الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٣٠
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة الجمعة
وهي إحدى عشرة آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الارض الملك القدوس العزيز الحكيم) *.
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة: * (سبح لله) * (الصف: 1) بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل، فقال في أول هذه السورة بلفظ المستقبل ليدل على التسبيح في زماني الحاضر والمستقبل، وأما تعلق الأول بالآخر، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا عالين على الكفار، وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق، ومنزه عما يخطر ببال الجهلة في الآفاق، وفي أول هذه السورة ما يدل على كونه مقدسا ومنزها عما لا يليق بحضرته العالية بالاتفاق، ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعال فله الملك، كما قال تعالى: * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك) * (التغابن: 1) ولا ملك أعظم من هذا، وهو أنه خالقهم ومالكهم وكلهم في قبضة قدرته وتحت تصرفه، يسبحون له آناء الليل وأطراف النهار بل في سائر الأزمان، كما مر في أول تلك السورة، ولما كان الملك كله له فهو الملك على الإطلاق، ولما كان الكل بخلقه فهو المالك، والمالك والملك أشرف من المملوك، فيكون متصفا بصفات يحصل منها الشرف، فلا مجال لما ينافيه من الصفات فيكون قدوسا، فلفظ * (الملك) * إشارة إلى إثبات ما يكون من الصفات العالية، ولفظ * (القدوس) * هو إشارة إلى نفي مالا يكون منها، وعن الغزالي * (القدوس) * المنزه عما يخطر ببال أوليائه، وقد مر تفسيره وكذلك * (العزيز الحكيم) * ثم الصفات المذكورة قرئت بالرفع على المدح، أي هو الملك القدوس، ولو قرئت بالنصب لكان وجها، كقول العرب: الحمد لله أهل الحمد، كذا ذكره في " الكشاف "، ثم في الآية مباحث: الأول: قال تعالى: * (يسبح لله) * ولم يقل: يسبح الله، فما الفائدة؟ نقول: هذا من جملة ما يجري فيه اللفظان: كشكره وشكر له، ونصحه ونصح له. الثاني: * (القدوس) * من الصفات السلبية، وقيل: معناه المبارك.
2

الثالث: لفظ * (الحكيم) * يطلق على الغير أيضا، كما قيل في لقمان: إنه حكيم، نقول: الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء (في) مواضعها، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.
ثم إنه تعالى بعدما فرغ من التوحيد والتنزيه شرع في النبوة فقال:
* (هو الذى بعث فى الأميين رسولا منهم يتلو عليهم ءاياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين) *.
الأمي منسوب إلى أمة العرب، لما أنهم أمة أميون لا كتاب لهم، ولا يقرأون كتابا ولا يكتبون. وقال ابن عباس: يريد الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل: الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه وقد مر بيانه، وقرئ الأمين بحذف ياء النسب، كما قال تعالى: * (رسولا منهم) * (المؤمنون: 32) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم نسبه من نسبهم، وهو من جنسهم، كما قال تعالى: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * (التوبة: 128) قال أهل المعاني: وكان هو صلى الله عليه وسلم أيضا أميا مثل الأمة التي بعث فيهم، وكانت البشارة به في الكتب قد تقدمت بأنه النبي الأمي، وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة، فكانت حاله مشاكلة لحال الأمة الذين بعث فيهم، وذلك أقرب إلى صدقة.
وقوله تعالى: * (يتلوا عليهم آياته) * أي بيناته التي تبين رسالته وتظهر نبوته، ولا يبعد أن تكون الآيات هي الآيات التي تظهر منها الأحكام الشرعية، والتي يتميز بها الحق من الباطل * (ويزكيهم) * أي يطهرهم من خبث الشرك، وخبث ما عداه من الأقوال والأفعال، وعند البعض * (يزكيهم) * أي يصلحهم، يعني يدعوهم إلى اتباع ما يصيرون به أزكياء أتقياء * (ويعلمهم الكتاب والحكمة) * والكتاب: ما يتلى من الآيات، والحكمة: هي الفرائض، وقيل: * (الحكمة) * السنة، لأنه كان يتلو عليهم آياته ويعلمهم سننه، وقيل: * (الكتاب) * الآيات نصا، والحكمة ما أودع فيها من المعاني، ولا يبعد أن يقال: الكتاب آيات القرآن والحكمة وجه التمسك بها، وقوله تعالى: * (وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) * ظاهر لأنهم كانوا عبدة الأصنام وكانوا في ضلال مبين وهو الشرك، فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد والإعراض عما كانوا فيه، وفي هذه الآية مباحث: أحدها: احتجاج أهل الكتاب بها قالوا قوله: * (بعث في الأميين رسولا منهم) * يدل على أنه عليه السلام كان رسولا إلى الأميين وهم العرب خاصة، غير أنه ضعيف فإنه لا يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (ولا تخطه بيمينك) * (العنكبوت: 48) أنه لا يفهم منه أنه
3

يخطه بشماله، ولأنه لو كان رسولا إلى العرب خاصة كان قوله تعالى: * (كافة للناس بشيرا ونذيرا) * (سبأ: 28) لا يناسب ذلك، ولا مجال لهذا لما اتفقوا على ذلك، وهو صدق الرسالة المخصوصة، فيكون قوله تعالى: * (كافة الناس) * دليلا على أنه عليه الصلاة والسلام كان رسولا إلى الكل.
ثم قال تعالى:
* (وءاخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *.
* (وآخرين) * عطف على الأميين. يعني بعث في آخرين منهم، قال المفسرون: هم الأعاجم يعنون بهم غير العرب أي طائفة كانت قاله ابن عباس وجماعة، وقال مقاتل: يعني التابعين من هذه الأمة الذين لم يلحقوا بأوائلهم، وفي الجملة معنى جميع الأقوال فيه كل من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فالمراد بالأميين العرب. وبالآخرين سواهم من الأمم، وقوله: * (وآخرين) * مجرور لأنه عطف على المجرور يعني الأميين، ويجوز أن ينتصب عطفا على
المنصوب في * (ويعلمهم) * (الجمعة: 2) أي ويعلمهم ويعلم آخرين منهم، أي من الأميين وجعلهم منهم، لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم، فالمسلمون كلهم أمة واحدة وإن اختلف أجناسهم، قال تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وأما من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يدخل في دينه فإنهم كانوا بمعزل عن المراد بقوله: * (وآخرين منهم) * وإن كان النبي مبعوثا إليهم بالدعوة فإنه تعالى قال في الآية الأولى: * (ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) * (الجمعة: 2) وغير المؤمنين ليس من جملة من يعلمه الكتاب والحكمة * (وهو العزيز) * من حيث جعل في كل واحد من البشر أثر الذل له والفقر إليه، والحكيم حيث جعل في كل مخلوق ما يشهد بوحدانيته، قوله تعالى: * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) * قال ابن عباس: يريد حيث ألحق العجم وأبناءهم بقريش، يعني إذا آمنوا ألحقوا في درجة الفضل بمن شاهد الرسول عليه السلام، وشاركوهم في ذلك، وقال مقاتل: * (ذلك فضل الله) * يعني الإسلام * (يؤتيه من يشاء) * وقال مقاتل بن حيان: يعني النبوة فضل الله يؤتيه من يشاء، فاختص بها محمدا صلى الله عليه وسلم. والله ذو المن العظيم على جميع خلقه في الدنيا بتعليم الكتاب والحكمة كما مر، وفي الآخرة بتفخيم الجزاء على الأعمال.
ثم إنه تعالى ضرب لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة، والإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلا فقال:
* (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين
4

كذبوا بايات الله والله لا يهدى القوم الظالمين) *.
اعلم أنه تعالى لما أثبت التوحيد والنبوة، وبين في النبوة أنه عليه السلام بعث إلى الأميين واليهود لما أوردوا تلك الشبهة، وهي أنه عليه السلام بعث إلى العرب خاصة، ولم يبعث إليهم بمفهوم الآية أتبعه الله تعالى بضرب المثل للذين أعرضوا عن العمل بالتوراة، والإيمان بالنبي عليه السلام، والمقصود منه أنهم لما لم يعملوا بما في التوراة شبهوا بالحمار، لأنهم لو عملوا بمقتضاها لانتفعوا بها، ولم يوردوا تلك الشبهة، وذلك لأن فيها نعت الرسول عليه السلام، والبشارة بمقدمه، والدخول في دينه، وقوله: * (حملوا التوراة) * أي حملوا العمل بما فيها، وكلفوا القيام بها، وحملوا وقرئ: بالتخفيف والتثقيل، وقال صاحب " النظم ": ليس هو من الحمل على الظهر، وإنما هو من الحمالة بمعنى الكفالة والضمان، ومنه قيل للكفيل: الحميل، والمعنى: ضمنوا أحكام التوراة ثم لم يضمنوها ولم يعملوا بما فيها. قال الأصمعي: الحميل، الكفيل، وقال الكسائي: حملت له حمالة. أي كفلت به، والأسفار جمع سفر وهو الكتاب الكبير، لأنه يسفر عن المعنى إذا قرىء، ونظيره شبر وأشبار، شبه اليهود إذ لم ينتفعوا بما في التوراة، وهي دالة على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب العلمية ولا يدري ما فيها.
وقال أهل المعاني: هذا المثل مثل من يفهم معاني القرآن ولم يعمل به، وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه، ولهذا قال ميمون بن مهران: يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية، وقوله تعالى: * (لم يحملوها) * أي لم يؤدوا حقها ولم يحملوها حق حملها على ما بيناه، فشبههم والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها بحمار يحمل كتبا، وليس له من ذلك إلا ثقل الحمل من غير انتفاع مما يحمله، كذلك اليهود ليس لهم من كتابهم إلا وبال الحجة عليهم، ثم ذم المثل، والمراد منه ذمهم فقال: * (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) * أي بئس القوم مثلا الذين كذبوا، كما قال: * (ساء مثلا القوم) * (الأعراف: 177) وموضع الذين رفع، ويجوز أن يكون جرا، وبالجملة لما بلغ كذبهم مبلغا وهو أنهم كذبوا على الله تعالى كان في غاية الشر والفساد، فلهذا قال: * (بئس مثل القوم) * والمراد بالآيات ههنا الآيات الدالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول ابن عباس ومقاتل، وقيل: الآيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أشبه هنا * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * قال عطاء: يريد الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء وههنا مباحث: البحث الأول: ما الحكمة في تعيين الحمار من بين سائر الحيوانات؟ نقول: لوجوه منها: أنه تعالى خلق * (الخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * والزينة في الخيل أكثر وأظهر؛ بالنسبة
5

إلى الركوب، وحمل الشيء عليه، وفي البغال دون، وفي الحمار دون البغال، فالبغال كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يلزم أن يكون الحمار في معنى الحمل أظهر وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال، وغيرهما من الحيوانات، ومنها: أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة، وذلك في الحمار إظهر، ومنها: أن في الحمار من الذل والحقارة مالا يكون في الغير، والغرض من الكلام في هذا المقام تعيير القوم بذلك وتحقيرهم، فيكون تعيين الحمار أليق وأولى، ومنها أن حمل الأسفار على الحمار أتم وأعم وأسهل وأسلم، لكونه ذلولا، سلس القياد، لين الانقياد، يتصرف فيه الصبي الغبي من غير كلفة ومشقة. وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره ومنها: أن رعاية الألفاظ والمناسبة بينها من اللوازم في الكلام، وبين لفظي الأسفار والحمار مناسبة لفظية لا توجد في الغير من الحيوانات فيكون ذكره أولى. الثاني: * (يحمل) * ما محله؟ نقول: النصب على الحال، أو الجر على الوصف كما قال في " الكشاف " إذا الحمار كاللئيم في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني * (فمررت ثمة قلت لا يعنيني)
الثالث: قال تعالى: * (بئس مثل القوم) * كيف وصف المثل بهذا الوصف؟ نقول: الوصف وإن كان في الظاهر للمثل فهو راجع إلى القوم، فكأنه قال: بئس القوم قوما مثلهم هكذا.
ثم إنه تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب لهم وهو قوله تعالى:
* (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أوليآء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) *.
هذه الآية من جملة ما مر بيانه، وقرئ: * (فتمنوا الموت) * بكسر الواو، و * (هادوا) * أي تهودوا، وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه، فلو كان قولكم حقا وأنتم على ثقة فتمنوا على الله أن يميتكم وينقلكم سريعا إلى دار كرامته التي أعدها لأوليائه، قال الشاعر: ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء
فهم يطلبون الموت لا محالة إذا كانت الحالة هذه، وقوله تعالى: * (ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم) * أي بسبب ما قدموا من الكفر وتحريف الآيات، وذكر مرة بلفظ التأكيد * (ولن
6

يتمنوه أبدا) * ومرة بدون لفظ التأكيد * (ولا يتمنونه) * وقوله: * (أبدا... والله عليم بالظالمين) * أي بظلمهم من تحريف الآيات وعنادهم لها، ومكابرتهم إياها.
ثم قال تعالى:
* (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون) *.
يعني أن الموت الذي تفرون منه بما قدمت أيديكم من تحريف الآيات وغيره ملاقيكم لا محالة، ولا ينفعكم الفرار ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة يعني ما أشهدتم الخلق من التوراة والإنجيل وعالم بما غيبتم عن الخلق من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما أسررتم في أنفسكم من تكذيبكم رسالته، وقوله تعالى: * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * إما عيانا مقرونا بلقائكم يوم القيامة، أو بالجزاء إن كان خيرا فخير. وإن كان شرا فشر، فقوله: * (إن الموت الذي تفرون منه) * هو التنبيه على السعي فيما ينفعهم في الآخرة وقوله: * (فينبئكم بما كنتم تعملون) * هو الوعيد البليغ والتهديد الشديد.
ثم في الآية مباحث:
البحث الأول: أدخل الفاء لما أنه في معنى الشرط والجزاء، وفي قراءة ابن مسعود * (ملاقيكم) * من غير * (فإنه) *.
الثاني: أن يقال: الموت ملاقيهم على كل حال، فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟ قيل: إن هذا على جهة الرد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، وقد صرح بهذا المعنى، وأفصح عنه بالشرط الحقيقي في قوله: ومن هاب أسباب المنايا تناله * ولو نال أسباب السماء بسلم
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا إذا نودى للصلوة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * فإذا قضيت الصلوة فانتشروا فى الارض وابتغوا من
7

فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) *.
وجه التعلق بما قبلها هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها والذين آمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك، فنبههم الله تعالى بقوله: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * أي إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية والآخرة وما فيها باقية، قال تعالى: * (والآخرة خير وأبقى) * (الأعلى: 17) ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث، افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه، فكذبهم بقوله: * (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) * (الجمعة: 6) وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وبالسبت وليس للمسلمين مثله فشرع الله تعالى لهم الجمعة، وقوله تعالى: * (إذا نودي) * يعني النداء إذا جلس الإمام على المنبر يوم الجمعة وهو قول مقاتل، وأنه كما قال لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواء كان إذا جلس عليه الصلاة والسلام على المنبر أذن بلال على باب المسجد، وكذا على عهد أبي بكر وعمر، وقوله تعالى: * (للصلاة) * أي لوقت الصلاة يدل عليه قوله: * (من يوم الجمعة) * ولا تكون الصلاة من اليوم، وإنما يكون وقتها من اليوم، قال الليث: الجمعة يوم خص به لاجتماع الناس في ذلك اليوم، ويجمع على الجمعات والجمع، وعن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سميت الجمعة جمعة لأن آدم جمع فيه خلقه " وقيل: لما أنه تعالى فرغ فيها من خلق الأشياء، فاجتمعت فيها المخلوقات.
قال الفراء: وفيها ثلاث لغات التخفيف، وهي قراءة الأعمش والتثقيل، وهي قراءة العامة، ولغة لبني عقيل، وقوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * أي فامضوا، وقيل: فامشوا وعلى هذا معنى، السعي: المشي لا العدو، وقال الفراء: المضي والسعي والذهاب في معنى واحد، وعن عمر أنه سمع رجلا يقرأ: * (فاسعوا) * قال من أقرأك هذا، قال: أبي، قال: لا يزال يقرأ بالمنسوخ، لو كانت فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وقيل: المراد بالسعي القصد دون العدو، والسعي التصرف في كل عمل، ومنه قوله تعالى: * (فلما بلغ معه السعي) * قال الحسن: والله ما هو سعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب، وسعي بالنية، وسعي بالرغبة، ونحو هذا، والسعي ههنا هو العمل عند قوم، وهو مذهب مالك والشافعي، إذ السعي في كتاب الله العمل، قال تعالى: * (وإذا تولى سعى في الأرض) * (البقرة: 205) * (وإن سعيكم لشتى) * (الليل: 4) أي العمل، وروي عنه صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وعليكم السكينة " واتفق الفقهاء على: " أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان) متى أتى الجمعة أتى على هينة " وقوله: * (إلى ذكر الله) * الذكر هو الخطبة عند الأكثر من أهل التفسير، وقيل: هو الصلاة، وأما الأحكام المتعلقة بهذه الآية فإنها تعرف من الكتب الفقهية، وقوله تعالى: * (وذروا البيع) * قال الحسن: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة لم يحل الشراء والبيع، وقال عطاء: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء،
8

وقال الفراء إنما حرم البيع والشراء إذا نودي للصلاة لمكان الاجتماع ولندرك له كافة الحسنات، وقوله تعالى: * (ذلكم خير لكم) * أي في الآخرة * (إن كنتم تعلمون) * ما هو خير لكم وأصلح، وقوله تعالى: * (فإذا قضيت الصلاة) * أي إذا صليتم الفريضة يوم الجمعة * (فانتشروا في الأرض) * هذا صيغة الأمر بمعنى الإباحة لما أن إباحة الانتشار زائلة بفرضية أداء الصلاة، فإذا زال ذلك عادت الإباحة فيباح لهم أن يتفرقوا في الأرض ويبتغوا من فضل الله، وهو الرزق، ونظيره: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * (البقرة: 198)، وقال ابن عباس: إذا فرغت من الصلاة فإن شئت فاخرج، وإن شئت فصل إلى العصر، وإن
شئت فاقعد، كذلك قوله: * (وابتغوا من فضل الله) * فإنه صيغة أمر بمعنى الإباحة أيضا لجلب الرزق بالتجارة بعد المنع، بقوله تعالى: * (وذروا البيع) * وعن مقاتل: أحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة، فمن شاء خرج. ومن شاء لم يخرج، وقال مجاهد: إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وقال الضحاك، هو إذن من الله تعالى إذا فرغ، فإن شاء خرج، وإن شاء قعد، والأفضل في الابتغاء من فضل الله أن يطلب الرزق، أو الولد الصالح أو العلم النافع وغير ذلك من الأمور الحسنة، والظاهر هو الأول، وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد (و) قال: اللهم أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين، وقوله تعالى: * (واذكروا الله كثيرا) * قال مقاتل: باللسان، وقال سعيد بن جبير: بالطاعة، وقال مجاهد: لا يكون من الذاكرين كثيرا حتى يذكره قائما وقاعدا ومضطجعا، والمعنى إذا رجعتم إلى التجارة وانصرفتم إلى البيع والشراء مرة أخرى فاذكروا الله كثيرا، قال تعالى: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) *.
وعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أتيتم السوق فقولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، فإن من قالها كتب الله له ألف ألف حسنة وحط عنه ألف ألف خطيئة ورفع له ألف ألف درجة " وقوله تعالى: * (لعلكم تفلحون) * من جملة ما قد مر مرارا، وفي الآية مباحث: البحث الأول: ما الحكمة في أن شرع الله تعالى في يوم الجمعة هذا التكليف؟ فنقول: قال القفال: هي أن الله عز وجل خلق الخلق فأخرجهم من العدم إلى الوجود وجعل منهم جمادا وناميا وحيوانا، فكان ما سوى الجماد أصنافا، منها بهائم وملائكة وجن وإنس، ثم هي مختلفة المساكن من العلو والسفل فكان أشرف العالم السفلي هم الناس لعجيب تركيبهم، ولما كرمهم الله تعالى به من النطق، وركب فيهم من العقول والطباع التي بها غاية التعبد بالشرائع، ولم يخف موضع عظم المنة وجلالة قدر الموهبة لهم فأمروا بالشكر على هذه الكرامة في يوم من الأيام السبعة التي فيها أنشئت الخلائق وتم وجودها، ليكون في اجتماعهم في ذلك اليوم تنبيه على عظم ما أنعم الله تعالى به عليهم، وإذا كان شأنهم لم يخل من حين ابتدئوا من نعمة تتخللهم، وإن منة الله مثبتة عليهم
9

قبل استحقاقهم لها، ولكل أهل ملة من الملل المعروفة يوم منها معظم، فلليهود يوم السبت وللنصارى يوم الأحد، وللمسلمين يوم الجمعة، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يوم الجمعة هذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له فلليهود غدا وللنصارى بعد غد " ولما جعل يوم الجمعة يوم شكر وإظهار سرور وتعظيم نعمة احتيج فيه إلى الاجتماع الذي به تقع شهرته فجمعت الجماعات له كالسنة في الأعياد، واحتيج فيه إلى الخطبة تذكيرا بالنعمة وحثا على استدامتها بإقامة ما يعود بآلاء الشكر، ولما كان مدار التعظيم، إنما هو على الصلاة جعلت الصلاة لهذا اليوم وسط النهار ليتم الاجتماع ولم تجز هذه الصلاة إلا في مسجد واحد ليكون أدعى إلى الاجتماع والله أعلم.
الثاني: كيف خص ذكر الله بالخطبة، وفيها ذكر الله وغير الله؟ نقول: المراد من ذكر الله الخطبة والصلاة لأن كل واحدة منهما مشتملة على ذكر الله، وأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة والثناء عليهم والدعاء لهم فذلك ذكر الشيطان.
الثالث: قوله: * (وذروا البيع) * لم خص البيع من جميع الأفعال؟ نقول: لأنه من أهم ما يشتغل به المرء في النهار من أسباب المعاش، وفيه إشارة إلى ترك التجارة، ولأن البيع والشراء في الأسواق غالبا، والغفلة على أهل السوق أغلب، فقوله: * (وذروا البيع) * تنبيه للغافلين، فالبيع أولى بالذكر ولم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة.
الرابع: ما الفرق بين ذكر الله أولا وذكر الله ثانيا؟ فنقول:
الأول من جملة مالا يجتمع مع التجارة أصلا إذ المراد منه الخطبة والصلاة كما مر، والثاني من جملة ما يجتمع كما في قوله تعالى: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (النور: 37).
ثم قال تعالى:
* (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قآئما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين) *.
قال مقاتل: إن دحية بن خليفة الكلبي أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والصفق: وكان ذلك في يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يبق إلا إثنا عشر رجلا أو أقل كثمانية أو أكثر كأربعين، فقال عليه السلام: لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة، ونزلت الآية: وكان من الذين معه أبو بكر وعمر. وقال الحسن: أصاب أهل المدينة جوع وغلاء
10

سعر فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فسمعوا بها وخرجوا إليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا " قال قتادة: فعلوا ذلك ثلاث مرات، وقوله تعالى: * (أو لهوا) * وهو الطبل، وكانوا إذا أنكحوا الجواري يضربون المزامير، فمروا يضربون، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: * (انفضوا إليها) * أي تفرقوا وقال المبرد: مالوا إليها وعدلوا نحوها، والضمير في (إليها) للتجارة، وقال الزجاج: انفضوا إليه وإليها، ومعناهما واحد كقوله تعالى: * (واستعينوا بالصبر والصلاة) * (البقرة: 45) واعتبر هنا الرجوع إلى التجارة لما أنها أهم إليهم، وقوله تعالى: * (وتركوك قائما) * اتفقوا على أن هذا القيام كان في الخطبة للجمعة قال جابر: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخطبة إلا وهو قائم، وسئل عبد الله أكان النبي يخطب قائما أو قاعدا فقرأ: * (وتركوك قائما) * وقوله تعالى: * (قل ما عند الله خير) * أي ثواب الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم * (خير من اللهو ومن التجارة) * من اللهو الذي مر ذكره، والتجارة التي جاء بها دحية، وقوله تعالى: * (والله خير الرازقين) * هو من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين
، والمعنى إن أمكن وجود الرازقين فهو خير الرازقين، وقيل: لفظ الرازق لا يطلق على غيره إلا بطريق المجاز، ولا يرتاب في أن الرازق بطريق الحقيقة خير من الرازق بطريق المجاز، وفي الآية مباحث: البحث الأول: أن التجارة واللهو من قبيل ما لا يرى أصلا، ولو كان كذلك كيف يصح * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) * نقول: ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة، ومثله حتى يسمع كلام الله، إذ الكلام غير مسموع، بل المسموع صوت يدل عليه. الثاني: كيف قال: * (انفضوا إليها) * وقد ذكر شيئين وقد مر الكلام فيه، وقال صاحب " الكشاف ": تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. الثالث: أن قوله تعالى: * (والله خير الرازقين) * مناسب للتجارة التي مر ذكرها لا للهو، نقول: بل هو مناسب للمجموع لما أن اللهو الذي مر ذكره كالتبع للتجارة، لما أنهم أظهروا ذلك فرحا بوجود التجارة كما مر، والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
11

سورة المنافقون
إحدى عشرة آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إذا جآءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) *.
وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذكر من كان يكذبه قلبا ولسانا بضرب المثل كما قال: * (مثل الذين حملوا التوراة) * (الجمعة: 5) وهذه السورة على ذكر من كان يكذبه قلبا دون اللسان ويصدقه لسانا دون القلب، وأما الأول بالآخر، فذلك أن في آخر تلك السورة تنبيها لأهل الإيمان على تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ورعاية حقه بعد النداء لصلاة الجمعة وتقديم متابعته في الأداء على غيره وأن ترك التعظيم والمتابعة من شيم المنافقين، والمنافقون هم الكاذبون، كما قال في أول هذه السورة: * (إذا جاءك المنافقون) * يعني عبد الله بن أبي وأصحابه * (قالوا نشهد إنك لرسول الله) * وتم الخبر عنهم ثم ابتدأ فقال: * (والله يعلم إنك لرسوله) * أي أنه أرسلك فهو يعلم أنك لرسوله * (والله يشهد أنهم) * أضمروا غير ما أظهروا، وإنه يدل على أن حقيقة الإيمان بالقلب، وحقيقة كل كلام كذلك، فإن من أخبر عن شيء واعتقد بخلافه فهو كاذب، لما أن الكذب باعتبار المخالفة بين الوجود اللفظي والوجود الذهني، كما أن الجهل باعتبار المخالفة بين الوجود الذهني، والوجود الخارجي، ألا ترى أنهم كانوا يقولون بألسنتهم: نشهد إنك لرسول الله، وسماهم الله كاذبين لما أن قولهم: يخالف اعتقادهم، وقال: قوم لم يكذبهم الله تعالى في قولهم: * (نشهد إنك لرسول الله) * إنما كذبهم بغير هذا من الأكاذيب الصادرة عنهم في قوله تعالى: * (يحلفون بالله ما قالوا) * (التوبة: 74) الآية. و * (يحلفون بالله إنهم لمنكم) * (التوبة: 56) وجواب إذا * (قالوا نشهد) * أي أنهم إذا أتوك شهدوا لك بالرسالة، فهم كاذبون في تلك الشهادة، لما مر أن قولهم يخالف اعتقادهم، وفي الآية مباحث:
12

البحث الأول: أنهم قالوا: نشهد إنك لرسول الله، فلو قالوا: نعلم إنك لرسول الله، أفاد مثل ما أفاد هذا، أم لا؟ نقول: ما أفاد، لأن قولهم: نشهد إنك لرسول الله، صريح في الشهادة على إثبات الرسالة، وقولهم: نعلم ليس بصريح في إثبات العلم، لما أن علمهم في الغيب عند غيرهم.
ثم قال تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم سآء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) *.
قوله: * (اتخذوا أيمانهم جنة) * أي سترا ليستتروا به عما خافوا على أنفسهم من القتل.
قال في " الكشاف ": * (اتخذوا أيمانهم جنة) * يجوز أن يراد أن قولهم: * (نشهد أنك لرسول الله) * يمين من أيمانهم الكاذبة، لأن الشهادة تجري مجرى الحلف في التأكيد، يقول الرجل: أشهد وأشهد بالله، وأعزم وأعزم بالله في موضع أقسم وأولى: وبه استشهد أبو حنيفة على أن أشهد يمين، ويجوز أن يكون وصفا للمنافقين في استخفافهم بالإيمان، فإن قيل: لم قالوا نشهد، ولم يقولوا: نشهد بالله كما قلتم؟ أجاب بعضهم عن هذا بأنه في معنى الحلف من المؤمن وهو في المتعارف إنما يكون بالله، فلذلك أخبر بقوله: نشهد عن قوله بالله. وقوله تعالى: * (فصدوا عن سبيل الله) * أي أعرضوا بأنفسهم عن طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله، وقيل: صدوا، أي صرفوا ومنعوا الضعفة عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ساء) * أي بئس * (ما كانوا يعملون) * حيث آثروا الكفر على الإيمان وأظهروا خلاف ما أضمروا مشاكلة للمسلمين.
وقوله تعالى: * (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا) * ذلك إشارة إلى قوله: * (ساء ما كانوا يعملون) * قال مقاتل: ذلك الكذب بأنهم آمنوا في الظاهر، ثم كفروا في السر، وفيه تأكيد لقوله: * (والله يشهد إنهم لكاذبون) * وقوله: * (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون) * لا يتدبرون، ولا يستدلون بالدلائل الظاهرة. قال ابن عباس: ختم على قلوبهم، وقال مقاتل: طبع على قلوبهم بالكفر فهم لا يفقهون القرآن، وصدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنهم كانوا يظنون أنهم على الحق، فأخبر تعالى أنهم لا يفقهون أنه طبع على قلوبهم، ثم في الآية مباحث: البحث الأول: أنه تعالى ذكر أفعال الكفرة من قبل، ولم يقل: إنهم ساء ما كانوا يعملون، فلم قلنا هنا؟ نقول: إن أفعالهم مقرونة بالأيمان الكاذبة التي جعلوها جنة، أي سترة لأموالهم ودمائهم عن أن يستبيحها المسلمون كما مر.
13

الثاني: المنافقون لم يكونوا إلا على الكفر الثابت الدائم، فما معنى قوله تعالى: * (آمنوا ثم كفروا) *؟ نقول: قال في " الكشاف " ثلاثة أوجه أحدها: * (آمنوا) * نطقوا بكلمة الشهادة، وفعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام * (ثم كفروا) * ثم ظهر كفرهم بعد ذلك وثانيها: * (آمنوا) * نطقوا بالإيمان عند المؤمنين * (ثم كفروا) * نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام كقوله تعالى: * (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا) * وثالثها: أن يراد أهل الذمة منهم. الثالث: الطبع على القلوب لا
يكون إلا من الله تعالى، ولما طبع الله على قلوبهم لا يمكنهم أن يتدبروا ويستدلوا بالدلائل، ولو كان كذلك لكان هذا حجة لهم على الله تعالى، فيقولون: إعراضنا عن الحق لغفلتنا، وغفلتنا بسبب أنه تعالى طبع على قلوبنا، فنقول: هذا الطبع من الله تعالى لسوء أفعالهم، وقصدهم الإعراض عن الحق، فكأنه تعالى تركهم في أنفسهم الجاهلة وأهوائهم الباطلة.
ثم قال تعالى:
* (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون * وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون * سوآء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدى القوم الفاسقين) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (وإذا رأيتهم) * يعني عبد الله بن أبي، ومغيث بن قيس، وجد بن قيس، كانت لهم أجسام ومنظر، تعجبك أجسامهم لحسنها وجمالها، وكان عبد الله بن أبي جسيما صبيحا فصيحا، وإذا قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وهو قوله تعالى: * (وإن يقولوا تسمع لقولهم) * أي ويقولوا: إنك لرسول الله تسمع لقولهم، وقرئ يسمع على البناء للمفعول، ثم شبههم بالخشب المسندة، وفي الخشب التخفيف كبدنة وبدن وأسد وأسد، والتثقيل كذلك كثمرة وثمر، وخشبة
14

وخشب، ومدرة ومدر. وهي قراءة ابن عباس، والتثقيل لغة أهل الحجاز، والخشب لا تعقل ولا تفهم، فكذلك أهل النفاق كأنهم في ترك التفهم، والاستبصار بمنزلة الخشب. وأما المسندة يقال: سند إلى شيء، أي مال إليه، وأسنده إلى الشيء، أي أماله فهو مسند، والتشديد للمبالغة، وإنما وصف الخشب بها، لأنها تشبه الأشجار القائمة التي تنمو وتثمر بوجه ما، ثم نسبهم إلى الجبن وعابهم به، فقال: * (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) * وقال مقاتل: إذا نادى مناد في العسكر، وانفلتت دابة، أو نشدت ضالة مثلا ظنوا أنهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب، وذلك لأنهم على وجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم، يتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة، ثم أعلم (الله) رسوله بعداوتهم فقال: * (هم العدو فاحذرهم) * أن تأمنهم على السر ولا تلتفت إلى ظاهرهم فإنهم الكاملون في العداوة بالنسبة إلى غيرهم وقوله تعالى: * (قاتلهم الله أنى يؤفكون) * مفسر وهو دعاء عليهم وطلب من ذاته أن يلعنهم ويخزيهم وتعليم للمؤمنين أن يدعوا بذلك، و * (أنى يؤفكون) * أي يعدلون عن الحق تعجبا من جهلهم وضلالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق.
وقوله تعالى: * (وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله) * قال الكلبي: لما نزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة المنافقين مشى إليه عشائرهم من المؤمنين وقالوا: لهم ويلكم افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم فأتوا رسول الله وتوبوا إليه من النفاق واسألوه أن يستغفر لكم، فأبوا ذلك وزهدوا في الاستغفار فنزلت، وقال ابن عباس لما رجع عبد الله بن أبي من أحد بكثير من الناس مقته المسلمون وعنفوه وأسمعوه المكروه فقال له بنو أبيه: لو أتيت رسول صلى الله عليه وسلم حتى يستغفر لك ويرضى عنك، فقال: لا أذهب إليه، ولا أريد أن يستغفر لي، وجعل يلوي رأسه فنزلت. وعند الأكثرين، إنما دعى إلى الاستغفار لأنه قال: * (ليخرجن الأعز منها الأذل) * (المنافقون: 8) وقال: * (لا تنفقوا على من عند رسول الله) * (المنافقون: 7) فقيل له: تعال يستغفر لك رسول الله فقال: ماذا قلت: فذلك قوله تعالى: * (لووا رؤوسهم) * وقرئ: * (لووا) * بالتخفيف والتشديد للكثرة والكناية قد تجعل جمعا والمقصود واحد وهو كثير في أشعار العرب قال جرير: لا بارك الله فيمن كان يحسبكم * إلا على العهد حتى كان ما كانا
وإنما خاطب بهذا امرأة وقوله تعالى: * (ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون) * أي عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر تعالى أن استغفاره لا ينفعهم فقال: * (سواء عليهم أستغفرت لهم) * قال قتادة: نزلت هذه الآية بعد قوله: * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) * وذلك لأنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيرني ربي فلأزيدنهم على السبعين " فأنزل الله تعالى: * (لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) * قال ابن عباس: المنافقين، وقال قوم: فيه بيان أن الله تعالى يملك هداية وراء هداية البيان، وهي خلق فعل الاهتداء فيمن علم منه ذلك، وقيل: معناه لا يهديهم لفسقهم وقالت المعتزلة: لا يسميهم المهتدين إذا فسقوا وضلوا وفي الآية مباحث:
15

البحث الأول: لم شبههم بالخشب المسندة لا بغيره من الأشياء المنتفع بها؟ نقول لاشتمال هذا التشبيه على فوائد كثيرة لا توجد في الغير الأولى: قال في " الكشاف ": شبهوا في استنادهم وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير، بالخشب المسندة إلى الحائط، ولأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع، ويجوز أن يراد بها الأصنام المنحوتة من الخشب المسندة إلى الحائط شبهوا بها في حسن صورهم، وقلة جداوهم الثانية: الخشب المسندة في الأصل كانت غصنا طريا يصلح لأن يكون من الأشياء المنتفع بها، ثم تصير غليظة يابسة، والكافر والمنافق كذلك كان في الأصل صالحا لكذا وكذا، ثم يخرج عن تلك الصلاحية الثالثة: الكفرة من جنس الإنس حطب، كما قال تعالى: * (حصب جهنم أنتم لها واردون) * (الأنبياء: 98) والخشب المسندة حطب أيضا الرابعة: أن الخشب المسندة إلى الحائط أحد طرفيها إلى جهة، والآخر إلى جهة أخرى، والمنافقون كذلك، لأن المنافق أحد طرفيه وهو الباطن إلى جهة أهل الكفر، والطرف الآخر وهو الظاهر إلى جهة أهل الإسلام الخامسة: المعتمد عليه الخشب المسندة ما يكون من الجمادات والنباتات، والمعتمد عليه للمنافقين كذلك، وإذا كانوا من المشركين إذ هو الأصنام، إنها من الجمادات أو النباتات. الثاني: من المباحث أنه تعالى شبهم بالخشب المسندة، ثم قال من بعد ما ينافي هذا التشبيه وهو قوله تعالى: * (يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو) * (المنافقون: 4) والخشب المسندة لا يحسبون أصلا، نقول: لا يلزم أن يكون المشبه والمشبه به يشتركان في جميع الأوصاف، فهم كالخشب المسندة بالنسبة إلى الانتفاع وعدم الانتفاع، وليسوا كالخشب المسندة بالنسبة إلى الاستماع وعدم الاستماع للصيحة وغيرها.
الثالث: قال تعالى: * (إن الله لا يهدي القوم الفاسقين) * ولم يقل: القوم الكافرين أو المنافقين أو المستكبرين مع أن كل واحد منهم من جملة ما سبق ذكره؟ نقول: كل أحد من تلك الأقوام داخل تحت قوله: * (الفاسقين) * أي الذين سبق ذكرهم وهم الكافرون والمنافقون والمستكبرون.
قوله تعالى
* (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزآئن السماوات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الاعز
16

منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون) *.
أخبر الله تعالى بشنيع مقالتهم فقال: * (هم الذين يقولون) * كذا وكذا: * (وينفضوا) * أي يتفرقوا، وقرئ: * (ينفضوا) * من أنفض القوم إذا فنيت أزوادهم، قال المفسرون: اقتتل أجير عمر مع أجير عبد الله بن أبي في بعض الغزوات فأسمع أجير عمر عبد الله بن أبي المكروه واشتد عليه لسانه، فغضب عبد الله وعنده رهط من قومه فقال: أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على قومه فقال: لو أمسكتم النفقة عن هؤلاء يعني المهاجرين لأوشكوا أن يتحولوا عن دياركم وبلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد فنزلت، وقرئ: * (ليخرجن) * بفتح الياء، وقرأ الحسن وابن أبي عيلة: * (لنخرجن) * بالنون ونصب الأعز والأذل، وقوله تعالى: * (ولله خزائن السماوات والأرض) * قال مقاتل: يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات، والمعنى أن الله هو الرزاق: * (قل من يرزقكم من السماء والأرض) * (يونس: 31) وقال أهل المعاني: خزائن الله تعالى مقدوراته لأن فيها كل ما يشاء مما يريد إخراجه، وقال الجنيد: خزائن الله تعالى في السماوات الغيوب وفي الأرض القلوب وهو علام الغيوب ومقلب القلوب، وقوله تعالى: * (ولكن المنافقين لا يفقهون) * أي لا يفقهون أن: * (أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) * (يس: 82) وقوله يقولون: * (لئن رجعنا) * أي من تلك الغزوة وهي غزوة بني المصطلق إلى المدينة فرد الله تعالى عليه وقال: * (ولله العزة) * أي الغلبة والقوة ولمن أعزه الله وأيده من رسوله ومن المؤمنين وعزهم بنصرته إياهم وإظهار دينهم على سائر الأديان وأعلم رسوله بذلك ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولو علموه ما قالوا: مقالتهم هذه، قال صاحب " الكشاف ": * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين، وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة ألست على الإسلام وهو العز الذي لا ذل معه، والغنى الذي لا فقر معه، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيها قال: ليس بتيه ولكنه عزة فإن هذا العز الذي لا ذل معه والغنى الذي لا فقر معه، وتلا هذه الآية قال بعض العارفين في تحقيق هذا المعنى: العزة غير الكبر ولا يحل للمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها عن أن يضعها لأقسام عاجلة دنيوية كما أن الكبر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلها فالعزة تشبه الكبر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة كاشتباه التواضع بالضعة والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكبر مذموم، والعزة محمودة، ولما كانت غير مذمومة وفيها مشاكلة للكبر، قال تعالى: * (ذلكم بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق) * وفيه إشارة
17

خفية لإثبات العزة بالحق، والوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوف على صراط العزة المنصوب على متن نار الكبر، فإن قيل: قال في الآية الأولى: * (لا يفقهون) * وفي الأخرى * (لا يعلمون) * فما الحكمة فيه؟ فنقول: ليعلم بالأول قلة كياستهم وفهمهم، وبالثاني كثرة حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فقه يفقه، كعلم يعلم، ومن فقه يفقه: كعظم يعظم، والأول لحصول الفقه بالتكلف والثاني لا بالتكلف، فالأول علاجي، والثاني مزاجي.
ثم قال تعالى:
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتى أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتنى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين * ولن يؤخر الله نفسا إذا جآء أجلهآ والله خبير بما تعملون) *.
* (لا تلهكم) * لا تشغلكم كما شغلت المنافقين، وقد اختلف المفسرون منهم من قال: نزلت في حق المنافقين، ومنهم من قال في حق المؤمنين، وقوله: * (عن ذكر الله) * عن فرائض الله تعالى نحو الصلاة والزكاة والحج أو عن طاعة الله تعالى وقال الضحاك: الصلوات الخمس، وعند مقاتل: هذه الآية وما بعدها خطاب للمنافقين الذين أقروا بالإيمان * (ومن يفعل ذلك) * أي ألهاه ماله وولده عن ذكر الله * (فأولئك هم الخاسرون) * أي في تجارتهم حيث باعوا الشريف الباقي بالخسيس الفاني وقيل: هم الخاسرون في إنكار ما قال به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد والبعث.
وقال الكلبي: الجهاد، وقيل: هو القرآن وقيل: هو النظر في القرآن والتفكر والتأمل فيه * (وأنفقوا مما رزقناكم) * قال ابن عباس يريد زكاة المال ومن للتبعيض، وقيل: المراد هو الإنفاق الواجب * (من قبل أن يأتي أحدكم الموت) * أي دلائل الموت وعلاماته فيسأل الرجعة إلى الدنيا وهو قوله: * (رب لولا أخرتني إلى أجل قريب) * وقيل حضهم على إدامة الذكر، وأن لا يضنوا بالأموال، أي هلا أمهلتني وأخرت أجلي إلى زمان قليل، وهو الزيادة في أجله حتى يتصدق ويتزكى وهو
18

قوله تعالى: * (فأصدق وأكن من الصالحين) * قال ابن عباس هذا دليل على أن القوم لم يكونوا مؤمنين إذ المؤمن لا يسأل الرجعة.
وقال الضحاك: لا ينزل بأحد لم يحج ولم يؤد الزكاة الموت إلا وسأل الرجعة وقرأ هذه الآية، وقال صاحب " الكشاف ": من قبل أن يعاين ما ييأس معه من الإمهال ويضيق به الخناق ويتعذر عليه الإنفاق، ويفوت وقت القبول فيتحسر على المنع ويعض أنامله على فقد ما كان متمكنا منه، وعن ابن عباس تصدقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت فلا تقبل توبة ولا ينفع عمل وقوله: * (وأكن من الصالحين) * قال ابن عباس: أحج وقرئ فأكون وهو على لفظ فأصدق وأكون، قال المبرد: وأكون
على ما قبله لأن قوله: * (فأصدق) * جواب للاستفهام الذي فيه التمني والجزم على موضع الفاء، وقرأ أبي فأتصدق على الأصل وأكن عطفا على موضع فأصدق: وأنشد سيبويه أبياتا كثيرة في الحمل على الموضع منها:
(معاوي إننا بشر فأسجح) * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد عطفا على المحل والباء في قوله: بالجبال، للتأكيد لا لمعنى مستقبل يجوز حذفه وعكسه قول ابن أبي سلمى: بدا لي أني لست مدرك ماضي * ولا سابق شيئا إذا كان جاثيا
توهم أنه قال بمدرك فعطف عليه قوله سابق، عطفا على المفهوم، وأما قراءة أبي عمرو * (وأكون) * فإنه حمله على اللفظ دون المعنى، ثم أخبر تعالى أنه لا يؤخر من انقضت مدته وحضر أجله فقال: * (ولن يؤخر الله نفسا) * يعني عن الموت إذا جاء أجلها، قال في " الكشاف ": هذا نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي، وبالجملة فقوله: * (لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم) * تنبيه على الذكر قبل الموت: * (وأنفقوا مما رزقناكم) * تنبيه على الشكر لذلك وقوله تعالى: * (والله خبير بما تعملون) * أي لو رد إلى الدنيا ما زكى ولا حج، ويكون هذا كقوله: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) والمفسرون على أن هذا خطاب جامع لكل عمل خيرا أو شرا وقرأ عاصم يعملون بالياء على قوله: * (ولن يؤخر الله نفسا) * لأن النفس وإن كان واحدا في اللفظ، فالمراد به الكثير فحمل على المعنى والله أعلم وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
19

سورة التغابن
ثمان عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يسبح لله ما فى السماوات وما فى الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير) *.
وجه التعلق بما قبلها ظاهر لما أن تلك السورة للمنافقين الكاذبين وهذه السورة للمنافقين الصادقين، وأيضا تلك السورة مشتملة على بطالة أهل النفاق سرا وعلانية، وهذه السورة على ما هو التهديد البالغ لهم، وهو قوله تعالى: * (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) * وأما الأول بالآخر فلأن في آخر تلك السورة التنبيه على الذكر والشكر كما مر، وفي أول هذه إشارة إلى أنهم إن أعرضوا عن الذكر والشكر، قلنا: من الخلق قوم يواظبون على الذكر والشكر دائما، وهم الذين يسبحون، كما قال تعالى: * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) *، وقوله تعالى: * (له الملك وله الحمد) * معناه إذا سبح لله ما في السماوات وما في الأرض فله الملك وله الحمد، ولما كان له الملك فهو متصرف في ملكه والتصرف مفتقر إلى القدرة فقال: * (والله على كل شيء قدير) * وقال في " الكشاف ": قدم الظرفان ليدل بتقديمهما على معنى اختصاص الملك والحمد بالله تعالى وذلك لأن الملك في الحقيقة له لأنه مبدئ لكل شيء ومبدعه والقائم به والمهيمن عليه، كذلك الحمد فإن أصول النعم وفروعها منه، وأما ملك غيره فتسليط منه واسترعاء، وحمده اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده، وقوله تعالى: * (وهو على كل شيء قدير) * قيل: معناه وهو على كل شيء أراده قدير، وقيل: قدير يفعل ما يشاء بقدر ما يشاء لا يزيد عليه ولا ينقص. وقد مر ذلك، وفي الآية مباحث: الأول: أنه تعالى قال في الحديد: * (سبح) * (الحديد:) والحشر والصف كذلك، وفي الجمعة والتغابن * (يسبح لله) * فما الحكمة فيه؟ نقول: الجواب عنه قد تقدم.
البحث الثاني: قال في موضع: * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * (الحشر: 1) وفي موضع
20

آخر * (سبح لله ما في السماوات والأرض) * (الحديد: 1) فما الحكمة فيه؟ قلنا: الحكمة لا بد منها، ولا نعلمها كما هي، لكن نقول: ما يخطر بالبال، وهو أن مجموع السماوات والأرض شيء واحد، وهو عالم مؤلف من الأجسام الفلكية والعنصرية، ثم الأرض من هذا المجموع شيء والباقي منه شيء آخر، فقوله تعالى: * (يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * بالنسبة إلى هذا الجزء من المجموع وبالنسبة إلى ذلك الجزء منه كذلك، وإذا كان كذلك فلا يبعد أن يقال، قال تعالى في بعض السور كذا وفي البعض هذا ليعلم أن هذا العالم الجسماني من وجه شيء واحد، ومن وجه شيئان بل أشياء كثيرة، والخلق في المجموع غير ما في هذا الجزء، وغير ما في ذلك أيضا ولا يلزم من وجود الشيء في المجموع أن يوجد في كل جزء من أجزائه إلا بدليل منفصل، فقوله تعالى: * (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض) * على سبيل المبالغة من جملة ذلك الدليل لما أنه يدل على تسبيح ما في السماوات وعلى تسبيح ما في الأرض، كذلك بخلاف قوله تعالى: * (سبح لله ما في السماوات والأرض) *.
ثم قال تعالى:
* (هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير * خلق السماوات ولارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير * يعلم ما فى السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) *.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنه تعالى خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا، وقال عطاء: إنه يريد فمنكم مصدق، ومنكم جاحد، وقال الضحاك: مؤمن في العلانية كافر في السر كالمنافق، وكافر في العلانية مؤمن في السر كعمار بن ياسر، قال الله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (النحل: 106) وقال الزجاج: فمنكم كافر بأنه تعالى خلقه، وهو من أهل الطبائع والدهرية، ومنكم مؤمن بأنه تعالى خلقه كما قال: * (قتل الإنسان ما
أكفره * من أي شيء خلقه) * (عيس: 17، 18) وقال: * (أكفرت بالذي خلقك من تراب، ثم من نطفة) * (الكهف: 37) وقال أبو إسحاق: خلقكم في بطون أمهاتكم كفارا ومؤمنين، وجاء في بعض التفاسير أن يحي خلق في بطن أمه مؤمنا وفرعون خلق في بطن أمه كافرا، دل عليه قوله تعالى: * (إن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) * وقوله تعالى: * (والله بما تعملون بصير) * أي عالم بكفركم
21

وإيمانكم اللذين من أعمالكم، والمعنى أنه تعالى تفضل عليكم بأصل النعم التي هي الخلق فأنظروا النظر الصحيح وكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين، فما فعلتم مع تمكنكم بل تفرقتم فرقا فمنكم كافر ومنكم مؤمن وقوله تعالى: * (خلق السماوات والأرض بالحق) * أي بالإرادة القديمة على وفق الحكمة، ومنهم من قال: بالحق، أي للحق، وهو البعث، وقوله: * (وصوركم فأحسن صوركم) * يحتمل وجهين أحدهما: أحسن أي أتقن وأحكم على وجه لا يوجد بذلك الوجه في الغير، وكيف يوجد وقد وجد في أنفسهم من القوى الدالة على وحدانية الله تعالى وربوبيته دلالة مخصوصة لحسن هذه الصورة وثانيهما: أن نصرف الحسن إلى حسن المنظر، فإن من نظر في قد الإنسان وقامته وبالنسبة بين أعضائه فقد علم أن صورته أحسن صورة وقوله تعالى: * (وإليه المصير) * أي البعث وإنما أضافه إلى نفسه لأنه هو النهاية في خلقهم والمقصود منه، ثم قال تعالى: * (وصوركم فأحسن صوركم) * لأنه لا يلزم من خلق الشيء أن يكون مصورا بالصورة، ولا يلزم من الصورة أن تكون على أحسن الصور، ثم قال: * (وإليه المصير) * أي المرجع ليس إلا له، وقوله تعالى: * (يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور) * نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسره العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه ما في الصدور من الكليات والجزئيات على أنه لا يخفى عليه شيء لما أنه تعالى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة البتة أزلا وأبدا، وفي الآية مباحث: الأول: أنه تعالى حكيم، وقد سبق في علمه أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلا الكفر، والإصرار عليه فأي حكمة دعته إلى خلقهم؟ نقول: إذا علمنا أنه تعالى حكيم، علمنا أن أفعاله كلها على وفق الحكمة، وخلق هذه الطائفة فعله، فيكون على وفق الحكمة، ولا يلزم من عدم علمنا بذلك أن لا يكون كذلك بل اللازم أن يكون خلقهم على وفق الحكمة. الثاني: قال: * (وصوركم فأحسن صوركم) * وقد كان من أفراد هذا النوع من كان مشوه الصورة سمج الخلقة؟ نقول: لا سماجة ثمة لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعض الصور عن مراتب ما فوقها انحطاطا بينا لا يظهر حسنه، وإلا فهو داخل في حيز الحسن غير خارج عن حده. الثالث: قوله تعالى: * (وإليه المصير) * يوهم الانتقال من جانب إلى جانب، وذلك لا يمكن إلا أن يكون الله في جانب، فكيف هو؟ قلت: ذلك الوهم بالنسبة إلينا وإلى زماننا لا بالنسبة إلى ما يكون في نفس الأمر، فإن نفس الأمر بمعزل عن حقيقة الانتقال من جانب إلى جانب إذا كان المنتقل إليه منزها عن الجانب وعن الجهة.
ثم قال تعالى:
* (ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم * ذلك
22

بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غنى حميد * زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربى لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير) *.
اعلم أن قوله: * (ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا) * خطاب لكفار مكة وذلك إشارة إلى الويل الذي ذاقوه في الدنيا وإلى ما أعد لهم من العذاب في الآخرة. فقوله: * (فذاقوا وبال أمرهم) * أي شدة أمرهم مثل قوله: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * وقوله: * (ذلك بأنه) * أي بأن الشأن والحديث أنكروا أن يكون الرسول بشرا. ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجرا فكفروا وتولوا، وكفروا بالرسل وأعرضوا واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم من الأزل، وقوله تعالى: * (والله غني حميد) * من جملة ما سبق، والحميد بمعنى المحمود أي المستحق للحمد بذاته ويكون بمعنى الحامد، وقوله تعالى: * (زعم الذين كفروا) * قال في " الكشاف ": الزعيم ادعاء العلم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " زعموا مطية الكذب " وعن شريح لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا، ويتعدى إلى مفعولين، تعدى، العلم، قال الشاعر: ولم أزعمك عن ذلك معزولا (c) والذين كفروا هم أهل مكة * (بلى) * إثبات لما بعد أن وهو البعث وقيل: قوله تعالى: * (قل بلى وربي) * يحتمل أن يكون تعليما للرسول صلى الله عليه وسلم، أي يعلمه القسم تأكيدا لما كان يخبر عن البعث وكذلك جميع القسم في القرآن وقوله تعالى: * (وذلك على الله يسير) * أي لا يصرفه صارف، وقيل: إن أمر البعث على الله يسير، لأنهم أنكروا البعث بعد أن صاروا ترابا، فأخبر أن إعادتهم أهون في العقول من إنشائهم، وفي الآية مباحث.
الأول: قوله: * (فكفروا) * يتضمن قوله: * (وتولوا) * فما الحاجة إلى ذكره؟ نقول: إنهم كفروا وقالوا: * (أبشر يهدوننا) * وهذا في معنى الإنكار والإعراض بالكلية، وذلك هو التولي، فكأنهم كفروا وقالوا قولا يدل على التولي، ولهذا قال: * (فكفروا وتولوا) *.
الثاني: قوله: * (وتولوا واستغنى الله) * يوهم وجود التولي والاستغناء معا، والله تعالى لم يزل غنيا، قال في " الكشاف ": معناه أنه ظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان، ولم يضطرهم إليه مع قدرته على ذلك.
الثالث: كيف يفيد القسم في إخباره عن البعث وهم قد أنكروا رسالته.
نقول: إنهم
23

وإن أنكروا الرسالة لكنهم يعتقدون أنه يعتقد ربه اعتقادا لا مزيد عليه فيعلمون أنه لا يقدم على القسم بربه إلا وأن يكون صدق هذا الإخبار أظهر من الشمس عنده وفي اعتقاده، والفائدة في الإخبار مع القسم ليس إلا هذا، ثم إنه أكد الخبر باللام والنون فكأنه قسم بعد قسم. ولما بالغ في الإخبار عن البعث والاعتراف بالبعث من لوازم الإيمان قال:
* (فامنوا بالله ورسوله والنور الذى أنزلنا والله بما تعملون خبير * يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا ذلك الفوز العظيم * والذين كفروا وكذبوا باياتنآ أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) *.
قوله: * (فآمنوا) * يجوز أن يكون صلة لما تقدم لأنه تعالى لما ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية، وذلك لكفرهم بالله وتكذيب الرسل قال: * (فآمنوا) * أنتم * (بالله ورسوله) * لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العقوبة * (والنور الذي أنزلنا) * وهو القرآن فإنه يهتدى به في الشبهات كما يهتدى بالنور في الظلمات، وإنما ذكر النور الذي هو القرآن لما أنه مشتمل على الدلالات الظاهرة على البعث، ثم ذكر في " الكشاف " أنه عنى برسوله والنور محمدا صلى الله عليه وسلم والقرآن * (والله بما تعملون خبير) * أي بما تسرون وما تعلنون فراقبوه وخافوه في الحالين جميعا وقوله تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع) * يريد به يوم القيامة جمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض، و * (ذلك يوم التغابن) * والتغابن تفاعل من الغبن في المجازاة والتجارات، يقال: غبنه يغبنه غبنا إذا أخذ الشيء منه بدون قيمته، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن قوما في النار يعذبون وقوما في الجنة يتنعمون، وقيل: هو يوم يغبن فيه أهل الحق، أهل الباطل، وأهل الهدى أهل الضلالة، وأهل الإيمان. أهل الكفر، فلا غبن أبين من هذا، وفي الجملة فالغبن في البيع والشراء وقد ذكر تعالى في حق الكافرين أنهم اشتروا الحياة
24

الدنيا بالآخرة واشتروا الضلالة بالهدى، ثم ذكر أنهم ما ربحت تجارتهم ودل المؤمنين على تجارة رابحة، فقال: * (هل أدلكم على تجارة) * (الصف: 10) الآية، وذكر أنهم باعوا أنفسهم بالجنة فخسرت صفقة الكفار وربحت صفقة المؤمنين، وقوله تعالى: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا) * يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل من الحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك، ويعمل صالحا أي يعمل في إيمانه صالحا إلى أن يموت، قرىء يجمعكم ويكفر ويدخل بالياء والنون، وقوله: * (والذين كفروا) * أي بوحدانية الله تعالى وبقدرته * (وكذبوا بآياتنا) * أي بآياته الدالة على البعث * (أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير) * ثم في الآية مباحث: الأول: قال: * (فآمنوا بالله ورسوله) * بطريق الإضافة، ولم يقل: ونوره الذي أنزلنا بطريق الإضافة مع أن النور ههنا هو القرآن والقرآن كلامه ومضاف إليه؟ نقول: الألف واللام في النور بمعنى الإضافة كأنه قال: ورسوله ونوره الذي أنزلنا. الثاني: بم انتصب الظرف؟ نقول: قال الزجاج: بقوله: * (لتبعثن) * وفي " الكشاف " بقوله: * (لتنبؤن) * أو بخبير لما فيه من معنى الوعيد. كأنه قيل: والله معاقبكم يوم يجمعكم أو بإضمار أذكر. الثالث: قال تعالى في الإيمان: * (ومن يؤمن بالله) * بلفظ المستقبل، وفي الكفر وقال: * (والذين كفروا) * بلفظ الماضي، فنقول: تقدير الكلام: ومن يؤمن بالله من الذين كفروا وكذبوا بآياتنا يدخله جنات ومن لم يؤمن منهم أولئك أصحاب النار. الرابع: قال تعالى: * (ومن يؤمن) * بلفظ الواحد و * (خالدين فيها) * بلفظ الجمع، نقول: ذلك بحسب اللفظ، وهذا بحسب المعنى. الخامس: ما الحكمة في قوله: * (وبئس المصير) * بعد قوله: * (خالدين فيها) * وذلك بئس المصير فنقول: ذلك وإن كان في معناه فلا يدل عليه بطريق التصريح فالتصريح مما يؤكده. ثم قال تعالى:
* (مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شىء عليم * وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين * الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون) *.
قوله تعالى: * (إلا بإذن الله) * أي بأمر الله قاله الحسن، وقيل: بتقدير الله وقضائه، وقيل: بإرادة
25

الله تعالى ومشيئته، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: بعلمه وقضائه وقوله تعالى: * (يهد قلبه) * أي عند المصيبة أو عند الموت أو المرض أو الفقر أو القحط، ونحو ذلك فيعلم أنها من الله تعالى فيسلم لقضاء الله تعالى ويسترجع، فذلك قوله: * (يهد قلبه) * أي للتسليم لأمر الله، ونظيره قوله: * (الذين إذا أصابتهم مصيبة) * إلى قوله: * (أولئك هم المهتدون) * (البقرة: 156، 157)، قال أهل المعاني: يهد قلبه للشكر عند الرخاء والصبر عند البلاء، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما يهد قلبه إلى ما يحب ويرضى وقرئ * (نهد قلبه) * بالنون وعن عكرمة * (يهد قلبه) * بفتح الدال وضم الياء، وقرئ * (يهدأ) * قال الزجاج: هدأ قلبه يهدأ إذا سكن، والقلب بالرفع والنصب ووجه النصب أن يكون مثل * (سفه نفسه) * (البقرة: 130) * (والله بكل شيء عليم) * يحتمل أن يكون إشارة إلى اطمئنان القلب عند المصيبة، وقيل: عليم بتصديق من صدق رسوله فمن صدقه فقد هدى قلبه: * (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * فيما جاء به من عند الله يعني هونوا المصائب والنوازل واتبعوا الأوامر الصادرة من الله تعالى، ومن الرسول فيما دعاكم إليه. وقوله: * (فإن توليتم) * أي عن إجابة الرسول فيما دعاكم إليه * (فإنما على رسولنا البلاغ المبين) * الظاهر والبيان البائن، وقوله: * (الله لا إله إلا هو) * يحتمل أن يكون هذا من جملة ما تقدم من الأوصاف الحميدة لحضرة الله تعالى من قوله: * (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) * (التغابن: 1) فإن من كان موصوفا بهذه الصفات ونحوها: * (فهو الذي لا إله إلا هو) * أي لا معبود إلا هو ولا مقصود إلا هو عليه التوكل في كل باب، وإليه المرجع والمآب، وقوله: * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * بيان أن المؤمن لا يعتمد إلا عليه، ولا يتقوى إلا به لما أنه يعتقد أن القادر بالحقيقة ليس إلا هو، وقال في " الكشاف ": هذا بعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم على التوكل عليه والتقوى به في أمره حتى ينصره على من كذبه وتولى عنه، فإن قيل: كيف يتعلق * (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) * بما قبله ويتصل به؟ نقول: يتعلق بقوله تعالى: * (فآمنوا بالله ورسوله) * (التغابن: 8) لما أن من يؤمن بالله فيصدقه يعلم ألا تصيبه مصيبة إلا بإذن الله.
ثم قال تعالى:
* (يا أيها الذين ءامنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم * إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم *
26

فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) *.
قال الكلبي: كان الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به بنوه وزوجته فقالوا: أنت تذهب وتذرنا ضائعين فمنهم من يطيع أهله ويقيم فحذرهم الله طاعة نسائهم وأولادهم، ومنهم من لا يطيع ويقول: أما والله لو لم نهاجر ويجمع الله بيننا وبينكم في دار الهجرة لا ننفعكم شيئا أبدا، فلما جمع الله بينهم أمرهم أن ينفقوا ويحسنوا ويتفضلوا، وقال مسلم الخراساني: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان أهله وولده يثبطونه عن الهجرة والجهاد، وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم فهو قوله: عدوا لكم فاحذروهم أن تطيعوا وتدعوا الهجرة، وقوله تعالى: * (وإن تعفوا وتصفحوا) * قال هو أن الرجل من هؤلاء إذا هاجر ورأى الناس قد سبقوا بالهجرة وفقهوا في الدين هم أن يعاقب زوجته وولده الذين منعوه الهجرة وإن لحقوا به في دار الهجرة لم ينفق عليهم، ولم يصبهم بخير فنزل: * (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا) * الآية، يعني أن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم، ينهون عن الإسلام ويثبطون عنه وهم من الكفار فاحذروهم، فظهر أن هذه العداوة إنما هي للكفر والنهي عن الإيمان، ولا تكون بين المؤمنين فأزواجهم وأولادهم المؤمنون لا يكونون عدوا لهم، وفي هؤلاء الأزواج والأولاد الذين منعوا عن الهجرة نزل: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تطيعوهم في معصية الله تعالى وفتنة أي بلاء وشغل عن الآخرة، وقيل: أعلم الله تعالى أن الأموال والأولاد من جميع ما يقع بهم في الفتنة وهذا عام يعم جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه وباشر الفعل الحرام لأجله، كغصب مال الغير وغيره: * (والله عنده أجر عظيم) * أي جزيل، وهو الجنة أخبر أن عنده أجرا عظيما ليتحملوا المؤونة العظيمة، والمعنى لا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد ولا تؤثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم.
وقوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * قال مقاتل: أي ما أطقتم يجتهد المؤمن في تقوى الله ما استطاع، قال قتادة: نسخت هذه الآية قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102) ومنهم من طعن فيه وقال: لا يصح لأن قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * لا يراد به الاتقاء فيما لا يستطيعون لأنه فوق الطاقة والاستطاعة، وقوله: * (اسمعوا) * أي لله ولرسوله ولكتابه وقيل: لما أمركم الله ورسوله به * (وأطيعوا) * الله فيما يأمركم * (وأنفقوا) * من أموالكم في حق الله خيرا لأنفسكم، والنصب بقوله: * (وأنفقوا) * كأنه قيل: وقدموا خيرا لأنفسكم، وهو
27

كقوله: * (فآمنوا خيرا لكم) * (النساء: 170) وقوله تعالى: * (ومن يوق شح نفسه) * الشح هو البخل، وإنه يعم المال وغيره، يقال: فلان شحيح بالمال وشحيح بالجاه وشحيح بالمعروف، وقيل: يوق ظلم نفسه فالشح هو الظلم، ومن كان بمعزل عن الشح فذلك من أهل الفلاح فإن قيل: * (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) *، يدل على أن الأموال والأولاد كلها من الأعداء و * (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) * يدل على أن بعضهم من الأعداء دون البعض، فنقول: هذا في حيز المنع فإنه لا يلزم أن يكون البعض من المجموع الذي مر ذكره من الأولاد يعني من الأولاد من يمنع ومنهم من لا يمنع، فيكون البعض منهم عدوا دون البعض.
ثم قال تعالى:
* (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم * عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم) *.
اعلم أن قوله: * (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) * أي إن تنفقوا في طاعة الله متقاربين إليه يجزكم بالضعف لما أنه شكور يحب المتقربين إلى حضرته حليم لا يعجل بالعقوبة غفور يغفر لكم، والقرض الحسن عند بعضهم هو التصدق من الحلال، وقيل: هو التصدق بطيبة نفسه، والقرض هو الذي يرجى مثله وهو الثواب مثل الإنفاق في سبيل الله، وقال في " الكشاف ": ذكر القرض تلطف في الاستدعاء وقوله: * (يضاعفه لكم) * أي يكتب لكم بالواحدة عشرة وسبعمائة إلى ما شاء من الزيادة وقرئ (يضعفه) * (شكور) * مجاز أي يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب وكذلك حليم يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسئ فلا يعاجلكم بالعذاب مع كثرة ذنوبكم، ثم لقائل أن يقول: هذه الأفعال مفتقرة إلى العلم والقدرة، والله تعالى ذكر العلم دون القدرة فقال: * (عالم الغيب) *، فنقول قوله: * (العزيز) * يدل على القدرة من عز إذا غلب و * (الحكيم) * على الحكمة، وقيل: العزيز الذي لا يعجزه شيء، والحكيم الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير، والله تعالى كذلك فيكون عالما قادرا حكيما جل ثناؤه وعظم كبرياؤه، والله أعلم بالصواب، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
28

سورة الطلاق
اثنتا عشرة آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها النبى إذا طلقتم النسآء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *.
* (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) *. أما التعلق بما قبلها فذلك أنه تعالى قال في أول تلك السورة: * (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) * (التغابن: 1) والملك يفتقر إلى التصرف على وجه يحصل منه نظام الملك، والحمد يفتقر إلى أن ذلك التصرف بطريق العدل والإحسان في حق المتصرف فيه وبالقدرة على من يمنعه عن التصرف وتقرير الأحكام في هذه السورة متضمن لهذه الأمور المفتقرة إليها تضمنا لا يفتقر إلى التأمل فيه، فيكون لهذه السورة نسبة إلى تلك السورة، وأما الأول بالآخر فلأنه تعالى أشار في آخر تلك السورة إلى كمال علمه بقوله: * (عالم الغيب) * (التغابن: 18) وفي أول هذه السورة
إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات، وقوله: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فأتت إلى أهلها فنزلت، وقيل: راجعها فإنها صوامة قوامة وعلى هذا إنما نزلت الآية بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في هذه الآية: * (ولا يخرجن من بيوتهن) * وقال الكلبي: إنه عليه السلام غضب على حفصة لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة فنزلت، وقال السدي: نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضا والقصة في ذلك مشهورة وقال مقاتل: إن رجالا فعلوا مثل ما فعل ابن عمر، وهم عمرو بن سعيد بن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت فيهم، وفي قوله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * وجهان أحدهما: أنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطب أمته لما أنه سيدهم وقدوتهم، فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب. قال أبو إسحق: هذا خطاب النبي عليه السلام، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب وثانيهما: أن المعنى يا أيها النبي قل لهم: إذا طلقتم النساء فأضمر القول، وقال الفراء: خاطبه وجعل الحكم للجميع، كما تقول للرجل: ويحك أما تتقون الله أما تستحيون، تذهب إليه وإلى أهل بيته و * (إذا طلقتم) * أي إذا أردتم التطليق، كقوله: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * (المائدة: 6) أي إذا أردتم
29

الصلاة، وقد مر الكلام فيه، وقوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * قال عبد الله: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته، فيطلقها طاهرا من غير جماع، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل والحسن، قالوا: أمر الله تعالى الزوج بتطليق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، وهو قوله تعالى: * (لعدتهن) * أي لزمان عدتهن، وهو الطهر بإجماع الأمة، وقيل: لإظهار عدتهن، وجماعة من المفسرين قالوا: الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع، وبالجملة، فالطلاق في حال الطهر لازم، وإلا لا يكون الطلاق سنيا، والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة والحامل، إذ لا سنة في الصغير وغير المدخول بها، والآيسة والحامل، ولا بدعة أيضا لعدم العدة بالأقراء، وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة، على مذهب الشافعي حتى لو طلقها ثلاثا في طهر صحيح لم يكن هذا بدعيا بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق، فإنهم قالوا: السنة في عدد الطلاق أن يطلق كل طلقة في طهر صحيح.
وقال صاحب " النظم ": * (فطلقوهن لعدتهن) * صفة للطلاق كيف يكون، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة للإضافة وهي أصلها، ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * (الإنسان: 9) وبمنزلة عند مثل قوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الإسراء: 78) أي عنده، وبمنزلة في مثل قوله تعالى: * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر) * (الحشر: 2) وفي هذه الآية بهذا المعنى، لأن المعنى فطلقوهن في عدتهن، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن فقال صاحب " الكشاف ": فطلقوهن مستقبلات لعدتهن كقوله: أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: (من قبل عدتهن) فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة العدة، المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، يخلين إلى أن تنقضي عدتهن، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات، وقال مالك بن أنس: لا أعرف طلاقا إلا واحدة، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض: ما هكذا أمرك الله تعالى إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث، وقال: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت، والشافعي يراعي الوقت وحده، وقوله تعالى: * (وأحصوا العدة) * أي أقراءها فاحتفظوا لها واحفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة واحفظوا نفس ما تعتدون به وهو عدد الحيض، ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين أحدهما: أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن وثانيهما: ليقع
30

تحصين الأولاد في العدة، ثم في الآية مباحث: الأول: ما الحكمة في إطلاق السنة وإطلاق البدعة؟ نقول: إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضا لم تعتد بأيام حيضها عن عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة ولا ذات بعل والعقول تستقبح الإضرار، وإذا كانت طاهرة مجامعة لم يؤمن أن قد علقت من ذلك الجمع بولد ولو علم الزوج لم يطلقها، وذلك أن الرجل قد يرغب في طلاق امرأته إذا لم يكن بينهما ولد ولا يرغب في ذلك إذا كانت حاملا منه بولد، فإذا طلقها وهي مجامعة وعنده أنها حائل في ظاهر الحال ثم ظهر بها حمل ندم على طلاقها ففي طلاقه إياها في الحيض سوء نظر للمرأة، وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وقد حملت فيه سوء نظر للزوج، فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران، لأنها تعتد عقب طلاقه إياها، فتجري في الثلاثة قروء، والرجل أيضا في الظاهر على أمان من اشتمالها على ولد منه.
الثاني: هل يقع الطلاق المخالف للسنة؟ نقول: نعم، وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه، فقال له: " أو تلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم ".
الثالث: كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو غير ذلك؟ نقول: الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر، وقال محمد وزفر: لا يطلق للسنة إلا واحدة. وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة، ولا يراعى الوقت. الرابع: هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة؟ نقول: اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا، والظاهر الكراهة. الخامس: * (إذا طلقتم النساء) * عام يتناول المدخول بهن، وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء، والآيسات والصغار والحوامل، فكيف يصح تخصيصه بذوات الأقراء والمدخول بهن؟ نقول: لا عموم ثمة ولا خصوص أيضا، لكن النساء اسم جنس للإناث من
الإنس، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن، وفي بعضهن، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل: * (فطلقوهن لعدتهن) * علم أنه أطلق على بعضهن، وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض، كذا ذكره في " الكشاف ".
ثم قال تعالى: * (واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة
31

مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *. قوله: * (اتقوا الله) * قال مقاتل: أخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم و * (لا تخرجوهن) * أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق، فإن كانت المساكن عارية فارتجعت كان على الأزواج أن يعينوا مساكن أخرى بطريق الشراء، أو بطريق الكراء، أو بغير ذلك، وعلى الزوجات أيضا أن لا يخرجن حقا لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما، ولا تنقطع العدة.
وقوله تعالى: * (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * قال ابن عباس: هو أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن، قال الضحاك الأكثرون: فالفاحشة على هذا القول هي الزنا، وقال ابن عمر: الفاحشة خروجهن قبل انقضاء العدة، قال السدي والباقون: الفاحشة المبينة هي العصيان المبين، وهو النشوز، وعن ابن عباس: إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن وسوء خلقهن، فيحل للأزواج إخراجهن من بيوتهن، وفي الآية مباحث: البحث الأول: هل للزوجين التراضي على إسقاطها؟ نقول: السكنى الواجبة في حال قيام الزوجية حق للمرأة وحدها فلها إبطالها، ووجه هذا أن الزوجين ما داما ثابتين على النكاح فإنما مقصودهما المعاشرة والاستمتاع، ثم لا بد في تمام ذلك من أن تكون المرأة مستعدة له لأوقات حاجته إليها، وهذا لا يكون إلا بأنه يكفيها في نفقتها، كطعامها وشرابها وأدمها ولباسها وسكناها، وهذه كلها داخلة في إحصاء الأسباب التي بها يتم كل ما ذكرنا من الاستمتاع، ثم ما وراء ذلك من حق صيانة الماء ونحوها، فإن وقعت الفرقة زال الأصل الذي هو الانتفاع وزواله بزوال الأسباب الموصلة إليه من النفقة عليها، واحتيج إلى صيانة الماء فصارت السكنى في هذه الحالة بوجوبها الإحصاء لأسبابها، لأن أصلها السكنى، لأن بها تحصينها، فصارت السكنى في هذه الحالة لا اختصاص لها بالزوج، وصيانة الماء من حقوق الله، ومما لا يجوز التراضي من الزوجين على إسقاطه، فلم يكن لها الخروج، وإن رضي الزوج، ولا إخراجها، وإن رضيت إلا عن ضرورة مثل انهدام المنزل، وإخراج غاصب إياها أو نقلة من دار بكراء قد انقضت إجارتها أو خوف فتنة أو سيل أو حريق، أو غير ذلك من طريق الخوف على النفس، فإذا انقضى ما أخرجت له رجعت إلى موضعها حيث كان الثاني: قال: * (واتقوا الله ربكم) * ولم يقل: واتقوا الله مقصورا عليه فنقول: فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن لفظ الرب ينبههم على أن التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفا من فوت تلك التربية الثاني: ما معنى الجمع بين إخراجهم وخروجهن؟ نقول: معنى الإخراج أن لا يخرجهن
32

البعولة غضبا عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك، إيذانا بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك. الثالث: قرىء: * (بفاحشة مبينة) * و * (مبينة) * فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه: أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها تبين أنها فاحشة، ومن قرأ * (مبينة) * بالفتح فمعناه أنها مبرهنة بالبراهين، ومبينة بالحجج، وقوله: * (وتلك حدود الله) * والحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي، والحد في الحقيقة هي النهاية التي ينتهي إليها الشيء، قال مقاتل: يعود ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام * (ومن يتعد حدود الله) * وهذا تشديد فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة * (فقد ظلم نفسه) * أي ضر نفسه، ولا يبعد أن يكون المعنى ومن يتجاوز الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه موضعا لم يضعه فيه ربه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وقوله تعالى: * (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة وهو دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقا، قال أبو إسحق: إذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى في قوله: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) *.
ثم قال تعالى:
* (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شىء قدرا) *.
* (فإذا بلغن أجلهن) * أي قاربن انقضاء أجل العدة لا انقضاء أجلهن، والمراد من بلوغ الأجل هنا مقاربة البلوغ، وقد مر تفسيره.
قال صاحب " الكشاف ": هو آخر العدة وشارفته، فأنتم بالخيار إن شئتم فالرجعة والإمساك بالمعروف، وإن شئتم فترك الرجعة والمفارقة، وإتقاء الضرار
33

هو أن يراجعها في آخر العدة، ثم يطلقها تطويلا للعدة وتعذيبا لها.
وقوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * أي أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة ذوي عدل، وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كما في قوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (البقرة: 282) وعند الشافعي هو واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة، وقيل: فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، وأن لا يتهم في إمساكها ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث، وقيل: الإشهاد إنما أمروا به للاحتياط مخافة أن تنكر المرأة المراجعة فتنقضي العدة فتنكح زوجا. ثم خاطب الشهداء فقال: * (وأقيموا الشهادة) * وهذا أيضا مر تفسيره، وقوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) * قال الشعبي: من يطلق للعدة يجعل الله له سبيلا إلى الرجعة، وقال غيره: مخرجا من كل أمر ضاق على الناس، قال الكلبي: ومن يصبر على المصيبة يجعل الله له مخرجا من النار إلى الجنة، وقرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت، ومن شدائد يوم القيامة، وقال أكثر أهل التفسير: أنزل هذا وما بعده في عوف بن مالك الأشجعي
أسر العدو ابنا له فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له ذلك وشكا إليه الفاقة فقال له: " اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله " ففعل الرجل ذلك فبينما هو في بيته إذ أتاه ابنه، وقد غفل عنه العدو، فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه، وقال صاحب " الكشاف ": فبينا هو في بيته، إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها، فذلك قوله: ويرزقه من حيث لا يحتسب ويجوز أنه إن اتقى الله وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق * (ويرزقه من حيث لا يحتسب) * وقال في " الكشاف ": * (ومن يتق الله) * جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من إجراء أمر الطلاق على السنة كما مر.
وقوله تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * أي من وثق به فيما ناله كفاه الله ما أهمه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله " وقرئ: * (إن الله بالغ أمره) * بالإضافة * (وبالغ أمره) * أي نافذ أمره، وقرأ المفضل * (بالغا أمره) *، على أن قوله * (قد جعل) * خبر * (إن) *، و * (بالغا * (حال. قال ابن عباس يريد في جميع خلقه والمعنى سيبلغ الله أمره فيما يريد منكم و * (قد جعل الله لكل شيء قدرا) * أي تقديرا وتوقيتا، وهذا بيان لوجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه، قال الكلبي ومقاتل: لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه قدر الله تعالى ذلك كله لا يقدم ولا يؤخر. وقال ابن عباس: يريد قدرت ما خلقت بمشيئتي، وقوله: * (فإذا بلغن أجلهن) * إلى قوله: * (مخرجا) * آية ومنه إلى قوله: * (قدرا) * آية أخرى عند الأكثر، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة ثم في هذه الآية لطيفة: وهي أن التقوي في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) * وقريب من هذا قوله: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * (النور: 32) فإن قيل: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * يدل على عدم الاحتياج للكسب في طلب الرزق، وقوله تعالى:
34

* (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10) يدل على الاحتياج فكيف هو؟ نقول: لا يدل على الاحتياج، لأن قوله: * (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * للإباحة كما مر والإباحة مما ينافي الاحتياج إلى الكسب لما أن الاحتياج مناف للتخيير.
ثم قال تعالى:
* (واللائى يئسن من المحيض من نسآئكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا * ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا) *.
قوله: * (واللائي يئسن من المحيض) * الآية، ذكر الله تعالى في سورة البقرة عدة ذوات الأقراء والمتوفى عنها زوجها وذكر عدة سائر النسوة اللائي لم يذكرن هناك في هذه السورة، وروي أن معاذ بن جبل قال: يا رسول الله قد عرفنا عدة التي تحيض، فما عدة التي لم تحض فنزل: * (واللائي يئسن من المحيض) * وقوله: * (إن ارتبتم) * أي إن أشكل عليكم حكمهن في عدة التي لا تحيض، فهذا حكمهن، وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ الإياس وقد قدروه بستين سنة وبخمس وخمسين أهو دم حيض أو استحاضة * (فعدتهن ثلاثة أشهر) * فلما نزل قوله تعالى: * (فعدتهن ثلاثة أشهر) * قام رجل فقال: يا رسول الله فما عدة الصغيرة التي لم تحض؟ فنزل: * (واللائي لم يحضن) * أي هي بمنزلة الكبيرة التي قد يئست عدتها ثلاثة أشهر، فقام آخر وقال، وما عدة الحوامل يا رسول الله؟ فنزل: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * معناه أجلهن في انقطاع ما بينهن وبين الأزواج وضع الحمل، وهذا عام في كل حامل، وكان علي عليه السلام يعتبر أبعد الأجلين، ويقول: * (واللذين يتوفون منكم) * (البقرة: 234) لا يجوز أن يدخل في قوله: * (وأولات الأحمال) * وذلك لأن أولات الأحمال إنما هو في عدة الطلاق، وهي لا تنقض عدة الوفاة إذا كانت بالحيض، وعند ابن عباس عدة الحامل المتوفى عنها زوجها أبعد الأجلين. وأما ابن مسعود فقال: يجوز أن يكون قوله: * (وأولات الأحمال) * مبتدأ خطاب ليس بمعطوف على قوله تعالى: * (واللائي يئسن) * ولما كان مبتدأ يتناول العدد كلها، ومما يدل عليه خبر سبيعة بنت الحرث أنها وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمسة عشر يوما، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتزوج، فدل على إباحة النكاح
35

قبل مضي أربعة أشهر وعشر، على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال. وقال الحسن: إن وضعت أحد الولدين انقضت عدتها، واحتج بقوله تعالى: * (أن يضعن حملهن) * ولم يقل: أحمالهن، لكن لا يصح، وقرئ (أحمالهن)، وقوله: * (ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا) * أي ييسر الله عليه في أمره، ويوفقه للعمل الصالح. وقال عطاء: يسهل الله عليه أمر الدنيا والآخرة، وقوله: * (ذلك أمر الله أنزله إليكم) * يعني الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم، ومن يتق الله بطاعته، ويعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم يكفر عنه سيئاته من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة، ويعظم له في الآخرة أجرا، قاله ابن عباس. فإن قيل قال تعالى: * (أجلهن أن يضعن حملهن) * ولم يقل: أن يلدن، نقول: الحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولو كان كما قاله، لكانت عدتهن بوضع بعض حملهن، وليس كذلك.
ثم قال تعالى:
* (أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضآروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فاتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى * لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممآ ءاتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا مآ ءاتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) *.
قوله تعالى: * (أسكنوهن) * وما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله: * (ومن يتق الله) * (الطلاق: 4) كأنه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدات، فقيل: * (أسكنوهن) * قال صاحب " الكشاف ": (من) صلة، والمعنى أسكنوهن حيث سكنتم. قال أبو عبيدة: * (من وجدكم) * أي وسعكم وسعتكم، وقال
الفراء: على قدر طاقتكم، وقال أبو إسحاق: يقال وجدت في المال وجدا، أي صرت ذا مال، وقرئ بفتح الواو أيضا وبخفضها، والوجد الوسع والطاقة، وقوله: * (ولا تضاروهن) * نهي عن مضارتهن بالتضييق عليهن في السكنى والنفقة * (وإن كن أولات حمل
36

فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * وهذا بيان حكم المطلقة البائنة، لأن الرجعية تستحق النفقة، وإن لم تكن حاملا، وإن كانت مطلقة ثلاثا أو مختلعة فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملا، وعند مالك والشافعي، ليس للمبتوتة إلا السكنى ولا نفقة لها، وعن الحسن وحماد لا نفقة لها ولا سكنى، لحديث فاطمة بنت قيس أن زوجها بت طلاقها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا سكنى لك ولا نفقة. وقوله: * (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) * يعني حق الرضاع وأجرته وقد مر، وهو دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها وإلا لم يكن لها أن تأخذ الأجر، وفيه دليل على أن حق الرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات وإلا لكان لها بعض الأجر دون الكل، وقوله تعالى: * (وائتمروا بينكم بمعروف) * قال عطاء: يريد بفضل معروفا منك، وقال مقاتل: بتراضي الأب والأم، وقال المبرد: ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف، والخطاب للأزواج من النساء والرجال، والمعروف ههنا أن لا يقصر الرجل في حق المرأة ونفقتها ولا هي في حق الولد ورضاعه وقد مر تفسير الائتمار، وقيل: الائتمار التشاور في إرضاعه إذا تعاسرت هي، وقوله تعالى: * (وإن تعاسرتم) * أي في الأجرة: * (فسترضع له أخرى) * غير الأم، ثم بين قدر الإنفاق بقوله: * (لينفق ذو سعة من سعته) * أمر أهل التوسعة أن يوسعوا على نسائهم المرضعات على قدر سعتهم ومن كان رزقه بمقدار القوت فلينفق على مقدار ذلك، ونظيره: * (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * (البقرة: 236) وقوله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) * أي ما أعطاها من الرزق، قال السدي: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، وقوله: * (سيجعل الله بعد عسر يسرا) * أي بعد ضيق وشدة غنى وسعة ورخاء وكان الغالب في ذلك الوقت الفقر والفاقة، فأعلمهم الله تعالى أن يجعل بعد عسر يسرا وهذا كالبشارة لهم بمطلوبهم، ثم في الآية مباحث: الأول: إذا قيل: (من) في قوله: * (من حيث سكنتم) * ما هي؟ نقول: هي التبعيضية أي بعض مكان سكناكم إن لم يكن (لكم) غير بيت واحد فأسكنوها في بعض جوانبه. الثاني: ما موقع * (من وجدكم) *؟ نقول: عطف بيان لقوله: * (من حيث سكنتم) * وتفسير له، أي مكانا من مسكنكم على قدر طاقتكم. الثالث: فإذا كانت كل مطلقة عندكم يجب لها النفقة، فما فائدة الشرط في قوله تعالى: * (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن) * نقول: فائدته أن مدة الحمل ربما طال وقتها، فيظن أن النفقة تسقط إذا مضى مقدار مدة الحمل، فنفى ذلك الظن.
ثم قال تعالى:
* (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها
37

عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا * أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولى الألباب الذين ءامنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم ءايات الله مبينات ليخرج الذين ءامنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا قد أحسن الله له رزقا) *.
قوله تعالى: * (وكأين من قرية) * الكلام في كأين قد مر، وقوله: * (عتت عن أمر ربها) * وصف القرية بالعتو والمراد أهلها، كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) قال ابن عباس: * (عتت عن أمر ربها) * أي أعرضت عنه، وقال مقاتل: خالفت أمر ربها، وخالفت رسله، فحاسبناها حسابا شديدا، فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجازاها العذاب، وهو قوله: * (وعذبناها عذابا نكرا) * أي عذابا منكرا عظيما، فسر المحاسبة بالتعذيب.
وقال الكلبي: هذا على التقديم والتأخير، يعني فعذبناها في الدنيا وحاسبناها في الآخرة حسابا شديدا، والمراد حساب الآخرة وعذابها * (فذاقت وبال أمرها) * أي شدة أمرها وعقوبة كفرها.
وقال ابن عباس: عاقبة كفرها * (وكان عاقبة أمرها خسرا) * أي عاقبة عتوها خسارا في الآخرة، وهو قوله تعالى: * (أعد الله لهم عذابا شديدا) * يخوف كفار مكة أن يكذبوا محمدا فينزل بهم ما نزل بالأمم قبلهم، وقوله تعالى: * (فاتقوا الله يا أولي الألباب) * خطاب لأهل الإيمان، أي فاتقوا الله عن أن تكفروا به وبرسوله، وقوله: * (قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا) * هو على وجهين أحدهما: أنزل الله إليكم ذكرا، هو الرسول، وإنما سماه ذكرا لأنه يذكر ما يرجع إلى دينهم وعقباهم وثانيهما: أنزل الله إليكم ذكرا، وأرسل رسولا.
وقال في " الكشاف ": * (رسولا) * هو جبريل عليه السلام، أبدل من * (ذكرا) * لأنه وصف بتلاوة آيات الله، فكان إنزاله في معنى إنزال الذكر، والذكر قد يراد به الشرف، كما في قوله تعالى: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) وقد يراد به القرآن، كما في قوله تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر) * (النحل: 44) وقرئ (رسول) على هو رسول، و * (يتلو عليكم آيات الله مبينات) * بالخفض والنصب، والآيات هي الحجج فبالخفض، لأنها تبين الأمر والنبي والحلال والحرام، ومن نصب يريد أنه تعالى أوضح آياته وبينها أنها من عنده.
وقوله تعالى: * (ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) * يعني من ظلمة
38

الكفر إلى نور الإيمان ومن ظلمة الشبهة إلى نور الحجة، ومن ظلمة الجهل إلى نور العلم.
وفي الآية مباحث:
الأولى: قوله تعالى: * (فاتقوا الله يا أولي الألباب) * يتعلق بقوله تعالى: * (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها) * أم لا؟ فنقول: قوله: * (فاتقوا الله) * يؤكد
قول من قال: المراد من قرية أهلها، لما أنه يدل على أن خطاب الله تعالى لا يكون إلا لذوي العقول فمن لا عقل له فلا خطاب عليه، وقيل قوله تعالى: * (وكأين من قرية) * مشتمل على الترهيب والترغيب.
الثاني: الإيمان هو التقوى في الحقيقة وأولوا الألباب الذين آمنوا كانوا من المتقدمين بالضرورة فكيف يقال لهم: * (فاتقوا الله) *؟ نقول: للتقوى درجات ومراتب فالدرجة الأولى هي التقوى من الشرك والبواقي هي التقوى من المعاصي التي هي غير الشرك فأهل الإيمان إذا أمروا بالتقوى كان ذلك الأمر بالنسبة إلى الكبائر والصغائر لا بالنسبة إلى الشرك.
الثالث: كل من آمن بالله فقد خرج من الظلمات إلى النور وإذا كان كذلك فحق هذا الكلام وهو قوله تعالى: * (ليخرج الذين آمنوا) * أن يقال: ليخرج الذين كفروا؟ نقول: يمكن أن يكون المراد: ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل كما في قوله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى) * (آل عمران: 55) أي وإذ يقول الله، ويمكن أن يكون ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم.
ثم قال تعالى: * (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا، الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن، يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) *. قوله: * (ومن يؤمن بالله) * فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب، وقرئ * (يدخله) * بالياء والنون، و * (قد أحسن الله له زرقا) * قال الزجاج: رزقه الله الجنة التي لا ينقطع نعيمها، وقيل: * (رزقا) * أي طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة ونظيره * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * (البقرة: 201).
* (الله الذى خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شىء قدير وأن الله قد أحاط بكل شىء علما) *.
قال الكلبي: خلق سبع سماوات بعضها فوق بعض مثل القبة، ومن الأرض
39

مثلهن في كونها طباقا متلاصقة كما هو المشهور أن الأرض ثلاث طبقات طبقة أرضية محضة وطبقة طينية، وهي غير محضة، وطبقة منكشفة بعضها في البحر وبعضها في البر وهي المعمورة، ولا بعد في قوله: * (ومن الأرض مثلهن) * من كونها سبعة أقاليم على حسب سبع سماوات، وسبع كواكب فيها وهي السيارة فإن لكل واحد من هذه الكواكب خواص تظهر آثار تلك الخواص في كل إقليم من أقاليم الأرض فتصير سبعة بهذا الاعتبار، فهذه هي الوجوه التي لا يأباها العقل، وما عداها من الوجوه المنقولة عن أهل التفسير فذلك من جملة ما يأباها العقل مثل ما يقال: السماوات السبع أولها: موج مكفوف وثانيها: صخر وثالثها: حديد ورابعها: نحاس وخامسها: فضة وسادسها: ذهب وسابعها: ياقوت، وقول من قال: بين كل واحدة منها مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل واحدة منها كذلك، فذلك غير معتبر عند أهل التحقيق، اللهم إلا أن يكون نقل متوتر (ا)، ويمكن أن يكون أكثر من ذلك والله أعلم بأنه ما هو وكيف هو. فقوله: * (الله الذي خلق) * مبتدأ وخبر، وقرئ * (مثلهن) * بالنصب عطفا على * (سبع سماوات) * وبالرفع على الابتداء وخبره * (من الأرض) *.
وقوله تعالى: * (يتنزل الأمر بينهن) * قال عطاء يريد الوحي بينهن إلى خلقه في كل أرض وفي كل سماء، وقال مقاتل: يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى، وقال مجاهد: * (يتنزل الأمر بينهن) * بحياة بعض وموت بعض وسلامة هذا وهلاك ذاك مثلا وقال قتادة: في كل سماء من سماواته وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه، وقرئ * (ينزل الأمر بينهن) * قوله تعالى: * (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير) * قرىء * (ليعلموا) * بالياء والتاء أي لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السماوات والأرض، وما جرى من التدبير فيها أن من بلغت قدرته هذا المبلغ الذي لا يمكن أن يكون لغيره كانت قدرته ذاتية لا يعجزه شيء عما أراده وقوله: * (أن الله على كل شيء قدير) * من قبل ما تقدم ذكره * (وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) * يعني بكل شيء من الكليات والجزئيات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، عالم بجميع الأشياء وقادر على الإنشاء بعد الإفناء، فتبارك الله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
40

سورة التحريم
اثنتا عشرة آية مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها النبى لم تحرم مآ أحل الله لك تبتغى مرضات أزواجك والله غفور رحيم) *.
أما التعلق بما قبلها، فذلك لاشتراكهما في الأحكام المخصوصة بالنساء، واشتراك الخطاب بالطلاق في أول تلك السورة مع الخطاب بالتحريم في أول هذه السورة لما كان الطلاق في الأكثر من الصور أو في الكل كما هو مذهب البعض مشتملا على تحريم ما أحل الله، وأما الأول بالآخر، فلأن المذكور في آخر تلك السورة، يدل على عظمة حضرة الله تعالى، كما أنه يدل على كمال قدرته وكمال علمه، لما كان خلق السماوات والأرض وما فيهما من الغرائب والعجائب مفتقرا إليهما وعظمة الحضرة مما ينافي القدرة على تحريم ما أحل الله، ولهذا قال تعالى: * (لم تحرم ما أحل الله لك) * واختلفوا في الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه، قال في " الكشاف ": روي أنه عليه الصلاة والسلام خلا بمارية في يوم عائشة وعلمت بذلك حفصة، فقال لها: اكتمي علي وقد حرمت مارية على نفسي وأبشرك أن أبا بكر وعمر يملكان بعدي أمر أمتي، فأخبرت به عائشة، وكانتا متصادقتين، وقيل: خلا بها في يوم حفصة، فأرضاها بذلك واستكتمها، فلم تكتم فطلقها واعتزل نساءه، ومكث تسعا وعشرين ليلة في بيت مارية، وروي أن عمر قال لها لو كان في آل الخطاب خير لما طلقك، فنزل جبريل عليه السلام، وقال: راجعها فإنها صوامة قوامة
وإنها من نسائك في الجنة، وروي أنه ما طلقها وإنما نوه بطلاقها، وروي أنه عليه الصلاة والسلام شرب عسلا في بيت زينب بنت جحش فتواطأت عائشة وحفصة، فقالتا له: إنا نشم منك ريح المغافير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره التفل فحرم العسل، فمعناه: لم تحرم ما أحل الله لك من ملك اليمين أو من العسل، والأول قول الحسن ومجاهد وقتادة والشعبي ومسروق ورواية ثابت عن أنس قال مسروق: حرم النبي صلى الله عليه وسلم أم ولده وحلف أن لا يقربها
41

فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له: أما الحرام فحلال، وأما اليمين التي حلفت عليها، فقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم.
وقال الشعبي: كان مع الحرام يمين فعوتب في الحرام، وإنما يكفر اليمين، فذلك قوله تعالى: * (قد فرض الله) * الآية قال صاحب " النظم " قوله: * (لم تحرم) * استفهام بمعنى الإنكار والإنكار من الله تعالى نهي، وتحريم الحلال مكروه، والحلال لا يحرم إلا بتحريم الله تعالى وقوله تعالى: * (تبتغي مرضات أزواجك) * و * (تبتغي) * حال خرجت مخرج المضارع والمعنى: لم تحرم مبتغيا مرضات أزواجك قال في " الكشاف ": * (تبتغي) *، إما تفسير لتحرم، أو حال أو استئناف، وهذا زلة منه، لأنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله * (والله غفور رحيم) * قد غفر لك ما تقدم من الزلة، * (رحيم) * قد رحمك لم يؤاخذك به، ثم في الآية مباحث:
البحث الأول: * (لم تحرم ما أحل الله لك) * يوهم أن هذا الخطاب بطريق العتاب وخطاب الوصف، وهو النبي ينافي ذلك لما فيه من التشريف والتعظيم فكيف هو نقول: الظاهر أن هذا الخطاب ليس بطريق العتاب بل بطريق التنبيه على أن ما صدر منه لم يكن كما ينبغي.
البحث الثاني: تحريم ما أحل الله تعالى غير ممكن، لما أن الإحلال ترجيح جانب الحل والتحريم ترجيح جانب الحرمة، ولا مجال للاجتماع بين الترجيحين فكيف يقال: * (لم تحرم ما أحل الله) *؟ نقول: المراد من هذا التحريم هو الامتناع عن الانتفاع بالأزواج لا اعتقاد كونه حراما بعدما أحل الله تعالى فالنبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الانتفاع معها مع اعتقاده بكونه حلالا ومن اعتقد أن هذا التحريم هو تحريم ما أحله الله تعالى بعينه فقد كفر فكيف يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا.
البحث الثالث: إذا قيل: ما حكم تحريم الحلال؟ نقول: اختلفت الأئمة فيه فأبو حنيفة يراه يمينا في كل شيء، ويعتبر الانتفاع المقصود فيما يحرمه فإذا حرم طعاما فقد حلف على أكله أو أمة فعلى وطئها أو زوجة فعلى الإيلاء منها إذا لم يكن له نية وإن نوى الظهار فظهار، وإن نوى الطلاق فطلاق بائن وكذلك إن نوى اثنتين، وإن نوى ثلاثا فكما نوى، فإن قال: نويت الكذب دين فيما بينه وبين ربه ولا يدين في القضاء بإبطال الإيلاء، وإن قال: كل حلال عليه حرام فعلى الطعام والشراب إذا لم ينو وإلا فعلى ما نوى ولا يراه الشافعي يمينا، ولكن سببا (في الكفارة) في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي عنده، وأما اختلاف الصحابة فيه فكما هو في " الكشاف "، فلا حاجة بنا إلى ذكر ذلك.
ثم قال تعالى:
* (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم * وإذ أسر النبى إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه
42

وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير) *.
* (قد فرض الله لكم) *.
قال مقاتل: قد بين الله، كما في قوله تعالى: * (سورة أنزلناها وفرضناها) * (النور: 1) وقال الباقون: قد أوجب، قال صاحب " النظم ": إذا وصل بعلى لم يحتمل غير الإيجاب كما في قوله تعالى: * (قد علمنا ما فرضنا عليهم) * (الأحزاب: 50) وإذا وصل باللام احتمل الوجهين، وقوله تعالى: * (تحلة أيمانكم) * أي تحليلها بالكفارة وتحلة على وزن تفعلة وأصله تحللة وتحلة القسم على وجهين أحدهما: تحليله بالكفارة كالذي في هذه الآية وثانيهما: أن يستعمل بمعنى الشيء القليل، وهذا هو الأكثر كما روي في الحديث: " لن يلج النار إلا تحلة القسم " يعني زمانا يسيرا، وقرئ (كفارة أيمانكم)، ونقل جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف أن لا يطأ جاريته فذكر الله له ما أوجب من كفارة اليمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الحرام يمين، يعني إذا قال: أنت علي حرام ولم ينو طلاقا ولا ظهارا كان هذا اللفظ موجبا لكفارة يمين * (والله مولاكم) *، أي وليكم وناصركم وهو العليم بخلقه الحكيم فيما فرض من حكمه، وقوله تعالى: * (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا) * يعني ما أسر إلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه واستكتمها ذلك وقيل لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم الغيرة في وجه حفصة أراد أن يترضاها فأسر إليها بشيئين تحريم الأمة على نفسه والبشارة بأن الخلافة بعده في أبي بكر وأبيها عمر، قاله ابن عباس وقوله: * (فلما نبأت به) * أي أخبرت به عائشة وأظهره الله عليه أطلع نبيه على قول حفصة لعائشة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم حفصة عند ذلك ببعض ما قالت وهو قوله تعالى: * (عرف بعضه) * حفصة: * (وأعرض عن بعض) * لم يخبرها أنك أخبرت عائشة على وجه التكرم والإغضاء، والذي أعرض عنه ذكر خلافة أبي بكر وعمر، وقرئ (عرف) مخففا أي جازى عليه من قولك للمسئ لأعرفن لك ذلك وقد عرفت ما صنعت قال تعالى: * (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم) * (النساء: 63) أي يجازيهم وهو يعلم ما في قلوب الخلق أجمعين وقوله تعالى: * (فلما نبأها به قالت) * حفصة: * (من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير) * وصفه بكون خبيرا بعد ما وصفه بكون عليما لما أن في الخبير من المبالغة ما ليس في العليم، وفي الآية مباحث: البحث الأول: كيف يناسب قوله: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * إلى قوله * (لم تحرم ما أحل الله لك) * (التحريم: 1)؟ نقول: يناسبه لما كان تحريم المرأة يمينا حتى إذا قال لامرأته: أنت علي حرام فهو يمين ويصير موليا بذكره من بعد ويكفر.
البحث الثاني: ظاهر قوله تعالى: * (قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم) * إنه كانت منه يمين
43

فهل كفر النبي عليه الصلاة والسلام لذلك؟ نقول: عن الحسن أنه لم يكفر لأنه كان مغفورا له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنما هو تعليم للمؤمنين، وعن مقاتل أنه أعتق رقبة في تحريم مارية.
ثم قال تعالى:
* (إن تتوبآ إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير * عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا) *.
قوله: * (إن تتوبا إلى الله) * خطاب لعائشة وحفصة على طريقة الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما والتوبة من التعاون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيذاء * (فقد صغت قلوبكما) * أي عدلت ومالت عن الحق، وهو حق الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك حق عظيم يوجد فيه استحقاق العتاب بأدنى تقصير وجواب الشرط محذوف للعلم به على تقدير: كان خيرا لكما، والمراد بالجمع في قوله تعالى: * (قلوبكما) * التثنية، قال الفراء: وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما يكون عليه الجوارح اثنان اثنان في الإنسان كاليدين والرجلين والعينين، فلما جرى أكثره على ذلك ذهب بالواحد منه إذا أضيف إلى اثنين مذهب الاثنين، وقد مر هذا، وقوله تعالى: * (وإن تظاهرا عليه) * أي وإن تعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بالإيذاء * (فإن الله هو مولاه) * أي لم يضره ذلك التظاهر منكما * (ومولاه) * أي وليه وناصره * (وجبريل) * رأس الكروبيين، قرن ذكره بذكره مفردا له من الملائكة تعظيما له وإظهارا لمكانته (عنده) * (وصالح المؤمنين) *.
قال ابن عباس: يريد أبا بكر وعمر مواليين النبي صلى الله عليه وسلم على من عاداه، وناصرين له، وهو قول المقاتلين، وقال الضحاك خيار المؤمنين، وقيل من صلح من المؤمنين، أي كل من آمن وعمل صالحا، وقيل: من برئ منهم من النفاق، وقيل: الأنبياء كلهم، وقيل: الخلفاء وقيل: الصحابة، وصالح ههنا ينوب عن الجمع، ويجوز أن يراد به الواحد والجمع، وقوله تعالى: * (والملائكة بعد ذلك) * أي بعد حضرة الله وجبريل وصالح المؤمنين * (ظهير) * أي فوج مظاهر للنبي صلى الله عليه وسلم، وأعوان له وظهير في معنى الظهراء، كقوله: * (وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69) قال الفراء: والملائكة بعد نصرة هؤلاء ظهير، قال أبو علي:
44

وقد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كقوله تعالى: * (ولا يسأل حميم حميما * يبصرونهم) * (المعارج: 10، 11) ثم خوف نساءه بقوله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) * قال المفسرون: عسى من الله واجب، وقرأ أهل الكوفة * (أن يبدله) * بالتخفيف، ثم إنه تعالى كان عالما أنه لا يطلقهن لكن أخبر عن قدرته أنه إن طلقهن أبدله خيرا منهم تخويفا لهن، والأكثر في قوله: * (طلقكن) * الإظهار، وعن أبي عمرو إدغام القاف في الكاف، لأنهما من حروف الفم، ثم وصف الأزواج اللاتي كان يبدله فقال: * (مسلمات) * أي خاضعات لله بالطاعة * (مؤمنات) * مصدقات بتوحيد الله تعالى مخلصات * (قانتات) * طائعات، وقيل: قائمات بالليل للصلاة، وهذا أشبه لأنه ذكر السائحات بعد هذا والسائحات الصائمات، فلزم أن يكون قيام الليل مع صيام النهار، وقرئ (سيحات)، وهي أبلغ وقيل للصائم: سائح لأن السائح لا زاد معه، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد من يطعمه فشبه بالصائم الذي يمسك إلى أن يجيء وقت إفطاره، وقيل: سائحات مهاجرات، ثم قال تعالى: * (ثيبات وأبكارا) * لأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة بعضها من الثيب وبعضها من الأبكار، فالذكر على حسب ما وقع، وفيه إشارة إلى أن تزوج النبي صلى الله عليه وسلم ليس على حسب الشهوة والرغبة، بل على حسب ابتغاء مرضات الله تعالى وفي الآية مباحث: البحث الأول: قوله * (بعد ذلك) * تعظيم للملائكة ومظاهرتهم، وقرئ * (تظاهرا) * و * (تتظاهرا) * و * (تظهرا) *.
البحث الثاني: كيف يكون المبدلات خيرا منهن، ولم يكن على وجه الأرض نساء خير من أمهات المؤمنين؟ نقول: إذا طلقهن الرسول لعصيانهن له، وإيذائهن إياه لم يبقين على تلك الصفة، وكان غيرهن من الموصوفات بهذه الأوصاف مع الطاعة لرسول الله خيرا منهن.
البحث الثالث: قوله: * (مسلمات مؤمنات) * يوهم التكرار، والمسلمات والمؤمنات على السواء؟ نقول: الإسلام هو التصديق باللسان والإيمان هو التصديق بالقلب، وقد لا يتوافقان فقوله: * (مسلمات مؤمنات) * تحقيق للتصديق بالقلب واللسان.
البحث الرابع: قال تعالى: * (ثيبات وأبكارا) * بواو العطف، ولم يقل: فيما عداهما بواو العطف، نقول: قال في " الكشاف ": إنها صفتان متنافيتان، لا يجتمعن فيهما اجتماعهن في سائر الصفات. (فلم يكن بد من الواو).
البحث الخامس: ذكر الثيبات في مقام المدح وهي من جملة ما يقلل رغبة الرجال إليهن.
نقول: يمكن أن يكون البعض من الثيب خيرا بالنسبة إلى البعض من الأبكار عند الرسول لاختصاصهن بالمال والجمال، أو النسب، أو المجموع مثلا، وإذا كان كذلك فلا يقدح ذكر الثيب في المدح لجواز أن يكون المراد مثل ما ذكرناه من الثيب.
45

ثم قال تعالى:
* (يا أيها الذين ءامنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله مآ أمرهم ويفعلون ما يؤمرون * يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) *.
* (قوا أنفسكم) * أي بالانتهاء عما نهاكم الله تعالى عنه، وقال مقاتل: أن يؤدب المسلم نفسه وأهله، فيأمرهم بالخير وينهاهم عن الشر، وقال في " الكشاف ": * (
قوا أنفسكم) * بترك المعاصي وفعل الطاعات، * (وأهليكم) * بأن تؤاخذوهم بما تؤاخذون به أنفسكم، وقيل: * (قوا أنفسكم) * مما تدعو إليه أنفسكم إذ الأنفس تأمرهم بالشر وقرئ: * (وأهلوكم) * عطفا على واو * (قوا) * وحسن العطف للفاصل، و * (نارا) * نوعا من النار لا يتقد إلا بالناس والحجارة، وعن ابن عباس هي حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حرا إذا أوقد عليها، وقرئ: * (وقودها) * بالضم، وقوله: * (عليها ملائكة) * يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم * (غلاظ شداد) * في إجرامهم غلظة وشدة أي جفاء وقوة، أو في أفعالهم جفاء وخشونة، ولا يبعد أن يكونوا بهذه الصفات في خلقهم، أو في أفعالهم بأن يكونوا أشداء على أعداء الله، رحماء على أولياء الله كما قال تعالى: * (أشداء على الكفار رحماء بينهم) * (الفتح: 29) وقوله تعالى: * (ويفعلون ما يؤمرون) * يدل على اشتدادهم لمكان الأمر، لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أوامر الله تعالى والانتقام من أعدائه، وفيه إشارة إلى أن الملائكة مكلفون في الآخرة بما أمرهم الله تعالى به وبما ينهاهم عنه والعصيان منهم مخالفة للأمر والنهي.
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) * لما ذكر شدة العذاب بالنار، واشتداد الملائكة في انتقام الأعداء، فقال: * (لا تعتذروا اليوم) * أي يقال لهم: لا تعتذروا اليوم إذ الاعتذار هو التوبة، والتوبة غير مقبولة بعد الدخول في النار، فلا ينفعكم الاعتذار، وقوله تعالى: * (إنما تجزون ما كنتم تعملون) * يعني إنما أعمالكم السيئة ألزمتكم العذاب في الحكمة، وفي الآية مباحث: البحث الأول: أنه تعالى خاطب المشركين في قوله: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) * وقال: * (أعدت للكافرين) * (البقرة: 24) جعلها معدة للكافرين، فما معنى مخاطبته به المؤمنين؟ نقول: الفساق وإن كانت دركاتهم فوق دركات الكفار، فإنهم مع الكفار في دار واحدة فقيل للذين آمنوا: * (قوا أنفسكم) * باجتناب الفسق مجاورة الذين أعدت لهم هذه النار، ولا يبعد أن يأمرهم بالتوقي من الارتداد.
46

البحث الثاني: كيف تكون الملائكة غلاظا شدادا وهم من الأرواح، فنقول: الغلظة والشدة بحسب الصفات لما كانوا من الأرواح لا بحسب الذات، وهذا أقرب بالنسبة إلى الغير من الأقوال.
البحث الثالث: قوله تعالى: * (لا يعصون الله ما أمرهم) * في معنى قوله: * (ويفعلون ما يؤمرون) * فما الفائدة في الذكر فنقول: ليس هذا في معنى ذلك لأن معنى الأول أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا ينكرونها، ومعنى الثاني أنهم (يؤدون) ما يؤمرون به كذا ذكره في " الكشاف ".
ثم قال تعالى:
* (يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار يوم لا يخزى الله النبى والذين ءامنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنآ أتمم لنا نورنا واغفر لنآ إنك على كل شىء قدير * يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) *.
قوله: * (توبة نصوحا) * أي توبة بالغة في النصح، وقال الفراء: نصوحا من صفة التوبة والمعنى توبة تنصح صاحبها بترك العود إلى ما تاب منه، وهو أنها الصادقة الناصحة ينصحون بها أنفسهم، وعن عاصم، * (نصوحا) * بضم النون، وهو مصدر نحو العقود، يقال: نصحت له نصحا ونصاحة ونصوحا، وقال في " الكشاف ": وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي، وهو أن يتوبوا عن القبائح نادمين عليها غاية الندامة لا يعودون، وقيل: من نصاحة الثوب، أي خياطته و * (عسى ربكم) * إطماع من الله تعالى لعباده.
وقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي) * نصب بيدخلكم، و * (لا يخزي) * تعريض لمن أخزاهم الله من أهل الكفر والفسق واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، ثم المعتزلة تعلقوا بقوله تعالى: * (يوم لا يخزي الله النبي) * وقالوا: الإخزاء يقع بالعذاب، فقد وعد بأن لا يعذب الذين آمنوا، ولو كان أصحاب الكبائر من الإيمان لم نخف عليهم العذاب، وأهل السنة أجابوا
47

عنه بأنه تعالى وعد أهل الإيمان بأن لا يخزيهم، والذين آمنوا ابتداء كلام، وخبره * (يسعى) *، أو * (لا يخزي الله) *، ثم من أهل السنة من يقف على قوله: * (يوم لا يخزي الله النبي) * أي لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء الفضيحة، أي لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا يقف عليه الكفرة، وقوله: * (بين أيديهم) * أي عند المشي * (وبأيمانهم) * عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم وفيه نور وخير، ويسعى النور بين أيديهم في موضع وضع الأقدام وبأيمانهم، لأن خلفهم وشمالهم طريق الكفرة.
وقوله تعالى: * (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) * قال ابن عباس: يقولون ذلك عند إطفاء نور المنافقين إشفاقا، وعن الحسن: أنه تعالى متمم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقربا إلى حضرة الله تعالى، كقوله: * (واستغفر لذنبك) * (محمد: 19) وهو مغفور، وقيل: أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر مواطئ قدمه، لأن النور على قدر الأعمال فيسألون إتمامه، وقيل: السابقون إلى الجنة يمرون مثل البرق على الصراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم حبوا وزحفا، فهم الذين يقولون: * (ربنا أتمم لنا نورنا) * قاله في " الكشاف "، وقوله تعالى: * (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين) * ذكر المنافقين مع أن لفظ الكفار يتناول المنافقين * (واغلظ عليهم) * أي شدد عليهم، والمجاهدة قد تكون بالقتال، وقد تكون بالحجة تارة باللسان، وتارة بالسنان، وقيل: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، لأنهم هم المرتكبون الكبائر، لأن أصحاب الرسول عصموا منها * (ومأواهم جهنم) * وقد مر بيانه، وفي الآية مباحث: البحث الأول: كيف تعلق * (يا أيها الذين آمنوا) * بما سبق وهو قوله: * (يا أيها الذين كفروا) * (التحريم: 7)؟ فنقول: نبههم تعالى على دفع العذاب في ذلك اليوم بالتوبة في هذا اليوم، إذ في ذلك اليوم لا تفيد وفيه لطيفة: وهي أن التنبيه
على الدفع بعد الترهيب فيما مضى يفيد الترغيب بذكر أحوالهم والإنعام في حقهم وإكرامهم. البحث الثاني: أنه تعالى لا يخزي النبي في ذلك اليوم ولا الذين آمنوا، فما الحاجة إلى قوله * (معه) *؟ فنقول: هي إفادة الاجتماع، يعني لا يخزي الله المجموع الذي يسعى نورهم وهذه فائدة عظيمة، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا وبين نبيهم تشريف في حقهم وتعظيم.
البحث الثالث: قوله: * (واغفر لنا) * يوهم أن الذنب لازم لكل واحد من المؤمنين والذنب لا يكون لازما، فنقول: يمكن أن يكون طلب المغفرة لما هو اللازم لكل ذنب، وهو التقصير في الخدمة والتقصير لازم لكل واحد من المؤمنين.
البحث الرابع: قال تعالى في أول السورة: * (يا أيها النبي لم تحرم) * (التحريم: 1) ومن بعده * (يا أيها النبي جاهد الكفار) * خاطبه بوصفه وهو النبي لا باسمه كقوله لآدم يا آدم، ولموسى يا موسى ولعيسى يا عيسى، نقول: خاطبه بهذا الوصف، ليدل على فضله عليهم وهذا ظاهر.
48

البحث الخامس: قوله تعالى: * (ومأواهم جهنم) * يدل على أن مصيرهم بئس المصير مطلقا إذ المطلق يدل على الدوام، وغير المطلق لا يدل لما أنه يطهرهم عن الآثام.
ثم قال تعالى:
* (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلا للذين ءامنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة ونجنى من فرعون وعمله ونجنى من القوم الظالمين) *.
قوله: * (ضرب الله مثلا) * أي بين حالهم بطريق التمثيل أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير اتقاء ولا محاباة، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كانوا فيه من القرابة بينهم وبين نبيهم وإنكارهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فيما جاء به من عند الله وإصرارهم عليه، وقطع العلائق، وجعل الأقارب من جملة الأجانب بل أبعد منهم وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر نبيا كحال امرأة نوح ولوط، لما خانتاهما لم يغن هذان الرسولان وقيل لهما في اليوم الآخر ادخلا النار ثم بين حال المسلمين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم كحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله تعالى مع كونها زوجة ظالم من أعداء الله تعالى، ومريم ابنة عمران وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفارا، وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمي المؤمنين، وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر، وضرب مثلا آخر في امرأة فرعون آسية بنت مزاحم، وقيل: هي عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت قصة إلقاء موسى عصاه، وتلقف العصا، فعذبها فرعون عذابا شديدا بسبب الإيمان، وعن أبي هريرة أنه وتدها بأربعة أوتاد، واستقبل بها الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت: رب نجني من فرعون فرقى بروحها إلى الجنة، فألقيت الصخرة على
49

جسد لا روح فيه، قال الحسن. رفعها إلى الجنة تأكل فيها وتشرب، وقيل: لما قالت: * (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) * رأت بيتها في الجنة يبنى لأجلها، وهو من درة واحدة، والله أعلم كيف هو وما هو؟ وفي الآية مباحث: البحث الأول: ما فائدة قوله تعالى * (من عبادنا) *؟ نقول: هو على وجهين أحدهما: تعظيما لهم كما مر الثاني: إظهارا للعبد بأنه لا يترجح على الآخر عنده إلا بالصلاح. البحث الثاني: ما كانت خيانتهما؟ نقول: نفاقهما وإخفاؤهما الكفر، وتظاهرهما على الرسولين، فامرأة نوح قالت لقومه إنه لمجنون وامرأة لوط كانت تدل على نزول ضيف إبراهيم، ولا يجوز أن تكون خيانتهما بالفجور، وعن ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط، وقيل: خيانتهما في الدين.
البحث الثالث: ما معنى الجمع بين * (عندك) * و * (في الجنة) *؟ نقول: طلبت القرب من رحمة الله ثم بينت مكان القرب بقولها: * (في الجنة) * أو أرادت ارتفاع درجتها في جنة المأوى التي هي أقرب إلى العرش.
ثم قال تعالى:
* (ومريم ابنة عمران التى أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين) *.
أحصنت أي عن الفواحش لأنها قذفت بالزنا. والفرج حمل على حقيقته، قال ابن عباس: نفخ جبريل في جيب الدرع ومده بأصبعيه ونفخ فيه، وكل ما في الدرع من خرق ونحوه فإنه يقع عليه اسم الفرج، وقيل: * (أحصنت) * تكلفت في عفتها، والمحصنة العفيفة: * (ونفخنا فيه من روحنا) * أي فرج ثوبها، وقيل: خلقنا فيه ما يظهر به الحياة في الأبدان. وقوله: * (فيه) * أي في عيسى، ومن قرأ (فيها) أي في نفس عيسى والنفث مؤنث، وأما التشبيه بالنفخ فذلك أن الروح إذا خلق فيه انتشر في تمام الجسد كالريح إذا نفخت في شيء، وقيل: بالنفخ لسرعة دخوله فيه نحو الريح وصدقت بكلمات ربها. قال مقاتل: يعني بعيسى، ويدل عليه قراءة الحسن (بكلمة ربها) وسمي عيسى (كلمة الله) في مواضع من القرآن. وجمعت تلك الكلمة هنا، وقال أبو علي الفارسي: الكلمات الشرائع التي شرع لها دون القول، فكأن المعنى صدقت الشرائع وأخذت بها وصدقت الكتب فلم تكذب والشرائع سميت بكلمات كما في قوله تعالى: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * (البقرة: 124) وقوله تعالى: * (صدقت) * قرىء بالتخفيف والتشديد على أنها جعلت الكلمات والكتب صادقة يعني وصفتها بالصدق، وهو معنى التصديق بعينه، وقرئ (كلمة) و (كلمات)، و (كتبه) و (كتابه)، والمراد بالكتاب هو الكثرة والشياع أيضا قوله تعالى: * (وكانت من القانتين) * الطائعين قاله ابن عباس، وقال عطاء: من المصلين، وفي الآية مباحث.
50

البحث الأول: ما كلمات الله وكتبه؟ نقول: المراد بكلمات الله الصحف المنزلة على إدريس وغيره، وبكتبه الكتب الأربعة، وأن يراد جميع ما كلم الله تعالى (به)
ملائكته وما كتبه في اللوح المحفوظ وغيره، وقرئ: * (بكلمة الله وكتابه) * أي بعيسى وكتابه وهو الإنجيل، فإن قيل: (لم قيل) * (من القانتين) * على التذكير، نقول: لأن القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين، فغلب ذكوره على إناثه، ومن للتبعيض، قاله في " الكشاف "، وقيل: من القانتين لأن المراد هو القوم، وأنه عام، ك * (اركعي مع الراكعين) * (آل عمران: 43) أي كوني من المقيمين على طاعة الله تعالى، ولأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام. وأما ضرب المثل بامرأة نوح المسماة بواعلة، وامرأة لوط المسماة بواهلة، فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها بتمامها إلا الله تعالى، منها التنبيه للرجال والنساء على الثواب العظيم، والعذاب الأليم، ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر المصلح، ومنها أن الرجل وإن كان في غاية الصلاح فلا يأمن المرأة، ولا يأمن نفسه، كالصادر من امرأتي نوح ولوط، ومنها العلم بأن إحصان المرأة وعفتها مفيدة غاية الإفادة، كما أفاد مريم بنت عمران، كما أخبر الله تعالى، فقال: * (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك) * (آل عمران: 42) ومنها التنبيه على أن التضرع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب، وإلى الثواب بغير حساب، وأن الرجوع إلى الحضرة الأزلية لازم في كل باب، وإليه المرجع والمآب، جلت قدرته وعلت كلمته، لا إله إلا هو وإليه المصير، والحمد لله رب العالمين، وصلاته على سيد المرسلين، وآله وصحبه وسلم.
51

سورة الملك
وهي ثلاثون آية مكية
سورة الملك وتسمى المنجية: لأنها تنجي قارئها من عذاب القبر، وعن ابن عباس أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن قارئها في القبر، وهي ثلاثون آية مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (تبارك الذى بيده الملك وهو على كل شىء قدير) *.
أما قوله: * (تبارك) * فقد فسرناه في أول سورة الفرقان، وأما قوله: * (بيده الملك) * فاعلم أن هذه اللفظة إنما تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكا ومالكا، كما يقال: بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد ولا مدخل للجارحة في ذلك.
قال صاحب " الكشاف ": * (بيده الملك) * على كل موجود، * (وهو على كل) * ما لم يوجد من الممكنات * (قدير) *، وقوله: * (وهو على كل شيء قدير) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية احتج بها من زعم أن المعدوم شيء، فقال قوله: * (إن الله على كل شيء قدير) * يقتضي كون مقدوره شيئا، فذلك الشيء الذي هو مقدور الله تعالى، إما أن يكون موجودا أو معدوما، لا جائز أن يكون موجودا، لأنه لو كان قادرا على الموجود، لكان إما أن يكون قادرا على إيجاده وهو محال، لأن إيجاد الموجود محال، وإما أن يكون قادرا على إعدامه وهو محال، لاستحالة وقوع الإعدام بالفاعل، وذلك لأن القدرة صفة مؤثرة فلا بد لها من تأثير، والعدم نفي محض، فيستحيل جعل العدم أثر القدرة، فيستحيل وقوع الإعدام بالفاعل فثبت أن الشيء الذي هو مقدور الله ليس بموجود، فوجب أن يكون معدوما، فلزم أن يكون ذلك المعدوم شيئا، واحتج أصحابنا النافون لكون المعدوم شيئا بهذه الآية فقالوا: لا شك أن الجوهر من حيث إنه جوهر شيء والسواد من حيث هو سواد شيء، والله قادر على كل شيء. فبمقتضى هذه الآية يلزم أن يكون قادرا على الجوهر من حيث إنه جوهر، وعلى السواد من حيث هو سواد، وإذا كان كذلك كان كون الجوهر جوهرا، والسواد سوادا واقعا بالفاعل، والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدما على فعله، فإذا وجود الله وذاته متقدم على كون الجوهر جوهرا، أو السواد سوادا، فيلزم أن لا يكون المعدوم شيئا وهو المطلوب، ثم أجابوا عن شبهة
52

الخصم بأنا لا نسلم أن الإعدام لا يقع بالفاعل، ولئن سلمنا ذلك، لكن لم يجوز أن يقال المقدور الذي هو معدوم سمي شيئا، لأجل أنه سيصير شيئا، وهذا وإن كان مجازا إلا أنه يجب المصير إليه، لقيام سائر الدلائل الدالة على أن المعدوم ليس بشيء.
المسألة الثانية: زعم القاضي أبو بكر في أحد قوليه أن إعدام الأجسام إنما يقع بالفاعل، وهذا اختيار أبي الحسن الخياط من المعتزلة، ومحمود الخوارزمي، وزعم الجمهور منا ومن المعتزلة أنه يستحيل وقوع الإعدام بالفاعل، احتج القاضي بأن الموجودات أشياء، والله على كل شيء قدير، فهو إذا قادر على الموجودات، فإما أن يكون قادرا على إيجادها وهو محال لأن إيجاد الموجود محال، أو على إعدامها، وذلك يقتضي إمكان وقوع الإعدام بالفاعل.
المسألة الثالثة: زعم الكعبي أنه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد، وزعم أبو علي وأبو هاشم أنه تعالى غير قادر على مقدور العبد، وقال أصحابنا: إنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد وعلى غير مقدوره، واحتجوا عليه بأن عين مقدور العبد ومثل مقدوره شيء، والله على كل شيء قدير، فثبت بهذا صحة وجود مقدور واحد بين قادرين.
المسألة الرابعة: زعم أصحابنا أنه لا مؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع على ما يقوله الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات على ما يقوله المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجدا لأفعال نفسه، واحتجوا على الكل بأن الآية دالة على أنه تعالى قادر على كل شيء، فلو وقع شيء من الممكنات لا بقدرة الله بل بشيء آخر، لكان ذلك الآخر قد منع قدرة الله عن التأثير فيما كان مقدورا له وذلك محال، لأن ما سوى الله ممكن محدث، فيكون أضعف قوة من قدرة الله، والأضعف لا يمكن أن يدفع الأقوى.
المسألة الخامسة: هذه الآية دالة على أن الإله تعالى واحد، لأنا لو قدرنا إلها ثانيا، فإما أن يقدر على إيجاد شيء أو لا يقدر، فإن لم يقدر البتة على إيجاد شيء أصلا
لم يكن إلها، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئا، فيلزم كونه مقدورا للإله الأول لقوله: * (وهو على كل شيء قدير) * فيلزم وقوع مخلوق بين خالقين وهو محال، لأنه إذا كان واحد منهما مستقلا بالإيجاد، يلزم أن يستغني بكل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجا إليهما، وغنيا عنهما، وذلك محال.
المسألة السادسة: احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء فقال: لو كان شيئا لكان قادرا على نفسه لقوله: * (وهو على كل شيء قدير) * لكن كونه قادرا على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئا، وقال أصحابنا لما دل قوله: * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد) * (الأنعام: 19) على أنه تعالى شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذا هذه الآية قد دلت على أن العام المخصوص وارد في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز بل واقع.
المسألة السابعة: زعم جمهور المعتزلة أن الله تعالى قادر على خلق الكذب والجهل
53

والعبث والظلم، وزعم النظام أنه غير قادر عليه، واحتج الجمهور بأن الجهل والكذب أشياء * (والله على كل شيء قدير) * فوجب كونه تعالى قادرا عليها.
المسألة الثامنة: احتج أهل التوحيد على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة، فإنه تعالى لو حصل في حيز دون حيز لكان ذلك الحيز الذي حكم بحصوله فيه متميزا عن الحيز الذي حكم بأنه غير حاصل فيه، إذ لو لم يتميز أحد الحيزين عن الآخر لاستحال الحكم بأنه تعالى حصل فيه ولم يحصل في الآخر ثم إن امتياز أحد الحيزين عن الآخر في نفسه يقتضي كون الحيز أمرا موجودا لأن العدم المحض يمتنع أن يكون مشارا إليه بالحس وأن يكون بعضه متميزا عن البعض في الحس، وأن يكون مقصدا للمتحرك، فإذن لو كان الله تعالى حاصلا في حيز لكان ذلك الحيز موجودا، ولو كان ذلك الحيز موجودا لكان شيئا ولكان مقدور الله لقوله تعالى: * (وهو على كل شيء قدير) * وإذا كان تحقق ذلك الحيز بقدرة الله وبإيجاده، فيلزم أن يكون الله متقدما في الوجود على تحقق ذلك الحيز، ومتى كان كذلك كان وجود الله في الأزل محققا من غير حيز وله جهة أصلا والأزلي لا يزول البتة، فثبت أنه تعالى منزه عن الحيز والمكان أزلا وأبدا.
المسألة التاسعة: أنه تعالى قال أولا: * (بيده الملك) * ثم قال بعده: * (وهو على كل شيء قدير) * وهذا مشعر بأنه إنما يكون بيده الملك لو ثبت أنه على كل شيء قدير، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه لو وقع مراد العبد ولا يقع مراد الله، لكان ذلك مشعرا بالعجز والضعف، وبأن لا يكون مالك الملك على الإطلاق، فدل ذلك، على أنه لما كان مالك الملك وجب أن يكون قادرا على جميع الأشياء.
المسألة العاشرة: القدير مبالغة في القادر، فلما كان قديرا على كل الأشياء وجب أن لا يمنعه البتة مانع عن إيجاد شيء من مقدوراته، وهذا يقتضي أن لا يجب لأحد عليه شيء وإلا لكان ذلك الوجوب مانعا له من الترك وأن لا يقبح منه شيء وإلا لكان ذلك القبح مانعا له من الفعل، فلا يكون كاملا في القدرة، فلا يكون قديرا والله أعلم.
* (الذى خلق الموت والحيواة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) *.
قوله تعالى: * (الذي خلق الموت والحياة) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قالوا: الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر واختلفوا في الموت، فقال قوم: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة وقال أصحابنا: إنه صفة وجودية مضادة للحياة واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال: * (الذي خلق الموت) * والعدم لا يكون مخلوقا هذا هو التحقيق، وروى الكلبي بإسناده عن ابن عباس أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلا مات وخلق الحياة
54

في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي.
واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولا على سبيل التمثيل والتصوير، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه. المسألة الثانية: إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه: أحدها: قال مقاتل: يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح وثانيها: روى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الموت في الدنيا والحياة في الآخرة دار الحيوان وثالثها: أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن مناديا ينادي يوم القيامة يا أهل الجنة، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا: نعم، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح ثم ينادي يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزن " واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة فلا يجوز أن يصير كبشا بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة ورابعها إنما قدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم.
المسألة الثالثة: اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضا في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم، والموت أيضا نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه، قال عليه الصلاة والسلام: " أكثروا من ذكر هازم اللذات " وقال لقوم: " لو أكثرتم ذكر هازم اللذات لشغلكم عما أرى " وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه، فقال: " كيف ذكره الموت؟ قالوا قليل، قال فليس كما تقولون ".
قوله تعالى: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي وذلك في حق من وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات أزلا وأبدا محال، إلا أنا قد
حققنا هذه المسألة في تأويل قوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * (البقرة: 124) والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه (الابتلاء) على المختبر.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: * (ليبلوكم) * قالوا: هذه اللام للغرض ونظيره قوله تعالى: * (إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وجوابه أن الفعل في نفسه ليس بابتلاء إلا أنه
55

لما أشبه الابتلاء سمي مجازا، فكذا ههنا، فإنه يشبه الغرض وإن لم يكن في نفسه غرضا، فذكر فيه حرف الغرض.
المسألة الثالثة: اعلم أنا فسرنا الموت والحياة بالموت حال كونه نطفة وعلقة ومضغة، والحياة بعد ذلك فوجه الابتلاء على هذا الوجه أن يعلم أنه تعالى هو الذي نقله من الموت إلى الحياة وكما فعل ذلك فلا بد وأن يكون قادرا على أن ينقله من الحياة إلى الموت فيحذر مجيء الموت الذي به ينقطع استدراك ما فات ويستوي فيه الفقير والغني والمولى والعبد، وأما إن فسرناهما بالموت في الدنيا وبالحياة في القيامة فالابتلاء فيهما أتم لأن الخوف من الموت في الدنيا حاصل وأشد منه الخوف من تبعات الحياة في القيامة، والمراد من الابتلاء أنه هل ينزجر عن القبائح بسبب هذا الخوف أم لا. المسألة الرابعة: في تعلق قوله: * (ليبلوكم) * بقوله: * (أيكم أحسن عملا) * وجهان: الأول: وهو قول الفراء والزجاج: إن المتعلق بأيكم مضمر والتقدير ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا والثاني: قال صاحب " الكشاف ": * (ليبلوكم) * في معنى ليعلمكم والتقدير ليعلمكم أيكم أحسن عملا.
المسألة الخامسة: ارتفعت (أي) بالابتداء ولا يعمل فيها ما قبلها لأنها على أصل الاستفهام فإنك إذا قلت: لا أعلم أيكم أفضل كان المعنى لا أعلم أزيد أفضل أم عمرو، واعلم أن مالا يعمل فيما بعد الألف فكذلك لا يعمل في (أي) لأن المعنى واحد، ونظير هذه الآية قوله: * (سلهم أيهم بذلك زعيم) * (القلم: 40) وقد تقدم الكلام فيه.
المسألة السادسة: ذكروا في تفسير * (أحسن عملا) * وجوها: أحدها: أن يكون أخلص الأعمال وأصوبها لأن العمل إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل، وكذلك إذا كان صوابا غير خالص فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة وثانيها: قال قتادة: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يقول أيكم أحسن عقلا " ثم قال: أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا، وإنما جاز أن يفسر حسن العمل بتمام العقل لأنه يترتب على العقل، فمن كان أتم عقلا كان أحسن عملا على ما ذكر في حديث قتادة وثالثها: روي عن الحسن أيكم أزهد في الدنيا وأشد تركا لها، واعلم أنه لما ذكر حديث الابتلاء قال بعده: * (وهو العزيز الغفور) * أي وهو العزيز الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل، الغفور لمن تاب من أهل الإساءة.
واعلم أن كونه عزيزا غفورا لا يتم إلا بعد كونه قادرا على كل المقدورات عالما بكل المعلومات أما أنه لا بد من القدرة التامة، فلأجل أن يتمكن من إيصال جزاء كل أحد بتمامه إليه سواء كان عقابا أو ثوابا، وأما أنه لا بد من العلم التام فلأجل أن يعلم أن المطيع من هو والعاصي من هو فلا يقع الخطأ في إيصال الحق إلى مستحقه، فثبت أن كونه عزيزا غفورا لا يمكن ثبوتها إلا بعد ثبوت
56

القدرة التامة والعلم التام، فلهذا السبب ذكر الله الدليل على ثبوت هاتين الصفتين في هذا المقام، ولما كان العلم بكونه تعالى قادرا متقدما على العلم بكونه عالما، لا جرم ذكر أولا دلائل القدرة وثانيا دلائل العلم.
* (الذى خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فى خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) *.
أما دليل القدرة فهو قوله: * (الذي خلق سبع سماوات طباقا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر صاحب " الكشاف " في * (طباقا) * ثلاثة أوجه أولها: طباقا أي مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقا على طبق، وهذا وصف بالمصدر وثانيها: أن يكون التقدير ذات طباق وثالثها: أن يكون التقدير طوبقت طباقا.
المسألة الثانية: دلالة هذه السماوات على القدرة من وجوه أحدها: من حيث إنها بقيت في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة وثانيها: من حيث إن كل واحد منها اختص بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص وثالثها: أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معينة ورابعها: كونها في ذواتها محدثة وكل ذلك يدل على استنادها إلى قادر تام القدرة.
وأما دليل العلم فهو قوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (من تفوت) * والباقون * (من تفاوت) *، قال الفراء: وهما بمنزلة واحدة مثل تظهر وتظاهر، وتعهد وتعاهد، وقال الأخفش: * (تفاوت) * أجود لأنهم يقولون: تفاوت الأمر ولا يكادون يقولون: تفوت، واختار أبو عبيدة: * (تفوت) *، وقال: يقال تفوت الشيء إذا فات، واحتج بما روي في الحديث أن رجلا تفوت على أبيه في ماله.
المسألة الثانية: حقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضه ولا يلائمه ومنه قولهم: (تعلق متعلق متفاوت ونقيضه متناسب)، وأما ألفاظ المفسرين فقال السدي: من تفاوت أي من اختلاف عيب، يقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن، وقال آخرون: التفاوت الفطور بدليل قوله بعد ذلك: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) * نظيره قوله: * (وما لها من فروج) * (ق: 6) قال القفال: ويحتمل أن يكون المعنى: ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكمة صانعها وأنه لم يخلقها عبثا. المسألة الثالثة: الخطاب في قوله: * (ما ترى) * إما للرسول أو لكل مخاطب وكذا القول في
57

قوله: * (فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا) *. المسألة الرابعة: قوله: * (طباقا) * صفة للسموات، وقوله بعد ذلك: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * صفة أخرى للسموات والتقدير خلق سبع سماوات طباقا ما ترى فيهن من تفاوت إلا أنه وضع مكان الضمير قوله: * (خلق الرحمن) * تعظيما لخلقهن وتنبيها على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب.
المسألة الخامسة: اعلم أن وجه الاستدلال بهذا على كمال علم الله تعالى هو أن الحس دل أن هذه السماوات السبع، أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعل كان فعله محكما متقنا فإنه لا بد وأن يكون عالما، فدل هذه الدلالة على كونه تعالى عالما بالمعلومات فقوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
المسألة السادسة: احتج الكعبي بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله تعالى، قال: لأنه تعالى نفى التفاوت في خلقه، وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص والعيب فوجب حمله على نفي التفاوت في خلقه من حيث الحكمة، فيدل من هذا الوجه على أن أفعال العباد ليست من خلقه على ما فيها من التفاوت الذي بعضه جهل وبعضه كذب وبعضه سفه، الجواب: بل نحن نحمله على أنه لا تفوت فيه بالنسبة إليه، من حيث إن الكل يصح منه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وإنه لا يقبح منه شيء أصلا، فلم كان حمل الآية على التفاوت من الوجه الذي ذكرتم أولى من حملها على نفي التفاوت من الوجه الذي ذكرناه، ثم إنه تعالى أكد بيان كونها محكمة متقنة، وقال: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) * والمعنى أنه لما قال: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * كأنه قال بعده: ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك بالبصر الواحد، ولا تعتمد عليه بسبب أنه قد يقع الغلط في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر واردد النظرة مرة أخرى، حتى تتيقن أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت البتة. والفطور جمع فطر، وهو الشق يقال: فطره فانفطر ومنه فطر ناب البعير، كما يقال: شق ومعناه شق اللحم فطلع، قال المفسرون: * (هل ترى من فطور) * أي من فروج وصدوع وشقوق، وفتوق، وخروق، كل هذا ألفاظهم.
ثم قال تعالى:
* (ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) *.
أمر بتكرير البصر في خلق الرحمن على سبيل التصفح والتتبع، هل يجد فيه عيبا وخللا، يعني أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل والعيب، بل يرجع إليك خاسئا أي مبعدا من قولك خسأت الكلب إذا باعدته، قال المبرد: الخاسئ المبعد المصغر، وقال ابن عباس: الخاسئ الذي لم ير ما يهوى، وأما الحسير فقال ابن عباس: هو الكليل، قال الليث:
58

الحسر والحسور الإعياء، وذكر الواحدي ههنا احتمالين أحدهما: أن يكون الحسير مفعولا من حسر العين بعد المرئي، قال رؤبة: يحسر طرف عيناه فضا (c) الثاني: قول الفراء: أن يكون فاعلا من الحسور الذي هو الإعياء، والمعنى أنه وإن كرر النظر وأعاده فإنه لا يجد عيبا ولا فطورا، بل البصر يرجع خاسئا من الكلال والإعياء، وههنا سؤالان: السؤال الأول: كيف ينقلب البصر خاسئا حسيرا برجعه كرتين اثنتين الجواب: التثنية للتكرار بكثرة كقولهم: لبيك وسعديك يريد إجابات متوالية.
السؤال الثاني: فما معنى * (ثم ارجع) * الجواب: أمره برجع البصر ثم أمره بأن لا يقنع بالرجعة الأولى، بل أن يتوقف بعدها ويجم بصره ثم يعيده ويعاوده إلى أن يحسر بصره من طول المعاودة فإنه لا يعثر على شيء من فطور.
* (ولقد زينا السمآء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير) *.
اعلم أن هذا هو الدليل الثاني على كونه تعالى قادرا عالما، وذلك لأن هذه الكواكب نظرا إلى أنها محدثة ومختصة بمقدار خاص، وموضع معين، وسير معين، تدل على أن صانعها قادر ونظرا إلى كونها محكمة متقنة موافقة لمصالح العباد من كونها زينة لأهل الدنيا، وسببا لانتفاعهم بها، تدل على أن صانعها عالم، ونظير هذه الآية في سورة الصفات * (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد) * (الصافات: 7) وههنا مسائل.
المسألة الأولى: * (السماء الدنيا) * القربى، وذلك لأنها أقرب السماوات إلى الناس ومعناها السماء الدنيا من الناس، والمصابيح السرج سميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بمصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة، أما قوله تعالى: * (وجعلناها رجوما للشياطين) * فاعلم أن الرجوم جمع رجم، وهو مصدر سمي به ما يرجم به، وذكروا في معرض هذه الآية وجهين: الوجه الأول أن الشياطين إذا أرادوا استراق السمع رجموا بها، فإن قيل: جعل الكواكب زينة للسماء يقتضي بقاءها واستمرارها وجعلها رجوما للشياطين ورميهم بها يقتضي زوالها والجمع بينهما متناقض، قلنا: ليس معنى رجم الشياطين هو أنهم يرمون بأجرام الكواكب، بل يجوز أن ينفصل من الكواكب شعل ترمى الشياطين بها، وتلك الشعل هي الشهب، وما ذاك إلا قبس يؤخذ من نار والنار
59

باقية الوجه الثاني: في تفسير كون الكواكب رجوما للشياطين أنا جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الإنس وهم الأحكاميون من المنجمين.
المسألة الثانية: اعلم أن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا، وذلك لأن السماوات إذا كانت شفافة فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا أو كانت في سماوات أخرى فوقها، فهي لا بد وأن تظهر في السماء الدنيا وتلوح منها، فعلى التقديرين تكون السماء الدنيا مزينة بهذه المصابيح.
واعلم أن أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الثوابت مركوزة في الفلك الثامن الذي هو فوق كرات السيارات، واحتجوا عليه بأن بعض هذه الثوابت في الفلك الثامن،
فيجب أن تكون كلها هناك، وإنما قلنا: إن بعضها في الفلك الثامن، وذلك لأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بهذه السيارات، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة، وإنما قلنا: إن هذه الثوابت لما كانت في الفلك الثامن وجب أن تكون كلها هناك، لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة، فلا بد وأن تكون مركوزة في كرة واحدة.
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف، فإنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هناك، لأنه لا يبعد وجود كرة تحت القمر، وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت، وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارن القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية، إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون هذه المصابيح مركوزة في السماء الدنيا، فثبت أن مذهب الفلاسفة في هذا الباب ضعيف.
المسألة الثالثة: اعلم أن منافع النجوم كثيرة، منها أن الله تعالى زين السماء بها، ومنها أنه يحصل بسببها في الليل قدر من الضوء، ولذلك فإنه إذا تكاثف السحاب في الليل عظمت الظلمة، وذلك بسبب أن السحاب يحجب أنوارها، ومنها أنه يحصل بسببها تفاوت في أحوال الفصول الأربعة، فإنها أجسام عظيمة نورانية، فإذا قارنت الشمس كوكبا مسخنا في الصيف، صار الصيف أقوى حرا، وهو مثل نار تضم إلى نار أخرى، فإنه لا شك أن يكون الأثر الحاصل من المجموع أقوى، ومنها أنه تعالى جعلها علامات يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، على ما قال تعالى: * (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) * (النحل: 16) ومنها أنه تعالى جعلها رجوما للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الإيمان إلى ظلمات الكفر، يروى أن السبب في ذلك أن الجن كانت تتسمع لخبر السماء، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء، ورصدت الشياطين، فمن جاء منهم مسترقا للسمع رمي بشهاب فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النبي أمره ويرتاب الناس بخبره، فهذا هو السبب في انقضاض الشهب، وهو المراد من قوله: * (وجعلناها رجوما للشياطين) * ومن الناس
60

من طعن في هذا من وجوه أحدها: أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة، قالوا: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس، وإذا بلغ الناس التي دون الفلك احترق بها، فتلك الشعلة هي الشهاب وثانيها: أن هؤلاء الجن كيف يجوز أن يشاهدوا واحدا وألفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم فإن العاقل إذا رأى الهلاك في شيء مرة ومرارا وألفا امتنع أن يعود إليه من غير فائدة وثالثها: أنه يقال في ثخن السماء فإنه مسيرة خمسمائة عام، فهؤلاء الجن إن نفذوا في جرم السماء وخرقوا اتصاله، فهذا باطل لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال: * (فارجع البصر هل ترى من فطور) * (الملك: 3) وإن كانوا لا ينفذون في جرم السماء، فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم، ثم إن جاز أن يسمعوا كلامهم من ذلك البعد العظيم، فلا يسمعوا كلام الملائكة حال كونهم في الأرض ورابعها: أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة، إما لأنهم طالعوها في اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها من وحي الله تعالى إليهم، وعلى التقديرين فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يتمكن الجن من الوقوف عليها وخامسها: أن الشياطين مخلوقون من النار، والنار لا تحرق النار بل تقويها، فكيف يعقل أن يقال: إن الشياطين زجروا عن استراق السمع بهذه الشهب وسادسها: أنه كان هذا الحذف لأجل النبوة فلم دام بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام وسابعها: أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض، بدليل أنا نشاهد حركتها بالعين ولو كانت قريبة من الفلك، لما شاهدنا حركتها كما لم نشاهد حركات الكواكب، وإذا ثبت أن هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض، فكيف يقال: إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك وثامنها: أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار، حتى يتوصل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم؟ وتاسعها: لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء حتى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب؟.
والجواب عن السؤال الأول: أنا لا ننكر أن هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لأسباب آخر، إلا أن ذلك لا ينافي أنها بعد مبعث النبي عليه الصلاة والسلام قد توجد بسبب آخر وهو دفع الجن وزجرهم.
يروى أنه قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية قال: نعم، قيل: أفرأيت قوله تعالى: * (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا) * (الجن: 9) قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب عن السؤال الثاني: أنه إذا جاء القدر عمي البصر، فإذا قضى الله على طائفة منها الحرق لطغيانها وضلالتها، قيض لها من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها، تقدم على العمل المفضي إلى الهلاك والبوار.
61

والجواب عن السؤال الثالث: أن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، فأما ثخن الفلك فلعله لا يكون عظيما.
وأما الجواب عن السؤال الرابع: ما روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: " ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا، قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم " قال عليه الصلاة والسلام: " فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش، ثم سبح أهل السماء، وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء، ويستخبر أهل السماء حملة العرش، ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ولا يزال ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويتخطف الجن فيرمون، فما جاءوا به فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه.
والجواب عن السؤال الخامس: أن النار قد تكون أقوى من نار أخرى، فالأقوى يبطل الأضعف. والجواب عن السؤال السادس: أنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة، فلو لم يدم هذا العذاب لعادت الكهانة، وذلك يقدح في خبر الرسول عن بطلان الكهانة.
والجواب عن السؤال السابع: أن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع، فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك الموضع سمعوا كلام الملائكة.
والجواب عن السؤال الثامن: لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.
والجواب عن السؤال التاسع: أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهذا ما يتعلق بهذا الباب على سبيل الاختصار والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر منافع الكواكب وذكر أن من جملة المنافع أنها رجوم للشياطين، قال بعد ذلك: * (وأعتدنا لهم عذاب السعير) * أي أعتدنا للشياطين بعد الإحراق بالشهب في الدنيا عذاب السعير في الآخرة، قال المبرد: سعرت النار فهي مسعورة وسعير كقولك: مقبولة وقبيل، واحتج أصحابنا على أن النار مخلوقة الآن بهذه الآية، لأن قوله: * (وأعتدنا) * إخبار عن الماضي.
* (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير) *.
اعلم أنه تعالى بين في أول السورة أنه قادر على جميع الممكنات، ثم ذكر بعده أنه وإن كان قادرا على الكل إلا أنه إنما خلق ما خلق لا للعبث والباطل بل لأجل الابتلاء والامتحان، وبين
62

أن المقصود من ذلك الابتلاء أن يكون عزيزا في حق المصرين على الإساءة غفورا في حق التائبين ومن ذلك كان كونه عزيزا وغفورا لا يثبتان إلا إذا ثبت كونه تعالى كاملا في القدرة والعلم بين ذلك بالدلائل المذكورة، وحينئذ ثبت كونه قادرا على تعذيب العصاة فقال: * (وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم) * أي ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم، ليس الشياطين المرجومون مخصوصين بذلك، وقرئ: * (عذاب جهنم) * بالنصب عطف بيان على قوله: * (عذاب السعير) * (الحج: 4) ثم إنه تعالى وصف ذلك العذاب بصفاته كثيرة.
* (إذآ ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهى تفور) *.
الصفة الأولى: قوله تعالى: * (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا) *. * (ألقوا) * طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به فيها، ومثله قوله: * (حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) وفي قوله: * (سمعوا لها شهيقا) * وجوه أحدها: قال مقاتل: سمعوا لجهنم شهيقا، ولعل المراد تشبيه صوت لهب النار بالشهيق، قال الزجاج: سمع الكفار للنار شهيقا، وهو أقبح الأصوات، وهو كصوت الحمار، وقال المبرد: هو والله أعلم تنفس كتنفس المتغيظ وثانيها: قال عطاء: سمعوا لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها شهيقا وثالثها: سمعوا من أنفسهم شهيقا، كقوله تعالى: * (لهم فيها زفير وشهيق) * (هود: 106) والقول هو الأول.
الصفة الثانية: قوله: * (وهي تفور) * قال الليث: كل شيء جاش فقد فار، وهو فور القدر والدخان والغضب والماء من العين، قال ابن عباس: تغلي بهم كغلي المرجل، وقال مجاهد: تفور بهم كما يفور الماء الكثير بالحب القليل، ويجوز أن يكون هذا من فور الغضب، قال المبرد: يقال تركت فلانا يفور غضبا، ويتأكد هذا القول بالآية الآتية.
* (تكاد تميز من الغيظ كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتهآ ألم يأتكم نذير) *.
الصفة الثالثة: قوله: * (تكاد تميز من الغيظ) * يقال: فلان يتميز غيظا، ويتعصف غيظا وغضب فطارت منه (شعلة في الأرض وشعلة) في السماء إذا وصفوه بالإفراط فيه.
وأقول لعل السبب في هذا المجاز أن الغضب حالة تحصل عند غليان دم القلب والدم عند الغليان يصير أعظم حجما ومقدارا فتتمدد تلك الأوعية عند ازدياد مقادير الرطوبات في البدن، فكلما كان الغضب أشد كان الغليان أشد، فكان الازدياد أكثر، وكان تمدد الأوعية وانشقاقها وتميزها أكثر، فجعل ذكر هذه الملازمة كناية عن شدة الغضب، فإن قيل: النار ليست من الأحياء، فكيف يمكن وصفها بالغيظ قلنا الجواب من وجوه أحدها: أن البنية عندنا ليست شرطا للحياة فلعل الله يخلق فيها وهي نار حياة وثانيها: أنه شبه صوت لهبها وسرعة تبادرها بصوت الغضبان وحركته وثالثها: يجوز أن يكون المراد غيظ الزبانية.
63

الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير) *. الفوج الجماعة من الناس والأفواج الجماعات في تعرفه، ومنه قوله: * (فتأتون أفواجا) * (النبأ: 18) و * (خزنتها) * مالك وأعوانه من الزبانية * (ألم يأتكم نذير) * وهو سؤال توبيخ، قال الزجاج: وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب، وفي الآية مسألتان:
المسألة الأولى: احتجت المرجئة على أنه لا يدخل النار أحد إلا الكفار بهذه الآية، قالوا: لأنه تعالى حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا: كذبنا النذير، وهذا يقتضي أن من لم يكذب الله ورسوله لا يدخل النار، واعلم أن ظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصر لا يدخل النار، وأجاب القاضي عنه بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المحذرة المخوفة، ولا أحد يدخل النار إلا وهو مخالف للدليل غير متمسك بموجبه.
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن معرفة الله وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع بهذه الآية وقالوا: هذه الآية دلت على أنه تعالى إنما عذبهم لأنه أتاهم النذير، وهذا يدل على أنه لو لم يأتهم النذير لما عذبهم.
ثم إنه تعالى حكى عن الكفار جوابهم عن ذلك السؤال من وجهين:
* (قالوا بلى قد جآءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شىء إن أنتم إلا فى ضلال كبير) *.
الأول: قوله تعالى: * (قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) *.
واعلم أن قوله: * (بلى قد جاءنا نذير فكذبنا) * اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأن الله أزاح عللهم ببعثة الرسل، ولكنهم كذبوا الرسل وقالوا: * (ما نزل الله من شيء) *.
أما قوله تعالى: * (إن أنتم إلا في ضلال كبير) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية وجهان الوجه الأول: وهو الأظهر أنه من جملة قول الكفار وخطابهم للمنذرين الوجه الثاني: يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار، والتقدير أن الكفار لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم: * (إن أنتم إلا في ضلال كبير) *.
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد من الضلال الكبير ما كانوا عليه من ضلالهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد بالضلال الهلاك، ويحتمل أن يكون سمي عقاب الضلال باسمه.
* (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا فى أصحاب السعير) *.
هذا هو الكلام
64

الثاني مما حكاه الله تعالى عن الكفار جوابا للخزنة حين قالوا: * (ألم يأتكم نذير) * (الملك: 8) والمعنى لو كنا نسمع الإنذار سماع من كان طالبا للحق أو نعقله عقل من كان متأملا متفكرا لما كنا من أصحاب السعير، وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل، لأن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية في مسألة الهدى والإضلال بأن قالوا لفظة لو تفيد امتناع الشيء لامتناع غيره فدلت الآية على أنه ما كان لهم سمع ولا عقل، لكن لا شك أنهم كانوا ذوي أسماع وعقول صحيحة، وأنهم ما كانوا صم الأسماع ولا مجانين، فوجب أن يكون المراد أنه ما كان لهم سمع الهداية ولا عقل الهداية.
المسألة الثانية: احتج بهذه الآية من قال: الدين لا يتم إلا بالتعليم فقال: إنه قدم السمع على العقل تنبيها على أنه لا بد أولا من إرشاد المرشد وهداية الهادي، ثم إنه يترتب عليه فهم المستجيب وتأمله فيما يلقيه المعلم والجواب: أنه إنما قدم السمع لأن المدعو إذا لقي الرسول فأول المراتب أنه يسمع كلامه ثم إنه يتفكر فيه، فلما كان السمع مقدما بهذا السبب على التعقل والتفهم لا جرم قدم عليه في الذكر.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": ومن بدع التفاسير أن المراد لو كنا على مذهب أصحاب الحديث أو على مذهب أصحاب الرأي، ثم قال كأن هذه الآية نزلت بعد ظهور هذين المذهبين، وكأن سائر أصحاب المذاهب والمجتهدين قد أنزل الله وعيدهم.
المسألة الرابعة: احتج من فضل السمع على البصر بهذه الآية، وقالوا: دلت الآية على أن للسمع مدخلا في الخلاص عن النار والفوز بالجنة، والبصر ليس كذلك، فوجب أن يكون السمع أفضل.
* (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير) *.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار هذا القول قال: * (فاعترفوا بذنبهم) * قال مقاتل: يعني بتكذيبهم الرسول وهو قولهم: * (فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء) * (الملك: 9) وقوله: * (بذنبهم) * فيه قولان: أحدهما: أن الذنب ههنا في معنى الجمع، لأن فيه معنى الفعل، كما يقال: خرج عطاء الناس، أي عطياتهم هذا قول الفراء والثاني: يجوز أن يراد بالواحد المضاف الشائع، كقوله: * (وإن تعدوا نعمة الله) * (النحل: 34).
ثم قال: * (فسحقا لأصحاب السعير) * قال المفسرون: فبعدا لهم اعترفوا أو جحدوا، فإن ذلك لا ينفعهم، والسحق البعد، وفيه لغتان: التخفيف والتثقيل، كما تقول في العنق والطنب، قال الزجاج: سحقا منصوب على المصدر، والمعنى أسحقهم الله سحقا، أي باعدهم الله من رحمته مباعدة، وقال أبو علي الفارسي: كان القياس سحاقا، فجاء المصدر على الحذف كقولهم: عمرك الله.
65

واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أتبعه بوعد المؤمنين فقال:
* (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير) *.
وفيه وجهان الوجه الأول: أن المراد: إن الذين يخشون ربهم وهم في دار التكليف والمعارف النظرية وبهم حاجة إلى مجاهدة الشيطان ودفع الشبه بطريق الاستدلال الوجه الثاني: أن هذا إشارة إلى كونه متقيا من جميع المعاصي لأن من يتقي معاصي الله في الخلوة اتقاها حيث يراه الناس لا محالة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على انقطاع وعيد الفساق فقالوا: دلت الآية على أن من كان موصوفا بهذه الخشية فله الأجر العظيم، فإذا جاء يوم القيامة مع الفسق ومع هذه الخشية، فقد حصل الأمران فإما أن يثاب ثم يعاقب وهو بالإجماع باطل أو يعاقب ثم ينقل إلى دار الثواب وهو المطلوب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار ووعد المؤمنين على سبيل المغايبة رجع بعد ذلك إلى خطاب الكفار فقال:
* (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور) *.
وفيه وجهان: الوجه الأول: قال ابن عباس كانوا ينالون من رسول الله فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فأنزل الله هذه الآية القول الثاني: أنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحد في علمه تعالى بهذا فاحذروا من المعاصي سرا كما تحترزون عنها جهرا فإنه لا يتفاوت ذلك بالنسبة إلى علم الله تعالى، وكما بين أنه تعالى عالم بالجهر وبالسر بين أنه عالم بخواطر القلوب.
ثم إنه تعالى لما ذكر كونه عالما بالجهر وبالسر وبما في الصدور ذكر الدليل على كونه عالما بهذه الأشياء فقال:
* (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن معنى الآية أن من خلق شيئا لا بد وأن يكون عالما بمخلوقه، وهذه المقدمة كما أنها مقررة بهذا النص فهي أيضا مقررة بالدلائل العقلية، وذلك لأن الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك الشيء فإن الغافل عن الشيء يستحيل أن يكون قاصدا إليه، وكما أنه ثبت أن الخالق لا بد وأن يكون عالما بماهية المخلوق لا بد وأن يكون عالما بكميته، لأن وقوعه على ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه أو
66

أنقص لا بد وأن يكون بقصد الفاعل واختياره، والقصد مسبوق بالعلم فلا بد وأن يكون قد علم ذلك المقدار وأراد إيجاد ذلك المقدار حتى يكون وقوع ذلك المقدار أولى من وقوع ما هو أزيد منه أو أنقص منه، وإلا يلزم أن يكون اختصاص ذلك المقدار بالوقوع دون الأزيد أو الأنقص ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال، فثبت أن من خلق شيئا فإنه لا بد وأن يكون عالما بحقيقة ذلك المخلوق وبكميته وكيفيته، وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول: تمسك أصحابنا بهذه الآية في بيان أن العبد غير موجد لأفعاله من وجهين الوجه الأول: قالوا: لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها، لكنه غير عالم بتفاصيلها فهو غير موجد لها، بيان الملازمة من وجهين الأول: التمسك بهذه الآية الثاني: أن وقوع عشرة أجزاء من الحركة مثلا ممكن ووقوع الأزيد منه والأنقص منه أيضا ممكن، فاختصاص العشرة بالوقوع دون الأزيد ودون الأنقص، لا بد وأن يكون لأجل أن القادر المختار خصه بالإيقاع، وإلا لكان وقوعه دون الأزيد والأنقص وقوعا للممكن المحدث من غير مرجح، لأن القادر المختار إذا خص تلك العشرة بالإيقاع فلا بد وأن يكون عالما بأن الواقع عشرة لا أزيد ولا أنقص، فثبت أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بتفاصيلها وأما أنه غير عالم بتفاصيلها فلوجوه أحدها: أن المتكلمين اتفقوا على أن التفاوت بين الحركة السريعة والبطيئة لأجل تخلل السكنات، فالفاعل للحركة البطيئة قد فعل في بعض الأحياز حركة وفي بعضها سكونا مع أنه لم يخطر البتة بباله أنه فعل ههنا حركة وههنا سكونا وثانيها: أن فاعل حركة لا يعرف عدد أجزاء تلك الحركات إلا إذا عرف عدد الأحياز التي بين مبدأ المسكنة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بأن الجواهر الفردية التي تتسع لها تلك المسافة من أولها إلى آخرها كم هي؟ ومعلوم أن ذلك غير معلوم وثالثها: أن النائم والمغمى عليه قد يتحرك من جنب إلى جنب مع أنه لا يعلم ماهية تلك الحركة ولا كميتها ورابعها: أن عند أبي علي، وأبي هاشم، الفاعل إنما يفعل معنى يقتضي الحصول في الحيز، ثم إن ذلك المعنى الموجب مما لا يخطر ببال أكثر الخلق، فظهر بهذه الدلالة أن العبد غير موجد لأفعاله الوجه الثاني: في التمسك بهذه الآية على أن العبد غير موجد أن نقول: إنه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده: * (ألا يعلم من خلق) * وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقا لكل ما يفعلونه في السر والجهر، وفي الصدور والقلوب، فإنه لو لم يكن خالقا لها لم يكن قوله: * (ألا يعلم من خلق) * مقتضيا كونه تعالى عالما بتلك الأشياء، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد: ألا يعلم من خلق الأجسام والعالم الذي خلق الأجسام هو العالم بهذه الأشياء؟ قلنا: إنه لا يلزم من كونه خالقا لغيره هذه الأشياء كونه عالما بها، لأن من يكون فاعلا لشيء لا يجب أن يكون عالما بشيء آخر، نعم يلزم من كونه خالقا لها كونه عالما بها لأن خالق الشيء يجب أن يكون عالما به.
67

المسألة الثانية: الآية تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون * (من خلق) * في محل الرفع والمنصوب يكون مضمرا والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه وثانيها: أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمرا، والتقدير ألا يعلم الله من خلق والاحتمال الأول أولى لأن الاحتمال الثاني يفيد كونه تعالى عالما بذات من هو مخلوقه، ولا يقتضي كونه عالما بأحوال من هو مخلوقه والمقصود من الآية هذا لا الأول وثالثها: أن تكون * (من) * في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله: * (والسماء وما بناها) * (الشمس: 5) وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.
أما قوله: * (وهو اللطيف الخبير) * فاعلم أنهم اختلفوا في * (اللطيف) * فقال بعضهم: المراد العالم وقال آخرون: بل المراد من يكون فاعلا للأشياء اللطيفة التي تخفى كيفية عملها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لطف الله بعباده عجيب ويراد به دقائق تدبيره لهم وفيهم، وهذا الوجه أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعده تكرارا.
قوله تعالى
* (هو الذى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا فى مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها هو أنه تعالى بين بالدلائل كونه عالما بما يسرون وما يعلنون، ثم ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد، ونظيره من قال لعبده الذي أساء إلى مولاه في السر: يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، كل هذا الخير الذي هيأته لك ولا تأمن تأديبي، فإني إن شئت جعلت هذه الدار التي هي منزل أمنك ومركز سلامتك منشأ للآفات التي تتحير فيها ومنبعا للمحن التي تهلك بسببها، فكذا ههنا، كأنه تعالى قال: أيها الكفار اعلموا أني عالم بسركم وجهركم، فكونوا خائفين مني محترزين من عقابي، فهذه الأرض التي تمشون في مناكبها، وتعتقدون أنها أبعد الأشياء عن الإضرار بكم، أنا الذي ذللتها إليكم وجعلتها سببا لنفعكم، فامشوا في مناكبها، فإنني إن شئت خسفت بكم هذه الأرض، وأنزلت عليها من السماء أنواع المحن، فهذا هو الوجه في اتصال هذه الآية بما قبلها.
المسألة الثانية: الذلول من كل شيء: المنقاد الذي يذل لك، ومصدره الذل، وهو الانقياد واللين، ومنه يقال: دابة ذلول، وفي وصف الأرض بالذلول أقوال: أحدها:
أنه تعالى ما جعلها صخرية خشنة بحيث يمتنع المشي عليها، كما يمتنع المشي على وجوه الصخرة الخشنة وثانيها: أنه
68

تعالى جعلها لينة بحيث يمكن حفرها، وبناء الأبنية منها كما يراد، ولو كانت حجرية صلبة لتعذر ذلك وثالثها: أنها لو كانت حجرية، أو كانت مثل الذهب أو الحديد، لكانت تسخن جدا في الصيف، وكانت تبرد جدا في الشتاء، ولكانت الزراعة فيها ممتنعة، والغراسة فيها متعذرة، ولما كانت كفاتا للأموات والأحياء ورابعها: أنه تعالى سخرها لنا بأن أمسكها في جو الهواء، ولو كانت متحركة على الاستقامة، أو على الاستدارة لم تكن منقادة لنا.
المسألة الثالثة: قوله: * (فامشوا في مناكبها) * أمر إباحة، وكذا القول في قوله: * (وكلوا من رزقه) *. المسألة الرابعة: ذكروا في مناكب الأرض وجوها أحدها: قال صاحب " الكشاف ": المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأبعده من إمكان المشي عليه، فإذا صار البعير بحيث يمكن المشي على منكبه، فقد صار نهاية في الانقياد والطاعة، فثبت أن قوله: * (فامشوا في مناكبها) * كناية عن كونها نهاية في الذلولية وثانيها: قول قتادة والضحاك وابن عباس: إن مناكب الأرض جبالها وآكامها، وسميت الجبال مناكب، لأن مناكب الإنسان شاخصة والجبال أيضا شاخصة، والمعنى أني سهلت عليكم المشي في مناكبها، وهي أبعد أجزائها عن التذليل، فكيف الحال في سائر أجزائها وثالثها: أن مناكبها هي الطرق، والفجاج والأطراف والجوانب وهو قول الحسن ومجاهد والكلبي ومقاتل، ورواية عطاء عن ابن عباس، واختيار الفراء، وابن قتيبة قال: مناكبها جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه، وهو كقوله تعالى: * (والله جعل لكم الأرض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) * (نوح: 19، 20) أما قوله: * (وكلوا من رزقه) * أي مما خلقه الله رزقا لكم في الأرض: * (وإليه النشور) * يعني ينبغي أن يكون مكثكم في الأرض، وأكلكم من رزق الله مكث من يعلم أن مرجعه إلى الله، وأكل من يتيقن أن مصيره إلى الله، والمراد تحذيرهم عن الكفر والمعاصي في السر والجهر، ثم إنه تعالى بين أن بقاءهم مع هذه السلامة في الأرض إنما كان بفضل الله ورحمته، وأنه لو شاء لقلب الأمر عليهم، ولأمطر عليهم من سحاب القهر مطر الآفات. فقال تقريرا لهذا المعنى:
* (أءمنتم من فى السمآء أن يخسف بكم الارض فإذا هى تمور) *.
واعلم أن هذه الآيات نظيرها قوله تعالى: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) * (الأنعام: 65) وقال: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * (القصص: 81).
واعلم أن المشبهة احتجوا على إثبات المكان لله تعالى بقوله: * (أأمنتم من في السماء) *، والجواب عنه أن هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين، لأن كونه في السماء يقتضي كون السماء محيطا به من جميع الجوانب، فيكون أصغر من السماء، والسماء أصغر من العرش
69

بكثير، فيلزم أن يكون الله تعالى شيئا حقيرا بالنسبة إلى العرش، وذلك باتفاق أهل الإسلام محال، ولأنه تعالى قال: * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * (الأنعام: 12) فلو كان الله في السماء لوجب أن يكون مالكا لنفسه وهذا محال، فعلمنا أن هذه الآية يجب صرفها عن ظاهرها إلى التأويل، ثم فيه وجوه: أحدها: لم لا يجوز أن يكون تقدير الآية: أأمنتم من في السماء عذابه، وذلك لأن عادة الله تعالى جارية، بأنه إنما ينزل البلاء على من يكفر بالله ويعصيه من السماء فالسماء موضع عذابه تعالى، كما أنه موضع نزول رحمته ونعمته وثانيها: قال أبو مسلم: كانت العرب مقرين بوجود الإله، لكنهم كانوا يعتقدون أنه في السماء على وفق قول المشبهة، فكأنه تعالى قال لهم: أتأمنون من قد أقررتم بأنه في السماء، واعترفتم له بالقدرة على ما يشاء أن يخسف بكم الأرض وثالثها: تقدير الآية: من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، والغرض من ذكر السماء تفخيم سلطان الله وتعظيم قدرته، كما قال: * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * (الأنعام: 3) فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، فوجب أن يكون المراد من كونه في السماوات وفي الأرض نفاذ أمره وقدرته، وجريان مشيئته في السماوات وفي الأرض، فكذا ههنا ورابعها: لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله: * (من في السماء) * الملك الموكل بالعذاب، وهو جبريل عليه السلام، والمعنى أن يخسف بهم الأرض بأمر الله وإذنه.
وقوله: * (فإذا هي تمور) * قالوا معناه: إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها، فيذهبون والأرض فوقهم تمور، فتلقيهم إلى أسفل السافلين، وقد ذكرنا تفسير المور فيما تقدم.
* (أم أمنتم من فى السمآء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير) *.
ثم زاد في التخويف فقال: * (أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا) *. قال ابن عباس: كما أرسل على قوم لوط فقال: * (إنا أرسلنا عليهم حاصبا) * (القمر: 34) والحاصب ريح فيها حجارة وحصباء، كأنها تقلع الحصباء لشدتها، وقيل: هو سحاب فيها حجارة. ثم هدد وأوعد فقال: * (فستعلمون كيف نذير) *. قيل في النذير ههنا إنه المنذر، يعني محمدا عليه الصلاة والسلام وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك، والمعنى فستعلمون رسولي وصدقه، لكن حين لا ينفعكم ذلك، وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، و (كيف) في قوله: * (كيف نذير) * ينبئ عما ذكرنا من صدق الرسول وعقوبة الإنذار.
واعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بهذه التخويفات أكد ذلك التخويف بالمثال والبرهان أما المثال فهو أن الكفار الذين كانوا قبلهم شاهدوا أمثال هذه العقوبات بسبب كفرهم فقال:
70

* (ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير) *.
يعني عادا وثمود وكفار الأمم، وفيه وجهان أحدهما: قال الواحدي: * (فكيف كان نكير) * أي إنكاري وتغييري، أليس وجدوا العذاب حقا والثاني: قال أبو مسلم:
النكير عقاب المنكر، ثم قال: وإنما سقط الياء من نذيري، ومن نكيري حتى تكون مشابهة لرؤوس الآي المتقدمة عليها، والمتأخرة عنها. وأما البرهان فهو أنه تعالى ذكر ما يدل على كمال قدرته، ومتى ثبت ذلك ثبت كونه تعالى قادرا على إيصال جميع أنواع العذاب إليهم؛ وذلك البرهان من وجوه:
* (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شىء بصير) *.
البرهان الأول: هو قوله تعالى: * (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن) *. * (صافات) * أي باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها * (ويقبضن) * ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قيل لم قال: * (ويقبضن) * ولم يقل وقابضات، قلنا: لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارئ غير أصلي بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح.
ثم قال تعالى: * (ما يمسكهن إلا الرحمن) * وذلك لأنها مع ثقلها وضخامة أجسامها لم يكن بقاؤها في جو الهواء إلا بإمساك الله وحفظه، وههنا سؤالان: السؤال الأول: هل تدل هذه الآية على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله، قلنا: نعم، وذلك لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري للطير.
ثم إنه تعالى قال: * (ما يمسكهن إلا الرحمن) * فدل هذا على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
السؤال الثاني: أنه تعالى قال في النحل (79): * (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله) * وقال ههنا: * (ما يمسكهن إلا الرحمن) * فما الفرق؟ قلنا: ذكر في النحل أن الطير مسخرات في جو السماء فلا جرم كان إمساكها هناك محض الإلهية، وذكر ههنا أنها صافات وقابضات، فكان إلهامها إلى كيفية البسط، والقبض على الوجه المطابق للمنفعة من رحمة الرحمن. ثم قال تعالى: * (إنه بكل شيء بصير) * وفيه وجهان الوجه الأول: المراد من البصير، كونه عالما بالأشياء الدقيقة، كما يقال: فلان بصر في هذا الأمر، أي حذق والوجه الثاني: أن نجري اللفظ على ظاهره فنقول: إنه تعالى شيء، والله بكل شيء بصير، فيكون رائيا لنفسه ولجميع الموجودات، وهذا هو الذي يقوله أصحابنا من أنه تعالى يصح أن يكون مرئيا وأن كل
71

الموجودات كذلك، فإن قيل: البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال: فلان بصير بكذا إن كان عالما به، قلنا: لا نسلم، فإنه يقال: إن الله سميع بالمسموعات، بصير بالمبصرات.
* (أمن هاذا الذى هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا فى غرور) *.
اعلم أن الكافرين كانوا يمتنعون عن الإيمان، ولا يلتفتون إلى دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان تعويلهم على شيئين أحدهما: القوة التي كانت حاصلة لهم بسبب مالهم وجندهم والثاني: أنهم كانوا يقولون: هذه الأوثان، توصل إلينا جميع الخيرات، وتدفع عنا كل الآفات وقد أبطل الله عليهم كل واحد من هذين الوجهين، أما الأول فبقوله: * (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن) * وهذا نسق على قوله: * (أم أمنتم من في السماء) * (الملك: 17) والمعنى أم من يشار إليه من المجموع، ويقال: هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الله إن أرسل عذابه عليكم، ثم قال: * (إن الكافرون إلا في غرور) * أي من الشيطان يغرهم بأن العذاب لا ينزل بهم.
* (أمن هاذا الذى يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا فى عتو ونفور) *.
أما الثاني فهو قوله: * (أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه) *. والمعنى: من الذي يرزقكم من آلهتكم إن أمسك الله الرزق عنكم، وهذا أيضا مما لا ينكره ذو عقل، وهذا أنه تعالى لو أمسك أسباب الرزق كالمطر والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى: * (بل لجوا في عتو ونفور) * والمراد أصروا وتشددوا مع وضوح الحق، في عتو أي في تمرد وتكبر ونفور، أي تباعد عن الحق وإعراض عنه فالعتو بسبب حرصهم على الدنيا وهو إشارة إلى فساد القوة العملية، والنفور بسبب جهلهم، وهذا إشارة إلى فساد القوة النظرية.
واعلم أنه تعالى لما وصفهم بالعتو والنفور، نبه على ما يدل على قبح هذين الوصفين. فقال تعالى:
* (أفمن يمشى مكبا على وجهه أهدى أمن يمشى سويا على صراط مستقيم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: أكب مطاوع كبه، يقال: كببته فأكب ونظيره قشعت
72

الريح السحاب فأقشع، قال صاحب " الكشاف ": ليس الأمر كذلك، و (جاء) شيء من بناء أفعل مطاوعا، بل قولك: أكب معناه دخل في الكب وصار ذا كب، وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع، وأنفض أي دخل في النفض، وهو نفض الوعاء فصار عبارة عن الفقر وألام دخل في اللوم، وأما مطاوع كب وقشع فهو انكب وانقشع.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير قوله: * (يمشي مكبا على وجهه) * وجوها: أحدها: معناه أن الذي يمشي في مكان غير مستو بل فيه ارتفاع وانخفاض فيعثر كل ساعة ويخر على وجهه مكبا فحاله نقيض حال من يمشي سويا أي قائما سالما من العثور والخرور وثانيها: أن المتعسف الذي يمشي هكذا وهكذا على الجهالة والحيرة لا يكون كمن يمشي إلى جهة معلومة مع العلم واليقين وثالثها: أن الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق فيتعسف ولا يزال ينكب على وجهه لا يكون كالرجل السوي الصحيح البصر الماشي في الطريق المعلوم، ثم اختلفوا فمنهم من قال: هذا حكاية حال الكافر في الآخرة، قال قتادة: الكافر أكب على معاصي الله فحشره الله يوم القيامة على
وجهه، والمؤمن كان على الدين الواضح فحشره الله تعالى على الطريق السوي يوم القيامة، وقال آخرون: بل هذا حكاية حال المؤمن والكافر والعالم والجاهل في الدنيا، واختلفوا أيضا فمنهم من قال: هذا عام في حق جميع المؤمنين والكفار، ومنهم من قال: بل المراد منه شخص معين، فقال مقاتل: المراد أبو جهل والنبي عليه الصلاة والسلام، وقال عطاء عن ابن عباس: المراد أبو جهل وحمزة بن عبد المطلب وقال عكرمة هو أبو جهل وعمار بن ياسر.
البرهان الثاني: على كمال قدرته قوله تعالى:
* (قل هو الذى أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون) *.
اعلم أنه تعالى لما أورد البرهان أولا من حال سائر الحيوانات، وهو وقوف الطير في الهواء، أورد البرهان بعده من أحوال الناس وهو هذه الآية، وذكر من عجائب ما فيه حال السمع والبصر والفؤاد، ولقد تقدم شرح أحوال هذه الأمور الثلاثة في هذا الكتاب مرارا فلا فائدة في الإعادة، واعلم أن في ذكرها ههنا تنبيها على دقيقة لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتكم هذه الإعطاءات الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، لكنكم ضيعتموها فلم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه، ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال: * (قليلا ما تشكرون) * وذلك لأن شكر نعمة الله تعالى هو أن يصرف تلك النعمة إلى وجه رضاه،
73

وأنتم لما صرفتم السمع والبصر والعقل لا إلى طلب مرضاته فأنتم ما شكرتم نعمته البتة.
البرهان الثالث:
قوله تعالى: * (قل هو الذى ذرأكم فى الارض وإليه تحشرون) *.
اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانات أولا ثم بصفات الإنسان ثانيا وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته ثالثا وهو قوله: * (هو الذي ذرأكم في الأرض) * واحتج المتكلمون بهذه الآية على أن الإنسان ليس هو الجوهر المجرد عن التحيز والكمية على ما يقوله الفلاسفة وجماعة من المسلمين لأنه قال: * (قل هو الذي ذرأكم في الأرض) * فبين أنه ذرأ الإنسان في الأرض، وهذا يقتضي كون الإنسان متحيزا جسما، واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر والنشر ليثبت ما ادعاه من الابتلاء في قوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور) * (الملك: 2) ثم لأجل إثبات هذا المطلوب، ذكر وجوها من الدلائل على قدرته، ثم ختمها بقوله: * (قل هو الذي ذرأكم في الأرض) * ولما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة لا جرم قال بعده: * (وإليه تحشرون) * فبين بهذا أن جميع ما تقدم ذكره من الدلائل إنما كان لإثبات هذا المطلوب.
واعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يخوفهم بعذاب الله حكى عن الكفار شيئين أحدهما: أنهم طالبوه بتعيين الوقت. وهو قوله تعالى:
* (ويقولون متى هاذا الوعد إن كنتم صادقين) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو مسلم إنه تعالى قال: يقول بلفظ المستقبل فهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل، ويحتمل الماضي، والتقدير: فكانوا يقولون هذا الوعد. المسألة الثانية: لعلهم كانوا يقولون ذلك على سبيل السخرية، ولعلهم كانوا يقولونها إبهاما للضعفة أنه لما لم يتعجل فلا أصل له.
المسألة الثالثة: الوعد المسؤول عنه ما هو؟ فيه وجهان أحدهما: أنه القيامة والثاني: أنه مطلق العذاب، وفائدة هذا الاختلاف تظهر بعد ذلك إن شاء الله.
ثم أجاب الله عن هذا السؤال بقوله تعالى:
* (قل إنما العلم عند الله وإنمآ أنا نذير مبين) *.
والمراد أن العلم بالوقوع غير العلم بوقت الوقوع، فالعلم الأول حاصل عندي، وهو كاف في الإنذار والتحذير، أما العلم الثاني فليس إلا لله، ولا حاجة في كوني نذيرا مبينا إليه.
* (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هاذا الذى كنتم به تدعون) *.
74

ثم إنه تعالى بين حالهم عند نزول ذلك الوعد فقال تعالى: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) * وفيه مسائل: المسألة لأولى: قوله * (فلما رأوه) * الضمير للوعد، والزلفة القرب والتقدير: فلما رأوه قربا ويحتمل أنه لما اشتد قربه، جعل كأنه في نفس القرب. وقال الحسن: معاينة، وهذا معنى وليس بتفسير، وذلك لأن ما قرب من الإنسان رآه معاينة.
المسألة الثانية: قوله: * (سيئت وجوه الذين كفروا) * قال ابن عباس: اسودت وعلتها الكآبة والقترة، وقال الزجاج: تبين فيها السوء، وأصل السوء القبح، والسيئة ضد الحسنة، يقال: ساء الشيء يسوء فهو سيئ إذا قبح، وسيئ يساء إذا قبح، وهو فعل لازم ومتعد فمعنى سيئت وجوههم قبحت بأن علتها الكآبة وغشيها الكسوف والقترة وكلحوا، وصارت وجوههم كوجه من يقاد إلى القتل.
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله: * (فلما رأوه زلفة) * إخبار عن الماضي، فمن حل الوعد في قوله: * (ويقولون متى هذا الوعد) * (الملك: 25) على مطلق العذاب سهل تفسير الآية على قوله فلهذا قال أبو مسلم في قوله: * (فلما رأوه زلفة) * يعني أنه لما أتاهم عذاب الله المهلك لهم كالذي نزل بعاد وثمود سيئت وجوههم عند قربه منهم، وأما من فسر ذلك الوعد بالقيامة كان قوله: * (فلما رأوه زلفة) * معناه فمتى ما رأوه زلفة، وذلك لأن قوله: * (فلما رأوه زلفة) * إخبار عن
الماضي وأحوال القيامة مستقبلة لا ماضية فوجب تفسير اللفظ بما قلناه، قال مقاتل: * (فلما رأوه زلفة) * أي لما رأوا العذاب في الآخر قريبا.
وأما قوله تعالى: * (وقيل هذا الذي كنتم به تدعون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: القائلون هم الزبانية، وقال آخرون: بل يقول بعضهم لبعض ذلك.
المسألة الثانية: في قوله: * (تدعون) * وجوه: أحدها: قال الفراء: يريد تدعون من الدعاء أي تطلبون وتستعجلون به، وتدعون وتدعون واحد في اللغة مثل تذكرون وتذكرون وتدخرون وتدخرون وثانيها: أنه من الدعوى معناه: هذا الذي كنتم تبطلونه أي تدعون أنه باطل لا يأتيكم أو هذا الذي كنتم بسببه وتدعون أنكم لا تبعثون وثالثها: أن يكون هذا استفهاما على سبيل الإنكار، والمعنى أهذا الذي تدعون، لا بل كنتم تدعون عدمه.
المسألة الثالثة: قرأ يعقوب الحضرمي * (تدعون) * خفيفة من الدعاء، وقرأ السبعة * (تدعون) * مثقلة من الادعاء.
75

قوله تعالى
* (قل أرءيتم إن أهلكنى الله ومن معى أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم) *.
اعلم أن هذا الجواب هو من النوع الثاني مما قاله الكفار لمحمد صلى الله عليه وسلم حين خوفهم بعذاب الله، يروى أن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك، كما قال تعالى: * (أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) * (الطور: 30) وقال: * (بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا) * (الفتح: 12) ثم إنه تعالى أجاب عن ذلك من وجهين الوجه الأول: هو هذه الآية، والمعنى قل لهم: إن الله تعالى سواء أهلكني بالإماتة أو رحمني بتأخير الأجل، فأي راحة لكم في ذلك، وأي منفعة لكم فيه، ومن الذي يجيركم من عذاب الله إذا نزل بكم، أتظنون أن الأصنام تجيركم أو غيرها، فإذا علمتم أن لا مجير لكم فهلا تمسكتم بما يخلصكم من العذاب وهو العلم بالتوحيد والنبوة والبعث.
الوجه الثاني: في الجواب قوله تعالى:
* (قل هو الرحمان ءامنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو فى ضلال مبين) *.
والمعنى أنه الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فيعلم أنه لا يقبل دعاءكم وأنتم أهل الكفر والعناد في حقنا، مع أنا آمنا به ولم نكفر به كما كفرتم، ثم قال: * (وعليه توكلنا) * لا على غيره كما فعلتم أنتم حيث توكلتم على رجالكم وأموالكم، وقرئ * (فستعلمون) * على المخاطبة، وقرئ بالياء ليكون على وفق قوله: * (فمن يجير الكافرين) * (الكافرين: 28).
واعلم أنه لما ذكر أنه يجب أن يتوكل عليه لا على غيره، ذكر الدليل عليه.
فقال تعالى:
* (قل أرءيتم إن أصبح مآؤكم غورا فمن يأتيكم بمآء معين) *.
والمقصود أن يجعلهم مقرين ببعض نعمه ليريهم قبح ما هم عليه من الكفر، أي أخبروني إن صار ماؤكم ذاهبا في الأرض فمن يأتيكم بماء معين، فلا بد وأن يقولوا: هو الله، فيقال لهم حينئذ: فلم تجعلون من لا يقدر على شيء أصلا شريكا له في المعبودية؟ وهو كقوله: * (أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون) * (الواقعة: 68، 69) وقوله: * (غورا) * أي غائرا ذاهبا في الأرض يقال: غار الماء يغور غورا، إذا نضب وذهب في الأرض، والغور ههنا بمعنى الغائر سمي بالمصدر كما يقال: رجل عدل ورضا، والمعين الظاهر الذي تراه العيون فهو من مفعول العين كمبيع، وقيل: المعين الجاري من العيون من الإمعان في الجري كأنه قيل: ممعن في الجري، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
76

سورة القلم
وهي اثنتان وخمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ن والقلم وما يسطرون) *.
* (ن) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأقوال المذكورة في هذا الجنس قد شرحناها في أول سورة البقرة والوجوه الزائدة التي يختص بها هذا الموضع أولها: أن النون هو السمكة، ومنه في ذكر يونس * (وذا النون) * (الأنبياء: 87) وهذا القول مروي عن ابن عباس ومجاهد ومقاتل والسدي ثم القائلون بهذا منهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي على ظهره الأرض وهو في بحر تحت الأرض السفلى، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي احتبس يونس عليه السلام في بطنه، ومنهم من قال: إنه قسم بالحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه والقول الثاني: وهو أيضا مروي عن ابن عباس واختيار الضحاك والحسن وقتادة أن النون هو الدواة، ومنه قول الشاعر: إذا ما الشوق يرجع بي إليهم * ألقت النون بالدمع السجوم
فيكون هذا قسما بالدواة والقلم، فإن المنفعة بهما بسبب الكتابة عظيمة، فإن التفاهم تارة يحصل بالنطق و (تارة) يتحرى بالكتابة والقول الثالث: أن النون لوح تكتب الملائكة ما يأمرهم الله به فيه رواه معاوية بن قرة مرفوعا والقول الرابع: أن النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة لأنا إذا جعلناه مقسما به
وجب إن كان جنسا أن نجره وننونه، فإن القسم على هذا التقدير يكون بدواة منكرة أو بسمكة منكرة، كأنه قيل: وسمكة والقلم، أو قيل: ودواة والقلم، وإن كان علما أن نصرفه ونجره أو لا نصرفه ونفتحه إن جعلناه غير منصرف.
والقول الخامس: أن نون ههنا آخر حروف الرحمن فإنه يجتمع من الرحمن ن اسم الرحمن فذكر الله هذا الحرف الأخير من هذا الاسم، والمقصود القسم بتمام هذا الاسم، وهذا أيضا ضعيف لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية، بل الحق أنه إما أن يكون اسما للسورة أو يكون الغرض منه التحدي أو سائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.
المسألة الثانية: القراء مختلفون في إظهار النون وإخفائه من قوله: * (ن والقلم) * فمن أظهرها فلأنه
77

ينوي بها الوقف بدلالة اجتماع الساكنين فيها، وإذا كانت موقوفة كانت في تقدير الانفصال مما بعدها، وإذا انفصلت مما بعدها وجب التبيين، لأنها إنما تخفى في حروف الفم عند الاتصال، ووجه الإخفاء أن همزة الوصل لم تقطع مع هذه الحروف في نحو * (ألم * الله) * (آل عمران: 1) وقولهم في العدد واحد اثنان فمن حيث لم تقطع الهمزة معها علمنا أنها في تقدير الوصل وإذا وصلتها أخفيت النون وقد ذكرنا هذا في * (طس) * (النمل: 1) و * (يس) *، (يس: 1) وقال الفراء: وإظهارها أعجب إلي لأنها هجاء والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل.
وقوله تعالى: * (والقلم) * فيه قولان: أحدهما: أن القسم به هو الجنس وهو واقع على كل قلم يكتب به من في السماء ومن في الأرض، قال تعالى: * (وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) * (العلق: 3 - 5) فمن بتيسير الكتابة بالقلم كما من بالنطق فقال: * (خلق الإنسان * علمه البيان) * (الرحمان: 3، 4) ووجه الانتفاع به أن ينزل الغائب منزلة المخاطب فيتمكن المرء من تعريف البعيد به ما يتمكن باللسان من تعريف القريب والثاني: أن المقسم به هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن أول ما خلق الله القلم، قال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم ثم قال له اكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة من الآجال والأعمال، قال: وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض، وروى مجاهد عنه قال: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب القدر فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه.
قال القاضي: هذا الخبر يجب حمله على المجاز، لأن القلم الذي هو آلة مخصوصة في الكتابة لا يجوز أن يكون حيا عاقلا فيؤمر وينهى فإن الجمع بين كونه حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محال، بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله: * (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * (البقرة: 117) فإنه ليس هناك أمر ولا تكليف، بل هو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ولا مدافعة، ومن الناس من زعم أن القلم المذكور ههنا هو العقل، وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات، قالوا: والدليل عليه أنه روي في الأخبار أن أول ما خلق الله القلم، وفي خبر آخر: أول ما خلق الله تعالى جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماوات ومن الزبد الأرض، قالوا: فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد وإلا حصل التناقض.
قوله تعالى: * (وما يسطرون) *.
اعلم أن ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم، فيكون القسم واقعا بنفس الكتابة، ويحتمل أن يكون المراد المسطور والمكتوب، وعلى التقديرين فإن حملنا القلم على كل قلم في مخلوقات الله كان المعنى ظاهرا، وكأنه تعالى أقسم بكل قلم، وبكل ما يكتب
78

بكل قلم، وقيل: بل المراد ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في * (يسطرون) * لهم، كأنه قيل: وأصحاب القلم وسطرهم، أي ومسطوراتهم. وأما إن حملنا القلم على ذلك القلم المعين، فيحتمل أن يكون المراد بقوله: * (وما يسطرون) * أي وما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ، ولفظ الجمع في قوله: * (يسطرون) * ليس المراد منه الجمع بل التعظيم، أو يكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من الأعمال والأعمار، وجميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.
واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به أتبعه بذكر المقسم عليه فقال:
مآ أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لاجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم) *.
اعلم أن قوله: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: روي عن ابن عباس أنه عليه السلام غاب عن خديجة إلى حراء، فطلبته فلم تجده، فإذا به وجهه متغير بلا غبار، فقالت له مالك؟ فذكر نزول جبريل عليه السلام وأنه قال له: * (اقرأ باسم ربك) * (العلق: 1) فهو أول ما نزل من القرآن، قال: ثم نزل بي إلى قرار الأرض فتوضأ وتوضأت، ثم صلى وصليت معه ركعتين، وقال: هكذا الصلاة يا محمد، فذكر عليه الصلاة والسلام ذلك لخديجة، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد خالف دين قومه، ودخل في النصرانية، فسألته فقال: أرسلي إلي محمدا، فأرسلته فأتاه فقال له: هل أمرك جبريل عليه السلام أن تدعو إلى الله أحدا؟ فقال: لا، فقال: والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا، ثم مات قبل دعاء الرسول، ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش فقالوا: إنه لمجنون، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون، وهو خمس آيات من أول هذه السورة، ثم قال ابن عباس: وأول ما نزل قوله: * (سبح اسم ربك) * (الأعلى: 1) وهذه الآية هي الثانية.
المسألة الثانية: قال الزجاج: * (أنت) * هو اسم * (ما) * و * (بمجنون) * الخبر، وقوله: * (بنعمة ربك) * كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون
بنعمة ربك كما يقال: أنت بحمد الله عاقل، وأنت بحمد الله لست بمجنون، وأنت بنعمة الله فهم، وأنت بنعمة الله لست بفقير، ومعناه أن تلك الصفة المحمودة إنما حصلت، والصفة المذمومة إنما زالت بواسطة إنعام الله ولطفه وإكرامه، وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة، وهو جواب لقولهم: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) واعلم أنه تعالى وصفه ههنا بثلاثة أنواع من الصفات.
79

الصفة الأولى: نفي الجنون عنه ثم إنه تعالى قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها وذلك لأن قوله: * (بنعمة ربك) * يدل على أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة والعقل الكامل والسيرة المرضية، والبراءة من كل عيب، والاتصاف بكل مكرمة وإذا كانت هذه النعم محسوسة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون، فالله تعالى نبه على هذه الدقيقة لتكون جارية مجرى الدلالة اليقينية على كونهم كاذبين في قولهم له: إنه مجنون.
الصفة الثانية: قوله: * (وإن لك لأجرا غير ممنون) * وفي الممنون قولان: أحدهما: وهو قول الأكثرين، أن المعنى غير منقوص ولا مقطوع يقال: منه السير أي أضعفه، والمنين الضعيف ومن الشيء إذا قطعه، ومنه قول لبيد: غبش كواسب ما يمن طعامها (c) يصف كلابا ضارية، ونظيره قوله تعالى: * (عطاء غير مجذوذ) * (هود: 108).
والقول الثاني: وهو قول مجاهد ومقاتل والكلبي، إنه غير مقدر عليك بسبب المنة، قالت المعتزلة في تقرير هذا الوجه: إنه غير ممنون عليك لأنه ثواب تستوجبه على عملك، وليس بتفضل ابتداء، والقول الأول أشبه لأن وصفه بأنه أجر يفيد أنه لا منة فيه فالحمل على هذا الوجه يكون كالتكرير، ثم اختلفوا في أن هذا الأجر على أي شيء حصل؟ قال قوم معناه: إن لك على احتمال هذا الطعن والقول القبيح أجرا عظيما دائما، وقال آخرون: المراد إن لك في إظهار النبوة والمعجزات، في دعاء الخلق إلى الله، وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم، فلا تمنعك نسبتها إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم، فإن لك بسببه المنزلة العالية عند الله.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: * (بنعمة ربك) * وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب، وخطأ وذلك لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه، ومن كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال لم يجز إضافة الجنون إليه لأن أخلاق المجانين سيئة، ولما كانت أخلاقه الحميدة كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ولهذا قال: * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) * (ص: 86) أي لست متكلفا فيما يظهر لكم من أخلاقي لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلا بل يرجع إلى الطبع، وقال آخرون: إنما وصف خلقه بأنه عظيم وذلك لأنه تعالى قال له: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * (الأنعام: 90) وهذا الهدى الذي أمر الله تعالى محمدا بالاقتداء به ليس هو معرفة الله لأن ذلك تقليد وهو غير لائق بالرسول، وليس هو الشرائع لأن شريعته مخالفة لشرائعهم فتعين أن يكون المراد منه أمره عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء المتقدمين فيما اختص به من الخلق الكريم، فكأن كل واحد منهم كان مختصا بنوع واحد، فلما أمر محمد عليه الصلاة والسلام بأن يقتدي بالكل فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله، لا جرم وصف الله خلقه بأنه عظيم، وفيه دقيقة
80

أخرى وهي قوله: * (لعلى خلق عظيم) * وكلمة على للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه مستعمل على هذه الأخلاق ومستول عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة كالمولى بالنسبة إلى العبد وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
المسألة الثانية: الخلق ملكة نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.
واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير وسهولة الإتيان بها غير، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات والتحبب إلى الناس بالقول والفعل، وترك التقاطع والهجران والتساهل في العقود كالبيع وغيره والتسمح بما يلزم من حقوق من له نسب أو كان صهرا له وحصل له حق آخر.
وروي عن ابن عباس أنه قال معناه: وإنك لعلى دين عظيم، وروي أن الله تعالى قال له: " لم أخلق دينا أحب إلي ولا أرضى عندي من هذا الدين الذي اصطفيته لك ولأمتك " يعني الإسلام، واعلم أن هذا القول ضعيف، وذلك لأن الإنسان له قوتان، قوة نظرية وقوة عملية، والدين يرجع إلى كمال القوة النظرية، والخلق يرجع إلى كمال القوة العملية، فلا يمكن حمل أحدهما على الآخر، ويمكن أيضا أن يجاب عن هذا السؤال من وجهين: الوجه الأول: أن الخلق في اللغة هو العادة سواء كان ذلك في إدراك أو في فعل الوجه الثاني: أنا بينا أن الخلق هو الأمر الذي باعتباره يكون الإتيان بالأفعال الجميلة سهلا، فلما كانت الروح القدسية التي له شديدة الاستعداد للمعارف الإلهية الحقة وعديمة الاستعداد لقبول العقائد الباطلة، كانت تلك السهولة حاصلة في قبول المعارف الحقة، فلا يبعد تسمية تلك السهول بالخلق.
المسألة الثالثة: قال سعيد بن هشام: قلت لعائشة: " أخبريني عن خلق رسول الله، قالت ألست قرأ القرآن؟ قلت: بلى قالت: فإنه كان خلق النبي عليه الصلاة والسلام " وسئلت مرة أخرى فقالت: كان خلقه القرآن، ثم قرأت: * (قد أفلح المؤمنون) * (المؤمنون: 1) إلى عشرة آيات، وهذا إشارة إلى أن نفسه المقدسة كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب، وإلى كل ما يتعلق بها، وكانت شديدة النفرة عن اللذات البدنية والسعادة الدنيوية بالطبع ومقتضى الفطرة، اللهم ارزقنا شيئا من هذه الحالة.
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: " ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال لبيك " فلهذا قال تعالى: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * وقال أنس: " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي في شئ فعلته لم فعلت، ولا في شيء لم
أفعله هلا فعلت " وأقول: إن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم، فقال: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء: 113) ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم فقال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء، فدل
81

مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية كانت عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدة كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة.
واعلم أنه تعالى لما وصفه بأنه على خلق عظيم قال:
* (فستبصر ويبصرون) *.
أي فسترى يا محمد ويرون يعني المشركين، وفيه قولان: منهم من حمل ذلك على أحوال الدنيا، يعني فستبصر ويبصرون الدنيا أنه كيف يكون عاقبة أمرك وعاقبة أمرهم، فإنك تصير معظما في القلوب، ويصيرون دليلين ملعونين، وتستولي عليهم بالقتل والنهب، قال مقاتل: هذا وعيد بالعذاب ببدر، ومنهم من حمله على أحوال الآخرة وهو كقوله: * (سيعلمون غدا من الكذاب الأشر) * (القمر: 26).
وأما قوله تعالى:
* (بأيكم المفتون) *.
ففيه وجوه: أحدها: وهو قول الأخفش وأبي عبيدة وابن قتيبة: أن الباء صلة زائدة والمعنى أيكم المفتون وهو الذي فتن بالجنون كقوله: * (تنبت بالدهن) * (المؤمنين: 20) أي تنبت الدهن وأنشد أبو عبيدة: نضرب بالسيف ونرجو بالفرج (c) والفراء طعن في هذا الجواب وقال: إذا أمكن فيه بيان المعنى الصحيح من دون طرح الباء كان ذلك أولى، وأما البيت فمعناه نرجو كشف ما نحن فيه بالفرج أو نرجو النصر بالفرج وثانيها: وهو اختيار الفراء والمبرد أن المفتون ههنا بمعنى الفتون وهو الجنون، والمصادر تجيء على المفعول نحو المعقود والميسور بمعنى العقد واليسر، يقال: ليس له معقود رأي أي عقد رأى، وهذا قول الحسن والضحاك ورواية عطية عن ابن عباس وثالثها: أن الباء بمعنى في ومعنى الآية: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون، أفي فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار ورابعها: المفتون هو الشيطان إذ لا شك أنه مفتون في دينه وهم لما قالوا إنه مجنون فقد قالوا: إن به شيطانا فقال تعالى: سيعلمون غدا بأيهم شيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل ثم قال تعالى:
* (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *.
وفيه وجهان: الأول: هو أن يكون المعنى إن ربك هو أعلم بالمجانين على الحقيقة، وهم الذي ضلوا عن سبيله وهو أعلم بالعقلاء وهم المهتدون الثاني: أن يكون المعنى إنهم رموك بالجنون ووصفوا أنفسهم بالعقل وهم كذبوا في ذلك، ولكنهم موصوفون بالضلال، وأنت موصوف بالهداية والامتياز الحاصل بالهداية والضلال أولى بالرعاية من الامتياز الحاصل بسبب العقل والجنون، لأن ذاك
82

ثمرته السعادة الأبدية (أ) والشقاوة، وهذا ثمرته السعادة (أ) والشقاوة في الدنيا.
قوله تعالى
* (فلا تطع المكذبين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما عليه الكفار في أمر الرسول ونسبته إلى الجنون مع الذي أنعم الله به عليه من الكمال في أمر الدين والخلق، أتبعه بما يدعوه إلى التشدد مع قومه وقوى قلبه بذلك مع قلة العدد وكثرة الكفار، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل فقال: * (فلا تطع المكذبين) * يعني رؤساء أهل مكة، وذلك أنهم دعوه إلى دين آبائه فنهاه الله أن يطيعهم، وهذا من الله إلهاب وتهييج التشدد في مخالفتهم.
ثم قال:
* (ودوا لو تدهن فيدهنون * ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشآء بنميم * مناع للخير معتد أثيم * عتل بعد ذلك زنيم) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الليث: الإدهان اللين والمصانعة والمقاربة في الكلام، قال المبرد: داهن الرجل في دينه وداهن في أمره إذا خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر، والمعنى تترك بعض ما أنت عليه مما لا يرضونه مصانعة لهم فيفعلوا مثل ذلك ويتركوا بعض مالا ترضى فتلين لهم ويلينون لك، وروى عطاء عن ابن عباس: لو تكفر فيكفرون.
المسألة الثانية: إنما رفع * (فيدهنون) * ولم ينصب بإضمار أن وهو جواب التمني لأنه قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون كقوله: * (فمن يؤمن بربه فلا يخاف) * (الجن: 13) على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، قال سيبويه: وزعم هارون وكان من القراء أنها في بعض المصاحف: (ودوا لو تدهن فيدهنوا).
واعلم أنه تعالى لما نهاه عن طاعة المكذبين، وهذا يتناول النهي عن طاعة جميع الكفار إلا أنه أعاد النهي عن طاعة من كان من الكفار موصفا بصفات مذمومة وراء الكفر، وتلك الصفات هي هذه: الصفة الأولى: كونه حلافا، والحلاف من كان كثير الحلف في الحق والباطل، وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف ومثله قوله: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم) * (البقرة: 224).
الصفة الثانية: كونه مهينا، قال الزجاج: هو فعيل من المهانة، ثم فيه وجهان أحدهما: أن المهانة هي القلة والحقارة في الرأي والتمييز والثاني: أنه إنما كان مهينا لأن المراد الحلاف
83

في الكذب، والكذاب حقير عند الناس.
وأقول: كونه حلافا يدل على أنه لا يعرف عظمة الله تعالى وجلاله، إذ لو عرف ذلك لما أقدم في كل حين وأوان بسبب كل باطل على الاستشهاد باسمه وصفته ومن لم يكن عالما بعظمة الله وكان متعلق القلب بطلب الدنيا كان مهينا، فهذا يدل على أن عزة النفس لا تحصل إلا لمن عرف نفسه بالعبودية، وأن مهانتها لا تحصل إلا لمن غفل عن سر العبودية.
الصفة الثالثة: كونه همازا وهو العياب الطعان، قال المبرد: هو الذي يهمز الناس أي يذكرهم بالمكروه وأثر ذلك يظهر العيب، وعن الحسن يلوي شدقيه في أقفية الناس وقد استقصينا (القول) فيه في قوله: * (ويل لكل همزة) * (الهمزة: 1).
الصفة الرابعة: كونه مشاء بنميم أي يمشي بالنميمة بين الناس ليفسد بينهم، يقال: نم ينم وينم نما ونميما ونميمة.
الصفة الخامسة: كونه مناعا للخير وفيه قولان: أحدهما: أن المراد أنه بخيل والخير المال والثاني: كان يمنع أهله من الخير وهو الإسلام، وهذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان له عشرة من البنين وكان يقول لهم وما قاربهم لئن تبع دين محمد منكم أحد لا أنفعه بشيء أبدا فمنعهم الإسلام فهو الخير الذي منعهم، وعن ابن عباس أنه أبو جهل وعن مجاهد: الأسود بن عبد يغوث، وعن السدي: الأخنس بن شريق.
الصفة السادسة: كونه معتديا، قال مقاتل: معناه أنه ظلوم يتعدى الحق ويتجاوزه فيأتي بالظلم ويمكن حمله على جميع الأخلاق الذميمة يعني أنه نهاية في جميع القبائح والفضائح.
الصفة السابعة: كونه أثيما، وهو مبالغة في الإثم.
الصفة الثامنة: العتل وأقوال المفسرين فيه كثيرة، وهي محصورة في أمرين أحدهما: أنه ذم في الخلق والثاني: أنه ذم في الخلق، وهو مأخوذ من قولك: عتله إذا قاده بعنف وغلظة، ومنه قوله تعالى: * (فاعتلوه) * (الدخان: 47) أما الذين حملوه على ذم الخلق فقال ابن عباس في رواية عطاء: يريد قوي ضخم. وقال مقاتل: واسع البطن، وثيق الخلق وقال الحسن: الفاحش الخلق، اللئيم النفس وقال عبيدة بن عمير: هو الأكول الشروب، القوي الشديد وقال الزجاج: هو الغليظ الجافي. أما الذين حملوه على ذم الأخلاق، فقالوا: إنه الشديد الخصومة، الفظ العنيف.
الصفة التاسعة: قوله: * (زنيم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الزنيم أقوال: الأول: قال الفراء: الزنيم هو الدعي الملصق بالقوم وليس منهم، قال حسان: وأنت زنيم نيط في آل هاشم * كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
والزنمة من كل شيء الزيادة، وزنمت الشاة أيضا إذا شقت أذنها فاسترخت ويبست وبقيت
84

كالشئ المعلق، فالحاصل أن الزنيم هو ولد الزنا الملحق بالقوم في النسب وليس منهم، وكان الوليد دعيا في قريش وليس من سنخهم ادعاه بعد ثمان عشرة (ليلة) من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية والقول الثاني: قال الشعبي هو الرجل يعرف بالشر واللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها والقول الثالث: روى عن عكرمة عن ابن عباس قال: معنى كونه زنيما أنه كانت له زنمة في عنقه يعرف بها، وقال مقاتل: كان في أصل أذنه مثل زنمة الشاة.
المسألة الثانية: قول * (بعد ذلك) * معناه أنه بعدما عد له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم وهذا يدل على أن هذين الوصفين وهو كونه عتلا زنيما أشد معايبه لأنه إذا كان جافيا غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الولد، ولهذا قال عليه الصلاة السلام: " لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده " وقيل: ههنا * (بعد ذلك) * نظير * (ثم) * في قوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 17) وقرأ الحسن (عتل) رفعا على الذم.
ثم إنه تعالى بعد تعديد هذه الصفات قال:
* (أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه ءاياتنا قال أساطير الاولين) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (أن كان) * يجوز أن يكون متعلقا بما قبله وأن يكون متعلقا بما بعده أما الأول: فتقديره: ولا تطع كل حلاف مهين أن كان ذا مال وبنين، أي لا تطعه مع هذه المثالب ليساره وأولاده وكثرته، وأما الثاني: فتقديره لأجل أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين، والمعنى لأجل أن كان ذا مال وبنين جعل مجازاة هذه النعم التي خولها الله له الكفر بآياته قال أبو علي الفاسي: العامل في قوله: * (أن كان) * إما أن يكون هو قوله: * (تتلى) * أو قوله * (قال) *. أو شيئا ثالثا، والأول باطل لأن * (تتلى) * قد أضيفت * (إذا) * إليه والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله ألا ترى أنك لا تقول: القتال زيدا حين يأتي تريد حين يأتي زيدا، ولا يجوز أن يعمل فيه أيضا * (قال) * لأن * (قال) * جواب * (إذا) *، وحكم الجواب أن يكون بعدما هو جواب له ولا يتقدم عليه، ولما بطل هذان القسمان علمنا أن العامل فيه شيء ثالث دل ما في الكلام عليه وذلك هو يجحد أو يكفر أو يمسك عن قبول الحق أو نحو ذلك، وإنما جاز أن يعمل المعنى فيه، وإن كان متقدما عليه لشبهه بالظرف، والظرف قد تعمل فيه المعاني وإن تقدم عليها، ويدلك على مشابهته للظرف تقدير اللام معه، فإن تقدير الآية: لأن كان ذا
مال وإذا صار كالظرف لم يمتنع المعنى من أن يعمل فيه، كما لم يمتنع من أن يعمل في نحو قوله: * (ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد) * (سبأ: 7) لما كان ظرفا، والعامل فيه القسم الدال عليه قوله: * (إنكم لفي خلق جديد) * فكذلك قوله: * (أن كان ذا مال وبنين) * تقديره: إنه جحد آياتنا، لأن كان ذا مال وبنين أو كفر بآياتنا، لأن كان ذا مال وبنين.
85

المسألة الثالثة: قرىء: * (أأن كان) * على الاستفهام، والتقدير: ألأن كان ذال مال كذب، أو التقدير: أتطيعه لأن كان ذا مال.
وروى الزهري عن نافع: إن كان بالكسر، والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطا يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونظير صرف الشرط إلى المخاطب صرف الترجى إليه في قوله: * (لعله يتذكر) * (طه: 44).
واعلم أنه تعالى لما حكى عنه قبائح أفعاله وأقواله قال متوعدا له:
* (سنسمه على الخرطوم) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الوسم أثر الكية وما يشبهها، يقال: وسمته فهو موسوم بسمة يعرف بها إما كية، وإما قطع في أذن علامة له.
المسألة الثانية: قال المبرد: الخرطوم ههنا الأنف، وإنما ذكر هذا اللفظ على سبيل الاستخفاف به، لأن التعبير عن أعضاء الناس بالأسماء الموضوعة، لأشباه تلك الأعضاء من الحيوانات يكون استخفافا، كما يعبر عن شفاه الناس بالمشافر، وعن أيديهم وأرجلهم بالأظلاف والحوافر.
المسألة الثالثة: الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه لارتفاعه عليه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة، وقالوا: الأنف في الأنف وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين، وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه، فعبر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين، فكيف على أكرم موضع من الوجه.
المسألة الرابعة: منهم من قال: هذا الوسم يحصل في الآخرة، ومنهم من قال: يحصل في الدنيا، أما على القول الأول: ففيه وجوه أولها: وهو قول مقاتل وأبي العالية واختيار الفراء: أن المراد أنه يسود وجهه قبل دخول النار، والخرطوم وإن كان قد خص بالسمة فإن المراد هو الوجه لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض وثانيها: أن الله تعالى سيجعل له في الآخرة العلم الذي يعرف به أهل القيامة، إنه كان غاليا في عداوة الرسول، وفي إنكار الدين الحق وثالثها: أن في الآية احتمالا آخر عندي، وهو أن ذلك الكافر إنما بالغ في عداوة الرسول وفي الطعن في الدين الحق بسبب الأنفة والحمية، فلما كان منشأ هذا الإنكار هو الأنفة والحمية كان منشأ عذاب الآخرة هو هذه الأنفة والحمية، فعبر عن هذا الاختصاص بقوله: * (سنسمه على الخرطوم) *، وأما على القول الثاني: وهو أن هذا الوسم إنما يحصل في الدنيا ففيه وجوه: أحدها: قال ابن عباس سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه ما عاش.
وروي أنه قاتل يوم بدر فخطم بالسيف في القتال
86

وثانيها: أن معنى هذا الوسم أنه يصير مشهورا بالذكر الردئ والوصف القبيح في العالم، والمعنى سنلحق به شيئا لا يفارقه ونبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى كما لا تخفى السمة على الخراطيم، تقول العرب للرجل الذي تسبه في مسبة قبيحة باقية فاحشة: قد وسمه ميسم سوء، والمراد أنه ألصق به عارا لا يفارقه كما أن السمة لا تنمحي ولا تزول البتة، قال جرير: لما وضعت على الفرزدق ميسمي * وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
يريد أنه وسم الفرزدق (والبعيث) وجدع أنف الأخطل بالهجاء أي ألقى عليه عارا لا يزول، ولا شك أن هذه المبالغة العظيمة في مذمة الوليد بن المغيرة بقيت على وجه الدهر فكان ذلك كالموسم على الخرطوم، ومما يشهد لهذا الوجه قول من قال في * (زنيم) * إنه يعرف بالشر كما تعرف الشاة بزنمتها وثالثها: يروى عن النضر بن شميل أن الخرطوم هو الخمر وأنشد: تظل يومك في لهو وفي طرب * وأنت بالليل شراب الخراطيم
فعلى هذا معنى الآية: سنحده على شرب الخمر وهو تعسف، وقيل للخمر الخرطوم كما يقال لها السلافة، وهي ما سلف من عصير العنب، أو لأنها تطير في الخياشيم.
قوله تعالى
* (إنا بلوناهم كما بلونآ أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: لأجل أن كان ذا مال وبنين، جحد وكفر وعصى وتمرد، وكان هذا استفهاما على سبيل الإنكار بين في هذه الآية أنه تعالى إنما أعطاه المال والبنين على سبيل الابتلاء والامتحان، وليصرفه إلى طاعة الله، وليواظب على شكر نعم الله، فإن لم يفعل ذلك فإنه تعالى يقطع عنه تلك النعم، ويصب عليه أنواع البلاء والآفات فقال: * (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) * أي كلفنا هؤلاء أن يشكروا على النعم، كما كلفنا أصحاب الجنة ذات الثمار، أن يشكروا ويعطوا الفقراء حقوقهم، روي أن واحدا من ثقيف وكان مسلما، كان يملك ضيعة فيها نخل وزرع بقرب صنعاء، وكان يجعل من كل ما فيها عند الحصاد نصيبا وافرا للفقراء، فلما مات ورثها منه بنوه، ثم قالوا: عيالنا كثير، والمال قليل، ولا يمكننا أن نعطي المساكين، مثل ما كان يفعل أبونا، فأحرق الله جنتهم، وقيل: كانوا من بني إسرائيل، وقوله: * (إذ أقسموا) * إذ حلفوا: * (ليصرمنها) * ليقطعن ثمر نخيلهم مصبحين، أي في وقت الصباح، قال مقاتل: معناه أغدوا سرا إلى جنتكم، فاصرموها، ولا تخبروا المساكين، وكان أبوهم يخبر المساكين، فيجتمعون عند صرام جنتهم، يقال: قد صرم العذق عن النخلة، وأصرم النخل إذا حان وقت صرامه، وقوله: * (
ولا يستثنون) * يعني ولم يقولوا: إن شاء
87

الله، هذا قول جماعة المفسرين، يقال: حلف فلان يمينا ليس فيها ثنيا ولا ثنوي، ولا ثنية ولا مثنوية ولا استثناء وكله واحد، وأصل هذا كله من الثنى وهو الكف والرد، وذلك أن الحالف إذا قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله غيره، فقد رد انعقاد ذلك اليمين، واختلفوا في قوله: * (ولا يستثنون) * فالأكثرون أنهم إنما لم يستثنوا بمشيئة الله تعالى لأنهم كانوا كالواثقين بأنهم يتمكنون من ذلك لا محالة، وقال آخرون: بل المراد أنهم يصرمون كل ذلك ولا يستثنون للمساكين من جملة ذلك القدر الذي كان يدفعه أبوهم إلى المساكين.
ثم قال تعالى
* (فطاف عليها طآئف من ربك وهم نآئمون * فأصبحت كالصريم) *.
* (طائف من ربك) * أي عذاب من ربك، والطائف لا يكون إلا ليلا أي طرقها طارق من عذاب الله، قال الكلبي: أرسل الله عليها نارا من السماء فاحترقت وهم نائمون فأصبحت الجنة كالصريم. واعلم أن الصريم فعيل، فيحتمل أن يكون بمعنى المفعول، وأن يكون بمعنى الفاعل وههنا احتمالات أحدها: أنها لما احترقت كانت شبيهة بالمصرومة في هلاك الثمر وإن حصل الاختلاف في أمور أخر، فإن الأشجار إذا احترقت فإنها لا تشبه الأشجار التي قطعت ثمارها، إلا أن هذا الاختلاف وإن حصل من هذا الوجه، لكن المشابهة في هلاك الثمر حاصلة وثانيها: قال الحسن: أي صرم عنها الخير فليس فيها شيء، وعلى هذين الوجهين الصريم بمعنى المصروم وثالثها: الصريم من الرمل قطعة ضخمة تنصرم عن سائر الرمال وجمعه الصرائم، وعلى هذا شبهت الجنة وهي محترقة لا ثمر فيها ولا خير بالرملة المنقطعة عن الرمال، وهي لا تنبت شيئا ينتفع به ورابعها: الصبح يسمى صريما لأنه انصرم من الليل، والمعنى أن تلك الجنة يبست وذهبت خضرتها ولم يبق فيها شيء، من قولهم: بيض الإناء إذا فرغه وخامسها: أنها لما احترقت صارت سوداء كالليل المظلم، والليل يسمى صريما وكذا النهار يسمى أيضا صريما، لأن كل واحد منهما ينصرم بالآخر، وعلى هذا الصريم بمعنى الصارم، وقال قوم: سمي الليل صريما، لأنه يقطع بظلمته عن التصرف وعلى هذا هو فعيل بمعنى فاعل، وقال آخرون: سميت الليلة بالصريم، لأنها تصرم نور البصر وتقطعه.
ثم قال تعالى:
* (فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين) *.
قال مقاتل: لما أصبحوا قال بعضهم لبعض: * (اغدوا على حرثكم) * ويعني بالحرث الثمار والزروع والأعناب، ولذلك قال: صارمين لأنهم أرادوا قطع الثمار من هذه الأشجار.
فإن قيل: لم لم
88

يقل اغدوا إلى حرثكم، وما معنى على؟ قلنا: لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول: غدا عليهم العدو، ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال، كقولهم: يغدي عليهم بالجفنة ويراح، أي فأقبلوا على حرثكم باكرين.
قوله تعالى
* (فانطلقوا وهم يتخافتون) *.
أي يتسارون فيما بينهم، وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى كتم ومنه الخفدود للخفاش، قال ابن عباس: غدوا إليها بصدفة يسر بعضهم إلى بعض الكلام لئلا يعلم أحد من الفقراء والمساكين.
ثم قال تعالى:
* (أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين) *.
* (أن) * مفسرة، وقرأ ابن مسعود بطرحها بإضمار القول أي يتخافتون يقولون لا يدخلها والنهي للمسكين عن الدخول نهي لهم عن تمكينه منه، أي لا تمكنوه من الدخول (حتى يدخل)، كقولك لا أرينك ههنا.
ثم قال:
* (وغدوا على حرد قادرين) *.
وفيه أقوال: الأول: الحرد المنع يقال: حاردت السنة إذا قل مطرها ومنعت ريعها، وحاردت الناقة إذا منعت لبنها فقل اللبن، والحرد الغضب، وهما لغتان الحرد والحرد والتحريك أكثر، وإنما سمي الغضب بالحرد لأنه كالمانع من أن يدخل المغضوب منه في الوجود، والمعنى وغدوا وكانوا عند أنفسهم وفي ظنهم قادرين على منع المساكين الثاني: قيل: الحرد القصد والسرعة، يقال: حردت حردك قال الشاعر: أقبل سيل جاء من أمر الله * يحرد حرد الجنة المغلة
وقطا حراد أي سراع، يعني وغدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة ونشاط قادرين عند أنفسهم يقولون: نحن نقدر على صرامها، ومنع منفعتها عن المساكين والثالث: قيل: حرد علم لتلك الجنة أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام والحرمان.
* (فلما رأوها قالوا إنا لضآلون * بل نحن محرومون) *.
فيه وجوه أحدها: أنهم لما رأوا جنتهم محترقة ظنوا أنهم قد ضلوا الطريق فقالوا: * (إنا لضالون) * ثم لما تأملوا وعرفوا أنها هي قالوا: * (بل نحن محرومون) * حرمنا خيرها بشؤم عزمنا على البخل ومنع الفقراء وثانيها: يحتمل
89

أنهم لما رأوا جنتهم محترقة قالوا: إنا لضالون حيث كنا عازمين على منع الفقراء، وحيث كنا نعتقد كوننا قادرين على الانتفاع بها، بل الأمر انقلب علينا فصرنا نحن المحرومين.
قوله تعالى
* (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) *.
قوله تعالى: * (قال أوسطهم) * يعني أعدلهم وأفضلهم وبينا وجهه في تفسير قوله: * (أمة وسطا) * (البقرة: 143).
* (ألم أقل لكم لولا تسبحون) * يعني هلا تسبحون وفيه وجوه الأول: قال الأكثرون معناه هلا تستثنون فتقولون: إن شاء الله، لأن الله تعالى إنما عابهم بأنهم لا يستثنون، وإنما جاز تسمية قول: إن شاء الله بالتسبيح لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل سوء، فلو دخل شيء في الوجود على خلاف إرادة الله، لكان ذلك يوجب عودة نقص إلى قدرة الله، فقولك: إن شاء الله، يزيل هذا النقص، فكان ذلك تسبيحا.
واعلم أن لفظ القرآن يدل على أن القوم كانوا يحلفون ويتركون الاستثناء وكان أوسطهم ينهاهم عن ترك الاستثناء ويخوفهم من عذاب الله، فلهذا حكى عن ذلك الأوسط أنه قال بعد وقوع الواقعة: * (ألم أقل لكم لولا تسبحون) *.
الثاني: أن القوم حين عزموا على منع الزكاة واغتروا بمالهم وقوتهم قال الأوسط لهم: توبوا عن هذه المعصية قبل نزول العذاب، فلما رأوا العذاب ذكرهم ذلك الكلام الأول وقال: * (لولا تسبحون) * فلا جرم اشتغل القوم في الحال بالتوبة و:
* (قالوا سبحان ربنآ إنا كنا ظالمين) *.
فتكلموا بما كان يدعوهم إلى التكلم به لكن بعد خراب البصرة الثالث: قال الحسن: هذا التسبيح هو الصلاة كأنهم كانوا يتكاسلون في الصلاة وإلا لكانت ناهية لهم عن الفحشاء والمنكر ولكانت داعية لهم إلى أن يواظبوا على ذكر الله وعلى قول: إن شاء الله، ثم إنه تعالى لما حكى عن ذلك الأوسط أنه أمرهم بالتوبة وبالتسبيح حكى عنهم أشياء أولها: أنهم اشتغلوا بالتسبيح وقالوا في الحال سبحان ربنا عن أن يجري في ملكه شيء إلا بإرادته ومشيئته، ولما وصفوا الله تعالى بالتنزيه والتقديس اعترفوا بسوء أفعالهم وقالوا إنا كنا ظالمين.
وثانيها:
* (فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون) *.
أي يلوم بعضهم بعضا يقول: هذا لهذا أنت أشرت علينا بهذا الرأي، ويقول: ذاك لهذا أنت خوفتنا بالفقر، ويقول الثالث لغيره: أنت الذي رغبتني في جمع المال فهذا هو التلاوم.
90

ثم نادوا على أنفسهم بالويل:
* (قالوا يا ويلنآ إنا كنا طاغين) *. والمراد أنهم استعظموا جرمهم.
ثم قالوا عند ذلك:
* (عسى ربنآ أن يبدلنا خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون) *.
* (عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها) * قرىء * (يبدلنا) * بالتخفيف والتشديد * (إنا إلى ربنا راغبون) * طالبون منه الخير راجون لعفوه، واختلف العلماء ههنا، فمنهم من قال إن ذلك كان توبة منهم، وتوقف بعضهم في ذلك قالوا: لأن هذا الكلام يحتمل أنهم إنما قالوه رغبة منهم في الدنيا.
* (كذلك العذاب ولعذاب الاخرة أكبر لو كانوا يعلمون) *.
ثم قال تعالى: * (كذلك العذاب) * يعني كما ذكرنا من إحراقها بالنار، وههنا تم الكلام في قصة أصحاب الجنة.
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران أحدهما: أنه تعالى قال: * (أن كان ذا مال وبنين * إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) * (القلم: 14، 15) والمعنى: لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا: بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية والثاني: أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها فقلب الله عليهم القضية فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بد حلفوا على أن يقتلوا محمدا وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة.
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال: * (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) * وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير.
ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال السعداء، فقال:
* (إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم) *.
* (عند ربهم) * أي في الآخرة * (جنات النعيم) * أي جنات ليس لهم فيه إلا التنعم الخالص لا يشوبه ما ينغصه، كما يشوب جنات الدنيا، قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية قال كفار مكة للمسلمين: إن الله تعالى فضلنا عليكم في الدنيا، فلا بد وأن يفضلنا عليكم في الآخرة، فإن لم يحصل التفضيل، فلا أقل من المساواة.
91

ثم إن الله تعالى أجاب عن هذا الكلام بقوله:
* (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * ما لكم كيف تحكمون) *.
ومعنى الكلام أن التسوية بين المطيع والعاصي غير جائزة، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى: قال القاضي: فيه دليل واضح على أن وصف الإنسان بأنه مسلم ومجرم كالمتنافي، فالفاسق لما كان مجرما وجب أن لا يكون مسلما والجواب: أنه تعالى أنكر جعل المسلم مثلا للمجرم، ولا شك أنه ليس المراد إنكار المماثلة في جميع الأمور، فإنهما يتماثلان في الجوهرية والجسمية والحدوث والحيوانية، وغيرها من الأمور الكثيرة، بل المراد إنكار استوائهما في الإسلام والجرم، أو في آثار هذين الأمرين، أو المراد إنكار أن يكون أثر إسلام المسلم مساويا لأثر جرم المجرم عند الله، وهذا مسلم لا نزاع فيه، فمن أين يدل على أن الشخص الواحد يمتنع أن يجتمع فيه كونه مسلما ومجرما؟.
المسألة الثانية: قال الجبائي: دلت الآية على أن المجرم لا يكون البتة في الجنة، لأنه تعالى أنكر حصول التسوية بينهما، ولو حصلا في الجنة، لحصلت التسوية بينهما في الثواب، بل لعله يكون ثواب المجرم أزيد من ثواب المسلم إذا كان المجرم أطول عمرا من المسلم، وكانت طاعاته غير محبطة الجواب: هذا ضعيف لأنا بينا أن الآية لا تمنع من حصول التسوية في شيء أصلا بل تمنع من حصول التسوية في درجة الثواب، ولعلهما يستويان فيه بل يكون ثواب المسلم الذي لم يعص أكثر من ثواب من عصى، على أنا نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من المجرمين هم الكفار الذين حكى الله عنهم هذه الواقعة وذلك لأن حمل الجمع المحلى بالألف واللام على المعهود السابق مشهور في اللغة والعرف.
المسألة الثالثة: أن الله تعالى استنكر التسوية بين المسلمين والمجرمين في الثواب، فدل هذا على أنه يقبح عقلا ما يحكى عن أهل السنة أنه يجوز أن يدخل الكفار في الجنة والمطيعين في النار والجواب: أنه تعالى استنكر ذلك بحكم الفضل والإحسان، لا أن ذلك بسبب أن أحدا يستحق عليه شيئا.
واعلم أنه تعالى لما قال على سبيل الاستبعاد: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين) * قرر هذا الاستبعاد بأن قال على طريقة الالتفات: * (ما لكم كيف تحكمون) * هذا الحكم المعوج ثم قال:
* (أم لكم كتاب فيه تدرسون * إن لكم فيه لما تخيرون) *.
وهو كقوله تعالى: * (أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم) * (الصافات: 156) والأصل تدرسون أن لكم ما تتخيرون بفتح أن لأنه مدرس، فلما
92

جاءت اللام كسرت، وتخير الشيء واختاره، أي أخذ خيره ونحوه تنخله وانتخله إذا أخذ منخوله.
ثم قال تعالى:
* (أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: لفلان على يمين بكذا إذا ضمنته منه وخلقت له على الوقاء به يعني أم ضمنا منكم وأقسمنا لكم بأيمان مغلظة متناهية في التوكيد.
فإن قيل: إلى في قوله: * (إلى يوم القيامة) * بم يتعلق؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنها متعلقة بقوله: * (بالغة) * أي هذه الأيمان في قوتها وكمالها بحيث تبلغ إلى يوم القيامة والثاني: أن يكون التقدير. أيمان ثابتة إلى يوم القيامة. ويكون معنى بالغة مؤكدة كما تقول جيدة بالغة، وكل شيء متناه في الصحة والجودة فهو بالغ، وأما قوله: * (إن لكم لما تحكمون) * فهو جواب القسم لأن معنى: * (أم لكم أيمان علينا) * أم أقسمنا لكم.
المسألة الثانية: قرأ الحسن بالغة بالنصب وهو نصب على الحال من الضمير في الظرف.
ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام:
* (سلهم أيهم بذالك زعيم) *.
والمعنى أيهم بذلك الحكم زعيم، أي قائم به وبالاستدلال على صحته، كما يقوم زعيم القوم بإصلاح أمورهم.
ثم قال:
* (أم لهم شركآء فليأتوا بشركآئهم إن كانوا صادقين) *.
وفي تفسيره وجهان الأول: المعنى أم لهم أشياء يعتقدون أنها شركاء الله فيعتقدون أن أولئك الشركاء يجعلونهم في الآخرة مثل المؤمنين في الثواب والخلاص من العقاب، وإنما أضاف الشركاء إليهم لأنهم جعلوها شركاء لله وهذا كقوله: * (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء) * (الروم: 40)، الوجه الثاني: في المعنى أم لهم ناس يشاركونهم في هذا المذهب وهو التسوية بين المسلمين والمجرمين، فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في دعواهم، والمراد بيان أنه كما ليس لهم دليل عقلي في إثبات هذا المذهب، ولا دليل نقلي وهو كتاب يدرسونه، فليس لهم من يوافقهم من العقلاء على هذا القول، وذلك يدل على أنه باطل من كل الوجوه.
واعلم أنه تعالى لما أبطل قولهم، وأفسد مقالتهم شرح بعد ذلك عظمة يوم القيامة.
* (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) *.
فقال: * (يوم يكشف عن ساق) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: يوم منصوب بماذا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب، بقوله: * (فليأتوا) * في قوله: * (فليأتوا بشركائهم) * (القلم: 41) وذلك أن ذلك اليوم يوم شديد، فكأنه تعالى قال:
93

إن كانوا صادقين في أنها شركاء فليأتوا بها يوم القيامة، لتنفعهم ونشفع لهم وثانيها: أنه منصوب بإضمار أذكر وثالثها: أن يكون التقدير يوم يكشف عن ساق، كان كيت وكيت فحذف للتهويل البليغ، وأن ثم من الكوائن مالا يوصف لعظمته.
المسألة الثانية: هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق، أهو يوم القيامة أو في الدنيا؟ فيه قولان: الأول: وهو الذي عليه الجمهور، أنه يوم القيامة، ثم في تفسير الساق وجوه: الأول: أنه الشدة، وروي أنه سئل ابن عباس عن هذه الآية، فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر: سن لنا قومك ضرب الأعناق * وقامت الحرب بنا على ساق
ثم قال: وهو كرب وشدة وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة، وأنشد أهل اللغة أبياتا كثيرة (منها): فإن شمرت لك عن ساقها * فدنها ربيع ولا تسأم
ومنها: كشفت لكم عن ساقها * وبدا من الشر الصراح
وقال جرير: ألا رب سام الطرف من آل مازن إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال آخر: في سنة قد شمرت عن ساقها حمراء تبرى اللحم عن عراقها
وقال آخر: قد شمرت عن ساقها فشدوا وجدت الحرب بكم فجدوا
ثم قال ابن قتيبة أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمر عن ساقه، فلا جرم يقال في موضع الشدة: كشف عن ساقه، واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى، يستحيل أن يكون جسما، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز، وأعلم أن صاحب " الكشاف " أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال: الكشف عن الساق مثل في شدة الأمر، فمعنى قوله: * (يوم يكشف عن ساق) * يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم، ولا ساق، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل وإنما هو مثل في البخل، ثم أخذ يعظم علم البيان ويقول لولاه: لما وقفنا على هذه الأسرار وأقول: إما أن يدعى أنه صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، أو يقول: إنه لا يجوز ذلك إلا بعد امتناع حمله على الحقيقة، والأول باطل بإجماع المسلمين، ولأنا إن جوزنا ذلك انفتحت أبواب تأويلات الفلاسفة في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * (البقرة: 25) ليس هناك لا أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للذة والسعادة، ويقولون في قوله: * (اركعوا واسجدوا) * (الحج: 77) ليس هناك لا سجود ولا ركوع. وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع وفساد الدين، وأما إن قال: بأنه لا يصار إلى هذا التأويل إلا بعد قيام الدلالة على أنه لا يجوز حمله على
94

ظاهره، فهذا هو الذي لم يزل كل أحد من المتكلمين (إلا) قال به وعول عليه، فأين هذه الدقائق، التي استبد هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطة علم البيان، فرحم الله أمرا عرف قدره، وما تجاوز طوره القول الثاني: وهو قول أبي سعيد الضرير: * (يوم يكشف عن ساق) *، أي عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر، وساق الإنسان، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها القول الثالث: يوم يكشف عن ساق جهنم، أو عن ساق العرش، أو عن ساق ملك مهيب عظيم، واللفظ لا يدل إلا على ساق، فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه والقول الرابع: وهو اختيار المشبهة، أنه ساق الله، تعالى الله عنه روى عن ابن مسعود عنه عليه الصلاة والسلام: " أنه تعالى يتمثل للخلق يوم القيامة حين يمر المسلمون، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله فيشهدهم مرتين أو ثلاثا ثم يقول: هل تعرفون ربكم، فيقولون: سبحانه إذا عرفنا نفسه عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن إلا خر ساجدا، ويبقى المنافقون ظهورهم كالطبق الواحد كأنما فيها السفافيد " واعلم أن هذا القول باطل لوجوه أحدها: أن الدلائل دلت على أن كل جسم محدث، لأن كل جسم متناه، وكل متناه محدث ولأن كل جسم فإنه لا ينفك عن الحركة والسكون، وكل ما كان كذلك فهو محدث، ولأن كل جسم ممكن، وكل ممكن محدث وثانيها: أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف، لأنها ساق مخصوصة معهودة عنده وهي ساق الرحمن، أما لو حملناه على الشدة، ففائدة التنكير الدلالة على التعظيم، كأنه قيل: يوم يكشف عن شدة، وأي شدة، أي شدة لا يمكن وصفها وثالثها: أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه القول الثاني: أن قوله: * (يوم يكشف عن ساق) * ليس المراد منه يوم القيامة، بل هو في الدنيا، وهذا قول أبي مسلم قال: أنه لا يمكن حمله على يوم القيامة لأنه تعالى قال في وصف هذا اليوم: * (ويدعون إلى السجود) * ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، بل المراد منه، إما آخر أيام الرجل في دنياه كقوله تعالى: * (يوم يرون الملائكة لا بشرى) * (الفرقان: 22) ثم إنه يرى الناس يدعون إلى الصلوات إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع نفسا إيمانها، وإما حال الهرم والمرض والعجز وقد كانوا قبل ذلك اليوم يدعون إلى السجود وهم سالمون مما بهم الآن، إما من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية قوله: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم) * (الواقعة: 83) واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قاله أبو مسلم، فأما قوله: إنه لا يمكن حمله على القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل ههنا، والتكاليف زائلة يوم القيامة فجوابه أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل، فلم قلتم: إن ذلك غير جائز.
المسألة الثالثة: قرىء: * (يوم نكشف) * بالنون و * (تكشف) * بالتاء المنقوطة من فوق على البناء للفاعل والمفعول جميعا والفعل للساعة أو للحال، أي يوم يشتد الحال أو الساعة، كما تقول:
95

كشف الحرب عن ساقها على المجاز. وقرئ (تكشف) بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف إذا دخل في الكشف، ومنه أكشف الرجل فهو مكشف إذا انقلبت شفته العليا.
قوله تعالى: * (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) *.
اعلم أنا بينا أنهم لا يدعون إلى السجود تعبدا وتكليفا، ولكن توبيخا وتعنيفا على تركهم السجود في الدنيا، ثم إنه تعالى حال ما يدعوهم إلى السجود يسلب عنهم القدرة على السجود، ويحول بينهم وبين الاستطاعة حتى تزداد حسرتهم وندامتهم على ما فرطوا فيه، حين دعوا إلى السجود وهم سالموا الأطراف والمفاصل.
قال الجبائي: لما خصص عدم الاستطاعة بالآخرة دل ذلك على أنهم في الدنيا كانوا يستطيعون، فبطل بهذا قول من قال: الكافر لا قدرة له على الإيمان، وإن القدرة على الإيمان لا تحصل إلا حال وجود الإيمان والجواب: عنه أن علم الله بأنه لا يؤمن مناف لوجود الإيمان والجمع بين المتنافيين محال، فالاستطاعة في الدنيا أيضا غير حاصلة على قول الجبائي.
أما قوله: * (خاشعة أبصارهم) * فهو حال من قوله: * (لا يستطيعون... ترهقهم ذلة) * يعني يلحقهم ذل بسبب أنهم ما كانوا مواظبين على خدمة مولاهم مثل العبد الذي أعرض عنه مولاه، فإنه يكون ذليلا فيما بين الناس، وقوله: * (وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون) * يعني حين كانوا يدعون إلى الصلوات بالأذان والإقامة وكانوا سالمين قادرين على الصلاة، وفي هذا وعيد لمن قعد عن الجماعة ولم يجب المؤذن إلى إقامة الصلاة في الجماعة.
* (فذرنى ومن يكذب به اذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *.
اعلم أنه تعالى لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف فخوفهم بما عنده، وفي قدرته من القهر، فقال: ذرني وإياه، يريد كله إلي، فإني أكفيكه، كأنه يقول: يا محمد حسبك انتقاما منه أن تكل أمره إلي، وتخلي بيني بينه، فإني عالم بما يجب أن يفعل به قادر على ذلك، ثم قال: * (سنستدرجهم) * يقال: استدرجه إلى كذا إذا استنزله إليه درجة فدرجة، حتى يورطه فيه. وقوله: * (من حيث لا يعلمون) * قال أبو روق: * (سنستدرجهم) * أي كلما أذنبوا ذنبا جددنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار، فالإستدراج إنما حصل في الاغتناء الذي لا يشعرون أنه استدراج، وهو الإنعام
96

عليهم لأنهم يحسبونه تفضيلا لهم على المؤمنين، وهو في الحقيقة سبب لهلاكهم.
ثم قال: * (وأملى لهم إن كيدى متين) *.
أي أمهلهم كقوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) وأطيل لهم المدة والملاوة المدة من الدهر، يقال: أملى الله له أي أطال الله له الملاوة والملوان الليل والنهار، والملأ مقصورا الأرض الواسعة سميت به لامتدادها. وقيل: * (وأملي لهم) * أي بالموت فلا أعاجلهم به، ثم إنه إنما سمي إحسانه كيدا كما سماه استدراجا لكون في صورة الكيد، ووصفه بالمتانة لقوة أثر إحسانه في التسبب للهلاك، واعلم أن الأصحاب تمسكوا بهذه الآية في مسألة إرادة الكائنات، فقالوا: هذا الذي سماه بالاستدراج وذلك الكيد، إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو يكون له فيه أثر، والأول باطل، وإلا لكان هو سائر الأشياء الأجنبية بمثابة واحدة، فلا يكون استدراجا البتة ولا كيدا، وأما الثاني فهو يقتضي كونه تعالى مريدا لذلك الفعل الذي ينساق إليه ذلك الاستدراج وذلك الكيد، لأنه إذا كان تعالى لا يزال يؤكد هذا الجانب، ويفتر ذلك الجانب الآخر، واعلم أن تأكيد هذا الجانب لا بد وأن ينساق بالآخرة إلى فعله ودخوله في الوجود، فلا بد وأن يكون مريدا لدخول ذلك الفعل في الوجود وهو المطلوب، أجاب الكعبي عنه فقال: المراد سنستدرجهم إلى الموت من حيث لا يعلمون، وهذا هو الذي تقتضيه الحكمة فإنهم لو عرفوا الوقت الذي يموتون فيه لصاروا آمنين إلى ذلك الوقت ولأقدموا على المعاصي. وفي ذلك إغراء بالمعاصي، وأجاب الجبائي عنه، فقال: سنستدرجهم إلى العذاب من حيث لا يعلمون في الآخرة، وأملي لهم في الدنيا توكيدا للحجة عليهم إن كيدي متين فأمهله وأزيح الأعذار عنه ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة فهذا هو المراد من الكيد المتين، ثم قال: والذي يدل على أن المراد ما ذكرنا أنه تعالى قال قبل هذه الآية: * (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث) * (القلم: 44) ولا شك أن هذا التهديد إنما وقع بعقاب الآخرة، فوجب أن يكون المراد من الاستدراج والكيد المذكورين عقيبه هو عذاب الآخرة، أو العذاب الحاصل عند الموت، واعلم أن أصحابنا قالوا الحرف الذي ذكرناه وهو: أن هذا الإمهال إذا كان متأديا إلى الطغيان كان الراضي بالإمهال العالم بتأديه إلى الطغيان لا بد وأن يكون راضيا بذلك الطغيان، واعلم أن قولهم: * (سنستدرجهم - إلى قوله - إن كيدي متين) * مفسر في سورة الأعراف.
ثم قال تعالى:
* (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) *.
وهذه الآية مع ما بعدها مفسرة في سورة الطور، وأقول: إنه أعاد الكلام إلى ما تقدم من قوله: * (أم لهم شركاء) * (القلم: 41) والمغرم الغرامة أي لم يطلب منهم على الهداية والتعليم أجرا فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم فيثبطهم ذلك عن الإيمان.
97

ثم قال تعالى:
* (أم عندهم الغيب فهم يكتبون) *.
وفيه وجهان الأول: أن عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون منه ثواب ما هم عليه من الكفر والشرك، فلذلك أصروا عليه، وهذا استفهام على سبيل الإنكار الثاني: أن الأشياء الغائبة كأنها حضرت في عقولهم حتى إنهم يكتبون على الله أي يحكمون عليه بما شاءوا وأرادوا.
* (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) *.
ثم إنه تعالى لما بالغ في تزييف طريقة الكفار وفي زجرهم عما هم عليه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (فاصبر لحكم ربك) * وفيه وجهان الأول: فاصبر لحكم ربك في إمهالهم وتأخير نصرتك عليهم والثاني: فاصبر لحكم ربك في أن أوجب عليك التبليغ والوحي وأداء الرسالة، وتحمل ما يحصل بسبب ذلك من الأذى والمحنة.
ثم قال تعالى: * (ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: العامل في * (إذ) * معنى قوله: * (كصاحب الحوت) * يريد لا تكن كصاحب الحوت حال ندائه وذلك لأنه في ذلك الوقت كان مكظوما فكأنه قيل: لا تكن مكظوما.
المسألة الثانية: صاحب الحوت يونس عليه السلام، إذ نادى في بطن الحوت بقوله: * (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * (الأنبياء: 87)، * (وهو مكظوم) * مملوء غيظا من كظم السقاء إذا ملأه، والمعنى لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر والمغاضبة، فتبلى ببلائه.
ثم قال تعالى:
* (لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعرآء وهو مذموم) *.
وقرئ (رحمة من ربه)، وههنا سؤالات: السؤال الأول: لم لم يقل: لولا أن تداركته نعمة من ربه؟ الجواب: إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في تداركه، وقرأ ابن عباس وابن مسعود تداركته، وقرأ الحسن: تداركه، أي تتداركه على حكاية الحال الماضية، بمعنى لولا أن كان، يقال: فيه تتداركه، كما يقال: كان زيد سيقوم فمنعه فلان، أي كان يقال فيه: سيقوم، والمعنى كان متوقعا منه القيام.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله: * (نعمة من ربه) *؟ الجواب: المراد من تلك النعمة، هو أنه تعالى أنعم عليه بالتوفيق للتوبة، وهذا يدل على أنه لا يتم شيء من الصالحات والطاعات إلا بتوفيقه وهدايته.
98

السؤال الثالث: أين جواب لولا؟ الجواب: من وجهين الأول: تقدير الآية: لولا هذه النعمة لنبذ بالعراء مع وصف المذمومية، فلما حصلت هذه النعمة لا جرم لم يوجد النبذ بالعراء مع هذا الوصف، لأنه لما فقد هذا الوصف: فقد فقد ذلك المجموع الثاني: لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموما، ويدل على هذا قوله: * (فلولا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) * (الصافات: 143، 144) وهذا كما يقال: عرصة القيامة؛ وعراء القيامة. السؤال الرابع: هل يدل قوله: * (وهو مذموم) * على كونه فاعلا للذنب؟ الجواب: من ثلاثة أوجه الأول: أن كلمة * (لولا) * دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل الثاني: لعل المراد من المذمومية ترك الأفضل، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين الثالث: لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة لقوله: * (فاجتباه ربه) * (القلم: 50) والفاء للتعقيب.
السؤال الخامس: ما سبب نزول هذه الآيات؟ الجواب: يروى أنها نزلت بأحد حين حل برسول الله ما حل، فأراد أن يدعوا على الذين انهزموا، وقيل: حين أراد أن يدعو على ثقيف.
* (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية وجهان أحدهما: قال ابن عباس: رد الله إليه الوحي وشفعه في قومه والثاني: قال قوم: ولعله ما كان رسولا صاحب وحي قبل هذه الواقعة ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولا، وهو المراد من قوله: * (فاجتباه ربه) * والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا القول الأول. لأن احتباسه في بطن الحوت وعدم موته هناك لما لم يكن إرهاصا ولا كرامة فلا بد وأن يكون معجزة وذلك يقتضي أنه كان رسولا في تلك الحالة.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله تعالى بقوله: * (فجعله من الصالحين) * فالآية تدل على أن ذلك الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه، قال الجبائي: يحتمل أن يكون معنى جعله أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني والجواب: أن هذين الوجهين اللذين ذكرتم مجاز، والأصل في الكلام الحقيقة.
* (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون) *.
قوله تعالى: * (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: إن مخففة من الثقيلة واللام علمها.
المسألة الثانية: قرىء: * (ليزلقونك) * بضم الياء وفتحها، وزلقه وأزلقه بمعنى ويقال: زلق
99

الرأس وأزلقه حلقه، وقرئ ليزهقونك من زهقت نفسه وأزهقها، ثم فيه وجوه أحدها: أنهم من أشدة تحديقهم ونظرهم إليك شزرا بعيون العداوة والبغضاء يكادون يزلون قدمك من قولهم: نظر إلي نظرا يكاد يصرعني، ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله، قال الشاعر: يتقارضون إذا التقوا في موطن * نظرا يزل
مواطئ الأقدام
وأنشد ابن عباس لما مر بأقوام حددوا النظر إليه: نظروا إلي بأعين محمرة * نظر التيوس إلى شفار الجازر
وبين الله تعالى أن هذا النظر كان يشتد منهم في حال قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن وهو قوله: * (لما سمعوا الذكر) * الثاني: منهم من حمله على الإصابة بالعين، وههنا مقامان أحدهما: الإصابة بالعين، هل لها في الجملة حقيقة أم لا؟ الثاني: أن بتقدير كونها صحيحة، فهل الآية ههنا مفسرة بها أم لا؟.
المقام الأول: من الناس من أنكر ذلك، وقال: تأثير الجسم في الجسم لا يعقل إلا بواسطة المماسة، وههنا لا مماسة، فامتنع حصول التأثير.
واعلم أن المقدمة الأولى ضعيفة، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون عبارة عن النفس أو عن البدن، فإن كان الأول لم يمتنع اختلاف النفوس في جواهرها وماهياتها، وإذا كان كذلك لم يمتنع أيضا اختلافها في لوازمها وآثارها، فلا يستبعد أن يكون لبعض النفوس خاصية في التأثير، وإن كان الثاني لم يمتنع أيضا أن يكون مزاج إنسان واقعا على وجه مخصوص يكون له أثر خاص، وبالجملة فالاحتمال العقلي قائم، وليس في بطلانه شبهة فضلا عن حجة، والدلائل السمعية ناطقة بذلك، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال: " العين حق " وقال: " العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر ". والمقام الثاني: من الناس من فسر الآية بهذا المعنى قالوا: كانت العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام فلا يمر به شيء، فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله إلا عانه، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فعصمه الله تعالى، وطعن الجبائي في هذا التأويل وقال: الإصابة بالعين تنشأ عن استحسان الشيء، والقوم ما كانوا ينظرون إلى الرسول عليه السلام على هذا الوجه، بل كانوا يمقتونه ويبغضونه، والنظر على هذا الوجه لا يقتضي الإصابة بالعين.
واعلم أن هذا السؤال ضعيف، لأنهم وإن كانوا يبغضونه من حيث الدين لعلهم كانوا يستحسنون فصاحته، وإيراده للدلائل. وعن الحسن: دواء الإصابة بالعين قراءة هذه الآية.
100

* (وما هو إلا ذكر للعالمين) *.
ثم قال تعالى: * (ويقولون إنه لمجنون) * وهو على ما افتتح به السورة. * (وما هو) * أي وما هذا القرآن الذي يزعمون أنه دلالة جنونه * (إلا ذكر للعالمين) * فإنه تذكير لهم، وبيان لهم، وأدلة لهم، وتنبيه لهم على ما في عقولهم من أدلة التوحيد، وفيه من الآداب والحكم، وسائر العلوم مالا حد له ولا حصر، فكيف يدعى من يتلوه مجنونا، ونظيره مما يذكرون، مع أنه من أدلة الأمور على كمال الفضل والعقل. والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
101

سورة الحاقة
خمسون وآيتان مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الحاقة * ما الحآقة * ومآ أدراك ما الحاقة) *.
المسألة الأولى: أجمعوا على أن الحاقة هي القيامة واختلفوا في معنى الحاقة على وجوه: أحدها: أن الحق هو الثابت الكائن، فالحاقة الساعة الواجبة الوقوع الثابتة المجيء التي هي آتية لا ريب فيها وثانيها: أنها التي تحق فيها الأمور أي تعرف على الحقيقة من قولك لا أحق هذا أي لا أعرف حقيقته جعل الفعل لها وهو لأهلها وثالثها: أنها ذوات الحواق من الأمور وهي الصادقة الواجبة الصدق، والثواب والعقاب وغيرهما من أحوال القيامة أمور واجبة الوقوع والوجود فهي كلها حواق ورابعها: أن * (الحاقة) * بمعنى الحقة والحقة أخص من الحق وأوجب تقول: هذه حقتي أي حقي، وعلى هذا * (الحاقة) * بمعنى الحق، وهذا الوجه قريب من الوجه الأول وخامسها: قال الليث: * (الحاقة) * النازلة التي حقت بالجارية فلا كاذبة لها وهذا معنى قوله تعالى: * (ليس لوقعتها كاذبة) *، (الواقعة: 2) وسادسها: * (الحاقة) * الساعة التي يحق فيها الجزاء على كل ضلال وهدى وهي القيامة وسابعها: * (الحاقة) * هو الوقت الذي يحق على القوم أن يقع بهم وثامنها: أنها الحق بأن يكون فيها جميع آثار أعمال المكلفين فإن في ذلك اليوم يحصل الثواب والعقاب ويخرج عن حد الانتظار وهو قول الزجاج وتاسعها: قال الأزهري: والذي عندي في * (الحاقة) * أنها سميت بذلك لأنها تحق كل محاق في دين الله بالباطل أي تخاصم كل مخاصم وتغلبه من قولك: حاققته فحققته أي غالبته فغلبته وفلجت عليه وعاشرها: قال أبو مسلم: * (الحاقة) * الفاعلة من حقت كلمة ربك.
المسألة الثانية: الحاقة مرفوعة بالابتداء وخبرها * (ما الحاقة) * والأصل * (الحاقة) * ما هي أي أي شيء هي؟ تفخيما لشأنها، وتعظيما لهولها فوضع الظاهر موضع المضمر لأنه أهول لها ومثله قوله: * (القارعة * ما القارعة) * (القارعة: 1 - 2) وقوله: * (وما أدراك) * أي وأي شيء أعلمك * (ما الحاقة) * يعني إنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها، يعني أنه في العظم والشدة بحيث لا يبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك * (وما) * في موضع الرفع على الابتداء و * (أدراك) * معلق عنه لتضمنه معنى الاستفهام.
102

* (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) *.
قوله تعالى: * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) * * (القارعة) * هي التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال، والسماء بالانشقاق والانفطار، والأرض والجبال بالدك والنسف، والنجوم بالطمس والانكدار، وإنما قال: * (كذبت ثمود وعاد بالقارعة) * ولم يقل: بها، ليدل على أن معنى القرع حاصل في الحاقة، فيكون ذلك زيادة
على وصف شدتها. ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك بذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيب تذكيرا لأهل مكة، وتخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم.
* (فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) *.
اعلم أن في الطاغية أقوالا: الأول: أن الطاغية هي الواقعة المجاوزة للحد في الشدة والقوة، قال تعالى: * (إنا لما طغى الماء) * (الحاقة: 1) أي جاوز الحد، وقال: * (ما زاغ البصر وما طغى) * (النجم: 17) فعلى هذا القول: الطاغية نعت محذوف، واختلفوا في ذلك المحذوف، فقال بعضهم: إنها الصيحة المجاوزة في القوة والشدة للصيحات، قال تعالى: * (إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر) * (القمر: 31) وقال بعضهم: إنها الرجفة، وقال آخرون: إنها الصاعقة والقول الثاني: أن الطاغية ههنا الطغيان، فهي مصدر كالكاذبة والباقية والعاقبة والعافية، أي أهلكوا بطغيانهم على الله إذ كذبوا رسله وكفروا به، وهو منقول عن ابن عباس، والمتأخرون طعنوا فيه من وجهين الأول: وهو الذي قاله الزجاج: أنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيء الذي وقع به العذاب، وهو قوله تعالى: * (بريح صرصر) * (الحاقة: 6) وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تكون المناسبة حاصلة والثاني: وهو الذي قاله القاضي: وهو أنه لو كان المراد ما قالوه، لكان من حق الكلام أن يقال: أهلكوا لها ولأجلها والقول الثالث: * (بالطاغية) * أي بالفرقة التي طغت من جملة ثمود، فتآمروا بعقر الناقة فعقروها، أي أهلكوا بشؤم فرقتهم الطاغية، ويجوز أن يكون المراد بالطاغية ذلك الرجل الواحد الذي أقدم على عقر الناقة وأهلك الجميع، لأنهم رضوا بفعله وقيل له طاغية، كما يقول: فلان راوية الشعر، وداهية وعلامة ونسابة.
* (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) *.
الصرصر الشديدة الصوت لها صرصرة وقيل: الباردة من الصر كأنها التي كرر فيها البرد وكثر فهي تحرق بشدة بردها، وأما العاتية ففيها أقوال: الأول: قال الكلبي: عتت على خزنتها يومئذ، فلم يحفظوا كم خرج منها، ولم يخرج قبل ذلك، ولا بعده منها شيء إلا بقدر معلوم، قال عليه الصلاة والسلام: طغى الماء على خزانه يوم
103

نوح، وعتت الريح على خزانها يوم عاد، فلم يكن لها عليها سبيل، فعلى هذا القول: هي عاتية على الخزان الثاني: قال عطاء عن ابن عباس: يريد الريح عتت على عاد فما قدروا على ردها بحيلة من استتار ببناء أو (استناد إلى جبل)، فإنها كانت تنزعهم من مكامنهم وتهلكهم القول الثالث: أن هذا ليس من العتو الذي هو عصيان، إنما هو بلوغ الشيء وانتهاؤه ومنه قولهم: عتا النبت، أي بلغ منتهاه وجف، قال تعالى: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * (مريم: 8) فعاتية أي بالغة منتهاها في القوة والشدة.
* (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) *.
قوله تعالى: * (سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما) * قال مقاتل: سلطها عليهم.
وقال الزجاج: أقلعها عليهم، وقال آخرون: أرسلها عليهم، هذه هي الألفاظ المنقولة عن المفسرين، وعندي أن فيه لطيفة، وذلك لأن من الناس من قال: إن تلك الرياح إنما اشتدت، لأن اتصالا فلكيا نجوميا اقتضى ذلك، فقوله: * (سخرها) * فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، وبيان أن ذلك إنما حصل بتقدير الله وقدرته، فإنه لولا هذه الدقيقة لما حصل منه التخويف والتحذير عن العقاب.
وقوله: * (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) * الفائدة فيه أنه تعالى لو لم يذكر ذلك لما كان مقدار زمان هذا العذاب معلوما، فلما قال: * (سبع ليال وثمانية أيام) * صار مقدار هذا الزمان معلوما، ثم لما كان يمكن أن يظن ظان أن ذلك العذاب كان متفرقا في هذه المدة أزال هذا الظن، بقوله: * (حسوما) * أي متتابعة متوالية، واختلفوا في الحسوم على وجوه أحدها: وهو قول الأكثرين (حسوما)، أي متتابعة، أي هذه الأيام تتابعت عليهم بالريح المهلكة، فلم يكن فيها فتور ولا انقطاع، وعلى هذا القول: حسوم جمع حاسم. كشهود وقعود، ومعنى هذا الحسم في اللغة القطع بالاستئصال، وسمي السيف حساما، لأنه يحسم العدو عما يريد، من بلوغ عداوته فلما كانت تلك الرياح متتابعة ما سكنت ساعة حتى أتت عليهم أشبه تتابعها عليهم تتابع فعل الحاسم في إعادة الكي، على الداء كرة بعد أخرى، حتى ينحسم وثانيها: أن الرياح حسمت كل خير، واستأصلت كل بركة، فكانت حسوما أو حسمتهم، فلم يبق منهم أحد، فالحسوم على هذين القولين جمع حاسم وثالثها: أن يكون الحسوم مصدرا كالشكور والكفور، وعلى هذا التقدير فإما أن ينتصب بفعله مضمرا، والتقدير: يحسم حسوما، يعني استأصل استئصالا، أو يكون صفة، كقولك: ذات حسوم، أو يكون مفعولا له، أي سخرها عليهم للاستئصال، وقرأ السدي: * (حسوما) * بالفتح حالا من الريح، أي سخرها عليهم مستأصلة، وقيل: هي أيام العجوز، وإنما سميت بأيام العجوز، لأن عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها، وقيل: هي أيام العجز وهي آخر الشتاء.
قوله تعالى: * (فترى القوم فيها صرعى) * أي في مهابها، وقال آخرون: أي في تلك الليالي
104

والأيام: * (صرعى) * جمع صريع. قال مقاتل: يعني موتى يريد أنهم صرعوا بموتهم، فهم مصرعون صرع الموت. ثم قال: * (كأنهم أعجاز نخل خاوية) * أي كأنهم أصول نخل خالية الأجواف لا شيء فيها، والنخل يؤنث ويذكر، قال الله تعالى في موضع آخر: * (كأنهم أعجاز نخل منقعر) * (القمر: 20) وقرئ: (أعجاز نخيل)، ثم يحتمل أنهم شبهوا بالنخيل التي قلعت من أصلها، وهو إخبار عن عظيم خلقهم وأجسامهم ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي أن الريح قد قطعتهم حتى صاروا قطعا ضخاما كأصول النخل. وأما وصف النخل بالخواء، فيحتمل أن يكون وصفا للقوم، فإن الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف، ويحتمل أن تكون الخالية بمعنى البالية لأنها إذا بليت خلت أجوافها، فشبهوا بعد أن أهلكوا بالنخيل البالية ثم قال:
* (فهل ترى لهم من باقية) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الباقية ثلاثة أوجه أحدها: إنها البقية وثانيها: المراد من نفس باقية وثالثها: المراد بالباقية البقاء، كالطاغية بمعنى الطغيان.
المسألة الثانية: ذهب قوم إلى أن المراد أنه لم يبق من نسل أولئك القوم أحد، واستدل بهذه الآية على قوله قال ابن جريج: كانوا سبع ليال وثمانية أيام أحياء في عقاب الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامن ماتوا، فاحتملتهم الريح فألقتهم في البحر، فذاك هو قوله: * (فهل ترى لهم من باقية) * وقوله: * (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) * (الأحقاف: 25)
القصة الثانية
قصة فرعون
قوله تعالى
* (وجآء فرعون ومن قبله والمؤتفكات بالخاطئة) *.
أي ومن كان قبله من الأمم التي كفرت كما كفر هو، و (من) لفظ عام ومعناه خاص في الكفار دون المؤمنين، قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي، * (ومن قبله) * بكسر القاف وفتح الباء، قال سيبويه: قبل لما ولي الشيء تقول: ذهب قبل السوق، ولى قبلك حق، أي فيما يليك، واتسع فيه حتى صار بمنزلة لي عليك، فمعنى * (من قبله) * أي من عنده من أتباعه وجنوده والذي يؤكد هذه القراءة ما روي أن ابن مسعود وأبيا وأبا موسى قرؤا: * (ومن تلقاءه) * روى عن أبي وحده أنه قرأ: * (ومن معه) * أما قوله: * (والمؤتفكات) * فقد تقدم تفسيرها، وهم الذين أهلكوا من قوم لوط، على معنى والجماعات المؤتفكات، وقوله: * (بالخاطئة) * فيه وجهان الأول: أن الخاطئة مصدر كالخطأ والثاني: أن يكون المراد بالفعلة
105

أو الأفعال ذات الخطأ العظيم.
قوله تعالى
* (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) *.
الضمير إن كان عائدا إلى * (فرعون ومن قبله) * (الحاقة: 9)، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام، وإن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط، قال الواحدي: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله، * (فعصوا) * فيكون كقوله: * (إنا رسول رب العالمين) * (الشعراء: 16) وقوله: * (فأخذهم أخذة رابية) * يقال: ربا الشيء يربو إذا زاد ثم فيه وجهان الأول: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار كما أن أفعالهم كانت زائدة في القبح على أفعال سائر الكفار الثاني: أن عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة، لقوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * (نوح: 25) وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو.
القصة الثالثة
قصة نوح عليه السلام
قوله تعالى
* (إنا لما طغا المآء حملناكم فى الجارية) *.
طغى الماء على خزانه فلم يدروا كم خرج وليس ينزل من السماء قطرة قبل تلك الواقعة ولا بعدها إلا بكيل معلوم، وسائر المفسرين قالوا: * (طغى الماء) * أي تجاوز حده حتى علا كل شيء وارتفع فوقه، و * (حملناكم) * أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، ولا شك أن الذين خوطبوا بهذا هم أولاد الذين كانوا في السفينة، وقوله: * (في الجارية) * يعني في السفينة التي تجري في الماء، وهي سفينة نوح عليه السلام، والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله: * (وله الجوار) * (الرحمان: 24).
* (لنجعلها لكم تذكرة وتعيهآ أذن واعية) *.
قوله تعالى: * (لنجعلها لكم تذكرة) * الضمير في قوله: * (لنجعلها) * إلى ماذا يرجع؟ فيه وجهان: الأول: قال الزجاج إنه عائد إلى الواقعة التي هي معلومة، وإن كانت ههنا غير مذكورة، والتقدير لنجعل نجاة المؤمنين وإغراق الكفرة عظة وعبرة الثاني: قال الفراء: لنجعل السفينة، وهذا ضعيف والأول هو الصواب، ويدل على صحته قوله: * (وتعيها أذن واعية) * فالضمير في قوله: * (وتعيها) * عائد إلى ما عاد إليه الضمير الأول، لكن الضمير في قوله: * (وتعيها) * لا يمكن عوده إلى السفينة فكذا الضمير الأول. قوله تعالى: * (وتعيها أذن واعية) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: يقال: لكل شيء حفظته في نفسك وعيته ووعيت العلم، ووعيت ما قلت ويقال: لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيته يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ومنه قول الشاعر:
106

والشر أخبث ما أوعيت من زاد
واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قوم من الغرق بالسفينة وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته ورحمته وشدة قهره وسطوته،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآية: " سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، قال علي: فما نسيت شيئا بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى " فإن قيل: لم قال * (أذن واعية) * على التوحيد والتنكير؟ قلنا: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالم منهم.
المسألة الثانية: قراءة العامة: * (وتعيها) * بكسر العين، وروى عن ابن كثير * (وتعيها) * ساكنة العين كأنه جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلة فخذ، فأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من فخذ وكبد وكتف، وإنما فعل ذلك لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وهو وهي ومثل ذلك قوله: * (ويتقه) * (النور: 52) في قراءة من سكن القاف. واعلم أنه تعالى لما حكى هذه القصص الثلاث ونبه بها عن ثبوت القدرة والحكمة للصانع فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، وثبت بثبوت الحكمة إمكان وقوع القيامة. ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة فذكر أولا مقدماتها. فقال:
* (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (نفخة) * بالرفع والنصب، وجه الرفع أسند الفعل إليها، وإنما حسن تذكير الفعل للفصل، ووجه النصب أن الفعل مسند إلى الجار والمجرور ثم نصب نفخة على المصدر. المسألة الثانية: المراد من هذه النفخة الواحدة هي النفخة الأولى لأن عندها يحصل خراب العالم، فإن قيل: لم قال بعد ذلك * (يومئذ تعرضون) * (الحاقة: 18) والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ قلنا: جعل اليوم اسما للحين الواسع الذي تقع فيه النفختان، والصعقة والنشور، والوقوف والحساب، فلذلك قال: * (يومئذ تعرضون) * كما تقول: جئته عام كذا، وإنما كان مجيئك في وقت واحد من أوقاته.
* (وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: رفعت الأرض والجبال، إما بالزلزلة التي تكون في القيامة، وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة أو بقدرة الله من غير
107

سبب فدكتا، أي فدكت الجملتان جملة الأرض وجملة الجبال، فضرب بعضها ببعض، حتى تندق وتصير كثيبا مهيلا وهباء منبثا والدك أبلغ من الدق، وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا من قولك: اندك السنام إذا انفرش، وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان. المسألة الثانية: قال الفراء: لا يجوز في دكة ههنا إلا النصب لارتفاع الضمير في دكتا، ولم يقل: فدككن لأنه جعل الجبال كالواحدة والأرض كالواحدة، كما قال: * (أن السماوات والأرض كانتا رتقا) * (الأنبياء: 30) ثم قال تعالى ولم يقل: كن.
* (فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السمآء فهى يومئذ واهية) *.
أي فيومئذ قامت القيامة الكبرى وانشقت السماء لنزول الملائكة: * (فهي يومئذ واهية) * أي مسترخية ساقطة القوة * (كالعهن المنفوش) * بعدما كانت محكمة شديدة.
* (والملك على أرجآئهآ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) *.
ثم قال تعالى: * (والملك على أرجائها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (والملك) * لم يرد به ملكا واحدا، بل أراد الجنس والجمع.
المسألة الثانية: الأرجاء في اللغة النواجي يقال: رجا ورجوان والجمع الأرجاء، ويقال ذلك لحرف البئر وحرف القبر وما أشبه ذلك، والمعنى أن السماء إذا انشقت عدلت الملائكة عن مواضع الشق إلى جوانب السماء، فإن قيل: الملائكة يموتون في الصعقة الأولى، لقوله: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * (الزمر: 68) فكيف يقال: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ قلنا: الجواب من وجهين: الأول: أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء ثم يموتون الثاني: أن المراد الذين استثناهم الله في قوله: * (إلا من شاء الله) * (الزمر: 68).
قوله تعالى: * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا العرش هو الذي أراده الله بقوله * (الذين يحملون العرش) * (غافر: 7) وقوله: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * (الزمر: 75).
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (فوقهم) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان الأول: وهو الأقرب أن المراد فوق الملائكة الذين هم على الأرجاء والمقصود التمييز بينهم وبين الملائكة الذين هم حملة العرش الثاني: قال مقاتل: يعني أن الحملة يحملون العرش فوق رؤوسهم. و (مجيء) الضمير قبل الذكر جائز كقوله: في بيته يؤتي الحكم.
108

المسألة الثالثة: نقل عن الحسن رحمه الله أنه قال: لا أدري ثمانية أشخاص أو ثمانية آلاف أو ثمانية صفوف أو ثمانية آلاف صف.
واعلم أن حمله على ثمانية أشخاص أولى لوجوه: أحدها: ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين فيكونون ثمانية " ويروى: " ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم وهم مطرقون مسبحون " (وقيل: بعضهم على صورة الإنسان) وقيل: بعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر، وروي ثمانية أملاك في صورة الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما، وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك، وأربعة يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك الوجه الثاني: في بيان أن الحمل على ثمانية أشخاص أولى من الحمل على ثمانية آلاف وذلك لأن الثمانية أشخاص لا بد منهم في صدق اللفظ، ولا حاجة في صدق اللفظ إلى ثمانية آلاف، فحينئذ يكون اللفظ دالا على ثمانية أشخاص، ولا دلالة فيه على ثمانية آلاف فوجب حمله على الأول الوجه الثالث: وهو أن الموضع موضع التعظيم والتهويل فلو كان المراد ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف لوجب ذكره ليزداد التعظيم والتهويل، فحيث لم يذكر ذلك علمنا أنه ليس المراد إلا ثمانية أشخاص.
المسألة الرابعة: قالت المشبهة: لو لم يكن الله في العرش لكان حمل العرش عبثا عديم الفائدة، ولا سيما وقد تأكد ذلك بقوله تعالى: * (يومئذ تعرضون) * (الحاقة: 18) والعرض إنما يكون لو كان الإله حاصلا في العرش، أجاب أهل التوحيد عنه بأنه لا يمكن أن يكون المراد منه أن الله جالس في العرش وذلك لأن كل من كان حاملا للعرش كان حاملا لكل ما كان في العرش، فلو كان الإله في العرش للزم الملائكة أن يكونوا حاملين لله تعالى وذلك محال، لأنه يقتضي احتياج الله إليهم، وأن يكونوا أعظم قدرة من الله تعالى وكل ذلك كفر صريح، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل فنقول: السبب في هذا الكلام هو أنه تعالى خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتا يزورونه، وليس أنه يسكنه، تعالى الله عنه وجعل في ركن البيت حجرا هو يمينه في الأرض، إذ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العباد حفظة ليس لأن النسيان يجوز عليه سبحانه، لكن هذا هو المتعارف فكذلك لما كان من شأن الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس إليهم على سرير ووقف الأعوان حوله أحضر الله يوم القيامة عرشا وحضرت الملائكة وحفت به، لا لأنه يقعد عليه أو يحتاج إليه بل لمثل ما قلناه في البيت والطواف.
* (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) *.
قوله تعالى: * (يومئذ تعرضون) * العرض عبارة عن المحاسبة والمساءلة، شبه ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرف أحواله، ونظيره قوله: * (وعرضوا على ربك صفا) * وروى: " أن في القيامة
109

ثلاث عرضات، فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ، وأما الثالثة ففيها تنثر الكتب فيأخذ السعيد كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله ".
ثم قال: * (لا تخفى منكم خافية) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية وجهان الأول: تقرير الآية: تعرضون لا يخفى أمركم فإنه عالم بكل شيء، ولا يخفى عليه منكم خافية، ونظيره قوله: * (لا يخفى على الله منهم شيء) * فيكون الغرض منه المبالغة في التهديد، يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا الوجه الثاني: المراد لا يخفى يوم القيامة ما كان مخفيا منكم في الدنيا، فإنه تظهر أحوال المؤمنين فيتكامل بذلك سرورهم، وتظهر أحوال أهل العذاب فيظهر بذلك حزنهم وفضيحتهم، وهو المراد من قوله: * (يوم تبلى السرائر، فما له من قوة ولا ناصر) * وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة.
المسألة الثانية: قراءة العامة * (لا تخفى) * بالتاء المنقطة من فوقها، واختار أبو عبيدة الياء وهي قراءة حمزة، والكسائي قال: لأن الياء تجوز للذكر والأنثى والتاء لا تجوز إلا للأنثى، وههنا يجوز إسناد الفعل إلى المذكر وهو أن يكون المراد بالخافية شيء ذو خفاء.
وأيضا فقد وقع الفصل ههنا بين الاسم والفعل بقوله: منكم.
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما ينتهي هذا العرض إليه قال:
* (فأما من أوتى كتابه بيمينه فيقول هآؤم اقرؤا كتابيه) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هاء صوت يصوت به، فيفهم منه معنى خذ كأف وحس، وقال أبو القاسم الزجاجي وفيه لغات وأجودها ما حكاه سيبويه عن العرب فقال: ومما يؤمر به من المبنيات قولهم: هاء يا فتى، ومعناه تناول ويفتحون الهمزة ويجعلون فتحها علم المذكر كما قالوا: هاك يا فتى، فتجعل فتحة الكاف علامة المذكر ويقال للإثنين: هاؤما، وللجمع هاؤموا وهاؤم والميم في هذا الموضع كالميم في أنتما وأنتم وهذه الضمة التي تولدت في همزة هاؤم إنما هي ضمة ميم الجمع لأن الأصل فيه هاؤموا وأنتموا فاشبعوا الضمة وحكموا للإثنين بحكم الجمع لأن الاثنين عندهم في حكم الجمع في كثير من الأحكام.
المسألة الثانية: إذا اجتمع عاملان على معمول واحد، فإعمال الأقرب جائز بالاتفاق وإعمال الأبعد هل يجوز أم لا؟ ذهب الكوفيون إلى جوازه والبصريون منعوه، واحتج البصريون على قولهم: بهذه الآية، لأن قوله: * (هاؤم) * ناصب، وقوله: * (اقرؤا) * ناصب أيضا، فلو كان
110

الناصب هو الأبعد، لكان التقدير: هاؤم كتابيه، فكان يجب أن يقول: اقرأوه، ونظيره * (آتوني أفرغ عليه قطرا) * واعلم: أن هذه الحجة ضعيفة لأن هذه الآية دلت على أن الواقع ههنا إعمال الأقرب وذلك لا نزاع فيه إنما النزاع في أنه هل يجوز إعمال الأبعد أم لا، وليس في الآية تعرض لذلك، وأيضا قد يحذف الضمير لأن ظهوره يغني عن التصريح به كما في قوله: * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) * فلم لا يجوز أن يكون ههنا كذلك، ثم احتج الكوفيون بأن العامل الأول متقدم في
الوجود على العامل الثاني، والعامل الأول حين وجد اقتضى معمولا لامتناع حصول العلة دون المعمول، فصيرورة المعمول معمولا للعامل الأول متقدم على وجود العامل الثاني، والعامل الثاني إنما وجد بعد أن صار معمولا للعامل الأول فيستحيل أن يصير أيضا معمولا للعامل الثاني، لامتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين، ولامتناع تعليل ما وجد قبل بما يوجد بعد، وهذه المسألة من لطائف النحو.
المسألة الثالثة: الهاء للسكت * (في كتابيه) * وكذا في * (حسابيه، وماليه، وسلطانيه) * وحق هذه الهاءات أن تثبت في الوقف وتسقط في الوصل، ولما كانت هذه الهاءات مثبتة في المصحف والمثبتة في المصحف لا بد وأن تكون مثبتة في اللفظ، ولم يحسن إثباتها في اللفظ إلا عند الوقف، لا جرم استحبوا الوقف لهذا السبب. وتجاسر بعضهم فأسقط هذه الهاءات عند الوصل، وقرأ ابن محيصن بإسكان الياء بغيرها. وقرأ جماعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف جميعا لاتباع المصحف.
المسألة الرابعة: اعلم أنه لما أوتي كتابيه بيمينه، ثم إنه يقول: * (هاؤم اقرأوا كتابيه) * دل ذلك على أنه بلغ الغاية في السرور لأنه لما أعطى كتابه بيمينه علم أنه من الناجين ومن الفائزين بالنعيم، فأحب أن يظهر ذلك لغيره حتى يفرحوا بما ناله.
وقيل: يقول ذلك لأهل بيته وقرابته.
ثم إنه تعالى حكى عنه أنه يقول:
* (إنى ظننت أنى ملاق حسابيه) *.
وفيه وجوه الأول: المراد منه اليقين الاستدلالي وكل ما ثبت بالاستدلال فإنه لا ينفك من الخواطر المختلفة، فكان ذلك شبيها بالظن الثاني: التقدير: إني كنت أظن أني ألاقي حسابي فيؤاخذني الله بسيئاتي، فقد تفضل علي بالعفو ولم يؤاخذني بها فهاؤم اقرؤا كتابيه وثالثها: روي أبو هريرة أنه عليه السلام قال: " إن الرجل يؤتى به يوم القيامة ويؤتى كتابه فتظهر حسناته في ظهر كفه وتكتب سيئاته في بطن كفه فينظر إلى سيئاته فيحزن، فيقال له: اقلب كفك فينظر فيه فيرى حسناته فيفرح، ثم يقول: * (هاؤم اقرؤا كتابيه، إن ظننت - عند النظرة الأولى - أني ملاق حسابيه) * على سبيل الشدة، وأما الآن فقد فرح الله عني ذلك الغم، وأما في حق الأشقياء فيكون ذلك على الضد مما ذكرنا ورابعها: ظننت: أي علمت، وإنما أجرى مجرى العلم. لأن الظن الغالب يقام مقام العلم في
111

العادات والأحكام، يقال: أظن ظنا كاليقين أن الأمر كيت وكيت وخامسها: المراد إني ظننت في الدنيا أن بسبب الأعمال التي كنت أعملها في الدنيا سأصل في القيامة إلى هذه الدرجات وقد حصلت الآن على اليقين فيكون الظن على ظاهره، لأن أهل الدنيا لا يقطعون بذلك.
ثم بين تعالى عاقبة أمره فقال:
* (فهو فى عيشة راضية) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: وصف العيشة بأنها راضية فيه وجهان الأول: المعنى أنها منسوبة إلى الرضا كالدارع والنابل، والنسبة نسبتان نسبة بالحروف ونسبة بالصيغة والثاني: أنه جعل الرضا للعيشة مجازا مع أنه صاحب العيشة.
المسألة الثانية: ذكروا في حد الثواب أنه لا بد وأن يكون منفعة، ولا بد وأن تكون خالصة عن الشوائب، ولا بد وأن تتكون دائمة ولا بد وأن تكون مقرونة بالتعظيم، فالمعنى إنما يكون مرضيا به من جميع الجهات لو كان مشتملا على هذه الصفات فقوله: * (عيشة راضية) * كلمة حاوية لمجموع هذه الشرائط التي ذكرناها.
* (فى جنة عالية) *.
ثم قال: * (في جنة عالية) * وهو أن من صار في * (عيشة راضية) * أي يعيش عيشا مرضيا في جنة عالية، والعلو إن أريد به العلو في المكان فهو حاصل، لأن الجنة فوق السماوات، فإن قيل: أليس أن منازل البعض فوق منازل الآخرين، فهؤلاء السافلون لا يكونون في الجنة العالية، قلنا: إن كون بعضها دون بعض لا يقدح في كونها عالية وفوق السماوات، وإن أريد العلو في الدرجة والشرف فالأمر كذلك، وإن أريد به كون تلك الأبنية عالية مشرفة فالأمر أيضا كذلك.
* (قطوفها دانية) *.
ثم قال: * (قطوفها دانية) * أي ثمارها قريبة التناول يأخذها الرجل كما يريد إن أحب أن يأخذها بيده انقادت له، قائما كان أو جالسا أو مضطجعا. وإن أحب أن تدنو إلي فيه دنت، والقطوف جمع قطف وهو المقطوف.
ثم قال تعالى:
* (كلوا واشربوا هنيئا بمآ أسلفتم فى الايام الخالية) *.
والمعنى يقال لهم ذلك وفيه مسائل:
المسألة الأولى: منهم من قال قوله: * (كلوا) * ليس بأمر إيجاب ولا ندب، لأن الآخرة ليست دار تكليف، ومنهم من قال: لا يبعد أن يكون ندبا، إذا كان الغرض منه تعظيم ذلك الإنسان وإدخال السرور في قلبه.
المسألة الثانية: إنما جمع الخطاب في قوله: كلوا بعد قوله فهو في عيشة، لقوله: * (فأما من
112

أوتي) * ومن مضمن معنى الجمع.
المسألة الثالثة: قوله: * (ما أسلفتم) * أي قدمتم من أعمالكم الصالحة، ومعنى الإسلاف في اللغة تقديم ما ترجو أن يعود عليك بخير فهو كالإقراض. ومنه يقال: أسلف في كذا إذا قدم فيه ماله، والمعنى بما عملتم من الأعمال الصالحة: والأيام الخالية، المراد منها أيام الدنيا والخالية الماضية، ومنه قوله: * (وقد خلت القرون من قبلي) * و * (تلك أمة قد خلت) * وقال الكلبي: * (بما أسلفتم) * يعني الصوم، وذلك أنهم لما أمروا بالأكل والشرب، دل ذلك على أنه لمن امتنع في الدنيا عنه بالصوم، طاعة لله تعالى.
المسألة الرابعة: قوله: * (بما أسلفتم) * يدل على أنهم إنما استحقوا ذلك الثواب بسبب عملهم، وذلك يدل على أن العمل موجب للثواب، وأيضا لو كانت الطاعات فعلا لله تعالى لكان قد أعطى الإنسان ثوبا لا على فعل فعله الإنسان، وذلك محال وجوابه معلوم.
قوله تعالى
* (وأما من أوتى كتابه بشماله فيقول ياليتنى لم أوت كتابيه * ولم أدر ما حسابيه) *.
واعلم أنه تعالى بين أنه لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله خجل منها وصار العذاب الحاصل من تلك الخجالة أزيد من عذاب النار، فقال: ليتهم عذبوني بالنار، وما عرضوا هذا الكتاب الذي ذكرني قبائح أفعالي حتى لا أقع في هذه الخجالة، وهذا ينبهك على أن العذاب الروحاني أشد من العذاب الجسماني، وقوله: * (ولم أدر ما حسابيه) * أي ولم أدر أي شيء حسابيه، لأنه حاصل ولا طائل له في ذلك الحساب، وإنما كله عليه.
* (يا ليتها كانت القاضية) *.
ثم قال: * (يا ليتها كانت القاضية) * الضمير في * (يا ليتها) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان الأول: إلى الموتة الأولى، وهي وإن لم تكن مذكورة إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة و * (القاضية) * القاطعة عن الحياة. وفيها إشارة إلى الإنتهاء والفراغ، قال تعالى: * (فإذا قضيت) * (الجمعة: 10) ويقال: قضى على فلان، أي مات فالمعنى يا ليت الموتة التي متها كانت القاطعة لأمري، فلم أبعث بعدها، ولم ألق ما وصلت إليه، قال قتادة: تمني الموت ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشر من الموت ما يطلب له الموت، قال الشاعر: وشر من الموت الذي إن لقيته * تمنيت منه الموت والموت أعظم
والثاني: أنه عائد إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضيت علي لأنه رأى تلك الحالة أبشع وأمر مما ذاقه من مرارة الموت وشدته فتمناه عندها.
113

ثم قال:
* (مآ أغنى عنى ماليه * هلك عنى سلطانيه * خذوه فغلوه * ثم الجحيم صلوه * ثم فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) *.
* (ما أغنى) * نفي أو استفهام على وجه الإنكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار، ونظيره قوله: * (ويأتينا فردا) * وقوله: * (هلك عني سلطانيه) * في المراد بلسطانيه وجهان: أحدهما: قال ابن عباس: ضلت عني حجتي التي كنت أحتج بها على محمد في الدنيا، وقال مقاتل: ضلت عني حجتي يعني حين شهدت عليه الجوارح بالشرك والثاني: ذهب ملكي وتسلطي على الناس وبقيت فقيرا ذليلا، وقيل معناه: إنني إنما كنت أنازع المحقين بسبب الملك والسلطان، فالآن ذهب ذلك الملك وبقي الوبال.
واعلم أنه تعالى ذكر سرور السعداء أولا، ثم ذكر أحوالهم في العيش الطيب وفي الأكل والشرب، كذا ههنا ذكر غم الأشقياء وحزنهم، ثم ذكر أحوالهم في الغل والقيد وطعام الغسلين، فأولها أن تقول: خزنة جهنم خذوه فيبتدر إليه مائة ألف ملك، وتجمع يده إلى عنقه، فذاك قوله: * (فغلوه) * وقوله: * (ثم الجحيم صلوه) * قال المبرد: أصليته النار إذا أوردته إياها وصليته أيضا كما يقال: أكرمته وكرمته، وقوله: * (ثم الجحيم صلوه) * معناه لا تصلوه إلى الجحيم، وهي النار العظمى لأنه كان سلطانا يتعظم على الناس، ثم في سلسلة وهي حلق منتظمة كل حلقة منها في حلقة وكل شيء مستمر بعد شيء على الولاء والنظام فهو مسلسل، وقوله: * (ذرعها) * معنى الذرع في اللغة التقدير بالذراع من اليد، يقال: ذرع الثوب يذرعه ذرعا إذا قدره بذراعه، وقوله: * (سبعون ذراعا) * فيه قولان: أحدهما: أنه ليس الغرض التقدير بهذا المقدار بل الوصف بالطول، كما قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة يريد مرات كثيرة والثاني: أنه مقدر بهذا المقدار ثم قالوا: كل ذراع سبعون باعا وكل باع أبعد مما بين مكة والكوفة، وقال الحسن: الله أعلم بأي ذراع هو، وقوله: * (فاسلكوه) * قال المبرد: يقال سلكه في الطريق، وفي القيد وغير ذلك وأسلكته معناه أدخلته ولغة القرآن سلكته قال الله تعالى: * (ما سلككم في صقر) * وقال: * (سلكناه في قلوب المجرمين) * (الشعراء: 200) قال ابن عباس: تدخل السلسلة من دبره وتخرج من حلقه، ثم يجمع بين ناصيته وقدميه، وقال الكلبي: كما يسلك الخيط في اللؤلؤ ثم يجعل في عنقه سائرها، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الفائدة في تطويل هذه السلسلة؟ الجواب: قال سويد بن أبي نجيح: بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة، وإذا كان الجمع من الناس مقيدين بالسلسلة الواحدة كان العذاب على كل واحد منهم بذلك السبب أشد.
114

السؤال الثاني: سلك السلسلة فيهم معقول، أما سلكهم في السلسلة فما معناه؟ الجواب: سلكه في السلسلة أن تلوى على جسده حتى تلتف عليه أجزاؤها وهو فيما بينها مزهق مضيق عليه لا يقدر على حركة، وقالوا الفراء: المعنى ثم اسلكوا فيه السلسلة كما يقال: أدخلت رأسي في القلنسوة وأدخلتها في رأسي، ويقال: الخاتم لا يدخل في إصبعي، والإصبع هو الذي يدخل في الخاتم.
السؤال الثالث: لم قال في سلسلة فاسلكوه، ولم يقل: فاسلكوه في سلسلة؟ الجواب: المعنى في تقديم السلسلة على السلك هو الذي ذكرناه في تقديم الجحيم على التصلية
، أي لا تسلكوه إلا في هذه السلسلة لأنها أفظع من سائر السلاسل السؤال الرابع: ذكر الأغلال والتصلية بالفاء وذكر السلك في هذه السلسة بلفظ ثم، فما الفرق؟ الجواب: ليس المراد من كلمة ثم تراخي المدة بل التفاوت في مراتب العذاب.
واعلم أنه تعالى لما شرح هذا العذاب الشديد ذكر سببه فقال:
* (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم * ولا يحض على طعام المسكين) *.
فالأول إشارة إلى فساد حال القوة العاقلة. والثاني إشارة إلى فساد حال القوة العملية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ولا يحض على طعام المسكين) * فيه قولان: أحدهما: ولا يحض على بذل طعام المسكين والثاني: أن الطعام ههنا اسم أقيم مقام الإطعام كما وضع العطاء مقام الإعطاء في قوله: وبعد عطائك المائة الرتاعا المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف قوله: * (ولا يحض على طعام المسكين) * فيه دليلان قويان على عظم الجرم في حرمان المساكين أحدهما: عطفه على الكفر وجعله قرينة له والثاني: ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض بهذه المنزلة، فكيف بمن يترك الفعل!.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن الكفار يعاقبون على ترك الصلاة والزكاة، وهو المراد من قولنا: إنهم مخاطبون بفروع الشرائع، وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان أفلا نخلع النصف الباقي! وقيل: المراد منه منع الكفار وقولهم: * (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) * (يس: 47).
ثم قال: * (فليس له اليوم هاهنا حميم) *.
أي ليس له في الآخرة حميم أي قريب يدفع عنه ويحزن عليه، لأنهم يتحامون ويفرون منه كقوله: * (ولا يسأل حميم حميما) * وكقوله: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) *.
115

قوله تعالى:
* (ولا طعام إلا من غسلين) *. فيه مسألتان:
المسألة الأولى: يروى أن ابن عباس سئل عن الغسلين، فقال: لا أدري ما الغسلين. وقال الكلبي: وهو ماء يسيل من أهل النار من القيح والصديد والدم إذا عذبوا فهو * (غسلين) * فعلين من الغسل. المسألة الثانية: الطعام ما هيئ للأكل، فلما هيئ الصديد ليأكله أهل النار كان طعاما لهم، ويجوز أن يكون المعنى أن ذلك أقيم لهم مقام الطعام فسمى طعاما، كما قال:
تحية بينهم ضرب وجيع
والتحية لا تكون ضربا إلا أنه لما أقيم مقامه جاز أن يسمى به.
* (لا يأكله إلا الخاطئون) *.
ثم إنه تعالى ذكر أن الغسلين أكل من هو؟ فقال: * (لا يأكله إلا الخاطئون) * الآثمون أصحاب الخطايا وخطئ الرجل إذا تعمد الذنب وهم المشركون، وقرئ الخاطيون بإبدال الهمزة ياء والخاطون بطرحها، وعن ابن عباس أنه طعن في هذه القراءة، وقال ما الخاطيون كلنا نخطو إنما هو الخاطئون، ما الصابون، إنما هو الصابئون، ويجوز أن يجاب عنه بأن المراد الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله.
واعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على إمكان القيامة، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السعداء وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآن فقال.
* (فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: منهم من قال: المراد أقسم ولا صلة، أو يكون رد الكلام سبق، ومنهم من قال: لا ههنا نافية للقسم، كأنه قال: لا أقسم، على أن هذا القرآن * (قول رسول كريم) * (الحاقة: 40) يعني أنه لوضوحه يستغني عن القسم، والاستقصاء في هذه المسألة سنذكره في أول سورة * (لا أقسم بيوم القيامة) * (القيامة: 1).
المسألة الثانية: قوله: * (بما تبصرون * ومالا تبصرون) * يوم جميع الأشياء على الشمول، لأنها لا تخرج من قسمين: مبصر وغير مبصر، فشمل الخالق والخلق، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجن، والنعم الظاهرة والباطنة.
ثم قال تعالى: * (إنه لقول رسول كريم) *.
واعلم أنه تعالى ذكر في سورة (التكوير: 1): * (إذا الشمس كورت) * مثل هذا الكلام، والأكثرون هناك على أن المراد منه جبريل عليه السلام، والأكثرون ههنا على أن المراد منه محمد صلى الله عليه وسلم، واحتجوا
116

على الفرق بأن ههنا لما قال: * (إنه لقول رسول كريم) * ذكر بعده أنه ليس بقول شاعر، ولا كاهن، والقوم ما كانوا يصفون جبريل عليه السلام بالشعر والكهانة، بل كانوا يصفون محمدا بهذين الوصفين. وأما في سورة: * (إذا الشمس كورت) * لما قال: * (إنه لقول رسول كريم) * ثم قال بعده: * (وما هو بقول شيطان
رجيم) * (التكوير: 25) كان المعنى: إنه قول ملك كريم، لا قول شيطان رجيم، فصح أن المراد من الرسول الكريم ههنا هو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي تلك السورة هو جبريل عليه السلام، وعند هذا يتوجه السؤال: أن الأمة مجمعة على أن القرآن كلام الله تعالى، وحينئذ يلزم أن يكون الكلام الواحد كلاما لله تعالى، ولجبريل ولمحمد، وهذا غير معقول والجواب: أنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فهو كلام الله تعالى، بمعنى أنه تعالى هو الذي أظهره في اللوح المحفوظ، وهو الذي رتبه ونظمه، وهو كلام جبريل عليه السلام، بمعنى أنه هو الذي أنزله من السماوات إلى الأرض، وهو كلام محمد، بمعنى أنه هو الذي أظهره للخلق، ودعا الناس إلى الإيمان به، وجعله حجة لنبوته.
ثم قال تعالى:
* (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون) *.
وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الجمهور: تؤمنون وتذكرون بالتاء المنقوطة من فوق على الخطاب إلا ابن كثير، فإنه قرأهما بالياء على المغايبة، فمن قرأ على الخطاب، فهو عطف على قوله: * (بما تبصرون ومالا تبصرون) * (الحاقة: 38، 39) ومن قرأ على المغايبة سلك فيه مسلك الالتفات. المسألة الثانية: قالوا: لفظة ما في قوله: * (قليلا ما تؤمنون... قليلا ما تذكرون) * لغو وهي مؤكدة، وفي قوله: * (قليلا) * وجهان الأول: قال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله، والمعنى لا يؤمنون أصلا، والعرب يقولون: قلما يأتينا يريدون لا يأتينا الثاني: أنهم قد يؤمنون في قلوبهم، إلا أنهم يرجعون عنه سريعا ولا يتمون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله: * (إنه فكر وقدر) * إلا أنه في آخر الأمر قال: * (إن هذا إلا سحر يؤثر) * (المدثر: 24).
المسألة الثالثة: ذكر في نفي الشاعرية * (قليلا ما تؤمنون) * وفي نفي الكاهنية * (ما تذكرون) * والسبب فيه كأنه تعالى قال: ليس هذا القرآن قولا من رجل شاعر، لأن هذا الوصف مباين لصنوف الشعر كلها إلا أنكم لا تؤمنون، أي لا تقصدون الإيمان، فلذلك تعرضون عن التدبر، ولو قصدتم الإيمان لعلمتم كذب قولكم: إنه شاعر، لمفارقة هذا التركيب ضروب الشعر، ولا
117

أيضا بقول كاهن، لأنه وارد بسبب الشياطين وشتمهم، فلا يمكن أن يكون ذلك بإلهام الشياطين، إلا أنكم لا تتذكرون كيفية نظم القرآن، واشتماله على شتم الشياطين، فلهذا السبب تقولون: إنه من باب الكهانة.
قوله تعالى:
* (تنزيل من رب العالمين) *.
اعلم أن نظير هذه الآية قوله في الشعراء: * (إنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين) * (الشعراء: 192 - 194) فهو كلام رب العالمين لأنه تنزيله، وهو قول جبريل لأنه نزل به، وهو قول محمد لأنه أنذر الخلق به، فههنا أيضا لما قال فيما تقدم: * (إنه لقول رسول كريم) * (الحاقة: 40) أتبعه بقوله: * (تنزيل من رب العالمين) * حتى يزول الإشكال، وقرأ أبو السمال: تنزيلا، أي نزل تنزيلا.
ثم قال تعالى:
* (ولو تقول علينا بعض الاقاويل) *.
قرىء: * (ولو تقول) * على البناء للمفعول، التقول افتعال القول، لأن فيه تكلفا من المفتعل، وسمي الأقوال المنقولة أقاويل تحقيرا لها، كقولك الأعاجيب والأضاحيك، كأنها جمع أفعولة من القول، والمعنى ولو نسب إلينا قولا لم نقله.
ثم قال تعالى:
* (لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الآية وجوه الأول: معناه لأخذنا بيده، ثم لضربنا رقبته، وهذا ذكره على سبيل التمثيل بما يفعله الملوك بمن يتكذب عليهم، فإنهم لا يمهلونه، بل يضربون رقبته في الحال، وإنما خص اليمين بالذكر، لأن القتال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده وأن يلحقه بالسيف، وهو أشد على المعمول به ذلك العمل لنظره إلى السيف أخذ بيمينه، ومعناه: لأخذنا بيمينه، كما أن قوله: * (لقطعنا منه الوتين) * لقطعنا وتينه وهذا تفسير بين وهو منقول عن الحسن البصري القول الثاني: أن اليمين بمعنى القوة والقدرة وهو قول الفراء والمبرد والزجاج، وأنشدوا قول الشماخ: إذا ما راية رفعت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
والمعنى لأخذ منه اليمين، أي سلبنا عنه القوة، والباء على هذا التقدير صلة زائدة، قال ابن قتيبة: وإنما قام اليمين مقام القوة، لأن قوة كل شيء في ميامنه والقول الثالث: قال مقاتل: * (لأخذنا منه باليمين) * (الصافات: 28) يعني انتقمنا منه بالحق، واليمين على هذا القول بمعنى الحق، كقوله تعالى: * (إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين) * أي من قبل الحق.
118

اعلم أن حاصل هذه الوجوه أنه لو نسب إلينا قولا لم نقله لمنعناه عن ذلك. إما بواسطة إقامة الحجة فإنا كنا نقيض له من يعارضه فيه، وحينئذ يظهر للناس كذبه فيه،
فيكون ذلك إبطالا لدعواه وهدما لكلامه، وإما بأن نسلب عنده القدرة على التكلم بذلك القول، وهذا هو الواجب في حكمة الله تعالى لئلا يشتبه الصادق بالكاذب.
المسألة الثانية: الوتين هو العرق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قطع مات الحيوان قال أبو زيد: وجمعه الوتن و (يقال) ثلاثة أوتنة والموتون الذي قطع وتينه، قال ابن قتيبة: ولم يرد أنا نقطعه بعينه بل المراد أنه لو كذب لأمتناه، فكان كمن قطع وتينه، ونظيره قوله علي السلام: " ما زالت أكله خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " والأبهر عرق يتصل بالقلب، فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال: هذا أوان يقتلني السم وحينئذ صرت كمن انقطع أبهره.
ثم قال:
* (فما منكم من أحد عنه حاجزين) *.
قال مقاتل والكلبي معناه ليس منكم أحد يحجزنا عن ذلك الفعل، قال الفراء والزجاج: إنما قال حاجزين في صفة أحد لأن أحدا هنا في معنى الجمع، لأنه اسم يقع في النفي العام مستويا فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ومنه قوله تعالى: * (لا نفرق بين أحد من رسله) * (البقرة: 285) وقوله: * (لستن كأحد من النساء) * (الأحزاب: 32) واعلم أن الخطاب في قوله: * (فما منكم) * للناس.
واعلم أنه تعالى لما بين أن القرآن تنزيل من الله الحق بواسطة جبريل على محمد الذي من صفته أنه ليس بشاعر ولا كاهن، بين بعد ذلك أن القرآن ما هو؟ فقال:
* (وإنه لتذكرة للمتقين) *.
وقد بينا في أول سورة البقرة (2) في قوله: * (هدى للمتقين) * ما فيه من البحث.
ثم قال:
* (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) *.
له بسبب حب الدنيا، فكأنه تعالى قال: أما من اتقى حب الدنيا فهو يتذكر بهذا القرآن وينتفع. وأما من مال إليها فإنه يكذب بهذا القرآن ولا يقربه.
وأقول: للمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية على أن الكفر ليس من الله، وذلك لأنه وصف القرآن بأنه تذكرة للمتقين، ولم يقل: بأنه إضلال للمكذبين، بل ذلك الضلال نسبه إليهم، فقال: وإنا لنعلم أن منكم مكذبين، ونظيره قوله في سورة النحل: * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائز) * (النحل:) واعلم أن الجواب عنه ما تقدم.
ثم قال تعالى:
* (وإنه لحسرة على الكافرين) *.
الضمير في قوله: * (إنه) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان: الأول: أنه عائد إلى القرآن، فكأنه قيل: وإن القرآن لحسرة على الكافرين. إما يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في دار الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين والثاني: قال مقاتل: وإن تكذيبهم بالقرآن لحسرة عليهم، ودل عليه قوله: * (وإنا لنعلم أن منكم مكذبين) * (الحاقة: 49).
119

ثم قال تعالى: * (وإنه لحق اليقين) *.
معناه أنه حق يقين، أي حق لا بطلان فيه، ويقين لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخر للتأكيد.
ثم قال: * (فسبح باسم ربك العظيم) *.
إما شكرا على ما جعلك أهلا لإيحائه إليك، وإما تنزيها له عن الرضا بأن ينسب إليه الكاذب من الوحي ما هو بريء عنه. وأما تفسير قوله: * (فسبح باسم ربك) * فمذكور في أول سورة: * (سبح اسم ربك الأعلى) * وفي تفسير قوله: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
120

سورة المعارج
أربعون وأربع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
* (سأل سآئل بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (سأل) * فيه قراءتان منهم من قرأه بالهمزة، ومنهم من قرأه بغير همزة، أما الأولون وهم الجمهور فهذه القراءة تحتمل وجوها من التفسير: الأول: أن النضر بن الحرث لما قال: * (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) * (الأنفال: 32) فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى قوله: * (سأل سائل) * أي دعا داع بعذاب واقع من قولك دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى: * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) * (الدخان: 55) قال ابن الأنباري: وعلى هذا القول تقدير الباء الإسقاط، وتأويل الآية: سأل سائل عذابا واقعا، فأكد بالباء كقوله تعالى: * (وهزي إليك بجذع النخلة) * (مريم: 25) وقال صاحب الكشاف لما كان * (سأل) * معناه ههنا دعا لا جرم عدى تعديته كأنه قال دعا داع بعذاب من الله الثاني: قال الحسن وقتادة لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وخوف المشركين بالعذاب قال المشركون: بعضهم لبعض سلوا محمدا لمن هذا العذاب وبمن يقع فأخبره الله عنه بقوله: * (سأل سائل بعذاب واقع) * قال ابن الأنباري: والتأويل على هذا القول: (سأل سائل) عن عذاب والباء بمعنى عن، كقوله: فإن تسألوني بالنساء فإنني * بصير بأدواء النساء طبيب
وقال تعالى: * (فاسأل به خبيرا) * (الفرقان: 59) وقال صاحب " الكشاف ": * (سأل) * على هذا الوجه في تقدير عنى واهتم كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقع الثالث: قال بعضهم: هذا السائل هو رسول الله استعجل بعذاب الكافرين، فبين الله أن هذا العذاب واقع بهم، فلا دافع له قالوا: والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى في آخر الآية: * (فاصبر صبرا جميلا) * (المعارج: 5) وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره بالصبر الجميل، أما القراءة الثانية وهي (سال) بغير همز فلها وجهان: أحدهما: أنه أراد * (سأل) * بالهمزة فخفف وقلب قال:
121

سألت قريش رسول الله فاحشة * ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
والوجه الثاني: أن يكون ذلك من السيلان ويؤيده قراءة ابن عباس سال سيل والسيل مصدر في معنى السائل، كالغور بمعنى الغائر، والمعنى اندفع عليهم واد بعذاب، وهذا قول زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد قالا: سال واد من أودية جهنم بعذاب واقع. أما * (سائل) *، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز فيه غير الهمز لأنه إن كان من سأل المهموز فهو بالهمز، وإن لم يكن من المهموز كان بالهمز أيضا نحو قائل وخائف إلا أنك إن شئت خففت الهمزة فجعلتها بين بين، وقوله تعالى: * (بعذاب واقع للكافرين) * فيه وجهان، وذلك لأنا إن فسرنا قوله: * (سأل) * بما ذكرنا من أن النضر طلب العذاب، كان المعنى أنه طلب طالب عذابا هو واقع لا محالة سواء طلب أو لم يطلب، وذلك لأن ذلك العذاب نازل للكافرين في الآخرة واقع بهم لا يدفعه عنهم أحد، وقد وقع بالنضر في الدنيا لأنه قتل يوم بدر، وهو المراد من قوله: * (ليس له دافع) * وأما إذا فسرناه بالوجه الثاني وهو أنهم سألوا الرسول عليه السلام، أن هذا العذاب بمن ينزل فأجاب الله تعالى عنه بأنه واقع للكافرين، والقول الأول وهو السديد، وقوله: * (من الله) * فيه وجهان الأول: أن يكون تقدير الآية بعذاب واقع من الله للكافرين الثاني: أن يكون التقدير ليس له دافع من الله، أي ليس لذلك العذاب الصادر من الله دافع من جهته، فإنه إذا أوجبت الحكمة وقوعه امتنع أن لا يفعله الله وقوله: * (ذي المعارج) * المعارج جمع معرج وهو المصعد، ومنه قوله تعالى: * (ومعارج عليها يظهرون) * (الزخرف: 33) والمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها: قال ابن عباس في رواية الكلبي: * (ذي المعارج) *، أي ذي السماوات، وسماها معارج لأن الملائكة يعرجون فيها وثانيها: قال قتادة: ذي الفواضل والنعم وذلك لأن لأياديه ووجوه إنعامه مراتب، وهي تصل إلى الناس على مراتب مختلفة وثالثها: أن المعارج هي الدرجات التي يعطيها أولياءه في الجنة، وعندي فيه وجه رابع: وهو أن هذه السماوات كما أنها متفاوتة في الارتفاع والانخفاض والكبر والصغر، فكذا الأرواح الملكية مختلفة في القوة والضعف والكمال والنقص وكثرة المعارف الإلهية وقوتها وشدة القوة على تدبير هذا العالم وضعف تلك القوة، ولعل نور إنعام الله وأثر فيض رحمته لا يصل إلى هذا العالم إلا بواسطة تلك الأرواح، إما على سبيل العادة أولا كذلك على ما قال: * (فالمقسمات أمرا) * (الذاريات: 4)، * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فالمراد بقوله: * (من الله ذي المعارج) * الإشارة إلى تلك الأرواح. المختلفة التي هي كالمصاعد لارتفاع مراتب الحاجات من هذا العالم إليها وكالمنازل لنزول أثر الرحمة من ذلك العالم إلى ما ههنا.
* (تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) *.
وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن عادة الله تعالى في القرآن أنه متى ذكر الملائكة في معرض
122

التهويل والتخويف أفرد الروح بعدهم بالذكر، كما في هذه الآية، وكما في قوله: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * (النبأ: 38) وهذا يقتضي أن الروح أعظم (من) الملائكة قدرا، ثم ههنا دقيقة وهي أنه تعالى ذكر عند العروج الملائكة أولا والروح ثانيا، كما في هذه الآية، وذكر عند القيام الروح أولا والملائكة ثانيا، كما في قوله: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * وهذا يقتضي كون الروح أولا في درجة النزول وآخرا في درجة الصعود، وعند هذا قال بعض المكاشفين: إن الروح نور عظيم هو أقرب الأنوار إلى جلال الله، ومنه تتشعب أرواح سائر الملائكة والبشر في آخر درجات منازل الأرواح، وبين الطرفين معارج مراتب الأرواح الملكية ومدارج منازل الأنوار القدسية، ولا يعلم كميتها إلا الله، وأما ظاهر قول المتكلمين وهو أن الروح هو جبريل عليه السلام فقد قررنا هذه المسألة في تفسير قوله: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * (النبأ: 38).
المسألة الثانية: احتج القائلون بأن الله في مكان، إما في العرش أو فوقه بهذه الآية من وجهين: الأول: أن الآية دلت على أن الله تعالى موصوف بأنه ذو المعارج وهو إنما يكون كذلك لو كان في جهة فوق والثاني: قوله: * (تعرج الملائكة والروح إليه) * فبين أن عروج الملائكة وصعودهم إليه، وذلك يقتضي كونه تعالى في جهة فوق والجواب: لما دلت الدلائل على امتناع كونه في المكان والجهة ثبت أنه لا بد من التأويل، فأما وصف الله بأنه ذو المعارج فقد ذكرنا الوجوه فيه، وأما حرف (إلى) في قوله: * (تعرج الملائكة والروح إليه) * فليس المراد منه المكان بل المراد انتهاء الأمور إلى مراده كقوله: * (وإليه يرجع الأمر كله) * (هود: 123) المراد الانتهاء إلى موضع العز والكرامة كقوله: * (إني ذاهب إلى ربي) * (الصافات: 99) ويكون هذا إشارة إلى أن دار الثواب أعلى الأمكنة وأرفعها.
المسألة الثالثة: الأكثرون على أن قوله: * (في يوم) * من صلة قوله * (تعرج) *، أي يحصل العروج في مثل هذا اليوم، وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: * (بعذاب واقع) * (المعارج: 1) وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة أو في الدنيا، وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعا، وإما أن يكون مقدرا فهذه هي الوجوه التي تحملها هذه الآية، ونحن نذكر تفصيلها القول الأول: هو أن معنى الآية أن ذلك العروج يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنة، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن: قال وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط، إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية ولفنيت الجنة والنار عند تلك الغاية وهذا غير جائز، بل المراد أن موقفهم
للحساب حتى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا.
ثم بعد ذلك يستقر أهل النار في دركات النيران نعوذ بالله منها.
واعلم أن هذا الطول إنما يكون في حق الكافر، أما في حق المؤمن فلا، والدليل عليه الآية والخبر، أما الآية فقوله تعالى: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) * (الفرقان: 24) واتفقوا على (أن) ذلك (المقيل والمستقر) هو
123

الجنة وأما الخبر فما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما طول هذا اليوم؟ فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " ومن الناس من قال: إن ذلك الموقف وإن طال فهو يكون سببا لمزيد السرور والراحة لأهل الجنة، ويكون سببا لمزيد الحزن والغم لأهل النار الجواب: عنه أن الآخرة دار جزاء فلا بد من أن يعجل للمثابين ثوابهم، ودار الثواب هي الجنة لا الموقف، فإذن لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار القول الثاني: هو أن هذه المدة واقعة في الآخرة، لكن على سبيل التقدير لا على سبيل التحقق، والمعنى أنه لو اشتغل بذلك القضاء والحكومة أعقل الخلق وأذكاهم لبقي فيه خمسين ألف سنة ثم إنه تعالى يتمم ذلك القضاء والحكومة في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا، وأيضا الملائكة يعرجون إلى مواضع لو أراد واحد من أهل الدنيا أن يصعد إليها لبقي في ذلك الصعود خمسين ألف سنة ثم إنهم يصعدون إليها في ساعة قليلة، وهذا قول وهب وجماعة من المفسرين القول الثالث: وهو قول أبي مسلم: إن هذا اليوم هو يوم الدنيا كلها من أول ما خلق الله إلى آخر الفناء، فبين تعالى أنه لا بد في يوم الدنيا من عروج الملائكة ونزولهم، وهذا اليوم مقدر بخمسين ألف سنة، ثم لا يلزم على هذا أن يصير وقت القيامة معلوما، لأنا لا ندري كم مضى وكم بقي القول الرابع: تقدير الآية: سأل سائل بعذاب واقع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يحتمل أن يكون المراد منه استطالة ذلك اليوم لشدته على الكفار، ويحتمل أن يكون المراد تقدير مدته، وعلى هذا فليس المراد تقدير العذاب بهذا المقدار، بل المراد التنبيه على طول مدة العذاب، ويحتمل أيضا أن العذاب الذي سأله ذلك السائل يكون مقدرا بهذه المدة، ثم إنه تعالى ينقله إلى نوع آخر من العذاب بعد ذلك، فإن قيل: روى ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل عن هذه الآية، وعن قوله: * (في يوم كان مقداره ألف سنة) * (السجدة: 5) فقال: أيام سماها الله تعالى هو أعلم بها كيف تكون، وأكره أن أقول فيها مالا أعلم، فإن قيل: فما قولكم في التوفيق بين هاتين الآيتين؟ قلنا: قال وهب في الجواب عن هذا ما بين أسفل العالم إلى أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة ومن أعلى السماء الدنيا إلى الأرض مسيرة ألف سنة، لأن عرض كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة أخرى، فقوله تعالى: * (في يوم) * يريد من أيام الدنيا وهو مقدار ألف سنة لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار ألف سنة لو صعدوا إلى أعالي العرش.
* (فاصبر صبرا جميلا) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن هذا متعلق بسأل سائل، لأن استعجال النضر بالعذاب إنما كان على وجه الاستهزاء برسول الله والتكذيب بالوحي، وكان ذلك مما يضجر رسول الله صلى الله
124

عليه وسلم
فأمر بالصبر عليه، وكذلك من يسأل عن العذاب لمن هو فإنما يسأل على طريق التعنت من كفار مكة، ومن قرأ: * (سال سائل) * فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر فقد جاء وقت الانتقام.
المسألة الثانية: قال الكلبي: هذه الآية نزلت قبل أن يؤمر الرسول بالقتال.
* (إنهم يرونه بعيدا * ونراه قريبا) *.
الضمير في * (يرونه) * إلى ماذا يعود؟ فيه وجهان الأول: أنه عائد إلى العذاب الواقع والثاني: أنه عائد إلى: * (يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * (المعارج: 4) أي يستبعدونه على جهة الإحالة * (و) * نحن * (نراه قريبا) * هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر. فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان، وبالقريب القريب منه.
قوله تعالى
* (يوم تكون السمآء كالمهل * وتكون الجبال كالعهن * ولا يسال حميم حميما) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (يوم تكون) * منصوب بماذا؟ فيه وجوه أحدها: بقريبا، والتقدير: ونراه قريبا، يوم تكون السماء كالمهل، أي يمكن ولا يتعذر في ذلك اليوم وثانيها: التقدير: سأل سائل بعذاب واقع يوم تكون السماء كالمهل والثالث: التقدير يوم تكون السماء كالمهل كان كذا وكذا والرابع: أن يكون بدلا من يوم، والتقدير سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يوم تكون السماء كالمهل.
المسألة الثانية: أنه ذكر لذلك اليوم صفات:
الصفة الأولى: أن السماء تكون فيه كالمهل وذكرنا تفسير المهل عند قوله: * (بماء كالمهل) * قال ابن عباس: كدردي الزيت، وروى عنه عطاء: كعكر القطران،
وقال الحسن: مثل الفضة إذا أذيبت، وهو قول ابن مسعود.
الصفة الثانية: أن تكون الجبال فيه كالعهن، ومعنى العهن في اللغة: الصوف المصبوغ ألوانا، وإنما وقع التشبيه به، لأن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو أشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح.
الصفة الثالثة: قوله: * (ولا يسأل حميم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس الحميم القريب الذي يعصب له، وعدم السؤال إنما كان لاشتغال كل أحد بنفسه، وهو كقوله: * (تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * (الحج: 2) وقوله: * (يوم يفر المرء من أخيه) * إلى قوله * (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه) * (عبس: 37) ثم في الآية وجوه أحدها: أن يكون
125

التقدير لا يسأل حميم عن حميمه فحذف الجار وأوصل الفعل الثاني: لا يسأل حميم حميمه كيف حالك ولا يكلمه، لأن لكل أحد ما يشغله عن هذا الكلام الثالث: لا يسأل حميم حميما شفاعة، ولا يسأل حميم حميما إحسانا إليه ولا رفقا به.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير: * (ولا يسأل) * بضم الياء، والمعنى لا يسأل حميم عن حميمه ليتعرف شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، وهذا أيضا على حذف الجار قال الفراء: أي لا يقال لحميم أين حميمك ولست أحب هذه القراءة لأنها مخالفة لما أجمع عليه القراء.
* (يبصرونهم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه) *.
قوله تعالى: * (يبصرونهم) * يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى: * (بصرت بما لم يبصروا به) * (طه: 96) ويقال: بصرت زيد بكذا فإذا حذفت الجار قلت: بصرني زيد كذا فإذا أثبت الفعل للمفعول به وقد حذفت الجار قلت: بصرني زيدا، فهذا هو معنى يبصرونهم، وإنما جمع فقيل: يبصرونهم لأن الحميم وإن كان مفردا في اللفظ فالمراد به الكثرة والجميع والدليل عليه قوله تعالى: * (فما لنا من شافعين) * (الشعراء: 100) ومعنى يبصرونهم يعرفونهم، أي يعرف الحميم الحميم حتى يعرفه، وهو مع ذلك لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فإن قيل: ما موضع يبصرونهم؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنه متعلق بما قبله كأنه لما قال: * (ولا يسأل حميم حميما) * (المعارج: 10) قيل: لعله لا يبصره فقيل يبصرونهم ولكنهم لاشتغالهم بأنفسهم لا يتمكنون من تساؤلهم الثاني: أنه متعلق بما بعده، والمعنى أن المجرمين يبصرون المؤمنين حال ما يود أحدهم أن يفدي نفسه لكل ما يملكه، فإن الإنسان إذا كان في البلاد الشديد ثم رآه عدوه على تلك الحالة كان ذلك في نهاية الشدة عليه.
الصفة الرابعة: قوله: * (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه وصاحبته وأخيه) * وفيه مسألتان: المسألة الأولى: المجرم هو الكافر، وقيل: يتناول كل مذنب.
المسألة الثانية: قرىء * (يومئذ) * بالجر والفتح على البناء لسبب الإضافة إلى غير متمكن، وقرئ أيضا: * (من عذاب يومئذ) * بتنوين * (عذاب) * ونصب * (يومئذ) * وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب.
* (وفصيلته التى تاويه * ومن فى الارض جميعا ثم ينجيه) *.
فصيلة الرجل، أقاربه الأقربون الذين فصل عنهم وينتهي إليهم، لأن المراد من الفصيلة المفصولة، لأن الولد يكون منفصلا من الأبوين. قال عليه السلام: " فاطمة بضعة مني " فلما كان هو مفصولا منهما، كانا أيضا مفصولين
126

منه، فسميا فصيلة لهذا السبب، وكان يقال للعباس: فصيلة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن العم قائم مقام الأب، وأما قوله: * (تؤويه) * فالمعنى تضمه انتماء إليها في النسب أو تمسكا بها في النوائب. وقوله: * (ثم ينجيه) * فيه وجهان الأول: أنه معطوف على * (يفتدي) * (المعارج: 11) والمعنى: يود المجرم لو يفتدي بهذه الأشياء ثم ينجيه والثاني: أنه متعلق بقوله: * (ومن في الأرض) * والتقدير: يود لو يفتدي بمن في الأرض ثم ينجيه، و * (ثم) * لاستبعاد الإنجاء، يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه، ثم ينجيه ذلك، وهيهات أن ينجيه.
قوله تعالى:
* (كلا إنها لظى * نزاعة للشوى) *.
* (كلا) * ردع للمجرم عن كونه بحيث يود الافتداء ببنيه، وعلى أنه لا ينفعه ذلك الافتداء، ولا ينجيه من العذاب، ثم قال: * (إنها) * وفيه وجهان الأول: أن هذا الضمير للنار، ولم يجر لها ذكر إلا أن ذكر العذاب دل عليها والثاني: يجوز أن يكون ضمير القصة، ولظى من أسماء النار. قال الليث: اللظى، اللهب الخالص، يقال: لظت النار تلظى لظى، وتلظت تلظيا، ومنه قوله: * (نارا تلظى) * ولظى علم للنار منقول من اللظى، وهو معرفة لا ينصرف، فلذلك لم ينون، وقوله: * (نزاعة) * مرفوعة، وفي سبب هذا الارتفاع وجوه الأول: أن تجعل الهاء في أنها عماد، أو تجعل لظى اسم إن، ونزاعة خبر إن، كأنه قيل: إن لظى نزاعة والثاني: أن تجعل الهاء ضمير القصة، ولظى مبتدأ، ونزاعة خبرا، وتجعل الجملة خبرا عن ضمير القصة، والتقدير: إن القصة لظى نزاعة للشوى والثالث: أن ترتفع على الذم، والتقدير: إنها لظى وهي نزاعة للشوى، وهذا قول الأخفش والفراء والزجاج. وأما قراءة النصب ففيها ثلاثة أوجه أحدها: قال الزجاج: إنها حال مؤكدة، كما قال: * (هو الحق مصدقا) * وكما يقول: أنا زيد معروفا، اعترض أبو علي الفارسي على هذا وقال: حمله على الحال بعيد، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال، فإن قلت في قوله: * (لظى) * معنى التلظي والتلهب، فهذا لا يستقيم، لأن لظى اسم علم لماهية مخصوصة، والماهية لا يمكن تقييدها بالأحوال،
إنما الذي يمكن تقييده بالأحوال هو الأفعال، فلا يمكن أن يقال: رجلا حال كونه عالما، ويمكن أن يقال: رأيت رجلا حال كونه عالما وثانيها: أن تكون لظى اسما لنار تتلظى تلظيا شديدا، فيكون هذا الفعل ناصبا، لقوله: * (نزاعة) * وثالثها: أن تكون منصوبة على الاختصاص، والتقدير: إنها لظى أعنيها نزاعة للشوى، ولم تمنع.
المسألة الثالثة: * (الشوى) * الأطراف، وهي اليدان والرجلان، ويقال للرامي: إذا لم يصب المقتل أشوى، أي أصاب الشوى، والشوى أيضا جلد الرأس، واحدتها شواة ومنه قول الأعشى:
127

قالت قتيلة ماله * قد جللت شيبا شواته
هذا قول أهل اللغة، قال مقاتل: تنزع النار الهامة والأطراف فلا تترك لحما ولا جلدا إلا أحرقته، وقال سعيد بن جبير: العصب والعقب ولحم الساقين واليدين، وقال ثابت البناني: لمكارم وجه بني آدم.
واعلم أن النار إذا أفنت هذه الأعضاء، فالله تعالى يعيدها مرة أخرى، كما قال: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *.
قوله تعالى:
* (تدعوا من أدبر وتولى * وجمع فأوعى) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن لظى كيف تدعو الكافر، فذكروا وجوها أحدها: أنها تدعوهم بلسان الحال كما قيل: سل الأرض من أشق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم تجبك جؤارا، أجابتك اعتبارا فههنا لما كان مرجع كل واحد من الكفار إلى زاوية من زوايا جهنم، كأن تلك المواضع تدعوهم وتحضرهم وثانيها: أن الله تعالى يخلق الكلام في جرم النار حتى تقول صريحا: إلي يا كافر، إلي يا منافق، ثم تلتقطهم التقاط الحب وثالثها: المراد أن زبانية النار يدعون فأضيف ذلك الدعاء إلى النار بحذف المضاف ورابعها: تدعو تهلك من قول العرب دعاك الله أي أهلكك، وقوله: * (من أدبر وتولى) * يعني من أدبر عن الطاعة وتولى عن الإيمان * (وجمع) * المال * (فأوعى) * أي جعله في وعاء وكنزه، ولم يؤد الزكاة والحقوق الواجبة فيها فقوله: * (أدبر وتولى) * إشارة إلى الإعراض عن معرفة الله وطاعته، وقوله: * (وجمع فأوعى) * إشارة إلى حب الدنيا، فجمع إشارة إلى الحرص، وأوعى إشارة إلى الأمل، ولا شك أن مجامع آفات الدين ليست إلا هذه.
قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد بالإنسان ههنا الكافر، وقال آخرون: بل هو على عمومه، بدليل أنه استثنى منه إلا المصلين.
المسألة الثانية: يقال: هلع الرجل يهلع هلعا وهلاعا فهو هالع وهلوع، وهو شدة الحرص وقلة الصبر، يقال: جاع فهلع، وقال الفراء: الهلوع الضجور، وقال المبرد: الهلع الضجر، يقال: نعوذ بالله من الهلع عند منازلة الأقران، وعن أحمد بن يحيى، قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله، ولا تفسير أبين من تفسيره، هو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل ومنعه الناس.
المسألة الثالثة: قال القاضي قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا) * نظير لقوله: * (خلق الإنسان من عجل) * وليس المراد أنه مخلوق على هذا الوصف، والدليل عليه أن الله تعالى ذمه عليه والله تعالى لا يذم فعله، ولأنه تعالى استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك هذه الخصلة
128

المذمومة، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى لما قدروا على تركها.
واعلم أن الهلع لفظ واقع على أمرين: أحدهما: الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والتضرع والثاني: تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية، أما تلك الحالة النفسانية فلا شك أنها تحدث بخلق الله تعالى، لأن من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه، ومن خلق شجاعا بطلا لا يمكنه إزالة تلك الحالة عن نفسه بل الأفعال الظاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية، أما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار.
قوله تعالى:
* (إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) *.
المراد من الشر والخير الفقر والغنى أو المرض والصحة، فالمعنى أنه إذا صار فقيرا أو مريضا أخذ في الجزع والشكاية، وإذا صار غنيا أو صحيحا أخذ في منع المعروف وشح بماله ولم يلتفت إلى الناس، فإن قيل: حاصل هذا الكلام أنه نفور عن المضار طالب للراحة، وهذا هو اللائق بالعقل فلم ذمه الله عليه؟ قلنا: إنما ذمه عليه لأنه قاصر النظر على الأحوال الجسمانية العاجلة، وكان من الواجب عليه أن يكون مشغولا بأحوال الآخرة، فإذا وقع في مرض أو فقر وعلم أنه فعل الله تعالى كان راضيا به، لعلمه أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وإذا وجد المال والصحة صرفهما إلى طلب السعادات الأخروية، واعلم أنه استثنى من هذه الحالة المذكورة المذمومة من كان موصوفا بثمانية أشياء: (22)
* (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دآئمون) *.
أولها - قوله: * (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون) * فإن قيل: قال: * (على صلاتهم دائمون) * ثم: * (على صلاتهم يحافظون) * (المعارج: 34) قلنا: معنى دوامهم عليها أن لا يتركوها في شيء من الأوقات ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه، وهذا الاهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة وتارة بأمور لاحقة بها، وتارة بأمور متراخية عنها، أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها، ومتعلق بالوضوء، وستر العورة وطلب القبلة، ووجدان الثوب والمكان الطاهرين، والإتيان بالصلاة في الجماعة، وفي المساجد المباركة، وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله تعالى، وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة، وأما الأمور المقارنة فهو أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، وأن يكون حاضر القلب عند القراءة، فاهما للأذكار، مطلعا على حكم الصلاة، وأما الأمور المتراخية فهي أن لا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللهو واللعب، وأن يحترز كل
129

الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي.
وثانيها قوله تعالى: * (والذين فى أموالهم حق معلوم * للسآئل والمحروم) *.
اختلفوا في الحق المعلوم: فقال ابن عباس والحسن وابن سيرين، إنه الزكاة المفروضة، قال ابن عباس: من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق قالوا: والدليل على أن المراد به الزكاة المفروضة وجهان: الأول: أن الحق المعلوم المقدر هو الزكاة، أما الصدقة فهي غير مقدرة الثاني: وهو أنه تعالى ذكر هذا على سبيل الاستثناء ممن ذمه، فدل على أن الذي لا يعطى هذا الحق يكون مذموما، ولا حق على هذه الصفة إلا الزكاة، وقال آخرون: هذا الحق سوى الزكاة، وهو يكون على طريق الندب والاستحباب، وهذا قول مجاهد وعطاء والنخعي.
وقوله: * (للسائل) * يعني الذي يسأل * (والمحروم) * الذي يتعفف عن السؤال فيحسب غنيا فيحرم. وثالثها قوله:
* (والذين يصدقون بيوم الدين) *.
أي يؤمنون بالبعث والحشر.
ورابعها قوله تعالى:
* (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) *.
والإشفاق يكون من أمرين، إما الخوف من ترك الواجبات أو الخوف من الإقدام على المحظورات، وهذا كقوله: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * (المؤمنون: 60) وكقوله سبحانه: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * (الحج: 35) ومن يدوم به الخوف والإشفاق فيما كلف يكون حذرا من التقصير حريصا على القيام بما كلف به من علم وعمل.
ثم إنه تعالى أكد ذلك الخوف فقال:
* (إن عذاب ربهم غير مأمون) *.
والمراد أن الإنسان لا يمكنه القطع بأنه أدى الواجبات كما ينبغي، واحترز عن المحظورات بالكلية، بل يجوز أن يكون قد وقع منه تقصير في شيء من ذلك، فلا جرم يكون خائفا أبد.
وخامسها قوله تعالى:
* (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فأنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون) *.
130

وقد مر تفسيره في سورة المؤمنين.
وسادسها قوله:
* (والذين هم بشهاداتهم قائمون) *.
قرىء بشهادتهم وبشهاداتهم، قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر فيفرد كما تفرد المصادر وإن أضيف لجمع كقوله لصوت الحمير. ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات، وكثرت ضروبها فحسن الجمع من جهة الاختلاف، وأكثر المفسرين قالوا: يعني الشهادات عند الحكام يقومون بها بالحق، ولا يكتمونها وهذه الشهادات من جملة الأمانات إلا أنه تعالى خصها من بينها إبانة لفضلها لأن في إقامتها إحياء الحقوق وفي تركها إبطالها وتضييعها، وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد الشهادة بأن الله واحد لا شريك له.
وثامنها قوله:
* (والذين هم على صلاتهم يحافظون) *.
وقد تقدم تفسيره.
ثم وعد هؤلاء وقال:
* (أولئك فى جنات مكرمون) *.
ثم ذكر بعده ما يتعلق بالكفار فقال:
* (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) *.
المهطع المسرع وقيل: الماد عنقه، وأنشدوا فيه: بمكة أهلها ولقد أراهم * بمكة مهطعين إلى السماع
والوجهان متقاربان، روى أن المشركين كانوا يحتفون حول النبي صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون بكلامه، ويقولون: إذا دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد: فلندخلنها قبلهم، فنزلت هذه الآية فقوله: * (مهطعين) * أي مسرعين نحوك ما دين أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك، وقال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون، فهم الذين كانوا عنده وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر كقوله: * (لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) *.
ثم قال:
* (عن اليمين وعن الشمال عزين) *.
وذلك لأنهم كانوا عن يمينه وعن شماله مجتمعين، ومعنى: * (عزين) * جماعات في تفرقة واحدها عزة، وهي العصبة من الناس، قال الأزهري: وأصلها من قولهم: عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزوا إذا انتهى إليهم، والاسم العزوة وكان العزة
131

كل جماعة اعتزوها إلى أمر واحد، واعلم أن هذا من المنقوص الذي جاز جمعه بالواو والنون عوضا من المحذوف وأصلها عزوة، والكلام في هذه كالكلام في * (عضين) * (الحجر: 91) وقد تقدم، وقيل: كان المستهزئون خمسة أرهط.
ثم قال: * (أيطمع كل امرىء منهم أن يدخل جنة نعيم) *.
والنعيم ضد البؤس، والمعنى أيطمع كل رجل منهم أن يدخل جنتي كما يدخلها المسلمون.
* (كلا إنا خلقناهم مما يعلمون) *.
ثم قال: * (كلا) * وهو ردع لهم عن ذلك الطمع الفاسد.
ثم قال: * (إنا خلقناهم مما يعلمون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الغرض من هذا الاستدلال على صحة البعث، كأنه قال: لما قدرت على أن أخلقكم من النطفة، وجب أن أكون قادرا على بعثكم.
المسألة الثانية: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها أحدها: أنه لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم كلا إنكم منكرون للبعث، فمن أين تطمعون في دخول الجنة وثانيها: أن المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين، فقال تعالى: هؤلاء المستهزئون مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار وثالثها: أنهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، فلو لم يتصفوا بالإيمان والمعرفة، فكيف يليق بالحكيم إدخالهم الجنة.
ثم قال:
* (فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون) *.
يعني مشرق كل يوم من السنة ومغربه أو مشرق كل كوكب ومغربه، أو المراد بالمشرق ظهور دعوة كل نبي وبالمغرب موته أو المراد أنواع الهدايات والخذلانات * (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين) * وهو مفسر في قوله: * (وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم) * وقوله: * (فذرهم يخوضوا) * مفسر في آخر سورة والطور، واختلفوا في أن ما وصف الله نفسه بالقدرة عليه من ذلك هل خرج إلى الفعل أم لا؟ فقال بعضهم: بدل الله بهم الأنصار والمهاجرين
132

فإن حالتهم في نصرة الرسول مشهورة، وقال آخرون بل بدل الله كفر بعضهم بالإيمان، وقال بعضهم: لم يقع هذا التبديل، فإنهم أو أكثرهم بقوا على جملة كفرهم إلى أن ماتوا، وإنما كان يصح وقوع التبديل بهم لو أهلكوا، لأن مراده تعالى بقوله: * (إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم) * بطريق الإهلاك، فإذا لم يحصل ذلك فكيف يحكم بأن ذلك قد وقع، وإنما هدد تعالى القوم بذلك لكي يؤمنوا.
قوله تعالى
* (يوم يخرجون من الاجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذى كانوا يوعدون) *.
ثم ذكر تعالى ذلك اليوم الذي تقدم ذكره فقال: * (يوم يخرجون من الأجداث سراعا) * وهو كقوله: * (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) *.
قوله تعالى: * (كأنهم إلى نصب يوفضون * خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون) *.
اعلم أن في * (نصب) * ثلاث قراءات أحدها: وهي قراءة الجمهور * (نصب) * بفتح النون والنصب كل شيء نصب والمعنى كأنهم إلى علم لهم يستبقون والقراءة الثانية: * (نصب) * بضم النون وسكون الصاد وفيه وجهان أحدهما: النصب والنصب لغتان مثل الضعف والضعف وثانيهما: أن يكون جمع نصب كشقف جمع شقف والقراءة الثالثة: * (نصب) * بضم النون والصاد، وفيه وجهان أحدهما: أن يكون النصب والنصب كلاهما يكونان جمع نصب كأسد وأسد جمع أسد وثانيهما: أن يكون المراد من النصب الأنصاب وهي الأشياء التي تنصب فتعبد من دون الله كقوله: * (وما ذبح على النصب) * وقوله: * (يوفضون) * يسرعون، ومعنى الآية على هذا الوجه أنهم يوم يخرجون من الأجداث يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصارهم، وبقية السورة معلومة، والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
133

سورة نوح عليه السلام
عشرون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) *.
* (إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك) * في قوله: * (أن) * وجهان أحدهما: أصله بأن أنذر فحذف الجار وأوصل الفعل، والمعنى أرسلناه بأن قلنا له: أنذر أي أرسلناه بالأمر بالإنذار الثاني قال الزجاج: يجوز أن تكون مفسرة والتقدير: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أي أنذر قومك وقرأ ابن مسعود، * (أنذر) * بغير أن على إرادة القول.
ثم قال: * (من قبل أن يأتيهم عذاب أليم) * قال مقاتل يعني الغرق بالطوفان.
واعلم أن الله تعالى لما أمره بذلك امتثل ذلك الأمر.
قوله تعالى
* (قال ياقوم إنى لكم نذير مبين * أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون * يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جآء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) *.
* (أن اعبدوا) * هو نظير * (أن أنذر) * (نوح: 1) في الوجهين، ثم إنه أمر القوم بثلاثة أشياء بعبادة الله وتقواه وطاعة نفسه، فالأمر بالعبادة يتناول جميع الواجبات والمندوبات من أفعال القلوب وأفعال الجوارح، والأمر بتقواه يتناول الزجر عن جميع المحظورات والمكروهات، وقوله: * (وأطيعون) * يتناول أمرهم بطاعته وجميع المأمورات والمنهيات، وهذا وإن كان داخلا في الأمر بعبادة الله وتقواه، إلا أنه خصه بالذكر تأكيدا في ذلك التكليف ومبالغة في تقريره، ثم إنه تعالى لما كلفهم بهذه الأشياء الثلاثة وعدهم عليها بشيئين أحدهما: أن يزيل مضار الآخرة عنهم، وهو قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) *.
الثاني: يزيل عنهم مضار الدنيا بقدر الإمكان، وذلك بأن يؤخر أجلهم إلى أقصى الإمكان. وههنا سؤالات:
134

السؤال الأول: ما فائدة * (من) * في قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) *؟ والجواب من وجوه أحدها: أنها صلة زائدة والتقدير يغفر لكم ذنوبكم والثاني: أن غفران الذنب هو أن لا يؤاخذ به، فلو قال: يغفر لكم ذنوبكم، لكان معناه أن لا يؤاخذكم بمجموع ذنوبكم، وعدم المؤاخذة بالمجموع لا يوجب عدم المؤاخذة بكل واحد من آحاد المجموع، فله أن يقول: لا أطالبك بمجموع ذنوبك، ولكني أطالبك بهذا الذنب الواحد فقط، أما لما قال: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * كان تقديره يغفر كل ما كان من ذنوبكم، وهذا يقتضي عدم المؤاخذة على مجموع الذنوب وعدم المؤاخذة أيضا على كل فرد من أفراد المجموع الثالث: أن قوله: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * هب أنه يقتضي التبعيض لكنه حتى لأن من آمن فإنه يصير ما تقدم من ذنوبه على إيمانه مغفورا، أما ما تأخر عنه فإنه لا يصير بذلك السبب مغفورا، فثبت أنه لا بد ههنا من حرف التبعيض.
السؤال الثاني: كيف قال: * (ويؤخركم) * مع إخباره بامتناع تأخير الأجل، وهل هذا إلا تناقض؟ الجواب: قضى الله مثلا أن قوم نوح إن آمنوا عمرهم الله ألف سنة، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة سنة، فقيل لهم: آمنوا * (يؤخركم إلى أجل مسمى) * أي إلى وقت سماه الله وجعله غاية الطول في العمر، وهو تمام الألف، ثم أخبر أنه إذا انقضى ذلك الأجل الأطول، لا بد من الموت. السؤال الثالث: ما الفائدة في قوله * (لو كنتم تعلمون) * الجواب: الغرض الزجر عن حب الدنيا، وعن التهالك عليها والإعراض عن الدين بسبب حبها، يعني أن غلوهم في حب الدنيا وطلب لذاتها بلغ إلى حيث يدل على أنهم شاكون في الموت.
قوله تعالى:
* (قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعآئى إلا فرارا) *.
اعلم أن هذا من الآيات الدالة على أن جميع الحوادث بقضاء الله وقدره، وذلك لأنا نرى إنسانين يسمعان دعوة الرسول في مجلس واحد بلفظ واحد، فيصير ذلك الكلام في حق أحدهما سببا لحصول الهداية، والميل والرغبة، وفي حق الثاني سببا لمزيد العتو والتكبر، ونهاية النفرة، وليس لأحد أن يقول: إن تلك النفرة والرغبة حصلتا باختيار المكلف، فإن هذا مكابرة في المحسوس، فإن صاحب النفرة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك النفرة وصاحب الرغبة يجد قلبه كالمضطر إلى تلك الرغبة، ومتى حصلت تلك النفرة وجب أن يحصل عقيبه التمرد والإعراض، وإن حصلت الرغبة وجب أن يحصل عقيبه الانقياد والطاعة، فعلمنا أن إفضاء سماع تلك الدعوة في حق أحدهما إلى الرغبة المستلزمة لحصول الطاعة والانقياد وفي حق الثاني إلى النفرة المستلزمة لحصول التمرد والعصيان لا يكون إلا بقضاء الله وقدره، فإن قيل: هب أن حصول النفرة والرغبة ليس باختياره، لكن حصول
135

العصيان عند النفرة يكون باختياره، فإن العبد متمكن مع تلك النفرة أن ينقاد ويطيع، قلنا: إنه لو حصلت النفرة غير معارضة بوجه من وجوه الرغبة بل خالصة عن جميع شوائب الرغبة امتنع أن يحصل معه الفعل، وذلك لأنه عندما تحصل النفرة والرغبة لم يحصل الفعل البتة، فعند حصول النفرة انضم إلى عدم المقتضي وجود المانع، فبأن يصير الفعل ممتنعا أولى، فثبت أن هذه الآية من أقوى الدلائل على القضاء والقدر.
* (وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى ءاذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا) *.
ثم قال تعالى: * (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم) *.
اعلم أن نوحا عليه السلام إنما دعاهم إلى العبادة والتقوى والطاعة لأجل أن يغفر لهم، فإن المقصود الأول هو حصول المغفرة، وأما الطاعة فهي إنما طلبت ليتوسل بها إلى تحصيل المغفرة، ولذلك لما أمرهم بالعبادة قال: * (يغفر لكم من ذنوبكم) * (نوح: 4) فلما كان المطلوب الأول من الدعوة حصول المغفرة لا جرم قال: * (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم) * واعلم أنه عليه السلام لما دعاهم عاملوه بأشياء: أولها: قوله: * (جعلوا أصابعهم في آذانهم) * والمعنى أنهم بلغوا في التقليد إلى حيث جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا الحجة والبينة. وثانيها: قوله: * (واستغشوا ثيابهم) * أي تغطوا بها، إما لأجل أن لا يبصروا وجهه كأنهم لم يجوزوا أن يسمعوا كلامه، ولا أن يروا وجهه. وإما لأجل المبالغة في أن لا يسمعوا، فإنهم إذا جعلوا أصابعهم في آذانهم، ثم استغشوا ثيابهم مع ذلك، صار المانع من السماع أقوى. وثالثها: قوله: * (وأصروا) * والمعنى أنهم أصروا على مذهبهم، أو على إعراضهم عن سماع دعوة الحق. ورابعها: قوله: * (واستكبروا استكبارا) * أي عظيما بالغا إلى النهاية القصوى.
ثم قال تعالى:
* (ثم إنى دعوتهم جهارا * ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا) *.
واعلم أن هذه الآيات تدل على أن مراتب دعوته كانت ثلاثة، فبدأ بالمناصحة في السر، فعاملوه بالأمور الأربعة، ثم ثنى بالمجاهرة، فلما لم يؤثر جمع بين الإعلان والإسرار، وكلمة * (ثم) * دالة على تراخي بعض هذه المراتب عن بعض إما بحسب الزمان، أو بحسب الرتبة، لأن الجهار أغلظ
136

من الإسرار، والجمع بين الإسرار والجهار أغلظ من الجهار وحده، فإن قيل: بم انتصب * (جهارا) *؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه منصوب بدعوتهم نصب المصدر، لأن الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد لكونها أحد أنواع القعود وثانيها: أنه أريد بدعوتهم جاهرتهم وثالثها: أن يكون صفة لمصدر دعا بمعنى دعاء جهارا، أي مجاهرا به ورابعها: أن يكون مصدرا في موضع الحال أي مجاهرا.
قوله تعالى:
* (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا) *.
قال مقاتل: إن قوم نوح لما كذبوه زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فرجعوا فيه إلى نوح، فقال نوح: استغفروا ربكم من الشرك حتى يفتح عليكم أبواب نعمه. واعلم أن الاشتغال بالطاعة سبب لانفتاح أبواب الخيرات، ويدل عليه وجوه أحدها: أن الكفر سبب لخراب العالم على ما قال في كفر النصارى: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعو للرحمن ولدا) * (مريم: 90، 91) فلما كان الكفر سببا لخراب العالم، وجب أن يكون الإيمان سببا لعمارة العالم وثانيها: الآيات منها هذه الآية ومنها قوله: * (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات) * (الأعراف: 96) * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم) * (المائدة: 66) * (وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءا غدقا) * (الجن: 16) * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * (الطلاق: 2 - 3) * (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا نحن نرزقك) * (طه: 132) وثالثها: أنه تعالى قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) فإذا اشتغلوا بتحصيل المقصود حصل ما يحتاج إليه في الدنيا على سبيل التبعية ورابعها: أن عمر خرج يستسقي فما زاد على الاستغفار، فقيل له: ما رأيناك استسقيت، فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماء. المجدح ثلاثة كواكب مخصوصة، ونوءه يكون عزيزا شبه عمر إلا استغفارا بالأنواء الصادقة التي لا تخطئ، وعن بكر بن عبد الله: أن أكثر الناس ذنوبا أقلهم استغفارا، وأكثرهم استغفارا أقلهم ذنوبا، وعن الحسن: أن رجلا شكا إليه الجدب، فقال: استغفر الله، وشكا إليه آخر الفقر، وآخر قلة النسل، وآخر قلة ريع أرضه، فأمرهم كلهم بالاستغفار، فقال له بعض القوم: أتاك رجال يشكون إليك أنواعا من الحاجة، فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فتلا له الآية، وههنا سؤالات: الأول: أن نوحا عليه السلام أمر الكفار قبل هذه الآية بالعبادة والتقوى والطاعة، فأي فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار؟ الجواب: أنه لما أمرهم بالعبادة قالوا له: إن كان الدين القديم الذي كنا عليه حقا فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلا فكيف يقبلنا بعد أن
137

عصيناه، فقال نوح عليه السلام: إنكم وإن كنتم عصيتموه ولكن استغفروه من تلك الذنوب، فإنه سبحانه كان غفارا.
السؤال الثاني: لم قال: * (إنه كان غفارا) * ولم يقل: إنه غفار؟ قلنا المراد: إنه كان غفارا في حق كل من استغفروه كأنه يقول: لا تظنوا أن غفاريته إنما حدثت الآن، بل هو أبدا هكذا كان، فكأن هذا هو حرفته وصنعته.
وقوله تعالى:
* (يرسل السمآء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) *.
واعلم أن الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة، ولذلك قال تعالى: * (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) * فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا. والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة أولها: قوله: * (يرسل السماء عليكم مدرارا) * وفي السماء وجوه: أحدها: (أن) المطر منها ينزل إلى السحاب وثانيها: أن يراد بالسماء السحاب وثالثها: أن يراد بالسماء المطر من قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم * (رعيناه وإن كانوا غضابا)
والمدرار الكثير الدرور، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، كقولهم: رجل أو امرأة معطار ومتفال وثانيها: قوله: * (ويمددكم بأموال) * وهذا لا يختص
بنوع واحد من المال بل يعم الكل وثالثها: قوله: * (وبنين) * ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه. ورابعها: قوله: * (ويجعل لكم جنات) * أي بساتين وخامسها: قوله: * (ويجعل لكم أنهارا) *.
ثم قال:
* (ما لكم لا ترجون لله وقارا) *.
وفيه قولان: الأول: أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ومنه قول الهذلي: إذا لسعته النحل لم يرج لسعها والوقار العظمة والتوقير التعظيم، ومنه قوله تعالى: * (وتوقروه) * بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة. وهذا القول عندي غير جائز، لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة، فلو قلنا: إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية
138

المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتا وإثباته نفيا بهذا الطريق الوجه الثاني: ما ذكره صاحب " الكشاف " وهو أن المعنى: مالكم لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما، والمعنى مالكم لا تكونوا على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و * (لله) * بيان للموقر، ولو تأخر لكان صلة للوقار.
وقوله تعالى:
* (وقد خلقكم أطوارا) *.
في موضع الحال كأنه قال: مالكم لا تؤمنون بالله، والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به * (وقد خلقكم أطوارا) * أي تارات خلقكم أولا ترابا، ثم خلقكم نطفا، ثم خلقكم علقا، ثم خلقكم مضغا، ثم خلقكم عظاما ولحما، ثم أنشأكم خلقا آخر، وعندي فيه وجه ثالث: وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به، فكأنه قال لهم: إنكم إذا وقرتم نوحا وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله، فما لكم لا ترجون وقارا وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته، فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله، فإنه لا بد وأن يرجوا منه خيرا ووجه رابع: وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر، فكأنه قال: * (مالكم) * وعند هذا تم الكلام، ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار * (لا ترجون لله وقارا) * (الجن: 13) أي لا ترجون لله ثباتا وبقاء، فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه، ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره، والمراد من قوله: * (ترجون) * أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له.
واعلم أنه لما أمر في هذه الآية بتعظيم الله استدل على التوحيد بوجوه من الدلائل: الأول: قوله: * (وقد خلقكم أطوارا) * وفيه وجهان: الأول: قال الليث: الطورة التارة يعني حالا بعد حال كما ذكرنا أنه كان نطفة، ثم علقة إلى آخر التارات الثاني: قال ابن الأنباري: الطور الحال، والمعنى خلقكم أصنافا مختلفين لا يشبه بعضكم بعضا، ولما ذكر هذا الدليل من الأنفس على التوحيد، أتبعه بذكر دليل التوحيد من الآفاق على العادة المعهودة في كل القرآن..
الدليل الثاني: على التوحيد قوله تعالى:
* (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا * وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا) *.
واعلم أنه تعالى تارة يبدأ بدلائل الأنفس، وبعدها بدلائل الآفاق كما في هذه الآية، وذلك لأن نفس الإنسان أقرب الأشياء إليه، فلا جرم بدأ بالأقرب، وتارة يبدأ بدلائل الآفاق، ثم بدلائل الأنفس إما لأن دلائل الآفاق أبهر وأعظم، فوقعت البداية بها لهذا السبب، أو لأجل
139

أن دلائل الأنفس حاضرة، لا حاجة بالعاقل إلى التأمل فيها، إنما الذي يحتاج إلى التأمل فيه دلائل الآفاق، لأن الشبه فيها أكثر، فلا جرم تقع البداية بها، وههنا سؤالات: السؤال الأول: قوله: * (سبع سماوات طباقا) * يقتضي كون بعضها منطبقا على البعض، وهذا يقتضي أن لا يكون بينها فرج، فالملائكة كيف يسكنون فيها؟ الجواب: الملائكة أرواح فلعل المراد من كونها طباقا كونها متوازية لا أنها متماسة.
السؤال الثاني: كيف قال: * (وجعل القمر فيهن نورا) * والقمر ليس فيها بأسرها بل في السماء الدنيا؟ والجواب: هذا كما يقال السلطان في العراق ليس المراد أن ذاته حاصلة في جميع أحياز العراق بل إن ذاته في حيز من جملة أحياز العراق فكذا ههنا.
السؤال الثالث: السراج ضوءه عرضي وضوء القمر عرضي متبدل فتشبيه القمر بالسراج أولى من تشبيه الشمس به الجواب: الليل عبارة عن ظل الأرض والشمس لما كانت سببا لزوال ظل الأرض كانت شبيهة بالسراج، وأيضا فالسراج له ضوء والضوء أقوى من النور فجعل الأضعف للقمر والأقوى للشمس، ومنه قوله تعالى: * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * (يونس: 5).
الدليل الثالث: على التوحيد قوله تعالى:
* (والله أنبتكم من الارض نباتا * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا) *.
واعلم أنه تعالى رجع ههنا إلى دلائل الأنفس وهو كالتفسير لقوله: * (خلقكم أطوارا) * (نوح: 14) فإنه بين أنه تعالى خلقهم من الأرض ثم يردهم إليها ثم يخرجهم منها مرة أخرى، أما قوله: * (أنبتكم من الأرض نباتا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في هذه الآية وجهان أحدهما: معنى قوله: * (أنبتكم من الأرض) * أي أنبت أباكم من الأرض كما قال: * (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59).
والثاني: أنه تعالى أنبت الكل من الأرض لأنه تعالى إنما يخلقنا من النطف وهي متولدة من الأغذية المتولدة من النبات المتولد من الأرض.
المسألة الثانية: كان ينبغي أن يقال: أنبتكم إنباتا إلا أنه لم يقل ذلك بل قال: أنبتكم نباتا، والتقدير أنبتكم فنبتم نباتا، وفيه دقيقة لطيفة: وهي أنه لو قال: أنبتكم إنباتا كان المعنى أنبتكم إنباتا عجيبا غريبا، ولما قال: أنبتكم نباتا كان المعنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا، وهذا الثاني أولى لأن الإنبات صفة لله تعالى وصفة الله غير محسوسة لنا، فلا نعرف أن ذلك الإنبات إنبات عجيب كامل إلا
140

بواسطة إخبار الله تعالى، وهذا المقام مقام الاستدلال على كمال قدرة الله تعالى فلا يمكن إثباته بالسمع، أما لما قال: * (أنبتكم... نباتا) * على معنى أنبتكم فنبتم نباتا عجيبا كاملا كان ذلك وصفا للنبات بكونه عجيبا كاملا، وكون النبات كذلك أمر مشاهد محسوس، فيمكن الاستدلال به على كمال قدرة الله تعالى، فكان هذا موافقا لهذا المقام فظهر أن العدول من تلك الحقيقة إلى هذا المجاز كان لهذا السر اللطيف، أما قوله: * (ثم يعيدكم فيها) * فهو إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن من أنه تعالى لما كان قادرا على الابتداء كان قادرا على الإعادة، وقوله: * (ويخرجكم إخراجا) * أكده بالمصدر كأنه قال: يخرجكم حقا لا محالة.
الدليل الرابع: قوله تعالى
* (والله جعل لكم الارض بساطا * لتسلكوا منها سبلا فجاجا) *.
أي طرقا واسعة واحدها فج وهو مفسر فيما تقدم.
واعلم أن نوحا عليه السلام لما دعاهم إلى الله ونبههم على هذه الدلائل الظاهرة حكى عنهم أنواع قبائحهم وأقوالهم وأفعالهم.
* (قال نوح رب إنهم عصونى واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) *.
فالأول قوله: * (قال نوح رب إنهم عصوني) * وذلك لأنه قال في أول السورة * (أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) * (نوح: 3) فكأنه قال: قلت لهم أطيعون فهم عصوني.
الثاني قوله: * (واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكر في الآية الأولى أنهم عصوه وفي هذه الآية أنهم ضموا إلى عصيانه معصية أخرى وهي طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، وقوله: * (من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) * يعني هذان وإن كانا من جملة المنافع في الدنيا إلا أنهما لما صارا سببا للخسارة في الآخرة فكأنهما صارا محض الخسار والأمر كذلك في الحقيقة لأن الدنيا في جنب الآخرة كالعدم فإذا صارت المنافع الدنيوية أسبابا للخسار في الآخرة صار ذلك جاريا مجرى اللقمة الواحدة من الحلو إذا كانت مسمومة سم الوقت، واستدل بهذه الآية من قال: إنه ليس لله على الكافر نعمة لأن هذه النعم استدراجات ووسائل إلى العذاب الأبدي فكانت كالعدم، ولهذا المعنى قال نوح عليه السلام في هذه الآية: * (لم يزده ماله وولده إلا خسارا) *.
المسألة الثانية: قرىء * (وولده) * بضم الواو واعلم أن الولد بالضم لغة في الولد، ويجوز أن يكون جمعا إما جمع ولد كالفلك، وههنا يجوز أن يكون واحدا وجمعا.
141

النوع الثالث: من قبائح أفعالهم قوله تعالى:
* (ومكروا مكرا كبارا * وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا * وقد أضلوا كثيرا ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) *. فيه مسائل:
المسألة الأولى: * (ومكروا) * معطوف على * (من لم يزده) * (نوح: 21) لأن المتبوعين هم الذين مكروا وقالوا للأتباع: * (لا تذرن) *، وجمع الضمير وهو راجع إلى * (من) *، لأنه في معنى الجمع.
المسألة الثانية: قرىء * (كبارا) * و * (كبارا) * بالتخفيف والتثقيل، وهو مبالغة في الكبير، فأول المراتب الكبير، والأوسط الكبار بالتخفيف، والنهاية الكبار بالتثقيل، ونظيره: جميل وجمال وجمال، وعظيم وعظام وعظام، وطويل وطوال وطوال.
المسألة الثالثة: المكر الكبار هو أنهم قالوا لأتباعهم: * (لا تذرن ودا) * فهم منعوا القوم عن التوحيد، وأمروهم بالشرك، ولما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار، واستدل بهذا من فضل علم الكلام على سائر العلوم، فقال: الأمر بالشرك كبار في القبح والخزي، فالأمر بالتوحيد والإرشاد وجب أن يكون كبارا في الخير والدين.
المسألة الرابعة: أنه تعالى إنما سماه * (مكرا) * لوجهين الأول: لما في إضافة الإلهية إليهم من الحيلة الموجبة لاستمرارهم على عبادتها، كأنهم قالوا: هذه الأصنام آلهة لكم، وكانت آلهة لآبائكم، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين كافرين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه، وعلى جميع أسلافه بالقصور والنقص والجهل شاقا شديدا، صارت الإشارة إلى هذه المعاني بلفظ * (آلهتكم) * صارفا لهم عن الدين، فلأجل اشتمال هذا الكلام على هذه الحيلة الخفية سمى الله كلامهم * (مكرا) * الثاني: أنه تعالى حكى عن أولئك المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح، لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح لا يعطيه شيئا لأنه فقير، فبهذا المكر صرفوهم عن طاعة نوح، وهذا مثل مكر فرعون إذ قال: * (أليس لي ملك مصر) * (الزخرف: 51) وقال: * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب) * (الزخرف: 52، 53).
142

المسألة الخامسة: ذكر أبو زيد البلخي في كتابه في الرد على عبدة الأصنام أن العلم بأن هذه الخشبة المنحوتة في هذه الساعة ليست خالقة للسموات والأرض، والنبات والحيوان علم ضروري، والعلوم الضرورية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء، وعبادة الأوثان دين كان موجودا قبل مجيء نوح عليه السلام بدلالة هذه الآية، وقد استمر ذلك الدين إلى هذا الزمان، وأكثر سكان أطراف المعمورة على هذا الدين، فوجب حمل هذا الدين على وجه لا يعرف فساده بضرورة العقل، وإلا لما بقي
هذه المدة المتطاولة في أكثر أطراف العالم، فإذا لا بد وأن يكون للذاهبين إلى ذلك المذهب تأويلات أحدها: قال أبو معشر جعفر بن محمد المنجم: هذه المقالة إنما تولدت من مذهب القائلين بأن الله جسم وفي مكان، وذلك لأنهم قالوا: إن الله نور هو أعظم الأنوار، والملائكة الذين هم حافون حول العرش الذي هو مكانه، هم أنوار صغيرة بالنسبة إلى ذلك النور الأعظم، فالذين اعتقدوا هذا المذهب اتخذوا صنما هو أعظم الأصنام على صورة إلههم الذي اعتقدوه، واتخذوا أصناما متفاوتة، بالكبر والصغر والشرف والخسة على صورة الملائكة المقربين، واشتغلوا بعبادة تلك الأصنام على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة، فدين عبادة الأوثان إنما ظهر من اعتقاد التجسيم الوجه الثاني: وهو أن جماعة الصابئة كانوا يعتقدون أن الإله الأعظم خلق هذه الكواكب الثابتة والسيارة، وفوض تدبير هذا العالم السفلي إليها، فالبشر عبيد هذه الكواكب، والكواكب عبيد الإله الأعظم، فالبشر يجب عليهم عبادة الكواكب، ثم إن هذه الكواكب كانت تطلع مرة وتغيب أخرى، فاتخذوا أصناما على صورها واشتغلوا بعبادتها، وغرضهم عبادة الكواكب الوجه الثالث: أن القوم الذين كانوا في قديم الدهر، كانوا منجمين على مذهب أصحاب الأحكام، في إضافات سعادات هذا العالم ونحوساتها إلى الكواكب، فإذا اتفق في الفلك شكل عجيب صالح لطلسم عجيب، فكانوا يتخذون ذلك الطلسم، وكان يظهر منه أحوال عجيبة وآثار عظيمة، وكانوا يعظمون ذلك الطلسم ويكرمونه ويشتغلون بعبادته، وكانوا يتخذون كل طلسم على شكل موافق لكوكب خاص ولبرج خاص، فقيل: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر الوجه الرابع: أنه كان يموت أقوام صالحون فكانوا يتخذون تماثيل على صورهم ويشتغلون بتعظيمها، وغرضهم تعظيم أولئك الأقوام الذين ماتوا حتى يكونوا شافعين لهم عند الله وهو المراد من قولهم: * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * (الزمر: 3) الوجه الخامس: أنه ربما مات ملك عظيم، أو شخص عظيم، فكانوا يتخذون تمثالا على صورته وينظرون إليه، فالذين جاؤوا بعد ذلك ظنوا أن آباءهم كانوا يعبدونها فاشتغلوا بعبادتها لتقليد الآباء، أو لعل هذه الأسماء الخمسة وهي: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، أسماء خمسة من أولاد آدم، فلما ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم، فكنتم تنظرون إليهم، ففعلوا فلما مات أولئك
143

قال لمن بعدهم: إنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، ولهذا السبب نهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور أولا، ثم أذن فيها على ما يروى أنه عليه السلام قال: كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة السادس: الذين يقولون إنه تعالى جسم، وإنه يجوز عليه الانتقال والحلول، لا يستبعدون أن يحل تعالى في شخص إنسان، أو في شخص صنم، فإذا أحسوا من ذلك الصنم المتخذ على وجه الطلسم حالة عجيبة، خطر ببالهم أن الإله حصل في ذلك الصنم ولذلك فإن جمعا من قدماء الروافض لما رأوا أن عليا عليه السلام قلع باب خيبر، وكان ذلك على خلاف المعتاد قالوا: إن الإله حل في بدنه وإنه هو الإله الوجه السابع: لعلهم اتخذوا تلك الأصنام كالمحراب ومقصودهم بالعبادة هو الله، فهذا جملة ما في هذا الباب، وبعضها باطلة بدليل العقل، فإنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم بطل اتخاذ الصنم على صورة الإله، وبطل القول أيضا بالحلول والنزول، ولما ثبت أنه تعالى هو القادر على كل المقدورات، بطل القول بالوسايط والطلسمات، ولما جاء الشرع بالمنع من اتخاذ الصنم، بطل القول باتخاذها محاريب وشفعاء.
المسألة السادسة: هذه الأصنام الخمسة كانت أكبر أصنامهم، ثم إنها انتقلت عن قوم نوح إلى العرب، فكان ود لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بعبد ود، وعبد يغوث، هكذا قيل في الكتب، وفيه إشكال لأن الدنيا قد خربت في زمان الطوفان، فكيف بقيت تلك الأصنام، وكيف انتقلت إلى العرب، ولا يمكن أن يقال: إن نوحا عليه السلام وضعها في السفينة وأمسكها لأنه عليه السلام إنما جاء لنفيها وكسرها فكيف يمكن أن يقال إنه وضعها في السفينة سعيا منه في حفظها.
المسألة السابعة: قرىء: * (لا تذرن ودا) * بفتح الواو وبضم الواو، قال الليث: ود بفتح الواو صنم كان لقوم نوح، ود بالضم صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود، وأقول: على قول الليث وجب أن لا يجوز ههنا قراءة ود بالضم لأن هذه الآيات في قصة نوح لا في أحوال قريش وقرأ الأعمش: * (ولا يغوثا ويعوقا) * بالصرف وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو عجميين ففيهما سببا منع الصرف، إما التعريف ووزن الفعل، وإما التعريف والعجمة، فلعله صرفهما لأجل أنه وجد أخواتهما منصرفة ودا وسواعا ونسرا.
واعلم أن نوحا لما حكى عنهم أنهم قالوا لأتباعهم: * (لا تذرن آلهتكم) * قال: * (وقد أضلوا كثيرا) * فيه وجهان: الأول: أولئك الرؤساء قد أضلوا كثيرا قبل هؤلاء الموصين (بأن يتمسكوا) بعبادة الأصنام وليس هذا أول مرة اشتغلوا بالإضلال الثاني: يجوز أن يكون الضمير عائدا إلى الأصنام، كقوله: * (إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) وأجرى الأصنام على هذا القول مجرى الآدميين كقوله: * (ألهم أرجل) *، وأما قوله تعالى: * (ولا تزد الظالمين إلا ضلالا) * ففيه سؤالان: الأول: كيف موقع قوله: * (ولا تزد الظالمين) *؟ الجواب: كأن نوحا عليه السلام لما
144

أطنب في تعديد أفعالهم المنكرة وأقوالهم القبيحة امتلأ قلبه غيظا وغضبا عليهم فختم كلامه بأن دعا عليهم.
السؤال الثاني: إنما بعث ليصرفهم عن الضلال فكيف يليق به أن يدعو الله في أن يزيد في ضلالهم؟ الجواب: من وجهين: الأول: لعله ليس المراد الضلال في أمر الدين، بل الضلال في أمر دنياهم، وفي ترويج مكرهم وحيلهم الثاني: الضلال العذاب لقوله: * (إن المجرمين في ضلال وسعر) * (القمر: 47).
قوله تعالى
* (مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) *.
ثم إنه تعالى لما حكى كلام نوح عليه السلام قال بعده: * (مما خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: (ما) صلة كقوله: * (فبما نقضهم) * (النساء: 155) * (فبما رحمة) * (النساء: 159) والمعنى من خطاياهم أي من أجلها وبسببها، وقرأ ابن مسعود: * (من خطيئاتهم ما أغرقوا) * فأخر كلمة ما، وعلى هذه القراءة لا تكون ما صلة زائدة لأن ما مع ما بعده في تقرير المصدر.
واعلم أن تقديم قوله: * (مما خطاياهم) * لبيان أنه لم يكن إغراقهم بالطوفان (فإدخالهم النار) إلا من أجل خطيئاتهم، فمن قال من المنجمين: إن ذلك إنما كان بسبب أنه انقضى في ذلك الوقت نصف الدور الأعظم، وما يجري مجرى هذه الكلمات كان مكذبا لصريح هذه الآية فيجب تكفيره.
المسألة الثانية: قرىء * (خطيئاتهم) * بالهمزة وخطياتهم بقلبها ياء وإدغامها و * (خطاياهم) * و * (خطيئتهم) * بالتوحيد على إرادة الجنس، ويجوز أن يراد به الكفر.
واعلم أن الخطايا والخطيئات كلاهما جمع خطيئة، إلا أن الأول جمع تكسير والثاني جمع سلامة، وقد تقدم الكلام فيها في (البقرة: 58) عند قوله: * (نغفر لكم خطاياكم) * وفي (الأعراف: 161) عند قوله: * (خطيئاتكم) *.
المسألة الثالثة: تمسك أصحابنا في إثبات عذاب القبر بقوله: * (أغرقوا فأدخلوا نارا) * وذلك من وجهين الأول: أن الفاء في قوله: * (فأدخلوا نارا) * تدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق فلا يمكن حملها على عذاب الآخرة، وإلا بطلت دلالة هذه الفاء الثاني: أنه قال: * (فأدخلوا) * على سبيل الإخبار عن الماضي. وهذا إنما يصدق لو وقع ذلك، قال مقاتل والكلبي: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي لصحة كونه وصدق الوعد به كقوله: * (ونادى أصحاب النار) * (الأعراف: 50) * (ونادى أصحاب الجنة) * (الأعراف: 44) واعلم أن الذي قالوه ترك للظاهر من غير دليل.
فإن قيل: إنما تركنا هذا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء فإنا نشاهده هناك فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟ والجواب: هذا الإشكال إنما جاء لاعتقاد أن الإنسان هو مجموع هذا الهيكل، وهذا خطأ لما بينا أن هذا الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره، مع أنه كان صغير الجثة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير
145

المتبدل، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق من أول عمره إلى الآن، فلم لا يجوز أن يقال: إنه وإن بقيت هذه الجثة في الماء إلا أن الله تعالى نقل تلك الأجزاء الأصلية الباقية التي كان الإنسان المعين عبارة عنها إلى النار والعذاب.
ثم قال تعالى: * (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا) * وهذا تعريض بأنهم إنما واظبوا على عبادة تلك الأصنام لتكون دافعة للآفات عنهم جالبة للمنافع إليهم، فلما جاءهم عذاب الله لم ينتفعوا بتلك الأصنام، وما قدرت تلك الأصنام على دفع عذاب الله عنهم، وهو كقوله: * (أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا) * واعلم أن هذه الآية حجة على كل من عول على شيء غير الله تعالى.
قوله تعالى
* (وقال نوح رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا) *.
قال المبرد: * (ديارا) * لا تستعمل إلا في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار ولا تستعمل في جانب الإثبات، قال أهل العربية: هو فيعال من الدور، وأصله ديوار فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى، قال الفراء والزجاج: وقال ابن قتيبة: ما بها ديار أي نازل دار.
ثم قال تعالى:
* (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) *.
فإن قيل: كيف عرف نوح عليه السلام ذلك؟ قلنا: للنص والاستقراء، أما النص فقوله تعالى: * (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * وأما الاستقراء فهو أنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فعرف طباعهم وجربهم، وكان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه ويقول: احذر هذا فإنه كذاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك، وقوله: * (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * فيه وجهان: أحدهما: أنهم يكونون في علمك كذلك والثاني: أنهم سيصيرون كذلك.
قوله تعالى
* (رب اغفر لى ولوالدى ولمن دخل بيتى مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تزد الظالمين إلا تبارا) *.
واعلم أنه عليه السلام لما دعا على الكفار قال بعده: * (رب اغفر لي) * أي فيما صدر عني من ترك الأفضل، ويحتمل أنه حين دعا على الكفار إنما دعا عليهم بسبب تأذيه منهم، فكان ذلك الدعاء عليهم كالانتقام فاستغفر عن ذلك لما فيه من طلب حظ النفس.
ثم قال: * (ولوالدي) * أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخاء بنت أنوش وكانا مؤمنين، وقال عطاء: لم يكن بين نوح وآدم عليهما السلام من آبائه كافر، وكان بينه وبين آدم عشرة آباء. وقرأ الحسن بن علي (ولولدي) يريد ساما وحاما.
146

ثم قال تعالى: * (ولم دخل بيتي مؤمنا) * قيل: مسجدي، وقيل: سفينتي، وقيل: لمن دخل في ديني، فإن قيل: فعلى هذا التفسير يصير قوله: * (مؤمنا) * مكررا، قلنا: إن من دخل في دينه ظاهرا قد يكون مؤمنا بقلبه وقد لا يكون، والمعنى ولمن دخل في ديني دخولا مع تصديق القلب.
ثم قال تعالى: * (وللمؤمنين والمؤمنات) * إنما خص نفسه أولا بالدعاء ثم المتصلين به لأنهم أولى وأحق بدعائه ثم عم المؤمنين والمؤمنات.
ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين فقال: * (ولا تزد الظالمين إلا تبارا) * أي هلاكا ودمارا وكل شيء أهلك فقد تبر ومنه قوله: * (إن هؤلاء متبر ما هم
فيه) * وقوله: * (وليتبروا ما علوا تتبيرا) * فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم بالكلية، فإن قيل: ما جرم الصبيان حين أغرقوا؟ والجواب من وجوه الأول: أن الله تعالى أيبس أصلاب آبائهم وأعقم أرحام نسائهم قبل الطوفان بأربعين سنة أو (تسعين) فلم يكن معهم صبي حين أغرقوا، ويدل عليه قوله: * (استغفروا ربكم) * إلى قوله * (ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 10 - 12) وهذا يدل بحسب المفهوم على أنهم إذا لم يستغفروا فإنه تعالى لا يمددهم بالبنين الثاني: قال الحسن: علم الله براءة الصبيان فأهلكهم بغير عذاب الثالث: غرقوا معهم لا على وجه العقاب بل كما يموتون بالغرق والحرق وكان ذلك زيادة في عذاب الآباء والأمهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
147

سورة الجن
وهي عشرون وثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا * يهدى إلى الرشد فامنا به ولن نشرك بربنآ أحدا) *.
* (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلف الناس قديما وحديثا في ثبوت الجن ونفيه، فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره، وذلك لأن أبا علي بن سينا قال في رسالته في حدود الأشياء الجن حيوان هوائي متشكل بأشكال مختلفة، ثم قال: وهذا شرح للاسم. فقوله: وهذا شرح للاسم يدل على أن هذا الحد شرح للمراد من هذا اللفظ وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج، وأما جمهور أرباب الملل والمصدقين للأنبياء فقد اعترفوا بوجود الجن، واعترف به جمع عظيم من قدماء الفلاسفة وأصحاب الروحانيات ويسمونها بالأرواح السفلية، وزعموا أن الأرواح السفلية أسرع إجابة إلا أنها أضعف، وأما الأرواح الفلكية فهي أبطأ إجابة إلا أنها أقوى. واختلف المثبتون على قولين: فمنهم من زعم أنها ليست أجساما ولا حالة في الأجسام بل هي جواهر قائمة بأنفسها، قالوا: ولا يلزم من هذا أن يقال: إنها تكون مساوية لذات الله لأن كونها ليست أجساما ولا جسمانية سلوب والمشاركة في السلوب لا تقتضي المساواة في الماهية، قالوا: ثم إن هذه الذوات بعد اشتراكها في هذا السلب أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها خيرة، وبعضها شريرة، وبعضها كريمة محبة للخيرات، وبعضها دنيئة خسيسة محبة للشرور والآفات، ولا يعرف عدد أنواعهم وأصنافهم إلا الله، قالوا: وكونها موجودات مجردة لا يمنع من كونها عالمة بالخبريات قادرة على الأفعال، فهذه الأرواح يمكنها أن تسمع وتبصر وتعلم الأحوال الخبرية وتفعل الأفعال المخصوصة، ولما ذكرنا أن ماهياتها مختلفة لا جرم لم يبعد أن يكون في أنواعها ما يقدر على أفعال شاقة عظيمة تعجز عنها قدر البشر، ولا يبعد أيضا أن يكون لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم، وكما أنه دلت الدلائل الطبية على أن المتعلق الأول للنفس الناطقة التي ليس الإنسان إلا هي، هي الأرواح وهي أجسام بخارية لطيفة
148

تتولد من ألطف أجزاء الدم وتتكون في الجانب الأيسر من القلب ثم بواسطة تعلق النفس بهذه الأرواح تصير متعلقة بالأعضاء التي تسري فيها هذه الأرواح لم يبعد أيضا أن يكون لكل واحد من هؤلاء الجن تعلق بجزء من أجزاء الهواء، فيكون ذلك الجزء من الهواء هو المتعلق الأول لذلك الروح ثم بواسطة سيران ذلك الهواء في جسم آخر كثيف يحصل لتلك الأرواح تعلق وتصرف في تلك الأجسام الكثيفة، ومن الناس من ذكر في الجن طريقة أخرى فقال: هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق أن حدث بدن آخر مشابه لما كان لتلك النفس المفارقة من البدن، فسبب تلك المشاكلة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما لهذا البدن، وتصير تلك النفس المفارقة كالمعاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن، فإن الجنسية علة الضم، فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة.
والقول الثاني: في الجن أنهم أجسام ثم القائلون بهذا المذهب اختلفوا على قولين، منهم من زعم أن الأجسام مختلفة في ماهياتها، إنما المشترك بينها صفة واحدة، وهي كونها بأسرها حاصلة في الحيز والمكان والجهة وكونها موصوفة بالطول والعرض والعمق، وهذه كلها إشارة إلى الصفات، والاشتراك في الصفات لا يقتضي الاشتراك في تمام الماهية لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد. قالوا: وليس لأحد أن يحتج على تماثل الأجسام بأن يقال: الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد، وحقيقة واحدة، فيلزم أن لا يحصل التفاوت في ماهية الجسم من حيث هو جسم، بل إن حصل التفاوت حصل في مفهوم زائد على ذلك، وأيضا فلأنه يمكننا تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف، والعلوي والسفلي، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، فالأقسام كلها مشتركة في الجسمية والتفاوت، إنما يحصل بهذه الصفات، وهي اللطافة والكثافة، وكونها علوية وسفلية قالوا: وهاتان الحجتان ضعيفتان.
أما الحجة الأولى: فلأنا نقول، كما أن الجسم من حيث إنه جسم له حد واحد، وحقيقة واحدة، فكذا العرض من حيث إنه عرض له حد واحد، وحقيقة واحدة فيلزم منه أن تكون الأعراض كلها متساوية في تمام الماهية، وهذا مما لا يقوله عاقل، بل الحق عند الفلاسفة أنه ليس للأعراض البتة قدر مشترك بينها من الذاتيات، إذا لو حصل بينها قدر مشترك، لكان ذلك المشترك جنسا لها، ولو كان كذلك لما كانت التسعة أجناسا عالية بل كانت أنواع جنس واحد إذا ثبت هذا فنقول: الأعراض من حيث إنها أعراض لها حقيقة واحدة، ولم يلزم من ذلك أن يكون بينها ذاتي مشترك أصلا، فضلا عن أن تكون متساوية في تمام الماهية، فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجسم كذلك، فإنه كما أن الأعراض مختلفة في تمام الماهية، ثم إن تلك المختلفات متساوية في
149

وصف عارض وهو كونها عارضة لموضوعاتها، فكذا من الجائز أن تكون ماهيات الأجسام مختلفة في تمام ماهياتها ثم إنها تكون متساوية في وصف عارض، وهو كونها مشارا إليها بالحس وحاصلة في الحيز والمكان، وموصوفة بالأبعاد الثلاثة، فهذا الاحتمال لا دافع له أصلا.
وأما الحجة الثانية: وهي قولهم: إنه يمكن تقسيم الجسم إلى اللطيف والكثيف فهي أيضا منقوضة بالعرض فإنه يمكن تقسيم العرض إلى الكيف والكم ولم يلزم أن يكون هناك قدر مشترك من الذاتي فضلا عن التساوي في كل الذاتيات فلم لا يجوز أن يكون الأمر ههنا أيضا كذلك إذا ثبت أنه لا امتناع في كون الأجسام مختلفة ولم يدل دليل على بطلان هذا الاحتمال، فحينئذ قالوا: لا يمتنع في بعض الأجسام اللطيفة الهوائية أن تكون مخالفة لسائر أنواع الهواء في الماهية ثم تكون تلك الماهية تقتضي لذاتها علما مخصوصا وقدرة مخصوصة على أفعال عجيبة، وعلى هذا التقدير يكون القول بالجن ظاهر الاحتمال وتكون قدرتها على التشكل بالأشكال المختلفة ظاهرة الاحتمال.
القول الثاني: قول من قال: الأجسام متساوية في تمام الماهية، والقائلون بهذا المذهب أيضا فرقتان. الفرقة الأولى: زعموا أن البنية ليست شرطا للحياة وهذا قول الأشعري وجمهور أتباعه وأدلتهم في هذا الباب ظاهرة قوية، قالوا: ولو كانت البنية شرطا للحياة لكان إما أن يقال: إن الحياة الواحدة قامت بمجموع الأجزاء أو يقال: قام بكل واحد من الأجزاء حياة على حدة، والأول محال لأن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة دفعة واحدة غير معقول، والثاني أيضا باطل لأن الأجزاء التي منها تألف الجسم متساوية والحياة القائمة بكل واحد منها مساوية للحياة القائمة بالجزء الآخر وحكم الشيء حكم مثله، فلو افتقر قيام الحياة بهذا الجزء إلى قيام تلك الحياة بذلك الجزء لحصل هذا الافتقار من الجانب الآخر فيلزم وقوع الدور وهو محال، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ ثبت أن قيام الحياة بهذا الجزء لا يتوقف على قيام الحياة الثانية بذلك الجزء الثاني، وإذا بطل هذا التوقف ثبت أنه يصح كون الجزء الواحد موصوفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة وبطل القول بأن البنية شرط، قالوا: وأما دليل المعتزلة وهو أنه لا بد من البنية فليس إلا الاستقراء وهو أنا رأينا أنه متى فسدت البنية بطلت الحياة ومتى لم تفسد بقيت الحياة فوجب توقف الحياة على حصول البنية، إلا أن هذا ركيك، فإن الاستقراء لا يفيد القطع بالوجوب، فما الدليل على أن حال من لم يشاهد كحال ما شوهد، وأيضا فلأن هذا الكلام إنما يستقيم على قول من ينكر خرق العادات، أما من يجوزها فهذا لا يتمشى على مذهبه والفرق بينهما في جعل بعضها على سبيل العادة وجعل بعضها على سبيل الوجوب تحكم محض لا سبيل إليه، فثبت أن البنية ليست شرطا في الحياة، وإذا ثبت هذا لم يبعد أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما بأمور كثيرة وقدرة
150

على أشياء شاقة شديدة، وعند هذا ظهر القول بإمكان وجود الجن، سواء كانت أجسامهم لطيفة أو كثيفة، وسواء كانت أجزاؤهم كبيرة أو صغيرة.
القول الثاني: أن البنية شرط الحياة وأنه لا بد من صلابة في البنية حتى يكون قادرا على الأفعال الشاقة فههنا مسألة أخرى، وهي أنه هل يمكن أن يكون المرئي حاضرا والموانع مرتفعة والشرائط من القرب والبعد حاصلة، وتكون الحاسة سليمة، ثم مع هذا لا يحصل الإدراك أو يكون هذا ممتنعا عقلا؟ أما الأشعري وأتباعه فقد جوزوه، وأما المعتزلة فقد حكموا بامتناعه عقلا، والأشعري احتج على قوله بوجوه عقلية ونقلية، أما العقلية فأمران: الأول: أنا نرى الكبير من البعد صغيرا وما ذاك إلا أنا نرى بعض أجزاء ذلك البعيد دون البعض مع أن نسبة الحاسة وجميع الشرائط إلى تلك الأجزاء المرئية كهي بالنسبة إلى الأجزاء التي هي غير مرئية فعلمنا أن مع حصول سلامة الحاسة وحضور المرئي وحصول الشرائط وانتفاء الموانع لا يكون الإدراك واجبا الثاني: أن الجسم الكبير لا معنى له إلا مجموع تلك الأجزاء المتألفة، فإذا رأينا ذلك الجسم الكبير على مقدار من البعد فقد رأينا تلك الأجزاء، فإما أن تكون رؤية هذا الجزء مشروطة برؤية ذلك الجزء الآخر أو لا تكون، فإن كان الأول يلزم الدور لأن الأجزاء متساوية فلو افتقرت رؤية هذا الجزء إلى رؤية ذلك الجزء لافتقرت أيضا رؤية ذلك الجزء إلى رؤية هذا الجزء فيقع الدور، وإن لم يحصل هذا الافتقار فحينئذ رؤية الجوهر الفرد على ذلك القدر من المسافة تكون ممكنة، ثم من المعلوم أن ذلك الجوهر الفرد لو حصل وحده من غير أن ينضم إليه سائر الجواهر فإنه لا يرى، فعلمنا أن حصول الرؤية عند اجتماع الشرائط لا يكون واجبا بل جائزا، وأما المعتزلة فقد عولوا على أنا لو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكون بحضرتنا طبلات وبوقات ولا نراها ولا نسمعها فإذا عارضناهم بسائر الأمور العادية وقلنا لهم: فجوزوا أن يقال انقلبت مياه البحار ذهب وفضة، والجبال ياقوتا وزبرجدا، أو حصلت في السماء حال ما غمضت العين ألف شمس وقمر، ثم كما فتحت العين أعدمها الله عجزوا عن الفرق، والسبب في هذا التشوش أن هؤلاء المعتزلة نظروا إلى هذه الأمور المطردة في مناهج العادات، فوهموا أن بعضها واجبة، وبعضها غير واجبة، ولم يجدوا قانونا مستقيما، ومأخذا سليما في الفرق بين البابين، فتشوش الأمر عليهم، بل الواجب أن يسوى بين الكل، فيحكم على الكل بالوجوب، كما هو قول الفلاسفة، أو على الكل بعدم الوجوب كما هو قول الأشعري. فأما التحكم في الفرق فهو بعيد، إذا ثبت هذا ظهر جواز القول بالجن، فإن أجسامهم وإن كانت كثيفة قوية إلا أنه يمتنع أن لا تراها، وإن كانوا حاضرين هذا على قول الأشعري فهذا هو تفصيل هذه الوجوه، وأنا متعجب من هؤلاء المعتزلة أنهم كيف يصدقون ما جاء في القرآن من إثبات الملك والجن مع استمرارهم على مذاهبهم، وذلك لأن القرآن دل على أن للملائكة قوة عظيمة على الأفعال الشاقة، والجن أيضا كذلك، وهذه القدرة لا تثبت إلا في الأعضاء الكثيفة الصلبة،
151

فإذا يجب في الملك والجن أن يكون كذلك، ثم إن هؤلاء الملائكة حاضرون عندنا أبدا، وهم الكرام الكاتبون والحفظة، ويحضرون أيضا عند قبض الأرواح، وقد كانوا يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أحدا من القوم ما كان يراهم، وكذلك الناس الجالسون عند من يكون في النزع لا يرون أحدا، فإن وجبت رؤية الكثيف عند الحضور فلم لا نراها وإن لم تجب الرؤية فقد بطل مذهبهم، وإن كانوا موصوفون بالقوة والشدة مع عدم الكثافة والصلابة فقد بطل قولهم: إن البنية شرط الحياة، وإن قالوا: إنها أجسام لطيفة وحية، ولكنها للطافتها لا تقدر على الأعمال الشاقة، فهذا إنكار لصريح القرآن، وبالجملة فحالهم في الإقرار بالملك والجن مع هذه المذاهب عجيب، وليتهم ذكروا على صحة مذاهبهم شبهة مخيلة فضلا عن حجة مبينة، فهذا هو التنبيه على ما في هذا الباب من الدقائق والمشكلات، وبالله التوفيق.
المسألة الثانية: اختلفت الروايات في أنه عليه الصلاة والسلام هل رأى الجن أم لا؟. فالقول الأول: وهو مذهب ابن عباس أنه عليه السلام ما رآهم، قال: إن الجن كانوا يقصدون السماء في الفترة بين عيسى ومحمد فيستمعون أخبار السماء ويلقونها إلى الكهنة فلما بعث الله محمدا عليه السلام حرست السماء، وحيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت الشهب عليهم فرجعوا إلى إبليس وأخبروه بالقصة فقال: لا بد لهذا من سبب فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها واطلبوا السبب فوصل جمع من أولئك الطالبين إلى تهامة فرأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا والله هو الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * فأخبر الله تعالى محمدا عليه السلام عن ذلك الغيب وقال: * (قل أوحى إلي) * كذا وكذا، قال وفي هذا دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن إذ لو رآهم لما أسند معرفة هذه الواقعة إلى الوحي فإن ما عرف وجوده بالمشاهدة لا يسند إثباته إلى الوحي، فإن قيل: الذين رموا بالشهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجن فكيف وجه الجمع؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أن الجن كانوا مع الشياطين فلما رمي الشياطين أخذ الجن الذين كانوا معهم في تجسس الخبر الثاني: أن الذين رموا بالشهب كانوا من الجن إلا أنه قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الجن والإنس فإن الشيطان كل متمرد بعيد عن طاعة الله، واختلفوا في أن أولئك الجن الذين سمعوا القرآن من هم؟ فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه مكة على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ثم انصرفوا فذلك قوله: * (وإذا صرفنا إليك نفرا من الجن) * (الأحقاف: 29) وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم.
القول الثاني: وهو مذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، قال ابن مسعود قال عليه الصلاة والسلام: " أمرت أن أتلو القرآن على الجن
152

فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية فسكتوا، ثم قال الثالثة، فقال: عبد الله قلت أنا أذهب معك يا رسول الله قال: فانطلق حتى إذا جاء الحجون عند شعب ابن أبي دب، خط علي خطا فقال: لا تجاوزه، ثم مضى إلى الحجون فانحدروا عليه أمثال الحجل كأنهم رجال الزط يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها حتى غشوه، فغاب عن بصري فقمت، فأومأ إلي بيده أن أجلس، ثم تلا القرآن، فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى صرت أسمع صوتهم ولا أراهم. وفي رواية أخرى فقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنت؟ قال: أنا نبي الله، قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة، تعالي يا شجرة، فجاءت تجر عروقها لها قعاقع حتى انصبت بين يديه، فقال على ماذا تشهدين لي؟ قالت: أشهد أنك رسول الله، قال: اذهبي، فرجعت كما جاءت حتى صارت كما كانت. قال ابن مسعود: فلما عاد إلي، قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر، فلا يستطيبن أحد بعظم ولا بعر.
واعلم أنه لا سبيل إلى تكذيب الروايات، وطريق التوفيق بين مذهب ابن عباس، ومذهب ابن مسعود من وجوه أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولا، فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة، إلا أنه عليه السلام أمر بالذهاب إليهم، وقراءة القرآن عليهم، إلا أنه عليه السلام ما عرف أنهم ماذا قالوا، وأي شيء فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وقالوا كذا وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو عليه السلام رآهم وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم لما رجعوا إلى قومهم قالوا لقومهم على سبيل الحكاية: * (إنا سمعنا قرآنا عجبا) * وكان كذا وكذا، فأوحى الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما قالوه لأقوامهم، وإذا كانت هذه الوجوه محتملة فلا سبيل إلى التكذيب.
المسألة الثالثة: اعلم أن قوله تعالى: * (قل) * أمر منه تعالى لرسوله أن يظهر لأصحابه ما أوحى الله في واقعة الجن، وفيه فوائد إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان، وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.
المسألة الرابعة: الإيحاء إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء كالإلهام وإنزال الملك ويكون ذلك في سرعة من قولهم: الوحي الوحي والقراءة المشهورة، * (أوحى) * بالألف، وفي رواية يونس
153

وهارون، عن أبي عمرو * (وحي) * بضم الواو بغير ألف وهما لغتان يقال: وحي إليه وأوحى إليه وقرئ * (أحي) * بالهمز من غير واو، وأصله وحي، فقلبت الواو همزة كما يقال: أعد وأزن * (وإذا الرسل أقتت) * (المرسلات: 11) وقوله تعالى: * (أنه استمع نفر من الجن) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: أجمعوا على أن قوله: * (أنه استمع) * بالفتح وذلك لأنه نائب فاعل * (أوحي) * فهو كقوله: * (وأوحي إلى هذا القرآن) * (الأنعام: 19) وأجمعوا على كسر إنا في قوله: * (إنا سمعنا) * لأنه مبتدأ محكي بعد القول، ثم ههنا قراءتان إحداهما: أن نحمل البواقي على الموضعين اللذين بينا أنهم أجمعوا عليهما فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجن كسر، وكلها من قول الجن إلا الآخرين وهما قوله: * (وأن المساجد لله) * (الجن: 18) * (وأنه لما قام) * (الجن: 19)، وثانيهما: فتح الكل والتقدير: فآمنا به وآمنا بأنه تعالى جد ربنا وبأنه كان يقول سفيهنا وكذا البواقي، فإن قيل: ههنا إشكال من وجهين أحدهما: أنه يقبح إضافة الإيمان إلى بعض هذه السورة فإنه يقبح أن يقال: وآمنا بأنه كان يقول: سفيهنا على الله شططا والثاني: وهو أنه لا يعطف على الهاء المخفوضة إلا بإظهار الخافض لا يقال: آمنا به وزيد، بل يقال: آمنا به وبزيد والجواب: عن الإشكالين أنا إذا حملنا قوله: آمنا على معنى صدقنا وشهدنا زال الإشكالان.
المسألة الثانية: * (نفر من الجن) * جماعة منهم ما بين الثلاثة إلى العشرة روي أن ذلك النفر كانوا يهودا، وذكر الحسن أن فيهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين، ثم اعلم أن الجن حكوا أشياء: النوع الأول: مما حكوه قوله تعالى: * (فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) * أي قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله: * (فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين) * (الأحقاف: 29)، * (قرآنا عجبا) * أي خارجا عن حد أشكاله ونظائره، و (عجبا) مصدر يوضع موضع العجيب ولا شك أنه أبلغ من العجيب، * (يهدي إلى الرشد) * أي إلى الصواب، وقيل: إلى التوحيد * (فآمنا به) * أي بالقرآن ويمكن أن يكون المراد فآمنا بالرشد الذي في القرآن وهو التوحيد * (ولن نشرك بربنا أحدا) * أي ولن نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك به وهذا يدل على أن أولئك الجن كانوا من المشركين.
النوع الثاني: مما ذكره الجن أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك نزهوا ربهم عن الصاحبة والولد. فقالوا:
* (وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الجد قولان: الأول: الجد في اللغة العظمة يقال: جد فلان أي عظم
154

ومنه الحديث: " كان الرجل إذا قرأ سورة البقرة جد فينا " أي جد قدره وعظم، لأن الصاحبة تتخذ للحاجة إليها والولد للتكثر به والاستئناس، وهذه من سمات الحدوث وهو سبحانه منزه عن كل نقص.
القول الثاني: الجد الغنى ومنه الحديث: " لا ينفع ذا الجد منك الجد " قال أبو عبيدة: أي لا ينفع ذا الغنى منك غناه، وكذلك الحديث الآخر: " قمت على باب الجنة فإذا عامة من يدخلها الفقراء وإذا أصحاب الجد محبوسون " يعني أصحاب الغنى في الدنيا، فيكون المعنى وأنه تعالى غنى عن الاحتياج إلى الصاحبة والاستئناس بالولد.
وعندي فيه قول ثالث: وهو أن جد الإنسان أصله الذي منه وجوده فجعل الجد مجازا عن الأصل، فقوله: * (تعالى جد ربنا) * معناه تعالى أصل ربنا وأصله حقيقته المخصوصة التي لنفس تلك الحقيقة من حيث إنها هي تكون واجبة الوجود فيصير المعنى أن حقيقته المخصوصة متعالية عن جميع جهات التعلق بالغير لأن الواجب لذاته يجب أن يكون واجب الوجود من جميع جهاته، وما كان كذلك استحال أن يكون له صاحبة وولد.
المسألة الثانية: قرىء * (جدا ربنا) * بالنصب على التمييز و * (جد ربنا) * بالكسر أي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد، وكأن هؤلاء الجن لما سمعوا القرآن تنبهوا لفساد ما عليه كفرة الجن فرجعوا أولا عن الشرك وثانيا عن دين النصارى.
النوع الثالث: مما ذكره الجن قوله تعالى:
* (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) *.
السفه خفة العقل والشطط مجاوزة الحد في الظلم وغيره ومنه أشط في السوم إذا أبعد فيه أي يقول قولا هو في نفسه شطط لفرط ما أشط فيه.
واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد، وليس في اللفظ ما يدل على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات، فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم فمجاوزة الحد في النفي تفضي إلى التعطيل ومجاوزة الحد في الإثبات تفضي إلى التشبيه، وإثبات الشريك والصاحبة والولد وكلا الأمرين شطط ومذموم.
النوع الرابع: قوله تعالى:
* (وأنا ظننآ أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: معنى الآية أنا إنما أخذنا قول الغير لأنا ظننا أنه لا يقال: الكذب على الله، فلما سمعنا القرآن علمنا أنهم قد يكذبون، وهذا منهم إقرار بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات
155

بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا عن تلك الظلمات ببركة الاستدلال والاحتجاج.
المسألة الثانية: قوله: * (كذبا) * بم نصب؟ فيه وجوه أحدها: أنه وصف مصدر محذوف والتقدير أن لن تقول الإنس والجن على الله قولا كذبا وثانيها: أنه نصب نصب المصدر لأن الكذب نوع من القول وثالثها: أن من قرأ: * (أن لن تقول) * وضع * (كذبا) * موضع تقولا، ولم يجعله صفة، لأن التقول لا يكون إلا كذبا.
النوع الخامس: - قوله تعالى:
* (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا) *.
* (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) * فيه قولان: الأول: وهو قول جمهور المفسرين أن الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال: أعوذ بسيد هذا الوادي أو بعزيز هذا المكان من شر سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، وقال آخرون: كان أهل الجاهلية إذا قحطوا بعثوا رائدهم، فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فيناديهم، فإذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ برب هذا الوادي من أن يصيبنا آفة يعنون الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وربما تفزعهم الجن فيهربون القول الثاني: المراد أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الإنس أيضا، لكن من شر الجن، مثل أن يقول الرجل: أعوذ برسول الله من شر جن هذا الوادي، وأصحاب هذا التأويل إنما ذهبوا إليه، لأن الرجل اسم الإنس لا اسم الجن، وهذا ضعيف، فإنه لم يقم دليل على أن الذكر من الجن لا يسمى
رجلا، أما قوله: * (فزادوهم رهقا) * قال المفسرون: معناه زادوهم إثما وجرأة وطغيانا وخطيئة وغيا وشرا، كل هذا من ألفاظهم، قال الواحدي: الرهق غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى: * (ولا يرهق وجوههم قتر) * (يونس: 26) وقوله: * (ترهقها قترة) * (عبس: 41) ورجل مرهق أي يغشاه السائلون.
ويقال رهقتنا الشمس إذا قربت، والمعنى أن رجال الإنس إنما استعاذوا بالجن خوفا من أن يغشاهم الجن، ثم إنهم زادوا في ذلك الغشيان، فإنهم لما تعوذوا بهم، ولم يتعوذوا بالله استذلوهم واجترؤا عليهم فزادوهم ظلما، وهذا معنى قول عطاء خبطوهم وخنقوهم، وعلى هذا القول زادوا من فعل الجن وفي الآية قول آخر وهو أن زادوا من فعل الإنس وذلك لأن الإنس لما استعاذوا بالجن فالجن يزدادون بسبب ذلك التعوذ طغيانا فيقولون: سدنا الجن والإنس، والقول الأول هو اللائق بمساق الآية والموافق لنظمها.
النوع السادس: قوله تعالى:
* (وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا) *.
اعلم أن هذه الآية والتي قبلها يحتمل أن يكونا من كلام الجن، ويحتمل أن يكونا من جملة الوحي فإن
156

كانا من كلام الجن وهو الذي قاله بعضهم مع بعض، كان التقدير وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن، وإن كانا من الوحي كان التقدير: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش وعلى التقديرين فالآية دلت على أن الجن كما أنهم كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني ففيهم من ينكر البعث، ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يبعث أحدا للرسالة على ما هو مذهب البراهمة، واعلم أن حمله على كلام الجن أولى لأن ما قبله وما بعده كلام الجن فإلقاء كلام أجنبي عن كلام الجن في البين غير لائق. النوع السابع: قوله تعالى:
* (وأنا لمسنا السمآء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) *.
اللمس: المس فاستعير للطلب لأن الماس طالب متعرف يقال: لمسه والتمسه، ومثله الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه، والمعنى طلبنا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، والحرس اسم مفرد في معنى الحراس كالخدم في معنى الخدام ولذلك وصف بشديد ولو ذهب إلى معناه لقيل شدادا.
النوع الثامن: قوله تعالى:
* (وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الان يجد له شهابا رصدا) *.
أي كنا نستمع فالآن متى حاولنا الاستماع رمينا بالشهب، وفي قوله: * (شهابا رصدا) * وجوه أحدها: قال مقاتل: يعني رميا من الشهب ورصدا من الملائكة، وعلى هذا يجب أن يكون التقدير شهابا ورصدا لأن الرصد غير الشهاب وهو جمع راصد وثانيها: قال الفراء: أي شهابا قد أرصد له ليرجم به، وعلى هذا الرصد نعت للشهاب، وهو فعل بمعنى مفعول وثالثها: يجوز أن يكون رصدا أي راصدا، وذلك لأن الشهاب لما كان معدا له، فكأن الشهاب راصد له ومترصد له واعلم أنا قد استقصينا في هذه المسألة في تفسير قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * (الملك: 5) فإن قيل: هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، ويدل عليه أمور أحدها: أن جميع الفلاسفة المتقدمين تكلموا في أسباب انقضاض هذه الشهب، وذلك يدل على أنها كانت موجودة قبل المبعث وثانيها: قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) * ذكر في خلق الكواكب فائدتين، التزيين ورجم الشياطين وثالثها: أن وصف هذا الانقضاض جاء في شعر أهل الجاهلية، قال أوس بن حجر: فانقض كالدري يتبعه * نقع يثور تخاله طنبا
وقال عوف بن الخرع: يرد علينا العير من دون إلفه * أو الثور كالدري يتبعه الدم
وروى الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
157

جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال: ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية؟ فقالوا كنا نقول: يموت عظيم أو يولد عظيم " الحديث إلى آخره ذكرناه في تفسير قوله تعالى: * (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح) * قالوا: فثبت بهذه الوجوه أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، فما معنى تخصيصها بمحمد عيه الصلاة والسلام؟ والجواب: مبني على مقامين: المقام الأول: أن هذه الشهب ما كانت موجودة قبل المبعث وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما، وأبي بن كعب، روي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، أما الكلمة فإنها تكون حقة، وأما الزيادات فتكون باطلة فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، ولم تكن النجوم يرى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يصلي، الحديث إلى آخره، وقال أبي بن كعب: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى بعث رسول الله فرمي بها، فرأت قريش أمرا ما رأوه قبل ذلك فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم، يظنون أنه الفناء، فبلغ ذلك بعض أكابرهم، فقال: لم فعلتم ما أرى؟ قالوا: رمي بالنجوم فرأيناها تتهافت من السماء، فقال: اصبروا فإن تكن نجوما معروفة فهو وقت فناء الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو أمر قد حدث فنظروا، فإذا هي لا تعرف، فأخبروه فقال: في الأمر مهلة، وهذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم أبو سفيان على أمواله وأخبر أولئك الأقوام بأنه ظهر محمد بن عبد الله ويدعي أنه نبي مرسل، وهؤلاء زعموا أن كتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا منهم في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم ومنحولة.
المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث إلا أنها زيدت بعد المبعث وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن
لأنه قال: * (فوجدناها ملئت) * (الجن: 8) وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة وكذلك قوله: * (نقعد منها مقاعد) * أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب والآن ملئت المقاعد كلها، فعلى هذا الذي حمل الجن على الضرب في البلاد وطلب السبب، إنما هو كثرة الرجم ومنع الاستراق بالكلية.
النوع التاسع: قوله تعالى:
* (وأنا لا ندرى أشر أريد بمن فى الارض أم أراد بهم ربهم رشدا) *.
وفيه قولان: أحدهما: أنا لا ندري أن المقصود من المنع من الاستراق هو أشر أريد بأهل الأرض أم صلاح وخير والثاني: لا ندري أن المقصود من إرسال محمد الذي عنده منع من الاستراق هو أن يكذبوه فيهلكوا كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا.
158

النوع العاشر: قوله تعالى:
* (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرآئق قددا) *.
أي منا الصالحون المتقون أي ومنا قوم دون ذلك فحذف الموصوف كقوله: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) ثم المراد بالذين هم دون الصالحين من؟ فيه قولان: الأول: أنهم المقتصدون الذين يكونون في الصلاح غير كاملين والثاني: أن المراد من لا يكون كاملا في الصلاح، فيدخل فيه المقتصدون والكافرون، والقدة من قدد، كالقطعة من قطع. ووصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطع والتفرق، وفي تفسير الآية وجوه أحدها: المراد كنا ذوي طرائق قددا أي ذوي مذاهب مختلفة. قال السدي: الجن أمثالكم، فيهم مرجئة وقدرية وروافض وخوارج وثانيها: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة وثالثها: كانت طرائقنا طرائق قددا على حذف المضاف الذي هو الطرائق، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه.
النوع الحادي عشر: قوله تعالى:
* (وأنا ظننآ أن لن نعجز الله فى الارض ولن نعجزه هربا) *.
الظن بمعنى اليقين، و * (في الأرض) * و * (هربا) * فيه وجهان الأول: أنهما حالان، أي لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء والثاني: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، ولن نعجزه هربا إن طلبنا.
النوع الثاني عشر: قوله تعالى:
* (وأنا لما سمعنا الهدى ءامنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا) *.
* (لما سمعنا الهدى) * أي القرآن، قال تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) * (آمنا به) * أي آمنا بالقرآن * (فلا يخاف) * فهو لا يخاف أي فهو غير خائف، وعلى هذا يكون الكلام في تقدير جملة من المبتدأ والخبر، أدخل الفاء عليها لتصير جزاء للشرط الذي تقدمها، ولولا ذاك لقيل: لا يخف، فإن قيل: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء، وكان ذلك كله مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف قلنا: الفائدة فيه أنه إذا فعل ذلك، فكأنه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة، وأنه هو المختص لذلك دون غيره، لأن قوله: فهو لا يخاف معناه أن غيره يكون خائفا، وقرأ الأعمش: * (فلا يخف) *، وقوله تعالى: * (بخسا ولا رهقا) * البخس النقص، والرهق الظلم، ثم فيه وجهان الأول: لا يخاف جزاء بخس ولا رهق، لأنه لم يبخس أحدا حقا، ولا (رهق) ظلم أحدا، فلا يخاف جزاءهما الثاني: لا يخاف أن
159

يبخس، بل يقطع بأنه يجزي الجزاء الأوفى، ولا يخاف أن ترهقه ذلة من قوله: * (ترهقهم ذلة) *. النوع الثالث عشر: قوله تعالى: (14)
* (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا) *.
القاسط الجائر، والمقسط العادل، وذكرنا معنى قسط وأقسط في أول سورة النساء، فالقاسطون الكافرون الجائرون عن طريق الحق، وعن سعيد بن جبير: أن الحجاج قال له حين أراد قتله: ما تقول في؟ قال: قاسط عادل، فقال القوم: ما أحسن ما قال، حسبوا أنه يصفه بالقسط والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سماني ظالما مشركا، وتلا لهم قوله: * (وأما القاسطون) * وقوله: * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) *، (الأنعام: 1) * (تحروا رشدا) * أي قصدوا طريق الحق، قال أبو عبيدة: تحروا توخوا، قال المبرد: أصل التحري من قولهم: ذلك أحرى، أي أحق وأقرب، وبالحري أن تفعل كذا، أي يجب عليك.
ثم إن الجن ذموا الكافرين فقالوا:
* (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) *.
وفيه سؤالان: الأول: لم ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين؟ الجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين وهو قوله تعالى: * (تحروا رشدا) * (الجن: 14) أي توخوا رشدا عظيما لا يبلغ كنهه إلا الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا في الثواب.
السؤال الثاني: الجن مخلوقين من النار، فكيف يكونون حطبا للنار؟ الجواب: أنهم وإن خلقوا من النار، لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية وصاروا لحما ودما هكذا، قيل: وههنا آخر كلام الحسن.
* (وألو استقاموا على الطريقة لاسقيناهم مآء غدقا * لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا) *.
هذا من جملة الموحى إليه والتقدير: قل أوحي إلي أنه استمع نفر وأن لو استقاموا فيكون هذا هو النوع الثاني مما أوحي إليه، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: (أن) مخففة من الثقيلة والمعنى: وأوحي إلي أن الشأن والحديث لو استقاموا لكان كذا وكذا.
قال الواحدي: وفصل لو بينها وبين الفعل كفصل لا والسين في
160

قوله: * (أن لا يرجع إليهم قولا) * و * (علم أن سيكون) *.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: * (استقاموا) * إلى من يرجع؟ فيه قولان: قال بعضهم: إلى الجن الذين تقدم ذكرهم ووصفهم، أي هؤلاء القاسطون لو آمنا لفعلنا بهم كذا وكذا.
وقال آخرون: بل المراد الإنس، واحتجوا عليه بوجهين الأول: أن الترغيب بالانتفاع بالماء الغدق إنما يليق بالإنس لا بالجن والثاني: أن هذه الآية إنما نزلت بعدما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنه لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوما جرى مجرى قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.
وأقول: يمكن أن يحتج لصحة قول القاضي بأنه تعالى لما أثبت حكما معللا بعلة وهو الاستقامة، وجب أن يعم الحكم بعموم العلة.
المسألة الثالثة: الغدق بفتح الدال وكسرها: الماء الكثير، وقرئ بهما يقال: غدقت العين بالكسر فهي غدقة، وروضة مغدقة أي كثيرة الماء، ومطر مغدوق وغيداق وغيدق إذا كان كثير الماء، وفي المراد بالماء الغدق في هذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغيث والمطر، والثاني: وهو قول أبي مسلم: أنه إشارة إلى الجنة كما قال: * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * وثالثها: أنه المنافع والخيرات جعل الماء كناية عنها، لأن الماء أصل الخيرات كلها في الدنيا.
المسألة الرابعة: إن قلنا: الضمير في قوله: * (استقاموا) * راجع إلى الجن كان في الآية قولان: أحدهما: لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله ولم يستكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، ونظيره قوله تعالى: * (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا) * (المائدة: 65) وقوله: * (ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا) * (المائدة: 66) وقوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه) * (الطلاق: 2، 3) وقوله: * (فقلت استغفروا ربكم) * إلى قوله * (ويمددكم بأموال وبنين) * (نوح: 12) وإنما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع، فإن اللائق بالجن هو هذا الماء المشروب والثاني: أن يكون المعنى وأن لو استقام الجن الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها قبل الاستماع ولم ينتقلوا عنها إلى الإسلام لوسعنا عليهم الرزق، ونظيره قوله تعالى: * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) * (الزخرف: 33) واختار الزجاج الوجه الأول قال: لأنه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فتكون راجعة إلى الطريقة المعروفة المشهورة وهي طريقة الهدى والذاهبون إلى التأويل الثاني استدلوا عليه بقوله بعد هذه الآية * (لنفتنهم فيه) * فهو كقوله: * (إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) * (آل عمران: 178) ويمكن الجواب عنه أن من آمن فأنعم الله عليه كان ذلك الإنعام أيضا ابتلاء واختبارا حتى يظهر أنه هل يشتغل بالشكر أم لا، وهل ينفقه في طلب مراضي الله أو في مراضي الشهوة والشيطان، وأما الذين قالوا: الضمير عائد إلى الإنس، فالوجهان عائدان فيه بعينه
161

وههنا يكون إجراء قوله: * (لأسقيناهم ماء غدقا) * على ظاهره أولى لأن انتفاع الإنس بذلك أتم وأكمل. المسألة الخامسة: احتج أصحابنا بقوله: * (لنفتنهم) * على أنه تعالى يضل عباده، والمعتزلة أجابوا بأن الفتنة هي الاختبار كما يقال: فتنت الذهب بالنار لأخلق الضلال، واستدلت المعتزلة باللام في قوله * (لنفتنهم) * على أنه تعالى إنما يفعل لغرض، وأصحابنا أجابوا أن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله.
وقوله تعالى: * (ومن يعرض عن ذكر ربه) * أي عن عبادته أو عن موعظته، أو عن وحيه. يسلكه، وقرئ بالنون مفتوحة ومضمومة أي ندخله عذابا، والأصل نسلكه في عذاب كقوله: * (ما سلككم في سقر) * (المدثر: 42) إلا أن هذه العبارة أيضا مستقيمة لوجهين الأول: أن يكون التقدير نسلكه في عذاب، ثم حذف الجار وأوصل الفعل، كقوله: * (واختار موسى قومه) * (الأعراف: 155) والثاني: أن يكون معنى نسلكه أي ندخله، يقال: سلكه وأسلكه، والصعد مصدر صعد، يقال: صعد صعدا وصعودا، فوصف به العذاب لأنه (يصعد فوق طاقة) المعذب أي يعلوه ويغلبه فلا يطيقه، ومنه قول عمر: ما تصعدني شيء ما تصعدتني خطبة النكاح، يريد ما شق علي ولا غلبني، وفيه قول آخر وهو ما روي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن صعدا جبل في جهنم، وهو صخرة ملساء، فيكلف الكافر صعودها ثم يجذب من أمامه بسلاسل ويضرب من خلفه بمقامع حتى يبلغ أعلاها في أربعين سنة، فإذا بلغ أعلاها جذب إلى أسفلها، ثم يكلف الصعود مرة أخرى، فهذا دأبه أبدا، ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (سأرهقه صعودا) * (المدثر: 17).
النوع الثالث: من جملة الموحى قوله تعالى:
* (وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التقدير: قل أوحي إلي أن المساجد لله، ومذهب الخليل أن التقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا، فعلى هذا اللام متعلقة، (بلا تدعوا، أي) فلا تدعوا مع الله أحدا في المساجد لأنها لله خاصة، ونظيره قوله: * (وأن هذه أمتكم) * على معنى، ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون، أي لأجل هذا المعنى فاعبدون.
المسألة الثانية: اختلفوا في المساجد على وجوه أحدها: وهو قول الأكثرين: أنها المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين،
وذلك أن أهل الكتاب يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المسلمين بالإخلاص والتوحيد وثانيها: قال الحسن: أراد بالمساجد البقاع كلها قال عليه الصلاة والسلام: " جعلت لي الأرض مسجدا " كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة لله تعالى فلا تسجدوا عليها لغير خالقها وثالثها: روي عن الحسن أيضا أنه قال: المساجد هي الصلوات فالمساجد على هذا القول جمع مسجد بفتح
162

الجيم والمسجد على هذا القول مصدر بمعنى السجود ورابعها: قال سعيد بن جبير: المساجد الأعضاء التي يسجد العبد عليها وهي سبعة القدمان والركبتان واليدان والوجه، وهذا القول اختيار ابن الأنباري، قال: لأن هذه الأعضاء هي التي يقع السجود عليها وهي مخلوقة لله تعالى، فلا ينبغي أن يسجد العاقل عليها لغير الله تعالى، وعلى هذا القول معنى المساجد مواضع السجود من الجسد واحدها مسجد بفتح الجيم وخامسها: قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: يريد بالمساجد مكة بجميع ما فيها من المساجد، وذلك لأن مكة قبلة الدنيا وكل أحد يسجد إليها، قال الواحدي: وواحد المساجد على الأقوال كلها مسجد بفتح الجيم إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاة فإن واحدها بكسر الجيم لأن المواضع والمصادر كلها من هذا الباب بفتح العين إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد والمطلع والمنسك والمسكن والمنبت والمفرق والمسقط والمجزر والمحشر والمشرق والمغرب، وقد جاء في بعضها الفتح وهو المنسك والمسكن والمفرق والمطلع، وهو جائز في كلها وإن لم يسمع.
المسألة الثالثة: قال الحسن: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول لا إله إلا الله لأن قوله: * (فلا تدعوا مع الله أحدا) * في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه.
النوع الرابع: من جملة الموحى قوله تعالى:
* (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا) *.
اعلم أن عبد الله هو النبي صلى الله عليه وسلم في قول الجميع، ثم قال الواحدي: إن هذا من كلام الجن لا من جملة الموحى، لأن الرسول لا يليق أن يحكي عن نفسه بلفظ المغايبة وهذا غير بعيد، كما في قوله: * (يوم يحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) * والأكثرون على أنه من جملة الموحى، إذ لو كان من كلام الجن لكان ما ليس من كلام الجن.
وفي خلل ما هو كلام الجن مختلا بعيدا عن سلامة النظم وفائدة هذا الاختلاف أن من جعله من جملة الموحى فتح الهمزة في أن، ومن جعله من كلام الجن كسرها، ونحن نفسر الآية على القولين، أما على قول من قال: إنه من جملة الموحى فالضمير في قوله: * (كادوا) * إلى من يعود؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: إلى الجن، ومعنى * (قام... يدعوه) * أي قام يعبده يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجن، فاستمعوا القراءة * (كادوا يكونون عليه لبدا) *، أي يزدحمون عليه متراكمين تعجبا مما رأوا من عبادته، واقتداء أصحابه به قائما وراكعا، وساجدا وإعجابا بما تلا من القرآن، لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله والثاني: لما قدم رسول الله يعبد الله وحده مخالفا للمشركين في عبادتهم الأوثان، كاد المشركون لتظاهرهم عليه وتعاونهم على عداوته يزدحمون عليه والثالث: وهو قول قتادة: لما قام عبد الله تلبدت
163

الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاء به ويطفئوا نور الله، فأبى الله إلا أن ينصره ويظهره على من عاداه، وأما على قول من قال: إنه من كلام الجن، فالوجهان أيضا عائدان فيه، وقوله: * (لبدا) * فهو جمع لبدة وهو ما تلبد بعضه على بعض وارتكم بعضه على بعض، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقا شديدا فقد لبدته، ومنه اشتقاق هذه اللبود التي تفرش ويقال: لبدة الأسد لما يتلبد من الشعر بين كتفيه، ومنه قول زهير: (لدى أسد شاكي السلاح مقذف) * له لبد أظفاره لم تقلم
وقرئ: * (لبدا) * بضم اللام واللبدة في معنى اللبدة، وقرئ * (لبدا) * جمع لابد كسجد وساجد. وقرئ أيضا: * (لبدا) * بضم اللام والباء جمع لبود كصبر جمع صبور، فإن قيل: لم سمي محمدا بعبد الله، وما ذكره برسول الله أو نبي الله؟ قلنا: لأنه إن كان هذا الكلام من جملة الموحى، فاللائق بتواضع الرسول أن يذكر نفسه بالعبودية، وإن كان من كلام الجن كان المعنى أن عبد الله لما اشتغل بعبودية الله، فهؤلاء الكفار لم اجتمعوا ولم حاولوا منعه منه، مع أن ذلك هو الموافق لقانون العقل؟.
* (قل إنمآ أدعو ربى ولا أشرك به أحدا) *.
قرأ العامة قال على الغيبة وقرأ عاصم وحمزة، * (قل) * حتى يكون نظيرا لما بعده، وهو قوله: * (قل إني لا أملك) * (الجن: 21) * (قل إني لن يجيرني) * (الجن: 22) قال مقاتل: إن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " إنك جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا " فأنزل الله: * (قل إنما أدعوا ربي) * وهذا حجة لعاصم وحمزة، ومن قرأ * (قال) * حمل ذلك على أن القوم لما قالوا ذلك، أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: * (إنما أدعو ربي) * فحكى الله ذلك عنه بقوله * (قال) * أو يكون ذاك من بقية حكاية الجن أحوال الرسول لقومهم.
* (قل إنى لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) *.
إما أن يفسر الرشد بالنفع حتى يكون تقدير الكلام: لا أملك لكم غيا ولا رشدا، ويدل عليه قراءة أبي (غيا ولا رشدا)، ومعنى الكلام أن النافع والضار، والمرشد والمغوي هو الله، وإن أحدا من الخلق لا قدرة له عليه.
* (قل إنى لن يجيرنى من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا) *.
قوله تعالى: * (قل إني لن يجيرني من الله أحدا) * قال مقاتل: إنهم قالوا: اترك ما تدعوا إليه ونحن نجيرك، فقال الله له: * (قل إني لن يجيرني من الله أحد) *.
ثم قال تعالى: * (ولن أجد من دونه ملتحدا) * أي ملجأ وحرزا، قال المبرد: * (ملتحدا) * مثل قولك منعرجا، والتحد معناه في اللغة مال، فالملتحد المدخل من الأرض مثل السرب الذاهب في الأرض.
164

* (إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيهآ أبدا) *.
قوله تعالى: * (إلا بلاغا من الله ورسالاته) * ذكروا في هذا الاستثناء وجوها أحدها: أنه استثناء من قوله: * (لا أملك) * (الجن: 21) أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله، وقوله: * (قل إني لن يجيرني) * (الجن: 22) جملة معترضة وقعت في البين لتأكيد نفي الاستطاعة عنه وبيان عجزه على معنى: أنه تعالى إن أراد به سوءا لم يقدر أحد أن يجيره منه، وهذا قول الفراء.
وثانيها: وهو قول الزجاج: أنه نصب على البدل من قوله: * (ملتحدا) * (الجن: 22) والمعنى: ولن أجد من دونه ملجأ إلا بلاغا، أي لا ينجيني إلا أن أبلغ عن الله ما أرسلت به، وأقول هذا الاستثناء منقطع لأنه تعالى لما لم يقل ولن أجد ملتحدا بل قال: * (ولن أجد من دونه ملتحدا) *، والبلاغ من الله لا يكون داخلا تحت قوله: * (من دونه ملتحدا) * لأن البلاغ من الله لا يكون من دون الله، بل يكون من الله وبإعانته وتوفيقه ثالثها: قال بعضهم: (إلا) معناه إن (لا) ومعناه: إن لا أبلغ بلاغا كقولك: (إلا) قياما فقعودا، والمعنى: إن لا أبلغ لم أجد ملتحدا، فإن قيل: المشهور أنه يقال بلغ عنه قال عليه السلام: " بلغوا عني، بلغوا عني " فلم قال ههنا: * (بلاغا من الله) *؟ قلنا: (من) ليست (بصفة للتبلغ) إنما هي بمنزلة (من) في قوله: * (براءة من الله) * بمعنى بلاغا كائنا من الله.
أما قوله تعالى: * (ورسالاته) * فهو عطف على * (بلاغا) * كأنه قال: لا أملك لكم إلا التبليغ والرسالات، والمعنى إلا أن أبلغ عن الله فأقول: قال الله كذا ناسبا القول إليه وأن أبلغ رسالاته التي أرسلني بها من غير زيادة ولا نقصان.
قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم) * قال الواحدي إن مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء ولذلك حمل سيبويه قوله: * (ومن عاد فينتقم الله منه) * (المائدة: 95) * (ومن كفر فأمتعه) * (البقرة: 126) * (فمن يؤمن بربه فلا يخاف) * (الجن: 13) على أن المبتدأ فيها مضمر وقال صاحب " الكشاف " وقرئ: * (فأن له نار جهنم) * على تقدير فجزاؤه أن له نار جهنم كقولك: * (فأن لله خمسه) * (الأنفال: 41) أي فحكمه أن لله خمسه.
ثم قال تعالى: * (خالدين فيها أبدا) * حملا على معنى الجمع في (من) وفي الآية مسألتان: المسألة الأولى: استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن فساق أهل الصلاة مخلدون في النار وأن هذا العموم يشملهم كشموله الكفار، قالوا: وهذا الوعيد مشروط بشرط أن لا يكون هناك توبة ولا طاعة أعظم منها، قالوا: وهذا العموم أقوى في الدلالة على هذا المطلوب من سائر العمومات لأن سائر العمومات ما جاء فيها قوله: * (أبدا) * فالمخالف يحمل الخلود على المكث الطويل، أما ههنا (فقد) جاء لفظ الأبد فيكون ذلك صريحا في إسقاط الاحتمال الذي ذكره المخالف والجواب: أنا بينا في سورة البقرة وجوه الأجوبة على التمسك بهذه العمومات، ونزيد ههنا وجوها أحدها: أن تخصيص
165

العموم بالواقعة التي لأجلها ورد ذلك العموم عرف مشهور، فإن المرأة إذا أرادت أن تخرج من الدار ساعة فقال الزوج إن خرجت فأنت طالق يفيد ذلك اليمين بتلك الساعة المعينة حتى إنها لو خرجت في يوم آخر لم تطلق، فههنا أجرى الحديث في التبليغ عن الله تعالى، ثم قال: * (ومن يعص الله ورسوله) * يعني جبريل: * (فإن له نار جهنم) * أي من يعص الله في تبليغ رسالاته وأداء وحيه فإن له نار جهنم، وإذا كان ما ذكرنا محتملا سقط وجه الاستدلال الوجه الثاني: وهو أن هذا الوعيد لا بد وأن يتناول هذه الصورة لأن من القبيح أن يذكر عقيب هذه الواقعة حكما لا تعلق له بها، فيكون هذا الوعيد وعيدا على ترك التبليغ من الله، ولا شك أن ترك التبليغ من الله أعظم الذنوب، والعقوبة المترتبة على أعظم الذنوب، لا يجوز أن تكون مرتبة على جميع الذنوب، لأن الذنوب المتفاوتة في الصغر والكبر لا يجوز أن تكون متساوية في العقوبة، وإذا ثبت أن هذه العقوبة على هذا الذنب، وثبت أن ما كان عقوبة على هذا الذنب لا يجوز أن يكون عقوبة على سائر الذنوب، علمنا أن هذا الحكم مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى سائر الذنوب الوجه الثالث: وهو أنه تعالى ذكر عمومات الوعيد في سائر آيات القرآن غير مقيدة بقيد الأبد، وذكرها ههنا مقيدة بقيد الأبد، فلا بد في هذا التخصيص من سبب، ولا سبب إلا أن هذا الذنب أعظم الذنوب، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب وغير متعد إلى جميع الذنوب، وإذا ثبت أن هذا الوعيد مختص بفاعل هذا الذنب، صارت الآية دالة على أن حال سائر المذنبين بخلاف ذلك لأن قوله: * (فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) * معناه أن هذه الحالة له لا لغيره، وهذا كقوله: * (لكم دينكم) * أي لكم لا لغيركم. وإذا ثبت أن لهم هذه الحالة لا لغيرهم، وجب في سائر المذنبين أن لا يكون لهم نار جهنم على سبيل التأبيد، فظهر أن هذه الآية حجة لنا عليهم. وعلى تمسكهم بالآية سؤال آخر، وهو أن قوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * إنما يتناول من عصى الله ورسوله بجميع أنواع المعاصي، وذلك هو الكافر ونحن نقول: بأن الكافر يبقى في النار مؤبدا، وإنما قلنا إن قوله: * (ومن يعص الله ورسوله) * إنما يتناول من عصى الله بجميع أنواع المعاصي لأن قوله: * (ومن يعص الله) * يصح استثناء جميع أنواع المعاصي عنه، مثل أن يقال ومن يعص الله إلا في الكفر وإلا في الزنا، وإلا في شرب الخمر، ومن مذهب القائلين بالوعيد أن حكم الاستثناء إخراج ما لولاه لكان داخلا تحت اللفظ وإذا كان كذلك، وجب أن يكون قوله: * (ومن يعص الله) * متناولا لمن أتى بكل المعاصي، والذي يكون كذلك هو الكافر، فالآية مختصة بالكافر على هذا التقدير، فسقط وجه الاستدلال بها.
فإن قيل: كون الإنسان الواحد آتيا لجميع أنواع المعاصي محال، لأن من المحال أن يكون قائلا بالتجسم، وأن يكون مع ذلك قائلا بالتعطيل، وإذا كان ذلك محالا فحمل الآية عليه غير جائز قلنا: تخصيص العام بدليل العقل جائز، فقولنا: * (ومن يعص الله) * يفيد كونه آتيا بجميع أنواع
166

المعاصي، ترك العمل به في القدر الذي امتنع عقلا حصوله فيبقى متناولا للآتي بجميع الأشياء التي يمكن الجمع بينها، ومن المعلوم أن الجمع بين الكفر وغيره ممكن فتكون الآية مختصة به.
المسألة الثانية: تمسك القائلون بأن الأمر للوجوب بهذه الآية فقالوا: تارك المأمور به عاص لقوله تعالى: * (أفعصيت أمري) * (طه: 93)، * (لا يعصون الله ما أمرهم) * (التحريم: 6)، * (لا أعصي لك أمرا) * (الكهف: 69) والعاصي مستحق للعقاب لقوله: * (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) *.
قوله تعالى
* (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) *.
فإن قيل: ما الشيء الذي جعل ما بعد حتى غاية له؟ قلنا: فيه وجهان الأول: أنه متعلق بقوله: * (يكونون عليه لبدا) * (الجن: 19) والتقدير أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره ويستقلون (عدده) حتى إذا رأوا ما يوعدون من يوم بدر وإظهار الله له عليهم أو من يوم القيامة، * (فسيعلمون) * أيهم أضعف ناصرا وأقل عددا، الثاني: أنه متعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار له واستقلالهم لعدده كأنه قيل: هؤلاء لا يزالون على ما هم عليه حتى إذا كان كذا كان كذا، واعلم أن نظير هذه الآية قوله في مريم: * (حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة) * (مريم: 75) واعلم أن الكافر لا ناصر له ولا شفيع يوم القيامة على ما قال: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * (غافر: 18) * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (الأنبياء: 28) ويفر كل أحد منهم من صاحبه على ما قال: * (يوم يفر المرء من أخيه) * (عبس: 34) إلى آخره: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * (الحج: 2) وأما المؤمنون فلهم العزة والكرامة والكثرة قال تعالى: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم) * (الرعد: 23، 24) والملك القدوس يسلم عليهم * (سلام قولا من رب رحيم) * فهناك يظهر أن القوة والعدد في جانب المؤمنين أو في جانب الكفار.
* (قل إن أدرى أقريب ما توعدون أم يجعل له ربى أمدا) *.
قال مقاتل: لما سمعوا قوله: * (حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا) * (الجن: 24) قال النضر بن الحرث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: * (قل إن أدري أقريب ما توعدون) * إلى آخره والمعنى أن وقوعه متيقن، أما وقت وقوعه فغير معلوم، وقوله: * (أم يجعل له ربي أمدا) * أي غاية وبعدا وهذا كقوله: * (وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون) * (الأنبياء: 109) فإن قيل: أليس أنه قال: " بعثت أنا والساعة كهاتين " فكان عالما بقرب وقوع القيامة، فكيف قال: ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ قلنا: المراد بقرب وقوعه هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم،
167

وأما معنى معرفة القرب القريب وعدم ذلك فغير معلوم.
* (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) *.
ثم قال تعالى: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول) * لفظة (من) في قوله: * (من رسول) * تبيين لمن ارتضى يعني أنه لا يطلع على الغيب إلا المرتضى الذي يكون رسولا، قال صاحب " الكشاف "، وفي هذا إبطال الكرامات لأن الذين تضاف الكرامات إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خص الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وفيها أيضا إبطال الكهانة والسحر والتنجيم لأن أصحابها أبعد شيء من الإرتضاء وأدخله في السخط، قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادعى أن النجوم تدله على ما يكون من حياة أو موت أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.
واعلم أن الواحدي يجوز الكرامات وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعض الوقائع في المستقبل ونسبة الآية إلى الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله صاحب " الكشاف "، وإن زعم أنها لا تدل على المنع من الإلهامات الحاصلة للأولياء فينبغي أن لا يجعلها دالة على المنع من الدلائل النجومية، فأما التحكم بدلالتها على المنع من الأحكام النجومية وعدم دلالتها على الإلهامات الحاصلة للأولياء فمجرد التشهي، وعندي أن الآية لا دلالة فيها على شيء مما قالوه والذي تدل عليه أن قوله: * (على غيبه) * ليس فيه صيغة عموم فيكفي في العمل بمقتضاه أن لا يظهر تعالى خلقه على غيب واحد من غيوبه فنحمله على وقت وقوع القيامة فيكون المراد من الآية أنه تعالى لا يظهر هذا الغيب لأحد فلا يبقى في الآية دلالة على أنه لا يظهر شيئا من الغيوب لأحد، والذي يؤكد هذا التأويل أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية عقيب قوله: * (إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا) * (الجن: 25) يعني لا أدري وقت وقوع القيامة، ثم قال بعده: * (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا) * أي وقت وقوع القيامة من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد، وبالجملة فقوله: * (على غيبه) * لفظ مفرد مضاف، فيكفي في العمل به حمله على غيب واحد، فأما العموم فليس في اللفظ دلالة عليه، فإن قيل: فإذا حملتم ذلك على القيامة فكيف قال: * (إلا من ارتضى من رسول) * مع أنه لا يظهر هذا الغيب لأحد من رسله؟ قلنا: بل يظهره عند القرب من إقامة القيامة، وكيف لا وقد قال: * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) * (الفرقان: 25) ولا شك أن الملائكة يعلمون في ذلك الوقت قيام القيامة، وأيضا يحتمل أن يكون هذا الاستثناء منقطعا، كأنه قال: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه المخصوص وهو قيام القيامة أحدا، ثم قال بعده: لكن من ارتضى من رسول: * (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه) * حفظة يحفظونه من شر مردة الإنس والجن، لأنه تعالى إنما ذكر هذا الكلام جوابا لسؤال من سأله عن وقت وقوع
168

القيامة على سبيل الاستهزاء به، والاستحقار لدينه ومقالته.
واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية أن لا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، والذي يدل عليه وجوه أحدها: أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب وثانيها: أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه وثالثها: أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل فذكرت أشياء، ثم إنها وقعت على وفق كلامها.
قال مصنف الكتاب ختم الله له بالحسنى: وأنا قد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة، حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة أخبارا على سبيل التفصيل، وجاءت تلك الوقائع على وفق خبرها، وبالغ أبو البركات في كتاب المعتبر في شرح حالها، وقال: لقد تفحصت عن حالها مدة ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا.
ورابعها: أنا نشاهد (ذلك) في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون كذلك نرى الإنسان الذي يكون سهم الغيب على درجة طالعه يكون كذلك في كثير من أخباره وإن كان قد يكذب أيضا في أكثر تلك الأخبار، ونرى الأحكام النجومية قد تكون مطابقة وموافقة للأمور، وإن كانوا قد يكذبون في كثير منها، وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن، وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه، والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا) * فالمعنى أنه يسلك من بين يدي من ارتضى للرسالة، * (ومن خلفه رصدا) * أي حفظة من الملائكة يحفظونه من وساوس شياطين الجن وتخاليطهم، حتى يبلغ ما أوحى به إليه، ومن زحمة شياطين الإنس حتى لا يؤذونه ولا يضرونه وعن الضحاك " ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين (الذين) يتشبهون بصورة الملك ".
* (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شىء عددا) *.
قوله تعالى: * (ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * فيه مسائل:
169

المسألة الأولى: وحد الرسول في قوله: * (إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه) * (الجن: 27) ثم جمع في قوله: * (أن قد أبلغوا رسالات ربهم) * ونظيره ما تقدم من قوله: * (فإن له نار جهنم خالدين) * (الجن: 23).
المسألة الثانية: احتج من قال بحدوث علم الله تعالى بهذه الآية لأن معنى الآية ليعلم الله أن قد أبلغوا الرسالة، ونظيره قوله تعالى: * (حتى نعلم المجاهدين) * (محمد: 31) والجواب من وجهين الأول: قال قتادة ومقاتل: ليعلم محمد أن الرسل قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وعلى هذا، اللام في قوله: * (ليعلم) * متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام كأنه قيل: أخبرناه بحفظ الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ الحق، ويجوز أن يكون المعنى ليعلم الرسول أن قد أبلغوا أي جبريل والملائكة الذين يبعثون إلى الرسل رسالات ربهم، فلا يشك فيها ويعلم أنها حق من الله الثاني: وهو اختيار أكثر المحققين أن المعنى ليعلم الله أن قد أبلغ الأنبياء رسالات ربهم، والعلم ههنا مثله في قوله: * (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم) * (آل عمران: 142) والمعنى ليبلغوا رسالات ربهم فيعلم ذلك منهم.
المسألة الثالثة: قرىء * (ليعلم) * على البناء للمفعول.
أما قوله: * (وأحاط بما لديهم) * فهو يدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات، وأما قوله: * (وأحصى كل شيء عددا) * فهو يدل على كونه عالما بجميع الموجودات، فإن قيل: إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي، وقوله: * (كل شيء) * يدل على كونه غير متناه، فلزم وقوع التناقض في الآية، قلنا: لا شك أن إحصاء العدد إنما يكون في المتناهي، فأما لفظة * (كل شيء) * فإنها لا تدل على كونه غير متناه، لأن الشيء عندنا هو الموجودات، والموجودات متناهية في العدد، وهذه الآية أحد ما يحتج به على أن المعدوم ليس بشيء، وذلك لأن المعدوم لو كان شيئا، لكانت الأشياء غير متناهية، وقوله: * (وأحصى كل شيء عددا) * يقتضي كون تلك المحصيات متناهية، فيلزم الجمع بين كونها متناهية وغير متناهية وذلك محال، فوجب القطع بأن المعدوم ليس بشيء حتى يندفع هذا التناقض.
والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين، وخاتم النبيين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
170

سورة المزمل عليه السلام
وهي عشرون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها المزمل) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: أجمعوا على أن المراد بالمزمل النبي عليه السلام، وأصله المتزمل بالتاء وهو الذي تزمل بثيابه أي تلفف بها، فأدغم التاء في الزاي، ونحوه المدثر في المتدثر، واختلفوا لم تزمل بثوبه؟ على وجوه أحدها: قال ابن عباس: أول ما جاءه جبريل عليه السلام خافه وظن أن به مسا من الجن، فرجع من الجبل مرتعدا وقال
: زملوني، فبينا هو كذلك إذ جاء جبريل وناداه وقال: يا أيها المزمل وثانيها: قال الكلبي: إنما تزمل النبي عليه السلام بثيابه للتهيء للصلاة وهو اختيار الفراء وثالثها: أنه عليه السلام كان نائما بالليل متزملا في قطيفة فنودي بما يهجن تلك الحالة، وقيل: يا أيها النائم المتزمل بثوبه قم واشتغل بالعبودية ورابعها: أنه كان متزملا في مرط لخديجة مستأنسا بها فقيل له: * (يا أيها المزمل * قم الليل) * كأنه قيل: اترك نصيب النفس واشتغل بالعبودية وخامسها: قال عكرمة: يا أيها الذي زمل أمرا عظيما أي حمله والزمل الحمل، وازدمله احتمله.
المسألة الثانية: قرأ عكرمة * (المزمل) * و * (المدثر) * (المدثر: 1) بتخفيف الزاي والدال وتشديد الميم والثاء على أنه اسم فاعل أو مفعول، فإن كان على اسم الفاعل كان المفعول محذوفا والتقدير يا أيها المزمل نفسه والمدثر نفسه وحذف المفعول في مثل هذا المقام فصيح قال تعالى: * (وأوتيت من كل شيء) * أي أوتيت من كل شيء شيئا، وإن كان على أنه اسم المفعول كان ذلك لأنه زمل نفسه أو زمله غيره، وقرئ (يا أيها المتزمل) على الأصل.
* (قم اليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا) *.
وقوله تعالى: * (قم الليل) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: إن قيام الليل كان فريضة على رسول الله لقوله: * (قم الليل) * وظاهر الأمر للوجوب ثم نسخ، واختلفوا في سبب النسخ على وجوه أولها: أنه كان فرضا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ثم نسخ بها وثانيها: أنه تعالى لما قال: * (قم الليل إلا قليلا * نصفه
171

أو انقص منه قليلا * أو زد عليه) * فكان الرجل لا يدري كم صلى وكم بقي من الليل فكان يقوم الليل كله مخافة أن لا يحفظ القدر الواجب وشق عليهم ذلك حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في آخر هذه السورة: * (فاقرأوا ما تيسر منه) * (المزمل: 20) وذلك في صدر الإسلام، ثم قال ابن عباس: وكان بين أول هذا الإيجاب وبين نسخه سنة، وقال في رواية أخرى: إن إيجاب هذا كان بمكة ونسخه كان بالمدينة، ثم نسخ هذا القدر أيضا بالصلوات الخمس، والفرق بين هذا القول وبين القول الأول أن في هذا القول نسخ وجوب التهجد بقوله: * (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) * (المزمل: 20) ثم نسخ هذا بإيجاب الصلوات، وفي القول الأول نسخ إيجاب التهجد بإيجاب الصلوات الخمس ابتداء، وقال بعض العلماء: التهجد ما كان واجبا قط، والدليل عليه وجوه أولها: قوله: * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) * (الإسراء: 79) فبين أن التهجد نافلة له لا فرض، وأجاب ابن عباس عنه بأن المعنى زيادة وجوب عليك وثانيها: أن التهجد لو كان واجبا على الرسول لوجب على أمته لقوله: * (واتبعوه) * (الأعراف: 158) وورود النسخ على خلاف الأصل وثالثها: استدل بعضهم على عدم الوجوب بأنه تعالى قال: * (نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه) * ففوض ذلك إلى رأي المكلف وما كان كذلك لا يكون واجبا وهذا ضعيف لأنه لا يبعد في العقل أن يقول: أوجبت عليك قيام الليل فأما تقديره بالقلة والكثرة فذاك مفوض إلى رأيك، ثم إن القائلين بعدم الوجوب أجابوا عن التمسك بقوله: * (قم الليل) * وقالوا ظاهر الأمر يفيد الندب، لأنا رأينا أوامر الله تعالى تارة تفيد الندب وتارة تفيد الإيجاب، فلا بد من جعلها مفيدة للقدر المشترك بين الصورتين دفعا للاشتراك والمجاز، وما ذاك إلا ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، وأما جواز الترك فإنه ثابت بمقتضى الأصل، فلما حصل الرجحان بمقتضى الأمر وحصل جواز الترك بمقتضى الأصل كان ذلك هو المندوب والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ أبو السمال * (قم الليل) * بفتح الميم وغيره بضم الميم، قال أبو الفتح بن جني: الغرض من هذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين، فأي الحركات تحرك فقد حصل الغرض وحكى قطرب عنهم: قم الليل، وقل الحق برفع الميم واللام وبع الثوب ثم قال: من كسر فعلى أصل الباب ومن ضم أتبع ومن فتح فقد مال إلى خفة الفتح.
قوله تعالى: * (إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه) *.
اعلم أن الناس قد أكثروا في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان الأول: أن المراد بقوله: * (إلا قليلا) * الثلث، والدليل عليه قوله تعالى في آخر هذه السورة: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * (المزمل: 20) فهذه الآية دلت على أن أكثر المقادير الواجبة الثلثان، فهذا يدل على أن نوم الثلث جائز، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد في قوله: * (قم الليل إلا
172

قليلا) * هو الثلث، فإذا قوله: * (قم الليل إلا قليلا) * معناه قم ثلثي الليل ثم قال: * (نصفه) * والمعنى أو قم نصفه، كما تقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي جالس ذا أو ذا أيهما شئت، فتحذف واو العطف فتقدير الآية: قم الثلثين أو قم النصف أو انقص من النصف أو زد عليه، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة، ويكون الثلث أقصى النقصان، فيكون الواجب هو الثلث، والزائد عليه يكون مندوبا، فإن قيل: فعلى هذا التأويل يلزمكم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد ترك الواجب، لأنه تعالى قال: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * فمن قرأ نصفه وثلثه بالخفض كان المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فإذا كان الثلث واجبا كان عليه السلام تاركا للواجب، قلنا: إنهم كانوا يقدرون الثلث بالاجتهاد، فربما أخطأوا في ذلك الاجتهاد ونقصوا منه شيئا قليلا فيكون ذلك أدنى من ثلث الليل المعلوم بتحديد الأجزاء عند الله، ولذلك قال تعالى لهم: * (علم ألن تحصوه) * (المزمل: 20)، الوجه الثاني: أن يكون قوله: * (نصفه) * تفسيرا لقوله: * (قليلا) * وهذا التفسير جائز لوجهين الأول: أن نصف الشيء قليل بالنسبة إلى كله والثاني: أن الواجب إذا كان هو النصف لم يخرج صاحبه عن عهدة ذلك التكليف بيقين إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفا وشيئا، فيكون الباقي بعد ذلك أقل منه، وإذا ثبت هذا فنقول: * (قم الليل إلا قليلا) * معناه قم الليل إلا نصفه، فيكون الحاصل: قم نصف الليل، ثم قال: * (أو انقص منه قليلا) * يعني أو انقص من هذا النصف نصفه حتى يبقى الربع، ثم قال: * (أو زد عليه) * يعني أو زد على هذا النصف نصفه حتى يصير المجموع ثلاثة أرباعه، وحينئذ يرجع حاصل الآية إلى أنه تعالى خيره بين أن يقوم تمام
النصف، وبين أن يقوم ربع الليل، وبين أن يقوم ثلاثة أرباعه، وعلى هذا التقدير يكون الواجب الذي لا بد منه هو قيام الربع، والزائد عليه يكون من المندوبات والنوافل، وعلى هذا التأويل يزول الإشكال الذي ذكرتم بالكلية لأن قوله: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه) * (المزمل: 20) يدل على أنه عليه الصلاة والسلام لم يقم ثلثي الليل، ولا نصفه ولا ثلثه لأن الواجب لما كان هو الربع فقط لم يلزم من ترك قيام الثلث ترك شيء من الواجبات، فزال السؤال المذكور، والله أعلم.
قوله تعالى: * (ورتل القرآن ترتيلا) * قال الزجاج: رتل القرآن ترتيلا، بينه تبيينا، والتبيين لا يتم بأن يعجل في القرآن، إنما يتم بأن يتبين جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع، قال المبرد: أصله من قولهم: ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق ليس بالكثير، وقال الليث: الترتيل تنسيق الشيء، وثغر رتل، حسن التنضيد، ورتلت الكلام ترتيلا، إذا تمهلت فيه وأحسنت تأليفه، وقوله تعالى: * (ترتيلا) * تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارئ.
173

واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها، فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته، وعند الوصول إلى الوعد والوعيد يحصل الرجاء والخوف، وحينئذ يستنير القلب بنور معرفة الله، والإسراع في القراءة يدل على عدم الوقوف على المعاني، لأن النفس تبتهج بذكر الأمور الإلهية الروحانية، ومن ابتهج بشيء أحب ذكره، ومن أحب شيئا لم يمر عليه بسرعة، فظهر أن المقصود من الترتيل إنما هو حضور القلب وكما المعرفة.
قوله تعالى
* (إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا) *.
ذكروا في تفسير الثقيل وجوها أحدها: وهو المختار عندي أن المراد من كونه ثقيلا عظم قدره وجلالة خطره، وكل شيء نفس وعظم خطره، فهو ثقل وثقيل وثاقل، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء: * (قولا ثقيلا) * يعني كلاما عظيما، ووجه النظم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولا عظيما، فلا بد وأن تسعى في صيرورة نفسك مستعدة لذلك القول العظيم، ولا يحصل ذلك الاستعداد إلا بصلاة الليل، فإن الإنسان في الليلة الظلماء إذا اشتغل بعبادة الله تعالى وأقبل على ذكره والثناء عليه، والتضرع بين يديه، ولم يكن هناك شيء من الشواغل الحسية والعوائق الجسمانية استعدت النفس هنالك لإشراق جلال الله فيها، وتهيأت للتجرد التام، والانكشاف الأعظم بحسب الطاقة البشرية، فلما كان لصلاة الليل أثر في صيرورة النفس مستعدة لهذا المعنى لا جرم قال: إني إنما أمرتك بصلاة الليل لأنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، فصير نفسك مستعدة لقبول ذلك المعنى، وتمام هذا المعنى ما قال عليه الصلاة والسلام: " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها " وثانيها: قالوا: المراد بالقول الثقيل القرآن وما فيه من الأوامر والنواهي التي هي تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين عامة، وعلى رسول الله خاصة، لأنه يتحملها بنفسه ويبلغها إلى أمته، وحاصله أن ثقله راجع إلى ثقل العمل به، فإنه لا معنى للتكليف إلا إلزام ما في فعله كلفة ومشقة وثالثها: روى عن الحسن: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة، وهو إشارة إلى كثرة منافعه وكثرة الثواب في العمل به ورابعها: المراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يثقل عند نزول الوحي إليه، روي أن الوحي نزل عليه وهو على ناقته فثقل عليها، حتى وضعت جرانها، فلم تستطع أن تتحرك، وعن ابن عباس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه وتربد وجهه، وعن عائشة رضي الله عنها: " رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليرفض عرقا " وخامسها: قال الفراء: * (قولا ثقيلا) * أي ليس بالخفيف ولا بالسفساف، لأنه كلام ربنا تبارك وتعالى وسادسها: قال الزجاج: معناه أنه قول متين في صحته وبيانه ونفعه،
174

كما تقول: هذا كلام رزين وهذا قول له وزن إذا كنت تستجيده وتعلم أنه وقع موقع الحكمة والبيان وسابعها: قال أبو علي الفارسي: إنه ثقيل على المنافقين، من حيث إنه يهتك أسرارهم، ومن حيث إنه يبطل أديانهم وأقوالهم وثامنها: أن الثقيل من شأنه أن يبقى في مكانه ولا يزول، فجعل الثقيل كناية عن بقاء القرآن على وجه الدهر كما قال: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9)، وتاسعها: أنه ثقيل بمعنى أن العقل الواحد لا يفي بإدراك فوائده ومعانيه بالكلية، فالمتكلمون غاصوا في بحار معقولاته، والفقهاء أقبلوا على البحث عن أحكامه، وكذا أهل اللغة والنحو وأرباب المعاني، ثم لا يزال كل متأخر يفوز منه فوائد ما وصل إليها المتقدمون، فعلمنا أن الإنسان الواحد لا يقوى على الاستقلال بحمله، فصار كالحمل الثقيل الذي يعجز الخلق عن حمله، وعاشرها: أنه ثقيل لكونه مشتملا على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والفرق بين هذه الأقسام مما لا يقدر عليه إلا العلماء الراسخون، المحيطون بجميع العلوم العقلية والحكمية، فلما كان كذلك لا جرم كانت الإحاطة به ثقيلة على أكثر الخلق.
* (إن ناشئة اليل هى أشد وطأ وأقوم قيلا) *.
قوله تعالى: * (إن ناشئة الليل) * يقال: نشأت تنشأ نشأ فهي ناشئة، والإنشاء الإحداث، فكل ما حدث (فهو ناشئ) فإنه يقال للذكر ناشئ وللمؤنث ناشئة، إذا عرفت هذا فنقول في الناشئة قولان: أحدهما: أنها عبارة عن ساعات الليل والثاني: أنها عبارة عن الأمور التي تحدث في ساعات الليل، أما القول الأول، فقال أبو عبيدة: ناشئة الليل ساعاته وأجزاؤه المتتالية المتعاقبة فإنها تحدث واحدة بعد أخرى، فهي ناشئة بعد ناشئة، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال الليل كله ناشئة، روى ابن أبي مليكة، قال سألت ابن عباس وابن الزبير عن ناشئة الليل، فقال الليل كله ناشئة.
وقال زين العابدين رضي الله عنه: ناشئة الليل ما بين المغرب إلى العشاء، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والكسائي قالوا: لأن ناشئة الليل هي الساعة التي منها يبتدئ سواد الليل، القول الثاني: هو تفسير الناشئة بأمور تحدث في الليل، وذكروا على هذا القول وجوها أحدها: قالوا: ناشئة الليل هي النفس الناشئة بالليل التي تنشأ
من مضجعها إلى العبادة أي تنهض وترتفع من نشأت السحابة إذا ارتفعت وثانيها: ناشئة الليل عبارة عن قيام الليل بعد النوم، قال ابن الأعرابي إذا نمت من أول الليل نومة ثم قمت فتلك النشأة، ومنه ناشئة الليل، وعندي فيه وجه ثالث: وهو أن الإنسان إذا أقبل على العبادة والذكر في الليل المظلم في البيت المظلم في موضع لا تصير حواسه مشغولة بشيء من المحسوسات البتة، فحينئذ يقبل القلب على الخواطر الروحانية والأفكار الإلهية، وأما النهار فإن الحواس تكون مشغولة بالمحسوسات فتصير النفس مشغولة بالمحسوسات، فلا تتفرغ للأحوال الروحانية، فالمراد من ناشئة الليل تلك الواردات الروحانية
175

والخواطر النورانية، التي تنكشف في ظلمة الليل بسبب فراغ الحواس، وسماها ناشئة الليل لأنها لا تحدث إلا في الليل بسبب أن الحواس الشاغلة للنفس معطلة في الليل ومشغولة في النهار، ولم يذكر أن تلك الأشياء الناشئة منها تارة أفكار وتأملات، وتارة أنوار ومكاشفات، وتارة انفعالات نفسانية من الابتهاج بعالم القدس أو الخوف منه، أو تخيلات أحوال عجيبة، فلما كانت تلك الأمور الناشئة أجناسا كثيرة لا يجمعها جامع إلا أنها أمور ناشئة حادثة لا جرم لم يصفها إلا بأنها ناشئة الليل.
أما قوله تعالى: * (هي أشد وطئا) * أي مواطأة وملاءمة وموافقة، وهي مصدر يقال: واطأت فلانا على كذا مواطأة ووطأة ومنه * (ليواطئوا عدة ما حرم الله) * (التوبة: 37) أي ليوافقوا، فإن فسرنا الناشئة بالساعات كان المعنى أنها أشد موافقة لما يرد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بالنفس الناشئة كان المعنى شدة المواطأة بين القلب واللسان، وإن فسرناها بقيام الليل كان المعنى ما يراد من الخشوع والإخلاص، وإن فسرناها بما ذكرت كان المعنى أن إفضاء تلك المجاهدات إلى حصول المكاشفات في الليل أشد منه في النهار، وعن الحسن أشد موافقة بين السر والعلانية لانقطاع رؤية الخلائق. المسألة الثانية: قرىء: * (أشد وطئا) * بالفتح والكسر وفيه وجهان الأول: قال الفراء: أشد ثبات قدم، لأن النهار يضطرب فيه الناس ويتقلبون فيه للمعاش والثاني: أثقل وأغلظ على المصلى من صلاة النهار، وهو من قولك: اشتدت على القوم وطأة سلطانهم إذا ثقل عليهم معاملتهم معه، وفي الحديث: " اللهم أشدد وطأتك على مضر " فأعلم الله نبيه أن الثواب في قيام الليل على قدر شدة الوطأة وثقلها، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل العبادات أحمزها " أي أشقها.
واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، قال: لأنه تعالى لما أمره بقيام الليل ذكر هذه الآية، فكأنه قال: إنما أمرتك بصلاة الليل لأن موافقة القلب واللسان فيه أكمل، وأيضا الخواطر الليلية إلى المكاشفات الروحانية أتم.
قوله تعالى: * (وأقوم قيلا) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (أقوم قليلا) * قال ابن عباس: أحسن لفظا، قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات وتنقطع فيه الحركات ويخلص القول، ولا يكون دون تسمعه وتفهمه حائل.
المسألة الثانية: قرأ أنس (وأصوب قيلا)، فقيل له: يا أبا حمزة إنما هي: * (وأقوم قيلا) * فقال أنس: (إن أقوم) وأصوب وأهيأ واحد، قال ابن جني، وهذا يدل على أن القوم كانوا يعتبرون المعاني، فإذا وجدوها لم يلتفتوا إلى الألفاظ ونظيره ما روى أن أبا سوار الغنوي كان يقرأ: (فحاسوا خلال الديار) بالحاء غير المعجمة، فقيل له: إنما هو جاسوا، فقال: حاسوا وجاسوا واحد وأنا
176

أقول: يجب أن نحمل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك تفسيرا للفظ القرآن لا على أنه جعله نفس القرآن، إذ لو ذهبنا إلى ما قاله ابن جني لارتفع الاعتماد عن ألفاظ القرآن، ولجوزنا أن كل أحد عبر عن المعنى بلفظ رآه مطابقا لذلك المعنى، ثم ربما أصاب في ذلك الاعتقاد، وربما أخطأ وهذا يجر إلى الطعن في القرآن، فثبت أنه حمل ذلك على ما ذكرناه.
قوله تعالى
* (إن لك فى النهار سبحا طويلا) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال المبرد: سبحا أي تقلبا فيما يجب ولهذا سمي السابح سابحا لتقلبه بيديه ورجليه، ثم في كيفية المعنى وجهان الأول: إن لك في النهار تصرفا وتقلبا في مهماتك فلا تتفرغ لخدمة الله إلا بالليل، فلهذا السبب أمرتك بالصلاة في الليل الثاني: قال الزجاج: أي إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك في النهار فراغه فاصرفه إليه.
المسألة الثانية: قرىء * (سبخا) * بالخاء المنقطة من فوق، وهو استعارة من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه، فإن القلب في النهار يتفرغ بسبب الشواغل، وتختلف همومه بسبب الموجبات المختلفة، واعلم أنه تعالى أمر رسوله أولا بقيام الليل، ثم ذكر السبب في أنه لم خص الليل بذلك دون النهار، ثم بين أن أشرف الأعمال المأمور بها عند قيام الليل ما هو.
* (واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا) *.
وهذه الآية تدل على أنه تعالى أمر بشيئين أحدهما: الذكر، والثاني: التبتل، أما الذكر فاعلم أنه إنما قال: * (واذكر اسم ربك) * ههنا وقال في آية أخرى: * (واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية) * (الأعراف: 205) لأنه لا بد في أول الأمر من ذكر الاسم باللسان مدة ثم يزول الاسم ويبقى المسمى، فالدرجة الأولى هي المراد بقوله ههنا: * (واذكر اسم ربك) * والمرتبة الثانية هي المراد بقوله في السورة الأخرى: * (واذكر ربك في نفسك) * وإنما تكون مشتغلا بذكر الرب، إذا كنت في مقام مطالعة ربوبيته، وربوبيته عبارة عن أنواع تربيته لك وإحسانه إليك، فما دمت في هذا المقام تكون مشغول القلب بمطالعة آلائه ونعمائه فلا تكون مستغرق
القلب به، وحينئذ يزداد الترقي فتصير مشتغلا بذكر إلهيته، وإليه الإشارة بقوله: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم) * (البقرة: 200) وفي هذا المقام يكون الإنسان في مقام الهيبة والخشية، لأن الإلهية إشارة إلى القهارية والعزة والعلو والصمدية، ولا يزال العبد يرقى في هذا المقام مترددا في مقامات الجلال والتنزيه والتقديس إلى أن ينتقل منها إلى مقام الهوية الأحدية، التي كلت العبارات عن شرحها، وتقاصرت الإشارات عن الانتهاء إليها، وهناك الانتهاء إلى الواحد الحق، ثم يقف لأنه ليس هناك نظير في الصفات، حتى يحصل الانتقال من صفة إلى صفة، ولا تكون الهوية مركبة حتى
177

ينتقل نظر العقل من جزء إلى جزء، ولا مناسبة لشيء من الأحوال المدركة عن النفس حتى تعرف على سبيل المقايسة، فهي الظاهرة لأنها مبدأ ظهور كل ظاهر، وهي الباطنة لأنها فوق عقول كل المخلوقات، فسبحان من احتجب عن العقول لشدة ظهوره واختفى عنها بكمال نوره، وأما قوله تعالى: * (وتبتل إليه تبتيلا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن جميع المفسرين فسروا التبتل بالإخلاص، وأصل التبتل في اللغة القطع، وقيل لمريم البتول لأنها انقطعت إلى الله تعالى في العبادة، وصدقة بتلة منقطعة من مال صاحبها. وقال الليث: التبتيل تمييز الشيء عن الشيء، والبتول كل امرأة تنقبض من الرجال، لا رغبة لها فيهم. إذا عرفت ذلك فاعلم أن للمفسرين عبارات، قال الفراء: يقال للعابد إذا ترك كل شيء وأقبل على العبادة قد تبتل أي انقطع عن كل شيء إلى أمر الله وطاعته، وقال زيد بن أسلم التبتل رفض الدنيا مع كل ما فيها والتماس ما عند الله، واعلم أن معنى الآية فوق ما قاله هؤلاء الظاهريون لأن قوله: * (وتبتل) * أي انقطع عن كل ما سواه إليه والمشغول بطلب الآخرة غير متبتل إلى الله تعالى، بل التبتل إلى الآخرة والمشغول بعبادة الله متبتل إلى العبادة لا إلى الله، والطالب لمعرفة الله متبتل إلى معرفة الله لا إلى الله فمن آثر العبادة لنفس العبادة أو لطلب الثواب أو ليصير متعبدا كاملا بتلك العبودية للعبودية فهو متبتل إلى غير الله، ومن آثر العرفان للعرفان فهو متبتل إلى العرفان، ومن آثر العبودية لا للعبودية بل للمعبود وآثر العرفان لا للعرفان بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول، وهذا مقام لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراده فليكن من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر ولا يجد الإنسان لهذا مثالا إلا عند العشق الشديد إذا مرض البدن بسببه وانحبست القوى وعميت العينان وزالت الأغراض بالكلية وانقطعت النفس عما سوى المعشوق بالكلية، فهناك يظهر الفرق بين التبتل إلى المعشوق وبين التبتل إلى رؤية المعشوق.
المسألة الثانية: الواجب أن يقال: وتبتل إليه تبتلا أو يقال: بتل نفسك إليه تبتيلا، لكنه تعالى لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل فأما التبتيل فهو تصرف والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلا إلى الله لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعا إلى الله، إلا أنه لا بد أولا من التبتيل حتى يحصل التبتل كما قال تعالى: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * فذكر التبتل أولا إشعارا بأنه المقصود بالذات وذكر التبتيل ثانيا إشعارا بأنه لا بد منه ولكنه مقصود بالغرض. واعلم أنه تعالى لما أمره بالذكر أولا ثم بالتبتل ثانيا ذكر السبب فيه فقال تعالى:
* (رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا) *.
وفيه مسائل:
178

المسألة الأولى: اعلم أن التبتل إليه لا يحصل إلا بعد حصول المحبة، والمحبة لا تليق إلا بالله تعالى، وذلك لأن سبب المحبة إما الكمال وإما التكميل، أما الكمال فلأن الكمال محبوب لذاته إذ من المعلوم أنه يمتنع أن يكون كل شيء إنما كان محبوبا لأجل شيء آخر، وإلا لزم التسلسل، فإذا لا بد من الانتهاء إلى ما يكون محبوبا لذاته، والكمال محبوب لذاته، فإن من اعتقد أن فلانا الذي كان قبل هذا بألف سنة كان موصوفا بعلم أزيد من علم سائر الناس مال طبعه إليه وأحبه شاء أم أبى، ومن اعتقد في رستم أنه كان موصوفا بشجاعة زائدة على شجاعة سائر الناس أحبه شاء أم أبى، فعلمنا أن الكمال محبوب لذاته وكمال الكمال لله تعالى، فالله تعالى محبوب لذاته، فمن لم يحصل في قلبه محبته كان ذلك لعدم علمه بكماله، وأما التكميل فهو أن الجواد محبوب والجواد المطلق هو الله تعالى فالمحبوب المطلق هو الله تعالى، والتبتل المطلق لا يمكن أن يحصل إلا إلى الله تعالى، لأن الكمال المطلق له والتكميل المطلق منه، فوجب أن لا يكون التبتل المطلق إلا إليه، واعلم أن التبتل الحاصل إليه بسبب كونه مبدأ للتكميل مقدم على التبتل الحاصل إليه بسبب كونه كاملا في ذاته، لأن الإنسان في مبدأ السير يكون طالبا للحصة فيكون تبتله إلى الله تعالى بسبب كونه مبدأ للتكميل والإحسان، ثم في آخر السير يترقى عن طلب الحصة كما بينا من أنه يصير طالبا للمعروف لا للعرفان، فيكون تبتله في هذه الحالة بسبب كونه كاملا فقوله: * (رب المشرق والمغرب) * إشارة إلى الحالة الأولى التي هي أول درجات المتبتلين وقوله: * (لا إله إلا هو) * إشارة إلى الحالة الثانية التي هي منتهى درجات المتبتلين ومنتهى أقدام الصديقين، فسبحان من له تحت كل كلمة سر مخفي، ثم وراء هاتين الحالتين مقام آخر، وهو مقام التفويض، وهو أن يرفع الاختيار من البين، ويفوض الأمر بالكلية إليه، فإن أراد الحق به أن يجعله متبتلا رضي بالتبتل لا من حيث إنه هو، بل من حيث إنه مراد الحق، وإن أراد به عدم التبتل رضي بعدم التبتل لا من حيث إنه عدم التبتيل، بل من حيث إنه مراد الحق، وههنا آخر الدرجات، وقوله: * (فاتخذه وكيلا) * إشارة إلى هذه الحالة، فهذا ما جرى به القلم في تفسير في هذه الآية، وفي الزوايا خبايا، ومن أسرار هذه الآية بقايا * (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) * (لقمان: 27).
المسألة الثانية: * (رب) * فيه قراءتان إحداهما: الرفع، وفيه وجهان: أحدهما: على المدح، والتقدير هو رب المشرق، فيكون خبر مبتدأ محذوف، كقوله: * (بشر من ذلكم النار) * وقوله: * (متاع قليل) * (آل عمران: 197) أي تقلبهم متاع قليل والثاني: أن ترفعه بالابتداء، وخبره الجملة التي هي، * (لا إله إلا هو) *، والعائد إليه الضمير المنفصل، والقراءة الثانية: الخفض، وفيها وجهان: الأول: على البدل * (من ربك) * (المزمل: 8) والثاني: قال ابن عباس: على
القسم بإضمار حرف القسم كقولك: الله لأفعلن وجوابه: * (لا إله إلا هو) * كما تقول والله لا أحد في الدار إلا زيد، وقرأ ابن عباس * (رب المشارق والمغارب) *.
أما قوله: * (فاتخذه وكيلا) * فالمعنى أنه لما ثبت أنه لا إله إلا هو لزمك أن تتخذه وكيلا
179

وأن تفوض كل أمورك إليه، وههنا مقام عظيم، فإنه لما كانت معرفة أنه لا إله إلا هو توجب تفويض كل الأمور إليه دل هذا على أن من لا يفوض كل الأمور إليه، فإنه غير عالم بحقيقة لا إله إلا هو، وتقريره أن كل ما سواه ممكن ومحدث، وكل ممكن ومحدث، فإنه ما لم ينته إلى الواجب لذاته لم يجب، ولما كان الواجب لذاته واحدا كان جميع الممكنات مستندة إليه، منتهية إليه وهذا هو المراد من قوله: * (فاتخذه وكيلا) * وقال بعضهم: * (وكيلا) * أي كفيلا بما وعدك من النصر والإظهار.
قوله تعالى
* (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) *.
المعنى إنك لما اتخذتني وكيلا فاصبر على ما يقولون وفوض أمرهم إلي فإنني لما كنت وكيلا لك أقوم بإصلاح أمرك أحسن من قيامك بإصلاح أمور نفسك، واعلم أن مهمات العباد محصورة في أمرين كيفية معاملتهم مع الله، وكيفية معاملتهم مع الخلق، والأول أهم من الثاني، فلما ذكر تعالى في أول هذه السورة ما يتعلق بالقسم الأول أتبعه بما يتعلق بالقسم الثاني، وهو سبحانه جمع كل ما يحتاج إليه من هذا الباب في هاتين الكلمتين، وذلك لأن الإنسان إما أن يكون مخالطا للناس أو مجانبا عنهم فإن خالطهم فلا بد له من المصابرة على إيذائهم وإيحاشهم، فإنه إن كان يطمع منهم في الخير والراحة لم يجد فيقع في الغموم والأحزان، فثبت أن من أراد مخالطة مع الخلق فلا بد له من الصبر الكثير، فأما إن ترك المخالطة فذاك هو الهجر الجميل، فثبت أنه لا بد لكل إنسان من أحد هذين الأمرين، والهجر الجميل أن يجانبهم بقلبه وهواه ويخالفهم في الأفعال مع المدارة والإغضاء وترك المكافأة، ونظيره * (فأعرض عنهم وعظهم) * (النساء: 63) * (وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) * (فأعرض عم من تولى عن ذكرنا) * (النجم: 29) قال المفسرون: هذه الآية إنما نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بالأمر بالقتال، وقال آخرون: بل ذلك هو الأخذ بإذن الله فيما يكون أدعى إلى القبول فلا يرد النسخ في مثله وهذا أصح.
قوله تعالى
* (وذرنى والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا) *.
اعلم أنه إذا اهتم إنسان بمهم وكان غيره قادرا على كفاية ذلك المهم على سبيل التمام والكمال قال له: ذرني أنا وذاك أي لا حاجة مع اهتمامي بذاك إلى شيء آخر وهو كقوله: * (فذرني ومن يكذب) * (القلم: 44) وقوله: * (أولي النعمة) * بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وبالضم المسرة يقال: أنعم بك ونعمك عينا أي أسر عينك وهم صناديد قريش وكانوا أهل تنعم وترفه * (ومهلهم قليلا) * فيه وجهان أحدهما: المراد من القليل الحياة الدنيا والثاني: المراد من القليل تلك المدة القليلة الباقية إلى يوم بدر، فإن الله أهلكهم في ذلك اليوم.
180

ثم ذكر كيفية عذابهم عند الله فقال:
* (إن لدينآ أنكالا وجحيما * وطعاما ذا غصة وعذابا أليما) *.
أي إن لدينا في الآخرة ما يضاد تنعمهم في الدنيا، وذكر أمورا أربعة أولها: قوله: * (أنكالا) * واحدها نكل ونكل، قال الواحدي: النكل القيد، وقال صاحب الكشاف: النكل القيد الثقيل وثانيها: قوله: * (وجحيما) * ولا حاجة به إلى التفسير وثالثها: قوله: * (وطعاما ذا غصة) * الغصة ما يغص به الإنسان، وذلك الطعام هو الزقوم والضريع كما قال تعالى: * (ليس لهم طعام إلا من ضريع) * (الغاشية: 6) قالوا: إنه شوك كالعوسج يأخذ بالحلق يدخل ولا يخرج ورابعها: قوله: * (وعذابا أليما) * والمراد منه سائر أنواع العذاب، واعلم أنه يمكن حمل هذه المراتب الأربعة على العقوبة الروحانية، أما الأنكال فهي عبارة عن بقاء النفس في قيد التعلقات الجسمانية واللذات البدنية، فإنها في الدنيا لما اكتسبت ملكة تلك المحبة والرغبة، فبعد البدن يشتد الحنين، مع أن آلات الكسب قد بطلت فصارت تلك كالأنكال والقيود المانعة له من التخلص إلى عالم الروح والصفاء، ثم يتولد من تلك القيود الروحانية نيران روحانية، فإن شدة ميلها إلى الأحوال البدنية وعدم تمكنها من الوصول إليها، يوجب حرقة شديدة روحانية كمن تشتد رغبته في وجدان شيء، ثم إنه لا يجده فإنه يحترق قلبه عليه، فذاك هو الجحيم، ثم إنه يتجرع غصة الحرمان وألم الفراق، فذاك هو المراد من قوله: * (وطعاما ذا غصة) * ثم إنه بسبب هذه الأحوال بقي محروما عن تجلي نور الله والانخراط في سلك المقدسين، وذلك هو المراد من قوله: * (وعذابا أليما) * والتنكير في قوله: * (وعذابا) * يدل على أن هذا العذاب أشد مما تقدم وأكمل، واعلم أني لا أقول المراد بهذه الآيات هو ما ذكرته فقط، بل أقول إنها تفيد حصول المراتب الأربعة الجسمانية، وحصول المراتب الأربعة الروحانية، ولا يمتنع حمله عليهما، وإن كان اللفظ بالنسبة إلى المراتب الجسمانية حقيقة، وبالنسبة إلى المراتب الروحانية مجازا متعارفا مشهورا.
ثم إنه تعالى لما وصف العذاب، أخبر أنه متى يكون ذلك فقال تعالى:
* (يوم ترجف الارض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج: * (يوم) * منصوب بقول: * (إن لدينا أنكالا وجحيما) * (المزمل: 12) أي ننكل بالكافرين ونعذبهم يوم ترجف الأرض.
المسألة الثانية: الرجفة الزلزلة والزعزعة الشديدة، والكثيب القطعة العظيمة من الرمل تجتمع محدودبة وجمعه الكثبان، وفي كيفية الاشتقاق قولان: أحدهما: أنه من كثب الشيء
181

إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول والثاني: قال الليث: الكثيب نثر التراب أو الشيء يرمي به، والفعل اللازم انكثب ينكثب انكثابا، وسمي الكثيب كثيبا، لأن ترابه دقاق، كأنه مكثوب منثور بعضه على بعض لرخاوته، وقوله: * (مهيلا) * أي سائلا قد أسيل، يقال: تراب مهيل ومهيول أي مصبوب ومسيل الأكثر في اللغة مهيل، وهو مثل قولك مكيل ومكيول، ومدين ومديون، وذلك أن الياء تحذف منه الضمة فتسكن، والواو أيضا ساكنة، فتحذف الواو لالتقاء الساكنين ذكره الفراء والزجاج، وإذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى يفرق تركيب أجزاء الجبال وينسفها نسفا ويجعلها كالعهن المنفوش، فعند ذلك تصير كالكثيب، ثم إنه تعالى يحركها على ما قال: * (ويوم نسير الجبال) * (الكهف: 47) وقال: * (وهي تمر مر السحاب) * (النمل: 88) وقال: * (وسيرت الجبال) * (النبأ: 20) فعند ذلك تصير مهيلا، فإن قيل لم لم يقل: وكانت الجبال كثبانا مهيلة؟ قلنا: لأنها بأسرها تجتمع فتصير كثيبا واحدا مهيلا. واعلم أنه تعالى لما خوف المكذبين أولي النعمة بأهوال القيامة خوفهم بعد ذلك بأهوال الدنيا فقال تعالى:
* (إنآ أرسلنآ إليكم رسولا شاهدا عليكم كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) *.
واعلم أن الخطاب لأهل مكة والمقصود تهديدهم بالأخذ الوبيل، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم نكر الرسول ثم عرف؟ الجواب: التقدير أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه فأخذناه أخذا وبيلا، فأرسلنا إليكم أيضا رسولا فعصيتم ذلك الرسول، فلا بد وأن نأخذكم أخذا وبيلا.
السؤال الثاني: هل يمكن التمسك بهذه الآية في إثبات أن القياس حجة؟ والجواب: نعم لأن الكلام إنما ينتظم لو قسنا إحدى الصورتين على الأخرى، فإن قيل: هب أن القياس في هذه الصورة حجة، فلم قلتم: إنه في سائر الصور حجة، وحينئذ يحتاج إلى قياس سائر القياسات على هذا القياس، فيكون ذلك إثباتا للقياس بالقياس، وإنه غير جائز؟ قلنا: لا نثبت سائر القياسات بالقياس على هذه الصورة، وإلا لزم المحذور الذي ذكرتم، بل وجه التمسك هو أن نقول: لولا أنه تمهد عندهم أن الشيئين اللذين يشتركان في مناط الحكم ظنا يجب اشتراكهما في الحكم، وإلا لما أورد هذا الكلام في هذه الصورة، وذلك لأن احتمال الفرق المرجوح قائم ههنا فإن لقائل أن يقول: لعلهم إنما استوجبوا الأخذ الوبيل بخصوصية حالة العصيان في تلك الصورة وتلك الخصوصية غير موجودة ههنا، فلا يلزم حصول الأخذ الوبيل ههنا، ثم إنه تعالى مع قيام هذا الاحتمال جزم
182

بالتسوية في الحكم فهذا الجزم لا بد وأن يقال: إنه كان مسبوقا بتقرير أنه متى وقع الاشتراك في المناط الظاهر وجب الجزم بالاشتراك في الحكم، وإن مجرد احتمال الفرق بالأشياء التي لا يعلم كونها مناسبة للحكم لا يكون قادحا في تلك التسوية، فلا معنى لقولنا القياس حجة إلا هذا.
السؤال الثالث: لم ذكر في هذا الموضع قصة موسى وفرعون على التعيين دون سائر الرسل والأمم؟ الجواب: لأن أهل مكة ازدروا محمدا عليه الصلاة والسلام، واستخفوا به لأنه ولد فيهم، كما أن فرعون ازدرى موسى لأنه رباه وولد فيما بينهم وهو قوله: * (ألم نربك فينا وليدا) * (الشعراء: 18). السؤال الرابع: ما معنى كون الرسول شاهدا عليهم؟ الجواب: من وجهين الأول: أنه شاهد عليهم يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم الثاني: المراد كونه مبينا للحق في الدنيا، ومبينا لبطلان ما هم عليه من الكفر، لأن الشاهد بشهادته يبين الحق، ولذلك وصفت بأنها بينة، فلا يمتنع أن يوصف عليه الصلاة والسلام بذلك من حيث إنه بين الحق، وهذا بعيد لأن الله تعالى قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) أي عدولا خيارا * (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) فبين أنه يكون شاهدا عليهم في المستقبل، ولأن حمله على الشهادة في الآخرة حقيقة، وحمله على البيان مجاز والحقيقة أولى.
السؤال الخامس: ما معنى الوبيل؟ الجواب: فيه وجهان الأول: الوبيل: الثقيل الغليظ ومنه قولهم: صار هذا وبالا عليهم، أي أفضى به إلى غاية المكروه، ومن هذا قيل للمطر العظيم: وابل، والوبيل: العصا الضخمة الثاني: قال أبو زيد: الوبيل الذي لا يستمرأ، وماء وبيل وخيم إذا كان غير مريء وكلأ مستوبل، إذا أدت عاقبته إلى مكروه، إذا عرفت هذا فنقول قوله: * (فأخذناه أخذا وبيلا) * يعني الغرق، قاله الكلبي ومقاتل وقتادة.
ثم إنه تعالى عاد إلى تخويفهم بالقيامة مرة أخرى فقال تعالى:
* (فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا * السمآء منفطر به كان وعده مفعولا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي: في الآية تقديم وتأخير، أي فكيف تتقون يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم.
المسألة الثانية: ذكر صاحب " الكشاف " في قوله: * (يوما) * وجوها الأول: أنه مفعول به، أي فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهوله إن بقيتم على الكفر والثاني: أن يكون ظرفا أي
183

وكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة إن كفرتم في الدنيا والثالث: أن ينتصب بكفرتم على تأويل جحدتم، أي فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة، والجزاء لأن تقوى الله لا معنى لها إلا خوف عقابه.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين الأول: قوله: * (يجعل الولدان شيبا) * وفيه وجهان الأول: أنه مثل في الشدة يقال في اليوم الشديد: يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان، إذا تفاقمت على الإنسان، أسرع فيه الشيب، لأن كثرة الهموم توجب انقصار الروح إلى داخل القلب، وذلك الانقصار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية وانطفاء الحرارة الغريزية وضعفها، يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط، وذلك يوجب ابيضاض الشعر، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم، جعلوا الشيب كناية عن الشدة والمحنة، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الوالدان شيبا حقيقة، لأن إيصال الألم والخوف إلى الصبيان غير جائز يوم القيامة الثاني: يجوز أن يكون المراد وصف ذلك اليوم بالطول، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب، ولقد سألني بعض الأدباء عن قول المعري: وظلم يملأ الفودين شيبا وقال: كيف يفضل هذا التشبيه الذي في القرآن على بيت المعري؟ فقلت: من وجوه الأول: أن امتلاء الفودين من الشيب ليس بعجب، أما صيرورة الولدان شيبا فهو عجيب كأن شدة ذلك اليوم تنقلهم من سن الطفولية إلى سن الشيخوخة، من غير أن يمروا فيما بين الحالتين بسن الشباب، وهذا هو المبالغة العظيمة في وصف اليوم بالشدة وثانيها: أن امتلاء الفودين من الشيب معناه ابيضاض الشعر، وقد يبيض الشعر لعلة مع أن قوة الشباب تكون باقية فهذا ليس فيه مبالغة، وأما الآية فإنها تدل على صيرورة الولدان شيوخا في الضعف والنحافة وعدم طراوة الوجه، وذلك نهاية في شدة ذلك اليوم وثالثها: أن امتلاء الفودين من الشيب، ليس فيه مبالغة لأن جانبي الرأس موضع للرطوبات الكثيرة البلغمية، ولهذا السبب، فإن الشيب إنما يحدث أولا في الصدغين، وبعده في سائر جوانب الرأس، فحصول الشيب في الفودين ليس بمبالغة إنما المبالغة هو استيلاء الشيب على جميع أجزاء الرأس بل على جميع أجزاء البدن كما هو مذكور في الآية، والله أعلم.
النوع الثاني: من أهوال يوم القيامة قوله: * (السماء منفطر به) * وهذا وصف لليوم بالشدة أيضا، وأن السماء على عظمها وقوتها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق، ونظيره قوله: * (إذا السماء انفطرت) * (الانفطار: 1) وفيه سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يقل: منفطرة؟ الجواب من وجوه: أولها: روى أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء، إنما قال: * (السماء منفطر) * ولم يقل: منفطرة لأن مجازها مجاز السقف، تقول: هذا سماء البيت وثانيها: قال الفراء: السماء تؤنث وتذكر، وهي ههنا في وجوه التذكير
184

وأنشد شعرا:
فلو رفع السماء إليه قوما * لحقنا بالنجوم مع السحاب
وثالثها: أن تأنيث السماء ليس بحقيقي، وما كان كذلك جاز تذكيره.
قال الشاعر:
والعين بالإثمد الخيري مكحول
وقال الأعشى: فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
ورابعها: أن يكون السماء ذات انفطار فيكون من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، وأعجاز نخل منقعر، وكقولهم امرأة مرضع، أي ذات رضاع.
السؤال الثاني: ما معنى: * (منفطر به) *؟ الجواب من وجوه: أحدها: قال الفراء: المعنى منفطر فيه وثانيها: أن الباء في (به) مثلها في قولك فطرت العود بالقدوم فانفطر به، يعني أنها تنفطر لشدة ذلك اليوم وهوله، كما ينفطر الشيء بما ينفطر به وثالثها: يجوز أن يراد السماء مثقلة به إثقالا يؤدي إلى انفطارها لعظم تلك الواقعة عليها وخشيتها منها كقوله: * (ثقلت في السماوات والأرض) * (الأعراف: 187).
أما قوله: * (كان وعده مفعولا) * فاعلم أن الضمير في قوله: * (وعده) * يحتمل أن يكون عائدا إلى المفعول وأن يكون عائدا إلى الفاعل، أما الأول: فأن يكون المعنى وعد ذلك اليوم مفعول أي الوعد المضاف إلى ذلك اليوم واجب الوقوع، لأن حكمة الله تعالى وعلمه يقتضيان إيقاعه، وأما الثاني: فأن يكون المعنى وعد الله واقع لا محالة لأنه تعالى منزه عن الكذب وههنا وإن لم يجر ذكر الله تعالى ولكنه حسن عود الضمير إليه لكونه معلوما، واعلم أنه تعالى بدأ في أول السورة بشرح أحوال السعداء، ومعلوم أن أحوالهم قسمان أحدهما: ما يتعلق بالدين والطاعة للمولى فقدم ذلك والثاني: ما يتعلق بالمعاملة مع الخلق وبين ذلك بقوله: * (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) * (المزمل: 10) وأما الأشقياء فقد بدأ بتهديدهم على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى: * (وذرني والمكذبين) * (المزمل: 11) ثم ذكره بعده أنواع عذاب الآخرة ثم ذكر بعده عذاب الدنيا وهو الأخذ الوبيل في الدنيا، ثم وصف بعده شدة يوم القيامة، فعند هذا تم البيان بالكلية فلا جرم ختم ذلك الكلام بقوله:
* (إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا) *.
أي هذه الآيات تذكرات مشتملة على أنواع الهداية والإرشاد * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * واتخاذ السبيل عبارة عن الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية.
185

* (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثى اليل ونصفه وثلثه وطآئفة من الذين معك والله يقدر اليل والنهار علم ألن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرءان علم أن سيكون منكم مرضى وءاخرون يضربون فى الارض يبتغون من فضل الله وءاخرون يقاتلون فى سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *.
قوله تعالى: * (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد من قوله: * (أدنى من ثلثي الليل) * أقل منهما، وإنما استعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز وإذا بعدت كثر ذلك.
المسألة الثانية: قرىء * (ونصفه وثلثه) * بالنصب والمعنى أنك تقوم أقل من الثلثين وتقوم النصف (والثلث) وقرئ * (ونصفه وثلثه) * بالجر أي تقوم أقل من الثلثين والنصف والثلث، لكنا بينا في تفسير قوله: * (قم الليل إلا قليلا) * (المزمل: 2) أنه لا يلزم من هذا أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام كان تاركا للواجب وقوله تعالى: * (وطائفة من الذين معك) * وهم أصحابك يقومون من الليل هذا المقدار المذكور.
قوله تعالى: * (والله يقدر الليل والنهار) * يعني أن العالم بمقادير أجزاء الليل والنهار ليس إلا الله تعالى.
قوله تعالى: * (علم أن لن تحصوه) * فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الضمير في * (أن لن تحصوه) * عائد إلى مصدر مقدر أي علم أنه لا يمكنكم إحصاء مقدار كل واحد من أجزاء الليل والنهار على الحقيقة، ولا يمكنكم أيضا تحصيل تلك المقادير على سبيل الطعن والاحتياط إلا مع المشقة التامة، قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله مخافة أن لا يصيب ما أمر به من قيام ما فرض عليه.
المسألة الثانية: احتج بعضهم على تكليف مالا يطاق بأنه تعالى قال: * (لن تحصوه) * أي لن تطيقوه، ثم إنه كان قد كلفهم به، ويمكن أن يجاب عنه بأن المراد صعوبته لا أنهم لا يقدرون عليه كقول القائل: ما أطيق أن أنظر إلى فلان إذا استثقل النظر إليه.
وقوله تعالى: * (فتاب عليكم) * هو عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدر كقوله تعالى: * (فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن) * (البقرة: 187) والمعنى أنه رفع التبعة عنكم في ترك هذا العمل كما رفع التبعة عن التائب.
قوله تعالى: * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * وفيه قولان: الأول: أن المراد من هذه القراءة
186

الصلاة لأن القراءة أحد أجزاء الصلاة، فأطلق اسم الجزء على الكل، أي فصلوا ما تيسر عليكم، ثم ههنا قولان: الأول: قال الحسن: يعني في صلاة المغرب والعشاء، وقال آخرون: بل نسخ وجوب ذلك التهجد واكتفى بما تيسر منه، ثم نسخ ذلك أيضا بالصلوات الخمس القول الثاني: أن المراد من قوله: * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * قراءة القرآن بعينها والغرض منه دراسة القرآن ليحصل الأمن من النسيان قيل: يقرأ مائة آية، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين، وقيل: خمسين آية ومنهم من قال: بل السورة القصيرة كافية، لأن إسقاط التهجد إنما كان دفعا للحرج، وفي القراءة الكثيرة حرج فلا يمكن اعتبارها.
وههنا بحث آخر وهو ما روي عن ابن عباس أنه قال: سقط عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل وصارت تطوعا وبقي ذلك فرضا على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه تعالى ذكر الحكمة في هذا النسخ فقال تعالى: * (علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) *.
واعلم أن تقدير هذه الآية كأنه قيل: لم نسخ الله ذلك؟ فقال: لأنه علم كذا وكذا والمعنى لتعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله، أما المرضى فإنهم لا يمكنهم الاشتغال بالتهجد لمرضهم، وأما المسافرون والمجاهدون فهم مشتغلون في النهار بالأعمال الشاقة، فلو لم يناموا في الليل لتوالت أسباب المشقة عليهم، وهذا السبب ما كان موجودا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: * (إن لك في النهار سبحا طويلا) * (المزمل: 7) فلا جرم ما صار وجوب التهجد منسوخا في حقه.
ومن لطائف هذه الآية أنه تعالى سوى بين المجاهدين والمسافرين للكسب الحلال وعن ابن مسعود: " أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء " ثم أعاد مرة أخرى قوله: * (فاقرؤا ما تيسر منه) * وذلك للتأكيد ثم قال: * (وأقيموا الصلاة) * يعني المفروضة * (وآتوا الزكاة) * أي الواجبة وقيل: زكاة الفطر لأنه لم يكن بمكة زكاة وإنما وجبت بعد ذلك ومن فسرها بالزكاة الواجبة جعل آخر السورة مدنيا.
قوله تعالى: * (وأقرضوا الله قرضا حسنا) * فيه ثلاثة أوجه أحدها: أنه يريد سائر الصدقات
187

وثانيها: يريد أداء الزكاة على أحسن وجه، وهو إخراجها من أطيب الأموال وأكثرها نفعا للفقراء ومراعاة النية وابتغاء وجه الله والصرف إلى المستحق وثالثها: يريد كل شيء يفعل من الخير مما يتعلق بالنفس والمال.
ثم ذكر تعالى الحكمة في إعطاء المال فقال: * (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: تجدوه عند الله خيرا وأعظم أجرا من الذي تؤخره إلى وصيتك عند الموت، وقال الزجاج: وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا لكم من متاع الدنيا، والقول ما قاله ابن عباس.
المسألة الثانية: معنى الآية: وما تقدموا لأنفسكم من خير فإنكم تجدوه عند الله خيرا وأعظم أجرا إلا أنه قال: هو خيرا للتأكيد والمبالغة، وقرأ أبو السمال هو خير وأعظم أجرا بالرفع على الابتداء والخبر، ثم قال: * (واستغفروا الله) * لذنوبكم والتقصيرات الصادرة منكم خاصة في قيام الليل * (إن الله غفور) * لذنوب المؤمنين * (رحيم) * بهم، وفي الغفور قولان: أحدهما: أنه غفور لجميع الذنوب، وهو قول مقاتل والثاني: أنه غفور لمن يصر على الذنب، احتج مقاتل على قوله بوجهين
الأول: أن قوله: * (غفور رحيم) * يتناول التائب والمصر، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده عنه وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل والثاني: أن غفران التائب واجب عند الخصم ولا يحصل المدح بأداء الواجب، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقا للمدح، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي وآله وصحبه أجمعين.
188

سورة المدثر
خمسون وست آيات مكية، وعند بعضهم أنها أول ما نزل
بسم الله الحمن الرحيم
* (يا أيها المدثر) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: المدثر، أصله المتدثر، وهو الذي يتدثر بثيابه لينام، أو ليستدفئ، يقال: تدثر بثوبه، والدثار اسم لما يتدثر به، ثم أدغمت التاء في الدال لتقارب مخرجهما.
المسألة الثانية: أجمعوا على أن المدثر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في أنه عليه الصلاة والسلام لم سمي مدثرا، فمنهم من أجراه على ظاهره وهو أنه كان متدثرا بثوبه، ومنهم من ترك هذا الظاهر، أما على الوجه الأول فاختلفوا في أنه لأي سبب تدثر بثوبه على وجوه أحدها: أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن، روى جابر بن عبد الله أنه عليه الصلاة والسلام قال: " كنت على جبل حراء، فنوديت يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري، فلم أر شيئا، فنظرت فوقي، فرأيت الملك قاعدا على عرش بين السماء والأرض، فخفت ورجعت إلى خديجة، فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء باردا، فنزل جبريل عليه السلام بقوله: * (يا أيها المدثر) * " وثانيها: أن النفر الذين آذوا رسول الله، وهم أبو جهل وأبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل اجتمعوا وقالوا: إن وفود العرب يجتمعون في أيام الحج ويسألوننا عن أمر محمد، فكل واحد منا يجيب بجواب آخر، فواحد يقول: مجنون، وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، فالعرب يستدلون باختلاف الأجوبة على كون هذه الأجوبة باطلة، فتعالوا نجتمع على تسمية محمد باسم واحد، فقال واحد: إنه شاعر، فقال الوليد: سمعت كلام عبيد بن الأبرص، وكلام أمية بن أبي الصلت، وكلامه ما يشبه كلامهما، وقال آخرون كاهن، قال الوليد: ومن الكاهن؟ قالوا: الذي يصدق تارة ويكذب أخرى، قال الوليد: ما كذب محمد قط، فقال آخر: إنه مجنون فقال الوليد: ومن يكون المجنون؟ قالوا: مخيف الناس، فقال الوليد: ما أخيف بمحمد أحد قط، ثم قام الوليد وانصرف إلى بيته، فقال الناس: صبأ الوليد بن المغيرة،
189

فدخل عليه أبو جهل، وقال مالك: يا أبا عبد شمس؟ هذه قريش تجمع لك شيئا، زعموا أنك احتججت وصبأت، فقال: الوليد مالي إليه حاجة، ولكني فكرت في محمد. فقلت: إنه ساحر، لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه وبين الأخوين، وبين المرأة وزوجها، ثم إنهم أجمعوا على تلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بهذا اللقب، ثم إنهم خرجوا فصرخوا بمكة والناس مجتمعون، فقالوا: إن محمدا لساحر، فوقعت الضجة في الناس أن محمدا ساحر، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اشتد عليه، ورجع إلى بيته محزونا فتدثر بثوبه، فأنزل الله تعالى: * (يا أيها المدثر * قم فأنذر) * وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام كان نائما متدثرا بثيابه، فجاءه جبريل عليه السلام وأيقظه، وقال: * (يا أيها المدثر، قم فأنذر) * كأنه قال: له اترك التدثر بالثياب والنوم، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله له. القول الثاني: أنه ليس المراد من المدثر، المتدثر بالثياب، وعلى هذا الاحتمال فيه وجوه أحدها: أن المراد كونه متدثرا بدثار النبوة والرسالة من قولهم: ألبسه الله لباس التقوى وزينه برداء العلم، ويقال: تلبس فلان بأمر كذا، فالمراد * (يا أيها المدثر) * بدثار النبوة * (قم فأنذر) * (المدثر: 2) وثانيها: أن المتدثر بالثوب يكون كالمختفي فيه، وأنه عليه الصلاة والسلام في جبل حراء كان كالمختفي من الناس، فكأنه قيل: يا أيها المتدثر بدثار الخمول والاختفاء، قم بهذا الأمر واخرج من زاوية الخمول، واشتغل بإنذار الخلق، والدعوة إلى معرفة الحق وثالثها: أنه تعالى جعله رحمة للعالمين، فكأنه قيل له: يا أيها المدثر بأثواب العلم العظيم، والخلق الكريم، والرحمة الكاملة قم فأنذر عذاب ربك.
المسألة الثالثة: عن عكرمة أنه قرىء على لفظ اسم المفعول من دثره، كأنه قيل له: دثرت هذا الأمر وعصيت به، وقد سبق نظيره في المزمل.
* (قم فأنذر) *.
في قوله: * (قم) * وجهان أحدهما: قم من مضجعك والثاني: قم قيام عزم وتصميم، وفي قوله: * (فأنذر) * وجهان أحدهما: حذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا.
وقال ابن عباس: قم نذيرا للبشر، احتج القائلون بالقول الأول بقوله تعالى: * (وأنذر) * واحتج القائلون بالقول الثاني بقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (سبأ: 28) وههنا قول ثالث، وهو أن المراد فاشتغل بفعل الإنذار، كأنه تعالى يقول له تهيأ لهذه الحرفة، فإنه فرق بين أن يقال تعلم صنعة المناظرة، وبين أن يقال: ناظر زيدا.
* (وربك فكبر) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير التكبير وجوها أحدها: قال الكلبي: عظم ربك
190

مما يقوله عبدة الأوثان وثانيها: قال مقاتل: هو أن يقول: الله أكبر، روى أنه " لما نزلت هذه الآية قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال: الله أكبر كبيرا، فكبرت خديجة وفرحت، وعلمت أنه أوحى إليه " وثالثها: المراد منه التكبير في الصلوات، فإن قيل: هذه السورة نزلت في أول البعث وما كانت الصلاة واجبة في ذلك الوقت؟ قلنا: لا يبعد أنه كانت له عليه السلام صلوات تطوعية، فأمر أن يكبر ربه فيها ورابعها: يحتمل عندي أن يكون المراد أنه لما قيل له: * (قم فأنذر) * قيل بعد ذلك: * (وربك فكبر) * عن اللغو والعبث.
واعلم أنه ما أمرك بهذا الإنذار إلا لحكمة بالغة، ومهمات عظيمة، لا يجوز لك الإخلال بها، فقوله: * (وربك) * كالتأكيد في تقرير قوله: * (قم فأنذر) * وخامسها: عندي فيه وجه آخر وهو أنه لما أمره بالإنذار، فكأن سائلا سأل وقال: بماذا ينذر؟ فقال: أن يكبر ربه عن الشركاء والأضداد والأنداد ومشابهة الممكنات والمحدثات، ونظير قوله في سورة النحل: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * (النحل: 2) وهذا تنبيه على أن الدعوة إلى معرفة الله ومعرفة تنزيهه مقدمة على سائر أنواع الدعوات.
المسألة الثانية: الفاء في قوله: * (فكبر) * ذكروا فيه وجوها أحدها: قال أبو الفتح الموصلي: يقال: زيدا فاضرب، وعمرا فاشكر، وتقديره زيدا اضرب وعمرا اشكر، فعنده أن الفاء زائدة وثانيها: قال الزجاج: دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبر ربك وكذلك ما بعده على هذا التأويل وثالثها: قال صاحب " الكشاف ": الفاء لإفادة معنى الشرط، والتقدير: وأي شيء كان فلا تدع تكبيره.
* (وثيابك فطهر) *.
اعلم أن تفسير هذه الآية يقع على أربعة أوجه أحدها: أن يترك لفظ الثياب والتطهير على ظاهره والثاني: أن يترك لفظ الثياب على حقيقته، ويحمل لفظ التطهير على مجازه الثالث: أن يحمل لفظ الثياب على مجازه، ويترك لفظ التطهير على حقيقته والرابع: أن يحمل اللفظان على المجاز أما الاحتمال الأول: وهو أن يترك لفظ الثياب، ولفظ التطهير على حقيقته، فهو أن نقول: المراد منه أنه عليه الصلاة والسلام، أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار، وعلى هذا التقدير يظهر في الآية ثلاثة احتمالات أحدها: قال الشافعي: المقصود منه الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس وثانيها: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان المشركون ما كانوا يصونون ثيابهم عن النجاسات، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات وثالثها: روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى شاة، فشق عليه ورجع إلى
191

بيته حزينا وتدثر بثيابه، فقيل: * (يا أيها المدثر * قم فأنذر) * (المدثر: 1 - 2) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار * (وربك فكبر) * (المدثر: 3) عن أن لا ينتقم منهم * (وثيابك فطهر) * عن تلك النجاسات والقاذورات، الاحتمال الثاني: أن يبقى لفظ الثياب على حقيقته، ويجعل لفظ التطهير على مجازه، فهنا قولان: الأول: أن المراد من قوله: * (فطهر) * أي فقصر، وذلك لأن العرب كانوا يطولون ثيابهم ويجرون أذيالهم فكانت ثيابهم تتنجس، ولأن تطويل الذيل إنما يفعل للخيلاء والكبر، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك القول الثاني: * (وثيابك فطهر) * أي ينبغي أن تكون الثياب التي تلبسها مطهرة عن أن تكون مغصوبة أو محرمة، بل تكون مكتسبة من وجه حلال، الاحتمال الثالث: أن يبقى لفظ التطهير على حقيقته، ويحمل لفظ الثياب على مجازه، وذلك أن يحمل لفظ الثياب على الحقيقة وذلك لأن العرب ما كانوا يتنظفون وقت الاستنجاء، فأمر عليه الصلاة والسلام بذلك التنظيف وقد يجعل لفظ الثياب كناية عن النفس. قال عنترة:
فشككت بالرمح الأصم ثيابه (أي نفسه)
ولهذا قال: ليس الكريم على القنا بمحرم
الاحتمال الرابع: وهو أن يحمل لفظ الثياب، ولفظ التطهير على المجاز، وذكروا على هذا الاحتمال وجوها الأول: وهو قول أكثر المفسرين: وقلبك فطهر عن الصفات المذمومة وعن الحسن: * (وثيابك فطهر) * قال: وخلقك فحسن، قال القفال: وهذا يحتمل وجوها أحدها: أن الكفار لما لقبوه بالساحر شق ذلك عليه جدا، حتى رجع إلى بيته وتدثر بثيابه، وكان ذلك إظهار جزع وقلة صبر يقتضيه سوء الخلق، فقيل له: * (قم فأنذر) * (المدثر: 2) ولا تحملنك سفاهتهم على ترك إنذارهم بل حسن خلقك والثاني: أنه زجر عن التخلق بأخلاقهم، فقيل له: طهر ثيابك أي قلبك عن أخلاقهم، في الافتراء والتقول والكذب وقطع الرحم والثالث: فطهر نفسك وقلبك عن أن تعزم على الانتقام منهم والإساءة إليهم، ثم إذا فسرنا الآية بهذا الوجه، ففي كيفية اتصالها بما قبلها وجهان الأول: أن يقال: إن الله تعالى لما ناداه في أول السورة، فقال: * (يا أيها المدثر) * (المدثر: 1) وكان التدثر لباسا، والدثار من الثياب، قيل طهر ثيابك التي أنت متدثر بها عن أن تلبسها على هذا التفكر والجزع والضجر من افتراء المشركين الوجه الثاني: أن يفسر المدثر بكونه متدثرا بالنبوة، كأنه قيل: يا أيها المتدثر بالنبوة طهر ما تدثرت به عن الجزع وقلة الصبر، والغضب والحقد، فإن ذلك لا يليق بهذا الدثار، ثم أوضح ذلك بقوله: * (ولربك فاصبر) * (المدثر: 7) واعلم أن حمل المدثر على المتصف ببعض الصفات جائز، يقال: فلان طاهر الجيب نقي الذيل، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب، ويقال: فلان دنس الثياب إذا كان موصوفا بالأخلاق الذميمة، قال الشاعر: فلا أب وابنا مثل مروان وابنه * إذا هو بالمجد ارتدى وتأزرا
والسبب في حسن هذه الكناية وجهان الأول: أن الثوب كالشئ الملازم للإنسان، فلهذا
192

السبب جعلوا الثواب كناية عن الإنسان، يقال: المجد في ثوبه والعفة في إزاره والثاني: أن الغالب أن من طهر باطنه، فإنه يطهر ظاهره الوجه الثاني: في تأويل الآية
أن قوله: * (وثيابك فطهر) * أمر له بالاحتراز عن الآثام والأوزار التي كان يقدم عليها قبل النبوة، وهذا على تأويل من حمل قوله: * (ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك) * (الشرح: 2، 3) على أيام الجاهلية الوجه الثاني: في تأويل الآية قال محمد بن عرفة النحوي معناه: نساءك طهرهن، وقد يكنى عن النساء بالثياب، قال تعالى: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * (البقرة: 187) وهذا التأويل بعيد، لأن على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها.
* (والرجز فاهجر) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في الرجز وجوها الأول: قال العتبي: الرجز العذاب قال الله تعالى: * (لئن كشفت عنا الرجز) * (الأعراف: 134) أي العذاب ثم سمي كيد الشيطان رجزا لأنه سبب للعذاب، وسميت الأصنام رجزا لهذا المعنى أيضا، فعلى هذا القول تكون الآية دالة على وجوب الاحتراز عن كل المعاصي، ثم على هذا القول احتمالان أحدهما: أن قوله: * (والرجز فاهجر) * يعني كل ما يؤدي إلى الرجز فاهجره، والتقدير وذا الزجر فاهجر أي ذا العذاب فيكون المضاف محذوفا والثاني: أنه سمي إلى ما يؤدي إلى العذاب عذابا تسمية للشيء، باسم ما يجاوره ويتصل به القول الثاني: أن الرجز اسم للقبيح المستقذر وهو معنى الرجس، فقوله: * (والرجز فاهجر) * كلام جامع في مكارم الأخلاق كأنه قيل له: اهجر الجفاء والسفه وكل شيء قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز، وهذا يشاكل تأويل من فسر قوله: * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) على تحسين الخلق وتطهير النفس عن المعاصي والقبائح.
المسألة الثانية: احتج من جوز المعاصي على الأنبياء بهذه الآية، قال لولا أنه كان مشتغلا بها وإلا لما زجر عنها بقوله: * (والرجز فاهجر) * والجواب المراد منه الأمر بالمداومة على ذلك الهجران، كما أن المسلم إذا قال: اهدنا فليس معناه أنا لسنا على الهداية فاهدنا، بل المراد ثبتنا على هذه الهداية، فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم في رواية حفص والرجز بضم الراء في هذه السورة وفي سائر القرآن بكسر الراء، وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر بالكسر وقرأ يعقوب بالضم، ثم قال الفراء: هما لغتان والمعنى واحد، وفي كتاب الخليل الرجز بضم الراء عبادة الأوثان وبكسر الراء العذاب، ووسواس الشيطان أيضا رجز، وقال أبو عبيدة: أفشى اللغتين وأكثرهما الكسر.
* (ولا تمنن تستكثر) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: القراءة المشهورة تستكثر برفع الراء وفيه ثلاثة أوجه أحدها: أن
193

يكون التقدير ولا تمنن لتستكثر فتنزع اللام فيرتفع وثانيها: أن يكون التقدير لا تمنن أن تستكثر ثم تحذف أن الناصبة فتسلم الكلمة من الناصب والجازم فترتفع ويكون مجاز الكلام لا تعط لأن تستكثر وثالثها: أنه حال متوقعة أي لا تمنن مقدرا أن تستكثر قال أبو علي الفارسي: هو مثل قولك مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا للصيد فكذا ههنا المعنى مقدرا الاستكثار، قال: ويجوز أن يحكي به حالا أتية، إذا عرفت هذا فنقول، ذكروا في تفسير الآية وجوها أحدها: أنه تعالى أمره قبل هذه الآية، بأربعة أشياء: إنذار القوم، وتكبير الرب، وتطهير الثياب، وهجر الرجز، ثم قال: * (ولا تمنن تستكثر) * أي لا تمنن على ربك بهذه الأعمال الشاقة، كالمستكثر لما تفعله، بل اصبر على ذلك كله لوجه ربك متقربا بذلك إليه غير ممتن به عليه. قال الحسن، لا تمنن على ربك بحسناتك فتستكثرها وثانيها: لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين، والوحي كالمستكثر لذلك الإنعام، فإنك إنما فعلت ذلك بأمر الله، فلا منة لك عليهم، ولهذا قال: * (ولربك فاصبر) * (المدثر: 7)، وثالثها: لا تمنن عليهم بنبوتك لتستكثر، أي لتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به مالك ورابعها: لا تمنن أي لا تضعف من قولهم: حبل منين أي ضعيف، يقال: منه السير أي أضعفه. والتقدير فلا تضعف أن تستكثر من هذه الطاعات الأربعة التي أمرت بها قبل هذه الآية، ومن ذهب إلى هذا قال: هو مثل قوله: * (أفغير الله تأمروني أعبد) * (الزمر: 64) أي أن أعبد فحذفت أن وذكر الفراء أن في قراءة عبد الله (ولا تمتن تستكثر) وهذا يشهد لهذا التأويل، وهذا القول اختيار مجاهد وخامسها: وهو قول أكثر المفسرين أن معنى قوله: * (ولا تمنن) * أي لا تعط يقال: مننت فلانا كذا أي أعطيته، قال: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * (ص: 39) أي فأعط، أو أمسك وأصله أن من أعطى فقد من، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة، فالمعنى ولا تعط مالك لأجل أن تأخذ أكثر منه، وعلى هذا التأويل سؤالات: السؤال الأول: ما الحكمة في أن الله تعالى منعه من هذا العمل؟ الجواب: الحكمة فيه من وجوه الأول: لأجل أن تكون عطاياه لأجل الله لا لأجل طلب الدنيا، فإنه نهى عن طلب الدنيا في قوله: * (ولا تمدن عينيك) * (الحجر: 88) وذلك لأن طلب الدنيا لا بد وأن تكون الدنيا عنده عزيزة، ومن كان كذلك لم يصلح لأداء الرسالة الثاني: أن من أعطى غيره القليل من الدنيا ليأخذ الكثير لا بد وأن يتواضع لذلك الغير ويتضرع له، وذلك لا يليق بمنصب النبوة، لأنه يوجب دناءة الآخذ، ولهذا السبب حرمت الصدقات عليه، وتنفير المأخوذ منه، ولهذا قال: * (أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون) * (الطور: 40).
السؤال الثاني: هذا النهي مختص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أم يتناول الأمة؟ الجواب: ظاهر اللفظ لا يفيد العموم وقرينة الحال لا تقتضي العموم لأنه عليه الصلاة والسلام إنما نهى عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة، وهذا المعنى غير موجود في الأمة، ومن الناس من قال
194

هذا المعنى في حق الأمة هو الرياء، والله تعالى منع الكل من ذلك.
السؤال الثالث: بتقدير أن يكون هذا النهي مختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو نهي تحريم أو نهي تنزيه؟ والجواب: ظاهر النهي للتحريم الوجه السادس: في تأويل الآية قال القفال: يحتمل أن يكون المقصد من الآية أن يحرم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي لأحد شيئا لطلب عوض سواء كان ذلك العوض زائدا أو ناقصا أو
مساويا، ويكون معنى قوله: * (تستكثر) * أي طالبا للكثرة كارها أن ينقص المال بسبب العطاء، فيكون الاستكثار ههنا عبارة عن طلب العوض كيف كان، وإنما حسنت هذه الاستعارة لأن الغالب أن الثواب يكون زائدا على العطاء، فسمى طلب الثواب استكثارا حملا للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها فسمي الولد ربيبا، ثم اتسع الأمر فسمي ربيبا وإن كان حين تتزوج أمه كبيرا، ومن ذهب إلى هذا القول قال: السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى الله عليه وسلم خاليا عن انتظار العوض والتفات الناس إليه، فيكون ذلك خالصا مخلصا لوجه الله تعالى الوجه السابع: أن يكون المعنى ولا تمنن على الناس بما تنعم عليهم وتعطيهم استكثارا منك لتلك العطية، بل ينبغي أن تستقلها وتستحقرها وتكون كالمتعذر من ذلك المنعم عليه في ذلك الإنعام، فإن الدنيا بأسرها قليلة، فكيف ذلك القدر الذي هو قليل في غاية القلة بالنسبة إلى الدنيا، وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة كالمرتبة فالوجه الأول: معناه كونه عليه الصلاة والسلام ممنوعا من طلب الزيادة في العوض والوجه الثاني: معناه كونه ممنوعا عن طلب مطلق العوض زائدا كان أو مساويا أو ناقصا والوجه الثالث: معناه أن يعطي وينسب نفسه إلى التقصير ويجعل نفسه تحت منة المنعم عليه حيث قبل منه ذلك الإنعام الوجه الثامن: معناه إذا أعطيت شيئا فلا ينبغي أن تمن عليه بسبب أنك تستكثر تلك العطية، فإن المن محبط لثواب العمل، قال تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رثاء الناس) * (البقرة: 264).
المسألة الثانية: قرأ الحسن: * (تستكثر) * بالجزم وأكثر المحققين أبوا هذه القراءة، ومنهم من قبلها وذكروا في صحتها ثلاثة أوجه: أحدها: كأنه قيل: لا تمنن لا تستكثر وثانيها: أن يكون أراد تستكثر فأسكن الراء لثقل الضمة مع كثرة الحركات، كما حكاه أبو زيد في قوله تعالى: * (بلى ورسلنا لديهم يكتبون) * بإسكان اللام وثالثها: أن يعتبر حال الوقف، وقرأ الأعمش: * (تستكثر) * بالنصب بإضمار أن كقوله: ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى * (وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي)
ويؤيده قراءة ابن مسعود: ولا تمنن أن تستكثر.
* (ولربك فاصبر) *.
فيه وجوه: أحدها: إذا أعطيت المال فاصبر على ترك
195

المن والاستكثار أي أترك هذا الأمر لأجل مرضاة ربك وثانيها: إذا أعطيت المال فلا تطلب العوض، وليكن هذا الترك لأجل ربك وثالثها: أنا أمرناك في أول هذه السورة بأشياء ونهيناك عن أشياء فاشتغل بتلك الأفعال والتروك لأجل أمر ربك، فكأن ما قبل هذه الآية تكاليف بالأفعال والتروك، وفي هذه الآية بين ما لأجله يجب أن يؤتى بتلك الأفعال والتروك وهو طلب رضا الرب ورابعها: أنا ذكرنا أن الكفار لما اجتمعوا وبحثوا عن حال محمد صلى الله عليه وسلم قام الوليد ودخل داره فقال القوم: إن الوليد قد صبأ فدخل عليه أبو جهل، وقال: إن قريشا جمعوا لك مالا حتى لا تترك دين آبائك، فهو لأجل ذلك المال بقي على كفره، فقيل لمحمد: إنه بقي على دينه الباطل لأجل المال، وأما أنت فاصبر على دينك الحق لأجل رضا الحق لا لشيء غيره وخامسها: أن هذا تعريض بالمشركين كأنه قيل له: * (وربك فكبر) * (المدثر: 3) لا الأوثان * (وثيابك فطهر) * (المدثر: 4) ولا تكن كالمشركين نجس البدن والثياب * (والرجز فاهجر) * (المدثر: 5) ولا تقربه كما تقربه الكفار * (ولا تمنن تستكثر) * (المدثر: 6) كما أراد الكفار أن يعطوا الوليد قدرا من المال وكانوا يستكثرون ذلك القليل * (ولربك فاصبر) * على هذه الطاعات لا للأغراض العاجلة من المال والجاه.
* (فإذا نقر فى الناقور) *.
اعلم أنه تعالى لما تمم ما يتعلق بإرشاد قدوة الأنبياء وهو محمد صلى الله عليه وسلم، عدل عنه إلى شرح وعيد الأشقياء وهو هذه الآية، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: الفاء في قوله: * (فإذا نقر) * للسبب كأنه قال: * (اصبر على أذاهم) * فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم، وتلقى أنت عاقبة صبرك عليه. المسألة الثانية: اختلفوا في أن الوقت الذي ينقر في الناقور، أهو النفخة الأولى أم النفخة الثانية؟ فالقول الأول: أنه هو النفخة الأولى، قال الحليمي في كتاب المنهاج: أنه تعالى سمى الصور باسمين أحدهما الصور والآخر الناقور، وقول المفسرين: إن الناقور هو الصور، ثم لا شك أن الصور وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معا، فإن نفخة الإصعاق تخالف نفخة الإحياء، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها، وأنها تجمع في تلك الثقب في النفخة الثانية، فيخرج عند النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه فيعود الجسد حيا بإذن الله تعالى، فيحتمل أن يكون الصور محتويا على آلتين ينقر في إحداهما وينفخ في الأخرى فإذا نفخ فيه للإصعاق، جمع بين النقر والنفخ، لتكون الصيحة أهد وأعظم، وإذا نفخ فيه للإحياء لم ينقر فيه، واقتصر على النفخ، لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها لا تنقيرها من أجسادها، والنفخة الأولى للتنقير، وهو نظير صوت الرعد، فإنه إذا اشتد فربما مات سامعه، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت، هذا آخر كلام الحليمي رحمه الله
196

ولى فيه إشكال، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق، وذلك اليوم غير شديد على الكافرين، لأنهم يموتون في تلك الساعة إنما اليوم الشديد على الكافرين عند صيحة الإحياء، ولذلك يقولون: يا ليتها كانت القاضية، أي يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى والقول الثاني: إنه النفخة الثانية، وذلك لأن الناقور هو الذي ينقر فيه، أي ينكت، فيجوز أنه إذا أريد أن ينفخ في المرة الثانية، نقر أولا، فسمى ناقورا لهذا المعنى، وأقول في هذا اللفظ بحث وهو أن الناقور فاعول من النقر، كالهاضوم ما يهضم به، والحاطوم ما يحطم به، فكان ينبغي أن يكون الناقور ما ينقر به لا ما ينقر فيه.
المسألة الثالثة: العامل في قوله: * (فإذا نقر) * هو المعنى الذي دل عليه قوله: * (يوم عسير) * (المدثر: 9) والتقدير إذا نقر في الناقور عسر الأمر وصعب.
* (فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير) *.
فيه مسائل.
المسألة الأولى: قوله فذلك إشارة إلى اليوم الذي ينقر فيه في الناقور، والتقدير فذلك اليوم * (يوم عسير) *، وأما * (يومئذ) * ففيه وجوه: الأول: أن يكون تفسيرا لقوله: * (فذلك) * لأن قوله: * (فذلك) * يحتمل أن يكون إشارة إلى النقر، وأن يكون إشارة إلى اليوم المضاف إلى النقر، فكأنه قال: فذلك أعني اليوم المضاف إلى النقر * (يوم عسير) * فيكون * (يومئذ) * في محل النصب والثاني: أن يكون * (يومئذ) * مرفوع المحل بدلا من ذلك * (ويوم عسير) * خبر كأنه قيل: فيوم النقر * (يوم عسير) * فعلى هذا يومئذ في محل الرفع لكونه بدلا من ذلك إلا أنه لما أضيف اليوم إلى إذ وهو غير متمكن بني على الفتح الثالث: أن تقدير الآية فذلك النقر يومئذ نقر * (يوم عسير) * على أن يكون العامل في * (يومئذ) * هو النقر.
المسألة الثانية: عسر ذلك اليوم على الكافرين لأنهم يناقشون في الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم وتسود وجوههم ويحشرون زرقا وتتكلم جوارحهم فيفتضحون على رؤوس الأشهاد وأما المؤمنون فإنه عليهم يسير لأنهم لا يناقشون في الحساب ويحشرون بيض الوجوه ثقال الموازين، ويحتمل أن يكون إنما وصفه الله تعالى بالعسر لأنه في نفسه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين على ما روى أن الأنبياء يومئذ يفزعون، وأن الولدان يشيبون إلا أنه يكون هول الكفار فيه أشد، فعلى القول الأول لا يحسن الوقف على قوله: * (يوم عسير) * فإن المعنى أنه: على الكافرين عسير وغير يسير، وعلى القول الثاني يحسب الوقف لأن المعنى أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر مخصوص فيه بزيادة خاصة وهو أنه عليه غير يسير، فإن قيل: فما فائدة قوله: * (غير يسير) * وعسير مغن عنه؟ الجواب: أما على القول الأول: فالتكرير للتأكيد كما
197

تقول أنا لك محب غير مبغض وولي غير عدو، وأما على القول الثاني: فقوله: * (عسير) * يفيد أصل العسر الشامل للمؤمنين والكافرين وقوله: * (غير يسير) * يفيد الزيادة التي يختص بها الكافر لأن العسر قد يكون عسرا، قليلا يسيرا، وقد يكون عسرا كثيرا فأثبت أصل العسر للكل وأثبت العسر بصفة الكثرة والقوة للكافرين.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس: لما قال إنه غير يسير على الكافرين، كان يسيرا على المؤمنين فبعض من قال بدليل الخطاب قال لولا أن دليل الخطاب حجة وإلا لما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافر كونه يسيرا على المؤمن.
قوله تعالى
* (ذرنى ومن خلقت وحيدا) *.
أجمعوا على أن المراد ههنا الوليد بن المغيرة، وفي نصب قوله وحيدا وجوه الأول: أنه نصب على الحال، ثم يحتمل أن يكون حالا من الخالق وأن يكون حالا من المخلوق، وكونه حالا من الخالق على وجهين الأول: ذرني وحدي معه فإني كاف في الانتقام منه والثاني: خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد، وأما كونه حالا من المخلوق، فعلى معنى أني خلقته حال ما كان وحيدا فريدا لا مال له، ولا ولد كقوله: * (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) * (الأنعام: 94)، القول الثاني: أنه نصب على الذم، وذلك لأن الآية نزلت في الوليد وكان يلقب بالوحيد، وكان يقول أنا الوحيد بن الوحيد، ليس لي في العرب نظير، ولا لأبي نظير. فالمراد * (ذرني ومن خلقت) * أعني وحيدا. وطعن كثير من المتأخرين في هذا الوجه، وقالوا: لا يجوز أن يصدقه الله في دعواه أنه وحيد لا نظير له، وهذا السؤال ذكره الواحدي وصاحب الكشاف، وهو ضعيف من وجوه الأول: أنا لما جعلنا الوحيد اسم علم فقد زال السؤال لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة بل هو قائم مقام الإشارة الثاني: لم لا يجوز أن يحمل على كونه وحيدا في ظنه واعتقاده؟ ونظيره قوله تعالى: * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) الثالث: أن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف، بل هو كان يدعى لنفسه أنه وحيد في هذه الأمور. فيمكن أن يقال: أنت وحيد لكن في الكفر والخبث والدناءة القول الثالث: أن وحيدا مفعول ثان لخلق، قال أبو سعيد الضرير: الوحيد الذي لا أب له، وهو إشارة إلى الطعن في نسبه كما في قوله: * (عتل بعد ذلك زنيم) * (القلم: 13).
قوله تعالى
* (وجعلت له مالا ممدودا) *.
في تفسير المال الممدود وجوه الأول: المال الذي يكون له مدد يأتي من الجزء بعد الجزء على الدوام، فلذلك فسره عمر بن الخطاب بغلة شهر شهر وثانيها: أنه المال الذي يمد بالزيادة، كالضرع والزرع وأنواع التجارات وثالثها: أنه المال الذي امتد مكانه، قال ابن عباس: كان ماله ممدودا ما بين مكة إلى الطائف (من) الإبل والخيل والغنم
198

والبساتين الكثيرة بالطائف والأشجار والأنهار والنقد الكثير، وقال مقاتل: كان له بستان لا ينقطع نفعه شتاء ولا صيفا، فالممدود هنا كما في قوله: * (وظل ممدود) * (الواقعة: 30) أي لا ينقطع ورابعها: أنه المال الكثير وذلك لأن المال الكثير إذا عدد فإنه يمتد تعديده، ومن المفسرين من قدر المال الممدود فقال بعضهم: ألف دينار، وقال آخرون: أربعة آلاف وقال آخرون: ألف ألف، وهذه التحكمات مما لا يميل إليها الطبع السليم.
* (وبنين شهودا) *.
فيه وجهان الأول: بنين حضورا معه بمكة لا يفارقونه البتة لأنهم كانوا أغنياء فما كانوا محتاجين إلى مفارقته لطلب كسب ومعيشة وكان هو مستأنسا بهم طيب القلب بسبب حضورهم والثاني: يجوز أن يكون المراد من كونهم شهودا أنهم رجال يشهدون معه المجامع والمحافل وعن مجاهد: كانوا عشرة، وقيل: سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة خالد وعمارة وهشام.
* (ومهدت له تمهيدا) *.
أي وبسطت له الجاه العريض والرياسة في قومه فأتممت عليه نعمتي المال والجاه، واجتماعهما هو الكمال عند أهل الدنيا، ولهذا المعنى يدعى بهذا فيقال أدام الله تمهيده أي بسطته وتصرفه في الأمور، ومن المفسرين من جعل هذا التمهيد البسطة في العيش وطول العمر، وكان الوليد من أكابر قريش ولذلك لقب الوحيد وريحانة قريش.
* (ثم يطمع أن أزيد) *.
لفظ ثم ههنا معناه التعجب كما تقول لصاحبك: أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني، ونظيره قوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * (الأنعام: 1) فمعنى (ثم) ههنا للإنكار والتعجب ثم تلك الزيادة التي كان يطمع فيها هل هي زيادة في الدنيا أو في الآخرة؟ فيه قولان الأول: قال الكلبي ومقاتل: ثم يرجو أن أزيد في ماله وولده وقد كفر بي الثاني: أن تلك الزيادة في الآخرة قيل: إنه كان يقول إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي، ونظيره قوله تعالى: * (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا) * (مريم: 77).
* (كلا إنه كان لاياتنا عنيدا) *.
ثم قال تعالى: * (كلا) * وهو ردع له عن ذلك الطمع الفاسد قال المفسرون ولم يزل الوليد في نقصان بعد قوله: * (كلا) * حتى افتقر ومات فقيرا.
قوله تعالى: * (إنه كان لآياتنا عنيدا) * إنه تعليل للردع على وجه الاستئناف كأن قائلا قال: لم لا يزاد؟ فقيل: لأنه كان لآياتنا عنيدا والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير، وفي
199

هذه الآية إشارة إلى أمور كثيرة من صفاته أحدها: أنه كان معاندا في جميع الدلائل الدالة على التوحيد والعدل والقدرة وصحة النبوة وصحة البعث، وكان هو منازعا في الكل منكرا للكل وثانيها: أن كفره كان كفر عناد كان يعرف هذه الأشياء بقلبه إلا أنه كان ينكرها بلسانه وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر وثالثها: أن قوله: * (إنه كان لآياتنا عنيدا) * يدل على أنه من قديم الزمان كان على هذه الحرفة والصنعة ورابعها: أن قوله: * (إنه كان لآياتنا عنيدا) * يفيد أن تلك المعاندة كانت منه مختصة بآيات الله تعالى وبيناته، فإن تقديره: إنه كان لآياتنا عنيدا لا لآيات غيرنا، فتخصيصه هذا العناد بآيات الله مع كونه تاركا للعناد في سائر الأشياء يدل على غاية الخسران.
قوله تعالى
* (سأرهقه صعودا) *.
أي سأكلفه صعودا وفي الصعود قولان: الأول: أنه مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق مثل قوله: * (يسلكه عذابا صعدا) * (الجن: 17) وصعود من قولهم: عقبة صعود وكدود شاقة المصعد والثاني: أن صعودا اسم لعقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت، وعنه عليه الصلاة والسلام: " الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي كذلك فيه أبدا ".
ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده فقال:
* (إنه فكر وقدر) *.
يقال: فكر في الأمر وتفكر إذا نظر فيه وتدبر، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه وهو المراد من قوله: * (فقدر) *.
ثم قال تعالى:
* (فقتل كيف قدر) *.
وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام، ومثله قولهم: قتله الله ما أشجعه، وأخزاه الله ما أشعره، ومعناه. أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، وإذا عرفت ذلك فنقول إنه يحتمل ههنا وجهين أحدهما: أنه تعجيب من قوة خاطره، يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد عليه السلام بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل والثاني: الثناء عليه على طريقة الاستهزاء، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.
ثم قال:
* (ثم قتل كيف قدر) *.
والمقصود من كلمه، ثم ههنا الدلالة على أن الدعاء عليه في الكرة الثانية أبلغ من الأولى.
ثم قال:
* (ثم نظر) *.
والمعنى أنه أولا: فكر وثانيا: قدر وثالثا: نظر في ذلك المقدر، فالنظر السابق للاستخراج، والنظر اللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط. فهذه المراتب الثلاثة متعلقة بأحوال قلبه.
200

ثم إنه تعالى وصف بعد ذلك أحوال وجهه، فقال:
* (ثم عبس وبسر) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله: * (عبس وبسر) * يدل على أنه كان عارفا في قلبه صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه كان يكفر به عنادا، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه بعد أن تفكر وتأمل قدر في نفسه كلاما عزم على أنه يظهره ظهرت العبوسة في وجهه ولو كان معتقدا صحة ذلك الكلام لفرح باستنباطه وإدراكه، ولكنه لما لم يفرح به علمنا أنه كان يعلم ضعف تلك الشبهة، إلا أنه لشدة عناده ما كان يجد شبهة أجود من تلك الشبهة، فلهذا السبب ظهرت العبوسة في وجهه الثاني: ما روي أن الوليد مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ حم السجدة فلما وصل إلى قوله: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت: 13) أنشده الوليد بالله وبالرحم أن يسكت، وهذا يدل على أنه كان يعلم أنه مقبول الدعاء صادق اللهجة، ولما رجع الوليد قال لهم: والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، فقالت قريش: صبأ الوليد ولو صبأ لتصبأن قريش كلها. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه، ثم دخل عليه محزونا فقال مالك: يا ابن الأخ؟ فقال: إنك قد صبوت لتصيب من طعام محمد وأصحابه وهذه قريش تجمع لك مالا ليكون ذلك عوضا مما تقدر أن تأخذ من أصحاب محمد، فقال: والله ما يشبعون فكيف أقدر أن آخذ منهم مالا، ولكني تفكرت في أمره كثيرة فلم أجد شيئا يليق به إلا أنه ساحر، فأقول استعظامه للقرآن واعترافه بأنه ليس من كلام الجن والإنس يدل على أنه كان في ادعاء السحر معاندا لأن السحر يتعلق بالجن والثالث: أنه كان يعلم أن أمر السحر مبني على الكفر بالله، والأفعال المنكرة، وكان من الظاهر أن محمدا لا يدعو إلا إلى الله، فكيف يليق به السحر؟ فثبت بمجموع هذه الوجوه أنه إنما * (عبس وبسر) * لأنه كان يعلم أن الذي يقوله كذب وبهتان.
المسألة الثانية: قال الليث: عبس يعبس فهو عابس إذا قطب ما بين عينيه، فإن أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل: كلح، فإن اهتم لذلك وفكر فيه قيل: بسر، فإن غضب مع ذلك قيل: بسل.
* (ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذآ إلا سحر يؤثر) *.
أدبر عن سائر الناس إلى أهله واستكبر أي تعظم عن الإيمان فقال: * (إن هذا إلا سحر يؤثر) * وإنما ذكره بفاء التعقيب ليعلم أنه لما ولى واستكبر ذكر هذه الشبهة، وفي قوله: * (يؤثر) * وجهان الأول: أنه من قولهم أثرت الحديث آثره أثرا إذا حدثت به عن قوم في آثارهم، أي بعدما ماتوا هذا هو الأصل، ثم صار بمعنى
201

الرواية عمن كان والثاني: يؤثر على جميع السحر، وعلى هذا يكون هو من الإيثار.
ثم قال: * (إن هذآ إلا قول البشر) *.
والمعنى أن هذا قول البشر، ينسب ذلك إلى أنه ملتقط من كلام غيره، ولو كان الأمر كما قال لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.
واعلم أن هذا الكلام يدل على أن الوليد إنما كان يقول هذا الكلام عنادا منه، لأنه روي عنه أنه لما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (حم السجدة) وخرج من عند الرسول عليه السلام قال: سمعت من محمد كلاما ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له الحلاوة وإن عليه لطلاوة وأنه يعلو ولا يعلى عليه، فلما أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن الذي قاله ههنا من أنه قول البشر، إنما ذكره على سبيل العناد والتمرد لا على سبيل الاعتقاد.
ثم قال:
* (سأصليه سقر) *.
قال ابن عباس: * (سقر) * اسم للطبقة السادسة من جهنم، ولذلك لا ينصرف للتعريف والتأنيث.
ثم قال:
* (ومآ أدراك ما سقر) *.
الغرض التهويل. ثم قال:
* (لا تبقى ولا تذر) *.
واختلفوا فمنهم من قال: هما لفظان مترادفان معناهما واحد، والغرض من التكرير التأكيد والمبالغة كما يقال: صد عني وأعرض عني. ومنهم من قال: لا بد من الفرق، ثم ذكروا وجوها أحدها: أنها لا تبقي من الدم واللحم والعظم شيئا فإذا أعيدوا خلقا جديدا فلا تذر أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت، وهكذا أبدا، وهذا رواية عطاء عن ابن عباس وثانيها: لا تبقي من المستحقين للعذاب إلا عذبتهم، ثم لا تذر من أبدان أولئك المعذبين شيئا إلا أحرقته وثالثها: لا تبقي من أبدان المعذبين شيئا، ثم إن تلك النيران لا تذر من قوتها وشدتها شيئا إلا وتستعمل تلك القوة والشدة في تعذيبهم.
ثم قال:
* (لواحة للبشر) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في اللواحة قولان: الأول: قال الليث: لاحه العطش ولوحه إذا غيره، فاللواحة هي المغيرة. قال الفراء: تسود البشرة بإحراقها والقول الثاني: وهو قول الحسن والأصك: أن معنى اللواحة أنها تلوح للبشر من مسيرة خمسمائة عام، وهو كقوله: * (وبرزت الجحيم لمن يرى) * (النازعات: 36) ولواحة على
هذا القول: من لاح الشيء يلوح إذا لمع نحو البرق، وطعن القائلون بهذا الوجه في الوجه الأول، وقالوا: إنه لا يجوز أن يصفها بتسويد البشرة مع قوله إنها: * (لا تبقي ولا تذر) * (المدثر: 28).
202

المسألة الثانية: قرىء: * (لواحة) * نصبا على الاختصاص للتهويل.
ثم قال:
* (عليها تسعة عشر) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المعنى أنه يلي أمر تلك النار، ويتسلط على أهلها تسعة عشر ملكا، وقيل: تسعة عشر صنفا، وقيل: تسعة عشر صفا. وحكى الواحدي عن المفسرين: أن خزنة النار تسعة عشر مالك، ومعه ثمانية عشر أعينهم كالبرق، وأنيابهم كالصياصي، وأشعارهم تمس أقدامهم، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، نزعت منهم الرأفة والرحمة، يأخذ أحدهم سبعين ألفا في كفه ويرميهم حيث أراد من جهنم.
المسألة الثانية: ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها أحدها: وهو الوجه الذي تقوله أرباب الحكمة. أن سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية، والعملية هو القوى الحيوانية والطبيعية. أما القوى الحيوانية فهي: الخمسة الظاهرة، والخمسة الباطنة، والشهوة والغضب، ومجموعهما اثنتا عشرة. وأما القوى الطبيعة فهي: الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة، وهذه سبعة، فالمجموع تسعة عشر، فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسعة عشر، لا جرم كان عدد الزبانية هكذا وثانيها: أن أبواب جهنم سبعة، فستة منها للكفار، وواحد للفساق، ثم إن الكفار يدخلون النار لأمور ثلاثة: ترك الاعتقاد وترك الإقرار وترك العمل، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة والمجموع ثمانية عشر، وأما باب الفساق فليس هناك زبانية بسبب ترك الاعتقاد ولا بسبب ترك القول، بل ليس إلا بسبب ترك العمل، فلا يكون على بابهم إلا زبانية واحدة فالمجموع تسعة عشر وثالثها: أن الساعات أربعة وعشرون خمسة منها مشغولة بالصلوات الخمس فيبقى منها تسعة عشر مشغولة بغير العبادة، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر.
المسألة الثالثة: قراءة أبي جعفر ويزيد وطلحة بن سليمان * (عليها تسعة عشر) * على تقطيع فاعلان، قال ابن جني في المحتسب: والسبب أن الاسمين كاسم واحد، فكثرت الحركات، فأسكن أول الثاني للتخفيف، وجعل ذلك أمارة القوة اتصال أحد الإسمين بصاحبه، وقرأ أنس بن مالك * (تسعة عشر) * قال أبو حاتم: هذه القراءة لا تعرف لها وجها، إلا أن يعني: تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن، وعلى هذا يكون المجموع تسعين.
* (وما جعلنآ أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين ءامنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين فى قلوبهم مرض والكافرون ماذآ أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشآء ويهدى من يشآء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هى إلا ذكرى للبشر) *.
قوله تعالى: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * روي أنه لما نزل قوله تعالى: * (عليها تسعة عشر) * (المدثر: 30) قال أبو جهل: لقريش ثكلتكم أمهاتكم، قال ابن أبي كبشة: إن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الجمع
203

العظيم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم! فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين! فلما قال أبو جهل وأبو الأشد ذلك، قال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالحدادين! فجرى هذا مثلا في كل شيئين لا يسوى بينهما، والمعنى لا تقاس الملائكة بالسجانين والحداد، السجان الذي يحبس النار، فأنزل الله تعالى: * (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة) * واعلم أنه تعالى إنما جعلهم ملائكة لوجوه أحدها: ليكونوا بخلاف جنس المعذبين، لأن الجنسية مظنة الرأفة والرحمة، ولذلك بعث الرسول المبعوث إلينا من جنسنا ليكون له رأفة ورحمة بنا وثانيها: أنهم أبعد الخلق عن معصية الله تعالى وأقواهم على الطاعات الشاقة وثالثها: أن قوتهم أعظم من قوة الجن والإنس، فإن قيل: ثبت في الأخبار، أن الملائكة مخلوقون من النور، والمخلوق من النور كيف يطيق المكث في النار؟ قلنا: مدار القول في إثبات القيامة على كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، فكما أنه لا استبعاد في أن يبقى الحي في مثل ذلك العذاب الشديد أبد الآباد ولا يموت، فكذا لا استبعاد في بقاء الملائكة هناك من غير ألم.
ثم قال تعالى: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا العدد إنما صار سببا لفتنة الكفار من وجهين الأول: أن الكفار يستهزئون، يقولون: لم لم يكونوا عشرين، وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود؟ الثاني: أن الكفار يقولون هذا العدد القليل كيف يكونون وافين بتعذيب أكثر خلق العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله إلى قيام القيامة؟ وأما أهل الإيمان فلا يلتفتون إلى هذين السؤالين.
أما السؤال الأول: فلأن جملة العالم متناهية، فلا بد وأن يكون للجواهر الفردة التي منها تألفت جملة هذا العالم عدد معين، وعند ذلك يجيء ذلك السؤال، وهو أنه لم خصص ذلك العدد بالإيجاد، ولم يزد على ذلك العدد جوهر آخر ولم ينقص، وكذا القول في إيجاد العالم، فإنه لما كان العالم محدثا والإله قديما، فقد تأخر العالم عن الصانع بتقدير مدة غير متناهية، فلم لم يحدث
204

العالم قبل أن حدث بتقدير لحظة أو بعد أن وجد بتقدير لحظة؟ وكذا القول في تقدير كل واحد من المحدثات بزمانه المعين، وكل واحد من الأجسام بأجزائه المحدودة المعدودة، ولا جواب عن شيء من ذلك إلا بأنه قادر مختار، والمختار له أن يرجح الشيء على مثله من غير علة، وإذا كان هذا الجواب هو المعتمد في خلق جملة العالم، فكذا في تخصيص زبانية النار بهذا العدد.
وأما السؤال الثاني: فضعيف أيضا، لأنه لا يبعد في قدرة الله تعالى أن يعطي هذا العدد من القدرة والقوة ما يصيرون به قادرين على تعذيب جملة الخلق، ومتمكنين من ذلك من غير خلل، وبالجملة فمدار هذين السؤالين على القدح في كمال قدرة الله، فأما من اعترف بكونه تعالى قادرا على مالا نهاية له من المقدورات، وعلم أنه أحوال القيامة على خلاف أحوال الدنيا زال عن قلبه هذه الاستبعادات بالكلية.
المسألة الثانية: احتج من قال: إنه تعالى قد يريد الإضلال بهذه الآية، قال لأن قوله تعالى: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) * يدل على أن المقصود الأصلي إنما هو فتنة الكافرين، أجابت المعتزلة عنه من وجوه أحدها: قال الجبائي: المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوي هؤلاء التسعة عشر على مالا يقوى عليه مائة ألف ملك أقوياء وثانيها: قال الكعبي: المراد من الفتنة الامتحان حتى يفوض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعين إلى علم الخالق سبحانه، وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به وثالثها: أن المراد من الفتنة ما وقعوا فيه من الكفر بسبب تكذيبهم بعدد الخزنة، والمعنى إلا فتنة على الذين كفروا ليكذبوا به، وليقولوا ما قالوا، وذلك عقوبة لهم على كفرهم، وحاصله راجع إلى ترك الألطاف والجواب: أنه لا نزاع في شيء مما ذكرتم، إلا أنا نقول: هل لإنزال هذه المتشابهات أثر في تقوية داعية الكفر، أم لا؟ فإذا لم يكن له أثر في تقوية داعية الكفر، كان إنزالها كسائر الأمور الأجنبية، فلم يكن للقول بأن إنزال هذه المتشابهات فتنة للذين كفروا وجه البتة، وإن كان له أثر في تقوية داعية الكفر، فقد حصل المقصود، لأنه إذا ترجحت داعية الفعل، صارت داعية الترك مرجوحة، والمرجوح يمتنع أن يؤثر، فالترك يكون ممتنع الوقوع، فيصير الفعل واجب الوقوع والله أعلم، واعلم أنه تعالى بين أن المقصود من إنزال هذا المتشابه أمور أربعة. أولها: * (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) * وثانيها: * (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) * وثالثها: * (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون) * ورابعها: * (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) * واعلم أن المقصود من تفسير هذه الآيات لا يتلخص إلا بسؤالات وجوابات: السؤال الأول: لفظ القرآن يدل على أنه تعالى جعل افتتان الكفار بعدد الزبانية سببا لهذه الأمور الأربعة، فما الوجه في ذلك؟ والجواب: أنه ما جعل افتتانهم بالعدد سببا لهذه الأشياء وبيانه من وجهين الأول: التقدير: وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا، وإلا ليستيقن الذين
205

أوتوا الكتاب، كما يقال: فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك، قالوا: والعاطفة قد تذكر في هذا الموضع تارة. وقد تحذف أخرى الثاني: أن المراد من قوله: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) * هو أنه وما جعلنا عدتهم إلا تسعة عشر إلا أنه وضع فتنة للذين كفروا موضع تسعة عشر كأنه عبر عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر، تنبيها على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المؤثر.
السؤال الثاني: ما وجه تأثير إنزال هذا المتشابه في استيقان أهل الكتاب؟ الجواب: من وجوه أحدها: أن هذا العدد لما كان موجودا في كتابهم، ثم إنه عليه السلام أخبر على وفق ذلك من غير سابقة دراسة وتعلم، فظهر أن ذلك إنما حصل بسبب الوحي من السماء فالذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب يزدادون به إيمانا وثانيها: أن التوراة والإنجيل كانا محرفين، فأهل الكتاب كانوا يقرأون فيهما أن عدد الزبانية هو هذا القدر، ولكنهم ما كانوا يعولون على ذلك كل التعويل لعلمهم بتطرق التحريف إلى هذين الكتابين، فلما سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوي إيمانهم بذلك واستيقنوا أن ذلك العدد هو الحق والصدق وثالثها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم من حال قريش أنه متى أخبرهم بهذا العدد العجيب، فإنهم يستهزئون به ويضحكون منه، لأنهم كانوا يستهزئون به في إثبات التوحيد والقدرة والعلم، مع أن تلك المسائل أوضح وأظهر فكيف في ذكر هذا العدد العجيب؟ ثم إن استهزاءهم برسول الله وشدة سخريتهم به ما منعه من إظهار هذا الحق، فعند هذا يعلم كل أحد أنه لو كان غرض محمد صلى الله عليه وسلم طلب الدنيا والرياسة لاحترز عن ذكر هذا العدد العجيب، فلما ذكره مع علمه بأنهم لا بد وأن يستهزئوا به علم كل عاقل أن مقصوده منه إنما هو تبليغ الوحي، وأنه ما كان يبالي في ذلك لا بتصديق المصدقين ولا بتكذيب المكذبين.
السؤال الثالث: ما تأثير هذه الواقعة في ازدياد إيمان المؤمنين؟ الجواب: أن المكلف ما لم يستحضر كونه تعالى عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحادثات منزها عن الكذب والحلف لا يمكنه أن ينقاد لهذه العدة ويعترف بحقيقتها، فإذا اشتغل باستحضار تلك الدلائل ثم جعل العلم الإجمالي بأنه صادق لا يكذب حكيم لا يجهل دافعا للتعجب الحاصل في الطبع من هذا العدد العجيب فحينئذ يمكنه أن يؤمن بحقيقة هذا العدد، ولا شك أن المؤمن يصير عند اعتبار هذه المقامات أشد استحضارا للدلائل وأكثر انقيادا للدين، فالمراد بازدياد الإيمان هذا.
السؤال الرابع: حقيقة الإيمان عندكم لا تقبل الزيادة والنقصان فما قولكم في هذه الآية؟ الجواب: نحمله على ثمرات الإيمان وعلى آثاره ولوازمه.
السؤال الخامس: لما أثبت الاستيقان لأهل الكتاب وأثبت زيادة الإيمان للمؤمنين فما الفائدة في قوله بعد ذلك: * (ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون) *؟ الجواب: أن المطلوب إذا كان غامضا دقيق الحجة كثير الشبهة، فإذا اجتهد الإنسان فيه وحصل له اليقين فربما غفل عن
206

مقدمة من مقدمات ذلك الدليل الدقيق، فيعود الشك والشبهة، فإثبات اليقين في بعض الأحوال لا ينافي طريان الارتياب بعد ذلك، فالمقصود من إعادة هذا الكلام هو أنه حصل لهم يقين جازم، بحيث لا يحصل عقيبه البتة شك ولا ريب.
السؤال السادس: جمهور المفسرين قالوا في تفسير قوله: * (الذين في قلوبهم مرض) * إنهم الكافرون وذكر الحسين بن الفضل البجلي أن هذه السورة مكية ولم يكن
بمكة نفاق، فالمرض في هذه الآية ليس بمعنى النفاق، والجواب: قول المفسرين حق وذلك لأنه كان في معلوم الله تعالى أن النفاق سيحدث فأخبر عما سيكون، وعلى هذا تصير هذه الآية معجزة، لأنه إخبار عن غيب سيقع، وقد وقع على وفق الخبر فيكون معجزا، ويجوز أيضا أن يراد بالمرض الشك لأن أهل مكة كان أكثرهم شاكين وبعضهم كانوا قاطعين بالكذب.
السؤال السابع: هب أن الاستيقان وانتفاء الارتياب يصح أن يكونا مقصودين من إنزال هذا المتشابه، فكيف صح أن يكون قول الكافرين والمنافقين مقصودا؟ الجواب: أما على أصلنا فلا إشكال لأنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وسيأتي مريد تقرير لهذا في الآية الآتية، وأما عند المعتزلة فإن هذه الحالة لما وقعت أشبهت الغرض في كونه واقعا، فأدخل عليه حرف اللام وهو كقوله: * (ولقد ذرأنا لجهنم) *.
السؤال الثامن: لم سموه مثلا؟ الجواب: أنه لما كان هذا العدد عددا عجيبا ظن القوم أنه ربما لم يكن مراد الله منه ما أشعر به ظاهره بل جعله مثلا لشيء آخر وتنبيها على مقصود آخر، لا جرم سموه مثلا.
السؤال التاسع: القوم كانوا ينكرون كون القرآن من عند الله، فكيف قالوا: ماذا أراد الله بهذا مثلا؟ الجواب: أما الذين في قلوبهم مرض، وهم المنافقون فكانوا في الظاهر معترفين بأن القرآن من عند الله فلا جرم قالوا ذلك باللسان، وأما الكفار فقالوه على سبيل التهكم أو على سبيل الاستدلال بأن القرآن لو كان من عند الله لما قال مثل هذا الكلام.
قوله تعالى: * (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * وجه الاستدلال بالآية للأصحاب ظاهر لأنه تعالى ذكر في أول الآية قوله: * (وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا) * ثم ذكر في آخر الآية: * (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا) * ثم قال: * (كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء) * أما المعتزلة فقد ذكروا الوجوه المشهورة التي لهم أحدها: أن المراد من الإضلال منع الألطاف وثانيها: أنه لما اهتدى قوم باختيارهم عند نزول هذه الآيات وضل قوم باختيارهم عند نزولها أشبه ذلك أن المؤثر في ذلك الاهتداء وذلك الإضلال هو
207

هذه الآيات، وهو كقوله: * (فزادتهم إيمانا) * (التوبة: 124) وكقوله: * (فزادتهم رجسا) * (التوبة: 125) وثالثها: أن المراد من قوله: * (يضل) * ومن قوله: * (يهدي) * حكم الله بكونه ضالا ويكون مهتديا ورابعها: أنه تعالى يضلهم يوم القيامة عن دار الثواب، وهذه الكلمات مع أجوبتها تقدمت في سورة البقرة في قوله: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * (البقرة: 26).
قوله تعالى: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * فيه وجوه: أحدها: وهو الأولى أن القوم استقبلوا ذلك العدد، فقال تعالى: * (وما يعلم جنود ربك إلا هو) * فهب أن هؤلاء تسعة عشر إلا أن لكل واحد منهم من الأعوان والجنود مالا يعلم عددهم إلا الله وثانيها: وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعز عليه تتميم الخزنة عشرين ولكن له في هذا العدد حكمة لا يعلمها الخلق وهو جل جلاله يعلمها وثالثها: أنه لا حاجة بالله سبحانه في تعذيب الكفار والفساق إلى هؤلاء الخزنة، فإنه هو الذي يعذبهم في الحقيقة، وهو الذي يخلق الآلام فيهم، ولو أنه تعالى قلب شعرة في عين ابن آدم أو سلط الألم على عرق واحد من عروق بدنه لكفاه ذلك بلاء ومحنة، فلا يلزم من تقليل عدد الخزنة قلة العذاب، فجنود الله غير متناهية لأن مقدوراته غير متناهية.
قوله تعالى: * (وما هي إلا ذكرى للبشر) * الضمير في قوله: * (وما هي) * إلى ماذا يعود؟ فيه قولان: الأول: أنه عائد إلى سقر، والمعنى وما سقر وصفتها إلا تذكرة للبشر والثاني: أنه عائد إلى هذه الآيات المشتملة على هذه المتشابهات، وهي ذكرى لجميع العالمية، وإن كان المنتفع بها ليس إلا أهل الإيمان.
* (كلا والقمر * واليل إذ أدبر) *.
ثم قال تعالى: * (كلا) * وفيه وجوه أحدها: أنه إنكار بعد أن جعلها ذكرى، أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون وثانيها: أنه ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا وثالثها: أنه ردع لقول أبي جهل وأصحابه: إنهم يقدرون على مقاومة خزنة النار ورابعها: أنه ردع لهم عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة.
ثم قال تعالى: * (والقمر * والليل إذ أدبر) * وفيه قولان: الأول: قال الفراء والزجاج: دبر وأدبر بمعنى واحد كقبل وأقبل ويدل على هذا قراءة من قرأ إذا دبر، وروى أن مجاهدا سأل ابن عباس عن قوله: * (دبر) * فسكت حتى إذا أدبر الليل قال: يا مجاهد هذا حين دبر الليل، وروى أبو الضحى أن ابن عباس كان يعيب هذه القراءة ويقول: إنما يدبر ظهر البعير، قال الواحدي: والقراءتان عند أهل اللغة سواء على ما ذكرنا، وأنشد أبو علي:
208

وأبى الذي ترك الملوك وجمعهم * بصهاب هامدة كأمس الدابر
القول الثاني: قال أبو عبيدة وابن قتيبة: دبر أي جاء بعد النهار، يقال: دبرني أي جاء خلفي ودبر الليل أي جاء بعد النهار، قال قطرب: فعلى هذا معنى إذا دبر إذا أقبل بعد مضي النهار.
قوله تعالى
* (والصبح إذآ أسفر) *.
أي أضاء، وفي الحديث: " أسفروا بالفجر " ومنه قوله: * (وجوه يومئذ مسفرة) * (عبس: 38) أي مضيئة.
ثم قال تعالى:
* (إنها لإحدى الكبر) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الكلام هو جواب القسم أو تعليل لكلام والقسم معترض للتوكيد.
المسألة الثانية: قال الواحدي: ألف إحدى مقطوع ولا تذهب في الوصل.
وروي عن ابن كثير أنه قرأ إنها لإحدى الكبر بحذف الهمزة كما يقال: ويلمه، وليس هذا الحذف بقياس والقياس التخفيف وهو أن يجعل بين بين.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": الكبر جمع الكبرى جعلت ألف التأنيث كتاء التأنيث فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظير ذلك السوافي جمع السافياء وهو التراب الذي سفته الريح، والقواصع في جميع القاصعاء كأنهما جمع فاعلة.
المسألة الرابعة: * (إنها لإحدى الكبرى) * يعني أن سقر التي جرى ذكرها لإحدى الكبر والمراد من الكبر دركات جهنم، وهي سبعة: جهنم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم والهاوية، أعاذنا الله منها.
* (نذيرا للبشر) *.
نذيرا تمييز من إحدى على معنى أنها لإحدى الدواهي إنذارا كما تقول هي إحدى النساء عفافا، وقيل: هو حال، وفي قراءة أبي نذير بالرفع خبر أو بحذف المبتدأ.
ثم قال تعالى:
* (لمن شآء منكم أن يتقدم أو يتأخر) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير الآية وجهان الأول: أن * (يتقدم) * في موضع الرفع بالابتداء ولمن شاء خبر مقدم عليه كقولك: لمن توضأ أن يصلي، ومعناه التقدم والتأخر مطلقان لمن شاءهما منكم، والمراد بالتقدم والتأخر السبق إلى الخير والتخلف عنه، وهو في معنى قوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) الثاني: لمن شاء بدل من قوله للبشر، والتقدير: إنها نذير لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر، نظيره * (ولله على الناس حج البيت من استطاع) * (آل عمران: 97).
المسألة الثانية: المعتزلة احتجوا بهذه الآية على كون العبد متمكنا من الفعل غير مجبور
209

عليه وجوابه: أن هذه الآية دلت على أن فعل العبد معلق على مشيئته، لكن مشيئة العبد معلقة على مشيئة الله تعالى لقوله: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * (الإنسان: 3) وحينئذ تصير هذه الآية حجة لنا عليهم، وذكر الأصحاب عن وجه الاستدلال بهذه الآية جوابين آخرين الأول: أن معنى إضافة المشيئة إلى المخاطبين التهديد، كقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) الثاني: أن هذه المشيئة لله تعالى على معنى لمن شاء الله منكم أن يتقدم أو يتأخر.
قوله تعالى
* (كل نفس بما كسبت رهينة * إلا أصحاب اليمين) *.
قال صاحب " الكشاف ": رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: * (كل امرئ بما كسب رهين) * (الطور: 21) لتأنيث النفس لأنه لو قصدت الصيغة لقيل: رهين، لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث، وإنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن، ومنه بيت الحماسة: أبعد الذي بالنعف نعف كواكب * رهينة رمس ذي تراب وجندل
كأنه قال: رهن رمس، والمعنى كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكوك إلا أصحاب اليمين، فإنهم فكوا عن رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الحسنة، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق، ثم ذكروا وجوها في أن أصحاب اليمين من هم؟ أحدها: قال ابن عباس: هم المؤمنون وثانيها: قال الكلبي: هم الذين قال (فيهم) الله تعالى: " هؤلاء في الجنة ولا أبالي " وهم الذين كانوا على يمين آدم وثالثها: قال مقاتل: هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ورابعها: قال علي بن أبي طالب عليه السلام وابن عمر: هم أطفال المسلمين، قال الفراء: وهو أشبه بالصواب لوجهين: الأول: لأن الولدان لم يكتسبوا إثما يرتهنون به والثاني: أنه تعالى ذكر في وصفهم، فقال: * (في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر) * وهذا إنما يليق بالولدان، لأنهم لم يعرفوا الذنوب، فسألوا * (ما سلككم في سقر) * (المدثر: 40 - 42) وخامسها: عن ابن عباس: هم الملائكة.
قوله تعالى
* (فى جنات يتسآءلون * عن المجرمين) *.
قوله تعالى: * (في جنات) * أي هم في جنات لا يكتنه وصفها.
ثم قال تعالى: * (يتساءلون * عن المجرمين) * وفيه وجهان الأول: أن تكون كلمة عن صلة زائدة، والتقدير: يتساءلون المجرمين فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟ فإنه يقال سألته كذا، ويقال: سألته عن كذا الثاني: أن يكون المعنى أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضا عن أحوال المجرمين، فإن قيل: فعلى هذا الوجه كان يجب أن يقولوا: ما سلكهم في سقر؟ قلنا: أجاب صاحب " الكشاف " عنه فقال: المراد من هذا أن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين،
210

فيقولون قلنا لهم: * (ما سلككم في سقر) * وفيه وجه آخر، وهو أن يكون المراد أن أصحاب اليمين كانوا يتساءلون عن المجرمين أين هم؟ فلما رأوهم قالوا لهم: *
(ما سلككم في سقر) * (المدثر: 42) والإضمارات كثيرة في القرآن.
* (ما سلككم فى سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخآئضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا اليقين) *.
المقصود من السؤال زيادة التوبيخ والتخجيل، والمعنى ما حبسكم في هذه الدركة من النار؟ فأجابوا بأن هذا العذاب لأمور أربعة: أولها: * (قالوا لم نك من المصلين) * وثانيها: لم نك نطعم المسكين، وهذان يجب أن يكونا محمولين على الصلاة الواجبة، والزكاة الواجبة لأن ما ليس بواجب، لا يجوز أن يعذبوا على تركه وثالثها: * (وكنا نخوض مع الخائضين) * والمراد منه الأباطيل ورابعها: * (وكنا نكذب بيوم الدين) * أي بيوم القيامة حتى أتانا اليقين، أي الموت قال تعالى: * (حتى يأتيك اليقين) * (الحجر: 99) والمعنى أنا بقينا على إنكار القيامة إلى وقت الموت، وظاهر اللفظ يدل على أن كل أحد من أولئك الأقوام كان موصوفا بهذه الخصال الأربعة، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفار يعذبون بترك فروع الشرائع، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول من أصول الفقه، فإن قيل: لم أخر التكذيب، وهو أفحش تلك الخصال الأربعة، قلنا أريد أنهم بعد اتصافهم بتلك الأمور الثلاثة كانوا مكذبين بيوم الدين، والغرض تعظيم هذا الذنب، كقوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 17).
ثم قال تعالى:
* (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *.
واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية، وقالوا: إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين.
ثم قال تعالى:
* (فما لهم عن التذكرة معرضين) *.
أي عن الذكر وهو العظة يريد القرآن أو غيره من المواعظ، ومعرضين نصب على الحال كقولهم مالك قائما.
211

ثم شبههم في نفورهم عن القرآن بحمر نافرة فقال:
* (كأنهم حمر مستنفرة * فرت من قسورة) *.
قال ابن عباس: يريد الحمر الوحشية، ومستنفرة أي نافرة. يقال: نفر واستنفر مثل سخر، واستسخر، وعجب واستعجب، وقرئ بالفتح، وهي المنفرة المحمولة على النفار، قال أبو علي الفارسي: الكسر في مستنفرة أولى ألا ترى أنه قال: * (فرت من قسورة) * وهذا يدل على أنها هي استنفرت، ويدل على صحة ما قال أبو علي أن محمد بن سلام. قال: سألت أبا سوار الغنوي، وكان أعرابيا فصيحا، فقلت: كأنهم حمر ماذا؟ فقال: مستنفرة طردها قسورة، قلت: إنما هو فرت من قسورة، قال أفرت؟ قلت: نعم، قال فمستنفرة إذا.
ثم قال تعالى: * (فرت) * يعني الحمر * (من قسورة) *. وذكروا في القسورة وجوها أحدها: أنها الأسد يقال: ليوث قساور، وهي فعولة من القسر وهو القهر، والغلبة سمي بذلك لأنه يقهر السباع، قال ابن عباس: الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت كذلك هؤلاء المشركين إذا رأوا محمدا صلى الله عليه وسلم هربوا منه، كما يهرب الحمار من الأسد، ثم قال ابن عباس: القسورة، هي الأسد بلسان الحبشة، وخالف عكرمة فقال: الأسد بلسان الحبشة، عنبسة وثانيها: القسورة، جماعة الرماة الذين يتصيدونها، قال الأزهري: هو اسم جمع للرماة لا واحد له من جنسه وثالثها: القسورة: ركز الناس وأصواتهم ورابعها: أنها ظلمة الليل.
قال صاحب " الكشاف ": وفي تشبيههم بالحمر شهادة عليهم بالبله، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش، وإطرادها في العدو إذا خافت من شيء.
ثم قال تعالى:
* (بل يريد كل امرىء منهم أن يؤتى صحفا منشرة) *.
أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان، ونؤمر فيه باتباعك، ونظيره * (لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) * (الأسراء: 93) وقال: * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) * وقيل: إن كان محمد صادقا فليصبح عند رأس كل رجل منا صحيفة فيها براءة من النار، وقيل: كانوا يقولون بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك، وهذا من الصحف المنشرة بمعزل، إلا أن يراد بالصحف المنشرة، الكتابات الظاهرة المكشوفة، وقرأ سعيد بن جبير * (صحفا منشرة) * بتخفيفهما على أن أنشر الصحف ونشرها واحد، كأنزله ونزله.
ثم قال تعالى:
* (كلا بل لا يخافون الاخرة) *.
* (كلا) * وهو ردع لهم عن تلك الإرادة، وزجر عن اقتراح الآيات.
212

ثم قال تعالى: * (بل لا يخافون الآخرة) * فلذلك أعرضوا عن التأمل، فإنه لما حصلت المعجزات الكثيرة، كفت في الدلالة على صحة النبوة فطلب الزيادة يكون من باب التعنت.
ثم قال تعالى:
* (كلا إنه تذكرة * فمن شآء ذكره) *.
ثم قال تعالى: * (كلا) * وهو ردع لهم عن إعراضهم عن التذكرة.
ثم قال تعالى: * (إنه تذكرة) * يعني تذكرة بليغة كافية * (فمن شاء ذكره) * أي جعله نصب عينه، فإن نفع ذلك راجع إليه، والضمير في * (إنه) * * (وذكره) * للتذكرة في قوله: * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (المدثر: 49) وإنما ذكر (ت) لأنها في معنى الذكر أو القرآن.
ثم قال تعالى: * (وما يذكرون إلا أن يشآء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة) *.
* (وما يذكرون إلا أن يشاء الله) *.
قالت المعتزلة: يعني إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه والجواب: أنه تعالى نفى الذكر مطلقا، واستثنى عنه حال المشيئة المطلقة، فيلزم أنه متى حصلت المشيئة أن يحصل الذكر فحيث لم يحصل الذكر علمنا أنه لم تحصل المشيئة، وتخصيص المشيئة بالمشيئة القهرية ترك للظاهر، وقرئ يذكرون بالياء والتاء مخففا ومشددا.
ثم قال تعالى: * (هو أهل التقوى وأهل المغفرة) * أي هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافوا عقابه فيؤمنوا ويطيعوا وحقيق بأن يغفر لهم ما سلف من كفرهم إذا آمنوا وأطاعوا، والله سبحانه وتعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
213

سورة القيامة
أربعون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: المفسرون ذكروا في لفظة * (لا) * في قوله: * (لا أقسم) * ثلاثة أوجه: الأول: أنها صلة زائدة والمعنى أقسم بيوم القيامة ونظيره * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * وقوله: * (ما منعك أن لا تسجد، فبما رحمة من الله) * (آل عمران: 159) وهذا القول عندي ضعيف من وجوه: أولها: أن تجويز هذا يفضي إلى الطعن في القرآن، لأن على هذا التقدير يجوز جعل النفي إثباتا والإثبات نفيا وتجويزه يفضي إلى أن لا يبقى الاعتماد على إثباته ولا على نفيه وثانيها: أن هذا الحرف إنما يزاد في وسط الكلام لا في أوله، فإن قيل: (فال) - كلام عليه من وجهين: الأول: لا نسلم أنها إنما تزاد في وسط الكلام، ألا ترى إلى امرئ القيس كيف زادها في مستهل قصيدته وهي قوله: لا وأبيك ابنة العامري * لا يدعى القوم أني أفر
الثاني: هب أن هذا الحرف لا يزاد في أول الكلام إلا أن القرآن كله كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض، والدليل عليه أنه قد يذكر الشيء في سورة ثم يجيء جوابه في سورة أخرى كقوله تعالى: * (وقالوا يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) ثم جاء جوابه في سورة أخرى وهو قوله: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * وإذا كان كذلك، كان أول هذه السورة جاريا مجرى وسط الكلام والجواب عن الأول: أن قوله لا وأبيك قسم عن النفي، وقوله: * (لا أقسم) * نفي للقسم، فتشبيه أحدهما بالآخر غير جائز، وإنما قلنا: إن قوله لا أقسم نفي للقسم، لأنه على وزان قولنا لا أقتل لا أضرب، لا أنصر، ومعلوم أن ذلك يفيد النفي. والدليل عليه أنه لو حلف لا يقسم كان البر بترك القسم، والحنث بفعل القسم، فظهر أن البيت المذكور، ليس من هذا الباب وعن الثاني: أن القرآن كالسورة الواحدة في عدم التناقض، فإما في أن يقرن بكل آية ما قرن بالآية الأخرى فذلك غير جائز، لأنه يلزم جواز أن يقرن بكل إثبات حرف النفي في سائر الآيات، وذلك يقتضي انقلاب كل إثبات نفيا وانقلاب كل نفي إثباتا، وإنه لا يجوز وثالثها: أن المراد من قولنا: لا صلة أنه لغو باطل، يجب طرحه وإسقاطه حتى ينتظم الكلام، ومعلوم أن وصف كلام الله تعالى بذلك
214

لا يجوز القول الثاني: للمفسرين في هذه الآية، ما نقل عن الحسن أنه قرأ، لأقسم على أن اللام للابتداء، وأقسم خبر مبتدأ محذوف، معناه لأنا أقسم ويعضده أنه في مصحف عثمان بغير ألف واتفقوا في قوله، ولا أقسم بالنفس اللوامة على لا أقسم، قال الحسن معنى الآية أني أقسم بيوم القيامة لشرفها، ولا أقسم بالنفس اللوامة لخساستها، وطعن أبو عبيدة في هذه القراءة وقال لو كان المراد هذا لقال: لأقسمن لأن العرب لا تقول: لأفعل كذا، وإنما يقولون: لأفعلن كذا، إلا أن الواحدي حكى جواز ذلك عن سيبويه والفراء، واعلم أن هذا الوجه أيضا ضعيف، لأن هذه القراءة شاذة، فهب أن هذا الشاذ استمر، فما الوجه في القراءة المشهورة المتواترة؟ ولا يمكن دفعها وإلا لكان ذلك قدحا فيما ثبت بالتواتر، وأيضا فلا بد من إضمار قسم آخر لتكون هذه اللام جوابا عنه، فيصير التقدير: والله لأقسم بيوم القيامة، فيكون ذلك قسما على قسم، وإنه ركيك ولأنه يفضي إلى التسلسل القول الثالث: أن لفظة لا وردت للنفي، ثم ههنا احتمالان الأول: أنها وردت نفيا لكلام ذكر قبل القسم، كأنهم أنكروا البعث فقيل: لا ليس الأمر على ما ذكرتم، ثم قيل أقسم بيوم القيامة، وهذا أيضا فيه إشكال، لأن إعادة حرف النفي مرة أخرى في قوه: * (ولا أقسم بالنفس اللوامة) * مع أن المراد ما ذكروه تقدح في فصاحة الكلام. الاحتمال الثاني: أن لا ههنا لنفي القسم كأنه قال: لا أقسم عليكم بذلك اليوم وتلك النفس ولكني أسألك غير مقسم أتحسب أنا لا نجمع عظامك إذا تفرقت بالموت فإن كنت تحسب ذلك فاعلم أنا قادرون على أن نفعل ذلك، وهذا القول اختيار أبي مسلم وهو الأصح، ويمكن تقدير هذا القول على وجوه أخر أحدها: كأنه تعالى يقول: * (لا أقسم) * بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب فإن هذا المطلوب أعظم وأجل من أن يقسم عليه بهذه الأشياء ويكون الغرض من هذا الكلام تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه وثانيها: كأنه تعالى يقول: * (لا أقسم) * بهذه الأشياء على إثبات هذا المطلوب، فإن إثباته أظهر
وأجلى وأقوى وأحرى، من أن يحاول إثباته بمثل هذا القسم، ثم قال بعده: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) * (القيامة: 3) أي كيف خطر بباله هذا الخاطر الفاسد مع ظهور فساده وثالثها: أن يكون الغرض منه الاستفهام على سبيل الإنكار والتقدير ألا أقسم بيوم القيامة. ألا أقسم بالنفس اللوامة على أن الحشر والنشر حق.
المسألة الثانية: ذكروا في النفس اللوامة وجوها أحدها: قال ابن عباس: إن كل نفس فإنها تلوم نفسها يوم القيامة سواء كانت برة أو فاجرة، أما البرة فلأجل أنها لم لم تزد على طاعتها، وأما الفاجرة فلأجل أنها لم لم تشتغل بالتقوى، وطعن بعضهم في هذا الوجه من وجوه الأول: أن من يستحق الثواب لا يجوز أن يلوم نفسه على ترك الزيادة، لأنه لو جاز منه لوم نفسه على ذلك لجاز من غيره أن يلومها عليه الثاني: أن الإنسان إنما يلوم نفسه عند الضجارة وضيق القلب، وذلك لا يليق بأهل الجنة حال كونهم في الجنة، ولأن المكلف يعلم أنه لا مقدار من
215

الطاعة إلا ويمكن الإتيان بما هو أزيد منه، فلو كان ذلك موجبا للوم لامتنع الانفكاك عنه وما كان كذلك لا يكون مطلوب الحصول، ولا يلام على ترك تحصيله والجواب: عن الكل أن يحمل اللوم على تمني الزيادة، وحينئذ تسقط هذه الأسئلة وثانيها: أن النفس اللوامة هي النفوس المتقية التي تلوم النفس العاصية يوم القيامة بسبب أنها تركت التقوى. ثالثها: أنها هي النفوس الشريفة التي لا تزال تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعة، وعن الحسن أن المؤمن لا تراه إلا لائما نفسه، وأما الجاهل فإنه يكون راضيا بما هو فيه من الأحوال الخسيسة ورابعها: أنها نفس آدم لم تزل تلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وخامسها: المراد نفوس الأشقياء حين شاهدت أحوال القيامة وأهوالها، فإنها تلوم نفسها على ما صدر عنها من المعاصي، ونظيره قوله تعالى: * (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت) * (الزمر: 56) وسادسها: أن الإنسان خلق ملولا، فأي شيء طلبه إذا وجده مله، فحينئذ يلوم نفسه على أني لم طلبته، فلكثرة هذا العمل سمي بالنفس اللوامة، ونظيره قوله تعالى: * (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا) * (المعارج: 19 - 21) واعلم أن قوله لوامة، ينبئ عن التكرار والإعادة، وكذا القول في لوام وعذاب وضرار.
المسألة الثالثة: إعلم أن في الآية إشكالات أحدها: ما المناسبة بين القيامة وبين النفس اللوامة، حتى جمع الله بينهما في القسم؟ وثانيها: المقسم عليه، هو وقوع القيامة فيصير حاصلة أنه تعالى أقسم بوقوع القيامة وثالثها: لم قال: * (لا أقسم بيوم القيامة) * ولم يقل: والقيامة، كما قال في سائر السور، والطور والذاريات والضحى؟ والجواب: عن الأول من وجوه أحدها: أن أحوال القيامة عجيبة جدا، ثم المقصود من إقامة القيامة إظهار أحوال النفوس اللوامة. أعني سعادتها وشقاوتها، فقد حصل بين القيامة والنفوس اللوامة هذه المناسبة الشديدة وثانيها: أن القسم بالنفس اللوامة تنبيه على عجائب أحوال النفس على ما قال عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " ومن أحوالها العجيبة، قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) وقوله: * (إنا عرضنا الأمانة) * إلى قوله * (وحملها الإنسان) * (الأحزاب: 72) وقال قائلون: القسم وقع بالنفس اللوامة على معنى التعظيم لها من حيث إنها أبدا تستحقر فعلها وجدها واجتهادها في طاعة الله، وقال آخرون: إنه تعالى أقسم بالقيامة، ولم يقسم بالنفس اللوامة، وهذا على القراءة الشاذة التي رويناها عن الحسن، فكأنه تعالى قال: * (أقسم بيوم القيامة) * تعظيما لها، ولا أقسم بالنفس تحقيرا لها، لأن النفس اللوامة إما أن تكون كافرة بالقيامة مع عظم أمرها، وإما أن تكون فاسقة مقصرة في العمل، وعلى التقديرين فإنها تكون مستحقرة.
وأما السؤال الثاني: فالجواب عنه ما ذكرنا أن المحققين قالوا: القسم بهذه الأشياء قسم بربها وخالقها في الحقيقة، فكأنه قيل: أقسم برب القيامة على وقوع يوم القيامة.
216

وأما السؤال الثالث: فجوابه أنه حيث أقسم قال: * (والطور) * * (الطور: 1) * (والذاريات) * (الذاريات: 1) وأما ههنا فإنه نفي كونه تعالى مقسما بهذه الأشياء، فزال السؤال والله تعالى أعلم.
قوله تعالى
* (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوى بنانه) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في جواب القسم وجوها أحدها: وهو قول الجمهور أنه محذوف على تقدير ليبعثن ويدل عليه * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) *، وثانيها: قال الحسن: وقع القسم على قوله: * (بلى قادرين) *، وثالثها: وهو أقرب أن هذا ليس بقسم بل هو نفي للقسم فلا يحتاج إلى الجواب، فكأنه تعالى يقول: لا أقسم بكذا وكذا على شيء، ولكني أسألك * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) *. المسألة الثانية: المشهور أن المراد من الإنسان إنسان معين، روي أن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق، وهما اللذان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهما: " اللهم اكفني شر جاري السوء " قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك يا محمد ولم أؤمن بك كيف يجمع الله العظام؟ فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: يريد الإنسان ههنا أبا جهل، وقال جمع من الأصوليين: بل المراد بالإنسان المكذب بالبعث على الإطلاق.
المسألة الثالثة: قرأ قتادة: * (أن لن نجمع عظامه) * على البناء للمفعول، والمعنى أن الكافر ظن أن العظام بعد تفرقها وصيرورتها ترابا واختلاط تلك الأجزاء بغيرها وبعدما نسفتها الرياح وطيرتها في أباعد الأرض لا يمكن جمعها مرة أخرى وقال تعالى في جوابه: * (بلى) * فهذه الكلمة أوجبت ما بعد النفي وهو الجمع، فكأنه قيل: بل يجمعها، وفي قوله: * (قادرين) * وجهان الأول: وهو المشهور أنه حال من الضمير في نجمع أي نجمع العظام قادرين على تأليفها جميعها وإعادتها إلى التركيب الأول وهذا الوجه عندي فيه إشكال وهو أن الحال إنما يحسن ذكره إذا أمكن وقوع ذلك الأمر لا على تلك الحالة تقول: رأيت زيدا راكبا لأنه يمكن أن نرى زيد
غير راكب، وههنا كونه تعالى جامعا للعظام يستحيل وقوعه إلا مع كونه قادرا، فكان جعله حالا جاريا مجرى بيان الواضحات، وإنه غير جائز والثاني: أن تقدير الآية كنا قادرين على أن نسوي بنانه في الابتداء فوجب أن نبقي قادرين على تلك التسوية في الانتهاء، وقرئ قادرون أي ونحن قادرون، وفي قوله: * (على أن نسوي بنانه) * وجوه: أحدها: أنه نبه بالبنان على بقية الأعضاء، أي نقدر على أن نسوي بنانه
217

بعد صيرورته ترابا كما كان، وتحقيقه أن من قدر على الشيء في الابتداء قدر أيضا عليه في الإعادة وإنما خص البنان بالذكر لأنه آخر ما يتم خلقه، فكأنه قيل: نقدر على ضم سلاماته على صغرها ولطافتها بعضها إلى بعض كما كانت أولا من غير نقصان ولا تفاوت، فكيف القول في كبار العظام وثانيها: بلى قادرين على أن نسوي بنانه أي نجعلها مع كفه صفيحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة وسائر الأعمال اللطيفة التي يستعان عليها بالأصابع، والقول الأول أقرب إلى الصواب.
* (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) *.
اعلم أن قوله: * (بل يريد) * عطف على أيحسب، فيجوز فيه أن يكون أيضا استفهاما كأنه استفهم عن شيء ثم استفهم عن شيء آخر، ويجوز أن يكون إيجابا كأنه استفهم أولا ثم أتى بهذا الإخبار ثانيا. وقوله: * (ليفجر أمامه) * فيه قولان: الأول: أي ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان لا ينزع عنه، وعن سعيد بن جبير: يقدم الذنب ويؤخر التوبة، يقول: سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله القول الثاني: ليفجر أمامه، أي ليكذب بما أمامه من البعث والحساب، لأن من كذب حقا كان كاذبا وفاجرا، والدليل عليه قوله: * (يسأل أيان يوم القيامة) * (القيامة: 6) فالمعنى يريد الإنسان ليفجر أمامه، أي ليكذب بيوم القيامة وهو أمامه، فهو يسأل أيان يوم القيامة، متى يكون ذلك تكذيبا له.
ثم قال تعالى:
* (يسال أيان يوم القيامة) *.
أي يسأل سؤال مستنعت مستبعد لقيام الساعة، في قوله: أيان يوم القيامة، ونظيره يقولون: متى هذا الوعد: واعلم أن إنكار البعث تارة يتولد من الشبهة وأخرى من الشهوة، أما من الشبهة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) * (القيامة: 3) وتقريره أن الإنسان هو هذا البدن فإذا مات تفرقت أجزاء البدن واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء التراب وتفرقت في مشارق الأرض ومغاربها فكان تمييزها بعد ذلك عن غيرها محالا فكان البعث محالا، واعلم أن هذه الشبهة ساقطة من وجهين الأول: لا نسلم أن الإنسان هو هذا البدن فلم لا يجوز أن يقال: إنه شيء مدبر لهذا البدن فإذا فسد هذا البدن بقي هو حيا كما كان.
وحينئذ يكون الله تعالى قادرا على أن يرده إلى أي بدن شاء وأراد، وعلى هذا القول يسقط السؤال، وفي الآية إشارة إلى هذا لأنه أقسم بالنفس اللوامة، ثم قال: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) * وهو تصريح بالفرق بين النفس والبدن الثاني: إن سلمنا أن الإنسان هو هذا البدن فلم قلتم: إنه بعد تفريق أجزائه لا يمكن جمعه مرة أخرى وذلك لأنه تعالى عالم بجميع الجزئيات فيكون عالما بالجزء الذي هو بدن عمرو، وهو تعالى قادر على كل الممكنات وذلك التركيب من
218

الممكنات وإلا لما وجد أولا، فيلزم أن يكون قادرا على تركيبها. ومتى ثبت كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات قادرا على جميع الممكنات لا يبقى في المسألة إشكال.
وأما القسم الثاني: وهو إنكار من أنكر المعاد بناء على الشهوة فهو الذي حكاه الله تعالى بقوله: * (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) * (القيامة: 5) ومعناه أن الإنسان الذي يميل طبعه إلى الاسترسال في الشهوات والاستكثار من اللذات لا يكاد يقر بالحشر والنشر وبعث الأموات لئلا تتنغص عليه اللذات الجسمانية فيكون أبدا منكرا لذلك قائلا على سبيل الهزؤ والسخرية أيان يوم القيامة.
ثم إنه تعالى ذكر علامات القيامة فقال:
* (فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر) *.
وفيه مسألتان:
* * *
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر من علامات القيامة في هذا الموضع أمورا ثلاثة أولها: قوله: * (فإذا برق البصر) * قرىء بكسر الراء وفتحها، قال الأخفش: المكسورة في كلامهم أكثر والمفتوحة لغة أيضا، قال الزجاج: برق بصره بكسر الراء يبرق برقا إذا تحير، والأصل فيه أن يكثر الإنسان من النظر إلى لمعان البرق، فيؤثر ذلك في ناظره، ثم يستعمل ذلك في كل حيرة، وإن لم يكن هناك نظر إلى البرق، كما قالوا: قمر بصره إذا فسد من النظر إلى القمر، ثم استعير في الحيرة، وكذلك بعل الرجل في أمره، أي تحير ودهش، وأصله من قولهم: بعلت المرأة إذا فاجأها زوجها، فنظرت إليه وتحيرت، وأما برق بفتح الراء، فهو من البريق، أي لمع من شدة شخوصه، وقرأ أبو السمال بلق بمعنى انفتح، وانفتح يقال: بلق الباب وأبلقته وبلقته فتحته.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن هذه الحالة متى تحصل؟ فقيل: عند الموت، وقيل: عند البعث وقيل: عند رؤية جهنم، فمن قال: إن هذا يكون عند الموت، قال: إن البصر يبرق على معنى يشخص عند معاينة أسباب الموت، والملائكة كما يوجد ذلك في كل واحد إذا قرب موته، ومن مال إلى هذا التأويل، قال: إنهم إنما سألوه عن يوم القيامة، لكنه تعالى ذكر هذه الحادثة عند الموت والسبب فيه من وجهين: الأول: أن المنكر لما قال: * (أيان يوم القيامة) * (القيامة: 6) على سبيل الاستهزاء فقيل له: إذا برق البصر وقرب الموت زالت عنه الشكوك، وتيقن حينئذ أن الذي كان عليه من إنكار البعث والقيامة خطأ الثاني: أنه إذا قرب موته وبرق بصره تيقن أن
إنكار البعث لأجل طلب اللذات الدنيوية كان باطلا، وأما من قال بأن ذلك إنما يكون عند قيام القيامة، قال: لأن السؤال إنما كان عن يوم القيامة، فوجب أن يقع الجواب بما يكون من خواصه
219

وآثاره، قال تعالى: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * (إبراهيم: 41)، وثانيها: قوله: * (وخسف القمر) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: يحتمل أن يكون المراد من خسوف القمر ذهاب ضوئه كما نعقله من حاله إذا خسف في الدنيا، ويحتمل أن يكون المراد ذهابه بنفسه كقوله: * (فخسفنا به وبداره الأرض) * (القصص: 81).
المسألة الثانية: قرىء: * (وخسف القمر) * (يس: 40) على البناء للمفعول وثالثها: قوله: * (وجمع الشمس والقمر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في كيفية الجمع وجوها أحدها: أنه تعالى قال: * (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) * فإذا جاء وقت القيامة أدرك كل واحد منهما صاحبه واجتمعا وثانيها: جمعا في ذهاب الضوء، فهو كما يقال: الشافعي يجمع ما بين كذا وكذا في حكم كذا وثالثها: يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار، وقيل: يجمعان ثم يقذفان في البحر، فهناك نار الله الكبرى واعلم أن هذه الوجوه التي ذكرناها في قوله، وخسف القمر، وجمع الشمس والقمر إنما تستقيم على مذهب من يجعل برق البصر من علامات القيامة، فأما من يجعل برق البصر من علامات الموت قال معنى: * (وخسف القمر) * أي ذهب ضوء البصر عند الموت، يقال عين خاسفة، إذا فقئت حتى غابت حدقتها في الرأس، وأصلها من خسفت الأرض إذا ساخت بما عليها، وقوله: * (وجمع الشمس والقمر) * كناية عن ذهاب الروح إلى عالم الآخرة، كأن الآخرة كالشمس، فإنه يظهر فيها المغيبات وتتضح فيها المبهمات، والروح كالقمر فإنه كما أن القمر يقبل النور من الشمس، فكذا الروح تقبل نور المعارف من عالم الآخرة، ولا شك أن تفسير هذه الآيات بعلامات القيامة أولى من تفسيرها بعلامات الموت وأشد مطابقة لها.
المسألة الثانية: قال الفراء: إنما قال جمع، ولم يقل: جمعت لأن المراد أنه جمع بينهما في زوال النور وذهاب الضوء، وقال الكسائي، المعنى جمع النوران أو الضياءان، وقال أبو عبيدة، القمر شارك الشمس في الجمع، وهو مذكر، فلا جرم غلب جانب التذكير في اللفظ، قال الفراء، قلت: لمن نصر هذا القول: كيف تقولون: الشمس جمع والقمر؟ فقالوا: جمعت، فقلت ما الفرق بين الموضعين؟ فرجع عن هذا القول.
المسألة الثالثة: طعنت الملاحدة في الآية، وقالوا: خسوف القمر لا يحصل حال اجتماع الشمس والقمر والجواب: الله تعالى قادر على أن يجعل القمر منخسفا، سواء كانت الأرض متوسطة بينه وبين الشمس، أو لم تكن، والدليل عليه أن الأجسام متماثلة، فيصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر، والله قادر على كل الممكنات، فوجب أن يقدر على إزالة الضوء عن القمر في جميع الأحوال. قوله تعالى: * (يقول الإنسان يومئذ أين المفر) * أي يقول هذا الإنسان المنكر للقيامة إذا
220

عاين هذه الأحوال أين المفر، والقراءة المشهورة بفتح الفاء، وقرئ أيضا بكسر الفاء، والمفر بفتح الفاء هو الفرار، قال الأخفش والزجاج: المصدر من فعل يفعل مفتوح العين. وهو قول جمهور أهل اللغة، والمعنى أين الفرار، وقول القائل: أين الفرار يحتمل معنيين أحدهما: أنه لا يرى علامات مكنة الفرار فيقول حينئذ: أين الفرار، كما إذا أيس من وجدان زيد يقول: أين زيد والثاني: أن يكون المعنى إلى أين الفرار، وأما المفر بكسر الفاء فهو الموضع، فزعم بعض أهل اللغة أن المفر بفتح الفاء كما يكون اسما للمصدر، فقد يكون أيضا اسما للموضع والمفر بكسر الفاء كما يكون اسما للموضع، فقد يكون مصدرا ونظيره المرجع.
* (كلا لا وزر) *.
قوله تعالى: * (كلا) * وهو ردع عن طلب المفر * (لا وزر) * قال المبرد والزجاج: أصل الوزر الجبل المنيع، ثم يقال: لكل ما التجأت إليه وتحصنت به وزر، وأنشد المبرد قول كعب بن مالك: الناس آلت علينا فيك ليس لنا * إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ومعنى الآية أنه لا شيء يعتصم به من أمر الله.
ثم قال تعالى:
* (إلى ربك يومئذ المستقر) *.
وفيه وجهان أحدهما: أن يكون المستقر بمعنى الاستقرار، بمعنى أنهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره، وينصبوا إلى غيره، كما قال: * (إن إلى ربك الرجعي) * (العلق: 8) * (وإلى الله المصير) * (النور: 42) * (ألا إلى الله تصير الأمور) * (الشورى: 53) * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 12) الثاني: أن يكون المعنى إلى ربك مستقرهم، أي موضع قرارهم من جنة أو نار، أي مفوض ذلك إلى مشيئته من شاء أدخله الجنة، ومن شاء أدخله النار.
* (ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) *.
بما قدم من عمل عمله، وبما أخر من عمل لم يعمله، أو بما قدم من ماله فتصدق به وبما أخره فخلفه، أو بما قدم من عمل الخير والشر وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة، فعمل بها بعده، وعن مجاهد أنه مفسر بأول العمل وآخره، ونظيره قوله: * (فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه) * (المجادلة: 6) وقال: * (ونكتب ما قدموا وآثارهم) * (يس: 12) واعلم أن الأظهر أن هذا الإنباء يكون يوم القيامة عند العرض، والمحاسبة ووزن الأعمال، ويجوز أن يكون عند الموت وذلك أنه إذا مات بين له مقعده من الجنة والنار.
* (بل الإنسان على نفسه بصيرة) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (ينبؤ الإنسان) * يومئذ بأعماله، قال: بل لا يحتاج إلى أن ينبئه غير غيره، وذلك لأن نفسه شاهدة بكونه فاعلا لتلك الأفعال، مقدما عليها،
ثم في قوله: * (بصيرة) * وجهان الأول: قال الأخفش جعله في نفسه بصيرة كما يقال: فلان جود وكرم، فههنا
221

أيضا كذلك، لأن الإنسان بضرورة عقله يعلم أن ما يقربه إلى الله ويشغله بطاعته وخدمته فهو السعادة، وما يبعده عن طاعة الله ويشغله بالدنيا ولذاتها فهو الشقاوة، فهب أنه بلسانه يروج ويزور ويرى الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق، لكنه بعقله السليم يعلم أن الذي هو عليه في ظاهره جيد أو رديء والثاني: أن المراد جوارحه تشهد عليه بما عمل فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل وهو كقوله: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) * (النور: 24) وقوله: * (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) * (يس: 36) وقوله: * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) * (فصلت: 20) فأما تأنيث البصيرة، فيجوز أن يكون لأن المراد بالإنسان ههنا الجوارح كأنه قيل: بل جوارح الإنسان، كأنه قيل بل جوارح الإنسان على نفس الإنسان بصيرة، وقال أبو عبيدة هذه الهاء لأجل المبالغة كقوله: رجل راوية وطاغية وعلامة.
واعلم أنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الإنسان يخبر يوم القيامة بأعماله. ثم ذكر في هذه الآية أنه شاهد على نفسه بما عمل، فقال الواحدي هذا يكون من الكفار فإنهم ينكرون ما عملوا فيختم الله على أفواههم وينطق جوارحهم.
* (ولو ألقى معاذيره) *.
للمفسرين فيه أقوال: الأول: قال الواحدي: المعاذير جمع معذرة يقال: معذرة ومعاذر ومعاذير: قال صاحب " الكشاف " جمع المعذرة معاذر والمعاذير ليس جمع معذرة، وإنما هو اسم جمع لها، ونحوه المناكير في المنكر، والمعنى أن الإنسان وإن اعتذر عن نفسه وجادل عنها وأتى بكل عذر وحجة، فإنه لا ينفعه ذلك لأنه شاهد على نفسه القول الثاني: قال الضحاك والسدي والفراء والمبرد والزجاج المعاذير الستور واحدها معذار، قال المبرد: هي لغة يمانية، قال صاحب " الكشاف ": إن صحت هذه الرواية فذاك مجاز من حيث إن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة الذنب، والمعنى على هذا القول: أنه وإن أسبل الستر ليخفي ما يعمل، فإن نفسه شاهدة عليه.
* (لا تحرك به لسانك لتعجل به) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: زعم قوم من قدماء الروافض أن هذا القرآن قد غير وبدل وزيد فيه ونقص عنه، واحتجوا عليه بأنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين ما قبلها: ولو كان هذا الترتيب من الله تعالى لما كان الأمر كذلك.
واعلم أن في بيان المناسبة وجوها أولها: يحتمل أن يكون الاستعجال المنهي عنه، إنما اتفق للرسول عليه السلام عند إنزال هذه الآيات عليه، فلا جرم. نهى عن ذلك الاستعجال في هذا الوقت، وقيل له: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * وهذا كما أن المدرس إذا كان يلقي على تلميذه
222

شيئا، فأخذ التلميذ يلتفت يمينا وشمالا، فيقول: المدرس في أثناء ذلك الدرس لا تلتفت يمينا وشمالا ثم يعود إلى الدرس، فإذا نقل ذلك الدرس مع هذا الكلام في أثنائه، فمن لم يعرف السبب يقول: إن وقوع تلك الكلمة في أثناء ذلك الدرس غير مناسب، لكن من عرف الواقعة علم أنه حسن الترتيب وثانيها: أنه تعالى نقل عن الكفار أنهم يحبون السعادة العاجلة، وذلك هو قوله: * (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) * (القيامة: 5) ثم بين أن التعجيل مذموم مطلقا حتى التعجيل في أمور الدين، فقال: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * وقال في آخر الآية: * (كلا بل تحبون العاجلة) * (القيامة: 20)، وثالثها: أنه تعالى قال: * (بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره) * (القيامة: 14 - 15) فههنا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يظهر التعجيل في القراءة مع جبريل، وكان يجعل العذر فيه خوف النسيان، فكأنه قيل له: إنك إذا أتيت بهذا العذر لكنك تعلم أن الحفظ لا يحصل إلا بتوفيق الله وإعانته فاترك هذا التعجيل واعتمد على هداية الله تعالى، وهذا هو المراد من قوله: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به * إن علينا جمعه وقرآنه) * (القيامة: 16 - 17) ورابعها: كأنه تعالى قال: يا محمد إن غرضك من هذا التعجيل أن تحفظه وتبلغه إليهم لكن لا حاجة إلى هذا فإن * (الإنسان على نفسه بصيرة) * (القيامة: 14) وهم بقلوبهم يعلمون أن الذي هم عليه من الكفر وعبادة الأوثان، وإنكار البعث منكر باطل، فإذا كان غرضك من هذا التعجيل أن تعرفهم قبح ما هم عليه، ثم إن هذه المعرفة حاصلة عندهم، فحينئذ لم يبق لهذا التعجيل فائدة، فلا جرم قال: * (لا تحرك به لسانك) * وخامسها: أنه تعالى حكى عن الكافر أنه يقول: أين المفر، ثم قال تعالى: * (كلا لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر) * (القيامة: 11 - 12) فالكافر كأنه كان يفر من الله تعالى إلى غيره فقيل: لمحمد إنك في طلب حفظ القرآن، تستعين بالتكرار وهذا استعانة منك بغير الله، فاترك هذه الطريقة، واستعن في هذا الأمر بالله فكأنه قيل: إن الكافر يفر من الله إلى غيره، وأما أنت فكن كالمضاد له فيجب أن تفر من غير الله إلى الله وأن تستعين في كل الأمور بالله، حتى يحصل لك المقصود على ما قال: * (إن علينا جمعه وقرآنه) * (القيامة: 17) وقال في سورة أخرى: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل ربي زدني علما) * (طه: 114) أي لا تستعن في طلب الحفظ بالتكرار بل اطلبه من الله تعالى وسادسها: ما ذكره القفال وهو أن قوله: * (لا تحرك به لسانك) * ليس خطابا مع الرسول عليه السلام بل هو خطاب مع الإنسان المذكور في قوله: * (ينبؤ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر) * (القيامة: 13) فكان ذلك للإنسان حال ما ينبأ بقبائح أفعاله وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له: * (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * (الإسراء: 14) فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف وسرعة القراءة فيقال له لا تحرك به لسانك لتعجل به، فإنه يجب علينا بحكم الوعد أو بحكم الحكمة أن نجمع أعمالك عليك وأن نقرأها عليك فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال، ثم إن علينا بيان أمره وشرح مراتب عقوبته، وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية أن المراد منه أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله على
سبيل التفصيل، وفيه أشد الوعيد
223

في الدنيا وأشد التهويل في الآخرة، ثم قال القفال: فهذا وجه حسن ليس في العقل ما يدفعه وإن كانت الآثار غير واردة به.
المسألة الثانية: احتج من جوز الذنب على الأنبياء عليهم السلام بهذه الآية، فقال: إن ذلك الاستعجال إن كان بإذن الله تعالى فكيف نهاه عنه وإن كان لا بإذن الله تعالى فقد صدر الذنب عنه الجواب: لعل ذلك الاستعجال كان مأذونا فيه إلى وقت النهي عنه، ولا يبعد أن يكون الشيء مأذونا فيه في وقت ثم يصير منهيا عنه في وقت آخر، ولهذا السبب قلنا: يجوز النسخ.
المسألة الثالثة: روى سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه حفظ التنزيل وكان إذا نزل عليه الوحي يحرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبريل مخافة أن لا يحفظ، فأنزل تعالى: * (لا تحرك به لسانك) * أي بالوحي والتنزيل والقرآن، وإنما جاز هذا الإضمار وإن لم يجر له ذكر لدلالة الحال عليه، كما أضمر في قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) ونظير قوله: * (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) * (طه: 114) وقوله: * (لتعجل به) * أي لتعجل بأخذه.
أما قوله تعالى:
* (إن علينا جمعه وقرءانه) *.
ففيه مسائل:
المسألة الأولى: كلمة على للوجوب فقوله: إن علينا يدل على أن ذلك كالواجب على الله تعالى، أما على مذهبنا فذلك الوجوب بحكم الوعد، وأما على قول المعتزلة: فلأن المقصود من البعثة لا يتم إلا إذا كان الوحي محفوظا مبرأ عن النسيان، فكان ذلك واجبا نظرا إلى الحكمة.
المسألة الثانية: قوله: * (إن علينا جمعه) * معناه علينا جمعه في صدرك وحفظك، وقوله: * (وقرآنه) * فيه وجهان أحدهما: أن المراد من القرآن القراءة، وعلى هذا التقدير ففيه احتمالان أحدهما: أن يكون المراد جبريل عليه السلام، سيعيده عليك حتى تحفظه والثاني: أن يكون المراد إنا سنقرئك يا محمد إلى أن تصير بحيث لا تنساه، وهو المراد من قوله: * (سنقرئك فلا تنسى) * (الأعلى: 6) فعلى هذا الوجه الأول القارئ جبريل عليه السلام، وعلى الوجه الثاني القارئ محمد صلى الله عليه وسلم والوجه الثاني: أن يكون المراد من القرآن الجمع والتأليف، من قولهم: ما قرأت الناقة سلاقط، أي ما جمعت، وبنت عمرو بن كلثوم لم تقرأ جنينا، وقد ذكرنا ذلك عند تفسير القرء، فإن قيل: فعلى هذا الوجه يكون الجمع والقرآن واحدا فيلزم التكرار، قلنا: يحتمل أن يكون المراد من الجمع جمعه في نفسه ووجوده الخارجي، ومن القرآن جمعه في ذهنه وحفظه، وحينئذ يندفع التكرار.
قوله تعالى
* (فإذا قرأناه فاتبع قرءانه) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: جعل قراءة جبريل عليه السلام قراءته، وهذا يدل على الشرف العظيم لجبريل عليه السلام، ونظيره في حق محمد عليه الصلاة والسلام * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * (النساء: 80).
224

المسألة الثالثة: قال ابن عباس: معناه فإذا قرأه جبريل فاتبع قرآنه، وفيه وجهان الأول: قال قتادة: فاتبع حلاله وحرامه والثاني: فاتبع قراءته، أي لا ينبغي أن تكون قراءتك مقارنة لقراءة جبريل، لكن يجب أن تسكت حتى يتم جبريل عليه السلام القراءة، فإذا سكت جبريل فخذ أنت في القراءة، وهذا الوجه أولى لأنه عليه السلام أمر أن يدع القراءة ويستمع من جبريل عليه السلام، حتى إذا فرغ جبريل قرأه، وليس هذا موضع الأمر باتباع ما فيه من الحلال والحرام. قال ابن عباس: فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بعد هذه الآية أطرق واستمع فإذا ذهب قرأه.
قوله تعالى
* (ثم إن علينا بيانه) *.
فيه مسألتان:
المسألة الأولى: الآية تدل على أنه عليه السلام كان يقرأ مع قراءة جبريل عليه السلام وكان يسأل في أثناء قراءته مشكلاته، ومعانيه لغاية حرصه على العلم، فنهى النبي عليه السلام عن الأمرين جميعا، أما عن القراءة مع قراءة جبريل فبقوله: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * (القيامة: 18) وأما عن إلقاء الأسئلة في البيان فبقوله: * (ثم إن علينا بيانه) *.
المسألة الثانية: احتج من جوز تأخير البيان عن وقت الخطاب بهذه الآية. وأجاب أبو الحسين عنه من وجهين الأول: أن ظاهر الآية يقتضي وجوب تأخير البيان عن وقت الخطاب وأنتم لا تقولون به الثاني: أن عندنا الواجب أن يقرن باللفظ إشعارا بأنه ليس المراد من اللفظ ما يقتضيه ظاهره، فأما البيان التفصيلي فيجوز تأخيره فتحمل الآية على تأخير البيان التفصيلي، وذكر القفال وجها ثالثا: وهو أن قوله: * (ثم إن علينا بيانه) * أي ثم إنا نخبرك بأن علينا بيانه، ونظيره قوله تعالى: * (فك رقبة) * إلى قوله * (ثم كان من الذين آمنوا) * (البلد: 13 - 17) والجواب عن الأول: أن اللفظ لا يقتضي وجوب تأخير البيان بل يقتضي تأخير وجوب البيان،
وعندنا الأمر كذلك لأن وجوب البيان لا يتحقق إلا عند الحاجة وعن الثاني: أن كلمة ثم دخلت مطلق البيان فيتناول البيان المجمل والمفصل، وأما سؤال القفال فضعيف أيضا لأنه ترك للظاهر من غير دليل.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ثم إنا علينا بيانه) * يدل على أن بيان المجمل واجب على الله تعالى أما عندنا فبالوعد والتفضل. وأما عند المعتزلة فبالحكمة.
قوله تعالى
* (كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الاخرة) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": * (كلا) * ردع لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن عادة العجلة وحث على الأناة والتؤدة، وقد بالغ في ذلك باتباعه قوله: * (بل تحبون العاجلة) * كأنه قال: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبون العاجلة
225

وتذرون الآخرة، وقال سائر المفسرين: * (كلا) * معناه حقا أي حقا تحبون العاجلة وتذرون الآخرة، والمعنى أنهم يحبون الدنيا ويعملون لها ويتركون الآخرة ويعرضون عنها.
المسألة الثانية: قرىء تحبون وتذرون بالتاء والياء وفيه وجهان الأول: قال الفراء: القرآن إذا نزل تعريفا لحال قوم، فتارة ينزل على سبيل المخاطبة لهم. وتارة ينزل على سبيل المغايبة، كقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم) * (يونس: 22) الثاني: قال أبو علي الفارسي: الياء على ما تقدم من ذكر الإنسان في قوله: * (أيحسب الإنسان) * (القيامة: 3) والمراد منه الكثرة، كقوله: * (إن الإنسان خلق هلوعا) * (المعارج: 19) والمعنى أنهم يحبون ويذرون، والتاء على قل لهم، بل تحبون وتذرون.
قوله تعالى
* (وجوه يومئذ ناضرة) *.
قال الليث: نضر اللون والشجر والورق ينضر نضرة، والنضرة النعمة، والناضر الناعم، والنضر الحسن من كل شيء، ومنه يقال للون إذا كان مشرقا: ناضر، فيقال: أخضر ناضر، وكذلك في جميع الألوان، ومعناه الذي يكون له برق، وكذلك يقال: شجر ناضر، وروض ناضر. ومنه قوله عليه السلام: " نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها " الحديث. أكثر الرواة رواه بالتخفيف، وروى عكرمة عن الأصمعي: فيه التشديد، وألفاظ المفسرين مختلفة في تفسير الناضر، ومعناها واحد قالوا: مسرورة، ناعمة، مضيئة، مسفرة، مشرقة بهجة.
وقال الزجاج: نضرت بنعيم الجنة، كما قال: * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * (المطففين: 24).
قوله تعالى
* (إلى ربها ناظرة) *.
اعلم أن جمهور أهل السنة يتمسكون بهذه الآية في إثبات أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة. أما المعتزلة فلهم ههنا مقامان أحدهما: بيان أن ظاهره لا يدل على رؤية الله تعالى والثاني: بيان التأويل. أما المقام الأول: فقالوا: النظر المقرون بحرف إلى ليس اسما للرؤية، بل لمقدمة الرؤية وهي تقليب الحدقة نحو المرئي التماس لرؤيته، ونظر العين بالنسبة إلى الرؤية كنظر القلب بالنسبة إلى المعرفة، وكالإصغاء بالنسبة إلى السماع، فكما أن نظر القلب مقدمة للمعرفة، والإصغاء مقدمة للسماع، فكذا نظر العين مقدمة للرؤية، قالوا: والذي يدل على أن النظر ليس اسما للرؤية وجوه الأول: قوله تعالى: * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * (الأعراف: 198) أثبت النظر حال عدم الرؤية، فدل على أن النظر غير الرؤية والثاني: أن النظر يوصف بما لا توصف به الرؤية، يقال: نظر إليه نظرا شزرا، ونظر غضبان، ونظر راض، وكل ذلك لأجل أن حركة الحدقة تدل على هذه الأحوال، ولا توصف الرؤية بشئ من ذلك، فلا يقال: رآه شزرا، ورآه رؤية غضبان، أو رؤية راض الثالث: يقال: انظر إليه حتى تراه، ونظرت إليه فرأيته، وهذا يفيد كون الرؤية
226

غاية للنظر، وذلك يوجب الفرق بين النظر والرؤية الرابع: يقال: دور فلان متناظرة، أي متقابلة، فمسمى النظر حاصل ههنا، ومسمى الرؤية غير حاصل الخامس: قوله الشاعر: وجوه ناظرات يوم بدر * إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
أثبت النظر المقرون بحرف إلى مع أن الرؤية ما كانت حاصلة السادس: احتج أبو علي الفارسي على أن النظر ليس عبارة عن الرؤية، التي هي إدراك البصر، بل هو عبارة عن تقليب الحدقة نحو الجهة التي فيها الشيء الذي يراد رؤيته، لقول الشاعر: فيا مي هل يجزي بكائي بمثله * مرارا وأنفاسي إليك الزوافر
وأنى متى أشرف على الجانب الذي * به أنت من بين الجوانب ناظرا
قال: فلو كان النظر عبارة عن الرؤية لما طلب الجزاء عليه، لأن المحب لم يطلب الثواب على رؤية المحبوب، فإن ذلك من أعظم مطالبه، قال: ويدل على ذلك أيضا قول الآخر: ونظرة ذي شجن وامق * إذا ما الركائب جاوزن ميلا
والمراد منه تقليب الحدقة نحو الجانب الذي فيه المحبوب، فعلمنا بهذه الوجوه أن النظر المقرون بحرف إلى ليس اسما للرؤية السابع: أن قوله: * (إلى ربها ناظرة) * معناه أنها تنظر إلى ربها خاصة ولا تنظر إلى غيره، وهذا معنى تقديم المفعول، ألا ترى إلى قوله: * (إلى ربك يومئذ المستقر) * (القيامة: 12) إلى ربك
يومئذ المساق) * (القيامة: 30) * (ألا إلى الله تصير الأمور) * (الشورى: 53) * (وإليه ترجعون) * (البقرة: 8) * (وإلى الله المصير) * (آ ل عمران: 28) * (عليه توكلت وإليه أنيب) * (الشورى: 10) كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، ولا تدخل تحت العدد في موقف القيامة، فإن المؤمنين نظارة ذلك اليوم لأنهم الآمنون الذين * (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 62) فلما دلت الآية على أن النظر ليس إلا إلى الله، ودل العقل على أنهم يرون غير الله، علمنا أن المراد من النظر إلى الله ليس هو الرؤية الثامن: قال تعالى: * (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) * (آل عمران: 77) ولو قال: لا يراهم كفي، فلما نفى النظر، ولم ينف الرؤية دل على المغايرة، فثبت بهذه الوجوه، أن النظر المذكور في هذه الآية ليس هو الرؤية.
المقام الثاني: في بيان التأويل المفصل، وهو من وجهين الأول: أن يكون الناظر بمعنى المنتظر، أي أولئك الأقوام ينتظرون ثواب الله، وهو كقول القائل، إنما أنظر إلى فلان في حاجتي والمراد أنتظر نجاحها من جهته، وقال تعالى: * (فناظرة بم يرجع المرسلون) * (النمل: 35) وقال: * (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * (البقرة: 280) لا يقال: النظر المقرون بحرف إلى غير مستعمل في معنى الانتظار، ولأن الانتظار غم وألم، وهو لا يليق بأهل السعادة يوم القيامة، لأنا نقول: الجواب: عن الأول من وجهين الأول: النظر المقرون بحرف إلى قد يستعمل بمعنى الانتظار، والتوقع والدليل عليه أنه يقال: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، والمراد منه التوقع والرجاء، وقال الشاعر:
وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك زدتني نعما
227

وتحقيق الكلام فيه أن قولهم في الانتظار نظرت بغير صلة، فإنما ذلك في الانتظار لمجيء الإنسان بنفسه، فأما إذا كان منتظرا لرفده ومعونته، فقد يقال فيه: نظرت إليه كقول الرجل، وإنما نظري إلى الله ثم إليك، وقد يقول ذلك من لا يبصر، ويقول الأعمى في مثل هذا المعنى: عيني شاخصة إليك، ثم إن سلمنا ذلك لكن لا نسلم إن المراد من إلى ههنا حرف التعدي. بل هو واحد الآلاء، والمعنى: وجوه يومئذ ناضرة نعمة ربها منتظرة.
وأما السؤال الثاني: وهو أن الانتظار غم وألم، فجوابه أن المنتظر. إذا كان فيما ينتظره على يقين من الوصول إليه، فإنه يكون في أعظم اللذات.
التأويل الثاني: أن يضمر المضاف، والمعنى إلى ثواب ربها ناظرة، قالوا: وإنما صرنا إلى هذا التأويل، لأنه لما دلت الدلائل السمعية والعقلية على أنه تعالى تمتنع رؤيته وجب المصير إلى التأويل، ولقائل أن يقول: فهذه الآية تدل أيضا على أن النظر ليس عبارة عن تقليب الحدقة، لأنه تعالى قال: لا ينظر إليهم وليس المراد أنه تعالى يقلب الحدقة إلى جهنم فإن قلتم: المراد أنه لا ينظر إليهم نظر الرحمة كان ذلك جوابنا عما قالوه.
التأويل الثالث: أن يكون معنى: * (إلى ربها ناظرة) * أنها لا تسأل ولا ترغب إلا إلى الله، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " اعبد الله كأنك تراه " فأهل القيامة لشدة تضرعهم إليه وانقطاع أطماعهم عن غيره صاروا كأنهم ينظرون إليه الجواب: قوله: ليس النظر عبارة عن الرؤية، قلنا: ههنا مقامان:
الأول: أن تقيم الدلالة على أن النظر هو الرؤية من وجهين: الأول: ما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام وهو قوله: * (أنظر إليك) * (الأعراف: 143) فلو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي، لاقتضت الآية أن موسى عليه السلام أثبت لله تعالى وجهة ومكانا وذلك محال الثاني: أنه جعل النظر أمرا مرتبا على الإرادة فيكون النظر متأخرا عن الإرادة، وتقليب الحدقة غير متأخر عن الإرادة، فوجب أن يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة إلى جانب المرئي.
المقام الثاني: وهو الأقرب إلى الصواب، سلمنا أن النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي التماسا لرؤيته، لكنا نقول: لما تعذر حمله على حقيقته وجب حمله على مسببه وهو الرؤية، إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وحمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار، لأن تقليب الحدقة كالسبب للرؤية ولا تعلق بينه وبين الانتظار، فكان حمله على الرؤية أولى من حمله على الانتظار. أما قوله: النظر جاء بمعنى الانتظار، قلنا: لنا في الجواب مقامان: الأول: أن النظر الوارد بمعنى الانتظار كثير في القرآن، ولكنه لم يقرن البتة بحرف إلى كقوله تعالى: * (انظرونا نقتبس من نوركم) * (الحديد: 13) وقوله: * (هل ينظرون إلا تأويله) * (الأعراف: 53) * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) * (البقرة: 210) والذي ندعيه أن النظر المقرون بحرف إلى المعدي إلى الوجوه ليس إلا بمعنى الرؤية
228

أو بالمعنى الذي يستعقب الرؤية ظاهر، فوجب أن لا يرد بمعنى الانتظار دفعا للاشتراك.
وأما قول الشاعر: وجوه ناظرات يوم بدر * إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
قلنا: هذا الشعر موضوع والرواية الصحيحة: وجوه ناظرات يوم بكر * إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن مسيلمة الكذاب، لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء، وأما قول الشاعر: وإذا نظرت إليك من ملك فالجواب: أن قوله: وإذا نظرت إليك، لا يمكن أن يكون المراد منه الانتظار، لأن مجرد الانتظار لا يستعقب العطية بل المراد من قوله: وإذا نظرت إليك، وإذا سألتك لأن النظر إلى الإنسان مقدمة المكالمة فجاز التعبير عنه به، وقوله: كلمة إلى ههنا ليس المراد منه حرف التعدي بل واحد الآلاء، قلنا: إن إلى على هذا القول تكون اسما للماهية التي يصدق عليه أنها نعمة، فعلى هذا يكفي في تحقق مسمى هذه اللفظة أي جزء فرض من أجزاء النعمة، وإن كان في غاية القلة والحقارة، وأهل الثواب يكونون في جميع مواقف القيامة في النعم العظيمة المتكاملة، ومن كان حاله كذلك كيف يمكن أن يبشر بأنه يكون في توقع الشيء الذي ينطلق عليه اسم النعمة، ومثال هذا أن يبشر سلطان الأرض بأنه سيصير حالك في العظمة والقوة بعد سنة، بحيث تكون متوقعا لحصول اللقمة الواحدة من الخبز والقطرة الواحدة من الماء، وكما أن ذلك فاسد من القول: فكذا هذا.
المقام الثاني: هب أن النظر المعدي بحرف إلى المقرون بالوجوه جاء في اللغة بمعنى الانتظار لكن لا يمكن حمل هذه الآية عليه، لأن لذة الانتظار مع يقين الوقوع كانت حاصلة في الدنيا، فلا بد وأن يحصل في الآخرة شيء أزيد منه حتى يحسن ذكره في معرض الترغيب في الآخرة، ولا يجوز أن يكون ذلك هو قرب الحصول، لأن ذلك معلوم بالعقل فبطل ما ذكروه من التأويل.
وأما التأويل الثاني: وهو أن المراد إلى ثواب ربها ناظرة، فهذا ترك للظاهر، وقوله: إنما صرنا إليه لقيام الدلائل العقلية والنقلية على أن الله لا يرى، قلنا: بينا في الكتب العقلية ضعف تلك الوجوه، فلا حاجة ههنا إلى ذكرها والله أعلم.
وقوله تعالى:
* (ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) *.
الباسر: الشديد العبوس والباسل أشد منه، ولكنه غلب في الشجاع إذا اشتد كلوحه، والمعنى أنها عابسة كالحة قد
229

أظلمت ألوانها وعدمت آثار السرور والنعمة منها، لما أدركها من الشقاء واليأس من رحمة الله، ولما سودها الله حين ميز الله أهل الجنة والنار، وقد تقدم تفسير البسور عند قوله: * (عبس وبسر) * (المدثر: 22) وإنما كانت بهذه الصفة، لأنها قد أيقنت أن العذاب نازل، وهو قوله: * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * والظن ههنا بمعنى اليقين، هكذا قاله المفسرون، وعندي أن الظن إنما ذكر ههنا على سبيل التهكم كأنه قيل: إذا شاهدوا تلك الأحوال، حصل فيهم ظن أن القيامة حق، وأما الفاقرة، فقال أبو عبيدة: الفاقرة الداهية، وهو اسم للوسم الذي يفقر به على الأنف، قال الأصمعي: الفقر أن يحز أنف البعير حتى يخلص إلى العظم، أو قريب منه، ثم يجعل فيه خشبة يجر البعير بها، ومنه قيل: عملت به الفاقرة، قال المبرد: الفاقرة داهية تكسر الظهر، وأصلها من الفقرة والفقارة كأن الفاقرة داهية تكسر فقار الظهر، وقال ابن قتيبة: يقال فقرت الرجل، كما يقال رأسته وبطنته فهو مفقور، واعلم أن من المفسرين من فسر الفاقرة بأنواع العذاب في النار، وفسرها الكلبي فقال: الفاقرة هي أن تحجب عن رؤية ربها ولا تنظر إليه.
* (كلا إذا بلغت التراقى) *.
قوله تعالى: * (كلا) * قال الزجاج: كلا ردع عن إيثار الدنيا على الآخرة، كأنه قيل: لما عرفتم صفة سعادة السعداء وشقاوة الأشقياء في الآخرة، وعلمتم أنه لا نسبة لها إلى الدنيا، فارتدعوا عن إيثار الدنيا على الآخرة، وتنبهوا على ما بين أيديكم من الموت الذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، وتنتقلون إلى الآجلة التي تبقون فيها مخلدين، وقال آخرون: * (كلا) * أي حقا إذا بلغت التراقي كان كذا وكذا، والمقصود أنه لما بين تعظيم أحوال الآخرة بين أن الدنيا لا بد فيها من الانتهاء والنفاد والوصول إلى تجرع مرارة الموت. وقال مقاتل: * (كلا) * أي لا يؤمن الكافر بما ذكر من أمر القيامة، ولكنه لا يمكنه أن يدفع أنه لا بد من الموت، ومن تجرع آلامها، وتحمل آفاتها. ثم إنه تعالى وصف تلك الحالة التي تفارق الروح فيها الجسد فقال: * (إذا بلغت التراقي) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المراد إذا بلغت النفس أو الروح أخبر عما لم يجر له ذكر لعلم المخاطب بذلك، كقوله: * (إنا أنزلناه) * والتراقي جمع ترقوة. وهي عظم وصل بين ثغرة النحر، والعاتق من الجانبين.
واعلم أنه يكنى ببلوغ النفس التراقي عن القرب من الموت، ومنه قول دريد بن الصمة: ورب عظيمة دافعت عنها * وقد بلغت نفوسهم التراقي
ونظيره قوله تعالى: * (وبلغت الحلقوم) * (الأحزاب: 10).
المسألة الثالثة: قال بعض الطاعنين: إن النفس إنما تصل إلى التراقي بعد مفارقتها عن القلب
230

ومتى فارقت النفس القلب حصل الموت لا محالة، والآية تدل على أن عند بلوغها التراقي، تبقى الحياة حتى يقال فيه: من راق، وحتى تلتف الساق بالساق والجواب: المراد من قوله: * (حتى إذا بلغت التراقي) * أي إذا حصل القرب من تلك الحالة.
* (وقيل من راق) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في راق وجهان الأول: أن يكون من الرقية يقال: رقاه يرقيه رقية إذا عوذه بما يشفيه، كما يقال: بسم الله أرقيك، وقائل هذا القول على هذا الوجه، هم الذين يكونون حول الإنسان المشرف على الموت، ثم هذا الاستفهام، يحتمل أن يكون بمعنى الطلب كأنهم طلبوا له طبيبا يشفيه، وراقيا يرقيه، ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، كما يقول القائل عند اليأس: من الذي يقدر أن يرقي هذا الإنسان المشرف على الموت الوجه الثاني: أن يكون قوله: * (من راق) * من رقى يرقي رقيا، ومنه قوله تعالى: * (ولن نؤمن لرقيك) * وعلى هذا الوجه يكون قائل هذا القول هم الملائكة. قال ابن عباس: إن الملائكة يكرهون القرب من الكافر، فيقول ملك الموت من يرقى بهذا الكافر، وقال الكلبي: يحضر العبد عند الموت سبعة أملاك من ملائكة الرحمة، وسبعة من ملائكة العذاب مع ملك الموت، فإذا بلغت نفس العبد التراقي نظر بعضهم إلى بعض، أيهم يرقى بروحه إلى السماء فهو * (من راق) *.
المسألة الثانية: قال الواحدي إن إظهار النون عند حروف الفم لحسن، فلا يجوز إظهار نون من في قوله: * (من راق) * وروى حفص عن عاصم إظهار النون في قوله: * (من راق) * و * (بل ران) * (المطففين: 14) قال أبو علي الفارسي، ولا أعرف وجه ذلك، قال الواحدي، والوجه أن يقال: قصد الوقف على من وبل، فأظهرها ثم ابتدأ بما بعدهما، وهذا غير مرضي من القراءة.
* (وظن أنه الفراق) *.
قال المفسرون: المراد أنه أيقن بمفارقته الدنيا، ولعله إنما سمي اليقين ههنا بالظن، لأن الإنسان ما دام يبقى روحه متعلقا ببدنه، فإنه يطمع في الحياة لشدة حبه لهذه الحياة العاجلة على ما قال: * (كلا بل تحبون العاجلة) * (القيامة: 20) ولا ينقطع رجاؤه عنها فلا يحصل له يقين الموت، بل الظن الغالب مع رجاء الحياة، أو لعله سماه بالظن على سبيل التهكم.
واعلم أن الآية دالة على أن الروح جوهر قائم بنفسه باق بعد موت البدن، لأنه تعالى سمى الموت فراقا، والفرق إنما يكون لو كانت الروح باقية، فإن الفراق والوصال صفة، والصفة تستدعي وجود الموصوف. ثم قال تعالى:
* (والتفت الساق بالساق) *.
الالتفاف هو الاجتماع، كقوله تعالى: * (جئنا بكم
231

لفيفا) * (الإسراء: 104) وفي الساق قولان: القول الأول: أنه الأمر الشديد، قال أهل المعاني: لأن الإنسان إذا دهمته شدة شمر لها عن ساقه، فقيل للأمر الشديد: ساق، وتقول العرب: قامت الحرب على ساق، أي اشتدت، قال الجعدي: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
ثم قال: والمراد بقوله: * (التفت الساق بالساق) * أي التفت شدة مفارقة الدنيا ولذاتها وشدة الذهاب، أو التفت شدة ترك الأهل، وترك الولد، وترك المال، وترك الجاه، وشدة شماتة الأعداء، وغم الأولياء، وبالجملة فالشدائد هناك كثيرة، كشدة الذهاب إلى الآخرة والقدوم على الله، أو التفت شدة ترك الأحباب والأولياء، وشدة الذهاب إلى دار الغربة والقول الثاني: أن المراد من الساق هذا العضو المخصوص، ثم ذكروا على هذا القول وجوها أحدها: قال الشعبي وقتادة: هما ساقاه عند الموت أما رأيته في النزع كيف يضرب بإحدى رجليه على الأخرى والثاني: قال الحسن وسعيد بن المسيب: هما ساقاه إذا التفتا في الكفن والثالث: أنه إذا مات يبست ساقاه، والتصقت إحداهما بالأخرى.
ثم قال تعالى:
* (إلى ربك يومئذ المساق) *.
المساق مصدر من ساق يسوق، كالمقال من قال يقول، ثم فيه وجهان أحدهما: أن يكون المراد أن المسوق إليه هو الرب والثاني: أن يكون المراد أن السائق في ذلك اليوم هو الرب، أي سوق هؤلاء مفوض إليه.
* (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب وتولى * ثم ذهب إلى أهله يتمطى) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى شرح كيفية عمله فيما يتعلق بأصول الدين وبفروعه، وفيما يتعلق بدنياه. أما ما يتعلق بأصول الدين فهو أنه ما صدق بالدين، ولكنه كذب به، وأما ما يتعلق بفروع الدين، فهو أنه ما صلى ولكنه تولى وأعرض، وأما ما يتعلق بدنياه، فهو أنه ذهب إلى أهله يتمطى، ويتبختر، ويختال في مشيته، واعلم أن الآية دالة على أن الكافر يستحق الذم والعقاب بترك الصلاة كما يستحقهما بترك الإيمان.
المسألة الثانية: قوله: * (فلا صدق) * حكاية عمن؟ فيه قولان: الأول: أنه كناية عن الإنسان في قوله: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) * (القيامة: 3) ألا ترى إلى قوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) * (القيامة: 36) وهو معطوف على قوله: * (يسأل أيان يوم القيامة) * (القيامة: 6) والقول الثاني: أن الآية نزلت في أبي جهل.
232

المسألة الثانية: في يتمطى قولان: أحدهما: أن أصله يتمطط أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه، فقلبت الطاء فيه ياء، كما قيل: في تقصى أصله تقصص والثاني: من المطا وهو الظهر لأنه يلويه، وفي الحديث: " إذا مشت أمتي المطيطي " أي مشية المتبختر.
المسألة الرابعة: قال أهل العربية: * (لا) * ههنا في موضع لم فقوله: * (فلا صدق ولا صلى) * أي لم يصدق ولم يصل، وهو كقوله: * (فلا اقتحم العقبة) * (البلد: 11) أي لم يقتحم، وكذلك ما روي في الحديث: " أرأيت من لا أكل ولا شرب، ولا استهل " قال الكسائي: لم أر العرب قالت في مثل هذا كلمة وحدها حتى تتبعها بأخرى، إما مصرحا أو مقدرا، أما المصرح فلا يقولون: لا عبد الله خارج حتى يقولون، ولا فلان، ولا يقولون: مررت برجل لا يحسن حتى يقولوا، ولا يجمل، وأما المقدر فهو كقوله: * (فلا اقتحم العقبة) * ثم اعترض الكلام، فقال: * (وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام) * (البلد: 12، 14) وكان التقدير لا فك رقبة، ولا أطعم مسكينا، فاكتفى به مرة واحدة، ومنهم من قال التقدير في قوله: * (فلا اقتحم) * أي أفلا اقتحم، وهلا اقتحم.
* (أولى لك فأولى * ثم أولى لك فأولى) *.
قال قتادة والكلبي ومقاتل: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد أبي جهل.
ثم قال: * (أولى لك فأولى) * توعده، فقال أبو جهل: بأي شيء تهددني؟ لا تستطع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، وإني لأعز أهل هذا الوادي، ثم انسل ذاهبا، فأنزل الله تعالى كما قال له الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعنى قوله: * (أولى لك) * بمعنى ويل لك، وهو دعاء عليه، بأن يليه ما يكرهه، قال القاضي: المعنى بعد ذلك، فبعدا (لك) في أمر دنياك، وبعدا لك، في أمر أخراك، وقال آخرون: المعنى الويل لك مرة بعد ذلك، وقال القفال: هذا يحتمل وجوها أحدها: أنه وعيد
مبتدأ من الله للكافرين والثاني: أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه فاستنكره عدو الله لعزته عند نفسه، فأنزل الله تعالى مثل ذلك والثالث: أن يكون ذلك أمرا من الله لنبيه، بأن يقولها لعدو الله، فيكون المعنى * (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) * (القيامة: 33) فقل له: يا محمد: * (أولى لك فأولى) * أي احذر، فقد قرب منك مالا قبل لك به من المكروه.
* (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) *.
أي مهملا لا يؤمر، ولا ينهى، ولا يكلف في الدنيا ولا يحاسب بعمله في الآخرة، والسدي في اللغة المهمل يقال: أسديت إبلي إسداء أهملتها. واعلم أنه تعالى لما ذكر في أول السورة، قوله: * (أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه) * (القيامة: 3) أعاد في آخر السورة ذلك، وذكر في صحة البعث والقيامة دليلين الأول: قوله: * (أيحسب الإنسان
233

أن يترك سدى) * (القيامة: 36) ونظيره قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) وقوله: * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28) وتقريره أن إعطاء القدرة والآلة والعقل بدون التكليف والأمر بالطاعة والنهي عن المفاسد يقتضي كونه تعالى راضيا بقبائح الأفعال، وذلك لا يليق بحكمته، فإذا لا بد من التكليف والتكليف لا يحسن ولا يليق بالكريم الرحيم إلا إذا كان هناك دار الثواب والبعث والقيامة. الدليل الثاني: على صحة القول بالحشر الاستدلال بالخلقة الأولى على الإعادة، وهو المراد من قوله تعالى.
* (ألم يك نطفة من منى يمنى) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: النطفة هي الماء القليل وجمعها نطاف ونطف، يقول: ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة؟ وقوله: * (من مني يمنى) * أي يصب في الرحم، وذكرنا الكلام في يمنى عند قوله: * (من نطفة إذا تمنى) * (النجم: 46) وقوله: * (أفرأيتم ما تمنون) * (الواقعة: 58) فإن قيل: ما الفائدة في يمنى في قوله: * (من مني يمنى) *؟ قلنا: فيه إشارة إلى حقارة حاله، كأنه قيل: إنه مخلوق من المني الذي جرى على مخرج النجاسة، فلا يليق بمثل هذا الشيء أن يتمرد عن طاعة الله تعالى إلا أنه عبر عن هذا المعنى، على سبيل الرمز كما في قوله تعالى في عيسى ومريم: * (كانا يأكلان الطعام) * (المائدة: 75) والمراد منه قضاء الحاجة.
المسألة الثانية: في يمنى في هذه السورة قراءتان التاء والياء، فالتاء للنطفة، على تقدير ألم يك نطفة تمنى من المني، والياء للمني من مني يمنى، أي يقدر خلق الإنسان منه.
* (ثم كان علقة فخلق فسوى) *.
قوله تعالى: * (ثم كان علقة) * أي الإنسان كان علقة بعد النطفة.
أما قوله تعالى: * (فخلق فسوى) * ففيه وجهان الأول: فخلق فقدر فسوى فعدل الثاني: فخلق، أي فنفخ فيه الروح، فسوى فكمل أعضاءه، وهو قول ابن عباس ومقاتل.
* (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى) *.
ثم قال تعالى: * (فجعل منه) * أي من الإنسان * (الزوجين) * يعني الصنفين. ثم فسرهما فقال: * (الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) * والمعنى أليس ذلك الذي أنشأ هذه الأشياء بقادر على الإعادة، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال: سبحانك بلى والحمد لله رب العالمين. وصلاته على سيدنا محمد سيد المرسلين وآله وصحبه وسلم.
234

سورة الإنسان
إحدى وثلاثون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) *.
اتفقوا على أن * (هل) * ههنا وفي قوله تعالى: * (هل أتاك حديث الغاشية) * (الغاشية: 1) بمعنى قد، كما تقول: هل رأيت صنيع فلان، وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل وعظتك هل أعطيتك، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته، وقد تجيء بمعنى الجحد، تقول: وهل يقدر أحد على مثل هذا، وأما أنها تجيء بمعنى الاستفهام فظاهر، والدليل على أنها ههنا ليست بمعنى الاستفهام وجهان الأول: ما روي أن الصديق رضي الله عنه لما سمع هذه الآية قال: يا ليتها كانت تمت فلا نبتلي، ولو كان ذلك استفهاما لما قال: ليتها تمت، لأن الاستفهام، إنما يجاب بلا أو بنعم، فإذا كان المراد هو الخبر، فحينئذ يحسن ذلك الجواب الثاني: أن الاستفهام على الله تعالى محال فلا بد من حمله على الخبر. المسألة الأولى: اختلفوا في الإنسان المذكور ههنا فقال: جماعة من المفسرين يريد آدم عليه السلام، ومن ذهب إلى هذا قال: إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية ثم عقب بذكر ولده في قوله: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه) * (الإنسان: 2)، والقول الثاني: أن المراد بالإنسان بنو آدم بدليل قوله: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة) * فالإنسان في الموضعين واحد، وعلى هذا التقدير يكون نظم الآية أحسن.
المسألة الثانية: * (حين) * فيه قولان: الأول: أنه طائفة من الزمن الطويل الممتد وغير مقدر في نفسه والثاني: أنه مقدر بالأربعين، فمن قال: المراد بالإنسان هو آدم قال المعنى: أنه مكث آدم عليه السلام أربعين سنة طينا إلى أن نفخ فيه الروح، وروى عن ابن عباس أنه بقي طينا أربعين سنة وأربعين من صلصال وأربعين من حمأ مسنون فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة، فهو في هذه المدة ما كان شيئا مذكورا، وقال الحسن: خلق الله تعالى كل الأشياء ما يرى وما لا يرى من دواب البر والبحر في الأيام الستة التي خلق فيها السماوات والأرض وآخر ما خلق آدم عليه السلام وهو قوله: * (لم يكن شيئا مذكورا) * فإن قبل: إن الطين والصلصال والحمأ المسنون قبل نفخ
235

الروح فيه ما كان إنسانا، والآية تقتضي أنه قد مضى على الإنسان حال كونه إنسانا حين من الدهر مع أنه في ذلك الحين ما كان شيئا مذكورا، قلنا: إن الطين والصلصال إذا كان مصورا بصورة الإنسان ويكون محكوما عليه بأنه سينفخ فيه الروح وسيصير إنسانا صح تسميته بأنه إنسان، والذين يقولون الإنسان هو النفس الناطقة، وإنها موجودة فبل وجود الأبدان، فالإشكال عنهم زائل واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، ومتى كان كذلك فلا بد من محدث قادر.
المسألة الثالثة: لم يكن شيئا مذكورا محله النصب على الحال من الإنسان كأنه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور أو الرفع على الوصف لحين، تقديره: هل أتى على الإنسان حين لم يكن فيه شيئا.
* (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا) *.
قوله تعالى: * (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: المشج: في اللغة الخلط، يقال: مشج يمشج مشجا إذا خلط، والأمشاج الأخلاط، قال ابن الأعرابي: واحدها مشج ومشيج، ويقال للشيء إذا خلط: مشيج كقولك: خليط وممشوج، كقولك مخلوط. قال الهذلي: كأن الريش والفوقين منه * خلاف النصل شط به مشيج
يصف السهم بأنه قد بعد في الرمية فالتطخ ريشه وفرقاه بدم يسير، قال صاحب " الكشاف ": الأمشاج لفظ مفرد، وليس يجمع بدليل أنه صفة للمفرد وهو قوله: * (نطفة أمشاج) * ويقال أيضا: نطفة مشيج، ولا يصح أن يكون أمشاجا جمعا للمشج بل هما مثلان في الإفراد ونظيره برمة أعشار أي قطع مسكرة، وثوب أخلاق وأرض سباسب، واختلفوا في معنى كون النطفة مختلطة فالأكثرون على أنه اختلاط نطفة الرجل بنطفة المرأة كقوله: * (يخرج من بين الصلب والترائب) * (الطارق: 7) قال ابن عباس هو اختلاط ماء الرجل وهو أبيض غليظ وماء المرأة وهو أصفر رقيق فيختلطان ويخلق الولد منهما، فما كان من عصب وعظم وقوة فمن نطفة الرجل، وما كان من لحم ودم فمن ماء المرأة، قال مجاهد: هي ألوان النطفة فنطفة الرجل بيضاء ونطفة المرأة صفراء، وقال عبد الله أمشاجها عروقها، وقال الحسن: يعني من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة وذلك أن المرأة إذا تلقت ماء الرجل وحبلت أمسك حيضها فاختلطت النطفة بالدم، وقال قتادة: الأمشاج هو أنه يختلط الماء والدم أولا ثم يصير علقة ثم يصير مضغة، وبالجملة فهو عبارة عن انتقال ذلك الجسم من صفة إلى صفة، ومن حال إلى حال. وقال قوم: إن الله تعالى جعل في النطفة أخلاطا من الطبائع التي تكون في الإنسان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والتقدير من نطفة ذات أمشاج فحذف المضاف وتم الكلام، قال بعض العلماء: الأولى هو أن المراد اختلاط نطفة الرجل والمرأة
236

لأن الله تعالى وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا صارت علقة فلم يبق فيها وصف أنها نطفة، ولكن هذا الدليل لا يقدح في أن المراد كونها أمشاجا من الأرض والماء والهواء والحار. أما قوله تعالى: * (نبتليه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: نبتليه معناه لنبتليه، وهو كقول الرجل: جئتك أقضي حقك، أي لأقضي حقك، وأتيتك أستمنحك، أي لأستمنحك، كذا قوله: * (نبتليه) * أي لنبتليه ونظيره قوله: * (ولا تمنن تستكثر) * (المدثر: 6) أي لتستكثر.
المسألة الثانية: نبتليه في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، يعني مريدين ابتلاءه.
المسألة الثالثة: في الآية قولان: أحدهما: أن فيه تقديما وتأخيرا، والمعنى * (فجعلناه سميعا بصيرا) * لنبتليه والقول الثاني: أنه لا حاجة إلى هذا التغيير، والمعنى إنا خلقناه من هذه الأمشاج لا للبعث، بل للابتلاء والامتحان.
ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر، فقال: * (فجعلنا سميعا بصيرا) * والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: * (لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر) * (مريم: 42) وأيضا قد يراد بالسميع المطيع، كقوله سمعا وطاعة، وبالبصير العالم يقال: فلان بصير في هذا الأمر، ومنهم من قال: بل المراد بالسمع والبصر الحاستان المعروفتان. والله تعالى خصهما بالذكر، لأنهما أعظم الحواس وأشرفها.
* (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) *.
قوله تعالى: * (إنا هديناه السبيل) * أخبر الله تعالى أنه بعد أن ركبه وأعطاه الحواس الظاهرة والباطنة بين له سبيل الهدى والضلال، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل والأمر كذلك لأن الإنسان خلق في مبدأ الفطرة خاليا عن معرفة الأشياء، إلا أنه أعطاه آلات تعينه على تحصيل تلك المعارف، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، فإذا أحس بالمحسوسات تنبه لمشاركات بينها ومباينات، ينتزع منها عقائد صادقة أولية، كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان وأن الكل أعظم من الجزء، وهذه العلوم الأولية هي آلة العقل لأن بتركيباتها يمكن التوصل إلى استعلام المجهولات النظرية، فثبت أن الحس مقدم في الوجود على العقل، ولذلك قيل: من فقد حسا فقد علما، ومن قال: المراد من كونه سميعا بصيرا هو العقل، قال: إنه لما بين في الآية الأولى أنه
أعطاه العقل بين في هذه الآية، أنه إنما أعطاه العقل ليبين له السبيل ويظهر له أن الذي يجب فعله ما هو. والذي لا يجوز ما هو.
المسألة الثانية: السبيل هو الذي يسلك من الطريق، فيجوز أن يكون المراد بالسبيل
237

ههنا سبيل الخير والشر والنجاة والهلاك، ويكون معنى هديناه، أي عرفناه وبينا كيفية كل واحد منهما له، كقوله تعالى: * (وهديناه النجدين) * (البلد: 10) ويكون السبيل اسما للجنس، فلهذا أفرد لفظه كقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر) * (العصر: 2) ويجوز أن يكون المراد بالسبيل، هو سبيل الهدى لأنها هي الطريقة المعروفة المستحقة لهذا الاسم على الإطلاق، فأما سبيل الضلالة فإنما هي سبيل بالإضافة، ألا ترى إلى قوله تعالى: * (إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل) * (الأحزاب: 67) وإنما أضلوهم سبيل الهدى، ومن ذهب إلى هذا جعل معنى قوله: * (هديناه) * أي أرشدناه، وإذا أرشد لسبيل الحق، فقد نبه على تجنب ما سواها، فكان اللفظ دليلا على الطريقين من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: المراد من هداية السبيل خلق الدلائل، وخلق العقل الهادي وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب، كأنه تعالى قال: خلقتك للابتلاء ثم أعطيتك كل ما تحتاج إليه * (ليهلك من هلك عن بينة) * (الأنفال: 42) وليس معناه خلقنا الهداية، ألا ترى أنه ذكر السبيل، فقال: * (هديناه السبيل) * أي أريناه ذلك.
المسألة الرابعة: قال الفراء: هديناه السبيل، وإلى السبيل وللسبيل، كل ذلك جائز في اللغة.
قوله تعالى: * (إما شاكرا وإما كفورا) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية أقوال: الأول: أن شاكر أو كفورا حالان من الهاء، في هديناه السبيل، أي هديناه السبيل كونه شاكرا وكفورا، والمعنى أن كل ما يتعلق بهداية الله وإرشاده، فقد تم حالتي الكفر والإيمان.
والقول الثاني: أنه انتصب قوله شاكرا وكفورا بإضمار كان، والتقدير سواء كان شاكرا أو كان كفورا.
والقول الثالث: معناه إنا هديناه السبيل، ليكون إما شاكرا وإما كفورا أي ليتميز شكره من كفره وطاعته من معصيته كقوله: * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (هود: 7) وقوله: * (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا) * (العنكبوت: 3) وقوله: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) * (محمد: 31) قال القفال: ومجاز هذه الكلمة على هذا التأويل قول القائل، قد نصحت لك إن شئت فأقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت فتحذف الفاء فكذا المعنى: إنا هديناه السبيل فإما شاكرا وإما كفورا، فتحذف الفاء وقد يحتمل أن يكون ذلك على جهة الوعيد أي إنا هديناه السبيل فإن شاء فليكفر وإن شاء فليشكر، فإنا قد أعتدنا للكافرين كذا وللشاكرين كذا، كقوله: * (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29).
القول الرابع: أن يكونا حالين من السبيل أي عرفناه السبيل، أي إما سبيلا شاكرا، وإما سبيلا كفورا، ووصف السبيل بالشكر والكفر مجاز.
238

واعلم أن هذه الأقوال كلها لائقة بمذهب المعتزلة.
والقول الخامس: وهو المطابق لمذهب أهل السنة، واختيار الفراء أن تكون إما هذه الآية كإما في قوله: * (إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) * (التوبة: 106) والتقدير: * (إنا هديناه السبيل) * ثم جعلناه تارة * (شاكرا) * أو تارة * (كفورا) * ويتأكد هذا التأويل بما روي أنه قرأ أبو السمال بفتح الهمزة في * (أما) *، والمعنى أما شاكرا فبتوفيقنا وأما كفورا فبخذلاننا، قالت المعتزلة: هذا التأويل باطل، لأنه تعالى ذكر بعد هذه الآية تهديد الكفار فقال: * (إنا أعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا) * (الإنسان: 4) ولو كان كفر الكافر من الله وبخلقه لما جاز منه أن يهدده عليه، ولما بطل هذا التأويل ثبت أن الحق هو التأويل الأول وهو أنه تعالى هدى جميع المكلفين سواء آمن أو كفر، وبطل بهذا قول المجبرة أنه تعالى لم يهد الكافر إلى الإيمان، أجاب أصحابنا بأنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يؤمن ثم كلفه بأن يؤمن فقد كلفه بأن يجمع بين العلم بعدم الإيمان ووجود الإيمان وهذا تكليف بالجمع بين المتنافيين، فإن لم يصر هذا عذرا في سقوط التهديد والوعيد جاز أيضا أن يخلق الكفر فيه ولا يصير ذلك عذرا في سقوط الوعيد وإذا ثبت هذا ظهر أن هذا التأويل هو الحق، وأن التأويل اللائق بقول المعتزلة: ليس بحق، وبطل به قول المعتزلة.
المسألة الثانية: أنه تعالى ذكر نعمه على الإنسان فابتدأ بذكر النعم الدنيوية، ثم ذكر بعده النعم الدينية، ثم ذكر هذه القسمة.
واعلم أنه لا يمكن تفسير الشاكر والكفور بمن يكون مشتغلا بفعل الشكر وفعل الكفران وإلا لم يتحقق الحصر، بل المراد من الشاكر الذي يكون مقرا معترفا بوجوب شكر خالقه عليه والمراد من الكفور الذي لا يقر بوجوب الشكر عليه، إما لأنه ينكر الخالق أو لأنه وإن كان يثبته لكنه ينكر وجوب الشكر عليه، وحينئذ يتحقق الحصر وهو أن المكلف، إما أن يكون شاكرا وإما أن يكون كفورا، واعلم أن الخوارج احتجوا بهذه الآية على أنه لا واسطة بين المطيع والكافر، قالوا: لأن الشاكر هو المطيع، والكفور هو الكافر، والله تعالى نفى الواسطة وذلك يقتضي أن يكون كل ذنب كفرا، وأن يكون كل مذنب كافرا، واعلم أن البيان الذي لخصناه يدفع هذا الإشكال، فإنه ليس المراد من الشاكر الذي يكون مشتغلا بفعل الشكر فإن ذلك باطل طردا وعكسا، أما الطرد فلأن اليهودي قد يكون شاكرا لربه مع أنه لا يكون مطيعا لربه، والفاسق قد يكون شاكرا لربه، مع أنه لا يكون مطيعا لربه، وأما العكس فلأن المؤمن قد لا يكون مشتغلا بالشكر ولا بالكفران، بل يكون ساكنا غافلا عنهما، فثبت أنه لا يمكن تفسير الشاكر بذلك، بل لا بد وأن يفسر الشاكر بمن يقر بوجوب الشكر والكفور بمن لا يقر بذلك، وحينئذ يثبت الحصر، ويسقط سؤالهم بالكلية والله أعلم.
239

* (إنآ أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الابرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) *.
قوله تعالى: * (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الفريقين أتبعهما بالوعيد والوعد، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الاعتداد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيدا حاضرا متى احتيج إليه، كقوله تعالى: * (هذا ما لدي عتيد) * (ق: 23) وأما السلاسل فتشد بها أرجلهم، وأما الأغلال فتشد بها أيديهم إلى رقابهم، وأما السعير فهو النار التي تسعر عليهم فتوقد فيكونون حطبا لها، وهذا من أغلظ أنواع الترهيب والتخويف.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الجحيم بسلاسلها وأغلالها مخلوقة، لأن قوله تعالى: * (أعتدنا) * أخبار عن الماضي، قال القاضي: إنه لما توعد بذلك على التحقيق صار كأنه موجود، قلنا: هذا الذي ذكرتم ترك للظاهر فلا يصار إليه إلا لضرورة.
المسألة الثالثة: قرىء سلاسلا بالتنوين، وكذلك * (قواريرا قواريرا) * ومنهم من يصل بغير تنوين، ويقف بالألف فلمن نون وصرف وجهان أحدهما: أن الأخفش قال: قد سمعنا من العرب صرف جميع مالا ينصرف، قال: وهذا لغة الشعراء لأنهم اضطروا إليه في الشعر فصرفوه، فجرت ألسنتهم على ذلك الثاني: أن هذه الجموع أشبهت الآحاد، لأنهم قالوا صواحبات يوسف، فلما جمعوه جمع الآحاد المنصرفة جعلوها في حكمها فصرفوها، وأما من ترك الصرف فإنه جعله كقوله: * (لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد) * (الحج: 40) وأما إلحاق الألف في الوقف فهو كإلحاقها في قوله: * (الظنونا، والرسولا، والسبيلا) * فيشبه ذلك بالإطلاق في القوافي.
ثم إنه تعالى ذكر ما أعد للشاكرين الموحدين فقال: * (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) * الأبرار جمع بر، كالأرباب جمع رب، والقول في حقيقة البر قد تقدم في تفسير قوله تعالى: * (ولكن البر من آمن بالله) * (البقرة: 177) ثم ذكر من أنواع نعيمهم صفة مشروبهم، فقال: * (يشربون من كأس) * يعني من إناء فيه الشراب، ولهذا قال ابن عباس ومقاتل: يريد الخمر، وفي الآية سؤالان: السؤال الأول: أن مزج الكافور بالمشروب لا يكون لذيذا، فما السبب في ذكره ههنا؟ الجواب: من وجوه أحدها: أن الكافور اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده، ولكن لا يكون فيه طعمه ولا مضرته، فالمعنى أن ذلك الشراب يكون ممزوجا بماء هذه العين وثانيها: أن رائحة الكافور عرض فلا يكون إلا في جسم، فإذا خلق الله تلك الرائحة في جرم ذلك الشراب سمي ذلك الجسم كافورا، وإن كان طعمه طيبا وثالثها: أي بأس في أن
240

يخلق الله تعالى الكافور في الجنة لكن من طعم طيب لذيذ، ويسلب عنه ما فيه من المضرة؟ ثم إنه تعالى يمزجه بذلك المشروب، كما أنه تعالى سلب عن جميع المأكولات والمشروبات ما معها في الدنيا من المضار.
السؤال الثاني: ما فائدة كان في قوله: * (كان مزاجها كافورا) *؟ الجواب: منهم من قال: إنها زائدة، والتقدير من كأس مزاجها كافورا، وقيل: بل المعنى كان مزاجها في علم الله، وحكمه كافورا.
* (عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا) *.
المسألة الأولى: إن قلنا: الكافور اسم النهر كان عينا بدلا منه، وإن شئت نصبت على المدح، والتقدير أعني عينا، أما إن قلنا: إن الكافور اسم لهذا الشيء المسمى بالكافور كان عينا بدلا من محل من كأس على تقدير حذف مضاف، كأنه قيل: يشربون خمرا خمر عين، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
المسألة الثانية: قال في الآية الأولى: * (يشربون من كأس) * (الإنسان: 5) وقال ههنا: يشرب بها، فذكر هناك من وههنا الباء، والفرق أن الكأس مبدأ شربهم وأول غايته. وأما العين فبها يمزجون شرابهم فكأن المعنى: يشرب عباد الله بها الخمر، كما تقول: شربت الماء بالعسل.
المسألة الثالثة: قوله: * (يشرب بها عباد الله) * عام فيفيد أن كل عباد الله يشربون منها، والكفار بالاتفاق لا يشربون منها، فدل على أن لفظ عباد الله مختص بأهل الإيمان، إذا ثبت هذا فقوله: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * (الزمر: 7) لا يتناول الكفار بل يكون مختصا بالمؤمنين، فيصير تقدير الآية ولا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، فلا تدل الآية على أنه تعالى لا يريد كفر الكافر.
قوله تعالى: * (يفجرونها تفجيرا) * معناه يفجرونها حيث شاؤوا من منازلهم تفجيرا سهلا لا يمتنع عليهم واعلم أنه سبحانه لما وصف ثواب الأبرار في الآخرة شرح أعمالهم التي بها استوجبوا ذلك الثواب.
* (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *.
فالأول قوله تعالى: * (يوفون بالنذر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الإيفاء بالشيء هو الإتيان به وافيا، أما النذر فقال أبو مسلم: النذر كالوعد، إلا أنه إذا كان من العباد فهو نذر، وإن كان من الله تعالى فهو وعد، واختص هذا اللفظ في عرف الشرع بأن يقول لله على كذا وكذا من الصدقة، أو يعلق ذلك بأمر يلتمسه من الله تعالى مثل أن يقول: إن شفى الله مريضي، أو رد غائبي فعلى كذا كذا، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر، كما إذا قال: إن دخل فلان الدار فعلى كذا، فمن الناس من جعله كاليمين، ومنهم من جعله من باب النذر، إذا عرفت هذا، فنقول للمفسرين في تفسير الآية أقوال: أولها: أن المراد من النذر هو النذر فقط، ثم قال الأصم: هذا مبالغة في وصفهم بالتوفر على أداء الواجبات. لأن من وفى بما أوجبه هو على نفسه كان بما أوجبه الله عليه أوفى، وهذا
241

التفسير في غاية الحسن وثانيها: المراد بالنذر ههنا كل ما وجب عليه سواء وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء أو بأن أوجبه المكلف على نفسه فيدخل فيه الإيمان وجميع الطاعات، وذلك لأن النذر معناه الإيجاب وثالثها: قال الكلبي: المراد من النذر العهد والعقد، ونظيره قوله تعالى: * (أوفوا بعهدي أوف بعهدكم) * (البقرة: 40) فسمى فرائضه عهدا، وقال: * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) سماها عقودا لأنهم عقدوها على أنفسهم باعتقادهم الإيمان.
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على وجوب الوفاء بالنذر، لأنه تعالى عقبه بيخافون يوما وهذا يقتضي أنهم إنما وفوا بالنذر خوفا من شر ذلك اليوم، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجبا، وتأكد هذا بقوله تعالى: * (ولا تنقضوا الإيمان) * (النحل: 91) بعد توكيدها وبقوله: * (ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم) * (الحج: 29) فيحتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم. المسألة الثالثة: قال الفراء: وجماعة من أرباب المعاني. كان في قوله: * (كان مزاجها كافورا) * (الإنسان: 5) زائدة. وأما ههنا فكان محذوفة، والتقدير كانوا يوفون بالنذر. ولقائل أن يقول: إنا بينا أن كان في قوله: * (كان مزاجها) * (الإنسان: 5) ليست بزائدة، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها، وذلك لأنه تعالى ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي سيشربون، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال، ثم قال: السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن * (يوفون بالنذر) *.
النوع الثاني: من أعمال الأبرار التي حكاها الله تعالى عنهم قوله تعالى: * (ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *.
واعلم أن تمام الطاعة لا يحصل إلا إذا كانت النية مقرونة بالعمل، فلما حكى عنهم العمل وهو قوله: * (يوفون) * حكى عنهم النية وهو قوله: * (ويخافون يوما) * وتحقيقه قوله عليه السلام: " إنما الأعمال بالنيات " وبمجموع هذين الأمرين سماهم الله تعالى بالأبرار وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله، وكل ما كان فعلا لله فهو يكون حكمة وصوابا، وما كان كذلك لا يكون شرا، فكيف وصفها الله تعالى بأنها شر؟ الجواب: أنها إنما سميت شرا لكونها مضرة بمن تنزل عليه وصعبة عليه، كما تسمى الأمراض وسائر الأمور المكروهة شرورا.
السؤال الثاني: ما معنى المستطير؟ الجواب: فيه وجهان أحدهما: الذي يكون فاشيا منتشرا بالغا أقصى المبالغ، وهو من قولهم: استطار الحريق، واستطار الفجر وهو من طار بمنزلة استنفر من نفر، فإن قيل: كيف يمكن أن يقال: شر ذلك اليوم مستطير منتشر، مع أنه تعالى قال في صفة أوليائه: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) *؟ (الأنبياء: 103)، قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن هول القيامة شديد، ألا ترى أن السماوات تنشق وتنفطر وتصير كالمهل، وتتناثر الكواكب، وتتكور
242

الشمس والقمر، وتفرغ الملائكة، وتبدل الأرض غير الأرض، وتنسف الجبال، وتسجر البحار وهذا الهول عام يصل إلى كل المكلفين على ما قال تعالى: * (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * (الحج: 2) وقال: * (يوما يجعل الولدان شيبا) * (المزمل: 17) إلا أنه تعالى بفضله يؤمن أولياءه من ذلك الفزع والجواب الثاني: أن يكون المراد أن شر ذلك اليوم يكون مستطيرا في العصاة والفجار. وأما المؤمنون فهم آمنون، كما قال: * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103) * (لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * (الزخرف: 68) * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) * (فاطر: 44) إلا أن أهل العقاب في غاية الكثرة بالنسبة إلى أهل الثواب، فأجرى الغالب مجرى الكل على سبيل المجاز. القول الثاني: في تفسير المستطير أنه الذي يكون سريع الوصول إلى أهله، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.
السؤال الثالث: لم قال: كان شره مستطيرا، ولم يقل: وسيكون شره مستطيرا؟ الجواب: اللفظ وإن كان للماضي، إلا أنه بمعنى المستقبل، وهو كقوله: * (وكان عهد الله مسؤلا) * (الأحزاب: 15) ويحتمل أن يكون المراد إنه كان شره مستطيرا في علم الله وفي حكمته، كأنه تعالى يعتذر ويقول: إيصال هذا الضرر إنما كان لأن الحكمة تقتضيه، وذلك لأن نظام العالم لا يحصل إلا بالوعد والوعيد، وهما يوجبان الوفاء به، لاستحالة الكذب في كلامي، فكأنه تعالى يقول: كان ذلك في الحكمة لازما، فلهذا السبب فعلته.
النوع الثالث: من أعمال الأبرار قوله تعالى:
* (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزآء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) *.
اعلم أن مجامع الطاعات محصورة في أمرين التعظيم لأمر الله تعالى، وإليه الإشارة بقول: * (يوفون بالنذر) * (الإنسان: 7) والشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله: * (ويطعمون الطعام) * وههنا مسائل. المسألة الأولى: لم يذكر أحد من أكابر المعتزلة، كأبي بكر الأصم وأبي علي الجبائي وأبي القاسم الكعبي، وأبي مسلم الأصفهاني، والقاضي عبد الجبار بن أحمد في تفسيرهم أن هذه الآيات نزلت في حق علي بن أبي طالب عليه السلام، والواحدي من أصحابنا ذكر في كتاب
243

" البسيط " أنها نزلت في حق علي عليه السلام، وصاحب " الكشاف " من المعتزلة ذكر هذه القصة، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: " أن الحسن والحسين عليهما السلام مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن شفاهما الله تعالى أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم ووضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صائمين، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه وجاءهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي عليه السلام بيد الحسن والحسين ودخلوا على الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل عليه السلام وقال: خذها يا محمد هناك الله في أهل بيتك فأقرأها السورة " والأولون يقولون: إنه تعالى ذكر في أول السورة أنه إنما خلق الخلق للابتلاء والامتحان، ثم بين أنه هدى الكل وأزاح عللهم ثم بين أنهم انقسموا إلى شاكر وإلى كافر ثم ذكر وعيد الكافر ثم أتبعه بذكر وعد الشاكر فقال: * (إن الأبرار يشربون) * (الإنسان: 5) وهذه صيغة جمع فتتناول جميع الشاكرين والأبرار، ومثل هذا لا يمكن تخصيصه بالشخص الواحد، لأن نظم السورة من أولها إلى هذا الموضع يقتضي أن يكون هذا بيانا لحال كل من كان من الأبرار
والمطيعين، فلو جعلناه مختصا بشخص واحد لفسد نظم السورة والثاني: أن الموصوفين بهذه الصفات مذكورون بصيغة الجمع كقوله: * (إن الأبرار يشربون * يوفون بالنذر ويخافون من ويطعمون) * (الإنسان: 5، 7، 8) وهكذا إلى آخر الآيات فتخصيصه بجمع معنيين خلاف الظاهر، ولا ينكر دخول علي بن أبي طالب عليه السلام فيه، ولكنه أيضا داخل في جميع الآيات الدالة على شرح أحوال المطيعين، فكما أنه داخل فيها فكذا غيره من أتقياء الصحابة والتابعين داخل فيها، فحينئذ لا يبقى للتخصيص معنى البتة، اللهم إلا أن يقال: السورة نزلت عند صدور طاعة مخصوصة عنه، ولكنه قد ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
المسألة الثانية: الذين يقولون: هذه الآية مختصة بعلي بن أبي طالب عليه السلام، قالوا: المراد من قوله: * (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * هو ما رويناه أنه عليه السلام أطعم المسكين واليتيم والأسير، وأما الذين يقولون الآية عامة في حق جميع الأبرار (فإنهم) قالوا: إطعام الطعام كناية عن الإحسان إلى المحتاجين والمواساة معهم بأي وجه كان، وإن لم يكن ذلك بالطعام بعينه، ووجه ذلك أن أشرف أنواع الإحسان هو الإحسان بالطعام وذلك لأن قوام الأبدان
244

بالطعام ولا حياة إلا به، وقد يتوهم إمكان الحياة مع فقد ما سواه، فلما كان الإحسان لا جرم عبر به عن جميع وجوه المنافع والذي يقوي ذلك أنه يعبر بالأكل عن جميع وجوه المنافع، فيقال: أكل فلان ماله إذا أتلفه في سائر وجوه الإتلاف، وقال تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10) وقال: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى وصف هؤلاء الأبرار بأنهم يواسون بأموالهم أهل الضعف والحاجة، وأما قوله تعالى: * (على حبه) * ففيه وجهان أحدهما: أن يكون الضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونظيره * (وآتى المال على حبه) * (البقرة: 177) * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (آل عمران: 92) فقد وصفهم الله تعالى بأنهم يؤثرون غيرهم على أنفسهم على ما قال: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * (الحشر: 9) والثاني: قال الفضيل بن عياض على حب الله أي لحبهم لله: واللام قد تقام مقام على، وكذلك تقام على مقام اللام، ثم إنه تعالى ذكر أصناف من تجب مواساتهم، وهم ثلاثة أحدهم: المسكين وهو العاجز عن الاكتساب بنفسه والثاني: اليتيم وهو الذي مات كاسبه فيبقى عاجزا عن الكسب لصغره مع أنه مات كسبه والثالث: الأسير وهو المأخوذ من قومه المملوك (- ه) رقبته الذي لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة، وهؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى ههنا هم الذين ذكرهم في قوله: * (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة) * (البلد: 11، 16) وقد ذكرنا اختلاف الناس في المسكين قبل هذا، أما الأسير فقد اختلفوا فيه على أقوال: أحدها: قال ابن عباس والحسن وقتادة: إنه الأسير من المشركين، روى أنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث الأسارى من المشركين ليحفظوا وليقام بحقهم، وذلك لأنه يجب إطعامهم إلى أن يرى الإمام رأيه فيهم من قتل أو فداء أو استرقاق، ولا يمتنع أيضا أن يكون المراد هو الأسير كافرا كان أو مسلما، لأنه إذا كان مع الكفر يجب إطعامه فمع الإسلام أولى، فإن قيل: لما وجب قتله فكيف يجب إطعامه؟ قلنا: القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر، ولذلك لا يحسن فيمن يلزمه القصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ثم هذا الإطعام على من يجب؟ فنقول: الإمام يطعمه فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين وثانيها: قال السدي: الأسير هو المملوك وثالثها: الأسير هو الغريم قال عليه السلام: " غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك " ورابعها: الأسير هو المسجون من أهل القبلة وهو قول مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير، وروى ذلك مرفوعا من طريق الخدري أنه عليه السلام قال: * (مسكينا) * فقيرا * (ويتيما) * لا أب له * (وأسيرا) * قال المملوك: المسجون وخامسها: الأسير هو الزوجة لأنهن أسراء عند الأزواج، قال عليه الصلاة والسلام: " اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم أعوان " قال القفال: واللفظ يحتمل كل ذلك لأن الأصل الأسر هو الشد بالقد، وكان الأسير يفعل به ذلك حبسا له، ثم سمي بالأسير من شد ومن لم يشد فعاد المعنى إلى الحبس.
245

واعلم أنه تعالى لما ذكر أن الأبرار يحسنون إلى هؤلاء المحتاجين بين أن لهم فيه غرضين أحدهما: تحصيل رضا الله. وهو المراد من قوله: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * والثاني: الاحتراز من خوف يوم القيامة وهو المراد من قوله: * (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * إلى قوله: * (قمطريرا) * يحتمل ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون هؤلاء الأبرار قد قالوا: هذه الأشياء باللسان، إما لأجل أن يكون ذلك القول منعا لأولئك المحتاجين عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأن إحسانهم مفعول لأجل الله تعالى فلا معنى لمكافأة الخلق، وإما أن يكون لأجل أن يصير ذلك القول تفقيها وتنبيها على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله حتى يقتدي غيرهم بهم في تلك الطريقة وثانيها: أن يكونوا أرادوا أن يكون ذلك وثالثها: أن يكون ذلك بيانا وكشفا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئا. وعن مجاهد أنهم ما تكلموا به ولكن علمه الله تعالى منهم فأثنى عليهم.
المسألة الثانية: اعلم أن الإحسان من الغير تارة يكون لأجل الله تعالى، وتارة يكون لغير الله تعالى إما طلبا لمكافأة أو طلبا لحمد وثناء وتارة يكون لهما وهذا هو الشرك والأول هو المقبول عند الله تعالى، وأما القسمان الباقيان فمردودان قال تعالى: * (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس) * (البقرة: 264) وقال: * (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) * (الروم: 39) ولا شك أن التماس الشكر من جنس المن والأذى. إذا عرفت هذا فنقول: القوم لما قالوا: * (إنما نطعمكم لوجه الله) * بقي فيه احتمال أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله: * (لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) *.
المسألة الثالثة: الشكور والكفور مصدران كالشكر والكفر، وهو على وزن الدخول والخروج، هذا قول جماعة أهل اللغة، وقال الأخفش: إن شئت جعلت الشكور جماعة الشكر وجعلت الكفور جماعة الكفر لقول: * (فأبى الظالمون إلا كفورا) * (الإسراء: 99) مثل برد وبرود وإن شئت مصدرا واحدا في معنى جمع مثل قعد قعودا وخرج خروجا.
المسألة الرابعة: قوله: * (إنا نخاف من ربنا) * يحتمل وجهين أحدهما: أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم والثاني: أنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة، فإن قيل: إنه تعالى حكى عنهم الإيفاء بالنذر وعلل ذلك بخوف القيامة فقط، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين بطلب رضاء الله وبالخوف عن القيامة فما السبب فيه؟ قلنا: الإيفاء بالنذر دخل في حقيقة طلب رضاء الله تعالى، وذلك لأن النذر هو الذي أوجبه الإنسان على نفسه لأجل الله فلما كان كذلك لا جرم ضم إليه خوف القيامة فقط، أما الإطعام، فإنه لا يدخل في حقيقة طلب رضا الله، فلا جرم ضم إليه طلب رضا الله وطلب الحذر من خوف القيامة.
246

المسألة الخامسة: وصف اليوم بالعبوس مجازا على طريقتين أحدهما: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء كقولهم: نهارك صائم، روي أن الكافر يحبس حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران والثاني: أن يشبه في شدته وضراوته بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل.
المسألة السادسة: قال الزجاج: جاء في التفسير أن قمطريرا معناه تعبيس الوجه، فيجتمع ما بين العينين، قال: وهذا سائغ في اللغة يقال: اقمطرت الناقة إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها ورمت بأنفها يعني أن معنى قمطر في اللغة جمع، وقال الكلبي: قمطريرا يعني شديدا وهو قول الفراء وأبي عبيدة والمبرد وابن قتيبة، قالوا: يوم قمطرير، وقماطر إذا كان صعبا شديدا أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء، قال الواحدي: هذا معنى والتفسير هو الأول.
* (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا) *.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين طلب رضا الله والخوف من القيامة بين في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين، أما الحفظ من هول القيامة، فهو المراد بقوله: * (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) * وسمى شدائدها شرا توسعا على ما علمت، واعلم أن هذه الآية أحد ما يدل على أن شدائد الآخرة لا تصل إلا إلى أهل العذاب، وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسرورا في القلب، وقد مر تفسير * (ولقاهم) * في قوله: * (ويلقون فيها تحية) * (الفرقان: 75) وتفسير النضرة في قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة) * (القيامة: 23) والتنكير في * (سرورا) * للتعظيم والتفخيم.
* (وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الارائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) *.
والمعنى وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري، بستانا فيه مأكل هنيء وحريرا فيه ملبس بهي، ونظيره قوله تعالى: * (ولباسهم فيها حرير) * (الحج: 23) أقول: وهذا يدل على أن المراد من قوله: * (إنما نطعمكم) * (الإنسان: 9) ليس هو الإطعام فقط بل جميع أنواع المواساة من الطعام والكسوة، ولما ذكر تعالى طعامهم ولباسهم، وصف مساكنهم، ثم إن المعتبر في المساكن أمور: أحدها: الموضع الذي يجلس فيه فوصفه بقوله: * (متكئين فيها على الأرائك) * وهي السرر في الحجال، ولا تكون أريكة إلا إذا اجتمعت، وفي نصب متكئين وجهان الأول: قال الأخفش: إنه نصب على الحال، والمعنى وجزاهم جنة في حال اتكائهم كما تقول: جزاهم ذلك قياما، والثاني: قال الأخفش: وقد يكون على المدح.
247

والثاني: هو المسكن فوصفه بقوله: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * وفيه وجهان أحدهما: أن هواءها معتدل في الحر والبرد والثاني: أن الزمهرير هو القمر في لغة طيء هكذا رواه ثعلب وأنشد: وليلة ظلامها قد اعتكر * قطعتها والزمهرير ما زهر
والمعنى أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر.
* (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) *.
والثالث: كونه بستانا نزها، فوصفه الله تعالى بقوله: * (ودانية عليهم ظلالها) * وفي الآية سؤالان الأول: ما السبب في نصب * (ودانية) *؟ الجواب: ذكر الأخفش والكسائي والفراء والزجاج فيه وجهين أحدهما: الحال بالعطف على قوله: * (متكئين) * كما تقول في الدار: عبد الله متكئا ومرسلة عليه الحجال، لأنه حيث قال: عليهم رجع إلى ذكرهم والثاني: الحال بالعطف على محل: * (يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) والتقدير غير رائين فيها شمسا ولا زمهريرا * (ودانية عليهم ظلالها) * ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين يجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والبرد، ودنو الظلال عليهم والثالث: أن يكون دانية نعتا للجنة، والمعنى: وجزاهم جنة دانية، وعلى هذا الجواب تكون دانية صفة لموصوف محذوف، كأنه قيل: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا، وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، وذلك لأنهم وعدوا جنتين، وذلك لأنهم خافوا بدليل قوله: * (إنا نخاف من ربنا) * (الإنسان: 10) وكل من خاف فله جنتان، بدليل قوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * (الرحمن: 46) وقرئ: * (ودانية) * بالرفع على أن * (ظلالها) * مبتدأ * (ودانية) * خبر، والجملة في موضع الحال، والمعنى: * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) * (الإنسان: 13) والحال أن ظلالها دانية عليهم.
السؤال الثاني: الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس، فإن كان لا شمس في الجنة فكيف يحصل الظل هناك؟ والجواب: أن المراد أن أشجار الجنة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت تلك الأشجار مظللة منها.
قوله تعالى: * (وذللت قطوفها تذليلا) * ذكروا في ذللت وجهين الأول: قال ابن قتيبة: ذللت أدنيت منهم من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصير السمك والثاني: ظللت أي جعلت منقادة ولا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.
قال البراء بن عازب: ذللت لهم فهم يتناولون منها كيف شاءوا، فمن أكل قائما لم يؤذه ومن أكل جالسا لم يؤذه ومن أكل مضطجعا لم يؤذه.
واعلم أنه تعالى لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف بعد ذلك شرابهم وقدم عليه
248

وصف تلك الأواني التي فيها يشربون فقال:
* (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا) *.
في الآية سؤالات: السؤال الأول: قال تعالى: * (ويطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) * (الزخرف: 71) والصحاف هي القصاع، والغالب فيها الأكل فإذا كان ما يأكلون فيه ذهبا فما يشربون فيه أولى أن يكون ذهبا لأن العادة أن يتنوق في إناء الشرب مالا يتنوق في إناء الأكل وإذا دلت هذه الآية على أن إناء شربهم يكون من الذهب فكيف ذكر ههنا أنه من الفضة والجواب: أنه لا منافاة بين الأمرين فتارة يسقون بهذا وتارة بذاك.
السؤال الثاني: ما الفرق بين الآنية والأكواب؟ الجواب: قال أهل اللغة: الأكواب الكيزان التي لا عرى لها، فيحتمل أن يكون على معنى أن الإناء يقع فيه الشرب كالقدح، والكوب ما صب منه في الإناء كالإبريق.
السؤال الثالث: ما معنى كانت؟ الجواب: هو من يكون في قوله: * (كن فيكون) * أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين.
السؤال الرابع: كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير؟ الجواب: عنه من وجوه أحدها: أن أصل القوارير في الدنيا الرمل وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة فكما أن الله تعالى قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية، فكذلك هو قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة، فالغرض من ذكر هذه الآية، التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة فضة الجنة إلى رمل الدنيا، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين، فكذا بين القارورتين في الصفاء واللطافة وثانيها: قال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء وإذا كان كذلك فكمال الفضة في بقائها ونقائها وشرفها إلا أنه كثيف الجوهر، وكمال القارورة في شفافيتها وصفائها إلا أنه سريع الانكسار، فآنية الجنة آنية يحصل فيها من الفضة بقاؤها ونقاؤها، وشرف جوهرها، ومن القارورة، صفاؤها وشفافيتها وثالثها: أنها تكون فضة ولكن لها صفاء القارورة، ولا يستبعد من قدرة الله تعالى الجمع بين هذين الوصفين ورابعها: أن المراد * (بالقوارير) * في الآية ليس هو الزجاج، فإن العرب تسمى ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة ورق وصفا قارورة، فمعنى الآية * (وأكواب من فضة) * مستديرة صافية رقيقة.
249

السؤال الخامس: كيف القراءة في * (قواريرا * قوارير) *؟ الجواب: قرئا غير منونين وبتنوين الأول وبتنوينهما، وهذا التنوين بدل عن ألف الإطلاق لأنه فاصلة، وفي الثاني لاتباعه الأول لأن الثاني بدل من الأول فيتبع البدل المبدل، وقرئ: * (قوارير من فضة) * بالرفع على هي قوارير، وقدروها صفة لقوارير من فضة.
أما قوله تعالى: * (قدروها تقديرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال المفسرون معناه: * (قدروها تقديرا) * على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري ليكون ألذ لشربهم، وقال الربيع بن أنس: إن تلك الأواني تكون بمقدار ملء الكف لم تعظم فيثقل حملها.
المسألة الثانية: أن منتهى مراد الرجل في الآنية التي يشرب منها الصفاء والنقاء والشكل. أما الصفاء فقد ذكره الله تعالى بقوله: * (كانت قوارير) * وأما النقاء فقد ذكره بقوله: من فضة، وأما الشكل فقد ذكره بقوله: * (قدروها تقديرا) *.
المسألة الثالثة: المقدر لهذا التقدير من هو؟ فيه قولان: الأول: أنهم هم الطائفون الذين دل عليهم قوله تعالى: * (ويطاف عليهم) * وذلك أنهم قدروا شرابها على قدر ري الشارب والثاني: أنهم هم الشاربون وذلك لأنهم إذا اشتهوا مقدارا من المشروب جاءهم على ذلك القدر.
واعلم أنه تعالى لما وصف أواني مشروبهم ذكر بعد ذلك وصف مشروبهم، فقال:
* (ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) *.
العرب كانوا يحبون جعل الزنجبيل في المشروب، لأنه يحدث فيه ضربا من اللذع، فلما كان كذلك وصف الله شراب أهل الجنة بذلك، ولا بد وأن تكون في الطيب على أقصى الوجوه. قال ابن عباس: وكل ما ذكره الله تعالى في القرآن مما في الجنة، فليس منه في الدنيا إلا الاسم، وتمام القول ههنا مثل ما ذكرناه في قوله: * (كان مزاجها كافورا) *.
* (عينا فيها تسمى سلسبيلا) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن الأعرابي: لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن، فعلى هذا لا يعرف له اشتقاق، وقال الأكثرون: يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل أي عذب سهل المساغ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية، ودلت على غاية السلاسة، قال الزجاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة، والفائدة في ذكر السلسبيل هو أن ذلك الشراب يكون في طعم الزنجبيل، وليس فيه لذعة لأن نقيض اللذع هو السلاسة، وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب عليه السلام أن معناه: سل سبيلا إليها، وهو بعيد إلا أن يراد أن جملة قول
250

القائل: سلسبيلا جعلت علما للعين، كما قيل: تأبط شرا، وسميت بذلك، لأنه لا يشرب منها إلا من سأل إليها سبيلا بالعمل الصالح.
المسألة الثانية: في نصب عينا وجهان أحدهما: أنه بدل من زنجبيلا وثانيهما: أنه نصب على الاختصاص.
المسألة الثالثة: سلسبيلا صرف لأنه رأس آية، فصار كقوله الظنونا والسبيلا، وقد تقدم في هذه السورة بيان ذلك.
واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادما في تلك المجالس.
* (ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) *.
فقال: * (ويطوف عليهم ولدان مخلدون) * وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة، قال الفراء: يقال مخلدون مسورون ويقال: مقرطون.
وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.
والصفة الثالثة: قوله تعالى: * (إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا) * وفي كيفية التشبيه وجوه أحدها: شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور، ولو كان صفا لشبهوا باللؤلؤ المنظوم، ألا ترى أنه تعالى قال: * (ويطوف عليهم) * فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين وثانيها: أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء وثالثها: قال القاضي: هذا من التشبيه العجيب لأن اللؤلؤ إذا كان متفرقا يكون أحسن في المنظر لوقوع شعاع بعضه على البعض فيكون مخالفا للمجتمع منه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر تفصيل أحوال أهل الجنة، أتبعه بما يدل على أن هناك أمورا أعلى وأعظم من هذا القدر المذكور فقال:
* (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: رأيت هل له مفعول؟ فيه قولان: الأول: قال الفراء: المعنى وإذا رأيت ما ثم وصلح إضمار ما كما قال: * (لقد تقطع بينكم) * يريد ما بينكم، قال الزجاج: لا يجوز إضمار ما لأن ثم صلة وما موصولها، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة الثاني: أنه ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر والغرض منه أن يشبع ويعم، كأنه قيل: وإذا وجدت الرؤية ثم، ومعناه أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير، وثم في موضع النصب على الظرف يعني في الجنة.
المسألة الثانية: اعلم أن اللذات الدنيوية محصورة في أمور ثلاثة. قضاء الشهوة، وإمضاء
251

الغضب، واللذة الخيالية التي يعبر عنها بحب المال والجاه، وكل ذلك مستحقر فإن الحيوانات الخسيسة قد تشارك الإنسان في واحد منها، فالملك الكبير الذي ذكره الله ههنا لا بد وأن يكون مغايرا لتلك اللذات الحقيرة، وما هو إلا أن تصير نفسه منقشة بقدس الملكوت متحلية بجلال حضرة اللاهوت، وأما ما هو على أصول المتكلمين، فالوجه فيه أيضا أنه الثواب والمنفعة المقرونة بالتعظيم فبين تعالى في الآيات المتقدمة تفصيل تلك المنافع وبين في هذه الآية حصول التعظيم وهو أن كل واحد منهم يكون كالملك العظيم، وأما المفسرون فمنهم من حمل هذا الملك الكبير على أن هناك منافع أزيد مما تقدم ذكره، قال ابن عباس: لا يقدر واصف يصف حسنه ولا طيبه. ويقال: إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام ويرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: لا زوال له وقيل: إذا أرادوا شيئا حصل، ومنهم من حمله على التعظيم. فقال الكلبي: هو أن يأتي الرسول من عند الله بكرامة من الكسوة والطعام والشراب والتحف إلى ولي الله وهو في منزله فيستأذن عليه، ولا يدخل عليه رسول رب العزة من الملائكة المقربين المطهرين إلا بعد الاستئذان.
المسألة الثالثة: قال بعضهم قوله: * (وإذا رأيت) * خطاب لمحمد خاصة، والدليل عليه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن دخلت الجنة أترى عيناي ما ترى عيناك؟ فقال نعم، فبكى حتى مات، وقال آخرون: بل هو خطاب لكل أحد.
* (عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *.
قوله تعالى: * (عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة عاليهم بإسكان الياء والباقون بفتح الياء أما القراءة الأولى: فالوجه فيها أن يكون عاليهم مبتدأ، وثياب سندس خبره، والمعنى ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس، فإن قيل: عاليهم مفرد، وثياب سندس جماعة، والمبتدأ إذا كان مفردا لا يكون خبره جمعا، قلنا: المبتدأ، وهو قوله: * (عاليهم) * وإن كان مفردا في اللفظ، فهو جمع في المعنى، نظيره قوله تعالى: * (مستكبرين به سامرا تهجرون، فقطع دابر القوم) * (المؤمنون: 67) كأنه أفرد من حيث جعل بمنزلة المصدر أما القراءة الثانية: وهي فتح الياء، فذكروا في هذا النصب ثلاثة أوجه الأول: أنه نصب على الظرف، لأنه لما كان عالي بمعنى فوق أجرى مجراه في هذا الإعراب، كما كان قوله: * (والركب أسفل منكم) * كذلك وهو قول أبي علي الفارسي والثاني: أنه نصب على الحال، ثم هذا أيضا يحتمل وجوها أحدها: قال أبو علي الفارسي: التقدير: ولقاهم نضرة وسرورا حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثانيها: التقدير: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا حال ما يكون عاليهم ثياب سندس وثالثها: أن يكون التقدير ويطوف على الأبرار ولدان، حال ما يكون الأبرار عاليهم ثياب سندس ورابعها: حسبتهم لؤلؤا منثورا، حال ما يكون
252

عاليهم ثياب سندس، فعلى الاحتمالات الثلاثة الأول: تكون الثياب الأبرار، وعلى الاحتمال الرابع تكون الثياب ثياب الولدان الوجه الثالث: في سبب هذا النصب، أن يكون التقدير: رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب سندس.
المسألة الثانية: قرأ نافع وعاصم: خضر واستبرق، كلاهما بالرفع، وقرأ الكسائي وحمزة: كلاهما بالخفض، وقرأ ابن كثير: خضر بالخفض، واستبرق بالرفع، وقرأ أبو عمرو وعبد الله بن عامر: خضر بالرفع، واستبرق بالخفض، وحاصل الكلام فيه أن خضرا يجوز فيه الخفض والرفع، أما الرفع فإذا جعلتها صفة لثياب،
وذلك ظاهر لأنها صفة مجموعة لموصوف مجموعة، وأما الخفض فإذا جعلتها صفة سندس، لأن سندس أريد به الجنس، فكان في معنى الجمع، وأجاز الأخفش وصف اللفظ الذي يراد به الجنس بالجمع، كما يقال: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض إلا أنه قال: إنه قبيح، والدليل على قبحه أن العرب تجيء بالجمع الذي هو في لفظ الواحد فيجرونه مجرى الواحد وذلك قولهم: حصى أبيض وفي التنزيل * (من الشجر الأخضر) * و * (أعجاز نخل منقعر) * إذ كانوا قد أفردوا صفات هذا الضرب من الجمع، فالواحد الذي في معنى الجمع أولى أن تفرد صفته، وأما استبرق فيحوز فيه الرفع والخفض أيضا معا، أما الرفع فإذا أريد به العطف على الثياب، كأنه قيل: ثياب سندس واستبرق وأما الخفض فإذا أريد إضافة الثياب إليه كأنه قيل: ثياب سندس واستبرق، والمعنى ثيابهما فأضاف الثياب إلى الجنسين كما يقال: ثياب خز وكتان، ويدل على ذلك قوله تعالى: * (ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق) * واعلم أن حقائق هذه الآية قد تقدمت في سورة الكهف. المسألة الثالثة: السندس ما رق من الديباج، والاستبرق ما غلظ منه، وكل ذلك داخل في اسم الحرير قال تعالى: * (ولباسهم فيها حرير) * ثم قيل: إن الذين هذا لباسهم هم الولدان المخلدون، وقيل: بل هذا لباس الأبرار، وكأنهم يلبسون عدة من الثياب فيكون الذي يعلوها أفضلها، ولهذا قال: * (عاليهم) * وقيل هذا من تمام قوله: * (متكئين فيها على الأرائك) * ومعنى * (عاليهم) * أي فوق حجالهم المضروبة عليهم ثياب سندس، والمعنى أن حجالهم من الحرير والديباج.
قوله تعالى: * (وحلوا أساور من فضة) * وفيه سؤالات: السؤال الأول: قال تعالى في سورة الكهف: * (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب) * (الكهف: 31) فكيف جعل تلك الأساور ههنا من فضة؟ والجواب: من ثلاثة أوجه أحدها: أنه لا منافاة بين الأمرين فلعلهم يسورون بالجنسين إما على المعاقبة أو على الجمع كما تفعل النساء في الدنيا وثانيها: أن الطباع مختلفة فرب إنسان يكون استحسانه لبياض الفضة فوق استحسانه لصفرة الذهب، فالله تعالى يعطي كل أحد ما تكون رغبته فيه أتم، وميله إليه
253

أشد وثالثها: أن هذه الأسورة من الفضة إنما تكون للوالدان الذين هم الخدم وأسورة الذهب للناس. السؤال الثاني: السوار إنما يليق بالنساء وهو عيب للرجال، فكيف ذكر الله تعالى ذلك في معرض الترغيب؟ الجواب: أهل الجنة جرد مرد شباب فلا يبعد أن يحلوا ذهبا وفضة وإن كانوا رجالا، وقيل: هذه الأسورة من الفضة والذهب إنما تكون لنساء أهل الجنة وللصبيان فقط، ثم غلب في اللفظ جانب التذكير، وفي الآية وجه آخر، وهو أن آلة أكثر الأعمال هي اليد وتلك الأعمال والمجاهدات هي التي يتوسل بها إلى تحصيل المعارف الإلهية والأنوار الصمدية، فتكون تلك الأعمال جارية مجرى الذهب والفضة التي يتوسل بهما إلى تحصيل المطالب، فلما كانت تلك الأعمال صادرة من اليد كانت تلك الأعمال جارية مجرى سوار الذهب والفضة، فسميت الأعمال والمجاهدات بسوار الذهب والفضة، وعبر عن تلك الأنوار الفائضة عن الحضرة الصمدية بقوله: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * وبالجملة فقوله: * (وحلوا أساور من فضة) * إشارة إلى قوله: * (والذين جاهدوا فينا) * وقوله: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * إشارة إلى قوله: * (لنهدينهم سبلنا) * فهذا احتمال خطر بالبال، والله أعلم بمراده.
قوله تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) * الطهور فيه قولان: الأول: المبالغة في كونه طاهرا، ثم فيه على هذا التفسير احتمالات أحدها: أنه لا يكون نجسا كخمر الدنيا وثانيها: المبالغة في البعد عن الأمور المستقذرة يعني ما مسته الأيدي الوضرة، وما داسته الأقدام الدنسة وثالثها: أنها لا تؤول إلى النجاسة لأنها ترشح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك القول الثاني: في الطهور أنه المطهر، وعلى هذا التفسير أيضا في الآية احتمالان أحدهما: قال مقاتل: هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى وثانيهما: قال أبو قلابة: يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بذلك بطونهم، ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك، وعلى هذين الوجهين يكون الطهور، مطهرا لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة، والأشياء المؤذية، فإن قيل: قوله تعالى: * (وسقاهم ربهم) * هو عين ما ذكر تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور، والزنجبيل، والسلسبيل أو هذا نوع آخر؟ قلنا: بل هذا نوع آخر، ويدل عليه وجوه أحدها: دفع التكرار وثانيها: أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال: * (وسقاهم ربهم) * وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره وثالثها: ما روينا أنه تقدم إليهم الأطعمة والأشربة، فإذا فرغوا منها أتوا بالشراب الطهور فيشربون،
254

فيطهر ذلك بطونهم، ويفيض عرقا من جلودهم مثل ريح المسك، وهذا يدل على أن هذا الشراب مغاير لتلك الأشربة، ولأن هذا الشراب يهضم سائر الأشربة، ثم له مع هذا الهضم تأثير عجيب، وهو أنه يجعل سائر الأطعمة والأشربة عرقا يفوح منه ريح كريح المسك، وكل ذلك يدل على المغايرة ورابعها: وهو أن الروح من عالم الملائكة، والأنوار الفائضة من جواهر أكابر الملائكة، وعظمائهم على هذه الأرواح مشبهة بالماء العذب الذي يزيل العطش ويقوى البدن، وكما أن العيون متفاوتة في الصفاء والكثرة والقوة، فكذا ينابيع الأنوار العلوية مختلفة، فبعضها تكون كافورية على طبع البرد واليبس، ويكون صاحبها في الدنيا في مقام الخوف والبكاء والانقباض، وبعضها تكون زنجبيلية على طبع الحر واليبس، فيكون صاحب هذه الحالة قليل الالتفات إلى ما سوى الله تعالى قليل المبالاة بالأجسام والجسمانيات، ثم لا تزال الروح البشرية منتقلة من ينبوع إلى ينبوع، ومن نور إلى نور، ولا شك أن الأسباب والمسببات متناهية في ارتقائها إلى واجب الوجود الذي هو النور المطلق جل جلاله وعز كماله، فإذا وصل إلى ذلك المقام وشرب من ذلك الشراب انهضمت تلك الأشربة المتقدمة، بل فنيت، لأن نور ما سوى الله تعالى يضمحل في مقابلة نور الله وكبريائه وعظمته، وذلك هو آخر سير الصديقين، ومنتهى درجاتهم في الإرتقاء والكمال، فلهذا السبب ختم الله تعالى ذكر ثواب الأبرار على قوله: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *.
واعلم أنه تعالى لما تمم شرح أحوال السعداء، قال تعالى:
* (إن هذا كان لكم جزآء وكان سعيكم مشكورا) *.
اعلم أن في الآية وجهين الأول: قال ابن عباس المعنى أنه يقال لأهل الجنة بعد دخولهم فيها، ومشاهدتهم لنعيمها: إن هذا كان لكم جزاء قد أعده الله تعالى لكم إلى هذا الوقت، فهو كله لكم بأعمالكم على قلة أعمالكم، كما قال حاكيا عن الملائكة: إنهم يقولون لأهل الجنة: * (سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 24) وقال: * (كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية) * (الحاقة: 24) والغرض من ذكر هذا الكلام أن يزداد سرورهم، فإنه يقال للمعاقب: هذا بعملك الردئ فيزداد غمه وألم قلبه، ويقال للمثاب: هذا بطاعتك، فيكون ذلك تهنئة له وزيادة في سروره، والقائل بهذا التفسير جعل القول مضمرا، أي ويقال لهم: هذا الكلام الوجه الثاني: أن يكون ذلك إخبارا من الله تعالى لعباده في الدنيا، فكأنه تعالى شرح جواب أهل الجنة، أن هذا كان في علمي وحكمي جزاء لكم يا معاشر عبادي، لكم خلقتها، ولأجلكم أعددتها، وبقي في الآية سؤالان:
255

السؤال الأول: إذا كان فعل العبد خلفا لله، فكيف يعقل أن يكون فعل الله جزاء على فعل الله؟ الجواب: الجزء هو الكافي، وذلك لا ينافي كونه فعلا لله تعالى.
السؤال الثاني: كون سعي العبد مشكورا لله يقتضي كون الله شاكرا له والجواب: كون الله تعالى شاكرا للعبد محال إلا على وجه المجاز، وهو من ثلاثة أوجه الأول: قال القاضي: إن الثواب مقابل لعلمهم، كما أن الشكر مقابل للنعم الثاني: قال القفال: إنه مشهور في كلام الناس، أن يقولوا: للراضي بالقليل والمثني به إنه شكور، فيحتمل أن يكون شكر الله لعباده هو رضاه عنهم بالقليل من الطاعات، وإعطاؤه إياهم عليه ثوابا كثيرا الوجه الثالث: أن منتهى درجة العبد أن يكون راضيا من ربه مرضيا لربه على ما قال: * (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية) * (الفجر: 27، 28) وكونها راضية من ربه، أقل درجة من كونها مرضية لربه، فقوله: * (إن هذا كان لكم جزاء) * إشارة إلى الأمر الذي به تصير النفس راضية من ربه وقوله: * (وكان سعيكم مشكورا) * إشارة إلى كونها مرضية لربه، ولما كانت هذه الحال أعلى المقامات وآخر الدرجات لا جرم وقع الختم عليها في ذكر مراتب أحوال الأبرار والصديقين.
* (إنا نحن نزلنا عليك القرءان تنزيلا) *.
اعلم أنه سبحانه بين في أول السورة أن الإنسان وجد بعد العدم بقوله: * (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (الإنسان: 1) ثم بين أنه سبحانه خلقه من أمشاج، والمراد منه إما كونه مخلوقا من العناصر الأربعة أو من الأخلاط الأربعة أو من ماء الرجل والمرأة أو من الأعضاء والأرواح أو من البدن والنفس أو من أحوال متعاقبة على ذلك الجسم مثل كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظاما، وعلى أي هذه الوجوه تحمل هذه الآية، فلذلك يدل على أنه لا بد من الصانع المختار جل جلاله وعظم كبرياؤه. ثم بين بعد ذلك أني ما خلقته ضائعا عاطلا باطلا، بل خلقته لأجل الابتلاء والامتحان، وإليه الإشارة بقوله: * (نبتليه) * (الإنسان: 2) وههنا موضع الخصومة العظيمة القائمة بين أهل الجبر والقدر، ثم ذكر تعالى أني أعطيته جميع ما يحتاج إليه عند الابتلاء والامتحان، وهو السمع والبصر والعقل، وإليه الإشارة بقوله: * (فجعلناه سميعا بصيرا) * (الإنسان: 2) ولما كان العقل أشرف الأمور المحتاج إليها في هذا الباب أفرده عن السمع والبصر، فقال: * (إنا هديناه السبيل) * (الإنسان: 3) ثم بين أن الخلق بعد هذه الأحوال صاروا قسمين: منهم شاكر، ومنهم كفور، وهذا الانقسام باختيارهم كما هو تأويل القدرية، أو من الله على ما هو تأويل الجبرية، ثم إنه تعالى ذكر عذاب الكفار على الاختصار، ثم ذكر بعد ذلك ثواب المطيعين على الاستقصاء، وهو إلى قوله: * (وكان سعيكم مشكورا) * (الإنسان: 22) واعلم أن الاختصار في ذكر العقاب مع الإطناب في شرح الثواب يدل على أن جانب
256

الرحمة أغلب وأقوى، فظهر مما بينا أن السورة من أولها إلى هذا الموضع في بيان أحوال الآخرة، ثم إنه تعالى شرع بعد ذلك في أحوال الدنيا، وقدم شرح أحوال المطيعين على شرح أحوال المتمردين. أما المطيعون فهم الرسول وأمته، والرسول هو الرأس والرئيس، فلهذا خص الرسول بالخطاب.
واعلم أن الخطاب إما النهي وإما الأمر، ثم إنه تعالى قبل الخوض فيما يتعلق بالرسول من النهي والأمر، قدم مقدمة في تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإزالة الغم والوحشة عن خاطره، وإنما فعل ذلك، لأن الاشتغال بالطاعة والقيام بعهدة التكليف لا يتم إلا مع فراغ القلب ثم بعد هذه المقدمة. ذكر نهيه عن بعض الأشياء، ثم بعد الفراغ عن النهي، ذكر أمره ببعض الأشياء، وإنما قدم النهي على الأمر، لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع، وإزالة مالا ينبغي مقدم على تحصيل ما ينبغي، ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك أحوال المتمردين والكفار على ما سيأتي تفصيل بيانه، ومن تأمل فيما ذكرناه علم أن هذه السورة، وقعت على أحسن وجوه الترتيب والنظام، فالحمد لله الذي نور عقل هذا المسكين الضعيف بهذه الأنوار، وله الشكر عليه أبد الآباد. ولنرجع إلى التفسير، فنقول: أما تلك المقدمة، فهي: قوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * واعلم أن المقصود من هذه الآية تثبيت الرسول وشرح صدره فيما نسبوه إليه من كهانة وسحر، فذكر الله تعالى أن ذلك وحي من الله، فلا جرم بالغ وكرر الضمير بعد إيقاعه اسما، لأن تأكيدا على تأكيد أبلغ، كأنه تعالى يقول: إن كان هؤلاء الكفار يقولون: إن ذلك كهانة، فأنا الله الملك الحق أقول على سبيل التأكيد والمبالغة إن ذلك وحي حق وتنزيل صدق من عندي، وهذا فيه فائدتان: إحداهما: إزالة الوحشة المتقدمة الحاصلة بسبب طعن أولئك الكفار، فإن بعض الجهال وإن طعنوا فيه إلا أن جبار السماوات عظمه وصدقه. والثانية: تقويته على تحمل التكليف المستقبل، وذلك لأن الكفار كانوا يبالغون في إيذائه، وهو كان يريد مقاتلتهم فلما أمره الله تعالى بالصبر على ذلك الإيذاء وترك المقاتلة، وكان ذلك شاقا عليه، فقال له: * (إنا نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * فكأنه قال له: إني ما نزلت عليك هذا القرآن مفرقا منجما إلا لحكمة بالغة تقتضي تخصيص كل شيء بوقت معين، ولقد اقتضت تلك الحكمة تأخير الإذن في القتال، فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة المحضة المبرأ عن العيب والعبث والباطل.
ثم إنه تعالى لما قدم هذه المقدمة ذكر النهي فقال تعالى:
* (فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا) *.
فإما أن يكون المعنى: * (فاصبر لحكم ربك) * في تأخير الإذن في القتال ونظيره * (فاصبروا حتى
257

يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين) * (الأعراف: 87) أو يكون المعنى عاما في جميع التكاليف، أي فاصبر في كل ما حكم به ربك سواء كان ذلك تكليفا خاصا بك من العبادات والطاعات أو متعلقا بالغير وهو التبليغ وأداء الرسالة، وتحمل المشاق الناشئة من ذلك، ثم في الآية سؤالات: السؤال الأول: قوله: * (فاصبر لحكم ربك) * دخل فيه أن * (لا تطع آثما أو كفورا) * فكأن ذكره بعد هذا تكريرا. الجواب: الأول أمر بالمأمورات، والثاني نهى عن المنهيات ودلالة أحدهما على الآخر بالالتزام لا بالتصريح فيكون التصريح به مفيدا.
السؤال الثاني: أنه عليه السلام ما كان يطيع أحدا منهم، فما الفائدة في هذا النهي؟ الجواب: المقصود بيان أن الناس محتاجون إلى مواصلة التنبيه والإرشاد، لأجل ما تركب فيهم من الشهوات الداعية إلى الفساد، وأن أحدا لو استغنى عن توفيق الله وإمداده وإرشاده، لكان أحق الناس به هو الرسول المعصوم، ومتى ظهر ذلك عرف كل مسلم، لأنه لا بد له من الرغبة إلى الله والتضرع إليه في أن يصونه عن الشبهات والشهوات.
السؤال الثالث: ما الفرق بين الآثم والكفور؟ الجواب: الآثم هو المقدم على المعاصي أي معصية كانت، والكفور هو الجاحد للنعمة، فكل كفور آثم، أما ليس كل آثم كفورا، وإنما قلنا: إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال: * (ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما) * (النساء: 48) فسمى الشرك إثما، وقال: * (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 283) وقال * (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) * (الأنعام: 120) وقال: * (يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير) * (البقرة: 219) فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي، واعلم أن كل من عبد غير الله فقد اجتمع في حقه هذان الوصفان، لأنه لما عبد غيره، فقد عصاه وجحد إنعامه، إذا عرفت هذا فنقول في الآية قولان: الأول: أن المراد شخص معين، ثم منهم من قال: الآثم، والكفور هو شخص واحد وهو أبو جهل، ومنهم من قال: الآثم هو الوليد والكفور هو عتبة، قال القفال: ويدل عليه أنه تعالى سمي الوليد أثيما في قوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * إلى قوله: * (مناع للخير معتد أثيم) * (القلم: 10، 12) وروى صاحب الكشاف أن الآثم هو عتبة. والكفور هو الوليد لأن عتبة كان ركابا للمآثم متعاطيا لأنواع الفسوق والوليد كان غاليا في الكفر، والقول الأول أولى لأنه متأيد بالقرآن، يروى أن عتبة بن ربيعة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر حتى أزوجك ولدي فإني من أجمل قريش ولدا وقال الوليد: أنا أعطيك من المال حتى ترضى، فإني من أكثرهم مالا، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات من أول حم السجدة إلى قوله * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * (فصلت: 1، 13) فانصرفا عنه وقال أحدهما ظننت أن الكعبة ستقع علي.
القول الثاني: أن الآثم والكفور مطلقان غير مختصين بشخص معين، وهذا هو الأقرب إلى الظاهر، ثم قال الحسن الآثم هو المنافق والكفور مشركوا العرب، وهذا ضعيف بل الحق ما ذكرناه من أن الآثم عام والكفور خاص.
258

السؤال الرابع: كانوا كلهم كفرة، فما معنى القسمة في قوله: * (آثما أو كفورا) *؟ الجواب: * (الكفور) * أخبث أنواع الآثم، فخصه بالذكر تنبيها على غاية خبثه ونهاية بعده عن الله.
السؤال الخامس: كلمة أو تقتضي النهي عن طاعة أحدهما فلم لم يذكر الواو حتى يكون نهيا عن طاعتهما جميعا؟ الجواب: ذكروا فيه وجهين: الأول: وهو الذي ذكره الزجاج واختاره أكثر المحققين أنه لو قيل: ولا تطعهما لجاز أن يطيع أحدهما لأن النهي عن طاعة مجموع شخصين لا يقتضي النهي عن طاعة كل واحد منهما وحده، أما النهي عن طاعة أحدهما فيكون نهيا عن طاعة مجموعهما لأن الواحد داخل في المجموع، ولقائل أن يقول: هذا ضعيف، لأن قوله: * (لا تطع) * هذا وهذا معناه كن مخالفا لأحدهما، ولا يلزم من إيجاب مخالفة أحدهما إيجاب مخالفتهما معا، فإنه لا يبعد أن يقول السيد لعبده: إذا أمرك أحد هذين الرجلين فخالفه، أما إذا توافقا فلا تخالفهما.
والثاني: قال الفراء: تقدير الآية لا تطع منهم أحدا سواء كان * (آثما أو كفورا) * كقول الرجل لمن يسأله شيئا: لا أعطيك سواء سألت أو سكت.
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذا النهي عقبه بالأمر، فقال:
* (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن اليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا) *.
وفي هذه الآية قولان: الأول: أن المراد هو الصلاة قالوا: لأن التقييد بالبكرة والأصيل يدل على أن المراد من قوله: * (واذكر اسم ربك) * الصلوات.
ثم قالوا: البكرة هي صلاة الصبح والأصيل صلاة الظهر والعصر * (ومن الليل فاسجد له) * المغرب والعشاء، فتكون هذه الكلمات جامعة الصلوات الخمس وقوله: * (وسبحه ليلا طويلا) * المراد منه التهجد، ثم اختلفوا فيه فقال بعضهم: كان ذلك من الواجبات على الرسول عليه السلام، ثم نسخ كما ذكرنا في سورة المزمل واحتجوا عليه بأن قوله: * (فاسجد له وسبحه) * أمر وهو للوجوب لا سيما إذا تكرر على سبيل المبالغة، وقال آخرون: بل المراد التطوع وحكمه ثابت.
القول الثاني: أن المراد من قوله: * (واذكر اسم ربك) * إلى آخر الآية ليس هو الصلاة بل المراد التسبيح الذي هو القول والاعتقاد، والمقصود أن يكون ذاكرا لله في جميع الأوقات ليلا ونهارا بقلبه ولسانه، وهو المراد من قوله: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) * (الأحزاب: 41).
واعلم أن في الآية لطيفة أخرى وهي أنه تعالى قال: * (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا) * (الإنسان: 23) أي
259

هديناك إلى هذه الأسرار، وشرحنا صدرك بهذه الأنوار، وإذ قد فعلنا بك ذلك فكن منقادا مطيعا لأمرنا، وإياك وأن تكون منقادا مطيعا لغيرنا، ثم لما أمره بطاعته، ونهاه عن طاعة غيره قال: * (واذكر اسم ربك) * وهذا إشارة إلى أن العقول البشرية ليس عندها إلا معرفة الأسماء والصفات، أما معرفة الحقيقة فلا، فتارة يقال له
: * (واذكر اسم ربك) * وهو إشارة إلى معرفة الأسماء، وتارة يقال له: * (واذكر ربك في نفسك) * وهو إشارة إلى مقام الصفات، وأما معرفة الحقيقة المخصوصة التي هي المستلزمة لسائر اللوازم السلبية والإضافية، فلا سبيل لشيء من الممكنات والمحدثات، إلى الوصول إليها والاطلاع عليها، فسبحان من اختفى عن العقول لشدة ظهوره واحتجب عنها بكمال نوره.
واعلم أنه تعالى لما خاطب رسوله بالتعظيم والنهي والأمر عدل إلى شرح أحوال الكفار والمتمردين، فقال تعالى:
* (إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا) *.
والمراد أن الذي حمل هؤلاء الكفار على الكفر، وترك الالتفات والإعراض عما ينفعهم في الآخرة ليس هو الشبهة حتى ينتفعوا بالدلائل المذكورة في أول هذه السورة، بل الشهوة والمحبة لهذه اللذات العاجلة والراحات الدينية، وفي الآية سؤالان: السؤال الأول: لم قال: وراءهم ولم يقل: قدامهم؟ الجواب: من وجوه أحدها: لما لم يلتفتوا إليه، وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم وثانيها: المراد ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل فأسقط المضاف وثالثها: أن تستعمل بمعنى قدام كقوله: * (من ورائه جهنم) * (إبراهيم: 16) * (وكان وراءهم ملك) * (الكهف: 79).
السؤال الثاني: ما السبب في وصف يوم القيامة بأنه يوم ثقيل؟ الجواب: استعير الثقل لشدته وهوله، من الشيء الثقيل الذي يتعب حامله ونحوه * (ثقلت في السماوات والأرض) * (الأعراف: 187). ثم إنه تعالى لما ذكر أن الداعي لهم إلى هذا الكفر حب العاجل، قال:
* (نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا) *.
والمراد أن حبهم للعاجلة يوجب عليهم طاعة الله من حيث الرغبة ومن حيث الرهبة، أما من حيث الرغبة فلأنه هو الذي خلقهم وأعطاهم الأعضاء السليمة التي بها يمكن الانتفاع باللذات العاجلة، وخلق جميع ما يمكن الانتفاع به، فإذا أحبوا اللذات العاجلة، وتلك اللذات لا تحصل
260

إلا عند حصول المنتفع وحصول المنتفع به، وهذان لا يحصلان إلا بتكوين الله وإيجاده، فهذا مما يوجب عليهم الانقياد لله ولتكاليفه وترك التمرد والإعراض، وأما من حيث الرهبة فلأنه قدر على أن يميتهم، وعلى أن يسلب النعمة عنهم، وعلى أن يلقيهم في كل محنة وبلية، فلأجل من فوت هذه اللذات العاجلة يجب عليهم أن ينقادوا لله، وأن يتركوا هذا التمرد، وحاصل الكلام كأنه قيل لهم: هب أن حبكم لهذه اللذات العاجلة طريقة مستحسنة، إلا أن ذلك يوجب عليكم الإيمان بالله والانقياد له، فلو أنكم توسلتم به إلى الكفر بالله، والإعراض عن حكمه، لكنتم قد تمردتم، وهذا ترتيب حسن في السؤال والجواب، وطريقة لطيفة: وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل اللغة: الأسر الربط والتوثيق، ومنه أسر الرجل إذا وثق بالقد وفرس مأسور الخلق وفرس مأسور بالعقب، والمعنى شددنا توصيل أعضائهم بعضا ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب.
المسألة الثانية: * (وإذا شئنا بدلنا أمثالهم) * أي إذا شئنا أهلكناهم وآتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم، وهو كقوله: * (على أن نبدل أمثالكم) * والغرض منه بيان الاستغناء التام عنهم كأنه قيل: لا حاجة بنا إلى أحد من المخلوقين البتة، وبتقدير أن تثبت الحاجة فلا حاجة إلى هؤلاء الأقوام، فإنا قادرون على إفنائهم، وعلى إيجاد أمثالهم، ونظيره قوله تعالى: * (إن يشاء يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا) * (النساء: 133) وقال: * (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز) * (إبراهيم: 19، 20) ثم قيل: بدلنا أمثالهم أي في الخلقة، وإن كانوا أضدادهم في العمل، وقيل: أمثالهم في الكفر.
المسألة الثالثة: قال صاحب الكشاف في قوله: * (وإذا شئنا) * إن حقه أن يجيء بأن لا بإذا كقوله: * (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) * (محمد: 38) * (إن يشأ يذهبكم) * (النساء: 133) واعلم أن هذا الكلام كأنه طعن في لفظ القرآن، وهو ضعيف لأن كل واحد من إن وإذا حرف الشرط، إلا أن حرف إن لا يستعمل فيما يكون معلوم الوقوع، فلا يقال: إن طلعت الشمس أكرمتك، أما حرف إذا فإنه يستعمل فيما كان معلوم الوقوع، تقول: آتيك إذا طلعت الشمس، فههنا لما كان الله تعالى عالما بأنه سيجيء وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة، لا جرم حسن استعمال حرف إذا.
* (إن هذه تذكرة فمن شآء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشآءون إلا أن يشآء الله إن الله كان عليما حكيما) *.
واعلم أنه تعالى لما شرح أحوال السعداء وأحوال الأشقياء قال بعده: * (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * والمعنى أن هذه السورة بما فيها من
261

الترتيب العجيب والنسق البعيد والوعد والوعيد والترغيب والترهيب، تذكرة للمتأملين وتبصرة للمستبصرين، فمن شاء الخيرة لنفسه في الدنيا والآخرة اتخذ إلى ربه سبيلا. واتخاذ السبيل إلى الله عبارة عن التقرب إليه، واعلم أن هذه الآية من جملة الآيات التي تلاطمت فيها أمواج الجبر والقدر، فالقدري يتمسك بقوله تعالى: * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * ويقول: إنه صريح مذهبي ونظيره: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * والجبري يقول: متى ضمت هذه الآية إلى الآية التي بعدها خرج منه صريح مذهب الجبر، وذلك لأن قوله: * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * يقتضي أن تكون مشيئة العبد متى كانت خالصة فإنها تكون مستلزمة للفعل، وقوله بعد ذلك: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * يقتضي أن مشيئة الله تعالى مستلزمة لمشيئة العبد ومستلزم المستلزم مستلزم، فإذا مشيئة الله مستلزمة لفعل العبد، وذلك هو الجبر، وهكذا الاستدلال على الجبر بقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * لأن هذه الآية أيضا تقتضي كون المشيئة مستلزمة للفعل ثم التقرير ما تقدم.
واعلم أن الاستدلال على هذا الوجه الذي لخصناه لا يتوجه عليه كلام القاضي إلا أنا نذكره وننبه على ما فيه من الضعف، قال القاضي: المذكور في هذه الآية اتخاذ
السبيل إلى الله، ونحن نسلم أن الله قد شاءه لأنه تعالى قد أمر به، فلا بد وأن يكون قد شاءه. وهذا لا يقتضي أن يقال العبد: لا يشاء إلا ما قد شاءه الله على الإطلاق، إذ المراد بذلك الأمر المخصوص الذي قد ثبت أنه تعالى قد أراده وشاءه.
واعلم أن هذا الكلام الذي ذكره القاضي لا تعلق له بالاستدلال على الوجه الذي ذكرناه، وأيضا فحاصل ما ذكره القاضي تخصيص هذا العام بالصورة التي مر ذكرها فيما قبل هذه الآية، وذلك ضعيف، لأن خصوص ما قبل الآية لا يقتضي تخصيص هذا العام به. لاحتمال أن يكون الحكم في هذه الآية واردا بحيث يعم تلك الصورة وسائر الصور، بقي في الآية سؤال يتعلق بالإعراب، وهو أن يقال: ما محل أن يشاء الله؟ وجوابه النصب على الظرف، وأصله إلا وقت مشيئة الله، وكذلك قراءة ابن مسعود: " إلا ما شاء الله " لأن ما مع الفعل كأن معه، وقرئ أيضا يشاءون بالياء.
ثم قال تعالى: * (إن الله كان عليما حكيما) * أي عليما بأحوالهم وما يكون منهم حيث خلقهم مع علمه بهم.
ثم ختم السورة فقال:
* (يدخل من يشآء فى رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) *.
اعلم أن خاتمة هذه السورة عجيبة، وذلك لأن قوله: * (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) * (الإنسان: 30) يدل على أن جميع
262

ما يصدر عن العبد فبمشيئة الله، وقوله: * (يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * يدل على أن دخول الجنة والنار ليس إلا بمشيئة الله، فخرج من آخر هذه السورة إلا الله وما هو من الله، وذلك هو التوحيد المطلق الذي هو آخر سير الصديقين ومنتهى معارجهم في أفلاك المعارف الإلهية، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (يدخل من يشاء في رحمته) * إن فسرنا الرحمة الإيمان، فالآية صريحة في أن الإيمان من الله، وإن فسرناها بالجنة كان دخول الجنة بسبب مشيئة الله وفضله وإحصانه لا بسبب الاستحقاق، وذلك لأنه لو ثبت الاستحقاق لكان تركه يفضي إلى الجهل والحاجة المحالين على الله، والمفضي إلى المحال محال فتركه محال فوجوده واجب عقلا وعدمه ممتنع عقلا، وما كان كذلك لا يكون معلقا على المشيئة البتة، وأيضا فلأن من كان مديونا من إنسان فأدى ذلك الدين إلى مستحقه لا يقال: بأنه إنما دفع ذلك القدر إليه على سبيل الرحمة والتفضل. المسألة الثانية: قوله: * (والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * يدل على أنه جف القلم بما هو كائن، لأن معنى أعد أنه علم ذلك وقضى به، وأخبر عنه وكتبه في اللوح المحفوظ، ومعلوم أن التغيير على هذه الأشياء محال، فكان الأمر على ما بيناه وقلناه.
المسألة الثالثة: قال الزجاج: نصب الظالمين لأن قبله منصوبا، والمعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين وقوله: * (أعد لهم عذابا أليما) * كالتفسير لذلك المضمر، وقرأ عبد الله بن الزبير: والظالمون، وهذا ليس باختيار لأنه معطوف على يدخل من يشاء وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية غير حسن، وأما قوله في حم عسق: * (يدخل من يشاء في رحمته والظالمون) * فإنما ارتفع لأنه لم يذكر بعده فعل يقع عليه فينصبه في المعنى، فلم يجز أن يعطف على المنصوب قبله، فارتفع بالابتداء، وههنا قوله: * (أعد لهم عذابا أليما) * يدل على ذلك الناصب المضمر، فظهر الفرق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
263

سورة المرسلات
وهي خمسون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن هذه الكلمات الخمس إما أن يكون المراد منها جنسا واحدا أو أجناسا مختلفة أما الاحتمال الأول: فذكروا فيه وجوها الأول: أن المراد منها بأسرها الملائكة فالمرسلات هم الملائكة الذين أرسلهم الله إما بإيصال النعمة إلى قوم أو لإيصال النقمة إلى آخرين، وقوله: * (عرفا) * فيه وجوه: أحدها: متتابعة كشعر العرف يقال: جاؤوا عرفا واحدا وهم عليه كعرف الضبع إذا تألبوا عليه والثاني: أن يكون بمعنى العرف الذي هو نقيض النكرة فإن هؤلاء الملائكة إن كانوا بعثوا للرحمة، فهذا المعنى فيهم ظاهر وإن كانوا لأجل العذاب فذلك العذاب، وإن لم يكن معروفا للكفار، فإنه معروف للأنبياء والمؤمنين الذين انتقم الله لهم منهم.
والثالث: أن يكون مصدرا كأنه قيل: والمرسلات أرسالا أي متتابعة وانتصاب عرفا على الوجه الأول على الحال، وعلى الثاني لكونه مفعولا أي أرسلت للإحسان والمعروف وقوله: * (فالعاصفات عصفا) * فيه وجهان الأول: يعني أن الله تعالى لما أرسل أولئك الملائكة فهم عصفوا في طيرانهم كما تعصف الرياح.
والثاني: أن هؤلاء الملائكة يعصفون بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، يقال: ناقة عصوف، أي تعصف براكبها فتمضي كأنها ريح في السرعة، وعصفت الحرب بالقوم، أي ذهبت بهم، قال الشاعر: في فيلق شهباء ملمومة * تعصف بالمقبل والمدبر
وقوله تعالى: * (والناشرات نشرا) * معناه أنهم نشروا أجنحتهم عند انحطاطهم إلى الأرض، أو نشروا الشرائع في الأرض، أو نشروا الرحمة أو العذاب، أو المراد الملائكة الذين ينشرون
264

الكتب يوم الحساب، وهي الكتب التي فيها أعمال بني آدم، قال تعالى: * (ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * وبالجملة فقد نشروا الشيء الذي أمروا بإيصاله إلى أهل الأرض ونشره فيهم وقوله تعالى: * (فالفارقات فرقا) * معناه أنهم يفرقون بين الحق والباطل، وقوله: * (فالملقيات ذكرا) * معناه أنهم يلقون الذكر إلى
الأنبياء، ثم المراد من الذكر يحتمل أن يكون مطلق العلم والحكمة، كما قال: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) ويحتمل أن يكون المراد هو القرآن خاصة، وهو قوله: * (أألقي الذكر عليه من بيننا) * وقوله: * (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب) * وهذا الملقى وإن كان هو جبريل عليه السلام وحده، إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم.
واعلم أنك قد عرفت أن المقصود من القسم التنبيه على جلالة المقسم به، وشرف الملائكة وعلو رتبتهم أمر ظاهر من وجوه أحدها: شدة مواظبتهم على طاعة الله تعالى، كما قال تعالى: * (ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 50) * (لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * (الأنبياء: 27) وثانيها: أنهم أقسام: فمنهم من يرسل لإنزال الوحي على الأنبياء، ومنهم من يرسل للزوم بني آدم لكتابة أعمالهم؛ طائفة منهم بالنهار وطائفة منهم بالليل، ومنهم من يرسل لقبض أرواح بني آدم، ومنهم من يرسل بالوحي من سماء إلى أخرى، إلى أن ينزل بذلك الوحي ملك السماء إلى الأرض، ومنهم الملائكة الذين ينزلون كل يوم من البيت المعمور إلى الكعبة على ما روي ذلك في الإخبار، فهذا مما ينتظمه قوله: * (والمرسلات عرفا) * ثم ما فيها من سرعة السير، وقطع المسافات الكثيرة في المدة اليسيرة، كقوله: * (تعرج الملاك والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * ثم ما فيها من نشر أجنحتهم العظيمة عند الطيران، ونشر العلم والحكمة والنبوة والهداية والإرشاد والوحي والتنزيل، وإظهار الفرق بين الحق والباطل بسبب إنزال ذلك الوحي والتنزيل، وإلقاء الذكر في القلب واللسان بسبب ذلك الوحي، وبالجملة فالملائكة هم الوسائط بين الله تعالى، وبين عباده في الفوز بجميع السعادات العاجلة والآجلة والخيرات الجسمانية والروحانية، فلذلك أقسم الله بهم.
القول الثاني: أن المراد من هذه الكلمات الخمس بأسرها الرياح، أقسم الله برياح عذاب أرسلها عرفا، أي متتابعة كشعر العرف، كما قال: * (يرسل الرياح) * (الروم: 46) * (وأرسلنا الرياح) * (الحجر: 22) ثم إنها تشتد حتى تصير عواصف ورياح رحمة نشرت السحاب في الجو، كما قال: * (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) * (النمل: 63) وقال: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء) * (الروم: 48) ويجوز أيضا أن يقال: الرياح تعين النبات والزرع والشجر على النشور والإنبات، وذلك لأنها تلقح فيبرز النبات بذلك، على ما قال تعالى: * (وأرسلنا الرياح لواقح) * (الحجر: 22) فبهذا الطريق تكون الرياح ناشرة للنبات وفي كون الرياح فارقة وجوه أحدها: أن الرياح تفرق بعض أجزاء السحاب عن بعض وثانيها: أن الله تعالى خرب بعض القرى بتسليط الرياح عليها، كما قال: * (وأما عاد فأهلكوا
265

بريح صرصر) * (الحاقة: 6) وذلك سبب لظهور الفرق بين أولياء الله وأعداء الله وثالثها: أن عند حدوث الرياح المختلفة، وترتيب الآثار العجيبة عليها من تموج السحاب وتخريب الديار تصير الخلق مضطرين إلى الرجوع إلى الله والتضرع على باب رحمته، فيحصل الفرق بين المقر والمنكر والموحد والملحد، وقوله: * (فالملقيات ذكرا) * معناه أن العاقل إذا شاهد هبوب الرياح التي تقلع القلاع، وتهدم الصخور والجبال، وترفع الأمواج تمسك بذكر الله والتجأ إلى إعانة الله، فصارت تلك الرياح كأنها ألقت الذكر والإيمان والعبودية في القلب، ولا شك أن هذه الإضافة تكون على سبيل المجاز من حيث إن الذكر حصل عند حدوث هذه.
القول الثالث: من الناس من حمل بعض هذه الكلمات الخمسة على القرآن، وعندي أنه يمكن حمل جميعها على القرآن، فقوله: * (والمرسلات) * المراد منها الآيات المتتابعة المرسلة على لسان جبريل عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: * (عرفا) * أي نزلت هذه الآيات بكل عرف وخير وكيف لا وهي الهادية إلى سبيل النجاة والموصلة إلى مجامع الخيرات * (والعاصفات عصفا) * فالمراد أن دولة الإسلام والقرآن كانت ضعيفة في الأول، ثم عظمت وقهرت سائر الملل والأديان، فكأن دولة القرآن عصفت بسائر الدول والملل والأديان وقهرتها، وجعلتها باطلة دائرة، وقوله: * (والناشرات نشرا) * المراد أن آيات القرآن نشرت آثار الحكمة والهداية في قلوب العالمين شرقا وغربا، وقوله: * (فالفارقات فرقا) * فذلك ظاهر، لأن آيات القرآن هي التي تفرق بين الحق والباطل، ولذلك سمي الله تعالى القرآن فرقانا، وقوله: * (فالملقيات ذكرا) * فالأمر فيه ظاهر، لأن القرآن ذكر، كما قال تعالى: * (ص والقرآن ذي الذكر) * (ص: 1) * (وإنه لذكر لك ولقومك) * (الزخرف: 44) * (وهذا ذكر مبارك) *، (الأنبياء: 50) وتذكرة كما قال: * (وإنه لتذكرة للمتقين) * (الحاقة: 48) وذكرى كما قال: * (ذكرى للعالمين) * (الأنعام: 90) فظهر أنه يمكن تفسير هذه الكلمات الخمسة بالقرآن، وهذا وإن لم يذكره أحد فإنه محتمل.
القول الرابع: يمكن حملها أيضا على بعثة الأنبياء عليهم السلام * (والمرسلات عرفا) * هم الأشخاص الذين أرسلوا بالوحي المشتمل على كل خير ومعروف، فإنه لا شك أنهم أرسلوا بلا إله إلا الله، وهو مفتاح كل خير ومعروف * (فالعاصفات عصفا) * معناه أن أمر كل رسول يكون في أول الأمر حقيرا ضعيفا، ثم يشتد ويعظم ويصير في القوة كعصف الرياح * (والناشرات نشرا) * المراد منه انتشار دينهم ومذهبهم ومقالتهم * (فالفارقات فرقا) * المراد أنهم يفرقون بين الحق والباطل والتوحيد والإلحاد * (فالملقيات ذكرا) * المراد أنهم يدعون الخلق إلى ذكر الله، ويأمرونهم به ويحثونهم عليه.
القول الخامس: أن يكون المراد أن الرجل قد يكون مشتغلا بمصالح الدنيا مستغرقا في طلب لذاتها وراحاتها، ففي أثناء ذلك يرد في قلبه داعية الإعراض عن الدنيا والرغبة في خدمة المولى، فتلك الدواعي هي المرسلات عرفا، ثم هذه المرسلات لها أثران أحدهما: إزالة حب
266

ما سوى الله تعالى عن القلب، وهو المراد من قوله: * (فالعاصفات عصفا) * والثاني: ظهور أثر تلك الداعية في جميع الجوارح والأعضاء حتى لا يسمع إلا الله، ولا يبصر إلا الله، ولا ينظر إلا الله، فذلك هو قوله: * (والناشرات نشرا) * ثم عند ذلك ينكشف له نور جلال الله فيراه موجودا، ويرى كل ما سواه معدوما، فذلك قوله: * (فالفارقات فرقا) * ثم يصير العبد كالمشتهر في محبته، ولا يبقى في قلبه ولسانه إلا ذكره، فذلك قوله: * (فالملقيات ذكرا) *.
واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة، وإن كانت غير مذكورة إلا أنها محتملة جدا.
وأما الاحتمال الثاني: وهو أن لا يكون المراد من الكلمات الخمس شيئا واحدا، ففيه وجوه الأول: ما ذكره الزجاج واختيار القاضي، وهو أن الثلاثة الأول هي الرياح، فقوله: * (والمرسلات عرفا) * هي الرياح التي تتصل على العرف المعتاد * (والعاصفات) * ما يشتد منه، * (والناشرات) * ما ينشر السحاب. أما قوله: * (فالفارقات فرقا) * فهم الملائكة الذين يفرقون بين الحق والباطل، والحلال والحرام، بما يتحملونه من القرآن والوحي، وكذلك قوله: * (فالملقيات ذكرا) * أنها الملائكة المتحملة للذكر الملقية ذلك إلى الرسل، فإن قيل: وما المجانسة بين الرياح وبين الملائكة حتى يجمع بينهما في القسم؟ قلنا: الملائكة روحانيون، فهم بسبب لطافتهم وسرعة حركاتهم كالرياح القول الثاني: أن الاثنين الأولين هما الرياح، فقوله: * (والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا) * هما الرياح، والثلاثة الباقية الملائكة، لأنها تنشر الوحي والدين، ثم لذلك الوحي أثران أحدهما: حصول الفرق بين المحق والمبطل والثاني: ظهور ذكر الله في القلوب والألسنة، وهذا القول ما رأيته لأحد، ولكنه ظاهر الاحتمال أيضا، والذي يؤكده أنه قال: * (والمرسلات عرفا، فالعاصفات عصفا) * عطف الثاني على الأول بحرف الفاء، ثم ذكر الواو فقال: * (والناشرات نشرا) * وعطف الاثنين الباقيين عليه بحرف الفاء، وهذا يقتضي أن يكون الأولان ممتازين عن الثلاثة الأخيرة القول الثالث: يمكن أيضا أن يقال: المراد بالأولين الملائكة، فقوله: * (والمرسلات عرفا) * ملائكة الرحمة، وقوله: * (فالعاصفات عصفا) * ملائكة العذاب، والثلاثة الباقية آيات القرآن، لأنها تنشر الحق في القلوب والأرواح، وتفرق بين الحق والباطل، وتلقي الذكر في القلوب والألسنة، وهذا القول أيضا ما رأيته لأحد، وهو محتمل، ومن وقف على ما ذكرناه أمكنه أن يذكر فيه وجوها، والله أعلم بمراده.
المسألة الثانية: قال القفال: الوجه في دخول الفاء في بعض ما وقع به القسم، والواو في بعض مبني على الأصل، وهو أن عند أهل اللغة الفاء تقتضي الوصل والتعلق، فإذا قيل: قام زيد فذهب، فالمعنى أنه قام ليذهب فكان قيامه سببا لذهابه ومتصلا به، وإذا قيل: قام وذهب فهما خبران كل واحد منهما قائم بنفسه لا يتعلق بالآخر، ثم إن القفال لما مهد هذا الأصل فرع الكلام عليه في هذه الآية بوجوه لا يميل قلبي إليها، وأنا أفرع على هذا الأصل فأقول: أما من
267

جعل الأولين صفتين لشيء والثلاثة الأخيرة صفات لشيء واحد، فالإشكال عنه زائل، وأما من جعل الكل صفات لشيء واحد، فنقول: إن حملناها على الملائكة، فالملائكة إذا أرسلت طارت سريعا، وذلك الطيران هو العصف، فالعصف مرتب على الإرسال فلا جرم ذكر الفاء، أما النشر فلا يترتب على الإرسال، فإن الملائكة أول ما يبلغون الوحي إلى الرسل لا يصير في الحال ذلك الدين مشهورا منتشرا، بل الخلق يؤذون الأنبياء في أول الأمر وينسبونهم إلى الكذب والسحر والجنون، فلا جرم لم يذكر الفاء التي تفيد بل ذكر الواو، بلى إذا حصل النشر ترتب عليه حصول الفرق بين الحق والباطل وظهور ذكر الحق على الألسنة فلا جرم ذكر هذين الأمرين بحرف الفاء، فكأنه والله أعلم قيل: يا محمد إني أرسلت الملك إليك بالوحي الذي هو عنوان كل سعادة، وفاتحة كل خير، ولكن لا تطمع في أن ننشر ذلك الأمر في الحالة، ولكن لا بد من الصبر وتحمل المشقة، ثم إذا جاء وقت النصرة أجعل دينك ظاهرا منتشرا في شرق العالم وغربه، وعند ذلك الانتشار يظهر الفرق فتصير الأديان الباطلة ضعيفة ساقطة، ودينك هو الدين الحق ظاهرا غالبا، وهنالك يظهر ذلك الله على الألسنة، وفي المحاريب وعلى المنابر ويصير العالم مملوءا من ذكر الله، فهذا إذا حملنا هذه الكلمات الخمس على الملائكة، ومن عرف هذا الوجه أمكنه ذكر ما شابهه في الرياح وسائر الوجوه والله أعلم. أما قوله: * (عذرا أو نذرا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: فيهما قراءتان التخفيف وهو قراءة أبي عمرو وعاصم من رواية حفص والباقون قرأوا بالتثقيل، أما التخفيف فلا نزاع في كونه مصدرا، والمعنى إعذارا وإنذارا، وأما التثقيل فزعم أبو عبيدة أنه جمع وليس بمصدر، وأما الأخفش والزجاج فزعما أنه مصدر، والتثقيل والتخفيف لغتان، وقرر أبو علي قول الأخفش والزجاج، وقال: العذر والعذير والنذر والنذير مثل النكر والنكير، ثم قال أبو علي: ويجوز في قراءة من ثقل أن يكون عذرا جمع عاذر كشرف وشارف، وكذلك النذر يجوز أن يكون جمع نذير، قال تعالى: * (هذا نذير من النذر الأولى) * (النجم: 56).
المسألة الثانية: في النصب ثلاثة أوجه، أما على تقدير كونه مصدرا فوجهان أحدهما: أن يكون مفعولا على البدل من قوله: ذكرا والثاني: أن يكون مفعولا له، والمعنى والملقيات ذكرا للأعذار والإنذار، وأما على تقدير كونه جمعا، فنصب على الحال من الإلقاء والتقدير فالملقيات ذكرا حال كونهم عاذرين ومنذرين.
* (إنما توعدون لواقع) *.
جواب القسم والمعنى، إن الذي توعدون به من مجيء
268

يوم القيامة لكائن نازل، وقال الكلبي: المراد أن كل ما توعدون به من الخير والشر لواقع، واحتج القائلون بالتفسير الأول بأنه تعالى ذكر عقيب هذه الآيات، علامات يوم القيامة، فدل على أن المراد من هذه الآية هو القيامة فقط، ثم إنه ذكر علامات وقوع هذا اليوم. أولها: قوله تعالى:
* (فإذا النجوم طمست) *.
وذكرنا تفسير الطمس عند قوله: * (ربنا اطمس على أموالهم) * (يونس: 88) وبالجملة فيحتمل أن يكون المراد محقت ذواتها، وهو موافق لقوله: * (انتثرت) * (الإنفطار: 2) و * (انكدرت) * (التكوير: 2) وأن يكون المراد محقت أنوارها، والأول أولى، لأنه لا حاجة فيه إلى الإضمار. ويجوز أن يمحق نورها ثم تنتثر ممحوقة النور. وثانيها: قوله:
* (وإذا السمآء فرجت) *.
* (وإذا السماء فرجت) * الفرج الشق يقال: فرجه الله فانفرج، وكل مشقوق فرج، فههنا قوله: فرجت أي شقت نظيره * (وإذا السماء انشقت) * (الانشقاق: 1
) * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * (الفرقان: 25) وقال ابن قتيبة معناه، فتحت نظيره، وفتحت السماء قال الشاعر: الفارجي باب الأمير المبهم
وثالثها: قوله:
* (وإذا الجبال نسفت) *.
وفيه وجهان أحدهما: نسفت كالحب المغلث إذا نسف بالمنسف، ومنه قوله: * (لنحرقنه ثم لننسفنه) * ونظيره * (وبست الجبال بسا) * (الواقعة: 5) * (وكانت الجبال كثيبا مهيلا) * (المزمل: 14) * (فقل ينسفها ربي نسفا) * والثاني: اقتلعت بسرعة من أماكنها من انتسفت الشيء إذا اختطفته، وقرئ * (طمست) * و * (فرجت) * و * (نسفت) * مشددة. ورابعها: قوله تعالى:
* (وإذا الرسل أقتت) *.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: أقتت أصلها وقتت ويدل عليه وجوه أحدها: قراءة أبي عمرو وقتت بالواو وثانيها: أن أصل الكلمة من الوقت وثالثها: أن كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة فإنها تبدل على الإطراد همزة أولا وحشوا، ومن ذلك أن تقول: صلى القوم إحدانا، وهذه أجوه حسان وأدؤر في جمع دار، والسبب فيه أن الضمة من جنس الواو، فالجمع بينهما يجري مجرى جمع المثلين فيكون ثقيلا، ولهذا السبب كان كسر الياء ثقيلا.
أما قوله تعالى: * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * فلا يجوز فيه البدل لأن الضمة غير لازمة، ألا ترى أنه لا يسوغ في نحو قولك: * (هذا وعد) * أن تبدل.
المسألة الثانية: في التأقيت قولان: الأول: وهو قول مجاهد والزجاج أنه تبيين الوقت الذي فيه يحضرون للشهادة على أممهم، وهذا ضعيف، وذلك لأن هذه الأشياء جعلت علامات
269

لقيام القيامة، كأنه قيل: إذا كان كذا وكذا كانت القيامة، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال: وإذا بين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم قامت القيامة لأن ذلك البيان كان حاصلا في الدنيا ولأن الثلاثة المتقدمة هي الطمس والفرج والنسف مختصة بوقت قيام القيامة، فكذا هذا التوقيت يجب أن يكون مختصا بوقت قيام القيامة القول الثاني: أن المراد بهذا التأقيت تحصيل الوقت وتكوينه، وهذا أقرب أيضا إلى مطابقة اللفظ، لأن بناء التفعيلات على تحصيل تلك الماهيات، فالتسويد تحصيل السواد والتحريك تحصيل الحركة، فكذا التأقيت تحصيل الوقت ثم إنه ليس في اللفظ بيان أنه تحصيل لوقت أي شيء، وإنما لم يبين ذلك ولم يعين لأجل أن يذهب الوهم إلى كل جانب فيكون التهويل فيه أشد فيحتمل أن يكون المراد تكوين الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وأن يكون هو الوقت الذي يجتمعون فيه للفوز بالثواب، وأن يكون هو وقت سؤال الرسل عما أجيبوا به وسؤال الأمم عما أجابوهم، كما قال: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) * وأن يكون هو الوقت الذي يشاهدون الجنة والنار والعرض والحساب والوزن وسائر أحوال القيامة، وإليه الإشارة بقوله: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *.
* (لأي يوم أجلت) *.
أي أخرت كأنه تعالى يعجب العباد من تعظيم ذلك اليوم فقال: لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بهؤلاء: وهي تعذيب من كذبهم وتعظيم من آمن بهم وظهور ما كانوا يدعون الخلق إلى الإيمان به من الأهوال والعرض والحساب ونشر الدواوين ووضع الموازين.
ثم إنه تعالى بين ذلك فقال:
* (ليوم الفصل) *.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يوم يفصل الرحمن بين الخلائق، وهذا كقوله: * (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) *.
ثم أتبع ذلك تعظيما ثانيا فقال:
* (ومآ أدراك ما يوم الفصل) *.
* (وما أدراك ما يوم الفصل) * أي وما علمك بيوم الفصل وشدته ومهابته.
ثم أتبعه بتهويل ثالث فقال:
* (ويل يومئذ للمكذبين) *.
أي للمكذبين بالتوحيد والنبوة والمعاد وبكل ما ورد من الأنبياء عليهم السلام وأخبروا عنه، بقي ههنا سؤالان.
السؤال الأول: كيف وقع النكرة مبتدأ في قوله: * (ويل يومئذ للمكذبين) *؟ الجواب: هو في أصله مصدر منصوب ساد مسد فعله، ولكنه عدل به إلى الرفع للدلالة على معنى ثبات الهلاك
270

ودوامه للمدعو عليه، ونحوه * (سلام عليكم) * ويجوز ويلا بالنصب، ولكن لم يقرأ به.
السؤال الثاني: أين جواب قوله: * (فإذا النجوم طمست) *؟ الجواب: من وجهين أحدهما: التقدير: إنما توعدون لواقع، إذا النجوم طمست، وهذا ضعيف، لأنه يقع في قوله: * (فإذا النجوم طمست) *، الثاني: أن الجواب محذوف، والتقدير * (فإذا النجوم طمست) * وإذا وإذا، فحينئذ تقع المجازاة بالأعمال وتقوم القيامة.
* (ألم نهلك الاولين * ثم نتبعهم الاخرين * كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن المقصود من هذه الصورة تخويف الكفار وتحذيرهم عن الكفر.
فالنوع الأول: من التخويف أنه أقسم على أن اليوم الذي يوعدون به، وهو يوم الفصل واقع ثم هول فقال: * (وما أدراك ما يوم الفصل) * ثم زاد في التهويل فقال: * (ويل يومئذ للمكذبين) *. والنوع الثاني من التخويف: ما ذكر في هذه الآية. وهو أنه أهلك الكفرة المتقدمين بسبب كفرهم. فإذا كان الكفر حاصلا في هؤلاء المتأخرين، فلا بد وأن يهلكهم أيضا ثم قال: * (ويل يومئذ للمكذبين) * كأنه يقول، أما الدنيا فحاصلهم الهلاك، وأما الآخرة فالعذاب الشديد وإليه الإشارة بقوله: * (خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) * وفي الآية سؤالان الأول: ما المراد من الأولين والآخرين؟ الجواب: فيه قولان: الأول: أنه أهلك الأولين من قوم نوح وعاد وثمود ثم أتبعهم الآخرين قوم شعيب ولوط وموسى كذلك نفعل بالمجرمين وهم كفار قريش، وهذا القول ضعيف لأن قوله: * (نتبعهم الآخرين) * بلفظ المضارع فهو يتناول الحال والاستقبال ولا يتناول الماضي البتة القول الثاني: أن المراد بالأولين جميع الكفار الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: * (ثم نتبعهم الآخرين) * على الاستئناف على معنى سنفعل ذلك ونتبع الأول الآخر، ويدل على الاستئناف قراءة عبد الله * (سنتبعهم) *، فإن قيل: قرأ الأعرج ثم نتبعهم بالجزم وذلك يدل على الاشتراك في ألم، وحينئذ يكون المراد به الماضي لا المستقبل، قلنا: القراءة الثابتة بالتواتر نتبعهم بحركة العين، وذلك يقتضي المستقبل، فلو اقتضت القراءة بالجزم أن يكون المراد هو الماضي لوقع التنافي بين القراءتين، وإنه غير جائز. فعلمنا أن تسكين العين ليس للجزم للتخفيف كما روي في بيت امرئ القيس: واليوم أشرب غير مستحقب ثم إنه تعالى لما بين أنه يفعل بهؤلاء المتأخرين مثل ما يفعل بأولئك المتقدمين قال: * (كذلك
271

نفعل بالمجرمين) * أي هذا الإهلاك إنما نفعله بهم لكونهم مجرمين، فلا جرم في جميع المجرمين، لأن عموم العلة يقتضي عموم الحكم.
ثم قال تعالى: * (ويل يومئذ للمكذبين) * أي هؤلاء وإن أهلكوا وعذبوا في الدنيا، فالمصيبة العظمى والطامة الكبرى معدة لهم يوم القيامة.
السؤال الثاني: المراد من الإهلاك في قوله: * (ألم نهلك الأولين) * هو مطلق الإماتة أو الإماتة بالعذاب؟ فإن كان ذلك هو الأول لم يكن تخويفا للكفار، لأن ذلك أمر حاصل للمؤمن والكافر، فلا يصلح تحذيرا للكافر، وإن كان المراد هو الثاني وهو الإماتة بالعذاب، فقوله: * (ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين) * يقتضي أن يكون الله قد فعل بكفار قريش مثل ذلك، ومن المعلوم أنه لم يوجد ذلك، وأيضا فلأنه تعالى قال: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * الجواب: لم لا يجوز أن يكون المراد منه الإماتة بالتعذيب، وقد وقع ذلك في حق قريش وهو يوم بدر؟ سلمنا ذلك، فلم لا يجوز أن يكون المراد من الإهلاك معنى ثالثا مغايرا للأمرين اللذين ذكروهما وهو الإماتة المستعقبة للذم واللعن؟ فكأنه قيل: إن أولئك المتقدمين لحرصهم على الدنيا عاندوا الأنبياء وخاصموهم، ثم ماتوا فقد فاتتهم الدنيا وبقي اللعن عليهم في الدنيا والعقوبة الأخروية دائما سرمدا، فهكذا يكون حال هؤلاء الكفار الموجودين ومعلوم أن مثل هذا الكلام من أعظم وجوه الزجر.
* (ألم نخلقكم من مآء مهين * فجعلناه فى قرار مكين * إلى قدر معلوم * فقدرنا فنعم القادرون * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن هذا هو النوع الثالث: من تخويف الكفار ووجه التخويف فيه من وجهين: الأول: أنه تعالى ذكرهم عظيم إنعامه عليهم، وكلما كانت نعمة الله عليهم أكثر كانت جنايتهم في حقه أقبح وأفحش، وكلما كان كذلك كان العقاب أعظم، فلهذا قال عقيب ذكر هذا الإنعام: * (ويل يومئذ للمكذبين) *. الوجه الثاني: أنه تعالى ذكرهم كونه قادرا على الابتداء، وظاهر في العقل أن القادر على الابتداء قادر على الإعادة، فلما أنكروا هذه الدلالة الظاهرة، لا جرم قال في حقهم: * (ويل يومئذ للمكذبين) * وأما التفسير فهو أن قوله: * (ألم نخلقكم من ماء مهين) * أي من النطفة، كقوله: * (ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين) * وهو الرحم، لأن ما يخلق منه الولد لا بد وأن يثبت في الرحم ويتمكن بخلاف مالا يخلق منه الولد، ثم قال: * (إلى
272

قدر معلوم) * والمراد كونه في الرحم إلى وقت الولادة، وذلك الوقت معلوم لله تعالى لا لغيره كقوله: * (إن الله عنده علم الساعة) * إلى قوله: * (ويعلم ما في الأرحام) *، * (فقدرنا) * قرأ نافع وعبد الله بن عامر بالتشديد، وقرأ الباقون بالتخفيف، أما التشديد فالمعنى إنا قدرنا ذلك تقديرا فنعم المقدرون له نحن، ويتأكد هذا الوجه بقوله تعالى: * (من نطفة خلقه فقدره) * ولأن إيقاع الخلق على هذا التقدير والتحديد نعمة من المقدر على المخلوق فحسن ذكره في موضع ذكر المنة والنعمة، ومن طعن في هذه القراءة قال: لو صحت هذه القراءة لوجب أن يقال: فقدرنا فنعم المقدرون وأجيب عنه بأن العرب قد تجمع بين اللغتين، قال تعالى: * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * وأما القراءة بالتخفيف ففيها وجهان: الأول: أنه من القدرة أي فقدرنا على خلقه وتصويره كيف شئنا وأردنا * (فنعم القادرون) * حيث خلقناه في أحسن الصور والهيئات والثاني: أنه يقال: قدرت الشيء بالتخفيف على معنى قدرته، قال: الفراء العرب تقول: قدر عليه الموت، وقدر عليه الموت، وقدر عليه رزقه وقدر بالتخفيف والتشديد، قال تعالى: * (فقدر عليه رزقه) *.
* (ألم نجعل الارض كفاتا * أحيآء وأمواتا * وجعلنا فيها رواسى شامخات وأسقيناكم مآء فراتا * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن هذا هو النوع الرابع: من تخويف الكفار وذلك لأنه ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الأنفس، وفي هذه الآية ذكرهم بالنعم التي له عليهم في الآفاق، ثم قال في آخر الآية: * (ويل يومئذ للمكذبين) * والسبب فيه ما قدمنا أن النعم كلما كانت أكثر كانت الجناية أقبح فكان استحقاق الذم عاجلا والعقاب آجلا أشد، وإنما قدم تلك الآية على هذه الآية، لأن النعم التي في الأنفس كالأصل للنعم التي في الآفاق، فإنه لولا الحياة والسمع والبصر والأعضاء السليمة لما كان الانتفاع بشيء من المخلوق ممكنا. واعلم أنه تعالى ذكر ههنا ثلاثة أشياء أولها: الأرض، وإنما قدمها لأن أقرب الأشياء إلينا من الأمور الخارجية هو الأرض، ومعنى الكفات في اللغة الضم والجمع يقال: كفت الشيء أي ضممته، ويقال: جراب كفيت وكفت إذا كان لا يضيع شيئا مما يجعل فيه، ويقال للقدر: كفت. قال صاحب الكشاف: هو اسم ما يكفت، كقولهم الضمام والجماع لما يضم ويجمع، ويقال: هذا الباب جماع الأبواب، وتقول: شددت الشيء ثم تسمي الخيط الذي تشد به الشيء شدادا، وبه انتصب أحياء
وأمواتا كأنه قيل: كافتة أحياء وأمواتا، أو بفعل مضمر يدل عليه وهو نكفت ويكون المعنى نكفتكم أحياء وأمواتا، فينصبان على الحال من الضمير هذا هو اللغة، ثم في المعنى
273

وجوه أحدها: أنها تكفت أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها والمعنى أن الأحياء يسكنون في منازلهم والأموات يدفنون في قبورهم، ولهذا كانوا يسمون الأرض أما لأنها في ضمها للناس كالأم التي تضم ولدها وتكفله، ولما كانوا يضمون إليها جعلت كأنها تضمهم وثانيها: أنها كفات الأحياء بمعنى أنها تكفت ما ينفصل الأحياء من الأمور المستقذرة، فأما أنها تكفت (الأحياء) حال كونهم على ظهرها فلا وثالثها: أنها كفات الأحياء بمعنى أنها جامعة لما يحتاج الإنسان إليه في حاجاته من مأكل ومشرب، لأن كل ذلك يخرج من الأرض والأبنية الجامعة للمصالح الدافعة للمضار مبنية منها ورابعها: أن قوله: * (أحياء وأمواتا) * معناه راجع إلى الأرض، والحي ما أنبت والميت ما لم ينبت، بفي في الآية سؤالان: الأول: لم قيل: * (أحياء وأمواتا) * على التنكير وهي كفات الأحياء والأموات جميعا؟ الجواب: هو من تنكير التفخيم، كأنه قيل: تكفت أحياء لا يعدون، وأمواتا لا يحصرون.
السؤال الثاني: هل تدل هذه الآية على وجوب قطع النباش؟ الجواب: نقل القفال أن ربيعة قال: دلت الآية على أن الأرض كفات الميت فتكون حرزا له، والسارق، من الحرز يجب عليه القطع. النوع الثاني: من النعم المذكورة في هذه الآية قوله تعالى: * (وجعلنا فيها رواسي شامخات) * فقوله: * (رواسي) * أي ثوابت على ظهر الأرض لا تزول و * (شامخات) * أي عاليات، وكل عال فهو شامخ، ويقال: للمتكبر شامخ بأنفه، ومنافع خلقة الجبال قد تقدمت في هذا الكتاب.
النوع الثالث: من النعم قوله تعالى: * (وأسقيناكم ماء فراتا) * الفرات هو الغاية في العذوبة، وقد تقدم تفسيره في قوله: * (هذا عذاب فرات) *.
* (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون * انطلقوا إلى ظل ذى ثلاث شعب * لا ظليل ولا يغنى من اللهب * إنها ترمى بشرر كالقصر * كأنه جمالة صفر * ويل يومئذ للمكذبين *) *.
اعلم أن هذا هو النوع الخامس: من وجوه تخويف الكفار وهو بيان كيفية عذابهم في الآخرة فأما قوله: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * فالمعنى أنه يقال لهم: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * من العذاب، والظاهر أن القائلين هم خزنة النار * (وانطلقوا) * الثاني تكرير، وقرأ
274

يعقوب * (انطلقوا) * على لفظ الماضي، والمعنى أنهم انقادوا للأمر لأجل أنهم مضطرون إليه لا يستطيعون امتناعا منه، وهذا بعيد لأنه كان ينبغي أن يقال: فانطلقوا بالفاء، ليرتبط آخر الكلام بأوله، قال المفسرون: إن الشمس تقرب يوم القيامة من رؤوس الخلائق، وليس عليهم يومئذ لباس ولا كنان، فتلفحهم الشمس وتسفعهم وتأخذ بأنفاسهم ويمتد ذلك اليوم، ثم ينجي الله برحمته من يشاء إلى ظل من ظله فهناك يقولون: * (فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم) * ويقال للمكذبين: * (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون) * من عذاب الله وعقابه، وقوله: * (إلى ظل) * يعني دخان جهنم كقوله: * (وظل من يحموم) * ثم إنه تعالى وصف هذا الظل بصفات:
الصفة الأولى: قوله: * (ذي ثلاث شعب) * وفيه وجوه أحدها: قال الحسن: ما أدري ما هذا الظل، ولا سمعت فيه شيئا وثانيها: قال قوم المراد بقوله: إلى ظل ذي ثلاث شعب كون النار من فوقهم ومن تحت أرجلهم ومحيطة بهم، وتسمية النار بالظل مجاز من حيث إنها محيطة بهم من كل جانب كقوله: * (لهم من فوقهم ظلل من النار، ومن تحتهم ظلل) * وقال تعالى: * (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * وثالثها: قال قتادة: بل المراد الدخان وهو من قوله: * (أحاط بهم سرادقها) * وسرادق النار هو الدخان، ثم إن شعبة من ذلك الدخان على يمينه وشعبة أخرى على يساره، وشعبة ثالثة من فوقه.
وأقول هذا غير مستبعد لأن الغضب عن يمينه والشهوة عن شماله، والقوة الشيطانية في دماغه، ومنبع جميع الآفاق الصادرة عن الإنسان في عقائده، وفي أعماله، ليس إلا هذه الثلاثة، فتولدت من هذه الينابيع الثلاثة أنواع من الظلمات، ويمكن أيضا أن يقال: ههنا درجات ثلاثة، وهي الحس والخيال، والوهم، وهي مانعة للروح عن الاستنارة بأنوار عالم القدس والطهارة، ولكل واحد من تلك المراتب الثلاثة نوع خاص من الظلمة ورابعها: قال قوم: هذا كناية عن كون ذلك الدخان عظيما، فإن الدخان العظيم ينقسم إلى شعب كثيرة وخامسها: قال أبو مسلم ويحتمل في ثلاث شعب ما ذكره بعد ذلك، وهو أنه: غير ظليل وأنه لا يغني من اللهب وبأنها ترمى بشرر كالقصر.
الصفة الثانية: لذلك الظل قوله: * (لا ظليل) * وهذا تهكم بهم وتعريض بأن ظلهم غير ظل المؤمنين، والمعنى أن ذلك الظل لا يمنع حر الشمس.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (ولا يغني من اللهب) * يقال: أغن عني وجهك، أي أبعده لأن الغني عن الشيء يباعده، كما أن المحتاج يقاربه، قال صاحب " الكشاف ": إنه في محل الجر، أي وغيره مغن عنهم، من حر اللهب شيئا، قال القفال: وهذا يحتمل وجهين أحدهما: أن هذا الظل إنما يكون في جهنم، فلا يظلهم من حرها، ولا يسترهم من لهيبها، وقد ذكر الله في سورة الواقعة الظل فقال: * (في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم) * (الواقعة: 42، 44) وهذا كأنه في جهنم إذا دخلوها، ثم قال: * (لا بارد ولا كريم) * فيحتمل أن يكون قوله: * (لا ظليل) * في معنى: * (لا بارد) * وقوله: * (ولا يغني من اللهب) *
275

في معنى: * (ولا كريم) * أي لا روح له يلجأ إليه من لهب النار والثاني: أن تكون ذلك إنما يكون قبل أن يدخلوا جهنم بل عندما يحسبون للحساب والعرض، فيقال لهم: إن هذا الظل لا يظلكم من حر الشمس ولا يدفع لهب النار، وفي الآية وجه ثان: وهو الذي قاله قطرب: وهو أن اللهب ههنا هو العطش يقال: لهب لهبا ورجل لهبان وامرأة لهبى.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (إنها ترمي بشرر) * قال الواحدي: يقال شررة وشرر وشرارة وشرار، وهو ما تطاير من النار متبددا في كل جهة وأصله من
شررت الثوب إذا أظهرته وبسطته للشمس والشرار ينبسط متبددا، واعلم أن الله تعالى وصف النار التي كان ذلك الظل دخانا لها بأنها ترمي بالشرارة العظيمة، والمقصود منه بيان أن تلك النار عظيمة جدا، ثم إنه تعالى شبه ذلك الشرر بشيئين الأول: بالقصر وفي تفسيره قولان: أحدهما: أن المراد منه البناء المسمى بالقصر قال ابن عباس: يريد القصور العظام الثاني: أنه ليس المراد ذلك، ثم على التقدير ففي التفسير وجوه أحدها: أنها جمع قصرة ساكنة الصاد كتمرة وتمر وجمرة وجمر، قال البراد: يقال للواحد من الحطب الجزل الغليظ قصرة والجمع قصر، قال عبد الرحمن بن عابس: سألت ابن عباس عن القصر فقال: هو خشب كنا ندخره للشتاء نقطعه وكنا نسميه القصر، وهذا قول سعيد بن جبير ومقاتل والضحاك، إلا أنهم قالوا: هي أصول النخل والشجر العظام، قال صاحب " الكشاف ": قرىء كالقصر بفتحتين وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل نحو شجرة وشجر، وقرأ ابن مسعود كالقصر بمعنى القصر كرهن ورهن، وقرأ سعيد بن جبير كالقصر في جمع قصرة كحاجة وحوج.
التشبيه الثاني: قوله تعالى: * (كأنه جمالات صفر) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: جمالات جمع جمال كقولهم: رجالات ورجال وبيوتات وبيوت، وقرأ ابن عباس حمالات بضم الجيم وهو قراءة يعقوب وذكروا وجوها أحدها: قيل: الجمالات بالضم الحبال الغلاظ وهي حبال السفن، ويقال لها: القلوس ومنهم من أنكر ذلك وقال: المعروف في الحبال إنما هو الجمل بضم الجيم وتشديد الميم وقرئ: * (حتى يلج الجمل) * وثانيها: قيل هي قطع النحاس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام، وابن عباس ومعظم أهل اللغة لا يعرفونه وثالثها: قال الفراء: يجوز أن يكون الجمالات بالضم من الشيء المجمل، يقال: أجملت الحساب، وجاء القوم جملة أي مجتمعين، والمعنى أن هذه الشررة ترتفع كأنها شيء مجموع غليظ أصفر، وهذا قول الفراء ورابعها: قال الفراء: يجوز أن يقال: جمالات بضم الجيم جمع جمال بضم الجيم وجمال بضم الجيم يكون جمع جمل، كما يقال: رخل ورخال ورخال.
القراءة الثاني: جملة بكسر الجيم هي جمع جمل مثل حجر وحجارة، قال أبو علي: والتاء إنما لحقت جمالا لتأنيث الجمع، كما لحقت في فحل وفحالة.
276

القراءة الرابعة: جملة بضم الجيم وهي القلس، وقيل: صفر لإرادة الجنس، أما قوله: صفر فالأكثرون على أن المراد منه سود تضرب إلى الصفرة، قال الفراء: لا ترى أسود من الإبل إلا وهو مشوب صفرة، والشرر إذا تطاير فسقط وفيه بقية من لون النار كان أشبه بالجمل الأسود الذي يشوبه شيء من الصفرة. وزعم بعض العلماء أن المراد هو الصفرة لا السواد، لأن الشرر إنما يسمى شررا ما دام يكون نارا، ومتى كان نارا كان أصفر، وإنما يصير أسود إذا انطفأ، وهناك لا يسمى شررا، وهذا القول عندي هو الصواب.
المسألة الثانية: اعلم أنه تعالى شبه الشرر في العظم بالقصر، وفي اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة بالجمالات الصفر، وقيل: أيضا إن ابتداء الشرر يعظم فيكون كالقصر ثم يفترق فتكون تلك القطع المتفرقة المتتابعة كالجمالات الصفر، واعلم أنه نقل عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله: * (إنها ترمي بشرر كالقصر) * أن هذا التشبيه إنما ورد في بلاد العرب، وقصورهم قصيرة السمك جارية مجرى الخيمة، فبين تعالى أنها ترمى بشرر كالقصر، فلما سمع أبو العلاء المعري بهذا تصرف فيه وشبهه بالخيمة من الأديم، وهو قوله: حمراء ساطعة الذوائب في الدجى * ترمى بكل شرارة كطراف
ثم زعم صاحب الكشاف أنه ذكر ذلك معارضة لهذه الآية، وأقول: كان الأولى لصاحب الكشاف أن لا يذكر ذلك، وإذ قد ذكره فلا بد لنا من تحقيق الكلام فيه، فنقول: تشبيه الشرارة بالطراف يفيد التشبيه في الشكل والعظم، أما الشكل فمن وجهين الأول: أن الشرارة تكون قبل انشعابها كالنقطة من النار، فإذا انشعبت اتسعت فهي كالنقطة التي تتسع فهي تشبه الخيمة فإن رأسها كالنقطة ثم إنها لا تزال تتسع شيئا فشيئا الثاني: أن الشرارة كالكرة أو الأسطوانة فهي شديدة الشبه بالخيمة المستديرة وأما التشبيه بالخيمة في النظم فالأمر ظاهر، هذا منتهى هذا التشبيه. وأما وجه القدح فيه فمن وجوه الأول: أن لون الشرارة أصفر يشوبها شيء من السواد، وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الخيمة من الأديم الثاني: أن الجمالات متحركة والخيمة لا تكون متحركة فتشبيه الشرار المتحرك بالجمالات المتحركة أولى والثالث: أن الشرارات متتابعة يجيء بعضها خلف البعض وهذا المعنى حاصل في الجمالات الصفر وغير حاصل في الطراف الرابع: أن القصر مأمن الرجل وموضع سلامته فتشبيه الشرر بالقصر تنبيه على أنه إنما تولدت آفته من الموضع الذي توقع منه الأمن والسلامة، وحال الكافر كذلك فإنه كان يتوقع الخير والسلامة من دينه، ثم إنه ما ظهرت له آفة ولا محنة إلا من ذلك الدين، والخيمة ليست مما يتوقع منها الأمن الكلي الخامس: أن العرب كانوا يعتقدون أن كل الجمال في ملك الجمال وتمام النعم إنما يحصل بملك النعم، ولهذا قال تعالى: * (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) * فتشبيه الشرر بالجمال السود كالتهكم بهم، كأنه قيل لهم: كنتم تتوقعون من دينكم كرامة ونعمة وجمالا إلا أن ذلك الجمال هو هذه الشرارات التي هي كالجمال، وهذا المعنى غير حاصل في
277

الطراف السادس: أن الجمال إذا انفردت واختلط بعضها بالبعض فكل من وقع فيما بين أيديها وأرجلها في ذلك الوقت نال بلاء شديدا وألما عظيما، فتشبيه الشرارات بها حال تتابعها يفيد حصول كمال الضرر، والطراف ليس كذلك السابع: الظاهر أن القصر يكون في المقدار أعظم من الطراف والجمالات الصفر تكون أكثر في العدد من الطراف فتشبيه هذه الشرارات بالقصر وبالجمالات يقتضي الزيادة في المقدار وفي العدد وتشبهها بالطراف لا يفيد شيئا من ذلك، ولما كان المقصود هو التهويل والتخويف كان التشبيه الأول أولى الثامن: أن التشبيه بالشيئين في إثبات وصفين أقوى في ثبوت ذينك الصفين من التشبيه بالشيء الواحد في إثبات ذينك الوصفين، وبيانه أن من سمع قوله: * (إنها ترمي بشرر كالقصر) * تسارع ذهنه إلى أن المراد إثبات عظم تلك الشرارات، ثم إذا سمع بعد ذلك قوله: * (كأنه جمالة صفر) * تسارع ذهنه إلى أن المراد كثرة تلك الشرارات وتتابعها ولونها. أما من سمع أن الشرار كالطراف يبقى ذهنه متوقفا في أن المقصود بالتشبيه إثبات العظم أو إثبات اللون، فالتشبيه
بالطراف كالمجمل، والتشبيه بالقصر وبالجمالات الصفر، كالبيان المفصل المكرر المؤكد. ولما كان المقصود من هذا البيان هو التهويل والتخويف، فكلما كان بيان وجوه العذاب أتم وأبين كان الخوف أشد، فثبت أن هذا التشبيه أتم.
التاسع: أنه قال في أول الآية: * (انطلقوا إلى ظل) * والإنسان إنما يكون طيب العيش وقت الانطلاق، والذهاب إذا كان راكبا، وإنما يجد الظل الطيب إذا كان في قصره، فوقع تشبيه الشرارة بالقصر والجمالات، كأنه قيل له: مركوبك هذه الجمالات، وظلك في مثل هذا القصر، وهذا يجري مجرى التهكم بهم، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف العاشر: من المعلوم أن تطاير القصر إلى الهواء أدخل في التعجب من تطاير الخيمة، لأن القصر يكون مركبا من اللبن والحجر والخشب. وهذه الأجسام أدخل في الثقل والاكتناز من الخيمة المتخذة إما من الكرباس أو من الأديم، والشيء كلما كان أثقل وأشد اكتنازا كان تطايره في الهواء أبعد، فكانت النار التي تطير القصر إلى الهواء أقوى من النار التي تطير الطراف في الهواء، ومعلوم أن المقصود تعظيم أمر النار في الشدة والقوة، فكان التشبيه بالقصر أولى الحادي عشر: وهو أن سقوط القصر على الإنسان أدخل في الإيلام والإيجاع من سقوط الطراف عليه، فتشبيه تلك الشرارات بالقصر يفيد أن تلك الشرارات إذا ارتفعت في الهواء ثم سقطت على الكافر فإنها تؤلمه إيلاما شديدا، فصار ذلك تنبيها على أنه لا يزال يسقط عليه من الهواء شرارات كالقصور بخلاف وقوع الطراف على الإنسان، فإنه لا يؤلم في الغاية الثاني عشر: أن الجمال في أكثر الأمور تكون موقرة، فتشبيه الشرارات بالجمال تنبيه على أن مع كل واحد من تلك الشرارات أنواعا من البلاء والمحنة لا يحصي عددها إلا الله، فكأنه قيل: تلك الشرارات كالجمالات الموقرة بأنواع المحنة والبلاء، وهذا المعنى غير حاصل في الطراف فكان التشبيه بالجمالات أتم.
واعلم أن هذه الوجوه توالت على الخاطر في اللحظة الواحدة ولو تضرعنا إلى الله تعالى في طلب الأزيد
278

لأعطانا أي قدر شئنا بفضله ورحمته، ولكن هذه الوجوه كافية في بيان الترجيح والزيادة عليها تعد من الأطناب والله أعلم.
* (هذا يوم لا ينطقون * ولا يؤذن لهم فيعتذرون * ويل يومئذ للمكذبين) *.
نصب الأعمش يوم أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ، اعلم أن هذا هو النوع السادس: من أنواع تخويف الكفار وتشديد الأمر عليهم، وذلك لأنه تعالى بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح، ولا قدرة لهم على دفع العذاب عن أنفسهم، فيجتمع في حقه في هذا المقام أنواع من العذاب أحدها: عذاب الخجالة، فإنه يفتضح على رؤوس الأشهاد، ويظهر لكل قصوره وتقصيره وكل من له عقل سليم، علم أن عذاب الخجالة أشد من القتل بالسيف والاحتراق بالنار وثانيها: وقوف العبد الآبق على باب المولى ووقوعه في يده مع علمه بأنه الصادق الذي يستحيل الكذب عليه، على ما قال: * (ما يبدل القول لدي) * وثالثها: أنه يرى في ذلك الموقف خصماءه الذين كان يستخف بهم ويستحقرهم فائزين بالثواب والتعظيم، ويرى نفسه فائزا بالخزي والنكال، وهذه ثلاثة أنواع من العذاب الروحاني ورابعها: العذاب الجسماني وهو مشاهدة النار وأهوالها نعوذ بالله منها فلما اجتمعت في حقه هذه الوجوه من العذاب بل ما هو مما لا يصف كنهه إلا الله، لا جرم قال تعالى في حقهم: * (ويل يومئذ للمكذبين) * وفي الآية سؤالان: الأول: كيف يمكن الجمع بين قوله: * (هذا يوم لا ينطقون) * وقوله: * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) * وقوله: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * وقوله: * (ولا يكتمون الله حديثا) * ويروى أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن هذا السؤال والجواب: عنه من وجوه أحدها: قال الحسن: فيه إضمار، والتقدير: هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، لأنه ليس لهم فيما عملوه عذر صحيح وجواب مستقيم، فإذا لم ينطقوا بحجة سليمة وكلام مستقيم فكأنهم لم ينطقوا، لأن من نطق بما لا يفيد فكأنه لم ينطق، ونظيره ما يقال لمن ذكر كلاما غير مفيد: ما قلت شيئا وثانيها: قال الفراء: أراد بقوله: * (يوم لا ينطقون) * تلك الساعة وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه، كما يقول: آتيك يوم يقدم فلان، والمعنى ساعة يقدم وليس المراد باليوم كله، لأن القدوم إنما يكون في ساعة يسيرة، ولا يمتد في كل اليوم وثالثها: أن قوله: * (لا ينطقون) * لفظ مطلق، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ولا في الأوقات، بدليل أنك تقول: فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير، وتارة تقول: فلان لا ينطق بشيء البتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق قدر مشترك
279

بين أن لا ينطق ببعض الأشياء، وبين أن لا ينطق بكل الأشياء، وكذلك تقول: فلان لا ينطق في هذه الساعة، وتقول: فلان لا ينطق البتة، وهذا يدل على أن مفهوم لا ينطق مشترك بين الدائم والموقت، وإذا كان كذلك فمفهوم لا ينطق يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء وفي بعض الأوقات، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر، فيكفي في صدق قوله: * (لا ينطقون) * أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت السؤال، وهذا الذي ذكرناه إشارة إلى صحة الجوابين الأولين بحسب النظر العقلي، فإن قيل: لو حلف لا ينطق في هذا اليوم، فنطق في جزء من أجزاء اليوم يحنث؟ قلنا: مبني الإيمان على العرف، والذي ذكرناه بحث عن مفهوم اللفظ من حيث إنه هو ورابعها: أن هذه الآية وردت عقيب قول خزنة جهنم لهم * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) * فينقادون ويذهبون، فكأنه قيل: إنهم كانوا يؤمرون في الدنيا بالطاعات فما كانوا يلتفتون. أما في هذه الساعة (فقد) صاروا منقادين مطيعين في مثل هذا التكليف الذي هو أشق من كل شيء، تنبيها على أنهم لو تركوا الخصومة في الدنيا لما احتاجوا في هذا الوقت إلى هذا الانقياد الشاق، والحاصل أن قوله: * (هذا يوم لا ينطقون) * متقيد بهذا الوقت في هذا العمل، وتقييد المطلق بسبب مقدمة الكلام مشهور في العرف، بدليل أن المرأة إذا قالت: أخرج هذه الساعة من الدار، فقال الزوج: لو خرجت فأنت طالق، فإنه يتقيد هذا المطلق بتلك الخرجة، فكذا ههنا.
السؤال الثاني: قوله: * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * يوهم أن لهم عذرا وقد منعوا من ذكره، وهذا لا يليق بالحكيم والجواب: أنه ليس لهم في الحقيقة عذر ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا أن لهم فيه عذرا، فهم لا يؤذن لهم في ذلك ذكر العذر الفاسد، ولعل ذلك العذر الفاسد هو أن يقول: لما كان الكل بقضائك وعلمك ومشيئتك وخلقك فلم تعذبني عليه، فإن هذا عذر فاسد إذ ليس لأحد أن يمنع المالك عن التصرف في ملكه كيف شاء وأراد، فإن قيل: أليس أنه قال: * (رسلا مبشرين ومنذرين، لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * وقال: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) * والمقصود من كل ذلك أن لا يبقى في قلبه، أن له عذرا، فهب أن عذره في موقف القيامة فاسد فلم لا يؤذن له في ذكره حتى يذكره، ثم بين له فساده؟ قلنا: لما تقدم الأعذار والإنذار في الدنيا بدليل قوله: * (فالملقيات ذكرا، عذرا أو نذرا) * كان إعادتها غير مفيدة.
السؤال الثالث: لم لم يقل: ولا يؤذن لهم فيعتذرون؟ كما قال: * (لا يقضي عليهم فيموتوا) * الجواب: الفاء ههنا للنسق فقط، ولا يفيد كونه جزاء البتة ومثله * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له) * بالرفع والنصب، وإنما رفع يعتذرون بالعطف لأنه لو نصب لكان ذلك يوهم أنهم ما يعتذرون لأنهم لم يؤذنوا في الاعتذار، وذلك يوهم أن لهم فيه عذرا منعوا عن ذكره وهو غير جائز. أما لما رفع كان المعنى أنهم لم يؤذنوا في العذر وهم أيضا لم يعتذروا لا لأجل عدم الإذن بل لأجل عدم العذر في نفسه، ثم إن فيه فائدة أخرى وهي حصول الموافقة في رؤوس الآيات
280

لأن الآيات بالواو والنون، ولو قيل: فيعتذروا لم تتوافق الآيات، ألا ترى أنه قال في سورة اقتربت الساعة: * (إلى شيء نكر) * فثقل لأن آياتها مثقلة، وقال في موضع آخر: * (وعذبناها عذابا نكرا) * وأجمع القراء على تثقيل الأول وتخفيف الثاني ليوافق كل منهما ما قبله.
* (هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين * فإن كان لكم كيد فكيدون * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن هذا هو النوع السابع: من أنواع تهديد الكفار، وهذا القسم من باب التعذيب بالتقريع والتخجيل، فأما قوله: * (هذا يوم الفصل) * فاعلم أن ذلك اليوم يقع فيه نوعان من الحكومة أحدهما: ما بين العبد والرب وفي هذا القسم كل ما يتعلق بالرب فلا حاجة فيه إلى الفصل وهو ما يتعلق بالثواب الذي يستحقه المرء على عمله وكذا في العقاب إنما يحتاج إلى الفصل فيما يتعلق بجانب العبد وهو أن تقرر عليهم أعمالهم التي عملوها حتى يعترفوا.
والقسم الثاني: ما يكون بين العباد بعضهم مع بعض، فإن هذا يدعى على ذاك أنه ظلمني وذاك يدعى على هذا أنه قتلني فههنا لا بد فيه من الفصل وقوله: * (جمعناكم والأولين) * كلام موضح لقوله: * (هذا يوم الفصل) * لأنه لما كان هذا اليوم يوم فصل حكومات جميع المكلفين فلا بد من إحضار جميع المكلفين لا سيما عند من لا يجوز القضاء على الغائب، ثم قال: * (فإن كان لكم كيد فكيدون) * يشير به إلى أنهم كانوا يدفعون الحقوق عن أنفسهم بضروب الحيل والكيد فكأنه قال: فههنا إن أمكنكم أن تفعلوا مثل تلك الأفعال المنكرة من الكيد والمكر والخداع والتلبيس فافعلوا، وهذا كقوله تعالى: * (فأتوا بسورة من مثله) * ثم إنهم يعلمون أن الحيل منقطعة والتلبيسات غير ممكنة، فخطاب الله تعالى لهم في هذه الحالة بقوله: * (فإن كان لكم كيد فكيدون) * نهاية في التخجيل والتقريع، وهذا من جنس العذاب الروحاني، فلهذا قال عقيبة: * (ويل يومئذ للمكذبين) *.
* (إن المتقين فى ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * إنا كذلك نجزى المحسنين * ويل يومئذ للمكذبين) *.
281

اعلم أن هذا هو النوع الثامن: من أنواع تهديد الكفار وتعذيبهم، وذلك لأن الخصومة الشديدة والنفرة العظيمة كانت في الدنيا قائمة بين الكفار والمؤمنين، فصارت تلك النفرة بحيث أن الموت كان أسهل على الكافر من أن يرى للمؤمن دولة وقوة، فلما بين الله تعالى في هذه السورة اجتماع أنواع العذاب والخزي والنكال على الكفار، بين في هذه الآية اجتماع أنواع السعادة والكرامة في حق المؤمن، حتى أن الكافر حال ما يرى نفسه في غاية الذل والهوان والخزي والخسران، ويرى خصمه في نهاية العز والكرامة والرفعة والمنقبة، تتضاعف حسرته وتتزايد غمومه وهمومه، وهذا أيضا من جنس العذاب الروحاني، فلهذا قال في هذه الآية: * (ويل يومئذ للمكذبين) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال مقاتل والكلبي: المراد من قوله: * (إن المتقين) * الذين يتقون الشرك بالله، وأقول هذا القول عندي هو الصحيح الذي لا معدل عنه، ويدل عليه وجوه أحدها: أن المتقي عن الشرك يصدق عليه أنه متق، لأن المتقي عن الشرك ماهية مركبة من قيدين أحدهما: أنه متق والثاني: خصوص كونه عن الشرك، ومتى وجد المركب، فقد وجد كل واحد من مفرداته لا محالة، فثبت أن كل من صدق عليه أنه متق عن الشرك، فقد صدق عليه أنه متق أقصى ما في الباب، أن يقال: هذه الآية على هذا التقدير تتناول كل من كان متقيا لأي شيء كان، إلا أنا نقول كونه كذلك لا يقدح فيما قلناه، لأنه خص كل من لم يكن متقيا عن جميع أنواع الكفر فيبقى فيما عداه حجة لأن العالم الذي دخل التخصيص يبقى حجة فيما عداه وثانيها: أن هذه السورة من أولها إلى آخرها مرتبة في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم عليه، فهذه الآية يجب أن تكون مذكورة لهذا الغرض، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها، والنظم إنما يبقى لو كان هذا الوعد حاصلا للمؤمنين بسبب إيمانهم، لأنه لما تقدم وعيد الكافر بسبب كفره، وجب أن يقرن ذلك بوعد المؤمن بسبب إيمانه حتى يصير ذلك سببا في الزجر عن الكفر، فأما أن يقرن به وعد المؤمن بسبب طاعته، فذلك غير لائق بهذا النظم والترتيب، فثبت بما ذكرنا أن المراد من قوله: * (إن المتقين) * كل من كان متقيا عن الشرك والكفر وثالثها: أن حمل اللفظ على المسمى الكامل أولى، وأكمل أنواع التقوى هو التقوى عن الكفر والشرك، فكان حمل اللفظ عليه أولى.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما بعث الكفار إلى ظل ذي ثلاث شعب أعد في مقابلته للمؤمنين ثلاثة أنواع من النعمة أولها: قوله: * (إن المتقين في ظلال وعيون) * كأنه قيل: ظلالهم ما كانت ظليلة، وما كانت مغنية عن اللهب والعطش أما المتقون فظلالهم ظليلة، وفيها عيون عذبة مغنية لهم عن العطش وحاجزة بينهم وبين اللهب ومعهم الفواكه التي يشتهونها ويتمنونها، ولما قال للكفار: * (انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب) * قال للمتقين: * (كلوا واشربوا هنيئا) * فإما أن يكون ذلك الإذن من جهة الله تعالى لا بواسطة، وما أعظمها، أو من جهة الملائكة على وجه الإكرام، ومعنى * (هنيئا) * أي خالص اللذة لا يشوبه سقم ولا تنغيص.
282

المسألة الثالثة: اختلف العلماء في أن قوله: * (كلوا واشربوا) * أمر أو إذن قال أبو هاشم: هو أمر، وأراد الله منهم الأكل والشرب، لأن سرورهم يعظم بذلك،
وإذا علموا أن الله أراده منهم جزاء على عملهم فكما يزيد إجلالهم وإعظامهم بذلك، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب معهم، وقال أبو علي: ذلك ليس بأمر، وإنما يريد بقوله: على وجه الإكرام، لأن الأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف، وليس هذا صفة الآخرة.
المسألة الرابعة: تمسك من قال العمل يوجب الثواب بالباء في قوله: * (بما كنتم تعملون) * وهذا ضعيف لأن الباء للإضافة، ولما جعل الله تعالى ذلك العمل علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك العمل كالآلة الموصلة إلى تحصيل ذلك الثواب، وقوله: * (إنا كذلك نجزي المحسنين) * المقصود منه أن يذكر الكفار ما فاتهم من النعم العظيمة، ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات، وإذا لم يفعلوا ذلك لا جرم وقعوا فيما وقعوا فيه.
* (كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن هذا هو النوع التاسع: من أنواع تخويف الكفار، كأنه تعالى يقول للكافر حال كونه في الدنيا إنك إنما عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها ولهذه المحن التي شرحناها لأجل حبك للدنيا ورغبتك في طيباتها وشهواتها إلا أن هذه الطيبات قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة والمشتغل بتحصيلها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلواء، وفيها السم المهلك فإنه يقال لمن يريد أكلها ولا يتركها بسبب نصيحة الناصحين وتذكير المذكرين: كل هذا وويل لك منه بعد هذا فإنك من الهالكين بسببه، وهذا وإن كان في اللفظ أمرا إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم ومنع في غاية المبالغة. ثم قال تعالى:
* (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون * ويل يومئذ للمكذبين) *.
اعلم أن هذا هو النوع العاشر: من أنواع تخويف الكفار كأنه قيل لهم: هب أنكم تحبون الدنيا ولذاتها ولكن لا تعرضوا بالكلية عن خدمة خالقكم بل تواضعوا له فإنكم إن آمنتم ثم ضممتم إليه طلب اللذات وأنواع المعاصي حصل لكم رجاء الخلاص عن عذاب جهنم والفوز بالثواب، كما قال: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * ثم إن هؤلاء الكفار لا يفعلوا ذلك ولا ينقادون لطاعته، ويبقون مصرين على جهلهم وكفرهم وتعريضهم أنفسهم للعقاب العظيم، فلهذا قال: * (ويل يومئذ للمكذبين) * أي الويل لمن يكذب هؤلاء الأنبياء الذين يرشدونهم إلى هذه المصالح الجامعة بين خيرات الدنيا والآخرة، وههنا مسائل:
283

المسألة الأولى: قال ابن عباس رضي الله عنهما قوله: * (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) * المراد به الصلاة، وهذا ظاهر لأن الركوع من أركانها، فبين تعالى أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وأنهم حال كفرهم كما يستحقون الذم والعقاب بترك الإيمان، فكذلك يستحقون الذم والعقاب بترك الصلاة لأن الله تعالى ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة، وقال قوم آخرون: المراد بالركوع الخضوع والخشوع لله تعالى، وأن لا يعبد سواه.
المسألة الثانية: القائلون بأن الأمر للوجوب استدلوا بهذه الآية، لأنه تعالى ذمهم بمجرد ترك المأمور به، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب، فإن قيل: إنهم كفار فلكفرهم ذمهم؟ قلنا: إنه تعالى ذمهم على كفرهم من وجوه كثيرة، إلا أنه تعالى إنما ذمهم في هذه الآية لأنهم تركوا المأمور به، فعلمنا أن ترك المأمور به غير جائز.
* (فبأى حديث بعده يؤمنون) *.
اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى آخرها بالوجوه العشرة التي شرحناها، وحث على التمسك بالنظر والاستدلال والانقياد للدين الحق ختم السورة بالتعجب من الكفار، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل اللطيفة مع تجليها ووضوحها * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * قال القاضي: هذه الآية تدل على أن القرآن محدث لأنه تعالى وصفه بأنه حديث، والحديث ضد القديم والضدان لا يجتمعان، فإذا كان حديثا وجب أن لا يكون قديما، وأجاب الأصحاب أن المراد منه هذه الألفاظ ولا نزاع في أنها محدثة، والله تعالى أعلم. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله أجمعين.
284