الذال، وباقي السبعة، والحسن وقتادة، ومحمد بن كعب، وأبو رجاء، وابن مليكة، والأعرج، وعائشة بخلاف عنها بتشديدها. وهما مبنيان للمفعول، فالضمائر على قراءة التشديد عائدة كلها على الرسل، والمعنى: إن الرسل أيقنوا أنهم كذبهم قومهم المشركون. قال ابن عطية: ويحتمل أن كون الظن على بابه يعني من ترجيح أحد الجائزين قال: والضمير للرسل، والمكذبون مؤمنون أرسل إليه أي: لما طالت المواعيد حسبت الرسل أن المؤمنين أولا قد كذبوهم وارتابوا بقولهم. وعلى قراءة التخفيف، فالضمير في وظنوا عائد على الرسل إليهم لتقدمهم في الذكر في قوله: كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، ولأن الرسل تستدعي مرسلا إليهم، وفي أنهم. وفي قد كذبوا عائد على الرسل، والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من ادعوا أنه جاءهم بالوحي عن الله وبنصرهم، إذ لم يؤمنوا به. ويجوز في هذه القراءة أن تكون الضمائر الثلاثة عائدة على المرسلم إليهم أي: وظن المرسل أنهم قد كذبهم الرسل فيما ادعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العذاب. وهذا مشهور قول ابن عباس، وتأويل عبد الله وابن جبير ومجاهد. ولا يجوز أن تكون الضمائر في هذه القراءة عائدة على الرسل، لأنهم معصومون، فلا يمكن أن يظن أحد منهم أنه قد كذبه من جاءه بالوحي عن الله. وقال الزمخشري في هذه القراءة: حتى إذا استيأسوا من النصر وظنوا أنهم قد كذبوا أي: كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم أنهم ينصرون أو رجاهم كقوله: رجاء صادق ورجاء كاذب. والمعنى: أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار، وانتظار النصر من الله وتأميله قد تطاولت عليهم وتمادت، حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب انتهى. فجعل الضمائر كلها للرسل، وجعل الفاعل الذي صرف من قوله: قد كذبوا، إما أنفسهم، وإما رجاؤهم. وفي قوله: إخراج الظن عن معنى الترجيح، وعن معنى اليقين إلى معنى التوهم، حتى يجري الضمائر كلها في القراءتين على سنن واحدة. وروي عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير: أن الضمير في وظنوا، وفي قد كذبوا، عائد على الرسل والمعنى: كذبهم من تباعدهم عن الله والظن على بابه قالوا: والرسل بشر، فضعفوا وساء ظنهم. وردت عائشة وجماعة من أهل العلم هذا التأويل، وأعظموا أن يوصف الرسل بهذا.
قال الزمخشري: إن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال، ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل الله الذين هم أعرف بربهم، وأنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبيح انتهى. وآخره مذهب الاعتزال. فقال أبو علي: إن ذهب ذاهب إلى أن المعنى ظن الرسل أن الذي وعد الله أممهم على لسانهم قد كذبوا فيه، فقد أتى عظيما لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالحي عباد الله قال: وكذلك من زعم أن ابن عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا وظنوا أنهم قد أخلفوا، لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدل لكلماته. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والضحاك: قد كذبوا بتخفيف
347

الذال مبنيا للفاعل أي: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما قالوا عن الله من العذاب والظن على بابه. وجواب إذ جاءهم نصرنا، والظاهر أن الضمير في جاءهم عائد على الرسل. وقيل: عائد عليهم وعلى من آمن بهم. وقرأ عاصم، وابن عامر: فنجى بنون واحدة وشد الجيم وفتح الياء مبنيا للمفعول. وقرأ مجاهد، والحسن، والجحدري، وطلحة بن هرمز كذلك، إلا أنهم سكنوا الياء، وخرج على أنه مضارع أدغمت فيه النون في الجيم، وهذا ليس بشيء، لأنه لا تدغم النون في الجيم. وتخريجه على أنه ماض كالقراءة التي قبلها سكنت الياء فيه لغة من يستثقل الحركة صلة على الياء، كقراءة من قرأ * (ما تطعمون) * بسكون الياء. ورويت هذه القراءة عن الكسائي ونافع، وقرأهما في المشهور، وباقي السبعة فننجي بنونين مضارع أنجي. وقرأت فرقة: كذلك إلا أنهم فتحوا الياء. قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم، وهي غلط من هبيرة انتهى. وليست غلطا، ولها وجه في العربية وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء، كقراءة من قرأ: * (الارض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر) * بنصب يغفر بإضمار أن بعد الفاء. ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة، أو غير جازمة. وقرأ نصر بن عاصم، والحسن، وأبو حيوة، وابن السميقع، ومجاهد، وعيسى، وابن محيصن: فنجى، جعلوه فعلا ماضيا مخفف الجيم. وقال أبو عمرو الداني: وقرأت لابن محيصن فنجى بشد الجيم فعلا ماضيا على معنى فنجى النصر. وذكر الداني أن المصاحف متفقة على كتبها بنون واحدة. وفي التحبير أن الحسن قرأ فنجى بنونين، الثانية مفتوحة، والجيم مشددة، والياء ساكنة. وقرأ أبو حيوة: من يشاء بالياء أي: فنجى من يشاء الله نجاته.
ومن يشا هم المؤمنون لقوله: ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين، والبأس هنا الهلاك. وقرأ الحسن: بأسه بضمير الغائب أي: بأس الله. وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم).
* (لقد كان فى قصصهم عبرة لاولى الالباب ما كان حديثا * يفترى * ولاكن تصديق الذى بين يديه وتفصيل كل شىء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) *: الضمير في قصصهم عائد على الرسل، أو على يوسف وأبويه وأخوته، أو عليهم وعلى الرسل ثلاثة أقوال.
الأول: اختاره الزمخشري قال: وينصره قراءة من قرأ قصصهم بكسر القاف انتهى. ولا ينصره إذ قصص يوسف وأبيه وأخوته مشتمل على قصص كثيرة وأنباء مختلفة. والذي قرأ بكسر القاف هو أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي، والقصبي عن عبد الوارث عن أبي عمر وجمع قصة. واختار ابن عطية الثالث، بل لم يذكره غيره. والعبرة الدلالة التي يعبر بها عن العلم. وإذا عاد الضمير على يوسف عليه السلام وأبويه وأخوته، فالاعتبار بقصصهم من وجوه إعزاز يوسف عليه السلام بعد إلقائه في الجب، وإعلاؤه بعد حبسه في السجن، وتملكه مصر بعد استعباده، واجتماعه مع والديه وأخوته على ما أحب بعد الفرقة الطويلة. والإخبار بهذا القصص إخبارا عن الغيب، والإعلام بالله تعالى من العلم والقدرة والتصرف في الأشياء على ما لا يخطر على بال ولا يجول في فكر. وإنما خص أولو الألباب لأنهم هم الذين ينتفعون بالعبر، ومن له لب وأجاد النظر، ورأى ما فيها من امتحان ولطف وإحسان، علم أنه أمر من الله تعالى، ومن عنده تعالى. والظاهر أن اسم كان مضمر يعود على القصص أي: ما كان القصص حديثا مختلفا، بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب، ولا تتلمذ لأحد، ولا خالط العلماء، فمحال أن يفتري هذه القصة بحيث تطابق ما ورد في التوراة من غير تفاوت. وقيل: يعود على القرآن أي: ما كان القرآن الذي تضمن قصص يوسف عليه السلام وغيره حديثا يختلق، ولكن كان تصديق الكتب المتقدمة الإلهية، وتفصيل كل شيء واقع ليوسف مع أبويه وأخوته إن
348

كان الضمير عائدا على قصص يوسف، أو كل شيء مما حتاج إلى تفصيله في الشريعة إن عاد على القرآن. وقرأ حمران بن أعين، وعيسى الكوفي فيما ذكر صاحب اللوامح، وعيسى الثقفي فيما ذكر ابن عطية: تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي: ولكن هو تصديق، والجمهور بالنصب على إضمار كان أي: ولكن تصديق أي: كان هو، أي الحديث ذا تصديق الذي بين يديه. وينشد قول ذي الرمة:
* وما كان مالي من تراب ورثته
*
ولا دية كانت ولا كسب ماثم ولكن عطاء الله من كل رحلة إلى كل محجوب السوارق خضرم بالرفع في عطاء ونصبه أي: ولكن هو عطاء الله، أو ولكن كان عطاء الله. ومثله قول لوط بن عبيد العائي اللص:
وإني بحمد الله لا مال مسلمأخذت ولا معطي اليمين محالف ولكن عطاء الله من مال فاجرقصى المحل معور للمقارف وهدى أي سبب هداية في الدنيا، ورحمة أي: سبب لحصول الرحمة في الآخرة. وخص المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى: * (هدى للمتقين) * وتقدم أول الورة قوله تعالى: * (إنا أنزلناه قرانا عربيا) * وقوله تعالى: * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * وفي آخرها: ما كان حديثا يفتري إلى آخره، فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن، وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.
349

((سورة الرعد))
ثلاث وأربعون آية مكية ومدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (المر تلك آيات الكتاب والذىأنزل إليك من ربك الحق ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * الله الذى رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى يدبر الا مر يفصل الآيات لعلكم بلقآء ربكم توقنون * وهو الذى مد الا رض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن فى ذالك لآيات لقوم يتفكرون * وفى الا رض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بمآء واحد ونفضل بعضها على بعض فى الا كل إن فى ذالك لآيات لقوم يعقلون * وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولائك الذين كفروا بربهم وأولئك الا غلال فىأعناقهم وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب * ويقول الذين كفروا لولاأنزل عليه آية من ربه إنمآ أنت منذر ولكل قوم هاد * الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الا رحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سوآء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذآ أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال * هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
350

ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشآء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال * له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشىء إلا كباسط كفيه إلى المآء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعآء الكافرين إلا فى ضلال * ولله يسجد من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والا صال * قل من رب السماوات والا رض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أوليآء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الا عمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور أم جعلوا لله شركآء خلقوا كخلقه
فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شىء وهو الواحد القهار * أنزل من السمآء مآء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغآء حلية أو متاع زبد مثله كذالك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفآء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الا رض كذالك يضرب الله الا مثال * للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما فى الا رض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولائك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد) *))
) *
العمد: اسم جمع، ومن أطلق عليه جمعا فلكونه يفهم منه ما يفهم من الجمع، وهي الأساطين. قال الشاعر:
* وجيش الجن إني قد أذنت لهم
*
يبغون تدمر بالصفاح والعمد
*
والمفرد عماد وعمد، كإهاب وأهب. وقيل: عمود وعمد كأديم وأدم، وقضيم وقضم. والعماد والعمود ما يعمد به يقال: عمدت الحائط أعمده عمدا إذا أدعمته، فاعتمد الحائط على العماد أي: امتسك بها. ويقال: فلان عمدة قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يخزيهم. ويجمع عماد على عمد بضمتين كشهاب وشهب، وعمود على عمد أيضا كرسول ورسل، وزبور وزبر هذا في الكثرة، ويجمعان في القلة على أعمدة.
الصنو: الفرع يجمعه، وآخر أصل واحد، وأصله المثل ومنه قيل: للعم صنو، وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان، ويضمها في لغة تميم وقيس، كذئب وذؤبان. ويقال: صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير، لأنه ليس من أبنيته.
الجديد ضد الخلق والبالي، ويقال: ثوب جديد أي كما فرغ من عمله، وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه كما قطع من النسج.
المثلة: العقوبة، ويجمع بالألف والتاء كسموة وسماوات. ولغة الحجاز مثلة بفتح الميم وسكون الثاء، ولغة تميم بضم الميم وسكون الثاء، وسميت العقوبة بذلك لما بين العقاب والمعاقب من المماثلة كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * أو لأنها من المثال بمعنى القصاص. يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، وأقصصته، أو لأنها لعظم نكالها يضرب بها المثل.
السارب اسم فاعل من سرب أي تصرف كيف شاء. قال الشاعر:
351

* إني سربت وكنت غير سروب
*
وتقرب الأحلام غير قريب
*
وقال الآخر:
* وكل أناس قاربوا قيد فحلهم
*
ونحن حللنا قيده فهو سارب
*
أي فهو منصرف كيف شاء، لا يدفع عن جهة، يفتخر بعزة قومه. المحال: القوة والإهلاك قال الأعشى:
* فرع نبع يهش في غصن المج
*
د غزير الندى شديد المحال
*
وقال عبد المطلب:
* لا يغلبن صليبهم
*
ومحالهم أبدا محالك
*
ويقال: محل الرجل بالرجل مكر به وأخذه بسعاية شديدة، والمماحلة المكايدة والمماكرة ومنه: تمحل لكذا أي: تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه. وقال أبو زيد:
المحال النقمة، وقال ابن عرفة: المحال الجادل ما حل عن أمره أي جادل. وقال القتبي: أي شديد الكيد، وأصله من الحيلة، جعل ميمه كميم مكان وأصله من الكون، ثم يقال: تمكنت. وغلطه الأزهري في زيادة الميم قال: ولو كان مفعلا لظهر من الواو مثل مرود ومحول ومحور، وإنما هو مثال كمهاد ومراس.
الكف: عضو معروف، وجمعه في القلة أكف كصك وأصك، وفي الكثرة كفوف كصكوك، وأصله مصدر كف.
ظل الشيء ما يظهر من خياله في النور، وبمثله في الضوء.
الزبد: قال أبو الحجاج الأعلم هو ما يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أموالجه. وقال ابن عطية: هو ما يحمله السيل من غثاء ونحوه، وما يرمي به على ضفتيه من الحباب الملتبك. وقال ابن عيسى: الزبد وضر الغليان وخبثه. قال الشاعر:
* فما الفرات إذا هب الرياح له
*
ترمي غواريه العبرين بالزبد الجفاء: اسم لما يجفاه السيل أي يرمي، يقال: جفأت القدر بزبدها، وجف السيل بزبده، وأجفأ وأجفل. وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته، وجفأت الرجل صرعته. ويقال: جف الوادي إذا نشف.
*
* (المر تلك ايات الكتاب والذى أنزل إليك من ربك الحق ولاكن أكثر الناس لا يؤمنون * الله الذى رفع * السماوات * بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجرى لاجل مسمى يدبر الامر يفصل
352

الآيات لعلكم (سقط: بلقاء ربكم توقنون)) *: هذه السورة مكية في قول: الحسن، وعكرمة، وعطاء، وابن جبير. وعن عطاء إلا قوله: * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) * وعن غيره إلا قوله: * (هو الذى يريكم البرق) * إلى قوله: * (له دعوة الحق) * ومدنية في قوله: الكلبي، ومقاتل، وابن عباس، وقتادة، واستثنيا آيتين قالا: نزلتا بمكة وهما * (ولو أن قرانا سيرت به الجبال) * إلى آخرهما وعن ابن عباس إلا قوله: * (ولا يزال الذين كفروا) * إلى آخر الآية وعن قتادة مكية إلا قوله: * (ولا يزال الذين كفروا) * الآية حكاه المهدوي. وقيل: السورة مدنية حكاه القاضي منذر بن سعد البلوطي ومكي بن أبي طالب.
قال الزمخشري: تلك إشارة إلى آيات السورة، والمراد بالكتاب السورة أي: تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها. وقال ابن عطية: من قال حروف أوائل السور مثال الحروف المعجم قال: الإشارة هنا بتلك هي إلى حروف المعجم، ويصح على هذا أن يكون الكتاب يراد به القرآن، ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل. والمر على هذا ابتداء، وتلك ابتداء ثان، وآيات خبر الثاني، والجملة خبر الأول انتهى. ويكون الرابط اسم الإشارة وهو تلك. وقيل: الإشارة بتلك إلى ما قص عليه من أنباء الرسل المشار إليه بقوله: تلك من أنباء الغيب، والذي قال: ويصح أن يراد به التوراة والإنجيل، هو قريب من قول مجاهد وقتادة، والإشارة بتلك إلى جميع كتب الله تعالى المنزلة. ويكون المعنى: تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك. والظاهر أن قوله: والذي مبتدأ، والحق خبره، ومن ربك متعلق بانزل. وأجاز الحوفي أن يكون من ربك الخبر، والحق مبتدأ محذوف، أو هو خبر بعد خبر، أو كلاهما خبر واحد انتهى. وهو إعراب متكلف. وأجاز الحوفي أيضا أن يكون والذي في موضع رفع عطفا على آيات، وأجاز هو وابن عطية أن يكون والذي في موضع خفض. وعلى هذين الإعرابين يكون الحق خبر مبتدأ محذوف أي: هو الحق، ويكون والذي أنزل مما عطف فيه الوصف على الوصف وهما لشيء واحد كما تقول: جاءني الظريف العاقل وأنت تريد شخصا واحدا. ومن ذلك قول الشاعر:
* إلى الملك القرم وابن الهام
*
وليث الكتيبة في المزدحم
*
وأجاز الحوفي أن يكون الحق صفة الذي يعني: إذا جعلت والذي معطوفا على آيات.
وأكثر الناس قيل: كفار مكة لا يصدقون أن القرآن منزل من عند الله تعالى. وقيل: المراد به اليهود والنصارى، والأولى أنه عام. ولما ذكر انتفاء الإيمان عن أكثر الناس، ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجذبهم إلى الإيمان فيما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع. والجلالة مبتدأ، والذي هو الخبر بدليل قوله تعالى: * (وهو الذى مد الارض) * ويجوز أن يكون صفة. وقوله: يدبر الأمر يفصل الآيات خبرا بعد خبر، وينصره ما تقدمه من ذكر الآيات قاله الزمخشري. وقرأ الجمهور: عمد بفتحتين. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: بضمتين، وبغير عمد في موضع الحال أي: خالية عن عمد. والضمير في ترونها عائد على السماوات أي: تشاهدون السماوات خالية عن عمد. واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاما مستأنفا، واحتمل أن يكون جملة حالية أي: رفعها مرئية لكم بغير عمد. وهي حال مقدرة، لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين. وقيل: ضمير النصب في ترونها عائد على عمد أي: بغير عمد مرئية، فترونها صفة للعمد. ويدل على كنه صفة لعمد قراءة أبي: ترونه، فعاد الضمير مذكرا على لفظ عمد، إذ هو اسم جمع. قال أي ابن عطية: اسم جمع عمود والباب في جمعه عمد بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل انتهى. وهو وهم، وصوابه: بضم الحرفين، لأن الثالث هو حرف الإعراب فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمع.
353

هذا التحريج يحتمل وجهين: أحدهما أنها لها عمد، ولا ترى تلك العمد، وهذا ذهب إليه مجاهد وقتادة. وقال ابن عباس: وما يدريك أنها بعمد لا ترى؟ وحكى بعضهم أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض، والسماء عليه كالقبة. والوجه الثاني: أن يكون نفي العمد، والمقصود نفي الرؤية عن العمد، فلا عمد ولا رؤية أي: لا عمد لها فترى. والجمهور على أن السماوات لا عمد لها البتة، ولو كان لها عمد لاحتاجت تلك العمد إلى عمد، ويتسلسل الأمر، فالظاهر أنها ممسكة بالقدرة الإلهية. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (ويمسك السماء أن تقع على الارض إلا بإذنه) * ونحو هذا من الآيات. وقال أبو عبد الله الرازي: العماد ما يعتمد عليه، وهذه الأجسام واقفة في الحيز العالي بقدرة الله تعالى، فعمدها قدرة الله تعالى، فلها عماد في الحقيقة. إلا أن تلك العمد إمساك الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز العالي، وأنتم لا ترون ذلك التدبير، ولا تعرفون كيفية ذلك الإمساك انتهى. وعن ابن عباس: ليست من دونها دعامة تدعمها، ولا فوقها علاقة تمسكها. وأبعد من ذهب إلى أن ترونها خبر في اللفظ ومعناه الأمر أي: رها وانظروا هل لها من عمد؟ وتقدم تفسير * (ثم استوى على العرش) * قال ابن عطية: ثم هنا العطف الجمل لا للترتيب، لأن الاستواء على العرش قبل رفع السماوات. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض) انتهى. وسخر الشمس والقمر أي: ذللهما لما يريد منهما. وقيل: لمنافع العباد. وعبر بالجريان عن السير الذي فيه سرعة، وكل مضافة في التقدير، والظاهر أن المحذوف هو ضمير الشمس والقمر أي: كليهما يجري إلى أجل مسمى. وقال ابن عطية: والشمس والقمر في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب، ولذلك قال: كل يجري لأجل مسمى، أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر من المسخر، وكل لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة انتهى. وشرح كل بقوله أي: كل ما هو في معنى الشمس والقمر ما أخرج الشمس والقمر من ذكر جريانهما إلى أجل مسمى، وتحريره أن يقول على زعمه: إن الكواكب في ضمن ذكرهما أي، ومما هو في معناهما إلى أجل مسمى. وقال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهذ الحدود التي لا تتعداها، قدر لكل منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. وقيل: الأجل المسمى هو يوم القيامة، فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى: * (إذا الشمس كورت) * وقال: وجمع الشمس والقمر، ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه، وعبر بالتدبير تقريبا للإفهام، إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر، والأمر أمر ملكوته وربوبيته، وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك. وقال مجاهد: يدبر الأمر يقضيه وحده، ويفصل الآيات يجعلها فصولا مبينة مميزا بعضها من بعض. والآيات هنا دلائله وعلاماته في سماواته على وحدانيته، أو آيات الكتب المنزلة، أو آيات القرآن أقوال.
وقرأ النخعي، وأبو رزين، وابان بن ثعلب، عن قتادة: تدبر الأمر نفصل بالنون فيهما، وكذا قال أبو عمرو الداني عن الحسن فيهما، وافق في نفصل بالنون الخفاف، وعبد الواحد عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص. وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن والأعمش نفصل بالنون فقط. وقال المهدوي: لم يختلف في يدبر، أوليس كما قال؟ إذ قد تقدمت قراءة ابان. ونقل الداني عن الحسن: والذي تقتضيه الفصاحة أن هاتين الجملتين استفهام إخبار عن الله تعالى. وقيل: يدبر حال من الضمير في وسخر، ونفصل حال من الضمير في يدبر، والخطاب في لعلكم للكفرة، وتوقنون بالجزاء أو بأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه.
* (وهو الذى مد الارض وجعل فيها رواسى وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى اليل النهار إن) *: لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية. ومد الأرض: بسطها طولا وعرضا ليمكن التصرف فيها، والاستقرار عليها. قيل: مدها ودحاها من مكة من تحت البيت، فذهبت كذا وكذا. وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فقال لها: اذهبي
354

كذا وكذا. قال ابن عطية: وقوله مد الأرض، يقتضي أنها بسيطة لا كرة، وهذا هو ظاهر الشريعة. قال أبو عبد الله الداراني: ثبت بالدليل أن الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أن الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح، والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى. ألا ترى أنه قال: * (والجبال أوتادا) * مع أن العالم والناس يسيرون عليها فكذلك هنا. وأيضا إنما ذكر مد الأرض ليستدل به على وجود الصانع، وكونها مجتمعة تحت البيت أمر غير مشاهد ولا محسوس، فلا يمكن الاستدلال به على وجود الصانع. فتأويل مد الأرض أنه جعلها بمقدار معين، وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه، فالاختصاص بذلك المقدار المعين لا بد أن يكون بتخصيص مخصص، وتقدير مقدر، وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع انتهى. ملخصا. وقال أبو بكر الأصم: المد البسط إلى ما لا يرى منتهاه، فالمعنى: جعل الأرض حجما يسيرا لا يقع البصر على منتهاه، فإن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به انتهى. وهذا الذي ذكره من أنها لو كانت أصغر إلى آخره غير مسلم، لأن المنتفع به من الأرض المعمور، والمعمور أقل من غير المعمور بكثير. فلو أراد تعالى أن يجعلها مقدار المعمور المنتفع به لم يكن ذلك ممتنعا، فتحصل في قوله: مد الأرض ثلاث تأويلات بسطها بعد أن كانت مجتمعة، واختصاصها بمقدار معين وجعل حجمها كبيرا لا يرى منتهاه. والرواسي الثوابت، ومنه قول الشاعر:
* به خالدات ما يرمن وهامد
*
وأشعت أرسته الوليدة بالقهر
*
والمعنى: جبالا رواسي، وفواعل الوصف لا يطرد إلا في الإناث، إلا أن جمع التكسير من المذكر الذي لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث. وأيضا فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي، وصارت الصفة تعني عن الموصوف، فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكواهل. وقيل: رواسي جمع راسية، والهاء للمبالغة،
وهو وصف الجبل. كانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها، والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم. قيل: من جهة أن طبيعة الأرض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم، ومن جهة ما يحصل منها من المعادن الجوهرية والرخامية وغيرها كالنفط والكبريت يكون الجبل واحدا في الطبع، وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قاد قاهر متعالي عن مشابهة الممكنات، ومن جهة تولد الأنهار منها. وقيل: وذلك لأن الجبل جسم صلب، ويتصاعد بخاره من قعر الأرض إليه ويحتب هناك، فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة، فلقوتها تشق وتخرج وتسيل على وجه الأرض، ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله تعالى الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية. وكقوله: * (وجعلنا فيها رواسى شامخات وأسقيناكم ماء فراتا) * * (وألقى فى الارض رواسى أن تميد بكم وأنهارا) * فقال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض. وقال الكرماني: مسيل الماء، وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل سورة البقرة. والظاهر أن قوله: من كل الثمرات متعلق بجعل. ولما ذكر الأنهار ذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات، والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين، يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك، ثم تكثرت وتنوعت. وقيل: أراد بالزوجين الأسود والأبيض، والحلو والحامض، والصغير والكبير، وما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. وقال ابن عطية: وهذه الآية تقتضي أن كل ثمرة موجود فيها نوعان، فإن اتفق أن يوجد من ثمرة أكثر من نوعين فغير ضار في معنى الآية. وقال الكرماني: الزوج واحد، والزوج اثنان، ولهذا قيد ليعلم أن المراد بالزوج هنا الفرد لا التثنية، فيكون أربعا. وخص اثنين بالذكر، وإن كان من أجناس الثمار ما يزيد على ذلك لأنه الأقل، إذ لا
355

نوع تنقص أصنافه عن اثنين انتهى. ويقال: إن في كل ثمرة ذكر وأنثى، وأشار إلى ذلك الفراء. وقال أبو عبد الله الرازي: لما خلق الله تعالى العالم وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط. فلو قال: خلق زوجين، لم يعلم أن المراد النوع أو الشخص، فلما قال: اثنين علمنا أنه أول ما خلق من كل زوجين اثنين لا أقل ولا أزيد. فالشجر والزرع كبني آدم، حصل منهم كثرة، وابتداؤهم من زوجين اثنين بالشخص وهما آدم وحواء. والاستدلال بخلق الثمرات على ما ذكر تعالى من جهة ربو الجنة في الأرض، وشق أعلاها وأسفلها، فمن الشق الأعلى الشجرة الصاعدة، ومن الأسفل العروق الغائصة، وطبيعة تلك الجنة واحدة، وتأثيرات الطبائع والأفلاك والكواكب فيها واحد. ثم يخرج من الأعلى على ما يذهب صعدا في الهواء، ومن الأسفل ما يغوص في الثرى، ومن المحال أن يتولد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أن ذلك بتقدير قادر حكيم. ثم تلك الشجرة يكون بعضها خشبا، وبعضها لوزا، وبعضها ثمرا، ثم تلك الثمرة يحصل فيها أجسام مختلفة الطبائع وذلك بتقدير القادر الحكيم انتهى. وفيه تلخيص. وقيل: تم الكلام عند قوله: ومن كل الثمرات، فيكون معطوفا على ما قبله من عطف المفردات، ويتعلق بقوله: وجعل فيها رواسي. فالمعنى: أنه جعل في الأرض من كل ذكر وأنثى اثنين، وقيل: الزوجان الشمس والقمر، وقيل: الليل والنهار، يغشى الليل النهار تقدم تفسير هذه الجملة وقراآتها في الأعراف. وخص المتفكرين لأن ما احتوت عليه هذه الآيات من الصنيع العجيب لا يدرك إلا بالتفكر.
* (وفى الارض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض) *: قطع جمع قطعة وهي الجزء. ومتجاورات متلاصقة متداينة، قريب بعضها من بعض. قال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والضحاك: أرض طيبة وأرض سبخة، نبتت هذه، وهذه إلى جنبها لا تنبت. وقال ابن قتيبة وقتادة: يعني القرى المتجاورة. وقيل: متجاورة في المكان، مختلفة في الصفة، صلبة إلى رخوة. وسحرا إلى مرد أو مخصبة إلى مجدبة، وصالحة للزرع لا للشجر، وعكسها مع انتظام جميعها في الأرضية. وقيل: في الكلام حذف معطوف أي: وغير متجاورات. والمتجاورات المدن وما كان عامرا، وغير المتجاورات الصحاري وما كان غير عامر. قال ابن عطية: والذي يظهر من وصفه لها بالتجاور إنما هو من تربة واحدة، ونوع واحد. وموضع العبرة في هذا أبين، لأنها مع اتفاقها في الترب والماء تفضل القدرة والإرادة بعض أكلها على بعض، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم) حين سئل عن هذه الآية فقال: (الدقل، والقارس، والحلو، والحامض) وقال ابن عطية: وقيد منها في هذه المثال ما جاور وقرب بعضه من بعض، لأن اختلاف ذلك في الأكل أغرب. وفي بعض المصاحف: قطعا متجاورات بالنصب على جعل. وقرأ الجمهور: وجنات بالرفع، وقرأ الحسن: بالنصب، بإضمار فعل. وقيل: عطفا على رواسي. وقال الزمخشري: بالعطف على زوجين اثنين، أو بالجر على كل الثمرات انتهى. والأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين في هذه التخاريج، والفصل بينهما بجمل كثيرة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان بالرفع في الجميع على مراعاة قطع. وقال ابن عطية: عطفا على أعناب، وليست عبارة محررة أيضا، لأن فيها ما ليس بعطف وهو قوله: صنوان. وقرأ باقي السباعة: بخفض الأربعة على مراعاة من أعناب قال: وجعل الجنة من الأعناب من رفع الزرع، والجنة حقيقة إنما هي الأرض التي فيها الأعناب، وفي ذلك تجوز ومنه قول الشاعر:
* كأن عيني في غربي مقبلة
*
من النواضح تسقي جنة سحقا
*
356

أي نخيل جنة إذ لا يوصف بالسحق إلا النخل. ومن خفض الزرع فالجنات من مجموع ذلك لا من الزرع وحده، لأنه لا يقال للمزرعة جنة إلا إذا خالطها ثمرات. وقرأ الجمهور: صنوان بكسر الصاد فيهما، وابن مصرف والسلمي وزيد بن علي: بضمها، والحسن وقتادة بفتحها، وبالفتح هو اسم للجمع، كالسعدان. وقرأ عاصم، وابن عامر، وزيد بن علي: يسقى بالياء، أي: يسقى ما ذكر. وباقي السبعة بالتاء، وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وأهل مكة. أنثوا لعود الضمير على لفظ ما تقدم،
ولقوله: ونفضل بالنون. وحمزة والكسائي بالياء، وابن محيصن بالياء في تسقي، وفي نفضل. وقرأ يحيى بن يعمر، وأبو حيوة، والحلبي عن عبد الوارث: ويفضل بالياء، وفتح الضاد بعضها بالرفع. قال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أول من نقط المصاحف. وتقدم في البقرة خلاف القراء في ضم الكاف من الأكل وسكونها. والأكل بضم الهمزة المأكول كالنقض بمعنى المنقوض، وبفتحها المصدر. والظاهر من تفسير أكثر المفسرين للصنوان أن يكون قوله: صنوان، صفة لقوله: ونخيل. ومن فسره منهم بالمثل جعله وصفا لجميع ما تقدم أي: أشكال، وغيره إشكال. قيل: ونظير هذه الكلمة قنو وقنوان، ولا يوجد لهما ثالث ونص على العنوان لأنها بمثال التجاور في القطع، فظهر فيها عرابة اختلاف الأكل. ومعنى بماء واحد: ماء مطر، أو ماء بحر، أو ماء نهر، أو ماء عين، أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض. وخص التفضيل في الأكل وإن كانت متفاضلة في غيره، لأنه غالب وجوه الانتفاع من الثمرات. ألا ترى إلى تقاربها في الأشكال، والألوان، والروائح، والمنافع، وما يجري مرجى ذلك؟ قيل: نبه الله تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته، وأنه المدبر للأشياء كلها، وذلك أن الشجرة تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا تتأخر عنه ولا تتقدم، ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علوا علوا وليس من طبعه إلا التسفل، يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه، ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد، والشجر جنس واحد. وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه، لا يشبه المخلوقات. قال الراجز:
* والأرض فيها عبرة للمعتبر
*
تخبر عن صنع مليك مقتدر
*
* تسقى بماء واحد أشجارها
*
وبقعة واحدة قرارها
*
* والشمس والهواء ليس يختلف
*
وأكلها مختلف لا يأتلف
*
* لو أن ذا من عمل الطبائع
*
أو أنه صنعة غير صانع
*
* لم يختلف وكان شيئا واحدا
*
هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
*
* الشمس والهواء يا معاند
*
والماء والتراب شيء واحد
*
* فما الذي أوجب ذا التفاضلا
*
إلا حكيم لم يرده باطلا
*
. وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة فسطحها، فصارت قطعا متجاورات، فنزل عليها ماء واحد من السماء فتخرج هذه زهرة وثمرة، وتخرج هذه سبخة وملحا وخبثا وكذلك الناس خلقوا من آدم. فنزلت عليهم من السماء مذكرة، قربت قلوب وخشعت قلوب، وقست قلوب ولهت قلوب.
وقال الحسن: ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان. قال تعالى: * (وننزل من القرءان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا) *، وهو شبيه بكلام الصوفية. إن في ذلك قال ابن عباس: في اختلاف الألوان والروائح والطعوم، لآيات: لحججا ودلالات لقوم يعقلون: يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر. ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع، والجنات وسقيها وتفضيلها، جاء ختمها بقوله: لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها، فإن الاستدلال بها يحتاج إلى
357

تأمل ومزيد نظر جاء ختمها بقوله لقوم يتفكرون.
* (وإن تعجب فعجب قولهم أءذا كنا ترابا أءنا لفى خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الاغلال فى أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب) *: ولما أقام الدلائل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه، عجب الرسول عليه الصلاة والسلام من إنكار المشركين وجدانيته، وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل. وإن تعجب قال ابن عباس: وإن تعجب من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك أنك من الصادقين، فهذا أعجب. وقيل: وإن تعجب يا محمد من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا بعدما عرفوا الدلائل الدالة على التوحيد، فهذا أعجب. قال الزمخشري: وإن تعجب من قولهم يا محمد في إنكار البعث، فقولهم عجيب حقيق بأن يتعجب منه، لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن، كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره، فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب انتهى. وليس مدلول اللفظ ما ذكر، لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم) هو قولهم في إنكار البعث، فاتحذ الجزاء والشرط، إذ صار التقدير: وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث، وإنما مدلول اللفظ أن يقع منك عجب، فليكن من قولهم: أئذا كنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه: هو إنكار البعث، لأنه تعالى هو المخترع للأشياء. ومن كان قادرا على إبرازها من العدم الصرف كان قادرا على الإعادة، كما قال تعالى: * (وهو الذى * الله الخلق ثم يعيده) * وهو أهون عليه أي: هين عليه.
وقال ابن عطية: هذه الآية توبيخ للكفرة، أي: إن تعجب يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق، فهم أهل لذلك، وعجيب وغريب أن تنكر قلوبهم العود بعد كوننا خلقا جديدا. ويحتمل اللفظ منزعا آخر: إن كنت تريد عجبا فهلم، فإن من أعجب العجب قولهم انتهى. واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا، هنا موضع، وكذا في المؤمنين، وفي العنكبوت، وفي النمل، وفي السجدة، وفي الواقعة، وفي والنازعات، وفي بني إسرائيل موضعان، وكذا في والصافات. وقرأ نافع والكسائي بجعل الأول استفهاما، والثاني خبرا، إلا في العنكبوت والنمل بعكس نافع. وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت، وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا فقرأ: * (إننا * لمخرجون) * وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا، والثاني استفهاما، إلا في النمل والنازعات فعكس، وزاد في النمل نونا كالكسائي. وإلا في الواقعة فقرأهما باستفهامين، وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب، إلا ابن كثير وحفصا قرأ في العنكبوت بالخبر في الأول وبالاستفهام في الثاني، وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين وتركه. وقولهم: فعجب، هو خبر مقدم ولا بد فيه من تقدير صفة، لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فلا بد من قيده وتقديره والله أعلم: فعجب أي عجب، أو فعجب غريب. وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ لأنه نكرة فيها مسوغ الابتداء وهو الوصف، وقد وقعت موقع الابتداء، ولا يضر كون الخبر معرفة ذلك. كما أجاز سيبويه ذلك في كم مالك؟ لمسوغ الابتداء فيه وهو الاستفهام، وفي نحو: اقصد رجلا خير منه أبوه، لمسوغ الابتداء أيضا، وهو كونه عاملا فيما بعده. وقال أبو البقاء: وقيل عجب بمعنى معجب، قال: فعلى هذا يجوز أن يرتفع قولهم به انتهى. وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يلزم من كون الشيء بمعنى الشيء أن يكون حكمه في العمل كحكمه، فمعجب يعمل، وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلا كذبح، وفعلا كقبض، وفعلة كغرفة، هي بمعنى مفعول، ولا يعمل عمله، فلا تقول: مررت برجل ذبح كبشه، ولا برجل قبض ماله، ولا برجل غرف ماءه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومعروف ماؤه. وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا في العمل عن المفعول. وقد حصر النحويون ما يرفع الفاعل، والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكى به. وقال الزمخشري: أئذا كنا إلى آخر قولهم يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم انتهى. هذا إعراب متكلف، وعدول
358

عن الظاهر. وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط، فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقريره: أنبعث، أو أنحشر. أولئك إشارة إلى قائل تلك المقالة، وهو تقرير مصمم على إنكار البعث، فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته من إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء. ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم. والظاهر أن الأغلال تكون حقيقة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، كما قال: إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل. وقيل: يحتمل أن يكون مجازا أي: هم مغلولون عن الإيمان، فتجري إذا مجرى الطبع والختم على القلوب كما قال تعالى: * (إنا جعلنا فى أعناقهم أغلالا) * وكما قال الشاعر:
لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقيل: الأغلال هنا عبارة عن أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال، ثم ذكر ما يستقرون عليه في الآخرة، وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم رادة عليهم ما أنكروه من البعث، إذ لا يكون أصحاب النار إلا بعد الحشر. ولما كانوا متوعدين بالعذاب إن أصروا على الكفر، وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب، سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا: * (فأمطر علينا حجارة) * وقالوا: * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) *.
قال ابن عباس: السيئة العذاب، والحسنة العافية. وقال قتادة: بالشر قبل الخير. وقيل: بالبلاء والعقوبة قبل الرخاء والعافية، وهذه الأقوال متقاربة. وقد خلت من
قبلهم المثلات أي: يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة، وهذا يدل على سخف عقولهم، هذ يستعجلون بالعذاب. والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر، ولكنهم لا يعتبرون فيستهزؤون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات، كمثلات قطع الأنف والأذن ونحوهما. وقال السدي: النقمات. وقال قتادة: وقائع الله الفاضحة، كمسخ القردة والخنازير. وقال مجاهد: الأمثال المضروبة. وقرأ الجمهور: بفتح الميم، وضم التاء، ومجاهد والأعمش بفتحهما. وقرأ عيسى بن عمير وفي رواية الأعمش وأبو بكر: بضمهما، وابن وثاب: بضم الميم وسكون الثاء، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء. ولذو مغفرة للناس على ظلمهم ترجية للغفران، وعلى ظلمهم في موضع الحال والمعنى: أنه يغفر لهم مع ظلمهم أنفسهم. باكتساب الذنوب أي: ظالمين أنفسهم. قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه. وقال الطبري: ليغفر لهم في الآخرة. وقال القاسم بن يحيى وقوم: ليغفر لهم الظلم السالف بتوبتهم في الآنف. وقيل: ليغفر السيئات الصغيرة لمجتنب الكبائر. وقيل: ليغفر لهم بسترة وإمهاله، فلا يعجل لهم العذاب مع تعجيلهم بالمعصية. قال ابن عطية: والظاهر من معنى المغفرة هنا هو ستره في الدنيا، وإمهاله للكفرة. ألا ترى التيسير في لفظ مغفرة، وأنها منكرة مقلدة وليس فيها مبالغة كما في قوله تعالى: * (وإنى لغفار لمن تاب) * ومحط الآية يعطي هذا حكمه عليهم بالنار. ثم قال: ويستعجلونك، فلما ظهر سوء فعلهم وجب في نفس السامع تعذيبهم، فأخبر بسيرته في الأمم، وأنه يمهل مع ظلم الكفرة انتهى. ولشديد العقاب: تخويف وارتقاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش، ولولا عقابه لا تكل كل أحد) وفي حديث آخر: (إن
359

العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب، ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله عز وجل).
* (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه اية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) *: عن ابن عباس: لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم) يده على صدره فقال: (أنا منذر) وأومأ بيده إلى منكب علي وقال: (أنت الهادي يا علي، بك يهتدى من بعدي)، وقال القشيري: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم) وعلي بن أبي طالب، والذين كفروا مشركو العرب، أو من أنكر نبوته من مشركيهم والكفار، ولم يعتدوا بالآيات الخارقة المنزلة كانشقاق القمر، وانقياد الشجر، وانقلاب العصا سيفا، ونبع الماء من بين الأصابع، وأمثال هذه. فاقترحوا عنادا آيات كالمذكورة في سبحان، وفي الفرقان كالتفجير للينبوع، والرقي في السماء، والملك، والكنز، فقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم): إنما أنت منذر تخوفهم من سوء العاقبة، وناصح كغيرك من الرسل، ليس لك الإتيان بما اقترحوا. إذ قد أتى بآيات عدد الحصا، والآيات كلها متماثلة في صحة الدعوى، لا تفاوت فيها. فالاقتراح إنما هو عناد، ولم يجر الله العادة بإظهار الآيات المقترحة إلا للآية التي حتم بعذابها واستئصالها.
وهاد: يحتمل أن يكون قد عطف على منذر، وفصل بينهما بقوله لكل قوم، وبه قال: عكرمة، وأبو الضحى. فإن أخذت: ولكل قوم هاد، على العموم فمعناه: وداع إلى الهدى، كما قال: * (* بعثت إلى الأسود والأحمر) * فإن أخذت هاد على حقيقته فلكل قوم مخصوص أي: ولكل قوم قائلين هاد. وقيل: ولكل أمة سلفت هاد أي: نبي يدعوهم، والقصد: فليس أمرك ببدع ولا منكر، وبه قال: مجاهد، وابن زيد، والزجاج قال: نبي يدعوهم بما يعطي من الآيات، لا بما يتحكمون فيه من الاقتراحات. وتبعهم الزمخشري. فقال: هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين، ويدعوهم إلى الله بوجه من الهداية، وبآية خص بها، ولم يجعل الأشياء شرعا واحدا في آيات مخصوصة. وقالت فرقة: الهادي في هذه الآية هو الله تعالى، روي أن ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وهاد: على هذا مخترع للإرشاد. قال ابن عطية: وألفاظ تتعلق بهذا المعنى، وتعرف أن الله تعالى هو الهادي من غير هذا الموضع. وقال الزمخشري: في هذا القول وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: أنهم يجحدون كون ما أنزل عليك آيات ويعاندون، فلا يهمنك ذلك، إنما أنت منذر، فما عليك إلا أن تنذر، لا أن تثبت الإيمان بالإلجاء، والذي يثبته بالإلجاء هو الله تعالى انتهى. ودل كلامه على الاعتزال. وقال في معنى القول الذي تبع فيه مجاهد، وابن زيد ما نصه: ولقد دل بما أردفه من ذكر آيات علمه وتقديره الأشياء على قضايا حكمته، أن أعطاء كل منذر آيات أمر مدبر بالعلم النافذ، مقدر بالحكمة الربانية. ولو علم في إجابتهم إلى مقترحهم خيرا أو مصلحة لأجابهم إليه. وقال الزمخشري أيضا في معنى أن الهادي هو الله تعالى أي: بالإلجاء على زعمه ما نصه: وأما هذا الوجه الثاني فقد دل به على أن من هذه القدرة قدرته وهذا علمه، هو القادر وحده على هدايتهم العالم بأي طريق يهديهم، ولا سبيل إلى ذلك لغيره انتهى. وقالت فرقة: الهادي علي بن أبي طالب، وإن صح ما روي عن ابن عباس مما ذكرناه في صدر هذه الآية، فإنما جعل الرسول صلى الله عليه وسلم) علي بن أبي طالب مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين، فكأنه قال: أنت يا علي هذا وصفك، ليدخل في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ثم كذلك علماء كل عصر، فيكون المعنى على هذا: إنما أنت يا محمد منذر، ولكل قوم في القديم والحديث دعاة هداة إلى الخير. وقال أبو العالية: الهادي العل. وقال علي بن عيسى: ولكل قوم سبقهم إلى الهدى إلى نبي أولئك القوم. وقيل: هود قائد إلى الخير أو إلى الشر قال تعالى في الخير: * (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) * وقال في الشر: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * قاله أبو صالح. ووقف ابن كثير على هاد وواق حيث واقعا، وعلى وال هنا وباق في النخل بإثبات الياء، وباقي السبعة بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر بن الباذش عن ابن مجاهد: الوقف على ميع الباب لابن كثير بالياء، وهذا لا يعرفه المكيون. وفيه عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب، بين أن يقف بالياء، وبين أن يقف بحذفها. والباب هو كل منقوص منون غير منصرف.
360

* (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شىء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال * سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف باليل وسارب بالنهار * له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم) آية وكم آية نزلت، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر، وقدرته النافذة،
وحكمته البليغة، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر، فلا يقترحون غيرها، وأن نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى. وقيل: مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها، نبه على إحاط علمه، وأن من كان عالما بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ. وقيل: مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة. قال ابن عطية: قص في هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني: التي لا يعلمها إلا هو، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان. وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة. والله يعلم: كلام مستأنف مبتدأ وخبر، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي: هو الله تعالى، ثم ابتدأ إخبارا عنه فقال: يعلم. ويعلم هنا متعدية إلى واحد، لأنه لا يراد هنا النسبة، إنما المراد تعلق بالمفردات. وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي، والعائد عليها في صلاتها محذوف، ويكون تغيض متعديا. وأن تكون مصدرية، فيكون تغيض وتزداد لا زمان. وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب. وأن تكون استفهاما مبتدأ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه، والجملة في موضع المفعول. وتحمل هنا من حمل البطن، لا من الحمل على الظهر. وفي مصحف أبي: ما تحمل كل أنثى، وما تضع وتحمل على التفسير، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف.
قال ابن عباس: تغيض تنقص من الخلقة، وتزداد تتم. وقال مجاهد: غيض الرحم أن ينهرق دما على الحمل، فيضعف الولد في البطن ويسحب، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم، انتهى كلام ابن عباس. وقال عكرمة: تغيض بطهور الحيض في الحبل، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع. وقال قتادة: الغيض السقط، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر. وقال الضحاك: غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة. وعن الضحاك أيضا: الغيض النقص من تسعة أشهر، والزيادة إلى سنتين. وقيل: من عدد الأولاد، فقد تحمل واحدا، وقد تحمل أكثر. وقال الجمهور: غيض الرحم الدم على الحمل. قال الزمخشري: إن كانت ما موصولة فالمعنى: أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخدج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقية. ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه، وما تزداد أي تأخذه زائدا تقول: أخذت منه حقي وازددت منه كذا، ومنه: * (وازدادوا تسعا) * ويقال: زدته فزاد بنفسه وازداد. وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة. ويروى أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه. ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاما ومخدجا، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند
361

الشافعي، وإلى خمس عند مالك. وقيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرما ومنه الدم فإنه يقل ويكثر. وإن كانت مصدرية فالمعنى: أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله. ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أن الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن: الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر. وعنه: الغيض الذي يكون سقطا لغير تمام، والازدياد ولد التمام انتهى. وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقا. وبمقدار يقدر، ويطلق المقدار على القدر، وعلى ما يقدر به الشيء. والظاهر عموم قوله: وكل شيء عنده بمقدار، أي: بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه. وقال ابن عباس: وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي: بقدر الطاعة والمعصية. وقال الضحاك: من الغيض والازدياد. وقال قتادة: من الرزق والأجل. وقيل: صحة الجنين ومرضه، وموته، وحياته، ورزقه، وأجله. والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص، لأنه لا دليل عليه.
والمراد من العندية العلم أي: هو تعالى عالم بكمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات. وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم. وقيل: الغائب المعدوم، والشاهد الموجود. وقيل: الغائب ما غاب عن الحس، والشاهد ما حضر للحس. وقرأ زيد بن علي: عالم الغيب بالنصب، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها. وأثبت ابن كثير وأبو عمر وفي رواية: ياء المتعال وقفا ووصلا، وهو الكثير في لسان العرب، وحذفها الباقون وصلا ووقفا، لأنها كذلك رسمت في الخط. واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي، وأجاز غيره حذفها مطلقا. ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين، وإن تعاقب التنوين، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب. ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين، فقال: سواء منكم الآية. والمعنى: سواء في علمه المسر القول، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله. وسواء تقدم الكلام فيه، وفي معانيه، وهو هنا بمعنى مستو، وهو لا يثني في أشهر اللغات. وحكى أبو زيد تثنيته فتقول: هما سواآن. وقيل: هو على حذف أي: سواء منكم سر من أسر القول، وجهر من جهر به، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر، والمعطوف عليه مبتدأ. ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله: منكم، ومن المعطوف الخبر. وكذا أعرب سيبويه قول العرب: سواء عليه الخير والشر. وقول ابن عطية: إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة، وهو لا يصح.
وقال ابن عباس: مستخف مستتر وسارب ظاهر. وقال مجاهد: مستخف بالمعاصي. وتفسير الأخفش وقطرب: المستخفي هنا بالظاهر. وإن كان موجودا في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل، واقتران السارب بالنهار. وتقابل الوصفان في قوله: ومن هو مستخف، إذ قابل من أسر القول. وفي قوله: سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به. والمعنى والله أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم، لا يعزب عنه شيء من ذلك. وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من، لكنه حذف للعلم به، إذ تقدم
قوله: من أسر القول ومن جهر به، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، وأجازه الكوفيون. ويجوز أن يكون: وسارب، معطوفا على من، لا على مستخف، فيصح التقسيم. كأنه قيل: سواء شخص هو مستخف بالليل، وشخص هو سارب بالنهار. ويجوز أن يكون معطوفا على مستخف. وأريد
362

بمن اثنان، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو، وعلى لفظ من في إفراد هو. والمعنى: سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار، وليرى نصرفه في الناس. قال ابن عطية: فهذا قسم واحد، جعل الله نهار راحته. والمعنى: هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل. ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر. وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف. فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار انتهى. وقيل: ومن هو مستخف بالليل بظلمته، يريد إخفاء عمله فيه كما قال: أزورهم وسواد الليل يشفع لي. وقال:
وكم لظلام الليل عندي من يد
والظاهر عود الضمير في له على من، كأنه قيل لمن أسر، ومن جهر، ومن استخفى، ومن سرب: معقبات. وقال ابن عباس: هو عائد على من قوله: ومن هو مستخف، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية.
قال ابن عطية: والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قال: والآية على هذا في الرؤساء الكافرين. واختار هذا القول الطبري، وهو قول عكرمة وجماعة. وقال الضحاك: هو السلطان المحرس من أمر الله انتهى. وحذف لا، لا في الجواب قسم بعيد. قال المهدوي: ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى: يحفظونه من الله على ظنه وزعمه. وقيل: الضمير في له عائد على الله تعالى أي: لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم، والحفظة لهم أيضا. وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وهو قول مجاهد والنخعي. وقيل: الضمير في له عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم) وإن لم يجر له ذكر قريب، وقد جرى ذكره في قوله: * (ويقولون لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * والمعنى: أن الله تعالى جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم) حفظة من متمردي الجن والإنس. قال أبو زيد: الآية في النبي صلى الله عليه وسلم) نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس، وعامر بن الطفيل، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق. والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر. ويقول: لما تقدم أن من أسر القول ومن جهر به، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار، مستوفي علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، ذكر أيضا أن لذلك المذكور معقبات: جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته. ومعقب: وزنه مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر، لأن بعضهم يعقب بعضا، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه. وقال الزمخشري: والأصل معتقبات، فأدغمت التاء في القاف كقوله: * (وجاء المعذرون) * يعني المعتذرون. ويجوز معقبات بكسر العين، ولم يقرأ به انتهى. وهذا وهم فاحش، لا تدغم التاء في القاف، ولا القاف في التاء، لا من كلمة ولا من كلمتين. وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما. وأما تشبيهه بقوله: وجاء
363

المعذرون، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون، وقد تقدم في براءة توجيهه، وأنه لا يتعين ذلك فيه. وأما قوله: ويجوز معقبات بكسر العين، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات، فأدغمت التاء في القاف. وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش، والمعقبات جمع معقبة. وقيل: الهاء في معقبة للمبالغة، فيكون كرجل نسابة. وقيل: جمع معقبة، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى، جمعت باعتبار كثرة الجماعات، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري. وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات، وليس الأمر كما ذكر، لأن ذلك كجمل وجمال وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله: ابن عطية. وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله: جمع معقب، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد، من حيث أن يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار. وفي عود الضمير لقوله: العلماء قائلة كذا، وقولهم الرجال وأعضادها، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجالات من حيث المعنى، لا من حيث صناعة النحويين، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع، وأن معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال. وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب، وهي قراءة أبي وإبراهيم. وقال الزمخشري: وقرئ له معاقيب. قال أبو الفتح: هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف، كمطعم ومطاعم، ومقدم ومقاديم، وكان معقبا جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضا من الهاء المحذوفة في ممعاقبة. وقال الزمخشري: جمع معقب أو معقبة، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير. وقرئ له معتقبات من اعتقب. وقرأ أبي من بين يديه، ورقيب من خلفه. وقرأ ابن عباس: ورقباء من خلفه، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه، ورقيب من بين يديه. وينبغي حمل هذه القراءات على التفسير، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. والظاهر أن قوله تعالى: من أمر الله متعلق بقوله: يحفظونه. قيل: من للسبب كقولك: كسرته من عرى، ويكون معناها ومعنى الباء سواء، كأنه قيل: يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك. قال ابن جريج: يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف. وقال قتادة: يكتبون أقواله وأفعاله. وقراءة علي، وابن عباس، وعكرمة، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد: يحفظونه بأمر الله، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل. قال الزمخشري: يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي: من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه. وقال ابن عطية، وقتادة: معنى من أمر الله، بأمر الله أي: يحفظونه بما أمر الله، وهذا تحكم في التأويل انتهى. وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب. وقيل: يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك: حرست زيدا من الأسد، ومعنى ذلك: إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله
تعالى: * (قل من يكلؤكم باليل والنهار من الرحمان) * يصير معنى الكلام إلى التضمين أي: يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته. ومن جعل المعقبات الحرس، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه: في زعمه وتوهمه من هلاك الله، ويدعون قضاءه في ظنه، وذلك لجهالته بالله تعالى، أو يكون ذلك على معنى التهلك به، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلا الثبوت في ذلك الوصف، وفي الحقيقة هو منتصف، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به: لا يحفظونه، فحذف لا. وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه، وهي في موضع نصب. وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. وروي هذا عن مجاهد، والنخعي، وابن جريج، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي: كائنة من أمر الله تعالى، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر: أحدها: من بين يديه ومن خلفه أي: كائنة من بين يديه. والثانية: يحفظونه أي:
364

حافظات له. والثالثة: كونها من أمر الله، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله: يحفظونه، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين: إحداهما: يحفظونه من بين يديه ومن خلفه. والثانية: قوله: من أمر الله أي: كائنة من أمر الله. غاية ما في ذلك أنه بدىء بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وذلك شائع فصيح، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة، في الحفظ آكد، فلذلك قدم الوصف بها. وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا، وفي الكتبة منهم أقوالا عن المنجمين وأصحاب الطلمسات، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره. ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم، وإن كان الصادر منهم خيرا وشرا، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم، وإهمال أمره بالطاعة، واستبدالها بالمعصية. فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة، وتحذير لو بال المعصية. والظاهر أن لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي. قال ابن عطية: وهذا الموضع مؤول، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس، ومنه قوله تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن) * الآية. وسؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم): أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة) فمعنى الآية: حتى يقع تغيير إما منهم، وإما من الناظر لهم، أو ممن هو منهم تسبب، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا في أمثله الشريعة. فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير. وثم أيضا مصائب يزيد الله بها أجر المصاب، فتلك ليست تغييرا انتهى. وفي الحديث: (إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب) وقيل: هذا يرجع إلى قوله: * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي، إلا إن علم الله تعالى أن فيهم، أو في عقبهم من يؤمن، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال. وما موصولة صلتها بقوم، وكذا ما بأنفسهم. وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها: إلا بسياق الكلام، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى، والتقدير: لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته. والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب، وغير ذلك من البلاء. ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله: سوء، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئا منها فلا مرد له، فذكر السواء مبالغة في التخويف. وقال السدي: من وال من ملجأ. وقال الزمخشري: ممن يلي أمرهم، ويدفع عنهم. وقيل: من ناصر يمنع من عذابه.
* (هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال * ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال) *: لما خوف تعالى العباد بقوله: * (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) * أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله تعالى، وحكمته تشبه النعم من وجه، والنقم من وجه. وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة. قال ابن عباس والحسن: خوفا من الصواعق، وطمعا في الغيث. وقال قتادة: خوفا للمسافرين من أذى المطر، وطمعا للمقيم في نفعه. وقريب منه ما ذكره الزجاج وهو: خوفا للبلد الذي يخاف ضرر المطر له، وطمعا لمن يرجو الانتفاع به، وذكر الماوردي: خوفا من العقاب، وطمعا في الثواب. وعن ابن عباس وغيره: أنه كنى بالبرق عن الماء، لما كان المطر يقاربه غالبا وذلك من باب إطلاق الشيء مجازا على ما يقاربه غالبا. قال الحوفي: خوفا وطمعا مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب، وجوزه الزمخشري أي: خائفين وطامعين، قال: ومعنى الخوف والطمع، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث. قال أبو الطيب
365

* فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى
*
يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
*
. وقيل: يخاف البرذ المطر من له منه ضرر كالمسافر، ومن في جرينته التمر والزبيب، ومن له بيت يكف، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر انتهى. وقوله الأول في تفسير الخوف والطمع، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم، وقوله: كأهل مصر، ليس كما ذكر، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع، وأنه به ينمو ويجود، بل تمر على الزرع أوقات يتضرر وينقص نموه بامتناع المطر. وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع، أو على ذا خوف وطمع. وقال أبو البقاء: خوفا وطمعا مفعول من أجله. وقال الزمخشري: لا يصح أن يكون مفعولا لهما، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي: إرادة خوف وطمع، أو على معنى إخافة وإطماعا انتهى. وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن
الإرادة فعل الله، والخوف والطمع فعل للمخاطبين، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر. وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعا عليه، بل من النحويين من لا يشترط ذلك، وهو مذهب ابن خروف. والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث، ويفرد ويجمع، قال: (والنخل باسقات) ولذلك جمع في قوله: الثقال، ويعني بالماء، وهو جمع ثقيلة. قال مجاهد وقتادة: معناه تحمل الماء، والعرب تصفها بذلك. قال قيس بن أخطم:
* فما روضة من رياض القطا
*
كأن المصابيح جودانها
*
* بأحسن منها ولا مزنة
*
ولوح يكشف أوجانها
*
والدلوج المثقلة، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد. فإن كان يصح منه التسبيح فهو إسناد حقيقي، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي. وتنكيره في قوله: * (فيه ظلمات ورعد وبرق) * ينفي أن يكون علما لملك. وقال ابن الأنباري: الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل: قد غمني كلامك. وقال الزمخشري: ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له، أي: يضجون بسبحان الله والحمد لله. وفي الحديث: (سبحان من يسبح الرعد بحمده) وعن علي: (سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك) ومن بدع المتصوفة: الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم انتهى. وقال ابن عطية: وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب، روى ذلك عن ابن عباس. وهذا عندي لا يصح لأن هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة. وقال أبو عبد الله الرازي: إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره، وكذا القول في الرياح، وفي سائر الآثار العلوية. وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فكيف بالعاقل الإنكار؟ انتهى. وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة، وذلك لا يكون أبدا، وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة، فلم يجمعوا على أن اسم لملك. وعلى تقدير أن يكون اسما لملك، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا للسحاب ولا غيره، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي صلى الله عليه وسلم) المشهود له بالعصمة، لا من الفلاسفة الضلال. والظاهر عود الضمير في قوله: من خيفته، على الله تعالى كما عاد في قوله: بحمده. ومعنى خيفته: من هيبته وإجلاله.
366

وقيل: يعود على الرعد. والملائكة أعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له. والرعد وإن كان مندرجا تحت لفظ الملائكة، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى. وهو قول ضعيف. ومن مفعول فيصيب، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه، ولو أعمل الأول لكان التركيب: ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني. ومفعول يشاء محذوف تقديره: من يشاء إصابته. وفي الخبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم) بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال: أخبرني عن إله محمد؟ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه. وقال مجاهد: ناظر يهودي الرسول صلى الله عليه وسلم)، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه، فنزلت الآية فيه. وقال ابن جريج: سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل، وذكر قصتهما المشهورة، مضمونها أن عامرا توعد الرسول صلى الله عليه وسلم) إذا لم يجبه إلى ما طلب، وأنه وأربدا ما الفتك به، فعصمه الله تعالى، وأصاب عامرا بغدة فمات غريبا، وأريد بصاعقة فقتلته، ولأخيه لبيد فيه عدة مرات. منها قوله:
* أخشى على أربد الحتوف ولا
*
أرهب نوء السماك والأسد
*
* فجعني البريق والصواعق بالفا
*
رس يوم الكريهة النجد
*
وهذه الضلالات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية، والضمير في وهم يجادلون، عائد على الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم)، المنكرين الآيات، يجادلون في قدرة الله على
البعث وإعادة الخلق بقولهم: * (من يحى العظام وهى رميم) * وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والأنداد. ونسبة التوالد إليه بقولهم: الملائكة بنات الله تعالى والمعنى: أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء. وقيل: وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي: فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي. وكذلك الجبار، ولا ربد. وهو شديد المحال، جملة حالية من الجلالة. وقرأ الجمهور: المحال بكسر الميم. فعن ابن عباس: المحال العداوة، وعنه الحقد. وعن علي: الأخذ، وعن مجاهد: القوة. وعن قطرب: الغضب. وعن الحسن: الهلاك بالمحل، وهو القحط. وقرأ الضحاك والأعرج: المحال بفتح الميم. فعن ابن عباس: الحول. وعن عبيدة: الحيلة. يقال: المحال والمحالة وهي الحيلة، ومنه قول العرب في مثل: المرء يعجز لا المحالة. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب، ويكون مثلا في القوة والقدرة، كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحد، لأن الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره. ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر، وذلك أن الفقار عمود الظهر وقوامسه. والضمير في له عائد على الله تعالى، ودعوة الحق قال ابن عباس: دعوة الحق لا إله إلا الله، وما كان من الشريعة في معناها. وقال علي بن أبي طالب، دعوة الحق التوحيد. وقال الحسن: إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق. وقيل: دعوة الحق دعاؤه عند الخوف، فإنه لا يدعي فيه إلا هو، كما قال: * (ضل من تدعون إلا إياه) * قال الماوردي: وهو أشبه بسياق الآية. وقيل: دعوة الطلب الحق أي: مرجو
367

الإجابة، ودعاء غير الله لا يجاب، وقال الزمخشري: فيه وجهان. أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قوله: (كلمة الحق) للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل، والمعنى: أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقا بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه. والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب. وعن الحسن رحمه الله: الحق هو الله تعالى، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى. وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر، لأن مآله إلى تقدير: لله دعوة لله، كما تقول: لزيد دعوة زيد، وهذا التركيب لا يصح. والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله: ولدار الآخرة على أحد الوجهين، والتقدير: لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإن دعوتهم باطلة، والمعنى: أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق. ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي: من يدعو له فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء. فقال: * (والذين يدعون) *. قال الزمخشري: والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه. وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم. وقيل: شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشرا أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئا، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى. فالضمير في يدعون عائد على الكفار، والعائد على الذين محذوف أي: يدعونهم. ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر. وقيل: الذين أي: الكفار الذين يدعون، ومفعول يدعون محذوف أي: يدعون الأصنام. والعائد على الذين الواو في يدعون، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف، وعلى القول الأول على الذين. قال ابن عباس: كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه. وقال الضحاك: كمن بسط يديه إلى الماء ليص إليه بلا اغتراف. وقال أبو عبيدة: أي كالقابض على الماء ليس على شيء، قال: والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء، وأنشد سيبويه:
* فأصبحت فيما كان بيني وبينها
*
من الود مثل القابض الماء في اليد
*
وقال آخر:
* وإني وإياكم وشوقا إليكم
*
كقابض ماء لم تسعه أنامله
*
. وقيل: شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه، كذلك ما يدعو الكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم انتهى.
368

والكاف في موضع نصب أي: مثل استجابة، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط، وهي إضافة المصدر إلى المفعول. وفاعل المصدر محذوف تقديره: كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه، فلما حذف أظهر في قوله: إلى الماء، ولو كان ملفوظا به لعاد الضمير إليه، فكان يكون التركيب كفيه إليه. هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري
في هذا التشبيه، وتبعه أبو البقاء. وقال ابن عطية: ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون، ثم مثل تعالى مثالا لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال، فهو لا يبلغ فمه أبدا، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى. وفاعل ليبلغ ضمير الماء، وليبلغ متعلق بباسط، وما هو أي: وما الماء يبالغه، أي: يبالغ الفم. ويجوز أن يكون هو ضمير الفم، والهاء في ببالغه للماء أي: وما الفم ببالغ الماء، لأن كلا منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة. وقرئ: كباسط كفيه بتنوين باسط. وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي: في حيرة، أو في اضمحلال، لأنه لا يجدي شيئا ولا يفيد، فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون. قال تعالى: * (أينما * كنتم تدعون من دون الله) * قالوا ضلوا. قال الزمخشري: إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم. وقال ابن عباس: أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم.
* (ولله يسجد من فى * السماوات والارض * طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال * قل من رب * السماوات والارض * قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الاعمى والبصير أم) *: إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة: وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع، فيكون عاما مخصوصا إذ يخرج منه من لا يسجد، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة: فيسجد كرها وإما نفاقا، أو يكون الكره أول حاله، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد. وقيل: طوعا لا يثقل عليه السجود، وكرها يثقل عليه، لأن إلزام التكاليف مشقة. وقيل: من طالت مدة إسلامه، فألف السجود. وكرها من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري. وقيل: هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر، ومدلولة أثرا. أو يكون معناه: يجب أن يسجد له كل من في السماوات والأرض، فعبر عن الوجوب بالوقوع. والذي يظهر أن مساق هذه الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى، خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى. فالذين تعبدونهم كائنا ما كانوا داخلون تحت القهر، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود. والظلال ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد، إذ هي من العالم. فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى: * (أو لم * يروا إلى ما خلق الله من شىء * يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله) * وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف، وأضعف منه قول ابن الأنباري: إنه تعالى جعل للظلال عقولا تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهاما حتى خاطبت وخوطبت، لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى. وقال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وطوله بسبب انحطاط الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب. وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما، وتقدم شرح الغدو والآصال في آخر الأعراف. روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد لله حينئذ.
وقرأ أبو مجلز:
369

والإيصال. قال ابن جني: هو مصدر أصل أي: دخل في الأصيل كما تقول: أصبح أي دخل في الاصباح. ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد، كان جوابه من السائل. فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه، كما قال تعالى: * (قل من يرزقكم من * السماوات والارض * قل الله) * ويبعد ما قال مكي من أنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، لأنه قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن الله) * فإذا كانوا مقرين بأن منشىء السماوات والأرض ومخترعها هو الله، فكيف يقال: بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل؟ وقال الزمخشري: قل الله حكاية لاعتراقهم تأكيد له عليهم، لأنه إذا قال لهم: من رب السماوات والأرض؟ لم يكن لهم بد من أن يقولوا: الله، كقوله * (قل من رب * السماوات * السبع ورب العرش العظيم * سيقولون * الله) * وهذا كما يقول المناظر لصاحبه: أهذا قولك؟ فإذا قال: هذا قولي، قال: هذا قولك، فيحكي إقراره تقريرا عليه واستئنافا منه، ثم يقول له: فيلزمك على هذا القولكيت وكيت. ويجوز أن يكون تلقينا أي: إن كفوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرونن أن ينكروه. وقال الكرماني: قل يا محمد للكفار من رب السماوات والأرض؟ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون الله، فإذا قالوها قل: الله، أي هو كما قلتم. وقيل: فإن جابوك وإلا قل: الله، إذ لا جواب غير هذا انتهى. وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري. وقال البغوي: روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت، فأمره الله فقال: قل الله انتهى. واستفهم بقوله: قل أفاتخذتم؟ على سبيل التوبيخ والإنكار، أي: بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السماوات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا للتوحيد من علمكم وإقراركم سببا للإشراك، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لا نفسها نفعا ولا ضرا، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعا أو ضرا؟ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن، ثم حالة الكفر والإيمان، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير؟ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو: الظلمات، وبالمؤمن وهو النور. وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة.
وقرأ الأخوان وأبو بكر: أم هل يستوي بالياء، والجمهور بالتاء، أم في قوله: أم، هل منقطعة تتقدر ببل؟ والهمزة على المختار، والتقدير: بل أهل تستوي؟ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر:
أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم
وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله: * (أم من * يملك السمع والابصار) * ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة، لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك. وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها:
370

* هل ما علمت وما استودعت مكتوم
*
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
*
* أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
*
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
*
ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائبا إعراضا عنهم، وتنبيها على توبيخهم في جعل شركاء لله، وتعجيبا منهم، وإنكارا عليهم. وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم، لأنه معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء، وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة، ولا إيجاد شيء البتة، والمعنى: أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئا حت يستحقوا العبادة، وجعلهم شركاء لله أي: جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، فتشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم. ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة؟ * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * ثم أمره تعالى فقال: قل الله خالق كل شيء أي: موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها، وهم أيضا مقرون بذلك، * (ولئن سألتهم من خلق * السماوات والارض ليقولن الله) * واحتمل أن يكون قوله: وهو الواحد القهار، داخلا تحت الأمر بقل، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المفرد بالألوهية، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره. واحتمل أن يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين: الوحدانية، والقهر. فهو تعالى لا يغالب، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل.
* (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه فى النار ابتغاء حلية أو) *: قال الزمخشري: هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. وقال ابن عطية: صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالا للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى. وقيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، والقلوب، والحق، والباطل. فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دونه بطبقات. والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل. والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى. وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم): (مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) وقال ابن عطية: وروي عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى أنزل من السماء ماء، يريد به الشرع
371

والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي: أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب. وإن صح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى: * (كذالك يضرب الله الحق والباطل) *، معناه: الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضا انتهى. والماء المطر. ونكر أودية لأن المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيل بعض الأودية دون بعض. ومعنى بقدرها أي: على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم. ألا ترى إلى قوله: وأما ما ينفع الناس، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر.
وقرأ الجمهور: بقدرها بفتح الدال. وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية: بسكونها. وقال الحوفي: بقدرها متعلق بسالت. وقال أبو البقاء: بقدرها صلة لا ودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرا له أي: كان الكذب شرا له، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من فسالت. واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر. ورابيا منتفخا عاليا على وجه السبيل، ومنه الربوة. ومما توقدون عليه أي: ومن
الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيى، وأهل الكوفة: يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس. وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة: بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار. قال أبو علي، والحوفي: متعلق بتقدون. وقال أبو علي: قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله: * (فأوقد لى ياهامان ياهامان على الطين) * فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبه لهبها. وقال مكي وغيره: في النار متعلق بمحذوف تقديره: كائنا، أو ثابتا. ومنعوا تعليقه بقوله: توقدون، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى. ولو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقا بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله: يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه. وقال الحوفي: هو مصدر في موضع الحال أي: مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدونعليه. والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك. وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله: ومما توقدون. ومن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن. وأجاز الزمخشري أن تكون من لابتداء الغاية أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي: مثل الحق والباطل. شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة. وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله: زبدا رابيا، وفي قوله: زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرا
372

كقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم) * والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله: * (فمنهم شقى وسعيد) * * (فأما الذين شقوا ففى النار) * وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر. وانتصب جفاء على الحال أي: مضمحلا متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له. والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك. وقرأ رؤبة: جفالا باللام بدل الهمزة من قولهم: جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته. وعن أبي حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفار بمعنى: أنه كان أعرابيا جافيا. وعن أبي حاتم أيضا: لا تعتبر قراءة الإعراب في القرآن. وأما ما ينفع الناس أي: من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي: مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل. يضرب الله الأمثال، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب، وأهل الباطل من العقاب، فقال: للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الذين دعاهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم) فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله، ودخول الجنة في الآخرة. فالحسنى مبتدأ، وخبره في قوله: للذين. والذين لم يستجيبوا مبتدأ، خبره ما بعده. وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي: لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم. ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال، ويبتدئون للذين. وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي السني مبتدأ، وللذين خبره، وفسر ابن عطية وفهم السلف. قال ابن عباس: جزاء الحسنى وهي لا إله إلا الله. وقال مجاهد: الحياة الحسنى ما في الطيبة. وقيل: الجنة لأنها في نهاية الحسنى. وقيل: المكافأة أضعافا. وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال: للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي: هما مثلا الفريقين. والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي: استجابوا الاستجابة الحسنى. وقولهم: لو أن لهم كلام مبتدأ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. والتفسير الأول أولى، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب، ذكر ما للمستجيبين من الثواب. ولأن تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقا، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا. ولأنه على قوله يكون قوله: لو أن لهم ما في الأرض جميعا، كلاما مفلتا مما قبله، أو كالمفلت، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين. لو أن لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت، وأيضا فيوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما لهم. وأيضا فقد جاء هذا التركيب، وتقدم تفسير مثل قوله: لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به، وسوء الحساب قال ابن عباس: أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم. وقال النخعي: وشهدو وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء. وقال أبو الجوزاء: المناقشة. وقيل: للتوبيخ عند الحساب والتقريع، وتقدم تفسير مثل * (ومأواهم جهنم وبئس المهاد) *.
(* (أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون مآ أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء
373

الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولائك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار * والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون مآ أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الا رض أولائك لهم اللعنة ولهم سوء الدار * الله يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر وفرحوا بالحيواة الدنيا وما الحيواة الدنيا فى الا خرة إلا متاع * ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشآء ويهدىإليه من أناب * الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن
القلوب * الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مأاب * كذلك أرسلناك فىأمة قد خلت من قبلهآ أمم لتتلو عليهم الذىأوحينآ إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربى لاإلاه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب * ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الا رض أو كلم به الموتى بل لله الا مر جميعا أفلم يايأس الذين ءامنوا أن لو يشآء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد * ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب * أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركآء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم فى الا رض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد * لهم عذاب فى الحيواة الدنيا ولعذاب الا خرة أشق وما لهم من الله من واق * مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الأنهار أكلها دآئم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار * والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بمآ أنزل إليك ومن الا حزاب من ينكر بعضه قل إنمآ أمرت أن أعبد الله ولاأشرك به إليه أدعو وإليه مآب * وكذالك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جآءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا واق * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتى بأاية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب *
374

يمحو الله ما يشآء ويثبت وعنده أم الكتاب * وإن ما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب * أولم يروا أنا نأتى الا رض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار * ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *))
) *
القارعة: الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي: تضربه بشدة، كالقتل، والأسر، والنهب، وكشف الحريم. وقال الشاعر:
* فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه
*
ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
*
أي ضربنا بقوة. وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم. المحو الإزالة محوت الخط أذهبت أثره ومحا المطر رسم الدار أذهبه وأزاله ويقال في مضارعه يمحو ويمحي لأن عينه حرف حلق والإثبات ضد المحو.
* (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب * والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلواة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية * ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها ومن صلح من ءابائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) *: قال ابن عباس: نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل. وقيل: في عمر بن الخطاب وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر وأبي جهل. قرأ زيد بن علي: أو من بالواو بدل الفاء، إنما أنزل مبنيا للفاعل. ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر، وذكر ما للمؤمن من الثواب، وما للكافرين من العقاب، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي: ليسا مشتبهين، لأن العالم بالشيء بصير به، والجاهل به كالأعمى، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم. والهمزة للاستفهام المراد به: إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز. ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول. والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير: فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل، كما قدره الزمخشري في قوله: * (أفلم يسيروا) * وقوله: * (أفلا يعقلون) * وجوزوا في الذين أن يكون بدلا من أو لو، أو صفة له، وصفة لمن من قوله: أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله: * (والذين ينقضون عهد الله) * ثم قال: * (أولئك لهم اللعنة) * والظاهر عموم العهد. وقيل: هو خاص، فقال السدي: ما عهد إليهم في القرآن. وقال قتادة: في الأول، وهو قوله: * (ألست بربكم قالوا بلى) * وقال القفال: ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات. وقيل:
375

في الكتب المتقدمة والقرآن. وقيل: المأخوذ على ألسنة الرسل. وقيل: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي: بما عهد الله. والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيد به لقوله: يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه. وقال الزمخشري: وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى. ولا ينقضون الميثاق، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى. فأضاف العهد إلى المفعول، وغاير بين الجملتين بكونن الثانية تعميما بعد تخصيص انتهى. إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد. وقال ابن عطية: بعهد الله اسم الجنس أي: بجميع عهود الله، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده. ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي. وقوله: ولا ينقضون الميثاق. أي: إذا اعتقدوا في طاعة الله عهدا لم ينقضوه. قال قتادة: وتقدم وعيد الله إلى عبادة في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر
أبيهم آدم عليه السلام انتهى.
وقال ابن العربي: من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر، ومرور الناس عليه، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، وهتف به هاتف: كيف رأيت ثمرة التوكل؟ قال ابن العربي: هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام، فاقتدوا به. وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال. وذكر أن سفيان الثوري وغيره قالوا: إن إنسانا لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار. ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل.
وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن: المراد به صلة الرسول صلى الله عليه وسلم) بالإيمان به، وقال نحوه ابن جبير. وقال قتادة: الرحم. وقيل: صلة الإيمان بالعمل. وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، ومراعاة حق الجيران، والرفقاء، والأصحاب، والخدم. وقيل: نصرة المؤمنين. وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوف تقديره: ما أمرهم الله به. وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي: بوصله. ويخشون ربهم أي: وعيده كله. ويخافون سوء الحساب أي: استقصاء فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا. وقيل: يخشون ربهم يعظمونه. وقيل: في قطع الرحم. وقيل: في جميع المعاصي. وقيل: فيما أمرهم بوصله. وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف. وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، لأن المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال. فمن المراد به المضي في الصلاة * (الذين قال لهم الناس) * ومن المراد به الاستقبال * (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) *. ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائما، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأن حصول تلك الصلاة إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم. وانتصب ابتغاء قيل: على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولا لأجله أي: إن صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصا، لا لرجاء أن يقال: ما أصبره، ولا مخافة أن يعاب بالجزع، أو تشمت به الأعداء، كما قال:
376

* وتجلدي للشامتين أريهم
*
أني لريب الدهر لا أتضعضع
*
ولأن الجزع لا طائل تحته، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع. والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي: الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، كما تقول: خرج زيد لوجه كذا. ونبه على هاتين الخصلتين: العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ هما عمود الدين، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال. ونبه على حالتي الإنفاق، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض، لأن الإظهار فيها أفضل. وقال الزمخشري: مما رزقناهم من الحلال، لأن الحرام لا يكون رزقا، ولا يسند إلى الله انتهى. وهذا على طريق المعتزلة.
وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة. قال ابن عباس: صبروا على أمر الله. وقال أبو عمران الجوني: صبروا على دينهم. وقال عطاء: صبروا على الرزايا والمصائب. وقال ابن زيد: صبروا على الطاعة وعن المعصية، ويدرؤون يدفعون. قال ابن زيد: الشر بالخير. وقال قتادة: ردوا عليهم معروفا كقوله: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * وقال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. وقال القتبي: إذا سفه عليهم حلموا، وقال ابن جبير: يدفعون المنكر بالمعروف. وقال ابن كيسان: إذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرة الذنب، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه. وقيل: يدفعون بلا إله إلا الله شركهم. وقيل: بالسلام غوائل الناس. وقيل: من رأوا منه مكروها بالتي هي أحسن. وقيل: بالصالح من العمل السئ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذا قال: أوصني يا رسول الله فقال: * (إذا * عملت * سيئة * فاعمل * إلى) * السر بالسر والعلانية بالعلانية. وقيل العذاب: بالصدقة. وقيل: إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا. وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز. وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر:
* يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة
*
ومن إساءة أهل السوء إحسانا وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال:
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإن لا يبد بالظلم يظلم. وروي أن هذه الآية نزلت في الأنصار، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات. وعقبي الدار: عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها. وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف. وقرأ الجمهور: جنات، والنخعي: جنة بالإفراد. وروي عن ابن كثير
، وأبي عمرو: يدخلونها مبنيا للمفعول. وقرأ ابن أبي عبلة: ومن صلح بضم اللام، والجمهور بفتحها، وهو أفصح. وقرأ عيسى الثقفي: وذريتهم بالتوحيد، والجمهور بالجمع. وقرأ ابن يعمر: فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل، كما قال الراجز:
نعم الساعون في اليوم الشطر
377

وقرأ ابن وثاب: فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعل لغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالا. قال مجاهد وغيره: ومن صلح أي عمل صالحا وآمن انتهى. وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة. وقيل: يحتمل قوله: ومن صلح أي: لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه. قال ابن عباس: هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم)، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة. والظاهر أن ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول. وقيل: يجوز أن يكون مفعولا معه أي: يدخلونها مع من صلح. ويشتمل قوله: من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته، وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل: ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم. والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي: بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم. قال أبو بكر الوراق: هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلها من أي باب شاء. قال الأصم: نحو هذا قال: من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر. ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر: أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى. وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون. قال ابن عطية: وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى.
*
وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي: يقولون سلام عليكم. والظاهر أن قوله تعالى: سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى: بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي: هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي: بدل صبركم أي: بدل ما احتملتم من مشاق الصبر، هذه الملاذ والنعم. وقيل: سلام جمع سلامة أي: إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا. وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق بسلام أي: يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي: فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم، والدار: تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة. وقالت فرقة: المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم. قال ابن عطية: وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو: أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له: (هذا مكان مقعدك، فبدلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك) انتهى. ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد، ولا بغير ذلك.
* (فنعم عقبى الدار والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون فى الارض أولئك لهم) *: قال مقاتل نزلت: والذين ينقضون في أهل الكتاب. وقال ابن عباس: نزلت الله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية. وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غاية
378

القرب والتأنيس. وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله. وسوء الدار أي: الدار السوء وهي النار، وسوء عاقبة الدار، وتكون دار الدنيا. ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق. قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه. ويقدر مقابل يبسط، وهو التضييق من قوله: * (ومن قدر عليه رزقه) * وعليه يحمل * (فظن أن لن نقدر عليه) * وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر: * (لئن * قدر * الله على) * أي لئن ضيق. وقيل: يقدر يعطي بقدر الكفاية. وقرأ زيد بن علي: ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي. ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات. والذين ينقضون أي: يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا. وفي الكلام تقديم وتأخير. ومتاع: معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلا ثم يفنى. كما قال الشاعر:
* تمتع يا مشعث إن شيئا
*
سبقت به الممات هو المتاع
*
وقال آخر:
* أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
*
غير أن لا بقاء للإنسان
*
وقال آخر:
* تمتع من الدنيا فإنك فان
*
من النشوات والنسأ الحسان
*
قال الزمخشري: خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نذرا، يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى. وهذا مني قول الحسن: أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم) أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك. وقال ابن عباس: زاد كزاد الرعي. وقال مجاهد: قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال.
* (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه ءاية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب) *: نزلت: ويقول الذين كفروا، في مشركي مكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء. والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفا. وقولهم: سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترسا كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأن الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وقال الزممشري: (فإن قلت): كيف يطابق قولهم: لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء؟ (قلت): هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي
379

إليه من كان على خلاف صفتكم. وقال أبو علي الجبائي: يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أناب أي: إلى جنته من أناب أي: من تاب. والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى. وهي على طريقة الاعتزال.
والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم). والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي: إلى دينه وشرعه. وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير. والذين آمنوا: بدل من أناب. واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته. وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلق الشبه. أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه. ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيبا في الإيمان، والمعنى: أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم. وجوزوا في الذين أن يكون بدلا من الذين، وبدلا من القلوب على حذف مضاف أي: قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده.
وطوبى: فعل من الطيب، قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها: فقال أبو الحسن الهنائي: هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفي. وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع. وقال الجمهور: هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعي وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها. فقال الضحاك: المعنى غبطة لهم. وعنه أيضا: أصبت خيرا. وقال عكرمة: نعمى لهم. وقال ابن عباس: فرح وقرة عين. وقال قتادة: حسنى لهم. وقال النخعي: خير لهم، وعنه أيضا كرامة لهم. وعن سميط بن عجلان: دوام الخير. وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم. وعن ابن عباس، وابن جبير: طوبى اسم للجنة بالحبشية. وقيل: بلغة الهند. وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضا، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بن منبه: هي شجرة في الجنة. وروي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال. وقد سأله أعرابي: يا رسول الله أفي الجنة فاكهة؟ قال: (نعم فيها شجرة تدعى طوبى) وذكر الحديث. قال القرطبي: الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي. وطوبى: مبتدأ، وخبره لهم. فإن كانت علما لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوع الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم: سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال: ابن مالك. ويرده أنه قرىء: وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها. قال ثعلب: وطوبى على هذا
مصدر كما قالوا: سقيا. وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال: بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب. فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال: يا أسفي على الفوت والندبة انتهى. ويعني بقوله: معطوف على المنادى المضاف، أن طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله: يا بؤس للجهل ضرارا الأقوام، وقول الآخر: يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل: يا طوباهم وحسن مآب أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول: يا طيبها ليلة أي: ما أطيبها ليلة. وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان
380

وزنها فعلي، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلا كحمر. وقال الزمخشري: أصبت خيرا وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع كقولك: طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك، والقراءة في قوله: وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك. وقرئ: وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب. فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا: حسن ذا أدبا.
* (كذلك أرسلناك فى أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذى أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان قل هو ربى لا إلاه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب) *: قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل: لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو: ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة، فنزلت. وقيل: سمع أبو جهل الرسول صلى الله عليه وسلم) يقول: يا رحمن، فقال: إن محمدا ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت. ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري، وعن ابن عباس: لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن فنزلت. قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني: أرسلناك آرسالا له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى. ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك. وقال الحسن: كإرسالنا الرسل أرسلناك، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل. وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله: * (قل إن الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب) * كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية: والذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي، لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى. وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب أي: كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء. وقال أبو البقاء: كذلك التقدير الأمر كذلك. قد خلت من قبلها أمم أي: تقدمتها أمم كثيرة، والمعنى: أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك. ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أن الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن، ولتتلو أي: لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك. وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم) وهم يكفرون أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي: أرسلناك في أمة رحمة لها معنى وهم، يكفرون بي أي: وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة. والظاهر أن الضمير في قوله: وهم، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر، والمعنى: أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر، فهدى الله بك من أراد هدايته. وقيل: يعود على الذين قالوا: * (لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * وقيل: يعود على أمة وعلى أمم، والمعنى: الإخبار بأن الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل، وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به. قل: هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم، وجميع أموري، وإليه مرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم.
* (ولو أن قرانا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم) *: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم): سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضا قطعا غراسا، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلانا وفلانا، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله. ولما ذكر تعالى علة إرساله، وهي تلاوة ما أوحاه إليه، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآنا تسير به الجبال عن مقارها، أو تقطع به
381

الأرض حتى تتزايل قطعا قطعا، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. كما قال: * (لو أنزلنا هاذا القرءان على جبل) * الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى: * (ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب) * * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) * وقال الشاعر:
* وجدك لو شيء أتانا رسوله
*
سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا
*
وقيل: تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى: * (ولو أننا نزلنا إليهم الملئكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شىء قبلا ما كانوا ليؤمنوا) * قال الزجاج. وقال الفراء: هو متعلق بما قبله، والمعنى: وهم يكفرون بالرحمن. ولو أن قرآنا سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء: يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأن قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جوابا، وإنما هو دليل على الجواب. وقيل: معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهارا وعيونا. ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله: بل لله الأمر جميعا أي: الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما. وأما على تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر: لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف، ثم قال: بل لله الأمر جميعا أي: الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء. وقال الزمخشري: بل لله الأمر جميعا على معنيين: أحدهما: بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة. والثاني
: بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء. لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار، ويعضده قوله تعالى: أفلم ييئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميع انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. واليأس القنوط في الشيء، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم، كأنه قيل: ألم يعلم الذين آمنوا. قال القاسم بن معن هي: لغة هوازن، وقال ابن الكلبي: هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي:
* أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني
*
ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم
*
وقال رباح بن عدي:
* ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
*
وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
*
وقال آخر: قثشي ش
* حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا
*
غضفا دواجن قافلا أعصامها
*
إذا علموا أن ليس وجد إلا لذي وارا. وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول: يئست بمعنى علمت انتهى. وقد حفظ ذلك غيره، وهذا القاسم بن معن من ثقات الكوفيين وأجلائهم
382

نقل أنها لغة هوزان، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ. وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك. وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو: القنوط من الشيء، وتأولوا ذلك. فقال الكسائي: المعنى أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله؟ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فقال الذين آمنوا من إيمانهم. وقال الفراء: وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعا فقال: أفلم ييأسوا؟ علمنا بقول آبائهم، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام: يئست منك أن لا تفلح كأنه قال: علمته علما قال: فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل. وقال أبو العباس: أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة؟ وإيضاح هذا المعنى أن يكون: أن لو يشاء الله متعلقا بآمنوا أي: أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة. وقال ابن عطية: ةويحتمل أن يكونن اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله: ولو أن قرآنا الآية على التأويل في المحذوف المقدر. قال في هذه: أفلم ييأس المؤمنون انتهى. وهذا قول الفراء الذي ذكرناه، وقال الزمخشري: ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا انتهى. وهذا قول أبي العباس، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه، وهو أن الكلام تام عند قوله: أفلم ييأس الذين آمنوا، إذ هو تقرير أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين. وأن لو يشاء جواب قسم محذوف أي: وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعا، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أن مع لو كقول الشاعر:
* أما والله أن لو كنت حرا
*
وما بالحر أنت ولا القمين
*
وقول الآخر:
* فاقسم أن لو التقينا وأنتم
*
لكان لنا يوم من الشر مظلم
*
وقد ذكر سيبويه أن أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي: أنه لو يشاء الله. وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره، وعكرمة، وابن أبي مليكة، والجحدري، وعلي بن الحسين، وابنه زيد، وأبو زيد المزني، وعلي بن نديمة، وعبد الله بن يزيد: أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته. وتدل هذه القراءة على أن معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب. وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله: أفلم ييأس، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة، وهذا كقراءة: * (فتبينوا) * و * (* فتثبتوا) * وكلتاهما في السبعة. وأما قول من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد. وقال الزمخشري: وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام، وكان
383

متقلبا في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى. وقال الفراء: لا يتلى إلا كما أنزل: أفلم ييأس انتهى.
والكفار عام في جميع الكفار، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله: الحسن، وابن السائب، أو هو ظاهر اللفظ. وقال ابن عطية: كفار قريش، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم) وغزواته. وقال مقاتل والزمخشري: كفار مكة. قال الزمخشري: تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة انتهى. وقال الحسن: حال الكفرة هكذا هو أبدا، ووعد الله قيام الساعة. والظاهر أن الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن. وقالت فرقة: التاء للخطاب، والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم)، أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم بجيشك كما حل بالحديبية، وعزاه الطبري إلى: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقاله عكرمة. ويكون وعد الله فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك، وقاله ابن عباس ومجاهد. وقرأ مجاهد، وابن جبير: أو يحل بالياء على الغيبة، واحتمل أن يكون عائدا على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة، فذكر واحتمل أن يكون عائدا على الرسول صلى الله عليه وسلم) أي: ويحل الرسول قريبا. وقرأ أيضا من ديارهم على الجمع. وقال ابن عباس: القارعة العذاب من السماء. وقال عكرمة: السرايا والطلائع. وفي قوله: ولقد استهزىء الآية، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وأن حالك حال من تقدمك من الرسل، وأن المستهزئين يملى لهم أي: يمهلون ثم يؤخذون. وتنبيه على أن حال من استهزأ بك، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم. وفي قوله: فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم) من الكفار.
* (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم فى الارض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل) *: من موصولة صلتها ما بعدها، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره: كمن ييئس، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، كما حذف من قوله: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * تقديره: كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة. ودل عليه قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، كما دل على القاسي * (فويل للقاسية قلوبهم) * ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف، وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * * (أفمن يعلم) * ثم قال: * (كمن هو أعمى) *. والظاهر أن قوله تعالى: وجعلوا لله شركاء، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية. نعى عليهم هذا الفعل القبيح، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها. ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر، وما يترتب على الكسب في الجزاء، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يقدر ما يقع خبرا للمبتدأ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي: وجعلوا، وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه، وجعلوا له شركاء، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى. وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله: وجعلوا لله أي: وجعلوا له، وفيه حذف الخبر عن المقابل، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلا. وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال: الشديد صاحب العقد، الواو في قوله تعالى: وجعلوا واو الحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود، والحال أنهم جعلوا له شركاء، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديرا لألوهيته وتصريحا بها، كما تقول: معطي الناس ومغنيهم موجود، ويحرم مثلي انتهى. وقال
384

ابن عطية: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع؟ هذا تأويل. ويظهر أن القول مرتبط بقوله: وجعلوا لله شركاء، كأن المعنى: أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك، هل ينتقم ويعاقب أم لا؟ وأبعد من ذهب إلى أن قوله: أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم، حكاه القرطبي عن الضحاك. والخبر أيضا محذوف تقديره: كغيره من المخلوقين. وأبعد أيضا من ذهب إلى أن قوله: وجعلوا معطوفا على استهزىء، أي: استهزؤوا وجعلوا، ثم أمره تعالى أن يقول لهم: سمرهم أي: اذكروهم بأسمائهم، والمعنى: أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضر، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصا يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره: سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر. وقريب من هذا قول من قال في قوله: قل سموهم، إنما يقال ذلك في الشيء السمتحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال له: سمه إن شئت أي: هو أخس من أن يذكر ويسمى. ولكن إن شئت أن تضع له اسما فافعل، فكأنه قال: سموهم بالآلهة على جهة التهديد. والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها. وقيل: سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة. وقيل: طالبوهم بالحجة على أنها آلهة. وقيل: صفوهم وانظروا هل
يستحقون الإلهية؟ وقال الزمخشري: جعلتم له شركاء فسموهم له من هم، وبينوهم بأسمائهم. وقيل: هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر: سم الخمر بعد هذا. وأم في قوله: أم تنبؤونه منقطعة، وهو استفهام توبيخ. قال الزمخشري: بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السماوات والأرض، فإذا لم يعلمهم على أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفي أن يكون له شركاء، ونحوه: * (قل * كان الله ليعجزه من شىء فى السماوات ولا فى الارض) * انتهى. فجعل الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائدا على الله. والعائد على بما محذوف أي: بما لا يعلمه الله. وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله: بما لا يعلم، عائد على ما، وقررنا ذلك هناك، وهو يتقرر هنا أيضا. أي: أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة. وذكر نفي العلم في الأرض، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه، فانتفاؤه في السماوات أحرى. وقرأ الحسن: تنبؤونه من أنبأ. وقيل: المراد تقدرون أن تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة، لأنهم ادعوا أن لله شريكا في الأرض لا في غيرها. والظاهر في أم في قوله: أم، بظاهر أنها منقطعة أيضا أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير ن يكون لذلك حقيقة أي: أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله: * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها) * وقال مجاهد: أم بظاهر من القول. وقال قتادة: بباطل من القول، لا باطن له في الحقيقة. ومنه قول الشاعر:
* أعيرتنا ألبانها ولحومها
*
وذلك عار يا بن ريطة ظاهر
*
أي باطل. وقيل: أم متصلة، والتقدير: أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله: * (ذالك قولهم بأفواههم) * ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه: بل زين للذين كفروا مكرهم. وقال الواحدي: لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال: دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به، لأنه زين لهم مكرهم. وقرأ مجاهد: بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب. والجمهور: زين على النباء للمفعول مكرهم بالرفع أي: كيدهم للإسلام بشركهم، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع. وقرأ الكوفيون:
385

وصدوا هنا، وفي غافر بضم الصاد مبنيا للمفعول، فالفعل متعد. وقرأ باقي السبعة: بفتحها، فاحتمل التعدي واللزوم أي: صدوا أنفسهم أو غيرهم. وقرأ ابن وثاب: وصدوا بكسر الصاد، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء. وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر وصدوا بالكسر لغة، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى. وقرأ ابن أبي إسحاق: وصد بالتنوين عطفا على مكرهم. قال الزمخشري: ومن يضلل الله، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار. وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس، لأنه إحراق بالنار دائما * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) * ومن واق: من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال:
* (مثل الجنة التى وعد المتقون تجرى من تحتها الانهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار) *: مثل الجنة أي: صفتها التي هي في غرابة المثل، وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه، والخبر محذوف أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنة، وتجري من تحتها الأنهار تفسير لذلك المثل. تقول: مثلت الشيء إذا وصفته وقربته للفهم، وليس هنا ضرب مثل لها فهو كقوله تعالى: * (وله المثل الاعلى) * أي الصفة العليا، وأنكر أبو علي أن يكون مثل بمعنى صفة قال: إنما معناه التنبيه. وقال الفراء: أي صفتها أنها تجري من تحتها الأنهار، ونحو هذا موجود في كلام العرب انتهى. ولا يمكن حذف أنها، وإنما فسر المعنى ولم يذكر الإعراب. وتأول قوم على القرآن مثل مقحم، وأن التقدير: الجنة التي وعد المتقون تجري، وإقحام الأسماء لا يجوز. وحكوا عن الفراء أن العرب تقحم كثيرا المثل والمثل، وخرج على ذلك: * (ليس كمثله شىء) * أي: كهو شيء. فقال غيرهما: الخبر تجري، كما تقول: صفة زيد أسمر، وهذا أيضا لا يصح أن يكون تجري خبرا عن الصفة، وإنما يتأول تجري على إسقاط أن ورفع الفعل، والتقدير: أن تجري خبر ثان الأنهار. وقال الزجاج: معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلا لما غاب عنا بما نشاهد انتهى. وقال أبو علي: لا يصح ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشبه، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث، والجنة جنة فلا تكون المماثلة. وقرأ علي وابن مسعود: مثال الجنة على الجمع أي: صفاتها. وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع، ومعناه: صفات الجنة. وذلك لأنها صفات مختلفة، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال. والأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه: أنه لا ينقطع أبدا، كما قال تعالى: * (لا مقطوعة ولا ممنوعة) * وقال إبراهيم التيمي: أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع. وظلها أي: دائم البقاء والراحة، لا تنسخه شمس، ولا يميل لبرد كما في الدنيا. أي: تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي: اجتنبوا الشرك.
* (والذين اتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الاحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا) *: نزلت في مؤمني أهل الكتابين، ذكره الماوردي، واختاره الزمخشري فقال: من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا: أربعون من نجران، وثمانية من اليمنن، واثنان وثلاثون من الحبشة. ومن الأحزاب يعني: ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالعداوة نحو: كعب بن الأشرف
وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام، ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) مما حرفوه وبدلوه انتهى. وعن ابن عباس، وابن زيد: في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه،
386

وعن قتادة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم)، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين. وعن مجاهد، والحسن، وقتادة: أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن، إذ فيه تصديق كتبهم، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام. وضعف هذا القول بأن همهم به أكثر من فرحهم، فلا يعتد بفرحهم. وأيضا فإن اليهود والنصارى ينكرون بعضه، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب. والأحزاب قال مجاهد: هم اليهود، والنصارى، والمجوس. وقالت فرقة: هم أحزاب الجاهلية من العرب. وقال مقاتل: الأحزاب بنو أمية، وبنو المغيرة، وآل أبي طلحة. ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك، أمر بجواب المنكرين، فقيل له: قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده، وأنتم تدعون وجوب العبادة ونفي الشريك إليه، ادعوا إلى شرعه ودينه، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة. وقرأ أبو جليد عن نافع: ولا أشرك بالرفع على القطع أي: وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالا أي: أن أعبد الله غير مشرك به. وكذلك أي: مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك، لأن قوله: والذين آتيناهم الكتاب، يتضمن إنزاله الكتاب، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) * وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. وقال ابن عطية: وقوله وكذلك المعنى: كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكما عربيا انتهى. وانتصب حكما على الحال من ضمير النصب في أنزلناه، والضمير عائد على القرآن، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني. ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها. ولئن اتبعت: الخطاب لغير الرسول صلى الله عليه وسلم)، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم. وقال الزمخشري: هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه. أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) من شدة الشكيمة بمكان.
* (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتى بئاية إلا بإذن الله لكل) *: قال الكلبي: عيرت اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم) وقالوا: ما ترى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح، ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فنزلت هذه الآية. قيل: وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ، فرد الله تعالى عليهم بأن الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية، وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم، ولا يأتون بما يقترح عليهم. ومن الشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، فلكل وقت حكم يكتب فيه على العباد أي: يفرض عليهم ما يريده تعالى. وقوله: لكل أجل كتاب، لفظ عام في الأشياء التي لها آجال، لأنه ليس منها شيء إلا وله أجل في بدئه وفي خاتمته، وذلك الأجل مكتوب محصور. وقال الضحاك والفراء: المعنى لكل كتاب أجل، ولا يجوز ادعاء القلب إلا في ضرورة الشعر وأما هنا فالمعنى في غاية الصحة بلا عكس ولا قلب بل ادعاء القلب هنا لا يصح المعنى عليه، إذ ثم أشياء كتبها الله تعالى أزلية كالجنة ونعيم أهلها، لا أجل لها. والظاهر أن المحو عبارة عن النسخ من الشرائع والأحكام، والإثبات عبارة عن دوامها وتقريرها وبقائها أي: يمحو ما يشاء محوه، ويثبت ما يشاء إثباته. وقيل: هذا عام في الرزق والأجل والسعادة والشقاوة، ونسب هذا إلى: عمر، وابن مسعود، وأبي وائل، والضحاك، وابن جريج، وكعب الأحبار، والكلبي. وروي عن عمر، وابن مسعود، وأبي وائل في دعائهم ما معناه: أن يتأول على أن المعنى: إن كنت أشقيتنا بالمعصية فامحها عنا بالمغفرة. ومعلوم أن الشقاء والسعادة والرزق والخلق والأجل لا يتغير شيء منها. وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء من أمور عباده إلا السعادة والشقاوة والآجال، فإنه لا محو فيها. وقال الحسن وفرقة: هي آجال بني آدم تكتب في ليلة القدر.
387

وقيل: في ليلة نصف شعبان آجال الموتى، فتمحى ناس من ديوان الأحياء ويثبتون في ديوان الأموات. وقال قيس بن عباد: في العاشر من رجب يمحو الله ما يشاء ويثبت. وقال ابن عباس: والضحاك: يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة، لأنهم مأمورون بكتب كل قول وفعل، ويثبت غيره. وقيل: يمحو كفر التائبين ومعاصيهم بالتوبة، ويثبت إيمانهم وطاعتهم. وقيل: يمحو بعض الخلائق ويثبت بعضا من الأناسي، وسائر الحيوان والنبات والأشجار وصفاتها وأحوالها. وقال الزمخشري: يمحو الله ما يشاء، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت به له ما يرى المصلحة في اتباعه، أو يتركه غير منسوخ، والكلام في نحو هذا واسع المجال انتهى. وهو وقول: قتادة، وابن جبير، وابن زيد قالوا: يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه. وقال مجاهد: يحكم الله أمر السنة في رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء، إلا الحياة والموت والشقاوة والسعادة. وقال الكلبي: يمحو من الرزق ويزيد فيه. وقال ابن جبير أيضا: يغفر ما يشاء من ذنوب عباده، ويترك ما يشاء فلا يغفر. وقال عكرمة: يمحو يعني بالتوبة جميع الذنوب، ويثبت بدل الذنوب حسنات. قال تعالى: * (إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * وقيل: ينسى الحفظة من الذنوب ولا ينسى. وقال الحسن: يمحو الله ما يشاء أجله، ويثبت من يأتي أجله. وقال السدي: يمحو الله يعني القمر، ويثبت يعني الشمس بيانه * (فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة) * الآية.
وقال ابن عباس: إن لله لوحا محفوظا وذكر وصفه في كتاب التحبير، ثم قال: لله تعالى فيه في كل يوم ثلاثمائة وستون نظرة، يثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء. وقال الربيع: هذا في الأرواح حالة النوم يقبضها عند النوم إذا أراد موته فجأة أمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه، بيانه قوله تعالى: * (الله يتوفى الانفس حين موتها) * الآية. وقال علي بن أبي طالب: يمحو الله ما يشاء من القرون لقوله: * (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) * ويثبت ما يشاء منها لقوله تعالى: * (ثم
أنشأنا من بعدهم قرونا ءاخرين) * فيمحو قرنا ويثبت قرنا. وقال ابن عباس: يمحو يميت الرجل على ضلالة وقد عمل بالطاعة الزمن الطويل، يختمه بالمعصية ويثبت عكسه. وقيل: يمحو الدنيا ويثبت الآخرة. وفي الحديث عن أبي الدرداء: (أنه تعالى يفتح الذكر في ثلاث ساعات بقين من الليل فينظر ما في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء) وقال الغزنوي: ما في اللوح المحفوظ خرج عن الغيب لإحاطة بعض الملائكة، فيحتمل التبديل وإحاطته الخلق بجميع علم الله تعالى، وما في علمه تعالى من تقدير الأشياء لا يبدل انتهى. وقيل: غير ذلك مما يطول نقله. وقد استدلت الرافضة بقوله: يمحو الله ما يشاء ويثبت، على أن البدء جائز على الله تعالى، وهو أن يعتقد شيئا ثم يظهر له أن الأمر خلاف ما اعتقده، وهذا باطل لأن علمه تعالى من لوازم ذاته المخصوصة، وما كان كذلك كان دخول التغيير والتبديل فيه محالا وأما الآية فقد احتملت تلك التأويلات المتقدمة، فليست نصا فيما ادعوه، ولو كانت نصا وجب تأويله.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: ويثبت مخففا من أثبت، وباقي السبعة مثقلا من ثبت. وأما قوله (أم الكتاب) فقال ابن عباس أم الكتاب الذكره وقال أيضا وهو كعب هو علم ما هو خالق وما خلقه عاملون. وقالت فرقة: الحلال والحرام، وهو قول الحسن. وقال الزمخشري: أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ، لأن كل كائن مكتوب فيه انتهى. وما جرى مجرى الأصل للشيء تسميه العرب، أما كقولهم: أم الرأس للدماغ، وأم القرى مكة. وقال ابن عطية: وأصوب ما يفسر به أم الكتاب أنه ديوان الأمور المحدثة التي قد سبق في القضاء أن تبدل وتمحى، أو تثبت. وقال نحوه قتادة: إن جواب الشرط الأول محذوف، وكلام ابن عطية في ما ونون التوكيد. وقال الزمخشري: وإما نرينك، وكيفما دات الرحال أريناك مصارعهم، وما وعدناهم من إنزال العذاب عليهم، أو نتوفينك قبل ذلك، فما يجب عليك إلا تبليغ الرسالة، وعلينا لا عليك حسابهم وجزاؤهم على أعمالهم، فلا يهمنك إعراضهم، ولا تستعجل بعذابهم انتهى. وقال الحوفي
388

وغيره: فإنما عليك البلاغ جواب الشرط، والذي تقدم شرطان، لأن المعطوف على الشرط شرط. فأما كونه جوابا للشرط الأول فليس بظاهر، لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب فإنما عليك البلاغ. وأما كونه جوابا للشرط الثاني هو أو نتوفينك فكذلك، لأنه يصير التقدير: إن ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته عليه السلام، لأن التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو: أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه. وذلك أن يكون التقدير والله أعلم وأن ما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك، ودليل على صدقك، إذا أخبرت بما يحل بهم. ولم يعين زمان حلوله بهم، فاحتمل أن يقع ذلك في حياتك، واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أي: أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب، إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم، فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم. إذ ذاك راجع إلي، وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك، وكفرهم بما جئت به.
* (أو لم * يروا أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب * وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار * ويقول) *: الضمير في أو لم يروا عائد على الذين وعدوا، وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ، نبهوا على أن ينظروا بعض الأرض من أطرافها. ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله: * (فأتى الله بنيانهم) * والأرض أرض الكفار المذكورين، ويعني بنقصها من أطرافها للمسلمين: من جوانبها. كان المسلمون يغزون من حوالي أرض الكفار مما يلي المدينة، ويغلبون على جوانب أرض مكة، والأطراف: الجوانب. وقيل: الطرف من كل شيء خياره، ومنه قول علي بن أبي طالب: العلوم أودية، في أي واد أخذت منها خسرت، فخذوا من كل شيء طرفا يعني: خيارا قاله ابن عطية، والذي يظهر أن معنى طرفا جانبا وبعضا، كأنه أشار إلى أن الإنسان يكون مشاركا في أطراف من العلوم، لأنه لا يمكنه استيعاب جميعها، ولم يشر إلى أنه يستغرق زمانه في علم واحد.
وقال ابن عباس والضحاك: نأتي أرض هؤلاء بالفتح عليك، فتنقصها بما يدخل في دينك من القبائل والبلاد المجاورة لهم، فما يؤمنهم أن يمكنه منهم. وهذا التفسير لا يتأتى إلا أن قدر نزول هذه الآية بالمدينة. وقيل: الأرض اسم جنس، والانتقاص من الأطراف بتخريب العمران الذي يحله الله بالكفرة. وروي هذا عن ابن عباس أيضا، ومجاهد، وعنهما أيضا: الانتقاص هو بموت البشر، وهلاك الثمرات، ونقص البركة. وعن ابن عباس أيضا: موت أشرافها وكبرائها، وذهاب الصلحاء والأخيار، فعلى هذا الأطراف هنا الأشراف. وقال ابن الأعرابي: الطرف والطرف الرجل الكريم. وعن عطاء بنن أبي رباح: ذهاب فقهائها وخيار أهلها. وعن مجاهد: موت الفقهاء والعلماء. وقال عكرمة والشعبي: هو نقص الأنفس. وقيل: هلاك من أهلك من الأمم قبل قريش، وهلاك أرضهم بعدهم. والمناسب من هذه الأقوال هو الأول. ولم يذكر الزمخشري إلا ما هو قريب منه قال: نأتي الأرض أرض الكفر ننقصها من أطرافها بما يفتح على المسلمين من بلادهم، فينقص دار الحرب، ويزيد في دار الإسلام، وذلك من آيات الغلبة والنصرة. ونحوه: * (أفلا يرون أنا نأتى الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون) * * (سنريهم ءاياتنا فى الافاق) * والمعنى: عليك بالبلاغ الذي حملته، ولا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه، ونتم ما وعدناك من الظفر، ولا يضجرك تأخره، فإن ذلك لما نعلم من المصالح التي لا تعلمها، ثم طيب نفسه ونفس عنها بما ذكر من طلوع تباشير الظفر. ويتجه قول من قال: النقص بموت الأشراف والعلماء والخيار وتقريره: أو لم يروا أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خرابا بعد عماره، وموتا بعد حياة، ذلا بعد عز،
389

ونقصا بعد كمال، وهذه تغييرات مدركة بالحس. فما الذي يؤمنهم أن يقلب الله الأمر عليهم ويصيرون دليلين بعد أن كانوا قاهرين.
وقرأ الضحاك: ننقصها مثقلا، من نقص عداه بالتضعيف من نقص اللازم، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يعقبه أي: بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته الذي يعقبه أي: بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق: معقب، لأنه يقفي غريمه بالاقتضاء والطلب. قال لبيد:
طلب المعقب حقه المظلوم
والمعنى: أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس. وقيل: تتعقب أحكامه أي: ينظر في أعقابها أمصيبة هي أم لا، والجملة من قوله: لا معقب لحكمه في موضع الحال أي: نافذ حكمه، وهو سريع الحساب تقدم الكلام على مثل هذه الجملة. ثم أخبر تعالى أن الأمم السابقة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش، وأن ذلك عادة المكذبين للرسل، مكر بإبراهيم نمروذ، وبموسى فرعون، وبعيسى اليهود، وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله تعالى. ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم، سماها مكرا إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله: * (الله يستهزىء بهم) * ثم فسر قوله فلله المكر، بقوله: يعلم ما تكسب كل نفس، والمعنى: يجازي كل نفس بما كسبت. ثم هدد الكافر بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه، فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة.
وقرأ جناح بن حبيش: وسيعلم الكافر مبنيا للمعفول من أعلم أي: وسيخبر. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو: الكافر على الإفراد والمراد به الجنس، وباقي السبعة الكفار جمع تكسير، وابن مسعود: الكافرون جمع سلامة وأبي الذين كفروا، وفسر عطاء الكافر بالمستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس: يريد بالكافر أبا جهل. وينبغي أن يحمل تفسيره عطاء على التمثيل، لأن الإخبار بعلم الكافر لمن عقبى الدار معنى يعم جميع الكفار، ولما قال الكفار: لست مرسلا أي: إنما أنت مدع ما ليس لك، أمره تعالى أن يكتفي بشهادة الله تعالى بينهم، إذ قد أظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق، ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب. والكتاب هنا القرآن، والمعنى: إن من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك. وقيل: الكتاب التوراة والإنجيل، والذي عنده علم الكتاب: من أسلم من علمائهم، لأنهم يشهدون نعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم. قال قتادة، كعبد الله بن سلام، وتميم الداري، وسلمان الفارسي. وقال مجاهد: يريد عبد الله بن سلام خاصة. وهذان القولان لا يستقيمان إلا على أن تكون الآية مدنية، والجمهور على أنها مكية. وقال محمد بن الحنفية، والباقر: هو علي بن أبي طالب. وقيل: جبريل، والكتاب اللوح المحفوظ. وقيل: هو الله تعالى قاله: الحسن، وابن
390

جبير والزجاج، وعن الحسن: لا والله ما يعني إلا الله، والمعنى: كفى بالذي يستحق العبادة، وبالذي لا يعلم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني وبينكم. قال ابن عطية: ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف، وذلك لا يجوز، وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض انتهى. وليس ذلك كما زعم من عطف الصفة على الموصوف، لأن من لا يوصف بها ولا لشيء من الموصولات إلا بالذي والتي وفروعهما، وذو وذوات الطائيتين. وقوله: وإنما تعطف الصفات بعضها على بعض ليس على إطلاقه، بل له شرط وهو أن تختلف مدلولاتها. ويعني ابن عطية: لا تقول مررت بزيد. والعالم فتعطف، والعالم على الاسم وهو علم لم يلحظ منه معنى صفة، وكذلك الله علم. ولما شعر بهذا الاعتراض من جعله معطوفا على الله قدر قوله: بالذي يستحق العبادة، حتى يكون من عطف الصفات بعضها على بعض، لا من عطف الصفة على الاسم. ومن في قراءة الجمهور في موضع خفض عطفا على لفظ الله، أو في موضع رفع عطفا على موضع الله، إذ هو في مذهب من جعل الباء زائدة فاعل بكفى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: أعدل وأمضى قولا ونحو هذا مما يدل عليه لفظة شهيدا، ويراد بذلك الله تعالى. وقرئ: وبمن بدخول الباء على من عطفا على بالله. وقرأ علي وأبي وابن عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وسالم بن عبد الله بن عمرو بن أبي إسحاق، ومجاهد، والحكم، والأعمش: ومن عنده علم الكتاب بجعل من حرف جر، وجر ما بعده به، وارتفاع علم بالابتداء، والجار والمجرو في موضع الجر. وقرأ علي أيضا وابن السميقع، والحسن بخلاف عنه. ومن عنده بجعل من حرف جر علم الكتاب، بجعل علم فعلا مبنيا للمفعول، والكتاب رفع به. وقرئ ومن عنده بحرف جر علم الكتاب مشددا مبنيا للمفعول، والضمير في عنده في هذه القراءات الثلاث عائد على الله تعالى. وقال الزمخشري في القراءة التي وقع فيها عنده صلة برتفع العلم بالمقدر في الظرف فيكون فاعلا، لأن الظرف إذا وقع صلة أو غل في شبه الفعل لاعتماده على الموصول، فعمل على الفعل كقولك: مررت بالذي في الدار أخوه، فأخوه فاعل، كما تقول: بالذي استقر في الدار أخوه انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على وجه التحتم، لأن الظرف والجار والمجرور إذا وقعا صلتين أو حالين أو خبرين، إما في الأصل، وإما في الناسخ، أو تقدمهما أداة نفي، أو استفهام، جاز فيما بعدهما من الاسم الظاهر أن يرتفع على الفاعل وهو الأجود، وجاز أن يكون ذلك المرفوع مبتدأ، والظرف أو الجار والمجرور في مضوع رفع خبره، والجملة من المبتدأ والخبر صلة أو صفة أو حال أو خبر، وهذا مبني على اسم الفاعل. فكما جاز ذلك في اسم الفاعل، وإن كان الأحسن إعماله في الاسم الظاهر، فكذلك يجوز في ما ناب عنه من ظرف أو مجرور. وقد نص سيبويه على إجازة ذلك في نحو: مررت برجل حسن وجهه، فأجاز حسن وجهه على رفع حسن على أنه خبر مقدم، وهكذا تلقفنا هذه المسألة عن الشيوخ. وقد يتوهم بعض النشأة في النحو أن اسم الفاعل إذا اعتمد على شيء مما ذكرناه يتحتم إعماله في الظاهر، وليس كذلك. وقد أعرب الحوفي عنده علم الكتاب مبتدأ وخبرا في صلة من. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون خبرا يعني عنده، والمبتدأ علم الكتاب انتهى. ومن قرأ: ومن عنده، على أنه حرف جر فالكتاب في قراءته هو القرآن، والمعنى: أنه تعالى من جهة فضله وإحسانه علم الكتاب، أو علم الكتاب على القراءتين، أي: علمت معانيه وكونه أعظم المعجزات الباقي على مر الأعصار، فتشريف العبد بعلوم القرآن إنما ذلك من إحسان الله تعالى إليه وتوفيقه على كونه معجزا، وتوفيقه لإدراك ذلك.
391

((سورة إبراهيم))
2 (* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذى له ما فى السماوات وما فى الا رض وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحيواة الدنيا على الا خرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولائك فى ضلال بعيد * ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين
لهم فيضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وهو العزيز الحكيم * ولقد أرسلنا موسى بأاياتنآ أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن فى ذالك لآيات لكل صبار شكور * وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبنآءكم ويستحيون نسآءكم وفى ذالكم بلاء من ربكم عظيم * وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد * وقال موسىإن تكفروا أنتم ومن فى الا رض جميعا فإن الله لغنى حميد * ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جآءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم فىأفواههم وقالوا إنا كفرنا بمآ أرسلتم به وإنا لفى شك مما تدعوننآ إليه مريب * قالت رسلهم أفى الله شك فاطر السماوات والا رض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلىأجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد ءابآؤنا فأتونا بسلطان مبين) *)) 2
* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد * الله الذى له ما فى * السماوات وما في الارض * وويل للكافرين من عذاب شديد * الذين يستحبون الحيواة الدنيا على الاخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك فى ضلال بعيد) *: هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور، وعن ابن عباس وقتادة، هي مكية إلا من قوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) * إلى قوله * (إلى النار) * وارتباط أول هذه السورة بالسورة قبلها واضح جدا، لأنه ذكر فيها: * (ولو أن * قرنا) * ثم * (وكذالك أنزلناه حكما عربيا) * ثم * (ومن عنده علم الكتاب) * فناسب هذا قوله الر كتاب أنزلناه إليك. وأيضا فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح * (لولا أنزل عليه ءاية من ربه) * وقيل له: * (قل إن الله يضل من يشاء ويهدى إليه من أناب) * أنزل الر كتاب أنزلناه إليك كأنه قيل: أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال، إلى النور وهو الهدى.
وجوزوا في إعراب الر أن يكون في موضع رفع بالابتداء، وكتاب الخبر، أو في موضع رفع على خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه الر، وفي موضع نصب على تقدير: الزم أو اقرأ الر. وكتاب أنزلناه إليك جملة مفسرة في هذين الإعرابين، وكتاب مبتدأ. وسوغ الابتداء به كونه موصوفا في التقدير أي: كتاب أي: عظيم أنزلناه إليك. وجوزوا أن يكون كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا كتاب، وأنزلناه جملة في موضع الصفة. وفي قوله: أنزلناه. وإسناد الإنزال إلى نون العظمة ومخاطبته تعالى بقوله إليك، وإسناد الإخراج إليه عليه الصلاة والسلام، تنويه عظيم وتشريف له صلى الله عليه وسلم) من حيث المشاركة في تحصيل الهداية بإنزاله تعالى، وبإخراجه عليه الصلاة والسلام، إذ هو الداعي والمنذر، وإن كان في الحقيقة مخترع الهداية هو الله تعالى. والناس عام، إذ هو مبعوث إلى الخلق كلهم، والظلمات والنور مستعاران للكفر والإيمان. ولما ذكر علة إنزال الكتاب وهي قوله: لتخرج قال: بإذن ربهم، أي: ذلك الإخراج بتسهيل مالكهم الناظر في مصالحهم، إذ هم عبيده، فناسب ذكر الرب هنا تنبيها على منة المالك، وكونه ناظرا في حال عبيدة، وبإذن ظاهره التعلق بقوله: لتخرج. وجوز أبو البقاء أن يكون بإذن ربهم في موضع الحال قال: أي مأذونا لك. وقال الزمخشري: بإذن ربهم بتسهيله وتيسيره، مستعار من الإذن الذي هو تسهيل الحجاب، وذلك ما يمنحهم من اللطف والتوفيق انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
392

والظاهر أن قوله: إن صراط، بدل من قوله إلى النور، ولا يضر هذا الفصل بين المبدل منه والبدل، لأن بإذن معمول للعامل في المبدل منه وهو لتخرج. وأجاز الزمخشري أن يكون إلى صراط على وجه الاستئناف، كأنه قيل: إلى أي نور، فقيل: إلى صراط العزيز الحميد. وقرئ: ليخرج مضارع خرج بالياء بنقطتين من تحتها، والناس رفع به. ولما كان قوله: إلى النور، فيه إبهام ما أوضحه بقوله: إلى صراط. ولما تقدم شيئان أحدهما إسناد إنزال هذا الكتاب إليه. والثاني إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة والغلبة وذلك من حيث إنزال الكتاب، وصفة الحمد المتضمنة استحقاقه الحمد من حيث الإخراج من الظلمات إلى النور، إذ الهداية إلى الإيمان هي النعمة التي يجب على العبد الحمد عليها والشكر. وتقدمت صفة العزيز، لتقدم ما دل عليها، وتليها صفة الحميد لتلو ما دل عليها. وقرأ نافع وابن عامر الله بالرفع فقيل: مبتدأ محذوف أي: هو الله. وهذا الإعراب أمكن لظهور تعلقه بما قبله، وتفلته على التقدير الأول. وقرأ باقي السبعة والأصمعي عن نافع: الله بالجر على البدل في قول ابن عطية، والحوفي، وأبي البقاء. وعلى عطف البيان في قول الزمخشري قال: لأنه جرى مجرى الأسماء الأعلام لغلبته واختصاصه بالمعبود الذي يحق له العبادة، كما غلب النجم على الثريا انتهى. وهذا التعليل لا يتم إلا على تقدير: أن يكون أصله الإله، ثم نقلت الحركة إلى لام التعريف وحذفت الهمزة، والتزم فيه النقل والحذف، ومادته إذ ذاك الهمزة واللام والهاء، وقد تقدمت الأقوال في هذا اللفظ في البسملة أول الحمد. وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: لا تقدم صفة على موصوف إلى حيث سمع وذلك قليل، وللعرب فيما وجد من ذلك وجهان: أحدهما: أن تقدم الصفة وتبقيتها على ما كانت عليه، وفي إعراب مثل هذا وجهان: أحدهما: إعرابه نعتا مقدما، والثاني: أن يجعل ما بعد الصفة بدلا. والوجه الثاني: أن تضيف الصفة إلى الموصوف إذا قدمتها انتهى. فعلى هذا الذي ذكره ابن عصفور يجوز أن يكون العزيز الحميد يعربان صفتين متقدمتين، ويعرب لفظ الله موصوفا متأخرا. ومما جاء فيه تقديم ما لو تأخير لكان صفة، وتأخير ما لو تقدم لكان موصوفا قول الشاعر:
* والمؤمنم العائذات الطير يمسحها
*
ركبان مكة بين الغيل والسعد
*
فلو جاء على الكثير لكان التركيب: والمؤمن الطير العائذات، وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها،
ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكون متعلقا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة. قال: فإن قلت: ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل؟ قلت: لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه، ويقولوزن يا ويلاه كقوله: * (دعوا هنالك ثبورا) * انتهى. وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعا بهم في الدنيا، أو واقعا بهم في الآخرة. والاستحباب الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى. وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفا على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوبا بإضمار فعل تقديره أذم، وأن يكون بدلا، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد،
393

سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم متعلقا بفعل محذوف أي: يضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن تقول: الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن: ويصدون مضارع أصد، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدودا. وتقدم الكلام عل قوله تعالى: * (ويبغونها عوجا) * في آل عمران، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل:
* (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم) * سبب نزولها أن قريشا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي؟ فنزلت. وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. والظاهر أن قوله: وما أرسلنا من رسول، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفا على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها. وقيل: في الكلام حذف تقديره: وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم، ومعنى بلسان قومه: بلغة قومه.
وقرأ أبو السمال، وأبو الجوزاء، وأبو عمران الجوني: بلسن بإسكان السين، قالوا: هو كالريش والرياش. وقال صاحب اللوامح: واللسن خاص باللغة، واللسان قد يقع على العضو، وعلى الكلام. وقال ابن عطية مثل ذلك قال: اللسان في هذه الآية يراد به اللغة، ويقال: لسن ولسان في اللغة، فأما العضو فلا يقال فيه لسن. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدري: لسن بضم اللام والسين، وهو جمع لسان كعماد وعمد. وقرئ أيضا بضم اللام وسكون السين مخفف كرسل ورسل، والضمير في قومه عائد على رسول أي: قوم ذلك الرسول. وقال الضحاك: والضمير في قومه عائد على محمد صلى الله عليه وسلم) قال: والكتب كلها نزلت بالعربية، ثم أداها كل نبي بلغة قومه. قال الزمخشري: وليس بصحيح، لأن قوله: ليبين لهم، ضمير القوم وهم العرب، فيؤدي إلى أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، وهذا معنى فاسد انتهى. وقال الكلبي: جميع الكتب أدت إلى جبريل بالعربية، وأمره تعالى أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم. وأورد الزمخشري هنا سؤالا وابن عطية أخرهما في كتابيهما، ويقول: قامت الحجة على البشر بإذعان الفصحاء الذين يظن بهم القدرة على المعارضة وإقرارهم بالعجز، كما قامت بإذعان السحرة لموسى، والأطباء لعيسى عليهما السلام. وبين تعالى العلة في كون من أرسل من الرسل بلغة قومه وهي التبيين لهم، ثم ذكر أنه تعالى يضل من يشاء إضلاله، ويهدي من يشاء هدايته، فليس على ذلك الرسول غير التبليغ والتبيين، ولم يكلف أن يهدي بل ذلك بيد الله على ما سبق به قضاؤه وهو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الواضع الأشياء على ما اقتضته حكمته وإرادته. وقال الزمخشري: والمراد بالإضلال التخلية ومنع الإلطاف، وبالهداية التوفيق واللطف، وكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان، وهو العزيز فلا يغلب على مشيئته، الحكيم فلا يخذل إلا أهل الخذلان، ولا يلطف إلا بأهل اللطف انتهى. وهو على طريقة
394

الاعتزال والجمهور على تفسير قوله: بآياتنا، إنها تسع الآيات التي أجراها الله على يد موسى عليه السلام. وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة، والتقدير: كما أرسلناك يا محمد بالقرآن بلسان عربي وهو آياتنا، كذلك أرسلنا موسى بالتوارة بلسان قومه، وأن أخرج يحتمل أن أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية، ويضعف زعم من زعم أنها زائدة. وفي قوله: قومك خصوص لرسالته إلى قومه، بخلاف لتخرج الناس، والظاهر أن قومه هم بنو إسرائيل. وقيل: القبط. فإن كانوا القبط فالظلمات هنا الكفر، والنور الإيمان، وإن كانوا بني إسرائيل وقلنا: إنهم كلهم كانوا مؤمنين، فالظلمات ذل العبودية، والنور العزة بالدين وظهور أمر الله. وإن كانوا أشياعا متفرقين في الدين، قوم مع القبط في عبادة فرعون، وقوم على غير شيء، فالظلمات الكفر والنور الإيمان. قيل: وكان موسى مبعوثا إلى القبط وبني إسرائيل. وقيل: إلى القبط بالاعتراف بوحدانية الله، وأن لا يشرك به، والإيمان بموسى، وأنه نبي من عند الله، وإلى بني إسرائيل بالتكليف وبفروع شريعته إذ كانوا مؤمنين. ويحتمل وذكرهم أن يكون أمرا مستأنفا، وأن يكون معطوفا على أن أخرج، فيكون في خبر وان. وأيام الله قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: نعم الله عليهم، ورواه أبي مرفوعا. ومنه قول الشاعر:
* وأيام لنا غر طوال
*
عصينا الملك فيها إن ندينا
*
وعن ابن عباس أيضا، ومقاتل، وابن زيد: وقائعه ونقماته في الأمم الماضية، ويقال: فلان عالم بأيام العرب أي وقائعها وحروبها وملاحمها: كيوم ذي قار، ويوم الجار، ويوم فضة وغيرها. وروي نحوه عن مالك قال: بلاؤه. وقال الشاعر:
وأيامنا مشهورة في عدوناا
أي وقائعنا. وعن ابن عباس أيضا: نعماؤه وبلاؤه، واختاره الطبري، فنعماؤه: بتظليله عليهم الغمام، وإنزال المن والسلوى، وفلق البحر. وبلاؤه: باستعباد رعون لهم، وتذبيح أبنائهم، وإهلاك القرون قبلهم. وفي حديث أبي في قصة موسى والخضر عليهما السلام بينما موسى عليه السلام في قومه يذكرهم بأيام الله، وأيام الله بلاؤه ونعماؤه، واختار الطبري هذا القول الآخر. ولفظة الأيام تعم المعنيين، لأن التذكير يقع بالوجهين جميعا. وفي هذه اللفظة تعظيم الكوائن المذكر بها. وغبر عنها بالظرف الذي وقعت فيه. وكثيرا ما يقع الإسناد إلى الظرف، وفي الحقيقة الإسناد لغيرها كقوله: بل مكر الليل والنهار، ومن ذلك قولهم: يوم عبوس، ويوم عصيب، ويوم بسام. والحقيقة وصف ما وقع فيه من شدة أو سرور. والإشارة بقوله: إن يف ذلك، إلى التذكير بأيام الله. وصبار، شكور، صفتا مبالغة، وهما مشعرتان بأن أيام الله المراد بهما بلاؤه ونعماؤه أي: صبار على بلائه، شكور لنعمائه. فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم، أو بما أفاض عليهم من النعم، تنبه على ما يجب عليه من الصبر إذا أصابه بلاء، من والشكر إذا أصابته نعماء، وخص الصبار والشكر لأنهما هما اللذان ينتفعان بالتذكير والتنبيه ويتعظان به. وقيل: أراد لكل مؤمن ناظر لنفسه، لأن الصبر والشكر من سجايا أهل الإيمان.
395

* (وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون (سقط: نساءكم وفي ذالكم بلاء من ربكم عظيم، وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم وإن كفرتم إن عذابي لشديد، وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن معكم جميعا فإن الله غني حميد)) *: لما تقدم أمره تعالى لموسى بالتذكير بأيام الله، ذكرهم بما أنعم تعالى عليهم من نجاتهم من آل فرعون، وفي ضمنها تعداد شيء مما جرى عليهم من نقات الله. وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله: * (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء) * وتفسير هذه الآية، إلا أن هنا: ويذبحون بالواو، وفي البقرة بغير واو، وفي الأعراف * (يقتلون) * فحيث لم يؤت بالواو وجعل الفعل تفسيرا لقوله: يسومونكم. وحيث أتى بها دل على المغايرة. وأن سوم سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح، ولغيره من أنواع القتل. وقرأ ابن محيصن: ويذبحون مضارع ذبح ثلاثيا، وقرأ زيد بن علي كذلك، إلا أنه حذف الواو. وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف: * (وإذ تأذن ربك ليبعثن) * واحتمل إذ أن يكون منصوبا ب (ذكروا)، وأن يكون معطوفا على إذ أنجاكم، لأن هذا الإعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى. والظاهر أن متعلق الشكر هو الإنهام أي: لئن شكرتم إنعامي، وقاله الحسن والربيع. قال الحسن: لأزيدنكم من طاعتي. وقال الربيع: لأزيدنكم من فضلي. وقال ابن عباس: أي لئن وحدتم وأطعتم لأزيدنكم في الثواب. وكأنه راعى ظاهر المقابلة في قوله: ولئن كفرتم إن عذابي لشديد. وظاهر الكفر المراد به الشرك، فلذلك فسر الشكر بالتوحيد والطاعة وغيره. قال: ولئن كفرتم، أي نعمتي فلم تشكروها، رتب العذاب الشديد على كفران نعمة الله تعالى، ولم يبين محل الزيادة، فاحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما، وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكر الخبر أسند إليه تعالى. وإذ ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال: لأزيدنكم، فنسب الزيادة إليه وقال: إن عذابي لشديد، ولم يأت التركيب لأعذبنكم، وخرج في لأزيدنكم بالمفعول، وهنا لم يذكر، وإن كان المعنى عليه أي: إن عذابي لكم لشديد. وقرأ عبد الله: وإذ قال ربكم، كأنه فسر قوله: تأذن، لأنه بمعنى أذن أي: أعلم، وأعلم يكون بالقول. ثم نبه موسى عليه السلام قومه على أن الباري تعالى، وإن أوعد بالعذاب الشديد على الكفر، فهو غير مفتقر إلى شكركم، لأنه تعالى هو الغني عن شكركم، الحميد المستوجب الحمد على ما أسبغ من نعمه، وإن لم يحمده الحامدون، فثمرة شكركم إنما هي عائدة إليكم. وأنتم خطاب لقومه وقال: ومن في الأرض يعني: الناس كلهم، لأن من كان في العالم العلوي وهم الملائكة لا يدخلون في من في الأرض، وجواب إن تكفروا محذوف لدلالة المعنى التقدير: فإنما ضرر كفركم لاحق بكم، والله تعالى متصف بالغني المطلق. والحمد سواء. كفروا أم شكروا، وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم، وتعظيم لله تعالى، وكذلك في ذكر هاتين الصفتين.
(* (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم (سقط: فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب، قالت رسلهم أفي الله شك)) *:
396

(فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) الظاهر أن هذا من خطاب موسى لقومه. وقيل: ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة، وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه، وتقدم في الأعراف وهود، والهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ. والظاهر أن والذين في موضع خفض عطفا على ما قبله، إما على الذين، وإما على قوم نوح وعاد وثمود. قال الزمخشري: والجملة من قوله: لا يعلمهم إلا الله، اعتراض والمعنى: أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله انتهى. وليست جملة اعتراض، لأن جملة الاعتراض تكون بين جزءين، يطلب أحدهما الآخر. وقال أبو البقاء: تكون هذه الجملة حالا من الضمير في من بعدهم، فإن عنى من الضمير المجرور في بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة، وليس له محل إعراب من رفع أو نصب، وإن عنى من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن. وقال أبو البقاء: أيضا ويجوز أن يكون مستأنفا، وكذلك جاءتهم. وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء: أن يكون والذين مبتدأ، وخبره لا يعلمهم إلا الله. وقال الزمخشري: والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراضا انتهى. وليست باعتراض، لأنها لم تقع بين جزءين: أحدهما يطلب الآخر. والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم، والجملة تفسيرية للنبأ. والظاهر
أن الأيدي هي الجوارح، وأن الضمير في أيديهم وفي أفواههم عائد على الذين جاءتهم الرسل. وقال ابن مسعود، وابن زيد أي: جعلوا، أي: أيدي أنفسهم في أفواه أنفسهم ليعضوها غيظا مما جاءت به الرسل. وقال ابن زيد: عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. والعض بسبب مشهور من البشر. وقال الشاعر:
* قد أفنى أنامله أزمة
*
وأضحى يعض على الوظيفا
*
وقال آخر:
* لو أن سلمى أبصرت تخددي
*
ودقة في عظم ساقي ويدي
*
* وبعد أهلي وجفاء عودي
*
عضت من الوجد بأطرا اليد
*
وقال ابن عباس: لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم. وقال أبو صالح: لما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم): أنا رسول الله إليكم، وأشاروا بأصابعهم إلى أفواههم أن اسكت تكذيبا له، وردا لقوله، واستبشاعا لما جاء به. وقيل: ردوا أيديهم في أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه. وقيل: أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم: إنا كفرنا بما أرسلتم به أي: هذا جواب لكم ليس عندنا غيره إقناطا لهم من التصديق. وقيل: الضميران عائدان على الرسل قاله: مقاتل، قال: أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم. وقال الحسن وغيره: جعلوا أيدي أنفسهم في أفواه الرسل ردا لقولهم، وهذا أشنع في الرد وأذهب في الاستطالة على الرسل والنيل منهم، فعلى هذا الضمير في أيديهم عائد على الرسل. وقيل: المراد بالأيدي هنا النعم، جمع يد المراد بها النعمة أي: ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم، وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواه الأنبياء، لأنهم إذا كذبوها ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في
397

أفواههم، ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل. وقيل: الضمير في أفواههم على هذا القول عائد على الكفار، وفي بمعنى الباء أي: بأفواههم، والمعنى: كذبوهم بأفواههم. وفي بمعنى الباء يقال: جلست في البيت، وبالبيت. وقال الفراء: قد وجدنا من العرب من يجعل في موضع الباء فتقول: أدخلك الله الجنة، وفي الجنة. وأنشد:
* وارغب فيها من لقيط ورهطه
*
ولكني عن شنبس لست أرغب
*
يريد: أرغب بها. وقال أبو عبيدة: هذا ضرب مثل أي: لم يؤمنوا ولم يجيبوا. والعرب تقول للرجل إذا سكت عن الجواب وأمسك: رد يده في فيه، وقاله الأخفش أيضا. وقال القتبي: لم يسمع أحد من العرب يقول: رد يده في فيه إذا ترك ما أمر به انتهى. ومن سمع حجة على من لم يسمع هذا أبو عبيدة والأخفش نقلا ذلك عن العرب، فعلى ما قاله أبو عبيدة يكون ذلك من مجاز التمثيل، كان الممسك عن الجواب الساكت عنه وضع يده فيه. وقد رد الطبري قول أبي عبيدة وقال: إنهم قد أجابوا بالتكذيب لأنهم قالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به، ولا يرد ما قاله الطبري، لأنه يريد أبو عبيدة أنهم أمسكوا وسكتوا عن الجواب المرضي الذي يقتضيه مجيء الرسل بالبينات، وهو الاعتراف بالإيمان والتصديق للرسل. قال ابن عطية: ويحتمل أن يتجوز في لفظة الأيدي أي: أنهم ردوا قوتهم ومدافعتهم ومكافحتهم فيما قالوا بأفواههم من التكذيب، فكان المعنى: ردوا جميع مدافعتهم في أفواههم أي: في أقوالهم، وغبر عن جميع المدافعة بالأيدي، إذ الأيدي موضع أشد المدافعة والمرادة انتهى. بادروا أولا إلى الكفر وهو التكذيب المحض، ثم أخبروا بأنهم في شك وهو التردد، كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى أن انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد، أو هما قولان من طائفتين: طائفة بادرت بالتكذيب والكفر، وطائفة شكت، والشك في مثل ما جاءت به الرسل كفر. وقرأ طلحة: مما تدعونا بإدغام نون الرفع في الضمير، كما تدغم في نون الوقاية في مثل: أتحاجوني والمعنى: مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله. ومريب صفة توكيدية، ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف الذي هو خبر عن المبتدأ، لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه، وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه. وقدر مضاف فقيل: أفي إلاهية الله
. وقيل: أفي وحدانيته، ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أن لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء العالم وموجده، فقال: فاطر السماوات والأرض. وفاطر صفة لله، ولا يضر الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ، فيجوز أن تقول: في الدار زيد الحسنة، وإن كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد. وقرأ زيد بن علي: فاطر نصبا على المدح، ولما ذكر أنه موجد العالم، ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه فيه شك ذكر ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال: يدعوكم ليغفر لكم أي: يدعوكم إلى الإيمان كما قال: إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة، نحو: دعوته لينصرني. وقال الشاعر:
* دعوت لما نابني مسورا
*
فلبى فلبى يدي مسور
*
398

ومن ذنوبكم ذهب أبو عبيدة والأخفش إلى زيادة من أي: ليغفر لكم ذنوبكم. وجمهور البصريين لا يجيز زيادتها في الواجب، ولا إذا جرت المعرفة، والتبعيض يصبح فيها إذ المغفور هو ما بينهم وبين الله، بخلاف ما بينهم وبين العباد من المظالم. وبطريق آخر يصح التبعيض وهو أن الإسلام يجب ما قبله، ويبقى ما يستأنف بعد الإيمان من الذنوب مسكوتا عنه، هو في المشيئة والوعد إنما هو بغفران ما تقدم، لا بغفران ما يستأنف. وقال الزمخشري ما معناه: إن الاستقراء في الكافرين أن يأتي من ذنوبكم، وفي المؤمنين ذنوبكم، وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولأن لا يسوي بين الفريقين انتهى. ويقال: ما فائدة الفرق في الخطاب والمعنى مشترك، إذ الكافر إذا آمن، والمؤمن إذا تاب مشتركان في الغفران وما تخليت فيه مغفرة بعض الذنوب في الكافر الذي آمن هو موجود في المؤمن الذي تاب. وقال أبو عبد الله الرازي: أما قول صاحب الكساف المراد تمييز خطاب المؤمن من خطاب الكافر، فهو من باب الطامات، لأن هذا التبعيض إن حصل فلا حاجة إلى ذكر هذا الجواب، وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسدا. وقال: إلى أجل مسمى، إلى وقت قد بيناه، أو بينا مقداره إن آمنتم، وإلا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت انتهى. وهذا بناء على القول بالأجلين، وهو مذهب المعتزلة. وتقدم الكلام في طرف من هذا في سورة الأعراف في قوله: * (ولكل أمة أجل) * وقيل هنا: ويؤخركم إلى أجل مسمى قبل الموت فلا يعاجلكم بالعذاب، إن أنتم إلا بشر مثلنا لا فضل بيننا وبينكم، ولا فضل لكم علينا، فلم تخصون بالنبوة دوننا؟ قال الزمخشري: ولو أرسل الله إلى البشر رسلا لجعلهم من جنس أفضل منهم وهم الملائكة انتهى. وهذا على مذهب المعتزلة في تفضيل الملائكة على من سواهم. وقال ابن عطية: في قولهم استبعاد بعثة البشر. وقال بعض الناس: بل أرادوا إحالته، وذهبوا مذهب البراهمة، أو من يقول من الفلاسفة أن الأجناس لا يقع فيها هذا القياس. فظاهر كلامهم لا يقتضي أنهم أغمضوا هذا الإغماض، ويدل على ما ذكرت أنهم طلبوا منهم حجة، ويحتمل أن طلبهم منهم السلطان إنما هو على جهة التعجيز أي: بعثتكم محال، وإلا فأتوا بسلطان مبين أي: إنكم لا تفعلون ذلك أبدا، فتقوى بهذا الاحتمال منحاهم إلى مذهب الفلاسفة انتهى. والذي يظهر أن طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح، وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كاف لمن استبصر، ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال. ألا ترى إلى أنهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا: تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا أي: ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعا، وننترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا. وقرأ طلحة: أن تصدونا بتشديد النون، جعل إن هي المخففة من الثقيلة، وقدر فصلا بينها وبين الفعل، وكان الأصل أنه تصدوننا، فأدغم نون الرفع في الضمير، والأولى أن تكون أن الثنائية التي تنصب المضارع، لكنه هنا لم يعملها بل ألغاها، كما ألغاها من قرأ * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * برفع يتم حملا على ما المصدرية أختها.
2 (* (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشآء من عباده وما كان لنآ أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون * وما لنآ
399

ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على مآ آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون * وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنآ أو لتعودن فى ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الا رض من بعدهم ذالك لمن خاف مقامى وخاف وعيد * واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد * من ورآئه جهنم ويسقى من مآء صديد * يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورآئه عذاب غليظ) *))
) *
* (قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولاكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا) *: سلموا لهم في أنهم يماثلونهم في البشرية وحدها، وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها. فلم يكونوا مثلهم، ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعا منهم، ونسبة ذلك إلى الله. ولم يصرحوا بمن الله عليهم وحدهم، ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده. والمعنى: يمن بالنبوة على من يشاء تنبئته. ومعنى بإذن الله: بتسويغه وإرادته، أي الآية التي اقترحتموها ليس لنا الإتيان بها، ولا هي في استطاعتنا، ولذلك كان التركيب: وما كان لنا، وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة. فليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم، وما يجري علينا منكم. ألا ترى إلى قولهم وما لنا أن لا نتوكل على الله ومعناه: وأي عذر لنا في أن لا نتوكل على الله وقد هدانا، فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه، وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يوجب عليه سلوكه في الدين. والأمر الأول وهو قوله: فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل، والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم. ولنصبرن جواب قسم، ويدل على سبق ما يجب فيه الصبر وهو الأذى. وما مصدرية، وجوزوا أن يكون بمعنى الذي. والضمير محذوف أي: ما آذيتموناه وكان أصله به، فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمي قولان؟ وقرأ الحسن: بكسر لام الأمر في ليتوكل وهو الأصل، وأو لأحد الأمرين أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم، أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا: ليكونن
أحد هذين. وتقدير أو هنا بمعنى حتى، أو بمعنى إلا أن قول من لم ينعم النظر في ما بعدها، لأنه لا يصح تركيب حتى، ولا تركيب إلا أن مع قوله: لتعودن بخلاف لألزمنك، أو تقضيني حقي والعود هنا بمعنى الصيرورة. أو يكون خطابا للرسل ومن آمنوا بهم. وغلب حكم من آمنوا بهم لأنهم كانوا قبل ذلك في ملتهم، فيصح إبقاء لتعودن على المفهوم منها أولا إذ سبق كونهم كانوا في ملتهم، وأما الرسل فلم يكونوا في ملتهم قط. أو يكون المعنى في عودهم إلى ملتهم سكوتهم عنهم، وكونهم إغفالا عنهم لا يطالبونهم بالإيمان بالله وما جاءت به الرسل.
وقرأ أبو حيوة: ليهلكن الظالمين وليسكننكم، بياء الغيبة اعتبارا بقوله: فأوحى إليهم ربهم، إذ لفظه لفظ الغائب. وجاء ولنسكننكم بضمير الخطاب تشريفا لهم بالخطاب، ولم يأت بضمير الغيبة كما في قوله: فأوحى إليهم ربهم. ولما أقسموا بهم على إخراج الرسل والعودة في ملتهم، أقسم تعالى على إهلاكهم. وأي إخراج أعظم من الإهلاك، بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدا، وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل. قال ابن عطية: وخص الظالمين من الذين كفروا، إذ جائز أن يؤمن من الكفرة الذين قالوا المقالة ناس، وإنما توعد لإهلاك من خلص للظلم. وقال غيره: أراد بالظالمين المشركين، قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) * والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله
400

تعالى: * (والعاقبة للمتقين) *. ومقام يحتمل المصدر والمكان. فقال الفراء: مقامي مصدر أضيف إلى الفاعل أي: قيامي عليه بالحفظ لأعماله، ومراقبتي إياه لقوله: * (أفمن هو قائم على * نفس بما كسبت) *. وقال الزجاج: مكان وقوفه بين يدي للحساب، وهو موقف الله الذي يقف فيه عباده يوم القيامة كقوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * وعلى إقحام المقام أي لمن خافني. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء: أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله: * (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) * ويجوز أن يكون الفتاحة وهي الحكومة، أي: استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم. واستنصار الرسل في القرآن كثير كقول نوح: * (فافتح بينى وبينهم فتحا ونجنى) * وقول لوط: * (رب نجنى وأهلى مما يعملون) * وقول شعيب: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق) * وقول موسى: * (ربنا إنك ءاتيت فرعون) * الآية. وقول ابن زيد: الضمير عائد على الكفار أي: واستفتح الكفار على نحو ما قالت قريش: * (عجل لنا قطنا) * وقول أبي جهل: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فاحنه الغداة. وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة، ظنوا أن ما جاؤوا به باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح: * (فأتنا بما تعدنا) * وقوم شعيب: * (فأسقط علينا كسفا) * وعاد: * (وما نحن بمعذبين) * وبعض قريش: * (فأمطر علينا حجارة) *. وقيل: الضمير عائد على الفريقين: الأنبياء، ومكذبيهم، لأنهم كانوا كلهم سألوا أن ينصر المحق ويبطل المبطل. ويقوي عود الضمير على الرسل خاصة قراءة ابن عباس، ومجاهد، وابن محيصن: واستفتحوا بكسر التاء، أمرا للرسل معطوفا على ليهلكن أي: أوحى إليهم ربهم وقال لهم: ليهلكن، وقال لهم: استفتحوا أي: اطلبوا النصر وسلوه من ربكم. وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون أهل مكة قد استفتحوا أي استمطروا، والفتح المطر في سني القحط التي أرسلت عليهم بدعوة الرسول فلم يسقوا، فذكر سبحانه ذلك، وأنه خيب رجاء كل جبار عنيد، وأنه يسقى في جهنم بدل سقياه ماء آخر وهو صديد أهل النار. واستفتحوا على هذا التفسير كلام مستأنف منقطع عن حديث الرسل وأممهم انتهى. وخاب معطوف على محذوف تقديره: فنصروا وظفروا. وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل، وتقدم شرح جبار. والعنيد: المعاند كالخليط بمعنى المخالط على قول من جعل الضمير عائدا على الكفار، كأن وخاب عطفا على واستفتحوا. ومن ورائه قال أبو عبيدة وابن الأنباري أي: من بعده. وقال الشاعر:
* حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
*
وليس وراء الله للمرء مهرب
*
وقال أبو عبيدة أيضا، وقطرب، والطبري، وجماعة: ومن ورائه أي ومن أمامه، وهو معنى قول الزمخشري: من بين يديه. وأنشد:
* عسى الكرب الذي أمسيت فيه
*
يكون وراء فرج قريب
*
401

وهذا وصف حاله في الدنيا، لأنه مرصد لجهنم، فكأنها بين يديه وهو على شفيرها، أو وصف حاله في الآخرة حين يبعث ويوقف. وقال الشاعر:
* أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
*
وقوم تميم والفلاة ورائيا
*
وقال آخر:
* أليس ورائي إن تراخت منيتي
*
لزوم العصا نحني عليها الأصابع
*
ووراء من الأضداد قاله: أبو عبيدة والأزهري. وقيل: ليس من الأضداد. وقال ثعلب: اسم لما توارى عنك، سواء كان أمامك أم خلفك. وقيل: بمعنى من خلفه أي: في طلبه كما تقول الأمر من ورائك أي: سوف يأتيك. ويسقى معطوف على محذوف تقديره: يلقى فيها ويسقى، أو معطوف على العامل في من ورائه، وهو واقع موقع الصفة. وارتفاع جهنم على الفاعلية، والظاهر إرادة حقيقة الماء. وصديد قال ابن عطية: هو نعت لماء، كما تقول: هذا خاتم حديد وليس بماء، لكنه لما كان بدل الماء في العرف عندنا يعني أطلق عليه ماء. وقيل: هو نعت على إسقاط أداة التشبيه كما تقول: مررت برجل أسد التقدير: مثل صديد. فعلى قول ابن عطية هو نفس الصديد وليس بماء حقيقة، وعلى هذا القول لا يكون صديدا ولكنه ما يشبه بالصديد. وقال الزمخشري: صديد عطف بيان لماء قال: ويسقى من ماء، فأبهمه إبهاما، ثم بينه بقوله: صديد انتهى. والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات، وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي، فأعرب * (زيتونة) * عطف بيان * (ليلة مباركة) * فعلى رأي لبصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد، عطف بيان. وقال الحوفي: صديد نعت لماء. وقال مجاهد، وقتادة، والضحاك: هو ما يسيل من أجساد أهل النار. وقال محمد بن كعب والربيع: هو غسالة أهل النار في النار. وقيل: هو ما يسيل من فروج الزناة والزواني. وقيل: صديد بمعنى مصدود عنه أي: لكراهته يصد عنه، فيكون مأخوذا عنه من الصد. وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله: * (ويسقى من ماء صديد * يتجرعه) * قال: (يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوي وجهه ووقعت فروة رأسه، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره) يتجرعه يتكلف جرعه. ولا يكاد يسيغه أي: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة. والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه، وإذا انتفت انتفت الإساغة، فيكون كقوله: * (لم يكد يراها) * أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ والحديث: (جاءنا ثم يشربه) فإن صح الحديث كان المعنى: ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه، كما جاء * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) * أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح. وتجرع تفعل، ويحتمل هنا وجوها أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك: علمته فتعلم. وأن يكون للتكلف نحو: تحلم، وأن يكون لمواصلة
402

العمل في مهلة نحو: تفهم أي يأخذه شيئا فشيئا. وأن يكون موافقا للمجرد أي: تجرعه كما تقول: عدا الشيء وتعداه. ويتجرعه صفة لما قبله، أو حال من ضمي ويسقى، أو استئناف. ويأتيه الموت أي: أسبابه. والظاهر أن قوله: من كل مكان معناه من الجهات الست، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام. وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده، حتى من أطراف شعره. وقيل: حتى من إبهام رجليه، والظاهر أن هذا في الآخرة. وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا، سماها موتا وهذا بعيد، لأن سياق الكلام بدل على أن هذا من أحوال الكافر في جهنم. وقوله: وما هو بميت لتطاول شدائد الموت، وامتداد سكراته. ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم. وقال الزمخشري: ومن ورائه ومن بين يديه عذاب غليظ أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذابا أشد مما قبله وأغلظ. وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى. وقيل: الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار.
2 (* (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء ذالك هو الضلال البعيد * ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذالك على الله بعزيز * وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا ما لنا من محيص * وقال الشيطان لما قضى الا مر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم مآ أنا بمصرخكم ومآ أنتم بمصرخى إنى كفرت بمآ أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم * وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام * ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السمآء * تؤتىأكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الا رض ما لها من قرار * يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيواة الدنيا وفى الا خرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشآء * ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار * قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلال * الله الذى خلق السماوات والا رض وأنزل من السمآء مآء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار * وسخر لكم الشمس والقمر دآئبين وسخر لكم اليل والنهار * وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار) *)) 2
الرماد معروف، وقال ابن عيسى: هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا: أرمداء، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون. الجزع: عدم احتمال
403

الشدة، وهو نقيض الصبر. قال الشاعر:
* جزعت ولم أجزع من البين مجزعا
*
وعذبت قلبا بالكواعب مولعا
*
المصرخ: المغيث. قال الشاعر:
* فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ
*
وليس لكم عني غناء ولا نصر
*
والصارخ المستغيث، صرخ يصرخ صرخا وصراخا وصرخة. قال سلامة بن جندل:
* كنا إذا ما أتانا صارخ فزع
*
كان الصراخ له قرع الظنابيب
*
واصطرخ بمعى صرخ، وتصرخ تكلف الصراخ، واستصرخ استغاث فقال: استصرخني فاصرخته والصريخ مصدر كالتريخ ويوصف به المغيث والمستغيث من الأضداد. الفرع الغصن من الشجرة. ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع الشعر يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال الشاعر: وهو امرؤ القيس بن حجر:
وفرع يغشى المتن أسواد فاحم
*
اجتث الشيء اقتلعه، وجث الشيء قلعه، والجثة شخص الإنسان قاعدا وقائما. وقال لقيط الأياري:
* هو الجلاء الذي يجتث أصلكم
*
فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا
*
البوار: الهلاك. قال الشاعر:
* فلم أر مثلهم أبطال حرب
*
غداة الحرب إذ خيف البوار
*
* (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شىء ذالك) *: ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه. فيما على عليكم، أو يقص. والمثل
404

مستعار للصفة التي فيها غرابة، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول. وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل، وأن المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد. وقال الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال. كما قال الشاعر:
* ما للجمال مشيها وئيدا
*
أجند لا يحملن أم حديدا
*
وكرماد الخبر. وقال الزمخشري: أو يكون أعمالهم بدلا من مثل الذين كفروا على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر. وقال ابن عطية: وقيل هو ابتداء، وأعمالهم ابتداء ثان، وكرماد خبر للثاني، والجملة خبر الأول. وهذا عندي أرجح الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل مثالا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي
أعمالهم في فسادها وقت الحاجة، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر، ولا يجتمع منه شيء انتهى. وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط. وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجارة، وغير ذلك. شبهها في حبوطها وذهابها هباءا منثورا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف. وقرأ نافع، وأبو جعفر: الرياح على الجمع، والجمهور على الأفراد. ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز، كما قالوا: يوم ما حل وكيل نائم. وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر:
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
يريد كاسف الشمس. وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على الجوار. وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف. وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله: * (جاءتها ريح عاصف) * وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه: لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، أي: لا يرون له أثرا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء. وقيل: لا يقدرون من ثواب ما كسبوا، هو على حذف مضاف. وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إن ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال: (لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) وفي الصحيح أيضا: (إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها) ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال. وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه، وأبعد عن طريق النجاة، والبعيد عن الحق، أو الثواب. وفي البقرة: * (لا يقدرون مما كسبوا) * على شيء من التفنن في الفصاحة، والمغايرة في التقديم والتأخير، والمعنى واحد.
* (ألم تر أن الله خلق * السماوات والارض بالحق إن * يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما * ذالك على الله بعزيز * وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل
405

أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شىء قالوا (سقط: لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبر نا ما لنا من محيص) *: قرأ السلمي ألم تر بسكون الراء، ووجهه أنه أجرى الوصل مجرى الوقف. وتوجيه آخر وهو أن ترى حذفت العرب ألفها في قولهم: قام القوم ولو تر ما زيد، كما حذفت ياء لا أبالي في لا أبال، فلما دخل الجازم تخيل أن الراء هي آخر الكلمة فسكنت للجازم كما قالوا في: لا أبالي لم أبل، تخيلوا اللام آخر الكلمة. والرؤية هنا بمعنى العلم، فهي من رؤية القلب. وقرأ الإخوان: خالق اسم فاعل، والأرض بالخفض. قرأ باقي السبعة: خلق فعلا ماضيا، والأرض بالفتح. ومعنى بالحق قال الزمخشري: بالحكمة، والغرض الصحيح، والأمر العظيم، ولم يخلقها عبثا ولا شهوة. وقال ابن عطية: بالحق أي بما يحق من جهة مصالح عباده، وإنفاذ سابق قضائه، وليدل عليه وعلى قدرته. وقيل: بقوله وكلامه. وقيل: بالحق حال أي محقا، والظاهر أن قوله: يذهبكم، خطاب عام للناس. وعن ابن عباس: خطاب للكفار. ويأت بخلق جديد: يحتمل أن يكون المعنى: إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين، ويحتمل من غير جنسكم. والأول قول جمهور المفسرين، وتقدم نحو هذين الاحتمالين للمفسرين في قوله في النساء: * (إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت باخرين) * وبينا في ذلك أنه لا يحتمل إلا الوجه الأول. وما ذلك أي: وما ذهابكم والإتيان بخلق جديد بممتنع ولا متعذر عليه تعالى، لأنه تعالى هو القادر على ما يشاء. وقال الزمخشري: لأنه قادر الذات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، فإذا خلص له الداعي إلى شيء، وانتفى الصارف، تكون من غير توقف كتحريك أصبعك. وإذا دعا إليه داع ولم يعترض من دونه صارف انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال لقوله: القادر، لأنهم يثبتون القادرية وينفون القدرة، ولتشبيه فعله تعالى بفعل العبد في قوله: كتحريك أصبعك. وعندنا أن تحريك أصبعنا ليس إلا بقدرة الله تعالى، وأن ما نسب إلينا من القدرة ليس مؤثرا في إيجاد شيء.
وقال الزمخشري أيضا: وهذه الآية بيان لإبعادهم في الضلال، وعظيم خطبهم في الكفر بالله، لوضوح آياته الشاهدة له الدالة على قدرته الباهرة، وحكمته البالغة، وأنه هو الحقيق بأن يعبد ويخاف عقابه، ويرجى ثوابه في دار الجزاء انتهى. وبرزوا: أي ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه. وقال الزمخشري: ومعنى بروزهم الله، والله تعالى لا يتوارى عنه شيء حتى يبرز أنهم كانوا يستترون من العيون عند ارتكاب الفواحش، ويظنون أن ذلك خاف على الله، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم، وعلماء أن الله لا تخفى عليه خافية. وقال ابن عطية: وبرزوا معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة، فاستعير ذلك لجميع يوم القيامة. وقال أبو عبد الله الرازي: تأويل الحكماء أن النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها، وذلك هو البروز لله تعالى. وهذا الرجل كثيرا ما يورد كلام الفلاسفة وهم مباينون لأهل الشرائع في تفسير كلام الله تعالى المنزل بلغة العرب، والعرب لا تفهم شيئا من مفاهيم أهل الفلسفة، فتفسيرهم كاللغز والإحاجي، ويسميهم هذا الرجل حكماء، وهم من أجهل الكفرة بالله تعالى وبأنبيائه. والضمير في وبرزوا عائد على الخلق المحاسبين، وعبر بلفظ الماضي لصدق المخبر به، فكأنه قد وقع. وقرأ زيد بن علي: وبرزوا مبنيا للمفعول، وبتشديد الراء. والضعفاء: الأتباع، والعوام. وكتب بواو في المصحف قبل الهمزة على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو، ومثله علموا بني إسرائيل. والذين استكبروا: هم رؤساؤهم وقاداتهم، استغفروا الضعفاء واستتبعوهم. واستكبروا وتكبروا، وأظهروا تعظيم أنفسهم. أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله. وتبعا: يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع، كخادم وخدم، وغائب وغيب. ويحتمل أن يكون مصدرا
كقوله: عدل ورضا. وهل أنتم مغنون؟ استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم، وقد علموا أنهم لن يغنوا والمعنى:
406

إنا اتبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئا، فلذلك جاء جوابهم: لو هدانا الله لهديناكم، أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية لله تعالى، وهو كلام حق في نفسه. وقال الزمخشري: من الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، كأنه قيل: هل أنتم مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ ويجوز أن يكونا للتبعيض معا بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء، هو بعض عذاب الله أي: بعض بعض عذاب الله انتهى. وهذان التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في من في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله: من شيء على قوله: من عذاب الله، لأنه جعل من شيء هو المبين بقوله: من عذاب الله. ومن التبيينية يتقدم عليها ما تبينه، ولا يتأخروا لتوجيه لثاني، وهو بعض شيء، هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلا، فيكون بدل عام من خاص، لأن من شيء أعم من قوله: من عذاب الله، وإن عنى بشيء شيئا من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر، وهو بعض بعض عذاب الله. وهذا لا يقال، لأن بعضية الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. ونص الحوفي، وأبو البقاء: على أن من في قوله: من شيء، زائدة. قال الحوفي: من عذاب الله متعلق بمغنون، ومن في من شيء لاستغراق الجنس، زائدة للتوكيد. وقال أبو البقاء: ومن زائدة أي: شيئا كائنا من عذاب الله، ويكون محمولا على المعنى تقديره: هل تمنعون عنا شيئا؟ ويجوز أن يكون شيء واقعا موقع المصدر أي: غنى فيكون من عذاب الله متعلقا بمغنون انتهى. ومسوغ الزيادة كون الخبر في سياق الاستفهام، فكان الاستفهام دخل عليه وباشره، وصارت الزيادة هنا كالزيادة في تركيب: فهل تغنون. وقال الزمخشري: أجابوهم معتذرين عما كان منهم إليهم بأن الله لو هداهم إلى الإيمان لهدوهم، ولم يضلوهم إما مدركين الذنب في ضلالهم، وإضلالهم على الله كما حكى الله عنهم. وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، يقولون ذلك في الآخرة كما كانوا يقولونه في الدنيا، ويدل عليه قوله حكاية عن المنافقين: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شىء) * انتهى. وحكى أبو عبد الله الرازي عن الزمخشري أنهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء. قال أبو عبد الله الرازي: واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفا لأصول مشايخه، لا يقبل منه. وقال الزمخشري أيضا: ويجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف فلطف بنا ربنا. واهتدينا لهديناكم إلى الإيمان. قال أبو عبد الله الرازي: وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف، لأن ذلك قد فعله الله. وقيل: لو خلصنا الله من العذاب وهدانا إلى طريق الجنة لهديناكم. وقال الزمخشري في بسط هذا القول: لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم أي: لأغنينا عنكم وسلكنا بكم طريق النجاة، كما سلكنا بكم سبيل الهلكة انتهى. وقيل: ويدل على أن المراد بالهدى الهدى إلى طريق الجنة، أنه هو الذي التمسوه وطلبوه، فوجب أن يكون المراد. وقال ابن عباس: لو أرشدنا الله لأرشدناكم. والظاهر أن قوله: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره، داخل تحت قول المستكبرين، وجاء تجمله بلا واو عطف، كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة، وإن كانت مرتبطا بعضها ببعض من جهة المعنى لأن سؤالهم: هل أنتم مغنون عنا؟ إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا ذلك: سووا بينهم، وبينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها، يقولون: ما هذا الجزع والتوبيخ، ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر. ولما قالوا: لو هدانا الله، أتبعوا ذلك بالإقناط من النجاة فقالوا: ما لنا من محيص: أي منجى ومهرب، جزعنا أم صبرنا. وقيل: سواء علينا من كلام الضعفاء والذين استكبروا والتقدير: قالوا جميعا سواء علينا يخبرون عن حالهم. وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في أول البقرة، والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله. وعن محمد بن كعب،
407

وابن زيد: أن قولهم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا، بعد صبرهم في النار خمسمائة عام، وبعد جزعهم مثلها.
* (وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى فلا تلومونى ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخى) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة، ذكر محاورة الشيطان وأتباعه من الإنس، وذلك لاشتراك الرؤساء والشياطين في التلبس بالإضلال. والشيطان هنا إبليس، وهو رأس الشياطين. وفي حديث الشفاعة من حديث عقبة بن عامر: (أن الكافرين يقولون: وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا، فيقولون: ما هو غير إبليس هو الذي أضلنا فيأتونه فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمه أحد ويقول عند ذلك: إن الله قد وعدكم) الآية وعن الحسن: يقف إبليس خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا فيقول: إن الله وعدكم وعد الحق، يعني: البعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي، فصدقكم وعده، ووعدتكم أن لا بعث ولا جنة ولا نار، ولا ثواب ولا عقاب، فأخلفتكم. قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار، وذلك كله في الموقف، وعليه يدل حديث الشفاعة أو بعد حصول أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ويدل عليه ما ذكرناه عن الحسن، وهو تأويل الطبري. وقيل: قضي الأمر قطع وفرع منه، وهو الحساب، وتصادر الفريقين إلى مقربهما. ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي: الوعد الحق، وأن يكون الحق صفة الله أي: وعده، وأن يكون الحق الشيء الثابت وهو البعث والجزاء على الأعمال أي: فوفى لكم بما وعدكم ووعدتكم خلاف ذلك فأخلفتكم، وإلا أن دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع، لأن دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان، وهو الحجة البينة. قيل: ويحتمل أن يريد بالسلطان الغلبة والتسليط والقدرة أي: ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة، بل عرضت عليكم شيئا فأتى رأيكم عليه. وقيل: هو استثناء متصل، لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة يكون بالقهر من الحامل، وتارة يكون بتقوية الداعية في قلبه وذلك بإلقاء الوسواس إليه، فهذا نوع من أنواع التسليط. وقيل: وظاهر هذا الكلام يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه، وإزالة عقله، فلا تلوموني. وقرئ: فلا يلوموني بالياء على الغيبة، وهو التفات يريد في ما آتيتموه من الضلال، ولوموا أنفسكم في سوء نظركم واستجابتكم لدعائي من غير تثبت ولا حجة. وقال
الزمخشري: ولوموا أنفسكم حيث اغتررتم، وأطعتموني إذ دعوتكم، ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، وهذا دليل على أن الإنسان هو الذي يختار الشقاوة والسعادة ويحصلها لنفسه، وليس من الله إلا التمكين، ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما يزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم، فإن الله قد قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه انتهى. وهو على طريق الاعتزال.
ما أنا بمصرخكم قال ابن عباس: بنافعكم. وقال ابن جبير: بمنقذكم، وقال الربيع: بمنجيكم، وقال مجاهد: بمغيثكم، وكلها أقوال متقاربة. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش، وحمزة: بمصرخي بكسر اللياء، وطعن كثير من النحاة في هذه القراءة. قال الفراء: لعلها من وهم القراء، فإنه قل من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أن الباء في بمصرخي خافضة للفظ كله، والباء للمتكلم خارجة من ذلك. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا، ظنوا أن الباء تكسر لما بعدها. وقال الأخفش: ما سمعت هذا من أحد من العرب، ولا من النحويين. وقال الزجاج: هذه القراءة عند جميع النحويين رديئة مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال النحاس: صار هذا إجماعا، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله على الشذوذ. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:
408

* قال لها هل لك يا تافي
*
قالت له ما أنت بالمرضي
*
وكأنه قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء ساكنة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح، لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عصاي فما بالها، وقبلها باء. (فإن قلت): جرت الياء الأولى مجرى الحر الصحيح لأجل الإدغام، كأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن، فحركت بالكسر على الأصل. (قلت): هذا قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات انتهى. أما قوله: واستشهدوا لها ببيت مجهول، قد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من الناس إلى اليوم، يقول القائل: ما في أفعل كذا بكسر الياء. وأما التقدير الذي قال: فهو توجيه الفراء، ذكره عنه الزجاج. وأما قوله، في غضون كلامه حيث قبلها ألف، فلا أعلم حيث يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف نحو: قعد زيد حيث أمام عمر وبكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع. وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روى سكون الياء بعد الألف. وقرأ بذلك القراء نحو: محياي، وما ذهب إليه من ذكرنا من النحاة لا ينبغي أن يلتت إليه. واقتفى آثارهم فيها الخلاف، فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ، أو قبيحة، أو رديئة، وقد نقل جماعة من أهل اللغة أنها لغة، لكنه قل استعمالها. ونص قطرب على أنها لغة في بني يرفوع. وقال القاسم بن معن وهو من رؤساء النحويين الكوفيين: هي صواب، وسأل حسين الجعفي أبا عمرو بن العلاء وذكر تلحين أهل النحو فقال: هي جائزة. وقال أيضا: لا تبالي إلى أسفل حركتها، أو إلى فوق. وعنه أنه قال: هي بالخفض حسنة. وعنه أيضا أنه قال: هي جائزة. وليست عند الإعراب بذلك، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم على أبي عمرو تحسينها، فأبو عمرو إمام لغة، وإمام نحو، وإمام قراءة، وعربي صريح، وقد أجازها وحسنها، وقد رووا بيت النابغة:
(
* علي لعمرو نعمة بعد نعمة
*
لوالده ليست بذات عقارب
*
بفخض الياء من علي. وما في بما أشركتموني مصدرية، ومن قبل متعلق بأشركتموني أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله: * (أنا * براء * منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم) * وقال: ويوم القيامة يكفرون بشرككم. وقيل: موصولة بمعنى الذي، والتقدير: كفرت بالصنم الذي أشركتمونيه، فحذف العائد. وقيل: من قبل متعلق بكفرت، وما بمعنى الذي أي: كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله عز وجل. تقول: شركت زيدا، فإذا أدخلت همزة النقل قلت: أشركت زيدا عمرا، أي جعلته له شريكا. إلا أن في هذا القول إطلاق ما على الله تعالى، وما الأصح فيها أنها لا تطلق على آحاد من يعلم. وقال الزمخشري: ونحو ما هذه يعني في إطلاقها على الله ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا انتهى. ومن منع ذلك جعل سبحان علما على معنى التسبيح، كما جعل برة علما للمبرة. وما مصدرية ظرفية، ويكون ذلك من إبليس إقرارا على نفسه بكفره الأقدم أي: خطيئتي قبل خطيئتكم. فلا إصراخ عندي أن الظالمين لهم عذاب أليم، الظاهر أنه من تمام كلام إبليس، حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين علي النظر في عاقبتهم، والاستعداد لما لا بد منه. وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول، يخافوا، ويعملوا ما يخلصهم منه، وينجيهم. وقيل:
409

هو من كلام الخزنة يوم ذاك. وقيل: من كلام الله تعالى. ولأبي عبد الله الرازي كلام هنا في الشيطان والملائكة يوقف عليه من تفسيره.
* (وأدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام) *: لما جمع الفريقين في قوله: * (وبرزوا لله جميعا) * وذكر شيئا من أحوال الكفار، ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة. وقرأ الجمهور: وأدخل ماضينا مبنيا للمفعول. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد
: وأدخل بهمزة المتكلم مضارع أدخل أي: وأدخل أنا. وعلى قراءة الجمهور يحتمل أن يكون الفاعل الملائكة، والظاهر تعلق بإذن ربهم بأدخل. وقال الزمخشري: (فإن قلت): فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى، وقولك وأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملئتم؟ (قلت): الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله بإذن ربهم بما بعده أي: تحيتهم فيها سلام. بإذن ربهم يعني: أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى. فظاهر كلامه أن بإذن ربهم معمول لقوله: تحيتهم، ولذلك قال: يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم، وهذا لا يجوز، لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل بحرف مصدري والفعل عليه، وهو غير جائز. وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد الرازي الحسن: أدخل برفع اللام على الاستقبال بإخبار الله تعالى عن نفسه، فيصير بذلك بإذن ربهم ألطف لهم وأحنى عليهم، وتقدم تفسير * (تحيتهم فيها سلام) * في أوائل سورة يونس.
* (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء * تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار * يثبت الله الذين ءامنوا بالقول الثابت فى الحيواة الدنيا وفى الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) *: تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا، إلا أن المفسرين أبدوا هنا تقديرات، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلا مفعولا بضرب، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تريع، على أن ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعا على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جعل كلمة طيبة مثلا هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلى البدل تكون كشجرة نعتا للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أن تكون كلمة نصبا بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: ضرب الله مثلا، كقولك: شرف الأمير زيدا كساه حلة، وحمله على رس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وقرئ شاذا كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا الله قاله ان عباس، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج، أو المؤمن نففسع قاله عطية العوفي والربيع، أو جميع طاعاته أو القرآن قاله الأصم، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس، أو جوزة الهند قاله على وابن عباس، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضا، أو النخلة وعليه أكثر المتأولين وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وأنس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، وجاء ذلك نصا من حديث ابن عمر مما خرجه الدارقطني عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذكر الآية فقال: (أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة) الحديث. وقال أبو العالية: أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال أنس: كل يا أبا العالية، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم) بصاع بسر فتلا هذه الآية. وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا. وقال
410

الزمخشري: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة، وشجرة التين، والعنب، والرمان، وغير ذلك انتهى.
وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يبعد أن يشبه أيضا بشجرتها. أصلها ثابت أي: في الأرض ضارب بعروقه فيها. وقرأ نس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها، أجريت الصفة على الشجرة لفظا وإن كانت في الحقيقة للسبي. وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السبي لفظا ومعنى، وفيها حسن التقسيم، إذ جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء، يريد بالفرع أعلاها ورأسها، وإن كان المشبه به ذا فروع، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس. ومعنى في السماء: جهة العلو والصعود لا المظلة. وفي الحديث: (خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا) ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف: الأول قوله: طيبة، أي كريمة المنبت، والأصل في الشجرة له لذة في المطعم. قال الشاعر:
* طيب الباءة سهل ولهم
*
سبل إن شئت في وحش وعر
*
أي ساحتهم سهلة طيبة. الثاني: رسوخ أصلها، وذلك يدل على تمكنها، وأن الرياح لا تقصفها، فهي بطيئة الفناء، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه. والثالث: علو فرعها، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها، وعلى بعدها عن عفونات الأرض، وعلى صفائها من الشوائب. الرابع: ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات. والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر:
* تناذرها الراقون من سوء سمها
*
تطلقه حينا وحينا تراجع
*
والمعنى: تعطي جناها كل وقت وقته الله له. وقال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، أي كل سنة، ولذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحكم، وحماد، وجماعة من الفقهاء: من حلف أن لا يفعل شيئا حينا فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية. وقيل: ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها.
وقال ابن المسيب: الحين شهران، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين. وقيل: لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر، وهي شجرة جوز الهند. وقال ابن عباس أيضا والشحاك، والربيع: كل حين أي كل غدوة وعشية، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة. والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم، وانطبق المعقول على المحسوس، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب. والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور. وقال مسروق: الكذب، وقال: إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه الكافر. وقيل: كل كلام لا يرضاه الله تعالى. وقرأ أبي: وضرب الله مثلا كلمة خبيثة، وقرئ: ومثل كلمة بنصب مثل عطفا على كلمة طيبة. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون: ابن عباس، ومجاهد، وأنس بن مالك، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الزجاج وفرقة: شجرة الثوم. وقيل: شجرة الكشوت، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال: وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر. وقال ابن عطية: ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوز، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الثوم والبصل (من أكل من هذه الشجرة)
411

وقيل: الطحلبة. وقيل: الكمأة. وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر. وعن ابن عباس: هي الكافر، وعنه أيضا: شجرة لم تخلق على الأرض. وقال ابن عطية: والظاهر عندي أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي: اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف، فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أن بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى. واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله: أصلها ثابت أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجه الأرض. ما لها من قرار أي: استقرار. يقال: أقر الشيء قرارا ثبت ثباتا، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضد بحجة، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا، كما جرى لأصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول: أحد أحد. وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا، ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة. وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء: أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره، ورجح هذا القول الطبري. وقال البراء بن عازب وجماعة: في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض. وقيل: معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان، وحشره عليه. وقيل: التثبيت في الدنيا الفتح والنصر، وفي الآخرة الجنة والثواب. وما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم) في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا الآية، لا يظهر منه يعني: أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان، وأن الآخرة في القبر، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر، وأن الآخرة هي يوم القيامة، بل اللفظ محتمل. ومعنى يثبت: يديمهم عليه، ويمنعهم من الزلل. ومنه قول عبد الله بن رواحة:
* فثبت الله ما آتاك من حسن
*
تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
*
والظاهر أن بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل: يتعلق بآمنوا. وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة. ويضل الله الظالمين أي: الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم، إذ ليسوا متمسكين بحجة. وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم. ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلامة الخبيثة ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى، إن الله يفعل ما يشاء، لا يسئل عما يفعل. وقال الزمخشري: ويفعل الله ما يشاء أي: توجيه الحكمة، لأن مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية
412

بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.
* (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار * وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) *: لم ذكر حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم، ذكر السبب في إضلالم. والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر. وقال مجاهد: هم أهل مكة، أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولا منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به، وأسكنهم حرمه، وجعلهم قوام بيته، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفرا. وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال: هما الأعراب من قريش أخوالي أي: بني مخزوم، واستؤصلوا ببدر. وأعمامك أي: بني أمية، ومتعوا إلى
حين. وعن علي نحو من ذلك. وقال قتادة: هم قادة المشركين يوم بدر. وعن علي: هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر. وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين. وعن علي أيضا: هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم، ثم عادوا إلى الكفر. وعن ابن عباس: في جبلة بن الإيهم، ولا يريد أنها نزلت فيه، لأن نزول الآية قبل قصته، وقصته كانت في خلافة عمر، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة.
ونعمة الله على حذف مضاف أي: بدلوا شكر نعمة الله كقوله: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * أي شكر رزقكم، كأنه وجب عليهم الشكر كفوضعوا مكانه كفرا، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب. قال الزمخشري: ووجه آخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلا لهم الكفر بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمة، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم)، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم الله بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وبقي الكفر طوقا في أعناقهم انتهى. ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي: بنعمة الله، وكفرا هو المفعول الأول كقوله: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب، على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة: * (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) * وإذا قدرت مضافا محذوفا وهو شكر نعمة الله، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت. وأحلوا قومهم أي: من تابعهم على الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أن كفرا هو مفعول ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأن بدل من أخوات اختار، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفي وأبو البقاء: جهنم بدلا من دار البوار، والزمخشري عطف بيان، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة. ودار البوار جهنم، وقاله: ابن زيد. وقيل: عن علي يوم بدر، وعن عطاء بن يسار: نزلت في قتلى بدر، فيكون دار البوار أي: الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه. وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء: جهنم منصوب على الاشتغال أي: يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة: جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعا على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأن النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه، ولا ما يكون مساويا، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرؤوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته
413

أفصح من زيدا ضربته، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحا، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالا من جهنم، أو حالا من دار البوار، أو حالا من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس القرار هي أي: جهنم. وجعلوا لله أندادا أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أندادا وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: وليضلوا هذا، و * (ليضل) * في الحج ولقمان والروم بفتح الياء، وباقي السبعة بضمها. والظاهر أن اللام لام الصيرورة والمآل. لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال، جرى مجرى لام العلة في قولك: جئتك لتكرمني، على طريقة التشبيه. وقيل: قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة، وأما بالضم فتحتمل العاقبة. والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد على حد قوله: * (اعملوا ما شئتم) * قال الزمخشري: تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكوه لأنفسهم أمرا دونه، وهو آمر الشهوة والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار. ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه: * (قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار) * انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إن هو قوله: إلى النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي: فإن انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إن بلا خبر، ولا ينبغي أن يدعي حذفه، فيكون التقدير: فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن، لأن حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إن نكرة، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز الحوفي: أن يكون إلى النار متعلقا بمصيركم، فعلى هذا يكون الخبر محذوفا.
* (قل لعبادى الذين ءامنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه) *: لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم له أندادا، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة. ومعمول قل، محذوف تقديره: أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر، وهذا قول: الأخفش، والمازني. ورد بأنه لا يلزم من القول إن يقيموا، ورد هذا الرد بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون متى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلغ وأد الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول: أقيموا، وفي هذه الشريعة على تقدير بلغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله: يقيموا، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس
414

أنشده سيبويه إلا أنه قال: إن هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال الزمخشري في هذا القول: وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه. ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أن التقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أن جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما. فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك: قم يقم، والتقدير على هذا الوجه: أن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحدا. وقيل: التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا
قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية. وقال الفراء: جواب الأمر معه شرط مقدر تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول قبله أن الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط. وقيل: هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر، والمعنى: أقيموا، قاله أبو علي فرقة. ورد بأنه لو كان مضارعا بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون كقوله: * (هل أدلكم على تجارة) * ثم قال: * (تؤمنون) * والمعنى: آمنوا. واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني: على حذف النون، لأن المراد أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك: يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم، إذ قدر قل بمعنى بلغ وأد الشريعة. قال ابن عطية: ويظهرأن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله: الله الذي خلق السماوات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام، يخالفه ترتيب التركيب، ويكون قوله: يقيموا الصلاة كلاما مفلتا من القول ومعموله، أو يكون جوابا فصل به بين القول ومعموله، ولا يترتب أن يكون جوابا، لأن قوله: الله الذي خلق السماوات والأرض، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جدا. واحتمل الصلاة أن يراد بها العموم أي: كل صلاة فرض وتطوع، وأن يراد بها الخمس، وبذلك فسرها ابن عباس. وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. وتقدم إعراب * (سرا وعلانية) * وشرحها في أواخر البقرة.
وقال أبو عبيدة: البيع هنا البذل، والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالا ومخالة وهي المصاحبة انتهى. ويعني بالبذل مقابل شيء. وقال امرؤ القيس:
* صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
*
ولست بمقلي الخلال ولا قال
*
وقال الأخفش: الخلال جمع خلة. وتقدم الخلاف في قراءة * (لا بيع فيه ولا خلال) * بالفتح أو بالرفع في البقرة، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ (قلت): من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيرا منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله: وما لا حد عنده من نعمة
415

تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى. ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال: الله الذي خلق السماوات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولا إبداعه وإنشاء السماوات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبه على أن كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد، والله مرفوع على الابتداء، والذي خبره. قال ابن عطية: ومن أخبر بذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى. يشير إلى ما تقدم من قوله: إن معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السماوات والأرض الآية. فكأنه يقول: يقيموا الصلاة، جواب لقوله: قل لعبادي الله الذي خلق السماوات والأرض. والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقا لكم، ومن للتبعيض. ولما تقدم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات. ويجوز أن تكون من لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال: فأخرج به رزقا لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد، لأن من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقا حالا من المفعول، أو نصبا على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق. وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأن ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش. والفلك هنا جمع فلك، ولذلك قال: لتجري. ومعنى بأمره: راجع إلى الأمر القائم بالذات. وقال الزمخشري: لقوله، كن.
*
وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار، وتسخير الرياح. وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها. وانتصب دائبين على الحال والمعنى: يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال: معناه دائبين في طاعة الله. قال ابن عطية: وهذا قول إن كان يراد به أن الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله: سخر، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد، والله أعلم انتهى. وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفه للمنام والمعاش. وقال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز، لأنهما عرضان، والاعراض لا تسخر. ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال: وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي: أي الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أن يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال: بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة.
وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وعمرو بن قائد، وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع في رواية: من كل بالتنوين، أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات. وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به. وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله: * (وأوتيت من كل شىء) * أي غير سائليه. أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه. والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا
القول بدأ به الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك. وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة، لأن في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما بمعنى الذي. وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول. ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أن ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال. فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضمير في سألتموه
416

إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير: من كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائدا على الله. والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلا فيكون التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلا فيكون التقدير: ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذف. والنعمة قال الواحدي: اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أنعم إنعاما ونعمة، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك: أنفقت إنفاقا ونفقة، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى. والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع، كأنه قيل: وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأما التفصيل فلا يقدر عليه، ولا يعلمه إلا الله. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه. والمراد بالإنسان هنا الجنس أي: توجد فيه هذه الخلال وهي: الظلم، والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها. وقيل: ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. وفي النحل: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) * والفرق بين الختمين: أنه هنا تقدم قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وبعده، وجعلوا لله أندادا، فكان ذلك نصا على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه، فجاء أن الإنسان لظلوم كفار. وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات، وأطنب فيها، وقال: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضا على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به. وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلله السابق ويرحمه، وأيضا فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان، ذكر ما حصل من المنعم، ومن جنس المنعم عل، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة، إذ لولاهما لما أنعم عليه. وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه، وهو الظلم والكفران، فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور، أو كفران نعمة فالله رحيم، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره. ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
2 (* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد آمنا واجنبنى وبنى أن نعبد الا صنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم * ربنآ إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوىإليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون * ربنآ إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء فى الا رض ولا فى السمآء * الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعآء * رب اجعلنى مقيم الصلواة ومن ذريتى ربنا وتقبل دعآء * ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين يوم يقوم الحساب * ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار
417

مهطعين مقنعى رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هوآء * وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنآ أخرنآ إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الا رض غير الا رض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الا صفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الألباب) *))
) *
جنب مخففا، وأجنب رباعيا لغة نجد، وجنب مشددا لغة الحجاز، والمعنى: منع، وأصله من الجانب. الهوى: الهبوط بسرعة، قال الشاعر:
* وإذا رميت به الفجاج رأيته
*
تهوي مخارمها هوى الأجدل
*
شخص البصر أحد النظر، ولم يستقر في مكانه. المهطع: المسرع في مشيه. قال الشاعر:
* بمهطع سرح كأن عنانه
*
في رأس جذع من أراك مشذب
*
وقال عمران بن حطان:
* إذا دعانا فأهطعنا لدعوته
*
داع سميع فلبونا وساقونا
*
وقال أبو عبيدة: قد يكون الأهطاع الإسراع وإدامة النظر. المقنع: هو الرافع رأس المقبل ببصره على ما بين يديه، قاله ابن عرفة والقتبي. وقال الشاعر:
* يباكرن العصاة بمقنعات
*
نواجذهن كالحدإ الوقيع
*
418

يصف الإبل بالإقناع عند رعيها أعالي الشجر، ويقال: أقنع رأسه نكسه وطأطأه، فهو من الأضداد. قال المبرد: وكونه بمعنى رفع أعرف في اللغة انتهى. وقيل: منه قنع الرجل إذا رضي، كأنه رفع رأسه عن السؤال. وفم مقنع معطوفة أسنانه إليه داخلا، ورجل مقنع بالتشديد عليه بيضة الرأس معروف، ويجمع في القلة على أرؤس. الطرف: العين. وقال الشاعر:
* وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
*
حتى يواري جارتي مأواها
*
ويقال: طرف الرجل طبق جفنه على الآخر، وسمي الجفن طرفا لأنه يكون فيه ذلك. الهواء: ما بين السماء والأرض، وهو الخلاء الذي لم تشغله الأجرام الكثيفة، واستعير للجبان فقيل: قلب فلان هواء. وقال الشاعر:
* كأن الرجل منها فوق صعل
*
من الظلمات جؤجؤه هواء
*
المقرن: المشدود في القرن، وهو الحبل. الصفد: الغل، والقيد يقال: صفده صفدا قيده، والاسم الصفد، وفي التكثير صفده مشددا. قال الشاعر:
وأبقى بالملوك مصفدينا
وأصفدته: أعطيته. وقيل: صفد وأصفد معا في القيد والإعطاء. قال الشاعر:
فلم أعرض أبيت اللعن بالصفد
أي: بالعطاء. وسمي العطاء صفدا لأنه يقيده ويعبد. السربال: القميص، يقال: سربلته فتسربل. القطران: ما يحلب من شجر الابهل فيطبخ، وتهنأ به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحره وحدته، وهو أقبل الأشياء اشتعالا، ويقال فيه قطران بوزن سكران، وقطران بوزن سرحان.
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هاذا البلد امنا وبنى أن نعبد الاصنام * رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعنى فإنه منى ومن عصانى فإنك غفور رحيم) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر التعجيب من الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وجعلوا لله أندادا وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا آلهة من دون الله، وكان من نعم الله عليهم إسكانه إياهم حرمه، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم، وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة، ودعا بأن يجنب بنيه عبادة الأصنام، وأنه أسكنه وذريته في بيته ليعبدوه وحده بالعبادة التي هي أشرف العبادة وهي الصلاة، لينظروا في دين أبيهم، وأنه مخالف لما ارتكبوه من عبادة الأصنام، فيزدجروا ويرجعوا عنها. وتقدم الكلام على قوله هنا هذا البلد معرفا، وفي البقرة منكرا.
وقال الزمخشري: هنا سأل في الأول أن
419

يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون، وفي الثاني أن يخرج من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن، كأنه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنا انتهى. ودعا إبراهيم أولا بما هو على طاعة الله تعالى، وهو كون محل العابد أمنا لا يخاف فيه، إذ يتمكن من عبادة الله تعالى، ثم دعا ثانيا بأن يجنب هو وبنوه من عبادة الأصنام. ومعنى واجنبني وبني: أدمني وإياهم على اجتناب عبادة الأصنام. وأراد بقوله: وبنى أولاده، من صلبه الأقرباء. وأجابه الله تعالى فجعل الحرم آمنا،
ولم يعبد أحد من بنيه الأقرباء لصلبه صنما. قال سفيان بن عيينة: وقد سئل، كيف عبدت العرب الأصنام؟ قال: ما عبد أحد من ولد إسماعيل صنما وكانوا ثمانية، إنما كانت لهم حجارة ينصبوها ويقولون: حجر، فحيث ما نصبوا حجرا فهو بمعنى البيت، فكانوا يدورن بذلك الحجر ويسمونه الدوار انتهى.
قال ابن عطية: وهذا الدعاء من الخليل عليه السلام يقتضي إفراط خوفه على نفسه، ومن حصل في رتبته فكيف يخاف أن يعبد صنما؟ لكن هذه الآية ينبغي أن يقتدي بها في الخوف وطلب الخاتمة. وكرر النداء استعطافا لربه تعالى، وذكر سبب طلبه: أن يجنب هو وبنوه عبادة الأصنام بقوله: إنهن أضللن كثيرا من الناس، إذ قد شاهد أباه وقومه يعبدون الأصنام. ومعنى أضللنا: كنا سببا لإضلال كثير من الناس، والمعنى: أنهم ضلوا بعبادتها، كما تقول: فتنتهم الدنيا أي: افتتنوا بها، واغتروا بسببها. وقرأ الجحدري، وعيسى الثقفي: وأجنبني من أجنب، وأنث الأصنام لأنه جمع ما لا يعقل يخبر عنه أخبار المؤنث كما تقول: الأجذاع انكسرت. والأخبار عنه أخبار جمع العاقل المذكر بالواو ومجاز نحو قوله: فقد ضلوا كثيرا. فمن تبعني أي: على ديني وما أنا عليه، فإنه مني. جعله لفرط الاختصاص به وملابسته كقوله: (من غشنا فليس منا) أي ليس بعض المؤمنين تنبيها على تعظيم الغش بحيث هو يسلب الغاش الإيمان، والمعنى: أن الغش ليس من أوصاف أهل الإيمان. ومن عصاني، هذا فيه طباق معنوي، لأن التبعية طاعة فقوله: فإنك غفور رحيم. قال مقاتل: ومن عصاني فيحادون الشرك. وقال الزمخشري: تغفر لي ما سلف من العصيان إذا بدا لي فيه واستحدث الطاعة. قال ابن عطية: ومن عصاني ظاهره بالكفر لمعادلة قوله: فمن تبعني فإنه مني، وإذا كان كذلك فقوله: فإنك غفور رحيم معناه حين يؤمنوا، لأنه أراد أن الله يغفر لكل كافر، لكنه حمله على هذه العبارة ما كان يأخذ نفسه به من القول الجميل والنطق الحسن وجميل الأدب صلى الله عليه وسلم). وكذلك قال نبي الله عيسى عليه السلام: * (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *.
* (ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلواة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون) *: كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل، والالتجاء إلى الله تعالى. وأتى بضمير جماعة المتكلمين، لأنه تقدم ذكره. وذكر بنيه في قوله: واجنبني وبنى، ومن ذريتي هو إسماعيل ومن ولد منه. وذلك هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة، فروى أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل، فجاء في يوم واحد من الشام إلى مكة، فنزل وترك ابنه وأمته هنالك، وركب منصرفا من يومه ذلك، وكان هذا كله بوحي من الله تعالى، فلما ولي دعا بما في ضمن هذه الآية. وأما كيفية بقاء هاجر وما جرى لها ولإسماعيل هناك ففي كتاب البخاري والسير وغيره. ومن للتبعيض، لأن إسحاق كان في الشام، والوادي ما بين الجبلين، وليس من شرطه أن يكون فيه ماء، وإنما قال: غير ذي زرع، لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي، وأنه يرزقها الماء، وإنما نظر النظر البعيد فقال: غير ذي زرع، ولو لم يعلم ذلك من الله تعالى لقال: غير ذي ماء، على ما كانت عليه حال الوادي عند ذلك. قال ابن عطية: وقد يقال إن انتفاء كونه ذا زرع مستلزم لانتفاء الماء الذي لا يمكن أن يوجد زرع إلا حيث وجد الماء، فنفى ما يتسبب عن الماء وهو الزرع لانتفاء سببه وهو الماء. وقال الزمخشري: بواد هو وادي مكة، غير ذي ذرع: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله: * (قرءانا عربيا غير ذى عوج) * بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلا استقامة لا غير انتهى. واستعمل قط وهي ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله: لا يكون، وليس هو ماضيا، وهو مكان أبدا الذي يستعمل مع غير الماضي من المستقبلات. والظاهر أن قوله: عند بيتك
420

المحرم، يقتضي وجود البيت حالة الدعاء، وسبقه قبله وتقدم الكلام في البيت ومتى وضع في البقرة، وفي آل عمران. ووصف بالمحرم لكونه حرم على الطوفان أي: منع منه، كما سمى بعتيق لأنه أعتق منه فلم يستول عليه، أو لكونه لم يزل عزيزا ممنعا من الجبابرة، أو لكونه محترما لا يحل انتهاكه. وليقيموا متعلق بأسكنت. وربنا دعاء معترض، والمعنى: إنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة. وقيل: هي لام الأمر، دعا لهم بإقامة الصلاة. وقال أبو الفرج بن الجوزي: اللام متعلقة بقوله: واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ليقيموا الصلاة انتهى. وهذا بعيد جدا. وخص الصلاة دون سائر العبادات لأنها أفضلها، أو لأنها سبب لكل خير. وقوله: ليقيموا بضمير الجمع دلالة على أن الله أعلمه بأن هذا الطفل سيعقب هنالك، ويكون له نسل. وأفئدة: جمع فؤاد وهي القلوب، سمي القلب فؤاد لإتفاده مأخوذ من فأد، ومنه المفتأد، وهو مستوقد النار حيث يشوى اللحم. وقال مؤرج الأفئدة: القطع من الناس بلغة قريش، وإليه ذهب ابن بحر. قال مجاهد: لو قال إبراهيم عليه السلام: أفئدة الناس، لازدحمت على البيت فارس والروم. وقال ابن جبير: لحجته اليهود والنصارى. والظاهر أن من للتبعيض، إذ التقدير: أفئدة من الناس. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون من للابتداء كقولك: القلب مني سقيم يريد قلبي، فكأنه قيل: أفئدة ناس، وإنما نكر المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة، لأنها في الآية نكرة لتتناول بعض الأفئدة انتهى. ولا يظهر كونها لابتداء الغاية، لأنها ليس لنا فعل يبتدأ فيه لغاية ينتهي إليها، إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة من الناس، وإنما الظاهر في من التبعيض. وقرأ هشام: أفئدة بياء بعد الهمزة، نص عليه الحلواني عنه وخرج ذلك على الإشباع، ولما كان الإشباع لا يكون إلا في ضرورة الشعر حمل بعض العلماء هذه القراءة على أن هشاما قرأ بتسهيل الهمزة كالياء، فعبر الراوي عنها بالياء، فظن من أخطأ فهمه أنها بياء بعد الهمزة، والمراد بياء عوضا من الهمزة، قال: فيكون هذا التحريف من جنس التحريف المنسوب إلى من روى عن أبي عمرو: بارئكم ويأمركم، ونحوه بإسكان حركة لإعراب، وإنما كان ذلك اختلاسا. قال أبو عمرو والداني الحافظ: ما ذكره صاحب هذا القول لا يعتمد عليه، لأن النقلة عن هشام وأبي عمر وكانوا من أعلم الناس بالقراءة ووجوهها، وليس يفضي بم الجهل إلى أن يعتقد فيهم مثل هذا وقرئ آفدة: على وزن فاعلة، فاحتمل أن يكون اسم فاعل للحذف من أفد أي دنا وقرب وعجل أي: جماعة آفدة، أو جماعات آفدة، وأن يكون جمع ذلك فؤاد، ويكون من باب القلب، وصار بالقلب أأفدة، فأبدلت الهمزة الساكنة ألفا كما قالوا. في ارآم أأرام، فوزنه أعفلة. وقرئ أفدة على وزن فعله، فاحتمل أن يكون جمع فؤاد وذلك بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الساكن قبلها وهو الفاء، وإن كان تسهيلها بين بين هو الوجه، وأن يكون اسم فاعل من أفد كما تقول: فرح فهو فرح. وقرأت أم الهيثم: أفودة بالواو المكسورة بدل الهمزة. قال صاحب اللوامح: وهو جمع وفد، والقراءة حسنة: لكني لا أعرف هذه المرأة، بل ذكرها أبو حاتم
انتهى. أبدل الهمزة في فؤاد بعد الضمة كما أبدلت في جون، ثم جمع فأقرها في الجمع إقرارها في المفرد. وهو جمع وفد كما قال صاحب اللوامح، وقلب إذ الأصل أوفده. وجمع فعل على أفعلة شاذ نحو: نجد وأنجدة، ووهى وأوهية. وأم الهيثم امرأة نثل عنها شيء من لغات العرب. وقرأ زيد بن علي: إفادة على وزن إشارة. ويظهر أن الهمزة بدل من الواو المكسورة كما قالوا: اشاح في وشاح، فالوزن فعالة أي: فاجعل ذوي وفادة. ويجوز أن يكون مصدر أفاد إفادة، أو ذوي إفادة، وهم الناس الذين يفيدون وينتفع بهم. وقرأ الجمهور: تهوي إليهم أي تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا ونزاعا، ولما ضمن تهوي معنى تميل عداه بإلى، وأصله أن يتعدى باللام. قال الشاعر:
* حتى إذا ما هوت كف الوليد بها
*
طارت وفي كفه من ريشها بتك
*
421

ومثال ما في الآية قول الشاعر:
* تهوى إلى مكة تبغي الهدى
*
ما مؤمن الجن ككفارها
*
. وقرأ مسلمة بن عبد الله: تهوى بضم التاء مبنيا للمفعول من أهوى المنقولة بهمزة التعدية من هوى اللازمة، كأنه قيل: يسرع بها إليهم. وقرأ علي بن أبي طالب، وزيد بن علي، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، ومجاهد: تهوى مضارع هوى بمعنى أحب، ولما ضمن معنى النزوع والميل عدى بإلى. وارزقهم من الثمرات مع سكانهم واديا ما فيه شيء منها بأن يجلب إليهم من البلاد كقوله: * (يجبى إليه ثمرات كل شىء) * وروي عن مسلم بن محمد الطائفي أنه لما دعا عليه السلام بأن يرزق سكان مكة الثمرات، بعث الله جبريل عليه السلام فاقتلع بجناحه قطعه من فلسطين. وقيل: من الأردن فجاء بها، وطاف بها حول البيت سبعا، ووضعها قريب مكة فهي الطائف. وبهذه القصة سميت وهي موضع ثقيف، وبها أشجار وثمرات. وروى نحو منه عن ابن عباس. لعلهم يشكرون. قال الزمخشري النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات حاضرة في واد بباب ليس فيه نجم ولا شجر ولا ماء، لا جرم أن الله عز وجل أجاب دعوة إبراهيم فجعله حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا، ثم فضله في وجود أصناف الثمار فيه على كل ريف، وعلى أخصب البلاد وأكثرها ثمارا، وفي أي بلد من بلاد الشرق والغرب ترى الأعجوبة التي يريكها الله. بواد غير ذي زرع وهي: اجتماع البواكير والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والسيفية والخريفية في يوم واحد، وليس ذلك من آياته بعجيب.
* (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن وما يخفى على الله من شىء فى الارض ولا فى السماء الحمد) *: كرر النداء للتضرع والالتجاء، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم، وبين إضافته إلى جمع المتكلم، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه. وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكلكم. قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: لا نخشى تركتنا إلى كاف. والظاهر أن قوله: وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء، من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده بكلام إبراهيم. لما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفى هو ومن كنى عنه، تمم جميع الأشياء، وأنها غير خافية عنه تعالى. وقيل: وما يخفى الآية من كلام الله عز وجل تصديقا لإبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: * (وكذالك يفعلون) * والظاهر أن هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام لم تقع منه في زمان واحد، وإنما حكى الله عنه ما وقع في أزمان مختلفة، يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجودا حالة دعائه، إذ ترك هاجر والطفيل بمكة. فالظاهر أن حمده الله تعالى على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق، وعلى الكبر يدل على مطلق الكبر، ولم يتعرض لتعيين المدة التي وهب له فيها ولداه. وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة وثنتي عشرة سنة. وقيل: إسماعيل لأربع وستين، وإسحاق لتسعين. وعن ابن جبير: لم يولد له إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. وإنما ذكر حال الكبر لأن المنة فيها بهبة الولد أعظم من حيث أن الكبر مظنة اليأس من الولد، فإن مجيء الشيء بعد الإياس أحلى في النفس وأبهج لها. وعلى الكبر في موضع الحال لأنه قال: وأنا كبير، وعلى علي بابها من الاستعلاء لكنه مجاز، إذ الكبر معنى لا جرم يتكون، وكأنه لما أسن وكبر صار مستعليا على الكبر. وقال الزمخشري: على في قوله على الكبر بمعنى مع، كقوله:
422

* إني على ما ترين من كبري
*
أعلم من حيث يؤكل الكتف
*
وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل، وكان قد دعا الله أن يهبه ولدا بقوله: * (رب هب لى من الصالحين) * فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة
دعائه. والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه. وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا مذكور في علم النحو. ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو: هذا ضارب زيد أمس. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعا على الإسناد المجازي، والمراد: سماع الله انتهى. وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب السفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس. وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل. وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل: زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين. ودعاؤه بأن يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها، إنما يريد بذلك الديمومة. ومن ذريتي، من للتبعيض، لأنه أعلم أن من ذريته من يكون كافرا، أو من يهمل إقامتها وإن كان مؤمنا. وقرأ طلحة، والأعمش: دعاء ربنا بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم في الوقف. وروي ورش عن نافع: إثباتها في الوصل. والظاهر أن إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين، وكانت أمه مؤمنة، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله، وهذا يتمشى إذا قلنا: إن هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها. وقيل: أراد أمه، ونوحا عليه السلام. وقيل: آدم وحواء. والأظهر القول الأول. وقد جاء نصا دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله: * (واغفر لابى إنه كان من الضالين) * وقال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين؟ (قلت): هو من تجويزات العقل، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى. وهو في ذلك موافق لأهل السنة، مخالف لمذهب الاعتزال. وقرأ الحسين بن علي، ومحمد، وزيد: ربنا على الخبر. وابن يعمر والزهري والنخعي: ولولدي بغير ألف وبفتح اللام يعني: إسماعيل وإسحاق، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة، وقال: إن في مصحف أبي بن كعب: ولأبوي، وعن يحيى بن يعمر: ولولدي بضم الواو وسكون اللام، فاحتمل أن يكون جمع ولد كأسد في أسد، ويكون قد دعا لذريته، وأن يكون لغة في الولد. وقال الشاعر:
* فليت زيادا كان في بطن أمه
*
وليت زيادا كان ولد حمار
*
كما قالوا: العدم والعدم. وقرأ ابن جبير: ولوالدي بإسكان الياء على الإفراد كقوله: واغفر لأبي، وقيام الحساب مجاز. عن وقوعه وثبوته كما يقال: قامت الحرب على ساق، أو على حذف مضاف أي: أهل الحساب كما قال: * (يقوم الناس لرب العالمين) *.
* (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار * مهطعين مقنعى * رؤوسهم * لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء) *: الخطاب بقوله: ولا
423

تحسين، للسامع الذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله، لا للرسول صلى الله عليه وسلم)، فإنه مستحيل ذلك في حقه. وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين، وتسلية للمظلومين. وقرأ طلحة: ولا تحسب بغير نون التوكيد، وكذا فلا تحسب الله مخلف وعده. والمراد بالنهي عن حسبانه غافلا الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله: * (والله بما تعملون عليم) * يريد الوعيد. ويجوز أن يراد: ولا تحسبنه، يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وقرأ السلمي والحسن، والأعرج، والمفضل، عن عاصم وعباس بن الفضل، وهارون العتكي، ويونس بن حبيب، عن أبي عمر: ونؤخرهم بنون العظمة، والجمهور بالياء أي: يؤخرهم الله. مهطعين مسرعين، قاله: ابن جبير وقتادة. وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف. وقال ابن عباس، وأبو الضحى: شديدي النظر من غير أن يطرقوا. وقال ابن زيد: غير رافعي رؤوسهم. وقال مجاهد: مد يمين النظر. وقال الأخفش: مقبلين للإصغاء، وأنشد:
بدجاة دارهم ولقد أراهم
بدجلة مهطعين إلى السماع. وقال الحسن: مقنعي رؤوسهم وجوه الناس يومئذ إلى السماء، لا ينظر أحد إلى أحد انتهى. وقال ابن جريج: هواء صفر من الخير خاوية منه. وقال أبو عبيدة: جوف لا عقول لهم. وقال ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد: خربة خاوية ليس فيها خير ولا عقل. وقال سفيان: خالية إلا من فزع ذلك اليوم كقوله: وأصبح فؤاد أم موسى فارغا، أي: إلا من هم موسى. وهواء تشبيه محض، لأنها ليست بهواء حقيقة، ويحتمل أن يكون التشبيه في فراغها من الرجاء والطمع في الرحمة، فهي منحرقة مشبهة الهواء في تفرغه من الأشياء وانخراقه، وأن يكون في اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور، وأنها تجيء وتذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم، فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب. وحصول هذه الصفات الخمس للظالمين قبل المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله: يوم يقوم الحساب. وقيل: عند إجابة الداعي، والقيام من القبور. وقيل: عند ذهاب السعداء إلى الجنة، والأشقياء إلى النار.
* (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أولم تكونوا) *: هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). ويوم منصوب على أنه مفعول ثان لا نذر، ولا يصح أن يكون ظرفا، لأن ذلك اليوم ليس بزمان للإنذار، وهذا اليوم هو يوم القيامة والمعنى: وأنذر الناس الظالمين، ويبين ذلك قوله: فيقول الذين ظلموا، لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون. وقيل: اليوم يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، أو يوم موتهم معذبين بشدة السكرات، ولقاء
الملائكة بلا بشرى كقوله: * (لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق) * ومعنى التأخر إلى أجل قريب الرد إلى الدنيا قاله الضحاك، إذ الإمهال إلى أمد وحد من الزمان قريب قاله السدي، أي: لتدارك ما فرطوا من إجابة الدعوة، واتباع الرسل. أو لم تكونوا هو على إضمار القول والظاهر أن التقدير فيقال لهم، والقائل الملائكة، أو القائل الله تعالى. يوبخون بذلك، ويذكرون مقالتهم في إنكار البعث، وإقسامهم على ذلك كما قال تعالى:
424

* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت) * ومعنى ما لكم من زوال، من الأرض بعد الموت أي: لا نبعث من القبور. وقال محمد بن كعب: إن هذا القول يكون منهم وهم في النار، ويرد عليهم: أو لم تكونوا، ومعناه التوبيخ والتقريع. وقال الزمخشري أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول، وفيه وجهان: أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا، ولما استولى عليهم من عادة الجهل والسفه. وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديدا، وأملوا بعيدا. وما لكم جواب القسم، وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: أقسمتم، ولو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا من زوال، والمعنى: أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزولون بالموت والفناء، وقيل: لا تنتقلون إلى دار أخرى انتهى. فجعل الزمخشري أو لم تكونوا محكيا بقولهم، وهو مخالف لما قد بيناه من أنه يقال لهم ذلك، وقوله: لا يزولون بالموت والفناء ليس بجيد، لأنهم مقرون بالموت والفناء. وقوله هو قول مجاهد. وسكنتم إن كان من السكون، فالمعنى: أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين بسيرة من قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدثونها بما لقي الظالمون قبلهم. وإن كان من السكنى، فإن السكنى من السكون الذي هو اللبث، والأصل تعديته بفي كما يقال: أقام في الدار وقر فيها، ولكنه لما أطلق على سكون خاص تصرف فيه، فقيل: سكن الدار كما قيل: تبوأها، وتبين لكم بالخبر وبالمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام. وقرأ الجمهور: وتبين فعلا ماضيا، وفاعله مضمر يدل عليه الكلام أي: وتبين لكم هو أي حالهم، ولا يجوز أن يكون الفاعل كيف، لأن كيف إنما تأتي اسم استفهام أو شرط، وكلاهما لا يعمل فيه ما قبله، إلا ما روي شاذا من دخول على علي كيف في قولهم: على كيف تبيع الأحمرين، وإلى في قولهم: أنظر إلى كيف تصنع، وإنما كيف هنا سؤال عن حال في موضع نصب بفعلنا. وقرأ السلمي فيما حكى عنه أبو عمرو الداني: ونبين بضم النون، ورفع النون الأخيرة مضارع بين، وحكاها صاحب اللوامح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك على إضمار ونحن نبين، والجملة حالية. وقال المهدوي عن السلمي: إنه قرأ كذلك، إلا أنه جزم النون عطفا على أو لم تكونوا أي: ولم نبين فهو مشارك في التقرير. وضربنا لكم الأمثال أي: صفات ما فعلوا وما فعل بهم، وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم.
* (وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال * فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام * يوم تبدل الارض غير الارض * والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار * وترى المجرمين يومئذ مقرنين فى الاصفاد * سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار * ليجزى الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب * هاذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إلاه واحد وليذكر أولوا الالباب) *: الظاهر أن الضمير في مكروا عائد على المخاطبين في قوله: * (أو لم * تكونوا أقسمتم من قبل) * أي مكروا بالشرك بالله، وتكذيب الرسل. وقيل: الضمير عائد على قوم الرسول كقوله: * (وأنذر الناس) * أي: وقد مكر قومك يا محمد، وهو الذي في قوله: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * الآية ومعنى مكرهم أي: المكر العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم، والظاهر أن هذا إخبار من الله لنبيه بما صدر منهم في الدنيا، وليس مقولا في الآخرة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مما يقال يوم القيامة للظلمة الذين سكن في منازلهم. وعند الله مكرهم أي: علم مكرهم فهو مطلع عليه، فلا ينفذ لهم فيه قصدا، ولا يبلغهم فيه أملا أو جزاء مكرهم، وهو عذابه لهم. والظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل، كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل: وعند الله ما مكروا أي مكرهم. وقال الزمخشري: أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى: وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به، وهو عذابهم الذي يستحقونه، يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون انتهى. وهذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قال هو، إذ قدر يمكرهم به، والمحفوظ أن مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه. قال تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * وتقول: زيد ممكور به، ولا يحفظ زيد ممكور بسبب كذا.
وقرأ الجمهور: وإن كان بالنون. وقرأ عمرو، وعلي، وعبد الله، وأبي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو إسحاق السبيعي، وزيد بن علي: وإن كاد بدال مكان النون
425

لتزول بفتح اللام الأولى ورفع الثانية، وروي كذلك عن ابن عباس. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وابن وثاب، والكسائي كذلك، إلا أنهم قرؤوا وإن كان بالنون، فعلى هاتين القراءتين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وذلك على مذهب البصريين. وأما على مذهب الكوفيين فإن نافية، واللام بمعنى إلا. فمن قرأ كاد بالدال فالمعنى: أنه يقرب زوال الجبال بمكرهم، ولا يقع الزوال. وعلى قراءة كان بالنون، يكون زوال الجبال قد وقع، ويكون في ذلك تعظيم مكرهم وشدته، وهو بحيث يزول منه الجبال وتنقطع عن أماكنها. ويحتمل أن يكون معنى لتزول ليقرب زوالها، فيصير المعنى كمعنى قراءة كاد. ويؤيد هذا التأويل ما ذكره أبو حاتم من أن في قراءة أبي: ولولا كلمة الله لزال من مكرهم الجبال، وينبغي أن تحمل هذه القراءة على التفسير لمخالفتها لسواد المصحف المجمع عليه. وقرأ الجمهور وباقي السبعة: وإن كان بالنون مكرهم لتزول بكسر اللام، ونصب الأخيرة. ورويت هذه القراءة عن علي، واختلف في تخريجها. فعن الحسن وجماعة أن إن نافية، وكان تامة، والمعنى: وتحقير مكرهم، وأنه ما كان لتزول منه الشرائع والنبوات وأقدار الله التي هي كالجبال في ثبوتها وقوتها، ويؤيد هذا التأويل ما روي عن ابن مسعود أنه قرأ: وما كان بما النافية: لكن هذا التأويل، وما روي عن ابن مسعود من قراءة وما بالنفي، يعارض ما تقدم من القراءات، لأن فيها تعظيم مكرهم، وفي هذا تحقيره. ويحتمل على تقدير أنها نافية أن تكون كان ناقصة، واللام لام الجحود، وخبر كان على الخلاف الذي بين البصريين والكوفيين: أهو محذوف؟ أو هو الفعل الذي دخلت عليه اللام؟ وعلى أن إن نافية وكان ناقصة، واللام في لتزول متعلقة بفعل في موضع خبر كان، خرجه الحوفي.
وقال الزمخشري: وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، وإن عظم مكرهم وتتابع في الشدة بضرب زوال الجبال منه مثلا لتفاقمه وشدته أي: وإن كان مكرهم مستو لإزالة
الجبال معدا لذلك. وقال ابن عطية: ويحتمل عندي هذه القراءة أن تكون بمعنى تعظيم مكرهم أي: وإن كان شديدا بما يفعل ليذهب به عظام الأمور انتهى. وعلى تخريج هذين تكون إن هي المخففة من الثقيلة، وكان هي الناقصة. وعلى هذا التخريج تتفق معاني القراءات أو تتقارب، وعلى تخريج النفي تتعارض كما ذكرنا. وقرئ لتزول بفتح اللام الأولى ونصب الثانية، وذلك على لغة من فتح لام كي. والذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قري 5، وعظمه والجبال لا تزول، وهذا من باب الغلو والإيغال والمبالغة في ذم مكرهم. وأما ما روي أن جبلا زال يحلف امرأة اتهمها زوجها وكان ذلك الجبل من حلف عليه كاذبا مات، فحملها للحلف، فمكرت بأن رمت نفسها عن الدابة وكانت وعدت من اتهمت به أن يكون في المكان الذي وقعت فيه عن الدابة، فأركبها زوجها وذلك الرجل، وحلفت على الجبل أنها ما مسها غيرهما، فنزلت سالمة، وأصبح الجبل قد اندك، وكانت المرأة من عدنان. وما روي من قصة النمرود أو بخت نصر، واتخاذ الأنسر وصعودهما عليها إلى قرب السماء في قصة طويلة. وما تأول بعضهم أنه عبر بالجبال عن الإسلام، والقرآن لثبوته ورسوخه، وعبر بمكرهم عن اختلافهم فيه من قولهم: هذا سحر هذا شعر هذا إفك، فأقوال ينبو عنها ظاهر اللفظ، وبعيد جدا قصة الأنسر. والنهي عن الحسبان كهو في قوله: * (ولا تحسبن الله غافلا) * وأطلق الحسبان على الأمر المتحقق هنا كما قال الشاعر:
* فلا تحسبن أني أضل منيتي
*
فكل امرئ كأس الحمام يذوق
*
وهذا الوعد كقوله تعالى: * (إنا لننصر رسلنا) * * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) * وقرأ الجمهور بإضافة مخلف إلى وعده، ونصب رسله. واختلف في إعرابه فقال الجمهور. الفراء، وقطرب، والحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء: إنه مما أضيف فيه اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيدا، لما
426

كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل واحد منهما، فينتصب ما تأخر. وأنشد بعضهم نظيرا له قول الشاعر:
* ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
*
وسائره باد إلى الشمس أجمع. وقال أبو البقاء: هو قريب من قولهم: يا سارق الليلة أهل الدار. وقال الفراء وقطرب: لما تعدى الفعل إليهما جميعا لم يبال بالتقديم والتأخير. وقال الزمخشري: (فإن قلت): هلا قيل مخلف رسله وعده، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ (قلت): قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا لقوله: * (إن الله لا يخلف الميعاد) * ثم قال: رسله، ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلفه رسله الذين هم خيرته وصفوته؟ انتهى. وهو جواب على طريقة الاعتزال في أن وعد الله واقع لا محالة، فمن وعده بالنار من العصاة لا يجوز أن يغفر له أصلا. ومذهب أهل السنة أن كل ما وعد من العذاب للعصاة المؤمنين هو مشروط إنفاذه بالمشيئة. وقيل: مخلف هنا متعد إلى واحد كقوله: * (لا يخلف الميعاد) * فأضيف إليه، وانتصب رسله بوعده إذ هو مصدر ينحل بحرف مصدري والفعل كأنه قال: مخلف ما وعد رسله، وما مصدرية، لا بمعنى الذي. وقرأت فرقة: مخلف وعده رسله بنصب وعده، وإضافة مخلف إلى رسله، ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، وهو كقراءة. قتل أولادهم شركائهم، وتقدم الكلام عليه مشبعا في الأنعام. وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى، وأنه مما تعدى فيه مخلف إلى مفعولين. إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء ولا يغالب ذو انتقام من الكفرة لا يعفو عنهم. والتبديل يكون في الذات أي: تزول ذات وتجيء أخرى. ومنه: * (بدلناهم جلودا غيرها) * * (وبدلناهم بجناتهم جنتين) * ويكون في الصفات كقولك: بدلت الحلقة خاتما، فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل. واختلفوا في التبديل هنا، أهو في الذات، أو في الصفات، فقال ابن عباس: تمد كما يمد الأديم، وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها، وجميع ما فيها حتى تصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وتبدل السماوات بتكوير شمسها، وانتثار كواكبها، وانشقاقها، وخسوف قمرها. وقال ابن مسعود: تبدل الأرض بأرض كالفضة نقية لم يسفك فيها دم، ولم يعمل فيها خطيئة. وقال على تلك الأرض من فضة والجنة من ذهب. وقال محمد بن كعب وابن جبير: هي أرض من خبز يأكل منها المؤمنون من تحت أقدامهم، وجاء هذا مرفوعا. وقيل: تصير نارا والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها. وقال أبي: تصير السماوات حقابا. وقيل: تبديلها طيها. وقيل: مرة كالمهل، ومرة وردة كالدهان، قاله ابن الأنباري. وقيل: بانشقاقها فلا تظل. وفي الحديث: * (إن الله * يبدل * هاذه * الارض) * وفي كتاب الزمخشري وعن علي: تبدل أرضا من فضة، وسموات من ذهب. وعن الضحاك: أرضا من فضة بيضاء كالصحائف. وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير، وأنشد:
وما الناس بالناس الذين عهدتهمولا الدار بالدار التي كنت تعلم.
427

قال ابن عطية: وسمعت من أبي رضي الله عنه روى أن التبديل يقع في الأرض، ولكن تبدل لكل فريق بما يقتضيه حاله، فالمؤمن يكون على خبز يأكل منه بحسب حاجته إليه، وفريق يكونون على فضة إن صح السند بها، وفريق الكفرة يكونون على نار ونحو هذا، وكله واقع تحت قدرة الله تعالى. وفي الحديث: (المؤمنون وقت التبديل في ظل العرش، وفيه أنهم ذلك الوقت على الصراط) وقال أبو عبد الله الرازي: المراد من تبديل الأرض والسماوات هو أنه تعالى يجعل الأرض جهنم،
ويجعل السماوات الجنة، والدليل عليه قوله تعالى: * (عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين كلا إن كتاب الفجار لفى سجين) * وقوله: * (كلا إن كتاب الابرار لفى عليين) * انتهى. وكلامه هذا يدل على أن الجنة والنار غير مخلوقتين، وظاهر القرآن والحديث أنهما قد خلقتا، وصح في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اطلع عليهما، ولا يمكن أن يطلع عليهما حقيقة إلا بعد خلقهما.
*
وبرزوا: أي ظهر. وألا يواريهم بناء ولا حصن، وانتصاب يوم على أنه بدل من يوم يأتيهم قاله الزمخشري، أو معمولا لمخلف وعده. وإن وما بعدها اعتراض قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: لا يجوز أن يكون ظرفا فالمخلف ولا لوعده، لأن ما قبل أن لا يعمل فيما بعدها، ولكن جوز أن يلحق من معنى الكلام ما يعمل في الظرف أي: لا يخلف وعده يوم تبدل انتهى. وإذا كان إن وما بعدها اعتراضا، لم يبال أنه فصلا بين العامل والمعمول، أو معمولا لانتقام قاله: الزمخشري، والحوفي، وأبو البقاء، أولا ذكر قاله أبو البقاء. وقرئ: نبدل بالنون الأرض بالنصب، والسماوات معطوف على الأرض، وثم محذوف أي: غير السماوات، حذف لدلالة ما قبله عليه. والظاهر استئناف. وبرزوا. وقال أبو البقاء يجوز أن يكون حالا من الأرض، وقد معه مزادة. ومعنى لله: لحكم الله، أو لموعوده من الجنة والنار. وقرأ زيد بن علي: وبرزوا بضم الباء وكسر الراء مشددة جعله مبنيا للمفعول على سبيل التكثير بالنسبة إلى العالم وكثرتهم، لا بالنسبة إلى تكرير الفعل. وجئ بهذين الوصفين وهما: الواحد وهو الواحد الذي لا يشركه أحد في ألوهيته، ونبه به على أن آلهتهم في ذلك اليوم لا تنفع. والقهار وهو الغالب لكل شيء، وهذا نظير قوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) *. وترى المجرمين يومئذ يوم إذ تبدل، وبرزوا مقرنين مشدودين في القرن أي: مقرون بعضهم مع بعض في القيود والأغلال، أو مع شياطينهم، كل كافر مع شيطانه في غل أو تقرن أيديهم إلى أرجلهم مغللين. والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله: مقرنين أي: يقرنون في الأصفاد. ويجوز أن يكون في موضع الصفة لمقرنين، وفي موضع الحال، فيتعلق بمحذوف كأنه قيل: مستقرين في الأصفاد. وقال الحسن: ما في جهنم واد، ولا مفازة، ولا قيد، ولا سلسلة، إلا اسم صاحبه مكتوب عليه.
وقرأ علي، وأبو هريرة، وابن عباس، وعكرمة، وابن جبير، وابن سيرين، والحسن، بخلاف عنه. وسنان بن سلمة بن المحنق، وزيد بن علي، وقتادة، وأبو صالح، والكلبي، وعيسى الهمداني، وعمرو بن فائد، وعمرو بن عبيد من قطر بفتح القاف وكسر الطاء وتنوين الراء، أن اسم فاعل من أني صفة لقطر. قيل: وهو القصدير، وقيل: النحاس. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: ليس بالقطران، ولكنه النحاس يصير بلونه. والآتي الذائب الحار الذي قد تناهى حره. قال الحسن: قد سعرت عليه جهنم منذ خلقت، فتناهى حره. وقال ابن عباس: أي آن أن يعذبوا به يعني: حان تعذيبهم به. وقال الزمخشري: ومن شأنه. أي: القطران، أن يسرع فيه اشتعال النار، وقد يستسرج به، وهو أسود اللون منتن الريح، فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسرابيل وهي القمص، لتجتمع عليهم الأربع: لذع القطران وحرقته، وإسراع النار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الريح. على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. وكل ما وعده الله، أو أوعد به في الآخرة، فبينه وبين ما يشاهده من جنسه ما لا يقادر قدره، وكأنه ما عندنا منه إلا الأسامي والمسميات ثمة، فبكرمه الواسع نعوذ من سخطه ونسأله التوفيق فيما ينجينا من عذابه انتهى. وقرأ عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب: من قطران بفتح القاف وإسكان الطاء، وهو في شعر أبي النجم قال: لبسنه القطران والمسوحا
428

وقرأ الجمهور: وتغشى وجوههم بالنصب، وقرئ بالرفع، فالأول على نحو قوله: * (واليل إذا يغشى) * فهي على حقيقة الغشيان، والثانية على التجوز، جعل ورود الوجه على النار غشيانا. وقرئ: وتغشى وجوههم بمعنى تتغشى، وخص الوجوه هنا. وفي قوله: * (أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب يوم القيامة * ويوم * يسحبون فى النار على وجوههم) * لأن الوجه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه كالقلب في باطنه، ولذلك قال: * (تطلع على الافئدة) *. وليجزي متعلق بمحذوف تقديره: يفعل بالمجرمين ما يفعل، ليجزي كل نفس أي: مجرمة بما كسبت، أو كل نفس من مجرمة ومطيعة: لأنه إذا عاقبت المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم، قاله الزمخشري. ويظهر أنها تتعلق بقوله: وبرزوا أي: الخلق كلهم، ويكون كل نفس عاما أي: مطيعة ومجرمة، والجملة من قوله: وترى، معترضة. وقال ابن عطية: اللام متعلقة بفعل مضمر تقديره: فعل هذا، أو أنفذ هذا العقاب على المجرمين ليجزي في ذلك المسئ على إساءته انتهى. والإشارة بهذا إلى ما ذكر به تعالى من قوله: * (ولا تحسبن الله غافلا) * إلى قوله: * (سريع الحساب) * وقيل: الإشارة إلى القرآن، وقيل: إلى السورة. ومعنى بلاغ كفاية في الوعظ والتذكير، ولينذروا به. قال الماوردي: الواو زائدة، وعن المبرد: هو عطف مفرد أي: هذا بلاغ وإنذار انتهى. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب. وقيل: هو محمول على المعنى أي: ليبلغوا ولينذروا. وقيل: اللام لام الأمر. قال بعضهم: وهو حسن لولا قوله: وليذكر، فإنه منصوب لا غير انتعهى. ولا يخدش ذلك، إذ يكون وليذكر ليس معطوفا على الأمر، بل يضمر له فعل يتعلق به. وقال ابن عطية: المعنى هذا بلاغ للناس، وهو لينذروا به انتهى. فجعله في موضع رفع خبرا لهو المحذوفة. وقال الزمخشري: ولينذروا معطوف على محذوف أي: لينصحوا ولينذروا به بهذا البلاغ انتهى. وقرأ مجاهد، وحميدا بتاء مضمومة وكسر الذال، كان البلاغ العموم، والإنذار للمخاطبين. وقرأ يحيى بن عمارة: الذراع عن أبيه، وأحمد بن زيد بن أسيد السلمي: ولينذروا بفتح الياء والذال، مضارع نذر بالشيء إذا علم به فاستعد له. قالوا: ولم يعرف لهذا الفعل مصدر، فهو مثل عسى وغيره مما استعمل من الأفعال ولم يعرف له أصل. وليعلموا لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعاهم ذلك إلى النظر، فيتوصلون إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، إذ الخشية أصل الخير. وليذكر أي: يتعظ ويراجع نفسه بما سمع من المواعظ. وأسند التذكر والاتعاظ إلى من له لب، لأنهم هم الذين يجدي فيهم التذكر. وقيل: هي في أبي بكر الصديق. وناسب مختتم هذه السورة مفتتحها، وكثيرا ما جاء في سور القرآن، حتى أن بعضهم زعم أن قوله: ولينذروا به معطوف على قوله: لتخرج الناس.
429

((سورة الحجر) 1 * (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الا مل فسوف يعلمون * ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون * وقالوا ياأيها الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون * ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الا ولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الا ولين * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون * ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين * والا رض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون * ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين * وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) *)) *
430

رب: حرف جر لا اسم خلافا للكوفيين والأخفش في أحد قوليه، وابن الطراوة ومعناها في المشهور: التقليل لا التكثير، خلافا لزاعمه وناسبه إلى سيبويه، ولمن قال: لا تفيد تقليلا ولا تكثيرا، بل هي حرف إثبات. ودعوى أبي عبد الله الرازي الاتفاق على أنها موضوعة للتقليل باطلة، وقول الزجاج: إن رب للكثرة ضد ما يعرفه أهل اللغة ليس بصحيح، وفيها لغات، وأحكامها كثيرة ذكرت في النحو، ولم تقع في القرآن إلا في هذه السورة على كثرة وقوعها في لسان العرب.
ذر: أمر استغنى غالبا عن ماضيه بترك، وفي الحديث: (ذروا الحبشة ما وذرتكم) لو ما: حرف تحضيض، فيليها الفعل ظاهرا أو مضمرا، وحرف امتناع لوجود فيليها الاسم مبتدأ على مذهب البصريين ومنه، قول الشاعر:
* لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما
*
ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
*
وقال بعضهم: الميم في لو ما بدل من اللام في لولا، ومثله: استولى على الشيء واستوما. وخاللته وخالمته فهو خلى وخلمي أي: صديقي. وقال الزمخشري: لو ركبت مع لا وما لمعنيين، وأما هل فلم تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض انتهى. والذي أختاره البساطة فيهما لا التركيب، وأن ما ليست بدلا من لا. سلك الخيط في الإبرة وأسلكها أدخله فيها ونظمه. قال الشاعر:
* حتى إذا سلكوهم في قتائدة
*
شلا كما تطرد الحمالة الشردا
*
وقال الآخر:
* وكنت لزاز خصمك لم أعود
*
وقد سلكوك في يوم عصيب
*
الشهاب: شعلة النار، ويطلق على الكوكب لبريقه شبه بالنار. وقال أبو تمام:
* والعلم في شهب الأرماح لامعة
*
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
*
اللواقح: الظاهر أنها جمع لاقح أي: ذوات لقاح كلابن وتامر، وذلك أن الريح تمر على الماء ثم تمر على السحاب والشجر فيكون فيها لقاح قاله الفراء. وقال الأزهري: حوامل تحمل السحاب وتصرفه، وناقة لاقح، ونوق لواقح إذا حملت الأجنة في بطونها. وقال زهير:
* إذا لقحت حرب عوان مضرة
*
ضروس تهر الناس أنيابها عصل
*
وقال أبو عبيدة: أي ملاقح جمع ملقحة، لأنها تلقح السحاب بإلقاء الماء. وقال:
431

ومختبط مما تطيح الطوائح
أي: المطاوح جمع مطيحة. الصلصال: قال أبو عبيدة الطين إذا خلط بالرمل وجف، وقال أبو الهيثم: الصلصال صوت اللجام وما أشبهه، وهو مثل القعقعة في الثوب. وقيل: التراب المدقق، وصلصل الرمل صوت، وصلصال بمعنى مصلصل كالقضقاض أي المقضقض، وهو فيه كثير، ويكون هذا النوع من المضعف مصدرا فتقول: زلزل زلزالا بالفتح، وزلزالا بالكسر، ووزنه عند البصريين فعلال، وهكذا جميع المضاعف حروفه كلها أصول لا قعقع، خلافا للفراء وكثير من النحويين. ولا فعفل خلافا لبعض البصريين وبعض الكوفيين، ولا أن أصله فعل بتشديد العين أبدل من الثاني حرف من جنس الحرف الأول خلافا لبعض الكوفيين. وينبني على هذه الأقوال: ورب صلصال. الحمأ: طين اسود منتن، واحدة حمأة بتحريك الميم قاله الليث ووهم في ذلك، وقالوا: لا نعرف في كلام العرب الحمأة إلا ساكنة الميم، قاله أبو عبيدة والأكثرون، كما قال أبو الأسود:
* يجئك بملئها طورا وطورا
*
يجيء بحماة وقليل ماء
*
وعلى هذا لا يكون حمأ بينه وبين مفرده تاء التأنيث لاختلاف الوزن. السموم: إفراط الحر، يدخل في المسام حتى يقتل من نار أو شمس أو ريح. وقيل: السموم بالليل، والحر بالنهار.
* (الر تلك ءايات الكتاب وقرءان مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين * ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الامل فسوف يعلمون * ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم * ما تسبق من أمة أجلها وما يستخرون) *: هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السماوات والأرض، وأحوال الكفار في ذلك اليوم، وأن ما أتى به هو على حسب التبليغ والإنذار، ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس، وأحوال الكفرة، وودادتهم لو كانوا مسلمين. قال مجاهد وقتادة: الكتاب هنا ما نزل من الكتب قبل القرآن، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن، فعلى قولهما تكون تلك إشارة إلى آيات الكتاب. قال ابن عطية: ويحتمل أن يراد بالكتاب القرآن، وعطفت الصفة عليه، ولم يذكر الزمخشري إلا أن تلك الإشارة لما تضمنته السورة من الآيات قال: والكتاب والقرآن المبين السورة، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا، وآي قرآن مبين كأنه قيل: والكتاب الجامع للكمال والغرابة في الشأن، والظاهر أن ما في ربما مهيئة، وذلك أنها من حيث هي حرف جر لا يليها إلا الأسماء، فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها. وجوزوا في ما أن تكون نكرة موصوفة، ورب جازة لها، والعائد من جملة الصفة محذوف تقديره: رب شيء يوده الذين كفروا. ولو كانوا مسلمين بدل من ما على أن لو مصدرية. وعلى القول الأول تكون في موضع نصب على المفعول ليود، ومن لا يرى أن لو تأتي مصدرية جعل مفعول يود محذوفا. ولو في لو كانوا مسلمين حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجواب لو محذوف أي: ربما يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لسروا بذلك وخلصوا من العذاب، ولما كانت رب عند الأكثرين لا تدخل على مستقبل تأولوا يود في معنى
432

ود، ولما كان المستقبل في إخبار الله لتحقق وقوعه كالماضي، فكأنه قيل: ود، وليس ذلك بلازم، بل قد تدخل على المستقبل لكنه قليل بالنسبة إلى دخولها على الماضي. ومما وردت فيه للمستقبل قول سليم القشيري:
* ومعتصم بالجبن من خشية الردى
*
سيردي وغاز مشفق سيؤب
*
وقول هند أم معاوية:
* يا رب قائلة غدا
*
يا لهف أم معاوية
*
وقول جحدر:
* فإن أهلك فرب فتى سيبكي
*
علي مهذب رخص البنان
*
في عدة أبيات. وقول أبي عبد الله الرازي: أنهم اتفقوا على أن كلمة رب مختصة بالدخول على الماضي لا يصح، فعلى هذا لا يكون يود محتاجا إلى تأويل. وأما من تأول ذلك على إضمار كان أي: ربما كان يود فقوله ضعيف، وليس هذا من مواضع إضمار كان. ولما كان عند الزمخشري وغيره أن رب للتقليل احتاجوا إلى تأويل مجيء رب هنا، وطول الزمخشري في تأويل ذلك. ومن قال: إنها للتكثير، فالتكثير فيها هنا ظاهر، لأن ودادتهم ذلك كثيرة. ومن قال: إن التقليل والتكثير إنما يفهم من سياق الكلام لا من موضوع رب، قال: دل سياق الكلام على الكثرة. وقيل: تدهشهم أهوال ذلك اليوم فيبقون مبهوتين، فإن كانت منهم إفاقة في بعض الأوقات من سكرتهم تمنوا، فلذلك قلل. وقرأ عاصم، ونافع: ربما بتخفيف الباء، وباقي السبعة بتشديدها. وعن أبي عمر: والوجهان. وقرأ طلحة بن مصرف، وزيد بن علي، ريتما بزيادة تاء. ومتى يودون ذلك؟ قيل: في الدنيا. فقال الضحاك: عند معاينة الموت. وقال ابن مسعود: هم كفار قريش ودوا ذلك في يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين. وقيل: حين حل بهم ما حل من تملك المسلمين أرضهم وأموالهم ونساءهم، ودوا ذلك قبل أن يحل بهم ما حل. وقيل: ودوا ذلك في الآخرة إذا أخرج عصاة المسلمين من النار قاله: ابن عباس، وأنس بن مالك، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وإبراهيم، ورواه أبو موسى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقرأ الرسول هذه الآية، وقيل: حين يشفع الرسول ويشفع حتى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنة، ورواه مجاهد عن ابن عباس. وقيل: إذا عاينوا القيامة ذكره الزجاج. وقيل: عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المؤمن، ذكره ابن الأنباري. ثم أمر تعالى نبيه بأن ينذرهم، وهو أمر وعيد لهم وتهديد أي: ليسوا ممن يرعوي عن ما هو فيه من الكفر والتكذيب، ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير، فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها، هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله ورسوله. وفي قوله: يأكلوا ويتمتعوا، إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله في الآخرة، وعن بعض العلماء: التمتع في الدنيا من أخلاق الهالكين. وقال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. وانجزم يأكلوا، وما عطف عليه جوابا للأمر. ويظهر أنه أمر
433

بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وبمهادنتهم وموادعتهم، ولذلك ترتب أن يكون جوابا، لأنه لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحرب ما هنا هم أكل ولا تمتع، وبدل على ذلك أن السورة مكية، وإذا جعلت ذرهم أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله بهم، فلا يترتب عليه الجواب، لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم، أم لم يتركها. فسوف يعلمون: تهديد ووعيد أي: فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي، وفي الآخرة من العذاب السرمدي. ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم، وأنه لا يستبطأ، فإن له إجلالا يتعداه، والمعنى: من أهل قرية كافرين. والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل، وهو أبلغ في الزجر. وقيل: المراد الإهلاك بالموت، والواو في قوله: ولها، واو الحال. وقال بعضهم: مقحمة أي زائدة، وليس بشيء. وقرأ ابن أبي عبلة: بإسقاطها وقال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية، والقياس أن لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: * (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون) * وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب، وجاءني وعليه ثوب انتهى. ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلا إلا عالما قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله: * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * انتهى. وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحدا قاله من النحويين، وهو مبني على أن ما بعدا لا يجوز أن يكون صفة، وقد منعوا ذلك. قال: الأخفش لا يفصل بين الصفة والموصوف بالإثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره: إلا رجل راكب، وفيه قبح بجعلك الصفة كالاسم. وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائما، فقائما حال من أحد، ولا يجوز إلا قائم، لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف. وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله: في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه، أن الجملة بعد إلا صفة لأحد، أنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي، فلا يلتفت إليه. وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أن الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف. وقال القاضي منذر بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: * (إذا * جاءوها وفتحت أبوابها) * انتهى.
والظاهر أن الكتاب المعلوم هو الأجل الذي كتب في اللوح وبين، ويدل على ذلك ما بعده. وقيل: مكتوب فيه أعمالهم وأعمارهم وآجال هلاكهم. وذكر الماوردي: كتاب معلوم أي: فرض محتوم، ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي: ما تسبق أمة، وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملا على المعنى، وحذف عنه لدلالة الكلام عليه.
* (وقالوا يأيها * أيها * الذى نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملئكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين * إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *: قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أمية، والنضر بن الحرث، ونوفل بن خويلد، والوليد بن المغيرة. وقرأ زيد بن علي: نزل عليه الذكر ماضينا مخففا مبنيا للفاعل. وقرأ: يا أيها الذي ألقي إليه الذكر، وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا، لأنها مخالفة لسواد المصحف. وهذا الوصف بأنه الذي نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف، لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه، وينسبونه إلى الجنون، إذ لو كان مؤمنا برسالة موسى وما أخبر عنه بالجنون. ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين لصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال: * (لولا أنزل إليه ملك) * فيكون معه نذيرا أو معاقبين على تكذيبك، كما كانت
تأتي الأمم المكذبة. وقرأ الحرميان والعربيان: ما تنزل مضارع تنزل أي: ما تتنزل الملائكة بالرفع. وقرأ أبو بكر، ويحيى بن وثاب: ما تنزل بضم التاء وفتح النون والزاي الملائكة بالرفع. وقرأ الأخوان، وحفص، وابن مصرف: ما ننزل بضم النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي الملائكة بالنصب. وقرأ زيد بن علي: ما نزل ماضيا مخففا مبنيا للفاعل الملائكة بالرفع. والحق هنا العذاب قاله الحسن، أو الرسالة قاله مجاهد، أو قبض الأرواح عند الموت قاله ابن السائب، أو القرآن ذكره الماوردي. وقال الزمخشري: ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة، ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا
434

تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم)، لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار. وقال ابن عطية: والظاهر أن معناها: كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، لا على اقتراح كافر، ولا باختيار معترض. ثم ذكر عادة الله في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إن لم يؤمنوا، فكان الكلام ما تنزل الملائكة إلا بحق واجب لا باقتراحكم. وأيضا فلو نزلت لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب أي: تؤخروا والمعنى، وهذا لا يكون إذ كان في علم الله أن منهم من يؤمن، أو يلد من يؤمن.
وقال الزمخشري: وادن جواب وجزاء، لأنه جواب لهم، وجزاء بالشرط مقدر تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذبهم. ولما قالوا على سبيل الاستهزاء: يا أيها الذي نزل عليه الذكر، رد عليهم بأنه هو المنزل عليه، فليس من قبله ولا قبل أحد، بل هو الله تعالى الذي بعث به جبريل عليه السلام إلى رسوله، وأكد ذلك بقوله: إنا نحن، بدخول إن وبلفظ نحن. ونحن مبتدأ، أو تأكيد لاسم إن ثم قال: وإنا له لحافظون أي: حافظون له من الشياطين. وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه، فلا يعتريه زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تبديل، بخلاف غيره من الكتب المتقدمة، فإنه تعالى لم يتكفل حفظها بل قال تعالى: * (ءان) * ولذلك وقع فيها الاختلاف. وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى، إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر. وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة. وقيل: يحفظه في قلوب من أراد بهم خيرا حتى لو غير أحد نقطة لقال له الصبيان: كذبت، وصوابه كذا، ولم يتفق هذا لشيء من الكتب سواه. وعلى هذا فالظاهر أن الضمير في له عائد على الذكر، لأنه المصرح به في الآية، وهو قول الأكثر: مجاهد، وقتادة، وغيرهما. وقالت فرقة: الضمير في له عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: يحفظه من أذاكم، ويحوطه من مكركم كما قال تعالى: * (فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) * وفي ضمن هذه الآية التبشير بحياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى يظهر الله به الدين.
* (ولقد أرسلنا من قبلك فى شيع الاولين * وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون * كذلك نسلكه فى قلوب المجرمين * لا يؤمنون به وقد خلت سنة الاولين * ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون) *: لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به عليه السلام، ونسبته إلى الجنون، واقتراح نزول الملائكة، سلاه تعالى بأن من أرسل من قبلك كان ديدن الرسل إليهم مثل ديدن هؤلاء معك. وتقدم تفسير الشيع في أواخر الأنعام. ومفعول أرسلنا محذوف أي: رسلا من قبلك. وقال الفراء: في شيع الأولين هو من إضافة الشيء إلى صفته كقوله: حق اليقين، وبجانب الغربي أي الشيع الموصوف، أي: في شيع الأمم الأولين، والأولون هم الأقدمون. وقال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية ماضية، لأن ما لا تدخل على مضارع، إلا وهو في موضع الحال، ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال انتهى. وهذا الذي ذكره هو قول الأكثر من أن ما تخلص المضارع للحال وتعينه له، وذهب غيره إلى أن ما يكثر دخولها على المضارع مرادا به الحال، وتدخل عليه مرادا به الاستقبال، وأنشد على ذلك قول أبي ذؤيب:
* أودي بني وأودعوني حسرة
*
عند الرقاد وعبرة ما تقلع
*
وقول الأعشى يمدح الرسول عليه السلام:
* له نافلات ما يغب نوالها
*
وليس عطاء اليوم مانعه غدا
*
435

وقال تعالى: * (ما يكون لى أن أبدله من تلقاء نفسى إن أتبع إلا ما يوحى) * إلى والضمير في نسلكه عائد على الذكر قاله الزمخشري، قال: والضمير للذكر أي: مثل ذلك السلك. ونحوه: نسلك الذكر في قلوب المجرمين على معنى أنه يلقيه في قلوبهم مكذبا مستهزأ به غير مقبول، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم، مردودة غير مقصية. ومحل قوله: لا يؤمنون النصب على الحال أي: غير مؤمن به، أو هو بيان لقوله: كذلك نسلكه انتهى. وما ذهب إليه من أن الضمير عائد على الذكر ذكره الغرنوي عن الحسن. قال الحسن: معناه نسلك الذكر إلزاما للحجة. وقال ابن عطية: الضمير في نسلكه عائد على الاستهزاء والشرك ونحوه، وهو قول: الحسن، وقتادة، وابن جريج، وابن زيد. ويكون الضمير في به يعود أيضا على ذلك نفسه، وتكون باء السبب أي: لا يؤمنون بسبب شركهم واستهزائهم، ويكون قوله: لا يؤمنون به في موضع الحال، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الذكر المحفوظ المتقدم الذكر
وهو القرآن أي: مكذبا به مردودا مستهزأ به، يدخله في قلوب المجرمين. ويكون الضمير في به عائدا عليه، ويحتمل أن يكون الضمير في نسلكه عائدا على الاستهزاء والشرك، والضمير في به يعود على القرآن، فيختلف على هذا عود الضميرين انتهى. وروى ابن جريج عن مجاهد بذلك التكذيب، فعلى هذا تكون الباء في به للسبب. والذي يظهر عوده على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤون، والباء في به للسبب. والمجرمون هنا كفار قريش، ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان. ولا يؤمنون إن كان إخبارا مستأنفا فهو من العام المراد به الخصوص فيمن ختم عليه، إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول. وقد خلت سنة الأولين في تكذيبهم رسلهم، أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم، واستهزؤوا بهم، وهو تهديد لمشركي قريش. والضمير في عليهم عائد على المشركين، وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو محسوس مشاهد بالأعين مماس بالأجساد بالحركة والانتقال، وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق. والظاهر أن الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم، أي: لو فتح لهم باب من السماء، وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا: هو شيء تتخيله لا حقيقة له، وقد سخرنا بذلك. وجاء لفظ فظلوا مشعرا بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا، على أن ظل يأتي بمعنى صار أيضا. وعن ابن عباس أن الضمير في فظلوا يعود على الملائكة لقولهم: * (لو ما تأتينا بالملئكة) * أي: ولو رأوا الملائكة تصعد وتنصرف في باب مفتوح في السماء لما آمنوا.
وقرأ الأعمش، وأبو حيوة: يعرجون بكسر الراء، وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود. وجاء لفظ إنما مشعرا بالحصر، كأنه قال: ليس ذلك إلا تسكيرا للإبصار. وقرأ الحسن، ومجاهد، وابن كثير: سكرت بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول، وقرأ باقي السبعة: بشدها مبنيا للمفعول. وقرأ الزهري: بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل، شبهوا رؤية أبصارهم برؤية السكران لقلة تصوره ما يراه. فأما قراءة التشديد فعن ابن عباس وقتادة منعت عن رؤية الحقيقة من السكر، بكسر السين وهو الشد والحبس. وعن الضحاك شدت، وعن جوهر جدعت، وعن مجاهد حبست، وعن الكلبي عميت، وعن أبي عمرو غطيت، وعن قتادة أيضا أخذت، وعن أبي عبيد غشيت. وأما قراءة التخفيف فقيل: بالتشديد، إلا أنه للتكثير، والتخفيف يؤدي عن معناه. وقيل: معنى التشديد أخذت، ومعنى التخفيف سحرت. والمشهور أن سكر لا يتعدى. قال أبو علي: ويجوز أن يكون سمع متعديا في البصرة. وحكى أبو عبيدة عن أبي عبيدة أنه يقال: سكرت أبصارهم إذا غشيها سهاد حتى لا يبصروا. وقيل: التشديد من سكر الماء، والتخفيف من سكر الشراب، وتقول العرب: سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ولم تنفذ لما انتفت بسبيله، أولا وسكرا الرجل من الشراب سكرا إذا تغيرت حاله وركد ولم ينفذ فيما كان للإنسان أن ينفذ فيه. ومن هذا المعنى سكران يبت أي: لا يقطع أمرا. وتقول
436

العرب: سكرت في مجاري الماء إذا طمست، وصرفت المائ فلم ينفذ لوجهه. فإن كان من سكر الشراب، أو من سكر الريح، فالتضعيف للتعدية. أو من سكر مجاري الماء فللتكثير، لأن مخففة متعد. وأما سكرت بالتخفيف فإن كان من سكر الماء ففعله متعد، أو من سكر الشراب أو الريح فيكون من باب وجع زيد ووجعه غيره، فتقول: سكر الرجل وسكره غيره، وسكرت الريح وسكرها غيرها، كما جاء سعد زيد وسعده غيره. ولخص الزمخشري في هذا فقال: وسكرت خيرت أو حبست من السكر، أو السكر. وقرئ بالتخفيف أي: حبست كما يحبس النهر عن الجري انتهى. وقرأ أبان بن ثعلب: سحرت أبصارنا. ويجيء قوله: بل نحن قوم مسحورون، انتقالا إلى درجة عظمى من سحر العقل. وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسير معنى لا تلاوة، لمخالفتها سواد المصحف. وجاء جواب ولو، قوله: لقالوا أي أنهم يشاهدون ما يشاهدون، ولا يشكون في رؤية المحسوس، ولكنهم يقولون ما لا يعتقدون مواطأة على العناد، ودفع الحجة، ومكابرة وإيثارا للغلبة كما قال تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) *.
* (ولقد جعلنا فى السماء بروجا وزيناها للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) *: لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد، ذكر دلائله السماوية، وبدأ بها ثم أتبعها بالدلائل الأرضية. وقال ابن عطية: لما ذكر تعالى أنهم لو رأوا الآية المذكورة في السماء لعاندوا فيها، عقب ذلك بهذه الآية كأنه قال: وإن في السماء لعبرا منصوبة عبر عن هذه المذكورة، وكفرهم بها، وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو انتهى. والظاهر أن جعلنا بمعنى خلقنا، وفي السماء متعلق بجعلنا. ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا، وفي السماء المفعول الثاني، فيتعلق بمحذوف. والبروج جمع برج، وتقدم شرحه لغة. قال الحسن وقتادة: هي النجوم. وقال أبو صالح: الكواكب السيارة. وقال علي بن عيسر: اثنا عشر برجا الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت، وهي منازل الشمس والقمر. وقال ابن عطية: قصور في السماء فيها الحرس، وهي المذكورة في قوله: * (ملئت حرسا شديدا وشهبا) * وقيل: الفلك اثنا عشر برجا، كل برج ميلان ونصف. والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها، والأقرب في اللفظ. وقيل: على السماء، وهو قول الجمهور. وخص بالناظرين لأنها من المحسوسات التي لا تدرك إلا بنظر العين. ويجوز أن يكون من نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية، وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة. والضمير في حفظناها عائد على السماء، ولذلك قال الجمهور: إن الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر، وحفظ السماء هو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (إن الشياطين تقرب من السماء أفواجا فينفرد المارد منها فيستمع، فيرمي بالشهاب فيقول لأصحابه. وهو يلتهب: إنه الأمر كذا وكذا، فتزيد الشياطين في ذلك ويلقون إلى الكهنة فيزيدون على الكلمة مائة كلمة) ونحو هذا الحديث. وقال ابن عباس: إن الشهب تخرج وتؤذي، ولا تقتل. وقال الحسن: تقتل. وفي الأحاديث ما يدل على أن الرجم كان في الجاهلية ولكنه اشتد في وقت الإسلام. وحفظت السماء حفظا تاما. وعن ابن عباس: كانوا لا يحجبون عن السماوات، فلما ولد عيسى منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم) منعوا من السمموات كلها. والظاهر أن قوله: إلا من استرق، استثناء متصل والمعنى: فإنها لم تحفظ منه، ذكره الزهراوي وغيره والمعنى: أنه سمع من خبرها شيئا وألقاه إلى الشياطين. وقيل: هو استثناء منقطع والمعنى: أنها حفظت منه، وعلى كلا التقديرين فمن في موضع
نصب. وقال الحوفي: من بدل من كل شيطان، وكذا قال أبو البقاء: حر على البدل أي: إلا ممن استرق السمع. وهذا الإعراب غير سائغ، لأن ما قبله موجب، فلا يمكن التفريغ، فلا يكون بدلا، لكنه يجوز أن يكون إلا من استرق نعتا على خلاف في ذلك. وقال
437

أبو البقاء: ويجوز أن يكون من في موضع رفع على الابتداء، وفأتبعه الخبر. وجاز دخول الفاء من أجل أن من بمعنى الذي، أو شرط انتهى. والاستراق افتعال من السرقة، وهي أخذ الشيء بخفية، وهو أن يخطف الكلام خطفة يسيرة. والسمع المسموع، ومعنى مبين: ظاهر للمبصرين.
* (والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شىء موزون * وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين * وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم * وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين * وإنا لنحن نحى ونميت ونحن الوارثون * ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستخرين * وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم) *: مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها. قال الحسن: أخذ الله طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت. وقيل: بسطت من تحت الكعبة. ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء، فلذلك نصب والأرض. والرواسي: الجبال، وفي الحديث: (إن الأرض كانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة فثبتها الله بالجبال) ومن في من كل للتبعيض، وعند الأخفش هي زائدة أي كل شيء. والظاهر أن الضمير في فيها يعود على الأرض الممدودة، وقيل: يعود على الجبال، وقيل: عليها وعلى الأرض معا. قال ابن عباس، وابن جبير: موزون مقدر بقدر. وقال الزمخشري قريبا منه قال: وزن بميزان الحكمة، وقدر بمقدار يقتضيه لا يصلح فيه زيادة ولا نقصان. وقال ابن عطية: قال الجمهور: معناه مقدر محرر بقصد وإرادة، فالوزن على هذا مستعار. وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة، وغير ذلك مما يوزن. وقال قتادة: موزون مقسوم. وقال مجاهد: معدود، وقال الزمخشري: أوله وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة. وبسطه غيره فقال: ما له منزلة، كما تقول: ليس له وزن أي: قدر ومنزلة. ويقال: هذا كلام موزون، أي منظوم غير منتثر. فعلى هذا أي: أنبتنا فيها، ما يوزن من الجواهر والمعادن والحيوان. وقال تعالى: * (وأنبتها نباتا حسنا) * والمقصود بالإنبات الإنشاء والإيجاد.
وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع: معائش بالهمز. قال ابن عطية: والوجه ترك الهمز، وعلل ذلك بما هو معروف في النحو. وقال الزمخشري: معايش بياء صريحة بخلاف الشمائل والخبائث، فإن تصريح الياء فيها خطأ، والصواب الهمزة، أو إخراج الياء بين بين. وتقدم تفسير المعايش أول الأعراف والظاهر أن من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون، فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم. وقال معناه الفراء، ويدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالأنعام والدواب، وما بتلك المثابة مما الله رازقه، وقد سبق إلى ظنهم أنهم الرازقون، وقال معناه الزجاج. وقال مجاهد: الدواب والأنعام والبهائم. وقيل: الوحوش والسباع والطير. فعلى هذين القولين يكون من لما لا يعقل. والظاهر أن من في موضع جر عطفا على الضمير المجرور في لكم، وهو مذهب الكوفيين ويونس والأخفش. وقد استدل القائل على صحة هذا المذهب في البقرة في قوله: * (وكفر به والمسجد الحرام) * وقال الزجاج: من منصوب بفعل محذوف تقديره: وأعشنا من لستم أي: أمما غيركم، لأن المعنى أعشناكم. وقيل: عطفا على معايش أي: وجعلنا لكم من لستم له برازقين من العبيد والصناع. وقيل: والحيوان. وقيل: عطفا على محل لكم. وقيل: من مبتدأ خبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي: ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش. وهذا لا بأس به، فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي: وعمرو ضربته، فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه. وتقدم شرح الخزائن. وإن نافية، ومن زائدة، والظاهر أن المعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والأنعام به، فتكون الخزائن وهي ما يحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول. وقال قوم: المراد الخزائن حقيقة، وهي التي تحفظ
438

فيها الأشياء، وأن للريح مكانا، وللمطر مكانا، ولكل مكان ملك وحفظه، فإذا أمر الله بإخراج شيء منه أخرجته الحفظة. وقيل: المراد بالشيء هنا المطر، قاله ابن جريج.
وقرأ الأعمش: وما نرسله مكان وما ننزله، والإرسال أعم، وهي قراءة تفسير معنى لا أنها لفظ قرآن، لمخالفتها سواد المصحف. وعن ابن عباس، والحكم بن عيينة: أنه ليس عام أكثر مطرا من عام، ولكن الله تعالى ينزله في مواضع دون مواضع. ولواقح جمع لاقح، يقال: ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء سحاب ماطر، كما قيل للتي لا تأتي بخير بل بشر ريح عقيم، أو ملاقح أي: حاملات للمطر. وفي صحيح البخاري: لواقح ملاقح ملقحة. وقال عبيد بن عمير: يرسل الله المبشرة تقم الأرض قمائم المثيرة، فتثير السحاب. ثم المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر. ومن قرأ بإفراد الريح فعلى تأويل الجنس كما قالوا: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، وسقى وأسقى قد يكونان بمعنى واحد. وقال أبو عبيدة: من سقى الشفة سقى فقط، أو الأرض والثمار أسقى، وللداعي لأرض وغيرها بالسقيا أسقى فقط. وقال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام، ومن السماء، أو نهر يجري: أسقيته، أي جعلته شربا له، وجعلت له منه مسقى. فإذا كان للشفة قالوا: سقى، ولم يقولوا أسقى. وقال أبو علي: سقيته حتى روي، وأسقيته نهرا جعلته شربا له. وجاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير متصل كما تقدم في قوله: * (أنلزمكموها) * وتقدم أن مذهب سيبويه فيه وجوب الاتصال. وما أنتم له بخازنين أي: بقادرين على إيجاده، تنبيها على عظيم قدرته، وإظهار العجز. هم أي: لستم بقادرين عليه حين احتياجكم إليه. وقال سفيان: بخازنين أي بمانعين المطر. نحيي: نخرجه من العدم الصرف إلى الحياة. ونميت: نزيل حياته. ونحن الوارثون الباقون بعد فناء الخلق. والمستقدمين قال ابن عباس والضحاك: الأموات، والمستأخرين الأحياء. وقال قتادة وعكرمة وغيرهما: المستقدمين في الخلق والمستأخرين الذين لم يخلقوا بعد. وقال مجاهد: المستقدمين من الأمم والمستأخرين أمة محمد صلى الله عليه وسلم). وقال الحسن وقتادة أيضا: في الطاعة والخبر، والمستأخرين
بالمعصية والشر. وقال ابن جبير: في صفوف الحرب، والمستأخرين فيه. وقيل: من قتل في الجهاد، والمستأخرين من لم يقتل. وقيل: في صفوف الصلاة، والمستأخرين بسبب النساء لينظروا إليهن. وقال قتادة أيضا: السابقين إلى الإسلام والمتقاعسين عنه. والأولى حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على الحصر، والمعنى: أنه تعالى محيط علمه بمن تقدم وبمن تأخر وبأحوالهم، ثم أعلم تعالى أنه يحشرهم. وقرأ الأعمش: يحشرهم بكسر الشين. وقال ابن عباس ومروان بن الحكم، وأبو الحوراء: كانت تصلي وراء الرسول امرأة جميلة، فبعض يتقدم لئلا تفتنه وبعض يتأخر ليسرق النظر إليها في الصلاة، فنزلت الآية فيهم. وفصل هذه الآية بهاتين الصفتين من الحكمة والعلم في غاية المناسبة.
(* (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون * والجآن خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال ياإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر
439

خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتنى لأزينن لهم فى الا رض ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *))
) *
* (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ من حمإ مسنون * والجآن خلقناه من قبل من نار السموم * وإذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين * فسجد الملائكة كلهم أجمعون * إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين * قال يإبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين * قال لم أكن لاسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون * قال فاخرج منها فإنك رجيم * وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين * قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بمآ أغويتنى لازينن لهم فى الارض ولاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين * قال هذا صراط على مستقيم * إن عبادى ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين * وإن جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم) *: لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه، نبههم على مبدأ أصلهم آدم، وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى. وتقدم شيء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكر الأماتة والإحياء والرجوع إليه تعالى. وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة، وذكر الموازين فيه. وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه. فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع عدوه إبليس ليحذرهم من كيده، ولينظروا ما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة مقر السعادة والراحة، إلى الأرض مقر التكليف والتعب، فيتحرزوا من كيده، ومن حمأ قال الحوفي بدل من صلصال، بإعادة الجار. وقال أبو البقاء: من حمأ في موضع جر صفة لصلصال. وقال ابن عباس: المسنون الطين ومعناه المصبوب، لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب، فكنى عن المصبوب بوصفه، لأنه موضوع له. وقال مجاهد وقتادة ومعمر: المنتن. قال الزمخشري: من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا. وقال غيره: من أسن الماء إذا تغير، ولا يصح لاختلاف المادتين. وقيل: مصبوب من سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، فكان المعنى: أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذوبة في أمثلتها. قال الزمخشري: وحمأ مسنون بمعنى مصور أن يكون صفة لصلصال، كأنه أفرغ الحمأ فصور منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتى إذا نقر صلصال ثم غيره بعد ذلك إلى جوهر آخر انتهى. وقيل: المسنون المصور من سنة الوجه، وهي صورته. قال الشاعر:
تريك سنة وجه غير مقرفة
وقيل: المسنون المنسوب أي: ينسب إليه ذريته.
والجان: هو أبو الجن، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: والجان للجن كآدم للناس. وقال الحسن وقتادة: هو إبليس، خلق قبل آدم. وقال ابن بحر: هو اسم لجنس الجن، والإنسان المراد به آدم، ومن قبل أي: من قبل خلق الإنسان. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: والجأن بالهمز. والسموم قال ابن عباس: الريح الحارة التي تقتل. وعنه: نار لا دخان لها، منها تكون الصواعق. وقال الحسن: نار دونها حجاب. وعن ابن عباس: نفس النار، وعنه: لهب النار. وقيل: نار اللهب السموم. وقيل: أضاف الموصوف إلى صفته أي: النار
440

السموم. وسويته أكملت خلقه، والتسوية عبارة عن الإتقان، وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت. ونفخت فيه من روحي أي: خلقت الحياة فيه، ولا نفخ هناك، ولا منفوخ حقيقة، وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيي به فيه. وأضاف الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو: بيت الله، وناقة الله، أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح، والمودعها حيث يشاء. وقعوا له أي: أسقطوا على الأرض. وحرف الجر محذوف من أن أي: ما لك فيأن لا تكون. وأي: داع دعا بك إلى إبائك السجود. ولا سجد اللام لام الجحود، والمعنى: لا يناسب حالي السجود له. وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي: رأى نفسه أكبر من أن يسجد. وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار، وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما. وهنا نبه على مادة آدم وحده، وهنا فأخرج منها وفي الأعراف: * (فاهبط منها) * وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها. وقد تقدمت منها مباحث في سورة البقرة، والأعراف، أعادها المفسرون هنا، ونحن نحيل على ما تقدم إلا ما له خصوصية بهذه السورة فنحن نذكره.
فتقول: وضرب يوم الدين غاية للعنة، إما لأنه أبعد غاية يضر بها الناس في كلامهم، وإما أن يراد أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السماوات والأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذب، فإذا جاء ذلك اليوم عذبت بما ينسى اللعن معه. ويوم الدين، ويوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، واحد. وهو وقت النفخة الأولى حتى تموت الخلائق. ووصف بالمعلوم إما لانفراد الله بعلمه كما قال: * (قل إنما علمها عند ربي) * * (إن الله عنده علم الساعة) * أو لأنه معلوم فناء العالم فيه، فيكون قد عبر بيوم الدين، وبيوم يبعثون، ويوم الوقت المعلوم، بما كان قريبا من ذلك اليوم. قال الزمخشري: ومعنى إغوائه إياه نسبته لغيه، بأن أمره بالسجود لآدم عليه السلام، فافضى ذلك إلى غيه. وما الأمر بالسجود الأحسن، وتعريض للثواب بالتواضع، والخضوع لأمر الله، ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على غير مذكور، بل على ما يفهم من الكلام، وهو ذرية آدم. ولذلك قال في الآية الأخرى: * (لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) * والتزيين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي: في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى: * (أخلد إلى الارض واتبع هواه) * أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده أقدر. أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبتي فيها أي: لأزينها في أعينهم، ولا حدثنهم بأن الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه: يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري. وإلا عبادك استثناء القليل من الكثير، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل، واستثناؤهم إبليس، لأنه علم أن تزيينه لا يؤثر فيهم، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع.
وقرأ الكوفيون، ونافع، والحسن، والأعرج: بفتح اللام، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت، فلا يؤثر فيه تزييني. وقرأ باقي السبعة والجمهور: بكسرها أي: إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره. ولا رأءى به، والفاعل لقال الله أي: قال الله. والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي: الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل، لأن من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه. وقيل: لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: هذا أمر مصيره إلي، ووصفه بالاستقامة، أي: هو حق، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك. والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي: إليه يصيرالنظر في أمرك. وقال الزمخشري: هذا طريق حق علي أن أراعيه، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى. فجعل هذا إشارة إلى انتفاء
441

تزيينه وإغوائه. وكونه ليس له عليهم سلطان، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس، وإلى ما قرره تعالى بقوله: إن عبادي. وتضمن كلامه مذهب المعتزلة. وقال صاحب اللوامح: أي: هذا صراط عهدة استقامته علي. وفي حفظه أي: حفظه علي، وهو مستقيم غير معوج. وقال الحسن: معنى علي إلي. وقيل: علي كأنه من مر عليه مر علي أي: على رضواني وكرامتي. وقرأ الضحاك، وإبراهيم. وأبو رجاء، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد، وعمرو بن ميمون، وعمارة بن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب: علي مستقيم أي: عال لارتفاع شأنه. وهذه القراءة تؤكد أن الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه. والإضافة في قوله: إن عبادي، إضافة تشريف أي: أن المختصين بعبادتي، وعلى هذا لا يكون قوله: إلا من اتبعك، استثناء متصلا، لأن من اتبعه لم يندرج في قوله: إن عبادي: وإن كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون: إلا من اتبعك استثناء من عموم، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر، وبقاء المستثنى منه أقل، وهي مسألة اختلف فيها النحاة. فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو. والذي يظهر أن إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله: إن عبادي أي: عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان. ومن في الغاوين لبيان الجنس أي: الذين هم الغاوون. وقال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال: وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين. وقال ابن عطية: وأجمعين تأكيد، وفيه معنى الحال انتهى. وهذا جنوح لمذهب من يزعم أن أجمعين تدل على اتحاد الوقت، والصحيح أن مدلوله مدلول كلهم.
والظاهر أن جهنم هي واحدة، ولها سبعة أبواب. وقيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها، فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصائبين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين. وقرأ ابن القعقاع: جز بتشديد الزاي من غير همز، ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي، ثم وقف بالتشديد نحو: هذا فرج، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف. واختلف عن الزهري، ففي كتاب ابن عطية: وقرأ ابن شهاب بضم الزاي، ولعله تصحيف من الناسخ، لأني وجدت في التحرير: وقرأ ابن وثاب بضمها مهموزا فيهما. وقرأ الزهري بتشديد الزاي دون همز، وهي قراءة ابن القعغقاع. وأن فرقة قرأت بالتشديد منهم: ابن القعقاع. وفي كتاب الزمخشري وكتاب اللوامح: أنه قرأ بالتشديد، وفي اللوامح هو وأبو جعفر.
2 (* (إن المتقين فى جنات وعيون * ادخلوها بسلام ءامنين * ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين * نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الا ليم * ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون * قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين * فلما جآء ءال لوط المرسلون
442

قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * وآتيناك بالحق وإنا لصادقون * فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينآ إليه ذلك الا مر أن دابر هاؤلآء مقطوع مصبحين * وجآء أهل المدينة يستبشرون * قال إن هاؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون *
قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين * وإن كان أصحاب الا يكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين * ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وءاتيناهم ءاياتنا فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * وما خلقنا السماوات والا رض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * إن ربك هو الخلاق العليم * ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين * وقل إنىأنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرءان عضين * فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلاها ءاخر فسوف يعملون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *))
) *
السرر: جمع سرير، ككليب وكلب. وبعض تميم يفتح الراء، وكذا كل مضاعفة فعيل. النصب: التعب. القنوط: أتم اليأس، يقال: قنط يقنط بفتحها، وقنط بفتح النون يقنط بكسرها وبضمها. الفضح والفضيحة مصدران لفضح يفضح، إذا أتى من أمر الإنسان ما يلزمه به العار، ويقال: فضحك الصبح، إذا تبين للناس. قال الشاعر:
* ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
*
مثل القلامة قد قصت من الظفر
*
443

التوسم: تفعل من الوسم، هي العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها، يقال: توسم فيه الخير إذا رأى ميسم ذلك. وقال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم):
* إني توسمت فيك الخير أجمعه
*
والله يعلم أني ثابت البصر
*
وقال الشاعر:
* توسمت لما أن رأيت مهابة
*
عليه وقلت المرء من آل هاشم
*
واتسم الرجل جعل لنفسه علامة يعرف بها، وتوسم الرجل طلب كلاء الوسمي. وقال ثعلب: الواسم الناظر إليك من فرقك إلى قدمك. وأصل التوسم التثبت والتفكر، مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة في جلد البعير أو غيره. الأيكة: الشجرة الملتفة واحدة أيك. قال الشاعر:
* تجلو بقادمتي حمامة أيكة
*
بردا أسف لثاته بالأثمد
*
الخفض مقابل الرفع، وهو كناية عن الإلانة والرفق. عضين: جمع عضة، وأصلها الواو والهاء يقال: عضيت الشيء تعضيه فرقته، وكل فرقة عضة، فأصله عضوة. وقيل: العضة في قريش السحر، يقولون للساحر: عاضه، وللساحرة: عاضهة. قال الشاعر:
* أعوذ بربي من النافثات
*
في عقد العاضه المعضه
*
وفي الحديث: (لعن الله العاضهة والمستعضهة) وفسر بالساحر والمستسحرة، فأصله الهاء. وقيل: من العضه يقال: عضهه عضها، وعضيهة رماه بالبهتان. قال
الكسائي: العضه الكذب والبهتان، وجمعها عضون. وذهب الفراء إلى أن عضين من العضاة، وهي شجرة تؤذي تخرج كالشوك. ومن العرب من يلزم الياء ويجعل الإعراب في النون فيقول: عضينك كما قالوا: سنينك، وهي كثيرة في تميم وأسد. الصدع: الشق، وتصدع القوم تفرقوا، وصدعته فانصدع أي شققته فانشق. وقال مؤرج: أصدع أفصل، وقال ابن الأعرابي: أفصد.
* (إن المتقين فى جنات وعيون * ادخلوها بسلام ءامنين * ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين * لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين * نبىء عبادى أنى أنا الغفور الرحيم * وأن عذابى هو العذاب الاليم) *: لما ذكر تعالى ما أعد لأهل النار، ذكر ما أعد لأهل الجنة، ليظهر تباين ما بين الفريقين. ولما كان حال المؤمنين معتنى به، أخبر أنهم في جنات وعيون، جعل ما يستقرون فيه في الآخرة كأنهم مستقرون فيه في الدنيا، ولذلك جاء: ادخلوها على قراءة الأمر، لأن من استقر في الشيء لا يقال له: أدخل فيه. وجاء حال الغاوين موعودا به في قوله: * (لموعدهم) * لأنهم لم يدخلوها. والعيون: جمع عين. وقرأ نافع، وأبو عمر
444

وحفص، وهشام: وعيون بضم العين، وباقي السبعة بكسرها. وقرأ الحسن: ادخلوها ماضيا مبنيا للمفعول من الإدخال. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك، وبضم التنوين، وعنه فتحه. وما بعده أمر على تقدير: أدخلوها إياهم من الإدخال، أمر الملائكة بإدخال المتقين الجنة، وتسقط الهمزة في القراءتين. وقرأ الجمهور: ادخلوها أمر من الدخول. فعلى قراءتي الأمر، ثم محذوف أي: يقال لهم، أو يقال للملائكة. وبسلام في موضع نصب على الحال، واحتمبل أن يكون المعنى: مصحوبين بالسلامة، وأن يكون المعنى: مسلما عليكم أي: محيون، كما حكي عن الملائكة أنهم يدخلون على أهل الجنة يقولون: سلام عليكم. * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل) * تقدم شرحه في الأغراف. قيل: وانتصب إخوانا على الحال، وهي حال من الضمير، والحال من المضاف إليه إذا لم يكن معمولا لما أضيف على سبيل الرفع أو النصب تندر، فلذلك قال بعضهم: إنه إذا كان المضاف جزأ من المضاف إليه كهذا، لأن الصدور بعض ما أضيفت إليه وكالجزء كقوله: * (واتبع ملة إبراهيم حنيفا) * جاءت الحال من المضاف. وقد قررنا أن ذلك لا يجوز. وما استدلوا به له تأويل غير ما ذكروا، فتأويله هنا أنه منصوب على المدح، والتقدير: أمدح إخوانا. لما لم يمكن أن يكون نعتا للضمير قطع من إعرابه نصبا على المدح، وقد ذكر أبو البقاء أنه حال من الضمير في الظرف في قوله: في جنات، وأن يكون حالا من الفاعل في: ادخلوها، أو من الضمير في: آمنين.
ومعنى إخوانا: ذوو تواصل وتوادد. وعلى سرر متقابلين: حالان. والقعود على السرير: دليل على الرفعة والكرامة التامة كما قال: يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة. وعن ابن عباس: على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر. وقال قتادة: متقابلين متساوين في التواصل والتزاور. وعن مجاهد: لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، تدور بهم الأسرة حيث ما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين انتهى.
ولا كانت الدنيا محل تعب بما يقاسى فيها من طلب المعيشة، ومعاناة التكاليف الضرورية لحياة الدنيا وحياة الآخرة، ومعاشرة الأضداد، وعروض الآفات والأسقام، ومحل انتقال منها إلى دار أخرى مخوف أمرها عند المؤمن، لا محل إقامة، أخبر تعالى بانتفاء ذلك في الجنة بقوله: لا يمسهم فيها نصب. وإذا انتفى المس، انتفت الديمومة. وأكد انتفاء الإخراج بدخول الباء في: بمخرجين. وقيل: للثواب أربع شرائط أن يكون منافع وإليه الإشارة بقوله: في جنات وعيون مقرونة بالتعظيم، وإليه الإشارة بقوله: ادخلوها بسلام آمنين خالصة عن مظان الشوائب الروحانية: كالحقد، والحسد، والغل، والجسمانية كالإعياء، والنصب. وإليه الإشارة بقوله: ونزعنا إلى لا يمسهم فيها نصب دائمة، وإليه الإشارة بقوله: وما هم منها بمخرجين. وعن علي بن الحسين: أن قوله ونزعنا الآية، نزلت في أبي بكر وعمر، والغل غل الجاهلية. وقيل: كانت بين بني تميم وعدي وهاشم أضغان، فلما أسلموا تحابوا. ولما تقدم ذكر ما في النار، وذكر ما في الجنة، أكد تعالى تنبيه الناس. وتقرير ذلك وتمكينه في النفس بقوله: نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله: إن المتقين. وتقديما لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه وجاء قوله: وأن عذابي، في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة. وأني المعذب المؤلم، كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة. وسدت أن مسد مفعولي نبىء إن قلنا إنها تعدت إلى ثلاثة، ومسد واحد إن قلنا: تعدت إلى اثنين. وعن ابن عباس: غفور لمن تاب، وعذابه لمن لم يتب. وفي قوله: نبىء الآية، ترجيح جهة الخير من جهة أمره تعالى رسوله بهذا التبليغ، فكأنه إشهاد على نفسه بالتزام المغفرة والرحمة. وكونه أضاف العباد إليه فهو تشريف لهم، وتأكيد اسم أن بقوله: أنا. وإدخال أل على هاتين الصفتين وكونهما جاءتا بصيغة المبالغة والبداءة بالصفة السارة أولا وهي الغفران، واتباعها بالصفة التي نشأ عنها الغفران وهي الرحمة. وروي في الحديث: (لو
445

يعلم العبد قدر عفو الله ما تورع عن حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه) وفي الحديث عن ابن المبارك بإسناده أن الرسول صلى الله عليه وسلم) طلع من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك فقال: (ألا أراكم تضحكون) ثم أدبر حتى إذا كان عناء الحجر، رجع إلينا القهقرى فقال: (جاء جبريل عليه السلام فقال يقول الله لم تقنط عبادي نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم).
* (ونبئهم عن ضيف إبراهيم * إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما * قال إنا منكم وجلون * قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم * قال أبشرتمونى على أن مسنى الكبر فبم تبشرون * قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضآلون) * ولما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار، وللطائعين من الجنة، ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، ليزدجروا عن كفرهم، وليعتبروا بما حل بغيرهم. فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم عليه السلام، وما جرى لقوم ابن أخيه لوط، ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب. وقرأ أبو حيوة: ونبيهم
بإبدال الهمزة ياء. وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد، وبهلاك قوم لوط. وأضيفوا إلى إبراهيم وإن لم يكونوا أضيافا، لأنهم في صورة من كان ينزل به من الأضياف، إذ كان لا ينزل به أحد إلى ضافه، وكان يكنى أبا الضيفان. وكان لقصره أربعة أبواب، من كل جهة باب، لئلا يفوته أحد. والضيف أصله المصدر، والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع للمثنى والمجموع، ولا حاجة إلى تكلف إضمار كما قاله النحاس وغيره من تقدير: أصحاب ضيف. وسلاما مقتطع من جملة محكية بقالوا، فليس منصوبا به، والتقدير: سلمت سلاما من السلامة، أو سلمنا سلاما من التحية. وقيل: سلاما نعت لمصدر محذوف تقديره: فقالوا قولا سلاما، وتصريحه هنا بأنه رجل منهم، كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ، وامتناعهم من الأكل وفي هو ذاته أوجس في نفسه خيفة، فيمن أن هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة. ويحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.
وقرأ الجمهور: لا توجل مبنيا للفاعل. وقرأ الحسن: بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال. وقرئ: لا تاجل بإبدال الواو ألفا كما قالوا: تابة في توبة. وقرئ: لا تواجل من واجله بمعنى أوجله. إنا نبشرك استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، أي: إنك بمثابة الآمن المبشر فلا توجل. والمبشر به هو إسحاق، وذلك بعد أن ولد له إسماعيل وشب بشروه بأمرين: أحدهما: أنه ذكر. والثاني: وصفه بالعلم على سبيل المبالغة. فقيل: النبوة كقوله تعالى: * (وبشرناه بإسحاق نبيا) * وقيل: عليم بالدين.
وقرأ الأعرج: بشرتموني بغير همزة الاستفهام، وعلى أن مسني الكبر في موضع الحال. وقرأ ابن محيصن: الكبر بضم الكاف وسكون الباء، واستنكر إبراهيم عليه السلام أن يولد له مع الكبر. وفبم تبشرون، تأكيد استبعاد وتعجب، وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة رسل الله إليه، فلذلك استفهم، واستنكر أن يولد له. ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر، ولا سيما وقد رأى من آيات الله عيانا كيف أحيا الموتى. قال الزمخشري: كأنه قال: فبأي أعجوبة تبشروني، أو أراد أنكم تبشرونني بما هو غير متصور في العادة، فبأي شيء تبشرون؟ يعني: لا تبشروني في الحقيقة بشيء، لأن البشارة بمثل هذا بشارة بغير شيء. ويجوز أن لا تكون صلة لبشر، ويكون سؤالا على الوجه والطريقة يعني: بأي طريقة تبشرونني بالولد، والبشارة به لا طريقة لها في العادة انتهى. وكأنه قال: أعلى وصفي بالكبر، أم على أني أرد إلى الشباب؟ وقيل: لما استطاب البشارة أعاد السؤال، ويضعف هذا
446

قولهم له: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. وقرأ الحسن: تبشروني بنون مشددة وياء المتكلم، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. وابن كثير: بشدها مكسورة دون ياء. ونافع يكسرها مخففة، وغلطه أبو حاتم وقال: هذا يكون في الشعر اضطرارا، وخرجت على أنه حذف نون الوقاية وكسر نون الرفع للياء، ثم حذفت الياء لدلالة الكسرة عليها. وقالوا هو مثل قوله:
* يسوء القالبات إذا قليني وقول الآخر:
*
* لا أباك تخوفيني وقرأ باقي السبعة: بفتح وهي علامة الرفع. قال الحسن: فبم تبشرون على وجه الاحتقار وقلة المبالاة بالمبشرات لمضي العمر واستيلاء الكبر. وقال مجاهد: عجب من كبره وكبر امرأته، وتقدم ذكر سنة وقت البشارة. وبالحق أي باليقين الذي لا لبس فيه، أو بالطريقة التي هي حق، وهي قول الله ووعده وأنه قادر على أن يوجد ولدا من غير أبوين، فكيف من شيخ فان، وعجوز عاقر. وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، ورويت عن أبي عمرو: من القنطين، من قنط يقنط. وقرأ النحويان والأعمش: ومن يقنط. وهو استفهام في ضمنه النفي، ولذلك دخلت إلا في قوله: إلا الضالون وقولهم له: فلا تكن من القانطين نهي، والنهي عن الشيء لا يدل على تلبس المنهى عنه به ولا بمقارنته. وقوله: ومن يقنط رد عليهم، وأن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط، بل ذلك على سبيل الاستبعاد لما جرت به العادة. وفي ذلك إشارة إلى أن هبة الولد على الكبر من رحمة الله، إذ يشد عضد والده به ويؤازره حالة كونه لا يستقل ويرث منه علمه ودينه.
*
* (قال فما خطبكم أيها المرسلون * قالوا إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين * إلا ءال لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنآ إنها لمن الغابرين * فلما جآء ءال لوط المرسلون * قال إنكم قوم منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون * واتيناك بالحق وإنا لصادقون * فأسر بأهلك بقطع من اليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون * وقضينآ إليه ذلك الامر أن دابر هؤلآء مقطوع مصبحين) *: لما بشروه بالولد راجعوه في ذلك، علم أنهم ملائكة الله ورسله، فاستفهم بقوله: فما خطبكم؟ الخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد، فأضافه إليهم من حيث أنهم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين. ونكر قوما وصفتهم تقليلا لهم واستهانة بهم، وهم قوم لوط أهل مدينة سدوم والمعنى: أرسلنا بالهلاك. وإلا آل لوط: يحتمل أن يكون استثناء من الضمير المستكن في مجرمين والتقدير: أجرموا كلهم إلا آل لوط، فيكون استثناء متصلا، والمعنى: إلا آل لوط فإنهم لم يجرموا. ويكون قوله: إنا لمنجوهم أجمعين، استئناف إخبار عن نجاتهم، وذلك لكونهم لم يجرموا، ويكون حكم الإرسال منسحبا على قوم مجرمين وعلى آل لوط لإهلاك هؤلاء، وإنجاء هؤلاء. والظاهر أنه استثناء منقطع، لأن آل لوط، ولا على عموم الشمول لتنكير قوم مجرمين، ولانتفاء وصف الإجرام عن آل لوط. وإذا كان استثناء فهو مما يجب فيه النصب، لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن بوجه العامل على المستثنى فيه، لأنهم لم يرسلوا إليهم أصلا، وإنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصة. ويكون قوله: إنا لمنجوهم جرى مجرى خبر، لكن في اتصاله بآل لوط، لأن المعنى: لكن آل لوط منجون. وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدر بلكن إذا لم يكن بعده ما يصح أن يكون خبرا أن الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان إلا وتقديرها بلكن.
قال الزمخشري: فإن قلت: فقلوه إلا امرأته مم استثنى، وهل هو استثناء من استثناء؟ قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله: لمنجوهم، وليس من الاستثناء من
الاستثناء في شيء، لأن الاستثناء إنما يكون
447

فيما اتحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلى امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان: علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما. فأما في الآية فقد اختلف الحكان، لأن إلا آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين، وإلا امرأته قد تعلق بمنجوهم، فأنى يكون استثناء من استثناء: انتهى. ولما استسلف الزمخشري أن إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم، لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء. ومن قال: إنه استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين: أحدهما: أنه لما كان الضمير في لمنجوهم عائد على آل لوط، وقد استثنى منه المرأة، صار كأنه مستثنى من آل لوط، لأن المضمر هو الظاهر في المعنى. والوجه الآخر: أن قوله: إلا آل لوط، لما حكم عليهم بغير الحكم علي قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم، فجاء قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيدا لمعنى الاستثناء، إذ المعنى إلا آل لوط، فلم يرسل إليهم بالعذاب، ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير قولك: قام القوم إلا زيدا، فإنه لم يقم وإلا زيدا لم يقم. فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه، فإلا امرأته على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط، لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء به للتأكيد.
وقرأ الأخوان: لمنجوهم بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد. وقرأ أبو بكر: قدرنا بالتخفيف، وباقي السبعة بالتشديد، وكسرت إنها إجراء لفعل التقدير مجرى العلم، إما لكونه بمعناه، وإما لترتبه عليه. وأسندوا التقدير إليهم، ولم يقولوا: قدر الله، لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم كما يقول من يلوذ بالملك ومن هو متصرف بأوامره: أمرنا بكذا، والآمر هو الملك. وقال الزمخشري: لما لهم من القرب والاختصاص بالله الذي ليس لأحد غيرهم انتهى. فأدرج مذهب الاعتزال في تفضيل الملائكة في غضون كلامه، ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم، وخاف أن يطرقوه بشر. وبل إضراب عن قول محذوف أي: ما جئناك بشيء تخافه، بل جئناك بالعذاب لقومك، إذ كانوا يمترون فيه أي: يشكون في وقوعه، أو يجادلونك فيه تكذيبا لك بما وعدتهم عن الله. ويحتمل أن يكون نكرهم لكونهم ليسوا بمعروفين في هذا القطر، فخاف الهجوم منهم عليه، أو أن يتعرض إليهم أحد من قومه إذ كانوا في صورة شباب حسان مرد. وأتيناك بالحق أي: باليقين من عذابهم، وإنا لصادقون في الإخبار لحلوله بهم. وتقدم الخلاف في القراءة في فأسر. وروى صاحب الإقليد فسر من السير، وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني. وحكى القاضي منذر بن سعيد أن فرقة قرأت بقطع بفتح الطاء، وتقدم الكلام في القطع وفي الالتفات في سورة هود. وخطب الزمخشري هنا فقال: (فإن قلت): ما معنى أمره باتباع أدبارهم، ونهيهم عن الالتفات؟ (قلت): قد بعث الله الهلاك على قومه ونجاه وأهله، إجابة لدعوته عليهم، وخرج مهاجرا فلم يكن بد من الاجتهاد في شكر الله وإدامة ذكره وتفريغ باله، لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بمن خلفه قلبه، وليكون مطلعا عليهم وعلى أهوالهم، فلا يفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحالة المهولة المحذورة، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه، وليكون مسيره مسير الهارب الذي تقدم سريه وتفوت به.
وحيث تؤمرون قال ابن عباس: الشام. وقيل: موضع نجاة غير معروف. وقيل: مصر. وقيل: إلى أرض الخليل بمكان يقال له اليقين. وحيث على بابها من أنها ظرف مكان، وادعاء أنها قد تكون هنا ظرف زمان من حيث أنه ليس في الآية أمر إلا قوله: فأسر بأهلك بقطع من الليل، ثم قيل له: حيث تؤمر ضعيف. ولفظ تؤمر يدل على خلاف ذلك، إذ كان يكون التركيب من حيث أمرتم، وحيث من الظروف المكانية المبهمة، ولذلك يتعدى إليها الفعل وهو: امضوا بنفسه، تقول: قعدت حيث قعد زيد، وجاء في الشعر دخول في عليها. قال الشاعر:
* فأصبح في حيث التقينا شريدهم
*
طليق ومكتوف اليدين ومرعف
*
448

ولما ضمن قضينا معنى أوحينا، تعدت تعديها بإلى أي: وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا، والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه. وأن دابر تفخيم للأمر وتعظيم له، وهو في موضع نصب على البدل من ذلك قاله الأخفش، أو على إسقاط الباء أي بأن دابرا قاله الفراء، وجوزه الحوفي. وأن دابر هؤلاء مقطوع كناية عن الاستئصال. وتقدم تفسير مثله في قوله: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) * ومصبحين داخلين في الصباح، وهو حال من الضمير المستكن في مقطوع على المعنى، ولذلك جمعه وقدره الفراء وأبو عبيد: إذا كانوا مصبحين، كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا، فإن كان تفسير معنى فصحيح، وإن أراد الإعراب فلا ضرورة تدعو إلى هذا التقدير. وقرأ الأعمش وزيد بن علي: إن دابر بكسر الهمزة لما ضمن قضينا معنى أوحينا، فكان المعنى: أعلمنا، علق الفعل فكسر إن أو لما كان القضاء بمعنى الإيحاء معناه القول كسران، ويؤيده قراءة عبد الله. وقلنا: إن دابر وهي قراءة تفسير لا قرآن، لمخالفتها السواد. والمدينة: سدوم، وهي التي ضرب بقاضيها المثل في الجور.
* (وجآء أهل المدينة المدينة يستبشرون * قال إن هؤلآء ضيفى فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون * قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هاؤلآء بناتى إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفى سكرتهم يعمهون * فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن فى ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم * إن فى ذلك لآية للمؤمنين) *: استبشارهم: فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط عليه السلام. والظاهر أن هذا المجيء ومحاورته مع قومه في حق أضيافه، وعرضه بناته عليهم، كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله، ولذلك سماهم ضيفان خوف الفضيحة، لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح.
وقد جاء ذلك مرتبا هكذا في هود، والواو لا ترتب. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المجيء والمحاورة بعد علمه بهلاكهم، وخاور تلك المحاورة على جهة التكتم عنهم، والإملاء لهم، والتربص بهم انتهى. ونهاهم عن فضحهم إياه لأن من أساء إلى ضيفه أو جاره فقد أساء إليه. ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال، أو من الخزاية وهو الاستحياء. وفي قولهم: أو لم ننهك دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف، أو يجبر أحدا، أو يدفع عنه، أو يمنع بينهم وبينة، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد. وكان هو صلى الله على نبينا وعليه يقوم بالنهي عن المنكر، والحجز بينهم وبين من تعرضوا له، فأوعدوه بأنه إن لم ينته أخرجوه. وتقدم الكلام في قوله: بناتي، ومعنى الإضافة في هود. وإن كنتم فاعلين شك في قبولهم لقوله: كأنه قال إن فعلتم ما أقول، ولكم ما أظنكم تفعلون. وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم. واللام في لعمرك لام الابتداء، والكاف خطاب للوط عليه السلام، والتقدير: قالت الملائكة للوط لعمرك، وكنى عن الضلالة والغفلة بالسكرة أي: تحبرهم في غفلتهم، وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به من ترك البنين إلى البنات. وقيل: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم)، وهو قول الجمهور ابن عباس، وأبو الحوراء، وغيرهما. أقسم تعال بحياته تكريما له. والعمر: بفتح العين وضمها البقاء، وألزموا الفتح القسم، ويجوز حذف اللام، وبذلك قرأ ابن عباس: وعمرك. وقال أبو الهيثم: لعمرك لدينك الذي يعمر، وأنشد:
* أيها المنكح الثريا سهيلا
*
عمرك الله كيف يلتقيان
*
أي: عبادتك الله. وقال ابن الأعرابي: عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد. قال: ويقال تركت
449

فلانا يعمر ربه أي يعبده، فعلى هذا لعمرك لعبادتك. وقال الزجاج: ألزموا الفتح القسم لأنه أخف عليهم، وهم يكثرون القسم بالعمرى ولعمرك فلزموا الأخف، وارتفاعه بالابتداء، والخبر محذوف أي: ما أقسم به. وقال بعض أصحاب المعاني: لا يجوز أن يضاف إلى الله، لأنه لا يقال لله تعالى عمر، وإنما يقال: هو أزلي، وكأنه يوهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع، وليس كذلك العمر، والعمر البقاء. قال الشاعر:
* إذا رضيت علي بنو قشير
*
لعمر الله أعجبني رضاها
*
وقال الأعشى:
* ولعمر من جعل الشهور علامة
*
فبين منها نقصها وكمالها
*
وكره النخعي أن يقال: لعمري، لأنه حلف بحياة المقسم. وقال النابغة:
لعمري وما عمري علي بهين
والضمير في سكرتهم عائد على قوم لوط، وقال الطبري: لقريش، وهذا مروي عن ابن عباس. قال: ما خلق الله نفسا أكرم على الله من محمد قال له: وحياتك إنهم أي قومك من قريش لفي سكرتهم أي ضلالهم، وجهلهم يعمهون يترددن. قال ابن عطية: وهذا بعيد لانقطاعه مما قبله وما بعده. وقرأ الأشهب: سكرتهم بضم السين، وابن أبي عبلة: سكراتهم بالجمع، والأعمش: سكرهم بغير تاء، وأبو عمرو في رواية الجهضمي: أنهم بفتح همزة أنهم. والصبحة: صبحة الهلاك. وقيل: صوت جبريل عليه السلام. وقال ابن عطية: هي صيحة الوحشة، وليست كصيحة ثمود مشرقين: داخلين في الشروق، وهو بزوغ الشمس. وقيل: أول العذاب كان عند الصبح، وامتد إلى شروق الشمس، فكأنه تمام الهلاك عند ذلك. والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدمة الذكر. وقال الزمخشري: لقرى قوم لوط، ولم يتقدم لفظ القرى. وقال مقاتل وابن زيد: للمتوسمين، للمتفكرين. وقال الضحاك: للناظرين. قال الشاعر:
* أو كلما وردت عكاظ قبيلة
*
بعثوا إلى عريفهم يتوسم
*
وقال أبو عبيدة: للمتبصرين. وقال قتادة: للمعتبرين. وروي نهشل عن ابن عباس للمتوسمين قال: لأهل الصلاح والخير، والضمير في وأنها عائد على المدينة المهلكة
أي: أنها لبطريق ظاهر بين للمعتبر قاله: مجاهد، وقتادة، وابن زيد. قيل: ويحتمل أن يعود على الآيات، ويحتمل أن يعود على الحجارة. وقوله: لبسبيل أي ممر ثابت، وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس. وهو تنبيه لقريش، وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل. وقيل: عائد على الصيحة أي: وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله: وما هي من الظالمين ببعيد. وقيل: مقيم معلوم. وقيل: معتد دائم. وقال ابن عباس: هلاك دائم السلوك إن في ذلك أي: في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلا لمن آمن بالله.
* (وإن كان أصحاب الايكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) *: هم قوم شعيب، والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجر الدوم. وقيل: المقل. وقيل: السدر. وقيل:
450

الأيكة اسم الناحية، فيكون علما. ويقويه قراءة من قرأ في الشعراء وص: ليكة ممنوع الصرف. كفروا فسلط الله عليهم الحر، وأهلكوا بعذاب الظلة. ويأتي ذلك مستوفى إن شاء الله تعالى في سورة الشعراء. وإن عند البصريين هي لمخففة من الثقيلة، وعند الفراء نافية، واللام بمعنى ألا. وتقدم نظير ذلك في: * (وإن كانت لكبيرة) * في البقرة. والظاهر قول الجمهور من أن الضمير في وأنهما عائد على قريتي: قوم لوط، وقوم شعيب. أي: على أنهما ممر السائلة. وقيل: يعود على شعيب ولوط أي: وإنهما لبإمام مبين، أي بطريق من الحق واضح، والإمام الطريق. وقيل: وإنهما أي: الحر بهلاك قوم لوط وأصحاب الأيكة، لفي مكتوب مبين أي: اللوح المحفوظ. قال مؤرج: والإمام الكتاب بلغة حمير. وقيل: يعود على أصحاب الأيكة ومدين، لأنه مرسل إليهما، فدل ذكر أحدهما على الآخر، فعاد الضمير إليهما.
* (ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين * وءاتيناهم * فكانوا عنها معرضين * وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا ءامنين * فأخذتهم الصيحة مصبحين * فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) *: أصحاب الحجر ثمود قوم صالح عليه السلام، والحجر أرض بين الحجاز والشام، وتقدمت قصته في الأعراف مستوفاة. والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحا، لأن من كذب واحدا منهم فكأنما كذبهم جميعا. قال الزمخشري: أو أراد صالحا ومن معه من المؤمنين كما قيل: الخبيبيون في ابن الزبير وأصحابه. وعن جابر قال: مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) على الحجر فقال لنا: * (لا تدخلوا * مساكن الذين ظلموا أنفسهم * إلا أن * تكونوا * حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء) * ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) راحلته فأسرع حتى خلفها وفي بعض طرقه ثم قال: * (هؤلاء قوم * صالح * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون * أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله) * قيل: من هو يا رسول الله؟ قال: (أبو رغال) وإليه تنسب ثقيف.
وآتيناهم آياتنا قيل: أنزل إليهم آيات من كتاب الله، وقيل: يراد نصب الأدلة فأعرضوا عنها. وقيل: كان في الناقة آيات خمس. خروجها من الصخرة، ودنو نتاجها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا. وقيل: كانت له آيات غير الناقة. وقرأ الجمهور: ينحتون بكسر الخاء. وقرأ الحسن، وأبو حيوة بفتحها وصفهم بشدة النظر للدنيا والتكسب منها، فذكر من ذلك مثالا وهو نقرهم بالمعاول ونحوها في الحجارة. وآمنين، قيل: من الانهدام. وقيل: من حوادث الدنيا. وقيل: من الموت لاغترارهم بطول الأعمار. وقيل: من نقب اللصوص، ومن الأعداء. وقيل: من عذاب الله، يحسبون أن الجبال تحميهم منه. قال ابن عطية: وأصح ما يظهر في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة، فكانوا لا يعملون بحسبها، بل كانوا يعملون بحسب الأمن منها. ومصبحين: داخلين في الصباح. والظاهر أن ما في قوله فما أغنى نافية، وتحتمل الاستفهام المراد منه التعجب. وما في كانوا يحتمل أن تكون مصدرية، والظاهر أنها بمعنى الذي، والضمير محذوف أي: يكسبونه من البيوت الوثيقة والأموال والعدد، بل خروا جاثمين هلكى * (وما خلقنا * السماوات والارض * وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * السماوات والارض وما بينهمآ إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل * إن ربك هو الخلاق العليم * ولقد ءاتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين * وقل إنى أنا النذير المبين * كمآ أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرءان عضين * فوربك لنسئلنهم أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزءين * الذين يجعلون مع الله إلاها ءاخر فسوف يعملون * ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون * فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *: إلا بالحق أي: خلقا ملتبسا بالحق. لم يخلق شيء من ذلك عبثا ولا هملا، بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم، وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى. ولذلك نبه من يتنبه بقوله: وأن الساعة لآتية، فيجازي من أطاع ومن عصي. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم) بالصفح
451

وذلك يقتضي المهادنة، وهي منسوخة بآية السيف قاله قتادة. أو إظهار الحكم عنهم والإغضاء لهم.
ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما بينهما قال: إن ربك هو الخلاق، أتى بصفة المبالغة لكثرة ما خلق، أو الخلاق من شاء لما شاء من سعادة أو شقاوة. وقال الزمخشري: الخلاق الذي خلقك وخلقهم، وهو العليم بحالك وحالهم، فلا يخفى عليه ما يجري بينكم. أو إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح. وقرأ زيد بن علي، والجحدري، والأعمش، ومالك بن دينار: هو الخالق، وكذا في مصحف أبي وعثمان، من المثاني.
والمثاني جمع مثناة، والمثنى كل شيء يثني أي: يجعل اثنين من قولك: ثنيت الشيء ثنيا أي عطفته وضممت آليه آخر، ومنه يقال لركبتي الدابة ومر فقيه: مثاني، لأنه يثني بالفخذ والعضد. ومثاني الوادي معاطفه. فتقول: سبعا من المثاني مفهوم سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثني، وهذا مجمل، ولا سبيل إلى تعيينه إلا بدليل منفصل. قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، ومجاهد، وابن جبير: السبع هنا هي السبع الطوال: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام،
والأعراف، والأنفال، وبراءة، لأنهما في حكم سورة، ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. وسميت الطوال مثاني لأن الحدود والفرائض والأمثال ثنيت فيها قاله ابن عباس، وعلى قوله من لبيان الجنس. وقيل: السابعة سورة يونس قاله ابن جبير، وقيل: براءة وحدها، قاله أبو مالك. والمثاني على قول هؤلاء وابن عباس في قوله المتقدم: القرآن. كما قال تعالى: * (كتابا متشابها مثاني) * وسمي بذلك لأن القصص والأخبار تثني فيه وتردد. وقيل: السبع آل حميم، أو سبع صحائف وهي الأسباع. وقيل: السبع هي المعاني التي أنزلت في القرآن: أمر، ونهي، وبشارة، وإنذار، وضرب أمثال، وتعداد النعم، وإخبار الأمم. قاله زياد بن أبي مريم. وقال عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس أيضا، والحسن، وأبو العالية، وابن أبي مليكة، وعبيد بن عمير، وجماعة: السبع هنا هي آيات الحمد. قال ابن عباس: وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال غيره: سبع دون البسملة. وقال أبو العالية: لقد نزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شيء، ولا ينبغي أن يعدل عن هذا القول، بل لا يجوز العدول عنه لما في حديث أبي ففي آخره، (هي السبع المثاني) وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم): (إنها السبع المثاني وأم القرآن وفاتحة الكتاب) وسميت بذلك لأنها تثني في كل ركعة. وقيل: لأنها يثني بها على الله تعالى جوزه الزجاج. قال ابن عطية: وفي هذا القول من جهة التصريف نظر انتهى. ولا نظر في ذلك، لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعيا أي: مقر ثناء على الله تعالى أي: فيها ثناء على الله تعالى. وقال ابن عباس: لأن الله استثناها لهذه الأمة ولم يعطها لغيرها، وقال نحوه ابن أبي مليكة. وعلى هذا التفسير الوارد في الحديث تكون من لبيان الجنس، كأنه قيل: التي هي المثاني، وكذا في قول من جعلها أسباع القرآن، أو سبع المعاني. وأما من جعلها السبع الطوال أو آل حميم فمن للتبعيض، وكذا في قول من جعل سبعا الفاتحة والمثاني القرآن. قال الزمخشري: يجوز أن تكون كتب الله كلها مثاني، لأنها تثني عليه، ولما فيها من المواعظ المكررة، ويكون القرآن بعضها.
وقرأ الجمهور: والقرآن العظيم بالنصب. فإن عني بالسبع الفاتحة أو السبع الطوال لكان ذلك من عطف العام على الخاص، وصار الخاص مذكورا مرتين. إحداهما: بجهة الخصوص، والأخرى: بجهة العموم. أو لأن ما دون الفاتحة أو السبع الطوال ينطلق عليه لفظ القرآن، إذ هو اسم يقع على بعض الشيء، كما يقع على كله. وإن عنى الإسباع فهو من باب عطف الشيء على نفسه، من حيث أن المعنى: ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم أي: الجامع لهذين المعنيين وهو الثناء والتنبيه والعظم. وقرأت فرقة: والقرآن العظيم بالخفض عطفا على المثاني. وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة، والتقدير: سبعا من المثاني القرآن العظيم. ولما ذكر تعالى ما أنعم به على رسوله صلى الله عليه وسلم) من إتيانه ما آتاه، نهاه. وقد قلنا: إن النهي لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة عن طموح عينه إلى شيء من متاع الدنيا، وهذا وإن كان خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم) فالمعنى: نهى أمته عن ذلك لأن من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن
452

الاشتغال بزهرة الدنيا. ومد العين للشيء إنما هو لاستحسانه وإيثاره. وقال ابن عباس: أي لا تتمن ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا أزواجا منهم، أي رجالا مع نسائهم، أو أمثالا في النعم، وأصنافا من اليهود والنصارى والمشرين أقوال. ونهاه تعالى عن الحزن عليهم إن لم يؤمنوا، وكان كثير الشفقة على من بعث إليه، وادا أن يؤمنوا بالله كلهم، فكان يلحقه الحزن عليهم. نهاه تعالى عن الحزن عمن لم يؤمن، وأمره بخفض جناحه لمن آمن، وهي كناية عن التلطف والرفق. وأصله: أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه لم ثم قبضه على فرخه، والجناحان من ابن آدم جانباه. ثم أمره أن يبلغ أنه هو النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم إن لم تؤمنوا، وإنزال نقم الله المخوفة بكم. والكاف قال الزمخشري: فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق بقوله: ولقد آتيناك أي: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم: بعضه حق موافق للتوارة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل، وعصوه. وقيل: كانوا يستهئون به فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، ويقول الآخر: سورة آل عمران لي. ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم، وقد اقتسموه بتحريهم، وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض، والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم) عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم: سحر، وشعر، وأساطير، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني: أن يتعلق بقوله تعالى: وقل أني أنا النذير المبين، وأنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني: اليهود، هو ما جرى على قريظة والنضير، جعل المتوقع بمنزلة الواقع، وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان. ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي: أنذر المعضين الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم: الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم، فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر، ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر، فأهلكهم الله تعالى يوم بدر، وقبله بآفات: كالوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وغيرهم. أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم (فإن قلت): إذا علقت قوله كما أنزلنا بقوله ولقد آتيناك فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره بينهما (قلت): لما كان ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين انتهى أما الوجه الأول وهو تعلق كما بآتيناك فذكره أبو البقاء على تقدير وهو وأن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالا كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله أن المقتسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه العوفي عن ابن عباس وأما قوله اقتسموا القرآن فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير وأما قوله اقتسموا فقال بعضهم سورة البقرة وبعضهم سورة آل عمران الخ فقاله عكرمة وقال السدي هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوثب والوليد والعاصي والحرث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل البعوض لي ومن قائل النمل لي وقائل الذباب لي وقائل العنكبوت لي استهزاء فأهلك الله جميعهم. وأما قوله أن القرآن عبارة عما يقرؤونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد. وأما قوله ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي أنذر المعضين فلا يجوز أن يكون منصوبا
بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقوله شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية تذكر دلائلها في علم النحو. وأما قوله الذين يجزؤون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير فمروي عن قتادة إلا أنه قال بدل شعر كهانة. وأما قوله الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه أن الوليد بن المغيرة قال ليقل بعضكم كاهن
453

وبعضكم ساحر وبعضكم شاعر وبعضكم غاووهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاصي بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن احرث وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم) فأهلكوا جميعا. وأما قوله أنهم الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحا فقول عبد الله بن يزد. وقال ابن عطية والكاف من قوله كما متعلقه بفعل محذوف تقديره وقل أني أنا النذير عذابا كالذي أنزلنا على المقتسمين فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم) بل هو من قول الله تعالى فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدران الله تعالى قال له أنذر عذابا كما والذي أقول في هذا المعنى وقل أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل أني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا وهذا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى. أما قوله وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا وإن كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الملك هو الآمر. وأما قوله والذي أقول في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم. وقال أبو البقاء وقيل التقدير متعناهم تمتيعا كما أنزلنا والمعنى متعنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وقيل التقدير إنذار مثل ما أنزلنا انتهى. وقيل الكاف زائدة التقدير أنا النذير المبين ما أنزلنا على المقتسمين هذه أقوال وتوجيهات متكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره بخفض جناحه للمؤمنين أمره أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمره تعالى بأن يقول لهم إني أنا النذير المبين لكم ولغيركم كما قال تعالى إنما أنت منذر من يخشاها وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف تقديره وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين إنك نذير لهم فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمنين كما تنذر الكافرين كما قال تعالى نذير وبشير لقوم يؤمنون والظاهر أن الذين صفة للمقتسمين وجوزوا أن يكون خبر مبتدأ محذوف ويجوز أن ينتصب على الذم وتقدم تجويز الزمخشري له أن يكون مفعولا بالنذير فوربك أقسم تعالى بذاته وربوبيته مضافا إلى رسوله على جهة التشريف والضمير في لنسألنهم يظهر عود على المقتسمين وهو وعيده من سؤال تقريع ويقال أنه يعود على الجميع من كافر ومؤمن إذ قد تقدم ذكرهما والسؤال عام للخلق ويجوز أن يكون السؤال كناية عن الجزاء وعن ما كانوا يعملون عام في جميع الأعمال. وقال أبو العالية يسأل العباد عن حالتين عن ما كانوا يعبدون وعن ما أجابوا المرسلين وقال ابن عباس يقال لهم لم عملتم كذا قال أنس وابن عمر ومجاهد السؤال عن لا إله إلا الله وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم) وإذا ثبت ذلك فيكون المعنى عن الوفاء بلا إله إلا الله والصدق لمقالها كما قال الحسن ليس الإيمان بالتحلي ولا الدين بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. وقال ابن عباس فاصدع بما تؤمر امض به. وقال الكلبي اجهر به وأظهره من الصديع وهو الفجر قال الشاعر:
كأن بياض غرته صديع
454

وقال السدي تكلم بما تؤمر. وقال ابن زيد أعلم بالتبليغ. وقال ابن بحر جرد لهم القول في الدعاء إلى الإيمان. وقال أبو عبيدة عن رؤبة ما في القرآن أغرب من قوله فاصدع بما تؤمر وما في بما بمعنى الذي والمفعول الثاني محذوف تقديره بما تؤمره وكان أصله تؤمر به من الشرائع فحذف الحرف فتعدى الفعل إليه. وقال الأخفش ما موصولة والتقدير فاصدع بما تؤمر بصدعه فحذف المضاف ثم الجار ثم الضمير. وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول انتهى وهذا ينبني على مذهب من يجوز أن المصدر يراد به أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز وأعرض عن المشركين من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف قاله ابن عباس ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها الرسول ولا تكلف لها مشقة. قال عروة وابن جبير هم خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأبو زمعة والأسود بن عبد يغوث ومن بني خزاعة الحرث بن الطلاطلة. قال أبو بكر الهذلي قلت للزهري أن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين فقال ابن جبير هو الحرث بن عيطلة وقال عكرمة هو الحرث بن قيس فقال الزهري صدقا إنه عيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في المستهزئين هبار بن الأسود وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة. وعن ابن عباس أن المستهزئين كانوا ثمانية وفي رواية مكان الحرث بن قيس عدي بن قيس. وقال الشعبي وابن أبي بزة كانوا سبعة فذكر الوليد والحرث بن عدي والأسودين والأثرم وبعكك ابني الحرث بن السباق وكذا قال مقاتل إلا أنه قال مكان الحرث بن عدي الحرث بن قيس السهمي وذكر المفسرون والمؤرخون أن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم) أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه فمنعه الكبر أن يطامن لنزعه فأصاب عرقا في عقبه. قال قتادة ومقسم وهو الأكحل فقطعه فمات وأومأ إلى أخمص العاصي فدخلت فيه شوكة. وقيل ضربته حية فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات وأومأ إلى عيني الأسود بن المطلب فعمى وهلك وأشار إلى أنف الحرث بن قيس فامتخط قيحا فمات. وقيل أصابته سموم فاسود حتى صار كأنه حبشي فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا الباب في وجهه فصار يطوف في شعاب مكة حتى مات وفي بعض ما أصاب هؤلاء اختلاف والله أعلم. وقال مقاتل أصاب الأثرم أو بعككا الدبيلة والآخر ذات الجنب فماتا فسوف يعلمون وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلها مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكنى بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما يقولون وهو ما ينطلقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عن ما
نسبوا إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوبا بحمده والثناء على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد والله أعلم من المصلين فكنى بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولما كان الصادر من المستهزئين اعتقادا وهو فعل القلب وقولا وهو ما يقولون في الرسول وما جاء به وهو فعل جارحة أمر تعالى بما يقابل ذلك من التنزيه لله ومن السجود وهما جامعان فعل القلب وفعل الجسد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب بها إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه صلى الله عليه وسلم) ما زال متلبسا بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حيا فلا تخل بالعبادة وهو تفسير ابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وابن زيد ومنه قوله صلى الله عليه وسلم) في عثمان بن مظعون عند موته أما هو فقد رأى اليقين ويروى فقد جاءه اليقين وليس اليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل فسمي يقينا تجوزا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه. وقال ابن عطية ويحتمل أن يكون المعنى
455

حتى يأتيك اليقين في النصر الذي وعدته انتهى وقاله ابن بحر قال اليقين النصر على الكافرين انتهى وحكمة التغيية باليقين وهو الموت أنه يقتضي ديمومة العبادة ما دام حيا بحلاف الاقتصار على الأمر بالعبادة غير مغيا لأنه يكون مطلقا فيكون مطيعا بالمرة الواحدة والمقصود أن لا يفارق العبادة حتى يموت.
456

((سورة النحل))
مائة وثمان وعشرون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
2 (* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون * خلق السماوات والا رض بالحق تعالى عما يشركون * خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين * والا نعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم * والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون * وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئر ولو شآء لهداكم أجمعين * هو الذىأنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم فى الا رض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون * وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وألقى فى الا رض رواسى أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون * أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون * وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوهآ إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون
457

والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحيآء وما يشعرون أيان يبعثون * إلاهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالا خرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين * وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم قالوا أساطير الا ولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا سآء ما يزرون * قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركآئى الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزى اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *))
) *
النطفة: القطرة من الماء، نظف رأسه ماء أي قطر. الدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن. وتقول العرب: دفىء يومنا فهو دفئ إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد، ودفىء الرجل فداء ودفأ، وجمع الدفء أدفاء. ورجل دفآن وامرأة دفأى، والدفئة الإبل الكثيرة الأوبار، لا دفاء بعضها بعضا بأنفاسها. وقد تشدد، وعن الأصمعي الدفئة الكثيرة الأوبار والشحوم. وقال الجوهري: الدفء نتاج الإبل وألبانها، وما ينتفع به منها. البغل: معروف، ولعمرو بن بحر الجاحظ كتاب البغال. الحمار: معيروف، يجمع في القلة على أحمر وفي الكثرة على حمر، وهو القياس وعلى حمير. الطري: فعيل من طر ويطر، وطراوة مثل سر ويسر سراوة. وقال الفراء: طري يطري طراء وطراوة مثل: شقى، يشقى، شقاء، وشقاوة. المخر: شق الماء من يمين وشمال، يقال: مخر الماء الأرض. وقال الفراء: صوت جرى الفلك بالرياح، وقيل: الصوت الذي يكون من هبوب الريح إذا اشتدت، وقد يكون من السفينة ونحوها. ماد: تحرك ودار. السقف: معروف ويجمع على سقوف وهو القياس، وعلى سقف وسقف، وفعل وفعل محفوظان في فعل، وليسا مقيسين فيه.
* (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون يشركون * ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشآء من عباده أن أنذروا أنه لا إلاه إلا أنا فاتقون * خلق) *: قال الحسن، وعطاء، وعكرمة، وجابر: هي كلها مكية. وقال ابن عباس: إلا ثلاث آثات منها نزلت بالمدينة بعد حمزة وهي قوله: * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * إلى قوله: * (بأحسن ما كانوا يعملون) * وقيل: إلا ثلاث آيات * (وإن عاقبتم) * الآية نزلت في المدينة في شأن التمثيل بحمزة وقتلى أحد، وقوله: * (واصبر وما صبرك إلا بالله) * وقوله: * (ثم إن ربك للذين هاجروا) * وقيل: من أولها إلى قوله: * (يشركون) * مدني وما سواه مكي. وعن قتادة عكس هذا.
ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال: * (فوربك لنسئلنهم أجمعين) * كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة، وسؤالهم عما أجرموه في دار الدنيا، فقيل: أتى
أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور. وعن ابن عباس المراد بالأمر: نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وظهوره على الكفار. وقال الزمخشري: كانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة، أو نزول العذاب بهم يوم بدر استهزاء وتكذيبا بالوعد انتهى. وهذا الثاني قاله ابن جريج قال: الأمر هنا ما وعد الله نبيه من النصر وظفره بإعدائه، وانتقامه منهم بالقتل والسبي ونهب الأموال، والاستيلاء على منازلهم وديارهم. وقال الضحاك: الأمر هنا مصدر أمر، والمراد به: فرائضه وأحكامه. قيل: وهذا فيه بعد، لأنه لم ينقل أن أحدا من الصحابة استعجل فرائض من قبل أن تفرض عليهم. وقال الحسن وابن جريج أيضا: الأمر عقاب الله لمن أقام على الشرك، وتكذيب الرسول، واستعجال العذاب منقول عن
458

كثير من كفار قريش وغيرهم. وقريب من هذا القول قول الزجاج: هو ما وعدهم به من المجازاة على كفرهم. وقيل: الأمر بعض أشراط الساعة. وأتى قيل: باق على معناه من المضي، والمعنى: أقي أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا. وقيل: أتى أمر الله، أتت مبادئه وأماراته. وقيل: عبر بالماضي عن المضارع لقرب وقوعه وتحققه، وفي ذلك وعيد للكفار. وقرأ الجمهور: تستعجلوه بالتاء على الخطاب، وهو خطاب للمؤمنين أو خطاب للكفار على معنى: قل لهم فلا تستعجلوه. وقال تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) * وقرأ ابن جبير: بالياء نهيا للكفار، والظاهر عود الضمير في فلا تستعجلوه على الأمر لأنه هو المحدث عنه. وقيل: يعود على الله أي: فلا تستعجلوا الله بالعذاب، أو بإتيان يوم القيامة كقوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) * وقرأ حمزة والكسائي: تشركون بتاء الخطاب، وباقي السبعة والأعرج وأبوه جعفر، وابن وضاح، وأبو رجاء، والحسن. وقرأ عيسى: الأولى بالتاء من فوق، والثانية بالياء والتاء من فوق معا؛ الأعمش، وأبو العالية، وطلحة، وأبو عبد الرحمن، وابن وثاب، والجحدري، وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية. وأفضل قراءته عما يشركون باستعجالهم، لأن استعجالهم استهزاء وتكذيب، وذلك من الشرك. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: ينزل مخففا، وباقي السبعة مشددا، وزيد بن علي والأعمش وأبو بكر: تنزل مشددا مبنيا للمفعول، الملائكة بالرفع. والجحدري كذلك، إلا أنه خفف. والحسن، وأبو العالية، والأعرج، والمفضل، عن عاصم ويعقوب: بفتح التاء مشددا مبنيا للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة: ما ننزل بنون العظمة والتشديد، وقتادة بالنون والتخفيف. قال ابن عطية: وفيهما شذوذ كثير انتهى. وشذوذهما أن ما قبله وما بعده ضمير غيبة، ووجهه أنه التفات، والملائكة هنا جبريل وحده قاله الجمهور، أو الملائكة المشار إليهم بقوله: * (والنازعات غرقا) * وقال ابن عباس: الروح الوحي تنزل به الملائكة على الأنبياء، ونظيره: * (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) * وقال الربيع بن أنس: هو القرآن، ومنه * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * وقال مجاهد: المراد بالروح أرواح الخلق، لا ينزل ملك إلا ومعه روح. وقال الحسن وقتادة: الروح الرحمة. وقال الزجاج: ما معناه الروح الهداية لأنها تحيا بها القلوب، كما تحيا الأبدان بالأرواح. وقيل: الروح جبريل، ويدل عليه: * (نزل به الروح الامين) * وتكون الباء للحال أي: ملتبسة بالروح. وقيل: بمعنى مع، وقيل: الروح حفظة على الملائكة لا تراهم الملائكة، كما الملائكة حفظة علينا لا تراهم. وقال مجاهد أيضا: الروح اسم ملك، ومنه: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * وعن ابن عباس: أن الروح خلق من خلق الله كصور ابن آدم، لا ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم، وقال نحوه ابن جريج. قال ابن عطية: وهذا قول ضعيف لم يأت به سند.
وقال الزمخشري: بالروح من أمره، بما تحيا به القلوب الميتة بالجهل، من وحيه أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد انتهى. ومن للتبعيض، أو لبيان الجنس. ومن يشاء: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأن مصدرية، وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع، وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم: كتبت إليه بأن قم، وهو بدل من الروح. أو على إسقاط الخافض: بأن أنذروا، فيجري الخلاف فيه: أهو في موضع نصب؟ أو في موضع خفض؟ وقال الزمخشري: وأن أنذروا بدلا من الروح أي: ننزلهم بأن أنذروا، وتقديره: أنذروا أي: بأن الشأن أقول لكم أنذروا. أنه لا إله إلا أنا انتهى. فجعلها المخفف من الثقيلة، وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن، وقدر إضمار القول: حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع سهولة كونها الشانية التي من شأنها نصب المضارع. وجوز ابن عطية، وأبو البقاء، وصاحب الغنيان: أن تكون مفسرة فلا موضع لها من الإعراب، وذلك لما في التنزل بالوحي من معنى القول أي: أعلموا الناس من نذرت بكذا إذا أعلمته. قال الزمخشري: والمعنى يقول لهم: أعلموا الناس قولي لا إله إلا أنا فاتقون انتهى. لما جعل أن هي التي حذف منها ضمير الشأن قدر هذا التقدير وهو يقول لهم: أعلموا. وقرئ: لينذروا أنه، وحسنت النذارة هنا وإن لم يكن في اللفظ ما فيه خوف من حيث كان
459

المنذرون كافرين بألوهيته، ففي ضمن أمرهم مكان خوف، وفي ضمن الإخبار بالوحدانية نهي عما كانوا عليه، ووعيد وتحذير من عبادة الأوثان. ومعنى: فاتقون أي اتقوا عقابي باتخاذكم إلها غيري. وجاءت الحكاية على المعنى في قوله: إلا أنا، ولو جاءت على اللفظ لكان لا إله إلا الله، وكلاهما سائغ. وحكاية المعنى هنا أبلغ إذ فيها نسبة الحكم إلى ضمير المتكلم المنزل الملائكة، ثم دل على وحدانيته وأنه لا إله إلا هو بما ذكر مما لا يقدر عليه غيره من خلق السماوات والأرض، وهم مقرون بأنه تعالى هو خالقها. وبالحق أي: بالواجب اللائق، وذلك أنها تدل على صفات تحق لمن كانت له أن يخلق ويخترع وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، بخلاف شركائهم التي لا يحق لها شيء من ذلك.
وقرأ الأعمش: فتعالى بزيادة فاء، وجاءت هذه الجملة منبهة على تنزيه الله تعالى موجد هذا العالم العلوي والعالم السفلي عن أن يتخذ معه شريك في العبادة. ولما ذكر ما دل على وحدانيته من خلق العالم العلوي والأرض، وهو استدلال بالخارج، ذكر الاستدلال من نفس الإنسان، فذكر إنشاءه من نطفة فإذا هو خصيم مبين، وكان حقه والواجب عليه أن يطيع وينقاد لأمر الله. والخصيم من صفات المبالغة من خصم بمعنى اختصم، أو بمعنى مخاصم، كالخليط والجليس، والمبين الظاهر الخصومة أو المظهرها. والظاهر أن سياق هذين الوصفين سياق ذم لما تقدم من قوله: سبحانه وتعالى عما يشركون، وقوله: أن أنذروا الآية. ولتكرير تعالى عما يشركون، ولقوله
في يس: * (أو لم * ير الإنسان) * الآية وقال: * (بل هم قوم خصمون) * وعنى به مخاصمتهم لأنبياء الله وأوليائه بالحجج الداحضة، وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم، أو مردفا بالذم.
وقيل: المراد بالإنسان هنا أبي بن خلف الجمحي. وقال قوم: سياق الوصفين سياق المدح، لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم، وجعله مبين الحق من الباطل، ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة العالية الشريفة وهي: حالة النطق والإبانة. وإذ هنا للمفاجأة، وبعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاطبة إلا بعد أحوال تطور فيها، فتلك الأحوال محذوفة، وتقع المفاجأة بعدها. وقال أبو عبد الله الرازي: إعلم أن أشرف الأجسام بعد الأفلاك والكواكب هو الإنسان، ثم ذكر الإنسان وأنه مركب من بدن ونفس في كلام كثير يوقف عليه في تفسيره، ولا نسلم ما ذكره من أن الأفلاك والكواكب أشرف من الإنسان. ولما ذكر خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته، فذكر أولا أكثرها منافع، وألزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك الأنعام، وتقدم شرح الأنعام في الأنعام. والأظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع بها من جهتها، ودفء مبتدأ وخبره لكم، ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار. وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالا من دفء، إذ لو تأخر لكان صفة. وجوز أيضا أن يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر، وهذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها، لا يجوز: فائما في الدار زيد، فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف، أو توسطت فأجاز ذلك الأخفش، ومنعه الجمهور. وأجاز أيضا أن يرتفع دفء بلكم أو نعتها بال، والجملة كلها حال من الضمير المنصوب انتهى. ولا تسمى جملة، لأن التقدير: خلقها لكم فيها دفء، أو خلقها لكم كائنا فيها دفء، وهذا من قبيل المفرد، لا من قبيل الجملة. وجوزوا أن يكون لكم متعلقا بخلقها، وفيها دفء استئناف لذكر منافع الأنعام. ويؤيد كون لكم فيها دفء يظهر فيه الاستئناف مقابلته بقوله: ولكم فيها جمال، فقابل المنفعة الضرورية بالمنفعة غير الضرورية. وقال ابن عباس: الدفء نسل كل شيء، وذكره الأموي عن لغة بعض العرب. والظاهر أن نصب والأنعام على الاشتغال، وحسن النصب كون جملة فعلية تقدمت، ويؤيد ذلك قراءته في الشاذ برفع الأنعام. وقال الزمخشري، وابن عطية: يجوز أن يكون قد عطف على البيان، وعلى هذا كون لكم استئناف، أو متعلق بخلقها. وقرأ الزهري وأبو جعفر: دفء بضم الفاء وشدها وتنوينها، ووجهه أنه نقل الحركة من الهمزة إلى الفاء بعد حذفها، ثم شدد الفاء إجراء للوصل مجرى الوقف، إذ يجوز تشديدها في ألوف. وقرأ زيد بن علي: دف بنقل الحركة، وحذف الهمزة دون تشديد الفاء. وقال صاحب اللوامح:
460

الزهري دف بضم الفاء من غير همز، والفاء محركة بحركة الهمزة المحذوفة. ومنهم من يعوض من هذه الهمزة فيشدد الفاء، وهو أحد وجهي حمزة بن حبيب وقفا. وقال مجاهد: ومنافع الركوب، والحمل، والألبان، والسمن، والنضج عليها، وغير ذلك. وأفرد منفعة الأكل بالذكر، كما أفرد منفعة الدفء، لأنهما من أعظم المنافع.
وقال الزمخشري: (فإن قلت): تقدم الظرف في قوله: ومنها تأكلون مؤذن، بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها (قلت): الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معائشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به، وكالجاري مجرى التفكه. وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك في قوله: * (إياك نعبد) * والظاهر أن من للتبعيض كقولك: إذا أكلت من الرغيف. وقال الزمخشري: ويحتمل أن طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر، والحب والثمار التي تأكلونها منها، وتكتسبون بإكراء الإبل، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى. فعلى هذا يكون التبعيض مجازا، أو تكون من للسبب. الجمال مصدر جمل بضم الميم، والرجل جميل، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد:
* فهي جملاء كبدر طالع
*
بزت الخلق جميعا بالجمال
*
ويطلق الجمال ويراد به التجمل، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد. والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر، ويلقيه في ألقاب، فتتعلق به النفس من غير معرفة. وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة: كالعلم، والعفة، والحلم، وفي الأفعال: بوجودها ملائمة لمصالح الخلق، وجلب المنفعة إليهم، وصرف الشر عنهم. والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة، والمعنى: أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا، وكونه فيها من أهل السعة، فمن الله تعال بالتجمل بها، كما من بالانتفاع الضروري، لأن التجمل بها من أغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها، والعرب تفتخر بذلك. ألا ترى إلى قول الشاعر:
* لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم
*
مرابط للإمهاز والعكر الدثر أحب إلينا من أناس بقنة يروح على آثار شائهم النمر والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين، والجمع عكر. والدثر الكثير، ويقال: أراح الماشية ردها بالعشي من المرعى، وسرحها يسرحها سرحا وسروحا أخرجها غدوة إلى المرعى، وسرحت هي يكون متعديا ولازما، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة. وقدم الإراحة على السرح لأن الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون، حافلة الضروع، ثم أوت إلى الحظائر، بخلاف وقت سرحها، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء، فيأتنس أهلها، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها، وتكسبهم الجاه
والحرمة لقوله تعالى: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) * وقوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات) * ثم قال تعالى: * (والانعام والحرث) * وقرأ عكرمة والضحاك والجحدري: حينا فيهما بالتنوين، وفك الإضافة. وجعلوا الجملتين صفتين حذف منهما العائد كقوله: * (واتقوا يوما لا تجزى) * ويكون العامل في حينا على هذا، إما المبتدأ لأنه في معنى التجمل، وإما خبره بما فيه من معنى الاستقرار والأثقال. الأمتعة: واحدها
461

ثقل. وقيل: الأجسام لقوله تعالى: * (وأخرجت الارض أثقالها) * أي أجساد بني آدم. وقوله: إلى بلد، لا يراد به معين أي: إلى بلد بعيد توجهتم إليه لأغراضكم. وقيل: المراد به معين وهو مكة، قاله: ابن عباس، وعكرمة، والربيع بن أنس. وقيل: مدينة الرسول. وقيل: مصر. وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على المراد، إذ المنة لا تختص بالحمل إليها. ولم تكونوا بالغيه صفة للبلد، ويحتمل أن يكون التقدير بها، وذلك تنبيه على بعد البلد، وأنه مع الاستعانة بها بحمل الأثقال لا يصلون إليه إلا بالمشقة. أو يكون التقدير: لم تكونوا بالغيه بأنفسكم دونها إلا بالمشقة عن أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم. وقرأ الجمهور: بشق بكسر الشين. وقرأ مجاهد، والأعرج، وأبو جعفر، وعمر بن ميمون، وابن أرقم: بفتحها. ورويت عن نافع وأبي عمرو، وهما مصدران معناهما المشقة. وقيل: الشق بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، ويعني به: المشقة. وقال الشاعر في الكسر:
* وذي إبل يسعى ويحسبها له
*
أخي نصب من شقها ودؤوب
*
أي مشقتها. وشق الشيء نصفه، وعلى هذا حمله الفراء هنا أي: يذهبان صف الأنفس، كأنها قد ذابت تعبا ونصبا كما تقول: لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك، وبفطعة من كبدك. ونحو هذا من المجاز. ويقال: أخذت شق الشاة أي نصفها والشق: الجانب، والأخ الشقيق، وشق اسم كاهن. وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الخثم بصفة الرأفة والرحمة، لأن من رأفته تيسير هذه المصالح وتسخير الأنعام لكم. ولما ذكر تعالى مننه بالأنعام ومنافعها الضرورية، ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية. وقرأ الجمهور: والخيل وما عطف عليه بالنصب عطفا على والأنعام. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع. ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه، ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز لكل الخيل، خلافا لمن استدل بذلك. وانتصب وزينة، ولم يكن باللام، ووصل الفعل إلى الركوب بوساطة الحرف، وكلاهما مفعول من أجله، لأن التقدير: خلقها، والركوب من صفات المخلوق لهم ذلك فانتفى شرط النصب، وهو: اتحاد الفاعل، فعدى باللام. والزينة من وصف الخالق، فاتحد الفاعل، فوصل الفعل إليه بنفسه. وقال ابن عطية: وزينة نصب بإضمارفعل تقديره: وجعلناها زينة. وروى قتادة عن ابن عباس: لتركبوها زينة بغير واو. قال صاحب اللوامح: والزينة مصدر أقيم مقام الاسم، وانتصابه على الحال من الضمير في خلقها، أو من لتركبوها. وقال الزمخشري: أي وخلقها زينة لتركبوها، أو يجعل زينة حالا من هاء، وخلقها لتركبوها وهي زينة وجمال. وقال ابن عطية: والنصب حينئذ على الحال من الهاء في تركبوها. والظاهر نفي العلم عن ذوات ما يخلق تعالى، فقال الجمهور: المعنى ما لا تعلمون من الآدميين والحيوانات والجمادات التي خلقها كلها لمنافعكم، فأخبرنا بأن له من الخلائق ما لا علم لنا به، لنزداد دلالة على قدرته بالإخبار، وإن طوى عنا علمه حكمة له في طيه، وما خلق تعالى من الحيوان وغيره لا يحيط بعلمه بشر. وقال قتادة: ما لا تعلمون، أصل حدوثه كالسوس في النبات والدود في الفواكه. وقال ابن بحر: لا تعلمون كيف يخلقه. وقال مقاتل: هو ما أعد الله لأوليائه في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال الطبري: وزاد بعد في الجنة وفي النار لأهلها، والباقي بالمعنى.
ورويت تفاسير في: ما لا تعلمون في الحديث عن ابن عباس، ووهب بن منبه، والشعبي، الله أعلم بصحتها. ويقال: لما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعا ضروريا وغير ضروري، أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالبا على سبيل الإجمال، إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعد، والقصد مصدر يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه، والسبيل هنا مفرد
462

اللفظ. فقيل: مفرد المدلول، وأل فيه للعهد، وهي سبيل الشرع، وليست للجنس، إذ لو كانت له لم يكن منها جائز. والمعنى: وعلى الله تبين طريق الهدى، وذلك بنصب الأدلة وبعثة الرسل. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون المعنى: إن من سلك الطريق القاصد فعلى الله رحمته ونعيمه وطريقه، وإلى ذلك مصيره. وعلى أن للعهد يكون الضمير في قوله: ومنها جائز، عائد على السبيل التي يتضمنها معنى الآية، كأنه قيل: ومن السبيل جائر، فأعاد عليها وإن لم يجر لها ذكر، لأن مقابلها يدل عليها. قال ابن عطية: ويحتمل أن يعود منها على سبيل الشرع، وتكون من للتبعيض، والمراد: فرق الضلالة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم). كأنه قال: ومن بنيات الطرق في هذه السبيل، ومن شعبها. وقيل: أل في السبيل للجنس، وانقسمت إلى مصدر وهو طريق الحق، وإلى جائر وهو طريق الباطل، والجائر العادل عن الاستقامة والهداية كما قال:
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
وكما قال الآخر:
* ومن الطريقة جائر وهدى
*
قصد السبيل ومنه ذو دخل
*
قسم الطريقة: إلى جائر، وإلى هدى، وإلى ذي دخل وهو الفساد. وقال الزمخشري: ومعنى قوله: وعلى الله قصد السبيل إن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه لقوله: * (إن علينا للهدى) * (فإن قلت): لم غير أسلوب الكلام في قوله: ومنها جائر؟ (قلت): ليعلم بما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز، ولو كان كما تزعم المجبرة لقيل: وعلى الله قصد السبيل، وعليه جائرها، أو وعليه الجائر. وقرأ عبد الله: ومنكم جائر يعني ومنكم جائر عن القصد بسواء اختياره، والله بريء منه. ولو شاء لهداكم أجمعين قسرا والجاء انتهى. وهو تفسير على طريقة الاعتزال. وقيل: الضمير في ومنها يعود على الخلائق أي: ومن الخلائق جائر عن الحق. ويؤيده قراءة عيسى: ومنكم جائر، وكذا هي في مصحف عبد الله، وقراءة علي: فمنكم جائر بالفاء. قال ابن عباس: هم أهل الملل المختلفة. وقيل: اليهود والنصارى والمجوس. ولهداكم: لخلق فيكم الهداية، فلم يضل أحد منكم، وهي مشيئة الاختيار. وقال الزجاج: لفرض عليكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان. قال ابن عطية: وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون أن الله لا يخلق أفعال العباد، لم يحصله الزجاج، ووقع فيه رحمة الله من غير قصد انتهى. ولم يعرف ابن عطية أن الزجاج معتزلي، فلذلك تأول أنه لم يحصله، وأنه وقع فيه من غير قصد. وقال أبو علي: لو شاء لهداكم إلى الثواب، أو إلى الجنة بغير استحقاق. وقال ابن زيد: لو شاء لمحض قصد السبيل دون الجائر. ومفعول شاء محذوف لدلالة لهداكم أي: ولو شاء هدايتكم.
* (هو الذى أنزل من السماء مآء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والاعناب ومن كل الثمرات إن فى ذلك لآية لقوم يتفكرون * وسخر لكم اليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن فى ذلك لآيات لقوم يعقلون * وما ذرأ لكم فى الارض مختلفا ألوانه إن فى ذلك لآية لقوم يذكرون) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما امتن بإيجادهم بعد العدم وإيجاد ما ينتفعون به من الأنعام وغيرها من الركوب، ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان، وما يتولد عنه من
463

أقواتهم وأقواتها من الزرع، وما عطف عليه فذكر منها الأغلب، ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم أتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم، والنهار الذي هو معاش، ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه، ثم بما ذرأ في الأرض.
والظاهر أن لكم، في موضع الصفة لماء، فيتعلق بمحذوف، ويرتفع شراب به أي: ماء كائنا لكم منه شراب. ويجوز أن يتعلق بانزل، ويجوز أن يكون استئنافا، وشراب مبتدأ. لما ذكر إنزال الماء أخذ في تقسيمه. والشراب هو المشروب، والتبعيض في منه ظاهر، وأما في منه شجر فمجاز، لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء كما قال: أسنمة الآبال في ربابه، أي في سحاب المطر. وقال ابن الأنباري: هو على حذف المضاف، إما قبل الضمير أي: ومن جهته، أو سقيه شجر، وإما قبل شجر أي: شرب شجر كقوله * (وأشربوا فى قلوبهم العجل) * أي حبه. والشجر هنا كل ما تنبته الأرض قاله الزجاج. وقال: نطعمها اللحم إذا عز الشجر، فسمى الكلأ شجرا. وقال ابن قتيبة: الشجر هنا الكلأ، وفي حديث عكرمة: (لا تأكلوا الشجر فإنه سحت) يعني الكلأ.
ويقال: أسام الماشية وسومها جعلها ترعى، وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت، قال الزجاج: من السومة، وهي العلامة، لأنها تؤثر في الأرض علامات. وقرأ زيد بن علي: تسيمون بفتح التاء، فإن سمع متعديا كان هو وأسام بمعنى واحد، وإن كان لازما فتأويله على حذف مضاف تسيمون أي: تسيم مواشيكم لما ذكر، ومنه شجر. أخذ في ذكر غالب ما ينتفع به من الشجر إن كان المراد من قوله: ومنه شجر العموم، وإن كان المراد الكلأ فهو استئناف إخبار منافع الماء. ويقال: نبت الشيء وأنبته الله فهو منبوت، وهذا قياسه منبت. وقيل: يقال أنبت الشجر لازما. وأنشد الفراء:
* رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
*
قطينا بهم حتى إذا أنبت البقل أي نبت. وكان الأصمعي يأبى أنبت بمعنى نبت. وقرأ أبو بكر: ننبت بنون العظمة. وقرأ الزهري: ننبت بالتشديد قيل: للتكثير والتكرير، والذي يظهر أنه تضعيف التعدية. وقرأ أبي: ينبت من نبت ورفع الزرع وما عطف عليه. وخص الأربعة بالذكر لأنها أشرف ما ينبت، وأجمعه للمنافع. وبدأ بالزرع لأنه قوت أكثر العالم، ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه، وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه، والاطلاء بدهنه، ثم بالنخل لأن ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد، ثم بالأعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات، أتى بلفظ من التي للتبعيض، لأن كل الثمرات لا تكون إلا في الجنة، وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة. ولما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل أعقبه بقوله: ويخلق ما لا تعلمون، كذلك هنا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، ثم قال:
464

ومن كل الثمرات، تنبيها على أن تفصيل القول في أجناسها وأنواعها وصفاتها ومنافعها مما لا يكاد يحصر، كما أن تفصيل ما خلق من باقي الحيوان لا يكاد يحصر. وختم ذلك تعالى بقوله: لآية لقوم يتفكرون، لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر. ألا ترى أن الحبة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به، فينشق أعلاها فيصعد منه شجرة إلى الهواء، وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق، ثم ينمو الأعلى ويقوى، وتخرج الأوراق والأزهار والأكمام، والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والروائح والأشكال والمنافع، وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى.
*
وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوبا، وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة إن كان مسخرات اسم مفعول، وهو إعراب الجمهور. وقال الزمخشري: ويجوز أن كون المعنى: أنه سخرها أنواعا من التسخير جمع مسخر بمعنى: تسخير من قولك: سخره الله مسخرا، كقولك: سرحه مسرحا، كأنه قيل: وسخرها لكم تسخيرات بأمره انتهى. وقرأ ابن عامر: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر، وحفص والنجوم مسخرات برفعهما، وهاتان القراءتان يبعدان قول الزمخشري إن مسخرات بمعنى تسخيرات. وقرأ ابن مسعود، والأعمش، وابن مصرف: والرياح مسخرات في موضع، والنجوم وهي مخالفة لسواد المصحف. والظاهر في قراءة نصب الجميع أن والنجوم معطوف على ما قبله. وقال الأخفش: والنجوم منصوب على إضمار فعل تقديره: وجعل النجوم مسخرات، فأضمر الفعل. وعلى هذا الإعراب لا تكون مسخرات حالا مؤكدة، بل مفعولا ثانيا لجعل إن كان جعل المقدرة بمعنى صير، وحالا مبينة إن كان بمعنى خلق. وتقدم شرح تسخير هذه النيرات في الأعراف. وجمع الآيات هنا، وذكر العقل، وأفرد فيما قبل، وذكر التفكر لأن فيما قبل استدلالا بإثبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، والاستدلال هنا متعدد، ولأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة. وما درأ معطوف على الليل والنهار يعني: ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك. وقيل: مختلفا ألوانه أصنافه كما تقول: هذه ألوان من الثمر ومن الطعام. وقيل: المراد به المعادن. إن في ذلك أي: فيما ذرأ على هذه الحال من اختلاف الألوان، أو إن في ذلك أي: اختلاف الألوان. وختم هذا بقوله: يذكرون، ومعناه الاعتبار والاتعاظ، كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل: يذكرون أي: يتذكرون ما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض.
* (وهو الذى سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله) *: لما ذكر تعالى الاستدلال بما ذرأ في الأرض، ذكر ما امتن به من ستخير البحر. ومعنى تسخيره: كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح، وللغوص في استخراج ما فيه، وللاصطياد لما فيه. والبحر جنس يشمل الملح والعذب، وبدأ أولا من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل، ومنه على حذف مضاف أي: لتأكلوا من حيوانه طريا، ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان، ونبه على غاية الحلية وهو اللبس. وفيه منافع غير اللبس، فاللحم الطري من الملح والعذب، والحلية من الملح. وقيل: إن العذب يخرج منه لؤلؤ لا يلبس إلا قليلا وإنما يتداوى به، ويقال: إن في الزمرد بحريا، فأما لتأكلوا فعام في النساء والرجال، وأما تلبسونها فخاص بالنساء. والمعنى: يلبسها نساؤكم. وأسند اللبس إلى الذكور، لأن النساء إنما يتزين بالحلية من أجل رجالهن، فكأنها زينتهم ولباسهم. ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه والاستخراج للحلية، ذكر نعمة تصرف الفلك فيه ماخرة أي: شاقة فيه، أو ذات صوت لشق الماء لحمل الأمتعة
465

والأقوات للتجارة وغيرها، وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال: وترى، وجعلها جملة معترضة بين التعليلين: تعليل الاستخراج، وتعليل الابتغاء، لذلك عدل عن جمع المخاطب، والظاهر عطف، ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه. وأجاز ابن الأنباري أن يكون معطوفا على علة محذوفة أي: لتبتغوا بذلك. ولتبتغوا، وأن يكون على إضمار فعل أي: وفعل ذلك لتبتغوا. والفضل هنا حصول الأرباح بالتجارة، والوصول إلى البلاد الشاسعة، وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر. ولعلكم تشكرون، على ما منحكم من هذه النعم. قيل: خلق الله اورض فجعلت تمور فقالت الملائكة: ما هي بمقر أحد على ظهرها، فأصبحت وقد أرسيت بالجيال، لم تدر الملائكة مم خلقت. وعطف وأنهارا على رواسي. ومعنى ألقى: جعل، ألا ترى إلى قوله: * (ألم نجعل الارض مهادا * والجبال أوتادا) * وقوله: وجعل فيها رواسي، من فوقها. وقال * (وألقيت عليك محبة منى) * أي: جعلت. وقال ابن عطية: قال المتأولون: ألقى بمعنى خلق وجعل، وهي عندي أخص من خلق وجعل، وذلك أن ألقى يقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض لكن من قدرته واختراعه، ويؤيد هذا النظر ما روي في القصص عن الحسن، عن قيس بن عباد: أن الله تعالى لما خلق الأرض جعلت تمور إلى آخر الكلام السابق، وهو أيضا مروي عن وهب بن منبه. وقال ابن عطية أيضا: وقوله: وأنهارا، منصوب بفعل مضمر تقديره: وجعل، أو خلق أنهار أو إجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى، ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار انتهى. وأي إجماع في هذا، وقد حكى عن المتأولين أن ألقى بمعنى خلق وجعل، وقال الزمخشري: وأنهارا، وجعل فيها أنهارا لأن ألقى فيه معنى جعل. ألا ترى إلى قوله: * (ألم نجعل الارض مهادا * والجبال أوتادا) *. وقال أبو البقاء: أي وشق أنهارا وعلامات أي: وضع علامات، ويجوز أن يعطف على رواسي. وقال أبو عبد الله الرازي: ثبت في العلوم العقلية أن أكثر الأنهار إنما تتفجر منابعها في الجبال، فلهذا السبب أتبع ذكرها بتفجير الأنهار، وسبلا طرقا إلى مقاصدكم لعلكم تهتدون بالسبل إلى مقاصدكم، هذا هو الظاهر، ويدل عليه ما بعده. وقال تعالى: وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون. وقيل: تهتدون أي: بالنظر في دلالة هذه المصنوعات على صانعها، فهو من الهداية إلى الحق، ودين الله. وعلامات هي معالم الطرق، وكل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك قاله الزمخشري، وهو معنى قول ابن عباس. وقال أبو عبد الله الرازي: ورأيت جماعة يتعرفون الطرقات بشم التراب. وقال ابن عيسى: العلامة صورة يعلم بها ما يراد من خط أو لفظ أو إشارة أو هيئة. وقال ابن عطية: وعلامات نصب كالمصدر أي: فعل هذه الأشياء لعلكم تعتبرون بها، وعلامات أي: عبرة وإعلاما في كل سلوك، فقد يهتدي بالجبال وبالأنهار وبالسبل انتهى. وقال ابن الكلبي: العلامات الجبال. وقال النخعي ومجاهد: النجوم. وأغرب ما فسرت به العلامات أنها حيتان طوال رقاق كالحيات في ألوانها وحركاتها تسمى بالعلامات، وذلك في بحر الهند الذي يسار إليه من اليمن، فإذا ظهرت كانت علامة للوصول لبلاد الهند وأمارة للنجاة. وقرأ الجمهور: وبالنجم، على أنه اسم جنس، ويؤيد ذلك قراءة ابن وثاب: وبالنجم بضم النون والجيم، وقراءة الحسن: بضم النون. وفي اللوامح الحسن: النجم بضمتين، وابن وثاب: بضمة واحدة، وجاء كذلك عن ابن هشام الرفاعي، ولا شك في أنه يذكره عن أصحاب عاصم انتهى. وذلك جمع كسقف وسقف، ورهن وترهن، وجعله مما جمع على فعل أولى من حمله على أنه أراد النجوم
، فحذف الواو. إلا أن ابن عصفور ذكر أن قولهم: النجم من ضرورة الشعر، وأنشد:
466

* إن الذي قضى بذا قاض حكم
*
أن يرد الماء إذا غاب النجم
*
قال: يريد النجوم. مثل قوله:
حتى إذا ابتلت حلاقيم الحلق
يريد: الحلوق. والتسكين: قيل تخفيف، وقيل: لغة. وعن السدي: هو الثريا، والفرقدان، وبنات نعش، والجدي. وقال الفراء: المراد الجدي والفرقدان انتهى. قيل: والجدي هو السابع من بنات نعش الصغرى، والفرقدان الأولان منها، وليس بالجدي الذي هو المنزلة، وبعضهم يصغره فيقول: جدي. وفي الحديث عن ابن عباس أنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم) عن قوله: وبالنجم، فقال: (هو الجدي) ولو صح هذا لم يعدل أحد عنه. وقال ابن عباس: عليه قبلتكم، وبه تهتدون في بركم وبحركم. وقيل: هو القطب الذي لا يجري. وقيل: هو الثريا. وقال الشاعر:
* إذا طلب الجوزاء والنجم طالع
*
فكل مخاضات الفرات معابر
*
وقال آخر:
* حتى إذا ما استقل النجم في غلس
*
وغودر البقل ملوى ومحصود أي ومنه ملوى، ومنه محصود، وذلك إنما يكون عند طلوع الثريا. وهم: ضمير غيبة خرج من الخطاب إلى الغيبة، كان الضمير النعت به إلى قريش إذ كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم، وكان لهم بذلك علم لم يكن لغيرهم، فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم. وقدم المجرور على ما يتعلق به اعتناء ولأجل الفاصلة. والزمخشري على عادته كأنه قيل: وبالنجم خصوصا هم يهتدون.
*
* (أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون كمن لا يخلق أفلا تذكرون * وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم * والله يعلم ما تسرون وما تعلنون * والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون * أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون * إلاهكم إلاه واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون * لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين) *: ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري تعالى، وبين من لا يخلق وهي الأصنام، ومن عبد ممن لا يعقل، فجدير أن يفرد بالعبادة من له الإنشاء دون غيره. وجئ بمن في الثاني لاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل، أو لاعتقاد الكفار أن لها تأثيرا وأفعالا، فعوملت معاملة أولي العلم، أو للمشاكلة بينه وبين من يخلق، أو لتخصيصه بمن يعلم. فإذا وقعت البينونة بين الخالق وبين غير الخالق، من أولي العلم فكيف بمن لا يعلم البتة كقوله: * (ألهم أرجل يمشون بها) * أي: أن آلهتهم منحطة عن حال من له أرجل، لأن من له هذه حي، وتلك أموات، فكيف يصح أن يعبد لا أن من له رجل يصح أن يعبد؟ قال الزمخشري: (فإن قلت): هو إلزام للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة تشبيها بالله، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حق الإلزام أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق
467

(قلت): حين جعلوا غير الله مثل الله في تسميته باسمه والعبادة له، وسووا بينه وبينه، فقد جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: أفمن يخلق كمن لا يخلق، ثم وبخهم بقوله: أفلا تذكرون، أي: مثل هذا لا ينبغي أن تقع فيه الغفلة. والنعمة يراد بها النعم لا نعمة واحدة، يدل على ذلك قوله تعالى: * (وإن تعدوا) * وقوله: * (لا تحصوها) * إذ ينتفي العدو الإحصاء في الواحدة، والمعنى: لا تحصوا عدها، لأنها لكثرتها خرجت عن إحصائكم لها، وانتفاء إحصائها يقتضي انتفاء القيام بحقها من الشكر. ولما ذكر نعما سابقة أخبر أن جميع نعمه لا يطيقون عدها. وأتبع ذلك بقوله: إن الله لغفور رحيم، حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكر النعم، ولا يقطعها عنكم لتفريطكم، ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها. ولما كان الإنسان غير قادر على أداء شكر النعم، وأن له حالة يعرض فيها منه كفرانها قال في عقب الآية التي في إبراهيم: * (إن الإنسان لظلوم كفار) * أي لظلوم بترك الشكر كفار للنعمة. وفي هذه الآية ذكر الغفران والرحمة لطفا به، وإيذانا في التجاوز عنه. وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون، وضمنه الوعيد لهم، والإخبار بعلمه تعالى. وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم.
وقرأ الجمهور: بالتاء من فوق في تسرون وتعلنون وتدعون، وهي قراءة: مجاهد، والأعرج، وشيبة، وأبي جعفر، وهبيرة، عن عاصم على معنى: قل لهم. وقرأ عاصم في مشهورة: يدعون بالياء من تحت، وبالتاء في السابقتين. وقرأ الأعمش وأصحاب عبد الله: يعلم الذي يبدون وما يكتمون، وتدعون بالتاء من فوق في الثلاثة.
وقرأ طلحة: ما يخفون وما يعلنون، وتدعون بالتاء من فوق، وهاتان القراءتان مخالفتان لسواد المصحف، والمشهور ما روي عن الأعمش وغيره، فوجب حملها على التفسير، لا على أنها قرآن. ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره، نص على أن آلهتهم لا تخلق، وعلى أنها مخلوقة. وأخبر أنهم أموات. وأكد ذلك بقوله: غير أحياء، ثم نفى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم، فضلا عن العلم الذي تتصف به العقلاء. وعبر بالذين وهو للعاقل عومل غيره معاملته، لكونها عبدت واعتقدت فيها الألوهية، وقرأ محمد اليماني: يدعون بضم الياء وفتح العين مبنيا للمفعول، والظاهر أن قوله: وهم يخلقون، أي: الله أنشأهم واخترعهم. وقال الزمخشري: ووجه آخر وهو أن يكون المعنى: أن الناس يخلقونهم بالنحت والتصوير، وهم لا يقدرون على ذلك فهم أعجز من عبدتهم انتهى. وأموات خبر مبتدأ محذوف أي: هم أموات. ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والظاهر أن هذه كلها مما حدث به عن الأصنام، ويكون بعثهم إعادتها بعد فنائها. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) *. وقيل: معنى بعثها إثارتها، كما تقول: بعثت النائم من نومه إذ نبهته، كأنه وصفهم بغاية الجمود أي: وإن طلبتهم بالتحريك أو حركتهم لم يشعروا بذلك، ونفى عنهم الحياة لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطق التي ينشئها الله حيوانا، وأجساد الحيوان التي تبعث بعد موتها. وأما الأصنام من الحجارة والخشب فأموات لا يعقب موتها حياة، وذلك أعرق في موتها. وقيل: والذين تدعون، هم الملائكة، وكان ناس من الكفار يعبدونهم. وأموت أي: لا بد لهم من الموت، وغير أحياء أي: غير باق حياتهم، وما يشعرون أي: لا علم لهم بوقت بعثهم. وجوزوا في قراءة: والذين يدعون، بالياء من تحت أن يكون قوله: أو موت، يراد به الكفار الذين ضميرهم في: يدعون، شبههم بالأموات غير الأحياء من حيث هم ضلال. غير مهتدين وما بعده عائد عليهم، والبعث الحشر من قبورهم. وقيل: في هذا التقدير وعيد أي: أيان يبعثون إلى التعذيب. وقيل: الضمير في وما يشعرون، للأصنام وفي: يبعثون، لعبدتها. أي: لا تشعر الأصنام متى تبعث عبدتها. وفيه تهكم بالمشركين، وأن آلهتهم لا يعلمون وقت بعث عبدتهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء على عبادتهم. وتلخص من هذه الأقوال أن تكون الإخبار بتلك الجمل كلها من المدعوين آلهة، أما الأصنام، وأما الملائكة، أو يكون من قوله: أموات إلى آخره (سقط: إخبارا عن الكفار، أيكون وما يشعرون أيان يبعثون فقط إخبارا عن الكفار، أو يكون وما
468

يشعرون)، إخبارا عن المدعوين، ويبعثون: إخبارا عن الداعين العابدين. وقرأ أبو عبد الرحمن إيان بكسر الهمزة، وهي لغة قومه سليم. والظاهر أن قوله: إيان، معمول ليبعثون، والجملة في موضع نصب بيشعرون، لأنه معلق. إذ معناه العلم. والمعنى: أنه نفى عنهم علم ما انفرد بعلمه الحي القيوم، وهو وقت البعث إذا أريدبالبعث الحشر إلى الآخرة. وقيل: تم الكلام عند قوله: وما يشعرون. وأيان يبعثون ظرف لقوله: آلهكم إله واحد، أخبر عن يوم القيامة أن الإله فيه واحد انتهى. ولا يصح هذا القول لأن أيان إذ ذاك تخرج عما استقر فيها من كونها ظرفا، إما استفهاما، وإما شرطا. وفي هذا التقدير تكون ظرفا بمعنى وقت مضافا للجملة بعدها، معمولا لقوله: واحد، كقولك: يوم يقوم زيد قائم. وفي قوله: أيان يبعثون دلالة على أنه لا بد من البعث، وأنه من لوازم التكليف. ولما ذكر تعالى ما اتصفت به آلهتهم بما ينافي الألوهية، أخبر تعالى أن إله العالم هو واحد لا يتعدد ولا يتجزأ وأن الذين لا يؤمنون بالجزاء بعد وضوح بطلان أن تكون الإلهية لغيره بل له وحده، هم مستمرون على شركهم، منكرون وحدانيته، مستكبرون عن الإقرار بها، لاعتقادهم الإلهية لأصنامهم وتكبرها في الوجود. ووصفهم بأنهم لا يؤمنون بالآخرة مبالغة في نسبة الكفر إليهم، إذ عدم التصديق بالجزاء في الآخرة يتضمن التكذيب بالله تعالى وبالبعث، إذ من آمن بالبعث يستحيل أن يكذب الله عز وجل. وقيل: مستكبرون عن الإيمان برسول الله وأتباعه. وقال العلماء: كل ذنب يمكن التستر به وإخفاؤه إلا التكبر فإنه فسق يلزمه الإعلان. وفي الحديث الصحيح: (إنالمستكبرين يجيؤون أمثال الذر يوم القيامة، يطؤهم الناس بأقدامهم) أو كما قال صلى الله عليه وسلم)، وتقدم الكلام في * (لا جرم) * في هود. وقرأ عيسى الثقفي إن بكسر الهمزة على الاستئناف والقطع مما قبله. وقال بعض أصحابنا: وقد يغني لا جرم عن لفظ القسم، تقول: لا جرم لآتينك، فعلى هذا يكون لقوله: إن الله بكسر الهمزة تعلق بلا جرم، ولا يكون استئنافا. وقد قال بعض الأعراب لمرداس الخارجي: لا جرم والله لأفارقنك أبدا، نفى كلامه تعلقها بالقسم. وفيقوله: يعلم ما يسرون وما يعلنون وعيد وتنبيه على المجازاة، وقال يحيى بن سلام، والنقاش: المراد هنا بما يسرون تشاورهم في دار الندوة في قتل النبي صلى الله عليه وسلم) انتهى. ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين، يأخذ كل واحد منهم بقسطه.
* (وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين * ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون صلى الله عليه وسلم) قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون * ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين * الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بل إن الله عليم بما كنتم تعملون * فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين) *. قيل: سبب نزول وإذا قيل لهم الآية، أن النضر بن الحرث سافر عن مكة إلى الحيرة، وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة، وأخبار اسفنديار ورستم، فجاء إلى مكة فكان يقول: إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه. وما كلمة استفهام مفعول بأنزل، أو مبتدأ خبره ذا بمعنى الذي، وعائده في
469

أنزل محذوف أي: أي شيء الذي أنزله. وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعا بالابتداء قال: بمعنى أي شيء أنزله ربكم. وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر، والضمير في لهم عائد على كفار قريش. وماذا أنزل ليس معمولا لقيل على مذهب البصرين، لأنه جملة، والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله، كما لا تقع موقع الفاعل. وقرئ شاذا: أساطير بالنصب على معنى ذكر ثم أساطير، أو أنزل أساطير على سبيل التهكم والسخرية، لأن التصديق بالإنزال ينافي أساطير، وهم يعتقدون أنه ما نزل شيء ولا أن ثم منزل. وبنى قيل: للمفعول، فاحتمل أن كون القائل بعضهم لبعض، واحتمل أن يكون المؤمنون قالوا لهم على سبيل
الامتحان. وقيل: قائل ذلك الذين تقاسموا مداخل مكة ينفرون عن الرسول صلى الله عليه وسلم) إذا سألهم وفود الحاج: ماذا أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟ قالوا: أحاديث الأولين.
وقرأ الجمهور: برفع أساطير، فاحتمل أن يكون التقدير المذكور: أساطير، أو المنزل أساطير، جعلوه منزلا على سبيل الاستهزاء، وإن كانوا لا يؤمنون بذلك. واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الحتم عليهم والصغار الموجب لهم، أو لام التعليل من غير أن يكون غرضا كقولك: خرجت من البلد مخافة الشر، وهي التي يعبر عنها بلام العاقبة، لأنهم لم يقصدوا بقولهم: أساطير الأولين، أن يحملوا الأوزار. ولما قال ابن عطية: إنه يحتمل أن تكون لام العاقبة قال: ويحتمل أن يكون صريح لام كي على معنى قدر هذا لكذا، وهي لام التعليل، لكنه لم يعلقها بقوله. قالوا: بل أضمر فعلا آخر وهو: قدر هذا، وكاملة حال أي: لا ينقص منها شيء، ومن للتبعيض. فالمعنى: أنه يحمل من وزر كل من أضل أي: بعض وزر من ضل بضلالهم، وهو وزر الإضلال، لأن المضل والضال شريكان، هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر، لأن المضل والضال شريكان، هذا يضله، وهذا يطاوعه على إضلاله، فيتحاملان الوزر. وقال الأخفشا: من زائدة أي: وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى: ومثل * (أوزار الذين يضلونهم) * كقوله: (فعليه وزرها ووزر عن عمل بها إلى يوم القيامة) المراد: ومثل وزر، والمعنى: أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عابه حتى أن ذلك العقاب يكون مساويا لعقاب كل من اقتدىء به في ذلك. وقال الواحدي: ليست من للتبعيض، لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع، وذلك غير جائز لقوله عليه الصلاة والسلام: (من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) لكنها للجنس أي: ليحملوا من جنس أوزار الاتباع انتهى. ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا التقدير الذي قدره الواحدي، وإنما تقدر: الأوزار التي هي أوزار الذين يضلونهم، فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير. وبغير علم قال الزمخشري: حال من المفعول أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلال. وقال غيره: حال من الفاعل وهو أولى، إذ هو المحدث عنه المسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية، والمعنى: أنهم يقدمون على هذا الإضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال. ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة، وتقدم الكلام في إعراب مثل ساء ما يزرون. فأتى الله أي: أمره وعذابه والبنيان، قيل: حقيقة. قال ابن عباس وغيره: الذين من قبلهم نمرود بني صرحا ليصعد بزعمه إلى السماء، وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش، وقاله كعب الأحبار. وقال ابن عباس ووهب: طوله في السماء خمسة آلاف ذراع، وعرضه ثلاثة آلاف ذراع، فبعث الله تعالى عليه ريحا فهدمته، وخر سقفه عليه وعلى اتباعه. وقيل: هدمه جبريل بجناحه، وألقى أعلاه في البحر، والحقف من أسفله. وقال ابن الكلبي: المراد المقتسمون المذكورون في سورة الحجر. وقيل: الذين من قبلهم بخت نصر وأصحابه. وقال الضحاك: قريات قوم لوط، وقالت فرقة: المراد بالذين من قبلهم من كفر من الأمم المتقدمة ومكر، ونزلت به عقوبة من الله، ويكون فأتى الله بنيانهم إلى آخره تمثيلا والمعنى: أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله
470

هلاكهم في تلك المنصوبات كحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين بأن تضعضعت، فسقط عليهم السقف وهلكوا ونحوه: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا. ومن القواعد لابتداء الغاية أي: أتاهم أمر الله من جهة القواعد. وقالت فرقة: المراد بقوله: فخر عليهم السقف من فوقهم. جاءهم العذاب من قبل السماء التي هي فوقهم، وقاله ابن عباس. وقيل: المعنى أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه. قال ابن عطية: وهذا ينجر إلى اللغز. ومعنى قوله: من فوقهم، رفع الاحتمال في قوله: فخر عليهم السقف، فإنك تقول: انهدم على فلان بناؤه وليس تحته، كما تقول: انفسد عليه، وقوله: من فوقه، ألزم أنهم كانوا تحته انتهى. وهذا الذي قاله ابن الأعرابي قال: يعلمك أنهم كانوا جالسين تحته، والعرب تقول: خر علينا سقف، ووقع علينا سقف، ووقع علينا حائط إذا كان يملكه. وإن لم يكن وقع عليه فجاء بقوله من فوقهم ليخرج هذا الذي في كلام العرب فقال: من فوقهم، أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا، فأتاهم العذاب. قال ابن عباس: يعني البعوضة التي أهلك بها نمروذ، وقيل: من حيث لا يشعرون، من حيث ظنوا أنهم في أمان. وقرأ الجمهور: بنيانهم، وقرأت فرقة بنيتهم. وقرأ جعفر: بيتهم، والضحاك: بيوتهم.
وقرأ الجمهور: السقف مفردا، والأعرج السقف بضمتين وزيد بن علي ومجاهد، بضم السين فقط. وتقدم توجيه مثل هاتين القراءتين في وبالنجم. وقرأت فرقة: السقف بفتح السين وضم القاف، وهي لغة في السقف، ولعل السقف مخفف منعه، ولكنه كثر استعماله كما قالوا في رجل رجل وهي لغة تميمية. ولما ذكر تعالى ما حل بهم في دار الدنيا، ذكر ما يحل بهم في الآخرة. ويخزيهم: يعم جميع المكاره التي تحل بهم، ويقتضي ذلك إدخالهم النار كقوله: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته) * أي أهنته كل الإهانة. وجمع بين الإهانة بالفعل، والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في قوله: يخزيهم. ويقول: أين شركائي، أضاف تعالى الشركاء إليه، والإضافة تكون بأدنى ملابسة، والمعنى: شركائي في زعمكم، إذ أضاف على الاستهزاء. وقرأ الجمهور: شركائي ممدودا مهموزا مفتوح الياء، وفرقة كذلك: تسكنها، فسقط في الدرج لالتقاء الساكنين. والبزي عن ابن كثير بخلاف عنه: مقصورا وفتح الياء هنا خاصة. وروي عنه: ترك الهمز في القصص والعمل على الهمز فيه وقصر الممدود، وذكروا أنه من ضرورة الشعر، ولا ينبغي ذلك لثبوته في هذه القراءة، فيجوز قليلا في الكلام. والمشاقة: المفاداة والمخاصمة للمؤمنين. وقرأ الجمهور: تشاقون بفتح النون، وقرأ نافع بكسرها، ورويت عن الحسن، ولا يلتفت إلى تضعيف أبي حاتم هذه القراءة. وقرأت فرقة: بتشديدها، أدغم نون الرفع في نون الوقاية. والذين أوتوا العلم، عام فيمن أوتي العلم من الأنبياء، وعلماء أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الإيمان ويعظونهم، فلا يلتفتون إليهم، وينكرون عليهم. وقيل: هم الملائكة، وقاله ابن عباس. وقيل: الحفظة من الملائكة. وقيل: من حضر الموقف من ملك وأنسي، وغير ذلك. وقال يحيى بن سلام: هم المؤمنون انتهى. ويقول أهل العلم: شماتة بالكفار وتسميعا لهم، وفي ذلك إعظام للعلم، إذ لا يقول ذلك إلا أهله * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم) * تقدم تفسيره في سورة
النساء. والظاهر أن الذين صفة للكافرين، فيكون ذلك داخلا في القول. فإن كان القول يوم القيامة فيكون تتوفاهم حكاية حال ماضية، وإن كان القول في الدنيا لما أخبر تعالى أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول لهم ما يقول قال أهل العلم: إذا أخبر الله تعالى بذلك أن الخزي اليوم الذي أخبر الله أنه يخزيهم فيه، فيكون تتوفاهم على بابها. ويشمل من حيث المعنى من توفته، ومن تتوفاه. ويجوز أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف، وأن يكون منصوبا على الذم، فاحتمل أن يكون مقولا لأهل العلم، واحتمل أن يكون غير مقول، بل من إخبار الله تعالى. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله، وخبره في قوله: فألقوا السلم، فزيدت الفاء في الخبر، وقد يجيء مثل هذا انتهى. وهذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش، فإنه يجيز: زيد فقام، أي قام. ولا يتوهم أن الفاء هي الداخلة
471

في خبر المبتدأ إذا كان موصولا، وضمن معنى الشرط، لأنه لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح الشرط، فلا يجوز فيما ضمن معناه. وقرأ حمزة، والأعمش: يتوفاهم بالياء من أسفل في الموضعين. وقرئ: بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها، وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين. والسلم هنا الاستسلام. قاله الأخفش، أو الخضوع قاله مقاتل. أي، انقادوا حين عاينوا الموت قد نزل بهم. وقيل: في القيامة انقادوا وأجابوا بما كانوا على خلافه في الدنيا من الشقاق والكبر. والظاهر عطف فألقوا على تتوفاهم، وأجاز أبو البقاء أن يكون معطوفا على قوله: الذين، وأن يكون مستأنفا.
وقيل: تم الكلام عند قوله: ظالمي أنفسهم، ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة، فعلى هذا يكون قوله: قال الذين إلى قوله فألقوا، جملة اعتراضية بين الإخبار بأحوال الكفار ما كنا نعمل من سوء هو على إضمار القول أي: ونعتهم بحمل السوء، إما أن يكون صريخ كذب كما قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، فقال تعالى: انظر كيف كذبوا على أنفسهم. وإما أن يكون المعنى: عند أنفسنا أي لو كان الكفر عند أنفسنا سواء ما علمناه. ويرجح الوجه الأول الرد عليهم ببلى، إذ لو كان ذلك على حسب اعتقادهم لما كان الجواب بلى، على أنه يصح على الوجه الثاني أن يرد عليهم ببلى، والمعنى: أنكم كذبتم في اعتقادكم أنه ليس بسوء، بل كنتم تعتقدون أنه سوء لأنكم تبينتم الحق وعرفتموه وكفرتم لقوله: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * وقوله: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) * والظاهر أن هذا السياق كله هو مع أهل العلم والكفار، وإن أهل العلم هم الذين ردوا عليهم إخبارهم بنفي عمل السوء. ويجوز أن يكون الرد من الملائكة وهم الآمروهم بالدخول في النار، يسوقونهم إليها. وقيل: الخزنة، والظاهر الأبواب حقيقة. وقيل: المراد الدركات. وقيل: الأصناف كما يقال: فلان ينظر في باب من العلم أي صنف. وأبعد من قال: المراد بذلك عذاب القبر مستدلا بما جاء (القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار) ولما أكذبوهم من دعواهم أخبروا أنه هو العالم بأعمالهم، فهو المجازى عليها، ثم أمروهم بالدخول، واللام في فلبئس لام تأكيد، ولا تدخل على الماضي المنصرف، ودخلت على الجامد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء. والمخصوص بالذم محذوف أي: فلبئس مثوى المتكبرين هي أي جهنم. ووصف التكبر دليل على استحقاق صاحبه النار، وذلك إشارة إلى قوله. * (قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) *.
2 (* (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الا خرة خير ولنعم دار المتقين * جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشآءون كذلك يجزى الله المتقين * الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون * هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولاكن كانوا أنفسهم يظلمون * فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * وقال الذين أشركوا لو شآء الله ما عبدنا من دونه من شىء نحن ولاءاباؤنا ولا حرمنا من دونه من شىء كذالك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين * ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا أن اعبدوا
472

الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الا رض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين * إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين * وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون * ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين * إنما قولنا لشىء إذآ أردناه أن نقول له كن فيكون * والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الا خرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون * ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحىإليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الا رض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرؤوف رحيم * أو لم يروا إلى ما خلق الله من شىء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الا رض من دآبة والملائكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *))
) *
خسف المكان يخسف خسوفا ذهب، وخسفه الله يريد أذهبه في الأرض به. دخر دخورا تصاغر، وفعل ما يؤمر شاء أو أبى. فقال ابن عطية: تواضع. قال ذو الرمة:
* فلم يبق إلا داخر في مجلس
*
ومنجحر في غير أرضك في جحر
*
* (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا فى هاذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار) *: تقدم إعراب ماذا، إلا أنه إذا كانت ذا موصولة لم يكن الجواب على وفق السؤال، لكون ماذا مبتدأ وخبر، أو الجواب نصب وهو جائز، ولكن المطابقة في الإعراب أحسن. وقرأ الجمهور: خيرا بالنصب أي: أنزل خيرا. قال الزمخشري: فإن قلت: لم نصب هذا، ورفع الأول؟ قلت: فصلا بين جواب المقر وجواب الجاحد، يعني: أن هؤلاء لما سئلوا: لم يتلعثموا وأطبقوا الجواب على السؤال مكشوفا مفعولا للإنزال فقالوا: خيرا، وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأولين، وليس من الإنزال في شيء انتهى. وقرأ زيد بن علي: خير بالرفع أي: المنزل فتطابق هذه القراءة تأويل من جعل إذا موصولة، ولا تطابق من
473

جعل ماذا منصوبة، لاختلافهما في الإعراب، وإن كان الاختلاف جائزا كما ذكرنا. وروي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام المواسم من يأتيهم بخير النبي صلى الله عليه وسلم)، فإذا جاء الوفد كفه المقتسمون وأمره بالانصراف وقالوا: إن لم تلقه كان خيرا لك فيقول: أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد صلى الله عليه وسلم) وأراه، فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيخبرونه بصدقه، وأنه نبي مبعوث، فهم الذين قالوا خيرا. والظاهر أن قوله: للذين، مندرج تحت القول، وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي: أن من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة. وقال الزمخشري: للذين أحسنوا وما بعده بدل من خير، حكاية لقول الذين اتقوا أي: قالوا هذا القول، فقدم عليه تسميته خيرا ثم خكاه انتهى. وقالت فرقة: هو ابتداء كلام من الله تعالى، مقطوع مما قبله، وهو بالمعنى وعد متصل بذكر إحسان المتقين في مقالتهم. ومعنى حسنة مكافأة في الدنيا بإحسانهم، ولهم في الآخرة ما هو خير منها. ولما ذكر حال الكفار في الدنيا والآخرة ذكر حال المؤمنين في الدارين، والظاهر أن المخصوص بالمدح هو جنات عدن. وقال الزمخشري: ولنعم دار المتقين دار الآخرة، فحذف المخصص بالمدح لتقدم ذكره، وجنات عدن خبر مبتدأ محذوف انتهى. وقاله ابن عطية: وقبلهما الزجاج وابن الأنباري، وجوزوا أن يكون جنات عدن مبتدأ، والخبر يدخلونها. وقرأ زيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن جنات عدن بالنصب على الاشتغال أي: يدخلون جنات عدن يدخلونها، وهذه القراءة تقوي إعراب جنات عدن بالرفع أنه مبتدأ، ويدخلونها الخبر. وقرأ زيد بن علي: ولنعمت دار، بتاء مضمومة، ودار مخفوض بالإضافة، فيكون نعمت مبتدأ وجنات الخبر. وقرأ السلمي: تدخلونها بتاء الخطاب. وقرأ إسماعيل بن جعفر عن نافع: يدخلونها بياء على الغيبة، والفعل مبني للمفعول، ورويت عن أبي جعفر وشيبة: تجري. قال ابن عطية: في موضع الحال، وقال الحوفي: في موضع نعت لجنات انتهى. فكان ابن عطية لحظ كون جنات عدن معرفة، والحوفي لحظ كونها نكرة، وذلك على الخلاف في عدن هل هي علم؟ أو نكرة بمعنى إقامة؟ والكاف في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي: جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا يجزي، وطيبين حال من مفعول تتوفاهم، والمعنى: أنهم صالحوا الأحوال مستعدون للموت والطيب الذي لا خبث فيه، ومنه: * (طبتم فادخلوها خالدين) *.
وقال أبو معاذ: طيبين طاهرين من الشكر بالكلمة الطيبة. وقيل: طيبين سهلة وفاتهم لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما يقبض روح الكافر والمخلط. وقيل: طيبة نفوسهم بالرجوع إلى الله تعالى، وقيل: زاكية أفعالهم وأقوالهم، وقيل: صالحين، وقال الزمخشري: طاهرين من ظلم أنفسهم بالكفر والمعاصي، لأنه في مقابلة ظالمي أنفسهم. ويقولون نصب على الحال من الملائكة، وتسليم الملائكة عليهم بشارة من الله تعالى، وفي هذا المعنى أحاديث صحاح. وقوله: هدى للمتقين، هو وقت قبض أرواحهم، قاله: ابن مسعود، ومحمد بن كعب، ومجاهد. والأكثرون جعلوا التبشير بالجنة دخولا مجازا. وقال مقاتل والحسن: عند دخول الجنة وهو قول خزنة الجنة لهم في الآخرة: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار. فعلى هذا القول يكون يقولون حالا مقدرة، ولا يكون القول وقت التوفي. وعلى هذا يحتمل أن يكون الذين مبتدأ، والخبر يقولون، والمعنى: يقولون لهم سلام عليكم. ويدل لهذا القول قولهم: ادخلوا الجنة، ووقت الموت لا يقال لهم ادخلوا الجنة، فالتوفي هنا توفي الملائكة لهم وقت الحشر. وقوله: بما كنتم تعملون ظاهره في دخول الجنة بالعمل الصالح.
* (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتى أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولاكن) *: مناسبة هذه الآية لما قلبها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم: أساطير الأولين، ثم أتبع ذلك بوعيدهم
474

وتهديدهم، ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية بين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلا أن تأتيهم الملائكة بالتهديد، أو امر الله بعذاب الاستئصال. وقرأ حمزة والكسائي: يأتيهم بالياء، وهي قراءة ابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وباقي السبعة بالتاء على تأنيث الجمع، وإتيان الملائكة لقبض الأرواح، وهم ظالمو أنفسهم، وأمر ربك العذاب المستأصل أو القيامة. والكاف في موضع نصب أي: مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامر الله فعل الكفار الذين يقدمونهم. وقيل: مثل فعلهم في الكفر والديمومة عليه فعل متقدموهم من الكفار. وقيل: فعل هنا كناية عن اغترارهم، كأنه قيل: مثل اغترارهم باستبطاء العذاب اغتر الذين من قبلهم، والظاهر القول الأول لدلالة: هل ينظرون عليه، وما ظلمهم بالله بإهلاكهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذب في الدنيا والآخرة. وقوله: فأصابهم، معطوف على فعل، وما ظلمهم اعتراض. وسيئات: عقوبات كفرهم. وحاق بهم أحاط بهم جزاء استهزائهم. وقال الذين أشركوا، تقدم تفسير مثل هذه الآية في آخر الأنعام، فأغنى عن الكلام في هذا. وقال الزمخشري: هنا يعني أنهم أشركوا بالله وحرموا ما أحل من البحيرة والسائبة وغيرهما، ثم نسبوا فعلهم إلى الله، وقالوا: لو شاء الله لم نفعل، وهذا مذهب المجبرة بعينه. كذلك فعل الذين من قبلهم أي أشركوا وحرموا حلال الله، فلما نبهوا على قبح فعلهم وركوا على ربهم، فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق، وأن الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان، ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه، وبراءة الله من أفعال العباد، وأنهم فاعلوها بقصدهم وإرادتهم واختيارهم، والله تعالى باعثهم على جميلها، وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وهذا القول صادر ممن أقر بوجود الباري تعالى وهم الأكثرون، أو ممن لا يقول بوجوده. فعلى تقدير أن الرب الذي يعبده محمد ويصفه بالعلم والقدرة يعلم حالنا، وهذا جدال من أي الصفنين كان ليس فيه
استهزاء. وقال الزجاج: قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، ومن المطابقة التي أنكرت مطابقة الأدلة لإقامة الحجة من مذهب خصمها مستهزئة في ذلك.
* (ولقد بعثنا فى كل أمة رسولا * منهم أن اعبدوا الله * واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا فى الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) *: قال الزمخشري: ولقد أمد إبطال قدر السوء ومشيه الشر بأنه ما من أمة إلا وقد بعث فيهم رسولا يأمرهم بالخير الذي هو الإيمان وعبادة الله واجتناب الشر الذي هو الطاغوت فمنهم من هدى الله أي لطف به، لأنه عرفه من أهل اللطف، ومنهم من حقت عليه الضلالة أي ثبت عليه الخذلان والشرك من اللطف، لأنه عرفه مصمما على الكفر لا يأتي منه خير. فسيروا في الأرض فانظروا ما فعلت بالمكذبين حتى لا تبقى لكم شبهة وإني لا أقدر الشر ولا أشاؤه، حيث أفعل ما أفعل بالأشرار انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. ولما قال: فهل على الرسل إلا البلاغ المبين، بين ذلك هنا بأنه بعث الرسل بعبادته وتجنب عبادة غيره، فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر، ثم أحالهم في معرفة ذلك على السير في الأرض واستقراء الأمم، والوقوف على عذاب الكافرين المكذبين، ثم خاطب نبيه وأعلمه أن من حتم عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته.
وقرأ النخعي: وإن بزيادة واو وهو والحسن، وأبو حيوة: تحرص بفتح الراء مضارع حرص بكسرها وهي لغة. وقرأ الجمهور
475

بالكسر مضارع حرص بالفتح، وهي لغة الحجاز. وقرأ الحرميان، والعربيان، والحسن، والأعرج، ومجاهد، وشيبة، وشبل، ومزاحم الخراساني، والعطاردي، وابن سيرين: لا يهدي مبنيا للمفعول، ومن مفعول لم يسم فاعله. والفاعل في يضل ضمير الله والعائد على من محذوف تقديره: من يضله الله. وقرأ الكوفيون، وابن مسعود، وابن المسيب، وجماعة: يهدي مبنيا للفاعل. والظاهر أن في يهدي ضميرا يعود على الله، ومن مفعول، وعلى ما حكى الفراء أن هدى يأتي بمعنى اهتدى يكون لازما، والفاعل من أي لا يهتدي من يضله الله. وقرأت فرقة منهم عبد الله: لا يهدي بفتح الياء وكسر الهاء والدال. كذا قال ابن عطية، ويعني: وتشديد الدال وأصله يهتدي، فأدغم كقولك في: يختصم بخصم. وقرأت فرقة: يهدي بضم الياء وكسر الدال، قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وإذا ثبت أن هدى لازم بمعنى اهتدى لم تكن ضعيفة، لأنه أدخل على اللازم همزة التعدية، فالمعنى: لا يجعل مهتديا من أضله، وفي مصحف أبي: لا هادي لمن أضل. وقال الزمخشري: وفي قراءة أبي فإن الله لا هادي لمن يضل ولمن أضل. وقرئ: يضل بفتح الياء، وقال أيضا: حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم) على إيمان قريش، وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه لا يهدي من يضل أي: لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث، لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على معنى من، والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش. وعن أبي العالية: نزلت في رجل من المسلمين تقاضى دينا على رجل من المشركين، فكان فيما تكلم به المسلم الذي ادخره بعد الموت فقال المشرك، وأنكر أنك تبعث بعد الموت، وأقسم بالله لا يبعث الله من يموت، بلى رد عليه ما نفاه، وأكده بالقسم، والتقدير: بلى يبعثه. وانتصب وعدا وحقا على أنهما مصدران مؤكدان لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه. وقال الحوفي: حقا نعت لو عدا. وقرأ الضحاك: بلى وعد حق، والتقدير: بعثهم وعد عليه حق، وحق صفة لوعد. وقال الزمخشري: وأقسموا بالله معطوف على وقال الذين أشركوا، إيذانا بأنهما كفرتان عظيمتان موصوفتان حقيقتان بأن تحكيا وتدونا، توريك ذنوبهم على مشيئة الله، وإنكارهم البعث مقسمين عليه، وبين أن الوفاء بهذا الموعد حق واجب عليه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنهم يبعثون، أو أنه وعد واجب على الله لأنهم يقولون: لا يجب على الله شيء، لا ثواب عامل ولا غيره من مواجب الحكمة انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وأكثر الناس هم الكفار المكذبون بالبعث. وأما قول الشيعة: إن الإشارة بهذه الآية إنما هي لعلي بن أبي طالب، وأن الله سيبعثه في الدنيا، فسخافة من القول. والقول بالرجعة باطل وافتراء على الله على عادتهم، رده ابن عباس وغيره. واللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي: نبعثهم ليبين لهم كما يقول الرجل: ما ضربت أحدا فيقول: بلى زيدا أي: ضربت زيدا. ويعود الضمير في يبعثهم المقدر، وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت، وهو شامل للمؤمنين والكفار. والذي اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله، وإنكار النبوات، وإنكار البعث، وغير ذلك مما أمروا به. وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إلى الله تعالى. وقال الزمخشري: إنهم كذبوا في قولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، وفي قولهم: لا يبعث الله من يموت انتهى. وفي قولهم دسيسة الاعتزال. وقيل: تتعلق ليبين بقوله: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا، أي: ليظهر لهم اختلافهم، وأن الكفار كانوا على ضلالة من قبل بعث ذلك الرسول، كاذبون في رد ما يجيء به الرسل.
* (إنما قولنا لشىء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون * والذين هاجروا فى الله من بعد ما ظلموا * لنبوئنهم فى الدنيا حسنة ولاجر الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون * الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) *: لما تقدم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم، ورد عليهم تعالى بقوله: * (بلى) * وذكر حقية وعده بذلك، أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شيء أوجده. وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائة وأرضه، وأن إيجاده ذلك لم يوقف على سبق مادة ولا آلة، فكما قدر على
476

الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة. وتقدم تفسير قوله تعالى: كن فيكون في البقرة، فأغنى عن إعادته. والظاهر أن اللام في لشيء وفي له للتبليغ، كقولك: قلت لزيد قم. وقال الزجاج: هي لام السبب أي: لأجل إيجاد شيء، وكذلك له أي لأجله. قال ابن عطية: وما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد، لا إلى الإرادة. وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال، لا في إرادة ذلك، ولا في الأمر به، لأن ذينك قديمان. فمن أجل المراد عبر بإذا، ونقول: وأما قوله لشيء فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حالة عدم. والثاني: أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها، وأن ما كان منها موجودا كان مرادا، وقيل له: كن فكان، فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدم، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقال: إذا أردناه منزل منزلة مراد، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئا بعد شيء،
فكأنه قال: إذا ظهر المراد فيه. وعلى هذا الوجه يخرج قوله: * (فسيرى الله عملكم) * وقوله: * (ليعلم * الذين ءامنوا إذا) * ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه، وقوله: أن نقول، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافا ليس في الصدر في أغلب أمرها، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية. وكقوله تعالى: * (ومن ءاياته أن تقوم السماء والارض بأمره) * وغير ذلك انتهى. وقوله: ولكن أن مع الفعل يعني المضارع، وقوله: في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. وأما قوله: وقد تجيء إلى آخره، فلم يفهم ذلك من دلالة أن، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله، لأن هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى. ونظيره * (إن الله كان على كل شىء * قديرا) * فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضيا وحالا ومستقبلا، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن. والذين هاجروا قال قتادة: نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم). وقال داود بن أبي هند: في أبي جندل بن سهيل بن عمرو. وعن ابن عباس: في صهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة، فبوأهم الله المدينة. وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله: والذين هاجروا. قال ابن عطية: لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى. والذين هاجروا، عموم في المهاجرين كائنا ما كانوا، فيشمل أولهم وآخرهم. وقرأ الجمهور: لنبوأنهم، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي: تبوئة حسنة. وقيل: انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأن معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحسانا. وقال أبو البقاء: حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأن معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي: دار حسنة انتهى. وقال الحسن، والشعبي، وقتادة: دارا حسنة وهي المدينة. وقيل: التقدير منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وقال مجاهد: الرزق الحسن. وقال الضحاك: النصر على عدوهم. وقيل: ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. وقيل: ما بقي لهم فيها من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقيل: الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون. وقرأ علي، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم: لنثوينهم بالثاء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض
477

أي: في حسنة، أي: دار حسنة، أو منزلة حسنة. ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أن بنصرة الأنصار قويت شوكته. وفي الله دليل على إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبرا للمبتدأ، خلافا لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوبا بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيدا لأضربن، فلا يجوز زيدا لأضربنه. وعن عمر رضي الله عنه: أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاءه قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي: ولأجر الدار الآخرة أكبر، أي: أكبر أن يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال: وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا. والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي: لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. وقيل: يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أو أعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه؟ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب.
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم * فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون * أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم فى تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم * لرءوف رحيم) *: نزلت في مشركي مكة أنكروا نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشرا، فهلا بعث إلينا ملكا؟ وتقدم تفسير هذه الجملة في آخر يوسف، والمعنى: نوحي إليهم على ألسنة الملائكة. وقرأ الجمهور: يوحى بالياء وفتح الحاء، وقرأت فرقة: بالياء وكسرها وعبد الله، والسلمي، وطلحة، وحفص: بالنون وكسرها. وأهل الذكر: اليهود، والنصارى، قاله: ابن عباس، ومجاهد، والحسن. وعن مجاهد أيضا: اليهود. والذكر: التوراة لقوله تعالى: * (ولقد كتبنا فى الزبور من بعد الذكر) * وعن عبد الله بن سلام، وسلمان. وقال الأعمش، وابن عيينة: من أسلم من اليهود والنصارى. وقال الزجاج: عام فيمن يعزى إليه علم. وقال أبو جعفر وابن زيد: أهل القرآن. ويضعف هذا القول وقول من قال: من أسلم من الفريقين، لأنه لا حجة على الكفار في إخبار المؤمنين، لأنهم مكذبون لهم. قال ابن عطية: والأظهر أنهم اليهود والنصارى الذين لم يسلموا، وهم في هذه الآية النازلة، إنما يخبرون من الرسل عن البشر، وإخبارهم حجة على هؤلاء، فإنهم لم يزالوا مصدقين لهم، ولا يتهمون بشهادة لهم لنا، لأنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم)، وهذا هو كسر حجتهم ومذهبهم، لا أنا افتقرنا إلى شهادة هؤلاء، بل الحق واضح في نفسه. وقد أرسلت قريش إلى يهود يثرب يسألونهم ويسدون إليهم انتهى. والأجود أن يتعلق قوله: بالبينات، بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل: ثم أرسلوا؟ قال: أرسلناهم بالبينات والزبر، فيكون على كلامين، وقاله: الزمخشري وابن عطية وغيرهما. وقد يتعلق بقوله: وما أرسلنا، وهذا فيه وجهان: أحدهما: أن النية فيه التقديم قبل أداة الاستثناء، والتقدير: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا حتى لا يكون ما بعد إلا معمولين متأخرين لفظا ورتبة، داخلين تحت الحصر لما قبلها، وهذا حكاه ابن عطية عن فرقة. والوجه الثاني: أن لا ينوي به التقديم، بل وقعا بعد إلا في نية الحصر، وهذا قاله
الحوفي والزمخشري، وبدأ به قال: تتعلق بما أرسلنا داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي: وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات، كقولك: ما ضربت إلا زيدا بالسوط، لأن أصله ضربت زيدا بالسوط انتهى. وقال أبو البقاء: وفيه ضعف، لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذا تم الكلام على إلا وما يليها، إلا أنه قد جاء في الشعر. قال الشاعر
478

* ليتهم عذبوا بالنار جارهم
*
ولا يعذب إلا الله بالنار
*
انتهى. وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين، لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا، إلا مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابعا، وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل. وأجاز الكسائي أن تقع معمولا لما قبلها منصوب نحو: ما ضرب إلا زيد عمرا، ومخفوض نحو: ما مر إلا زيد بعمرو، ومرفوع نحو: ما ضرب إلا زيدا عمرو. ووافقه ابن الأنباري في الموفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال. فالقول الذي قاله الحوفي والزمخشري يتمشى على مذهب الكسائي والأخفش، ودلائل هذه المذاهب مذكورة في علم النحو. وأجاز الزمخشري أن يكون صفة لرجال أي: رجالا ملتبسين بالبينات فيتعلق بمحذوف، وهذا وجه سائغ، لأنه في موضع صفة لما بعد: إلا، فوصف رجالا بيوحى إليهم، وبذلك العامل في بالبينات كما تقول: ما أكرمت إلا رجلا مسلما ملتبسا بالخير. وأجاز أيضا أن يتعلق بيوحى إليهم، وأن يتعلق بلا يعلمون. قال: على أن الشرط في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير: إن كانت علمت لك فاعطني حقي، وقوله: فاسألوا أهل الذكر، اعتراض على الوجوه المتقدمة يعني: من التي ذكر غير الوجه الأخير. وأنزلنا إليك الذكر: هو القرآن، وقيل له ذكر لأنه موعظة وتبيه للغافلين. وقيل: الذكر العلم ما نزل إليهم من المشكل والمتشابه، لأن النص والظاهر لا يحتاجان إلى بيان. وقال الزمخشري: مما أمروا به ونهوا عنه، ووعدوا وأوعدوا. وقال ابن عطية: لتبين بسردك بنص القرآن ما نزل إليهم. ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل، فيدخل في هذا ما تبينه السنة من أمر الشريعة، وهذا قول مجاهد انتهى. ولعلهم يتفكرون أي: وإرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فيتنبهوا ويتأملوا، والسيئات نعت لمصدر محذوف أي: المكرات السيئات قاله الزمخشري، أو مفعول يمكروا على تضمين مكروا معنى فعلوا وعملوا، والسيئات على هذا معاصي الكفر وغيره قاله قتادة، أو مفعول بأمن ويعني به العقوبات التي تسوءهم ذكرهما ابن عطية. وعلى هذا الأخير يكون أن يخسف بدلا من السيئات. وعلى القولين، قبله مفعول بامن، والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا بالرسول صلى الله عليه وسلم). وقال مجاهد: هو نمرود، والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل. وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون، وذكر لنا أن أخلاطا من بلاد الروم خسف بها، وحين أحسن أهلها بذلك فر أكثرهم، وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته. من حيث لا يشعرون: من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها، كما فعل بقوم لوط في تقلبهم في أسفارهم قاله قتادة، أو في منامهم روي هذا وما قبله عن ابن عباس. وقال الضحاك، وابن جريج، ومقاتل: في ليلهم ونهارهم أي: حالة ذهابهم ومجيئهم فيمما. وقيل: في تقلبهم في مكرهم وحيلهم، فيأخذهم قبل تمام ذلك. وقال الزجاج: جميع ما يتقلبون فيه، فما هم بسابقين الله ولا فائتيه. والأخذ هنا الإهلاك كقوله: * (فكلا أخذنا بذنبه) * وعلى تخوف على تنقص قاله: ابن عباس، ومجاهد، والضحاك. وقال ابن قتيبة: يقال خوفته وتخوفته إذا تنقصته وأخذت من ماله وجسمه. وقال الهيثم بن عدي: هو النقص بلغة أزدشنوءة. وفي حديث لعمر أنه سأل عن التخوف، فأجابه شيخ: بأنه التنقص في لغة هذيل. وأنشده قول أبي كثير الهذلي:
* تخوف الرجل منها تامكا قردا
*
كما تخوف عود النبة السقر
*
479

وهذا التخوف بمعنى التنقص، قيل: من أعماله، وقيل: يأخذ واحدا بعد واحد، ورويا عن ابن عباس. وقال الزجاج: ينقص ثمارهم وأموالهم حتى يهلكهم. وقيل: على تخوف، على خوف أن يعاقبهم أو يتجاوز عنهم قاله قتادة. وقال الزمخشري: على تخوف متخوفين، وهو أن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا، فيأخذهم بالعذاب وهم متخوفون متوقعون، وهو خلاف قوله: من حيث لا يشعرون انتهى. وقاله الضحاك، يأخذ قرية فتخاف القرية الأخرى. وقال ابن بحر: على تخوف ضد البغتة أي: على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلازل والصواعق، ولهذا ختم بقوله تعالى: إن ربكم لرؤوف رحيم، لأن في ذلك مهلة وامتداد وقت، فيمكن فيه التلافي. وقال الليث بن سعد: على تخوف على عجل. وقيل: على تقريع بما قدموه، وهذا مروي عن ابن عباس. ولما كان تعالى قادرا على هذه الأمور ولم يعاجلهم بها ناسب وصفه بالرأفة والرحمة.
* (أو لم * يروا إلى ما خلق الله من شىء * يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمآئل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما فى السماوات وما فى الارض من دآبة والملئكة وهم لا يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) *: لما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ، ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرهم وخضوعه ضد حال الماكرين، لينبههم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره. وقرأ السلمي، والأعرج، والأخوان: أو لم تروا بتاء
الخطاب إما على العموم للخلق استؤنف به الأخبار، وإما على معنى: قل لهم إذا كان خطابا خاصا. وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة. واحتمل أيضا أن يعود الضمير على الذين مكروا، واحتمل أن يكون إخبارا عن المكلفين، والأول أظهر لتقدم ذكرهم. وقرأ أبو عمرو، وعيسى، ويعقوب: تتفيئوا بالتاء على لتأنيث، وباقي السبعة بالياء. وقرأ الجمهور: ظلاله جمع ظل. وقرأ عيسى: ظلله جمع ظلة، كحلة وحلل. والرؤية هنا رؤية القلب التي يقع بها الاعتبار، ولكنها بواسطة رؤية العين. قيل: والاستفهام هنا معناه التوبيخ. قيل: ويجوز أن يكون معناه التعجب والتقدير: تعجبوا من اتخاذهم مع الله شريكا وقد رأوا هذه المصنوعات التي أظهرت عجائب قدرته وغرائب صنعه، مع علمهم بأن آلهتهم التي اتخذوها شركاء لا يقدر على شيء البتة. والجملة من قوله: تتفيئوا، في موضع الصفة قاله الحوفي، وهو ظاهر قول ابن عطية والزمخشري. قال ابن عطية: من شيء لفظ عام في كل ما اقتضته الصفة في قوله: تتفيؤ ظلاله، لأن ذلك صفة لما عرض للعبرة في جميع الأشجاص التي لها ظل. وقال الزمخشري: وما موصولة بخلق الله وهو مبهم بيانه من شيء تتفيؤ ظلاله، وقال غير هؤلاء: المعنى من شيء له ظل من جبل وشجر وبناء وجسم قائم، وقوله: تتفيؤ ظلاله، إخبار عن قوله من شيء وصف له، وهذا الإخبار يدل على ذلك الوصف المحذوف الذي هو له ظل. وتتفيؤ تتفعل من الفيء، وهو الرجوع يقال: فاء الظل يفيء فيأرجع، وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس. وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله: * (ما أفاء الله على رسوله) * أو بالتضعيف نحو: فيأ الله الظل فتفيأ، وتفيأ من باب المطاوعة، وهو لازم وقد استعمله أبو تمام متعديا قال:
* طلبت ربيع ربيعة الممهى لها
*
وتفيأت ظلالها ممدودا
*
480

ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعديا. قال الأزهري: تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار، فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشي وما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداة وهو ما لم تنله.
وقال الشاعر:
* فلا الظل من برد الضحى تستطيعه
*
ولا الفيء من برد العشي تذوق
*
وقال امرؤ القيس:
* تيممت العين التي عند ضارج
*
يفيء عليها الظل عرمضها طام
*
وعن رؤبة ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ما لم تكن عليه فهو ظل، وذلك أن الشمس من طلوعها إلى وقت الزوال تنسخ الظل، فإذا زالت رجع، ولا يزال ينمو إلى أن تغيب. والمشهور أن الفيء لا يكون إلا بعد الزوال، والاعتبار في هذه الآية من أول النهار إلى آخره. فمعنى تتفيؤ تتنقل وتميل، وأضاف الظلال وهي جمع إلى ضمير مفرد، لأنه ضمير ما، وهو جمع من حيث المعنى لقوله: * (لتستووا على ظهوره) * وقال صاحب اللوامح: في قراءة عيسى ظلله، وظله الغيم وهو جسم، وبالكسر الفيء وهو عرض في العامة: فرأى عيسى أن التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى، وأما في العامة فعلى الاستعارة انتهى.
قالوا في قوله: عن اليمين والشمائل، بحثان. أحدهما: ما المراد بذلك. والثاني: ما الحكمة في إفراد اليمين وجمع الشمائل؟ أما الأول فقالوا: يمين الفلك وهو المشرق. وشماله هو المغرب. وخص هذان الاسمان بهذين الجانبين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه، ومنه تظهر الحركة الفلكية اليومية آخذة من المشرق إلى المغرب، لا جرم كان المشرق يمين الفلك والمغرب شماله، فعلى هذا تقول الشمس عند طلوعها إلى وقت انتهائها إلى وسط الفلك يقع الظلال إلى الجانب الغربي، فإن انحدرت من وسط الفلك عن الجانب الغربي وقعت الظلال في الجانب الشرقي، فهذا المراد من تفيؤ الظلال من اليمين إلى الشمال. وقيل: البلدة التي عرضها أقل من مقدار الميل تكون الشمس في الصيف عن يمين البلدة فتقع الظلال على يمينهم. وقال الزمخشري: المعنى أو لم يروا إلى ما خلق الله من الأجرام التي لها ضلال متفيئة عن أيمانها وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقيه، استعارة من يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي: ترجع الظلال من جانب إلى جانب انتهى. وقال ابن عطية: والمقصود العبرة في هذه الآية، هو كل جرم له ظل كالجبال والشجر وغير ذلك، والذي يترتب فيه أيمان وشمائل إنما هو البشر فقط، لكن ذكر الأيمان والشمائل هنا على حسب الاستعارة لغير اللبس تقدره: ذا يمين وشمال، وتقدره: بمستقبل أي جهة شئت، ثم تنظر ظله فتراه يميل إما إلى جهة اليمين وإما إلى جهة الشمال، وذلك في كل أقطار الدنيا، فهذا يعم ألفاظ الآية. وفيه تجوز واتساع. ومن ذهب إلى أن اليمين من غدوة الزوال، ويكون من الزوال إلى المغيب عن الشمال، وهو قول قتادة وابن جريج،
فإنما يترتب فيما قدره مستقبل الجنوب انتهى. وأما الثاني فقال الزمخشري: واليمين بمعنى الأيمان، فجعله وهو مفرد بمعنى الجمع، فطابق الشمائل من حيث المعنى كما قال: * (ويولون الدبر) * يريد الإدبار. وقال الفراء: كأنه إذا وجد ذهب إلى واحد من ذوات الظلال، وإذا جمع ذهب إلى كلها لأن قوله ما خلق الله من شيء، لفظ واحد ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد لقوله: * (وجعل الظلمات والنور) * وقوله: * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) * وقيل: إذا فسرنا اليمين بالمشرق، كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة. وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة، فلذلك عبر عنها
481

بصيغة الجمع. وقال الكرماني يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأن الظل يفيء من الجهات كلها فبدىء باليمين لأن ابتداء التفيؤ منها، أو تيمنا بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بين اليمين والشمال من التضاد، وتنزل القدام والخلف منزلة الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف. وقيل: وحد اليمين وجمع الشمائل، لأن الابتداء عن اليمين، ثم ينقبض شيئا فشيئا حالا بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمال، فتعدد بتعدد الحالات. وقال ابن عطية: وما قال بعض الناس من أن اليمين أول وقعة للظل بعد الزوال، ثم الآخر إلى الغروب هي عن الشمائل، وأفرد اليمين فتخليط من القول ومبطل من جهات. وقال ابن عباس: إذا صليت الفجر كان ما بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا، ثم بعث الله عليه الشمس دليلا فقبض إليه الظل، فعلى هذا تأول دورة الشمس بالظل عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحراف فهو من الشمائل، لأنه حركات كثيرة وظلال منقطعة، فهي شمائل كثيرة، فكان الظل عن اليمين متصلا واحدا عاما لكل شيء انتهى. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بانب الصائغ: أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين، لأن ظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة، وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية: هذا من جهة المعنى، وفيه من جهة اللفظ المطابقة، لأن سجدا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به، فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحظهما معا وتلك الغاية في الإعجاز انتهى. والظاهر حمل الظلال على حقيقتها، وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأنت متوجه إلى القبلة كان الظل قدامك، فإذا ارتفعت كان على يمينك، فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أرادت الغروب كان على يسارك. وقالت فرقة: الظلال هنا الأشخاص وهي المرادة نفسها، والعرب تخبر أحيانا عن الأشخاص بالظلال. ومنه قول عبدة بن الطبيب:
* إذا نزلنا نصبنا ظل أخبية
*
وفار للقوم باللحم المراجيل
*
وإنما تنصب الأخبية، ومنه قول الشاعر:
* تتبع أفياء الظلال عيشة
*
أي: أفياء الأشخاص. قال ابن عطية: وهذا كله محتمل غير صريح، وإن كان أبو علي قرره انتهى.
والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع: ساجد. قال الزمخشري: سجدا حال من الظلال، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من شيء له ظل. وجمع بالواو لأن الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، والمعنى: أن الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها. ذاخرة أيضا صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى. فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجدا حالا من الظلال، ووهم داخرون حالا من الضمير في سجدا، وأن يكون حالا ثانية من الظلال كما تقول: جاء زيد راكبا وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالا من الضمير في راكبا، ويجوز أن يكون حالا من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي. وقيل: في موضع الحال، وقاله أبو البقاء. وقيل: عن اسم أي: جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوبا على الظرف. وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله: وهم داخرون، حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءا أو كالجزء جاز، وقد يخبر هنا ويقول: الظلال وإن لم تكن جزءا من الأجرام فهي كالجزء، لأن وجودها ناشىء عن وجودها. وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة. قال الضحاك: إذا زالت الشمس سجد كل
482

شيء قبل القبلة من نبت وشجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد: إنما تسجد الظلال دون الأشخاص، وعنه أيضا إذا زالت الشمس سجد كل شيء. وقال الحسن: أما ظللك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد له. وقيل: لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة. وخص الظل بالذكر لأنه سريع التغير، والتغير يقتضي مغيرا غيره ومدبرا له، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به، ثم انتقل إلى سجود ما في السماوات والأرض. ومن دابة: يجوز أن يكون بيانا لما في الظرفين، ويكون من في السماوات خلق يدبون. ويجوز أن يكون بيانا لما في الأرض، ولهذا قال ابن عباس: يريد كل ما دب على
الأرض. وعطف والملائكة على ما في السماوات وما في الأرض، وهم مندرجون في عموم ما تشريفا لهم وتكريما، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض، وبما في السماوات ملائكتهن، فلم يدخلوا في العموم. وقيل: بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله، بين أن أشرف الموجودات وهم الملائكة، وأخسها وهي الدواب منقادة له تعالى، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى. وقيل: الدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة، علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى. وهو قول فلسفي. ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله، جمع بينهما فيه وإن اختلفا في كيفية السجود.
وقال الزمخشري: فإن قلت: فهلا جيء بمن دون ما تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرهم؟ قلت: لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب، فكان متناولا للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم انتهى. وظاهر السؤال تسليم أن من قد تشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص من بالعقلاء، وأن الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من، وهذا ليس بجواب، لأنه أورد السؤال على التسليم، ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى: أن من يغلب بها، والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب، والظاهر أن الضمير في قوله: يخافون، عائد على المنسوب إليهم السجود. في ولله يسجد، وقاله أبو سليمان الدمشقي. وقال ابن السائب ومقاتل: يخافون من صفة الملائكة خاصة، فيعود الضمير عليهم. وقال الكرماني: والملائكة موصوفون بالخوف، لأنهم قادرون على العصيان وإن كانوا لا يعصون. والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى، فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي: يخافون عذابه كائنا من فوقهم، لأن العذاب إنما ينزل من فوق، وإن علقته بربهم كان حالا منه أي: يخافون ربهم عاليا لهم قاهرا لقوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * * (وإنا فوقهم قاهرون) * وفي نسبة الخوف لمن نسب إليه السجود أو الملائكة خاصة دليل على تكليف الملائكة كسائر المكلفين، وأنهم بين الخوف والرجاء مدارون على الوعد والوعيد كما قال تعالى: * (وهم من خشيته مشفقون) * ومن يقل منهم: إنه إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم. وقيل: الخوف خوف جلال ومهابة. والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالا من الضمير في من لا يستكبرون، ويجوز أن تكون بيانا لنفي الاستكبار وتأكيدا له، لأن من خاف الله لم يستكبر عن عبادته. وقوله: ويفعلون ما يؤمرون، أما المؤمنون فبحسب الشرع والطاعة، وأما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله تعالى.
2 (* (وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون * وله ما فى السماوات والا رض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون * وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون * ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالا نثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون * للذين لا يؤمنون بالا خرة مثل السوء ولله المثل الا على وهو العزيز الحكيم * ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون * ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار وأنهم مفرطون * تالله لقد أرسلنآ إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطن أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * ومآ أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون * والله أنزل من السمآء مآء فأحيا به الا رض بعد موتهآ إن فى ذالك لآية لقوم يسمعون * وإن لكم فى الا نعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين * ومن ثمرات النخيل والا عناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذالك لآية لقوم يعقلون * وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن فى ذالك لآية لقوم يتفكرون * والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير * والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء أفبنعمة الله يجحدون * والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون * ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والا رض شيئا ولا يستطيعون * فلا تضربوا لله الا مثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) *)) 2
وصب الشيء دام، قال أبو الأسود الدؤلي:
* لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
*
يوما بذم الدهر أجمع واصبا
*
483

وقال حسان:
* غيرته الريح يسفى به
*
وهزيم رعده واصب
*
والعليل وصيب، لكن المرض لازم له. وقيل: الوصب التعب، وصب الشيء شق، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها. والجواز: رفع الصوت بالدعاء، وقال الأعشى يصف راهبا:
يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا
ويروى: يراوح. دس الشيء في الشيء أخفاه فيه. الفرث: كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو المعى. النحل: حيوان معروف. الحفدة: الأعوان والخدم، ومن يسارع في الطاعة حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا، ومنه: وإليك نسعى ونحفد أي: نسرع في الطاعة. وقال الشاعر:
* حفد الولائد حولهن وأسلمت
*
بأكفهن أزمة الأجمال
*
وقال الأعشى:
* كلفت مجهودها نوقا يمانية
*
إذا الحداة على أكسائها حفدوا
*
وتتعدى فيقال: حفدني فهو حافدي. قال الشاعر:
* يحفدون الضيف في أبياتهم
*
كرما ذلك منهم غير ذل
*
قال أبو عبيدة: وفيه لغة أخرى، أحفد إحفادا، وقال: الحفد العمل والخدمة. وقال الخليل: الحفدة عند العرب الخدم. وقال الأزهري: الحفدة أولاد الأولاد، وقيل: الأختان. وأنشد:
* فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت
*
لها حفد مما يعد كثير
*
* ولكنها نفس علي أبية
*
عيوف لأصحاب اللئام قذور
*
* (وقال الله لا تتخذوا إلاهين اثنين إنما هو إلاه واحد فإياي فارهبون * وله ما فى * السماوات والارض * وله الدين واصبا أفغير الله تتقون * وما بكم من نعمة * الله فمن * الله ثم إذا مسكم الضر
484

فإليه تجئرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بمآ ءاتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) *: لما ذكر انقياد ما في السماوات وما في الأرض لما يريده تعالى منها، فكان هو المتفرد بذلك. نهى أن يشرك به، ودل النهي عن اتخاذ إلهين على النهي عن اتخاذ آلهة. ولما كان الاسم الموضوع للإفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو: نعم الرجل زيد، ونعم الرجلان الزيدان، وقول الشاعر:
* فإن النار بالعودين تذكي
*
وأن الحرب أولها الكلام
*
أكد الموضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهين اثنين، وقيل: إله واحد، وقال الزمخشري: الاسم الحامل لمعنى الإفراد أو التثنية دال على شيئين: على الجنسية، والعدد
المخصوص. فإذا أردت الدلالة على أن المعنى به مبهم. والذي يساق به الحديث هو العدد شفع بما يؤكده، فدل به على القصد إليه والعناية به. ألا ترى أنك إذا قلت: إنما هو إله ولم تؤكده بواحد، لم يحسن، وخيل: أنك تثبت الإلهية لا الوحدانية انتهى. والظاهر أن لا تتخذوا، تعدى إلى واحد واثنين كما تقدم تأكيد. وقيل: هو متعد إلى مفعولين، فقيل: تقدم الثاني على الأول وذلك جائز، والتقدير: لا تتخذوا اثنين إلهين. وقيل: حذف الثاني للدلالة تقديره معبودا واثنين على هذا القول تأكيد، وتقرير منافاة الاثنينية للإلهية من وجود ذكرت في علم أصول الدين. ولما نهى عن اتخاذ الإلهين، واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة، أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال: * (وإلاهكم إلاه واحد) * بأداة الحصر، وبالتأكيد بالوحدة. ثم أمرهم بأن يرهبوه، والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة، وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون، وتقديره: وإياي ارهبوا. وقول ابن عطية: فإياي، منصوب بفعل مضمر تقديره: فارهبوا إياي فارهبون، ذهول عن القاعدة في النحو، أنه إذا كان المفعول ضميرا منفصلا والفعل متعديا إلى واحد هو الضمير، وجب تأخير الفعل كقولك: * (إياك نعبد) * ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله:
* إليك حين بلغت إياكا ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، لأنه لما كان هو الإله الواحد الواجب لذاته كان ما سواه موجودا بإيجاد وخلقه، وأخبر أن له الدين واصبا.
*
قال مجاهد: الدين الإخلاص. وقال ابن جبير: العبادة. وقال عكرمة: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقامة الحدود والفرائض. وقال الزمخشري وابن عطية: الطاعة، زاد ابن عطية: والملك. وأنشد:
في دين عمرو وحالت بيننا فدك
أي: في طاعته وملكه. وقال الزمخشري: أوله الحداد أي: دائما ثابتا سرمدا لا يزول، يعني الثواب والعقاب.
485

وقال ابن عباس، وعكرمة، والحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، والثوري: واصبا دائما. قال الزمخشري: والواصب الواجب الثابت لأن كل نعمة منه بالطاعة واجبة له على كل منعم عليه، وذكر ابن الأنباري أنه من الوصب وهو التعب، وهو على معنى النسب أي: ذا وصب، كما قال: أضحى فؤادي به فاتنا، أي ذا فتون. قال الزمخشري: أو وله الدين ذا كلفة ومشقة، ولذلك سمى تكليفا انتهى. وقال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: وله الدين والطاعة رضي العبد بما يؤمر به وسهل عليه أم لا يسهل فله الدين، وإن كان فيه الوصب. والوصب: شدة التعب. وقال الربيع بن أنس: واصبا خالصا. قال ابن عطية: والواو في وله ما في السماوات والأرض عاطفة على قوله: إله واحد، ويجوز أن تكون واو ابتداء انتهى. ولا يقال واو ابتداء إلا لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال، وإنما هي عاطفة: فإما على الخبر كما ذكر أولا فتكون الجملة في تقدير المفرد لأنها معطوفة على الخبر، وإما على الجملة بأسرها التي هي: إنما هو إله واحد، فيكون من عطف الجمل. وانتصب واصبا على الحال، والعامل فيها هو ما يتعلق به المجرور. أفغير الله استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي: بعدما عرفتم وحدانيته، وأن ما سواه له ومحتاج إليه، كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضر يقدر عليه؟ ثم أخبر تعالى بأن جميع النعم المكتسبة منا إنما هي من إيجاده واختراعه، ففيه إشارة إلى وجوب الشكر على ما أسدى من النعم الدينية والدنيوية. ونعمه تعالى لا تحصى كما قال تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) *. وما موصولة، وصلتها بكم، والعامل فعل الاستقرار أي: وما استقر بكم، ومن نعمة تفسير لما، والخبر فمن الله أي: فهي من قبل الله، وتقدير الفعل العامل بكم خاصا كحل أو نزل ليس بجيد. وأجاز الفراء والحوفي: أن تكون ما شرطية، وحذف فعل الشرط. قال الفراء: التقدير. وما يكن بكم من نعمة، وهذا ضعيف جدا لأنه لا يجوز حذفه إلا بعد أن وحدها في باب الاشتغال، أو متلوة بما النافية مدلولا عليه بما قبله، نحو قوله:
* فطلقها فلست لها بكفء
*
وإلا يعل مفرقك الحسام
*
أي: وإلا تطلقها، حذف تطلقها الدلالة طلقها عليه، وحذفه بعد أن متلوة بلا مختص بالضرورة نحو قوله:
* قالت بنات العم يا سلمى وإن
*
كان فقيرا معدما قالت وإن
*
أي: وإن كان فقيرا معدما، وأما غير إن من أدوات الشرط فلا يجوز حذفه إلا مدلولا عليه في باب الاشتغال
486

مخصوصا بالضرورة نحو قوله: أينما الريح تميلها تمل. التقدير: أينما تميلها الريح تميلها تمل. ولما ذكر تعالى أن جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده، حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه، وهي حالة الضر والضر، يشمل كل ما يتضرر به من مرض أو فقر أو حبس أو نهب مال وغير ذلك. وقرأ الزهري: تجرون
بحذف الهمزة، وإلقاء حركتها على الجيم. وقرأ قتادة: كاشف، وفاعل هنا بمعنى فعل، وإذا الثانية للفجاءة. وفي ذلك دليل على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب، لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها. ومنكم: خطاب للذين خوطبوا بقوله: وما بكم من نعمة، إذ بكم خطاب عام. والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أن آلهتهم تنفع وتضر وتشقى. وعن ابن عباس: المنافقن. وعن ابن السائب: الكفار. ومنكم في موضع الصفة، ومن للتبعيض، وأجاز الزمخشري أن تكون من للبيان لا للتبعيض قال: كأنه قال فإذا فريق كافروهم أنتم. قال: ويجوز أن تكون فيهم من اعتبر كقوله: * (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) * انتهى واللام في ليكفروا، إن كانت للتعليل كان المعنى: أن إشراكهم بالله سببه كفرهم به، أي جحودهم أو كفران نعمته، وبما آتيناهم من النعم، أو من كشف الضر، أو من القرآن المنزل إليهم. وإن كانت للصيرورة فالمعنى: صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا، بل آل أمر ذلك الجوار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم، أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به. وإن كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد. وقال الزمخشري: ليكفروا فتمتعوا، يجوز أن يكون من الأمر الوارد في معنى الخذلان والتخلية، واللام لام الأمر انتهى. ولم يخل كلامه من ألفاظ المعتزلة، وهي قوله: في معنى الخذلان والتخلية. وقرأ أبو العالية: فيمتعوا بالياء باثنتين من تحتها مضمومة مبنيا للمفعول، ساكن الميم وهو مضارع متع مخففا، وهو معطوف على ليكفروا، وحذفت النون إما للنصب عطفا إن كان يكفروا منصوبا، وإما للجزم إن كان مجزوما أن كان عطفا، وأن للنصب إن كان جواب الأمر. وعنه: فسوف يعلمون بالياء على الغيبة، وقد رواهما مكحول الشامي عن أبي رافع مولى النبي عن النبي صلى الله عليه وسلم). والتمتع هنا هو بالحياة الدنيا ومآلها إلى الزوال.
* (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون كنتم تفترون * ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون * وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه فى التراب ألا سآء ما يحكمون) *: الضمير في: ويجعلون، عائد على الكفار. والظاهر أنه في يعلمون عائد عليهم. وما هي الأصنام أي: للأصنام التي لا يعلم الكفار أنها تضر وتنفع، أو لا يعلمون في اتخاذها آلهة حجة ولا برهانا. وحقيقتها أنها جماد لا تضر ولا تنفع ولا تشفع، فهم جاهلون بها. وقيل: الضمير في لا يعلمون للأصنام أي: للأصنام التي لا تعلم شيئا ولا تشعر به، إذ هي جماد ل يقم بها على البتة. والنصيب: هو ما جعلوه لها من الحرث والأنعام، قبح تعالى فعلهم ذلك، وهو أن يفردوا نصيبا مما أنعم به تعالى عليهم لجمادات لا تضر ولا تنفع، ولا تنتفع هي بجعل ذلك النصيب لها، ثم أقسم تعالى
487

على أنه يسألهم عن افترائهم واختلاقهم في إشراكهم مع الله آلهة، وأنها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب لها، والسؤال في الآخرة، أو عند عذاب القبر، أو عند القرب من الموت أقوال. ولما ذكر الله تعالى أنه يسألهم عن افترائهم، ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله تعالى التوالد وهو مستحيل، ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه، وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة. وكانت خزاعة وكنانة تقول: الملائكة بنات الله سبحانه وتنزيه له تعالى عن نسبة الولد إليه، ولهم ما يشتهون: وهم الذكور، وهذه الجملة مبتدأ وخبر. وقال الزمخشري: ويجوز فيما يشتهون الرفع على الابتداء، والنصب على أن يكون معطوفا على البنات أي: وجعلوا لأنفسهم ما يشتهون من الذكور انتهى. وهذا الذي أجازه من النصب تبع فيه الفراء والحوفي. وقال أبو البقاء: وقد حكاه، وفيه نظر. وذهل هؤلاء عن قاعدة في النحو: وهو أن الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل لا يتعدى إلى ضميره المتصل المنصوب، فلا يجوز زيد ضربه زيد، تريد ضرب نفسه إلا في باب ظن وأخواتها من الأفعال القلبية، أو فقد، وعدم، فيجوز: زيد ظنه قائما وزيد فقده، وزيد عدمه. والضمير المجرور بالحرف المنصوب المتصل، فلا يجوز زيد غضب عليه تريد غضب على نفسه، فعلى هذا الذي تقرر لا يجوز النصب إحذ يكون التقدير: ويجعلون لهم ما يشتهون. قالوا: وضمير مرفوع، ولهم مجرور باللام، فهو نظير: زيد غضب عليه.
وإذا بشر، المشهور أن البشارة أول خبر يسر، وهنا قد يراد به مطلق الأخبار، أو تغير البشرة، وهو القدر المشترك بين الخبر السار أو المخبرين، وفي هذا تقبيح لنسبتهم إلى الله المنزه عن الولد البنات واحدهم أكره الناس فيهن، وأنفرهم طبعا عنهن. وظل تكون بمعنى صار، وبمعنى أقام نهارا على الصفة التي تسند إلى اسمها تحتمل الوجهين. والأظهر أن يكون بمعنى صار، لأن التبشير قد يكون في ليل ونهار، وقد تلحظ الحالة الغالبة. وأن أكثر الولادات تكون بالليل، وتتأخر أخبار المولود له إلى النهار وخصوصا بالأنثى، فيكون ظلوله على ذلك طول النهار. واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته بولادة الأنثى. قيل: إذا قوي الفرح انبسط روح القلب من داخله ووصل إلى الأطراف، ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد، فترى الوجه مشرقا متلألئا. وإذا قوي الغم انحصر الروح إلى باطن القلب ولم يبق له أثر قوي في ظاهر الوجه، فيربد الوجه ويصفر ويسود، ويظهر فيه أثر الأرضية، فمن لوازم الفرح استنارة الوجه وإشراقه، ومن لوازم الغم والحزن اربداده واسوداده، فلذلك كنى عن الفرح بالاستنارة، وعن الغم بالاسوداد. وهو كظيم أي: ممتلئ القلب حزنا وغما. أخبر عما يظهر في وجهه وعن ما يجنه في قلبه. وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول لقوله: * (وهو مكظوم) * ويقال: سقاء. مكظوم، أي مملوء مشدود الفم. وروى الأصمعي أن امرأة ولدت بنتا سمتها الذلفاء، فهجرها زوجها فقالت:
* ما لأبي الذلقاء لا يأتينا
*
يظل في البيت الذي يلينا
*
* يحردان لا نلد البنينا
*
وإنما نأخذ ما يعطينا
*
يتوارى: يختفي من الناس، ومن سوء للتعليل أي: الحال له على التواري هو سوء ما أخبر به، وقد كان بعضهم في الجاهلية يتوارى حالة الطلق، فإن أخبر بذكر ابتهج، أو أنثى حزن. وتوارى أياما يدبر فيها ما يصنع. أيمسكه قبله حال محذوفة دل عليها المعنى، والتقدير: مفكرا أو مدبرا أيمسكه؟ وذكر الضمير ملاحظة للفظ ما في قوله: من سوء ما بشر به. وقرأ الجحدري: أيمسكها على هوان، أم يدسها بالتأنيث عودا على قوله: بالأنثى، أو على معنى ما بشر به، وافقه
488

عيسى على قراءة هوان على وزن فعال. وقرأت فرقة: أيمسكه بضمير التذكير، أم يدسها بضمير التأنيث. وقرأت فرقة: على هون بفتح الهاء. وقرأ الأعمش: على سوء، وهي عندي تفسير لا قراءة، لمخالفتها السواد المجمع عليه. ومعنى الإمساك حبسه وتربيته، والهون الهوان كما قال: * (عذاب الهون) * والهون بالفتح الرفق واللبن، * (يمشون على الارض هونا) * وفي قوله: على هون قولان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس. قال ابن عباس: إنه صفة للأب، والمعنى: أيمسكها مع رضاه بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه؟ وقيل: حال من المفعول أي: أيمسكها مهانة ذليلة، والظاهر من قوله: أم يدسه في التراب، إنه يئدها وهو دفنها حية حتى تموت. وقيل: دسها إخفاؤها عن الناس حتى لا تعرف كالمدسوس في التراب. والظاهر من قوله: ألا ساء ما يحكمون، رجوعه إلى قوله: ويجعلون لله البنات الآية أي: ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم، نافر عنهن طبعهم، بحيث لا يحتملون نسبتهن إليهن، ويئدونهن استنكافا منهن، وينسبون إليهم الذكر كما قال: * (ألكم الذكر وله الانثى) * وقال ابن عطية: ومعنى الآية يدبر أيمسك هذه الأنثى على هوان يتجلد له، أم يئدها فيدفنها حية فهو الدس في التراب؟ ثم استقبح الله سوء فعلهم وحكمهم بهذا في بناتهم ورزق الجميع على الله انتهى. فعلق ألا ساء ما يحكمون بصنعهم في بناتهم مثل السوء. قيل: مثل بمعنى صفة أي: صفة السوء، وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث، ووأدهن خشية الإملاق وإقرارهم على أنفسهم بالشح البالغ. ولله المثل الأعلى أي: الصفة العليا، وهي الغنى عن العالمين، والنزاهة عن سمات المحدثين. وقيل: مثل السوء هو وصفهم الله تعالى بأن له البنات، وسماه مثل السوء لنسبتهم الولد إلى الله، وخصوصا على طريق الأنوثة التي هم يستنكفون منها. وقال ابن عباس: مثل السوء النار. وقال ابن عطية: قالت فرقة مثل بمعنى صفة أي: لهؤلاء صفة السوء، ولله الوصف الأعلى، وهذا لا نضطر إليه لأنه خروج عن اللفظ، بل قوله: مثل، على بابه وذلك أنهم إذا قالوا: أن البنات لله فقد جعلوا لله مثلا، فالبنات من البشر وكثرة البنات مكروه عندهم ذميم فهو المثل السوء. والذي أخبر الله تعالى أنهم لهم وليس في البنات فقط، بل لما جعلوه هم البنات جعله هو هلم على الإطلاق في كل سوء، ولا غاية أبعد من عذاب النار. وقوله: ولله المثل الأعلى، على الإطلاق أي: الكمال المستغنى. وقال قتادة: المثل الأعلى لا إله إلا الله انتهى، وقول قتادة مروي عن ابن عباس. ولما تقدم قوله: ويجعلون لله البنات الآية تقدم ما نسبوا إلى الله، وأتى ثانيا ما كان منسوبا لأنفسهم، وبدأ هنا بقوله: للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء، وأتى بعد ذلك بما يقابل قوله: سبحانه وتعالى من التنزيه وهو قوله: ولله المثل الأعلى، وهو الوصف المنزه عن سمات الحدوث والتوالد، وهو الوصف الأعلى الذي ليس يشركه فيه غيره، وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها.
* (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دآبة ولاكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جآء أجلهم لا) *:
489

لما حكى الله تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التولد له، بين تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهارا لفضله ورحمته. ويؤاخذ: مضارع آخذ، والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذه. وقال ابن عطية: كان أحد المؤاخذين يأخذ من الآخر، إما بمعصية كما هي في حق الله تعالى، أو بإذاية في جهة المخلوقين، فيأخذ الآخر من الأول بالمعاقبة والجزاء انتهى. والظاهر: عموم الناس. وقيل: أهل مكة، والباء في بظلمهم للسبب. وظلمهم كفرهم ومعاصيهم. والضمير في عليها عائد على غير مذكور، ودل على أنه الأرض قوله: من دابة، لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض، فهو كقوله: * (فأثرن به نقعا) * أي بالمكان لأن * (والعاديات) * معلوم أنها لا تعدو إلا في مكان، وكذلك الإثارة والنفع. والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح، فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها قاله: ابن مسعود. قال قتادة: وقد فعل تعالى في زمن نوح عليه السلام. وقال السدي ومقاتل: إذا قحط المطر لم تبق دابة إلا هلكت. وسمع أبو هريرة رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله حتى أن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وهذا نظير: * (واتقوا فتنة) * الآية والحديث (أنهلك وفينا الصالحون) وقال ابن السائب، واختاره الزجاج: من دابة من الإنس والجن. وقال ابن جريج: من الناس خاصة. وقالت فرقة منهم ابن عباس: من دابة من مشرك يدب عليها، ولكن يؤخرهم إلى أجل الآية، تقدم تفسير ما يشبهه في الأعراف. وما في ما يكرهون لمن يعقل، أريد بها النوع كقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم) * ومعنى: ويجعلون، يصفونه بذلك ويحكمون به. وقال الزمخشري: ما يكرهون لأنفسهم من البنات، ومن شركاء في رئاستهم، ومن الاستخفاف برسلهم والتهاون برسالاتهم، ويجعلون له أرذل أموالهم، ولأصنامهم أكرمها، وتصف ألسنتهم مع ذلك أن لهم الحسنى عند الله كقوله: * (ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى) * انتهى.
وقال مجاهد: الحسنى قول قريش لنا البنون، يعني قالوا: لله البنات ولنا البنون. وقيل: الحسنى الجنة، ويؤيده: لا جرم أن لهم النار، والمعنى على هذا: يجعلون لله المكروه، ويدعون مع ذلك أنهم يدخلون الجنة كما تقول: أنت تعصي الله وتقول مع ذلك: أنك تنجو، أي هذا بعيد مع هذا. وهذا القول لا يتأتى إلا ممن يقول بالبعث،
وكان فيهم من يقول به. أو على تقدير أن كان ما يقول من البعث صحيحا، وأن لهم الحسنى بدل من الكذب، أو على إسقاط الحرف أي: بأن لهم. وقرأ الحسن ومجاهد باختلاف ألسنتهم: بإسكان التاء، وهي لغة تميم جمع لسانا المذكر نحو: حمار وأحمرة، وفي التأنيث: ألسن كذراع وأذرع. وقرأ معاذ بن جبل وبعض أهل الشام: الكذب بضم الكاف والذال والباء صفة للألسن، جمع كذوب كصبور وصبر، وهو مقيس، أو جمع كاذب كشارف وشرف ولا ينقا، وعلى هذه القراءة أن لهم مفعول تصف، وتقدم الكلام في لا جرم أن.
وقرأ الحسن وعيسى بن عمران: لهم بكسر الهمزة، وأن جواب قسم أغنت عنه لا جرم. وقرأ ابن عباس، وابن مسعود وأبو رجاء، وشيبة، ونافع، وأكثر أهل المدينة: مفرطون بكسر الراء من أفرط حقيقة أي: متجاوزون الحد في معاصي الله. وباقي السبعة، والحسن، والأعرج، وأصحاب ابن عباس، ونافع في رواية، بفتح الراء من أفرطته إلى كذا قدمته، معدى بالهمزة من فرط إلى كذا تقدم إليه. قال القطامي:
490

* واستعجلونا وكانوا من صحابتنا
*
كما تعجل فراط لوراد
*
ومنه (أنا فرطكم على الحوض) أي متقدمكم. وقال ابن جبير، ومجاهد، وابن أبي هند: مفرطون مخلفون متروكون في النار من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته. قال أبو البقاء: تقول العرب أفرطت منهم ناسا أي خلفتهم ونسيتهم. وقرأ أبو جعفر: مفرطون مشددا من فرط أي: مقصرون مضيعون. وعنه أيضا: فتح الراء وشدها أي، مقدمون من فرطته المعدى بالتضعيف من فرط بمعنى: تقدم. ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أممك، مقسما على ذلك ومؤكدا بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم) لما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز، فزين لهم الشيطان أعمالهم من تماديهم على الكفر، فهو وليهم اليوم حكاية حال ماضية أي: لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو، أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم، أو حكاية حال آتية وهي يوم القيامة. وأل في اليوم للعهد، وهو اليوم المشهود، فهو وليهم في ذلك اليوم أي: قرينهم وبئس القرين. والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش، وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم، فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم. ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي: فهو ولي أمثالهم اليوم انتهى. وهذا فيه بعد، لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك، ولا إلى حذف المضاف. واللام في لتبين لام التعليل، والكتاب القرآن، والذي اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه، وغير ذلك مما يعتقدون من الأحكام: كتحريم البحيرة، وتحليل الميتة والدم، وغير ذلك من الأحكام. وهدى ورحمة في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله، وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما، لأن المنزل هو الله وهو الهادي والراحم. ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل، لأن المنزل هو الله، والتبيين مسند للمخاطب وهو الرسول صلى الله عليه وسلم). وقول الزمخشري: معطوف محل لتبين ليس بصحيح، لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه. ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل؟.
والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي: المقصود من القرآن أربعة: الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلاهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصا. وقال ابن عطية: لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. ونقول: لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله: لقوم يؤمنون أي: يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها. ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل. وكذلك ختم بقوله: يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى: سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد. وقال ابن عطية: وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط.
* (وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سآئغا للشاربين خالصا سآئغا للشاربين *
491

ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن فى ذالك لآية لقوم يعقلون * وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون * ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفآء للناس إن) *: لما ذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشئ عن المطر، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم. وقرأ ابن مسعود بخلاف، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وأبو بكر، ونافع، وأهل المدينة. نسقيكم هنا، وفي قد أفلح المؤمنون: بفتح النون مضارع سقى، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله * (فأسقيناكموه) * وقرأ أبو رجاء: يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي: يسقيكم الله. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون مسندا إلى النعم، وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه: وأن لكم في الأنعام نعما يسقيكم أي: يجعل لكم سقيا انتهى. وقرأت فرقة: بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر. قال ابن عطية: وهي ضعيفة انتهى. وضعفها عنده والله أعلم من حيث أنث في تسقيكم، وذكر في
قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين، وأعاد الضمير مذكرا مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكرا كقولهم: هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفردا. كقوله:
مثل الفراخ نبقت حواصله
وقيل: أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال:
* فيها خطوط من سواد وبلق
*
كأنه في الجلد توليع البهق
*
فقال: كأنه وقدر بكان المذكور. قال الكسائي: أي في بطون ما ذكرنا. قال المبرد: وهذا سائغ في القرآن قال تعالى: * (إن هاذه تذكرة) * * (فمن شاء ذكره) * أي ذكر هذا الشيء. وقال: * (فلما رأى الشمس بازغة قال هاذا ربى) * أي هذا الشيء الطالع. ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى، لا يجوز جاريتك ذهب. وقالت فرقة: الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها فكأن العبرة إنما هي في بعض الأنعام. وقال الزمخشري: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثواب
492

أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفردا، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان: أحدهما: أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله:
* في كل عام نعم تحوونه
*
يلقحه قوم وينتجونه
*
وإذا أنث ففيه وجهان: إنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع انتهى. وأما ما ذكره عن سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه: وأما أجمال وفلوس فإنها تنصرف وما أشبهها، لأنها ضارعت الواحد. ألا ترى أنك تقول: أقوال وأقاويل، وإعراب وأعاريب، وأيد وأياد، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا، لأن هذا البناء هو الغاية، فلما ضارعت الواحد صرفت. ثم قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعا لأخرجته إلى فعائل، كما تقول: جدود وجدائد، وركوب وركائب، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء. ويقوي ذلك أن بعض العرب يقول: أتى للواحد فيضم الألف، وأما أفعال فقد تقع للواحد من العرب من يقول هو الأنعام قال جل ثناؤه وعز: نسقيكم مما في بطونه.
وقال أبو الخطاب: سمعت العرب يقولون: هذا ثواب أكياس انتهى. والذي ذكره سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفعول، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث أن مفاعل ومفاعيل لا يجمعان، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد، من حيث أنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع، ثم قوى شبههما بالمفرد بأن بعض العرب قال في أتى: أتى بضم الهمزة يعني أنه قد جاء نادرا فعول من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالا للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول: هو الأنعام، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز، لأن الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر:
* تركنا الخيل والنعم المفدى
*
وقلنا للنساء بها أقيمي
*
ولذلك قال سيبويه: وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع. فقول الزمخشري: إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدل على ما قلناه أن سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أن أفعالا ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام: أفعيل، ولا أفعول، ولا أفعال، ولا أفعيل، ولا أفعال إلا أن تكسر عليه اسما للجميع انتهى. فهذا نص منه على أن أفعالا لا يكون في الأبنية المفردة. ونسقيكم مما في بطونه تبيين للعبرة. وقال الزمخشري: وهو استئناف كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم من بين فرث ودم، أي: يخلق الله اللبن وسطا بين الفرث والذم يكتنفانه، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة، بل هو خالص من كله انتهى. قال ابن عباس: إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا يبقى فيه، وأعلاه دما يجري في العروق، وأوسطه لبنا يجري في الضرع. وقال ابن جبير: الفرث في أوسط المصارين، والدم في
أعلاها، واللبن بينهما، والكبد يقسم الفرث إلى الكرش، والدم إلى
493

العروق، واللبن إلى الضروع.
وقال أبو عبد الله الرازي: قال المفسرون: المراد من قوله من بين فرث ودم، هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد، فالفرث يكون في أسفل الكرش، والدم في أعلاه، واللبن في الوسط، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة، وكان الرازي قد قدم أن الحيوان يذبح ولا يرى في كرشه دم ولا لبن، بل الحق أن الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضم الأول فيه، فما كان منه كثيفا نزل إلى الأمعاء، وصافيا انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دما، وهو الهضم الثاني مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية، فتذهب الصفراء إلى المرارة، والسوداء إلى الطحال، والماء إلى الكلية، وخالص الدم يذهب إلى الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد فيحصل الهضم الثالث. وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن انتهى ملخصا. وقال أيضا: وأما نحن فنقول: المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش. فاللبن متولد مما كان حاصلا فيما بين الفرث أولا، ثم مما كان حاصلا فيما بين الدم ثانيا انتهى، ملخصا أيضا.
والذي يظهر من لفظ الآية أن اللبن يكون وسطا بين الفرث والدم، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة. ويحتمل أن تكون البينية مجازية، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولا، وتولده من الدم الناشئ من لطيف ما كان في الفرث ثانيا كما قرره الرازي. ومن الأولى للتبعيض متعلقة بنسقيكم، والثانية لابتداء الغاية متعلقة بنسقيكم، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما. ويجوز أن يكون من بين في موضع الحال، فتتعلق بمحذوف، لأنه لو تأخر لكان صفة أي: كائنا من بين فرث ودم. ويجوز أن يكون من بين فرث بدلا من ما في بطونه. وقرأت فرقة: سيغا بتشديد الياء، وعيسى بن عمر: سيغا مخففا من سيغ كهين المخفف من هين، وليس بفعل لازم كان يكون سوغا. والسائغ: السهل في الحلق اللذيذ، وروي في الحديث (أن اللبن لم شرق به أحد قط) ولما ذكر تعالى ما من به من بعض منافع الحيوان، ذكر ما من به من بعض منافع النبات. والظاهر تعلق من ثمرات بتتخذون، وكررت من للتأكيد، وكان الضمير مفردا راعيا لمحذوف أي: ومن عصير ثمرات، أو على معنى الثمرات وهو الثمر، أو بتقدير من المذكور. وقيل: تتعلق بنسقيكم، فيكون معطوفا على مما في بطونه، أو بنسقيكم محذوفة دل عليها نسقيكم المتقدمة، فيكون من عطف الجمل، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل. وقيل: معطوف على الأنعام أي: ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة، ثم بين العبرة بقوله: تتخذون. وقال الطبري: التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون. فحذف ما هو لا يجوز على مذهب البصريين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله: بكفي كان من أرمي البشر. تقديره: ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه انتهى. وهذا الذي أجازه قاله الحوفي قال: أي وإن من ثمرات، وإن شئت شيء بالرفع بالابتداء، ومن ثمرات خبره انتهى.
والسكر في اللغة الخمر. قال الشاعر:
494

* بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم
*
إذا جرى منهم المزاء والسكر
*
وقال الزمخشري: سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو: رشد رشدا ورشدا. قال الشاعر:
* وجاءونا بهم سكر علينا
*
فأجلى اليوم والسكران صاحي
*
وقاله: ابن مسعود، وابن عمر، وأبو رزين، والحسن، ومجاهد، والشعبي، والنخعي، وابن أبي ليلى، والكلبي، وابن جبير، وأبو ثور، والجمهور. وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بالمدينة فهي منسوخة. قال الحسن: ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر. وقال ابن عباس: هو الخل بلغة الحبشة. وقيل: العصير الحلو الحلال، وسمي سكرا باعتبار مآله إذا ترك. وقال أبو عبيدة: السكر الطعم، يقال هذا سكر لك أي طعم، واختاره الطبري قال: والسكر في كلام العرب ما يطعم. وأنشد أبو عبيدة:
* جعلت أعراض الكرام سكرا أي: تنقلت بأعراضهم. وقيل: هو من الخمر، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها، قاله الزمخشري، وتبع الزجاج قال: يصف أنه يخمر بعيوب الناس، وعلى هذه الأقوال لا نسخ. وقال الزجاج: قول أبي عبيدة لا يصح، وأهل التفسير على خلافه. وقيل: السكر ما لا يسكر من الأنبذة، وقيل: السكر النبيذ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد، وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر انتهى. وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أن ذلك منسوخ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل: جمع بين العتاب والمنة. يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم، وبالمنة على اتخاذ ما يحل، وهو الخل
والرب والزبيب والتمر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل: تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن انتهى. فيكون من عطف الصفات، وظاهر العطف المغايرة. ولما كان مفتتح الكلام: وأن لكم في الأنعام لعبرة، ناسب الختم بقوله: يعقلون، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال: * (إن فى ذالك لعبرة لاولى * الالباب) *.
*
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس، أخبر عن نفسه تعالى بقوله: نسقيكم. ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته. ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره، أتم النعمة بذكر العسل النحل. ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل، قدم اللبن وغيره عليه، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيرا وهو الدليل على الفطرة. ولذلك اختاره الرسول صلى الله عليه وسلم) حين أسري به، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى: * (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى) * ففي إخراج اللبن من النعم والسكر، والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب، والعسل من النحل، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة
495

والاختيار. والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها، وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه. والنحل: جنس واحده نحلة، ويؤنث في لغة الحجاز، ولذلك قال: أن اتحذي. وقرأ ابن وثاب: النحل بفتح الحاء، وأن تفسيرية، لأنه تقدم معنى القول وهو: وأوحى. أو مصدرية أي: باتخاذ، قال أبو عبد الله الرازي: أن هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر. لأن الوحي هنا بإجماع منهم هو الإلهام، وليس في الإلهام معنى القول، وقال: قرر تعالى في أنفسها الأعمال العجيبة التي يعجز عنها للعقلاء من البشر منها بناؤها البيوت المسدسة من أضلاع، متساوية بمجرد طباعها، ولا يتم مثل ذلك العقلاء إلا بآلات كالمسطرة والبركان، ولم تبنها بأشكال غير تلك، فتضيق تلك البيوت عنها لبقاء فرج لا تسعها، ولها أمير أكبر جثة منها نافذ الحكم يخدمونه، وإذ نفرت عن وكرها إلى موضع آخر وأرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات المويسيقا، وبوساطة تلك الألحان تعود إلى وكرها، فلما امتازت بهذه الخواص العجيبة وليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة تشبه الوحي لذلك قال: وأوحى ربك إلى النحل. انتهى ملخصا. ومن للتبعيض لأنها لا تبنى في كل جبل، وكل شجر، وكل ما يعرش، ولا في كل مكان منها. والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال، وفي متجوف الأشجار. وأما من ما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنها للنحل ابن آدم، والكوي التي تكون في الحيطان. ولما كان النحل نوعين: منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد، ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها، شمل الأمر باتخاذ البيوت النوعين. وقال الزمخشري: ما يدل على أن البيوت ليست الكوى، وإنما هي ما تبنيه هي، فقال: أريد منى البعضية، يعني بمن، وأن لا يبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش. وقال ابن زيد: ومما يعرشون الكروم. وقال الطبري: مما يبنون من السقوف. قال ابن عطية: وهذا منهما تفسير غير متقن انتهى. وقرأ السلمي، وعبيد بن نضلة، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بضم الراء، وباقي السبعة بكسرها، وتقتضي ثم المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على اتخذي، وهو أمر معطوف على أمر، وسيأتي الكلام على أمر غير المكلف في قوله: * (نملة يأيها النمل ادخلوا مساكنكم) * إن شاء الله وكل الثمرات عام مخصوص أي: المعتادة، لا كلها. قال الزمخشري: أي ابني البيوت ثم كلي من كل ثمرة تشتهيها انتهى. فدل قوله: أي ابني البيوت، أنه لا يريد بقوله بيوتا الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا، وإنما يراد البيوت المسدسة التي تبينها هي. وظاهر من في قوله: من كل الثمرات أنها للتبعيض، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلا. قال ابن عطية: إنما تأكل النوار من الأشجار.
وقال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه: يحدث الله تعالى في الهواء ظلا كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس، وقليلا لطيف الأجزاء صغيرها، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئا من تلك الأجزاء، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها، فالمجتمع من ذلك هو العسل. وعلى هذا القول تكون من لابتداء الغاية، لا للتبعيض انتهى. وظاهر العطف بالفاء في فاسلكي أنه بعقيب الأكل أي: فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران. وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد، ثم عادت إلى مكانها الأول. وقيل: سبل ربك أي الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو فاسلكي ما أكلت أي: في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ومنافذ مأكلك. وعلى هذا القول ينتصب سبل ربك على الظرف، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به. وقيل: المراد بقوله ثم كلي، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما، إلا أن كلي بمعنى اقصدي الأكل، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه تعالى هو
496

خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها. وقال مجاهد: ذللا غير متوعرة عليها سبيل تسلكه، فعلى هذا ذللا حال من سبيل ربك كقوله تعالى: * (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا) * وقال قتادة: أي مطيعة منقادة. وقال ابن زيد: يخرجون بالنحل ينتجعون وهي تتبعهم، فعلى هذا ذللا حال منالنحل كقوله: * (وذللناها لهم) * ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله: يخرج من بطونها شراب، وهو العسل. وسماه شرابا لأنه مما يشرب، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن. وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها،
وهو مبدأ الغاية الأولى، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ولذلك قال الحريري:
* تقل هذا مجاج النحل تمدحه
*
وإن ذممت تقل قيء الزنابير
*
والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم. وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في تحقير الدنيا: أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة، وأشرف شرابه رجيع نحلة. وعنه أيضا: أما العسل فونيم ذباب، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم، وقد خفي من أي المخرجين يخرج، أمن الفم؟ أم من أسفل؟ وحكي أن سليمان عليه السلام، والإسكندر، وأرسطاطاليس، صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها؟ فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة. وقال الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم، فجعله لعابا كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم. وقيل: من بطونها من أفواهها، سمى الفم بطنا لأنه في حكم البطن، ولأنه مما يبطن ولا يظهر. واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد، وذلك لاختلاف طباع النحل، واختلاف المراعي. وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى كما في الحديث (جرست نحلة العرفط) وقيل: الأبيض تلقيه شباب النحل، والأصفر كهولها، والأحمر شبيبها. والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة. وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيما تقدم في أكثر البلدان. وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل، وليس المراد بالناس هنا العموم، لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم. ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء، وإما لدلالته على مطلق الشفاء أي: فيه بعض الشفاء. وروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والضحاك، والفراء، وابن كيسان: أن الضمير في فيه عائد على القرآن، أي: في القرآن شفاء للناس. قال النحاس: وهو قول حسن أي: فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس. قال القاضي أبو بكر بن العربي: أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء، ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر، ولما كان أمر النحل عجيبا في بنائها تلك البيوت المسدسة، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض
497

والمر والضار، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه، وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى: إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون.
* (والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر * لكيلا يعلم * بعد علم شيئا إن الله عليم قدير * والله فضل بعضكم على بعض فى الرزق فما الذين فضلوا برآدى رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سوآء) *: لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم، وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع، ولذلك ختم بقوله: عليم قدير.
وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس، ويختل النطق والفكر. وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولا يتقيد أرذل العمر بسن مخصوص، كما روي عن علي: أنه خمس وسبعون سنة. وعن قتادة: أنه تسعون، وإنما ذلك بحسب إنسان إنسان فرب ابن خمسين انتهى، إلى أرذل العمر، ورب ابن مائة لم يرد إليه. والظاهر أن من يرد إلى أرذل العمر عام، فيمن يلحقه الخرف والهرم. وقيل: هذا في الكافر، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره إلا كرامة على الله، ولذلك قال تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات) * أي لم يردوا إلى أسفل سافلين. وقال قتادة: من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر.
واللام في لكي قال الحوفي: هي لام كي دخلت على كي للتوكيد، وهي متعلقة ببرد انتهى. والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل لكي أن كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام وهي الناصبة كأن، واللام جارة، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديرا، فاللام على هذا لم تدخل على كي للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما، لأن اللام مشعرة بالتعليل، وكي حرف مصدري، واللام جارة، وكي ناصبة. وقال ابن عطية: يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى: ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا. وهذه عبارة عن قلة علمه، لا أنه لا يعلم شيئا البتة. وقال الزمخشري: ليصير إلى حالة شبيهة بحالة في النسيان، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه. وقيل: لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا. وقيل: لئلا يعلم زيادة علم على علمه انتهى. وانتصب شيئا إما بالمصدر على مذهب البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب، أو بيعلم على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق.
ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم، وتقدم أيضا ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين. ولما ذكر تعالى خلقنا، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن، ذكر تفاوتنا في الرزق، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا، وربما كان المملوك خيرا من المولى في العقل والدين والتصرف، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه، وكان ينبغي أن يرد
498

فضل ما رزق عليه ويساويه في المطعم والملبس، كما يحكى عن أبي ذر أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت، عملا بقول رسول الله صلى الله عليه
وسلم): (إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون واطعموهم مما تطعمون) وعن ابن عباس وقتادة: أن الأخبار بقوله: فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل أي: إن المفضلين في الرزق لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام، ومن عد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه؟ وعن ابن عباس: أن الآية مشيرة إلى عيسى بن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام. وقال المفسرون: هذه الآية كقوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) * الآية. وقيل: المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا، فهم في رزقي سواء، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم. وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواء جملة أخبار عن تساوي الجميع في أكن الله تعالى هو رازقهم، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة في موضع جواب النفي كأنه قيل: فيستووا. وقيل: هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة التقدير: أفهم فيه سواء أي: ليسوا مستوين في الرزق، بل التفضيل واقع لا محالة. ثم استفهم عن جحودهم نعمة استفهام إنكار، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي: إن من تفضل عليكم بالنشأة أولا ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر.
وقرأ أبو بكر عن عاصم، وأبو عبد الرحمن، والأعرج بخلاف عنه: تجحدون بالتاء على الخطاب لقوله: فضل، تبكيتا لهم في جحد نعمة الله. ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه، واحتمل أن أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم، فنسب ذلك إلى بني آدم، وكلا الاحتمالين مجاز. والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج، وأنهم غير البنين. فقال الحسن: هم بنو ابنك. وقال ابن عباس والأزهري: الحفدة أولاد الأولاد، واختاره ابن العربي. وقال ابن عباس أيضا: البنون صغار الأولاد، والحفدة كبارهم. وقال مقاتل: بعكسه، وقيل: البنات لأنهن يخدمن في البيوت أتم خدمة. ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال: * (المال والبنون زينة الحيواة الدنيا) * وإنما الزينة في الذكورة. وعن ابن عباس: هم أولاد الزوجة من غير الزوج التي هي في عصمته. وقيل: وحفدة منصوب بجعل مضمرة، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج. فقال ابن مسعود، وعلقمة، وأبو الضحى، وإبراهيم بن جبير: الأصهار، وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها. وقال مجاهد: هم الأنصار والأعوان والخدم. وقالت فرقة: الحفدة هم البنون أي: جامعون بين البنوة والخدمة، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد. قال ابن عطية ما معناه: وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة، وهذا إنما هو في الغالب وعظم الناس. ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم، إنما هو على العموم والاشتراك أي: من أزواج البشر جعل الله منهم البنين، ومنهم جعل الخدمة، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم. ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة انتهى. وفي قوله: من أنفسكم أزواجا دلالة على كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها، حتى حكوا ذلك عن عمرو بن هندانة تزوج سعلاة.
ومن في الطيبات للتبعيض، لأن كل الطيبات في الجنة، والذي في الدنيا أنموذج منها. والظاهر أن الطيبات هنا المستلذات لا الحلال، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع. ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين، ذكر مننه بالرزق. والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة، ومن الحيوان. وقيل: الطيبات الغنائم. وقيل: ما أتى من غير نصب. وقال مقاتل: الباطل الشيطان، ونعمة لله محمد صلى الله عليه وسلم). وقال الكلبي: طاعة الشيطان في الحلال والحرام. وقيل: ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها. قال الزمخشري: أفبالباطل
499

يؤمنون وهو ما يعتقدون من مننفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة، فليس لهم إيمان إلا به. كأنه شيء معلوم مستيقن. ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل، وتمييزهم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول. وقيل: الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما، ونعمة الله ما أحل لهم انتهى. وقرأ الجمهور: يؤمنون بالياء، وهو توقيف للرسول صلى الله عليه وسلم) على إيمانهم بالباطل، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها. وقرأ السلمي بالتاء، ورويت عن عاصم، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم. فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع. ويعبدون، استفهام أخبار عن حالهم في عبادة الأصنام، وفي ذلك تبيين لقوله: أفبالباطل يؤمنون، نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق، ولا هو في استطاعته. فنفى أولا أن يكون شيء من الرزق في ملكهم، ونفى ثانيا قدرتها على أن تحاول ذلك، وما لا تملك في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك. وأجازوا في شيئا انتصابه بقوله: رزقا، أجاز ذلك أبو علي وغيره. ورد عليه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن، والمصدر هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد على ابن الطراوة بأن الرزق بالكسر يكون أيضا مصدرا، وسمع ذلك فيه، فصح أن يعمل في المفعول به والمعنى: ما لا يملك أن يرزق من السماوات والأرض شيئا. ومن السماوات متعلق إذ ذاك بالمصدر. قال ابن عطية بعد أن ذكر أعمال المصدر منونا: والمصدر يعمل مضافا باتفاق، لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية. وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله، وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قول الشاعر:
ضعيف النكاية أعداءه
البيت وقوله:
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
انتهى. أما قوله: يعمل مضافا بالاتفاق إن عنى من البصريين فصحيح، وإن عنى من النحويين فغير صحيح، لأن بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل،
وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر. وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة، وقد قال بذلك أبو القاسم بن برهان، وأبو الحسين بن الطراوة، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف، وتوكيده بالمعرفة. وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قول أخيرا: وقد جاء عاملا مع الألف واللام. وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين، ومذهب سيبويه جواز أعماله. قال سيبويه: وتقول عجبت من
500

الضرب زيدا، كما تقول: عجبت من الضارب زيدا، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين. وإذا كان رزقا يراد به المرزوق فقالوا: انتصب شيئا على أنه بدل من رزقا، كأنه قيل: ما لا يملك لهم من السماوات والأرض شيئا، وهو البدل جاريا على جهة البيان لأنه أعم من رزق، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفا، فينبغي أن لا يجوز، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين. إما البيان، وإما التوكيد. وأجازوا أيضا أن يكون مصدرا أي: شيئا من الملك كقوله: ولا تضرونه شيئا أي شيئا من الضرر. وعلى هذين الإعرابين تتعلق من السماوات بقوله: لا يملك، أو يكون في موضع الصفة لرزق فيتعلق بمحذوف.
ومن السماوات رزقا يعني به المطر، وأطلق عليه رزق لأنه عنه ينشأ الرزق. والأرض يعني: الشجر، والثمر، والزرع. والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها، لأنه يراد بها آلهتهم، بعدما عاد على اللفظ في قوله: ما لا يملك، فأفرد وجاز أن يكون داخلا في صلة ما، وجاز أن لا يكون داخلا، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلا، لأنهم أموات. وأما قول الزمخشري: إنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر، لأن نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة. وقال ابن عباس: ولا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم. وجوز الزمخشري وابن عطية: أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله: ويعبدون، وهم الكفار أي: ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئا، فكيف بالجماد الذي لا حس به قاله الزمخشري. وقال ابن عطية: لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها انتهى.
ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله، وضرب الأمثال تمثيلها والمعنى هنا: تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال. وقصة بقصة من قولهم: هذا ضرب لهذا أي: مثل، والضرب النوع. تقول: الحيوان على ضروب أي أنواع، وهذا من ضرب واحد أي: من نوع واحد. وقال ابن عباس: معناه لا تشبهوه بخلقه انتهى. وقال: إن الله يعلم أثبت العلم لنفسه، والمعنى: أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به، وعبر عن الجزاء بالعلم: وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه، ولا وبال عاقبته، فعدم علمكم بذلك جركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد أن الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون انتهى. وقاله ابن السائب قال: يعلم بضرب المثل، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقال مقاتل: يعلم أنه ليس له شريك، وأنتم لا تعلمون ذلك. وقيل: يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطته.
2 (* (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون * وضرب الله مثلا رجلين أحدهمآ أبكم لا يقدر على شىء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم * ولله غيب السماوات والا رض ومآ أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شىء قدير * والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والا بصار والأفئدة
501

لعلكم تشكرون * ألم يروا إلى الطير مسخرات فى جو السمآء ما يمسكهن إلا الله إن فى ذالك لآيات لقوم يؤمنون * والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الا نعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارهآ أثاثا ومتاعا إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون * فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين * يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون * ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون * وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هاؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون * وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون * الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون * ويوم نبعث فى كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هاؤلآء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) *))
) *
الكل: الثقيل، وقد يسمى اليتيم كلا لثقله على من يكفله. وقال الشاعر:
* أكول لمال الكل قبل شبابه
*
إذا كان عظم الكل غير شديد والكل أيضا الذي لا ولد له ولا والد، والكل العيال، والجمع كلول. اللمح: النظر بسرعة، لمحه لمحا ولمحانا. الجو: مسافة ما بين السماء والأرض، وقيل: هو ما يلي الأرض في سمت العلو، واللوح والسكاك أبعد منه. الظعن: سير البادية في الانتجاع والتحول من موضع إلى موضع، والظعن الهودج أيضا. الصوف للضأن، والوبر للإبل، والشعر للمعز، قاله أهل اللغة في قوله: ومن أصوافها الآية. الأثاث: قال المفضل متاع البيت كالفرش والأكسية، وقال الفراء: لا واحد له من لفظه، كما أن المتاع لا واحد له من لفظه، ولو جمعت لقلت: أأثثة في القليل، وأثث في الكثير. وقال أبو زيد: واحده أثاثه، وقال
الخليل: أصله من قولهم أثث النبات والشعر، فهو أثيث إذا كثر. قال امرؤ القيس:
*
وفرع يزين المتن أسود فاحم
أثيت كقنو النخلة المتعثكل
*
الكن ما حفظ، ومنع من الريح والمطر وغير ذلك، ومن الجبال الغار. استعتبت الرجل بمعنى أعتبته أي: أزلت عنه ما يعتب عليه ويلام، والاسم العتبى، وجاءت استفعل بمعنى أفعل نحو استدينته وأدينته. * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شىء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا (سقط: هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب
502

إن الله على كل شيء قدير، والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون)) *: مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله غيره وهو لا يجلب نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لعابده، ضرب لهم مثلا قصة عبد في ملك غيره، عاجز عن التصرف، وحر غني متصرف فيما آتاه الله. فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد، ومشتركين في الإنسانية، فكيف تشركون بالله وتسوون به من مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره، مع تباين الأوصاف. وأن موجد الوجود لا يمكن أن يشبهه شيء من خلقه، ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره. قال مجاهد: هذا مثل لله وللأصنام. وقال قتادة: للمؤمن والكافر فالكافر العبد المملوك لا ينتفع بعبادته في الآخرة، ومن رزقناه المؤمن. وقال ابن جبير: مثل للبخيل والسخي انتهى.
ولما كان لفظ عبد قد يطلق على الحر، خصص بمملوك. ولما كان المملوك قد يكون له تصرف وقدرة كالمأذون له والمكاتب، خصص بقوله: لا يقدر على شيء، والمعنى: على شيء من التصرف في المال، لأنه يقدر على أشياء من حركاته: كالقيام، والقعود، والأكل، والشرب، والنوم، وغير ذلك. والظاهر كون ومن موصولة أي: والذي رزقناه، ودلت الصلة وما عطف على أنه يراد به الحر. وقال أبو البقاء: موصوفة. قال الزمخشري: الظاهر أنها موصوفة كأنه قال: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة. وقال الحوفي: من بمعنى لذي، ولا يقتضي ضرب المثل لشخصين موصوفين بأوصفا متباينة تعيينهما، بل ما روي في تعيينهما من أنهما: عثمان بن عفان رضي الله عنه وعبد له أو أنهما أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأبو جهل، لا يصح إسناده. وجمع الضمير في يستوون ولم يثن لسبق اثنين، لأن من يحتمل أن يراد بها الجمع فيصير إذ ذاك جمع الضمير لانتظام العبد المملوك والأغنياء في الجمع، وكأنه قيل: عبدا مملوكا. والملاك المرزوقون المنفقون. ويحتمل أن يراد بعبدا مملوكا الجنس، فيصلح عود الضمير جمعا عليه، وعلى جنس الأغنياء. ويحتمل أن يعود على العبيد والأحرار وإن لم يجر للجمعين ذكر، لدلالة عبد مملوك ومن رزقناه عليهما.
قل: الحمد لله، الظاهر أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم). وقيل: يحتمل أن يكون خطابا لمن رزقه الله، أمره أن يحمد الله على أن ميزه بهذه القدرة على ذلك الضعيف. وقال ابن عطية: الحمد لله شكر على بيان الأمر بهذا المثل، وعلى إذعان الخصم له كما تقول لمن أذعن لك ي حجة وسلم تبنى أنت عليه، قولك: الله أكبر على هذا يكون كذا وكذا، فلما قال هنا: هل يستوون، فكأن الخصم قال له: لا، فقال: الحمد لله ظهرت الحجة انتهى. وقيل: الحمد لله أي: هو المستحق للحمد دون ما يعبدون من دونه، إذ لا نعمة للأصنام عليهم فتحمد عليها، إنما الحمد الكامل لله لأنه المنعم الخالق. وقال ابن عباس: الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد. والظاهر نفي العلم عن أكثرهم، لأن منهم من بان له الحق ورجع إليه، أو أكثر الخلق لأن الأكثر هم المشركون. وقيل: المراد به االعموم أي: بل هم لا يعلمون. ومتعلق يعلمون محذوف، إما لأن المعنى نفي العلم عن الأكثر ولم يلحظ متعلقه، وإما لأنه محذوف يترتب على الأقوال التي سببها قوله الحمد لله.
وضرب الله مثلا رجلين أي قصة رجلين. قال الزمخشري: وهذا مثل ثان ضربه لنفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه ونعمه الدينية والدنيوية، والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع. والأبكم الذي ولد أخرس لا يفهم ولا يفهم. وهو كل على مولاه أي: ثقيل، وعيال على من يلي أمره ويعوله. أينما يوجهه: حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح. هل يستوي هو، ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفايات مع رشد وديانة، فهو يأمر الناس بالعدل، وهو في نفسه على صراط مستقيم على سيرة صالحة، ودين قويم انتهى. وقال ابن عباس: أحدهما أبكم مثل للكافر، والذي يأمر بالعدل المؤمن. وقال قتادة: هذا مثل الله تعالى، والأصنام فهي الأبكم الذي لا نطق له ولا يقدر على شيء، وهو عيال على من والاه من قريب أو صديق، كما الأصنام تحتاج أن تنقل وتخدم
503

ويتعذب بها، ثم لا يأتي من جهتها خير البتة. وعن قتادة أيضا وغيره: هذا مثل ضربه الله لنفسه وللوثن، فالأبكم الذي لا يقدر على شيء هو الوثن، والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى، وهذا ليس كذلك لأنه قال: مثلا رجلين، فلا بد أن يكون عديل الأبكم الموصوف بتلك الصفات، ومقابله رجل موصوف بما يقابل تلك الصفات من النطق والقدرة والكفاية، ولكنه حذف المقابل لدلالة مقابله عليه، ثم قيل: هل يستوي ذلك الأبكم الموصوف بتلك الصفات، وهذا الناطق: ففي ذكر استوائهما أيضا دليل على حذف المقابل. ولما كان البكم هو المبدأ به من الأوصاف، وعنه تكون الأوصاف التي بعده قابلة في الاستواء بالنطق، وثمرته من الأمر بالعدل غيره وهو في نفسه على طريقة مستقيمة، فحيثما توجه صدر منه الخبر ونفع، وليس بكال على أحد. وقد تقرر في بداية العقول أن الأبكم العاجز لا يكون مساويا في العقل والشرف للناطق
القادر الكامل مع استوائهما في البشرية، فلأن يحكم بأن الجماد لا يكون مساويا لرب العالمين في المعبودية أحرى وأولى. وكما قلنا في المثل السابق: لا يحتاج إلى تعيين المضروب بهما المثل، فكذلك هنا، فتعيين الأبكم بأبي جهل، والآمر بالعدل: بعمار، أو بأبي بن خلف، وعثمان بن مظعون، أو بهاشم بن عمرو بن الحرث كان يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم) لا يصح إسناده.
وقرأ عبد الله، وعلقمة، وابن وثاب، ومجاهد، وطلحة يوجه بهاء واحدة ساكنة مبنيا، وفاعله ضمير يعود عليى مولاه، وضمير المفعول محذوف لدلالة المعنى عليه. ويجوز أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الأبكم، ويكون الفعل لازما وجه بمعنى توجه، كان المعنى: أينما يتوجه. وعن عبد الله أيضا: توجهه بهاءين، بتاء الخطاب، والجمهور بالياء والهاءين. وعن علقمة وابن وثاب، وطلحة، يوجه بهاء، واحدة ساكنة، والفعل مبني للمفعول. وعن علقمة، وطلحة: يوجه بكسر الجيم وهاء واحدة مضمومة. قال صاحب اللوامح: فإن صح ذلك فإن الهاء التي هي لام الفعل محذوفة فرارا من التضعيف، ولأن اللفظ به صعب مع التضعيف، أو لم يرد به الشرط، بل أمر هو بتقدير أينما هو يوجه، وقد حذف منه ضمير المفعول به، فيكون حذف الياء من لا يأت بخير على التخفيف نحو: يوم يأت. وإذا يسر انتهى. ولا يخرج أين عن الشرط أو الاستفهام. وقال أبو حاتم: هذه القراءة ضعيفة، لأن الجزم لازم انتهى. والذي توجه عليه هذه القراءة إن صحت أن أينما شرط حملت على إذا لجامع ما اشتركا فيه من الشرطية، ثم حذفت الياء من لا يأت تخفيفا، أو جزمه على توهم أنه نطق بأينما المهملة معملة لقراءة من قرأ أنه من يتقي ويصبر في أحد الوجهين، ويكون معنى يوجه يتوجه، فهو فعل لازم لا متعد.
ثم ذكر تعالى أنه له غيب السماوات والأرض، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه. والظاهر اتصاله بقوله: * (إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * أخبر باستئثاره بعلم غيب السماوات والأرض، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب، والمعنى بهذا الإخبار: أن الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما: العلم المحيط بالمغيبات، والقدرة البالغة التامة. ومن ذكر أن قوله: ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأن من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة، فبين ذلك بهذه الجملة. قيل: والغيب هنا ما لا يدرك بالحس، ولا يفهم بالعقل. وقال المفضل: ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه. وقيل: هو ما في قوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * وقال الزمخشري: أو أراد بغيب السماوات والأرض يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السماوات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم. قيل: لما كانت الساعة آتية ولا بد، جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج: لم يرد أن الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي: يقول للشيء كن فيكون. وقيل: هذا تمثيل للقرب كما تقول: ما السنة إلا لحظة. وقال الزمخشري: هو عند الله وإن تراخى، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه: كلمح البصر، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله: * (ويستعجلونك بالعذاب) * * (ولن يخلف الله وعده) * * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * أي هو عنده دان، وهو عندكم بعيد. وقيل: المعنى أن إقامة الساعة وإماتة الأحياء
504

وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت أوحاه. أن الله على كل شيء قدير، فهو يقدر على أن يقيم الساعة، ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. وقال ابن عطية: والمعنى على ما قال قتادة وغيره، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها: كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر؟ أو هي أقرب من ذلك؟ فأو على هذا على بابها في الشك. وقيل: هي للتخيير انتهى. والشك والتخيير بعيدان، لأن هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة، فالشك مستحيل عليه. ولأن التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم: خذ من مالي دينارا أو درهما، أو في التكليفات كآية الكفارات: * (والذين يظاهرون) * وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * وقوله: * (أتاها أمرنا ليلا أو نهارا) * وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره، كما علم أمر الساعة، لكنه أبهم على المخاطب. وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا. وقال القاض: هذا لا يصح، لأن إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال: إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان، وليس زمان تكليف. والذي نقوله: إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة، لا وقت الإتيان بها. وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء، ألا ترى في قوله تعالى: * (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) * كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون. وقال أبو عبد الله الرازي: لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء، فلذلك قال: * (أو هو أقرب) * ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره، ثم قال: أو هو أقرب تنبيها على ما ذكرناه، وليس المراد طريقة الشك، والمراد بل هو أقرب انتهى. وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من أن أو بمعنى بل، هو قول الفراء، ولا يصح لأن الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا. أما أحدهما: فإن يكون إبطالا للإسناد السابق، وأنه ليس هو المراد، وها مستحيل هنا، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق. والثاني: أن يكون انتقالا من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة، والإخبار بالأقربية، فلا يمكن صدقهما معا. وقال صاحب الغيان: وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى:
* قال له البرق وقالت له الريح
*
جميعا وهما ما هما
*
* أأنت تجري معنا قال إن
*
نشطت أضحكتكما منكما
*
* أنا ارتداد الطرف قد فته
*
إلى المدى سبقا فمن أنتما
*
ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة، فكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة. وتقدم وصفهم بانتفاء العلم، ذكر تعالى النشأة الأولى وهي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئا، تنبيها على وقوع النشأة الآخرة. ثم ذكر تعال امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم، ولما كانت النشأة الأولى، وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال: لعلكم تشكرون، وتقدم الكلام في أمهات في النساء. وقرأ حمزة: بكسر الهمزة، والميم هنا وفي النور، والزمر، والنجم، والكسائي بكسر الهمزة فيهن، والأعمش بحذف الهمزة وكسر الميم، وابن أبي ليلى بحذفها وفتح الميم. قال أبو حاتم: حذف الهمزة رديء، ولكحن قراءة ابن أبي أصوب انتهى. وإنما كانت أصوب
505

لأن كسر الميم إنما هو لاتباعها حركة الهمزة، فإذا كانت الهمزة محذوفة زال الاتباع، بخلاف قراءة ابن أبي ليلى فإنه أقر الميم على حركتها. ولا تعلمون جملة حالية أي: غير عالمين. وقالوا: لا تعلمون شيئا مما أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، أو شيئا مما قضى عليكم من السعادة أو القاوة، أو شيئا من منافعكم. والأولى عموم لفظ شيء، ولا سيما في سياق النفي. وقال وهب: يولد المولود حذر إلى سبعة أيام لا يدرك راحة ولا ألما. ويحتمل وجعل أن يكون معطوفا على أخرجكم، فيكون واحدا في حيز خبر المبتدأ، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار معطوفا على الجملة الابتدائية كاستئنافها.
والمراد بالسمع والأبصار والأفئدة إحساسها وإدراكها، فعبر عن ذلك بالآية. وقال أبو عبد الله الرازي ما معناه: إنما جمع الفؤاد جمع قلة، لأنه إنما خلق للمعارق الحقيقية اليقينية، وأكثر الخلق مشغولون بالأفعال البهيمية، فكان فؤادهم ليس بفؤاد، فلذلك ذكر في جمعه جمع القلة انتهى ملخصا. وهو قول هذياني، ولولا جلاله قائله وتسطيره في الكتب ما ذكرته، وإنما يقال في هذا ما قاله الزمخشري: أنه من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة والقلة، إذا لم يرد في السماع غيرها كما جاء: شسوع في جمع شسع لا غير، فجرى ذلك المجرى انتهى. إلا أن دعوى الزمخشري أنه لم يجيء في جمع شسع إلا شسع لا غير، ليس بصحيح، بل جاء فيه جمع القلة قالوا: أشساع، فكان ينبغي له أن يقول: غلب شسوع. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وطلحة، والأعمش، وابن هرمز: ألم تروا بتاء الخطاب، وباقي السبعة بالياء. قال ابن عطية: واختلف عن الحسن، وعيسى الثقفي، وعاصم، وأبي عمرو. ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة: السمع، والنظر، والعقل، والأولان مدرك المحسوس، والثالث مدرك المعقول، اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر، فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها المتفاوت، كمشاهدته النيرات التي في الأفلاك. وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر، فإن طيرانه في الهواء مع ثقل جسمه مما يعجب منه ويعتبر به. وتضمنت الآية أيضا ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط، إذ ليس تحته ما يدعمه، ولا فوقه ما يتعلق به، فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله تعالى، كما قال تعالى: * (أو لم * يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير) * فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل. ومعنى مسخرات: مذللات، وبني للمفعول دلالة على أن له مسخرا. وقال أبو عبد الله الرازي: هذا دليل على كمال قدرة الله وحكمته، فإنه تعالى خلق الطائر خلقه معها يمكنه الطيران، أعطاه جناحا يبسطه مرة، ويكنه أخرى مثل ما يعمل السابح في الماء، وخلق الجو خلقه معها يمكن الطيران خلقه خلقة لطيفة، يسهل بسببها خرقه والنفاذ فيه، ولولا ذلك لما كان الطيران ممكنا انتهى. وكلامه منتزع من كلام القاضي قال: إنما أضاف الإمساك إلى نفسه، لأنه تعالى هو الذي أعطى الآلات لأجلها تمكن الطائر من تلك الأفعال، فلما كان هو المتسبب لذلك صحت هذه الإضافة انتهى. والذي نقوله: إنه كان يمكنه أن يطير ولو لم يخلق له جناح، وأنه كان يمكنه خرق الشيء الكثيف وذلك بقدرة الله تعالى، وأن الممسك له في جو السماء هو الله تعالى. وقد قام الدليل على أن جميع الأفعال كلها مخلوقة لله، وقام الدليل على أنه تعالى هو الفاعل المختار، فلا نقول: إنه لولا الجناح ولطف الجو ما أمكن الطيران، ولا لولا الآلات ما أمكن. وقال الزمخشري: ما يوافق كلامهما قال: مسخرات، مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة، والأسباب المواتية لذلك. ثم أحسن أخيرا في قوله: ما يمسكهن في قبضهن وبسطهن ووقوفهن إلا الله بقدرته انتهى. لآيات: جمع ولم يفرد، لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها، وثقله الذي جعله فيه لأن ينزل، والفضاء الذي بين السماء والأرض، والإمساك الذي لله تعالى، أو جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال: لقوم يؤمنون، فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار، ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله، فهو إخبار منه
506

تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.
* (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين * والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم) *: لما ذكر تعالى ما من به عليهم من خلقهم، وما خلق لهم من مدارك العلم، ذكر ما امتن به عليهم مما ينتفعون به في حياتهم من الأمور الخارجية عن دوابهم من البيوت التي يسكنونها، من الحجر والمدر والأخشاب وغيرها. والسكن فعل بمعنى مفعول، كالقنص، والنفص. وأنشد الفراء:
* جاء الشتاء ولما أتخذ سكنا
*
يا ويح نفسي من حفر القراميص وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية، وكأنه تعالى ذكر أولا ما غالب البيوت عليه من كونها لا تنقل، بل ينتقل الناس إليها. ثم ذكر ثانيا ما من به علينا من المتخذ من جلود الأنعام، وهو ما ينتقل من القباب والخيام والفساطيط التي من الأدم، أو ذكر أولا البيوت على طريق العموم، ثم ذكر بيوت الجلود خصوصا تنبيها على حال أكثر العرب، فإنهم لانتجاعهم إنما بيوتهم من الجلود، والظاهر أنه لا يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر، وبيوت الصوف والوبر. وقال ابن سلام: تندرج لأنها ثابتة فيها، فهي منها. ومعنى تستخفونها: تجدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل. يوم ظعنكم: يوم ترحلون خف عليكم حملها ونثلها، ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها. وقد يراد بالاستخفاف في وقتي السفر والحضر أي: مدة النجعة والإقامة. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: ظعنكم بفتح العين، وباقي السبعة بسكونها، وهما لغتان. وليس السكون بتخفيف كما جاء في نحو الشعر والعر لمكان حرف الخلق، والظاهر أن أثاثا مفعول، والتقدير: وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا. وقيل: أثاثا منصوب على الحال على أن المعنى: جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتا، فيكون ذلك معطوفا على من جلود الأنعام، كما تقول: جعلت لك من الماء شرابا ومن اللبن، وفي التقدير الأول يكون قد عطف مجرورا على مجرور، ومنصوبا على منصوب كما تقول: ضربت في الدار زيدا وفي القصر عمرا، ولما لم تكن بلادهم بلاد قطن وكتان وحرير اقتصر على هذه الثلاثة هنا، واندرجت في قوله سرابيل تقيكم الحر. والمتاع: ما يتمتع به أي: ينتفع به. وقال ابن عباس: الزينة. وقال المفضل: المتجر والمعاش. وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد وجمع بينهما لاختلاف اللفظين كقوله: وألفى قولها كذبا ومينا. وغيا تعالى ذلك بقوله: إلى حين، فقال ابن عباس: إلى الموت. وقال مقاتل: إلى بلى ذلك الشيء. وقيل: إلى انقضاء حاجتكم منه. ولما ذكر تعالى ما من به عليهم ما سبق ذكره، وكانت بلادهم غالبا عليها الحر، ذكر امتنانه عليهم بما يقيهم الحر من خلق الأجرام التي لها ظل كالشجر وغيره مما يمنع من أذى الشمس. وقال ابن عباس ومجاهد: ظلال الغمام. وقال ابن السائب: طلال البيوت. وقال قتادة، والزجاج: ظلال الشجر. وقال ابن قتيبة: ظلال الشجر والجبال والأكنان من الجبال هي الغيران، والكهوف، والبيوت المنحوتة منها. والسربال ما لبس على البدن من: قميص، وقرقل،
507

ومجول، ودرع، وجوشن، ونحو ذلك من صوف وكتان وقطن وغيرها. واقتصر على ذكر الحر إما لأن ما يقي الحر يقي البرد قاله الزجاج، أو حذف البرد لدلالة ضده عليه قاله المبرد، أو لأنه أمس في تلك البلاد والبرد فيها معدوم في الأكثر. وإذا جاء توقى بالأثاث فيخلص السربال لتوقي الحر فقط، قاله عطاء الخراساني. وهذا في بلاد الحجاز، وأما غيرها من بلاد العرب فيوجد فيها البرد الشديد كما قال متمم:
إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
وقال آخر:
في ليلة من جمادى ذات أندية
*
والسرابيل التي تقي الناس هي الدروع. قال كعب بن زهير:
* شم العرانين أبطال لبوسهم
*
من نسج داود في الهيجا سرابيل والسربال عام، يقع على ما كان من حديد وغيره. والبأس في أصل اللغة الشدة، وهنا الحرب. وفي الحديث: (كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)) والمعنى: تقيكم أذى الحرب وهو ما يعرض فيها من الجراح الناشئة من ضرب السيف، والدبوس، والرمح، والسهم، وغير ذلك مما يعد للحديث. كذلك أي مثل ذلك الإتمام للنعمة فيما سبق، يتم نعمته في المستقبل. وقرأ ابن عباس: تتم بتاء مفتوحة نعمته بالرفع، أسند التمام إليها اتساعا، وعنه نعمه جمعا. وقرأ: لعلكم تسلمون بفتح التاء، واللام من السلامة والخلاص، فكأنه تعليل لوقاية السرابيل من أذى الحرب، أو تسلمون من الشرك. وأما تسلمون في قراءة الجمهور فالمعنى: تؤمنون، أو تنقادون إلى النظر في نعم الله تعالى مفض إلى الإيمان والانقياد. روي أن أعرابيا سمع قوله تعالى: والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الآيتين فقال: عند كل نعمة اللهم نعم، فلما سمع: لعلكم تسلمون، قال: اللهم هذا فلا، فنزلت.
*
فإن تولوا، يحتمل أن يكون ماضيا أي: فإن أعرضوا عن الإسلام. ويحتمل أن يكون مضارعا أي: فإن تتولوا، وحذفت التاء، ويكون جاريا على الخطاب السابق والماضي على الالتفات، والفاء وما بعدها جواب الشرط صورة، والجواب حقيقة محذوف أي: فأنت معذور إذ أديت ما وجب عليك، فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام
المسبب لدلالته عليه. وقال ابن عطية: المعنى إن أعرضوا فلست بقادر على حق الإيمان في قلوبهم، فإنما عليك أن تبين وتبلغ أمر الله ونهيه انتهى. ثم أخبر عنهم على سبيل التقريع والتوبيخ بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وعرفانهم للنعم التي عدت عليهم حيث يعترفون بها، وأنها منه تعالى، وإنكارهم لها حيث يعبدون غير الله، وجعل ذلك إنكارا على سبيل المجاز، إذ لم يرتبوا على معرفة نعمه تعالى مقتضاها من عبادته، وإفراده بالعبادة دون ما نسبوا إليه من الشركاء، قال قريبا من هذا المعنى مجاهد. وقال السدي: النعمة هنا محمد صلى الله عليه وسلم)، والمعنى: يعرفون بمعجزاته وآيات نبوته، وينكرون ذلك بالتكذيب، ورجحه الطبري. وعن مجاهد أيضا: إنكارهم قولهم ورثناها من آبائنا. وعن ابن عون: إضافتها إلى الأسباب لا
508

إلى مسببها، وحكى صاحب الغنيان: يعرفونها في الشدة، ثم ينكرونها في الرخاء. وقيل: إنكارهم هي بشفاعة آلهتهم عند الله. وقيل: يعرفونها بقلوبهم ثم ينكرونها بألسنتهم. والظاهر أن المراد من وأكثرهم موضوعه الأصلي. وقال الحسن: وكلهم: ما من أحد يقوم بواجب حق الشكر، فجعله من كفران النعمة. وظاهر أن الكفر هنا هو مقابل الإيمان. وقيل: أكثر أهل مكة، لأن منهم من أبى. وقيل: معنى الكافرون الجاحدون المعاندون، لأن فيهم من كان جاهلا لم يعرف فيعاند. وقال الزمخشري: (فإن قلت): ما معنى ثم؟ (قلت): الدلالة على أن إنكارهم مستبعد بعد حصول المعرفة، لأن حق من عرف النعمة أن يعترف لا أن ينكر.
* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون * وإذا رءا الذين أشركوا شركآءهم قالوا ربنا هؤلآء شركآؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) *: لما ذكر إنكارهم لنعمة الله تعالى، ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم. وانتصب يوم بإضمار اذكر قاله: الحوفي، والزمخشري، وابن عطية، وأبو البقاء. وقال الزمخشري: أو يوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه. وقال الطبري: هو معطوف على ظرف محذوف العامل فيه: ثم ينكرونها، أي ينكرونها اليوم. ويوم نبعث أي: ينكرون كفرهم، فيكذبهم الشهيد، والشهيد نبي تلك الأمة يشهد عليهم بإيمانهم وبكفرهم، ومتعلق الأذن محذوف. فقيل: في الرجوع إلى دار الدنيا. وقيل: في الكلام والاعتذار كما قال: * (هاذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم) * فيعتذرون أي بعد شهادة أنبيائهم عليهم، وإلا فقبل ذلك تجادل كل أمة عن نفسه. وجاء كلامهم في ذلك، ولكنها مواطن يتكلمون في بعضها ولا ينطقون في بعضها ولا هم يستعتبون أي: مزال عنهم العتب. وقال قوم: معناه لا يسألون أن يرجعوا عن ما كانوا عليه في الدنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتباهم، ونحوه قول من قال: ولا هم يسترضون أي: لا يقال لهم ارضوا ربكم، لأن الآخرة ليست بدار عمل قاله الزمخشري. وقال الطبري: معناه يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة وعمل.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فما معنى ثم هذه؟ (قلت): معناها انهم يمنون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منه، وأنهم يمنعون الكلام فلا يؤذن لهم في إلقائ معذرة، ولا إدلاء بحجة انتهى. ولما كانت حالة العذاب في الدنيا مخالفة لحال الآخرة إذ من رأى العذاب في الدنيا رجا أن يؤخر عنه، وإن وقع فيه أن يخفف عنه، أخبر تعالى أن عذاب الآخرة لا يكون فيه تخفيف ولا نظرة. والظاهر أن جواب إذا قوله فلا يخفف، وهو على إضمار هو أي: فهو لا يخفف، لأنه لولا تقدير الإضمار لم تدخل الفاء، لأن جواب إذا إذا كان مضارعا لا يحتاج إلى دخول الفاء، سواء كان موجبا أم منفيا، كما قال تعالى: * (وإذا تتلى عليهم
509

ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر) * وتقول: إذا جاء زيد لا يجيء عمرو. قال الحوفي: فلا يخفف جواب إذا، وهو العامل في إذا، وقد تقدم لنا أن ما تقدم فاء الجواب في غير أما لا تعمل فيما قبله، وبينا أن العامل في إذا الفعل الذي يليها كسائر أدوات الشرط، وإن كان ليس قول الجمهور. وجعل الزمخشري جواب إذا محذوفا فقال: وقد قدر العامل في يوم نبعث مجزوما قال: ويوم نبعث وقعوا فيما وقعوا فيه، وكذلك وإذا رأوا العذاب بغتهم وثقل عليهم فلا يخفف ولا هم ينظرون كقوله: * (بل تأتيهم بغتة) * فتبهتهم الآية انتهى. والظاهر أن قوله: شركاءهم، عام في كل من اتخذوه شريكا لله من صنم ووثن وآدمي وشيطان وملك، فيكذبهم من له منهم عقل، فيكون: فألقوا عائدا على من له الكلام، ويجوز أن يكون عاما ينطق الله تعالى بقدرته الأوثان والأصنام. وإضافة الشركاء إليهم على هذا القول لكونهم هم الذين جعلوهم شركاء لله. وقال الحسن: شركاؤهم الشياطين، شركوهم في الأموال والأولاد كقوله تعالى: * (وشاركهم فى الاموال والاولاد) *، وقيل: شركاؤهم في الكفر. وعلى القول الأول شركاؤهم في أن اتخذوهم آلهة مع الله وعبدوهم، أو شركاؤهم في أن جعلوا لهم نصيبا من أموالهم وأنعامهم، والظاهر أن القول منسوب إليهم حقيقة. وقيل: منسوب إلى جوارحهم، لأنهم لما أنكروا الإشراك بقولهم: * (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم. ومعنى: تدعو، ونعبد قالوا ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب، إذ يحصل التأسي، أو اعتذارا عن كفرهم إذ زين لهم الشيطان ذلك وحملهم عليه، إن كان الشركاء هم الشياطين. وقال أبو مسلم الأصبهان. قالوا: ذلك إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام، وظنا أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو من عذابهم، فعند ذلك تكذيبهم تلك الأصنام. وقال القاضي: هذا بعيد، لأن الكفار يعلمون علما ضروريا في الآخرة أن العذاب سينزل بهم، ولا نصرة، ولا فدية، ولا شفاعة. وتقدم الإخبار بأنهم شركاء، والإخبار أنهم كانوا يدعونهم: أي يعبدونهم، فاحتمل التذكيب أن يكون عائدا للإخبار الأول أي: لسنا شركاء لله في العبادة، ولا آلهة نزهوا الله تعالى عن أن يكونوا شركاء له. واحتمل أن يكون عائدا على الإخبار الثاني وهو العبادة، لما لم يكونوا راضين بالعبادة جعلوا عبادتهم كلا عبادة، أو لما لم يدعوهم إلى العبادة. ألا ترى أن الأصنام والأوثان لا شعور لها بالعبادة، فضلا عن أن يدعو وإن من عبد من صالحي المؤمنين والملائكة، لم يدع إلى عبادته. وإن كان الشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في إخبارهم بكذب من عبدهم، كما كذب إبليس في قوله: * (إنى كفرت بما أشركتمون من قبل) * والضمير في إلى الله فألقوا عائد على الذين أشركوا، قاله الأكثرون. والسلم: الاستسلام والانقياد لحكم الله بعد الإباء والاستكبار في الدنيا، فلم يكن لهم إذ ذاك حيلة ولا دفع. وروى يعقوب عن أبي عمرو: السلم بإسكان اللام. وقرأ مجاهد: بضم السين واللام. وقيل: الضمير عائد على الذين أشركوا، وشركائهم كلهم. قال الكلبي: استسلموا منقادين لحكمه، والضمير في وضلوا عائد على
الذين أشركوا خاصة أي: وبطل عنهم ما كانوا يفترون من أن لله شركاء وأنهم ينصرونهم ويشفعون لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم، والظاهر أن الذين مبتدأ وزدناهم الخبر. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون قوله: الذين، بدلا من الضمير في يفترون. وزدناهم فعل مستأنف إخباره. وصدوا عن سبيل الله أي: غيرهم زدناهم عذابا بسبب الصد فوق العذاب، أي: الذي ترتب لهم على الكفر ضاعفوا كفرهم، فضاعف الله عقابهم. وهذا المزيد عن ابن مسعود عقارب كأمثال النخل الطوال، وعنه: حيات كأمثال الفيلة، وعقارب كأمثال البغال. وعن ابن عباس: أنها من صفر مذاب تسيل من تحت العرش يعذبون بها، وعن الزجاج: يخرجون من حر النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدة برده إلى النار، وعلل تلك الزيادة بكونهم مفسدين غيرهم، وحاملين على الكفر. وفي كل أمة فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا، والمعنى في كليهما: أنه يبعث
510

الله أنبياء الأمم فيهم منهم، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم)، والإشارة بهؤلاء إلى أمته. وقال ابن عطية: ويجوز أن يبعث الله شهداء من الصالحين مع الرسل. وقد قال بعض الصحابة: إذا رأيت أحدا على معصية فانهه، فإن أطاعك وإلا كنت عليه شهيدا يوم القيامة انتهى. وكان الشهيد من أنفسهم، لأنه كان كذلك حين أرسل إليهم في الدنيا من أنفسهم. وقال الأصم أبو بكر المراد الشهيد هو أنه تعالى ينطق عشرة من أجزاء الإنسان حتى تشهد عليه، لأنه قال في صفة الشهيد من أنفسهم، وهذا بعيد لمقابلته بقوله: وجئنا بك شهيدا على هؤلاء، فيقتضي المقابلة أن الشهداء على الأمم أنبياؤهم كرسول الله صلى الله عليه وسلم). ونزلنا استئناف إخبار، وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين. لما ذكر ما شرفه الله به من الشهادة على أمته، ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شيء من أمور الدين، ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا، فلا حجة لهم ولا معذرة. والظاهر أن تبيانا مصدر جاء على تفعال، وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف، ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء. وقد جوز الزجاج فتحه في غير القرآن. وقال ابن عطية: تبيانا اسم وليس بمصدر، وهو قول أكثر النحاة. وروى ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين: أنه مصدر ولم يجيء على تفعال من المصادر إلا ضربان: تبيان وتلقاء.
قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟ (قلت): المعنى أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة، حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وطاعته. وقيل: * (وما ينطق عن الهوى) * وحثا على الإجماع في قوله * (ويتبع غير سبيل المؤمنين) * وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) لأمته اتباع أصحابه، والاقتداء بآثارهم في قوله: * (يضركم من ضل إذا اهتديتم) * وقد اجتهدوا، وقاسوا، ووطؤوا طرق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيين الكتاب، فمن ثم كان تبيانا لكل شيء. وقوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى قوله: اهتديتم، لم يقل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن حزم في رسالته في إبطال الرأي، والقياس، والاستحسان، والتعليل، والقليد ما نصه: وهذا خبر مكذوب موضوع باطل لم يصلح قط، وذكر إسناده إلى البزاز صاحب المسند قال: سألتم عما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم) مما في أيدي العامة ترويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم، بأيها اقتدوا اهتدوا. وهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم)، رواه عبد الرحيم بن زيد العمى، عن أبيه، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم). وإنما أتى ضعف هذا الحديث من قبل عبد الرحيم، لأن أهل العلم سكتوا عن الرواية لحديثه. والكلام أيضا منكر عن النبي صلى الله عليه وسلم) ولم يثبت، والنبي صلى الله عليه وسلم) لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه، هذا نص كلام البزار. قال ابن معين: عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشيء. وقال البخاري: هو متروك، رواه أيضا حمزة الجزري، وحمزة
511

هذا ساقط متروك. ونصبوا تبيانا على الحال. ويجوز أن يكون مفعولا من جله. وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى هو متعلق بهدى ورحمة.
2 (* (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتآء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم
512

لعلكم تذكرون * وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الا يمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتى نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هى أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبين لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفوه) *: عن ابن عباس في حديث فيه طول منه: إن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم) وقتا فقال له: عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال: (وما رأيتني فعلت؟) قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك قال: (أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس) قال: فماذا قال لك: قال لي: * (*) *: عن ابن عباس في حديث فيه طول منه: إن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم) وقتا فقال له: عثمان ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال: (وما رأيتني فعلت؟) قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك قال: (أو فطنت لذلك؟ أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس) قال: فماذا قال لك: قال لي: * (إن الله يأمر بالعدل) * الآية. قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، فأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم) لما ذكر الله تعالى. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضا ونفلا وأخلاقا وآدابا. والعدل فعل كل مفروض من عقائد، وشرائع، وسير مع الناس في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: العدل هو الواجب، لأن الله عز وجل عدل فيه على عباده، فجعل ما
فرضه عليهم واقعا تحت طاقتهم. والإحسان الندب، وإنما علق أمره بهم جميعا، لأن الفرض لا بد أن يقع فيه تفريط فيجبره الندب انتهى. وفي قوله: تحت طاقتهم، نزغة الاعتزال. وعن ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، والإحسان أداء الفرائض. وعنه أيضا أن العدل هو الحق. وعن سفيان بن عيينة: أنه أسوأ السريرة والعلانية في العمل. وذكر الماوردي أنه القضاء بالحق قال تعالى: * (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * وقال أبو سليمان: العدل في لسان العرب الانصاف. وقيل: خلع الأنداد. وقيل: العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال. وإيتاء ذي القربى: هو صلة الرحم، وهو مندرج تحت الإحسان، لكنه نبه عليه اهتمامه به وحضا على الإحسان إليه. والفحشاء: الزنا، أو ما شنعته ظاهرة من المعاصي. وفاعلها أبدا مستتر بها، أو القبيح من فعل أو قول، أو البخل، أو موجب الحد في الدنيا والعذاب في الآخرة، أو مجاوزة حدود الله أقوال، أولها لابن عباس. والمنكر: الشرك عن مقاتل، أو ما وعد عليه بالنار عن ابن السائب، أو مخالفة السريرة للعلانية عن ابن عيينة، أو ما لا يوجب الحد في الدنيا لكن العذاب في الآخرة. أو ما تنكره العقول أقوال، ويظهر أنه أعم من الفحشاء لاشتماله على المعاصي والرذائل والبغي: التطاول بالظلم والسعاية فيه، وهو داخل في المنكر، ونبه عليه اهتماما باجتنابه. وجمع في المأمور به والمنهى عنه بين ما يجب ويندب، وما يحرم ويكره، لاشتراك ذلك في قدر مشترك وهو الطلب في الأمر، والترك في النهي.
وقال أبو عبد الله الرازي: أمر بثلاثة، ونهى عن ثلاثة. فالعدل التوسط بين الإفراط والتفريط، وذلك في العقائد وأعمال الرعاة. فقال ابن عباس: العدل لا إله إلا الله، وهو إثبات الإله الواحد، فليس تعطيلا محضا ولا إثبات أكثر من إله. وإثبات كونه عالما قادرا واجب الصفات فليس نفيا للصفات، ولا إثبات صفة حادثة متغيرة. وكون فعل العبد بواسطة قدرته تعالى، والداعية التي جعلها فيه فليس جبرا محضا، ولا استقلالا بالفعل. وكونه تعالى يخرج من النار من دخلها من أهل التوحيد، فليس إرجاء ولا تخليدا بالمعصية. وأما أعمال الرعاة فالتكاليف اللازمة لهم، فليس قولا بأنه لا تكليف، ولا قولا بتعذيب النفس واجتناب ما يميل الطبع إليه من: أكل الطيب، والتزوج، ورمى نفسه من شاهق، والقصاص، أو الدية، أو العفو، فليس تشديدا في تعيين القصاص كشريعة موسى عليه السلام، ولا عفوا حتما كشريعة عيسى عليه السلام، وتجنب الحائض في اجتناب وطئها فقط فليس اجتنابا مطلقا كشريعة موسى عليه السلام، ولا حل وطئها حالة الحيض كشريعة عيسى عليه السلام، والاختتان فليس إبقاء للقلفة ولا قطعا للآلة كما ذهب إليه المانوية. وقال تعالى: * (وكذالك جعلناكم أمة وسطا) * * (والذين إذا أنفقوا) * ولا تجعل الآيتين. ومن المشهور قولهم بالعدل: قامت السماوات والأرض، ومعناه: إن مقادير العناصر لو لم تكن متعادلة، وكان بعضها أزيد، لغلب الازدياد وانقلبت الطبائع. فالشمس لو
513

قربت من العالم لعظمت السخونة واحترق ما فيه، ولو زاد بعدها لاستوى الحر والبرد. وكذا مقادير حركات الكواكب، ومراتب سرعتها، وبطئها. والإحسان: الزيادة على الواجب من الطاعات بحسب الكمية والكيفية، والدواعي، والصوارف، والاستغراق في شهود مقامات العبودية والربوبية. ومن الإحسان الشفقة على الخلق، وأصلها صلة الرحم، والمنهى عنه ثلاثة. وذلك أنه أودع في النفس البشرية قوى أربعة: الشهوانية وهي تحصيل اللذات، والغضبية وهي: إيصال الشر، ووهمية: وهي شيطانية تسعى في الترفع والتراوس على الناس. فالفحشاء ما نشأ عن القوة الشهوانية الخارجة عن أدب الشريعة، والمنكر ما نشأ عن الغضبية، والبغي ما نشأ عن الوهمية انتهى. ما تخلص من كلامه عفا الله عنه. ولما أمر تعالى بتلك الثلاث، ونهى عن تلك الثلاث قال: يعظكم به، أي بما ذكر تعالى من أمر ونهي، والمعنى: ينبهكم أحسن تنبيه لعلكم تذكرون أي: تتنبهون لما أمرتم به ونهيتم عنه، وعقد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه مما يوافق الشريعة. وقال الزمخشري: هي البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم) * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) *. وكأنه لحظ ما قيل أنها نزلت في الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم) على الإسلام، رواه عن بريدة. وقال قتادة ومجاهد: فيما كان من تحالف الجاهلية في أمر بمعروف أو نهي عن منكر. وقال ميمون بن مهران: الوفاء لمن عاهدته مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله. وقال الأصم: الجهاد وما فرض في الأموال من حق. وقيل: اليمين بالله، ولا تنقضوا العهود الموثقة بالإيمان، نهى عن نقضها تهمما بها بعد توكيدها أي: توثيقها باسم الله وكفالة الله وشهادته، ومراقبته، لأن الكفيل مراع لحال المكفول به. ولا تكونوا أي: في نقض العهد بعد توكيده بالله كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثا، وهو ما يحل فتله. والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به. وقال السدي، وعبد الله بن كثير: هي امرأة حمقاء كانت بمكة. وعن الكلبي ومقاتل: هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم، تلقب بجفراء، اتخذت مغزلا قدر ذراع، وصنارة مثل أصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن. وعن مجاهد: هذا فعل نساء أهل نجد، تنقض إحداهن غزلها ثم تنفشه، وتخلطه بالصوف فتغزله. وقال ابن الأنباري: ريطة بنت عمرو المرية، ولقبها الجفراء من أهل مكة، وكانت معروفة عند المخاطبين. والظاهر أن المراد بقوله: من بعد قوة أي: شدة حدثت من تركيب قوى الغزل. ولو قدرناها واحدة القوى لم تكن تنتقض أنكاثا. والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه. وقال مجاهد: المعنى من بعد إمرار قوة. والدخل: الفساد والدغل، جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر، وذلك أن المحلوف له مطمئن، فيمكن الحالف ضره بما يريده. قالوا: نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عددا حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل. وقيل: أن تكونوا أنتم أزيد خبرا، فأسند إلى أمة، والمراد المخاطبون. وقال ابن بحر: الدخل والداخل في الشيء لم تكن منه، ودخلا مفعول ثان. وقيل: مفعول من أجله، وأن تكون أي: بسبب أن تكون وهي أربى مبتدأ وخبر. وأجاز الكوفيون أن تكون هي عمادا يعنون فضلا، فيكون أربى في موضع نصب، ولا يجوز ذلك عند البصريين لتنكير أمة. والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي: بسبب كون أمة أربى من أمة يختبركم بذلك. قال الزمخشري: لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله، وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم)، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم وليبينن لكم: إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام انتهى. وقيل: يعود على الوفاء بالعهد. وقال ابن جبير، وابن السائب، ومقاتل: يعود على الكثرة. قال ابن الأنباري: لما كان تأنيثها غير حقيقي حمل على معنى التذكير، كما حملت الصيحة على الصياح
514

* (ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة ولاكن يضل من يشآء ويهدى من يشآء ولتسئلن عما كنتم تعملون تعملون * ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) *: هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة، ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له، وذلك لحق الملك لا يسأل عما يفعل. ولو شاء لكانوا كلهم على طريق واحدة، إما هدى، وإما ضلالة، ولكنه فرق، فناس للسعادة، وناس للشقاوة. فخلق الهدى والضلال، وتوعد بالسؤال عن العمل، وهو سؤال توبيخ لا سؤال تفهم، وسؤال التفهم هو المنفى في آيات. ومذهب المعتزلة أن هذه المشيئة مشيئة قهر. قال العسكري: المراد أنه قادر على أن يجمعكم على الإسلام قهرا، فلم يفعل ذلك، وخلقكم ليعذب من يشاء على معصيته، ويثيب من يشاء على طاعته، ولا يشاء شيئا من ذلك إلا أن يستحقه. ويجوز أن يكون المعنى: أنه لو شاء خلقكم في الجنة، ولكن لم يفعل ذلك ليثيب المطيعين منكم، ويعذب العصاة.
ثم قال: ولتسألن عما كنتم تعملون يعني: سؤال المحاسبة والمجازاة. وفيه دليل على أن الإضلال في الآية العقاب، ولو كان الإضلال عن الدين لم يكن لسؤاله إياهم معنى. وقال الزمخشري: أمة واحدة حنيفة مسلمة على طريق الإلجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، ولكن الحكمة اقتضت أن يضل من يشاء، وهو أن يخذل من علم أنه يختار الكفر ويصمم عليه، ويهدي من يشاء وهو أن يلطف بمن علم الله أنه يختار الإيمان، يعني: أنه بنى الأمر على الاختيار، وعلى ما يستحق به اللطف والخذلان والثواب والعقاب، ولم ينبه على الإجبار الذي لا يستحق به شيء من ذلك، وحققه بقوله: ولتسألن عما كنتم تعملون. ولو كان هذا المضطر إلى الضلال والاهتداء، لما أثبت لهم عملا يسألون عنه انتهى. قالوا: كرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا تهمما بذلك، ومبالغة في النهي عنه لعظم موقعه في الدين. قال ابن عطية: وتردده في معاملات الناس. وقال الزمخشري: تأكيدا عليهم، وإظهار العظم ما يرتكب منه انتهى. وقيل: إنما كرر لاختلاف المعنيين: لأن الأول نهى فيه عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة، وهنا نهي عن الدخل في الإيمان التي يراد بها اقتطاع حقوق، فكأنه قال: دخلا بينكم لتتوصلوا بها إلى قطع أموال المسلمين، وأقول: لم يتكرر النهي عن اتخاذ الأيمان دخلا، وإنما سبق إخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشيء خاص وهو: أن تكون أمة هي أربى من أمة. وجاء النهي بقوله: ولا تتخذوا، استئناف إنشاء عن اتخاذ الإيمان دخلا على العموم، فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة، وقطع الحقوق المالية، وغير ذلك. وانتصب فتزل على جواب النهي، وهو استعارة لمن كان مستقيما ووقع في أمر عظيم وسقط، لأن القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى حال شر. وقال كثير: فلما توافينا ثبت وزلت. قال الزمخشري: فنزل أقدامكم عن محجة الإسلام بعد ثبوتها عليها. فإن قلت: لم وجدت القدم ونكرت؟ قلت: لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة انتهى؟ ونقول: الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع كان الإسناد معتبرا فيه الجمعية، وإذا لوحظ كل فرد فرد كان الإسناد مطابقا للفظ الجمع كثيرا، فيجمع ما أسند إليه، ومطابقا لكل فرد فرد فيفرد كقوله: * (وأعتدت لهن) * أفرد متكأ لما كان لوحظ في قوله لهن معنى لكل واحدة، ولو جاء مرادا به الجمعية أو على الكثير في الوجه الثاني لجمع المتكأ، وعلى هذا المعنى ينبغي أن يحمل قول الشاعر:
515

* فإني وجدت الضامرين متاعهم
*
يموت ويفنى فارضخي من وعائيا
*
أي: رأيت كل ضامر. ولذلك أفرد الضمير في يموت ويفنى. ولما كان المعنى هنا: لا يتخذ كل واحد منكم، جاء فنزل قدم مراعاة لهذا المعنى ثم قال: وتذوقوا، مراعاة للمجموع، أو للفظ الجمع على الوجه الكثير. إذا قلنا: إن الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرضت للنهي عن اتخاذ الأيمان دخلا باعتبار المجموع وباعتبار كل فرد فرد، ودل على ذلك بإفراد قدم وبجمع الضمير في: وتذوقوا. وما مصدرية في بما صددتم، أي: بصدودكم أو بصدكم غيركم، لأنهم لو نقضوا الأيمان وارتدوا لاتخذ نقضها سنة لغيرهم فيسبون بها، وذوق السوء في الدنيا. ولكم عذاب عظيم أي: في الآخرة. والسوء: ما يسوءهم من قتل، ونهب، وأسر، وجلاء، وغير ذلك مما يسوء.
قال ابن عطية: وقوله صددتم عن سبيل الله، يدل على أن الآية فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى هذا فسر الزمخشري قال: لأنهم قد نقضوا أيمان البيعة. ولا يدل على ذلك لخصوصه، بل نقض الأيمان في البيعة مندرج في العموم. ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا، هذا نهي عن نقض ما بين الله تعالى والعبد لأخذ حطام من عرض الدنيا. قال الزمخشري: كان قوم ممن أسلم بمكة زين لهم الشيطان لجزعهم مما رأوا من غلبة قريش واستضعافهم المسلمين وإيذائهم لهم، ولما كانوا يعدونهم إن رجعوا من المواعيد أن ينقضوا ما بايعوا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فثبتهم الله. ولا تشتروا: ولا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسول الله ثمنا قليلا عرضا من الدنيا يسيرا، وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم إن رجعوا أن ما عند الله من إظهاركم وتغنيمكم ومن ثواب الآخرة خير لكم. وقال ابن عطية: هذه آية نهي عن الرشا وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الآخذ فعله، أو فعل ما يجب عليه تركه، فإن هذه هي التي عهد الله إلى عبادة فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة، بأن هذه تنفد وتنقضي عن الإنسان، وينقضي عنها، والتي في الآخرة باقية دائمة. ودل قوله: وما عند الله باق، على أن نعيم الجنة لا ينقطع، وفي ذلك حجة على جهم بن صفوان إذ زعم أن نعيم الجنة منقطع. وقرأ عاصم، وابن كثير: ولنجزين بالنون، وباقي السبعة بالياء. وصبروا: أي جاهدوا أنفسهم على ميثاق الإسلام وأذى الكفار، وترك المعاصي، وكسب المال بالوجه الذي لا يحل بأحسن ما كانوا يعملون. قيل: من التنفل بالطاعات، وكانت أحسن لأنها لم يحتم فعلها
، فكان الإنسان يأتي بالتنفلات مختارا غير ملزوم بها. وقيل: ذكر الأحسن ترغيبا في عمله، وإن كانت المجازاة على الحسن والأحسن. وقيل: الأحسن هنا بمعنى الحسن، فليس أفعل التي للتفضيل. والذي يظهر أن المراد بالأحسن هنا الصبر أي: وليجزين الذين صبروا بصبرهم أي: بجزاء صبرهم، وجعل الصبر أحسن الأعمال لاحتياج جميع التكاليف إليه، فالصبر هو رأسها، فكان الأحسن لذلك. ومن صالحة للمفرد والمذكر وفروعهما. لكن يتبادر إلى الذهن الإفراد والتذكير، فبين بالنوعين ليعم الوعد كليهما. وهو مؤمن: جملة حالية، والإيمان شرط في العمل الصالح مخصص لقوله: * (أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * أو يراد بمثقال ذرة من إيمان، كما جاء في من يخرج من النار من عصاة المؤمنين، والظاهر من قوله تعالى: فلنحيينه حياة طيبة، أن ذلك في الدنيا وهو قول الجمهور؛ ويدل عليه قوله: ولنجزينهم أجرهم يعني في الآخرة، وقال الحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وابن زيد: ذلك في الجنة. وقال شريك: في القبر. وقال علي، ووهب بن منبه، وابن عباس، والحسن في رواية عنهما هي: القناعة، وعن ابن عباس والضحاك: الرزق الحلال، وعنه أيضا: السعادة. وقال عكرمة: الطاعة. وقال قتادة: الرزق في يوم بيوم، وقال إسماعيل بن أبي خالد: الرزق الطيب والعمل الصالح، وقال أبو بكر الوراق: حلاوة الطاعة، وقيل:
516

العافية والكفاية، وقيل: الرضا بالقضاء، ذكرهما الماوردي. وقال الزمخشري: المؤمن مع العمل الصالح إن كان موسرا فلا مقال فيه، وإن كان معسرا فمعه ما يطيب عيشه، وهو القناعة والرضا بقسمة الله تعالى. والفاجر إن كان معسرا فلا إشكال في أمره، وإن كان موسرا فالحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه. وقال ابن عطية: طيب الحياة للصالحين بانبساط نفوسهم ونيلها وقوة رجائهم، والرجاء للنفس أمر ملذ، وبأنهم احتقروا الدنيا فزالت همومها عنهم، فإن انضاف إلى هذا مال حلال وصحة وقناعة فذاك كمال، وإلا فالطيب فيما ذكرنا راتب. وعاد الضمير في فلنحيينه على لفظة من مفردا، وفي ولنجزينهم على معناها من الجمع، فجمع. وروي عن نافع: وليجزينهم بالياء بدل النون، التفت من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة. وينبغي أن يكون على تقدير قسم ثان لا معطوفا على فلنحيينه، فيكون من عطف جملة قسمية على جملة قسمية، وكلتاهما محذوفتان. ولا يكون من عطف جواب على جواب، لتغاير الإسناد، وإفضاء الثاني إلى إخبار المتكلم عن نفسه بإخبار الغائب، وذلك لا يجوز. فعلى هذا لا يجوز: زيد قلت والله لأضربن هندا ولينفينها، يريد ولينفيها زيد. فإن جعلته على إضمار قسم ثان جاز أي: وقال زيد لينفينها لأن، لك في هذا التركيب أن تحكى لفظه، وأن تحكى على المعنى. فمن الأول: * (وليحلفن * بالله إن أردنا إلا * الحسنى) * ومن الثاني: * (يحلفون بالله ما قالوا) * ولو جاء على اللفظ لكان ما قلنا.
* (فإذا قرأت القرءان فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون * وإذا بدلنآ ءاية مكان ءاية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين ءامنوا وهدى وبشرى للمسلمين * ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه أعجمى وهاذا لسان عربى مبين) *: لما ذكر تعالى: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء) * وذكر أشياء مما بين في الكتاب، ثم ذكر قوله: * (من عمل صالحا) * ذكر ما يصون به القارئ قراءته من وسوسة الشيطان ونزغه، فخاطب السامع بالاستعادة منه إذا أخذ في القراءة. فإن كان الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم) لفظا فالمراد أمته، إذ كانت قراءة القرآن من أجل الأعمال الصالحة كما ورد في الحديث: * (ءان * ثواب * فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * والظاهر بعقب الاستعاذة. وقد روى ذلك بعض الرواة عن حمزة، وروي عن ابن سيرين أنه قال: كلما قرأت الفاتحة حين تقول: آمين، فاستعذ. وروي عن أبي هريرة، ومالك، وداود. تعقبها القراءة كما روي عن حمزة والجمهور: على ترك هذا الظاهر وتأويله بمعنى: فإذا أردت القراءة. قال الزمخشري: لأن الفعل يوجد عند القصد والإرادة بغير فاصل وعلى حسبه، فكان بسبب قوى وملابسة ظاهرة كقوله: * (يأيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى) * وكقوله: (إذا أكلت فسم الله) وقال ابن عطية: فإذا وصلة بين الكلامين والعرب تستعملها في مثل هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن فاستعذ، أمر بالاستعاذة. فالجمهور على الندب، وعن عطاء الوجوب. والظاهر: طلب الاستعاذة عند القراءة مطلقا، والظاهر: أن الشيطان المراد به إبليس وأعوانه. وقيل: عام في كل متمرد عات من جن وإنس، كما قال شياطين الإنس والجن. واختلف في كيفية الاستعاذة، والذي صار إليه الجمهور من القراء وغيرهم واختاروه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لما روى عبد الله بن مسعود، وأبو هريرة، وجبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم): (أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه) ونفى تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين. والسلطان هنا التسليط والولاية، والمعنى: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته كما قال تعالى: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) * وكما أخبر تعالى عنه
517

فقال في قصة أوليائه: * (وما كان لى عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لى) * وقيل: المراد بالسلطان الحجة، وظاهر الإخبار انتفاء سلطنته على المؤمنين مطلقا. وقيل: ليس له عليهم سلطان لاستعاذتهم منه. وقيل: ليس له قدرة أن يحملهم على ذنب، والضمير في به عائد على بهم، وقيل: على الشيطان، وهو الظاهر لاتفاق الضمائر والمعنى: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، أو تكون الباء للسبية، والأمر بالاستعاذة يقتضي أنها تصرف كيد الشيطان، كأنها متضمنة التوكل على الله والانقطاع إليه.
ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب نبيينا لكل شيء، وأمر بالاستعاذة ند قراءته، ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين، وما يلقيه إليهم من الأباطيل، فألقى أليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية. وتقدم الكلام في النسخ في البقرة. والظاهر أن هذا التبديل رفع آية لفظا ومعنى، ويجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ. ووجد الكفار بذلك طعنا في الدين، وما علموا أن المصالح تختلف باختلاف الأوقات والأشخاص، وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة. وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه، فمرجع علم ذلك إليه، وهو على حسب الحوادث والمصالح، وهذه حكمة إنزاله شيئا فشيئا، وهذه
الجملة اعتراض بين الشرط وجوابه. قيل: ويحتمل أن يكون حالا. وبالغوا في نسبة الافتراء للرسول بلفظ إنما، وبمواجهة الخطاب، وباسم الفاعل الدال على الثبوت، وقال: بل أكثرهم، لأن بعضهم يعلم ويكفر عنادا. ومفعول لا يعلمون محذوف لدلالة المعنى عليه أي: لا يعلمون أن الشرائع حكم ومصالح. هذه الآية دلت على وقوع نسخ القرآن بالقرآن. وروح القدس: هنا هو جبريل عليه السلام بلا خلاف، وتقدم لم سمي روح القدس. وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفا للرسول صلى الله عليه وسلم) باختصاص الإضافة، وإعراضا عنهم، إذ لم يضف إليهم. وبالحق حال أي: ملتبسا بالحق سواء كان ناسخا أو منسوخا، فكله مصحوب بالحق لا يعتريه شيء من الباطل. وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شيء منه لكونه نسخ، بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم، لعلمهم أنه جميعه من عند الله، لصحة إيمانهم واطمئنان قلوبهم يعلمون أنه حكيم، وأن أفعاله كلها صادرة عن حكمة، فهي صواب كلها. ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم وتزلزل عقائدهم وضلالهم. وقرئ: ليثبت مخففا من أثبت. قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت انتهى. وتقدم الرد عليه في نحو هذا، وهو قوله: * (لتبين لهم الذى اختلفوا فيه) * وهدى ورحمة في هذه السورة. ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل، لأنه مجرور، فيكون وهدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد، إذ التقدير: لإحسان إلى زيد. وأجاز أبو البقاء أن يكون ارتفاع هدى وبشرى على إضمار مبتدأ أي: وهو هدى وبشرى. ولما نسبوه عليه السلام للافتراء وهو الكذب على الله، لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا ذلك الافتراء الذي نسبوه هو من تعليم بشر إياه، فليس هو المختلق بل المختلق غيره، وهو ناقل عنه. وظاهر قولهم: إنما أنت مفتر. إن معناه: مختلف الكذب، وهو ينافي التعلم من البشر، فيحتمل أن يكون قوله: مفتر، في نسبة ذلك إلى الله، ويحتمل أن يكونوا فيه طائفتين: طائفة ذهبت إلى أنه هو المفتري، وطائفة أنه يتعلم من البشر. ويعلم مضارع اللفظ ومعناه: المضي أي: ولقد علمنا، وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين. فقيل: هو حبر غلام ورمى كان لعامر بن الحضرمي، وقيل: عائش أو يعيش، وكان صاحب كتب مولى حويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه قاله: الفراء، والزجاج. وقيل: أبو فكيهة أعجمي مولى لمرأة بمكة. قيل: واسمه يسار وكان يهوديا قاله: مقاتل، وابن جبير، إلا أنه لم يقل كان يهوديا. وقال ابن زيد: كان رجلا حدادا نصرانيا اسمه عنس. وقال حصين بن عبد الله بن مسلم: كان لنا غلامان نصرانيان من أهل عين التمر، يسار وحبر، كانا يقرآن كتبا لهما بلسانهم، وكان صلى الله عليه وسلم) يمر بهما فيسمع قراءتهما. قيل: وكانا حدادين يصنعان السيوف، فقال المشركون: يتعلم منهما فقيل لأحدهما ذلك
518

فقال: بل هو يعلمني، فقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعلمه الإسلام فقالت قريش: هذا يعلم محمدا من جهة الأعاجم. وقال الضحاك: الإشارة إلى سلمان الفارسي، وضعف هذا من جهة أن سلمان إنما أسلم بعد الهجرة، وهذا السورة مكية إلا ما نبه عليه أنه مدني. واللسان: هنا اللغة. وقرأ الحسن: اللسان الذي بتعريف اللسان بأل، والذي صفته. وقرأ حمزة والكسائي: يلحدون من لحد ثلاثيا، وهي قراءة عبد الله بن طلحة، والسلمي، والأعمش، ومجاهد، وقرأ باقي السبعة، وابن القعقاع: بضم الياء وكسر الحاء من ألحد رباعيا وهما بمعنى واحد. قال الزمخشري: يقال ألحد القبر ولحده، فهو ملحد وملحودا ذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه، ثم استعير لكل إمالة عن استقامة فقالوا: ألحد فلان في قوله: وألحد في دينه لأنه أمال دينه عن الأديان كلها، لم يمله من دين إلى دين. والمعنى: لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة إليه لسان أعجمي غير بين، وهذا القرآن لسان عربي مبين ذو بيان وفصاحة، ردا لقولهم وإبطالا لطعنهم انتهى. وظاهر قول الزمخشري: إن اللسان في الموضعين اللغة. وقال ابنعطية: وهذا إشارة إلى القرآن، والتقدير: وهذا سرد لسان أو نطق لسان، فهو على حذف مضاف، وهذا على أن يجعل اللسان هنا الجارة. واللسان في كلام العرب اللغة، ويحتمل أن يراد في هذه الآية. وقال الكرماني: المعنى أنتم أفصح وأبلغهم وأقدرهم على الكلام نظما ونثرا، وقد عجزتم وعز جميع العرب، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟
قال الزمخشري: (فإن قلت): الجملة التي هي قوله لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، ما محلها؟ (قلت): لا محل لها، لأنها مستأنفة جواب لقولهم، ومثله قول الله: أعلم، حيث يجعل رسالاته بعد قوله: * (وإذا جاءتهم ءاية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) * انتهى. ويجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الإنكار عليهم أي: يقولون ذلك والحالة هذه أي: علمهم بأعجمية هذا البشر وإبانة عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة، كما تقول: تشتم فلانا وهو قد أحسن إليك أي: علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه. وإنما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال، لأن من مذهبه أن مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واو شاذ، وهو مذهب مرجزوح جدا، ومجئ ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب، وهو مذهب تبع فيه الفراء، وأما الله أعلم فظاهر قوله فيها، لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال، لأن ذا الحال هو ضمير قالوا، وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون، والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الفاعل في يلحدون، فالجملة وإن عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.
* (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ولهم عذاب أليم * إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون * من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولاكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب (سقط: من الله وله عذاب عظيم، ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين، أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون، لا جرم أنهم في
519

الآخرة هم الخاسون، ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم)) *: لما ذكر تعالى نسبتهم إلى الافتراء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، وأن ما أتى به من عند الله إنما يعلمه إياه بشر، كان ذلك تسجيلا عليهم بانتفاء الإيمان، فأخبر تعالى عنهم أنهم لا يهديهم الله أبدا إذ كانوا جاحدين آيات الله، وهو ما أتى به الرسول من المعجزات وخصوصا القرآن، فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله عليه باب الهداية. وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم
لهم، ومعنى لا يهديهم: لا يخلق الإيمان في قلوبهم. وهذا عام مخصوص، فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله تعالى. وقال الزمخشري: لا يهديهم الله لا يلطف بهم، لأنهم من أهل الخذلان في الدنيا والعذاب في الآخرة، لا من أهل اللطف والثواب انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عطية: المفهوم من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخبرتهمما بتقبيح فعلهم والتشنيع بخطئهم، وذلك كقوله: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * والمراد ما ذكرناه، فكأنه قال: إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله انتهى. وقال القاضي: أقوى ما قيل في ذلك لا يهديهم إلى طريق الجنة، ولذلك قال بعده: ولهم عذاب أليم، والمراد أنهم لما تركوا الإيمان بالله لا يهديهم الله إلى الجنة بل يسوقهم إلى النار. وقال العسكري: يجوز أن يكون المعنى أنهم إن لم يؤمنوا بهذه الآيات لم يهتدوا، والمراد بقوله: لا يهديهم الله أي لا يهتدون، وإنما يقال: هدى الله فلانا على الإطلاق إذا اهتدى هو، وأما من لم يقبل الهدى فإنه يقال: إن الله هداه فلم يهتد، كما قال: * (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) * ثم رد تعالى قولهم: * (إنما أنت مفتر) * بقوله: إنما يفتري الكذب، أي إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن، لأنه يترقب عقابا عليه. ولما كان في كلامهم إنما وهو يقتضي الحصر عند بعضهم، جاء الرد عليهم بإنما أيبضا، وجاء بلفظ يفتري الذي يقتضي التجدد، ثم علق الحكم على الوصف المقتضي للافتراء وهو: انتفاء الإيمان، وختم بقوله: وأولئك هم الكاذبون. فاقتضى التوكيد البالغ والحصر بلفظ الإشارة، والتأكيد بلفظ هم، وإدخال أل على الكاذبون، وبكونه اسم فاعل يقتضي الثبوت والدوام، فجاء يفتري يقتضي التجدد، وجاء الكاذبون يقتضي الثبوت والدوام. وقال الزمخشري: وأولئك إشارة إلى قريش هم الكاذبون، هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون. أو إلى الذين لا يؤمنون أي: وأولئك هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب. أو أولئك هم الكاذبون عادتهم الكذب لا يبالون به في كل شيء، لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين. أو أولئك هم الكاذبون في قولهم: إنما أنت مفتر انتهى. والوجه الذي بدأ به بعيد، وهو أن وأولئك إشارة إلى قريش. والظاهر أن من شرطية في موضع رفع على الابتداء، وهو استئناف إخبار لا تعلق له بما قبله من جهة الإعراب. ولما كان الكفر يكون باللفظ وبالاعتقاد، استثنى من الكافرين من كفر باللفظ وقلبه مطمئن بالإيمان، ورخص له في النطق بكلمة الكفر إذ كان قلبه مؤمنا، وذلك مع الإكراه. والمعنى: إلا من أكره على الكفر، تلفظ بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما بعده عليه تقديره: الكافرون بعد الإيمان غير المكرهين، فعليهم غضب. ويصح أن يكون الاستثناء من ما تضمنه جواب الشرط المحذوف أي: فعليهم غضب، إلا من أكره فلا غضب عليه ولا عذاب، ولكن من شرح وكذا قدره الزمخشري أعني الجواب قبل الاستثناء في قول من جعل من شرطا. وقال ابن عطية: وقالت فرقة من في قوله من كفر ابتداء، وقوله: من شرح تخصيص منه، ودخل الاستثناء لإخراج عمار وشبهه. ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن وقوله: فعليهم، خبر عن من الأولى والثانية، إذ هو واحد بالمعنى لأن الإخبار في قوله: من كفر، إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر انتهى. وهذا وإن كان كما ذكر فهاتان جملتان شرطيتان، وقد فصل
520

بينهما بأداة الاستدراك، فلا بد لكل واحدة منهما من جواب على انفراده لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أحرى على صناعة الإعراب. وقد ضعفوا مذهب أبي الحسن في ادعائه أن قوله: * (فسلام لك من أصحاب اليمين) * وقوله: * (فروح وريحان) * جواب لأما، ولأن هذا وهما أدانا شرط، إحداهما تلي الأخرى، وعلى كون من في موضع رفع على الابتداء، يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا، ويجوز أن تكون موصولة وما بعدها صلتها، والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه، كما ذكرنا في حذف جواب الشرط. إلا أن من الثانية لا يجوز أن تكون شرطا حتى يقدر قبلها مبتدأ لأن من وليت لكن فيتعين إذ ذاك أن تكون من موصولة، فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن متى يسترقد القوم أرقد
أي: ولكن أنا متى يسترقد القوم أرقد. وكذلك تقدر هنا، ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي: منهم. وأجاز الحوفي والزمخشري: أن تكون بدلا من الذين لا يؤمنون، ومن الكاذبون. ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلا من الكاذبون، لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله. وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من أولئك، فإذا كان بدلا من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه، والمعنى: إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. وإذا كان بدلا من الكاذبون فالتقدير: وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه، وإذا كان بدلا من أولئك فالتقدير: ومن كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون.
وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة. لأن الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن، وسواء كان ممن كفر بعد الإيمان أنه كان ممن لم يؤمن قط، بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب. وأما الثاني فيؤول المعنى إلى ذلك، إذ التقدير: وأولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث فكذلك. إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبر عنهم بأنهم الكاذبون. وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم انتهى. وهذا أيضا بعيد، والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب، بل من حيث المعنى. والمناسبة وفي قوله: إلا من أكره دليل على أن من فعل المكره لا يترتب عليه شيء، وإذا كان قد سومح لكلمة الكفر أو فعل ما يؤدي إليه، فالمسامحة بغيره من المعاصي أولى. وقد تكلموا في كيفية الإكراه المبيح لذلك، وفي تفصيل الأشياء التي يقع الإكراه فيها، وذلك كله مذكور في كتب الفقه. والمكرهون على الكفر المعذبون على الإسلام: خباب، وصهيب، وبلال، وعمار، وأبواه ياسر وسمية، وسالم، وحبر، عذبوا فأجابهم عمار وحبر باللفظ فخلى سبيلهما، وتمادى الباقون على الإسلام فقتل ياسر وسمية، وهما أول قتيل في الإسلام، وعذب بلال وهو يقول: (أحد أحد) وعذب خباب بالنار فما أطفأها إلا ودك ظهره. وجمع الضمير في فعليهم على معنى من، وأفرد في شرح على لفظها. والظاهر أن ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي: كائن لهم بسبب
استحبابهم الدنيا على الآخرة. وقال الزمخشري: واستحقاقهم خذلان الله بكفرهم انتهى. وهي نزغة اعتزالية. والضمير في بأنهم عائد على من في من شرح: ولما فعلوا فعل من استحب، ألزموا ذلك وإن كانوا غيره مصدقين بآخره، لكن من حيث أعرضوا
521

عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره. وقوله: استحبوا، هو تكسب منهم علق به العقاب، وأن الله لا يهدي إشارة إلى اختراع الله الكفر في قلوبهم، فجمعت الآية بين الكسب والاختراع، وهذا عقيدة أهل السنة. وقيل: ذلك إشارة إلى الارتداد والإقدام على الكفر، لأجل أنهم رجحوا الدنيا على الآخرة، ولأنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان. وتقدم الكلام على الطبع على القلوب والسمع والأبصار والختم عليها. وأولئك هم الغافلون: قال ابن عباس: عن ما يراد منهم في الآخرة. وقال الزمخشري: الكاملون في الغفلة الذين لا أحد أغفل منهم، لأن الغفلة عن تدبر العواقب هي غاية الغفلة ومنتهاها. ولما كان الإسناد ليكتسب بالطاعات سعادة الآخر، فعمل على عكس ذلك من المعاصي الكفر وغيره عظم خسرانه فقيل فيهم: هم الخاسرون ولا غيرهم. ومن أخسر ممن اتصف بتلك الأوصاف السابقة من كينونة غضب الله عليهم، والعذاب الأليم، واستحباب الدنيا، وانتفاء هدايتهم، والأخبار بالطبع وبغفلتهم. ولما ذكر تعالى حال من كفر بعد الإيمان، وحال من أكره، ذكر حال من هاجر بعد ما فتن. قال ابن عطية: وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا. وقال ابن عباس: نزلت فكتب بها المسلمون إلى من كان أسلم بمكة أن الله قد جعل لكم مخرجا، فخرجوا، فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا وقتل من قتل، فعلى هذا السبب يكون جهادهم مع الرسول على الإسلام. وروي أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت حينئذ، فعنى بالجهاد جهادهم لمتبعيهم. وقال ابن إسحاق: نزلت في عمار، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد. قال ابن عطية: وذكر عمار في هذا غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من باب ممن شرح بالكفر صدرا أفتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية. وقال عكرمة والحسن: نزلت في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه يقول: من بعد ما فتنهم الشيطان. وقال الزمخشري: ثم إن ربك دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك، وهم عمار وأصحابه. وللذين عند الزمخشري في موضع خبران قال: ومعنى إن ربك لهم إنه لهم لا عليهم، بمعنى أنه وليهم وناصرهم، لا عدوهم وخادلهم كما يكون الملك للرجل: لا عليه، فيكون محميا منفوعا غير مضرور انتهى. وقوله: منفوعا اسم مفعول من نفع، وهو قياسه لأنه متعد ثلاثي. وزعم الأهوازي النحوي أنه لا يستعمل من نفع اسم مفعول، فلا يقال منفوع وقفت له عليه في شرحه موجز الرماني. وقال أبو البقاء: خبر أن الأولى قوله: إن ربك لغفور، وأن الثانية واسمها تكرير للتوكيد انتهى. وإذا كانت أن الثانية واسمها تكريرا للتوكيد كما ذكر، فالذي يقتضيه صناعة العربية أن يكون خبر أن الأولى هو قوله: لغفور، ويكون للذين متعلقا بقوله: لغفور، أو برحيم على الأعمال، لأن إن ربك الثانية لا يكون لها طلب لما بعدها من حيث الإعراب. كما أنك إذا قلت: قام قام زيد، فزيد إنما هو مرفوع بقام الأولى، لأن الثانية ذكرت على سبيل التوكيد للأولى. وقيل: لا خبر لأن الأولى في اللفظ لأن خبر الثانية أغنى عنه انتهى. وهذا ليس بجيد، لأنه ألغى حكم الأولى وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدم، ولا يجوز. وقيل: للذين متعلق بمحذوف على جهة البيان كأنه قيل: أعني للذين، أي الغفران للذين. وقرأ الجمهور: فتنوا مبنيا للمفعول أي: بالعذاب والإكراه على كلمة الكفر. وقرأ ابن عامر: فتنوا مبنيا للفاعل، والظاهر أن الضمير عائد على الذين هاجروا، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول كما فعل عمار. أو لما كانوا صابرين على الإسلام وعذبوا بسبب ذلك صاروا كأنهم هم المعذبون أنفسهم، ويجوز أن يكون عائدا على المشركين أي: من بعد ما عذبوا المؤمنين كالحضرمي وأشباهه. والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد الفتنة والهجرة والجهاد والصبر. وقال ابن عطية: والضمير في بعدها عائد على الفتنة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها وإن لم يجر لها ذكر صريح.
522

* (يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون يظلمون * وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس (سقط: الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون، فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم)) *: يوم منصوب على الظرف، وناصبه رحيم، أو على المفعول به، وناصبه اذكر. والظاهر عموم كل نفس، فيجادل المؤمن والكافر، وجداله بالكذب والجحد، فيشهد عليهم الرسل والجوارح، فحينئذ لا ينطقون. وقالت فرقة: الجدال قول كل أحد من الأنبياء وغيرهم: نفسي نفسي. قال ابن عطية: وهذا ليس بجدال ولا احتجاج، إنما هو مجرد رغبة. واختار الزمخشري هذا القول، وركب معه ما قبله فقال: كأنه قيل يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره، كل يقول: نفسي نفسي. ومعنى المجادلة الاعتذار عنها كقولهم: * (هؤلاء أضلونا * ما كنا مشركين) * ونحو ذلك. وقال: يقال لعين الشيء وذاته نفسه، وفي نقيضه غيره، والنفس الجملة كما هي، فالنفس الأولى هي الجملة، والثانية عينها وذاتها. وقال ابن عطية: أي كل ذي نفس، ثم أجرى الفعل على المضاف إليه المذكور، فأثبت العلامة. ونفس الأولى هي النفس المعروفة، والثانية هي بمعنى البدن كما تقول: نفس الشيء وعينه أي ذاته. وقال العسكري: الإنسان يسمي نفسا تقول العرب: ما جاءني إلا نفس واحدة أي: إنسان واحد. والنفس في الحقيقة لا تأتي، لأنها هي الشيء الذي يعيش به الإنسان انتهى.
(فإن قلت): لم لم يتعد الفعل إلى الضمير، لا إلى لفظ النفس؟ (قلت): منع من ذلك أن الفعل إذا لم يكن من باب ظن، وفقد لا يتعدى فعل ظاهر فاعله، ولا مضمره إلى مضمره المتصل، فلذلك لم يجيء التركيب تجادل عنها، ولذلك لا يجوز: ضربتها هند ولا هند ضربتها، وإنما تقول: ضربت نفسها هند، وضربت هند نفسها، ما عملت أي: جزاء ما عملت من إحسان أو إساءة، وأنث الفعل في تأتي، والضمير في تجادل وفي عن نفسه، وفي توفي، وفي عملت، حملا على معنى كل، ولو روعي اللفظ لذكر. وقال الشاعر:
* جادت عليها كل عين ثرة
*
فتركن كل حديقة كالدرهم
*
فأنث على المعنى. وما ذكر عن ابن عباس: أن الجدال هنا هو جدال الجسد للروح، والروح للجسد لا يظهر قال: يقول الجسد: رب جاء الروح بأمرك به نطق لساني وأبصرت عيني ومشت رجلي، فتقول الروح: أنت
523

كسبت وعصيت لا أنا، وأنت كنت الحامل وأنا المحمول، فيقول الله عز وجل: أضرب لكما مثل أعمى حمل مقعدا إلى بستان فأصابا من ثماره، فالعذاب عليكما. وعن ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد، وقتادة: أن القرية المضروب بها المثل مكة، كانت لا تغزي ولا يغار عليها، والأرزاق تجلب إليها، وأنعم الله عليها بالرسول صلى الله عليه وسلم) فكفرت، فأصابها السنون والخوف. وسرايا الرسول وغزواته ضربت مثلا لغيرها مما يأتي بعدها. وهذا وإن كانت الآية مدنية، وإن كانت مكية فجوع السنين وخوف العذاب بسبب التكذيب. ويؤيد كونها مكية قوله: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه، ويجوز أن يكون قرية من قرى الأولين. وعن حفصة: أنها المدينة. وقال ابن عطية: يتوجه عندي أنها قصد بها قرية غير معينة، جعلت مثلا لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة. وقال الزمخشري: يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها، فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها انتهى. ولا يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة، بل لا بد من وجودها لقوله: ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون. كانت آمنة ابتدأ بصفة الأمن، لأنه لا يقيم لخائف. والاطمئنان زيادة في الأمن، فلا يزعجها خوف. يأتيها رزقها أقواتها واسعة من جميع جهاتها، لا يتعذر منها جهة. وأنعم جمع نعمة، كشدة وأشد. وقال قطرب: جمع نعم بمعنى النعيم، يقال: هذه أيام طعم ونعم انتهى. فيكون كبؤس وأبؤس. وقال الزمخشري: جمع نعمة على ترك التاء، جمع نعمة على ترك التاء، والاعتداد بالتاء كدرع وأدرع. وقال العقلاء: ثلاثة ليس لها نهاية: الأمن، والصحة، والكفاية. قال أبو عبد الله الرازي: أمنة إشارة إلى الأمن، مطمئنة إشارة إلى الصحة، لأن هواء ذلك لما كان ملازما لا مزجتهم اطمأنوا إليها واستقروا، يأتيها رزقها السبب في ذلك دعوة إبراهيم عليه السلام: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) * وقال: الأنعم جمع نعمة وجمع قلة، ولم يأت بنعم الله، وذلك أنه قصد التنبيه بالأدنى على الأعلى بمعنى أن كفران النعم القليلة أوجب العذاب، فكفران الكثيرة أولى بإيجابه. قال ابن عطية: لما باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
* إذا ما الضجيجع ثنى جيدها
*
تثنت فكانت عليه لباسا
*
ونحو قوله تعالى: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * ومنه قول الشاعر:
* وقد لبست بعد الزبير مجاشع
*
ثياب التي حاضت ولم تغسل الدما كأن العار لما باشرهم ولصق بهم جعلهم لبسوه. وقوله: فأذاقها الله، نظير قوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * ونظير قول الشاعر:
دونك ما جنيته فأحس وذق
*
وقال الزمخشري: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحتهما؟ والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس فما وجه صحة إيقاعها؟ (قلت): أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها
524

فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر، وإذاقة العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع. وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف فلأنه لما وقع عبارة: عما يغشى منهما ويلابس، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في نحو هذا طريقان: أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظر إليه ههنا، ونحوه قول كثير:
* غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا
*
غلقت لضحكته رقاب المال
*
استعار الرداء للمعروف، لأنه يصون عرض صاحبه، صون الرداء لما يلقى عليه. ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنوال، لا صفة الرداء، نظرا إلى
المستعار له. والثاني: أن ينظروا فيه إلى المستعار كقوله:
* ينازعني ردائي عبد عمرو
*
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
*
* لي الشطر الذي ملكت يميني
*
ودونك فاعتجر منه بشطر
*
أراد بردائه سيفه ثم قال: فاعتجر منه بشطر، فنظر إلى المستعار في لفظ: الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقيل: فكساهم لبس الجوع والخوف، ولقال كثير: ضافي الرداء إذا تبسم ضاحكا انتهى. وهو كلام حسن. ولما تقدم ذكر الأمن وإتيان الرزق، قابلهما بالجوع الناشئ عن انقطاع الرزق وبالخوف. وقدم الجوع ليلى المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم) * وأما قوله: * (فمنهم شقى وسعيد) * فأما الذين شقوا ففي النار فقدم ما بدىء به وهما طريقان. وقرأ الجمهور: والخوف بالجر عطفا على الجوع. وروي العباس عن أبي عمرو: والخوف بالنصب عطفا على لباس. قال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون نصبه بإضمار فعل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاب وإقامة المضاف إليه مقامه، أصله ولباس الخوف. وقرأ عبد الله فأذاقها الله الخوف والجوع، ولا يذكر لباس. والذي أقوله: إن هذا تفسير المعنى لا قراءة، لأن المنقول عنه مستفيضا مثل ما في سواد المصحف. وفي مصحف أبي بن كعب لباس الخوف والجوع، بدأ بمقابل ما بدأ به في قوله: كانت آمنة، وهذا عندي إنما كان في مصحفه قبل أن يجمعوا ما في سواد المصحف الموجود الآن شرقا وغربا، ولذلك المستفيض عن أبي في القراءة إنما هو كقراءة الجماعة بما كانوا يصنعون من كفران نعم الله، ومنها تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم) الذي جاءهم. والضمير في بما كانوا يصنعون عائد على المحذوف في قوله: وضرب الله مثلا قرية، أي: قصة أهل قرية، أعاد الضمير أولا على لفظ قرية، ثم على المضاف المحذوف كقوله: * (فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون) *. والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: بما كانوا يصنعون. وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الضمير في
525

جاءهم لأهل تلك المدينة، يكون هذا بما جرى فيها كمدينة شعيب عليه السلام وغيره، ويحتمل أن يكون لأهل مكة. وقال أبو عبد الله الرازي: لما ذكر المثل قال: ولقد جاءهم يعني أهل مكة رسول منهم يعني من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه، ولما وعظ تعالى بضرب ذلك المثل وصل هذا الأمر للمؤمنين بالفاء، فأمر المؤمنين بأكل ما رزقهم وشكر نعمته ليباينوا تلك القرية التي كفرت بنعم الله. ولما تقدم فكفرت بأنعم الله جاء هنا: واشكروا نعمة الله. وفي البقرة جاء: * (يريد يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم) * لم يذكر من كفر نعمته فقال: * (واشكروا * الله) * ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم، عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله على لسان أنبيائه. وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: كلوا مما رزقناكم. وقوله: إنما حرم الآية تقدم تفسير مثلها في البقرة.
* (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هاذا حلال وهاذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله) *: لما بين تعالى ما حرم، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة، والسائبة، وفيما أحل كالميتة والدم، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام. وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله: * (أحلت لكم) * الآية وأجمعوا على أن المراد: * (مما * يتلى عليكم) * هو قوله: * (حرمت عليكم) * الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعا ثانيا في أول مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها. فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه. وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره: للذي تصفه ألسنتكم. وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي. وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعل أي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت جخاك، أي ضربته أخاك. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوبا بإضمار أعني. وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب. ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله: هذا حلال وهذا حرام، والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبا، لا بحجة وبينة. وهذا معنى بديع، جعل قولهم: كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم: وجهه يصف الجمال، وعينها تصف السحر. وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلا من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب. وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية. قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى: * (بدم كذب) * والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى. وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أن
526

أن المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل، ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أن قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أن تخرج السريع أي: من خروجك السريع. وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أن فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أن ولا، من ما ولا، من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب.
وقرأ معاذ، وابن أبي عبلة، وبعض أهل الشام: الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب. قال صاحب اللوامح: أو جمع كاذب أو كذاب انتهى. فيكون كشارف وشرف، أو مثل كتاب وكتب، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب. وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمع كتاب. وقال صاحب اللوامح: وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر، ومثله كتاب وكتب. وقال الزمخشري: بالنصب على الشتم، أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذابا ذكره ابن جني انتهى. والخطاب على قول الجمهور بقوله: ولا تقولوا، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية. وقال العسكري: الخطاب للمكلفين كلهم أي: لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالا ولا حراما، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى. وهذا هو الظاهر، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو: فكلوا إنما حرم عليكم، فهو شامل لجميع المكلفين. واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة. قيل: ذلك الافتراء ما كان غرضا لهم، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا: * (وجدنا عليها ءاباءنا) * والله أمرنا بها، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب، لأن هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه، وهو الله تعالى. وقال الواحدي: لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله: لما تصف ألسنتكم الكذب، لأن وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى. وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسموا الحلال حراما، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم. والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سننا لا يرضاها الله افتراء عليه، لأن من شرع أمرا فكأنه قال لتابعه: هذا هو الحق، وهذا مراد الله. ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح. والفلاح: الظفر بما يؤمل، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر:
والمسي والصبح لا فلاح معه
وتارة في نجح المساعي كما قال عبيد بن الأبرص:
* أفلح بما شئت فقد يب
*
لغ بالضعف وقد يخدع الأريب
*
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم. وقال ابن عطية: عيشهم في الدنيا. وقال العسكري: يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى. وقال أبو البقاء: بقاؤهم متاع قليل. وقال الحوفي: متاع قليل ابتداء وخبر انتهى. ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي: متاعهم قليل. ولما بين تعالى ما يحل وما يحرم وهل الإسلام، أتبعه بما كان خص به اليهود محالا على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام، وهذا يدل على أن سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة، إذ لا تصح الحوالة
527

إلا بذلك. ويتعلق من قبل بقصصنا، وهو الظاهر. وقيل: بحرمنا، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك. والسوء هنا قال ابن عباس: الشرك قبل المعرفة بالله انتهى. ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره. والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله: * (ثم إن ربك للذين هاجروا) * فأغنى عن إعادته. وقال قوم: بجهالة تعمد. وقال ابن عطية: ليست هنا ضد العلم، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه: أو أجهل أو يجهل علي. وقول الشاعر:
* ألا لا يجهلن أحد علينا
*
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
*
والتي هي ضد العلم، تصحب هذه كثيرا، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر. وقل ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى. ملخصا. وقال الزمخشري: بجهالة في موضع الحال أي: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم. وقال سفيان: جهالته أن يلتذ بهواه، ولا يبالي بمعصية مولاه. وقال الضحاك: باغترار الحال عن المآل. وقال العسكري: ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة، لأن أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة، أو عند غلبة شهوة، أو في جهالة شباب، فذكر الأثر على عادة العرب في مثل ذلك. والإشارة بذلك إلى عمل السوء، وأصلحوا: استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية. وقيل:
أصلحوا آمنوا وأطاعوا، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح. وقيل: يعود على الجهالة. وقيل: على السوء على معنى المعصية.
* (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين يك من المشركين * شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وءاتيناه فى الدنيا حسنة وإنه فى الاخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) *: لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتحليل ما حرم، وتحريم ما أحل، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام، ليكون ذلك حاملا لهم على الاقتداء به. وأيضا فلما جرى ذكر اليهوديين طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم، وحال قريش. وقال مجاهد: سمى أمة لانفراده بالإيمان في وقته مدة ما. وفي البخاري أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك. والأمة لفظ مشترك بين معان منها: الجمع الكثير من الناس، ثم يشبه به الرجل الصائم، أو الملك، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة. وقال ابن عباس: كان عنده من الخير ما كان عنده أمة، ومن هنا أخذ الحسن بن هانىء قوله
528

* وليس على الله بمستنكر
*
أن يجمع العالم في واحد
*
وعن ابن مسعود: إنه معلم الخير، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال: كان أمة قانتا. وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وعلامة، ونسابة، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وقيل: الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت، والحنيف: شاكرا الأنعمة. روي أنه كان لا يتعدى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيلوا أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكر الله على أنه عافاني وابتلاكم. ورتيناه في الدنيا حسنة، قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون، وخصوصا كفار قريش، فإن فخرهم إنما هو به، وذلك بإجابة دعوته. * (واجعل لى لسان صدق فى الاخرين) * وقيل: الحسنة قول المصلي منا: كما صليت على إبراهيم. وقال ابن عباس: الذكر الحسن. وقال الحسن: النبوة. وقال مجاهد: لسان صدق. وقال قتادة: القبول، وعنه تنويه الله بذكره. وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر. وقيل: المال يصرفه في الخير والبر. * (وإنه لمن * المصلحين) *، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم) أن يتبع ملته، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا. قال ابن فورك: وأمر الفاضل باتباع المفضول، لما كان سابقا إلى قول الصواب والعمل به. وقال الزمخشري: ثم أوحينا في ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإجلال محله، والإيذان بأن أشرف ما أوت يخليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ملته، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها انتهى. وأن تفسيرية، أو في موضع المفعول. واتباع ملته قال قتادة: في الإسلام، وعنه أيضا: جميع ملته إلا ما أمر بتركه. وعن عمرو بن العاص: مناسك الحج. وقال القرطبي: الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * وقيل: في التبري من الأوثان. وقال قوم كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع ينفرد به، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرع إبراهيم عليه السلام. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا القول ضعيف، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: اتبع ملة إبراهيم، كان المراد ذلك. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم) إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا له، فيمتنع حمل قوله: أن اتبع، على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
(قلت): يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن انتهى. ولا يحتاج إلى هذا، لأن المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أن يوحي لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (قل إنما يوحى إلى أنما إلاهكم إلاه واحد) * فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل. وكذلك هنا أخبر تعالى أن إبراهيم لم يكن مشركا، وأمر الرسول باتباعه في ذلك، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافرا على ذلك. وقال ابن عطية: قال مكي: ولا يكون يعني حنيفا حالا من إبراهيم لأنه مضاف إليه، وليس كما قال لأن الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك: مررت بزيد قائما انتهى. أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافا إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف
529

إليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو: يعجبني قيام زيد مسرعا، وشرب السويق ملتوتا. وقال بعض النحاة: ويجوز أيضا ذلك إذا كان المضاف جزءا من المضاف إليه كقوله: * (ونزعنا ما فى صدورهم من غل إخوانا) * أو كالجزء منه كقوله: * (ملة إبراهيم حنيفا) * وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك. وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال، لأن الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة، لأن الباء في
بزيد ليست هي العاملة في قائما، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجر في زيد فإن زيدا في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجرورا بالحرف. ولما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم) باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة، فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم، بين أن يوم السبت لم يكن تعظيمه، واتخاذه للعبادة من شرع إبراهيم ولا دينه، والسبت مصدر، وبه سمي اليوم. وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف. قال الزمخشري: سبتت اليهود إذا عظمت سبتها والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، واختلافهم فيه: أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلا، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته.
(فإن قلت): فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعا محلين أو محرمين؟ (قلت): معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى، ووجه آخر وهو أن موسى عليه السلام أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت، لأن بعضهم اختاره، وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك. وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت: فرض عليهم تعظيمه، وترك الاصطياد فيه انتهى. وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله. وقال الكرماني: عدي جعل بعلي، لأن اليوم صار عليهم لا لهم، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى. ولهذا قدره الزمخشري: إنما جعل وبال السبت. وقال الحسن: جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة. وقال ابن عباس: إن الله سبحانه قال: ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي، فقالوا: نريد السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السماوات والأرض، فهو أولى بالراحة. وقرأ أبو حيوة: جعل بفتح الجيم والعين مبنيا للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش: أنهما قرآ إنما أنزلنا السبت، وهي تفسير معنى لا قراءة، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرآ كالجماعة.
* (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل (سقط: عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون، إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
530

) *: أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم) أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمة، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع. وعن ابن عباس: أن الحكمة القرآن، وعنه: الفقه. وقيل: النبوة. وقيل: ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة. والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس، وعنه أيضا: الأدب الجميل الذي يعرفونه. وقال ابن جرير: هي العبر المعدودة في هذه السورة. وقال ابن عيسى: الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة. وقال الزمخشري: إلى سبيل ربك الإسلام، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها، ويجوز أن يريد القرآن أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقال ابن عطية: الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا. وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: هي محكمة.
وإن عاقبتم أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها اتصالا حسنا، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي، وتوعظ إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتى. وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد: إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها، وسمى المجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة، والمعنى: قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله، وهو عكس: * (ومكروا ومكر الله) *. المجاز في الثاني وفي: وإن عاقبتم في الأول. وقرأ ابن سيرين: وإن عقبتم فعقبوا بتشديد القافين أي: وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم. والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي: لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد، وبصبرهم على المعقابة. وقيل: يعود إلى جنس الصبر، ويراد بالصابرين جنسهم، فكأنه قيل: والصبر خير للصابرين، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر، ويندرجون هم في الصابرين. ونحوه: * (فمن عفا وأصلح) * * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم) في الذي هو خير وهو الصبر، فأمر هو وحده بالصبر. ومعنى بالله: بتوفيقه وتيسيره وإرادته. والضمير في عليهم يعود على الكفار، وكذلك في يمكرون كما قال: * (فلا تأس على القوم الكافرين) * وقيل: يعود على القتلى الممثل بهم حمزة، ومن مثل به يوم أحد. وقرأ الجمهور: في ضيق بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير: بكسرها، ورويت عن نافع، ولا يصح عنه، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين. وقال أبو عبيدة: بفتح الضاد مخفف من ضيق أي: ولا تك في أمر ضيق كلين في لين. وقال أبو علي: الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر، لأنه إن كان مخففا من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف، وليس هذا موضع ذلك، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول: رأيت ضاحكا، فإنما تخصص الإنسان. ولو قلت: رأيت باردا لم يحسن، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف. وقال ابن عباس، وابن زيد: إن ما في هذه الآيات من الأمر بالصبر منسوخ، ومعنى المعية هنا بالنصرة
والتأييد والإعانة
531