الكتاب: تفسير الثعالبي
المؤلف: الثعالبي
الجزء: ٢
الوفاة: ٨٧٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الدكتور عبد الفتاح أبو سنة - الشيخ علي محمد معوض - والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الثعالبي
الجزء الثاني
1

تفسير الثعالبي
المسمى
بالجواهر الحسان في تفسير القرآن
للإمام عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي
(786 - 875 ه‍)
حقق أصوله على أربع نسخ خطية وعلق عليه وخرج أحاديثه
الشيخ علي محمد معوض
والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
وشارك في تحقيقه
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو سنة
خبير التحقيق بمجمع البحوث الاسلامية
وعضو المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية
وعضو لجنة المصحف بالأزهر الشريف
الجزء الثاني
دار إحياء التراث العربي - مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
لدار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
دار إحياء التراث العربي
بيروت حارة حريك شارع دكاش بناية كليوباترا - بملكه
هاتف: 836551 - 836696 - 836766
تلكس: 23644 ص. ب: 7957 / 11 بيروت - لبنان
فاكس: 2124783422 001
4

سورة آل عمران
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مدنية، بإجماع في ما علمت.
(ألم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه
وأنزل التوراة والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب
شديد والله عزيز ذو انتقام (4))
قوله جلت قدرته: (ألم * الله لا إله إلا الله هو الحي القيوم) الأبرع في نظم الآية أن
يكون: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) كلاما مبتدأ جزما، جملة رادة على نصارى نجران
الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فحاجوه في عيسى ابن مريم، وقالوا: إنه الله على ما هو معلوم
في السير، فنزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم صلى الله عليه وسلم
إلى الابتهال.
وقد تقدم تفسير قوله: (الحي القيوم) في آية الكرسي، والآية هناك إخبار لجميع
الناس، وكررت هنا إخبارا بحجج هؤلاء النصارى، ويرد عليهم، إذ هذه الصفات لا
يمكنهم ادعاؤها لعيسى - عليه السلام -، لأنهم إذ يقولون: إنه صلب، فذلك موت في
معتقدهم، وإذ من البين أنه ليس بقيوم.
وقراءة الجمهور " القيوم "، وقرئ خارج السبع: " القيام "، و " القيم "، وهذا كله
من: قام بالأمر يقوم به، إذا اضطلع بحفظه، وبجميع ما يحتاج إليه في وجوده، فالله تعالى
5

القيام على كل شئ مما ينبغي له، أو فيه، أو عليه.
* ت *: وقد تقدم ما نقلناه في هذا الاسم الشريف، أنه اسم الله الأعظم، قال
النووي: وروينا في كتاب الترمذي، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا كربه أمر، قال:
" يا حي يا قيوم، برحمتك استغيث "، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. اه‍.
قال صاحب " سلاح المؤمن ": وعن علي - رضي الله عنه -، قال: " لما كان يوم
بدر، قاتلت شيئا من قتال، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ما صنع فجئت، فإذا هو
ساجد يقول: " يا حي يا قيوم، يا حي يا قيوم "، ثم رجعت إلى القتال /، ثم جئت، فإذا هو
ساجد، لا يزيد على ذلك، ثم ذهبت إلى القتال، ثم جئت، فإذا هو ساجد يقول ذلك،
ففتح الله عليه " رواه النسائي، والحاكم في " المستدرك "، واللفظ للنسائي.
وعن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها -، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اسم الله الأعظم
في هاتين الآيتين: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم)، وفاتحة آل عمران:
(ألم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم) " رواه أبو داود، واللفظ له، والترمذي، وابن
ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
6

وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " اسم الله الأعظم في ثلاث سور: في سورة
البقرة، وآل عمران، وطه "، قال القاسم: فالتمستها أنه الحي القيوم. انتهى.
وقوله: (بالحق): يحتمل معنيين.
أحدهما: أن يكون المعنى: ضمن الحقائق، في خبره، وأمره، ونهيه، ومواعظه.
والثاني: أن يكون المعنى: أنه نزل الكتاب باستحقاق أن ينزل، لما فيه من المصلحة
الشاملة، وليس ذلك على أنه واجب على الله تعالى أن يفعله.
* ت *: أي: إذ لا يجب على الله سبحانه فعل،
قال * ع *: فالباء، في هذا المعنى: على حد قوله: (سبحانك ما يكون لي أن
أقول ما ليس لي بحق) [المائدة: 116]. وقيل: معنى: (بالحق) أي: مما اختلف فيه أهل
الكتاب، واضطرب فيه هؤلاء النصارى الوافدون.
قال * ع *: وهذا داخل في المعنى الأول.
وقوله: (مصدقا): حال مؤكدة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، لما بين يديه
من كتب الله سبحانه، (وما بين يديه): هي التوراة والإنجيل وسائر كتب الله التي تلقيت
من شرعنا.
وقوله تعالى: (من قبل): يعني: من قبل القرآن.
وقوله: (هدى للناس): معناه: دعاء، والناس: بنو إسرائيل في هذا الموضع، وإن
7

كان المراد أنهما هدى في ذاتهما، مدعو إليه فرعون وغيره، فالناس عام في كل من شاء
حينئذ أن يستبصر، و (الفرقان): القرآن، لأنه فرق بين الحق والباطل، ثم توعد سبحانه
الكفار عموما بالعذاب الشديد، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران، و (عزيز):
معناه: غالب، والنقمة والانتقام: معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك.
(إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي يصوركم في الأرحام كيف
يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم (6) هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب
وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم
تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7))
قوله تعالى: (إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء): هذه الآية
خبر عن علم الله تعالى بالأشياء، على التفصيل، وهذه صفة لم تكن لعيسى، ولا لأحد من
المخلوقين، ثم أخبر سبحانه عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات، وهذا أمر لا ينكره
عاقل، ولا ينكر أن عيسى وسائر البشر لا يقدرون عليه، ولا ينكر أن عيسى من
المصورين، كغيره من سائر البشر، فهذه الآية تعظيم لله جلت قدرته في ضمنها الرد على
نصارى نجران، وفي قوله: (إن الله لا يخفى عليه شئ): وعيد، وشرح النبي صلى الله عليه وسلم كيفية
التصوير في الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره، " أن النطفة، إذا وقعت في الرحم،
مكثت نطفة أربعين يوما، ثم تكون علقة أربعين يوما، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله
إليها ملكا، فيقول: يا رب، أذكر / أم أنثى؟ أشقى أم سعيد... " الحديث بطوله على
اختلاف ألفاظه، وفي مسند ابن " سنجر " حديث، " أن الله سبحانه يخلق عظام الجنين
وغضاريفه من مني الرجل، ولحمه وشحمه وسائر ذلك من مني المرأة "، وصور: بناء
مبالغة من صار يصور، إذا أمال وثنى إلى حال ما، فلما كان التصوير إمالة إلى حال، وإثباتا
فيها، جاء بناؤه على المبالغة، والكتاب في هذه الآية: القرآن، بإجماع، والمحكمات:
المفصلات المبينات الثابتات الأحكام، والمتشابهات: هي التي تحتاج إلى نظر وتأويل،
ويظهر فيها ببادي النظر: إما تعارض مع أخرى، وإما مع العقل إلى غير ذلك من أنواع
التشابه، فهذا الشبه الذي من أجله توصف بمتشابهات، إنما هو بينها وبين المعاني الفاسدة
التي يظنها أهل الزيغ، ومن لم ينعم النظر، وهذا نحو الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات "، أي: يكون الشئ حراما في نفسه،
8

فيشبه عند من لم ينعم النظر شيئا حلالا، وكذلك الآية: يكون لها في نفسها معنى صحيح،
فيشبه عند من لم ينعم النظر، أو عند الزائغ معنى آخر فاسدا، فربما أراد الاعتراض به على
كتاب الله، هذا عندي معنى الإحكام والتشابه في هذه الآية.
9

قال * ع * *: وأحسن ما قيل في هذه الآية قول محمد بن جعفر بن الزبير، أن
المحكمات هي التي فيهن حجة الرب، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لها
تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه، والمتشابهات: لها تصريف وتحريف، وتأويل ابتلى
الله فيهن العباد، قال ابن الحاجب في " منتهى الوصول ": مسألة في القرآن محكم
ومتشابه، قال تعالى: (منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات)، فالمحكم:
المتضح المعنى، قال الرهوني: يعني نصا كان أو ظاهرا، والمتشابه: مقابلة إما للاشتراك،
مثل: (ثلاثة قروء) [البقرة: 228]، أو للإجمال، مثل: (الذي بيده عقدة النكاح)
[البقرة: 237] وما ظاهره التشبيه، مثل: (من روحي) [ص: 72]، و (أيدينا) [يس: 71]،
و (بيدي) [ص: 75] و (بيمينه) [الزمر: 67]، و (يستهزئ) [البقرة: 15]، و (مكر الله)
[آل عمران: 54] ونحوه، والظاهر: الوقف على: (والراسخون في العلم)، لأن الخطاب بما
لا يفهم بعيد. انتهى.
قال الرهوني: وسمي ما ذكر " متشابها "، لاشتباهه على السامع، قال الرهوني:
والحق الوقف على: (وما يعلم تأويله إلا الله). وهو المروي عن جماعة، منهم: ابن
عباس، وابن عمر، وابن مسعود، ومالك، وغيرهم، وفي مصحف أبي: " وما يعلم تأويله
إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به ". اه‍.
وقوله تعالى: (هن أم الكتاب)، أي: معظم الكتاب، وعمدة ما فيه: إذ المحكم
في آيات الله كثير قد فصل، ولم يفرط في شئ منه، قال يحيى بن يعمر: كما يقال
10

لمكة أم القرى.
قال * ع *: وكما يقال: أم الرأس لمجتمع الشؤون، فجميع المحكم هو أم
الكتاب، ومعنى الآية الإنحاء على أهل الزيغ، والمذمة لهم، والإشارة بذلك أولا إلى
نصارى نجران، وإلى اليهود الذين كانوا معاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يعترضون
معاني القرآن، ثم يعم بعد ذلك كل زائغ، فذكر تعالى، أنه نزل الكتاب / على نبيه
محمد صلى الله عليه وسلم، إفضالا منه، ونعمة، وأن محكمه وبينه الذي لا اعتراض فيه هو معظمه،
والغالب فيه، وأن متشابهه الذي يحتمل التأويل، ويحتاج إلى التفهم هو أقله، ثم إن أهل
الزيغ يتركون المحكم الذي فيه غنيتهم، ويتبعون المتشابه، ابتغاء الفتنة، وأن يفسدوا ذات
البين، ويردوا الناس إلى زيغهم.
* م *: قال أبو البقاء: (وأخر): معطوف على (آيات)، و (متشابهات): نعت
ل‍ (أخر).
وقوله تعالى: (الذين في قلوبهم زيغ): يعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل
صاحب بدعة، والزيغ: الميل، و (ابتغاء): نصب على المفعول من أجله، ومعناه: طلب
الفتنة، قال الربيع: الفتنة هنا الشرك، وقال مجاهد: الفتنة: الشبهات، واللبس على
المؤمنين، ثم قال: وابتغاء تأويله، والتأويل هو مرد الكلام، ومرجعه، والشيء الذي يقف
عليه من المعاني، وهو من: آل يئول، إذا رجع، فالمعنى: وطلب تأويله على منازعهم
الفاسدة، هذا في ماله تأويل حسن، وإن كان مما لا يتأول، بل يوقف فيه، كالكلام في
معنى الروح ونحوه، فنفس طلب تأويله هو اتباع ما تشابه، ثم قال تعالى: (وما يعلم تأويله
إلا الله)، أي: وما يعلم تأويله على الكمال إلا الله سبحانه.
واختلف في قوله: (والراسخون في العلم)، فرأت فرقة أن رفع الراسخين هو
بالعطف على اسم الله (عز وجل)، وأنه مع علمهم بالمتشابه يقولون: (آمنا به)، وقالت
طائفة أخرى: والراسخون: رفع بالابتداء، وهو مقطوع من الكلام الأول، وخبره
" يقولون "، والمنفرد بعلم المتشابه هو الله وحده.
11

قال * ع *: وهذه المسألة إذا تؤملت، قرب الخلاف فيها من الاتفاق، وذلك أن
الله تعالى قسم آي الكتاب قسمين محكما ومتشابها، فالمحكم هو المتضح المعنى لكل من
يفهم كلام العرب، لا يحتاج فيه إلى نظر، ولا يتعلق به شئ يلبس، ويستوي في علمه
الراسخ وغيره، والمتشابه على نوعين، منه: ما لا يعلم البتة، كأمر الروح، وآماد المغيبات
التي قد أعلم الله بوقوعها إلى سائر ذلك، ومنه: ما يحمل على وجوه في اللغة، ومناح في
كلام العرب، فيتأول، ويعلم تأويله، ولا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع
كثيرا، بحسب ما قدر له، فمن قال: إن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه، فمراده النوع
الثاني الذي ذكرناه، ومن قال: إن الراسخين لا يعلمون تأويله، فمراده النوع الأول، كأمر
الروح، ووقت الساعة، لكن تخصيصه المتشابه بهذا النوع غير صحيح، بل هو نوعان، كما
ذكرنا، والضمير في (تأويله) عائد على جميع متشابه القرآن، وهما نوعان، كما ذكرنا،
والرسوخ: الثبوت في الشئ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم، فقال: " هو من
برت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه "، قلت: ومن " جامع العتبية "، وسئل مالك عن
تفسير الراسخين في العلم، فقال: العالمون العاملون بما علموا، المتبعون له، قال ابن
رشد: قول مالك هذا هو معنى ما روي من أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: من الراسخ في العلم؟
فقال: " من برت يمينه، وصدق لسانه، / واستقام به قلبه، وعف بطنه، فذلك الراسخ في
العلم "، قال ابن رشد: ويشهد لصحة هذا قول الله (عز وجل): (إنما يخشى الله من
عباده العلماء) [فاطر: 28]، لأنه كلام يدل على أن من لم يخش الله، فليس بعالم. انتهى.
قلت: وقد جاء في فضل العلم آثار كثيرة، فمن أحسنها: ما رواه أبو عمر بن
عبد البر بسنده، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعلموا العلم، فإن تعليمه
لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه
صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنيس
في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء،
والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، ويرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة
وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بفعالهم، وينتهي إلى رأيهم، وترغب الملائكة في خلتهم،
12

وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر
وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد
بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، الفكر فيه يعدل الصيام،
ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل،
والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء "، قال أبو عمر: هكذا حدثنيه عبيد بن
محمد مرفوعا بالإسناد الذي رويناه به عنه، وهو حديث حسن جدا، ولكن ليس له إسناد
قوي، ورويناه من طرق شتى موقوفا على معاذ. انتهى من كتاب " فضل العلم "، قال
الشيخ العارف أبو القاسم عبد الرحمن بن يوسف اللجائي (رحمه الله)، ومن علامة نور
العلم، إذا حل بالقلب: المعرفة والمراقبة والحياء والتوبة والورع والزهد والتوكل والصبر
والرضى والأنس والمجاهدة والصمت والخوف والرجاء والقناعة وذكر الموت. اه‍.
وقوله تعالى: (كل من عند ربنا): فيه ضمير عائد على كتاب الله محكمه
ومتشابهه، والتقدير: كله من عند ربنا.
ثم قال تعالى: (وما يذكر إلا أولوا الألباب)، أي: ما يقول هذا، ويؤمن ويقف
حيث وقف، ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل و " أولوا " جمع: " ذو ".
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب (8) ربنا إنك
جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9) إن الذين كفروا لن تغنى
عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب آل فرعون والذين من
قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11))
وقوله تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا...) الآية: لما ذكر الله سبحانه أهل الزيغ، وذكر
نقيضهم، وظهر ما بين الحالتين، عقب ذلك، بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من
الطائفة الذميمة التي ذكرت، وهم أهل الزيغ، ويحتمل أن يكون هذا من تمام قول
الراسخين، و (تزغ): معناه: تمل قلوبنا عن الهدى والحق، و (من لدنك): معناه: من
عندك تفضلا، لا عن سبب منا، ولا عمل، وفي هذا استسلام وتطارح، والمراد: هب لنا
نعيما صادرا عن الرحمة.
وقوله تعالى: (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه): إقرار بالبعث ليوم القيامة،
13

والريب: الشك، والمعنى أنه في نفسه حق لا ريب فيه.
وقوله تعالى: (إن الله لا يخلف الميعاد)، يحتمل: أن يكون إخبارا منه سبحانه
لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمته، ويحتمل: أن يكون حكاية من قول / الداعين، ففي ذلك إقرار بصفة
ذات الله تعالى، والميعاد: من الوعد.
وقوله تعالى: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله
شيئا..) الآية: الإشارة بالآية إلى معاصري النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يفخرون بأموالهم
وأبنائهم، وهي بعد متناولة كل كافر، والوقود، بفتح الواو: كل ما يحترق في النار من
حطب ونحوه، والدأب، والدأب، بسكون الهمزة وفتحها: مصدر: دأب يدأب، إذا لازم
فعل شئ، ودام عليه مجتهدا فيه، ويقال للعادة دأب، والمعنى في الآية: تشبيه هؤلاء في
لزومهم الكفر ودوامهم عليه بأولئك المتقدمين، وآخر الآية يقتضي الوعيد بأن يصيب هؤلاء
ما أصاب أولئك، والكاف في قوله: (كدأب) في موضع رفع، والتقدير: دأبهم كدأب،
والضمير في (قبلهم) عائد على (آل فرعون)، ويحتمل: على معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الكفار.
وقوله: (كذبوا بآياتنا): يحتمل: أن يريد المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات
المنصوبة.
(قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم آية
في فئتين التقتا فئة في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله
يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار (13))
وقوله تعالى: (قل للذين كفروا ستغلبون...) الآية: اختلف في تعيين هؤلاء الذين
أمر صلى الله عليه وسلم بالقول لهم:
فقيل: هم جميع معاصريه أمر أن يقول لهم هذا الذي فيه إعلام بغيب، فوقع بحمد
الله كذلك، فغلبوا، وصار من مات منهم على الكفر إلى جهنم.
وتظاهرت روايات عن ابن عباس وغيره، بأن المراد يهود المدينة، لما قدم رسول
الله صلى الله عليه وسلم من غزوة بدر، جمعهم، وقال: " يا معشر يهود أسلموا من قبل أن يصيبكم ما
أصاب قريشا "، فقالوا: يا محمد، لا تغرنك نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا
يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا، لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله فيهم هذه الآية "
14

والحشر: الجمع والإحضار.
وقوله تعالى: (وبئس المهاد): يعنى: جهنم، هذا ظاهر الآية، وقال مجاهد:
المعنى: بئس ما مهدوا لأنفسهم.
قال * ع *: فكان المعنى: وبئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم.
وقوله تعالى: (قد كان لكم آية في فئتين...) الآية تحتمل أن يخاطب بها
المؤمنون، تثبيتا لنفوسهم، وتشجيعا لها، وأن يخاطب بها جميع الكفار، وأن يخاطب بها
يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم، وقرئ شاذا: " ترونهم "، بضم التاء،
فكأن معناها أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، إنما كان تخمينا وظنا لا يقينا، وذلك أن
" أرى "، بضم الهمزة: تقولها فيما بقي عندك فيه نظر، وأرى، بفتح الهمزة: تقولها في ما
قد صح نظرك فيه، ونحا هذا المنحى أبو الفتح، وهو صحيح، والمراد بالفئتين: جماعة
المؤمنين، وجماعة الكفار ببدر.
قال * ع *: ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر، و (يؤيد):
معناه يقوي، من " الأيد "، وهو القوة.
15

المآب (14) * قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين
يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين
والمنافقين والمستغفرين بالأسحار (17))
وقوله تعالى: (زين للناس حب الشهوات...) الآية: هذه الآية ابتداء وعظ لجميع
الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ، والشهوات ذميمة، واتباعها مرد، وطاعتها مهلكة، وقد
قال صلى الله عليه وسلم: " حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره "، فحسبك أن النار حفت بها،
فمن واقعها، خلص إلى النار، قلت: وقد جاءت أحاديث / كثيرة في التزهيد في الدنيا،
ذكرنا من صحيحها وحسنها في هذا المختصر جملة صالحة لا توجد في غيره من التفاسير،
فعليك بتحصيله، فتطلع فيه على جواهر نفيسة، لا توجد مجموعة في غيره، كما هي بحمد
الله حاصلة فيه، وكيف لا يكون هذا المختصر فائقا في الحسن، وأحاديثه بحمد الله
مختارة، أكثرها من أصول الإسلام الستة: البخاري، ومسلم، وأبي داود، والترمذي،
والنسائي، وابن ماجة، فهذه أصول الإسلام، ثم من غيرها، كصحيح ابن حبان، وصحيح
الحاكم، أعني: " المستدرك على الصحيحين "، وأبي عوانة، وابن خزيمة، والدارمي،
والموطأ، وغيرها من المسانيد المشهورة بين أئمة الحديث، حسبما هو معلوم في علم
الحديث، وقصدي من هذا نصح من اطلع على هذا الكتاب أن يعلم قدر ما أنعم الله به
عليه، فإن التحدث بالنعم شكر، ولنرجع إلى ما قصدناه من نقل الأحاديث:
16

روى الترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن
أردت اللحوق بي، فليكفيك من الدنيا، كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا
تستخلفي ثوبا حتى ترقعيه " حديث غريب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن البذاذة من الإيمان "،
خرجه أبو داود وقد نقله البغوي في " مصابيحه "، والبذاذة: هي رث الهيئة. اه‍
و (القناطير): جمع قنطار، وهو العقدة الكثيرة من المال، واختلف الناس في تحرير
17

حده، وأصح الأقوال فيه: ما رواه أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " القنطار ألف
ومائتا أوقية "، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية.
وقوله: (المقنطرة)، قال الطبري: معناه: المضعفة، وقال الربيع: المال الكثير
بعضه على بعض.
* ص *: (المقنطرة): مفعللة، أو مفنعلة، من القنطار، ومعناه: المجتمعة.
* م *: أبو البقاء: و (من الذهب): في موضع الحال من (المقنطرة) اه‍.
وقوله: (المسومة): قال مجاهد: معناه المطهمة الحسان، وقال ابن عباس
وغيره: معناه: الراعية، وقيل: المعدة، (والأنعام): الأصناف الأربعة: الإبل، والبقر،
والضأن، والمعز.
* ص *: والأنعام: واحدها نعم، والنعم: الإبل فقط، وإذا جمع، انطلق على
الإبل والبقر والغنم. اه‍.
(والحرث): هنا اسم لكل ما يحرث من حب وغيره، والمتاع: ما يستمتع به،
وينتفع مدة ما منحصرة، و (المآب): المرجع، فمعنى الآية: تقليل أمر الدنيا وتحقيرها،
والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى.
وقوله تعالى: (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم...) الآية: في هذه الآية تسلية عن
الدنيا، وتقوية لنفوس تاركيها، ذكر تعالى حال الدنيا، وكيف استقر تزيين شهواتها، ثم جاء
بالإنباء بخير من ذلك هازا للنفوس، وجامعا لها، لتسمع هذا النبأ المستغرب النافع لمن
عقل، وأنبئ: معناه: أخبر.
18

وقوله تعالى: (ورضوان من الله)، الرضوان: مصدر من " رضي "، وفي الحديث
الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الجنة، إذا استقروا فيها، وحصل لكل واحد منهم ما لا
عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال الله لهم: أتريدون أن أعطيكم /
ما هو أفضل من هذا؟ قالوا: يا ربنا، وأي شئ أفضل من هذا؟ فيقول الله سبحانه: أحل
عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا "، هذا سياق الحديث، وقد يجيء مختلف
الألفاظ، والمعنى قريب بعضه من بعض، قال الفخر: وذلك أن معرفة أهل الجنة، مع
هذا النعيم المقيم بأنه تعالى راض عنهم، مثن عليهم - أزيد عليهم في إيجاب
السرور. اه‍.
وباقي الآية بين، وقد تقدم في سورة البقرة بيانه.
وقوله تعالى: (الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا...) الآية: " الذين ": بدل
من " الذين اتقوا "، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات،
والصبر، في هذه الآية: معناه: على الطاعات، وعن المعاصي والشهوات، والصدق:
معناه: في الأقوال والأفعال، والقنوت: الطاعة والدعاء أيضا، وبكل ذلك يتصف المتقي،
والإنفاق: معناه: في سبيل الله ومظان الأجر، والاستغفار: طلب المغفرة من الله سبحانه،
وخص تعالى السحر، لما فيه من الفضل، حسبما ورد فيه من صحيح الأحاديث، كحديث
النزول: " هل من داع، فأستجيب له، هل من مستغفر، فأغفر له "، إلى غير ذلك مما
ورد في فضله.
قلت: تنبيه: قال القرطبي في " تذكرته "، وقد جاء حديث النزول مفسرا مبينا في ما
خرجه النسائي عن أبي هريرة، وأبي سعيد، قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله (عز وجل)
يمهل حتى يمضى شطر الليل الأول، ثم يأمر مناديا يقول: هل من داع يستجاب له، هل
من مستغفر يغفر له، هل من سائل يعطى "، صححه أبو محمد عبد الحق. اه‍.
19

وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم:
قال: " إن نزول الله تعالى إلى الشئ إقباله عليه من غير نزول ". اه‍.
والسحر: أخر الليل، قال نافع: " كان ابن عمر يحيى الليل صلاة، ثم يقول: يا
نافع، أسحرنا، فأقول: لا، فيعاود الصلاة، ثم يسأل، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر ".
قال * ع *: وحقيقة السحر في هذه الأحكام الشرعية من الاستغفار المحمود،
وسحور الصائم، ومن يمين لو وقعت، إنما هي من ثلث الليل الآخر إلى الفجر.
(شهد الله انه لا إله هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز
الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما
جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19) فإن حاجوك فقل
أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا
وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20))
20

وقوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو...) الآية: معنى: (شهد الله): أعلم
عباده بهذا الأمر الحق،
وقال * ص *: (شهد) بمعنى علم أو قضى، أو حكم، أو بين، وهي أقوال اه‍.
وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب " فضل العلم "، عن غالب القطان، قال: كنت
اختلف إلى الأعمش، فرأيته ليلة قام يتهجد من الليل، وقرأ بهذه الآية: (شهد الله أنه لا
إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند
الله الإسلام) قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به، واستودع الله هذه الشهادة، فقلت
للأعمش: إني سمعتك تقرأ هذه الآية ترددها، فما بلغك فيها؟ قال: حدثني أبو وائل، عن
ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله سبحانه: عبدي
عهد إلي، وأنا أحق من وفى بالعهد، أدخلوا عبدي / الجنة ". اه‍.
وقرأ جميع القراء " أنه "، بفتح الهمزة، وبكسرها من قوله: (إن الدين)، على
استئناف الكلام، وقرأ الكسائي وخده: " أن الدين "، بفتح الهمزة بدلا من " أنه " الأولى،
(والملائكة وأولوا العلم): عطف على اسم الله، قال الفخر: المراد بأولي العلم هنا:
الذين عرفوا الله بالدلالة القطعية، لأن الشهادة، إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقرونا
بالعلم، وهذا يدل أن هذه الدرجة الشريفة ليست إلا للعلماء بالأصول، وتكررت " لا إله إلا
الله " هنا، وفائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبدا في تكرير هذه
الكلمة، فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، وإذا كان في أكثر الأوقات
مشتغلا بذكرها، وبتكريرها، كان مشتغلا بأعظم أنواع العبادات، فكان من التكرير في هذه
الآية حض العباد على تكريرها. اه‍.
وصح في البخاري، عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال:
21

لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه "، وروى زيد بن أرقم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" من قال: لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله، وما إخلاصها؟ قال: أن
تحجزه عن محارم الله "، خرجه الترمذي الحكيم في " نوادر الأصول " اه‍ من " التذكرة ".
و (قائما): حال من اسمه تعالى في قوله: (شهد الله)، أو من قوله: (إلا هو)،
و (القسط): العدل، وقوله تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام...) الآية: الدين، في
هذه الآية: الطاعة والملة، والمعنى: أن الدين المقبول أو النافع هو الإسلام، والإسلام في
هذه الآية هو الإيمان والطاعات، قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين، وحديث:
" بني الإسلام على خمس "، وحديث مجيء جبريل يعلم الناس....
22

دينهم يفسر ذلك، ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب بعد علمهم بالحقائق، وأنه
23

كان بغيا وطلبا للدنيا، قاله ابن عمر وغيره، و (الذين أوتوا الكتاب): لفظ يعم اليهود
والنصارى، لكن الربيع بن أنس قال: المراد بهذه الآية اليهود، اختلفوا بعد موت
24

موسى، وبعد مضي ثلاثة قرون، وقيل: الآية توبيخ لنصارى نجران، وسرعة الحساب:
يحتمل أن يراد بها: مجيء القيامة والحساب، إذ كل آت قريب، ويحتمل أن يراد بسرعة
الحساب: أن الله تعالى بإحاطته بكل شئ علما لا يحتاج إلى عد ولا فكرة، قاله
مجاهد.
وقوله تعالى: (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن...) الآية: الضمير
في (حاجوك) لليهود، ولنصارى نجران، والمعنى: إن جادلوك وتعنتوا بالأقاويل المزورة
والمغالطات، فأسند إلى ما كلفت من الإيمان، والتبليغ، وعلى الله نصرك.
وقوله: (وجهي): يحتمل أن يراد به المقصد، أي: جعلت مقصدي لله، ويحتمل
أن يراد به الذات، أي: أسلمت شخصي وذاتي لله، وأسلمت، في هذا الموضع بمعنى:
دفعت، وأمضيت، وليست بمعنى دخلت في السلم، / لأن تلك لا تتعدى، ومن اتبعني:
في موضع رفع، عطفا على الضمير في " أسلمت "، والذين أوتوا الكتاب، في هذا
الموضع: يجمع اليهود والنصارى، باتفاق، والأميون: الذين لا يكتبون، وهم العرب في
هذه الآية، وقوله: (أأسلمتم): تقرير في ضمنه الأمر، وقال الزجاج: (أأسلمتم):
تهدد، وهو حسن، و (البلاغ): مصدر بلغ، بتخفيف عين الفعل.
وفي قوله تعالى: (والله بصير بالعباد) وعد للمؤمنين، ووعيد للكافرين.
(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون
بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا
والآخرة وما لهم من ناصرين (22) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب
الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت
كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)
وقوله تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله...) الآية: هذه الآية نزلت في اليهود
25

والنصارى، وتعم كل من كان بهذه الحال، وفيها توبيخ للمعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، روى
أبو عبيدة بن الجراح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، " أن بني إسرائيل قتلوا ثلاثة وأربعين نبيا، فاجتمع
من عبادهم وأحبارهم مائة وعشرون، ليغيروا المنكر، وينكروا، فقتلوا جميعا، كل ذلك في
يوم واحد، وذلك معنى قوله تعالى: (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس)،
و (حبطت): معناه: بطلت.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله...)
الآية: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت المدراس على جماعة
من يهود، فدعاهم إلى الله تعالى، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي
دين أنت يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فقالا: إن إبراهيم كان
يهوديا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا، وبينكم، فأبيا عليه، ونزلت
الآية.
قال * ع *: فالكتاب، في قوله: (من الكتاب): اسم جنس، والكتاب، في
قوله: (إلى كتاب الله) هو التوراة، وقال قتادة وابن جريج: هو القرآن، ورجح الطبري
الأول.
وقوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا): الإشارة فيه إلى التولي والإعراض، أي: إنما
تولوا، وأعرضوا، لاغترارهم بأقوالهم، وافترائهم، ثم قال تعالى خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم،
26

وأمته، على جهة التوقيف والتعجيب: فكيف حال هؤلاء المغترين بالأباطيل، إذا حشروا
يوم القيامة، واضمحلت تلك الزخارف والدعاوى، وجوزوا بما اكتسبوه من كفرهم،
وأعمالهم القبيحة، قال ابن عطية: والصحيح في يوم القيامة أنه يوم، لأن قبله ليلة، وفيه
شمس، وقال النقاش: المراد باليوم الوقت.
(قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل
من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج
الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27) لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة
ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28) قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم
ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير (29))
وقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك...) الآية: هو سبحانه وتعالى مالك الملك
كله مطلقا في جميع أنواعه، وأشرف ملك يؤتيه عباده سعادة الآخرة، روي أن الآية نزلت
بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر أمته، بفتح ملك فارس وغيره، فقالت اليهود والمنافقون: هيهات،
وكذبوا بذلك.
ومذهب البصريين أن الأصل في " اللهم ": يا ألله، فعوض من ياء النداء ميما مشددة.
و (مالك): نصب على النداء، وخص تعالى الخير بالذكر، وهو تعالى بيده كل
شئ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكان المعنى: بيدك الخير فأجزل حظي منه، قال
النووي: وروينا في كتاب " الترمذي " وغيره، عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم / قال: " من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له
الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شئ
قدير - كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف
درجة ". ورواه الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك على الصحيحين "، من طرق كثيرة،
وزاد فيه في بعض طرقه: " وبنى له بيتا في الجنة " قال الحاكم: وفي الباب، عن جابر،
27

وأبي هريرة، وبريدة الأسلمي. اه‍ من " الحلية ".
وقال ابن عباس وغيره في معنى قوله تعالى: (تولج الليل في النهار...) الآية: إنه
ما ينتقص من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقص من الليل، فيزيد في النهار دأبا كل فصل
من السنة، وتحتمل ألفاظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، كأن زوال أحدهما
ولوج في الآخر.
واختلف في معنى قوله تعالى: (وتخرج الحي من الميت...) الآية:
فقال الحسن: معناه: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وروي
نحوه، عن سلمان الفارسي، وروى الزهري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سمع نغمة خالدة
بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال: " من هذه " فأخبر بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " سبحان الذي
يخرج الحي من الميت "، وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافرا، والمراد على هذا:
موت قلب الكافر، وحياة قلب المؤمن.
28

وذهب جمهور كثير إلى أن الحياة والموت في الآية حقيقة، لا أنها استعارة، ثم
اختلفوا في المثل التي فسروا بها.
فقال ابن مسعود: هي النطفة، تخرج من الرجل، وهي ميتة، وهو حي، ويخرج
الرجل منها، وهي ميتة.
وقال عكرمة: هو إخراج الدجاجة، وهي حية، من البيضة، وهي ميتة، وإخراج
البيضة، وهي ميتة من الدجاجة، وهي حية.
وروى السدي، عن أبي مالك، قال: هي الحبة تخرج من السنبلة، والسنبلة تخرج
من الحبة، وكذلك النواة.
وقوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء...) الآية: هذا النهي عن
الاتخاذ، إنما هو عن إظهار اللطف للكفار، والميل إليهم، فأما أن يتخذوا بالقلب، فلا
يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عام في جميع الأعصار.
واختلف في سبب نزولها، فقال ابن عباس: في كعب بن الأشرف وغيره، قد بطنوا
بنفر من الأنصار، ليفتنوهم عن دينهم، فنزلت في ذلك الآية، وقال قوم: نزلت في قصة
حاطب بن أبي بلتعة، وكتابه إلى أهل مكة، والآية عامة في جميع هذا.
وقوله تعالى: (فليس من الله في شئ): معناه: في شئ مرضي، كقوله صلى الله عليه وسلم: " من
غشنا، فليس منا "، ثم أباح سبحانه إظهار اتخاذهم بشرط الاتقاء، فأما إبطانه، فلا يصح
أن يتصف به مؤمن في حال.
وقوله تعالى: (ويحذركم الله...) إلى آخر الآية: وعيد وتنبيه ووعظ وتذكير
بالآخرة.
29

وقوله: (نفسه): نائبة عن " إياه "، وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر،
والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات، وفي الكلام حذف مضاف، لأن التحذير إنما هو من
عقاب وتنكيل ونحوه، قال ابن عباس، والحسن: / ويحذركم الله عقابه.
وقوله تعالى: (قل إن تخفوا ما في صدوركم...) الآية: الضمير في " تخفوا " هو
للمؤمنين الذين نهوا عن الكافرين، والمعنى: إنكم إن أبطنتم الحرص على إظهار
موالاتهم، فإن الله يعلم ذلك، ويكرهه منكم.
(يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا
بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد (30) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر
لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32))
وقوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا)، قال ابن هشام في
" المعنى ": " يوم ": نصب بمحذوف، تقديره: اذكروا أو احذروا، ولا يصح أن يكون ظرفا
ل‍ " يحذركم "، كما زعم بعضهم، لأن التحذير في الدنيا وقع لا في الآخرة. اه‍.
وقوله تعالى: (وما عملت من سوء)، يحتمل أن تكون " ما " معطوفة على " ما "
الأولى، فهي في موضع نصب، ويكون " تود " في موضع الحال، وإليه ذهب الطبري
وغيره، ويحتمل أن تكون " ما " رفع بالابتداء، والخبر في قوله: " تود ". وما بعده، والأمد:
الغاية المحدودة من المكان أو الزمان.
وقوله تعالى: (والله رؤوف بالعباد) يحتمل أن يكون إشارة إلى أن تحذيره رأفة منه
سبحانه بعباده، ويحتمل أن يكون ابتداء إعلام بهذه الصفة، فمقتضى ذلك: التأنيس، لئلا
يفرط الوعيد على نفس مؤمن، فسبحانه ما أرحمه بعباده!.
وعن منصور بن عمار، أنه قال: أعقل الناس محسن خائف، وأجهل الناس مسيء
30

آمن، فلما سمع عبد الملك بن مروان منه هذا الكلام، بكى حتى بل ثيابه، ثم قال له:
أتل علي، يا منصور، شيئا من كتاب الله، فتلا عليه: (يوم تجد كل نفس ما عملت من
خير محضرا...) الآية، فقال عبد الملك: قتلتني، يا منصور، ثم غشي عليه. اه‍.
وقوله تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني...) الآية: قال الشيخ العارف بالله
ابن أبي جمرة (رضي الله عنه): من علامة السعادة للشخص: أن يكون معتنيا بمعرفة السنة
في جميع تصرفاته، والذي يكون كذلك هو دائم في عبادة، في كل حركاته وسكناته، وهذا
هو طريق أهل الفضل، حتى حكي عن بعضهم، أنه لم يأكل البطيخ سنين، لما لم يبلغه
كيفية السنة في أكله، وكيف لا، والله سبحانه يقول: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله) والاتباعية الكاملة إنما تصح بأن تكون عامة في كل الأشياء، يعني: إلا ما
خصصه به الدليل، جعلنا الله من أهلها في الدارين. انتهى.
قال * ع *: قال الحسن بن أبي الحسن، وابن جريج: إن قوما على عهد
النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا محمد، إنا نحب ربنا، فنزلت هذه الآية، وقيل: أمر صلى الله عليه أن يقول هذا
القول لنصارى نجران.
قال * ع *: ويحتمل أن تكون الآية عامة لأهل الكتاب اليهود والنصارى، لأنهم
كانوا يدعون أنهم يحبون الله، ويحبهم.
قال عياض: أعلم أن من أحب شيئا، آثره، وآثر موافقته، وإلا لم يكن صادقا في
حبه، وكان مدعيا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم، من تظهر علامات ذلك عليه، وأولها
الاقتداء به، واتباع سنته، واتباع أقواله وأفعاله، والتأدب بآدابه في عسره ويسره، قال
تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني...) الآية، قال عياض: روي في الحديث،
عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من استمسك بحديثي، وفهمه وحفظه، جاء مع القرآن، ومن
31

تهاون بالقرآن، وحديثي، / خسر الدنيا والآخرة... " الحديث، وعن أبي هريرة (رضي
الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المستمسك بسنتي عند فساد أمتي، له أجر مائة شهيد "،
وقال أبي بن كعب: " عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما على الأرض من عبد على السبيل
والسنة، ذكر الله في نفسه، ففاضت عيناه من خشية ربه، فيعذبه الله أبدا، وما على الأرض
من عبد على السبيل والسنة، ذكر الله في نفسه، فاقشعر جلده من خشية الله، إلا كان مثله
كمثل شجرة، قد يبس ورقها، فهي كذلك، إذ أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إلا
حط الله عنه خطاياه، كما تحات عن الشجرة ورقها... " الحديث.
قال عياض: ومن علامات محبته صلى الله عليه وسلم: زهد مدعيها في الدنيا، وإيثاره الفقر،
واتصافه فيه، ففي حديث أبي سعيد: " إن الفقر إلى من يحبني منكم أسرع من السيل من
أعلى الوادي، أو الجبل إلى أسفله "، وفي حديث عبد الله بن مغفل: " قال رجل
للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إني أحبك، فقال: أنظر ما تقول؟ قال: والله إني لأحبك "، ثلاث
مرات، قال: " إن كنت تحبني، فأعد للفقر تجفافا "، ثم ذكر نحو حديث أبي سعيد
بمعناه اه‍ من " الشفا ".
32

قال * ع *: والمحبة: إرادة يقترن بها إقبال من النفس وميل بالمعتقد، وقد تكون
الإرادة المجردة فيما يكره المريد، والله تعالى يريد وقوع الكفر، ولا يحبه، ومحبة العبد
لله تعالى يلزم عنها، ولا بد أن يطيعه، ومحبة الله تعالى أمارتها للمتأمل أن يرى العبد
مهديا مسددا ذا قبول في الأرض، فلطف الله تعالى بالعبد ورحمته إياه هي ثمرة محبته،
وبهذا النظر يفسر لفظ المحبة، حيث وقعت من كتاب الله عز وجل.
(* إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من
بعض والله سميع عليم (34) إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني
إنك أنت السميع العليم (35))
وقوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحا...) الآية: لما مضى صدر من محاجة
نصارى نجران، والرد عليهم وبيان فساد ما هم عليه، جاءت هذه الآيات معلمة بصورة
الأمر الذي قد ضلوا فيه، ومنبئة عن حقيقته، كيف كانت، فبدأ تعالى بذكر فضل آدم ومن
ذكر بعده، ثم خص امرأة عمران بالذكر، لأن القصد وصف قصة القوم إلى أن يبين أمر
عيسى (عليه السلام)، وكيف كان، وانصرف " نوح "، مع عجمته وتعريفه، لخفة الاسم،
كهود ولوط، قال الفخر هنا: أعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلف، وغير مكلف،
واتفقوا على أن المكلف أفضل من غير المكلف، واتفقوا على أن أصناف المكلفين أربعة:
الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين.
* ت *: تأمله جعل الشياطين قسيما للجن. اه‍.
والآل، في اللغة: الأهل، والقرابة، ويقال للأتباع، وأهل الطاعة: آل، والآل، في
الآية: يحتمل الوجهين، فإن أريد بالآل: القرابة، فالتقدير أن الله اصطفى هؤلاء على
عالمي زمانهم، أو على العالمين جميعا، بأن يقدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، وإن
أريد بالآل: الاتباع، فيستقيم دخول أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الآل، لأنها على ملة إبراهيم.
وقوله تعالى: (ذرية بعضها من بعض)، أي: متشابهين في الدين، والحال،
وعمران / هو رجل من بني إسرائيل، وامرأة عمران اسمها حنة، ومعنى: (نذرت):
جعلت لك ما في بطني محررا، أي: حبيسا على خدمة بيتك، محررا من كل خدمة وشغل
من أشغال الدنيا، والبيت الذي نذرته له هو بيت المقدس، (فتقبل مني)، أي: أرض عني
33

في ذلك، واجعله فعلا مقبولا مجازى به، و (السميع): إشارة إلى دعائها، و (العليم):
إشارة إلى نيتها.
(فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني
سميتها مريم وإني أعيدها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها
نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا
قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37) هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب
لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38))
وقوله تعالى: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت):
الوضع: الولادة، وقولها: (رب إني وضعتها أنثى): لفظ خبر في ضمنه التحسر
والتلهف، وبين الله ذلك بقوله: (والله أعلم بما وضعت)، وقولها: (وليس الذكر
كالأنثى)، تريد في امتناع نذرها، إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان، قاله قتادة
وغيره، وبدأت بذكر الأهم في نفسها، وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليس الأنثى
كالذكر، وفي قولها: (وإني سميتها مريم): سنة تسمية الأطفال قرب الولادة، ونحوه قول
النبي صلى الله عليه وسلم: " ولد لي الليلة مولود، فسميته باسم أبي إبراهيم "، وباقي الآية إعادة، قال
النووي: وروينا في سنن أبي داود، بإسناد جيد، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
34

قال: " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم ". وفي
صحيح مسلم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن أحب أسمائكم إلى الله
عز وجل عبد الله، وعبد الرحمن " وفي سنن أبي داود والنسائي، وغيرهما، عن أبي
وهب الجشمي، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله
تعالى عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة ". اه‍.
وفي الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، من رواية أبي هريرة، قال: " كل مولود من بني آدم له
طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي إلا ما كان من مريم ابنة عمران، وابنها، فإن أمها
35

قالت حين وضعتها: (وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم)، فضرب بينهما
حجاب، فطعن الشيطان في الحجاب "، وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، والمعنى
واحد، كما ذكرته، قال النووي: باب ما يقال عند الولادة: روينا في كتاب ابن السني،
عن فاطمة (رضي الله عنها) " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دنا ولادها، أمر أم سلمة، وزينب
بنت جحش، أن تأتياها، فتقرأ عندها آية الكرسي، و (إن ربكم الله...) إلى آخر الآية،
36

وتعوذانها بالمعوذتين ". انتهى.
وقوله تعالى: (فتقبلها ربها بقول حسن): إخبار منه سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم، بأنه
رضي مريم لخدمة المسجد، كما نذرت أمها وسني لها الأمل في ذلك.
وقوله سبحانه: (وأنبتها نباتا حسنا): عبارة عن حسن النشأة في خلقة وخلق /.
* ص *: (بقبول) مصدر على غير الصدر، والجاري على: تقبل تقبلا، وعلى
قبل قبولا، و (نباتا): مصدر منصوب ب‍ " أنبتها "، على غير الصدر. انتهى.
وقوله تعالى: (وكفلها زكريا) معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل: هو
المربى، قال السدي وغيره: إن زكريا كان زوج أختها، ويعضد هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في
يحيى وعيسى: " ابنا الخالة "، والذي عليه الناس: أن زكريا إنما كفلها بالاستهام،
لتشاحهم حينئذ فيمن يكفل المحرر.
وقوله تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) المحراب:
المبنى الحسن، ومحراب القصر: أشرف ما فيه، ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى، وهو
موقف الإمام: محراب، ومعنى (رزقا)، أي: طعاما يتغذى به، لم يعهده، ولا عرف
كيف جلب إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة
الصيف في الشتاء، ونحوه عن ابن عباس إلا أنه قال: ثمار الجنة، وقوله: (أنى):
معناه: كيف، ومن أين، وقولها: (من عند الله) دليل على أنه ليس من جلب بشر، قال
الزجاج. وهذا من الآية التي قال الله تعالى: (وجعلناها وابنها آية للعالمين) [الأنبياء: 91]
وقولها: (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب): تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله،
وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، والله
37

سبحانه لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما خرج منها، وقد يعبر بهذه العبارة عن المكثرين
من الناس، أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من
خزائن الله سبحانه، قال الشيخ ابن أبي جمرة (رضي الله عنه): وقد قال العلماء في معنى
قوله عز وجل (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب): إنه الفتوح، إذا كان على
وجهه. اه‍، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: " لو دعيت إلى ذراع أو كراع، لأجبت ".
وقوله تعالى: (هنالك دعا زكريا ربه...) الآية: هنالك، في كلام العرب: إشارة
إلى مكان أو زمان فيه بعد، ومعنى هذه الآية: إن في الوقت الذي رأى زكريا رزق الله
لمريم ومكانتها من الله، وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت، وأن الله تعالى تقبلها،
وجعلها من الصالحات، تحرك أمله لطلب الولد، وقوي رجاؤه، وذلك منه على حال سن
ووهن عظم، واشتعال شيب، فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة يرثه، والذرية: اسم جنس،
يقع على واحد فصاعدا، كما أن الولد: اسم جنس كذلك، وطيبة: معناه: سليمة في
الخلق والدين، تقية، ثم قال تعالى: (قتادة الملائكة) [آل عمران: 39]، وترك محذوف كثير
38

دل عليه ما ذكر، تقديره: فقبل الله دعاءه، وبعث الملك، أو الملائكة، فنادته، وذكر
جمهور المفسرين، أن المنادي إنما هو جبريل، وقال قوم: بل نادته ملائكة كثيرة، حسبما
تقتضيه ألفاظ الآية، قلت: وهذا هو الظاهر، ولا يعدل عنه إلا أن يصح في ذلك حديث
عنه صلى الله عليه وسلم، فيتبع.
(فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله
وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي
عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس
ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (41))
وقوله تعالى: (فنادته) عبارة تستعمل في التبشير، وفي ما ينبغي أن يسرع / به،
وينهى إلى نفس السامع ليسر به، فلم يكن هذا من الملائكة إخبارا على عرف الوحي، بل
نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل.
وقوله تعالى: (وهو قائم يصلي في المحراب)، يعني: ب‍ " المحراب "، في هذا
الموضع: موقف الإمام من المسجد، ويحيي: اسم سماه الله به قبل أن يولد، و
(مصدقا) نصب على الحال، قال ابن عباس وغيره: الكلمة هنا يراد بها عيسى ابن
مريم.
قال * ع *: وسمى الله تعالى عيسى كلمة، إذ صدر عن كلمة منه تعالى، وهي
" كن "، لا بسبب إنسان.
وقوله تعالى: (وسيدا): قال قتادة: أي: والله سيد في الحلم والعبادة والورع.
قال * ع *: من فسر السؤدد بالحلم، فقد أحرز أكثر معنى السؤدد، ومن جرد
تفسيره بالعلم والتقى ونحوه، فلم يفسره بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى
- عليه السلام - بقوله: (مصدقا بكلمة من الله)، وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله
بذكر السؤدد الذي هو الاعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه، دون أن يوقع في باطل
هذا اللفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال: بذل الندى، وهذا هو الكرم، وكف الأذى، وهنا
39

هي العفة بالفرج، واليد، واللسان، واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل
الغرامات والإنقاذ من الهلكات، وجبر الكسير، والإفضال على المسترفد، وانظر قول
النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد ولد آدم، ولا فخر "، وذكر حديث الشفاعة في إطلاق الموقف، وذلك
منه اعتمال في رضا ولد آدم، ثم:
قال * ع *: أما أنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل
بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى - عليه السلام -.
وقوله تعالى: (وحصورا) أصل هذه اللفظة: الحبس والمنع، ومنه: حصر
العدو.
قال * ع *: وأجمع من يعتد بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى
- عليه السلام - إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال: إنه
الحصور عن الذنوب، وذهب بعض العلماء إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه، تقي
وجلدا في طاعة الله سبحانه، وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا: وهذه أمدح له،
قال الإمام الفخر: وهذا القول هو اختيار المحققين، أنه لا يأتي النساء، لا للعجز، بل
للعصمة والزهد.
قلت: قال عياض: أعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى - عليه السلام -، بأنه حصور،
ليس كما قال بعضهم: إنه كان هيوبا أو لا ذكر له، بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين،
ونقاد العلماء، وقالوا: هذه نقيصة وعيب، ولا تليق بالأنبياء - عليهم السلام -، وإنما
معناه: معصوم من الذنوب، أي: لا يأتيها، كأنه حصر عنها، وقيل: مانعا نفسه من
الشهوات، وقيل: ليست له شهوة في النساء، كفاية من الله له، لكونها مشغلة في كثير من
40

الأوقات، حاطة إلى الدنيا، ثم هي، في حق من أقدر عليها، وقام بالواجب فيها، ولم
تشغله عن ربه - درجة عليا، وهي درجة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: وسائر النبيين. اه‍. من
" الشفا ".
وباقي الآية بين.
وروي من صلاحه / - عليه السلام -، أنه كان يعيش من العشب، وأنه كان كثير البكاء
من خشية الله، حتى اتخذ الدمع في وجهه أخدودا.
* ص *: و (من الصالحين)، أي: من أصلاب الأنبياء، أو صالحا من
الصالحين، فيكون صفة لموصوف محذوف. اه‍.
قلت: والثاني أحسن، والأول تحصيل الحاصل، فتأمله.
وقوله تعالى: (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر...) الآية: ذهب
الطبري وغيره إلى أن زكريا لما رأى حال نفسه، وحال امرأته، وأنها ليست بحال نسل،
سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟
قال * ع *: وهذا تأويل حسن لائق وكان بزكريا - عليه السلام -.
و (أنى): معناها: كيف، ومن أين، وحسن في الآية (بلغني الكبر)، من حيث
هي عبارة واهن منفعل.
وقوله: (كذلك)، أي: كهذه القدرة المستغربة قدرة الله، ويحتمل أن تكون الإشارة
بذلك إلى حال زكريا، وحال امرأته، كأنه قال: رب، على أي وجه يكون لنا غلام، ونحن
بحال كذا، فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام، على هذا التأويل في قوله:
(كذلك).
وقوله: (الله يفعل ما يشاء): جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر
المستغرب.
وقوله: (قال رب اجعل لي آية)، أي: علامة، قالت فرقة من المفسرين لم يكن
41

هذا من زكريا على جهة الشك، وإنما سأل علامة على وقت الحمل.
وقوله تعالى: (آيتك ألا تكلم الناس...) الآية: قال الطبري وغيره: لم يكن منعه
الكلام لآفة، ولكنه منع محاورة الناس، وكان يقدر على ذكر الله، ثم استثنى الرمز، وهو
استثناء منقطع، والكلام المراد في الآية: إنما هو النطق باللسان، لا الإعلام بما في النفس،
والرمز في اللغة: حركة تعلم بما في نفس الرامز، كانت الحركة من عين، أو حاجب، أو
شفة، أو يد، أو عود، أو غير ذلك، وقد قيل للكلام المحرف عن ظاهره: رموز.
وأمره تعالى بالذكر لربه كثيرا، لأنه لم يحل بينه وبين ذكر الله، وهذا قاض بأنه لم
تدركه آفة ولا علة في لسانه، قال محمد بن كعب القرظي: لو كان الله رخص لأحد في
ترك الذكر، لرخص لزكريا - عليه السلام - حيث قال: (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا)، لكنه قال له: (أذكر ربك كثيرا) قال الإمام الفخر: وفي الآية تأويلان:
أحدهما: أن الله تعالى حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقدره على الذكر والتسبيح
والتهليل، ليكون في تلك المدة مشتغلا بذكر الله وطاعته، شكرا لله على هذه النعمة، ثم
أعلم أن هذه الواقعة كانت مشتملة على المعجز من وجوه:
أحدها: أن قدرته على الذكر والتسبيح، وعجزه عن التكلم بأمور الدنيا من
المعجزات.
وثانيها: أن حصول ذلك العجز مع صحة البنية من المعجزات.
وثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت تلك الحالة، فقد حصل الولد، ثم إن الأمر
خرج على وفق هذا الخبر يكون أيضا من المعجزات.
والتأويل الثاني: أن المراد منه الذكر بالقلب، وذلك لأن المستغرقين في بحار معرفة
الله تعالى عادتهم في أول الأمر أن يواظبوا على الذكر اللساني مدة، فإذا امتلأ القلب من
نور ذكر الله تعالى /، سكتوا باللسان، وبقي الذكر في القلب، ولذلك قالوا: " من عرف
الله، كل لسانه "، فكان زكرياء - عليه السلام - أمر بالسكوت باللسان واستحضار معاني
42

الذكر والمعرفة، واستدامتها بالقلب. اه‍.
وقوله تعالى: (وسبح): معناه: قل سبحان الله، وقال قوم: معناه صل، والأول
أصوب، لأنه يناسب الذكر، ويستغرب مع امتناع الكلام مع الناس، والعشي، في اللغة:
من زوال الشمس إلى مغيبها، والإبكار: مصدر أكبر الرجل، إذا بادر أمره من لدن طلوع
الفجر إلى طلوع الشمس، وتتمادى البكرة شيئا بعد طلوع الشمس، يقال: أبكر الرجل
وبكر.
(وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42)
يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43))
وقوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة): العامل في " إذ ": " أذكر "، لأن هذه الآيات
كلها إنما هي إخبارات بغيب تدل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، مقصد ذكرها هو الأظهر في
حفظ رونق الكلام.
و (اصطفاك): معناه: تخيرك لطاعته، و (طهرك): معناه: من كل ما يصم النساء
في خلق، أو خلق، أو دين، قاله مجاهد وغيره، وقول الزجاج: قد جاء في التفسير، أن
معناه: طهرك من الحيض والنفاس - يحتاج إلى سند قوي، وما أحفظه، و (العالمين)
يحتمل عالم زمانها.
قال * ع *: وسائغ أن يتأول عموم الاصطفاء على العالمين، وقد قال بعض
الناس: إن مريم نبية من أجل مخاطبة الملائكة لها، وجمهور الناس على أنها لم تنبأ امرأة،
و (اقنتي) معناه: اعبدي، وأطيعي، قاله الحسن وغيره، ويحتمل أن يكون معناه:
أطيلي القيام في الصلاة، وهذا هو قول الجمهور، وهو المناسب في المعنى لقوله:
(واسجدي)، وروى مجاهد، أنها لما خوطبت بهذا، قامت حتى ورمت قدماها، وروى
الأوزاعي: حتى سال الدم والقيح من قدميها، وروي أن الطير كانت، تنزل على رأسها
تظنها جمادا.
واختلف المتأولون، لم قدم السجود على الركوع.
43

فقال قوم: كان ذلك في شرعهم، والقول عندي في ذلك: أن مريم أمرت بفصلين
ومعلمين من معالم الصلاة، وهما طول القيام، والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما، وهذان
يختصان بصلاتها مفردة وإلا فمن يصلي وراء إمام، فليس يقال له: أطل قيامك، ثم أمرت
بعد بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: (واركعي مع الراكعين)، وقصد هنا معلم آخر من
معالم الصلاة لئلا يتكرر اللفظ، ولم يرد في الآية الركوع والسجود الذي هو منتظم في
ركعة واحدة، والله أعلم.
وقال * ص *: قوله: (واركعي)، الواو: لا ترتب، فلا يسأل، لم قدم السجود،
إلا من جهة علم البيان، وجوابه أنه قدم، لأنه أقرب ما يكون العبد فيه من ربه، فكان
أشرف، وقيل: كان مقدما في شرعهم. اه‍.
(ذلك من أنباء نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا
ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47) ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48))
وقوله تعالى: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك...) الآية: هذه المخاطبة لنبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، والإشارة بذلك إلى ما تقدم ذكره من القصص، والأنباء: الأخبار، والغيب: ما
غاب عن مدارك الإنسان، ونوحيه: معناه: نلقيه في نفسك في خفاء، وحد الوحي: إلقاء
المعنى في النفس في خفاء، فمنه بالملك، ومنه بالإلهام، ومنه بالإشارة، ومنه بالكتاب.
وفي هذه الآية بيان لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ جاءهم بغيوب / لا يعلمها إلا من
شاهدها، وهو لم يكن لديهم، أو من قرأها في كتبهم، وهو صلى الله عليه وسلم أمي من قوم أميين، أو:
من أعلمه الله بها، وهو ذاك صلى الله عليه وسلم، و (لديهم): معناه: عندهم ومعهم.
وقوله: (إذ يلقون أقلامهم...) الآية: جمهور العلماء على أنه استهام لأخذها
والمنافسة فيها، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، فروي أن
قلم زكريا صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين، وقيل غير هذا، قلت: ولفظ ابن العربي
في " الأحكام " قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فجرت الأقلام وعلا قلم زكريا " اه‍، وإذا ثبت الحديث،
44

فلا نظر لأحد معه.
و (يختصمون): معناه: يتراجعون القول الجهير في أمرها.
وفي هذه الآية استعمال القرعة، والقرعة سنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا سافر، أقرع بين
نسائه " وقال صلى الله عليه وسلم: " لو يعلمون ما في الصف الأول، لاستهموا عليه ".
واختلف أيضا، هل الملائكة هنا عبارة عن جبريل وحده أو عن جماعة من الملائكة؟
و (وجيها): نصب على الحال، وهو من الوجه، أي: له وجه ومنزلة عند الله،
وقال البخاري: وجيها: شريفا اه‍.
(ومن المقربين): معناه: من الله تعالى، وكلامه في المهد: آية دالة على براءة أمه،
وأخبر تعالى عنه أنه أيضا يكلم الناس كهلا، وفائدة ذلك أنه إخبار لها بحياته إلى سن
الكهولة، قال جمهور الناس: الكهل الذي بلغ سن الكهولة، وقال مجاهد: الكهل:
الحليم،
قال * ع *: وهذا تفسير للكهولة بعرض مصاحب لها في الأغلب، واختلف
الناس في حد الكهولة، فقيل: الكهل ابن أربعين، وقيل: ابن خمسة وثلاثين، وقيل: ابن
ثلاثة وثلاثين، وقيل: ابن اثنين وثلاثين، هذا حد أولها، وأما آخرها، فاثنان وخمسون، ثم
يدخل سن الشيخوخة.
وقول مريم: (أنى يكون لي ولد): استفهام عن جهة حملها، واستغرابا للحمل
على بكارتها، و " يمسس ": معناه: يطأ ويجامع.
* ص *: والبشر يطلق على الواحد والجمع. اه‍.
45

والكلام في قوله: (كذلك) كالكلام في أمر زكريا، وجاءت العبارة في أمر زكريا:
" يفعل "، وجاءت هنا: " يخلق "، من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان الذي يتعارف،
وإن قل، وقصة مريم لا تتعارف البتة، فلفظ الخلق أقرب إلى الاختراع، وأدل عليه.
وقوله تعالى: (إذا قضى أمرا): معناه: إذا أراد إيجاده، والأمر واحد الأمور، وهو
مصدر رسمي به، والضمير في " له " عائد على الأمر والقول، على جهة المخاطبة.
وقوله: (كن) خطاب للمقضي.
وقوله: (فيكون)، بالرفع: خطاب للمخبر.
وقوله تعالى: (ويعلمه الكتاب...) الآية: الكتاب هنا: هو الخط باليد، وهو
مصدر: كتب يكتب، قاله جمهور المفسرين.
(ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين
كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله
وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا
لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم
فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51))
وقوله (ورسولا إلى بني إسرائيل)، أي: ويجعله رسولا، وكانت رسالة عيسى
- عليه السلام - إلى بني إسرائيل مبينا حكم التوراة، ونادبا إلى العمل بها، ومحللا أشياء
مما حرم فيها، كالثروب ولحوم الإبل، وأشياء من الحيتان والطير /، ومن أول القول لمريم
إلى قوله: (إسرائيل): خطاب لمريم، ومن قوله: (أتى قد جئتكم) إلى قوله:
(مستقيم): يحتمل أن يكون خطابا لمريم، على معنى: يكون من قوله لبني إسرائيل كيت
وكيت، ويكون في آخر الكلام محذوف يدل عليه الظاهر، تقديره: فجاء عيسى بني
إسرائيل رسولا، فقال لهم ما تقدم ذكره، ويحتمل أن يكون المحذوف مقدرا في صدر
الكلام بعد قوله: (إلى بني إسرائيل)، فيكون تقديره: فجاء عيسى، كما بشر الله رسولا
إلى بني إسرائيل، بأني قد جئتكم، ويكون قوله: (أني قد جئتكم) ليس بخطاب لمريم،
والأول أظهر.
وقوله: (أني أخلق لكم من الطين...) الآية: قرأ نافع: " إني أخلق " بكسر الهمزة،
وقرأ باقي السبعة بفتحها، فوجه قراءة نافع إما القطع والاستئناف، وإما أنه فسر الآية بقوله:
(إني)، كما فسر المثل في قوله: (كمثل آدم) [آل عمران: 59] ووجه قراءة الباقين البدل
46

من " أية "، كأنه قال: وجئتكم بأني أخلق، و (أخلق): معناه: أقدر وأهيئ بيدي.
* ص *: (كهيئة): الهيئة: الشكل والصورة، وهو مصدر: هاء الشئ يهيئ
هيئة، وهيأ، إذا ترتب واستقر على حال ما، وتعديه بالتضعيف، قال تعالى: (ويهيئ لكم
من أمركم مرفقا) [الكهف: 16] اه‍.
وقرأ نافع وحده: " فيكون طائرا "، بالإفراد، أي: يكون طائرا من الطيور، وقرأ
الباقون: " فيكون طيرا "، بالجمع، وكذلك في " سورة المائدة " والطير: اسم جمع، وليس
من أبنية الجموع، وإنما البناء في جمع طائر: أطيار، وجمع الجمع: طيور.
وقوله: (فأنفخ فيه)، ذكر الضمير، لأنه يحتمل أن يعود على الطين المهيئ،
ويحتمل أن يريد: فأنفخ في المذكور، وأنث الضمير في " سورة المائدة "، لأنه يحتمل أن
يعود على الهيئة، أو على تأنيث لفظ الجماعة، وكون عيسى يخلق بيده، وينفخ بفيه، إنما
هو ليبين تلبسه بالمعجزة، وأنها جاءت من قبله، وأما الإيجاد من العدم، وخلق الحياة في
ذلك الطين، فمن الله تعالى وحده، لا شريك له.
وروي في قصص هذه الآية، أن عيسى - عليه السلام - كان يقول لبني إسرائيل: أي:
الطير أشد خلقة، وأصعب أن يحكى؟ فيقولون: الخفاش، لأنه طائر لا ريش له، فكان
يصنع من الطين خفافيش، ثم ينفخ فيها فتطير، وكل ذلك بحضرة الناس، ومعاينتهم،
فكانوا يقولون: " هذا ساحر " (وأبرئ) معناه: أزيل المرض، و (الأكمه): هو الذي يولد
أعمى مضموم العينين، قاله ابن عباس وقتادة.
قال * ع *: والأكمه، في اللغة: هو الأعمى، وقد كان عيسى - عليه السلام -
يبرئ بدعائه، ومسح يده على كل عاهة، ولكن الاحتجاج على بني إسرائيل في معنى
النبوءة لا يقوم إلا بالإبراء من العلل التي لا يبرئ منها طبيب بوجه، وروي في إحيائه
الموتى، أنه كان يضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة، فيحيى الإنسان، ويكلمه
بإذن الله، وفي قصص الإحياء أحاديث كثيرة لا يوقف على صحتها، وآيات عيسى - عليه
السلام - إنما تجري فيما يعارض الطب، لأن علم الطب كان شرف الناس في ذلك / الزمان،
47

وشغلهم، وحينئذ أثيرت فيه العجائب، فلما جاء عيسى - عليه السلام - بغرائب لا تقتضيها
الأمزجة وأصول الطب، وذلك إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، علمت الأطباء، أن
هذه القوة من عند الله، وهذا كأمر السحرة مع موسى، والفصحاء مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ووقع
في التواريخ المترجمة عن الأطباء، أن جالينوس كان في زمن عيسى - عليه السلام -، وأنه
رحل إليه من رومية إلى الشام، فمات في طريقه ذلك.
وقوله: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم...) الآية: قال مجاهد
وغيره: كان عيسى - عليه السلام - من لدن طفوليته، وهو في الكتاب، يخبر الصبيان بما
يفعل آباؤهم في منازلهم، وبما يؤكل من الطعام، ويدخر، وكذلك إلى أن نبئ، فكان
يقول لكل من سأله عن هذا المعنى: أكلت البارحة كذا، وادخرت كذا، وقال قتادة:
معنى الآية: إنما هو في نزول المائدة عليهم، وذلك أنها لما نزلت، أخذ عليهم عهد أن
يأكلوا ولا يخبأ أحد شيئا، ولا يدخره ولا يحمله إلى بيته، فخانوا، وجعلوا يخبئون، فكان
عيسى - عليه السلام - يخبر كل أحد عما أكل، وعما ادخر في بيته من ذلك، وعوقبوا على
ذلك.
وقوله: (فاتقوا الله وأطيعون): تحذير، ودعاء إلى الله عز وجل.
وقوله: (هذا صراط مستقيم): إشارة إلى قوله: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه)،
لأن ألفاظه جمعت الإيمان والطاعات، والصراط: الطريق، والمستقيم: الذي لا اعوجاج
فيه.
(* فلما أحسن عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار
الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون (52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع
الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54))
وقوله تعالى: (فلما أحس عيسى منهم الكفر...) الآية: قبل هذه الآية محذوف،
به يتم اتساق الآيات، تقديره: فجاء عيسى، كما بشر الله به، فقال جميع ما ذكر لبني
إسرائيل، (فلما أحس)، ومعنى: (أحس): علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم
في تكذيبه، ورأى من قرائن أحوالهم، وشدة عداوتهم، وإعراضهم، (قال من أنصاري إلى
الله) وقوله: (إلى الله): يحتمل معنيين:
48

أحدهما: من ينصرني في السبيل إلى الله.
والثاني: أن يكون التقدير: من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي، فإلى دالة على الغاية
في كلا التقديرين، وليس يباح أن يقال: " إلى " بمعنى " مع "، كما غلط في ذلك بعض
الفقهاء في تأويل قوله تعالى: (وأيديكم إلى المرافق) [المائدة: 6]، فقال: " إلى " بمعنى
" مع "، وهذه عجمة.
والحواريون قوم مر بهم عيسى صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى نصره واتباع ملته، فأجابوه، وقاموا
بذلك خير قيام، وصبروا في ذات الله، واختلف، لم قيل لهم حواريون؟ فقال ابن جبير:
لبياض ثيابهم، وقال أبو أرطأة: لأنهم كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها،
وقال قتادة: الحواريون: أصفياء الأنبياء الذين تصلح لهم الخلافة، وقال الضحاك
نحوه،
قال * ع *: وهذا القول تقرير حال القوم، وليس بتفسير اللفظة، وعلى هذا الحد
شبه النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمته بهم في قوله: " وحواريي الزبير ".
والأقوال الأول هي تفسير اللفظة، إذ هي من الحور /، وهو البياض، حورت
الثوب: بيضته، ومنه الحواري، وقد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار:
الحواريات، لغلبة البياض عليهن، ومنه قول أبي جلدة اليشكري: [الطويل].
49

فقل للحواريات يبكين غيرنا * ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقول الحواريين: (واشهد) يحتمل أن يكون خطابا لعيسى - عليه السلام -، أي:
اشهد لنا عند الله، ويحتمل أن يكون خطابا لله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:
" اللهم، اشهد "، وقولهم: (ربنا آمنا بما أنزلت) يريدون: الإنجيل، وآيات عيسى،
(فاكتبنا مع الشاهدين)، أي: في عداد من شهد بالحق من مؤمني الأمم، ثم أخبر تعالى
عن بني إسرائيل الكافرين بعيسى - عليه السلام -، فقال: (ومكروا)، يريد في تحيلهم في
قتله بزعمهم فهذا هو مكرهم، فجازاهم الله تعالى، بأن طرح شبه عيسى على أحد
الحواريين، في قول الجمهور، أو على يهودي منهم كان جاسوسا، وأعقب بني إسرائيل
مذلة وهوانا في الدنيا والآخرة، فهذه العقوبة هي التي سماها الله تعالى مكرا في قوله:
(ومكر الله)، وذلك مهيع أن تسمى العقوبة باسم الذنب.
وقوله: (والله خير الماكرين): معناه: فاعل حق في ذلك، وذكر أبو القاسم
القشيري في " تجبيره "، قال: سئل ميمون، أحسبه: ابن مهران، عن قوله تعالى:
(ومكروا ومكر الله) فقال: تخليته إياهم، مع مكرهم هو مكره بهم. اه‍. ونحوه عن
الجنيد، قال الفراء: المكر من المخلوق الخب والحيلة، ومن الإله الاستدراج، قال الله
50

تعالى: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) [القلم: 44] قال ابن عباس: كلما أحدثوا
خطيئة، أحدثنا لهم نعمة. اه‍.
(إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين
اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فاحكم بينكم فيما كنتم فيه
تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56)
وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين (57) ذلك نتلوه
عليك من الآيات والذكر الحكيم (58))
وقوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك...) الآية: اختلف في هذا
التوفي.
فقال الربيع: هي وفاة نوم، وقال الحسن وغيره: هو توفى قبض وتحصيل، أي:
قابضك من الأرض، ومحصلك في السماء وقال ابن عباس: هي وفاة موت، ونحوه
لمالك في " العتبية "، وقال وهب بن منبه: توفاه الله بالموت ثلاث ساعات، ورفعه فيها،
ثم أحياه بعد ذلك، وقال الفراء: هي وفاة موت، ولكن المعنى: إني متوفيك في آخر
أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، ففي الكلام تقديم وتأخير.
قال * ع *: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر، من أن عيسى - عليه
51

السلام - في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب،
ويقتل الدجال، ويفيض العدل، ويظهر هذه الملة ملة محمد صلى الله عليه وسلم، ويحج البيت، ويعتمر،
ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة، وقيل: أربعين سنة، ثم يميته الله تعالى.
52

قال * ع *: فقول ابن عباس: هي وفاة موت لا بد أن يتمم أما على قول
وهب بن منبه، وإما على قول الفراء.
وقوله تعالى: (ورافعك إلي) عبارة عن نقله من سفل إلى علو، وإضافة الله سبحانه
إضافة تشريف، وإلا فمعلوم أنه سبحانه غير متحيز في جهة، (ومطهرك)، أي: من:
دعاوى الكفرة ومعاشرتهم.
وقوله: (وجاعل الذين اتبعوك...) الآية: قال جمهور المفسرين بعموم اللفظ / في
المتبعين، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنها متبعة لعيسى، قاله قتادة وغيره،
وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين، فمقتضى الآية إعلام عيسى - عليه السلام -، أن
أهل الإيمان به، كما يجب، هم فوق الذين كفروا بالحجة، والبرهان، والعز والغلبة،
ويظهر من عبارة ابن جريج وغيره، أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره، وهم
الحواريون.
وقوله تعالى: (ثم إلي مرجعكم) خطاب لعيسى، والمراد: الإخبار بالقيامة،
والحشر، وباقي الآية بين، وتوفية الأجور هي قسم المنازل في الجنة، فذلك هو بحسب
الأعمال، وأما نفس دخول الجنة، فبرحمة الله وتفضله سبحانه.
وقوله تعالى: (ذلك نتلوه عليك من الآيات...) الآية: " ذلك ": إشارة إلى ما تقدم
من الأنباء، و (نتلوه): معناه: نسرده، و (من الآيات): ظاهره آيات القرآن، ويحتمل
أن يريد: من المعجزات والمستغربات، أن تأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا،
و (الذكر): ما ينزل من عند الله. قال ابن عباس: الذكر: القرآن، و (الحكيم): الذي
قد كمل في حكمته.
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من
ربك فلا تكن من الممترين (60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61))
53

وقوله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله...) الآية: قال ابن عباس وغيره: سبب
نزولها محاجة نصارى نجران في أمر عيسى، وقولهم: يا محمد، هل رأيت بشرا قط من
غير فحل، أو سمعت به، ومعنى الآية أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من
عيسى هو كالمتصور من آدم، إذ الناس مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير
فحل، وفي هذه الآية صحة القياس.
وقوله تعالى: (ثم قال) ترتيب للأخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم، المعنى: خلقه من تراب، ثم
كان من أمره في الأزل أن قال له: كن وقت كذا.
وقوله تعالى: (الحق من ربك)، أي: هذا هو الحق، و (الممترين): هم
الشاكون، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم في عبارة اقتضت ذم الممترين، وهذا يدل على أن المراد
بالامتراء غيره ونهي عن الامتراء، مع بعده عنه على جهة التثبيت والدوام على حاله.
وقوله تعالى: (فمن حاجك فيه)، أي: في عيسى، ويحتمل في الحق، والعلم
الذي أشير إليه بالمجئ هو ما تضمنته هذه الآيات المتقدمة.
وقوله: (فقل تعالوا): استدعاء للمباهلة، و (تعالوا): تفاعلوا، من العلو،
وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع المدعو، ثم اطردت، حتى يقولها الإنسان
لعدوه، وللبهيمة، و (نبتهل): معناه: نلتعن، ويقال: عليهم بهلة الله، والابتهال: الجد
في الدعاء بالبهلة، روى محمد بن جعفر بن الزبير وغيره: " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما دعا
نصارى نجران إلى المباهلة، قالوا: دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتك بما نفعل، فذهبوا إلى
العاقب، وهو ذو رأيهم، فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى، فقال: يا معشر النصارى،
والله، لقد عرفتم أن محمدا النبي المرسل، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد
علمتم ما لاعن قوم قط نبيا، فبقي كبيرهم، ولا نبت / صغيرهم، وأنه الاستئصال إن
فعلتم، فإن أبيتم إلا إلف دينكم وما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل،
54

وانصرفوا إلى بلادكم، حتى يريكم زمن رأيه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا
ألا نلاعنك، وأن نبقى على ديننا، وصالحوه على أموال، وقالوا له: ابعث معنا رجلا من
أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا
رضي ".
قال * ع *: وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شاهد عظيم
على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم عندهم، ودعاء النساء والأبناء أهز للنفوس، وأدعى لرحمة الله
للمحقين، أو لغضبه على المبطلين.
(إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا
فإن الله عليم بالمفسدين (63) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا
الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون (64))
وقوله تعالى: (إن هذا لهو القصص الحق...) الآية: هذا خبر من الله تعالى،
جزم مؤكد، فصل به بين المختصمين، والإشارة بهذا هي إلى ما تقدم في أمر عيسى - عليه
السلام -، والقصص معناه الإخبار.
وقال * ص *: (إن هذا لهو): هذا، إشارة إلى القرآن. اه‍.
واختلف المفسرون من المراد بأهل الكتاب هنا.
فروى قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم يهود المدينة.
وقال ابن زيد وغيره: المراد نصارى نجران.
قال * ع *: والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران، لكن لفظ الآية يعمهم،
وسواهم من النصارى واليهود، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية إلى هرقل عظيم الروم، وكذا
55

ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة، " والكلمة " هنا، عند الجمهور: عبارة عن
الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها، وهي ما فسر بعد ذلك، وهذا كما تسمي
العرب القصيدة " كلمة "، وقوله: (سواء) نعت للكلمة، قال قتادة وغيره: معناه: إلى كلمة
عدل، وفي مصحف ابن مسعود: " إلى كلمة عدل "، كما فسر قتادة،
قال * ع *: والذي أقوله في لفظة (سواء): إنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص
بها في هذا الموضع، وهو أنه دعاهم إلى معان، جميع الناس فيها مستوون.
وقوله: (ألا نعبد إلا الله) هو في موضع خفض على البدل من (كلمة)، أو في
موضع رفع، بمعنى هي ألا نعبد إلا الله، واتخاذ بعضهم بعضا أربابا هو على مراتب،
أشدها: اعتقادهم الألوهية، وعبادتهم لهم، كعزير، وعيسى، ومريم، وأدنى ذلك: طاعتهم
لأساقفتهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي، والتزامهم طاعتهم شرعا.
* م *: (فإن تولوا): أبو البقاء: تولوا: فعل ماض، ولا يجوز أن يكون التقدير:
" تتولوا "، لفساد المعنى، لأن قوله: (فقولوا اشهدوا) خطاب للمؤمنين، و (تولوا)
للمشركين. اه‍.
وقوله: (فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون): أمر بالإعلان بمخالفتهم، ومواجهتهم بذلك
وإشهادهم، على معنى التوبيخ والتهديد.
(يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا
تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم
وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67)
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68))
وقوله تعالى: (يأهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم...) الآية: قال ابن عباس
56

وغيره: اجتمعت نصارى نجران، وأحبار يهود عند النبي صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا عنده، فقالت
الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا /، فأنزل
الله الآية. ومعنى قوله تعالى: (فيما لكم به علم)، أي: على زعمكم، وفسر
الطبري هذا الموضع، بأنه فيما لهم به علم من جهة كتبهم، وأنبيائهم مما أيقنوه، وثبتت
عندهم صحته،
قال * ع *: وذهب عنه (رحمه الله)، أن ما كان هكذا، فلا يحتاج معهم فيه إلى
محاجة، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم، كما كان هناك على حقيقته. قلت: وما قاله
الطبري أبين، وهو ظاهر الآية، ومن المعلوم أن أكثر احتجاجاتهم إنما كانت تعسفا،
وجحدا للحق.
وقوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا...) الآية: أخبر الله تعالى في
هذه الآية عن حقيقة أمر إبراهيم - عليه السلام -، ونفى عنه اليهودية والنصرانية، والإشراك،
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا أن أولى الناس بإبراهيم هم القوم الذين اتبعوه، فيدخل في ذلك
كل من اتبع الحنيفية في الفترات، و (هذا النبي): يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنه بعث بالحنيفية
السمحة، و (الذين آمنوا): يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم، وسائر الأنبياء، على ما يجب ثم أخبر
سبحانه، أنه ولي المؤمنين، وعدا منه لهم بالنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة، روى
عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم
أبي وخليل ربي إبراهيم "، ثم قرأ: (إن أولى الناس بإبراهيم...) الآية.
57

(ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69)
يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق
بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71))
وقوله تعالى: (ودت فإن طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)، قال مكي: قيل: إن
هذه الآية عني بها قريظة، والنضير، وبنو قينقاع، ونصارى نجران.
* ص *: قوله تعالى: (ودت طائفة): ود: بمعنى تمنى، ويستعمل معها: " أن "،
ولو "، وربما جمع بينهما نحو: " وددت أن لو فعل "، ومصدره الودادة، والاسم منه الود،
وبمعنى: أحب، فيتعدى كتعدي أحب، ومصدره: مودة، والاسم منه ود، وقد يتداخلان
في الاسم والمصدر اه‍.
وقوله تعالى: (وما يضلون إلا أنفسهم): إعلام بأن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنهم
ببعدهم عن الإسلام هم الضالون، ثم أعلم تعالى، أنهم لا يشعرون بذلك، أي: لا
يتفطنون، ثم وقفهم تعالى موبخا لهم على لسان نبيه، والمعنى: قل لهم، يا محمد: لأي
سبب تكفرون بآيات الله التي هي آيات القرآن، وأنتم تشهدون، أن أمره وصفة محمد في
58

كتابكم، قال هذا المعنى قتادة وغيره.
ويحتمل أن يريد بالآيات ما ظهر على يده صلى الله عليه وسلم من المعجزات.
قلت: ويحتمل الجميع من الآيات المتلوة والمعجزات التي شاهدوها منه صلى الله عليه وسلم.
وقال * ص *: (وأنتم تشهدون): جملة حالية، ومفعول " تشهدون ": محذوف،
أي: أنها آيات الله، أو ما يدل على صحتها من كتابكم، أو بمثلها من آيات الأنبياء. اه‍.
وقوله: (لم تلبسون): معناه: تخلطون: تقول: لبست الأمر، بفتح الباء: بمعنى
خلطته، ومنه قوله تعالى: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) [الأنعام: 9].
وفي قوله: (وأنتم تعلمون) توقيف على العناد ظاهر.
وباقي الآية تقدم بيانه في " سورة البقرة ".
(وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره
لعلهم يرجعون (72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما
أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص
برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74))
وقوله تعالى: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه
النهار...) الآية / أخبر الله سبحانه في هذه الآية أن طائفة من اليهود من أحبارهم ذهبت
إلى خديعة المسلمين بهذا المنزع، قال قتادة وغيره: قال بعض الأحبار: لنظهر الإيمان
بمحمد صدر النهار ثم لنكفر به آخر النهار، فسيقول المسلمون عند ذلك: ما بال هؤلاء
كانوا معنا ثم انصرفوا عنا، ما ذاك إلا لأنهم انكشفت لهم حقيقة في الأمر، فيشكون،
ولعلهم يرجعون عن الإيمان بمحمد، قال الإمام الفخر: وفي إخبار الله تعالى عن
تواطئهم على هذه الحيلة من الفائدة وجوه:
59

الأول: أن هذه الحيلة كانت مخفية فيما بينهم، فلما أخبر بها عنهم، كان إخبارا
بمغيب، فيكون معجزا.
الثاني: أنه تعالى، لما أطلع المؤمنين على تواطئهم على هذه الحيلة، لم يحصل لهذه
الحيلة أثر في قلوب المؤمنين، ولولا هذا الإعلام، لأمكن تأثيرها في قلب من ضعف
إيمانه.
الثالث: أن القوم لما افتضحوا في هذه الحيلة، صار ذلك رادعا لهم عن الإقدام على
أمثالها من الحيل والتلبيس اه‍.
وذكر تعالى عن هذه الطائفة من أهل الكتاب، أنهم قالوا: (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع
دينكم)، ولا خلاف أن هذا القول هو من كلام الطائفة، واختلف الناس في قوله تعالى:
(أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم)، فقال مجاهد وغيره من أهل
التأويل: الكلام كله من قول الطائفة لأتباعهم.
وقوله تعالى (قل إن الهدى هدى الله) اعتراض بين الكلامين،
قال * ع *: والكلام على هذا التأويل يحتمل معاني:
أحدها: ولا تصدقوا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم، حذارا أن يؤتى أحد من النبوة
والكرامة مثل ما أوتيتم، وحذارا أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم، إذا لم تستمروا
عليه، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة الحسد والكفر، مع المعرفة بصحة نبوة
محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل الكلام أن يكون معناه: ولا تؤمنوا بمحمد، وتقروا بنبوته، إذ قد
علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم، و (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم): صفة لحال
محمد صلى الله عليه وسلم، فالمعنى: تستروا بإقراركم أن قد أوتي مثل ما أوتيتم، أو فإنهم (يعنون العرب)
يحاجونكم بالإقرار عند ربكم.
وقرأ ابن كثير وحده من بين السبعة: " آن يؤتى "، بالمد: على جهة الاستفهام الذي
هو تقرير، وفسر أبو علي قراءة ابن كثير على أن الكلام كله من قول الطائفة إلا
60

الاعتراض الذي هو: (قل إن الهدى هدى الله)، فإنه لا يختلف، أنه من قول الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم، قال: فلا يجوز مع الاستفهام أن يحمل: " آن يؤتى " على ما قبله من الفعل، لأن
الاستفهام قاطع، فيجوز أن تكون " أن " في موضع رفع بالابتداء، وخبره محذوف، تقديره:
تصدقون أو تعترفون أو تذكرونه لغيركم، ونحو هذا مما يدل عليه الكلام.
قال * ع *: ويكون " يحاجوكم "، على هذا معطوفا على: " أن يؤتى ". قال أبو
علي: ويجوز أن يكون موضع " أن " نصبا، فيكون المعنى: أتشيعون أو تذكرون أن يؤتى
أحد مثل ما أوتيتم، ويكون ذلك بمعنى قوله تعالى عنهم: (أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم) [البقرة: 67]، فعلى كلا الوجهين / معنى الآية توبيخ من الأحبار للأتباع على
تصديقهم بأن محمد صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث.
قال * ع *: ويكون قوله تعالى: (أو يحاجوكم) في تأويل نصب " أن " بمعنى:
أو تريدون أن يحاجوكم.
وقال السدي وغيره: الكلام كله من قوله: (قل إن الهدى هدى الله) إلى آخر
الآية: هو مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يقوله لأمته.
وحكى الزجاج وغيره: أن المعنى: قل إن الهدى هو هذا الهدى، لا يؤتى أحد
مثل ما أوتيتم.
ومعنى الآية على قول السدي: أي: لم يعط أحد مثل حظكم، وإلا فليحاجكم من
أدعى سوى ذلك، أو يكون المعنى: أو يحاجونكم، على معنى الازدراء باليهود، كأنه قال:
أو هل لهم أن يحاجوكم، أو يخاصموكم فيما وهبكم الله، وفضلكم به، وقال قتادة
والربيع: الكلام كله من قوله: (قل إن الهدى هدى الله) إلى آخر الآية هو مما أمر به
النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله للطائفة.
61

قال * ع *: ويحتمل أن يكون قوله: (أن يؤتى) بدلا من قوله: (هدى الله).
قلت: وقد أطالوا الكلام هنا، وفيما ذكرناه كفاية.
وقوله تعالى: (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص
برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) في الآية تكذيب لليهود في قولهم: لن يؤتي الله
أحدا مثل ما أتى بني إسرائيل، من النبوة والشرف، وباقي الآية تقدم تفسير نظيره.
(* ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا
يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين (76) إن الذين يشترون
بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم
القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77) وإن منهم لفريقا يلون ألسنتهم بالكتاب
لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78))
وقوله تعالى: (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه...) الآية: أخبر تعالى عن أهل
الكتاب، أنهم قسمان في الأمانة، ومقصد الآية ذم الخونة منهم، والتفنيد لرأيهم وكذبهم
على الله في استحلالهم أموال العرب. قال الفخر وفي الآية ثلاثة أقوال:
الأول: أن أهل الأمانة منهم الذين أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية، فهم
مصرون على الخيانة، لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من خالفهم في الدين، وأخذ
ماله.
الثاني: أن أهل الأمانة منهم هم النصارى، وأهل الخيانة هم اليهود.
الثالث: قال ابن عباس: أودع رجل عبد الله بن سلام ألفا ومائتي أوقية من ذهب،
فأدى إليه، وأودع آخر فنحاصا اليهودي دينارا، فخانه، فنزلت الآية. اه‍.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قال الطبري: وفائدة هذه الآية النهي عن ائتمانهم
62

على مال، وقال شيخنا أبو عبد الله المغربي: فائدتها ألا يؤتمنوا على دين، يدل عليه ما
بعده في قوله: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب...) الآية، والصحيح عندي:
أنها في المال نص، وفي الدين تنبيه، فأفادت المعنيين بهذين الوجهين. قال ابن العربي:
فالأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظيم قدرها أنها تقف على جنبتي الصراط لا يمكن
من الجواز إلا من حفظها، ولهذا وجب عليك أن تؤديها إلى من ائتمنك، ولا تخن من
خانك، فتقابل المعصية بالمعصية، وكذلك لا يجوز أن تغدر من غدرك. قال البخاري:
باب إثم الغادر للبر والفاجر. اه‍.
والقنطار، في هذه الآية: مثال للمال الكثير، يدخل فيه أكثر من القنطار وأقل، وأما
الدينار، فيحتمل أن يكون كذلك مثالا لما قل، ويحتمل أن يريد أن منهم طبقة لا تخون إلا
في دينار فما زاد، ولم يعن / لذكر الخائنين في أقل، إذ هم طغام حثالة، ودام: معناه:
ثبت.
وقوله: (قائما): يحتمل معنيين: قال قتادة، ومجاهد، والزجاج: معناه: قائما
على اقتضاء حقك، يريدون بأنواع الاقتضاء من الحفز والمرافعة إلى الحاكم من غير
مراعاة لهيئة هذا الدائم.
وقال السدي وغيره: معنى قائما: على رأسه.
وقوله: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل...) الآية: الإشارة ب‍ " ذلك "
إلى كونهم لا يؤدون الأمانة، أي: يقولون نحن من أهل الكتاب، والعرب أميون أصحاب
أوثان، فأموالهم لنا حلال، متى قدرنا على شئ منها، لا حجة علينا في ذلك، ولا سبيل
لمعترض.
وقوله تعالى: (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) ذم لبني إسرائيل بأنهم
يكذبون على الله سبحانه في غير ما شئ، وهم عالمون بمواضع الصدق.
63

قال * ص *: (وهم يعلمون): جملة حالية. اه‍.
ثم رد الله تعالى في صدر قولهم: (ليس علينا)، بقوله: (بلى)، أي: عليهم
سبيل، وحجة، وتباعة، ثم أخبر، على جهة الشرط، إن من أوفى بالعهد، واتقى عقوبة
الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله.
وقوله تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله...) الآية: آية وعيد لمن فعل هذه
الأفاعيل إلى يوم القيامة، وهي آية يدخل فيها الكفر فما دونه من جحد الحق وختر
المواثيق، وكل يأخذ من وعيدها، بحسب جريمته.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وقد اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية،
والذي يصح من ذلك: أن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف يمين
صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله، وهو عليه غضبان "، فأنزل الله تصديق ذلك:
(إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا...) الآية، قال: فجاء الأشعث بن
قيس، فقال: في نزلت، كانت لي بئر في أرض ابن عم لي، وفي رواية: كان بيني وبين
رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بينتك أو يمينه "، قلت: إذن يحلف،
يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث. اه‍.
وقوله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب...) الآية: يلوون: معناه:
يحرفون ويتحيلون، لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ، واشتراكها، وتشعب
64

التأويلات، كقولهم: (راعنا) [البقرة: 104]، (واسمع غير مسمع) [النساء: 46] ونحو
ذلك، وليس التبديل المحض بلي، وحقيقة اللي في الثياب والحبال ونحوها، وهو فتلها
وإراغتها، ومنه: لي العنق، ثم استعمل ذلك في الحجج، والخصومات والمجادلات،
والكتاب، في هذا الموضع: التوراة، والضمير في " تحسبوه " للمسلمين.
وقوله: (وما هو من عند الله): نفي أن يكون منزلا من عند الله، كما ادعوا، وهو
من عند الله، بالخلق، والاختراع، والإيجاد، ومنهم بالتكسب.
(ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي
من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن
تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون (80))
وقوله تعالى: (ما كان لبشر...) الآية: معناه: النفي التام، لأنا نقطع أن الله لا
يؤتي النبوءة للكذبة والمدعين، و (الكتاب) هنا اسم جنس، و (الحكم): بمعنى
الحكمة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر لحكما " وقال الفخر: هنا اتفق أهل
اللغة والتفسير على أن هذا الحكم هو العلم، قال تعالى: (وآتيناه الحكم صبيا) [مريم: 12]
يعني: العلم والفهم. اه‍.
" وثم ": في قوله: (ثم يقول): معطية تعظيم الذنب في القول بعد مهلة من هذا
الإنعام، وقوله: (عبادا): جمع " عبد "، ومن جموعه عبيد، وعبدي.
قال * ع *: والذي أستقريت / في لفظة العباد، أنه جمع عبد، متى سيقت اللفظة
في مضمار الترفيع، والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير، وتصغير
الشأن، وأما العبيد، فيستعمل في التحقير.
65

قال * ص *: ونوقش ابن عطية بأن " عبدي ": اسم جمع، وتفريقه بين عباد وعبيد
لا يصح. اه‍.
قلت: وقوله تعالى: (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) [الفرقان: 17] ونحوه
يوضحه. اه‍.
ومعنى الآية: ما كان لأحد من الناس أن يقول: اعبدوني، واجعلوني إلها، قال
النقاش وغيره: وهذه الإشارة إلى عيسى - عليه السلام -، والآية رادة على النصارى، وقال
ابن عباس وجماعة من المفسرين: بل الإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسبب نزول الآية أن أبا رافع
القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود، والوفد من نصارى نجران: يا
محمد، إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها، كما عبدت النصارى عيسى، فقال الرئيس من
نصارى نجران: أو ذاك تريد يا محمد، وإليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " معاذ الله! ما بذلك
أمرت، ولا إليه دعوت "، فنزلت الآية، قال بعض العلماء: أرادت الأحبار أن تلزم هذا
القول محمدا صلى الله عليه وسلم، لما تلا عليهم: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني) [آل عمران: 31] وإنما
معنى الآية: فاتبعوني فيما أدعوكم إليه من طاعة الله، فحرفوها بتأولهم، وهذا من نوع ليهم
الكتاب بألسنتهم، قال الفخر وقال ابن عباس: إن الآية نزلت بسبب قول النصارى:
المسيح ابن الله، وقول اليهود: عزيز ابن الله وقيل: إن رجلا من المسلمين قال: يا
رسول الله، أفلا نسجد لك؟ فقال - عليه السلام -: " ما ينبغي السجود إلا لله ". قيل:
وقوله تعالى: (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) يقوى هذا التأويل. اه‍.
وقوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين....) الآية: المعنى: ولكن يقول: كونوا
ربانيين، وهو جمع رباني، قال قوم: منسوب إلى الرب، من حيث هو عالم ما علمه،
عامل بطاعته، معلم للناس ما أمر به، وزيدت فيه النون، مبالغة، وقال قوم: منسوب إلى
الربان، وهو معلم الناس، مأخوذ من: رب يرب، إذا أصلح، وربى، والنون أيضا زائدة،
66

كما زيدت في غضبان، وعطشان، وفي البخاري: الرباني الذي يربى الناس بصغار العلم
قبل كباره.
قال * ع *: فجملة ما يقال في الرباني: أنه العالم بالرب والشرع، المصيب في
التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس، وقوله: (بما كنتم): معناه: بسبب
كونكم عالمين دارسين، ف‍ " ما ": مصدرية، وأسند أبو عمر بن عبد البر في كتاب " فضل
العلم "، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: العلم علمان، علم في القلب، فذلك العلم النافع، وعلم في
اللسان، فذلك حجة الله (عز وجل) على ابن آدم، ومن حديث ابن وهب، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هلاك أمتي عالم فاجر، وعابد جاهل، وشر الشرار جبار العلماء، وخير
الخيار خيار العلماء ". اه‍.
67

وقرأ جمهور الناس: " تدرسون "، بضم الراء: من درس، إذا أدمن قراءة الكتاب،
وكرره.
وقرأ نافع وغيره: " ولا يأمركم "، برفع الراء: على القطع، قال سيبويه: المعنى لا
يأمركم الله، وقال ابن جريج وغيره: المعنى: ولا يأمركم هذا البشر الذي أوتي هذه النعم،
وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأما قراءة من نصب الراء، وهو حمزة وغيره، فهي عطف على قوله:
(أن يؤتيه الله)، المعنى: ولا له أن يأمركم، قاله أبو علي وغيره، وهو الصواب، لا ما
قاله الطبري، من أنها عطف على قوله: (ثم / يقول)، والأرباب، في هذه الآية:
بمعنى الآلهة.
(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق
لما معكم لتؤمنين به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا
معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (82) أفغير دين الله
يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل آمنا
بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى
وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الإسلام
دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85))
وقوله تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم
رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه): المعنى: واذكر يا محمد إذ، فيحتمل أن
يكون أخذ هذا الميثاق، حين أخرج بني آدم من ظهر آدم نسما، ويحتمل أن يكون هذا
الأخذ على كل نبي في زمنه، ووقت بعثه، والمعنى: إن الله تعالى أخذ ميثاق كل نبي، بأنه
ملتزم هو ومن آمن به الإيمان بمن أتى بعده من الرسل، والنصر له، وقال ابن عباس: إنما
68

أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال علي بن أبي طالب
(رضي الله عنه): لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده، إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم: لئن
بعث، وهو حي، ليؤمنن به، ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية،
وقاله السدي.
وقرأ حمزة: " لما "، بكسر اللام، وهي لام الجر، والتقدير لأجل ما آتيناكم، إذ
أنتم القادة والرؤوس، ومن كان بهذه الحال، فهو الذي يؤخذ ميثاقه، و " ما " في هذه القراءة
بمعنى " الذي "، والعائد إليها من الصلة، تقديره: آتيناكموه، و " من ": لبيان الجنس،
و (ثم جاءكم...) الآية: جملة معطوفة على الصلة، ولا بد في هذه الجملة من ضمير
يعود على الموصول، وإنما حذف، تخفيفا لطول الكلام، وتقديره عند سيبويه: رسول به
مصدق لما معكم، واللام في: (لتؤمنن به) هي اللام المتلقية للقسم الذي تضمنه أخذ
الميثاق، وفصل بين القسم والمقسم عليه بالجار والمجرور، وذلك جائز، وقرأ سائر السبعة
" لما "، بفتح اللام، وذلك يتخرج على وجهين:
أحدهما: أن تكون " ما " موصولة في موضع رفع بالابتداء، واللام لام الابتداء، وهي
متلقية لما أجري مجرى القسم من قوله تعالى: (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين)، وخبر
الابتداء قوله: (لتؤمنن)، ولتؤمنن: متعلق بقسم محذوف، فالمعنى: والله، لتؤمنن، قاله
أبو علي وهو متجه، بأن الحلف يقع مرتين.
والوجه الثاني: أن تكون " ما " للجزاء شرطا، فتكون في موضع نصب بالفعل الذي
69

بعدها، وهو مجزوم، و " جاءكم ": معطوف في موضع جزم، واللام الداخلة على " ما "
ليست الملتقية للقسم، ولكنها الموطئة المؤذنة بمجيء لام القسم، فهي بمنزلة اللام في
قوله تعالى: (لئن لم ينته المنافقون) [الأحزاب: 60] لأنها مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في
قوله: (لنغرينك بهم) [الأحزاب: 60] وكذلك هذه مؤذنة بمجيء المتلقية للقسم في قوله:
" لتؤمنن ".
وقرأ نافع وحده: " آتيناكم "، بالنون، وقرأ الباقون: " آتيتكم "، بالتاء، ورسول، في
هذه الآية: اسم جنس، وقال كثير من المفسرين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (قال أقررتم ثنا وأخذتم على ذلكم إصري...) هذه الآية: هي وصف
توقيف الأنبياء - عليهم السلام - على إقرارهم بهذا الميثاق، والتزامهم له، (وأخذتم)، في
هذه الآية: عبارة عما تحصل لهم من إيتاء الكتب والحكمة، فمن حيث أخذ عليهم، أخذوا
هم أيضا، وقال الطبري: (أخذتم)، في هذه الآية: معناه: قبلتم، والأصر: العهد لا
تفسير له في هذا الموضع إلا ذلك.
وقوله تعالى: (فاشهدوا) يحتمل معنيين:
أحدهما: فاشهدوا / على أممكم هذا المؤمنين بكم، وعلى أنفسكم بالتزام هذا العهد،
قاله الطبري، وجماعة.
والمعنى الثاني: بثوا الأمر عند أممكم، واشهدوا به، وشهادة الله على هذا التأويل
هي إعطاء المعجزات، وإقرار نبواتهم، هذا قول الزجاج وغيره.
70

وقال * ع * *: فتأمل أن القول الأول هو إيداع الشهادة واستحفاظها، والقول الثاني
هو الأمر بأدائها، وحكم تعالى بالفسق على من تولى من الأمم بعد هذا الميثاق، قاله
علي بن أبي طالب، وغيره، وقرأ أبو عمرو: " يبغون "، بالياء من أسفل مفتوحة،
و " ترجعون " بالتاء من فوق مضمومة، وقرأ عاصم بالياء من أسفل فيهما، وقرأ الباقون بالتاء
فيهما، ووجوه هذه القراءات لا تخفى بأدنى تأمل.
و (تبغون): معناه: تطلبون.
قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني، عن السيد الجليل المجمع على جلالته
وحفظه وديانته وورعه يونس بن عبيد بن دينار البصري الشافعي المشهور، أنه قال: ليس
رجل يكون على دابة صعبة، فيقول في أذنها: (أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في
السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون)، إلا وقفت بإذن الله تعالى.
وروينا في كتاب ابن السني، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا انفلتت
دابة أحدكم بأرض فلاة، فليناد: يا عباد الله، احبسوا، يا عباد الله، احبسوا، فإن لله
عز وجل في الأرض حاضرا سيحبسها.
قال النووي: حكى لي بعض شيوخنا، أنه انفلتت له دابة أظنها بغلة، وكان يعرف
71

هذا الحديث، فقاله، فحبسها الله عليه في الحال، وكنت أنا مرة مع جماعة، فانفلتت ما
بهيمة، فعجزوا عنها، فقلته، فوقفت في الحال بغير سبب سوى هذا الكلام. اه‍.
و (أسلم): معناه: استسلم، عند الجمهور.
واختلفوا في معنى قوله: (طوعا وكرها)، فقال مجاهد: هذه الآية كقوله تعالى:
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) [لقمان: 25] فالمعنى: أن إقرار كل
كافر بالصانع هو إسلام كرها، ونحوه لأبي العالية، وعبارته: كل آدمي، فقد أقر على
نفسه، بأن الله ربي، وأنا عبده، فمن أشرك في عبادته، فهو الذي أسلم كرها، ومن
أخلص، فهو الذي أسلم طوعا.
قال * ع *: والمعنى في هذه الآية يفهم كل ناظر أن الكره خاص بأهل الأرض.
وقوله سبحانه: (أفغير دين الله): توقيف لمعاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من الأحبار
والكفار.
قوله تعالى: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم...) الآية: المعنى قل يا
محمد، أنت وأمتك: (آمنا بالله...) الآية، وقد تقدم بيانها في " البقرة "، ثم حكم تعالى
في قوله: (ومن يبتغ غير الإسلام...) الآية، بأنه لا يقبل من آدمي دينا غير دين
الإسلام، وهو الذي وافق في معتقداته دين كل من سمي من الأنبياء - عليهم السلام -، وهو
الحنيفية السمحة، وقال بعض المفسرين: إن (من يبتغ...) الآية، نزلت في الحارث بن
سويد، قلت: وعلى تقدير صحة هذا القول، فهي تتناول بعمومها من سواه إلى يوم
القيامة.
(كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله
72

لا يهدي القوم الظالمين (86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
(87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك
وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89))
وقوله تعالى: / (كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم...) الآيات: قال ابن
عباس: نزلت هذه الآيات من قوله: (كيف يهدي الله) في الحارث بن سويد الأنصاري،
كان مسلما، ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم، فأرسل إلى قومه، أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
هل من توبة؟ فنزلت الآيات إلى قوله: (إلا الذين تابوا)، فأرسل إليه قومه، فأسلم،
قال مجاهد: وحسن إسلامه، وقال ابن عباس أيضا والحسن بن أبي الحسن: نزلت في
اليهود والنصارى، شهدوا ببعث النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به، فلما جاء من العرب، حسدوه،
وكفروا به، ورجحه الطبري.
وقال النقاش: نزلت في طعيمة بن أبيرق.
قال * ع *: وكل من ذكر، فألفاظ الآية تعمه.
وقوله تعالى: (كيف): سؤال عن حال لكنه سؤال توقيف على جهة الاستبعاد
للأمر، فالمعنى أنهم لشدة هذه الجرائم يبعد أن يهديهم الله جميعا، وباقي الآية بين.
قال الفخر: واستعظم تعالى كفر هؤلاء المرتدين بعد حصول هذه الخصال
الثلاث، لأن مثل هذا الكفر يكون كالمعاندة والجحود، وهذا يدل على أن زلة العالم أقبح
من زلة الجاهل. اه‍.
(إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفروا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90)
73

إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم
عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله
به عليم (92) * كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن
تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة قاتلوها إن كنتم صادقين (93))
وقوله تعالى: (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا...) الآية: قال أبو
العالية رفيع: الآية في اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته، وإقرارهم أنها في
التوراة، ثم ازدادوا كفرا، بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم، من الافتراء،
والبهت، والسعي على الإسلام، وغير ذلك.
قال * ع *: وعلى هذا الترتيب يدخل في الآية: المرتدون اللاحقون بقريش،
وغيرهم. وقال مجاهد: معنى قوله: (ثم ازدادوا كفرا)، أي: أتموا على كفرهم، وبلغوا
الموت به.
قال * ع *: فيدخل في هذا القول: اليهود، والمرتدون، وقال السدي نحوه،
ثم أخبر تعالى أن توبة هؤلاء لن تقبل، وقد قررت الشريعة، أن توبة كل كافر تقبل، فلا بد
في هذه الآية من تخصيص تحمل عليه، ويصح به نفي قبول التوبة، فقال الحسن وغيره:
المعنى: لن تقبل توبتهم عند الغرغرة والمعاينة، وقال أبو العالية: المعنى: لن تقبل توبتهم
من تلك الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: وتحتمل الآية عندي أن تكون إشارة إلى قوم بأعيانهم من المرتدين، وهم
الذين أشار إليهم بقوله سبحانه: (كيف يهدي الله قوما) [آل عمران: 86] فأخبر عنهم أنه لا
74

تكون منهم توبة، فيتصور قبولها، فكأنه أخبر عن هؤلاء المعينين، أنهم يموتون كفارا، ثم
أخبر الناس عن حكم كل من يموت كافرا، والملء: ما شحن به الوعاء، وقوله: (ولو
افتدى به)، قال الزجاج: المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا، ولو
أنفق ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى أيضا به في الآخرة، لن يقبل منه، قال: فأعلم الله أنه
لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب.
قال * ع *: وهذا قول حسن، وقال قوم: الواو زائدة، وهذا قول مردود، ويحتمل
المعنى نفي القبول على كل وجه، ثم خص من تلك الوجوه أليقها وأحراها بالقبول، وباقي
الآية وعيد بين، عافانا الله من عقابه، وختم لنا بما ختم به للصالحين من عباده /.
وقوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون...) الآية: خطاب لجميع
المؤمنين، فتحتمل الآية أن يريد لن تنالوا بر الله بكم، أي: رحمته ولطفه، ويحتمل أن
يريد لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر، حتى تكونوا أبرارا إلا بالإنفاق المنضاف إلى سائر
أعمالكم.
قال * ص *: قوله: (مما تحبون): " من " للتبعيض، تدل عليه قراءة عبد الله:
" بعض ما تحبون " اه‍.
قال الغزالي: قال نافع: كان ابن عمر مريضا، فاشتهى سمكة طرية، فحملت إليه على
رغيف، فقام سائل بالباب، فأمر بدفعها إليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما
امرئ اشتهى شهوة، فرد شهوته، وآثر على نفسه غفر الله له " اه‍ من " الإحياء ".
75

قال * ع *: وبسبب نزول هذه الآية تصدق أبو طلحة بحائطه المسمى بيرحا،
وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، وكان عبد الله بن عمر يشتهي أكل السكر
باللوز، فكان يشتري ذلك، ويتصدق به.
قال الفخر: والصحيح أن هذه الآية في إيتاء المال على طريق الندب، لا أنها في
الزكاة الواجبة. اه‍.
وقوله سبحانه: (وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم) شرط وجواب فيه وعد،
أي: عليم مجاز به، وإن قل.
وقوله تعالى: (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل...) الآية إخبار بمغيب عن
النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلمه إلا الله، وعلماء أهل الكتاب، وحلا: معناه: حلالا، والآية رد على
اليهود في زعمهم، أن كل ما حرموه على أنفسهم، أنه بأمر الله تعالى في التوراة، فأكذبهم
الله تعالى بهذه الآية، وقوله سبحانه: (إلا ما حرم إسرائيل على نفسه)، أي: فهو محرم
عليهم في التوراة، لا هذه الزوائد التي افتروها.
وقال الفخر: قوله تعالى: (من قبل أن تنزل التوراة)، المعنى: أن قبل نزول
التوراة كان حلالا لبني إسرائيل كل أنواع المطعومات سوى ما حرمه إسرائيل على نفسه،
فأما بعد نزول التوراة، فلم يبق الأمر كذلك، بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بسبب بغيهم،
وذلك هو عين النسخ الذي هم له منكرون. اه‍.
76

قال * ع *: ولم يختلف فيما علمت أن سبب تحريم يعقوب ما حرمه على نفسه
هو بمرض أصابه، فجعل تحريم ذلك شكرا لله، أن شفي، وقيل: هو وجع عرق النسا،
وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عصابة من بني إسرائيل، قالوا له: يا محمد، ما الذي حرم
إسرائيل على نفسه؟ فقال لهم: أنشدكم بالله! هل تعلمون، أن يعقوب مرض مرضا
شديدا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرا، إن عافاه الله من سقمه، ليحرمن أحب الطعام
والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها؟ قالوا:
اللهم، نعم ".
قال * ع *: وظاهر الأحاديث والتفاسير في هذا الأمر أن يعقوب - عليه السلام -
حرم لحوم الإبل وألبانها، وهو يحبها، تقربا بذلك، إذ ترك الترفه والتنعم من القرب، وهذه
هو الزهد في الدنيا، وإليه نحا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، بقوله: " إياكم وهذه
المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر "، ومن ذلك قول أبي حازم الزاهد، وقد مر بسوق
الفاكهة، / فرأى محاسنها، فقال: موعدك الجنة، إن شاء الله.
وقوله عز وجل: (قل فأتوا بالتوراة...) الآية: قال الزجاج: وفي هذا تعجيز
لهم، وإقامة للحجة عليهم.
(فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94) قل صدق الله فاتبعوا
ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95) إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97))
وقوله سبحانه: (افترى على الله الكذب من بعد ذلك)، أي: من بعد ما تبين
له الحق، وقيام الحجة، فهو الظالم.
وقوله: (قل صدق الله)، أي: الأمر كما وصف سبحانه، لا كما تكذبون، فإن
كنتم تعتزون إلى إبراهيم، فاتبعوا ملته، على ما ذكر الله.
77

وقوله سبحانه: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة....) الآية: لا مرية أن
إبراهيم - عليه السلام - وضع بيت مكة، وإنما الخلاف، هل هو وضع بدأة أو وضع
تجديدا؟ وقال الفخر: يحتمل أولا في الوضع والبناء، ويحتمل أن يريد أولا في كونه
مباركا، وهذا تحصيل المفسرين في الآية. اه‍.
قال ابن العربي في " أحكامه " وكون البيت الحرام مباركا، قيل: بركته ثواب
الأعمال هناك، وقيل: ثواب قاصديه، وقيل: أمن الوحش فيه، وقيل: عزوف النفس عن
الدنيا عند رؤيته، قال ابن العربي: والصحيح عندي أنه مبارك من كل وجه من وجوه
الدنيا والآخرة، وذلك بجميعه موجود فيه. اه‍.
قال مالك في سماع ابن القاسم من " العتبية ": بكة موضع البيت، ومكة غيره من
المواضع، قال ابن القاسم: يريد القرية، قلت: قال ابن رشد في " البيان ": أرى مالكا
أخذ ذلك من قول الله عز وجل، لأنه قال تعالى في بكة: (إن أول بيت وضع للناس
للذي ببكة مباركا)، وهو إنما وضع بموضعه الذي وضع فيه لا فيما سواه من القرية، وقال
في " مكة "، (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) [الفتح: 24] وذلك
إنما كان في القرية، لا في موضع البيت. اه‍.
وقوله سبحانه: (فيه)، أي: في البيت (آيات بينات)،
قال * ع *: والمترجح عندي أن المقام وأمن الداخل جعلا مثالا مما في حرم
الله من الآيات وخصا بالذكر، لعظمهما، و (مقام إبراهيم): هو الحجر المعروف، قاله
الجمهور، وقال قوم: البيت كله مقام إبراهيم، وقال قوم: الحرم كله مقام إبراهيم،
والضمير في قوله: (ومن دخله) عائد على البيت، في قول الجمهور، وعائد على الحرم،
78

في قول من قال: مقام إبراهيم هو الحرم.
وقوله: (كان آمنا) قال الحسن وغيره: هذه وصف حال كانت في الجاهلية، إذا
دخل أحد الحرم، أمن، فلا يعرض له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يمنع من حد من
حدود الله، وقال يحيى بن جعدة: معنى الآية: ومن دخل البيت، كان آمنا من النار،
وحكى النقاش عن بعض العباد، قال: كنت أطوف حول الكعبة ليلا، فقلت: يا رب، إنك
قلت: (ومن دخله كان آمنا)، فمماذا هو آمن؟ فسمعت مكلما يكلمني، وهو يقول: من
النار، فنظرت، وتأملت، فما كان في المكان أحد، قال ابن العربي في " أحكامه ": وقول
بعضهم: ومن دخله كان آمنا من النار - لا يصح حمله على عمومه، ولكنه ثبت، أن من
حج، فلم يرفث، ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، والحج المبرور ليس له
جزاء إلا الجنة. قال ذلك كله رسول الله صلى الله عليه وسلم اه‍.
79

وقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت...) الآية: هو فرض الحج في كتاب
الله، بإجماع، وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " حج البيت "، بكسر الحاء،
وقرأ الباقون بفتحها، / فبكسر الحاء: يريدون عمل سنة واحدة، وقال الطبري: هما
لغتان الكسر: لغة نجد، والفتح لغة أهل العالية.
وقوله سبحانه: (من استطاع إليه سبيلا) " من ": في موضع خفض بدل من " الناس "،
وهو بدل البعض من الكل، وقال الكسائي وغيره: هي شرط في موضع رفع بالابتداء،
والجواب محذوف، تقديره: فعليه الحج، ويدل عليه عطف الشرط الآخر بعده في قوله:
(ومن كفر)، وأسند الطبري إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من ملك زادا وراحلة، فلم يحج،
فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذهب جماعة من العلماء إلى أن قوله سبحانه:
(من استطاع إليه سبيلا) كلام عام لا يتفسر بزاد ولا راحلة، ولا غير ذلك، بل إذا كان
مستطيعا غير شاق على نفسه، فقد وجب عليه الحج، وإليه نحا مالك في سماع أشهب،
وقال: لا صفة في هذا أبين مما قال الله تعالى. هذا أنبل الأقوال، وهذه من الأمور التي
يتصرف فيها فقه الحال، والضمير في " إليه " عائد على البيت، ويحتمل على الحج.
وقوله سبحانه: (ومن كفر فإن الله غني عن العالمين)، قال ابن عباس وغيره:
المعنى: من زعم أن الحج ليس بفرض عليه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قرأ هذه الآية،
فقال رجل من هذيل: يا رسول الله: من تركه، كفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " من تركه، لا
80

يخاف عقوبته، ومن حجة لا يرجو ثوابه، فهو ذلك "، وقال بمعنى هذا الحديث ابن
عباس وغيره، وقال السدي وجماعة من أهل العلم. معنى الآية: من كفر بأن وجد ما يحج
به، ثم لم يحج، قال السدي: من كان بهذه الحال، فهو كافر، يعني: كفر معصية، ولا
شك أن من أنعم الله عليه بمال وصحة، ولم يحج، فقد كفر النعمة، وقال ابن عمر
وجماعة: معنى الآية: ومن كفر بالله واليوم الآخر، قال الفخر: والأكثرون هم الذين
حملوا الوعيد على من ترك اعتقاد وجوب الحج، وقال الضحاك: لما نزلت آية الحج،
فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أهل الملل، وقال: " إن الله تعالى كتب عليكم الحج، فحجوا "،
فآمن به المسلمون وكفر غيرهم فنزلت الآية، قال الفخر: وهذا هو الأقوى، والله
أعلم. اه‍.
ومعنى قوله تعالى: (غني عن العالمين): الوعيد لمن كفر، والقصد بالكلام: فإن
الله غني عنهم، ولكن عمم اللفظ، ليبرع المعنى، وتنتبه الفكر لقدرته سبحانه، وعظيم
سلطانه، واستغنائه عن جميع خلقه لا رب سواه.
(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل
الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون
(99) يا أهل الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100)
وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط
مستقيم (10))
وقوله عز وجل: (قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما
تعملون). هذه الآيات: توبيخ لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب: التوراة، وآيات
الله يحتمل أن يريد بها القرآن، ويحتمل العلامات الظاهرة على يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله
81

سبحانه: (والله شهيد على ما تعملون) وعيد محض، قال الطبري: هاتان الآيتان:
(قل يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله)، وما بعدهما إلى قوله: (وأولئك لهم عذاب
عظيم) [آل عمران: 105]، نزلت بسبب رجل من اليهود، حاول الإغراء بين الأوس
والخزرج، قال ابن إسحاق: حدثني الثقة عن زيد بن أسلم، قال: مر شاس بن قيس
اليهودي، وكان شيخا قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين /،
والحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، وهم في مجلس
يتحدثون، فغاظه ما رآه من جماعتهم وصلاح بينهم بعد ما كان بينهم من العداوة، فقال:
قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله، مالنا معهم، إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار،
فأمر فتى شابا من يهود، فقال: أعمد إليهم، واجلس معهم، وذكرهم يوم بعاث، وما كان
قبله من أيام حربهم، وأنشدهم ما قالوه من الشعر في ذلك، ففعل الفتى، فتكلم القوم عند
ذلك، فتفاخروا، وتنازعوا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي من
الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم،
والله، رددناها الآن جذعة، فغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح! موعدكم
الظاهرة، يريدون: الحرة، فخرجوا إليها وتحاوز الناس على دعواهم التي كانوا عليها في
الجاهلية، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين، فقال: يا معشر
المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، ووعظهم، فعرف القوم، أنها
نزعة من الشيطان، فألقوا السلاح، وبكوا، وعانق الناس بعضهم بعضا من الأوس
والخزرج، وانصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، فأنزل الله في شاس بن قيس،
وما صنع هذه الآيات.
وقال الحسن وغيره: نزلت في أحبار اليهود الذين يصدون المسلمين عن الإسلام،
ويقولون: إن محمدا ليس بالموصوف في كتابنا.
قال * ع *: ولا شك في وقوع هذين الشيئين، وما شاكلهما من أفعال اليهود
وأقوالهم، فنزلت الآيات في جميع ذلك، ومعنى " تبغون " أي: تطلبون لها الاعوجاج
82

والانفساد، وأنتم شهداء: يريد جمع شاهد على ما في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقه،
وباقي الآية وعيد.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد
إيمانكم كافرين....) الآية: خطاب عام للمؤمنين، والإشارة بذلك وقت نزوله إلى الأوس
والخزرج بسبب نائرة شاس بن قيس.
قال * ص *: قوله تعالى: (يردوكم بعد إيمانكم كافرين)، رد: بمعنى صير،
فيتعدى إلى مفعولين الأول: الكاف، والثاني: الكافرين، كقوله: [الوافر]
فرد شعورهن السود بيضا * ورد وجوههن البيض سودا
اه‍.
و (يعتصم): معناه: يتمسك، وعصم الشئ، إذا منع وحمي، ومنه: قوله:
(يعصمني من الماء) [هود: 43] وباقي الآية بين.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا
وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103) ولتكن
منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته)، قال ابن مسعود: " حق
تقاته ": هو أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، وكذلك عبر
83

الربيع بن خثيم، وقتادة، والحسن، قالت فرقة: نزلت الآية على عموم لفظها، من لزوم
غاية التقوى، حتى لا يقع الإخلال في شئ من الأشياء، ثم نسخ ذلك، بقوله تعالى:
(فاتقوا الله ما استطعتم) [التغابن: 16]، وبقوله: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)
[البقرة: 286] وقالت جماعة: لا نسخ هنا، وإنما المعنى: اتقوا الله حق تقاته في ما
استطعتم، وهذا هو الصحيح، وخرج الترمذي، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم / قرأ هذه
الآية، وهي: (اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم،
فكيف بمن يكون طعامه؟ " قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، وخرجه ابن ماجة
أيضا اه‍.
وقوله تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون): معناه: دوموا على الإسلام، حتى
يوافيكم الموت، وأنتم عليه، والحبل في هذه الآية مستعار، قال ابن مسعود: حبل الله
الجماعة، وروى أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن بني إسرائيل افترقوا على
إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة،
84

فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده، وقال: الجماعة، وقرأ:
(واعتصموا بحبل الله جميعا)، وقال قتادة وغيره: حبل الله الذي أمر بالاعتصام به: هو
القرآن، ورواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن زيد: هو الإسلام،
وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض.
وقوله تعالى: (ولا تفرقوا): يريد: التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف، كالتفرق
بالفتن، والافتراق في العقائد، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه، فليس بداخل في
هذه الآية، بل ذلك هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: " خلاف أمتي رحمة، وقد اختلفت الصحابة
85

في الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على كل كافر.
وقوله سبحانه: (واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم...)
الآية: هذه الآية تدل على أن الخطاب إنما هو للأوس والخزرج، كما تقدم، وكانت
العداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة، حتى رفعها الله بالإسلام، فجاء النفر الستة
من الأنصار إلى مكة حجاجا، فعرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم، وتلا عليهم شيئا من القرآن،
كما كان يصنع مع قبائل العرب، فآمنوا به، وأراد الخروج معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن
قدمت بلدنا على ما بيننا من العداوة والحرب، خفنا ألا يتم ما نريده بك، ولكن نمضي
نحن، ونشيع أمرك، ونداخل الناس، وموعدنا وإياك العام القابل، فمضوا، وفعلوا،
وجاءت الأنصار في العام القابل، فكانت العقبة الثانية، وكانوا اثني عشر رجلا فيهم خمسة
من الستة الأولين، ثم جاءوا من العام الثالث، فكانت بيعة العقبة الكبرى، حضرها سبعون،
وفيهم اثنا عشر نقيبا.
ووصف القصة مستوعب في السير، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين:
أحدهما: أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم، وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من
العرب: يبعث لنا الآن نبي نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما رأى النفر من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم
قال بعضهم لبعض: هذا والله، النبي الذي تذكره بنو إسرائيل، فلا تسبقن إليه.
والوجه الآخر: الحرب التي كانت ضرستهم، وأفنت سراتهم، فرجوا أن يجمع الله
به كلمتهم، فكان الأمر كما رجوا، فعدد الله سبحانه عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة،
وذكرهم / بها قال الفخر: كانت الأنصار قبل الإسلام أعداء، فلما أكرمهم الله
[سبحانه] بالإسلام، صاروا إخوانا في الله متراحمين.
واعلم أن كل من كان وجهه إلى الدنيا، كان معاديا لأكثر الخلق، ومن كان وجهه
إلى خدمة المولى سبحانه، لم يكن معاديا لأحد، لأنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء
والقدر، ولهذا قيل: إن العارف، إذا أمر، أمر برفق، ونصح لا بعنف وعسر، وكيف، وهو
مستبصر بالله في القدر. اه‍.
وقوله تعالى: (فأصبحتم) عبارة عن الاستمرار.
86

قال * ص *: " أصبح ": يستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح،
وبمعنى " صار "، فلا يلحظ فيها وقت الصباح، بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى
حال، وأصبح: هنا بمعنى صار، وما ذكره ابن عطية من أن " أصبح " للاستمرار، لم
يذهب إليه أحد من النحويين. اه‍.
قلت: وفيما ادعاه نظر، وهي شهادة على نفي. وكلام.
* ع *: واضح من جهة المعنى، والشفا: حرف كل جرم له مهوى، كالحفرة،
والبئر، والجرف، والسقف، والجدار، ونحوه، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى،
كقوله: (شفا جرف) [التوبة: 109]، وإلى الأسفل، كقوله: (شفا حفرة) فشبه الله كفرهم
الذي كانوا عليه بالشفا، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأبا، فأنقذهم الله منها بالإسلام.
وقوله تعالى: (فأنقذكم منها)، أي: من النار، ويحتمل من الحفرة، والأول
أحسن، قال العراقي: أنقذكم، أي: خلصكم. اه‍.
وقوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير): أمر الله سبحانه الأمة، بأن
يكون منها علماء يفعلون هذه الأفعال على وجوهها، ويحفظون قوانينها، ويكون سائر الأمة
متبعين لأولئك، إذ هذه الأفعال لا تكون إلا بعلم واسع، وقد علم الله سبحانه، أن الكل
87

لا يكونون علماء، ف‍ " من " هنا: للتبعيض، وهو تأويل الطبري وغيره.
وذهب الزجاج وغير واحد، إلى أن المعنى: ولتكونوا كلكم أمة يدعون،
و " من ": لبيان الجنس، ومعنى الآية على هذا: أمر الأمة بأن يدعوا جميع العالم إلى
الخير، فيدعون الكفار إلى الإسلام، والعصاة إلى الطاعة، ويكون كل واحد في هذه الأمور
على منزلته من العلم والقدرة، وروى الليث بن سعد، قال: حدثني محمد بن
عجلان، أن وافدا النضري أخبره عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
" ليؤتين برجال يوم القيامة ليسوا بأنبياء، ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء، لمنازلهم من
الله، يكونون على منابر من نور، قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ قال: هم الذين يحببون
الله إلى الناس، ويحببون الناس إلى الله، ويمشون في الأرض نصحا، قلنا: يا رسول الله،
هذا يحببون الله إلى الناس، فكيف يحببون الناس إلى الله؟! قال: يأمرونهم بالمعروف،
وينهونهم عن المنكر، فإذا أطاعوهم، أحبهم الله تعالى " اه‍. من " التذكرة " للقرطبي.
88

قال * ع *: قال أهل العلم: وفرض الله سبحانه بهذه الآية الأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر، وهو من فروض الكفاية، إذا قام به قائم، سقط عن الغير، وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكرا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع
فبلسانه، فإن لم يستطع،
فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان والناس في الأمر بالمعروف وتغيير المنكر على مراتب،
ففرض العلماء فيه تنبيه الولاة، وحملهم على جادة العلم، وفرض الولاة تغييره بقوتهم
وسلطانهم /، ولهم هي اليد، وفرض سائر الناس رفعه إلى الولاة والحكام بعد النهي عنه
قولا، وهذا في المنكر الذي له دوام، وأما إن رأى أحد نازلة بديهية من المنكر كالسلب
والزنا ونحوه، فيغيرها بنفسه، بحسب الحال والقدرة، ويحسن لكل مؤمن أن يعتمل في
تغيير المنكر، وإن ناله بعض الأذى، ويؤيد هذا المنزع أن في قراءة عثمان وابن مسعود،
وابن الزبير: " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويستعينون الله على ما أصابهم "،
فهذا وإن لم يثبت في المصحف، ففيه إشارة إلى التعرض لما يصيب عقيب الأمر والنهي،
كما هو في قوله: (وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك) [لقمان:] 17.
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105)
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما
89

كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت وجوهم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) تلك آيات الله
تتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين (108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله
ترجع الأمور (109))
وقوله سبحانه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا...) الآية: قال ابن عباس: هي إشارة
إلى كل من افترق من الأمم في الدين، فأهلكهم الافتراق، وقال الحسن: هي إشارة إلى
اليهود والنصارى.
قلت: وروى أبو داود في سننه، عن معاوية بن أبي سفيان، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على
ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة "، وروى أبو
هريرة نحوه، ولم يذكر النار اه‍.
وقوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه...) الآية: بياض الوجوه: عبارة
عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة الله، قاله الزجاج وغيره.
وقوله تعالى: (أكفرتم): تقرير وتوبيخ متعلق بمحذوف، تقديره: فيقال لهم:
أكفرتم، وفي هذا المحذوف جواب " أما "، وهذا هو فحوى الخطاب، وهو أن يكون في
90

الكلام شئ مقدر لا يستغنى المعنى عنه، كقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على
سفر فعدة) [البقرة: 184] المعنى: فأفطر، فعدة.
وقوله تعالى: (بعد ايمانكم) يقتضى أن لهؤلاء المذكورين إيمانا متقدما، واختلف
أهل التأويل في تعيينهم، فقال أبي بن كعب: هم جميع الكفار، وإيمانهم هو إقرارهم يوم
قيل لهم: (ألست بربكم قالوا بلى) [الأعراف: 172] وقال أكثر المتأولين: المراد أهل
القبلة من هذه الأمة، ثم اختلفوا، فقال الحسن: الآية في المنافقين، وقال قتادة: هي في
أهل الردة، وقال أبو أمامة: هي في الخوارج.
وقوله تعالى: (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) الإشارة ب‍ " تلك " إلى هذه
الآيات المتضمنة تعذيب الكفار، وتنعيم المؤمنين، ولما كان في هذا ذكر التعذيب، أخبر
سبحانه، أنه لا يريد أن يقع منه ظلم لأحد من العباد، وإذا لم يرد ذلك، فلا يوجد البتة،
لأنه لا يقع من شئ إلا ما يريده سبحانه، وقوله: (بالحق): معناه بالإخبار الحق،
ويحتمل أن يكون المعنى: نتلوها عليك مضمنة الأفعال التي هي حق في نفسها من كرامة
قوم، وتعذيب آخرين، ولما كان للذهن أن يقف هنا في الوجه الذي به خص الله قوما
بعمل يرحمهم من أجله، وآخرين بعمل يعذبهم عليه، ذكر سبحانه الحجة القاطعة في ملكه
جميع المخلوقات، وأن الحق أن لا يعترض عليه، وذلك في قوله: (ولله ما في السماوات
وما في الأرض...) الآية /.
(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو
آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا
أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل
91

من الله وحبل من الناس وباؤا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون
بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (112))
وقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس...) الآية: اختلف في تأويل هذه
الآية.
فقيل: نزلت في الصحابة، وقال الحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم:
الآية خطاب لجميع الأمة، بأنهم خير أمة أخرجت للناس، ويؤيد هذا التأويل كونهم
شهداء على الناس. وأما قوله: " كنتم "، على صيغة المضي، فإنها التي بمعنى الدوام، كما
قال تعالى: (وكان الله غفورا رحيما) [الأحزاب: 73] وقال قوم: المعنى: كنتم في علم
الله، وهذه الخيرية التي خص الله بها هذه الأمة، إنما يأخذ بحظه منها من عمل بهذه
الشروط من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، مما جاء في فضل هذه
الأمة ما خرجه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن
الآخرون الأولون يوم القيامة " وفي رواية: " المسابقون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل
الجنة " وفي رواية: " نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل
الخلائق "، وفي رواية: " المقضي بينهم ". اه‍.
وخرج ابن ماجة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نحن آخر الأمم، وأول من
يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأولون "، وفي رواية عن ابن
عباس: " فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمضي غرا محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم:
كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها "، وخرجه أيضا أبو داود الطيالسي في مسنده
بمعناه. اه‍ من " التذكرة ".
وروى أبو داود في سننه، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، عن أبيه، عن أبي
92

موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة،
عذابها في الدنيا، الفتن، والزلازل، والقتل " اه‍، وقد ذكرنا هذا الحديث أيضا عن غير
أبي داود، وهذا الحديث ليس هو على عمومه في جميع الأمة، لثبوت نفوذ الوعيد في
طائفة من العصاة. اه‍.
وقوله: (تأمرون بالمعروف)، وما بعده: أحوال في موضع نصب.
وفي الحديث: " خير الناس أتقاهم لله، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر،
وأوصلهم للرحم "، رواه البغوي في " منتخبه ". اه‍ من " الكوكب الدري ".
وقوله سبحانه: (منهم المؤمنون): تنبيه على حال عبد الله بن سلام وأخيه،
وثعلبة بن سعية، وغيرهم ممن آمن.
وقوله تعالى: (لن يضروكم إلا أذى)، أي: إلا أذى بالألسنة فقط، وأخبر سبحانه
في قوله: (وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار)، بخبر غيب، صححه الوجود، فهي من آيات
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفائدة الخبر هي في قوله: (ثم لا ينصرون)، أي: لا تكون حرب
اليهود معكم سجالا، وخص الأدبار بالذكر دون الظهر، تخسيسا للفار، وهكذا هو حيث
تصرف.
وقوله تعالى: (ضربت): معناه: أثبتت بشدة وإلزام، وهذا وصف حال تقررت على
اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام، وثقفوا: معناه أخذوا بحال المذنب المستحق
الإهلاك، وقوله: (إلا بحبل من الله) في الكلام محذوف يدركه فهم السامع، تقديره: فلا
نجاة لهم من القتل أو الاستئصال إلا بحبل، وهو العهد.
وقوله: (ذلك) إشارة إلى الغضب، وضرب الذلة والمسكنة، وباقي الآية تقدم
تفسير نظيره.
(* ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون
93

(113) يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات
وأولئك من الصالحين (114))
وقوله تعالى: (ليسوا سواء...) الآية: قال ابن عباس (رضي الله عنهما): لما
أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعية /، وأسد بن عبيد، ومن أسلم
من اليهود معهم، قال الكفار من أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا خيارا،
ما تركوا دين آبائهم، فأنزل الله سبحانه في ذلك: (ليسوا سواء...) الآية، وقال مثله
قتادة، وابن جريج، وهو أصح التأويلات في الآية.
واختلف في قوله: (قائمة)، فقال ابن عباس وغيره: معناه: قائمة على كتاب الله،
وحدوده مهتديه، وقال السدي: القائمة: القانتة المعطية، وهذا كله يرجع إلى معنى
واحد، ويحتمل أن يراد ب‍ (قائمة): وصف حال التالين في آناء الليل، ومن كانت حاله
هذه، فلا محالة، أنه معتدل على أمر الله، و (آيات الله)، في هذه الآية: هي كتبه،
والآناء: الساعات، واحدها إني، بكسر الهمزة، وسكون النون، وحكم هذه الآية لا يتفق
في شخص شخص، بأن يكون كل واحد يصلي جميع ساعات الليل، وإنما يقوم هذا
الحكم من جماعة الأمة، إذ بعض الناس يقوم أول الليل، وبعضهم آخره، وبعضهم بعد
هجعة، ثم يعود إلى نومه، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات عمارة آناء الليل
بالقيام، وهكذا كان صدر هذه الأمة، وعرف الناس القيام في أول الثلث الآخر من الليل،
أو قبله بشئ، وحينئذ: كان يقوم الأكثر، والقيام طول الليل قليل، وقد كان في الصالحين
من يلتزمه، وقد ذكر الله سبحانه القصد من ذلك في " سورة المزمل "، وقيام الليل لقراءة
العلم المبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، وهو أفضل من التنفل لمن يرجى انتفاع
المسلمين بعلمه، قلت: وقد تقدم في أول السورة: ما جاء من التأويل في حديث النزول،
94

فلنذكر الآن الحديث بكماله، لما فيه من الفوائد:
روى أبو هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى
السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني، فأستجيب له، من يسألني،
فأعطيه، من يستغفرني، فاغفر له " رواه الجماعة، أعني: الكتب الستة، البخاري،
ومسلما، وأبا داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وفي بعض الطرق: " حتى يطلع
الفجر "، زاد ابن ماجة: " فلذلك كانوا يستحبون الصلاة آخر الليل على أوله ".
وعن عمرو بن عنبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون الرب من العبد في
جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكن ". رواه
أبو داود، والترمذي، والنسائي، والحاكم في " المستدرك "، واللفظ للترمذي، وقال: حسن
صحيح، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. اه‍ من " السلاح ".
وعن أبي أمامة، قلت: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال: " جوف الليل الآخر،
ودبر الصلوات المكتوبات "، رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن،
وفي رواية: " جوف الليل الآخر أرجى "، أو نحو هذا. اه‍ من " السلاح ".
95

ومما يدخل في ضمن قوله سبحانه: (ويسارعون في الخيرات)، أن يكون المرء
مغتنما للخمس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك
وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك "،
فيكون متى أراد أن يصنع خيرا، بادر إليه، ولم يسوف نفسه بالأمل، فهذه أيضا مسارعة في
الخيرات، وذكر بعض الناس قال: دخلت مع بعض الصالحين في مركب، فقلت له: ما
تقول (أصلحك الله) في الصوم في السفر؟ فقال لي: إنها المبادرة، يا ابن الأخ، قال
المحدث: فجاءني، والله، بجواب ليس من أجوبة الفقهاء /.
قال * ص *: قوله: (من الصالحين): " من " للتبعيض، ابن عطية: ويحسن أيضا
أن تكون لبيان الجنس، وتعقب بأنه لم يتقدم شئ فيه إبهام، فيبين جنسه. اه‍.
(وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغني
عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116))
وقوله تعالى: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه)، أي: فلن يعطى دونكم، فلا
تثابون عليه، وفي قوله سبحانه: (والله عليم بالمتقين): وعد ووعيد.
(مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا
أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117))
وقوله تعالى: (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح...) الآية: وقع في
الآية التشبيه بين شيئين وشيئين، وترك من كل منهما ما دل عليه الكلام، وهذه غاية الإيجاز
والبلاغة، وجمهور المفسرين على أن (ينفقون) يراد به الأموال التي كانوا ينفقونها في
التحنث، أي: يبطلها كفرهم، كما تبطل الريح الزرع، والصر: البرد الشديد المحرق لكل
ما يهب عليه، والحرث: شامل للزرع والثمار.
96

وقوله سبحانه: (حرث قوم ظلموا أنفسهم...) الآية: من أهل العلم من يرى أن
كل مصائب الدنيا، فإنما هي بمعاصي العبيد، وينتزع ذلك من غير ما آية في القرآن،
فيستقيم على قوله، أن كل حرث تحرقه ريح، فإنما هو لمن قد ظلم نفسه، والضمير في
قوله: (وما ظلمهم الله) للكفار الذين تقدم ضميرهم في (ينفقون)، وليس هو للقوم
ذوي الحرث.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت
البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم
أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم
الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة)، أي: لا تتخذوا من الكفار،
واليهود، والمنافقين أخلاء تأنسون بهم في الباطن، وتفاوضونهم في الآراء.
وقوله سبحانه: (من دونكم)، يعني: من دون المؤمنين.
وقوله سبحانه: (لا يألونكم خبالا): معناه: لا يقصرون لكم فيما فيه فساد عليكم،
تقول: ما ألوت في كذا، أي: ما قصرت، بل اجتهدت، والخبال: الفساد، قال ابن
عباس: كان رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من اليهود للحلف والجوار الذي كان بينهم
في الجاهلية، فنزلت الآية في ذلك، وقال ابن عباس أيضا، وقتادة، والربيع، والسدي:
نزلت في المنافقين.
قال * ع *: ويدخل في هذه الآية استكتاب أهل الذمة، وتصريفهم في البيع
والشراء، ونحو ذلك، و " ما " في قوله: (ما عنتم): مصدرية، فالمعنى: ودوا عنتكم،
والعنت: المشقة والمكروه يلقاه المرء، وعقبة عنوت، أي: شاقة.
قال * ص *: قال الزجاج: عنتكم، أي: مشقتكم، وقال ابن جرير: ضلالكم،
97

وقال الزبيدي: العنت: الهلاك. اه‍.
وقوله تعالى: (قد بدت البغضاء من أفواههم)، أي: فهم فوق المستتر الذي تبدو
البغضاء في عينيه، وخص سبحانه الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم
في أقوالهم هذه، ثم قال سبحانه للمؤمنين: (قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)،
تحذيرا وتنبيها، وقد علم سبحانه، أنهم عقلاء، ولكن هذا هز للنفوس، كما تقول: إن
كنت رجلا، فافعل كذا وكذا.
وقوله: (هأنتم أولاء تحبونهم): الضمير في " تحبونهم " للذين تقدم ذكرهم في
قوله: (بطانة من دونكم)، قال: * ص *: (وتؤمنون بالكتاب كله)، قال أبو البقاء:
الكتاب، هنا: جنس، أي: بالكتب كلها. اه‍.
وقوله تعالى: (عضوا عليكم الأنامل من الغيظ): عبارة عن شدة الغيظ، مع عدم
القدرة على إنفاذه، ومنه قول أبي طالب: [الطويل]
.......... يعضون غيظا خلفنا بالأنامل
وقوله سبحانه: (قل موتوا بغيظكم) قال فيه الطبري، وكثير من المفسرين: هو
دعاء عليهم، وقال قوم: بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمته أن يواجهوهم بهذا، فعلى / هذا زال معنى
الدعاء، وبقي معنى التقريع.
وقوله تعالى: (إن الله عليم بذات الصدور): وعيد و (ذات الصدور): ما تنطوي
عليه.
(إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا
يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط (120) وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين
مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله
فليتوكل المؤمنون (122))
98

وقوله سبحانه: (إن تمسسكم حسنه تسؤهم...) الآية: الحسنة والسيئة، في هذه
الآية: لفظ عام في كل ما يحسن ويسوء، قلت: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه
الأخلاق الذميمة، وروينا في " كتاب الترمذي "، عن واثلة بن الأسقع (رضي الله عنه)،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتلك " اه‍.
والكيد: الاحتيال بالأباطيل، وقوله تعالى: (وأكيد كيدا) [الطارق: 16] من باب
تسمية العقوبة باسم الذنب.
وقوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال) هذا ابتداء عتب
99

المؤمنين في أمر أحد، وفيه نزلت هذه الآيات كلها، وكان من أمر غزوة أحد أن المشركين
اجتمعوا في ثلاثة آلاف رجل، وقصدوا المدينة، ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر، فنزلوا عند
أحد يوم الأربعاء، الثاني عشر من شوال، سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين
شهرا من الهجرة، وأقاموا هنالك يوم الخميس، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يدبر وينتظر أمر
الله سبحانه، فلما كان في صبيحة يوم الجمعة، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس واستشارهم،
وأخبرهم أنه كان يرى بقرا تذبح، وثلما لأن في ذباب سيفه، وأنه يدخل يده في درع حصينة،
وأنه تأولها المدينة، وقال لهم: أرى ألا نخرج إلى هؤلاء الكفار، فقال له عبد الله بن أبي
ابن سلول: أقم، يا رسول الله، ولا تخرج إليهم بالناس، فإن هم أقاموا، أقاموا بشر
محبس، وإن انصرفوا، مضوا خائبين، وإن جاؤونا إلى المدينة، قاتلناهم في الأفنية ورماهم
النساء والصبيان بالحجارة من الآطام، فوالله، ما حاربنا قط عدو في هذه المدينة إلا
غلبناه، ولا خرجنا منها إلى عدو إلا غلبنا، فوافق هذا الرأي رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأي
جماعة عظيمة من المهاجرين والأنصار، وقال قوم من صلحاء المؤمنين ممن فاتته بدر: يا
رسول الله اخرج بنا إلى عدونا، وشجعوا الناس، ودعوا إلى الحرب، فقام رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فصلى بالناس صلاة الجمعة، وقد حشمه هؤلاء الداعون إلى الحرب، فدخل إثر
صلاته بيته، ولبس سلاحه، فندم أولئك القوم، وقالوا: أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرج
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم في سلاحه، قالوا: يا رسول الله، أقم، إن شئت، فإنا لا نريد أن
نكرهك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ينبغي لنبي لبس سلاحه أن يضعها، حتى يقاتل، ثم
خرج بالناس، وسار حتى قرب من عسكر المشركين، فعسكر هنالك، وبات تلك الليلة،
وقد غضب عبد الله بن أبي ابن سلول، وقال: أطاعهم، وعصاني، فلما كان في صبيحة
يوم السبت، اعتزم النبي صلى الله عليه وسلم على المسير إلى مناجزة المشركين، فنهض وهو في ألف
رجل، فانخزل عنه عند ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول بثلاثمائة رجل من منافق ومتبع،
وقالوا: نظن أنكم لا تلقون قتالا، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمائة / فهمت عند ذلك بنو
حارثة من الأوس وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف، ورأوا كثافة المشركين، وقلة
المسلمين، وكادوا أن يجبنوا، ويفشلوا، فعصمهم الله تعالى، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا
مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين فتصاف الناس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر على الرماة
عبد الله بن جبير، وكانوا خمسين رجلا، وجعلهم يحمون الجبل وراء المسلمين،
100

وأسند هو إلى الجبل، فلما اضطرمت نار الحرب، انكشف المشركون، وانهزموا، وجعل
نساء المشركين يشددن في الجبل، ويرفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخيلهن، فجعل الرماة
يقولون: الغنيمة الغنيمة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لهم: لا تبرحوا من هنا، ولو رأيتمونا
تخطفنا الطير، فقال لهم عبد الله بن جبير، وقوم منهم: اتقوا الله واثبتوا، كما أمركم
نبيكم، فعصوا وخالفوا، وانصرفوا يريدون النهب، وخلوا ظهور المسلمين للخيل، وجاء
خالد في جريدة خيل من خلف المسلمين، حيث كان الرماة، فحمل على الناس، ووقع
التخاذل، وصيح في المسلمين من مقدمتهم، ومن ساقتهم، وصرخ صارخ: قتل محمد،
فتخاذل الناس، واستشهد من المسلمين سبعون، وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى الجبل،
وتحاوز الناس ".
هذا مختصر من القصة يتركب عليه تفسير الآيات، وأمر أحد مستوعب في السير،
وليس هذا التعليق مما يقتضي ذكره، و (تبوئ): معناه: تعين لهم مقاعد يتمكنون فيها،
ويثبتون، وقوله سبحانه: (مقاعد): جمع مقعد، وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة قولك:
مواقف، ولكن لفظة القعود أدل على الثبوت، ولا سيما أن الرماة إنما كانوا قعودا، وكذلك
كانت صفوف المسلمين أولا والمبارزة والسرعان يجولون.
قوله تعالى: (والله سميع)، أي: ما تقول، وما يقال لك وقت المشاورة وغيره،
و (همت): معناه: أرادت، ولم تفعل، والفشل: في هذا الموضع: هو الجبن الذي كاد
يلحق الطائفتين، ففي البخاري وغيره، عن جابر، قال: نزلت هذه الآية فينا، إذ همت
طائفتان في بني سلمة وبني حارثة، وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: (والله
وليهما).
(ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123) إذ تقول للمؤمنين ألن
يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من
فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125))
وقوله سبحانه: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة...) لما أمر الله سبحانه بالتوكل
101

عليه، ذكر بأمر بدر الذي كان ثمرته التوكل على الله سبحانه، والثقة به.
وقوله سبحانه: (وأنتم أذلة): معناه: قليلون، واسم الذل في هذا الموضع:
مستعار، إذ نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند المتأمل
ذلتهم، وأنهم مغلوبون، روى ابن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم بدر في ثلاثمائة، وخمسة
عشر، فقال صلى الله عليه وسلم: " اللهم، إنهم حفاة، فأحملهم، اللهم إنهم عراة، فاكسهم، اللهم، إنهم
جياع، فأشبعهم "، ففتح الله عليهم يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا، وما فيهم رجل إلا قد
رجع بجمل أو جملين، واكتسوا، وشبعوا " رواه أبو داود، والحاكم في " المستدرك على
الصحيحين "، واللفظ له، وقال: صحيح على شرط الشيخين. اه‍ من " السلاح ".
وقوله سبحانه: (إذ / تقول): العامل في " إذ " فعل مضمر، ويحتمل أن يكون العامل
" نصركم "، وعلى هذا قول الجمهور، أن هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم كان ببدر، قال ابن
عباس: لم تقاتل الملائكة في يوم من الأيام إلا يوم بدر، وكانوا يكونون في سائر الأيام
عددا ومددا لا يضربون، قال الشعبي: وهم يحضرون حروب المسلمين إلى يوم القيامة،
وقال قتادة: أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف، قال عكرمة: كان الوعد يوم بدر،
فلم يصبروا يوم أحد، ولا اتقوا، فلم يمدوا، ولو مدوا، لم يهزموا، وقال الضحاك،
وابن زيد: إنما كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد، ففر الناس، وولوا مدبرين، فلم
يمدهم الله، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة مردفين، والفوز: النهوض المسرع
إلى الشئ، مأخوذ من فور القدر، والماء ونحوه، ومنه: الفور في الحج والوضوء
102

و (مسومين): معناه: معلمين بعلامات، وروي أن الملائكة أعلمت يوم بدر بعمائم بيض
إلا جبريل، فإنه كان بعمامة صفراء على مثال عمامة الزبير بن العوام، وروي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين يوم بدر: " سوموا، فإن الملائكة قد سومت ".
(وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126)
ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) ليس لك من الأمر شئ أو يتوب عليهم أو
يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله
غفور رحيم (129))
وقوله سبحانه: (وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من
عند الله العزيز الحكيم): الضمير في (جعله الله): عائد على الإنزال والإمداد، ومعنى
الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، وتطمئن به قلوبكم، وترون حفاية الله بكم،
وإلا فالكثرة لا تغنى شيئا إلا أن ينصر الله، واللام في قوله: (ليقطع) متعلقة بقوله: (وما
النصر)، ويحتمل أن تكون متعلقة ب‍ (جعله) فيكون قطع الطرف إشارة إلى من قتل
ببدر، على قول ابن إسحاق وغيره، أو إلى من قتل بأحد على ما قال السدي، وقتل
من المشركين ببدر سبعون، وقتل منهم يوم أحد اثنان وعشرون رجلا، والطرف الفريق.
وقوله سبحانه: (أو يكبتهم): معناه يخزيهم والكبت: الصرع لليدين.
وقال * ص *: الكبت: الهزيمة، وقيل: الصرع لليدين اه‍.
103

وقوله تعالى: (ليس لك من الأمر شئ...) الآية: روي في سبب هذه الآية، أنه
لما هزم أصحابه صلى الله عليه وسلم، وشج وجهه، وكسرت رباعيته، جعل يمسح وجهه، ويقول: " كيف
يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم "، وفي بعض طرق الحديث: " كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو
يدعوهم إلى الله "، فنزلت الآية، فقيل له: (ليس لك من الأمر شئ)، أي: عواقب
الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودم على الدعاء إلى ربك. قلت: وقد فعل ذلك صلى الله عليه وسلم
ممتثلا أمر ربه، قال عياض: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد،
شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: " إني لم أبعث لعانا، ولكني
بعثت داعيا، ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون "، وروي عن عمر (رضي الله
عنه)، أنه قال في بعض كلامه: بأبي وأمي أنت يا رسول الله، لقد دعا نوح على قومه،
فقال: (رب لا تذر على الأرض) [نوح: 26] الآية ولو دعوت علينا، لهلكنا من عند
آخرنا، فلقد وطئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك، فأبيت أن تقول إلا خيرا،
فقلت: " اللهم، اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون " اه‍.
قال الطبري وغيره من المفسرين: (أو يتوب) عطف على (يكبتهم) والمعنى:
أو يتوب عليهم، فيسلمون / أو يعذبهم، إن تمادوا على كفرهم، فإنهم ظالمون، ثم أكد
سبحانه معنى قوله: (ليس لك من الأمر شئ) بذكر الحجة الساطعة في ذلك، وهي ملكه
الأشياء، فقال سبحانه: (ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من
يشاء والله غفور رحيم)، أي: فله سبحانه أن يفعل بحق ملكه ما يشاء، لا اعتراض عليه
ولا معقب لحمكه، وذكر سبحانه: أن الغفران أو التعذيب، إنما هو بمشيئته، وبحسب
السابق في علمه، ثم رجى سبحانه في آخر ذلك، تأنيسا للنفوس.
(يا أهل الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130)
واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة...) الآية.
قال * ع *: هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد، ولا أحفظ سببا في ذلك
104

مرويا، ومعناه: الربا الذي كانت العرب تضعف فيه الدين، وقد تقدم الكلام على ذلك في
" سورة البقرة ".
وقوله تعالى: (أعدت للكافرين)، أي: أنهم المقصود، والمراد الأول، وقد يدخلها
سواهم من العصاة، هذا مذهب أهل العلم في هذه الآية، وحكى الماوردي وغيره، عن
قوم، أنهم ذهبوا إلى أن أكلة الربا، إنما توعدهم الله بنار الكفرة، لا بنار العصاة.
وقوله سبحانه: (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون)، قال محمد بن إسحاق:
هذه الآية من قوله تعالى: (وأطيعوا الله) هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد، وانهزام من فر،
وزوال الرماة عن مراكزهم.
(* وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين (133)
الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134))
وقوله تعالى: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض)، قرأ
نافع، وابن عامر: سارعوا بغير " واو "، وكذلك هي في مصاحف أهل المدينة والشام، وقرأ
باقي السبعة بالواو، والمسارعة: المبادرة، وهي مفاعلة، إذ الناس كأن كل واحد يسرع
ليصل قبل غيره، فبينهم في ذلك مفاعلة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (فاستبقوا الخيرات)
[البقرة: 148]، والمعنى: سارعوا بالطاعة، والتقوى، والتقرب إلى ربكم إلى حال يغفر الله
لكم فيها، قلت: وحق على من فهم كلام ربه، أن يبادر ويسارع إلى ما ندبه إليه ربه، وألا
يتهاون بترك الفضائل الواردة في الشرع، قال النووي - رحمه الله -: أعلم أنه ينبغي لمن
بلغه شئ في فضائل الأعمال، أن يعمل به، ولو مرة، ليكون من أهله، ولا ينبغي أن يتركه
جملة، بل يأتي بما تيسر منه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: " وإذا
105

أمرتكم بشئ فافعلوا منه ما استطعتم ". انتهى من " الحلية ".
وقوله سبحانه: (وجنة عرضها السماوات والأرض)، أي: كعرض السماوات
والأرض، قال ابن عباس في تفسير الآية: تقرن السماوات والأرضون بعضها إلى بعض،
كما تبسط الثياب، فذلك عرض الجنة، ولا يعلم طولها إلا الله سبحانه، وفي الحديث
الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن بين المصراعين من أبواب الجنة مسيرة أربعين سنة، وسيأتي
عليها يوم يزدحم الناس فيها كما تزدحم الإبل، إذا وردت خمصا ظماء ". وفي الصحيح:
" إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام لا يقطعها " فهذا كله يقوي
106

قول ابن عباس، وهو قول الجمهور: " إن الجنة أكبر من هذه المخلوقات المذكورة، وهي
ممتدة على السماء، حيث شاء / الله تعالى، وذلك لا ينكر، فإن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " ما
السماوات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كدراهم ألقيت في فلاة من الأرض، وما
الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ".
قال * ع *: فهذه مخلوقات أعظم بكثير جدا من السماوات والأرض، وقدرة الله
أعظم من ذلك كله، قلت: قال الفخر: وفي الآية وجه ثان، أن الجنة التي عرضها مثل
عرض السماوات والأرض، إنما تكون للرجل الواحد، لأن الإنسان يرغب فيما يكون ملكا
له، فلا بد أن تصير الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. اه‍.
وقدرة الله تعالى أوسع، وفضله أعظم، وفي " صحيح مسلم "، والترمذي، من
حديث المغيرة بن شعبة (رضي الله عنه): " في سؤال موسى ربه عن أدنى أهل الجنة
107

منزلة، وأنه رجل يأتي بعد ما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: أترضى أن يكون لك ما
كان لملك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت، أي: رب، فيقال له: لك ذلك ومثله معه،
ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت، أي: رب، فيقال له: لك ذلك، وعشرة
أمثاله، فيقول: رضيت، أي: رب، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت
عينك "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وفي البخاري من طريق ابن مسعود (رضي الله عنه): " إن آخر أهل الجنة دخولا
الجنة، وآخر أهل النار خروجا من النار رجل يخرج حبوا، فيقول له ربه: أدخل الجنة،
فيقول: رب، الجنة ملأى، فيقول له: إن لك مثل الدنيا عشر مرات ". اه.
وفي " جامع الترمذي "، عن ابن عمر (رضي الله عنهما)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف
سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية... " الحديث، قال أبو
عيسى، وقد روي هذا الحديث من غير وجه، مرفوعا وموقوفا، وفي الصحيح ما معناه:
" إذا دخل أهل الجنة الجنة، تبقى فيها فضلة، فينشئ الله لها خلقا "، أو كما قال. اه‍.
قال * ع *: وخص العرض بالذكر، لأنه يدل متى ما ذكر على الطول، والطول
إذا ذكر لا يدل على قدر العرض، بل قد يكون الطويل يسير العرض، كالخيط ونحوه.
ثم وصف تعالى المتقين الذين أعدت لهم الجنة بقوله: (الذين ينفقون في السراء
108

والضراء)، وهما اليسر والعسر، قاله ابن عباس. إذ الأغلب أن مع اليسر النشاط،
وسرور النفس، ومع العسر الكراهية، وضر النفس، وكظم الغيظ: رده في الجوف، إذا كاد
أن يخرج من كثرته، ومنعه: كظم له، والكاظم: اليسر الذي يشد به فم الزق، والغيظ:
أصل الغضب، وكثيرا ما يتلازمان، ولذلك فسر بعض الناس الغيظ بالغضب، وليس تحرير
الأمر كذلك، بل الغيظ حال للنفس، لا تظهر على الجوارح، والغضب حال لها تظهر في
الجوارح وفعل ما، ولا بد، ولهذا جاز إسناد الغضب إلى الله سبحانه، إذ هو عبارة عن
أفعاله في المغضوب عليهم، ولا يسند إليه تعالى الغيظ.
ووردت في كظم الغيظ، وملك النفس عند الغضب أحاديث، وذلك من أعظم
العبادات، وجهاد النفس، ففي حديث أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن النبي صلى الله عليه وسلم / قال:
" من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا "، إلى غير ذلك من
الأحاديث، قلت: وروى أبو داود، والترمذي عن معاذ بن أنس (رضي الله عنه)، أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كظم غيظا، وهو يقدر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق
يوم القيامة، حتى يخيره في أي الحور شاء "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. اه‍.
وفي رواية أخرى لأبي داود: " ملأة الله أمنا وإيمانا، ومن ترك لبس ثوب جمال،
109

وهو يقدر عليه، - قال بشر: أحسبه قال: تواضعا -، كساه الله حلة الكرامة "، وحدث
الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من كف
غضبه، كف الله عنه عذابه، ومن خزن لسانه، ستر الله عورته، ومن اعتذر إلى الله قبل
الله عذره ". اه‍ من " صفوة التصوف ".
والعفو عن الناس: من أجل ضروب فعل الخير، ثم قال سبحانه: (والله يحب
المحسنين)، فعم أنواع البر، وظاهر الآية أنها مدح بفعل المندوب.
(والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر
الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم
وجنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136))
وقوله سبحانه: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله...) الآية:
ذكر سبحانه في هذه الآية صنفا هو دون الصنف الأول، فألحقهم بهم برحمته ومنه، وهم
التوابون، وروي في سبب نزول هاتين الآيتين، أن الصحابة (رضي الله عنهم)، قالوا: يا
رسول الله، كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منا حين كان المذنب منهم يصبح، وعقوبته
مكتوبة على باب داره، فأنزل الله هذه الآية، توسعة ورحمة، وعوضا من ذلك الفعل ببني
إسرائيل ".
وروي أن إبليس بكى، حين نزلت هذه الآية، والفاحشة لفظ يعم جميع المعاصي،
وقد كثر استعماله في الزنا، حتى فسر السدي الفاحشة هنا بالزنا، وقال قوم: الفاحشة
110

هنا: إشارة إلى الكبائر، وظلم النفس: إشارة إلى الصغائر، واستغفروا: معناه: طلبوا
الغفران.
قال النووي: وروينا في سنن ابن ماجة، بإسناد جيد، عن عبد الله بن بسر (بضم
الباء)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا " انتهى
من " الحلية ".
و (ذكروا الله): معناه: بالخوف من عقابه، والحياء منه، إذ هو المنعم المتطول،
ثم اعترض أثناء الكلام قوله تعالى: (ومن يغفر الذنوب إلا الله)، اعتراضا موقفا للنفس،
داعيا إلى الله مرجيا في عفوه، إذا رجع إليه، وجاء اسم " الله " مرفوعا بعد الاستثناء،
والكلام موجب، حملا على المعنى، إذ هو بمعنى، وما يغفر الذنوب إلا الله، وعن
علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، قال: حدثني أبو بكر رضي الله عنه، وصدق أبو
بكر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من رجل يذنب ذنبا، ثم يقوم، فيتطهر، ثم
يصلي، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو
ظلموا أنفسهم ذكروا الله...) إلى آخر الآية " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن
111

ماجة، وابن حبان في " صحيحه "، وقال الترمذي، واللفظ له: حديث حسن انتهى من
" السلاح ".
وقوله سبحانه: (ولم يصروا): الإصرار: هو المقام على الذنب، واعتقاد العودة
112

إليه، وقوله: (وهم يعلمون)، قال السدي: معناه: وهم يعلمون أنهم / قد أذنبوا، وقال
ابن إسحاق: معناه: وهم يعلمون بما حرمت عليهم، وقيل: وهم يعلمون أن باب التوبة
مفتوح، وقيل: وهم يعلمون أني أعاقب على الإصرار، ثم شرك سبحانه الطائفتين
المذكورتين في قوله: (أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم...) الآية.
قال * ص *: قوله: (ونعم) المخصوص بالمدح محذوف، أي المغفرة والجنة.
(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا
بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم
مؤمنين (139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس
وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140) وليمحص الله الذين
آمنوا ويمحق الكافرين (141) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم
ويعلم الصابرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143))
وقوله سبحانه: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض...) الآية: الخطاب
للمؤمنين، والمعنى: لا يذهب بكم أن ظهر الكفار المكذبون عليكم بأحد، فإن العاقبة
للمتقين، وقديما ما أدال الله المكذبين على المؤمنين، ولكن انظروا كيف هلك المكذبون
بعد ذلك، فكذلك تكون عاقبة هؤلاء، وقال النقاش: الخطاب ب‍ " قد خلت " للكفار.
قال * ع *: وذلك قلق، وخلت: معناه: مضت، والسنن: الطرائق.
وقال ابن زيد: سنن: معناه: أمثال، وهذا تفسير لا يخص اللفظة، وقوله:
(فانظروا) هو عند الجمهور من نظر العين، وقال قوم: هو بالفكر.
113

وقوله تعالى: (هذا بيان للناس)، يريد به القرآن، قاله الحسن وغيره، وقال
جماعة: الإشارة ب‍ " هذا " إلى قوله تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن).
وقال الفخر: يعني بقوله: (هذا بيان) ما تقدم، من أمره سبحانه، ونهيه،
ووعده، ووعيده، وذكره لأنواع البينات والآيات. انتهى.
ثم نهى سبحانه المؤمنين عن الوهن، وهو الضعف وأنسهم بأنهم الأعلون أصحاب
العاقبة، ومن كرم الخلق ألا يهن الإنسان في حربه، إذا كان محقا، وإنما يحسن اللين في
السلم والرضى، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمن هين لين "، وقوله سبحانه: (وأنتم الأعلون)
إخبار بعلو كلمة الإسلام، هذا قول الجمهور، وهو ظاهر اللفظ.
قال * ص *: (وأنتم الأعلون): في موضع نصب، على الحال.
وقوله سبحانه: (إن كنتم مؤمنين): المقصد هز النفوس، وإقامتها، ويترتب من
ذلك الطعن على من نجم في ذلك اليوم نفاقه أو اضطرب يقينه، أي: لا يتحصل الوعد إلا
بالإيمان، فالزموه، ثم قال تعالى، تسلية للمؤمنين: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح
مثله) والأسوة مسلاة للبشر، ومنه قول الخنساء: [الوافر]
ولولا كثرة الباكين حولي * على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن * أعزي النفس عنه بالتأسي
والقرح: القتل والجراح، قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: (وتلك عن الأيام نداولها بين الناس)، أخبر سبحانه على جهة التسلية، أن
114

الأيام على قديم الدهر وغابره أيضا إنما جعلها دولا بين البشر، أي: فلا تنكروا أن يدال
عليكم الكفار.
وقوله تعالى: (وليعلم الله الذين آمنوا)، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا فعل
ذلك، والمعنى: ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم الله أزلا، أنهم يؤمنون وإلا فقد
علمهم في الأزل، (ويتخذ منكم شهداء): معناه أهل فوز في سبيله، حسبما ورد في
فضائل الشهداء، وذهب كثير من العلماء إلى التعبير عن إدالة المؤمنين بالنصر، وعن إدالة
الكفار بالإدالة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث، " أنهم يدالون، كما تنصرون "
والتمحيص: التنقية، قال الخليل: التمحيص: التخليص من العيب، فتمحيص المؤمنين /
هو تنقيتهم من الذنوب، والمحق: الإذهاب شيئا فشيئا، ومنه: محاق القمر، وقوله
سبحانه: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم
الصابرين...) الآية: حسبتم: معناه: ظننتم، وهذه الآية وما بعدها عتب وتقريع لطوائف
من المؤمنين الذين وقعت منهم الهنوات المشهورة في يوم أحد، ثم خاطب الله سبحانه
المؤمنين بقوله: (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه)، والسبب في ذلك أن
النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزوة بدر، يريد عير قريش مبادرا، فلم يوعب الناس معه، إذ كان الظن
أنه لا يلقى حربا، فلما قضى الله ببدر ما قضى، وفاز حاضروها بالمنزلة الرفيعة، كان
المتخلفون من المؤمنين عنها يتمنون حضور قتال الكفار، ليكون منهم في ذلك غناء يلحقهم
عند ربهم ونبيهم بمنزلة أهل بدر، فلما جاء أمر أحد، لم يصدق كل المؤمنين، فعاتبهم الله
بهذه الآية، وألزمهم تمني الموت، من حيث تمنوا أسبابه، وهو لقاء العدو ومضاربتهم،
وإلا فنفس قتل المشرك للمسلم لا يجوز أن يتمنى، من حيث هو قتل، وإنما تتمنى لواحقه
من الشهادة والتنعيم، قلت:
وفي كلام * ع *: بعض إجمال، وقد ترجم البخاري تمنى الشهادة، ثم أسند عن
أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " والذي نفسي بيده، لولا أن رجالا من المؤمنين
لا تطيب أنفسهم، أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو
في سبيل الله، والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم
أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل " وخرجه أيضا مسلم، وخرج البخاري ومسلم من حديث
115

أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبد يموت، له عند الله (عز وجل) خير، يسره أن يرجع
إلى الدنيا، وأن الدنيا له وما فيها، إلا الشهيد، لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن
يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة ". اه‍.
فقد تبين لك تمني القتل في سبيل الله بهذه النصوص، لما فيه من الكرامة.
وصواب كلام * ع *: أن يقول: وإنما يتمنى القتل، للاحقة، من الشهادة
والتنعيم.
وقوله سبحانه: (فقد رأيتموه)، يريد: رأيتم أسبابه، وقوله: (وأنتم تنظرون):
تأكيد للرؤية، وإخراجها من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين.
(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم
ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن
تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة
نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في
سبيل الله وما ضعفوا واما استكانوا والله يحب الصابرين (146))
وقوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل...) الآية: هذا
استمرار في عتبهم، وإقامة الحجة عليهم: المعنى أن محمدا - عليه السلام - رسول كسائر
الرسل قد بلغ كما بلغوا، ولزمكم أيها المؤمنون العمل بمضمن الرسالة، وليست حياته
وبقاؤه بين أظهركم شرطا في ذلك، لأنه يموت، كما ماتت الرسل قبله، ثم توعد سبحانه
المنقلب على عقبيه بقوله: (فلن يضر الله شيئا)، لأن المعنى: فإنما يضر نفسه، وإياها
يوبق، ثم وعد الشاكرين، وهم الذين صدقوا، وصبروا، ومضوا في دينهم، ووفوا لله
116

بعهدهم، كسعد بن الربيع، ووصيته يومئذ للأنصار، وأنس بن النضر، وغيرهما، ثم
يدخل في الآية الشاكرون إلى يوم القيامة، وقال علي (رضي الله عنه) في تفسير هذه
الآية: الشاكرون الثابتون على دينهم، أبو بكر، وأصحابه، وكان يقول: أبو بكر / أمير
الشاكرين، إشارة منه إلى صدع أبي بكر بهذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وثبوته في ذلك
الموطن، وثبوته في أمر الردة، وسائر المواطن التي ظهر فيها شكره، وشكر الناس بسببه،
ثم أخبر عز وجل عن النفوس، أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم عند الله تعالى، أي:
فالجبن والخور لا يزيد في الأجل، والشجاعة والإقدام لا ينقص منه، وفي هذه الآية تقوية
للنفوس في الجهاد، وفيها رد على المعتزلة في قولهم بالأجلين.
وقوله سبحانه: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها...) الآية، أي: نؤت من شئنا منها
ما قدر له، يبين ذلك قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)
[الإسراء: 18]، وقرينة الكلام تقتضي أنه لا يؤتى شيئا من الآخرة، لأن من كانت نيته من
عمله مقصورة على طلب الدنيا، فلا نصيب له في الآخرة، والأعمال بالنيات، وقرينة
الكلام من قوله: (ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) لا تمنع أن يؤتى نصيبا من الدنيا، قال
ابن فورك في قوله تعالى: (وسنجزي الشاكرين): إشارة إلى أنه ينعمهم بنعم الدنيا، لا
أنهم يقصرون على الآخرة.
ثم ضرب سبحانه المثل للمؤمنين بمن سلف من صالح الأمم الذين لم يثنهم عن
دينهم قتل الكفار لأنبيائهم، فقال: (وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير...) الآية: وفي
" كأين " لغات، فهذه اللغة أصلها، لأنها كاف التشبيه دخلت على " أي "، و " كأين " في
117

هذه الآية في موضع رفع بالابتداء، وهي بمنزلة " كم "، وبمعناها تعطى في الأغلب التكثير،
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: " قتل " مبنيا لما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون " قاتل "،
فقوله: " قتل "، قال فيه جماعة من المفسرين، منهم الطبري: إنه مستند إلى ضمير
" نبي "، والمعنى عندهم أن النبي قتل، ونحا إليه ابن عباس، وإذا كان هذا، ف‍ " ربيون "
مرتفع بالظرف بلا خلاف، وهو متعلق بمحذوف، وليس متعلقا ب‍ " قتل "، وقال الحسن بن
أبي الحسن وجماعة: إن " قتل " إنما هو مستند إلى قوله: " ربيون "، وهم المقتولون، قال
الحسن، وابن جبير: لم يقتل نبي في حرب قط.
قال * ع *: فعلى هذا القول يتعلق قوله: " معه " ب‍ " قتل " ورجح الطبري القول
الأول، بدلالة نازلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن المؤمنين إنما تخاذلوا يوم أحد، لما قيل: قتل
محمد، فضرب المثل بنبي قتل، وترجيح الطبري حسن، ويؤيد ذلك ما تقدم من قوله:
(أفإن مات أو قتل) [آل عمران: 144] وحجة من قرأ " قاتل ": أنها أعم في المدح، لأنه
يدخل فيها من قتل، ومن بقي.
118

قال * ع *: ويحسن عندي على هذه القراءة استناد الفعل إلى الربيين، وقوله:
(ربيون)، قال ابن عباس وغيره: معناه: جموع كثيرة، وهو الربة (بكسر الراء)، وهي
الجماعة الكثيرة، وروي عن ابن عباس والحسن بن أبي المسن وغيرهما: أنهم قالوا:
ربيون: معناه: علماء، ويقوى هذا القول قراءة من قرأ: ربيون (بفتح الراء) منسوبون
إلى الرب، أما لأنهم مطيعون له، أو من حيث إنهم علماء بما شرع.
وقوله سبحانه: (وما استكانوا)، ذهبت طائفة من النحاة إلى أنه من السكون،
وذهبت طائفة إلى أنه مأخوذ من: " كان، يكون "، وأصله: استكونوا، والمعنى: أنهم لم
يضعفوا، ولا كانوا / قريبا من ذلك، قلت: وأعلم (رحمك الله) أن أصل الوهن والضعف
عن الجهاد، ومكافحة العدو هو حب الدنيا، وكراهية بذل النفوس لله، وبذل مهجها للقتل
119

في سبيل الله، ألا ترى إلى حال الصحابة (رضي الله عنهم)، وقلتهم في صدر الإسلام،
وكيف فتح الله بهم البلاد، ودان لدينهم العباد، لما بذلوا لله أنفسهم في الجهاد، وحالنا
اليوم، كما ترى، عدد أهل الإسلام كثير، ونكايتهم في الكفار نزر يسير، وقد روى أبو
داود في " سننه " عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يوشك الأمم أن تتداعى عليكم،
كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم كثير،
ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في
قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: حب الدنيا، وكراهية
الموت ". اه‍، فانظر (رحمك الله)، فهل هذا الزمان إلا زماننا بعينه، وتأمل حال
ملوكنا، إنما همتهم جمع المال من حرام وحلال، وإعراضهم عن أمر الجهاد، فإنا لله وإنا
إليه راجعون على مصاب الإسلام.
(وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا
على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148))
وقوله تعالى: (وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا...) الآية: هذه الآية
في ذكر الربيين، أي: هذا كان قولهم، لا ما قاله بعضكم، يا أصحاب محمد: (لو كان لنا
من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا) [آل عمران: 154]، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من
الأقوال، قلت: وهذه المقالة ترجح القول الثاني في تفسير الربيين، إذ هذه المقالة إنما
تصدر من علماء عارفين بالله.
قال * ع *: واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم
رأوا أن ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر، كما نزلت قصة أحد بعصيان
من عصى، وقولهم: (ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا): عبارتان عن معنى قريب بعضه من
بعض، جاء للتأكيد، ولتعم مناحي الذنوب، وكذلك فسره ابن عباس وغيره، وقال
الضحاك: الذنوب عام، والإسراف في الأمر، أريد به الكبائر خاصة، (فآتاهم الله ثواب
120

الدنيا)، بأن أظهرهم على عدوهم، (وحسن ثواب الآخرة): الجنة بلا خلاف.
قال الفخر: ولا شك أن ثواب الآخرة هي الجنة، وذلك غير حاصل في الحال،
فيكون المراد أنه سبحانه، لما حكم لهم بحصولها في الآخرة، قام حكمه لهم بذلك مقام
الحصول في الحال، ومحمل قوله: (آتاهم) أنه سيؤتيهم.
وقيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية خاصة بالشهداء، وأنه تعالى في حال نزول هذه
الآية، كان قد آتاهم حسن ثواب الآخرة. انتهى.
(يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا
خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب
بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين (151)
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر
وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة
ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين (152))
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا)، يعني: المنافقين الذين
خيبوا المسلمين، وقالوا في أمر أحد: لو كان محمد نبيا، لم ينهزم.
وقوله سبحانه: (بل الله مولاكم وهو خير الناصرين) هذا تثبيت لهم، وقوله
سبحانه: (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) سبب هذه الآية أنه لما ارتحل أبو سفيان
بالكفار، رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فتجهز، واتبع المشركين، وكان معبد بن أبي معبد
الخزاعي قد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: والله يا محمد، لقد ساءنا ما أصابك، وكانت
خزاعة تميل إلى النبي صلى الله عليه وسلم /، ثم ركب معبد، حتى لحق بأبي سفيان، فلما رأى أبو سفيان
معبدا، قال: ما وراءك، يا معبد؟ قال محمد في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله،
يتحرقون عليكم قد اجتمع معه من كان تخلف عنه، وندموا على ما صنعوا، قال: ويلك!
ما تقول؟ قال: والله، ما أراك أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فوالله، لقد
121

أجمعنا الكرة إليهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، ووالله، لقد حملني ما رأيت على أن قلت
فيهم شعرا، قال: وما قلت؟ قال: قلت: [البسيط]
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
إلى آخر الشعر، فألقى الله الرعب في قلوب الكفار، وقال صفوان بن أمية: لا
ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان، فنزلت الآية في هذا الإلقاء، وهي
بعد متناولة كل كافر، قال الفخر: لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام، إلا وفي قلبه خوف
من الرعب، إما عند الحرب، وإما عند المحاجة. انتهى.
وقوله سبحانه: (بما أشركوا)، هذه باء السبب، والسلطان: الحجة والبرهان.
قال * ص *: قوله: (وبئس)، المخصوص بالذم محذوف، أي: النار [انتهى].
122

وقوله سبحانه: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه)، جاء الخطاب لجميع
المؤمنين، وإن كانت الأمور التي عاتبهم سبحانه عليها، لم يقع فيها جميعهم، ولذلك وجوه
من الفصاحة، منها: وعظ الجميع، وزجره، إذ من لم يفعل معد أن يفعل، إن لم يزجر،
ومنها: الستر والإبقاء على من فعل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وعد المؤمنين النصر يومئذ على خبر
الله، إن صبروا وجدوا، فصدقهم الله وعده، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صاف المشركين يومئذ،
ورتب الرماة، على ما قد ذكرناه قبل هذا، واشتعلت نار الحرب، وأبلى حمزة بن
عبد المطلب، وأبو دجانة، وعلي، وعاصم بن أبي الأقلح، وغيرهم، وانهزم
المشركون، وقتل منهم اثنان وعشرون رجلا، فهذا معنى قوله عز وجل: (إذ تحسونهم
بإذنه)، والحسن: القتل الذريع، يقال: حسهم إذا استأصلهم قتلا، وحس البرد النبات.
وقوله سبحانه: (حتى إذا فشلتم)، يحتمل أن تكون " حتى " غاية، كأنه قال: إلى أن
فشلتم، والأظهر الأقوى أن " إذا " على بابها تحتاج إلى الجواب، ومذهب الخليل،
وسيبويه، وفرسان الصناعة، أن الجواب محذوف يدل عليه المعنى، تقديره: انهزمتم،
ونحوه، والفشل: استشعار العجز، وترك الجد، والتنازع هو الذي وقع بين الرماة،
(وعصيتم): عبارة عن ذهاب من ذهب من الرماة، وتأمل (رحمك الله) ما يوجبه الركون
إلى الدنيا، وما ينشأ عنها من الضرر، وإذا كان مثل هؤلاء السادة على رفعتهم وعظيم
منزلتهم، حصل لهم بسببها ما حصل، من الفشل والهزيمة، فكيف بأمثالنا، وقد حذر الله
عز وجل ونبيه - عليه السلام - من الدنيا وآفاتها، بما لا يخفى على ذي لب، وقد ذكرنا في
هذا " المختصر " جملة كافية لمن وفقه الله، وشرح صدره، وقد خرج البغوي في " المسند
المنتخب " له، عن النبي صلى الله عليه وسلم / أنه قال: " لا تفتح الدنيا على أحد إلا ألقت بينهم العداوة
والبغضاء إلى يوم القيامة ". انتهى من " الكوكب الدري ".
123

وقال - عليه السلام - للأنصار لما تعرضوا له، إذ سمعوا بقدوم أبي عبيدة بمال البحرين:
" أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله، ما الفقر أخشى عليكم! ولكني أخشى أن تبسط الدنيا
عليكم، كما بسطت على من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم "،
أخرجه البخاري ومسلم والترمذي، واللفظ له، وقال: هذا حديث صحيح. انتهى.
واعلم (رحمك الله) أن تيسير أسباب الدنيا مع إعراضك عن أمر آخرتك، ليس ذلك
من علامات الفلاح، وقد روى ابن المبارك في " رقائقه "، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال:
حدثني سعيد بن أبي سعيد، أن رجلا قال: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم كيف أنا؟
قال: " إذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر الآخرة، وابتغيته، يسر لك، وإذا أردت شيئا من
الدنيا، وابتغيته، عسر عليك، فأنت على حال حسنة، وإذا رأيت كلما طلبت شيئا من أمر
الآخرة، وابتغيته، عسر عليك، وإذا أردت شيئا من أمر الدنيا، وابتغيته، يسر لك، فأنت
على حال قبيحة ". انتهى، فتأمله راشدا، وقوله: (من بعد ما أراكم ما تحبون)، يعني:
هزيمة المشركين، قال الزبير: والله، لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة،
124

وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل، ولا كثير، إذ مالت الرماة إلى العسكر
حين كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأوتينا من أدبارنا، وصرخ
صارخ ألا إن محمدا قد قتل، وانكفأ علينا القوم.
وقوله سبحانه: (منكم من يريد الدنيا)، يعنى بهم الذين حرصوا على الغنيمة، وكان
المال همهم، قاله ابن عباس، وسائر المفسرين، وقال عبد الله بن مسعود: ما كنت
أرى أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا، حتى نزل فينا يوم أحد: (منكم من يريد
الدنيا).
وقوله سبحانه: (ومنكم من يريد الآخرة) إخبار عن ثبوت من ثبت من الرماة، مع
عبد الله بن جبير، امتثالا للأمر حتى قتلوا، ويدخل في هذا أنس بن النضر، وكل من جد
ولم يضطرب من المؤمنين. (* إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم
عما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153)
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسكم يظنون
بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شئ ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم
لبرز الدين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم
والله عليم بذات الصدور (154) إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان
ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155))
وقوله تعالى: (إذ تصعدون ولا تلوون على أحد) العامل في إذ قوله: " عفا "،
وقراءة الجمهور " تصعدون " (بضم التاء، وكسر العين)، من: أصعد، ومعناه: ذهب في
الأرض، والصعيد: وجه الأرض، ف‍ " أصعد ": معناه: دخل في الصعيد، كما أن " أصبح ":
دخل في الصباح.
125

وقوله سبحانه: (ولا تلوون على أحد) مبالغة في صفة الانهزام، وقرأ حميد بن
قيس: " على أحد " (بضم الألف والحاء)، يريد الجبل، والمعني بذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم،
لأنه كان على الجبل، والقراءة الشهيرة أقوى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما
فر الناس، وهذه الحال من إصعادهم إنما كانت، وهو يدعوهم، وروي أنه كان ينادى صلى الله عليه وسلم:
" إلي، عباد الله "، والناس يفرون، وفي قوله تعالى: (في أخراكم): مدح له صلى الله الله عليه وسلم، فإن
ذلك هو موقف الأبطال في أعقاب الناس، ومنه قول الزبير بن باطا: ما فعل مقدمتنا إذا
حملنا، وحاميتنا إذا فررنا، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، ومنه قول سلمة بن الأكوع /
: كنا إذا احمر البأس، اتقيناه برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (فأثابكم): معناه: جازاكم على صنيعكم، واختلف في معنى قوله
تعالى: (غما بغم)، فقال قوم: المعنى: أثابكم غما بسبب الغم الذي أدخلتموه على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر المسلمين بفشلكم، وتنازعكم، وعصيانكم. قال قتادة، ومجاهد:
الغم الأول: أن سمعوا ألا إن محمدا قد قتل، والثاني: القتل والجراح.
وقوله تعالى: (لكيلا تحزنوا على ما فاتكم)، أي: من الغنيمة، ولا ما أصابكم،
أي: من القتل والجراح، وذل الانهزام، واللام من قوله: " لكي لا " متعلقة ب‍ " أثابكم "،
المعنى: لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم آذيتم أنفسكم، وعادة البشر أن
جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه، إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه، ثم
ذكر سبحانه أمر النعاس الذي أمن به المؤمنين، فغشي أهل الإخلاص، قلت: وفي صحيح
البخاري "، عن أنس، أن أبا طلحة قال: عشينا النعاس، ونحن في مصافنا يوم أحد، قال:
126

فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه، ونحوه عن الزبير، وابن
مسعود، " والواو " في قوله: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم)، واو الحال، ذهب أكثر
المفسرين إلى أن اللفظة من الهم الذي هو بمعنى الغم والحزن.
وقوله سبحانه: (يظنون بالله غير الحق): معناه: يظنون أن دين الإسلام ليس بحق،
وأن أمر محمد صلى الله عليه وسلم يضمحل.
قلت: وقد وردت أحاديث صحاح في الترغيب في حسن الظن بالله عز وجل، ففي
" صحيح مسلم "، وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم حاكيا عن الله عز وجل يقول سبحانه: " أنا عند
ظن عبدي بي... " الحديث، وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله غيره، لا يحسن أحد
الظن بالله عز وجل إلا أعطاه الله ظنه، وذلك أن الخير بيده، وخرج أبو بكر بن الخطيب
بسنده، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حسن عبادة المرء حسن ظنه " اه‍. وقوله:
127

(ظن الجاهلية): ذهب الجمهور إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا
كقوله سبحانه: (خيمة الجاهلية) [الفتح: 26] و (تبرج الجاهلية) [الأحزاب: 33] وذهب
بعض المفسرين إلى أن المراد في هذه الآية ظن الفرقة الجاهلية، وهم أبو سفيان ومن معه،
قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله ابن أبي ابن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا
من الأمر من شئ، يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شئ، لسمع من رأينا، فلم
يخرج، فلم يقتل أحد منا.
وقوله سبحانه: (قل إن الأمر كله لله) اعتراض أثناء الكلام فصيح، ومضمنه الرد
عليهم، وقوله سبحانه: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك...) الآية: أخبر تعالى
عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: (يقولون لو كان لنا من الأمر شئ ما قتلنا ههنا) هي مقالة سمعت
من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (وليبتلي الله ما في صدوركم): اللام في " ليبتلي " متعلقة بفعل
متأخر، تقديره: وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة، والابتلاء هنا / الاختبار.
وقوله سبحانه: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان) قال عمر (رضي الله
عنه): المراد بهذه الآية جميع من تولى ذلك اليوم عن العدو.
وقيل: نزلت في الذين فروا إلى المدينة.
128

قال ابن زيد: فلا أدرى، هل عفي عن هذه الطائفة خاصة، أم عن المؤمنين
جميعا.
وقوله تعالى: (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا): ظاهره عند جمهور
المفسرين: أنه كانت لهم ذنوب عاقبهم الله عليها بتمكين الشيطان من استزلالهم بوسوسته
وتخويفه، والفرار من الزحف من الكبائر، بإجماع فيما علمت، وقد عده صلى الله عليه وسلم في السبع
الموبقات.
(يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا
غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما
تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون
(157) ولئن متم أو قلتم لإلى الله تحشرون (158))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم...)
الآية: نهى الله المؤمنين، أن يكونوا مثل الكفار المنافقين في هذا المعتقد الفاسد الذي هو
أن من سافر في تجارة ونحوها، ومن قاتل فقتل، لو قعد في بيته لعاش، ولم يمت في ذلك
الوقت الذي عرض فيه نفسه للسفر أو للقتال، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين،
أو نحو منه، وصرح بهذه المقالة عبد الله بن أبي المنافق، وأصحابه، قاله مجاهد
129

وغيره، والضرب في الأرض: السير في التجارة، وغزى: جمع غاز.
وقوله تعالى: (ليجعل الله ذلك) الإشارة ب‍ " ذلك " إلى هذا المعتقد الذي جعله الله
حسرة لهم، لأن الذي يتيقن أن كل قتل وموت، إنما هو بأجل سابق يجد برد اليأس
والتسليم لله سبحانه على قلبه، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته، لم يمت، يتحسر
ويتلهف، وعلى هذا التأويل، مشى المتأولون، وهو أظهر ما في الآية، والتحسر: التلهف
على الشئ، والغم به.
وقوله سبحانه: (والله بما تعملون بصير) توكيد للنهي في قوله: (لا تكونوا)
ووعيد لمن خالفه، ووعد لمن امتثله.
وقوله سبحانه: (ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم) اللام في (ولئن قتلتم) هي
المؤذنة بمجيء القسم، واللام في قوله: (لمغفرة) هي المتلقية للقسم، والتقدير: والله،
لمغفرة وترتب الموت قبل القتل في قوله تعالى: (ما ماتوا وما قتلوا)، مراعاة لترتب
الضرب في الأرض والغزو، وقدم القتل هنا، لأنه الأشرف الأهم، ثم قدم الموت في قوله
تعالى: (ولئن متم أو قتلتم)، لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر، وآية تزهيد في الدنيا
والحياة، وفي الآية تحقير لأمر الدنيا، وحض على طلب الشهادة، والمعنى: إذا كان
الحشر لا بد في كلا الأمرين، فالمضي إليه في حال شهادة أولى، وعن سهل بن
حنيف، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الشهادة بصدق، بلغه الله منازل الشهداء، وإن
مات على فراشه "، رواه الجماعة إلا البخاري، وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
130

" من طلب الشهادة صادقا، أعطيها، ولو لم تصبه "، انفرد به المسلم. انتهى. من " سلاح "
المؤمن ".
(فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن ينصركم الله
فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160))
وقوله سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم): معناه: فبرحمة، قال القشيري في
" التحبير ": واعلم أن الله سبحانه يحب من عباده من يرحم خلقه، ولا يرحم العبد إلا إذا
رحمه الله سبحانه، قال الله تعالى لنبيه - عليه السلام -: (فبما رحمة من الله لنت لهم).
انتهى.
قال * ع *: ومعنى هذه الآية التقريع لكل من أخل يوم أحد بمركزه، أي: كانوا
يستحقون الملام منك، ولكن برحمة منه سبحانه / لنت لهم، وجعلك على خلق عظيم،
وبعثك لتتميم محاسن، الأخلاق، ولو كنت فظا غليظ القلب، لانفضوا من حولك، وتفرقوا
عنك، والفظ: الجافي في منطقه ومقاطعه، وفي صفته صلى الله عليه وسلم في الكتب المنزلة: " ليس بفظ
ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق "، والفظاظة: الجفوة في المعاشرة قولا وفعلا،
وغلظ القلب: عبارة عن تهجم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة،
والانفضاض: افتراق الجموع.
وقوله تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم...) الآية: أمر سبحانه نبيه - عليه
السلام - بهذه الأوامر التي هي بتدريج بليغ، فأمره أن يعفو عنهم فيما له عليهم من حق، ثم
131

يستغفر لهم فيما لله عليهم من تبعة، فإذا صاروا في هذه الدرجة، كانوا أهلا
للاستشارة.
قال * ع *: ومن لا يستشير أهل العلم والدين، فعزله واجب، هذا مما لا خلاف
فيه، وقد وردت أحاديث كثيرة في الاستشارة، ومشاورته - عليه السلام - إنما هي في أمور
الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، فأما في حلال، أو حرام، أو حد، فتلك
قوانين شرع، ما فرطنا في الكتاب من شئ، والشورى مبنية على اختلاف الآراء،
والمستشير ينظر في ذلك الخلاف، ويتخير، فإذا أرشده الله إلى ما شاء منه، عزم عليه،
وأنفذه متوكلا على الله، إذ هو غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر الله تعالى نبيه في
هذه الآية، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالما دينا، وقلما يكون ذلك إلا في
عاقل، فقد قال الحسن ابن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله.
قال * ع *: والتوكل على الله سبحانه وتعالى من فروض الإيمان وفصوله، ولكنه
مقترن بالجد في الطاعات، والتشمير والحزامة بغاية الجهد، وليس الإلقاء باليد وما أشبهه
132

بتوكل، وإنما هو كما قال - عليه السلام -: " قيدها وتوكل ".
وقوله تعالى: (إن الله يحب المتوكلين) هذه غاية في الرفعة، وشرف المنزلة، وقد
جاءت آثار صحيحة في فضل التوكل وعظيم منزلة المتوكلين، ففي " صحيح مسلم " عن
عمران بن حصين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب،
قالوا: من هم، يا رسول الله؟ قال: هم الذين لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون،
وعلى ربهم يتوكلون "، وخرج أبو عيسى الترمذي، عن أبي أمامة، قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم، ولا
عذاب، مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي "، وخرجه ابن ماجة
أيضا، وخرج أبو بكر البزار، وأبو عبد الله الترمذي الحكيم، عن عبد الرحمن بن أبي
بكر الصديق (رضي الله عنه)، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله سبحانه أعطاني سبعين ألفا
يدخلون الجنة بغير حساب، فقال عمر: يا رسول الله، فهلا استزدته قال: قد استزدته،
فأعطاني مع كل واحد من السبعين الألف سبعين ألفا، فقال عمر: يا رسول الله، فهلا
استزدته، فقال: قد استزدته، فأعطاني هكذا، وفتح أبو وهب يديه، قال أبو وهب: قال هشام:
هذا من الله لا يدرى، ما عدده "، وخرج أبو نعيم، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وعدني
ربي أن يدخل الجنة / من أمتي مائة ألف، فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا، قال: وهكذا،
وأشار سليمان بن حرب بيده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، زدنا، فقال عمر: إن الله
عز وجل قادر أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " صدق عمر " اه‍ من
133

" التذكرة "، وما وقع من ذكر الحثية والحفنة ليس هو على ظاهره، فالله سبحانه منزه عن
صفات الأجسام.
وقوله تعالى: (وإن يخذلكم) أي: يترككم، والخذل الترك، والضمير في: (من
بعده) يعود على اسم الله، ويحتمل على الخذل.
(وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت
وهم لا يظلمون (161) أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير
(162) هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163))
وقوله تعالى: (وما كان لنبي أن يغل)، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم: " أن
يغل "، بفتح الياء، وضم الغين، وقرأ باقي السبعة: " أن يغل "، بضم الياء، وفتح الغين،
واللفظة بمعنى الخيانة في خفاء، تقول العرب: أغل الرجل يغل إغلالا، إذا خان، واختلف
على القراءة الأولى فقال ابن عباس وغيره: نزلت بسبب قطيفة حمراء فقدت من المغانم
يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فقيل: كانت هذه المقالة من
مؤمن لم يظن في ذلك حرجا.
وقيل: كانت من منافقين، وقد روي أن المفقود إنما كان سيفا، قال النقاش: ويقال:
إنما نزلت، لأن الرماة قالوا يوم أحد: الغنيمة الغنيمة، فإنا نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من
أخذ شيئا، فهو له، وقال ابن إسحاق: الآية إنما أنزلت، إعلاما بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتم
شيئا مما أمر بتبليغه.
وأما على القراءة الثانية، فمعناها عند الجمهور، أي: ليس لأحد أن يغل النبي، أي:
يخونه في الغنيمة، لأن المعاصي تعظم بحضرته، لتعيين توقيره.
134

قال ابن العربي في " أحكامه ": وهذا القول هو الصحيح، وذلك أن قوما غلوا من
الغنائم، أو هموا، فأنزل الله تعالى الآية، فنهاهم الله عن ذلك، رواه الترمذي. انتهى.
وقوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة...) الآية: وعيد لمن يغل من
الغنيمة، أو في زكاته بالفضيحة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، قال القرطبي في
" تذكرته ": قال علماؤنا (رحمهم الله) في قوله تعالى: (ومن يغلل يأت بما غل يوم
القيامة): إن ذلك على الحقيقة، كما بينه صلى الله عليه وسلم، أي: يأتي به حاملا له على ظهره ورقبته،
معذبا بحمله وثقله، ومروعا بصوته، وموبخا بإظهار خيانته. انتهى. وفي الحديث
عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أدوا الخائط والمخيط، فإن الغلول عار ونار وشنار على أهله يوم
القيامة " رواه مالك في " الموطأ "، قال أبو عمر في " التمهيد ": الشنار: لفظة جامعة لمعنى
العار والنار، ومعناها الشين، والنار، يريد أن الغلول شين وعار ومنقصة في الدنيا، وعذاب
في الآخرة. انتهى. وفي الباب أحاديث صحيحة في الغلول، وفي منع الزكاة.
وقوله سبحانه: (أفمن اتبع رضوان الله)، أي: الطاعة الكفيلة برضوان الله.
قال * ص *: " أفمن ": استفهام، معناه: النفي، أي: ليس من اتبع ما يئول به إلى
رضا الله تعالى عنه، فباء برضاه، كمن لم يتبع لذلك، فباء بسخطه. انتهى.
وقوله سبحانه: (هم درجات عند الله) قال ابن إسحاق وغيره: المراد بذلك
الجمعان المذكوران، أهل الرضوان، وأصحاب السخط، / أي: لكل صنف منهم تباين
في نفسه في منازل الجنة، وفي أطباق النار أيضا، وقال مجاهد والسدي ما ظاهره: أن
المراد بقوله: " هم "، إنما هو لمتبعي الرضوان، أي: لهم درجات كريمة عند ربهم، وفي
الكلام حذف، تقديره: هم ذوو درجات، والدرجات: المنازل بعضها أعلى من بعض في
المسافة، أو في التكرمة، أو في العذاب، وباقي الآية وعد ووعيد.
135

(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين (164) أو لما أصابكم مصيبة
قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165))
وقوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم...)
الآية: اللام في " لقد ": لام القسم، و " من " في هذه الآية: معناه: تطول وتفضل سبحانه،
وقد يقال: " من " بمعنى كدر معروفه بالذكر، فهي لفظة مشتركة، وقوله: (من أنفسهم)،
أي: في الجنس، واللسان، والمجاورة، فكونه من الجنس يوجب الأنس به، وكونه
بلسانهم يوجب حسن التفهيم، وكونه جارا وربيا يوجب التصديق والطمأنينة، إذ قد خبروه
وعرفوا صدقه وأمانته، ثم وقف الله سبحانه المؤمنين على الخطأ في قلقهم للمصيبة التي
نزلت بهم، وإعراضهم عما نزل بالكفار، فقال: (أو لما أصابتكم مصيبة)، أي: يوم أحد
(قد أصبتم مثليها)، أي: يوم بدر، إذ قتل من الكفار سبعون، وأسر سبعون، هذا تفسير
ابن عباس، والجمهور.
وقال الزجاج: واحد المثلين: هو قتل السبعين يوم بدر، والثاني: هو قتل اثنين
وعشرين يوم أحد، ولا مدخل للأسرى، لأنهم قد فدوا.
و (أنى): معناها: كيف، ومن أين، (قل هو من عند أنفسكم)، أي: حين
خالفتم النبي صلى الله عليه وسلم في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة، ويترك الكفار بشر محبس، فأبيتم
إلا الخروج، وهذا هو تأويل الجمهور، وقالت طائفة: (هو من عند أنفسكم): إشارة إلى
عصيان الرماة، وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين، وقال علي والحسن: بل ذلك لما قبلوا
الفداء يوم بدر، وذلك أن الله سبحانه أخبرهم على لسان نبيه بين قتل الأسرى أو يأخذوا
الفداء على أن يقتل منهم عدة الأسرى، فاختاروا أخد الفداء، ورضوا بالشهادة، فقتل منهم
يوم أحد سبعون، قلت: وهذا الحديث رواه الترمذي عن علي (رضي الله عنه)، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال أحمد بن نصر الداوودي: وعن الضحاك: (أنى هذا)، أي: بأي ذنب هذا؟
136

قال ابن عباس: (قل هو من عند أنفسكم) عقوبة لمعصيتكم لنبيكم - عليه السلام -.
انتهى.
(وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم
تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم
للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ما ليس في قلوبهم والله أعلم بما يكتمون (167))
وقوله سبحانه: (وما أصابكم يوم التقى الجمعان)، يعنى: يوم أحد.
وقوله سبحانه: (وليعلم المؤمنين)، أي: ليعلم الله المؤمن من المنافق، والإشارة
بقوله سبحانه: (نافقوا وقيل لهم): هي إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، حين انخزل بنحو
ثلث الناس، فمشى في إثرهم عبد الله بن عمرو بن حزام أبو جابر بن عبد الله، فقال
لهم: اتقوا الله، ولا تتركوا نبيكم، وقاتلوا في سبيل الله، أو ادفعوا، ونحو هذا من القول،
فقال له ابن أبي: ما أرى أن يكون قتالا، ولو علمنا أن يكون قتال، لكنا معكم، فلما يئس
منهم عبد الله، قال: اذهبوا أعداء الله، فسيغني الله رسوله عنكم، ومضى مع النبي صلى الله عليه وسلم
فاستشهد.
وقوله تعالى: (أو ادفعوا)، قال ابن جريج وغيره: معناه: كثروا السواد، وإن لم
تقاتلوا /، فيندفع القوم، لكثرتكم، وذهب بعض المفسرين إلى أن قول عبد الله بن
عمرو: " أو ادفعوا ": استدعاء للقتال حمية، إذ ليسوا بأهل للقتال في سبيل الله، والمعنى:
قاتلوا في سبيل الله، أو قاتلوا دفاعا عن الحوزة، ألا ترى أن قزمان قال في ذلك اليوم:
والله، ما قاتلت إلا على أحساب قومي، وقول الأنصاري يومئذ، لما أرسلت قريش الظهر
في الزروع: أترعى زروع بنى قيلة، ولما نضارب.
(الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم
صادقين (168) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين
بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم
يحزنون (170) * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171) الذين
استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجز عظيم (172))
137

وقوله تعالى: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا)، (الذين) بدل
من (الذين) المتقدم، (لإخوانهم)، أي: لأجل إخوانهم، أو في شأن إخوانهم المقتولين، ويحتمل أن يريد: لإخوانهم الأحياء من المنافقين، ويكون الضمير في "
أطاعونا "
للمقتولين، وقعدوا: جملة في موضع الحال، معترضة أثناء الكلام، وقولهم: (لو
أطاعونا)، يريدون: في ألا يخرجوا، وباقي الآية بين.
ثم أخبر سبحانه عن الشهداء، أنهم في الجنة أحياء يرزقون، وعن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: " إن الله يطلع على الشهداء، فيقول: يا عبادي، ما تشتهون، فأزيدكم؟ فيقولون: يا
ربنا، لا فوق ما أعطيتنا، هذه الجنة نأكل منها حيث نشاء، لكنا نريد أن تردنا إلى الدنيا،
فنقاتل في سبيلك، فنقتل مرة أخرى، فيقول سبحانه: قد سبق أنكم لا تردون "،
والأحاديث في فضل الشهداء كثيرة.
قال الفخر: والروايات في هذا الباب كأنها بلغت حد التواتر، ثم قال: قال بعض
المفسرين: أرواح الشهداء أحياء، وهي تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة. انتهى.
والعقيدة أن الأرواح كلها أحياء، لا فرق بين الشهداء وغيرهم في ذلك إلا ما خصص
الله به الشهداء من زيادة المزية والحياة التي ليست بمكيفة، وفي " صحيح مسلم "، عن
مسروق قال، سألنا ابن مسعود عن هذه الآية: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
بل أحياء عند ربهم يرزقون)، فقال: أما أنا، فقد سألت عن ذلك، فقال، يعني النبي صلى الله عليه وسلم:
" أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت،
ثم تأوي إلى تلك القناديل...) الحديث إلى آخره اه‍.
ومن الآثار الصحيحة الدالة على فضل الشهداء ما رواه مالك في " الموطإ "، أنه بلغه
أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ثم السلميين كانا قد حفر السيل
138

قبرهما، وكان قبرهما مما يلي السيل، وكانا في قبر واحد، وهما ممن استشهد يوم أحد،
فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يغيرا، كأنما ماتا بالأمس، وكا أحدهما قد جرح
فوضع يده على جرحه، فدفن، وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت،
فرجعت، كما كانت، وكان بين أحد، وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة، قال أبو
عمر في " التمهيد ": حديث مالك هذا يتصل من وجوه صحاح بمعنى واحد متقارب،
وعبد الله بن عمرو هذا هو والد جابر بن عبد الله، وعمرو بن الجموح هو ابن عمه، ثم
أسند أبو عمر، عن جابر بن عبد الله، قال: لما أراد معاوية أن يجري العين بأحد، نودي
بالمدينة: من كان له / قتيل، فليأت قتيله، قال جابر: فأتيناهم، فأخرجناهم رطابا يتثنون،
فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم، فانفطرت دما، قال أبو سعيد الخدري: " لا ينكر بعد
هذا منكر أبدا " وفي رواية: " فاستخرجهم - يعني: معاوية -، بعد ست وأربعين سنة لينة
أجسادهم، تتثنى أطرافهم "، قال أبو عمر: الذي أصابت المسحاة أصبعه هو حمزة (رضي
الله عنه).
ثم أسند عن جابر قال: رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال، كأنهم رجال
نوم، حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة (رضي الله عنه): " فانثعبت دما " انتهى.
وقوله سبحانه: (ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم...) الآية: معناه: يسرون،
ويفرحون، وذهب قتادة وغيره إلى أن استبشارهم هو أنهم يقولون: إخواننا الذين تركناهم
خلفنا في الدنيا يقاتلون في سبيل الله مع نبيهم، فيستشهدون، فينالون من الكرامة مثل ما
نلنا نحن، فيسرون لهم بذلك، إذ يحصلون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وذهب
فريق من العلماء إلى أن الإشارة في قوله: (بالذين لم يلحقوا)، إلى جميع المؤمنين الذين
لم يلحقوا بهم في فضل الشهادة، وذلك لما عاينوا من ثواب الله، فهم فرحون لأنفسهم بما
139

آتاهم الله من فضله، ومستبشرون للمؤمنين أنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثم أكد
سبحانه استبشارهم بقوله: (يستبشرون بنعمة)، ثم بين سبحانه بقوله: (وفضل)، أن
إدخاله إياهم الجنة هو بفضل منه، لا بعمل أحد، وأما النعمة في الجنة، والدرجات، فقد
أخبر أنها على قدر الأعمال.
قلت: وخرج أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن حرب صاحب ابن المبارك في
" رقائقه "، بسنده، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، " أن الشهداء في قباب من حرير في
رياض خضر، عندهم حوت وثور، يظل الحوت يسبح في أنهار الجنة يأكل من كل رائحة
في أنهار الجنة، فإذا أمسى وكزه الثور بقرنه، فيذكيه، فيأكلون لحمه، يجدون في لحمه
طعم كل رائحة، ويبيت الثور في أفناء الجنة، فإذا أصبح، غدا عليه الحوت، فوكزه بذنبه،
فيذكيه، فيأكلون، فيجدون في لحمه طعم كل رائحة في الجنة، ثم يعودون، وينظرون إلى
منازلهم من الجنة، ويدعون الله عز وجل أن تقوم الساعة... " الحديث. انتهى.
مختصرا، وقد ذكره صاحب " التذكرة " مطولا.
وقرأ الكسائي: " وإن الله "، بكسر الهمزة، على استئناف الإخبار، وقرأ باقي
السبعة بالفتح على أن ذلك داخل فيما يستبشر به، وقوله: (الذين استجابوا) يحتمل أن
يكون صفة للمؤمنين، على قراءة من كسر الألف من " أن "، والأظهر أن الذين ابتداء،
وخبره في قوله: (للذين أحسنوا منهم...) الآية، والمستجيبون لله والرسول: هم الذين
خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حمراء الأسد في طلب قريش.
(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل (173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو
فضل عظيم (174))
وقوله سبحانه: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم...) الآية:
" الذين ": صفة للمحسنين، وهذا القول هو الذي قاله الركب من عبد القيس لرسول الله صلى الله عليه وسلم
140

وأصحابه حين حملهم أبو سفيان ذلك، " فالناس " الأول هم الركب، و " الناس " الثاني
عسكر قريش، هذا قول / الجمهور، وهو الصواب، وقول من قال: إن الآية نزلت في
خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر الصغرى لميعاد أبي سفيان، و (إن الناس) هنا هو نعيم بن
مسعود - قول ضعيف، وعن ابن عباس، أنه قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم
- عليه السلام -، حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: (إن الناس قد جمعوا
لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل)، رواه مسلم. والبخاري.
انتهى.
(إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175) ولا يحزنك الذين
يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب
عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن
الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178))
وقوله سبحانه: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه...) الآية: إشارة إلى جميع ما
جرى من إخبار الركب عن رسالة أبي سفيان، ومن جزع من جزع من الخبر.
وقرأ الجمهور: " يخوف أولياءه "، قال قوم: معناه: يخوف المنافقين، ومن في
قلبه مرض، وحكى أبو الفتح بن جني، عن ابن عباس، أنه قرأ " يخوفكم أولياءه "، فهذه
قراءة ظهر فيها المفعولان، وهي مفسرة لقراءة الجماعة، وفي قراءة أبي بن كعب:
" يخوفكم بأوليائه "، وفي كتاب " القصد إلى الله تعالى "، للمحاسبي، قال: وكلما عظمت
هيبة الله عز وجل في صدور الأولياء، لم يهابوا معه غيره، حياء منه عز وجل أن يخافوا
معه سواه. انتهى.
141

وقوله سبحانه: (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر)، والمسارعة في الكفر: هي
المبادرة إلى أقواله وأفعاله، والجد في ذلك، وسلى الله تعالى نبيه - عليه السلام - بهذه
الآية عن حال المنافقين والمجاهرين، إذ كلهم مسارع، وقوله تعالى: (إنهم لن يضروا الله
شيئا): خبر في ضمنه وعيد لهم، أي: وإنما يضرون أنفسهم، والحظ: إذا أطلق، فإنما
يستعمل في الخير، وقوله سبحانه: (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير
لأنفسهم): نملي: معناه: نمهل ونمد في العمر، والمعنى: لا تحسبن املاءنا للذين كفروا
خيرا لهم، فالآية رد على الكفار في قولهم: إن كوننا ممولين أصحة دليل على رضا الله
بحالتنا.
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله
ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء فآمنوا بالله ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم
أجر عظيم (179) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم
سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير (180))
وقوله تعالى: (ما كان الله ليذر)، أي: ليدع المؤمنين مختلطين بالمنافقين، مشكلا
أمرهم، حتى يميز بعضهم من بعض، بما يظهره من هؤلاء وهؤلاء في " أحد " من الأفعال
والأقوال، هذا تفسير مجاهد وغيره.
وقوله: (وما كان الله ليطلعكم على الغيب)، أي: في أمر أحد، وما كان من
الهزيمة وأيضا: فما كان الله ليطلعكم على المنافقين تصريحا وتسمية لهم، ولكن بقرائن
أفعالهم وأقوالهم.
قال الفخر: وذلك أن سنة الله جارية بأنه لا يطلع عوام الناس على غيبه، أي: لا
سبيل لكم إلى معرفة ذلك الامتياز إلا بامتحانات، كما تقدم، فأما معرفة ذلك على سبيل
الاطلاع من الغيب، فهو من خواص الأنبياء، فلهذا قال تعالى: (ولكن الله يجتبي من
رسله من يشاء). انتهى.
وقال الزجاج وغيره: روي أن بعض الكفار قال: لم لا يكون جميعنا أنبياء،
142

فنزلت هذه الآية، و (يجتبي): معناه: يختار ويصطفي، وقوله سبحانه: (ولا يحسبن
الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله) الآية: قال السدي وجماعة من المتأولين: الآية
نزلت في البخل بالمال، والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة، ونحو ذلك،
قال: ومعنى: (سيطوقون ما بخلوا به) هو الذي ورد / في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه
قال: " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه، فيسأله من فضل عنده، فيبخل عليه إلا أخرج له يوم
القيامة شجاع من النار يتلمظ، حتى يطوقه "، قلت: وفي البخاري وغيره، عنه صلى الله عليه وسلم قال:
" من آتاه الله مالا، فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ
بلهزمتيه، يعني: شدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا يحسبن
الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله...) الآية.
قلت: واعلم أنه قد وردت آثار صحيحة بتعذيب العصاة بنوع ما عصوا به، كحديث:
" من قتل نفسه بحديدة، فهو يجأ نفسه بحديدته في نار جهنم، والذي قتل نفسه بالسم، فهو
يتحساه في نار جهنم "، ونحو ذلك.
143

قال الغزالي في " الجواهر ": واعلم أن المعاني في عالم الآخرة تستتبع الصور، ولا
تتبعها، فيتمثل كل شئ بصورة توازي معناه، فيحشر المتكبرون في صور الذر يطؤهم من
أقبل وأدبر، والمتواضعون أعزاء. انتهى، وهو كلام صحيح يشهد له صحيح الآثار، ويؤيده
النظر والاعتبار، اللهم، وفقنا لما تحبه وترضاه.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قال علماؤنا: البخل: منع الواجب، والشح: منع
المستحب، والصحيح المختار أن هذه الآية في الزكاة الواجبة، لأن هذا وعيد لمانعيها،
والوعيد إذا اقترن بالفعل المأمور به، أو المنهي عنه، اقتضى الوجوب أو التحريم. انتهى.
وتعميمها في جميع أنواع الواجب أحسن.
وقوله سبحانه: (ولله ميراث السماوات والأرض) خطاب على ما يفهمه البشر، دال
على فناء الجميع، وأنه لا يبقى مالك إلا الله سبحانه.
(لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم
الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس
بظلام للعبيد (182))
وقوله سبحانه: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء...)
الآية: نزلت بسبب فنحاص اليهودي وأشباهه، كحيي بن أخطب وغيره، لما نزلت: (من
ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) [الحديد: 11]، قالوا: يستقرضنا ربنا، إنما يستقرض الفقير
الغني، وهذا من تحريف اليهود للتأويل على نحو ما صنعوا في توراتهم.
وقوله تعالى: (قول الذين قالوا): دال على أنهم جماعة.
وقوله تعالى: (سنكتب ما قالوا...) الآية: وعيد لهم، أي: سنحصي عليهم
قولهم، ويتصل ذلك بفعل آبائهم من قتل الأنبياء بغير حق.
وقوله سبحانه: (أن الله)، أي: وبأن الله ليس بظلام للعبيد.
144

قال * ص *: قيل: المراد هنا نفي القليل والكثير من الظلم، كقول طرفة: [الطويل].
ولست بحلال التلاع مخافة * ولكن متى يسترفد القوم أرفد
ولا يريد: أنه قد يحل التلاع قليلا.
وزاد أبو البقاء وجها آخر، وهو أن يكون على النسب، أي: لا ينسب سبحانه إلى
ظلم، فيكون من باب بزاز وعطار. انتهى، قلت: وهذا القول أحسن ما قيل هنا، فمعنى
وما ربك بظلام، أي: بذي ظلم.
(الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل
قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين (183) فإن
كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184))
وقوله سبحانه: (الذين قالوا إن الله عهد إلينا...) الآية: هذه المقالة قالتها أحبار
اليهود مدافعة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: إنك لم تأتنا بقربان تأكله النار، فنحن قد عهد إلينا
ألا نؤمن لك.
145

وقوله تعالى: (قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم)، من أمر
القربان، والمعنى: أن هذا منكم تعلل / وتعنت، ولو أتيتكم بقربان، لتعللتم بغير ذلك، ثم
أنس سبحانه نبيه بالأسوة والقدوة فيمن تقدم من الأنبياء.
قال الفخر: والمراد (بالبينات) المعجزات. انتهى.
(والزبر): الكتاب المكتوب، قال الزجاج: زبرت: كتبت.
(كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185)
وقوله سبحانه: (كل نفس ذائقة الموت...) الآية: وعظ فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم،
ولأمته عن أمر الدنيا وأهلها، ووعد بالفلاح في الآخرة، فبالفكرة في الموت يهون أمر
الكفار وتكذيبهم، (وإنما توفون أجوركم)، أي: على الكمال، ولا محالة أن يوم القيامة
تقع فيه توفية الأجور، وتوفية العقوبات، و (زحزح): معناه: أبعد، والمكان الزحزاح:
البعيد، و (فاز): معناه: نجا من خطره وخوفه، و (الغرور): الخدع، والترجية بالباطل
والحياة الدنيا، و (كل) ما فيها من الأموال هي متاع قليل يخدع المرء، ويمنيه الأباطيل،
وعلى هذا فسر الآية جمهور المفسرين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لموضع سوط في الجنة خير من
الدنيا وما فيها "، ثم تلا هذه الآية، قلت: وأسند أبو بكر بن الخطيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما سكن حب الدنيا قلب عبد قط إلا التاط منها بخصال ثلاث: أمل لا يبلغ منتهاه،
وفقر لا يدرك غناه، وشغل لا ينفك عناه ". انتهى.
(* لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186))
وقوله تعالى: (لتبلون في أموالكم وأنفسكم...) الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته،
والمعنى: لتختبرن ولتمتحنن في أموالكم بالمصائب والأرزاء، وبالإنفاق في سبيل الله،
146

وفي سائر تكاليف الشرع، والابتلاء في الأنفس بالموت، والأمراض وفقد الأحبة، قال
الفخر: قال الواحدي: اللام في (لتبلون): لام قسم. انتهى.
وقوله: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب...) الآية: قال عكرمة وغيره: السبب
في نزولها أقوال فنحاص، وقال الزهري وغيره: نزلت بسبب كعب بن الأشرف،
حتى بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتله، والأذى: اسم جامع في معنى الضرر، وهو هنا
يشمل أقوالهم فيما يخص النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، من سب، وأقوالهم في جهة الله سبحانه،
وأنبيائه، وندب سبحانه إلى الصبر والتقوى، وأخبر أنه من عزم الأمور، أي: من أشدها
وأحسنها، والعزم: إمضاء الأمر المروي المنقح، وليس ركوب الرأي دون روية عزما.
(وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم
واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (187))
وقوله سبحانه: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب...) الآية: توبيخ
لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو مع ذلك خبر عام لهم ولغيرهم، قال جمهور من العلماء:
الآية عامة في كل من علمه الله علما، وعلماء هذه الأمة داخلون في هذا الميثاق،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم، فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار "، والضمير
في: (لتبيننه)، (ولا تكتمونه): عائد على (الكتاب)، والنبذ: الطرح، وأظهر
الأقوال في هذه الآية أنها نزلت في اليهود، وهم المعنيون، ثم كل كاتم من هذه الأمة يأخذ بحظه من هذه المذمة.
(لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من
147

العذاب ولهم عذاب أليم (188) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير (189) إن في
خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190))
وقوله سبحانه: (لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم
يفعلوا...) الآية: ذهبت جماعة إلى أن الآية في المنافقين، وقالت جماعة كبيرة: إنما
نزلت في أهل الكتاب أحبار / اليهود، قال سعيد بن جبير: الآية في اليهود، فرحوا بما
أعطى الله آل إبراهيم من النبوة والكتاب، فهم يقولون: نحن على طريقهم، ويحبون أن
يحمدوا بذلك، وهم ليسوا على طريقهم، وقراءة سعيد بن جبير: " بما أوتوا "، بمعنى
" أعطوا " (بضم الهمزة والطاء)، وعلى قراءته يستقيم المعنى الذي قال، والمفازة مفعلة من
فاز يفوز، إذا نجا، وباقي الآية بين.
ثم دل سبحانه على مواضع النظر والعبرة، فقال: (إن في خلق السماوات والأرض
واختلاف الليل والنهار)، أي: تعاقب الليل والنهار، إذ جعلهما سبحانه خلفة، ويدخل
تحت اختلافهما قصر أحدهما وطول الآخر، وبالعكس، واختلافهما بالنور والظلام،
والآيات: العلامات الدالة على وحدانيته، وعظيم قدرته سبحانه.
قال الفخر: واعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح
عن الاشتغال بالخلق والاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام،
والجواب عن شبهات المبطلين، عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء
والجلال، وذكر الأدعية، فختم بهذه الآيات بنحو ما في " سورة البقرة ". انتهى.
(الذين يذكرون الله فيما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما
خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما
للظالمين من أنصار (192))
148

وقوله سبحانه: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا): الذين: في موضع خفض صفة
ل‍ (أولى الألباب)، وهذا وصف ظاهره استعمال التحميد والتهليل والتكبير ونحوه من ذكر
الله، وأن يحضر القلب اللسان، وذلك من أعظم وجوه العبادات، والأحاديث الصحيحة
في ذلك كثيرة، وابن آدم متنقل في هذه الثلاث الهيئات، لا يخلو في غالب أمره منها
فكأنها تحصر زمنه، وكذلك جرت عائشة (رضي الله عنها) إلى حصر الزمن في قولها:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ".
قلت: خرجه أبو داود، فدخل في ذلك كونه على الخلاء وغيره.
وذهب جماعة إلى أن قوله تعالى: (الذين يذكرون الله) إنما هو عبارة عن الصلاة،
أي: لا يضيعونها، ففي حال العذر يصلونها قعودا، وعلى جنوبهم، ثم عطف على هذه
العبادة التي هي ذكر الله باللسان، أو الصلاة فرضها وندبها بعبادة أخرى عظيمة، وهي
الفكرة في قدرة الله تعالى ومخلوقاته، والعبر التي بث. [المتقارب]
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد
قال الغزالي: ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة الله، وتحصيل الأنس بذكر
الله تعالى، والأنس يحصل بدوام الذكر، والمعرفة تحصل بدوام الفكر. انتهى من
" الأحياء ".
ومر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله، فقال: " تفكروا في الخلق، ولا تتفكروا
في الخالق، فإنكم لا تقدرون قدره ".
قال * ع *: وهذا هو قصد الآية في قوله: (ويتفكرون في خلق السماوات
والأرض).
149

وقال بعض العلماء: المتفكر في ذات الله كالناظر في عين الشمس، لأنه سبحانه
ليس كمثله شئ، وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات، وفي أحوال الآخرة، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا عبادة كتفكر " وقال ابن عباس، وأبو الدرداء: فكرة ساعة خير من
قيام ليلة، وقال سري السقطي: فكرة ساعة خير من عبادة سنة، ما هو إلا أن تحل
أطناب خيمتك، فتجعلها في الآخرة، وقال الحسن بن أبي الحسن: الفكرة مرآة
المؤمن /، ينظر فيها إلى حسناته وسيئاته، وأخذ أبو سليمان الداراني قدح الماء،
ليتوضأ لصلاة الليل، وعنده ضيف، فرآه لما أدخل أصبعه في أذن القدح، أقام كذلك مفكرا
حتى طلع الفجر، فقال له: ما هذا يا أبا سليمان؟ فقال: إني لما طرحت أصبعي في أذن
القدح، تذكرت قول الله سبحانه: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل) [غافر: 71]،
150

فتفكرت في حالي، وكيف أتلقى الغل، إن طرح في عنقي يوم القيامة، فما زلت في ذلك
حتى أصبح.
قال * ع *: وهذه نهاية الخوف، وخير الأمور أوساطها، وليس علماء الأمة
الذين هم الحجة على هذا المنهاج، وقراءة علم كتاب الله ومعاني سنة رسوله لمن يفهم
ويرجى نفعه أفضل من هذا، لكن يحسن ألا تخلوا البلاد من مثل هذا.
قال * ع *: وحدثني أبي (رحمه الله)، عن بعض علماء المشرق، قال: كنت
بائتا في مسجد الإقدام ب‍ " مصر " فصليت العتمة، فرأيت رجلا قد اضطجع في كساء له،
حتى أصبح، وصلينا نحن تلك الليلة، وسهرنا، فلما أقيمت صلاة الصبح، قام ذلك
الرجل، فاستقبل القبلة، وصلى مع الناس، فاستعظمت جرأته في الصلاة بغير وضوء، فلما
فرغت الصلاة، خرج، فتبعته لأعظه، فلما دنوت منه، سمعته، وهو ينشد: [المنسرح]
منسجن ثنا الجسم غائب حاضر * منتبه القلب صامت ذاكر
منبسط في الغيوب منقبض * كذاك من كان عارفا ناكر
يبيت في ليلة أخا فكر * فهو مدى الليل نائم ساهر
قال: فعلمت أنه ممن يعبد الله بالفكرة، فانصرفت عنه.
قال الفخر: ودلت الآية على أن أعلى مراتب الصديقين التفكر. انتهى.
وفي " العتبية ": قال مالك: قيل لأم الدرداء: ما كان أكثر شأن أبي الدرداء؟ قالت:
كان أكثر شأنه التفكر. قال مالك: وهو من الأعمال، وهو اليقين، قال الله عز وجل:
(يتفكرون في خلق السماوات والأرض)، قال ابن رشد: والتفكر من الأعمال، كما قاله
مالك (رحمه الله)، وهو من أشرف الأعمال، لأنه من أعمال القلوب التي هي أشرف
الجوارح، ألا ترى أنه لا يثاب أحد على عمل من أعمال الجوارح من سائر الطاعات، إلا
مع مشاركة القلوب لها بإخلاص النية لله (عز وجل) في فعلها. انتهى من " البيان
والتحصيل ".
151

قال ابن بطال: إن الإنسان إذا كمل إيمانه، وكثر تفكره، كان الغالب عليه الإشفاق
والخوف. انتهى.
قال ابن عطاء الله: الفكرة سير القلب في ميادين الاعتبار، والفكرة سراج القلب،
فإذا ذهبت، فلا إضاءة له.
قلت: قال بعض المحققين: وذلك أن الإنسان إذا تفكر، علم، وإذا علم، عمل.
قال ابن عباد: قال الإمام أبو القاسم القشيري (رحمه الله): التفكر نعت كل
طالب، وثمرته الوصول بشرط العلم، ثم فكر الزاهدين: في فناء الدنيا، وقلة وفائها
لطلابها، فيزدادون بالفكر زهدا، وفكر العابدين: في جميل الثواب، فيزدادون نشاطا ورغبة
فيه، وفكر العارفين: في الآلاء والنعماء، فيزدادون محبة للحق سبحانه. انتهى.
وقوله تعالى: (ربنا ما خلقت هذا باطلا)، أي: يقولون: يا ربنا، على النداء، ما
خلقت هذا باطلا، يريد: لغير غاية منصوبة، بل خلقته، وخلقت البشر، لينظروا فيه،
فيوحدوك، ويعبدوك، فمن فعل ذلك نعمته، ومن ضل عن ذلك عذبته، وقولهم:
(سبحانك)، أي: تنزيها لك عما / يقول المبطلون، وقولهم: (ربنا إنك من تدخل النار
فقد أخزيته)، أي: فلا تفعل ذلك بنا، والخزي: الفضيحة المخجلة الهادمة لقدر المرء.
قال أنس بن مالك، والحسن بن أبي الحسن، وابن جريج، وغيرهم: هذه إشارة إلى
من يخلد في النار، وأما من يخرج منها بالشفاعة والأمان، فليس بمخزى، أي: وما أصابه
152

من عذابها، إنما هو تمحيص لذنوبه.
وقوله سبحانه: (وما للظالمين من أنصار): هو من قول الداعين.
(ربنا إننا سمعنا مناديا ينادى للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا
وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة
إنك لا تخلف الميعاد (194))
وقوله سبحانه: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان...) الآية: حكاية عن أولى
الألباب، قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين، ما زالوا يقولون: ربنا ربنا، حتى
استجيب لهم، قال ابن جريج وغيره: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب
القرظي: المنادى كتاب الله، وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه، وقولهم: (ما
وعدتنا على رسلك)، معناه: على ألسنة رسلك، وقولهم: (ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا
تخلف الميعاد): إشارة إلى قوله تعالى: (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه)
[التحريم: 8] فهذا وعده تعالى، وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود.
قال * ص *: قال أبو البقاء: الميعاد مصدر بمعنى الوعد. انتهى.
(فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض
فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم
ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195) لا
153

يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن
الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله
خير للأبرار (198))
وقوله سبحانه: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو
أنثى...) الآية: استجاب بمعنى أجاب، روي أن أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: يا
رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة، ولم يذكر النساء في شئ من ذلك،
فنزلت الآية. وهي آية وعد من الله، أي: هذا فعله سبحانه مع الذي يتصفون بما ذكر،
قال الفخر: روي عن جعفر الصادق، أنه قال: من حزبه أمر فقال خمس مرات: ربنا
- أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد، وقرأ هذه الآية، قال: لأن الله تعالى حكى عنهم،
أنهم قالوا: ربنا، خمس مرات، ثم أخبر أنه استجاب لهم. انتهى.
وقوله تعالى: (بعضكم من بعض)، يعني: في الأجر، وتقبل الأعمال، أي: أن
الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، قال الفخر: قوله سبحانه: (بعضكم من
بعض)، أي: شبه بعض، أو مثل بعض، والمعنى: أنه لا تفاوت في الثواب بين الذكر
والأنثى، إذا استووا في الطاعة، وهذا يدل على أن الفضل في باب الدين، إنما هو
بالأعمال، لا بسر صفات العاملين، لأن كونهم ذكرا أو أنثى، أو من نسب خسيس أو
شريف - لا تأثير له في هذا الباب. انتهى.
وبين سبحانه حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله،
وهاجر أيضا إلى الله إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (وأخرجوا من ديارهم): عبارة فيها إلزام الذنب للكفار، واللام في
قوله: لأكفرن): لام القسم، و (ثوابا): مصدر مؤكد، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد...) الآية: نزلت: (لا
يغرنك) في هذه الآية منزلة: (لا تظن)، أن حال الكفار حسنة، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم،
والمراد أمته، والتقلب: التصرف في التجارات، والأرباح، والحروب، وسائر الآمال،
154

وقوله: (نزلا): معناه تكرمة.
وقوله تعالى: (وما عند الله خير للأبرار) يحتمل أن يريد: خير مما هؤلاء فيه، من
التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:
" الدنيا سجن المؤمن / وجنة الكافر " قال القاضي ابن الطيب: هذا بالإضافة إلى ما يصير
إليه كل واحد منهما في الآخرة، وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن، لأنها موضع تعبه في
الطاعة.
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا
يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب
(199) يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون (200))
وقوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم
خاشعين لله)، قال جابر بن عبد الله وغيره: هذه الآية نزلت بسبب أصحمة النجاشي
سلطان الحبشة، آمن بالله، وبمحمد - عليه السلام -، وأصحمة: تفسيره بالعربية:
155

عطية، قاله سفيان وغيره، وقال قوم: نزلت في عبد الله بن سلام، وقال ابن زيد
ومجاهد: نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب.
وقوله سبحانه: (لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا): مدح لهم، وذم لسائر كفار أهل
الكتاب، لتبديلهم وإيثارهم مكاسب الدنيا على آخرتهم، وعلى آيات الله سبحانه، ثم ختم
الله سبحانه السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم
الآخرة، فحض سبحانه على الصبر على الطاعات، وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة،
فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل: معناه مصابرة وعد الله في
النصر، قاله محمد بن كعب القرظي، أي: لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال صلى الله عليه وسلم:
" انتظار الفرج بالصبر عبادة ".
قال الفخر: والمصابرة عبارة عن تحمل المكاره الواقعة بين الإنسان، وبين الغير.
انتهى.
وقوله: (ورابطوا): معناه عند الجمهور: رابطوا أعداءكم الخيل، أي: ارتبطوها،
كما يرتبطها أعداؤكم، قلت: وروى مسلم في " صحيحه "، عن سلمان، قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله
الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان "، وخرج الترمذي، عن فضالة بن
عبيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله،
فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
156

صحيح، وخرجه أبو داود بمعناه، وقال: " ويؤمن من فتاني القبر "، وخرجه ابن ماجة
بإسناد صحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من مات مرابطا في سبيل الله،
أجرى الله عليه أجر عمله الصالح الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتان،
ويبعثه الله آمنا من الفزع "، وروي مسلم والبخاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " رباط يوم
في سبيل الله خير من الدنيا، وما فيها ". انتهى.
وجاء في فضل الرباط أحاديث كثيرة يطول ذكرها.
قال صاحب " التذكرة ": وروى أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لرباط يوم في
سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان - أعظم أجرا من عبادة مائة
سنة، صيامها، وقيامها، ورباط يوم في رمضان أفضل عند الله وأعظم أجرا " أراه قال:
" من عبادة ألفي سنة، صيامها، وقيامها... " الحديث ذكره القرطبي مسندا. انتهى.
والرباط: هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم
لثغر من ثغور الإسلام / مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، قلت:
قال الشيخ زين الدين العراقي في " اختصاره لغريب القرآن "، لأبي حيان: معنى: رابطوا:
157

دوموا واثبتوا، ومتى ذكرت العراقي، فمرادي هذا الشيخ. انتهى.
وروى ابن المبارك في " رقائقه "، أن هذه الآية: (اصبروا وصابروا ورابطوا)، إنما
نزلت في انتظار الصلاة خلف الصلاة، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: ولم يكن
يومئذ عدو يرابط فيه. انتهى.
وقوله سبحانه: (لعلكم تفلحون): ترج في حق البشر، والحمد لله حق حمده.
158

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء مدنية
إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح، وهي: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها...) [النساء: 58] الآية: وفي البخاري: عن عائشة (رضي الله عنها)، أنها قالت:
ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعنى: قد بنى بها.
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا
ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1))
قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم...) الآية: في الآية تنبيه على الصانع، وعلى
افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب، والمراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم،
وقال: (واحدة)، على تأنيث لفظ النفس، و (زوجها)، يعني: حواء، قال ابن عباس
وغيره: خلق الله آدم وحشا في الجنة وحده، ثم نام، فانتزع الله إحدى أضلاعه القصيري
من شماله، وقيل: من يمينه، فخلق منها حواء، ويعضد هذا - الحديث الصحيح في
قوله صلى الله عليه وسلم: " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج... " الحديث، (وبث): معناه: نشر،
كقوله تعالى: (كالفراش المبثوث) [القارعة: 4] أي: المنتشر، وفي تكرير الأمر بالتقوى
159

تأكيد لنفوس المأمورين، و (تساءلون): معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم: أسألك
بالله، وقوله: (والأرحام)، أي: واتقوا الأرحام، وقرأ حمزة " والأرحام " (بالخفض)،
عطفا على الضمير، كقولهم: أسألك بالله وبالرحم، قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: وهذه القراءة عند نحاة البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن
يعطف ظاهر على مضمر مخفوض إلا في ضرورة الشعر، كقوله: [السيط]
............ فاذهب فما بك والأيام من عجب
لأن الضمير المخفوض لا ينفصل، فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف،
واستسهل بعض النحاة هذه القراءة. انتهى كلام * ع *.
قال * ص *: والصحيح جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار،
كمذهب الكوفيين، ولا ترد القراءة المتواترة بمثل مذهب البصريين، قال: وقد أمعنا
160

الكلام عليه في قوله تعالى: (وكفر به والمسجد الحرام) [البقرة: 217] انتهى، وهو حسن،
ونحوه للإمام الفخر.
وفى قوله تعالى: (إن الله كان عليكم رقيبا): ضرب من الوعيد، قال المحاسبي:
سألت أبا جعفر محمد بن موسى، فقلت: أجمل حالات العارفين ما هي؟ فقال: إن الحال
التي تجمع لك الحالات المحمودة كلها في حالة واحدة هي المراقبة، فألزم نفسك، وقلبك
دوام العلم بنظر الله إليك، في حركتك، وسكونك، وجميع أحوالك، / فإنك بعين الله
(عز وجل) في جميع تقلباتك، وإنك في قبضته، حيث كنت، وإن عين الله على قلبك،
وناظر إلى سرك وعلانيتك، فهذه الصفة، يا فتى، بحر ليس له شط، بحر تجري منه
السواقي والأنهار، وتسير فيه السفن إلى معادن الغنيمة. انتهى من كتاب " القصد إلى الله
سبحانه ".
(وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا
(2) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا
تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3))
وقوله سبحانه: (وآتوا اليتامى أموالهم...) الآية: قال ابن زيد: هذه مخاطبة لمن
كانت عادته من العرب ألا يرث الصغير من الأولاد، وقالت طائفة: هذه مخاطبة
للأوصياء.
قال ابن العربي: وذلك عند الابتلاء والإرشاد. انتهى.
وقوله:) ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب)، قال ابن المسيب وغيره: هو ما كان يفعله
بعضهم من إبدال الشاة السمينة من مال اليتم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف،
وقيل: المراد: لا تأكلوا أموالهم خبيثا، وتدعوا أموالكم طيبا، وقيل غير هذا.
والطيب هنا: الحلال، والخبيث: الحرام.
161

وقوله: (إلى أموالكم): التقدير: ولا تضيفوا أموالهم إلى أموالكم في الأكل،
والضمير في " إنه ": عائد على الأكل، والحوب: الإثم، قاله ابن عباس وغيره، وتحوب
الرجل، إذا ألقى الحوب عن نفسه، وكذلك تحنث وتأثم وتحرج، فإن هذه الأربعة بخلاف
" تفعل " كله، لأن " تفعل " معناه: الدخول في الشئ، ك‍ " تعبد "، و " تكسب "، وما أشبهه،
ويلحق بهذه الأربعة " تفكهون " في قوله تعالى: (لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون)
[الواقعة: 65] أي: تطرحون الفكاهة عن أنفسكم.
وقوله تعالى: (كبيرا): نص على أن أكل مال اليتيم من الكبائر.
وقوله تعالى: (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى...) الآية: قال أبو عبيدة: خفتم
ههنا بمعنى أيقنتم.
قال * ع *: وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه، وإنما
هو من أفعال التوقع، إلا أنه قد يميل فيه الظن إلى إحدى الجهتين، قلت: وكذا رد
الداوودي على أبي عبيدة، ولفظه: وعن أبي عبيدة: (فإن خفتم ألا تعدلوا): مجازه:
أيقنتم، قال أبو جعفر: بل هو على ظاهر الكلمة. انتهى.
و (تقسطوا): معناه: تعدلوا، يقال: أقسط الرجل إذا عدل، وقسط إذا جار، قالت
عائشة (رضي الله عنها): نزلت هذه الآية في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال ولياتهم،
فيريدون أن يبخسوهن في المهر، لمكان ولايتهم عليهن، فقيل لهم: اقسطوا في مهورهن،
فمن خاف ألا يقسط، فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يكايسن في حقوقهن،
وقاله ربيعة.
قال الحسن وغيره: (ما طاب): معناه ما حل.
162

وقيل: " ما " ظرفية، أي: ما دمتم تستحسنون النكاح، وضعف، قلت: وفي تضعيفه
نظر، فتأمله.
قال الإمام الفخر: وفي تفسير (ما طاب) بما حل - نظر، وذلك أن قوله تعالى:
(فانكحوا): أمر إباحة، فلو كان المراد بقوله: (ما طاب لكم)، أي: ما حل لكم -
لتنزلت الآية منزلة ما يقال: أبحنا لكم نكاح من يكون نكاحها مباحا لكم، وذلك يخرج
الآية عن الفائدة، ويصيرها مجملة لا محالة، أما إذا حملنا " طاب " على استطابة النفس،
وميل القلب، كانت الآية عامة دخلها التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه، أنه إذا وقع
التعارض بين الإجمال / والتخصيص، كان رفع الإجمال أولى، لأن العام المخصص حجة
في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا. انتهى، وهو حسن، و (مثنى
163

وثلاث ورباع): موضعها من الإعراب نصب على البدل من " ما طاب "، وهي نكرات لا
تنصرف، لأنها معدولة وصفة.
164

وقوله: (فواحدة)، أي: فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم، يريد به الإماء،
والمعنى: إن خاف ألا يعدل في عشرة واحدة، فما ملكت يمينه، وأسند الملك إلى
اليمين، إذ هي صفة مدح، واليمين مخصوصة بالمحاسن، ألا ترى أنها المنفقة، كما قال
165

- عليه السلام -: " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه "، وهي المعاهدة المبايعة.
قال ابن العربي: قال علماؤنا: وفي الآية دليل على أن ملك اليمين لا حق له في
الوطء والقسم، لأن المعنى: فإن خفتم ألا تعدلوا في القسم، فواحدة، أو ما ملكت
أيمانكم، فجعل سبحانه ملك اليمين كله بمنزلة الواحدة، فانتفى بذلك أن يكون للأمة حق
في وطء أو قسم. انتهى من " الأحكام ".
وقوله: (ذلك أدنى ألا تعولوا)، أدنى: معناه أقرب ألا تعولوا، أي: ألا تميلوا،
قاله ابن عباس وغيره، وقالت فرقة: معناه: أدنى ألا يكثر عيالكم، وقدح في هذا
الزجاج وغيره.
(وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4) ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم لهم قولا معروفا (5))
وقوله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة...) الآية: قال ابن عباس وغيره: الآية
خطاب للأزواج وقال أبو صالح: هي خطاب لأولياء النساء، لأن عادة بعض العرب
166

كانت أن يأكل ولي المرأة مهرها، فرفع الله ذلك بالإسلام، وقيل: إن الآية في
المتشاغرين الذين يتزوجون امرأة بأخرى، فأمروا أن يضربوا المهور.
167

قال * ع *: والآية تتناول هذه التأويلات الثلاث، ونحلة، أي: عطية منكم لهن،
وقيل: نحلة: معناه: شرعة، مأخوذ من النحل، وقيل: التقدير: نحلة من الله لهن، قال
ابن العربي: وذلك أن النحلة في اللغة: العطية عن غير عوض. انتهى.
وقوله: (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا...) الآية: الخطاب حسبما تقدم من
الاختلاف، والمعنى: إن وهبن غير مكرهات، طيبة نفوسهن، والضمير في " منه " يعود على
الصداق، قاله عكرمة وغيره، " ومن ": تتضمن الجنس ههنا، ولذلك يجوز أن تهب المهر
كله.
وقوله تعالى: (هنيئا مريئا): قال اللغويون: الطعام الهنئ هو السائغ المستحسن
الحميد المغبة، وكذلك المرئ.
وقوله سبحانه: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)، قال أبو موسى الأشعري وغيره:
نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه، كان من كان، وقوله:
(أموالكم)، يريد: أموال المخاطبين، قاله أبو موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن،
وغيرهم، وقال ابن جبير: يريد أموال السفهاء، وأضافها إلى المخاطبين، إذ هي
كأموالهم، و (قياما) جمع قيمة.
وقوله تعالى: (وارزقوهم فيها...) الآية: قيل: معناه: فيمن تلزم الرجل نفقته،
170

وقيل: في المحجورين من أموالهم، و (معروفا): قيل: معناه: ادعوا لهم، وقيل:
معناه: عدوهم وعدا حسنا، أي: إن رشدتم، دفعنا لكم أموالكم، ومعنى اللفظة: كل كلام
تعرفه النفوس، وتأنس إليه، ويقتضيه الشرع.
(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها
إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم
أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6) للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب
مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا (7))
وقوله: (وابتلوا اليتامى...) الآية: الابتلاء: الاختبار، و (بلغوا النكاح): معناه:
بلغوا مبلغ الرجال بحلم أو حيض، / أو غير ذلك، ومعناه: جربوا عقولهم، وقرائحهم،
وتصرفهم، و (آنستم): معناه: علمتم، وشعرتم، وخبرتم، ومالك (رحمه الله) يرى
الشرطين البلوغ.............
171

والرشد المختبر، وحينئذ يدفع المال.
قال * ع *: والبلوغ لم تسقه الآية سياق الشرط، ولكنها حالة الغالب على بني
آدم، أن تلتئم عقولهم فيها، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه، فقال: إذا بلغ
ذلك الوقت، فلينظر إلى الشرط، وهو الرشد حينئذ، وفصاحة الكلام تدل على ذلك، لأن
التوقيت بالبلوغ جاء ب‍ " إذا "، والمشروط جاء ب‍ " أن " التي هي قاعدة حروف الشرط،
" وإذا " ليست بحرف شرط إلا في ضرورة الشعر، قال ابن عباس: الرشد في العقل
172

وتدبير المال لا غير، وهو قول ابن القاسم في مذهبنا.
وقال الحسن، وقتادة: الرشد في العقل والدين، وهو رواية أيضا عن مالك.
وقوله تعالى: (ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا): نهي منه سبحانه للأوصياء
عن أكل أموال اليتامى بغير الواجب المباح لهم، والإسراف: الإفراط في الفعل، والسرف:
الخطأ في مواضع الإنفاق، وبدارا: معناه: مبادرة كبرهم، أي: أن الوصي يستغنم مال
محجوره، وأن يكبروا: نصب ب‍ " بدار "، ويجوز أن يكون التقدير مخافة أن يكبروا.
وقوله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف)، يقال: عف الرجل عن الشئ،
واستعف، إذ أمسك فأمر الغني بالإمساك عن مال اليتيم، وأباح الله للوصي الفقير أن
يأكل من مال يتيمه بالمعروف.
واختلف العلماء في حد (المعروف)، فقال ابن عباس وغيره: إنما يأكل الوصي
بالمعروف، إذا شرب من اللبن، وأكل من التمر بما يهنأ الجرباء، ويلط الحوض، ويجد
التمر، وما أشبهه، قلت: يقال للقطران: الهنا، في لغة العرب، كذا رأيته منصوصا عليه.
173

وقوله تعالى: (فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم): أمر من الله تعالى
بالتحرز والحزم، وهذا هو الأصل في الإشهاد في المدفوعات كلها، إذا كان حبسها أولا
معروفا.
قال * ع *: والأظهر أن (حسيبا) هنا: معناه: حاسبا أعمالكم، ومجازيا بها،
ففي هذا وعيد لكل جاحد حق.
وقوله سبحانه: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون...) الآية: قال قتادة
وغيره: سبب نزول هذه الآية أن العرب كان منها من لا يورث النساء، ويقولون: لا يرث
إلا من طاعن بالرمح، وقاتل بالسيف.
(وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكن فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
(8))
وقوله تعالى: (وإذا حضر القسمة أولوا القربى...) الآية: اختلف فيمن خوطب
بهذه الآية، فقيل: الخطاب للوارثين، وقيل: للمحتضرين، والمعنى: إذا حضركم الموت،
أيها المؤمنون، وقسمتم أموالكم بالوصية، وحضركم من لا يرث من ذوي القرابة،
واليتامى، فارزقوهم منه، قاله ابن عباس وغيره.
واختلف، هل هي منسوخة بآية المواريث، أو هي محكمة؟ وعلى انها محكمة، فهل
الأمر على الوجوب، فيعطى لهم ما خف، أو على الندب؟ خلاف.
والضمير في قوله: (فارزقوهم)، وفي قوله: (لهم): عائد على الأصناف الثلاثة،
والقول المعروف: كل ما يتأنس به، من دعاء، أو عدة، أو غير ذلك.
(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا
سديدا (9))
وقوله تعالى: (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم....) الآية: اختلف، من المراد
174

في هذه الآية؟ فقال ابن عباس وغيره: المراد: من حضر ميتا حين يوصى، فيقول له: قدم
لنفسك، وأعط لفلان وفلان، ويؤذي قال الورثة بذلك، فكأن الآية تقول لهم: كما كنتم
تخشون على ورثتكم وذريتكم بعدكم، فكذلك فاخشوا على ورثة غيركم /، ولا تحملوه
على تبذير ماله، وتركهم عالة، وقال مقسم وحضرمي: نزلت في عكس ذلك، وهو أن
يقول للمحتضر: أمسك على ورثتك، وأبق لولدك، وينهاه عن الوصية، فيضر بذلك ذوي
القربى، واليتامى، والمساكين، وكل من يستحق أن يوصى له، فقيل لهم: كما كنتم
تخشون على ذريتكم، وتسرون بأن يحسن إليهم، فكذلك فسددوا القول في جهة اليتامى
والمساكين.
قال * ع *: والقولان لا يطردان في كل الناس، بل الناس صنفان، يصلح
لأحدهما القول الواحد، وللآخر القول الثاني، وذلك أن الرجل، إذا ترك ورثة أغنياء،
حسن أن يندب إلى الوصية، ويحمل على أن يقدم لنفسه، وإذا ترك ورثة ضعفاء مقلين،
حسن أن يندب إلى الترك لهم، والاحتياط، فإن أجره في قصد ذلك كأجره في المساكين،
فالمراعي إنما هو الضعف، فيجب أن يمال معه.
وقال ابن عباس أيضا: المراد بالآية: ولاة الأيتام، فالمعنى: أحسنوا إليهم،
وسددوا القول لهم، واتقوا الله في أكل أموالهم، كما تخافون على ذريتكم أن يفعل بهم
خلاف ذلك.
وقالت فرقة: بل المراد جميع الناس، فالمعنى: أمرهم بالتقوى في الأيتام، وأولاد
الناس، والتسديد لهم في القول، وإن لم يكونوا في حجورهم، كما يريد كل أحد أن يفعل
بولده بعده، والسديد: معناه: المصيب للحق.
(إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10))
175

وقوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما...) الآية: أكثر الناس أن الآية
نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من أموال اليتامى، وهي تتناول كل آكل،
وإن لم يكن وصيا، وورد في هذا الوعيد أحاديث، منها: حديث أبي سعيد الخدري، قال:
حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم، عن ليلة أسري به، قال: " رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل
بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم، قلت:
يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ".
قلت: تأمل (رحمك الله) صدر هذه السورة معظمه إنما هو في شأن الأجوفين البطن
والفرج مع اللسان، وهما المهلكان، وأعظم الجوارح آفة وجناية على الإنسان، وقد روينا
عن مالك في " الموطأ "، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من وقاه الله شر اثنين، ولج الجنة ما
بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه، ما بين لحييه وما بين رجليه ".
قال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد ": ومعلوم أنه أراد صلى الله عليه وسلم ما بين لحييه: اللسان،
وما بين رجليه: الفرج، والله أعلم.
ولهذا أردف مالك حديثه هذا بحديثه عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن عمر بن
الخطاب دخل على أبي بكر (رضي الله عنه)، وهو يجبذ لسانه، فقال له عمر: مه، غفر
الله لك، فقال أبو بكر: إن هذا أوردني الموارد، قال أبو عمر: وفي اللسان آثار كثيرة،
ثم قال أبو عمر: وعن أبي هريرة: أن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان: البطن،
والفرج، ثم أسند أبو عمر عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من يتكفل لي بما بين
لحييه وما بين رجليه، وأضمن له الجنة "، ومن طريق جابر نحوه. انتهى.
والصلي: هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس
176

بصال / إلا في بدء أمره، وأهل جهنم لا تذهبهم النار، فهم فيها صالون (أعاذنا الله منها
بجوده وكرمه)، والسعير: الجمر المشتعل. وهذه آية من آيات الوعيد، والذي يعتقده أهل
السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة، ليلا يقع الخبر بخلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن
بعضهم.
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا
ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد
فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصيته
يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان
عليما حكيما (11))
وقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم...) الآية: تتضمن الفرض والوجوب،
قيل: نزلت بسبب بنات سعد بن الربيع.
وقيل: بسبب جابر بن عبد الله.
وقوله: (للذكر مثل حظ الأنثيين) أي: حظ مثل حظ الأنثيين.
وقوله: (فوق اثنتين)، معناه: اثنتين فما فوقهما تقتضي ذلك قوة الكلام، وأما
الوقوف مع اللفظ، فيسقط معه النص على الاثنين، ويثبت الثلثان لهما، بالإجماع، ولم
يحفظ فيه خلاف إلا ما روي عن ابن عباس، أنه يرى لهما النصف، ويثبت لهما أيضا ذلك
بالقياس على الأختين، وبحديث الترمذي، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للابنتين
بالثلثين ".
177

وقوله سبحانه: (فإن لم يكن له ولد): المعنى: ولا ولد ولد، ذكرا كان أو أنثى،
(فلأمه الثلث)، أي: وللأب الثلثان.
وقوله تعالى: (فإن كان له إخوة فلأمه السدس)، أي: كانوا أشقاء أو للأب أو
للأم، والإجماع على أنهم لا يأخذون السدس الذي يحجبون الأم عنه، وكذا أجمعوا على
أن أخوين فصاعدا يحجبون الأم عنه إلا ما روي عن ابن عباس، من أن الأخوين في
178

حكم الواحد.
وقدم الوصية في اللفظ، اهتماما بها، وندبا إليها، إذ هي أقل لزوما من الدين،
وأيضا: قدمها لأن الشرع قد حض عليها فلا بد منها، والدين قد يكون وقد لا يكون،
وأيضا: قدمها إذ هي حظ مساكين وضعاف، وأخر الدين، لأنه حق غريم يطلبه بقوة، وله
فيه مقال، وأجمع العلماء على أن الدين مقدم على الوصية، والإجماع على أنه لا يوصى
بأكثر من الثلث، واستحب كثير منهم ألا يبلغ الثلث.
وقوله تعالى: (آباؤكم وأبناؤكم) رفع بالابتداء، والخبر مضمر، تقديره: هم
المقسوم عليهم، أو هم المعطون، وهذا عرض للحكمة في ذلك، وتأنيس للعرب الذين
كانوا يورثون على غير هذه الصفة.
قال ابن زيد: (لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا)، يعني: في الدنيا والآخرة، قال
الفخر: وفي الآية إشارة إلى الانقياد إلى الشرع، وترك ما يميل إليه الطبع. انتهى.
(* ولكن نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد
فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم
إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية
توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد
منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها
أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12) تلك حدود الله ومن يطع
179

الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز
العظيم (13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله
عذاب مهين (14))
وقوله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد...) الآية: الولد
هنا في هذه الآية، وفي التي بعدها: هم بنو الصلب، وبنو ذكورهم، وإن سلفوا،
والكلالة: خلو الميت عن الوالد والولد، هذا هو الصحيح.
وقوله تعالى: (وله أخ أو أخت...) الآية: الإجماع على الأخوة في هذه الآية
للأم، وأما حكم سائر الإخوة سواهم، فهو المذكور في آخر السورة.
وقرأ سعد بن أبي وقاص: " وله أخ أو أخت لأمه "، والأنثى والذكر في هذه
النازلة سواء، بإجماع.
وقوله سبحانه: (غير مضار)، قال ابن عباس: " الضرار في الوصية من الكبائر "
ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من ضار في وصيته،
ألقاه الله تعالى في واد في جهنم ".
180

قال * ع *: ووجوه المضارة كثيرة، من ذلك: أن يقر بحق ليس عليه، أو يوصي
بأكثر من ثلثه، أو لوارثه.
قال * ص *: (غير مضار): منصوب على الحال: أي: غير مضار ورثته. انتهى.
قلت: وتقدير أبي حيان: " ورثته " يأباه فصاحة ألفاظ الآية، إذ مقتضاها العموم،
فلو قال: " غير مضار ورثة، أو غيرهم "، لكان أحسن، لكن الغالب مضارة الورثة، فلهذا
قدرهم /.
وقوله تعالى: (تلك حدود الله...) الآية: " تلك ": إشارة إلى القسمة المتقدمة في
المواريث، وباقي الآية بين.
(واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) والذان يأتيانها منكم
فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16))
وقوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم...) الآية: الفاحشة، في هذا
الموضع: الزنا، وقوله: (من نسائكم)، إضافة في معناها الإسلام، وجعل الله الشهادة
على الزنا خاصة لا تتم إلا بأربعة شهداء، تغليظا على المدعى، وسترا على العباد.
قلت: ومن هذا المعنى اشتراط رؤية كذا في كذا، كالمرود في المكحلة.
قال * ع *: وكانت أول عقوبة الزناة الإمساك في البيوت، ثم نسخ ذلك بالأذى
الذي بعده، ثم نسخ ذلك بآية النور وبالرجم في الثيب، قاله عبادة بن الصامت وغيره،
وعن عمران بن حصين، أنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل عليه الوحي، ثم أقلع عنه،
ووجهه محمر، فقال: " قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب
بالثيب جلد مائة والرجم "، خرجه مسلم، وهو خبر آحاد، ثم ورد في الخبر المتواتر، أن
181

رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم، ولم يجلد، فمن قال: إن السنة المتواترة تنسخ........
182

القرآن، جعل رجم الرسول دون جلد ناسخا لجلد الثيب، وهذا الذي عليه الأمة، أن
السنة المتواترة تنسخ القرآن، إذ هما جميعا وحي من الله سبحانه، ويوجبان جميعا العلم
والعمل.
ويتجه عندي في هذه النازلة بعينها أن يقال: " إن الناسخ لحكم الجلد هو القرآن المتفق
على رفع لفظه، وبقاء حكمه في قوله تعالى: " الشيخ والشيخة فارجموهما البتة "، وهذا
نص في الرجم، وقد قرره عمر على المنبر بمحضر الصحابة، والحديث بكماله في مسلم،
والسنة هي المبينة، ولفظ " البخاري ": " أو يجعل الله لهن سبيلا، الرجم للثيب، والجلد
للبكر ". انتهى.
وقوله تعالى: (واللذان يأتيانها منكم...) الآية: قال مجاهد وغيره: الآية الأولى
في النساء عموما، وهذه في الرجال، فعقوبة النساء الحبس، وعقوبة الرجال الأذى،
وهذا قول يقتضيه اللفظ، ويستوفي نص الكلام أصناف الزناة عامة، ويؤيده من جهة اللفظ
قوله في الأولى: (من نسائكم)، وقوله في الثانية: (منكم)، وأجمع العلماء على أن
هاتين الآيتين منسوختان، كما تقدم.
190

(إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب
الله عليهم وكان عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا
حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم
عذابا أليما (18))
وقوله تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة...) الآية.
قال * ص *: التوبة: مبتدأ، على حذف مضاف، أي: قبول التوبة. انتهى.
قال * ع *: " إنما ": حاصرة، وهو مقصد المتكلم بها أبدا، فقد تصادف من
المعنى ما يقتضي العقل فيه الحصر، كقوله تعالى: (إنما الله إله واحد) [النساء: 171]، وقد
لا تصادف ذلك، كقوله: " إنما الشجاع عنترة "، وهي في هذه الآية حاصرة، إذ ليست التوبة
إلا لهذا الصنف المذكور، وتصح التوبة، وإن نقضها التائب في ثاني حال بمعاودة الذنب،
فإن التوبة الأولى طاعة قد انقضت وصحت، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب إلى توبة أخرى
مستأنفة، وتصح أيضا التوبة من ذنب مع الإقامة على غيره من غير نوعه، خلافا للمعتزلة
في قولهم: لا يكون تائبا من أقام على ذنب.
وقوله تعالى: (على الله)، أي: على فضل الله ورحمته لعباده، وهذا نحو
قوله صلى الله عليه وسلم: " ما حق العباد على الله "، إنما معناه: ما حقهم على فضله ورحمته، والعقيدة أنه
لا يجب على الله / تعالى شئ عقلا، و (السوء)، في هذه الآية: يعم الكفر والمعاصي،
وقوله تعالى: (بجهالة): معناه: بسفاهة، وقلة تحصيل أدى إلى المعصية، وليس المعنى
أن تكون الجهالة بأن ذلك الفعل معصية، لأن المتعمد للذنوب كان يخرج من التوبة، وهذا
191

فاسد إجماعا، وما ذكرته في الجهالة قاله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عنهم أبو
العالية، وقال قتادة: اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن كل معصية، فهي بجهالة، عمدا
كانت أو جهلا، وقال به ابن عباس، ومجاهد، والسدي، وروي عن مجاهد والضحاك،
أنهما قالا: الجهالة هنا العمد، وقال عكرمة: أمور الدنيا كلها جهالة.
قال * ع *: يريد الخاصة بها الخارجة عن طاعة الله سبحانه، وهذا المعنى عندي
جار مع قوله تعالى: (أنما الحياة الدنيا لعب ولهو) [الحديد: 20].
واختلف المتأولون في قوله تعالى: (من قريب).
فقال ابن عباس والسدي: معنى ذلك: قبل المرض والموت، وقال الجمهور:
معنى ذلك قبل المعاينة للملائكة والسوق، وأن يغلب المرء على نفسه، وروى أبو
قلابة، أن الله تعالى لما خلق آدم فرآه إبليس أجوف، ثم جرى له ما جرى، ولعن
وأنظر، قال: وعزتك، لا برحت من قلبه، ما دام فيه الروح، فقال الله تعالى: " وعزتي لا
أحجب عنه التوبة ما دام فيه الروح ".
قال * ع *: فابن عباس (رضي الله عنه) ذكر أحسن أوقات التوبة، والجمهور حدوا
192

آخر وقتها، وروى بشير بن كعب، والحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقبل توبة
العبد ما لم يغرغر، ويغلب على عقله ".
قال * ع *: لأن الرجاء فيه باق، ويصح منه الندم والعزم على الترك، وقوله
تعالى: (من قريب)، إنما معناه: من قريب إلى وقت الذنب، ومدة الحياة كلها قريب،
والمبادرة في الصحة أفضل، قلت: بل المبادرة واجبة.
وقوله تعالى: (وكان الله عليما)، أي: بمن يتوب، وييسره هو سبحانه للتوبة
(حكيما): فيما ينفذه من ذلك، وفي تأخير من يؤخر حتى يهلك، ثم نفى بقوله تعالى:
(وليست التوبة...) الآية: أن يدخل في حكم التائبين من حضره موته، وصار في حيز
اليأس، كما كان فرعون حين صار في غمرة الماء، والغرق، فلم ينفعه ما أظهره من
الإيمان، وبهذا قال ابن عباس وجماعة المفسرين.
قال * ع *: والعقيدة عندي في هذه الآيات: أن من تاب من قريب، فله حكم
التائب، فيغلب الظن عليه، أنه ينعم ولا يعذب، هذا مذهب أبي المعالي وغيره.
وقال غيرهم: بل هو مغفور له قطعا لإخبار الله تعالى بذلك، وأبو المعالي يجعل
تلك الأخبار ظواهر مشروطة بالمشيئة، ومن لم يتب حتى حضره الموت، فليس في حكم
التائبين، فإن كان كافرا، فهو يخلد، وإن كان مؤمنا، فهو عاص في المشيئة، لكن يغلب
الخوف عليه، ويقوى الظن في تعذيبه، ويقطع من جهة السمع، أن من هذه الصنيفة من
يغفر الله تعالى له، تفضلا منه لا يعذبه.
وأعلم الله تعالى أيضا، أن الذين يموتون، وهم كفار، فلا مستعتب لهم، ولا توبة
في الآخرة.
وقوله تعالى: (أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما): إن كانت الإشارة إلى الذين يموتون،
وهم كفار، فقط، فالعذاب عذاب خلود مؤبد، وإن كانت الإشارة إليهم وإلى من ينفذ عليه
الوعيد ممن لا يتوب إلا مع حضور الموت /، فهو في جهة هؤلاء عذاب لا خلود معه،
193

(واعتدنا) معناه: يسرناه وأحضرناه.
(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما
آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا
ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن
قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى
بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21))
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها...) الآية: قال
ابن عباس: كانوا في الجاهلية، إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من أهلها، إن
شاءوا تزوجها أحدهم، وإن شاءوا زوجوها من غيرهم، وإن شاءوا منعوها الزواج، فنزلت
الآية في ذلك.
وقال بعض المتأولين: معنى الآية: لا يحل لكم عضل النساء اللواتي أنتم أولياء
لهن، وإمساكهن دون تزويج، حتى يمتن، فتورث أموالهن.
قال * ع *: فعلى هذا القول: فالموروث مالها، لا هي، وروي نحو هذا عن ابن
عباس.
وقوله تعالى: (ولا تعضلوهن...) الآية: قال ابن عباس وغيره: هي أيضا في
أولئك الأولياء الذين كانوا يرثون المرأة، لأنهم كانوا يتزوجونها، إذا كانت جميلة،
ويمسكونها حتى تموت، إذا كانت دميمة، وقال نحوه الحسن، وعكرمة، وقال ابن
عباس أيضا: هي في الأزواج في الرجل يمسك المرأة، ويسئ عشرتها، حتى تفتدي منه،
فذلك لا يحل له، وقال مثله قتادة، وهو أقوى الأقوال، ودليل ذلك: قوله: (إلا أن
194

يأتين بفاحشة)، وإذا أتت بفاحشة، فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها، إجماعا من
الأمة، وإنما ذلك للزوج على ما سنبينه الآن (إن شاء الله)، وكذلك قوله:
(عاشروهن...) إلى آخر الآية، يظهر منه تقوية ما ذكرته.
واختلف في معنى " الفاحشة " هنا، فقال الحسن بن أبي الحسن: هو الزنا، قال أبو
قلابة: إذا زنت امرأة الرجل، فلا بأس أن يضارها، ويشق عليها، حتى تفتدي منه، وقال
السدي: إذا فعلن ذلك، فخذوا مهورهن.
قلت: وحديث المتلاعنين يضعف هذا القول، لقوله صلى الله عليه وسلم: " فذاك بما استحللت من
فرجها... " الحديث.
وقال ابن عباس وغيره: الفاحشة في هذه الآية: البغض والنشوز، فإذا نشزت، حل
له أن يأخذ مالها.
قال * ع *: وهو مذهب مالك.
وقال قوم: الفاحشة: البذاء باللسان، وسوء العشرة قولا وفعلا، وهذا في معنى
النشوز.
قال * ع *: والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى، وكل ذلك فاحشة
تحل أخذ المال.
وقوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف): أمر يعم الأزواج والأولياء، ولكن المتلبس
في الأغلب بهذا الأمر الأزواج، والعشرة: المخالطة والممازجة.
وقوله تعالى: (فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)،
195

قال السدي: الخير الكثير في المرأة الولد، وقال نحوه ابن عباس.
قال * ع *: ومن فصاحة القرآن العموم الذي في لفظة " شئ "، لأنه يطرد هذا
النظر في كل ما يكرهه المرء مما يجمل الصبر عليه، ويحسن، إذ عاقبة الصبر إلى خير، إذا
أريد به وجه الله.
وقوله تعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج...) الآية: لما مضى في الآية
المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة، وأن للزوج أخذ المال منها، عقب ذلك بذكر
الفراق الذي سببه الزوج، والمنع من أخذ مالها مع ذلك.
وقال بعض الناس: يؤخذ من الآية جواز المغالاة بالمهور، وقال قوم: لا تعطي الآية
ذلك، لأن التمثيل إنما جاء على جهة المبالغة.
والبهتان: مصدر في موضع الحال، ومعناه: مبهتا، ثم وعظ تعالى عباده،
و (أفضى): معناه: باشر، وقال مجاهد وغيره: الإفضاء في هذه الآية: الجماع، قال
ابن عباس: ولكن الله كريم يكنى.
واختلف في المراد بالميثاق الغليظ.
فقال الحسن وغيره: / هو قوله تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان)
[البقرة: 229] وقال مجاهد، وابن زيد: الميثاق الغليظ: عقدة النكاح، وقول الرجل:
196

نكحت، وملكت النكاح، ونحوه، فهذه التي بها تستحل الفروج.
وقال عكرمة، والربيع: الميثاق الغليظ يفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم: " استوصوا بالنساء خيرا
فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
(ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا
وساء سبيلا (22))
قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف): سبب الآية ما
اعتادته بعض قبائل العرب أن يخلف ابن الرجل على امرأة أبيه، وقد كان في العرب من
تزوج ابنته، وهو حاجب بن زرارة.
واختلف في مقتضى ألفاظ الآية.
فقالت فرقة: قوله: (ما نكح)، يريد: النساء، أي: لا تنكحوا النساء اللواتي نكح
آباؤكم، وقوله: (إلا ما قد سلف)، معناه: ولكن ما قد سلف، فدعوه، وقال بعضهم:
المعنى: لكن ما قد سلف، فهو معفو عنكم لمن كان واقعه، فكأنه قال: ولا تفعلوا، حاشا
ما قد سلف، وقالت فرقة: معناه: لا تنكحوا كما نكح آباؤكم من عقودهم الفاسدة إلا ما
قد سلف منكم من تلك العقود الفاسدة، فمباح لكم الإقامة عليه في الإسلام، إذا كان مما
يقرر الإسلام عليه، وقيل: إلا ما قد سلف، فهو معفو عنكم، وقال ابن زيد: معنى الآية:
النهي عن أن يطأ الرجل امرأة وطئها الأب، إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا
بالنساء، لا على وجه المناكحة، فذلك جائز لكم، لأن ذلك الزنا كان فاحشة، والمقت:
البغض والاحتقار، بسبب رذيلة يفعلها الممقوت، (وساء سبيلا) أي: بئس الطريق
والمنهج لمن يسلكه، إذ عاقبته إلى عذاب الله.
قال * ص *: " ساء " للمبالغة في الذم، ك‍ " بئس "، وسبيلا: تفسيره، والمخصوص
197

بالذم محذوف، أي: سبيل هذا النكاح، كقوله تعالى: (بئس الشراب) [الكهف: 29]، أي:
ذلك الماء انتهى.
(حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات
الأخت وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في
حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم
وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن
الله كان غفورا رحيما (23))
وقوله سبحانه: (حرمت عليكم أمهاتكم...) الآية: حكم حرم الله به سبعا من
النسب، وستا من بين رضاع وصهر، وألحقت السنة المتواترة سابعة، وهي الجمع بين
المرأة وعمتها، ومضى عليه الإجماع، وروي عن ابن عباس، أنه قال: حرم من النسب
198

سبع، ومن الصهر سبع، وتلا هذه الآية، وقال عمرو بن سالم مثل ذلك، وجعل السابعة
قوله تعالى: (والمحصنات) [النساء: 24].
وقوله تعالى: (وأمهات نسائكم)، أي: سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، فبالعقد
على البنت حرمت الأم، هذا الذي عليه الجمهور.
وقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم) ذكر الأغلب من هذه الأمور، إذ هذه
199

حالة الربيبة في الأكثر، وهي محرمة، وإن لم تكن في الحجر، ويقال: حجر (بكسر الحاء،
وفتحها)، وهو مقدم ثوب الإنسان وما بين يديه منه، ثم استعملت اللفظة في الحفظ والستر.
وقوله: (اللاتي دخلتم بهن)، قال ابن عباس وغيره: الدخول هنا الجماع،
200

وجمهور العلماء يقولون: إن جميع أنواع التلذذ بالأم يحرم الابنة، كما يحرمها الجماع،
والحلائل: جمع حليلة، لأنها تحل مع الزوج حيث حل، فهي فعيلة بمعنى فاعلة، وذهب
الزجاج وقوم، إلى أنها من لفظة " الحلال "، فهي حليلة بمعنى محللة.
وقوله تعالى: (الذين / من أصلابكم) يخرج من كانت العرب تتبناه ممن ليس
للصلب، وحرمت حليلة الابن من الرضاع، وإن لم يكن للصلب بالإجماع المستند إلى
قوله صلى الله عليه وسلم: " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ".
وقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين): لفظ يعم الجمع بنكاح وبملك يمين،
وأجمعت الأمة على منع جمعهما بنكاح، ولا خلاف في جواز جمعهما بالملك،
201

ومذهب مالك، أن له أن يطأ أيتهما شاء، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته، فإن أراد
وطء الأخرى، فيلزمه أن يحرم فرج الأولى بعتق، أو كتابة، أو غير ذلك، وثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى أن يجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها "، وأجمعت الأمة
على ذلك.
202

وقوله تعالى: (إلا ما قد سلف): استثناء منقطع، معناه: لكن ما قد سلف من
ذلك، ووقع وأزاله الإسلام، فإن الله تعالى يغفره، والإسلام يجبه.
203

(* والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء
ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة
ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24) ومن لم
يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم
المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن
بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن
نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشى العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله
غفور رحيم (25))
204

وقوله تعالى: (والمحصنات) عطفا على المحرمات، قيل: والتحصن التمنع، ومنه
205

الحصن، وحصنت المرأة: امتنعت بوجه من وجوه الامتناع، وأحصنت نفسها، وأحصنها
غيرها، والإحصان تستعمله العرب في أربعة أشياء، وعلى ذلك تصرفت اللفظة في كتاب
206

الله عز وجل: فتستعمله في الزواج، لأن ملك الزوج منعة وحفظ، وتستعمله في الحرية،
207

لأن الإماء كان عرفهن في الجاهلية الزنا، والحرة بخلاف ذلك، ألا ترى إلى قول هند:
208

" وهل تزني الحرة "، وتستعمله في الإسلام، لأنه حافظ، وتستعمله في العفة، لأنها إذا
ارتبط بها إنسان، وظهرت على شخص ما، وتخلق بها، فهي منعة وحفظ.
وحيث وقعت اللفظة في القرآن، فلا تجدها تخرج عن هذه المعاني، لكنها قد تقوى
فيها بعض هذه المعاني دون بعض، كما سيأتي بيانه في أماكنه (إن شاء الله).
فقوله سبحانه في هذه الآية: (والمحصنات) قال فيه ابن عباس وغيره: هن ذوات
الأزواج، محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي، وروي عن ابن شهاب، أنه سئل عن
هذه الآية: (والمحصنات من النساء)، فقال: نرى أنه حرم في هذه الآية ذوات الأزواج،
والعفائف من حرائر ومملوكات، ولم يحل شئ من ذلك إلا بنكاح، أو شراء، أو
تملك، وهذا قول حسن عمم الفظ الإحصان، ولفظ ملك اليمين، وذلك راجع إلى أن
الله حرم الزنا، قال عبيدة السلماني وغيره: قوله سبحانه: (كتاب الله عليكم): إشارة إلى
ما ثبت من القرآن من قوله سبحانه: (مثنى وثلاث ورباع) [النساء: 3]، وفي هذا بعد،
209

والأظهر أن قوله: (كتاب الله عليكم) إنما هو إشارة إلى التحريم الحاجز بين الناس،
وبين ما كانت الجاهلية تفعله.
قال الفخر: و (كتاب الله عليكم): مصدر من غير لفظ الفعل، قال الزجاج:
ويجوز أن يكون منصوبا على جهة الأمر، ويكون (عليكم) خبرا له، فيكون المعنى:
ألزموا كتاب الله. انتهى.
وفي " التمهيد " لأبي عمر بن عبد البر: (كتاب الله عليكم): أي: حكمه فيكم
وقضاؤه عليكم. انتهى.
وقوله سبحانه: (وأحل لكم ما وراء ذلكم)، قال عطاء وغيره: المعنى: وأحل لكم
ما وراء من حرم، قلت: أي: على ما علم تفصيله من الشريعة.
قال * ع *: و (أن تبتغوا بأموالكم): لفظ يجمع / التزوج والشراء،
و (محصنين): معناه: متعففين، أي: تحصنون أنفسكم بذلك، (غير مسافحين)، أي:
غير زناة، والسفاح: الزنا.
وقوله سبحانه: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن)، قال ابن عباس وغيره:
المعنى: فإذا استمتعتم بالزوجة، ووقع الوطء، ولو مرة، فقد وجب إعطاء الأجر، وهو
المهر كله، وقال ابن عباس أيضا وغيره: إن الآية نزلت في نكاح......
210

المتعة، قال ابن المسيب: ثم نسخت.
قال * ع *: وقد كانت المتعة في صدر الإسلام، ثم نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به)، أي: من حط أو تأخير بعد
استقرار الفريضة، ومن قال بأن الآية المتقدمة في المتعة، قال: الإشارة بهذه إلى أن ما
تراضيا عليه من زيادة في مدة المتعة، وزيادة في الأجر جائز.
215

وقوله تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا...) الآية: قال ابن عباس وغيره:
الطول هنا: السعة في المال، وقاله مالك في " المدونة "، فعلى هذا التأويل لا يصح للحر
أن يتزوج الأمة إلا باجتماع شرطين: عدم السعة في المال، وخوف العنت، وهذا هو نص
مالك في " المدونة ".
قال مالك في " المدونة ": " وليست الحرة تحته بطول، أن خشي العنت "، وقال في
" كتاب محمد " ما يقتضي أن الحرة بمثابة الطول.
قال الشيخ أبو الحسن اللخمي: وهو ظاهر القرآن، ونحوه عن ابن حبيب.
وقال أبو حنيفة: وجود الحرة تحته لا يجوز معه نكاح الأمة، وقاله الطبري،
وتقول: طال الرجل طولا (بفتح الطاء)، إذا تفضل، ووجد، واتسع، وطولا (بضمها): في
ضد القصر، و (المحصنات) في هذا الموضع: الحرائر - والفتاة، وإن كانت في اللغة
واقعة على الشابة، أية كانت، فعرفها في الإماء، وفتى كذلك، و (المؤمنات)، في هذا
الموضع: صفة مشترطة عند مالك، وجمهور أصحابه، فلا يجوز نكاح أمة كافرة
216

عندهم، قلت: والعلة في منع نكاح الأمة ما يئول إليه الحال من استرقاق الولد.
217

وقوله تعالى: (والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض)، ومعناه: والله أعلم ببواطن
الأمور، ولكم ظواهرها، فإذا كانت الفتاة ظاهرها الإيمان، فنكاحها صحيح، وفي اللفظ
218

أيضا: تنبيه على أنه ربما كان إيمان أمة أفضل من إيمان بعض الحرائر، فلا تعجبوا بمعنى
الحرية، والمقصود بهذا الكلام أن الناس سواء، بنو الحرائر، وبنو الإماء، أكرمهم عند الله
أتقاهم، وفي هذا توطئة لنفوس العرب التي كانت تستهجن ولد الأمة.
وقوله تعالى: (فانكحوهن بإذن أهلهن)، معناه: بولاية أربابهن المالكين، (وآتوهن
أجورهن)، أي: مهورهن، (بالمعروف): معناه: بالشرع والسنة، و (محصنات):
الظاهر أنه بمعنى عفيفات.
قال * ص *: محصنات: منصوب على الحال، والظاهر أن العامل وآتوهن، ويجوز
أن يكون العامل: فانكحوهن محصنات، أي: عفائف. انتهى.
والمسافحات: الزواني المتبذلات اللواتي هن سوق للزنا، ومتخذات الأخدان هن
المستترات اللواتي يصحبن واحدا واحدا، ويزنين خفية، وهذا كانا نوعين في زنا
الجاهلية، قاله ابن عباس وغيره.
219

وقوله تعالى: (فإذا أحصن...) الآية، أي: تزوجن، قال الزهري وغيره:
فالمتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة غير المتزوجة محدودة بالحديث، وفي مسلم
والبخاري، " أنه قيل: يا رسول الله، الأمة إذا زنت، ولم تحصن "؟ فأوجب / عليها الحد "
والفاحشة، هنا الزنا.
220

قال * ص *: وجواب: " إذا ": " فإن أتين "، وجوابه. انتهى.
221

و (المحصنات) في هذه الآية: الحرائر، إذ هي الصفة المشروطة في الحد الكامل،
والرجم لا يتنصف، فلم يرد في الآية بإجماع، والعنت في اللغة: المشقة.
قال ابن عباس وغيره: والمقصد به هنا الزنا.
222

وقوله تعالى: (وأن تصبروا خير لكم) يعني: عن نكاح الإماء، قاله ابن عباس
وغيره: وهذا ندب إلى الترك، وعلته ما يؤدي إليه نكاح الإماء من استرقاق الولد
ومهنتهن.
(يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم
حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما
(27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا (28))
وقوله تعالى: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم...) الآية: التقدير عند سيبويه: يريد
الله لأن يبين لكم، ويهديكم، بمعنى: يرشدكم، والسنن: الطرق، ووجوه الأمور،
وأنحاؤها، والذين من قبلنا: هم المؤمنون من كل شريعة.
وقوله سبحانه: (والله يريد أن يتوب عليكم...) الآية: مقصد هذه الآية الإخبار
عن إرادة الذين يتبعون الشهوات، فقدمت إرادة الله تعالى توطئة مظهرة لفساد إرادة متبعي
الشهوات، واختلف المتأولون في تعيين متبعي الشهوات، فقال مجاهد: هم الزناة، وقال
السدي: هم اليهود والنصارى، وقالت فرقة: هم اليهود خاصة، لأنهم أرادوا أن يتبعهم
المسلمون في نكاح الأخوات من الأب، وقال ابن زيد: ذلك على العموم في هؤلاء، وفي
كل متبع شهوة، ورجحه الطبري.
وقوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم...) الآية أي: لما علمنا ضعفكم عن
الصبر عن النساء، خففنا عنكم بإباحة الإماء، قاله مجاهد وغيره، وهو ظاهر مقصود
الآية، ثم بعد هذا المقصد تخرج الآية مخرج التفضل، لأنها تتناول كل ما خففه الله
سبحانه عن عباده، وجعله الدين يسرا، ويقع الإخبار عن ضعف الإنسان عاما، حسبما هو
223

في نفسه ضعيف يستميله هواه في الأغلب.
(يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما
فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر
عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة...) الآية: الاستثناء منقطع، المعنى: لكن إن كانت تجارة، فكلوها، وأخرج
البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها
يريد إتلافها، أتلفه الله ". انتهى.
وقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيما)، أجمع المتأولون على
أن المقصود بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضا، ثم لفظها يتناول أن يقتل
الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر، ربما مات منه، فهذا كله يتناوله
النهي، وقد احتج عمرو بن العاصي بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد، خوفا
على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه.
224

وقوله تعالى: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما...) الآية: اختلف في المشار إليه
ب‍ " ذلك ".
فقال عطاء: " ذلك " عائد على القتل، لأنه أقرب مذكور، وقالت فرقة: " ذلك " عائد
على أكل المال بالباطل، وقتل النفس، وقالت فرقة: " ذلك ": عائد على كل ما نهي عنه من
أول السورة، وقال الطبري: " ذلك " عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد، وذلك قوله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) [النساء: 19]، لأن كل ما نهي
عنه قبله إلى أول السورة، قرن به وعيد.
قال ابن العربي في " أحكامه ": والقول الأول أصح، وما عداه محتمل. انتهى.
والعدوان: تجاوز الحد.
قال * ص *: (عدوانا وظلما): مصدران في موضع الحال، / أي: متعدين
وظالمين، أبو البقاء: أو مفعول من أجله. انتهى.
واختلف العلماء في الكبائر.
فقال ابن عباس وغيره: الكبائر: كل ما ورد عليه وعيد بنار، أو عذاب، أو لعنة، أو
225

ما أشبه ذلك.
وقال ابن عباس أيضا: كل ما نهي الله عنه، فهو كبير، وعلى هذا القول أئمة
الكلام، القاضي، وأبو المعالي، وغيرهما، قالوا: وإنما قيل: صغيرة، بالإضافة إلى أكبر
منها، وإلا فهي في نفسها كبيرة، من حيث المعصي بالجميع واحد، واختلف العلماء في
هذه المسألة، فجماعة من الفقهاء والمحدثين يرون أن باجتناب الكبائر تكفر الصغائر قطعا،
وأما الأصوليون، فقالوا: محمل ذلك على غلبة الظن، وقوة الرجاء، لا على القطع،
ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم، فترد
إليها هذه المطلقات كلها: قوله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48 و 116].
و (كريما): يقتضي كرم الفضيلة، ونفي العيوب، كما تقول: ثوب كريم، وهذه آية
رجاء، وروى أبو حاتم البستي في " المسند الصحيح " له، عن أبي هريرة وأبي سعيد
الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، ثم قال: " والذي نفسي بيده "، ثلاث
مرات، ثم سكت، فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: " ما من
عبد يؤدي الصلوات الخمس، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر السبع، إلا فتحت له ثمانية
أبواب من الجنة يوم القيامة، حتى إنها لتصفق، ثم تلا: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم...) الآية ". انتهى من " التذكرة " للقرطبي، ونحوه ما رواه مسلم،
عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان
إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر "، قال القرطبي: وعلى هذا جماعة
أهل التأويل، وجماعة الفقهاء، وهو الصحيح، أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعد
الله الصدق، وقوله الحق سبحانه، وأما الكبائر، فلا تكفرها إلا التوبة منها. انتهى.
قلت: وفي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة (رضي الله عنه)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
226

قال: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله،
والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم
الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ". انتهى.
(ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء
نصيب مما اكتسبن وسئلوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32) ولكل
جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله
كان على كل شئ شهيدا (33))
وقوله تعالى: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض...) الآية: سبب
الآية أن النساء قلن: ليتنا استوينا مع الرجال في الميراث، وشاركناهم في الغزو، وروي أن
أم سلمة قالت ذلك، أو نحوه، وقال الرجال: ليت لنا في الآخرة حظا زائدا على
النساء، كما لنا عليهن في الدنيا، فنزلت الآية.
قال * ع *: لأن في تمنيهم هذا تحكما على الشريعة وتطرقا إلى الدفع في صدر
حكم الله تعالى، فهذا نهي عن كل تمن بخلاف حكم شرعي، وأما التمني في الأعمال
الصالحة، فذلك هو الحسن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: " وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا، ثم
أقتل، ثم أحيا... " الحديث. وفي غير موضع، ولقوله تعالى: (واسألوا الله من فضله)
[النساء: 32]. قال القشيري: سمعت الشيخ أبا علي يقول: من علامات المعرفة ألا تسأل
حوائجك، قلت أو كثرت إلا من الله تعالى مثل موسى اشتقاق إلى الرؤية، فقال: (رب أرني
أنظر إليك /) [الأعراف: 143]، واحتاج مرة إلى رغيف، فقال: (رب إني لما أنزلت إلي من
227

خير فقير) [القصص: 24] انتهى من " التحبير ".
وقوله تعالى: (للرجال نصيب...) الآية: قالت فرقة: معناه: من الأجر،
والحسنات، فكأنه قيل للناس: لا تتمنوا في أمر مخالف لما حكم الله به، لاختيار ترونه
أنتم، فإن الله تعالى قد جعل لكل أحد نصيبا من الأجر والفضل بحسب اكتسابه فيما شرع
له، وهذا قول حسن، وفي تعليقه سبحانه النصيب بالاكتساب حض على العمل، وتنبيه
على كسب الخير.
وقوله سبحانه: (واسألوا الله من فضله)، قال ابن جبير وغيره: هذا في فضل
العبادات، والدين، لا في فضل الدنيا، وقال الجمهور: ذلك على العموم، وهو الذي
يقتضيه اللفظ، فقوله: (واسألوا الله) يقتضي مفعولا ثانيا، تقديره: واسألوا الله الجنة أو
كثيرا من فضله.
وقوله تعالى: (ولكل جعلنا موالي...) أي: ولكل أحد، قال ابن عباس وغيره:
الموالي هنا العصبة والورثة، والمعنى: ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان
والأقربون.
وقوله تعالى: (والذين) رفع بالابتداء، والخبر في قوله: (فآتوهم نصيبهم).
واختلف من المراد ب‍ " الذين ".
فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وغيرهم: هم الأحلاف، فإن العرب كانت
تتوارث بالحلف، ثم نسخت بآيات الأنفال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض)
[الأنفال: 75].
وقال ابن عباس أيضا: هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم، كانوا يتوارثون بهذه
الآية، حتى نسخ ذلك بما تقدم.
وقال ابن المسيب: هم الذين كانوا يتبنون.
228

قال * ع *: ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف.
(الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم
فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في
المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34))
وقوله: (الرجال قوامون) بناء مبالغة، وهو من القيام على الشئ والاستبداد بالنظر
فيه، وحفظه، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة
يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وللرجال عليهن درجة، لفضل القوامية، فعليه أن
يبذل المهر والنفقة، وحسن العشرة، ويحجبها ويأمرها بطاعة الله تعالى، وينهي إليها شعائر
الإسلام، من صلاة، وصيام، وما وجب على المسلمين، وعليها الحفظ لماله، والإحسان
إلى أهله، والالتزام لأمره في الحجبة وغيرها إلا بإذنه، وقبول قوله في الطاعات. انتهى.
و " ما " مصدرية في الموضعين، والصلاح في قوله: (فالصالحات) هو الصلاح في
الدين، و (قانتات): معناه: مطيعات لأزواجهن، أو لله في أزواجهن، (حافظات
للغيب): معناه: لكل ما غاب عن علم زوجها مما استرعيته، وروى أبو هريرة، أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير النساء امرأة، إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإذا غبت
عنها حفظتك في مالك ونفسها "، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية.
وقوله: (بما حفظ الله): " ما ": مصدرية، تقديره: بحفظ الله، ويصح أن تكون
بمعنى " الذي " ويكون العائد في " حفظ " ضمير نصب، أي: بالذي حفظه الله، ويكون
المعنى: إما حفظ الله ورعايته التي لا يتم أمر دونها، وإما أوامره ونواهيه للنساء، فكأنها
حفظه، بمعنى أن النساء يحفظن بإزاء ذلك وبقدره.
وقوله تعالى: (واللاتي تخافون نشوزهن...) الآية: النشوز: أن تتعوج المرأة،
ويرتفع خلقها /، وتستعلي على زوجها.
229

(واهجروهن في المضاجع): قال ابن عباس: يضاجعها، ويوليها ظهره، ولا
يجامعها، وقال مجاهد: جنبوا مضاجعتهن، وقال ابن جبير: هي هجرة الكلام، أي:
لا تكلموهن، وأعرضوا عنهن، فيقدر حذف، تقديره: واهجروهن في سبب المضاجع،
حتى يراجعنها.
* م *: قوله: (في المضاجع)، ذكر أبو البقاء فيه وجهين:
الأول: أن " في " على بابها من الظرفية، أي: اهجروهن في مواضع الاضطجاع، أي:
اتركوا مضاجعتهن دون ترك مكالمتهن.
الثاني: أنها بمعنى السبب، أي: اهجروهن بسبب المضاجع، كما تقول: في هذه
الجناية عقوبة. انتهى، وكونها للظرفية أظهر، والله أعلم.
والضرب في هذه الآية: هو ضرب الأدب غير المبرح، وهو الذي لا يكسر عظما،
ولا يشين جارحة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اضربوا النساء، إذا عصينكم في معروف ضربا غير
مبرح " قال عطاء: قلت عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالشراك ونحوه.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله عز وجل: " واضربوهن " ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أيها الناس إن لكم على نسائكم حقا، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم
أحدا تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن، فإن الله قد أذن أن تهجروهن
في المضاجع، وتضربوهن ضربا غير مبرح، فإن انتهين، فلهن رزقهن، وكسوتهن
بالمعروف ". وفي هذا دليل على أن الناشز لا نفقة لها ولا كسوة، وأن الفاحشة هي
230

البذاء ليس الزنا، كما قال العلماء، ففسر النبي صلى الله عليه وسلم الضرب، وبين أنه لا يكون مبرحا،
أي: لا يظهر له أثر على البدن. انتهى.
قال * ع *: وهذه العظة والهجر والضرب مراتب، إن وقعت الطاعة عند
إحداها، لم يتعد إلى سائرها، و (تبغوا): معناه: تطلبوا، و (سبيلا): أي: إلى الأذى،
وهو التعنيت والتعسف بقول أو فعل، وهذا نهي عن ظلمهن، وحسن هنا الاتصاف بالعلو
والكبر، أي: قدره سبحانه فوق كل قدر، ويده بالقدرة فوق كل يد، فلا يستعلي أحد
بالظلم على امرأته، فالله تعالى بالمرصاد، وينظر إلى هذا حديث أبي مسعود، قال: كنت
أضرب غلامي، فسمعت قائلا يقول: اعلم أبا مسعود، أعلم أبا مسعود، فصرفت وجهي،
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أعلم أبا مسعود، أن الله أقدر عليك منك على هذا العبد... "
الحديث.
231

(وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا
يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35))
وقوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا...) الآية: اختلف من المأمور
بالبعثة. فقيل: الحكام، وقيل: المخاطب الزوجان، وإليهما تقديم الحكمين، وهذا في
مذهب مالك، والأول لربيعة وغيره، ولا يبعث الحكمان إلا مع شدة الخوف والشقاق،
ومذهب مالك وجمهور العلماء: أن الحكمين ينظران في كل شئ، ويحملان على الظالم،
ويمضيان ما رأياه من بقاء أو فراق، وهو قول علي بن أبي طالب في " المدونة " وغيرها.
وقوله: (إن يريدا إصلاحا)، قال مجاهد وغيره: المراد الحكمان، أي: إذا نصحا
وقصدا الخير، بورك في وساطتهما، وقالت فرقة: المراد الزوجان، والأول أظهر،
وكذلك الضمير في (بينهما)، يحتمل الأمرين، والأظهر أنه للزوجين، والاتصاف
ب‍ (عليم خبير): يناسب ما ذكر من إرادة الإصلاح.
(* واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى
والمساكن والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت
أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36) الذين يبخلون ويأمرون الناس
بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37))
وقوله تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا...) العبادة /:
التذلل بالطاعة، وإحسانا، مصدر، والعامل فيه فعل، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا،
وبذي القربى: هو القريب النسب من قبل الأب والأم، قال ابن عباس وغيره: والجار ذو
القربى: هو القريب النسب، والجار الجنب: هو الجار الأجنبي، وقالت فرقة: الجار ذو
232

القربى: هو الجار القريب المسكن منك، والجار الجنب هو البعيد المسكن منك،
والمجاورة مراتب بعضها ألصق من بعض، أدناها الزوجة.
قال ابن عباس وغيره: الصاحب بالجنب: هو الرفيق في السفر.
وقال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن أبي ليلى وغيرهم: هو الزوجة،
وقال ابن زيد: هو الرجل يعتريك ويلم بك لتنفعه، وأسند الطبري، " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان معه رجل من أصحابه، وهما على راحلتين، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة، فقطع
قضيبين، أحدهما معوج، وخرج فأعطى صاحبه القويم، وحبس هو المعوج، فقال له
الرجل: كنت، يا رسول الله، أحق بهذا، فقال له: " يا فلان، إن كل صاحب يصحب
الآخر، فإنه مسؤول عن صحابته، ولو ساعة من نهار "، قلت: وأسند الحافظ محمد بن
طاهر المقدسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير
الجيران عند الله خيرهم لجاره ". انتهى من " صفوة التصوف ".
وفي الحديث الصحيح، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما زال جبريل يوصيني
بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "، أخرجه البخاري، وأخرجه أيضا من طريق عائشة (رضي
الله عنها) انتهى.
233

وابن السبيل: المسافر، وسمي ابنه، للزومه له، وما ملكت أيمانكم: هم العبيد
الأرقاء.
234

قال ابن العربي في " أحكامه ": وقد أمر الله سبحانه بالرفق بهم، والإحسان إليهم،
وفي " الصحيح " عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إخوانكم ملككم الله رقابهم، فأطعموهم مما
تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم،
فأعينوهم ". انتهى.
235

ونفى سبحانه محبته عمن صفته الخيلاء والفخر، وذلك ضرب من التوعد، يقال:
خال الرجل يخول خولا، إذا تكبر وأعجب بنفسه، وخص سبحانه هاتين الصفتين هنا، إذ
مقتضاهما العجب والزهو، وذلك هو الحامل على الإخلال بالأصناف الذين تقدم أمر الله
بالإحسان إليهم.
وقوله تعالى: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل...) الآية: قالت فرقة:
" الذين " في موضع نصب بدل من " من " في قوله: (من كان مختالا)، ومعناه، على هذا:
يبخلون بأموالهم، ويأمرون الناس، يعنى: إخوانهم ومن هو مظنة طاعتهم، بالبخل بالأموال
أن تنفق في شئ من وجوه الإحسان إلى من ذكر، (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله)،
يعنى: من الرزق والمال، فالآية، إذن، في المؤمنين، أي: وأما الكافرون فأعد لهم عذابا
مهينا، وروي أن الآية نزلت في أحبار اليهود بالمدينة، إذ كتموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وبخلوا به،
والتوعد بالعذاب المهين لهم، و (أعتدنا): معناه يسرنا وأحضرنا، والعتيد: الحاضر،
والمهين: الذي يقترن به خزي وذل، وهو أنكى وأشد على المعذب.
(والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن
الشيطان له قرينا فساء قرينا (38) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله
وكان الله بهم عليما (39))
وقوله تعالى: (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس...) الآية: " الذين " في موضع
رفع، على القطع، والخبر محذوف، وتقديره، بعد " اليوم الآخر ": معذبون.
236

والصحيح الذي عليه الجمهور أن هذه الآية في المنافقين /، والقرين: فعيل بمعنى
فاعل من المقارنة، وهي الملازمة والاصطحاب، والإنسان كله يقارنه الشيطان لكن الموفق
عاص له.
وقوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر...) الآية: التقدير: وأي
شئ عليهم، لو آمنوا، وفي هذا الكلام تفجع ما عليهم، واستدعاء جميل يقتضي حيطة
وإشفاقا، (وكان الله بهم عليما): إخبار يتضمن وعيدا، وينبه على سوء تواطئهم، أي: لا
ينفعهم كتم مع علم الله بهم.
(إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40))
وقوله تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة...) الآية: مثقال: مفعال من الثقل،
والذرة: الصغيرة الحمراء من النمل، وروي عن ابن عباس، أنه قال: الذرة: رأس
النملة، وقرأ ابن عباس: " مثقال نملة "، قال قتادة عن نفسه، ورواه عن بعض العلماء:
لان تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إلي من الدنيا جميعا.
وقوله سبحانه: (وإن تك حسنة): التقدير: وإن تك زنة الذرة، وفي " صحيح
مسلم " وغيره، من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثم يضرب الجسر على جهنم،
وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم، سلم سلم "، وفيه: " فيمر المؤمنون كطرف العين،
وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناج مسلم، ومخدوش
مرسل، ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده،
ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم
الذين في النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم:
أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا، قد أخذت النار إلى
نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، ثم يقولون: ربنا، ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول:
ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم
237

يقولون: ربنا، لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه
مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر
فيها أحدا ممن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير،
فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون: ربنا، لم نذر فيها خيرا "، وكان أبو سعيد
الخدري يقول: إن لم تصدقوني في هذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: (إن الله لا يظلم
مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما)، فيقول الله عز وجل:
" شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض
قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط... " الحديث. انتهى.
ولفظ البخاري: " فما أنتم بأشد لي مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ
للجبار، إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم... " الحديث.
وقرأ نافع وابن كثير: " حسنة " (بالرفع)، على تمام " كان "، التقدير: وإن توجد
حسنة، ويضاعفها: جواب الشرط، وقرأ ابن كثير: " يضعفها "، وهو بناء تكثير يقتضي
أكثر من مرتين إلى أقصى ما تريد من العدد، قال بعض المتأولين: هذه الآية خص بها
المهاجرون، لأن الله تعالى أعلم في كتابه، أن الحسنة لكل مؤمن مضاعفة عشر مرار،
وأعلم في هذه الآية أنها مضاعفة مرارا كثيرة، حسبما روى أبو هريرة من أنها تضاعف ألفي
ألف مرة، وروى غيره: ألف ألف مرة، وقال بعضهم: بل وعد بذلك جميع
المؤمنين.
قال * ع *: والآية تعم المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون، فيجازون في الآخرة
على مثاقيل الذر، فما زاد، وأما الكافرون، فما يفعلونه من خير، فإنه تقع عليه المكافأة بنعم
238

الدنيا /، ويأتون يوم القيامة، ولا حسنة لهم، قلت: وقد ذكرنا في هذا المختصر من أحاديث
الرجاء، وأحاديث الشفاعة جملة صالحة لا توجد مجتمعة في غيره على نحو ما هي فيه،
عسى الله أن ينفع به الناظر فيه، ومن أعظم أحاديث الرجاء ما ذكره عياض في " الشفا " قال:
ومن حديث أنس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لأشفعن يوم القيامة لأكثر مما في الأرض من
شجر وحجر ". انتهى.
وهذا الحديث أخرجه النسائي، ولفظه: " إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على
الأرض من شجر وحجر... " الحديث. انتهى من " الكوكب الدري ".
و (من لدنه): معناه: من عنده، والأجر العظيم: الجنة، قاله ابن مسعود وغيره،
وإذا من الله سبحانه بتفضله على عبده، بلغ الغاية، اللهم من علينا بخير الدارين بفضلك.
(فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود
الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا (42))
وقوله جلت قدرته: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء
شهيدا...) الآية: لما تقدم في التي قبلها الإعلام بتحقيق الأحكام يوم القيامة، حسن بعد
ذلك التنبيه على الحالة التي يحضر ذلك فيها، ويجاء فيها بالشهداء على الأمم، ومعنى
الآية: أن الله سبحانه يأتي بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ومعنى الأمة،
في هذه الآية: جميع من بعث إليه، من آمن منهم، ومن كفر، وكذلك قال المتأولون: إن
الإشارة ب‍ " هؤلاء " إلى كفار قريش وغيرهم، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه
الآية، فاضت عيناه، وكذلك ذرفت عيناه - عليه السلام - حين قرأها عليه ابن مسعود،
حسبما هو مذكور في الحديث الصحيح، وفي " صحيح البخاري "، عن عقبة بن عامر، قال:
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد صلاته على الميت بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء
والأموات ثم طلع المنبر، فقال: إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم
الحوض وإني لأنظر إليه من مقامي هذا، وإني لست أخشى عليكم أن تشكروا، ولكني
أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها، قال: فكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
239

وقوله تعالى: (لو تسوى) قالت فرقة معناه: تنشق الأرض، فيحصلون فيها، ثم
تتسوى هي في نفسها عليهم وبهم، وقالت فرقة: معناه لو تستوي هي معهم في أن يكونوا
ترابا كالبهائم.
وقوله تعالى: (ولا يكتمون الله حديثا): معناه، عند طائفة: أن الكفار، لما يرونه
من الهول وشدة المخاوف، يودون لو تسوى بهم الأرض، فلا ينالهم ذلك الخوف، ثم
استأنف الكلام، فأخبر أنهم لا يكتمون الله حديثا، لنطق جوارحهم بذلك كله، حين يقول
بعضهم (والله ربنا ما كنا مشركين) [الأنعام: 23] فيقول الله سبحانه: " كذبتم " ثم تنطق
جوارحهم، فلا تكتم حديثا، وهذا قول ابن عباس.
وقالت طائفة: الكلام كله متصل و ودهم ألا يكتموا الله حديثا إنما هو ندم على
كذبهم حين قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين) [الأنعام: 23] والرسول في هذه الآية الجنس،
شرف بالذكر، وهو مفرد دل على الجمع.
(يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري
سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان غفورا غفورا (43))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما
تقولون...) الآية: نزلت قبل تحريم الخمر، وجمهور المفسرين على أن المراد سكر
الخمر إلا الضحاك، فإنه قال: المراد سكر النوم، وهذا قول ضعيف، والمراد ب‍ " الصلاة "
هنا / الصلاة المعروفة.
وقالت طائفة: الصلاة هنا المراد بها موضع الصلاة، والصلاة معا.
240

قال ابن العربي في " الأحكام ": وروي في سبب نزول هذه الآية عن علي (رضي
الله عنه)، أنه قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما، فدعانا، وسقانا من الخمر
- يعني: وذلك قبل تحريمها - قال: فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة، فقدموني،
فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، قال: فأنزل الله
تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون...)
الآية: خرجه الترمذي وصححه. انتهى.
وقوله: (ولا جنبا إلا عابري سبيل)، قال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
وغيره: عابر السبيل: المسافر.
وقال ابن مسعود وغيره: عابر السبيل هنا: الخاطر في المسجد، وعابر سبيل هو من
العبور، أي: الخطور والجواز، والمريض المذكور في الآية هو الحضري، وأصل الغائط
ما انخفض من الأرض، ثم كثر استعماله في قضاء الحاجة.
واللمس في اللغة لفظ يقع للمس الذي هو الجماع، وللمس الذي هو جس اليد
والقبلة ونحوه، واختلف في موقعها هنا، فمالك (رحمه الله) يقول: اللفظة هنا تقتضي
الوجهين، فالملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم، ومعنى قوله سبحانه:
(فتيمموا): اقصدوا، والصعيد، في اللغة: وجه الأرض، قاله الخليل وغيره، واختلف
241

الفقهاء فيه من أجل تقييد الآية إياه بالطيب.
فقالت طائفة: يتيمم بوجه الأرض، ترابا كان أو رملا أو حجارة أو معدنا أو سبخة،
وجعلت الطيب بمعنى الطاهر، وهذا هو مذهب مالك، وقالت طائفة منهم: الطيب
242

بمعنى المنبت، كما قال تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه) [الأعراف: 58]،
فالصعيد عندهم هو التراب، وهذه الطائفة لا تجيز التيمم بغيره، فمكان الإجماع أن يتيمم
في تراب منبت طاهر غير منقول، ولا مغصوب، وترتيب القرآن الوجه قبل اليدين، وبه قال
الجمهور، وفي " المدونة "، أن التيمم ضربتان، وجمهور العلماء أنه ينتهي في مسح
اليدين إلى المرافق.
243

(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله
أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه
ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الذين ولو أنهم قالوا سمعنا
وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46))
وقوله سبحانه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة...)
الآية: (ألم تر): من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، والمراد ب " الذين ": اليهود، قاله
قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن
زيد بن التابوت اليهودي، والكتاب: التوراة والإنجيل، و (يشترون): عبارة عن
إيثارهم الكفر، وتركهم الإيمان، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على
إقامة شرعهم، فهو شراء حقيقة، (ويريدون أن تضلوا السبيل) معناه: أن تكفروا.
وقوله سبحانه: (والله أعلم بأعدائكم) خبر في ضمنه التحذير منهم، (وكفى بالله
وليا)، أي: اكتفوا بالله وليا.
وقوله سبحانه: (من الذين هادوا) قال بعض المتأولين: " من " راجعة على " الذين "
الأولى، وقالت فرقة: " من " متعلقة ب‍ " نصيرا "، والمعنى: ينصركم من الذين هادوا، فعلى
هذين التأويلين لا يوقف في قوله: " نصيرا "، وقالت فرقة: هي ابتداء كلام، وفيه إضمار،
تقديره: قوم يحرفون، وهذا مذهب أبي علي، وعلى هذا التأويل يوقف في " نصيرا "، وقول
سيبويه أصوب /، لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، وتحريفهم
للكلام على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد
فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة، على قول الجمهور،
وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فالتحريف على هذا في
التأويل.
وقوله تعالى عنهم: (سمعنا وعصينا) عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه،
و (غير مسمع): يتخرج فيه معنيان:
244

أحدهما: غير مأمور وغير صاغر، كأنهم قالوا: غير أن تسمع مأمورا بذلك.
والآخر: على جهة الدعاء، أي: لا سمعت، كما تقول: امض غير مصيب، ونحو
ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي صلى الله عليه وسلم ب‍ (غير مسمع)، أرادت في الباطن الدعاء
عليه، وأرت ظاهرا، أنها تريد تعظيمه، قال ابن عباس وغيره نحوه، وكذلك كانوا
يريدون منه في أنفسهم معنى الرعونة، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه
معنى المراعاة، فهذا معنى لي اللسان، وقال الحسن ومجاهد: (غير مسمع)، أي: غير
مقبول منك، و (ليا): أصله " لويا "، و (طعنا في الدين): أي: توهينا له وإظهارا
للاستخفاف به.
قال * ع *: وهذا اللي باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني
إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثله إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب.
وقوله تعالى: (ولو أنهم...) الآية: المعنى: ولو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا،
و (أقوم): معناه: أعدل وأصوب، و (قليلا): نعت إما لإيمان، وإما لنفر، أو قوم،
والمعنى مختلف.
(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها
فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) إن الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48) ألم تر إلى
الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله
الكذب وكفى به إثما مبينا (50))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم...)
الآية: هذا خطاب لليهود والنصارى، (ولما معكم): من شرع وملة، لا لما معهم من
مبدل، ومغير، والطامس: الداثر المغير الأعلام، قالت طائفة: طمس الوجوه هنا هو خلو
الحواس منها، وزوال الخلقة، وقال ابن عباس وغيره: طمس الوجوه: أن تزال العينان
245

خاصة منها، وترد العينان في القفا، فيكون ذلك ردا على الأدبار، ويمشي القهقري،
وقال مالك (رحمه الله): كان أول إسلام كعب الأحبار، أنه مر برجل من الليل، وهو يقرأ
هذه الآية: (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا...) الآية، فوضع كفيه على وجهه، ورجع
القهقري إلى بيته، فأسلم مكانه، وقال: " والله، لقد خفت ألا أبلغ بيتي، حتى يطمس
وجهي "، وأصحاب السبت: هم الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما تقدم، قال
قتادة وغيره: وأمر الله في هذه الآية واحد الأمور دال على جنسها لا واحد الأوامر، فهي
عبارة عن المخلوقات، كالعذاب، واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...)
الآية: هذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام
فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف: كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار، بإجماع،
ومؤمن محسن لم يذنب قط، ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر
من الله تعالى، بإجماع، وتائب مات على توبته، فهو عند أهل السنة وجمهور / فقهاء الأمة
لاحق بالمؤمن المحسن، إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته،
فهذا هو موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه، ولا تضره سيئاته، وجعلوا
آيات الوعيد كلها في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيهم وعاصيهم، وقالت
المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة، فهو في النار، ولا بد، وقالت الخوارج: إذا كان
صاحب كبيرة، أو صغيرة، فهو في النار مخلد، ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب
كبائر، وجعلوا آيات الوعد كلها في المؤمن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وقال
أهل السنة: هو في المشيئة، وهذه الآية هي الحاكمة، وهي النص في موضع النزاع، وذلك
246

أن قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) فصل مجمع عليه، وقوله: (ويغفر ما دون
ذلك) فصل قاطع للمعتزلة، راد على قولهم ردا لا محيد لهم عنه، ولو وقفنا في هذا
الموضع من الكلام، لصح قول المرجئة، فجاء قوله: (لمن يشاء)، ردا عليهم مبينا أن
غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن،
ولما حتم سبحانه: (على أنه لا يغفر الشرك، ذكر قبح موقعه، وقدره في الذنوب، والفرية:
أشد مراتب الكذب قبحا، وهو الاختلاق.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء...) الآية:
لا خلاف بين المتأولين أن المراد بالآية اليهود، وإنما اختلفوا في المعنى الذي به زكوا
أنفسهم.
فقال الحسن، وقتادة: ذلك قولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه) [المائدة: 18]،
وقولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا) [البقرة: 111] إلى غير ذلك من غرورهم.
قال * ع *: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن
الزاكي المزكي من حسنت أفعاله، وزكاه الله عز وجل، قال ابن عباس وغيره: الفتيل:
الخيط الذي في شق نواة التمرة، وذلك راجع إلى الكناية عن تحقير الشئ وتصغيره،
وأن الله لا يظلمه، ولا شئ دونه في الصغر، فكيف بما فوقه.
وقوله تعالى: (انظر كيف يفترون على الله الكذب...) الآية: يبين أن تزكيتهم
247

أنفسهم كانت بالباطل، والكذب، ويقوى أن التزكية كانت بقولهم: (نحن أبناء الله
وأحباؤه) أن الافتراء أعظم في هذه المقالة، و (كيف) يصح أن تكون في موضع رفع
بالابتداء، والخبر في قوله (يفترون)، و (كفى به إثما مبينا) خبر في ضمنه تعجب
وتعجيب من أمرهم.
قال * ص *: (وكفى به) عائد على الافتراء، وقيل: على الكذب. انتهى.
(ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين
كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له
نصيرا (52))
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت...) الآية: أجمع المتأولون أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين
ذلك، ومجموع ما ذكره المفسرون في تفسير الجبت والطاغوت يقتضي أنه كل ما عبد
وأطيع من دون الله تعالى.
وقوله تعالى: (ويقولون للذين كفروا...) الآية: سببها أن قريشا قالت لكعب بن
الأشرف، حين ورد مكة: أنت سيدنا، وسيد قومك، إنا قوم ننحر الكوماء، ونقري
الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا التي وجدنا عليها آباءنا، وهذا
محمد قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه، وأقوم دينا،
فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس، فالضمير في " يقولون " / عائد على كعب، وعلى
الجماعة التي معه من اليهود المحرضين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم و " الذين كفروا " في هذه الآية
هم كفار قريش، والإشارة ب‍ " هؤلاء " إليهم والذين آمنوا هم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته، وقالت فرقة:
بل المراد حيي بن أخطب وأتباعه، وهم المقصود من أول الآيات.
قال * ص *: " للذين ": اللام للتبليغ متعلقة ب‍ " يقولون ". انتهى.
(أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم
الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به
ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا (55))
248

وقوله تعالى: (أم لهم نصيب من الملك...) الآية: عرف " أم " أن تعطف بعد
استفهام متقدم، كقولك: أقام زيد أم عمرو؟ فإذا وردت، ولم يتقدمها استفهام، كما هي
هنا، فمذهب سيبويه، أنها مضمنة معنى الإضراب عن الكلام الأول، والقطع منه، وهي
متضمنة مع ذلك معنى الاستفهام، فهي بمعنى " بل " مع همزة استفهام، كقول العرب: " إنها
لإبل أم شاء "، التقدير عند سيبويه: إنها لإبل بل أهي شاء؟ وكذلك هذا الموضع: بل ألهم
نصيب من الملك، فإذا عرفت هذا، فالمعنى على الأرجح الذي هو مذهب سيبويه
والحذاق: أن هذا استفهام على معنى الإنكار، أي: ألهم ملك، فإذن لو كان، لبخلوا به،
والنقير: هي النكتة التي في ظهر النواة من التمر، هذا قول الجمهور، وهذا كناية عن الغاية
في الحقارة والقلة، وتكتب " إذن " بالنون وبالألف، فالنون هو الأصل، ك‍ " عن "، و " من "،
وجاز كتبها بالألف، لصحة الوقوف عليها، فأشبهت نون التنوين، ولا يصح الوقوف على
عن ومن.
وقوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله...) الآية: " أم " هذه على
بابها من العطف بعد الاستفهام.
وقال * ص *: (أم يحسدون): " أم " أيضا منقطعة تتقدر ب‍ " بل " و " الهمزة ".
انتهى. قلت: والظاهر ما قاله * ع *.
واختلف في المراد ب‍ " الناس " هنا.
فقال ابن عباس وغيره: هو النبي صلى الله عليه وسلم، والفضل: النبوة فقط، والمعنى: فلم
يخصونه بالحسد، ولا يحسدون آل إبراهيم في جميع ما آتيناهم من هذا وغيره من الملك،
وقال قتادة: " الناس " هنا: العرب، حسدتها بنو إسرائيل في أن كان النبي صلى الله عليه وسلم منها،
والفضل على هذا التأويل هو محمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو عمر بن عبد البر: وقد ذم الله قوما
على حسدهم، فقال: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله)، ثم حدث
بسنده، عن عمرو بن ميمون، قال: لما رفع الله موسى نجيا، رأى رجلا متعلقا بالعرش،
فقال: يا رب، من هذا، فقال: هذا عبد من عبادي، صالح، إن شئت أخبرتك بعمله،
249

فقال: يا رب، أخبرني، فقال: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ثم حدث
أبو عمر بسنده، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الحسد يأكل الحسنات، كما
تأكل النار الحطب " وذكر عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أمية، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطيرة، والظن، والحسد! قيل: فما المخرج
منهن، يا رسول الله؟ قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا
تبغ " انتهى من " التمهيد ".
وقوله تعالى: (فمنهم من آمن به) اختلف في الضمير من " به ".
فقال الجمهور: هو عائد على القرآن الذي في قوله تعالى: (آمنوا بما نزلنا مصدقا
لما معكم من قبل أن نطمس وجوها) [النساء: 47]، فأعلم الله سبحانه أن منهم من آمن كما
أمر، فلذلك / ارتفع الوعيد بالطمس، ولم يقع، وصد قوم ثبت الوعيد عليهم في الآخرة،
بقوله سبحانه: (وكفى بجهنم سعيرا).
وقيل: هو عائد على إبراهيم - عليه السلام -.
وقيل: هو عائد على الفضل الذي آتاه الله النبي - عليه السلام -، والعرب على ما
تقدم.
(إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا
العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (56) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من
تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57))
250

وقوله تعالى: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا...) الآية: لما تقدم في
الآية وصف المردة من بني إسرائيل وذكر أفعالهم وذنوبهم، جاءت هذه الآية بالوعيد النص
لهم بلفظ جلي عام لهم ولغيرهم، ممن فعل فعلهم من الكفرة، واختلف في معنى تبديل
الجلود.
فقالت فرقة: تبدل عليهم جلود أغيار، إذ نفوسهم هي المعذبة، والجلود لا تألم في
ذاتها، وقالت فرقة: تبديل الجلود هو إعادة ذلك الجلد بعينه الذي كان في الدنيا، إنما
سماه تبديلا، لأن أوصافه تتغير، قال الحسن بن أبي الحسن: تبدل عليهم في اليوم سبعين
ألف مرة (عافانا الله من عذابه برحمته).
ولما ذكر سبحانه وعيد الكفار، عقب بوعد المؤمنين بالجنة على الإيمان والأعمال
الصالحة، و (ظليلا): معناه عند بعضهم: يقي الحر والبرد، ويصح أن يريد أنه ظل لا
يستحيل ولا يتنقل، وصح وصفه بظليل، لامتداده، فقد قال صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة
يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة ما يقطعها "، ورأيت لبعضهم ما نصه
وذكر الطبري في كتابه، قال: لما خلق الله عز وجل الجنة، قال لها: امتدي، فقالت: يا
رب، كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها: امتدي،
فقالت: يا رب: كم، وإلى كم؟ فقال لها امتدي مائة ألف سنة، فامتدت، ثم قال لها:
امتدي، فقالت: يا رب: كم، وإلى كم؟ فقال لها: امتدي مقدار رحمتي، فامتدت، فهي
تمتد أبد الآبدين، فليس للجنة طرف، كما أنه ليس لرحمة الله طرف. انتهى، فهذا لا يعلم
إلا من جهة السمع، فهو مما اطلع عليه الطبري، وهو إمام حافظ محدث ثقة، قاله
الخطيب أحمد بن علي بن ثابت.
(* إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن
الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (58))
وقوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...) الآية: قال ابن
251

جريج وغيره: الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن
طلحة، ومن ابن عمه شيبة، فطلبه العباس بن عبد المطلب، ليضيف السدانة إلى
السقاية، دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، وكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم،
ونزل عليه جبريل بهذه الآية، قال عمر بن الخطاب: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه
الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة، فقال لهما: خذاها خالدة تالدة، لا
ينزعها منكم إلا ظالم، ثم الآية بعد تتناول الولاة فيما لديهم من الأمانات في قسمة
الأموال، ورد الظلامات، وعدل الحكومات، وتتناول من دونهم من الناس، في حفظ
252

الودائع، والتحرز في الشهادات، وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاة
والزكاة والصيام وسائر العبادات أمانات لله تعالى، قال ابن العربي / في " أحكامه ": هذه
الآية في أداء الأمانة، والحكم بين الناس - عامة في الولاة والخلق، لأن كل مسلم عالم،
بل كل مسلم حاكم، ووال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المقسطون يوم القيامة على منابر من نور عن
يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وهم الذين يعدلون في أنفسهم وأهليهم وما ولوا "
وقال صلى الله عليه وسلم: " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته، وهو مسؤول
عنهم، والعبد راع في مال سيده، وهو مسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن
رعيته "، فهذه الأحاديث الصحيحة تدل على ما قلناه. انتهى.
253

و (نعما): أصله: " نعم ما "، سكنت الميم الأولى، وأدغمت في الثانية، وحركت
العين، لالتقاء الساكنين، وخصت بالكسر، اتباعا للنون، و " ما " المردوفة على " نعم " إنما
هي مهيئة لاتصال الفعل بها، ومع أنها موطئة، فهي بمعنى " الذي ".
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...) الآية: لما تقدم
إلى الولاة في الآية المتقدمة، تقدم في هذه إلى الرعية، فأمر بطاعته عز وجل، وهي امتثال
أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله، وطاعة الأمراء، على قول الجمهور، وهو قول ابن عباس
وغيره، فالأمر على هذا التأويل هو ضد النهي، ومنه لفظة " الأمير "، وقال جابر
وجماعة: " أولوا الأمر ": أهل القرآن والعلم.
قال عطاء: طاعة الرسول هي اتباع سنته، يعني: بعد موته، ولفظ ابن العربي في
" أحكامه " قال: قوله تعالى: (وأولي الأمر منكم) فيها قولان:
254

الأول: قال ميمون بن مهران: هم أصحاب السرايا، وروى في ذلك حديثا، وهو
اختيار البخاري، وروي عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن حذافة، إذ بعثه
النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
والثاني: هم العلماء، وبه قال أكثر التابعين، واختاره مالك والطبري.
والصحيح عندي: أنهم الأمراء والعلماء، أم الأمراء، فلأن الأمر منهم، والحكم
إليهم، وأما العلماء، فلأن سؤالهم متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم
واجب، ويدخل فيه تأمر الزوج على الزوجة، لأنه حاكم عليها. انتهى.
وقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ...) الآية: معنى التنازع أن كل واحد ينتزع
حجة الآخر ويذهبها، والرد إلى الله هو النظر في كتابه العزيز، والرد إلى الرسول هو
سؤاله صلى الله عليه وسلم في حياته، والنظر في سنته بعد وفاته، هذا قول مجاهد وغيره، وهو
الصحيح.
وقوله سبحانه: (إن كنتم تؤمنون بالله...) الآية: فيه بعض وعيد، و (تأويلا):
معناه: مآلا، في قول جماعة، وقال قتادة وغيره: المعنى: أحسن عاقبة، وقالت فرقة:
المعنى أن الله ورسوله أحسن نظرا وتأولا منكم، إذا انفردتم بتأولكم.
(ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60))
255

وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا
(61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا
إحسانا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل
لهم في أنفسهم قولا بليغا (63))
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك...) الآية: تقول
العرب: زعم فلان كذا، في الأمر الذي يضعف فيه التحقيق، وغاية درجة الزعم إذا قوي:
أن يكون مظنونا، وإذا قال سيبويه: زعم الخليل، فإنما يستعملها فيما انفرد الخليل به،
وكأن أقوى رتب " زعم " أن تبقى معها عهدة الخبر على المخبر.
قال عامر الشعبي: / نزلت الآية في منافق اسمه بشر، خاصم رجلا من اليهود، فدعاه
اليهودي إلى المسلمين، لعلمه أنهم لا يرتشون، وكان المنافق يدعو اليهودي إلى اليهود،
لعلمه أنهم يرتشون، فاتفقا بعد ذلك على أن أتيا كاهنا كان بالمدينة، فرضياه، فنزلت هذه
الآية فيهما، وفي صنفيهما، فالذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل على محمد - عليه
السلام - هم المنافقون، والذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبله هم اليهود، وكل قد
أمر في كتابه بالكفر بالطاغوت، والطاغوت هنا الكاهن المذكور، فهذا تأنيب للصنفين.
وقال ابن عباس: الطاغوت هنا هو كعب بن الأشرف، وهو الذي تراضيا به،
وقيل غير هذا.
وقوله: (رأيت)، هي رؤية عين لمن صد من المنافقين مجاهرة وتصريحا، وهي
رؤية قلب لمن صد منهم مكرا وتخابثا ومسارقة حتى لا يعلم ذلك منه إلا بالقرائن الصادرة
عنه.
وقوله تعالى: (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم)، قالت فرقة: هي في
المنافقين الذين احتكموا، حسبما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب
بنقمة منه، ثم حلفوا، إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه.
256

وقوله تعالى: (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم): تكذيب لهم وتوعد، أي:
فهو سبحانه مجازيهم، فأعرض عنهم، وعظهم بالتخويف من عذاب الله وغيره من
المواعظ.
وقوله سبحانه: (وقل لهم في أنفسهم).
قال * ص *: أي: قل لهم خاليا بهم، لأن النصح، إذا كان في السر، كان أنجح،
أو: قل لهم في حال أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا يبلغ منهم الزجر عن العود
إلى ما فعلوا. انتهى.
واختلف في " القول البليغ "، فقيل: هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول،
وقيل: هو التوعد بالقتل، إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في
نفوسهم، والبلاغة مأخوذة من بلوغ المراد بالقول.
(وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك
فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64))
وقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله): تنبيه على جلالة الرسل،
أي: فأنت يا محمد، منهم تجب طاعتك، وتتعين إجابة الدعوة إليك، و (بإذن الله):
معناه: بأمر الله، و (ظلموا أنفسهم) أي: بالمعصية، والنفاق، وعن العتبي، قال: كنت
جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي، فقال: السلام عليك، يا رسول الله، سمعت الله
تعالى يقول: (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيما)، وقد جئتك مستعفيا من ذنوبي، مستغفرا إلى ربي، ثم أنشأ
يقول: [البسيط].
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف، وفيه الجود والكرم
قال: ثم انصرف، فحملتني عيناي، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: " يا عتبي:
الحق الأعرابي، فبشره أن الله تعالى قد غفر له ". انتهى من " حلية النووي "، و " سنن
الصالحين "، للباجي، وفيه: مستغفرا من ذنوبي، مستشفعا بك إلى ربي.
257

(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (65) ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من
دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا
لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68))
وقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم...) الآية:
قال الطبري: قوله: " فلا ": رد على ما تقدم، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون / أنهم
آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم، وقال غيره: إنما قدم " لا " على القسم، اهتماما
بالنهي، وإظهارا لقوته، قال ابن عطاء الله في " التنوير ": وفي قوله سبحانه: (فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم): دلالة على أن الإيمان الحقيقي لا يحصل إلا لمن
حكم الله ورسوله على نفسه، قولا وفعلا، وأخذا وتركا، وحبا وبغضا، فتبين لك من هذا
أنه لا تحصل لك حقيقة الإيمان بالله إلا بأمرين: الامتثال لأمره والاستسلام لقهره
سبحانه. انتهى.
و (شجر): معناه اختلط والتف من أمورهم، وهو من الشجر، شبه بالتفاف
الأغصان، والحرج: الضيق والتكلف والمشقة، قال مجاهد: حرجا: شكا.
وقوله: (تسليما). مصدر مؤكد منبئ عن التحقيق في التسليم، لأن العرب إنما
تردف الفعل بالمصدر، إذا أرادت أن الفعل وقع حقيقة، كما قال تعالى: (وكلم الله موسى
تكليما) [النساء: 164] قال مجاهد وغيره: المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم
إلى الطاغوت، وفيهم نزلت، ورجح الطبري هذا، لأنه أشبه بنسق الآية، وقالت
طائفة: نزلت في رجل خاصم الزبير بن العوام في السقي بماء الحرة، كما هو مذكور في
البخاري وغيره، وأن الزبير قال: فما أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك.
و (كتبنا): معناه: فرضنا، (أن اقتلوا أنفسكم): معناه: يقتل بعضكم بعضا، وقد
258

تقدم نظيره في " البقرة "، وسبب الآية، على ما حكي: أن اليهود قالوا، لما لم يرض
المنافق بحكم النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا أسخف من هؤلاء يؤمنون بمحمد، ثم لا يرضون
بحكمه، ونحن قد أمرنا بقتل أنفسنا، ففعلنا، وبلغ القتل فينا سبعين ألفا، فقال ثابت بن
قيس: لو كتب ذلك علينا، لفعلناه، فنزلت الآية معلمة بحال أولئك المنافقين، وأنه لو كتب
ذلك على الأمة، لم يفعلوه، وما كان يفعله إلا قليل مؤمنون محققون، كثابت، قلت: وفي
" العتبية "، عن مالك، عن أبي بكر (رضي الله عنه) نحو مقالة ثابت بن قيس، قال ابن
رشد: ولا شك أن أبا بكر من القليل الذي استثنى الله تعالى في الآية، فلا أحد أحق بهذه
الصفة منه. انتهى.
قال * ص *: (إلا قليل): الجمهور بالرفع، على البدل من واو " فعلوه "، عند
البصريين. انتهى.
(ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به): لو أن هؤلاء المنافقين اتعظوا وأنابوا، لكان خيرا
لهم و (تثبيتا)، معناه: يقينا وتصديقا، ونحو هذا، أي: يثبتهم الله.
ثم ذكر تعالى ما كان يمن به عليهم من تفضله بالأجر، ووصفه إياه بالعظيم مقتض
ما لا يحصيه بشر من النعيم المقيم، والصراط المستقيم: الإيمان المؤدي إلى الجنة،
والمقصود تعديد ما كان ينعم به عليهم سبحانه.
(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70))
وقوله (جلت عظمته): (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم...) الآية: لما ذكر الله سبحانه الأمر الذي لو فعلوه، لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك
ثواب من يفعله، وهذه الآية تفسر قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين
أنعمت عليهم)، وقالت طائفة: إنما نزلت هذه الآية لما قال عبد الله بن زيد الأنصاري
259

- الذي أري الأذان -: يا رسول الله، إذا مت، ومتنا، كنت في عليين، فلا نراك، ولا
نجتمع بك، وذكر حزنه على ذلك، فنزلت هذه الآية.
قال * ع *: ومعنى أنهم معهم: في دار واحدة، ومتنعم واحد، وكل من فيها قد
رزق الرضا بحاله، وذهب عنه أن يعتقد أنه / مفضول، وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة
أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من يشاء،
والصديق: فعيل من الصدق، وقيل: من الصدقة، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " الصديقون
المتصدقون ". ولفظ الشهداء في هذه الآية: يعم أنواع الشهداء.
قال * ص *: (وحسن أولئك رفيقا) فيه معنى التعجب، كأنه قال: وما أحسن
أولئك رفيقا، وقد قدمنا في كلام ابن الحاج ما يدل على أن التعجب لازم ل‍ " فعل "
المستعمل للمدح والذم، على كل حال، سواء استعملت استعمال نعم أو لا. انتهى.
وقوله تعالى: (ذلك الفضل من الله): الإشارة ب‍ " ذلك " إلى كون المطيعين مع
المنعم عليهم.
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن
ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل
من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم...) الآية: هذا خطاب للمخلصين
من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار، والخروج في سبيل الله، وحماية
الإسلام، و (خذوا حذركم) أي: احزموا به واستعدوا بأنواع الاستعداد، و (انفروا):
معناه: اخرجوا، و (ثبات): معناه جماعات متفرقات، وهي السرايا، والثبة: حكي أنها
فوق العشرة، و (جميعا): معناه: الجيش الكثير مع النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا قال ابن عباس
وغيره.
وقوله تعالى: (وإن منكم) إيجاب، والخطاب لجماعة المؤمنين، هذا والمراد ب‍ " من ":
260

المنافقون، وعبر عنهم ب‍ (منكم) إذ هم في الظاهر في عداد المؤمنين، واللام الداخلة على
" من ": لام التأكيد، والداخلة على: " يبطئن ": لام القسم، عند الجمهور، وتقديره: وإن
منكم لمن، والله، ليبطئن، ويبطئن: معناه: يبطئ غيره، أي: يثبطه، ويحمله على
التخلف عن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، و (مصيبة) يعني: من قتال، واستشهاد، وإنما هي
مصيبة بحسب اعتقاد المنافقين ونظرهم الفاسد، وإنما الشهادة في الحقيقة نعمة من الله
سبحانه، لحسن مآلها و (شهيدا): معناه: مشاهدا.
وقوله تعالى: (ولئن أصابكم فضل من الله)، أي: ظفرتم وغنمتم، ندم المنافق،
وقال: (يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما) متمنيا شيئا قد كان عاهد أن يفعله، ثم غدر
في عهده.
وقوله تعالى: (كأن لم يكن بينكم وبينه مودة): التفاتة بليغة، واعتراض بين القائل
والمقول بلفظ يظهر زيادة في قبح فعلهم، وقال الزجاج: قوله: " كأن لم يكن بينكم وبينه
مودة " مؤخر، وإنما موضعه: " فإن أصابكم مصيبة ".
قال * ع *: وهذا ضعيف، لأنه يفسد فصاحة الكلام.
قال * ص *: وقوله: (فأفوز) بالنصب: هو جواب التمني. انتهى.
(* فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في
سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74) وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين
من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك
وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل
الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا (76))
وقوله تعالى: (فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة...) الآية:
هذا أمر من الله سبحانه للمؤمنين بالجهاد، ويشرون هنا: معناه: يبيعون، ثم وصف سبحانه
ثواب المقاتلين، والأجر العظيم: الجنة.
وقوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله...) الآية: " ما ": استفهام،
(والمستضعفين): عطف على اسم الله عز وجل، أي: وفي سبيل المستضعفين،
261

لاستنقاذهم، ويعني ب‍ " المستضعفين ": من كان بمكة تحت إذلال كفرة قريش، وفيهم
كان صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين "، (والولدان): عبارة عن
الصبيان، و (القرية) هنا: مكة بإجماع، والآية تتناول / المؤمنين والأسرى في حواضر
الشرك إلى يوم القيامة.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قال علماؤنا (رحمهم الله): أوجب الله تعالى في
هذه الآية القتال، لاستنقاذ الأسرى من يد العدو، وقد روى الأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني ". يعني: الأسير، قال مالك (رحمه
الله): على الناس أن يفكوا الأسرى بجميع أموالهم، وكذلك قالوا: عليهم أن يواسوهم.
انتهى.
وقوله تعالى: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله...) الآية: هذه الآية تقتضي تقوية
قلوب المؤمنين وتحريضهم، وقرينة ذكر الشيطان بعد تدل على أن المراد بالطاغوت هنا
الشيطان، وإعلامه تعالى بضعف كيد الشيطان فيه تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على
مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده.
(ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا
فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى
أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن أتقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم
الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا
262

هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا (78))
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة..) الآية:
اختلف المتأولون، فيمن المراد بقوله: (الذين قيل لهم).
فقال ابن عباس وغيره: كان جماعة من المؤمنين قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة،
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين، فأمرهم عن الله تعالى بكف الأيدي،
فلما كتب عليهم القتال بالمدينة، شق ذلك على بعضهم، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور
والكع عن مقارعة العدو، فنزلت الآية فيهم.
وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: إنما الآية حكاية عن حال اليهود، أنهم فعلوا ذلك
مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله.
وقيل: المراد المنافقون.
و " أو ": تقدم شرحها في " سورة البقرة "، في قوله تعالى: (أو أشد قسوة)
[البقرة: 74]، لأن الموضعين سواء.
وقولهم: (لم كتبت علينا القتال): رد في صدر أوامر الله سبحانه، (وقلة استسلام
له، والأجل القريب: يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال * ع *: وهذا يحسن، إذا كانت الآية في اليهود أو في المنافقين، وأما إذا
كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام، وكثرة عددهم،
ويحسن القول بأنها في المنافقين اطراد ذكرهم فيما يأتي بعد من الآيات.
وقوله سبحانه: (قل متاع الدنيا قليل...) الآية: المعنى: قل، يا محمد، لهؤلاء:
متاع الدنيا، أي: الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه قليل، وباقي الآية بين.
وهذا إخبار منه سبحانه يتضمن تحقير الدنيا، قلت: ولما علم الله في الدنيا من
الآفات، حمى منها أولياءه، ففي الترمذي عن قتادة بن النعمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:
263

" إذا أحب الله عبدا، حماه الدنيا، كما يظل أحدكم يحمى سقيمه الماء "، قال أبو
عيسى: وفي الباب عن صهيب، وأم المنذر، وهذا حديث حسن، وفي الترمذي عن ابن
مسعود قال: " نام النبي صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو
اتخذنا لك فراشا؟! فقال: مالي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت
شجرة، ثم راح وتركها "، وفي الباب عن ابن عمر، وابن عباس، قال أبو عيسى: هذا
حديث / حسن صحيح. انتهى.
وقوله سبحانه: (في بروج) الأكثر والأصح الذي عليه الجمهور: أنه أراد
ب‍ " البروج ": الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصن والمنعة، فمثل
الله لهم بها، قال قتادة: المعنى: في قصور محصنة، وقاله ابن جريج والجمهور،
وبرج: معناه: ظهر، ومنه تبرج المرأة، و (مشيدة): قال الزجاج وغيره: معناه:
مرفوعة مطولة، ومنه أشاد الرجل ذكر الرجل، إذا رفعه، وقالت طائفة: (مشيدة): معناه:
محسنة بالشيد، وهو الجص، وروى النسائي عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أكثروا
ذكر هاذم اللذات "، يعنى: الموت، وخرجه ابن ماجة والترمذي، وخرجه أبو نعيم
264

الحافظ بإسناده من حديث مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، عن
عمر بن الخطاب، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، وروى ابن ماجة بسنده، عن ابن عمر، أنه قال:
كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من الأنصار، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول
الله، أي المؤمنين أفضل؟ قال: أحسنهم خلقا، قال: فأي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم
للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا أولئك الأكياس "، وأخرجه مالك أيضا. انتهى
من " التذكرة ".
وقوله تعالى: (وإن تصبهم حسنة...) الآية: الضمير في (تصبهم) عائد على
(الذين قيل لهم كفوا أيديكم)، وهذا يدل على أنهم المنافقون، لأن المؤمنين لا تليق بهم
هذه المقالة، ولأن اليهود لم يكونوا للنبي صلى الله عليه وسلم تحت أمر، فتصيبهم بسببه أسواء، والمعنى:
إن تصب هؤلاء المنافقين حسنة من غنيمة أو غير ذلك، رأوا أن ذلك بالاتفاق من صنع
الله، لا ببركة اتباعك والإيمان بك، (وإن تصبهم سيئة) أي: هزيمة، أو شدة جوع، أو
غير ذلك، قالوا: هذه بسببك.
وقوله: (قل كل من عند الله): إعلام من الله سبحانه، أن الخير والشر، والحسنة
والسيئة خلق له، ومن عنده، لا رب غيره، ولا خالق ولا مخترع سواه، والمعنى: قل، يا
محمد، لهؤلاء.
265

ثم وبخهم سبحانه بالاستفهام عن علة جهلهم، وقلة فهمهم، وتحصيلهم لما يخبرون
به من الحقائق، والفقه في اللغة: الفهم، وفي الشرع: الفهم في أمور الدين، ثم غلب عليه
الاستعمال في علم المسائل الأحكامية.
(ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله
شهيدا (79) من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) ويقولون
طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فاعرض عنهم
وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81))
وقوله تعالى: (ما أصابك من حسنة فمن الله...) الآية: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وغيره
داخل في المعنى، ومعنى الآية، عند ابن عباس وغيره: على القطع، واستيناف الأخبار من
الله عز وجل، بأن الحسنة منه، ومن فضله، وبأن السيئة من الإنسان، بإذنابه، وهي من
266

الله تعالى بخلقه واختراعه، لا خالق سواه سبحانه، لا شريك له، وفي مصحف ابن
مسعود: " فمن نفسك، وأنا قضيتها عليك "، وقرأ بها ابن عباس، وفي رواية: " وأنا
قدرتها عليك "، ويعضد هذا التأويل أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم معناها: أن ما يصيب ابن آدم من
المصائب، فإنما هو عقوبة ذنوبه، قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداوودي: قوله تعالى:
(وما أصابك من سيئة فمن نفسك): خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره. انتهى.
وفي قوله سبحانه: / (وأرسلناك للناس رسولا)، ثم تلاه بقوله: (وكفى بالله
شهيدا): توعد للكفار، وتهديد تقتضيه قوة الكلام، لأن المعنى: شهيدا على من كذبه.
وقوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله)، فالمعنى: أن الرسول - عليه
السلام - إنما يأمر وينهي، بيانا وتبليغا عن الله، و (تولى): معناه: أعرض،
و (حفيظا): يحتمل معنيين: أي: لتحفظهم حتى لا يقعوا في الكفر والمعاصي ونحوه،
أو لتحفظ مساويهم وتحسبها عليهم، وهذه الآية تقتضي الإعراض عمن تولى، والترك
له، وهي قبل نزول القتال، وإنما كانت توطئة ورفقا من الله عز وجل، حتى يستحكم أمر
الإسلام.
وقوله تعالى: (ويقولون طاعة...) الآية: نزلت في المنافقين باتفاق المفسرين،
المعنى: يقولون لك، يا محمد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك، اجتمعوا ليلا، وقالوا
غير ما أظهروا لك، و (بيت): معناه: فعل ليلا، وهو مأخوذ من بات أو من البيت، لأنه
ملتزم بالليل.
وقوله: (تقول): يحتمل أن يكون معناه: تقول أنت، ويحتمل تقول هي لك،
والأمر بالإعراض إنما هو عند معاقبتهم ومجازاتهم، وأما استمرار عظتهم ودعوتهم،
فلازم، ثم أمر سبحانه بالتوكل عليه، والتمسك بعروته الوثقى، ثقة بإنجاز وعده في النصر،
267

والوكيل: القائم بالأمور المصلح لما يخاف من فسادها.
(أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) وإذا
جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه
الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83) فقاتل في
سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد
بأسا وأشد تنكيلا (84))
وقوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن...) الآية: المعنى: أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون
كلام الله تعالى، فتظهر لهم براهينه، وتلوح لهم أدلته، قلت: اعلم (رحمك الله تعالى)،
أن تدبر القرآن كفيل لصاحبه بكل خير، وأما الهذرمة والعجلة، فتأثيرها في القلب
ضعيف، قال النووي (رحمه الله): وقد كره جماعة من المتقدمين الختم في يوم وليلة،
ويدل عليه ما رويناه بالأسانيد الصحيحة في سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي وغيرها،
عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يفقه من قرأ القرآن في
أقل من ثلاث ". انتهى.
قال * ع *: والتدبر هو النظر في أعقاب الأمور وتأويلات الأشياء، هذا كله
يقتضيه قوله سبحانه: (أفلا يتدبرون القرآن)، وهذا أمر بالنظر والاستدلال، ثم عرف
تعالى بموقع الحجة، أي: لو كان من كلام البشر، لدخله ما في البشر من القصور، وظهر
فيه التناقض والتنافي الذي لا يمكن جمعه، إذ ذلك موجود في كلام البشر، والقرآن منزه
عنه، إذ هو كلام المحيط بكل شئ سبحانه.
قال * ع *: فإن عرضت لأحد شبهة، وظن اختلافا في شئ من كتاب الله،
فالواجب أن يتهم نظره ويسأل من هو أعلم منه.
وقوله تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف...) الآية: قال جمهور
المفسرين: إن الآية في المنافقين حسبما تقدم، والمعنى: أن المنافقين كانوا يتشوفون إلى
268

سماع ما يسيء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فتح عليهم، حقروها
وصغروا شأنها، وأذاعوا ذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف للمسلمين أو
مصيبة، عظموها، وأذاعوا ذلك، و (أذاعوا به): معناه: أفشوه، وهو فعل يتعدى بحرف
الجر وبنفسه أحيانا.
وقالت فرقة: الآية نزلت في المنافقين، وفيمن ضعف جلده، وقلت تجربته من
المؤمنين، / وفي الصحيح من حديث عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، أنه جاء، وقوم
في المسجد، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ثم قال: فقلت: يا رسول الله، أطلقت
نساءك؟ فقال: لا، قال عمر: فقمت على باب المسجد، فقلت: ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يطلق نساءه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف...) الآية، قال: وأنا الذي استنبطته.
وقوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول...) الآية: المعنى: لو أمسكوا عن الخوض
واستقصوا الأمر من قبل الرسول، وأولي الأمر، وهم الأمراء والعلماء، لعلمه طلابه من
أولي الأمر، والبحثة عنه، وهم مستنبطوه، كما يستنبط الماء، وهو استخراجه من الأرض.
وقوله سبحانه: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته...) الآية: خطاب لجميع
المؤمنين، باتفاق من المتأولين، وقوله: (إلا قليلا) هو مستثنى في قول جماعة من قوله:
(لا تبعتم الشيطان إلا قليلا)، وقال ابن عباس، وابن زيد: ذلك مستثنى من قوله: " أذاعوا
به إلا قليلا "، ورجحه الطبري، وقال قتادة: هو مستثنى من قوله: " يستنبطونه إلا
قليلا ".
* ت *: قال الداوودي: قال أبو عبيدة: وإنما كره العلماء أن يجعلوا الاستثناء من
269

قوله: (لاتبعتم الشيطان إلا قليلا)، لأنه لا وجه له، فإنه لولا فضل الله ورحمته، لاتبعوا
الشيطان كلهم. انتهى، وهو حسن، وأما قوله: " لا وجه له "، ففيه نظر، فقد وجهه العلماء
بما لا نطيل بذكره.
وقوله تعالى: (فقاتل في سبيل الله...) الآية: هذا أمر في ظاهر اللفظ للنبي صلى الله عليه وسلم
وحده، لكن لم نجد قط في خبر، أن القتال فرض على النبي صلى الله عليه وسلم، دون الأمة مدة ما،
والمعنى، والله أعلم، أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في
خاصة نفسه، أي: أنت، يا محمد، وكل واحد من أمتك القول له: فقاتل في سبيل الله،
لا تكلف إلا نفسك، ولهذا ينبغي لكل مؤمن أن يستشعر أن يجاهد، ولو وحده، ومن ذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم: " والله، لأقاتلنكم حتى تنفرد سالفتي "، وقول أبي بكر (رضي الله
عنه) وقت الردة: " ولو خالفتني يميني، لجاهدتها بشمالي "، وعسى إذا وردت من الله
تعالى، فقال عكرمة وغيره: هي واجبة، بفضل الله ووعده الجميل، قلت: أي: واقع ما
وعد به سبحانه، والتنكيل: الأخذ بأنواع العذاب.
(من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها
وكان الله على كل شئ مقيتا (85) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على
كل شئ حسيبا (86) الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله
حديثا (87))
وقوله سبحانه: (من يشفع شفاعة حسنة...) الآية: قال مجاهد وغيره: هي في
شفاعات الناس بينهم في حوائجهم، فمن يشفع لينفع، فله نصيب، ومن يشفع ليضر،
فله كفل، والكفل: النصيب، ويستعمل في الخير وفي الشر، وفي كتاب الله تعالى:
(يؤتكم كفلين من رحمته) [الحديد: 28]، وروى أبو داود، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم،
270

أنه قال: " من شفع لأحد شفاعة، فأهدى له هدية عليها، فقبلها، قد أتى بابا عظيما من
أبواب الربا ". انتهى.
و (مقيتا): معناه: قديرا، ومنه قول الزبير بن عبد المطلب: [الوافر]
وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على إساءته مقيتا
أي: قديرا.
وقيل: مقيتا: معناه شهيدا، وقيل: حفيظا.
وذهب مقاتل إلى أنه الذي يقوت كل حيوان، قال الداوودي: قال الكلبي المقيت هو
المقدر بلغة قريش. انتهى.
وقوله سبحانه: / (وإذا حييتم بتحية...) الآية: قالت فرقة: معنى الآية: تخيير
الراد، فإذا قال البادئ: " السلام عليك "، فللراد أن يقول: " وعليك السلام " فقط، وهذا هو
الرد، وله أن يقول: " وعليك السلام، ورحمة الله "، وهذا هو التحية بأحسن، وروي عن
ابن عمر وغيره انتهاء السلام إلى البركة، وقالت فرقة: المعنى: إذا حييتم بتحية، فإن نقص
المسلم من النهاية، فحيوا بأحسن منها، وإن انتهى، فردوها، كذلك قال عطاء، والآية في
المؤمنين خاصة، ومن سلم من غيرهم، فيقال له: " عليك "، كما في الحديث، وفي
271

أبي داود، والترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولى الناس بالله من بدأ بالسلام ". انتهى.
وأكثر أهل العلم على أن الابتداء بالسلام سنة مؤكدة، ورده فريضة، لأنه حق من
الحقوق، قاله الحسن وغيره، قال النووي: وروينا في كتاب ابن السني، عن أنس، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبدين متحابين في الله عز وجل يستقبل أحدهما صاحبه فيصافحه،
فيصليان على النبي صلى الله عليه وسلم إلا لم يتفرقا حتى تغفر ذنوبهما، ما تقدم منها وما تأخر "، وروينا
272

فيه عن أنس أيضا، قال: " ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد رجل، ففارقه، حتى قال: اللهم ربنا
آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار "، وروينا فيه، عن البراء بن
عازب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن المسلمين إذا التقيا، فتصافحا، وتكاشرا بود
ونصيحة، تناثرت خطاياهما بينهما "، وفي رواية: " إذا التقى المسلمان، فتصافحا، وحمدا
الله تعالى، واستغفرا - غفر الله عز وجل لهما ". انتهى.
و (حسيبا): معناه حفيظا، وهو فعيل من الحساب.
وقوله سبحانه: (الله لا إله إلا هو ليجمعنكم...) الآية: لما تقدم الإنذار والتحذير
الذي تضمنه قوله تعالى: (إن الله كان على كل شئ حسيبا)، تلاه الإعلام بصفة
الربوبية، وحال الوحدانية والإعلام بالحشر والبعث من القبور للثواب والعقاب إعلاما
بقسم، تقديره: وحقه وعظمته ليجمعنكم، والجمع بمعنى الحشر.
وقوله سبحانه: (ومن أصدق من الله حديثا): المعنى: لا أحد أصدق من الله
تعالى.
(* فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله
ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم
أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا
ولا نصيرا (89) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءكم حصرت صدورهم أن
يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوك فلم يقاتلوكم وألقوا
إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90))
وقوله تعالى: (فما لكم في المنافقين فئتين...) الآية: واختلف في هؤلاء
المنافقين.
فقال ابن عباس: هم قوم كانوا بمكة أظهروا الإيمان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كتب
بعثوا بها إلى المدينة، ثم خرجوا مسافرين إلى الشام، وأعطتهم قريش بضاعات، وقالوا
لهم: أنتم لا تخافون أصحاب محمد، لأنكم تخدعونهم بإظهار الإيمان، فاتصل خبرهم
273

بالمدينة، فاختلف المؤمنون فيهم، فقالت فرقة: نخرج إليهم، فإنهم منافقون، وقالت
فرقة: بل هم مؤمنون، لا سبيل لنا إليهم، فنزلت الآية، وعن مجاهد نحوه.
قال * ع *: ويعضده ما في آخر الآية من قوله تعالى: (حتى يهاجروا)، وقال
زيد بن ثابت: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين الذين رجعوا عن النبي صلى الله عليه وسلم
يوم أحد، وهم في " صحيح البخاري " مسندا، قال ابن العربي في " أحكامه "، وهذا
القول هو اختيار البخاري والترمذي. انتهى.
قال * ع *: وعلى هذا، فقوله سبحانه: (حتى يهاجروا) المراد هجر ما نهى
الله عنه، كما قال - عليه السلام -: " والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه "، و (فئتين):
معناه: فرقتين، / و (أركسهم): معناه: أرجعهم في كفرهم وضلالهم، والركس:
الرجيع، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الروثة: " إنها ركس "، وحكى النضر بن شميل والكسائي:
ركس وأركس بمعنى واحد، أي: أرجعهم، ومن قال من المتأولين: أهلكهم، أو أظلهم،
فإنما هو بالمعنى، وباقي الآية بين.
274

قال * ص *: (أركسهم)، أي: ردهم في الكفر.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": أخبر الله تعالى أنه رد المنافقين إلى الكفر، وهو
الإركاس، وهو عبارة عن الرجوع إلى الحالة المكروهة، كما قال في الروثة: " إنها ركس "،
أي: رجعت إلى حالة مكروهة، فنهى الله سبحانه الصحابة أن يتعلقوا فيهم بظاهر الإيمان،
إذ كان باطنهم الكفر، وأمرهم بقتلهم، حيث وجدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: (إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق...) الآية.
قال * ص *: (إلا الذين يصلون): استثناء متصل من مفعول (فخذوهم
واقتلوهم). انتهى.
قال * ع *: هذه الآية من آيات الموادعة في أول الإسلام، ثم نسخت بما في
سورة " براءة " فالآية تقتضي أن من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم
إلى هؤلاء أهل العهد، فدخل في عدادهم، وفعل فعلهم من الموادعة، فلا سبيل عليه.
وقوله تعالى: (أو جاءوكم): عطف على (يصلون)، ويحتمل أن يكون على
قوله: (بينكم وبينهم ميثاق)، والمعنى في العطفين مختلف، وهذا أيضا حكم قبل أن
يستحكم أمر الإسلام، فكان المشرك، إذا اعتزل القتال، وجاء إلى دار الإسلام مسالما
كارها لقتال قومه مع المسلمين، ولقتال المسلمين مع قومه، لا سبيل عليه، وهذه نسخت
أيضا بما في " براءة "، ومعنى (حصرت): ضاقت، وحرجت، ومنه: الحصر في القول،
وهو ضيق الكلام على المتكلم، و (حصرت): في موضع نصب على الحال، واللام في
قوله: (لسلطهم) جواب " لو "، والمعنى: ولو شاء الله، لسلط هؤلاء الذين هم بهذه
الصفة من المسالمة والمتاركة عليكم، (فإن اعتزلوكم)، أي: إذا وقع هذا، فلم يقاتلوكم،
فلا سبيل لكم عليهم، وهذا كله، والذي في سورة " الممتحنة ": (لا ينهاكم الله...)
[الممتحنة: 8] الآية: منسوخ، قاله قتادة وغيره.
و (السلم): الصلح.
(ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن
لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا
275

لكم عليهم سلطانا مبينا (91))
وقوله تعالى: (ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم...) الآية: لما
وصف الله سبحانه المحققين في المتاركة وإلقاء السلم، نبه على طائفة مخادعة كانوا
يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم، يقولون لهم: نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون
أيضا للمسلمين: نحن معكم، وعلى دينكم، خبثة منهم وخديعة، وقوله: (إلى الفتنة):
معناه: إلى الاختبار، حكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم، فيقال لأحدهم: قل: ربي
الخنفساء، ربي العود، ربي العقرب، ونحوه، فيقولها، ومعنى: (أركسوا): أي: رجعوا
رجع ضلالة، أي: أهلكوا في الاختبار بما واقعوه من الكفر، وهذه الآية حض على قتل
هؤلاء المخادعين، إذا لم يرجعوا عن حالهم، و (ثقفتموهم): مأخوذ من الثقاف، أي:
ظفرتم بهم، مغلوبين متمكنا منهم، والسلطان: الحجة، قال عكرمة: حيثما وقع السلطان
في كتاب الله عز وجل، فهو الحجة.
(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة
مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن
فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى
أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان
الله عليما حكيما (92))
وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ...) الآية: قال جمهور
المفسرين: معنى الآية: وما كان في إذن الله، وفي أمره للمؤمن أن يقتل مؤمنا بوجه، ثم
استثنى استثناء / منقطعا ليس من الأول، وهو الذي تكون فيه " إلا " بمعنى " لكن "، والتقدير: لكن الخطأ قد يقع، ويتجه في معنى الآية وجه آخر، وهو أن تقدر " كان " بمعنى
" استقر "، و " وجد "، كأنه قال: وما وجد، ولا تقرر، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا
خطأ، إذ هو مغلوب فيه، فيجئ الاستثناء على هذا متصلا، وتتضمن الآية على هذا إعظام
العمد، وبشاعة شأنه.
وقوله تعالى: (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ...) الآية: حقيقة الخطأ ألا
يقصده بالقتل، ووجوه الخطأ كثيرة لا تحصى، يربطها عدم القصد.
276

قال ابن عباس وغيره: الرقبة المؤمنة: هي الكبيرة التي قد صلت وعقلت الإيمان،
وقالت جماعة، منهم مالك بن أنس: يجزئ كل من يحكم له بحكم الإسلام في الصلاة
عليه، إن مات، قال مالك: ومن صلى وصام أحب إلي، ولا يجزئ ذو العيب الكثير،
كأقطع اليدين، أو الرجلين، أو الأعمى، إجماعا فيما علمت، و (مسلمة): معناه: مؤداة
مدفوعة، وهي على العاقلة فيما جاوز ثلث الدية، و (إلا أن يصدقوا): يريد: أولياء
القتيل، وقوله: (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن...) الآية: أي: وإن كان هذا
المقتول خطأ مؤمنا قد آمن، وبقي في قومه، وهم كفرة عدو لكم، فلا دية فيه، وإنما
كفارته تحرير الرقبة، قاله ابن عباس وغيره، وسقطت الدية عندهم، لوجهين:
أحدهما: أن أولياء المقتول كفار، فلا يصح دفع الدية إليهم.
والآخر: قلة حرمة هذا المقتول، فلا دية فيه.
واحتجوا بقوله تعالى: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى
يهاجروا) [الأنفال: 72].
وقالت فرقة: بل الوجه في سقوط الدية أن الأولياء كفار فقط، وسواء قتل بين أظهر
المسلمين، أو بين قومه الكفار، لأنه لا يصح دفعها إلى الكفار.
قال * ع *: وقائل المقالة الأولى يقول: إن قتل المؤمن في بلد المسلمين،
وقومه حرب، ففيه الدية لبيت المال والكفارة.
وقوله تعالى: (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق...) الآية: قال ابن عباس
وغيره: المقتول من أهل العهد خطأ لا نبالي، كان مؤمنا أو كافرا، على عهد قومه فيه الدية
والتحرير.
277

وقوله: (فمن لم يجد فصيام شهرين...) الآية، أي: فمن لم يجد الرقبة ولا اتسع
ماله لشرائها، فيجزيه صيام شهرين متتابعة الأيام، لا يتخللها فطر، و (توبة): نصب
على المصدر، ومعناه: رجوعا بكم إلى التيسير والتسهيل.
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه
ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93))
278

وقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم...) الآية: المتعمد في لغة
العرب: القاصد إلى الشئ، والجمهور أن المتعمد كل من قتل، كان القتل بحديدة أو
غيرها، وهذا هو الصحيح، ورأى الشافعي وغيره أن القتل بغير الحديد المشحوذ هو شبه
العمد، ورأوا فيه تغليظ الدية، ومالك لا يرى شبه العمد، ولا يقول به، وإنما القتل عنده
ما ذكره الله تعالى عمدا أو خطأ لا غير.
وقوله تعالى: (فجزاؤه جهنم)، تقديره عند أهل السنة: فجزاؤه، إن جازاه بذلك،
أي: هو أهل لذلك، ومستحقه، لعظيم ذنبه.
قال * ع *: ومن أقيم عليه الحد، وقتل قودا، فهو غير متبع في الآخرة، والوعيد
غير نافذ عليه، إجماعا، وللحديث الصحيح، عن عبادة بن الصامت، أنه: " من عوقب في
الدنيا، فهو كفارة له "، ومعنى الخلود هنا: مدة طويلة، إن جازاه الله، ويدل على ذلك
279

سقوط لفظ التأبيد.
قال * ع *: والجمهور على قبول توبته، وروي عن بعض العلماء، أنهم / كانوا
يقصدون الإغلاظ، والتخويف أحيانا، فيطلقون ألا تقبل توبته، منهم ابن شهاب، وابن
عباس، فكان ابن شهاب، إذا سأله من يفهم منه أنه قد قتل، قال له: توبتك مقبولة،
وإذا سأله من لم يفعل، قال: لا توبة للقاتل، وعن ابن عباس نحوه، قال الداوودي وعن
أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والله، للدنيا وما فيها أهون على الله من قتل نفس بغير
حق، ومن أعان على قتل مسلم بشطر كلمة، لقي الله يوم يلقاه مكتوب على جبهته: آيس
من رحمة الله "، وعن معاوية، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره
إلا من قتل مؤمنا متعمدا، أو مات كافرا "، وعن أبي هريرة، أنه سئل عن قاتل المؤمن،
هل له من توبة؟ فقال: لا، والله الذي لا إله إلا هو، لا يدخل الجنة حتى يلج الجمل في
سم الخياط، قال: ولو أن أهل السماوات والأرض أشركوا في دم مؤمن إلا كبهم الله جميعا
في النار ". انتهى.
(يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم
السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك
280

كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (94))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا...) الآية: تقول:
ضربت في الأرض، إذا سرت لتجارة أو غزو، أو غيره، مقترنة ب‍ " في "، وضربت
الأرض، دون " في "، إذا قصدت قضاء الحاجة.
وقال * ص *: ضربتم، أي: سافرتم.
قال * ع *: وسبب هذه الآية، أن سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيت رجلا له
جمل، ومتيع، وقيل: غنيمة، فسلم على القوم، وقال: لا إله إلا الله، محمد رسول
الله، فحمل عليه أحدهم، فقتله، واختلف في تعيين القاتل والمقتول في هذه النازلة،
والذي عليه الأكثر، وهو في سير ابن إسحاق، وفي مصنف أبي داود وغيرهما، أن القاتل
محلم بن جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط، ولا خلاف أن الذي لفظته الأرض،
حين مات، هو محلم بن جثامة، وقرأ جمهور السبعة: " فتبينوا "، وقرأ حمزة
والكسائي: " فتثبتوا " (بالثاء المثلثة) في الموضعين هنا، وفي " الحجرات "، وقرأ نافع
281

وغيره: " السلم "، ومعناه: الاستسلام، أي: ألقى بيده، واستسلم لكم، وأظهر دعوتكم،
وقرأ باقي السبعة: " السلام " (بالألف)، يريد: سلام ذلك المقتول على السرية، لأن سلامه
بتحية الإسلام مؤذن بطاعته، وانقياده، وفي بعض طرق عاصم: " السلم " - بكسر السين
المشددة، وسكون اللام -، وهو الصلح، والمعنى المراد بهذه الثلاثة متقارب، وقرئ:
" لست مؤمنا " - بفتح الميم - أي: لسنا نؤمنك.
وقوله تعالى: (فعند الله مغانم كثيرة): عدة منه سبحانه بما يأتي به من فضله، من
الحلال دون ارتكاب محظور، أي: فلا تتهافتوا.
واختلف في قوله: (كذلك كنتم من قبل).
فقال ابن جبير: معناه: كذلك كنتم مستخفين من قومكم بإسلامكم، فمن الله عليكم
بإعزاز دينكم، وإظهار شريعتكم، فهم الآن كذلك كل واحد منهم خائف من قومه، متربص
أن يصل إليكم، فلم يصلح إذا وصل أن تقتلوه حتى تتبينوا أمره، وقال ابن زيد:
المعنى: كذلك كنتم كفرة، فمن الله عليكم بأن أسلمتم، فلا تنكروا أن يكون هو كافرا، ثم
يسلم لحينه، ثم وكد تبارك وتعالى الوصية بالتبين، وأعلم أنه خبير بما يعمله العباد،
وذلك منه خبر يتضمن تحذيرا منه سبحانه، أي: فاحفظوا أنفسكم، وجنبوا الزلل الموبق
لكم.
(لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل
الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما (95) درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96))
282

وقوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر...) الآية: في
قوله تعالى: (لا يستوي) إبهام على السامع /، وهو أبلغ من تحديد المنزلة التي بين
المجاهد والقاعد، فالمتأمل يمشي مع فكرته، ولا يزال يتخيل الدرجات بينهما، والقاعدون
عبارة عن المتخلفين.
قلت: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة شجرة تخرج من أعلاها الحلل، ومن أسفلها خيل
بلق من ذهب مسرجة ملجمة بالدر والياقوت، لا تروث، ولا تبول، ذوات أجنحة، فيجلس
عليها أولياء الله، فتطير بهم حيث شاءوا، فيقول الذين أسفل منهم: يأهل الجنة، ناصفونا،
يا رب، ما بلغ هؤلاء هذه الكرامة؟! فيقول الله تعالى: إنهم كانوا يصومون، وكنتم
تفطرون، وكانوا يقومون بالليل وكنتم تنامون، وكانوا ينفقون، وكنتم تبخلون، وكانوا
يجاهدون العدو وكنتم تجبنون ". انتهى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة: " غير " - بالرفع - صفة للقاعدين، وقرأ نافع
وغيره: " غير " - بالنصب - استثناء من القاعدين، وروي من غير ما طريق، أن الآية نزلت:
" لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون "، فجاء ابن أم مكتوم، حين سمعها، فقال:
يا رسول الله، هل من رخصة، فإني ضرير البصر، فنزلت عند ذلك، (غير أولي
الضرر)،.....
283

قال الفلتان بن عاصم (رضي الله عنه): كنا قعودا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل عليه، وكان إذا
أوحي إليه، دام بصره مفتوحة عيناه، وفرغ سمعه وبصره لما يأتيه من الله، وكنا نعرف ذلك
في وجهه، قال: فلما فرغ، قال للكاتب: اكتب: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين
والمجاهدون... " إلى آخر الآية، قال: فقام الأعمى، فقال: يا رسول الله، ما ذنبنا؟ قال:
فأنزل الله على رسوله، فقلنا للأعمى: إنه ينزل عليه، قال: فخاف أن ينزل فيه شئ، فبقي
قائما مكانه، يقول: أتوب إلى رسول الله، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال للكاتب:
285

اكتب: (غير أولي الضرر)، وأهل الضرر: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرت بهم، حتى
منعتهم الجهاد، قاله ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: (بأموالهم وأنفسهم)، هي الغاية في كمال الجهاد، قال ابن جريج:
الفضل بدرجة هو على القاعدين من أهل العذر.
قال * ع *: لأنهم مع المؤمنين بنياتهم، كما هو مذكور في الحديث الصحيح.
قال ابن جريج: والتفضيل بالأجر العظيم والدرجات هو على القاعدين من غير
عذر، و (الحسنى): الجنة التي وعدها الله المؤمنين، وكذلك قال السدي وغيره.
وقال ابن محيريز: الدرجات: هي درجات في الجنة سبعون ما بين الدرجتين
حضر الجواد المضمر سبعين سنة، قلت: وفي " صحيح البخاري "، عن أبي هريرة، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما
بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة،
وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ". انتهى.
286

وقال ابن زيد: الدرجات في الآية هي السبع المذكورة في " براءة " في قوله تعالى:
(ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب...) [التوبة: 120] الآية.
قال * ع *: ودرجات الجهاد، لو حصرت، أكثر من هذه، لكن يجمعها بذل
النفس، والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا، ولا شك أن بحسب /
مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها، فالأقوال كلها متقاربة، وباقي الآية
وعد كريم وتأنيس.
(إن الله توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم
تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله
عفوا غفورا (99) * ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته
مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما (100))
وقوله تعالى: (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم...) الآية:
المراد بهذه الآية إلى قوله: (مصيرا) جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا، فلما هاجر
النبي صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفتن منهم جماعة، فافتتنوا، فلما كان أمر بدر، خرج منهم
قوم مع الكفار، فقتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم.
قال * ع *: والذي يجرى مع الأصول أن من مات من هؤلاء مرتدا، فهو كافر،
ومأواه جهنم على جهة الخلود المؤبد، وهذا هو ظاهر أمر هؤلاء، وإن فرضنا فيهم من
مات مؤمنا، وأكره على الخروج، أو مات بمكة، فإنما هو عاص في ترك الهجرة، مأواه
جهنم على جهة العصيان دون خلود.
وقوله تعالى: (توفاهم): يحتمل أن يكون فعلا ماضيا، ويحتمل أن يكون مستقبلا،
على معنى: " تتوفاهم "، فحذفت إحدى التاءين وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي من هذا
المعنى في المستقبل بعد نزول الآية، و (ظالمي أنفسهم): نصب على الحال، أي:
287

ظالميها بترك الهجرة، و (توفاهم الملائكة): معناه: تقبض أرواحهم، قال الزجاج،
وحذفت النون من ظالمين، تخفيفا، كقوله: (بالغ الكعبة) [المائدة: 95]، وقول الملائكة:
(فيم كنتم): تقرير وتوبيخ، وقول هؤلاء: (كنا مستضعفين في الأرض): اعتذار غير
صحيح، إذ كانوا يستطيعون الحيل، ويهتدون السبل، ثم وقفتهم الملائكة على ذنبهم
بقولهم: (ألم تكن أرض الله واسعة)، والأرض الأولى: هي أرض مكة خاصة، وأرض
الله هي الأرض بالإطلاق، والمراد: فتهاجروا فيها إلى مواضع الأمن، وهذه المقاولة إنما
هي بعد توفي الملائكة لأرواح هؤلاء، وهي دالة على أنهم ماتوا مسلمين وإلا فلو ماتوا
كافرين، لم يقل لهم شئ من هذا، ثم استثنى سبحانه من كان استضعافه حقيقة من زمني
الرجال، وضعفة النساء، والولدان، قال ابن عباس: " كنت أنا وأمي من المستضعفين "،
والحيلة: لفظ عام لأنواع أسباب التخلص، والسبيل: سبيل المدينة، فيما قاله مجاهد
وغيره، والصواب: أنه عام في جميع السبل، ثم رجى الله تعالى هؤلاء بالعفو عنهم،
والمراغم: المتحول والمذهب، قاله ابن عباس وغيره، وقال مجاهد: المراغم المتزحزح
عما يكره، وقال ابن زيد: المراغم: المهاجر، وقال السدي: المراغم: المبتغى
للمعيشة.
قال * ع *: وهذا كله تفسير بالمعنى، وأما الخاص باللفظة، فإن المراغم هو موضع
المراغمة، فلو هاجر أحد من هؤلاء المحبوسين بمكة، لأرغم أنوف قريش بحصوله في منعة
منهم، فتلك المنعة هي موضع المراغمة، قال ابن عباس وغيره: السعة هنا هي السعة في
288

الرزق، وقال مالك: السعة: سعة البلاد.
قال * ع *: وهذا هو المشبه للفصاحة، أن يريد سعة الأرض، وبذلك تكون
السعة في الرزق، واتساع الصدر، وغير ذلك من وجوه الفرج، وهذا المعنى ظاهر من قوله
تعالى: (ألم تكن أرض الله واسعة).
قال مالك بن أنس (رحمه الله): الآية تعطي أن كل مسلم ينبغي له أن يخرج من
البلاد التي تغير فيها / السنن، ويعمل فيها بغير الحق.
وقوله تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت...)
الآية حكم هذه الآية باق في الجهاد، والمشي إلى الصلاة، والحج، ونحوه، قلت: وفي
الباب حديث عن أبي أمامة، وسيأتي عند قوله تعالى: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على
أنفسكم) [النور: 61].
قال * ع *: والآية نزلت بسبب رجل من كنانة، وقيل: من خزاعة، اسمه ضمرة
في قول الأكثر، لما سمع قول الله تعالى: (الذين (لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا)
قال: إني لذو مال وعبيد، وكان مريضا، فقال: أخرجوني إلى المدينة، فأخرج في سرير،
فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت الآية بسببه.
قال * ع *: ومن هذه الآية رأى بعض العلماء أن من مات من المسلمين، وقد
خرج غازيا، فله سهمه من الغنيمة، قاسوا ذلك على الأجر، ووقع: عبارة عن الثبوت،
وكذلك هي " وجب "، لأن الوقوع والوجوب نزول في الأجرام بقوة، فشبه لازم المعاني
بذلك، وباقي الآية بين.
289

(وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا
إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا (101))
وقوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة...) الآية: ضربتم: معناه: سافرتم، قال مالك، مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل،
وابن راهويه: تقصر الصلاة في أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلا، وحجتهم أحاديث
رويت في ذلك، عن ابن عمر، وابن عباس.
وقال الحسن والزهري: تقصر في مسيرة يومين، وروي هذا أيضا عن مالك،
وروي عنه: تقصر في مسافة يوم وليلة، وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى.
والجمهور على جواز القصر في السفر المباح.
وقال عطاء: لا تقصر إلا في سفر طاعة، وسبيل خير، والجمهور: أنه لا قصر في
سفر معصية، والجمهور أنه لا يقصر المسافر حتى يخرج من بيوت القرية، وحينئذ هو
ضارب في الأرض، وهو قول مالك وجماعة المذهب، وإلى ذلك في الرجوع، وقد ثبت،
أن النبي صلى الله عليه وسلم: " صلى الظهر بالمدينة أربعا، والعصر بذي الحليفة ركعتين "، وليس بينهما
ثلث يوم، ويظهر من قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا) أن القصر مباح أو
مخير فيه، وقد روى ابن وهب، عن مالك، أن المسافر مخير فيه، وقاله الأبهري،
وعليه حذاق المذهب، وقال مالك في " المبسوط ": القصر سنة، وهذا هو الذي عليه
290

جمهور المذهب، وعليه جواب " المدونة " بالإعادة في الوقت لمن أتم في سفره.
وقال ابن سحنون وغيره: القصر فرض.
وقوله تعالى: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا...) الآية، وفي حديث يعلى بن
أمية، قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله تعالى يقول: (إن خفتم)، وقد أمن الناس،
فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال، " صدقة تصدق الله
بها عليكم، فاقبلوا صدقته ".
ويفتنكم: معناه يمتحنكم بالحمل عليكم، وإشغال نفوسكم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
صلى الظهر بأصحابه، قال المشركون: لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا
شددتم عليهم، فقال قائل منهم: إن لهم أخرى في أثرها، فأنزل الله تعالى بين الصلاتين:
(إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) / إلى أخر صلاة الخوف.
(وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا
سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم
وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا
جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم
إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102))
وقوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...) الآية: قال جمهور الأمة:
الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وكذلك جمهور العلماء
على أن صلاة الخوف تصلى في الحضر، إذا نزل الخوف، قال الطبري: (فأقمت
لهم): معناه: حدودها وهيئتها.
وقوله تعالى: (فلتقم طائفة منهم معك): أمر بالانقسام، أي: وسائرهم وجاه
العدو، ومعظم الروايات والأحاديث على أن صلاة الخوف إنما نزلت الرخصة فيها في
غزوة ذات الرقاع، واختلف من المأمور بأخذ الأسلحة هنا؟ فقيل: الطائفة المصلية، وقيل:
بل الحارسة.
291

قال * ع *: ولفظ الآية يتناول الكل، ولكن سلاح المصلين ما خف، قلت:
ومن المعلوم أنه إذا كانت الطائفة المصلية هي المأمورة بأخذ السلاح، فالحارسة من باب
أحرى.
واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الخوف، وبحسب ذلك،
اختلف الفقهاء، فروى يزيد بن رومان، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي
حثمة، أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت طائفة معه،
وطائفة وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم
ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم، وروى القاسم بن محمد، عن صالح بن
292

خوات، عن سهل هذا الحديث بعينه، إلا أنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى بالطائفة الأخيرة
ركعة، سلم، ثم قضت بعد سلامه، وبحديث القاسم بن محمد، أخذ مالك، وإليه رجع
بعد أن كان أولا يميل إلى رواية يزيد بن رومان، وروى عبد الرزاق عن مجاهد، قال: لم
يصل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف إلا مرتين: مرة بذات الرقاع من أرض بني سليم، ومرة
بعسفان، والمشركون بضجنان بينهم وبين القبلة.
قال * ع *: وظاهر اختلاف الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه صلى صلاة
الخوف في غير هذين الموطنين، وقد ذكر ابن عباس، أنه كان في غزوة ذي قرد صلاة
خوف.
وقوله تعالى: (فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم...) الآية: المعنى: فإذا سجدوا
معك الركعة الأولى، فلينصرفوا، هذا على بعض الهيئات المروية، وقيل: المعنى: فإذا
293

سجدوا ركعة القضاء، وهذا على رواية ابن أبي حثمة، والضمير في قوله: (فليكونوا)،
يحتمل أن يكون للذين سجدوا، ويحتمل أن يكون للطائفة القائمة أولا بإزاء العدو، ويجيء
الكلام وصاة في حال الحذر والحرب.
وقوله تعالى: (ود الذين كفروا لو تغفلون...) الآية: إخبار عن معتقد القوم،
وتحذير من الغفلة، لئلا ينال العدو أمله، وأسلحة: جمع سلاح، وفي قوله تعالى: (ميلة
واحدة): مبالغة، أي: مستأصلة لا يحتاج معها إلى ثانية.
وقوله تعالى: (ولا جناح عليكم...) الآية: ترخيص.
قال ابن عباس: نزلت بسبب عبد الرحمن بن عوف، كان مريضا، فوضع سلاحه،
فعنفه بعض الناس.
قال * ع *: كأنهم تلقوا الأمر بأخذ السلاح على الوجوب، فرخص الله تعالى
في هاتين الحالتين، وينقاس عليهما كل عذر، ثم قوى سبحانه / نفوس المؤمنين بقوله:
(إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا).
(فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا
الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا (103))
وقوله تعالى: (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا...) الآية: ذهب
جمهور العلماء إلى أن هذا الذكر المأمور به، إنما هو إثر صلاة الخوف على حد ما أمروا
عند قضاء المناسك بذكر الله، فهو ذكر باللسان، والطمأنينة في الآية: سكون النفوس من
الخوف، وقال بعض المتأولين: المعنى: فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر، فأقيموها تامة
أربعا.
وقوله تعالى: (كتابا موقوتا): معناه: منجما في أوقات، هذا ظاهر اللفظ، وروي
عن ابن عباس، أن المعنى: فرضا مفروضا، فهما لفظان بمعنى واحد كرر، مبالغة.
294

(ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من
الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما (104))
وقوله تعالى: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم): أي: لا تلينوا وتضعفوا، يقال: حبل
واهن، أي: ضعيف، ومنه: " وهن العظم " وابتغاء القوم: طلبهم، وهذا تشجيع لنفوس
المؤمنين، وتحقير لأمر الكفرة، ثم تأكد التشجيع بقوله: (وترجون من الله ما لا
يرجون)، وهذا برهان بين، ينبغي بحسبه أن تقوى نفوس المؤمنين، وباقي الآية بين.
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين
خصيما (105))
وقوله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله...)
الآية: في هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وتفويض إليه، وتقويم أيضا على الجادة في
الحكم، وتأنيب ما على قبول ما رفع إليه في أمر بنى أبيرق بسرعة.
وقوله تعالى: (بما أراك الله): معناه: على قوانين الشرع إما بوحي ونص أو نظر
جار على سنن الوحي، وقد تضمن الله تعالى لأنبيائه العصمة.
وقوله تعالى: (ولا تكن للخائنين خصيما)، قال الهروي: (خصيما): أي:
مخاصما، ولا دافعا. انتهى.
قال * ع *: سببها، باتفاق من المتأولين: أمر بنى أبيرق، وكانوا إخوة: بشر،
وبشير، ومبشر، وطعيمة، وكان بشير رجلا منافقا يهجو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وينحل الشعر
لغيره، فكان المسلمون يقولون: والله، ما هو إلا شعر الخبيث، فقال شعرا يتنصل فيه،
فمنه قوله: [الطويل].
أفي كل ما قال الرجال قصيدة * نحلت، وقالوا: ابن الأبيرق قالها
قال قتادة بن النعمان: وكان بنو أبيرق أهل فاقة، فابتاع عمى رفاعة بن زيد حملا
295

من درمك الشام، فجعله في مشربه له، وفي المشربة درعان له، وسيفان، فعدي على
المشربة من الليل، فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة، فقال: يا بن أخي، أتعلم أنه قد عدي
علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، وذهب بطعامنا، وسلاحنا، قال: فتحسنا في الدار،
وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا نارا في هذه الليلة، ولا نراه إلا على بعض
طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا، ونحن نسأل: والله، ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن
سهل، رجل منا له صلاح وإسلام، فسمع ذلك لبيد، فاخترط سيفه، ثم أتى بني أبيرق،
فقال: والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتبينن هذه السرقة، فقالوا: إليك عنا، أيها الرجل،
فوالله، ما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي:
يا بن أخي، لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بهذه القصة، فأتيته صلى الله عليه وسلم، فقصصتها عليه،
فقال: انظر في ذلك، فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له: أسير بن
عروة، فكلموه في ذلك، واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم /
فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه رفاعة عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام
وصلاح يرميانهم بالسرقة على غير بينة، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال:
عمدت إلى أهل بيت، ذكر منهم إسلام وصلاح، فرميتهم بالسرقة من غير بينة، قال:
فرجعت، وقد وددت أن أخرج عن بعض مالي، ولم أكلمه، فأتيت عمي، فقال: ما
صنعت، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن:
(إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق...) الآيات، قال: فالخائنون: بنو أبيرق، والبرئ المرمي
296

لبيد بن سهل، والطائفة التي همت أسير وأصحابه.
قال * ع *: قال قتادة وغير واحد: هذه القصة ونحوها إنما كان صاحبها
طعمة بن أبيرق، ويقال فيه: طعيمة.
قال * ع *: وطعمة بن أبيرق صرح بعد ذلك بالارتداد، وهرب إلى مكة، فروي
أنه نقب حائط بيت، ليسرقه، فانهدم الحائط عليه، فقتله، ويروى أنه أتبع قوما من العرب،
فسرقهم، فقتلوه.
(واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما (106))
وقوله تعالى: (واستغفر الله)، ذهب الطبري إلى أن المعنى: استغفر من ذنبك
في خصامك للناس.
قال * ع *: وهذا ليس بذنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما دافع عن الظاهر، وهو يعتقد
براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤمنين من أمتك، والمتخاصمين بالباطل، لا أن تكون ذا
جدال عنهم، وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من جلس في مجلس، فكثر فيه
لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: " سبحانك، اللهم، وبحمدك، لا إله إلا أنت،
أستغفرك، وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك "، رواه أبو داود والترمذي
والنسائي والحاكم وابن حبان في " صحيحيهما "، وقال الترمذي، واللفظ له: حديث حسن
صحيح غريب، ورواه النسائي والحاكم أيضا من طرق عن عائشة......
297

وغيرها. انتهى من " السلاح ".
(ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107))
وقوله تعالى: (ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم)، لفظ عام يندرج تحته
أصحاب النازلة، ويتقرر به توبيخهم، وفي قوله تعالى: (إن الله لا يحب من كان خوانا
أثيما): رفق وإبقاء، فإن الخوان هو الذي تتكرر منه الخيانة، كطعيمة بن الأبيرق، والأثيم
هو الذي يقصدها، فيخرج من هذا التشديد الساقط مرة واحدة، ونحو ذلك، واختيان
الأنفس هو بما يعود عليها من الإثم والعقوبة في الدنيا والآخرة.
(يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون مالا يرضى من القول وكان
الله بما يعملون محيطا (108))
وقوله تعالى: (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله...) الآية: الضمير في
" يستخفون " للصنف المرتكب للمعاصي، ويندرج في طي هذا العموم أهل الخيانة في النازلة
المذكورة، وأهل التعصب لهم، والتدبير في خدع النبي صلى الله عليه وسلم والتلبيس عليه، ويحتمل أن
يكون الضمير لأهل هذه النازلة، ويدخل في معنى هذا التوبيخ كل من يفعل نحو فعلهم،
قال صاحب " الكلم الفارقية، والحكم الحقيقية ": النفوس المرتكبة للمحارم، المحتقبة
للمآثم، والمظالم، شبيهة بالأراقم، تملأ أفواهها سما، وتقصد من تقذفه عليه عدوانا
وظلما، تجمع في ضمائرها سموم شرورها وضررها، وتحتال / لإلقائها على الغافلين عن
مكائدها وخدعها. انتهى.
ومعنى: (وهو معهم)، بالإحاطة والعلم والقدرة، و (يبيتون): يدبرون ليلا،
ويحتمل أن تكون اللفظة مأخوذة من البيت، أي: يستترون في تدبيرهم بالجدرات.
(ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من
يكون عليهم وكيلا (109) ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا
رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111))
298

وقوله تعالى: (هأنتم هؤلاء): خطاب للقوم الذين يتعصبون لأهل الريب
والمعاصي، ويندرج في طي هذا العموم أهل النازلة، وهو الأظهر عندي، بحكم التأكيد
بهؤلاء، وهي إشارة إلى حاضرين، ومن " مصابيح البغوي " عن أبي داود، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله، فقد ضاد الله، ومن خاصم في باطل،
وهو يعلمه لم يزل في سخط الله، حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه، أسكنه الله
ردغة الخبال، حتى يخرج مما قال "، ويروى: " من أعان على خصومة لا يدري أحق أم
باطل، فهو في سخط الله، حتى ينزع ". انتهى.
وقوله تعالى: (فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة...) الآية: وعيد محض، ولما
تمكن هذا الوعيد، وقضت العقول بأن لا مجادل لله سبحانه، ولا وكيل يقوم بأمر العصاة
عنده، عقب ذلك بهذا الرجاء العظيم، والمهل المنفسح، فقال: (ومن يعمل سوءا أو
يظلم نفسه...) الآية، وباقي الآية بين.
(ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا (112) ولولا فضل
الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك
من شئ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك
عظيما (113))
وقوله تعالى: (ومن يكسب خطيئة أو إثما)، ذهب بعض الناس إلى انهما لفظان
بمعنى، كرر، لاختلاف اللفظ، وقال الطبري: إنما فرق بين الخطيئة والإثم، لأن
الخطيئة تكون عن عمد، وعن غير عمد، والإثم لا يكون إلا عن عمد، وهذه الآية لفظها
عام، ويندرج تحت ذلك العموم أهل النازلة المذكورة، وبرئ النازلة، وهو لبيد، كما
تقدم، أي: ويتناول عموم الآية كل بريء.
وقوله: (فقد احتمل بهتانا): تشبيه، إذ الذنوب ثقل ووزر، فهي كالمحمولات،
و (بهتانا): معناه: كذبا، ثم وقف الله تعالى نبيه على مقدار عصمته له، وأنها بفضل منه
299

سبحانه ورحمته.
وقوله تعالى: (لهمت): معناه: لجعلته همها وشغلها، حتى تنفذه، وهذا يدل على
أن الألفاظ عامة في غير أهل النازلة، وإلا فأهل التعصب لبني أبيرق قد وقع همهم وثبت،
ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، وما يضرونك من شئ، قلت: ثم ذكر سبحانه
ما أنعم به على نبيه من إنزال الكتاب، والحكمة، وتعليمه ما لم يكن يعلم، قال ابن العربي
في رحلته: اعلم أن علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد، وتذكير، وأحكام، وعلم التذكير هو
معظم القرآن، فإنه مشتمل على الوعد والوعيد، والخوف والرجاء، والقرب وما يرتبط بها،
ويدعو إليها ويكون عنها، وذلك معنى تتسع أبوابه، وتمتد أطنابه. انتهى، وباقي الآية: وعد
كريم لنبيه - عليه السلام -، وتقرير نعمه لديه سبحانه، لا إله غيره.
(* لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين
الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114))
وقوله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح
بين الناس...) الآية: الضمير في (نجواهم): عائد على الناس أجمع، وجاءت هذه
الآيات عامة التناول، وفي عمومها يندرج أصحاب النازلة، وهذا من الفصاحة والإيجاز
المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة، قال النووي / وروينا في كتابي " الترمذي " و " ابن
ماجة "، عن أم حبيبة (رضي الله عنها)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل كلام ابن آدم عليه لا له
إلا أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، أو ذكرا لله تعالى ". انتهى.
300

والنجوى: المسارة، وقد تسمى بها الجماعة، كما يقال: قوم عدل، وليست النجوى
بمقصورة على الهمس في الأذن، والمعروف لفظ يعم الصدقة والإصلاح وغيرهما، ولكن
خصا بالذكر، اهتماما، إذ هما عظيما الغناء في مصالح العباد، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم
على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى.
(ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى
ونصله جهنم وساءت مصيرا (115) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا (116))
وقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول...) الآية: لفظ عام نزل بسبب طعمة بن
أبيرق، لأنه ارتد وسار إلى مكة، فاندرج الإنحاء عليه في طي هذا العموم المتناول لمن
اتصف بهذه الصفات إلى يوم القيامة.
وقوله: (نوله ما تولى): وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره في تودد الطاغوت، ثم
أوجب تعالى، أنه لا يغفر أن يشرك به، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية.
(إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله
وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان
الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر
خسرانا مبينا (119))
وقوله تعالى: (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا...) الآية:
الضمير في (يدعون): عائد على من ذكر في قوله: (ومن يشاقق الرسول) [النساء: 115]،
و " إن ": نافية بمعنى " ما "، ويدعون: عبارة مغنية موجزة في معنى: يعبدون ويتخذون
آلهة، قلت: وفي " البخاري " (إلا إناثا): يعنى الموات حجرا ومدرا، وما أشبهه. انتهى،
وفي مصحف عائشة: " إلا أوثانا "، ونحوه عن ابن عباس، والمراد بالشيطان هنا
301

إبليس، قاله الجمهور، وهو الصواب، لأن سائر المقالة به تليق، و (مريدا): معناه:
متمردا عاتيا صليبا في غوايته، وأصل اللعن: الإبعاد، والمفروض: معناه: في هذا الموضع
المنحاز، وهو مأخوذ من الفرض، وهو الحز في العود وغيره.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد واجبا إن اتخذه، وبعث النار هو نصيب إبليس.
وقوله: (ولأضلنهم...) الآية: معنى أضلنهم: أصرفهم عن طريق الهدى،
(ولأمنينهم) لأسولن لهم، وأمانيه لا تنحصر في نوع واحد، والبتك: القطع.
وقوله: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) اختلف المتأولون في معنى تغيير خلق الله،
وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار، فهو داخل في الآية، وكل تغيير نافع فهو مباح،
وفي " مختصر الطبري ": (فليغيرن خلق الله)، قال ابن عباس: خلق الله: دين الله، وعن
إبراهيم، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد مثله، وفسر ابن
زيد: (لا تبديل لخلق الله) [الروم: 30]، أي: لدين الله، واختار الطبري هذا القول،
واستدل له بقوله تعالى: (ذلك الدين القيم) [الروم: 30] وأجاز أن يدخل في الآية كل ما
نهى الله عنه من معاصيه، والترك لطاعته. انتهى، وهو حسن.
قال * ع *: واللامات كلها للقسم.
قال * ص *: (ولأضلنهم)، مفعوله محذوف، أي: عن الهدى، وكذا:
(ولأمنينهم)، أي: الباطل، وكذا (ولآمرنهم)، أي: بالبتك، فليبتكن، وكذا:
(ولآمرنهم)، أي: بالتغيير، فليغيرن كل ما أوجده الله للطاعة فيستعينون به في المعصية.
انتهى.
ولما ذكر الله سبحانه / عتو الشيطان، وما توعد به من بث مكره، حذر تبارك وتعالى
عباده، بأن شرط لمن يتخذه وليا جزاء الخسران.
(يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون
302

عنها محيصا (121) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا (122))
وقوله تعالى: (يعدهم ويمنيهم)، أي: يعدهم بأباطيله من المال، والجاه، وأن لا
بعث، ولا عقاب، ونحو ذلك لكل أحد ما يليق بحاله، ويمنيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه
الخبر عن حقيقة ذلك، بقوله: (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) ثم أخبر سبحانه بمصير
المتخذين الشيطان وليا، وتوعدهم بأن مأواهم جهنم، لا يدافعونها بحيلة، ولا يتروغون،
و (محيصا): من حاص، إذ راغ ونفر، ومنه قول الشاعر: [الطويل].
ولم ندر إن حصنا من الموت حيصة * كم العمر باق والمدى متطاول
ومنه الحديث: " فحاصوا حيصة حمر الوحش "، ولما ذكر سبحانه ما تقدم من
الوعيد، واقتضى ذلك التحذير، عقب ذلك عز وجل بالترغيب في ذكره حالة المؤمنين،
وأعلم بصحة وعده، ثم قرر ذلك بالتوقيف عليه في قوله: (ومن أصدق من الله قيلا)،
والقيل والقول واحد، ونصبه على التمييز.
(ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون
الله وليا ولا نصيرا (123))
وقوله تعالى: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...) الآية: الأماني: جمع
أمنية، وهي ما يتشهاه المرء، ويطمع نفسه فيه، قال ابن عباس وغيره: الخطاب لأمة
النبي صلى الله عليه وسلم وفي " مختصر الطبري "، عن مسروق وغيره، قال: احتج المسلمون وأهل
الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى، وقال أهل الكتاب: نحن أهدى، فأنزل الله هذه
الآية، وعن مجاهد: قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقالت اليهود والنصارى:
303

(لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) [البقرة: 111]، وقالوا: (لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة) [البقرة: 80]، قال الطبري: وقول مجاهد أولى بالصواب، وذلك أن
المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي، وإنما جرى ذكر أماني نصيب
الشيطان. انتهى.
وعليه عول * ص *: في سبب نزول الآية، أعني: على تأويل مجاهد.
وقوله تعالى: (من يعمل سوءا يجز به).
قال جمهور الناس: لفظ الآية عام، فالكافر والمؤمن مجازى، فأما مجازاة الكافر،
فالنار، وأما مجازاة المؤمن، فبنكبات الدنيا، فمن بقي له سوء إلى الآخرة، فهو في المشيئة
يغفر الله لمن يشاء، ويجازي من يشاء.
(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا
يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا
واتخذ الله إبراهيم خليلا (125))
وقوله تعالى: (ومن يعمل من الصالحات)، دخلت " من " للتبعيض، إذ الصالحات
على الكمال مما لا يطيقه البشر، ففي هذا رفق بالعباد، لكن في هذا البعض الفرائض، وما
أمكن من المندوب إليه، ثم قيد الأمر بالإيمان، إذ لا ينفع عمل دونه، والنقير: النكتة التي
في ظهر النواة ومنه تنبت، وعن ابن عباس: ما تنقره بإصبعك.
ثم أخبر تعالى إخبارا موقفا على أنه لا أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله، أي: أخلص
مقصده وتوجهه، وأحسن في أعماله، واتبع الحنيفية ملة إبراهيم إمام العالم، وقدوة
الأديان، ثم ذكر سبحانه تشريفه لنبيه إبراهيم - عليه السلام -، باتخاذه خليلا، وسماه
خليلا، إذ كان خلوصه، وعبادته، واجتهاده على الغاية التي يجرى إليها المحب المبالغ،
وذهب قوم، إلى أنه سمي خليلا من " الخلة " - بفتح الخاء -، أي: لأنه أنزل خلته وفاقته
بالله تعالى، وكذلك شرف الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم / بالخلة، كما هو مصرح به في الحديث
الصحيح.
(ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شئ محيطا (126))
304

وقوله تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض...) الآية: ذكر سبحانه سعة
ملكه وإحاطته بكل شئ، عقب ذكر الدين، وتبيين الجادة منه، ترغيبا في طاعته والانقطاع
إليه سبحانه
(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى
النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا
لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما (127))
وقوله تعالى: (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم...) الآية: معنى قوله:
(يفتيكم فيهن): أي: يبين لكم حكم ما سألتم عنه.
قال * ع *: تحتمل " ما " أن تكون في موضع رفع، عطفا على اسم الله
عز وجل، أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتاب، يعني: القرآن، والإشارة بهذا إلى ما
تقدم من الآية في أمر النساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة: (وإن خفتم ألا تقسطوا
في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء...) [النساء: 3] الآية، قالت عائشة: نزلت هذه
الآية أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء، فنزلت، (ويستفتونك في
النساء قل الله يفتيكم فيهن...) الآية.
وقوله تعالى: (في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن): معناه: النهي عما
كانت العرب تفعله من ضم اليتيمة الجميلة بدون ما تستحقه من المهر، ومن عضل الدميمة
الغنية حتى تموت، فيرثها العاضل، والذي كتب الله لهن هو توفية ما تستحقه من مهر.
وقوله تعالى: (وترغبون أن تنكحوهن)، أي: إن كانت الجارية غنية جميلة، فالرغبة
في نكاحها، وإن كانت بالعكس، فالرغبة عن نكاحها.
وقوله تعالى: (والمستضعفين من الولدان) عطف على " يتامى النساء "، والذي يتلى
في المستضعفين من الولدان هو قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم....) [النساء: 11]
الآية، وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية، ولا الصبي الصغير، ففرض الله تعالى لكل
واحد حقه.
وقوله تعالى: (وأن تقوموا لليتامى بالقسط): عطف أيضا على ما تقدم، والذي تلي
في هذا المعنى هو قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم...) [النساء: 2] الآية،
305

إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم، والقسط: العدل، وباقي الآية بين.
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح
خير وأحضرت الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128))
وقوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا...) الآية: هذه الآية حكم من
الله تعالى في أمر المرأة التي تكون ذات سن ونحو ذلك مما يرغب زوجها عنها، فيعرض
عليها الفرقة أو الصبر على الأثرة، فتريد هي بقاء العصمة، فهذه التي أباح الله بينهما الصلح
ورفع الجناح فيه.
واختلف في سبب نزول الآية، فقال ابن عباس وجماعة: نزلت في النبي - عليه
السلام - وسودة بنت زمعة وفي المصنفات: أن سودة لما كبرت، وهبت يومها
لعائشة، وقال ابن المسيب وغيره: نزلت بسبب رافع بن خديج...........
306

وامرأته خولة، وقال مجاهد: نزلت بسبب أبي السنابل وامرأته، ولفظ ابن العربي
في " أحكامه ": قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا...) الآية:
قالت عائشة (رضي الله تعالى عنها): هي المرأة تكون عند الرجل ليس بمستكثر منها يريد
أن يفارقها، فتقول له: أجعلك من شأني في حل، فنزلت الآية، قال الفقيه أبو بكر بن
العربي: فرضوان الله على الصديقة المطهرة، لقد وفت بما حملها ربها من العهد في قوله
تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) [الأحزاب: 34] انتهى.
وقوله تعالى: (والصلح خير) لفظ عام مطلق يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي
تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف خير على الإطلاق، ويندرج تحت هذا العموم أن
صلح الزوجين / على ما ذكرنا - خير من الفرقة.
وقوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) معذرة عن عبيده تعالى، أي: لا بد
للإنسان بحكم خلقته وجبلته من أن يشح على إرادته حتى يحمل صاحبه على بعض ما
يكره، وخصص المفسرون هذه اللفظة هنا.
307

فقال ابن جبير: هو شح المرأة بالنفقة من زوجها، وبقسمه لها أيامها.
وقال ابن زيد: الشح هنا منه ومنها،
قال * ع *: وهذا حسن.
والشح: الضبط على المعتقدات، وفي الهمم، والأموال، ونحو ذلك، فما أفرط
منه، ففيه بعض المذمة، وهو الذي قال تعالى فيه: (ومن يوق شح نفسه) [الحشر: 9]، وما
صار إلى حيز منع الحقوق الشرعية، أو التي تقتضيها المروءة، فهو البخل، وهي رذيلة،
لكنها قد تكون في المؤمن، ومنه الحديث: " قيل: يا رسول الله، أيكون المؤمن بخيلا؟
قال: " نعم "، وأما الشح، ففي كل أحد، وينبغي ألا يفرط إلا على الدين، ويدلك على أن
الشح في كل أحد قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح)، وقوله: (ومن يوق شح
نفسه) [الحشر: 9]، فقد أثبت أن لكل نفس شحا، وقول النبي - عليه السلام -: " وأن
تصدق وأنت صحيح شحيح "، وهذا لم يرد به واحدا بعينه، وليس يجمل أن يقال هنا:
أن تصدق، وأنت صحيح بخيل.
وقوله تعالى: (وإن تحسنوا): ندب إلى الإحسان في تحسين العشرة، والصبر على
خلق الزوجة، (وتتقوا): معناه: تتقوا الله في وصيته بهن، إذ هن عوان عندكم.
(ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها
كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129))
وقوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تعدلوا...) الآية: معناه: العدل التام على
308

الإطلاق، والمستوي في الأفعال، والأقوال، والمحبة، والجماع، وغير ذلك، " وكان صلى الله عليه وسلم
يقسم بين نسائه، ثم يقول: اللهم، هذا فعلي فيما أملك، فلا تؤاخذني بما تملك، ولا
أملك ".
فوصف الله سبحانه حالة البشر، أنهم بحكم الخلفة لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض
الأزواج، دون بعض، ثم نهى سبحانه عن الميل كل الميل، وهو أن يفعل فعلا يقصده من
التفضيل، وهو يقدر ألا يفعله، فهذا هو كل الميل، وإن كان في أمر حقير.
وقوله سبحانه: (فتذروها كالمعلقة)، أي: لا هي أيم، ولا ذات زوج، وجاء في
التي قبل: (وإن تحسنوا)، وفي هذه: (وإن تصلحوا)، لأن الأولى في مندوب إليه،
وفي هذه في لازم، إذ يلزمه العدل فيما يملك.
(وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130))
وقوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته...) الآية: إن شح كل واحد من
الزوجين، فلم يتصالحا، لكنهما تفرقا بطلاق، فإن الله تعالى يغني كل واحد منهما عن
صاحبه بفضله، ولطائف صنعه في المال، والشعرة، والسعة، وجود المرادات، والتمكن
منها، والواسع: معناه: الذي عنده خزائن كل شئ.
(ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم
أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما
في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين
وكان الله على ذلك قديرا (133))
وقوله سبحانه: (ولله ما في السماوات وما في الأرض): تنبيه على موضع الرجاء
لهذين المفترقين، ثم جاء بعد ذلك قوله: (وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في
الأرض)، تنبيها على استغنائه عن العباد، ومقدمة للخبر بكونه غنيا حميدا، ثم جاء بعد
309

ذلك قوله: (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) مقدمة للوعيد، فهذه
وجوه تكرار هذا الخبر الواحد ثلاث مرات متقاربة.
* ت *: وفي تمشيته هذه عندي نظر، والأحسن بقاء الكلام على نسقه فقوله (رحمه
الله): " تنبيه على موضع الرجاء لهذين المفترقين " - حسن، وإنما الذي فيه قلق ما بعده من
توجيهه.
وقوله تعالى: (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم...) الآية: لفظ
عام لكل من أوتي كتابا، فإن وصيته سبحانه لعباده لم تزل منذ أوجدهم.
* ت *: قال الأستاذ أبو بكر الطرطوشي في " سراج الملوك " /: ولما ضرب ابن
ملجم عليا (رضي الله عنه)، أدخل منزله، فاعترته غشية، ثم أفاق، فدعا أولاده،
310

الحسن، والحسين، ومحمدا، فقال: أوصيكم بتقوى الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق
في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، والعدل على الصديق والعدو، والعمل في
النشاط والكسل، والرضا عن الله في الشدة والرخاء، يا بني، ما شر بعده الجنة بشر، ولا
خير بعده النار بخير، وكل نعيم دون الجنة حقير، وكل بلاء دون النار عافية، من أبصر
عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي بقسم الله لم يحزن على ما فاته، ومن سل
سيف بغي قتل به، ومن حفر لأخيه بئرا وقع فيها، ومن هتك حجاب أخيه، كشف الله
عورات بنيه، ومن نسي خطيئته، استعظم خطيئة غيره، ومن استغنى بعقله زل، ومن تكبر
على الناس ذل، ومن أعجب برأيه ضل. ومن جالس العلماء وقر، ومن خالط الأنذال
احتقر، ومن دخل مداخل السوء اتهم، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شئ عرف
به، ومن كثر كلامه كثر خطؤه، ومن كثر خطؤه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن
قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار، يا بني، الأدب خير ميراث، وحسن الخلق
خير قرين، يا بني، العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت إلا عن ذكر الله، وواحد
في ترك مجالسة السفهاء، يا بني، زينة الفقر الصبر، وزينة الغنى الشكر، يا بني، لا شرف
أعز من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، يا بني، الحرص مفتاح البغي، ومطية النصب،
طوبى لمن أخلص لله عمله وعلمه، وحبه وبغضه، وأخذه وتركه، وكلامه وصمته، وقوله
وفعله. انتهى.
والوكيل: القائم بالأمور، المنفذ فيها ما رآه، وقوله: (أيها الناس): مخاطبة
للحاضرين من العرب، وتوقيف للسامعين، لتحضر أذهانهم، وقوله: (بآخرين) يريد من
نوعكم، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا لجميع بني آدم، ويكون الآخرون من غير نوعهم،
كالملائكة، وقول الطبري: " هذا الوعيد والتوبيخ للشافعين والمخاصمين في قصة بني
أبيرق " - بعيد، واللفظ إنما يظهر حسن رصفه بعمومه وانسحابه على العالم جملة، أو العالم
الحاضر.
(من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)
* يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن
يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان
بما تعملون خبيرا (135))
311

وقوله تعالى: (من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة...) الآية:
أي: من كان لا مراد له إلا في ثواب الدنيا، ولا يعتقد أن ثم سواه، فليس كما ظن، بل
عند الله سبحانه ثواب الدارين، فمن قصد الآخرة، أعطاه الله من ثواب الدنيا، وأعطاه
قصده، ومن قصد الدنيا فقط، أعطاه من الدنيا ما قدر له، وكان له في الآخرة العذاب
والله تعالى سميع للأقوال، بصير بالأعمال والنيات، وفي الحديث الصحيح، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى...) الحديث، قال
312

النووي: بلغنا عن ابن عباس، أنه قال: " إنما يحفظ الرجل على قدر نيته "، وقال غيره:
إنما يعطى الناس على قدر نياتهم. انتهى.
313

ثم خاطب سبحانه المؤمنين بقوله: (كونوا قوامين بالقسط)، وهو العدل، ومعنى
(شهداء لله) أي: لذاته، ولوجهه، ولمرضاته سبحانه، وقوله: (ولو على أنفسكم):
314

متعلق ب‍ (شهداء)، هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وإن هذه الشهادة المذكورة هي
في الحقوق، ويحتمل أن يكون المعنى: شهداء لله بالوحدانية، ويتعلق قوله: (ولو على
أنفسكم) ب‍ (قوامين بالقسط) /، والتأويل الأول أبين، وشهادة المرء على نفسه هو
إقراره بالحقائق.
قال * ص *: وقوله تعالى: (إن يكن غنيا أو فقيرا): ضمير " يكن " عائد إلى
المشهود عليه، والضمير في " بهما " عائد على جنسي الغني والفقير. انتهى.
قال * ع *: وقوله: (أولى بهما): أي: هو أنظر لهما، وروى الطبري، أن
هذه الآية هي بسبب نازلة بني أبيرق، وقيام من قام فيها بغير القسط.
وقوله تعالى: (فلا تتبعوا الهوى): نهي بين، واتباع الهوى مرد مهلك.
وقوله تعالى: (أن تعدلوا) يحتمل أن يكون معناه: مخافة أن تعدلوا، ويكون العدل
هنا بمعنى العدول عن الحق، ويحتمل أن يكون معناه: محبة أن تعدلوا، ويكون العدل
315

بمعنى القسط.
وقوله تعالى: (وإن تلووا أو تعرضوا...) الآية: قال ابن عباس: هي في
الخصمين يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر،
وقال ابن زيد وغيره: هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه، أو يعرض عن أدائها.
قال * ع *: ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، والتوسط بين الناس، وكل إنسان
مأخوذ بأن يعدل، والخصوم مطلوبون بعدل ما في القضاة، فتأمله، وقد تقدم تفسير اللي،
وباقي الآية وعيد.
(يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي
أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله...) الآية: اختلف من
المخاطب بهذه الآية:
فقيل: الخطاب للمؤمنين، ومضمن هذا الأمر الثبوت والدوام، وقالت فرقة:
الخطاب لأهل الكتابين، ورجحه الطبري، وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الذين
آمنوا في الظاهر، ليكن إيمانكم حقيقة.
وقوله سبحانه: (ومن يكفر بالله...) إلى آخر الآية: وعيد، وخبر مضمنه تحذير
المؤمنين من حالة الكفر.
(إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا
ليهديهم سبيلا (137))
وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا ثم كفروا...) الآية: قال مجاهد، وابن زيد: الآية
في المنافقين، فإن منهم من كان يؤمن، ثم يكفر، ثم يؤمن، ثم يكفر، ثم ازداد كفرا، بأن
تم على نفاقه حتى مات.
316

قال * ع *: وهذا هو التأويل الراجح، وتأمل قوله تعالى: (لم يكن الله ليغفر
لهم)، فإنها عبارة تقتضي أن هؤلاء محتوم عليهم من أول أمرهم، ولذلك ترددوا، وليست
هذه العبارة مثل أن يقول: لا يغفر الله لهم، بل هي أشد، فتأمل الفرق بين العبارتين، فإنه
من دقيق غرائب الفصاحة التي في كتاب الله سبحانه.
(بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الذي يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين
أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا (139))
وقوله تعالى: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما...) الآية: في هذه الآية دليل ما
على أن التي قبلها إنما هي في المنافقين، ثم نص سبحانه من صفات المنافقين على أشدها
ضررا، وهي موالاتهم الكافرين، واطراحهم المؤمنين، ونبه على فساد ذلك، ليدعه من
عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين، غفلة، أو جهالة، أو مسامحة ثم وقفهم سبحانه،
على جهة التوبيخ، فقال: (أيبتغون عندهم العزة)، والاستكثار، أي: ليس الأمر كذلك،
فإن العزة لله جميعا يؤتيها من يشاء، وقد وعد بها المؤمنين، وجعل العاقبة للمتقين، والعزة
أصلها الشدة والقوة، ومنه: (وعزني في الخطاب) [ص: 23] أي: غلبني بشدته.
(وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم
حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140))
وقوله سبحانه: (وقد نزل عليكم في الكتاب...) الآية: مخاطبة لجميع من أظهر
الإيمان من محقق ومنافق، لأنه إذا أظهر الإيمان، فقد لزمه امتثال أوامر كتاب الله تعالى،
والإشارة بهذه الآية إلى قوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم
حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68] إلى نحو / هذا من الآيات، والكتاب في هذا
الموضع القرآن، وفي الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع والمعاصي، وألا
يجالسوا، وقد قيل: [الطويل].
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن مقتد
وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ثم توعد سبحانه المنافقين والكافرين
بجمعهم في جهنم، فتأكد بذلك النهي عن مجالستهم وخلطتهم.
317

(الذين يتربصون بكم فإن لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين
نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141) إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى
الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء
ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143))
وقوله تعالى: (الذين يتربصون بكم...) الآية: هذه صفة المنافقين، و (يتربصون
بكم): معناه: ينتظرون دور الدوائر عليكم، فإن كان فتح للمؤمنين، ادعوا فيه النصيب
بحكم ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافرين نيل من المؤمنين، ادعوا فيه النصيب
بحكم ما يبطنونه من موالاة الكفار، وهذا حال المنافقين، و (نستحوذ): معناه: نغلب
على أمركم ونحوطكم، ومنه: (استحوذ عليهم الشيطان) [المجادلة: 19]، معناه: غلب على
أمرهم، ثم سلى سبحانه المؤمنين، وأنسهم بما وعدهم به في قوله: (فالله يحكم بينكم
يوم القيامة)، أي: وبينهم، وينصفكم من جميعهم، وبقوله تعالى: (ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا)، أي: يوم القيامة، قاله علي (رضي الله عنه)، وعليه
جميع أهل التأويل، والسبيل هنا: الحجة والغلبة. قلت: إلا ابن العربي لم يرتض هذا
التأويل، قال: وإنما معنى الآية أحد ثلاثة وجوه:
الأول: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويستبيح
بيضتهم.
الثاني: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا إلا أن يتواصوا بالباطل، ولا
يتناهوا عن المنكر، ويتباعدوا عن التوبة، فيكون تسليط العدو من قبلهم، وهذا نفيس جدا.
الثالث: لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع، فإن وجد ذلك،
فبخلاف الشرع، ونزع بهذا علماؤنا، بالاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم.
انتهى.
318

ومخادعة المنافقين: هي لأولياء الله، ففي الكلام حذف مضاف، إذ لا يقصد أحد
من البشر مخادعة الله سبحانه.
وقوله تعالى: (وهو خادعهم): عبارة عن عقوبتهم، سماها باسم الذنب، وقال ابن
319

جريج، والحسن، والسدي، وغيرهم من المفسرين: إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي
لهذه الأمة يوم القيامة نورا لكل إنسان مؤمن، أو منافق، فيفرح المنافقون، ويظنون، أنهم
قد نجوا، فإذا جاءوا إلى الصراط، طفئ نور كل منافق، ونهض المؤمنون، فذلك قول
المنافقين، (انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد: 13]، فذلك هو الخدع الذي يجري على
المنافقين، ثم ذكر سبحانه كسلهم في الصلاة، وتلك حال كل من يعمل كارها غير معتقد
فيه الصواب، بل تقية أو مصانعة.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: (ولا يذكرون الله إلا قليلا)، روى
الأئمة مالك وغيره، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تلك صلاة
المنافقين، تلك صلاة
المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم حتى إذا اصفرت الشمس، وكانت بين
قرني الشيطان، قام ينقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا " قال ابن العربي: وقد بين
تعالى / صلاة المؤمنين بقوله: (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون)
[المؤمنون: 1، 2] ومن خشع خضع، واستمر، ولم ينقر صلاته، ولم يستعجل. انتهى.
و (مذبذبين): معناه: مضطربين لا يثبتون على حال، والتذبذب: الاضطراب،
فهؤلاء المنافقون مترددون بين الكفار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما
قال صلى الله عليه وسلم: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين "، والإشارة بذلك إلى حالتي
الكفر والإيمان.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله
عليكم سلطانا مبينا (144) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا
320

الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله
المؤمنين أجرا عظيما (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا
عليما (147))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين...)
الآية: خطابه سبحانه للمؤمنين يدخل فيه بحكم الظاهر المنافقون المظهرون للإيمان، ففي
اللفظ رفق بهم، وهم المراد بقوله سبحانه: (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا)،
لأن هذا التوقيف إنما هو لمن ألم بشئ من الفعل المؤدي إلى هذه الحال، والمؤمنون
المخلصون ما ألموا قط بشئ من ذلك، ويقوي هذا المنزع قوله تعالى: (من دون
المؤمنين)، أي: والمؤمنون العارفون المخلصون غيب عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال
للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان، والتزموا لوازمه، والسلطان:
الحجة.
ثم أخبر تعالى عن المنافقين، أنهم في الدرك الأسفل من نار جهنم، وذلك لأنهم
أسرى غوائل من الكفار، وأشد تمكنا من أذى المسلمين، قلت: وأيضا لأنهم شاهدوا من
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، وما جعل الله على يديه من الخوارق ما لم يشاهد غيرهم من الكفار،
فكانت الحجة عليهم أعظم، وكان كفرهم محض عناد، وروي عن أبي هريرة، وابن
مسعود، وغيرهما، أنهم قالوا: المنافقون في الدرك الأسفل من النار، في توابيت من النار
تقفل عليهم، ثم استثنى عز وجل التائبين من المنافقين، ومن شروط التائب، أن يصلح
في قوله وفعله، ويعتصم بالله، أي: يجعله منعته، وملجأه، ويخلص دينه لله تعالى، وإلا
فليس بتائب، وقوله: (فأولئك مع المؤمنين)، أي: في رحمة الله سبحانه، وفي منازل
الجنة، ثم وعد سبحانه المؤمنين الأجر العظيم، وهو التخليد في الجنة.
وقال * ص *: (فأولئك): خبره مضمر، والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المؤمنين،
قاله أبو البقاء. انتهى.
ثم قال سبحانه للمنافقين: (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم...) الآية: أي: أي
منفعة له سبحانه في ذلك أو حاجة؟! قال أبو عبد الله اللخمي: زعم الطبري، أن قوله
تعالى: (ما يفعل الله بعذابكم): خطاب للمنافقين، ولا يكاد يقوم له على ذلك دليل يقطع
321

به، وليس في ذكر المنافقين قبله ما يقتضي أن يحمل عليهم خاصة، مع احتمال الآية
للعموم، فقطعه بأن الآية في المنافقين حكم لا يقوم به دليل. انتهى، وهو حسن، إذ حمل
الآية على العموم أحسن.
والعجب من * ع *: كيف تبع الطبري في هذا التخصيص، ويظهر - والله أعلم -
أنهما عولا في تخصيص الآية على قوله تعالى: (وآمنتم)، وهو محتمل أن يحمل في حق
المنافقين على ظاهره، وفي حق المؤمنين على معنى: " دمتم على إيمانكم "، والله أعلم.
والشكر على الحقيقة لا يكون إلا مقترنا بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيدا وتنبيها
على / جلالة موقعه، ثم وعد سبحانه بقوله: (وكان الله شاكرا عليما) أي: يتقبل أقل
شئ من العمل، وينميه، فذلك شكر منه سبحانه لعباده، والشكور من البهائم: الذي يأكل
قليلا، ويظهر به بدنه، والعرب تقول في مثل: " أشكر من بروقة "، لأنها يقال: تخضر
وتتنضر بظل السحاب دون مطر، وفي قوله: (عليما): تحذير وندب إلى الإخلاص.
(* لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا
خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149))
وقوله تعالى: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم...) الآية: قراءة
الجمهور بضم الظاء، وقرئ شاذا بفتحها، واختلف على قراءة الجمهور، فقالت
فرقة: المعنى: لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم، فلا يكره له
الجهر به، ثم اختلفت هذه الفرقة في كيفية الجهر بالسوء، وما هو المباح منه، فقال ابن
عباس وغيره: لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من
القول، أي: بما يوازي الظلامة، وقال مجاهد وغيره: نزلت في الضيف المحول رحله،
فإنه رخص له أن يجهر بالسوء من القول للذي لم يكرمه، يريد: بقدر الظلم، والظلامة،
322

وهو " صحيح البخاري "، عن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر، فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يؤذي جارة، ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت ". انتهى.
" وسميع عليم ": صفتان لائقتان بالجهر بالسوء، وبالظلم أيضا، فإنه يعلمه ويجازي
عليه، ولما ذكر سبحانه عذر المظلوم في أن يجهر بالسوء لظالمه، أتبع ذلك عرض إبداء
الخير، وإخفائه، والعفو عن السوء، ثم وعد عليه سبحانه بقوله: (فإن الله كان عفوا
قديرا) وعدا خفيا تقتضيه البلاغة، ورغب سبحانه في العفو، إذ ذكر أنها صفته مع القدرة
على الانتقام.
قال * ع *: ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها، قال الداوودي:
وعن ابن عمر، أنه قال: لا يحب الله سبحانه أن يدعو أحد على أحد إلا أن يظلم، فقد
رخص له في ذلك. انتهى.
(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن
ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا
وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك
سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152))
323

وقوله تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله...) إلى آخر الآية: نزل في اليهود
والنصارى، وقد تقدم بيان هذه المعاني.
وقوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله...) الآية: لما ذكر سبحانه أن المفرقين
بين الرسل هم الكافرون حقا، عقب ذلك بذكر المؤمنين بالله ورسله جميعا، وهم
المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليصرح بوعد هؤلاء، كما صرح بوعيد أولئك، فبين الفرق بين
المنزلتين.
(يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك
فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات
فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب
سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154))
وقوله تعالى: (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء...) الآية: قال
قتادة سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بكتاب من عند الله خاص لليهود، يأمرهم فيه
بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحوه عن ابن جريج، وزاد: " إلى فلان، وإلى فلان أنك رسول
الله "، ثم قال سبحانه، على جهة التسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك)،
وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور، تقديره: فلا تبال، يا محمد، من سؤالهم
وتشططهم، فإنها عادتهم، وجمهور المتأولين على أن (جهرة) معمول ل‍ (أرنا)، أي:
حتى نراه جهارا، أي: عيانا، وأهل السنة معتقدون أن هؤلاء لم يسألوا محالا عقلا، لكنه
محال من جهة الشرع، إذ قد أخبر تعالى على ألسنة / أنبيائه أنه لا يرى سبحانه في هذه
الدنيا، والرؤية في الآخرة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر المتواتر، وهي جائزة عقلا من غير
تحديد، ولا تكييف ولا تحيز، كما هو تعالى معلوم لا كالمعلومات، كذلك هو مرئي، لا
كالمرئيات سبحانه، هذه حجة أهل السنة، وقولهم، وقد تقدم قصص القوم في " البقرة "،
وظلمهم: هو تعنتهم وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه.
وقوله تعالى: (ثم اتخذوا العجل): " ثم ": للترتيب في الأخبار، لا في نفس الأمر،
التقدير، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل، وذلك أن اتخاذ العجل كان عند أمر
324

المضي إلى المناجاة، ولم يكن الذين صعقوا ممن اتخذ العجل، لكن الذين اتخذوه كانوا
قد جاءتهم البينات.
وقوله سبحانه: (فعفونا عن ذلك)، يعني: بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم، ثم
وقع العفو عن الباقين منهم.
(فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل
طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمن إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156)
وقولهم إنا قلتنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين
اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا (157))
وقوله سبحانه: (فبما نقضهم): " ما " زائدة مؤكدة، التقدير: فبنقضهم، فالآية مخبرة
عن أشياء واقعوها هي ضد ما أمروا به، وحذف جواب هذا الكلام بليغ مبهم متروك مع
ذهن السامع، تقديره: لعناهم ونحوه، ثم قال سبحانه: (وبكفرهم): أي: بعيسى،
(وقولهم على مريم بهتانا)، هو رميهم إياها بالزنا بعد رؤيتهم الآية في كلام عيسى في
المهد، (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم...) الآية: هذه الآية والتي قبلها عدد
الله تعالى فيهما أقوال بني إسرائيل، وأفعالهم، على اختلاف الأزمان، وتعاقب القرون،
فاجتمع من ذلك توبيخ خلفهم المعاصرين لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذه الطائفة التي قالت: إنا
قتلنا المسيح - غير الذين نقضوا الميثاق في الطور، وغير الذين اتخذوا العجل، وقول بني
إسرائيل إنما هو إلى قوله: (عيسى ابن مريم).
وقوله تعالى: (رسول الله)، إنما هو إخبار من الله تعالى بصفة لعيسى، وهي
الرسالة، على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل، ولزمهم الذنب، وهم لم يقتلوا
عيسى، لأنهم صلبوا ذلك الشخص، على أنه عيسى، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول
الله، فلزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى.
قال * ص *: و (عيسى): بدل أو عطف بيان من (المسيح)، و (رسول الله)
كذلك، ويجوز أن يكون صفة ل‍ (عيسى)، وأن يكون نصبا على إضمار أعني.
قلت: وهذا الأخير أحسنها من جهة المعنى. انتهى.
ثم أخبر سبحانه أن بني إسرائيل ما قتلوا عيسى، وما صلبوه، ولكن شبه لهم،
واختلفت الرواة في هذه القصة، والذي لا يشك فيه أن عيسى - عليه السلام - كان يسيح في
الأرض ويدعو إلى الله، وكانت بنو إسرائيل تطلبه، وملكهم في ذلك الزمان يجعل عليه
325

الجعائل، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريون يسيرون معه، حيث سار، فلما كان في
بعض الأوقات، شعر بأمر عيسى، فروي أن رجلا من اليهود جعل له جعل، فما زال ينقر
عنه، حتى دل على مكانه، فلما أحس عيسى وأصحابه بتلاحق الطالبين بهم، دخلوا بيتا
بمرأى من بني إسرائيل، فروي أنهم عدوهم ثلاثة عشر، وروي: ثمانية عشر، وحصروا
ليلا، فروي أن عيسى فرق الحواريين عن نفسه تلك الليلة، ووجههم إلى الآفاق، وبقي هو
ورجل معه، فرفع عيسى، وألقي شبهه على الرجل، فصلب ذلك الرجل، وروي أن الشبه
ألقي على اليهودي الذي دل عليه، فصلب /، وروي أن عيسى - عليه السلام - لما أحيط
بهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل، ويخلص هؤلاء، وهو رفيقي في
الجنة، فقال سرجس: أنا، فألقي عليه شبه عيسى، وروي أن شبه عيسى ألقي على الجماعة
كلها، فلما أخرجهم بنو إسرائيل، نقصوا واحدا من العدة، فأخذوا واحدا ممن عليه الشبه
حسب هذه الروايات التي ذكرناها، فصلبوه، وروي أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم
أمر رفع عيسى، لما رأوه من نقصان العدة، واختلاط الأمر.
وقوله تعالى: (وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه...) الآية: يعني اختلاف
المحاولين لأخذه، لأنهم حين فقدوا واحدا من العدد، وتحدث برفع عيسى، اضطربوا،
واختلفوا، لكن أجمعوا على صلب واحد من غير ثقة، ولا يقين، أنه هو.
وقوله تعالى: (وما قتلوه يقينا)، قال ابن عباس وجماعة: المعنى: وما صح
ظنهم عندهم، ولا تحققوه يقينا، فالضمير في " قتلوه " عندهم عائد على الظن، كما تقول:
ما قتلت هذا الأمر علما، قلت: وعبارة السدي: " وما قتلوا أمره يقينا أن الرجل هو
عيسى ". انتهى من " مختصر الطبري "، وقال قوم: الضمير عائد على عيسى، أخبر
سبحانه أنهم ما قتلوه في الحقيقة جملة واحدة، لا يقينا ولا شكا، لكن لما حصلت في
ذلك الدعوى، صار قتله عندهم مشكوكا فيه، وقال قوم من أهل اللسان: الكلام تام في
قوله: (وما قتلوه)، و (يقينا): مصدر مؤكد للنفي في قوله: (وما قتلوه)، المعنى:
نخبركم يقينا، أو نقص عليكم يقينا، أو أيقنوا بذلك يقينا.
وقال * ص *: بعد كلام: والظاهر أن الضمير في (قتلوه) عائد إلى عيسى لتتحد
الضمائر، و (يقينا): منصوب في موضع الحال من فاعل (قتلوه) أي: مستيقنين أنه
326

عيسى، أو نعت لمصدر محذوف، أي: قتلا يقينا. انتهى.
(بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158))
وقوله تعالى: (بل رفعه الله إليه): يعني: إلى سمائه وكرامته، وعيسى - عليه
السلام - في السماء، على ما تضمنه حديث الإسراء في ذكر ابني الخالة عيسى ويحيى،
ذكره البخاري في حديث المعراج، وذكره غيره، وهو هنالك مقيم، حتى ينزله الله
تعالى لقتل الدجال، وليملأ الأرض عدلا ويحيا فيها أربعين سنة، ثم يموت، كما يموت
البشر.
(وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159))
وقوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته): اختلف في معنى
الآية:
فقال ابن عباس وغيره: الضمير في (موته) راجع إلى عيسى، والمعنى: أنه لا
يبقى من أهل الكتاب أحد، إذا نزل عيسى إلى الأرض، إلا يؤمن بعيسى، كما يؤمن سائر
البشر، وترجع الأديان كلها واحدا، يعني: يرجعون على دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إذ عيسى
واحد من أمته وعلى شريعته، وأئمتنا منا كما ورد في الحديث الصحيح.
وقال مجاهد وابن عباس أيضا وغيرهما: الضمير في (به) لعيسى، وفي (موته)
للكتابي، لكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه، وقال عكرمة: الضمير في (به)
لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم و (قبل موته) للكتابي قال: وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا
حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو غرق أو سقط عليه جدار، فإنه يؤمن في ذلك الوقت، وفي
مصحف أبي بن كعب: " قبل موتهم "، ففي هذه القراءة تقوية لعود الضمير على الكتابي.
قال * ص *: (وإن من أهل الكتاب...) الآية: " إن ": هنا نافية، والمخبر عنه
327

محذوف قامت صفته مقامه، أي: وما أحد من أهل الكتاب، كما حذف في قوله تعالى:
(وإن منكم إلا واردها) [مريم: 71]، وقوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم)
[الصافات: 164] أي: وما أحد منا، وما أحد منكم، قال الشيخ أبو حيان: (ليؤمنن به):
جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه هو الخبر، وكذلك أيضا (إلا له مقام) و (إلا
واردها)، هما الخبر، قال الزجاج: وحذف " أحد " مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء،
نحو: ما قام إلا زيد، أي: ما قام أحد إلا زيد. انتهى.
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160)
وأحذرهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما (161) لكن
الراسخون في العلم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون
الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما (162))
وقوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم...) الآية:
(فبظلم): معطوف على قوله سبحانه: (فبما نقضهم) [النساء: 155]، والطيبات هنا: هي
الشحوم، وبعض الذبائح، والطير والحوت، وغير ذلك، وقرأ ابن عباس: " طيبات كانت
أحلت لهم ".
(وبصدهم عن سبيل الله كثيرا): يحتمل أن يريد صدهم في ذاتهم، ويحتمل أن
يريد صدهم غيرهم، (وأخذهم الربا)، هو الدرهم بالدرهمين إلى أجل، ونحو ذلك مما
هو مفسدة، وقد نهوا عنه، ثم استثنى سبحانه الراسخين في العلم منهم، كعبد الله بن
سلام، ومخيريق، ومن جرى مجراهم.
واختلف الناس في قوله سبحانه: (والمقيمين)، وكيف خالف إعرابها إعراب ما
تقدم وما تأخر.
فقال بعض نحاة البصرة والكوفة: إنما هذا من قطع النعوت، إذا كثرت على النصب
ب‍ " أعني " والرفع بعد ذلك ب‍ " هم "، وقال قوم: (والمقيمين): عطف على " ما " في قوله:
(وما أنزل من قبلك)، والمعنى: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، وهم الملائكة، أو من تقدم
من الأنبياء، وقال قوم: (والمقيمين): عطف على الضمير في منهم، وقال آخرون: بل
على الكاف في قوله: (من قبلك).
328

وزاد ص: (والمقيمين) منصوب على المدح، قال: وقرأ جماعة: " والمقيمون "
انتهى.
(* إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود
زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصهم عليك وكلم الله موسى
تكليما (164))
وقوله تعالى: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...) الآية:
سبب نزولها قول بعض أحبار يهود: (ما أنزل الله على بشر من شئ...) [الأنعام: 91]
فأنزل الله سبحانه الآية، تكذيبا لهم.
قال * ع *: إسماعيل هو الذبيح، في قول المحققين، والوحي: إلقاء المعنى في
خفاء، وعرفه في الأنبياء بوساطة جبريل - عليه السلام -، وكلم الله سبحانه موسى بكلام
دون تكييف، ولا تحديد، ولا حرف، ولا صوت، والذي عليه الراسخون في العلم، أن
الكلام هو المعنى القائم في النفس، ويخلق الله لموسى إدراكا من جهة السمع يتحصل به
الكلام، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات، معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه
لا كالكلام.
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا
حكيما (165))
وقوله سبحانه: (رسلا مبشرين ومنذرين...) الآية: رسلا: بدل من الأول، وأراد
سبحانه أن يقطع بالرسل احتجاج من يقول: لو بعث إلي رسول، لآمنت، والله سبحانه
" عزيز "، لا يغالبه شئ، ولا حجة لأحد عليه، حكيم في أفعاله، فقطع الحجة بالرسل،
حكمة منه سبحانه.
(لك الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا
329

(166) إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا
لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على
الله يسيرا (169))
وقوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك...) الآية: سببها قول اليهود: (ما
أنزل الله على بشر من شئ) [الأنعام: 91].
وقال * ص *: " لكن ": استدراك، ولا يبتدأ بها، فيتعين تقدير جملة قبلها يبينها
سبب النزول، وهو أنه لما نزل: (إنا أوحينا إليك) [النساء: 163]، قالوا: ما نشهد لك
بهذا، فنزل: (لكن الله يشهد). انتهى.
وقوله تعالى: (أنزله بعلمه)، هذه الآية من أقوى متعلقات أهل السنة في إثبات علم
الله عز وجل، خلافا للمعتزلة في أنهم يقولون: عالم بلا علم، والمعنى عند أهل السنة:
أنزله، وهو يعلم / إنزاله ونزوله.
وقوله سبحانه: (والملائكة يشهدون): تقوية لأمر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ورد على
اليهود.
وقوله تعالى: (وكفى بالله شهيدا)، تقديره: وكفى الله شهيدا، لكنه دخلت الباء،
لتدل على أن المراد اكتفوا بالله، وباقي الآية بين.
(يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في
السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170) يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على
الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا
بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له
ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله
ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172) فأما الذين
آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا
فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173))
وقوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم...) الآية: خطاب
لجميع الناس، وهي دعاء إلى الشرع، ولو كانت في أمر من أوامر الأحكام، ونحو هذا،
لكانت: " يا أيها الذين آمنوا "، والرسول في الآية: نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال سبحانه: (وإن
تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض)، وهذا خبر بالاستغناء، وإن ضرر الكفر إنما هو
330

نازل بهم، ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب من النصارى، وهو أن يدعوا الغلو، وهو تجاوز
الحد.
وقوله: (في دينكم): معناه: في دين الله الذي أنتم مطلوبون به، بأن توحدوا الله،
ولا تقولوا على الله إلا الحق، وليست الإشارة إلى دينهم المضلل، وعن عبادة بن الصامت
(رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم،
وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق - أدخله الله الجنة على ما كان من عمل " رواه
مسلم، والبخاري والنسائي، وفي مسلم: " أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء ".
انتهى.
وقوله تعالى: (فآمنوا بالله ورسله)، أي: الذين من جملتهم: عيسى، ومحمد
- عليهما السلام -.
وقوله تعالى: (إنما الله إله واحد): " إنما "، في هذه الآية: حاصرة،
و (سبحانه): معناه: تنزيها له، وتعظيما، والاستنكاف إباءة بأنفة.
قال * ع *: وقوله سبحانه: (ولا الملائكة المقربون): زيادة في الحجة،
وتقريب من الأذهان، أي: وهؤلاء الذين هم في أعلى درجات المخلوقين لا يستنكفون عن
ذلك، فكيف بسواهم، وفي هذه الآية دليل على تفضيل الملائكة على الأنبياء.
وقوله سبحانه: (فسيحشرهم): عبارة وعيد.
قال * ع *: وهذا الاستنكاف إنما يكون من الكفار عن اتباع الأنبياء، وما جرى
مجراه.
(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174))
331

وقوله تعالى: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم...) الآية: إشارة إلى نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، والبرهان: الحجة النيرة الواضحة التي تعطي اليقين التام، والنور المبين: يعني
القرآن، لأن فيه بيان كل شئ، وفي " صحيح مسلم "، عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد،
ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر مثلكم يوشك أن يأتيني رسول ربي، فأجيب، وأنا تارك فيكم
ثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا "، فحث على
كتاب الله، ورغب فيه، ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله،
ثلاثا في أهل بيتي... " الحديث، وفي رواية: " كتاب الله، فيه الهدى والنور من
استمسك به، وأخذ به، كان على الهدى، ومن أخطأه، ضل "، وفي رواية: " ألا وإني تارك
فيكم ثقلين: أحدهما: كتاب الله، وهو حبل الله، من أتبعه كان على الهدى، ومن تركه
كان على ضلالة ". انتهى. (فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا
مستقيما (175))
وقوله سبحانه: (فأما الذين آمنوا بالله / واعتصموا به): أي: اعتصموا بالله،
ويحتمل: اعتصموا بالقرآن، كما قال - عليه السلام -: " القرآن حبل الله المتين، من تمسك
به عصم "، والرحمة والفضل: الجنة ونعيمها، و (يهديهم): معناه: إلى الفضل، وهذه
هداية طريق الجنان، كما قال تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم...) [محمد: 5] الآية، لأن
هداية الإرشاد قد تقدمت، وتحصلت حين آمنوا بالله واعتصموا بكتابه، فيهديهم هنا
بمعنى: يعرفهم، وباقي الآية بين.
(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف
ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة
رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم (176))
332

وقوله تعالى: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة)، فقد تقدم القول في تفسير
" الكلالة " في صدر السورة، وكان أمر الكلالة عند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)
مشكلا، والله أعلم، ما الذي أشكل عليه منها، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: " تكفيك منها آية
الصيف " التي نزلت في آخر سورة " النساء " بيان فيه كفاية، قال كثير من الصحابة: هذه
الآية هي من آخر ما نزل.
وقوله سبحانه: (يبين الله لكم أن تضلوا): التقدير: لئلا تضلوا، (والله بكل شئ
عليم)، سبحانه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما.
333

سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مدنية بإجماع
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى
الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد (1))
قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود...) الآية عامة في الوفاء بالعقود،
وهي الربوط في القول، كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح، أو بيع، أو غيره،
فمعنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة، وفسر بعض
الناس لفظ " العقود " بالعهود، وقال ابن شهاب: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب
لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران، وفي صدره: " هذا بيان من الله ورسوله: (يا أيها
الذين آمنوا أوفوا بالعقود)، فكتب الآيات إلى قوله: (إن الله سريع الحساب)
334

[المائدة: 4].
قال * ع *: وأصوب ما يقال في هذه الآية: أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول،
فيعمم لفظ المؤمنين في مؤمني أهل الكتاب، وفي كل مظهر للإيمان، وإن لم يبطنه، وفي
المؤمنين حقيقة، ويعمم العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع.
وقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) اختلف في معنى (بهيمة الأنعام).
فقال قتادة وغيره: هي الأنعام كلها.
* ع *: كأنه قال: أحلت لكم الأنعام. وقال الطبري: قال قوم: بهيمة
الأنعام: وحشها، وهذا قول حسن، وذلك أن الأنعام هي الثمانية الأزواج، وانضاف إليها
من سائر الحيوان ما يقال له: أنعام بمجموعه معها، والبهيمة في كلام العرب: ما أبهم من
جهة نقص النطق والفهم.
335

وقوله: (إلا ما يتلى عليكم): استثناء ما تلي في قوله تعالى: (حرمت عليكم
الميتة...) [المائدة: 3] الآية: " وما " في موضع نصب، على أصل الاستثناء.
وقوله سبحانه: (غير محلي الصيد...) نصب " غير "، على الحال من الكاف
والميم في قوله: (أحلت لكم)، وهو استثناء بعد استثناء.
قال * ص *: وهذا هو قول الجمهور، واعترض بأنه يلزم منه تقييد الحلية بحالة
كونهم غير محلين الصيد، وهم حرم، والحلية ثابتة مطلقا.
قال * ص *: والجواب عندي عن هذا، أن المفهوم هنا متروك، لدليل خارجي،
وكثير في القرآن وغيره من المفهومات المتروكة لمعارض، ثم ذكر ما نقله أبو حيان / من
الوجوه التي لم يرتضها.
* م *: وما فيها من التكلف، ثم قال: ولا شك أن ما ذكره الجمهور من أن " غير ":
حال، وإن لزم عنه الترك بالمفهوم، فهو أولى من تخريج تنبو عنه الفهوم. انتهى.
وقوله سبحانه: (إن الله يحكم ما يريد): تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة
لمعهود أحكام الجاهلية، أي: فأنت أيها السامع لنسخ تلك التي عهدت، تنبه، فإن الله
الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه سبحانه.
قال * ع *: وهذه الآية مما تلوح فصاحتها، وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل
ذي بصر بالكلام، ولمن عنده أدنى إبصار، وقد حكى النقاش، أن أصحاب الكندي قالوا
للكندي: أيها الحكيم، اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم، أعمل لكم مثل بعضه،
فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج، فقال: والله، ما أقدر عليه، ولا يطيق هذا أحد، إني
فتحت المصحف، فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن
336

النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في
سطرين، ولا يستطيع أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد.
(يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين
البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنئان قوم أن
صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2))
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا لا تحلوا شعائر الله) خطاب للمؤمنين حقا، ألا
يتعدوا حدود الله في أمر من الأمور، قال عطاء بن أبي رباح: شعائر الله جميع ما أمر به
سبحانه، أو نهى عنه، وهذا قول راجح، فالشعائر: جمع شعيرة، أي: قد أشعر الله أنها
حده وطاعته، فهي بمعنى معالم الله.
وقوله تعالى: (ولا الشهر الحرام): أي: لا تحلوه بقتال ولا غارة، والأظهر أن
الشهر الحرام أريد به رجب، ليشتد أمره، وهو شهر كان تحريمه مختصا بقريش، وكانت
تعظمه، ويحتمل أنه أريد به الجنس في جميع الأشهر الحرم.
وقوله سبحانه: (ولا الهدي): أي: لا يستحل ولا يغار عليه، ثم ذكر المقلد منه
تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، هذا معنى كلام ابن عباس.
وقال الجمهور: الهدي عام في أنواع ما يهدى قربة، والقلائد: ما كان الناس يتقلدونه
من لحاء السمر وغيره، أمنة لهم.
وقال * ص *: (ولا القلائد): أي: ولا ذوات القلائد، وقيل: بل المراد القلائد
نفسها، مبالغة في النهي عن التعرض للهدي. انتهى.
وقوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام): أي: قاصدينه من الكفار، المعنى: لا
تحلوهم، فتغيرون عليهم، وهذا منسوخ ب‍ " آية السيف "، بقوله تعالى: (فاقتلوا المشركين
حيث وجدتموهم) [التوبة: 5] فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج، فهو
337

محكم، وكل ما كان منها في الكفار، فهو منسوخ.
وقوله سبحانه: (يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا)، قال فيه جمهور المفسرين:
معناه: يبتغون الفضل من الأرباح في التجارة، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم
وطمعهم، وهذه الآية نزلت عام الفتح، وفيها استئلاف من الله سبحانه للعرب، ولطف
بهم، لتنبسط النفوس، بتداخل الناس، ويردون الموسم، فيسمعون القرآن، ويدخل الإيمان
في قلوبهم، وتقوم عليهم الحجة، كالذي كان، ثم نسخ الله ذلك كله بعد عام في سنة
تسع، إذ حج أبو بكر (رضي الله عنه)، ونودي في الناس بسورة " براءة ".
وقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا): مجيء / إباحة الصيد عقب التشديد فيه
حسن في فصاحة القول.
وقوله سبحانه: (فاصطادوا): أمر، ومعناه الإباحة، بإجماع.
وقوله تعالى: (ولا يجرمنكم): معناه: لا يكسبنكم، وجرم الرجل: معناه: كسب،
وقال ابن عباس: معناه: لا يحملنكم، والمعنى: متقارب، والتفسير الذي يخص اللفظة
هو معنى الكسب.
وقوله تعالى: (شنآن قوم): الشنآن: هو البغض، فأما من قرا شنآن - بفتح النون -،
فالأظهر فيه أنه مصدر، كأنه قال: لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا
عليهم وظلما لهم، وهذه الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان، حين أراد المسلمون أن يستطيلوا
على قريش، وألفافها المتظاهرين على صد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه عام الحديبية، وذلك
سنة ست من الهجرة، فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين، وحيكة للكفار، فنهي
المؤمنون عن مكافأتهم، وإذ لله فيهم إرادة خير، وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان.
وقرأ أبو عمرو، وابن كثير: " إن صدوكم "، ومعناه: إن وقع مثل ذلك في
338

المستقبل، وقراءة الجمهور أمكن.
ثم أمر سبحانه الجميع بالتعاون على البر والتقوى، قال قوم: هما لفظان بمعنى،
وفي هذا تسامح، والعرف في دلالة هذين، أن البر يتناول الواجب والمندوب، والتقوى:
رعاية الواجب، فإن جعل أحدهما بدل الآخر، فبتجوز.
قلت: قال أحمد بن نصر الداوودي: قال ابن عباس: البر ما أمرت به، والتقوى ما
نهيت عنه. انتهى، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع، أن لفظ التقوى يطلق على معان،
وقد بيناها في آخر " سورة النور "، وفي الحديث الصحيح: " والله في عون العبد ما كان
العبد في عون أخيه "، قال ابن الفاكهاني، عند شرحه لهذا الحديث: وقد روينا في بعض
الأحاديث: " من سعى في حاجة أخيه المسلم، قضيت له أو لم تقض - غفر له ما تقدم من
ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق "، انتهى من " شرح
الأربعين " حديثا.
ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم والعدوان، ثم أمر بالتقوى، وتوعد توعدا
339

مجملا، قال النووي: وعن وابصة بن معبد: " أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: جئت تسأل عن
البر والإثم؟ قال: نعم، فقال: استفت قلبك، البر: ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه
القلب، والإثم: ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك " حديث
حسن رويناه في مسند أحمد، يعني ابن حنبل، والدارمي وغيرهما، وفي " صحيح
مسلم "، عن النواس بن سمعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك
في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس ". انتهى.
(حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية
والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم
يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
340

ورضيت لكم الإسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (3))
وقوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم...) الآية: تعديد لما يتلى على الأمة
مما استثني من بهيمة الأنعام، (والدم): معناه: المسفوح، (ولحم الخنزير): مقتض
لشحمه، بإجماع، (وما أهل لغير الله به): قد تقدم، (والمنخنقة): معناه: التي تموت
خنقا، (والموقوذة): التي ترمى أو تضرب بعصا، وشبهها، (والمتردية): هي التي
تتردى من علو إلى سفل، فتموت، (والنطيحة): فعيلة بمعنى مفعولة، (وما أكل
السبع): يريد كل ما افترسه ذو ناب، وأظفار من الحيوان، وكانت العرب تأكل هذه
المذكورات، ولم تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك.
واختلف العلماء في قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم)، فقال ابن عباس، وجمهور
العلماء: الاستثناء من هذه المذكورات، فما أدرك منها يطرف بعين أو يحرك ذنبا،
وبالجملة /: ما يتحقق أنه لم تفض نفسه، بل له حياة، فإنه يذكى على سنة الذكاة،
ويؤكل، وما فاضت نفسه، فهو الميتة، وقال مالك مرة بهذا القول، وقال أيضا، وهو
المشهور عنه، وعن أصحابه من أهل المدينة: إن قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم): معناه: من
هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها، وهو ما لم تنفذ مقاتلها، ويتحقق أنها لا
تعيش، ومتى صارت في هذا الحد، فهي في حكم الميتة، فالاستثناء عند مالك متصل،
كقول الجمهور، لكنه يخالف في الحال التي يصح فيها ذكاة هذه المذكورات واحتج
لمالك، بأن هذه المذكورات لو كانت لا تحرم إلا بموتها، لكان ذكر الميتة أولا يغني
عنها، ومن حجة المخالف أن قال: إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه
الحوادث كالذكاة، فلو لم يذكر لها غير الميتة، لظنت أنها ميتة الوجع، حسبما كانت عليه،
والذكاة في كلام العرب: الذبح.
وقوله سبحانه: (وما ذبح على النصب): عطف على المحرمات المذكورة،
والنصب: حجارة تنصب، يذبحون عليها، قال ابن جريج: وليست النصب بأصنام فإن
الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب، وكانت العرب تعبدها، قال ابن زيد: ما
ذبح على النصب وما أهل لغير الله به: شئ واحد.
341

قال * ع *: ما ذبح على النصب جزء مما أهل به لغير الله، لكن خص بالذكر بعد
جنسه، لشهرة أمره.
وقوله سبحانه: (وأن تستقسموا بالأزلام): حرم سبحانه طلب القسم، وهو
النصيب، أو القسم - بفتح القاف -، وهو المصدر، بالأزلام، وهي سهام، قال صاحب
" سلاح المؤمن ": والاستقسام: هو الضرب بها، لإخراج ما قسم لهم، وتمييزه بزعمهم.
انتهى، وأزلام العرب على أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها
" أفعل "، وعلى الآخر " لا تفعل "، وثالث مهمل، لا شئ عليه، فيجعلها في خريطة معه،
فإذا أراد فعل شئ أدخل يده، وهي متشابهة فأخرج أحدها، وأتمر له، وانتهى بحسب ما
يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شئ فيه، أعاد الضرب.
وقوله سبحانه: (ذلكم فسق): إشارة إلى الاستقسام بالأزلام.
وقوله تعالى: (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم): معناه، عند ابن عباس وغيره:
من أن ترجعوا إلى دينهم، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه، وظهور الدين يقتضي أن
يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من
اضمحلال أمر الإسلام، وفساد جمعه، لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار، ألا
ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حتى انكشف المسلمون، وظنها
هزيمة: " ألا بطل السحر اليوم "، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية في قول الجمهور،
عمر بن الخطاب وغيره: نزلت في عشية يوم عرفة يوم الجمعة، وفي ذلك اليوم امحى
أمر الشرك من مشاعر الحج، ولم يحضر من المشركين الموسم بشر، فيحتمل قوله تعالى:
(اليوم): أن تكون إشارة إلى اليوم بعينه، ويحتمل أن تكون إشارة إلى الزمن والوقت،
أي: هذا الأوان يئس الكفار من دينكم.
وقوله: (الذين كفروا) /: يعم سائر الكفار من العرب وغيرهم، وهذا يقوي أن
اليأس إنما هو من انحلال أمر الإسلام، وأمر سبحانه بخشيته التي هي رأس كل عبادة، كما
قال صلى الله عليه وسلم: " ومفتاح كل خير ".
342

وقوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم): تحتمل الإشارة ب‍ " اليوم " ما قد ذكرناه،
حكى الطبري، أن النبي - عليه السلام - لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين
ليلة، والظاهر أنه عاش صلى الله عليه وسلم أكثر بأيام يسيرة، قلت: وفي سماع ابن القاسم، قال مالك:
بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في اليوم الذي توفي فيه، وقف على بابه، فقال: " إني لا أحل
إلا ما أحل الله في كتابه، ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه، يا فاطمة بنت رسول الله،
ويا صفية عمة رسول الله، اعملا لما عند الله، فإني لا أغني عنكما من الله شيئا "، قال ابن
رشد: هذا حديث يدل على صحته قول الله عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شئ)
[الأنعام: 38]، وقال تعالى: (تبيانا لكل شئ) [النحل: 89]، فالمعنى في ذلك: أن الله
عز وجل نص على بعض الأحكام، وأجمل القول في بعضها، وأحال على الأدلة في
سائرها بقوله: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)
[النساء: 83] فبين النبي صلى الله عليه وسلم ما أجمله الله في كتابه، كما أمره، حيث يقول: (لتبين للناس ما
نزل إليهم) [النحل: 44]، فما أحل صلى الله عليه وسلم، أو حرم، ولم يوجد في القرآن نصا، فهو مما بين
من مجمل القرآن، أو علمه بما نصب من الأدلة فيه، فهذا معنى الحديث، والله أعلم، فما
ينطق صلى الله عليه وسلم عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. انتهى من " البيان والتحصيل ".
وفي " الصحيح "، " أن عمر بن الخطاب، قال له يهودي: آية في كتابكم تقرؤونها، لو
علينا نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر: أي آية هي؟ فقال: (اليوم أكملت
لكم دينكم)، فقال له عمر: قد علمنا ذلك اليوم، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو واقف
بعرفة يوم الجمعة ".
343

قال * ع *: ففي ذلك اليوم عيدان للإسلام، إلى يوم القيامة، وإتمام النعمة هو
في ظهور الإسلام، ونور العقائد، وكمال الدين، وسعة الأحوال، وغير ذلك مما اشتملت
عليه هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة، والخلود في رحمة الله سبحانه، جعلنا الله ممن
شملته هذه النعمة.
وقوله سبحانه: (ورضيت لكم الإسلام دينا): يحتمل الرضا في هذا الموضع، أن
يكون بمعنى الإرادة، ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه، لأن الرضا من
الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال، والله تعالى قد أراد لنا الإسلام،
ورضيه لنا، وثم أشياء يريد الله وقوعها ولا يرضاها.
وقوله سبحانه: (فمن اضطر في مخمصة)، يعني: من دعته ضرورة إلى أكل الميتة،
وسائر تلك المحرمات، وسئل صلى الله عليه وسلم، متى تحل الميتة للناس؟ فقال: " إذا لم يصطبحوا، ولم
يغتبقوا، ولم يحتفئوا بقلا ". والمخمصة: المجاعة التي تخمص فيها البطون، أي:
تضمر.
وقوله سبحانه: (غير متجانف لإثم) هو بمعنى: (غير باغ ولا عاد) [البقرة: 173]
وقد تقدم تفسيره.
قال * ص *: متجانف: أي: مائل منحرف. انتهى، وقد تقدم في " البقرة ".
(يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما
علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4))
وقوله تعالى: (يسألونك ماذا أحل لهم): سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم / لما أمر بقتل
344

الكلاب. سأله عاصم بن عدي وغيره، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب ".
قال * ع *: وظاهر الآية أن سائلا سأل عما يحل للناس من المطاعم، لأن قوله
تعالى: (قل أحل لكم الطيبات) ليس بجواب عما يحل للناس اتخاذه من الكلاب إلا أن
يكون من باب إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه، وهو موجود كثيرا من النبي صلى الله عليه وسلم، والطيب:
الحلال.
وقوله سبحانه: (وما علمتم): أي: وصيد ما علمتم، قال الضحاك وغيره: (وما
علمتم من الجوارح مكلبين): هي الكلاب خاصة.
قال العراقي في (مكلبين): أصحاب أكلب لها معلمين. انتهى، وأعلى مراتب
التعليم، أن يشلى الحيوان فينشلي، ويدعى فيجيب، ويزجر بعد ظفره بالصيد، فينزجر،
وجوارح: جمع جارح، أي: كاسب، يقال: جرح فلان، واجترح، إذا اكتسب، ومنه قوله
تعالى: (ويعلم ما جرحتم بالنهار) [الأنعام: 60]، أي: ما كسبتم من حسنة وسيئة.
قال * ع *: وقرا جمهور الناس: (وما علمتم) - بفتح العين واللام -، وقرأ
ابن عباس ومحمد ابن الحنفية: " علمتم " - بضم العين وكسر اللام -: أي: من أمر
الجوارح، والصيد بها، وقرأ جمهور الناس: " مكلبين " - بفتح الكاف وشد اللام -،
والمكلب: معلم الكلاب، ومضريها، ويقال لمن يعلم غير كلب: مكلب، لأنه يرد ذلك
الحيوان كالكلب.
وقوله سبحانه: (تعلمونهن مما علمكم الله): أي: تعلمونهن الحيلة في الاصطياد،
والتأتي لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علمه الله الإنسان، ف‍ " من ": للتبعيض.
وقوله تعالى: (فكلوا مما أمسكن عليكم): يحتمل: مما أمسكن، فلم يأكلن منه
شيئا، ويحتمل: مما أمسكن، وإن أكلن منه، وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في
جواز أكل الصيد، إذا أكل منه الجارح.
وقوله سبحانه: (واذكروا اسم الله عليه): أمر بالتسمية عند الإرسال، وذهب مالك
345

وجمهور العلماء، أن التسمية واجبة، مع الذكر، ساقطة مع النسيان، فمن تركها عامدا، فقد
أفسد الذبيحة والصيد، ومن تركها ناسيا، سمى عند الأكل، وكانت الذبيحة جائزة، وفقه
الصيد والذبح في معنى التسمية - واحد.
ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجملة، والإشارة إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر
والنواهي، وفي قوله: (إن الله سريع الحساب): وعيد وتحذير.
(اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من
المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا
متخذي أخدان ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5))
وقوله سبحانه: (اليوم أحل لكم الطيبات): إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب
للمؤمنين.
وقوله سبحانه: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم): الطعام في هذه الآية:
الذبائح، كذا قال أهل التفسير.
واختلفوا في لفظة (طعام).
فقال الجمهور: هي الذبيحة كلها، وقالت جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من
الذبيحة، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يحل لهم، كالطريف، والشحوم المحضة.
واختلف في لفظة (أوتوا الكتاب).
فقالت طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصرحاء منهم، لا من كان دخيلا في هذين
الدينين، وقال جمهور الأمة، ابن عباس، والحسن، ومالك، وغيرهم: إن ذبيحة كل
نصراني حلال، كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود، وتأولوا قول الله تعالى:
(ومن يتولهم منكم فإنه منهم) [المائدة: 51].
وقوله سبحانه: (وطعامكم حل لهم): أي: ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين، لا
لأهل الكتاب، لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه
منهم، رخص الله تعالى لنا في ذلك، دفعا للمشقة بحسب التجاوز.
وقوله سبحانه: (والمحصنات): عطف على الطعام المحلل، ذهب جماعة منهم
346

مالك إلى أن المحصنات في هذه الآية الحرائر، فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، / وذهب
جماعة إلى أنهن العفائف، فأجازوا نكاح الأمة الكتابية، والأجور في الآية: المهور، وانتزع
بعض العلماء من لفظ: (آتيتموهن)، أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل
من المهر ما يستحلها به، و (محصنين): معناه: متزوجين على السنة.
وقوله سبحانه: (ومن يكفر بالإيمان): أي: بالأمور التي يجب الإيمان بها، وباقي
الآية بين.
(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على
سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا
بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم
نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم...) الآية:
قال ابن العربي: في " أحكامه ": لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية مدنية، كما أنه لا
خلاف أن الوضوء كان معقولا قبل نزولها غير متلو، ولذلك قال علماؤنا: إن الوضوء
كان بمكة سنة، ومعناه: كان مفعولا بالسنة، وقوله: (إذا قمتم): معناه: إذا أردتم القيام
347

إلى الصلاة. انتهى.
قال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية: إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم،
والقصد بهذا التأويل أن يعم الأحداث بالذكر، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير،
تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النوم، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو
لامستم النساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمت أحكام الحدث الأصغر، ثم
قال: (وإن كنتم جنبا فاطهروا)، فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعا: (وإن كنتم
مرضى أو على سفر...... فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا)، وقال بهذا التأويل
محمد بن مسلمة من أصحاب مالك وغيره.
وقال جمهور أهل العلم: معنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين، وليس في الآية
على هذا تقديم ولا تأخير، بل ترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله: (فاطهروا)،
ودخلت الملامسة الصغرى في قولنا: " محدثين "، ثم ذكر بعد ذلك بقوله: (وإن كنتم
مرضى...) إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا، وكانت الملامسة هي
الجماع.
وقال * ص *: (إذا قمتم) أي: إذا أردتم، وعبر بالقيام عن إرادته، لأنه مسبب
عنها. انتهى.
ومن أحسن الأحاديث وأصحها في فضل الطهارة والصلاة: ما رواه مالك في
" الموطأ "، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
348

قال: " ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات: إسباغ الوضوء عند
المكاره، وكثرة الخطأ إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم
الرباط، فذلكم الرباط ".
قال أبو عمر في " التمهيد ": هذا الحديث من أحسن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل
الأعمال.
قال صاحب " كتاب العين ": الرباط: ملازمة الثغور، قال: والرباط مواظبة الصلاة
أيضا انتهى.
والغسل، في اللغة: إيجاد الماء في المغسول، مع إمرار شئ عليه كاليد، والوجه
349

ما واجه الناظر وقابله، والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن
ابن عمر، أنه كان ينضح الماء في عينيه. واليد لغة تقع على العضو من المنكب إلى
أطراف الأصابع، وحد الله سبحانه موضع الغسل منه، بقوله: (إلى المرافق).
واختلف العلماء، هل تدخل المرافق في الغسل أم لا، وتحرير العبارة في هذا
المعنى: أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها، فالحد أول المذكور بعدها، وإذا كان
ما بعدها من جملة ما قبلها /، فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك
يترجح دخول المرفقين في الغسل، والروايتان عن مالك، قال ابن العربي في " أحكامه "،
وقد روى الدارقطني وغيره عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما توضأ أدار الماء على
مرفقيه. انتهى.
350

واختلف في رد اليدين في مسح الرأس، هل هو فرض أو سنة، بعد الإجماع على أن
المسحة الأولى فرض، فالجمهور على أنه سنة.
وقيل: هو فرض، والإجماع على استحسان مسح الرأس باليدين جميعا، وعلى
الإجزاء، بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة، والمشهور الإجزاء، ويترجح عدم
الإجزاء، لأنه خروج عن سنة المسح، وكأنه لعب إلا أن يكون ذلك عن ضرر مرض
ونحوه، فينبغي ألا يختلف في الإجزاء.
والباء في قوله تعالى: (برءوسكم) مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس.
والمعنى، عنده: وامسحوا رءوسكم، وهي للإلصاق المحض عند من يرى إجزاء بعض
الرأس، كأن المعنى: أوجدوا مسحا برءوسكم، فمن مسح، ولو شعرة فقد فعل ذلك.
* ت *: قال ابن العربي في " أحكامه ": وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة مسح
الرأس، " أنه أقبل بيده، وأدبر، بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى
المكان الذي بدأ منه "، وفي البخاري: " فأدبر بهما، وأقبل "، وهما صحيحان متوافقان،
351

وهي مسألة من " أصول الفقه "، في تسمية الفعل بابتدائه أو بغايته. انتهى.
وقرأ حمزة وغيره: " وأرجلكم " - بالخفض -، وقرأ نافع وغيره بالنصب، والعامل:
" اغسلوا "، ومن قرأ بالخفض، جعل العامل أقرب العاملين، وجمهور الأمة من الصحابة
والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل، وأن المسح لا يجزئ، وفي الصحيح:
" ويل للأعقاب من النار " إذ رأى صلى الله عليه وسلم أعقابهم تلوح، قال ابن العربي في " القبس ":
352

...]
355

ومن قرأ " وأرجلكم " - بالخفض -، فإنه أراد المسح على الخفين، وهو أحد التأويلات
في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صححه في " أحكامه ".
والكلام في قوله: (إلى الكعبين) كما تقدم في قوله: (إلى المرافق)، وفي
" صحيح مسلم " وغيره عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مسلم يتوضأ،
فيحسن وضوءه، ثم يقوم، فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه، إلا وجبت له الجنة "،
فقلت: ما أجود هذه؟ فقال عمر: التي قبلها أجود، قال: " ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ
الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده
357

ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء "، وأخرجه الترمذي من حديث
أبي إدريس الخولاني، عن عمر، زاد في آخره: " اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من
المتطهرين ". انتهى مختصرا.
واختلف اللغويون في (الكعبين).
والجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبتي الرجل.
358

وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء، قال مالك: هو فرض مع الذكر، ساقط
مع النسيان، وروى الدارقطني في سننه: " من توضأ، فذكر اسم الله على وضوئه، كان
طهورا لجسده، ومن توضأ، ولم يذكر اسم الله على وضوئه كان طهورا لأعضائه ".
انتهى من " الكوكب الدري ".
وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب، و (اطهروا) أمر لواجد الماء عند الجمهور،
359

وقال عمر بن الخطاب وغيره: لا يتيمم الجنب البتة، بل يدع / الصلاة حتى يجد الماء.
وقوله سبحانه: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج...) الآية: الإرادة صفة
ذات، وجاء الفعل مستقبلا، مراعاة للحوادث التي تظهر عن الإرادة والحرج: الضيق،
والحرجة: الشجر الملتف المتضايق، ويجرى مع معنى هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: " دين الله
يسر "، وقوله - عليه السلام -: " بعثت بالحنيفية السمحة "، وجاء لفظ الآية على العموم،
والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم، والرخصة فيه، وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا،
ولذلك قال أسيد: " ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ".
وقوله سبحانه: (ولكن يريد ليطهركم...) الآية: إعلام بما لا يوازي بشكر من عظيم
تفضله تبارك وتعالى، و (لعلكم): ترج في حق البشر، وفي الحديث الصحيح عن أبي
مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ
الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن، أو تملأ ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور،
والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو، فبائع نفسه،
فمعتقها أو موبقها "، رواه مسلم، والترمذي، وفي رواية له: " التسبيح نصف الميزان، والحمد
لله تملأه، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض، والصوم نصف الصبر "، وزاد في رواية
أخرى: " ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب، حتى تخلص إليه ". انتهى.
360

(واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله
إن الله عليم بذات الصدور (7) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا
يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين
كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10))
وقوله تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه...) الآية: خطاب للمؤمنين،
ونعمة الله: اسم جنس، يجمع الإسلام، وحسن الحال، وحسن المآل، والميثاق: هو ما
وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، وكل موطن قال الناس فيه: " سمعنا
وأطعنا "، هذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين.
وقال مجاهد: المراد: الميثاق المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم
- عليه السلام -.
والأول أرجح وأليق بنمط الكلام، وباقي الآية بين متكرر، قال أبو عمر بن
عبد البر في كتابه " بهجة المجالس ": روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من وعده الله على
عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه، وإن شاء
غفر له "، وعن ابن عباس مثله. انتهى.
(يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم
أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم...) الآية:
361

خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته، والجمهور أن سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما استعان بيهود
في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمري، وصاحبه، قالوا: نعم، يا أبا
القاسم، انزل حتى نصنع لك طعاما، وننظر في معونتك، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل
جدار وكان معه أبو بكر وعمر وعلي، فتآمرت يهود في قتله، وقالوا: من رجل يظهر على
الحائط، فيصب عليه حجرا يشدخه، فجاء جبريل، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقام صلى الله عليه وسلم من
المكان، وتوجه إلى المدينة، ونزلت الآية في ذلك، ويترجح هذا القول بما يأتي بعد من
الآيات في وصف غدر يهود، ونقضهم المواثيق.
(* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله
إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعززتموهم وأقرضتم الله قرضا
حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار فمن كفر بعد
ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12) فبما نقضهم ميثاقهم لعنهم وجعلنا قلوبهم
قاسية يحرقون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة
منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13))
وقوله سبحانه: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا): هذه
الآية المتضمنة للخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى - تقوى أن الآية المتقدمة في كف
الأيدي، إنما كانت في / أمر بني النضير، والإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم
بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل بكل واحد سبطه،
بأن يؤمنوا ويلتزموا التقوى.
قال * ع *: ونحو هذا كانت النقباء ليلة بيعة العقبة، مع النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في
(معكم)، لبني إسرائيل، أي: معكم بنصري، وحياطتي، وتأييدي، واللام في قوله:
(لئن): هي المؤذنة بمجئ القسم، ولام القسم هي قوله: (لأكفرن)، والدليل على أن
هذه اللام إنما هي مؤذنة: أنها قد يستغنى عنها أحيانا، ويتم الكلام دونها، ولو كانت لام قسم،
لم يترتب ذلك، وإقامة الصلاة: توفيه شروطها، والزكاة هنا: شئ من المال كان مفروضا
عليهم فيما قال بعض المفسرين، (وعزرتموهم): معناه: وقرتموهم، وعظمتموهم،
362

ونصرتموهم، وقرأ عاصم الجحدري: " وغررتموهم " - خفيفة الزاي -، حيث وقع، وقرأ في
" سورة الفتح ": " وتعزروه " - بفتح التاء، وسكون العين، وضم الزاي -، وسواء السبيل:
وسطه، وسائر ما في الآية بين، والله المستعان.
وقوله تعالى: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية...) الآية: أي:
فبنقضهم، والقسوة: غلظ القلب، ونبوه عن الرقة والموعظة، وصلابته حتى لا ينفعل
لخير.
وقوله تعالى: (ونسوا حظا مما ذكروا به): نص على سوء فعلهم بأنفسهم، أي: قد
كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به، فنسوه، وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه - عليه السلام -،
أنه لا يزال في مستأنف الزمان يطلع على خائنة منهم، وغائلة، وأمور فاسدة.
قالت فرقة: خائنة: مصدر، والمعنى: على خيانة، وقال آخرون: معناه: على فرقة
خائنة، فهي اسم فاعل صفة لمؤنث.
وقوله تعالى: (فاعف عنهم واصفح): منسوخ بما في " براءة "، وباقي الآية بين.
(ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا
بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14))
وقوله تعالى: (ومن الذين قالوا إنا نصارى): " من ": متعلقة ب‍ (أخذنا)، التقدير:
وأخذنا من الذين قالوا: إنا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن تكون معطوفة على (خائنة
منهم)، والأول أرجح، وعلق قولهم: " نصارى " بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم
شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق.
وقوله سبحانه: (فأغرينا بينهم العداوة): أي: أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء:
مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، وقال البخاري: الإغراء: التسليط. انتهى.
والضمير في (بينهم) يحتمل أن يعود على اليهود، والنصارى، لأن العداوة بينهم
موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط، لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم
القيامة، ثم توعدهم بعذاب الآخرة، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
363

واعلم (رحمك الله)، أنه قد جاءت آثار صحيحة في ذم الشحناء والتباغض والهجران
لغير موجب شرعي، ففي " صحيح مسلم "، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تفتح
أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت
بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا، انظروا هذين حتى يصطلحا "،
وفي رواية: " تعرض الأعمال في كل خميس واثنين، فيغفر الله في ذلك اليوم / لكل امرئ
لا يشرك بالله شيئا... " الحديث. انتهى.
وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " لا يحل لامرئ مسلم
أن يهاجر مسلما فوق ثلاث ليال، فإنهما ناكبان عن الحق ما داما على صرامهما، فأولهما
فيئا يكون سبقه بالفيء كفارة له، وإن سلم عليه، فلم يقبل، ورد عليه سلامه، ردت عليه
الملائكة، وردت على الآخر الشياطين، وإذا ماتا على صرامهما، لم يدخلا الجنة "، أراه
قال: أبدا. انتهى، وسنده جيد، ونصه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبة عن يزيد
الرشك، عن معاذة العدوية، قالت: سمعت هشام بن عامر يقول: سمعت
364

النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث.
وقوله: " لم يدخلا الجنة ": ليس على ظاهره، أي: لم يدخلا الجنة أبدا، حتى يقتص
لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحل الشفاعة، حسبما هو معلوم في صحيح الآثار.
(يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون
من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15)
يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) لقد كفر الذين قالوا إن هو المسيح
ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه
ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على
كل شئ قدير (17))
وقوله سبحانه: (يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من
الكتاب...) الآية: أهل الكتاب: لفظ يعم اليهود والنصارى، ولكن نوازل الإخفاء،
كالرجم وغيره، إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره،
وفي إعلامه صلى الله عليه وسلم بخفي ما في كتبهم، وهو أمي لا يكتب، ولا يصحب القراء - دليل على
صحة نبوته، لو ألهمهم الله للخير، (ويعفوا عن كثير): أي: لم يفضحهم فيه، إبقاء
عليهم، والضمير في (يعفوا) للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور): هو محمد صلى الله عليه وسلم، و (كتاب مبين): هو
القرآن، ويحتمل أن يريد موسى - عليه السلام -، والتوراة: أي: لو اتبعتموها حق الأتباع،
والأول هو ظاهر الآية، وهو أظهر، و (سبل السلام): أي: طرق السلامة والنجاة،
ويحتمل أن يكون " السلام هنا اسما من أسماء الله عز وجل، فالمعنى: طرق الله،
و (الظلمات): الكفر، و (النور): الإيمان، وباقي الآية بين متكرر.
وقوله سبحانه: (قل فمن يملك): أي: لا مالك، ولا راد لإرادة الله تعالى في
المسيح، ولا في غيره.
وقوله سبحانه: (يخلق ما يشاء): إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير
365

والد، بل اختراعا، كآدم - عليه السلام -.
وقوله تعالى: (والله على كل شئ قدير): عموم معناه الخصوص فيما عدا الذات،
والصفات، والمحالات.
(وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن
خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18)) وقوله سبحانه: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه...) الآية:
البنوة، في قولهم هذا: بنوة الحنان والرأفة، لأنهم ذكروا أن الله سبحانه أوحى إلى
إسرائيل، أن أول أولادك بكرى، فضلوا بذلك، وقالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤه)، ولو
صح ما رووا، لكان معناه: بكرا في التشريف أو النبوة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم
عندما دعاهم النبي - عليه السلام - إلى الإيمان به، وخوفهم العذاب، فقالوا: نحن لا
نخاف ما تقول، لأنا أبناء الله وأحباؤه، ذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
في غير ما موطن: نحن ندخل النار، فنقيم فيها أربعين يوما، فرد الله عليهم قولهم، فقال
لنبيه - عليه السلام -: (قل فلم يعذبكم / بذنوبكم): أي: لو كانت منزلتكم منه فوق
منازل البشر، لما عذبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم، ثم ترك الكلام الأول، وأضرب
عنه غير مفسد له، ودخل في غيره، فقال: بل أنتم بشر كسائر الناس، والخلق أكرمهم عند
الله أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر، فيعذبه، وله
ملك السماوات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما يشاء، ولا معقب لحكمه،
وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد.
(يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشر
ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شئ قدير (19))
وقوله تعالى: (يأهل الكتاب): يعني: اليهود والنصارى: (قد جاءكم رسولنا):
محمد - عليه السلام -.
وقوله: (على فترة من الرسل): أي: على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة:
366

سكون بعد حركة، في الأجرام، ويستعار ذلك للمعاني، وقد قال - عليه السلام -: " لكل
عمل شرة، ولكل شرة فترة "، وفي الصحيح، أن الفترة التي كانت بين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم،
وبين عيسى ستمائة سنة، وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: ما أنزل الله على بشر بعد
موسى من شئ، قاله ابن عباس.
وقوله: (أن تقولوا): معناه: حذارا أن تقولوا يوم القيامة: (ما جاءنا من بشير ولا
نذير فقد جاءكم بشير ونذير)، وقامت الحجة عليكم، (والله على كل شئ قدير)، فهو
الهادي والمضل لا رب غيره.
(وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم
ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين (20) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم
ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون (22))
وقوله سبحانه: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم
أنبياء...) الآية: المعنى: واذكر لهم، يا محمد، على جهة إعلامهم بغيب كتبهم،
ليتحققوا نبوتك، ثم عدد عيون تلك النعم، فقال: (إذ جعل فيكم أنبياء): أي: حاطة،
ومنقذون من النار، وشرف في الدنيا والآخرة، (وجعلكم ملوكا)، أي: فيكم ملوكا، لأن
الملك شرف في الدنيا، وحاطة في نوائبها، (وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين)، قال
مجاهد: هو المن والسلوى، والحجر، والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء، وعلى هذا
القول: فالعالمون على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعالمون عالم
زمانهم، لأن ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله أكثر من ذلك، و (المقدسة) معناه:
المطهرة، قال ابن عباس: هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام،.....
367

قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال * ع *: وتظاهرت الروايات، أن " دمشق " هي قاعدة الجبارين، ثم حذرهم
موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوع القهقري، والخاسر: الذي قد نقص حظه،
ثم ذكر عز وجل، أنهم تعنتوا ونكصوا، فقالوا: (إن فيها قوما جبارين)، والجبار: من
الجبر، كأنه لقدرته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة: العالية التي لا
تنال بيد، وكان من خبر الجبارين، أنهم كانوا أهل قوة، فلما بعث موسى الاثني عشر نقيبا
مطلعين من أمر الجبارين، وأحوالهم، رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم،
فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك من بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى، ليرى فيه أمر ربه،
فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عشرة، فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوا به، ففشا الخبر،
حتى أعوج أمر بني إسرائيل، وقالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا) [المائدة: 24]، ولم يف من
النقباء إلا يوشع بن نون، وكالب بن يوفتا /، ويقال فيه: " كالوث " (بثاء مثلثة).
(قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه
فإنكم غالبون وعلى ا لله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا
فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون (24) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي
فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في
الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26))
وقوله تعالى: (قال رجلان من الذين يخافون) أي: يخافون الله سبحانه، قال أكثر
المفسرين: الرجلان يوشع بن نون، وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوفتا، (أنعم الله
عليهما) بالإيمان الصحيح، وربط الجأش، والثبوت، وقولهم: (فاذهب أنت وربك
فقاتلا...) الآية: عبارة تقتضي كفرا، وقيل: المعنى: فاذهب أنت وربك يعينك، وأن
الكلام معصية لا كفر، وذكر ابن إسحاق وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم الناس يوم بدر، وقال
لهم: " أشيروا علي، أيها الناس، فقال له المقداد بن الأسود: يا رسول الله، لسنا نقول،
كما قالت بنو إسرائيل: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون)، ولكن نقول: اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، ثم تكلم سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى "، ولما
368

سمع موسى - عليه السلام - قولهم، ورأى عصيانهم، تبرأ إلى الله منهم، وقال داعيا
عليهم: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي)، يعني: هارون.
وقوله: (فافرق بيننا): دعاء حرج، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى
بفسقهم، (قال فإنها محرمة عليهم) أي: قال الله، وحرم الله تعالى على بني إسرائيل
دخول تلك المدينة أربعين سنة يتيهون في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فحص
التيه، وهو، على ما يحكى: طول ثلاثين ميلا، في عرض ستة فراسخ، ويروى أنه لم
يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع، وكالوث، وروي أن يوشع نبئ بعد كمال
الأربعين سنة، وخرج ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة، وفي تلك
الحرب، وقفت له الشمس ساعة، حتى استمر هزم الجبارين، والتيه: الذهاب في الأرض
إلى غير مقصد معلوم.
وقوله تعالى: (فلا تأس على القوم الفاسقين) معناه: فلا تحزن، والخطاب بهذه
الآية لموسى - عليه السلام -، قال ابن عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن
عليهم، فقال الله له: (فلا تأس على القوم الفاسقين).
(* واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر
قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلى يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي
إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين (28) إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب
النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30))
وقوله تعالى: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا...) الآية: أتل:
معناه: أسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول، فهي من دلائل نبوءة نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم، إذ هي من غامض كتب بني إسرائيل. قال الفخر: وفي الآية قولان:
أحدهما: أتل على الناس.
والثاني: أتل على أهل الكتاب. انتهى.
369

و (ابني آدم): هما لصلبه، وهما هابيل وقابيل، روت جماعة من المفسرين منهم
ابن مسعود، أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى، وكان الذكر
يتزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توءمته، فولدت مع قابيل أختا جميلة، ومع
هابيل أختا ليست كذلك، فلما أراد آدم أن يزوجها من هابيل، قال قابيل: أنا أحق بأختي،
فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، فتقبل قربان هابيل، ووجب أن يأخذ أخت
قابيل، فحينئذ: (قال لأقتلنك)، وقول هابيل: (إنما يتقبل الله من المتقين): كلام،
قبله محذوف، تقديره: ولم تقتلني، وليس لي ذنب في قبول الله قرباني، وإنما يتقبل الله
من المتقين؟! وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه، وهو
موحد، فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك وللمعاصي، فله الدرجة
العليا من القبول / والختم بالرحمة، علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلك يجب على الله
تعالى عقلا.
قلت:
قال * ع *: في معنى هذه الألفاظ (يعني حيث وقعت في الشرع)، وأما في هذه
الآية، فليس باتقاء شرك، على ما سيأتي، وقول هابيل: (ما أنا بباسط يدي إليك...)
الآية: قال عبد الله بن عمر، وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه
تحرج، وهذا هو الأظهر.
قال * ع *: ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص، لا كافر، لأنه لو كان كافرا،
لم يكن للتحرج هنا وجه، و (تبوأ): معناه: تمضي متحملا، وقوله: (بإثمي وإثمك):
قيل: معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختص بي فيما فرط
لي، وهذا تأويل يعضده قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة، فيؤخذ من
حسنات الظالم، فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات، أخذ من
سيئات المظلوم، فتطرح عليه ".
370

وقوله: (وذلك جزاء الظالمين) يحتمل: أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل:
أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد - عليه السلام -، قال الفخر: وقوله تعالى:
(فطوعت له نفسه قتل أخيه) قال المفسرون: معناه: سهلت له نفسه قتل أخيه. انتهى.
وقوله سبحانه: (فأصبح من الخاسرين): أصبح: عبارة عن جميع أوقاته، وهذا
مهيع كلام العرب، ومنه: [المنسرح].
أصبحت لا أحمل السلاح
......... البيت.
وقول سعد: فأصبحت بنو أسد تعزرني، إلى غير ذلك من استعمال العرب، ومن
خسران قابيل ما صح، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما قتلت نفس ظلما إلا كان على
ابن آدم الأول كفل منها "، وذلك لأنه أول من سن القتل.
(فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه قال يا ويلتي أعجزت
أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (31) من أجل ذلك كتبنا
على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم
بعد ذلك في الأرض لمسرفون (32))
وقوله تعالى: (فبعث الله غرابا...) الآية: قيل: أصبح في ثاني يوم قتله يطلب
إخفاء أمر قتله، فلم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت، فجعل يبحث
371

في الأرض، ويلقي التراب على الغراب الميت، وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني
آدم، ولذلك جهل سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل
العلم بما في الكتب الأول، والسوءة: العورة، ويحتمل أن يراد الحالة التي تسوء الناظر،
ثم إن قابيل وارى أخاه، وندم على ما كان منه من معصية في قتله، حيث لا ينفعه الندم.
واختلف العلماء في قابيل، هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من
العصاة، قال الفخر: ولم ينتفع قابيل بندمه، لأن ندمه كان لأسباب، منها: سخط أبويه
وإخوته، وعدم انتفاعه بقتله، ونحو ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف
من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه هذا الندم.
وقوله تعالى: (من أجل ذلك) هو إشارة إلى ما تضمنته هذه القصة من أنواع
المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام، لا أنه إشارة إلى قصة قابيل وهابيل. انتهى.
وقوله سبحانه: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل...) الآية: جمهور الناس
على أن قوله: (من أجل ذلك): متعلق بقوله: (كتبنا) أي: من أجل هذه النازلة، ومن
جراها، كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله: (من النادمين) أي: ندم، من أجل ما
وقع، والوقف، على هذا، على (ذلك)، والناس على أن الوقف (من النادمين)،
ويقال: فعلت ذلك من أجلك - بفتح الهمزة - ومن إجلك - بكسرها -.
وقوله سبحانه: (بغير نفس) أي: بغير أن تقتل نفس نفسا، والفساد / في الأرض:
يجمع الزنا، والارتداد، والحرابة.
وقوله سبحانه: (فكأنما قتل الناس جميعا) روي عن ابن عباس، أنه قال: المعنى:
من قتل نفسا واحدة، وانتهك حرمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس
واحدة، وصان حرمتها، مخافتي، واستحياها، فهو كمن أحيا الناس جميعا، قال الحسن
وابن زيد: (ومن أحياها) أي: عفا عمن وجب له قتله بعد القدرة، وقيل غير هذا.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل، أنهم جاءتهم الرسل بالبينات في هذا وفي سواه،
372

(ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك) في كل عصر يسرفون، ويتجاوزون الحدود.
(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا
أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا
ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله
غفور رحيم (34))
وقوله سبحانه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله...) الآية: روى أنس بن
مالك وغيره: " أن الآية نزلت في قوم من عكل وعرينة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا، ثم
إنهم مرضوا، واستوخموا المدينة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكونوا في لقاح الصدقة، وقال:
" اشربوا من ألبانها وأبوالها "، فخرجوا فيها، فلما صحوا، قتلوا الراعي، واستاقوا الإبل،
فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم، فبعث الطلب في آثارهم، فأخذوا، قال جميع الرواة: فقطع رسول
الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمر أعينهم، - ويروى: وسمل - وتركهم في
جانب الحرة، يستسقون، فلا يسقون "، فقيل: إن هذه الآية ناسخة لفعله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين،
ووقف الأمر على هذه الحدود.
وقال جماعة: إنها غير ناسخة لذلك الفعل، لأن العرنيين مرتدون، لا سيما، وفي
373

بعض الطرق، أنهم سملوا أعين الرعاء، وقالوا: هذه الآية هي في المحارب المؤمن.
قال مالك: المحارب عندنا: من حمل على الناس السلاح في مصر أو برية،
فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نائرة، ولا دخل، ولا عداوة، وبهذا القول قال
جماعة من أهل العلم، قالوا: والإمام مخير فيه بأن يعاقبه بما رأى من هذه العقوبات، فأما
قتل المحارب، فبالسيف ضربة للعنق، وأما صلبه، فبعد القتل عند جماعة، وقال جماعة:
بل يصلب حيا، ويقتل بالطعن على الخشبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآية:
وهو الأنكى في النكال، وأما القطع، فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل.
وقوله سبحانه: (أو ينفوا من الأرض): الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرض
النازلة، وقد جنب الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب، ومنه حديث الذي ناء
بصدره نحو الأرض المقدسة، وينبغي للإمام، إن كان هذا المحارب المنفي مخوف
الجانب، يظن به أن يعود إلى حرابة وإفساد - أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان
غير مخوف الجانب، ترك مسرحا، وهذا هو صريح مذهب مالك.
وقوله تعالى: (ذلك لهم خزي في الدنيا...) الآية: إشارة إلى هذه الحدود التي
توقع بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، وبالجملة فهم
في المشيئة.
وقوله سبحانه: (إلا الذين تابوا...) الآية: استثنى عز وجل التائب قبل أن يقدر
عليه، وأخبر سبحانه بسقوط حقوقه عنه، بقوله: (فاعلموا أن الله غفور رحيم)، والعلماء
على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارب بحقوق / الناس، وإن تاب، هذا هو
الصحيح.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم
تفلحون (35) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من
عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم (36) يريدون أن يخرجوا من النار وما هم
بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة...) الآية: هذه الآية:
374

وعظ من الله تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعظ، لأنه يرد
على النفوس، وهي خائفة وجلة (وابتغوا): معناه: اطلبوا، و (الوسيلة): القربة، وأما
الوسيلة المطلوبة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أيضا من هذا، لأن الدعاء له بالوسيلة والفضيلة إنما
هو أن يؤتاهما في الدنيا، ويتصف بهما، ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام
المحمود، قلت: وفي كلامه هذا مالا يخفى، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة التي كان
يرجوها من ربه، " وأنها درجة في الجنة لا ينبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن
أكون أنا هو... " الحديث، وخص سبحانه الجهاد بالذكر، وإن كان داخلا في معنى
الوسيلة تشريفا له، إذ هو قاعدة الإسلام.
وقوله تعالى: (يريدون أن يخرجوا من النار): إخبار بأنهم يتمنون هذا، وقال
الحسن بن أبي الحسن: إذا فارت بهم النار، قربوا من حاشيتها، فحينئذ يريدون الخروج،
ويطمعون به، وتأول هو وغيره الآية على هذا، قلت: ويؤيده ما خرجه البخاري في رؤية
النبي صلى الله عليه وسلم، " حيث أتاه آتيان، فأخذا بيده "، وفيه: " فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد
أن يخرج، رمى الرجل بحجر في فيه "، وفيه أيضا: فانطلقنا إلى ثقب مثل التنور أعلاه
ضيق وأسفله واسع تتوقد تحته نار، فإذا اقترب، ارتفعوا، فإذا خمدت، رجعوا فيها، وفيها
رجال ونساء عراة، فقلت: ما هذا؟ فقالا: أنطلق... " الحديث، وأخبر سبحانه عن
هؤلاء الكفار، أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيم مؤبد.
(والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38)
فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له
ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير (40))
وقوله سبحانه: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما...) الآية: قلت:
المسروق: مال أو غيره.
375

فشرط المال: أن يكون نصابا، بعد خروجه، مملوكا لغير السارق، ملكا محترما،
تاما، لا شبهة له فيه، محرزا، مخرجا منه إلى ما ليس...........
376

بحرز له، استسرارا.
377

فالنصاب: ربع دينار أو ثلاثة دراهم، أو ما يساوي ثلاثة دراهم، وقوله:
378

(أيديهما) يعني: أيمان النوعين، والنكال: العذاب، والنكل: القيد.
380

وقوله سبحانه: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه...) الآية:
381

جمهور العلماء على أن توبة السارق لا تسقط عنه القطع، وقال الشافعي: إذا تاب السارق
قبل أن يتلبس الحكام بأخذه، فتوبته تدفع عنه حكم القطع، قياسا على توبة المحارب.
وقوله سبحانه: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر
لمن يشاء) أي: فلا معقب لحكمه سبحانه، ولا معترض عليه، يفعل ما يشاء لا إله إلا
هو.
(يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا
بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك
يحرقون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد
الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم
في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41) سماعون للكذب أكالون للسحت فإن
جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم
بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم
يتولون من بعد ذلك وما أولئك وما أولئك بالمؤمنين (43))
382

وقوله تعالى: (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر...) الآية: تسلية
لنبيه - عليه السلام - وتقوية لنفسه، بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود،
والمعنى: قد وعدناك النصر والظهور عليهم، فلا يحزنك ما يقع منهم، ومعنى المسارعة
في الكفر: البدار إلى نصره، والسعي في كيد الإسلام، وإطفاء نوره، قال مجاهد وغيره:
قوله تعالى: (من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم) يراد به المنافقون /.
وقوله: (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين): يراد به اليهود، ويحتمل أن يراد
به اليهود مع المنافقين، لأن جميعهم يسمع الكذب، بعضهم من بعض، ويقبلونه، ولذلك
جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة، إذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: (سماعون لقوم آخرين): يحتمل أن يريد: يسمعون منهم، وذكر
الطبري عن جابر، أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك، وقيل: يهود خيبر، ويحتمل
أن يكون معنى (سماعون لقوم آخرين) بمعنى: جواسيس مسترقين الكلام، لينقلوه لقوم
آخرين، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة، قلت: وهذا هو الذي نص
عليه ابن إسحاق في السير.
قال * ع *: وقيل لسفيان بن عيينة: هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله
عز وجل؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: (سماعون لقوم آخرين).
وقوله سبحانه: (يحرفون الكلم من بعد مواضعه): هذه صفة اليهود في معنى ما
حرفوه من التوراة، وفيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم (من بعد مواضعه)، أي: من
بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجوهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي
أن يهود فدك قالوا ليهود المدينة: استفتوا محمدا، فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد
والتجبية، فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم، فاحذروا الرجم، قاله الشعبي وغيره وقيل غير
هذا من وقائعهم، فالإشارة ب‍ (هذا) إلى التحميم والجلد في الزنا، على قول، ثم قال
383

تعالى لنبيه - عليه السلام - على جهة قطع الرجاء منهم: (ومن يرد الله فتنته) أي: محنته
بالكفر، (فلن تملك له من الله شيئا)، ثم أخبر تعالى عنهم، أنهم الذين سبق لهم في
علمه أن لا يطهر قلوبهم، وأن يكونوا مدنسين بالكفر، (لهم في الدنيا خزي)، بالذلة
والمسكنة التي ضربت عليهم في أقطار الأرض، وفي كل أمة.
قال * ص *: (سماعون)، أي: هم سماعون، ومثله أكالون. انتهى.
وقوله سبحانه: (أكالون للسحت): فعالون، غير بناء مبالغة، أي: يتكرر أكلهم،
ويكثر، والسحت: كل ما لا يحل كسبه من المال.
وقوله تعالى: (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم): تخيير للنبي صلى الله عليه وسلم،
ولحكام أمته بعده، وقال ابن عباس وغيره: هذا التخيير منسوخ بقوله سبحانه: (وأن أحكم
بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 49]، وقال كثير من العلماء: هي محكمة، وهذا هو
الأظهر، إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة مجمعة فيما علمت على أن حاكم المسلمين
يحكم بين أهل الذمة في تظالمهم، وأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها، فالحاكم مخير،
وإذا رضي به الخصمان، فلا بد من رضا أساقفتهم أو أحبارهم، قاله ابن القاسم في
" العتبية "، قلت: وعبارة الداوودي قال مالك: ولا يحكم بينهم، إذا اختار الحكم إلا في
المظالم، فيحكم بينهم بما أنزل الله، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أن يعلنوه، فيعاقبون
بسبب إعلانه، ثم يردون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين قبل أن
تكون لهم ذمة. انتهى.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": إنما أنفذ النبي صلى الله عليه وسلم الحكم بينهم، ليحقق تحريفهم،
وتبديلهم، وكذبهم، وكتمهم ما في التوراة، / ومنه صفته صلى الله عليه وسلم فيها، والرجم على زناتهم،
وعنه أخبر الله تعالى بقوله: (يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم
تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير) [المائدة: 15]، فيكون ذلك من آياته الباهرة، وحججه
البينة، وبراهينه القاطعة الدامغة للأمة المخزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: (وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا): أمن الله سبحانه نبيه من
ضررهم، إذا أعرض عنهم، وحقر في ذلك شأنهم، (وإن حكمت)، أي: اخترت الحكم
في نازلة ما، (فاحكم بينهم بالقسط)، أي: بالعدل، ثم قال سبحانه: (وكيف
384

يحكمونك) المعنى: وكيف يحكمونك بنية صادقة، وهم قد خالفوا حكم التوراة التي
يصدقون بها، وتولوا عن حكم الله فيها، فأنت الذي لا يؤمنون بك - أحرى بأن يخالفوا
حكمك، وهذا بين أنهم لا يحكمونه - عليه السلام - إلا رغبة في ميله إلى أهوائهم.
وقوله سبحانه: (من بعد ذلك)، أي: من بعد كون حكم الله في التوراة في الرجم
وما أشبهه.
وقوله تعالى: (وما أولئك بالمؤمنين) يعني: بالتوراة وبموسى.
(إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس
واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (44))
وقوله سبحانه: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى)، أي: إرشاد في المعتقد والشرائع،
والنور: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، و (النبيون الذين أسلموا): هم من بعث من
لدن موسى بن عمران إلى مدة نبينا محمد - عليه السلام -، وأسلموا: معناه أخلصوا
وجوههم ومقاصدهم لله سبحانه، وقوله: (للذين هادوا): متعلق ب‍ (يحكم) أي:
يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم، (والربانيون): عطف على النبيين، أي:
ويحكم بها الربانيون، وهم العلماء، وقد تقدم تفسير الرباني، والأحبار أيضا: العلماء،
واحدهم: حبر - بكسر الحاء، وفتحها -، وكثر استعمال الفتح، فرقا بينه وبين " الحبر "
الذي يكتب به، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان قبل مبعث نبينا
محمد - عليه السلام -.
وقوله سبحانه: (بما استحفظوا)، أي: بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر
التوراة، وأخذه العهد عليهم، في العمل والقول بها، وعرفهم ما فيها، فصاروا شهداء
عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا، حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا، لقوله
تعالى: (وإنا له لحافظون) [الحجر: 9].
وقوله تعالى: (فلا تخشوا الناس واخشون): حكاية لما قيل لعلماء بني إسرائيل.
وقوله: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا): نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم
والتحيل للدنيا بالدين، وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها، ويحتمل أن
يكون قوله: (فلا تخشوا الناس...) إلى آخر الآية - خطابا لأمة نبينا محمد - عليه
السلام -.
385

واختلف العلماء في المراد بقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون).
فقالت جماعة: المراد: اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث
عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب، قال الفخر: وتمسكت الخوارج بهذه الآية في
التكفير بالذنب، وأجيب بأن الآية نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم، قال الفخر:
وهذا ضعيف، لأن الاعتبار بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب /.
قلت: وهذه مسألة خلاف في العام الوارد على سبب، هل يبقى على عمومه، أو
يقصر على سببه؟ انتهى.
وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم: الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله،
ولكنها في أمراء هذه الأمة - كفر معصية، لا يخرجهم عن الإيمان، وهذا تأويل حسن،
386

وقيل لحذيفة بن اليمان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نعم الإخوة لكم بنو
387

إسرائيل، إن كانت لكم كل حلوة، ولهم كل مرة، لتسلكن طريقهم قذ الشراك.
(وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن
والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الظالمون (45))
وقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس...) الآية، أي: وكتبنا على بني
إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل،
أنه من قتل نفسا، فيجب في ذلك أخذ نفسه، ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك، ثم استمر
هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: " ورخص الله لهذه
الأمة، ووسع لها بالدية، وليجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى، والجمهور
(أن النفس بالنفس): عموم يراد به الخصوص في المتماثلين، كما ورد في الحديث، عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يقتل مسلم بكافر "، وكذلك قوله سبحانه: (والجروح قصاص): عموم
388

يراد به الخصوص فيما لا يخاف منها على النفس، وكتب الفقه محل استيعاب الكلام على
هذه المعاني.
قال * ص *: (والجروح قصاص)، أي: ذات قصاص. انتهى.
وقوله سبحانه: (فمن تصدق به فهو كفارة له)، المعنى: أن من تصدق بجرحه أو
دم وليه، وعفا، فإن ذلك العفو كفارة لذنوبه يعظم الله أجره بذلك، قاله ابن عمر
وغيره، وفي معناه حديث مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل
يصاب بشئ في جسده فتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحط عنه به خطيئة "، رواه
الترمذي. انتهى.
وقيل: المعنى: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، كما أن القصاص كفارة،
فكذلك العفو كفارة وأما أجر العافي، فعلى الله تعالى، قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: المعنى: إذا جنى جان، فجهل، وخفي أمره، فتصدق هذا الجاني، بأن
اعترف بذلك، ومكن من نفسه، فذلك الفعل كفارة لذنبه.
(وقفينا على آثرهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى
ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله
فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما
بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من
الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم
فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) وأن احكم بينهم بما
389

أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد
الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون (50))
وقوله سبحانه: (وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم...) الآية: الضمير في
(آثارهم) للنبيين.
وقوله: (وهدى وموعظة للمتقين): خص المتقون بالذكر، لأنهم المقصود به في
علم الله وإن كان الجميع يدعى إلى توحيد الله، ويوعظ، ولكن ذلك على غير المتقين
عمى وحيرة.
وقرأ حمزة وحده: " وليحكم " - بكسر اللام، وفتح الميم -، على " لام كي "،
ونصب الفعل بها، والمعنى: وآتيناه الإنجيل، ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم
أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة: " وليحكم " - بسكون لام الأمر، وجزم الفعل -،
ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجب عليهم.
قلت: وإذ من لازم حكمهم بما أنزل الله فيه اتباعهم لنبينا محمد - عليه السلام -
والإيمان به، كما يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، قال الفخر: قيل: المراد:
وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قيل:
والمراد بالفاسقين: من لم يمتثل من النصارى. انتهى، وحسن عقب ذلك التوقيف على
وعيد / من خالف ما أنزل الله.
وقوله سبحانه: (ومهيمنا)، أي: جعل الله القرآن مهيمنا على الكتب، يشهد بما
فيها من الحقائق، وعلى ما نسبه المحرفون إليها، فيصحح الحقائق، ويبطل التحريف،
وهذا هو معنى (مهيمنا)، أي: شاهد، ومصدق، ومؤتمن، وأمين، حسب اختلاف عبارة
المفسرين في اللفظة، وقال المبرد: " مهيمن ": أصله " مؤتمن "، بني من " أمين "، أبدلت
390

همزته هاء، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقته، واستحسنه الزجاج.
وقوله سبحانه: (فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من
الحق): المعنى، عند الجمهور: إن اخترت أن تحكم، فاحكم بينهم بما أنزل الله،
وليست هذه الآية بناسخة لقوله: (أو أعرض عنهم) [المائدة: 42].
ثم حذر الله تعالى نبيه - عليه السلام - من اتباع أهوائهم.
وقوله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، أي: لكل أمة، قاله الجمهور،
وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقدات، فالدين واحد لجميع العالم، ويحتمل أن
يكون المراد الأنبياء، لا سيما وقد تقدم ذكرهم، وذكر ما أنزل عليهم، وتجئ الآية، مع
هذا الاحتمال تنبيها لنبينا محمد - عليه السلام -، أي: فاحفظ شرعتك ومنهاجك، لئلا
تستزلك اليهود، أو غيرهم في شئ منه، وأكثر المتأولين على أن الشرعة والمنهاج بمعنى
واحد، وهي الطريق، وقال ابن عباس وغيره: (شرعة ومنهاجا): سبيلا وسنة، ثم أخبر
سبحانه، أنه لو شاء، لجعل الناس أمة واحدة، ولكنه لم يشأ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم
فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره.
ثم أمر سبحانه باستباق الخيرات في امتثال الأوامر، وختم سبحانه بالموعظة والتذكير
بالمعاد، فقال: (إلى الله مرجعكم جميعا)، والمعنى: فالبدار البدار.
وقوله سبحانه: (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)، معناه: في الثواب والعقاب،
فتخبرون به إخبار إيقاع، وهذه الآية بارعة الفصاحة، جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ
اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين لنا في بعض أكثر مما يبين لنا
في بعض.
وقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم...) الآية: الهوى
مقصور يجمع على أهواء، والهواء ممدود يجمع على أهوية، ثم حذر تعالى نبيه - عليه
السلام - من اليهود، أن يفتنوه، بأن يصرفوه عن شئ مما أنزل الله عليه من الأحكام،
391

لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مرارا: احكم لنا في نازلة كذا بكذا،
ونتبعك على دينك.
وقوله سبحانه: (فإن تولوا)، قبله محذوف، تقديره: فإن حكموك واستقاموا، فنعما
ذلك، وإن تولوا، (فأعلم...) الآية، وخصص سبحانه إصابتهم ببعض الذنوب دون
كلها، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنوبهم نوعان: نوع يخصهم، ونوع يتعدى إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين، وبه توعدهم الله في الدنيا، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة.
وقال الفخر: وجوزوا ببعض الذنوب في الدنيا، لأن مجازاتهم بالبعض - كاف في
إهلاكهم وتدميرهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (فاعلم...) الآية: وعد للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع،
وقصة قريظة والنضير، وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم.
وقوله تعالى: (وإن كثيرا من الناس / لفاسقون): إشارة إليهم، ويندرج في عموم
الآية غيرهم.
وقوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون): إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون
الحلوان، ويحكمون بحسب الشهوات، (ومن أحسن من الله حكما)، أي: لا أحد
أحسن منه حكما تبارك وتعالى.
(يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه
منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن
تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين
(52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا
خاسرين (53))
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء): نهى الله
سبحانه المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية
إلى الامتزاج والمعاضدة، وحكم هذه الآية باق، وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين، فله
392

حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: (فإنه منهم)، وسبب نزول هذه الآية أنه لما
انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع، أراد النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم، فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن
سلول مخاصما، وقال: يا محمد، أحسن في موالي، فإني امرؤ أخاف الدوائر، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: قد وهبتهم لك، ونزلت الآية في ذلك. وقوله عز وجل: (بعضهم أولياء
بعض): جملة مقطوعة من النهي.
وقوله تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم): إنحاء على عبد الله بن أبي، وعلى
كل من اتصف بهذه الصفة.
وقوله سبحانه: (فترى الذين): المعنى: فترى يا محمد، (الذين في قلوبهم
مرض)، إشارة إلى عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني
قينقاع.
وقوله تعالى: (يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة): لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبي
ومن تبعه من المنافقين، ودائرة: معناه نازلة من الزمان، وإنما كان ابن أبي يظهر أنه
يستبقيهم لنصرة النبي - عليه السلام -، وأنه الرأي، وكان يبطن خلاف ذلك.
وقوله سبحانه: (فعسى الله أن يأتي بالفتح)، وهو ظهور نبيه - عليه السلام -،
وعلو كلمته، وتمكينه من بني قينقاع وقريظة والنضير، وفتح مكة، (أو أمر من عنده)
يهلك به أعداء الشرع، وهو أيضا فتح لا يقع فيه للبشر سبب.
وقرأ ابن الزبير: " فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين ".
وقوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم)، قرأ
نافع وغيره: " يقول " - بغير واو -، وقرأ حمزة وغيره: " ويقول "، وقرأ أبو عمرو وحده:
" ويقول " - بالواو، ونصب اللام -، فذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من
المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح، وحصلت ندامة المنافقين، وفضحهم الله تعالى، فحينئذ:
393

يقول المؤمنون: (أهؤلاء الذين أقسموا...) الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض:
(نخشى أن تصيبنا دائرة): إذ فهم منهم أن تمسكهم باليهود إنما هو إرصاد لله ولرسوله،
فمقتهم النبي - عليه السلام - والمؤمنون، وترك لهم النبي - عليه السلام - بني قينقاع، رغبة
في المصلحة والألفة، وأما قراءة أبي عمرو: " ويقول " - بالنصب -، فلا يتجه معها أن يكون
قول المؤمنين إلا عند الفتح، وظهور ندامة المنافقين، وفضيحتهم.
وقوله تعالى: (جهد إيمانهم): نصب " جهد " على المصدر المؤكد، والمعنى:
أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان، إنهم لمعكم، قد ظهر الآن منهم من موالاة
اليهود، وخذل الشريعة - ما يكذب أيمانهم.
وقوله: (حبطت أعمالهم): يحتمل أن يكون / إخبارا من الله سبحانه، ويحتمل أن
يكون من قول المؤمنين، ويحتمل أن يكون قوله: (حبطت) دعاء، أي: بطلت أعمالهم.
(يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين
أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع
عليم (54) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن
يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا
دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا
ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58) قل يا أيها الكتاب هل تنقمون منا
إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59))
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه...) الآية: خطاب
للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية، أن الله عز وجل وعد هذه الأمة أن من ارتد منها،
فإنه يجيء سبحانه بقوم ينصرون الدين، ويغنون عن المرتدين.
قال الفخر: وقدم الله تعالى محبته لهم على محبتهم له، إذ لولا حبه لهم، لما
وفقهم أن صاروا محبين له. انتهى، وفي كتاب " القصد إلى الله سبحانه "، للمحاسبي، قلت
للشيخ: فهل يلحق المحبين لله عز وجل خوف؟ قال: نعم، الخوف لازم لهم، كما لزمهم
الإيمان لا يزول إلا بزواله، وهذا هو خوف عذاب التقصير في بدايتهم، حتى إذا صاروا
394

إلى خوف الفوت، صاروا إلى الخوف الذي يكون في أعلى حال، فكان الخوف الأول
يطرقهم خطرات، وصار خوف الفوت وطنات، قلت: فما الحالة التي تكشف عن قلوبهم
شديد الخوف والحزن؟ قال: الرجاء بحسن الظن، لمعرفتهم بسعة فضل الله عز وجل،
وأملهم منه أن يظفروا بمرادهم، إذا وردوا عليه، ولولا حسن ظنهم بربهم، لتقطعت
أنفسهم حسرات، وماتوا كمدا، قلت: أي شئ أكثر شغلهم، وما الغالب على قلوبهم في
جميع أحوالهم؟ قال: كثرة الذكر لمحبوبهم على طريق الدوام والاستقامة، لا يملون، ولا
يفترون، وقد أجمع الحكماء أن من أحب شيئا، أكثر من ذكره، ثم قال: قال ذو النون: ما
أولع أحد بذكر الله إلا أفاد منه حب الله تعالى. انتهى.
وفي الآية إنحاء على المنافقين، وعلى من ارتد في مدة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الفخر: وهذه الآية إخبار بغيب، وقد وقع الخبر على وفقه، فيكون معجزا،
وقد ارتدت العرب وغيرهم أيام أبي بكر، فنصر الله الدين، وأتى بخير منهم. انتهى.
وقوله سبحانه: (أذلة على المؤمنين)، معناه: متذللين من قبل أنفسهم، غير
متكبرين، وهذا كقوله عز وجل: (أشداء على الكفار رحماء بينهم) [الفتح: 29]، وكقوله
- عليه السلام -: " المؤمن هين لين "، وفي قراءة ابن مسعود: " أذلة على المؤمنين غلظاء
على الكافرين ".
وقوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم): إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم
يعتذرون بممالاة الأحلاف والمعارف من الكفار، ويراعون أمرهم، قلت: وخرج أبو
بكر بن الخطيب بسنده على أبي ذر، قال: " أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بسبع: أوصاني أن أنظر إلى
من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي - يعني: في شأن الدنيا -، وأوصاني بحب
المساكين والدنو منهم، وأوصاني أن أقول الحق وإن كان مرا، وأوصاني أن أصل رحمي
وإن أدبرت، وأوصاني ألا أخاف في الله لومة لائم، وأوصاني ألا أسأل الناس شيئا،
وأوصاني أن استكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله ". انتهى.
وقوله سبحانه: (ذلك فضل الله): الإشارة ب‍ " ذلك " إلى كون القوم يحبون الله
395

عز وجل ويحبهم، وواسع: ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم به سبحانه.
وقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله...) الآية: " إنما " في هذه الآية حاصرة،
وقرأ ابن مسعود: " إنما / مولاكم الله "، والزكاة هنا: لفظ عام للزكاة المفروضة،
والتطوع بالصدقة، ولكل أفعال البر، إذ هي منمية للحسنات، مطهرة للمرء من دنس
السيئات، ثم وصفهم سبحانه بتكثير الركوع، وخص بالذكر، لكونه من أعظم أركان
الصلاة، وهي هيئة تواضع، فعبر عن جميع الصلاة، كما قال سبحانه: (والركع السجود)
[الحج: 26] هذا هو الصحيح.، وهو تأويل الجمهور، ولكن اتفق مع ذلك أن علي بن أبي
طالب (رضي الله عنه) أعطى خاتمه، وهو راكع.
قال السدي: وإن اتفق ذلك لعلي، فالآية عامة في جميع المؤمنين.
ثم أخبر تعالى: من يتولى الله ورسوله والمؤمنين، فإنه غالب كل من ناوأه،
وجاءت العبارة عامة في أن حزب الله هم الغالبون، ثم نهى سبحانه المؤمنين عن اتخاذ
الذين اتخذوا ديننا هزوا ولعبا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله سبحانه: (إنا كفيناك
المستهزئين) [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء
المنافقين في قولهم لشياطينهم: (إنا معكم إنما نحن مستهزئون) [البقرة: 14].
ثم أمر سبحانه بتقواه، ونبه النفوس بقوله: (إن كنتم مؤمنين).
وقوله سبحانه: (وإذا ناديتهم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا...) الآية: إنحاء على
اليهود، وتبيين لسوء فعلهم.
وقوله: (وأن أكثركم فاسقون): معنى المحاورة: هل تنقمون منا إلا مجموع هذه
الحال، من أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون، كما تقول لمن تخاصمه: هل تنقم مني إلا أن
صدقت أنا، وكذبت أنت، وقال بعض المتأولين: (وأن أكثركم): معطوف على (ما)،
كأنه قال: إلا أن آمنا بالله وبكتبه، وبأن أكثركم فاسقون، وهذا مستقيم المعنى، وقال:
396

(أكثركم)، من حيث إن فيهم من آمن، كابن سلام وغيره.
(قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة
والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60) وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا
بالكفر وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم
السحت لبئس ما كانوا يصنعون (63))
وقوله سبحانه: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة)، يعني: مرجعا عند الله يوم
القيامة، ومنه: (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125]، ومشى المفسرون في هذه
الآية على أن الذين أمر - عليه السلام - أن يقول لهم: (هل أنبئكم) هم اليهود والكفار
المتخذون ديننا هزوا ولعبا، قال ذلك الطبري، وتوبع عليه، ولم يسند في ذلك إلى
متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي: قل يا محمد، للمؤمنين: هل
أنبئكم بشر من حال هؤلاء الفاسقين في وقت المرجع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين
لعنهم الله، وغضب عليهم.
وقوله سبحانه: (وجعل)، هي بمعنى " صير "، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في
" البقرة "، و (عبد الطاغوت): تقديره: ومن عبد الطاغوت، وقرأ حمزة وحده " وعبد
الطاغوت " - بفتح العين، وضم الباء، وكسر التاء من الطاغوت -، وذلك أن " عبد " لفظ
مبالغة، كقدس.
قال الفخر: قيل: الطاغوت هنا: العجل، وقيل: الطاغوت أحبارهم، وكل من أطاع
أحدا في معصية الله فقد عبده. انتهى.
و (مكانا): يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه، أي: المحل إذ
محلهم جهنم، ويحتمل أن يريد في الدنيا، فهي استعارة للمكانة، والحالة.
وقوله سبحانه: (وإذا جاءوكم) يعني: اليهود، وخاصة المنافقين منهم، قاله ابن
397

عباس وغيره.
وقوله: (والله أعلم بما كانوا يكتمون): أي: من الكفر، والرؤية هنا تحتمل أن
تكون قلبية، وأن تكون بصرية، و (في الإثم)، أي: موجبات الإثم، واللام في:
(لبئس): لام قسم.
وقوله تعالى: (لولا ينهاهم الربانيون والأحبار): تحضيض في ضمنه توبيخ لهم،
قال الفخر: والمعنى: هلا ينهاهم. انتهى.
قال الطبري: كان العلماء يقولون: ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من
هذه الآية، ولا أخوف عليهم منها.
وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها، أنا لا ننهى، وقال
نحو هذا ابن عباس.
وقوله سبحانه: (عن قولهم الإثم): ظاهره أن الإثم هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن
يراد سائر أقوالهم المنكرة في النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقرأ ابن عباس: " بئس ما كانوا
يصنعون "، بغير لام قسم.
(وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء
وليزيدون كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64))
وقوله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود يد الله...) إلى قوله: (لا يحب
المفسدين): هذه الآية تعديد كبيرة في أقوالهم وكفرهم، أي: فمن يقول هذه العظيمة، فلا
398

يستنكر نفاقه وسعيه في رد أمر الله تعالى.
قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد،
فقالوا هذه المقالة، يعنون بها، أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، تعالى الله عن
قولهم، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك)
[الإسراء: 29]، فإن المراد: لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " مثل البخيل والمتصدق... "
الحديث، وذكر الطبري والنقاش، أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي، وأنه قالها.
وقوله سبحانه: (غلت أيديهم): خبر يحتمل في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن
كان خبرا عن الدنيا، فالمعنى: غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في وجوه البر ونحوه، وإذا
كان خبرا عن الآخرة، فالمعنى: غلت في النار، قلت: ويحتمل الأمرين معا.
وقوله تعالى: (بل يداه مبسوطتان): العقيدة في هذا المعنى: نفي التشبيه عن الله
سبحانه، وأنه ليس بجسم، ولا له جارحة، ولا يشبه، ولا يكيف، ولا يتحيز، ولا تحله
الحوادث، تعالى عما يقول المبطلون علوا كبيرا، قال ابن عباس في هذه الآية: (يداه):
نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين:
399

فقيل: نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنة، والظاهر
أن قوله سبحانه: (بل يداه مبسوطتان) عبارة عن إنعامه على الجملة، وعبر عنها باليدين،
جريا على طريقة العرب في قولهم: فلان ينفق بكلتا يديه، ومنه قول الأعشى: [الطويل]
يداك يدا مجد فكف مفيدة * وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام - قرينة الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيه - عليه
السلام -: (وليزيدن كثيرا منهم)، يعني: اليهود (ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا)،
ثم قال سبحانه: (وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة)، العداوة: أخص من
البغضاء، لأن كل عدو، فهو يبغض، وقد يبغض من ليس بعدو، والبغضاء: قد لا تتجاوز
النفوس، وقد ألقى الله سبحانه الأمرين على بني إسرائيل.
قال الفخر: وقد أوقع الله بين فرقهم الخصومة الشديدة، وانتهى أمرهم إلى أن
يكفر بعضهم بعضا، وفي قوله: (وألقينا بينهم العداوة...) الآية: قولان:
أحدهما: أن المراد ما بين اليهود والنصارى من العداوة، لأنه جرى ذكرهم في قوله:
(لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء) [المائدة: 51]، وهذا / قول الحسن ومجاهد.
والثاني: ما وقع من العداوة بين فرق اليهود، فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية،
وبعضهم موحدة، وبعضهم مشبهة، وكذلك بين فرق النصارى، كالملكانية، والنسطورية،
واليعقوبية. انتهى.
400

وقوله سبحانه: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله): استعارة بليغة، قال
401

مجاهد: معنى الآية: كلما أوقدوا نارا لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، أطفأها الله، فالآية بشارة لنبينا
محمد - عليه السلام - وللمؤمنين، وباقي الآية بين.
(ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65)
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم
أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66))
وقوله تعالى: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا...) الآية: هذه الآية: تحتمل أن يراد بها
معاصرو النبي صلى الله عليه وسلم، وتحتمل أن يراد بها الأسلاف، والمعاصرون.
وقوله سبحانه: (ولو أنهم أقاموا التوراة)، أي: أظهروا أحكامها، فهي كإقامة
السوق، وإقامة الصلاة.
وقوله سبحانه: (والإنجيل): يقتضي دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب، في هذه
الآية، قلت: وقال مكي: معنى: (أقاموا التوراة والإنجيل) أي: عملوا بما فيهما،
وأقروا بصفة النبي صلى الله عليه وسلم وبنبوته. انتهى من " الهداية ".
وقوله: (وما أنزل إليهم من ربهم): معناه: من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء
- عليهم السلام -، واختلف في معنى: (من فوقهم ومن تحت أرجلهم)، فقال ابن عباس
وغيره: المعنى: لأعطتهم السماء مطرها، والأرض نباتها بفضل الله تعالى، وقال
الطبري وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة، كما يقال: فلان قد عمه الخير
من قرنه إلى قدمه.
وقوله سبحانه: (منهم أمة مقتصدة): معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال
والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال ابن زيد: وهؤلاء هم أهل طاعة الله من
402

أهل الكتاب.
قال * ع *: وهذا هو الراجح.
* (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس إن الله لا يهدى القوم الكافرين (67) قل يأهل الكتاب لستم على شئ حتى
تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك
طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68))
وقوله سبحانه: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك...) الآية: هذه الآية أمر
من الله تعالى لنبيه - عليه السلام - بالتبليغ على الاستيفاء والكمال، لأنه قد كان بلغ صلى الله عليه وسلم،
وإنما أمر في هذه الآية بألا يتوقف عن شئ مخافة أحد، وذلك أن رسالته - عليه السلام -
تضمنت الطعن على أنواع الكفرة، وبيان فساد حالهم، فكان يلقى منهم صلى الله عليه وسلم عنتا، وربما
خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: (بلغ ما أنزل إليك من ربك)، أي:
كاملا، (والله يعصمك من الناس)، قالت عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها): " من زعم
أن محمدا كتم شيئا من الوحي، فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: (يا أيها الرسول بلغ ما
أنزل إليك من ربك...) الآية "، وقال عبد الله بن شقيق: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبه
أصحابه يحرسونه، فلما نزلت: (والله يعصمك من الناس)، خرج، فقال: " يا أيها الناس،
الحقوا بملاحقكم، فإن الله قد عصمني "، قلت: وخرج الترمذي هذا الحديث أيضا من
طريق عائشة، وكما وجب عليه التبليغ - عليه السلام -، وجب على علماء أمته، وقد قال
- عليه السلام -: " بلغوا عني ولو آية "، وعن زيد بن ثابت (رضي الله عنه) قال: سمعت
403

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " نصر الله امرأ سمع منا حديثا، فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه
إلى من ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "، رواه أبو داود، واللفظ له،
والترمذي والنسائي وابن ماجة، وابن حبان في " صحيحه "، وقال الترمذي /: هذا حديث
حسن، ورواه من حديث ابن مسعود، وقال: حسن صحيح. انتهى من " السلاح ".
404

وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت هذه الآية بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف
النبي صلى الله عليه وسلم، ليقتله به.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس): معناه: يجعل بينك
وبينهم حجابا يمنع من وصول مكروههم إليك، كعصام القربة الذي يمنع سيلان الماء منها،
ولعلمائنا في الآية تأويلات.
أصحها: أن العصمة عامة في كل مكروه، وأن الآية نزلت بعد أن شج وجهه،
وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه أراد من القتل خاصة، والأول أصح، وقد كان صلى الله عليه وسلم أوتي بعض هذه
العصمة بمكة في قوله تعالى: (إنا كفيناك المستهزئين) [الحجر: 95] ثم كملت له العصمة
بالمدينة، فعصم من الناس كلهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال الله الواقعة في القرآن.
ثم أمر تعالى نبيه - عليه السلام -، أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه: (لستم
على شئ)، أي: على شئ مستقيم، (حتى تقيموا التوراة والإنجيل)، وفي إقامتهما
الإيمان بنبينا محمد - عليه السلام -، قلت: وهذه الآية عندي من أخوف آية في القرآن،
كما أشار إلى ذلك سفيان، فتأملها حق التأمل.
وقوله سبحانه: (وما أنزل إليكم من ربكم...) الآية: يعني به القرآن.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل
صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69) لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم
رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون (70))
405

وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون): الذين آمنوا: لفظ عام لكل مؤمن
من ملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم،
وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا هو تأويل الجمهور، وقد مضى الكلام في " سورة
البقرة "، فراجعه هناك، وقرأ الجمهور: " والصابئون "، وقرئ خارج السبعة:
" والصابئين "، وهي بينة الإعراب، وأما على قراءة الجمهور، فاختلف في إعرابها، ومذهب
سيبويه، والخليل، ونحاة البصرة: أنه من المقدم الذي معناه التأخير، كأنه قال: إن الذين
آمنوا والذين هادوا، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، فلا خوف عليهم ولا هم
يحزنون، والصابئون والنصارى كذلك.
قال * ص *: ووجه ثان أن خبر " إن " محذوف، أي: إن الذين آمنوا لهم أجرهم،
وخبر " الصابئين ": (من آمن) وما بعده، قال ابن عصفور، وهو حسن جدا، إذ ليس فيه
أكثر من حذف خبر " إن "، للفهم، وهو جائز في فصيح الكلام. انتهى.
قلت: قال ابن مالك: وهو أسهل من التقديم والتأخير، وقيل: إن الصابئين في
موضع نصب، ولكنه جاء على لغة بلحارث الذين يجعلون التثنية بالألف على كل حال،
والجمع بالواو على كل حال، قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا.
(وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير
منهم والله بصير بما يعملون (71) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم
وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربى وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة
ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما
من إله إلا إله وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم
(73) أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا
رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقه كانا يأكلان الطعام انظر كيف
نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون (75))
406

وقوله سبحانه: (وحسبوا ألا تكون فتنة): المعنى في هذه الآية: وظن هؤلاء الكفرة
بالله، والعصاة من بني إسرائيل ألا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا، فلجوا في
شهواتهم، وعموا فيها، إذ لم يبصروا الحق، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " حبك الشئ يعمي
ويصم ".
وقوله سبحانه: (ثم تاب الله عليهم)، قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي
ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول، ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد
ذلك، حتى أخرجوا الخرجة الثانية، ولم ينجبروا أبدا، ومعنى: (تاب الله عليهم)، أي:
رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة القرآن: / استناد هذا الفعل الشريف إلى الله
تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال، إليهم، ثم أخبر تعالى إخبارا
مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين: (إن الله هو المسيح ابن مريم) وهذا قول اليعقوبية من
النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم، فقال: (المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا
الله ربي وربكم...) الآية، فضلوا هم، وكفروا، بسبب ما رأوا على يديه من الآيات.
407

وقوله تعالى: (وما للظالمين من أنصار)، يحتمل أن يكون من قول عيسى - عليه
السلام - لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله سبحانه لنبيه محمد - عليه
السلام -.
وقوله تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد...)
الآية: إخبار مؤكد، كالذي قبله، عن هذه الطائفة الناطقة بالتثليث، وهم فرق، منهم
النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتب التفسير.
وقوله سبحانه: (ثالث ثلاثة): لا يجوز فيه إلا الإضافة، وخفض " ثلاثة "، لأن
المعنى أحد ثلاثة، فإن قلت: زيد ثالث اثنين، أو رابع ثلاثة، جاز لك أن تضيف، كما
تقدم، وجاز ألا تضيف، وتنصب " ثلاثة "، على معنى: زيد يربع ثلاثة.
وقوله سبحانه: (وما من إله إلا إله واحد...) الآية: خبر صادع بالحق، وهو
سبحانه الخالق المبدع المتصف بالصفات العلا، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا
كبيرا، ثم توعدهم، إن لم ينتهوا عما يقولون، ثم رفق جل وعلا بهم، بتحضيضه إياهم
على التوبة، وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه سبحانه بالغفران والرحمة، استجلابا للتائبين
وتأنيسا لهم، ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.
قال * ص *: (ليمسن): اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط. انتهى.
وقوله تعالى: (وأمه صديقة): بناء مبالغة من الصدق، ويحتمل من التصديق، وبه
سمي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال: إنها نبية.
وقوله سبحانه: (كانا يأكلان الطعام): تنبيه على نقص البشرية، وعلى حال من
الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، و (يؤفكون): معناه: يصرفون، ومنه قوله
عز وجل: (يؤفك عنه من أفك) [الذاريات: 9]، والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن
ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل: أرض مأفوكة، لما كانت
مأفوكا عنها.
(قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم
(76) قل يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من
قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77))
وقوله تعالى: (قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو
408

السميع العليم...) الآية: الضر - بفتح الضاد -: المصدر، وبضمها الاسم، وهو عدم
الخير، و (السميع)، لأقوالهم (والعليم) بنياتهم، والغلو: تجاوز الحد، من غلا
السهم، إذا تجاوز الغرض المقصود، وتلك المسافة هي غلوته، وهذه المخاطبة هي
للنصارى الذي غلوا في عيسى، والقوم الذين نهى النصارى عن اتباع أهوائهم هم بنو
إسرائيل، ووصف تعالى اليهود، بأنهم ضلوا قديما، وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد
الأمر بتكرار قوله تعالى: (وضلوا عن سواء السبيل).
(لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما
عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن
سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما
أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81))
وقوله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل...) الآية: قال ابن عباس (رضي
الله عنه): لعنوا بكل لسان، لعنوا في التوراة، وفي الزبور، والإنجيل، والفرقان.
وقوله سبحانه: (كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه...) الآية: ذم الله سبحانه هذه
الفرقة الملعونة، بأنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهرون
بالمعاصي، / وإن نهى منهم ناه، لم يمتنع عن مواصلة العاصي، ومؤاكلته، وخلطته،
وروى ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل من بني إسرائيل كان، إذا رأى
أخاه على ذنب، نهاه عنه، تعذيرا، فإذا كان من الغد، لم يمنعه ما رأى منه، أن يكون
أكيله أو خليطه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم، ضرب بقلوب بعضهم على بعض،
ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى "، قال ابن مسعود: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا
فجلس، وقال: " لا، والله حتى تأخذوا على يد الظالم، فتأطروه على الحق أطراء "،
409

والإجماع على أن النهي عن المنكر - واجب لمن أطاقه، ونهى بمعروف، أي: برفق،
وقول معروف، وأمن الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذر على أحد النهي، لشئ من
هذه الوجوه، ففرض عليه الإنكار بقلبه، وألا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم:
ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا.
وقوله سبحانه: (لبئس ما كانوا يفعلون): اللام لام قسم، وروى أبو داود عن أبي
سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة حق "، أو قال: " كلمة عدل
عند سلطان جائر أو أمير جائر ". انتهى.
وقوله تعالى لنبيه محمد - عليه السلام - (ترى كثيرا) يحتمل أن تكون رؤية عين،
فلا يريد إلا معاصريه، ويحتمل أن تكون رؤية قلب، وعلى هذا، فيحتمل أن يريد
المعاصرين له، ويحتمل أن يريد أسلافهم، و (الذين كفروا): عبدة الأوثان.
وقوله سبحانه: (لبس ما قدمت لهم أنفسهم...) الآية، أي: قدمته للآخرة،
واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: (أن سخط الله عليهم) ف‍ (أن سخط): في
موضع رفع بدل من (ما)، ويحتمل أن يكون التقدير: هو أن سخط الله عليهم.
وقوله تعالى: (والنبي) إن كان المراد الأسلاف، فالنبي: داود وعيسى، وإن كان
المراد معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالمراد ب‍ " النبي " هو صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله سبحانه: (ترى كثيرا منهم) كلام منقطع من ذكر
بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين، ونحوه لمجاهد.
(* لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم
مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا
410

يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق
يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن
يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين
فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86))
وقوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا...)
الآية: اللام في قوله: (لتجدن): لام ابتداء، وقال الزجاج: هي لام قسم، وهذا خبر
مطلق منسحب على الزمان كله، وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على
تكذيب الأنبياء وقتلهم، ومردوا على استشعار اللعنة، وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد
لجت عداوتهم، وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، وكذلك المشركون عبدة
الأوثان والنيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة
دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إن حاربوا، فإنما حربهم أنفة، لا أن شرعهم
يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فسلمهم صاف، واليهود (لعنهم الله) ليسوا على شئ من
هذه الخلال، بل شأنهم الخبث، واللي بالألسنة، والمكر، والغدر، ولم يصف الله تعالى
النصارى بأنهم أهل ود، وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، وفي قوله
سبحانه: (الذين قالوا إنا نصارى): إشارة إلى معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم / من النصارى،
بأنهم ليسوا على حقيقية النصرانية، وإنما هو قول منهم، وزعم.
وقوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا...) الآية: معناه: ذلك بأن منهم
أهل خشية وانقطاع إلى الله تعالى، وعبادة، وإن لم يكونوا على هدى، فهم يميلون إلى
أهل العبادة والخشية، وليس عند اليهود ولا كان قط - أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن
الدنيا، بل هم معظمون لها، متطاولون في البنيان، وأمور الدنيا، حتى كأنهم لا يؤمنون
بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفخر: القس والقسيس: اسم رئيس النصارى،
والجمع: قسيسون، وقال قطرب: القس والقسيس: العالم، بلغة الروم، وهذا مما وقع
الوفاق فيه بين اللغتين. انتهى.
ووصف الله سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجود فيهم حتى الآن،
واليهودي متى وجد عزا، طغى وتكبر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: (وإذا سمعوا ما أنزل
411

إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع...) الآية: قال النووي: ينبغي للقارئ أن
يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور،
وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، وقد بات جماعة من
السلف يتلو الواحد منهم آية واحدة، ليلة كاملة، أو معظم ليلة يتدبرها، وصعق جماعات
منهم عند سماع القرآن، وقراءته، ومات جماعات منهم، ويستحب البكاء والتباكي لمن لا
يقدر على البكاء، فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين، قال
الله عز وجل: (ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا) [الإسراء: 109] وقد وردت آثار
كثيرة في ذلك. انتهى من " الحلية " للنووي.
وذكر ابن عباس وابن جبير ومجاهد، أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فبكوا وآمنوا،
ورجعوا إلى النجاشي، فآمن، ولم يزل مؤمنا حتى مات، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وروي
أن نعش النجاشي كشف للنبي - عليه السلام -، فكان يراه من موضعه بالمدينة، وجاء الخبر
بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم عليه، قال أبو صالح: كانوا
سبعة وستين رجلا، وقال ابن جبير: كانوا سبعين، عليهم ثياب الصوف، وكلهم صاحب
صومعة، اختارهم النجاشي.
وصدر الآية في قرب المودة عام فيهم، ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن
آمن، وإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: (وإذا سمعوا)، وجاء الضمير عاما، إذ قد
تحمد الجماعة بفعل واحد منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولطف من الله بهم،
ليؤمنوا.
قال * ص *: (مما عرفوا من الحق): " من " الأولى لابتداء الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: من أجل الذي عرفوا، و " من " الثانية لبيان " ما " الموصولة.
انتهى.
412

قال العراقي: (تفيض)، أي: تسيل منها العبرة، وفي الحديث: " اقرأوا القرآن،
وابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا "، خرجه البزار. انتهى من " الكوكب الدري "، وفيه عن
البزار أيضا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من خرج من عينيه مثل جناح ذباب دموعا من خشية الله،
لم يدخل النار حتى يعود اللبن في ضرعه ". انتهى.
وقولهم: (مع الشاهدين)، يعني: نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأمته، قاله ابن عباس
وغيره، وقال الطبري: لو قال قائل: معنى ذلك: " مع الشاهدين بتوحيدك من جميع
العالم "، لكان صوابا، وهو كلام صحيح، وكأن ابن عباس خصص أمة محمد، لقول الله
سبحانه: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا...) [البقرة: 143] الآية، وقولهم: (وما لنا لا نؤمن
بالله وما جاءنا من الحق): توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار، والقوم
الصالحون: محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين، ثم ذكر تعالى ما
أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذبين،
وأنهم قرناء الجحيم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب
المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88) لا
يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين
من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم...) الآية: قال
ابن عباس وغيره نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلغت منهم المواعظ،
وخوف الله تعالى إلى أن حرم بعضهم النساء، وبعضهم النوم بالليل، والطيب، وهم
بعضهم بالاختصاء، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " أما أنا فأقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي
413

النساء، وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي، فليس مني "، قال الطبري: كان فيما يتلى:
" من رغب عن سنتك، فليس من أمتك، وقد ضل عن سواء السبيل "، والطيبات في هذه
الآية: المستلذات، بدليل إضافتها إلى ما أحل الله، وبقرينة ما ذكر من سبب الآية.
وقوله سبحانه: (ولا تعتدوا)، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحل
الله، وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: ولا تعتدوا، فتحلوا ما حرم الله،
فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين، كأنه قال: لا تشددوا، فتحرموا حلالا، ولا تترخصوا،
فتحلوا حراما، قلت: وروى مالك في " الموطإ "، عن أبي النضر، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، لما مات عثمان بن مظعون، ومر بجنازته: " ذهبت، ولم تلتبس منها بشئ ".
قال أبو عمر في " التمهيد ": هذا الحديث في " الموطإ " مقطوع، وقد رويناه متصلا
مسندا من وجه صالح حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشة، قالت: " لما مات عثمان بن
مظعون، كشف النبي صلى الله عليه وسلم الثوب عن وجهه، وقبل بين عينيه، وبكى بكاء طويلا، فلما رفع
على السرير، قال: طوبى لك يا عثمان! لم تلبسك الدنيا ولم تلبسها ".
قال أبو عمر: كان عثمان بن مظعون أحد الفضلاء العباد الزاهدين في الدنيا من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المتبتلين منهم، وقد كان هو وعلي بن أبي طالب هما أن يترهبا
ويتركا النساء، ويقبلا على العبادة، ويحرما طيبات الطعام على أنفسهما، فنزلت: (يا أيها
الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم...) الآية. ونقل هذا معمر وغيره عن
قتادة. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان): معناه: شددتم، وعقد اليمين
كعقد الحبل والعهد، قال الحطيئة: [البسط]
414

قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم * شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
قال الفخر: وأما وجه المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها، فهو ما تقدم من أن قوما
من الصحابة (رضي الله عنهم) حرموا على أنفسهم المطاعم والملاذ، وحلفوا على ذلك،
فلما نهاهم / الله تعالى عن ذلك، قالوا: يا رسول الله، فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله
تعالى هذه الآية. انتهى.
وقوله سبحانه: (فكفارة إطعام عشرة مساكين)، أي: إشباعهم مرة واحدة، وحكم
هؤلاء ألا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة.
واختلف في معنى قوله سبحانه: (من أوسط)، فرأى مالك وجماعة معه هذا
التوسط في القدر، ورأى ذلك جماعة في الصنف، والوجه أن يعم بلفظ " الوسط " القدر
والصنف، فرأى مالك أن يطعم المسكين ب‍ " المدينة " مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رطل
415

وثلث، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أن يتوسع، ورأى من يقول: أن
التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد،
وينحط عن الأعلى، ويكفر بالوسط من ذلك، ومذهب " المدونة "، أن يراعي المكفر عيش
البلد، وتأويل العلماء في الحانث في اليمين بالله: أنه مخير في الإطعام، أو الكسوة، أو
العتق، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ الله تعالى عباده
بالأيسر، فالأيسر، قال الفخر: وبدأ سبحانه بالإطعام، لأنه أعم وجودا، والمقصود منه
التنبيه على أنه سبحانه يراعي التخفيف، والتسهيل في التكاليف، وثانيها: أن الإطعام
أفضل، قلت: وهذا هو مشهور مذهب مالك. انتهى، ويجزئ عند مالك من الكسوة في
الكفارة ما يجزئ في الصلاة.
416

وقوله سبحانه: (أو تحرير رقبة)، أي: مؤمنة، قاله مالك وجماعة، لأن هذا
المطلق راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في قتل الخطأ.
وقوله سبحانه: (فمن لم يجد): معناه: لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاث
417

المذكورة. واختلف العلماء في حد هذا العادم، ومتى يصح له الصيام، فقال الشافعي
ومالك وجماعة من العلماء: إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته، وقوت عياله، يومه وليلته،
فله أن يصوم، فإن كان عنده زائد على ذلك ما يطعم عشرة مساكين، لزمه الإطعام، قال
الطبري: وقال آخرون: جائز لمن لم يكن له فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في
معايشه، أن يصوم، وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود: " ثلاثة أيام متتابعات "، وقال بذلك
جماعة.
وقال مالك وغيره: إن تابع، فحسن، وإن فرق، أجزأ، وقوله: (إذا حلفتم)،
معناه: وأردتم الحنث، أو وقعتم فيه.
418

(يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم
تفلحون (90) إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله
وعن الصلاة فهل أنتم منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على
رسولنا البلاغ المبين (92))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس...) الآية:
قال * ع *: وفي معنى الأزلام: الزجر بالطير، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما
يصنعه الناس، وأخبر سبحانه أن هذه الأشياء رجس، قال ابن عباس في هذه الآية: رجس:
سخط، وقال ابن زيد: الرجس الشر.
قال * ع *: الرجس: كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب والرجز: العذاب لا
غير، والركس: العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين.
وقوله سبحانه: (فاجتنبوه): أمر باجتنابه، فحرمت الخمر، بظاهر القرآن، ونص
الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة، كقصة حمزة، حين
جب الأسنمة، وقوله: وهل أنتم إلا عبيد أبي، ثم أعلم سبحانه عباده أن الشيطان إنما يريد
أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما يعترى عليها بين المؤمنين، وبسبب الميسر، إذ كانوا
يتقامرون على الأموال، حتى ربما بقي المقمور فقيرا، فتحدث من ذلك ضغائن وعداوات،
فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة، كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين،
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم /: " ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا "،
وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهد العدو، والبغضاء تنقض عرى الدين،
وتهدم عماد الحماية، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله، وعن
الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهوات، والخمر والميسر والقمار كله من أعظم الآفات في
ذلك، وفي قوله سبحانه: (فهل أنتم منتهون): وعيد زائد على معنى: " انتهوا ".
419

(ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا
الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93) يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من
الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94))
وقوله سبحانه: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا...)
الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله،
كيف بمن مات منا، وهو يشربها، ويأكل الميسر، ونحو هذا من القول، فنزلت هذه
الآية، وهذا نظير سؤالهم عمن من مات على القبلة الأولى، والجناح: الإثم والحرج،
والتكرار في قوله سبحانه: " اتقوا " يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها، وفي ذلك
مبالغة في هذه الصفات لهم، وليست الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل
التقوى، بل هي لكل مؤمن، وإن كان عاصيا أحيانا، إذا كان قد عمل من هذه الخصال
الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره،
محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، و (طعموا): معناه:
ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقته في حاسة
الذوق.
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد)، أي: ليختبرنكم
ليرى طاعتكم من معصيتكم، وقوله: " بشئ " يقتضي تبعيضا، و " من ": يحتمل أن تكون
للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، كقوله تعالى: (فاجتنبوا الرجس من الأوثان)
[الحج: 30].
وقوله تعالى: (ليعلم الله من يخافه بالغيب): معناه: ليستمر علمه تعالى عليه، وهو
موجود، إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، و (بالغيب): قال الطبري: معناه: في الدنيا
حيث لا يرى العبد ربه، فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى: بالغيب من الناس، أي: في
الخلوة ممن خاف الله. انتهى، قلت: وقول الطبري أظهر، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد
النهي بالعذاب الأليم، وهو عذاب الآخرة.
420

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم
يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال
أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95) أحل لكم صيد البحر
وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون
(96) * جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شئ عليم (97) اعلموا أن الله شديد
العقاب وأن الله غفور رحيم (98))
وقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم...) الآية: الصيد:
مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام، ومعناه
الخصوص فيما عدا ما استثنى، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " خمس فواسق يقتلن في
الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور "، وأجمع الناس
على إباحة قتل الحية، وبسط هذا في كتب الفقه، و (حرم): جمع حرام، وهو الذي
يدخل في الحرم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: (متعمدا)، فقال مجاهد وغيره:
معناه: متعمدا لقتله، ناسيا لإحرامه، فهذا يكفر، وأما إن كان ذاكرا لإحرامه، فهو أعظم
421

من أن يكفر، وقد حل ولا رخصة له.
وقال جماعة من أهل العلم، منهم ابن عباس ومالك والزهري وغيرهم: المتعمد:
القاصد للقتل، الذاكر لإحرامه، فهو يكفر، وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران، وقرأ
نافع وغيره: " فجزاء مثل "، - بإضافة الجزاء إلى " مثل " -، وقرأ حمزة وغيره: " فجزاء "
- بالرفع -، " مثل " - بالرفع أيضا -، واختلف في هذه المماثلة، كيف تكون، فذهب
الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة، وعظم المرأى،
فيجعلان ذلك من النعم جزاءه /، وذهب الشعبي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة
يقوم الصيد المقتول، ثم يشتري بقيمته ند من النعم، ورد الطبري وغيره هذا القول،
والنعم: لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم، إذا اجتمعت هذه الأصناف، فإن انفرد كل
صنف لم يقل " نعم " إلا للإبل وحدها، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين
عالمين بحكم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهور الناس.
قال ابن وهب في " العتبية ": من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره
الله تعالى في أن يخرج هديا بالغ الكعبة، أو كفارة طعام مساكين، أو عدل ذلك صياما،
فإن اختار الهدي، حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك
شاة، لأنها أدنى الهدي، فما لم يبلغ شاة، حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو
يصوم مكان كل مد يوما، وكذلك قال مالك في " المدونة ": إذا أراد المصيب أن يطعم أو
يصوم، فإن كان لما أصاب نظير من النعم، فإنه يقوم صيده طعاما، لا دراهم، قال: وإن
قوماه دراهم، واشترى بها طعام، لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء،
أطعمه، وإلا صام مكان كل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال
يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقال: كم من رجل يشبع من هذا الصيد، فيعرف العدد،
ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام
عدد أمداده، وهذا قول حسن احتاط فيه، لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، فبهذا
النظر يكثر الإطعام.
422

وقوله تعالى: (هديا بالغ الكعبة) ذكرت " الكعبة "، لأنها أم الحرم، والحرم كله
منحر لهذا الهدي، ولا بد أن يجمع في هذا الهدي بين الحل والحرم حتى يكون بالغ
الكعبة، فالهدي لا ينحر إلا في الحرم.
واختلف في الطعام، فقال جماعة: الإطعام والصوم حيث شاء المكفر من البلاد،
وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهدي والإطعام بمكة، والصوم حيث شئت.
وقوله سبحانه: (ليذوق وبال أمره): الذوق هنا مستعار، والوبال: سوء العاقبة،
والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر ب‍ (أمره) عن جميع حاله، من قتل
وتكفير، وحكم عليه، ومضى ماله، أو تعبه بالصوم، واختلف في معنى قوله سبحانه:
(عفا الله عما سلف...) الآية: فقال عطاء بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا الله عما
سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة، ومن عاد الآن في الإسلام، فإن كان
مستحلا، فينتقم الله منه في الآخرة، ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا، فالنقمة هي
في إلزام الكفارة فقط، قالوا: وكلما عاد المحرم، فهو يكفر.
قال * ع *: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء
مالك ونظرائه، وأصحابه (رحمهم الله)، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمد، فإنه يكفر
أول مرة، وعفا الله عن ذنبه، فإن اجترأ، وعاد ثانيا، فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله
منك، كما قال الله تعالى.
وقوله سبحانه: (والله عزيز ذو انتقام): تنبيه على صفتين تقتضيان خوف من له
بصيرة، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من خاف أدلج، ومن
423

أدلج بلغ المنزل "، قلت: والصيد للهو مكروه، وروى أبو داود في سننه، عن ابن
عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى
السلطان، افتتن ". انتهى.
وقوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم...) الآية: البحر: الماء
الكثير، ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير: بحر، وطعامه: هو كل ما قذف به، وما طفا
عليه، قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب مالك.
و (متاعا): نصب على المصدر، والمعنى: متعكم به متاعا تنتفعون به، وتأتدمون،
و (لكم): يريد حاضري البحر ومدنه، و (للسيارة): المسافرين، واختلف في مقتضى
قوله سبحانه: (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما)، فتلقاه بعضهم على العموم من
جميع جهاته، فقالوا: إن المحرم لا يحل له أن يصيد، ولا أن يأمر من يصيد، ولا أن يأكل
صيدا صيد من أجله، ولا من غير أجله، وأن لحم الصيد بأي وجه كان حرام على
المحرم، وكان عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل ما صاده
حلال لنفسه، أو لحلال مثله، وقال بمثل قول عمر - عثمان بن عفان والزبير بن العوام،
وهو الصحيح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة، وهو حلال، والنبي
- عليه السلام - محرم.
424

ثم ذكر سبحانه بأمر الحشر والقيامة، مبالغة في التحذير، ولما بان في هذه الآيات
تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة، وإنها بيت الله تعالى، وعنصر هذه
الفضائل ذكر سبحانه في قوله: (جعل الله الكعبة البيت)، تنبيها سنه في الناس، وهداهم
إليه، وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام، والهدي قوام، والقلائد
قوام، أي: أمر يقوم للناس بالتأمين، ووضع الحرب أوزارها، وأعلم تعالى أن التزام الناس
لذلك هو مما شرعه وارتضاه، و (جعل)، في هذه الآية: بمعنى " صير "، و (الكعبة بيت
مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة: كل بيت مربع، فهو مكعب، وكعبة، وذهب
بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى: (قياما للناس)، أي: موضع وجوب قيام
بالمناسك والتعبدات، وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، قال مكي:
معنى (قياما للناس)، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الذي يقوم به أمر أتباعه، فهي تحجزهم
عن ظلم بعضهم بعضا، وكذلك الهدي والقلائد جعل ذلك أيضا قياما للناس، فكان الرجل
إذا دخل الحرم أمن من عدوه، وإذا ساق الهدي كذلك، لم يعرض له، وكان الرجل إذا
أراد الحج، تقلد بقلادة من شعر، وإذا رجع تقلد بقلادة من لحاء شجر الحرم، فلا يعرض
له، ولا يؤذى حتى يصل إلى أهله، قال ابن زيد: كان الناس كلهم فيهم ملوك تدفع بعضهم
عن بعض، ولم يكن في العرب ملوك تدفع عن بعضهم ظلم بعض، فجعل الله لهم البيت
الحرام قياما يدفع بعضهم عن بعض. انتهى من " الهداية ".
والشهر هنا: اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر،
وهو رجب، وأما الهدي، فكان أمانا لمن يسوقه، لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب،
وأما القلائد، فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج /، تقلد من لحاء السمر أو غيره
425

شيئا، فكان ذلك أمانا له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلدوا من شجر الحرم، وقوله (ذلك):
إشارة إلى أن جعل الله هذه الأمور قياما.
وقوله سبحانه: (بكل شئ عليم): عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق
الموجودات، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر.
(ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99) قل لا يستوى الخبيث
والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون (100))
وقوله سبحانه: (ما على الرسول إلا البلاغ...) الآية: إخبار للمؤمنين مضمنه
الوعيد، إن انحرفوا، ولم يمتثلوا ما بلغ الرسول إليهم، (والله يعلم ما تبدون وما
تكتمون)، قلت: قال الشيخ أبو مدين (رضي الله عنه): الحق تعالى مطلع على السرائر
والظواهر في كل نفس وحال، فأيما قلت رآه مؤثرا له، حفظه من الطوارق والمحن
ومضلات الفتن، وقال (رحمه الله): ما عرف الحق من لم يؤثره، وما أطاعه من لم يشكره.
انتهى.
وقوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب...) الآية: لفظ عام في جميع
الأمور، فيتصور في المكاسب، وعدد الناس، والمعارف من العلوم ونحوها، فالخبيث من
هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة، والطيب وإن قل: نافع جميل العاقبة،
وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج
إلا نكدا) [الأعراف: 58]، والخبث: هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح،
وهي بخلاف ذلك. وقوله سبحانه: (فاتقوا الله يا أولي الألباب): تنبيه على لزوم الطيب
في المعتقد والعمل، وخص أولوا الألباب بالذكر، لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور،
والذين لا ينبغي لهم إهمالها، مع ألبابهم وإدراكهم.
(يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل
القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها
كافرين (102))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم...) الآية:
اختلف الرواة في سببها، والظاهر من الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحت عليه الأعراب
والجهال بأنواع من السؤالات، حسبما هو معلوم في الروايات، فزجرهم الله تعالى عن
ذلك بهذه الآية، وأشياء: اسم لجمع شئ، قال ابن عباس: معنى الآية: لا تسألوا عن
426

أشياء ضمن الأنباء عنها مساءة لكم، إما بتكليف شرعي يلزمكم، وإما بخبر
يسوءكم، ولكن إذا نزل القرآن بشئ، وابتدأكم ربكم بأمر، فحينئذ إن سألتم عن تفصيله
وبيانه بين لكم، وأبدي، ويحتمل قوله: (وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم)، أن
يكون في معنى الوعيد، كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لقيتم غب ذلك وصعوبته، قال
النووي: وعن أبي ثعلبة الخشني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عز وجل فرض
فرائض، فلا تضيعوها، وحد حدودا، فلا تعتدوها، وحرم أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت
عن أشياء، رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها "، ورويناه في " سنن الدارقطني ".
انتهى، وفي " صحيح البخاري "، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " دعوني ما تركتكم،
إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ،
فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم ". انتهى.
427

و (عفا الله عنها): معناه: تركها، ولم يعرف بها، (قد سألها قوم من قبلكم...)
الآية: قال الطبري: كقوم صالح، في سؤالهم الناقة، وكبني إسرائيل، في سؤالهم
المائدة، أي: وكطلب الأمم قديما التعمق في الدين من أنبيائها، ثم لم تف بما كلفت.
(ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله
الكذب وأكثرهم لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما
وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104))
وقوله سبحانه: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام...) الآية:
أي: لم يجعل سبحانه شيئا من ذلك، ولا سنه لعباده، المعنى: ولكن الكفار فعلوا ذلك، /
كعمرو بن لحي وغيره من رؤسائهم، (يفترون على الله الكذب)، بقولهم: هذه قربة إلى
الله، (وأكثرهم)، يعنى: الأتباع (لا يعقلون)، بل يتبعون هذه الأمور تقليدا،
و (جعل) في هذه الآية: لا يتجه أن تكون بمعنى " خلق "، ولا بمعنى " صير "، وإنما هي
بمعنى: " ما سن ولا شرع ".
قال * ص *: (ما جعل): ذهب ابن عطية والزمخشري إلى أنها بمعنى: " شرع "،
428

قال ابن عطية: ولا تكون بمعنى " خلق "، لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا
بمعنى " صير "، لعدم المفعول الثاني، قال أبو حيان: ولم يذكر النحويون لها هذا، وقد
جاء حذف أحد مفعولي " ظن " وأخواتها قليلا، فتحمل هذه على حذف المفعول الثاني،
أي: ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا - مشروعا، وهو أولى من إثبات
معنى لم يسمع فيها، وذكر أبو البقاء، أنها هنا بمعنى " سمى " انتهى.
قلت: وحاصل كلام أبي حيان، أنه شهادة على نفي، وعلى تقدير صحته، فيحمل
كلام ابن عطية على أنه تفسير معنى، لا تفسير إعراب.
وبحيرة: فعيلة بمعنى مفعولة، وبحر: شق، كانوا إذا نتجت الناقة عشرة بطون، شقوا
أذنها بنصفين طولا، فهي مبحورة، وتركت ترعى، وترد الماء، ولا ينتفع بشئ منها،
ويحرم لحمها، إذا ماتت على النساء، ويحلل للرجال، وذلك كله ضلال، والسائبة: هي
الناقة تسيب للآلهة، والناقة أيضا إذا تابعت ثنتي عشرة إناثا ليس فيهن ذكر، سيبت، وكانت
السوائب أيضا في العرب، كالقربة عند المرض يبرأ منه، والقدوم من السفر، وإذا نزل
بأحدهم أمر يشكر الله تعالى عليه، تقرب بأن يسيب ناقة، فلا ينتفع منها بلبن، ولا ظهر،
ولا غيره، يرون ذلك كعتق بني آدم، ذكره السدي وغيره، وكانت العرب تعتقد أن من
عرض لهذه النوق، فأخذها أو انتفع منها بشئ، فإنه تلحقه عقوبة من الله، والوصيلة: قال
أكثر الناس: إن الوصيلة في الغنم، قالوا إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون، أو خمسة، فإن كان
آخرها جديا، ذبحوه لبيت الآلهة، وإن كان عناقا، استحيوها، وإن كان جدي وعناق،
استحيوهما، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها، فمنعته من أن يذبح، وعلى أن الوصيلة في
الغنم، جاءت الروايات عن أكثر الناس، وروي عن ابن المسيب، أن الوصيلة من الإبل،
وأما الحامي، فإنه الفحل من الإبل، إذا ضرب في الإبل عشر سنين، وقيل: إذا ولد من
صلبه عشر، وقيل: إذا ولد من ولد ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيبوه، لا يركب، ولا
يسخر في شئ، وعبارة الفخر: وقيل: الحامي: الفحل، إذا ركب ولد ولده. انتهى،
قلت: والذي في " البخاري ": والحام: فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، وإذا قضى
429

ضرابه، ودعوه للطواغيت، وأعفوه من الحمل، فلم يحمل شئ عليه، وسموه الحامي.
انتهى.
وقوله سبحانه: (وإذا قيل لهم)، يعني: لهؤلاء الكفار المستنين بهذه الأشياء:
(تعالوا إلى ما أنزل الله)، يعني: القرآن الذي فيه التحريم الصحيح، (قالوا حسبنا)،
معناه: كفانا.
(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا
فينبئكم بما كنتم تعملون (105))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم...)
الآية: قال أبو ثعلبة الخشني: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: " ائتمروا
بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإذا رأيت دنيا مؤثرة، وشحا مطاعا، وإعجاب كل ذي رأي
برأيه، فعليك بخويصة نفسك، / وذر عوامهم، فإن وراءكم أياما، أجر العامل فيها كأجر
خمسين منكم "، وهذا هو التأويل الذي لا نظر لأحد معه، لأنه مستوف للصلاح صادر عن
النبي - عليه السلام -، وجملة ما عليه أهل العلم في هذا أن الأمر بالمعروف متعين، متى
رجي القبول، أو رجي رد الظالم، ولو بعنف ما لم يخف الآمر ضررا يلحقه في خاصته،
أو فتنة يدخلها على المسلمين، إما بشق عصا، وإما بضرر يلحق طائفة من الناس، فإذا
خيف هذا، ف‍ (عليكم أنفسكم): محكم واجب أن يوقف عنده.
وقوله سبحانه: (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون)، هذا تذكير
بالحشر وما بعده، وذلك مسل عن أمور الدنيا، مكروهها ومحبوبها، روي عن بعض
الصالحين، أنه قال: ما من يوم إلا ويجيء الشيطان، فيقول: ما تأكل، وما تلبس، وأين
تسكن، فأقول له: آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
430

قال * ع *: فمن فكر في مرجعه إلى الله سبحانه، فهذا حاله، قلت: وخرج
البغوي في " المسند المنتخب "، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " يا أيها الناس، إنكم تعملون أعمالا
تعزب عنكم إلى يوم القيامة، وتوشك العوازب أن تئوب إلى أهلها، فمسرور بها،
ومكظوم ". انتهى من " الكوكب الدري "، والله المستعان.
(يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم
أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة
فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن
الآثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم
الأولين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107) ذلك
أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى
القوم الفاسقين (108))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية
اثنان...) الآية، إلى قوله: (يوم يجمع الله الرسل) [المائدة: 109]: قال مكي: هذه
الآيات عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعرابا، ومعنى، وحكما.
قال * ع *: وهذا كلام من لم يقع له الثلج في تفسيرها، وذلك بين من كتابه،
وبالله نستعين.
لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن تميما الداري..............
431

وعدي بن بداء، وكانا نصرانيين، سافرا إلى المدينة، يريدان الشام، لتجارتهما، وقدم
المدينة أيضا ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاصي، يريد الشام تاجرا، قال الفخر: وكان
مسلما، فخرجوا رفاقة، فمرض ابن أبي مارية في الطريق، وأوصى إلى تميم وعدي، أن
يؤديا رحله إلى أوليائه من بني سهم، وروى ابن عباس عن تميم الداري، أنه قال: برئ
الناس من هذه الآية غيري وغير عدي بن بداء، وذكر القصة، إلا أنه قال: وكان معه
جام فضة، يريد به الملك، فأخذته أنا وعدي، فبعناه بألف، وقسمنا ثمنه، فلما أسلمت
بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، تأثمت من ذلك، فأتيت أهله، فأخبرتهم الخبر، وأديت
خمسمائة، فوثبوا إلى عدي فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف عمرو بن العاصي، ورجل
آخر معه، ونزعت من عدي خمسمائة.
قال * ع *: واختلفت ألفاظ هذه القصة، وما ذكرته هو عمود الأمر، ولم تصح لعدي
صحبة فيما علمت، ولا ثبت إسلامه، وقد صنفه في الصحابة بعض المتأخرين، ولا وجه
432

عندي لذكره في الصحابة.
وأما معنى الآية من أولها إلى آخرها، فهو أن الله سبحانه أخبر المؤمنين أن حكمه في
الشهادة على الموصي، إذا حضره الموت: أن تكون شهادة عدلين، فإن كان في سفر، وهو
الضرب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحد، فليشهد شاهدين ممن حضره من
أهل الكفر، فإذا قدما، وأديا الشهادة على وصيته، حلفا بعد الصلاة، أنهما ما كذبا، ولا
بدلا، وأن ما شهدنا به حق ما كتمنا فيه / شهادة الله، وحكم بشهادتهما، فإن عثر بعد ذلك
على أنهما كذبا، أو خانا، أو نحو هذا مما هو إثم، حلف رجلان من أولياء الموصي في
السفر، وغرم الشاهدان ما ظهر عليهما، هذا معنى الآية على مذهب أبي موسى الأشعري،
وابن عباس، وسعيد بن المسيب، ويحيى بن يعمر، وابن جبير وأبي مجلز، وإبراهيم،
وشريح، وعبيدة السلماني، وابن سيرين، ومجاهد وغيرهم، قالوا: ومعنى قوله:
(منكم)، أي: من المؤمنين، ومعنى: (من غيركم)، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلت، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في
التجارة مع أنواع الكفرة، واختلفت هذه الجماعة المذكورة، فمذهب أبي موسى
الأشعري وغيره، أن الآية محكمة، ومذهب جماعة جماعه منهم، أنها منسوخة، بقوله:
(وأشهدوا ذوي عدل منكم) [الطلاق: 2]، وبما عليه إجماع جمهور الناس، أن شهادة
الكفار لا تجوز.
قال * ع *: ولنرجع الآن إلى الإعراب، ولنقصد الرحمن القول المفيد، لأن الناس
خلطوا في تفسير هذه الآية تخليطا شديدا، وذكر ذلك والرد عليه يطول، وفي تبيين الحق
الذي تتلقاه الأذهان بالقبول مقنع، والله المستعان.
فقوله تعالى: (شهادة بينكم)، هي الشهادة التي تحفظ لتؤدى، ورفعها بالابتداء،
433

والخبر في قوله: (اثنان)، وقوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت): إذا قارب
الحضور، والعامل في " إذا " المصدر الذي هو " شهادة "، وهذا على أن تجعل " إذا " بمنزلة
" حين "، لا تحتاج إلى جواب، ولك أن تجعل " إذا " في هذه الآية المحتاجة إلى الجواب،
لكن استغنى عن جوابها بما تقدم في قوله: (شهادة بينكم)، إذ المعنى: إذا حضر أحدكم
الموت، فينبغي أن يشهد، وقوله: (حين الوصية): ظرف زمان، والعامل فيه (حضر)،
وإن شئت، جعلته بدلا من " إذا "، وقوله: (ذوا عدل): صفة لقوله: (اثنان)،
و (منكم): صفة أيضا بعد صفة، وقوله: (من غيركم): صفة ل‍ (آخران) وقوله:
(تحبسونهما): صفة ل‍ (آخران) أيضا، واعترض بين الموصوف والصفة بقوله: (إن
أنتم)، إلى (الموت)، وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة، إنما يكون
مع ضرورة السفر، وحلول الموت فيه، واستغني عن جواب " إن "، لما تقدم من قوله: (أو
آخران من غيركم)، وقال جمهور من العلماء: الصلاة هنا صلاة العصر، وقال ابن عباس:
إنما هي صلاة الذميين، وأما العصر، فلا حرمة لها عندهما، والفاء في قوله:
(فيقسمان): عاطفة جملة على جملة، لأن المعنى تم في قوله: (من بعد الصلاة)،
وقوله: (إن ارتبتم) شرط لا يتجه تحليف الشاهدين إلا به، والضمير في قول الحالفين:
(لا نشتري به): عائد على القسم، أو على اسم الله، وقوله: (لا نشتري) جواب
يقتضيه قوله: (فيقسمان بالله)، لأن " أقسم " ونحوه يتلقى بما تتلقى به الأيمان، وقوله:
(ثمنا)، أي: ذا ثمن، وخص ذو القربى بالذكر، لأن العرب أميل الناس إلى قراباتهم،
واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يستسهل، وقوله: (ولا نكتم شهادة الله)، أضاف
الشهادة إليه تعالى من حيث هو الآمر بإقامتها، الناهي عن كتمانها، وروي عن الشعبي
وغيره: " شهادة " - بالتنوين -، " الله " - بقطع الألف دون مد وخفض الهاء -، وقال أيضا:
434

يقف على الهاء من: " شهادة " بالسكون، ثم يقطع الألف المكتوبة من غير مد، كما تقدم،
وروي عنه كان يقرأ: / " آلله " - بمد ألف الاستفهام في الوجهين -، أعني: بسكون الهاء من
" شهادة "، وتحريكها منونة منصوبة، ورويت هذه التي هي تنوين " شهادة "، ومد ألف
الاستفهام بعد عن علي بن أبي طالب، قال أبو الفتح: إنما تسكن هاء " شهادة " في الوقف
عليها.
وقوله سبحانه: (فإن عثر): استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، و (استحقا
إثما): معناه: استوجباه من الله، وكانا أهلا له، لأنهما ظلما وخانا.
وقوله تعالى: (فآخران)، أي: إذا عثر على خيانتهما، فالأوليان باليمين وإقامة
القضية: آخران من القوم الذين هم ولاة الميت، واستحق عليهم حظهم، أو نصيبهم، أو
مالهم، أو ما شئت من هذه التقديرات، وقرأ نافع وغيره: " استحق " - مضمومة التاء -،
" والأوليان "، على تثنية الأولى، وروي عن ابن كثير: " استحق " - بفتح التاء -، وكذلك
روي حفص عن عاصم.
وفي قوله: (استحق): استعارة، لأنه لا وجه لهذا الاستحقاق إلا الغلبة على الحال
بحكم انفراد هذا الميت وعدمه لقرابته أو لأهل دينه، فاستحق هنا كما تقول لظالم يظلمك:
" هذا قد استحق علي مالي أو منزلي بظلمه "، فتشبهه لأنه بالمستحق حقيقة، إذ تصور تصوره،
وتملك تملكه، هكذا هي " استحق " في الآية على كل حال، وإن أسندت إلى النصيب
ونحوه.
وقرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر: " أستحق " - بضم التاء -، " الأولين ": على
جمع أول، ومعناها: من القوم الذين استحق عليهم أمرهم، إذ غلبوا عليه، ثم وصفهم
بأنهم أولون، أي: في الذكر في هذه الآية، وذلك في قوله: (اثنان ذوا عدل منكم)، ثم
بعد ذلك قال: (أو آخران من غيركم)، وقوله: (فيقسمان)، يعني: الآخرين اللذين
يقومان مقام شاهدي الزور، وقولهما: (لشهادتنا)، أي: لما أخبرنا نحن به، وذكرناه من
نص القصة - أحق مما ذكراه أولا وحرفاه، (وما اعتدينا)، في قولنا هذا، وقولهما: (إنا
435

إذا لمن الظالمين): تبر في صيغة الاستعظام والاستقباح للظلم.
وقوله تعالى: (ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد
أيمانهم...) الآية: الإشارة ب‍ " ذلك " هي إلى جميع ما حد قبل، من حبس الشاهدين من
بعد الصلاة لليمين، ثم إن عثر على جورهما، ردت اليمين، وغرما، فذلك كله أقرب إلى
اعتدال هذا الصنف فيما عسى أن ينزل من النوازل، لأنهم يخافون الفضيحة، ورد اليمين،
هذا قول ابن عباس، وجمع الضمير في (يأتوا) و (يخافوا)، إذ المراد صنف ونوع
من الناس، والمعنى: ذلك الحكم كله أقرب إلى أن يأتوا، وأقرب إلى أن يخافوا، وباقي
الآية بين.
(* يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109)
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم
الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين
كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمة والأبرص بإذني وإذ تخرج
الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا
إلا سحر مبين (110) وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا
مسلمون (111))
وقوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل)، ذهب قوم إلى أن العامل في (يوم): ما
تقدم من قوله تعالى: (لا يهدى)، وذلك ضعيف، ورصف الآية وبراعتها إنما هو أن
يكون هذا الكلام مستأنفا، والعامل مقدر، إما " أذكر "، أو: " تذكروا "، أو " احذروا "، ونحو
هذا مما حسن اختصاره، لعلم السامع به، والإشارة بهذا اليوم إلى يوم القيامة، وخص
الرسل بالذكر، لأنهم قادة الخلق، وهم المكلمون أولا، و (ماذا أجبتم): معناه: ماذا
أجابتكم الأمم، وهذا السؤال للرسل إنما هو لتقوم الحجة على الأمم، واختلف الناس في
معنى قولهم - عليهم السلام -: (لا علم لنا): قال الطبري: ذهلوا عن الجواب، لهول
المطلع، وقاله الحسن، وعن مجاهد، أنه قال: يفزعون، فيقولون: لا علم لنا،
وضعف بعض الناس هذا المنزع، بقوله تعالى: / (لا يحزنهم الفزع الأكبر)
436

[الأنبياء: 103]، وقال ابن عباس: معنى الآية: لا علم لنا إلا ما علمتنا، أنت أعلم به منا،
وقول ابن عباس حسن، وهو أصوب هذه المناحي، لأنه يتخرج على التسليم لله تعالى،
ورد الأمر إليه، إذ هو العالم بجميع ذلك، على التفصيل والكمال، فرأوا التسليم والخضوع
لعلمه المحيط سبحانه، قال مكي: قال ابن عباس: المعنى: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم
به منا، وهو اختيار الطبري، وقيل: لما كان السؤال عاما يقتضي بعمومه سؤالهم عن
سر الأمم وعلانيتها، ردوا الأمر إليه، إذ ليس عندهم إلا علم الظاهر، قال مكي: وهذا
القول أحب الأقوال إلي، قال: ومعنى مسألة الله الرسل عما أجيبوا، إنما هو لمعنى التوبيخ
لمن أرسلوا إليه، كما قال تعالى: (وإذا الموؤودة سئلت) [التكوير: 8]، انتهى من
" الهداية ".
وقوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك...) الآية: (قال)
هنا بمعنى يقول، لأن ظاهر هذا القول أنه في القيامة، تقدمة لقوله سبحانه: (أأنت قلت
للناس) [المائدة: 116].
وقوله سبحانه: (وإذا تخرج الموتى)، أي: من قبورهم، وكف بني إسرائيل عنه
- عليه السلام - هو رفعه حين أحاطوا به في البيت مع الحواريين، وكذلك منعه منهم قبل
ذلك إلى تلك النازلة الأخيرة، فهناك ظهر عظم الكف.
وقوله سبحانه: (وإذ أوحيت إلى الحواريين)، هو من جملة تعديد النعم على عيسى
- عليه السلام -: و (أوحيت)، في هذا الموضع: إما أن يكون وحي إلهام أو وحي أمر،
وبالجملة فهو إلقاء معنى في خفاء، أوصله سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسول في
هذه الآية: عيسى، وقول الحواريين: (وأشهد): يحتمل أن يكون مخاطبة منهم لله
سبحانه، ويحتمل أن يكون لعيسى.
(إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال
437

اتقوا الله إن كنتم مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا
ونكون عليها من الشاهدين (113))
وقوله سبحانه: (إذ قال الحواريون...) الآية: اعتراض أثناء وصف حال قول الله
لعيسى يوم القيامة، مضمن الاعتراض إخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته بنازلة الحواريين في
المائدة، إذ هي مثال نافع لكل أمة مع نبيها تقتدي بمحاسنه، وتزدجر مع عما ينفر منه من طلب
الآيات ونحوه، وقرأ الجمهور: " هل يستطيع ربك " - بالياء ورفع الباء - من " ربك "،
والمعنى: هل يفعل ربك هذا، وهل تقع منه إجابة إليه، ولم يكن منهم هذا شكا في قدرة
الله سبحانه، إذ هم أعرف بالله من أن يشكوا في قدرته، وقرأ الكسائي: " هل تستطيع
ربك " - بالتاء ونصب الباء من " ربك " -، والمعنى: هل تستطيع سؤال ربك، وأدغم اللام
في التاء، أعني الكسائي، وقال قوم: قال الحواريون هذه المقالة في صدر الأمر قبل علمهم
بأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، ويظهر من قوله - عليه السلام - (اتقوا الله
إن كنتم مؤمنين): إنكار لقولهم، واقتراحهم الآيات، والتعرض لسخط الله بها، وقلة
طمأنينتهم إلى ما قد ظهر، ولما خاطبهم - عليه السلام - بهذه المخاطبة، صرحوا
بمقاصدهم التي حملتهم على طلب المائدة، فقالوا: (نريد أن نأكل منها)، فنشرف في
العالم، (وتطمئن قلوبنا)، أي: تسكن فكرنا في أمرك بالمعاينة لأمر نازل من السماء
بأعيننا، (ونعلم) علم الضرورة والمشاهدة، (أن قد صدقتنا)، فلا تعرضنا الشبه التي
تعرض في علم الاستدلال، وهذا يؤيد أن مقالتهم كانت في مبدأ أمرهم، ثم استمروا على
إيمانهم، وصبروا، وهلك من كفر، وقولهم: (ونكون عليها من الشاهدين)، أي: من
الشاهدين بهذه النازلة، الناقلين لها إلى غيرنا الداعين إلى هذا الشرع، / بسببها، وروي أن
الذي نحا بهم هذا المنحى من الاقتراح هو أن عيسى قال لهم مرة: " هل لكم في صيام
ثلاثين يوما لله سبحانه، ثم إن سألتموه حاجة، قضاها "، فلما صاموها، قالوا: يا معلم
الخير، إن حق من عمل عملا أن يطعم، فهل يستطيع ربك، فأرادوا أن تكون المائدة عيد
ذلك الصوم.
438

(قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا
وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه
عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين (115))
وقوله سبحانه: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء...)
الآية، أي: أجابهم عيسى - عليه السلام - إلى ما سألوا، فيروى أنه لبس جبة شعر، ورداء
شعر، وقام يصلي، ويبكي، والعيد: المجتمع، وقوله: (لأولنا وآخرنا)، روي عن ابن
عباس، أن المعنى: يكون مجتمعا لجميعنا أولنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حين
وضعت أول الناس، كما أكل آخرهم، (وآية منك)، أي: وعلامة على صدقي، فأجاب
الله تعالى دعوة عيسى - عليه السلام -، وقال: (إني منزلها عليكم)، ثم شرط عليهم
سبحانه شرطه المتعارف في الأمم، أنه من كفر بعد آية الاقتراح، عذب أشد عذاب،
والجمهور أن المائدة نزلت كما أخبر الله سبحانه، واختلفوا في كيفية ذلك، فقال أبو
عبد الرحمن السلمي: نزلت المائدة خبزا وسمكا، وقال عطية: المائدة سمكة فيها طعم كل
طعام، وقال ابن عباس: نزل خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءوا،
وقال عمار بن ياسر: سألوا عيسى مائدة يكون عليها طعام لا ينفد، فقيل لهم: إنها مقيمة
لكم ما لم تخبئوا، أو تخونوا، فإن فعلتم، عذبتم، قال: فما مضى يوم، حتى خبئوا،
وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمسخوا قردة وخنازير، وقال ميسرة: كانت المائدة، إذا
وضعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم، وأكثر الناس في
قصص المائدة مما رأيت اختصاره، لعدم سنده.
(وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال
سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم
439

ما في نفسك إنك أنت عالم الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت
عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (117) إن
تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم (118))
وقوله سبحانه: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي
إلهين من دون الله...) الآية: اختلف المفسرون في وقت وقوع هذا القول، فقال السدي
وغيره: لما رفع الله عيسى إلى السماء، قالت النصارى ما قالت، وزعموا أن عيسى أمرهم
بذلك، فسأله تعالى عن قولهم، فقال: (سبحانك...) الآية، ويجيء على هذا قوله:
(وإن تغفر لهم)، أي: في التوبة من الكفر، لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال
ابن عباس، وجمهور الناس: هذا القول من الله إنما هو يوم القيامة يقوله الله له على
رؤس الخلائق، فيرى الكفار تبريه منهم، ويعلمون أن ما كانوا فيه باطل، ف‍ (قال)،
على هذا التأويل بمعنى: " يقول "، ونزل الماضي موضع المستقبل، لدلالته على كون الأمر
وثبوته، وقوله آخرا: (وإن تغفر لهم): معناه: إن عذبت العالم كله، فبحقك، فهم عبادك
تصنع بحق الملك ما شئت، لا اعتراض عليك، وإن غفرت وسبق ذلك في علمك، فلأنك
أهل لذلك، لا معقب لحكمك، ولا منازع لك، فيقول عيسى هذا على جهة التسليم
والتعزي عنهم، مع علمه بأنهم كفرة قد حتم عليهم العذاب، وهذا القول عندي أرجح،
ويتقوى بما يأتي بعد، وهو قوله سبحانه: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)
[المائدة: 119].
وقوله (سبحانك)، أي: تنزيها لك عن أن يقال هذا، وينطق به، (ما يكون لي أن
أقول ما ليس لي بحق)، أي: ما يكون / لبشر محدث أن يدعي الألوهية، ثم قال: (إن
كنت قلته فقد علمته)، لأنك أحطت بكل شئ علما، وأحصيت كل شئ عددا، فوفق
الله عيسى لهذه الحجة البالغة، وقوله: (تعلم ما في نفسي)، خص النفس بالذكر، لأنها
مظنة الكتم والانطواء على المعلومات.
والمعنى: أن الله - سبحانه - يعلم ما في نفس عيسى، ويعلم كل أمره مما عسى ألا
يكون في نفسه.
440

وقوله: (ولا أعلم ما في نفسك): معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما
أحطت به، وذكر " النفس " هنا مقابلة لفظية، في اللسان العربي، يقتضيها الإيجاز، وهذا
ينظر من طرف خفي إلى قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله) [آل عمران: 54]، و (الله
يستهزئ بهم) [البقرة: 15] فتسمية العقوبة باسم الذنب إنما قاد إليها طلب المقابلة اللفظية،
إذ هي من فصيح الكلام، وبارع العبارة.
ثم أقر عيسى - عليه السلام - لله تعالى، بأنه - سبحانه - علام الغيوب، أي: ولا علم
لي أنا بغيب.
وقوله: (فلما توفيتني): أي: قبضتني بالرفع، والتصيير في السماء، و (الرقيب):
الحافظ المراعي.
وقوله: (فإنك أنت العزيز): أي: في قدرتك، (الحكيم) في أفعالك.
والمعنى: إن يكن لك في الناس معذبون، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فعزتك
وحكمتك تقتضي هذا كله.
(قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم
ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير (120))
(قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم)، فدخل تحت هذه العبارة كل مؤمن بالله
- سبحانه -، وكل ما كان أتقى، فهو أدخل في العبارة، وجاءت هذه العبارة مشيرة إلى
عيسى - عليه السلام - في حاله، وصدقه، فيحصل له بذلك في الموقف شرف عظيم، وإن
كان اللفظ يعمه وسواه.
ثم ذكر - تعالى - ما أعده لهم برحمته، وطوله، جعلنا الله منهم بمنه، وسعة جوده،
لا رب غيره، ولا مرجو في الدارين سواه، وباقي الآية بين. جعل الله ما كتبناه من هذه
الأحرف نورا يسعى بين أيدينا بمنه. والحمد لله كما هو أهله، وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وسلم.
441

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنعام
قال ابن عباس: نزلت سورة الأنعام، وحولها سبعون ألف ملك، لهم زجل يجأرون
بالتسبيح.
قلت: وعن جابر بن عبد الله، قال لما نزلت سورة الأنعام، سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق "، رواه الحاكم في " المستدرك على
الصحيحين ". وقال: صحيح على شرط مسلم. انتهى من " السلاح ".
(الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم
يعدلون (1) هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا أجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2))
قوله تعالى: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور).
قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه ل‍ " البرهانية ": قال الإمام الفخر: لفظ
الحمد معرفا لا يقال إلا في حق الله عز وجل، لأنه يدل على التعظيم، ولا يجوز أن
يقال: الحمد لزيد. قاله سيبويه.
وذكر ابن العربي في " القانون " عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من شئ أحب إلى
الله من الحمد، وأبلغ الحمد الحمد لله على كل حال ".
442

قال ابن العربي: وفي بعض الآثار: " ما من نعمة عظمت إلا والحمد لله أعظم
منها ". انتهى.
قال * ع *: و (جعل) هاهنا بمعنى: " خلق "، ولا يجوز غير ذلك.
قال قتادة، والسدي، وجمهور من المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار.
وقالت فرقة: الظلمات الكفر، والنور الإيمان.
قال / * ع *: وهذا على جهة التشبيه صحيح، وعلى ما يفهمه عباد الأوثان غير
جيد، لأنه إخراج لفظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى باطن لغير ضرورة، وهذا هو
طريق اللغز الذي برئ القرآن منه، والنور أيضا هنا للجنس.
وقوله تعالى: (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا، لأن المعنى: أن خلقه
السماوات والأرض، وغيرها الموجبة لحمده، وتوحيده قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه
بذلك على العباد قد تبين، فكان الواجب عليهم إخلاص التوحيد له، ثم هم بعد هذا كله
بربهم يعدلون، أي يسوون، ويمثلون، وعدل الشئ قرينه ومثيله.
و (الذين كفروا) في هذا الموضع كل من عبد شيئا سوى الله إلا أن السابق من
حال النبي صلى الله عليه وسلم أن الإشارة إلى عبدة الأوثان من العرب، لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضا
يشير إلى المانوية العابدين للنور، القائلين: إن الخير من فعل النور، والشر من فعل
الظلام.
وقوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) فالمعنى: خلق آدم من طين.
وقوله سبحانه: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) اختلف في هذين الأجلين،
فقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: (أجلا) أجل الإنسان من لدن ولادته إلى موته،
443

والأجل المسمى عنده من وقت موته إلى حشره، ووصفه ب‍ (مسمى عنده)، لأنه استأثر
- سبحانه - بعلم وقت القيامة. وقال ابن عباس: (أجلا) الدنيا، (وأجل مسمى)
الآخرة.
وقيل غير هذا.
و (تمترون) معناه: تشكون.
(وهو الله في السماوات وفى الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) وما تأتيهم أنباء ما
كانوا به يستهزءون (5) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم
وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا
آخرين (6))
وقوله سبحانه: (وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم) قاعدة
الكلام في هذه الآية: أن حلول الله في الأماكن مستحيل - تعالى - أن يحويه مكان، كما
تقدس أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وإذا تقرر هذا، فقالت فرقة من العلماء: تأويل ذلك على تقدير صفة محذوفة من
اللفظ ثابتة في المعنى، كأنه قال: وهو الله المعبود في السماوات وفي الأرض. وعبر
بعضهم بأن قدر: وهو الله المدبر للأمر في السماوات والأرض.
وقال الزجاج: (في) متعلقة بما تضمنه اسم الله من المعاني، كما يقال: أمير
المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب.
قال * ع *: وهذا عندي أفضل الأقوال، وأكثرها إحرازا لفصاحة اللفظ، وجزالة
المعنى.
وإيضاحه: أنه أراد أن يدل على خلقه، وآثار قدرته، وإحاطته، واستيلائه، ونحو هذه
الصفات، فجمع هذه كلها في قوله: (وهو الله) أي: الذي له هذه كلها في السماوات،
وفي الأرض، كأنه قال: وهو الله الخالق، الرازق، المحيي، المحيط في السماوات وفي
444

الأرض، كما تقول: زيد السلطان في المشرق والمغرب و " الشام " و " العراق "، فلو
قصدت ذات زيد لقلت محالا، وإذا كان مقصد قولك الآمر، الناهي، الناقض، المبرم،
الذي يعزل ويولي في المشرق والمغرب، فأقمت السلطان مقام هذه، كان فصيحا صحيحا،
فكذلك في الآية أقام لفظة (الله) مقام تلك الصفات المذكورة.
وقالت فرقة: (وهو الله) ابتداء وخبر، تم الكلام عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله:
(في السماوات) بمفعول (يعلم)، كأنه قال: وهو الله يعلم سركم وجهركم في
السماوات، وفي الأرض.
وقوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) خبر في ضمنه تحذير
وزجر، و (تكسبون) فلا / لفظ عام لجميع الاعتقادات، والأقوال، والأفعال.
وقوله سبحانه: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) تضمنت
هذه الآية مذمة هؤلاء الذين يعدلون بالله سواه، بأنهم يعرضون عن كل آية، وكذبوا
بالحق، وهو محمد - عليه السلام - وما جاء به.
قال * ص *: (من آية من آيات ربهم) " من " الأولى زائدة للاستغراق، وما بعدها
فاعل بقوله: (تأتيهم).
و " من " الثانية للتبعيض انتهى.
وقوله تعالى: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون) هذا وعيد لهم شديد،
وهذه العقوبات التي توعدوا بها تعم عقوبات الدنيا كبدر وغيرها، وعقوبات الآخرة.
وقوله سبحانه: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم
نمكن لكم) هذا حض على العبرة، والرؤية هنا رؤية القلب، والقرن: الأمة المقترنة في
مدة من الزمن.
واختلف في مدة القرن كم هي؟
فالأكثر على أنها مائة سنة.
وقيل غير هذا.
445

وقيل: القرن الزمن نفسه، وهو على حذف مضاف، تقديره: من أهل قرن. قال
عياض في " الإكمال ": واختلف في لفظ القرن، وذكر الحربي فيه الاختلاف من عشر
سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال يعني منه الحربي: وليس منه شئ واضح، وأرى القرن كل
أمة هلكت، فلم يبق منها أحد. انتهى.
والضمير في (مكناهم) عائد على القرن، والمخاطبة في (لكم) هي للمؤمنين،
ولجميع المعاصرين لهم من سائر الناس، و (السماء) هنا المطر، و (مدرارا) بناء
تكثير، ومعناه: يدر عليهم بحسب المنفعة.
وقوله سبحانه: (وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين).
(أنشأنا): اخترعنا، وخلقنا، ويظهر من الآية أن القرن إنما هو وفاة الأشياخ، ثم
ولادة الأطفال.
(ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7)
وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الأمر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه
رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9))
وقوله تعالى: (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) الآية.
لما أخبر عنهم - سبحانه - بأنهم كذبوا بكل ما جاءهم من آية أتبع ذلك بإخبار فيه
مبالغة، والمعنى: ولو نزلنا بمرأى منهم عليك كتابا أي: كلاما مكتوبا في قرطاس، أي:
في صحيفة.
(فلمسوه بأيديهم) يريد: أنهم بالغوا في ميزه وتقليبه، ليرتفع كل ارتياب لعاندوا
فيه، وتابعوا كفرهم وقالوا: هذا سحر مبين.
وقوله سبحانه: (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) أي: يصدق محمدا في نبوءته، ثم رد
446

الله عليهم بقوله: (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) قال ابن عباس وغيره: في الكلام
حذف، تقديره: ولو أنزلنا ملكا، فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم، ولم ينظروا حسبما سلف
في كل أمة اقترحت بآية، وكذبت بعد أن أظهرت إليها.
وقالت فرقة: (لقضي الأمر) أي: لماتوا من هول رؤية الملك في صورته، ويؤيد
هذا التأويل ما بعده من قوله: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) فإن أهل التأويل مجمعون
أن ذلك، لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، فإذ قد تقعد أنهم لا يطيقون
رؤية الملك في صورته، فالأولى في قوله: (لقضي الأمر) أي: لماتوا، لهول رؤيته، (ثم
لا ينظرون)، أي: لا يؤخرون.
ومما يؤيد هذا المعنى الحديث الوارد عن الرجلين اللذين صعدا على الجبل يوم بدر
ليريا ما يكون في حرب النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين، فسمعا حس الملائكة، وقائلا يقول في
السحاب: أقدم حيزوم، فانكشف قناع قلب أحدهما، فمات لهول ذلك، فكيف برؤية ملك
في خلقته.
(وللبسنا) أي: لفعلنا لهم / في ذلك فعلا ملبسا يطرق لهم إلى أن يلبسوا به، وذلك
لا يحسن.
قلت: وفي البخاري: (وللبسنا عليهم ما يلبسون): لشبهنا.
(ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون
(10) قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين (11) قل لمن ما في
السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين
خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12))
وقوله سبحانه: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالأسوة في
الرسل، وتقوية لنفسه على محاجة المشركين، وإخبار يتضمن وعيد مكذبيه، والمستهزئين به.
و (حاق) معناه: نزل، وأحاط، وهي مخصوصة في الشر، يقال: حاق يحيق
حيقا.
وقوله سبحانه: (قل سيروا في الأرض) حض على الاعتبار بآثار من مضى ممن
447

فعل مثل فعلهم.
وقوله سبحانه: (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله).
قال بعض أهل التأويل: تقدير الكلام: قل لمن ما في السماوات والأرض، فإذا
تحيروا فلم يجيبوا قل لله.
والصحيح من التأويل أن الله - عز وجل - أمر نبيه - عليه السلام - أن يقطعهم بهذه
الحجة، والبرهان القطعي الذي لا مدافعة فيه عندهم، ولا عند أحد ليعتقد هذا المعتقد
الذي بينه وبينهم، ثم يتركب احتجاجه عليه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: يا أيها الكافرون
العادلون بربهم لمن ما في السماوات والأرض، ثم سبقهم فقال: لله أي لا مدافعة في هذا
عندكم، ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عن الله تعالى: (كتب على نفسه الرحمة) معناه: قضاها وأنفذها.
وفي هذا المعنى أحاديث صحيحة، ففي " صحيح مسلم "، عن النبي صلى الله عليه وسلم " جعل الله الرحمة
مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءا واحدا، فمن ذلك الجزء
يتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها، خشية أن تصيبه ".
ولمسلم في طريق آخر: " كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فإذا كان يوم
القيامة أكملها بهذه الرحمة ".
وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله الخلق كتب في
كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي ".
وفي طريق: " سبقت غضبي " إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.
قال * ع *: فما أشقى من لم تسعه هذه الرحمات. تغمدنا الله بفضل منه.
448

ويتضمن هذا الإخبار عن الله - سبحانه - بأنه كتب الرحمة لتأنيس الكفار، ونفي
يأسهم من رحمة الله إذا أنابوا.
واللام في قوله: (ليجمعنكم) لام قسم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأقوال
وأصحها.
وقوله سبحانه: (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون).
(الذين) رفع بالابتداء، وخبره: (فهم لا يؤمنون).
(* وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13) قل أغير الله أتخذ وليا فاطر
السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من
المشركين (14) قل إني أخاف أن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ فقد
رحمه وذلك الفوز المبين (16))
وقوله تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) الآية.
(وله) عطف على قوله: (لله)، و (سكن) هي من السكنى، ونحوه، أي: ما
ثبت وتقرر. قاله السدي، وغيره.
وقالت فرقة: هو من السكون، وهو ضعيف.
وقوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض) الآية.
قال الطبري وغيره: أمر - عليه السلام - أن يقول هذه المقالة للكفرة الذين دعوه
إلى عبادة أوثانهم، فتجيء الآية على هذا جوابا لكلامهم.
قال * ع *: وهذا يحتاج إلى سند، والفصيح أنه لما قرر معهم أن الله - تعالى -
له ما في السماوات والأرض، وله ما سكن في الليل والنهار، أمر أن يقول لهم على جهة
التوبيخ والتوقيف: أغير الله الذي هذه أفعاله أتخذ وليا، بمعنى: أن هذا خطأ بين / ممن
يفعله.
والولي لفظ عام لمعبود وغير ذلك.
449

ثم أخذ في صفات الله - تعالى - فقال: (فاطر) بخفض الراء نعت لله عز وجل.
قال * ص *: (فاطر) الجهور بالجر، ووجهه ابن عطية، وغيره على أنه
نعت (لله).
وأبو البقاء على أنه بدل، وكأنه رأى الفصل بين البدل والمبدل أسهل، لأن البدل في
المشهور على نية تكرار العامل. انتهى.
و " فطر " معناه: ابتدع، وخلق، وأنشأ، وفطر أيضا في اللغة: شق، ومنه (هل ترى
من فطور) [الملك: 3] أي: من شقوق.
و (يطعم ولا يطعم) المقصود به: يرزق ولا يرزق.
وقوله: (قل إني أمرت...) إلى (عظيم).
قال المفسرون: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة، وبهذه الشريعة، ولفظة
(عصيت) عامة في أنواع المعاصي، ولكنها هاهنا إنما تشير إلى الشرك المنهي عنه. واليوم
العظيم هو يوم القيامة.
وقرأ نافع وغيره " من يصرف عنه " مسندا إلى المفعول، وهو الضمير العائد على
العذاب.
وقرأ حمزة وغيره " من يصرف " بإسناد الفعل إلى الضمير العائد إلى " ربي "، ويعمل
في ضمير العذاب المذكور، ولكنه محذوف.
وقوله: (وذلك) إشارة إلى صرف العذاب، وحصول الرحمة، و (الفوز) النجاة.
(وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسك بخير فهو على كل شئ قدير
(17) وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18) قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم
450

وأوحى إلى هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما
هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون (19))
وقوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو).
يمسسك: معناه يصبك، وينلك، والضر بضم الضاد: سوء الحال في الجسم وغيره،
وبفتحها ضد النفع، ومعنى الآية: الإخبار أن الأشياء كلها بيد الله، إن ضر فلا كاشف
لضره غيره، وإن أصاب بخير، فكذلك أيضا.
وعن ابن عباس قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوما فقال: " يا غلام إني أعلمك كلمات:
احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت
فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشئ، لم ينفعوك إلا بشئ قد
كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ لم يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك،
رفعت الأقلام وجفت الصحف ". رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي زيادة: " احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء
يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن
ليخطئك... " وفي آخره: " واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع
العسر يسرا ".
قال النووي: هذا حديث عظيم الموقع. انتهى من " الحلية ".
وقرأت فرقة: " وأوحى إلي هذا القرآن " على بناء الفعل للفاعل، ونصب " القرآن "،
وفي " أوحى " ضمير يعود على الله تعالى.
وقوله: (لأنذركم به ومن بلغ) معناه على قول الجمهور: بلاغ القرآن، أي:
لأنذركم وأنذر من بلغه، ففي " بلغ " ضمير محذوف، لأنه في صلة " من " فحذف لطول
الكلام.
451

وقالت فرقة: ومن بلغ الحلم.
وروي في معنى التأويل الأول أحاديث. وظاهر الآية أنها في عبدة الأصنام.
وذكر الطبري أنه قد ورد من وجه لم تثبت صحته أنها في قوم من اليهود، قالوا:
يا محمد ما تعلم مع الله إلها غيره، فقال لهم: " لا إله إلا الله وبذلك أمرت " فنزلت الآية.
والله أعلم.
وأمر الله - سبحانه - نبيه - عليه السلام - أن يعلن بالتبري من شهادة الكفرة،
والإعلان بالتوحيد لله - عز وجل - والتبري من إشراكهم.
قال الغزالي في " الأحياء ". وينبغي للتالي أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في
القرآن، فإن سمع أمرا أو نهيا قدر المنهي، والمأمور، وكذا إن سمع وعدا أو وعيدا، وكذا
ما يقف عليه من القصص /، فالمقصود به الاعتبار. قال تعالى: (وكلا نقص عليك من
أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) [هود: 120].
وقال تعالى: (هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين) [آل عمران: 138].
وقال: (وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ).
قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله عز وجل انتهى.
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20)
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21) ويوم نحشرهم جميعا ثم
نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22))
وقوله سبحانه: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).
قال قتادة، وغيره: يعرفون محمدا - عليه السلام -.
وقوله: (الذين خسروا أنفسهم) الآية، روي أن كل عبد له منزل في الجنة، ومنزل
في النار، فالمؤمنون ينزلون منازل أهل الكفر في الجنة، والكافرون ينزلون منازل أهل الجنة
452

في النار، فهنا هي الخسارة البينة، والربح للآخرين. وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين
كنتم تزعمون) المعنى: واذكر يوم نحشرهم.
(ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم
وضل عنهم ما كانوا يفترون (24) ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم
وقرأ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير
الأولين (25) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون (26))
وقوله تعالى: (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين).
الفتنة في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حب الشئ، والإعجاب به، وتقال
بمعنى الاختبار. ومن قال: إن أصل الفتنة الاختبار من: فتنت الذهب في النار، ثم يستعار
بعد ذلك في غير ذلك، فقد أخطأ، لأن الاسم لا يحكم عليه بمعنى الاستعارة حتى يقطع
عليه باستحالة حقيقته في الموضع الذي استعير له، كقول ذي الرمة: [الطويل]
ولف الثريا في ملاءته الفجر
ونحوه، والفتنة لا يستحيل أن تكون حقيقة في كل موضع قيلت عليه، وباقي الآية
مضى تفسيره عند قوله سبحانه: (ولا يكتمون الله حديثا) [النساء: 42] فانظره هناك.
قال * ع *: وعبر قتادة عن الفتنة هنا بأن قال: معذرتهم.
وقال الضحاك: كلامهم.
وقيل غير هذا مما هو في ضمن ما ذكرناه.
وقوله سبحانه: (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والنظر نظر
القلب، وقال: (كذبوا) في أمر لم يقع، إذ هي حكاية عن يوم القيامة، فلا إشكال في
453

استعمال الماضي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تحقيقا في الفعل، وإثباتا
له، وهذا مهيع في اللغة.
(وضل عنهم) معناه: ذهب افتراؤهم في الدنيا، وكذبهم على الله.
وقوله سبحانه: (ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة) الآية.
" أكنة " جمع: كنان، وهو الغطاء (أن يفقهوه) أي: يفهموه، والوقر الثقل.
وقوله سبحانه: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها). الرؤية هنا رؤية العين، يريد
كانشقاق القمر وشبهه.
وقولهم: (وإن هذا إلا أساطير الأولين) إشارة إلى القرآن، والأساطير جمع أسطار،
كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سطر أو سطر. وقيل: أساطير جمع إسطارة، وهي
الترهات.
وقيل: جمع أسطورة كأعجوبة، وأضحوكة. وقيل: هو اسم جمع، لا واحد له من
لفظه كعباديد وشماطيط، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تسطر،
وتحكى، ولا تحقق كالتواريخ، وإنما شبهها الكفار بأحاديث النضر بن الحارث،
وعبد الله بن أبي أمية، عن رستم ونحوه، ومجادلة الكفار كانت مرادتهم نور الله بأقوالهم
المبطلة.
(وهم ينهون عنه) قال / قتادة وغيره: المعنى: ينهون عن القرآن.
وقال ابن عباس وغيره: ينهون عن النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: ينهون غيرهم، ويبعدون هم
بأنفسهم، والنأي البعد.
454

قال * ص *: (وإن يهلكون): إن نافية بمعنى " ما "، و (أنفسهم) مفعول
ب‍ (يهلكون) انتهى. (وما يشعرون) معناه: ما يعلمون علم حس، ونفي الشعور مذمة
بالغة، إذ البهائم تشعر وتحس، فإذا قلت: فلان لا يشعر، فقد نفيت عنه العلم النفي العام
الذي يقتضي أنه لا يعلم ولا المحسوسات.
(ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا وتكون من المؤمنين (27) بل
بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28))
وقوله جلت عظمته: (ولو ترى إذ وقفوا على النار) الآية: المخاطبة فيه للنبي صلى الله عليه وسلم
وجواب " لو " محذوف، تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا عظيما ونحوه.
و (وقفوا) معناه: حسوا، ويحتمل قوله: (وقفوا على النار) بمعنى " دخلوها ".
قاله الطبري.
ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها، وعاينوها.
وقولهم: (يا ليتنا نرد) معناه إلى الدنيا.
وقوله سبحانه: (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) الآية: يتضمن أنهم كانوا
يخفون أمورا في الدنيا، فظهرت لهم يوم القيامة، أو ظهر وبال ذلك وعاقبته، فحذف
المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
وقيل: إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا، وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر
بهم أتباعهم، فظهر لهم ذلك يوم القيامة.
ويصح أن يكون مقصد الآية الإخبار عن هول ما لقوه، فعبر عن ذلك بأنهم ظهرت
لهم مستوراتهم في الدنيا من معاص وغيرها، فكيف الظن بما كانوا يعلنونه من كفر ونحوه.
وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تعظيم شأن يوم القيامة: (يوم تبلى السرائر)
[الطارق: 9] وقوله سبحانه: (ولو ردوا لعادوا) إخبار عن أمر لا يكون كيف كان يوجد،
وهذا النوع مما استأثر الله - تعالى - بعلمه، فإن أعلم بشئ منه علم، وإلا لم يتكلم فيه.
قال الفخر: قال الواحدي: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة،
455

لأن الله - تعالى - حكى عن هؤلاء أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وما ذلك إلا للقضاء
السابق فيهم. انتهى.
(وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين (29) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس
هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (30) قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله
حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء
ما يزرون (31))
وقوله تعالى: (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) هذا على تأويل
الجمهور ابتداء كلام، وإخبار عنهم بهذه المقالة، و " إن " نافية، ومعنى الآية عنهم التكذيب
بالحشر والعودة إلى الله.
وقوله سبحانه: (أليس هذا بالحق) الإشارة بهذا إلى البعث الذي كذبوا به / في
الدنيا، وقولهم: (بلى وربنا) أيمان، ولكنه حين لا ينفع.
وقوله: (فذوقوا) استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق، و (بغتة) معناه:
فجأة، تقول: بغتني الأمر، أي: فجأني، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
ولكنهم بانوا ولم أخش بغتة * وأفظع شئ حين يفجأك البغت
ونصبها على المصدر في موضع الحال.
وقولهم: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) نداء الحسرة على تعظيم الأمر، وتشنيعه.
و (فرطنا) معناه: قصرنا، والضمير في قوله: (فيها) عائد على الساعة، أي: في
التقدمة لها. قاله الحسن.
ويحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، إذ المعنى يقتضيها، ومجئ الظرفية أمكن.
قلت: قال عبد الحق في " العاقبة ": لا يعرف مقدار الحياة إلا الموتى، لأنهم قد
ظهرت لهم الأمور، وانكشفت لهم الحقائق، وتبدت لهم المنازل، وعلموا مقدار الأعمال
الصالحة، ولما استبان لهم ذلك، وعلموا مقدار ما ضيعوا، وقيمة ما فيه فرطوا، ندموا
وأسفوا، وودوا أنهم إلى الدنيا رجعوا، فالذي عمل صالحا ود أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد
456

من عمله الصالح، ويكثر من تجره الرابح، والمقصر يود أنه لو رد ليستدرك ما فيه فرط،
وقد قال عليه السلام: " ما من أحد يموت إلا ندم " قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال:
" إن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم ألا يكون نزع " خرجه الترمذي.
انتهى.
وقوله تعالى: (وهم يحملون) الواو واو الحال، والأوزار جمع وزر بكسر الواو،
وهو الثقل من الذنوب، والوزر هنا تجوز وتشبيه بثقل الأحمال. ومن قال: إنه من الوزر،
وهو الجبل الذي يلجأ إليه، فهو قول غير بين.
وقال الطبري وغيره: هذا على جهة الحقيقة، ورووا في ذلك خبرا: أن المؤمن
يلقاه عمله في أحسن صورة وأفوحها فيسلم عليه ويقول طال ما ركبتك في الدنيا
وأجهدتك، فاركبني اليوم. قال: فيحمله تمثال العمل. وإن الكافر يلقاه عمله في أقبح
صورة وأنتنها فيشتمه، ويقول: أنا عملك الخبيث طال ما ركبتني في الدنيا بشهواتك فأنا
أركبك اليوم، قال: فيحمل تمثال عمله الخبيث وأوزاره على ظهره.
قلت: والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذكره الطبري كثيرة كأحاديث مانعي الزكاة،
وغيرها.
قال مكي: وروى المقبري عن أبي هريرة في حديث يرفعه، قال: " إذا كان يوم
القيامة بعث الله مع كل امرئ مؤمن عمله، وبعث مع الكافر عمله فلا يرى المؤمن شيئا
يروعه، ولا شيئا يفزعه ويخافه إلا قال له عمله: أبشر بالذي يسرك فإنك لست بالذي يراد
بهذا. ولا يرى الكافر شيئا يفزعه ويروعه عنه ويخافه إلا قال له عمله: أبشر يا عدو الله بالذي
يسوءك، فوالله إنك لأنت الذي تراد بهذا ". انتهى.
(وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون (32) قد نعلم
457

إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33))
وقوله سبحانه: (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو) الآية: هذا ابتداء خبر عن حال
الدنيا، والمعنى: أنها إذ كانت فانية لا طائل لها أشبهت اللعب، واللهو الذي لا طائل له إذا
تقضى. وهذه الآية تتضمن الرد على قولهم: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) [الأنعام: 29] وهو
المقصود بها.
قال عبد الحق في " العاقبة ": إعلم - رحمك الله - أن حب الدنيا هو سبب طول
الأمل، والإكباب عليها يمنع من الفكرة في الخروج عنها، والجهل بغوائلها إلا يحمل على
الإرادة لها، والازدياد منها، لأن من أحب شيئا أحب / الكون معه، والازدياد منه، ومن
كان مشغوفا بالدنيا محبا لها قد خدعته بزخرفها وأمالته برونقها كيف يحب مفارقتها، أو
يحب مزايلتها، هذا أمر لم تجر العادة به، ولا حدثنا عنه، بل نجد من كان على هذه الصفة
أعمى عن طريق الخير، أصم عن داعي الرشد، أفن الرأي، سيئ النظر، ضعيف الإيمان،
لم تترك له الدنيا ما يسمع به، ولا ما يرى، إنما دينه وشغله وحديثه دنياه، لها ينظر، ولها
يسمع، قد ملأت عينه وقلبه، ثم قال: واعلم أن أهل القبور إنما يندمون على ما يتركون،
ويفرحون بما يقدمون، فما عليه أهل القبور يندمون، أهل الدنيا عليه يقتتلون. انتهى.
وقوله سبحانه: (قد نعلم...) الآية: (نعلم) إذا كانت من الله - تعالى - تتضمن
استمرار العلم وقدمه، فهي تعم الماضي، والحال، والاستقبال.
قلت: ونحو هذا لأبي حيان قال: وعبر هنا بالمضارع، لأن المراد الاتصاف
بالعلم، واستمراره، ولم يلحظ فيه الزمان، كقولهم: فلان يعطى ويمنع. انتهى.
وقرأ نافع وحده " ليحزنك " من أحزن.
وقرأ الباقون: " ليحزنك " من حزنت الرجل.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة " لا يكذبونك " - بتشديد
458

الذال، وفتح الكاف - وقرأها ابن عباس، وردها على قارئ قرأ عليه " يكذبونك " بضم
الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأمين.
وقرأ نافع والكسائي - بسكون الكاف، وتخفيف الذال -، وهما قراءتان مشهورتان
صحيحتان، وهما بمعنى واحد، فمعنى: لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون كذبك، وإنهم
يعلمون صدقك، ولكنهم يجحدون عنادا وظلما، وهذا تأويل قتادة والسدي وغيرهما.
وحكي عن طائفة من الكفار أنها كانت تقول: إنا لنعلم أن محمدا صادق، ولكن إذا
آمنا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة، فنحن لا نؤمن به أبدا. رويت هذه المقالة عن أبي
جهل، ومن جرى مجراه.
وأسند الطبري: " أن جبريل وجد النبي صلى الله عليه وسلم حزينا فسأله، فقال كذبني هؤلاء،
فقال: إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أنك صادق ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "
وجحد العناد جائز الوقوع بمقتضى النظر، وظواهر القرآن تعطيه، و (يجحدون): حقيقته
في كلام العرب الإنكار بعد معرفة، وهو ضد الإقرار.
(ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات
الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين (34) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغى نفقا
459

في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من
الجاهلين (35) * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36))
وقوله سبحانه: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا) الآية.
قال ابن جريج، والضحاك: عزى الله بهذه الآية نبيه - عليه السلام - ثم قوى
سبحانه رجاء نبيه فيما وعده من النصر، بقوله: (ولا مبدل لكلمات الله)، أي: لا راد
لأمره، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى: فاصبر كما صبروا، وانتظر ما يأتي، وثق
بهذا الإخبار، فإنه لا مبدل له.
وقوله تعالى: (وإن كان كبر عليك إعراضهم...) الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلى الله عليه وسلم
وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أن لا وجه إلا الصبر، والمعنى: إن كنت تعظم تكذيبهم،
وكفرهم على نفسك، وتلتزم الحزن، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعماق الأرض،
أو على ارتقاء سلم في السماء، فافعل، أي: ولست بقادر على شئ من هذا، ولا بد لك
من التزام الصبر، واحتمال المشقة، (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من
الجاهلين في أن تأسف وتحزن على أمر أراده الله، وأمضاه. وروى الدارقطني في
" سننه " / عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أصاب أحدكم هم أو حزن فليقل سبع مرات: الله الله
ربى لا أشرك به شيئا " انتهى من " الكوكب الدري ".
و (تأتيهم بآية) أي: بعلامة.
وقال مكي، والمهدوي: الخطاب بقوله: (فلا تكونن من الجاهلين) للنبي صلى الله عليه وسلم
والمراد أمته، وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله * ع *: فيه عندي نظر، لأن
هذا شأن التأويل إخراج اللفظ عن ظاهره لموجب، على أن أبا محمد مكيا - رحمه الله -
نقل هذا القول عن غيره نقلا، ولفظه: (فلا تكونن من الجاهلين) أي: ممن لا يعلم أن
الله لو شاء لجمع على الهدى جميع خلقه.
وقيل: معنى الخطاب لأمة النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في
القرآن كثير. انتهى من " الهداية ".
وقوله سبحانه: (إنما يستجيب الذين يسمعون) هذا من النمط المتقدم في التسلية،
460

أي: لا تحفل بمن أعرض، فإنما يستجيب لداعي الإيمان الذين يفهمون الآيات، ويتلقون
البراهين بالقبول، فعبر عن ذلك كله ب‍ (يسمعون) إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة
تستعملها الصوفية - رضي الله عنهم - إذا بلغت الموعظة من أحد مبلغا شافيا، قالوا:
سمع.
ثم قال تعالى: (والموتى) يريد الكفار أي: هم بمثابة الموتى، فعبر عنهم بضد ما
عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تشبه حالهم في العمى عن نور الله، والصمم عن وعي
كلماته. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة.
و (يبعثهم الله) يحتمل معنيين: قال الحسن: معناه يبعثهم بأن يؤمنوا حين
يوفقهم، وقراءة الحسن " ثم إليه ترجعون " بالتاء من فوق، فتناسبت الآية.
وقال مجاهد، وقتادة: (والموتى) يريد الكفار (يبعثهم الله)، أي: يحشرهم يوم
القيامة، (ثم إليه)، أي: إلى سطوته، وعقابه يرجعون.
(وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا
يعلمون (37) وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من
شئ ثم إلى ربهم يحشرون (38))
وقوله سبحانه: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) " لولا " تحضيض بمعنى " هلا "،
ومعنى الآية: هلا نزل على محمد بيان واضح كملك يشهد له، أو كنز، أو غير ذلك من
تشططهم المحفوظ في هذا، ثم أمر - عليه السلام - بالرد عليهم بأن الله - عز وجل - قادر
على ذلك، ولكن أكثرهم لا يعلمون أنها لو نزلت، ولم يؤمنوا لعوجلوا بالعذاب، ويحتمل
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) أنه - سبحانه - إنما جعل الإنذار في آيات معرضة للنظر،
والتأمل ليهتدي قوم ويضل آخرون.
461

وقوله سبحانه: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم)
المعنى: في هذه الآية التنبيه على آيات الله الموجودة في أنواع مخلوقاته المنصوبة لمن فكر
واعتبر، كالدواب والطير، ويدخل في هذين جميع الحيوان، وهي أمم أي: جماعات
مماثلة للناس في الخلق، والرزق، والحياة، والموت، والحشر.
ويحتمل أن يريد بالمماثلة في كونها أمما لا غير، إلا أن الفائدة في هذه الآية بأن
تكون المماثلة في أوصاف غير كونها أمما.
قال الطبري، وغيره: والمماثلة في أنها يهتبل بأعمالها، وتحاسب، ويقتص
لبعضها من بعض، على ما روي في الأحاديث، أي: فإذا كان هذا يفعل بالبهائم، فأنتم
أحرى إذ أنتم مكلفون عقلاء.
وروي أبو ذر: أنه انتطحت عنزان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أتعلمون فيما انتطحتا "؟ /
قلنا: لا، قال: فإن الله يعلم وسيقضي بينهما ".
وقال مكي: المماثلة في أنها تعرف الله، وتعبده.
وقوله: (بجناحيه) تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة، إذ
يقال: طائر السعد، والنحس. وقال تعالى: (ألزمنا طائره في عنقه) [الإسراء: 13]،
ويقال: طار لفلان طائر كذا، أي: سهمه في المقسمات، فقوله تعالى: (بجناحيه) إخراج
للطائر عن هذا كله.
وقوله سبحانه: (ما فرطنا في الكتاب من شئ) التقصير في الشئ مع
القدرة على ترك التقصير.
قال أبو حيان: أصل فرطنا يتعدى ب‍ " في " ثم يضمن معنى أغفلنا، فيتعدى إلى
مفعول به، وهو هنا كذلك، فيكون (من شئ) في موضع المفعول به. انتهى.
و (الكتاب): القرآن وهو الذي يقتضيه نظام المعنى في هذه الآيات.
وقيل: اللوح المحفوظ، (ومن شئ) على هذا القول عام في جميع الأشياء، وعلى
462

القول بأنه القرآن خاص.
و (يحشرون)، قالت فرقة من العلماء: حشر البهائم بعثها، واحتجوا بالأحاديث
المضمنة أن الله - تعالى - يقتص للجماء من القرناء، ومن قال: إنما هي كناية عن العدل،
وليست بحقيقة، فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرموز ونحوها.
(والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء الله يضلله ومن يشاء يجعله على
صراط مستقيم (39) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن
كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41))
وقوله سبحانه: (والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم...) الآية كأنه قال: وما من دابة،
ولا طائر، ولا شئ، إلا وفيه آية منصوبة دالة على وحدانية الله - تعالى - ولكن الذين
كذبوا بآياتنا صم وبكم لا يتلقون ذلك، ولا يقبلونه، وظاهر الآية أنها تعم كل مكذب.
وقال النقاش: نزلت في بنى عبد الدار.
قال * ع *: ثم تنسحب على سواهم.
وقوله: (في الظلمات) ينوب عن عمي، وفي الظلمات أهول عبارة، وأفصح،
وأوقع في النفس.
قال أبو حيان: (في الظلمات) خبر مبتدأ محذوف، أي: هم في الظلمات، أو
صفة ل‍ (بكم)، أي: كائنون في الظلمات، أو حال من الضمير المقدر في الخبر، أي:
ضالون في الظلمات. انتهى.
وقوله سبحانه: (قل أرأيتكم) ابتداء احتجاج على الكفار الجاعلين لله شركاء،
والمعنى: أرأيتم إذا خفتم عذاب الله، أو خفتم هلاكا، أو خفتم الساعة، أتدعون أصنامكم
وتلجئون إليها في كشف ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة، بل إنما تدعون الله
الخالق الرازق، فيكشف ما خفتموه، إن شاء، وتنسون أصنامكم، أي: تتركونهم، فعبر عن
الترك بأعظم وجوهه الذي هو مع الترك ذهول، وإغفال، فكيف يجعل إلها من هذه حاله
في الشدائد والأزمات.
463

(ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم
بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون (43) فلما نسوا ما
ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون
(44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45))
وقوله سبحانه: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم) في الكلام حذف،
تقديره: فكذبوا فأخذناهم؟ أي: تابعناهم بالبأساء الآية، والبأساء المصائب في الأموال،
والضراء في الأبدان. هذا قول الأكثر.
وقيل: قد يوضع كل واحد بدل الآخر، والتضرع التذلل، والاستكانة، ومعنى الآية
توعد الكفار، وضرب المثل لهم، و (لولا) تحضيض، وهي التي تلي الفعل بمعنى:
" هلا " وهذا على جهة المعاتبة لمذنب غائب، وإظهار سوء فعله مع تحسر ما عليه.
قلت: أي: مع تحسر ما، باعتبار حالة البشر.
وقوله سبحانه: (فلما نسوا ما ذكروا به...) الآية عبر عن الترك بالنسيان،
و (فتحنا عليهم أبواب كل شئ) أي: من النعم الدنيوية بعد الذي أصابهم من البأساء
والضراء، و (فرحوا) معناه: بطروا، / وأعجبوا، وظنوا أن ذلك لا يبيد، وأنه دال على
رضا الله عنهم، وهو استدراج من الله تعالى.
وقد روي عن بعض العلماء: رحم الله عبدا تدبر هذه الآية (حتى إذا فرحوا بما
أوتوا أخذناهم بغتة).
وروي عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله - تعالى - يعطي العباد ما
يشاءون على معاصيهم، فذلك استدراج ثم تلا: (فلما نسوا ما ذكروا به...) الآية
كلها، و (أخذناهم) في هذا الموضع معناه: استأصلناهم بغتة أي: فجأة، والمبلس
الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا يحير جوابا لشدة ما نزل به من سوء الحال.
وقوله تعالى: (فقطع دابر القوم...) الآية.
464

الدابر: آخر القوم الذي يأتي من خلفهم، وهذه كناية عن استيصال شأفتهم، ومحو
آثارهم، كأنهم وردوا العذاب حتى ورد آخرهم الذي دبرهم، وحسن الحمد عقب هذه الآية
لجمال الأفعال المتقدمة في أن أرسل - سبحانه - الرسل، ولطف في الأخذ بالبأساء
والضراء، ليتضرع إليه، فيرحم، وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظلمة، وذلك حسن في
نفسه، ونعمة على المؤمنين، فحسن الحمد عقب هذه الأفعال، وبحمده سبحانه ينبغي أن
يختم كل فعل، وكل مقال، إذ هو المحمود على كل لا رب غيره، ولا خير إلا
خيره.
(قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر
كيف نصرف الآيات ثم هم يصدقون (46) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة
هل يهلك إلا القوم الظالمون (47) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا
خوف عليهم ولا هم يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49))
وقوله تعالى: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم...) الآية (أخذ) معناه
أذهب، والضمير في (به) عائد على المأخوذ، و (يصدفون) معناه: يعرضون،
وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذا ذكرن حديثا قلن أحسنه * وهن عن كل سوء يتقى صدف
وقوله تعالى: قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة...) الآية وعيد وتهديد.
قال * ع *: (أرأيتم) عند سيبويه: تتنزل منزلة " أخبروني "، ولذلك لا تحتاج
إلى مفعولين.
وقوله (بغتة): معناه: لم يتقدم عندكم منه علم، و (جهرة)، معناه: تبدو لكم
مخايلة ومباديه، ثم يتوالى حتى ينزل.
465

قال الحسن بن أبي الحسن: (بغتة) ليلا، و (جهرة) نهارا.
وقال مجاهد: (بغتة) فجأة آمنين. و (جهرة): وهم ينظرون.
قال أبو حيان: (هل يهلك)؟ " هل " حرف استفهام، معناه هنا النفي، أي: ما
يهلك، ولذلك دخلت " إلا " على ما بعدها. انتهى.
وقوله سبحانه: (وما نرسل المرسلين إلا مبشرين)، أي: إلا ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا
من آمن، ومنذرين بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر، قال أبو حيان: (مبشرين ومنذرين):
حال فيها معنى العلية، أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار. انتهى.
ثم وعد سبحانه من سلك طريق البشارة، فآمن وأصلح في امتثال الطاعة، وأوعد
الآخرين.
(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما
يوحى إلى قل هل يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50) وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا
إلى ربهم ليس لهم من دونه ولى ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شئ وما حسابك عليهم من شئ فتطردهم
فتكون من الظالمين (52) وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا
أليس الله بأعلم بالشاكرين (53))
وقوله تعالى: (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني
ملك...) الآية: هذا من الرد على القائلين: (لولا نزل عليه آية) [الأنعام: 37] والطالبين
أن ينزل ملك، أو تكون له جنة أو كنز، ونحو هذا، والمعنى: إنما أنا بشر، وإنما أتبع ما
يوحى إلي، وهو القرآن وسائر ما يأتيه من الله سبحانه، أي: وفي ذلك عبر وآيات لمن
تأمل.
وقوله سبحانه: (قل هل يستوي الأعمى والبصير)، أي: هل يستوي المؤمن المفكر
في الآيات، مع الكافر المعرض عن النظر، أفلا تتفكرون، وجاء الأمر بالفكرة في عبارة
العرض والتحضيض /.
466

وقوله تعالى: (وأنذر به)، أي: وأنذر بالقرآن الذين هم مظنة الإيمان، وأهل
للانتفاع، والضمير في (به) عائد على ما يوحى.
وقوله سبحانه: (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) إخبار من الله سبحانه عن
صفة الحال يوم الحشر، قال الفخر: قوله: (لعلهم يتقون): قال ابن عباس: معناه:
وأنذرهم لكي يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي. انتهى.
وقوله سبحانه: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي): المراد ب‍ (الذين)
ضعفة المؤمنين في ذلك الوقت في أمور الدنيا، كبلال. وصهيب، وعمار، وخباب،
وصبيح، وذي الشمالين والمقداد، ونحوهم، وسبب الآية أن بعض أشراف الكفار قالوا
للنبي صلى الله عليه وسلم: نحن لشرفنا وأقدارنا لا يمكننا أن نختلط بهؤلاء، فلو طردتهم، لاتبعناك، ورد
في ذلك حديث عن ابن مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فنزلت الآية،
و (يدعون ربهم بالغداة والعشي): قال الحسن بن أبي الحسن: المراد به صلاة مكة
التي كانت مرتين في اليوم بكرة وعشيا، وقيل: قوله: (بالغداة والعشي): عبارة عن
استمرار الفعل، وأن الزمان معمور به، والمراد على هذا التأويل، قيل: الصلوات الخمس،
قاله ابن عباس وغيره، وقيل: الدعاء، وذكر الله، واللفظة على وجهها، وقيل: القرآن
وتعلمه، قال أبو جعفر، وقيل: العبادة، قاله الضحاك.
467

وقوله تعالى: (يريدون وجهه) قلت: قال الغزالي في " الجواهر ": النية والعمل،
بهما تمام العبادة، فالنية أحد جزأي العبادة، لكنها خير الجزأين، ومعنى النية إرادة وجه الله
سبحانه بالعمل، قال الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون
وجهه)، ومعنى إخلاصها تصفية الباعث عن الشوائب، ثم قال الغزالي: وإذا عرفت فضل
النية، وأنها تحل حدقة المقصود، فاجتهد أن تستكثر من النية في جميع أعمالك، حتى
تنوي بعمل واحد نيات كثيرة، ولو صدقت رغبتك، لهديت لطريق رشدك. انتهى.
وقوله سبحانه: (ما عليك من حسابهم من شئ)، قال الحسن والجمهور: أي: من
حساب عملهم، والمعنى: أنك لم تكلف شيئا غير دعائهم، وقوله: (فتطردهم): هو
جواب النفي في قوله: (ما عليك)، وقوله: (فتكون): جواب النهي في قوله: (ولا
تطرد).
و (فتنا بعضهم ببعض)، أي: ابتلينا، و (ليقولوا): معناه: ليصير بحكم القدر
أمرهم إلى أن يقولوا، على جهة الاستخفاف والهزء: (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا)،
فاللام في (ليقولوا): لام الصيرورة.
وقوله سبحانه: (أليس الله بأعلم بالشاكرين)، أي: يا أيها المستخفون، ليس الأمر
أمر استخفاف، فالله أعلم بمن يشكر نعمه.
(وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه
من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم (54) وكذلك نفصل
الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع
أهوائكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما
عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57))
وقوله سبحانه: (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم...) الآية: قال
جمهور المفسرين: هؤلاء هم الذين نهي الله عن طردهم، وشفع ذلك بأن أمر سبحانه أن
يسلم النبي - عليه السلام - عليهم، ويؤنسهم، قال خباب بن الأرت: لما نزلت: (وإذا
جاءك الذين يؤمنون بآياتنا...) الآية، فكنا نأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لنا: سلام عليكم،
ونقعد معه، فإذا أراد أن يقوم، قام، وتركنا، فأنزل الله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين /
468

يدعون ربهم...) [الكهف: 28] الآية، فكان يقعد معنا، فإذا بلغ الوقت الذي يقوم فيه،
قمنا وتركناه، حتى يقوم، و (سلام عليكم): ابتداء، والتقدير: سلام ثابت أو واجب
عليكم، والمعنى: أمنة لكم من عذاب الله في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظ الخبر، وهو في
معنى الدعاء، قال الفخر قوله تعالى: (كتب ربكم على نفسه الرحمة): النفس هاهنا:
بمعنى الذات، والحقيقة، لا بمعنى الجسم، والله تعالى مقدس عنه. انتهى.
قلت: قال ابن العربي في كتاب " تفسير الأفعال الواقعة في القرآن ": قوله تعالى:
(كتب ربكم على نفسه الرحمة)، قال علماؤنا: كتب: معناه أوجب، وعندي أنه كتب
حقيقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله خلق القلم، فقال له: أكتب، فكتب ما يكون إلى يوم
القيامة ". انتهى.
469

وقرأ عاصم، وابن عامر أنه - بفتح الهمزة في الأولى - والثانية " فأنه ": الأولى بدل
من (الرحمة)، و " أنه " الثانية: خبر ابتداء مضمر، تقديره: فأمره أنه غفور رحيم، هذا
مذهب سيبويه، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي " إنه " - بكسر الهمزة في
الأولى والثانية -، وقرأ نافع بفتح الأولى وكسر الثانية، والجهالة في هذا الموضع: تعم التي
تضاد العلم، والتي تشبه بها، وذلك أن المتعمد لفعل الشئ الذي قد نهي عنه تسمى
معصيته تلك جهالة، قال مجاهد: من الجهالة ألا يعلم حلالا من حرام، ومن جهالته أن
يركب الأمر.
قلت: أي: يتعمده، ومن الجهالة التي لا تضاد العلم قوله صلى الله عليه وسلم في استعاذته: " أو
أجهل أو يجهل علي "، ومنها قول الشاعر: [الوافر].
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل ولا فوق جهل الجاهلينا
470

قال الفخر: قال الحسن: كل من عمل معصية، فهو جاهل، فقيل: المعنى أنه
جاهل بمقدار ما فاته من الثواب، وما استحقه من العقاب، قلت: وأيضا فهو جاهل بقدر
من عصاه. انتهى.
والإشارة بقوله تعالى: (وكذلك نفصل الآيات)، إلى ما تقدم من النهي عن طرد
المؤمنين، وبيان فساد منزع العارضين لذلك، وتفصيل الآيات: تبيينها وشرحها وإظهارها،
قلت: ومما يناسب هذا المحل ذكر شئ مما ورد في فضل المصافحة، وقد أسند أبو عمر
في " التمهيد "، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه وعلقمة، أنهما قالا: " من تمام
التحية المصافحة "، وروى مالك في " الموطإ "، عن عطاء الخرساني، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " تصافحوا، يذهب الغل، وتهادوا، تحابوا، وتذهب الشحناء "، قال أبو عمر
في " التمهيد ": هذا الحديث يتصل من وجوه شتى حسان كلها، ثم أسند أبو عمر من طريق
أبي داود وغيره، عن البراء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلمين يلتقيان،
فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا "، ثم أسند أبو عمر عن البراء بن عازب، قال:
" لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لأحسب أن المصافحة
للعجم فقال: نحن أحق بالمصافحة منهم، ما من مسلمين يلتقيان، فيأخذ أحدهما بيد
صاحبه مودة بينهما، ونصيحة، إلا ألقيت ذنوبهما بينهما "، وأسند أبو عمر عن عمر بن
الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا التقى المسلمان، فتصافحنا، أنزل الله عليهما مائة
رحمة، تسعون منها للذي بدأ بالمصافحة، وعشرة للذي صوفح، وكان أحبهما إلى الله
أحسنهما بشرا بصاحبه ". انتهى.
471

وقد ذكرنا / طرفا من آداب المصافحة في غير هذا الموضع، فقف عليه، واعمل به،
ترشد، فإن العلم إنما يراد للعمل، وبالله التوفيق.
وخص سبيل المجرمين بالذكر، لأنهم الذين آثروا ما تقدم من الأقوال، وهو أهم في
هذا الموضع، لأنها آيات رد عليهم.
وأيضا: فتبيين سبيلهم يتضمن بيان سبيل المؤمنين، وتأول ابن زيد، أن قوله:
(المجرمين) معني به الآمرون بطرد الضعفة.
وقوله سبحانه: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله قل لا أتبع
أهواءكم...) الآية: أمر الله سبحانه نبيه - عليه السلام -، أن يجاهرهم بالتبري مما هم
فيه، و (تدعون): معناه تعبدون، ويحتمل أن يريد: تدعون في أموركم، وذلك من معنى
العبادة، واعتقادهم الأصنام آلهة.
وقوله تعالى: (قل إني على بينة من ربي): المعنى: قل إني على أمر بين،
(وكذبتم به)، الضمير في " به " عائد على " بين "، أو على الرب، وقيل: على القرآن، وهو
جلي، وقال بعض المفسرين: الضمير في " به " الثاني عائد على " ما "، والمراد بها الآيات
المقترحة، على ما قال بعض المفسرين، وقيل: المراد به العذاب، وهو يترجح من
وجهين:
أحدهما: من جهة المعنى، وذلك أن قوله: (وكذبتم به) يتضمن أنكم واقعتم ما
تستوجبون به العذاب إلا أنه ليس عندي.
والآخر: من جهة لفظ الاستعجال الذي لم يأت في القرآن إلا للعذاب.
وأما اقتراحهم للآيات، فلم يكن باستعجال.
وقوله: (إن الحكم إلا لله)، أي: القضاء والإنفاذ، و (يقص الحق)، أي: يخبر
به، والمعنى: يقص القصص الحق، وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما: " يقتضي الحق "،
أي: ينفذه.
472

(قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضى الأم بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58)
* وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59))
وقوله سبحانه: (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر بيني وبينكم):
المعنى: لو كان عندي الآيات المقترحة، أو العذاب، على التأويل الآخر، لقضي الأمر،
أي: لوقع الانفصال، وتم النزاع، لظهور الآية المقترحة، أو لنزول العذاب، بحسب
التأويلين، وقيل: المعنى: لقامت القيامة، وقوله: (والله أعلم بالظالمين): يتضمن الوعيد
والتهديد.
وقوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو): مفاتح: جمع مفتح، وهذه
استعارة، عبارة عن التوصل إلى الغيوب، كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى المغيب،
ولو كان جمع " مفتاح "، لقال: مفاتيح، ويظهر أيضا أن " مفاتح " جمع " مفتح " - بفتح
الميم -، أي: مواضع تفتح عن المغيبات، ويؤيد هذا قول السدي وغيره: (مفاتح
الغيب): خزائن الغيب، فأما مفتح - بالكسر -، فهو بمعنى مفتاح، قال الزهراوي:
ومفتح أفصح، وقال ابن عباس وغيره: الإشارة بمفاتح الغيب هي إلى الخمسة في آخر
لقمان: (إن الله عنده علم الساعة...) [لقمان: 34] الآية، قلت: وفي " صحيح
البخاري "، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " مفاتح الغيب
خمس لا يعلمهن إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
473

وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)
[لقمان: 34] " انتهى.
وقوله سبحانه: (من ورقة)، أي: من ورق النبات، (ولا حبة في ظلمات
الأرض)، يريد: في أشد حال التغيب، وحكى بعض الناس عن جعفر بن محمد قولا: /
أن الورقة يراد بها القسط من أولاد بني آدم، والحبة: يراد بها الذي ليس بسقط، والرطب
يراد به الحي، واليابس يراد به الميت، وهذا قول جار على طريقة الرموز، ولا يصح عن
جعفر بن محمد، ولا ينبغي أن يلتفت إليه.
وقوله تعالى: (إلا في كتاب مبين)، قيل: يعني كتابا على الحقيقة، ووجه الفائدة
فيه امتحان ما يكتبه الحفظة، وذلك أنه روي أن الحفظة يرفعون ما كتبوه، ويعارضونه بهذا
الكتاب المشار إليه، ليتحققوا صحة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: (إلا في كتاب): علم
الله عز وجل المحيط بكل شئ.
قال الفخر: وهذا هو الأصوب، ويجوز أن يقال: ذكر تعالى ما ذكر من الورقة
والحبة، تنبيها للمكلفين على أمر الحساب. انتهى.
قال مكي: قال عبد الله بن الحارث: ما في الأرض شجر، ولا مغرز إبرة إلا عليها
ملك، موكل، يأتي الله بعلمها بيبسها إذا يبست، ورطوبتها إذا رطبت.
وقيل: المعنى في كتابها، أنه لتعظيم الأمر، ومعناه: اعملوا أن هذا الذي ليس فيه
ثواب ولا عقاب - مكتوب، فكيف ما فيه ثواب أو عقاب. انتهى من " الهداية ".
(وهو الذي يتوفاكم باليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى
ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون (60) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة
حتى إذا جاء أحدكم توفته رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له
474

الحكم وهو أسرع الحاسبين (62) قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا
من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64))
وقوله سبحانه: (وهو الذي يتوفاكم بالليل)، يعني به: النوم، و (يعلم ما
جرحتم)، أي: ما كسبتم بالنهار، ويحتمل أن يكون (جرحتم) هنا من الجرح، كأن
الذنب جرح في الدين، والعرب تقول:
............ وجرح اللسان كجرح اليد
و (يبعثكم): يريد به الإيقاظ، والضمير في (فيه) عائد على النهار، قاله مجاهد
وغيره، ويحتمل أن يعود الضمير على التوفي، أي: يوقظكم في التوفي، أي: في خلاله
وتضاعيفه، قاله عبد الله بن كثير.
و (ليقضي أجل مسمى): المراد به آجال بني آدم، (ثم إليه مرجعكم)، يريد:
بالبعث والنشور، (ثم ينبئكم)، أي: يعلمكم إعلام توقيف، ومحاسبة، ففي هذه الآية
إيضاح الآيات المنصوبة للنظر، وفيها ضرب مثال للبعث من القبور، لأن هذا أيضا إماتة
وبعث على نحو ما.
وقوله سبحانه: (وهو القاهر فوق عباده): القاهر إن أخذ صفة فعل، أي: مظهر
القهر بالصواعق والرياح والعذاب، فيصح أن تجعل (فوق) ظرفية للجهة، لأن هذه
الأشياء إنما تعاهدها العبادة من فوقهم، وإن أخذ (القاهر) صفة ذات، بمعنى القدرة
والاستيلاء، ف‍ (فوق): لا يجوز أن تكون للجهة، وإنما هي لعلو القدر والشأن، على حد
ما تقول: الياقوت فوق الحديد، والأحرار فوق العبيد، و (يرسل عليكم): معناه: يبثهم
فيكم، و (حفظة): جمع حافظ، والمراد بذلك الملائكة الموكلون بكتب الأعمال،
وروي أنهم الملائكة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: " يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة
475

بالنهار "، وقاله السدي وقتادة، وقال بعض المفسرين: حفظة يحفظون الإنسان من كل
شئ، حتى يأتي أجله، والأول أظهر.
وقرأ حمزة وحده: " توفاه ".
وقوله تعالى: (رسلنا): يريد به، على ما ذكر ابن عباس، وجميع أهل التأويل:
ملائكة مقترنين بملك الموت، يعاونونه ويأتمرون له، (ثم ردوا)، أي: العباد، (إلى
الله مولاهم)، وقوله: (الحق: نعت ل‍ (مولاهم)، ومعناه: الذي ليس / بباطل، ولا
مجاز، (ألا له الحكم): كلام مضمنه التنبيه، وهز النفوس، (وهو أسرع الحاسبين):
قيل لعلي (رضي الله عنه): كيف يحاسب الله العباد في يوم واحد؟! قال: كما يرزقهم في
الدنيا في يوم واحد ".
وقوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية...)
الآية: هذا تماد في توبيخ العادلين بالله الأوثان، وتركهم عبادة الرحمن الذي ينجي من
الهلكات، ويلجأ إليه في الشدائد، ودفع الملمات، و (ظلمات البر والبحر): يريد بها
شدائدهما، فهو لفظ عام يستغرق ما كان من الشدائد، بظلمة حقيقية، وما كان بغير ظلمة،
والعرب تقول: عام أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب، يريدون به الشدة، قال قتادة
وغيره: المعنى: من كرب البر والبحر، وتدعونه: في موضع الحال، والتضرع: صفة بادية
على الإنسان، وخفية: معناه: الاختفاء، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: " وخفية "
476

- بكسر الخاء -، وقرأ الأعمش: " وخيفة "، من الخوف.
وقوله سبحانه: (قل الله ينجيكم منها...) الآية: سبق في المجادلة إلى الجواب،
إذ لا محيد عنه، (ومن كل كرب): لفظ عام أيضا، ليتضح العموم الذي في " الظلمات "،
(ثم أنتم)، أي: ثم بعد معرفتكم بهذا كله، وتحققكم له، أنتم تشركون.
(قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق
بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65) وكذب به قومك وهو الحق قل لست
عليكم بوكيل (66) لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (67))
وقوله تعالى: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت
أرجلكم...) الآية: هذا إخبار يتضمن الوعيد، والأظهر من نسق الآيات: أن هذا
الخطاب للكفار الذين تقدم ذكرهم، وهو مذهب الطبري.
وقال أبي بن كعب، وجماعة: هو للمؤمنين، وهم المراد.
وهذا الاختلاف إنما هو بحسب ما يظهر من أن الآية تتناول معانيها المشركين
والمؤمنين، وفي " البخاري " وغيره من حديث جابر وغيره: " أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما نزلت الآية:
(قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم)، قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت:
(أو من تحت أرجلكم)، قال: أعوذ بوجهك، فلما نزلت: (أو يلبسكم شيعا ويذيق
بعضكم بأس بعض) قال: هذه أهون أو أيسر "، فاحتج بهذا الحديث من قال: إنها
477

نزلت في المؤمنين، قال الطبري وغيره: ممتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تعوذ لأمته من هذه
الأشياء التي توعد بها الكفار، وهون الثالثة، لأنها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب
حديث " الموطإ " وغيره، و (من فوقكم أو من تحت أرجلكم): لفظ عام للمنطبقين على
الإنسان، وقال السدي، عن أبي مالك: (من فوقكم): الرجم، (أو من تحت
أرجلكم): الخسف، وقاله سعيد بن جبير ومجاهد. وقوله سبحانه: (أو يلبسكم شيعا): معناه: يخلطكم فرقا، والبأس: القتل، وما
أشبهه من المكاره، وفي قوله تعالى: (انظر كيف نصرف الآيات): استرجاع لهم، وإن
كان لفظها لفظ تعجب للنبي صلى الله عليه وسلم فمضمنها أن هذه الآيات والدلائل، إنما هي لاستصرافهم
عن طريق غيهم، والفقه: الفهم.
وقوله تعالى: (وكذب به قومك وهو الحق)، الضمير في (به) عائد على القرآن
الذي فيه جاء تصريف الآيات، قاله السدي، وهذا هو الظاهر، ويحتمل أن يعود الضمير
على الوعيد الذي تضمنته الآية، ونحا إليه الطبري، وقوله: (قل لست / عليكم
بوكيل): معناه: لست بمدفوع إلى أخذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قبل نزول آيات
الجهاد والأمر بالقتال، ثم نسخ.
وقوله سبحانه: (لكل نبأ مستقر): أي: غاية يعرف عندها صدقه من كذبه،
و (سوف تعلمون): تهديد محض ووعيد.
(وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان
فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ
ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69))
وقوله تعالى: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في
478

حديث غيره): هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون داخلون في الخطاب معه، هذا هو
الصحيح، لأن علة النهي، وهي سماع الخوض في آيات الله، تشملهم وإياه، فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم هو والمؤمنون أن ينابذوا الكفار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا، ليتأدبوا
بذلك، ويدعوا الخوض والاستهزاء، قلت: ويدل على دخول المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم في
الخطاب - قوله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها
ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [النساء: 140]. انتهى.
والخوض: أصله في الماء، ثم يستعمل بعد في غمرات الأشياء التي هي مجاهل،
تشبيها بغمرات الماء.
(وأما ينسينك): " إما ": شرط، وتلزمها النون الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر
وحده: " ينسينك " - بتشديد السين، وفتح النون -، والمعنى واحد إلا أن التشديد أكثر
مبالغة، و (الذكرى) والذكر واحد في المعنى، ووصفهم ب‍ (الظالمين) متمكن، لأنهم
وضعوا الشئ في غير موضعه، و (أعرض)، في هذه الآية: بمعنى المفارقة على حقيقة
الإعراض، وأكمل وجوهه، ويدل على ذلك: (فلا تقعد).
وقوله سبحانه: (وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ)، و روي أنه لما
نزلت: (فلا تقعدوا معهم) [النساء: 140] قال المؤمنون: إذا كنا لا نقرب المشركين، ولا
نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طواف ولا قضاء عبادة في الحرم، فنزلت لذلك: (وما على
الذين يتقون...) الآية.
قال * ع *: فالإباحة في هذا هي في القدر الذي يحتاج إليه من التصرف بين
المشركين في عبادة ونحوها، وقيل: إن هذه الآية الأخيرة ليست إباحة بوجه، وإنما
معناها: لا تقعدوا معهم، ولا تقربوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم
عن القعود، لأن عليكم شيئا من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتمل المعنى: ولكن
ذكرى لعلهم إذا جانبتموهم، كان يتقون بالإمساك عن الاستهزاء، ويحتمل المعنى: ولكن
479

ذكروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أن يمتثل حكم هذه الآية مع الملحدين، وأهل الجدل
والخوض فيه، وحكى الطبري، عن أبي جعفر، أنه قال: " لا تجالسوا أهل الخصومات،
فإنهم الذين يخوضون في آيات الله "، وفي الحديث، عنه صلى الله عليه وسلم: " أنا زعيم ببيت في ربض
الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان
مازحا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه "، خرجه أبو داود. انتهى من " الكوكب
الدري "، وقد ذكرنا هذا الحديث من غير طريق أبي داود بلفظ أوضح من هذا.
(وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل
نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها
أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70) قل
أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته
الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى أثبتنا قل إن هدى الله هو الهدى
وأمرنا لنسلم لرب العالمين (71) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72)
وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك
يوم ينفخ في الصور علام الغيب الشهادة وهو الحكيم الخبير (73))
وقوله سبحانه: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا): هذا أمر بالمتاركة، وكان
ذلك بحسب قلة المسلمين يومئذ، قال قتادة: ثم نسخ ذلك، وما جرى مجراه بالقتال،
وقال مجاهد: الآية إنما هي للتهديد والوعيد، فهي كقوله تعالى: (ذرني ومن خلقت
وحيدا) [المدثر: 11]، وليس فيها نسخ، لأنها متضمنة خبرا، وهو التهديد، (وغرتهم
الحياة الدنيا)، أي: خدعتهم من الغرور، وهو الأطماع بما لا يتحصل فاغتروا بنعم / الله
480

وإمهاله، وطمعهم ذلك فيما لم يتحصل من رحمته، واعلم أن أعقل العقلاء مؤمن مقبل
على آخرته قد جعل الموت نصب عينيه، ولم يغتر بزخارف الدنيا، كما اغتر بها الحمقى،
بل جعل همه واحدا، هم المعاد وما هو صائر إليه، وقد روى البزار في مسنده، عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من جعل الهموم هما واحدا، هم المعاد، كفاه الله هم الدنيا، ومن
تشعبت به الهموم، هموم الدنيا، لم يبال الله تعالى في أي أوديتها هلك ". انتهى من
" الكوكب الدري ".
وقوله سبحانه: (وذكر به): أي بالقرآن، وقيل: الضمير في (به) عائد على
الدين، و (أن تبسل) في موضع المفعول له، أي: لئلا تبسل، ومعناه: تسلم، قاله
الحسن وعكرمة وقال قتادة: تحبس وترهن، وقال ابن عباس: تفضح، وقال ابن
زيد: تجزى، وهذه كلها متقاربة المعنى، ومنه قول الشنفري: [الطويل].
481

هنالك لا أرجو حياة تسرني * سمير الليالي مبسلا بالجرائر
وباقي الآية بين.
(وإن تعدل كل عدل)، أي: وإن تعط كل فدية، وإن عظمت، فتجعلها عدلا لها،
لا يقبل منها، وقال أبو عبيدة: (وإن تعدل)، هو من العدل المضاد للجور، ورده
الطبري بالإجماع على أن توبة الكافر مقبولة.
قال * ع *: ولا يلزم هذا الرد، لأن الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبل فيه
توبة، ولا عمل. قلت: وأجلى من هذا أن يحمل كلام أبي عبيدة على معنى أنه لا يقبل
منها عدلها، لاختلال شرطه، وهو الإيمان، و (أبسلوا): معناه: أسلموا بما اجترحوه من
الكفر، والحميم: الماء الحار، ومنه: الحمام، والحمة.
وقوله سبحانه: (قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا)، المعنى: قل في
احتجاجك: أنطيع رأيكم في أن ندعو من دون الله، والدعاء: يعم العبادة وغيرها، لأن من
جعل شيئا موضع دعائه، فإياه يعبد، وعليه يتوكل، و (ما لا ينفعنا ولا يضرنا): يعني:
الأصنام، (ونرد على أعقابنا): تشبيه بمشي القهقرى، وهي المشية الدنية، فاستعمل المثل
بها فيمن رجع من خير إلى شر.
وقوله سبحانه: (كالذي استهوته الشياطين) في الكلام حذف، تقديره: ردا كرد
الذي، و (استهوته): بمعنى: استدعت هواه وأمالته، و (هدانا): بمعنى: أرشدنا،
فسياق هذا المثل كأنه قال: أيصلح أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام، فيكون ذلك منا
ارتدادا على العقب، فنكون كرجل على طريق واضح، فاستهوته عنه الشياطين، فخرج عنه
إلى دعوتهم، فبقي حائرا.
482

وقوله: (له أصحاب): يريد: له أصحاب على الطريق الذي خرج منه، فيشبه
بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يدعون من ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويل
مجاهد وابن عباس، و (ائتنا): من الإتيان، بمعنى المجيء، وقول من قال: إن المراد
ب‍ (الذي)، في هذه الآية: عبد الرحمن بن أبي بكر: وبالأصحاب: ما أبواه - قول ضعيف،
يرده قول عائشة في الصحيح: " ما نزل فينا من القرآن شئ إلا براءتي "، قلت: تريد وقصة
الغار، (إذ يقول لصاحبه) [التوبة: 40]، وقوله: (ولا يأتل أولوا الفضل منكم...)
[النور: 22]، إذ نزلت في شأن أبي بكر، وشأن مسطح.
قال * ع *: حدثني أبي (رضي الله عنه) قال: سمعت الفقيه الإمام أبا عبد الله
المعروف بالنحوي المجاور بمكة، يقول: من نازع أحدا من الملحدين، فإنما ينبغي أن يرد
عليه بالقرآن والحديث، فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: (ائتنا)، ومن ينازعهم
بالجدل، ويحلق عليهم به، فكأنه بعد من الطريق الواضح أكثر، ليرد هذا الزائغ /، فهو
يخاف عليه أن يضل.
قال * ع *: وهذا انتزاع حسن جدا، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: (وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق)، أي: لم يخلقها باطلا
لغير معنى، بل لمعان مفيدة، وحقائق بينة.
وقوله سبحانه: (ويوم يقول) " يوم ": نصب على الظرف، وتقدير الكلام: واذكر
الخلق والإعادة يوم، وتحتمل الآية مع هذا أن يكون معناها، واذكر الإعادة يوم يقول الله
للأجساد: كوني معادة.
وقوله تعالى: (يوم ينفخ في الصور)، الجمهور أن الصور هو القرن الذي قال فيه
483

النبي صلى الله عليه وسلم: " إنه ينفخ فيه للصعق ثم للبعث "، وباقي الآية بين.
(* وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74)
وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75))
وقوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في
ضلال مبين)، قال الطبري: نبه الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بإبراهيم في محاجته
قومه، إذ كانوا أهل أصنام، وكان قوم النبي صلى الله عليه وسلم أهل أصنام، وقوله: (أصناما آلهة):
مفعولان، وذكر أن آزر أبا إبراهيم - عليه السلام - كان نجارا محسنا، ومهندسا، وكان
نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم، فحظي عنده آزر لذلك، وكان على خطة عمل الأصنام
تعمل بأمره وتدبيره، ويطبع هو في الصنم بختم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم،
فلما نشأ إبراهيم ابنه على الصفة التي تأتي بعد، كان أبوه يكلفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادي
عليها: من يشتري ما يضره ولا ينفعه، ويستخف بها، ويجعلها في الماء منكوسة، ويقول
لها: اشربي، فلما اشتهر أمره بذلك، وأخذ في الدعاء إلى الله عز وجل، قال لأبيه هذه
المقالة، و (أراك)، في هذا الموضع: يشترك فيها القلب والبصر، و (مبين): بمعنى:
ظاهر واضح.
وقوله سبحانه: (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض): الآية المتقدمة
تقضي بهداية إبراهيم - عليه السلام -، والإشارة ب‍ " ذلك " هي إلى تلك الهداية، أي: وكما
هديناه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر، أريناه ملكوت، و (نرى): لفظها: الاستقبال،
ومعناها: المضي، وهذه الرؤية قيل: هي رؤية البصر، وروي في ذلك، أن الله عز وجل
فرج لإبراهيم - عليه السلام - السماوات والأرض، حتى رأى ببصره الملكوت الأعلى،
والملكوت الأسفل، وهذا هو قول مجاهد قال: تفرجت له السماوات والأرضون، فرأى
484

مكانه في الجنة، وبه قال سعيد بن جبير، وسلمان الفارسي، وقيل: هي رؤية بصر في
ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبار ورؤية القلب: ما لم يقع لأحد من أهل زمنه
الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس وغيره، وقيل: هي رؤية قلب، رأى بها ملكوت
السماوات والأرض بفكرته ونظره، و (ملكوت): بناء مبالغة، وهو بمعنى الملك،
والعرب تقول: لفلان ملكوت اليمن، أي: ملكه، واللام في: (ليكون): متعلقة بفعل
مؤخر، تقديره: وليكون من الموقنين، أريناه، والموقن: العالم بالشيء علما لا يمكن أن
يطرأ له فيه شك، وروي عن ابن عباس في تفسير: (وليكون من الموقنين) قال: جلى له
الأمور سرها وعلانيتها، فلم يخف عليه شئ من أعمال الخلائق، فلما جعل يلعن
أصحاب الذنوب، قال الله له: إنك لا تستطيع هذا، فرده لا يرى أعمالهم.
(فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى
القمر بازغا قال هذا ربى فلما أفل قال لئن لم يهدني ربى لأكونن من القوم الظالين (77) فلما رأى
الشمس بازغة قال هذا ربى هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون (78) إني
وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79))
وقوله سبحانه: (فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي...) الآية: جن
الليل: ستر وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس / وناس كثيرون إلى أن هذه القصة وقعت في
حال صباه وقبل البلوغ والتكليف، ويحتمل أن تكون وقعت له بعد بلوغه وكونه مكلفا،
وحكى الطبري هذا عن فرقة، وقالت: إنه استفهم قومه، على جهة التوقيف والتوبيخ، أي:
هذا ربي، وحكي أن النمرود جبار ذلك الزمان رأى له منجموه أن مولودا يولد في سنة كذا
في عمله يكون خراب الملك على يديه، فجعل يتتبع الحبالى، ويوكل بهن حراسا، فمن
وضعت أنثى، تركت، ومن وضعت ذكرا، حمل إلى الملك فذبحه، وأن أم إبراهيم
حملت، وكانت شابة قوية، فسترت حملها، فلما قربت ولادتها، بعثت أبا إبراهيم إلى
485

سفر، وتحيلت على لمضيه إليه، ثم خرجت هي إلى غار، فولدت فيه إبراهيم، وتركته في
الغار، وكانت تتفقده فوجدته يتغذى بأن يمص أصابعه، فيخرج له منها عسل وسمن ونحو
هذا، وحكي: بل كان يغذيه ملك، وحكي: بل كانت أمه تأتيه بألبان النساء التي ذبح
أبناؤهن، والله أعلم، أي ذلك كان، فشب إبراهيم أضعاف ما يشب غيره، والملك في
خلال ذلك يحس بولادته، ويشدد في طلبه، فمكث في الغار عشرة أعوام، وقيل: خمس
عشرة سنة، وأنه نظر أول ما عقل من الغار، فرأى الكواكب، وجرت قصة الآية، والله
أعلم.
فإن قلنا بأنه وقعت له القصة في الغار في حال الصبوة، وعدم التكليف، على ما
ذهب إليه بعض المفسرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينقسم على وجهين: إما أن يجعل قوله:
(هذا ربي) تصميما قال واعتقادا، وهذا باطل، لأن التصميم على الكفر لم يقع من الأنبياء
- صلوات الله عليهم -، وإما أن نجعله تعريضا للنظر والاستدلال، كأنه قال: أهذا المنير
البهي ربي، إن عضدت ذلك الدلائل.
وإن قلنا: إن القصة وقعت له في حال كبره، وهو مكلف، فلا يجوز أن يقول هذا
مصمما ولا معرضا للنظر، لأنها رتبة جهل أو شك، وهو - عليه السلام - منزه معصوم من
ذلك كله، فلم يبق إلا أن يقولها على جهة التقرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامة الحجة عليهم
في عبادة الأصنام، كأنه قال: أهذا المنير ربي، وهو يريد: على زعمكم، كما قال تعالى:
(أين شركائي) [النحل: 27]، أي: على زعمكم، ثم عرض إبراهيم عليهم من حركة
الكوكب وأفوله أمارة الحدوث، وأنه لا يصلح أن يكون ربا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى
كذلك، ثم في الشمس كذلك، فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المنيرات الرفيعة، أنها لا
تصلح للربوبية، فأصنامكم التي هي خشب وحجارة أحرى أن يبين ذلك فيها، ويعضد
عندي هذا التأويل قوله: (إني برئ مما تشركون)، قلت: وإلى ترجيح هذا أشار عياض
في " الشفا "، قال: وذهب معظم الحذاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال
ذلك مبكتا لقومه، ومستدلا عليهم.
قال * ع *: ومثل لهم بهذه الأمور، لأنهم كانوا أصحاب علم نجوم ونظر في
الأفلاك، وهذا الأمر كله إنما وقع في ليلة واحدة، رأى الكوكب، وهو الزهرة في قول
486

قتادة، وقال السدي: هو المشتري جانحا إلى الغروب، فلما أفل بزغ القمر، وهو أول
طلوعه، فسرى الليل أجمع، فلما بزغت الشمس، زال ضوء القمر قبلها، لانتشار الصباح،
وخفي نوره، ودنا أيضا من مغربه، فسمى ذلك أفولا، لقربه من الأفول التام، على تجوز
في التسمية، وهذا الترتيب يستقيم في الليلة الخامسة عشر من الشهر إلى ليلة عشرين،
وليس يترتب في ليلة واحدة، كما / أجمع أهل التفسير، إلا في هذه الليالي، وبذلك يصح
التجوز في أفول القمر، " وأفل "، في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه: ذهب،
وهذا خلاف في العبارة فقط، والبزوغ في هذه الأنوار: أول الطلوع، وما في كون هذا
الترتيب في ليلة من التجوز في أفول القمر، لأن أفوله لو قدرناه مغيبه، لكان ذلك بعد بزوغ
الشمس، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، و (يهدني): يرشدني، وهذا اللفظ يؤيد قول
من قال: إن القصة في حال الصغر، والقوم الضالون هنا عبدة المخلوقات، كالأصنام
وغيرها، ولما أفلت الشمس، لم يبق شئ يمثل لهم به، فظهرت حجته، وقوي بذلك على
منابذتهم والتبري من إشراكهم، وقوله: (إني بريء مما تشركون): يؤيد قول من قال: إن
القصة في حال الكبر والتكليف، و (وجهت وجهي)، أي: أقبلت بقصدي وعبادتي
وتوحيدي وإيماني للذي فطر السماوات والأرض، أي: اخترعها و (حنيفا) أي: مستقيما،
والحنف: الميل، فكأنه مال عن كل جهة إلى القوام.
(وحاجة قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى
شيئا وسع ربى كل شئ علما أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون
أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون
(81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون (82))
وقوله تعالى: (وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله)، أي: أتراجعوني في الحجة
في توحيد الله، (وقد هدان)، أي: قد أرشدني إلى معرفته وتوحيده، (ولا أخاف ما
تشركون به)، الضمير في (به) يعود على (الله) والمعنى: ولا أخاف الأصنام التي
تشركونها بالله في الربوبية، ويحتمل أن يعود على " ما "، والتقدير: ما تشركون بسببه،
وقوله: (إلا أن يشاء ربي شيئا): استثناء ليس من الأول، و (شيئا): منصوب
487

ب‍ " يشاء "، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضررا، استثنى مشيئة ربه تعالى في أن
يريده بضر، و (علما): نصب على التمييز، وهو مصدر بمعنى الفاعل، كما تقول
العرب: تصبب زيد عرقا، المعنى: تصبب عرق زيد، فكذلك المعنى هنا وسع علم ربي
كل شئ، (أفلا تتذكرون): توقيف وتنبيه وإظهار لموضع التقصير منهم، وقوله: (وكيف
أخاف ما أشركتم...) الآية إلى (تعلمون)، هي كلها من قول إبراهيم - عليه السلام -
لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى: وكيف أخاف أصناما لا خطب لها، إذ نبذتها،
ولا تخافون أنتم الله عز وجل، وقد أشركتم به في الربوبية (ما لم ينزل به عليكم سلطانا)
والسلطان: الحجة، ثم استفهم، على جهة التقرير: (فأي الفريقين)، مني ومنكم (أحق
بالأمن)، قال أبو حيان: (وكيف): استفهام، معناه التعجب والإنكار. انتهى.
وقوله سبحانه: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم...) الآية، قال ابن إسحاق،
وابن زيد، وغيرهما: هذا قول من الله عز وجل ابتداء حكم فصل عام لوقت محاجة
إبراهيم وغيره، ولكل مؤمن تقدم أو تأخر.
قال * ع *: هذا هو البين الفصيح الذي يرتبط به معنى الآية، ويحسن رصفها،
وهو خبر من الله عز وجل، و (يلبسوا): معناه: يخلطوا، والظلم، في هذا الموضع:
الشرك، تظاهرت بذلك الأحاديث الصحيحة، وفي قراءة مجاهد: " ولم يلبسوا إيمانهم
بشرك " (وهم مهتدون)، أي: راشدون.
(وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم (83)
ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان
وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من
الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86))
وقوله تعالى: (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه): " تلك ": إشارة إلى هذه
الحجة المتقدمة.
وقوله سبحانه: (نرفع كل درجات من نشاء)، " الدرجات ": أصلها في الأجسام، ثم
488

تستعمل في المراتب والمنازل المعنوية.
وقوله سبحانه: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب...) الآية: (ووهبنا): عطف على
" آتينا " وإسحاق ابنه من سارة، ويعقوب هو ابن إسحاق، وقوله: (ومن ذريته): المعنى:
وهدينا من ذريته، والضمير في (ذريته)، قال الزجاج: جائز أن يعود على إبراهيم،
ويعترض هذا بذكر لوط - عليه السلام -، إذ ليس هو من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه،
وقيل: ابن أخته، ويتخرج ذلك عند من يرى الخال أبا، وقيل: يعود الضمير على نوح،
وهذا هو الجيد، ونصب / (داود): يحتمل أن يكون ب‍ (وهبنا)، ويحتمل أن يكون
ب‍ (هدينا)، (وكذلك نجزي المحسنين): وعد من الله عز وجل لمن أحسن في عبادته،
وترغيب في الإحسان، وفي هذه الآية أن عيسى - عليه السلام - من ذرية نوح أو إبراهيم،
بحسب الاختلاف في عود الضمير من (ذريته)، وهو ابن ابنة، وبهذا يستدل في الأحباس
على أن ولد البنت من الذرية، ويونس هو ابن متى، (وكلا فضلنا على العالمين): معناه:
عالمي زمانهم.
(ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله
يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88) أولئك الذين آتيناهم
الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين (89) أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين (90))
وقوله سبحانه: (ومن آبائهم وذرياتهم): المعنى: وهدينا من آبائهم وذرياتهم
وإخوانهم جماعات، ف‍ " من " للتبعيض، والمراد: من آمن منهم، نبيا كان أو غير نبي،
و (اجتبيناهم)، أي: تخيرناهم وهديناهم، أي: أرشدناهم روى إلى الإيمان، والفوز برضا الله
عز وجل، والذرية: الأبناء، ويطلق على جميع البشر ذرية، لأنهم أبناء.
وقوله تعالى: (ذلك هدى الله...) الآية: (ذلك): إشارة إلى النعمة في قوله:
(واجتبيناهم) و (أولئك): إشارة إلى من تقدم ذكره، والكتاب يراد به الصحف والتوراة
والإنجيل والزبور.
وقوله سبحانه: (فإن يكفر بها هؤلاء) إشارة إلى كفار قريش، وإلى كل كافر في
ذلك العصر، قاله ابن عباس وغيره، وقوله: (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين):
489

هم مؤمنو أهل المدينة، قاله ابن عباس وغيره، والآية على هذا التأويل، وإن كان القصد
بنزولها هذين الصنفين، فهي تعم الكفرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره:
المراد ب‍ " القوم ": من تقدم ذكره من الأنبياء والمؤمنين، وقال أبو رجاء: المراد:
الملائكة.
قلت: ويحتمل أن يكون المراد الجميع.
وقوله سبحانه: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، والظاهر في الإشارة
ب‍ (أولئك) إلى المذكورين قبل من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين المهديين، ومعنى
الاقتداء: اتباع الأثر في القول والفعل والسيرة، وإنما يصح اقتداؤه صلى الله عليه وسلم بجميعهم في
العقود، والإيمان، والتوحيد الذي ليس بينهم فيه اختلاف، وأما أعمال الشرائع فمختلفة،
وقد قال عز وجل: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) [المائدة: 48]، واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم
هو وغيره مخاطب بشرع من قبله في العقود والإيمان والتوحيد، لأنا نجد شرعنا ينبئ
أن الكفار الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم كأبويه وغيرهما في النار، ولا يدخل الله تعالى أحدا
النار إلا بترك ما كلف، وذلك في قوله سبحانه: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)
[الإسراء: 15]، وغير ذلك، وقاعدة المتكلمين: أن العقل لا يوجب ولا يكلف، وإنما
يوجب الشرع، فالوجه في هذا أن يقال: أن آدم - عليه السلام - فمن بعده، دعا إلى
توحيد الله (عز وجل) دعاء عاما، واستمر ذلك على العالم، فواجب على الآدمي أن
490

يبحث عن الشرع الآمر بتوحيد الله تعالى، وينظر في الأدلة المنصوبة على ذلك، بحسب
إيجاب الشرع النظر فيها، ويؤمن، ولا يعبد غير الله، فمن فرضناه لم يجد سبيلا إلى العلم
بشرع آمر بتوحيد الله، وهو مع ذلك لم يكفر، ولا عبد صنما، بل تخلى، فأولئك أهل
الفترات الذين أطلق عليهم أهل العلم أنهم في الجنة، وهم بمنزلة الأطفال والمجانين، ومن
قصر في النظر والبحث، فعبد صنما أو غيره، وكفر، فهو تارك للواجب عليه، مستوجب
للعقاب بالنار، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ومن كان معه من الناس وقبله - مخاطبون على ألسنة
الأنبياء قبل بالتوحيد، وغير مخاطبين بفروع شرائعهم، إذ هي مختلفة، وإذ لم يدعهم
إليها نبي، قال / الفخر: واحتج العلماء بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل من جميع
الأنبياء - عليهم السلام -، وتقريره: أنا بينا أن خصال الكمال وصفات الشرف كانت مفرقة
فيهم، ثم إنه تعالى، لما ذكر الكل، أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجمع من خصال الطاعة والعبودية
والأخلاق الحميدة كل الصفات التي كانت مفرقة فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله تعالى
بذلك، امتنع أن يقال: إنه قصر في تحصيلها، فثبت أنه حصلها، ومتى كان الأمر كذلك،
ثبت أنه اجتمع فيه من خصال الخير ما كان فيهم مفرقا بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك،
وجب أن يقال: إنه أفضلهم بكليتهم، والله أعلم. انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: " فبهداهم اقتد " - بحذف الهاء في الوصل، وإثباتها في
الوقف -، وهذا هو القياس شبيهة بألف الوصل في أنها تقطع في الابتداء، وتسقط في الوصل.
وقوله سبحانه: (قل لا أسألكم عليه أجرا)، أي: قل لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا
أسألكم على دعائي إياكم بالقرآن إلى عبادة الله تعالى - أجرة، إن هو إلا موعظة وذكرى
491

ودعاء لجميع العالمين.
(وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء
به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا
آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون (91) وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه
ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92))
وقوله سبحانه: (وما قدروا الله حق قدره...) الآية: قال ابن عباس: هذه الآية
نزلت في بني إسرائيل، قال النقاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجل مخصوص
منهم، يقال له مالك بن الصيف، قاله ابن جبير، وقيل: فنحاص، قاله السدي،
و (قدروا): هو من توفية القدر والمنزلة، وتعليله بقولهم: (ما أنزل الله): يقضي بأنهم
جهلوا، ولم يعرفوا الله حق معرفته، إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، قال الفخر: قال ابن
عباس: (ما قدروا الله حق قدره)، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه، وقال الأخفش:
ما عرفوه حق معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حق قدرته وعظمته، وهذه المعاني كلها
صحيحة. انتهى، وروي أن مالك بن الضيف كان سمينا، فجاء يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمه،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك الله، ألست تقرأ فيما أنزل على موسى: إن الله يبغض
الحبر السمين "، فغضب، وقال: " والله ما أنزل الله على بشر من شئ "، قال الفخر:
وهذه الآية تدل على أن النكرة في سياق النفي تعم، ولو لم تفد العموم، لما كان قوله
492

تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا) - إبطالا لقولهم ونقضا عليهم.
انتهى.
وقوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب)، يعني: التوراة، و (قراطيس): جمع
قرطاس، أي: بطائق وأوراقا، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم
وجميع ما عليهم فيه حجة.
وقوله سبحانه: (وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم)، يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يقصد به الامتنان عليهم، وعلى آبائهم.
والوجه الثاني: أن يكون المقصود ذمهم، أي: وعلمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه،
فما انتفعتم به، لإعراضكم وضلالكم.
ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحجة، أي: قل الله هو الذي أنزل الكتاب على
موسى، ثم أمره سبحانه بترك من كفر، وأعرض، وهذه آية منسوخة بآية القتال، إن تؤولت
موادعة، ويحتمل ألا يدخلها نسخ إذا جعلت تتضمن تهديدا ووعيدا مجردا من موادعة.
وقوله سبحانه: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك): " هذا ": إشارة إلى القرآن، وقوله:
(مصدق الذي بين يديه)، يعنى: التوراة والإنجيل، لأن ما تقدم، فهو بين يدي ما تأخر،
و (أم القرى): مكة، ثم ابتدأ تبارك وتعالى بمدح قوم وصفهم، وأخبر عنهم، أنهم
يؤمنون بالآخرة والبعث والنشور، ويؤمنون بالقرآن، ويصدقون بحقيقته، ثم قوى عز وجل
مدحهم بأنهم يحافظون على صلاتهم التي هي قاعدة العبادات، وأم الطاعات، وإذا انضافت
الصلاة إلى ضمير، لم تكتب / إلا بالألف، ولا تكتب في المصحف بواو إلا إذا لم تضف
إلى ضمير.
وقد جاءت آثار صحيحة في ثواب من حافظ على صلاته، وفي فضل المشي إليها،
ففي " سنن أبي داود "، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " بشر المشائين في الظلم إلى
493

المساجد بالنور التام يوم القيامة "، وروي أبو داود أيضا بسنده، عن سعيد بن المسيب،
قال: حضر رجلا من الأنصار الموت، فقال: إني محدثكم حديثا ما أحدثكموه إلا
احتسابا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا توضأ أحدكم، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى
الصلاة، لم يرفع قدمه اليمنى إلا كتب الله له حسنة، ولم يضع قدمه اليسرى إلا حط الله
عنه سيئة، فليقرب أو ليبعد، فإن أتى المسجد، فصلى في جماعة، غفر له، فإن أتى
المسجد، وقد صلوا بعضا، وبقي بعض، صلى ما أدرك وأتم ما بقي - كان كذلك فإن أتى
المسجد، وقد صلوا، فأتم الصلاة، كان كذلك "، وأخرج أبو داود، عن أبي هريرة،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح فوجد الناس قد صلوا،
أعطاه الله عز وجل مثل أجر من صلاها أو حضرها، لا ينقص ذلك من أجورهم "
انتهى.
(ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل
ما أنزل الله ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم
تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93))
وقوله سبحانه: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه
494

شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله)، هذه ألفاظ عامة، فكل من واقع شيئا مما يدخل
تحت هذه الألفاظ، فهو داخل في الظلم الذي قد عظمه الله تعالى، وقال قتادة وغيره:
المراد بهذه الآيات مسيلمة، والأسود العنسي.
قال عكرمة: أولها في مسيلمة، والآخر في عبد الله بن أبي سرح، وقيل:
نزلت في النضر بن الحارث، وبالجملة فالآية تتناول من تعرض شيئا من معانيها إلى يوم
القيامة، كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد وسواهما.
495

وقوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت...) الآية: جواب " لو "
محذوف، تقديره: " لرأيت عجبا أو هولا، ونحو هذا، وحذف هذا الجواب أبلغ في نفس
السامع، و (الظالمون) لفظ عام في أنواع الظلم الذي هو كفر، و " الغمرات ": جمع
غمرة، وهي المصيبة المذهلة، وهي مشبهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد: ملائكة قبض
الروح، و (باسطو أيديهم): كناية عن مدها بالمكروه، وهذا المكروه هو لا محالة أوائل
العذاب، وأماراته، قال ابن عباس: يضربون وجوههم وأدبارهم، وقوله: (أخرجوا
أنفسكم): حكاية لما تقوله الملائكة، والتقدير: يقولون لهم: أخرجوا أنفسكم، وذلك
على جهة الإهانة، وإدخال الرعب عليهم، ويحتمل: أخرجوا أنفسكم من هذه المصائب
والمحن، إن كان ما زعمتموه حقا في الدنيا، وفي ذلك توبيخ وتوقيف على سالف فعلهم
القبيح، قلت: والتأويل الأول هو الصحيح، وقد أسند أبو عمر في " التمهيد "، عن ابن
وضاح، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثم ذكر سنده، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح، قالت: اخرجي، أيتها النفس
الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة، وأبشري بروح وريحان، ورب غير
غضبان، قال: فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيفتح لها،
فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقال: مرحبا بالنفس الطيبة، كانت في الجسد الطيب،
أدخلي حميدة، وأبشري بروح وريحان.، ورب غير غضبان، فلا تزال يقال لها ذلك حتى
ينتهى بها إلى السماء، يعني: السابعة، وإذا كان الرجل السوء، وحضرته الملائكة عند
موته، قالت /: اخرجي، أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، أخرجي ذميمة،
وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج... "
وذكر الحديث. انتهى، و (الهون): الهوان.
وقوله تعالى: (بما كنتم تقولون على الله غير الحق...) الآية: لفظ عام لأنواع
الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاء على من قرب ذكره.
(ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم
شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاؤا لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94))
496

وقوله سبحانه: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة...) الآية: هذه حكاية
عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، وأعلم أيها الأخ، أن هذه الآية الكريمة ونحوها من
الآي، وإن كان مساقها في الكفار، فللمؤمن الموقن فيها معتبر ومزدجر، وقد قيل: إن القبر
بحر الندامات، وقد روى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " ما من أحد يموت إلا ندم "، قالوا: وما ندامته، يا رسول الله؟ قال: " إن كان
محسنا، ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئا، ندم ألا يكون نزع ". انتهى.
و (كما خلقناكم أول مرة): تشبيها بالانفراد الأول في وقت الخلقة،
و (خولناكم)، معناه: أعطيناكم، و (وراء ظهوركم): إشارة إلى الدنيا، لأنهم يتركون
ذلك موجودا.
وقوله سبحانه: (وما نرى معكم شفعاءكم): توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام،
واعتقادهم أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى، قال أبو حيان: (وما نرى): لفظه لفظ
المستقبل، وهو حكاية حال. انتهى.
وقرأ نافع والكسائي: " بينكم " - بالنصب -، على أنه ظرف، والتقدير: لقد تقطع
الاتصال والارتباط بينكم، ونحو هذا، وهذا وجه واضح، وعليه فسره الناس، مجاهد
وغيره، وقرأ باقي السبعة: " بينكم " - بالرفع -، وقرأ ابن مسعود وغيره: " لقد تقطع ما
بينكم "، و (ضل)، معناه: تلف وذهب، و (ما كنتم تزعمون)، يريد: دعواهم أنها
تشفع، وأنها تشارك الله في الألوهية، تعالى الله عن قولهم.
497

(* إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى
تؤفكون (95) فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96)
وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97))
وقوله سبحانه: (إن الله فالق الحب والنوى)، هذا ابتداء تنبيه على العبرة والنظر،
ويتصل المعنى بما قبله، لأن المقصد أن الله فالق الحب والنوى لا هذه الأصنام، قال قتادة
وغيره: هذه إشارة إلى فعل الله سبحانه في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي
يكون منه، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة منه.
وقوله: (يخرج الحي من الميت...) الآية: قال ابن عباس وغيره: الإشارة إلى
إخراج الإنسان الحي من النطفة الميتة، وإخراج النطفة الميتة من الإنسان الحي، وكذلك
سائر الحيوان من الطير وغيره، وهذا القول أرجح ما قيل هنا.
وقوله سبحانه: (ذلكم الله) ابتداء وخبر متضمن التنبيه، (فأنى تؤفكون)، أي:
تصرفون وتصدون، و (فالق الإصباح)، أي: شاقه ومظهره، والفلق: الصبح،
و (حسبانا): جمع حساب، أي: يجريان بحساب، هذا قول ابن عباس وغيره، وقال
مجاهد في " صحيح البخاري ": المراد بحسبان كحسبان الرحى، وهو الدولاب والعود
الذي عليه دورانه.
وقوله سبحانه: (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر
والبحر...) الآية: هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، والحجة بها على الكافرين
قائمة، والعبرة بها للمؤمنين متمكنة.
(وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98)
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا
498

متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون (99))
وقوله سبحانه: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة)، يريد: آدم - عليه السلام -،
(فمستقر ومستودع)، اختلف المتأولون في معنى هذا الاستقرار والاستيداع.
فقال الجمهور: مستقر في الرحم، ومستودع في ظهور الآباء حتى يقضي / الله
بخروجهم، قال ابن عون: مشيت إلى منزل إبراهيم النخعي وهو مريض، فقالوا: قد
توفي، فأخبرني بعضهم أن عبد الرحمن ابن الأسود سأله عن: (مستقر ومستودع)، فقال:
مستقر في الرحم، ومستودع في الصلب، وقال ابن عباس: المستقر: الأرض،
والمستودع: عند الرحمن، وقال ابن جبير: المستودع: في الصلب، والمستقر في
الآخرة، قال الفخر: والمنقول عن ابن عباس في أكثر الروايات أن المستقر هو الأرحام،
والمستودع الأصلاب، ثم قرأ: (ونقر في الأرحام ما نشاء) [الحج: 5] ومما يدل على
قوة هذا القول، أن النطفة لا تبقى في صلب الأب زمانا طويلا، والجنين في رحم الأم يبقى
زمانا طويلا، ولما كان المكث في الرحم أكثر مما في صلب الأب، كان حمل الاستقرار
على المكث في الرحم أولى. انتهى.
قال * ع *: والذي يقتضيه النظر أن ابن آدم هو مستودع في ظهر أبيه، وليس
بمستقر فيه استقرارا مطلقا، لأنه يتنقل لا محالة، ثم ينتقل إلى الرحم، ثم ينتقل إلى الدنيا،
ثم ينتقل إلى القبر، ثم ينتقل إلى المحشر، ثم ينتقل إلى الجنة أو النار، فيستقر في أحدهما
استقرارا مطلقا، وليس فيها مستودع، لأنه لا نقلة له بعد، وهو في كل رتبة متوسطة بين
هذين الطرفين مستقر بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودع بالإضافة إلى التي بعدها، لأن لفظ
الوديعة يقتضي فيها نقلة، ولا بد.
وقوله تعالى: (وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ)،
499

(السماء)، في هذا الموضع: السحاب، وكل ما أظلك فهو سماء، وقوله: (نبات كل
شئ)، قيل: معناه: مما ينبت، وقال الطبري: المراد ب‍ " كل شئ ": كل ما ينمو من
جميع الحيوان والنبات والمعادن، وغير ذلك، لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من
السماء، والضمير في (منه) يعود على النبات، وفي الثاني يعود على الخضر،
و (خضرا): بمعنى: أخضر، ومنه قوله - عليه السلام -: " الدنيا خضرة حلوة "،
بمعنى: خضراء، وكأن خضرا إنما يأتي أبدا لمعنى النضارة، وليس للون فيه مدخل،
وأخضر إنما تمكنه في اللون، وهو في النضارة تجوز، و (حبا متراكبا): يعم جميع
السنابل وما شاكلها، كالصنوبر، والرمان، وغير ذلك.
وقوله: (ومن النخل)، تقديره: ونخرج من النخل والطلع أول ما يخرج من
النخل، في أكمامه، و (قنوان): جمع قنو، وهو العذق - بكسر العين -، وهي الكباسة،
والعرجون: عوده الذي فيه ينتظم التمر، و (دانية): معناه: قريبة من التناول، قاله ابن
عباس وغيره.
وقرأ الجمهور: " وجنات " - بالنصب -، عطفا على قوله: " نبات "، وروي عن
عاصم: " وجنات " - بالرفع -، على تقدير: ولكم جنات أو نحو هذا، (والزيتون والرمان) -
بالنصب إجماعا -، عطفا على قوله: " حبا "، و (مشتبها وغير متشابه)، قال قتادة: معناه
يتشابه في الورق ويتباين في الثمر، وقال الطبري: جائز أن يتشابه في الثمر ويتباين في
الطعم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطعم ويتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة
500

بالاعتبار في أنواع الثمرات.
وقوله سبحانه: (انظروا)، وهو نظر بصر تتركب عليه فكرة قلب، " والثمر "، في
اللغة: جنى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر: ثمارا، فبتجوز، وقرأ جمهور الناس:
(وينعه) - بفتح الياء -، وهو مصدر ينع يينع، إذا نضج، وبالنضج فسره ابن عباس،
وقد يستعمل " ينع " بمعنى استقل واخضر ناضرا، قال الفخر: وقدم سبحانه الزرع، لأنه
غذاء، والثمار فواكه وإنما قدم النخل على الفواكه، لأن التمر يجري مجرى الغذاء / بالنسبة
إلى العرب. انتهى.
(وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما
يصفون (100) بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو
بكل شئ عليم (101) ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل
شئ وكيل (102))
وقوله سبحانه: (وجعلوا لله شركاء الجن): (جعلوا): بمعنى صيروا،
و (الجن): مفعول، و (شركاء) مفعول ثان.
قال * ص *: (وجعلوا لله شركاء الجن): (جعلوا): بمعنى صيروا،
والجمهور على نصب " الجن "، فقال ابن عطية وغيره: هو مفعول أول ل‍ (جعلوا)،
و (شركاء) الثاني، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من (شركاء)، (ولله) في موضع
المفعول الثاني، و (شركاء) الأول، ورده أبو حيان، بأن البدل حينئذ لا يصح أن يحل
محل المبدل منه، إذ لو قلت: وجعلوا لله الجن، لم يصح، وشرط البدل أن يكون على
نية تكرار العامل، على الأشهر، أو معمولا للعامل، في المبدل منه، على قول، وهذا لا
يصح، كما ذكرنا، قلت: وفيه نظر. انتهى، قلت: وما قاله الشيخ أبو حيان عندي ظاهر،
وفي نظر الصفاقسي نظر، وهذه الآية مشيرة إلى العادلين بالله تعالى، والقائلين: إن الجن
تعلم الغيب، العابدين للجن، وكانت طوائف من العرب تفعل ذلك، وتستجير بجن الوادي
501

في أسفارها ونحو هذا، وأما الذين خرقوا البنين، فاليهود في ذكر عزيز، والنصارى في ذكر
المسيح، وأما ذاكرو البنات، فالعرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن
قولهم، فكأن الضمير في (جعلوا) و (خرقوا)، لجميع الكفار، إذ فعل بعضهم هذا،
وبعضهم هذا، وبنحو هذا فسر السدي وابن زيد، وقرأ الجمهور: " وهو خلقهم " - بفتح
اللام -، على معنى: وهو خلقهم، وفي مصحف ابن مسعود: " وهو خلقهم "، والضمير
في (خلقهم) يحتمل العودة على الجاعلين، ويحتملها على المجعولين، وقرأ السبعة
سوى نافع: " وخرقوا " - بتخفيف الراء -، بمعنى اختلقوا وافتروا، وقرأ نافع: " وخرقوا "
- بتشديد الراء -، على المبالغة، وقوله: (بغير علم) نص على قبح تقحم المجهلة،
وافتراء الباطل على عمى، و (سبحانه): معناه: تنزه عن وصفهم الفاسد المستحيل عليه
تبارك وتعالى، و (بديع): بمعنى: مبدع، و (أنى): بمعنى: كيف، وأين، فهي
استفهام في معنى التوقيف والتقرير، وهذه الآية رد على الكفار بقياس الغائب على الشاهد.
وقوله سبحانه: (وخلق كل شئ) لفظ عام لكل ما يجوز أن يدخل تحته، ولا
يجوز أن تدخل تحته صفات الله تعالى، وكلامه، فليس هو عموما مخصصا، على ما ذهب
إليه قوم، لأن العموم المخصص هو أن يتناول العموم شيئا، ثم يخرجه التخصيص، وهذا
لم يتناول قط هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قول الإنسان: قتلت كل فارس،
وأفحمت كل خصم، فلم يدخل القائل قط في هذا العموم الظاهر من لفظه، وأما قوله:
(وهو بكل شئ عليم) فهو عموم على الإطلاق، لأنه سبحانه يعلم كل شئ، لا رب
غيره، وباقي الآية بين.
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير (103) قد جاءكم بصائر من
ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) وكذلك نصرف الآيات
502

وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105) اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض
عن المشركين (106) ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107))
وقوله سبحانه: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)، أجمع أهل السنة على أن
الله عز وجل يرى يوم القيامة، يراه المؤمنون، والوجه أن يبين جواز ذلك عقلا، ثم يستند
إلى ورود السمع بوقوع ذلك الجائز، واختصار تبيين ذلك: أن يعتبر بعلمنا بالله
- عز وجل -، فمن حيث جاز أن نعلمه، لا في مكان، ولا متحيزا، ولا مقابلا، ولم يتعلق
علمنا بأكثر من الوجود، جاز أن نراه، غير مقابل، ولا محاذى، ولا مكيفا، ولا محددا،
وكان الإمام أبو عبد الله النحوي يقول: مسألة العلم حلقت لحى المعتزلة، ثم ورد الشرع
بذلك، / كقوله عز وجل: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22، 23]،
وتعدية النظر ب‍ " إلى " إنما هو في كلام العرب، لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار، على ما
ذهب إليه المعتزلة، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، وتواتر، وكثر نقله: " إنكم ترون
ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر "، ونحوه من الأحاديث الصحيحة على
اختلاف ألفاظها، واستمحل المعتزلة الرؤية بآراء مجردة، وتمسكوا بقوله تعالى: (لا
تدركه الأبصار) وانفصال أهل السنة عن تمسكهم، بأن الآية مخصوصة في الدنيا، ورؤية
الآخرة ثابتة بأخبارها، وأيضا فإنا نفرق بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤية، ونقول: إنه
عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه، وذلك أن الإدراك يتضمن الإحاطة بالشيء، والوصول
إلى أعماقه وحوزه من جميع جهاته، وذلك كله محال في أوصاف الله عز وجل، والرؤية
لا تفتقر إلى أن يحيط الرائي بالمرئي، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتب العكس في
قوله: (وهو يدرك الأبصار)، ويحسن معناه، ونحو هذا روي عن ابن عباس وقتادة وعطية
العوفي، أنهم فرقوا بين الرؤية والإدراك، و (اللطيف): المتلطف في خلقه واختراعه،
503

والبصائر: جمع بصيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآيات طرائق إبصار الحق،
والبصيرة للقلب مستعارة من أبصار العين، والبصيرة أيضا هي المعتقد.
وقوله سبحانه: (فمن أبصر)، و (من عمي): عبارة مستعارة فيمن اهتدى، ومن
ضل، وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) - كان في أول الأمر وقبل ظهور الإسلام، ثم بعد
ذلك كان صلى الله عليه وسلم حفيظا على العالم، آخذا لهم بالإسلام، أو السيف.
وقوله سبحانه: (وكذلك نصرف الآيات) أي: نرددها ونوضحها، وقرأ
الجمهور: " وليقولوا درست " - بكسر اللام -، على أنها لام كي، وهي على هذا لام
الصيرورة، أي: لما صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: " درست "، أي: يا محمد
درست في الكتب القديمة ما تجيئنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: " دارست "، أي: دارست
غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: " درست " - بإسناد الفعل إلى الآيات -، كأنهم أشاروا إلى
أنها ترددت على أسماعهم، حتى بليت في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله:
(ليقولوا)، وفي قوله: (ولنبينه): متعلقان بفعل متأخر، وتقديره: " صرفناها "، وذهب
بعض الكوفيين إلى أن " لا ": مضمرة بعد " أن " المقدرة في قوله: (وليقولوا)، فتقدير
الكلام عندهم: ولأن لا يقولوا درست، كما أضمروها في قوله: (يبين الله لكم أن
تضلوا) [النساء: 176].
قال * ع *: وهذا قلق، ولا يجيز البصريون إضمار " لا " في موضع من
المواضع.
قلت: ولكنه حسن جدا من جهة المعنى، إذ لا يعلمون أنه درس أو دارس
أحدا صلى الله عليه وسلم، فتأمله.
وقوله سبحانه: (اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو...) الآية: هذه الآية
فيها موادعة، وهي منسوخة.
(ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة
504

عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون (108) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم
آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون (109) ونقلب
أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110))
وقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله...) الآية: مخاطبة للمؤمنين
والنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس: سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: إما أن ينتهي محمد
وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه، فنزلت الآية،
وحكمها على كل حال باق في الأمة /، فلا يحل لمسلم أن يتعرض إلى ما يؤدي إلى سب
الإسلام أو النبي صلى الله عليه وسلم، أو الله عز وجل، وعبر عن الأصنام بالذين، وهي لا تعقل، وذلك
على معتقد الكفرة فيها، وفي هذه الآية ضرب من الموادعة، و (عدوا): مصدر من
الاعتداء، و (بغير علم): بيان لمعنى الاعتداء.
وقوله تعالى: (كذلك زينا لكل أمة عملهم): إشارة إلى ما زين لهؤلاء من التمسك
بأصنامهم، وتزيين الله عمل الأمم هو ما يخلقه سبحانه في النفوس من المحبة للخير
والشر، وتزيين الشيطان هو ما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء، وقوله:
(ثم إلى ربهم مرجعهم...) الآية: تتضمن وعدا جميلا للمحسنين، ووعيدا ثقيلا
للمسيئين.
وقوله سبحانه: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها): اللام في
قوله: (لئن) لام توطئة للقسم، وأما المتلقية للقسم فهي قوله: (ليؤمنن بها)، و
(آية): يريد: علامة، وحكي أن الكفار لما نزلت: (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية
فظلت أعناقهم لها خاضعين) [الشعراء: 4]، أقسموا حينئذ، أنها إن نزلت، آمنوا، فنزلت
هذه الآية، وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهبا، وأقسموا على ذلك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم
يدعو في ذلك، فجاءه جبريل، فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يؤمنوا، هلكوا عن
آخرهم معاجلة، كما فعل بالأمم المقترحة، وإن شئت، أخروا حتى يتوب تائبهم، فقال
- عليه الصلاة والسلام -: بل حتى يتوب تائبهم، ونزلت الآية.
505

قال ابن العربي: قوله: (جهد أيمانهم)، يعني: غاية أيمانهم التي بلغها علمهم،
وانتهت إليها قدرتهم. انتهى من " الأحكام ".
ثم قال تعالى: قل لهم، يا محمد، على جهة الرد والتخطئة: إنما الآيات عند الله
وليست عندي، فتقترح علي، ثم قال: (وما يشعركم)، قال مجاهد: وابن زيد:
المخاطب بهذا الكفار، وقال الفراء وغيره: المخاطب بهذا المؤمنون، (وما يشعركم):
معناه: وما يعلمكم وما يدريكم، وقرأ ابن كثير وغيره: " إنها " - بكسر الألف -، على
القطع، واستئناف الأخبار، فمن قرأ " تؤمنون " - بالتاء -، وهي قراءة ابن عامر وحمزة،
استقامت له المخاطبة، أولا وآخرا، للكفار، ومن قرأ بالياء، وهي قراءة نافع. وغيره،
فيحتمل أن يخاطب، أولا وآخرا، المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله: (وما يشعركم)
الكفار، ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، وقرأ نافع وغيره: " أنها " - بفتح الألف -،
فقيل: إن " لا " زائدة في قوله: (لا يؤمنون)، كما زيدت في قوله تعالى: (وحرام على
قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون) [الأنبياء: 95]، ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى، لأنها لو
لم تكن زائدة، لعاد الكلام عذرا للكفار، وفسد المراد بالآية، وضعف الزجاج وغيره زيادة
" لا "، ومنهم من جعل (أنها) بمعنى لعلها، وحكاه سيبويه عن الخليل، وهذا التأويل لا
يحتاج معه إلى تقدير زيادة، " لا "، وحكى الكسائي: أنه كذلك في مصحف أبي " وما
أدراكم لعلها إذا جاءت "، ورجح أبو علي أن تكون " لا " زائدة، وبسط شواهده في ذلك.
وقوله سبحانه: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في
طغيانهم يعمهون)، فالمعنى، على ما قالت فرقة: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار،
وفي لهبها في الآخرة، لما لم يؤمنوا في الدنيا، ثم استأنف على هذا: ونذرهم في الدنيا في
طغيانهم يعمهون، وقالت فرقة: إنما المراد بالتقليب التحويل عن الحق والهدى والترك في
506

الضلالة والكفر، ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين أقسموا أنهم يؤمنون إن جاءت آية - نحن
نقلب أفئدتهم وأبصارهم، أن لو جاءت فلا يؤمنون بها، كما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا
إليه من عبادة الله تعالى، فأخبر الله عز وجل على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالت
فرقة: قوله: (كما)، في هذه الآية: إنما هي بمعنى المجازاة، أي: لما لم يؤمنوا أول
مرة، نجازيهم، بأن نقلب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال: ونحن
نقلب أفئدتهم وأبصارهم، جزاء لما لم يؤمنوا أول مرة بما دعوا إليه من الشرع، والضمير
في (به) يحتمل أن يعود على الله عز وجل، أو على القرآن، أو على النبي صلى الله عليه وسلم
(ونذرهم): معناه: نتركهم، والطغيان: التخبط في الشر، والإفراط فيما يتناوله المرء،
و (يعمهون): معناه: يترددون في حيرتهم.
(* ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا
إلا أن يشاء ولكن أكثرهم يجهلون (111) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن
يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112))
وقوله سبحانه: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى...) الآية: أخبر
سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه من إنزال ملائكة وإحياء سلفهم حسبما اقترحه
بعضهم، أن يحشر قصي وغيره، فيخبر بصدق محمد - عليه السلام -، أو يحشر عليهم كل
شئ قبلا - ما آمنوا إلا بالمشيئة واللطف الذي يخلقه ويخترعه سبحانه في نفس من يشاء،
لا رب غيره.
وقرأ نافع وغيره: " قبلا "، ومعناه مواجهة ومعاينة، قاله ابن عباس وغيره،
ونصبه على الحال، وقال المبرد: معناه: ناحية، كما تقول: لي قبل فلان دين.
قال * ع *: فنصبه، على هذا: هو على الظرف، وقرأ حمزة وغيره: " قبلا " - بضم
507

القاف والباء -، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى " قبل " بكسر القاف، أي:
مواجهة، كما تقول: قبل ودبر.
وقال الزجاج والفراء: هو جمع قبيل، وهو الكفيل، أي: وحشرنا عليهم كل شئ
كفلاء بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قبيل، أي: صنفا صنفا، ونوعا
نوعا، والنصب في هذا كله على الحالة، (ولكن أكثرهم يجهلون)، أي: يجهلون في
اعتقادهم أن الآية تقتضي إيمانهم، ولا بد، فيقتضي اللفظ أن الأقل لا يجهل، فكان فيهم
من يعتقد أن الآية لو جاءت لم يؤمن إلا من شاء الله منه ذلك، قلت: وقال مكي: (ولكن
أكثرهم يجهلون)، أي: في مخالفتك، وهم يعلمون أنك نبي صادق فيما جئتهم به،
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداعب أبا سفيان بعد الفتح بمخصرة في يده، ويطعن بها أبا
سفيان، فإذا أحرقته، قال: نح عني مخصرتك، فوالله، لو أسلمت إليك هذا الأمر، ما
اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " أسألك بالذي أسلمت له، قتالك إياي عن أي:
شئ كان؟ فقال له أبو / سفيان: تظن أني كنت أقاتلك تكذيبا مني لك، والله، ما شككت
في صدقك قط، وما كنت أقاتلك إلا حسدا مني لك، فالحمد لله الذي نزع ذلك من قلبي،
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يشتهي ذلك منه، ويتبسم ". انتهى من " الهداية ".
وقوله سبحانه: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن...) الآية: تتضمن
تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وعرض القدوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمد من الأعداء قد
امتحن به غيرك من الأنبياء، ليبتلي الله أولى العزم منهم، و (شياطين الإنس والجن):
يريد: المتمردين من النوعين، و (يوحي): معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاة
والسرار، و (زخرف القول): محسنه ومزينه بالأباطيل، قاله عكرمة ومجاهد،
والزخرفة، أكثر ما تستعمل في الشر والباطل، و (غرورا): مصدر، ومعناه يغرون به
المضللين، والضمير في (فعلوه) عائد على اعتقادهم العداوة، ويحتمل على " الوحي "
الذي تضمنه (يوحي).
وقوله سبحانه: (فذرهم وما يفترون): لفظ يتضمن الأمر بالموادعة، وهو منسوخ،
508

قال قتادة: كل " ذر " في كتاب الله - منسوخ بالقتال.
(ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113)
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون
أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل
لكلماته وهو السميع العليم (115))
وقوله سبحانه: (ولتصغى): معناه: لتميل، قال الفخر: والضمير في قوله:
(ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) - يعود على زخرف القول، وكذلك في
قوله: (وليرضوه) والاقتراف: معناه الاكتساب.
وقال الزجاج: و (ليقترفوا)، أي: يختلقوا ويكذبوا، والأول أفصح. انتهى.
والقراء على كسر اللام في الثلاثة الأفعال، على أنها لام كي معطوفة على غرورا
و (حكما) أبلغ من حاكم، إذ هي صيغة للعدل من الحكام، والحاكم جار على الفعل،
فقد يقال للجائر، و (مفصلا): معناه: مزال الإشكال، والكتاب أولا هو القرآن، وثانيا
اسم جنس للتوراة والإنجيل والزبور والصحف.
وقوله تعالى: (فلا تكونن من الممترين): تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين.
قلت: وقد تقدم التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم معصوم، وأن الخطاب له، والمراد غيره ممن
يمكن منه الشك.
وقوله سبحانه: (وتمت كلمات بك صدقا وعدلا...) الآية: (تمت)، في هذا
الموضع: بمعنى: استمرت وصحت في الأزل صدقا وعدلا، وليس بتمام من نقص، ومثله
ما وقع في كتب " السيرة " من قولهم: وتم حمزة على إسلامه، في الحديث مع أبي جهل،
والكلمات: ما أنزل على عباده، و (لا مبدل لكلماته): معناه: في معانيها.
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا
يخرصون (116) إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117) فكلوا مما ذكر اسم
الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118))
509

وقوله سبحانه: (وإن تطع أكثر من في الأرض...) الآية: المعنى: فامض، يا
محمد لما أمرت به، وبلغ ما أرسلت به، فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك، قال
ابن عباس: الأرض هنا: الدنيا، وحكي أن سبب هذه الآية أن المشركين جادلوا
النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الذبائح، وقالوا: أتأكل ما تقتل، وتترك ما قتل الله، فنزلت الآية، ثم
وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتدرون بظنونهم ويتبعون تخرصهم، والخرص: الحرز والظن،
وهذه الآية / خبر في ضمنه وعيد للضالين، ووعد للمهتدين، وقوله سبحانه: (فكلوا مما
ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين...) الآية: القصد بهذه الآية النهي عما ذبح
للنصب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نسي المؤمن فيه التسمية
أو تعمدها بالترك.
(وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما
اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119) وذروا
ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120) ولا تأكلوا مما
لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون (121))
وقوله سبحانه: (وما لكم ألا تأكلوا...) الآية: " ما ": استفهام يتضمن التقرير،
(وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، أي: فصل الحرام من الحلال، وانتزعه بالبيان، و " ما "
في قوله: (إلا ما اضطررتم إليه)، يريد بها: من جميع ما حرم، كالميتة وغيرها، وهي
في موضع نصب بالاستثناء، والاستثناء منقطع.
وقوله سبحانه: (وإن كثيرا) يريد الكفرة المحادين المجادلين، ثم توعدهم سبحانه
بقوله: (إن ربك هو أعلم بالمعتدين).
وقوله جلت عظمته: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) - نهي عام، والظاهر والباطن:
يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم: الظاهر: الأعمال، والباطن: المعتقد، وهذا أيضا
حسن، لأنه عام، وروي ابن المبارك في " رقائقه " بسنده، عن أبي أمامة، قال: سأل رجل
النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإثم؟ قال: " ما حك في صدرك، فدعه "، وروى ابن المبارك أيضا
بسنده، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما يحل لي مما يحرم علي؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم
510

فرد عليه ثلاث مرات في كل ذلك يسكت رسول الله، ثم قال: " أين السائل " فقال: أنا ذا،
يا رسول الله، قال: " ما أنكر قلبك، فدعه ". انتهى، وقد ذكرنا معناه من طرق في غير
هذا الموضع، فأغنى عن إعادته.
ثم توعد تعالى كسبة الإثم بالمجازاة على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف:
الاكتساب.
وقوله سبحانه: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق...) الآية:
مقصد الآية النهي عن الميتة، إذ هي جواب لقول المشركين: تتركون ما قتل الله، ومع
ذلك، فلفظها يعم ما تركت التسمية عليه من ذبائح الإسلام، وبهذا العموم تعلق ابن عمر
وابن سيرين والشعبي وغيرهم، فقالوا: ما تركت التسمية عليه، لم يؤكل، عمدا كان
أو نسيانا، وجمهور العلماء على أنه يؤكل إن كان تركها نسيانا، بخلاف العمد، وقيل:
يؤكل، سواء تركت عمدا أو نسيانا، إلا أن يكون مستخفا.
وقوله تعالى: (وإن الشياطين...) الآية: قال عكرمة: هم مردة الإنس من مجوس
511

فارس، وذلك أنهم كانوا يوالون قريشا على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم: (ليوحون إلى أوليائهم)،
من قريش (ليجادلوكم)، بقولهم: تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله، فذلك من
مخاطبتهم هو الوحي، والأولياء هم قريش، وقال ابن زيد وعبد الله بن كثير: بل الشياطين
الجن، واللفظة على وجهها، وأولياؤهم: كفرة قريش، ووحيهم بالوسوسة، وعلى ألسنة
الكهان.
ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمن الوعيد وعرض أصعب مثال في أن يشبه
المؤمن بالمشرك، قال ابن العربي: قوله تعالى: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)،
سمى الله تعالى ما يقع في القلوب من الإلهام وحيا /، وهذا مما يطلقه شيوخ المتصوفة،
وينكره جهال المتوسمين بالعلم، ولم يعلموا أن الوحي على ثمانية أقسام، وأن إطلاقه في
جميعها جائز في دين الله. انتهى من " أحكام القرآن ".
(أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات
ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون (122) وكذلك جعلنا في كل قرية
أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123) وإذا جاءتهم آية
قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين
أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124))
وقوله سبحانه: (أو من كان ميتا فأحييناه)، لما تقدم ذكر المؤمنين، وذكر
الكافرين، مثل سبحانه في الطائفتين بأن شبه الذين آمنوا بعد كفرهم بأموات أحيوا، هذا
معنى قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما، وشبه الكافرين وحيرة جهلهم بقوم في ظلمات
يترددون فيها، ولا يمكنهم الخروج منها، ليبين عز وجل الفرق بين الطائفتين، والبون
بين المنزلتين، و (نورا) أمكن ما يعنى به الإيمان، قيل: ويحتمل أن يراد به النور الذي
يؤتاه المؤمن يوم القيامة، و (جعلنا)، في هذه الآية: بمعنى صيرنا، فهي تتعدى إلى
512

مفعولين، الأول: (مجرميها)، والثاني: (أكابر)، وفي الكلام، على هذا: تقديم
وتأخير، وتقديره: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وقدم الأهم، إذ لعلة كبرهم
أجرموا، ويصح أن يكون المفعول الأول: " أكابر "، و " مجرميها "، مضاف، والمفعول
الثاني: في قوله: (في كل قرية)، و (ليمكروا): نصب بلام الصيرورة، والأكابر: جمع
أكبر، كما الأفاضل جمع أفضل، قال الفخر: وإنما جعل المجرمين أكابر، لأنهم لأجل
513

رياستهم أقدر على الغدر والمكر وركوب الباطل من غيرهم، ولأن كثرة المال والجاه
يحملان الإنسان على المبالغة في حفظهما، وذلك الحفظ لا يتم إلا بجميع الأخلاق
الذميمة، كالغدر صلى والمكر والكذب والغيبة والنميمة والأيمان الكاذبة، ولو لم يكن للمال
والجاه سوى أن الله تعالى حكم بأنه إنما وصف بهذه الأوصاف الذميمة من كان له مال
وجاه، لكفى ذلك دليلا على خساسة المال والجاه. انتهى، وما ذكره في المال والجاه هو
الأغلب.
(وما يشعرون)، أي: ما يعلمون.
وقوله سبحانه: (وإذا جاءتهم آية)، أي: علامة ودليل على صحة الشرع، تشططوا،
وقالوا: لن نؤمن حتى يفلق لنا البحر، ويحيى لنا الموتى، ونحو ذلك، فرد الله تعالى
عليهم بقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالاته) فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كفر،
وجعل يتشطط على الله سبحانه، قال الفخر: قال المفسرون: قال الوليد بن المغيرة:
لو كانت النبوة حقا، لكنت أولى بها، قال الضحاك: أراد كل واحد من هؤلاء الكفرة أن
يخص بالوحي والرسالة، كما أخبر عنهم سبحانه: (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى
صحفا منشرة) [المدثر: 52] انتهى.
ثم توعد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند الله صغار
وذلة.
(فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125) وهذا صراط
514

ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) * لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا
يعملون (127) ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس
ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن
ربك حكيم عليم (128) وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129))
وقوله سبحانه: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام...) الآية: (من):
شرط، و (يشرح) جواب الشرط.
والآية نص في أن الله تعالى يريد هدى المؤمن، وضلال الكافر، وهذا عند جميع
أهل السنة بالإرادة القديمة التي هي صفة ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خلق الإيمان
في القلب، وشرح الصدر: هو تسهيل الإيمان، وتحبيبه،... وإعداد القلب لقبوله وتحصيله،
والصدر: عبارة عن القلب، وفي (يشرح) ضمير يعود على اسم الله عز وجل / يعضده
اللفظ والمعنى، ولا يحتمل غيره، والقول بأنه عائد على " المهدي " - قول يتركب عليه
مذهب القدرية في خلق الأعمال، ويجب أن يعتقد ضعفه، والحذر منه، وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم " أنه لما نزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله، كيف يشرح الصدر؟ قال: إذا نزل
النور في القلب، انشرح له الصدر، وانفسح، قالوا: وهل لذلك علامة، يا رسول الله؟
قال: نعم، الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت، قبل
الموت "، والقول في قوله: (ومن يرد أن يضله) كالقول في قوله: (فمن يرد الله أن
يهديه)، وقرأ حمزة وغيره: " حرجا " - بفتح الراء -، وروي أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) قرأها يوما بفتح الراء، فقرأها له بعض الصحابة بكسر الراء، فقال: أبغوني رجلا
من كنانة، وليكن راعيا، وليكن من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يا فتى، ما الحرجة
عندكم؟ قال الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية، قال عمر: كذلك
قلب المنافق لا يصل إليه شئ من الخير.
وقوله سبحانه: (كأنما يصعد في السماء)، أي: كأن هذا الضيق الصدر متى حاول
515

الإيمان أو فكر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذ بالله، كصعوبة الصعود في السماء، قاله
ابن جريج وغيره، و (في السماء)، يريد: من سفل إلى علو، وتحتمل الآية أن يكون
التشبيه بالصاعد في عقبة كئود، كأنه يصعد بها في الهواء، ويصعد: معناه: يعلو، ويصعد:
معناه: يتكلف من ذلك ما يشق عليه.
وقوله: (كذلك يجعل الله الرجس)، أي: وكما كان الهدى كله من الله، والضلال
بإرادته تعالى ومشيئته، كذلك يجعل الله الرجس، قال أهل اللغة: الرجس يأتي بمعنى
العذاب، ويأتي بمعنى النجس.
وقوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما...) الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرع
الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، و (فصلنا)، معناه: بينا وأوضحنا.
وقوله سبحانه: (لقوم يذكرون)، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: (لهم دار
السلام) عائد عليهم، والسلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء الله عز وجل، ويتجه أن
يكون مصدرا بمعنى السلامة.
وقوله تعالى: (عند ربهم) يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليهم، أي: ولي الإنعام
عليهم، و (بما كانوا يعملون)، أي: بسبب ما كانوا يقدمون من الخير، ويفعلون من
الطاعة والبر.
وقوله سبحانه: (ويوم نحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس)،
والمعنى: واذكر يوم، وفي الكلام حذف، تقديره: نقول: يا معشر الجن، وقوله: (قد
استكثرتم): معناه: أفرطتم، و (من الإنس): يريد: في إضلالهم وإغوائهم، قاله ابن
عباس وغيره، وقال الكفار من الإنس، وهم أولياء الجن الموبخين، على جهة الاعتذار
عن الجن: (ربنا استمتع بعضنا ببعض)، أي: انتفع، وذلك كاستعاذتهم بالجن، إذ كان
العربي إذا نزل واديا، ينادي: يا رب الوادي، إني أستجير بك في هذه الليلة، ثم يرى
سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي، ونحو ذلك، وبلوغ الأجل المؤجل: هو
516

الموت، وقيل: هو الحشر.
وقوله تعالى: (قال النار مثواكم...) الآية: إخبار من الله تعالى / عما يقول لهم
يوم القيامة إثر كلامهم المتقدم، و (مثواكم)، أي: موضع ثوائكم، كمقامكم الذي هو
موضع الإقامة، قاله الزجاج، والاستثناء في قوله: (إلا ما شاء الله) قالت فرقة: " ما "
بمعنى " من "، فالمراد: إلا من شاء الله ممن آمن في الدنيا بعد، إن كان من هؤلاء الكفرة،
وقال الطبري: إن المستثنى هي المدة التي بين حشرهم إلى دخولهم النار، وقال
الطبري، عن ابن عباس: إنه كان يتأول في هذا الاستثناء، أنه مبلغ حال هؤلاء في علم
الله، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه
لا ينزلهم جنة ولا نارا.
قال * ع *: والإجماع على التخليد الأبدي في الكفار، ولا يصح هذا عن ابن
عباس (رضي الله عنه).
قال * ص *: (إلا ما شاء الله): قيل: استثناء منقطع، أي: لكن ما شاء الله من
العذاب الزائد على النار، وقيل: متصل، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء من
الأشخاص، وهم من آمن في الدنيا، ورد بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون
منقطعا لا متصلا، لأن من شرط المتصل اتخاذ زماني المخرج والمخرج منه. انتهى، وقيل
غير هذا.
وقوله سبحانه: (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا)، قال قتادة: معناه: نجعل
بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، وقال أيضا: المعنى نجعل بعضهم يلي بعضا في
دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء
النقمة منهم.
517

قال * ع *: وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين، كقول ابن الزبير: ألا
إن فم الذبان قتل لطيم الشيطان، و (كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا
يكسبون).
(يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذروكم لقاء يومكم
هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131) ولكل درجات مما عملوا وما
ربك بغافل عما يعملون (132))
وقوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم...) الآية: هذا الكلام داخل في
القول يوم الحشر.
قال الفخر: قال أهل اللغة: المعشر: كل جماعة أمرهم واحد، وتحصل بينهم
معاشرة ومخالطة، فالمعشر: المعاشر. انتهى، و (منكم): يعنى: من الإنس، قاله ابن
جريج وغيره، وقال ابن عباس: من الطائفتين، ولكن رسل الجن هم رسل رسل
الإنس، وهم النذر، و (يقصون): من القصص، وقولهم: (شهدنا): إقرار منهم
بالكفر.
وقوله سبحانه: (وغرتهم الحياة الدنيا): التفاتة فصيحة تضمنت أن كفرهم كان بأذم
الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل (غرتهم)، أن يكون بمعنى:
أشبعتهم وأطغتهم بحلوائها، كما يقال: غر الطائر فرخه.
وقوله سبحانه: (وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين): الجمع بين هذه الآية
وبين الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشراك هو إما بأنها طوائف، وإما بأنها طائفة
واحدة في مواطن شتى.
وقوله: (ذلك أن لم يكن)، أي: ذلك الأمر، و (القرى): المدن، والمراد: أهل
518

القرى، و (بظلم): يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لم يكن سبحانه ليهلكهم دون نذارة، فيكون ظلما لهم، والله تعالى
ليس بظلام للعبيد.
والآخر: أن الله عز وجل لم يهلكهم بظلم واقع منهم دون أن ينذرهم، وهذا هو
البين القوي، وذكر الطبري (رحمه الله) التأويلين.
وقوله سبحانه: (ولكل درجات مما عملوا...) الآية: إخبار من الله سبحانه أن
المؤمنين في الآخرة على درجات من التفاضل بحسب أعمالهم، وتفضل المولى سبحانه
عليهم، ولكن كل راض بما أعطي غاية الرضا، / والمشركون أيضا على دركات من
العذاب، قلت: وظاهر الآية أن الجن يثابون وينالون الدرجات والدركات، وقد ترجم
البخاري على ذلك، فقال: ذكر الجن وثوابهم وعقابهم، لقوله تعالى: (يا معشر الجن
والإنس ألم يأتكم رسل منكم...) الآية، إلى قوله: (وما ربك بغافل عما يعلمون)،
قال الداوودي: قال الضحاك: من الجن من يدخل الجنة، ويأكل ويشرب. انتهى.
(وربك الغنى ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما
أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن ما توعدون لأب وما أنتم بمعجزين (134) قل
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح
الظالمون (135))
وقوله سبحانه: (وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما
يشاء) الآية متضمنة وعيدا وتحذيرا من بطش الله عز وجل في التعجيل بذلك، وإما مع
المهلة ومرور الجديدين، فذلك عادته سبحانه في الخلق بإذهاب خلق واستخلاف آخرين.
وقوله سبحانه: (إنما توعدون لآت)، هو من الوعيد، بقرينة: (وما أنتم
بمعجزين)، أي: وما أنتم بناجين هربا فتعجزوا طالبكم، ثم أمر سبحانه نبيه - عليه
السلام - أن يتوعدهم بقوله: (اعملوا)، أي: فسترون عاقبة عملكم الفاسد، وصيغة
" افعل " هنا: هي بمعنى الوعيد والتهديد، و (على مكانتكم): معناه: على حالكم
وطريقتكم، و (عاقبة الدار)، أي: مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا، بالنصر والظهور،
ففي الآية إعلام بغيب.
519

(وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا
لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى
شركائهم ساء ما يحكمون (136) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم
شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون
(137) وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها
وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءا عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138))
وقوله: (وجعلوا لله مما ذرأ)، يعني: مشركي العرب الذين تقدم الرد عليهم من
أول السورة، و (ذرأ): معناه: خلق وأنشأ وبث، وسبب نزول هذه الآية أن العرب كانت
تجعل من غلاتها وزروعها وثمارها وأنعامها جزءا تسمية لله، وجزءا تسمية لأصنامها،
وكانت عادتها التحفي والاهتبال بنصيب الأصنام أكثر منها بنصيب الله، إذ كانوا يعتقدون أن
الأصنام بها فقر، وليس ذلك بالله سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزرع، فهبت الريح، فحملت
من الذي لله إلى الذي لشركائهم، أقروه، وإذا حملت من الذي لشركائهم إلى الذي لله،
ردوه، وإذا لم يصيبوا في نصيب شركائهم شيئا، قالوا: لا بد للآلهة من نفقة، فيجعلون
نصيب الله تعالى في ذلك، قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم، أنهم
كانوا يفعلون هذا ونحوه من الفعل، وكذلك في الأنعام، كانوا إذا أصابتهم السنة، أكلوا
نصيب الله، وتحاموا نصيب شركائهم.
وقوله سبحانه: (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم)، الكثير
هنا يراد به من كان يئد من مشركي العرب، والشركاء: ههنا: الشياطين الآمرون بذلك،
المزينون له، والحاملون عليه أيضا من بني آدم، ومقصد الآية الذم للوأد والإنحاء على
فعلته، و (ليردوهم): معناه: ليهلكوهم من الردى، و (ليلبسوا): معناه: ليخلطوا.
وقوله سبحانه: (ولو شاء الله ما فعلوه) يقتضي أن لا شئ إلا بمشيئة الله
520

عز وجل، وفيها رد على من قال بأن المرء يخلق أفعاله، وقوله: (فذرهم): وعيد
محض.
وقوله سبحانه: (وقالوا هذه أنعام وحرت حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم
وأنعام حرمت ظهورها) الآية تتضمن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذبا
منهم على الله سبحانه، و (حجر): معناه: التحجير، وهو المنع والتحريم، (وأنعام لا
يذكرون اسم الله عليها): قال جماعة من المفسرين: إنهم كانت لهم سنة في أنعام ما، ألا
يحج عليها، فكانت تركب في كل وجه إلا في الحج، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائح،
جعلوا لآلهتهم نصيبا منها لا يذكرون الله على ذبحها.
(وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة
فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (139) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها
بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140))
وقوله سبحانه: (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكرونا ومحرم على
أزواجنا...) الآية: كان / من مذاهبهم الفاسدة في بعض الأنعام أن يحرموا ما ولدت على
نسائهم، ويخصصونه لذكورهم، ف‍ (أزواجنا): يراد به جماعة النساء التي هي معدة أن
تكون أزواجا، قاله مجاهد، وقوله: (وإن يكن ميتة)، يعني: أنه كان من سنتهم أن ما
خرج من الأجنة ميتا من تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلال للرجال والنساء جميعا، وكذلك
ما مات من الأنعام الموقوفة نفسها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من
القربات.
وقوله سبحانه: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم...) الآية: تتضمن
التشنيع بسوء فعلهم، والتعجيب من سوء حالهم فيما ذكر، قال عكرمة: وكان الوأد في
ربيعة وفي مضر.
قال * ع *: وكان جمهور العرب لا يفعله، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله
521

خوف العيلة والافتقار، وكان منهم من يفعله غيره، مخافة السباء، و (قد ضلوا): إخبار
عنهم بالحيرة، (وما كانوا): يريد في هذه الفعلة، ويحتمل أن يريد: وما كانوا قبل
ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين، ولكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا.
(* وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع
مختلفا أكله
والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141) ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم
الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142))
وقوله سبحانه: (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات...) الآية: تنبيه
على مواضع الاعتبار، و (أنشأ): معناه: خلق واخترع، و (معروشات)، قال ابن
عباس: ذلك في ثمر العنب، منها: ما عرش وسمك، ومنها: ما لم يعرش،
و (متشابها): يريد: في المنظر، و (غير متشابه): في الطعم، قاله ابن جريج وغيره،
وقوله: (كلوا من ثمره): نص في الإباحة، وقوله سبحانه: (وآتوا حقه يوم حصاده):
قال ابن عباس وجماعة: هي في الزكاة المفروضة.
قال * ع *: وهذا القول معترض بأن السورة مكية، وبأنه لا زكاة فيما ذكر من
الرمان، وما في معناه، وحكى الزجاج، أن هذه الآية قيل فيها: إنها نزلت بالمدينة، وقال
مجاهد وغيره: بل قوله: (وآتوا حقه يوم حصاده): ندب إلى إعطاء حقوق من المال غير
الزكاة، والسنة أن يعطي الرجل من زرعه عند الحصاد، وعند الذرو، وعند تكديسه في
البيدر، فإذا صفى وكال، أخرج من ذلك الزكاة.
522

وقالت طائفة: هذا حكم صدقات المسلمين، حتى نزلت الزكاة المفروضة،
فنسختها.
قال * ع *: والنسخ غير مترتب في هذه الآية، ولا تعارض بينها وبين آية الزكاة،
بل تنبني هذه على الندب، وتلك على الفرض.
وقوله سبحانه: (ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين) النهي عن الإسراف: إما للناس
عن التمنع عن أدائها، لأن ذلك إسراف من الفعل، وإما للولاة عن التشطط على الناس
والإذاءة لهم، وكل قد قيل به في تأويل الآية.
وقوله سبحانه: (ومن الأنعام حمولة وفرشا) (حمولة): عطف على (جنات
معروشات). التقدير: وأنشأنا من الأنعام حمولة، والحمولة: ما تحمل الأثقال من الإبل
والبقر عند من عادته أن يحمل عليها، والفرش: ما لا يحمل ثقلا، كالغنم وصغار البقر
والإبل، وهذا هو المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وغيرهم، ولا مدخل في
الآية لغير الأنعام، وقوله: (كلوا مما رزقكم الله): نص إباحة، وإزالة ما سنه الكفرة من
البحيرة والسائبة وغير ذلك، ثم تابع النهي عن تلك السنن / الآفكة، بقوله سبحانه: (ولا
تتبعوا خطوات الشيطان)، وهي جمع خطوة، أي: لا تمشوا في طريقه، قلت: ولفظ
البخاري: (خطوات) من الخطو، والمعنى: آثاره. انتهى.
(ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما
اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن
البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء
إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا
523

يهدى القوم الظالمين (144) قل لا أجد في ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون
ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير
باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145))
وقوله سبحانه: (ثمانية أزواج)، واختلف في نصبها فقيل: على البدل من " ما " في
قوله: (كلوا مما رزقكم الله)، وقيل: على الحال، وقيل: على البدل من قوله: (حمولة
وفرشا)، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها على معنى الآية، والزوج: الذكر، والزوج
الأنثى، فكل واحد منهما زوج صاحبه، وهي أربعة أنواع، فتجيء ثمانية أزواج، والضأن:
جمع ضائنة وضائن.
وقوله سبحانه: (قل آلذكرين حرم أم الأنثيين)، هذا تقسيم على الكفار، حتى يتبين
كذبهم على الله، أي: لا بد أن يكون حرم الذكرين، فيلزمكم تحريم جميع الذكور، أو
الأنثيين، فيلزمكم تحريم جميع الإناث، (أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين)، فيلزمكم
تحريم الجميع، وأنتم لم تلتزموا شيئا يوجبه هذا التقسيم، وفي هذه السؤالات تقريع
وتوبيخ، ثم أتبع تقريعهم بقوله: (نبئوني)، أي: أخبروني (بعلم)، أي: من جهة نبوة
أو كتاب من كتب الله (إن كنتم صادقين)، و (إن) شرط، وجوابه في (نبئوني).
وقوله سبحانه: (ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم...) الآية:
القول في هذه الآية في المعنى وترتيب التقسيم، كما تقدم، فكأنه قال: أنتم الذين تدعون
أن الله حرم خصائص من هذه الأنعام لا يخلو تحريمه من أن يكون في الذكرين أو في
الأنثيين، أو فيما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، لكنه لم يحرم لا هذا ولا هذا ولا هذا، فلم
يبق إلا أنه لم يقع تحريم، قال الفخر: والصحيح عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل
الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصل الكلام: أنكم
لا تعترفون بنبوة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة. انتهى.
وقوله سبحانه: (أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا): استفهام، على سبيل
التوبيخ، و (شهداء): جمع شهيد، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون
ميته...) الآية: هذه الآية نزلت بمكة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت شئ محرم
524

غير هذه الأشياء، ثم نزلت، سورة المائدة بالمدينة، وزيد في المحرمات، كالخمر، وكأكل
كل ذي ناب من السباع مما وردت به السنة.
قال * ع *: ولفظة التحريم، إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها صالحة
أن تنتهي بالشيء المذكور غاية المنع والحظر، وصالحة بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في
حيز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين، وأجمع عليه
الكل منهم، ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناس - وجب بالشرع أن يكون
تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم
الخمر، وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الحديث، واختلف الأمة فيه، مع علمهم
بالأحاديث، كقوله - عليه السلام -: " كل ذي ناب من السباع حرام "، وقد روي عنه
525

" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع "، ثم اختلفت الصحابة ومن
بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع
الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به / قرينة التأويل، كتحريمه - عليه السلام -
526

لحوم الحمر الأنسية، فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك، لأنها لم تخمس، وتأول
بعضهم أن ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض، وثبت في الأمة
الاختلاف في لحمها، فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم بحسب اجتهاده
وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بين.
(وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم
شحومها إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا
لصادقون (146) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين
الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن
وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149) قل هلم شهداءكم
الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا
بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)).
وقوله سبحانه: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر...) الآية: هذا خبر من
الله سبحانه يتضمن تكذيب اليهود في قولهم: (إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما حرمنا
على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه "، و (كل ذي ظفر): يراد به الإبل، والنعام،
والإوز ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع، وله ظفر، وأخبرنا سبحانه في
هذه الآية بتحريم الشحوم عليهم، وهي الثروب وشحم الكلى، وما كان شحما خالصا
خارجا عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم،
فعن مالك: كراهية شحومهم من غير تحريم.
وقوله تعالى: (إلا ما حملت ظهورهما)، يريد: لا ما اختلط باللحم في الظهر
والأجناب ونحوه، قال السدي وأبو صالح: الأليات مما حملت ظهورهما، والحوايا: ما
تحوي في البطن، واستدار، وهي المصارين والحشوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره:
هي المباعر، وقوله: (أو ما اختلط بعظم)، يريد: في سائر الشخص.
527

وقوله سبحانه: (ذلك جزيناهم ببغيهم) يقتضي أن هذا التحريم إنما كان عقوبة لهم
على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم.
وقوله سبحانه: (وإنا لصادقون): إخبار يتضمن التعريض بكذبهم في قولهم: ما
حرم الله علينا شيئا.
وقوله سبحانه: (فإن كذبوك): أي: فيما أخبرت به، أن الله حرمه عليهم، (فقل
ربكم ذو رحمة واسعة) أي في إمهاله، إذ لم يعاجلكم بالعقوبة، مع شدة جرمكم، ولكن
لا تغتروا بسعة رحمته، فإن له بأسا لا يرد عن القوم المجرمين، إما في الدنيا وإما في
الآخرة، وهذه الآية وما جانسها من آيات مكة مرتفع حكمها بآية القتال، ثم أخبر سبحانه
نبيه - عليه السلام -، بأن المشركين سيحتجون، لتصويب ما هم عليه من شركهم وتدينهم:
بتحريم تلك الأشياء بإمهال الله تعالى لهم، وتقريره حالهم، وأنه لو شاء غير ذلك، لما
تركهم على تلك الحال، ولا حجة لهم فيما ذكروه، لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم
على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أن تكون كل طريقة وكل نحلة صوابا، إذ كلها لو
شاء الله لم تكن، وفي الكلام حذف يدل عليه تناسق الكلام، كأنه قال: سيقول المشركون
كذا وكذا، وليس في ذلك حجة لهم، ولا شئ يقتضى تكذيبك، ولكن، (كذلك كذب
الذين من قبلهم)، بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله لهم دليل على رضاه بحالهم،
وفي قوله تعالى: (حتى ذاقوا بأسنا): وعيد بين.
وقوله سبحانه: (قل هل عندكم من علم). أي: من قبل الله، (قل فلله الحجة
البالغة)، يريد البالغة غاية المقصد في الأمر الذي يحتج له، ثم أعلم سبحانه أنه لو شاء،
لهدى العالم بأسره، و (هلم): معناها: هات، وهي حينئذ متعدية، وقد تكون بمعنى:
" أقبل "، فلا تتعدى، وبعض العرب يجعلها اسم فعل، ك‍ " رويدك "، وبعضهم يجعلها
فعلا، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم ما زعمتم تحريمه،
(فإن شهدوا)، أي: فإن افترى لهم أحد أو زور شهادة أو خبرا عن نبوة ونحو ذلك،
فجنب أنت ذلك، ولا تشهد معهم، قلت: وهذه الآية / والتي بعدها من نوع ما تقدم من أن
الخطاب له صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره ممن يمكن ذلك منه، (وهم بربهم يعدلون)، أي: يجعلون
له أندادا يسوونهم به، تعالى الله عن قولهم.
528

(* قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما
بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون (151) ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشدة وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف
نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به
لعلكم تذكرون (152) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153))
وقوله سبحانه: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا): هذا أمر
من الله عز وجل لنبيه - عليه السلام - أن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله
بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر، و (ما) نصبت بقوله: (أتل)، وهي
بمعنى " الذي "، و " أن "، في قوله: (ألا تشركوا) في موضع رفع، التقدير: الأمر أن، أو
ذاك أن، وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتح التوراة: " بسم الله الرحمن الرحيم قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم...) إلى آخر الآيات، وقال ابن عباس: هذه الآيات هي
المحكمات المذكورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قط في
ملة، وقد قيل: إنها العشر الكلمات المنزلة على موسى، والإملاق: الفقر وعدم المال،
قاله ابن عباس وغيره، قال القشيري: خوف الفقر قرينة الكفر، وحسن الثقة بالرب سبحانه
نتيجة الإيمان. انتهى من " التحبير ".
وقوله سبحانه: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن)، قال مجاهد: (التي
هي أحسن): التجارة فيه، والأشد هنا: الحزم والنظر في الأمور وحسن التصرف فيها،
وليس هذا بالأشد المقرون بالأربعين، بل هذا يكون مع صغر السن في ناس كثير.
وقوله سبحانه: (وأوفوا الكيل والميزان): أمر بالاعتدال.
وقوله سبحانه: (لا نكلف نفسا إلا وسعها): يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما
يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز.
529

وقوله تعالى: (وإذا قلتم فاعدلوا): يتضمن الشهادات والأحكام والتوسط بين الناس
وغير ذلك، أي: ولو كان ميل الحق على قراباتكم.
وقوله سبحانه: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه): الإشارة ب‍ (هذا) هي إلى
الشرع الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الطبري: الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي
تقدمت من قوله: (قل تعالوا)، وقال ابن مسعود: إن الله سبحانه جعل طريقه صراطا
مستقيما طرفه محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتتشعب منه طرق، فمن سلك الجادة
نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، وقال أيضا: خط لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا، فقال: " هذا سبيل الله " ثم خط عن يمين ذلك وعن شماله خطوطا،
فقال: " هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها "، ثم قرأ هذه الآية.
قال * ع *: وهذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في الفروع وغير ذلك
من أهل التعمق في الجدل والخوض في الكلام، هذه كلها عرضة للزلل، ومظنة لسوء
المعتقد، و (لعلكم) ترج بحسبنا، ومن حيث كانت المحرمات الأول لا يقع فيها عاقل
قد نظر بعقله جاءت العبارة: (لعلكم تعقلون)، والمحرمات الأخر شهوات، وقد يقع
فيها من العقلاء من لم يتذكر، وركوب الجادة الكاملة يتضمن فعل الفضائل، وتلك درجة
التقوى.
(ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم
بلقاء ربهم يؤمنون (154) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155) أن تقولوا إنما
أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا
530

الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب
بآيات الله وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدقون (157))
وقوله سبحانه: (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن)، (ثم)، في هذه
الآية: إنما مهلتها في ترتيب القول الذي أمر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: ثم مما قضيناه
أنا آتينا موسى الكتاب، ويدعو إلى ذلك أن موسى - عليه السلام - / متقدم بالزمان على نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم وتلاوته ما حرم الله، و (الكتاب): التوراة، و (تماما): مصدر، وقوله:
(على الذي أحسن): مختلف في معناه، فقالت فرقة: (الذي) بمعنى الذين
و (أحسن): فعل ماض صلة " الذين "، وكأن الكلام: وآتينا موسى الكتاب تفضلا على
المحسنين من أهل ملته، وإتماما للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد، ويؤيده ما في
مصحف ابن مسعود: " تماما على الذين أحسنوا "، وقالت فرقة: المعنى: تماما على ما
أحسن هو من عبادة ربه، يعني: موسى - عليه السلام - وهذا تأويل الربيع وقتادة، وقالت
فرقة: المعنى: تماما على الذي أحسن الله فيه إلى عباده من النبوات وسائر النعم،
و (بلقاء ربهم)، أي: بالبعث.
وقوله سبحانه: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون)، (هذا)
إشارة إلى القرآن، و (مبارك): وصف بما فيه من التوسعات وأنواع الخيرات، ومعناه:
منمي خيره مكثر، والبركة: الزيادة والنمو، (فاتبعوه): دعاء إلى الدين، (واتقوا): أمر
بالتقوى العامة في جميع الأشياء، بقرينة قوله: (لعلكم ترحمون)، و " أن " في قوله: (أن
تقولوا) في موضع نصب، والعامل فيه: (أنزلناه)، والتقدير: وهذا كتاب أنزلناه، كراهية
أن تقولوا، والطائفتان: اليهود والنصارى بإجماع المتأولين، والدراسة: القراءة والتعلم بها،
ومعنى الآية: إزالة الحجة من أيدي قريش وسائر العرب، ولما تقرر أن البينة قد جاءتهم،
والحجة قد قامت عليهم - حسن بعد ذلك أن يقع التقرير بقوله سبحانه: (فمن أظلم ممن كذب
بآيات الله وصدف عنها)، أي: حاد عنها، وزاغ، وأعرض، و (سنجزي الذي): وعيد.
531

(هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض
آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا
منتظرون (158))
وقوله سبحانه: (هل ينظرون)، أي: ينتظرون، يعني: العرب المتقدم الآن ذكرهم،
و (الملائكة) هنا: هم ملائكة الموت الذين يصحبون عزرائيل المخصوص بقبض
الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابن جريج.
وقوله تعالى: (أو يأتي ربك)، قال الطبري: لموقف الحساب يوم القيامة،
وأسند ذلك إلى قتادة وجماعة من المتأولين، وقال الزجاج: إن المراد: " أو يأتي
عذاب ربك ".
قال * ع *: وعلى كل تأويل فإنما هو بحذف مضاف، تقديره: أمر ربك، أو
بطش ربك، أو حساب ربك، وإلا فالإتيان المفهوم من اللغة مستحيل على الله تعالى، ألا
ترى أن الله عز وجل يقول: (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) [الحشر: 2]، فهذا إتيان
قد وقع، وهو على المجاز، وحذف المضاف.
قال الفخر: والجواب المعتمد عليه هنا أن هذا حكاية مذهب الكفار، واعتقادهم،
فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة. انتهى.
قلت: وما ذكره الفخر من أن هذا حكاية مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليل.
وقوله سبحانه: (أو يأتي بعض آيات ربك)، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوع
532

الشمس من مغربها، بدليل التي بعدها.
قال * ع *: ويصح أن يريد سبحانه بقوله: (أو يأتي بعض آيات ربك) جميع ما
يقطع بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصص سبحانه بعد ذلك بقوله: (يوم يأتي بعض
آيات ربك) الآية التي ترتفع التوبة معها، وقد بينت الأحاديث الصحاح في البخاري
ومسلم، أنها طلوع الشمس من مغربها، ومقصد الآية تهديد الكفار بأحوال لا يخلون منها،
وقوله: (أو كسبت في إيمانها خيرا)، يريد: جميع أعمال البر، وهذا الفصل هو للعصاة
من المؤمنين، كما أن قوله: (لم تكن آمنت من قبل) هو للكافرين، / فالآية المشار إليها
تقطع توبة الصنفين، قال الداوودي: قوله تعالى: (أو كسبت في إيمانها خيرا)، يريد أن
النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تقبل منها التوبة يومئذ، وتكون في مشيئة الله تعالى،
كأن لم تتب، وعن عائشة (رضي الله عنها): إذا خرجت أول الآيات، طرحت الأقلام،
وحبست الحفظة، وشهدت الأجساد على الأعمال. انتهى.
وقوله سبحانه: (قل انتظروا إنا منتظرون): هذه لفظ يتضمن الوعيد.
(إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا
يفعلون (159) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون
(160) قل إنني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161))
وقوله سبحانه: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ)، قال ابن
عباس وغيره: المراد ب‍ " الذين " اليهود والنصارى، أي: فرقوا دين إبراهيم، ووصفهم
ب‍ " الشيع "، إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حض للمؤمنين على
الائتلاف وترك الاختلاف، وقال أبو الأحوص وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: الآية في أهل
البدع والأهواء والفتن، ومن جرى مجراهم من أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أي: فرقوا دين
533

الإسلام، وقرأ حمزة والكسائي: " فارقوا "، ومعناه: تركوا.
وقوله تعالى: (لست منهم في شئ): أي: لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلق،
وهذا على الإطلاق في الكفار، وعلى جهة المبالغة في العصاة.
وقوله سبحانه: (إنما أمرهم إلى الله...) الآية: وعيد محض، وقال السدي: هذه
آية لم يؤمر فيها بقتال، فهي منسوخة بالقتال.
قال * ع *: الآية خبر لا يدخله نسخ، ولكنها تضمنت بالمعنى أمرا بموادعة،
فيشبه أن يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنى الذي قد تقرر نسخه في آيات أخرى.
وقوله سبحانه: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها...) الآية: قال ابن مسعود
وغيره: (الحسنة) هنا: " لا إله إلا الله "، و (السيئة): الكفر.
قال * ع *: وهذه هي الغاية من الطرفين، وقالت فرقة: ذلك لفظ عام في جميع
الحسنات والسيئات، وهذا هو الظاهر، وتقدير الآية: من جاء بالحسنة، فله ثواب عشر
أمثالها، وقرأ يعقوب وغيره: " فله عشر " - بالتنوين - " أمثالها " - بالرفع -.
وقوله تعالى: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم...)
الآية: في غاية الوضوح والبيان، و (قيما): نعت للدين، ومعناه: مستقيما، و (ملة):
بدل من الدين.
534

(قل إن صلاتي ونسكي محياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا
أول المسلمين (163) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر
وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164) وهو الذي جعلكم
خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه
لغفور رحيم (165))
وقوله سبحانه: (قل إن صلاتي ونسكي...) الآية: أمر من الله عز وجل لنبيه
- عليه السلام - أن يعلن بأن مقصده في صلاته، وطاعته من ذبيحة وغيرها، وتصرفه مدة
حياته، وحاله من إخلاص وإيمان عند مماته - إنما هو لله عز وجل، وإرادة وجهه، وطلب
رضاه، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به، حتى يلتزموا في
جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة، أن صلاته ونسكه
وحياته ومماته بيد الله عز وجل، والله يصرفه في جميع ذلك كيف شاء سبحانه، ويكون
قوله: (وبذلك أمرت)، على هذا التأويل - راجعا إلى قوله: (لا شريك له) فقط، أو
راجعا إلى القول، وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذكر من صلاة وغيرها، وقالت
فرقة: النسك، في هذه الآية: الذبائح.
قال * ع *: ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية، أنها نازلة قد تقدم
ذكرها، والجدل فيها في السورة، وقالت فرقة: النسك، في هذه الآية: جميع أعمال
الطاعات، من قولك: نسك فلان، فهو ناسك، إذا تعبد، وقرأ السبعة سوى نافع:
" ومحياي " - بفتح الياء -، وقرأ نافع وحده: " ومحياي " - بسكون / الياء -، قال أبو
حيان: وفيه جمع بين ساكنين، وسوغ ذلك ما في الألف من المد القائم مقام الحركة.
انتهى، وقوله: (وأنا أول المسلمين)، أي: من هذه الأمة.
وقوله سبحانه: (قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ...) الآية: حكى
535

النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك
ما أنت عليه، ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وآخرتك، فنزلت هذه الآية،
وهي استفهام يقتضي التوبيخ لهم، و (أبغي): معناه أطلب، فكأنه قال: أفيحسن عندكم
أن أطلب إلها غير الله الذي هو رب كل شئ، وما ذكرتم من كفالتكم باطل ليس الأمر كما
تظنون، فلا تكسب كل نفس من الشر والإثم إلا عليها وحدها، (ولا تزر)، أي: تحمل
(وازرة)، أي: حاملة حمل أخرى وثقلها، و " الوزر ": أصله الثقل، ثم استعمل في
الإثم، تجوزا واستعارة، (ثم إلى ربكم مرجعكم): تهديد ووعيد، وقوله: (فينبئكم بما
كنتم فيه تختلفون)، أي: في أمري في قول بعضكم: هو ساحر، وبعضكم: هو شاعر،
إلى غير ذلك، قاله بعض المتأولين، وهذا التأويل يحسن في هذا الموضع، وإن كان اللفظ
يعم جميع أنواع الاختلافات بين الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك، و (خلائف):
جمع خليفة، أي: يخلف بعضكم بعضا، لأن من أتى خليفة لمن مضى، وهذا يتصور في
جميع الأمم وسائر أصناف الناس، ولكنه يحسن في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يسمى أهلها
بجملتهم خلائف للأمم، وليس لهم من يخلفهم، إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقوم الساعة،
وروي الحسن بن أبي الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها
على الله عز وجل "، ويروى: " أنتم آخرها وأكرمها على الله ".
وقوله: (ورفع بعضكم فوق بعض درجات): لفظ عام في المال، والقوة، والجاه،
وجودة النفوس والأذهان، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر الله سبحانه الخلق، فيرى
المحسن من المسئ، ولما أخبر الله عز وجل بهذا، ففسح للناس ميدان العمل، وحضهم
سبحانه على الاستباق إلى الخيرات، توعد ووعد، تخويفا منه وترجية، فقال: (إن ربك
سريع العقاب) إما بأخذاته يحيى في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحسن أن يوصف عقاب
الآخرة ب‍ " سريع "، لما كان متحققا مضمون الإتيان والوقوع، وكل آت قريب، (وإنه لغفور
رحيم): ترجية لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب الله كثير، وهو اقتران الوعيد
بالوعد، لطفا من الله سبحانه بعباده، اللهم اجعلنا ممن شملته رحمتك وغفرانك، بجودك
وإحسانك، ومن كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي (رحمه الله) قال: من أراد
ألا يضره ذنب، فليقل: رب أعوذ بك من عذابك يوم تبعث عبادك، وأعوذ بك من عاجل
العذاب، ومن سوء الحساب، فإنك لسريع الحساب، وإنك لغفور رحيم، رب إني ظلمت
536

نفسي ظلما كثيرا، فاغفر لي وتب علي لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين.
انتهى، نسأل الله أن ينفع به ناظره وأن يجعله لنا ذخرا ونورا يسعى بين أيدينا يوم لقائه،
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
تسلما /.
انتهى هذا الجزء مصححا بالمقابلة على خط مؤلفه
شكر الله سعيه، وقدس سره
ويليه الجزء الثالث وأوله
سورة الأعراف
ولله الحمد والمنة
537