الكتاب: تفسير ابن كثير
المؤلف: ابن كثير
الجزء: ١
الوفاة: ٧٧٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: تقديم : يوسف عبد الرحمن المرعشلي
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٩٩٢ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنضيد الجديد وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق بدار المعرفة

تفسير القران العظيم
المقدمة 1

تفسير القران العظيم
الإمام الحافظ عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير
القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه‍
قدم له
الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي
أستاذ التفسير بالمعهد العالي للدراسات الاسلامية
الجزء الأول
دار المعرفة
بيروت - لبنان
المقدمة 3

تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنضيد الجديد
وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق
بدار المعرفة
طبع فهرس الأحاديث النبوية الشريفة في مجلد
يمكن الحصول عليه مستقلا
جميع الحقوق محفوظة للناشر
1992 م - 1412 ه‍
دار المعرفة
للطباعة والنشر والتوزيع
مستديرة المطار - شارح البرجاوي ص ب 7876 تلفون: 834301 - 834332 - برقيا معرفكار بيروت - لبنان
المقدمة 4

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة تفسير ابن كثير
بقلم الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي
ترجمة الحافظ ابن كثير
اسمه ونسبه
هو الشيخ الامام العالم الحافظ المفيد البارع، عماد الدين، أبو الفداء، إسماعيل بن عمر بن كثير بن
ضوء بن كثير بن ذرع (1) القيسي (2) البصروي الأصل - نسبة لبصرى الشام - الدمشقي الشافعي. ويذكر لنا ابن
كثير في " البداية والنهاية " 14 / 33 في ترجمة والده أنه قرشي من بني " حصلة " وهم ينتسبون إلى الشرف وبأيديهم
نسب.
وقد ساق الزركلي (ت 1396 ه‍) في حاشيته على ترجمة ابن كثير في كتابه " الاعلام " (الطبعة الخامسة
1400 ه‍) (3) خلافا حول اسمه فقال: (في كتابه " البداية والنهاية " 14 / 184 ما نصه: كتبه إسماعيل بن
كثير بن ضو القرشي الشافعي. وعليه حاشية للطابع: كذا بسائر الأصول. وفي " الدرر الكامنة ": إسماعيل بن
عمر بن كثير بن ضوء بن كثير القيسي - أو العبسي كما في نسخة أخرى منه - واعتمدنا فيما أثبتناه على نسخة
التبيان - مخطوطة - لتميزها بالاتقان والوضوح. ورأيت - الكلام للزركلي - في ثبت النذرومي - مخطوط إجازة
بخط ابن كثير في بيت من الشعر هذا نصه:
أجزتهم ما قد سئلت بشرطة * وكاتبه إسماعيل بن كثير
انتهى ما ذكره الزركلي
وهذان النصان اللذان أوردهما الزركلي عن ابن كثير نفسه يصرح فيما باسمه أنه " إسماعيل بن كثير "
خلافا لما هو مشهور " إسماعيل بن عمر بن كثير " هما من باب الانتساب للجد، وقد كان هذا شائعا في عصره.
وممن انتسب لجده أيضا في ذلك العصر الإمام ابن عبد الهادي (ت 744 ه‍) والملقب أيضا بابن قدامة نسبة
لجده الاعلى، بينما اسمه على التحقيق كما أوردته المصادر، محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن
عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة (4). وقد ترجمن ابن كثير نفسه لوالده في " البداية والنهاية " 14 / 33
فذكر اسم والده: (وفيها - 703 - توفي الوالد. وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير...).

(1) الحسيني، ذيل طبقات الحفاظ ص 57.
(2) ابن حجر، الدرر الكامنة 1 / 373.
(3) الزركلي، الاعلام 1 / 320.
(4) ابن عبد الهادي، المحرر في الحديث 1 / 36 بتحقيقنا.
المقدمة 5

مولده ونشأته
اختلف المؤرخون في تحديد سنة ولادته على ثلاثة أقوال فقال الحسيني (ت 765 ه‍) في " ذيل طبقات
الحفاظ " ص 57: (ولد سنة إحدى وسبعمائة).
وقال الحافظ ابن حجر (ت 852 ه‍) في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (ولد سنة سبعمائة أو بعدها
بيسير).
وقال السيوطي (ت 911 ه‍) في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 361: (ولد سنة سبعمائة)
وتابعهم المتأخرون على هذا الخلاف، ولسنا نستطيع الترجيح بين هذه الأقوال لعدم وجود قرائن، لكننا
نميل إلى أن ولادته كانت سنة (701) بسبب معاصرة الحسيني صاحب هذا القول لابن كثير، ولتصريح ابن كثير
نفسه في " البداية والنهاية " 14 / 34 أن عمره كان ثلاث سنين حين وفاة والده سنة ثلاث وسبعمائة.
وقد ولد ابن كثير في " مجيدل القرية " من أعمال مدينة " بصرى " (1) إلى ناحية الشرق منها، ويحدثنا عن
مجيدل القرية ودفن بمقبرتها الشمالية عند الزيتون، وكنت إذ ذاك صغيرا ابن ثلاث سنين أو نحوها لا أدركه إلا
كالحلم، ثم تحولنا من بعه في سنة سبع وسبعمائة إلى دمشق صحبة كمال الدين عبد الوهاب، وقد كان لنا
شقيقا وبنا رفيقا شفوقا، وقد تأخرت وفاته إلى سنة خمسين، فاشتغلت على يديه في العلم).
وفي دمشق نشأ يطلب العلم ويسمع الشيوخ ويحفظ المتون، يقول الداودي (ت 945 ه‍) في " طبقات
المفسرين " 1 / 112: (وسمع الكثير، وأقبل على حفظ المتون، ومعرفة الأسانيد والعلل، والرجال والتاريخ
حتى برع في ذلك وهو شاب) ويقول ابن العماد (ت 1089 ه‍) في " شذرات الذهب " 6 / 231: (وحفظ
" التنبيه " وعرضه سنة 718، وحفظ " مختصرا ابن الحاجب ").
عائلته
وقد حدثنا ابن كثير عن عائلته وأفراد أسرته في " البداية والنهاية " (3) 14 / 33 في حوادث سنة (703 ه‍)
فقال:
(وفيها توفي الوالد وهو الخطيب شهاب الدين أبو حفص عمر بن كثير بن ضو بن كثير بن ضو بن ذرع
القرشي من بني حصلة، وهم ينتسبون إلى الشرف بأيديهم نسب، وقف على بعضها شيخنا المزي فأعجبه ذلك
وابتهج به، فصار يكتب في نسبي بسب ذلك: القرشي، من قرية يقال لها الشركوين غربي بصري، بينها وبين
أذرعات، ولد بها في حدود سنة أربعين وستمائة، واشتغل بالعلم عند أخواله بني عقبة ببصرى، فقرأ البداية في
مذهب أبي حنيفة، وحفظ جمل الزجاجي، وعني بالنحو والعربية واللغة، وحفظ أشعار العرب حتى كان يقول
الشعر الجيد الفائق الرائق في المدح والمراثي وقليل من الهجاء، وقرر بمدارس بصرى بمنزل الناقة شمالي البلد
حيث يزار، وهو المبرك المشهور عند الناس والله أعلم بصحة ذلك، ثم انتقل إلى خطابة القرية شرقي بصرى

(1) الحسيني، ذيل تذكرة الحفاظ ص 57.
(2) ابن كثير، البداية والنهاية (طبعة الكتب العلمية) 14 / 33.
(3) المصدر نفسه.
المقدمة 6

وتمذهب للشافعي، وأخذ عن النواوي والشيخ تقي الدين الفزازي، وكان يكرمه ويحترمه فيما أخبرني شيخنا
العلامة ابن الزملكاني، فأقام بها نحوا من اثنتي عشرة سنة، ثم تحول إلى الخطابة مجيدل القرية التي منها الوالدة،
فأقاما بها مدة طويلة في خير وكفاية وتلاوة كثيرة، وكان يخطب جيدا، وله مقول عند الناس، ولكلامه وقع لديانته
وفصاحته وحلاوته، وكان يؤثر الإقامة في البلاد لما يرى فيها من الرفق وجود الحلال له ولعياله، وقد ولد له عدة
أولاد من الوالدة ومن أخرى قبلها، أكبرهم إسماعيل ثم يونس وإدريس، ثم من الوالدة عبد الوهاب وعبد العزيز
ومحمد وأخوات عدة، ثم أنا أصغرهم، وسميت باسم الأخ إسماعيل لأنه كان قد قدم دمشق فاشتغل بها بعد أن
حفظ القرآن على والده وقرأ مقدمة في النحو، وحفظ التنبيه وشرحه على العلامة تاج الدين الفزاري وحصل
المنتخب في أصول الفقه، قاله لي شيخنا ابن الزملكاني، ثم إنه سقط من سطح الشامية البرانية فمكث أياما
ومات، فوجد الوالد عليه وجدا كثيرا ورثاه بأبيات كثيرة، فلما ولدت له أنا بعد ذلك سماني باسمه، فأكبر أولاده
إسماعيل وآخرهم وأصغرهم إسماعيل، فرحم الله من سلف وختم بخير لمن بقي).
شيوخه
ذكرت لنا المصادر أسماء (16) شيخا من شيوخه وهم:
برهان الدين الفزاري (1) والكمال ابن قاضي شهبة (2) وقد تفقه عليهما، ثم صاهر الحافظ أبا الحجاج
المزي، ولازمه وقرأ عليه " تهذيب الكمال " وأخذ عنه (3)، وسمع عليه أكثر تصانيفه، وسمع ابن السويدي (4)،
والقاسم بن عساكر (5)، وسمع من ابن الشحنة (6)، وابن الزراد (7) وإسحاق الآمدي (8)، وابن الرضي (9)
وأجاز له من مصر: الدبوسي (10) والواني (11) والختني (12) وغيرهم، وأخذ الكثير عن الشيخ تقي الدين ابن
تيمية ففتن بحبه وكانت له خصوصية به، ومناضلة عنه، واتباع له في كثير من آرائه، وكان يفتي برايه في مسالة
الطلاق وامتحن بسببه (13). وقرأ الأصول على الأصفهاني (14) وسمع الحجار (15) والطبقة، واعتبر الداودي (945 ه‍)
في " طبقات المفسرين " 1 / 112 الذهبي من جملة شيوخه فقال: (وذكره شيخه في " المعجم المختص ").
تلاميذه
لم تذكر لنا المصادر سوى واحد من تلاميذه فقط هو شهاب الدين ابن حجي، قال ابن العماد (ت 1089 ه‍)
في " شذرات الذهب " 6 / 231 - 232: (وتلامذته كثيرة، منهم ابن حجي وقال فيه - أي في شيخه ابن
كثير - أحفظ من أدركناه لمتون الأحاديث وأعرفهم بجرحها ورجالها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه
يعترفون له بذلك، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي إليه إلا واستفدت منه) (16) لكننا نرجح أنه خلف

(1) الحسيني، ذيل تذكرة الحفاظ ص 57.
(2) الداودي، طبقات المفسرين 1 / 112.
(3، 4، 5) الحسيني، المصدر السابق.
(6، 7، 8، 9) ابن حجر، الدرر الكامنة 1 / 374.
(10، 11، 12) المصدر نفسه.
(13) ابن حجر، المصدر نفسه، والداودي، طبقات المفسرين 1 / 112.
(14) الداودي، طبقات المفسرين 1 / 112.
(15) السيوطي، ذيل تذكرة الحفاظ ص 361.
(16) وذكره الداودي في طبقات المفسرين 1 / 112.
المقدمة 7

كثيرا من التلاميذ بسبب اشتغاله بالتدريس في المدارس، قال الحسيني (ت 765 ه‍) في " ذيل تذكرة الحفاظ "
ص 58: (وولي مشيخة أم الصالح، والتنكزية بعد الذهبي). وقال الداودي (ت 945 ه‍) في " طبقات
المفسرين " 1 / 112: (وبعد موت السبكي - ولي - مشيخة دار الحديث الأشرفية).
أخلاقه ومكانته العلمية
قال الحسيني (ت 765 ه‍) في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 58: (وأفتي ودرس: وناظر وبرع في الفقه
والتفسير والنحو وأمعن النظر في الرجال والعلل... وذكره الذهبي في مسودة " طبقات الحفاظ " وقال في
" المعجم المختص ": هو فقيه متقن، ومحدث محقق، ومفسر نقاد)، وقال الحافظ ابن حجر (ت 852 ه‍)
في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (واشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله، وكان كثير الاستحضار، حسن
المفاكهة سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع بها الناس بعد وفاته، ولم يكن على طريق المحدثين في
تحصيل العوالي وتمييز العالي من النازل ونحو ذلك من فنونهم، وإنما هو من محدثي الفقهاء) وقد دفع السيوطي
عن ابن كثير هذا الاتهام فقال في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 362 (قلت: العمدة في علم الحديث معرفة
صحيح الحديث وسقيمه، وعلله واختلاف طرقه، ورجاله جرحا وتعديلا، وأما العالي والنازل ونحو ذلك فهو من
الفضلات، لا من الأصول المهمة).
ولسنا نوافق السيوطي في اعتبار العالي والنازل من الفضلات خاصة في عصر ابن كثير الذي استمرت الرواية
بالاسناد إليه، والذي حرص علماؤه على رواية كتب الأئمة المحدثين عن شيوخهم بالأسانيد العالية، وقد أورد
الحسيني (765 ه‍) في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 59 حديثا مسندا من طريق الحافظ ابن كثير: (أخبرنا الحافظ
عماد الدين ابن كثير بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن أبي طالب - وقد أجاز لي أيضا أحمد
المذكور - قال: أخبرنا أبو المنجا بن اللتي قال: أخبرنا أبو الوقت الصوفي، قال: أخبرنا محمد الفارسي،
قال: أخبرنا أبو محمد بن أبي سريج، قال: أخبرنا أبو القاسم البغوي، قال: أخبرنا أبو الجهم الباهلي
قال: حدثنا الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل أحد
ممن بايع تحت الشجرة النار " رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي عن قتيبة، عن الليث) فهذا إسناد يتضمن
(10) رجال خلال ثمانية قرون، وهو في غاية العلو.
وذكره الداودي (ت 945 ه‍) في " طبقات المفسرين " 1 / 112 فقال: (كان قدوة العلماء والحفاظ،
وعمدة أهل المعاني والألفاظ.. وقال تلميذه الحافظ شهاب الدين بن حجي: كان أحفظ من أدركناه لمتون
الأحاديث، وأعرفهم بتخريجها ورجالها وصحيحها وسقيمها، وكان أقرانه وشيوخه يعترفون له بذلك، وكان
يستحضر شيئا كثيرا من الفقه والتاريخ، قليل النسيان وكان فقيها جيد الفهم، صحيح الذهن، ويحفظ " التنبيه "
إلى آخر وقت، ويشارك في العربية مشاركة جيدة، وينظم الشعر، وما أعرف أني اجتمعت به على كثرة ترددي
إليه إلا واستفدت منه).
ويقول: (وولي مشيخة أم الصالح بعد موت الذهبي، وبعد موت السبكي مشيخة دار الحديث الأشرفية
مدة يسيرة، ثم أخذت منه) وذكر ابن العماد (ت 1089 ه‍) في " شذرات الذهب " 6 / 231.
(وقال ابن حبيب فيه: إمام روي التسبيح والتهليل، وزعيم أرباب التأويل، سمع وجمع وصنف، وأطرب
الاسماع بالفتوى وشنف، وحدث وأفاد، وطارت أوراق فتاويه إلى البلاد، واشتهر بالضبط والتحرير، وانتهت إليه
رياسة العلم في التاريخ والحديث والتفسير، وهو القائل:
المقدمة 8

تمر بنا الأيام تترى وإنما * نساق إلى الآجال والعين تنظر
فلا عائد ذاك الشباب الذي مضى * ولا زائل هذا المشيب المكدر
وقال الشوكاني (ت 1250 ه‍) في " البدر الطالع " 1 / 153: (وبرع في الفقه والتفسير والنحو، وأمعن
النظر في الرجال والعلل، وأفتى ودرس).
مؤلفاته
ألف الحافظ ابن كثير كتبا شتى في علوم القران، والحديث، والتوحيد، والفقه، والسيرة، والتراجم،
والتاريخ.
قال الحسيني (ت 765 ه‍) في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 58: (وله تصانيف مفيدة) وقال الحافظ ابن
حجر العسقلاني (ت 852 ه‍) في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (سارت تصانيفه في البلاد في حياته، وانتفع
بها الناس بعد وفاته). وقد وصلنا من كتبه أسماء (22) كتابا، طبع منها (8) كتب فقط، وسنعرض لما وصلنا
من مؤلفاته، حسب ترتيب موضوعاتها:
1 - تفسير القران العظيم: وهو الكتاب الذي بين أيدينا، وقد أفردنا فصلا خاصا للكلام عليه آخر هذه
المقدمة.
2 - فضائل القران وتاريخ جمعه وكتابته ولغاته (1): انفرد بذكره بروكلمان في " تاريخ الأدب " الذيل 2 / 49.
3 - جامع المسانيد والسنن الهادي إلى أقوم سنن (2). جمع فيه بين مسند الإمام أحمد، والبزاز، وأبي
يعلي، وابن أبي شيبة إلى الكتب الستة. ويسميه البعض: " كتاب الهدي والسنن في أحاديث المسانيد
والسنن ". قال البغدادي في " هدية العارفين " 1 / 215: (في ثمانية أجزاء). ويوجد منه نسخة مخطوطة بدار
الكتب المصرية.
4 - الاحكام الكبرى في الحديث (3). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في " الدرر الكامنة " 1 / 374:
(وشرع في كتاب كبير في الاحكام لم يكمل) وقال الداودي في " طبقات المفسرين " 1 / 112: (وشروع في
أحكام كثيرة حافلة كتب منها مجلدات إلى الحج).
5 - الاحكام الصغرى في الحديث (4). ويسميه ابن حجر " تخريج أحاديث أدلة التنبيه "، ويسميه السيوطي
" أدلة التنبيه " ويسميه الداودي " الاحكام على أبواب التنبيه ".

(1) طبع لأول مرة بمطبعة المنار بالقاهرة عام 1347 ه‍ في (207) صفحات وطبع مع تفسير ابن كثير وتفسير معالم التنزيل للبغوي
بآخرهما بمطبعة المنار في القاهرة عام (1347 ه‍)، وتقوم بتصويره ونشره حاليا دار المعرفة في بيروت.
(2) ذكره الحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ ص 58، وابن العماد في شذرات الذهب 6 / 231، والشوكاني في البدر الطالع 1 / 153،
وحاجي خليفة في كشف الظنون ص 573، وبروكلمان في تاريخ الأدب العربي (بالأصل الألماني) الذيل 2 / 49.
(3) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 374، والسيوطي في ذيل تذكرة الحافظ ص 361، والداودي في طبقات المفسرين 1 / 112.
وابن العماد في شذرات الذهب 6 / 231.
(4) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 374، والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ ص 361، والداودي في طبقات المفسرين 1 / 112.
المقدمة 9

6 - شرح صحيح البخاري (1). قال ابن حجر: (وشرح في شرح البخاري).
7 - مسند الشيخين. انفرد بذكره السيوطي في " ذيل تذكرة الحفاظ " ص 361.
8 - تخريج أحاديث مختصر ابن الحاجب الأصلي (2). قال ابن حجر: (وخرج أحاديث مختصر ابن
الحاجب).
9 - ترتيب مسند أحمد على الحروف، انفرد بذكره السيوطي في " ذيل تذكره الحفاظ " ص 361 فقال:
(ورتب مسند أحمد على الحروف، وضمن إليه زوائد الطبراني وأبي يعلي).
10 - أحاديث التوحيد والرد على الشرك. انفرد بذكره بروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب العربي " بالألمانية
2 / 49، وذكر أنه طبع مع كتاب " جامع البيان " في دهلي عام 1297 ه‍.
11 - مختصر علوم الحديث لابن الصلاح: قال ابن حجر في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (وقد اختصر
مع ذلك كتاب ابن الصلاح، وله فيه فوائد) وذكره حاجي خليفة في " كشف الظنون " ص 1161 - 1162 فقال
تحت عنوان علوم الحديث لابن الصلاح: (واختصره أيضا عماد الدين... وأضاف إلى ذلك الفوائد الملتقطة
من " المدخل إلى كتاب السنن " كلاهما للبيهقي)، وذكره بروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب " 2 / 49، وقد طبع
بتحقيق العلامة أحمد شاكر وسماه " الباعث الحثيث شرح مختصر علوم الحديث " وهو غير " الباعث الحثيث " التالي
ذكره.
12 - الباعث الحثيث على معرفة علوم الحديث: ذكره بهذا الاسم بروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب "
2 / 49 وأشار لوجود مخطوطتان في الهند: واحدة في آصاف والثانية في رامپور، وذكره السيوطي أيضا في " ذيل
تذكرة الحفاظ " ص 361 فقال: (وله... وعلوم الحديث).
13 - الاجتهاد في طلب الجهاد: ذكره حاجي خليفة في " كشف الظنون " ص 10 وقال: (رسالة كتبها
للأمير منجك لما حاصر الفرنج قلعة إياس) وذكره البغدادي في هدية العارفين 1 / 215 باسم (رسالة كتبها للأمير
منجك لما حاصر الفرنج قلعة إياس) وذكره الزركلي في " الاعلام " 1 / 320 باسم " رسالة في الجهاد "، ونص
بروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب " 2 / 49 على وجود نسخ مخطوطة له في آصاف بالهند، ودار الكتب بالقاهرة.
وهو مطبوع (3).
14 - شرح التنبيه: انفرد بذكره الداودي في " طبقات المفسرين " 1 / 112 فقال: (وشرح قطعة كبيرة من " التنبيه ").
15 - البلغة والاقناع في حل شبهة مسألة السماع: انفرد بذكره حاجي خليفة في " كشف الظنون "
ص 1001، وهو يتعلق بمسألة سماع الأغاني والموسيقي.
16 - الفصول في اختصار سيرة الرسول: ذكره الداودي في " طبقات المفسرين " 1 / 112 فقال: (وله

(1) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 374، والداودي في طبقات المفسرين 1 / 112 وابن العماد في شذرات الذهب 6 / 231.
وحاجي خليفة في كشف الظنون ص 550.
(2) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 374، والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ ص 361، والداودي في طبقات المفسرين 1 / 112.
(3) طبع الأول مرة عام 1396 ه‍ في المكتبة السلفية بالقاهرة، وأعيد طبعه بتحقيق د. عبد الله عسيران في مؤسسة الرسالة ببيروت ودار
اللواء بالرياض عام 1402 ه‍.
المقدمة 10

سيرة صغيرة) وكذا قال ابن العماد في " شذرات الذهب " 6 / 231، وذكره البغدادي في " إيضاح المكنون "
2 / 194 وهو مطبوع (1).
17 - التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل (2): قال الحسيني (جمع بين كتاب " التهذيب "
و " الميزان "، وهو خمس مجلدات)، وقال الداودي: (واختصر " تهذيب الكمال " وأضاف ما تأخر في
" الميزان " سماه التكميل)، وسماه حاجي خليفة " التكملة في أسماء الثقات والضعفاء ".
18 - طبقات الفقهاء الشافعيين (3): قال ابن حجر (وعمل " طبقات الشافعية ") ويسميه حاجي خليفة:
" طبقات عماد الدين "، ويسميه البغدادي في " هدية العارفين ": " طبقات العلماء " ويسميه الزركلي: طبقات
الفقهاء الشافعيين "، مخطوط.
19 - الواضح النفيس في مناقب الإمام محمد بن إدريس (4). ويمسيه الداودي: " مناقب الإمام الشافعي
".
20 - البداية والنهاية (5) في التاريخ. قال الحسيني في " ذيل الحفاظ " ص 58: (وله... وكتاب
" البداية والنهاية " في أربعة وخمسين جزئا ". وقال ابن حجر في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (وجمع التاريخ
الذي سماه " البداية والنهاية ") وهو مطبوع، وصل فيه إلى حوادث سنة (767 ه‍)، وهي القسم المسمى
بالبداية.
21 - نهاية البداية والنهاية وهو تتمة تاريخه، ويتضمن الكلام على الفتن والملاحم في آخر الزمان (6).
22 - الكواكب الدراري في التاريخ، انفرد بذكره حاجي خليفة في " كشف الظنون " ص 1521 وقال:
(انتخبه من تاريخه الكبير).
وفاته
أجمعت المصادر على أنه توفي سنة 774 ه‍، ولم يذكر فيما بينهم خلاف في ذلك، يقول الداودي

(1) طبع الأول مرة عام 1357 ه‍ بمطبعة العلوم بالقاهرة في (171) صفحة، وأعيد طبعه بتحقيق محمد عيد الخطراوي ومحيي الدين
مستو بدار القلم في دمشق عام 1400 ه‍، وبدار اللواء في الرياض عام 1402 ه‍.
(2) ذكره الحسيني في ذيل تذكرة الحفاظ ص 58: والداودي في طبقات المفسرين 1 / 112، وابن العماد في شذرات الذهب 6 / 231،
والشوكاني في البدر الطالع 1 / 153 وحاجي خليفة في كشف الظنون ص 471.
(3) ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة 1 / 374، والسيوطي في ذيل تذكرة الحفاظ ص 361، والداودي في طبقات الحفاظ 1 / 112،
وابن العماد في شذرات الذهب 6 / 231، وحاجي خليفة في كشف الظنون ص 1106، والزركلي في الاعلام 1 / 320 ونص على وجود
نسخة مخطوطة منه في شستربتي رقم (3390) كتبت في حياته سنة (749 ه‍). وقد قام مؤخرا بتحقيقه عبد الحفيظ منصور الباحث في
معهد المخطوطات العربية كما حقق ذيله المسمى ب‍ " ذيل طبقات الشافعية " لعفيف الدين المطري (نشرة أخبار التراث الصادرة بمعهد
المخطوطات 4 / 20).
(4) ذكره الداودي في طبقات المفسرين 1 / 112، وحاجي خليفة في كشف الظنون ص 1840، والبغدادي في هدية العارفين
1 / 215.
(5) نص بروكلمان على مخطوطاته في ذيل تاريخ الأدب 2 / 48 وقد طبع الأول مرة بمطبعة السعادة بالقاهرة عام 1348 ه‍ في (14) جزءا
ضمن (7) مجلدات، وأعيد طبعه مؤخرا بدار الكتب العلمية في بيروت عام 1404 ه‍ مفهرسا، ويعمل بتحقيقه الان مجموعة من
المحققين الأفاضل بدمشق.
(6) طبع مستقلا عن " البداية والنهاية " بتحقيق فهيم أبو عبيه بدار نهضة مصر عام 1396 ه‍ في مجلدين.
المقدمة 11

(ت 945 ه‍) في " طبقات المفسرين " 1 / 113: مات في يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان سنة أربع
وسبعين، ودفن بمقبرة الصوفية عند شيخه ابن تيمية)، وينفرد ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه‍) من بين
المصادر فيذكر في " الدرر الكامنة " 1 / 374: (وكان أضر في أواخر عمره).
المقدمة 12

مصادر ترجمة ابن كثير (1)
المصادر القديمة
- ابن كثير نفسه صاحب الترجمة، البداية والنهاية 14 / 33 - 34 (طبعة دار الكتب العلمية في بيروت
1404 ه‍).
- ابن عبد الهادي (ت 744 ه‍) تذكرة الحفاظ 1 / 11 (مخطوط).
الذهبي، شمس الدين (ت 748 ه‍) المعجم المختص (مخطوط) ومسودة " طبقات الحفاظ "
(مخطوط) نقل عنهما الحسيني.
- أبو المحاسن الحسيني (ت 765 ه‍) ذيل تذكرة الحفاظ ص 57.
- ابن ناصر الدين (ت 842 ه‍) الرد الوافر ص 154.
ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه‍) الدرر الكامنة 1 / 373 وإنباء الغمر 1 / 39.
- ابن تغري بردي (ت 874 ه‍) النجوم الزاهرة 11 / 123 - 124.
- السيوطي، جلال الدين (ت 911 ه‍) ذيل تذكرة الحفاظ ص 361 ولم يذكره في " طبقات
المفسرين ".
- النعيمي (ت 927 ه‍) الدارس في تاريخ المدارس 1 / 36 - 37 و 2 / 582.
- الداودي (ت 945 ه‍) طبقات المفسرين 1 / 111 (طبعة دار الكتب العلمية في بيروت 1403 ه‍).
- طاش كبرى زادة (ت 968 ه‍) مفتاح السعادة 1 / 204 - 205.
- حاجي خليفة (ت 1067 ه‍) كشف الظنون: 10، 19، 238، 280، 439، 471، 550، 573،
1002، 1105، 1162، 1521، 1840.
- ابن العماد (ت 1089 ه‍) شذرات الذهب 6 / 231.

(1) رتبنا هذه المصادر حسب التسلسل الزمني لوفيات أصحابها، ووزعناها ضمن أربع مجموعات: المصادر القديمة، والمراجع الحديثة،
وفهارس المخطوطات، والمجلات.
المقدمة 13

- البغدادي (ت 1239 ه‍) إيضاح المكنون 2 / 194، وهدية العارفين 1 / 215.
- الشوكاني (ت 1250 ه‍) البدر الطالع 1 / 153.
المراجع الحديثة
- سركيس (ت 1351 ه‍) معجم المطبوعات العربية: 226، وجامع التصانيف الحديثة لعام 1927 م
1 / 86.
- بروكلمان (ت 1376 ه‍) تاريخ الأدب العربي (بالأصل الألماني) الذيل 2 / 48 - 49.
- الزركلي (ت 1396 ه‍) الاعلام 1 / 320.
- العدوي، محمود، الزيارات 23 / 1 (من مطبوعات المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1375 ه‍).
- محمد الدمشقي، ذيل طبقات الذهبي: 18 / 2، 19 / 1 (مخطوط).
- أحمد شاكر، عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير.
- الذهبي، محمد حسين (ت 1397 ه‍) التفسير والمفسرون 1 / 242 - 247.
- كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين 2 / 283 - 284.
الفهارس
- الحلبي، مخطوطات الموصل: 53.
- كتبخانه آيا صوفية: 10، 200.
- نور عثمانية كتبخانه: 13.
- حميدية كتبخانه: 48.
- كتبخانه ولي الدين: 134.
- فهرست الخديوية: 1 / 323 و 5 / 4، 19.
- الفهرس التمهيدي.
المجلات
- محمد عبد الغني حسن، مجلة الثقافة بالقاهرة، السنة 14، العدد 726، ص 17 - 19.
- أحمد الشرباصي، مجلة الحج، 10 / 103 - 108.
- راغب الطباخ، مجلة البحث العلمي بدمشق 18 / 376 - 377.
- صلاح الدين المنجد، مجلة معهد المخطوطات 2 / 115 - 116. (*)
المقدمة 14

علم التفسير (1)
تعريفه، نشأته وتطوره، أنواعه، الإسرائيليات
تعريف التفسير والتأويل
التفسير في اللغة هو الايضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى في سورة الفرقان، آية (33): (ولا يأتونك
بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)، أي بيانا وتفصيلا، وهو مأخوذ من الفسر أي الإبانة والكشف. قال
الفيروزآبادي في اللسان - فسر -: (الفسر: البيان، وكشف المغطى، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ
المشكل).
وأما في الاصطلاح، فقد عرفه أبو حيان النحوي (ت 754 ه‍) في " البحر المحيط " بأنه (علم يبحث عن
كيفية النطق بألفاظ القران، ومدلولاتها، وأحكامها الافرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة
التركيب، وتتمات لذلك).
والتأويل في اللغة مأخوذ من الأول وهو الرجوع، قال الفيروزآبادي في " القاموس المحيط " - أول -:
(أول الكلام تأويلا وتأوله: دبره وقدره وفسره، والتأويل: عبارة الرؤيا). فكأن المؤول أرجع الكلام إلى ما
يحتمله من المعاني. والتأويل في الاصطلاح: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالفه، وهذا ما
يعينه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره: (القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا..) وبقوله: (اختلف أهل
التأويل في هذه الآية) ونحو ذلك، فإن مراده التفسير. وفرق بعض العلماء بين التفسير والتأويل.
نشأة التفسير وتطوره
نزل القرآن الكريم بلغه العرب، وعلى أساليبهم في الكلام، وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة
إبراهيم، الآية (4): (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم) لذلك كان الصحابة الكرام يفهمون
القرآن في جملته، أي بالنسبة لظاهره وأحكامه، أما فهمه تفصيلا، ومعرفة دقائقه بحيث لا يغيب عنهم منه شئ
فقد تفاوتوا في ذلك، بسبب اختلافهم في العلم بلغتهم، وبمعرفة أسباب النزول، فكانوا يرجعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فيما لم يفهموه فيفسره لهم لذا فقد أثر عنه صلى الله عليه وسلم عدد كبير من الأحاديث تتناول تفسير القرآن.
وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم اشتهر عدد كبير من الصحابة بالتفسير، وقد عد منهم السيوطي في " الاتقان ": أبا
بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى

(1) اقتبسنا الكلام في هذا الفصل من كتاب " التفسير والمفسرون " للمرحوم الدكتور محمد حسين الذهبي.
المقدمة 15

الأشعري، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين.
مصادر التفسير في عهد الصحابة
1 - القران الكريم نفسه حيث أن آياته يفسر بعضها بعضا، وما أجمل في موضع منه قد يبين في موضع آخر،
فمن ذلك تفسير قوله تعالى في سورة المؤمن، الآية (28): (وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم)
بأنه العذاب الأدنى المعجل في الدنيا، لقوله تعالى في آخر السورة، الآية (77): (فإما نرينك بعض الذي
نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون).
2 - السنة النبوية الشريفة، فقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا من آيات القران، قال تعالى في سورة النحل، الآية
(44): (ونزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)، والذي يرجع إلى كتب الحديث
يجدها حافلة بأبواب التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما رواه الترمذي، وابن حبان في " صحيحه " عن
ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " (الصلاة الوسطى) صلاة العصر "، وقد اعتمد كثير من مؤلفي التفسير
على الحديث في تفسره، فسمي هذا النوع بالتفسير بالمأثور، ومنها تفسير ابن كثير الذي بين أيدينا.
3 - أقوال الصحابة: كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا لم يجدوا التفسير في القران، ولم يسمعوه من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، رجعوا في ذلك إلى اجتهادهم لأنهم عاينوا نزول القران، ولأنهم كانوا من خلص العرب،
يعرفون عاداتهم والألفاظ ومعانيها، ومناحي العرب في كلامهم، ومعتمدين في ذلك على الشعر الذي هو ديوان
العرب كما يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد كان الصحابي الجليل ابن عباس صاحب النصيب الأكبر
من ذلك، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعا له فقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " ولذلك لقب
" بترجمان القرآن ".
مدراس التفسير على عهد الصحابة
فتح الله على المسلمين كثير من بلاد العالم، وتوزع الصحابة في البلاد المفتوحة، وحملوا معهم علومهم
وجلس إليهم كثير من التابعين يتتلمذون عليهم، فقامت في هذه البلاد مدارس علمية أساتذتها الصحابة وتلاميذها
التابعون، واشتهرت من بين هذه المدارس ثلاث هي:
1 - مدرسة مكة المكرمة: أستاذها الصحابي الجليل ابن عباس، وتلاميذها: سعيد بن جبير، ومجاهد،
وعكرمة، وطاوس، وعطاء...
2 - مدرسة المدينة المنورة: أستاذها الصحابي أبي بن كعب، وتلاميذها: زيد بن أسلم، وأبي العالية،
ومحمد بن كعب القرظي...
3 - مدرسة العراق: أستاذها الصحابي عبد الله بن مسعود، وتلاميذها: علقمة، ومسروق، والأسود،
ومرة، وعامر، والحسن، وقتادة...
وقد أضيف للتفسير في هذا العهد أقوال التابعين، وبدأ الخلاف يظهر فيه، كما بدأ يتسرب إليه الروايات
الإسرائيليات بسبب رجوع بعض المفسرين لأهل الكتابين اليهود والنصارى.
المقدمة 16

تدوين التفسير على عهد التابعين
مع بداية القرن الثاني للهجرة، بدأ المسلمون بتدوين علومهم، بعد أن كانوا يعتمدون على الرواية في
حفظها وتبليغها، وأصدر الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (ت 101 ه‍) أمره لعماله في الآفاق بجمع حديث
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان التفسير بابا من أبواب الحديث، ولم يفرد له أول الأمر تأليف خاص يفسر القران سورة
سورة من مبدئه إلى منتهاه، ثم انفصل التفسير تدريجيا عن الحديث، وبدأت تظهر المحاولات الأولى للتأليف
في تفسير القران تمثلت بكتب " غريب القرآن " التي تناولت ألفاظه فقط ككتب الرؤاسي (ت 170 ه‍)
والكسائي (ت 189 ه‍) والفراء (ت 207 ه‍)، ثم ظهرت التفاسير الأولى التي تناولت السور والآيات كتفسير
ابن ماجة (ت 273 ه‍) وابن جرير الطبري (ت 310)، وابن المنذر النيسابوري (ت 318 ه‍) وابن أبي
حاتم (ت 327 ه‍)... وتناولت هذه التفاسير الأولى غريب الألفاظ، وإيراد ما ورد من الحديث وأقوال
الصحابة والتابعين في تفسير بعض الآيات.
أنواع التفسير
كانت المحاولات الأولى للتفسير تعتمد على المأثور من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن السلف، ثم
تدرج التفسير بعد ذلك لتدوين العلوم العقلية إضافة للتفسير النقلي، وبدأ هذا الجانب يتضخم شيئا فشيئا متأثرا
بالمعارف العامة، والعلوم المتنوعة، والآراء المتشعبة، والعقائد المتباينة، وامتزج كل ذلك بالتفسير وتحكمت
الاصطلاحات العلمية والعقائد المذهبية بعبارات القران الكريم، وظهرت آثار الثقافات والفلسفات في تفاسير
القران، وراح كل من برع في من الفنون يفسر القران على الفن الذي برع فيه:
* التفاسير اللغوية: فاللغوي، والنحوي يهتم بجانب الاعراب ووجوهه، والنحو ومسائله وفروعه
وخلافياته، ويكثر من الشواهد والشعرية كما فعل الزجاج، والواحدي في " السبط " وأبو حيان في " البحر
المحيط "...
* التفاسير العقلية: ومنهم من عني في تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفة، يذكر شبههم والرد عليهم،
كما فعل الفخر الرازي في تفسيره " مفاتيح الغيب "...
* التفاسير الفقهية: وهي التي عني مؤلفوها باستنباط الاحكام الفقهية من أدلتها، وإيراد الفروع الفقهية
كل وفع مذهبه مع الرد على من خالفه من أصحاب المذاهب الأخرى كما فعل الحصاص الحنفي في " أحكام
القران "، والقرطبي المالكي في تفسيره " الجامع لاحكام القران "..
* التفاسير التاريخية: وهي التي عني مؤلفوها بالقصص، وأخبار الأمم السابقة، كما فعل الثعلبي
والخازن...
* تفاسير الفرق: وهي التي وضعها أصحاب الفرق والعقائد المتباينة، محاولين تأويل كلام الله حسب
مذاهبهم، كما فعل الرماني، والجبائي، والقاضي عبد الجبار، والزمخشري...
* تفاسير المتصوفة: وهي التي قصد مؤلفوها نواحي الترغيب والترهيب، واستنباط الاسرار الباطنية
والإشارات الرمزية، كما فعل ابن عربي، وأبو عبد الرحمن السلمي...
المقدمة 17

التفسير بالمأثور
التفسير بالمأثور - أو التفسير النقلي - هو تفسير القران بما جاء في القرآن نفسه من تبيان لبعض آياته، وبما
أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وقد كان هذا النوع من التفاسير أولها ظهورا
كما تدرج خلال تطور هذا العلم من الرواية في عصر الصحابة والتابعين إلى التدوين في القرن الثاني، لان
الحديث كان أول ما اهتم العلماء بتدوينه، ثم لما انفصل التفسير عن الحديث وأفرد بتأليف خاص كان أول ما
ظهر فيه صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ثم ظهرت أجزاء في التفسير كجزء أبي روق، وأجزاء
محمد بن ثور عن ابن جريج (1)، ثم ظهر التأليف الموسوعي في التفسير الذي جمع أصحابه فيه كل ما روي من
التفسير المأثور كتفسير ابن جرير الطبري، وتوسع أصحابها في النقل وأكثروا منه بالأسانيد المتصلة حتى
استقاض.
ثم وجد بعد ذلك أقوام دونوا التفسير بالمأثور بدون ذكر الأسانيد، وأكثروا من نقل الأقوال بدون التفرقة بين
الصحيح وغيره، مما أفقد الثقة بها، وبخاصة عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب، حتى نقل عن الإمام الشافعي
قوله: " لم يثبت عن ابن عباس في التفسير إلا شبيه بمائة حديث " (2) وهو عدد لا يكاد يذكر أمام ما يروى عن ابن
عباس في التفسير، وهذا يدل على مبلغ ما دخل في التفسير بالمأثور من الروايات الموضوعة والإسرائيلية، ولقد
كانت كثرة المرويات أكبر عامل في صرف همة العلماء إلى البحث والتمحيص، والنقد والتعديل والتجريح،
وترجع أسباب الضعف في رواية التفسير بالمأثور إلى كثرة الوضع، ودخول الإسرائيليات.
* أما الوضع فقد كان مصدره أهل البدع والأهواء والفرق، والأقوام الذي دخلوا في الاسلام ظاهرا وهم
يبطنون الكفر بقصد الكيد له وتضليل أهله، فوضعوا الروايات الباطلة في تفسير القران ليصلوا إلى أغراضهم،
فكثرت الروايات، وضمن مؤلفوا التفاسير هذه الروايات في كتبهم دون تحر منهم لصحة أسانيدها، لان منهجهم
في التأليف كان إيراد كل ما ورد من الروايات في الآية الواحدة تاركين أمر تمحيصها لثقافة القارئ. ولقد بذل
المحدثون في هذه الفترة جهودا جبارة في مقاومة الوضع وتمييز الصحيح من الروايات عن غيره، ووضعوا في ذلك
التصانيف، وأنشأوا علم مصطلح الحديث، ووضعوا قواعد دقيقة جدا لمعرفة الصحيح من غيره، حتى ميزوا
الصحيح من الموضوع فحفظ الله بهم دينه (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
التفسير والإسرائيليات
* وأما الإسرائيليات: فيمكن تعريفها بأنها الروايات المأخوذة عن اليهود والنصارى في أخبار أممهم السابقة
وقصص أنبيائهم، وإن كان الجانب اليهودي هو الذي اشتهر أمره، وغلب على الجانب النصراني بسبب أغلبية
اليهود في ذلك الوقت واختلاطهم مع المسلمين في بلادهم، ولقد نزل القرآن بموضوعات وردت في التوراة
والإنجيل، كقصة آدم عليه السلام ونزوله إلى الأرض، وقصة موسى عليه السلام مع قومه اليهود، وقصة عيسى
عليه السلام وأمه مريم، كل ذلك ورد في القرآن الكريم موجزا يقتصر على ذكر العظة والعبرة من قصصهم دون
التعرض لتفاصيل قصصهم، وقد وجد المسلمون تفصيل هذا الايجاز عند أهل الديانات السابقة بما لا يتعارض
مع شريعتهم، فلجأوا إليهم، واقتبسوا منهم، دون تحر منهم لصحة هذه الأخبار.

(1) السيوطي، الاتقان 2 / 88.
(2) السيوطي، الاتقان 2 / 189.
المقدمة 18

وقد أخبر الله تعالى في القرآن أن أهل الكتاب قد حرفوا كتبهم فقال: (يحرفون الكلم عن مواضعه) (1)
وقال: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما
كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) (2). كما بين النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الموقف الواجب اتخاذه تجاه أهل الكتاب
فقال: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " (3) ولكن المسلمين تساهلوا في الاخذ عن أهل الكتاب وهكذا
دخلت الإسرائيليات في كتب التفسير، وكانت مصادر الإسرائيليات تدور حول أربعة أشخاص هم: عبد الله بن
سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريح.
الإسرائيليات وأثرها في التفسير بالمأثور
قسم العلماء الإسرائيليات إلى ثلاثة أقسام: (الأول) مقبول وهو ما علم صحته بالنقل الصحيح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كتعيين اسم الخصر عليه السلام، إذ ورد فيه حديث صحيح عند البخاري في صحيحه، في
كتاب التفسير، أو ما كان له شاهد من الشرع يؤيده. (والثاني) مسكوت عنه: وهو ما لم يعلم صحته ولا
كذبه، وهذا القسم تجوز حكايته للعظة والعبرة، ولا نؤمن بصدقه ولا كذبه امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا
أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... " (والثالث) مرفوض: وهو ما علم كذبه لتناقضه مع
شريعتنا أو مخالفته للعقل، ولا يصح تصديقه ولا قبوله ولا روايته، وإذا رواه المفسر في تفسيره وجب عليه بيانه.
وقد كان لهذه الإسرائيليات أثر سئ في التفسير، إذ أدخلت فيه كثيرا من القصص الخيالي المخترع، والاخبار
المكذوبة، وهذا ما دفع العلماء لمقاومتها، وإخضاعها لمعايير نقد الرواية، وموازين الشريعة لتمييز المقبول من
المردود. وبسبب هذه الإسرائيليات تفاوتت الثقة في كثير من التفاسير التي وضعها كبار الأئمة.
أشهر من بين هذه الكتب ثمانية، تفاوتت قيمتها عند الأمة بين القبول والرفض، وسنذكرها مع تبيان قيمة
كل واحد منها:
1 - جامع البيان لابن جرير الطبري (ت 310 ه‍) (4): وهو من أقدم التفاسير وأشهرها، كما يعتبر المرجع
الأول عند المفسرين بالنقل والعقل، نظرا لما فيه من الروايات والاستنباطات، وترجيح بعضها على بعض، ويقع
في ثلاثين جزئا من الحجم الكبير، وهو مطبوع، وتقوم دار المعرفة في بيروت بنشره، كما قام العلامة أحمد
شاكر ورحمه الله بتحقيق نصفه واخترمته المنية قبل إتمامه.
2 - بحر العلوم للسمرقندي (ت 373 ه‍) (5): صاحبه هو الإمام أبو الليث نصر بن محمد بن إبراهيم،
الفقيه الحنفي المعروف بإمام الهدى، وهو تفسير لطيف مفيد لكنه يذكر الروايات مجردة عن أسانيدها، دون
ترجيح، وقد خرج أحاديثه قاسم بن قطلوبغا (ت 854 ه‍)، وهذا التفسير مخطوط في ثلاث مجلدات كبار بدار
الكتب المصرية.

(1) سورة النساء (4)، الآية (46).
(2) سورة البقرة (2)، الآية (79).
(3) حديث صحيح أخرجه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه.
(4) الذهبي، التفسير والمفسرون 1 / 205.
(5) حاجي خليفة، كشف الظنون 1 / 324.
المقدمة 19

3 - الكشف والبيان للثعلبي - أو الثعالبي - (ت 427 ه‍) (1): صاحبه أبو إسحاق أحمد بن إبراهيم
النيسابوري المقرئ، المفسر، الحافظ، الواعظ، رأس التفسير والعربية، قال ابن خلكان: (وصنف التفسير
الكبير الذي فاق غيره من التفاسير) وقد ذكر الثعالبي في مقدمته لتفسيره منهجه ومصادره وأسانيدها إلى من يروي
عنه، واكتفى بذلك عن ذكر الأسانيد أثناء الكتاب وهو كتاب حافل بالإسرائيليات دون التنبيه عليها، ويوجد منه
مخطوط غير كامل في مكتبة الأزهر ينتهي عند أواخر سورة الفرقان.
4 - معالم التنزيل للبغوي (ت 516 ه‍) (2): صاحبه أبو محمد الحسين بن مسعود، الفراء، البغوي،
الفقيه الشافعي، المحدث، وقد وصف الخازن هذا التفسير فقال: (من أجل المصنفات في علم التفسير
وأعلاها، وأنبلها وأسناها، جامع للصحيح من الأقاويل، عار عن الشبه والتصحيف والتبديل، محلى بالأحاديث
النبوية...) وقال عنه ابن تيمية في أصول التفسير: (والبغوي تفسيره مختصر من الثعلبي، لكنه صان تفسيره
عن الأحاديث الموضوعة والآراء المبتدعة)، وسئل في فتاواه عن أي التفاسير أقرب إلى الكتاب والسنة:
الزمخشري أم القرطبي أم البغوي؟ فأجاب: (وأما التفاسير الثلاثة المسؤول عنها، فأسلمها من البدعة
والأحاديث الضعيفة البغوي...) وقد طبع هذا التفسير مؤخرا بدار المعرفة في بيروت في (4) مجلدات بتحقيق
خالد العك ومروان سوار.
5 - المحرر الوجيز لابن عطية (ت 546 ه‍): (3) مؤلفه أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي
المغربي الغرناطي، الحافظ، القاضي، من بيت علم وأدب، قال عنه أبو حيان: (أجل من صنف في علم
التفسير، وأفضل من تعرض فيه للتنقيح والتحرير) ويقارن بين تفسيره وتفسير الزمخشري فيقول: (وكتاب ابن
عطية أنقل وأجمع وأخلص، وكتاب الزمخشري ألخص وأغوص). وقد طبع من هذا التفسير الجزء الأول في
القاهرة، ولا يزال الباقي مخطوطا، وهو يقع في عشرة مجلدات كبار يوجد منه أجزاء بدار الكتب المصرية.
6 - تفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت 774 ه‍). وسيأتي الكلام عليه بالتفصيل في فصل خاص من
هذه المقدمة إن شاء الله.
7 - الجواهر الحسان للثعالبي (ت 876 ه‍). مؤلفه أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الجزائري
المغربي المالكي، الإمام الحجة، العالم، الزاهد الورع، وقد اعتمد في تفسيره على تفسير ابن عطية
وأبي حيان وزاد عليهما، وهو يذكر الروايات المأثورة بدون أسانيدها، وإذا ذكر الإسرائيليات تعقبها بالنقد
والتمحيص. وقد طبق الكتاب في الجزائر في أربعة أجزاء.
8 - الدر المنثور للسيوطي (ت 911 ه‍). اختصر السيوطي في هذا التفسير كتاب مسندا ألفه قبله هو
" ترجمان القرآن " جمع فيه بضعة عشر ألف حديث ما بين مرفوع وموقوف بأسانيدها. ثم رأى حذف أسانيدها
والاقتصار على متونها فقط وذكر من خرجها، فوضع الدر المنثور، وهو حافل بالأحاديث دونما تمييز بين صحيحها
وسقيمها ويقتصر من بين سائر الكتب المذكورة سابقا على الحديث دون غيره، وهو يحتاج لجهود كبيرة في
الحكم على أحاديثه، وقد طبع بدار المعرفة في بيروت في ست مجلدات كبار.

(1) ياقوت الحموي، معجم الأدباء 5 / 37.
(2) الذهبي، التفسير والمفسرون 1 / 234.
(3) أبو حيان، البحر المحيط 1 / 10.
المقدمة 20

قيمة تفسير ابن كثير
توثيقه - منهجه
توثيقه وتسميته
أجمع الذين ترجموا لابن كثير على نسبة هذا التفسير له، وسنذكر المصادر التي نصت على الكتاب وفق
التسلسل الزمني لوفيات أصحابها:
1 - أقدم من ترجم له أبو المحاسن، محمد بن علي الحسيني (ت 765 ه‍) وكان ممن عاصر ابن كثير،
وتوفي قبله، ذكره في ذيله على " طبقات الحفاظ للذهبي " ص 57 فقال: (وأفتى ودرس وناظر، وبرع في الفقه
والتفسير والنحو) وقال: (ذكره الذهبي في مسودة " طبقات الحفاظ "، وقال في المعجم المختص ": هو فقيه
متقن، ومحدث محقق، ومفسر نقاد)، ولم يصرح الحسيني ولا الذهبي باسم تفسيره، وإنما اكتفيا كما نلاحظ
بوصفه بالمفسر.
2 - وذكره الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 ه‍) في " الدرر الكامنة " 1 / 374 فقال: (واشتغل
بالحديث مطالعته في متونه ورجاله، فجمع " التفسير ") ولم يعلم يصرح باسمه كذلك.
3 - وذكره السيوطي جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 ه‍) في " ذيل طبقات الحفاظ "
ص 361 فقال: (له " التفسير " الذي لم يؤلف على نمطه مثله)، ولم ينص على اسمه كذلك.
4 - وذكره الداودي، محمد بن علي بن أحمد (ت 945 ه‍) في " طبقات المفسرين " 1 / 112 فقال:
(وصنف في صغره كتاب " الاحكام " على أبواب " التنبيه "، والتاريخ المسمى ب‍ " البداية والنهاية "
و " التفسير "...) ويسميه بالتفسير دون النص على اسمه.
5 - وذكره حاجي خليفة مصطفى بن عبد الله القسطنطيني (ت 1067 ه‍) في " كشف الظنون " ص 439
فقال: (تفسير ابن كثير: وهو كبير في عشر مجلدات، فسر بالأحاديث والآثار مسندة من أصحابها مع الكلام
على ما يحتاج إليه جرحا وتعديلا) ونلاحظ تسميته له ب‍ " تفسير ابن كثير " من باب نسبة التفسير لصاحبه، وهو ما
اشتهر به الكتاب بعد ذلك.
6 - وذكره ابن العماد الحنبلي، أبو الفلاح عبد الحي (ت 1089 ه‍) في " شذرات الذهب " 6 / 231
فقال: (ومن مصنفاته: التاريخ المسمى ب‍ " البداية والنهاية " و " التفسير "...) ونلاحظ تسميته ب‍ " التفسير "
على غرار من تقدمه.
المقدمة 21

7 - وذكره الشوكاني، محمد بن علي (ت 1250 ه‍) في " البدر الطالع " 1 / 153 فقال: (وله تصانيف مفيدة منها:
" التفسير " المشهور، وهو في مجلدات، وقد جمع فيه فأوعى، ونقل المذاهب والاخبار والآثار، وتكلم
بأحسن كلام وأنفسه، وهو من أحسن التفاسير، إن لم يكن أحسنها) وهو يكتفي بتسميته ب‍ " التفسير ".
8 - وذكره البغدادي، إسماعيل باشا بن محمد أمين (ت 1339 ه‍) في " هدية العارفين " 1 / 215 فقال:
(من تصانيفه: " الاجتهاد في طلب الجهاد ". " أحكام التنبيه ". " البداية والنهاية " في التاريخ، " تفسير
القرآن "...) وهو يسميه ب‍ " تفسير القرآن ".
9 - وذكره الكتاني، محمد بن جعفر الإدريسي (ت 1345 ه‍) في " الرسالة المستطرفة) ص 145 -
146 فقال في معرض كلامه على أنواع كتب الحديث: (ومنها كتب التفاسير والشروح الحديثية لأهلها حفظ
للحديث ومعرفة به، واعتناء بشأنه، وإكثار فيما يتعلق به، كتفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير في عشر مجلدات
فإنه مشحون بالأحاديث والآثار بأسانيد مخرجيها مع الكلام عليها صحة وضعفا، وقد قال السيوطي في " ذيل تذكرة
الحفاظ " والزرقاني في " شرح المواهب ": إنه لم يؤلف على نمط قط). فيسميه " تفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير ".
10 - وذكره سركيس، يوسف إليان (ت 1351 ه‍) في " معجم المطبوعات العربية " ص 226 فقال:
(تفسير ابن كثير: طبع بهامش " فتح البيان في مقاصد القرآن " لصديق حسن خان سنة 1302 ه‍) وذكر في
الهامش استدراكا: (وطبع مع " تفسير البغوي "، انظر جامع التصانيف الحديثة لعام 1927 م).
11 - وذكره بروكلمان (ت 1376 ه‍) في " تاريخ آداب اللغة العربية " بالأصل الألماني، في الذيل
2 / 48 - 49 ونص على وجود مخطوطاته في مكتبات العالم، وهي مما يزيد في توثيق الكتاب.
12 - وذكره الزركلي، خير الدين (ت 1396 ه‍) في " الاعلام " 1 / 320 من الطبعة الخامسة (1400
ه‍ / 1980 م) فقال: (من كتبه... و " تفسير القران الكريم - ط " عشرة أجزاء) وذكر في الحاشية (طبع
أولا ببولاق على هامش " فتح البيان " للقنبوجي في عشرة أجزاء، ثم طبع منفردا في أربعة، ثم تكررت طبعاته.
واختصره أحمد محمد شاكر، وسمى المختصر " عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير " طبع خمسة أجزاء منه).
13 - وذكره الذهبي، محمد حسين (ت 1397 ه‍) في " التفسير والمفسرون " 1 / 242 وتوسع في الكلام
عليه.
14 - وذكره كحالة، عمر رضا (معاصر) في معجم المؤلفين 2 / 284 فقال: (من تصانيفه: تفسير كبير
في عشر مجلدات).
هذه هي أهم المصادر التي ترجمت لابن كثير، وذكرت تفسيره، ولا يشك أحد من أصحابها بنسبة هذا
التفسير له، ولكنهم يختلفون في تسميته كما رأينا، فبعضهم يسميه ب‍ " التفسير "، وبعضهم ب‍ " تفسير ابن
كثير " و " تفسير القرآن الكريم "، و " تفسير القرآن العظيم "، وكلها تسميات أطلقها العلماء والنساخ على هذا
الكتاب لا ضير في اختلافها، والمسمى واحد.
منهج تفسير ابن كثير وقيمته العلمية (1)
تفسير ابن كثير من أشهر ما دون في التفسير المأثور، ويعتبر في هذه الناحية الكتاب الثاني بعد كتاب ابن

(1) اقتبسنا الكلام من الدكتور محمد حسين الذهبي في كتابه " التفسير والمفسرون " 1 / 242 - 247.
المقدمة 22

جرير. اعتنى فيه مؤلفه بالرواية عن مفسري السلف، ففسر فيه كلام الله تعالى بالأحاديث والآثار مسندة إلى
أصحابها، مع الكلام عما يحتاج إليه جرحا وتعديلا.
منهجه
وقد قدم له مؤلفه بمقدمة طويلة هامة، تعرض فيها لكثير من الأمور التي لها تعلق واتصال بالقران
وتفسيره، ولكن أغلب هذه المقدمة مأخوذ بنصه من كلام شيخه ابن تيمية الذي ذكره في " مقدمته في أصول
التفسير ".
وهو يمتاز في طريقته بأنه يذكر الآية، ثم يفسرها بعبارة سهلة موجزة، وإن أمكن توضيح الآية أخرى
ذكرها وقارن بين الآيتين حتى يتبين المعنى ويظهر المراد، وهو شديد العناية بهذا النوع من التفسير الذي يسمونه
تفسير القران بالقران، وهذا الكتاب أكثر ما عرف من كتب التفسير سردا للآيات المتناسبة في المعنى الواحد.
ثم يعد أن يفرغ من هذا كله، يشرع في سرد الأحاديث المرفوعة التي تتعلق بالآية، ويبين ما يحتج به وما
لا يحتج به منها، ثم يردف هذا بأقوال الصحابة والتابعين ومن يليهم من علماء السلف.
ونجد ابن كثير يرجح بعض الأقوال على بعض، ويضعف بعض الروايات، ويصحح بعضا آخر منها،
ويعدل بعض الرواة ويجرح بعضا آخر. وهذا يرجع إلى ما كان عليه من المعرفة بفنون الحديث وأحوال الرجال.
مصادره
وكثيرا ما نجد ابن كثير ينقل من تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وتفسير ابن عطية، وغيرهم ممن
تقدمه.
ابن كثير والإسرائيليات
ومما يمتاز به ابن كثير، أنه ينبه إلى ما في التفسير المأثور من منكرات الإسرائيليات، ويحذر منها على
وجه الاجمال تارة، وعلى وجه التعيين والبيان لبعض منكراتها تارة أخرى.
فمثلا عند تفسيره لقوله تعالى في الآية (67) وما بعدها من سورة البقرة (إن الله يأمركم أن تذبحوا
بقرة..) إلى آخر القصة، نراه يقص لنا قصة طويلة وغريبة عن طلبهم للبقرة المخصوصة، وعن وجودهم لها عند
رجل من بني إسرائيل كان من أبر الناس بأبيه.. الخ، ويروي كل ما قيل في ذلك عن بعض علماء السلف...
ثم بعد أن يفرغ من هذا كله يقول ما نصه: " وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي وغيرهم، فيها
اختلاف، والظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل، وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدق ولا تكذب، فلهذا لا
يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا. والله أعلم ".
ومثلا عند تفسيره لأول سورة " ق " نراه يعرض لمعنى هذا الحرف في أول السورة (ق) ويقول: "... وقد
روي عن بعض السلف أنهم قالوا " ق " جبل محيط بجميع الأرض يقال له جبل قاف، وكأن هذا - والله أعلم -
من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاف
بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس أمر دينهم، كما افتري في هذه الأمة مع جلالة قدر علمائها وحفاظها
وأئمتها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما بالعهد من قدم، فكيف بأمة بني إسرائيل مع طول المدى وقلة الحفاظ النقاد
المقدمة 23

فيهم، وشربهم الخمور وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته؟. وإنما أباح الشارع
الرواية عنهم في قوله " وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول،
ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القيل. والله أعلم " ا ه‍.
ابن كثير والمسائل الفقهية
كما نلاحظ على ابن كثير أنه يدخل في المناقشات الفقهية، ويذكر أقوال العلماء وأدلتهم عندما يشرح آية
من آيات الاحكام، وإن شئت أن ترى مثالا لذلك فارجع إليه عند تفسير قوله تعالى في الآية (185) من سورة
البقرة (... فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر...) الآية، فإنه
ذكر أربع مسائل تتعلق بهذه الآية، وذكر أقوال العلماء فيها، وأدلتهم على ما ذهبوا إليه، وارجع إليه عند تفسير
قوله تعالى في الآية (230) من سورة البقرة أيضا (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره...)
الآية، فإنه قد تعرض لما يشترط في نكاح الزوج المحلل، وذكر أقوال العلماء وأدلتهم.
وهكذا يدخل ابن كثير في خلافات الفقهاء، ويخوض في مذاهبهم وأدلتهم كلما تكلم عن آية لها تعلق
بالأحكام، ولكنه مع هذا التفسير من خير كتب التفسير بالمأثور، وقد شهد له بعض العلماء، فقال السيوطي في
ذيل تذكرة الحافظ، والزرقاني في شرح المواهب: (إنه لم يؤلف على نمط مثله).
مخطوطات التفسير
نص بروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب " 2 / 49 (بالأصل الألماني) على وجود (7) نسخ خطية لهذا
الكتاب وهي:
1 - نسخة المكتبة السليمانية بإسطنبول رقم (67).
2 - نسخة مكتبة سليم آغا بإسطنبول 8 / 11.
3 - نسخة مكتبة نور عثمانية بإسطنبول 187 / 8.
4 - نسخة المكتبة الحميدية بإسطنبول 42 / 3.
5 - نسخة مكتبة دار الكتب المصرية 1 / 37.
6 - نسخة مكتبة ولاية رامپور بالهند 1 / 24، 41.
7 - نسخة المكتبة الشرقية العامة في بنكيبور في الهند - باتنا 1410 / 3.
8 - وتوجد نسخة خطية في مكتبة الحرم المكي مقابلة على نسخة المؤلف. ورد ذكرها في طبعة دار الفكر
الصادرة عام 1385 ه‍ في (7) أجزاء.
طبعاته
أما طبعاته فهي كثيرة جدا نذكر منها الطبعات الأصلية دون المصورة حسب التسلسل الزمني لتاريخ
صدورها:
المقدمة 24

1 - طبع لأول مرة بهامش " فتح البيان في مقاصد القرآن " لصديق حسن خان في بولاق عام 1302 ه‍.
وفي أره عام 1307 ه‍، وفي القاهرة عام 1345 ه‍، ذكره سركيس في " معجم المطبوعات " ص 226
وبروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب " 2 / 49 (بالأصل الألماني).
2 - وطبع مع تفسير " معالم التنزيل " للبغوي، أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء (ت 456 ه‍) بعناية
محمد رشيد رضا في القاهرة عام 1342 ه‍ في جزءين على نفقة الأمير عبد العزيز أمير نجد، ذكره سركيس في
" جامع التصانيف الحديثة " لعام (1927 م) 1 / 86، وبروكلمان في ذيل " تاريخ الأدب " (الأصل الألماني)
2 / 49.
3 - وطبع مع تفسير البغوي المسمى " معالم التنزيل " بأسفل صفحاته وبآخره " فضائل القرآن " لابن كثير
في مطبعة المنار بالقاهرة عام (1347 ه‍) في (9) أجزاء، ذكرته عايدة نصير في " الكتب العربية التي نشرت
في الجمهورية العربية المتحدة (مصر) بين عامي 1926 / 1940 م " (1) ص 25.
4 - وطبع مستقلا باسم " تفسير القرآن العظيم " بمطبعة مصطفى محمد في القاهرة عام 1356 ه‍. ذكرته
عايدة نصير في المصدر نفسه.
5 - وطبع مستقلا أيضا باسم " تفسير القرآن الكريم " بمطبعة عيسى البابي الحلبي عام 1372 ه‍ في (4)
أجزاء، ذكره د. أحمد محمد منصور في " دليل المطبوعات المصرية بين عامي 1940 - 1956 م " ص 22.
6 - وطبع مستقلا باسم " تفسير ابن كثير " بدار الفكر في بيروت عام 1386 ه‍ في (7) أجزاء من القطع
المتوسط 17 × 24 سنتم وعندي نسخة منه.
7 - وظهرت أول طبعة محققة لهذا الكتاب عام 1393 ه‍ بمطابع الشعب بالقاهرة، عمل في تحقيقها
محمد إبراهيم البنا، ومحمد أحمد عاشور، وعبد العزيز عنيم في (8) أجزاء.
يوسف عبد الرحمن المرعشلي
بيروت في 1 ذي الحجة 1405 ه‍.

(1) وهو من منشورات قسم النشر بالجامعة الأميركية بالقاهرة عام 1969 م.
المقدمة 25

بسم الله الرحمن الرحيم
(قال الشيخ الامام الأوحد، البارع الحافظ المتقي، عماد الدين أبو الفداء: إسماعيل بن الخطيب أبي حفص
عمر بن كثير، الشافعي. (رحمه الله تعالى ورضي عنه).
الحمد لله رب الذي افتتح كتابه بالحمد فقال (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) وقال تعالى:
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين
يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا
لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا) وافتتح خلقه بالحمد فقال تعالى: (الحمد لله الذي
خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون واختتمه بالحمد فقال بعد ما ذكر مآل
أهل الجنة وأهل النار (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد
لله رب العالمين) ولهذا قال تعالى: (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون)
كما قال تعالى (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير) فله
الحمد في الأولى والآخرة أي في جميع ما خلق وما هو خالق، هو المحمود في ذلك كله كما يقول المصلي " اللهم
ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شي بعد " ولهذا يلهم أهل الجنة تسبيحه وتحميده
كما يلهمون النفس أي يسبحوه ويحمدونه عدد أنفاسهم، لما يرون من عظيم نعمه عليهم، وكمال قدرته وعظيم
سلطانه وتوالي مننه ودوام إحسانه إليهم كما قال تعالى: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم
تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم * دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد
لله رب العالمين).
والحمد لله الذي أرسل رسله (مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وختمهم بالنبي الأمي
العربي المكي الهادي لأوضح السبل، أرسله إلى جميع خلقه من الإنس والجن من لدن بعثته إلى قيام الساعة كما
قال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي
ويميت فامنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) وقال تعالى: (لأنذركم به ومن بلغ)
فمن بلغه هذا القرآن من عرب وعجم وأسود وأحمر وإنس وجان فهو نذير له، ولهذا قال تعالى: (ومن يكفر به
من الأحزاب فالنار موعده) فمن كفر بالقران ممن ذكرنا فالنار موعده بنص الله تعالى كما قال تعالى (فانذرني ومن
يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " قال
مجاهد يعني الإنس والجن. فهو صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن مبلغا لهم عن
الله تعالى ما أوحاه إليه من هذا الكتاب العزيز (الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم
حميد) وقد أعلمهم فيه عن الله تعالى أنه ندبهم إلى فهمه فقال تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير
الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) وقال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدبروا آياته وليتذكروا أولوا الباب) وقال تعالى:
(أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
3

(فالواجب) على العلماء الكشف عن معاني كلام الله وتفسير ذلك وطلبه من مظانه وتعلم ذلك وتعليمه كما قال
تعالى: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا
فبئس ما يشترون) وقال تعالى: (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا
يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) فذم الله تعالى أهل الكتاب قبلنا بإعراضهم عن
كتاب الله المنزل عليهم وإقبالهم على الدنيا وجمعها واشتغالهم بغير ما أمروا به من اتباع كتاب الله.
فعلينا أيها المسلمون أن ننتهي عما ذمهم الله تعالى به، وأن نأتمر بما أمرنا به من تعلم كتاب الله المنزل إلينا
وتعليمه، وتفهمه وتفهيمه، قال الله تعالى: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا
يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون * اعلموا أن الله يحيى
الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) ففي ذكره تعالى لهذه الآية بعد التي قبلها تنبيه على أنه تعالى كما
يحيى الأرض بعد موتها كذلك يلين القلوب بالايمان والهدي بعد قسوتها من الذنوب والمعاصي، والله المؤمل
المسؤول أن يفعل بنا هذا إنه جواد كريم.
فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟ (فالجواب) أن أصح الطريق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في
مكان فإنه قد بسط في موضع آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو
عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال
الله تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما) وقال تعالى:
(وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) وقال تعالى: (وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " يعني
السنة. والسنة أيضا تنزل عليهم بالوحي كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلي القرآن وقد استدل الإمام الشافعي
رحمه الله تعالى وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه فإن لم تجده فمن السنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن " فبم
تحكم؟ قال بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله، قال فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فضرب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله " وهذا الحديث في المسند
والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه. وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى
أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم
الصحيح والعمل الصالح لا سيما علماءهم وكبراءهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين، والأئمة المهتدين
المهديين، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح
حدثنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال - قال عبد الله يعني ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من
كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت. وأين نزلت. ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته. وقال
الأعمش أيضا عن أبي الضحى عن مسروق قال - قال عبد الله يعني ابن مسعود: والذي لا إله غيره ما نزلت آية من
كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت. وأين نزلت. ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته. وقال
الأعمش أيضا عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف
معانيهن والعمل بهن وقال أبو عبد الرحمن السلمي حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرؤون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا
إذ تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا.
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجمان القرآن ببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال
" اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار وحدثنا وكيع ثنا سفيان عن الأعمش عن
مسلم - كذا قال - قال عبد الله يعني ابن مسعود: نعم ترجمان القرآن ابن عباس. ثم رواه عن يحيي بن داود عن إسحاق
الأزرق عن سفيان عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال:
4

نعم الترجمان للقرآن ابن عباس. ثم رواه عن بندار عن جعفر بن عون عن الأعمش به كذلك. فهذا إسناد صحيح
إلى ابن مسعود أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود رضي الله عنه في سنة اثنتين وثلاثين على
الصحيح وعمر بعده عبد الله بن عباس ستا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود وقال الأعمش
عن أبي وائل استخلف علي عبد الله بن عباس على الموسم فخطب الناس فقرأ في خطبته سورة البقرة، وفي رواية
سورة النور ففسرها تفسيرا لو سمعته الروم والترك والديلم لأسلموا.
ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير في تفسيره عن هذين الرجلين ابن مسعود وابن عباس
ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال " بلغوا
عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " رواه البخاري عن
عبد الله بن عمرو ولهذا كان عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب،
فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الاذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيليات تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد فإنها على ثلاثة أقسام (أحدها) ما علمنا صحته مما
بأيدينا مما يشهد له بالصدق فذاك صحيح (والثاني) ما علمنا كذبه مما عندنا مما يخالفه (والثالث) ما هو مسكوت
عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل فلا نؤمن به ولا نكذبه ويجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه
تعود إلى أمر ديني. ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرا. ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما
يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعددهم. وعصا موسى من أي الشجر كانت.
وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم
الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دينهم
ولا دنياهم. ولكن نقل الخلاف عنهم في ذلك جائز كما قال تعالى: (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم، ويقولون
خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب، ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل *
فلا تمار فيهم إلا مراءا ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا) فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا
المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أقوال ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث،
فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته فقال في مثل هذا
(قل ربي أعلم بعدتهم) فإنه ما يعلم ذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه فلهذا قال (فلا تمار فيهم إلا
مراءا ظاهرا) أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب.
فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف: أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن تنبه على الصحيح منها وتبطل
الباطل وتذكر فائدة الخلاف وثمرته لئلا يطول النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فتشتغل به عن الأهم فالأهم. فأما
من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها فهو ناقص إذ قد يكون الصواب في الذي تركه، أو يحكي
الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال فهو ناقص أيضا، فإن صحح غير الصحيح عامدا فقد تعمد
الكذب، أو جاهلا فقد أخطأ، وكذلك من نصب الخلاف فيما لا فائدة تحته أو حكى أقوالا متعددة ت لفظا ويرجع
حاصلها إلى قول أو قولين معنى فقد ضيع الزمان وتكثر بما ليس بصحيح فهو كلابس ثوبي زور، والله الموفق
للصواب.
(فصل) إذ لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى
أقوال التابعين كمجاهد جبر فإنه كان آية في التفسير كما قال محمد بن إسحاق ثنا أبان بن صالح عن مجاهد قال:
عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأساله عنها. وقال ابن
جريز: أنبأنا أبو كريب أنبأنا طلق بن غنام عن عثمان المكي عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدا سأل ابن عباس
5

عن تفسير القرآن ومعه ألواحه قال: فيقول له ابن عباس اكتب حتى سأله عن التفسير كله ولهذا كان سفيان الثوري
يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس وعطاء بن أبي رباح
والحسن البصري ومسروق بن الأجدع وسعيد بن المسيب وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة والضحاك بن مزاحم
وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا
علم عنده اختلافا فيحكيها أقوالا، وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشئ بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينض على
الشئ بعينه، والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي. وقال شعبة بن الحجاج
وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم
ممن خالفهم وهذا صحيح. أما إذا أجمعوا على الشئ فلا يرتاب في كونه حجة، فان اختلفوا فلا يكون قول
بعضهم حجة على قول بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو
أقوال الصحابة في ذلك. فاما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام لما رواه محمد بن جرير رحمه الله تعالى حيث قال:
ثنا محمد بن بشار ثنا يحيى بن سعيد ثنا سفيان حدثني عبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قال في القرآن برايه أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار " وهكذا أخرجه الترمذي
والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به، ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي عوانة عن عبد الأعلى به مرفوعا وقال
الترمذي: هذا حديث حسن، وهكذا رواه ابن جرير أيضا عن يحيى بن طلحة اليربوعي عن شريك عن عبد الأعلى
به مرفوعا ولكن رواه عن محمد بن حميد عن الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس الملائي عن عبد الأعلى عن سعيد
عن ابن عباس فوفقه، وعن محمد بن حميد عن جرير عن ليث عن بكر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس من قوله
فالله أعلم. وقال ابن جرير: أنبأنا العباس بن عبد العظيم العنبري ثنا حيان بن هلال ثنا سهل أخو حزم ثنا أبو عمران
الجوني عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ " وقد روى هذا الحديث أبو داود
والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي حزم القطيعي وقال الترمذي: غريب وقد تكلم بعض أهل العلم في
سهيل. وفي لفظ لهم " من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ " أي لأنه قد تكلف ما لا علم له به وسلك غير
ما أمر به فلو أنه أصاب المعنى في نفس الامر لكان قد أخطأ لأنه لم يأت الامر من بابه كمن حكم بين الناس على
جهل فهو في النار وإن وافق حكمه الصواب في نفس الامر لكن يكون أخف جرما ممن أخطأ والله أعلم. وهكذا
سمى الله القذفة كاذبين فقال (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف
من زنى في نفس الامر لأنه أخبر بما يحل له الاخبار به. ولو كان أخبر بما يعلم لأنه تكلف ما لا علم له به والله
أعلم ولهذا تحرج جماعة من السلف عن تفسير ما لا علم لهم به كما روى شعبة عن سليمان عن عبد الله بن مرة عن
- أبي معمر قال - قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني، إذا قلت في كتاب
الله ما لا أعلم وقال أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا محمد بن يزيد عن العوام وابن حوشب عن
إبراهيم التيمي أن أبا بكر الصديق سئل عن قوله تعالى: (وفاكهة وأبا) فقال أي سماء تظلني وأي
أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. منقطع. وقال أبو عبيد أيضا ثنا يزيد
عن حميد عن أنس أن عمر بن الخطاب قرأ على المنبر (وفاكهة وأبا) فقال هذه الفاكهة
قد عرفناها فما الأب؟ ثم رجع إلى نفسه فقال إن هذا لهو التكلف يا عمر وقال محمد بن سعد ثنا سليمان بن حرب
ثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس قال كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي ظهر قميصه أربع رقاع فقرأ
(وفاكهة وأبا) فقال فما الأب ثم قال هو التكلف فما عليك أن لا تدريه؟ وهذا كله محمول على أنهما رضي الله
عنهما إذا أرادا استكشفا علم كيفية الأب وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل كقوله تعالى: (فأنبتنا فيها حبا
وعنبا) الآية وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس سئل
عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها فأبي أن يقول فيها، إسناده صحيح. وقال أبو عبيد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم
عن أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة؟ فقال له ابن عباس: فما
6

(يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فقال له الرجل إنما سألتك لتحدثني فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله
في كتابه الله أعلم بهما. فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم. وقال ابن جرير أيضا: حدثني يعقوب يعني ابن
إبراهيم حدثنا ابن علية عن مهدي ين ميمون عن الوليد بن مسلم قال: جاء طلق بن حبيب إلى جندب بن عبد الله
فسأله، عن آية من القرآن؟ فقال: أحرج عليك إن كنت مسلما لما قمت عني - أو قال: أن تجالسني. وقال مالك
عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن قال: إنا لا نقول في القرآن
شيئا. وقال الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن قال شعبة
عن عمرو بن مرة قال سأل رجل سعيد بن المسيب عن آية من القرآن فقال: لا تسألني عن القرآن وسل من يزعم أنه
لا يخفى عليه منه شئ يعني عكرمة. وقال ابن شوذب حدثني يزيد بن أبي يزيد قال: كنا نسأل سعيد بن المسيب
عن الحرام والحلال وكان أعلم الناس فإذا سألناه عن تفسير آية من القران سكت كأن لم يسمع. وقال ابن جرير:
حدثني أحمد بن عبدة الضبي حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن عمر قال: لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم
ليعظمون القول في التفسير منهم سالم بن عبد الله والقاسم بن محمد وسعيد بن المسيب ونافع. وقال أبو عبيد حدثنا
عبد الله بن صالح عن ليث عن هشام بن عروة قال: ما سمعت أبي يؤول آية من كتاب الله قط. وقال أيوب وابن
عون وهشام الدستوائي عن محمد بن سيرين سألت عبيدة يعني السلماني عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا
يعلمون فيم أنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد وقال أبو عبيد: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عبد الله بن
مسلم بن يسار عن أبيه قال: إذا حدثت عن الله حديثا فقف حتى تنظر ما قبله وما بعده. حدثنا هشيم عن مغيرة عن
إبراهيم قال: كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه: وقال شعبة عن عبد الله بن أبي السفر قال قال الشعبي والله ما من
آية إلا وقد سألت عنها ولكنها الرواية عن الله عز وجل. وقال أبو عبيد حدثنا هشيم حدثنا عمرو بن أبي زائدة عن
الشعبي عن مسروق قال اتقوا التفسير فإنما هو الرواية عن الله.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم فيه.
فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه، ولهذا روى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ولا منافاة
لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد، فإنه كما يجب السكوت عما لا علم
له به فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه لقوله تعالى: (لتبيننه للناس ولا تكتمونه) ولما جاء في الحديث
الذي روي من طرق " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". وأما الحديث الذي رواه أبو
جعفر بن جرير حدثنا عباس بن عبد العظيم حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثنا أبو جعفر بن محمد الزبيري حدثني
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفسر شيئا من القران إلا آيا بعدد علمهن إياه جبريل عليه
السلام، ثم رواه عن أبي بكر محمد بن يزيد الطرسوسي عن معن بن عيسى عن جعفر بن خالد عن هشام به - فإنه
حديث منكر غريب وجعفر هذا هو ابن محمد بن خالد بن الزبير بن العوام القرشي الزبيري قال البخاري: لا يتابع في
حديثه وقال الحافظ أبو الفتح الأزدي: منكر الحديث، وتكلم عليه الإمام أبو جعفر بما حاصله أن هذه الآيات مما
لا يعلم إلا بالتوقيف عن الله تعالى مما وقفه عليها جبرائيل، وهذا تأويل صحيح لو صح الحديث فان من القران ما
استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء ومنه ما تعمله العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد في جهالته
كما صرح بذلك ابن عباس فيما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي الزناد قال:
قال ابن عباس التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعلمه
العلماء، وتفسير لا يعلمه أحد إلا الله. قال ابن جرير: وقد روى نحوه في حديث في إسناده نظر، حدثني
يونس بن عبد الأعلى الصدفي أنبأنا ابن وهب سمعت عمرو بن الحرث يحدث عن الكلبي عن أبي صالح مولى أم
هانئ عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنزل القرآن على أربعة أحرف حلال وحرام - لا يعذر أحد بالجهالة
به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله عز وجل، ومن ادعى علمه سوى الله
7

فهو كاذب " والنظر الذي أشار إليه في اسناده هو من جهة محمد بن السائب الكلبي فإنه متروك الحديث لكن قد يكون
إنما وهم في رفعه، ولعله من كلام ابن عباس كما تقدم والله أعلم.
(مقدمة مفيدة تذكر في أول التفسير قبل الفاتحة)
قال أبو بكر بن الأنباري حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا همام عن قتادة قال: نزل
في المدينة من القران البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وبراءة والرعد والنحل والحج والنور والأحزاب ومحمد
والفتح والحجرات والرحمن والحديد والمجادلة والحشر والممتحنة والصف والجمعة والمنافقون والتغابن والطلاق
و (يا أيها النبي لم تحرم) إلى رأس العشر وإذا زلزلت (وإذا جاء نصر الله) هؤلاء السور نزلت بالمدينة وسائر السور
بمكة.
فأما عدد آيات القران العظيم فستة آلاف آية ثم اختلف فيما زاد على ذلك على أقوال: فمنهم من لم يزد على ذلك،
ومنهم من قال ومائتي آية وأربع آيات، وقيل وأربع عشرة آية، وقيل ومائتان وتسع عشرة آية، وقيل ومائتان وخمس
وعشرون آية، أو ست وعشرون آية، وقيل ومائتان وست وثلاثون، حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتابه البيان.
وأما كلماته فقال الفضل بن شاذان عن عطاء بن يسار سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة. وأما
حروفه فقال عبد الله بن كثير عن مجاهد هذا أم أحصينا من القرآن وهو ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون ألف حرف
ومائة وثمانون حرفا. وقال الفضل بن عطاء بن يسار ثلاثمائة ألف حرف وثلاثة وعشرون ألف وخمس عشر حرفا.
وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحافظ والكتاب فقال: أخبروني عن القرآن كله كم من
حرف هو؟ قال: فحسبنا فأجمعوا أنه ثلاثمائة ألف وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون حرفا قال: فأخبروني عن نصفه
فإذا هو إلى الفاء من قوله في الكفة (وليتلطف) وثلثه الأول عند رأس مائة آية من براءة والثاني على رأس مائة أو
إحدى ومائة من الشعراء، والثالث إلى آخره، وسبعة الأولى إلى الدال من قوله تعالى: (فمنهم من آمن به ومنهم من
صد) والسبع الثاني إلى التاء من قوله تعالى في سورة الأعراف (أولئك حبطت) والثالث إلى الألف الثانية من قوله
تعالى في الرعد (أكلها) والرابع إلى الألف في الحج من قوله (جعلنا منسكا) والخامس إلى الهاء من قوله في
الأحزاب (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) والسادس إلى الواو من قوله تعالى في الفتح (الظانين بالله ظن السوء)
والسابع إلى آخر القرآن. قال سلام أبو محمد علمنا ذلك في أربعة أشهر، قالوا وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع
القران، فالأول إلى آخر الانعام والثاني إلى (وليتلطف) من سورة الكهف، والثالث إلى آخر الزمر، والرابع إلى
آخر القران. وقد حكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتابه (البيان) خلافا في هذا كله فالله أعلم.
وأما (التحزيب والتجزئة) فقد اشتهرت الاجزاء من ثلاثين كما في الرابعات بالمدارس وغيرها وقد ذكرنا فيما تقدم
الحديث الوارد في تحزيب الصحابة للقران والحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجة وغيرهم عن
أوس بن حذيفة أنه سال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كيف تحزبون القران؟ قالوا ثلث وخمس وسبع وتسع وأحد
عشرة وثلاث عشرة وحزب المفصل حتى تختم.
(فصل) واختلف في معنى السورة مما هي مشتقة فقيل من الإبانة والإرتفاع قال النابغة.
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب
فكان القارئ ينتقل بها من منزلة إلى منزلة. وقيل لشرفها وارتفاعها كسور البلدان وقيل سميت سورة لكونها قطعة من
القران وجزءا منه مأخوذ من أسار الاناء وهو البقية، وعلى هذا فيكون أصلها مهموزا، وانما خففت الهمزة فأبدلت
الهمزة واوا لانضمام ما قبلها وقيل لتمامها وكما لها لان العرب يسمون الناقة التامة سورة (قلت) ويحتمل أن يكون
من الجمع والإحاطة لآياتها كما يسمى سور البلد لاحاطته بمنازله ودوره. وجمع السورة سور بفتح الواو وقد يجمع
8

على سورات وسوارات، وأما الآية فمن العلامة على انقطاع الكلام الذي قبلها عن الذي بعدها وانفصالهما أي هي
بائنة عن أختها ومنفردة قال الله تعالى: (إن آية ملكه) وقال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها * لستة أعوام وذا العام سابع
وقيل لأنها جماعة حروف من القران وطائفة منه كما يقال خرج القوم بآياتهم أي بجماعاتهم قال الشاعر:
خرجنا من النقبين لا حي مثلنا * بآياتنا نزجي اللقاح المطافلا
وقيل سميت آية لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها قال سيبويه وأصلها أبية مثل أكمة وشرجة تحركت الياء
وانفتح ما قبله فقلبت ألفا فصارت آية بهمزة بعدها مدة وقال الكسائي أصلها آيية على وزن آمنة فقلبت ألفا ثم
حذفت لالتباسها وقال الفراء أصلها أيية فقلبت ألفا كراهية التشديد فصارت آية وجمعها آي وآياي وآيات. وأما
الكلمة فهي اللفظ الواحدة وقد تكون على حرفين مثل ما ولا ونحو ذلك. وقد تكون أكثر ما تكون عشرة
أحرف مثل (ليستخلفنهم - و - أنلزمكموها - فأسقيناكموه). وقد تكون الكلمة الواحدة آية مثل (والفجر -
والضحى - والعصر) وكذلك (ألم - وطه - ويس - و - حم) في قول الكوفيين و (حم عسق) عندهم كلمتان
وغيرهم، يسمى هذه آيات بل يقول هذه فواتح السور وقال أبو عمرو الداني لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله
تعالى (مدهامتان) بسورة الرحمن.
(فصل) قال القرطبي أجمعوا على أنه ليس في القران شئ من التراكيب الأعجمية، وأجمعوا أن فيه أعلاما من
الأعجمية كإبراهيم ونوح ولوط واختلفوا هل فيه شئ من غير ذلك بالأعجمية؟ فأنكر ذلك الباقلاني والطبري وقالا ما
وقع فيه مما يوافق الأعجمية فهو من باب ما توافقت فيه اللغات.
سورة الفاتحة
بسم الله الرحمن الرحيم
يقال لها الفاتحة أي فاتحة الكتاب خطا، وبها تفتح القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضا أم الكتاب عند الجمهور
ذكره أنس، والحسن وابن سيرين كرها تسميتها بذلك قال الحسن وابن سيرين إنما ذلك اللوح المحفوظ وقال
الحسن الآيات المحكمات هن أم الكتاب ولذا كرها أيضا أن يقال لها أم القرآن وقد ثبت في الصحيح عند الترمذي
وصححه عن أبي هريرة قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني
والقرآن العظيم " ويقال لها " الحمد " ويقال لها " الصلاة " لقوله صلى الله عليه وسلم عن ربه " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله حمدني عبدي " الحديث. فسميت الفاتحة صلاة لأنها شرط
فيها ويقال لها " الشفاء " لما رواه الدارمي عن أبي سعيد مرفوعا " فاتحة الكتاب شفاء من كل سم " ويقال لها
" الرقية " لحديث أبي سعيد في الصحيح حين رقي بها الرجل السليم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أنها
رقية "؟ وروى الشعبي عن ابن عباس أنه سماها " أساس القرآن " قال وأساسها بسم الله الرحمن الرحيم وسماها
سفيان بن عيينة " بالواقية " وسماها يحيى بن أبي كثير " الكافية " لأنها تكفي عما عداها ولا يكفي ما سواها عنها كما
جاء في بعض الأحاديث المرسلة " أم القرآن عوض من غيرها وليس من غيرها عوض منها " ويقال لها سورة " الصلاة
والكنز " ذكرهما الزمخشري في كشافه.
وهي مكية قاله ابن عباس وقتادة وأبو العالية، وقيل مدنية قاله أبو هريرة ومجاهد وعطاء بن يسار والزهري ويقال نزلت
مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. والأول أشبه لقوله تعالى: " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " والله تعالى أعلم وحكى
9

أبو الليث السمرقندي أن نصفها نزل بمكة ونصفها الآخر نزل بالمدينة وهو غريب جدا نقله القرطبي عنه وهي سبع
آيات بلا خلاف وقال عمرو بن عبيد ثمان وقال حسين الجعفي ستة وهذان القولان شاذان وإنما اختلفوا في البسملة
هل هي آية مستقلة من أولها كما هو عند جمهور قراء الكوفة وقول جماعة من الصحابة و 4 التابعين وخلق من الخلف أو
بعض آية أو لا تعد من أولها بالكلية كما هو قول أهل المدينة من القراء والفقهاء؟ على ثلاثة أقوال كما سيأتي تقريرها
في موضعه إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
قالوا وكلماتها خمس وعشرون كلمة وحروفها مائة وثلاثة عشر حرفا. قال البخاري في أول كتاب التفسير وسميت أم
الكتاب لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف ويبدأ بقراءتها في الصلاة وقيل إنما سميت بذلك لرجوع معاني القرآن كله
إلى ما تضمنته. قال ابن جرير: والعرب تسمي كل جامع أمر أو مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام
جامع - أما فتقول للجلدة التي تجمع الدماغ أم الرأس ويسمون لواء الجيش ورايتهم التي يجتمعون تحتها أما
واستشهد بقول ذي الرمة.
على رأسه أم لنا نقتدي بها * جماع أمور نعصي لها أمرا
- يعني الرمح - قال وسميت مكة أم القرى لتقدمها أمام جميعها وجمعها ما سواها. وقيل لان الأرض دحيت منها. ويقال لها
أيضا الفاتحة لأنها تفتتح بها القراءة وافتتحت الصحابة بها كتابة المصحف الامام وصح تسميتها بالسبع المثاني قالوا
لأنها تثنى في الصلاة فتقرأ في كل ركعة وإن كان للمثاني معنى آخر غير هذا كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله
تعالى.
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا ابن أبي ذئب وهاشم بن هاشم عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في أم القرآن " هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم " ثم رواه عن
إسماعيل بن عمر عن ابن أبي ذئب به وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: حدثني يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن
وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هي أم القرآن
وهي فاتحة الكتاب وهي السبع المثاني " وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في تفسيره حدثنا أحمد بن
محمد بن زياد، حدثنا محمد بن غالب بن حارث، حدثنا إسحاق بن عبد الواحد الموصلي، حدثنا المعافي بن
عمران عن عبد الحميد بن جعفر عن نوح بن أبي بلال عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحمد
لله رب العالمين سبع آيات: بسم الله الرحمن الرحيم إحداهن، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم وهي أم
الكتاب وفاتحة الكتاب " وقد رواه الدارقطني أيضا عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه أو مثله وقال كلهم ثقات وروى
البيهقي عن علي وابن عباس وأبي هريرة أنهم فسروا قوله تعالى: " سبعا من المثاني " بالفاتحة وأن البسملة هي
الآية السابعة منها وسيأتي تمام هذا عند البسملة. وقد روى الأعمش عن إبراهيم قال: قيل لابن مسعود: لم لم تكتب
الفاتحة في مصحفك؟ فقال: لو كتبتها لكتبتها في أول كل سورة، قال أبو بكر بن أبي داود يعني حيث يقرأ في
الصلاة، قال: واكتفيت بحفظ المسلمين لها عن كتابتها وقد قيل: إن الفاتحة أول شئ أنزل من القرآن كما ورد في
حديث رواه البيهقي في دلائل النبوة ونقله الباقلاني أحد أقوال ثلاثة وقيل " يا أيها المدثر " كما في حديث جابر في
الصحيح وقيل: " اقرأ باسم ربك الذي خلق " وهذا هو الصحيح كما سيأتي تقريره في موضعه والله المستعان.
(ذكر ما ورد في فضل الفاتحة)
قال الإمام أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني حبيب بن
عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال: كنت أصلي فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم أجبه حتى صليت قال: فأتيته فقال " ما منعك أن تأتيني؟ " قال قلت: يا رسول الله إني كنت أصلي قال: ألم
يقل الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " ثم قال " لأعلمنك أعظم سورة
10

في القرآن قبل أن تخرج من المسجد " قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول الله إنك
قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قال " نعم، " الحمد لله رب العالمين " هي السبع المثاني والقرآن العظيم
الذي أوتيته " وهكذا رواه البخاري عن مسدد وعلي بن المديني كلاهما عن يحيى بن سعيد القطان به، ورواه في
موضع آخر من التفسير، وأبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن شعبة به، ورواه الواقدي عن محمد بن معاذ
الأنصاري عن خبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى عن أبي بن كعب فذكر نحوه.
وقد وقع في الموطأ للامام مالك بن أنس رحمه الله ما ينبغي التنبيه عليه فإنه رواه مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن
يعقوب الحرفي أن أبا سعيد مولى ابن (1) عامر بن كريز أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي في
المسجد فلما فرغ من صلاته لحقه قال فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على يدي وهو يريد أن يخرج من باب المسجد ثم
قال صلى الله عليه وسلم " إني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى تعلم سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن
مثلها " قال أبي رضي الله عنه فجعلت أبطئ في المشي رجاء ذلك ثم قلت يا رسول الله ما السورة التي وعدتني؟
قال " كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال فقرأت عليه " الحمد لله رب العالمين " حتى أتيت على آخرها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي هذه السورة وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيت " فأبو سعيد هذا ليس بأبي
سعيد بن المعلي كما أعتقده ابن الأثير في جامع الأصول ومن تبعه فإن ابن المعلى صحابي أنصاري وهذا تابعي من
موالي خزاعة وذاك الحديث متصل صحيح وهذا ظاهره أنه منقطع إن لم يكن سمعه أبو سعيد هذا من أبي بن كعب
فإن كان قد سمعه منه فهو على شرط مسلم والله أعلم على أنه قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه كما قال الإمام أحمد
: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله
تعالى عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بن كعب وهو يصلي فقال " يا أبى " فالتفت ثم لم يجبه ثم قال أبي فخفف
أبي ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك أي رسول الله فقال " وعليك السلام ما منعك أي أبي إذ دعوتك
أن تجيبني " فقال أي رسول الله إني كنت في الصلاة قال " أو لست تجد فيما أوحى الله إلي " استجيبوا لله وللرسول إذا
دعاكم لما يحييكم " قال بلى يا رسول الله لا أعود قال " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل لا في التوراة ولا في الإنجيل
ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها "؟ قلت نعم أي رسول الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لأرجو أن لا أخرج من هذا الباب
حتى تعلمها " قال فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي يحدثني وأنا أتبطأ مخافة أن يبلغ قبل أن يقضي الحديث فلما دنونا من
الباب قلت أي رسول الله ما السورة التي وعدتني؟ قال " ما تقرأ في الصلاة "؟ قال فقرأت عليه أم القرآن قال " والذي
نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها إنها السبع المثاني ورواه
الترمذي عن قتيبة عن الدراوردي عن العلائي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكره وعنده " إنها من السبع
المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته " ثم قال هذا حديث حسن صحيح وفي الباب عن أنس بن مالك ورواه عبد الله بن الإمام
أحمد عن إسماعيل بن أبي معمر عن أبي أسامة عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة
عن أبي بن كعب فذكره مطولا بنحوه أو قريبا منه وقد رواه الترمذي والنسائي جميعا عن أبي عمار حسين بن حريث
عن الفضل بن موسى عن عبد الحميد بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن وهي السبع المثاني وهي مقسومة بيني وبين عبدي
نصفين " هذا لفظ النسائي وقال الترمذي حديث حسن غريب وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا هاشم يعني بن
البريد حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن [ابن] (2) جابر قال انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أهراق الماء فقلت
السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي قال فقلت السلام عليك يا رسول الله فلم يرد علي قال فقلت السلام عليك يا
رسول الله فلم يرد علي قال فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وأنا خلفه حتى دخل رحله ودخلت أنا المسجد فجلست

(1) كذا في الأصل المطبوع (طبعة عيسى البابي الحلبي) والصواب بدون لفظ (ابن) كما في الموطأ 1 / 83 (طبعة عبد الباقي).
(2) ساقطة من الأصل المطبوع، والصواب إثباتها كما في مسند أحمد 4 / 177 (طبعة الميمنية).
11

كئيبا حزينا فخرج علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تطهر فقال " عليك السلام ورحمة الله وبركاته وعليك السلام ورحمة الله وبركاته
وعليك السلام ورحمة الله " ثم قال " ألا أخبرك يا عبد الله بن جابر بأخير سورة في القرآن؟ قلت بلى يا
رسول الله قال اقرأ الحمد لله رب العالمين حتى تختمها " هذا إسناد جيد وابن عقيل هذا يحتج به الأئمة الكبار
وعبد الله بن جابر هذا الصحابي ذكر ابن الجوزي أنه هو العبدي والله أعلم ويقال إنه عبد الله بن جابر الأنصاري
البياضي فيما ذكره الحافظ ابن عساكر واستدلوا بهذا الحديث وأمثاله على تفاضل بعض الآيات والسور على بعض كما
هو المحكي عن كثير من العلماء منهم إسحق بن راهويه وأبو بكر بن العربي وابن الحفار من المالكية وذهبت طائفة
أخرى إلى أنه لا تفاضل في ذلك لان الجميع كلام الله ولئلا يوهم التفضيل نقص المفضل عليه وإن كان الجميع
فاضلا نقله القرطبي عن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وأبي حاتم بن حبان البستي وأبي حيان ويحيى بن يحيى ورواية
عن الامام مالك أيضا حديث آخر قال البخاري في فضائل القرآن حدثنا محمد بن المثنى حدثنا وهب حدثنا هشام عن
محمد بن سعيد عن أبي سعيد الخدري قال: كنا في مسير لنا فنزلنا فجاءت جارية فقالت إن سيد الحي سليم وإن
نفرنا غيب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه برقية فرقاه فبرأ فأمر له بثلاثين شاة وسقانا لبنا فلما رجع قلنا له
أكنت تحسن رقية أو كنت ترقي؟ قال لا ما رقيت إلا بأم الكتاب قلنا لا تحدثوا شيئا حتى نأتي ونسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " وما كان يدريه أنها رقية اقسموا واضربوا لي بسهم " وقال أبو معمر حدثنا
عبد الوارث حدثنا هشام حدثنا محمد بن سيرين حدثني معبد بن سيرين عن أبي سعيد الخدري بهذا وهكذا رواه
مسلم وأبو داود من رواية هشام وهو ابن حسان عن ابن سيرين به وفي بعض روايات مسلم لهذا الحديث أن أبا سعيد
الخدري هو الذي رقى ذلك السليم يعني اللديغ يسمونه بذلك تفاؤلا.
حديث آخر: روى مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث أبي الأحوص سلام بن سليم عن عمار بن زريق
عن عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده
جبرائيل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال " هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط " قال فنزل
منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لم
تقرأ حرفا منها إلا أوتيته " وهذا لفظ النسائي.
ولمسلم نحوه: حديث آخر قال مسلم حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هو ابن راهويه حدثنا سفيان بن عيينة عن
العلاء يعني ابن عبد الرحمن بن يعقوب الخرقي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صلى صلاة
لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تمام " فقيل لأبي هريرة إنا نكون خلف الامام فقال اقرأ بها في نفسك فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال:
" الحمد لله رب العالمين " قال الله حمدني عبدي وإذا قال " الرحمن الرحيم " قال الله أثني علي عبدي، فإذا
قال: " مالك يوم الدين " قال الله مجدني عبدي، وقال مرة فوض إلي عبدي، فإذا قال " إياك نعبد وإياك نستعين "
قال هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين " قال الله هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وهكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه وقد
روياه أيضا عن قتيبة عن مالك عن العلاء عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة وفي هذا السياق
" فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " وهكذا رواه ابن إسحاق عن العلاء وقد رواه مسلم من حديث ابن
جريج عن العلاء عن أبي السائب هكذا ورواه أيضا من حديث ابن أبي أويس عن العلاء عن أبيه وأبي السائب
كلاهما عن أبي هريرة وقال الترمذي هذا حديث حسن وسألت أبا زرعة عنه فقال كلا الحديثين صحيح من قال عن
العلائي عن أبي وعن العلاء عن أبيه السائب وقد روى هذا الحديث عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث العلاء عن
أبيه عن أبي هريرة عن أبي بن كعب مطولا وقال ابن جرير حدثنا صالح بن مسمار المروزي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا
12

عنبسة بن سعيد عن مطرف بن طريف عن سعيد بن إسحاق عن كعب بن عجرة عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين وله ما سأل فإذا قال العبد " الحمد لله رب
العالمين " قال حمدني عبدي وإذا قال " الرحمن الرحيم " قال أثنى علي عبدي، ثم قال هذا لي وله ما بقي "
وهذا غريب من هذا الوجه.
(الكلام على ما يتعلق بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة من وجوه)
" أحدها " أنه قد أطلق فيه لفظ الصلاة، والمراد القراءة كقوله تعالى: " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين
ذلك سبيلا " أي بقراءتك كما جاء مصرحا به في الصحيح عن ابن عباس، وهكذا قال في هذا الحديث " قسمت
الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " ثم بين تفصيل هذه القسمة في قراءة
الفاتحة فدل على عظمة القراءة في الصلاة وأنها من أكبر أركانها إذ أطلقت العبادة وأريد بها جزء واحد منها وهو
القراءة كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله " وقرآن الفجر، إن قرآن الفجر كان مشهودا " والمراد صلاة
الفجر كما جاء مصرحا به في الصحيحين أنه يشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار فدل هذا كله على أنه لا بد من
القراءة في الصلاة وهو اتفاق من العلماء، ولكن اختلفوا في مسألة نذكرها في الوجه الثاني، وذلك أنه هل يتعين
للقراءة في الصلاة غير فاتحة الكتاب أم تجزئ هي أو غيرها؟ على قولين مشهورين فعند أبي حنيفة ومن وافقه من
أصحابه وغيرهم: أنها لا تتعين بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه في الصلاة واحتجوا بعموم قوله تعالى: " فاقرءوا ما
تيسر من القرآن " وبما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المسئ في صلاته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له
" إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا فأمره بقراءة ما تيسر ولم يعين له الفاتحة ولا غيرها
فدل على ما قلنا.
" والقول الثاني " أنه تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ولا تجزئ الصلاة بدونها، وهو قول بقية الأئمة مالك والشافعي
وأحمد بن حنبل وأصحابهم وجمهور العلماء، واحتجوا على ذلك بهذا الحديث المذكور حيث قال صلوات الله
وسلامه عليه " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " والخداج هو الناقص كما فسر به في الحديث
" غير تمام ". واحتجوا أيضا بما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". وفي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " والأحاديث في هذا الباب كثيرة
ووجه المناظرة ههنا يطول ذكره وقد أشرنا إلى مأخذهم في ذلك رحمهم الله.
ثم إن مذهب الشافعي وجماعة من أهل العلم أنه تجب قراءتها في كل ركعة. وقال آخرون: إنما تجب قراءتها في
معظم الركعات وقال الحسن وأكثر البصريين: إنما تجب قراءتها في ركعة واحدة من الصلوات أخذا بمطلق الحديث
" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي: لا تتعين قراءتها بل لو قرأ
بغيرها أجزأه لقوله تعالى: " فاقرءوا ما تيسر من القرآن " والله أعلم. وقد روى ابن ماجة من حديث أبي سفيان
السعدي عن أبي نضرة عن أبي سعيد مرفوعا " لا صلاة لمن لم يقرأ في كل ركعة بالحمد وسورة في فريضة أو
غيرها " وفي صحة هذا نظر وموضع تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبير والله أعلم.
" الوجه الثالث " هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء " أحدها " أنه تجب عليه قراءتها كما
تجب على إمامه لعموم الأحاديث المتقدمة " والثاني " لا تجب على المأموم قراءة بالكلية للفاتحة ولا غيرها لا في
صلاة الجهرية ولا في صلاة السرية لما رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " من كان له إمام فقراءة الامام له قراءة " ولكن في إسناده ضعفا. ورواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر
13

من كلامه، وقد روى هذا الحديث من طرق ولا يصح شئ منها عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم " والقول الثالث " أنه تجب القراءة
على المأموم في السرية لما تقدم، ولا يجب ذلك في الجهرية لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الامام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " وذكر بقية الحديث، وهكذا
رواه بقية أهل السنن أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " وإذا قرأ فأنصتوا "
وقد صححه مسلم بن الحجاج أيضا، فدل هذان الحديثان على صحة هذا القول وهو قول قديم للشافعي رحمه
الله، والله أعلم. ورواية عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى - والغرض من ذكر هذه المسائل ههنا بيان
اختصاص سورة الفاتحة بأحكام لا تتعلق بغيرها من السور. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعد
الجوهري حدثنا غسان بن عبيد عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا
وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد فقد أمنت من كل شئ إلا الموت ".
(تفسير الاستعاذة وأحكامها)
قال الله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع
عليم " وقال تعالى " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين
وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما
يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع
العليم " فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الانسي والاحسان إليه
ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة، ويأمر بالاستعاذة به من العدو الشيطاني لا محالة إذ لا يقبل
مصانعة ولا إحسانا ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى " يا بني آدم لا
يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة " وقال تعالى " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه
ليكونوا من أصحاب السعير " وقال " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا " وقد
أقسم للوالد آدم عليه السلام أنه له لمن الناصحين وكذب فكيف معاملته لنا وقد قال " فبعزتك لأغوينهم أجمعين
إلا عبادك منهم المخلصين " وقال تعالى " فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان
على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون "
قالت طائفة من القراء وغيرهم يتعوذ بعد القراءة واعتمدوا على ظاهر سياق الآية ولدفع الاعجاب بعد فراغ العبادة،
وممن ذهب إلى ذلك حمزة فيمن نقله عنه ابن فلوفا وأبو حاتم السجستاني حكى ذلك أبو القاسم يوسف بن علي بن
جنادة الهذلي المغربي في كتاب العبادة الكامل، وروى عن أبي هريرة أيضا وهو غريب، ونقله محمد بن عمر
الرازي في تفسيره عن ابن سيرين في رواية عنه قال: وهو قول إبراهيم النخعي وداود بن علي الأصبهاني الظاهري.
وحكى القرطبي عن أبي بكر بن العربي عن المجموعة عن مالك رحمه الله: أن القارئ يتعوذ بعد الفاتحة.
واستغربه ابن العربي! وحكى قولا ثالثا وهو الاستعاذة أولا وآخرا جمعا بين الدليلين نقله الرازي. والمشهور
الذي عليه الجمهور أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية عندهم " فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم " أي إذا أردت القراءة كقوله تعالى " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم " الآية أي إذا أردتم القيام، والدليل على ذلك الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. قال الإمام أحمد بن
حنبل رحمه الله حدثنا محمد بن الحسن بن أنس حدثنا جعفر بن سليمان عن علي بن علي الرفاعي اليشكري عن أبي
المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل فاستفتح صلاته وكبر قال
" سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك - ثم يقول - لا إله إلا الله - ثلاثا ثم يقول -
14

أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه " وقد رواه أهل السنن الأربعة من رواية
جعفر بن سليمان عن علي بن علي وهو الرفاعي، وقال الترمذي: هو أشهر شئ في هذا الباب، وقد فسر الهمز
بالموتة وهي الخنق، والنفخ بالكبر والنفث بالشعر. كما رواه أبو داود وابن ماجة من حديث شعبة عن عمرو بن مرة
عن عاصم الغزي عن نافع بن جبير المطعم عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم حين دخل
في الصلاة قال " الله أكبر كبيرا ثلاثا، الحمد لله كثيرا ثلاثا، سبحان الله بكرة وأصيلا ثلاثا، اللهم إني أعوذ بك
من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه " قال عمر: وهمزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه الشعر. وقال ابن ماجة: حدثنا
علي بن المنذر، حدثنا ابن فضيل، حدثنا عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم وهمزه ونفخه ونفثه قال: همزه الموتة ونفخه الكبر ونفثه
الشعر وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن يوسف، حدثنا شريك عن يعلي بن عطاء عن رجل حدثه أنه سمع أبا
أمامة الباهلي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاثا ثم قال " لا إله إلا الله ثلاث مرات، وسبحان
الله وبحمده ثلاث مرات " ثم قال " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " وقال الحافظ أبو يعلى
أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده، حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان الكوفي، حدثنا علي بن هشام بن
البريد عن يزيد بن زياد عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال:
تلاحى رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فتمزع أنف أحدهما غضبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لاعلم شيئا لو قاله لذهب عنه ما
يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن يوسف بن عيسى المروزي عن
الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعدية، وقد روى هذا الحديث أحمد بن حنبل عن أبي سعيد عن زائدة
وأبو داود عن يوسف بن موسى عن جرير بن عبد الحميد والترمذي والنسائي في اليوم والليلة عن بندار عن ابن مهدي
عن الثوري والنسائي أيضا من حديث زائدة بن قدامة ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما غضبا شديدا حتى يخيل إلي أن
أحدهما يتمزع أنفه من شدة غضبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد من الغضب " فقال:
ما هي يا رسول الله؟ قال " يقول اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم " قال: فجعل معاذ يأمره فأبى وجعل
يزداد غضبا وهذا لفظ أبي داود، وقال الترمذي: مرسل يعنى أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذ بن جبل فإنه
مات قبل سنة عشرين " قلت " وقد يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى سمعه من أبي بن كعب كما تقدم وبلغه عن
معاذ بن جبل فإن هذه القصة شهدها غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم. قال البخاري: حدثنا عثمان بن أبي
شيبة، حدثنا جرير عن الأعمش عن عدي بن ثابت قال: قال سليمان بن صرد رضي الله عنه. استب رجلان عند
النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس فأحدهما يسب صاحبه مغضبا قد احمر وجهه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لاعلم كلمة لو قالها
لذهب عنه ما يجده، لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إني لست بمجنون، وقد رواه أيضا مع مسلم وأبي داود والنسائي من طرق متعددة عن الأعمش به.
وقد جاء في الاستعاذة أحاديث كثيرة يطول ذكرها ههنا وموطنها كتاب الأذكار وفضائل الأعمال والله أعلم وقد روي أن
جبريل عليه السلام أول ما نزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بالاستعاذة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير، حدثنا
أبو كريب، حدثنا عثمان بن سعيد، حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال:
أول ما نزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال " يا محمد استعذ " قال " أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم " ثم
قال " قل بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قال " إقرأ باسم ربك الذي خلق " قال عبد الله: وهى أول سورة أنزلها الله
على محمد صلى الله عليه وسلم بلسان جبريل. وهذا الأثر غريب وإنما ذكرناه ليعرف فإن في إسناده ضعفا وانقطاعا والله أعلم.
" مسألة " وجمهور العلماء على أن الاستعاذة مستحبة ليست بمتحتمة يأثم تاركها، وحكى الرازي عن عطاء بن أبي
15

رباح وجوبها في الصلاة وخارجها كلما أراد القراءة قال: وقال ابن سيرين: إذا تعوذ مرة واحدة في عمره فقد كفى
في إسقاط الوجوب، واحتج الرازي لعطاء بظاهر الآية " فاستعذ " وهو أمر ظاهره الوجوب وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها
ولأنها تدرأ شر الشيطان وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولان الاستعادة أحوط وهو أحد مسالك الوجوب وقال
بعضهم: كانت واجبة على النبي صلى الله عليه وسلم دون أمته، وحكي عن مالك أنه لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ لقيام رمضان في
أول ليلة منه.
" مسألة " وقال الشافعي في الاملاء يجهر بالتعوذ وإن أسر فلا يضر وقال في الام بالتخبير لأنه أسر ابن عمر وجهر أبو
هريرة واختلف قول الشافعي فيما عدا الركعة الأولى هل يستحب التعوذ فيها على قولين ورجح عدم الاستحباب والله
أعلم فإذا قال المستعيذ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كفى ذلك عند الشافعي وأبي حنيفة وزاد بعضهم: أعوذ بالله
السميع العليم وقال آخرون بل يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، قاله الثوري
والأوزاعي وحكي عن بعضهم أنه يقول أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم لمطابقة أمر الآية ولحديث الضحاك عن ابن
عباس المذكور والأحاديث الصحيحة كما تقدم أولى بالاتباع من هذا والله أعلم.
" مسألة " ثم الاستعاذة في الصلاة إنما هي للتلاوة وهو قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: بل للصلاة فعلى
هذا يتعوذ المأموم وإن كان لا يقرأ ويتعوذ في العيد بعد الاحرام وقبل تكبيرات العيد والجمهور بعدها قبل القراءة ومن
لطائف الاستعاذة أنها طهارة للفم مما كان يتعاطاه من اللغو والرفث وتطييب له وهو لتلاوة كلام الله وهي استعانة بالله
واعتراف له بالقدرة وللعبد بالضعف والعجز عن مقاومة هذا العدو المبين الباطني الذي لا يقدر على منعه ودفعه إلا الله
الذي خلقه ولا يقبل مصانعة ولا يدارى بالاحسان بخلاف العدو من نوع الانسان كما دلت على ذلك آيات من القرآن
في ثلاث من المثاني وقال تعالى " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " وقد نزلت الملائكة
لمقاتلة العدو البشري فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيدا، ومن قتله العدو الباطني كان طريدا، ومن غلبه
العدو الظاهري كان مأجورا، ومن قهره العدو الباطني كان مفتونا أو موزورا، ولما كان الشيطان يرى الانسان من حيث
لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.
" فصل " والاستعاذة هي الالتجاء إلى الله تعالى والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذة تكون لدفع الشر واللياذ
يكون لطلب جلب الخير كما قاله المتنبي:
يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به ممن أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
ومعنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم أي أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي أو
يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه فإن الشيطان لا يكفه عن الانسان إلا الله ولهذا أمر
تعالى بمصانعة شيطان الانس ومداراته بإسداء الجميل إليه ليرده طبعه عما هو فيه من الأذى وأمر بالاستعاذة به من
شيطان الجن لأنه لا يقبل رشوة ولا يؤثر فيه جميل لأنه شرير بالطبع ولا يكفه عنك إلا الذي خلقه وهذا المعنى في
ثلاث آيات من القرآن لا أعلم لهن رابعة قوله في الأعراف " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " فهذا فيما
يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " وقال تعالى في
سورة قد أفلح المؤمنون " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات
الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى في سورة حم السجدة " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي
هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم *
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ".
16

الشيطان في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر وبعيد بفسقه عن كل خير وقيل مشتق
من شاط لأنه مخلوق من نار ومنهم من يقول كلاهما صحيح في المعنى ولكن الأول أصح وعليه يدل كلام العرب.
قال أمية بن أبي الصلت في ذكر ما أوتي سليمان عليه السلام:
أيما شاطن عصاه عكاه * ثم يلقى في السجن والأغلال
فقال أيما شاطن ولم يقل أيما شائط وقال النابغة الذبياني وهو زياد بن عمرو بن معاوية بن جابر بن ضباب بن
يربوع بن مرة بن سعد بن ذبيان:
نأت بسعاد عنك نوى شطون * فباتت والفؤاد بها رهين
يقول بعدت بها طريق بعيدة وقال سيبويه العرب: تقول تشيطن فلان إذا فعل فعل الشياطين ولو كان من شاط لقالوا
تشيط فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل من تمرد من جني وإنسي وحيوان شيطانا. قال الله
تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وفي
مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن "
فقلت أو للانس شياطين؟ قال " نعم " وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقطع الصلاة
المرأة والحمار والكلب الأسود " فقلت: يا رسول الله ما بال الكلب الأسود من الأحمر والأصفر؟ فقال: " الكلب
الأسود شيطان ". وقال ابن وهب أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ركب برذونا فجعل يتبختر به فجعل يضربه فلا يزداد إلا تبخترا فنزل عنه وقال ما حملتموني إلا على شيطان ما نزلت
عنه حتى أنكرت نفسي، إسناده صحيح. والرجيم فعيل بمعنى مفعول أي أنه مرجوم مطرود عن الخير كله كما قال
تعالى " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين " وقال تعالى " إنا زينا السماء الدنيا بزينة
الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد * لا يسمعون إلى الملا الاعلى ويقذفون من كل جانب * دحورا ولهم عذاب
واصب * إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " وقال تعالى " ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها
للناظرين * وحفظناها من كل شيطان رجيم * إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " إلى غير ذلك من الآيات
وقيل رجيم بمعنى راجم لأنه يرجم الناس بالوساوس والربائث والأول أشهر وأصح.
" بسم الله الرحمن الرحيم " افتتح بها الصحابة كتاب الله واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل ثم
اختلفوا: هل هي آية مستقلة في أول كل سورة أو من كل سورة كتبت في أولها أو أنها بعض آية من كل سورة أو أنها
كذلك في الفاتحة دون غيرها أو أنها إنما كتبت للفصل لا أنها آية على أقوال العلماء سلفا وخلفا وذلك مبسوط في غير
هذا الموضع وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يعرف فصل
السورة حتى ينزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " وأخرجه الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في مستدركه أيضا وروي
مرسلا عن سعيد بن جبير وفي صحيح ابن خزيمة عن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ البسملة في أول
الفاتحة في الصلاة وعدها آية، لكنه من رواية عمر بن هارون البلخي وفيه ضعف عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة
عنها وروى له الدارقطني متابعا عن أبي هريرة مرفوعا، وروى مثله عن علي وابن عباس وغيرهما وممن حكي عنه
أنها آية من كل سورة إلا براءة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبو هريرة وعلي ومن التابعين عطاء وطاوس وسعيد بن
جبير ومكحول والزهري وبه يقول عبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل في رواية عنه وإسحق بن راهويه وأبو
عبيد القاسم بن سلام رحمهم الله وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور
وقال الشافعي في قول في بعض طرق مذهبه هي آية من الفاتحة وليست من غيرها وعنه أنها بعض آية من أول كل
سورة وهما غريبان وقال داود هي آية مستقلة في أول كل سورة لا منها وهذا رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وحكاه أبو
17

بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي وهما من أكابر أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله. هذا ما يتعلق بكونها آية من
الفاتحة أم لا.
فأما الجهر بها ففرع على هذا فمن رأى أنها ليست من الفاتحة فلا يجهر بها وكذا من قال إنها آية في أولها وأما من قال
بأنها من أوائل السور فاختلفوا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجهر بها مع الفاتحة والسورة وهو مذهب طوائف من
الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين سلفا وخلفا فجهر بها من الصحابة أبو هريرة وابن عمر وابن عباس ومعاوية وحكاه
ابن عبد البر والبيهقي عن عمر وعلي ونقله الخطيب عن الخلفاء الأربعة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وهو غريب
ومن التابعين عن سعيد بن جبير وعكرمة وأبي قلابة والزهري وعلي بن الحسن وابنه محمد وسعيد بن المسيب وعطاء
وطاوس ومجاهد وسالم ومحمد بن كعب القرظي وعبيد وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبي وائل وابن سيرين
ومحمد بن المنكدر وعلي بن عبد الله بن عباس وابنه محمد ونافع مولى ابن عمر وزيد بن أسلم وعمر بن عبد العزيز
والأزرق بن قيس وحبيب بن أبي ثابت وأبي الشعثاء ومكحول وعبد الله بن مغفل بن مقرن زاد البيهقي وعبد الله بن
صفوان ومحمد ابن الحنفية زاد ابن عبد البر وعمرو بن دينار والحجة في ذلك أنها بعض الفاتحة فيجهر فيها كسائر
أبعاضها وأيضا فقد روى النسائي في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه عن أبي
هريرة أنه صلى فجهر في قراءته بالبسملة وقال بعد أن فرغ إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصححه الدارقطني
والخطيب والبيهقي وغيرهم وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتح الصلاة ببسم الله
الرحمن الرحيم ثم قال الترمذي وليس إسناده بذاك وقد رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قال صحيح. وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك أنه سئل
عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كانت قراءته مدا ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد
الرحيم. وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن خزيمة ومستدرك الحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته " بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم *
مالك يوم الدين ". وقال الدارقطني إسناد صحيح. وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي والحاكم في مستدركه عن
أنس بن معاوية صلى بالمدينة فترك البسملة فأنكر عليه من حضره من المهاجرين ذلك فلما صلى المرة الثانية
بسمل. وفي هذه الأحاديث والآثار التي أوردناها كفاية ومقنع في الاحتجاج لهذا القول عما عداها. فأما المعارضات
والروايات الغريبة وتطريقها وتعليلها وتضعيفها وتقريرها فله موضع آخر.
وذهب آخرون إلى أنه لا يجهر بالبسملة في الصلاة وهذا هو الثابت عن الخلفاء الأربعة وعبد الله بن مغفل وطوائف
من سلف التابعين والخلف وهو مذهب أبي حنيفة والثوري وأحمد بن حنبل. وعند الامام مالك أنه لا يقرأ البسملة
بالكلية لا جهرا ولا سرا واحتجوا بما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح
الصلاة بالتكبير والقراءة ب‍ " الحمد لله رب العالمين ". وبما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: صليت خلف
النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يفتتحون ب‍ " الحمد لله رب العالمين " ولمسلم لا يذكرون " بسم الله الرحمن
الرحيم " في أول قراءة ولا في آخرها ونحوها في السنن عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فهذه مآخذ الأئمة رحمهم
الله في هذه المسألة وهي قريبة لأنهم أجمعوا على صحة صلاة من جهر بالبسملة ومن أسر ولله الحمد والمنة.
فصل في فضلها
قال الامام العالم الحبر العابد أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رحمه الله في تفسيره حدثنا أبي جعفر بن مسافر
حدثنا زيد بن المبارك الصنعاني حدثنا سلام بن وهب الجندي حدثنا أبي عن طاوس عن ابن عباس أن عثمان بن
عفان سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ فقال " هو اسم من أسماء الله وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلا
18

كما بين سواد العينين وبياضهما من القرب " وهكذا رواه أبو بكر بن مردويه عن سليمان بن أحمد عن علي بن المبارك عن
زيد بن المبارك به. وقد روى الحافظ ابن مردويه من طريقين عن إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن
عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عيسى ابن مريم عليه السلام أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه فقال له
المعلم: اكتب فقال: ما أكتب؟ قال: بسم الله، قال له عيسى: وما بسم الله؟ قال المعلم: ما أدري؟ قال له عيسى:
الباء بهاء الله، والسين سناؤه، والميم مملكته، والله إله الآلهة، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة، والرحيم رحيم
الآخرة " وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن العلاء الملقب بابن زبريق عن إسماعيل بن عياش عن
إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي مليكة عمن حدثه عن ابن مسعود ومسعر عن عطية عن أبي سعيد. قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره، وهذا غريب جدا، وقد يكون صحيحا إلى من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون من
الإسرائيليات لا من المرفوعات والله أعلم. وقد روى جويبر عن الضحاك نحوه من قبله، وقد روى ابن مردويه من
حديث يزيد بن خالد عن سليمان بن بريدة وفي رواية عن عبد الكريم أبي أمية عن أبي بريدة عن أبيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنزلت علي آية لم تنزل على نبي غير سليمان بن داود وغيري وهي " بسم الله الرحمن الرحيم "
وروى بإسناده عن عبد الكريم الكبير بن المعافى بن عمران عن أبيه عن عمر بن ذر عن عطاء بن أبي رباح عن
جابر بن عبد الله قال: لما نزل " بسم الله الرحمن الرحيم " هرب الغيم إلى المشرق وسكنت الرياح، وهاج البحر،
وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يسمى اسمه على
شئ إلا بارك فيه. وقال وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود قال: من أراد أن ينجيه الله من الزبانية
التسعة عشر فليقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " فيجعل الله له من كل حرف منها جنة من كل واحد، ذكره ابن عطية
والقرطبي ووجهه ابن عطية ونصره بحديث " لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها " لقول الرجل ربنا ولك الحمد حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه، من أجل أنها بضعة وثلاثون حرفا وغير ذلك. وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عاصم قال: سمعت أبا تميمة يحدث عن رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: عثر بالنبي صلى الله عليه وسلم:
فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقل تعس الشيطان، فإنك إذا قلت تعس الشيطان تعاظم وقال بقوتي
صرعته، وإذا قلت بسم الله تصاغر حتى يصير مثل الذباب " هكذا وقع في رواية الإمام أحمد، وقد روى النسائي
في اليوم والليلة وابن مردويه في تفسيره من حديث خالد الحذاء عن أبي تميمة وهو الهجيمي عن أبي المليح بن
أسامة بن عمير عن أبيه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال " لا تقل هكذا فإنه يتعاظم حتى يكون كالبيت، ولكن
قل بسم الله فإنه يصغر حتى يكون كالذبابة ". فهذا من تأثير بركة بسم الله، ولهذا تستحب في أول كل عمل وقول.
فتستحب في أول الخطبة لما جاء " كل أمر لا يبدأ فيه ب‍ " بسم الله الرحمن الرحيم " فهو أجذم. وتستحب البسملة عند
دخول الخلاء لما ورد من الحديث في ذلك. وتستحب في أول الوضوء لما جاء في مسند الإمام أحمد والسنن من
رواية أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبى سعيد مرفوعا " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " وهو حديث حسن. ومن
العلماء من أوجبها عند الذكر ههنا ومنهم من قال بوجوبها مطلقا وكذا تستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي
وجماعة وأوجبها آخرون عند الذكر ومطلقا في قول بعضهم كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله. وقد ذكر الرازي
في تفسيره في فضل البسملة أحاديث منها عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أتيت أهلك فسم الله فإنه إن وجد
لك ولد كتب لك بعدد أنفاسه وأنفاس ذريته حسنات " وهذا لا أصل له ولا رأيته في شئ من الكتب المعتمد عليها
ولا غيرها. وهكذا تستحب عند الاكل لما في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لربيبه عمر بن أبي سلمة " قل بسم
الله وكل بيمينك وكل مما يليك " ومن العلماء من أوجبها والحالة هذه وكذلك تستحب عند الجماع لما في
الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا
الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا ".
ومن ههنا ينكشف لك أن القولين عند النحاة في تقدير المتعلق بالباء في قوله بسم الله هل هو اسم أو فعل متقاربان،
19

وكل قد ورد به القرآن أما من قدره باسم تقديره بسم الله ابتدائي فلقوله تعالى " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها
ومرساها إن ربي لغفور رحيم " ومن قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ بسم الله أو ابتدأت بسم الله فلقوله تعالى
" اقرأ باسم ربك الذي خلق " وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل ومصدره وذلك
بحسب الفعل الذي سميت قبله إن كان قياما أو قعودا أو أكلا أو شربا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم
الله في الشروع في ذلك كله تبركا وتيمنا واستعانة على الاتمام والتقبل والله أعلم. ولهذا روى ابن جرير وابن أبي
حاتم من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال إن أول ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم
قال " يا محمد قل أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ثم قال: قل " بسم الله الرحمن الرحيم " قال:
قال له جبريل باسم الله يا محمد يقول اقرأ بذكر الله ربك وقم واقعد بذكر الله تعالى " لفظ ابن جرير.
وأما مسألة الاسم هل هو المسمى أو غيره ففيها للناس ثلاثة أقوال، أحدها أن الاسم هو المسمى، وهو قول أبي
عبيدة وسيبويه، واختاره الباقلاني وابن فورك وقال الرازي وهو محمد بن عمر المعروف بابن خطيب الري في
مقدمات تفسيره: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية الاسم نفس المسمى وغير نفس التسمية، وقالت المعتزلة
الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى، وغير التسمية، ثم نقول إن كان المراد
بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات متقطعة وحروف مؤلفة، فالعلم الضروري حاصل أنه غير المسمى وإن كان
المراد بالاسم ذات المسمى، فهذا يكون من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث
على جميع التقديرات يجري مجرى العبث. ثم شرع يستدل على مغايرة الاسم للمسمى بأنه قد يكون الاسم
موجودا والمسمى مفقودا كلفظة المعدوم وبأنه قد يكون للشئ أسماء متعددة كالمترادفة وقد يكون الاسم واحدا
والمسميات متعددة كالمشترك وذلك دال على تغاير الاسم والمسمى وأيضا فالاسم لفظ وهو عرض والمسمى قد
يكون ذاتا ممكنة أو واجبة بذاتها وأيضا فلفظ النار والثلج لو كان هو المسمى لوجد اللافظ بذلك حر النار أو برد الثلج
ونحو ذلك ولا يقوله عاقل وأيضا فقد قال الله تعالى " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعة
وتسعين اسما " فهذه أسماء كثيرة والمسمى واحد وهو الله تعالى وأيضا فقوله " ولله الأسماء " أضافها إليه كما قال
" فسبح باسم ربك العظيم " ونحو ذلك فالإضافة تقتضي المغايرة وقوله تعالى " فادعوه بها " أي فادعوا الله
بأسمائه وذلك دليل على أنها غيره واحتج من قال الاسم هو المسمى بقوله تعالى " تبارك اسم ربك ذو الجلال
والاكرام " والمتبارك هو الله تعالى والجواب أن الاسم معظم لتعظيم الذات المقدسة وأيضا فإذا قال الرجل زينب
طالق يعني امرأته طلقت ولو كان الاسم غير المسمى لما وقع الطلاق والجواب أن المراد أن الذات المسماة بهذا
الاسم طالق. قال الرازي: وأما التسمية فإنها جعل الاسم معينا لهذه الذات فهي غير الاسم أيضا والله أعلم.
" الله " علم على الرب تبارك وتعالى يقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى " هو الله
الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام
المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى
يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم " فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له كما قال تعالى " ولله
الأسماء الحسنى فادعوه بها " وقال تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " وفي
الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا من أحصاها دخل
الجنة " وجاء تعدادها في رواية الترمذي وابن ماجة وبين الروايتين اختلاف زيادة ونقصان وقد ذكر الرازي في تفسيره
عن بعضهم أن لله خمسة آلاف اسم ألف في الكتاب والسنة الصحيحة وألف في التوراة وألف في الإنجيل وألف في
الزبور وألف في اللوح المحفوظ.
وهو اسم لم يسم به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف في كلام العرب له اشتقاق من فعل يفعل فذهب من ذهب من
20

النحاة إلى أنه اسم جامد لا اشتقاق له وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم الشافعي والخطابي وإمام
الحرمين والغزالي وغيرهم، وروى عن الخليل وسيبويه أن الألف واللام فيه لازمة قال الخطابي ألا ترى أنك تقول يا
الله ولا تقول يا الرحمن فلولا أنه من أصل الكلمة لما جاز إدخال حرف النداء على الألف واللام وقيل إنه مشتق
واستدلوا عليه بقول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدة * سبحن واسترجعن من تألهي
فقد صرح الشاعر بلفظ المصدر وهو التأله من أله يأله إلاهة وتألها كما روى عن ابن عباس أنه قرأ " ويذرك وإلاهتك "
قال عبادتك أي أنه كان يعبد ولا يعبد وكذا قال مجاهد وغيره وقد استدل بعضهم على كونه مشتقا بقوله تعالى " وهو
الله في السماوات وفي الأرض " كما قال تعالى " وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله " ونقل سيبويه عن
الخليل أن أصله إلاه مثل فعال فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة، قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقيل أصل
الكلمة لاه فدخلت الألف واللام للتعظيم وهذا اختيار سيبويه. قال الشاعر:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب * عني ولا أنت دياني فتخزوني
قال القرطبي بالخاء المعجمة أي فتسوسني وقال الكسائي والفراء أصله الاله حذفوا الهمزة وأدغموا اللام الأولى في
الثانية كما قال " لكنا هو الله ربي " أي لكن أنا وقد قرأها كذلك الحسن، قال القرطبي ثم قيل هو مشتق من وله إذا
تحير والوله ذهاب العقل يقال رجل واله وامرأة ولهى ومولوهة إذا أرسل في الصحراء فالله تعالى يحير أولئك في الفكر
في حقائق صفاته فعلى هذا يكون ولاه فأبدلت الواو همزة كما قالوا في وشاح أشاح ووسادة أسادة وقال الرازي وقيل
إنه مشتق من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته لأنه
الكامل على الاطلاق دون غيره قال الله تعالى " ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا " قال وقيل من لاه يلوه إذا
احتجب وقيل اشتقاقه من أله الفصيل أولع بأمه والمعنى أن العباد مألوهون مولعون بالتضرع إليه في كل الأحوال قال:
وقيل مشتق من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره فالمجير لجميع الخلائق من كل المضار هو الله
سبحانه لقوله تعالى " وهو يجير ولا يجار عليه " وهو المنعم لقوله تعالى " وما بكم من نعمة فمن الله " وهو المطعم
لقوله تعالى " وهو يطعم ولا يطعم " وهو الموجد لقوله تعالى " قل كل من عند الله " وقد اختار الرازي أنه اسم غير
مشتق البتة قال وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء ثم أخذ يستدل على ذلك بوجوه منها أنه لو كان
مشتقا لاشترك في معناه كثيرون ومنها أن بقية الأسماء تذكر صفات له فتقول الله الرحمن الرحيم الملك القدوس فدل
أنه ليس بمشتق قال: فأما قوله تعالى " العزيز الحميد الله " على قراءة الجر فجعل ذلك في باب عطف البيان ومنها
قوله تعالى " هل تعلم له سميا " وفى الاستدلال بهذه على كون هذا الاسم جامدا غير مشتق نظر والله أعلم.
وحكى الرازي عن بعضهم أن اسم الله تعالى عبراني ثم ضعفه وهو حقيق بالتضعيف كما قال وقد حكى الرازي هذا
القول ثم قال: واعلم أن الخلائق قسمان واصلون إلى ساحل بحر المعرفة ومحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه
الجهالة فكأنهما قد فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال
فتاهوا في ميادين الصمدية وبادوا في عرصة الفردانية فثبت أن الخلائق كلهم والهون في معرفته، وروي عن
الخليل بن أحمد أنه قال لان الخلق يألهون إليه بفتح اللام وكسرها لغتان وقيل إنه مشتق من الارتفاع فكانت العرب
تقول لكل شئ مرتفع لاها، وكانوا يقولون إذا طلعت الشمس لاهت وقيل إنه مشتق من أله الرجل إذا تعبد وتأله إذا
تنسك. وقرأ ابن عباس " ويذرك وإلاهتك " وأصل ذلك الاله فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي
هي عينها مع اللام الزائدة في أولها للتعريف فأدغمت إحداهما في الأخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة
وفخمت تعظيما فقيل الله.
21

" الرحمن الرحيم " اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمن أشد مبالغة من رحيم وفي كلام ابن جرير ما
يفهم منه حكاية الاتفاق على هذا وفي تفسير بعض السلف ما يدل على ذلك كما تقدم في الأثر عن عيسى عليه
السلام أنه قال: والرحمن رحمن الدنيا والآخرة والرحيم رحيم الآخرة. زعم بعضهم أنه غير مشتق إذ لو كان كذلك
لا تصل بذكر المرحوم وقد قال " وكان بالمؤمنين رحيما " وحكى ابن الأنباري في الزاهر عن المبرد أن الرحمن اسم
عبراني ليس بعربي وقال أبو إسحق الزجاج في معاني القرآن: وقال أحمد بن يحيى الرحيم عربي والرحمن عربي
فلهذا جمع بينهما قال أبو إسحق وهذا القول مرغوب عنه وقال القرطبي والدليل على أنه مشتق ما خرجه الترمذي
وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله تعالى أنا الرحمن خلقت
الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعهما قطعته " قال وهذا نص في الاشتقاق فلا معنى
للمخالفة والشقاق، قال وإنكار العرب لاسم الرحمن لجهلهم بالله وبما وجب له. قال القرطبي: ثم قيل هما بمعني
واحد كندمان ونديم. قاله أبو عبيد وقيل ليس بناء فعلان كفعيل فإن فعلان لا يقع إلا على مبالغة الفعل نحو قولك
رجل غضبان للرجل الممتلئ غضبا وفعيل قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول قال أبو علي الفارسي الرحمن اسم عام
في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم إنما هو من جهة المؤمنين. قال الله تعالى " وكان بالمؤمنين
رحيما " وقال ابن عباس هما إسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر أي أكثر رحمة، ثم حكي عن الخطابي وغيره
أنهم استشكلوا هذه الصفة وقالوا لعله أرفق كما في الحديث " إن الله رفيق يحب الرفق في الامر كله وأنه يعطي على
الرفق ما لا يعطي على العنف " وقال ابن المبارك الرحمن إذا سئل أعطى والرحيم إذا لم يسأل يغضب وهذا كما جاء
في الحديث الذي رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي صالح الفارسي الخوزي عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يسأل الله يغضب عليه " وقال بعض الشعراء:
الله يغضب إن تركت سؤاله * وبني آدم حين يسأل يغضب
وقال ابن جرير حدثنا السرى بن يحيى التميمي حدثنا عثمان بن زفر سمعت العزرمي يقول الرحمن الرحيم قال
الرحمن لجميع الخلق الرحيم قال بالمؤمنين قالوا ولهذا قال " ثم استوى على العرش الرحمن " وقال " الرحمن
على العرش استوى " فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته وقال وكان بالمؤمنين رحيما فخصهم
باسمه الرحيم قالوا فدل على أن الرحمن أشد مبالغة في الرحمن لعمومها في الدارين لجميع خلقه والرحيم خاصة
بالمؤمنين لكن جاء في الدعاء المأثور رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما واسمه تعالى الرحمن خاص به لم يسم به غيره
كما قال تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " وقال تعالى " واسأل من أرسلنا من
قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " ولما تجهرم مسيلمة الكذاب وتسمى برحمان اليمامة كساه الله
جلباب الكذب وشهر به فلا يقال إلا مسيلمة الكذاب فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر من أهل
المدر وأهل الوبر من أهل البادية والاعراب.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكد به والمؤكد لا يكون إلا أقوى من المؤكد. والجواب أن
هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم فيه ما ذكروه وعلى هذا فيكون تقدير اسم الله الذي لم يسم
به أحد غيره ووصفه أولا بالرحمن الذي منع من التسمية به لغيره كما قال تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما
تدعوا فله الأسماء الحسنى " وإنما تجهرم مسيلمة اليمامة في التسمي به ولم يتابعه على ذلك إلا من كان معه في
الضلالة. وأما الرحيم فإنه تعالى وصف به غيره حيث قال " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " كما وصف غيره بذلك من أسمائه كما قال تعالى " إنا خلقنا الانسان من
نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا " والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها ما لا يسمى به غيره
كاسم الله والرحمن والخالق والرزاق ونحو ذلك فلهذا بدأ باسم الله ووصفه بالرحمن لأنه أخص وأعرف من الرحيم
22

لان التسمية أولا إنما تكون بأشرف الأسماء فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص. فإن قيل فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا
اكتفى به عن الرحيم فقد روي عن عطاء الخراساني ما معناه أنه لما تسمى غيره تعالى بالرحمن جئ بلفظ الرحيم
ليقطع الوهم بذلك فإنه لا يوصف بالرحمن الرحيم إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء، ووجهه بذلك والله
أعلم. وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى رد الله عليهم ذلك بقوله " قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن
أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى " ولهذا قال كفار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي " اكتب " بسم الله
الرحمن الرحيم " فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم رواه البخاري وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن
اليمامة وقال تعالى " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا " والظاهر أن
إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن
قال ابن جرير:
وقد أنشد بعض الجاهلية الجهال:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها * ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامه بن جندب الطهوي:
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم * وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة حدثنا أبو روق عن الضحاك عن
عبد الله بن عباس قال الرحمن الفعلان من الرحمة هو كلام العرب وقال " الرحمن الرحيم " الرفيق الرقيق لمن أحب
أن يرحمه والبعيد الشديد على من أحب أن يعنف عليه، وكذلك أسماؤه كلها. وقال ابن جرير أيضا حدثنا محمد بن
بشار حدثنا حماد بن مسعدة عن عوف عن الحسن قال الرحمن اسم ممنوع. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد
يحيى بن سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو الأشهب عن الحسن قال الرحمن اسم لا يستطيع الناس أن
ينتحلوه تسمى به تبارك وتعالى. وقد جاء في حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته حرفا حرفا " بسم
الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين " فقرأ بعضهم كذلك وهم طائفة
ومنهم من وصلها بقوله " الحمد لله رب العالمين " وكسرت الميم لالتقاء الساكنين وهم الجمهور وحكى الكسائي
من الكوفيين عن بعض العرب أنها تقرأ بفتح الميم وصلة الهمزة فيقولون " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب
العالمين " فنقلوا حركة الهمزة إلى الميم بعد تسكينها كما قرئ قوله تعالى " ألم الله لا إله إلا هو " قال ابن عطية
ولم ترد هذه قراءة عن أحد فيما علمت.
الحمد لله رب العالمين (2)
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا
" الحمد لله " بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة " الحمد لله " بضم الدال واللام اتباعا للثاني الأول وله
شواهد لكنه شاذ وعن الحسن وزيد بن علي " الحمد لله " بكسر الدال اتباعا للأول الثاني.
قال أبو جعفر بن جرير معنى " الحمد لله " الشكر لله خالصا دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه،
بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين
جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، من غير
استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في
النعيم المقيم، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخرا. وقال ابن جرير رحمه الله: " الحمد لله " ثناء أثنى به على نفسه
23

وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال قولوا " الحمد لله " قال وقد قيل إن قول القائل " الحمد لله " ثناء عليه بأسمائه
الحسنى وصفاته العلى وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه. ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل
المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر
الصادق وابن عطاء من الصوفية وقال ابن عباس " الحمد لله " كلمة كل شاكر وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول
القائل " الحمد لله " شكرا. وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد
هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان
والأركان كما قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المججبا
ولكنهم اختلفوا أيهما أعم الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما عموما وخصوصا فالحمد أعم من الشكر
من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية، تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص
لأنه لا يكون إلا بالقول والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه
لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إلي. هذا حاصل ما
حرره بعض المتأخرين والله أعلم.
وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: الحمد نقيض الذم تقول حمدت الرجل أحمده حمدا ومحمدة فهو
حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه
من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح. وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت
وللجماد أيضا كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الاحسان وبعده وعلى الصفات المتعدية واللازمة
أيضا فهو أعم.
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال: قال عمر رضي الله عنه قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله فما " الحمد لله "؟ فقال علي: كلمة رضيها الله
لنفسه، ورواه غير أبى معمر عن حفص فقال قال عمر لعلي - وأصحابه عنده - لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد
عرفناها فما " الحمد لله "؟ قال علي: كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال، وقال علي بن زيد بن
جدعان عن يوسف بن مهران قال ابن عباس " الحمد لله " كلمة الشكر وإذا قال العبد " الحمد لله " قال شكرني عبدي. رواه
ابن أبي حاتم، وروى أيضا هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه
قال: " الحمد لله " هو الشكر لله هو الاستخذاء له والاقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك وقال كعب الأحبار " الحمد
لله " ثناء الله وقال الضحاك " الحمد لله " رداء الرحمن وقد ورد الحديث بنحو ذلك.
قال ابن جرير حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم بن موسى بن أبي حبيب
عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت " الحمد لله رب العالمين " فقد شكرت الله فزادك "
وقد روى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا
أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى، فقال " أما إن ربك يحب الحمد " ورواه النسائي عن علي بن حجر
عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن بن الأسود بن سريع به. وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي
وابن ماجة من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
24

" أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله " وقال الترمذي حسن غريب. وروى ابن ماجة عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل
مما أخذ "، وقال القرطبي في تفسيره وفى نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو أن الدنيا بحذافيرها في يد
رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكان الحمد لله أفضل من ذلك " قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر
نعمة عليه من نعم الدنيا لان ثواب الحمد لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى " المال والبنون زينة الحياة
الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " وفي سنن ابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم
" أن عبدا من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا
كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله وهو أعلم بما قال عبده:
ماذا قال عبدي؟ قالا يا رب إنه قال لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما:
: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها " وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد " الحمد لله رب
العالمين " أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد وقال آخرون لا إله إلا
الله أفضل لأنها تفصل بين الايمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله كما ثبت في الحديث المتفق
عليه وفي الحديث الآخر " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له " وقد تقدم عن جابر
مرفوعا " أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله " وحسنه الترمذي. والألف واللام في الحمد لاستغراق
جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث " اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله
وإليك يرجع الامر كله " الحديث.
والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للاصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله
تعالى ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول رب الدار كذا وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل، وقد قيل إنه
الاسم الأعظم. والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا واحد له من لفظه والعوالم
أصناف المخلوقات في السماوات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالما أيضا قال بشر بن عمارة عن أبي
روق عن الضحاك عن ابن عباس " الحمد لله رب العالمين " الحمد لله الذي له الخلق كله السماوات والأرض وما
فيهن وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم. وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس: رب الجن والإنس
وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه واستدل
القرطبي لهذا القول بقوله تعالى " ليكون للعالمين نذيرا " وهم الجن والإنس قال الفراء وأبو عبيد العالم عبارة عما
يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم. وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما
له روح ترفرف. وقال قتادة رب العالمين كل صنف عالم وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو
أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السماوات وأهل
الأرض عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " رب العالمين " قال الانس عالم والجن
عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم - هو يشك - الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا
في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وهذا كلام غريب
يحتاج مثله إلى دليل صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا
الفرات يعني ابن الوليد عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى " رب العالمين " قال العالمين
ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر وحكى مثله عن سعيد بن المسيب وقد روى نحو هذا مرفوعا كما قال
الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد
25

حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قل الجراد في سنة من سني
عمر التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشئ فاغتم لذلك فأرسل راكبا يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى
العراق يسأل هل رؤي من الجراد شئ أم لا قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه
فلما رآها كبر، ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر وأربعمائة في البر فأول شئ
يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه " محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف.
وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال وهب بن منبه لله
ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها وقال مقاتل العوالم ثمانون ألفا وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله
عز وجل نقله كله البغوي. وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها
إلى مغربها عالم واحد منها. وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والآخرة قال القرطبي وهذا هو الصحيح أنه
شامل لكل العالمين كقوله " قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين "
والعالم مشتق من العلامة " قلت " لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الاله * أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد
الرحمن الرحيم (3)
وقوله تعالى " الرحمن الرحيم " تقدم الكلام عليه في البسملة بما أغنى عن الإعادة قال القرطبي إنما وصف نفسه
بالرحمن الرحيم بعد قوله رب العالمين ليكون من باب قرن الترغيب بعد الترهيب كما قال تعالى " نبئ عبادي أني
أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم " وقوله تعالى " إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " قال
فالرب فيه ترهيب والرحمن الرحيم ترغيب وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو يعلم
المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد ".
ملك يوم الدين (4)
قرأ بعض القراء " ملك يوم الدين " وقرأ آخرون " مالك " وكلاهما صحيح متواتر في السبع ويقال ملك بكسر اللام
وبإسكانها ويقال مليك أيضا وأشبع نافع كسرة الكاف فقرأ " ملكي يوم الدين " وقد رجح كلا من القراءتين مرجحون
من حيث المعنى وكلاهما صحيحة حسنة ورجح الزمخشري ملك لأنها قراءة أهل الحرمين ولقوله " لمن الملك
اليوم * قوله الحق وله الملك " وحكي عن أبي حنيفة أنه قرأ " ملك يوم الدين " على أنه فعل وفاعل ومفعول وهذا شاذ
غريب جدا وقد روى أبو بكر بن أبي داود في ذلك شيئا غريبا حيث قال حدثنا أبو عبد الرحمن الأزدي حدثنا
عبد الوهاب بن عدي بن الفضل عن أبي المطرف عن ابن شهاب أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان
ومعاوية وابنه يزيد بن معاوية كانوا يقرؤن " مالك يوم الدين " قال ابن شهاب وأول من أحدث " ملك " مروان
" قلت " مروان عنده علم بصحة ما قرأه لم يطلع عليه ابن شهاب والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أوردها ابن
مردويه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها " مالك يوم الدين " ومالك مأخوذ من الملك كما قال تعالى: " إنا نحن نرث
الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون " وقال: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس " وملك مأخوذ من الملك كما قال
تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " وقال: " قوله الحق وله الملك " وقال: " الملك يومئذ الحق
للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الاخبار بأنه
رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئا ولا يتكلم أحد
إلا بإذنه كما قال تعالى: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " وقال
تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " وقال تعالى: " يوم يأتي لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم
26

شقي وسعيد " وقال الضحاك عن ابن عباس " مالك يوم الدين " يقول لا يملك أحد معه في ذلك اليوم حكما
كملكهم في الدنيا قال ويوم الدين يوم الحساب للخلائق وهو يوم القيامة يدينهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر
إلا من عفا عنه وكذلك قال غيره من الصحابة والتابعين والسلف وهو ظاهر وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه ذهب إلى
تفسير " مالك يوم الدين " أنه القادر على إقامته ثم شرع يضعفه والظاهر أنه لا منافاة بين هذا القول وما تقدم وأن كلا من
القائلين هذا القول وبما قبله يعترف بصحة القول الآخر ولا ينكره ولكن السياق أدل على المعنى الأول من هذا كما
قال تعالى: " الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " والقول الثاني يشبه قوله تعالى: " ويوم
يقول كن فيكون " والله أعلم. والملك في الحقيقة هو الله عز وجل قال الله تعالى " هو الله الذي لا إله
إلا هو الملك القدوس السلام " وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " أخنع اسم عند الله رجل تسمى
بملك الاملاك ولا مالك إلا الله " وفيهما عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم
يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " وفي القرآن العظيم " لمن الملك اليوم لله
الواحد القهار " فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال تعالى: " إن الله قد بعث لكم طالوت
ملكا " " وكان وراءهم ملك " " إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا " وفي الصحيحين " مثل الملوك على الأسرة ".
والدين الجزاء والحساب كما قال تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " وقال: " أئنا لمدينون " أي مجزيون
محاسبون وفي الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أي حاسب نفسه لنفسه كما قال عمر رضي الله
عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا وتأهبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم " يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ".
إياك نعبد وإياك نستعين (5)
قرأ السبعة والجمهور بتشديد الياء من " إياك " وقرأ عمرو بن فايد بتخفيفها مع الكسر وهي قراءة شاذة مردودة لان
إيا ضوء الشمس وقرأ بعضهم " إياك " بفتح الهمزة وتشديد الياء وقرأ بعضهم هياك بالهاء بدل الهمزة كما قال
الشاعر:
فهياك والامر الذي إن تراحبت * موارده ضاقت عليك مصادره
ونستعين بفتح النون أول الكلمة في قراءة الجميع سوى يحيى بن وثاب والأعمش فإنهما كسراها وهي لغة بني أسد
وربيعة وبني تميم، والعبادة في اللغة من الذل يقال طريق معبد وبعير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع
كمال المحبة والخضوع والخوف. وقدم المفعول وهو إياك وكرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا
عليك وهذا هو كمال الطاعة. والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين. وهذا كما قال بعض السلف الفاتحة سر القرآن
وسرها هذه الكلمة " إياك نعبد وإياك نستعين " فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى
الله عز وجل وهذا المعنى في غير آية من القرآن كما قال تعالى: " فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون "
" قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " وكذلك هذه الآية الكريمة
" إياك نعبد وإياك نستعين " وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة بكاف الخطاب وهو مناسبة لأنه لما أثنى على الله
فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " وفي هذا دليل على أن أول السورة
خبر من الله تعالى بالثناء على نفسه الكريمة بجميل صفاته الحسنى وإرشاد لعباده بأن يثنوا عليه بذلك ولهذا لا تصح
صلاة من لم يقل ذلك وهو قادر عليه كما جاء في الصحيحين عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". وفي صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه عن
أبي هريره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي
27

ولعبدي ما سأل، إذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " قال الله حمدني عبدي، وإذا قال " الرحمن الرحيم " قال الله
أثنى علي عبدي، فإذا قال: " مالك يوم الدين " قال الله مجدني عبدي، وإذا قال " إياك نعبد وإياك نستعين " قال
هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال " إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين " قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما
" إياك نعبد " يعني إياك نوحد ونخاف ونرجوك يا ربنا لا غيرك " وإياك نستعين " على طاعتك وعلى أمورنا كلها وقال
قتادة " إياك نعبد وإياك نستعين " يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أموركم وإنما قدم " إياك نعبد " على
" وإياك نستعين " لان العبادة له هي المقصودة والاستعانة وسيلة إليها والاهتمام والحزم تقديم ما هو الأهم فالأهم والله
أعلم. فإن قيل: فما معنى النون في قوله تعالى " إياك نعبد وإياك نستعين " فإن كانت للجمع فالداعي واحد وإن
كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب بأن المراد من ذلك الاخبار عن جنس العباد والمصلي فرد منهم ولا
سيما إن كان في جماعة أو إمامهم فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خلقوا لأجلها وتوسط لهم بخير
ومنهم من قال يجوز أن تكون للتعظيم كأن العبد قيل له إذا كنت داخل العبادة فأنت شريف وجاهك عريض فقل
" إياك نعبد وإياك نستعين " وإن كنت خارج العبادة فلا تقل نحن ولا فعلنا ولو كنت في مائة ألف أو ألف ألف لاحتياج
الجميع إلى الله عز وجل وفقرهم إليه. ومنهم من قال إياك نعبد ألطف في التواضع من إياك عبدنا لما في الثاني من
تعظيم نفسه من جعله نفسه وحده أهلا لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ولا يثني عليه كما
يليق به والعبادة مقام عظيم يشرف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم:
لا تدعني إلا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
وقد سمى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال: " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب " " وأنه لما قام
عبد الله يدعوه " " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " فسماه عبدا عند إنزاله عليه وعند قيامه في الدعوة وإسرائه به
وأرشده إلى القيام بالعبادة في أوقات يضيق صدره من تكذيب المخالفين حيث يقول " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك
بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين * وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وقد حكى الرازي في تفسيره عن
بعضهم أن مقام العبودية أشرف من مقام الرسالة لكون العبادة تصدر من الخلق إلى الحق والرسالة من الحق إلى
الخلق، قال ولان الله يتولى مصالح عبده والرسول يتولى مصالح أمته، وهذا القول خطأ والتوجيه أيضا ضعيف لا
حاصل له ولم يتعرض له الرازي بتضعيف ولا رد. وقال بعض الصوفية العبادة إما لتحصيل ثواب أو درء عقاب قالوا
وهذا ليس بطائل إذ مقصوده تحصيل مقصوده، وإما للتشريف بتكاليف الله تعالى وهذا أيضا عندهم ضعيف بل العالي
أن يعبد الله لذاته المقدسة الموصوفة بالكمال قالوا ولهذا يقول المصلي: أصلي لله ولو كان لتحصيل الثواب ودرء
العقاب لبطلت الصلاة وقد رد ذلك عليهم آخرون وقالوا: كون العبادة لله عز وجل لا ينافي أن يطلب معها ثوابا ولا أن
يدفع عذابا كما قال ذلك الاعرابي: أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ إنما أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " حولها ندندن ".
اهدنا الصراط المستقيم (6)
قراءة الجمهور بالصاد وقرئ السراط وقرئ بالزاي قال الفراء وهي لغة بني عذرة وبني كلب. لما تقدم الثناء علي
المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال كما قال " فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل " وهذا أكمل
أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: " اهدنا الصراط المستقيم " لأنه
أنجح للحاجة وأنجع للإجابة ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل وقد يكون السؤال بالاخبار عن حال السائل واحتياجه
كما قال موسى عليه السلام " رب إني لما أنزلت إلى من خير فقير " وقد يتقدمه مع ذلك وصف مسؤول كقول ذي
28

النون " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين " وقد يكون بمجرد الثناء على المسؤول كقول الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني * حباؤك إن شيمتك الحباء
إذا أثني عليك المرء يوما * كفاه من تعرضه الثناء
والهداية ههنا الارشاد والتوفيق وقد تعدى الهداية بنفسها كما هنا " اهدنا الصراط المستقيم " فتضمن معنى ألهمنا أو
وفقنا أو ارزقنا أو أعطنا " وهديناه النجدين " أي بينا له الخير والشر وقد تعدى بإلى كقوله تعالى: " اجتباه وهداه إلى
صراط مستقيم " " فاهدوهم إلى صراط الجحيم " وذلك بمعنى الارشاد والدلالة وكذلك قوله: " وإنك لتهدي إلى
صراط مستقيم " وقد تعدى باللام كقول أهل الجنة " الحمد لله الذي هدانا لهذا " أي وفقنا لهذا وجعلنا له أهلا.
وأما الصراط المستقيم فقال الإمام أبو جعفر بن جرير أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم
هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وذلك في لغة جميع العرب فمن ذلك قول جرير بن عطية الخطفي:
أمير المؤمنين على صراط * إذا أعوج الموارد مستقيم
قال والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصر قال ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله في كل قول وعمل ووصف
باستقامة أو اعوجاج فتصف المستقيم بإستقامته والمعوج بإعوجاجه.
ثم اختلفت عبارات المفسرين من السلف والخلف في تفسير الصراط، وإن كان يرجع حاصلها إلى شئ واحد وهو
المتابعة لله وللرسول فروي أنه كتاب الله قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثني يحيى بن يمان عن حمزة
الزيات عن سعيد وهو ابن المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصراط المستقيم كتاب الله " وكذلك رواه ابن جرير من حديث حمزة ابن
حبيب الزيات وقد تقدم في فضائل القرآن فيما رواه أحمد والترمذي من رواية الحارث الأعور عن علي مرفوعا " وهو
حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم " وقد روي موقوفا على علي رضي الله عنه وهو أشبه والله
أعلم وقال الثوري عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال الصراط المستقيم كتاب الله. وقيل هو الاسلام قال
الضحاك عن ابن عباس قال: قال جبريل لمحمد عليهما السلام " قل يا محمد اهدنا الصراط المستقيم " يقول ألهمنا
الطريق الهادي وهو دين الله الذي لا اعوجاج فيه وقال ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله تعالى: " اهدنا
الصراط المستقيم " قال ذاك الاسلام وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عن أبي مالك وعن أبي صالح عن
ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي " اهدنا الصراط المستقيم " قالوا هو
الاسلام وقال عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر اهدنا الصراط المستقيم قال هو الاسلام أوسع مما بين السماء
والأرض. وقال ابن الحنفية في قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم "، قال هو دين الله الذي لا يقبل من العباد
غيره وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم اهدنا الصراط المستقيم قال هو الاسلام وفي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد
في مسنده حيث قال حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن
عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ضرب الله مثلا صراطا
مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا
أيها الناس أدخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الانسان أن يفتح شيئا من تلك
الأبواب قال ويحك لا تفتحه - فإنك إن تفتحه تلجه - فالصراط الاسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم
الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ".
وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث الليث بن سعد به. ورواه الترمذي والنسائي جميعا عن علي بن
حجر عن بقية عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان به. وهو إسناد حسن
29

صحيح والله أعلم. وقال مجاهد " اهدنا الصراط المستقيم "، قال الحق وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم وروى
ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم أنا حمزة بن المغيرة عن عاصم الأحول عن أبي
العالية " اهدنا الصراط المستقيم " قال هو النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده قال عاصم فذكرنا ذلك للحسن فقال صدق أبو
العالية ونصح. وكل هذه الأقوال صحيحة وهي متلازمة فإن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم واقتدى باللذين من بعده أبي بكر وعمر
فقد اتبع الحق ومن اتبع الحق فقد اتبع الاسلام ومن اتبع الاسلام فقد اتبع القرآن وهو كتاب الله وحبله المتين
وصراطه المستقيم فكلها صحيحة يصدق بعضها بعضا ولله الحمد وقال الطبراني حدثنا محمد بن الفضل السقطي
حدثنا إبراهيم بن مهدي المصيصي حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال
الصراط المستقيم الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله والذي هو أولى
بتأويل هذه الآية عندي أعني " اهدنا الصراط المستقيم " - أن يكون معنيا به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من
أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل وذلك هو الصراط المستقيم لان من وفق لما وفق له من أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للاسلام وتصديق الرسل والتمسك بالكتاب والعمل بما أمره الله به
والانزجار عما زجره عنه واتباع منهاج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح وكل ذلك من الصراط
المستقيم.
" فإن قيل " فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وغيرها وهو متصف بذلك؟ فهل هذا من باب تحصيل
الحاصل أم لا؟
فالجواب أن لا، ولولا احتياجه ليلا ونهارا إلى سؤال الهداية لما أرشده الله تعالى إلى ذلك فإن العبد مفتقر في كل
ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها وتبصره وازدياده منها واستمراره عليها فإن العبد لا يملك
لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونة والثبات والتوفيق فالسعيد
من وفقه الله تعالى لسؤاله فإنه تعالى قد تكفل بإجابة الداعي إذا دعاه ولا سيما المضطر المحتاج المفتقر إليه آناء الليل
وأطراف النهار وقد قال تعالى: " يا أيها آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي
أنزل من قبل " الآية فقد أمر الذين آمنوا بالايمان وليس ذلك من باب تحصيل الحاصل لان المراد الثبات والاستمرار
والمداومة على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم. وقال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يقولوا " ربنا لا تزغ قلوبنا
بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " وقد كان الصديق رضي الله عنه يقرأ بهذه الآية في الركعة
الثالثة من صلاة المغرب بعد الفاتحة سرا فمعنى قوله تعالى: " اهدنا الصراط المستقيم " استمر بنا عليه ولا تعدل بنا
إلى غيره.
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (7)
قد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد " اهدنا الصراط المستقيم " إلى آخرها أن الله يقول " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل "
وقوله تعالى: " صراط الذين أنعمت عليهم " مفسر للصراط المستقيم وهو بدل منه عند النحاة ويجوز أن يكون
عطف بيان والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال تعالى: " ومن يطع الله
والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك
الفضل من الله وكفى بالله عليما " وقال الضحاك عن ابن عباس " صراط الذين أنعمت عليهم " بطاعتك وعبادتك من
ملائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين وذلك نظير ما قال ربنا تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك
مع الذين أنعم الله عليهم " الآية. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس " صراط الذين أنعمت عليهم " قال هم
30

النبيون. وقال ابن جريح عن ابن عباس هم المؤمنون وكذا قال مجاهد، وقال وكيع هم المسلمون وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل
والله أعلم.
وقوله تعالى: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قرأ الجمهور غير بالجر على النعت قال الزمخشري وقرئ
بالنصب على الحال وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعمر بن الخطاب ورويت عن ابن كثير وذو الحال
الضمير في عليهم والعامل أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله
وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه
ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا ليدل
على أن ثم مسلكين قاصدين وهما طريقة اليهود والنصارى وقد زعم بعض النحاة أن غير ههنا استثنائية فيكون على
هذا منقطعا لاستثنائهم من المنعم عليهم وليسوا منهم وما أوردناه أولى لقول الشاعر:
كأنك من جمال بني أقيش * يقعقع عند رجليه بشن
أي كأنك جمل من جمال بني أقيش فحذف الموصوف واكتفى بالصفة وهكذا غير المغضوب عليهم أي غير صراط
المغضوب عليهم اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف وقد دل عليه سياق الكلام وهو قوله تعالى " اهدنا الصراط
المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " ثم قال تعالى " غير المغضوب عليهم " ومنهم من زعم أن لا في قوله تعالى
" ولا الضالين " زائدة وأن تقدير الكلام عنده غير المغضوب عليهم والضالين واستشهد ببيت معجاج.
في بئر لا حور * السعي وما شعر
أي في بئر حور والصحيح ما قدمناه ولهذا روى أبو عبد القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن
الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم وغير الضالين
وهذا إسناد صحيح وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه
التفسير. فيدل على ما قلناه من أنه إنما جئ لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم والفرق
بين الطريقتين ليجتنب كل واحد منهما فإن طريقة أهل الايمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به واليهود فقدوا
العمل والنصارى فقدوا العلم ولهذا كان الغضب لليهود والضلال للنصارى لان من علم وترك استحق الغضب بخلاف
من لم يعلم والنصارى لما كانوا قاصدين شيئا لكنهم لا يهتدون إلى طريقة لأنهم لم يأتوا الامر من بابه وهو اتباع الحق
وضلوا وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه لكن أخص أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم " من
لعنه الله وغضب عليه " وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم " قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا
عن سواء السبيل " وبهذا جاءت الأحاديث والآثار وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا
شعبة قال سمعت سماك بن حرب يقول سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم قال جاءت خيل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناسا فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له فقالت يا رسول الله: نأى الوافد وانقطع
الولد وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة فمن علي من الله عليك قال " من وافدك؟ " قالت عدي بن حاتم قال " الذي
فر من الله ورسوله " قالت فمن علي فلما رجع ورجل إلى جنبه ترى أنه علي قال سليه حملانا فسألته فأمر لها قال
فأتتني فقالت لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها فإنه أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه فأتيته فإذا عنده امرأة
وصبيان وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر فقال " يا عدي ما أفرك؟ أن يقال لا إله
إلا الله؟ فهل من إله إلا الله ما أفرك أن يقال الله أكبر؟ فهل شئ أكبر من الله عز وجل "؟ قال فأسلمت فرأيت وجهه
استبشر وقال " إن المغضوب عليهم اليهود وإن الضالين النصارى " وذكر الحديث ورواه الترمذي من حديث سماك بن
حرب وقال حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. " قلت " وقد رواه حماد بن سلمة عن سماك عن مري بن قطري عن
31

عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى " غير المغضوب عليهم " قال " هم اليهود " " ولا
الضالين " قال: " النصارى هم الضالون " وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن
عدي بن حاتم به، وقد روي حديث عدي هذا من طرق وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها وقال عبد الرزاق أنا معمر عن
بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه وسأله رجل من
بنى القين فقال يا رسول الله من هؤلاء قال " المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى " وقد رواه
الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق فأرسلوه ولم يذكروا من سمع النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية عروة
تسمية عبد الله بن عمرو فالله أعلم وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن
عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال " اليهود " قلت الضالين قال " النصارى "
وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم غير المغضوب عليهم هم اليهود ولا الضالين هم النصارى وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس غير
المغضوب عليهم " اليهود " ولا الضالين " النصارى وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد
وقال ابن أبي حاتم ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافا وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم
والنصارى ضالون الحديث المتقدم وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة " بئس ما اشتروا به
أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين
عذاب مهين " وقال في المائدة " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم
القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل " وقال تعالى " لعن الذين كفروا من بني
إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا
يفعلون " وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين
الحنيف قالت له اليهود إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله فقال أنا من غضب الله أفر
وقالت له النصارى إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله فقال لا أستطيعه فاستمر على
فطرته وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى وأما أصحابه فتنصروا ودخلوا
في دين النصرانية لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه لما بعثه آمن
بما وجد من الوحي رضي الله عنه.
" مسألة " والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الاخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما وذلك أن الضاد
مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ولان كلا من
الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان
الآخر لمن لا يميز ذلك والله أعلم وأما حديث " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له والله أعلم.
" فصل " اشتملت هذه السورة الكريمة وهي سبع آيات على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى
المستلزمة لصفاته العليا وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرئ من
حولهم وقوتهم وإلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل
وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز
الصراط الحسية يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،
واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا
مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون وما أحسن ما جاء إسناد الانعام إليه في قوله تعالى " صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم " وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى " غير المغضوب عليهم " وإن
32

كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة كما قال تعالى " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم " الآية. وكذلك
إسناد الضلال إلى من قام به وإن كان هو الذي أضلهم بقدره كما قال تعالى " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن
تجد له وليا مرشدا " وقال " من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " إلى غير ذلك من الآيات الدالة
على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والاضلال لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين
يختارون ذلك ويفعلونه ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن ويتركون ما يكون فيه صريحا في الرد عليهم.
وهذا حال أهل الضلال والغي وقد ورد في الحديث الصحيح. " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين
سمى الله فاحذروهم " يعني في قوله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء
تأويله " فليس بحمد الله لمبتدع في القرآن حجة صحيحة لان القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل مفرقا بين الهدى
والضلال وليس فيه تناقض ولا اختلاف لأنه من عند الله تنزيل من حكيم حميد.
" فصل " يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها آمين مثل يس ويقال أمين بالقصر أيضا ومعناه اللهم استجب
والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ
" غير المغضوب عليهم ولا الضالين " فقال " آمين " مد بها صوته، ولأبي داود رفع بها صوته، وقال الترمذي هذا
حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا " غير
المغضوب عليهم ولا الضالين " قال " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجة وزاد
فيه: فيرتج بها المسجد. والدارقطني وقال: هذا إسناد حسن. وعن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين،
رواه أبو داود ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل " آمين البيت
الحرام " قال أصحابنا وغيرهم ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفردا أو
إماما أو مأموما وفي جميع الأحوال لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
أمن الامام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا قال
أحدكم في الصلاة آمين والملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه " قيل بمعنى من
وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان وقيل في الإجابة وقيل في صفة الاخلاص. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى
مرفوعا " إذا قال - يعني الامام - ولا الضالين فقولوا آمين يجبكم الله " وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس قال:
قلت يا رسول الله ما معنى آمين؟ قال " رب افعل " وقال الجوهري معنى آمين كذلك فليكن. وقال الترمذي معناه لا
تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون معناه اللهم استجب لنا. وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف
أن آمين اسم من أسماء الله تعالى. وروي عن ابن عباس مرفوعا ولا يصح قاله أبو بكر بن العربي المالكي. وقال
أصحاب مالك لا يؤمن الامام ويؤمن المأموم لما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " وإذا قال - يعني الامام - ولا الضالين فقولوا آمين " الحديث واستأنسوا أيضا بحديث أبي موسى عند مسلم " وإذا
قرأ ولا الضالين فقولوا آمين " وقد قدمنا في المتفق عليه " إذا أمن الامام فأمنوا " وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن
إذا قرأ " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية وحاصل
الخلاف أن الامام إن نسي التأمين جهر المأموم به قولا واحدا وإن أمن الامام جهرا فالجديد أنه لا يجهر المأموم وهو
مذهب أبي حنيفة ورواية عن مالك لأنه ذكر من الأذكار فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة. والقديم أنه يجهر به وهو
مذهب الإمام أحمد بن حنبل والرواية الأخرى عن مالك لما تقدم " حتى يرتج المسجد " ولنا قول آخر ثالث أنه إن
كان المسجد صغيرا لم يجهر المأموم لأنهم يسمعون قراءة الإمام وإن كان كبيرا جهر ليبلغ التأمين من في أرجاء
المسجد والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود
فقال " إنهم لن يحسدونا على شئ كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا
33

الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الامام آمين " ورواه ابن ماجة ولفظه " ما حسدتكم اليهود على شئ ما حسدتكم
على قول آمين فأكثروا من قول آمين " وفي إسناده طلحة بن عمرو وهو ضعيف وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " أعطيت آمين في الصلاة وعند الدعاء لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو وهارون
يؤمن فاختموا الدعاء بآمين فإن الله يستجيبه لكم " " قلت " ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة وهي
قوله تعالى " وقال موسى ربنا آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس
على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم * قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان
سبيل الذين لا يعلمون " فذكر الدعاء عن موسى وحده ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمن فنزل منزلة من
دعا لقوله تعالى " قد أجيبت دعوتكما " فدل ذلك على أن من أمن على دعاء فكأنما قاله فلهذا قال من قال إن
المأموم لا يقرأ لان تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها ولهذا جاء في الحديث " من كان له إمام فقراءة الامام له
قراءة " رواه أحمد في مسنده وكان بلال يقول لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا
قراءة عليه في الجهرية والله أعلم ولهذا قال ابن مردويه حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام
حدثنا إسحاق بن حدثنا جرير عن ليث عن ابن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال
الامام " غير المغضوب عليهم ولا الضالين "، فقال آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء غفر الله للعبد ما
تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول آمين كمثل رجل غزا مع قوم فاقترعوا فخرجت سهامهم ولم يخرج سهمه فقال لم لم
يخرج سهمي؟ فقيل: إن لم تقل آمين ".
سورة البقرة
" ذكر ما ورد في فضلها " قال الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" البقرة سنام القرآن وذروته. نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " من تحت
العرش فوصلت بها أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له
واقرأوها على موتاكم " انفرد به أحمد وقد رواه أحمد أيضا عن عارم عن عبد الله بن المبارك عن سليمان التيمي عن
أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن أبيه عن معقل بن يسار قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرأوها على موتاكم " يعني يس
فقد تبينا بهذا الاسناد معرفة المبهم في الرواية الأولى. وقد أخرج هذا الحديث على هذه الصفة في الرواية الثانية
أبو داود والنسائي وابن ماجة، وقد روى الترمذي من حديث حكيم بن جبير وفيه ضعف عن أبي صالح عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل شئ سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي "
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم والترمذي والنسائي من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تجعلوا بيوتكم قبورا فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " وقال
الترمذي حسن صحيح، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام حدثني ابن أبي مريم عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب
عن سنان بن سعد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشيطان يخرج من البيت إذا سمع سورة البقرة
تقرأ فيه " سنان بن سعد ويقال بالعكس وثقه ابن معين واستنكر حديثه أحمد بن حنبل وغيره. وقال أبو عبيد حدثنا
محمد بن جعفر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن عبد الله - يعني ابن مسعود - رضي الله عنه قال إن
الشيطان يفر من البيت الذي يسمع فيه سورة البقرة، ورواه النسائي في اليوم والليلة وأخرجه الحاكم في مستدركه من
حديث شعبة ثم قال الحاكم. صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل حدثنا أبو
34

إسماعيل الترمذي حدثنا أيوب بن بلال حدثني أبو بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن محمد بن عجلان عن
أبي إسحق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ألفين أحدكم يضع إحدى رجليه على الأخرى يتغنى
ويدع البقرة يقرؤها فإن الشيطان ينفر من البيت تقرأ فيه سورة البقرة وإن أصفر البيوت الجوف الصفر من كتاب الله "
وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن نصر عن أيوب بن سليمان به. وروى الدارمي في مسنده عن ابن
مسعود قال ما من بيت تقرأ فيه سورة البقرة إلا خرج منه الشيطان وله ضراط وقال إن لكل شئ سناما وإن سنام القرآن
سورة البقرة وإن لكل شئ لبابا وإن لباب القرآن المفصل. وروى أيضا من طريق الشعبي قال: قال عبد الله بن
مسعود من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة، أربع من أولها وآية
الكرسي، وآيتان بعدها، وثلاث آيات من آخرها، وفي رواية لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان. ولا شئ يكرهه ولا
يقرأن على مجنون إلا أفاق. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لكل شئ سناما وإن سنام القرآن
البقرة وإن من قرأها في بيته ليلة لم يدخله الشيطان ثلاث ليال ومن قرأها في بيته نهارا لم يدخله شيطان ثلاثة أيام "
رواه أبو القاسم الطبراني وأبو حاتم وابن حبان في صحيحه وابن مردويه من حديث الأزرق بن علي حدثنا حسان بن
إبراهيم حدثنا خالد بن سعيد المدني عن أبي حازم عن سهل به. وعند ابن حبان خالد بن سعيد المديني. وقد روى
الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وهم ذوو عدد فاستقرأهم فاستقرأ كل واحد منهم ما معه من
القرآن، فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال: ما معك يا فلان؟ فقال: معي كذا وكذا وسورة البقرة. فقال:
أمعك سورة البقرة؟ قال نعم قال: اذهب فأنت أميرهم " فقال رجل من أشرافهم والله ما منعني أن أتعلم سورة
البقرة إلا أني خشيت أن لا أقوم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعلموا القرآن واقرأوه فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأ وقام
به كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على
مسك " هذا لفظ رواية الترمذي ثم قال هذا حديث حسن، ثم رواه من حديث الليث عن سعيد عن عطاء مولى أبي
أحمد مرسلا فالله أعلم. قال البخاري وقال الليث حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن حضير
رضي الله عنه قال بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة - وفرسه مربوطة عنده - إذ جالت الفرس، فسكت فسكنت،
فقرأ فجالت الفرس، فسكت فسكنت ثم قرأ فجالت الفرس، فانصرف، وكان ابنه يحيى قريبا منها - فأشفق أن
تصيبه فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى ما يراها، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال " اقرأ يا ابن حضير " قال
قد أشفقت يا رسول الله على يحيى وكان منها قريبا فرفعت رأسي وانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة
فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال " وتدري ما ذاك؟ " قال لا قال " تلك الملائكة دنت لصوتك ولو
قرأت لا صبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم " وهكذا رواه الامام العالم أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب
فضائل القرآن عن عبد الله بن صالح ويحيى بن بكير عن الليث به. وقد روى من وجه آخر عن أسيد بن حضير كما
تقدم والله أعلم. وقد وقع نحو من هذا لثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه وذلك فيما رواه أبو عبيد حدثنا
عباد بن عباد عن جرير بن حازم عن عمه جرير بن يزيد أن أشياخ أهل المدينة حدثوه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له ألم تر
ثابت بن قيس بن شماس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح قال " فلعله قرأ سورة البقرة " قال فسألت ثابتا فقال قرأت
سورة البقرة، وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل والله أعلم.
(ذكر ما ورد في فضلها مع آل عمران)
قال الإمام أحمد حدثنا أبو نعيم حدثنا بشر بن مهاجر حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنت جالسا عند
النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول " تعلموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة " قال، ثم سكت
35

ساعة ثم قال " تعلموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان
أو فرقان من طير صواف وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له هل
تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر وأسهرت ليلك وإن كل تاجر من
وراء تجارته وإنك اليوم من وراء كل تجارة فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله ويوضع على رأسه تاج الوقار ويكسى
والداه حلتان لا يقوم لهما أهل الدنيا فيقولان بما كسينا هذا فيقال بأخذ ولدكما القرآن ثم يقال اقرأ واصعد في درج
الجنة وغرفها فهو في صعود ما دام يقرأ هذا كان أو ترتيلا " وروى ابن ماجة من حديث بشر بن المهاجر بعضه وهذا
إسناد حسن على شرط مسلم فإن بشرا هذا خرج له مسلم ووثقه ابن معين وقال النسائي ما به بأس إلا أن الإمام أحمد
قال فيه هو منكر الحديث قد اعتبرت أحاديثه فإذا هي تأتي بالعجب، وقال البخاري يخالف في بعض حديثه، وقال
أبو حاتم الرازي يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن عدي روى ما لا يتابع عليه، وقال الدارقطني ليس بالقوي
" قلت " ولكن لبعضه شواهد فمن ذلك حديث أبي أمامة الباهلي قال الإمام أحمد حدثنا عبد الملك بن عمر حدثنا
هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام عن أبي أمامة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اقرؤوا القرآن فإنه
شافع لأهله يوم القيامة اقرءوا الزهراوان البقرة وآل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو
كأنهما فرقان طير صواف يحاجان عن أهلهما يوم القيامة ثم قال اقرؤا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا
تستطيعها البطلة " وقد رواه مسلم في الصلاة من حديث معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام
ممطور الحبشي عن أبي أمامة صدى بن عجلان الباهلي به. الزهر أوان: المنيرتان والغياية: ما أظلك من
فوقك، والفرق: القطعة من الشئ، والصواف المصطفة المتضامة، والبطلة السحرة، ومعنى لا تستطيعها أي لا
يمكنهم حفظها وقيل لا تستطيع النفوذ في قارئها والله أعلم. ومن ذلك حديث النواس بن سمعان قال الإمام أحمد
حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي عن جبير بن
نفير قال: سمعت النواس بن سمعان الكلابي يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله
الذين كانوا يعملون به تقدمهم سورة البقرة وآل عمران " وضرب لهما رسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال
" كأنهما غمامتان أو ظلتان سود أوان بينهما شرق أو كأنهما فرقان من طير صواف يحاجان عن صاحبهما " ورواه مسلم
عن إسحاق بن منصور عن يزيد بن عبد ربه به، والترمذي من حديث الوليد بن عبد الرحمن الجرشي به، وقال حسن
غريب، وقال أبو عبيد، حدثنا حجاج عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير قال: قال حماد أحسبه عن أبي
منيب عن عمه أن رجلا قرأ البقرة وآل عمران فلما قضى صلاته قال له كعب: أقرأت البقرة وآل عمران؟ قال،
نعم، قال: فوالذي نفسي بيده إن فيهما اسم الله الذي إذا دعى به استجاب. قال فأخبرني به، قال لا والله لا
أخبرك به ولو أخبرتك به لا وشكت أن تدعوه بدعوة أهلك فيها أنا وأنت، وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن
صالح عن سليم بن عامر أنه سمع أبا أمامة يقول إن أخا لكم أرى في المنام أن الناس يسلكون في صدع جبل وعر
طويل وعلى رأس الجبل شجرتان خضراوان يهتفان هل فيكم قارئ يقرأ سورة البقرة؟ وهل فيكم قارئ يقرأ سورة
آل عمران؟ قال فإذا قال الرجل نعم دنتا منه بأعذاقهما حتى يتعلق بهما فيخطران به الجبل: وحدثنا عبد الله بن
صالح عن معاوية بن صالح عن أبي عمران أنه سمع أم الدرداء تقول إن رجلا ممن قرأ القرآن أغار على جار له فقتله
وإنه أقيد به فقتل فما زال القرآن ينسل منه سورة سورة حتى بقيت البقرة وآل عمران جمعة ثم إن آل عمران انسلت منه
وأقامت البقرة جمعة فقيل لها " ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد " قال فخرجت كأنها السحابة العظيمة، قال
أبو عبيد أراه يعني أنهما كانتا معه في قبره يدفعان عنه ويؤنسانه فكانتا من آخر ما بقي معه من القرآن. وقال أيضا
حدثنا أبو مسهر الغساني عن سعيد بن عبد العزيز التنوخي أن يزيد بن الأسود الجرشي كان يحدث أنه من قرأ البقرة
وآل عمران في يوم برئ من النفاق حتى يمسي ومن قرأهما من ليلة برئ من النفاق حتى يصبح قال فكان يقرؤهما
كل يوم وليلة سوى جزئه. وحدثنا يزيد عن ورقاء بن إياس عن سعيد بن جبير قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله
36

عنه من قرأ البقرة وآل عمران في ليلة كان - أو كتب - من القانتين. فيه انقطاع ولكن ثبت في الصحيحين أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قرأ بهما في ركعة واحدة.
(ذكر ما ورد في فضل السبع الطول)
قال أبو عبيد حدثنا هشام بن إسماعيل الدمشقي عن أحمد بن شعيب عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي المليح عن
واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت السبع الطول مكان التوراة وأعطيت المئين مكان الإنجيل وأعطيت
المثاني مكان الزبور وفضلت بالمفصل " هذا حديث غريب وسعيد بن أبي بشير فيه لين وقد رواه أبو عبيد عن
عبد الله بن صالح عن الليث عن سعيد بن أبي هلال قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكره والله أعلم، ثم قال حدثنا
إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن حبيب بن هند الأسلمي عن عروة
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ السبع فهو حبر " وهذا أيضا غريب وحبيب بن هند بن أسماء بن
هند بن حارثة الأسلمي وروى عنه عمرو بن عمرو وعبد الله بن أبي بكرة وذكره أبو حاتم الرازي ولم يذكر فيه جرحا
فالله أعلم. وقد رواه الإمام أحمد عن سليمان بن داود وحسين كلاهما عن إسماعيل بن جعفر به، ورواه أيضا عن
أبي سعيد عن سليمان بن بلال عن حبيب بن هند عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أخذ السبع الأول من القرآن
فهو حبر " قال أحمد: وحدثنا حسين حدثنا ابن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال
عبد الله بن أحمد وهذا أرى فيه عن أبيه عن الأعرج ولكن كذا كان في الكتاب فلا أدري أغفله أبي أو كذا هو مرسل
وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وهم ذوو عدد وقدم عليهم أحدثهم سنا لحفظه سورة البقرة
وقال له " اذهب فأنت أميرهم " وصححه الترمذي ثم قال أبو عبيد: حدثنا هشيم أنا أبو بشر عن سعيد بن جبير في
قوله تعالى " ولقد آتيناك سبعا من المثاني " قال هي السبع الطول البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانعام
والأعراف ويونس قال، وقال مجاهد هي السبع الطول وهكذا قال مكحول وعطية بن قيس وأبو محمد الفارسي
وشداد بن أوس ويحيى بن الحارث الذماري في تفسير الآية بذلك وفي تعدادها وإن يونس هي السابعة.
" فصل " والبقرة جميعها مدنية بلا خلاف وهي من أوائل ما نزل بها لكن قوله تعالى فيه " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله " الآية يقال إنها آخر ما نزل من القرآن ويحتمل أن تكون منها وكذلك آيات الربا من آخر ما نزل وكان خالد بن
معدان يسمى البقرة فسطاط القرآن، قال بعض العلماء وهي مشتملة على ألف خبر وألف أمر وألف نهي، وقال
العادون آياتها مائتان وثمانون وسبع آيات وكلماتها ستة آلاف كلمة ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وحروفها خمسة
وعشرون ألفا وخمسمائة حرف فالله أعلم. قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال
خصيف عن مجاهد عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة البقرة، وقال الواقدي حدثني الضحاك بن
عثمان عن أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه قال نزلت البقرة بالمدينة وهكذا قال غير واحد من الأئمة
والعلماء والمفسرين ولا خلاف فيه. وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن معمر حدثنا الحسن بن علي بن الوليد الفارسي
حدثنا خلف بن هشام وحدثنا عيسى بن ميمون عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة
والتي يذكر فيها آل عمران وكذا القرآن كله " هذا حديث غريب لا يصح رفعه وعيسى بن ميمون هذا هو أبو سلمة
الخواص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي
فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة أخرجاه، وروى ابن مردويه من
حديث شعبة عن عقيل بن طلحة عن عتبة بن مرثد قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه تأخرا فقال " يا أصحاب سورة
البقرة " وأظن هذا كان يوم حنين يوم ولوا مدبرين أمر العباس فناداهم " يا أصحاب الشجرة " يعني أهل بيعة الرضوان
37

وفي رواية " يا أصحاب سورة البقرة " لينشطهم بذلك فجعلوا يقبلون من كل وجه وكذلك يوم اليمامة مع أصحاب
مسيلمة جعل الصحابة يفرون لكثافة جيش بني حنيفة فجعل المهاجرون والأنصار يتنادون يا أصحاب سورة البقرة
حتى فتح الله عليهم رضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم * آلم * (1)
قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها
إلى الله ولم يفسرها حكاه القرطبي في تفسيره عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم
أجمعين، وقاله عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره أبو حاتم بن حبان. ومنهم من فسرها واختلف
هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما هي أسماء السور. قال العلامة أبو القاسم محمود بن عمر
الزمخشري في تفسيره وعليه إطباق الأكثر ونقل عن سيبويه أنه نص عليه ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة " ألم " السجدة و " هل أتى على الانسان "، وقال سفيان
الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: ألم، وحم، والمص، وص. فواتح افتتح الله بها القرآن، وكذا
قال غيره عن مجاهد وقال مجاهد في رواية أبي حذيفة موسى بن مسعود عن شبل عن ابن أبي نجيح عنه أنه قال ألم
اسم من أسماء القرآن وهكذا، وقال قتادة وزيد بن أسلم ولعل هذا يرجع إلى معنى قول عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم أنه اسم من أسماء السور فإن كل سورة يطلق عليها اسم القرآن فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لان
المتبادر إلى فهم سامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم.
وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى، فقال عنها في فواتح السور من أسماء الله تعالى وكذلك قال سالم بن عبد الله
وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير وقال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال ألم اسم من أسماء الله
الأعظم. هكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شعبة ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال سألت
السدي عن حم وطس والم فقال، قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم، وقال ابن جرير وحدثنا محمد بن المثنى
حدثنا أبو النعمان حدثنا شعبة عن إسماعيل السدي عن مرة الهمذاني قال: قال عبد الله فذكر نحوه. وحكي مثله عن
علي وابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى وروى ابن أبي
حاتم وابن جرير من حديث ابن علية عن خالد الحذاء عن عكرمة أنه قال ألم قسم. وروينا أيضا من حديث
شريك بن عبد الله بن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس: ألم قال أنا الله أعلم، وكذا قال سعيد بن
جبير وقال السدي عن أبي مالك.
وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمذاني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألم قال أما ألم
فهي حروف استفتحت من حروف هجاء أسماء الله تعالى. قال وأبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية
في قوله تعالى ألم قال هذه الأحرف الثلاثة من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها ليس منها حرف إلا وهو
مفتاح اسم من أسمائه، وليس منها حرف إلا وهو من آلائه، وبلألائه، ليس منها حرف إلا وهو في مدة أقوام
وآجالهم. قال عيسى ابن مريم عليه السلام وعجب: فقال أعجب أنهم يظنون بأسمائه ويعيشون في رزقه فكيف
يكفرون به، فالألف مفتاح الله واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد فالألف آلاء الله واللام لطف الله
والميم مجد الله، والألف سنة واللام ثلاثون سنة والميم أربعون سنة.
هذا لفظ ابن أبي حاتم، ونحوه رواه ابن جرير ثم شرع يوجه كل واحد من هذه الأقوال ويوفق بينها وأنه لا منافاة بين
كل واحد منها وبين الآخر وأن الجمع ممكن فهي أسماء للسور ومن أسماء الله تعالى يفتتح بها السور فكل حرف منها
38

دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته كما افتتح سورا كثيرة بتحميده وتسبيحه وتعظيمه، قال ولا مانع من دلالة
الحرف منها على اسم من أسماء الله وعلى صفة من صفاته وعلى مدة وغير ذلك كما ذكره الربيع بن أنس عن أبي
العالية لان الكلمة الواحدة تطلق على معاني كثيرة كلفظة الأمة فإنها تطلق ويراد به الدين كقوله تعالى " إنا وجدنا
آباءنا على أمة " وتطلق ويراد بها الرجل المطيع لله كقوله تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من
المشركين " وتطلق ويراد بها الجماعة كقوله تعالى " وجد عليه أمة من الناس يسقون " وقوله تعالى " ولقد بعثنا في
كل أمة رسولا " وتطلق ويراد بها الحين من الدهر كقوله تعالى " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة " أي بعد حين
على أصح القولين قال فكذلك هذا.
هذا حاصل كلامه موجها، ولكن هذا ليس كما ذكره أبو العالية فإن أبا العالية زعم أن الحرف دل على هذا، وعلى
هذا وعلى هذا معا ولفظة الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطن على
معنى واحد دل عليه سياق الكلام فأما حمله على مجموع محامله إذا أمكن فمسألة مختلف فيها بين علماء الأصول
ليس هذا موضع البحث فيها والله أعلم. ثم إن لفظة الأمة تدل على كل من معانيها في سياق الكلام بدلالة الوضع
فأما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن أن يدل على اسم آخر من غير أن يكون أحدهما أولى من الآخر في التقدير
أو الاضمار بوضع ولا بغيره فهذا مما لا يفهم إلا بتوقيف، والمسألة مختلف فيها وليس فيها إجماع حتى يحكم به وما
أنشدوه من الشواهد على صحة إطلاق الحرف الواحد على بقية الكلمة فإن في السياق ما يدل على ما حذف بخلاف
هذا كما قال الشاعر:
قلنا قفي لنا فقالت قاف * لا تحسبي أنا نسينا الايجاف
تعني وقفت. وقال الآخر:
ما للظليم عال كيف لا * ينقد عنه جلده إذا
فقال ابن جرير كأنه أراد أن يقول إذا يفعل كذا وكذا فاكتفى بالياء من يفعل وقال الآخر:
بالخير خيرات وان شرا فان * ولا أريد الشر إلا أن
يقول وإن شرا فشرا ولا أريد الشر إلا أن تشاء فاكتفى بالفاء والتاء من الكلمتين عن بقيتهما ولكن هذا ظاهر من سياق
الكلام والله أعلم.
قال القرطبي وفي الحديث " من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة " الحديث قال سفيان هو أن يقول في اقتل " ا ق ".
وقال خصيف عن مجاهد أنه قال فواتح السور كلها " ق وص وحم وطسم والر " وغير ذلك هجاء موضوع وقال بعض
أهل العربية هي حروف من حروف المعجم استغنى بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تتمة
الثمانية والعشرين حرفا كما يقول القائل ابني يكتب في - ا ب ت ث - أي في حروف المعجم الثمانية والعشرين
فيستغني بذكر بعضها عن مجموعها، حكاه ابن جرير.
قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي - ال م ص ر ك ه ي ع ط
أأسجد ح ق ن - يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر. وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من
المتروك وبيان ذلك من صناعة التصريف. قال الزمخشري وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف
أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية
والمنخفضة، ومن حروف القلقلة. وقد سردها مفصلة ثم قال: فسبحان الذي دقت في كل شئ حكمته. وهذه
الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها وقد علمت أن معظم الشئ وجله ينزل منزلة كله ومن ههنا لخص بعضهم
39

في هذا المقام كلاما فقال: لا شك أن هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى، ومن قال من الجهلة
إن في القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطأ كبيرا فتعين أن لها معنى في نفس الامر فإن صح لنا فيها عن
المعصوم شئ قلنا به وإلا وقفنا حيث وقفنا وقلنا " آمنا به كل من عند ربنا " ولم يجمع العلماء فيها على شئ معين
وإنما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه وإلا فالوقف حتى يتبين هذا المقام.
المقام الآخر في الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور ما هي مع قطع النظر عن معانيها في
أنفسها، فقال بعضهم إنما ذكرت ليعرف بها أوائل السور حكاه ابن جرير وهذا ضعيف لان الفصل حاصل بدونها فيما
لم تذكر فيه وفيما ذكرت فيه البسملة تلاوة وكتابة وقال آخرون بل ابتدئ بها لتفتح لاستماعها أسماع المشركين إذ
تواصوا بالاعراض عن القرآن حتى إذا استمعوا له تلا عليهم المؤلف منه حكاه ابن جرير أيضا وهو ضعيف أيضا لأنه
لو كان كذلك لكان ذلك في جميع السور لا يكون في بعضها بل غالبها ليس كذلك ولو كان كذلك أيضا لا نبغي
الابتداء بها في أوائل الكلام معهم سواء كان افتتاح سورة أو غير ذلك ثم إن هذه السورة والتي تليها أعني البقرة
وآل عمران مدنيتان ليستا خطابا للمشركين فانتقض ما ذكروه بهذه الوجوه. وقال آخرون بل إنما ذكرت هذه الحروف
في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانا لاعجاز القرآن وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله هذا مع أنه مركب من هذه
الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها، وقد حكى هذا المذهب الرازي في تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين،
وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا، وقرره الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة
أبو العباس ابن تيمية وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي وحكاه لي عن ابن تيمية.
قال الزمخشري ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت كما كررت
قصص كثيرة، وكرر التحدي بالصريح في أماكن قال وجاء منها على حرف واحد كقوله - ص ن ق - وحرفين مثل
" حم " وثلاثة مثل " ألم " وأربعة مثل " المر " و " المص " وخمسة مثل " كهيعص - و - حمعسق " لان أساليب
كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك
" قلت " ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته وهذا معلوم
بالاستقراء وهو الواقع في تسع وعشرين سورة ولهذا يقول تعالى " ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه " " ألم * الله لا
إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه " " المص * كتاب أنزل إليك فلا يكن في
صدرك حرج منه " " الر * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم " " ألم * تنزيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " " حم * تنزيل من الرحمن الرحيم " " حم * عسق * كذلك يوحي إليك وإلى
الذين من قبلك الله العزيز الحكيم " وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله
أعلم.
وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث والفتن والملاحم فقد ادعى ما ليس
له، وطار في غير مطاره، وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك
به على صحته وهو ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي حدثني الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس
عن جابر بن عبد الله بن رباب قال مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة
" ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه " فأتى أخاه بن أخطب في رجال من اليهود فقال تعلمون والله لقد سمعت
محمدا يتلو فيما أنزل الله تعالى عليه " ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه " فقال أنت سمعته قال نعم قال فمشى
حي بن أخطب في أولئك النفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ألم يذكر أنك تتلوا فيما أنزل الله عليك
" ألم * ذلك الكتاب "؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بلى " فقالوا جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ فقال " نعم " قالوا لقد
بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي منهم ما مدة ملكه وما أجل أمته غيرك. فقام حي بن أخطب وأقبل على من
40

كان معه فقال لهم الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون فهذه إحدى وسبعون سنة أفتدخلون في دين نبي إنما
مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد هل مع هذا غيره فقال " نعم "
قال ما ذاك؟ قال " المص " قال هذا أثقل وأطول، الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فهذه
إحدى وثلاثون ومائة سنة. هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال " نعم " قال ما ذاك؟
قال " الر " قال هذا أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان فهذه إحدى وثلاثون
ومائتا سنة. فهل مع هذا يا محمد غيره؟ قال " نعم " قال ماذا قال " المر " قال هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام
ثلاثون والميم أربعون والراء مائتان فهذه إحدى وسبعون ومائتان ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري
أقليلا أعطيت أم كثيرا. ثم قال قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه حي بن أخطب ولمن معه من الأحبار ما يدريكم
لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى وسبعون وإحدى وثلاثون ومائة وإحدى وثلاثون ومائتان وإحدى وسبعون ومائتان
فذلك سبعمائة وأربع سنين؟ فقالوا لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم " هو الذي أنزل عليك
الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو
ممن لا يحتج بما انفرد به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرر فأطم وأعظم والله أعلم.
ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)
قال ابن جريج قال ابن عباس ذلك الكتاب أي هذا الكتاب وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي
ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم وابن جريج أن ذلك بمعنى هذا والعرب تعارض بين اسمي الإشارة فيستعملون كلا
منهما مكان الآخر وهذا معروف في كلامهم وقد حكاه البخاري عن معمر بن المثنى عن أبي عبيدة وقال الزمخشري
ذلك إشارة إلى " ألم " كما قال تعالى " لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " وقال تعالى " ذلكم حكم الله يحكم
بينكم " وقال " ذلكم الله وأمثال ذلك مما أشير به إلى ما تقدم ذكره والله أعلم. وقد ذهب بعض المفسرين فيما
حكاه القرطبي وغيره أن ذلك إشارة إلى القرآن الذي وعد الرسول صلى الله عليه وسلم بإنزاله عليه أو التوراة أو الإنجيل أو نحو ذلك
في أقوال عشرة. وقد ضعف هذا المذهب كثيرون والله أعلم.
والكتاب القرآن ومن قال: إن المراد بذلك الكتاب الإشارة إلى التوراة والإنجيل كما حكاه ابن جرير وغيره فقد أبعد
النجعة وأغرق في النزع وتكلف ما لا علم له به. والريب الشك قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ريب فيه " لا شك فيه وقال أبو
الدرداء وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك ونافع مولى ابن عمر وعطاء وأبو العالية والربيع بن أنس
ومقاتل بن حيان والسدي وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد - وقال ابن أبي حاتم لا أعلم في هذا خلافا، وقد يستعمل
الريب في التهمة قال جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتني * فقلت كلانا يا بثين مريب
واستعمل أيضا في الحاجة كما قال بعضهم:
قضينا من تهامة كل ريب * وخيبر ثم أجمعنا السيوفا
ومعنى الكلام هنا أن هذا الكتاب هو القرآن لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى في السجدة " ألم تنزيل
الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " وقال بعضهم هذا خبر ومعناه النهي أي لا ترتابوا فيه. ومن القراء من يقف
على قوله تعالى " لا ريب " ويبتدئ بقوله تعالى " فيه هدى للمتقين " والوقف على قوله تعالى " لا ريب فيه "
41

أولى للآية التي ذكرناها ولأنه يصير قوله تعالى " هدى " صفة للقرآن وذلك أبلغ من كون فيه هدى. وهدى يحتمل
من حيث العربية أن يكون مرفوعا على النعت ومنصوبا على الحال وخصت الهداية للمتقين كما قال " قل هو للذين
آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " " وننزل من
القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص
المؤمنين بالنفع بالقرآن لأنه هو في نفسه هدى ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى " يا أيها الناس قد جاءتكم
موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين " وقد قال السدى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن
ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " هدى للمتقين " يعني نورا
للمتقين وقال أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس قال هدى للمتقين قال هم المؤمنون الذين يتقون الشرك بي
ويعملون بطاعتي وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن
ابن عباس " للمتقين " قال الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق
بما جاء به وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قوله تعالى للمتقين قال: اتقوا ما حرم الله عليهم وأدوا
ما افترض عليهم، وقال أبو بكر بن عياش سألني الأعمش عن المتقين قال فأجبته فقال لي سل عنها الكلبي فسألته
فقال الذي يجتنبون كبائر الاثم قال فرجعت إلى الأعمش فقال يرى أنه كذلك ولم ينكره. وقال قتادة للمتقين هم
الذين نعتهم الله بقوله " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة " الآية والتي بعدها واختيار ابن جرير أن الآية تعم
ذلك كله وهو كما قال. وقد روى الترمذي وابن ماجة من رواية أبي عقيل عبد الله بن عقيل عن عبد الله بن يزيد عن
ربيعة بن يزيد وعطية بن قيس عن عطية السعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى
يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس " ثم قال الترمذي حسن غريب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن
عمران عن إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن مسلم عن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي
وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ فقال له شقيق بن سلمة يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن
جبل، قال بلى سمعته يقول يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من
الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت من المتقون، قال قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة
فيمرون إلى الجنة. ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الايمان وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا
الله عز وجل قال الله تعالى " إنك لا تهدي من أحببت " وقال " ليس عليك هداهم " وقال " من يضلل الله فلا
هادي له " وقال " من يهد الله فهو المهتد * ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا " إلى غير ذلك من الآيات ويطلق
ويراد به بيان الحق وتوضيحه والدلالة عليه والارشاد إليه. قال الله تعالى " وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم " وقال
" إنما أنت منذر ولكل قوم هاد " وقال تعالى " وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وقال " وهديناه
النجدين " على تفسير من قال المراد بهما الخير والشر وهو الأرجح والله أعلم وأصل التقوى التوقي مما يكره لان
أصلها وقوى من الوقاية قال النابغة:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه * فتناولته واتقتنا باليد
وقال الآخر: فألقت قناعا دونه الشمس واتقت * بأحسن موصولين كف ومعصم
وقد قيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبي بن كعب عن التقوى فقال له أما سلكت طريقا ذا شوك؟ قال
بلى، قال فما عملت قال شمرت واجتهدت قال فذلك التقوى. وقد أخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال:
خل الذنوب صغيرها * وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر * ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة * إن الجبال من الحصى
42

وأنشد أبو الدرداء يوما:
يريد المرء أن يؤتى مناه * ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتي ومالي * وتقوى الله أفضل ما استفادا
وفي سنن ابن ماجة عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيرا من
زوجة صالحة إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها نصحته في نفسها
وماله ".
الذين يؤمنون بالغيب...
قال أبو جعفر الرازي عن العلاء بن المسيب بن رافع عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: الايمان
التصديق، وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما يؤمنون يصدقون وقال معمر عن الزهري:
الايمان العمل، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس يؤمنون يخشون.
قال ابن جرير: والأولى أن يكونوا موصوفين بالايمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا وقد تدخل الخشية لله في معنى
الايمان الذي هو تصديق القول بالعمل، والايمان كلمة جامعة للايمان بالله وكتبه ورسله وتصديق الاقرار بالفعل
" قلت " أما الايمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض وقد يستعمل في القرآن والمراد به ذلك كما قال تعالى
" يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " وكما قال إخوة يوسف لأبيهم " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " وكذلك إذا
استعمل مقرونا مع الأعمال كقوله تعالى " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فأما إذا استعمل مطلقا فالايمان
الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا. هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن
حنبل وأبو عبيدة وغير واحد إجماعا: أن الايمان قول وعمل ويزيد وينقص وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أفردنا الكلام
فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة. ومنهم من فسره بالخشية كقوله تعالى " إن الذين يخشون ربهم
بالغيب " وقوله " من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب " والخشية خلاصة الايمان والعلم كما قال تعالى
" إنما يخشى الله من عباده العلماء " وقال بعضهم يؤمنون بالغيب كما يؤمنون بالشهادة وليسوا كما قال تعالى عن
المنافقين " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون " وقال
" إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " فعلى
هذا يكون قوله بالغيب حالا أي في حال كونهم غيبا عن الناس.
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد، قال أبو جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " يؤمنون بالغيب " قال يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله
واليوم الآخر وجنته وناره ولقائه ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث، فهذا غيب كله. وكذا قال قتادة بن دعامة وقال
السدى عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أما الغيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن، وقال محمد بن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بالغيب قال بما جاء منه - يعني من الله تعالى -
وقال سفيان الثوري عن عاصم عن زر قال الغيب القرآن وقال عطاء بن أبي رباح من آمن بالله فقد آمن بالغيب وقال
إسماعيل بن أبي خالد يؤمنون بالغيب قال بغيب الاسلام وقال زيد بن أسلم الذين يؤمنون بالغيب قال بالقدر. فكل
هذه متقاربة في معنى واحد لان جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الايمان به.
وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا عند
43

عبد الله بن مسعود جلوسا فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به فقال عبد الله إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه
والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ثم قرأ " ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين *
الذين يؤمنون بالغيب - إلى قوله - المفلحون " وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق
عن الأعمش به وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وفي معنى هذا الحديث الذي رواه أحمد
حدثنا أبو المغيرة أنا الأوزاعي حدثني أسد بن عبد الرحمن عن خالد بن دريك عن ابن محيريز قال: قلت لأبي جمعة
حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثا جيدا: تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن
الجراح فقال يا رسول الله هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك. قال " نعم قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني "
طريق أخرى قال أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود حدثنا عبد الله
بن صالح حدثنا معاوية بن صالح عن صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس
يصلى فيه ومعنا يومئذ رجاء بن حياة رضي الله عنه فلما انصرف خرجنا نشيعه فلما أراد الانصراف قال إن لكم جائزة
وحقا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا هات رحمك الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل
عاشر عشرة فقلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجرا؟ آمنا بالله واتبعناك قال " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله
بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء، بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه أولئك
أعظم منكم أجرا " مرتين - ثم رواه من حديث ضمرة بن ربيعة عن مرزوق بن نافع عن صالح بن جبير عن أبي جمعة
بنحوه. وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوجادة التي اختلف فيها أهل الحديث كما قررته في أول شرح
البخاري لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرا من هذه الحيثية لا مطلقا وكذا الحديث الآخر الذي رواه
الحسن بن عرفة العبدي حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي عن المغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟ قالوا الملائكة قال " وما لهم لا يؤمنون وهم
عند ربهم " قالوا فالنبيون قال " وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ " قالوا فنحن قال " وما لكم لا تؤمنون وأنا بين
أظهركم " قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن أعجب الخلق إلي إيمانا لقوم يكونون من بعدكم يجدون صحفا فيها كتاب
يؤمنون بما فيها " قال أبو حاتم الرازي: المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث " قلت " ولكن قد روى أبو يعلى في
مسنده وابن مردويه في تفسيره والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن حميد - وفيه ضعف - عن زيد بن أسلم عن
أبيه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه. وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقد روى نحوه عن أنس بن
مالك مرفوعا والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن محمد المسندي حدثنا إسحاق بن إدريس
أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري أخبرني جعفر بن محمود عن جدته بديلة بنت أسلم قالت:
صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثه فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ثم جاءنا من يخبرنا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين
ونحن مستقبلون البيت الحرام، قال إبراهيم فحدثني رجال من بني حارثة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال
" أولئك قوم آمنوا بالغيب " هذا حديث غريب من هذا الوجه.
ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3)
قال ابن عباس ويقيمون الصلاة، أي يقيمون الصلاة بفروضها وقال الضحاك عن ابن عباس إقامة الصلاة إتمام
الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والاقبال عليها فيها، وقال قتادة إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها
وركوعها وسجودها. وقال مقاتل بن حيان: إقامتها المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور بها وتمام ركوعها
وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهذا إقامتها.
44

وقال علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس " ومما رزقناهم ينفقون " قال زكاة أموالهم، وقال السدي عن أبي
مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومما رزقناهم
ينفقون " قال نفقة الرجل على أهله وهذا قبل أن تنزل الزكاة، وقال جويبر عن الضحاك: كانت النفقات قربانا
يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة مما يذكر
فيهن الصدقات هن الناسخات المثبتات وقال قتادة " ومما رزقناهم ينفقون " فأنفقوا مما أعطاكم الله، هذه الأموال
عوار وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها.
واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات فإنه قال وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم أن يكونوا لجميع
اللازم لهم في أموالهم مؤدين - زكاة كانت ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل أو عيال وغيرهم ممن يجب عليهم نفقته
بالقرابة والملك وغير ذلك لان الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك وكل من الانفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه
" قلت " كثيرا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والانفاق من الأموال فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على
توحيده والثناء عليه وتمجيده والابتهال إليه ودعائه والتوكل عليه، والانفاق هو من الاحسان إلى المخلوقين بالنفع
المتعدي إليهم وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك، ثم الأجانب فكل من النفقات الواجبة والزكاة
المفروضة داخل في قوله تعالى " ومما رزقناهم ينفقون " ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وصوم رمضان وحج البيت " والأحاديث في هذا كثيرة وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء. قال الأعشى:
لها حارس لا يبرح الدهر بيتها * وإن ذبحت صلى عليها وزمزما
وقال أيضا: وقابلها الريح في دنها * وصلى على دنها وارتسم
أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك. وقال الآخر وهو الأعشى أيضا:
تقول بنتي وقد قربت مرتحلا * يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي * نوما فإن لجنب المرء مضطجعا
يقول عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي. وهذا ظاهر ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود
والافعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة بشروطها المعروفة وصفاتها وأنواعها المشهورة. قال ابن جرير وأرى
أن الصلاة سميت صلاة لان المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه من حاجاته وقيل
هي مشتقة من الصلوين إذا تحركا في الصلاة عند الركوع والسجود وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفان عجب
الذنب ومنه سمي المصلي وهو التالي للسابق في حلبة الخيل، وفيه نظر. وقيل هي مشتقة من الصلي وهو الملازمة
للشئ من قوله تعالى " لا يصلاها " أي لا يلزمها ويدوم فيها " إلا الأشقى " وقيل مشتقة من تصلية الخشبة في
النار لتقوم كما أن المصلي يقوم عوجه بالصلاة " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " واشتقاقها
من الدعاء أصح وأشهر والله أعلم.
وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه إن شاء الله تعالى.
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4)
قال ابن عباس والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك أي يصدقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك
من المرسلين لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاؤوهم به من ربهم وبالآخرة هم يوقنون أي بالبعث والقيامة والجنة
45

والنار والحساب والميزان وإنما سميت الآخرة لأنها بعد الدنيا وقد اختلفت المفسرون في الموصوفين هنا، هل هم
الموصوفون بما تقدم من قوله تعالى " الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " ومن هم؟ على
ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير أحدها أن الموصوفين أولا هم الموصوفون ثانيا وهم كل مؤمن مؤمنو العرب ومؤمنوا أهل
الكتاب وغيرهم قاله مجاهد وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة، والثاني هما واحد وهم مؤمنو أهل الكتاب وعلى
هذين تكون الواو عاطفة صفات على صفات كما قال تعالى " سبح اسم ربك الاعلى * والذي خلق فسوى * والذي
قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى " وكما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
فعطف الصفات بعضها على بعض والموصوف واحد والثالث أن الموصوفين أولا مؤمنو العرب والموصوفون ثانيا
بقوله " والذي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " لمؤمني أهل الكتاب نقله السدي في
تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة واختاره ابن جرير رحمه الله ويستشهد لما قال بقوله تعالى
" وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " الآية وبقوله تعالى " الذين
آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك
يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون " وبما ثبت في الصحيحين من حديث
الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل من أهل الكتاب آمن
بنبيه وآمن بي ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل أدب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها " وأما ابن
جرير فما استشهد على صحة ما قال إلا بمناسبة وهي أن الله وصف في أول هذه السورة المؤمنين والكافرين فكما أنه
صنف الكافرين إلى صنفين كافر ومنافق فكذلك المؤمنون صنفهم إلى صنفين عربي وكتابي " قلت " والظاهر قول
مجاهد فيما رواه الثوري عن رجل عن مجاهد ورواه غير واحد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: أربع آيات من
أول سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاثة عشر في المنافقين فهذه الآيات الأربع عامات في
كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي من إنسي وجني وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأخرى
بل كل واحدة مستلزمة للأخرى وشرط معها فلا يصح الايمان بالغيب وإقام الصلاة والزكاة إلا مع الايمان بما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من قبله من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين والايقان بالآخرة كما أن هذا لا يصح
إلا بذاك وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال " يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله
والكتاب الذي أنزل من قبل " الآية. وقال تعالى " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا
منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد " الآية. وقال تعالى " يا أيها الذين أوتوا الكتاب
آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم " وقال تعالى " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما
أنزل إليكم من ربكم " وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال تعالى " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه
والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله " وقال تعالى " والذين آمنوا بالله ورسله
ولم يفرقوا بين أحد منهم " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على جميع أمر المؤمنين بالايمان بالله ورسله وكتبه لكن
لمؤمني أهل الكتاب خصوصية وذلك أنهم يؤمنون بما بأيديهم مفصلا فإذا دخلوا في الاسلام وآمنوا به مفصلا كان
لهم على ذلك الاجر مرتين، وأما غيرهم فإنما يحصل له الايمان بما تقدم مجملا كما جاء في الصحيح " إذا حدثكم
أهل الكتاب فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم ولكن قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم " ولكن قد يكون إيمان كثير من
العرب بالاسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل وأعم وأشمل من إيمان من دخل منهم في الاسلام فهم وإن
حصل لهم أجران من تلك الحيثية فغيرهم يحصل له من التصديق ما ينيف ثوابه على الاجرين اللذين حصلا لهم والله
أعلم.
46

أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
يقول الله تعالى " أولئك " أي المتصفون بما تقدم من الايمان بالغيب وإقام الصلاة والانفاق من الذي رزقهم الله
والايمان بما أنزل الله إلى الرسول ومن قبله من الرسل والايقان بالدار الآخرة وهو مستلزم الاستعداد لها من الأعمال الصالحة
وترك المحرمات " على هدى " أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى " وأولئك هم المفلحون " أي
في الدنيا والآخرة وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس
" أولئك على هدى من ربهم " أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم به " وأولئك هم المفلحون " أي
الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا وقال ابن جرير وأما معنى قوله تعالى " أولئك على هدى من ربهم "
فإن معنى ذلك فإنهم على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديده إياهم وتوفيقه لهم وتأويل قوله تعالى
" وأولئك هم المفلحون " أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله من الفوز
بالثواب والخلود في الجنات والنجاة مما أعد الله لأعدائه من العقاب. وقد حكى ابن جرير قولا عن بعضهم أنه أعاد اسم
الإشارة في قوله تعالى " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " إلى مؤمني أهل الكتاب الموصوفين بقوله
تعالى " والذين يؤمنون بما أنزل إليك " الآية على ما تقدم من الخلاف. وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى " والذين
يؤمنون بما أنزل إليك " الآية على ما تقدم من الخلاف. وعلى هذا فيجوز أن يكون قوله تعالى " والذين يؤمنون
بما أنزل إليك " منقطعا مما قبله وأن يكون مرفوعا على الابتداء وخبره " أولئك هم المفلحون " واختار أنه عائد إلى
جميع من تقدم ذكره من مؤمني العرب وأهل الكتاب لما رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس
وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون
من العرب والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المؤمنون من أهل الكتاب. ثم جمع الفريقين فقال
" أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون " وقد تقدم من الترجيح أن ذلك صفة للمؤمنين عامة والإشارة
عائدة عليهم والله أعلم.
وقد نقل عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة رحمهم الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن
عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن لهيعة حدثني عبيد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم واسمه سليمان بن
عبد الله عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو ونقرأ من القرآن فنكاد أن
نيأس أو كما قال: قال " أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار " قالوا بلى يا رسول الله. قال " " ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه
هدى للمتقين - إلى قوله تعالى - المفلحون " هؤلاء أهل الجنة " قالوا إنا نرجو أن نكون هؤلاء ثم قال " إن الذين كفروا سواء
عليهم - إلى قوله - عظيم " هؤلاء أهل النار " قالوا لسنا هم يا رسول الله. قال: " أجل ".
إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)
يقول تعالى " إن الذين كفروا " أي غطوا الحق وستروه وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك سواء عليهم إنذارك وعدمه
فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به. كما قال تعالى " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية
حتى يروا العذاب الأليم " وقال تعالى في حق المعاندين من أهل الكتاب " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية
ما تبعوا قبلتك " الآية أي أن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ومن أضله فلا هادي له فلا تذهب نفسك عليهم
حسرات وبلغهم الرسالة فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يهمنك ذلك " فإنما
عليك البلاغ وعلينا الحساب * إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله تعالى إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن
47

جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا
يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول، وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة
أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " إن الذين كفروا " أي بما أنزل إليك وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك " سواء
عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " أي إنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق
وقد كفروا بما جاءك وبما عندهم مما جاءهم به غيرك فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا وقد كفروا بما عندهم من
علمك، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب وهم
الذين قال الله فيهم " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها " والمعنى
الذي ذكرناه أولا وهو المروي عن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة أظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها
والله أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم هاهنا حديثا فقال: حدثنا أبي حدثنا يحيي بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي حدثنا ابن
لهيعة حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبي الهيثم عن عبد الله بن عمرو قال قيل يا رسول الله إنا نقرأ من القرآن فنرجو
ونقرأ فنكاد أن نيأس فقال " ألا أخبركم " ثم قال " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "
هؤلاء أهل النار " قالوا: لسنا منهم يا رسول الله. قال " أجل " وقوله تعالى " لا يؤمنون " محله من الاعراب أنه
جملة مؤكدة للتي قبلها " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " أي هم كفار في كلا الحالين فلهذا أكد ذلك بقوله
تعالى " لا يؤمنون " ويحتمل أن يكون لا يؤمنون خبرا لان تقديره إن الذين كفروا لا يؤمنون ويكون قوله تعالى
" سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم " جملة معترضة والله أعلم.
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم (7)
قال السدي ختم الله، أي طبع الله وقال قتادة في هذه الآية استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه فختم الله على قلوبهم
وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وقال ابن جريج:
قال مجاهد، ختم الله على قلوبهم: قال الطبع ثبتت الذنوب على القلب فحفت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه
فالتقاؤها عليه الطبع والطبع الختم. قال ابن جريج الختم على القلب والسمع قال ابن جريج: وحدثني عبد الله بن
كثير أنه سمع مجاهدا يقول: الران أيسر من الطبع والطبع أيسر من الاقفال، والاقفال أشد من ذلك كله. وقال
الأعمش: أرانا مجاهد بيده. فقال: كانوا يرون أن القلب في مثل هذه يعني الكف فإذا أذنب العبد ذنبا ضم منه
وقال بإصبعه الخنصر هكذا فإذا أذنب ضم، وقال بإصبع أخرى، فإذا أذنب ضم. وقال بإصبع أخرى، وهكذا حتى
ضم أصابعه كلها. ثم قال: يطبع عليه بطابع، وقال مجاهد كانوا يرون أن ذلك الرين، ورواه ابن جرير عن أبي
كريب عن وكيع عن الأعمش عن مجاهد بنحوه، قال ابن جرير وقال بعضهم إنما معنى قوله تعالى " ختم الله على
قلوبهم " إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق كما يقال إن فلانا أصم عن هذا
الكلام إذا امتنع عن سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبرا قال وهذا لا يصح لان الله تعالى قد أخبر أنه هو الذي ختم
على قلوبهم وأسماعهم " قلت " وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما رده ابن جرير هاهنا وتأول الآية من خمسة أوجه
وكلها ضعيفة جدا وما جرأه على ذلك إلا اعتزاله لان الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده
يتعالى الله عنه في اعتقاده ولو فهم قوله تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وقوله " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما
لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون " وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على
قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق وهذا عدل منه تعالى حسن وليس
بقبيح فلو أحاط عالما بهذا لما قال ما قال والله أعلم.
48

قال القرطبي وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم
كما قال " بل طبع الله عليها بكفرهم " وذكر حديث تقليب القلوب " ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك "
وذكر حديث حذيفة الذي في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي
قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير علي قلبين على أبيض مثل الصفاء
فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا "
الحديث. قال ابن جرير والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا به محمد بن
بشار حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه وإن زاد زادت
حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي قال الله تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " هذا الحديث من هذا
الوجه قد رواه الترمذي والنسائي عن قتيبة والليث بن سعد وابن ماجة عن هشام بن عمار عن حاتم بن إسماعيل
والوليد بن مسلم ثلاثتهم عن محمد بن عجلان به، وقال الترمذي حسن صحيح، ثم قال ابن جرير فأخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع فلا
يكون للايمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى " ختم الله
على قلوبهم وعلى سمعهم " نظير الختم والطبع على ما تدركه الابصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما
فيها إلا بفض ذلك عنها ثم حلها فكذلك لا يصل الايمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم وعلى
سمعهم إلا بعد فض خاتمه وحله رباطها عنها.
واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " وقوله " وعلى أبصارهم غشاوة "
جملة تامة فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة وهي الغطاء يكون على البصر كما قال السدي في
تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " فلا يعقلون ولا يسمعون، يقول وجعل على أبصارهم
غشاوة يقول على أعينهم فلا يبصرون وقال ابن جرير حدثني محمد بن سعد حدثنا أبي حدثني عمي الحسين بن
الحسن عن أبيه عن جده عن ابن عباس ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. قال: وحدثنا
القاسم حدثنا الحسين يعني ابن داود وهو سنيد حدثني حجاج وهو ابن محمد الأعور حدثني ابن جريج قال: الختم
على القلب والسمع والغشاوة على البصر قال الله تعالى " فإن يشأ الله يختم على قلبك " وقال " وختم على سمعه
وقلبه وجعل على بصره غشاوة " قال ابن جرير ومن نصب غشاوة من قوله تعالى وعلى أبصارهم غشاوة يحتمل أنه
نصبها بإضمار فعل تقديره وجعل على أبصارهم غشاوة ويحتمل أن يكون نصبها على الاتباع على محل وعلى سمعهم
كقوله تعالى " وحور عين " وقول الشاعر:
علفتها تبنا وماء باردا * حتى شتت همالة عيناها
وقال الآخر:
ورأيت زوجك في الوغى * متقلدا سيفا ورمحا
تقديره وسقيتها ماء باردا ومعتقلا رمحا * لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ثم عرف حال
الكافرين بهاتين الآيتين شرع تعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الايمان ويبطنون الكفر ولما كان أمرهم
يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة كل منها نفاق كما أنزل سورة براءة فيهم وسورة المنافقين
فيهم وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور تعريفا لأحوالهم لتجتنب ويجتنب من تلبس بها أيضا فقال تعالى:
49

ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا
أنفسهم وما يشعرون (9)
النفاق هو إظهار الخير وإسرار الشر وهو أنواع: اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار وعملي وهو من أكبر
الذنوب كما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسره
علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه وإنما نزلت صفات المنافقين في السور المدنية لان مكة لم يكن فيها
نفاق بل كان خلافه من الناس من كان يظهر الكفر مستكرها وهو في الباطن مؤمن فلما هاجر رسول الله صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام
على طريقة مشركي العرب وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم وكانوا ثلاث قبائل بنو قينقاع حلفاء
الخزرج وبنو النضير وبنو قريظة حلفاء الأوس فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي
الأوس والخزرج وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سلام رضي الله عنه ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا لأنه لم يكن
للمسلمين بعد شوكة تخاف بل قد كان عليه الصلاة والسلام وادع اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة
فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته وأعز الاسلام وأهله قال عبد الله بن أبي بن سلول وكان رأسا في المدينة
وهو من الخزرج وكان سيد الطائفتين في الجاهلية وكانوا قد عزموا على أن يملكوه عليهم فجاءهم الخير وأسلموا
واشتغلوا عنه فبقي في نفسه من الاسلام وأهله فلما كانت وقعة بدر قال هذا أمر قد توجه فأظهر الدخول في الاسلام
ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته وآخرون من أهل الكتاب فمن ثم وجد النفاق في أهل المدينة ومن
حولها من الاعراب فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد يهاجر مكرها بل يهاجر فيترك ماله وولده وأرضه رغبة فيما
عند الله في الدار الآخرة. قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن
عباس " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " يعني المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان
على أمرهم وكذا فسرها بالمنافقين من الأوس والخزرج أبو العالية والحسن وقتادة والسدي ولهذا نبه الله سبحانه على
صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ومن اعتقاد إيمانهم
وهم كفار في نفس الامر وهذا من المحذورات الكبار أن يظن لأهل القبور خير فقال تعالى " ومن الناس من يقول آمنا
بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " أي يقولون ذلك قولا ليس وراءهم شئ آخر كما قال تعالى " إذا جاءك
المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله " أي إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط لا في نفس الامر
ولهذا يؤكدون الشهادة بأن ولام التأكيد في خبرها. أكدوا أمرهم قالوا آمنا بالله وباليوم الآخر وليس الامر كذلك كما
كذبهم الله في شهادتهم وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم بقوله تعالى " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون "
وبقوله " وما هم بمؤمنين ".
وقوله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا " أي بإظهارهم ما أظهروه من الايمان مع إسرارهم الكفر يعتقدون بجهلهم
أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذاك نافعهم عنده وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين كما قال تعالى " يوم
يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون " ولهذا قابلهم على
اعتقادهم ذلك بقوله " وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون " يقول وما يغرون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا
أنفسهم وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى " إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم " ومن القراء من قرأ
" وما يخدعون إلا أنفسهم " وكلا القراءتين ترجع إلى معنى واحد. قال ابن جرير فإن قال قائل: كيف يكون
المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي
من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية لينجو بما هو له خائف مخادعا فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين
50

بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية بما يخلص به من القتل والسبي والعذاب العاجل وهو لغير ما أظهره مستبطن وذلك من
فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه
يعطيها أمنيتها، ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومزبرها من غضب
الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به، فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن كما قال
تعالى " وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون " إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في
إسخاطهم عليها ربهم بكفرهم وشركهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمى من أمرهم مقيمين.
وقال ابن أبي حاتم أنبأنا علي بن المبارك فيما كتب إلي، حدثنا زيد بن المبارك حدثنا محمد بن نور عن ابن جريج
في قوله تعالى يخادعون الله قال يظهرون لا إله إلا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير
ذلك. وقال سعيد عن قتادة " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين
آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون " نعت المنافق عند كثير: خنع الأخلاق يصدق بلسانه وينكر بقلبه
ويخالف بعمله يصبح على حال ويمسي على غيره ويمسي على حال ويصبح على غيره ويتكفأ تكفأ السفينة كلما
هبت ريح هبت معها.
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (10)
قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " في قلوبهم مرض " قال شك فزادهم الله مرضا قال شكا. وقال ابن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال شك. وكذلك قال مجاهد
وعكرمة والحسن البصري وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة. وعن عكرمة وطاوس في قلوبهم مرض يعني الرياء.
وقال الضحاك عن ابن عباس في قلوبهم مرض قال نفاق فزادهم الله مرضا قال نفاقا، وهذا كالأول. وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قلوبهم مرض قال هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون
والمرض الشك الذي دخلهم في الاسلام فزادهم الله مرضا قال زادهم رجسا، وقرأ " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا
وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم ". قال شرا إلى شرهم وضلالة إلى
ضلالتهم، وهذا الذي قاله عبد الرحمن رحمه الله حسن وهو الجزاء من جنس العمل وكذلك قاله الأولون وهو نظير
قوله تعالى أيضا " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " وقوله " بما كانوا يكذبون " وقرئ يكذبون وقد كانوا
متصفين بهذا وهذا فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب يجمعون بين هذا وهذا. وقد سئل القرطبي وغيره من
المفسرين عن حكمة كفه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم وذكروا أجوبة عن ذلك منها
ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه " أكره أن يتحدث العرب أن محمدا يقتل
أصحابه " ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الاعراب عن الدخول في الاسلام ولا يعلمون حكمة
قتله لهم وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون إن محمدا يقتل أصحابه.
قال القرطبي وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة مع علمه بسوء اعتقادهم. قال ابن عطية وهي طريقة
أصحاب مالك نص عليه محمد بن الجهم والقاضي إسماعيل والأبهري وعن ابن الماجشون. ومنها: ما قال مالك
إنما كف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين ليبين لامته أن الحاكم لا يحكم بعلمه، قال القرطبي: وقد اتفق العلماء عن
بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه وإن اختلفوا في سائر الأحكام قال: ومنها ما قال الشافعي إنما منع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الاسلام مع العلم بنفاقهم لان ما يظهرونه يجب ما قبله. ويؤيد
هذا قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما " أمرت أن أقاتل الناس
51

حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل " ومعنى هذا
أن من قالها جرت عليه أحكام الاسلام ظاهرا فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة وإن لم يعتقدها لم
ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا وكونه كان خليط أهل الايمان " ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم
أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله " الآية فهم يخالطونهم في بعض المحشر فإذا حقت
المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " ولم يمكنهم أن يسجدوا معهم كما نطقت
بذلك الأحاديث ومنها ما قاله بعضهم أنه إنما لم يقتلهم لأنه كان يخاف من شرهم مع وجوده عليه الصلاة والسلام بين
أظهرهم يتلو عليهم آيات الله مبينات فأما بعده فيقتلون إذا أظهروا النفاق وعلمه المسلمون قال مالك: المنافق في
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزنديق اليوم " قلت " وقد اختلف العلماء في قتل الزنديق إذا أظهر الكفر هل يستتاب أم لا أو
يفرق بين أن يكون داعية أم لا أو يتكرر منه ارتداده أم لا أو يكون إسلامه ورجوعه من تلقاء نفسه أو بعد أن ظهر
عليه؟ على أقوال متعددة موضع بسطها وتقريرها وعزوها كتاب الأحكام.
" تنبيه " قول من قال كان عليه الصلاة والسلام يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في
تسمية أولئك الأربعة عشر منافقا في غزو تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلماء الليل عند عقبة هناك
عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحي الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة ولعل الكف عن قتلهم كان
لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.
فأما غير هؤلاء فقد قال الله تعالى " وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم
نحن نعلمهم " الآية وقال تعالى: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك
بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا * ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم
يدرك على أعيانهم وإنما كان تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم
بسيماهم * ولتعرفنهم في لحن القول " وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن
أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد دفنه كما يفعل ببقية
المسلمين وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال " إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدا يقتل أصحابه "
وفي رواية في الصحيح " إني خيرت فاخترت " وفي رواية " لو أعلم أني لو زدت على السبعين يغفر له لزدت ".
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (12)
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الطبيب الهمداني عن ابن مسعود وعن
أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال هم المنافقون أما
لا تفسدوا في الأرض قال الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في
قوله تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض " قال يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأنه
من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض لان صلاح الأرض والسماء بالطاعة وهكذا قال
الربيع بن أنس وقتادة وقال ابن جريج عن مجاهد " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض " قال إذا ركبوا معصية الله
فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا إنما نحن على الهدى مصلحون. وقال وكيع وعيسى بن يونس وعثام بن علي
عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عباد بن عبد الله الأسدي عن سلمان الفارسي " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في
الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " قال سلمان لم يجئ أهل هذه الآية بعد. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن
عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شريك حدثني أبي عن الأعمش عن زيد بن وهب وغيره عن سلمان الفارسي
52

أي هذه الآية قال ما جاء هؤلاء قال ابن جرير يحتمل أن سلمان رضي الله عنه أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه
الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد قال ابن
جرير فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربهم وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه
وتضييعهم فرائضه وشكهم في دينه الذي لا يقبل من أحد عمل إلا بالتصديق به والايقان بحقيقته وكذبهم المؤمنين
بدعواهم غير ما هم عليه مقيمون من الشك والريب ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا
وجدوا إلى ذلك سبيلا، فذلك إفساد المنافقين في الأرض، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها. وهذا
الذي قاله حسن فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء كما قال تعالى " والذين كفروا بعضهم
أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال تعالى
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " ثم قال
" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا " فالمنافق لما كان ظاهره الايمان اشتبه أمره على
المؤمنين فكان الفساد من جهة المنافق حاصل لأنه هو الذي غر المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له ووالى الكافرين
على المؤمنين ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لافلح وأنجح
ولهذا قال تعالى " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " أي نريد أن نداري الفريقين من
المؤمنين والكافرين ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء كما قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو
سعيد بن جبير عن ابن عباس " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون " أي إنما نريد الاصلاح بين
الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب يقول الله " ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " يقول ألا إن هذا الذي
يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادا.
وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون (13)
يقول تعالى: وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت
والجنة والنار وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر " قالوا
أنؤمن كما آمن السفهاء " يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم قاله أبو العالية والسدي في
تفسيره بسنده عن ابن عباس وابن مسعود وغير واحد من الصحابة وبه يقول الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم وغيرهم، يقولون أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء؟ والسفهاء جمع سفيه لان
الحكماء جمع حكيم والحلماء جمع حليم، والسفيه هو الجاهل الضعيف الرأي القليل المعرفة بمواضع المصالح
والمضار ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم
قياما " قال عامة علماء التفسير هم النساء والصبيان وقد تولى الله سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال " ألا
إنهم هم السفهاء " فأكد وحصر السفاهة فيهم " ولكن لا يعلمون " يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم
في الضلالة والجهل وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى والبعد عن الهدى.
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون (14) الله يستهزئ بهم
ويمدهم في طغيانهم يعمهون (15)
يقول تعالى وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: آمنا وأظهروا لهم الايمان والموالاة والمصافاة غرورا منهم
للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم " وإذا خلوا إلى شياطينهم " يعني إذا انصرفوا
53

وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به.
ومنهم من قال " إلى " هنا بمعنى " مع " والأول أحسن وعليه يدور كلام ابن جرير. وقال السدي عن أبي مالك
خلوا، يعني مضوا وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم ورؤساؤهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين. قال
السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا خلوا إلى شياطينهم " يعني هم رؤساءهم في الكفر. وقال الضحاك عن ابن عباس وإذا
خلوا إلى أصحابهم وهم شياطينهم: وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير
عن ابن عباس " وإذا خلوا إلى شياطينهم " من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقال
مجاهد: " وإذا خلوا إلى شياطينهم " وإلى أصحابهم من المنافقين والمشركين. وقال قتادة " وإذا خلوا إلى
شياطينهم " قال إلى رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر وبنحو ذلك فسره أبو مالك وأبو العالية والسدي والربيع بن
أنس. قال ابن جرير وشياطين كل شئ مردته ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى " وكذلك جعلنا لكل
نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وفي المسند عن أبي ذر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن " فقلت يا رسول الله أو للانس شياطين؟ قال " نعم " وقوله تعالى
" قالوا إنا معكم " قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أي أنا
على مثل ما أنتم عليه " إنما نحن مستهزءون " أي إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم. وقال الضحاك عن ابن
عباس قالوا إنما نحن مستهزءون ساخرون بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكذلك قال الربيع بن أنس وقتادة. وقوله تعالى
جوابا لهم ومقابلة على صنيعهم " الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " وقال ابن جرير أخبر تعالى أنه
فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل
ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب " الآية وقوله تعالى
" ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " الآية قال فهذا وما أشبهه من
استهزاء الله تعالى ذكره وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين وأهل الشرك به عند قائل هذا القول ومتأول هذا التأويل
- قال: وقال آخرون بل استهزؤا بهم توبيخه إياهم ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه والكفر به قال: وقال آخرون
هذا وأمثاله على سبيل الجواب كقول الرجل لمن يخدعه إذا ظفر به أنا الذي خدعتك. ولم يكن منه خديعة ولكن
قال ذلك إذا صار الامر إليه قالوا وكذلك قوله تعالى " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " و " الله يستهزئ
بهم " على الجواب والله لا يكون منه المكر ولا الهزؤ. والمعنى أن المكر والهزء حاق بهم - وقال آخرون قوله
تعالى " إنما نحن مستهزؤون * الله يستهزئ بهم " وقوله " يخادعون الله وهو خادعهم " وقوله " فيسخرون منهم
سخر الله منهم " و " نسوا الله فنسيهم " وما أشبه ذلك إخبار من الله تعالى أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ومعاقبهم
عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ
وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وقوله تعالى " فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " فالأول ظلم والثاني عدل فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما قال وإلى هذا
المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك. قال وقال آخرون إن معنى ذلك أن الله أخبر عن المنافقين أنهم إذا
خلوا إلى مردتهم قالوا إنا معكم على دينكم في تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما جاء به، وإنما نحن بما
نظهر لهم من قولنا لهم مستهزؤن، فأخبر تعالى أنه يستهزئ بهم فيظهر لهم من أحكامه في الدنيا يعني من عصمة
دمائهم وأموالهم خلاف الذي لهم عنده في الآخرة يعني من العذاب والنكال. ثم شرع ابن جرير يوجه هذا القول
وينصره لان المكر والخداع والسخرية على وجه اللعب والعبث منتف عن الله عز وجل بالاجماع وأما على وجه
الانتقام والمقابلة بالعدل والمجازاة فلا يمتنع ذلك. قال وبنحو ما قلنا فيه روى الخبر عن ابن عباس وحدثنا أبو كريب
حدثنا أبو عثمان حدثنا بشر عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى " الله يستهزئ بهم " قال يسخر
54

بهم للنقمة منهم وقوله تعالى " ويمدهم في طغيانهم يعمهون " قال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يمدهم يملي لهم وقال مجاهد،
يزيدهم وقال تعالى " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات؟ بل لا يشعرون " وقال
" سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " قال بعضهم كلما أحدثوا ذنبا أحدث لهم نعمة وهي في الحقيقة نقمة، وقال
تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون *
فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " قال ابن جرير والصواب نزيدهم على وجه الاملاء والترك
لهم في عتوهم وتمردهم كما قال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم
يعمهون " والطغيان هو المجاوزة في الشئ كما قال تعالى " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية " وقال
الضحاك عن ابن عباس في طغيانهم يعمهون في كفرهم يترددون وكذا فسره السدي بسنده عن الصحابة وبه يقول أبو
العالية وقتادة والربيع بن أنس ومجاهد وأبو مالك وعبد الرحمن بن زيد، في كفرهم وضلالتهم. قال ابن جرير
والعمه الضلال. يقال عمه فلان يعمه عمها وعموها إذا ضل قال وقوله في طغيانهم يعمهون في ضلالتهم وكفرهم
الذي غمرهم دنسه وعلاهم رجسه يترددون حيارى ضلالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا لان الله قد طبع على
قلوبهم وختم عليها وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا. وقال بعضهم العمى
في العين والعمه في القلب وقد يستعمل العمى في القلب أيضا. قال الله تعالى " فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمي
القلوب التي في الصدور " وتقول عمه الرجل يعمه عموها فهو عمه وعامه وجمعه عمه وذهبت إله العمهاء إذا لم يدر
أين ذهبت.
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين (16)
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة
" أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " قال أخذوا الضلالة وتركوا الهدى وقال ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد
عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " أي الكفر بالايمان وقال مجاهد
آمنوا ثم كفروا وقال قتادة: استحبوا الضلالة على الهدى. وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في
ثمود " فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وحاصل قول المفسرين فيما تقدم أن المنافقين عدلوا عن
الهدى إلى الضلال واعتاضوا عن الهدى بالضلالة وهو معنى قوله تعالى " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " أي
بذلوا الهدى ثمنا للضلالة وسواء في ذلك من كان منهم قد حصل له الايمان ثم رجع عنه إلى الكفر كما قال تعالى
فيهم " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم " أو أنهم استحبوا الضلالة على الهدى كما يكون حال فريق
آخر منهم فإنهم أنواع وأقسام ولهذا قال تعالى " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " أي ما ربحت صفقتهم في
هذه البيعة وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك. وقال ابن جرير حدثنا بشير حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن
قتادة " فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين " قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ومن الجماعة إلى
الفرقة ومن الامن إلى الخوف ومن السنة إلى البدعة وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن
قتادة بمثله سواء.
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17)
صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18)
يقال مثل ومثل ومثيل أيضا والجمع أمثال قال الله تعالى " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون "
55

وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن
استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره
وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر،
فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم عوضا عن الهدى واستحبابهم الغي
على الرشد. وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم
اكتسبوا أولا نورا ثم بنفاقهم ثانيا أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى " ومن الناس من
يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين " والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم وهذا لا ينفي
أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم ولم يستحضر ابن جرير هذه الآية ههنا وهي قوله تعالى
" ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤا بما أظهروه من
كلمة الايمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة. قال: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال
" رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت " أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت. وقال
تعالى " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وقال تعالى " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل
الحمار يحمل أسفارا " وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا نارا، وقال بعضهم المستوقد
واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم * هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى " فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم
وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون " وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام وقوله
تعالى " ذهب الله بنورهم " أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الاحراق والدخان
" وتركهم في الظلمات " وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق " لا يبصرون " لا يهتدون إلى سبيل خير ولا
يعرفونها وهم مع ذلك " صم " لا يسمعون خيرا " بكم " لا يتكلمون بما ينفعهم " عمي " في ضلالة وعماية
البصيرة كما قال تعالى " فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور " فلهذا لا يرجعون إلى ما
كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
" ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه "
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من
الصحابة في قوله تعالى " فلما أضاءت ما حوله " زعم أن ناسا دخلوا في الاسلام مقدم
نبي الله صلى الله عليه وسلم المدنية ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا
فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره
فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير
والشر. فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر. وقال العوفي عن ابن عباس
في هذه الآية قال أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون
به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: " فلما أضاءت ما حوله " أما إضاءة النار
56

فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى. وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " قال هذا
مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروى عن عكرمة والحسن
والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى " مثلهم كمثل
الذي استوقد نارا " قال هذا مثل المنافق يبصر أحيانا ويعرف أحيانا ثم يدركه عمى القلب. وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم في قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " إلى آخر الآية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد
آمنوا حتى أضاء الايمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا نارا ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه
كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون، وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " قال هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون
بالاسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفئ فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار
ضوءه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " فأنما ضوء النار
ما أوقدتها فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الاخلاص بلا إله إلا الله أضاء له فإذا شك وقع
في الظلمة وقال الضحاك " ذهب الله بنورهم " أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به وقال عبد الرزاق عن معمر
عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله " فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا
وآمنوا في الدنيا وأنكحوا النساء وحقنوا دماءهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وقال
سعيد عن قتادة في هذه الآية إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين
وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا
حقيقة في عمله " وتركهم في ظلمات لا يبصرون " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وتركهم في ظلمات لا
يبصرون " يقول في عذاب إذا ماتوا، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير
عن ابن عباس " وتركهم في ظلمات " أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه
بكفرهم ونفاقهم فيه فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وقال السدي في
تفسيره بسنده " وتركهم في ظلمات " فكانت الظلمة نفاقهم وقال الحسن البصري وتركهم في ظلمات لا يبصرون
فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملا من خير عمل به يصدق به قول لا إله إلا
الله " صم بكم عمى " قال السدي بسنده صم بكم عمى فهم خرس عمى، وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن
عباس " صم بكم عمى " يقول لا يسمعون الهدى، ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة فهم لا
يرجعون " قال ابن عباس أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس: وقال السدي بسنده " صم بكم
عمى فهم لا يرجعون " إلى الاسلام. وقال قتادة فهم لا يرجعون أي لا يتوبون ولا هم يذكرون.
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فئ اذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط
بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله
لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير (20)
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أخري فقلوبهم في
حال شكهم وكفرهم وترددهم " كصيب " والصيب المطر، قاله ابن مسعود وابن عباس وناس من الصحابة وأبو
العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة وعطية العوفي وعطاء الخراساني والسدي والربيع بن
57

أنس. وقال الضحاك: هو السحاب والأشهر هو المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق
ورعد وهو ما يزعج القلوب من الخوف فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى " يحسبون كل
صيحة عليهم " وقال " ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون * لو يجدون ملجأ أو مغارات أو
مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون " " والبرق " هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان
من نور الايمان ولهذا قال " يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين " أي ولا
يجدى عنهم حذرهم شيئا لان الله محيط بقدرته وهم تحت مشيئته وإرادته كما قال " هل أتاك حديث الجنود فرعون
وثمود بل الذين كفروا في تكذيب والله من ورائهم محيط " بهم ثم قال " يكاد البرق يخطف أبصارهم " أي لشدته
وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للايمان وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يكاد البرق يخطف
أبصارهم " يقول يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين وقال ابن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن
عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " يكاد البرق يخطف أبصارهم " أي لشدة ضوء الحق كلما أضاء لهم مشوا
فيه وإذا أظلم عليهم قاموا أي كلما ظهر لهم من الايمان شئ استأنسوا به واتبعوه وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت
قلوبهم فوقفوا حائرين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقين من
عز الاسلام اطمأنوا إليه وإذا أصاب الاسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله تعالى " ومن الناس من يعبد الله على
حرف فإن أصابه خير اطمأن به " وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن
ابن عباس " كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا " أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على
استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا أي متحيرين وهكذا قال أبو العالية والحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس
والسدي بسنده عن الصحابة وهو أصح وأظهر والله أعلم، وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطي الناس النور بحسب
إيمانهم فمنهم من يعطى من النور ما يضئ له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك، ومنهم من يطفأ نوره
تارة ويضئ أخرى، ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى، ومنهم من يطفأ نوره
بالكلية وهم الخلص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس
من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا " وقال في حق المؤمنين " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم
بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار " الآية، وقال تعالى " يوم لا يخزى الله النبي
والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شئ قدير ".
" ذكر الحديث الوارد في ذلك "
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات " الآية ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان
يقول " من المؤمنين من يضئ نوره من المدينة إلى عدن أبين بصنعاء ودون ذلك حتى إن من المؤمنين من لا يضئ
نوره إلا موضع قدميه " رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث عمران بن داود القطان عن قتادة بنحوه وهذا كما
قال المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود قال يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى
نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورا على إبهامه يطفأ مرة ويتقد مرة وهكذا رواه ابن جرير
عن ابن مثنى عن ابن إدريس عن أبيه عن المنهال وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن علي بن محمد
الطنافسي حدثنا ابن إدريس سمعت أبي يذكر عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود
" نورهم يسعى بين أيديهم " قال على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره
مثل النخلة وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ أخرى، وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا محمد بن
إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو يحيى الحماني حدثنا عقبة بن اليقظان عن عكرمة عن ابن عباس قال ليس أحد من أهل
58

التوحيد إلا يعطى نورا يوم القيامة فأما المنافق فيطفأ نوره فالمؤمن مشفق مما يرى من إطفاء نور المنافقين فهم يقولون
ربنا أتمم لنا نورنا، وقال الضحاك ابن مزاحم يعطى كل من كان يظهر الايمان في الدنيا يوم القيامة نورا فإذا انتهى
إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى ذلك المؤمنون شفقوا فقالوا ربنا أتمم لنا نورنا.
فإذا تقرر هذا صار الناس أقساما، مؤمنون خلص وهم الموصوفون بالآيات الأربع في أول البقرة وكفار خلص وهم
الموصوفون بالآيتين بعدها ومنافقون وهم قسمان خلص وهم المضروب لهم المثل الناري ومنافقون يترددون تارة
يظهر لهم لمع الايمان وتارة يخبو وهم أصحاب المثل المائي وهم أخف حالا من الذين قبلهم. وهذا المقام يشبه من
بعض الوجوه ما ذكر في سورة النور من ضرب مثل المؤمن وما جعل الله في قلبه من الهدى والنور بالمصباح في
الزجاجة التي كأنها كوكب دري وهي قلب المؤمن المفطور على الايمان واستمداده من الشريعة الخالصة الصافية
الواصلة إليه من غير كدر ولا تخليط كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله ثم ضرب مثل العباد من الكفار الذين
يعتقدون أنهم على شئ وليسوا على شئ وهم أصحاب الجهل المركب في قوله تعالى " والذين كفروا أعمالهم
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " الآية ثم ضرب مثل الكفار الجهال الجهل البسيط
وهم الذين قال تعالى فيهم " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق
بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور " فقسم الكفار هاهنا إلى قسمين داعية
ومقلد كما ذكرهما في أول سورة الحج " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد " وقال
" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير " وقد قسم الله المؤمنين في أول الواقعة وفي
آخرها، وفي سورة الانسان إلى قسمين سابقون وهم المقربون وأصحاب يمين وهم الأبرار.
فتلخص من مجموع هذه الآيات الكريمات أن المؤمنين صنفان مقربون وأبرار وأن الكافرين صنفان دعاة ومقلدون وأن
المنافقين أيضا صنفان منافق خالص ومنافق فيه شعبة من نفاق كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم " ثلاث من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
حتى يدعها: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان " استدلوا به على أن الانسان قد تكون فيه شعبة
من إيمان وشعبة من نفاق، إما عملي لهذا الحديث أو اعتقادي كما دلت عليه الآية كما ذهب إليه طائفة من السلف
وبعض العلماء كما تقدم وكما سيأتي إن شاء الله قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية يعني شيبان عن
ليث عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " القلوب
أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح. فأما
القلب الأجرد فقلب المؤمن فسراجه فيه نوره وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق
الخالص، عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الايمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء
الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه " وهذا إسناد
جيد حسن.
وقوله تعالى " ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير " قال محمد بن إسحاق حدثني
محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " ولو شاء الله لذهب بسمعهم
وأبصارهم " قال: لما تركوا من الحق بعد معرفته " إن الله على كل شئ قدير " قال ابن عباس أي إن الله على كل
ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير. وقال ابن جرير: إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شئ في هذا
الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير.
ومعنى قدير قادر كما معنى عليم عالم، وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين
المثلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين وتكون أو في قوله تعالى " أو كصيب من السماء " بمعنى الواو كقوله
59

تعالى " ولا تطع منهم آثما أو كفورا " أو تكون للتخبير أي اضرب لهم مثلا بهذا وإن شئت بهذا قال القرطبي: أو
للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين على ما وجهه الزمخشري أن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه
ويكون معناه على قوله سواء ضربت لهم مثلا بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم " قلت " وهذا يكون باعتبار جنس
المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات كما ذكرها الله تعالى في سورة براءة - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر
أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الافعال والأقوال فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشد مطابقة لأحوالهم
وصفاتهم والله أعلم كما ضرب المثلين في سورة النور لصنفي الكفار الدعاة والمقلدين في قوله تعالى " والذين
كفروا أعمالهم كسراب بقيعة " إلى أن قال " أو كظلمات في بحر لجي " الآية فالأول للدعاة الذين هم في جهل
مركب والثاني لذوي الجهل البسيط من الاتباع المقلدين والله أعلم بالصواب.
يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء
بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)
شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه تعالى هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه
عليهم النعم الظاهرة والباطنة بأن جعل لهم الأرض فراشا أي مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات
والسماء بناء وهو السقف كما قال في الآية الأخرى " وجعلنا السماء سقف محفوظا وهم عن آياتها معرضون "
" وأنزل من السماء ماء " والمراد به السحاب ههنا في وقته عند احتياجهم إليه فأخرج لهم به من أنواع الزروع
والثمار ما هو مشاهد رزقا لهم ولا نعامهم كما قرر هذا في غير موضع من القرآن، ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى
" الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك
الله رب العالمين " ومضمونه أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها ورازقهم فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك
به غيره ولهذا قال " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله
أي الذنب أعظم عند الله؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " الحديث، وكذا حديث معاذ " أتدري ما حق الله على
عباده؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " الحديث، وفي الحديث الآخر " لا يقولن أحدكم ما شاء الله وشاء فلان
ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان " وقال حماد بن سلمة حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن
الطفيل بن سخبرة أخي عائشة أم المؤمنين لامها قال: رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت من
أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا
أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد قال: ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم قالوا: نحن النصارى.
قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله
وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال " هل أخبرت بها أحدا؟ "
قلت: نعم. فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم
كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا ما شاء الله وحده " هكذا
رواه ابن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث حماد بن سلمة به، وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن
عمير به بنحوه، وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس
قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله وما شئت فقال " أجعلتني لله ندا؟ قل ما شاء الله وحده ".
رواه ابن مردويه وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح به وهذا كله صيانة وحماية لجناب
التوحيد والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: قال الله تعالى " يا أيها الناس اعبدوا ربكم " للفريقين جميعا من الكفار والمنافقين، أي وحدوا ربكم الذي
60

خلقكم والذين من قبلكم وبه عن ابن عباس " فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون " أي لا تشركوا بالله غيره من
الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره وقد علمتم إن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم
من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه. وهكذا قال قتادة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي
عاصم حدثنا أبي عمرو حدثنا أبي الضحاك بن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله
عز وجل " فلا تجعلوا لله أندادا " وقال الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سواء في ظلمة الليل، وهو أن يقول
والله وحياتك يا فلان وحياتي، ويقول لولا كلبة هذا لاتانا اللصوص البارحة ولولا البط في الدار لأتى
اللصوص. وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيه فلان هذا كله به
شرك. وفي الحديث أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله وشئت، قال " أجعلتني لله ندا " وفي الحديث الآخر
" نعم القوم أنتم لولا أنكم تنددون تقولون ما شاء الله وشاء فلان ". قال أبو العالية: فلا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء
شركاء. وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل بن أبي خالد وقال مجاهد " فلا تجعلوا لله
أندادا وأنتم تعلمون " قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل.
" ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة "
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو خلف موسى بن خلف وكان يعد من البدلاء حدثنا يحيى بن أبي كثير عن
زيد بن سلام عن جده ممطور عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه
السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن وأنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه
السلام: إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن
فقال: يا أخي إني أخشى إن سبقتني أن أعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت
المقدس حتى امتلا المسجد فقعد على الشرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال، إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل
بهن وآمركم أن تعملوا بهن أو لهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص
ماله بورق أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلته إلى غير سيده فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك وأن الله خلقكم ورزقكم
فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صليتم فلا تلتفوا،
وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم
الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه
وقدموه ليضربوا عنقه. وقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم، فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى
فك نفسه، وأمركم بذكر الله كثيرا وإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه
وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله " قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا آمركم بخمس الله أمرني
بهن: الجماعة والسمع والطاعة والهجرة والجهاد في سبيل الله فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة
الاسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى جاهلية فهو من جثي جهنم " قالوا: يا رسول الله وإن صام وصلى.
فقال " وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين
عباد الله " هذا حديث حسن والشاهد منه في هذه الآية قوله " وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا "
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده لا شريك له وقد استدل به كثير من المفسرين كالرازي وغيره على
وجود الصانع تعالى وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، فإن من تأمل هذه الموجودات السفلية والعلوية واختلاف
أشكالها وألوانها وطباعها ومنافعها ووضعها في مواضع النفع بها محكمة علم قدرة خالقها وحكمته وعلمه وإتقانه
وعظيم سلطانه كما قال بعض الاعراب، وقد سئل ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال: يا سبحان الله إن البعر
61

ليدل على البعير وإن أثر الاقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج. وبحار ذات أمواج؟
ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟.
وحكى الرازي عن الامام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات، وعن أبي
حنيفة أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ذكروا لي
أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها وهي مع ذلك تذهب وتجئ وتسير
بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا هذا
شئ لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من
الأشياء المحكمة ليس لها صانع. فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه، وعن الشافعي أنه سئل عن
وجود الصانع، فقال: هذا ورق التوت طعمه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم وتأكله النحل فيخرج منه العسل
وتأكله الشاة والبقر والانعام فتلقيه بعرا وروثا وتأكله الظباء فيخرج منها المسك وهو شئ واحد، وعن الإمام أحمد بن
حنبل أنه سئل عن ذلك فقال: ههنا حصن حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب
الأبريز فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكل حسن وصوت مليح يعني بذلك البيضة
إذا خرج منها الدجاجة، وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر * إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات * بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات * بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز: فيا عجبا كيف يعصى الاله * أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شئ له آية * تدل على أنه واحد
وقال آخرون من تأمل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن
الثوابت وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة، ولها في أنفسها سير يخصها، ونظر إلى
البحار المكتنفة للأرض من كل جانب والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها
وألوانها كما قال تعالى " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود * ومن الناس والدواب والانعام
مختلف ألوانه كذلك، إنما يخشى الله من عباده العلماء " وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع
وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأراييج والاشكال والألوان مع اتحاد طبيعة التربة
والماء استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة وحكمته ورحمته بخلقه ولطفه بهم وإحسانه إليهم وبره بهم لا إله
غيره ولا رب سواه عليه توكلت وإليه أنيب، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.
وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وأدعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23)
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين (24)
ثم شرع تعالى في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطبا للكافرين " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على
عبدنا " يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوا بسورة من مثل ما جاء به إن زعمتم أنه من عند غير الله
فعارضوه بمثل ما جاء به واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك، قال ابن عباس
شهداءكم أعوانكم، وقال السدي عن أبي مالك شركاءكم أي قوما آخرين يساعدونكم على ذلك، أي استعينوا
بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم، وقال مجاهد وادعوا شهداءكم، قال ناس يشهدون به يعني حكام الفصحاء
62

وقد تحداهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص " قل فأتوا بكتاب من عند الله هو
أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين " وقال في سورة سبحان " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " وقال في سورة هود " أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله
مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وقال في سورة يونس " وما كان هذا القرآن أن يفترى
من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه قل فأتوا
بسورة من مثله وأدعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " وكل هذه الآيات مكية، ثم تحداهم بذلك أيضا
في المدينة فقال في هذه الآية " وإن كنتم في ريب " أي شك " مما نزلنا على عبدنا " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " فأتوا
بسورة من مثله " يعني من مثل القرآن، قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير والطبري والزمخشري والرازي ونقله عن
عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين، ورجح ذلك بوجوه من أحسنها أنه تحداهم كلهم
متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن
لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى " فأتوا بعشر سور مثله " وقوله لا يأتون بمثله. وقال بعضهم
من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أمي مثله. والصحيح الأول لان التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم وقد
تحداهم بهذا في مكة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه، ومع هذا أعجزوا عن ذلك ولهذا قال
تعالى " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا " لن لنفي التأبيد في المستقبل أي ولن تفعلوا ذلك أبدا وهذه أيضا معجزة
أخرى، وهو أنه أخبر خبرا جازما قاطعا مقدما غير خائف ولا مشفق أن هذا القرآن لا يعارض بمثله أبد الآبدين ودهر
الداهرين وكذلك وقع الامر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ولا يمكن، وأني يتأتى ذلك لاحد والقرآن كلام الله
خالق كل شئ، وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الاعجاز فنونا ظاهرة
وخفية من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال الله تعالى " الر * كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير "
فأحكمت ألفاظه وفصلت معانيه أو بالعكس على الخلاف فكل من لفظه ومعناه فصيح لا يحادي ولا يداني، فقد أخبر
عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى " وتمت
كلمة ربك صدقا وعدلا " أي صدقا في الاخبار وعدلا في الاحكام فكله حق وصدق وعدل وهدى ليس فيه مجازفة
ولا كذب ولا افتراء كما يوجد في أشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها كما
قيل في الشعر إن أعذبه أكذبه. وتجد القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو
الخمر أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب أو كائنة أو مخافة أو سبع أو شئ من المشاهدات المتعينة
التي لا تفيد شيئا إلا قدرة المتكلم المعين على الشئ الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشئ الواضح ثم تجد له فيه
بيتا أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد، وسائرها هذر لا طائل تحته، وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات
البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلا وإجمالا ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها
في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة، وسواء تكررت أم لا، وكلما تكررت حلا وعلا، لا يخلق عن كثرة
الرد، ولا يمل منه العلماء، وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات فما ظنك
بالقلوب الفاهمات وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان، ويشوق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال
في الترغيب " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون " وقال " فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ
الأعين وأنتم فيها خالدون " وقال في الترهيب " أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر " و " أأمنتم من في السماء أن
يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وقال في
الزجر: " فكلا أخذنا بذنبه " وقال في الوعظ " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم
ما كانوا يمتعون " إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة، وإن جاءت الآيات في الاحكام والأوامر
والنواهي اشتملت على الامر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب، والنهي عن كل قبيح رذيل دنئ، كما قال ابن
63

مسعود وغيره من السلف إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن يا أيها الذين أمنوا فارعها سمعك فإنها خير يأمر به أو
شر ينهى عنه، ولهذا قال تعالى " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث
ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " الآية وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي
وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم، والملاذ والعذاب الأليم، بشرت به
وحذرت وأنذرت، ودعت إلى فعل الخير واجتناب المنكرات، وزهدت في الدنيا ورغبت في الأخرى، وثبتت على
الطريقة المثلى، وهدت إلى صراط الله المستقيم، وشرعه القويم، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم.
ولهذا ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من
الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما الذي كان أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " لفظ
مسلم - وقوله صلى الله عليه وسلم " وإنما كان الذي أوتيته وحيا " أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز
للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم، وله عليه
الصلاة والسلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ولله الحمد والمنة.
وقد قرر بعض المتكلمين الاعجاز بطريق يشمل قول أهل السنة وقول المعتزلة في الصرفة. فقال إن كان هذا القرآن
معجزا في نفسه لا يستطيع البشر الاتيان بمثله ولا في قواهم معارضته، فقد حصل المدعى وهو المطلوب، وإن كان
في إمكانهم معارضته بمثله ولم يفعلوا ذلك مع شدة عداوتهم له كان ذلك دليلا على أنه من عند الله لصرفه إياهم عن
معارضته مع قدرتهم على ذلك، وهذه الطريقة وإن لم تكن مرضية لان القرآن في نفسه معجز لا يستطيع البشر
معارضته كما قررنا إلا أنها تصلح على سبيل التنزل والمجادلة والمنافحة عن الحق، وبهذه الطريقة أجاب الرازي في
تفسيره عن سؤاله في السور القصار كالعصر وإنا أعطيناك الكوثر.
وقوله تعالى " فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين " أما الوقود بفتح الواو فهو ما يلقى في النار
لاضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا " وقال تعالى " إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون * لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون " والمراد بالحجارة هي
ههنا حجارة الكبريت العظيمة السوداء الصلبة المنتنة وهي أشد الأحجار حرا إذا حميت أجارنا الله منها. وقال
عبد الملك بن ميسرة الزراد عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى
" وقودها الناس والحجارة " قال هي حجارة من كبريت خلقها الله يوم خلق السماوات والأرض في السماء الدنيا
يعدها للكافرين. رواه ابن جرير وهذا لفظه وابن أبي حاتم والحاكم في مستدركه وقال على شرط الشيخين. وقال
السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة اتقوا
النار التي وقودها الناس والحجارة، أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار. وقال
مجاهد حجارة من كبريت أنتن من الجيفة، وقال أبو جعفر محمد بن علي حجارة من كبريت. وقال ابن جريج
حجارة من كبريت أسود في النار. وقال لي عمرو بن دينار أصلب من هذه الحجارة وأعظم. وقيل المراد بها حجارة
الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قال تعالى " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الآية،
حكاه القرطبي والرازي ورجحه على الأول: قال لان أخذ النار في حجارة الكبريت ليس بمستنكر فجعلها هذه
الحجارة أولى. وهذا الذي قاله ليس بقوي وذلك أن النار إذا أضرمت بحجارة الكبريت كان ذلك أشد لحرها وأقوى
لسعيرها ولا سيما على ما ذكره السلف من إنها حجارة من كبريت معدة لذلك، ثم إن أخذ النار بهذه الحجارة أيضا
مشاهد وهذا الجص يكون أحجارا فيعمل فيه بالنار حتى يصير كذلك. وكذلك سائر الأحجار تفخرها النار وتحرقها
وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها قال تعالى " كلما خبت زدناهم سعيرا "
وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها قال ليكون ذلك أشد عذابا
64

لأهلها. قال: وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل مؤذ في النار " وهذا الحديث ليس بمحفوظ ولا
معروف. ثم قال القرطبي وقد فسر بمعنيين أحدهما أن كل من آذى النار دخل النار والآخر أن كل ما يؤذي في النار
يتأذى به أهلها من السباع والهوام وغير ذلك.
وقوله تعالى " أعدت للكافرين " الأظهر أن الضمير في أعدت عائد إلى النار التي وقودها الناس والحجارة ويحتمل
عوده على الحجارة كما قال ابن مسعود ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان وأعدت أي أرصدت
وحصلت للكافرين بالله ورسوله، كما قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس
" أعدت للكافرين " أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر وقد استدل كثير من أئمة السنة بهذه الآية على أن
النار موجودة الآن لقوله تعالى " أعدت " أي أرصدت وهيئت وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها " تحاجت
الجنة والنار " ومنها " استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في
الصيف " وحديث ابن مسعود سمعنا وجبة فقلنا ما هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ
سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها " وهو عند مسلم وحديث صلاة الكسوف وليلة الاسراء وغير ذلك من الأحاديث
المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي
الأندلس.
" تنبيه ينبغي الوقوف عليه "
قوله تعالى " فأتوا بسورة من مثله " وقوله في سورة يونس " بسورة مثله " يعم كل سورة في القرآن طويلة كانت أو
قصيرة لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في
موضعه. فالاعجاز حاصل في طوال السور وقصارها وهذا لا أعلم فيه نزاعا بين الناس سلفا وخلفا. وقد قال الرازي
في تفسيره: فإن قيل قوله تعالى " فأتوا بسورة من مثله " يتناول سورة الكوثر وسورة العصر وقل يا أيها الكافرون
ونحن نعلم بالضرورة أن الاتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن، فإن قلتم إن الاتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدار
البشر كان مكابرة والاقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين " قلنا " فلهذا السبب اخترنا الطريق
الثاني وقلنا إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الاعجاز فقد حصل المقصود وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من
المعارضة مع شدة دواعيهم إلى توهين أمره معجزا فعلى التقديرين يحصل المعجز هذا لفظه بحروفه والصواب أن كل
سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة، قال الشافعي رحمه الله لو تدبر الناس هذه
السور لكفتهم " والعصر * إن الانسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا
بالصبر " وقد روينا عن عمرو بن العاص أنه وفد على مسيلمة الكذاب قبل أن يسلم فقال له مسيلمة: ماذا أنزل على
صاحبكم بمكة في هذا الحين فقال له عمرو لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة فقال وما هي فقال " والعصر * إن الانسان
لفي خسر " ففكر ساعة ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل علي مثلها فقال: وما هو؟ فقال: يا وبر يا وبر إنما أنت
أذنان وصدر وسائرك حقر فقر ثم قال كيف ترى يا عمرو فقال له عمرو والله إنك لتعلم أني لاعلم أنك تكذب.
وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي
رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (25)
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال عطف بذكر حال أوليائه من
السعداء المؤمنين به وبرسله الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح
65

أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه، وهو أن يذكر الايمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه أو حال السعداء ثم الأشقياء
أو عكسه، وحاصله ذكر الشئ ومقابله. وأما ذكر الشئ ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله، فلهذا قال
تعالى " وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار " فوصفها بأنها تجري من تحتها
الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها، وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود، وجاء في الكوثر أن
حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف ولا منافاة بينهما فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر، نسأل الله من
فضله إنه هو البر الرحيم. وقال ابن أبي حاتم: قرأ على الربيع بن سليمان حدثنا أسد بن موسى حدثنا أبو ثوبان عن
عطاء بن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من
تحت جبال - المسك " وقال أيضا حدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق، قال:
قال عبد الله، أنهار الجنة تفجر من جبل مسك.
وقوله تعالى " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " قال السدي في تفسيره عن أبي مالك
وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قالوا هذا الذي رزقنا من قبل. قال:
إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا وهكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ونصره ابن جرير وقال عكرمة " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " قال معناه مثل الذي كان بالأمس، وكذا
قال الربيع بن أنس. وقال مجاهد يقولون ما أشبهه به، قال ابن جرير وقال آخرون بل تأويل ذلك هذا الذي رزقنا من
قبل ثمار الجنة من قبل هذا الشدة مشابهة بعضه بعضا لقوله تعالى " وأتوا به متشابها " قال سنيد بن داود حدثنا شيخ
من أهل المصيصة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: يؤتى أحدهم بالصحفة من الشئ فيأكل منها ثم يؤتى
بأخرى فيقول هذا الذي أوتينا به من قبل، فتقول الملائكة كل فاللون واحد والطعم مختلف. وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عامر بن يساف عن يحيى بن أبي كثير قال: عشب الجنة الزعفران وكثبانها
المسك ويطوف عليهم الولدان بالفواكه فيأكلونها ثم يؤتون بمثلها فيقول لهم أهل الجنة هذا الذي أتيتمونا آنفا به
فتقول لهم الولدان كلوا فاللون واحد والطعم مختلف وهو قول الله تعالى " وأتوا به متشابها " وقال أبو جعفر الرازي
عن الربيع بن أنس عن أبي العالية " وأتوا به متشابها " قال يشبه بعضه بعضا ويختلف في الطعم، قال ابن أبي حاتم
وروى عن مجاهد والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقال ابن جرير بإسناده عن السدي في تفسيره عن أبي مالك
وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى " وأتوا به متشابها "
يعني في اللون والمرأى وليس يشتبه في الطعم وهذا اختيار ابن جرير. وقال عكرمة " وأتوا به متشابها " قال: يشبه
ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس لا يشبه شئ مما
في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء وفي رواية ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ورواه ابن جرير من رواية
الثوري وابن أبي حاتم من حديث أبي معاوية كلاهما عن الأعمش به. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله
تعالى " وأتوا به متشابها " قال يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا التفاح بالتفاح والرمان بالرمان، قالوا في الجنة هذا
الذي رزقنا من قبل في الدنيا وأتوا به متشابها يعرفونه وليس هو مثله في الطعم.
وقوله تعالى " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس مطهرة من القذر والأذى. وقال مجاهد من
الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد، وقال قتادة مطهرة من الأذى والمأثم. وفي رواية عنه لا
حيض ولا كلف. وروى عن عطاء والحسن والضحاك وأبي صالح وعطية والسدي نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني
يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال المطهرة التي لا تحيض، قال: وكذلك
خلقت حواء عليها السلام فلما عصت قال الله تعالى إني خلقتك مطهرة وسأدميك كما أدميت هذه الشجرة - وهذا
غريب - وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا إبراهيم بن محمد حدثني جعفر بن محمد بن حرب وأحمد بن محمد
66

الخواري قالا: حدثنا محمد بن عبيد الكندي حدثنا عبد الرزاق بن عمر البزيعي حدثنا عبد الله بن المبارك عن شعبة
عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " ولهم فيها أزواج مطهرة " قال من الحيض
والغائط والنخامة والبزاق ". هذا حديث غريب - وقد رواه الحاكم في مستدركه عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن
علي بن عفان عن محمد بن عبيد به. وقال صحيح على شرط الشيخين وهذا الذي ادعاه فيه نظر فإن عبد الرزاق بن
عمر البزيعي هذا قال فيه أبو حاتم بن حبان العبسي لا يجوز الاحتجاج به " قلت " والأظهر أن هذا من كلام قتادة كما
تقدم والله أعلم.
وقوله تعالى " وهم فيها خالدون " هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا
آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم بر رحيم.
إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين
كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون
عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27)
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة
لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا " وقوله " أو كصيب من
السماء " الآيات الثلاث قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله
تعالى " هم الخاسرون " وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون:
ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " وقال سعيد
عن قتادة أي إن الله لا يستحي من الحق أن يذكر شيئا مما قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت
قال أهل الضلالة ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها "
قلت: العبارة الأولى عن قتادة فيها إشعار أن هذه الآية مكية وليس كذلك وعبارة رواية سعيد عن قتادة أقرب والله
أعلم. وروى ابن جريج عن مجاهد نحو هذا الثاني عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم: روى عن الحسن
وإسماعيل بن أبي خالد نحو قول السدي وقتادة. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في هذه الآية قال: هذا
مثل ضربه الله للدنيا أن البعوضة تحيا ما جاعت فإذا سمنت ماتت وكذلك مثل هؤلاء القوم الذين ضرب لهم هذا
المثل في القرآن إذا امتلئوا من الدنيا ريا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل
شئ " هكذا رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية بنحوه فالله
أعلم، فهذا اختلافهم في سبب النزول. وقد اختار ابن جرير ما حكاه السدي. لأنه أمس بالسورة وهو مناسب ومعنى
الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحي أي لا يستنكف وقيل لا يخشى أن يضرب مثلا ما أي مثل كان بأي شئ كان صغيرا
كان أو كبيرا وما هاهنا للتقليل وتكون بعوضة منصوبة على البدل كما تقول لأضربن ضربا ما، فيصدق بأدنى شئ أو
تكون ما نكرة موصوفة ببعوضة واختار ابن جرير أن ما موصولة وبعوضة معربة بإعرابها قال: وذلك سائغ في كلام
العرب أنهم يعربون صلة ما ومن بإعرابهما لأنهما يكونان معرفة تارة ونكرة أخرى كما قال حسان بن ثابت:
يكفي بنا فضلا على من غيرنا * حب النبي محمد إيانا
قال ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار وتقدير الكلام إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى
ما فوقها وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء وقرأ الضحاك وإبراهيم بن عبلة بعوضة بالرفع قال ابن جني وتكون صلة
67

لما وحذف العائد كما في قوله " تماما على الذي أحسن " أي على الذي هو أحسن. وحكى سيبويه: ما أنا بالذي
قائل لك شيئا. أي بالذي هو قائل لك شيئا وقوله تعالى " فما فوقها " فيه قولان أحدهما فما دونها في الصغر
والحقارة كما إذا وصف لك رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول
الكسائي وأبي عبيد قاله الرازي وأكثر المحققين. وفي الحديث " لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى
كافرا منها شربة ماء " والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شئ أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة ابن
دعامة واختيار ابن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم يشاك
شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة " فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في
الحقارة والصغر كالبعوضة كما لا يستنكف عن خلقها، كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل
بالذباب والعنكبوت في قوله " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو
اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " وقال " مثل الذين اتخذوا من دون
الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون " وقال تعالى " ألم تر كيف
ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله
الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار * يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " وقال تعالى " ضرب
الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " الآية ثم قال " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ
وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل " الآية كما قال " ضرب لكم مثلا من
أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم " الآية. وقال " ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء
متشاكسون " الآية. وقال " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وفي القرآن أمثال كثيرة. قال
بعض السلف إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لان الله قال " وتلك الأمثال نضربها للناس وما
يعقلها إلا العالمون " وقال مجاهد في قوله تعالى " إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها " الأمثال
صغيرها وكبيرها يؤمن بها المؤمنون ويعلمون أنها الحق من ربهم ويهديهم الله بها. وقال قتادة " فأما الذين آمنوا
فيعلمون أنه الحق من ربهم " أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله وروى عن مجاهد والحسن والربيع بن
أنس نحو ذلك وقال أبو العالية " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم " يعني هذا المثل " وأما الذين كفروا
فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا " كما قال في سورة المدثر " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا
فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا * ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون
وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا * كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما
يعلم جنود ربك إلا هو " وكذلك قال ههنا " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " قال السدي
في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة يضل به كثيرا
يعني به المنافقين ويهدي به كثيرا يعني به المؤمنين فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم لتكذيبهم بما قد علموه حقا يقينا
من المثل الذي ضربه الله بما ضرب لهم وأنه لما ضرب له موافق فذلك إضلال الله إياهم به، ويهدي به يعني المثل
كثيرا من أهل الايمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانا إلى إيمانهم لتصديقهم بما قد علموه حقا يقينا أنه
موافق لما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به وذلك هداية من الله لهم به " وما يضل به إلا الفاسقين " قال هم المنافقون
وقال أبو العالية " وما يضل به إلا الفاسقين " قال هم أهل النفاق. وكذا قال ربيع بن أنس وقال ابن جريج عن
مجاهد عن ابن عباس " وما يضل به إلا الفاسقين " قال يقول يعرفه الكافرون فيكفرون به. وقال قتادة " وما يضل
به إلا الفاسقين " فسقوا فأضلهم الله على فسقهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عن إسحاق بن سليمان عن أبي
سنان عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن سعد " يضل به كثيرا " يعني الخوارج. وقال شعبة عن عمرو بن
68

مرة عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي فقلت قوله تعالى " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " إلى آخر
الآية فقال: هم الحرورية وهذا الاسناد وإن صح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فهو تفسير على المعنى
لا أن الآية أريد منها التنصيص على الخوارج الذين خرجوا على علي بالنهروان فإن أولئك لم يكونوا حال نزول الآية
وإنما هم داخلون بوصفهم فيها مع من دخل لأنهم سموا خوارج لخروجهم عن طاعة الامام والقيام بشرائع الاسلام،
والفاسق في اللغة هو الخارج عن الطاعة أيضا. وتقول العرب فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال
للفأرة فويسقة لخروجها عن جحرها للفساد. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس فواسق
يقتلن في الحل والحرم، الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ولكن
فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد من الآية الفاسق الكافر والله أعلم بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى " الذين ينقضون
عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون " وهذه الصفات
صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين كما قال تعالى في سورة الرعد " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك
الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب * الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق * والذين يصلون ما أمر الله
به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " الآيات إلى أن قال " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " وقد اختلف أهل التفسير
في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه فقال بعضهم: هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به
من طاعته ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقال آخرون بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في
التوراة من العمل بما فيها واتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم، ونقضهم ذلك هو
جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك وكتمانهم علم ذلك عن الناس بعد إعطائهم الله من أنفسهم
الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه فأخبر تعالى أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا. وهذا اختيار ابن
جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان.
وقال آخرون بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق وعهده إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من
الأدلة الدالة على ربوبيته وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس
غيرهم أن يأتي بمثله الشاهدة لهم على صدقهم قالوا ونقضهم ذلك تركهم الاقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة
وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق. وروى عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال
الزمخشري فإنه قال، فإن قلت: فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر
وصاهم به ووثقه عليهم وهو معنى قوله تعالى " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " إذا أخذ الميثاق
عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " وقال آخرون العهد الذي ذكره تعالى هو
العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " الآيتين. ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وهكذا
روى عن مقاتل بن حيان أيضا حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه
- إلى قوله - أولئك هم الخاسرون " قال هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه
الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما
أمر الله به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الخصال الثلاث إذا حدثوا كذبوا، وإذا
وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا. وكذا قال الربيع بن أنس أيضا، وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى
69

" الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه " قال هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.
وقوله " ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " قيل المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى " فهل
عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " ورجحه ابن جرير وقيل المراد أعم من ذلك فكل ما أمر
الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه. وقال مقاتل بن حيان في قوله تعالى " أولئك هم الخاسرون " قال في الآخرة وهذا
كما قال تعالى " أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " وقال الضحاك عن ابن عباس كل شئ نسبه الله إلى غير أهل
الاسلام من اسم مثل خاسر فإنما يعني به الكفر وما نسبه إلى أهل الاسلام فإنما يعني به الذنب. وقال ابن جرير في
قوله تعالى " أولئك هم الخاسرون " الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من
رحمته كما يخسر الرجل في تجارته بأن يوضع من رأس ماله في بيعه وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه
رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته يقال منه خسر الرجل يخسر خسرا وخسرانا وخسارا كما
قال جرير بن عطية:
إن سليطا في الخسار أنه * أولاد قوم خلقوا أقنه
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28)
يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده " كيف تكفرون بالله " أي كيف تجحدون
وجوده أو تعبدون معه غيره " وكنتم أمواتا فأحياكم " أي وقد كنتم عدما فأخرجكم إلى الوجود كما قال تعالى " أم
خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون * أم خلقوا السماوات والأرض * بل لا يوقنون " وقال تعالى " هل أتى على
الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا " والآيات في هذا كثيرة، وقال سفيان الثوري عن أبي إسحق عن أبي
الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا " قال هي التي
في البقرة " وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: كنتم أمواتا
فأحياكم، أمواتا في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئا حتى خلقكم ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم، قال
وهي مثل قوله تعالى " أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ": وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى " ربنا أمتنا اثنتين
وأحييتنا اثنتين " قال كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى
القبور. فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى - فهذه ميتتان وحياتان فهو كقوله " كيف تكفرون بالله
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم " وهكذا ر، وي عن السدي بسنده عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة وعن أبي العالية والحسن ومجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك
وعطاء الخراساني نحو ذلك وقال الثوري عن السدي عن أبي صالح " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم
يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " قال يحييكم في القبر ثم يميتكم وقال ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قال خلقهم في ظهر آدم ثم أخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم خلقهم في الأرحام ثم
أماتهم ثم أحياهم يوم القيامة. وذلك كقوله تعالى " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين " وهذا غريب والذي قبله.
والصحيح ما تقدم عن ابن مسعود وابن عباس وأولئك الجماعة من التابعين وهو كقوله تعالى " قل الله يحييكم ثم
يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " الآية كما قال تعالى في الأصنام " أموات غير أحياء وما يشعرون "
الآية " وقال وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون ".
هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم (29)
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض
70

فقال " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات " أي قصد إلى السماء
والاستواء ههنا مضمن معنى القصد والاقبال لأنه عدي بالى فسواهن أي فخلق السماء سبعا، والسماء ههنا اسم
جنس فلهذا قال " فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم " أي وعلمه محيط بجميع ما خلق، كما قال " ألا
يعلم من خلق " وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض
في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة
أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين *
فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز
العليم " ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعا وهذا شأن البناء أن يبدأ بعمارة
أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى " أأنتم
أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها *
أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها * متاعا لكم ولأنعامكم " فقد قيل أن ثم ههنا إنما هي لعطف الخبر
على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. قال السدي في تفسيره عن
أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة " هو الذي خلق لكم ما في
الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شئ عليم " قال إن الله تبارك وتعالى كان عرشه
على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما
عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين في الاحد والاثنين فخلق
الأرض على حوت والحوت هو الذي ذكره في القرآن " ن والقلم " والحوت في الماء والماء على ظهر صفاة
والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة والصخرة في الريح وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء
ولا في الأرض، فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسي عليها الجبال فقرت فالجبال تفخر على الأرض،
فذلك قوله تعالى " وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم " وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها
في يومين في الثلاثاء والأربعاء وذلك حين يقول " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له
أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها " يقول أنبت شجرها " وقدر فيها أقواتها "
لأهلها " في أربعة أيام سواء للسائلين " يقول من سأل فهكذا الامر " ثم استوى إلى السماء وهي دخان " وذلك
الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة ثم فتقها فجعلها سبع سماوات في يومين في الخميس
والجمعة وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السماوات والأرض " وأوحى في كل سماء أمرها " قال خلق الله
في كل سماء خلقها من الملائكة والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد ومما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا
بالكواكب فجعلها زينة وحفظا تحفظ من الشياطين فلما فرغ من خلق ما أحب استوى على العرش فذلك حين يقول
" خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " ويقول " كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل
شئ حي " وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثني أبو معشر سعيد بن أبي سعيد عن
عبد الله بن سلام أنه قال: إن الله بدأ الخلق يوم الأحد فخلق الأرضين في الاحد والاثنين وخلق الأقوات والرواسي
في الثلاثاء والأربعاء وخلق السماوات في الخميس والجمعة وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم على
عجل فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
وقال مجاهد في قوله تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا " قال خلق الله الأرض قبل السماء فلما خلق
71

الأرض ثار منها دخان فذلك حين يقول " ثم استوى إلى السماء " وهي دخان " فسواهن سبع سماوات " قال
بعضهم فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال
في آية السجدة " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل
فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها
وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظ ذلك تقدير العزيز العليم " فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء
وهذا ما لا أعلم فيه نزاعا بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض وقد توقف
في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى " أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها
وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها * والجبال أرساها " قالوا فذكر خلق السماء
قبل الأرض. وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن
الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديما وحديثا وقد حررنا ذلك في
سورة النازعات وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى " والأرض بعد ذلك دحاها * أخرج منها ماءها ومرعاها *
والجبال أرساها " ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيها بالقوة إلى الفعل لما أكملت سورة المخلوقات الأرضية ثم
السماوية دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعا فيها من المياه فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها
وألوانها وأشكالها وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه في تفسيره هذه الآية الحديث الذي رواه مسلم والنسائي في التفسير أيضا من رواية
ابن جريج قال أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال " خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد وخلق الشجر فيها يوم الاثنين
وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة
من آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل " وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه
علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب
الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا وقد حرر ذلك البيهقي.
وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن
نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30)
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملا الاعلى قبل إيجادهم، فقال تعالى " وإذ قال ربك
للملائكة " أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك " حكى ابن جرير عن بعض أهل
العربية وهو أبو عبيدة أنه زعم أن إذ ههنا زائدة وأن تقدير الكلام وقال ربك ورده ابن جرير، قال القرطبي وكذا رده
جميع المفسرين حتى قال الزجاج هذا اجتراء من أبي عبيدة " إني جاعل في الأرض خليفة " أي قوما يخلف
بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل كما قال تعالى " هو الذي جعلكم خلائف الأرض " وقال " ويجعلكم
خلفاء الأرض " وقال " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون " وقال " فخلف من بعدهم خلف "
وقرئ في الشاذ " إني جاعل في الأرض خليفة " حكاها الزمخشري وغيره ونقل القرطبي عن زيد بن علي وليس
المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين وعزاه القرطبي إلى ابن عباس وابن مسعود
وجميع أهل التأويل وفي ذلك نظر بل الخلاف في ذلك كثير، حكاه الرازي في تفسيره وغيره، والظاهر أنه لم يرد
آدم عينا إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " فإنهم أرادوا أن من هذا
72

الجنس من يفعل ذلك وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا
الصنف من صلصال من حمأ مسنون أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم
ويردعهم عن المحارم والمآثم قاله القرطبي أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك،
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض
المفسرين، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه، وههنا لما أعلمهم
بأنه سيخلق في الأرض خلقا قال قتادة وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها، فقالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء " الآية، وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك يقولون يا ربنا ما الحكمة في خلق
هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك، أي
نصلي لك كما سيأتي. أي ولا يصدر منا شئ من ذلك، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن
هذا السؤال " إني أعلم ما لا تعلمون " أي أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي
ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم فإني سأجعل فيهم الأنبياء وأرسل فيهم الرسل، ويوجد منهم الصديقون والشهداء
والصالحون والعباد والزهاد والأولياء والأبرار والمقربون والعلماء العاملون والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى
المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم، وقد ثبت في الصحيح أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال
عباده يسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون. وذلك لأنهم
يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالاعمال كما قال عليه
الصلاة والسلام " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل " فقولهم أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم
يصلون من تفسير قوله لهم " إني أعلم ما لا تعلمون "، وقيل معنى قوله جوابا لهم " إني أعلم ما لا تعلمون " إني
لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها، وقيل إنه جواب " ونحن نسبح بحمدك ونقدس
لك " فقال " إني أعلم ما لا تعلمون " أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به. وقيل بل
تضمن قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " طلبا منهم أن يسكنوا
الأرض بدل بني آدم فقال الله تعالى لهم " إني أعلم ما لا تعلمون " من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق
بكم. ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة والله أعلم.
" ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه "
قال ابن جرير: حدثني القاسم بن الحسن حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك عن الحسن وأبي بكر عن
الحسن وقتادة قالوا: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قال لهم إني فاعل هذا، ومعناه أنه أخبرهم
بذلك، وقال السدي استشار الملائكة في خلق آدم رواه ابن أبي حاتم وقال، وروى عن قتادة نحوه وهذه العبارة إن
لم ترجع إلى معنى الاخبار ففيها تساهل وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن والله أعلم " في الأرض "
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن سابط أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " دحيت الأرض من مكة، وأول من طاف بالبيت الملائكة، فقال الله إني جاعل في الأرض خليفة
يعني مكة " وهذا مرسل وفي سنده ضعف وفيه مدرج وهو أن المراد بالأرض مكة والله أعلم فإن الظاهر أن المراد
بالأرض أعم من ذلك " خليفة " قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن
مسعود وعن ناس من الصحابة إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة. قالوا: ربنا وما يكون ذاك
الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير فكان تأويل الآية
على هذا إني جاعل في الأرض خليفة مني يخلفني في الحكم بالعدل بين خلقي وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه
73

في طاعة الله والحكم بالعدل بين خلقه، وأما الافساد وسفك الدماء بغير حقها فمن غير خلفائه: قال ابن جرير:
وإنما معنى الخلافة التي ذكرها إنما هي خلافة قرن منهم قرنا. قال: والخليفة الفعلية من قولك خلف فلان فلانا في
هذا الأثر إذا قام مقامه فيه بعده كما قال تعالى " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون "
ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم خليفة لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالامر فكان منه خلفا. قال: وكان محمد بن
إسحاق يقول في قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة " يقول ساكنا وعامرا يعمرها ويسكنها خلفا ليس منكم:
قال ابن حرير: وحدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن
عباس قال: إن أول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال، فبعث الله
إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها فلذلك
قال " إني جاعل في الأرض خليفة " وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن ابن سابط " إني جاعل في
الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال: يعنون به بني آدم. وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم: قال الله للملائكة إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله عز وجل خلق إلا
الملائكة والأرض، وليس فيها خلق. قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها. وقد تقدم ما رواه السدي عن ابن عباس
وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن الله أعلم الملائكة بما تفعله ذرية آدم فقالت الملائكة ذلك وتقدم آنفا ما رواه
الضحاك عن ابن عباس أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، فقالت الملائكة ذلك فقاسوا هؤلاء بأولئك. وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن بكير بن الأخنس عن
مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة فأفسدوا في الأرض
وسفكوا الدماء فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم حتى ألحقوا بجزائر البحور، فقال الله للملائكة: " إني جاعل
في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قال: إني أعلم ما لا تعلمون. وقال أبو جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " إني جاعل في الأرض خليفة - إلى قوله - أعلم ما تبدون
وما كنتم تكتمون " قال: خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس وخلق آدم يوم الجمعة فكفر قوم
من الجن فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ببغيهم، وكان الفساد في الأرض فمن ثم قالوا: أتجعل
فيها من يفسد فيها كما أفسدت الجن ويسفك الدماء كما سفكوا. قال ابن أبي حاتم: وحدثنا الحسن بن محمد بن
الصباح حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مبارك بن فضالة أخبرنا الحسن، قال: قال الله للملائكة إني جاعل في الأرض
خليفة، قال لهم إني فاعل فآمنوا بربهم فعلمهم علما وطوى عنهم علما علمه ولم يعلموه. فقالوا بالعلم الذي
علمهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون. قال الحسن إن الجن كانوا في
الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون، فقالوا بالقول الذي علمهم. وقال
عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله " أتجعل فيها من يفسد فيها " كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق
أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام
الرازي حدثنا ابن المبارك عن معروف يعني ابن خربوذ المكي عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول السجل ملك
وكان هاروت وماروت من أعوانه وكان له كل يوم ثلاث لمحات في أم الكتاب فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق
آدم وما كان فيه من الأمور فأسر ذلك إلى هاروت وماروت وكانا من أعوانه فلما قال تعالى " إني جاعل في الأرض
خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " قالا ذلك استطالة على الملائكة. وهذا أثر غريب وبتقدير
صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر فهو نقله عن أهل الكتاب وفيه نكارة توجب رده والله أعلم.
ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط وهو خلاف السياق وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم أيضا بحيث
قال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن أبي عبيد الله حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير قال: سمعت أبي يقول إن
الملائكة الذين قالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " كانوا عشرة آلاف
74

فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم وهذا أيضا إسرائيلي منكر كالذي قبله والله أعلم. قال ابن جريج إنما تكلموا بما
أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء. قال ابن جرير: وقال بعضهم إنما
قالت الملائكة ما قالت أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء لان الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم
أن ذلك كائن من بني آدم فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم، فأجابهم
ربهم " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني أن ذلك كائن منهم وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا. قال:
وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك فكأنهم قالوا يا رب خبرنا - مسألة
استخبار منهم لا على وجه الانكار - واختاره ابن جرير، وقال سعيد عن قتادة قوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني
جاعل في الأرض خليفة " قال استشار الملائكة في خلق آدم فقالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء - وقد
علمت الملائكة أنه لا شئ أكره عند الله من سفك الدماء والفساد في الأرض - ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك.
قال إني أعلم ما لا تعلمون. فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة
قال وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول: إن الله لما أخذ في خلق آدم عليه السلام قالت الملائكة ما الله خالق خلقا
أكرم عليه منا ولا أعلم منا فابتلوا بخلق آدم وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال الله تعالى
" ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " وقوله تعالى " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ". قال عبد الرزاق عن
معمر عن قتادة قال: التسبيح التسبيح والتقديس الصلاة. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس
وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال: يقولون نصلي لك. وقال
مجاهد: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: نعظمك ونكبرك. وقال الضحاك: التقديس التطهير. وقال
محمد بن إسحاق: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك. قال: لا نعصي ولا نأتي شيئا تكرهه. وقال ابن جرير:
التقديس هو التعظيم والتطهير. ومنه قولهم سبوح قدوس يعني بقولهم سبوح تنزيه له، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم
له: وكذلك قيل للأرض أرض مقدسة يعني بذلك المطهرة. فمعنى قول الملائكة إذا " ونحن نسبح بحمدك "
ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك " ونقدس لك " ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من
الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك. وفي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي
الكلام أفضل؟ قال " ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده " وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السماوات العلا " سبحان العلي الاعلى سبحانه وتعالى " " قال إني
أعلم ما لا تعلمون " قال قتادة فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا
الجنة، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى قال " إني
أعلم ما لا تعلمون ".
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويقطع تنازعهم
وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا
تمكن إقامتها إلا بالامام وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في
أبي بكر أو بالايماء إليه كما يقول آخرون منهم أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب أو
بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعته واحد
منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك إمام الحرمين الاجماع والله أعلم. أو بقهر واحد الناس على
طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف، وقد نص عليه الشافعي وهل يجب الاشهاد على عقد
الإمامة؟ فيه خلاف فمنهم من قال لا يشترط وقيل بلى ويكفي شاهدان. وقال الجبائي يجب أربعة وعاقد ومعقود له
كما ترك عمر رضي الله عنه الامر شورى بين ستة فوقع الامر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ومعقود له وهو
عثمان، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين في هذا نظر والله أعلم.
75

ويجب أن يكون ذكرا حرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا بصيرا سليم الأعضاء خبيرا بالحروب والآراء قرشيا على
الصحيح ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافا للغلاة الروافض، ولو فسق الامام هل ينعزل أم لا؟ فيه
خلاف والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان " وهل له
أن يعزل نفسه فيه خلاف، وقد عزل الحسن بن علي رضي الله عنه نفسه وسلم الامر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد
مدح على ذلك: فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام " من جاءكم وأمركم
جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنا من كان " وهذا قول الجمهور، وقد حكى الاجماع على ذلك غير واحد منهم
إمام الحرمين. وقالت الكرامية: يجوز اثنين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة. قالوا: وإذا جاز
بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة لان النبوة أعلى رتبة بلا خلاف. وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ
أبي إسحق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما وتردد إمام الحرمين في ذلك قلت
وهذا يشبه حال الخلفاء بني العباس بالعراق والفاطمين بمصر والأمويين بالمغرب ولنقرر هذا كله في موضع آخر من
كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى.
وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) قال يا أدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال
ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون (33)
هذا مقام ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة بما اختصه من علم أسماء كل شئ دونهم وهذا كان بعد
سجودهم له وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليفة حين سألوا
عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبين لهم شرف آدم بما فضل به
عليهم في العلم فقال تعالى " وعلم آدم الأسماء كلها " قال السدي عمن حدثه عن ابن عباس " وعلم
آدم الأسماء كلها " قال علمه أسماء ولده إنسانا إنسانا والدواب فقيل هذا الحمار، هذا الجمل،
هذا الفرس، وقال الضحاك عن ابن عباس " وعلم آدم الأسماء كلها " قال هي هذه الأسماء
التي يتعارف بها الناس إنسان ودواب وسماء وأرض وسهل وبحر وخيل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها، وروى
ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عاصم ابن كليب عن سعيد بن معبد عن ابن عباس " وعلم آدم الأسماء كلها "
قال علمه اسم الصحفة والقدر قال نعم حتى الفسوة والفسية، وقال مجاهد " وعلم آدم الأسماء كلها " قال علمه اسم
كل دابة وكل طير وكل شئ، وكذلك روى عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شئ
وقال الربيع في رواية عنه أسماء الملائكة. وقال حميد الشامي أسماء النجوم. وقال عبد الرحمن بن زيد علمه
أسماء ذريته كلهم. واختار ابن جرير أنه علمه أسماء الملائكة وأسماء الذرية لأنه قال " ثم عرضهم " عبارة عما
يعقل. وهذا الذي رجح به ليس بلازم فإنه لا ينفي أن يدخل معهم غيرهم ويعبر عن الجميع بصيغة من يعقل
للتغليب كما قال تعالى " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم
من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير " وقد قرأ عبد الله بن مسعود ثم عرضهن. وقرأ
أبي بن كعب ثم عرضها أي السماوات. الصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذراتها وصفاتها وأفعالها كما قال ابن
عباس حتى الفسوة والفسية يعني ذوات الأسماء والافعال المكبر والمصغر ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية في
كتاب التفسير من صحيحه: حدثنا مسلم ابن إبراهيم حدثنا هشام عن قتادة عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
وقال لي خليفة. حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجتمع المؤمنون يوم
76

القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك
أسماء كل شئ فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي، ائتوا نوحا
فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتونه فيقول لست هناكم، ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم
فيستحي. فيقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول لست هناكم. فيقول ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة
فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه. فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمه
الله وروحه فيأتونه فيقول لست هناكم. ائتوا محمدا عبدا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني فأنطلق حتى أستأذن
ربي فيأذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع
تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله
ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن
ووجب عليه الخلود، هكذا ساق البخاري هذا الحديث ههنا، وقد رواه مسلم والنسائي من حديث هشام وهو ابن
أبي عبد الله الدستوائي عن قتادة به وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث سعيد وهو ابن أبي عروبة عن
قتادة. ووجه إيراده ههنا والمقصود منه قوله عليه الصلاة والسلام. فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده
وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ. فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال " ثم
عرضهم على الملائكة " يعني المسميات كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ثم عرض تلك الأسماء على
الملائكة " فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن
ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة " وعلم آدم الأسماء كلها " ثم عرض الخلق على
الملائكة. وقال ابن جريج عن مجاهد ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة وقال ابن جرير: حدثنا القاسم
حدثنا الحسين حدثني الحجاج عن جرير بن حازم ومبارك بن فضالة عن الحسن وأبي بكر عن الحسن وقتادة قالا:
علمه اسم كل شئ وجعل يسمي كل شئ باسمه وعرضت عليه أمة أمة، وبهذا الاسناد عن الحسن وقتادة في قوله
تعالى " إن كنتم صادقين " إني لم أخلق خلقا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. وقال
الضحاك عن ابن عباس " إن كنتم صادقين " إن كنتم تعلمون أني لم أجعل في الأرض خليفة وقال السدي عن أبي
مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة إن كنتم صادقين أن بني آدم
يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك تأويل ابن عباس ومن قال بقوله ومعنى
ذلك فقال أنبئوني بأسماء من عرضته عليكم أيها الملائكة القائلون: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ من
غيرنا أم منا. فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك - إن كنتم صادقين في قيلكم أني إن جعلت خليفتي في الأرض من
غيركم عصاني وذريته وأفسدوا وسفكوا الدماء وإن جعلتكم فيها أطعتموني واتبعتم أمري بالتعظيم والتقديس فإذا كنتم
لا تعلمون أسماء هؤلاء الذين عرضت عليكم وأنتم تشاهدونهم فأنتم بما هو غير موجود من الأمور الكائنة التي لم
توجد أحرى أن تكونوا غير عالمين " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " هذا تقديس
وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشئ من علمه إلا بما شاء وأن يعلموا شيئا إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا
قالوا " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " أي العليم بكل شئ الحكيم في خلقك وأمرك
وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء، لك الحكمة في ذلك والعدل التام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد
الأشج حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: سبحان الله. قال تنزيه الله نفسه عن
السوء ثم قال: قال عمر لعلي وأصحابه عنده لا إله إلا الله قد عرفناها فما سبحان الله فقال له على كلمة أحبها الله
لنفسه ورضيها وأحب أن تقال. قال وحدثنا أبي حدثنا فضيل بن النضر بن عدي قال سأل رجل ميمون بن مهران عن
سبحان الله قال اسم يعظم الله به ويحاشا به من السوء.
77

قوله تعالى " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض
وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " قال زيد بن أسلم قال أنت جبرائيل أنت ميكائيل أنت إسرافيل حتى عدد الأسماء
كلها حتى بلغ الغراب. وقال مجاهد في قول الله " قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " قال اسم الحمامة والغراب واسم كل
شئ، وروى عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة نحو ذلك فلما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم
السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء، قال الله تعالى للملائكة " ألم أقل لكم إني أعلم غيب
السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون أي ألم أتقدم إليكم أني أعلم الغيب الظاهر والخفي كما قال
تعالى " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " وكما قال إخبارا عن الهدهد أنه قال لسليمان " ألا يسجدوا لله الذي
يخرج الخب ء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون * الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " وقيل في
قوله تعالى " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " غير ما ذكرناه فروى الضحاك عن ابن عباس " وأعلم ما تبدون وما
كنتم تكتمون " قال أعلم السر كما أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار. وقال السدي عن
أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة قال قولهم أتجعل فيها من
يفسد فيها ويسفك الدماء الآية فهذا الذي أبدوا " وما كنتم تكتمون " يعني ما أسر إبليس في نفسه من الكبر وكذلك
قال سعيد بن جبير ومجاهد والسدي والضحاك والثوري. واختار ذلك ابن جرير وقال أبو العالية والربيع بن أنس
والحسن وقتادة هو قولهم لم يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم عليه منه: وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن
أنس " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون " فكان الذي أبدوا هو قولهم: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء.
وكان الذي كتموا بينهم قولهم لن يخلق ربنا خلقا إلا كنا أعلم منه وأكرم. فعرفوا أن الله فضل عليهم آدم في العلم
والكرم قال ابن جرير حدثنا يونس حدثنا ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قصة الملائكة وآدم: فقال
الله للملائكة كما لم تعلموا هذه الأسماء فليس لكم علم إنما أردت أن أجعلهم ليفسدوا فيها، هذا عندي قد علمته
فكذلك أخفيت عنكم أني أجعل فيها من يعصيني ومن يطيعني، قال وقد سبق من الله " لأملأن جهنم من الجنة
والناس أجمعين " قال ولم تعلم الملائكة ذلك ولم يدروه قال فلما رأوا ما أعطى الله آدم من العلم أقروا له بالفضل.
وقال ابن جرير وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس وهو أن معنى قوله تعالى: " وأعلم تبدون " وأعلم مع علمي
غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم. وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شئ سواء عندي
سرائركم وعلانيتكم والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها، والذي كانوا يكتمون ما كان منطويا
عليه إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته. قال وصح ذلك وكما تقول العرب قتل الجيش
وهزموا، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر
عن جميعهم كما قال تعالى " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات " ذكر أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني
تميم، قال وكذلك قوله " وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ".
وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين (34)
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتن بها على ذريته حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، وقد دل
على ذلك أحاديث أيضا كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم وحديث موسى عليه السلام " رب أرني آدم الذي أخرجنا
ونفسه من الجنة فلما اجتمع به قال أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته " قال وذكر
الحديث كما سيأتي إن شاء الله. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي
روق عن الضحاك عن ابن عباس قال كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من
بين الملائكة وكان خازنا من خزان الجنة قال وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي قال وخلقت
الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا ألهبت قال وخلق الانسان من طين
78

فأول من سكن الأرض الجن فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال فبعث الله إليهم إبليس في جند من
الملائكة وهم هذا الحي الذي يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال
فلما فعل إبليس ذلك اغتر في نفسه فقال قد صنعت شيئا لم يصنعه أحد قال فاطلع الله على ذلك من قلبه ولم تطلع
عليه الملائكة الذين كانوا معه فقال الله تعالى للملائكة الذين كانوا معه: " إني جاعل في الأرض خليفة " فقالت
الملائكة مجيبين له: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما أفسدت الجن وسفكت الدماء وإنما بعثتنا عليهم
لذلك؟ فقال الله تعالى " إني أعلم ما لا تعلمون "، يقول إني قد اطلعت على قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه من
كبره واغتراره قال ثم أمر بتربة آدم فرفعت فخلق الله آدم من طين لازب واللازب اللازج الطيب من حمأ مسنون منتن
وإنما كان حمأ مسنونا بعد التراب فخلق منه آدم بيده قال فمكث أربعين ليلة جسدا ملقى وكان إبليس يأتيه فيضربه
برجله فيصلصل فيصوت فهو قول الله تعالى " من صلصال كالفخار " يقول كالشئ المنفرج الذي ليس بمصمت قال
ثم يدخل في فيه ويخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه ثم يقول لست شيئا للصلصلة ولشئ ما خلقت ولئن
سلطت عليك لأهلكنك ولئن سلطت علي لأعصينك. قال فلما نفخ الله فيه من روحه أتت النفخة من قبل رأسه
فجعل لا يجري شئ منها في جسده إلا صار لحما ودما فلما انتهت النفخة إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه ما رأى
من جسده فذهب لينهض فلم يقدر فهو قول الله تعالى " وخلق الانسان عجولا " قال ضجرا لا صبر له على سراء ولا
ضراء، قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس فقال " الحمد لله رب العالمين " بإلهام الله فقال الله له " يرحمك
الله يا آدم " قال ثم قال تعالى: للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السماوات اسجدوا
لآدم فسجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبى واستكبر لما كان حدث نفسه من الكبر والاغترار فقال لا أسجد له وأنا خير
منه وأكبر سنا وأقوى خلقا خلقتني من نار وخلقته من طين يقول إن النار أقوى من الطين قال فلما أبى إبليس أن يسجد
أبلسه الله أي آيسه من الخير كله وجعله شيطانا رجيما عقوبة لمعصيته ثم علم آدم الأسماء كلها وهي هذه الأسماء
التي يتعارف بها الناس إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر وجبل وحمار وأشباه ذلك من الأمم وغيرها ثم عرض هذه
الأسماء على أولئك الملائكة يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس الذين خلقوا من نار السموم وقال لهم " أنبئوني
بأسماء هؤلاء " أي يقول أخبروني بأسماء هؤلاء " إن كنتم صادقين " إن كنتم تعلمون لم أجعل في
الأرض خليفة، قال: فلما علمت الملائكة موجدة الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب الذي لا
يعلمه غيره الذي ليس لهم به علم " قالوا سبحانك " تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيره تبنا إليك
" لا علم لنا إلا ما علمتنا " تبريا منهم من علم الغيب إلا ما علمتنا كما علمت آدم فقال " يا آدم أنبئهم بأسمائهم "
يقول أخبرهم " بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم " قال " ألم أقل لكم " أيتها الملائكة خاصة " إني أعلم غيب
السماوات والأرض " ولا يعلم غيري " وأعلم ما تبدون " يقول ما تظهرون " وما كنتم تكتمون " يقول أعلم السر كما
أعلم العلانية يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار هذا سياق غريب وفيه أشياء فيها نظر يطول مناقشتها
وهذا الاسناد إلى ابن عباس يروى به تفسير مشهور وقال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش
فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإنما سموا الجن لأنهم خزان الجنة
وكان إبليس مع ملكه خازنا فوقع في صدره، وقال: ما أعطاني الله هذا إلا لمزية لي على الملائكة فلما وقع ذلك
الكبر في نفسه اطلع الله على ذلك فقال الله للملائكة " إني جاعل في الأرض خليفة " فقالوا ربنا وما يكون ذلك
الخليفة؟ قال يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا قالوا " أتجعل فيها من يفسد فيها
ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال " إني أعلم ما لا تعلمون " يعني من شأن إبليس. فبعث الله
جبريل إلى الأرض ليأتيه بطين منها فقالت الأرض إني أعوذ بالله منك أن تنقص مني أو تشينني فرجع ولم يأخذ، وقال
يا رب إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل فعاذت منه فعاذها، فرجع فقال كما قال جبريل فبعث ملك الموت
79

فعاذت منه فقال: وأنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض وخلط ولم يأخذ من مكان واحد
وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء فلذلك خرج بنو آدم مختلفين فصعد به قبل التراب حتى عاد طينا لازبا واللازب
هو الذي يلتزق بعضه ببعض ثم قال للملائكة " إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين " فخلقه الله بيده لئلا يتكبر إبليس عنه ليقول له تتكبر عما عملت بيدي ولم أتكبر أنا عنه بخلقه بشرا، فكان
جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة فمرت به الملائكة ففزعوا منه لما رأوه فكان أشدهم فزعا منه إبليس
فكان يمر به فيضربه فيصوت الجسد كما يصوت الفخار يكون له صلصلة فذلك حين يقول " من صلصال كالفخار "
ويقول لأمر ما خلقت، ودخل من فيه فخرج من دبره، وقال للملائكة لا ترهبوا من هذا فإن ربكم صمد وهذا أجوف
لئن سلطت عليه لأهلكنه، فلما بلغ الحين الذي يريد الله عز وجل أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة إذا نفخت فيه من
روحي فاسجدوا له، فلما نفخ فيه الروح فدخل الروح في رأسه عطس فقالت الملائكة قل الحمد لله فقال، فقال له
الله " يرحمك الله " فلما دخلت الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخل الروح إلى جوفه اشتهى الطعام فوثب
قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة فذلك حين يقول الله تعالى " خلق الانسان من عجل " فسجد
الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين، أبى واستكبر وكان من الكافرين، قال الله له ما
منعك أن تسجد إذ أمرتك لما خلقت بيدي؟ قال أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، قال الله له " اخرج
منها فما يكون لك " يعنى ما ينبغي لك " أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين " والصغار هو الذل قال " وعلم آدم
الأسماء كلها " ثم عرض الخلق على الملائكة " فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين " أن بني آدم يفسدون
في الأرض ويسفكون الدماء، فقالوا " سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم " قال الله يا آدم
أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم
تكتمون " قال: قولهم " أتجعل فيها من يفسد فيها " فهذا الذي أبدوا " وأعلم ما تكتمون " يعني ما أسر إبليس في
نفسه من الكبر، فهذا الاسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة فلعل بعضها
مدرج ليس من كلام الصحابة أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله أعلم. والحاكم يروي في مستدركه بهذا
الاسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري.
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه
كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الامر، وسنبسط المسألة إن شاء الله
تعالى عند قوله " إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " ولهذا قال: محمد بن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن
طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض،
وكان من أشد الملائكة اجتهادا، وأكثرهم علما، فذلك دعاه إلى الكبر، وكان من حي يسمون جنا. وفي رواية عن
خلاد عن عطاء عن طاوس أو مجاهد عن ابن عباس أو غيره بنحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن
سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
كان إبليس اسمه عزازيل، وكان من أشراف الملائكة من ذوي الأجنحة الأربعة، ثم أبلس بعد وقال سنيد: عن
حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على
الجنان، وكان له سلطان سماء الدنيا، وكان له سلطان على الأرض، وهكذا روى الضحاك وغيره عن ابن عباس
سواء. وقال صالح مولى التوأمة عن ابن عباس: إن من الملائكة قبيلا يقال لهم الجن، وكان إبليس منهم، وكان
يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فمسخه الله شيطانا رجيما، رواه ابن جرير. وقال قتادة عن سعيد بن
المسيب: كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا عدي بن أبي عدي
عن عوف عن الحسن قال: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الانس،
80

وهذا إسناد صحيح عن الحسن، وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سواء. وقال شهر بن حوشب: كان
إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير. وقال سنيد بن
داود: حدثنا هشيم أنبأنا عبد الرحمن بن يحيى عن موسى بن نمير وعثمان بن سعيد بن كامل عن سعد بن مسعود
قال: كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيرا فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم
سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى " إلا إبليس كان من الجن " وقال ابن جرير حدثنا محمد بن سنان البزار حدثنا
أبو عاصم عن شريك عن رجل عن عكرمة عن ابن عباس قال: إن الله خلق خلقا فقال اسجدوا لآدم فقالوا لا نفعل
فبعث الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق خلقا آخر فقال " إني خالق بشرا من طين " اسجدوا لآدم قال فأبوا فبعث
الله عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق هؤلاء فقال اسجدوا لآدم قالوا نعم وكان إبليس من أولئك الذين أبوا أن يسجدوا
لآدم - وهذا غريب ولا يكاد يصح إسناده فإن فيه رجلا مبهما ومثله لا يحتج به والله أعلم. وقال: ابن أبي حاتم
حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا صالح بن حيان حدثنا عبد الله بن بريدة: قوله تعالى " وكان من
الكافرين " من الذين أبوا فأحرقتهم النار، وقال أبو جعفر رضي الله عنه عن الربيع عن أبي العالية " وكان من
الكافرين " يعني من العاصين وقال السدي " وكان من الكافرين " الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد، وقال
محمد بن كعب القرظي ابتدأ الله خلق إبليس من الكفر والضلالة وعمل بعمل الملائكة فصيره الله إلى ما أبدى عليه
خلقه على الكفر، قال الله تعالى " وكان من الكافرين " وقال قتادة في قوله تعالى " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم "
فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته، وقال بعض الناس كان هذا سجود تحية وسلام
وإكرام كما قال تعالى " ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي
حقا " وقد كان هذا مشروعا في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا. قال معاذ: قدمت الشام فرأيتهم يسجدون
لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال " لا. لو كنت آمرا بشرا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة
أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها " ورجحه الرازي وقال بعضهم بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها كما قال
تعالى " أقم الصلاة لدلوك الشمس " وفي هذا التنظير نظر والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم إكراما وإعظاما
واحتراما وسلاما وهي طاعة لله عز وجل لأنها امتثال لامره تعالى. وقد قواه الرازي في تفسيره وضعف ما عداه من
القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع
الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال، وقال قتادة في قوله تعالى " فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من
الكافرين " حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال أنا ناري وهذا طيني وكان بدء
الذنوب الكبر استكبر عدو الله أن يسجد لآدم عليه السلام قلت وقد ثبت في الصحيح " لا يدخل الجنة من كان في
قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " وقد كان في قلب إبليس من الكبر - والكفر - والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن
جناب الرحمة وحضرة القدس قال بعض المعربين وكان من الكافرين أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه كما قال
" فكان من المغرقين " وقال " فتكونا من الظالمين " وقال الشاعر:
بتيهاء فقر والمطي كأنها * قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
أي قد صارت وقال ابن فورك تقديره وقد كان في علم الله من الكافرين ورجحه القرطبي وذكر ههنا مسألة فقال: قال
علماؤنا من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق العادات فليس ذلك دالا على ولايته خلافا لبعض
الصوفية والرافضة هذا لفظه ثم استدل على ما قال بأنا لا نقطع بهذا الذي جرى الخارق على يديه أنه يوافي الله
بالايمان وهو لا يقطع بنفسه لذلك يعني والولي الذي يقطع له بذلك الامر قلت وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد
يكون على يد غير الولي بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال هو الدخ حين خبأ له
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين " وبما كان يصدر عنه أنه كان يملا
81

الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر، وبما ثبتت به الأحاديث عن الدجال بما يكون على يديه من
الخوارق الكثيرة من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر والأرض أن تنبت فتنبت وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأن
يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة. وقد قال: يونس بن عبد الأعلى الصدفي قلت للشافعي
كان الليث بن سعد يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على
الكتاب والسنة فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله. بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا
تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة وقد حكى الرازي وغيره قولين للعلماء هل المأمور بالسجود لآدم
خاص بملائكة الأرض أو عام بملائكة السماوات والأرض وقد رجح كلا من القولين طائفة وظاهر الآية الكريمة العموم
" فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس " فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم والله أعلم.
وقلنا يا أدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من
الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر
ومتاعا إلى حين (36)
يقول الله تعالى إخبارا عما أكرم به آدم: أنه أمر الملائكة بالسجود فسجدوا إلا إبليس وأنه أباح له الجنة يسكن منها
حيث يشاء ويأكل منها ما شاء رغدا أي هنيئا واسعا طيبا. وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث محمد بن
عيسى الدامغاني. حدثنا سلمة بن الفضل عن ميكائيل عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال قلت يا
رسول الله أرأيت آدم أنبيا كان قال " نعم نبيا رسولا يكلمه الله قبيلا " - يعني عيانا - فقال " أسكن أنت وزوجك
الجنة " وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم أهي في السماء أو في الأرض فالأكثرون على الأول وحكى القرطبي
عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى وسياق الآية
يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة وقد صرح بذلك محمد بن إسحاق حيث قال لما فرغ الله من معاتبة
إبليس أقبل على آدم وعلمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله " إنك أنت العليم الحكيم " قال ثم
ألقيت السنة على آدم فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس وغيره ثم أخذ
ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر ولام مكانه لحما وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته
حواء فسواها امرأة ليسكن إليها فلما كشف عنه السنة وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال فيما يزعمون والله أعلم
" لحمي ودمي وزوجتي " فسكن إليها فلما زوجه الله وجعل له سكنا من نفسه قال له قبيلا " يا آدم أسكن أنت
وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين " ويقال إن خلق حواء كان بعد
دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن
ناس من الصحابة أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة فكان يمشي فيها وحيشا ليس له زوج يسكن إليه فنام نومة
فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه فسألها ما أنت؟ قالت امرأة قال ولم خلقت؟ قالت لتسكن
إلي، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه ما اسمها يا آدم؟ قال حواء، قالوا ولم حواء؟ قال إنها خلقت من
شئ حي. قال الله " يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ".
وأما قوله " ولا تقربا هذه الشجرة " فهو إخبار من الله تعالى وامتحان لآدم وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي. قال
السدي عمن حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهى عنها آدم عليه السلام هي الكرم. وكذا قال سعيد بن جبير
والسدي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس، قال السدي أيضا في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح
82

عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود عن ناس من الصحابة " ولا تقربا هذه الشجرة " هي الكرم. وتزعم يهود
أنها الحنطة. وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي حدثنا أبو يحيى
الحماني حدثنا أبو النضر أبو عمر الخراز عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى عنها آدم عليه السلام هي
السنبلة، وقال عبد الرزاق: أنبأنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة، وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن حجاج عن مجاهد عن
ابن عباس قال: هي البر، وقال ابن جرير: وحدثني المثنى بن إبراهيم حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا القاسم
حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب
عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة، وسألتني عن الشجرة التي
تاب عندها آدم وهي الزيتونة، وكذلك فسره الحسن البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومحارب بن
دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البر
ولكن الحبة منها في الجنة ككلي البقر وألين من الزبد وأحلى من العسل. وقال سفيان الثوري عن حصين عن أبي
مالك " ولا تقربا هذه الشجرة " قال النخلة، وقال ابن جرير عن مجاهد " ولا تقربا هذه الشجرة " قال التينة، وبه
قال قتادة وابن جريج، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية كانت الشجرة من أكل منها أحدث
ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث، وقال عبد الرزاق: حدثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهران قال: سمعت
وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنة ونهاه عن أكل الشجرة وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها
من بعض وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته.
فهذه أقوال ستة في تفسير هذه الشجرة. قال الإمام العلامة أبو جعفر بن جرير رحمه الله: والصواب في ذلك أن يقال
إن الله عز وجل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ولا علم
عندنا بأي شجرة كانت على التعيين لان الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة وقد
قيل: كانت شجرة البر. وقيل كانت شجرة العنب. وقيل كانت شجرة التين. وجائز أن تكون واحدة منها وذلك علم
إذا علم لم ينفع العالم به علمه وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم، وكذلك رجح الابهام الرازي في
تفسيره وغيره وهو الصواب وقوله تعالى " فأزلهما الشيطان عنها " يصح أن يكون الضمير في قوله عنها عائدا إلى
الجنة فيكون معنى الكلام كما قرأ عاصم فأزالهما أي فنحاهما، ويصح أن يكون عائدا على أقرب المذكورين وهو
الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة فأزلهما أي من قبل الزلل فعلى هذا يكون تقدير الكلام " فأزلهما
الشيطان عنها " أي بسببها كما قال تعالى " يؤفك عنه من أفك " أي يصرف بسببه من هو مأفوك ولهذا قال تعالى
" فأخرجهما مما كانا فيه " أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنئ والراحة " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض
عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " أي قرار وأرزاق وآجال - إلى حين - أي إلى وقت مؤقت ومقدار معين
ثم تقوم القيامة، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده وأبي العالية ووهب بن منبه وغيرهم. ههنا أخبارا
إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته وسنبسط ذلك إن شاء الله في
سورة الأعراف، فهناك القصة أبسط منها ههنا والله الموفق. وقد قال ابن أبي حاتم ههنا: حدثنا علي بن الحسن بن
إشكاب، حدثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم رجلا طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول
ما بدا منه عورته فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن يا آدم مني
تفر؟ فلما سمع كلام الرحمن قال يا رب لا، ولكن استحياء ". قال: وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القرشي
سنة أربع وخمسين ومائتين، حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أبي بن
كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما ذاق آدم من الشجرة فر هاربا فتعلقت شجرة بشعره فنودي: يا آدم أفرارا مني؟
83

قال: بل حياء منك، قال: يا آدم أخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني فيها من عصاني ولو خلقت مثلك ملء
الأرض خلقا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين ". هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأبي بن
كعب رضي الله عنهما. وقال الحاكم: حدثنا أبو بكر بن باكويه عن محمد بن أحمد بن النضر عن معاوية بن عمرو
عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم الجنة إلا ما بين صلاة
العصر إلى غروب الشمس، ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال عبد بن حميد في تفسيره
حدثنا روح عن هشام عن الحسن قال: لبث آدم في الجنة ساعة من نهار تلك الساعة ثلاثون ومائة سنة من أيام
الدنيا. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس قال: خرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة فأخرج آدم
معه غصنا من شجر الجنة على رأسه تاج من شجر الجنة وهو الإكليل من ورق الجنة. وقال السدي: قال الله تعالى
" اهبطوا منها جميعا " فهبطوا ونزل آدم بالهند ونزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنة فبثه بالهند فنبتت
شجرة الطيب فإنما أصل ما يجاء به من الطيب من الهند من قبضة الورق التي هبط بها آدم، وإنما قبضها آسفا على
الجنة حين أخرج منها. وقال عمران بن عيينة: عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أهبط
آدم بدحنا أرض الهند. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن عطاء عن
سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم عليه السلام إلى أرض يقال لها دحنا بين مكة والطائف. وعن الحسن البصري
قال: أهبط آدم بالهند، وحواء بجدة، وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال، وأهبطت الحية بأصبهان، رواه
ابن أبي حاتم. وقال أبو محمد بن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار بن الحرث حدثنا محمد بن سعيد بن سابق
حدثنا عمر بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة. وقال رجاء بن
سلمة: أهبط آدم عليه السلام يداه على ركبتيه مطأطئا رأسه، وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه رافعا رأسه إلى
السماء. وقال عبد الرزاق: قال معمر أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال إن الله حين أهبط آدم من
الجنة إلى الأرض علمه صنعة كل شئ وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة غير أن هذه تتغير وتلك لا
تتغير. وقال الزهري عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير يوم طلعت فيه
الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها " رواه مسلم والنسائي. وقال الرازي: اعلم أن
في هذه الآية تهديدا عظيما عن كل المعاصي من وجوه " الأول " إنما يتصور ما جرى على آدم بسبب إقدامه على هذه
الزلة الصغيرة كان على وجل شديد من المعاصي قال الشاعر:
يا ناظرا يرنو بعيني راقد * ومشاهدا للامر غير مشاهد
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي * درج الجنان ونيل فوز العابد
أنسيت ربك حين أخرج آدما * منها إلى الدنيا بذنب واحد
وقال ابن القاسم: ولكننا سبي العدو فهل ترى * نعود إلى أوطاننا ونسلم
قال الرازي عن فتح الموصلي أنه قال: كنا قوما من أهل الجنة فسبانا إبليس إلى الدنيا فليس لنا إلا الهم والحزن
حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها. فإن قيل فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقول الجمهور من
العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك طردا قدريا والقدري لا يخالف ولا يمانع؟ فالجواب
أن هذا بعينه استدل به من يقول إن الجنة التي كان فيها آدم في الأرض لا في السماء كما قد بسطنا هذا في أول كتابنا
البداية والنهاية، وأجاب الجمهور بأجوبة أحدها أنه منع من دخول الجنة مكرما فأما على وجه السرقة والإهانة فلا
يمتنع، ولهذا قال بعضهم كما جاء في التوراة أنه دخل في فم الحية إلى الجنة. وقد قال بعضهم: يحتمل أنه
وسوس لهما وهو خارج باب الجنة. وقال بعضهم: يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء،
ذكرها الزمخشري وغيره. وقد أورد القرطبي ههنا أحاديث في الحيات وقتلهن وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد.
84

فتلقى ادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37)
قيل إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى: " قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين "
وروى عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي العالية والربيع بن أنس والحسن وقتادة ومحمد بن كعب القرظي وخالد بن
معدان وعطاء الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو إسحق السبيعي عن رجل من بني تميم قال: أتيت
ابن عباس فسألته ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم شأن الحج. وقال سفيان الثوري عن عبد العزيز بن
رفيع أخبرني من سمع عبيد بن عمير. وفي رواية قال مجاهد عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم يا رب خطيئتي التي
أخطأت شئ كتبته علي قبل أن تخلقني أو شئ ابتدعته من قبل نفسي؟ قال " بل شئ كتبته عليك قبل أن أخلقك "
قال: فكما كتبته علي فاغفر لي. قال فذلك قوله تعالى " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه " وقال السدي عمن
حدثه عن ابن عباس فتلقى آدم من ربه كلمات قال: قال آدم عليه السلام: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال له بلى.
قال: ونفخت في من روحك؟ قيل له بلى، قال: أرأيت إن تبت هل أنت راجعي إلى الجنة؟ قال نعم. وهكذا
رواه العوفي وسعيد بن جبير وسعيد بن معبد عن ابن عباس بنحوه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن جبير
عن ابن عباس. وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وهكذا فسره السدي وعطية العوفي. وقد روى ابن أبي حاتم
ههنا حديثا شبيها بهذا فقال: حدثنا علي بن الحسين بن اشكاب حدثنا ابن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال آدم عليه السلام أرأيت يا رب إن تبت ورجعت أعائدي
إلى الجنة؟ قال نعم، فذلك قوله " فتلقى آدم من ربه كلمات " " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع:
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال
إن آدم لما أصاب الخطيئة قال أرأيت إن تبت يا رب وأصلحت؟ قال الله " إذا أدخلك الجنة " فهي الكلمات، ومن
الكلمات أيضا " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد
أنه كان يقول في قول الله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه. قال الكلمات: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك
وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني
ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك رب إني ظلمت نفسي فتب علي
إنك أنت التواب الرحيم. وقوله تعالى " إنه هو التواب الرحيم " أي إنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله " ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " وقوله " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " الآية، وقوله " ومن تاب وعمل
صالحا " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب، ويتوب على من يتوب، وهذا من لطفه بخلقه
ورحمته بعبيده، لا إله إلا هو التواب الرحيم.
قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (38) والذين كفروا
وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39)
يقول تعالى مخبرا عما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة والمراد الذرية أنه سينزل الكتب ويبعث
الأنبياء والرسل كما قال أبو العالية الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان، وقال مقاتل بن حيان: الهدى
محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن الهدى القرآن، وهذان القولان صحيحان. وقول أبي العالية أعم " فمن اتبع هداي "
أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل " فلا خوف عليهم " أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة " ولا هم
يحزنون " على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما
يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى " قال ابن عباس فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
85

(ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) كما قال ههنا (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. أورد ابن جرير هاهنا حديثا
ساقه من طريقين عن أبي سلمة سعيد بن يزيد عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد واسمه سعد بن
مالك بن سنان الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ولكن
أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة " وقد رواه مسلم من حديث شعبة
عن أبي سلمة به. وذكر هذا الاهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول وزعم بعضهم أنه تأكيد
وتكرير كما يقال قم قم، وقال آخرون بل الاهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا والثاني من سماء الدنيا إلى
الأرض والصحيح الأول والله أعلم.
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم إياي فارهبون (40) وآمنوا
بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون (41)
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الاسلام، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام، ومهيجا لهم
بذكر أبيهم إسرائيل وهو نبي الله يعقوب عليه السلام، وتقديره يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في
متابعة الحق كما تقول يا ابن الكريم افعل كذا يا ابن الشجاع بارز الابطال، يا ابن العالم اطلب العلم، ونحو
ذلك. ومن ذلك أيضا قوله تعالى " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا " فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه
أبو داود الطيالسي حدثنا عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب قال: حدثني عبد الله بن عباس قال حضرت
عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم " هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ " قالوا اللهم نعم،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اشهد " وقال الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس
أن إسرائيل كقولك عبد الله وقوله تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " قال مجاهد نعمة الله التي أنعم بها
عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجر لهم الحجر وأنزل عليهم المن والسلوى ونجاهم من عبودية آل فرعون.
وقال أبو العالية: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل أو نزل عليهم الكتب، قلت وهذا كقول موسى عليه السلام
لهم (يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين) يعني
في زمانهم. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس في
قوله تعالى " اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجاهم من فرعون وقومه
" وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " قال بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم أنجز لكم ما وعدتكم
عليه من تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من
أحداثكم. وقال الحسن البصري هو قوله تعالى " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال
الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم
سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار " الآية، وقال آخرون هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه
سيبعث من بني إسماعيل نبيا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله
الجنة وجعل له أجرين. وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقال أبو
العالية " وأوفوا بعهدي " قال عهده إلى عباده دين الاسلام وأن يتبعوه. وقال الضحاك عن ابن عباس: أوف
بعهدكم قال أرض عنكم وأدخلكم الجنة، وكذا قال السدي والضحاك وأبو العالية والربيع بن أنس، وقوله تعالى
" وإياي فارهبون " أي فاخشون قاله أبو العالية والسدي والربيع بن أنس وقتادة. وقال ابن عباس في قوله تعالى
" وإياي فارهبون " أي إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ
86

وغيره وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع
الرسول صلى الله عليه وسلم والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، ولهذا
قال " وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم " يعني به القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيرا
ونذيرا وسراجا منيرا مشتملا على الحق من الله تعالى مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية رحمه
الله في قوله تعالى " وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم " يقول يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم
يقول لأنهم يجدون محمدا صلى الله عليه وسلم مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، وروى عن مجاهد والربيع بن أنس وقتادة نحو
ذلك وقوله " ولا تكونوا أول كافر به " قال بعض المعربين أول فريق كافر به أو نحو ذلك. قال ابن عباس: ولا
تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم، قال أبو العالية: يقول ولا تكونوا أول من كفر
بمحمد صلى الله عليه وسلم يعني من جنسكم أهل الكتاب بعد سماعكم بمبعثه وكذا قال الحسن والسدي والربيع بن أنس واختار ابن
جرير أن الضمير في قوله به عائد على القرآن الذي تقدم ذكره في قوله " بما أنزلت " وكلا القولين صحيح لأنهما
متلازمان لان من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن وأما قوله " أول كافر به "
فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير وإنما المراد أول
من كفر به من بني إسرائيل مباشرة فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنهم أول من
كفر به من جنسهم، وقوله تعالى " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يقول لا تعتاضوا عن الايمان بآياتي وتصديق
رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية كما قال عبد الله بن المبارك: أنبأنا عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن
هارون بن يزيد قال: سئل الحسن يعني البصري عن قوله تعالى " ثمنا قليلا " قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها
وقال ابن لهيعة: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " إن آياته
كتابه الذي أنزله إليهم وإن الثمن القليل الدنيا وشهواتها، وقال السدي: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا يقول لا تأخذوا
طمعا قليلا ولا تكتموا اسم الله فذلك الطمع هو الثمن، وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله
تعالى " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " يقول لا تأخذوا عليه أجرا، قال وهو مكتوب عندهم في الكتاب الأول: يا
ابن آدم علم مجانا كما علمت مجانا، وقيل معناه لا تعتاضوا عن البيان والايضاح ونشر العلم النافع في الناس
بالكتمان واللبس لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب، وفي سنن أبي داود عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من
الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة " فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة
ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله فإن لم يحصل له منه شئ وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما
لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء كما في
صحيح البخاري عن أبي سعيد في قصة اللديغ " إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله " وقوله في قصة المخطوبة
" زوجتكها بما معك من القرآن " فأما حديث عبادة بن الصامت أنه علم رجلا من أهل الصفة شيئا من القرآن فأهدى له
قوسا فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن أحببت أن تطوق بقوس من نار فاقبله " فتركه، رواه أبو داود وروي مثله عن
أبي بن كعب مرفوعا فإن صح إسناده فهو محمول عند كثير من العلماء منهم أبو عمر بن عبد البر على أنه لما علمه الله
لم يجز بعد هذا أن يعتاض عن ثواب الله بذلك القوس فأما إذا كان من أول الأمر على التعليم بالأجرة فإنه يصح كما
في حديث اللديغ وحديث سهل في المخطوبة والله أعلم وقوله " وإياي فاتقون " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو عمر
الدوري حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن طلق بن حبيب قال: التقوى أن تعمل
بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله وأن ترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله. ومعنى قوله
" وإياي فاتقون " أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله
وسلامه عليه.
87

ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون (42) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين (43)
يقول تعالى ناهيا لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل. تمويهه وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل
" ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " فنهاهم عن الشيئين معا وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به
ولهذا قال الضحاك عن ابن عباس - ولا تلبسوا الحق بالباطل - لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب، وقال أبو
العالية - ولا تلبسوا الحق بالباطل - يقول ولا تخلطوا الحق بالباطل وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويروى
عن سعيد بن جبير والربيع بن أنس نحوه وقال قتادة " ولا تلبسوا الحق بالباطل " ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية
بالاسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الاسلام وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله. وروى عن الحسن البصري
نحو ذلك. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس
" وتكتموا الحق وأنتم تعلمون " أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوبا
عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم، وروى عن أبي العالية نحو ذلك، وقال مجاهد والسدي وقتادة
والربيع بن أنس " وتكتموا الحق " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " قلت " وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوما ويحتمل أن يكون
منصوبا أي لا تجمعوا بين هذا وهذا كما يقال لا تأكل السمك وتشرب اللبن، قال الزمخشري وفي مصحف ابن
مسعود وتكتمون الحق أي في حال كتمانكم الحق وأنتم تعلمون حال أيضا، ومعناه وأنتم تعلمون الحق. ويجوز أن
يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار
إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروجوه عليهم والبيان الايضاح وعكسه الكتمان وخلط
الحق بالباطل (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) قال مقاتل قوله تعالى لأهل الكتاب " وأقيموا
الصلاة " أمرهم أن يصلوا مع النبي " وآتوا الزكاة " أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم " واركعوا
مع الراكعين " أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول كونوا معهم ومنهم، وقال علي بن طلحة عن
ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله والاخلاص، وقال وكيع عن أبي جناب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " وآتوا
الزكاة، قال: ما يوجب الزكاة؟ قال: مائتان فصاعدا، وقال مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله تعالى " وآتوا
الزكاة " قال فريضة واجبة لا تنفع الأعمال إلا بها وبالصلاة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن
أبي شيبة حدثنا جرير عن أبي حيان التيمي عن الحارث العكلي في قوله تعالى " وآتوا الزكاة " قال صدقة الفطر
وقوله تعالى " واركعوا مع الراكعين " أي وكونوا مع المؤمنين في أحسن أعمالهم ومن أخص ذلك وأكمله الصلاة.
وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية على وجوب الجماعة، وأبسط لك في كتاب الأحكام الكبير إن شاء الله
تعالى، وقد تكلم القرطبي على مسائل الجماعة والإمامة فأجاد.
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44)
يقول تعالى كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر وهو جماع الخير أن تنسوا أنفسكم فلا
تأتمرون بما تأمرون الناس به وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصر في أوامر الله؟ أفلا تعقلون ما
أنتم صانعون بأنفسكم، فتنتبهوا من رقدتكم، وتتبصروا من عمايتكم. وهذا كما قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
في قوله تعالى " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " قال كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله وبتقواه وبالبر
ويخالفون فعيرهم الله عز وجل وكذلك قال السدي وقال ابن جريج " أتأمرون الناس بالبر " أهل الكتاب والمنافقون
كانوا يأمرون الناس بالصوم والصلاة ويدعون العمل بما يأمرون به الناس فعيرهم الله بذلك فمن أمر بخير فليكن أشد
الناس فيه مسارعة. وقال محمد بن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " وتنسون
أنفسكم " أي تتركون أنفسكم (وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة
88

والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي وتنقضون ميثاقي
وتجحدون ما تعلمون من كتابي، وقال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين
محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم، وقال أبو جعفر بن جرير حدثني علي بن الحسن
حدثنا أسلم الحرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن أيوب السختياني عن أبي قلابة في قول الله تعالى " أتأمرون الناس
بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب " قال أبو الدرداء رضي الله عنه لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس
في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية هؤلاء اليهود
إذا جاء الرجل سألهم عن الشئ ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق فقال الله تعالى " أتأمرون الناس بالبر وتنسون
أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون " والغرض أن الله تعالى ذمهم على هذا الصنيع ونبههم على خطئهم في حق
أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له بل على تركهم له فإن
الامر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ولا يتخلف
عنهم كما قال شعيب عليه السلام " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما
توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب " فكل من الامر بالمعروف وفعله واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على
أصح قولي العلماء من السلف والخلف وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها وهذا ضعيف
وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله وينهى عن
المنكر وإن ارتكبه، قال مالك عن ربيعة سمعت سعيد بن جبير يقول لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن
المنكر حتى لا يكون فيه شئ ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك وصدق من ذا الذي ليس فيه
شئ؟ " قلت " لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية لعلمه بها ومخالفته على بصيرة فإنه ليس
من يعلم كمن لا يعلم ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال الإمام أبو القاسم الطبراني في معجمه
الكبير حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسن بن علي العمري قالا حدثنا هشام بن عمار حدثنا علي بن سليمان
الكلبي حدثنا الأعمش عن أبي تميمة الهجيمي عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" مثل العالم الذي يعلم الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضئ للناس ويحرق نفسه " هذا حديث غريب من
هذا الوجه. حديث آخر. قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا وكيع حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد
هو ابن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض
شفاههم بمقاريض من نار - قال قلت من هؤلاء؟ قالوا خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " ورواه عبد بن حميد في مسنده وتفسيره عن الحسن بن موسى عن
حماد بن سلمة به ورواه ابن مردويه في تفسيره من حديث يونس بن محمد المؤدب والحجاج بن منهال كلاهما عن
حماد بن سلمة به وكذا رواه يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة به، ثم قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن
إبراهيم حدثنا موسى بن هارون حدثنا. إسحق بن إبراهيم التستري ببلخ حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عمر بن قيس
عن علي بن زيد عن ثمامة عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض
شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار قلت من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء خطباء أمتك الذين يأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم " وأخرجه ابن حبان في صحيحه وابن أبي حاتم وابن مردويه أيضا من حديث هشام الدستوائي عن
المغيرة يعني ابن حبيب ختن مالك بن دينار عن مالك بن دينار عن ثمامة عن أنس بن مالك قال لما عرج
برسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم تقرض شفاههم فقال " يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر
وينسون أنفسهم أفلا يعقلون " حديث آخر. قال الإمام أحمد حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال:
قيل لأسامة وأنا رديفه ألا تكلم عثمان. فقال: إنكم ترون أني لا أكلمه ألا أسمعكم إني لأكلمه فيما بيني وبينه دون
أن أفتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه والله لا أقول لرجل إنك خير الناس وإن كان علي أميرا بعد أن سمعت
89

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - قالوا وما سمعته - يقول؟ قال: سمعته يقول " يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به
أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك ألم تكن تأمرنا
بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه " ورواه البخاري
ومسلم من حديث سليمان بن مهران الأعمش به نحوه، وقال: أحمد حدثنا سيار بن حاتم حدثنا جعفر بن سليمان
عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء " وقد ورد في بعض
الآثار: إنه يغفر للجاهل سبعين مرة حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم. وقال تعالى " قل هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب " وروى ابن عساكر في ترجمة الوليد بن عقبة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أناسا من أهل الجنة يطلعون على أناس من أهل النار فيقولون بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا
الجنة إلا بما تعلمنا منكم فيقولون إنا كنا نقول ولا نفعل " ورواه ابن جرير الطبري عن أحمد بن يحيى الخباز الرملي
عن زهير بن عباد الرواسي عن أبي بكر الزهري عبد الله بن حكيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن
الوليد بن عقبة فذكره وقال: الضحاك عن ابن عباس إنه جاءه رجل فقال: يا ابن عباس إني أريد أن آمر بالمعروف
وأنهى عن المنكر، قال أبلغت ذلك؟ قال أرجو، قال إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل، قال
وما هن؟ قال قوله تعالى " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " أحكمت هذه؟ قال لا، قال فالحرف الثاني قال
قوله تعالى " لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " أحكمت هذه؟ قال لا قال فالحرف
الثالث قال قول العبد الصالح شعيب عليه السلام " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح "
أحكمت هذه الآية؟ قال لا قال فابدأ بنفسك. رواه ابن مردويه في تفسيره وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد
حدثنا زيد بن الحارث، حدثنا عبد الله بن خراش عن العوام بن حوشب عن المسيب بن رافع عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعا الناس إلى قول أو عمل ولم يعمل هو به لم يزل في ظل سخط الله حتى يكف أو يعمل ما قال
أو دعا إليه " إسناده فيه ضعف وقال إبراهيم النخعي إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى " أتأمرون الناس بالبر
وتنسون أنفسكم " وقوله " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " وقوله
إخبارا عن شعيب " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه
توكلت وإليه أنيب ".
واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه يرجعون (46)
يقول تعالى آمرا عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل بن حيان في تفسير
هذه الآية استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة فأما الصبر فقيل إنه الصيام نص عليه مجاهد قال
القرطبي وغيره ولهذا يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث وقال: سفيان الثوري عن أبي إسحق عن جري
ابن كليب عن رجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الصوم نصف الصبر " وقيل المراد بالصبر الكف عن المعاصي
ولهذا قرنه بأداء العبادات وأعلاها فعل الصلاة. قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد الله بن حمزة بن إسماعيل حدثنا إسحاق
بن سليمان عن أبي سنان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال الصبر صبران صبر عند المصيبة حسن
وأحسن منه الصبر عن محارم الله. قال: وروي عن الحسن البصري نحو قول عمر. وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة
عن مالك بن دينار عن سعيد بن جبير قال الصبر اعتراف العبد لله بما أصيب فيه واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه وقد
يجزع الرجل وهو يتجلد لا يرى منه إلا الصبر. وقال أبو العالية في قوله تعالى " واستعينوا بالصبر والصلاة " قال على
مرضاة الله وأعلموا أنها من طاعة الله وأما قوله والصلاة إن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الامر كما قال تعالى
" أتل ما أوحى إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر " الآية وقال الامام
90

أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي
قال: قال عبد العزيز أخو حذيفة قال حذيفة يعني ابن اليمان رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى،
ورواه أبو داود عن محمد بن عيسى عن يحيى بن زكريا عن عكرمة بن عمار كما سيأتي وقد رواه ابن جرير من حديث
ابن جريج عن عكرمة بن عمار عن محمد بن أبي عبيد بن أبي قدامة عن عبد العزيز بن اليمان عن حذيفة قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. ورواه بعضهم عن عبد العزيز بن أخي حذيفة ويقال: أخي حذيفة
مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة حدثنا سهل بن عثمان العسكري حدثنا
يحيى بن زكريا بن أبي زائدة قال: قال عكرمة بن عمار قال: محمد بن عبد الله الدؤلي قال: عبد العزيز قال
حذيفة رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شملة يصلي وكان إذا حز به أمر صلى. حدثنا عبد الله بن
معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي إسحق سمع حارثة بن مضرب سمع عليا رضي الله عنه يقول لقد رأيتنا ليلة بدر
وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويدعو حتى أصبح. قال ابن جرير وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر
بأبي هريرة وهو منبطح على بطنه فقال له " أشكم درد " ومعناه أيوجعك بطنك! قال: نعم - قال: " قم فصل فإن
الصلاة شفاء " قال ابن جرير وقد حدثنا محمد بن الفضل ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية، حدثنا عيينة بن
عبد الرحمن عن أبيه أن ابن عباس نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ثم تنحى عن الطريق فأناخ فصلى
ركعتين أطال فيهما الجلوس ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين " وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج " واستعينوا بالصبر والصلاة " قال إنهما معونتان على رحمة الله.
والضمير في قوله وإنها لكبيرة عائد إلى الصلاة نص عليه مجاهد واختاره ابن جرير ويحتمل أن يكون عائدا على ما
يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن
آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون " وقال تعالى " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " أي وما يلقى هذه
الوصية إلا الذين صبروا وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم. وعلى كل تقدير فقوله تعالى وإنها لكبيرة أي
مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يعني المصدقين بما أنزل الله، وقال: مجاهد
المؤمنين حقا وقال: أبو العالية إلا على الخاشعين الخائفين وقال مقاتل بن حيان إلا على الخاشعين يعني به
المتواضعين وقال: الضحاك وإنها لكبيرة، قال: إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته الخائفين سطوته المصدقين
بوعده ووعيده. وهذا يشبه ما جاء في الحديث. " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه " وقال:
ابن جرير معنى الآية واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من
الفحشاء والمنكر المقربة من رضاء الله العظيمة إقامتها إلا على الخاشعين أي المتواضعين المستكينين لطاعته
المتذللين من مخافته. هكذا قال: والظاهر أن الآية وإن كانت خطابا في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا
بها على سبيل التخصيص وإنما هي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم.
وقوله تعالى " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون " هذا من تمام الكلام الذي قبله أي أن الصلاة أو
الوصاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة
معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله فلهذا لما أيقنوا بالمعاد
والجزاء سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات فأما قوله " يظنون أنهم ملاقوا ربهم " قال ابن جرير رحمه الله
العرب قد تسمى اليقين ظنا والشك ظنا نظير تسميتهم الظلمة سدفة والضياء سدفة والمغيث صارخا والمستغيث
صارخا وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشئ وضده كما قال دريد بن الصمة.
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج * سراتهم في الفارسي المسرد
91

يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم، وقال عمير بن طارق.
فإن يعبروا قومي وأقعد فيكم * وأجعل مني الظن غيبا مرجما
يعني وأجعل مني اليقين غيبا مرجما، قال والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من
أن تحصر وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ومنه قول الله تعالى " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " ثم قال
ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان عن جابر عن مجاهد كل ظن في القرآن يقين
أي ظننت وظنوا وحدثني المثنى، حدثنا أبو داود الجبري عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال كل ظن في
القرآن فهو علم وهذا سند صحيح وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " الذين
يظنون أنهم ملاقوا ربهم " قال: الظن هاهنا يقين، قال: ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد والسدي والربيع بن أنس
وقتادة نحو قول أبي العالية، وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج " الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم " علموا أنهم
ملاقوا ربهم كقوله " إني ظننت أني ملاق حسابيه " يقول علمت وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " قلت " وفي
الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة " ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس
وترتع "؟ فيقول بلى فيقول الله تعالى " أظننت أنك ملاقي "؟ فيقول لا فيقول الله " اليوم أنساك كما نسيتني " وسيأتي
مبسوطا عند قوله تعالى " نسوا الله فنسيهم " إن شاء الله تعالى.
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47)
يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم وما كان فضلهم به من إرسال الرسل منهم وإنزال الكتب عليهم
وعلى سائر الأمم من أهل زمانهم كما قال تعالى " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " وقال تعالى " وإذ قال
موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين "
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " وأني فضلتكم على العالمين " قال بما أعطوا
من الملك والرسل والكتب على عالم من كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالما وروى عن مجاهد والربيع بن
أنس وقتادة وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك ويجب الحمل على هذا لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى خطابا
لهذه الأمة " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب
لكان خيرا لهم " وفي المسانيد والسنن عن معاوية بن حيدة القشيري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم توفون سبعين أمة
أنتم خيرها وأكرمها على الله " والأحاديث في هذا كثيرة تذكر عند قوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " وقيل
المراد تفضيل بنوع ما من الفضل على سائر الناس ويلزم تفضيلهم مطلقا حكاه الرازي وفيه نظر، وقيل إنهم
فضلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم حكاه القرطبي في تفسيره وفيه نظر لان العالمين
عام يشتمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ومحمد بعدهم وهو
أفضل من جميع الخلق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه.
واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون (48)
لما ذكرهم تعالى بنعمه أولا عطف على ذلك التحذير من طول نقمه يوم القيامة فقال: " واتقوا يوما " يعني يوم
القيامة " لا تجزي نفس عن نفس شيئا " أي لا يغني أحد عن أحد كما قال " ولا تزر وازرة وزر أخرى " وقال:
" لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " وقال: " يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود
هو جاز عن والده شيئا " فهذا أبلغ المقامات أن كلا من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئا، وقوله تعالى
92

" ولا يقبل منها شفاعة " يعني من الكافرين كما قال " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وكما قال عن أهل النار " فما لنا
من شافعين ولا صديق حميم " وقوله تعالى " ولا يؤخذ منها عدل " أي لا يقبل منها فداء كما قال تعالى " إن الذين
كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " وقال " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في
الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم " وقال تعالى " وإن تعدل كل
عدل لا يؤخذ منها " وقال " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم " الآية. فأخبر
تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة
قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء ء الأرض ذهبا كما قال تعالى " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا
خلة ولا شفاعة " وقال " لا بيع فيه ولا خلال " قال: سنيد حدثني حجاج حدثني ابن جريج قال: قال مجاهد قال
ابن عباس " ولا يؤخذ منها عدل " قال بدل والبدل الفدية، وقال السدي أما عدل فيعد لها من العدل يقول لو جاءت
بملء ء الأرض ذهبا تفتدي به ما تقبل منها، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال أبو جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله " ولا يقبل منها عدل " يعني فداء قال ابن أبي حاتم وروى عن أبي مالك
والحسن وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس نحو ذلك، وقال عبد الرزاق أنبأنا الثوري عن الأعمش عن إبراهيم
التيمي عن أبيه عن علي رضي الله عنه في حديث طويل قال والصرف والعدل التطوع والفريضة وكذا قال الوليد بن
مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة عن عمير بن هانئ وهذا القول غريب هاهنا والقول الأول أظهر في تفسير هذه الآية
وقد ورد حديث يقويه وهو ما قال ابن جرير حدثني نجيح بن إبراهيم حدثنا علي بن حكيم حدثنا حميد ابن
عبد الرحمن عن أبيه عن عمرو بن قيس الملائي عن رجل من بني أمية من أهل الشام أحسن عليه الثناء قال قيل يا
رسول الله ما العدل؟ قال " العدل الفدية " وقوله تعالى " ولا هم ينصرون " أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم
وينقذهم من عذاب الله كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ولا يقبل منهم فداء هذا كله من جانب
التلطف ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال " فما له من قوة ولا ناصر " أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر
به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد ولا يجير منه أحد كما قال تعالى " وهو يجير ولا
يجار عليه " وقال " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " وقال " ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم
مستسلمون " وقال " فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم " الآية وقال: الضحاك عن
ابن عباس في قوله تعالى " ما لكم لا تناصرون " ما لكم اليوم لا تمانعون منا هيهات ليس ذلك لكم اليوم قال ابن
جرير وتأويل قوله " ولا هم ينصرون " يعني أنهم يومئذ لا ينصرهم ناصر كما لا يشفع لهم شافع ولا يقبل منهم عدل
ولا فدية بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى
الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى
" وقفوهم إنهم مسؤولون * ما لكم لا تناصرون بل هم اليوم مستسلمون ".
وإذ نجيناكم من أل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم
(49) وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا أل فرعون وأنتم تنظرون (50)
يقول تعالى اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي خلصتكم منهم
وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب
وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته رأى نارا خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط ببلاد مصر إلا
بيوت بني إسرائيل مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ويقال بعد تحدث سماره عنده بأن
بني إسرائيل يتوقعون خروج رجل منهم يكون لهم به دولة ورفعة وهكذا جاء حديث الفتون كما سيأتي في موضعه
93

في سورة طه إن شاء الله تعالى فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل وأن تترك
البنات وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء وفي سورة إبراهيم عطف
عليه كما قال " يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة
القصص إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد. ومعنى يسومونكم يولونكم قاله أبو عبيدة كما يقال سامه خطة
خسف إذا أولاه إياها قال: عمرو بن كلثوم:
إذا ما الملك سام الناس خسفا * أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه يديمون عذابكم كما يقال سائمة الغنم من إدامتها الرعي. نقله القرطبي وإنما قال هاهنا " يذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم " ليكون ذلك تفسيرا للنعمة عليهم في قوله " يسومونكم سوء العذاب " ثم فسره بهذا لقوله ههنا
" اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم " وأما في سورة إبراهيم فلما قال " وذكرهم بأيام الله " أي بأياديه ونعمه عليهم
فناسب أن يقول هناك " يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم " بعطف عليه الذبح ليدل على
تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل. وفرعون علم كل من ملك مصر كافرا من العماليق وغيرهم كما أن قيصر علم
على كل من ملك الروم مع الشام كافرا وكسرى لمن ملك الفرس، وتبع لمن ملك اليمن كافرا، والنجاشي لمن
ملك الحبشة، وبطليموس لمن ملك الهند، ويقال: كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام
الوليد بن مصعب بن الريان، وقيل: مصعب بن الريان فكان من سلالة عمليق بن الأود بن إرم بن سام بن نوح
وكنيته أبو مرة وأصله فارسي من إصطخر وإياما كان فعليه لعنة الله، وقوله تعالى " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم "
قال ابن جرير وفي الذي فعلنا بكم من انجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون بلاء لكم من ربكم عظيم أي
نعمة عظيمة عليكم في ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله تعالى " بلاء من ربكم عظيم " قال
نعمة، وقال مجاهد " بلاء من ربكم عظيم " قال نعمة من ربكم عظيمة، وكذا قال أبو العالية وأبو مالك والسدي
وغيرهم وأصل البلاء الاختبار وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " وقال
" وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون " قال ابن جرير وأكثر ما يقال في الشر بلوته أبلوه بلاء وفي الخير
أبليه إبلاء وبلاء، قال زهير بن أبي سلمى:
جزى الله بإحسان ما فعلا بكم * وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
قال فجمع بين اللغتين لأنه أراد فأنعم الله عليهما خير النعم التي يختبر بها عباده وقيل المراد بقوله " وفي ذلكم بلاء "
إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال: القرطبي وهذا قول الجمهور ولفظه
بعدما حكى القول الأول، ثم قال: وقال الجمهور الإشارة إلى الذبح ونحوه والبلاء ههنا في الشر والمعنى وفي
الذبح مكروه وامتحان وقوله تعالى " وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون " معناه وبعد أن
أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر كما أخبر تعالى عن
ذلك مفصلا كما سيأتي في مواضعه ومن أبسطها ما في سورة الشعراء إن شاء الله " فأنجيناكم " أي خلصناكم منهم
وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم. قال عبد الرزاق
أنبأنا معمر عن أبي إسحق الهمداني عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى " وإذ فرقنا بكم البحر - إلى قوله -
وأنتم تنظرون " قال لما خرج موسى ببني إسرائيل بلغ ذلك فرعون فقال: لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة قال: فوالله
ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا فدعا بشاة فذبحت ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إلى ستمائة ألف من
القبط فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط فلما أتى موسى البحر قال له رجل من أصحابه يقال
له يوشع بن نون أين أمر ربك؟ قال أمامك؟ يشير إلى البحر فأقحم يوشع فرسه في البحر حتى بلغ الغمر فذهب به
الغمر ثم رجع، فقال: أين أمر ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت، ولا كذبت، فعل ذلك ثلاث مرات ثم أوحى الله
94

إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فضربه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - يقول مثل الجبل - ثم سار موسى
ومن معه واتبعهم فرعون في طريقهم حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال " وأغرقنا آل فرعون وأنتم
تنظرون " وكذلك قال غير واحد من السلف كما سيأتي بيانه في موضعه وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء كما
قال الإمام أحمد، حدثنا عفان، حدثنا عبد الوارث، حدثنا أيوب عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن
عباس قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال " ما هذا اليوم الذي تصومون "؟ قالوا
هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنا أحق بموسى منكم " فصامه وأمر بصومه، وروى هذا الحديث البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق عن
أيوب السختياني به نحو ما تقدم وقال أبو يعلى الموصلي، حدثنا أبو الربيع، حدثنا سلام يعني ابن سليم عن زيد
العمي عن يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فلق الله البحر لبني إسرائيل يوم عاشوراء " وهذا ضعيف من
هذا الوجه فإن زيد العمي فيه ضعف وشيخه يزيد الرقاشي أضعف منه.
وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة ثم أتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون
(52) وإذ أتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون (53)
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم لما عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد
المواعدة وكانت أربعين يوما وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر "
قيل إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر وقوله تعالى
" وإذ آتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " والفرقان " وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة " لعلكم
تهتدون " وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ولقوله تعالى " ولقد
آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون " وقيل الواو زائدة
والمعنى ولقد آتينا موسى الكتاب الفرقان وهذا غريب وقيل عطف عليه وإن كان المعنى واحدا كما في قول الشاعر:
وقدمت الأديم لراقشيه * فألفى قولها كذبا ومينا
وقال الآخر:
ألا حبذا هند وأرض بها هند * وهند أتى من دونها النأي والبعد
فالكذب هو المين، والنأي هو البعد. وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
فعطف الاقفار على الاقواء وهو هو.
وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم
عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54)
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى " وإذ قال
موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل " فقال ذلك حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل
ما وقع حتى قال الله تعالى " ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا " الآية.
قال: فذلك حين يقول موسى " يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل " قال أبو العالية وسعيد بن جبير
95

والربيع بن أنس " فتوبوا إلى بارئكم " أي إلى خالقكم قلت وفي قوله ههنا " إلى بارئكم " تنبيه على عظم جرمهم أي
فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. وقد روى النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث يزيد بن
هارون عن الأصبغ بن زيد الوراق عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فقال الله تعالى:
إن توبتهم أن يقتل كل واحد منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن فتاب
أولئك الذين كانوا خفي على موسى وهارون ما اطلع الله على ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل
والمقتول وهذا قطعة من حديث الفنون وسيأتي في سورة طه بكماله إن شاء الله. وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم بن
الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال
موسى لقومه توبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم. قال أمر
موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم قال: وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا وقام الذين لم يعكفوا
على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضا فانجلت الظلمة عنهم وقد
جلوا عن سبعين ألف قتيل كل من قتل منهم كانت له توبة وكل من بقي كانت له توبة. وقال ابن جرير: أخبرني
القاسم بن أبي برة أنه سمع سعيد بن جبير ومجاهدا يقولان في قوله تعالى " فاقتلوا أنفسكم " قالا: قال بعضهم إلى
بعض بالخناجر يقتل بعضهم بعض لا يحنو رجل على قريب ولا بعيد حتى ألوى موسى بثوبه فطرحوا ما بأيديهم
فكشف عن سبعين ألف قتيل وأن الله أوحى إلى موسى أن حسبي فقد اكتفيت فذلك حين ألوى موسى بثوبه. وروي
عن علي رضي الله عنه نحو ذلك وقال قتادة: أمر القوم بشديد من الامر فقاموا يتناحرون بالشفار يقتل بعضهم بعضا
حتى بلغ الله فيهم نقمته فسقطت الشفار من أيديهم فأمسك عنهم القتل فجعل لحيهم توبة وللمقتول شهادة. وقال
الحسن البصري: أصابتهم ظلمة حندس فقتل بعضهم بعضا، ثم انكشف عنهم فجعل توبتهم في ذلك وقال
السدي: في قوله " فاقتلوا أنفسكم " قال فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف فكان من قتل من الفريقين
شهيدا حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفا وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني
إسرائيل ربنا البقية البقية فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا ومن بقي مكفرا
عنه فذلك قوله " فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم " وقال الزهري: لما أمرت بنو إسرائيل بقتل أنفسهم برزوا
ومعهم موسى فاضطربوا بالسيوف وتطاعنوا بالخناجر وموسى رافع يديه حتى إذا فتر بعضهم قالوا يا نبي الله ادع الله لنا
وأخذوا بعضديه يسندون يديه فلم يزل أمرهم على ذلك حتى إذا قبل الله توبتهم قبض أيديهم بعضهم عن بعض فألقوا
السلاح وحزن موسى وبنو إسرائيل للذي كان من القتل فيهم فأوحى الله جل ثناؤه إلى موسى ما يحزنك أما من قتل
منهم فحي عندي يرزقون وأما من بقي فقد قبلت توبته فسر بذلك موسى وبنو إسرائيل رواه ابن جرير بإسناد جيد
عنه. وقال: ابن إسحاق لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه
فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم،
قال: فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر الله فأمر موسى من لم يكن عبد العجل أن يقتل من عبده فجلسوا بالأفنية
وأصلت عليهم القوم السيوف فجعلوا يقتلونهم فهش موسى فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب الله
عليهم وعفا عنهم وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما رجع موسى إلى قومه
وكانوا سبعين رجلا قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه، فقال: لهم موسى انطلقوا إلى موعد ربكم فقالوا يا
موسى ما من توبة قال بلى: اقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم - الآية، فاخترطوا السيوف
والجزرة والخناجر والسكاكين. قال: وبعث عليهم ضبابة قال فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضا،
قال: ويلقى الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري. قال ويتنادون فيها رحم الله عبدا صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه،
قال فقتلاهم شهداء وتيب على أحيائهم ثم قرأ " فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم ".
96

وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم
لعلكم تشكرون (56)
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق إذ سألتم رؤيتي جهرة عيانا مما لا يستطاع لكم ولا
لامثالكم كما قال ابن جريج، قال: ابن عباس في هذه الآية " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله
جهرة " قال علانية وكذا قال: إبراهيم بن طهمان عن عباد بن إسحاق عن أبي الحويرث عن ابن عباس أنه قال: في
قوله تعالى " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " أي علانية أي حتى نرى الله وقال قتادة والربيع بن أنس " حتى
نرى الله جهرة " أي عيانا وقال أبو جعفر عن الربيع بن أنس هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه قال
فسمعوا كلاما فقالوا " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " قال فسمعوا صوتا فصعقوا يقول مالوا. وقال: مروان بن الحكم فيما
خطب به على منبر مكة الصاعقة صيحة من السماء، وقال السدي في قوله " فأخذتكم الصاعقة " نار وقال:
عروة بن رويم في قوله " وأنتم تنظرون " قال: صعق بعضهم وبعض ينظرون ثم بعث هؤلاء وصعق هؤلاء وقال
السدي " فأخذتكم الصاعقة " فماتوا فقام موسى يبكي ويدعو الله، ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم
وقد أهلكت خيارهم " لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء
السبعين ممن اتخذوا العجل ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا رجل رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون: قال
فذلك قوله تعالى " ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " وقال الربيع بن أنس كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من
بعد الموت ليستوفوا آجالهم وكذا قال: قتادة وقال: ابن جرير حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن
محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه وللسامري ما قال:
وحرق العجل وذراه في اليم اختار موسى منهم سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما
صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور
سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم فقال له السبعون فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمروا به
وخرجوا للقاء الله قالوا: يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام
حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى فدخل فيه وقال: للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا
يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا
فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل ولا تفعل فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم
فقالوا لموسى " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة فماتوا جميعا وقام موسى يناشد
ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل
بما يفعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك واخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم
رجل واحد فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ " إنا هدنا إليك " فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل
ويطلب إليه حتى رد إليهم أرواحهم وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال لا إلا أن يقتلوا أنفسهم -
هذا سياق محمد بن إسحاق - وقال إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل
وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به أمر الله موسى أن يأتيه في كل أناس من بني إسرائيل يعتذرون
إليه من عبادة العجل ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجلا على عينه ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية وهذا
السياق يقتضي أن الخطاب توجه إلى بني إسرائيل في قوله " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة "
والمراد السبعون المختارون منهم ولم يحك كثير من المفسرين سواه، وقد أغرب الرازي في تفسيره حين حكى في
قصة هؤلاء السبعين أنهم بعد إحيائهم قالوا يا موسى إنك لا تطلب من الله شيئا إلا أعطاك فادعه أن يجعلنا أنبياء فدعا
97

بذلك فأجاب الله دعوته، وهذا غريب جدا إذ لا يعرف في زمان موسى نبي سوى هارون ثم يوشع بن نون وقد غلط
أهل الكتاب أيضا في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عز وجل فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمنع منه كيف
يناله هؤلاء السبعون.
القول الثاني في الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسير هذه الآية قال: لهم موسى لما رجع من عند ربه
بالألواح قد كتب فيها التوراة فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم ففعلوا فتاب الله عليهم فقال إن هذه
الألواح فيها كتاب الله فيه أمركم الذي أمركم به ونهيكم الذي نهاكم عنه، فقالوا ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى
نرى الله جهرة حتى يطلع الله علينا ويقول هذا كتابي فخذوه فماله لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى وقرأ قول الله
" لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " قال فجاءت غضبة من الله فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم فماتوا
أجمعون، قال ثم أحياهم الله من بعد موتهم وقرأ قول الله " ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " فقال لهم
موسى خذوا كتاب الله فقالوا لا، فقال أي شئ أصابكم؟ فقالوا أصابنا أنا متنا ثم أحيينا، قال خذوا كتاب الله قالوا
لا، فبعث الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم، وهذا السياق يدل على أنهم كلفوا بعد ما أحيوا. وقد حكى الماوردي
في ذلك قولين أحدهما أنه سقط التكليف عنهم لمعاينته الامر جهرة حتى صاروا مضطرين إلى التصديق والثاني
أنهم مكلفون لئلا يخلو عاقل من تكليف قال القرطبي وهذا هو الصحيح لان معاينتهم للأمور الفظيعة لا تمنع تكليفهم
لان بني إسرائيل قد شاهدوا أمورا عظاما من خوارق العادات وهم في ذلك مكلفون وهذا واضح والله أعلم.
وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (57)
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم شرع يذكرهم أيضا بما أسبغ عليهم من النعم فقال " وظللنا عليكم الغمام " وهو
جمع غمامة سمي بذلك لأنه يغم السماء أي يواريها ويسترها وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حر
الشمس كما رواه النسائي وغيره عن ابن عباس في حديث الفتون قال: ثم ظلل عليهم في التيه بالغمام قال ابن أبي
حاتم، وروى عن ابن عمر والربيع بن أنس وأبي مجلز والضحاك والسدي نحو قول ابن عباس وقال الحسن وقتادة
" وظللنا عليكم الغمام " كان هذا في البرية ظلل عليهم الغمام من الشمس وقال: ابن جرير قال: آخرون وهو غمام
أبرد من هذا وأطيب. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
" وظللنا عليكم الغمام " قال ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ولم يكن إلا لهم. وهكذا رواه
ابن جرير عن المثنى بن إبراهيم عن أبي حذيفة وكذا رواه الثوري وغيره عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وكأنه يريد
والله أعلم أنه ليس من زي هذا السحاب بل أحسن منه وأطيب وأبهى منظرا كما قال سنيد في تفسيره عن حجاج بن
محمد عن ابن جريج قال: قال ابن عباس " وظللنا عليكم الغمام " قال غمام أبرد من هذا وأطيب وهو الذي يأتي الله
فيه في قوله " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر.
قال ابن عباس وكان معهم في التيه: وقوله تعالى " وأنزلنا عليكم المن " اختلفت عبارات المفسرين في المن ما
هو؟ فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا.
وقال مجاهد المن صمغة وقال: عكرمة المن شئ أنزله الله عليهم مثل الظل شبه الرب الغليظ وقال: السدي قالوا يا
موسى كيف لنا بما ههنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان يسقط على شجرة الزنجبيل وقال: قتادة كان المن
ينزل عليهم في محلهم سقوط الثلج أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع
الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى ذلك فسد ولم يبق حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته
أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر معيشته ولا يطلبه لشئ وهذا كله في
البرية، وقال: الربيع بن أنس المن شراب كان ينزل عليهم مثل العسل فيمزجونه بالماء ثم يشربونه. وقال وهب بن
98

منبه وسئل عن المن فقال خبز رقاق مثل الذرة أو مثل النقي وقال أبو جعفر بن جرير حدثني محمد بن إسحاق حدثنا أبو
أحمد، حدثنا إسرائيل عن جابر عن عامر وهو الشعبي قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن وكذا قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه العسل ووقع في شعر أمية بن أبي الصلت حيث قال:
فرأى الله أنهم بمضيع * لا بذي مزرع ولا مثمورا
فسناها عليهم غاديات * ويرى مزنهم خلايا وخورا
عسلا ناطفا وماء فراتا * وحليبا ذا بهجة مزمورا
فالناطف هو السائل والحليب المزمور الصافي منه والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن فمنهم من
فسره بالطعام ومنهم من فسره بالشراب. والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك
مما ليس لهم فيه عمل ولا كد فالمن المشهور أن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا وإن
ركب مع غيره صار نوعا آخر ولكن ليس هو المراد من الآية وحده والدليل على ذلك قول البخاري، حدثنا أبو نعيم
حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير بن حريث عن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي " الكمأة من
المن وماؤها شفاء للعين " وهذا الحديث رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن عبد الملك وهو ابن عمير به
وأخرجه الجماعة في كتبهم إلا أبا داود من طرق عن عبد الملك وهو ابن عمير به وقال الترمذي حسن صحيح، ورواه
البخاري ومسلم من رواية الحسن العرني عن عمرو بن حريث به، وقال: الترمذي، حدثنا أبو عبيدة بن أبي السفر
ومحمود بن عيلان. قالا: حدثنا سعيد بن عامر عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " تفرد بإخراجه الترمذي
ثم قال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث محمد بن محمد بن عمرو ولا من حديث سعيد بن عامر
عنه، وفي الباب عن سعيد بن زيد وأبي سعيد وجابر كذا قال - وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من
طريق آخر عن أبي هريرة فقال: حدثنا أحمد بن الحسن بن أحمد البصري، حدثنا أسلم بن سهل، حدثنا
القاسم بن عيسى حدثنا طلحة بن عبد الرحمن عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وطلحة بن عبد الرحمن هذا
السلمي الواسطي يكنى بأبي محمد وقيل أبو سليمان المؤدب قال فيه الحافظ أبو أحمد بن عدي: روى عن قتادة
أشياء لا يتابع عليها. ثم قال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن شهر بن
حوشب عن أبي هريرة أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا الكمأة جدري الأرض فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن
وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم " وهذا الحديث قد رواه النسائي عن محمد بن بشار به
وعنه عن غندر عن شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة به وعن محمد بن بشار عن
عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن شهر بن حوشب بقصة الكمأة فقط. وروى النسائي أيضا وابن ماجة من حديث
محمد بن بشار عن أبي عبد الصمد بن عبد العزيز بن عبد الصمد عن مطر الوراق عن شهر بقصة العجوة عند النسائي
وبالقصتين عند ابن ماجة وهذه الطريق منقطعة بين شهر بن حوشب وأبي هريرة فإنه لم يسمع منه بدليل ما رواه
النسائي في الوليمة من سننه عن علي بن الحسين الدرهمي عن عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي هريرة. قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يذكرون الكمأة وبعضهم
يقول جدري الأرض فقال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وروى عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر
كما قال الإمام أحمد حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن جابر بن
عبد الله وأبي سعيد الخدري، قالا قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة
وهي شفاء من السم " وقال النسائي في الوليمة أيضا، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة
99

عن أبي بشر جعفر بن إياس عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد وجابر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " ثم رواه أيضا ابن ماجة من طرق عن الأعمش عن أبي بشر عن
شهر عنهما به وقد رويا - أعني النسائي من حديث جرير وابن ماجة من حديث سعيد بن أبي سلمة - كلاهما عن
الأعمش عن جعفر بن إياس عن أبي نضرة عن أبي سعيد رواه النسائي وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الكمأة من
المن وماؤها شفاء للعين " ورواه ابن مردويه عن أحمد بن عثمان عن عباس الدوري عن لاحق بن صواب عن
عمار بن رزيق عن الأعمش كابن ماجة وقال: ابن مردويه أيضا حدثنا أحمد بن عثمان حدثنا عباس الدوري حدثنا
الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي سعيد
الخدري قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كمآت فقال " الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين " وأخرجه
النسائي عن عمرو بن منصور عن الحسن بن الربيع به ثم ابن مردويه رواه أيضا عن عبد الله بن إسحاق عن الحسن بن
سلام عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش به، وكذا رواه النسائي عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن
عبيد الله بن موسى وقد روي من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه كما قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن
إبراهيم حدثنا حمدون بن أحمد حدثنا جويرة بن أشرس، حدثنا حماد عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تداروا في الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار، فقال بعضهم نحسبه الكمأة
فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " الكمأة من المن وماؤها شفاء العين والعجوة من الجنة وفيها شفاء من السم " وهذا الحديث
محفوظ أصله من رواية حماد بن سلمة. وقد روى الترمذي والنسائي من طريقه شيئا من هذا والله أعلم: وروى عن
شهر عن ابن عباس كما رواه النسائي أيضا في الوليمة عن أبي بكر أحمد بن علي بن سعيد عن عبد الله بن عون
الخراز عن أبي عبيدة الحداد عن عبد الجليل بن عطية عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الكمأة من المن
وماؤها شفاء للعين " فقد اختلف كما ترى فيه على شهر بن حوشب ويحتمل عندي أنه حفظه، ورواه من هذه الطرق
كلها وقد سمعه من بعض الصحابة وبلغه عن بعضهم فإن الأسانيد إليه جيدة وهو لا يتعمد الكذب وأصل الحديث
محفوظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم من رواية سعيد بن زيد رضي الله عنه.
وأما السلوى فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السلوى طائر يشبه بالسماني كانوا يأكلون منه. وقال السدي في
خبره ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة السلوى طائر
يشبه السماني، وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا
قرة ابن خالد عن جهضم عن ابن عباس، قال السلوى هو السماني وكذا، قال: مجاهد والشعبي والضحاك والحسن
وعكرمة والربيع بن أنس رحمهم الله تعالى وعن عكرمة أما السلوى فطير كطير يكون بالجنة أكبر من العصفور أو نحو
ذلك. وقال قتادة: السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب وكان الرجل يذبح منها قدر ما
يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم
سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشئ ولا يطلبه وقال: وهب بن منبه: السلوى طير سمين مثل الحمامة
كان يأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت وفي رواية عن وهب، وقال: سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام لحما
فقال الله لأطعمنهم من أقل لحم يعلم في الأرض فأرسل عليهم ريحا فأذرت عند مساكنهم السلوى وهو السماني مثل
ميل في ميل قيد رمح في السماء فخبئوا للغد فنتن اللحم وخنز الخبر، وقال السدي لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا
لموسى عليه السلام كيف لنا بما ههنا أين الطعام فأنزل الله عليهم المن فكان ينزل على شجر الزنجبيل، والسلوى
وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير فإن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه
فقالوا هذا الطعام فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عين فشرب كل سبط من
عين، فقالوا هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام، فقالوا هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول
100

معهم كما يطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى " وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى "
وقوله " وإذا ستسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم
كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين " وروي عن وهب بن منبه وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو
ما قاله السدي وقال: سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس خلق لهم في التيه ثياب، لا تخرق ولا
تدرن، قال ابن جريج: فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم
الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسدا قال: ابن عطية السلوى طير بإجماع المفسرين وقد غلط الهذلي في قوله
إنه العسل وأنشد في ذلك مستشهدا:
وقاسمها بالله جهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذا ما أشورها
قال فظن أن السلوى عسلا، قال القرطبي: دعوى الاجماع لا يصح لان المؤرخ أحد علماء اللغة والتفسير قال إنه
العسل واستدل ببيت الهذلي هذا وذكر أنه كذلك في لغة كنانة لأنه يسلي به ومنه عين سلوان، وقال الجوهري:
السلوى العسل واستشهد ببيت الهذلي أيضا والسلوانة بالضم خرزة كانوا يقولون إذا صب عليها ماء المطر فشربها
العاشق سلا قال الشاعر:
شربت على سلوانة ماء مزنة * فلا وجديد العيش يا مي ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان، وقال بعضهم، السلوان دواء يشفي الحزين فيسلو والأطباء يسمونه مفرج، قالوا والسلوى
جمع بلفظ الواحد أيضا كما يقال سماني للمفرد والجمع وويلي كذلك، وقال الخليل واحده سلواة وأنشد:
وإني لتعروني لذكراك هزة * كما انتفض السلواة من بلل القطر
وقال الكسائي: السلوى واحدة وجمعه سلاوي. نقله كله القرطبي. وقوله تعالى " كلوا من طيبات ما رزقناكم " أمر
إباحة وإرشاد وامتنان، وقوله تعالى " وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي أمرناهم بالاكل مما رزقناهم وأن
يعبدوا كما قال " كلوا من رزق ربكم واشكروا له " فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم هذا مع ما شاهدوه من الآيات
البينات، والمعجزات القاطعات، وخوارق العادات، ومن ههنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على
سائر أصحاب الأنبياء في صبرهم وثباتهم وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته منها عام تبوك في ذلك
القيظ والحر الشديد والجهد لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لما
أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملؤا كل وعاء
معهم وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملؤا أسقيتهم، ثم
نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر. فهذا هو الأكمل في اتباع الشئ مع قدر الله مع متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد
المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا
يفسقون (59)
يقول تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من برد مصر صحبة موسى عليه
السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة
101

فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان
أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس كما نص على ذلك السدي والربيع بن أنس وقتادة وأبو مسلم
الأصفهاني وغير واحد، وقد قال الله تعالى حاكيا عن موسى " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا
ترتدوا " الآيات. وقال: آخرون هي أريحا، ويحكى عن ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد وهذا بعيد لأنها ليست
على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحا، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها مصر، حكاه الرازي في
تفسيره والصحيح الأول أنها بيت المقدس، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه
السلام وفتحها الله عليهم عشية جمعة وقد حبست لهم الشمس يومئذ قليلا حتى أمكن الفتح، ولما فتحوها أقروا أن يدخلوا
الباب باب البلد " سجدا " أي شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ورد بلدهم عليهم
وإنقاذهم من التيه والضلال، قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس إنه كان يقول في قوله تعالى " وادخلوا الباب
سجدا " أي ركعا، وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا سفيان عن الأعمش عن
المنهال بن عمرو وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وادخلوا الباب سجدا " قال ركعا من باب صغير رواه
الحاكم من حديث سفيان به، ورواه ابن أبي حاتم من حديث سفيان وهو الثوري به وزاد فدخلوا من قبل أستاههم،
وقال الحسن البصري أمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي وحكى عن بعضهم أن المراد
ههنا في السجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته، وقال الخصيف: قال عكرمة قال ابن عباس كان الباب قبل
القبلة، وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك هو باب الحطة من باب إيلياء ببيت المقدس، وحكى
الرازي عن بعضهم أنه عنى بالباب جهة من جهات القبلة، وقال خصيف قال عكرمة قال: ابن عباس فدخلوا على
شق، وقال السدي عن أبي سعيد الأزدي عن أبي الكنود عن عبد الله بن مسعود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا فدخلوا
مقنعي رؤسهم أي رافعي رؤسهم خلاف ما أمروا، وقوله تعالى " وقولوا حطة " قال الثوري عن الأعمش عن
المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " وقولوا حطة " قال مغفرة استغفروا، وروى عن عطاء والحسن وقتادة
والربيع بن أنس نحوه، وقال الضحاك عن ابن عباس " وقولوا حطة " قال قولوا هذا الامر حق كما قيل لكم، وقال
عكرمة قولوا " لا إله إلا الله " وقال الأوزاعي. كتب ابن عباس إلى رجل قد سماه فسأله عن قوله تعالى " وقولوا
حطة " فكتب إليه أن أقروا بالذنب وقال: الحسن وقتادة أي أحطط عنا خطايانا " نغفر لكم خطاياكم وسنزيد
المحسنين " وقال هذا جواب الامر أي إذا فعلتم ما أمرناكم غفرنا لكم الخطيئات وضعفنا لكم الحسنات وحاصل
الامر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها والشكر على
النعمة عندها والمبادرة إلى ذلك من المحبوب عند الله تعالى " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين
الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " فسره بعض الصحابة بكثرة الذكر والاستغفار عند الفتح
والنصر، وفسره ابن عباس بأنه نعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أجله فيها وأقره على ذلك عمر رضي الله عنه ولا منافاة بين
أن يكون قد أمر بذلك عند ذلك ونعي إليه روحه الكريمة أيضا ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع
جدا عند النصر كما روي أنه كان يوم الفتح فتح مكة داخلا إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه
ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات وذلك ضحى، وقال:
بعضهم هذه صلاة الضحى وقال: آخرون بل هي صلاة الفتح فاستحبوا للامام وللأمير إذا فتح بلدا أن يصلي فيه
ثماني ركعات عند أول دخوله كما فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما دخل إيوان كسرى صلى فيه ثماني
ركعات والصحيح أنه يفصل بين كل ركعتي بتسليم، وقيل يصليها كلها بتسليم واحد والله أعلم.
وقوله تعالى " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " قال: البخاري حدثني محمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي
عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قيل لبني إسرائيل:
102

ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة - فدخلوا يزحفون على أستاهم فبدلوا وقالوا حبة في شعرة " ورواه النسائي عن
محمد بن إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الرحمن به موقوفا وعن محمد بن عبيد بن محمد عن ابن المبارك ببعضه
مسندا في قوله تعالى " حطة " قال فبدلوا وقالوا حبة وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام بن منبه أنه سمع أبا هريرة
يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله لبني إسرائيل " ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم " فبدلوا
ودخلوا الباب يزحفون على أستاههم فقالوا حبة في شعرة " وهذا حديث صحيح رواه البخاري عن إسحاق بن نصر
ومسلم عن محمد بن رافع والترمذي عن عبد الرحمن بن حميد كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الترمذي حسن
صحيح، وقال محمد بن إسحاق كان تبديلهم كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة
وعمن لا أتهم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجدا - يزحفون على
أستاههم وهم يقولون حنطة في شعيرة " وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح وحدثنا سليمان بن داود حدثنا
عبد الله بن وهب حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم " قال الله لبني إسرائيل " ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم " ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن
مسافر، حدثنا ابن أبي فديك عن هشام بمثله هكذا رواه منفردا به في كتاب الحروف مختصرا وقال: ابن مردويه
حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا أحمد بن محمد بن المنذر القزاز حدثنا محمد بن إسماعيل ابن
أبي فديك عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى إذا كان من آخر الليل أجزنا في ثنية يقال لها ذات الحنظل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما مثل هذه الثنية الليلة إلا كمثل
الباب الذي قال الله لبني إسرائيل " ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم " وقال: سفيان الثوري عن أبي
إسحق عن البراء " سيقول السفهاء من الناس " قال: اليهود قيل لهم ادخلوا الباب سجدا قال: ركعا وقولوا حطة أي
مغفرة فدخلوا على أستاههم وجعلوا يقولون حنطة حمراء فيها شعيرة فذلك قول الله تعالى " فبدل الذين ظلموا قولا
غير الذي قيل لهم " وقال الثوري عن السدي عن أبي سعد الأزدي عن أبي الكنود عن ابن مسعود وقولوا حطة فقالوا
حنطة حبة حمراء فيها شعيرة فأنزل الله " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " وقال أسباط عن السدي عن مرة
عن ابن مسعود أنه قال إنهم قالوا هطا سمعانا أزبة مزبا فهي بالعربية حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعرة سوداء فذلك
قوله تعالى " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " وقال الثوري عن الأعمش عن المنهال عن سعيد عن ابن
عباس في قوله تعالى " ادخلوا الباب سجدا " قال ركعا من باب صغير فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة فذلك
قوله تعالى " فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم " وهكذا روى عن عطاء ومجاهد وعكرمة والضحاك والحسن
وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن رافع. وحاصل ما ذكره المفسرون وما دل عليه السياق أنهم بدلوا أمر الله لهم من
الخضوع بالقول والفعل فأمروا أن يدخلوا سجدا فدخلوا يزحفون على أستاههم من قبل أستاههم رافعي رؤسهم
وأمروا أن يقولوا حطة أي احطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزؤا فقالوا حنطة في شعيرة وهذا في غاية ما يكون من
المخالفة والمعاندة ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته. ولهذا قال " فأنزلنا على الذين
ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون " وقال الضحاك عن ابن عباس كل شئ في كتاب الله من الرجز يعني به
العذاب وهكذا روى عن مجاهد وأبي مالك والسدي والحسن وقتادة أنه العذاب وقال أبو العالية الرجز الغضب، وقال
الشعبي الرجز إما الطاعون وإما البرد وقال سعيد بن جبير هو الطاعون وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا
وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم بن سعد يعني ابن أبي وقاص عن سعد بن مالك وأسامة بن زيد
وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهم قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطاعون رجز عذاب عذب به من كان قبلكم " وهكذا
رواه النسائي من حديث سفيان الثوري به وأصل الحديث في الصحيحين من حديث حبيب بن أبي ثابت " إذا سمعتم
الطاعون بأرض فلا تدخلوها " الحديث قال ابن جرير أخبرني يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب عن يونس عن
الزهري قال: أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن هذا الوجع والسقم
103

رجز عذب به بعض الأمم قبلكم " وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين من حديث الزهري ومن حديث مالك
عن محمد ابن المنكدر وسالم بن أبي النضر عن عامر بن سعد بنحوه.
وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا
واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين (60)
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إجابتي لنبيكم موسى عليه السلام حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء
وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عينا كل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها
فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم بلا سعي منكم ولا كد واعبدوا الذي سخر لكم
ذلك " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتسلبوها. وقد بسطه المفسرون في كلامهم كما
قال: ابن عباس رضي الله عنه وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه
اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجدوا ذلك
معهم بالمكان الذي كان منهم بالمنزل الأول وهذا قطعة من الحديث الذي رواه النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم
وهو حديث الفتون الطويل. وقال: عطية العوفي وجعل لهم حجرا مثل رأس الثور يحمل على ثور فإذا نزلوا منزلا
وضعوه فضربه موسى عليه السلام بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا فإذا ساروا حملوه على ثور فاستمسك الماء
وقال: عثمان ابن عطاء الخراساني عن أبيه كان لبني إسرائيل حجر فكان يضعه هارون ويضربه موسى بالعصا وقال
قتادة كان حجرا طوريا من الطور يحملونه معهم حتى إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، وقال: الزمخشري وقيل كان من
رخام وكان ذراعا في ذراع وقيل مثل رأس الانسان وقيل كان من الجنة طوله عشرة أذرع على طول موسى وله شعبتان
يتقدان في الظلمة وكان يحمل على حمار قال وقيل أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع
العصا وقيل هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل فقال: له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ولك فيه
معجزة فحمله في مخلاته، قال الزمخشري ويحتمل أن تكون اللام للجنس لا للعهد أي اضرب الشئ الذي يقال له
الحجر وعن الحسن لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، قال وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة فكان يضرب
الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس فقالوا إن فقد موسى هذا الحجر عطشنا، فأوحى الله إليه أن يكلم الحجارة
فتنفجر ولا يمسها بالعصا لعلهم يقرون والله أعلم، وقال يحيى بن النضر: قلت لجويبر كيف علم كل أناس
مشربهم؟ قال: كان موسى يضع الحجر ويقوم من كل سبط رجل ويضرب موسى الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عينا
فينضح من كل عين على رجل فيدعو ذلك الرجل سبطه إلى تلك العين، وقال الضحاك: قال ابن عباس لما كان بنو
إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهارا، وقال الثوري عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: قال ذلك في
التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتي عشرة عينا من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها، وقال مجاهد نحو
قول ابن عباس وهذه القصة شبيهة بالقصة التي في سورة الأعراف ولكن تلك مكية، فلذلك كان الاخبار عنهم بضمير
الغائب لان الله تعالى يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعل بهم. وأما في هذه السورة وهي البقرة فهي مدنية فلهذا كان
الخطاب فيها متوجها إليهم وأخبر هناك بقوله " فانبجست منه اثنتا عشرة عينا " وهو أول الانفجار وأخبر ههنا بما آل
إليه الحال آخرا وهو الانفجار فناسب ذكر الانفجار ههنا وذاك هناك والله أعلم. وبين السياقين تباين من عشرة أوجه
لفظية ومعنوية قد سأل عنها الزمخشري في تفسيره وأجاب عنها بما عنده والامر في ذلك قريب والله أعلم.
وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فأدع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها
104

وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم....
يقول تعالى واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المن والسلوى طعاما طيبا نافعا هنيئا سهلا واذكروا دبركم
وضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى استبدال ذلك بالأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم قال الحسن
البصري فبطروا ذلك فلم يصبروا عليه وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه، وكانوا قوما أهل أعداس وبصل وبقل وفوم
فقالوا " يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها
وبصلها " وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد.
فالبقول والقثاء والعدس والبصل كلها معروفة، وأما الفوم فقد اختلف السلف في معناه فوقع في قراءة ابن مسعود
وثومها بالثاء، وكذا فسره مجاهد في رواية ليث بن أبي سليم عنه بالثوم. وكذا الربيع بن أنس وسعيد بن جبير، وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن رافع حدثنا أبو عمارة يعقوب بن إسحاق البصري عن يونس عن الحسن في
قوله " وفومها " قال: قال ابن عباس الثوم، قال وفي اللغة القديمة فوموا لنا بمعنى اختزوا، قال ابن جرير: فإن كان
ذلك صحيحا فإنه من الحروف المبدلة كقولهم: وقعوا في عاثور شر وعافور شر وأثافي وأثاثي ومغافير ومغاثير،
وأشباه ذلك مما تقلب الفاء ثاء والثاء فاء لتقارب مخرجيهما والله أعلم، وقال آخرون الفوم الحنطة وهو البر الذي
يعمل منه الخبز قال: ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب قراءة حدثني نافع بن أبي
نعيم أن ابن عباس سئل عن قول الله " وفومها " ما فومها؟ قال الحنطة. قال ابن عباس. أما سمعت قول أحيحة بن
الجلاح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا * ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير حدثنا علي بن الحسن حدثنا مسلم الجهني حدثنا عيسى بن يونس عن رشيد بن كريب عن أبيه عن
ابن عباس في قول الله " وفومها " قال الفوم الحنطة بلسان بني هاشم، وكذا قال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن
عباس وعكرمة عن ابن عباس أن الفوم الحنطة، وقال سفيان الثوري: عن ابن جريج عن مجاهد وعطاء " وفومها "
قالا وخبزها. وقال هشيم عن يونس عن الحسن وحصين عن أبي مالك " وفومها " قال الحنطة وهو قول عكرمة
والسدي والحسن البصري وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم فالله أعلم، وقال الجوهري: الفوم
الحنطة، وقال ابن دريد: الفوم السنبلة. وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة أن الفوم كل حب يختبز. قال وقال
بعضهم هو الحمص لغة شامية ومنه يقال لبائعه فامي مغير عن فومي، قال البخاري. وقال بعضهم الحبوب التي
تؤكل كلها فوم. وقوله تعالى " قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير " فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من
هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنئ الطيب النافع. وقوله تعالى " اهبطوا مصرا "
هكذا هو منون مصروف مكتوب بالألف في المصاحف الأئمة العثمانية وهو قراءة الجمهور بالصرف. قال ابن جرير:
ولا أستجيز القراءة بغير ذلك لاجماع المصاحف على ذلك: وقال ابن عباس " اهبطوا مصرا " من الأمصار رواه
ابن أبي حاتم من حديث أبي سعيد البقال سعيد بن المرزبان عن عكرمة عنه قال: وروى عن السدي وقتادة
والربيع بن أنس نحو ذلك. وقال ابن جرير وقع في قراءة أبي بن كعب وابن مسعود " اهبطوا مصر " من غير إجراء
يعني من غير صرف. ثم روى عن أبي العالية والربيع بن أنس أنهما فسرا ذلك بمصر فرعون وكذا رواه ابن أبي
حاتم عن أبي العالية والربيع وعن الأعمش أيضا. قال ابن جرير ويحتمل أن يكون المراد مصر فرعون على قراءة
الاجراء أيضا. ويكون ذلك من باب الاتباع لكتابة المصحف كما في قوله تعالى " قواريرا قواريرا " ثم توقف في
المراد ما هو أمصر فرعون أم مصر من الأمصار وهذا الذي قاله فيه نظر والحق أن المراد مصر من الأمصار كما
105

روي عن ابن عباس وغيره والمعنى على ذلك لان موسى عليه السلام يقول لهم هذا الذي سألتم ليس بأمر عزيز بل
هو كثيرا في أي بلد دخلتموها وجدتموه فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه. ولهذا قال
" أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم " أي ما طلبتم ولما كان سؤالهم هذا من
باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه والله أعلم.
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير
الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (61)
يقول تعالى " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعا وقدرا أي لا يزالون مستذلين من
وجدهم استذلهم وأهانهم وضرب عليهم الصغار وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون. وقال الضحاك عن ابن
عباس " وضربت عليهم الذلة والمسكنة " قال هم أصحاب القبالات، يعني الجزية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن
الحسن وقتادة في قوله تعالى " وضربت عليهم الذلة " قال يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وقال الضحاك
وضربت عليهم الذلة قال الذل. وقال الحسن أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين ولقد أدركتهم
هذه الأمة وإن المجوس لتجبيهم الجزية، وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي المسكنة الفاقة. وقال عطية
العوفي الخراج، وقال الضحاك الجزية. وقوله تعالى " وباءوا بغضب من الله " قال الضحاك استحقوا لغضب من
الله، وقال الربيع بن أنس فحدث عليهم غضب من الله وقال سعيد بن جبير " وباءوا بغضب من الله " يقول استوجبوا
سخطا، وقال ابن جرير: يعني بقوله " وباءوا بغضب من الله " انصرفوا ورجعوا ولا يقال باء إلا موصولا إما بخير وإما
بشر يقال منه باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء ومنه قوله تعالى " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يعني تنصرف
متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني. فمعنى الكلام إذا رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم
من الله غضب ووجب عليهم من الله سخط. وقوله تعالى " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير
الحق " يقول تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة بسبب استكبارهم عن
اتباع الحق وكفرهم بآيات الله وإهانتهم حملة الشرع وهم الأنبياء وأتباعهم فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى
أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا، أنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق، ولهذا جاء في الحديث المتفق
على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الكبر بطر الحق وغمط الناس " وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا إسماعيل عن
ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود كنت لا أحجب عن النجوى ولا عن
كذا ولا عن كذا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده مالك بن مرارة الرهاوي فأدركته من آخر حديثه وهو يقول يا رسول الله قد
قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أن أحدا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي؟ فقال " لا
ليس ذلك من البغي ولكن البغي من بطر أو قال سفه الحق وغمط الناس " يعني رد الحق وانتقاص الناس والازدراء
بهم والتعاظم عليهم ولهذا لما ارتكب بنو إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله وقتلهم أنبياءه أحل الله بهم بأسه
الذي لا يرد وكساهم ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة جزاء وفاقا، قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش
عن إبراهيم عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ثم يقيمون سوق
بقلهم من آخر النهار وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبان حدثنا عاصم عن أبي وائل عن عبد الله يعني ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتله نبي أو قتل نبيا، وإمام ضلالة وممثل من
الممثلين " وقوله تعالى " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " وهذه علة أخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا
يعصون ويعتدون فالعصيان فعل المناهي والاعتداء المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به والله أعلم.
106

إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من أمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا
خوف عليهم ولا هم يحزنون (62)
لما بين تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم وما أحل بهم من
النكال نبه تعالى على أن من أحسن من الأمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى وكذلك الامر إلى قيام الساعة كل
من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه
ويخلفونه كما قال تعالى " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند
الاحتضار في قوله " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة
التي كنتم توعدون " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمر بن أبي عمر العدوي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح
عن مجاهد قال: قال سلمان رضي الله عنه سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم
فنزلت " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر " الآية، وقال السدي إن
" الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا " الآية، نزلت في أصحاب
سلمان الفارسي بينا هو يحدث النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصلون ويصومون ويؤمنون بك
ويشهدون أنك ستبعث نبيا فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم " يا سلمان من أهل النار " فاشتد ذلك
على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى
فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكا وإيمان النصارى أن
من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم
ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكا. قال ابن أبي حاتم: وروى عن سعيد بن جبير نحو هذا
" قلت " هذا لا ينافي ما روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين
من آمن بالله واليوم الآخر " - قال - فأنزل الله بعد ذلك " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
الخاسرين " فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة
محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه به فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة فاليهود أتباع
موسى عليه السلام والذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي
التوبة كقول موسى عليه السلام " إنا هدنا إليك " أي تبنا فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في
بعضهم لبعض وقيل لنسبتهم إلى يهودا أكبر أولاد يعقوب، وقال أبو عمرو بن العلاء لأنهم يتهودون أي يتحركون عند
قراءة التوراة فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا
بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم أنصار أيضا كما قال عيسى عليه السلام " من أنصاري إلى الله قال
الحواريون نحن أنصار الله " وقيل إنهم سموا ذلك من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها ناصرة، قاله قتادة وابن جريج
وروى عن ابن عباس أيضا والله أعلم. والنصارى جمع نصران كنشاوي جمع نشوان وسكارى جمع سكران ويقال
للمرأة نصرانة، قال الشاعر:
نصرانة لم تحنف
فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الاطلاق وجب عليهم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما
أمر والانكفاف عما عنه زجر وهؤلاء هم المؤمنون حقا وسميت أمة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم وشدة إيقانهم
ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية، وأما الصابئين فقد اختلف فيهم فقال سفيان الثوري عن
ليث بن أبي سليم عن مجاهد، قال الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، وكذا رواه ابن أبي
107

نجيح عنه. وروي عن عطاء وسعيد بن جبير نحو ذلك وقال أبو العالية والربيع بن أنس والسدي وأبو الشعثاء جابر بن
زيد والضحاك وإسحق بن راهويه الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرؤون الزبور ولهذا قال أبو حنيفة وإسحق لا بأس
بذبائحهم ومناكحتهم. وقال هشيم عن مطرف: كنا عند الحكم بن عتبة فحدثه رجل من أهل البصرة عن الحسن أنه
كان يقول في الصابئين إنهم كالمجوس، فقال الحكم ألم أخبركم بذلك، وقال عبد الرحمن بن مهدي عن
معاوية بن عبد الكريم سمعت الحسن ذكر الصابئين فقال: هم قوم يعبدون الملائكة. وقال ابن جرير: حدثنا
محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحسن قال: أخبر زياد أن الصابئين يصلون إلى القبلة
ويصلون الخمس، قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية قال فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة، وقال أبو جعفر الرازي
بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرؤون الزبور ويصلون للقبلة، وكذا قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة،
وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال: الصابئون قوم
مما يلي العراق وهم بكوثى وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ويصومون من كل سنة ثلاثين يوما ويصلون إلى اليمن كل يوم
خمس صلوات، وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال: الذي يعرف الله وحده وليست له شريعة يعمل بها ولم
يحدث كفرا. وقال عبد الله بن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل
يقولون لا إله إلا الله وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول لا إله إلا الله، قال ولم يؤمنوا برسول فمن أجل ذلك
كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هؤلاء الصابئون يشبهونهم بهم يعني في قوله لا إله إلا الله. وقال
الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه
السلام، وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ولا تؤكل
ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم، قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون
ويعتقدون تأثير النجوم وأنهم فاعلة ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم واختار
الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر
هذا العالم إليها. قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام رادا عليهم
ومبطلا لقولهم، وأظهر الأقوال والله أعلم. قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا
النصارى ولا المجوس ولا المشركين وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه. ولهذا كان
المشركون ينبزون من أسلم بالصابئ أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك، وقال بعض العلماء
الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي والله أعلم.
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما أتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك
فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين (64)
يقول تعالى مذكرا بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق بالايمان به وحده لا شريك له واتباع رسله، وأخبر
تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤسهم ليقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وجزم وامتثال كما قال
تعالى " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون "
فالطور هو الجبل كما فسره به في الأعراف ونص على ذلك ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن والضحاك
والربيع بن أنس وغير واحد، وهذا ظاهر وفي رواية عن ابن عباس الطور ما أنبت من الجبال وما لم ينبت فليس
بطور، وفي حديث الفتون عن ابن عباس أنهم لما امتنعوا عن الطاعة رفع عليهم الجبل ليسمعوا. وقال السدي:
فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم فنظروا إليه وقد غشيهم فسقطوا سجدوا فسجدوا على شق ونظروا
108

بالشق الآخر فرحمهم الله فكشفه عنهم فقالوا والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم
يسجدون كذلك، وذلك قول الله تعالى " ورفعنا فوقكم الطور " وقال الحسن في قوله " خذوا ما آتيناكم بقوة "
يعني التوراة، وقال أبو العالية والربيع بن أنس بقوة أي بطاعة، وقال مجاهد: بقوة بعمل بما فيه، وقال قتادة
" خذوا ما آتيناكم بقوة " قوة الجد وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة، ومعنى قوله
وإلا قذفته عليكم أي أسقطه عليكم، يعني الجبل. وقال أبو العالية والربيع " واذكروا ما فيه " يقول اقرءوا ما في
التوراة واعملوا به، وقوله تعالى " ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم " يقول تعالى، ثم بعد هذا الميثاق
المؤكد العظيم توليتم عنه وأنثنيتم ونقضتموه " فلولا فضل الله عليكم ورحمته " أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين
والمرسلين إليكم " لكنتم من الخاسرين " بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.
ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها
وموعظة للمتقين (66)
يقول تعالى " ولقد علمتم " يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه
فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره إذ كان مشروعا لهم فتحيلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما
وضعوا لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك
الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم
الله إلى صورة القردة وهي أشبه شئ بالأناسي في الشكل الظاهر وليس بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء
وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن كان جزاؤهم من جنس عملهم، وهذه القصة
مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ
تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون " القصة بكمالها. وقال
السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيلة، وكذا قال قتادة وسنورد أقوال المفسرين هناك مبسوطة إن شاء الله وبه الثقة،
وقوله تعالى " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن
أبي نجيح عن مجاهد " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. وإنما هو مثل ضربه
الله " كمثل الحمار يحمل أسفارا " ورواه ابن جرير عن المثنى عن أبي حذيفة وعن محمد بن عمر الباهلي وعن أبي
عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد به وهذا سند جيد عن مجاهد وقول غريب خلاف الظاهر من السياق
في هذا المقام وفي غيره قال الله تعالى " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل
منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " الآية، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس " فقلنا لهم كونوا قردة
خاسئين " فجعل الله منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة، وأن الشيخة صاروا خنازير: وقال
شيبان النحوي عن قتادة " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " فصار القوم قردة تعاوى لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء
وقال عطاء الخراساني نودوا يا أهل القرية " كونوا قردة خاسئين " فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا
فلان ألم ننهكم فيقولون برؤوسهم أي بلى، وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن
ربيعة بالمصيصية حدثنا محمد بن مسلم يعني الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال إنما كان
الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ثم هلكوا ما كان للمسخ نسل. وقال الضحاك عن ابن عباس فمسخهم الله
قردة بمعصيتهم يقول إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام قال ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب
ولم ينسل، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة أيام التي ذكرها الله في كتابه فمسخ هؤلاء القوم في
109

صورة القردة، وكذلك يفعل بمن يشاء كما يشاء. ويحوله كما يشاء وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله
" كونوا قردة خاسئين " قال يعني أذلة صاغرين، وروى عن مجاهد وقتادة والربيع وأبي مالك نحوه، وقال محمد بن
إسحاق عن داود بن أبي الحصين عن عكرمة قال: قال ابن عباس إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي
افترض عليكم في عيدكم - يوم الجمعة - فخالفوا إلى السبت فعظموه وتركوا ما أمروا به فلما أبوا إلا لزوم السبت
ابتلاهم الله فيه فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره، وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها مدين، فحرم الله عليهم
في السبت الحيتان صيدها وأكلها وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم حتى إذا ذهب
السبت ذهبن فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا حتى إذا كان يوم السبت أتين شرعا حتى إذا ذهب السبت ذهبن فكانوا
كذلك حتى طال عليهم الأمد وقرموا إلى الحيتان عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت فحزمه بخيط ثم أرسله
في الماء وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي إني لم آخذه في يوم السبت
فانطلق به فأكله حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك ووجد الناس ريح الحيتان فقال أهل القرية والله لقد
وجدنا ريح الحيتان، ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل، قال ففعلوا كما فعل وصنعوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله
عليهم العقوبة حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق. فقالت طائفة منهم من أهل البقية ويحكم اتقوا الله ونهوهم
عما كانوا يصنعون، فقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان ولم تنه القوم عما صنعوا: لم تعظون قوما الله مهلكهم أو
معذبهم عذابا شديدا؟ قالوا معذرة إلى ربكم بسخطنا أعمالهم ولعلهم يتقون، قال ابن عباس: فبينا هم على ذلك
أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم فقدوا الناس فلم يروهم قال: فقال بعضهم لبعض إن للناس شأنا
فانظروا ما هو، فذهبوا ينظرون في دورهم فوجدوها مغلقة عليهم قد دخلوها ليلا فغلقوها على أنفسهم كما يغلق
الناس على أنفسهم فأصبحوا فيها قردة وإنهم ليعرفون الرجل بعينة وإنه لقرد والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه
وإنه لقرد، قال: قال ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه نجى الذين نهوا عن السوء لقد أهلك الله الجميع منهم، قال
وهي القرية التي قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الآية. وروى الضحاك
عن ابن عباس نحوا من هذا، وقال السدي في قوله تعالى " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم
كونوا قردة خاسئين " قال هم أهل أيلة، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت
- وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من
الماء يوم الأحد لزمن سفل البحر فلم ير منهن شئ حتى يكون يوم السبت فذلك قوله تعالى " واسألهم عن القرية
التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " فاشتهى
بعضهم السمك فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر، فإذا كان يوم السبت فتح النهر فأقبل الموج
بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها فإذا كان
يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى
فشا فيهم أكل السمك، فقال لهم علماؤهم: ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحل لكم، فقالوا إنما
صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل، قال وغلبوا أن ينتهوا.
فقال بعض الذين نهوهم لبعض " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذاب شديدا " يقول لم تعظوهم وقد
وعظتموهم فلم يطيعوكم، فقال بعضهم " معذرة إلى ربكم ولعلم يتقون " فلما أبوا قال المسلمون والله لا
نساكنكم في قرية واحدة فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا ولعنهم داود عليه
السلام، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفار بابهم
فلما أبطأوا عليهم تسور المسلمون عليهم الحائط فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في
الأرض فذلك قول الله تعالى " فلما عتوا عما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين " وذلك حين يقول " لعن الذين
كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم " الآية فهم القردة " قلت " والغرض من هذا السياق عن
110

هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويا لا صوريا، بل الصحيح أنه
معنوي صوري والله تعالى أعلم. وقوله تعالى " فجعلناها نكالا " قال بعضهم الضمير في فجعلناها عائد على
القردة وقيل على الحيتان وقيل على العقوبة وقيل على القرية حكاها ابن جرير والصحيح أن الضمير عائد على
القرية، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم " نكالا " أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها
عبرة كما قال الله عن فرعون " فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " وقوله تعالى " لما بين يديها وما خلفها " أي من
القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرة لما حولها من القرى كما قال تعالى " ولقد
أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " ومنه قوله تعالى " أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من
أطرافها " الآية على أحد الأقوال فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان كما قال محمد بن إسحاق عن داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: لما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى، وكذا قال سعيد بن جبير لما بين
يديها وما خلفها، قال من بحضرتها من الناس يومئذ. وروى عن إسماعيل بن أبي خالد وقتادة وعطية العوفي
" فجعلناها نكالا لما بين يديها " قال ما قبلها من الماضين في شأن السبت، وقال أبو العالية والربيع وعطية: وما
خلفها لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم، وكان هؤلاء يقولون المراد لما بين يديها وما
خلفها في الزمان. وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم، وأما
بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس فكيف يصح هذا الكلام أن تضر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟
وهذا لعل أحدا من الناس لا يقوله بعد تصوره - فتعين أن المراد بما بين يديها وما خلفها في المكان وهو ما حولها من
القرى كما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والله أعلم. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية
" فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها " أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم، وقال ابن أبي حاتم: وروى عن عكرمة
ومجاهد والسدي والفراء وابن عطية: لما بين يديها من ذنوب القوم وما خلفها لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب،
وحكى الرازي ثلاثة أقوال، أحدها أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم
يخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها. والثاني المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأمم. والثالث أنه تعالى جعلها
عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن " قلت " وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما
خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " الآية،
وقال تعالى " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة " الآية، وقال تعالى " أفلا يرون أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها " فجعلهم عبرة ونكالا لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم، ولهذا
قال " وموعظة للمتقين ": وقوله تعالى " وموعظة للمتقين " قال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة
عن ابن عباس " وموعظة للمتقين " الذين من بعدهم إلى يوم القيامة وقال الحسن وقتادة " وموعظة للمتقين "
بعدهم فيتقون نقمة الله ويحذرونها، وقال السدي وعطية العوفي " وموعظة للمتقين " قال أمة محمد صلى الله عليه وسلم " قلت "
المراد بالموعظة ههنا الزاجر أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما
تحيلوا به من الحيل فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما قال الإمام أبو عبد الله بن بطة حدثنا
أحمد بن محمد بن مسلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمر
عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل "
وهذا إسناد جيد وأحمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي وباقي رجاله مشهورون على شرط
الصحيح والله أعلم.
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين (67)
111

يقول تعالى: واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة وبيان القاتل من هو بسببها
وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منه.
" ذكر بسط القصة "
قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام بن حسان عن محمد بن
سيرين عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له، وكان له مال كثير وكان ابن أخيه
وارثه فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على
بعض. فقال ذوو الرأي منهم والنهي: علام يقتل بعضكم بعضا وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام
فذكروا ذلك له، فقال " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين "
قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شددوا فشدد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها
فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها فقال والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا فأخذوها فذبحوها فضربوه ببعضها
فقام فقالوا من قتلك؟ فقال: هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتا فلم يعط من ماله شيئا فلم يورث قاتل بعد، ورواه ابن
جرير من حديث أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة بنحو من ذلك والله أعلم. ورواه عبد بن حميد في تفسيره
أنبأنا يزيد ابن هارون به ورواه آدم بن أبي أياس في تفسيره عن أبي جعفر هو الرازي عن هشام بن حسان به، وقال
آدم ابن أبي إياس في تفسيره: أنبأنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى " إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة " قال: كان رجل من بني إسرائيل وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه فقتله ليرثه،
ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه السلام فقال له إن قريبي قتل وإني إلى أمر عظيم وإني لا أجد أحدا
يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله، قال: فنادى موسى في الناس فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا يبينه
لنا، فلم يكن عندهم علم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له أنت نبي الله فسل لنا ربك أن يبين لنا،
فسأل ربه فأوحى الله " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فعجبوا من ذلك " فقالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون
من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض " يعني لا هرمة " ولا بكر " يعني
ولا صغيرة " عوان بين ذلك " أي نصف بن البكر والهرمة " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها
بقرة صفراء فاقع لونها " أي صاف لونها " تسر الناظرين " أي تعجب الناظرين " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي
إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول " أي لم يذللها العمل " تثير الأرض
ولا تسقى الحرث " يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقى الحرث يعني ولا تعمل في الحرث " مسلمة " يعني
مسلمة من العيوب " لاشية فيها " يقول لا بياض فيها " قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون " قال ولو
أن القوم حين أمروا بذبح بقرة استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله
عليهم ولولا أن القوم استثنوا فقالوا وإنا إن شاء الله لمهتدون هدوا إليها أبدا فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعت لهم
إلا عند عجوز وعندها يتامى وهي القيمة عليهم فلما علمت أنه لا يزكو لهم غيرها أضعفت عليهم الثمن فأتوا موسى
فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة وأنها سألت أضعاف ثمنها، فقال موسى إن الله قد خفف عليكم
فشددتم على أنفسكم فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا واشتروها فذبحوها فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا
عظما منها فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان
أتى موسى عليه السلام فشكا إليه فقتله الله على أسوأ عمله، وقال محمد بن جرير حدثني محمد بن سعيد حدثني
أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله في شأن البقرة وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على
عهد موسى عليه السلام كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم وكان الشيخ لا ولد له، وكان بنو أخيه
112

ورثته، فقالوا: ليت عمنا قد مات فورثنا ماله. وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم أتاهم الشيطان فقال لهم
هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم فترثوا ماله وتغرموا أهل المدينة التي لستم بهاديته وذلك أنهما كانتا مدينتين كانوا في
إحداهما وكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين قيس ما بين القتيل والقريتين فأيتهما كانت أقرب إليه غرمت الدية
وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم عمدوا إليه فقتلوه ثم عمدوا فطرحوه على باب
المدينة التي ليسوا فيها، فلما أصبح أهل المدينة جاء بنو أخي الشيخ فقالوا عمنا قتل على باب مدينتكم فوالله لتغرمن
لنا دية عمنا. قال أهل المدينة نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا، وإنهم
عمدوا إلى موسى عليه السلام، فلما أتوه قال بنو أخي الشيخ: عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم، وقال أهل
المدينة: نقسم بالله ما قتلناه ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا. وأن جبريل جاء بأمر السميع
العليم إلى موسى عليه السلام فقال، قل لهم " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " فتضربوه ببعضها. وقال السدي
" وإذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال فكانت له
ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه فغضب الفتى وقال والله لأقتلن عمي ولآخذن
ماله، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديته، فأتاه الفتى وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل فقال يا عم انطلق معي
فخذ من تجارة هؤلاء القوم لعلي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلا فلما
بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمه كأنه لا يدري أبن هو فلم يجده
فانطلق نحوه فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم وقال قتلتم عمي فأدوا إلي ديته، فجعل يبكي ويحثو
التراب على رأسه وينادي واعماه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية فقال له يا رسول الله ادع لنا ربك حتى
يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية فوالله إن ديته علينا لهينة ولكن نستحي أن نعير به فذلك حين يقول تعالى
" وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون " فقال لهم موسى " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة "
قالوا نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا وقال " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " قال ابن
عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا وتعنتوا على موسى فشدد الله عليهم فقالوا " ادع لنا
ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك " والفارض الهرمة التي لا تولد والبكر
التي لم تلد إلا ولدا واحدا والعوان النصف التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها " فافعلوا ما تؤمرون * قالوا ادع
لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها " قال نقي لونها " تسر الناظرين " قال تعجب
الناظرين " قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا
ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لاشية فيها " من بياض ولا سواد ولا حمرة " قالوا الآن جئت بالحق "
فطلبوها فلم يقدروا عليها وكان رجل في بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه وكان أبوه نائما
تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ
أبي فاخذه منك بثمانين ألفا، قال الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا
وزاد الآخر على أن ينتظر أباه حتى يستيقظ حتى بلغ مائة ألف فلما أكثر عليه قال والله لا أشتريه منك بشئ أبدا وأبى
أن يوقظ أباه فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن يجعل له تلك البقرة فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة وأبصروا البقرة
عنده فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة فأبى فأعطوه ثنتين فأبى فزادوه حتى بلغوا عشرا. فقالوا والله لا نتركك حتى
نأخذها منك، فانطلقوا به إلى موسى عليه السلام فقالوا يا نبي الله إنا وجدناها عند هذا وأبى أن يعطيناها وقد أعطيناه
ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله أنا أحق بمالي. فقال، صدقت. وقال للقوم: أرضوا
صاحبكم فأعطوه وزنها ذهبا فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهبا فباعهم إياها وأخذ
ثمنها فذبحوها، قال اضربوه ببعضها، فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه من قتلك؟ فقال لهم ابن
أخي، قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه، وقال سنيد: حدثنا حجاج هو ابن محمد عن ابن
113

جريح عن مجاهد وحجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في
حديث بعض - قالوا إن سبطا من بني إسرائيل لما رأوا كثرة شرور الناس بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس فكانوا إذا
أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه وإذا أصبحوا أقام رئيسهم فنظر وأشرف فإذا لم ير شيئا فتح المدينة فكانوا
مع الناس حتى يمسوا، قال: وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ولم يكن له وارث غير أخيه فطال عليه حياته
فقتله ليرثه، ثم حمله فوضعه على باب المدينة ثم كمن في مكان هو وأصحابه قال فأشرف رئيس المدينة على
باب المدينة فنظر فله ير شيئا ففتح الباب، فلما رأى القتيل رد الباب فناداه أخو المقتول وأصحابه هيهات قتلتموه ثم
تردون الباب؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في بني إسرائيل كان إذا رأى القتيل بين ظهراني القوم أخذهم فكاد
يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال حتى لبس الفريقان السلاح، ثم كف بعضهم عن بعض فأتوا موسى
فذكروا له شأنهم، قالوا: يا موسى إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب، قال أهل المدينة: يا رسول الله قد عرفت
اعتزلنا الشرور وبنينا مدينة كما رأيت نعتزل شرور الناس والله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا. فأوحى الله تعالى إليه أن
يذبحوا بقرة فقال لهم موسى " إن الله أمره أن تذبحوا بقرة " وهذه السياقات عن عبيدة وأبي العالية والسدي
وغيرهم فيها اختلاف الظاهر أنها مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا نصدق ولا تكذب
فلهذا لا يعتمد عليها إلا ما وافق الحق عندنا والله أعلم.
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68)
قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع
لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض
ولا تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون (71)
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم وهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ولو أنهم
ذبحوا أي بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم كما قال ابن عباس وعبيدة وغير واحد، ولكنهم شددوا فشدد عليهم فقالوا
" ادع لنا ربك يبين لنا ما هي " أي ما هذه البقرة وأي شئ صفتها قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا هشام بن
علي عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها
ولكنهم شددوا فشدد عليهم - إسناده صحيح - وقد رواه غير واحد عن ابن عباس، وكذا قال عبيدة والسدي ومجاهد
وعكرمة وأبو العالية وغير واحد، وقال ابن جريج: قال لي عطاء لو أخذوا أدنى بقرة لكفتهم قال ابن جريج قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا شدد الله عليهم وأيم الله لو أنهم لو يستثنوا لما بينت لهم آخر
الأبد " قال " إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر " أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل كما قاله أبو العالية
والسدي ومجاهد وعكرمة وعطية العوفي وعطاء الخراساني ووهب بن منبه والضحاك والحسن وقتادة، وقاله ابن
عباس أيضا، وقال الضحاك عن ابن عباس: عوان بين ذلك يقول نصف بين الكبيرة والصغيرة وهي أقوى ما يكون
من الدواب والبقر وأحسن ما تكون، وروى عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وعطاء الخراساني
والضحاك نحو ذلك، وقال السدي العوان النصف الثاني بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها: وقال هشيم عن جويبر
عن كثير بن زياد عن الحسن في البقرة كانت بقرة وحشية. وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس من لبس نعلا
صفراء لم يزل في سرور ما دام لابسها وذلك قوله تعالى " تسر الناظرين " وكذا قال مجاهد ووهب بن منبه كانت
صفراء. وعن ابن عمر كانت صفراء الظلف. وعن سعيد بن جبير كانت صفراء القرن والظلف. وقال ابن أبي حاتم
114

حدثنا أبي حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس أنبأنا أبو رجاء عن الحسن في قوله تعالى " بقرة صفراء فاقع
لونها " قال سوداء شديدة السواد، وهذا غريب والصحيح الأول ولهذا أكد صفرتها بأنه " فاقع لونها " وقال عطية
العوفي " فاقع لونها " تكاد تسود من صفرتها وقال سعيد بن جبير " فاقع لونها " وقال صافية اللون. وروى عن أبي
العالية والربيع بن أنس والسدي والحسن وقتادة نحوه. وقال شريك عن معمر عن ابن عمر " فاقع لونها " قال
صاف، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس " فاقع لونها " شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وقال السدي
" تسر الناظرين " أي تعجب الناظرين، وكذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس. وقال وهب بن منبه إذا نظرت
إلى جلدها تخيلت أن شعاع الشمس يخرج من جلدها. وفي التوراة أنها كانت حمراء فلعل هذا خطأ في التعريب،
أو كما قال الأول أنها كانت شديدة الصفرة تضرب إلى حمرة وسواد والله أعلم. وقوله تعالى " إن البقرة تشابه عليها "
أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا " وإنا إن شاء الله " إذا بينتها لنا " لمهتدون " إليها وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أحمد بن يحيى الأودي الصوفي حدثنا أبو سعيد أحمد بن داود الحداد حدثنا سرور بن المغيرة
الواسطي ابن أخي منصور بن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن بني إسرائيل قالوا " وإنا إن شاء الله لمهتدون " لما أعطوا ولكن استثنوا " ورواه الحافظ أبو
بكر بن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن سرور بن المغيرة عن زاذان عن عباد بن منصور عن الحسن عن حديث
أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن بني إسرائيل " قالوا " وإنا إن شاء الله لمهتدون " ما أعطوا
أبدأ ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم " وهذا حديث غريب من
هذا الوجه وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة كما تقدم مثله عن السدي والله أعلم " قال إنه يقول إنها بقرة لا
ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث " أي إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في الساقية بل هي مكرمة حسنة
صبيحة مسلمة صحيحة لا عيب بها " لاشية فيها " أي ليس فيها لون غير لونها، وقال عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة مسلمة يقول لا عيب فيها، وكذا قال أبو العالية والربيع، وقال مجاهد: مسلمة من الشية. وقال عطاء
الخراساني: مسلمة القوائم والخلق لاشية فيها. قال مجاهد: لا بياض ولا سواد. وقال أبو العالية والربيع والحسن
وقتادة: ليس فيها بياض. وقال عطاء الخراساني: لاشية فيها قال لونها واحد بهيم، وروي عن عطية العوفي ووهب بن منبه
وإسماعيل بن أبي خالد نحو ذلك، وقال السدي لاشية فيها من بياض ولا سواد ولا حمرة. وكل هذه الأقوال
متقاربة في المعنى، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى " إنها بقرة لا ذلول " ليس بمذللة بالعمل ثم
استأنف فقال " تثير الأرض " أي يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث، وهذا ضعيف لأنه فسر الذلول التي
لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث، كذا قرره القرطبي وغيره " قالوا الآن جئت بالحق " قال
قتادة، الآن بينت لنا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقيل ذلك والله جاءهم الحق " فذبحوها وما كادوا
يفعلون " قال الضحاك عن ابن عباس كادوا أن لا يفعلوا ولم يكن ذلك الذي أرادوا لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها،
يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والايضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد، وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم
يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها. وقال محمد بن كعب ومحمد بن قيس فذبحوها وما كادوا يفعلون
لكثرة ثمنها، وفي هذا نظر لان كثرة الثمن لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل كما تقدم من حكاية أبي العالية
والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس، وقال عبيدة ومجاهد ووهب بن منبه وأبو العالية وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم أنهم اشتروها بمال كثير وفيه اختلاف ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك، وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة أخبرني
محمد بن سوقة عن عكرمة قال: ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير، وهذا إسناد جيد عن عكرمة والظاهر أنه نقله عن أهل
الكتاب أيضا، وقال ابن جرير وقال آخرون لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل
الذي اختصموا فيه ولم يسنده عن أحد ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها
115

وللفضيحة، وفي هذا نظر، بل الصواب والله أعلم ما تقدم من رواية الضحاك عن ابن عباس على ما وجهناه وبالله
التوفيق.
" مسألة " استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الاطلاق على صحة السلم في
الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفا وخلفا بدليل ما ثبت في
الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تنعت المرأة المرأة لزوجها كأنه ينظر إليها " وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل
الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث. وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون لا يصح السلم في الحيوان لأنه
لا تنضبط أحواله، وحكى مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم.
وإذ قتلتم نفسا فادارءتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحى الله الموتى
ويريكم آياته لعلكم تعقلون (73)
قال البخاري " فادارأتم فيها " اختلفتم وهكذا قال مجاهد فيما رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي حذيفة عن شبل
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى " وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها " اختلفتم، وقال عطاء
الخراساني والضحاك اختصمتم فيها، وقال ابن جريج " وإذ قتلتم نفس فادارأتم فيها " قال: قال بعضهم أنتم
قتلتموه، وقال آخرون بل أنتم قتلتموه، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " والله مخرج ما كنتم تكتمون "
قال مجاهد ما تغيبون، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمرة بن أسلم البصري حدثنا محمد بن الطفيل العبدي حدثنا
صدقة بن رستم سمعت المسيب بن رافع يقول ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة
في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وتصديق ذلك في كلام الله " والله مخرج ما كنتم تكتمون "، " فقلنا اضربوه ببعضها "
هذا البعض أي شئ كان من أعضاء هذه البقرة فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن وقد كان معينا في نفس
الامر فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبينه الله تعالى لنا ولكنه أبهمه ولم يجئ من طريق
صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله، ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عفان بن
مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن
أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل في بقر له وكانت بقرة تعجبه قال فجعلوا يعطونه
بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوه - يعني القتيل - بعضو منها فقام تشخب أوداجه دم فقالوا له
من قتلك؟ قال قتلني فلان، وكذا قال الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه ضرب ببعضها، وفي رواية عن ابن
عباس أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف. وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر قال: قال أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة
ضربوا القتيل ببعض لحمها، قال معمر: قال قتادة ضربوه بلحم فخذها فعاش فقال قتلني فلان، وقال وكيع بن
الجراح في تفسيره: حدثنا النضر بن عربي عن عكرمة " فقلنا اضربوه ببعضها " فضرب بفخذها فقام فقال قتلني
فلان، قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وقتادة وعكرمة نحو ذلك. وقال السدي فضربوه بالبضعة التي بين
الكفتين فعاش فسألوه فقال قتلني ابن أخي وقال أبو العالية أمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عظما من عظامها
فيضربوا به القتيل ففعلوا فرجع إليه روحه فسمى لهم قاتله ثم عاد ميتا كما كان، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:
فضربوه ببعض ارابها وقيل بلسانها وقيل بعجب ذنبها، وقوله تعالى " كذلك يحيى الله الموتى " أي فضربوه فحي
ونبه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على
المعاد، وفاصلا ما كان بينهم من الخصومة والعناد، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى
في خمسة مواضع " ثم بعثناكم من بعد موتكم " وهذه القصة وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت
116

وقصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة، ونبه تعالى بإحياء
الأرض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميما كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة أخبرني يعلى بن
عطاء قال سمعت وكيع بن عدس يحدث عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه، قال: قلت يا رسول الله كيف يحيي
الله الموتى؟ قال " أما مررت بواد ممحل ثم مررت به خضرا " قال بلى: قال " كذلك النشور " أو قال " كذلك يحيي
الله الموتى " وشاهد هذا قوله تعالى " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها
جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون ". " مسألة " استدل
لمذهب الامام مالك في كون قول الجريح فلان قتلني لوثا بهذه القصة لان القتيل لما حيي سئل عمن قتله فقال فلان
قتلني فكان ذلك مقبولا منه لأنه لا يخبر حينئذ إلا بالحق ولا يتهم والحالة هذه. ورجحوا ذلك لحديث أنس أن يهوديا
قتل جارية على أوضاح لها فرضخ رأسها بين حجرين فقيل من فعل بك هذا أفلان؟ أفلان؟ حتى ذكروا اليهودي
فأومأت برأسها فأخذ اليهودي فلم يزل به حتى اعترف فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين، وعند مالك إذا
كان لوثا حلف أولياء القتيل قسامة وخالف الجمهور في ذلك ولم يجعلوا قول القتيل في ذلك لوثا.
ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما
يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون (74)
يقول تعالى توبيخا لبني إسرائيل وتقريعا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى الله وإحيائه الموتى " ثم قست قلوبكم
من بعد ذلك " كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبدا ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال " ألم يأن للذين
آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست
قلوبهم وكثير منهم فاسقون " قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس لما ضرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان
قط فقيل له من قتلك قال بنو أخي قتلوني ثم قبض فقال بنو أخيه حين قبضه الله والله ما قتلناه فكذبوا بالحق بعد أن
رأوه فقال الله " ثم قست قلوبكم من بعد ذلك " يعني أبناء أخي الشيخ فهي كالحجارة أو أشد قسوة فصارت قلوب بني
إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة
التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ومنها ما يشقق
فيخرج منه الماء وإن لم يكن جاريا ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه كما قال
" تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما
غفورا " وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه كان يقول كل حجر يتفجر منه الماء أو يتشقق عن ماء أو يتردى من رأس
جبل لمن خشية الله نزل بذلك القرآن وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير
عن ابن عباس " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من
خشية الله " أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق " وما الله بغافل عما تعملون " وقال أبو
علي الجياني في تفسيره " وإن منها لما يهبط من خشية الله " هو سقوط البرد من السحاب قال القاضي الباقلاني وهذا
تأويل بعيد وتبعه في استبعاده الرازي وهو كما قال فإن هذا خروج عن اللفظ بلا دليل والله أعلم وقال: ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا الحكم بن هشام الثقفي حدثني يحيى ابن أبي طالب يعني ويحيى بن يعقوب
في قوله تعالى " وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار " قال كثرة البكاء " وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء " قال
قليل البكاء " وإن منها لما يهبط من خشية الله " قال بكاء القلب غير دموع العين وقد زعم بعضهم أن هذا من باب
المجاز وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة ما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله " يريد أن ينقض " قال الرازي
117

والقرطبي وغيرهما من الأئمة ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى " إنا عرضنا
الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها " وقال " تسبح له السماوات السبع والأرض
ومن فيهن " الآية وقال " والنجم والشجر يسجدان " " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله " الآية " قالتا
أتينا طائعين " " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " الآية " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله " الآية وفي
الصحيح " هذا جبل يحبنا ونحبه " وكحنين الجذع المتواتر خبره وفي صحيح مسلم " إني لأعرف حجرا بمكة كان
يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وفى صفة الحجر الأسود إنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما
في معناه وحكى القرطبي قولا إنها للتخيير أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل: جالس الحسن أو ابن سيرين. وكذا حكاه
الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر أنها للابهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزا أو تمرا، وهو يعلم أيهما
أكل وقال آخر إنها بمعنى قول القائل كل حلوا أو حامضا، أي لا يخرج عن واحد منهما. أي وقلوبكم صارت
كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم.
" تنبيه " اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى " فهي كالحجارة أو أشد قسوة " بعد الاجماع على استحالة كونها
للشك فقال بعضهم أو ههنا بمعنى الواو تقديره: فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى " ولا تطع منهم آثما أو
كفورا " " عذرا أو نذرا " وكما قال النابغة الذبياني:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا * إلى حمامتنا أو نصفه فقد
تريد ونصفه قاله ابن جرير: وقال جرير بن عطية:
نال الخلافة أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر
قال ابن جرير يعني نال الخلافة وكانت له قدرا وقال آخرون أو ههنا بمعنى بل فتقديره: فهي كالحجارة بل أشد قسوة
وكقوله " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية " " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " فكان قاب
قوسين أو أدنى، وقال آخرون معنى ذلك " فهي كالحجارة أو أشد قسوة " عندكم حكاه ابن جرير: وقال آخرون
المراد بذلك الابهام على المخاطب كما قال أبو الأسود:
أحب محمدا حبا شديدا * وعباسا وحمزة والوصيا
فإن يك حبهم رشدا أصبه * وليس بمخطئ إن كان غيا
قال ابن جرير قالوا ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكا في أن حب من سمى رشد ولكنه أبهم على من خاطبه قال وقد
ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له شككت فقال كلا والله ثم انتزع يقول الله تعالى " وإنا أو إياكم
لعلى هدى أو في ضلال مبين " فقال أو كان شاكا من أخبر بهذا من الهادي منهم ومن الضال؟ وقال بعضهم معنى
ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها في
القسوة. قال: ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة وبعضها أشد قسوة من الحجارة وقد
رجحه ابن جرير مع توجيه غيره " قلت " وهذا القول الأخير يبقي شبيها بقوله تعالى " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا "
مع قوله " أو كصيب من السماء " وكقوله " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة " مع قوله " أو كظلمات في بحر
لجي " الآية أي إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو كهذا والله أعلم: وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا
محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج حدثنا علي بن حفص حدثنا
إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تكثروا الكلام بغير ذكر
118

الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي ". رواه الترمذي في كتابه الزهد
من جامعه عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج صاحب الإمام أحمد به ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن
الحارث بن حاطب به وقال غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم. وروى البزار عن أنس مرفوعا " أربع من الشقاء
جمود العين وقساوة القلب وطول الأمل والحرص على الدنيا ".
أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون (75) وإذا
لقوا الذين أمنوا قالوا أمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عبد ربكم
أفلا تعقلون (76) أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون (77)
يقول تعالى " أفتطمعون " أيها المؤمنون " أن يؤمنوا لكم " أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود الذين
شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ثم قست قلوبهم من بعد ذلك " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم
يحرفونه " أي يتأولونه على غير تأويله " من بعد ما عقلوه " أي فهموه على الجلية ومع هذا يخالفونه على بصيرة " وهم
يعلمون " أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله وهذا المقام شبيه بقوله تعالى " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا
قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه " قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو
سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال ثم قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولمن معه من المؤمنين يؤيسهم منهم " أفتطمعون أن
يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله " وليس قوله ليسمعون التوراة كلهم قد سمعها ولكن هم الذين
سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها. وقال محمد بن إسحاق فيما حدثني بعض أهل العلم أنهم قالوا
لموسى يا موسى قد حيل بيننا وبين رؤية ربنا تعالى فأسمعنا كلامه حين يكلمك فطلب ذلك موسى إلى ربه تعالى
فقال نعم مرهم فليتطهروا وليطهروا ثيابهم ويصوموا ففعلوا ثم خرج بهم حتى أتوا الطور فلما غشيهم الغمام أمرهم
موسى أن يسجدوا فوقعوا سجودا وكلمه ربه فسمعوا كلامه يأمرهم وينهاهم حتى عقلوا منه ما سمعوا ثم انصرف بهم
إلى بني إسرائيل فلما جاءهم حرف فريق منهم ما أمرهم به وقالوا حين قال موسى لبني إسرائيل إن الله قد أمركم بكذا
وكذا قال ذلك الفريق الذين ذكرهم الله إنما قال كذا وكذا خلافا لما قال الله عز وجل لهم فهم الذين عنى الله
لرسوله - صلى الله عليه وسلم وقال السدي " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه " قال هي التوراة حرفوها وهذا الذي
ذكره السدي أعم مما ذكره ابن عباس وابن إسحاق وإن كان قد اختاره ابن جرير لظاهر السياق فإنه ليس يلزم من
سماع كلام الله أن يكون منه كما سمعه الكليم موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وقد قال الله تعالى " وإن أحد من
المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " أي مبلغا إليه ولهذا قال قتادة في قوله " ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه
وهم يعلمون " قال هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه وقال مجاهد الذين يحرفونه
والذين يكتمونه هم العلماء منهم، وقال: أبو العالية عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد - صلى الله عليه وسلم - فحرفوه
عن مواضعه وقال السدي " وهم يعلمون " أي أنهم أذنبوا، وقال ابن وهب، قال: ابن زيد في قوله " يسمعون كلام
الله ثم يحرفونه " قال: التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراما والحرام فيها حلالا والحق
فيها باطلا والباطل فيها حقا وإذا جاءهم المحق برشوة أخرجوا له كتاب الله وإذا جاءهم المبطل برشوة أخرجوا له
ذلك الكتاب فهو فيه محق وإذا جاءهم أحد يسألهم شيئا ليس فيه حق ولا رشوة ولا شئ أمروه بالحق فقال
الله لهم " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ".
وقوله تعالى " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض " الآية قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن
119

أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا " أي أن صاحبكم رسول الله
ولكنه إليكم خاصة وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم
فكان منهم فأنزل الله " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم
ليحاجوكم به عند ربكم " أي تقرون بأنه نبي. وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه وهو يخبرهم أنه النبي
الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا، اجحدوه ولا تقروا به. يقول الله تعالى " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون " وقال: الضحاك عن ابن عباس: يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا آمنا
وقال السدي. هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا. وكذا قال الربيع بن أنس وقتادة وغير واحد من السلف والخلف
حتى قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فيما رواه ابن وهب عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال " لا يدخلن علينا قصبة المدينة
إلا مؤمن " فقال رؤساؤهم من أهل الكفر والنفاق اذهبوا فقولوا آمنا واكفروا إذا رجعتم إلينا فكانوا يأتون المدينة بالبكر
ويرجعون إليهم بعد العصر. وقرأ قوله الله تعالى " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا
وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ليعلموا خبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأمره. فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر فلما أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون، وكان المؤمنون
يظنون أنهم مؤمنون فيقولون أليس قد قال الله لكم كذا وكذا؟ فيقولون بلى. فإذا رجعوا إلى قومهم يعني الرؤساء
فقالوا " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " الآية. وقال أبو العالية " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " يعني بما أنزل الله
في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند
ربكم " قال كانوا يقولون سيكون نبي فخلا بعضهم ببعض " فقالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " - قول آخر في
المراد بالفتح قال: ابن جريج: حدثني القاسم بن أبي برزة عن مجاهد في قوله تعالى " أتحدثونهم بما فتح الله
عليكم " قال قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة تحت حصونهم فقال " يا إخوان القردة والخنازير ويا عبدة الطاغوت " فقالوا من
أخبر بهذا الامر محمدا؟ ما خرج هذا القول إلا منكم " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " بما حكم الله للفتح يكون
لهم حجة عليكم. قال ابن جريج عن مجاهد هذا حين أرسل إليهم عليا فآذوا محمدا صلى الله عليه وسلم وقال السدي
" أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " من العذاب " ليحاجوكم به عند ربكم " هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا
يحدثون المؤمنين من العرب بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " من العذاب
ليقولوا نحن أحب إلى الله منكم وأكرم على الله منكم وقال عطاء الخراساني " أتحدثونهم بما فتح الله عليكم " يعني
بما قضى لكم وعليكم. وقال الحسن البصري: هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم
إلى بعض قال بعضهم لا تحدثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم
فيخصموكم. وقوله تعالى " أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " قال أبو العالية: يعني ما أسروا من
كفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوبا عندهم وكذا قال قتادة وقال الحسن " إن الله يعلم ما يسرون "
قال كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد وخلا بعضهم إلى بعض تناهوا أن يخبر أحد منهم
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم
" وما يعلنون " يعني حين قالوا لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا. وكذا قال أبو العالية والربيع وقتادة.
ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون (78) فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون
هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79)
يقول تعالى " ومنهم أميون " أي ومن أهل الكتاب قاله مجاهد: والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن
الكتابة. قاله أبو العالية والربيع وقتادة وإبراهيم النخعي وغير واحد وهو ظاهر في قوله تعالى " لا يعلمون الكتاب "
120

أي لا يدرون ما فيه. ولهذا في صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى " وما كنت
تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " وقال عليه الصلاة والسلام " إنا أمة أمية لا نكتب ولا
نحسب الشهر هكذا وهكذا وهكذا " الحديث أي لا نفتقر في عبادتنا ومواقيتها إلى كتاب ولا حساب، وقال تبارك
وتعالى " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " وقال ابن جرير: نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال
إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه. قال وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قول خلاف هذا وهو ما حدثنا به
أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى " ومنهم
أميون " قال الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال
هذا من عند الله، وقال قد أخبر أنهم يكتبون بأيديهم ثم سماهم أميين لجحودهم كتب الله ورسله، ثم قال ابن
جرير: وهذا التأويل تأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم، وذلك أن الأمي عند العرب
الذي لا يكتب. قلت ثم في صحة هذا عن ابن عباس بهذا الاسناد نظر والله أعلم. وقوله تعالى " إلا أماني " قال
ابن أبي طلحة عن ابن عباس إلا أماني الأحاديث وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى " إلا أماني " يقول إلا
قولا يقولون بأفواههم كذبا. وقال مجاهد إلا كذبا: وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج عن مجاهد " ومنهم أميون
لا يعلمون الكتاب إلا أماني " قال أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئا وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما
في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب، أماني يتمنونها وعن الحسن البصري نحوه وقال أبو العالية والربيع وقتادة إلا
أماني يتمنون على الله ما ليس لهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم إلا أماني قال تمنوا فقالوا نحن من أهل
الكتاب وليسوا منهم قال ابن جرير والأشبه بالصواب قول الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد إن الأميين الذين
وصفهم الله تعالى أنهم لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله تعالى على موسى شيئا ولكنهم يتخرصون الكذب
يتخرصون الأباطيل كذبا وزورا والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه ومنه الخبر المروي عن
عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ما تغنيت ولا تمنيت يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب. وقيل المراد بقوله
إلا أماني بالتشديد والتخفيف أيضا أي إلا تلاوة فعلى هذا يكون استثناء منقطعا واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى
" إلا إذا تمنى " أي تلا " ألقى الشيطان في أمنيته " الآية. وقال كعب بن مالك الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر
وقال آخر:
تمنى كتاب الله آخر ليلة * تمني داود الكتاب على رسل
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " لا يعلمون الكتاب إلا
أماني وإن هم إلا يظنون " أي ولا يدرون ما فيه وهم يجدون نبوتك بالظن وقال مجاهد " وإن هم إلا يظنون "
يكذبون وقال قتادة وأبو العالية والربيع: يظنون بالله الظنون بغير الحق. وقوله تعالى " فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم " ثم يقولون " هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا " الآية. هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى
الضلال بالزور والكذب على الله وأكل أموال الناس بالباطل والويل الهلاك والدمار وهي كلمة مشهورة في اللغة:
وقال سفيان الثوري عن زياد بن فياض سمعت أبا عياض يقول: ويل صديد في أصل جهنم. وقال عطاء بن يسار:
الويل واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لماعت. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب
أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ويل واد في
جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره " ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن حميد عن الحسن بن
موسى عن ابن لهيعة عن دراج به وقال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة " قلت " لم ينفرد به ابن
لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الاسناد مرفوعا منكر والله أعلم. وقال ابن جرير حدثنا
121

المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام حدثنا صالح القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن
عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فويل لهم مما كتبت
أيديهم وويل لهم مما يكسبون " قال " الويل جبل في النار " وهو الذي أنزل في اليهود لأنهم حرفوا التوراة زادوا فيها ما
أحبوا ومحوا منها ما يكرهون ومحوا اسم محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوراة ولذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال تعالى
" فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " وهذا غريب أيضا جدا وعن ابن عباس الويل المشقة من
العذاب وقال: الخليل بن أحمد الويل شدة الشر وقال سيبويه ويل لمن وقع في الهلكة وويح لمن أشرف عليها
وقال الأصمعي الويل تفجع والويل ترحم وقال: وغيره الويل الحزن وقال الخليل وفي معنى ويل ويح وويش
وويه وويك وويب ومنهم من فرق بينها وقال بعض النحاة إنما جاز الابتداء بها وهي نكرة لان فيها معنى الدعاء
ومنهم من جوز نصبها بمعنى ألزمهم ويلا " قلت " لكن لم يقرأ بذلك أحد وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله
عنهما " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " قال هم أحبار اليهود وكذا قال سعيد عن قتادة هم اليهود وقال سفيان
الثوري عن عبد الرحمن بن علقمة سألت ابن عباس - رضي الله عنه - عن قوله تعالى " فويل للذين يكتبون الكتاب
بأيديهم " قال: نزلت في المشركين وأهل الكتاب وقال: السدي كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعونه
من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذوا به ثمنا قليلا وقال الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن
عباس أنه قال: يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ وكتاب الله الذي أنزله على نبيه أحدث
أخبار الله تقرؤنه غضا لم يشب وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم
الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ولا والله ما رأينا
منهم أحدا قط سألكم عن الذي أنزل عليكم رواه البخاري من طرق عن الزهري وقال الحسن بن أبي الحسن
البصري: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها. وقوله تعالى " فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون " أي
فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء وويل لهم مما أكلوا به من السحت كما قال الضحاك عن ابن
عباس رضي الله عنهما " فويل لهم " يقول فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وويل لهم مما
يكسبون يقول مما يأكلون به الناس السفلة وغيرهم.
وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون (80)
يقول تعالى إخبارا عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم من أنهم لم تمسهم النار إلا أياما معدودة ثم ينجون منها فرد
الله عليهم ذلك بقوله تعالى " قل أتخذتم عند الله عهدا " أي بذلك فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ولكن
هذا ما جرى ولا كان ولهذا أتى بأم التي بمعنى بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه. قال
محمد بن إسحاق بن سيف عن سليمان عن مجاهد عن ابن عباس أن اليهود كانوا يقولون إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة
وإنما نعذب بكل ألف سنة يوما في النار وإنما هي سبعة أيام معدودة فأنزل الله تعالى " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما
معدودة " إلى قوله " خالدون " ثم رواه عن محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس بنحوه وقال العوفي عن ابن
عباس " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " اليهود قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة زاد غيره وهي مدة عبادتهم
العجل وحكاه القرطبي عن ابن عباس وقتادة وقال الضحاك قال ابن عباس زعمت اليهود أنهم وجدوا في التوراة
مكتوبا إن ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم التي هي ثابتة في أصل الجحيم
وقال أعداء الله إنما نعذب حتى ننتهي إلى شجرة الزقوم فتذهب جهنم وتهلك. فذلك قوله تعالى " وقالوا لن تمسنا
النار إلا أياما معدودة " وقال: عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " يعني الأيام
التي عبدنا فيها العجل وقال عكرمة خاصمت اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لن ندخل النار إلا أربعين ليلة وسيخلفنا
122

فيها قوم آخرون يعنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده على رؤسهم " بل أنتم خالدون
مخلدون لا يخلفكم فيها أحد " فأنزل الله عز وجل " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " الآية. وقال الحافظ أبو
بكر بن مردويه رحمه الله حدثنا عبد الرحمن بن جعفر حدثنا محمد بن محمد بن صخر حدثنا أبو عبد الرحمن
المقرئ حدثنا ليث بن سعد حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
شاة فيها سم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اجمعوا إلى من كان من اليهود ههنا " فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أبوكم؟ " قالوا
فلان قال " كذبتم بل أبوكم فلان " فقالوا صدقت وبررت ثم قال لهم " هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ "
قالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أهل النار؟ " فقالوا
نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها فقال: لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبدا " ثم قال لهم
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ " قالوا: نعم يا أبا القاسم قال: " هل جعلتم في هذه
الشاة سما؟ " فقالوا نعم قال " فما حملكم على ذلك " فقالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك وإن كنت نبيا لم
يضرك ورواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي من حديث الليث بن سعد بنحوه.
بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (81) والذين أمنوا وعملوا الصالحات
أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82)
يقول تعالى ليس الامر كما تمنيتم ولا كما تشتهون بل الامر أنه من عمل سيئة وأحاطت به خطيئته وهو من وافى يوم
القيامة وليست له حسنة بل جميع أعماله سيئات فهذا من أهل النار " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنوا بالله
ورسوله وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة فهم من أهل الجنة وهذا المقام شبيه بقوله تعالى " ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ومن يعمل من
الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " قال محمد بن إسحاق حدثني
محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس " بلى من كسب سيئة " أي عمل مثل أعمالكم وكفر بمثل ما
كفرتم به حتى يحيط به كفره فما له من حسنة وفي رواية عن ابن عباس قال الشرك قال ابن أبي حاتم. وروي
عن وائل وأبي العالية ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس نحوه وقال: الحسن أيضا والسدي السيئة
الكبيرة من الكبائر. وقال ابن جريج عن مجاهد " وأحاطت به خطيئته " قال بقلبه وقال: أبو هريرة وأبو وائل وعطاء
والحسن " وأحاطت به خطيئته " قالوا أحاط به شركه. وقال: الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم " وأحاطت
به خطيئته " قال الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب وعن السدي وأبي رزين نحوه وقال أبو العالية ومجاهد
والحسن في رواية عنهما وقتادة والربيع بن أنس " وأحاطت به خطيئته " الموجبة الكبيرة وكل هذه الأقوال متقاربة في
المعنى والله أعلم. ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمرو بن
قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إياكم ومحقرات
الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه " وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضرب لهم مثلا كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة
فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجئ بالعود والرجل يجئ بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا فأنضجوا
ما قذفوا فيها. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس " والذين آمنوا وعملوا
الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون " أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة
خالدين فيها يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له.
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس
123

حسنا وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون (83)
يذكر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر وأخذه ميثاقهم على ذلك وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا
قصدا وعمدا وهم يعرفونه ويذكرونه فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم
كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال تعالى " ولقد بعثنا في
كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد
وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه
وحق الوالدين كما قال تعالى " أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير " وقال تبارك وتعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا
إياه وبالوالدين إحسانا " إلى أن قال " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل " وفي الصحيحين عن ابن مسعود
قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال " الصلاة على وقتها " قلت ثم أي؟ قال " بر الوالدين " قلت ثم أي؟ قال
" الجهاد في سبيل الله " ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلا قال يا رسول الله من أبر؟ قال " أمك " قال ثم
من؟ قال " أمك " قال ثم من؟ قال " أباك؟ ثم أدناك ثم أدناك " وقوله تعالى " لا تعبدون إلا الله " قال الزمخشري
خبر بمعنى الطلب وهو آكد وقيل كان أصله " أن لا تعبدوا إلا الله " كما قرأها من قرأها من السلف فحذفت أن فارتفع
وحكي عن أبي وابن مسعود أنهما قرأها " لا تعبدوا إلا الله " ونقل هذا التوجيه القرطبي في تفسيره عن سيبويه. قال
واختاره الكسائي والفراء قال " واليتامى " وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء والمساكين الذين لا يجدون ما
ينفقون على أنفسهم وأهليهم وسيأتي الكلام على هذه الأصناف عند آية النساء التي أمرنا الله تعالى بها صريحا في
قوله " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا " الآية. وقوله تعالى " وقولوا للناس حسنا " أي كلموهم طيبا
ولينوا لهم جانبا ويدخل في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعروف كما قال: الحسن البصري في قوله
تعالى " وقولوا للناس حسنا " فالحسن من القول يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ويقول
للناس حسنا كما قال الله وهو كل خلق حسن رضيه الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا أبو عامر الخراز عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر
- رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " لا تحقرن من المعروف شيئا وإن لم تجد فالق أخاك بوجه
منطلق " وأخرجه مسلم في صحيحه والترمذي وصححه من حديث أبي عامر الخراز واسمه صالح بن رستم به وناسب
أن يأمرهم بأن يقولوا للناس حسنا بعد ما أمرهم بالاحسان إليهم بالفعل فجمع بين طرفي الاحسان الفعلي والقولي
ثم أكد الامر بعبادته والاحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة فقال: " وأقيموا الصلاة وآتوا
الزكاة " وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد بعد العلم به إلا القليل منهم.
وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي
القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن
الله لا يحب من كان مختالا فخورا " فقامت هذه الأمة من ذلك بما لم تقم به أمة من الأمم قبلها ولله الحمد والمنة.
ومن النقول الغريبة ههنا ما ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا
عبد الله بن يوسف يعني التنيسي حدثنا خالد بن صبيح عن حميد بن عقبة عن أسد بن وداعة أنه كان يخرج من منزله
فلا يلقى يهوديا ولا نصرانيا إلا سلم عليه فقيل له: ما شأنك تسلم على اليهودي والنصراني؟ فقال: إن الله تعالى
" يقول وقولوا للناس حسنا " وهو السلام. قال: وروي عن عطاء الخراساني نحوه " قلت " وقد ثبت في السنة أنهم
لا يبدؤن بالسلام والله أعلم.
124

وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء
تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم
عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا
ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعلمون (85) أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا
يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون (86)
يقول الله تبارك وتعالى منكرا على اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة وما كانوا يعانونه من القتال مع
الأوس والخزرج وذلك أن الأوس والخزرج وهم الأنصار كانوا في الجاهلية عباد أصنام وكانت بينهم حروب
كثيرة وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل بنو قينقاع وبنو النضير حلفاء الخزرج وبنو قريظة حلفاء الأوس فكانت
الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق
الآخر وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ويخرجونهم من بيوتهم وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة
والأموال ثم إذا وضعت الحرب أوزارها استفكوا الأسارى من الفريق المغلوب عملا بحكم التوراة ولهذا قال تعالى
" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " ولهذا قال تعالى " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون
أنفسكم من دياركم " أي لا يقتل بعضكم بعضا ولا يخرجه من منزله ولا يظاهر عليه كما قال تعالى " فتوبوا إلى
بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم " وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة كما قال عليه
الصلاة والسلام " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له
سائر الجسد بالحمى والسهر " وقوله تعالى " ثم أقررتم وأنتم تشهدون " أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته
وأنتم تشهدون به " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " الآية قال محمد بن إسحاق
بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس " ثم أنتم هؤلاء تقتلون
أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " الآية. قال: أنبأهم الله بذلك من فعلهم وقد حرم عليهم في التوراة
سفك دمائهم وافترض عليهم فيها فداء أسراهم فكانوا فريقين طائفة منهم بنو قينقاع وهم حلفاء الخزرج والنضير
وقريظة وهم حلفاء الأوس فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت
النضير وقريظة مع الأوس يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى تسافكوا دماءهم بينهم وبأيديهم
التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ولا يعرفون جنة ولا نارا ولا بعثا
ولا قيامة ولا كتابا ولا حلالا ولا حراما فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقا لما في التوراة وأخذا به
بعضهم من بعض يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس ويفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي
الخزرج منهم ويطلبون ما أصابوا من دمائهم وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم مظاهرة لأهل الشرك عليهم يقول الله
تعالى ذكره حيث أنبأهم بذلك " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض " أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم وفي
حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه إلا من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض
الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج فيما بلغني نزلت هذه القصة. وقال أسباط عن السدي: كانت
قريظة حلفاء الأوس وكانت النضير حلفاء الخزرج فكانوا يقتتلون في حرب بينهم فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها
النضير وحلفاءهم وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفائها ويغلبونهم فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر
رجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا:
125

إنا أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تستذل حلفاؤنا فذلك حين عيرهم
الله تبارك وتعالى فقال تعالى " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم " الآية. وقال
أسباط عن السدي عن الشعبي: نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم " ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون
فريقا منكم من ديارهم " الآية. وقال أسباط عن السدي عن عبد خير قال: غزونا مع سلمان بن ربيعة الباهلي بلنجر
فحاصرنا أهلها ففتحنا المدينة وأصبنا سبايا واشترى عبد الله بن سلام يهودية بسبعمائة فلما مر برأس الجالوت نزل به
فقال له عبد الله: يا رأس الجالوت هل لك في عجوز ههنا من أهل دينك تشتريها مني قال: نعم قال: أخذتها
بسبعمائة درهم قال: فإني أربحك سبعمائة أخرى قال: فإني قد حلفت أن لا أنقصها من أربعة آلاف قال: لا حاجة
لي فيها قال: والله لتشترينها مني أو لتكفرن بدينك الذي أنت عليه قال: ادن مني فدنا منه فقرأ في أذنه مما في
التوراة: إنك لا تجد مملوكا من بني إسرائيل إلا اشتريته فأعتقته " وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم
إخراجهم " قال: أنت عبد الله بن سلام؟ قال: نعم قال: فجاء بأربعة آلاف فأخذ عبد الله ألفين ورد عليه ألفين.
وقال: آدم بن إياس في تفسيره: حدثنا أبو جعفر يعني الرازي حدثنا الربيع بن أنس أخبرنا أبو العالية أن
عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب ولا يفادي من وقع عليه
العرب فقال عبد الله: أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا
السياق ذم اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له
بالصحة فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعته ومبعثه
ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام واليهود عليهم لعائن الله
يتكاتمونه بينهم ولهذا قال تعالى " فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " أي بسبب مخالفتهم
شرع الله وأمره " ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب " جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم " وما الله بغافل
عما تعملون ". * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة " واختاروها " فلا يخفف عنهم العذاب " أي لا يفتر عنهم
ساعة واحدة " ولا هم ينصرون " أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم
منه.
ولقد أتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم
رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون (87)
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد والمخالفة والاستكبار على الأنبياء وأنهم إنما يتبعون أهواءهم فذكر
تعالى أنه آتي موسى الكتاب وهو التوراة فحرفوها وبدلوها وخالفوا أوامرها وأولوها وأرسل الرسل والنبيين من بعده
الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا
والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " الآية ولهذا قال تعالى " وقفينا من بعده بالرسل "
قال السدي عن أبي مالك: أتبعنا وقال غيره: أردفنا. والكل قريب كما قال تعالى " ثم أرسلنا رسلنا تترى "
حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه الله من البينات
وهي المعجزات. قال ابن عباس: من إحياء الموتى وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيرا بإذن
الله وإبراء الأسقام وإخباره بالغيوب وتأييده بروح القدس وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما
جاءهم به فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة البعض كما قال تعالى إخبارا عن
عيسى " ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم " الآية. فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ
المعاملة ففريقا يكذبونه وفريقا يقتلونه وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم وبالالزام
126

بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ولهذا قال
تعالى " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريق تقتلون ".
والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية وتابعه على ذلك ابن عباس
ومحمد بن كعب وإسماعيل بن خالد والسدي والربيع بن أنس وعطية العوفي وقتادة مع قوله تعالى " نزل به الروح
الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " ما قال البخاري وقال ابن أبي الزناد عن أبيه عن أبي هريرة عن عائشة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع لحسان بن ثابت منبرا في المسجد فكان ينافح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - اللهم أيد حسان بروح القدس كما نافح عن نبيك " فهذا من البخاري تعليقا وقد رواه أبو داود في
سننه عن ابن سيرين والترمذي عن علي بن حجر وإسماعيل بن موسى الفزاري ثلاثتهم عن أبي عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه وهشام بن عروة كلاهما عن عائشة به قال الترمذي حسن صحيح وهو حديث أبي الزناد وفي
الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب مر
بحسان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ثم التفت إلى أبي
هريرة فقال: أنشدك الله أسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " أجب عني اللهم أيده بروح القدس " فقال اللهم نعم وفي
بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان " اهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك " وفي شعر حسان قوله:
وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس به خفاء
وقال محمد بن إسحاق حدثني عبد الرحمن بن أبي حسين المكي عن شهر بن حوشب الأشعري أن نفرا من اليهود
سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا أخبرنا عن الروح فقال " أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبرائيل وهو
الذي يأتيني؟ " قالوا نعم: وفي صحيح ابن حبان عن ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن روح القدس نفث في
روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ". أقوال أخر: قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا بشر بن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس " وأيدناه بروح
القدس " قال: هو الاسم الأعظم الذي كان عيسى يحيي به الموتى. وقال ابن جرير حدثت عن المنجاب فذكره
وقال ابن أبي حاتم وروى عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله القرطبي عن عبيد بن عمير أيضا قال: وهو الاسم
الأعظم. وقال ابن أبي نجيح: الروح هو حفظة على الملائكة وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: القدس
هو الرب تبارك وتعالى. وهو قول كعب وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن البصري أنهما قالا: القدس هو الله
تعالى وروحه جبريل. فعلى هذا يكون القول الأول وقال السدي: القدس البركة. وقال العوفي عن ابن عباس
القدس الطهر وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى " وأيدناه
بروح القدس " قال: أيد الله عيسى بالإنجيل روحا كما جعل القرآن روحا كلاهما روح الله كما قال تعالى " وكذلك
أوحينا إليك روحا من أمرنا " ثم قال ابن جرير وأولى التأويلات في ذلك بالصواب قول من قال الروح في هذا
الموضع جبرائيل فإن الله تعالى أخبر أنه أيد عيسى به كما أخبر في قوله تعالى " إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر
نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة
والتوراة والإنجيل " الآية. فذكر أنه أيده به فلو كان الروح الذي أيده به هو الإنجيل لكان قوله " وإذ أيدتك بروح
القدس وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل " تكرير قول لا معنى له والله سبحانه وتعالى أعز وأجل أن
يخاطب عباده بما لا يفيدهم به " قلت " ومن الدليل على أنه جبرائيل ما تقدم من أول السياق ولله الحمد وقال
الزمخشري " بروح القدس " بالروح المقدسة كما تقول حاتم الجود ورجل صدق ووصفها بالقدس كما قال " وروح
منه " فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة وقيل لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث وقيل بجبريل وقيل
بالإنجيل كما قال في القرآن " روحا من أمرنا " وقيل باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره فتضمن كلامه
127

قولا آخر وهو أن المراد روح عيسى نفسه المقدسة المطهرة وقال الزمخشري في قوله تعالى " فريقا كذبتم وفريقا
تقتلون " إنما لم يقل وفريقا قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضا لأنهم حاولوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسم
والسحر وقد قال: عليه السلام في مرض موته " ما زالت أكلة خيبر تعاودني فهذا أوان انقطاع أبهري " " قلت " وهذا
الحديث في صحيح البخاري وغيره.
وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88)
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس " وقالوا قلوبنا غلف " أي في
أكنة: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وقالوا قلوبنا غلف " أي لا تفقه وقال العوفي عن ابن عباس " وقالوا
قلوبنا غلف " هي القلوب المطبوع عليها وقال مجاهد " وقالوا قلوبنا غلف " عليها غشاوة وقال عكرمة: عليها
طابع. وقال أبو العالية: أي لا تفقه وقال السدي يقولون عليها غلاف وهو الغطاء: وقال عبد الرزاق عن معمر عن
قتادة: فلا تعي ولا تفقه قاله مجاهد وقتادة: وقرأ ابن عباس غلف بضم اللام وهو جمع غلاف أي قلوبنا أوعية
لكل علم فلا تحتاج إلى علمك قاله ابن عباس وعطاء " بل لعنهم الله بكفرهم " أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير
" فقليلا ما يؤمنون " قال قتادة معناه لا يؤمن منهم إلا القليل " وقالوا قلوبنا غلف " هو كقوله " وقالوا قلوبنا في أكنة
مما تدعونا إليه " وقال عبد الرحمن ابن أسلم في قوله غلف قال: تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول
شئ وقرأ " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي من حديث
عمرو بن مرة الجملي عن أبي البحتري عن حذيفة قال " القلوب أربعة - فذكر منها - وقلب أغلف مغضوب عليه وذاك
قلب الكافر " وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد ابن عبد الرحمن العرزمي أنبأنا أبي عن جدي عن قتادة عن الحسن في
قوله: " قلوبنا غلف " قال: لم تختن وهذا القول يرجع معناه إلى ما تقدم من عدم طهارة قلوبهم وأنها بعيدة من
الخير. قول آخر: قال الضحاك عن ابن عباس " وقالوا قلوبنا غلف " قال يقولون قلوبنا غلف مملوءة لا تحتاج إلى
علم محمد ولا غيره وقال عطية العوفي عن ابن عباس " وقالوا قلوبنا غلف " أي أوعية للعلم وعلى هذا المعنى
جاءت قراءة بعض الأنصار فيها حكاه ابن جرير وقالوا قلوبنا غلف بضم اللام نقلها الزمخشري أي جمع غلاف أي
أوعية بمعنى أنهم ادعوا أن قلوبهم مملوءة بعلم لا يحتاجون معه إلى علم آخر كما كانوا يفتون بعلم التوراة ولهذا قال
تعالى " بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون " أي ليس الامر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال في
سورة النساء " وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " وقد اختلفوا في معنى قوله
" فقليلا ما يؤمنون " وقوله " فلا يؤمنون إلا قليلا " فقال بعضهم فقليل من يؤمن منهم وقيل فقليل إيمانهم بمعنى
أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من
الذي جاءهم به محمد - صلى الله عليه وسلم - وقال بعضهم إنما كانوا غير مؤمنين بشئ وإنما قال: فقليلا ما يؤمنون وهم بالجميع
كافرون كما تقول العرب قلما رأيت مثل هذا قط. تريد ما رأيت مثل هذا قط وقال الكسائي: تقول العرب من زنى
بأرض قلما تنبت أي لا تنبت شيئا حكاه ابن جرير رحمه الله والله أعلم.
ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا
كفروا به فلعنة الله على الكافرين (89)
يقول تعالى " ولما جاءهم " يعني اليهود " كتاب من عند الله " وهو القرآن الذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " مصدق لما معهم "
يعني من التوراة وقوله " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " أي وقد كانوا من قبل مجئ هذا الرسول بهذا
128

الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه
قتل عاد وإرم كما قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمرو عن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم قال: فينا والله وفيهم
يعني في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم نزلت هذه القصة يعني " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما
معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " قالوا كنا قد علوناهم قهرا دهرا في
الجاهلية ونحن أهل شرك وهم أهل كتاب وهم يقولون إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه فنقتلكم معه قتل عاد
وإرم فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به يقول الله تعالى " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله
على الكافرين " وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " وقال
يستنصرون يقولون نحن نعين محمدا عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون وقال محمد بن إسحاق أخبرني محمد بن أبي
محمد أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يهودا كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قبل مبعثه فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن
معرور وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ونحن أهل شرك
وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير ما جاءنا بشئ نعرفه وما هو بالذي كنا
نذكر لكم. فأنزل الله في ذلك من قولهم " ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم " الآية. وقال العوفي
عن ابن عباس " وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا " يقول يستنصرون بخروج محمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي
العرب يعني بذلك أهل الكتاب فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه. وقال أبو العالية:
كانت اليهود تستنصر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - على مشركي العرب يقولون اللهم ابعث هذا النبي الذي نجده مكتوبا عندنا حتى
نعذب المشركين ونقتلهم. فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورأوا أنه من غيرهم كفروا به حسدا للعرب وهم يعلمون أنه
رسول الله - صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " وقال قتادة " وكانوا من قبل
يستفتحون على الذين كفروا " قال وكانوا يقولون إنه سيأتي نبي " فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به " وقال مجاهد " فلما
جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " قال هم اليهود.
بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباؤا بغضب
على غضب وللكافرين عذاب مهين (90)
قال مجاهد " بئسما اشتروا به أنفسهم " يهود شروا الحق بالباطل وكتمان ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن يبينوه وقال
السدي " بئسما اشتروا به أنفسهم " يقول باعوا به أنفسهم يقول بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من
الكفر بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - عن تصديقه وموازرته ونصرته وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية
" أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده " ولا حسد أعظم من هذا قال ابن إسحاق عن محمد عن عكرمة أو
سعيد عن ابن عباس " بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من
عباده " أي إن الله جعله من غيرهم " فباءوا بغضب على غضب " قال ابن عباس في الغضب على الغضب فغضب
عليهم في ما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم وغضب عليهم بكفرهم بهذا النبي الذي بعث الله إليهم " قلت "
ومعنى " باؤا " استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب وقال أبو العالية: غضب الله عليهم بكفرهم
بالإنجيل وعيسى ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبالقرآن وعن عكرمة وقتادة مثله قال السدي: أما
الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل وأما الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعن ابن عباس
مثله. وقوله تعالى " وللكافرين عذاب مهين " ولما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة
129

والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " أي صاغرين
حقيرين ذليلين راغمين وقد قال الإمام أحمد حدثنا يحيى حدثنا ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شئ من الصغار حتى يدخلوا
سجنا في جهنم يقال له بولس تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ".
وإذا قيل لهم أمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)
يقول تعالى " وإذا قيل لهم " أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب " آمنوا بما أنزل الله " على محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه
واتبعوه " قالوا نؤمن بما أنزل علينا " أي يكفينا الايمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك
" ويكفرون بما وراءه " يعنى بما يعدوه " وهو الحق مصدقا لما معهم " أي وهم يعلمون أن ما أنزل على
محمد - صلى الله عليه وسلم - " الحق مصدقا لما معهم " منصوبا على الحال أي في حال تصديقه لما معهم من التوراة والإنجيل
فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " ثم قال تعالى " فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين " أي إن كنتم صادقين في دعواكم الايمان بما أنزل إليكم فلم قتلتم الأنبياء
الذين جاؤكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيا وعنادا
واستكبارا على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى " أفكلما جاءكم رسول بما لا
تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريق تقتلون " وقال السدي في هذه الآية يعيرهم الله تبارك وتعالى " قل فلم
تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين " وقال أبو جعفر بن جرير: قل يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم
آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا: لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود وقد
حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم وذلك من الله تكذيب لهم في
قولهم نؤمن بما أنزل علينا وتعيير لهم " ولقد جاءكم موسى بالبينات " أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات
على أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله والآيات البينات هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد وفرق
البحر وتظليلهم بالغمام والمن والسلوى والحجر وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها ثم اتخذتم العجل أي معبودا
من دون الله في زمان موسى وأيامه وقوله من بعده أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عز وجل كما قال
تعالى " واتخذ قوم موسى من حليهم عجلا جسدا له خوار " " وأنتم ظالمون " أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع
الذي صنعتموه من بعده عبادتكم العجل وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى " ولما سقط في أيديهم ورأوا
أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين ".
وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ماء اتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل
بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين (93)
يعدد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم
خالفوه ولهذا قالوا " سمعنا وعصينا " وقد تقدم تفسير ذلك " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " قال عبد الرزاق
عن قتادة " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " قال أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم. وكذا قال أبو
العالية والربيع بن أنس وقال الإمام أحمد حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن
130

خالد بن محمد الثقفي عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال " حبك الشئ يعمي ويصم "
ورواه أبو داود عن حياة بن شريح عن بقية عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال السدي أخذ موسى عليه
السلام العجل فذبحه بالمبرد ثم ذراه في البحر ثم لم يبق بحر يجري يومئذ إلا وقع فيه شئ ثم قال لهم موسى
اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب فذلك حين يقول الله تعالى " وأشربوا في قلوبهم
العجل " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن عمارة بن عمير
وأبي عبد الرحمن السلمي عن علي - رضي الله عنه - قال: عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو
على شاطئ نهر فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر وجهه مثل الذهب وقال سعيد بن
جبير " وأشربوا في قلوبهم العجل " قال لما أحرق العجل برد ثم نسف فحسوا الماء حتى عادت وجوههم
كالزعفران وحكى القرطبي عن كتاب القشيري أنه ما شرب أحد منه ممن عبد العجل إلا جن ثم قال القرطبي:
وهذا شئ غير ما ههنا لان المقصود من هذا السياق أنه ظهر على شفاههم ووجوههم والمذكور ههنا أنهم أشربوا في
قلوبهم العجل يعني في حال عبادتهم له ثم أنشد قول النابغة في زوجته عثمة:
تغلغل حب عثمة في فؤادي * فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب * ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها * أطير لو أن إنسانا يطير
وقوله " قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين " أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات
الله ومخالفتكم الأنبياء ثم اعتمادكم في كفركم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم إذ كفرتم بخاتم
الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين فكيف تدعون لأنفسكم الايمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل
القبيحة من نقضكم المواثيق وكفركم بآيات الله وعبادتكم العجل من دون الله.
قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين (94) ولن يتمنوه أبدا بما
قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين (95) ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر
ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعلمون (96)
قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - يقول الله
تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم
صادقين " أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب فأبوا ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت
أيديهم والله عليم بالظالمين " أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي
على الأرض يهودي إلا مات. وقال الضحاك عن ابن عباس فتمنوا الموت: فسلوا الموت وقال عبد الرزاق عن معمر
عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة قوله: " فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ". قال: قال ابن عباس لو تمنى يهود
الموت لماتوا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا عثام سمعت الأعمش قال لا
أظنه إلا عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه وهذه أسانيد
صحيحة إلى ابن عباس وقال ابن جرير في تفسيره وبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا
مقاعدهم من النار ولو خرج الذين يباهلون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا " حدثنا بذلك أبو كريب
حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورواه
131

الإمام أحمد عن إسماعيل بن يزيد الرقي حدثنا فرات عن عبد الكريم به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن
أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثنا سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قال قول الله: ما
كانوا ليتمنوه بما قدمت أيديهم. قلت أرأيتك لو أنهم أحبوا الموت حين قيل لهم تمنوا الموت أتراهم كانوا ميتين؟
قال: لا والله ما كانوا ليموتوا ولو تمنوا الموت وما كانوا ليتمنوه. وقد قال الله ما سمعت " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت
أيديهم والله عليم بالظالمين " وهذا غريب عن الحسن ثم هذا الذي فسر به ابن عباس الآية هو المتعين وهو الدعاء
على أي الفريقين أكذب منهم أو من المسلمين على وجه المباهلة ونقله ابن جرير عن قتادة وأبي العالية والربيع بن
أنس رحمهم الله تعالى ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة " قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من
دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين * ولا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * قل إن الموت الذي
تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " فهم عليهم لعائن الله تعالى لما زعموا
أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب
الطائفتين منهم أو من المسلمين فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون لأنهم لو كانوا جازمين بما هم فيه
لكانوا أقدموا على ذلك فلما تأخروا علم كذبهم وهذا كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفد نجران من النصارى بعد قيام
الحجة عليهم في المناظرة وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة فقال الله تعالى " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من
العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين "
فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف فعند ذلك جنحوا للسلم
وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون فضربها عليهم وبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح أمينا ومثل هذا المعنى أو
قريب منه قول الله تعالى لنبيه أن يقول للمشركين " قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا " أي من كان في
الضلالة منا ومنكم فزاده الله مما هو فيه ومد له واستدرجه كما سيأتي تقريره في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما من فسر الآية على معنى " إن كنتم صادقين " أي في دعواكم فتمنوا الآن الموت ولم يتعرض هؤلاء
للمباهلة كما قرره طائفة من المتكلمين وغيرهم ومال إليه ابن جرير بعد ما قارب القول الأول: فإنه قال القول في
تأويل قوله تعالى " قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس " الآية فهذه الآية مما احتج الله
سبحانه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - على اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره وفضح بها أحبارهم وعلماءهم وذلك أن الله تعالى أمر
نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى قضية عادلة فيما كان بينه وبينهم من الخلاف كما أمره أن يدعو الفريق الآخر من النصارى إذا
خالفوه في عيسى ابن مريم عليه السلام وجادلوه فيه إلى فاصلة بينه وبينهم من المباهلة فقال لفريق اليهود إن كنتم
محقين فتمنوا الموت فإن ذلك غير ضاركم إن كنتم محقين فيما تدعون من الايمان وقرب المنزلة من الله لكم لكي
يعطيكم أمنيتكم من الموت إذا تمنيتم فإنما تصيرون إلى الراحة من تعب الدنيا ونصبها وكدر عيشها والفوز بجوار الله
في جناته إن كان الامر كما تزعمون من أن الدار الآخرة لكم خالصة دوننا وإن لم تعظوها علم الناس أنكم المبطلون
ونحن المحقون في دعوانا وانكشف أمرنا وأمركم لهم فامتنعت اليهود من الإجابة إلى ذلك لعلمها أنها إن تمنت
الموت هلكت فذهبت دنياها وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها كما امتنع فريق النصارى الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في
عيسى إذا دعوا للمباهلة من المباهلة.
فهذا الكلام منه أوله حسن وآخره فيه نظر وذلك أنه لا تظهر الحجة عليهم على هذا التأويل إذ يقال إنه لا يلزم من
كونهم يعتقدون أنهم صادقون في دعواهم أنهم يتمنون الموت فإنه لا علاقة بين وجود الصلاح وتمني الموت وكم
من صالح لا يتمنى الموت بل يود أن يعمر ليزداد خيرا وترتفع درجته في الجنة كما جاء في الحديث " خيركم من
طال عمره وحسن عمله " ولهم مع ذلك أن يقولوا على هذا فها أنتم تعتقدون أيها المسلمون أنكم أصحاب الجنة
وأنتم لا تتمنون في حال الصحة الموت فكيف تلزموننا بما لا يلزمكم؟ وهذا كله إنما نشأ من تفسير الآية على هذا
132

المعنى فأما على تفسير ابن عباس فلا يلزم عليه شئ من ذلك بل قيل لهم كلام نصف إن كنتم تعتقدون أنكم
أولياء الله من دون الناس وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار فباهلوا على ذلك
وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم اعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة فلما تيقنوا ذلك وعرفوا
صدقه نكلوا عن المباهلة لما يعلمون من كذبهم وافترائهم وكتمانهم الحق من صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ونعته وهم يعرفونه
كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم
القيامة. وسميت هذه المباهلة تمنيا لان كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ولا سيما إذا كان في ذلك حجة
له في بيان حقه وظهوره وكانت المباهلة بالموت لان الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد
الموت ولهذا قال تعالى " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين * ولتجدنهم أحرص الناس على
حياة " أي على طول العمر لما يعلمون مآلهم السيئ وعاقبتهم عند الله الخاسرة لان الدنيا سجن المؤمن وجنة
الكافر فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة حتى وهم أحرص من
المشركين الذين لا كتاب لهم وهذا من باب عطف الخاص على العام. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ومن
الذين أشركوا " قال الأعاجم وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث الثوري وقال صحيح على شرطهما ولم
يخرجاه. قال وقد اتفقا على سند تفسير الصحابي وقال الحسن البصري ولتجدنهم أحرص الناس على حياة. قال
المنافق أحرص الناس وأحرص من المشرك على حياة يود أحدهم أي يود أحد اليهود كما يدل عليه نظم السياق
وقال أبو العالية يود أحدهم أي أحد المجوس وهو يرجع إلى الأول لو يعمر ألف سنة. قال الأعمش عن مسلم البطين
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " يود أحدهم لو يعمر ألف سنة " قال هو كقول الفارسي " ده هزارسال " يقول عشرة
آلاف سنة. وكذا روى عن سعيد بن جبير نفسه أيضا وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق
سمعت أبي عليا يقول حدثنا أبو حمزة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله " يود أحدهم لو يعمر ألف
سنة " قال هو الأعاجم هزارسال نوروزر مهرجان وقال مجاهد " يود أحدهم لو يعمر ألف سنة " قال: حببت إليهم
الخطيئة طول العمر وقال مجاهد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس " وما هو
بمزحزحه من العذاب أن يعمر " أي وما هو بمنجيه من العذاب وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت فهو
يحب طول الحياة وأن اليهودي لو عرف ما له في الآخرة من الخزي ما ضيع ما عنده من العلم. وقال العوفي عن ابن
عباس " وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر " قال هذا الذين عادوا جبرائيل قال أبو العالية وابن عمر فما ذاك
بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذه الآية يهود أحرص على الحياة من
هؤلاء وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة وليس ذلك بمزحزحه من العذاب لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه إذ
كان كافرا " والله بصير بما يعملون " أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر وسيجازي كل عاطل بعمله.
قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين (97) من كان عدوا
لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال؟؟ فإن الله عدو للكافرين (98)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من
بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدو لهم وأن ميكائيل ولي لهم ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك
فقال بعضهم إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر نبوته " ذكر من قال
ذلك " حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه
قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا
133

نبي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سلوا عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم عن شئ
فعرفتموه لتتابعني على الاسلام " فقالوا ذلك لك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سلوا عما شئتم " قالوا: أخبرنا عن أربع
خلال نسألك عنهن أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا كيف ماء المرأة
وماء الرجل وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في التوراة ومن وليه من الملائكة؟ فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - " عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني؟ " فأعطوه ما شاء الله من عهد وميثاق فقال " نشدتكم بالذي أنزل
التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه فنذر لله نذرا لئن عافاه الله من
مرضه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحوم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها " فقالوا:
اللهم نعم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اللهم اشهد عليهم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على
موسى هل تعلمون أن ماء الرجل غليظ أبيض وأن ماء المرأة رقيق أصفر فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله عز
وجل وإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله عز
وجل " قالوا: اللهم نعم. قال " اللهم اشهد وأنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا
النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه " قالوا اللهم نعم. قال " اللهم اشهد " قالوا: أنت الآن فحدثنا من وليك من
الملائكة فعندها نجامعك أو نفارقك. قال " فإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه " قالوا: فعندها
نفارقك ولو كان وليك سواه من الملائكة تابعناك وصدقناك. قال: فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا فأنزل
الله عز وجل " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه " - إلى قوله - " لو كانوا
يعلمون " فعندها باءوا بغضب على غضب وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي النضر هاشم بن القاسم
وعبد الرحمن بن حميد في تفسيره عن أحمد بن يونس كلاهما عن عبد الحميد بن بهرام به ورواه أحمد أيضا عن
الحسين بن محمد المروزي عن عبد الحميد بنحوه وقد رواه محمد بن إسحاق بن يسار حدثنا عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي حسين عن شهر بن حوشب فذكر مرسلا وزاد فيه قالوا فأخبرنا عن الروح قال " فأنشدكم بالله
وبأيامه عند بني إسرائيل هل تعلمون أنه جبريل وهو الذي يأتيني " قالوا: اللهم نعم ولكنه عدو لنا وهو ملك إنما
يأتي بالشدة وسفك الدماء فلولا ذلك أتبعناك. فأنزل الله تعالى فيهم " قل من كان عدوا لجبريل - إلى قوله - لا
يعلمون " وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن
عرفنا أنك نبي واتبعناك. فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قال والله على ما نقول وكيل قال " هاتوا " قالوا
فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال " تنام عيناه ولا ينام قلبه " قالوا أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر. قال " يلتقي
الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت " قالوا: أخبرنا ما حرم إسرائيل على
نفسه قال " كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا ألبان كذا " قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل فحرم
لحومها قالوا صدقت قالوا أخبرنا ما هذا الرعد. قال " ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيديه أو في
يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى " قالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال " صوته "
قالوا صدقت قالوا إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر
فأخبرنا من صاحبك؟ قال " جبريل عليه السلام " قالوا جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت
ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان. فأنزل الله تعالى " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك
بإذن الله " إلى آخر الآية ورواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد وقال الترمذي: حسن غريب.
وقال سنيد في تفسيره عن حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني القاسم بن أبي بزة أن يهود سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال " جبرائيل ". قالوا فإنه عدو لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال. فنزلت " قل
من كان عدوا لجبريل " الآية قال ابن جرير: قال مجاهد قالت يهود يا محمد ما نزل جبريل إلا بشدة وحرب وقتال
134

فإنه لنا عدو فنزل " قل من كان عدوا لجبريل " الآية قال البخاري قوله تعالى " من كان عدوا لجبريل " قال
عكرمة جبروميك وإسراف: عبد. إيل: الله. حدثنا عبد الله بن منير سمع عبد الله بن بكر حدثنا حميد عن أنس بن
مالك قال سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في أرض يخترف فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني سائلك عن
ثلاث لا يعلمهن إلا نبي ما أول أشراط الساعة وما أول طعام أهل الجنة وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه قال
" أخبرني بهذه جبرائيل آنفا " قال جبريل: قال " نعم " قال ذاك عدو اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية " من كان عدوا
لجبريل فإنه نزله على قلبك " " وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام
يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت " قال:
أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم
يبهتوني فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ " قالوا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا
وابن سيدنا. قال " أرأيتم إن أسلم " قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمدا رسول الله فقالوا: هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه. فقال هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله. انفرد به
البخاري من هذا الوجه وقد أخرجه من وجه آخر عن أنس بنحوه وفي صحيح مسلم عن ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قريب من هذا السياق كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وحكاية البخاري كما تقدم عن عكرمة هو المشهور أن
إيل هو الله وقد رواه سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة ورواه عبد بن حميد عن إبراهيم بن الحكم عن أبيه عن
عكرمة ورواه ابن جرير عن الحسين بن يزيد الطحان عن إسحاق بن منصور عن قيس بن عاصم عن عكرمة أنه قال
إن جبريل اسمه عبد الله وميكائيل اسمه عبد الله إيل الله. ورواه يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس مثله سواء
وكذا قال غير واحد من السلف كما سيأتي قريبا ومن الناس من يقول إيل عبارة عن عبد والكلمة الأخرى هي اسم
الله لان كلمة إيل لا تتغير في الجميع فوزانه عبد الله عبد الرحمن عبد الملك عبد القدوس عبد السلام عبد الكافي
عبد الجليل فعبد موجودة في هذا كله واختلفت الأسماء المضاف إليها وكذلك جبرائيل وميكائيل وعزائيل وإسرافيل
ونحو ذلك وفي كلام غير العرب يقدمون المضاف إليه على المضاف والله أعلم.
ثم قال ابن جرير: وقال آخرون بل كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم. " ذكر من قال ذلك " حدثني بن المثنى حدثني ربعي بن علية عن داود بن أبي هند عن الشعبي
قال نزل عمر الروحاء فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها فقال ما بال هؤلاء؟ قالوا يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
صلى ههنا قال فكفر ذلك وقال أيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدركته الصلاة بواد صلاها ثم ارتحل فتركه ثم أنشأ يحدثهم فقال:
كنت أشهد اليهود يوم مدارسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق القرآن ومن القرآن كيف يصدق التوراة فبينما أنا
عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك " قلت " ولم ذلك؟ قالوا لأنك تغشانا
وتأتينا. فقلت: إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدق التوراة ومن التوراة كيف تصدق القرآن قالوا: ومر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك نشدتكم بالله الذي لا إله
إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال، فسكتوا. فقال لهم عالمهم
وكبيرهم: إنه قد غلظ عليكم فأجيبوه قالوا فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم
أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم. قلت: ويحكم إذا هلكتم. قالوا إنا لم نهلك قلت كيف ذلك وأنتم تعلمون أنه رسول الله ولا
تتبعونه ولا تصدقونه. قالوا إن لنا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة وإنه قرن بنبوته عدونا من الملائكة. قلت
ومن عدوكم ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل وسلمنا ميكائيل قالوا إن جبرائيل ملك الفظاظة والغلظة والاعسار
والتشديد والعذاب ونحو هذا وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة والتخفيف ونحو هذا قال: قلت وما منزلتهما من
ربهما عز وجل؟ قالوا أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره قال: فقلت فوالذي لا إله إلا هو إنهما والذي بينهما
135

لعدو لمن عاداهما وسلم لمن سالمهما وما ينبغي لجبرائيل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدو
جبرائيل. قال: ثم قمت فاتبعت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان فقال " يا ابن الخطاب ألا أقرئك
آيات نزلن قبل فقرأ علي " من كان عدوا لجبرائيل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " حتى قرأ الآيات قال: قلت بأبي
وأمي أنت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك وأنا أسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك
بالخبر. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن مجالد أنبأنا عامر قال: انطلق عمر بن
الخطاب إلى اليهود فقال أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتبكم؟ قالوا نعم قال:
فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا جعل له من الملائكة كفلا وإن جبرائيل كفل محمدا وهو
الذي يأتيه وهو عدونا من الملائكة وميكائيل سلمنا لو كان ميكائيل الذي يأتيه أسلمنا. قال: فإني أنشدكم بالله الذي
أنزل التوراة على موسى ما منزلتهما عند الله تعالى؟ قالوا: جبريل عن يمينه وميكائيل عن شماله. قال عمر: وإني
أشهد ما ينزلان إلا بإذن الله وما كان ميكائيل ليسالم عدو جبرائيل وما كان جبرائيل ليسالم عدو ميكائيل. فبينما هو
عندهم إذ مر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا هذا صاحبك يا ابن الخطاب فقام إليه عمر فأتاه وقد أنزل الله عز وجل: " من كان
عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين " وهذان الاسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به
عن عمر ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر فإنه لم يدرك زمانه والله أعلم. وقال ابن جبير: حدثنا بشير حدثنا يزيد بن
زريع عن سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به فقال لهم
عمر: أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لا سمع منكم فسألهم وسألوه فقالوا من صاحب
صاحبكم؟ فقال لهم جبرائيل. فقالوا ذاك عدونا من أهل السماء يطلع محمدا على سرنا وإذا جاء جاء بالحرب
والسنة ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل وكان إذا جاء جاء بالخصب والسلم فقال لهم عمر: هل تعرفون جبرائيل
وتنكرون محمدا - صلى الله عليه وسلم؟ ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية
" قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " الآيات.
ثم قال حدثني المثنى حدثنا آدم حدثنا أبو جعفر حدثنا قتادة. قال بلغنا أن عمر أقبل إلى اليهود يوما فذكر نحوه.
وهذا في تفسير آدم وهو أيضا منقطع وكذلك رواه أسباط عن السدي عن عمر مثل هذا أو نحوه وهو منقطع أيضا.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن يعني الدستلي حدثنا أبو جعفر عن حصين بن عبد
الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن يهوديا لقي عمر بن الخطاب فقال إن جبرائيل الذي يذكر صاحبكم عدو
لنا. فقال عمر " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل فإن الله عدو للكافرين " قال فنزلت على لسان
عمر رضي الله عنه ورواه عبد بن حميد عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن أبي جعفر هو الرازي: وقال ابن
جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثني هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى
" من كان عدوا لجبريل " قال: قالت اليهود للمسلمين لو أن ميكائيل كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل
بالرحمة والغيث وإن جبرائيل ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدو لنا قال فنزلت هذه الآية. حدثنا يعقوب أخبرنا
هشيم أخبرنا عبد الملك عن عطاء بنحوه. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله " قل من كان عدوا
لجبريل " قال: قالت اليهود إن جبرائيل عدو لنا لأنه ينزل بالشدة والسنة وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب
فجبرائيل عدو لنا. فقال الله تعالى " من كان عدوا لجبريل " الآية.
وأما تفسير الآية فقوله تعالى " قل من كان عدوا لجبريل " فإنه نزله على قلبك بإذن الله أي من عادى جبرائيل
فليعلم أنه الروح الأمين الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك فهو رسول من رسل الله ملكي
ومن عادى رسولا فقد عادى جميع الرسل كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الايمان بجميع الرسل وكما أن من كفر
برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل كما قال تعالى " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله
136

ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض " الآيتين فحكم عليهم بالكفر المحقق إذا آمنوا ببعض الرسل وكفروا
ببعضهم وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدو لله لان جبرائيل لا ينزل بالامر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما
قال " وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآية وقال تعالى " وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين * على قلبك
لتكون من المنذرين " وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من عادي لي وليا
فقد بارزني بالحرب " ولهذا غضب الله لجبرائيل على من عاداه فقال تعالى " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه " أي من الكتب المتقدمة " وهدى وبشرى للمؤمنين " أي هدى لقلوبهم وبشرى
لهم بالجنة وليس ذلك إلا للمؤمنين كما قال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء " الآية وقال تعالى " وننزل
من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " الآية ثم قال تعالى " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال
فإن الله عدو للكافرين " يقول تعالى من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة كما قال تعالى
" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس " - وجبريل وميكال وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما
دخلا في الملائكة في عموم الرسل ثم خصصا بالذكر لان السياق في الانتصار لجبرائيل وهو السفير بين الله وأنبيائه
وقرن معه مكائيل في اللفظ لان اليهود زعموا أن جبريل عدوهم وميكائيل وليهم فأعلمهم الله تعالى أن من عادى
واحدا منهما فقد عادى الآخر وعادى الله أيضا ولأنه أيضا ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان كما قرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
ابتداء الامر ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته وميكائيل موكل بالنبات والقطر هذاك بالهدى وهذا بالرزق كما أن
إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام من الليل
يقول " اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " وقد تقدم ما
حكاه البخاري ورواه ابن جرير عن عكرمة وغيره أنه قال جبروميك وإسراف: عبيد وإيل: الله وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن أبي رجاء عن
عمير مولى ابن عباس عن ابن عباس قال: إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن وقيل جبر عبد وإيل
الله. وقال محمد بن إسحاق عن الزهري عن علي بن الحسين قال: أتدرون ما اسم جبرائيل من أسمائكم؟ قلنا لا
قال: اسمه عبد الله وكل اسم مرجعه إلى إيل فهو إلى الله عز وجل قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد
والضحاك ويحيى بن يعمر نحو ذلك ثم قال: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثني عبد العزيز بن
عمير قال: اسم جبرائيل في الملائكة خادم الله قال: فحدثت به أبا سليمان الداراني فانتفض وقال: لهذا
الحديث أحب إلي من كل شئ في دفتر كان بين يديه. وفي جبرائيل وميكائيل لغات وقراءات تذكر في كتب اللغة
والقراءات ولم نطول كتابنا هذا بسرد ذلك إلا أن يدور فهم المعنى عليه أو يرجع الحكم في ذلك إليه وبالله الثقة وهو
المستعان وقوله تعالى " فإن الله عدو للكافرين " فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل فإنه عدو بل قال
" فإن الله عدو للكافرين " كما قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * سبق الموت ذا الغني والفقيرا
وقال الآخر:
ليت الغراب غداة ينعب دائبا * كان الغراب مقطع الأوداج
وإنما أظهر الله هذا الاسم ههنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره وإعلامهم أن من عادى وليا لله فقد عادى الله ومن عادى
الله فإن الله عدو له ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة كما تقدم الحديث " من عادى لي وليا فقد آذنته
بالمحاربة " وفى الحديث الآخر " إني لا ثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب " وفي الحديث الصحيح " من كنت
خصمه خصمته ".
137

ولقد أنزلنا إليك أيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون (99) أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم
لا يؤمنون (100) ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء
ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا
يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة
فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما
يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو
أنهم أمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103)
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات " الآية أي أنزلنا إليك يا محمد علامات
واضحات دالات على نبوتك وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ومكنونات سرائر أخبارهم
وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم وما حرفه أوائلهم
وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم فكان في ذلك
من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ولم يدعها إلى هلاكه الحسد والبغي إذ كان في فطرة كل ذي فطرة
صحيحة تصديق من أتى بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الآيات البينات التي وصف من غير تعلم تعلمه من بشر ولا
أخذ شيئا منه عن آدمي كما قال الضحاك عن ابن عباس " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات " يقول فأنت تتلوه عليهم
وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك وأنت عندهم أمي لم تقرأ كتابا وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه يقول
الله تعالى لهم في ذلك عبرة وبيان وعليهم حجة لو كانوا يعلمون. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي
محمد عن عكرمة وسعيد ابن جبير عن ابن عباس قال: قال ابن صوريا القطويني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا محمد ما جئتنا
بشئ نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بينه فنتبعك فأنزل الله في ذلك من قوله " ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما
يكفر بها إلا الفاسقون " وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكرهم ما أخذ عليهم من الميثاق وما عهد
إليهم في محمد - صلى الله عليه وسلم: والله ما عهد إلينا في محمد وما أخذ علينا ميثاقا فأنزل الله تعالى " أو كلما عاهدوا عهدا نبذه
فريق منهم " وقال الحسن البصري: في قوله " بل أكثرهم لا يؤمنون " قال نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون
عليه إلا نقضوه ونبذوه يعاهدون اليوم وينقضون غدا. وقال السدي: لا يؤمنون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة:
نبذه فريق منهم أي نقضه فريق منهم. وقال ابن جرير أصل النبذ الطرح والالقاء ومنه سمى اللقيط منبوذا ومنه
سمى النبيذ وهو التمر والزبيب إذا طرحا في الماء. قال أبو الأسود الدؤلي:
نظرت إلى عنوانه فنبذته * كنبذك نعلا أخلقت من نعالكا
قلت فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب
بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره وقد أمروا فيها باتباعه وموازرته ونصرته
كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية وقال
ههنا " ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم " الآية أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما
فيه البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وراء ظهورهم أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه ولهذا
138

أرادوا كيدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسحروه في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر تحت راعوفة ببئر أروان وكان الذي تولى ذلك
منهم رجل يقال له لبيد بن الأعصم لعنه الله وقبحه فأطلع الله على ذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم - وشفاه منه وأنقذه كما ثبت ذلك
مبسوطا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها كما سيأتي بيانه. قال السدي " ولما جاءهم رسول من
عند الله مصدق لما معهم " قال: لما جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - عارضوه بالتوراة فخاصموه بها فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا
التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن فذلك قوله " كأنهم لا يعلمون " وقال قتادة في
قوله " كأنهم لا يعلمون " قال: إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به. وقال العوفي في
تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين " الآية وكان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من
الجن والإنس واتبعوا الشهوات فلما أرجع الله إلى سليمان ملكه وقام الناس على الدين كما كان وإن سليمان ظهر
على كتبهم فدفنها تحت كرسيه وتوفي سليمان عليه السلام حدثان ذلك فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة
سليمان وقالوا هذا كتاب من الله نزل على سليمان فأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينا فأنزل الله تعالى " ولما جاءهم
رسول من عند الله مصدق لما معهم " الآية واتبعوا الشهوات التي كانت تتلو الشياطين وهي المعازف واللعب وكل
شئ يصد عن ذكر الله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن الأعمش عن المنهال عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم وكان يكتب كل شئ بأمر
سليمان ويدفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا وقالوا هذا
الذي كان سليمان يعمل بها. قال: فأكفره جهال الناس وسبوه ووقف علماء الناس فلم يزل جهال الناس يسبونه حتى
أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " وقال
ابن جرير: حدثني أبو السائب سلمة بن جنادة السوائي حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: كان سليمان عليه السلام إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة وهي
امرأته خاتمه فلما أراد الله أن يبتلي سليمان عليه السلام بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه فجاء
الشيطان في صورة سليمان فقال هاتي خاتمي فأخذه ولبسه فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والانس. قال
فجاءها سليمان فقال لها هاتي خاتمي فقالت كذبت لست سليمان قال فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال
فانطلقت الشياطين فتكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان ثم أخرجوها وقرؤها على
الناس وقالوا إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب قال: فبرئ الناس من سليمان وكفروه حتى بعث الله
محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل عليه " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير
عن حصين بن عبد الرحمن عن عمران وهو ابن الحرث قال: بينما نحن عند ابن عباس رضي الله عنهما إذ جاء رجل
فقال له من أين جئت قال من العراق قال من أيه؟ قال من الكوفة قال فما الخبر؟ قال تركتهم يتحدثون أن عليا
خارج إليهم ففزع ثم قال ما تقول لا أبا لك؟ لو شعرنا ما نكحنا نساءه وقسمنا ميراثه أما إني سأحدثكم عن
ذلك إنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيجئ أحدهم بكلمة حق قد سمعها فإذا جرت منه وصدق
كذب معها سبعين كذبة قال فتشربها قلوب الناس قال فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام فدفنها تحت كرسيه
فلما توفي سليمان عليه السلام قام شيطان الطريق فقال هل أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت
الكرسي. فأخرجوه فقال هذا سحر فتناسخا الأمم حتى بقاياها ما يتحدث به أهل العراق فأنزل الله عز وجل " واتبعوا
ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " الآية وروى الحاكم في مستدركه عن
أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن إبراهيم عن جرير به وقال السدي في قوله تعالى " واتبعوا
ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " أي على عهد سليمان قال كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها
مقاعد للسمع فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر فيأتون الكهنة فيخبرونهم
فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين
139

كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب فبعث سليمان في
الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من
الكرسي إلا احترق وقال لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه فلما مات سليمان
وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان وخلف من بعد ذلك خلف تمثل الشيطان في صورة إنسان ثم أتى نفرا
من بني إسرائيل فقال لهم هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا قالوا نعم قال فاحفروا تحت الكرسي فذهب
معهم وأراهم المكان وقام ناحيته فقالوا له فادن فقال لا ولكنني ههنا في أيديكم فإن لم تجدوه فاقتلوني فحفروا
فوجدوا تلك الكتب: فلما أخرجوها قال الشيطان إن سليمان إنما كان يضبط الانس والشياطين والطير بهذا السحر ثم
طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب فلما جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصموه
بها فذلك حين يقول الله تعالى " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " وقال الربيع بن أنس إن اليهود سألوا
محمدا - صلى الله عليه وسلم - زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شئ من ذلك إلا أنزل الله سبحانه وتعالى ما سألوه عنه فيخصمهم
فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل الله إلينا منا وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه فأنزل الله عز وجل " واتبعوا ما
تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " وإن الشياطين
عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك فدفنوه تحت كرسي مجلس سليمان وكان عليه
السلام لا يعلم الغيب فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس وقالوا هذا علم كان سليمان
يكتمه ويحسده الناس عليه فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد خرجوا وقد أدحض الله حجتهم.
وقال مجاهد في قوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " قال كانت الشياطين تستمع الوحي فما
سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها فأرسل سليمان عليه السلام إلى ما كتبوا من ذلك فلما توفي سليمان وجدته الشياطين وعلمته
للناس وهو السحر وقال سعيد بن جبير: كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم فيدفنه
تحت كرسيه في بيت خزانته فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الانس فقالوا لهم أتدرون ما العلم الذي كان
سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا نعم. قالوا فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه فاستثار به الانس
واستخرجوه وعملوا به فقال أهل الحجاز كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر فأنزل الله تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -
براءة سليمان عليه السلام فقال تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين
كفروا " وقال محمد بن إسحاق بن يسار: عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام فكتبوا
أصناف السحر من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا فليفعل كذا وكذا حتى إذا صنفوا أصناف السحر جعلوه في كتاب ثم
ختموه بخاتم على نقش خاتم سليمان وكتبوا في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن
داود من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنوه تحت كرسيه واستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حتى أحدثوا ما أحدثوا فلما
عثروا عليه قالوا والله ما كان ملك سليمان إلا بهذا فأفشوا السحر في الناس فتعلموه وعلموه فليس هو في أحد أكثر منه
في اليهود لعنهم الله فلما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عد من المرسلين قال
من كان بالمدينة من اليهود ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا. وأنزل الله في
ذلك من قولهم " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " الآية وقال
ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا حسين بن حجاج عن أبي بكر عن شهر بن حوشب قال لما سلب سليمان ملكه
كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان فكتبت من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا
ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا فكتبته وجعلت عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا
للملك سليمان بن داود عليهما السلام من ذخائر كنوز العلم. ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان عليه السلام
قام إبليس لعنه الله خطيبا فقال يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا إنما كان ساحرا فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته
ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرا هذا سحره بهذا تعبدنا وبهذا قهرنا فقال
140

المؤمنون بل كان نبيا مؤمنا. فلما بعث الله النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - وذكر داود وسليمان فقالت اليهود انظروا إلى محمد
يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى " واتبعوا ما تتلو
الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان " الآية وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني: حدثنا
المعتمر بن سليمان قال: سمعت عمران بن جرير عن أبي مجلز قال أخذ سليمان عليه السلام من كل دابة عهدا فإذا
أصيب رجل فسأله بذلك العهد خلى عنه فزاد الناس السجع والسحر فقالوا هذا يعمل به سليمان بن داود عليهما
السلام فقال الله تعالى " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر " وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم حدثنا المسعودي عن زياد مولى ابن مصعب عن الحسن " واتبعوا ما تتلو الشياطين "
قال ثلث الشعر وثلث السحر وثلث الكهانة وقال حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار
الواسطي حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان "
وتبعته اليهود على ملكه وكان السحر قبل ذلك في الأرض لم يزل بها ولكنه إنما اتبع على ملك سليمان فهذه نبذة من
أقوال أئمة السلف في هذا المقام ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها وأنه لا تعارض بين السياقات على
اللبيب الفهم والله الهادي. وقوله تعالى " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " أي واتبعت اليهود الذين
أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه
وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان وعداه بعلى لأنه تضمن تتلو تكذب وقال ابن جرير " على " ههنا
بمعنى في أن تتلو في ملك سليمان ونقله عن ابن جريج وابن إسحق " قلت " والتضمن أحسن وأولى والله أعلم.
وقول الحسن البصري رحمه الله وكان السحر قبل زمان سليمان بن داود - صحيح لا شك فيه لان السحرة كانوا في
زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى " ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى "
الآية ثم ذكر القصة بعدها وفيها " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة " وقال قوم صالح وهم قبل إبراهيم
الخليل عليه السلام لنبيهم صالح إنما " أنت من المسحرين " أي المسحورين على المشهور قوله تعالى " وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " فيتعلمون منها
ما يفرقون به بين المرء وزوجه " اختلف الناس في هذا المقام فذهب بعضهم إلى أن " ما " نافية أعني التي في قوله
" وما أنزل على الملكين " قال القرطبي ما نافية ومعطوف في قوله " وما كفر سليمان " ثم قال " ولكن الشياطين
كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين " وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل
فأكذبهم الله وجعل قوله " هاروت وماروت " بدلا من الشياطين قال وصح ذلك إما لان الجمع يطلق على الاثنين
كما في قوله تعالى " فإن كان له إخوة " أو لكونهما لهما أتباع أو ذكرا من بينهم لتمردهما تقدير الكلام عنده:
يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت. ثم قال وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه
وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله " وما أنزل على الملكين ببابل " الآية يقول لم
ينزل الله السحر وبإسناده عن الربيع بن أنس في قوله " وما أنزل على الملكين " قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
قال ابن جرير فتأويل الآية على هذا " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " من السحر وما كفر سليمان ولا
أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فيكون قوله " ببابل
هاروت وماروت " من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل كيف وجه تقديم ذلك قيل وجه تقديمه أن
يقال " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين
ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين جبريل وميكائيل عليهما
السلام لان سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود
فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من
السحر وأخبرهم أن السحر عن عمل الشياطين وأنها تعلم الناس ذلك ببابل وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم
141

أحدهما هاروت واسم الآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس وردا عليهم. هذا
لفظه بحروفه وقد قال ابن أبي حاتم حدثت عن عبيد الله بن موسى أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية " وما أنزل على
الملكين " قال: ما أنزل الله على جبريل وميكائيل السحر قال ابن أبي حاتم وأخبرنا الفضل بن شاذان أخبرنا
محمد بن عيسى أخبرنا يعلى يعني ابن أسد أخبرنا بكر يعني ابن مصعب أخبرنا الحسن بن أبي جعفر أن
عبد الرحمن بن أبزى كان يقرؤها " وما أنزل على الملكين داود وسليمان " وقال أبو العالية لم ينزل عليهما السحر
يقول علما الايمان والكفر فالسحر من الكفر فهما ينهيان عنه أشد النهي رواه ابن أبي حاتم ثم شرع ابن جرير في
رد هذا القول وأن ما بمعنى الذي وأطال القول في ذلك وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض
وأذن لهما في تعليم السحر اختبارا لعباده وامتحانا بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل وادعى
أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به وهذا الذي سلكه غريب جدا وأغرب منه قول من
زعم أن هاروت وماروت قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن الضحاك بن مزاحم أنه
كان يقرؤها " وما أنزل على الملكين " ويقول هما علجان من أهل بابل ووجه أصحاب هذا القول الانزال بمعنى
الخلق لا بمعنى الايحاء في قوله تعالى " وما أنزل على الملكين " كما قال تعالى " وأنزل لكم من الانعام ثمانية
أزواج " " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد " " وينزل لكم من السماء رزقا " وفي الحديث " ما أنزل الله داء إلا أنزل
له دواء " وكما يقال " أنزل الله الخير والشر " وحكى القرطبي عن ابن عباس وابن أبزى والحسن البصري أنهم قرأوا
" وما أنزل على الملكين " بكسر اللام قال ابن أبزى وهما داود وسليمان قال القرطبي فعلى هذا تكون ما نافية
أيضا وذهب آخرون إلى الوقف على قوله " يعلمون الناس السحر " وما نافية: قال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا
ابن وهب أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد وسأله رجل عن قول الله " يعلمون الناس السحر وما
أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت " فقال الرجلان يعلمان الناس ما أنزل عليهما ويعلمان الناس ما لم ينزل
عليهما فقال القاسم: ما أبالي أيتهما كانت ثم روي عن يونس عن أنس بن عياض عن بعض أصحابه أن القاسم
قال في هذه القصة لا أبالي أي ذلك كان إني آمنت به وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء
وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده رحمه
الله كما سنورده إن شاء الله وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ورد من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين
سبق في علم الله لهما هذا فيكون تخصيصا لهما فلا تعارض حينئذ كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق وفي قول
إنه كان من الملائكة: لقوله تعالى " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى " إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على ذلك مع أن شأن هاروت وماروت على ما ذكر أخف مما وقع من إبليس لعنه الله تعالى. وقد حكاه
القرطبي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار والسدي والكلبي.
" ذكر الحديث الوارد في ذلك إن صح سنده ورفعه وبيان الكلام عليه "
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده أخبرنا يحيى بن بكير حدثنا زهير بن محمد عن موسى بن جبير
عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى
الأرض قالت الملائكة أي رب " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني
أعلم ما لا تعلمون " قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى
نهبطهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من
أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الاشراك فقالا والله لا نشرك بالله
شيئا أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا لا والله
لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا
142

عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا أبيتماه علي إلا قد فعلتماه حين سكرتما فخيرا بين عذاب
الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا. وهكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن الحسن عن سفيان عن
أبي بكر بن أبي شيبة عن يحيى بن بكير - به وهذا حديث غريب من هذا الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال
الصحيحين إلا موسى بن جبير هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذاء وروي عن ابن عباس وأبي
أمامة بن سهل بن حنيف ونافع وعبد الله بن كعب بن مالك وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر وزهير بن محمد
وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة وعمرو بن الحرث ويحيى بن أيوب وروى له أبو داود وابن ماجة وذكره ابن أبي
حاتم في كتاب الجرح والتعديل ولم يحك شيئا من هذا ولا هذا فهو مستور الحال وقد تفرد به عن نافع مولى ابن
عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي له متابع من وجه آخر عن نافع كما قال ابن مردويه حدثنا
دملج بن أحمد حدثنا هشام بن علي بن هشام حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة حدثنا موسى بن سرجس
عن نافع عن ابن عمر سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فذكره بطوله وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله حدثنا القاسم أخبرنا
الحسين وهو سنيد بن داود صاحب التفسير أخبرنا الفرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع قال سافرت مع ابن
عمر فلما كان من آخر الليل قال يا نافع انظر طلعت الحمراء؟ قلت لا مرتين أو ثلاثا ثم قلت قد طلعت قال لا مرحبا
بها ولا أهلا قلت سبحان الله نجم مسخر سامع مطيع. قال: ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال:
قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الملائكة قالت يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب قال إني ابتليتهم
وعافيتكم قالوا لو كنا مكانهم ما عصيناك قال فاختاروا ملكين منكم قال فلم يألوا جهدا أن يختاروا فاختاروا
هاروت وماروت " وهذان أيضا غريبان جدا. وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال عبد الرزاق في تفسيره عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار
قال: ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب فقيل لهم اختاروا منكم اثنين فاختاروا هاروت وماروت
فقال لهما إني أرسل إلى بني آدم رسلا وليس بيني وبينكم رسول انزلا لا تشركا بي شيئا ولا تزنيا ولا تشربا الخمر
قال كعب فوالله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتى استكملا جميع ما نهيا عنه رواه ابن جرير من طريقين عن
عبد الرزاق به ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عصام عن مؤمل عن سفيان الثوري به ورواه ابن جرير أيضا حدثني
المثنى أخبرنا المعلى وهو ابن أسد أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة حدثني سالم أنه سمع عبد الله
يحدث عن كعب الأحبار فذكره فهذا أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الاسنادين المتقدمين وسالم أثبت في أبيه
من مولاه نافع فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم.
" ذكر الآثار الواردة في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين "
قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا الحجاج أخبرنا حماد عن خالد الحذاء عن عمير بن سعيد قال: سمعت عليا
- رضي الله عنه - يقول كانت الزهرة امرأة جميلة من أهل فارس وإنها خاصمت إلى الملكين هاروت وماروت فراوداها
عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يعلماها الكلام الذي إذا تكلم به أحد يعرج به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت
إلى السماء فمسخت كوكبا - وهذا الاسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا - وقال ابن أبي حاتم أخبرنا الفضل بن شاذان
أخبرنا محمد بن عيسى أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا معاوية عن أبي خالد عن عمير بن سعيد عن علي رضي الله
عنه قال هما ملكان من ملائكة السماء يعني " وما أنزل على الملكين " ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في
تفسيره بسنده عن مغيث عن مولاه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي مرفوعا وهذا لا يثبت من هذا الوجه.
ثم رواه من طريقين آخرين عن جابر عن أبي الطفيل عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لعن الله
الزهرة فإنها هي التي فتنت الملكين هاروت وماروت " وهذا أيضا لا يصح وهو منكر جدا والله أعلم.
143

وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم أخبرنا الحجاج بن منهال حدثنا حماد عن علي بن زيد عن أبي عثمان
النهدي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعا لما كثر بنو آدم وعصوا دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال
ربنا لا تمهلهم فأوحى الله إلى الملائكة إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم وأنزلت الشهوة والشيطان في قلوبهم
ولو نزلتم لفعلتم أيضا. قال فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم
فاختاروا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض وأنزلت الزهرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت
قال فوقعا بالخطيئة فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فلما وقعا بالخطيئة
استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب
الدنيا. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن جعفر الرقي أخبرنا عبد الله يعني ابن عمرو عن زيد بن
أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو ويونس بن خباب عن مجاهد قال كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر فلما
كان ذات ليلة قال لغلامه انظر هل طلعت الحمراء لا مرحبا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين قالت
الملائكة يا رب كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض. قال
إني ابتليتهم فلعل إن أبليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون قالوا لا قال: فاختاروا من خياركم اثنين
فاختاروا هاروت وماروت فقال لهما إني مهبطكما إلى الأرض وعاهد إليكما أن لا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا فأهبطا
إلى الأرض وألقى عليهما الشهوة وأهبطت لهما الزهرة في أحسن صورة امرأة فتعرضت لهما فراوداها عن نفسها
فقالت إني على دين لا يصح لاحد أن يأتيني إلا من كان على مثله قالا: وما دينك قالت المجوسية قالا الشرك
هذا شئ لا نقربه فمكثت عنهما ما شاء الله تعالى. ثم تعرضت لهما فراوداها عن نفسها فقالت ما شئتما غير أن
لي زوجا وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح فإن أقررتما لي بديني وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء
فعلت فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان ثم صعدا بها إلى السماء فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما وقطعت
أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا: لو
أتينا فلانا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء قالا: إنا
قد ابتلينا قال ائتياني يوم الجمعة فأتياه فقال: ما أجبت فيكما بشئ ائتياني في الجمعة الثانية فأتياه فقال:
اختارا فقد خيرتما إن اخترتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم
الله فقال أحدهما إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر ويحك إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني
الآن إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. فقال إننا يوم القيامة على حكم الله فأخاف أن يعذبنا قال لا: إني أرجو إن
علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة أن لا يجمعهما علينا قال: فاختارا عذاب الدنيا فجعلا في
بكرات من حديد في قليب مملوءة من نار عاليهما سافلهما - وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر - وقد تقدم في رواية
ابن جرير من حديث معاوية بن صالح عن نافع عنه رفعه وهذا أثبت وأصح إسنادا ثم هو والله أعلم من رواية ابن عمر
عن كعب كما تقدم بيانه من رواية سالم عن أبيه وقوله إن الزهرة نزلت في صورة امرأة حسناء وكذا في المروي عن
علي فيه غرابة جدا.
وأقرب ما ورد في ذلك ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا عصام بن رواد أخبرنا آدم أخبرنا أبو جعفر حدثنا الربيع بن أنس
عن قيس بن عباد عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما وقع الناس من بعد آدم عليه السلام فيما وقعوا فيه من
المعاصي والكفر بالله قالت الملائكة في السماء يا رب هذا العالم الذي إنما خلقتهم لعبادتك وطاعتك قد وقعوا فيما
وقعوا فيه وركبوا الكفر وقتل النفس وأكل المال الحرام والزنا والسرقة وشرب الخمر فجعلوا يدعون عليهم ولا يعذرونهم
فقيل إنهم في غيب فلم يعذروهم فقيل لهم اختاروا من أفضلكم ملكين آمرهما وأنهاهما فاختاروا هاروت وماروت
فأهبطا إلى الأرض وجعل لهما شهوات بني آدم وأمرهما الله أن يعبداه ولا يشركا به شيئا ونهيا عن قتل النفس الحرام
وأكل المال الحرام وعن الزنا والسرقة وشرب الخمر فلبثا في الأرض زمانا يحكمان بين الناس بالحق وذلك في زمن
144

إدريس عليه السلام وفي ذلك الزمان امرأة حسنها في النساء كحسن الزهرة في سائر الكواكب وأنهما أتيا عليها
فخضعا لها في القول وأراداها على نفسها فأبت إلا أن يكونا على أمرها وعلى دينها فسألاها عن دينها فأخرجت لهما
صنما فقالت: هذا أعبده فقالا: لا حاجة لنا في عبادة هذا فذهبا فعبرا ما شاء الله ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها
ففعلت مثل ذلك فذهبا ثم أتيا عليها فأراداها على نفسها فلما رأت أنهما قد أبيا أن يعبدا الصنم. قالت: لهما اختارا
أحد الخلال الثلاث إما أن تعبدا هذا الصنم وإما أن تقتلا هذه النفس وأما أن تشربا هذه الخمر فقالا: كلا هذا لا
ينبغي وأهون هذا شرب الخمر فشربا الخمر فأخذت فيهما فواقعا المرأة فخشيا أن يخبر الانسان عنهما فقتلاه فلما
ذهب عنهما السكر وعلما ما وقعا فيه من الخطيئة أرادا أن يصعدا إلى السماء فلم يستطيعا وحيل بينهما وبين ذلك
وكشف الغطاء فيما بينهما وبين أهل السماء فنظرت الملائكة إلى ما وقعا فيه فعجبوا كل العجب وعرفوا أنه من كان
في غيب فهو أقل خشية فجعلوا بعد ذلك يستغفرون لمن في الأرض فنزل في ذلك " والملائكة يسبحون بحمد ربهم
ويستغفرون لمن في الأرض " فقيل لهما اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة فقالا أما عذاب الدنيا فإنه ينقطع
ويذهب وأما عذاب الآخرة فلا انقطاع له فاختارا عذاب الدنيا فجعلا ببابل فهما يعذبان. وقد رواه الحاكم في
مستدركه مطولا عن أبي زكريا العنبري عن محمد بن عبد السلام عن إسحاق بن راهويه عن حكام بن سلم الرازي
وكان ثقة عن أبي جعفر الرازي به: ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه فهذا أقرب ما روي في شأن الزهرة والله
أعلم.
وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا سلم أخبرنا القاسم بن الفضل الحذائي أخبرنا يزيد يعني الفارسي عن ابن عباس
أن أهل سماء الدنيا أشرفوا على أهل الأرض فرأوهم يعملون المعاصي فقالوا: يا رب أهل الأرض كانوا يعملون
بالمعاصي فقال الله أنتم معي وهم في غيب عني فقيل لهم اختاروا منكم ثلاثة فاختاروا منهم ثلاثة على أن يهبطوا
إلى الأرض على أن يحكموا بين أهل الأرض وجعل فيهم شهوة الآدميين فأمروا أن لا يشربوا خمرا ولا يقتلوا نفسا ولا
يزنوا ولا يسجدوا لوثن فاستقال منهم واحد فأقيل فأهبط اثنان إلى الأرض فأتتهما امرأة من أحسن الناس يقال لها
مناهية فهوياها جميعا ثم أتيا منزلها فاجتمعا عندها فأراداها فقالت: لهما لا حتى تشربا خمري وتقتلا ابن جاري
وتسجدا لوثني فقالا: لا نسجد ثم شربا من الخمر ثم قتلا ثم سجدا فأشرف أهل السماء عليهما وقالت: لهما
أخبراني بالكلمة التي إذا قلتماها طرتما فأخبراها فطارت فمسخت جمرة وهي هذه الزهرة وأما هما فأرسل إليهما
سليمان بن داود فخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا فهما مناطان بين السماء والأرض وهذا
السياق فيه زيادة كثيرة وإغراب ونكارة والله أعلم بالصواب.
وقال عبد الرزاق: قال معمر قال قتادة والزهري عن عبيد الله بن عبد الله " وما أنزل على الملكين ببابل هاروت
وماروت " كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم
فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
فاختارا عذاب الدنيا. وقال معمر: قال قتادة فكانا يعلمان الناس السحر فأخذ عليهما أن لا يعلمان أحدا حتى يقولا
إنما نحن فتنة فلا تكفر.
وقال أسباط عن السدي أنه قال كان من أمر هاروت وماروت أنهما طعنا على أهل الأرض في أحكامهم فقيل لهما إني
أعطيت بني آدم عشرا من الشهوات فبها يعصونني قال: هاروت وماروت: ربنا لو أعطيتنا تلك الشهوات ثم نزلنا
لحكمنا بالعدل فقال: لهما انزلا فقد أعطيتكما تلك الشهوات العشر فاحكما بين الناس فنزلا ببابل ديناوند فكانا
يحكمان حتى إذا أمسيا عرجا فإذا أصبحا هبطا فلم يزالا كذلك حتى أتتهما امرأة تخاصم زوجها فأعجبهما حسنها
واسمها بالعربية الزهرة وبالنبطية بيدخت وبالفارسية أناهيد. فقال أحدهما لصاحبه إنها لتعجبني قال الآخر قد
أردت أن أذكر لك فاستحييت منك. فقال الآخر هل لك أن أذكرها لنفسها؟ قال نعم ولكن كيف لنا بعذاب
145

الله؟ قال الآخر إنا لنرجو رحمة الله. فلما جاءت تخاصم زوجها ذكر إليها نفسها فقالت: لا حتى تقضيا لي على
زوجي فقضيا لها على زوجها ثم واعدتهما خربة من الخرب يأتيانها فيها فأتياها لذلك فلما أراد الذي يواقعها قالت ما
أنا بالذي أفعل حتى تخبراني بأي كلام تصعدان إلى السماء وبأي كلام تنزلان منها فأخبراها فتكلمت فصعدت
فأنساها الله تعالى ما تنزل به فثبتت مكانها وجعلها الله كوكبا فكان عبد الله بن عمر كلما رآها لعنها وقال هذه التي
فتنت هاروت وماروت فلما كان الليل أرادا أن يصعدا فلم يطيقا فعرفا الهلكة فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة
فاختارا عذاب الدنيا فعلقا ببابل وجعلا يكلمان الناس كلامهما وهو السحر.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد أما شأن هاروت وماروت فإن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل
والكتب والبينات فقال لهم ربهم تعالى: اختاروا منكم ملكين أنزلهما يحكمان في الأرض فاختاروا فلم يألوا
هاروت وماروت فقال لهما حين أنزلهما أعجبتم من بني آدم من ظلمهم ومعصيتهم وإنما تأتيهم الرسل والكتب
من وراء وراء. وإنكما ليس بيني وبينكما رسول فافعلا كذا وكذا ودعا كذا وكذا فأمرهما بأمور ونهاهما ثم نزلا
على ذلك ليس أحد أطوع لله منهما فحكما فعدلا فكانا يحكمان في النهار بين بني آدم فإذا أمسيا عرجا فكانا مع
الملائكة وينزلان حين يصبحان فيحكمان فيعدلان حتى أنزلت عليهما الزهرة في أحسن صورة امرأة تخاصم فقضيا
عليها فلما قامت وجد كل واحد منهما في نفسه فقال أحدهما لصاحبه وجدت مثل الذي وجدت؟ قال نعم
فبعثا إليها أن ائتيانا نقض لك فلما رجعت قالا وقضيا لها فأتتهما فكشفا لها عن عورتيهما وإنما كانت سوآتهما في
أنفسهما ولم يكونا كبني آدم في شهوة النساء ولذاتها فلما بلغا ذلك واستحلا افتتنا فطارت الزهرة فرجعت حيث
كانت فلما أمسيا عرجا فزجرا فلم يؤذن لهما ولم تحملهما أجنحتهما فاستغاثا برجل من بني آدم فأتياه فقالا ادع لنا
ربك فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ قالا: سمعنا ربك يذكرك بخير في السماء فوعدهما يوما
وغدا يدعو لهما فدعا لهما فاستجيب له فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: ألا
تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا في الخلد وفي الدنيا تسع مرات مثلها؟ فأمرا أن ينزلا ببابل فثم
عذابهما وزعم أنهما معلقان في الحديد مطويان يصفقان بأجنحتهما. وقد روي في قصة هاروت وماروت عن
جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان
وغيرهم وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني
إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الاسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى
والله أعلم بحقيقة الحال.
وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه قال: الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله
تعالى: أخبرنا الربيع بن سليمان أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة
زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها قالت: قدمت علي امرأة من أهل دومة الجندل جاءت تبتغي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته حداثة ذلك
تسأله أشياء دخلت فيه من أمر السحر ولم تعمل به وقالت: عائشة رضي الله عنها لعروة: يا ابن أختي فرأيتها تبكي
حين لم تجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشفيها فكانت تبكي حتى إني لارحمها وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت: كان لي
زوج فغاب عني فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها فقالت: إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك فلما كان الليل
جاءتني بكلبين أسودين فركبت أحدهما وركبت الآخر فلم يكن شئ حتى وقفنا ببابل وإذا برجلين معلقين بأرجلهما
فقالا ما جاء بك؟ قلت: نتعلم السحر فقالا: إنما نحن فتنة فلا تكفري فارجعي فأبيت وقلت: لا قالا: فاذهبي
إلى ذلك التنور فبولي فيه فذهبت ففزعت ولم أفعل فرجعت إليهما قالا: أفعلت؟ فقلت: نعم فقالا: هل رأيت
شيئا؟ فقلت: لم أر شيئا فقالا. لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى ذلك
146

التنور فبولي فيه فذهبت فاقشعررت وخفت ثم رجعت إليهما وقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ فقلت: لم أر شيئا
فقالا: كذبت لم تفعلي ارجعي إلى بلادك ولا تكفري فإنك على رأس أمرك فأرببت وأبيت فقالا: اذهبي إلى التنور
فبولي فيه فذهبت إليه فبلت فيه فرأيت فارسا مقنعا بحديد خرج مني فذهب في السماء وغاب حتى ما أراه فجئتهما
فقلت: قد فعلت فقالا: فما رأيت؟ قلت: رأيت فارسا مقنعا خرج مني فذهب في السماء حتى ما أراه فقالا:
صدقت ذلك إيمانك خرج منك. اذهبي فقلت للمرأة: والله ما أعلم شيئا وما قالا لي شيئا فقالت: بلى لم تريدي
شيئا إلا كان خذي هذا القمح فابذري فبذرت وقلت: اطلعي فأطلع وقلت: احقلي فأحقلت ثم قلت: افركي
فأفركت ثم قلت: أيبيسي فأيبست ثم قلت: اطحني فأطحنت ثم قلت: اخبزي فأخبزت فلما رأيت أني لا أريد
شيئا إلا كان سقط في يدي وندمت والله يا أم المؤمنين ما فعلت شيئا ولا أفعله أبدا ورواه ابن أبي حاتم عن
الربيع بن سليمان به مطولا كما تقدم وزاد بعد قولها ولا أفعله أبدا فسألت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حداثة وفاة
رسول الله وهم يومئذ متوافرون فما دروا ما يقولون لها وكلهم هاب وخاف أن يفتيها بما لا يعلمه إلا أنه قد قال لها
ابن عباس أو بعض من كان عنده لو كان أبواك حيين أو أحدهما. قال هشام: فلو جاءتنا أفتيناها بالضمان. قال ابن
أبي الزناد: وكان هشام يقول: إنهم كانوا أهل الورع والخشية من الله ثم يقول هشام: لو جاءتنا مثلها اليوم
لوجدت نوكى أهل حمق وتكلف بغير علم. فهذا إسناد جيد إلى عائشة رضي الله عنها.
وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال.
وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل كما قال تعالى " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر
عظيم " وقال تعالى " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل
العراق لا بابل ديناوند كما قاله السدي وغيره ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم أخبرنا علي بن
الحسين أخبرنا أحمد بن صالح حدثني ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن
أبي صالح الغفاري أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مر ببابل وهو يسير فجاء المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز
منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي بأرض المقبرة ونهاني أن أصلي ببابل
فإنها ملعونة. وقال أبو داود: أخبرنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن
أبي صالح الغفاري: أن عليا مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام
الصلاة فلما فرغ قال: إن حبيبي - صلى الله عليه وسلم - نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي بأرض بابل فإنها ملعونة. حدثنا
أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن حجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن
علي بمعنى حديث سليمان بن داود قال: فلما خرج منها برز وهذا الحديث حسن عند الامام أبي داود لأنه رواه
وسكت عليه ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدخول إلى
منازلهم إلا أن يكونوا باكين قال أصحاب الهيئة: وبعد ما بين بابل وهي من أقليم العراق عن البحر المحيط الغربي
ويقال له أوقيانوس سبعون درجة ويسمون هذا طولا وأما عرضها وهو بعد ما بينها وبين وسط الأرض من ناحية
الجنوب وهو المسامت لخط الاستواء اثنان وثلاثون درجة والله أعلم.
وقوله تعالى " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن
قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر
وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والايمان فعرفا أن السحر من الكفر قال: فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان
كذا وكذا فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه فإذا علمه خرج منه النور فنظر إليه ساطعا في السماء فيقول: يا حسرتاه يا ويله
ماذا صنع. وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي
أراد الله أن يبتلي به الناس فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر رواه ابن أبي
147

حاتم. وقال قتادة: كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال
السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل
عليه فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الايمان وأقبل شئ أسود كهيئة الدخان حتى يدخل
في مسامعه وكل شئ وذلك غضب الله فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر فذلك قول الله تعالى " وما يعلمان من أحد
حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " الآية. وقال سعيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الآية لا يجترئ على
السحر إلا كافر وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم * وخلى ابن عفان شرا طويلا
وكذلك قوله تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام حيث قال " إن هي إلا فتنتك " أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك
" تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له
بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن
همام عن عبد الله قال: " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - " وهذا إسناد
صحيح وله شواهد أخر وقوله تعالى " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " أي فيتعلم الناس من هاروت
وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما
بينهما من الخلطة والائتلاف وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي
سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال " إن الشيطان
ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة يجئ أحدهم فيقول:
ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئا ويجئ أحدهم فيقول: ما تركته
حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقربه يدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت " وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر ما
يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب
المقتضية للفرقة والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله أعلم.
وقوله تعالى " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " قال سفيان الثوري إلا بقضاء الله وقال محمد بن إسحاق إلا
بتخلية الله بينه وبين ما أراد وقال الحسن البصري " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " قال نعم من شاء الله
سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله كما قال الله تعالى وفي رواية عن الحسن أنه
قال لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه وقوله تعالى " ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم " أي يضرهم في دينهم
وليس له نفع يوازي ضرره " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا
بالسحر عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل فعلهم ذلك أنه ما له في الآخرة من خلاق قال ابن عباس ومجاهد والسدي
من نصيب وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة ما له في الآخرة من جهة عند الله وقال عبد الرزاق وقال الحسن
ليس له دين وقال سعد عن قتادة " ما له في الآخرة من خلاق " قال ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن
الساحر لا خلاق له في الآخرة وقوله تعالى " ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون ". " ولو أنهم آمنوا واتقوا
لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون " يقال تعالى " ولبئس " البديل ما استبدلوا به من السحر عوضا عن الايمان
ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به " ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير " أي ولو أنهم آمنوا بالله
ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى " وقال
الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون ".
وقد استدل بقوله " ولو أنهم آمنوا واتقوا " من ذهب إلى تكفير الساحر كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة
من السلف وقيل بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل قالا: أخبرنا سفيان هو ابن
148

عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجلة بن عبدة يقول كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن اقتلوا كل ساحر
وساحرة قال فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضا وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها
جارية لها فأمرت بها فقتلت قال الإمام أحمد بن حنبل صح عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل الساحر
وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " حد
الساحر ضربه بالسيف " ثم قالا لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث
والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفا قلت قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعا والله
أعلم وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم
يصيح به فيرد إليه رأسه فقال الناس سبحان الله يحيي الموتى ورآه رجل من صالحي المهاجرين فلما كان الغد جاء
مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال: إن كان صادقا فليحي
نفسه وتلا قوله تعالى " أتأتون السحر وأنتم تبصرون " فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه والله
أعلم وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو
إسحق عن حارثة قال كان عند بعض الامراء الرجل يلعب فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله قال أراه كان ساحرا
وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا والله أعلم.
" فصل " حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر قال: وربما كفروا من اعتقد
وجوده قال وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الانسان حمارا والحمار إنسانا إلا
أنهم قالوا إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقي والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو
الفلك والنجوم فلا، خلافا للفلاسفة والمنجمين والصابئة ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله
تعالى " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " ومن الاخبار بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحر وأن السحر عمل فيه وبقصة
تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر. قال وبما يذكر في هذا
الباب من الحكايات الكثيرة ثم قال بعد هذا
" المسألة الخامسة " في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور - اتفق المحققون على ذلك لان العلم لذاته شريف
وأيضا لعموم قوله تعالى " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " ولان السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن
الفرق بينه وبين المعجزة والعلم يكون المعجز معجزا واجب وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون
تحصيل العلم بالسحر واجبا وما بكون واجبا فكيف يكون حراما وقبيحا؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة وهذا
الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة
يمنعون هذا وإن عني أنه ليس بقبيح شرعا ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر وفي الصحيح " من أتى عرافا
أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد " وفي السنن " من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر " وقوله ولا محظور اتفق
المحققون على ذلك. كيف لا يكون محظورا مع ما ذكرناه من الآية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد
نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم وأين نصوصهم على ذلك؟ ثم إدخاله علم السحر في عموم قوله تعالى
" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " فيه نظر لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي
ولم قلت إن هذا منه ثم ترقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد لان أعظم
معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من
حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة
والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم كانوا يعلمون المعجز ويفرقون بينه وبين غيره ولم يكونوا يعلمون السحر ولا
تعلموه ولا علموه والله أعلم.
149

ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية " الأول " سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون
الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله
إليهم إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - مبطلا مقالتهم ورادا لمذهبهم وقد استقصى في " كتاب السر المكتوم في مخاطبة
الشمس والنجوم " المنسوب إليه كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره ويقال إنه تاب منه وقيل بل صنفه على وجه
إظهار الفضيلة لا على سبيل الاعتقاد وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب
السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.
قال " والنوع الثاني " سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الانسان يمكنه أن
يمشي على الجذع الموضوع على وجه الأرض ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدودا على نهر أو نحوه قال: وكما
أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران
وما ذاك إلا لان النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق - وله أن يستدل
على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " العين حق ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين " - قال
فإذا عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جدا فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانة
بالآلات والأدوات وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الآلات وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية على
البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأرواح السماوية فكانت قوية على التأثير في مواد
هذا العالم وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن
ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء والانقطاع عن الناس والرياء " قلت " وهذا الذي يشير إليه هو التصرف
بالحال: وهو على قسمين تارة تكون حالا صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. ويترك ما نهى الله
تعالى عنه ورسوله - صلى الله عليه وسلم فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحرا
في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتصرف بها في ذلك فهذه حال
الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم كما أن الدجال له من الخوارق
العادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعا لعنه الله وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة
المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وبسط هذا يطول جدا وليس هذا موضعه.
قال " والنوع الثالث " من السحر والاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافا للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين.
مؤمنون وكفار وهم الشياطين. قال واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من
المناسبة والقرب ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بأعمال
سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
" النوع الرابع " من السحر التخييلات والاخذ بالعيون والشعبذة ومبناه على أن البصر قد يخطئ ويشتغل بالشئ
المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شئ يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا
استفرغهم الشغل بذلك الشئ بالتحديث ونحوه عمل شيئا آخر عملا بسرعة شديدة وحينئذ يظهر لهم شئ آخر غير
ما انتظروه فيتعجبون منه جدا ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ولم تتحرك
النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه لفطن الناظرون لكل ما يفعله " قال " وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر
نوعا من أنواع الخلل أشد كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضئ جدا أو مظلم فلا تقف القوة
الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
" قلت " وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى
150

" فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " وقال تعالى " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى "
قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الامر والله أعلم.
" النوع الخامس من السحر " الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على
فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد - ومنها الصور التي تصورها الروم
والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الانسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف
أمور التخاييل قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل " قلت " يعني ما قاله بعض المفسرين: أنهم عمدوا إلى
تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقا فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى
باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالآلات
الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر لان لها أسبابا معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها
" قلت " ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد
المقدس وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام
منهم وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغا
لهم وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب
فيدخلون في عداد من قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " وقوله " حدثوا عني ولا
تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار " ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين
الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به فعمد هذا الراهب
إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر وانقطع
في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق ذلك الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون
فتح بابا من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضا فتأتي الطيور فتحمل
من الزيتون شيئا كثيرا فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه ففتنهم بذلك وأوهم أن
هذا من كرامات صاحب هذا القبر عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
" قال الرازي: النوع السادس من السحر " الاستعانة بخواص الأدوية يعني في الأطعمة والدهانات قال: واعلم أن لا
سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد " قلت " يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتخيل
على جهلة الناس بهذه الخواص مدعيا أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من
المحالات.
قال " النوع السابع من السحر " التعليق للقلب وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه
وينقادون له في أكثر الأمور إذا اتفق أن يكون ذلك السامع ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك
وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل
ما يشاء " قلت " هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على الضعفاء العقول من بني آدم وفي علم الفراسة ما يرشد
إلى معرفة كامل العقل من ناقصه فإذا كان النبيل حاذقا في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
قال " النوع الثامن من السحر " السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس " قلت "
النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه فأما إن
كانت على وجه الاصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث " ليس بالكذاب من ينم خيرا " أو
يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث " الحرب خدعة " وكما
151

فعل نعيم بن مسعود في تفريقه بين كلمة الأحزاب وبين قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاما ونقل
من هؤلاء إلى أولئك شيئا آخر ثم لام بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء
والبصيرة النافذة وبالله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه " قلت " وإنما أدخل كثيرا من هذه الأنواع
المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لان السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ولهذا جاء في الحديث " إن
من البيان لسحرا " وسمي السحور لكونه يقع خفيا آخر الليل والسحر الرئة وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها
ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من
الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري وقال تعالى " سحروا أعين
الناس " أي أخفوا عنهم عملهم والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافا للمعتزلة وأبي إسحق
الأسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل. قال: ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة والشعوذي
البريد لخفة سيره قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاما
يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وفد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك قال: وقوله عليه
السلام " إن من البيان لسحرا " يحتمل أن يكون مدحا كما تقوله طائفة ويحتمل أن يكون ذما للبلاغة قال: وهذا
أصح قال: لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام " فلعل بعضكم أن يكون
ألحن بحجته من بعض فأقضي له " الحديث. " فصل " وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله في كتابه " الاشراف على مذاهب الاشراف "
بابا في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم
السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال: إن تعلمه ليتقيه أو
ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر.
وقال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل
من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو
كافر. قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ فقال مالك وأحمد نعم وقال الشافعي وأبو حنيفة لا
فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو
يقر بذلك في حق شخص معين وإذا قتل فإنه يقتل حدا عندهم إلا الشافعي فإنه قال يقتل والحالة هذه قصاصا قال:
وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل وقال الشافعي وأحمد
في الرواية الأخرى تقبل وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم وقال مالك
وأحمد والشافعي: لا يقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل
ولكن تحبس وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال قرأ
على أبي عبد الله - يعني أحمد بن حنبل - عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال: يقتل ساحر المسلمين ولا
يقتل ساحر المشركين لان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله أنه
قال في الذمي يقتل إن قتل سحره وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه
يستتاب فإن أسلم وإلا قتل والثانية أنه يقتل وإن أسلم وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة
الأربعة وغيرهم لقوله تعالى " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم
152

تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم
أتعمد القتل فهو مخطئ تجب عليه الدية.
" مسألة " وهل يسأل الساحر حلا لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري وقال عامر الشعبي: لا
بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت يا رسول الله هلا تنشرت فقال " أما
الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شرا " وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر
فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه
فإنه يذهب ما به وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته " قلت " أنفع ما يستعمل لاذهاب السحر ما أنزل الله على
رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان وفي الحديث " لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما " وكذلك قراءة الكرسي فإنها
مطردة للشيطان.
يا أيها الذين أمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم (104) ما يود الذين كفروا من أهل
الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105)
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما
فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص عليهم لعائن الله فإذا أرادوا أن يقولوا اسمع لنا يقولوا راعنا ويورون بالرعونة كما
قال تعالى " من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا
بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله
بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " وكذلك جاءت الأحاديث بالاخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلموا إنما يقولون السام
عليكم والسام هو الموت ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بو عليكم وإنما يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا
والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولا وفعلا فقال " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا
انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم " وقال الإمام أحمد: أخبرنا أبو النضر أخبرنا عبد الرحمن أخبرنا ثابت أخبرنا
حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت بين يدي
الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعلت الذلة والصغار على من
خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم " وروى أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة عن أبي النضر هاشم أخبرنا ابن
القاسم به " من تشبه بقوم فهو منهم " ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم
وأفعاهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها. وقال ابن أبي حاتم
أخبرنا أبي أخبرنا نعيم بن حماد أخبرنا عبد الله بن المبارك أخبرنا مسعر عن ابن معن وعون أو أحدهما أن رجلا أتى
عبد الله بن مسعود فقال: أعهد إلي فقال: إذا سمعت الله يقول " يا أيها الذين آمنوا " فارعها سمعك فإنه خير يأمر
به أو شر ينهى عنه. وقال الأعمش عن خيثمة قال: ما تقرؤن في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فإنه في التوراة يا أيها
المساكين. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس " راعنا "
أي أرعنا سمعك. وقال الضحاك: عن ابن عباس " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " قال كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم
أرعنا سمعك وإنما راعنا كقولك عاطنا. وقال ابن أبي حاتم وروي عن أبي العالية وأبي مالك والربيع بن أنس وعطية
العوفي وقتادة نحو ذلك وقال مجاهد " لا تقولوا راعنا " لا تقولوا خلافا وفي رواية لا تقولوا اسمع منا ونسمع
منك. وقال عطاء لا تقولوا " راعنا " كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها وقال الحسن: " لا تقولوا راعنا "
قال الراعن من القول السخري منه نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم وما يدعوهم إليه من الاسلام. وكذا
153

روي عن ابن جريج أنه قال مثله وقال أبو صخر " لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا " قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدبر
ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فيقول أرعنا سمعك فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له وقال السدى: كان
رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى رفاعة بن زيد يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلمه قال: أرعني سمعك واسمع غير
مسمع وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا فكان ناس منهم يقولون: اسمع غير مسمع غير
صاغر وهي كالتي في سورة النساء فتقدم الله إلى المؤمنين أن لا يقولوا راعنا وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم بنحو من هذا. قال ابن جرير والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى الله عليه وسلم
راعنا. لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه صلى الله عليه وسلم نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقولوا للعنب الكرم
ولكن قولوا الحبلة ولا تقولوا عبدي ولكن قولوا فتاي " وما أشبه ذلك. وقوله تعالى " ما يود الذين كفروا من أهل
الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم " يبين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب
والمشركين الذين حذر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودة بينهم وبينهم ونبه تعالى على ما أنعم به على
المؤمنين من الشرع التام الكامل الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى " والله يختص برحمته من يشاء والله
ذو الفضل العظيم ".
ما ننسخ من أية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير (106) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات
والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (107)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما " ما ننسخ من آية " ما نبدل من آية وقال ابن جريج عن مجاهد
" ما ننسخ من آية " أي ما نمحوا من آية وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " ما ننسخ من آية " قال نثبت خطها ونبدل
حكمها حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية
ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك وقال الضحاك " ما ننسخ من آية " ما ننسك. وقال عطاء أما " ما ننسخ " فما
نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم يعني ترك فلم ينزل على محمد وقال السدى " ما ننسخ من آية " نسخها
قبضها. وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها رفعها مثل قوله " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " وقوله " لو كان
لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا " وقال ابن جرير " ما ننسخ من آية " ما ينقل من حكم آية إلى غيره فنبدله
ونغيره وذلك أن يحول الحلال حراما والحرام حلالا والمباح محظورا والمحظور مباحا ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي
والحظر والاطلاق والمنع والإباحة فأما الاخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ وأصل النسخ من نسخ
الكتاب وهو نقله من نسخة أخرى إلى غيرها فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى
غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد
النسخ والامر في ذلك قريب لان معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أنه رفع الحكم بدليل
شرعي متأخر. فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر
أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه. وقال الطبراني. أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن وافد أخبرنا
أبي أخبرنا العباس بن الفضل عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما
رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فذكرا ذلك له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها " فكان الزهري يقرؤها " ما ننسخ من آية أو
ننسها " بضم النون الخفيفة. سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود
عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف
154

مثله مرفوعا ذكره القرطبي وقوله تعالى " أو ننسها " فقرئ على وجهين ننسأها وننسها فأما من قرأها بفتح النون
والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ما ننسخ من آية أو ننسها " يقول ما نبدل
من آية أو نتركها لا نبدلها. وقال مجاهد: عن أصحاب ابن مسعود أو ننسأها نثبت خطها ونبدل حكمها. وقال
عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها نؤخرها ونرجأها وقال عطية العوفي: أو ننسأها: نؤخرها فلا ننسخها
وقال السدي مثله أيضا وكذا الربيع بن أنس وقال الضحاك " ما ننسخ من آية أو ننسأها " يعني الناسخ من
المنسوخ وقال أبو العالية ما ننسخ من آية أو ننسأها " نؤخرها عندنا وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن
إسماعيل البغدادي أخبرنا خلف أخبرنا الخفاف عن إسماعيل يعني ابن أسلم عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه فقال: يقول الله عز وجل " ما ننسخ من آية أو ننسأها " أي
نؤخرها وأما على قراءة " أو ننسها " فقال عبد الرازق عن معمر عن قتادة في قوله " ما ننسخ من آية أو ننسها " قال
كان الله عز وجل ينسى نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء وينسخ ما يشاء.
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله أخبرنا خالد بن الحارث أخبرنا عوف عن الحسن أنه قال في قوله " أو
ننسها " قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآنا ثم نسيه وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل أخبرنا محمد بن الزبير
الحراني عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل
وينساه بالنهار فأنزل الله عز وجل " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو
جعفر بن نفيل ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري وقال عبيد بن عمير " أو ننسها " نرفعها من عندكم وقال
ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم أخبرنا هشيم عن يعلى بن عطاء عن القاسم بنو ربيعة قال: سمعت سعد بن أبي
وقاص يقرأ " ما ننسخ من آية أو ننسها " قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ " أو ننساها " قال: فقال سعد إن
القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب قال: قال الله جل ثناؤه " سنقرئك فلا تنسى * واذكر ربك إذا
نسيت " وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث أبي حاتم الرازي عن آدم عن شعبة
عن يعلى بن عطاء به وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه قال ابن أبي حاتم: وروي عن محمد بن كعب وقتادة
وعكرمة نحو قول سعيد وقال الإمام أحمد أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال قال عمر: علي أقضانا وأبي أقرؤنا وإنا لندع من قول أبي وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئا
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم والله يقول " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " قال البخاري: أخبرنا يحيى
أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال عمر: أقرؤنا أبي وأقضانا علي وإنا لندع من قول
أبي وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله " ما ننسخ من آية أو ننسها ". وقوله
" نأت بخير منها أو مثلها " أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" نأت بخير منها " يقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم وقال أبو العالية " ما ننسخ من آية " فلا نعمل بها " أو
ننساها " أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها وقال السدي " نأت بخير منها أو مثلها " يقول نأت بخير من الذي
نسخناه أو مثل الذي تركناه وقال قتادة " نأت بخير منها أو مثلها " يقول آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها
نهي. وقوله " ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض ومالكم من دون الله
من ولي ولا نصير " يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء فله الخلق والامر وهو المتصرف فكما
خلقهم كما يشاء ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ويوفق من يشاء ويخذل من
يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء. ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي
يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ فيأمر
بالشئ لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره
155

واتباع رسله في تصديق ما أخبروا وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر
اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى استحالة النسخ إما عقلا كما زعمه بعضهم جهلا وكفرا وإما نقلا كما
تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكا قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الآية ألم تعلم يا محمد أن لي
ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء وأنهى
عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء ثم قال: وهذا الخبر وإن كان
خطابا من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام
التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغير ما غير الله من حكم
التوراة فأخبرهم الله أن له ملك السماوات والأرض وسلطانهما وأن الخلق أهل مملكته وطاعته وعليهم السمع والطاعة
لامره ونهيه وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه
" قلت " الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع
النسخ في أحكام الله تعالى لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه
الماضية كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات
ثم نسخ حل بعضها وكان نكاح الأختين مباح لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها وأمر
إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم ثم رفع عنهم
القتل كيلا يستأصلهم القتل وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه
الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى إذ هو المقصود وكما في كتبهم مشهورا من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم
والامر باتباعه فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته وسواء قيل إن
الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثته عليه السلام فلا يسمى ذلك نسخ لقوله ثم أتموا الصيام إلى الليل وقيل إنها
مطلقة وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين لأنه جاء بكتاب هو آخر الكتب عهدا
بالله تبارك وتعالى ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ ردا على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى " ألم تعلم
أن الله على كل شئ قدير ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " الآية فكما أن الملك بلا منازع فكذلك
له الحكم بما يشاء " ألا له الخلق والامر " وقرئ في سورة آل عمران التي نزل صدرها خطاب مع أهل الكتاب وقوع
النسخ في وقوله تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه " الآية. كما سيأتي تفسيره
والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال
بوقوعه وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر: لم يقع شئ من ذلك في القرآن وقوله ضعيف مردود مرذول وقد
تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول لم يجب على ذلك
بكلام مقبول وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشئ ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم
لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والله أعلم.
أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء السبيل (108)
نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى " يا أيها
الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " أي وإن تسألوا عن
تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ولا تسألوا عن الشئ قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ولهذا جاء في
الصحيح " إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته " ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الرجل يجد مع امرأته رجلا فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على مثل ذلك فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل
156

وعابها ثم أنزل الله حكم الملاعنة. ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان ينهى عن قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال. وفي صحيح مسلم " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان
قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. وإن نهيتكم عن شئ فاجتنبوه "
وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت عنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا. ثم قال عليه السلام " لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم " ثم قال " ذروني ما
تركتكم " الحديث ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من
أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحق بن
سليمان عن أبي سنان عن أبي إسحق عن البراء بن عازب قال: إن كان ليأتي علي السنة أريد أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الشئ فأتهيب منه وإن كنا لنتمنى الاعراب. وقال البزار: أخبرنا محمد بن المثنى أخبرنا ابن فضيل عن عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه إلا عن اثنتي
عشرة مسألة كلها في القرآن " يسألونك عن الخمر والميسر " - و - " يسألونك عن الشهر الحرام " - " ويسألونك عن
اليتامى " يعني هذا وأشباهه.
وقوله تعالى " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل " أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام
وهو إنكاري وهو يعلم المؤمنين والكافرين فإنه عليه الصلاة والسلام رسول الله إلى الجميع كما قال تعالى " يسألك
أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة
بظلمهم " قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد عن ابن عباس قال: قال رافع بن
حريملة ووهب بن زيد يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك. فأنزل الله
من قولهم " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالايمان فقد ضل سواء
السبيل ".
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل
موسى من قبل " قال: قال رجل يا رسول الله لو كانت كفارتنا ككفارات بني إسرائيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم لا
نبغيها - ثلاثا - ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة
على بابه وكفارتها فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة فما أعطاكم الله خير
مما أعطى بني إسرائيل " قال " ومن يعمل سوأ أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقال " الصلوات
الخمس من الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن " وقال " من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت
سيئة واحدة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة وإن عملها كتبت له عشر أمثالها ولا يهلك على الله
إلا هالك " فأنزل الله " أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل " وقال مجاهد " أم تريدون أن تسألوا
رسولكم كما سئل موسى من قبل " أن يريهم الله جهرة؟ قال: سألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا
قال " نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل " فأبوا ورجعوا. وعن السدي وقتادة نحو هذا والله أعلم والمراد أن الله ذم
من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شئ على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتا وتكذيبا
وعنادا. قال الله تعالى " ومن يتبدل الكفر بالايمان " أي من يشتر الكفر بالايمان " فقد ضل سواء السبيل " أي فقد
خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال. وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم
إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى
" ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار " وقال أبو العالية
يتبدل الشدة بالرخاء.
157

ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا
واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير (109) وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من
خير تجدوه عند الله إن الله بما تعملون بصير (110)
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما
هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو
الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيي بن
أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد اليهود للعرب حسدا إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن
الاسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم " الآية وقال عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري في قوله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب " قال هو كعب بن الأشرف وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو
اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه أن كعب بن الأشرف
اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنزل الله " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم " إلى قوله " فاعفوا
واصفحوا " وقال الضحاك عن ابن عباس أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات ثم يصدق
بذلك كله مثل تصديقهم ولكنهم جحدوا ذلك كفرا وحسدا وبغيا وكذلك قال الله تعالى " كفارا حسدا من عند
أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق " يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا ولكن الحسد حملهم على
الجحود فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والايمان والاقرار
بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم. وقال الربيع بن أنس " من عند
أنفسهم " من قبل أنفسهم وقال أبو العالية " من بعد ما تبين لهم الحق " من بعد ما تبين أن محمدا رسول الله يجدونه
مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسدا وبغيا إذ كان من غيرهم وكذا قال قتادة والربيع بن أنس
وقوله " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " مثل قوله تعالى " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين
أشركوا أذى كثيرا " الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره "
والسدي وقوله " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " نسخ ذلك قوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم "
وقوله " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " إلى قوله " وهم صاغرون " فنسخ هذا عفوه عن المشركين
وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي أنها منسوخة بآية السيف ويرشد إلى ذلك أيضا قوله تعالى " حتى
يأتي الله بأمره " وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير
أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله
ويصبرون على الأذى قال الله " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير " وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول من العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بالقتل فقتل الله به من قتل من صناديد قريش هذا
إسناده صحيح ولم أره في شئ من الكتب الستة ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد.
وقوله تعالى " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " يحثهم تعالى على الاشتغال
بما ينفعهم وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم
يقوم الاشهاد " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " ولهذا قال تعالى " إن الله بما تعملون
بصير " يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ولا يضيع لديه سواء كان خيرا أو شرا فإنه سيجازي كل عامل بعمله.
158

وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى " إن الله بما تعملون بصير " هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات
من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر سرا وعلانية فهو به بصير لا يخفى عليه منه شئ فيجزيهم بالاحسان خيرا
وبالإساءة مثلها وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر فإنه وعدا ووعيدا وأمرا وزجرا وذلك أنه أعلم القوم أنه
بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى " وما تقدموا
لأنفسكم من خير تجدوه عند الله " وليحذروا معصيته قال وأما قوله " بصير " فإنه مبصر صرف إلى بصير كما
صرف مبدع إلى بديع ومؤلم إلى أليم والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة أخبرنا ابن بكير حدثني أبي
لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية
" سميع بصير " يقول " بكل شي بصير ".
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (111) بلى من
أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (112) وقالت اليهود ليست النصارى على
شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم
بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (113)
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من
كان على ملتها كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا " نحن أبناء الله وأحباؤه " فأكذبهم الله تعالى بما
أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم ولو كانوا كما ادعوا لما كان الامر كذلك وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا
أياما معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة ورد عليهم تعالى في ذلك وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا
حجة ولا بينه فقال " تلك أمانيهم " وقال أبو العالية أماني تمنوها على الله بغير حق وكذا قال قتادة والربيع بن أنس
ثم قال تعالى " قل " أي يا محمد " هاتوا برهانكم " قال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس حجتكم
وقال قتادة بينتكم على ذلك " إن كنتم صادقين " أي فيما تدعونه قال تعالى " بلى من أسلم وجهه لله وهو
محسن " أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له كما قال تعالى " فإن حاجوك فقلت أسلمت وجهي لله ومن
اتبعن " الآية، وقال أبو العالية والربيع " بلى من أسلم وجهه لله " يقول من أخلص لله. وقال سعيد بن جبير " بلى
من أسلم " أخلص " وجهه " قال دينه " وهو محسن " أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فإن للعمل المتقبل شرطين:
أحدهما أن يكون خالصا لله وحده والآخر أن يكون صوابا موافقا للشريعة فمتى كان خالصا ولم يكن صوابا لم يتقبل
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم من حديث عائشة عنه عليه الصلاة
والسلام فعمل الرهبان ومن شابههم وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعا
للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه
هباء منثورا " وقال تعالى " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا "
وقال تعالى " وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية " وروي عن أمير المؤمنين عمر
رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي وأما إن كان العمل موافقا للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم
يخلص عامله القصد لله فهو أيضا مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين كما قال تعالى " إن المنافقين
يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وقال تعالى
" فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤن ويمنعون الماعون " ولهذا قال تعالى " فمن كان
159

يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " وقال في هذه الآية الكريمة " بلى من أسلم وجهه لله
وهو محسن " وقوله " فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل
الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور " فلا خوف عليهم " فيما يستقبلونه " ولا هم يحزنون " على ما مضى
مما يتركونه. كما قال سعيد بن جبير " فلا خوف عليهم " يعني في الآخرة " ولا هم يحزنون " يعني لا يحزنون
للموت.
وقوله تعالى " وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب "
بين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن
عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار
يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حرملة: ما أنتم على شئ وكفر بعيسى وبالإنجيل وقال رجل من
أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شئ وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة فأنزل الله في ذلك من قولهما
" وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وهم يتلون الكتاب " قال إن كلا
يتلو في كتابه تصديق من كفر به أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى
بالتصديق بعيسى وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد
صاحبه وقال مجاهد في تفسير هذه الآية قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شئ وقال قتادة " وقالت اليهود
ليست النصارى على شئ " قال: بلى قد كانت أوائل النصارى على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا " وقالت
النصارى ليست اليهود على شئ " قال بلى قد كانت أوائل اليهود على شئ ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا وعنه رواية
أخرى كقول أبي العالية والربيع بن أنس في تفسير هذه الآية " وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت
النصارى ليست اليهود على شئ " هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا القول يقتضي أن
كلا من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأخرى ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه من علمهم
بخلاف ذلك ولهذا قال تعالى " وهم يتلون الكتاب " أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل كل منهما قد كانت
مشروعة في وقت ولكنهم تجاهدوا فيما بينهم عنادا وكفرا ومقابلة للفاسد بالفاسد كما تقدم عن ابن عباس ومجاهد
وقتادة في الرواية الأولى عنه في تفسيرها والله أعلم وقوله " كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم " بين بهذا جهل
اليهود والنصارى فيما تقابلوه من القول وهذا من باب الايماء والإشارة وقد اختلف فيما عني بقوله تعالى " الذين
لا يعلمون " فقال الربيع بن أنس وقتادة " كذلك قال الذين لا يعلمون " قالا: وقالت النصارى مثل قول اليهود
وقيلهم وقال ابن جريج: قلت لعطاء من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة
والإنجيل وقال السدي كذلك " قال الذين لا يعلمون " فهم العرب قالوا ليس محمد على شئ واختار أبو
جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع وليس ثم دليل قاطع يعين واحدا من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى
والله أعلم وقوله تعالى " فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم
المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله
على كل شئ شهيد " وكما قال تعالى " قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ".
ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في
الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم (114)
160

اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين: أحدهما ما رواه العوفي في
تفسيره عن ابن عباس في قوله " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه " قال هم النصارى كانوا
يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله
" وسعى في خرابها " قال هو بختنصر وأصحابه خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك النصارى وقال سعيد عن
قتادة: قال أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب
بيت المقدس. وقال السدي: كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن تطرح فيه الجيف
وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا وروي نحوه عن الحسن البصري
" القول الثاني " ما رواه ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله " ومن
أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها " قال هؤلاء المشركون الذين حالوا بين
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم " ما كان أحد يصد عن
هذا البيت وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده " فقالوا لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق
وفي قوله " وسعى في خرابها " قال إذا قطعوا من يعمرها بذكره ويأتيها للحج والعمرة. وقال ابن أبي حاتم ذكر عن
سلمة قال: قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن
قريشا منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر
فيها اسمه " ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة وأما الروم فسعوا في تخريب
بيت المقدس " قلت " والذي يظهر - والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد. وروي عن ابن عباس لان النصارى
إذا منعت اليهود الصلاة في البيت المقدس كأن دينهم أقوم من دين اليهود وكانوا أقرب منهم ولم يكن ذكر الله من
اليهود مقبولا إذ ذاك لأنهم لعنوا من قبل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون وأيضا فإنه
تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى شرع في ذم المشركين الذين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة
ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة فأي خراب أعظم
مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى " وما
لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون "
وقال تعالى " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار
هم خالدون إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك
أن يكونوا من المهتدين " وقال تعالى " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله
ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطأوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من
يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " فقال تعالى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر
وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله " فإذا كان من هو كذلك مطرودا منها مصدودا عنها فأي خراب لها أعظم
من ذلك؟ وليس المراد بعمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط إنما عمارتها بذكر الله فيها وإقامة شرعه فيها ورفعها عن
الدنس والشرك. وقوله تعالى " أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين " هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا
هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في
سنة تسع أن ينادي برحاب منى " ألا لا يحجن بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان ومن كان له أجل فأجله إلى
مدته " وهذا إذا كان تصديقا وعملا بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام
بعد عامهم هذا " وقال بعضهم ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد
الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى ما كان الحق والواجب
إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم وقيل إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى
161

سائر المساجد وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفا يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو
يقتل إن لم يسلم. وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام وأوصى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان وأن يجلي اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة. وما ذاك إلا
تشريف أكناف المسجد الحرام وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا صلوات الله
وسلامه عليه وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لان الجزاء من جنس العمل فكما صدوا المؤمنين عن المسجد الحرام
صدوا عنه وكما أجلوهم من مكة أجلوا عنها " ولهم في الآخرة عذاب عظيم " على ما انتهكوا من حرمة البيت
وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ودعاء غير الله عنده والطواف به عرايا وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله
وأما من فسر بيت المقدس فقال كعب الأحبار إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله
محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل عليه " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن
يدخلوها إلا خائفين " الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفا وقال السدي فليس في الأرض
رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه أو قد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها وقال قتادة لا يدخلون
المساجد إلا مسارقة قلت وهذا لا ينفي أن يكون داخلا في معنى عموم الآية فإن النصارى ما ظلموا بيت المقدس
بامتهان الصخرة التي كانت تصلي إليها اليهود عوقبوا شرعا وقدرا بالذلة فيه إلا في أحيان من الدهر أشحن بهم بيت
المقدس وكذلك اليهود لما عصوا الله فيه أيضا أعظم من عصيان النصارى كانت عقوبتهم أعظم والله أعلم وفسر
هؤلاء الخزي من الدنيا بخروج المهدي عند السدي وعكرمة ووائل بن داود وفسره قتادة بأداء الجزية عن يد وهم
صاغرون والصحيح أن الخزي في الدنيا أعم من ذلك كله وقد ورد الحديث بالاستعاذة من خزي الدنيا وعذاب
الآخرة كما قال الإمام أحمد أخبرنا الهيثم بن خارجة أخبرنا محمد بن أيوب بن ميسرة بن حلبس سمعت أبي يحدث
عن بشر بن أرطاة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا
وعذاب الآخرة " وهذا حديث حسن وليس في شئ من الكتب السنة وليس لصحابيه وهو بشر بن أرطاة حديث سواه
وسوى حديث لا تقطع الأيدي في الغزو.
ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115)
وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم وقد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمكة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر
شهرا ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ولهذا يقول تعالى " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " قال أبو عبيد
القاسم بن سلام في كتاب الناسخ والمنسوخ: أخبرنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان ابن عطاء عن عطاء
عن ابن عباس قال: أول ما نسخ لنا من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة قال الله تعالى " ولله المشرق
والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق ثم صرفه
إلى بيته العتيق ونسخها فقال " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: " كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن
رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله " قد
نرى تقلب وجهك في السماء " إلى قوله " فولوا وجوهكم شطره " فارتاب من ذلك اليهود وقالوا " ما ولاهم عن
قبلتهم التي كانوا عليها " فأنزل الله " قل لله المشرق والمغرب " وقال " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال عكرمة عن
ابن عباس " فأينما تولوا فثم وجه الله " قال قبلة الله أينما توجهت شرقا أو غربا وقال مجاهد " فأينما تولوا فثم وجه
162

الله " حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة. وقال ابن أبي حاتم بعد رواية الأثر المتقدم عن ابن عباس في نسخ
القبلة عن عطاء عنه. وروي عن أبي العالية والحسن وعطاء الخراساني وعكرمة وقتادة والسدي وزيد بن أسلم نحو
ذلك وقال ابن جرير وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة وإنما أنزلها ليعلم نبيه
صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب لأنهم لا يوجهون وجوههم
وجها من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية لان له تعالى المشارق والمغارب وإنه لا يخلو منه
مكان كما قال تعالى " ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي
فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال وفي قوله وأنه تعالى لا يخلو منه مكان إن أراد علمه تعالى
فصحيح فإن علمه تعالى محيط بجميع المعلومات وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شئ من خلقه تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا. قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذنا من أن يصلي
المتطوع حيث توجه من شرق أو غرب في مسيره في سفره وفي حال المسايفة وشدة الخوف حدثنا أبو كريب أخبرنا
ابن إدريس حدثنا عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به
راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية " فأينما تولوا فثم وجه الله " ورواه مسلم
والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان به وأصله في الصحيحين من
حديث ابن عمر وعامر بن ربيعة من غير ذكر الآية وفي صحيح البخاري من حديث نافع عن ابن عمر أنه كان إذا
سئل عن صلاة الخوف وصفها. ثم قال " فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم وركبانا مستقبلي
القبلة وغير مستقبليها " قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
" مسألة " ولم يفرق الشافعي في المشهور عنه بين سفر المسافة وسفر العدوي فالجميع عنه يجوز التطوع فيه على
الراحلة وهو قول أبي حنيفة خلافا لمالك وجماعته واختار أبو يوسف وأبو سعيد الإصطخري التطوع على الدابة في
المصر وحكاه أبو يوسف عن أنس بن مالك رضي الله عنه واختاره أبو جعفر الطبري حتى للماشي أيضا. قال ابن
جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عميت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها فصلوا على أنحاء مختلفة فقال
الله تعالى: لي المشارق والمغارب فأين وليتم وجهكم فهنالك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم
ماضية. حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي أخبرنا أبو أحمد الزبيري أخبرنا أبو الربيع السمان عن عاصم بن
عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سودا مظلمة فنزلنا منزلا فجعل
الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلى غير القبلة فقلنا يا رسول الله
لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " الآية ثم رواه
عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن أبي الربيع السمان بنحوه. ورواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع وابن ماجة
عن يحيى بن حكيم عن أبي داود عن أبي الربيع السمان ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن
سعيد بن سليمان عن أبي الربيع السمان واسمه أشعث بن سعيد البصري وهو ضعيف الحديث وقال الترمذي هذا
حديث حسن وليس إسناده بذاك ولا نعرفه إلا من حديث الأشعث السمان وأشعث يضعف في الحديث قلت
وشيخه عاصم أيضا ضعيف. قال البخاري منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به وقال ابن حبان:
متروك والله أعلم.
وقد روي من طريق آخر عن جابر فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية أخبرنا إسماعيل بن علي بن
إسماعيل أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب حدثني أحمد بن عبد الله بن الحسن قال: وجدت في كتاب أبي أخبرنا
عبد الملك العزرمي عن عطاء عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية كنت فيها فأصابتنا ظلمة فلم نعرف القبلة
فقالت طائفة منا قد عرفنا القبلة هي ههنا قبل الشمال فصلوا وخطوا خطوطا فلما أصبحوا وطلعت الشمس أصبحت
163

تلك الخطوط لغير القبلة فلما قفلنا من سفرنا سألنا النبي صلى الله عليه وسلم فسكت وأنزل الله تعالى " ولله المشرق والمغرب فأينما
تولوا فثم وجه الله " ثم رواه من حديث محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء عن جابر به وقال الدارقطني قرئ
على عبد الله بن عبد العزيز وأنا أسمع حدثكم داود بن عمر وأخبرنا محمد بن يزيد الواسطي عن محمد بن سالم عن
عطاء عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير فأصابنا غيم فتحيرنا فاختلفنا في القبلة فصلى كل رجل منا على
حدة وجعل أحدنا يخط بين يديه لنعلم أمكنتنا فذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يأمرنا بالإعادة وقال " قد أجازت صلاتكم " ثم
قال الدارقطني: كذا قال عن محمد بن سالم وقال غيره عن محمد بن عبد الله العزرمي عن عطاء وهما ضعيفان
ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة
فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة فلما جاءوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هذه الآية " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " وهذه الأسانيد
فيها ضعف ولعله يشد بعضها بعضا. وأما إعادة الصلاة لمن تبين له خطؤه ففيها قولان للعلماء وهذه دلائل على عدم
القضاء والله أعلم.
قال ابن جرير وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي كما حدثنا محمد بن بشار أخبرنا معاذ بن هشام
حدثني أبي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخا لكم قد مات فصلوا عليه " " قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم؟
قال فنزلت " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " قال قتادة فقالوا:
إنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله " ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله " وهذا غريب والله أعلم.
وقد قيل إنه كان يصلي إلى بيت المقدس قبل أن يبلغه الناسخ إلى الكعبة كما حكاه القرطبي عن قتادة وذكر القرطبي
أنه لما مات صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بذلك من ذهب إلى الصلاة على الغائب قال: وهذا خاص عند أصحابنا
من ثلاثة أوجه - أحدها - أنه عليه السلام شاهده حين سوى عليه طويت له الأرض. الثاني أنه لما لم يكن عنده من
يصلي عليه صلى عليه واختاره ابن العربي قال القرطبي ويبعد أن يكون ملك مسلم ليس عنده أحد من قومه على
دينه وقد أجاب ابن العربي عن هذا لعلهم لم يكن عندهم شرعية الصلاة على الميت وهذا جواب جيد. الثالث أنه
عليه الصلاة والسلام إنما صلى عليه ليكون ذلك كالتأليف لبقية الملوك والله أعلم.
وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث أبي معشر عن محمد بن عمرو بن علقمة
عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين المشرق والمغرب قبلة لأهل المدينة وأهل الشام وأهل
العراق " وله مناسبة ههنا وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي معشر واسمه نجيح بن عبد الرحمن السدي
المدني به " ما بين المشرق والمغرب قبلة " وقال الترمذي وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة وتكلم بعض أهل
العلم في أبي معشر من قبل حفظه ثم قال الترمذي حدثني الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور
أخبرنا عبد الله بن جعفر المخزومي عن عثمان بن محمد بن المغيرة الأخنس عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما بين المشرق والمغرب قبلة " ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وحكى عن
البخاري أنه قال هذا أقوى من حديث أبي معشر وأصح قال الترمذي وقد روي عن غير واحد من الصحابة " ما بين
المشرق والمغرب قبلة " منهم عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين. وقال ابن عمر إذا
جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة إذا استقبلت القبلة ثم قال ابن مردويه حدثنا علي بن
أحمد بن عبد الرحمن أخبرنا يعقوب بن يوسف مولى بني هاشم أخبرنا شعيب بن أيوب أخبرنا ابن نمير عن
عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما بين المشرق والمغرب قبلة " وقد رواه الدارقطني
والبيهقي: وقال المشهور عن ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قوله: قال ابن جرير ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم
في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم كما حدثنا القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن
164

جريج: قال مجاهد لما نزلت " ادعوني أستجب لكم " قالوا إلى أين؟ فنزلت " فأينما تولوا فثم وجه الله " قال ابن
جرير ومعنى قوله " إن الله واسع عليم " يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والافضال: وأما قوله " عليم " فإنه يعني
عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شئ ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم.
وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116) بديع السماوات والأرض وإذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117)
اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن
مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولدا فقال تعالى
" سبحانه " أي تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا " بل له ما في السماوات والأرض " أي ليس الامر كما
افتروا وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ومقدرهم ومسخرهم
ومسيرهم ومصرفهم كما يشاء. والجميع عبيد له وملك له فكيف يكون له ولد منهم والولد إنما يكون متولدا من شيئين
متناسبين وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ كما قال
تعالى " بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم " وقال
تعالى وقالوا " اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن
عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " وقال تعالى " قل هو الله أحد * الله الصمد * لم
يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد " فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا
شبيه له وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة فكيف يكون له منها ولد؟ ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية من
البقرة: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن عبد الله بن أبي الحسين حدثنا نافع بن جبير هو ابن مطعم عن ابن عباس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فيزعم
أني لا أقدر أن أعيده كما كان وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولدا فسبحاني أن اتخذ صاحبة أو ولدا " انفرد به البخاري
من هذا الوجه. وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن كامل أخبرنا محمد بن إسماعيل الترمذي أخبرنا محمد بن إسحاق
بن محمد القروي أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله
تعالى كذبني ابن آدم وما ينبغي له أن يكذبني وشتمني وما ينبغي له أن يشتمني فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني
كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الله الاحد الصمد
" لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا أحد أصبر على أذى سمعه
من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " وقوله " كل له قانتون " قال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد
الأشج أخبرنا أساط عن مطرف عن عطية عن ابن عباس قال " قانتين " مصلين وقال عكرمة وأبو مالك " كل له
قانتون " مقرون له بالعبودية. وقال سعيد بن جبير: كل له قانتون يقول الاخلاص وقال الربيع بن أنس: يقول كل
له قانتون أي قائم يوم القيامة وقال السدي كل له قانتون أي مطيعون يوم القيامة وقال خصيف عن مجاهد كل له
قانتون قال مطيعون كن إنسانا فكان وقال كن حمارا فكان. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد كل له قانتون
مطيعون قال طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره وهذا القول عن مجاهد وهو اختيار ابن جرير يجمع الأقوال كلها
وهو أن القنوت والطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقد روى كما قال تعالى " ولله يسجد من في السماوات ومن
في الأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " وقد روي حديث فيه بيان القنوت في القرآن ما هو المراد به كما قال
ابن أبي حاتم: أخبرنا يوسف بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه
165

عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة "
وكذا رواه الإمام أحمد عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن دراج بإسناده مثله ولكن في هذا الاسناد ضعف لا
يعتمد عليه ورفع هذا الحديث منكر وقد يكون من كلام الصحابي أو من دونه والله أعلم وكثيرا ما يأتي بهذا
الاسناد تفاسير فيها نكارة فلا يغتر بها فإن السند ضعيف والله أعلم.
وقوله تعالى " بديع السماوات والأرض " أي خالقهما على غير مثال سبق قال مجاهد والسدي وهو مقتضى اللغة
ومنه يقال للشئ المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم " فإن كل محدثه بدعة " والبدعة على قسمين تارة تكون بدعة
شرعية كقوله " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم: نعمت البدعة هذه وقال ابن جرير " بديع السماوات
والأرض " مبدعهما وإنما هو مفعل فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم والمسمع إلى السميع: ومعنى
المبدع المنشئ والمحدث ما لا يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد قال ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعا
لاحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره وكذلك كل محدث قولا أو فعلا لم يتقدم فيه متقدم فإن العرب تسميه مبتدعا ومن
ذلك قول أعشى بن ثعلبة في مدح هوذة بن علي الحنفي:
يدعى إلى قول سادات الرجال إذا * أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا
أي يحدث ما شاء قال ابن جرير: فمعنى الكلام سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض
تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية وتقر له بالطاعة وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها
عليه وهذا إعلام من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك المسيح الذي أضافوا إلى الله بنوته وإخبار منه لهم أن الذي
ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته وهذا من
ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة: وقوله تعالى " وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " يبين بذلك
تعالى كمال قدرته وعظيم سلطانه وأنه إذا قدر أمرا وأراد كونه فإنما يقول له كن أي مرة واحدة فيكون أي فيوجد على
وفق ما أراد كما قال تعالى " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وقال تعالى " إنما قولنا لشئ إذا أردناه
أن نقول له كن فيكون " وقال تعالى " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " وقال الشاعر:
إذا ما أراد لله أمرا فإنما * يقول له كن قوله فيكون
ونبه بذلك أيضا على أن خلق عيسى بكلمة كن فكان كما أمره الله قال الله تعالى " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ".
وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا أية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا
الآيات لقوم يوقنون (118)
قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رافع بن
حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه فأنزل الله في
ذلك من قوله " وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية " وقال مجاهد " وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا
الله أو تأتينا الآية " قال النصارى تقوله وهو اختيار ابن جرير قال لان السياق فيهم. وفي ذلك نظر وحكى القرطبي
" لولا يكلمنا الله " أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد قلت وهو ظاهر السياق والله أعلم وقال أبو العالية والربيع بن أنس
وقتادة والسدي في تفسير هذه الآية هذا قول كفار العرب " كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم " قال هم اليهود
والنصارى ويؤيد هذا القول أن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى
166

نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " الآية وقوله تعالى " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " إلى قوله
" قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " وقوله تعالى " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو
نرى ربنا " الآية وقوله تعالى " بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة " إلى غير ذلك من الآيات الدالة
على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من
الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد
سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة " وقال تعالى " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة "
وقوله تعالى " تشابهت قلوبهم " أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال
تعالى " كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به " الآية وقوله تعالى " قد
بينا الآيات لقوم يوقنون " أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر وزيادة أخرى
لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاؤوا به عن الله تبارك وتعالى وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على
بصره غشاوة فأولئك قال الله فيهم " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب
الأليم ".
إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسئل عن أصحاب الجحيم (119)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا عبد الرحمن بن صالح أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الفزاري عن
شيبان النحوي أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أنزلت علي " إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا " قال بشيرا بالجنة ونذيرا من النار " وقوله " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " قراءة أكثرهم ولا تسأل بضم
التاء على الخبر وفي قراءة أبي بن كعب وما تسأل وفي قراءة ابن مسعود ولن تسأل عن أصحاب الجحيم نقلهما ابن
جرير أي لا نسألك عن كفر من كفر بك كقوله " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وكقوله تعالى " فذكر إنما أنت
مذكر لست عليهم بمسيطر " الآية وكقوله تعالى " نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من
يخاف وعيد " وأشباه ذلك من الآيات وقرأ آخرون " ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " بفتح التاء على النهي أي لا
تسأل عن حالهم كما قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب القرظي قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي ليت شعري ما فعل أبواي؟ " فنزلت " ولا تسأل
عن أصحاب الجحيم " فما ذكرهما حتى توفاه الله عز وجل ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن وكيع عن موسى بن
عبيدة وقد تكلموا فيه عن محمد بن كعب بمثله قد حكاه القرطبي عن ابن عباس ومحمد بن كعب قال القرطبي:
وهذا كما يقال لا تسأل عن فلان أي قد بلغ فوق ما تحسب وقد ذكرنا في التذكرة أن الله أحيا له أبويه حتى آمنا به
وأجبنا عن قوله " إن أبي وأباك في النار " " قلت " والحديث المروي في حياة أبويه عليه السلام ليس في شئ من الكتب
الستة ولا غيرها وإسناده ضعيف والله أعلم. ثم قال ابن جرير وحدثني القاسم أخبرنا الحسين حدثني حجاج عن ابن
جريج أخبرني داود بن أبي عاصم به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم " أين أبواي "؟ فنزلت " إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم " وهذا مرسل كالذي قبله وقد رد ابن جرير هذا القول المروي عن محمد بن
كعب وغيره في ذلك لاستحالة الشك في الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر أبويه واختار القراءة الأولى وهذا الذي سلكه ههنا فيه
نظر لاحتمال أن هذا كان في حال استغفاره لأبويه قبل أن يعلم أمرهما لما علم ذلك تبرأ منهما وأخبر عنهما أنهما من
أهل النار كما ثبت هذا في الصحيح ولهذا أشباه كثيرة ونظائر ولا يلزم ما ذكره ابن جرير والله أعلم.
وقال الإمام أحمد أخبرنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال: لقيت
عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه لموصوف في
167

التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين وأنت عبدي ورسولي
سميتك المتوكل لا فظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق لا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى
يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا. انفرد بإخراجه البخاري
فرواه في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح به وقال تابعه عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال وقال سعيد عن
هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رواه في التفسير عن عبد الله عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء عن
عبد الله بن عمرو بن العاص به فذكر نحوه فعبد الله هذا هو ابن صالح كما صرح به في كتاب الأدب وزعم ابن
مسعود الدمشقي أنه عبد الله بن رجاء وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من البقرة عن
أحمد بن الحسن بن أيوب عن محمد بن أحمد بن البراء عن المعافي بن سليمان عن فليح به وزاد: قال عطاء:
ثم لقيت كعب الأحبار فسألته فما اختلفا في حرف إلا أن كعبا قال: بلغته أعينا عمومي وآذانا صمومي وقلوبا غلوفا.
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك
من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير (120) أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن
يكفر به فأولئك هم الخاسرون (121)
قال ابن جرير يعني بقوله جل ثناؤه " ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم " وليست اليهود يا محمد
ولا النصارى براضية عنك أبدا فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله
به من الحق وقوله تعالى " قل إن هدى الله هو الهدى " أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى
يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل قال قتادة في قوله " قل إن هدى الله هو الهدى " قال: خصومة
علمها الله محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " لا
تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله " " قلت " هذا الحديث
مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو " ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا
نصير " فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة عياذا بالله من
ذلك فإن الخطاب مع الرسول والامر لامته وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله " حتى تتبع ملتهم " حيث أفرد الملة
على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى " لكم دينكم ولي دين " فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار وكل منهم
يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية
عنه وقال: في الرواية الأخرى كقول مالك إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى كما جاء في الحديث والله أعلم - وقوله
" الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته " عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى وهو قول
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره ابن جرير. وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن
أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبد الله بن عمران الأصبهاني قال أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا
أسامة بن زيد عن أبيه عن عمر بن الخطاب " يتلونه حق تلاوته " قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة وإذا مر
بذكر النار تعوذ بالله من النار وقال أبو العالية قال ابن مسعود والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ويحرم
حرامه ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ولا يتأول منه شيئا على غير تأويله وكذا رواه عبد الرزاق عن
معمر عن قتادة ومنصور ابن المعتمر عن ابن مسعود قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية.
قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه. وقال ابن أبي حاتم: وروى عن ابن مسعود نحو
ذلك وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه. وقال ابن
168

أبي حاتم أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس في قوله " يتلونه حق تلاوته " قال: يتبعونه حق اتباعه ثم قرأ " والقمر إذا تلاها " يقول اتبعها قال: وروي عن
عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري أخبرنا زبيد عن مرة عن
عبد الله بن مسعود في قوله " يتلونه حق تلاوته " قال يتبعونه حق اتباعه. قال القرطبي وروى نصر بن عيسى عن
مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " يتلونه حق تلاوته " قال " يتبعونه حق اتباعه " ثم قال في إسناده
غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به
على رياض الجنة وقال عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله وإذا مررا بآية عذاب
استعاذوا منها قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل وإذا مر بآية عذاب تعوذ وقوله
" أولئك يؤمنون به " خبر عن الذين آتيناهم الكتاب " يتلونه حق تلاوته " أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على
الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " الآية. وقال " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا
التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " أي إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الايمان وصدقتم ما فيها من
الاخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والامر باتباعه ونصره وموازرته قادكم ذلك الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة
كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " الآية. وقال
تعالى قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلي عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان
ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " أي إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعا وقال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب
من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم
مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون " وقال تعالى " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين
أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " ولهذا قال تعالى " ومن يكفر به
فأولئك هم الخاسرون " كما قال تعالى " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ". وفي الصحيح " والذي نفسي
بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ".
يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس
شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123)
وقد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة وكررت ههنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي
يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا وكتمان ما أنعم به عليهم وأمرهم أن
يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال
الرسول الخاتم منهم ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته صلوات الله وسلامه عليه
دائما إلى يوم الدين.
وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)
يقول تعالى منبها على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماما للناس يقتدى به في التوحيد حين
قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ولهذا قال " وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " أي واذكر يا محمد لهؤلاء
المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليهم وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من
169

المؤمنين أذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي " فأتمهن " أي قام بهن كلهن
كما قال تعالى " وإبراهيم الذي وفى " أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: " إن إبراهيم
كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة
وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى " قل
إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى " ما كان
إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " وقوله تعالى " بكلمات " أي بشرائع وأوامر ونواه فإن الكلمات تطلق
ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام " وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين "
وتطلق ويراد بها الشرعية كقوله تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي كلماته الشرعية وهي إما خبر صدق وإما
طلب عدل إن كان أمرا أو نهيا ومن ذلك هذه الآية الكريمة " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " أي قام بهن قال
" إني جاعلك للناس إماما " أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة وإماما يقتدي
به ويحتذي حذوه.
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام فروي عن ابن عباس في ذلك
روايات فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك وكذا رواه أبو إسحق السبيعي عن
التميمي عن ابن عباس وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس " وإذ ابتلى
إبراهيم ربه بكلمات " قال ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد في الرأس قص الشارب
والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر
الغائط والبول بالماء قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي وأبي صالح
وأبي الجلد نحو ذلك " قلت " وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم
ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء " قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة. قال وكيع:
انتقاص الماء يعني الاستنجاء وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الفطرة خمس الختان والاستحداد
وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط " ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة
أخبرنا ابن وهب أخبرنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن ابن حنش بن عبد الله الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في
تفسير هذه الآية " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال عشر ست في الانسان وأربع في المشاعر. فأما التي
في الانسان حلق العانة ونتف الإبط والختان وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة. وتقليم الأظفار وقص
الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة والأربعة التي في المشاعر الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار
والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم
قال الله تعالى " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قلت له وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟
قال: الاسلام ثلاثون سهما منها عشر آيات في براءة " التائبون العابدون " إلى آخر الآية وعشر آيات في أول سورة
" قد أفلح المؤمنون " و " سأل سائل بعذاب واقع " وعشر آيات في الأحزاب " إن المسلمين والمسلمات " إلى آخر
الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة قال الله " وإبراهيم الذي وفى " هكذا. رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو
محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند به وهذا لفظ ابن أبي حاتم وقال محمد ابن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن فراق
قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الامر الذي فيه
170

خلافه وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده
في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله وما ابتلى به من ذبح ابنه حين
أمره بذبحه فلما مضى على ذلك كله وأخلصه للبلاء قال الله له " أسلم قال أسلمت لرب العالمين " على ما
كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء
عن الحسن يعني البصري " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال ابتلاه بالكوكب فرضي عنه وابتلاه بالقمر
فرضي عنه وابتلاه بالشمس فرضي عنه وابتلاه بالهجرة فرضي عنه وابتلاه بالختان فرضي عنه وابتلاه بابنه
فرضي عنه. وقال ابن جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة قال كان الحسن
يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه - ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا
يزول فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه
حتى لحق بالشام مهاجرا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك وابتلاه الله بذبح ابنه والختان فصبر
على ذلك وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال ابتلاه
الله بذبح ولده وبالنار والكوكب والقمر والشمس وقال: أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة
أخبرنا أبو هلال عن الحسن " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فوجده صابرا:
وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " فمنهن " قال إني جاعلك للناس
إماما " ومنهن " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " ومنهن الآيات في شأن المنسك والمقام الذي جعل
لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنو البيت ومحمد بعث في دينهما: وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا الحسن بن محمد بن
الصباح أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات
فأتمهن " قال الله لإبراهيم إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إماما؟ قال: نعم قال: ومن ذريتي؟
" قال لا ينال عهدي الظالمين " قال: تجعل البيت مثابة للناس؟ قال: نعم قال: وأمنا؟ قال نعم: قال وتجعلنا
مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك قال: نعم قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله؟ قال نعم:
قال ابن أبي نجيح سمعته من عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قال
ابتلي بالآيات التي بعدها " إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " وقال أبو جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " قال الكلمات " إني جاعلك للناس إماما " وقوله
" وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " الآية. قوله " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " الآية. قال فذلك
كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم وقال السدي الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه " ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " وقال
القرطبي: وفي الموطأ وغيره عن يحيى ابن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن
وأول من ضاف الضيف وأول من قلم أظفاره وأول من قص الشارب وأول من شاب فلما رأى الشيب قال: يا رب ما
هذا؟ قال وقار قال: يا رب زدني وقارا وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال أول من خطب على
المنابر إبراهيم عليه السلام قال غيره وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف وأول
من استاك وأول من استنجى بالماء وأول من لبس السراويل وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وأن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم " " قلت ": هذا الحديث لا يثبت والله
أعلم ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية.
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز
171

الجزم بشئ منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل
الجماعة الذي يجب التسليم له. قال غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به
أبو كريب أخبرنا راشد بن سعد حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ألا أخبركم
لم سمى الله إبراهيم خليله: الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: " سبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " إلى آخر الآية قال والآخر منهما ما حدثنا به
أبو كريب أخبرنا الحسن عن عطية أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإبراهيم الذي وفى " قال أتدرون ما وفى قالوا الله ورسوله أعلم؟ قال " وفي عمل يومه أربع
ركعات في النهار " ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة
عن جعفر بن الزبير به ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين وهو كما قال فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان
ضعفهما وضعفهما من وجوه عديدة فإن كلا من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث
مما يدل على ضعفه والله أعلم. ثم قال ابن جرير ولو قال قائل إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى
بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهبا لان قوله " إني جاعلك للناس إماما " وقوله " وعهدنا إلى إبراهيم
وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين " الآية وسائر الآيات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى
بهن إبراهيم " قلت " والذي قاله أولا من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد
ومن قال مثله لان السياق يعطي غير ما قالوه والله أعلم.
وقوله قال " ومن ذريتي " قال " لا ينال عهدي الظالمين " لما جعل الله إبراهيم إماما سأل الله أن تكون الأئمة من بعده
من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم
والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " فكل نبي أرسله
الله وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه وأما قوله تعالى قال " لا ينال عهدي
الظالمين " فقد اختلفوا في ذلك فقال خصيف عن مجاهد في قوله " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال إنه سيكون في
ذريتك ظالمون وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " قال لا ينال عهدي الظالمين " قال لا يكون لي إمام ظالم وفي
رواية لا أجعل إماما ظالما يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى " قال لا ينال عهدي
الظالمين " قال لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك
عن منصور عن مجاهد في قوله " ومن ذريتي " قال أما من كان منهم صالحا فأجعله إماما يقتدى به وأما من كان ظالما
فلا ولا نعمة عين وقال سعيد بن جبير " لا ينال عهدي الظالمين " المراد به المشرك لا يكون إمام ظالم يقول لا
يكون إمام مشرك. وقال ابن جريج عن عطاء قال " إني جاعلك للناس إماما " قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من
ذريته إماما ظالما قلت لعطاء ما عهده قال أمره. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي
أخبرنا الفريابي حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال الله لإبراهيم " إني جاعلك للناس إماما
قال ومن ذريتي " فأبى أن يفعل ثم قال " لا ينال عهدي الظالمين " وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن
سعيد أو عكرمة عن ابن عباس " قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال
عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئا من أمره وإن كان من ذرية خليله ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له فيه ما أراد من
مسألته. وقال العوفي عن ابن عباس " لا ينال عهدي الظالمين " قال يعني لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه
فيه وقال ابن جرير حدثنا إسحاق أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن
ابن عباس قال لا ينال عهدي الظالمين عهد وإن عاهدته: وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك: وقال
الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد وقال: عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله " لا ينال
172

عهدي الظالمين " قال لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش
وكذا قال: إبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا
ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال " وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين " يقول ليس كل
ذريتك يا إبراهيم على الحق وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال: جويبر عن الضحاك لا ينال
طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا وليا لي يطيعني: وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه أخبرنا عبد الرحمن بن
محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الدامغاني أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي
عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا ينال عهدي الظالمين " قال " لا طاعة إلا في
المعروف وقال السدي " لا ينال عهدي الظالمين " يقول عهدي نبوتي - فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية
وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالما ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام أنه
سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره والله أعلم وقال ابن خويز منداد المالكي:
الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا.
وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
قال العوفي عن ابن عباس قوله تعالى " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " يقول لا يقضون منه وطرا يأتونه ثم يرجعون إلى
أهليهم ثم يعودون إليه: وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مثابة للناس يقول يثوبون. رواهما ابن جرير: وقال
ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن رجاء أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى
" وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال يثوبون إليه ثم يرجعون " قال: وروى عن أبي العالية وسعيد بن جبير في رواية
عطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع بن أنس والضحاك نحو ذلك. وقال ابن جرير حدثني عبد الكريم بن أبي
عمير حدثني الوليد بن مسلم قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي: حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى " وإذ
جعلنا البيت مثابة للناس " قال لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا. وحدثني يونس عن ابن وهب
قال: قال ابن زيد " وإذ جعلنا البيت مثابة للناس " قال يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه. وما أحسن ما قال:
الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي:
جعل البيت مثابا لهم * ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني " مثابة للناس " أي مجمعا " وأمنا " قال
الضحاك عن ابن عباس: أي أمنا للناس. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية " وإذ جعلنا
البيت مثابة للناس وأمنا " يقول وأمنا من العدو وأن يحمل فيه السلاح وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم
وهم آمنون لا يسبون. وروى عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا من دخله كان آمنا.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفا به شرعا وقدرا من كونه
مثابه للناس أي جعله محلا تشتاق إليه الأرواح وتحن إليه ولا تقضي منه وطرا ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله
تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم إلى أن قال " ربنا وتقبل دعائي "
ويصفه تعالى بأنه جعله آمنا من دخله أمن ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمنا. وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فيه فلا يعرض له كما وصف في سورة المائدة بقوله تعالى " جعل الله الكعبة
البيت الحرام قياما للناس " أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت
لاطبق الله السماء على الأرض وما هذا الشرف إلا شرف بانيه أولا وهو خليل الرحمن كما قال تعالى " وإذ بوأنا
173

لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا " وقال تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى
للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا " وفي هذه الآية الكريمة نبه على مقام إبراهيم مع الامر
بالصلاة عنده. فقال " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو فقال ابن
أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن شبة النميري حدثنا أبو خلف يعني عبد الله بن عيسى أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن
عباس " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال مقام إبراهيم الحرم كله. وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك. وقال أيضا
أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "
فقال سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد ثم قال ومقام
إبراهيم يعد كثير مقام إبراهيم الحج كله. ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة والمشعر ومنى ورمي
الجمار والطواف بين الصفا والمروة فقلت أفسره ابن عباس؟ قال: لا ولكن قال مقام إبراهيم الحج كله. قلت
أسمعت ذلك لهذا أجمع؟ قال نعم سمعته منه وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم عن سعيد بن جبير
" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله
إسماعيل الحجارة ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة
إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره حكاه الرازي في تفسيره عن
الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا
عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن جعفر بن محمد عن أبيه سمع جابرا يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما
طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر هذا مقام أبينا؟ قال " نعم " قال أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عز وجل " واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى " وقال عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحق عن أبي ميسرة قال: قال عمر قلت يا
رسول الله هذا مقام خليل ربنا؟ قال " نعم " قال أفلا نتخذه مصلى؟ فنزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقال
ابن مردويه أخبرنا دعلج بن أحمد أخبرنا غيلان بن عبد الصمد أخبرنا مسروق بن المرزبان أخبرنا زكريا بن أبي زائدة
عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه مر بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله أليس نقوم بمقام
خليل ربنا؟ قال " بلى " قال أفلا نتخذه مصلى؟ فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى "
وقال ابن مردويه أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني أخبرنا علي بن الحسين حدثنا الجنيد أخبرنا هشام بن خالد
أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند
مقام إبراهيم قال له عمر يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال
" نعم " قال الوليد: قلت لمالك هكذا حدثك واتخذوا قال نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب وقد روى
النسائي من حديث الوليد بن مسلم نحوه وقال البخاري: باب قوله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " مثابة
يثوبون يرجعون. حدثنا مسدد أخبرنا يحيى عن حميد عن أنس بن مالك. قال: قال عمر بن الخطاب وافقت ربي
في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت " واتخذوا من مقام
إبراهيم مصلى " وقلت يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية
الحجاب. قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيرا منكن
حتى أتت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت فأنزل الله " عسى ربه إن
طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات " الآية وقال ابن أبي مريم أخبرنا يحيى بن أيوب حدثني حميد قال:
سمعت أنسا عن عمر رضي الله عنهما هكذا ساقه البخاري ههنا وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم
المعروف بابن أبي مريم المصري وقد تفرد بالرواية عنه البخاري من بين أصحاب الكتب الستة وروى عنه الباقون
بواسطة وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث وإنما لم يسنده لان يحيى بن أبي أيوب الغافقي
فيه شئ كما قال الإمام أحمد فيه هو سئ الحفظ والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم أخبرنا حميد عن أنس
174

قال: قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى
فنزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن
يحتجبن فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه في الغيرة فقلت لهن " عسى ربه إن طلقكن أن
يبدله أزواجا خيرا منكن " فنزلت كذلك ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد عن أنس عن
عمر أنه قال وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث فذكره. وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي
عن أحمد بن منيع والنسائي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وابن ماجة عن محمد بن الصباح كلهم عن هشيم بن
بشير به. ورواه الترمذي أيضا عن عبد بن حميد عن حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة والنسائي عن هناد عن
يحيى بن أبي زائدة كلاهما عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به. وقال الترمذي حسن صحيح. ورواه الإمام علي
بن المديني عن يزيد بن زريع عن حميد به. وقال هذا من صحيح الحديث وهو بصري. ورواه الإمام مسلم بن
الحجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر فقال أخبرنا عقبة بن مكرم أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن
نافع عن ابن عمر عن عمر قال: وافقت ربي في ثلاث في الحجاب وفي أسارى بدر وفي مقام إبراهيم. وقال أبو حاتم
الرازي: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب
وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت
" واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت يا رسول الله لو حجبت النساء فنزلت آية الحجاب والثالثة لما مات
عبد الله بن أبي جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه قلت: يا رسول الله تصلي على هذا الكافر المنافق. فقال: أيها
عنك يا ابن الخطاب فنزلت " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " وهذا إسناد صحيح أيضا ولا
تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه والله أعلم وقال ابن جريج
أخبرني جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعا حتى إذا فرغ عمد إلى مقام
إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ثم قرأ " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقال ابن جرير حدثنا يوسف بن سليمان
أخبرنا حاتم بن إسماعيل أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثا ومشى
أربعا ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى
ركعتين. وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي سماه في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل. وروى البخاري
بسنده عن عمرو بن دينار: قال سمعت عمر يقول قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام
ركعتين فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء
الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار وكلما كمل
ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها
وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند
البخاري وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ولم يزل هذا معروف تعرفه العرب في جاهليتها ولهذا قال: أبو طالب في
قصيدته المعروفة اللامية:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضا كما قال عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب أن أنس بن مالك
حدثهم قال رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم وقال ابن
جرير أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع أخبرنا سعيد عن قتادة " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " إنما أمروا
أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئا ما تكلفته الأمم قبلها ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه
وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى " قلت " وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة
175

قديما ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك وكان
الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا والله أعلم
أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخره عن
جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا
باتباعهم وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وهو الذي نزل
القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قال عبد الرزاق عن ابن
جريج حدثني عطاء وغيره من أصحابنا: قال أول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال عبد الرزاق أيضا
عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد قال أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان أخبرنا القاضي أبو بكر
أحمد بن كامل حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي حدثنا أبو ثابت حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت ثم
أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي
عمر العدني قال: قال سفيان يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه كان المقام من سفع البيت على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " قال ذهب السيل به
بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه: وقال سفيان لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله قال
سفيان لا أدري أكان لاصقا بها أم لا؟ فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه والله أعلم وقد قال الحافظ أبو بكر بن
مردويه أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام أخبرنا آدم هو ابن
أبي إياس في تفسيره أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب يا رسول الله لو
صلينا خلف المقام فأنزل الله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
موضعه هذا. قال مجاهد وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن هذا مرسل عن مجاهد وهو مخالف لما تقدم من رواية
عبد الرزاق عن معمر عن حميد الأعرج عن مجاهد أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم والله أعلم.
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125) وإذ قال إبراهيم رب
اجعل هذا بلدا أمنا وارزق أهله من الثمرات من أمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا
ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير (126) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا
إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت
التواب الرحيم (128)
قال الحسن البصري قوله " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " قال أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس ولا يصيبه
من ذلك شئ وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " وعهدنا إلى
إبراهيم " أي أمرناه كذا قال والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا وقال سعيد بن
جبير عن ابن عباس قوله " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين " قال: من الأوثان وقال مجاهد وسعيد بن جبير " طهرا
بيتي للطائفين " أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم. وروي عن عبيد بن عمير
176

وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة " أن طهرا بيتي " أي بلا إله إلا الله من الشرك وأما قوله تعالى
للطائفين فالطواف بالبيت معروف. وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى " للطائفين " يعني من أتاه من غربة
" والعاكفين " المقيمين فيه وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه كما قال
سعيد بن جبير. وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان عن عطاء في قوله " والعاكفين " قال من انتابه
من الأمصار فأقام عنده. وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين. وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن
ابن عباس قال إذا كان جالسا فهو من العاكفين. وقال: ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا موسى بن إسماعيل أخبرنا
حماد بن سلمة أخبرنا ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في
المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون. قال لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال هم العاكفون. ورواه عبد بن
حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به " قلت " وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد
الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب. وأما قوله تعالى " والركع السجود " فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي عن عطاء عن ابن عباس
والركع السجود قال: إذا كان مصليا فهو الركع السجود وكذا قال: عطاء وقتادة قال ابن جرير رحمه الله
فمعنى الآية وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين والتطهير الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام
وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ثم أورد سؤالا فقال: فإن قيل فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شئ من ذلك الذي
أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: " أحدهما " أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام
والأوثان ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماما يقتدى به كما قال عبد الرحمن بن زيد
" أن طهرا بيتي " قال من الأصنام التي يعبدون التي كان المشركون يعظمونها " قلت " وهذا الجواب مفرع على أنه كان
يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم
" والجواب الثاني " أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهرا من الشرك والريب كما
قال جل ثناؤه " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار " قال
فكذلك قوله " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي " أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب كما قال
السدي " أن طهرا بيتي " ابنيا بيتي للطائفين وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما
قال تعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود "
الآيات.
وقد اختلف الفقهاء أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله: الطواف به لأهل الأمصار
أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقا وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام والمراد ذلك الرد
على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ثم مع ذلك يصدون أهله
المؤمنين عنه كما قال تعالى " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء
العاكف فيه والباد * ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا
شريك له إما بطواف أو صلاة فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ولم يذكر العاكفين لأنه
تقدم " سواء العاكف فيه والباد " وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين واكتفى بذكر الركوع والسجود عن
القيام لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام وفي ذلك أيضا رد على من لا يحجه من أهل الكتابين
اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج
والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده وهم لا يفعلون شيئا من ذلك فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا
يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك
المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحي يوحى ".
177

وتقدير الكلام إذا " وعهدنا إلى إبراهيم " أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل " أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين
والركع السجود " أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصا لله معقلا للطائفين والعاكفين والركع السجود وتطهير
المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها
بالغدو والآصال " ومن السنة من أحاديث كثيرة من الامر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى
والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام " إنما بنيت المساجد لما بنيت له " وقد جمعت في ذلك جزءا
على حدة ولله الحمد والمنة.
وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة فقيل الملائكة قبل آدم روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي ابن
الحسين ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة وقيل آدم عليه السلام رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء
وسعيد بن المسيب وغيرهم أن آدم بناه من خمسة أجبل من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي
وهذا غريب أيضا. وروى عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه أن أول من بناه شيث عليه السلام
وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها وأما إذ
صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
وقوله تعالى " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال
الإمام أبو جعفر بن جرير أخبرنا ابن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي أخبرنا سفيان عن أبي الزبير عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها
ولا يقطع عضاهها " وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار عن بندار به وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة
وعمرو الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري وقال ابن جرير أيضا: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب
قالا حدثنا ابن إدريس وأخبرنا أبو كريب أخبرنا عبد الرحيم الرازي قالا جميعا سمعنا أشعث عن نافع عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم كان عبد الله وخليله وإني عبد الله ورسوله وإن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت
المدينة ما بين لابتيها عضاهها وصيدها لا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير " وهذه الطريق
غريبة ليست في شئ من الكتب الستة وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم بارك لنا في ثمرنا
وبارك لنا في مدينتنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك وإني عبدك
ونبيك وإنه دعاك لمكة وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه " ثم يدعو أصغر وليد فيعطيه ذلك الثمر
وفي لفظ " بركة مع بركة " ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان - لفظ مسلم ثم قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب
حدثنا قتيبة بن سعيد أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن أبي بكر بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن
رافع بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها " انفرد بإخراجه مسلم فرواه
عن قتيبة عن بكر بن مضر به ولفظه كلفظه سواء وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة " التمس لي غلاما من غلمانكم يخدمني " فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه فكنت أخدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم كلما نزل وقال في الحديث ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال " هذا جبل يحبنا ونحبه " فلما أشرف
على المدينة قال " اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم " وفي
لفظ لهما " بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في صاعهم وبارك لهم في مدهم " زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما
أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة " وعن عبد الله بن
زيد بن عاصم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة
ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة " رواه البخاري وهذا لفظه ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
178

قال " إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها. وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وإني دعوت في صاعها ومدها
بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة " وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم إن إبراهيم حرم مكة
فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها
شجرة إلا لعلف اللهم بارك لنا في مدينتنا اللهم بارك لنا في صاعنا اللهم بارك لنا في مدنا اللهم اجعل مع البركة
بركتين " الحديث رواه مسلم والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم
عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على
لسان إبراهيم الخليل وقيل إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض وهذا أظهر وأقوى والله أعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات
والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة. وإنه لم يحل القتال فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو
حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها "
فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم فقال " إلا الإذخر " وهذا لفظ مسلم ولهما عن أبي هريرة
نحو من ذلك ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم مثله وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن
يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن الحسن بن مسلم بن يناق عن صفية بنت شيبة: قالت
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح فقال " يا أيها الناس إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام
إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا يأخذ لقطتها إلا منشد " فقال العباس: إلا الإذخر فإنه للبيوت
والقبور فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا الإذخر " وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى
مكة ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته
عيناي حين تكلم به - إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فإن أحدا ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها
بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم
لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض وبين الأحاديث
الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها لان إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلدا حراما
عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوبا عند الله خاتم النبيين وان آدم لمنجدل
في طينته ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " الآية وقد أجاب الله دعاءه بما سبق
في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن بدء أمرك. فقال " دعوة أبي إبراهيم
عليه السلام وبشرى عيسى ابن مريم ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام " أي أخبرنا عن بدء ظهور
أمرك كما سيأتي قريبا إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه فتذكر في
موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخبارا عن الخليل أنه قال " رب اجعل هذا بلدا آمنا " أي من
الخوف لا يرعب أهله وقد فعل الله ذلك شرعا وقدرا. كقوله تعالى " ومن دخله كان آمنا " وقوله " أو لم يروا أنا
جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه: وفي
179

صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحل لاحد أن يحمل بمكة السلاح " وقال في هذه السورة
" رب اجعل هذا البلد آمنا " أي اجعل هذه البقعة بلدا آمنا وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة. وقال تعالى في سورة
إبراهيم " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد
بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر
الدعاء " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحق إن ربي لسميع الدعاء ".
وقوله تعالى " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى عذاب
النار وبئس المصير " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب " قال ومن كفر
فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي
صوبه ابن جرير رحمه الله. قال وقرأ آخرون " قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس
المصير " فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال: كان ابن عباس يقول
ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد " ومن كفر
فأمتعه قليلا " يقول ومن كفر فأرزقه رزقا قليلا أيضا " ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " قال محمد بن إسحاق
لما عن لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره
وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك. قال الله تعالى ومن كفر فإني
أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الذهبي عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس في قوله تعالى " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال ابن
عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين
أأخلق خلقا لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس " كلا نمد
هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا " رواه ابن مردويه وروى عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك
أيضا وهذا كقوله تعالى " قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم
العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقوله تعالى " ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله
عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقوله " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا
لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن
كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " وقوله " ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " أي
ثم ألجأه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ومعناه أن الله تعالى ينظرهم
ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير "
وفي الصحيحين " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " وفي الصحيح
أيضا " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ قوله تعالى " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة
إن أخذه أليم شديد " وقرأ بعضهم " قال ومن كفر فأمتعه قليلا " الآية جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة
شاذة مخالفة للقراء السبعة وتركيب السياق يأبى معناها والله أعلم فإن الضمير في قال راجع إلى الله تعالى في قراءة
الجمهور والسياق يقتضيه وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائدا على إبراهيم وهذا خلاف نظم الكلام
والله سبحانه هو العلام.
وأما قوله تعالى " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " فالقواعد جمع
قاعدة هي السارية والأساس يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت
180

ورفعهما القواعد منه وهما يقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن
مسعود أنهما كانا يقرآن " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " ويقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم " " قلت " ويدل على هذا قولهما بعده " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " الآية فهما
في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس
المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا " ثم يبكي ويقول يا
خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله عن حال المؤمنين
الخلص في قوله " والذين يؤتون ما آتوا " أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقرابات " وقلوبهم وجلة "
أي خائفة أن لا يتقبل منهم كما جاء في الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال
بعض المفسرين الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما
سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك. قال البخاري رحمه الله: حدثنا
عبد الله بن محمد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن المطلب ابن أبي وداعة - يزيد
أحدهما على الآخر - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم
إسماعيل اتخذت منطقا لتعفي أثرها على سيارة ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند
البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء فوضعهما هنالك ووضع عندهما
جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفا إبراهيم فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي
ليس فيه أنيس؟ ولا شئ فقالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت آلله أمرك بهذا؟ قال نعم قالت:
إذا لا يضيعنا. ثم رجعت فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهذه
الدعوات ورفع يديه فقال " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " حتى بلغ " يشكرون "
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت
تنظر إليه يتلوى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه
ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر أحدا فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم
سعت سعي الانسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحدا فلم تر أحدا
ففعلت ذلك سبع مرات قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم " فلذلك سعى الناس بينهما " فلما أشرفت على المروة
سمعت صوتا فقالت " صه " - تريد نفسها - ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث
فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه أو قال بجناحه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا
وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما تغرف قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم " يرحم الله أم إسماعيل لو
تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينا معينا " قال فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك لا
تخافي الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية
تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من
طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرا عائدا فقالوا إن هذا الطائر ليدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء
فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء فأقبلوا قال وأم إسماعيل عند الماء فقالوا أتأذنين لنا أن
ننزل عندك قالت نعم. ولكن لا حق لكم في الماء عندنا قالوا: نعم. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم " فألفى
ذلك أم إسماعيل وهي تحب الانس " فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشب
الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب فلما أدرك زوجوه امرأة منهم وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم
بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا ثم سألها عن عيشهم
وهيئتهم فقالت: نحن بشر نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال: فإذا جاء زوجك فاقرأي عليه السلام وقولي له
181

يغير عتبة بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا
عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة قال: فهل أوصاك بشئ؟ قالت نعم أمرني أن أقرأ
عليك السلام ويقول غير عتبة بابك قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك وطلقها وتزوج منهم
أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا
قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل قال ما
طعامكم؟ قالت: اللحم قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء. قال اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال
النبي صلى الله عليه وسلم " ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه " قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم
يوافقاه قال فإذا جاء زوجك فاقرأي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل قال هل أتاكم من أحد؟
قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنا بخير قال:
فأوصاك بشئ؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك قال: ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن
أمسكك ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم فلما رآه قام
إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك
ربك قال: وتعينني. قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما
حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء
بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم " قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " ورواه
عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولا ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله محمد بن حماد الطبراني وابن جرير
عن أحمد بن ثابت الرازي كلاهما عن عبد الرزاق به مختصرا.
وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل أخبرنا بشر بن موسى أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي
أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج عن كثير بن كثير قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان
وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلا فقال سعيد بن جبير:
سلوني قبل أن لا تروني فسألوه عن المقام فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن
كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل
وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما
تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من وراءه يا إبراهيم إلى من تتركنا؟
قال: إلى الله قالت رضيت بالله. قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها حتى لما فني
الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت هل تحس أحدا فلم تحس أحدا فلما
بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل
الصبي فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس
أحدا فذهبت فصعدت الصفا فنظرت ونظرت فلم تحس أحدا حتى أتمت سبعا ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما
فعل فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير فإذا جبريل عليه السلام قال: فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه
على الأرض قال فانبثق الماء فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " لو تركته لكان الماء ظاهرا "
فال فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا
ذلك وقالوا ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم فأتوا إليها فقالوا: يا أم
182

إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال
لأهله: إني مطلع تركتي قال فجاء فسلم فقال أين إسماعيل؟ قالت امرأته ذهب يصيد قال: قولي له إذا جاء غير
عتبة بابك فلما أخبرته قال: أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك قال ثم إنه بدا لإبراهيم فقال إن مطلع تركتي قال فجاء
فقال أين إسماعيل؟ فقالت امرأته ذهب يصيد فقالت ألا تنزل فتطعم وتشرب فقال ما طعامكم وما شرابكم
قالت طعامنا اللحم وشرابنا الماء قال اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " بركة
بدعوة إبراهيم " قال ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله إني مطلع تركتي فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح
نبلا له فقال يا إسماعيل إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتا فقال أطع ربك عز وجل قال: إنه قد أمرني أن
تعينني عليه فقال إذن أفعل - أو كما قال - قال فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان " ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع العليم " قال حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة فقام على حجر المقام
فجعل يناوله الحجارة ويقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب
الأنبياء.
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز
عن أبي علي عبيد الله بن عبد الحنفي عن إبراهيم بن نافع به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا
قال وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع وكأن فيه اختصارا فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح وقد جاء
في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعا
ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة والله أعلم والحديث - والله أعلم - إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا كما قال ابن جرير: حدثنا
محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: أخبرنا مؤمل أخبرنا سفيان عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي بن
أبي طالب قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع
البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إبراهيم ابن علي ظلي أو قال على قدري ولا تزد ولا تنقص
فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر فقالت هاجر يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ قال إلى الله قالت: انطلق فإنه لا
يضيعنا قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال: فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا حتى أتت المروة
فلم تر شيئا ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئا ففعلت ذلك سبع مرات فقالت: يا إسماعيل مت حيث لا
أراك فأتته وهو يفحص برجله من العطش فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم
قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله قال: وكلكما إلى كاف قال: ففحص الأرض بأصبعه فنبعت
زمزم فجعلت تحبس الماء فقال: دعيه فإنه روي ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما وقد يحتمل أنه كان
محفوظا أن يكون أولا وضع له حوطا وتحجيرا لا أنه بناه إلى أعلاه حتى كبر إسماعيل فبنياه معا كما قال الله
تعالى.
ثم قال ابن جرير أخبرنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا قام إلى علي رضي
الله عنه فقال ألا تخبرني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال لا؟ ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام
إبراهيم من دخله كان آمنا وإن شئت أنبأتك كيف بني إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض فضاق
إبراهيم بذلك ذرعا فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة
فتطوت على موضع البيت كطي الجحفة وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فبنى إبراهيم وبقي الحجر
فذهب الغلام يبغي شيئا فقال إبراهيم لا ابغني حجرا كما آمرك قال فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه به فوجده قد ركب
183

الحجر الأسود في مكانه فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر؟ فقال: أتاني به من لم يتكل على بنائك جاء به
جبريل عليه السلام من السماء فأتماه.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم عن سعيد بن المسيب
عن كعب الأحبار قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاما ومنه دحيت الأرض. قال
سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ
العنكبوت بيتا وقال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلا فقلت يا أبا محمد فإن الله يقول " وإذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " قال كان ذلك بعد وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن
يبني البيت هو وإسماعيل ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو
وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت فبعث الله ريحا يقال لها الريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة
حية فكشفت لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول واتبعاها بالمعاول يحفران حتى وضعا الأساس فذلك حين
يقول تعالى " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " فلما بنيا القواعد فبلغا مكان
الركن. قال إبراهيم لإسماعيل: يا بني اطلب لي حجرا حسنا أضعه ههنا. قال يا أبت إني كسلان لغب. قال علي
ذلك فانطلق يطلب له حجرا وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة وكان آدم هبط
به من الجنة فاسود من خطايا الناس فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن فقال يا أبت من جاءك بهذا؟ قال جاء
به من هو أنشط منك فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه فقال " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع
العليم " وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم
وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها وقد ذهب إلى هذا ذاهبون كما قال الامام عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " قال القواعد التي
كانت قواعد البيت قبل ذلك وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء عن عطاء
ابن أبي رباح قال: لما أهبط آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء يسمع كلام أهل السماء
ودعاؤهم يأنس إليهم فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها فخفضه الله تعالى إلى
الأرض فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته فوجه إلى مكة فكان
موضع قدميه قرية وخطوه مفازة حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة فكانت على موضع البيت الآن
فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان فرفعت تلك الياقوتة حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه. وذلك قول الله
تعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج عن عطاء قال: قال آدم إني لا أسمع
أصوات الملائكة قال بخطيئتك ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتا ثم أحفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي
الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي وكان ربضه من
حراء فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم أهبط الله آدم إلى الأرض وكان مهبطه
بأرض الهند وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض فكانت الملائكة تهابه فنقص إلى ستين ذراعا فحزن آدم إذ فقد
أصوات الملائكة وتسبيحهم فشكا ذلك إلى الله عز وجل فقال الله يا آدم إني قد أهبطت لك بيتا تطوف به كما يطاف
حول عرشي وتصلي عنده كما يصلي عند عرشي فانطلق إليه آدم فخرج ومد له في خطوه فكان بين كل خطوتين
مفازة فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد أخبرنا يعقوب العمي عن حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس قال: وضع
الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت الأرض من تحت البيت وقال
184

محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت
خرج إليه من الشام أو خرج معه بإسماعيل وبأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع وحملوا فيما حدثني على البراق
ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم وخرج معه جبريل فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذا أمرت يا
جبريل؟ فيقول جبريل أمضه حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر وبها أناس يقال لهم العماليق خارج
مكة وما حولها والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال نعم فعمد
بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشا فقال " ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد
غير ذي زرع عند بيتك المحرم " إلى قوله " لعلهم يشكرون " وقال عبد الرزاق أخبرنا هشام بن حسان أخبرني حميد
عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة وكذا قال
ليث بن أبي سليم عن مجاهد القواعد في الأرض السابعة وقال: ابن أبي حاتم حدثنا أبي أخبرنا عمر بن رافع أخبرنا
عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد عن علياء بن أحمر أن ذا القرنين قدم مكة فوجد إبراهيم وإسماعيل
يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل فقال مالكما ولأرضنا؟ فقال نحن عبدان مأموران أمرنا ببناء هذه الكعبة قالا
فهاتا بالبينة على ما تدعيان فقامت خمسة أكبش فقلن نحن فشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء
هذه الكعبة فقال قد رضيت وسلمت ثم مضى وذكر الأزرقي في تاريخ مكة إن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه
السلام بالبيت وهذا يدل على تقدم زمانه والله أعلم.
وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " الآية القواعد أساسه واحدها
قاعدة والقواعد من النساء واحدتها قاعدة. حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن
عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألم تري أن
قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم " فقلت يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال " لولا
حدثان قومك بالكفر " فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم عليه السلام وقد رواه في الحج
عن القعنبي وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى ومن حديث ابن وهب والنسائي
من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به. ورواه مسلم أيضا من حديث نافع قال سمعت عبد الله بن أبي
بكر بن أبي قحافة يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية - أو قال
بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر " وقال البخاري أخبرنا
عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك حديثا كثيرا
فما حدثتك في الكعبة قال: قلت قالت لي قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم - فقال ابن الزبير
بكفر - لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه " ففعله ابن الزبير انفرد بإخراجه
البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه وقال مسلم في صحيحه حدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا أبو معاوية
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة
ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا " قال: وحدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة وأبو كريب قالا أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الاسناد انفرد به مسلم: قال وحدثني محمد بن حاتم حدثني
محمد بن مهدي أخبرنا سليم بن حبان عن سعيد يعني ابن ميناء قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول حدثتني
خالتي يعني عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا قومك حديث عهد بشرك لهدمت الكعبة
فألزقتها بالأرض ولجعلت لها بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت
الكعبة " انفرد به أيضا.
185

" ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام بمدد طويلة وقبل مبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين "
وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين قال: قال
محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وثلاثين سنة اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا
يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها وإنما كانت رضما فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفرا سرقوا كنز
الكعبة وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة
فقطعت قريش يده ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من
تجار الروم فتحطمت فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما
يصلحها وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة وكانت
مما يهابون وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا أحزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها فبينا هي يوما تشرف على
جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث الله إليها طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي
ما أردنا عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن
عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم فتناول من الكعبة حجرا فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه فقال يا
معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من
الناس قال ابن إسحاق والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قال ثم إن
قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم
وقبائل من قريش انضموا إليهم وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني
أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه فقال
الوليد بن المغيرة أنا أبدؤكم في هدمها فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول اللهم لم ترع اللهم إنا لا نريد إلا الخير
ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة وقالوا ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت
وإن لم يصبه شئ فقد رضي الله ما صنعنا فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله فهدم وهدم الناس معه حتى إذا
انتهى الهدم بهم إلى الأساس أساس إبراهيم عليه السلام أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضا: قال
فحدثني بعض من يروي الحديث بأن رجلا من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضا
أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها كل قبيلة تجمع على حدة ثم بنوها حتى بلغ البنيان
موضع الركن يعني الحجر الأسود فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى حتى تحاوروا
وتخالفوا وأعدوا للقتال فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت
وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا " لقعة الدم " فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم
إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن
مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلهم قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب
هذا المسجد يقضي بينكم فيه ففعلوا فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا هذا محمد.
فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا فأتي به فأخذ الركن يعني الحجر الأسود فوضعه فيه بيده ثم
قال لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بنى عليه
وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي " الأمين " فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا
186

قال الزبير بن عبد المطلب فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العقاب * إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش * وأحيانا يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت * تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما أن خشينا الرجز جاءت * عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت * لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء * لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه * وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي * فليس لاصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي * ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزا * وعند الله يلتمس الثواب
قال ابن إسحاق وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعا وكانت تكسى القباطي ثم كسيت بعد البرود وأول
من كساها الديباج الحجاج بن يوسف. " قلت " ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن
الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها
على قواعد إبراهيم عليه السلام وأدخل فيها الحجر وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك
من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج فردها إلى ما كانت عليه
بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه أخبرنا هناد بن السري أخبرنا ابن أبي زائدة
أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء قال لما أحترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما
كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام فلما صدر الناس: قال يا
أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها؟ قال ابن عباس إنه قد خرق لي رأى
فيها أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجار أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال
ابن الزبير لو كان أحدهم أحترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف بيت ربكم عز وجل إني مستخير ربي ثلاثا ثم
عازم على أمري فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من
السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شئ تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل
ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى أرتفع بناؤه وقال ابن الزبير إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن
النبي صلى الله عليه وسلم: قال " لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه
من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه " قال فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف
الناس قال: فزاد فيه خمسه أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة
ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه
فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر
إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شئ أما ما زاده في طوله فأقره وأما
ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه وقد رواه النسائي في سننه عن
هناد عن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ولم يذكر
القصة وقد كانت السنة أقرارا ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن
خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالاسلام وقرب عهدهم من الكفر ولكن خفيت هذه السنة على
187

عبد الملك بن مروان ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وددنا أنا تركناه وما
تولى كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم حدثنا محمد بن بكر أخبرنا ابن جريج سمعت عبد الله بن عبيد بن
عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قال: عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن
عبيد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقل عبد الملك: ما أظن أبا حبيب يعني ابن الزبير سمع من عائشة ما
كان يزعم أنه سمعه منها قال الحارث بلى أنا سمعته منها قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك
من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه " فأراها قريبا من سبعة أذرع هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير وزاد
عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم " ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض شرقيا وغربيا وهل تدرين لم كان قومك
رفعوا بابها ". قالت: قلت لا قال " تعززا أن لا يدخلها إلا من أرادوا فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه
حتى يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط " قال عبد الملك فقلت للحارث أنت سمعتها تقول هذا؟ قال نعم قال
فنكت ساعة بعصاه ثم قال وددت أنى تركت وما تحمل قال مسلم وحدثناه محمد بن عمرو بن جبلة حدثنا أبو
عاصم ح وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الاسناد مثل حديث أبي بكر قال:
وحدثنا محمد بن حاتم حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا حاتم ابن أبي صغيرة عن أبي قزعة أن عبد الملك بن
مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين يقول سمعتها تقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر فإن قومك قصروا في
البناء " فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا.
قال لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة لأنه قد روي
عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن
محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيدا.
ولكن بعد ما رجع الامر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون
الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الامام مالكا عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير فقال له مالك يا أمير
المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها فترك ذلك الرشيد نقله عياض
والنووي ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في
الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " أخرجاه وعن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كأني به أسود أفحج يقلعها حجرا حجرا " رواه البخاري وقال الإمام أحمد بن حنبل في
مسنده أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحراني أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يخرب الكعبة ذو السويقتين من
الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله " - الفدع
زيغ بين القدم وعظم الساق - وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن
أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ".
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا
مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم " قال ابن جرير يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك خاضعين
لطاعتك لا نشرك معك في الطاعة أحدا سواك ولا في العبادة غيرك وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا
إسماعيل عن رجاء بن حبان الحصيني القرشي أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم " واجعلنا مسلمين لك " قال
مخلصين لك " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " قال مخلصة وقال أيضا أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا المقدمي أخبرنا
188

سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية " واجعلنا مسلمين " قال كانا مسلمين ولكنهما سألاه الثبات.
وقال عكرمة " ربنا واجعلنا مسلمين لك " قال الله: قد فعلت " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " قال الله قد فعلت. وقال
السدي " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " يعنيان العرب قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم لان من
ذرية إبراهيم بني إسرائيل وقد قال الله تعالى " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ". " قلت " وهذا الذي
قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم والسياق إنما هو في العرب ولهذا قال بعده
" ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم " الآية. والمراد بذلك
محمد صلى الله عليه وسلم وقد بعث فيهم كما قال تعالى " هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم " ومع هذا لا ينفي رسالته إلى
الأحمر والأسود لقوله تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وغير ذلك من الأدلة القاطعة وهذا الدعاء
من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله " والذين يقولون ربنا
هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " وهذا القدر مرغوب فيه شرعا فإن من تمام محبة عبادة
الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام
" إني جاعلك للناس إماما " قال " ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " وهو قوله " واجنبني وبني أن نعبد
الأصنام " وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له " " وأرنا مناسكنا " قال ابن جريج عن عطاء
" وأرنا مناسكنا " أخرجها لنا وعلمناها وقال مجاهد " أرنا مناسكنا " مذابحنا. وروى عن عطاء أيضا وقتادة نحو
ذلك وقال سعيد بن منصور: أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف عن مجاهد قال: قال إبراهيم " أرنا مناسكنا " فأتاه
جبرائيل فأتى به البيت فقال ارفع القواعد فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا قال
هذا من شعائر الله ثم انطلق به إلى المروة فقال: وهذا من شعائر الله ثم انطلق به نحو منى فلما كان من العقبة إذا
إبليس قائم عند الشجرة فقال: كبر وارمه فكبر ورماه ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى فلما جاز به
جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه فكبر ورماه فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئا
فلم يستطع فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال هذا المشعر الحرام فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به
عرفات قال: قد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاث مرات قال نعم وروى عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك وقال أبو
داود الطيالسي أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال: إن إبراهيم لما
أري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى فقال: هذا
مناخ الناس فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة
الوسطى تعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض الشيطان فرماه
بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جمعا فقال: هذا المشعر ثم أتى به عرفة فقال هذه عرفة فقال له جبريل
أعرفت؟.
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129)
يقول تعالى إخبارا عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولا منهم أي من ذرية إبراهيم وقد وافقت
هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولا في الأميين إليهم وإلى سائر
الأعجميين من الإنس والجن كما قال الإمام أحمد أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن سعيد بن
سويد الكلبي عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني عند الله لخاتم
النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمي التي رأت
189

وكذلك أمهات النبيين يرين " وكذلك رواه ابن وهب والليث وكاتبه عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح وتابعه أبو
بكر بن أبي مريم عن سعيد بن سويد به، وقال الإمام أحمد أيضا أخبرنا أبو النضر أخبرنا الفرج أخبرنا لقمان بن عامر
قال: سمعت أبا أمامة قال: قلت يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بي
ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه
السلام ولم يزل ذكره في الناس مذكورا مشهورا سائرا حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسبا وهو عيسى ابن
مريم عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيبا وقال " إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا
برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " ولهذا قال في هذا الحديث " دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ابن مريم ". وقوله
" ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قيل كان مناما رأته حين حملت به وقصته على قومها فشاع فيهم
وأشتهر بينهم وكان ذلك توطئة وتخصيص الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ولهذا تكون
الشام في آخر الزمان معقلا للاسلام وأهله وبها ينزل عيسى ابن مريم إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها
ولهذا جاء في الصحيحين " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى
يأتي أمر الله وهم كذلك " وفي صحيح البخاري " وهم بالشام " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي
العالية في قوله " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له قد استجيب لك وهو كائن في آخر
الزمان وكذا قال السدي وقتادة وقوله تعالى " ويعلمهم الكتاب " يعني " القرآن والحكمة " يعني السنة قاله الحسن
وقتادة ومقاتل بن حيان وأبو مالك وغيرهم وقيل الفهم في الدين ولا منافاة " ويزكيهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس يعني طاعة الله والاخلاص وقال: محمد بن إسحاق " ويعلمهم الكتاب والحكمة " قال يعلمهم الخير فيفعلوه
والشر فيتقوه ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته وقوله " إنك
أنت العزيز الحكيم " أي العزيز الذي لا يعجزه شئ وهو قادر على كل شئ الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء
في محالها وحكمته وعدله.
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ
قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين
فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132)
يقول تبارك وتعالى ردا على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء
فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين وتبرأ من كل معبود سواه وخالف في ذلك
سائر قومه حتى تبرأ من أبيه فقال " يا قوم إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين " وقال تعالى " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه أنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه
سيهدين " وقال تعالى " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن
إبراهيم لاواه حليم " وقال تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه
وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين " ولهذا وأمثاله قال تعالى: " ومن
يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف
طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلا وهو في الآخرة من الصالحين
السعداء فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته واتبع طرق الضلالة والغي فأي سفه أعظم من هذا؟ أم أي ظلم أكبر
من هذا كله قال تعالى: " إن الشرك لظلم عظيم " قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الآية في اليهود أحدثوا طريقا
190

ليست من عند الله وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى " ما كان إبراهيم يهوديا
ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا والله ولي المؤمنين ".
وقوله تعالى " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " أي أمره الله تعالى بالاخلاص والاستسلام والانقياد
فأجاب إلى ذلك شرعا وقدرا، وقوله " ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب " أي وصى بهذه الملة وهي الاسلام لله أو
يعود الضمير على الكلمة وهي قوله " أسلمت لرب العالمين " لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين
الوفاة ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى " وجعلها كلمة باقية في عقبه " وقد قرأ بعض السلف ويعقوب
بالنصب عطفا على بنيه كأن إبراهيم وصى بينه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضرا ذلك وقد أدعى القشيري فيما
حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيم ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح والظاهر والله أعلم أن إسحق
ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة لان البشارة وقعت بهما في قوله " فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب "
وقد قرئ بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحق
كبير فائدة وأيضا فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت " ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة
والكتاب " الآية وقال في الآية الأخرى " ووهبنا له أسحق ويعقوب نافلة " وهذا يقتضي أنه وجد في حياته وأيضا
فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا
رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال " المسجد الحرام " قلت ثم أي؟ قال " بيت المقدس " قلت كم بينهما: قال
" أربعون سنة " الحديث فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي أعتقد أنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدده بعد
خرابه وزخرفه - وبين إبراهيم أربعين سنة وهذا مما أنكر على ابن حبان فإن المدة بينهما تزيد على ألوف سنين والله
أعلم. وأيضا فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريبا وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين وقوله " يا بني
إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " أي أحسنوا في حال الحياة والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة
عليه فإن المرء يموت غالبا على ما كان عليه ويبعث على ما مات عليه وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد
الخير وفق له ويسر عليه ومن نوى صالحا ثبت عليه وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح " إن الرجل
ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار
فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل
بعمل أهل الجنة فيدخلها " لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث " فيعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس
ويعمل أهل النار فيما يبدو للناس " وقد قال الله تعالى " فأما من أعطى وأتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما
من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى ".
أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون (133) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون
عما كانوا يعملون (134)
يقول تعالى محتجا على المشركين من العرب أبناء إسماعيل وعلى الكفار من بني إسرائيل - وهو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم عليهم السلام - بأن يعقوب لما حضرته الوفاة وصى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم " ما تعبدون
من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق " وهذا من باب التغليب لان إسماعيل عمه: قال
النحاس والعرب تسمي العم أبا نقله القرطبي قد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أبا وحجب به الاخوة
191

كما هو قول الصديق حكاه البخاري عنه من طريق ابن عباس وابن الزبير ثم قال البخاري ولم يختلف عليه وإليه
ذهبت عائشة أم المؤمنين وبه يقول الحسن البصري وطاوس وعطاء وهو مذهب أبي حنيفة وغير واحد من السلف
والخلف وقال مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه أنه يقاسم الاخوة وحكي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن
مسعود وزيد بن ثابت وجماعة من السلف والخلف واختاره صاحبا أبي حنيفة القاضي أبو يوسف ومحمد بن الحسن
ولتقريرها موضع آخر وقوله " إلها واحدا " أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئا غيره " ونحن له مسلمون " أي
مطيعون خاضعون كما قال تعالى " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون " والاسلام هو
ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي
إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " والآيات في هذا كثيرة والأحاديث فمنها قوله صلى الله عليه وسلم " نحن معشر الأنبياء
أولاد علات ديننا واحد " وقوله تعالى " تلك أمة قد خلت " أي مضت " لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " أي إن
السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم فإن
لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم " ولا تسئلون عما كانوا يعملون " وقال أبو العالية والربيع وقتادة " تلك أمة
قد خلت " يعني إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط. ولهذا جاء في الأثر " من أبطأ به عمله لم يسرع به
نسبه ".
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (135)
قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال:
قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتد.
وقالت النصارى مثل ذلك فأنزل الله عز وجل " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " وقوله " قل بل ملة إبراهيم
حنيفا " أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع " ملة إبراهيم حنيفا " أي مستقيما قاله
محمد بن كعب القرظي وعيسى ابن جارية وقال خصيف عن مجاهد مخلصا وروى علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس حاجا وكذا روى عن الحسن والضحاك وعطية والسدي وقال أبو العالية: الحنيف الذي يستقبل البيت
بصلاته ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا وقال مجاهد والربيع بن أنس: حنيفا أي متبعا وقال أبو قلابة:
الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم وقال قتادة: الحنيفية شهادة أن لا إله إلا الله يدخل فيها
تحريم الأمهات والبنات والخالات والعمات وما حرم الله عز وجل والختان.
قولوا أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى
وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون (136)
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الايمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلا وما أنزل على الأنبياء
المتقدمين مجملا ونص على أعيان من الرسل وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم
كلهم ولا يكونوا كمن قال الله فيهم " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض
ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا " الآية وقال البخاري: حدثنا محمد بن بشار أخبرنا
عثمان بن عمرة أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال:
كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله " وقد روى مسلم وأبو داود
192

والنسائي من حديث عثمان بن حكيم عن سعيد بن يسار عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما يصلى
الركعتين اللتين قبل الفجر ب‍ " آمنا بالله وما أنزل إلينا " الآية والأخرى ب‍ " آمنا بالله واشهد بأننا مسلمون " وقال أبو
العالية والربيع وقتادة: الأسباط بنو يعقوب اثنا عشر رجلا ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط وقال
الخليل بن أحمد وغيره: الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل وقال الزمخشري في الكشاف:
الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الاثني عشر وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه وقال البخاري: الأسباط
قبائل في بني إسرائيل وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط ههنا شعوب بني إسرائيل وما أنزل الله من الوحي على
الأنبياء الموجودين منهم كما قال موسى لهم " اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا " الآية
وقال تعالى " وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا " قال القرطبي: وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة
وقيل أصله من السبط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر الواحدة سبطة قال الزجاج: ويبين لك
هذا ما حدثنا محمد بن جعفر الأنباري حدثنا أبو نجيد الدقاق حدثنا الأسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن سماك عن
عكرمة عن ابن عباس قال: كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة نوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وإسحق
ويعقوب وإسماعيل ومحمد عليهم الصلاة والسلام قال القرطبي: والسبط الجماعة والقبيلة والراجعون إلى أصل
واحد. وقال قتادة: أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله وقال سليمان بن حبيب: إنما أمرنا
أن نؤمن بالتوراة والإنجيل ولا نعمل بما فيهما. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا محمد بن محمد بن مصعب الصوري
أخبرنا مؤمل أخبرنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمنوا بالتوراة
والزبور والإنجيل وليسعكم القرآن ".
فإن آمنوا بمثل ما أمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة
الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)
يقول تعالى فإن آمنوا يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم بمثل ما آمنتم به يا أيها المؤمنون من الايمان بجميع
كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم " فقد اهتدوا " أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه " وإن تولوا " أي عن
الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم " فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله " أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم
" وهو السميع العليم ".
قال ابن أبي حاتم قرئ علي يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرنا زياد بن يونس حدثنا نافع بن أبي نعيم
قال: أرسل إلى بعض الخلفاء مصحف عثمان ليصلحه قال زياد فقلت له إن الناس ليقولون إن مصحفه كان في
حجره حين قتل فوقع الدم على " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " فقال نافع: بصرت عيني الدم على هذه
الآية وقد تقدم. وقوله " صبغة الله " قال الضحاك عن ابن عباس دين الله وكذا روى عن مجاهد وأبي العالية
وعكرمة وإبراهيم والحسن وقتادة والضحاك وعبد الله بن كثير وعطية العوفي والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك
وانتصاب صبغة الله إما على الاغراء كقوله " فطرة الله " أي الزموا ذلك عليكموه وقال بعضهم بدلا من قوله " ملة
إبراهيم " وقال سيبويه هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله " آمنا بالله " كقوله " وعد الله " وقد ورد في حديث رواه
ابن أبي حاتم وابن مردويه من رواية أشعث بن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بني
إسرائيل قالوا: يا رسول الله هل يصبغ ربك؟ فقال اتقوا الله. فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل
نعم: أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي " وأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم " صبغة الله ومن
أحسن من الله صبغة " كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعا وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح
إسناده والله أعلم.
193

قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139) أن تقولون إن إبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله
بغافل عما تعملون (140) تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141)
يقول الله تعالى مرشدا نبيه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين " قل أتحاجوننا في الله " أي
تناظروننا في توحيد الله والاخلاص له والانقياد وأتباع أوامره وترك زواجره " وهو ربنا وربكم " المتصرف فينا وفيكم
المستحق لاخلاص الإلهية له وحده لا شريك له " ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم " أي نحن برآء منكم ومما تعبدون
وأنتم برآء منا كما قال في الآية الأخرى " فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ
مما تعملون " " فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن أتبعن " إلى آخر الآية وقال تعالى " إخبارا عن إبراهيم
" وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله " إلى آخر الآية وقال تعالى " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " الآية
وقال في هذه الآية الكريمة " ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون " أي نحن براء منكم كما أنتم براء منا
ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء
والأسباط كانوا على ملتهم إما اليهودية وإما النصرانية فقال " قل أأنتم أعلم أم الله " يعني بل الله أعلم وقد أخبر أنهم
لم يكونوا هودا ولا نصارى كما قال تعالى " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من
المشركين " الآية والتي بعدها وقوله " ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله " قال الحسن البصري: كانوا
يقرؤن في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الاسلام وإن محمدا رسول الله وإن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب
والأسباط كانوا برآء من اليهودية والنصرانية فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله فكتموا شهادة الله عندهم من
ذلك وقوله " وما الله بغافل عما تعملون " تهديد ووعيد شديد أي أن علمه محيط بعملكم وسيجزيكم عليه. ثم
قال تعالى " تلك أمة قد خلت " أي قد مضت " لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم
" ولا تسئلون عما كانوا يعملون " وليس يغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم ولا تغتروا بمجرد
النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله واتباع رسله الذين بعثوا مبشرين ومنذرين فإنه من كفر بنبي واحد
فقد كفر بسائر الرسل ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من
المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين.
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي
كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان
الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم (143)
قيل المراد بالسفهاء ههنا مشركو العرب قاله الزجاج وقيل أحبار يهود قاله مجاهد وقيل المنافقون قاله السدي
والآية عامة في هؤلاء كلهم والله أعلم قال البخاري: أخبرنا أبو نعيم سمع زهيرا عن أبي إسحق عن البراء رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل
البيت وإنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل
194

المسجد وهم راكعون فقال أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد
مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالا قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن
الله بالناس لرؤف رحيم " انفرد به البخاري من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال محمد بن إسحاق حدثني
إسماعيل بن أبي خالد عن أبي إسحق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ويكثر النظر إلى
السماء ينتظر أمر الله فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد
الحرام " فقال رجال من المسلمين وددنا لو علمنا من مات منا قبل أن نصرف إلى القبلة وكيف بصلاتنا نحو بيت
المقدس فأنزل الله " وما كان الله ليضيع إيمانكم " وقال السفهاء من الناس وهم أهل الكتاب ما ولاهم عن قبلتهم
التي كانوا عليها فأنزل الله " سيقول السفهاء من الناس " إلى آخر الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا
الحسن بن عطية حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى نحو بيت المقدس ستة
عشر أو سبعة عشر شهرا وكان يحب أن يوجه نحو الكعبة فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة
ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال فوجه نحو الكعبة وقال السفهاء من الناس وهم اليهود " ما ولاهم
عن قبلتهم التي كانوا عليها " فأنزل الله " قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت
اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو الله وينظر إلى
السماء فأنزل الله عز وجل " فولوا وجوهكم شطره " أي نحوه فارتاب من ذلك اليهود وقالوا ما ولاهم عن قبلتهم التي
كانوا عليها؟ فأنزل الله " قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " وقد جاء في هذا الباب
أحاديث كثيرة وحاصل الامر أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس فكان بمكة يصلي بين
الركنين وهو مستقبل صخرة بيت المقدس فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت
المقدس قاله ابن عباس والجمهور ثم اختلف هؤلاء هل كان الامر به بالقرآن أو بغيره على قولين وحكى القرطبي في
تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري أن التوجه إلى بيت المقدس كان باجتهاده عليه السلام والمقصود
أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الامر على ذلك بعضة عشر شهرا وكان
يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة التي هي قبله إبراهيم عليه السلام فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت
العتيق فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدم في
الصحيحين من رواية البراء ووقع عند النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى أنها الظهر وقال كنت أنا وصاحبي أول
من صلى إلى الكعبة وذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين
من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة فسمي مسجد القبلتين وفي حديث نويلة بنت مسلم أنهم جاءهم الخبر بذلك
وهم في صلاة الظهر قالت: فتحول الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ذكره الشيخ أبو عمر بن عبد البر
النمري وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي
الله عنهما أنه قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن
وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة وفي هذا دليل على أن
الناسخ لا يلزم حكمه إلا بعد العلم به وإن تقدم نزوله وإبلاغه لأنهم لم يؤمروا بإعادة العصر والمغرب والعشاء والله
أعلم ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتياب وزيغ عن الهدى وتخبيط
وشك وقالوا " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها " أي قالوا ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا
فأنزل الله جوابهم في قوله " قل لله المشرق والمغرب " أي الحكم والتصرف والامر كله لله " فأينما تولوا فثم وجه
الله " و " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله " أي الشأن كله في امتثال أوامر
الله فحيثما وجهنا توجهنا فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مرات إلى جهات متعددة فنحن عبيده وفي
195

تصرفه وخدامه حيثما وجهنا توجهنا وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأمته عناية عظيمة إذ هداهم
إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن وجعل توجههم إلى الكعبة المبنية على اسمه تعالى وحده لا شريك له أشرف بيوت
الله في الأرض إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال: " قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم.
وقد روى الإمام أحمد عن علي بن عاصم عن حصين بن عبد الرحمن عن عمرو بن قيس عن محمد بن الأشعث عن
عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في أهل الكتاب " إنهم لا يحسدوننا على شئ كما يحسدوننا على يوم
الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى القبلة التي هدانا الله لها وضلوا عنها وعلى قولنا خلف الامام آمين ".
وقوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " يقول تعالى إنما
حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لان
الجميع معترفون لكم بالفضل والوسط ههنا الخيار والأجود كما يقال قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه أي أشرفهم نسبا ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي العصر
كما ثبت في الصحاح وغيرها ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب
كما قال تعالى " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل
وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن الأعمش عن
أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت؟ فيقول نعم فيدعى
قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد
وأمته قال: فذلك قوله " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد
عليكم " رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق عن الأعمش وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو
معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجئ النبي يوم القيامة ومعه
رجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا؟ فيقولون لا فيقال له هل بلغت قومك؟ فيقول نعم
فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم فيقال
وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال
عدلا " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال
" عدلا " وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه وابن أبي حاتم من حديث عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي عن
المغيرة بن عتيبة بن نباس حدثني مكاتب لنا عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا وأمتي يوم القيامة على كوم
مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ود أنه منا وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عز
وجل " وروى الحاكم في مستدركه وابن مردويه أيضا واللفظ له من حديث مصعب بن ثابت عن محمد بن كعب
القرظي عن جابر بن عبد الله قال: شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة في بني مسلمة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
بعضهم: والله يا رسول الله لنعم المرء كان لقد كان عفيفا مسلما وكان وأثنوا عليه خيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنت بما تقول " فقال الرجل: الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه فذاك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " وجبت " ثم شهد جنازة
في بني حارثة وكنت إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: يا رسول الله بئس المرء كان إن كان لفظا غليظا فأثنوا
عليه شرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم أنت بالذي تقول " فقال الرجل الله أعلم بالسرائر فأما الذي بدا لنا منه
فذاك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وجبت " قال مصعب بن ثابت: فقال لنا عند ذلك محمد بن كعب صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم قرأ " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " ثم قال الحاكم: هذا
حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا داود بن أبي الفرات عن
196

عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود أنه قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع بها مرض فهم يموتون موتا ذريعا فجلست
إلى عمر بن الخطاب فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خيرا فقال: وجبت ثم مر بأخرى فأثني عليها شرا فقال
عمر: وجبت فقال أبو الأسود ما وجبت يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيما
مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة " قال فقلنا وثلاثة قال: فقال " وثلاثة " قال: فقلنا واثنان. قال
" واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد وكذا رواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث داود ابن أبي الفرات به: وقال
ابن مردويه حدثنا أحمد بن عثمان بن يحيى حدثنا أبو قلابة الرقاشي حدثني أبو الوليد حدثنا نافع بن عمر حدثني
أمية بن صفوان عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبيه: قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبناوة يقول " يوشك أن
تعلموا خياركم من شراركم " قالوا بم يا رسول الله؟ قال " بالثناء الحسن والثناء السئ أنتم شهداء الله في الأرض "
ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وعبد الملك بن
عمرو وسريج عن نافع (عن) (1) بن عمل به.
وقوله تعالى " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا
على الذين هدى الله " يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولا إلى بيت المقدس ثم صرفناك عنه إلى الكعبة
ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه أي مرتدا عن دينه وإن كانت
لكبيرة أي هذه الفعلة وهو صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة أي وإن كان هذا لأمر عظيما في النفوس
إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه وأن الله يفعل
ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك
بخلاف الذين في قلوبهم مرض فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا كما يحصل للذين آمنوا إيقان وتصديق كما
قال الله تعالى " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم
يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " وقال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى " وقال تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا
يزيد الظالمين إلا خسارا " ولهذا كان من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك وتوجه حيث أمره الله من غير
شك ولا ريب من سادات الصحابة وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين
صلوا القبلتين وقال البخاري في تفسيره هذه الآية: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن
ابن عمر قال: بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال: قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن وقد أمر أن
يستقبل الكعبة فاستقبلوها فتوجهوا إلى الكعبة وقد رواه مسلم من وجه آخر عن ابن عمر ورواه الترمذي من
حديث سفيان الثوري وعنده أنهم كانوا ركوعا فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع وكذا رواه مسلم من حديث
حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مثله وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عز وجل
رضي الله عنهم أجمعين.
وقوله " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ما كان يضيع ثوابها عند الله وفي
الصحيح من حديث أبي إسحق السبيعي عن البراء قال: مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس؟ فقال الناس ما
حالهم في ذلك فأنزل الله تعالى " وما كان الله ليضيع إيمانكم " ورواه الترمذي عن ابن عباس وصححه. وقال
ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " وما كان الله ليضيع
إيمانكم " أي بالقبلة الأولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأخرى أي ليعطيكم أجرهما جميعا " إن الله
بالناس لرؤف رحيم " وقال الحسن البصري " وما كان الله ليضيع إيمانكم " أي ما كان الله ليضيع محمدا صلى الله عليه وسلم

(1) كذا في الأصل، والصواب حذف كلمة (عن) كما في مسند أحمد 3 / 416 و 6 / 446 وسنن ابن ماجة 2 / 1411.
197

وانصرافكم معه حيث انصرف " إن الله بالناس لرؤف رحيم " وفى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي
قد فرق بينها وبين ولدها فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهى تدور على ولدها فلما
وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا
تطرحه " قالوا: لا يا رسول الله قال: " فوالله لله أرحم بعباده من هذه بولدها ".
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون (144)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى
المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر
شهرا وكان يحب قبلة إبراهيم فكان يدعو إلى الله وينظر إلى السماء فأنزل الله " قد نرى تقلب وجهك في السماء "
إلى قوله " فولوا وجوهكم شطره " فارتابت من ذلك اليهود وقالوا: " ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله
المشرق والمغرب " وقال " فأينما تولوا فثم وجه الله " وقال الله تعالى " وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم
من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه " وروى ابن مردويه من حديث القاسم العمري عن عمه عبيد الله بن عمر
عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه
إلى السماء. فأنزل الله " فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام " إلى الكعبة إلى الميزاب يؤم به
جبرائيل عليه السلام. وروى الحاكم في مستدركه من حديث شعبة عن يعلى بن عطاء عن يحيى بن قطة قال: رأيت
عبد الله بن عمرو جالسا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب فتلا هذه الآية " فلنولينك قبلة ترضاها " قال نحو ميزاب
الكعبة ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن عرفة عن هشام عن يعلى بن عطاء
به. وهكذا قال غيره وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه: أن الغرض إصابة عين الكعبة والقول الآخر وعليه
الأكثرون أن المراد المواجهة كما رواه الحاكم من حديث محمد بن إسحاق عن عمير بن زياد الكندي عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه " فول وجهك شطر المسجد الحرام " قال شطره قبله. ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وهذا قول أبي العالية ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والربيع بن أنس وغيرهم وكما تقدم في الحديث الآخر
" ما بين المشرق والمغرب قبلة " وقال القرطبي: روى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " البيت قبلة لأهل المسجد والمسجد قبلة لأهل الحرم والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها
ومغاربها من أمتي " وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: حدثنا زهير عن أبي إسحق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل
بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان يعجبه قبلته قبل البيت وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه
قوم فخرج رجل ممن كان يصلي معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله لقد صليت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مكة فداروا كما هم قبل البيت.
وقال عبد الرزاق أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت
المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت قد نرى تقلب
وجهك في السماء " فصرف إلى الكعبة وروى النسائي عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنا نغدو إلى المسجد على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه فمررنا يوما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر فقلت لقد حدث أمر فجلست فقرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " حتى فرغ من الآية فقلت
لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم
198

وصلى للناس الظهر يومئذ وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر: أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة
صلاة الظهر وأنها الصلاة الوسطى والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ولهذا تأخر الخبر عن
أهل قباء إلى صلاة الفجر وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا الحسين بن إسحاق
التستري حدثنا رجاء بن محمد السقطي حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر حدثني أبي عن جدته أم أبيه
نويلة بنت مسلم قالت: صلينا الظهر - أو العصر - في مسجد بني حارثة فاستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا ركعتين ثم جاء
من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أستقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا
السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أولئك رجال
يؤمنون بالغيب " وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا مالك بن
إسماعيل النهدي حدثنا قيس عن زياد بن علاقة عن عمارة بن أوس قال: بينما نحن في الصلاة نحو بيت المقدس
ونحن ركوع إذ نادى مناد بالباب أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قال فأشهد على إمامنا أنه انحرف فتحول هو
والرجال والصبيان وهم ركوع نحو الكعبة.
وقوله " وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره " أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض شرقا وغربا
وشمالا وجنوبا ولا يستثنى من هذا شئ سوى النافلة في حال السفر فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو
الكعبة وكذا في حال المسايفة في القتل يصلي على كل حال وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان
مخطئا في نفس الامر لان الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها.
" مسألة " وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي
وأحمد وأبو حنيفة قال المالكية: بقوله " فول وجهك شطر المسجد الحرام " فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج
أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء وهو ينافي كمال القيام وقال بعضهم: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره وقال
شريك القاضي: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في
الخشوع وقد ورد به الحديث وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه وفي حال سجوده إلى موضع أنفه وفي حال
قعوده إلى حجره.
وقوله " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم
عن بيت المقدس يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمته وما خصه الله تعالى به وشرفه من الشريعة الكاملة العظيمة ولكن أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسدا وكفرا
وعنادا ولهذا تهددهم تعالى بقوله " وما الله بغافل عما يعملون ".
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن
اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين (145)
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لو أقام عليهم كل دليل على
صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو
جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ولهذا قال ههنا " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك "
وقوله " وما أنت بتابع قبلتهم " إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون
بآرائهم وأهوائهم فهو أيضا مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه
متوجها إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي
199

يعلمه العالم إلى الهوى فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره ولهذا قال مخاطبا للرسول والمراد به الأمة " ولئن
أتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين ".
الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون (146) الحق من
ربك فلا تكونن من الممترين (147)
يخبر تعالى أن العلماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده والعرب كانت
تضرب المثل في صحة الشئ بهذا كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه صغير ابنك هذا " قال
نعم يا رسول الله أشهد به قال " أما إنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه " قال القرطبي: ويروى عن عمر أنه قال
لعبد الله بن سلام: أتعرف محمدا كما تعرف ولدك؟ قال نعم وأكثر نزل الأمين من السماء على الأمين في الأرض
بنعته فعرفته وإني لا أدري ما كان من أمه. قلت وقد يكون المراد " يعرفونه كما يعرفون أبناءهم " من بين أبناء
الناس كلهم لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا
التحقق والاتقان العلمي " ليكتمون الحق " أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم " وهم يعلمون ".
ثم ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال " الحق من
ربك فلا تكونن من الممترين.
ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شئ قدير (148)
قال العوفي عن ابن عباس " ولكل وجهة هو موليها " يعني بذلك أهل الأديان يقول لكل قبيلة قبلة يرضونها ووجهة
الله حيث توجه المؤمنون وقال أبو العالبة: لليهودي وجهة هو موليها وللنصراني وجهة هو موليها وهداكم أنتم
أيتها الأمة إلى القبلة التي هي القبلة. وروي عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس والسدي نحو هذا وقال
مجاهد في الرواية الأخرى والحسن: لكن أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة وقرأ ابن عباس وأبو جعفر الباقر وابن عامر
" ولكل وجهة هو مولاها " وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة
واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا " وقال ههنا " أينما تكونوا يأت بكم الله
جميعا إن الله على كل شئ قدير " أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم.
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون (149) ومن حيث
خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين
ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولاتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150)
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض وقد اختلفوا في حكمة هذا
التكرار ثلاث مرات فقيل تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الاسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره وقيل بل هو منزل
على أحوال فالامر الأول لمن هو مشاهد الكعبة والثاني لمن هو في مكة غائبا عنها والثالث لمن هو في بقية البلدان
هكذا وجهه فخر الدين الرازي وقال القرطبي الأول لمن هو بمكة والثاني لمن هو في بقية الأمصار والثالث لمن
خرج في الاسفار ورجح هذا الجواب القرطبي وقيل إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق: فقال أولا
200

" قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها " إلى قوله " وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من
ربهم وما الله بغافل عما يعملون " فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها
ويرضاها: وقال في الأمر الثاني " ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله
بغافل عما تعملون " فذكر أنه الحق من الله وارتقائه المقام الأول حيث كان موافقا لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم فبين أنه الحق
أيضا من الله يحبه ويرتضيه وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كانوا يتحججون
باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة
وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة إبراهيم التي هي أشرف وقد كانوا يعظمون
الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار وقد بسطها الرازي وغيره والله
أعلم: وقوله " لئلا يكون للناس عليكم حجة " أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجه إلى الكعبة
فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت
المقدس وهذا أظهر قال أبو العالية " لئلا يكون للناس عليكم حجة " يعني به أهل الكتاب حين قالوا صرف محمد
إلى الكعبة: وقالوا اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن
قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعطاء والضحاك والربيع بن أنس
وقتادة والسدي نحو هذا وقال هؤلاء في قوله " إلا الذين ظلموا منهم " يعني مشركي قريش ووجه بعضهم حجة
الظلمة وهي داحضة أن قالوا إن هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة
إبراهيم فلم رجع عنه والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى البيت المقدس أولا لما له تعالى في ذلك من الحكمة
فأطاع ربه تعالى في ذلك ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة فامتثل أمر الله في ذلك أيضا فهو صلوات الله
وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبع له وقوله " فلا تخشوهم
واخشوني " أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه: وقوله
" ولاتم نعمتي عليكم " عطف على " لئلا يكون للناس عليكم حجة " أي لاتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من
استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها " ولعلكم تهتدون " أي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه
وخصصناكم به ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها.
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ما لم تكونوا تعلمون (151)
فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152)
يذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم يتلو عليهم آيات الله مبينات يزكيهم أي
يطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو
القرآن والحكمة وهي السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء
فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم
قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة وقال تعالى " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو
عليهم آياته ويزكيهم " الآية وذلك من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا
وأحلوا قومهم دار البوار " قال ابن عباس يعني بنعمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه
النعمة ومقابلتها بذكره وشكره. وقال " فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون " قال مجاهد في قوله " كما
أرسلنا فيكم رسولا منكم " يقول كما فعلت فاذكروني قال عبد الله بن وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم أن
موسى عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه: تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني وإذا
201

نسيتني فقد كفرتني قال الحسن البصري وأبو العالية والسدي والربيع بن أنس إن الله يذكر من ذكره ويزيد من شكره
ويعذب من كفره وقال بعض السلف في قوله تعالى " اتقوا الله حق تقاته " قال هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى
ويشكر فلا يكفر وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح أخبرنا يزيد بن هارون أخبرنا عمارة
الصيدلاني أخبرنا مكحول الأزدي قال: قلت لابن عمر أرأيت قاتل النفس وشارب الخمر والسارق والزاني يذكر
الله، وقد قال الله تعالى " فاذكروني أذكركم " قال إذا ذكر الله هذا ذكره الله بلعنته حتى يسكت وقال الحسن البصري
في قوله " فاذكروني أذكركم " قال اذكروني فيما أوجبت لكم على نفسي وعن سعيد بن جبير اذكروني بطاعتي أذكركم
بمغفرتي وفي رواية برحمتي وعن ابن عباس في قوله " اذكروني أذكركم " قال ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه
وفي الحديث الصحيح " يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير
منه " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل يا ابن
آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي وإن ذكرتني في ملا ذكرتك في ملا من الملائكة - أو قال في ملا خير منه -
وإن دنوت مني شبرا دنوت منك ذراعا وإن دنوت مني ذراعا دنوت منك باعا وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولة "
صحيح الاسناد أخرجه البخاري من حديث قتادة وعنده قال قتادة الله أقرب بالرحمة: وقوله " واشكروا لي ولا
تكفرون " أمر الله تعالى بشكره ووعد على شكره بمزيد الخير فقال " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم
ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " وقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا شعبة عن الفضيل بن فضالة - رجل من قيس -
حدثنا أبو رجاء العطاردي قال خرج علينا عمران بن حصين وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده فقال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه " وقال روح مرة: على
عبده.
يا أيها الذين أمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين (153) ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات
بل أحياء ولكن لا تشعرون (154)
لما فرغ تعالى من بيان الامر بالشكر شرع في بيان الصبر والارشاد والاستعانة بالصبر والصلاة فإن العبد إما أن يكون
في نعمة فيشكر عليها أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان
خيرا له: إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له " وبين تعالى أن أجود ما يستعان به
على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين " وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر صلى والصبر صبران فصبر على ترك المحارم
والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات والثاني أكثر ثوابا لأنه المقصود وأما الصبر الثالث وهو الصبر على
المصائب والنوائب فذاك أيضا واجب كالاستغفار من المعايب كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في
بابين الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء فمن كان هكذا
فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله: وقال علي بن الحسين زين العابدين إذا جمع الله الأولين والآخرين
ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال فيقوم عنق من الناس فيتلقاهم الملائكة فيقولون إلى أين
يا بني آدم؟ فيقولون إلى الجنة فيقولون وقبل الحساب؟ قالوا نعم قالوا ومن أنتم؟ قالوا نحن الصابرون قالوا وما
كان صبركم؟ قالوا صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله قالوا أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة
فنعم أجر العاملين. " قلت " ويشهد لهذا قوله تعالى " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقال سعيد بن جبير
الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا
الصبر.
202

وقوله تعالى " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون
كما جاء في صحيح مسلم " إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى
قناديل معلقة تحت العرش فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال ماذا تبغون؟ فقالوا يا ربنا وأي شئ نبغي وقد أعطيتنا ما
لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا نريد أن تردنا
إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله
" إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون ".
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الامام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن
مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم
يبعثه " ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضا وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفا لهم وتكريما وتعظيما.
ولنبلوكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155) الذين إذا
أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون
(157)
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده: أي يختبرهم ويمتحنهم كما قال تعالى " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين ونبلو أخباركم " فتارة بالسراء وتارة بالضراء من خوف وجوع كما قال تعالى " فأذاقها الله لباس الجوع
والخوف " فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه. ولهذا قال لباس الجوع والخوف. وقال ههنا " بشئ من
الخوف والجوع " أي بقليل من ذلك " ونقص من الأموال " أي ذهاب بعضها " والأنفس " كموت الأصحاب
والأقارب والأحباب " والثمرات " أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها. قال بعض السلف: فكانت بعض النخيل لا
تثمر غير واحدة. وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده. فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه. ولهذا قال تعالى
" وبشر الصابرين " وقد حكى بعض المفسرين أن المراد من الخوف ههنا خوف الله وبالجوع صيام رمضان
وبنقص الأموال الزكاة والأنفس الأمراض والثمرات الأولاد وفي هذا نظر والله أعلم. ثم بين تعالى من
الصابرون الذين شكرهم فقال " الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون " أي تسلوا بقولهم هذا عما
أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة فأحدث لهم
ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة. ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال
" أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة " أي ثناء من الله عليهم قال سعيد بن جبير: أي أمنة من العذاب
" وأولئك هم المهتدون " قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نعم العدلان ونعمت العلاوة " أولئك عليهم صلوات
من ربهم ورحمة " فهذان العدلان " وأولئك هم المهتدون " فهذه العلاوة وهي ما توضع بين العدلين وهي زيادة في
الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضا.
وقد ورد في ثواب الاسترجاع وهو قول " إنا لله وأنا إليه راجعون " عند المصائب أحاديث كثيرة. فمن ذلك ما رواه
الإمام أحمد حيث قال: حدثنا يونس بن محمد حدثنا ليث يعني ابن سعد عن يزيد بن عبد الله حدثنا أسامة بن الهاد
عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن أم سلمة قالت: أتاني أبو سلمة يوما من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لقد
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به قال: " لا يصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم
يقول: اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها. إلا فعل ذلك به " قالت أم سلمة: فحفظت ذلك منه فلما
توفي أبو سلمة استرجعت وقلت اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها ثم رجعت إلى نفسي فقلت من
203

أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما أنقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهابا لي فغسلت يدي من القرظ
وأذنت له فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي فلما فرغ من مقالته قلت يا رسول الله
ما بي أن لا يكون بك الرغبة ولكني امرأة في غيرة شديدة فأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به وأنا امرأة قد
دخلت في السن وأنا ذات عيال فقال " أما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عز وجل عنك وأما ما ذكرت من
السن فقد أصابني مثل الذي أصابك وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي " قالت: فقد سلمت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم سلمة بعد: أبدلني الله بأبي سلمة خيرا منه: رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح مسلم عنها
أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول " إنا لله وإنا إليه راجعون " اللهم أجرني في
مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها " قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما
أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد وعباد بن عباد قالا حدثنا
هشام بن أبي هشام حدثنا عباد بن زياد عن أمه عن فاطمة ابنة الحسين عن أبيها الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها - وقال عباد قدم عهدها - فيحدث لذلك استرجاعا إلا
جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب " ورواه ابن ماجة في سننه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن
هشام بن زياد عن أمه عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها. وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن
هشام بن زياد عن أبيه " كذا " عن فاطمة عن أبيها وقال الإمام أحمد أنا يحيى بن إسحاق السيلحيني أنا حماد بن
سلمة عن أبي سنان قال: دفنت ابنا لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة يعني الخولاني فأخرجني وقال لي:
ألا أبشرك قلت بلى قال: حدثني الضحاك بن عبد الرحمن بن عازب عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" قال الله: يا ملك الموت قبضت ولد عبدي، قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال نعم قال فما قال؟ قال: حمدك
واسترجع. قال: ابنوا له بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد " ثم رواه عن علي بن إسحاق عن عبد الله بن المبارك
فذكره. وهكذا رواه الترمذي عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال حسن غريب واسم أبي سنان عيسى بن سنان.
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله
شاكر عليم (158)
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: قلت
أرأيت قول الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قلت
فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما فقالت عائشة: بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه
كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت إن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة
الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله عز وجل " إن
الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قالت عائشة: ثم قد سن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين وفي رواية عن الزهري أنه قال
فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال إن هذا العلم ما كنت سمعته ولقد
سمعت رجالا من أهل العلم يقولون إن الناس - إلا من ذكرت عائشة - كانوا يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من
أمر الجاهلية وقال آخرون من الأنصار إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله
تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " قال أبو بكر بن عبد الرحمن فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء ورواه
204

البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن
يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر
الجاهلية فلما جاء الاسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل " إن الصفا والمروة من شعائر الله " وذكر القرطبي في
تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة فلما جاء
الاسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما فنزلت هذه الآية وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة
على المروة وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الاسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية " قلت " ذكر محمد بن إسحاق
في كتاب السيرة أن إسافا ونائلة كانا بشرين فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة
ليعتبر بهما الناس فلما طال عهدهما عبدا ثم حولا إلى الصفا والمروة فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة
يستلمهما ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم * لمفضى السيول من أساف ونائل
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم
خرج من باب الصفا وهو يقول " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ثم قال " ابدأ بما بدأ الله به " وفي رواية النسائي
" ابدؤا بما بدأ الله به " وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية
بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزئة قالت رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم
وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " ثم رواه
الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن
امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول " كتب عليكم السعي فاسعوا " وقد استدل بهذا
الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية
عن أحمد وهو المشهور عن مالك وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا وسهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد
وبه يقول طائفة وقيل بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين وروي عن أنس وابن عمر
وابن عباس وحكي عن مالك في " العتبية " قال القرطبي واحتجوا بقوله تعالى " فمن تطوع خيرا " والقول الأول أرجح
لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال " لتأخذوا عني مناسككم " فكل ما فعله في حجته تلك واجب لابد من فعله في
الحج إلا ما خرج بدليل والله أعلم وقد تقدم قوله عليه السلام " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " فقد بين الله
تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج وقد تقدم في
حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ
ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك وليس عندهما أحد من الناس فلما خافت على ولدها الضيعة
هنالك ونفد ما عندهما قامت تطلب الغوث من الله عز وجل فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة
متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل حتى كشف الله كربتها وآنس غربتها وفرج شدتها وأنبع لها زمزم التي
ماؤها " طعام طعم وشفاء سقم " فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه
وصلاح حاله وغفران ذنبه وأن يلتجئ إلى الله عز وجل لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب وأن يهديه إلى
الصراط المستقيم وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي إلى حال
الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله " فمن تطوع خيرا " قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك وقيل يطوف بينهما في
حجة تطوع أو عمرة تطوع وقيل المراد تطوع خيرا في سائر العبادات حكى ذلك الرازي وعزى الثالث إلى الحسن
205

البصري والله أعلم وقوله " فإن الله شاكر عليم " أي يثيب على القليل بالكثير عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحدا ثوابه
لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ".
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم
اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم (160) إن الذين كفروا وماتوا وهم
كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (161) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون (163)
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب من
بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله قال أبو العالية نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم
ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شئ على صنيعهم ذلك فكما أن العالم يستغفر له كل شئ حتى الحوت في الماء والطير في الهواء فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد
بعضها بعضا عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سئل عن علم فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار "
والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئا " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من
البينات والهدى " الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن
المنهال بن عمرو عن زاذان بن عمرو عن البراء بن عازب قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال " إن الكفار يضرب
ضربة بين عينيه يسمعها كل دابة غير الثقلين فتلعنه كل دابة سمعت صوته فذلك قول الله تعالى " أولئك يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون " يعنى دواب الأرض " ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عامر بن محمد به، وقال عطاء
بن أربي رباح: كل دابة والجن والانس وقال مجاهد إذا أجدبت الأرض قال البهائم هذا من أجل عصاة بني آدم لعن الله
عصاة بني آدم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة " ويلعنهم اللاعنون " يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون وقد جاء
في الحديث " إن العالم يستغفر له كل شئ حتى الحيتان في البحر " وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله
والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضا وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال أو الحال أن لو كان له عقل ويوم
القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال " إلا الذين تابوا واصلحوا وبينوا " أي رجعوا
عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه " فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم " وفي هذا
دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه. وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل
من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه ثم أخبر تعالى عمن كفر
به وأستمر به الحال إلى مماته بأن " عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها " أي في اللعنة التابعة لهم
إلى يوم القيامة ثم المصاحبة لهم في نار جهنم التي " لا يخفف عنهم العذاب " فيها أي لا ينقص عماهم فيه " ولا
هم ينظرون " أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن
الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة ثم يلعنه الناس أجمعون.
" فصل " لا خلاف في جواز لعن الكفار وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة
في القنوت وغيره فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له
وأستدل بعضهم بالآية " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " وقالت
طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين، أختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف
وأستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده فقال رجل لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن والله أعلم.
206

وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163)
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية وإنه لا شريك له ولا عديل له بل هو الله الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو
الرحمن الرحيم. وقد تقدم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة وفي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت
يزيد بن السكن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " اسم الله الأعظم في هذين الآيتين " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو
الرحمن الرحيم " و " ألم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم " ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية بخلق السماوات والأرض
وما فيهما وما بين ذلك مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته فقال.
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من
السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء
والأرض لايات لقوم يعقلون (164)
يقول تعالى " إن في خلق السماوات والأرض " تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت
ودوران فلكها - وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع
واختلاف الليل والنهار هذا يجئ ثم يذهب ويخلفه الآخر ويعقبه لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى " لا الشمس
ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وتارة يطول هذا ويقصر هذا وتارة يأخذ هذا
من هذا ثم يتعاوضان كما قال تعالى " يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل " أي يزيد من هذا في هذا ومن
هذا في هذا " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى
جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء " وما أنزل
الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها " كما قال تعالى " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا
فمنه يأكلون * - إلى قوله - ومما لا يعلمون "، " وبث فيها من كل دابة " أي على اختلاف أشكالها وألوانها
ومنافعها وصغرها وكبرها وهو يعلم ذلك كله ويرزقه لا يخفى عليه شي من ذلك كما قال تعالى " وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " " وتصريف الرياح " أي فتارة تأتي
بالرحمة وتارة تأتي بالعذاب وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب وتارة تسوقه وتارة تجمعه وتارة تفرقه وتارة تصرفه ثم
تارة تأتى من الجنوب وهي الشامية وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة وتارة
دبورا وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والانواء كتبا كثيرة فيما يتعلق بلغاتها
وأحكامها وبسط ذلك يطول ههنا والله أعلم " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " أي سائر بين السماء
والأرض مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى " لآيات لقوم يعقلون " أي في هذه الأشياء
دلالات بينة على وحدانية الله تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب *
الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض: ربنا ما خلقت هذا باطلا
سبحانك فقنا عذاب النار " وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو سعيد
الدشتكي حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
أتت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فنشتري به الخيل والسلاح
فنؤمن بك ونقاتل معك قال " أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهبا لتؤمنن بي " فأوثقوا له فدعا ربه فأتاه
جبريل فقال إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهبا على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين
207

قال محمد صلى الله عليه وسلم " رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوما بيوم " فأنزل الله هذه الآية " إن في خلق السماوات والأرض
واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " الآية ورواه ابن أبي حاتم من وجه أخر عن
جعفر بن أبي المغيرة به وزاد في آخره: " وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم من الصفا " وقال
ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن عطاء قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله واحد
فأنزل الله تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع
الناس " إلى قوله " لآيات لقوم يعقلون " فبهذا يعلمون أنه إله واحد وأنه إله كل شئ وخالق كل شئ وقال
وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى قال: لما نزلت " وإلهكم إله واحد " إلى آخر الآية قال
المشركون إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله عز وجل " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار "
إلى قوله " يعقلون " ورواه آدم بن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي عن سعيد بن مسروق والد سفيان عن أبي
الضحى به.
ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين أمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون
العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165) إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب (166) وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم
حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار (167)
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة حيث جعلوا له أندادا أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه
ويحبونهم كحبه هو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود
قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " وقوله " والذين آمنوا أشد حبا لله "
ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئا بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ويلجأون في
جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون
العذاب أن القوة لله جميعا " قال بعضهم تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا أي أن
الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه " وأن الله شديد العذاب " كما قال
" فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " يقول لو يعلمون ما يعاينونه هنالك وما يحل بهم من الامر الفظيع
المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لانتهوا عما هم فيه من الضلال ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم وترى المتبوعين
من التابعين فقال " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم
في الدار الدنيا فتقول الملائكة " تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون " ويقولون " سبحانك أنت ولينا من دونهم بل
كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " والجن أيضا تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم كما قال تعالى " ومن
أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم
أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " وقال تعالى " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم
ويكونون عليهم ضدا " وقال الخليل لقومه " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم
القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " وقال تعالى " ولو ترى إذ
الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا
208

مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال
الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا
العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " وقال تعالى " وقال الشيطان لما قضي
الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا
تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم
عذاب أليم " وقوله " ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب " أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب
الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلا ولا مصرفا. قال عطاء عن ابن عباس " وتقطعت بهم الأسباب " قال المودة:
وكذا قال مجاهد في رواية ابن أبي نجيح: وقوله " وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤا منا " أي لو
أن لنا عودة إلى الدار الدنيا حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم فلا نلتفت إليهم بل نوحد الله وحده بالعبادة: وهم
كاذبون في هذا بل لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ولهذا قال " كذلك
يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم " أي تذهب وتضمحل كما قال تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه
هباء منثورا " وقال تعالى " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف " الآية. وقال
تعالى " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء " الآية ولهذا قال تعالى " وما هم بخارجين من
النار ".
يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (168) إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169)
لما بين تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه المستقل بالخلق شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه فذكر في مقام الامتنان أنه أباح
لهم أن يأكلوا مما في الأرض في حال كونه حلالا من الله طيبا أي مستطابا في نفسه غير ضار للأبدان ولا للعقول
ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه من تحريم البحائر والسوائب والوصائل
ونحوها مما كان زينة لهم في جاهليتهم كما في حديث عياض بن حماد الذي في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال " يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا
محمد بن عيسى بن شيبة المصري حدثنا الحسين بن عبد الرحمن الاحتياطي حدثنا أبو عبد الله الجوزجاني رفيق
إبراهيم بن أدهم حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس كلوا
مما في الأرض حلالا طيبا " فقام سعد بن أبي وقاص فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال
" يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما
يتقبل منه أربعين يوما وأيما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به ".
وقوله " إنه لكم عدو مبين " تنفير عنه وتحذير منه كما قال " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه
ليكونوا من أصحاب السعير " وقال تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا "
وقال قتادة والسدي في قوله " ولا تتبعوا خطوات الشيطان كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان " وقال
عكرمة: هي نزغات الشيطان وقال مجاهد خطؤه أو قال خطاياه: وقال أبو مجلز هي النذور في المعاصي وقال
الشعبي نذر رجل أن ينحر ابنه فأفتاه مسروق بذبح كبش وقال هذا من خطوات الشيطان وقال أبو الضحى عن
مسروق أتى عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل فاعتزل رجل من القوم فقال ابن مسعود ناولوا صاحبكم
209

فقال لا أريده فقال: أصائم أنت؟ قال لا قال: فما شأنك؟ قال حرمت أن آكل ضرعا أبدا فقال ابن مسعود
هذا من خطوات الشيطان فأطعم وكفر عن يمينك رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا حسان بن
عبد الله المصري عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت يوما على امرأتي فقالت هي يوما يهودية ويوما
نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من خطوات الشيطان
وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة وأتيت عاصما وابن عمر فقالا مثل ذلك وقال
عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم عن شريك عن عبد الكريم عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما كان من يمين أو نذر في
غضب فهو من خطوات الشيطان وكفارته كفارة يمين: وقوله " إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا
تعلمون " أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالافعال السيئة وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه وأغلظ من ذلك وهو
القول على الله بلا علم فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضا.
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون (170)
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمى فهم لا يعقلون (171)
يقول تعالى: وإذا قيل لهؤلاء الكفرة من المشركين اتبعوا ما أنزل الله على رسوله واتركوا ما أنتم عليه من الضلال
والجهل قالوا في جواب ذلك بل نتبع ما ألفينا أي ما وجدنا عليه آباءنا أي من عبادة الأصنام والأنداد. قال الله
تعالى منكرا عليهم " أو لو كان آباؤهم " أي الذين يقتدون بهم ويقتفون أثرهم " لا يعقلون شيئا ولا يهتدون " أي
ليس لهم فهم ولا هداية. وروى ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أنها
نزلت في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الاسلام فقالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا فأنزل الله هذه الآية.
ثم ضرب لهم تعالى مثلا - كما قال تعالى - " للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء " فقال ومثل الذين كفروا " أي
فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها بل إذا نعق بها راعيها أي دعاها إلى
ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط: هكذا روى عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد
وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس نحو هذا. وقيل إنما هذا مثل ضرب لهم في
دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئا اختاره ابن جرير والأول أولى لان الأصنام لا تسمع شيئا ولا
تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها. وقوله " صم بكم عمي " أي صم عن سماع الحق بكم لا يتفوهون به
عمي عن رؤية طريقه ومسلكه " فهم لا يعقلون " أي لا يعقلون شيئا ولا يفهمونه كما قال تعالى " والذين كذبوا
بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ".
يا أيها الذين أمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172) إنما حرم عليكم الميتة والدم
ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (173)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالاكل من طيبات ما رزقهم تعالى وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عبيده والاكل
من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة كما أن الاكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا الفضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال " يا أيها
الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " وقال " يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما
210

رزقناكم " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام
وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟ " ورواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث فضيل بن
مرزوق. ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الاكل من طيبه ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة وهي
التي تموت حتف أنفها من غير تذكية وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع وقد
خصص الجمهور من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه " على ما سيأتي إن شاء الله
وحديث العنبر في الصحيح وفي المسند والموطأ والسنن قوله عليه السلام في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "
وروى الشافعي وأحمد وابن ماجة والدارقطني حديث ابن عمر مرفوعا " أحل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والكبد
والطحال " وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة.
" مسألة " ولبن الميتة وبيضها المتصل بها نجس عند الشافعي وغيره لأنه جزء منها. وقال مالك في رواية هو طاهر إلا
أنه ينجس بالمجاورة وكذلك إنفحة الميتة فيها الخلاف والمشهور عندهم أنها نجسة وقد أوردوا على أنفسهم أكل
الصحابة من جبن المجوس فقال القرطبي في التفسير ههنا يخالط اللبن منها يسير ويعفى عن قليل النجاسة إذا
خالط الكثير من المائع. وقد روى ابن ماجة من حديث سيف بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي
رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال " الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم
الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه " وكذلك حرم عليهم لحم الخنزير سواء ذكي أو مات حتف أنفه ويدخل
شحمه في حكم لحمه إما تغليبا أو أن اللحم يشمل ذلك أو بطريق القياس على رأي. وكذلك حرم عليهم ما أهل به
لغير الله وهو ما ذبح على غير اسمه تعالى من الأنصاب والأنداد والأزلام ونحو ذلك مما كانت الجاهلية ينحرون له.
وذكر القرطبي عن ابن عطية أنه نقل عن الحسن البصري أنه سئل عن امرأة عملت عرسا للعبها فنحرت فيه جزورا
فقال لا تؤكل لأنها ذبحت لصنم وأورد القرطبي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عما يذبحه العجم لأعيادهم
فيهدون منه للمسلمين فقالت: ما ذبح لذلك اليوم فلا تأكلوا منه وكلوا من أشجارهم. ثم أباح تعالى تناول ذلك عند
الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " أي في غير بغي ولا عدوان
وهو مجاوزة الحد فلا إثم عليه أي في أكل ذلك " إن الله غفور رحيم " وقال مجاهد فمن اضطر غير باغ
ولا عاد قاطعا للسبيل أو مفارقا للأئمة أو خارجا في معصية الله فله الرخصة ومن خرج باغيا أو عاديا أو في معصية الله
فلا رخصة له وإن اضطر إليه وكذا روي عن سعيد بن جبير وقال سعيد - في رواية عنه - ومقاتل بن حيان: غير باغ
يعني غير مستحله وقال السدي غير باغ يبتغي فيه شهوته وقال آدم بن أبي إياس حدثنا ضمرة عن عثمان بن عطاء
وهو الخراساني عن أبيه قال: لا يشوى من الميتة ليشتهيه ولا يطبخه ولا يأكل إلا العلقة ويحمل معه ما يبلغه الحلال
فإذا بلغه ألقاه وهو قوله " ولا عاد " ويقول لا يعدو به الحلال وعن ابن عباس لا يشبع منها وفسره السدي بالعدوان
وعن ابن عباس " غير باغ ولا عاد " قال " غير باغ " في الميتة ولا عاد في أكله وقال قتادة فمن اضطر غير باغ ولا
عاد قال غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالا إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة. وحكى القرطبي عن
مجاهد في قوله فمن اضطر أي أكره على ذلك بغير اختياره.
" مسألة " إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير بحيث لا قطع فيه ولا أذى فإنه لا يحل له أكل الميتة بل يأكل طعام الغير
بغير خلاف - كذا قال - ثم قال وإذا أكله والحالة هذه هل يضمن أم لا؟ فيه قولان هما روايتان عن مالك ثم أورد
من سنن ابن ماجة من حديث شعبة عن أبي إياس جعفر بن أبي وحشية سمعت عباد بن شرحبيل العنزي قال: أصابتنا
عاما مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي فجاء صاحب الحائط
فضربني وأخذ ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال للرجل " ما أطعمته إذ كان جائعا ولا علمته إذ كان جاهلا "
فأمره فرد إليه ثوبه وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق إسناد صحيح قوي جيد وله شواهد كثيرة من ذلك
211

حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق فقال " من أصاب منه من ذي حاجة
بفيه غير متخذ خبنة فلا شئ عليه " الحديث: وقال مقاتل بن حيان في قوله " فلا إثم عليه إن الله غفور " فيما أكل
من اضطرار وبلغنا والله أعلم أنه لا يزاد على ثلاث لقم وقال سعيد بن جبير: غفور لما أكل من الحرام رحيم إذ
أحل له الحرام في الاضطرار وقال وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: من اضطر فلم يأكل
ولم يشرب ثم مات دخل النار وهذا يقتضي أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة قال أبو الحسن الطبري:
المعروف بالكيا الهراسي رفيق الغزالي في الاشتغال وهذا هو الصحيح عندنا كالافطار للمريض ونحو ذلك.
إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا
يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عداب أليم (174) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة
فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176)
يقول تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب " يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي
بأيديهم مما تشهد له الرسالة والنبوة فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف
على تعظيمهم آباءهم فخشوا لعنهم الله إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم فكتموا ذلك على إبقاء على ما كان
يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والايمان
بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما
نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه وصاروا عونا له على
قتالهم وباؤا بغضب على غضب وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الآية الكريمة " إن الذين يكتمون
ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا " وهو عرض الحياة الدنيا " وأولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار "
أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة كما قال تعالى " إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".
وقوله " ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم لأنهم كتموا وقد
علموا فاستحقوا الغضب فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذابا أليما. وقد ذكر ابن
أبي حاتم وابن مردويه ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا
ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر " ثم قال تعالى مخبرا عنهم " أولئك
الذين اشتروا الضلالة بالهدى " أي اعتاضوا عن الهدى وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به
من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في
كتبهم " والعذاب بالمغفرة " أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة: وقوله تعالى
" فما أصبرهم على النار " يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على
ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذا بالله من ذلك وقيل معنى قوله " فما أصبرهم على
النار " أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار وقوله تعالى ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق
أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لان الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق
وإبطال الباطل وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزوا فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه وهذا الرسول الخاتم
يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته
212

فاستهزؤا بآيات الله المنزلة على رسله فلهذا استحقوا العذاب والنكال ولهذا قال " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق
وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ".
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من أمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة
وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا
وأولئك هم المتقون (177)
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة وقواعد عميمة وعقيدة مستقيمة كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
عبيد بن هشام الحلبي حدثنا عبيد الله بن عمرو عن عامر بن شفي عن عبد الكريم عن مجاهد عن أبي ذر أنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الايمان؟ فتلا عليه " ليس البر أن تولوا وجوهكم " إلى آخر الآية قال: ثم سأله أيضا فتلاها عليه ثم
سأله فقال: " إذا عملت حسنة أحبها قلبك وإذا عملت سيئة أبغضها قلبك " وهذا منقطع فإن مجاهدا لم يدرك أبا ذر
فإنه مات قديما وقال المسعودي: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال جاء رجل إلى أبي ذر فقال ما الايمان؟ فقرأ
عليه هذه الآية " ليس البر أن تولوا وجوهكم " حتى فرغ منها فقال الرجل ليس عن البر سألتك فقال أبو ذر جاء رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ عليه هذه الآية فأبي أن يرضى كما أبيت أن ترضى فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيده " المؤمن إذا عمل حسنة سرته ورجا ثوابها وإذا عمل سيئة أحزنته وخاف عقابها " رواه ابن
مردويه وهذا أيضا منقطع والله أعلم.
وأما الكلام على تفسير هذه الآية فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولا بالتوجه إلى بيت المقدس ثم حولهم إلى الكعبة
شق ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك وهو أن المراد
إنما هو طاعة الله عز وجل وامتثال أوامره والتوجه حيثما وجه واتباع ما شرع فهذا هو البر والتقوى والايمان الكامل
وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق أو المغرب بر ولا طاعة إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ولهذا قال " ليس
البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " الآية كما قال في الأضاحي
والهدايا " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية ليس
البر أن تصلوا ولا تعملوا فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة ونزلت الفرائض والحدود فأمر الله بالفرائض والعمل بها
وروي عن الضحاك ومقاتل نحو ذلك وقال أبو العالية: كانت اليهود تقبل قبل المغرب وكانت النصارى تقبل قبل
المشرق فقال الله تعالى " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب " يقول هذا كلام الايمان وحقيقته العمل
وروي عن الحسن والربيع بن أنس مثله. وقال مجاهد: ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عز وجل وقال
الضحاك: ولكن البر والتقوى أن تؤدوا الفرائض على وجوهها وقال الثوري: " ولكن البر من آمن بالله " الآية قال
هذه أنواع البر كلها وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية فقد دخل في عرى الاسلام كلها وأخذ بمجامع
الخير كله وهو الايمان بالله وأنه لا إله إلا هو وصدق بوجود الملائكة الذين هم سفرة بين الله ورسله " والكتاب " وهو
اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من
الكتب الذي انتهى إليه كل خير واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن
بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله " وآتى المال على
حبه " أي أخرجه وهو محب له راغب فيه نص على ذلك ابن مسعود وسعيد بن جبير وغيرهما من السلف والخلف كما
213

ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا " أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى
وتخشى الفقر ". وقد روى الحكم في مستدركه من حديث شعبة والثوري عن منصور عن زبيد عن مرة عن ابن
مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وآتى المال على حبه " أن تعطيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " ثم قال
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. " قلت " وقد رواه وكيع عن الأعمش وسفيان عن زبيد عن مرة عن ابن
مسعود موقوفا وهو أصح والله أعلم. وقال تعالى " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم
لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " وقال تعالى " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وقوله " ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما
هم محبون له وقوله " ذوي القربى " وهم قرابات الرجل وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث
" الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان صدقة وصلة فهم أولى الناس بك ببرك وإعطائك " وقد أمر الله
تعالى بالاحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز " واليتامى " هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم
ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب وقد قال: عبد الرزاق أنبأنا معمر عن جويبر عن الضحاك عن
النزال بن سبرة عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يتم بعد حلم " " والمساكين " وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم
في قوتهم وكسوتهم وسكناهم فيعطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى
يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه " " وابن السبيل " وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته فيعطى ما يوصله إلى
بلده وكذا الذي يريد سفرا في طاعة فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه ويدخل في ذلك الضيف كما قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس أنه قال: ابن السبيل هو الضيف الذي ينزل بالمسلمين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو
جعفر الباقر والحسن وقتادة والضحاك والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان " والسائلين " وهم الذين يتعرضون
للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع وعبد الرحمن قال: حدثنا سفيان عم
مصعب بن محمد عن يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها - قال عبد الرحمن حسين بن علي -
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " للسائل حق وإن جاء على فرس " رواه أبو داود " وفي الرقاب " وهم المكاتبون الذين لا
يجدون ما يؤدونه في كتابتهم وسيأتي الكلام على كثير من هذه الأصناف في آية الصدقات من براءة إن شاء الله
تعالى. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا شريك عن أبي حمزة عن الشعبي
حدثتني فاطمة بنت قيس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي المال حق سوى الزكاة؟ قالت فتلا علي " وآتى المال على
حبه ". ورواه ابن مردويه من حديث آدم بن إياس ويحيى بن عبد الحميد كلاهما عن شريك عن أبي حمزة عن
الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في المال حق سوى الزكاة " ثم قرأ " ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب - إلى قوله - وفي الرقاب " وأخرجه ابن ماجة والترمذي وضعف أبا حمزة ميمونا
الأعور وقد رواه سيار وإسماعيل بن سالم عن الشعبي وقوله " وأقام الصلاة " أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها
بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي وقوله " آتي الزكاة " يحتمل أن يكون المراد
به زكاة النفس وتخليصها من الأخلاق الدنيئة الرذيلة كقوله " قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها " وقول موسى
لفرعون: " هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى " وقوله تعالى " وويل للمشركين الذين لا يؤتون
الزكاة " ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ويكون المذكور من إعطاء هذه
الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس " أن في
المال حقا سوى الزكاة " والله أعلم.
وقوله " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " كقوله " الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " وعكس هذه الصفة النفاق
كما صح الحديث " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " وفي الحديث الآخر " إذا
214

حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " وقوله " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " أي في حال
الفقر وهو البأساء وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء " وحين البأس " أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله
ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومرة الهمداني ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي
ومقاتل بن حيان وأبو مالك والضحاك وغيرهم وإنما نصب الصابرين على المدح والحث على الصبر في هذه
الأحوال لشدته وصعوبته والله أعلم وهو المستعان وعليه التكلان: وقوله " أولئك الذين صدقوا " أي هؤلاء الذين
اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم لأنهم حققوا الايمان القلبي بالأقوال والافعال فهؤلاء هم الذين
صدقوا " وأولئك هم المتقون " لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات.
يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفى له من أخيه
شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم
(178) ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون (179)
يقول تعالى كتب عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون حركم بحركم وعبدكم بعبدكم وأنثاكم بإنثاكم ولا
تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم وسبب ذلك قريظة والنضير كانت بنو النضير قد غزت
قريظة في الجاهلية وقهروهم فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يفادي بمائة وسق من التمر وإذا قتل القرظي
النضري قتل وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ضعف دية القرظي فأمر الله بالعدل في القصاص ولا يتبع سبيل
المفسدين المحرفين المخالفين لاحكام الله فيهم كفرا وبغيا فقال تعالى " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر
والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " وذكر في سبب نزولها ما رواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا
يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله " يا أيها
الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " يعني إذا كان عمدا الحر بالحر وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في
الجاهلية قبل الاسلام بقليل فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى
أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم
والمرأة منا الرجل منهم فنزل فيهم " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " منها منسوخة نسختها النفس بالنفس:
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " والأنثى بالأنثى " وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن
يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله " النفس بالنفس والعين بالعين " فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما
بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس
وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس.
" مسألة " ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو
مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم قال البخاري وعلي بن المديني
وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة " من قتل عبده قتلناه ومن
جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه " وخالفهم الجمهور فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لان العبد سلعة لو قتل خطأ لم
يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا
يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مسلم بكافر " ولا يصح حديث ولا
تأويل يخالف هذا وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة.
215

" مسألة " قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام
" المسلمون تتكافأ دماؤهم " وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
" مسألة " ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد: قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال لو
تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالاجماع وحكى عن الإمام أحمد
رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة وحكاه ابن المنذر عن معاذ وابن الزبير
وعبد الملك بن مروان والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت ثم قال: ابن المنذر وهذا أصح ولا حجة لمن
أباح قتل الجماعة وقد ثبت عن ابن الزبير ما ذكرناه وإذا اختلف الصحابة فسبيله النظر وقوله " فمن عفي له من
أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " قال مجاهد عن ابن عباس " فمن عفي له من أخيه شئ " فالعفو أن
يقبل الدية في العمد وكذا روى عن أبي العالية وأبي الشعثاء ومجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة
ومقاتل بن حيان وقال الضحاك عن ابن عباس " فمن عفي له من أخيه شئ " يعني فمن ترك له من أخيه شئ يعني
أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو " فاتباع بالمعروف " يقول فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية
" وأداء إليه بإحسان " يعني من القاتل من غير ضرر ولا معك يعني المدافعة وروى الحاكم من حديث سفيان عن
عمرو عن مجاهد عن ابن عباس ويؤدي المطلوب بإحسان وكذا قال: سعيد بن جبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد
والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان.
" مسألة " قال مالك رحمه الله في رواية ابن القاسم عنه وهو المشهور وأبو حنيفة وأصحابه والشافعي وأحمد في أحد
قوليه ليس لولي الدم أن يعفو على الدية إلا برضا القاتل وقال: الباقون له أن يعفو عليها وإن لم يرض.
" مسألة " وذهب طائفة من السلف إلى أنه ليس للنساء عفو منهم الحسن وقتادة والزهري
وابن شبرمة والليث والأوزاعي وخالفهم الباقون وقوله " ذلك تخفيف من ربكم ورحمة " يقول تعالى إنما
شرع لكم أخذ الدية في العمد تخفيفا من الله عليكم ورحمة بكم مما كان محتوما على الأمم قبلكم
من القتل أو العفو كما قال: سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار أخبرني مجاهد عن
ابن عباس قال: كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو فقال الله لهذه الأمة " كتب
عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شئ " فالعفو أن يقبل
الدية في العمد ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم " فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " وقد
رواه غير واحد عن عمرو وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار ورواه جماعة عن مجاهد عن ابن عباس
بنحوه: وقال قتادة " ذلك تخفيف من ربكم " رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لاحد قبلهم فكان أهل
التوراة إنما هو القصاص وعفو ليس بينهم أرش وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة
القصاص والعفو والأرش وهكذا روي عن سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس نحو هذا وقوله
" فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " يقول تعالى فمن قتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع
شديد. وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان
أنه هو الذي يقتل بعد أخذ الدية كما قال محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي
شريح الخزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن
يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها " رواه أحمد وقال سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية " يعني لا
أقبل منه الدية بل أقتله.
وقوله " ولكم في القصاص حياة " يقول تعالى وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء
216

المهج وصونها لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس وفي الكتب المتقدمة:
القتل أنفى للقتل فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز " ولكم في القصاص حياة " قال أبو العالية جعل
الله القصاص حياة فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل. وكذا روي عن مجاهد وسعيد بن جبير وأبي
مالك والحسن وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان " يا أولى الألباب لعلكم تتقون " يقول يا أولي العقول والافهام
والنهى لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه والتقوى أسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات.
كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين (180) فمن
بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن خاف من موص جنفا أو إثما
فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182)
اشتملت هذه الآية الكريمة على الامر بالوصية للوالدين والأقربين وقد كان ذلك واجبا على أصح القولين قبل نزول آية
المواريث فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله يأخذها أهلوها حتما من غير
وصية ولا تحمل منه الموصى ولهذا جاء في الحديث الذي في السنن وغيرها عن عمرو بن خارجة قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب وهو يقول " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وقال الإمام أحمد حدثنا
إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين قال: جلس ابن عباس فقرأ سورة البقرة حتى
أتى هذه الآية " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين " فقال نسخت هذه الآية وكذا رواه سعيد بن منصور عن
هشيم عن يونس به ورواه الحاكم في مستدركه وقال صحيح على شرطهما وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
قوله " الوصية للوالدين والأقربين " قال: كان لا يرث مع الوالدين غيرهما إلا وصية للأقربين فأنزل الله آية الميراث
فبين ميراث الوالدين وأقر وصية الأقربين في ثلث مال الميت وقال: ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن
الصباح حدثنا حجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله " الوصية
للوالدين والأقربين " نسختها هذه الآية " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان
والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا " ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وأبي موسى وسعيد بن
المسيب والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وعكرمة وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وقتادة
والسدي ومقاتل بن حيان وطاوس وإبراهيم النخعي وشريح والضحاك والزهري أن هذه الآية منسوخة نسختها آية
الميراث. والعجب من أبي عبد الله محمد بن عمر الرازي رحمه الله كيف حكى في تفسيره الكبير عن أبي مسلم
الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة وإنما هي مفسرة بآية المواريث ومعناه كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث
الوالدين والأقربين من قوله " يوصيكم الله في أولادكم " قال وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء قال:
ومنهم من قال: إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن ومسروق وطاوس
والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد " قلت " وبه قال أيضا سعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن
حيان ولكن على قول هؤلاء لا يسمى هذا نسخا في اصطلاحنا المتأخر لان آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد
ما دل عليه عموم آية الوصاية لان الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر
على ما دلت عليه الآية الأولى وهذا إنما يأتي على قول بعضهم أن الوصاية في ابتداء الاسلام إنما كانت ندبا حتى
نسخت فأما من يقول إنها كانت واجبة وهو الظاهر من سياق الآية فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث كما قاله أكثر
المفسرين والمعتبرين من الفقهاء فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالاجماع بل منهى عنه
للحديث المتقدم " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " فآية الميراث حكم مستقل ووجوب من عند
217

الله لأهل الفروض والعصبات يرفع بها حكم هذه بالكلية بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم يستحب له أن يوصي لهم
من الثلث استئناسا بآية الوصية وشمولها ولما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما حق
امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " قال ابن عمر ما مرت علي ليلة منذ سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي. والآيات والأحاديث بالامر ببر الأقارب والاحسان إليهم كثيرة جدا
وقال عبد بن حميد في مسنده أخبرنا عبد الله عن مبارك بن حسان عن نافع قال: قال عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يقول الله تعالى يا ابن آدم ثنتان لم يكن لك واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك
به وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء أجلك " وقوله " إن ترك خيرا " أي مالا قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء
وسعيد بن جبير وأبو العالية وعطية العوفي والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم ثم
منهم من قال الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر كالوراثة ومنهم من قال إنما يوصي إذا ترك مالا جليلا ثم اختلفوا
في مقداره فقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه
قال لعلي رضي الله عنه إن رجلا من قريش قد مات وترك ثلاثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص قال ليس بشئ إنما قال
الله " إن ترك خيرا " وقال أيضا وحدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن
عروة عن أبيه أن عليا دخل على رجل من قومه يعوده فقال له أوص فقال له علي إنما قال الله " إن ترك خيرا الوصية "
إنما تركت شيئا يسيرا فاتركه لولدك وقال الحاكم: إن أبان حدثني عن عكرمة عن ابن عباس " إن ترك خيرا " قال ابن
عباس: من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا قال: الحاكم قال طاوس لم يترك خيرا من لم يترك ثمانين دينارا.
وقال قتادة كان يقال ألفا فما فوقها وقوله " بالمعروف " أي بالرفق والاحسان كما قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن
بن أحمد حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن بشار حدثني سرور بن المغيرة عن عباد بن منصور عن الحسن قوله " كتب
عليكم إذا حضر أحدكم الموت " فقال نعم الوصية حق على كل مسلم أن يوصي إذا حضره الموت بالمعروف غير
المنكر والمراد بالمعروف أن يوصي لاقربيه وصية لا تجحف بورثته من غير إسراف ولا تقتير كما ثبت في الصحيحين
أن سعدا قال: يا رسول الله إن لي مالا ولا يرثني إلا ابنة لي أفاوصي بثلثي مالي؟ قال " لا " قال فبالشطر؟ قال " لا "
قال فالثلث؟ قال " الثلث والثلث كثير إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس " وفي
صحيح البخاري أن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال " الثلث والثلث كثير " وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد مولى بني هاشم عن زياد بن عتبة بن حنظلة سمعت
حنظلة بن جذيم بن حنيفة أن جده حنيفة أوصى ليتيم في حجره بمائة من الإبل فشق ذلك على بنيه فارتفعوا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال حنيفة إني أوصيت ليتيم لي بمائة من الإبل كنا نسميها المطية فقال: النبي صلى الله عليه وسلم " لا لا لا،
الصدقة خمس وإلا فعشر وإلا فخمس عشرة وإلا فعشرون وإلا فخمس وعشرون وإلا فثلاثون وإلا فخمس وثلاثون
فإن كثرت فأربعون " وذكر الحديث بطوله.
وقوله " فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم " يقول تعالى فمن بدل الوصية وحرفها
فغير حكمها وزاد فيها أو نقص ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى " فإنما إثمه على الذين يبدلونه " قال ابن
عباس وغير واحد وقد وقع أجر الميت على الله وتعلق الاثم بالذين بدلوا ذلك " إن الله سميع عليم " أي قد اطلع
على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصى إليهم وقوله تعالى " فمن خاف من موص جنفا أو إثما "
قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدي الجنف الخطأ وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها
بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعة الشئ الفلاني محاباة أو أوصى لابن ابنته ليزيد أو نحو ذلك من
الوسائل إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو معتمدا آثما في ذلك فللوصي والحالة هذه أن
يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ويعدل عن الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه
وأشبه الأمور به جمعا بين مقصود الموصي والطريق الشرعي، وهذا الاصلاح والتوفيق
218

ليس من التبديل في شئ ولهذا عطف هذا فبينه على النهي عن ذلك ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل والله أعلم.
وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد قراءة أخبرني أبي عن الأوزاعي قال: الزهري حدثني عروة
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يرد من صدقة الجانف في حياته ما يرد من وصية المجنف عند موته " وهكذا رواه
أبو بكر بن مردويه من حديث العباس بن الوليد به قال ابن أبي حاتم وقد أخطأ فيه الوليد بن يزيد وهذا الكلام إنما
هو عن عروة فقط وقد رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يجاوز به عروة وقال ابن مردويه أيضا حدثنا محمد بن
أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا هشام بن عمار حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن
عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجنف في الوصية من الكبائر " وهذا في رفعه أيضا نظر وأحسن ما ورد في
هذا الباب ما قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل يعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل
النار. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة " قال أبو
هريرة: اقرءوا إن شئتم " تلك حدود الله فلا تعتدوها " الآية.
يا أيها الذين أمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (183) إياما معدودات فمن كان
منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له
وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون (184)
يقول تعالى مخاطبا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرا لهم بالصيام وهو الامساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة
لله عز وجل لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الاخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة وذكر أنه كما أوجبه عليهم
فقد أوجبه على من كان قبلهم فلهم فيه أسوة حسنة وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال
تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات "
الآية. ولهذا قال ههنا " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " لأن الصوم
فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان ولهذا ثبت في الصحيحين " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة
فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " ثم بين مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم لئلا يشق على النفوس
فتضعف عن حمله وأدائه بل في أيام معدودات وقد كان هذا في ابتداء الاسلام يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ثم
نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه وقد روى أن الصيام كان أولا كما كان عليه الأمم قبلنا من كل شهر
ثلاثة أيام عن معاذ وابن مسعود وابن عباس وعطاء وقتادة والضحاك بن مزاحم وزاد لم يزل هذا مشروعا من زمان نوح
إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان. وقال عباد بن منصور عن الحسن البصري " يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات " فقال نعم والله لقد كتب الصيام على
كل أمة قد خلت كما كتبه علينا شهرا كاملا وأياما معدودات عددا معلوما، وروى عن السدي نحوه. وروى ابن أبي
حاتم من حديث أبي عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني عبد الله بن الوليد عن أبي الربيع رجل
من أهل المدينة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم " في حديث
طويل اختصر منه ذلك وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عمن حدثه عن ابن عمر قال أنزلت " كتب عليكم
الصيام كما كتب على الذين من قبلكم " كتب عليهم إذا صلى أحدهم العتمة ونام حرم عليه الطعام والشراب والنساء
إلى مثلها قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وأبي العالية وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد وسعيد بن جبير
ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس وعطاء الخراساني نحو ذلك: وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس " كما كتب
219

على الذين من قبلكم " يعني بذلك أهل الكتاب وروى عن الشعبي والسدي وعطاء الخراساني مثله ثم بين حكم
الصيام على ما كان عليه الامر في ابتداء الاسلام فقال " فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر " أي
المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر لما في ذلك من المشقة عليهما بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك
من أيام أخر وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام فقد كان مخيرا بين الصيام وبين الاطعام إن شاء صام وإن شاء
أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير وإن صام فهو أفضل من الاطعام قاله
ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وطاوس ومقاتل بن حيان وغيرهم من السلف ولهذا قال تعالى " وعلى الذين يطيقونه
فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ".
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا المسعودي حدثنا عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن
جبل رضي الله عنه قال أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال وأحيل الصيام ثلاثة أحوال فأما أحوال الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قدم
المدينة وهو يصلي سبعة عشر شهرا إلى بيت المقدس ثم إن الله عز وجل أنزل عليه " قد نرى تقلب وجهك في
السماء فلنولينك قبلة ترضاها " الآية فوجهه الله إلى مكة هذا حول قال وكانوا يجتمعون للصلاة ويؤذن بها
بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا ينقسون ثم إن رجلا من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد بن عبد ربه أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال يا رسول الله إني رأيت فيما يرى النائم ولو قلت إني لم أكن نائما لصدقت إني بينا أنا بين النائم
واليقظان إذ رأيت شخصا عليه ثوبان أخضران فاستقبل القبلة فقال: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله
- مثنى - حتى فرغ من الاذان ثم أمهل ساعة ثم قال مثل الذي قال غير أنه يزيد في ذلك: قد قامت الصلاة - مرتين -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " علمها بلالا فليؤذن بها " فكان بلال أول من أذن بها: قال وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقال يا رسول الله قد طاف بي مثل الذي طاف به غير أنه سبقني فهذان حالان قال وكانوا يأتون الصلاة وقد
سبقهم النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها فكان الرجل يشير إلى الرجل إذن كم صلى فيقول واحدة أو اثنتين فيصليهما ثم يدخل مع
القوم في صلاتهم قال فجاء معاذ فقال لا أجده على حال أبدا إلا كنت عليها ثم قضيت ما سبقني قال فجاء وقد سبقه
النبي صلى الله عليه وسلم ببعضها قال فثبت معه فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقضى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه قد سن لكم معاذ
فهكذا فاصنعوا " فهذه ثلاثة أحوال وأما أحوال الصيام فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر
ثلاثة أيام وصام عاشوراء ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم " إلى قوله " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " فكان من شاء صام ومن شاء أطعم
مسكينا فأجزأ ذلك عنه ثم إن الله عز وجل أنزل الآية الأخرى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " إلى قوله " فمن
شهد منكم الشهر فليصمه " فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ورخص فيه للمريض والمسافر وثبت الاطعام
للكبير الذي لا يستطيع الصيام فهذان حالان قال وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا
امتنعوا ثم إن رجلا من الأنصار يقال له صرمة كان يعمل صائما حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلى العشاء ثم نام فلم
يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح صائما فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهدا شديدا فقال " مالي أراك قد جهدت
جهدا شديدا؟ قال يا رسول الله إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت فأصبحت حين أصبحت
صائما قال وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عز وجل " أحل لكم ليلة
الصيام الرفث إلى نسائكم " - إلى قوله - " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وأخرجه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه
من حديث المسعودي به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت كان عاشوراء
يصام فلما نزل فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر وروى البخاري عن ابن عمر وابن مسعود مثله.
وقوله تعالى " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " كما قال معاذ رضي الله عنه كان في ابتداء الامر من شاء صام
ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكينا وهكذا روى البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال لما نزلت " وعلى
220

الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها وروى أيضا
من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال هي منسوخة: وقال السدي عن مرة عن عبد الله قال لما نزلت هذه
الآية " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " قال يقول " وعلى الذين يطيقونه " أي يتجشمونه: قال عبد الله فكان
من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكينا " فمن تطوع " يقول أطعم مسكينا آخر فهو خير له " وأن تصوموا خير لكم "
فكانوا كذلك حتى نسختها " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وقال البخاري أيضا أخبرنا إسحق حدثنا روح حدثنا
زكريا بن إسحاق حدثنا عمرو بن دينار عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين " قال
ابن عباس ليست منسوخة هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكينا
وهكذا روى غير واحد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس نحوه وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الرحيم بن
سليمان عن أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية " وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين " في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكينا وقال الحافظ
أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد حدثنا الحسين بن محمد بن بهرام المخزومي حدثنا وهب بن بقية حدثنا
خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى قال دخلت على عطاء في رمضان وهو يأكل فقال: قال ابن عباس نزلت هذه
الآية فنسخت الأولى إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكينا وأفطر - فحاصل الامر أن النسخ ثابت في حق
الصحيح المقيم بإيجاب الصيام عليه لقوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا
يستطيع الصيام فله أن يفطر ولا قضاء عليه لأنه ليست له حال يصير إليها يتمكن فيها من القضاء ولكن هل يجب عليه
إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكينا إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان للعلماء أحدهما لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه
لسنه فلم يجب عليه فدية كالصبي لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي والثاني وهو الصحيح
وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم كما فسره ابن عباس وغيره من السلف على قراءة من قرأ " وعلى
الذين يطيقونه " أي يتجشمونه كما قاله ابن مسعود وغيره وهو اختيار البخاري فإنه قال وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق
الصيام فقد أطعم أنس بعد ما كبر عاما أو عامين عن كل يوم مسكينا خبزا ولحما وأفطر وهذا الذي علقه البخاري قد
أسنده الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده فقال حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا عمران عن أيوب بن أبي
تميمة قال ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد فدعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم ورواه عبد بن حميد عن روح
بن عبادة عن عمران وهو ابن جرير عن أيوب به. ورواه عبد أيضا من حديث ستة من أصحاب أنس عن أنس بمعناه.
ومما يلتحق بهذا المعنى الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم
من قال يفطران ويفديان ويقضيان وقيل يفديان فقط ولا قضاء وقيل يجب القضاء بلا فدية وقيل يفطران ولا فدية ولا
قضاء وقد بسطنا هذه المسألة مستقصاة في كتاب الصيام الذي أفردناه ولله الحمد والمنة.
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن
كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على
ما هداكم ولعلكم تشكرون (185)
يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور بأن أختاره من بينهن لانزال القرآن العظيم وكما أختصه بذلك قد ورد
الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء قال: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا أبو
سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي فليح عن واثلة يعني ابن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال " أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة
221

خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان " وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه:
" أن الزبور أنزل لثنتي عشرة خلت من رمضان والإنجيل لثماني عشرة " والباقي كما تقدم رواه ابن مردويه. وأما الصحف
والتوراة والزبور والإنجيل فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة
إلى بيت العزة من السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى " إنا أنزلناه في ليلة
القدر " وقال " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " ثم نزل بعده مفرقا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا روى من غير
وجه عن ابن عباس كما قال إسرائيل عن السدي عن محمد بن أبي المجالد عن مقسم عن ابن عباس أنه سأل
عطية بن الأسود فقال: وقع في قلبي الشك قول الله تعالى " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " وقوله " إنا أنزلناه
في ليلة مباركة " وقوله " إنا أنزلناه في ليلة القدر " وقد أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي الحجة وفي المحرم وصفر
وشهر ربيع فقال ابن عباس: إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ثم أنزل على مواقع
النجوم ترتيلا في الشهور والأيام رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه وهذا لفظه وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: أنزل القرآن في النصف من شهر رمضان إلى سماء الدنيا فجعل في بيت العزة ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
عشرين سنة لجواب كلام الناس وفي رواية عكرمة عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان في ليلة القدر إلى
هذه السماء الدنيا جملة واحدة وكان الله يحدث لنبيه ما يشاء ولا يجئ المشركون بمثل يخاصمون به إلا جاءهم الله
بجوابه وذلك قوله " وقال الذين كفروا لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا * ولا
يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " وقوله " هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " هذا مدح للقرآن
الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه " وبينات " أي ودلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن
فهمها وتدبرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال والرشد المخالف للغى ومفرقا بين الحق والباطل
والحلال والحرام. وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال إلا شهر رمضان ولا يقال رمضان قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا محمد بن بكار بن الريان حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وسعيد هو المقبري عن أبي
هريرة قال: لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان - قال ابن أبي حاتم وقد
روي عن مجاهد ومحمد بن كعب نحو ذلك ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت " قلت " أبو معشر هو نجيح بن
عبد الرحمن المدني إمام المغازي والسير ولكن فيه ضعف وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا عن أبي هريرة وقد
أنكره عليه الحافظ بن عدي وهو جدير بالانكار فإنه متروك وقد وهم في رفع هذا الحديث وقد انتصر البخاري رحمه
الله في كتابه لهذا فقال: باب يقال رمضان وساق أحاديث في ذلك منها " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما
تقدم من ذنبه " ونحو ذلك وقوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " هذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر
أي كان مقيما في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة ونسخت هذه الآية الإباحة
المتقدمة لمن كان صحيحا مقيما أن يفطر ويفدي وبإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه ولما ختم الصيام أعاد
ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الافطار بشرط القضاء فقال " ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر "
معناه ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه أو كان على سفر أي في حال السفر فله أن يفطر فإذا
أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام ولهذا قال " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " أي إنما رخص
لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيرا عليكم ورحمة بكم.
وههنا مسائل تتعلق بهذه الآية " إحداها " أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيما في أول الشهر ثم سافر
في أثنائه فليس له الافطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " وإنما يباح الافطار لمسافر
استهل الشهر وهو مسافر وهذا القول غريب نقله أبو محمد بن حزم في كتابه المحلى عن جماعة من الصحابة
والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر والله أعلم فإنه قد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح
فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر أخرجه صاحبا الصحيح " الثانية " ذهب آخرون من الصحابة
222

والتابعين إلى وجوب الافطار في السفر لقوله " فعدة من أيام أخر " والصحيح قول الجمهور أن الامر في ذلك على
التخيير صلى الله عليه وسلم ليس بحتم لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان قال: فمنا الصائم ومنا المفطر فلم
يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم فلو كان الافطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام بل الذي ثبت من
فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائما لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة " الثالثة " قالت طائفة منهم الشافعي: الصيام في السفر أفضل من الافطار لفعل
النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم وقالت طائفة بل الافطار أفضل أخذا بالرخصة ولما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الصوم في
السفر فقال: " من أفطر فحسن ومن صام فلا جناح عليه " وقال في حديث آخر " عليكم برخصة الله التي رخص
لكم " وقالت طائفة هما سواء لحديث عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في
السفر؟ فقال " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " وهو في الصحيحين وقيل إن شق الصيام فالافطار أفضل لحديث
جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قد ظلل عليه فقال: " ما هذا " قالوا صائم فقال " ليس من البر الصيام في السفر "
أخرجاه فأما إن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه فهذا يتعين عليه الافطار ويحرم عليه الصيام والحالة هذه
لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن ابن عمر وجابر وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الاثم مثل
جبال عرفة " الرابعة القضاء " هل يجب متتابعا أو يجوز فيه التفريق فيه قولان: " أحدهما " أنه يجب التتابع لان
القضاء يحكي الأداء والثاني لا يجب التتابع بل إن شاء تابع وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل
لان التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر ولهذا
قال تعالى " فعدة من أيام أخر " ثم قال تعالى " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " قال الإمام أحمد حدثنا أبو
سلمة الخزاعي حدثنا أبو هلال عن حميد بن هلال العدوي عن أبي قتادة عن الاعرابي الذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول
" إن خير دينكم أيسره إن خير دينكم أيسره " وقال أحمد أيضا: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا عاصم بن هلال حدثنا
عامر بن عروة الفقيمي حدثني أبي عروة، قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى فلما
قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن دين الله في يسر " ثلاثا يقولها -
ورواه الإمام أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية من حديث مسلم بن أبي تميم عن عاصم بن هلال به وقال
الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: حدثنا أبو التياح سمعت أنس بن مالك يقول إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا " أخرجاه في الصحيحين وفي الصحيحين أيضا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا "
وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت بالحنيفية السمحة " وقال الحافظ أبو بكر بن مرديه في تفسيره
حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا أبو مسعود
الحريري عن عبد الله بن شقيق عم محجن بن الأدرع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي فتراءاه ببصره ساعة فقال
" أتراه يصلي صادقا؟ " قال قلت يا رسول الله: هذا أكثر أهل المدينة صلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسمعه
فتهلكه " وقال " إن الله إنما أراد بهذه الأمة اليسر ولم يرد بهم العسر " ومعنى قوله " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم
العسر ولتكملوا العدة " أي إنما أرخص لكم في الافطار للمريض والسفر ونحوهما من الاعذار لإرادته بكم اليسر
وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم وقوله " ولتكبروا الله على ما هداكم " أي ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم
كما قال " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا " وقال " فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في
الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " وقال " فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
الغروب * ومن الليل فسبحه وأدبار السجود " ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات
المكتوبات وقال ابن عباس: ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ولهذا أخذ كثير من العلماء
223

مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية " ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم " حتى ذهب داود بن علي
الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر لظاهر الامر في قوله " ولتكبروا الله على ما هداكم " وفي مقابلته مذهب
أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يشرع التكبير في عيد الفطر والباقون على استحبابه على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع
بينهم وقوله " ولعلكم تشكرون " أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه وترك محارمه وحفظ حدوده
فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلكم يرشدون (186)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن عبدة بن أبي برزة السختياني عن الصلت بن
حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أن أعرابيا قال: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم أقريب ربنا
فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي " إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجبت ورواه ابن جرير عن محمد بن حميد
الرازي عن جرير به ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ الأصبهاني من حديث محمد بن أبي حميد عن جرير به وقال عبد
الرزاق: أخبرنا جعفر بن سليمان عن عوف عن الحسن قال سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أين ربنا؟ فأنزل الله عز
وجل " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " الآية وقال ابن جريج عن عطاء أنه بلغه
لما نزلت " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " قال الناس لو نعلم أي ساعة ندعو؟ فنزلت " وإذا سألك عبادي عني
فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي حدثنا خالد
الحذاء عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفا
ولا نعلو شرفا ولا نهبط واديا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير قال فدنا منا فقال " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم
لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته يا عبد الله بن
قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة من حديث
أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن علي عنه بنحوه وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود حدثنا شعبة
حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني " وقال
الإمام أحمد أيضا: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا إسماعيل بن
عبيد الله عن كريمة بنت ابن خشخاش المزنية قالت: حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله تعالى
أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه " " قلت " وهذا كقوله تعالى " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم
محسنون " وقوله لموسى وهارون عليهما السلام " إنني معكما أسمع وأرى " والمراد من هذا أنه تعالى لا يخيب
دعاء داع ولا يشغله عنه شئ بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيب في الدعاء وأنه لا يضيع لديه كما قال الإمام أحمد
: حدثنا يزيد حدثنا رجل أنه سمع أبا عثمان هو النهدي يحدث عن سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى ليستحيي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيرا فيردهما خائبتين " - قال يزيد:
سموا لي هذا الرجل. فقالوا: جعفر بن ميمون - وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث جعفر بن ميمون
صاحب الأنباط به: وقال الترمذي حسن غريب ورواه بعضهم ولم يرفعه قال الشيخ الحافظ أبو الحجاج المزي
رحمه الله في أطرافه: وتابعه أبو همام ومحمد بن أبي الزبرقان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي به: وقال
الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو عامر حدثنا علي بن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم
يدعو الله عز وجل بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل له دعوته
وإما أن يدخرها له في الأخرى وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها " قالوا إذا نكثر قال " الله أكثر " وقال عبد الله
ابن الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن منصور الكوسج أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن
224

جبير بن نفير أن عبادة بن الصامت حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عز وجل
بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كف عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم " ورواه الترمذي عن عبد الله بن
عبد الرحمن الدارمي عن محمد بن يوسف الفريابي عن ابن ثوبان وهو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به وقال
حسن صحيح غريب من هذا الوجه وقال الامام مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر عن أبي هريرة:
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي " أخرجاه في الصحيحين من
حديث مالك به وهذا لفظ البخاري رحمه الله وأثابه الجنة وقال مسلم في صحيحه: حدثني أبو الطاهر حدثنا ابن
وهب أخبرني معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا
يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " قيل يا رسول الله وما الاستعجال " قال يقول قد
دعوت فلم أر يستجاب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء " وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبو هلال عن
قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل " قالوا وكيف يستعجل قال " يقول قد دعوت
ربي فلم يستجب لي " وقال الإمام أبو جعفر الطبري في تفسيره: حدثني يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب
حدثني أبو صخر أن يزيد بن عبد الله بن قسيط حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما من
عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب حتى تعجل له في الدنيا أو تؤخر له في الآخرة إذا لم يعجل أو يقنط قال عروة
قلت يا أماه كيف عجلته وقنوطه؟ قالت يقول سألت فلم أعط ودعوت فلم أجب قال ابن قسيط وسمعت سعيد بن
المسيب يقول كقول عائشة سواء: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا بكر بن عمرو عن أبي
عبد الرحمن الجيلي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض فإذا سألتم
الله أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل ". وقال ابن مردويه:
حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي نافع بن معديكرب ببغداد حدثني ابن أبي نافع بن
معد يكرب قال: كنت أنا وعائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آية " أجيب دعوة الداع إذا دعان " قال " يا رب مسألة
عائشة " فهبط جبريل فقال " الله يقرؤك السلام هذا عبدي الصالح بالنية الصادقة وقلبه نقي يقول يا رب فأقول لبيك
فأقضي حاجته " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وروى ابن مردويه من حديث الكلبي عن أبي صالح عن ابن
عباس حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان "
الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم أمرت بالدعاء وتوكلت بالإجابة لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن
الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك أشهد أنك فرد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أن
وعدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأنت تبعث من في القبور " وقال الحافظ أبو بكر البزار: وحدثنا
الحسن بن يحيى الأزدي ومحمد بن يحيى القطعي قالا: حدثنا الحجاج بن منهال حدثنا صالح المزي عن الحسن
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله تعالى يا ابن آدم واحدة لك وواحدة لي وواحدة فيما بيني وبينك فأما التي لي
فتعبدني لا تشرك بي شيئا وأما التي لك فما عملت من شئ أو من عمل وفيتكه وأما الذي بيني وبينك فمنك الدعاء
وعلي الإجابة " وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام إرشاد إلى الاجتهاد في
الدعاء عند إكمال العدة بل وعند كل فطر كما رواه الإمام أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا أبو محمد المليكي عن
عمرو وهو ابن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة " فكان عبد الله بن عمرو إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا وقال أبو عبد الله
محمد بن يزيد بن ماجة في سننه: حدثنا هشام بن عمار أخبرنا الوليد بن مسلم عن إسحاق بن عبد الله المدني عن
عبيد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " قال
عبيد الله بن أبي مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شئ
أن تغفر لي. وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
225

" ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها
أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ".
أحل لكم ليلة الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم
فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود
الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون (187)
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الامر في ابتداء الاسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له
الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب
والجماع إلى الليلة القابلة فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد
وسعيد بن جبير وطاوس وسالم وعبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي
وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان: وقوله " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن
جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وقال الربيع بن أنس: هن
لحاف لكم وأنتم لحاف لهن وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه فناسب أن يرخص
لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا قال الشاعر:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها * تداعت فكانت عليه لباسا
وكان السبب في نزول هذه الآية كما تقدم في حديث معاذ الطويل وقال أبو إسحق عن البراء بن عازب قال: كان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان
صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الافطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا ولكن
أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته فلما رأته نائما قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار
غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم * - إلى قوله - وكلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " ففرحوا بها فرحا شديدا ولفظ البخاري ههنا من
طريق أبي إسحق سمعت البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون
أنفسهم فأنزل الله " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ثم إن
أناسا من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن "
الآية وكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس قال: إن الناس كانوا قبل
أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي
أهله حتى يفطر من القابلة فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله ثم جاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال أشكوا إلى الله وإليك الذي صنعت قال " وما صنعت؟ " قال إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي
بعدما نمت وأنا أريد الصوم فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما كنت خليقا أن تفعل " فنزل الكتاب " أحل لكم ليلة الصيام
الرفث إلى نسائكم " وقال سعيد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة في قول الله
226

تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - إلى قوله - ثم أتموا الصيام إلى الليل " قال كان المسلمون قبل
أن تنزل هذه الآية إذا صلوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا وأن عمر بن الخطاب
أصاب أهله بعد صلاة العشاء وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام ولم يشبع من الطعام
ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقام فأكل وشرب فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل الله
عند ذلك " أحل لكم الصيام الرفث إلى نسائكم " يعني بالرفث مجامعة النساء " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء " فتاب عليكم وعفا
عنكم فالآن باشروهن " يعني جامعوهن " وابتغوا ما كتب الله لكم " يعني الولد " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " فكان ذلك عفوا من الله ورحمة وقال هشام
عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا
رسول الله إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله فقالت إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها فنزل في عمر
" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به وقال أبو
جعفر بن جرير: حدثني المثنى حدثنا سويد أخبرنا ابن المبارك عن ابن لهيعة حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة
أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم
عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده
فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت إني قد نمت فقال ما نمت ثم وقع بها وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا
عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم
فالآن باشروهن " الآية وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الآية في عمر بن
الخطاب ومن صنع كما صنع وفي صرمة بن قيس فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة
ورفقا.
وقوله " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن
جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك
وقتادة وغيرهم يعني الولد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: " وابتغوا ما كتب الله لكم " يعني الجماع
وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال ليلة القدر رواه ابن
أبي حاتم وابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر قال: قال قتادة ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم يقول ما
أحل الله لكم. وقال عبد الرزاق أيضا: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لابن
عباس كيف تقرأ هذه الآية " وابتغوا ما كتب الله لكم " قال أيتهما شئت عليك بالقراءة الأولى واختار ابن جرير أن
الآية أعم من هذا كله.
وقوله " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " أباح
تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد
الليل وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله " من الفجر " كما جاء في الحديث
الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري حدثني ابن أبي مريم حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف حدثنا أبو حازم عن
سهل بن سعد قال أنزلت " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " ولم ينزل " من
الفجر " وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين
له رؤيتهما فأنزل الله بعد " من الفجر " فعلموا أنما يعني الليل والنهار. وقال الإمام أحمد حدثنا هشام أخبرنا
حصين عن الشعبي أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الآية " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض
227

من الخيط الأسود " عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض قال فجعلتهما تحت وسادتي قال فجعلت
أنظر إليهما فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت
فقال " إن وسادك إذا لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل " أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي.
ومعنى قوله إن وسادك إذا لعريض أي إن كان ليسع الخيطين الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الآية تحتها فإنهما
بياض النهار وسواد الليل فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب. وهكذا وقع في رواية البخاري مفسرا بهذا
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبو عوانة عن حصين عن الشعبي عن عدي قال: أخذ عدي عقالا أبيض وعقالا
أسود حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي قال " إن وسادك إذا
لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك " وجاء في بعض الألفاظ " إنك لعريض القفا " ففسره بعضهم
بالبلادة وهو ضعيف بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضا فقفاه أيضا عريض والله أعلم. ويفسره رواية
البخاري أيضا حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله ما الخيط
الأبيض من الخيط الأسود أهما الخيطان؟ قال " إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ثم قال لا بل هو سواد الليل
وبياض النهار ".
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والاخذ بها
محبوب ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " تسحروا فإن في السحور بركة " وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور " وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن
عيسى هو ابن الطباع حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" السحور أكلة بركة فلا تدعوه ولو أن أحدكم تجرع جرعة من ماء فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين ". وقد
ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة من ماء تشبها بالآكلين ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار
الفجر كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى
الصلاة قال أنس قلت لزيد كم كان بين الاذان والسحور؟ قال قدر خمسين آية. وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن
داود حدثنا ابن لهيعة عن سالم بن غيلان عن سليمان بن أبي عثمان عن عدي بن حاتم الحمصي عن أبي ذر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الافطار وأخروا السحور " وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سماه الغداء المبارك وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة من رواية حماد بن سلمة عن عاصم بن
بهدلة عن زيد بن حبيش عن حذيفة قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع وهو حديث
تفرد به عاصم بن أبي النجود قاله النسائي وحمله على أن المراد قرب النهار كما قال تعالى " فإذا بلغن أجلهن
فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق وهذا الذي
قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم
يتحقق ذلك وقد روي عن طائفة كثيرة من السلف أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر روي مثل هذا عن أبي
بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وعن طائفة كثيرة من التابعين
منهم محمد بن علي بن الحسين وابن مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود
وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد وإليه ذهب الأعمش وجابر بن
راشد وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد ولله الحمد وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه
إنما يجب الامساك من طلوع الشمس كما يجوز الافطار بغروبها " قلت " وهذا القول ما أظن أحدا من أهل العلم
يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من
228

الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى
يطلع الفجر " لفظ البخاري وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكنه المعترض الأحمر " ورواه الترمذي ولفظهما " كلوا
واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر " وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن
المثنى حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن بني قشير سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر " ثم رواه من حديث شعبة وغيره عن سواد بن
حنظلة عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر
المستطير في الأفق " قال وحدثني يعقوب بن إبراهيم بن علية عن عبد الله بن سودة القشيري عن أبيه عن سمرة بن جندب
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير " رواه مسلم في صحيحه
عن زهير بن حرب عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا ابن
المبارك عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يمنعن أحدكم أذان
بلال عن سحوره - أو قال - نداء بلال فإن بلالا يؤذن بليل - أو قال - ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم وليس
الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا " ورواه من وجه آخر عن التيمي به وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي
حدثنا أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الفجر فجران فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل
الصلاة ويحرم الطعام " وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء سمعت ابن عباس يقول:
هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ولكن الفجر الذي يستنير على رؤس الجبال هو
الذي يحرم الشراب وقال عطاء: فأما إذا سطع سطوعا في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولا فإنه لا يحرم
به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات
الحج وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله " مسألة " ومن
جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنبا فليغتسل
وليتم صومه ولا حرج عليه وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفا وخلفا لما رواه البخاري ومسلم من
حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل
ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رجلا قال: يا
رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم " فقال لست
مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال " والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم
بما أتقي " فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " فإنه حديث جيد الاسناد
على شرط الشيخين كما ترى وهو في الصحيحين عن أبي هريرة عن الفضل بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنن
النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا ومنهم من
ذهب إليه ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري ومنهم من ذهب إلى
التفرقة بين أن يصبح جنبا نائما فلا عليه لحديث عائشة وأم سلمة أو مختارا فلا صوم له لحديث أبي هريرة يحكى
هذا عن عروة وطاوس والحسن ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه وأما النفل فلا يضره رواه الثوري عن
منصور عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضا ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي
عائشة وأم سلمة ولكن لا تاريخ معه وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الآية وهو بعيد أيضا إذ لا تاريخ بل الظاهر من
229

التاريخ خلافه ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على
الجواز وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها والله أعلم وقوله " ثم أتموا الصيام إلى الليل " يقتضي الافطار عند
غروب الشمس حكما شرعيا كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم " وعن سهل بن سعد الساعدي رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " أخرجاه وقال الإمام أحمد: حدثنا
الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الله عز وجل " إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا " ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به وقال هذا حديث
حسن غريب وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان حدثنا عبد الله بن إياد سمعت إياد بن لقيط سمعت ليلى امرأة بشير بن
الخصاصية قالت: أردت أن أصوم يومين مواصلة فمنعني بشير وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال " يفعل ذلك
النصارى ولكن صوموا كما أمركم الله " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فإذا كان الليل فأفطروا ". ولهذا ورد في
الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوما بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئا قال الإمام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تواصلوا " قالوا: يا رسول الله
إنك تواصل قال " فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " قال فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم
النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال فقال " لو تأخر الهلال لزدتكم " كالمنكل لهم وأخرجاه في الصحيحين من
حديث الزهري به وكذلك أخرجا النهى عن الوصال من حديث أنس وابن عمر وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم فقالوا إنك تواصل قال " إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني "
فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان والأظهر أن ذلك
الطعام والشراب في حقه إنما كان معنويا لا حسيا وإلا فلا يكون مواصلا مع الحسي ولكن كما قال الشاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها * عن الشراب وتلهيها عن الزاد
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله
قال " إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني " أخرجاه في الصحيحين أيضا وقال ابن جرير
حدثنا أبو كريب حدثنا أبو نعيم حدثنا أبو إسرائيل العنسي عن أبي سكر بن حفص عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة
أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام فقالت إني صائمة قال وكيف تصومين فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال
" أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر " وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن
عبد الأعلى عن محمد بن علي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر وقد روى
ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة وحمله منهم على
أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من
النهي أنه إرشاد من باب الشفقة كما جاء في حديث عائشة رحمة له فكان ابن الزبير وابنه عامر
ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه لأنهم كانوا يجدون قوة عليه وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما
يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولا وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام
ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم وقال أبو العالية إنما فرض الله الصيام بالنهار فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل
ومن شاء لم يأكل. وقوله تعالى " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا أو نهارا حتى
يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء فقال الله تعالى " ولا تباشروهن
230

وأنتم عاكفون في المساجد " أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير
واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية. قال ابن أبي حاتم روى عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد
وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل: قالوا لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن
هؤلاء هو الامر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ولو ذهب إلى منزله
لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الاكل وليس له أن
يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه ولا يشتغل بشئ سوى اعتكافه ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه
وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه. وقد ذكرنا قطعة
صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام ولله الحمد والمنة ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب
الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام
إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام كما ثبتت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعتكف
العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجه من بعده أخرجاه من حديث عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف في المسجد فتحدثت
عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - ليمشي معها حتى تبلغ دارها وكان منزلها في دار
أسامة بن زيد في جانب المدينة فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرعا وفي رواية
تواريا أي حياء من النبي - صلى الله عليه وسلم - لكون أهله معه فقال: لهما - صلى الله عليه وسلم - " على رسلكما إنها صفية بنت حيي " أي لا تسرعا
واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال - صلى الله عليه وسلم - " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى
الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا - أو قال - شرا " قال الشافعي رحمه الله أراد عليه السلام أن يعلم أمته
التبري من التهمة في محلها لئلا يقعا في محذور وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا والله أعلم ثم المراد
بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك فأما معاطاة الشئ ونحوه فلا بأس به فقد ثبت في
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض وكان لا يدخل
البيت إلا لحاجة الانسان قالت عائشة ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة وقوله " تلك حدود
الله " أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه
حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله
" تلك حدود الله " أي المباشرة في الاعتكاف وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني هذه الحدود الأربعة ويقرأ
" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم - حتى بلغ - ثم أتموا الصيام إلى الليل " قال وكان أبي وغيره من مشيختنا
يقولون هذا ويتلونه علينا " كذلك يبين الله آياته للناس " أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين
سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - " للناس لعلهم يتقون " أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما
قال تعالى " هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم ".
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون (188)
قال علي بن أبي طلحة وعن ابن عباس هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى
الحكام وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام وكذا روى عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة
والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: لا تخاصم وأنت تعلم أنك
ظالم وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل
بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو
231

ليذرها " فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشئ في نفس الامر فلا يحل في
نفس الامر حراما هو حرام ولا يحرم حلالا هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر فإن طابق في نفس الامر فذاك وإلا
فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ولهذا قال تعالى " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام
لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون " أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم قال قتادة:
أعلم يا ابن آدم أن قضاء القاضي لا يحل لك حراما ولا يحق لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به
الشهود والقاضي بشر يخطئ ويصيب واعلموا أن من قضي له بباطل أن خصومته لم تنقض حتى يجمع الله بينهما يوم
القيامة فيقضي على المبطل للمحق بأجود مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا.
يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى
وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
قال العوفي عن ابن عباس سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأهلة فنزلت هذه الآية " يسألونك عن الأهلة قل هي
مواقيت للناس " يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم وقال أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية بلغنا
أنهم قالوا يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس " يقول جعلها الله
مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم وكذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع
ابن أنس نحو ذلك وقال عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " جعل
الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ورواه الحاكم في
مستدركه من حديث ابن أبي رواد به وقال كان ثقة عابدا مجتهدا شريف النسب فهو صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال
محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " جعل الله الأهلة فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا
رأيتموه فأفطروا فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " وكذا روى من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي
طالب رضي الله عنه.
وقوله " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " قال البخاري: حدثنا
عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره
فأنزل الله " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " وكذا رواه أبو داود
الطيالسي عن شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم لم يدخل الرجل من قبل بابه
فنزلت هذه الآية قال الأعمش: عن أبي سفيان عن جابر كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في
الاحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الاحرام فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بستان إذ خرج من
بابه وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا يا رسول الله: إن قطبة بن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب
فقال له " ما حملك على ما صنعت " قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت فقال: إني أحمس قال له: فإن ديني
دينك. فأنزل الله " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها " رواه ابن أبي
حاتم ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن
أنس وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج
له ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره فقال الله تعالى:
" وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " الآية. وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من
باب البيت فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من
232

ظهورها ويرون أن ذلك أدنى إلى البر فقال الله " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " ولا يرون أن ذلك أدنى إلى
البر وقوله " واتقوا الله لعلكم تفلحون " أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه " لعلكم تفلحون " غدا
إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم
من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم
كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم (192) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين
لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193)
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم " قال
هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة فلما نزلت كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه حتى نزلت
سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال هذه منسوخة بقوله: " فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم " وفي هذا نظر لان قوله " الذين يقاتلونكم " إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الاسلام
وأهله أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم كما قال " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة " ولهذا قال في هذه الآية
" واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم " أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم
منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصا.
وقوله " ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب
المناهي كما قاله الحسن البصري من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم
والرهبان وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز
ومقاتل بن حيان وغيرهم ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اغزوا في سبيل الله
قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع " رواه الإمام أحمد
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث جيوشه قال: " اخرجوا بسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا
تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع " رواه الإمام أحمد ولأبي داود عن أنس مرفوعا
نحوه وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي - صلى الله عليه وسلم - مقتولة فأنكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل
النساء والصبيان. وقال الإمام أحمد حدثنا مصعب بن سلام حدثنا الأجلح عن قيس بن أبي مسلم عن ربعي بن
حراش قال: سمعت حذيفة يقول ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمثالا واحدا وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة وأحد عشر
فضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها مثلا وترك سائرها قال " إن قوما كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة
فأظهر الله أهل الضعف عليهم فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة " هذا
حديث حسن الاسناد ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم
أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس
وقتل الرجال نبه تعالى على أن ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم
وأطم من القتل ولهذا قال: " والفتنة أشد من القتل " قال أبو مالك أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. وقال:
أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس في قوله " والفتنة أشد من
القتل ". يقول الشرك أشد من القتل وقوله " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام " كما جاء في الصحيحين " إن هذا
233

البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها
ساعتي هذه حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم " يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة فإنه فتحها عنوة
وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل صلحا لقوله " من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار
أبي سفيان فهو آمن " وقوله " حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين " يقول تعالى ولا تقاتلوهم
عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصائل كما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه يوم
الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله
القتال بينهم فقال " وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " وقال " ولولا
رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء
لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " وقوله " فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم " أي فإن تركوا القتال في الحرم
وأنابوا إلى الاسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب
أن يغفره لمن تاب منه إليه ثم أمر الله تعالى بقتال الكفار " حتى لا تكون فتنة " أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية
ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم " ويكون الدين لله " أي يكون دين الله هو
الظاهر العالي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل
يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في
سبيل الله " وفي الصحيحين " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم
إلا بحقها وحسابهم على الله ".
وقوله " فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا
عنهم فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل
أو يكون تقديره فإن انتهوا فقد تخلصوا من الظلم وهو الشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك والمراد بالعدوان ههنا
المعاقبة والمقاتلة كقوله " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وقوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها *
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ولهذا قال عكرمة وقتادة الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله. وقال البخاري قوله:
" وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " الآية. حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر
قال أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فما يمنعك أن تخرج؟
فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي قالا: ألم يقل الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة "؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان
الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حثى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب
أخبرني فلان وحياة بن شريح عن بكر بن عمر المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر
فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتقيم عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما
رغب الله فيه؟ فقال يا ابن أخي بني الاسلام على خمس: الايمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء
الزكاة وحج البيت. قالوا يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال
فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الاسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الاسلام فلم
تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان؟ قال أما عثمان فكان الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه وأما
علي فابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه فأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون.
الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا
234

الله واعلموا أن الله مع المتقين (194)
قال عكرمة عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم
معتمرا في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين
في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين
وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص " وقال الإمام أحمد
حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ. هذا إسناد صحيح. ولهذا
لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين بايع أصحابه وكانوا ألفا
وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة
والمصالحة فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها
ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها إلى كمال أربعين يوما كما ثبت في الصحيحين عن أنس
فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح ثم كر راجعا إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين.
وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضا عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه: وقوله " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم " أمر بالعدل حتى في المشركين كما قال " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " وقال
" وجزاء سيئة سيئة مثلها ". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم ". نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد ثم نسخ بآية القتال بالمدينة وقد رد هذا القول ابن جرير
وقال: بل الآية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله وقوله " واتقوا الله واعلموا أن الله مع
المتقين " أمر لهم بطاعة الله وتقواه وإخبار بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة.
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين (195)
قال البخاري حدثنا إسحاق أخبرنا النضر أخبرنا شعبة عن سليمان سمعت أبا وائل عن حذيفة " وأنفقوا في سبيل الله
ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال نزلت في النفقة ورواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن محمد بن الصباح عن أبي
معاوية عن الأعمش به مثله قال: وروي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والضحاك والحسن
وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران قال:
حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خرقه ومعنا أبو أيوب الأنصاري فقال ناس: ألقى بيده
إلى التهلكة. فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد
ونصرناه فلما فشا الاسلام وظهر اجتمعنا معشر الأنصار تحببا فقلنا قد أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا
الاسلام وكثر أهله وكنا قد آثرناه على الاهلين والأموال والأولاد وقد وضعت الحرب أوزارها فنرجع إلى أهلينا وأولادنا
فنقيم فيهما فنزل فينا " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " فكانت التهلكة في الإقامة في الأهل
والمال وترك الجهاد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وعبد بن حميد في تفسيره وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه
والحافظ أبو يعلى في مسنده وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب به
وقال الترمذي حسن صحيح غريب وقال الحاكم على شرط الشيخين ولم يخرجاه ولفظ أبي داود عن أسلم أبي
عمران كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر وعلى أهل الشام رجل يزيد بن فضالة بن عبيد فخرج من
المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج إلينا فصاح
235

الناس إليه فقالوا: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب: يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على
غير التأويل وإنما نزلت فينا معشر الأنصار إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا: لو أقبلنا على أموالنا
فأصلحناها فأنزل الله هذه الآية وقال أبو بكر بن عياش عن أبي إسحق السبيعي قال: قال رجل للبراء بن عازب إن
حملت على العدو وحدي فقتلوني أكنت ألقيت بيدي إلى التهلكة؟ قال: لا. قال الله لرسوله " فقاتل في سبيل الله
لا تكلف إلا نفسك " إنما هذه في النفقة رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل عن
أبي إسحق وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ورواه الترمذي وقيس بن الربيع عن أبي إسحق عن
البراء فذكره وقال بعد قوله " لا تكلف إلا نفسك " ولكن التهلكة أن يذنب الرجل الذنب فيلقي بيده إلى التهلكة
ولا يتوب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثنا عبد الرحمن بن
خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي بكر بن نمير بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عبد الرحمن الأسود بن
عبد يغوث أخبره أنهم حاصروا دمشق فانطلق رجل من أزد شنوءة فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل فعاب ذلك عليه
المسلمون ورفعوا حديثه إلى عمرو بن العاص فأرسل إليه عمرو فرده وقال عمرو، قال الله " ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة " وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " قال: ليس ذلك في القتال إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ولا تلق
بيدك إلى التهلكة. قال حماد بن سلمة عن داود عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبير قال: كانت الأنصار يتصدقون
وينفقون من أموالهم فأصابتهم سنة فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وقال
الحسن البصري " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال هو البخل وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في
قوله " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يغفر لي فأنزل الله " ولا تلقوا بأيديكم
إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين " رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عبيدة السلماني
والحسن وابن سيرين وأبي قلابة نحو ذلك يعني نحو قول النعمان بن بشير إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا
يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة أي يستكثر من الذنوب فيهلك. ولهذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس التهلكة
عذاب الله. وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن القرظي [محمد بن
كعب] أنه كان يقول في هذه الآية " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " قال: كان القوم في سبيل الله فيتزود الرجل فكان
أفضل زادا من الآخر أنفق البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شئ أحب أن يواسي صاحبه فأنزل الله " وأنفقوا
في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وبه قال ابن وهب أيضا: أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم
في قول الله " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " وذلك أن رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بغير نفقة فإما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى
التهلكة والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي. وقال لمن بيده فضل " وأحسنوا إن الله يحب
المحسنين " ومضمون الآية الامر بالانفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات وخاصة صرف
الأموال في قتال الأعداء وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدوهم والاخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن
لزمه واعتاده ثم عطف بالامر بالاحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال " وأحسنوا إن الله يحب المحسنين "
وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان
منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن
236

أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب (196)
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة وظاهر السياق
إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما. ولهذا قال بعده فإن أحصرتم أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من
إتمامهما ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها كما هما
قولان للعلماء وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا الاحكام مستقصى ولله الحمد والمنة. وقال شعبة عن عمرو بن مرة
عن عبد الله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية " وأتموا الحج والعمرة لله " قال: أن تحرم من دويرة أهلك.
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية: إتمامهما أن تحرم من
أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة وتهل من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة حتى إذا كنت قريبا من مكة قلت
لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزئ ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره. وقال مكحول: إتمامهما
إنشاؤهما جميعا من الميقات. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري قال بلغنا أن عمر قال في قول الله
" وأتموا الحج والعمرة لله " من تمامهما أن تفرد كل واحد منهما من الآخر وأن تعتمر في غير أشهر الحج إن الله
تعالى يقول " الحج أشهر معلومات ". وقال هشام عن ابن عون: سمعت القاسم بن محمد يقول إن العمرة في
أشهر الحج ليست بتمامه فقيل له فالعمرة في المحرم؟ قال: كانوا يرونها تامة. وكذا روي عن قتادة بن دعامة
رحمهما الله وهذا القول فيه نظر لأنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة عمرة الحديبية
في ذي القعدة سنة ست وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع وعمرة الجعرانة في ذي القعدة سنة ثمان وعمرته
التي مع حجته أحرم بهما معا في ذي القعدة سنة عشر وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ولكن قال لام هانئ
" عمرة في رمضان تعدل حجة معي " وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب
الطهر كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها والله أعلم.
وقال السدي في قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " أي أقيموا الحج والعمرة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
في قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " يقول من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما تمام الحج يوم النحر
إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل. وقال قتادة عن زرارة عن ابن عباس أنه قال: الحج
عرفة والعمرة الطواف. وكذا روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " قال هي
قراءة عبد الله وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لا يجاوز بالعمرة البيت. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير
فقال: كذلك قال ابن عباس. وقال سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه قال: وأقيموا الحج والعمرة إلى
البيت. وكذا روى الثوري أيضا عن إبراهيم عن منصور عن إبراهيم أنه قرأ: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت. وقرأ
الشعبي " وأتموا الحج والعمرة لله " برفع العمرة وقال ليست بواجبة. وروي عنه خلاف ذلك. وقد وردت أحاديث
كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في إحرامه بحج وعمرة. وثبت عنه في
الصحيح أنه قال لأصحابه: " من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة ". وقال في الصحيح أيضا " دخلت العمرة في
الحج إلى يوم القيامة ".
وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثا غريبا فقال: حدثنا علي بن الحسين حدثنا
أبو عبد الله الهروي حدثنا غسان الهروي حدثنا إبراهيم بن طهمان عن عطاء عن صفوان بن أمية أنه قال: جاء رجل
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - متضمخ بالزعفران عليه جبة فقال: كيف تأمرني يا رسول الله في عمرتي؟ قال فأنزل الله " وأتموا
الحج والعمرة لله " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أين السائل عن العمرة " فقال ها أنا ذا. فقال له " ألق عنك ثيابك ثم
اغتسل استنشق ما استطعت ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في عمرتك " هذا حديث غريب وسياق عجيب
237

والذي ورد في الصحيحين عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالجعرانة فقال كيف ترى في
رجل أحرم بالعمرة وعليه جبة وخلوق فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جاءه الوحي ثم رفع رأسه فقال: " أين السائل؟ "
فقال: ها أنا ذا فقال " أما الجبة فانزعها وأما الطيب الذي بك فاغسله ثم ما كنت صانعا في حجك فاصنعه في
عمرتك " ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول هذه الآية وهو عن يعلى بن أمية لا صفوان بن أمية فالله
أعلم.
وقوله " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال
المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين الوصول إلى البيت وأنزل الله في ذلك سورة الفتح
بكمالها وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من
إحرامهم فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق
رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال - صلى الله عليه وسلم - " رحم الله المحلقين " قالوا: والمقصرين يا
رسول الله؟ فقال: في الثالثة " والمقصرين " وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفا
وأربعمائة وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل بل كانوا على طرف الحرم فالله أعلم. ولهذا اختلف العلماء هل
يختص الحصر بالعدو فلا يتحلل إلا من حصره عدو لا مرض ولا غيره على قولين. فقال ابن أبي حاتم: حدثنا
محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن طاوس عن أبيه عن ابن
عباس وابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال
فليس عليه شئ إنما قال الله تعالى " فإذا أمنتم " فليس الامن حصرا قال: وروى عن ابن عمر وطاوس والزهري
وزيد بن أسلم نحو ذلك. والقول الثاني: أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن
الطريق أو نحو ذلك. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حجاج بن الصواف عن يحيى بن أبي كثير عن
عكرمة عن الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من كسر أو وجع أو عرج فقد حل وعليه
حجة أخرى " قال: فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا: صدق. وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من
حديث يحيى بن أبي كثير به وفي رواية لأبي داود وابن ماجة من " عرج أو كسر أو مرض " فذكر معناه. ورواه ابن أبي
حاتم عن الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن علية عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف به ثم قال: وروي عن ابن
مسعود وابن الزبير وعلقمة وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومجاهد والنخعي وعطاء ومقاتل بن حيان أنهم قالوا:
الاحصار من عدو أو مرض أو كسر وقال الثوري: الاحصار من كل شئ آذاه. وثبت في الصحيحين عن عائشة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية فقال
" حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني " ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة
الاشتراط في الحج لهذا الحديث وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القول بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث قال البيهقي وغيره من الحفاظ وقد صح ولله الحمد.
وقوله " فما استيسر من الهدي " قال الامام مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول
" فما استيسر من الهدي " شاة. وقال ابن عباس الهدي من الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والمعز والضأن. وقال
الثوري عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " فما استيسر من الهدي " قال شاة. وكذا قال عطاء
ومجاهد وطاوس وأبو العالية ومحمد بن علي بن الحسين وعبد الرحمن بن القاسم والشعبي والنخعي والحسن وقتادة
والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم مثل ذلك وهو مذهب الأئمة الأربعة: وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج
حدثنا أبو خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي
إلا من الإبل والبقر قال وروي عن سالم والقاسم وعروة بن الزبير وسعيد بن جبير نحو ذلك " قلت " والظاهر أن
238

مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل
والبقر ففي الصحيحين عن جابر قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة وقال
عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس في قوله " فما استيسر من الهدي " قال بقدر
يسارته وقال العوفي عن ابن عباس: إن كان موسرا فمن الإبل وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم وقال هشام بن عروة
عن أبيه " فما استيسر من الهدي " قال إنما ذلك فيما بين الرخص والغلاء والدليل على صحة قول الجمهور فيما
ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الاحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هديا
والهدي من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم. كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد
ثبت في الصحيح عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: أهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة غنما.
وقوله " ولا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله " معطوف على قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " وليس معطوفا
على قوله " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي " كما زعمه ابن جرير رحمه الله لان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عام
الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم فأما في حال الامن
والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق " حتى يبلغ الهدي محله " ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان
قارنا أو من فعل أحدهما إن كان مفردا أو متمتعا كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن
الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: " إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر ".
وقوله " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ". قال البخاري: حدثنا آدم
حدثنا شعبة عن عبد الرحمن بن الأصبهاني سمعت عبد الله بن معقل قال: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا
المسجد يعني مسجد الكوفة فسألته عن فدية من صيام فقال: حملت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والقمل يتناثر على
وجهي فقال " ما كنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا أما تجد شاة " قلت: لا. قال: " صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة
مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك " فنزلت في خاصة وهي لكم عامة. وقال الإمام أحمد:
حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: أتى علي النبي صلى الله عليه وسلم
وأنا أوقد تحت قدر والقمل يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال " يؤذيك هوام رأسك؟ " قلت نعم. قال:
" فاحلقه وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك نسيكة " قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. وقال أحمد
أيضا: حدثنا هشام حدثنا أبو بشر عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: كنا مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وفرة فجعلت الهوام تساقط على وجهي فمر
علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيؤذيك هوام رأسك " فأمره أن يحلق قال ونزلت هذه الآية " فمن كان منكم مريضا أو به
أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ". وكذا رواه عثمان عن شعبة عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس به
وعن شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به وعن شعبة عن داود عن الشعبي عن كعب بن عجرة نحوه
ورواه الامام مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة فذكر نحوه. وقال
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبان بن صالح عن الحسن البصري أنه سمع كعب بن عجرة يقول: فذبحت
شاة ورواه ابن مردويه وروي أيضا من حديث عمر بن قيس وهو ضعيف عن عطاء عن ابن عباس قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " النسك شاة والصيام ثلاثة أيام والطعام فرق بين ستة " وكذا روي عن علي ومحمد بن كعب وعلقمة
وإبراهيم ومجاهد وعطاء والسدي والربيع بن أنس. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا
عبد الله بن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى
عن كعب بن عجرة أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فآذاه القمل في رأسه فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحلق رأسه وقال " صم
ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان أو انسك شاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك " وهكذا روى ابن أبي
239

سليم عن مجاهد عن ابن عباس في قوله " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال إذا كان أو فأيه أخذت أجزأ
عنك. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاوس والحسن وحميد الأعرج وإبراهيم النخعي
والضحاك نحو ذلك " قلت " وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يخير في هذا المقام إن شاء صام وإن شاء
تصدق بفرق وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء أي ذلك
فعل أجزأه ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة بالأسهل فالأسهل " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " ولما أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - كعب بن عجرة بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال: " انسك شاة أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة
أيام " فكل حسن في مقامه ولله الحمد والمنة. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش قال: ذكر
الأعمش قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " فأجابه بقول يحكم
عليه طعام فإن كان عنده اشترى شاة وإن لم يكن قومت الشاة دراهم وجعل مكانها طعام فتصدق وإلا صام لكل نصف
صاع يوما. قال إبراهيم كذلك سمعت علقمة يذكر قال: لما قال لي سعيد بن جبير من هذا ما أظرفه؟ قال: قلت
هذا إبراهيم فقال ما أظرفه كان يجالسنا قال: فذكرت ذلك لإبراهيم قال: فلما قلت يجالسنا انتفض منها. وقال
ابن جرير أيضا: حدثنا ابن أبي عمران حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن أشعث عن الحسن في قوله " ففدية من
صيام أو صدقة أو نسك " قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء والصيام عشرة أيام
والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكا من تمر ومكوكا من بر والنسك شاة. وقال قتادة عن الحسن
وعكرمة في قوله " ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " قال: إطعام عشرة مساكين. وهذان القولان من سعيد بن
جبير وعلقمة والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر لأنه قد ثبتت السنة في حديث كعب بن عجرة الصيام ثلاثة أيام
لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة وإن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن وأما هذا الترتيب فإنما هو
معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا والله أعلم. وقال هشام: أخبرنا
ليث عن طاوس أنه كان يقول: ما كان من دم أو طعام فبمكة وما كان من صيام فحيث شاء وكذا قال مجاهد وعطاء
والحسن وقال هشام: أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة وما كان
من طعام وصيام فحيث شاء. وقال هشيم: أخبرنا يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد أخبرنا أبو أسماء مولى ابن
جعفر قال: حج عثمان بن عفان ومعه علي والحسين بن علي فارتحل عثمان. قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر
فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه قال: فقلت أيها النائم! فاستيقظ فإذا الحسين بن علي قال فحمله ابن جعفر
حتى أتينا به السقيا قال: فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة قال: قال
علي للحسين ما الذي تجد؟ قال: فأومأ بيده إلى رأسه قال: فأمر به علي فحلق رأسه ثم دعا ببدنة فنحرها فإن
كانت هذه النافة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة. وإن كانت عن التحلل فواضح.
وقوله " فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمن كان
منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج وهو يشمل من أحرم بهما أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو
التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح فإن
من الرواة من يقول: تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر يقول: قرن ولا خلاف أنه ساق هديا وقال تعالى " فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي وأقله شاة وله أن يذبح البقر لان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - ذبح عن نسائه البقر وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذبح البقر عن نسائه وكن متمتعات رواه أبو بكر بن مردويه وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في
الصحيحين عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم لم ينزل قرآن
يحرمها ولم ينه عنها حتى مات قال رجل برأيه ما شاء. قال البخاري: يقال إنه عمر وهذا الذي قاله البخاري قد
240

جاء مصرحا به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله " وأتموا
الحج والعمرة لله " وفي نفس الامر لم يكن عمر - رضي الله عنه - ينهى عنها محرما لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد
الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه.
وقوله " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " يقول تعالى: فمن لم يجد
هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر
قاله عطاء أو من حين يحرم قاله ابن عباس وغيره لقوله في الحج ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال قاله طاوس
ومجاهد وغير واحد وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وعطاء
وطاوس والحكم والحسن وحماد وإبراهيم وأبو جعفر الباقر والربيع ومقاتل بن حيان. وقال العوفي عن ابن عباس:
إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا
رجع إلى أهله وكذا روى أبو إسحق عن وبرة عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم
عرفة وكذا روى جعفر بن محمد عن أبيه عن علي أيضا فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في
أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء وهما للامام الشافعي أيضا القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر
في صحيح البخاري لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي هكذا رواه مالك عن الزهري
عن عروة عن عائشة وعن سالم عن ابن عمر وقد روي من غير وجه عنهما. ورواه سفيان عن جعفر بن محمد عن أبيه
عن علي أنه كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق وبهذا يقول عبيد بن عمير الليثي
عن عكرمة والحسن البصري وعروة بن الزبير وإنما قالوا ذلك لعموم قوله " فصيام ثلاثة أيام في الحج " والجديد من
القولين أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل " وقوله " وسبعة إذا رجعتم " فيه قولان: " أحدهما " إذا رجعتم
إلى رحالكم. ولهذا قال مجاهد هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق وكذا قال عطاء بن أبي رباح والقول
" الثاني " إذا رجعتم إلى أوطانكم. قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن سالم سمعت ابن عمر
قال: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم " قال: إذا رجع إلى أهله. وكذا روي عن
سعيد بن جبير وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وقتادة والزهري والربيع بن أنس وحكى على ذلك أبو
جعفر بن جرير الاجماع وقد قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن
سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال: تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي
من ذي الحليفة فأهل بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعمرة إلى الحج فكان
من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة قال للناس: " من كان منكم أهدى
فإنه لا يحل لشئ حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر
وليحلل ثم ليهل بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ". وذكر تمام
الحديث قال الزهري: وأخبرني عروة عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من
حديث الزهري به وقوله " تلك عشرة كاملة " قيل: تأكيد كما تقول العرب رأيت بعيني وسمعت بأذني وكتبت
بيدي وقال الله تعالى " ولا طائر يطير بجناحيه " وقال " ولا تخطه بيمينك " وقال " وواعدنا موسى ثلاثين ليلة
وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة " وقيل معنى كاملة الامر بإكمالها وإتمامها. اختاره ابن جرير وقيل معنى
كاملة أي مجزئة عن الهدي قال هشام عن عباد بن راشد عن الحسن البصري في قوله " تلك عشرة كاملة " قال:
من الهدي.
241

وقوله " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله
" لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام " بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة
لهم فقال بعضهم عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم. حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان هو
الثوري قال: قال ابن عباس: هم أهل الحرم وكذا روى ابن المبارك عن الثوري وزاد الجماعة عليه وقال قتادة:
ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة لا متعة لكم أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم إنما يقطع أحدكم
واديا أو قال يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال:
المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم. وكذا قول الله عز وجل " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام " قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. وقال آخرون: هم أهل الحرم ومن بينه وبين
المواقيت كما قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عطاء قال: من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع وقال
عبد الله بن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول في قوله " ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام " قال: من كان دون الميقات. وقال ابن جريج عن عطاء: ذلك لمن لم يكن أهله حاضري
المسجد الحرام. قال: عرفة ومزدلفة وعرنة والرجيع. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر سمعت الزهري يقول: من
كان أهله على يوم أو نحوه تمتع. وفي رواية عنه اليوم واليومين. واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم
أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة لان من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا والله أعلم.
وقوله " واتقوا الله " أي فيما أمركم ونهاكم " واعلموا أن الله شديد العقاب " أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه
زجره.
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب (197)
اختلف أهل العربية في قوله " الحج أشهر معلومات " فقال بعضهم تقديره الحج حج أشهر معلومات فعلى هذا
التقدير يكون الاحرام بالحج فيها أكمل من الاحرام فيما عداها وإن كان ذاك صحيحا والقول بصحة الاحرام بالحج
في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وبه يقول إبراهيم النخعي والثوري
والليث بن سعد. واحتج لهم بقوله تعالى " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " وبأنه أحد النسكين
فصح الاحرام به في جميع السنة كالعمرة. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه لا يصح الاحرام بالحج إلا في أشهره
فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به وهل ينعقد عمرة فيه قولان عنه. والقول بأنه لا يصح الاحرام بالحج إلا في
أشهره مروي عن ابن عباس وجابر وبه يقول عطاء وطاوس ومجاهد رحمهم الله والدليل عليه قوله " الحج أشهر
معلومات " وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة وهو أن وقت الحج أشهر معلومات فخصصه بها من بين سائر
شهور السنة فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة. وقال الشافعي رحمه الله: أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن
جريج أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا ينبغي لاحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج
من أجل قول الله تعالى " الحج أشهر معلومات " وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن يحيى بن مالك السوسي عن
حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ورواه ابن مردويه في تفسيره من طريقين عن حجاج بن أرطاة عن
الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس أنه قال من السنة أنه لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج وقال ابن خزيمة
في صحيحه: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: لا يحرم
بالحج إلا في أشهر الحج فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج وهذا إسناد صحيح. وقول الصحابي
242

من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن وهو ترجمانه. وقد ورد فيه
حديث مرفوع قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي حدثنا نافع حدثنا الحسن بن المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان
عن أبي الزبير عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " لا ينبغي لاحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " وإسناده لا بأس به
لكن رواه الشافعي والبيهقي من طريق عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل أيهل بالحج قبل
أشهر الحج؟ فقال لا. وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع ويبقى حينئذ مذهب صحابي يتقوى بقول ابن عباس
عن السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره والله أعلم.
وقوله " أشهر معلومات " قال البخاري قال ابن عمر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة وهذا الذي علقه
البخاري بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا: حدثنا أحمد بن حازم بن أبي زغرة حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن
عبد الله بن دينار عن ابن عمر " الحج أشهر معلومات " قال شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة إسناد
صحيح. وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه عن الأصم عن الحسن بن علي بن عفان عن عبد الله بن نمير عن
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر فذكره وقال هو على شرط الشيخين " قلت " وهو مروي عن عمر وعلي وابن مسعود
وعبد الله بن الزبير وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وابن سيرين
ومكحول وقتادة والضحاك بن مزاحم والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن
حنبل وأبي يوسف وأبي ثور رحمهم الله واختار هذا القول ابن جرير قال: وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض
الثالث للتغليب كما تقول العرب رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم " فمن تعجل في يومين
فلا إثم عليه " وإنما تعجل في يوم ونصف يوم وقال الامام مالك بن أنس والشافعي في القديم هي شوال وذو
القعدة وذو الحجة بكماله وهو رواية عن ابن عمر أيضا قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد
حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال: شوال وذو القعدة وذو الحجة وقال ابن أبي حاتم
في تفسيره: حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج قال: قلت لنافع أسمعت عبد الله بن
عمر يسمي شهور الحج؟ قال نعم كان عبد الله يسمي شوالا وذا القعدة وذا الحجة. قال ابن جريج: وقال ذلك
ابن شهاب وعطاء وجابر بن عبد الله صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا إسناد صحيح إلى ابن جريج وقد حكي هذا أيضا عن
طاوس ومجاهد وعروة بن الزبير والربيع بن أنس وقتادة وجاء فيه حديث مرفوع لكنه موضوع رواه الحافظ ابن مردويه
من طريق حصين بن مخارق وهو متهم بالوضع عن يونس بن عبيد عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الحج أشهر معلومات شوال وذو القعدة وذو الحجة " وهذا كما رأيت لا يصح رفعه والله أعلم. وفائدة
مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة لا أنه يصح الحج
بعد ليلة النحر. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن
طارق بن شهاب قال قال عبد الله: الحج أشهر معلومات ليس فيها عمرة وهذا إسناد صحيح. قال ابن جرير:
وإنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة إنما هي
للحج وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى. كما قال محمد بن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك في
أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج. وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد عن العمرة
في أشهر الحج فقال كانوا لا يرونها تامة " قلت " وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كان يحبان الاعتمار
في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج والله أعلم.
وقوله " فمن فرض فيهن الحج " أي أوجب بإحرامه حجا - فيه دلالة على لزوم الاحرام بالحج والمضي فيه. قال
ابن جرير: أجمعوا على أن المراد من الفرض ههنا الايجاب والالزام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" فمن فرض فيهن الحج " يقول من أحرم بحج أو عمرة. وقال عطاء: الفرض الاحرام وكذا قال إبراهيم
243

والضحاك وغيرهم. وقال ابن جريج: أخبرني عمر بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: " فمن فرض فيهن
الحج " فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض. قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود وابن عباس وابن
الزبير ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي وعكرمة والضحاك وقتادة وسفيان والثوري والزهري ومقاتل بن حيان نحو
ذلك. وقال طاوس والقاسم بن محمد: هو التلبية وقوله " فلا رفث " أي من أحرم بالحج أو العمرة فليجتنب الرفث
وهو الجماع كما قال تعالى " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة
والتقبيل ونحو ذلك وكذلك التكلم به بحضرة النساء. قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني
يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك
بأفواههم. قال ابن وهب: وأخبرني أبو صخر عن محمد بن كعب مثله قال ابن جرير وحدثنا محمد بن بشار حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن قتادة عن رجل عن أبي العالية الرياحي عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم وهو
يقول:
وهن يمشين بنا هميسا * إن تصدق الطير ننك لميسا
قال أبو العالية: فقلت تكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء. ورواه الأعمش عن زياد بن
حصين عن أبي العالية عن ابن عباس فذكره. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن
عوف حدثني زياد بن حصين حدثني أبي حصين بن قيس قال: صعدت مع ابن عباس في الحج وكنت خليلا له فلما
كان بعد إحرامنا قال ابن عباس: فأخذ بذنب بعيره فجعل يلويه ويرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا * إن تصدق الطير ننك لميسا
قال: فقلت أترفث وأنت محرم؟ فقال إنما الرفث ما قيل عند النساء. وقال عبد الله بن طاوس عن أبيه سألت ابن
عباس عن قول الله عز وجل " فلا رفث ولا فسوق " قال: الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام
العرب وهو أدنى الرفث. وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش. وكذا قال عمرو بن
دينار وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة وهو التعريض وهو محرم. وقال طاوس: وهو أن يقول للمرأة إذا حللت
أصبتك. وكذا قال أبو العالية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز وإن
تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك. وقال ابن عباس أيضا وابن عمر: الرفث غشيان النساء. وكذا قال
سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم وأبو العالية عن عطاء ومكحول وعطاء الخراساني وعطاء بن يسار وعطية
وإبراهيم النخعي والربيع والزهري والسدي ومالك بن أنس ومقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك والحسن وقتادة
والضحاك وغيرهم.
وقوله " ولا فسوق " قال مقسم وغير واحد عن ابن عباس هي المعاصي. وكذا قال عطاء ومجاهد وطاوس
وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة وإبراهيم النخعي والزهري والربيع بن أنس وعطاء بن يسار
وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: الفسوق ما أصيب من
معاصي الله صيدا أو غيره. وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان
معاصي الله في الحرم. وقال آخرون: الفسوق ههنا السباب. قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد
والسدي وإبراهيم النخعي والحسن وقد يتمسك هؤلاء بما ثبت في الصحيح " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر "
ولهذا رواه ههنا الحبر أبو محمد بن أبي حاتم من حديث سفيان الثوري عن زبيد عن أبي وائل عن عبد الله عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وروي من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه
ومن حديث أبي إسحق عن محمد بن سعد عن أبيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الفسوق ههنا الذبح
للأصنام. قال الله تعالى " أو فسقا أهل لغير الله به " وقال الضحاك: الفسوق التنابز بالألقاب. والذين قالوا
244

الفسوق ههنا هو جميع المعاصي الصواب معهم. كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم وإن كان في جميع
السنة منهيا عنه إلا أنه في الأشهر الحرم آكد ولهذا قال: " منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن
أنفسكم " وقال في الحرم: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " واختار ابن جرير أن الفسوق ههنا
هو ارتكاب ما نهي عنه في الاحرام من قتل الصيد وحلق الشعر وقلم الأظفار ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر وما
ذكرناه أولى والله أعلم: وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
وقوله " ولا جدال في الحج " فيه قولان: " أحدهما " ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه وقد بينه الله أتم بيان
ووضحه أكمل إيضاح كما قال وكيع عن العلاء بن عبد الكريم سمعت مجاهدا يقول " ولا جدال في الحج " قد بين
الله أشهر الحج فليس فيه جدال بين الناس. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " ولا جدال في الحج " قال لأشهر
ينسأ ولا جدال في الحج قد تبين ثم ذكر كيفية ما كان المشركون يصنعون في النسئ الذي ذمهم الله به. وقال
الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن مجاهد في قوله " ولا جدال في الحج " قال قد استقام الحج فلا جدال فيه وكذا
قال السدي وقال هشام: أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس " ولا جدال في الحج " قال المراء في الحج.
وقال عبد الله بن وهب قال مالك: قال الله تعالى " ولا جدال في الحج " قال فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا
كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن
أصوب ويقول هؤلاء: نحن أصوب. فهذا فيما نرى والله أعلم. وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم فقطعه الله حين أعلم نبيه بالمناسك.
وقال ابن وهب عن أبي صخر عن محمد بن كعب قال: كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء: حجنا أتم من
حجكم وقال هؤلاء: حجنا أتم من حجكم. وقال حماد بن سلمة عن جبير بن حبيب عن القاسم بن محمد أنه قال:
الجدال في الحج أن يقول بعضهم الحج غدا ويقول بعضهم الحج اليوم. وقد اختار ابن جرير مضمون هذه الأقوال
وهو قطع التنازع في مناسك الحج والله أعلم.
" والقول الثاني " أن المراد بالجدال ههنا المخاصمة. قال ابن جرير: حدثنا عبد الحميد بن حسان حدثنا إسحاق
عن شريك عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود في قوله " ولا جدال في الحج " قال: أن
تماري صاحبك حتى تغضبه. وبهذا الاسناد إلى أبي إسحق عن التميمي سألت ابن عباس عن الجدال قال:
المراء تماري صاحبك حتى تغضبه. وكذلك روى مقسم والضحاك عن ابن عباس. وكذا قال أبو العالية وعطاء
ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وجابر بن زيد وعطاء الخراساني ومكحول والسدي ومقاتل بن حيان وعمرو بن دينار
والضحاك والربيع بن أنس وإبراهيم النخعي وعطاء بن يسار والحسن وقتادة والزهري. وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس: ولا جدال في الحج المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك فنهى الله عن ذلك وقال إبراهيم
النخعي " ولا جدال في الحج " قال كانوا يكرهون الجدال وقال محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال:
الجدال في الحج السباب والمنازعة. وكذا روى ابن وهب عن يونس عن نافع أن ابن عمر كان يقول: الجدال في
الحج السباب والمراء والخصومات. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن الزبير والحسن وإبراهيم وطاوس
ومحمد بن كعب قالوا: الجدال المراء. وقال عبد الله بن المبارك عن يحيى بن بشير عن عكرمة " ولا جدال في
الحج " والجدال الغضب أن تغضب عليك مسلما إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه فلا بأس عليك
إن شاء الله " قلت " ولو ضربه لكان جائزا سائغا. والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن إدريس
حدثنا محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قال: خرجنا مع
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلست عائشة إلى جنب
245

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلست إلى جنب أبي وكانت زمالة أبي بكر وزمالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة مع غلام أبي بكر فجلس أبو
بكر ينتظره إلى أن يطلع عليه فأطلع وليس معه بعيره فقال: أين بعيرك؟ فقال أضللته البارحة. فقال أبو بكر بعير
واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله يتبسم ويقول " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع " وهكذا أخرجه أبو داود
وابن ماجة من حديث ابن إسحاق ومن هذا الحديث حكى بعضهم عن بعض السلف أنه قال: من تمام الحج ضرب
الجمال ولكن يستفاد من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبي بكر - رضي الله عنه - " انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع " كهيئة
الانكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك والله أعلم.
وقد قال الامام عبد بن حميد في مسنده حدثنا عبيد الله بن موسى عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيد الله
عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من
ذنبه ".
وقوله " وما تفعلوا من خير يعلمه الله " لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه
عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة. وقوله " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " قال العوفي عن ابن
عباس: كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة يقولون نحج بيت الله ولا يطعمنا؟ فقال الله تزودوا ما
يكف وجوهكم عن الناس. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو بن
دينار عن عكرمة أن ناسا كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " وكذا رواه ابن جرير عن
عمرو وهو الفلاس عن ابن عيينة قال ابن أبي حاتم: وقد روى هذا الحديث ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن
ابن عباس قال وما يرويه عن ابن عيينة أصح " قلت " قد رواه النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس كان ناس يحجون بغير زاد فأنزل الله " وتزودوا فإن خير
الزاد التقوى " وأما حديث ورقاء فأخرجه البخاري عن يحيى بن بشر عن شبابة وأخرجه أبو داود عن أبي مسعود
أحمد بن الفرات الرازي ومحمد بن عبد الله المخزومي عن شبابة عن ورقاء عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن
عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله " وتزودوا فإن خير الزاد
التقوى " ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن شبابة. ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث شبابة وروى ابن
جرير وابن مردويه من حديث عمرو بن عبد الغفار عن نافع عن ابن عمر قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزوادهم رموا
بها واستأنفوا زادا آخر فأنزل الله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى " فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الدقيق
والسويق والكعك. وكذا قال ابن الزبير وأبو العالية ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي وسالم بن عبد الله وعطاء
الخراساني وقتادة والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان: وقال سعيد بن جبير: فتزودوا الدقيق والسويق والكعك. وقال
وكيع بن الجراح في تفسيره: حدثنا سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير " وتزودوا " قال الخشكنانج
والسويق. وقال وكيع أيضا: حدثنا إبراهيم المكي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال إن من كرم الرجل
طيب زاده في السفر وزاد فيه حماد بن سلمة عن أبي ريحانة أن ابن عمر كان يشترط على من صحبه الجودة.
وقوله " فإن خير الزاد التقوى " لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة وهو استصحاب التقوى
إليها كما قال " وريشا ولباس التقوى ذلك خير " لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي وهو
الخشوع والطاعة والتقوى وذكر أنه خير من هذا وأنفع. قال عطاء الخراساني في قوله " فإن خير الزاد التقوى "
يعني زاد الآخرة. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا عبدان حدثنا هشام بن عمار حدثنا مروان بن معاوية عن
إسماعيل عن قيس عن جرير عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة " وقال مقاتل بن
حيان: لما نزلت هذه الآية " وتزودوا " قام رجل من فقراء المسلمين فقال: يا رسول الله ما نجد ما نتزوده فقال
246

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " تزود ما تكف به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى " رواه ابن أبي حاتم وقوله " واتقون يا
أولى الألباب " يقول: واتقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري يا ذوي العقول والافهام.
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما
هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين (198)
قال البخاري: حدثنا محمد أخبرني ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا
في الجاهلية فتأثموا أن يتجروا في الموسم فنزلت " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " في مواسم
الحج. وهكذا رواه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وغير واحد عن سفيان بن عيينة به ولبعضهم فلما جاء الاسلام
تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأنزل الله هذه الآية وكذا رواه ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن
عباس قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ ومجنة وذو المجاز فلما كان الاسلام كأنهم كرهوا ذلك حتى نزلت
هذه الآية وروى أبو داود وغيره من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس قال: كانوا يتقون البيوع
والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل الله " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وقال ابن
جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشام أخبرنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه قال " ليس عليكم جناح أن
تبتغوا فضلا من ربكم " في مواسم الحج. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: لا حرج عليكم
في الشراء والبيع قبل الاحرام وبعده وهكذا روى العوفي عن ابن عباس وقال وكيع: حدثنا طلحة بن عمرو
الحضرمي عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يقرأ " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " في مواسم الحج.
وقال عبد الرحمن عن ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن الزبير يقرأ " ليس عليكم جناح أن تبتغوا
فضلا من ربكم " في مواسم الحج وهكذا فسرها مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومنصور بن المعتمر وقتادة
وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس وغيرهم. وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا
شعبة عن أبي أميمة قال: سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر " ليس عليكم جناح أن
تبتغوا فضلا من ربكم " وهذا موقوف وهو قوي جيد وقد روي مرفوعا. قال أحمد: حدثنا أسباط حدثنا
الحسن بن عمرو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال: أليس تطوفون
بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون رؤسكم قال قلنا بلى فقال ابن عمر: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم "
فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " أنتم حجاج " وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن العلاء بن المسيب عن رجل من بني تميم
قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إنا قوم نكري ويزعمون أنه ليس لنا حج قال:
ألستم تحرمون كما يحرمون وتطوفون كما يطوفون وترمون كما يرمون؟ قال: بلى قال: فأنت حاج ثم قال ابن عمر: جاء
رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عما سألت عنه فنزلت هذه الآية " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " ورواه
عبد بن حميد في تفسيره عن عبد الرزاق به وهكذا روى هذا الحديث أبو حذيفة عن الثوري مرفوعا. وهكذا روي
من غير هذا الوجه مرفوعا فقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عباد بن العوام عن العلاء بن المسيب
عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر: إنا أناس نكري في هذا الوجه إلى مكة وإن أناسا يزعمون أنه لا حج لنا
فهل ترى لنا حجا؟ قال ألستم تحرمون وتطوفون بالبيت وتقضون المناسك؟ قال: قلت بلى قال " فأنتم حجاج "
ثم قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألت فلم يدر ما يعود عليه أو قال: فلم يرد عليه شيئا حتى
نزلت " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " فدعا الرجل فتلاها عليه وقال " أنتم حجاج " وكذا رواه
مسعود بن سعد وعبد الواحد بن زياد وشريك القاضي عن العلاء بن المسيب به مرفوعا. وقال ابن جرير: حدثني
247

طليق بن محمد الواسطي حدثنا أسباط هو ابن محمد أخبرنا الحسن بن عمر وهو الفقيمي عن أبي أمامة التيمي قال:
قلت لابن عمر إنا قوم نكري فهل لنا من حج؟ فقال: أليس تطوفون بالبيت وتأتون المعرف وترمون الجمار وتحلقون
رؤوسكم؟ قلنا بلى قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن الذي سألتني عنه فلم يدر ما يقول له حتى نزل جبريل
عليه السلام بهذه الآية " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " إلى آخر الآية. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنتم
حجاج " وقال ابن جرير: حدثني أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا غندر عن عبد الرحمن بن المهاجر عن أبي
صالح مولى عمر قال: قلت يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟
وقوله تعالى " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام " إنما صرف عرفات وإن كان علما على مؤنث
لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات سمي به بقعة معينة فروعي فيه الأصل فصرف اختاره ابن جرير وعرفة
موضع الوقوف في الحج وهي عمدة أفعال الحج ولهذا روى الإمام أحمد وأهل السنن بإسناد صحيح عن الثوري عن
بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك
عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك. وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه "
ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر لان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف في حجة الوداع بعد أن
صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال: " لتأخذوا عني مناسككم " وقال في هذا الحديث " فمن أدرك عرفة قبل أن
يطلع الفجر فقد أدرك " وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف
من أول يوم عرفة واحتجوا بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة فقلت يا رسول الله إني جئت من جبلي طئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما
تركت من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع
وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي.
ثم قيل: إنما سميت عرفات لما رواه عبد الرزاق أخبرني ابن جريج قال: قال ابن المسيب قال علي بن أبي طالب
بعث الله جبريل عليه السلام إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فحج به حتى إذا أتى عرفة قال عرفت وكان قد أتاها مرة قبل ذلك
فلذلك سميت عرفة. وقال ابن المبارك عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: إنما سميت عرفة لان جبريل
كان يري إبراهيم المناسك فيقول: عرفت عرفت فسميت عرفات. وروي نحوه عن ابن عباس وابن عمر وأبي
مجلز فالله أعلم وتسمى عرفات المشعر الحرام والمشعر الأقصى وإلال على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل
الرحمة قال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له * إلال إلى تلك الشراج القوابل
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حماد بن الحسن بن عيينة حدثنا أبو عامر عن زمعة هو ابن صالح عن سلمة بن وهرام عن
عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم
على رؤوس الرجال دفعوا فأخر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدفعة عن عرفة حتى غربت الشمس ورواه ابن مردويه من حديث
زمعة بن صالح وزاد: ثم وقف بالمزدلفة وصلى الفجر بغلس حتى إذا أسفر كل شئ وكان في الوقت الآخر دفع
وهذا أحسن الاسناد وقال ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو
بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد - وكان إذا خطب خطبة قال أما بعد - فإن هذا اليوم الحج الأكبر ألا وإن
أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل أن تغيب الشمس إذا كانت الشمس في رؤوس الجبال كأنها
عمائم الرجال في وجوهها وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس مخالفا هدينا هدي أهل الشرك " هكذا رواه ابن مردويه
وهذا لفظه والحاكم في مستدركه كلاهما من حديث عبد الرحمن بن المبارك العيشي عن عبد الوارث بن سعيد عن
ابن جريج. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقد صح وثبت بما ذكرناه سماع المسور من
248

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا كما يتوهمه بعض أصحابنا أنه ممن له رؤية بلا سماع وقال وكيع عن شعبة عن إسماعيل بن رجاء
الزبيدي عن المعرور بن سويد قال: رأيت عمر - رضي الله عنه - حين دفع من عرفة كأني أنظر إليه رجل أصلع على بعير
له يوضع وهو يقول: إنا وجدنا الإفاضة هي الايضاع. وفي حديث جابر بن عبد الله الطويل الذي في صحيح مسلم
قال فيه: - فلم يزل واقفا يعني بعرفة حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلا حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه
ودفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى " أيها الناس: السكينة
السكينة " كلما أتي جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب
والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح
بأذان وإقامة ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده فلم يزل واقفا
حتى أسفر جدا فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد أنه سئل كيف كان يسير
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دفع؟ قال: كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص. والعنق هو انبساط السير والنص فوقه وقال
ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو محمد بن بنت الشافعي فيما كتب إلي عن أبيه أو عمه عن سفيان بن عيينة قوله " فإذا
أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام " وهي الصلاتين جميعا وقال أبو إسحق السبيعي عن عمرو بن
ميمون سألت عبد الله بن عمرو عن المشعر الحرام فسكت حتى إذا هبطت أيدي رواحلنا بالمزدلفة قال: أين السائل عن
المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم قال: قال ابن عمر:
المشعر الحرام المزدلفة كلها. وقال هشام عن حجاج عن نافع عن ابن عمر أنه سئل عن قوله " فاذكروا الله عند
المشعر الحرام " قال فقال: هذا الجبل وما حوله. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن المغيرة عن إبراهيم قال:
رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر. وروي عن ابن عباس وسعيد بن
جبير وعكرمة ومجاهد والسدي والربيع بن أنس والحسن وقتادة أنهم قالوا: هو ما بين الجبلين. وقال ابن جريج:
قلت لعطاء أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر قال وليس المأزمان مأزمي عرفة من
المزدلفة ولكن مفضاهما قال: فقف بينهما إن شئت قال وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس
" قلت " والمشاعر هي المعالم الظاهرة وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم وهل الوقوف بها ركن
في الحج لا يصح إلا به كما ذهب إليه طائفة من السلف وبعض أصحاب الشافعي منهم القفال وابن خزيمة لحديث
عروة بن مضرس؟ أو واجب كما هو أحد قولي الشافعي يجبر بدم؟ أو مستحب لا يجب بتركه شئ كما هو القول
الآخر؟ في ذلك ثلاثة أقوال للعلماء لبسطها موضع آخر غير هذا والله أعلم. وقال عبد الله بن المبارك عن سفيان
الثوري عن زيد بن أسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة وجمع كلها موقف إلا محسرا "
هذا حديث مرسل وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا سعيد بن عبد العزيز حدثني سليمان بن موسى
عن جبير بن مطعم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن
محسر وكل فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح " وهذا أيضا منقطع فإن سليمان بن موسى هذا وهو الأشدق لم
يدرك جبير بن مطعم ولكن رواه الوليد بن مسلم وسويد بن عبد العزيز عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان فقال
الوليد عن جبير بن مطعم عن أبيه وقال سويد عن نافع بن جبير عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فذكره والله
أعلم.
وقوله " واذكروه كما هداكم " تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان والارشاد إلى مشاعر الحج على
ما كان عليه من الهداية إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال " وإن كنتم من قبله لمن الضالين " قيل من قبل هذا
الهدي وقيل القرآن وقيل الرسول والكل متقارب ومتلازم وصحيح.
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199)
249

ثم ههنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر
الحرام وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات كما كان جمهور الناس يصنعون يقفون بها إلا قريشا فإنهم لم
يكونوا يخرجون من الحرم فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحل ويقولون نحن أهل الله في بلدته وقطان بيته قال
البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن حازم حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة
قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وسائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء
الاسلام أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله " من حيث أفاض الناس " وكذا
قال ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم واختاره ابن جرير وحكى عليه الاجماع. وقال الإمام أحمد
: حدثنا سفيان عن عمرو عن مجاهد عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: أضللت بعيرا لي بعرفة
فذهبت أطلبه فإذا النبي - صلى الله عليه وسلم - واقف قلت إن هذا من الحمس ما شأنه ههنا؟ أخرجاه في الصحيحين ثم رواه
البخاري من حديث موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس ما يقتضي أن المراد بالإضافة ههنا هي الإفاضة من
المزدلفة إلى منى لرمي الجمار فالله أعلم. وحكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط. قال: والمراد بالناس
إبراهيم عليه السلام وفي رواية عنه: الامام. وقال ابن جرير: ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو
الأرجح.
وقوله " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " كثيرا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثا. وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير
ثلاثا وثلاثين. وقد روى ابن جرير ههنا حديث ابن عباس بن مرداس السلمي في استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لامته عشية عرفة وقد
أوردناه في جزء جمعناه في فضل يوم عرفة. وأورد ابن مردويه ههنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك
وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا
يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ومن قالها في نومه فمات دخل الجنة " وفي
الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن أبا بكر قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال: " قل
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور
الرحيم " والأحاديث في الاستغفار كثيرة.
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا أتنا في الدنيا وما له
في الآخرة من خلاق (200) ومنهم من يقول ربنا أتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (201) أولئك
لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب (202)
يأمر تعالى بذكره والاكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها وقوله " كذكركم آباءكم " اختلفوا في معناه فقال ابن
جريج عن عطاء هو كقول الصبي أبه أمه يعني كما يلهج الصبي يذكر أبيه وأمه فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد
قضاء النسك. وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس وروى ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه. وقال
سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل
الحمالات ويحمل الديات. ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم. فأنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - " فاذكروا الله كذكركم
آباءكم أو أشد ذكرا " قال ابن أبي حاتم: وروى السدي عن أنس بن مالك وأبي وائل وعطاء بن أبي رباح في أحد
قوليه وسعيد بن جبير وعكرمة في أحد رواياته ومجاهد والسدي وعطاء الخراساني والربيع بن أنس والحسن وقتادة
250

ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان نحو ذلك وهكذا حكاه ابن جرير عن جماعة والله أعلم. والمقصود منه الحث
على كثرة الذكر لله عز وجل ولهذا كان انتصاب قوله أو أشد ذكرا على التمييز تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا وأو
ههنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله " فهي كالحجارة أو أشد قسوة " وقوله " يخشون الناس كخشية الله أو أشد
خشية " " فأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " " فكان قاب قوسين أو أدنى " فليست ههنا للشك قطعا وإنما
هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه. ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة وذم من
لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من
خلاق " أي من نصيب ولاحظ وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك قال سعيد بن جبير عن ابن
عباس: كان قوم من الاعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون اللهم اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن لا
يذكرون من أمر الآخرة شيئا فأنزل الله فيهم " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق "
وكان يجئ بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "
فأنزل الله " أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب " ولهذا مدح من يسأله الدنيا والآخرة فقال " ومنهم
من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا
وصرفت كل شر فإن كل الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ودار رحبة وزوجة حسنة ورزق واسع
وعلم نافع وعمل صالح ومركب هين وثناء جميل إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها
فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الامن من
الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة. وأما النجاة من النار فهو يقتضي
تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام. وقال القاسم أبو عبد الرحمن: من
أعطى قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وجسدا صابرا فقد أوتي في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقي عذاب النار. ولهذا
وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: حدثنا معمر حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس بن
مالك قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " وقال أحمد:
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سأل قتادة أنسا أي دعوة كان أكثر ما يدعوها النبي صلى الله عليه وسلم
قال: يقول " اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة
دعا بها وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه ورواه مسلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا
عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت قال: كنت عند أنس بن مالك فقال له ثابت إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم
فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام قال أبا
حمزة: إن إخوانك يريدون القيام فادع الله لهم فقال: أتريدون أن أشقق لكم الأمور إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة
وفي الآخرة حسنة ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله. وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد
عن ثابت عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هل تدعو
الله بشئ أو تسأله إياه " قال نعم: كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه فهلا قلت " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار " قال فدعا الله فشفاه انفرد بإخراجه مسلم فرواه من حديث ابن أبي عدي به. وقال الإمام الشافعي:
أخبرنا سعيد بن سالم القداح عن ابن جريج عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه عن عبد الله بن السائب أنه
سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما بين ركن بني جمح والركن الأسود " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار " ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك. وروى ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك وفي سنده
ضعف والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور حدثنا سعيد بن سليمان
عن عبد الله بن هرمز عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا
251

يقول آمين فإذا مررتم عليه فقولوا " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ". وقال الحاكم في
مستدركه: حدثنا أبو زكريا العنبري حدثنا محمد بن عبد السلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن الأعمش
عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أجرت نفسي من قوم على أن
يحملوني ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم أفيجزي ذلك؟ فقال أنت من الذين قال الله " أولئك
لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب " ثم قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا
أنكم إليه تحشرون (203)
قال ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات أيام العشر. وقال عكرمة " واذكروا الله في أيام
معدودات " يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر الله أكبر. وقال الإمام أحمد: حدثنا
وكيع حدثنا موسى بن علي عن أبيه قال: سمعت عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يوم عرفة ويوم النحر وأيام
التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام أكل وشرب " وقال أحمد أيضا: حدثنا هشام أخبرنا خالد عن أبي
المليح عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " ورواه مسلم أيضا
وتقدم حديث جبير بن مطعم " عرفة كلها موقف وأيام التشريق كلها ذبح " وتقدم أيضا حديث عبد الرحمن بن يعمر
الديلي " وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا أثم عليه " وقال ابن جرير: حدثنا
يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم قالا: حدثنا هشام عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " أيام التشريق أيام طعم وذكر الله " وحدثنا خالد بن أسلم حدثنا روح حدثنا صالح حدثني ابن
شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى " لا تصوموا
هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل " وحدثنا يعقوب حدثنا هشام عن سفيان بن حسين عن الزهري
قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حذافة فنادى في أيام التشريق فقال " إن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله إلا من
كان عليه صوم من هدي " زيادة حسنة ولكن مرسلة وبه قال هشام عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عمرو بن
دينار أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث بشر بن سحيم فنادى في أيام التشريق فقال " إن هذه أيام أكل
وشرب وذكر الله " وقال هشيم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله
وسلم عن صوم أيام التشريق قال " وهي أيام أكل وشرب وذكر الله " وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم عن
مسعود بن الحكم الزرقي عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى علي على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء حتى وقف على
شعب الأنصار وهو يقول: يا أيها الناس إنها ليست بأيام صيام إنما هي أيام أكل وشرب وذكر الله. وقال مقسم عن
ابن عباس: الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام يوم النحر وثلاثة بعده وروي عن ابن عمر وابن الزبير وأبي
موسى وعطاء ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي مالك وإبراهيم النخعي ويحيى بن أبي كثير والحسن وقتادة
والسدي والزهري والربيع بن أنس والضحاك ومقاتل بن حيان وعطاء الخراساني ومالك بن أنس وغيرهم مثل ذلك
وقال علي بن أبي طالب هي ثلاثة: يوم النحر ويومان بعده اذبح في أيهن شئت وأفضلها أولها. والقول الأول هو
المشهور وعليه دل ظاهر الآية الكريمة حيث قال " فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه " فدل
على ثلاثة بعد النحر ويتعلق بقوله " واذكروا الله في أيام معدودات " ذكر الله على الأضاحي وقد تقدم أن الراجح في
ذلك مذهب الشافعي رحمه الله وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ويتعلق به أيضا الذكر
المؤقت خلف الصلوات والمطلق في سائر الأحوال وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة
الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو آخر النفر الآخر وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني
252

ولكن لا يصح مرفوعا والله أعلم. وقد ثبت أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يكبر في قبته فيكبر أهل السوق
بتكبيره حتى ترتج منى تكبيرا ويتعلق بذلك أيضا التكبير وذكر الله عند رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق وقد
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار
لإقامة ذكر الله عز وجل. ولما ذكر الله تعالى النفر الأول والثاني وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم
والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال " واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون " كما قال " وهو الذي
ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ".
ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى
سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة
بالاثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد (207)
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأظهر الاسلام وفي باطنه خلاف ذلك.
وعن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم فأنزل الله في
ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " وقيل بل ذلك عام في
المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد وهو الصحيح. وقال ابن
جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن القرظي
عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب قال إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل قوم
يحتالون على الدنيا بالدين ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر يلبسون للناس مسوك الضأن
وقلوبهم قلوب الذئاب يقول الله تعالى: فعلي يجترئون وبي يغترون حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم
فيها حيران قال القرظي تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون فوجدتها " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة
الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه " الآية وحدثني محمد بن أبي معشر أخبرني أبو معشر نجيح قال: سمعت سعيدا
المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي فقال سعيد: إن في بعض الكتب: إن عبادا ألسنتهم أحلى من العسل
وقلوبهم أمر من الصبر لبسوا للناس مسوك الضأن من اللين يجترون الدنيا بالدين قال الله تعالى: علي تجترئون
وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران. فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله فقال
سعيد: وأين هو من كتاب الله قال قول الله " ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا " الآية فقال سعيد: قد
عرفت فيمن أنزلت هذه الآية فقال محمد بن كعب إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد وهذا الذي قاله
القرظي حسن صحيح. وأما قوله " ويشهد الله على ما في قلبه " فقرأه ابن محيصن " ويشهد الله " بفتح الياء
وضم الجلالة " على ما في قلبه " ومعناها أن هذا وإن أظهر لكم الحيل لكن الله يعلم من قلبه القبيح كقوله تعالى
" إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون "
وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة " ويشهد الله على ما في قلبه " ومعناه أنه يظهر للناس الاسلام ويبارز الله
بما في قلبه من الكفر والنفاق كقوله تعالى " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " الآية هذا معنى ما رواه
ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس وقيل معناه أنه إذا أظهر للناس
الاسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح. وقاله عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس وحكاه عن مجاهد والله أعلم.
وقوله " وهو ألد الخصام " الألد في اللغة الأعوج " وتنذر به قوما لدا " أي عوجا وهكذا المنافق في حال
253

خصومته يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه بل يفتري ويفجر كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
" آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " وقال البخاري: حدثنا قبيصة حدثنا سفيان
عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة ترفعه. قال: " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " قال: وقال
عبد الله بن يزيد: حدثنا سفيان حدثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن أبغض الرجال
إلى الله الألد الخصم " وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر في قوله " وهو ألد الخصام " عن ابن جريج عن ابن أبي
مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ".
وقوله " وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " أي هو أعوج المقال
سيئ الفعال فذلك قوله وهذا فعله كلامه كذب واعتقاده فاسد وأفعاله قبيحة والسعي ههنا هو القصد كما
قال إخبارا عن فرعون " ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن في
ذلك لعبرة لمن يخشى " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله " أي
اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية " إذا أتيتم الصلاة
فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار " فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك
الحرث وهو محل نماء الزروع والثمار والنسل وهو نتاج الحيوانات الذين لا قوام للناس إلا بهما. وقال مجاهد إذا
سعى في الأرض إفسادا منع الله القطر فهلك الحرث والنسل " والله لا يحب الفساد " أي لا يحب من هذه صفته ولا
من يصدر منه ذلك.
وقوله " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم " أي إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله وقيل له اتق الله وانزع عن
قولك وفعلك وارجع إلى الحق امتنع وأبى وأخذته الحمية والغضب بالاثم أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام وهذه
الآية شبيهة بقوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين
يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير " ولهذا قال في هذه الآية
" فحسبه جهنم ولبئس المهاد " أي هي كافيته عقوبة في ذلك.
وقوله " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ذكر صفات
المؤمنين الحميدة فقال " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله " قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب
وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه
الناس أن يهاجر بماله وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل فتخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية فتلقاه
عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له ربح البيع فقال وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك فأخبروه أن
الله أنزل هذه الآية. ويروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له " ربح البيع صهيب " قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم
حدثنا محمد بن عبد الله بن رسته حدثنا سليمان بن داود حدثنا جعفر بن سليمان الضبي حدثنا عوف عن أبي عثمان
النهدي عن صهيب قال: لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لي قريش يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك
وتخرج أنت ومالك والله لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلون عني؟ قالوا نعم فدفعت
إليهم مالي فخلوا عني فخرجت حتى قدمت المدينة فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " ربح صهيب ربح صهيب " مرتين
وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه نفر من
قريش فنزل عن راحلته وانثل ما في كنانته ثم قال: يا معشر قريش قد علمتم أنى من أرماكم رجلا وأنتم والله لا
تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شئ ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم
دللتكم على مالي وقنيتي بمكة وخليتم سبيلي قالوا نعم فلما قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " ربح البيع " قال ونزلت
" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد " وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في
254

كل مجاهد في سبيل الله كما قال تعالى " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في
سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله؟ فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد
عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله
رؤوف بالعباد ".
يا أيها الذين أمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن زللتم من بعد ما
جاءتكم البينات فاعلموا إن الله عزيز حكيم (209)
يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الاسلام وشرائعه والعمل بجميع
أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك. قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد وطاوس والضحاك وعكرمة
وقتادة والسدي وابن زيد في قوله " ادخلوا في السلم " يعني الاسلام. وقال الضحاك عن ابن عباس وأبو العالية
والربيع بن أنس " ادخلوا في السلم " يعني الطاعة. وقال قتادة أيضا الموادعة وقوله " كافة " قال ابن عباس
ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان وقتادة والضحاك جميعا وقال مجاهد أي
اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر.
وزعم عكرمة أنها نزلت في نفر ممن أسلم من اليهود وغيرهم كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة وطائفة استأذنوا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أن يسبتوا وأن يقوموا بالتوراة ليلا فأمرهم الله بإقامة شعائر الاسلام والاشتغال بها عما عداها وفي
ذكر عبد الله بن سلام مع هؤلاء نظر إذ يبعد أن يستأذن في إقامة السبت وهو مع تمام إيمانه يتحقق نسخه ورفعه وبطلانه
والتعويض عنه بأعياد الاسلام.
ومن المفسرين من يجعل قوله " كافة " حالا من الداخلين أي ادخلوا في الاسلام كلكم والصحيح الأول وهو أنهم
أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الايمان وشرائع الاسلام وهي كثيرة جدا ما استطاعوا منها كما قال ابن أبي
حاتم: أخبرنا علي بن الحسين أخبرنا أحمد بن الصباح أخبرني الهيثم بن يمان حدثنا إسماعيل بن زكريا حدثني
محمد بن عون عن عكرمة عن ابن عباس " يا أيها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة " كذا قرأها بالنصب يعني
مؤمني أهل الكتاب فإنهم كانوا مع الايمان مستمسكين ببعض أمور التوراة والشرائع التي أنزلت فيهم فقال الله
" ادخلوا في السلم كافة " يقول ادخلوا في شرائع دين محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا تدعوا منها شيئا وحسبكم الايمان بالتوراة وما
فيها. وقوله " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي اعملوا بالطاعات واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف‍ " إنما يأمركم بالسوء
والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " و " إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " ولهذا قال " إنه لكم
عدو مبين " قال مطرف: أغش عباد الله لعبيد الله الشيطان؟ وقوله " فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات " أي
عدلتم عن الحق بعدما قامت عليكم الحجج فاعلموا أن الله عزيز أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب
حكيم في أحكامه ونقضه وإبرامه ولهذا قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس: عزيز في نقمته حكيم في أمره وقال
محمد بن إسحاق: العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء الحكيم في عذره وحجته إلى عباده.
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الامر وإلى الله ترجع الأمور (210)
يقول تعالى مهددا للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام
والملائكة " يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر
255

ولهذا قال تعالى " وقضي الامر وإلى الله ترجع الأمور " كما قال تعالى " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا * وجاء ربك
والملك صفا صفا * وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى " وقال " هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " الآية. وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ههنا حديث الصور بطوله
من أوله عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم وفيه - أن
الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحدا واحدا من آدم فمن بعده فكلهم يحيد عنها
حتى ينتهوا إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا جاءوا إليه قال " أنا لها أنا لها " فيذهب فيسجد لله تحت العرش
ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشق السماء الدنيا
وينزل من فيها من الملائكة ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة وينزل حملة العرش والكروبيون قال وينزل الجبار عز وجل
في ظلل من الغمام والملائكة ولهم زجل في تسبيحهم يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العزة
والجبروت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت سبوح قدوس رب الملائكة
والروح سبوح قدوس سبحان ربنا الاعلى سبحان ذي السلطان والعظمة سبحانه سبحانه أبدا أبدا. وقد أورد
الحافظ أبو بكر بن مردويه ههنا أحاديث فيها غرابة والله أعلم. فمنها ما رواه من حديث المنهال بن عمرو عن أبي
عبيدة بن عبد الله بن ميسرة عن مسروق عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم
معلوم قياما شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء وينزل الله في ظلل من الغمام من العرش إلى
الكرسي " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو بكر بن عطاء بن مقدم حدثنا معتمر بن سليمان سمعت
عبد الجليل القيسي يحدث عن عبد الله بن عمرو " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " الآية. قال
يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك الظلمة صوتا
تنخلع له القلوب. قال: وحدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد قال: سألت زهير بن محمد عن
قول الله " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام " قال: ظلل من الغمام منظوم من الياقوت مكلل
بالجوهر والزبرجد. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في ظلل من الغمام قال: هو غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني
إسرائيل في تيههم حين تاهوا. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: " هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة " يقول: والملائكة يجيئون في ظلل من الغمام والله تعالى يجئ فيما يشاء
وهي في بعض القراءات " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام " وهي كقوله " ويوم تشقق
السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا ".
سل بني إسرائيل كم أتيناهم من أية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب (211) زين
للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين أمنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشاء بغير
حساب (212)
يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل كم شاهدوا مع موسى من آية بينة أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به كيده
وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر وما كان من تظليل الغمام عليهم في شدة الحر ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك
من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ومع هذا أعرض كثير منهم
عنها وبدلوا نعمة الله كفرا أي استبدلوا بالايمان بها الكفر بها والاعراض عنها " ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته
فإن الله شديد العقاب " كما قال تعالى إخبارا عن كفار قريش " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم
دار البوار * جهنم يصلونها وبئس القرار ". ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين الذين رضوا بها واطمأنوا
256

إليها وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أمروا بها مما يرضي الله عنهم وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا
عنها وأنفقوا ما حصل لهم منها في طاعة ربهم وبذلوه ابتغاء وجه الله فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم
معادهم فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين وخلد
أولئك في الدركات في أسفل سافلين؟ ولهذا قال تعالى " والله يرزق من يشاء بغير حساب " أي يرزق من يشاء
من خلقه ويعطيه عطاء كثيرا جزيلا بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة كما جاء في الحديث " ابن آدم أنفق أنفق
عليك " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا " وقال تعالى " وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه "
وفي الصحيح " أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر:
اللهم أعط ممسكا تلفا " وفي الصحيح " يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت وما
لبست فأبليت وما تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " وفي مسند الإمام أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال " الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له ".
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين أمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (213)
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو داود أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين
نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في
قراءة عبد الله " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم
قال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه وكذا روى أبو جعفر الرازي عن أبي العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها
" كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في
قوله " كان الناس أمة واحدة " قال: كانوا على الهدى جميعا " فاختلفوا فبعث الله النبيين " فكان أول من بعث
نوحا. وهكذا قال مجاهد كما قال ابن عباس أولا. وقال العوفي عن ابن عباس " كان الناس أمة واحدة " يقول:
كانوا كفارا " فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين " والقول الأول عن ابن عباس أصح سندا ومعنى لان الناس كانوا
على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
ولهذا قال تعالى " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من
بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " أي من بعد ما قامت الحجج عليهم وما حملهم على ذلك إلا البغي من بعضهم
على بعض " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " وقال
عبد الرزاق: حدثنا معمر عن سليمان الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة في قوله " فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق بإذنه " الآية قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا
الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي
اختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فغدا لليهود وبعد غد للنصارى " ثم رواه عبد الرزاق عن معمر عن ابن
طاوس عن أبيه عن أبي هريرة. وقال ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله " فهدى الله الذين
آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد فهدى
الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ليوم الجمعة واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واليهود بيت المقدس فهدى الله أمة محمد
للقبلة واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم
257

من يصلي وهو يمشي فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ومنهم
من يصوم عن بعض الطعام فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك. واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود:
كان يهوديا. وقالت النصارى: كان نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك.
واختلفوا في عيسى عليه السلام: فكذبت به اليهود وقالوا لامه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله الله
روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - للحق من ذلك وقال الربيع بن أنس في قوله " فهدى الله الذين آمنوا لما
اختلفوا فيه من الحق بإذنه " أي عند الاختلاف أنهم كانوا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف أقاموا على
الاخلاص لله عز وجل وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل
الاختلاف واعتزلوا الاختلاف وكانوا شهداء على الناس يوم القيامة شهداء على قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم
شعيب وآل فرعون أن رسلهم قد بلغوهم وأنهم قد كذبوا رسلهم وفي قراءة أبي بن كعب وليكونوا شهداء على
الناس يوم القيامة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. وكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات
والضلالات والفتن.
وقوله " بإذنه " أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير " والله يهدي من يشاء " أي من خلقه " إلى صراط
مستقيم " أي وله الحكمة والحجة البالغة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول: " اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب
والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى
صراط مستقيم " وفي الدعاء المأثور " اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه ولا تجعله
متلبسا علينا فنضل واجعلنا للمتقين إماما ".
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول
والذين أمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214)
يقول تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة " قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم
ولهذا قال " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء " وهي الأمراض والأسقام والآلام
والمصائب والنوائب. قال ابن مسعود وابن عباس وأبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير ومرة الهمذاني والحسن وقتادة
والضحاك والربيع والسدي ومقاتل بن حيان " البأساء " الفقر " والضراء " السقم " وزلزلوا " خوفوا من الأعداء
زلزالا شديدا وامتحنوا امتحانا عظيما كما جاء في الحديث الصحيح عن خباب بن الأرت قال: قلنا يا رسول الله ألا
تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا فقال " إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه
لا يصرفه ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه " ثم قال " والله ليتمن الله
هذه الامر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم
تستعجلون وقال الله تعالى " ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من
قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله عنهم في
يوم الأحزاب كما قال الله تعالى " إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر
وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما
وعدنا الله ورسوله إلا غرورا " الآيات. ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال: نعم. قال: فكيف كانت
الحرب بينكم؟ قال: سجالا يدال علينا وندال عليه. قال: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة. وقوله " مثل
258

الذين خلوا من قبلكم " أي سنتهم كما قال تعالى " فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين " وقوله " وزلزلوا
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله " أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند
ضيق الحال والشدة. قال الله تعالى " ألا إن نصر الله قريب " كما قال " فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا "
وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال " ألا إن نصر الله قريب " وفي حديث أبي رزين " عجب ربك من
قنوط عباده وقرب غيثه فينظر إليهم قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجهم قريب " الحديث.
يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير
فإن الله به عليم (215)
قال مقاتل بن حيان: هذه الآية في نفقة التطوع. وقال السدي: نسختها الزكاة وفيه نظر ومعنى الآية: يسألونك
كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد فبين لهم تعالى ذلك فقال " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى
والمساكين وابن السبيل " أي اصرفوها في هذه الوجوه. كما جاء الحديث " أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك
أدناك " وتلا ميمون بن مهران هذه الآية ثم قال: هذه مواضع النفقة ما ذكر فيها طبلا ولا مزمارا ولا تصاوير الخشب
ولا كسوة الحيطان. ثم قال تعالى " وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم " أي مهما صدر منكم من فعل معروف فإن
الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء فإنه لا يظلم أحدا مثقال ذرة.
كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم
وأنتم لا تعلمون (216)
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الاسلام وقال الزهري: الجهاد
واجب على كل أحد غزا أو قعد فالقاعد عليه إذا أستعين أن يعين وإذا استغيث أن يغيث وإذا استنفر أن ينفر وإن لم
يحتج إليه قعد " قلت ": ولهذا ثبت في الصحيح " من مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية "
وقال عليه السلام يوم الفتح " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " وقوله " وهو كره لكم " أي
شديد عليكم ومشقة وهو كذلك فإنه إما أن يقتل أو يجرح مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء. ثم قال تعالى " وعسى
أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " أي لان القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم
وذراريهم وأولادهم " وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم " وهذا عام في الأمور كلها قد يحب المرء شيئا وليس له فيه
خيرة ولا مصلحة ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدو على البلاد والحكم. ثم قال تعالى " والله يعلم
وأنتم لا تعلمون " أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم فاستجيبوا له وانقادوا
لامره لعلكم ترشدون.
يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله
منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن
يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون (217) إن الذين أمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218)
259

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه حدثني الحضرمي عن
أبي السوار عن جندب بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث رهطا وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما ذهب ينطق بكى صبابة
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحبسه فبعث عليهم مكانه عبد الله بن جحش وكتب له كتابا وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ
مكان كذا وكذا وقال " لا تكرهن أحدا على السير معك من أصحابك " فلما قرأ الكتاب استرجع وقال: سمعا
وطاعة لله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان وبقي بقيتهم فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا
أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام فأنزل الله " يسألونك
عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " الآية. وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن
مرة عن ابن مسعود " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " الآية. وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث
سرية وكانوا سبعة نفر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي وفيهم عمار بن ياسر وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسعد بن أبي
وقاص وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل وسهيل بن بيضاء وعامر بن فهيرة وواقد بن عبد الله اليربوعي حليف لعمر
ابن الخطاب وكتب لابن جحش كتابا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل بطن نخلة فلما نزل بطن نخلة فتح الكتاب فإذا فيه " أن
سر حتى تنزل بطن نخلة " فقال لأصحابه من كان يريد الموت فليمض وليوص فإنني موص وماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسار فتخلف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة أضلا راحلة لهما فتخلفا يطلبانها وسار ابن جحش إلى بطن نخلة فإذا هو
بالحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وانفلت وقتل عمرو قتله واقد بن عبد الله فكانت أول غنيمة غنمها
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رجعوا إلى المدينة بأسيرين وما أصابوا من المال أراد أهل مكة أن يفادوا الأسيرين عليه
وقالوا إن محمدا يزعم أنه يتبع طاعة الله وهو أول من استحل الشهر الحرام وقتل صاحبنا في رجب فقال المسلمون
إنما قتلناه في جمادى وقتل في أول ليلة من رجب وآخر ليلة من جمادى وأغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر
رجب وأنزل الله يعير أهل مكة " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " لا يحل وما صنعتم أنتم يا
معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وإخراج أهل
المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أكبر من القتل عند الله.
وقال العوفي عن ابن عباس " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " وذلك أن المشركين صدوا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وردوه عن المسجد في شهر حرام قال ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل فعاب
المشركون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القتال في شهر حرام فقال الله " وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج
أهله منه أكبر عند الله " من القتال فيه وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في
آخر ليلة من جمادى وأول ليلة من رجب وإن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى وكانت أول
رجب ولم يشعروا فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه وإن المشركين أرسلوا يعيرونه بذلك فقال الله تعالى " يسألونك
عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه " إخراج
أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - والشرك أشد منه وهكذا روى أبو سعيد البقال عن
عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش وقتل عمرو بن الحضرمي. وقال محمد بن إسحاق
حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل فيما كان من مصاب عمرو بن الحضرمي
" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه " إلى آخر الآية. وقال عبد الملك بن هشام راوي السيرة عن زياد بن عبد الله
البكائي عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني رحمه الله في كتاب السيرة له إنه قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن جحش بن رباب الأسدي في رجب مقفله من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم
من الأنصار أحد وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير بيومين ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به ولا يستكره من
أصحابه أحدا وكان أصحاب عبد الله بن جحش من المهاجرين ثم من بني عبد شمس بن عبد مناف أبو حذيفة بن
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ومن حلفائهم عبد الله بن جحش وهو أمير القوم وعكاشة بن محصن أحد
260

بني أسد بن خزيمة حليف لهم ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان بن جابر حليف لهم ومن بني زهرة بن
كلاب سعد بن أبي وقاص ومن بني كعب عدي بن عامر بن ربيعة حليف لهم من غير ابن وائل وواقد بن عبد الله بن
عبد مناف بن عرس بن ثعلبة بن يربوع أحد بني تميم حليف لهم وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم
ومن بني الحارث بن فهر سهيل ابن بيضاء فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه " إذا نظرت في
كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم " فلما نظر عبد الله بن
جحش في الكتاب قال: سمعا وطاعة ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أمضي
إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب
فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع فأما أنا فماض لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم
أحد فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان
بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلفا عليه في طلبه ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير
لقريش تحمل زيتا وأدما وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي واسم الحضرمي عبد الله بن عباد أحد
الصدف وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل بن عبد الله المخزوميان والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة
فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم فأشرف لهم عكاشة بن محصن وكان قد حلق رأسه فلما رأوه آمنوا
وقالوا: عمار لا بأس عليكم منهم وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب فقال القوم والله لئن تركتم القوم
هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام فتردد القوم وهابوا الاقدام عليهم
ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن
الحضرمي بسهم فقتله واستأسر عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم وأقبل
عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة قال ابن إسحاق: وقد ذكر
بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه إن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما غنمنا الخمس وذلك قبل أن يفرض الله
الخمس من المغانم فعزل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس العير وقسم سائرها بين أصحابه قال ابن إسحاق: فلما قدموا على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا فلما قال
ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا وقالت
قريش قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال فقال من
يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان وقالت اليهود تفائلوا بذلك على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله عمرو عمرت الحرب والحضرمي حضرت الحرب وواقد بن
عبد الله وقدت الحرب فجعل الله عليهم ذلك لا لهم فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه
أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل " أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به وعن
المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله " أكبر عند الله " من قتل من قتلتم منهم " والفتنة أكبر من القتل " أي قد
كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل " ولا يزالون يقاتلونكم
حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا " أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. قال ابن
إسحاق: فلما نزل القرآن بهذا من الامر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة قبض رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا " يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان " فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل
صاحبكم " فقدم سعد وعتبة ففداهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافرا. قاله ابن إسحاق.
261

فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الاجر فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن
تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل " إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل
الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم " فوضع الله من ذلك على أعظم الرجاء قال ابن إسحاق: والحديث في
هذا عن الزهري ويزيد بن رومان عن عروة وقد روى يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير قريبا من هذا السياق وروى موسى بن عقبة عن الزهري نفسه نحو ذلك وروى شعيب بن أبي حمزة عن
الزهري عن عروة بن الزبير نحوا من هذا أيضا وفيه فكان ابن الحضرمي أول قتيل قتل بين المسلمين والمشركين
فركب وفد من كفار قريش حتى قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فقالوا: أيحل القتال في الشهر الحرام؟ فأنزل الله
" يسألونك عن الشهر الحرام " الآية. وقد استقصى ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة ثم قال ابن
هشام عن زياد عن ابن إسحاق وقد ذكر عن بعض آل عبد الله أن عبد الله قسم الفئ بين أهله فجعل أربعة أخماسه لمن
أفاءه وخمسا إلى الله ورسوله فوقع على ما كان عبد الله بن جحش صنع في تلك العير قال ابن هشام: وهي أول
غنيمة غنمها المسلمون وعمرو بن الحضرمي أول من قتل المسلمون وعثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان أول من
أسر المسلمون. قال ابن إسحاق: فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في غزوة عبد الله بن جحش ويقال بل
عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال
وأسروا فيه الرجال قال ابن هشام: هي لعبد الله بن جحش:
تعدون قتلا في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد * وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله * لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيرتمونا بقتله * وأرجف بالاسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا * بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دما وابن عبد الله عثمان بيننا * ينازعه غل من القيد عائد
يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون
قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219) في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم
خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220)
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال: لما نزل
تحريم الخمر قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآية التي في البقرة " يسألونك عن الخمر
والميسر قل فيهما إثم كبير " فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في
النساء " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فكان منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقام الصلاة نادى " أن لا
يقربن الصلاة سكران " فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في
المائدة فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ " فهل أنتم منتهون " قال عمر: انتهينا انتهينا. وهكذا رواه أبو داود
والترمذي والنسائي من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحق وكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق الثوري
عن أبي إسحق عن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي عن عمرو وليس له عنه سواه لكن قد قال
أبو زرعة لم يسمع منه والله أعلم. وقال علي بن المديني: هذا إسناد صالح صحيح وصححه الترمذي وزاد ابن أبي
حاتم بعد قوله انتهينا إنها تذهب المال وتذهب العقل وسيأتي هذا الحديث أيضا مع ما رواه أحمد من طريق أبي
262

هريرة أيضا عند قوله في سورة المائدة " إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
لعلكم تفلحون " الآيات فقوله " يسألونك عن الخمر والميسر " أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
- رضي الله عنه - إنه كل ما خامر العقل كما سيأتي بيانه في سورة المائدة وكذا الميسر وهو القمار.
وقوله " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " أما إثمهما فهو في الدين وأما المنافع فدنيوية من حيث إن فيها نفع البدن
وتهضيم الطعام وإخراج الفضلات وتشحيذ بعض الأذهان ولذة الشدة المطربة التي فيها كما قال حسان بن ثابت في
جاهليته:
ونشر بها فتتركنا ملوكا * وأسدا لا ينهنهنا اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها وكان يقمشه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ولكن هذه المصالح لا توازي
مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ولهذا قال الله تعالى " وإثمهما أكبر من نفعهما " ولهذا كانت هذه
الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - لما قرئت عليه:
اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم
العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " وسيأتي الكلام على
ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن هذه أول آية نزلت في الخمر " يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير "
ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر.
وقوله " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قرئ بالنصب وبالرفع وكلاهما حسن متجه قريب قال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا يحيى أنه بلغه أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا:
يا رسول الله إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله " ويسألونك ماذا ينفقون " وقال الحكم عن مقسم عن ابن
عباس " ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال: ما يفضل عن أهلك وكذا روي عن ابن عمر ومجاهد وعطاء
وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والحسن وقتادة والقاسم وسالم وعطاء الخراساني والربيع بن أنس وغير
واحد أنهم قالوا في قوله " قل العفو " يعني الفضل وعن طاوس اليسير من كل شئ وعن الربيع أيضا أفضل مالك
وأطيبه والكل يرجع إلى الفضل. وقال عبد بن حميد في تفسيره: حدثنا هوذة بن خليفة عن عوف عن الحسن في
الآية " يسألونك ماذا ينفقون قل العفو " قال ذلك أن لا يجهد مالك ثم تقعد تسأل الناس ويدل على ذلك ما رواه ابن
جرير حدثنا علي بن مسلم حدثنا أبو عاصم عن ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رجل يا رسول الله
عندي دينار قال " أنفقه على نفسك " قال: عندي آخر. قال " أنفقه على أهلك ". قال: عندي آخر قال " أنفقه
على ولدك " قال: عندي آخر قال " فأنت أبصر " وقد رواه مسلم في صحيحه وأخرجه مسلم أيضا عن جابر أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل " ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلأهلك فإن فضل شئ عن أهلك فلذي
قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شئ فهكذا وهكذا ". وعنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول " وفي الحديث أيضا " ابن آدم إنك
إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف " ثم قد قيل إنها منسوخة بآية الزكاة كما رواه
علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وقاله عطاء الخراساني والسدي وقيل مبينة بآية الزكاة قاله مجاهد وغيره
وهو أوجه.
وقوله " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تفكرون في الدنيا والآخرة " أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها
وأوضحها كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة. قال علي بن
263

أبي طلحة عن ابن عباس يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا
علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو أسامة عن الصعق التميمي قال: شهدت الحسن وقرأ هذه الآية من البقرة
" لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة " قال هي والله لمن تفكر فيها ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء وليعلم أن
الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء وهكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: لتعلموا
فضل الآخرة على الدنيا. وفي رواية عن قتادة فآثروا الآخرة على الأولى.
وقوله " يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء
الله لأعنتكم " الآية. قال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال لما نزلت " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " و " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه
فجعل يفضل له الشئ من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله
" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم
بشرابهم. وهكذا رواه أبو داود والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طرق عن عطاء بن
السائب به. وكذا رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا رواه السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن
عباس وعن مرة عن ابن مسعود بمثله وهكذا ذكر غير واحد في سبب نزول هذه الآية كمجاهد وعطاء والشعبي وابن
أبي ليلى وقتادة وغير واحد من السلف والخلف قال وكيع بن الجراح: حدثنا هشام صاحب الدستوائي عن حماد
عن إبراهيم قال: قالت عائشة رضي الله عنها إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة حتى أخلط طعامه
بطعامي وشرابه بشرابي فقوله " قل إصلاح لهم خير " أي على حدة " وإن تخالطوهم فإخوانكم " أي وإن خلطتم
طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم إخوانكم في الدين ولهذا قال " والله يعلم المفسد من
المصلح " أي يعلم من قصده ونيته الافساد أو الاصلاح وقوله " ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم " أي ولو
شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ولكنه وسع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن. قال تعالى
" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " بل جور الاكل منه للفقير بالمعروف إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر أو
مجانا كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله وبه الثقة.
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين
آياته للناس لعلهم يتذكرون (221)
هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان ثم إن كان عمومها مرادا وأنه يدخل
فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن " استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
ومكحول والحسن والضحاك وزيد بن أسلم والربيع بن أنس وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة
الأوثان ولم يرد أهل الكتاب بالكلية والمعنى قريب من الأول والله أعلم فأما ما رواه ابن جرير: حدثني عبيد بن
آدم بن أبي إياس العسقلاني حدثنا أبي حدثني عبد الحميد بن بهرام الفزاري حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت
عبد الله بن عباس يقول نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرم كل ذات
264

دين غير الاسلام. قال الله عز وجل " ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله " وقد نكح طلحة بن عبد الله يهودية ونكح
حذيفة بن اليمان نصرانية فغضب عمر بن الخطاب غضبا شديدا حتى هم أن يسطو عليهما فقالا: نحن نطلق يا أمير
المؤمنين ولا تغضب فقال: لئن حل طلاقهن لقد حل نكاحهن ولكني أنتزعهن منكم صغرة قمأة فهو حديث غريب
جدا وهذا الأثر غريب عن عمر أيضا قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله بعد حكايته الاجماع على إباحة تزويج
الكتابيات وإنما كره عمر ذلك لئلا يزهد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني كما حدثنا أبو كريب حدثنا ابن
إدريس حدثنا الصلت بن بهرام عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر: خل سبيلها فكتب إليه أتزعم
أنها حرام فأخلي سبيلها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام ولكني أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن. وهذا إسناد صحيح
وروى الخلال عن محمد بن إسماعيل عن وكيع عن الصلت نحوه. وقال ابن جرير: حدثني موسى بن عبد الرحمن
المسروقي حدثنا محمد بن بشر حدثنا سفيان بن سعيد عن يزيد بن أبي زياد عن زيد بن وهب قال: قال عمر بن
الخطاب: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. قال: وهذا أصح إسنادا من الأول ثم قال: وقد
حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحق الأزرقي عن شريك عن أشعث بن سوار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " ثم قال وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه
فالقول به لاجماع الجميع من الأمة عليه كذا قال ابن جرير رحمه الله وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن
إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب وتأول
" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " وقال البخاري: وقال ابن عمر لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: ربها عيسى
وقال أبو بكر الخلال الحنبلي: حدثنا محمد بن هارون حدثنا إسحاق بن إبراهيم وأخبرني محمد بن علي حدثنا
صالح بن أحمد أنهما سألا أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن قول الله " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " قال:
مشركات العرب الذين يعبدون الأصنام. وقوله " ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم " قال السدي: نزلت
في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ثم فزع فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهما فقال له " ما
هي؟ " قال تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال " يا أبا عبد الله هذه مؤمنة "
فقال والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا نكح أمته وكانوا يريدون
أن ينكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله " ولامة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم *
ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " وقال عبد بن حميد حدثنا جعفر بن عون حدثنا عبد الرحمن بن زياد
الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن
يرديهن ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن وانكحوهن على الدين فلامة سوداء جرداء ذات دين
أفضل " والإفريقي ضعيف وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال " تنكح
المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك " ولمسلم عن جابر مثله وله عن ابن
عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة " وقوله " ولا تنكحوا المشركين حتى
يؤمنوا " أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى " لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن " ثم
قال تعالى " ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم " أي ولرجل مؤمن ولو كان عبدا حبشيا خير من مشرك وإن
كان رئيسا سريا " أولئك يدعون إلى النار " أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على
الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة " والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه " أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه " ويبين
الله آياته للناس لعلهم يتذكرون ".
ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من
265

حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222) نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا
لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين (223)
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت
المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل " ويسألونك عن
المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن " حتى فرغ من الآية. فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " فبلغ ذلك اليهود فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا
خالفنا فيه فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشر. فقالا يا رسول الله: إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير
وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرسل في آثارهما
فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما رواه مسلم من حديث حماد بن زيد بن سلمة فقوله " فاعتزلوا النساء في المحيض "
يعني الفرج لقوله " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة
الحائض فيما عدا الفرج. قال أبو داود أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب عن عكرمة عن بعض
أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد من الحائض شيئا ألقى على فرجها ثوبا. وقال أبو داود أيضا حدثنا الشعبي حدثنا
عبد الله يعني ابن عمر بن غانم عن عبد الرحمن يعني ابن زياد عن عمارة بن غراب أن عمة له حدثته أنها سألت
عائشة قالت: إحدانا تحيض وليس لها ولزوجها فراش إلا فراش واحد قالت: أخبرك بما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل
فمضى إلى مسجده قال أبو داود: تعني مسجد بيتها فما انصرف حتى غلبتني عيني فأوجعه البرد فقال: " ادني مني "
فقلت: إني حائض فقال: " اكشفي عن فخذيك " فكشفت فخذي فوضع خده وصدره على فخذي وحنيت عليه
حتى دفئ ونام - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب
عن كتاب أبي قلابة أن مسروقا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهله فقالت عائشة: مرحبا مرحبا
فأذنوا له فدخل فقال: إني أريد أن أسألك عن شئ وأنا أستحي فقالت إنما أنا أمك وأنت ابني فقال: ما للرجل من
امرأته وهي حائض فقالت له: كل شئ إلا فرجها. ورواه أيضا عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع عن عيينة بن
عبد الرحمن بن جوشن عن مروان الأصفر عن مسروق. قال قلت لعائشة ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت
حائضا؟ قالت: كل شئ إلا الجماع. وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة وروى ابن جرير أيضا عن
أبي كريب عن ابن أبي زائدة عن حجاج عن ميمون بن مهران عن عائشة قالت له: ما فوق الإزار. " قلت " ويحل
مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض وكان يتكئ في
حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع
فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه وقال
أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن جابر بن صبح سمعت خلاسا الهجري قال: سمعت عائشة تقول كنت أنا
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعار الواحد وأنا حائض طامث فإن أصابه مني شئ غسل مكانه لم يعده وإن أصابه يعني
ثوبه شئ غسل مكانه لم يعده وصلى فيه فأما ما رواه أبو داود حدثنا سعيد بن عبد الجبار حدثنا عبد العزيز يعني
ابن محمد عن أبي اليمان عن أم ذرة عن عائشة أنها قالت: كنت إذا حضت نزلت عن المثال على الحصير فلم
تقرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تدن منه حتى تطهر فهو محمول على التنزه والاحتياط وقال آخرون: إنما تحل له مباشرتها
فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن
يباشر امرأة من نسائه أمرها فأتزرت وهي حائض وهذا لفظ البخاري ولهما عن عائشة نحوه. وروى الإمام أحمد وأبو
داود والترمذي وابن ماجة من حديث العلاء عن حزام بن حكيم عن عمه عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل
266

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: " ما فوق الإزار " ولأبي داود أيضا
عن معاذ بن جبل قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحل لي من امرأتي وهي حائض قال: " ما فوق الإزار والتعفف
عن ذلك أفضل " وهو رواية عن عائشة كما تقدم وابن عباس وسعيد بن المسيب وشريح فهذه الأحاديث وما شابهها
حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله الذي رجحه كثير من
العراقيين وغيرهم ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع
العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر الله ويتوب إليه وهل يلزمه مع ذلك
كفارة أم لا؟ فيه قولان " أحدهما " نعم لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي يأتي امرأته
وهى حائض يتصدق بدينار أو نصف دينار وفي لفظ الترمذي " إذا كان دما أحمر فدينار وإن كان دما أصفر فنصف
دينار " وللامام أحمد أيضا عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل في الحائض نصاب دينار فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم
تغتسل فنصف دينار " والقول الثاني " وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور أنه لا شئ في ذلك
بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث فإنه قد روي مرفوعا كما تقدم وموقوفا وهو الصحيح
عند كثير من أئمة الحديث فقوله تعالى " ولا تقربوهن حتى يطهرن " تفسير لقوله " فاعتزلوا النساء في المحيض "
ونهي عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجودا ومفهومه حله إذا انقطع قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن
حنبل فيما أملاه في الطاعة وقوله " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن
حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث " الآية. الطهر يدل على أن يقربها فلما قالت ميمونة وعائشة كانت إحدانا
إذا حاضت اتزرت ودخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شعاره دل ذلك على أنه إنما أراد الجماع.
وقوله " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الاغتسال وذهب ابن حزم إلى
وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله " وليس له في ذلك مستند لان هذا أمر
بعد الحظر وفيه أقوال لعلماء الأصول منهم من يقول إنه على الوجوب كالمطلق وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم
ومنهم من يقول إنه للإباحة ويجعلون تقدم النهي عليه قرينة صارفة له عن الوجوب وفيه نظر والذي ينهض عليه الدليل أنه
يرد عليه الحكم إلى ما كان عليه الامر قبل النهي فإن كان واجبا فواجب كقوله " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين " أو مباحا فمباح كقوله " وإذا حللتم فاصطادوا " " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض " وعلى هذا
القول تجتمع الأدلة وقد حكاه الغزالي وغيره فاختاره بعض أئمة المتأخرين وهو الصحيح وقد اتفق العلماء على أن
المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تعذر ذلك عليها بشرطه إلا أن أبا حنيفة رحمه الله
يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض وهو عشرة أيام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل والله
أعلم. وقال ابن عباس " حتى يطهرن " أي من الدم " فإذا تطهرن " أي بالماء وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن
ومقاتل بن حيان والليث بن سعد وغيرهم.
وقوله " من حيث أمركم الله " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعني الفرج قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" فأتوهن من حيث أمركم الله " يقول في الفرج ولا تعدوه إلى غيره فمن فعل شيئا من ذلك فقد اعتدى وقال ابن
عباس ومجاهد وعكرمة " من حيث أمركم الله " أي أن تعتزلوهن وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطئ في الدبر كما
سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى وقال أبو رزين وعكرمة والضحاك وغير واحد " فأتوهن من حيث أمركم الله "
يعني طاهرات غير حيض ولهذا قال " إن الله يحب التوابين " أي من الذنب وإن تكرر غشيانه " ويحب المتطهرين "
أي المتنزهين عن الأقذار والأذى وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى. وقوله
" نساؤكم حرث لكم " قال ابن عباس: الحرث موضع الولد " فأتوا حرثكم أنى شئتم " أي كيف شئتم مقبلة
ومدبرة في صمام واحد كما ثبتت بذلك الأحاديث قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن ابن المنكدر قال
267

سمعت جابرا قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول فنزلت " نساؤكم حرث لكم فأتوا
حرثكم أنى شئتم " ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان الثوري به. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن
عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس وابن جريج وسفيان بن سعيد الثوري أن محمد بن المنكدر
حدثهم أن جابر بن عبد الله أخبره أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول فأنزل الله
" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال ابن جريج في الحديث. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " مقبلة ومدبرة إذا
كان ذلك في الفرج " وفي حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال: يا
رسول الله: نساؤنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " حرثك ائت حرثك أنى شئت غير أن لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا
تهجر إلا في البيت " الحديث رواه أحمد وأهل السنن حديث آخر قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس أخبرنا ابن
وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عامر ابن يحيى عن عبد الله بن حنش عن عبد الله بن عباس قال: أتى
ناس من حمير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن أشياء فقال له رجل إني أجب النساء فكيف ترى في؟ فأنزل الله
" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " ورواه الإمام أحمد حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين حدثني
الحسن بن ثوبان عن عامر بن يحيى المعافري عن حنش عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية " نساؤكم حرث
لكم " في أناس من الأنصار أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " ائتها على كل حال إذا كان في الفرج " " حديث "
آخر قال أبو جعفر الطحاوي في كتابه مشكل الحديث حدثنا أحمد بن داود بن موسى حدثنا يعقوب بن كاسب حدثنا
عبد الله بن نافع عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أصاب امرأة
في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم " الآية. ورواه ابن جرير عن يونس عن يعقوب
ورواه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن الحارث بن شريح عن عبد الله بن نافع به " حديث آخر " قال الإمام أحمد:
حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا عبيد الله بن عثمان بن خيثم عن عبد الله بن سابط قال: دخلت على حفصة بنت
عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت: فلا تستحي يا ابن أخي قال عن إتيان
النساء في أدبارهن قالت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يجبون النساء وكانت اليهود تقول: إنه من أجبى امرأته
كان ولده أحول فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فأجبوهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن
تفعل ذلك حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت: اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلما جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت فسألته أم سلمة
فقال " ادعي الأنصارية " فدعتها فتلا عليها هذه الآية " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " صماما
واحدا " ورواه الترمذي عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان عن أبي خيثم به وقال حسن. " قلت " وقد روي من
طريق حماد بن أبي حنيفة عن أبيه عن ابن خيثم عن يوسف بن ماهك عن حفصة أم المؤمنين أن امرأة أتتها فقالت:
إن زوجي يأتيني مجبية ومستقبلة فكرهته فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " لا بأس إذا كان في صمام واحد "
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا يعقوب يعني القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله هلكت قال " وما الذي أهلكك " قال: حولت
رحلي البارحة قال فلم يرد عليه شيئا قال فأوحى الله إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى
شئتم " " أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة ". ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن حسن بن موسى الأشيب به وقال
حسن غريب وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحارث بن شريح حدثنا عبد الله بن نافع حدثنا هشام بن سعد عن
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: أثفر رجل امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقالوا: أثفر فلان امرأته فأنزل الله عز وجل " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال أبو داود: حدثنا
عبد العزيز بن يحيى أبو الأصبغ قال حدثني محمد يعني ابن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن
مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر قال والله يغفر له - أوهم وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع
268

هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون كثيرا من فعلهم وكان من
أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك
من فعلهم وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا منكرا ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات فلما
قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى
على حرف فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني فسرى أمرهما فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم
أنى شئتم " أي مقبلات ومدبرات ومستلقيات يعني بذلك موضع الولد تفرد به أبو داود ويشهد له بالصحة ما تقدم له
من الأحاديث ولا سيما رواية أم سلمة فإنها مشابهة لهذا السياق وقد روى هذا الحديث الحافظ أبو القاسم الطبراني
من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى
خاتمته أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها حتى انتهيت إلى هذه الآية " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم "
فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة ويتلذذون بهن فذكر القصة بتمام سياقها وقول
ابن عباس إن ابن عمر الله يغفر له - أوهم وكأنه يشير إلى ما رواه البخاري حدثنا إسحاق حدثنا النضر بن شميل أخبرنا
ابن عون عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى
انتهى إلى مكان قال: أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبد الصمد قال:
حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر " فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال: أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري
وقد تفرد به من هذا الوجه وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا ابن عون عن نفاع قال: قرأت
ذات يوم " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال نزلت في إتيان
النساء في أدبارهن. وحدثني أبو قلابة حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني أبي عن أيوب عن نافع عن ابن عمر
" فأتوا حرثكم أنى شئتم " قال: في الدبر. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح وروى النسائي
عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن أبي بكر بن أبي أويس عن سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن ابن عمر
أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى
شئتم " قال أبو حاتم الرازي: لو كان هذا عند زيد بن أسلم عن ابن عمر لما أولع الناس بنافع وهذا تعليل منه لهذا
الحديث وقد رواه عبد الله بن نافع عن داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عمر فذكره وهذا
الحديث محمول على ما تقدم وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها لما رواه النسائي عن علي بن عثمان النفيلي عن
سعيد بن عيسى عن الفضل بن فضالة عن عبد الله بن سليمان الطويل عن كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره
أنه قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول إنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال:
كذبوا علي ولكن سأحدثك كيف كان الامر إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ " نساؤكم حرث
لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي
النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء
الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " وهذا
إسناد صحيح. وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن الحسين بن إسحاق عن زكريا بن يحيى الكاتب العمري عن
مفضل بن فضالة عن عبد الله بن عياش عن كعب بن علقمة فذكره وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا
يباح ولا يحل كما سيأتي وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الامام
مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الامام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من
طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه. فقال الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن سهيل بن أبي صالح عن
محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " استحيوا إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل أن تأتوا النساء
في حشوشهن " وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن عبد الله بن شداد عن خزيمة بن ثابت أن
269

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها " طريق أخرى " قال أحمد: حدثنا يعقوب سمعت أبي يحدث عن
يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد أن عبيد الله بن الحسين الوالبي حدثه أن عبد الله الواقفي حدثه أن خزيمة بن ثابت
الخطمي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " استحيوا إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن ". رواه
النسائي وابن ماجة من طرق عن خزيمة بن ثابت وفي إسناده اختلاف كثير " حديث آخر " قال أبو عيسى الترمذي
والنسائي حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة بن سليمان عن كريب عن
ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر " ثم قال الترمذي هذا حديث
حسن غريب وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه وصححه ابن حزم أيضا ولكن رواه النسائي أيضا عن هناد عن وكيع
عن الضحاك به موقوفا. وقال عبد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه ان رجلا سأل ابن عباس عن
إتيان المرأة في دبرها قال: تسألني عن الكفر إسناده صحيح وكذا رواه النسائي من طريق ابن المبارك عن معمر به
نحوه وقال عبد أيضا في تفسيره: حدثنا إبراهيم بن الحاكم عن أبيه عن عكرمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس
وقال: كنت آتي أهلي في دبرها وسمعت قول الله " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " فظننت أن ذلك لي
حلال فقال: يا لكع إنما قوله " فأتوا حرثكم أنى شئتم " قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في اقبالهن لا تعدوا ذلك إلى
غيره " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا همام حدثنا قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى " وقال عبد الله بن أحمد: حدثني هدبة
حدثنا همام قال: سئل قتادة عن الذي يأتي امرأته في دبرها فقال قتادة: أخبرنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال " هي اللوطية الصغرى " قال قتادة وحدثني عقبة بن وساج عن أبي الدرداء
قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر؟ وقد روى هذا الحديث يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله وهذا أصح والله أعلم وكذلك رواه عبد بن حميد عن يزيد بن
هارون عن حميد الأعرج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو موقوفا من قوله " طريق أخرى " قال جعفر
الفريابي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن
عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول ادخلوا النار مع الداخلين:
الفاعل والمفعول به والناكح يده وناكح البهيمة وناكح المرأة في دبرها وجامع بين المرأة وابنتها والزاني بحليلة جاره
ومؤذي جاره حتى يلعنه " ابن لهيعة وشيخه ضعيفان " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان
عن عاصم عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تؤتى النساء في
أدبارهن فإن الله لا يستحيي من الحق وأخرجه أحمد أيضا عن أبي معاوية وأبو عيسى الترمذي من طريق أبي
معاوية أيضا عن عاصم الأحول به وفيه زيادة وقال: هو حديث حسن ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند
علي بن أبي طالب كما وقع في مسند الإمام أحمد بن حنبل والصحيح أنه علي بن طلق " حديث آخر " قال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه " وقال أحمد أيضا: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا سهيل عن
الحارث بن مخلد عن أبي هريرة يرفعه قال " لا ينظر الله إلى رجل جامع امرأته في دبرها " وكذا رواه ابن ماجة من طريق
سهيل وقال أحمد أيضا: حدثنا وكيع عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ملعون من أتى امرأته في دبرها " وهكذا رواه أبو داود والنسائي من طريق وكيع به " طريق أخرى ".
قال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني أخبرنا أحمد بن القاسم بن الريان حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي حدثنا هناد ومحمد بن
إسماعيل واللفظ له قالا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " ملعون من أتى امرأة في دبرها " ليس هذا الحديث هكذا في سنن النسائي وإنما
الذي فيه عن سهيل عن الحارث بن مخلد كما تقدم: قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: ورواية أحمد بن
270

القاسم بن الريان هذا الحديث بهذا السند وهم منه وقد ضعفوه " طريق أخرى " رواها مسلم بن خالد الزنجي عن
العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى عليه وعلى آله وسلم قال " ملعون من أتى النساء في
أدبارهن " ومسلم بن خالد فيه كلام والله أعلم " طريق أخرى " رواها الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن
سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من أتى حائضا أو امرأة في
دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد " وقال الترمذي: ضعف البخاري هذا الحديث والذي قاله
البخاري في حديث الترمذي عن أبي تميمة لا يتابع على حديثه " طريق أخرى " قال النسائي: حدثنا عثمان بن
عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن من كتابه عن عبد الملك بن محمد الصنعاني عن سعيد بن عبد العزيز عن
الزهري عن أبي سلمة - رضي الله عنه - عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " استحيوا من الله حق الحياء لا تأتوا النساء في
أدبارهن " تفرد به النسائي من هذا الوجه. قال حمزة بن محمد الكناني الحافظ هذا حديث منكر باطل من حديث
الزهري ومن حديث أبي سلمة ومن حديث سعيد فإن كان عبد الملك سمعه من سعيد فإنما سمعه بعد الاختلاط وقد
رواه الترمذي عن أبي سلمة أنه كان ينهى عن ذلك فأما عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا انتهى كلامه وقد أجاد وأحسن
الانتقاد إلا أن عبد الملك بن محمد الصنعاني لا يعرف أنه اختلط ولم يذكر ذلك أحد غير حمزة عن الكناني وهو ثقة
ولكن تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وابن حبان وقال: لا يجوز الاحتجاج به والله أعلم. وقد تابعه زيد بن يحيى بن عبيد
عن سعيد بن عبد العزيز. وروي من طريقين آخرين عن أبي سلمة ولا يصح منها شئ " طريق أخرى " قال
النسائي: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد
عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال النساء في أدبارهن كفر. ثم رواه عن بندار عن عبد الرحمن به قال: من أتى امرأة
في دبرها وتلك كفر هكذا رواه النسائي من طريق الثوري عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا. وكذا رواه
من طريق علي بن نديمة عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفا ورواه بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من أتى شيئا من الرجال والنساء في الادبار فقد كفر " والموقوف أصح وبكر بن خنيس ضعفه غير
واحد من الأئمة وتركه آخرون " حديث آخر " قال: قال محمد بن أبان البلخي حدثنا وكيع حدثني زمعة بن صالح عن
ابن طاوس عن أبيه وعن عمرو بن دينار عن عبد الله بن زيد بن الهاد قالا: قال عمر بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن " وقد رواه النسائي حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني عن
عثمان بن اليمان عن زمعة بن صالح عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن الهاد عن عمر قال: لا تأتوا النساء في أدبارهن.
وحدثنا إسحق بن إبراهيم حدثنا زيد بن أبي حكيم عن زمعة بن صالح عن عمرو بن دينار عن طاوس عن عبد الله
بن الهاد الليثي قال: قال عمر - رضي الله عنه - استحيوا من الله فإن الله لا يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في
أدبارهن والموقوف أصح " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا غندر ومعاذ بن معاذ قالا: حدثنا شعبة عن عاصم
الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الله لا
يستحيي من الحق لا تأتوا النساء في أستاههن " وكذا رواه غير واحد عن شعبة ورواه عبد الرزاق عن معمر عن عاصم
الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن طلق بن علي والأشبه أنه علي بن طلق كما تقدم والله أعلم
" حديث آخر " قال أبو بكر الأثرم في سننه: حدثنا أبو مسلم الجرمي حدثنا أخو أنيس بن إبراهيم أن أباه إبراهيم بن
عبد الرحمن بن القعقاع أخبره عن أبيه أبي القعقاع عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " محاش النساء حرام ". وقد
رواه إسماعيل بن علية وسفيان الثوري وشعبة وغيرهم عن أبي عبد الله الشقري واسمه سلمة بن تمام ثقة عن أبي
القعقاع عن ابن مسعود موقوفا وهو أصح " طريق أخرى " قال ابن عدي حدثنا أبو عبد الله المحاملي حدثنا سعيد بن
يحيى الثوري حدثنا محمد بن حمزة عن زيد بن رفيع عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا تأتوا
النساء في أعجازهن " محمد بن حمزة وهو الجزري وشيخه فيهما مقال. وقد روي من حديث أبي بن كعب
والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وأبي ذر وغيرهم وفي كل منها مقال لا يصح معه الحديث والله أعلم. وقال الثوري
271

عن الصلت بن بهرام عن أبي المعتمر عن أبي جويرة قال: سأل رجل عليا عن إتيان امرأة في دبرها فقالت: سفلت
سفل الله بك ألم تسمع قول الله عز وجل " أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين " وقد تقدم قول ابن
مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو في تحريم ذلك وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن
عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يحرمه. قال أبو محمد عبد الرحمن بن عبد الله الدارمي في مسنده حدثنا عبد الله بن
صالح حدثنا الليث عن الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر ما تقول في الجواري
أيحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ وكذا رواه ابن وهب
وقتيبة عن الليث به وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود
إلى هذا الحكم قال ابن جرير: حدثني عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو زيد
أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي العمر حدثني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن أنس أنه قيل له يا أبا
عبد الله إن الناس يروون عن سالم بن عبد الله أنه قال: كذب العبد أو العلج على أبي عبد الله قال مالك: أشهد
على يزيد بن رومان أنه أخبرني عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر مثل ما قال نافع فقيل له فإن الحارث بن يعقوب
يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال له يا أبا عبد الرحمن إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن
فقال وما التحميض؟ فذكر له الدبر فقال ابن عمر: أف أف وهل يفعل ذلك مؤمن أو قال مسلم؟ فقال مالك أشهد
على ربيعة لاخبرني عن أبي الحباب عن ابن عمر مثل ما قال نافع. وروى النسائي عن الربيع بن سليمان عن
أصبغ بن الفرج الفقيه حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال: قلت لمالك إن عندنا بمصر الليث بن سعد يحدث عن
الحارث بن يعقوب عن سعيد بن يسار قال قلت لابن عمر إنا نشتري الجواري أفنحمض لهن؟ قال: وما التحميض؟
قلت: نأتيهن في أدبارهن فقال: أف أف أو يعمل هذا مسلم؟ فقال لي مالك فأشهد على ربيعة لحدثني عن
سعيد بن يسار أنه سأل ابن عمر فقال: لا بأس به وروى النسائي أيضا من طريق يزيد بن رومان عن عبيد الله بن
عبد الله أن ابن عمر كان لا يرى بأسا أن يأتي الرجل المرأة في دبرها. وروى معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك
حرام. وقال أبو بكر بن زياد النيسابوري حدثني إسماعيل بن حسين حدثني إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس ما
تقول في إتيان النساء في أدبارهن قال: ما أنتم إلا قوم عرب هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدو الفرج
قلت يا أبا عبد الله إنهم يقولون إنك تقول ذلك. قال يكذبون علي يكذبون علي فهذا هو الثابت عنه وهو قول أبي
حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاوس وعطاء
وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الانكار ومنهم من
يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء وقد حكي في هذا شئ عن بعض فقهاء المدينة حتى حكوه عن
الامام مالك وفي صحته نظر. قال الطحاوي: روى أصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن القاسم قال: ما أدركت
أحدا أقتدي به في ديني يشك أنه حلال يعني وطئ المرأة في دبرها ثم قرأ " نساؤكم حرث لكم " ثم قال: فأي شئ
أبين من هذا؟ هذه حكاية الطحاوي وقد روى الحاكم والدارقطني والخطيب البغدادي عن الامام مالك من طرق ما
يقتضي إباحة ذلك ولكن في الأسانيد ضعف شديد وقد استقصاها شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه
في ذلك والله أعلم. وقال الطحاوي: حكى لنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أنه سمع الشافعي يقول: ما صح
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تحليله ولا تحريمه شئ والقياس أنه حلال وقد روى ذلك أبو بكر الخطيب عن أبي سعيد الصيرفي
عن أبي العباس الأصم سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم سمعت الشافعي يقول فذكره قال أبو نصر الصباغ:
كان الربيع يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد كذب يعني ابن عبد الحكم على الشافعي في ذلك لان الشافعي
نص على تحريمه في ستة كتب من كتبه والله أعلم.
وقوله " وقدموا لأنفسكم " أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال " واتقوا الله
واعلموا أنكم ملاقوه " أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها " وبشر المؤمنين " أي المطيعين لله فيما أمرهم التاركين
272

ما عنه زجرهم. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني محمد بن كثير عن عبد الله بن واقد عن عطاء
قال أراه عن ابن عباس " وقدموا لأنفسكم " قال: تقول بسم الله التسمية عند الجماع وقد ثبت في صحيح البخاري
عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب
الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدا ".
ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم (224) لا يؤاخذكم الله باللغو في
أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور رحيم (225)
يقول تعالى لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى " ولا يأتل
أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا إلى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن
يغفر الله لكم " فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري: حدثنا إسحاق بن
إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " نحن
الآخرون السابقون يوم القيامة " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والله لان يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي
كفارته التي افترض الله عليه " وهكذا رواه مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به. ورواه أحمد عنه به ثم قال
البخاري: حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا يحيى بن صالح حدثنا معاوية هو ابن سلام عن يحيى وهو ابن أبي كثير عن
عكرمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما ليس تغني الكفارة " وقال
علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع
الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. وكذا قال: مسروق والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس
وسعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومكحول والزهري والحسن وقتادة ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والضحاك وعطاء
الخراساني والسدي رحمهم الله ويؤيد ما قاله هؤلاء الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي
الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو
خير وتحللتها " وثبت فيهما أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لعبد الرحمن بن سمرة " يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل
الامارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإذا حلفت على يمين فرأيت
غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك ". وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من
حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير ". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد
مولى بني هاشم حدثنا خليفة بن خياط حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها " ورواه أبو داود من طريق أبي عبيد الله بن الأخنس عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا نذر ولا يمين فيما لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في
قطيعة رحم ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها " ثم قال أبو
داود والأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها " فليكفر عن يمينه " وهي الصحاح.
وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سعيد الكندي حدثنا علي بن مسهر عن حارثة بن محمد عن عمرة عن عائشة
قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من حلف على يمين قطيعة رحم ومعصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه " وهذا
حديث ضعيف لان حارثة هذا هو ابن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن متروك الحديث ضعيف عند الجميع ثم روى
ابن جرير عن ابن عباس وسعيد بن المسيب ومسروق والشعبي أنهم قالوا: لا يمين في معصية ولا كفارة عليها.
وقوله " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الايمان اللاغية وهي التي
لا يقصدها الحالف بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد كما ثبت في الصحيحين من حديث الزهري
273

عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: " من حلف فقال في
حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله " فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت
عليه من الحلف باللات من غير قصد فأمروا أن يتلفظوا بكلمة الاخلاص كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون
هذه بهذه ولهذا قال تعالى " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " الآية وفي الآية الأخرى " بما عقدتم الايمان " قال
أبو داود: " باب لغو اليمين " حدثنا حميد بن مسعدة الشامي حدثنا حيان يعني ابن إبراهيم حدثنا إبراهيم يعني
الصائغ عن عطاء: اللغو في اليمين قال قالت عائشة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " اللغو في اليمين هو كلام
الرجل في بيته كلا والله وبلى والله " ثم قال أبو داود رواه داود ابن الفرات عن إبراهيم الصائغ عن
عطاء عن عائشة موقوفا. ورواه الزهري وعبد الملك ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا
أيضا. " قلت " وكذا رواه ابن جريج وابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة موقوفا،
ورواه ابن جرير عن هناد عن وكيع وعبدة وأبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في قوله " لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم " لا والله وبلى والله ثم رواه عن محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن هشام عن أبيه
عنها وبه عن ابن إسحاق عن الزهري عن القاسم عنها وبه عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء عنها وقال
عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة في قوله " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قالت هم
القوم يتدارؤون في الامر فيقول هذا لا والله وبلى والله وكلا والله يتدارؤون في الامر لا تعقد عليه قلوبهم وقد قال ابن
أبي حاتم حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة في
قول الله " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " قالت: هو قول الرجل لا والله وبلى والله. وحدثنا أبي حدثنا أبو
صالح كاتب الليث حدثني ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة قال: كانت عائشة تقول إنما اللغو في المزاحة والهزل
وهو قول الرجل لا والله وبلى والله فذاك لا كفارة فيه إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله ثم قال ابن
أبي حاتم وروي عن ابن عمر وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة بن الزبير وأبي صالح
والضحاك في أحد قوليه وأبي قلابة والزهري نحو ذلك " الوجه الثاني " قرئ على يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن
وهب أخبرني الثقة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله " لا يؤاخذكم الله باللغو
في أيمانكم " وتقول هو الشئ يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه ثم قال:
وروي عن أبي هريرة وابن عباس في أحد قوليه وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه وإبراهيم
النخعي في أحد قوليه والحسن وزرارة بن أوفي وأبي مالك وعطاء الخراساني وبكر بن عبد الله أحد قولي عكرمة
وحبيب بن أبي ثابت والسدي ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة نحو ذلك وقال
ابن جرير حدثنا محمد بن موسى الجرشي حدثنا عبد الله بن ميمون المرادي حدثنا عوف الاعرابي عن الحسن ابن
أبي الحسن قال مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم ينتضلون يعني يرمون ومع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل من أصحابه فقام رجل من القوم
فقال أصبت والله وأخطأت والله فقال الذي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - حنث الرجل يا رسول الله قال " كلا أيمان الرماة
لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " هذا مرسل حسن عن الحسن وقال ابن أبي حاتم وروي عن عائشة القولان جميعا حدثنا
عصام بن رواد أنبأنا آدم حدثنا شيبان عن جابر عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة قالت: هو قوله لا والله وبلى والله
وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك " أقوال أخر " قال عبد الرزاق عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم هو الرجل يحلف
على الشئ ثم ينساه وقال زيد بن أسلم هو قول الرجل أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا أخرجني الله من مالي
إن لم آتك غدا فهو هذا قال ابن أبي حاتم: وحدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد بن خالد حدثنا خالد حدثنا عطاء
عن طاوس عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وأخبرني أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن
بشير حدثني أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه
كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير. وقال أبو داود " باب اليمين في الغضب " حدثنا محمد بن المنهال أنبأنا
274

يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث
فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة فقال له عمر: إن
الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا يمين عليك ولا نذر في معصية
الرب عز وجل ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك " وقوله " ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " قال: ابن عباس
ومجاهد وغير واحد: هو أن يحلف على الشئ وهو يعلم أنه كاذب قال مجاهد وغيره: وهي كقوله تعالى " ولكن
يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " الآية " والله غفور حليم " أي غفور لعباده حليم عليهم.
للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءو فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق فإن
الله سميع عليم (227)
الايلاء الحلف فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها فإن
كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة وهذا كما
ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهرا فنزل لتسع وعشرين وقال " الشهر تسع
وعشرون " ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء
أربعة أشهر إما أن يفئ أي يجامع وإما أن يطلق فيجبره الحاكم على هذا وهذا لئلا يضر بها ولهذا قال تعالى:
" للذين يؤلون من نسائهم " أي يحلفون على ترك الجماع من نسائهم فيه دلالة على أن الايلاء يختص بالزوجات
دون الإماء كما هو مذهب الجمهور " تربص أربعة أشهر " أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ثم يوقف
ويطالب بالفيئة أو الطلاق ولهذا قال " فإن فاؤا " أي رجعوا إلى ما كانوا عليه وهو كناية عن الجماع قاله ابن عباس
ومسروق والشعبي وسعيد بن جبير وغير واحد ومنهم ابن جرير رحمه الله " فإن الله غفور رحيم " لما سلف من
التقصير في حقهن بسبب اليمين وقوله " فإن فاؤا فإن الله غفور رحيم " فيه دلالة لاحد قولي العلماء وهو القديم عن
الشافعي أن المولي إذ فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فتركها كفارتها "
كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه التكفير لعموم
وجوب التكفير على كل حالف كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح والله أعلم.
وقوله " وإن عزموا الطلاق " فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين
وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقة وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود
وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم والحسن وأبو سلمة وقتادة وشريح القاضي
وقبيصة بن ذؤيب وعطاء وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن طرخان التيمي وإبراهيم النخعي والربيع بن أنس
والسدي ثم قيل إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر طلقة رجعية قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن
الحارث بن هشام ومكحول وربيعة والزهري ومروان بن الحكم وقيل إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن
مسعود وعثمان وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وبه يقول عطاء وجابر بن زيد ومسروق وعكرمة والحسن وابن
سيرين ومحمد بن الحنفية وإبراهيم وقبيصة بن ذؤيب وأبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح فكل من قال إنما تطلق
بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء أنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا
عدة عليها وهو قول الشافعي والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب إما بهذا وإما بهذا ولا يقع عليها
بمجرد مضيها طلاق وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه
طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق وإما أن يفئ. وأخرجه البخاري وقال الشافعي رحمه الله:
275

أخبرنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم
يوقف المولي. قال الشافعي: وأقل ذلك ثلاثة عشر ورواه الشافعي عن علي - رضي الله عنه - أنه يوقف المولي ثم
قال وهكذا تقول وهو موافق لما رويناه عن عمر وابن عمر وعائشة وعثمان وزيد بن ثابت وبضعة عشر من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم. هكذا قال الشافعي رحمه الله قال ابن جرير: حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن
عمر عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثني عشر رجلا من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته فكلهم
يقول ليس عليه شئ حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق ورواه الدارقطني من طريق سهيل.
" قلت " وهو يروى عن عمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس وبه يقول سعيد بن
المسيب وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وطاوس ومحمد بن كعب والقاسم وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل
وأصحابهم رحمهم الله وهو اختيار ابن جرير أيضا وهو قول الليث وإسحق بن راهويه وأبي عبيد وأبي ثور وداود وكل
هؤلاء قالوا: إن لم يفئ ألزم بالطلاق فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة
وانفرد مالك بأن قال: لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جدا.
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الامام مالك بن أنس رحمه الله في
الموطأ عن عبد الله بن دينار قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه * وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه * لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر فقال
عمر: لا أحبس أحدا من الجيوش أكثر من ذلك وقال محمد بن إسحاق عن السائب بن جبير مولى ابن عباس وكان قد
أدرك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما زلت أسمع حديث عمر أنه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة وكان يفعل ذلك كثيرا إذ
مر بامرأة من نساء العرب مغلقة بابها تقول:
تطاول هذا الليل وأزور جانبه * وأرقني أن لا ضجيع ألاعبه
ألاعبه طورا وطورا كأنما * بدا قمرا في ظلمة الليل حاجبه
يسر به من كان يلهو بقربه * لطيف الحشا لا يحتويه أقاربه
فوالله لولا الله لا شئ غيره * لنقض من هذا السرير جوانبه
ولكنني أخشى رقيبا موكلا * بأنفاسنا لا يفتر الدهر كاتبه
مخافة ربي والحياء يصدني * وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
ثم ذكر بقية ذلك كما تقدم أو نحوه وقد روي هذا من طرق وهو من المشهورات.
والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء ولا يحل لهم أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن
درجة والله عزيز حكيم (228)
هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء بان يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء أي بأن
تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا
طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن ولما رواه ابن جرير عن
276

مظاهر بن أسلم المخزومي المدني عن القاسم عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها
حيضتان " رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ولكن مظاهر هذا ضعيف بالكلية وقال الحافظ الدارقطني وغيره الصحيح
أنه من قول القاسم بن محمد نفسه ورواه ابن ماجة من طريق عطية العوفي عن ابن عمر مرفوعا قال: الدارقطني
والصحيح ما رواه سالم ونافع عن ابن عمر قوله وهكذا روي عن عمر بن الخطاب قالوا: ولم يعرف بين الصحابة
خلاف وقال: بعض السلف: بل عدتها كعدة الحارة لعموم الآية ولان هذا أمر جبلي فكان الحرائر والإماء في هذا
سواء حكى هذا القول الشيخ أبو عمر بن عبد البر عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعفه وقد قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل يعني ابن عياش عن عمرو بن مهاجر عن أبيه أن أسماء بنت
يزيد بن السكن الأنصارية قالت: طلقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عز وجل حين
طلقت أسماء العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء "
وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين:
" أحدهما " أن المراد بها الأطهار وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت
عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت صدق
عروة وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه " ثلاثة قروء " فقالت عائشة: صدقتم وتدرون ما
الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار وقال مالك عن ابن شهاب سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدا من
فقهائنا إلا وهو يقول ذلك يريد قول عائشة وقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إذا طلق الرجل
امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها وقال مالك وهو الامر عندنا وروي مثله عن ابن
عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن وأبان بن عثمان وعطاء
ابن أبي رباح وقتادة والزهري وبقية الفقهاء السبعة وهو مذهب مالك والشافعي وغير واحد وداود وأبي ثور وهو رواية
عن أحمد واستدلوا عليه بقوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن " أي في الأطهار ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسبا
دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ولهذا قال هؤلاء: إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن
في الحيضة الثالثة وأقل مدة تصدق فيها المرأة في انقضاء عدتها اثنان وثلاثون يوما ولحظتان واستشهد أبو عبيد
وغيره على ذلك بقول الشاعر وهو الأعشى:
ففي كل عام أنت جاشم غزوة * تشد لأقصاها عزيم عزائكا
مورثة مالا وفي الأصل رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
يمدح أميرا من أمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها. " القول الثاني "
إن المراد بالأقراء الحيض فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة زاد آخرون وتغتسل منها وأقل وقت تصدق
فيه المرأة في انقضاء عدتها ثلاثة وثلاثون يوما ولحظة قال الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارقني بواحدة أو اثنتين فجاءني وقد نزعت ثيابي
وأغلقت بابي فقال عمر لعبد الله بن مسعود: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة قال: وأنا أرى ذلك. وهكذا
روي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ
وأبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاوس
وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبي والربيع ومقاتل بن حيان والسدي ومكحول
والضحاك وعطاء الخراساني أنهم قالوا: الأقراء: الحيض وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد
بن حنبل وحكى عنه الأثرم أنه قال الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون الأقراء الحيض وهو مذهب
الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح بن حي وأبي عبيد وإسحق بن راهويه ويؤيد هذا ما
277

جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائي من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي
حبيش أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها " دعي الصلاة أيام أقرائك " فهذا لو صح لكان صريحا في أن القرء هو الحيض ولكن
المنذر هذا قال فيه أبو حاتم مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات وقال: ابن جرير أصل القرء في كلام
العرب الوقت لمجئ الشئ المعتاد مجيئه في وقت معلوم ولادبار الشئ المعتاد إدباره لوقت معلوم وهذه العبارة
تقتضي أن يكون مشتركا بين هذا وهذا وقد ذهب إليه بعض الأصوليين والله أعلم. وهذا قول الأصمعي أن القرء هو
الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمي الحيض قرءا وتسمي الطهر قرءا وتسمي الطهر والحيض جميعا
قرأ. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء يراد به الحيض
ويراد به الطهر وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين.
وقوله " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " أي من حبل أو حيض. قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد
والشعبي والحكم بن عيينة والربيع بن أنس والضحاك وغير واحد. وقوله " إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر " تهديد
لهن على خلاف الحق ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ويتعذر إقامة البينة غالبا
على ذلك فرد الامر إليهن وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق إما استعجالا منها لانقضاء العدة أو رغبة منها في تطويلها
لما لها في ذلك من المقاصد فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان.
وقوله " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا " أي وزوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها إذا
كان مراده بردها الاصلاح والخير وهذا في الرجعيات فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة
بائن وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث فأما حال نزول هذه الآية. فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن
طلقها مائة مرة فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات صار للناس مطلقة بائن وغير بائن وإذا تأملت
هذا تبين لك ضعف ما سلكه بعض الأصوليين من استشهادهم على مسألة عود الضمير هل يكون مخصصا لما تقدمه
من لفظ العموم أم لا بهذه الآية الكريمة فإن التمثيل بها غير مطلق لما ذكروه والله أعلم.
وقوله " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن فليؤد كل واحد
منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته في
حجة الوداع: " فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا
يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وفي
حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا قال " أن
تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " وقال وكيع عن بشير بن
سليمان عن عكرمة عن ابن عباس قال: إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لان الله يقول:
" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ". رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقوله " وللرجال عليهن درجة " أي في
الفضيلة في الخلق والخلق والمنزلة وطاعة الامر والانفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال
تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض بما أنفقوا من أموالهم ".
وقوله " والله عزيز حكيم " أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره حكيم في أمره وشرعه وقدره.
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا
يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن
يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229) فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا
278

جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230)
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الامر في ابتداء الاسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة
ما دامت في العدة فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين
وأبانها بالكلية في الثالثة. فقال " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ". قال أبو داود رحمه الله في
سننه " باب نسخ المراجعة بعد الطلقات الثلاث " حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد
عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن
يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ
ذلك فقال " الطلاق مرتان " الآية. ورواه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن علي بن الحسين
به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا عبدة يعني ابن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلا
قال لامرأته: لا أطلقك أبدا ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك فأتت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل " الطلاق مرتان " وهكذا رواه ابن جرير في تفسيره من
طريق جرير بن عبد الحميد وابن إدريس. ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون كلهم عن هشام عن أبيه
قال: كان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها ما شاء ما دامت في العدة وإن رجلا من الأنصار غضب على امرأته
فقال: والله لا آويك ولا أفارقك قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك ثم أطلقك فإذا دنا
أجلك راجعتك فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل " الطلاق مرتان " قال: فاستقبل الناس الطلاق من
كان طلق ومن لم يكن طلق وقد رواه أبو بكر بن مردويه من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير
عن هشام عن أبيه عن عائشة فذكره بنحو ما تقدم. ورواه الترمذي عن قتيبة عن يعلى بن شبيب به. ثم رواه عن أبي
كريب عن ابن إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا قال هذا أصح. ورواه الحاكم في مستدركه من طريق يعقوب بن
حميد بن كاسب عن يعلى بن شبيب به وقال: صحيح الاسناد ثم قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم
حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا محمد بن حميد حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة
عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها
ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال: والله لاتركنك لا أيما ولا
ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مرارا فأنزل الله عز وجل فيه " الطلاق
مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فوقت الطلاق ثلاثا لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره وهكذا
روي عن قتادة مرسلا ذكره السدي وابن زيد وابن جرير كذلك واختار أن هذا تفسير هذه الآية قوله " فإمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان " أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها
إليك ناويا الاصلاح بها والاحسان إليها وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها
من حقها شيئا ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في
ذلك أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا. وقال
ابن أبي حاتم أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني سفيان الثوري حدثني إسماعيل بن سميع
قال: سمعت أبا رزين يقول: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل " فإمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان " أين الثالثة قال: " التسريح بإحسان " ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه أخبرنا يزيد بن
أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع أن أبا رزين الأسدي يقول: قال رجل يا رسول الله أرأيت قول الله
" الطلاق مرتان " فأين الثالثة؟ قال " التسريح بإحسان الثالثة ". ورواه الإمام أحمد أيضا. وهكذا رواه سعيد بن
منصور عن خالد بن عبد الله عن إسماعيل ابن زكريا وأبي معاوية عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به وكذا
279

رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا ورواه ابن مردويه
أيضا من طريق عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم. فذكره ثم قال:
حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا عبيد الله بن جرير بن حبلة حدثنا ابن
عائشة حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ذكر
الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال " إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ".
وقوله " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ليفتدين منكم
بما أعطيتموهن من الاصدقة أو ببعضه كما قال تعالى " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة " فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها فقد قال تعالى " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا
مريئا " وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته فلها أن تفتدي منه بما
أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ولهذا قال تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " الآية.
فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الوهاب ح وحدثني
يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية قالا جميعا: حدثنا أيوب عن أبي قلابة عمن حدثه عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي به وقال حسن قال ويروى عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان
قال: " أيما امرأة سألت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة " وهكذا رواه الترمذي عن بندار
ورواه بعضهم عن أيوب بهذا الاسناد ولم يرفعه: وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد بن زيد عن
أيوب عن أبي قلابة قال: وذكر أبا أسماء وذكر ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في
غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة ". وهكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير من حديث حماد بن زيد به
" طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث بن أبي إدريس عن
ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس حرم الله عليها
رائحة الجنة " وقال " المختلعات هن المنافقات ". ثم رواه ابن جرير والترمذي جميعا عن أبي كريب عن مزاحم بن
داود بن علية عن أبيه عن ليث هو ابن أبي سليم عن أبي الخطاب عن أبي زرعة عن أبي إدريس عن ثوبان قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " المختلعات هن المنافقات " ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه وليس إسناده بالقوي
" حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا أيوب حدثنا حفص بن بشر حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سوار عن
الحسن عن ثابت بن يزيد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات "
غريب من هذا الوجه ضعيف " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا وهيب حدثنا أيوب عن الحسن عن
أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " المتخلعات والمنتزعات هن المنافقات " " حديث آخر " قال ابن ماجة: حدثنا بكر بن
خلف أبو بشر حدثنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن عطاء عن ابن عباس أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين
عاما ". ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب
المرأة فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية واحتجوا بقوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا
ألا يقيما حدود الله " قالوا: فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة فلا يجوز في غيرها إلا بدليل والأصل عدمه وممن
ذهب إلى هذا ابن عباس وطاوس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئا
وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعيا قال مالك: وهو الامر الذي أدركت الناس عليه وذهب الشافعي
رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى وهذا قول جميع أصحابه قاطبة
280

وحكى الشيخ أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستذكار له عن بكر بن عبد الله المزني أنه ذهب إلى أن الخلع منسوخ
بقوله " وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ". ورواه ابن جرير عنه وهذا قول ضعيف ومأخذ مردود على قائله
وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن
أبي ابن سلول ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه: قال الامام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت
عبد الرحمن بن سعيد بن زرارة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصاري أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس
وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول
الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " من هذه؟ " قلت: أنا حبيبة بنت سهل فقال " ما شأنك " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن
قيس لزوجها فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن
تذكر " فقالت حبيبة: يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " خذ منها " فأخذ منها وجلست في
أهلها. وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك بإسناده مثله ورواه أبو داود عن القعنبي عن
مالك والنسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك " حديث آخر " عن عائشة. قال أبو داود وابن جرير:
حدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو عامر حدثنا أبو عمرو السدوسي عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة أن حبيبة
بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس فضربها فانكسر بعضها فأتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الصبح فاشتكته إليه
فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتا فقال " خذ بعض مالها وفارقها " قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال " نعم " قال: إني
أصدقتها حديقتين فهما بيدها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " خذهما وفارقها " ففعل وهذا لفظ ابن جرير وأبو عمرو السدوسي هو
سعيد بن سلمة بن أبي الحسام " حديث آخر " فيه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال البخاري: حدثنا أزهر بن
جميل أخبرنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله: ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أتردين عليه حديقته " قالت: نعم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " وكذا رواه النسائي عن أزهر بن
جميل بإسناده مثله ورواه البخاري أيضا به عن إسحاق الواسطي عن خالد هو ابن عبد الله الطحاوي عن خالد هو ابن
مهران الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس به نحوه. وهكذا رواه البخاري أيضا من طرق عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس
وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه يعني بغضا وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه. ثم قال حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة أن جميلة رضي الله عنها كذا قال والمشهور أن اسمها حبيبة كما
تقدم لكن قال الإمام أبو عبد الله بن بطة: حدثني أبو يوسف يعقوب بن يوسف الطباخ حدثنا أبو القاسم عبد الله بن
محمد بن عبد العزيز البغوي حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري حدثني عبد الأعلى حدثنا سعيد عن قتادة عن
عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: والله ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق
ولكنني أكره الكفر في الاسلام لا أطيقه بغضا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " تردين عليه حديقته؟ " قالت: نعم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلم
أن يأخذ ما ساق ولا يزداد وقد رواه ابن مردويه في تفسيره عن موسى بن هارون حدثنا أزهر بن مروان حدثنا
عبد الأعلى مثله وهكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان بإسناده مثله سواء وهو إسناد جيد مستقيم وقال ابن
جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت
عبد الله بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " يا جميلة ما
كرهت من ثابت؟ " قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا إلا أني كرهت دمامته فقال لها: " أتردين عليه الحديقة "
قالت نعم فردت الحديقة وفرق بينهما. وقال ابن جرير أيضا حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان
قال قرأت على فضيل عن أبي جرير أنه سأل عكرمة هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول إن أول خلع
كان في الاسلام في أخت عبد الله بن أبي أنها أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شئ
أبدا إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها فقال زوجها يا
281

رسول الله إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت علي حديقتي قال " ما تقولين "؟ قالت: نعم وإن شاء
زدته. قال ففرق بينهما " حديث آخر " قال ابن ماجة: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس وكان رجلا دميما
فقالت: يا رسول الله والله لولا مخافة الله إذا دخل علي بصقت في وجهه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتردين عليه
حديقته؟ " قالت نعم فردت عليه حديقته قال ففرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها فذهب الجمهور إلى جواز ذلك
لعموم قوله تعالى " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية
أخبرنا أيوب عن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثم دعا بها فقال كيف وجدت
فقالت ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني فقال: لزوجها اخلعها ولو من قرطها ورواه
عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن كثير مولى ابن سمرة فذكر مثله وزاد فحبسها فيه ثلاثة أيام قال: سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن حميد بن عبد الرحمن أن امرأة أتت عمر بن الخطاب فشكت زوجها فأباتها في بيت الزبل فلما
أصبحت قال كيف وجدت مكانك؟ قالت ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة. فقال خذ ولو عقاصها وقال
البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها وقال: عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أن
الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت: كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني ويحرمني إذا غاب عني قالت
فكانت مني زلة يوما فقلت: أختلع منك بكل شئ أملكه قال: نعم قالت ففعلت قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء
إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه أو قالت ما دون عقاص الرأس ومعنى هذا أنه
يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها سوى عقاص شعرها وبه يقول ابن عمر وابن عباس
ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وقبيصة بن ذؤيب والحسن بن صالح وعثمان البتي وهذا مذهب مالك والليث
والشافعي وأبي ثور واختاره ابن جرير وقال أصحاب أبي حنيفة إن كان الاضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها
ولا يجوز الزيادة عليه فإن ازداد جاز في القضاء وإن كان الاضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا فإن أخذ جاز
في القضاء. وقال الإمام أحمد وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب
وعطاء وعمرو بن شعيب والزهري وطاوس والحسن والشعبي وحماد بن أبي سليمان والربيع بن أنس. وقال معمر والحكم
كان علي يقول لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها وقال: الأوزاعي القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق
إليها. " قلت " ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد وبما روى عبد بن حميد حيث قال: أخبرنا قبيصة عن سفيان عن ابن
جريج عن عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى " فلا
جناح عليهما فيما افتدت به " أي من الذي أعطاها لتقدم قوله " ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما
حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " أي من ذلك وهكذا كان يقرؤها الربيع بن
أنس " فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه ". رواه ابن جرير ولهذا قال بعده " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد
حدود الله فأولئك هم الظالمون " " فصل " قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع فأخبرنا سفيان عن عمرو بن
دينار عن طاوس عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد يتزوجها إن شاء لان الله تعالى
يقول " الطلاق مرتان " قرأ إلى " أن يتراجعا " قال الشافعي: وأخبرنا سفيان عن عمرو عن عكرمة قال: كل شئ
أجازه المال فليس بطلاق وروى غير الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن
إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال: نعم ليس
الخلع بطلاق ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشئ ثم قرأ " الطلاق مرتان
282

فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وقرأ " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " وهذا الذي
ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق وإنما هو فسخ هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن
عفان وابن عمر وهو قول طاوس وعكرمة وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وداود بن علي الظاهري
وهو مذهب الشافعي في القديم وهو ظاهر الآية الكريمة والقول الثاني في الخلع إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك
قال مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن جهمان مولى الأسلميين عن أم بكر الأسلمية أنها اختلعت من زوجها
عبد الله بن خالد بن أسيد فأتيا عثمان بن عفان في ذلك فقال تطليقة إلا أن تكون سميت شيئا فهو ما سميت قال
الشافعي: ولا أعرف جهمان وكذا ضعف أحمد بن حنبل هذا الأثر والله أعلم. وقد روي نحوه عن عمر وعلي وابن
مسعود وابن عمر وبه يقول سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وشريح والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وإليه ذهب
مالك وأبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وأبو عثمان البتي والشافعي في الجديد غير أن الحنفية عندهم أنه متى
نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو طلق فهو واحدة بائنة وإن نوى ثلاثا فثلاث وللشافعي قول آخر في الخلع وهو
أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس هو بشئ بالكلية.
" مسألة " وذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه في رواية عنهما وهي المشهورة إلى أن
المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء إن كانت ممن تحيض. وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وبه يقول
سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعروة وسالم وأبو سلمة وعمر بن عبد العزيز وابن شهاب والحسن والشعبي
وإبراهيم النخعي وأبو عياض وخلاس بن عمر وقتادة وسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وأبو العبيد قال
الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق فتعتد كسائر المطلقات
والقول الثاني أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها قال ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن
عمر أن الربيع اختلعت من زوجها فأتى عمها عثمان - رضي الله عنه - فقال تعتد بحيضة قال: وكان ابن عمر يقول
تعتد ثلاث حيض حتى قال هذا عثمان فكان ابن عمر يفتي به ويقول عثمان خيرنا وأعلمنا. وحدثنا عبدة عن عبيد الله
عن نافع عن ابن عمر قال: عدة المختلعة حيضة. وحدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن ليث عن طاوس عن
ابن عباس قال: عدتها حيضة وبه يقول عكرمة وأبان بن عثمان وكل من تقدم ذكره ممن يقول إن الخلع فسخ يلزمه
القول بهذا واحتجوا لذلك بما رواه أبو داود والترمذي حيث قال: كل منهما حدثنا محمد بن عبد الرحيم
البغدادي حدثنا علي بن يحيى أخبرنا هشام بن يوسف عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس
أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تعتد بحيضة ثم قال الترمذي حسن
غريب وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة مرسلا " حديث آخر ". قال الترمذي: حدثنا
محمود بن غيلان حدثنا الفضل بن موسى عن سفيان حدثنا محمد بن عبد الرحمن وهو مولى آل طلحة عن سليمان بن
يسار عن الربيع بنت معوذ بن عفراء أنها اختلعت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أو
أمرت أن تعتد بحيضة قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة " طريق أخرى ". قال ابن ماجة: حدثنا
علي بن سلمة النيسابوري حدثنا يعقوب بن إبراهيم ابن سعد حدثنا أبي عن ابن إسحاق أخبرني عبادة بن الوليد بن
عبادة بن الصامت عن الربيع بنت معوذ ابن عفراء قال: قلت لها حدثيني حديثك قالت: اختلعت من زوجي ثم جئت
عثمان فسألت عثمان ماذا علي من العدة؟ قال: لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى
تحيضي حيضة قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مريم المغالية وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت
منه وقد روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن أبي سلمة ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن الربيع بنت معوذ
قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمر امرأة ثابت بن قيس حين اختلعت منه أن تعتد بحيضة.
" مسألة " وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء لأنها قد ملكت
283

نفسها بما بذلت له من العطاء. وروي عن عبد الله بن أبي أوفى وماهان الحنفي وسعيد بن المسيب والزهري أنهم
قالوا: إن رد إليها الذي أعطاها جاز له رجعتها في العدة بغير رضاها وهو اختيار أبي ثور رحمه الله. وقال سفيان
الثوري: إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها وإن كان يسمي طلاقا فهو أملك لرجعتها ما
دامت في العدة وبه يقول داود بن علي الظاهري واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة وحكى الشيخ
أبو عمر بن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره وهو قول شاذ مردود.
" مسألة " وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء: " أحدها " ليس له ذلك لأنها قد
ملكت نفسها وبانت منه وبه يقول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن البصري والشافعي وأحمد بن
حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور " والثاني " قال مالك: أن أتبع الخلع طلاقا من غير سكوت بينهما لم يقع قال ابن
عبد البر: وهذا يشبه ما روي عن عثمان - رضي الله عنه - والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح وطاوس وإبراهيم والزهري
والحاكم والحكم وحماد بن أبي سليمان وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي الدرداء قال ابن عبد البر: وليس ذلك
بثابت عنهما.
وقوله " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون " أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي
حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح " إن الله حد حدودا فلا تعتدوها وفرض فرائض فلا تضيعوها
وحرم محارم فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألوا عنها " وقد يستدل بهذه الآية من ذهب
إلى أن مع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم وإنما السنة عندهم أن يطلق
واحدة لقوله " الطلاق مرتان " ثم قال " تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون " ويقوون
ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال: حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب عن
مخرمة بن بكير عن أبيه عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن رجل طلق امرأته
ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان ثم قال: " أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم " حتى قام رجل فقال يا رسول الله
ألا أقتله؟ فيه انقطاع.
وقوله تعالى " فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما
أرسل عليها الطلاق مرتين فإنها تحرم عليه " حتى تنكح زوجا غيره " أي حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح فلو
وطئها واطئ في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول لأنه ليس بزوج وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها
الزوج لم تحل للأول واشتهر بين كثير من الفقهاء أن سعيد بن المسيب رحمه الله أنه يقول: يحصل المقصود من
تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني وفى صحته عنه نظر على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في
الاستذكار والله أعلم. وقد قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن
علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع
إلى الأول؟ قال " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " هكذا وقع في رواية ابن جرير وقد رواه الإمام أحمد
فقال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد قال: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن
عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرجل تكون له المرأة
فيطلقها ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها فترجع إلى زوجها الأول فقال: رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " حتى تذوق العسيلة " وهكذا رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار
كلاهما عن محمد بن جعفر غندر عن شعبة به كذلك فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا على
284

خلاف ما يحكى عنه فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند والله أعلم. وقد روى أحمد أيضا والنسائي وابن جرير هذا
الحديث من طريق سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان الأحمدي عن ابن عمر قال: سئل
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها قبل أن يدخل بها هل تحل
للأول؟ قال: " لا حتى تذوق العسيلة " وهذا لفظ أحمد وفي رواية لأحمد سليمان بن رزين " حديث آخر " قال الإمام أحمد
: حدثنا عفان حدثنا محمد بن دينار حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن
رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته ". وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن
إبراهيم الأنماطي عن هشام بن عبد الملك حدثنا محمد بن دينار فذكره. " قلت " ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر
الأزدي ثم الطائي البصري ويقال له ابن أبي الفرات اختلفوا فيه فمنهم من ضعفه ومنهم من قواه وقبله وحسن له
وذكر أبو داود أنه تغير قبل موته فالله أعلم. " حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس
العسقلاني حدثنا أبي حدثنا شيبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج غيره فيطلقها قبل أن يدخل بها فيريد الأول أن يراجعها قال: " لا
حتى يذوق الآخر عسيلتها ". ثم رواه من وجه آخر عن شيبان وهو ابن عبد الرحمن به وأبو الحارث غير معروف.
" حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثنا القاسم عن عائشة أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت
زوجا فطلقها قبل أن يمسها فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتحل للأول؟ فقال " لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول "
أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكير عن عمته عائشة به
" طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري وسفيان بن وكيع وأبو هشام الرفاعي قالوا:
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته فتزوجت
رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل لزوجها الأول
حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته ". وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي
معاوية وهو محمد بن حازم الضرير به " طريق أخرى " قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن العلاء الهمداني
حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا
آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها " قال مسلم: وحدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة حدثنا أبو فضيل وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو معاوية جميعا عن هشام بهذا الاسناد وقد رواه البخاري من
طريق أبي معاوية محمد بن حازم عن هشام به وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين. وهكذا رواه ابن جرير من طريق
عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله وهذا إسناد جيد وكذا رواه ابن
جرير أيضا من طريق علي بن زيد بن جدعان عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة عن النبي صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى عن
هشام بن عروة حدثني أبي عن عائشة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها وأنه ليس
معه إلا مثل هدبة الثوب فقال: " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " تفرد به من هذا الوجه " الطريق أخرى "
قال الإمام أحمد حدثنا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا
وأبو بكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن رفاعة طلقني البتة وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما عنده مثل الهدبة
وأخذت هدبة من جلبابها وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له فقال أبو بكر: ألا تنهي هذه عما تجهر به بين
يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ومسلم من حديث
285

عبد الرزاق والنسائي من حديث يزيد بن زريع ثلاثتهم عن معمر به وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم أن رفاعة طلقها
آخر ثلاث تطليقات. وقد رواه الجماعة إلا أبو داود من طريق سفيان بن عيينة والبخاري من طريق عقيل ومسلم من
طريق يونس بن يزيد وعنده آخر ثلاث تطليقات والنسائي من طريق أيوب بن موسى ورواه صالح بن أبي الأخضر
كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن
الزبير أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة فنكحت عبد الرحمن بن الزبير
فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ففارقها فأراد رفاعة بن سموأل أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها
فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاه عن تزويجها وقال " لا تحل لك حتى يذوق العسيلة ". هكذا رواه أصحاب الموطأ
عن مالك وفيه انقطاع وقد رواه إبراهيم بن طهمان وعبد الله بن وهب عن مالك عن رفاعة عن الزبير بن
عبد الرحمن بن الزبير عن أبيه فوصله.
" فصل " والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج
واشترط الامام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء
أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطئ وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم
بنكاحه لان أنكحه الكفار باطلة عنده واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل
الزوج الثاني وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ويلزم على هذا
أن تنزل المرأة أيضا وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ألا إن العسيلة الجماع " فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي
وردت الأحاديث بذمه ولعنه ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة.
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
" الحديث الأول " عن ابن مسعود رضي الله عنه. قال الإمام أحمد: حدثنا الفضل بن دكين حدثنا سفيان عن أبي
قيس عن الهزيل عن عبد الله قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلل
والمحلل له وآكل الربا وموكله. ثم رواه أحمد والترمذي والنسائي من غير وجه عن سفيان وهو الثوري عن أبي قيس
واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي عن هذيل بن شرحبيل الأودي عن عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - به ثم قال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: قال: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة منهم عمر وعثمان وابن
عمر وهو قول الفقهاء من التابعين ويروى ذلك عن علي وابن مسعود وابن عباس " طريق أخرى " عن ابن مسعود
قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله عن عبد الكريم عن أبي الواصل عن ابن مسعود عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " لعن الله المحلل والمحلل له " " طريق أخرى ". روى الإمام أحمد والنسائي عن حديث
الأعمش عن عبد الله بن مرة عن الحارث الأعور عن عبد الله بن مسعود قال: آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه إذا
علموا به والواصلة والمستوصلة ولاوي الصدقة والمتعدي فيها والمرتد عن عقبيه أعرابيا بعد هجرته والمحلل
والمحلل له ملعونون على لسان محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة.
" الحديث الثاني " عن علي - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن جابر عن الشعبي
عن الحارث عن علي قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن
ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له وكان ينهى عن النوح وكذا رواه عن غندر عن شعبة عن جابر وهو ابن يزيد
الجعفي عن الشعبي عن الحارث عن علي به وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد وحصين بن عبد
الرحمن ومجالد بن سعيد وابن عون عن عامر الشعبي به وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث
286

الشعبي به. ثم قال أحمد أخبرنا محمد بن عبد الله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحق عن الحارث عن علي: قال
لعن رسول الله صاحب الربا وآكله وكاتبه وشاهده والمحلل والمحلل له.
" الحديث الثالث " عن جابر - رضي الله عنه - قال الترمذي: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن
يزيد الايامي حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله وعن الحارث عن علي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن المحلل
والمحلل له ثم قال: وليس إسناده بالقائم ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل قال: ورواه
ابن نمير عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله عن علي قال: وهذا وهم من ابن نمير والحديث الأول أصح.
" الحديث الرابع " عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة حدثنا يحيى بن
عثمان بن صالح المصري أخبرنا أبي سمعت الليث بن سعد يقول قال أبو المصعب مسرح هو ابن عاهان قال عقبة
ابن عامر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ألا أخبركم بالتيس المستعار " قالوا: بلى يا رسول الله قال " هو المحلل لعن الله
المحلل والمحلل له " تفرد به ابن ماجة وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني عن عثمان بن صالح عن الليث
به ثم قال: كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارا شديدا. " قلت " عثمان هذا أحد الثقات روى عنه
البخاري في صحيحه ثم قد تابعه غيره فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح
عبد الله بن صالح عن الليث به فبرئ من عهدته والله أعلم.
" الحديث الخامس " عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن بشار حدثنا أبو عامر عن
زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل والمحلل له " طريق
أخرى " قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي حدثنا ابن أبي مريم
حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حنيفة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن نكاح المحلل قال " لا إلا نكاح رغبة لا نكاح دلسة ولا استهزاء بكتاب الله ثم يذوق عسيلتها " ويتقوى هذان
الاسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن حميد بن عبد الرحمن عن موسى بن أبي الفرات عن عمرو بن دينار عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر والله أعلم.
" الحديث السادس " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا عبد الله هو ابن جعفر
عن عثمان بن محمد المقبري عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المحلل والمحلل له.
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني والبيهقي من طريق عبد الله بن جعفر القرشي وقد وثقه أحمد بن حنبل
وعلي بن المديني ويحيى بن معين وغيرهم. وأخرج له مسلم في صحيحه عن عثمان بن محمد الأخنسي وثقه ابن
معين عن سعيد المقبري وهو متفق عليه.
" الحديث السابع " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا
محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو يمان محمد بن مطرف المدني عن عمر بن نافع عن
أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه
هل تحل للأول فقال: لا إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هذا حديث صحيح
الاسناد ولم يخرجاه وقد رواه الثوري عن عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر به وهذه الصيغة مشعرة بالرفع
وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة والجوزجاني وحرب الكرماني وأبو بكر الأثرم من حديث الأعمش عن المسيب بن
رافع عن قبيصة بن جابر عن عمر أنه قال: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما. وروى البيهقي من حديث ابن
لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ففرق
بينهما وكذا روي عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم.
287

وقوله " فإن طلقها " أي الزوج الثاني بعد الدخول بها " فلا جناح عليهما أن يتراجعا " أي المرأة والزوج الأول " إن
ظنا أن يقيما حدود الله " أي يتعاشرا بالمعروف. قال مجاهد: إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة " وتلك حدود
الله " أي شرائعه وأحكامه " يبينها " أي يوضحها " لقوم يعلمون ".
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر
فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي
وأحمد بن حنبل وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم أن يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا
عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله وحجتهم أن الزوج الثاني إذا
هدم الثلاث فلان يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم.
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن
يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا أيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب
والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم (231)
هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها
ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد
على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن
من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح قال الله تعالى " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا " قال ابن عباس ومجاهد ومسروق
والحسن وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة
راجعها ضرارا لئلا تذهب إلى غيره ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة فنهاهم الله
عن ذلك وتوعدهم عليه فقال " ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه " أي بمخالفته أمر الله تعالى.
وقوله تعالى " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " قال ابن جرير: عند هذه الآية أخبرنا أبو كريب أخبرنا إسحق بن منصور
عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي موسى
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضب على الأشعريين فأتاه أبو موسى فقال يا رسول الله أغضبت على الأشعريين؟ فقال " يقول
أحدكم قد طلقت قد راجعت ليس هذا طلاق المسلمين طلقوا المرأة في قبل عدتها " ثم رواه من وجه آخر عن أبي
خالد الدلال وهو يزيد بن عبد الرحمن وفيه كلام. وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها
وارتجاعها لتطول عليها العدة. وقال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني والربيع ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق
ويقول: كنت لاعبا أو يعتق أو ينكح ويقول كنت لاعبا فأنزل الله " ولا تتخذوا آيات الله هزوا " فألزم الله بذلك. وقال
ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد حدثنا أبو أحمد الصيرفي حدثني جعفر بن محمد السمسار عن إسماعيل بن
يحيى عن سفيان عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب لا يريد الطلاق فأنزل الله
" ولا تتخذوا آيات الله هزوا " فألزمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطلاق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن رواد حدثنا آدم
حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن هو البصري قال كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبا ويعتق ويقول: كنت
لاعبا وينكح ويقول: كنت لاعبا فأنزل الله " ولا تتخذوا آيات الله هزوا ". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من طلق أو أعتق أو
نكح أو أنكح جادا أو لاعبا فقد جاز عليه ". وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري عن سليمان بن أرقم عن الحسن
مثله وهذا مرسل وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد عن الحسن عن أبي الدرداء موقوفا عليه. وقال أيضا
حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا أبو معاوية عن
288

إسماعيل بن سلمة عن الحسن عن عبادة بن الصامت في قول الله تعالى " ولا تتخذوا آيات الله هزوا ". قال: كان
الرجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبا ويقول: قد أعتقت ويقول: كنت لاعبا
فأنزل الله " ولا تتخذوا آيات الله هزوا ". فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من قالهن لاعبا أو غير لاعب فهن جائزات عليه
الطلاق والعتاق والنكاح " والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طريق
عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك عن عطاء عن ابن ماهك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث جدهن جد
وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله " واذكروا نعمة الله عليكم " أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم " وما أنزل عليكم من الكتاب
والحكمة " أي السنة " يعظكم به " أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم " واتقوا الله " أي فيما تأتون
وفيما تذرون " واعلموا أن الله بكل شئ عليم " أي فلا يخفى عليه شئ من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم
على ذلك.
وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ
به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو
له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي عنه
عن ابن عباس أيضا وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعي والزهري والضحاك: إنها أنزلت في ذلك وهذا الذي قالوه
ظاهر من الآية. وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها وأنه لا بد في النكاح من ولي كما قاله الترمذي
وابن جرير عند هذه الآية. كما جاء في الحديث " لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي
تزوج نفسها " وفي الأثر الآخر " لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل " وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في
موضعه من كتب الفروع وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته فقال البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح عند تفسير
هذه الآية: حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن قال حدثني معقل بن
يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي قال البخاري وقال إبراهيم عن يونس عن الحسن حدثني معقل بن يسار
وحدثنا أبو معمر وحدثنا عبد الوارث حدثنا يونس عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها فتركها حتى
انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت " فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ". وهكذا رواه أبو داود والترمذي
وابن ماجة وابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه من طرق متعددة عن الحسن عن معقل بن يسار به وصححه الترمذي
أيضا ولفظه عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلا من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت عنده ما كانت ثم
طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب فقال له يا لكع بن لكع أكرمتك بها
وزوجتكها فطلقتها والله لا ترجع إليك أبدا آخر ما عليك قال فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله
" وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن " إلى قوله " وأنتم لا تعلمون " فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة ثم
دعاه فقال أزوجك وأكرمك زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير عن ابن جريج قال: هي جميلة
بنت يسار كانت تحت أبي البداح. وقال سفيان الثوري: عن أبي إسحاق السبيعي قال هي فاطمة بنت يسار وهكذا
ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله
وابنة عم له والصحيح الأول والله أعلم.
289

وقوله " ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر " أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن
أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل له " من كان منكم " أيها الناس " يؤمن بالله واليوم الآخر "
أي يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء " ذلكم أزكى لكم وأطهر " أي اتباعكم
شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن وترك الحمية في ذلك أزكى لكم وأطهر لقلوبكم " والله يعلم " أي من
المصالح فيما يأمر به وينهى عنه " وأنتم لا تعلمون " في أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.
والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف
لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أراد فصالا عن
تراض منهما وتساور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما أتيتم
بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233)
هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ولهذا
قال " لمن أراد أن يتم الرضاعة " وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين فلو ارتضع
المولود وعمره فوقهما لم يحرم قال الترمذي: " باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين " حدثنا
قتيبة حدثنا أبو عوانة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام " هذا حديث حسن صحيح
والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون
الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئا وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام وهي امرأة هشام بن
عروة. " قلت " تفرد الترمذي برواية هذا الحديث ورجاله على شرط الصحيحين ومعنى قوله " إلا ما كان في
الثدي " أي في محل الرضاعة قبل الحولين كما جاء في الحديث الذي رواه أحمد عن وكيع وغندر عن شعبة عن
عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال " إن ابني مات في الثدي
إن له مرضعا في الجنة " وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال عليه السلام ذلك لان ابنه إبراهيم عليه السلام
مات وله سنة وعشرة أشهر فقال إن له مرضعا يعني تكمل رضاعه ويؤيده ما رواه الدارقطني من طريق
الهيثم بن جميل عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحرم من الرضاع
إلا ما كان في الحولين " ثم قال ولم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل وهو ثقة حافظ. " قلت " وقد رواه
الامام مالك في الموطأ عن ثور بن زيد عن ابن عباس مرفوعا ورواه الدراوردي عن ثور عن عكرمة عن ابن عباس
وزاد " وما كان بعد الحولين فليس بشئ " وهذا أصح.
وقال أبو داود الطيالسي عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا رضاع بعد فصال ولا يتم بعد احتلام " وتمام الدلالة من هذا
الحديث في قوله تعالى " وفصاله في عامين أن اشكر لي " وقال " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " والقول بأن الرضاعة
لا تحرم بعد الحولين يروى عن علي وابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي هريرة وابن عمر وأم سلمة وسعيد بن
المسيب وعطاء والجمهور وهو مذهب الشافعي وأحمد وإسحق والثوري وأبي يوسف ومحمد ومالك في رواية وعنه أن
مدته سنتان وشهران وفي رواية وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة سنتان وستة أشهر وقال زفر بن الهذيل ما دام يرضع
فإلى ثلاث سنين وهذا رواية عن الأوزاعي قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم
يحرم لأنه قد صار بمنزلة الطعام وهو رواية عن الأوزاعي وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا: لا رضاع بعد فصال
فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك والله أعلم.
290

وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم وهو قول عطاء بن أبي
رباح والليث بن سعد وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال ببعض نسائها فترضعه وتحتج في ذلك
بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيرا فكان يدخل عليها بتلك
الرضاعة وأبى ذلك سائر أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورأين ذلك من الخصائص وهو قول الجمهور وحجة
الجمهور وهم الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة والأكابر من الصحابة وسائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوى عائشة ما ثبت في
الصحيحين عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " انظرن من إخوانكن فإنما الرضاعة من المجاعة " وسيأتي الكلام
على مسائل الرضاع وفيما يتعلق برضاع الكبير عند قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ".
وقوله " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " أي وعلى والد الطفل نفقة الولدات وكسوتهن بالمعروف أي
بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى
" لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر
يسرا " قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.
وقوله " لا تضار والدة بولدها " أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن
الذي لا يعيش بدون تناوله غالبا ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك كما
لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال " ولا مولود له بولده " أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارا بها
قاله مجاهد وقتادة والضحاك والزهري والسدي والثوري وابن زيد وغيرهم.
وقوله تعالى " وعلى الوارث مثل ذلك " قيل في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد والشعبي والضحاك وقيل عليه مثل ما
على والد الطفل من الانفاق على والدة الطفل والقيام بحقوقها وعدم الاضرار بها وهو قول الجمهور وقد استقصى
ذلك ابن جرير في تفسيره وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على
بعض وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف ويرشح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعا " من ملك ذا
رحم محرم عتق عليه " وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو عقله وقال سفيان الثوري
عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة أنه رأى امرأة ترضع بعد الحولين فقال لا ترضعيه.
وقوله " فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما " أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين
ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك فيؤخذ منه إن انفراد أحدهما بذلك
دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر. قاله الثوري وغيره وهذا فيه احتياط
للطفل وإلزام للنظر في أمره وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما
يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن
تعاسرتم فسترضع له أخرى ".
وقوله تعالى " وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف " أي إذا اتفقت الوالدة
والوالد على أن يستلم منها الولد إما لعذر منها أو لعذر له فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها
أجرتها الماضية بالتي هي أحسن واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف قاله غير واحد. وقوله " واتقوا الله " أي في
جميع أحوالكم " واعلموا أن الله بما تعملون بصير " أي فلا يخفى عليه شئ من أحوالكم وأقوالكم.
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما
فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234)
291

هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشرة ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات
المدخول بهن وغير المدخول بهن بالاجماع ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها
ولم يفرض لها فترددوا إليه مرارا في ذلك فقال أقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن
الشيطان والله ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملا وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها
الميراث فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى به في بروع بنت
واشق ففرح عبد الله بذلك فرحا شديدا وفي رواية فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى به في
بروع بنت واشق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل ولو لم تمكث
بعده سوى لحظة لعموم قوله " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن " وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص
بأبعد الأجلين من الوضع أو أربعة أشهر وعشر للجمع بين الآيتين وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي لولا ما ثبتت به السنة
في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل فلم
تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته وفي رواية فوضعت حملها بعده بليال فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل
عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: ما لي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك
أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن
ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن
ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة يعني لما احتج عليه به قال ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما
هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة فإن عدتها على النصف من عدة الحرة
شهران وخمس ليال على قول الجمهور لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك فلتكن على النصف
منها في العدة. ومن العلماء كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا
المقام لعموم الآية. ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة وقد ذكر سعيد بن المسيب وأبو
العالية وغيرهما أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا لاحتمال اشتمال الرحم على حمل فإذا انتظر به
هذه المدة ظهر إن كان موجودا كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما " إن خلق أحدكم يجمع
في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه
الروح " فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ثم لظهور الحركة بعد
نفخ الروح فيه والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة سألت سعيد بن المسيب ما بال العشرة؟ قال: فيه
ينفخ الروح وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لان ينفخ فيه
الروح رواهما ابن جرير ومن ههنا ذهب الإمام أحمد في رواية عنه إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة ههنا لأنها
صارت فراشا كالحرائر وللحديث الذي رواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
رجاء بن حياة عن قبيصة بن ذؤيب عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا: عدة أم الولد إذ توفي
عنها سيدها أربعة أشهر وعشر. ورواه أبو داود عن قتيبة عن غندر وعن ابن المثنى عن عبد الأعلى وابن ماجة عن
علي بن محمد عن الربيع ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر الوراق عن رجاء بن حياة عن قبيصة عن عمرو بن
العاص فذكره وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث وقيل إن قبيصة لم يسمع عمرا وقد ذهب إلى القول
بهذا الحديث طائفة من السلف منهم سعيد بن المسيب ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وأبو عياض
والزهري وعمر بن عبد العزيز وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو أمير المؤمنين وبه يقول الأوزاعي
وإسحق بن راهويه وأحمد بن حنبل في رواية عنه وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصف
عدة الحرة شهران وخمس ليال وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح بن حيي تعتد بثلاث حيض
292

وهو قول علي وابن مسعود وعطاء وإبراهيم النخعي وقال: مالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه عدتها حيضة
وبه يقول ابن عمر والشعبي ومكحول والليث وأبو عبيد وأبو ثور والجمهور قال الليث: ولو مات وهو حائض
أجزأتها وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر وقال الشافعي والجمهور: شهر وثلاثة أحب إلي والله
أعلم.
وقوله " فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير " يستفاد من هذا
وجوب الاحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها لما ثبت في الصحيحين من غير وجه عن أم حبيبة وزينب بنت
جحش أمي المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث
إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " وفي الصحيحين أيضا عن أم سلمة أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابنتي توفي
عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال " لا " كل ذلك يقول لا مرتين أو ثلاثا ثم قال " إنما هي أربعة
أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة " قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها
زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم
تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشئ إلا مات ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه
الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير
إخراج " الآية. كما قاله ابن عباس وغيره وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الاحداد هو عبارة عن ترك
الزينة من الطيب ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدا ولا
يجب في عدة الرجعية قولا واحدا وهل يجب في عدة البائن فيه قولان: ويجب الاحداد على جميع الزوجات
المتوفى عنهن أزواجهن سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة والمسلمة والكافرة لعموم الآية. وقال الثوري
وأبو حنيفة وأصحابه لا إحداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك وحجة قائل هذه المقالة
قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا "
قالوا: فجعله تعبدا وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها لعدم التكليف وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة
المسلمة لنقصها ومحل تقرير ذلك كله في كتب الاحكام والفروع والله الموفق للصواب.
وقوله " فإذا بلغن أجلهن " أي انقضت عدتهن قاله الضحاك والربيع بن أنس " فلا جناح عليكم " قال: الزهري أي
على أوليائها " فيما فعلن " يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال الوني عن ابن عباس إذا طلقت المرأة أو مات
عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف وروي عن
مقاتل بن حيان نحوه وقال ابن حريج عن مجاهد " فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف " قال النكاح
الحلال الطيب وروي عن الحسن والزهري والسدي نحو ذلك.
ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا
تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما
في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235)
يقول تعالى " ولا جناح عليكم " أن تعرضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. قال:
الثوري وشعبة وجرير وغيرهم. عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس في قوله " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من
خطبة النساء " قال التعريض أن يقول إني أريد التزويج وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يعرض لها بالقول
بالمعروف وفي رواية ووددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا ولا ينتصب للخطبة وفي رواية إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن
293

شاء الله ولوددت أنى وجدت امرأة صالحة ولا ينتصب لها ما دامت في عدتها. ورواه البخاري تعليقا فقال: وقال لي
طلق بن غنام عن زائدة عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس " ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء " هو
أن يقول إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة. وهكذا قال مجاهد وطاوس
وعكرمة وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي والشعبي والحسن وقتادة والزهري ويزيد بن قسيط ومقاتل بن حيان
والقاسم بن محمد وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها
بالخطبة وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو
عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها " فإذا حللت فآذنيني " فلما حلت
خطب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا
التعريض لها والله أعلم.
وقوله " أو أكننتم في أنفسكم " أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن وهذا كقوله تعالى " وربك يعلم ما تكن صدورهم
وما يعلنون " وكقوله " وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم " ولهذا قال " علم الله أنكم ستذكرونهن " أي في أنفسكم فرفع
الحرج عنكم في ذلك ثم قال " ولكن لا تواعدوهن سرا " قال أبو مجلز وأبو الشعثاء جابر بن زيد والحسن البصري
وإبراهيم النخعي وقتادة والضحاك والربيع بن أنس وسليمان التيمي ومقاتل بن حيان والسدي يعني الزنا وهو معنى
رواية العوفي عن ابن عباس واختاره ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ولكن لا تواعدوهن
سرا " لا تقل لها إني عاشق وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ونحو هذا وكذا روي عن سعيد بن جبير والشعبي
وعكرمة وأبي الضحى والضحاك والزهري ومجاهد والثوري هو أن يأخذ ميثاقها أن لا تتزوج غيره وعن مجاهد هو قول
الرجل للمرأة لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تنكح غيره
فنهى الله عن ذلك وقدم فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف وقال ابن زيد " ولكن لا تواعدوهن سرا " هو أن يتزوجها
في العدة سرا فإذا حلت أظهر ذلك وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال " إلا أن تقولوا قولا
معروفا " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي والثوري وابن زيد: يعني به ما تقدم به إباحة التعريض
كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك. وقال محمد بن سيرين: قلت لعبيدة: ما معنى قوله " إلا أن تقولوا قولا
معروفا " قال: يقول لوليها: لا تسبقني بها يعني لأتزوجها حتى تعلمني رواه ابن أبي حاتم.
وقوله " ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله " يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال
ابن عباس ومجاهد والشعبي وقتادة والربيع بن أنس وأبو مالك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان والزهري وعطاء
الخراساني والسدي والثوري والضحاك " حتى يبلغ الكتاب أجله " يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي
العدة. وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه
يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت
عدتها. وذهب الامام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب وسليمان بن يسار
أن عمر - رضي الله عنه - قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم
اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا من الخطاب وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من
زوجها الأول ثم اعتدت من الآخر ثم لم ينكحها أبدا قالوا: ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل الله عوقب
بنقيض قصده فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث: وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال
البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد لقول علي إنها تحل له. " قلت " قال: ثم هو منقطع عن
عمر. وقد روى الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها وجعلهما
يجتمعان.
294

وقوله " واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء وأرشدهم
إلى إضمار الخير دون الشر ثم لم يؤيسهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال " واعلموا أن الله غفور رحيم ".
لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر
قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236)
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها. وقال ابن عباس وطاوس وإبراهيم والحسن
البصري: المس النكاح بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة وإن كان في هذا انكسار
لقلبها ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشئ تعطاه من زوجها بحسب حاله على الموسع قدره وعلى
المقتر قدره. وقال سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عكرمة عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم
ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إن كان موسرا متعها بخادم أو نحو
ذلك وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب: وقال الشعبي: أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب قال: وكان شريح
يمتع بخمسمائة. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب بن سيرين قال: كان يمتع بالخادم أو بالنفقة أو بالكسوة.
قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف. ويروى أن المرأة قالت: متاع قليل من حبيب مفارق. وذهب أبو حنيفة
إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر
الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة وأحب ذلك إلى أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة
وقال: في القديم لا أعرف في المتعة قدرا إلا أني أستحسن ثلاثين درهما كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما
وقد اختلف العلماء أيضا هل تجب المتعة لكل مطلقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها على
أقوال: أحدها أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين "
ولقوله تعالى " يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا "
وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن وهذا قول سعيد بن جبير وأبي العالية والحسن البصري وهو أحد قولي الشافعي.
ومنهم من جعله الجديد الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم.
" والقول الثاني " إنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا
إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهم من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا
جميلا " قال شعبة وغيره عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في
البقرة وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أميمة بنت شرحبيل
فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين.
" والقول الثالث " أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر
مثلها إذا كانت مفوضة وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره فإن دخل بها استقر الجميع
وكان ذلك عوضا لها عن المتعة وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة
على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل
الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ولهذا قال تعالى " على الموسع قدره وعلى المقتر
قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين * وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " ومن العلماء من يقول
إنها مستحبة مطلقا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا
عمرو يعني ابن أبي قيس عن أبي إسحاق عن الشعبي قال: ذكروا له المتعة أيحبس فيها فقرأ " على الموسع قدره
وعلى المقتر قدره " قال الشعبي: والله ما رأيت أحدا حبس فيها والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
295

وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده
عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237)
وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف
المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من
اختصاص المتعة بتلك الآية والله أعلم وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء لا خلاف بينهم في
ذلك فإنه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق إلا أن عند
الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها وهو مذهب الشافعي في القديم وبه حكم الخلفاء
الراشدون لكن قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد أخبرنا ابن جريج عن ليث بن أبي سليم عن طاوس عن ابن
عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها: ليس لها إلا نصف الصداق لان الله يقول
" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " قال الشافعي بهذا أقول وهو ظاهر
الكتاب قال البيهقي وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج به فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة عن ابن عباس فهو
مقولة.
وقوله " إلا أن يعفون " أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شئ. قال السدي عن أبي صالح عن
ابن عباس في قوله " إلا أن يعفون " قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه
الله. وروي عن شريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والشعبي والحسن ونافع وقتادة وجابر بن زيد وعطاء
الخراساني والضحاك والزهري ومقاتل بن حيان وابن سيرين والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك. قال: وخالفهم
محمد بن كعب القرظي فقال " إلا أن يعفون " يعنى الرجال وهو قول شاذ لم يتابع عليه انتهى كلامه.
وقوله " أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح " قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " ولي عقدة النكاح الزوج " وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة به وقد
أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره ولم يقل عن أبيه عن جده فالله أعلم ثم
قال ابن أبي حاتم: وحدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا جابر يعني ابن أبي حازم عن عيسى يعني ابن عاصم
قال: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح فقلت له: هو ولي المرأة فقال
علي: لا بل هو الزوج. ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس وجبير بن مطعم وسعيد بن المسيب وشريح
في أحد قوليه وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبي وعكرمة ونافع ومحمد بن سيرين والضحاك ومحمد بن كعب القرظي
وجابر بن زيد وأبي مجلز والربيع بن أنس وإياس بن معاوية ومكحول ومقاتل بن حيان أنه الزوج " قلت " وهذا هو
الجديد من قولي الشافعي ومذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وابن شبرمة والأوزاعي واختاره ابن جرير ومأخذ هذا
القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها وكما أنه لا يجوز للولي
أن يهب شيئا من مال المولية للغير فكذلك في الصداق قال والوجه الثاني. حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا
محمد بن مسلم حدثنا عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما - في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح - قال ذلك
أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه وروي عن علقمة والحسن وعطاء وطاوس والزهري وربيعة وزيد بن أسلم
وإبراهيم النخعي وعكرمة في أحد قوليه ومحمد بن سيرين في أحد قوليه أنه الولي وهذا مذهب مالك وقول الشافعي
في القديم ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه فله التصرف فيه بخلاف سائر ما لها وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن
الربيع الرازي حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به فأي امرأة عفت جاز عفوها
فإن شحت وضنت وعفا وليها جاز عفوه وهذا يقتضي صحة عفو الولي وإن كانت شديدة وهو مروي عن شريح لكن
296

أنكر عليه الشعبي فرجع عن ذلك وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه.
وقوله " وأن تعفوا أقرب للتقوى " قال ابن جرير قال بعضهم: خوطب به الرجال والنساء حدثني يونس أنبأنا ابن
وهب سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس " وأن تعفوا أقرب للتقوى " قال أقربهما
للتقوى الذي يعفو وكذا روي عن الشعبي وغيره وقال مجاهد والنخعي والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن
أنس والثوري: الفضل ههنا أن تعفو المرأة عن شطرها أو إتمام الرجل الصداق لها ولهذا قال " ولا تنسوا الفضل
بينكم " أي الاحسان قاله سعيد. وقال الضحاك وقتادة والسدي وأبو وائل: المعروف يعني لا تهملوه بينكم وقد
قال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس بن
بكير حدثنا عبد الله بن الوليد الرصافي عن عبد الله بن عبيد عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ليأتين على
الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال الله تعالى " ولا تنسوا الفضل بينكم "
شرار يبايعون كل مضطر " وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على
أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه. وقال سفيان عن أبي هارون قال:
رأيت هارون بن عبد الله في مجلس القرظي فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء ويقول صحبت الأغنياء فكنت
من أكثرهم هما حين رأيتهم أحسن ثيابا وأطيب ريحا وأحسن مركبا وجالست الفقراء فاسترحت بهم وقال " ولا تنسوا
الفضل بينكم " إذا أتاه السائل وليس عنده شئ فليدع له رواه ابن أبي حاتم " إن الله بما تعملون بصير " أي لا
يخفى عليه شئ من أموركم وأحوالكم وسيجزي كل عامل بعمله.
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله
كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)
يأمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود
قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أي العمل أفضل؟ قال: " الصلاة في وقتها " قلت ثم أي؟ قال:
" الجهاد في سبيل الله " قلت ثم أي؟ قال " بر الوالدين " قال: حدثني بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو استزدته لزادني.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم عن القاسم بن غنام عن جدته
أم أبيه الدنيا عن جدته أم فروة كانت ممن بايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأعمال فقال " إن أحب
الأعمال إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها " وهكذا رواه أبو داود والترمذي وقال لا نعرفه إلا من طريق العمري وليس
بالقوي عند أهل الحديث. وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى وقد اختلف السلف والخلف فيها
أي صلاة هي فقيل إنها الصبح حكاه مالك في الموطأ بلاغا عن علي وابن عباس وقال هشيم وابن علية وغندر
وابن أبي عدي وعبد الوهاب وشريك وغيرهم عن عوف الاعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن
عباس الفجر فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا أن نقوم فيها قانتين رواه ابن جرير ورواه
أيضا من حديث عوف عن خلاس بن عمرو عن ابن عباس مثله سواء وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا
عبد الوهاب حدثنا عوف عن أبي المنهال عن أبي العالية عن ابن عباس أنه صلى الغداة في مسجد البصرة فقنت قبل
الركوع وقال هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه فقال " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا
لله قانتين " وقال أيضا حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني أخبرنا ابن المبارك أخبرنا الربيع بن أنس عن أبي العالية
قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة صلاة الغداة فقلت لرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جانبي ما
الصلاة الوسطى؟ قال: هذه الصلاة. وروي من طريق أخرى عن الربيع عن أبي العالية أنه صلى مع أصحاب
297

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الغداة فلما فرغوا قال: قلت لهم أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي قد صليتها قبل. وقال
أيضا حدثنا ابن بشار حدثنا ابن عثمة عن سعيد بن بشير عن قتادة عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى صلاة
الصبح. وحكاه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وأبي أمامة وأنس وأبي العالية وعبيد بن عمير وعطاء ومجاهد وجابر بن
زيد وعكرمة والربيع بن أنس ورواه ابن جرير عن عبد الله بن شداد بن الهاد أيضا وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه
الله محتجا بقوله تعالى " وقوموا لله قانتين " والقنوت عنده في صلاة الصبح ومنهم من قال هي وسطى باعتبار أنها لا
تقصر وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين وترد المغرب وقيل لأنها بين صلاتي ليل جهريتين وصلاتي نهار سريتين وقيل
إنها صلاة الظهر قال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا ابن أبي ذئب عن الزبرقان يعني ابن عمرو عن زهرة يعني ابن معبد
قال: كنا جلوسا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة فسألوه عن الصلاة الوسطى فقال هي الظهر كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يصليها بالهجير. وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثني عمرو بن أبي
حكيم سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الظهر بالهاجرة
ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها فنزلت " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا
لله قانتين " وقال إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين ورواه أبو داود في سننه من حديث شعبة به وقال أحمد أيضا:
حدثنا يزيد بن أبي وهب عن الزبرقان أن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن
الصلاة الوسطى فقال هي العصر فقام إليه رجلان منهم فسألاه فقال هي الظهر ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال
هي الظهر إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان والناس في قائلتهم وفي تجارتهم فأنزل
الله " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين " قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لينتهين رجال أو لأحرقن بيوتهم "
والزبرقان هو ابن عمرو بن أمية الضمري لم يدرك أحدا من الصحابة والصحيح ما تقدم من روايته عن زهرة بن معبد
وعروة بن الزبير وقال شعبة وهمام عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن زيد بن ثابت قال: الصلاة
الوسطى صلاة الظهر. وقال أبو داود الطيالسي وغيره عن شعبة أخبرني عمر بن سليمان من ولد عمر بن الخطاب
قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان يحدث عن أبيه عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر
ورواه ابن جرير عن زكريا بن يحيى بن أبي زائدة عن عبد الصمد عن شعبة عن عمر بن سليمان عن زيد بن ثابت في
حديث رفعه قال " الصلاة الوسطى صلاة الظهر " وممن روي عنه أنها الظهر ابن عمر وأبو سعيد وعائشة على اختلاف
عنهم وهو قول عروة بن الزبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ورواية عن أبي حنيفة رحمهم الله وقيل إنها صلاة العصر
قال الترمذي والبغوي رحمهما الله: وهو قول أكثر علماء الصحابة وغيرهم. وقال القاضي الماوردي هو قول جمهور
التابعين. وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر هو قول أكثر أهل الأثر وقال أبو محمد بن عطية في تفسيره وهو قول
جمهور الناس وقال الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي في كتابه المسمى بكشف الغطا في تبيين
الصلاة الوسطى وقد نص فيه أنها العصر وحكاه عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي أيوب وعبد الله بن عمرو وسمرة بن
جندب وأبي هريرة وأبي سعيد وحفصة وأم حبيبة وأم سلمة وعن ابن عمر وابن عباس وعائشة على الصحيح عنهم وبه
قال عبيدة وإبراهيم النخعي ورزين وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن وقتادة والضحاك والكلبي ومقاتل
وعبيد بن مريم وغيرهم وهو مذهب أحمد بن حنبل. قال القاضي الماوردي: والشافعي قال ابن المنذر وهو
الصحيح عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد واختاره ابن حبيب المالكي رحمهم الله.
ذكر الدليل على ذلك قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل عن علي
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملا الله قلوبهم وبيوتهم نارا " ثم
صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء " وكذا رواه مسلم من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير والنسائي من
طريق عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى عن شتير بن شكل بن حميد عن
298

علي بن أبي طالب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله وقد رواه مسلم أيضا من طريق شعبة عن الحكم بن عيينة عن يحيى بن
الجزار عن علي بن أبي طالب وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وغير واحد من أصحاب المساند والسنن
والصحاح من طرق يطول ذكرها عن عبيدة السلماني عن علي به ورواه الترمذي والنسائي من طريق الحسن
البصري عن علي به قال الترمذي: ولا يعرف سماعه منه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عاصم عن زر قال: قلت لعبيدة سل عليا عن الصلاة الوسطى فسأله فقال:
كنا نراها الفجر - أو الصبح - حتى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم الأحزاب " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر
ملا الله قبورهم وأجوافهم أو بيوتهم نارا " ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي به. وحديث يوم الأحزاب وشغل
المشركين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عن أداء صلاة العصر يومئذ فروي عن جماعة من الصحابة يطول ذكرهم وإنما
المقصود رواية من نص منهم في روايته أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر وقد رواه مسلم أيضا من حديث ابن
مسعود والبراء بن عازب رضي الله عنهما " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن
الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " صلاة الوسطى صلاة العصر " وحدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا أبان حدثنا
قتادة عن الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " وسماها لنا أنها هي
صلاة العصر وحدثنا محمد بن جعفر وروح قالا: حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هي العصر قال ابن جعفر: سئل عن صلاة الوسطى ورواه الترمذي من حديث سعيد بن أبي
عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة وقال: حسن صحيح وقد سمع منه حديث آخر وقال ابن جرير: حدثنا
أحمد بن منيع حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن التيمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" الصلاة الوسطى صلاة العصر " " طريق أخرى بل حديث آخر " قال ابن جرير وحدثني المثنى حدثنا سليمان بن
أحمد الجرشي الواسطي حدثنا الوليد بن مسلم قال: أخبرني صدقة بن خالد حدثني خالد بن دهقان عن خالد بن
سيلان عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن
بفناء بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فقال: أنا أعلم لكم ذلك فقام
فاستأذن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليه ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر غريب من هذا الوجه جدا
" حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد السلام عن مسلم مولى أبي جبير
حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان اذهب إلى فلان فقل
له: أي شئ سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام
صغير أسأله عن الصلاة الوسطى فأخذ أصبعي الصغير فقال " هذه صلاة الفجر " وقبض التي تليها فقال " هذه
الظهر " ثم قبض الابهام فقال " هذه المغرب " ثم قبض التي تليها فقال " هذه العشاء " ثم قال: أي أصابعك بقيت "
فقلت الوسطى فقال " أي الصلاة بقيت؟ " فقلت العصر فقال " هي العصر " غريب أيضا جدا " حديث آخر " قال
ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني أبي حدثني أبو ضمضم بن
زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة الوسطى صلاة العصر إسناده لا
بأس به " حديث آخر " قال أبو حاتم بن حبان في صحيحه: حدثنا أحمد بن يحيى بن زهير حدثنا الجراح بن مخلد
حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام بن مورق العجلي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صلاة
الوسطى صلاة العصر " وقد روى الترمذي من حديث محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد اليامي عن مرة الهمداني
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صلاة الوسطى صلاة العصر " ثم قال: حسن صحيح وأخرجه مسلم في
صحيحه من طريق محمد بن طلحة به ولفظه " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " الحديث فهذه نصوص في
المسألة لا تحتمل شيئا ويؤكد ذلك الامر بالمحافظة عليها وقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح من رواية الزهري عن سالم
عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " وفي الصحيح أيضا من حديث الأوزاعي
299

عن يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي كثير عن أبي المجاهر عن بريدة بن الحصيب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " بكروا
بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرنا
ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن أبي تميم عن أبي نضرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في واد من أوديتهم
يقال له الحميص صلاة العصر فقال " إن هذه الصلاة عرضت على الذين من قبلكم فضيعوها ألا ومن صلاها ضعف
له أجره مرتين ألا ولا صلاة بعدها حتى تروا الشاهد " ثم قال: رواه عن يحيى بن إسحاق عن الليث عن جبير بن نعيم
عن عبد الله بن هبيرة به وهكذا رواه مسلم والنسائي جميعا عن قتيبة عن الليث ورواه مسلم أيضا من حديث محمد بن إسحاق
حدثني يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن جبير بن نعيم الحضرمي عن عبد الله بن هبيرة السبائي به فأما الحديث
الذي رواه الإمام أحمد أيضا حدثنا إسحاق أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولى
عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا قالت: إذا بلغت هذه الآية " حافظوا على الصلوات والصلاة
الوسطى " فآذني فلما بلغتها آذنتها فأملت علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله
قانتين " قالت: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك به وقال ابن جرير:
حدثني ابن المثنى حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة " حافظوا
على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر " وهكذا رواه من طريق الحسن البصري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأها
كذلك وقد روى الامام مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عمرو بن رافع قال: كنت أكتب مصحفا لحفصة زوج
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فلما بلغتها آذنتها فأملت
علي " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " وهكذا رواه محمد بن إسحاق بن
يسار فقال: حدثني أبو جعفر محمد بن علي ونافع مولى ابن عمر أن عمر بن نافع قال: فذكر مثله وزاد كما حفظتها
من النبي - صلى الله عليه وسلم - " طريق أخرى عن حفصة " قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن
أبي بشر عن عبد الله بن يزيد الأزدي عن سالم بن عبد الله أن حفصة أمرت إنسانا أن يكتب لها مصحفا فقالت إذا
بلغت هذه الآية " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فآذني فلما بلغ آذنها فقالت اكتب " حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر " " طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا عبد الوهاب
حدثنا عبيد الله عن نافع أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا فقالت إذا بلغت هذه الآية " حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى " فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها فلما بلغتها أمرته
فكتبها " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " قال نافع: فقرأت ذلك
المصحف فوجدت فيه الواو. وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير أنهما قرآ كذلك وقال ابن جرير:
حدثنا أبو كريب حدثنا عبيدة حدثنا محمد بن عمرو حدثني أبو سلمة عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان في
مصحف حفصة " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين " وتقرير المعارضة أنه
عطف صلاة العصر على الصلاة الوسطى بواو العطف التي تقتضي المغايرة فدل ذلك على أنها غيرها وأجيب عن
ذلك بوجوه " أحدها " أن هذا إن روي على أنه خبر فحديث على أصح وأصرح منه وهذا يحتمل أن تكون الواو زائدة
كما في قوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين * وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض
وليكون من الموقنين " أو تكون لعطف الصفات لا لعطف الذوات كقوله " ولكن رسول الله وخاتم النبيين " وكقوله
" سبح اسم ربك الاعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى " وأشباه ذلك كثيرة وقال
الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
وقال أبو داود الأيادي:
300

سلط الموت والمنون عليهم * فلهم في صدى المقابر هام
والموت هو المنون قال عدي بن زيد العبادي:
فقددت الأديم لراهشيه * فألفى قولها كذبا ومينا
والكذب هو المين وقد نص سيبويه شيخ النحاة على جواز قول القائل: مررت بأخيك وصاحبك ويكون الصاحب هو
الأخ نفسه والله أعلم وأما إن روي على أنه قرآن فإنه لم يتواتر فلا يثبت بمثل خبر الواحد قرآن ولهذا لم يثبته أمير
المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في المصحف ولا قرأ بذلك أحد من القراء الذين تثبت الحجة بقراءتهم لا من
السبعة ولا من غيرهم ثم قد روي ما يدل على نسخ هذه التلاوة المذكورة في هذا الحديث قال مسلم: حدثنا إسحاق
بن راهويه أخبرنا يحيى بن آدم عن فضيل بن مرزوق عن شقيق بن عقبة عن البراء بن عازب قال: نزلت
" حافظوا على الصلوات وصلاة العصر " فقرأناها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله ثم نسخها الله عز وجل فأنزل
" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى " فقال له زاهر رجل كان مع شقيق: أفهي العصر؟ قال: قد حدثتك
كيف نزلت وكيف نسخها الله عز وجل قال مسلم: ورواه الأشجعي عن الثوري عن الأسود عن شقيق قلت:
وشقيق هذا لم يرو له مسلم سوى هذا الحديث الواحد والله أعلم فعلى هذا تكون هذه التلاوة وهي تلاوة الجادة
ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها إن كانت الواو دالة على المغايرة وإلا فلفظها فقط والله أعلم.
وقيل إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وفي إسناده نظر فإنه رواه عن أبيه عن
أبي الجماهر عن سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي الخليل عن عمه عن ابن عباس قال: صلاة الوسطى المغرب
وحكى هذا القول ابن جرير عن قبيصة بن ذؤيب وحكي أيضا عن قتادة على اختلاف عنه ووجه هذا القول بعضهم
بأنها وسطى في العدد بين الرباعية والثنائية وبأنها وتر المفروضات وبما جاء فيها من الفضيلة والله أعلم.
وقيل إنها العشاء الأخيرة اختاره علي بن أحمد الواحدي في تفسيره المشهور وقيل هي واحدة من الخمس لا بعينها
وأبهمت فيهن كما أبهمت ليلة القدر في الحول أو الشهر أو العشر ويحكى هذا القول عن سعيد بن المسيب وشريح
القاضي ونافع مولى ابن عمر والربيع بن خيثم ونقل أيضا عن زيد بن ثابت واختاره إمام الحرمين الجويني في نهايته.
وقيل بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس رواه ابن أبي حاتم عن ابن عمر وفي صحته أيضا نظر والعجب
أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري إمام ما وراء البحر وإنها لاحدى الكبر إذ اختاره مع اطلاعه
وحفظه ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر وقيل إنها صلاة العشاء وصلاة الفجر وقيل بل هي صلاة
الجماعة وقيل صلاة الجمعة وقيل صلاة الخوف وقيل بل صلاة عيد الفطر وقيل بل صلاة الأضحى وقيل الوتر وقيل
الضحى وتوقف فيها آخرون لما تعارضت عندهم الأدلة ولم يظهر لهم وجه الترجيح ولم يقع الاجماع على قول واحد
بل لم يزل النزاع فيها موجودا من زمان الصحابة وإلى الآن قال ابن جرير: حدثني محمد بن بشار وابن المثنى
قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختلفين في الصلاة الوسطى هكذا وشبك بين أصابعه وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي
قبلها وإنما المدار ومعترك النزاع في الصبح والعصر وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعين المصير إليها. وقد روى
الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي رحمهما الله في كتاب الشافعي رحمه الله حدثنا أبي سمعت
حرملة بن يحيى اللخمي يقول: قال الشافعي كل ما قلت فكان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف قولي مما يصح فحديث
النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى ولا تقلدوني وكذا روى الربيع والزعفراني وأحمد بن حنبل عن الشافعي وقال موسى أبو الوليد بن
أبي الجارود عن الشافعي إذا صح الحديث وقلت قولا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك فهذا من سيادته وأمانته وهذا
نفس إخوانه من الأئمة رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين آمين ومن ههنا قطع القاضي الماوردي بأن مذهب
301

الشافعي رحمه الله أن صلاة الوسطى هي صلاة العصر وإن كان قد نص في الجديد وغيره أنها الصبح لصحة
الأحاديث أنها العصر وقد وافقه على هذه الطريقة جماعة من محدثي المذهب ولله الحمد والمنة ومن الفقهاء في
المذهب من ينكر أن تكون هي العصر مذهب الشافعي وصمموا على أنها الصبح قولا واحدا قال الماوردي:
ومنهم من حكى في المسألة قولين ولتقرير المعارضات والجوابات موضع آخر غير هذا وقد أفردناه على حدة ولله
الحمد والمنة.
وقوله تعالى " وقوموا لله قانتين " أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه وهذا الامر مستلزم ترك الكلام في الصلاة
لمنافاته إياها ولهذا لما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة اعتذر إليه بذلك وقال
" إن في الصلاة لشغلا " وفي صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاوية بن الحكم السلمي حين تكلم في
الصلاة " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله " وقال الإمام أحمد
بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل حدثني الحارث بن شبيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم
قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية " وقوموا لله قانتين "
فأمرنا بالسكوت رواه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن إسماعيل به وقد أشكل هذا الحديث على جماعة من
العلماء حيث ثبت عندهم أن تحريم الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة إلى المدينة وبعد الهجرة إلى أرض
الحبشة كما دل على ذلك حديث ابن مسعود الذي في الصحيح قال: كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن نهاجر إلى
الحبشة وهو في الصلاة فيرد علينا قال فلما قدمنا سلمت عليه فلم يرد علي فأخذني ما قرب وما بعد فلما سلم قال
" إني لم أرد عليك إلا أني كنت في الصلاة وإن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث أن لا تكلموا في
الصلاة " وقد كان ابن مسعود ممن أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة ثم قدم منها إلى مكة مع من قدم فهاجر إلى
المدينة وهذه الآية " وقوموا لله قانتين " مدنية بلا خلاف فقال قائلون إنما أراد زيد بن أرقم بقوله كان الرجل يكلم
أخاه في حاجته في الصلاة الاخبار عن جنس الكلام واستدل على تحريم ذلك بهذه الآية بحسب ما فهمه منها والله
أعلم. وقال آخرون إنما أراد أن ذلك قد وقع بالمدينة بعد الهجرة إليها ويكون ذلك فقد أبيح مرتين وحرم مرتين كما
اختار ذلك قوم من أصحابنا وغيرهم والأول أظهر والله أعلم وقال الحافظ أبو يعلى: أخبرنا بشر بن الوليد أخبرنا
إسحق بن يحيى عن المسيب عن ابن مسعود قال: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فمررت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فسلمت عليه فلم يرد علي فوقع في نفسي أنه نزل في شئ فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " وعليك السلام أيها
المسلم ورحمة الله إن الله عز وجل يحدث من أمره ما يشاء فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تكلموا " وقوله " فإن
خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على
الصلوات والقيام بحدودها وشدد الامر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيما عن أدائها على الوجه الأكمل
وهي حال القتال والتحام الحرب فقال " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا " أي فصلوا على أي حال كان رجالا أو
ركبانا: يعني مستقبلي القبلة وغير مسقبليها كما قال مالك عن نافع أن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف
وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
قال نافع: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه البخاري وهذا لفظ مسلم ورواه البخاري أيضا من
وجه آخر عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه أو قريبا منه ولمسلم أيضا عن
ابن عمر قال: فإن كان خوف أشد من ذلك فصل راكبا أو قائما تومئ إيماء وفي حديث عبد الله بن أنيس الجهني
لما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي ليقتله وكان نحو عرفة أو عرفات فلما وجهه حانت صلاة العصر قال:
فخشيت أن تفوتني فجعلت أصلي وأنا أومئ إيماء - الحديث بطوله رواه أحمد وأبو داود بإسناد جيد وهذا من رخص
الله التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم وقد روى ابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة
عن ابن عباس قال: في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه قال: وروي عن الحسن ومجاهد
302

ومكحول والسدي والحكم ومالك والأوزاعي والثوري والحسن بن صالح نحو ذلك - وزاد ويومئ برأسه أينما توجه
ثم قال: حدثنا أبي حدثنا غسان حدثنا داود يعني ابن علية عن مطرف عن عطية عن جابر بن عبد الله قال: إذا كانت
المسايفة فليومئ برأسه إيماء حيث كان وجهه فذلك قوله " فرجالا أو ركبانا " وروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن
جبير وعطاء وعطية والحكم وحماد وقتادة نحو ذلك وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل
في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن
ماجة وابن جرير من حديث أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري - زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ كلاهما
عن بكير بن الأخنس الكوفي عن مجاهد عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم - صلى الله عليه
وسلم - في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة وبه قال الحسن البصري وقتادة والضحاك وغيرهم.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن مهدي عن شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة
فقالوا: ركعة وهكذا روى الثوري عنهم سواء وقال ابن جرير أيضا: حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا
بقية بن الوليد حدثنا المسعودي حدثنا يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة واختار هذا القول
ابن جرير وقال البخاري " باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو " وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم
يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن لم يقدروا على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا
فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا وبه قال
مكحول وقال أنس بن مالك: حضرت مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على
الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة
الدنيا وما فيها. هذا لفظ البخاري ثم استشهد على ذلك بحديث تأخيره - صلى الله عليه وسلم - العصر يوم الخندق لعذر المحاربة إلى
غيبوبة الشمس وبقوله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك لأصحابه لما جهزهم إلى بني قريظة لا يصلين أحد منكم
العصر إلا في بني قريظة " فمنهم من أدركته الصلاة في الطريق فصلوا وقالوا لم يرد منا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تعجيل السير
ومنهم من أدركته فلم يصل إلى أن غربت الشمس في بني قريظة فلم يعنف واحدا من الفريقين وهذا يدل على اختيار
البخاري لهذا القول والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة
النساء ووردت بها الأحاديث لم تكن مشروعة في غزوة الخندق وإنما شرعت بعد ذلك وقد جاء مصرحا بهذا في
حديث أبي سعيد وغيره وأما مكحول والأوزاعي والبخاري فيجيبون بأن مشروعية صلاة الخوف بعد ذلك لا تنافي
جواز ذلك لان هذا حال نادر خاص فيجوز فيه مثل ما قلنا بدليل صنيع الصحابة زمن عمر في فتح تستر وقد اشتهر ولم
ينكر والله أعلم.
وقوله " فإذا آمنتم فاذكروا الله " أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وخشوعها
وهجودها " كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون " أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للايمان وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا
والآخرة فقابلوه بالشكر والذكر والذي كقوله بعد ذكر صلاة الخوف " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على
المؤمنين كتابا موقوتا " وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى " وإذا
كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية.
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم
في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240) وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241)
كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون (242)
قال الأكثرون هذه الآية منسوخة بالتي قبلها وهي قوله " يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " قال البخاري: حدثنا
303

أمية حدثنا يزيد بن زريع عن حبيب عن ابن أبي مليكة قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان " والذين يتوفون منكم
ويذرون أزواجا " قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها. قال: يا أبن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
ومعنى هذا الاشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها
مع زوال حكمها وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي وأنا
وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن
الصباح حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في قوله " والذين يتوفون
منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج " فكان للمتوفى عنها زوجها نفقتها وسكناها في
الدار سنة فنسختها آية المواريث فجعل لهن الثمن أو الربع مما ترك الزوج ثم قال: وروي عن أبي موسى الأشعري
وابن الزبير ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل بن حيان وعطاء
الخراساني والربيع بن أنس أنها منسوخة وروي عن طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا
مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في
بطنها وقال " ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم " فبين ميراث
المرأة وترك الوصية والنفقة قال: وروى عن مجاهد والحسن وعكرمة وقتادة والضحاك والربيع ومقاتل بن حيان قالوا
نسختها " أربعة أشهر وعشرا " قال وروى عن سعيد بن المسيب قال نسختها التي في الأحزاب " يا أيها الذين آمنوا
إذا نكحتم المؤمنات " الآية " قلت " وروي عن مقاتل وقتادة أنها منسوخة بآية الميراث وقال البخاري حدثنا إسحاق
بن منصور حدثنا روح حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا " قال
كانت هذه للمعتدة تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا
إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف " قال: جعل الله تمام السنة
سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وهو قول الله " غير إخراج فإن
خرجن فلا جناح عليكم " فالعدة كما هي واجب عليها زعم ذلك عن مجاهد رحمه الله وقال عطاء قال ابن عباس
نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى " غير إخراج " قال عطاء: إن
شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله " فلا جناح عليكم فيما فعلن "
قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما
تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه
الجمهور حتى يكون ذلك منسوخا بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن
يمكن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولا كاملا إن اخترن ذلك ولهذا قال " وصية لأزواجهم " أي
يوصيكم الله بهن وصية كقوله " يوصيكم الله في أولادكم " الآية وقوله " وصية من الله " وقيل إنما انتصب على
معنى فلتوصوا لهن وصية وقرأ آخرون بالرفع وصية على معنى كتب عليكم وصية واختارها ابن جرير ولا يمنعن من
ذلك لقوله " غير إخراج " فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال
من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله " فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف "
وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام أبو العباس بن تيمية ورده آخرون منهم
الشيخ أبو عمر بن عبد البر وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر
والعشر فمسلم وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما
قولان للشافعي رحمه الله وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه عن سعد بن إسحاق
بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب بن عجرة أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد
304

الخدري رضي الله عنهما أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها
خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة قالت: فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نعم " قالت فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أمر بي فنوديت له فقال
" كيف قلت؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي فقال " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله "
قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا قالت: فلما كان عثمان بن عفان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه
وقضى به وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديث مالك به. ورواه النسائي أيضا وابن ماجة من طرق عن
سعد بن إسحاق وبه قال الترمذي حسن صحيح.
وقوله " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزل قوله تعالى
" متاع بالمعروف حقا على المحسنين " قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل الله هذه
الآية " وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين " وقد استدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى وجوب
المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة أو مفروضا لها أو مطلقة قبل المسيس أو مدخولا بها وهو قول الشافعي رحمه الله
وإليه ذهب سعيد بن جبير وغيره من السلف واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقا يخصص من هذا العموم مفهوم
قوله تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره
وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين " وأجاب الأولون بأن هذا من باب ذكر بعض أفراد العموم فلا
تخصيص على المشهور المنصوص والله أعلم.
وقوله " كذلك يبين الله لكم آياته " أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه بينه ووضحه
وفسره ولم يتركه مجملا في وقت احتياجكم إليه " لعلكم تعقلون " أي تفهمون وتتدبرون.
ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على
الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبصط وإليه ترجعون (245)
روى عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف وقال أبو صالح: تسعة آلاف وعن ابن عباس
أربعون ألفا. وقال وهب بن منبه وأبو مالك: كانوا بضعة وثلاثين ألفا. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال:
كانوا أهل قرية يقال لها ذاوردان. وكذا قال السدي وأبو صالح وزاد من قبل واسط وقال سعيد بن عبد العزيز:
كانوا من أهل أذرعات وقال ابن جريج عن عطاء قال: هذا مثل وقال علي بن عاصم: كانوا من أهل ذاوردان
قرية على فرسخ من قبل واسط وقال وكيع بن الجراح في تفسيره. حدثنا سفيان عن ميسرة بن حبيب النهدي عن
المنهال بن عمرو الأسدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر
الموت " قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون قالوا: نأتي أرضا ليس بها موت حتى إذا كانوا بموضع
كذا وكذا قال الله لهم " موتوا " فماتوا فمر عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحيهم فأحياهم فذلك قوله عز وجل
" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت " الآية وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم
كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فرارا من الموت هاربين إلى
البرية فنزلوا واديا أفيح فملؤا ما بين عدوتيه فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا
بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبنى عليهم جدران وفنوا وتمزقوا وتفرقوا
305

فلما كان بعد دهر مر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك
وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ثم أمره
فنادى أيتها العظام إن الله يأمرك بأن تكتسي لحما وعصبا وجلدا فكان ذلك وهو يشاهده ثم أمره فنادى أيتها
الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره فقاموا أحياء ينظرون قد أحياهم الله بعد
رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت. وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد
الجسماني يوم القيامة ولهذا قال " إن الله لذو فضل على الناس " أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة
والدلالات الدامغة " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه فإن هؤلاء خرجوا فرارا من
الوباء طلبا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعا في آن واحد ومن هذا القبيل الحديث
الصحيح الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالك وعبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن
الزهري عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس
أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن
الوباء قد وقع بالشام فذكر الحديث فجاءه عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا لبعض حاجته فقال: إن عندي من هذا
علما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه وإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا
عليه " فحمد الله عمر ثم انصرف وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به بطريق أخرى لبعضه قال أحمد:
حدثنا حجاج ويزيد العمي قالا أخبرنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن
عبد الرحمن بن عوف أخبر عمر وهو في الشام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن هذا السقم عذب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في
أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا " قال فرجع عمر من الشام وأخرجاه في الصحيحين
ن حديث مالك عن الزهري بنحوه. وقوله " وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم " أي كما أن الحذر لا
يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده بل الاجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن
لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى " الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرؤا عن أنفسكم
الموت إن كنتم صادقين " وقال تعالى " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا
قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وروينا عن
أمير الجيوش ومقدم العساكر وحامي حوزة الاسلام وسيف الله المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد - رضي
الله عنه - أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو
ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء - يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلا في
الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه. وقوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له
أضعافا كثيرة " يحث تعالى عباده على الانفاق في سبيل الله وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير
موضع وفي حديث النزول أنه يقول تعالى " من يقرض غير عديم ولا ظلوم " وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا
الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال: لما
نزلت " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له " قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله وإن الله عز
وجل ليريد منا القرض؟ قال: " نعم يا أبا الدحداح " قال أرني يدك يا رسول الله قال فناوله يده قال: فإني قد
أقرضت ربي عز وجل حائطي قال وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال فجاء أبو الدحداح
فناداها يا أم الدحداح قالت لبيك قال: أخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. وقد رواه ابن مردويه من حديث
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر - رضي الله عنه - مرفوعا بنحوه وقوله " قرضا حسنا " روي عن عمر
وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله وقيل هو النفقة على العيال وقيل هو التسبيح والتقديس وقوله " فيضاعفه له
306

أضعافا كثيرة " كما قال تعالى " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " الآية وسيأتي الكلام عليها وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضلة
عن علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي قال: أتيت أبا هريرة - رضي الله عنه - فقلت له إنه بلغني أنك تقول إن الحسنة
تضاعف ألف ألف حسنة قال: وما عجبك من ذلك لقد سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يضاعف الحسنة ألفي
ألف حسنة " هذا حديث غريب وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير لكن رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال:
حدثنا أبو خلاد سليمان بن خلاد المؤدب حدثنا يونس بن محمد المؤدب حدثنا محمد بن عقبة الرفاعي عن زياد
الجصاص عن أبي عثمان النهدي قال: لم يكن أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فقدم قبلي حاجا قال: وقدمت
بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة "
فقلت ويحكم والله ما كان أحد أكثر مجالسة لأبي هريرة مني فما سمعت هذا الحديث قال: فتحملت أريد أن
ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا الحديث فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديث
سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال ما هو؟ قلت: زعموا أنك تقول إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة
قال: يا أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ويقول
" ما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن الله يضاعف
الحسنة ألفي ألف حسنة " وفي معنى هذا الحديث ما رواه الترمذي وغيره من طريق عمرو بن دينار عن سالم عن
عبد الله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من دخل سوقا من الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة "
الحديث وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسام حدثنا أبو إسماعيل المؤدب عن
عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر قال: لما نزلت " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت
سبع سنابل " إلى آخرها فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " رب زد أمتي " فنزلت " من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " قال " رب زد أمتي " فنزلت " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "
وروى ابن أبي حاتم أيضا عن كعب الأحبار أنه جاء رجل فقال: إني سمعت رجلا يقول من قرأ " قل هو الله أحد "
مرة واحدة بنى الله له عشرة آلاف ألف غرفة من در وياقوت في الجنة أفأصدق بذلك؟ قال: نعم أو عجبت من
ذلك؟ قال: نعم وعشرين ألف ألف وثلاثين ألف ألف وما يحصي ذلك إلا الله ثم قرأ " من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " فالكثير من الله لا يحصى وقوله " والله يقبض ويبسط " أي أنفقوا ولا تبالوا
فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين له الحكمة البالغة في ذلك " وإليه
ترجعون " أي يوم القيامة.
ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم أبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم
إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب
عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين (246)
قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفرايم بن يوسف بن
يعقوب وهذا القول بعيد لان هذا كان بعد موسى بدهر طويل وكان ذلك في زمان داود عليه السلام كما هو مصرح به
في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم وقال السدي: هو شمعون وقال
مجاهد: هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو شمويل بن بالي بن علقمة بن
307

ترخام بن اليهد بن بهرض بن علقمة بن ماجب بن عمرصا بن عزريا بن صفية بن علقمة بن أبي يأسف بن قارون بن
يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وقال وهب بن منبه وغيره كان بنو
إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ثم أحدثوا الاحداث وعبد بعضهم الأصنام ولم
يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما
فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقا كثيرا وأخذوا منهم بلادا كثيرة ولم يكن أحد
يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثا لخلفهم عن
سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في
بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من
سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله
يرزقها غلاما يكون نبيا لهم ولم تزل المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلاما فسمع الله لها ووهبها غلاما فسمته
شمويل أي سمع الله دعائي ومنهم من يقول شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتا حسنا فلما
بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكا يقاتلون معه
أعداءهم وكان الملك أيضا قد باد فيهم فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكا ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم
من القتال معه " قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا " أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت
الأولاد قال الله تعالى: " فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين " أي ما وفوا بما وعدوا
بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم.
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت
سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم يؤتي ملكه من يشاء والله
واسع عليم (247)
أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكا منهم فعين لهم طالوت وكان رجلا من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك
فيهم لان الملك كان في سبط يهوذا ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا " أنى يكون له الملك علينا " أي كيف
يكون ملكا علينا " ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال " أي ثم هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك
وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء وقيل دباغا وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت وكان الأولى بهم طاعة وقول
معروف ثم قد أجابهم النبي قائلا " إن الله اصطفاه عليكم " أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم يقول
لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك " وزاده بسطة في العلم والجسم " أي وهو
مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم وأشد قوة وصبرا في الحرب ومعرفة فيها أي أتم علما وقامة منكم ومن ههنا
ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال " والله يؤتي ملكه من يشاء " أي هو
الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال " والله واسع
عليم " أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.
وقال لهم نبيهم إن أية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك موسى وآل هارون تحمله
الملائكة إن ذلك لاية إن كنتم مؤمنين (248)
يقول لهم نبيهم إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم " وفيه سكينه من
308

ربكم " قيل معناه فيه وقار وجلالة قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " فيه سكينة " أي وقار وقال الربيع: رحمة
وكذا روي عن العوفي عن ابن عباس وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله " فيه سكينة من ربكم " قال: ما
تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري وقيل السكينة طست من ذهب كانت تغسل فيه قلوب
الأنبياء أعطاها الله موسى عليه السلام فوضع فيها الألواح ورواه السدي عن أبي مالك عن ابن عباس وقال سفيان
الثوري: عن سلمة بن كهيل عن أبي الأحوص عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الانسان ثم هي روح هفافة
وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا أبو داود حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم عن سماك عن
خالد بن عرعرة عن علي قال: السكينة ريح خجوج ولها رأسان وقال مجاهد لها جناحان وذنب وقال محمد بن
إسحاق عن وهب بن منبه: السكينة رأس هرة ميتة إذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح
وقال عبد الرزاق: أخبرنا بكار بن عبد الله أنه سمع وهب بن منبه يقول: السكينة روح من الله تتكلم إذا اختلفوا في
شئ تكلم فتخبرهم ببيان ما يريدون.
وقوله " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال ابن جرير: أخبرنا ابن مثنى حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد عن
داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية " وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون " قال عصاه ورضاض
الألواح وكذا قال قتادة والسدي والربيع بن أنس وعكرمة وزاد والتوراة وقال أبو صالح " وبقية مما ترك آل موسى "
يعنى عصا موسى وعصا هارون ولوحين من التوراة والمن وقال عطية بن سعد: عصا موسى وعصا هارون وثياب
موسى وثياب هارون ورضاض الألواح وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله " وبقية مما ترك آل موسى
وآل هارون " فقال منهم من يقول قفيز من من ورضاض الألواح ومنهم من يقول العصا والنعلان.
وقوله " تحمله الملائكة " قال ابن جريج: قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض
حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون
وأطاعوا طالوت وقال عبد الرزاق عن الثوري عن بعض أشياخه: جاءت به الملائكة تسوقه على عجلة على بقرة
وقيل على بقرتين. وذكر غيره أن التابوت كان بأريحاء وكان المشركون لما أخذوه وضعوه في بيت آلهتهم تحت
صنمهم الكبير فأصبح التابوت على رأس الصنم فأنزلوه فوضعوه تحته فأصبح كذلك فسمروه تحت فأصبح الصنم
مكسور القوائم ملقى بعيدا. فعلموا أن هذا أمر من الله لا قبل لهم به فأخرجوا التابوت من بلدهم فوضعوه في
بعض القرى فأصاب أهلها داء في رقابهم فأمرتهم جارية من سبي بني إسرائيل أن يردوه إلى بني إسرائيل حتى
يخلصوا من هذا الداء فحملوه على بقرتين فسارتا به لا يقربه أحد إلا مات حتى اقتربتا من بلد بني إسرائيل فكسرتا
النيرين ورجعتا وجاء بنو إسرائيل فأخذوه فقيل إنه تسلمه داود عليه السلام وأنه لما قام إليهما خجل من فرحه بذلك
وقيل شابان منهم فالله أعلم. وقيل كان التابوت بقرية من قرى فلسطين يقال لها أزدوه.
" وقوله إن في ذلك لآية لكم " أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت " إن كنتم
مؤمنين " أي بالله واليوم الآخر.
فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من
اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين أمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت
وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (249)
يقول تعالى مخبرا عن طالوت ملك بني إسرائيل حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملا بني إسرائيل وكان جيشه
يومئذ فيما ذكره السدي ثمانين ألفا فالله أعلم أنه قال " إن الله مبتليكم " أي مختبركم بنهر قال ابن عباس وغيره:
309

وهو نهر بين الأردن وفلسطين يعني نهر الشريعة المشهور " فمن شرب منه فليس مني " أي فلا يصحبني اليوم في
هذا الوجه " ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده " أي فلا بأس عليه قال الله تعالى " فشربوا منه إلا
قليلا منهم " قال ابن جريج قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روى ومن شرب منه لم يرو. وكذا رواه السدي عن
أبي مالك عن ابن عباس. وكذا قال قتادة وابن شوذب قال السدي: كان الجيش ثمانين ألفا فشرب منه ستة
وسبعون ألفا وتبقى معه أربعة آلاف كذا قال. وقد روى ابن جرير من طريق إسرائيل وسفيان الثوري ومسعر بن
كدام عن أبي إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا يوم بدر
ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن. ورواه البخاري عن
عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى " فلما جاوزه هو
والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده " أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لكثرتهم فشجعهم
علماؤهم العالمون بأن وعد الله حق فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد. ولهذا قالوا " كم من فئة
قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ".
ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (250) فهزموهم
بإذن الله وقتل داوود جالوت وأتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين (251) تلك أيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين (252)
أي لما واجه حزب الايمان وهم قليل من أصحاب طالوت لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير " قالوا ربنا أفرغ
علينا صبرا " أي أنزل علينا صبرا من عندك " وثبت أقدامنا " أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز " وانصرنا
على القوم الكافرين ".
قال الله تعالى " فهزموهم بإذن الله " أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم " وقتل داود جالوت " ذكروا في
الإسرائيليات أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته
ويشاطره نعمته ويشركه في أمره فوفي له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ولهذا
قال تعالى " وآتاه الله الملك " الذي كان بيد طالوت " والحكمة " أي النبوة بعد شمويل " وعلمه مما يشاء " أي
مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به - صلى الله عليه وسلم - ثم قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض " أي لولا الله يدفع عن قوم بآخرين كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا
كما قال تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم لله
كثيرا " الآية. وقال ابن جرير: حدثني أبو حميد الحمصي أحد بني المغيرة حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حفص بن
سليمان عن محمد بن سوقة عن وبرة بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله ليدفع بالمسلم
الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء " ثم قرأ ابن عمر " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت
الأرض " وهذا إسناد ضعيف فإن يحيى بن سعيد هذا هو ابن العطار الحمصي وهو ضعيف جدا ثم قال ابن جرير:
حدثنا أبو حميد الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده وولد ولده وأهل دويرته ودويرات حوله
ولا يزالون في حفظ الله عز وجل ما دام فيهم وهذا أيضا غريب ضعيف لما تقدم أيضا وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا
محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا علي بن إسماعيل بن حماد أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد أخبرنا
زيد بن الحباب حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي السمان عن ثوبان رفع الحديث قال: " لا يزال
فيكم سبعة بهم تنصرون وبهم تمطرون وبهم ترزقون حتى يأتي أمر الله " وقال ابن مردويه أيضا وحدثنا محمد بن
310

أحمد حدثنا محمد بن جرير بن يزيد حدثنا أبو معاذ نهار بن معاذ بن عثمان الليثي أخبرنا زيد بن الحباب أخبرني عمر
البزار عن عنبسة الخواص عن قتادة عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الابدال في أمتي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون قال قتادة: إني لأرجو أن
يكون الحسن منهم.
وقوله " ولكن الله ذو فضل على العالمين " أي ذو من عليهم ورحمة بهم يدفع عنهم ببعضهم بعضا وله الحكم
والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى " تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين " أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من
أمر الذين ذكرناهم بالحق أي بالواقع الذي كان عليه الامر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق الذي يعلمه
علماء بني إسرائيل " وإنك " أي يا محمد " لمن المرسلين " وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وأتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه
بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من أمن ومنهم من
كفروا ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد (253)
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود
زبورا " وقال ههنا " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " يعني موسى ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - وكذلك آدم
كما ورد به الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر - رضي الله عنه - " ورفع بعضهم درجات " كما ثبت في
حديث الاسراء حين رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل " فإن قيل " فما
الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: استب رجل من المسلمين ورجل من
اليهود فقال اليهودي في قسم يقسمه: لا والذي اصطفى موسى على العالمين. فرفع المسلم يده فلطم بها وجه
اليهودي فقال: أي خبيث؟ وعلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فجاء اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى على
المسلم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد
موسى باطشا بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء " وفي رواية " لا
تفضلوا بين الأنبياء " فالجواب من وجوه " أحدها " أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر " الثاني " أن هذا
قاله من باب الهضم والتواضع " الثالث " أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند
التخاصم والتشاجر " الرابع " لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية " الخامس " ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله
عز وجل وعليكم الانقياد والتسليم له والايمان به.
وقوله " وآتينا عيسى ابن مريم البينات " أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه
عبد الله ورسوله إليهم " وأيدناه بروح القدس " يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام ثم قال تعالى " ولو شاء الله ما
اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا "
أي كل ذلك. عن قضاء الله وقدره ولهذا قال " ولكن الله يفعل ما يريد ".
يا أيها الذين أمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم
الظالمون (254)
311

يأمر تعالى عباده بالانفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم وليبادروا إلى ذلك في
هذه الحياة الدنيا " من قبل أن يأتي يوم " يعني يوم القيامة " لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " أي لا يباع أحد من
نفسه ولا يفادى بمال لو بذله ولو جاء بملء ء الأرض ذهبا ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال " فإذا
نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " ولا شفاعة: أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين
وقوله " والكافرون هم الظالمون " مبتدأ محصور في خبره أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذ كافرا وقد روى ابن
أبي حاتم عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال " والكافرون هم الظالمون " ولم يقل والظالمون هم
الكافرون.
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا
بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا
يؤده حفظهما وهو العلي العظيم (255)
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم قد صح الحديث عن رسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها أفضل آية في كتاب الله قال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الرزاق حدثنا سفيان عن سعيد الجريري عن أبي السليل عن عبد الله بن رباح عن أبي هو ابن
كعب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأله " أي آية في كتاب الله أعظم " قال: الله ورسوله أعلم فرددها مرارا ثم قال: آية الكرسي
قال " ليهنك العلم أبا المنذر والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " وقد رواه مسلم
عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن الجريري به وليس عنده زيادة والذي نفسي بيده
إلخ.
" حديث آخر " عن أبي أيضا في فضل آية الكرسي قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي
حدثنا ميسرة عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبيدة بن أبي لبابة عن عبد الله بن أبي بن كعب أن أباه أخبره أنه
كان له جرن فيه تمر قال: فكان أبي يتعاهده فوجده ينقص قال فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبيه الغلام المحتلم
قال: فسلمت عليه فرد السلام قال: فقلت ما أنت؟ جني أم إنسي؟ قال: جني. قال: قلت له ناولني يدك قال فناولني
يده فإذا يد كلب وشعر كلب فقلت هكذا خلق الجن؟ قال لقد علمت الجن ما فيهم أشد مني. قلت فما حملك على
ما صنعت؟ قال بلغني أنك رجل تحب الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك قال: فقال له أبي فما الذي يجيرنا
منكم؟ قال: هذه الآية آية الكرسي ثم غدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " صدق الخبيث " وهكذا رواه
الحكم في مستدركه من حديث أبي داود الطيالسي عن حرب بن شداد عن يحيى بن أبي كثير عن الحضرمي بن
لا حق عن محمد بن عمرو بن أبي بن كعب عن جده به وقال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه " طريق أخرى " قال
الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عثمان بن عتاب قال: سمعت أبا السليل قال: كان رجل من أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث الناس حتى يكثروا عليه فيصعد على سطح بيت فيحدث الناس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي آية
في القرآن أعظم " فقال رجل " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " قال فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي أو
قال فوضع يده بين ثديي فوجدت بردها بين كتفي وقال " ليهنك العلم يا أبا المنذر " " حديث آخر " عن الأسقع البكري
قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو يزيد القراطيسي حدثنا يعقوب بن أبي عباد المكي حدثنا مسلم بن خالد
عن ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء أن مولى ابن الأسقع رجل صدق أخبره عن الأسقع البكري أنه سمعه يقول إن
النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الله لا إله إلا هو
الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم " حتى انقضت الآية.
312

" حديث آخر " عن أنس قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن الحارث حدثني سلمة بن وردان أن أنس بن مالك
حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل رجلا من صحابته فقال " أي فلان هل تزوجت؟ " قال: لا وليس عندي ما أتزوج به
قال " أوليس معك: قل هو الله أحد؟ " قال بلى قال " ربع القرآن " قال " أليس معك قل يا أيها الكافرون؟ " قال
بلى قال " ربع القرآن " قال " أليس معك إذا زلزلت؟ " قال: بلى قال " ربع القرآن " قال " أليس معك إذا جاء
نصر الله؟ " قال بلى. قال " ربع القرآن " قال " أليس معك آية الكرسي " الله لا إله إلا هو "؟ " قال بلى قال
" ربع القرآن ".
" حديث آخر " عن أبي ذر جندب بن جنادة قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا المسعودي أنبأني أبو
عمر الدمشقي عن عبيد بن الخشخاش عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فجلست
فقال " يا أبا ذر هل صليت؟ " قلت لا قال " قم فصل " قال فقمت فصليت ثم جلست فقال " يا أبا ذر تعوذ بالله من
شر شياطين الإنس والجن " قال: قلت يا رسول الله أو للانس شياطين؟ قال " نعم " قال: قلت يا رسول الله
الصلاة قال " خير موضوع من شاء أقل ومن شاء أكثر " قال: قلت يا رسول الله فالصوم؟ قال " فرض مجزئ وعند
الله مزيد " قلت يا رسول الله فالصدقة؟ قال " أضعاف مضاعفة " قلت يا رسول الله فأيها أفضل؟ قال " جهد من مقل
أو سر إلى فقير " قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال " آدم " قلت يا رسول الله ونبي كان؟ قال " نعم نبي
مكلم " قلت يا رسول الله كم المرسلون. قال " ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا " وقال مرة " وخمسة عشر " قلت يا
رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال آية الكرسي " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " ورواه النسائي ".
" حديث آخر " عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري - رضي الله عنه - وأرضاه قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن ابن
أبي ليلى عن أخيه عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي أيوب أنه كان في سهوة له وكانت الغول تجئ فتأخذ فشكاها
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال " فإذا رأيتها فقل باسم الله أجيبي رسول الله " قال فجاءت فقال لها فأخذها فقالت إني لا أعود
فأرسلها فجاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما فعل أسيرك؟ " قال أخذتها فقالت: إني لا أعود فأرسلتها فقال: إنها عائدة
فأخذتها مرتين أو ثلاثا كل ذلك تقول لا أعود وأجئ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - " فيقول ما فعل أسيرك " فأقول أخذتها فتقول لا أعود
فيقول " إنها عائدة " فأخذتها فقالت أرسلني وأعلمك شيئا تقوله فلا يقربك شئ: آية الكرسي فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره
فقال " صدقت وهي كذوب " ورواه الترمذي في فضائل القرآن عن بندار عن أبي أحمد الزبيري به وقال حسن غريب
والغول في لغة العرب: الجان إذا تبدى في الليل.
وقد ذكر البخاري هذه القصة عن أبي هريرة فقال في كتاب فضائل القرآن وفي كتاب الوكالة وفي صفة إبليس من
صحيحة قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: وكلني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال فخليت عنه فأصبحت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " يا أبا هريرة ما
فعل أسيرك البارحة "؟ قال: قلت يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالا فرحمته وخليت سبيله قال " أما إنه قد
كذبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنه سيعود " فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت
لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود. فرحمته وخليت سبيله فأصبحت فقال
لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة " قلت يا رسول الله شكا حاجة وعيالا فرحمته فخليت سبيله
قال " أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا
آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت وما هي؟
قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " حتى تختم الآية فإنك لن يزال عليك
من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله فأصبحت فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما فعل أسيرك
313

البارحة؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال: " ما هي؟ " قال: قال لي
إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وقال لي لن يزال
عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شئ على الخير فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " أما إنه
صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة قلت لا قال: " ذاك شيطان " كذا رواه البخاري
معلقا بصيغة الجزم وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن إبراهيم بن يعقوب عن عثمان بن الهيثم فذكره - وقد روي
من وجه آخر عن أبي هريرة بسياق آخر قريب من هذا فقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره: حدثنا محمد بن
عبد الله بن عمرويه الصفار حدثنا أحمد بن زهير بن حرب أنبأنا مسلم بن إبراهيم أنبأنا إسماعيل بن مسلم العبدي
أنبأنا أبو المتوكل الناجي أن أبا هريرة كان معه مفتاح بيت الصدقة وكان فيه تمر فذهب يوما ففتح الباب فوجد التمر قد
أخذ منه ملء كف ودخل يوما آخر فإذا قد أخذ منه ملء كف ثم دخل يوما آخر ثالثا فإذا قد أخذ منه مثل ذلك فشكى
ذلك أبو هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " تحب أن تأخذ صاحبك هذا " قال نعم قال " فإذا فتحت الباب فقل
سبحان من سخرك محمد " فذهب ففتح الباب فقال سبحان من سخرك محمد؟ فإذا هو قائم بين يديه قال: يا عدو
الله أنت صاحب هذا؟ قال: نعم دعني فإني لا أعود ما كنت آخذا إلا لأهل بيت من الجن فقراء فخلى عنه ثم عاد
الثانية ثم عاد الثالثة فقلت أليس قد عاهدتني ألا تعود؟ لا أدعك اليوم حتى أذهب بك إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال: لا تفعل فإنك إن تدعني علمتك كلمات إذا أنت قلتها لم يقربك أحد من الجن صغير ولا كبير ذكر ولا
أنثى قال له لتفعلن؟ قال نعم قال ما هن قال " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " قرأ آية الكرسي حتى ختمها
فتركه فذهب فلم يعد فذكر ذلك أبو هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أما علمت أن ذلك كذلك " وقد رواه
النسائي عن أحمد بن محمد بن عبيد الله عن شعيب بن حرب عن إسماعيل بن مسلم عن أبي المتوكل عن أبي هريرة
به وقد تقدم لأبي بن كعب كائنة مثل هذه أيضا فهذه ثلاث وقائع.
" قصة أخرى " قال أبو عبيد في كتاب الغريب: حدثنا أبو معاوية عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله بن
مسعود قال: خرج رجل من الانس فلقيه رجل من الجن فقال: هل لك أن تصارعني؟ فإن صرعتني علمتك آية إذا
قرأتها حين تدخل بيتك لم يدخل شيطان فصارعه فصرعه فقال: إني أراك ضئيلا شخيتا كأن ذراعيك ذراعا كلب
أفهكذا أنتم أيها الجن كلكم أم أنت من بينهم؟ فقال إني بينهم لضليع فعاودني فصارعه فصرعه الانسي فقال: تقرأ
آية الكرسي فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خيخ كخيخ الحمار فقيل لابن مسعود: أهو عمر؟
فقال: من عسى أن يكون إلا عمر قال أبو عبيد: الضئيل النحيف الجسيم والخيخ بالخاء المعجمة ويقال بالحاء
المهملة الضراط.
" حديث آخر " عن أبي هريرة قال الحاكم أبو عبد الله في مستدركه: حدثنا علي بن حشاد حدثنا بشر بن موسى حدثنا
الحميدي حدثنا سفيان حدثني حكيم بن جبير الأسدي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سورة
البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي " وكذا رواه من طريق آخر عن
زائدة عن حكيم بن جبير ثم قال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه كذا قال وقد رواه الترمذي من حديث زائدة ولفظه
" لكل شئ سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة أي القرآن: آية الكرسي " ثم قال: غريب لا نعرفه إلا
من حديث حكيم بن جبير وقد تكلم فيه شعبة وضعفه " قلت " وكذا ضعفه أحمد ويحيى بن معين وغير واحد من
الأئمة وتركه ابن مهدي وكذبه السعدي.
" حديث أخر " قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن نافع أخبرنا عيسى بن محمد المروزي أخبرنا عمر بن محمد
البخاري أخبرنا عيسى بن موسى غنجار عن عبد الله بن كيسان حدثنا يحيى أخبرنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر
عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في
314

القرآن فقال ابن مسعود على الخبير سقطت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أعظم آية في القرآن " الله لا إله إلا هو
الحي القيوم ".
" حديث آخر " في اشتماله على اسم الله الأعظم. قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير أنبأنا عبد الله بن أبي
زياد حدثنا شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هاتين الآيتين
" الله لا إله إلا هو الحي القيوم " و " ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " " إن فيهما اسم الله الأعظم ". وكذا رواه أبو داود
عن مسدد والترمذي عن علي بن خشرم وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة ثلاثتهم عن عيسى بن يونس عن
عبيد الله بن أبي زياد به وقال الترمذي: حسن صحيح.
" حديث آخر " في معنى هذا عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال ابن مردويه: أخبرنا عبد الله بن نمير أخبرنا إسحق بن
إبراهيم بن إسماعيل أخبرنا هشام بن عمار أنبأنا الوليد بن مسلم أخبرنا عبد الله بن العلاء بن زيد أنه سمع
القاسم بن عبد الرحمن يحدث عن أبي أمامة يرفعه قال " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة
البقرة وآل عمران وطه " وقال هشام وهو ابن عمار خطيب دمشق: أما البقرة ف‍ " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وفي
آل عمران " ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم " وفي طه " وعنت الوجوه للحي القيوم ".
" حديث آخر " عن أبي أمامة في فضل قراءتها بعد الصلاة المكتوبة قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن
محرز بن يناور الادمي أخبرنا جعفر بن محمد بن الحسن أخبرنا الحسن بن بشر بطرسوس أخبرنا محمد بن حمير
أخبرنا محمد بن زياد عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من
دخول الجنة إلا أن يموت ". وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن الحسن بن بشر به وأخرجه ابن حبان في
صحيحه من حديث محمد بن حمير وهو الحمصي من رجال البخاري أيضا فهو إسناد على شرط البخاري وقد زعم
أبو الفرج بن الجوزي أنه حديث موضوع والله أعلم وقد روى ابن مردويه من حديث علي والمغيرة بن شعبة
وجابر بن عبد الله نحو هذا الحديث ولكن في إسناد كل منهما ضعف. وقال ابن مردويه أيضا حدثنا محمد بن
الحسن بن زياد المقري أخبرنا يحيى بن درستويه المروزي أخبرنا زياد بن إبراهيم أخبرنا أبو حمزة السكري عن
المثنى عن قتادة عن الحسن عن أبي موسى الأشعري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوحى الله إلى موسى بن عمران عليه
السلام أن اقرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة فإنه من يقرأها في دبر كل صلاة مكتوبة أجعل له قلب الشاكرين
ولسان الذاكرين وثواب النبيين وأعمال الصديقين ولا يواظب على ذلك إلا نبي أو صديق أو عبد امتحنت قلبه للايمان
أو أريد قتله في سبيل الله " وهذا حديث منكر جدا.
" حديث آخر " في أنها تحفظ من قرأها أول النهار وأول الليل قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا يحيى بن المغيرة
أبو سلمة المخزومي المديني أخبرنا ابن أبي فديك عن عبد الرحمن المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قرأ: " حم " المؤمن إلى " إليه المصير " وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما
حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح " ثم قال هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل العلم
في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه.
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصارا لعدم صحتها وضعف أسانيدها كحديث علي في قراءتها عند
الحجامة أنها تقوم مقام حجامتين وحديث أبي هريرة في كتابتها في اليد اليسرى بالزعفران سبع مرات وتلحس للحفظ
وعدم النسيان أوردهما ابن مردويه وغير ذلك.
315

" وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة "
فقوله " الله لا إله إلا هو " إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق " الحي القيوم " أي الحي في نفسه الذي لا
يموت أبدا القيم لغيره وكان عمر يقرأ القيام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ولا قوام لها بدون أمره
كقوله " ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره " وقوله " لا تأخذه سنة ولا نوم " أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا
ذهول عن خلقه بل هو قائم على كل نفس بما كسبت شهيد على كل شئ لا يغيب عنه شئ ولا يخفى عليه خافية
ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم فقوله " لا تأخذه " أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس ولهذا قال ولا
نوم لأنه أقوى من السنة وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات فقال " إن الله لا ينام
ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار
حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر
أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله " لا تأخذه سنة ولا نوم " أن موسى عليه السلام سأل
الملائكة هل ينام الله عز وجل؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم
أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما قال فجعل ينعس وهما في يده في كل يد واحدة قال
فجعل ينعس وينبه وينعس وينبه حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر: إنما هو مثل
ضربه الله عز وجل يقول فكذلك السماوات والأرض في يده. وهكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن يحيى عن
عبد الرزاق فذكره وهو من أخبار بني إسرائيل وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله
عز وجل وأنه منزه عنه وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا
هشام بن يوسف عن أمية بن شبل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي عكرمة عن أبي هريرة قال: سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر قال " وقع في نفس موسى هل ينام الله؟ فأرسل الله إليه ملكا
فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما. قال فجعل ينام وكادت يداه تلتقيان فيستيقظ
فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان قال: ضرب الله عز وجل مثلا إن
الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " وهذا حديث غريب جدا والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدستكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا
أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل
ينام ربك؟ قال اتقوا الله فناداه ربه عز وجل يا موسى سألوك هل ينام ربك فخذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ففعل
موسى فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت
الزجاجتان فانكسرتا فقال يا موسى لو كنت أنام لسقطت السماوات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك.
فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله " له ما في السماوات وما في الأرض " إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله " إن كل
من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ".
وقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " كقوله " وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن
يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وكقوله " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل أنه
لا يتجاسر أحد على أن يشفع لاحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة " آتي تحت العرش فأخر
ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع " قال " فيحد لي حدا فأدخلهم
الجنة ".
316

وقولهم " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها
كقوله إخبارا عن الملائكة " وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا ".
وقوله " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " أي لا يطلع أحد من علم الله على شئ إلا بما أعلمه الله عز وجل
وأطلعه عليه ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون أحدا على شئ من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله " ولا
يحيطون به علما ".
وقوله " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن
مطرف بن طريف عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وسع كرسيه السماوات
والأرض " قال: علمه وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم كلاهما عن مطرف بن طريف به.
قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله. ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين
ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين. وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم عن
سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: سئل النبي - صلى الله عليه وآله
وسلم - عن قول الله عز وجل " وسع كرسيه السماوات والأرض " قال " كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا
الله عز وجل " كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس فذكره وهو غلط
وقد رواه وكيع في تفسيره حدثنا سفيان عن عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس بن محمد بن
أحمد المحبوبي عن محمد بن معاذ عن أبي عاصم عن سفيان وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفا مثله
وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الفزاري الكوفي
وهو متروك عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح أيضا. وقال السدي عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش:
وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو
أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في
المفازة ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد:
حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " قال وقال
أبو ذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من
الأرض ".
وقال أبو بكر بن مردويه أخبرنا سليمان بن أحمد أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري أخبرنا محمد بن أبي اليسرى
العسقلاني أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي عن القاسم بن محمد الثقفي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر
الغفاري أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الكرسي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع
عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة " وقال
الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا زهير حدثنا ابن أبي بكر حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة
عن عمر - رضي الله عنه - قال: أتت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة
قال فعظم الرب تبارك وتعالى وقال " إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله "
وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما والطبراني وابن أبي عاصم في
كتابي السنة لهما والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن خليفة وليس بذاك
المشهور وفي سماعه من عمر نظر ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفا ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا ومنهم
من يزيد في متنه زيادة غريبة ومنهم من يحذفها وأغرب من هذا حديث جابر بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو
317

داود في كتابه السنة من سننه والله أعلم وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع
الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الآية وقد زعم بعض المتكلمين على علم
الهيئة من الاسلاميين أن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع وهو الفلك الأثير
ويقال له الأطلس وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول
الكرسي هو العرش والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والاخبار وقد
اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك وعندي في صحته نظر والله أعلم.
وقوله " ولا يؤده حفظهما " أي لا يثقله ولا يكترثه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما بل ذلك سهل عليه
يسير لديه وهو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شئ ولا يغيب عنه شئ
والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه محتاجة فقيرة وهو الغني الحميد الفعال لما
يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو القاهر لكل شئ الحسيب على كل شئ الرقيب العلي العظيم
لا إله غيره ولا رب سواه فقوله " وهو العلي العظيم " كقوله " وهو الكبير المتعال " وهذه الآيات وما في معناها
من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.
لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا
انفصام لها والله سميع عليم (256)
يقول تعالى " لا إكراه في الدين " أي لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الاسلام فإنه بين واضح جلي دلائله
وبراهينه لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه بل من هداه الله للاسلام وشرح صدره ونور بصيرته دخل فيه
على بينه ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا وقد ذكروا أن
سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاما وقال ابن جرير: حدثنا ابن يسار حدثنا ابن أبي
عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن
عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل
" لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن
شعبة به نحوه وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير
والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد الجرشي
عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله " لا إكراه في الدين " قال: نزلت في رجل من
الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألا
أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك رواه ابن جرير وروى السدي نحو ذلك وزاد وكانا قد تنصرا
على أيدي تجار قدموا من الشام يحملون زبيبا فلما عزما على الذهاب معهم أراد أبو هما أن يستكرههما وطلب من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبعث في آثارهما فنزلت هذه الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف أخبرنا
شريك عن أبي هلال عن أسبق قال: كنت في دينهم مملوكا نصرانيا لعمر بن الخطاب فكان يعرض علي الاسلام
فآبى فيقول " لا إكراه في الدين " ويقول يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين وقد ذهب
طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل في دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية
وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين
الاسلام فإن أبى أحد منهم الدخول ولم ينقد له أو يبذل الجزية قوتل حتى يقتل وهذا معنى لا إكراه قال الله تعالى
" ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون " وقال تعالى " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين
318

وأغلظ عليهم " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع
المتقين " وفي الصحيح " عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد
الاسلام في الوثائق والأغلال والقيود والأكبال ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونوا من أهل
الجنة فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا يحيى عن حميد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل " أسلم "
قال إني أجدني كارها قال " وإن كنت كارها " فإنه ثلاثي صحيح ولكن ليس من هذا القبيل فإنه لم يكرهه النبي - صلى الله عليه وسلم -
على الاسلام بل دعاه إليه فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة فقال له أسلم وإن كنت كارها فإن الله سيرزقك
حسن النية والاخلاص.
وقوله " فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم " أي من خلع
الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ووحد الله فعبده وحده وشهد أن لا إله إلا هو
" فقد استمسك بالعروة الوثقى " أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال أبو
القاسم البغوي: حدثنا أبو روح البلدي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحق عن حسان هو ابن قائد
العبسي قال: قال عمر - رضي الله عنه - إن الجبت السحر والطاغوت الشيطان وإن الشجاعة والجبن غرائز تكون في
الرجال يقاتل الشجاع عمن لا يعرف ويفر الجبان من أمه وإن كرم الرجل دينه وحسبه خلقه وإن كان فارسيا أو نبطيا.
وهكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث الثوري عن أبي إسحق عن حسان بن قائد العبسي عن عمر فذكره
ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان قوي جدا فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان والتحاكم
إليها والاستنصار بها.
وقوله " فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب وشبه ذلك بالعروة
الوثقى التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية وربطها قوي شديد ولهذا قال " فقد استمسك بالعروة الوثقى
لا انفصام لها " الآية قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الايمان وقال السدي: هو الاسلام وقال سعيد بن جبير
والضحاك: يعني لا إله إلا الله وعن أنس بن مالك العروة الوثقى القرآن وعن سالم بن أبي الجعد قال هو الحب في
الله والبغض في الله وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها. وقال معاذ بن جبل في قوله " لا انفصام لها " دون
دخول الجنة وقال مجاهد وسعيد بن جبير " فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها " ثم قرأ " إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقال الإمام أحمد: أنبأنا إسحق بن يوسف حدثنا ابن عوف عن محمد بن قيس بن
عبادة قال: كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع فصلى ركعتين أوجز فيهما فقال القوم هذا رجل من
أهل الجنة فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته فلما استأنس قلت له إن القوم لما دخلت المسجد
قالوا كذا وكذا قال سبحان الله ما ينبغي لاحد أن يقول ما لا يعلم وسأحدثك لم: إني رأيت رؤيا على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها
عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء في أعلاه عروة فقيل لي اصعد عليه فقلت لا أستطيع فجاءني منصف
- قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي فقال اصعد فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال استمسك بالعروة
فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصصتها عليه فقال " أما الروضة فروضة الاسلام وأما العمود فعمود
الاسلام وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الاسلام حتى تموت " قال وهو عبد الله بن سلام أخرجاه في
الصحيحين من حديث عبد الله بن عون فقمت إليه وأخرجه البخاري من وجه آخر عن محمد بن سيرين به.
" طريق أخرى وسياق آخر " قال الإمام أحمد: أنبأنا حسن بن موسى وعثمان قالا: أنبأنا حماد بن سلمة عن
عاصم بن بهدلة عن المسيب بن رافع عن خرشة بن الحر قال: قدمت المدينة فجلست إلى مشيخة في مسجد
النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاء شيخ يتوكأ على عصا له فقال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فقام
319

خلف سارية فصلى ركعتين فقلت له: قال بعض القوم كذا وكذا فقال: الجنة لله يدخلها من يشاء وإني رأيت على
عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا كأن رجلا أتاني فقال انطلق فذهبت معه فسلك بي منهجا عظيما فعرضت لي طريق عن
يساري فأردت أن أسلكها فقال: إنك لست من أهلها ثم عرضت لي طريق عن يميني فسلكتها حتى انتهت إلى جبل
زلق فأخذ بيدي فدحا بي فإذا أنا على ذروته فلم أتقار ولم أتماسك فإذا عمود حديد في ذروته حلقة من ذهب فأخذ
بيدي فدحا بي حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك فقلت نعم فضرب العمود برجله فاستمسك بالعروة فقصصتها
على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رأيت خيرا أما المنهج العظيم فالمحشر وأما الطريق التي عرضت عن يسارك فطريق أهل
النار ولست من أهلها وأما الطريق التي عرضت عن يمينك فطريق أهل الجنة وأما الجبل الزلق فمنزل الشهداء
وأما العروة التي استمسكت بها فعروة الاسلام فاستمسك بها حتى تموت قال فإنما أرجو أن أكون من أهل الجنة.
قال: وإذا هو عبد الله بن سلام وهكذا رواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن عفان وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي
شيبة عن الحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن حماد بن سلمة به نحوه وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث
الأعمش عن سليمان بن مسهر عن خرشة بن الحر الفزاري به.
الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات
أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (257)
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور
الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات
والضلالات ويخرجونهم ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "
ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات لان الحق واحد والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال " وأن هذا
صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " وقال تعالى " وجعل
الظلمات والنور " وقال تعالى " عن اليمين وعن الشمال " إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد
الحق وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن ميسرة حدثنا عبد العزيز بن أبي
عثمان عن موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد قال: يبعث أهل الأهواء أو قال تبعث أهل الفتن فمن كان هواه الايمان
كانت فتنته بيضاء مضيئة ومن كان هواه الكفر كانت فتنته سوداء مظلمة ثم قرأ هذه الآية " الله ولي الذين آمنوا
يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون ".
ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحي
وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم
الظالمين (258)
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه وهو ملك بابل نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح ويقال: نمرود بن فالخ بن
عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح والأول قول مجاهد وغيره: قال مجاهد: وملك الدنيا مشارقها ومغاربها
أربعة: مؤمنان وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود وذو القرنين والكافران نمرود وبختنصر والله أعلم ومعنى قوله
" ألم تر " أي بقلبك يا محمد " إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " أي وجود ربه وذلك أنه أنكر أن يكون إله غيره كما
قال بعده فرعون لملئه " ما علمت لكم من إله غيري " وما حمله على هذا الطغيان والكفر الغليظ والمعاندة الشديدة
320

إلا تجبره وطول مدته في الملك وذلك أنه يقال أنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ولهذا قال " أن أتاه الله الملك " وكان
طلب من إبراهيم دليلا على وجود الرب الذي يدعو إليه فقال إبراهيم " ربي الذي يحيي ويميت " أي إنما الدليل
على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها وهذا دليل على وجود الفاعل المختار
ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له.
فعند ذلك قال المحاج وهو النمرود " أنا أحيي وأميت " قال قتادة ومحمد بن إسحاق والسدي وغير واحد وذلك أني
أوتى بالرجلين قد استحقا القتل فأمر بقتل أحدهما فيقتل وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل فذلك معنى الاحياء والإماتة
والظاهر والله أعلم أنه ما أراد هذا لأنه ليس جوابا لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه مانع لوجود الصانع وإنما أراد أن
يدعي لنفسه هذا المقام عنادا ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله
" ما علمت لكم من إله غيري " ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة " فإن الله يأتي بالشمس من المشرق
فأت بها من المغرب " أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في
الوجود في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته فهذه الشمس تبدو كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي
وتميت فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت أي أخرس فلا
يتكلم وقامت عليه الحجة قال الله تعالى " والله لا يهدي القوم الظالمين " أي لا يلهمهم حجة ولا برهانا بل حجتهم
داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد وهذا التنزيل على هذا المعنى أحسن مما ذكره كثير من
المنطقيين أن عدول إبراهيم عن المقام الأول إلى المقام الثاني انتقال من دليل إلى أوضح منه ومنهم من قد يطلق
عبارة ترديه وليس كما قالوه بل المقام الأول يكون كالمقدمة للثاني ويبين بطلان ما ادعاه نمرود في الأول والثاني ولله
الحمد والمنة وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ولم يكن
اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أن
النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة
ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس بل خرج وليس معه شئ من الطعام فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب
من التراب فملا منه عدليه وقال أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم فلما قدم وضع رحاله وجاء فاتكأ نام فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاما طيبا فعملت طعاما فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد صلحوه فقال: أنى
لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به فعلم أنه رزق رزقهم الله عز وجل قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك
الملك الجبار ملكا يأمره بالايمان بالله فأبى عليه ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال: أجمع جموعك وأجمع
جموعي فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل الله عليهم بابا من البعوض بحيث لم يروا عين
الشمس وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية ودخلت واحدة منها في منخري الملك
فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها فكان يضرب برأسه بالمرازب في هذه المدة حتى أهلكه الله
بها.
أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم
لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك
ولنجعلك أية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شئ
قدير (259)
تقدم قوله تعالى " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه
321

ولهذا عطف عليه بقوله " أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " اختلفوا في هذا المار من هو فروى ابن
أبي حاتم عن عصام بن داود عن آدم بن أبي إياس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي بن أبي
طالب أنه قال: هو عزير ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن
وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور وقال: وهب بن منبه وعبد الله بن عبيد هو أرميا بن
حلقيا قال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه أنه قال: وهو اسم الخضر عليه السلام وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي قال سمعت سليمان بن محمد اليساري الجاري من أهل الجاري ابن عم مطرف قال سمعت
سلمان يقول إن رجلا من أهل الشام يقول إن الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه اسمه حزقيل بن بوار وقال مجاهد بن
جبر هو رجل من بني إسرائيل وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها
" وهي خاوية " أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خويا.
وقوله " على عروشها " أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة
العظيمة وقال " أنى يحيي هذه الله بعد موتها " وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العودة إلى ما
كانت عليه قال الله تعالى " فأماته الله مائة عام ثم بعثه " قال وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته وتكامل
ساكنوها وتراجع بنو إسرائيل إليها فلما بعثه الله عز وجل بعد موته كان أول شئ أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع
الله فيه كيف يحيي بدنه فلما استقل سويا قال الله له أي بواسطة الملك " كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم " قال
وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم فقال " أو بعض
يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه " وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده
كما تقدم لم يتغير منه شئ لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب نقص " وانظر إلى حمارك "
أي كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر " ولنجعلك آية للناس " أي دليلا على المعاد " وانظر إلى العظام كيف
ننشزها " أي نرفعها فيركب بعضها على بعض وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث نافع بن أبي نعيم عن
إسماعيل بن حكيم عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ " كيف ننشزها " بالزاي ثم قال صحيح
الاسناد ولم يخرجاه وقرئ " ننشرها " أي نحييها قاله مجاهد " ثم نكسوها لحما " وقال السدي وغيره تفرقت عظام
حماره حوله يمينا ويسارا فنظر إليها وهي تلوح من بياضها فبعث الله ريحا فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة
ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حمارا قائما من عظام لا لحم عليها ثم كساها الله لحما وعصبا وعروقا وجلدا
وبعث الله ملكا فنفخ في منخري الحمار فنهق كله بأذن الله عز وجل وذلك كله بمرأى من العزير فعند ذلك لما تبين له هذا كله
" قال أعلم أن الله على كل شئ قدير " أي أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانا فأنا أعلم أهل زماني بذلك وقرأ آخرون " قال
اعلم " على أنه أمر له بالعلم.
وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير
فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم - 260)
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسبابا منها أنه لما قال لنمرود " ربي الذي يحيي ويميت " أحب أن يترقى من علم
اليقين بذلك إلى عين اليقين وأن يرى ذلك مشاهدة فقال " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى
ولكن ليطمئن قلبي " فأما الحديث الذي رواه البخاري عند هذه الآية حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب عن أبي سلمة وسعيد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نحن أحق بالشك
من إبراهيم إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " وكذا رواه مسلم عن
322

حرملة بن يحيى عن وهب به فليس المراد ههنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده بلا خلاف وقد أجيب عن هذا
الحديث بأجوبة أحدها (1).
وقوله " قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك " اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي وإن كان لا طائل تحت
تعيينها إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن فروي عن ابن عباس أنه قال هي الغرنوق والطاوس والديك
والحمامة وعنه أيضا أنه أخذ وزا ورألا وهو فرخ النعام وديكا وطاوسا وقال: مجاهد وعكرمة كانت حمامة وديكا وطاوسا
وغرابا. وقوله " فصرهن إليك " أي وقطعهن قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو مالك وأبو الأسود الدؤلي ووهب ابن
منبه والحسن والسدي وغيرهم وقال العوفي عن ابن عباس " فصرهن إليك " أوثقهن فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل
على كل جبل منهن جزءا فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط
بعضهن ببعض ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءا قيل أربعة أجبل وقيل سبعة قال ابن عباس: وأخذ
رؤسهن بيده ثم أمره الله عز وجل أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عز وجل فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش
والدم إلى الدم واللحم إلى اللحم والاجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على جدته وأتينه
يمشين سعيا ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها وجعل كل طائر يجئ ليأخذ رأسه الذي في يد إبراهيم عليه السلام
فإذا قدم له غير رأسه يأباه فإذا قدم إليه رأسه تركب مع بقية جسده بحول الله وقوته ولهذا قال " واعلم أن الله عزيز
حكيم " أي عزيز لا يغلبه شئ ولا يمتنع من شئ وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شئ حكيم في أقواله
وأفعاله وشرعه وقدره وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب في قوله " ولكن ليطمئن قلبي " قال: قال ابن
عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها وقال ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا
شعبة سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل عن سعيد بن المسيب قال: اتفق عبد الله بن عباس وعبد الله بن
عمرو بن العاص أن يجتمعا قال: ونحن شببة فقال أحدهما لصاحبه أي آية في كتاب الله أرجى عندك لهذه الأمة
فقال عبد الله بن عمرو قول الله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر
الذنوب جميعا " الآية فقال ابن عباس أما إن كنت تقول هذا فأنا أقول أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم " رب أرني
كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي حدثنا عبد الله بن
صالح كاتب الليث حدثني محمد بن أبي سلمة عن عمرو حدثني ابن المنكدر أنه قال: التقى عبد الله بن عباس
وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس لابن عمرو بن العاص أي آية في القرآن أرجى عندك؟ فقال
عبد الله بن عمرو: قول الله عز وجل " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا " الآية فقال ابن عباس:
لكن أنا أقول قول الله عز وجل " وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى " فرضي من
إبراهيم قوله " بلى " قال فهذا لما يعترض في النفوس ويوسوس به الشيطان وهكذا رواه الحاكم في المستدرك عن
أبي عبد الله محمد بن يعقوب بن الأحزم عن إبراهيم بن عبد الله السعدي عن بشر بن عمر الزهراني عن
عبد العزيز بن أبي سلمة بإسناده مثله ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه.

(1) هنا بياض بالنسخ التي بأيدينا ونذكر ما قاله البغوي إتماما للفائدة. قال: حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى
المزني أنه قال على هذا الحديث لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولا إبراهيم في أن الله قادر على أن يحيى الموتى وإنما شكا في أنه هل يجيبهما إلى ما سألا.
وقال أبو سليمان الخطابي ليس في قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم اعتراف بالشك على نفسه ولا على إبراهيم لكن فيه نفي الشك عنهما يقول إذا
لم أشك أنا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فإبراهيم أولى بأن لا يشك وقال ذلك على سبيل التواضع والهضم من النفس وكذلك قوله لو لبثت
في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي. وفيه الاعلام أن المسألة من إبراهيم عليه السلام لم تعرض من جهة الشك ولكن من قبل زيادة
العلم بالعيان فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال وقيل لما نزلت هذه الآية قال قوم شك إبراهيم ولم يشك نبينا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول تواضعا منه وتقديما لإبراهيم على نفسه ا ه‍.
323

مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن
يشاء والله واسع عليم (261)
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته وإن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف فقال " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله " قال سعيد بن جبير يعني في طاعة الله وقال مكحول
يعني به الانفاق في الجهاد من رباط الخيل وإعداد السلاح وغير ذلك وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس
الجهاد والحج يضعف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال الله تعالى " كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل
سنبلة مائة حبة " وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة
ينميها الله عز وجل لأصحابها كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى
سبعمائة ضعف قال الإمام أحمد: حدثنا زياد بن الربيع أبو خداش حدثنا واصل مولى ابن عيينة عن بشار بن أبي
سيف الجرمي عن عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه وامرأته تحيفة قاعدة عند
رأسه قلنا كيف بات أبو عبيدة؟ قالت: والله لقد بات بأجر قال أبو عبيدة ما بت بأجر وكان مقبلا بوجهه على الحائط
فأقبل على القوم بوجهه وقال ألا تسألوني عما قلت؟ قالوا ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضا أو ماز أذى فالحسنة
بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله عز وجل ببلاء في جسده فهو له حطة " وقد روى النسائي في
الصوم بعضه من حديث واصل به ومن وجه آخر موقوفا.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سليمان سمعت أبا عمرو الشيباني عن ابن
مسعود أن رجلا تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول - صلى الله عليه وسلم - " لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة ".
ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن مهران عن الأعمش به ولفظ مسلم جاء رجل بناقة مخطومة فقال يا
رسول الله هذه في سبيل الله فقال " لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة ".
" حديث آخر " قال أحمد حدثنا عمرو بن مجمع أبو المنذر الكندي أخبرنا إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن
عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا
الصوم والصوم لي وأنا أجزي به وللصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة يوم القيامة ولخلوف فم الصائم أطيب
عند الله من ريح المسك ".
" حديث آخر " قال أحمد أخبرنا وكيع أخبرنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل
عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله يقول الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي
به يدع طعامه وشرابه من أجلي وللصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ولخلوف فم الصائم أطيب
عند الله من ريح المسك الصوم جنة الصوم جنة ". وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي سعيد الأشج
كلاهما عن وكيع به.
" حديث آخر " قال أحمد حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن الدكين عن بشر بن عميلة عن حريم بن وائل قال:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أنفق نفقة في سبيل الله تضاعفت بسبعمائة ضعف ".
" حديث آخر " قال أبو داود أنبأنا محمد بن عمرو بن السرح حدثنا ابن وهب عن يحيى بن أيوب وسعيد بن أبي أيوب
عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الصلاة والصيام والذكر يضاعف على النفقة
في سبيل الله بسبعمائة ضعف ".
324

" حديث آخر " قال ابن أبي حاتم: أنبأنا أبي حدثنا هارون بن عبد الله بن مروان حدثنا ابن أبي فديك عن
الخليل بن عبد الله عن الحسن عن عمران بن حصين عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال " من أرسل بنفقة
في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم يوم القيامة ومن غزا في سبيل الله وأنفق في جهة ذلك فله
بكل درهم سبعمائة ألف درهم " ثم تلا هذه الآية " والله يضاعف لمن يشاء " وهذا حديث غريب وقد تقدم حديث
أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة في تضعيف الحسنة إلى ألفي ألف حسنة عند قوله " من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " الآية.
" حديث آخر " قال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن عبيد الله بن العسكري البزار أخبرنا الحسن بن علي بن شبيب
أخبرنا محمود بن خالد الدمشقي أخبرنا أبي عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر لما نزلت هذه الآية " مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله " قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " رب زد أمتي " قال فأنزل الله " من ذا الذي يقرض الله قرضا
حسنا " قال " رب زد أمتي " قال فأنزل الله " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " وقد رواه أبو حاتم وابن
حبان في صحيحه عن حاجب بن أركين عن أبي عمر حفص بن عمر بن عبد العزيز المقري عن أبي إسماعيل
المؤدب عن عيسى بن المسيب عن نافع عن ابن عمر فذكره وقوله ههنا " والله يضاعف لمن يشاء " أي بحسب
إخلاصه في عمله " والله واسع عليم " أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه عليم بمن يستحق ومن لا يستحق
سبحانه وبحمده.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
(262) قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم (263) يا أيها الذين أمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن
والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل
فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين (264)
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات منا على من أعطوه فلا
يمنون على أحد ولا يمنون به لا بقول ولا فعل.
وقوله " ولا أذى " أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروها يحيطون به ما سلف من الاحسان ثم وعدهم الله تعالى
الجزاء الجزيل على ذلك فقال " لهم أجرهم عند ربهم " أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه " ولا خوف عليهم "
أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة " ولا هم يحزنون " أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة
الدنيا وزهرتها لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك.
ثم قال تعالى " قول معروف " أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم " ومغفرة " أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي " خير
من صدقة يتبعها أذى " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل قال: قرأت على معقل بن عبد الله عن
عمرو بن دينار قال: بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من صدقة أحب إلى الله من قول معروف ألم تسمع قوله " قول
معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني " عن خلقه " حليم " أي يحلم ويغفر ويصفح ويتجاوز عنهم وقد
وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ففي صحيح مسلم من حديث شعبة عن الأعمش عن سليمان بن مسهر
عن خرشة بن الحر عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم
ولهم عذاب أليم: المنان بما أعطى والمسبل إزاره والمنفق سلعته بالحلف الكاذب وقال ابن مردويه: حدثنا
أحمد بن عثمان بن يحيى أخبرنا عثمان بن محمد الدوري أخبرنا هشيم بن خارجة أخبرنا سليمان بن عقبة عن يونس بن
325

ميسرة عن أبي إدريس عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يدخل الجنة عاق ولا منان ولا مدمن خمر ولا مكذب بقدر ".
وروى أحمد وابن ماجة من حديث يونس بن ميسرة نحوه ثم روى ابن مردويه وابن حبان والحاكم في مستدركه والنسائي
من حديث عبد الله بن يسار الأعرج عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم
القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان بما أعطى " وقد روى النسائي عن مالك بن سعد عن عمه روح بن
عبادة عن عتاب بن بشير عن خصيف الجراري عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يدخل الجنة مدمن
خمر ولا عاق لوالديه ولا منان ". وقد رواه ابن أبي حاتم عن الحسن بن المنهال عن محمد بن عبد الله بن عصار
الموصلي عن عتاب عن خصيف عن مجاهد عن ابن عباس ورواه النسائي من حديث عبد الكريم بن مالك الحوري
عن مجاهد قوله وقد روي عن مجاهد عن أبي سعيد وعن مجاهد عن أبي هريرة نحوه ولهذا قال الله تعالى " يا أيها
الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى فما بقي ثواب
الصدقة بخطيئة المن والأذى ثم قال تعالى " كالذي ينفق ماله رئاء الناس " أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كما
تبطل صدقة من راءى بها الناس فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له أو شهرته بالصفات الجميلة
ليشكر بين الناس أو يقال إنه كريم ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى ابتغاء مرضاته
وجزيل ثوابه ولهذا قال " ولا يؤمن بالله واليوم الآخر " ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه قال الضحاك:
والذي يتبع نفقته منا أو أذى فقال " فمثله كمثل صفوان " وهو جمع صفوانة فمنهم من يقول الصفوان يستعمل مفردا.
أيضا وهو الصفا وهو الصخر الأملس " عليه تراب فأصابه وابل " هو المطر الشديد " فتركه صلدا " أي فترك الوابل
ذلك الصفوان صلدا أي أملس يابسا أي لا شئ عليه من ذلك التراب بل قد ذهب كله أي وكذلك أعمال المرائين
تذهب وتضمحل عند الله وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال " لا يقدرون على شئ مما كسبوا
والله لا يهدي القوم الكافرين ".
ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها
ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير (265)
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله عنهم في ذلك " وتثبيتا من أنفسهم " أي وهم متحققون
ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ونظير هذا في المعنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق
على صحته " من صام رمضان إيمانا واحتسابا " أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله ثوابه قال الشعبي: " وتثبيتا
من أنفسهم " أي تصديقا ويقينا وكذا قال قتادة وأبو صالح وابن زيد واختاره ابن جرير وقال مجاهد والحسن أي يتثبتون أين يضعون صدقاتهم.
وقوله " كمثل جنة بربوة " أي كمثل بستان بربوة وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس
والضحاك وتجري فيه الأنهار قال ابن جرير رحمه الله: وفي الربوة ثلاث لغات هن ثلاث قراءات بضم الراء وبها
قرأ عامة أهل المدينة والحجاز والعراق وفتحها وهي قراءة بعض أهل الشام والكوفة ويقال إنها لغة تميم وكسر الراء
ويذكر أنها قراءة ابن عباس.
وقوله " أصابها وابل " وهو المطر الشديد كما تقدم فآتت " أكلها " أي ثمرتها " ضعفين " أي بالنسبة إلى غيرها من
الجنان " فإن لم يصبها وابل فطل " قال الضحاك هو الرذاذ وهو اللين من المطر أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل
أبدا لأنها إن لم يصبها وابل فطل وأيا ما كان فهو كفايتها وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبدا بل يتقبله الله ويكثره وينميه
كل عامل بحسبه ولهذا قال " والله بما تعملون بصير " أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شئ.
326

أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية
ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (266)
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام هو ابن يوسف عن ابن جريج سمعت
عبد الله بن أبي مليكة يحدث عن ابن عباس وسمعت أخاه أبا بكر بن أبي مليكة يحدث عن عبيد بن عمير قال: قال
عمر بن الخطاب يوما لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن ترون هذه الآية نزلت؟ " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
وأعناب " قالوا: الله أعلم فغضب عمر فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم فقال ابن عباس: في نفسي منها شئ يا أمير
المؤمنين فقال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك فقال ابن عباس رضي الله عنهما ضربت مثلا بعمل قال عمر:
أي عمل؟ قال ابن عباس لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
ثم رواه البخاري عن الحسن بن محمد الزعفراني عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج فذكره وهو من أفراد
البخاري رحمه الله وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولا
ثم بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات عياذا بالله من ذلك فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من
الصالح واحتاج إلى شئ من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شئ وخانه أحوج ما كان إليه ولهذا قال تعالى
" وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار " وهو الريح الشديد " فيه نار فاحترقت " أي أحرق ثمارها وأباد
أشجارها فأي حال يكون حاله؟ وقد روى ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: ضرب الله مثلا حسنا
وكل أمثاله حسن قال " أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل
الثمرات " يقول ضيعة في شيبته " وأصابه الكبر " وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره فجاءه " إعصار فيه نار "
فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه وكذلك الكافر يكون يوم
القيامة إذ رد إلى الله عز وجل ليس له خير فيستعتب كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ولا يجده قدم لنفسه خيرا
يعود عليه كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند
كبره وضعف ذريته وهكذا روى الحاكم في مستدركه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في دعائه " اللهم اجعل أوسع
رزقك علي عند كبر سني وانقضاء عمري " ولهذا قال تعالى " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون " أي
تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها على المراد منها كما قال تعالى " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها
إلا العالمون ".
يا أيها الذين أمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون
ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد (267) الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم (268) يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما
يذكر إلا أولوا الألباب (269)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالانفاق والمراد به الصدقة ههنا قاله ابن عباس من طيبات ما رزقهم من الأموال التي
اكتسبوها قال مجاهد: يعني التجارة بتيسيره إياها لهم وقال علي والسدي " من طيبات ما كسبتم " يعني الذهب
والفضة ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض قال ابن عباس أمرهم بالانفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه
ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثة فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ولهذا قال " ولا تيمموا الخبيث " أي
تقصدوا الخبيث " منه تنفقون ولستم بآخذيه " أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه فالله أغنى عنه منكم فلا
327

تجعلوا لله ما تكرهون وقيل معناه " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " أي لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى
الحرام فتجعلوا نفقتكم منه ويذكر ههنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا إسحاق عن
الصباح بن محمد عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله قسم بينكم أخلاقكم
كما قسم بينكم أرزاقكم لان الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا لمن أحب فمن أعطاه الله
الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا: وما
بوائقه يا نبي الله؟ قال: غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا
يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السئ بالسئ ولكن يمحو السئ بالحسن إن الخبيث لا
يمحو الخبيث " والصحيح القول الأول قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا الحسين بن عمر العبقري حدثني أبي عن أسباط عن
السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب - رضي الله عنه - في قول الله " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " الآية قال: نزلت في الأنصار كانت الأنصار إذا
كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيأكل
فقراء المهاجرين منه فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع قناء البسر يظن أن ذلك جائز فأنزل الله فيمن فعل
ذلك " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " ثم رواه ابن جرير وابن ماجة وابن مردويه والحاكم في مستدركه من طريق
السدي عن عدي بن ثابت عن البراء بنحوه وقال الحاكم صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبيد الله عن إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن البراء - رضي الله عنه -
" ولا تيمموا الخبيث منهم تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال: نزلت فينا كنا أصحاب نخل فكان الرجل
يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد وكان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم
إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر فيأكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف
والشيص فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " قال
لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذه إلا على إغماض وحياء فكنا بعد ذلك يجئ الرجل منا بصالح ما عنده
وكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن عبيد الله هو ابن موسى العبسي عن إسرائيل عن
السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن عن أبي مالك الغفاري واسمه غزوان عن البراء فذكر نحوه ثم قال وهذا حديث
حسن غريب وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا سليمان بن كثير عن الزهري عن أبي أمامة بن
سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لونين من التمر الجعرور والحبيق وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم
ثم يخرجونها في الصدقة فنزلت " ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ". ورواه أبو داود من حديث سفيان بن حسين عن
الزهري ثم قال أسنده أبو الوليد عن سليمان بن كثير عن الزهري ولفظه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجعرور ولون
الحبيق أن يؤخذ في الصدقة وقد روى النسائي هذا الحديث من طريق عبد الجليل بن حميد اليحصبي عن
الزهري عن أبي أمامة ولم يقل عن أبيه فذكر نحوه وكذا رواه ابن وهب عن عبد الجليل وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن مغفل في هذه الآية
" ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون " قال كسب المسلم لا يكون خبيثا ولكن لا يصدق بالحشف
والدرهم الزيف وما لا خير فيه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد حدثنا حماد بن سلمة عن
حماد هو ابن سليمان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضب فلم يأكله
ولم ينه عنه قلت: يا رسول الله نطعمه المساكين قال " لا تطعموهم مما لا تأكلون ". ثم رواه عن عفان
عن حماد بن سلمة به فقلت يا رسول الله ألا أطعمه المسكين؟ قال " لا تطعموهم مما لا تأكلون " وقال
الثوري: عن السدي عن أبي مالك عن البراء " ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول لو كان لرجل على رجل
فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟ رواه ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
328

" ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه " يقول لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب
الجيد حتى تنقصوه قال فذلك قوله " إلا أن تغمضوا فيه " فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وحقي عليكم من
أطيب أموالكم وأنفسه؟ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وزاد وهو قوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " ثم
روى من طريق العوفي وغيره عن ابن عباس نحو ذلك وكذا ذكره غير واحد.
وقوله " واعلموا أن الله غني حميد " أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها وما ذاك إلا أن يساوي
الغني الفقير كقوله " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " وهو غني عن جميع خلقه وجميع خلقه
فقراء إليه وهو واسع الفضل لا ينفذ ما لديه فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم
جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافا كثيرة من يقرض غير عديم ولا ظلوم وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله
وأقواله وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه.
وقوله " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم " قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو زرعة حدثنا هناد بن السري حدثنا أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاد
بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان " ثم قرأ
" الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " الآية. وهكذا رواه الترمذي والنسائي في
كتابي التفسير من سننهما جميعا عن هناد بن السري وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن
هناد به وقال: الترمذي حسن غريب وهو حديث أبي الأحوص يعني سلام بن سليم لا نعرفه مرفوعا إلا من حديثه
كذا قال: وقد رواه أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن محمد بن أحمد عن محمد بن عبد الله بن مسعود مرفوعا نحوه
ولكن رواه مسعر عن عطاء بن السائب عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن ابن مسعود فجعله من قوله والله
أعلم ومعنى قوله تعالى " الشيطان يعدكم " أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله
" ويأمركم بالفحشاء " أي مع نهيه إياكم عن الانفاق خشية الاملاق يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة
الخلاق قال تعالى " والله يعدكم مغفرة منه " أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء " وفضلا " أي في مقابلة ما
خوفكم الشيطان من الفقر " والله واسع عليم ".
وقوله " يؤتي الحكمة من يشاء " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه
ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخره وحلاله وحرامه وأمثاله وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا
" الحكمة القرآن " يعني تفسيره قال ابن عباس: فإنه قد قرأه البر والفاجر رواه ابن مردويه وقال ابن أبي نجيح عن
مجاهد يعني بالحكمة الإصابة في القول وقال: ليث بن أبي سليم عن مجاهد " يؤتي الحكمة من يشاء " ليست
بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن وقال أبو العالية: الحكمة خشية الله فإن خشية الله رأس كل حكمة وقد روى ابن
مردويه من طريق بقية عن عثمان بن زفر الجهني عن أبي عمار الأسدي عن ابن مسعود مرفوعا " رأس الحكمة مخافة
الله " وقال أبو العالية في رواية عنه الحكمة الكتاب والفهم وقال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم وقال أبو مالك:
الحكمة السنة وقال ابن وهب عن مالك قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة
هو الفقه في دين الله وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله ومما يبين ذلك أنك تجد الرجل عاقلا في أمر الدنيا
إذا نظر فيها وتجد آخر ضعيفا في أمر دنياه عالما بأمر دينه بصيرا به يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا فالحكمة الفقه في دين
الله وقال السدي: الحكمة النبوة والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها
وأعلاها النبوة والرسالة أخص ولكن لاتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث " من
329

حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه " رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن إسماعيل بن
رافع عن رجل لم يسمه عن عبد الله بن عمر. وقوله وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ويزيد قالا: حدثنا إسماعيل
يعني ابن أبي خالد عن قيس وهو ابن أبي حازم عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
يقول لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها
ويعلمها " وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة من طرق متعددة عن إسماعيل بن أبي خالد به.
وقوله " وما يذكر إلا أولوا الألباب " أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل يعني به الخطاب ومعنى
الكلام.
وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار (270) إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير (271)
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على
ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره
وعبد معه غيره فقال " وما للظالمين من أنصار " أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته.
وقوله " إن تبدوا الصدقات فنعما هي " أي إن أظهرتموها فنعم شئ هي.
وقوله " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها لأنه أبعد عن
الرياء إلا أن يترتب على الاظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به فيكون أفضل من هذه الحيثية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة " والأصل أن الاسرار أفضل لهذه الآية. ولما ثبت
في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل
وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه
حتى يرجع إليه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله رب
العالمين ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن
هارون أخبرنا العوام بن حوشب عن سليمان بن أبي سليمان عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله تعالى عليه وعلى
آله وسلم - قال " لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فألقاها عليها فاستقرت فتعجبت الملائكة من خلق
الجبال فقالت: يا رب هل في خلقك شئ أشد من الجبال؟ قال نعم الحديد قالت: يا رب فهل من خلقك شئ
أشد من الحديد قال: نعم النار قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من النار؟ قال: نعم الماء قالت: يا
رب فهل من خلقك شئ أشد من الماء؟ قال: نعم الريح قالت: يا رب فهل من خلقك شئ أشد من الريح؟
قال: نعم ابن آدم يتصدق بيمنه فيخفيها من شماله " وقد ذكرنا في فضل آية الكرسي عن أبي ذر قال: قلت يا
رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال " سر إلى فقير أو جهد من مقل ". ورواه أحمد ورواه ابن أبي حاتم من طريق
علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي ذر فذكره وزاد ثم شرع في هذه الآية " إن تبدوا الصدقات فنعما
هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " الآية وفي الحديث المروي " صدقة السر تطفئ غضب الرب
عز وجل " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن زياد المحاربي مؤدب محارب أنا موسى بن عمير عن
عامر الشعبي في قوله " إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " قال: أنزلت في
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما خلفت
وراءك لأهلك يا عمر " قال: خلفت لهم نصف مالي وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه
330

إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر "؟ فقال عدة الله وعدة رسوله. فبكى عمر رضي
الله عنه وقال بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقا. وهذا الحديث روي من وجه
آخر عن عمر - رضي الله عنه - وإنما أوردناه ههنا لقول الشعبي إن الآية نزلت في ذلك ثم إن الآية عامة في أن إخفاء
الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة لكن روى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
تفسير هذه الآية قال: جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا وجعل صدقة الفريضة
علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفا.
وقوله " ويكفر عنكم من سيئاتكم " أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سرا يحصل لكم الخير في رفع الدرجات
ويكفر عنكم السيئات وقد قرئ ويكفر بالجزم عطفا على محل جواب الشرط وهو قوله " فنعما هي " كقوله فأصدق
وأكون وأكن وقوله " والله بما تعملون خبير " أي لا يخفى عليه من ذلك شئ وسيجزيكم عليه.
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما
تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (272) للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض
يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به
عليم (273) الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (274)
قال أبو عبد الرحمن النسائي: أنبأنا محمد بن عبد السلام بن عبد الرحيم أنبأنا الفريابي حدثنا سفيان عن الأعمش
عن جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لانسابهم من المشركين فسألوا
فرخص لهم فنزلت هذه الآية " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون
إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " وكذا رواه أبو حذيفة وابن المبارك وأبو أحمد
الزبيري وأبو داود الحضرمي عن سفيان وهو الثوري به وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية
حدثني أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الاسلام حتى نزلت هذه الآية
" ليس عليك هداهم " إلى آخرها فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين وسيأتي عند قوله تعالى " لا
ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم " الآية حديث أسماء بنت الصديق في ذلك.
وقوله " وما تنفقوا من خير فلأنفسكم " كقوله " من عمل صالحا فلنفسه " ونظائرها في القرآن كثيرة.
وقوله " وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله " قال الحسن البصري: نفقة المؤمن لنفسه ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء
وجه الله وقال عطاء الخراساني: يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان عمله وهذا معنى حسن وحاصله أن
المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله ولا عليه في نفس الامر لمن أصاب البر أو فاجر أو مستحق
أو غيره وهو مثاب على قصده ومستند هذا تمام الآية " وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " والحديث
المخرج في الصحيحين من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال رجل
لا تصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون تصدق على زانية فقال: اللهم
لك الحمد على زانية لاتصدقن الليلة بصدقة فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة على غني قال:
اللهم لك الحمد على غني لا تصدقن الليلة بصدقة فخرج فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق الليلة
على سارق فقال: اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق فأتى فقيل له أما صدقتك فقد قبلت وأما
331

الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ولعل السارق أن يستعف بها عن
سرقته.
وقوله " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله " يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة
وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و " لا يستطيعون ضربا في الأرض " يعني سفرا للتسبب في طلب
المعاش والضرب في الأرض هو السفر قال الله تعالى " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة " وقال تعالى " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون
يقاتلون في سبيل الله " الآية.
وقوله " يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " أي الجاهل بأمرهم وحالهم يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم
وحالهم ومقالهم وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان والاكلة والاكلتان ولكن
المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ". وقد رواه أحمد من حديث ابن
مسعود أيضا.
وقوله " تعرفهم بسيماهم " أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم كما قال تعالى " سيماهم في وجوههم " وقال
" ولتعرفنهم في لحن القول " وفي الحديث الذي في السنن " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ " إن في
ذلك لآيات للمتوسمين ".
وقوله " لا يسألون الناس إلحافا " أي لا يلحون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه فإن من سأل وله ما
يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة قال البخاري: حدثنا ابن أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شريك بن
أبي نمر أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري قالا: سمعنا أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ولا اللقمة واللقمتان إنما المسكين الذي يتعفف اقرؤا إن شئتم يعني قوله
" لا يسألون الناس إلحافا " وقد رواه مسلم من حديث إسماعيل بن جعفر المديني عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر
عن عطاء بن يسار وحده عن أبي هريرة به وقال أبو عبد الرحمن النسائي: أخبرنا علي بن حجر حدثنا إسماعيل
أخبرنا شريك وهو ابن أبي نمر عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس المسكين الذي ترده التمرة
والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم " لا يسألون الناس إلحافا " وروى البخاري من
حديث شعبة عن محمد بن أبي زياد عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوه وقال ابن أبي حاتم:
أخبرنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني ابن أبي ذئب عن أبي الوليد عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال " ليس المسكين بالطواف عليكم فتطعمونه لقمة لقمة إنما المسكين المتعفف الذي لا يسأل الناس إلحافا " وقال
ابن جرير: حدثني معتمر عن الحسن بن مالك عن صالح بن سويد عن أبي هريرة قال: ليس المسكين بالطواف
الذي ترده الأكلة والاكلتان ولكن المسكين المتعفف في بيته لا يسأل الناس شيئا تصيبه الحاجة اقرءوا إن شئتم " لا
يسألون الناس إلحافا " وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رجل
من مزينة أنه قالت له أمه ألا تنطلق فتسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يسأله الناس فانطلقت أسأله فوجدته قائما يخطب وهو
يقول " ومن استعف أعفه الله ومن استغنى أغناه الله ومن يسأل الناس له عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافا "
فقلت بيني وبين نفسي لناقة لهي (1) خير من خمس أواق ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق فرجعت ولم أسأل
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن عرفة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد
عن أبيه قال: سرحتني أمي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فأتيته فقعدت قال: فاستقبلني فقال " من استغنى أغناه الله ومن

(1) كذا عبارة الأصل المطبوع ولكن عبارة مسند أحمد 4 / 138: (فقلت بيني وبين نفسي - لناقة له - هي خير).
332

استعف أعفه الله ومن استكف كفاه الله ومن سأل وله قيمة أوقية فقد ألحف " قال فقلت ناقتي الياقوتة خير من أوقية
فرجعت فلم أسأله وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما عن قتيبة زاد أبو داود وهشام بن عمار كلاهما عن
عبد الرحمن بن أبي الرجال بإسناده نحوه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا عبد الرحمن بن
أبي الرجال عن عمارة بن عرفة عن عبد الرحمن بن أبي سعيد قال: قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من
سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف " والأوقية أربعون درهما وقال أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن
عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " وقال
الإمام أحمد أيضا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن
عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من سأل وله ما يغنيه جاءت مسئلته يوم القيامة خدوشا أو كدوحا في
وجهه قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: " خمسون درهما أو حسابها من الذهب " وقد رواه أهل السنن الأربعة
من حديث حكيم بن جبير الأسدي الكوفي وقد تركه شعبة بن الحجاج وضعفه غير واحد من الأئمة من جراء هذا
الحديث وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو حسين عبد الله بن
أحمد بن يونس حدثني أبي حدثنا أبو بكر بن عياش عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين قال: بلغ الحارث رجلا
كان بالشام من قريش أن أبا ذر كان به عوز فبعث إليه ثلاثمائة دينار فقال: ما وجد عبد الله رجلا أهون عليه مني
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من سأل وله أربعون فقد ألحف " ولآل أبي ذر أربعون درهما وأربعون شاة وما هنان قال
أبو بكر بن عياش: يعني خادمين وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أخبرنا إبراهيم بن محمد
أنبأنا عبد الجبار أخبرنا سفيان عن داود بن شابور عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من سأل
وله أربعون درهما فهو ملحف وهو مثل سف الملة " يعني الرمل ورواه النسائي عن أحمد بن سليمان عن أحمد بن
آدم عن سفيان وهو ابن عيينة بإسناده نحوه قوله " وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم " أي لا يخفى عليه شئ منه
وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه.
وقوله " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليل أو نهار والأحوال من سر وجهار حتى
إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضا كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد بن أبي وقاص حين
عاده مريضا عام الفتح وفى رواية عام حجة الوداع " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة
ورفعة حتى ما تجعل في في امرأتك " وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر وبهز قالا: حدثنا شعبة عن عدي بن
ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدث عن أبي مسعود رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " إن
المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة " أخرجاه من حديث شعبة به وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
أبو زرعة حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثنا محمد بن شعيب قال: سمعت سعيد بن يسار عن يزيد بن عبد الله بن
عريب المليكي عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " نزلت هذه الآية " الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية
فلهم أجرهم عند ربهم " في أصحاب الخيل " وقال حنش الصنعاني: عن ابن شهاب عن ابن عباس في هذه الآية
قال: هم الذي يعلفون الخيل في سبيل الله رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وكذا روي عن أبي أمامة وسعيد بن
المسيب ومكحول وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج أخبرنا يحيى بن يمان عن عبد الوهاب بن مجاهد
عن ابن جبير عن أبيه قال: كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهما ليلا ودرهما نهارا ودرهما سرا ودرهما علانية فنزلت
" الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " وكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الوهاب بن مجاهد وهو
ضعيف لكن رواه ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس أنها نزلت في علي بن أبي طالب وقوله " فلهم أجرهم
عند ربهم " أي يوم القيامة على ما فعلوا من الانفاق في الطاعات " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " تقدم
تفسيره.
333

الذين يأكلون الربوا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع
مثل الربوا وأحل الله البيع وحرم الربوا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد
فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275)
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات المخرجين الزكوات المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات
في جميع الأحوال والأوقات شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات فأخبر عنهم يوم خروجهم
من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم فقال " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
من المس " أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له وذلك أنه يقوم
قياما منكرا وقال ابن عباس: آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنونا يخنق رواه ابن أبي حاتم قال وروي عن عوف بن
مالك وسعيد بن جبير والسدي والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان نحو ذلك وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة
وسعيد بن جبير والحسن وقتادة مقاتل بن حيان أنهم قالوا: في قوله " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم
الذي يتخبطه الشيطان من المس " يعني لا يقومون يوم القيامة وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد والضحاك وابن
زيد وروى ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حنيف عن أبي عبد الله بن مسعود عن أبيه
أنه كان يقرأ: " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس يوم القيامة " وقال ابن
جرير: حدثني المثنى حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثنا أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب وقرأ " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه
الشيطان من المس " وذلك حين يقوم من قبره. وفي حديث أبي سعيد في الاسراء كما هو مذكور في سورة سبحان
أنه عليه السلام مر ليلتئذ بقوم لهم أجواف مثل البيوت فسأل عنهم فقيل: هؤلاء أكلة الربا رواه البيهقي مطولا
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي
الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحياة تجري
من خارج بطونهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ". ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان
كلاهما عن حماد بن سلمة به وفى إسناده ضعف وقد روى البخاري عن سمرة بن جندب في حديث المنام
الطويل فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل
قد جمع عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيفغر له فاه فيلقمه
حجرا وذكر في تفسيره أنه آكل الربا.
وقوله " ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا " أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على
أحكام الله في شرعه وليس هذا قياسا منهم للربا على البيع لان المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي
شرعه الله في القرآن ولو كان هذا من باب القياس لقالوا: إنما الربا مثل البيع وإنما قالوا " إنما البيع مثل الربا " أي
هو نظيره فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع أي هذا مثل هذا وقد أحل هذا وحرم هذا يحتمل
أن يكون من تمام الكلام ردا عليهم أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكما وهو
العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون وهو العالم بحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع
عباده فيبيحه لهم وما يضرهم فينهاهم عنه وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل ولهذا قال " فمن جاءه موعظة من
ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله " أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من
المعاملة لقوله " عفا الله عما سلف " وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة " وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي
334

هاتين وأول ربا أضع ربا العباس " ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال
تعالى " فله ما سلف وأمره إلى الله " قال سعيد بن جبير والسدي: فله ما سلف ما كان أكل من الربا قبل التحريم.
وقال ابن أبي حاتم قرأ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن أبي إسحق
الهمداني عن أم يونس يعني امرأته العالية بنت أبقع أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لها أم بحنة أم ولد زيد بن أرقم يا
أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم قالت: نعم قالت: فإني بعته عبدا إلى العطاء بثمانمائة فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته
قبل محل الاجل بستمائة فقالت: بئس ما اشتريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قد بطل إن لم يتب قالت: فقلت أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة قالت: نعم " فمن جاءه موعظة من ربه
فانتهى فله ما سلف " وهذا الأثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسألة العينة مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة
المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى " من عاد " أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه
فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ولهذا قال " فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقد قال أبو داود:
حدثنا يحيى أبو داود حدثنا يحيى بن معين أخبرنا عبد الله بن رجاء المكي عن عبد الله بن عثمان بن خيثم عن أبي الزبير عن
جابر قال: لما نزلت " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من لم
يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله ". ورواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي خيثم وقال: صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه وإنما حرمت المخابرة وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض والمزابنة وهي اشتراء
الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض والمحاقلة وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على
وجه الأرض إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسما لمادة الربا لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف
ولهذا قال الفقهاء: الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك
المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم وقد قال تعالى " وفوق
كل ذي علم عليم " وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم وقد قال أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - ثلاث وددت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه: الجد والكلالة
وأبواب من أبواب الربا - يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله
لان ما أفضى إلى الحرام حرام كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن
بشير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " إن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات
استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه " وفي
السنن عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " وفي
الحديث الآخر " الاثم ما حاك في القلب وترددت فيه النفس وكرهت أن يطلع عليه الناس ". وفي رواية " استفت
قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " وقال الثوري عن عاصم عن الشعبي عن ابن عباس قال: آخر ما نزل على
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية الربا رواه البخاري عن قبيصة عنه وقال أحمد عن يحيى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
سعيد بن المسيب أن عمر قال من آخر ما نزل آية الربا وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا
والريبة وقال: رواه ابن ماجة وابن مردويه عن طريق هياج بن بسطام عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد
الخدري قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: إني لعلي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم وآمركم بأشياء لا
تصلح لكم وإن من آخر القرآن نزولا آية الربا وإنه قد مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه لنا فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم وقد
قال ابن أبي عدي بالاسناد موقوفا فذكره ورده الحاكم في مستدركه وقد قال ابن ماجة حدثنا عمرو بن علي الصيرفي
حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن زبيد عن إبراهيم عن مسروق عن عبد الله هو ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " الربا
ثلاثة وسبعون بابا ". ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عمرو بن علي الفلاس بإسناد مثله وزاد " أيسرها أن ينكح
الرجل أمه وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم " وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال ابن ماجة
335

حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الربا سبعون جزءا أيسرها أن ينكح الرجل أمه " وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن عباد بن راشد
عن سعيد بن أبي خيرة حدثنا الحسن منذ نحو من أربعين أو خمسين سنة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " يأتي
على الناس زمان يأكلون فيه الربا " قال قيل له الناس كلهم؟ قال " من لم يأكله ناله من غباره " وكذا روى أبو داود
والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن سعيد بن أبي خيرة عن الحسن به ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى
المحرمات الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن
عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد فقرأهن فحرم التجارة
في الخمر وقد أخرجه الجماعة سوى الترمذي من طرق عن الأعمش به وهكذا لفظ رواية البخاري عند تفسير هذه
الآية فحرم التجارة وفي لفظ له عن عائشة قالت: لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس ثم حرم التجارة في الخمر قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة. لما حرم الربا
ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه " لعن الله
اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها ". وقد تقدم في حديث علي وابن مسعود وغيرهما عند
لعن المحلل في تفسيره قوله " حتى تنكح زوجا غيره " قوله - صلى الله عليه وسلم - " لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه ". قالوا
وما يشهد عليه ويكتب إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسدا فالاعتبار بمعناه لا بصورته لان الأعمال بالنيات
وفي الصحيح " إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ". وقد صنف
الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية كتابا في إبطال التحليل تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل
وقد كفى في ذلك وشفى فرحمه الله ورضي عنه.
يمحق الله الربوا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم (276) إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا
الصلاة وأتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون (277)
يخبر الله تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به بل يعدمه
به في الدنيا ويعاقبه عليه يوم القيامة كما قال تعالى " قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " وقال
تعالى: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " وقال " وما آتيتم من ربا ليربو في
أموال الناس فلا يربو عند الله " الآية وقال ابن جرير: في قوله " يمحق الله الربا " وهذا نظير الخبر الذي روي عن
عبد الله بن مسعود أنه قال الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده
فقال: حدثنا حجاج حدثنا شريك عن الركين بن الربيع عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الربا وإن كثر
فإن عاقبته تصير إلى قل " وقد رواه ابن ماجة عن العباس بن جعفر عن عمرو بن عون عن يحيى بن زائدة عن
إسرائيل عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري عن أبيه عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ما أحد أكثر من الربا
إلا كان عاقبة أمره إلى قل " وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني
هاشم حدثنا الهيثم بن نافع الظاهري حدثني أبو يحيى رجل من أهل مكة عن فروخ مولى عثمان أن عمر وهو يومئذ
أمير المؤمنين خرج من المسجد فرأى طعاما منشورا فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: طعام جلب إلينا قال: بارك الله
فيه وفيمن جلبه قيل يا أمير المؤمنين إنه قد احتكر قال: من احتكره؟ قالوا فروخ مولى عثمان وفلان مولى عمر
فأرسل إليهما فقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ قالا: يا أمير المؤمنين نشتري بأموالنا ونبيع فقال
عمر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالافلاس أو بجذام " فقال فروخ
عند ذلك أعاهد الله وأعاهدك أن لا أعود في طعام أبدا وأما مولى عمر فقال إنما نشتري بأموالنا ونبيع قال أبو يحيى
336

فلقد رأيت مولى عمر مجذوما ورواه ابن ماجة من حديث الهيثم بن رافع به ولفظه " من احتكر على المسلمين طعامهم
ضربه الله بالافلاس والجذام ".
وقوله " ويربي الصدقات " قرئ بضم الياء والتخفيف من ربا الشئ يربو وأرباه يربيه أي كثره ونماه ينميه وقرئ
" يربي " بالضم والتشديد من التربية قال البخاري حدثنا عبد الله بن كثير أخبرنا كثير سمع أبا النضر حدثنا عبد الرحمن بن
عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من تصدق بعدل تمرة من كسب
طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل
الجبل ". كذا رواه في كتاب الزكاة وقال في كتاب التوحيد وقال خالد بن مخلد بن سليمان بن بلال عن عبد الله بن
دينار فذكر بإسناده نحوه وقد رواه مسلم في الزكاة عن أحمد بن عثمان بن حكيم عن خالد بن مخلد فذكره وقال البخاري:
ورواه مسلم بن أبي مريم وزيد بن أسلم وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلت أما رواية مسلم بن
أبي مريم فقد تفرد البخاري بذكرها وأما طريق زيد بن أسلم فرواها مسلم في صحيحه عن أبي الطاهر بن السرح عن
أبي وهب عن هشام بن سعيد عن زيد بن أسلم به وأما حديث سهيل فرواه عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن عن
سهيل به والله أعلم. قال البخاري وقال ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أسند
هذا الحديث من هذا الوجه الحافظ أبو بكر البيهقي عن الحاكم وغيره عن الأصم عن العباس المروزي عن أبي الزناد
هاشم بن القاسم عن ورقاء وهو ابن عمر اليشكري عن عبد الله بن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال:
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب ولا يصعد إلى الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه فيربيها
لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه حتى يكون مثل أحد ". وهكذا روى هذا الحديث مسلم والترمذي والنسائي جميعا
عن قتيبة عن الليث بن سعد عن سعيد المقبري وأخرجه النسائي من رواية مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري ومن
طريق يحيى القطان عن محمد بن عجلان ثلاثتهم عن سعيد بن يسار أبي الحباب المدني عن أبي هريرة عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره وقد روى عن أبي هريرة من وجه آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا
وكيع عن عباد بن منصور حدثنا القاسم بن محمد قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله عز وجل
يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد " وتصديق
ذلك في كتاب الله " يمحق الله الربا ويربي الصدقات ". وكذا رواه أحمد عن وكيع وهو في تفسير وكيع ورواه
الترمذي عن أبي كريب عن وكيع به وقال حسن صحيح وكذا رواه الترمذي عن عباد بن منصور به ورواه أحمد أيضا
عن خلف بن الوليد عن ابن المبارك عن عبد الواحد بن ضمرة وعباد بن منصور كلاهما عن أبي نضرة عن القاسم به
وقد رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - " إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه فيأخذها بيمينه
ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربو في يد الله أو قال في كف الله حتى تكون
مثل أحد فتصدقوا " وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق وهذا طريق غريب صحيح الاسناد ولكن لفظه عجيب
والمحفوظ ما تقدم. وروي عن عائشة أم المؤمنين فقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن ثابت عن
القاسم بن محمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو
فصيله حتى يكون مثل أحد " تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال البزار حدثنا يحيى بن المعلى بن منصور حدثنا
إسماعيل حدثني أبي عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ولا يقبل الله إلا الطيب فيتلقاها الرحمن بيده
فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه " أو قال فصيله ثم قال لا نعلم أحدا. رواه عن يحيى بن سعيد بن عمرة إلا
أبا أويس.
337

وقوله " والله لا يحب كل كفار أثيم " أي لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية
بهذه الصفة وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح فهو
يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة فهو جحود لما عليه من النعمة ظلوم آثم يأكل أموال
الناس بالباطل - ثم قال تعالى مادحا للمؤمنين بربهم المطيعين أمره المؤدين شكره المحسنين إلى خلقه في إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة مخبرا عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القيامة من التبعات آمنون فقال " إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ".
يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا إن كنتم مؤمنين (278) فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله
وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون (279) وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير
لكم إن كنتم تعلمون (280) واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (281)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال " يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله " أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون " وذروا ما بقي من الربا " أي اتركوا مالكم على الناس من الزيادة على رؤس
الأموال بعد هذا الانذار " إن كنتم مؤمنين " أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحريم الربا وغير ذلك. وقد ذكر
زيد بن أسلم وابن جريج ومقاتل بن حيان والسدي أن هذا السياق نزل في بني عمرو بن عمير من ثقيف وبني المغيرة
من بني مخزوم كان بينهم ربا في الجاهلية فلما جاء الاسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم فتشاوروا وقالت
بنو المغيرة لا نؤدي الربا في الاسلام بكسب الاسلام فكتب في ذلك عتاب بن أسيد نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فنزلت هذه الآية فكتب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليه " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين *
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " فقالوا نتوب إلى الله ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم وهذا تهديد شديد
ووعيد أكيد لمن استمر على تعاطي الربا بعد الانذار قال ابن جريج قال ابن عباس فأذنوا بحرب أي استيقنوا بحرب
من الله ورسوله وتقدم من رواية ربيعة بن كلثوم عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: يقال يوم القيامة لآكل
الربا خذ سلاحك للحرب ثم قرأ " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " فمن كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام
المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن بشار حدثنا
عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن الحسن وابن سيرين أنهما قالا والله إن هؤلاء الصيارفة لأكلة الربا وإنهم قد
أذنوا بحرب من الله ورسوله ولو كان على الناس إمام عادل لاستتابهم فإن تابوا وإلا وضع فيهم السلاح وقال قتادة
أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجا أين ما أتوا فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا فإن الله قد أوسع
الحلال وأطابه فلا يلجأنكم إلى معصيته فاقة. رواه ابن أبي حاتم وقال الربيع بن أنس أوعد الله آكل الربا بالقتل
رواه ابن جرير وقال السهيلي: ولهذا قالت عائشة لام محبة مولاة زيد بن أرقم في مسألة العينة أخبريه أن جهاده مع
النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل إلا أن يتوب فخصت الجهاد لأنه ضد قوله " فأذنوا بحرب من الله ورسوله " قال وهذا المعنى ذكره
كثير قال ولكن هذا إسناده إلى عائشة ضعيف.
ثم قال الله تعالى " وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون " أي بأخذ الزيادة " ولا تظلمون " أي بوضع رؤوس
الأموال أيضا بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الحسن بن اشكاب
حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان عن شبيب بن غرقدة المبارقي عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال:
خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع فقال " ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله لكم رؤوس أموالكم لا
338

تظلمون ولا تظلمون وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله ". كذا وجده سليمان بن الأحوص وقد
قال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا معاذ بن المثنى أخبرنا مسدد أخبرنا أبو الأحوص حدثنا شبيب بن غرقدة عن
سليمان بن عمرو عن أبيه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع فلكم رؤوس
أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ". وكذا رواه من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن
عمرو هو ابن خارجة فذكره.
وقوله " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون " يأمر تعالى بالصبر على المعسر
الذي لا يجد وفاء فقال " وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة " لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل
عليه الدين إما أن تقضي وإما أن تربي ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل فقال " وأن
تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون " أي وإن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين وقد وردت الأحاديث من
طرق متعددة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك " فالحديث الأول " عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال الطبراني حدثنا عبد الله بن
محمد بن شعيب المرجاني حدثنا يحيى بن حكيم المقوم حدثنا محمد بن بكر البرساني حدثنا عبد الله بن أبي زياد
حدثني عاصم بن عبيد الله عن أبي أمامة أسعد بن زرارة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا
ظله فلييسر علي معسر أو ليضع عنه ". " حديث آخر " عن بريدة قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الوارث
حدثنا محمد بن جحادة عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول " من أنظر معسرا فله بكل يوم مثله
صدقة ". قال ثم سمعته يقول " من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة " قلت سمعتك يا رسول الله تقول " من أنظر
معسرا فله بكل يوم مثله صدقة " ثم سمعتك تقول " من أنظر معسرا فله بكل يوم مثلاه صدقة " قال " له بكل يوم مثله
صدقة قبل أن يحل الدين فإذا حل الدين فأنظره فله بكل يوم مثلاه صدقة ". " حديث آخر " عن أبي قتادة
الحارث بن ربعي الأنصاري قال أحمد حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا أبو جعفر الخطمي عن محمد بن كعب القرظي
أن أبا قتادة كان له دين على رجل وكان يأتيه يتقاضاه فيختبئ منه فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه فقال: نعم
هو في البيت يأكل خزيرة فناداه فقال يا فلان اخرج فقد أخبرت أنك هاهنا فخرج إليه فقال ما يغيبك عني؟ فقال إني
معسر وليس عندي شئ قال آلله إنك معسر؟ قال نعم فبكى أبو قتادة ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " من نفس
عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة ". ورواه مسلم في صحيحه " حديث آخر " عن حذيفة بن
اليمان قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا الأخنس أحمد بن عمران حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبو مالك
الأشجعي عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال ماذا
عملت لي في الدنيا؟ فقال ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند
آخرها يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال وكنت رجلا أبايع الناس وكان من خلقي الجواز فكنت أيسر على الموسر
وأنظر المعسر قال فيقول الله عز وجل أنا أحق من ييسر ادخل الجنة " وقد أخرجه البخاري ومسلم وابن ماجة من
طرق عن ربعي بن حراش عن حذيفة زاد مسلم وعقبة بن عامر وأبي مسعود البدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بنحوه ولفظ
البخاري حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الزهري عن عبد الله بن عبد الله أنه سمع أبا هريرة رضي
الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " كان تاجر يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا
فتجاوز الله عنه ".
" حديث آخر " عن سهل بن حنيف قال الحاكم في مستدركه حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا يحيى بن
محمد بن يحيى حدثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك حدثنا عمرو بن ثابت حدثنا عبد الله بن محمد بن عقيل عن
عبد الله بن سهل بن حنيف أن سهلا حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غازيا أو غارما في
عسرته أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
339

" حديث آخر " عن عبد الله بن عمر قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد عن يوسف بن صهيب عن زيد العمي عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " انفرد به أحمد
" حديث آخر " عن أبي مسعود عقبة بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا أبو مالك عن ربعي بن
حراش عن حذيفة أن رجلا أتى به الله عز وجل فقال ماذا عملت في الدنيا؟ فقال له الرجل ما عملت مثقال ذرة من
خير فقال له ثلاثا. وقال في الثالثة إني كنت أعطيتني فضلا من المال في الدنيا فكنت أبايع الناس فكنت أيسر على
الموسر وأنظر المعسر فقال تبارك وتعالى نحن أولى بذلك منك تجاوزوا عن عبدي فغفر له قال أبو مسعود هكذا
سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه مسلم من حديث أبي مالك سعد بن طارق به.
" حديث آخر " عن عمران بن حصين قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن الأعمش عن أبي داود
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من كان له على رجل حق فأخره كان له بكل يوم صدقة " غريب من
هذا الوجه وقد تقدم عن بريدة نحوه.
" حديث آخر " عن أبي اليسر كعب بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عبد الملك بن
عمير عن ربعي قال حدثني أبو اليسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله عز وجل في ظله
يوم لا ظل إلا ظله " وقد أخرجه مسلم في صحيحه من وجه آخر من حديث عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال
خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا فكان أول من لقينا أبا اليسر صاحب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه غلام له معه ضمامة من صحف وعلى أبي اليسر بردة ومعافري وعلى غلامه بردة ومعافري فقال له
أبي يا عم إني أرى في وجهك سفعة من غضب قال أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال فأتيت أهله فسلمت
فقلت أثم هو قالوا لا فخرج علي ابن له جفر فقلت أين أبوك فقال سمع صوتك فدخل أريكة أمي فقلت اخرج إلي
فقد علمت أين أنت فخرج فقلت ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك خشيت والله
أن أحدثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك وكنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت والله معسرا قال: قلت آلله قال:
قلت آلله؟ الله ثم قال فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال فإن وجدت قضاء فاقضني وإلا فأنت في حل فأشهد
أبصر عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقول " من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله " وذكر تمام الحديث. " حديث آخر " عن أمير المؤمنين
عثمان بن عفان قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني أبو يحيى البزاز محمد بن عبد الرحمن حدثنا الحسن بن أسيد بن
سالم الكوفي حدثنا العباس بن الفضل الأنصاري عن هشام بن زياد القرشي عن أبيه عن محجن مولى عثمان عن
عثمان قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " أظل الله عينا في ظله يوم لا ظل إلا ظله من أنظر معسرا أو ترك لغارم ".
" حديث آخر " عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن جعونة السلمي الخراساني عن
مقاتل ابن حيان عن عطاء عن ابن عباس قال خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا وأومأ أبو
عبد الرحمن بيده إلى الأرض " من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة -
ثلاثا - ألا إن عمل النار سهل بسهوة والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد
ما كظمها عبد لله إلا ملا الله جوفه إيمانا " تفرد به أحمد.
" طريق آخر " قال الطبراني حدثنا أحمد بن محمد البوراني قاضي الحديبية من ديار ربيعة حدثنا الحسن بن علي
الصدائي حدثنا الحكم بن الجارود حدثنا ابن أبي المتئد خال ابن عيينة عن أبيه عن عطاء عن ابن عباس قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أنظر معسرا إلى ميسرته أنظره الله بذنبه إلى توبته ".
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم زوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى
340

ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته: " واتقوا يوما
ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن
العظيم فقال ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال آخر ما نزل من القرآن كله " واتقوا يوما ترجعون
فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية تسع ليال ثم مات يوم
الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول رواه ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه من حديث المسعودي عن حبيب بن أبي
ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال آخر آية نزلت " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " وقد رواه النسائي من
حديث يزيد النحوي عن عكرمة عن عبد الله بن عباس قال آخر شئ نزل من القرآن " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " وكذا رواه الضحاك والعوفي عن ابن عباس وروى الثوري عن
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال آخر آية نزلت " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله " فكان بين نزولها وموت
النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد وثلاثون يوما. وقال ابن جريج قال ابن عباس آخر آية نزلت " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله "
الآية. قال ابن جريج يقولون إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عاش بعدها تسع ليال وبدئ يوم السبت. ومات يوم الاثنين رواه
ابن جرير ورواه ابن عطية عن أبي سعيد قال آخر آية نزلت " واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما
كسبت وهم لا يظلمون ".
يا أيها الذين أمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب
أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه
الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين
فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا
ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن
تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها واشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد
وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شئ عليم (282)
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني
يونس عن ابن شهاب قال حدثني سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين وقال الإمام أحمد
حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قال لما نزلت آية الدين قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن أول من جحد آدم عليه السلام إن الله لما خلق آدم مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة
فجعل يعرض ذريته عليه فرأى فيهم رجلا يزهر فقال أي رب من هذا؟ قال هو ابنك داود قال أي رب كم عمره؟ قال
ستون عاما قال رب زد في عمره قال لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف سنة فزاده أربعين عاما فكتب عليه
بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال إنه قد بقي من عمري أربعون عاما فقيل له إنك
قد وهبتها لابنك داود قال ما فعلت فأبرز الله عليه الكتاب وأشهد عليه الملائكة " وحدثنا أسود بن عامر عن حماد
بن سلمة فذكره وزاد فيه " فأتمها الله لداود مائة وأتمها لآدم ألف سنة ". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن يوسف بن أبي
حبيب عن أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة. هذا حديث غريب جدا وعلي بن زيد بن جدعان في أحاديثه
نكارة وقد رواه الحاكم في مستدركه بنحوه من حديث الحارث بن عبد الرحمن بن أبي وثاب عن سعيد المقبري عن
341

أبي هريرة ومن رواية أبي داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرة ومن طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن
أبي هريرة ومن حديث تمام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه.
فقوله " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا
بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها وقد نبه على هذا في آخر الآية
حيث قال " ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن
مجاهد عن ابن عباس في قوله " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه " قال أنزلت في السلم
إلى أجل معلوم وقال قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس قال أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن
الله أحله وأذن فيه ثم قرأ " يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى ". رواه البخاري وثبت في
الصحيحين من رواية سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن عبد الله بن كثير عن أبي المنهال عن ابن عباس. قال:
قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أسلف فليسلف في كيل
معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم " وقوله " فاكتبوه " أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ فإن قيل فقد ثبت في
الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " فما الجمع بينه وبين
الامر بالكتابة فالجواب أن الدين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلا لان كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على
الناس والسنن أيضا محفوظة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس فأمروا أمر
إرشاد لا أمر إيجاب كما ذهب إليه بعضهم قال ابن جريج من أدان فليكتب ومن ابتاع فليشهد وقال قتادة ذكر لنا أن أبا
سليمان المرعشي كان رجلا صحب كعبا فقال ذات يوم لأصحابه هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا
وكيف يكون ذلك؟ قال رجل باع بيعا إلى أجل فلم يشهد ولم يكتب فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم
يستجب له لأنه قد عصى ربه. وقال أبو سعيد والشعبي والربيع بن أنس والحسن وابن جريج وابن زيد وغيرهم كان
ذلك واجبا ثم نسخ بقوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته " والدليل على ذلك أيضا الحديث الذي
حكى عن شرع من قبلنا مقررا في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والاشهاد قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد
حدثنا ليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أن رجلا من بني
إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ائتني بشهداء أشهدهم قال كفى بالله شهيدا قال ائتني بكفيل
قال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا يقدم
عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ثم زجج
موضعها ثم أتى بها البحر ثم قال اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلانا ألف دينار فسألني كفيلا فقلت: كفى بالله
كفيلا فرضي بذلك وسألني شهيدا فقلت كفى بالله شهيدا فرضي بذلك وإني قد جهدت أن أجد مركبا أبعث بها إليه
بالذي أعطاني فلم أجد مركبا وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يطلب
مركبا إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا تجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله
حطبا فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت
جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال هل كنت بعثت إلي بشئ؟ قال ألم
أخبرك أني لم أجد مركبا قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف
بألفك راشدا. وهذا إسناد صحيح وقد رواه البخاري في سبعة مواضع من طرق صحيحة معلقا بصيغة الجزم فقال:
وقال الليث بن سعيد فذكره ويقال إنه رواه في بعضها عن عبد الله بن صالح كاتب الليث عنه.
وقوله تعالى " وليكتب بينكم كاتب بالعدل " أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد ولا يكتب إلا ما اتفقوا
عليه من غير زيادة ولا نقصان وقوله " ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب " أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة
342

إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك فكما علمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا
يحسن الكتابة وليكتب كما جاء في الحديث " إن من الصدقة أن تعين صانعا أو تصنع لاخرق " وفي الآخر " من كتم
علما يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار ". وقال مجاهد وعطاء واجب على الكاتب أن يكتب وقوله " وليملل الذي
عليه الحق وليتق الله ربه " أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك " ولا يبخس منه
شيئا " أي لا يكتم منه شيئا " فإن كان الذي عليه الحق سفيها " محجورا عليه بتبذير ونحوه " أو ضعيفا " أي صغيرا أو
مجنونا " أو لا يستطيع أن يمل هو " إما لعي أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه " فليملل وليه بالعدل ".
وقوله " واستشهدوا شهيدين من رجالكم " أمر بالاشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة " فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان " وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما
قال مسلم في صحيحه حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن المقبري عن أبي هريرة عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار " فقالت امرأة منهن جزلة
وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال " تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي
لب منكن ". قالت يا رسول الله ما نقصان العقل والدين قال " أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل
فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين ".
وقوله " ممن ترضون من الشهداء " فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود وهذا مقيد حكم به الشافعي على كل مطلق
في القرآن من الامر بالاشهاد من غير اشتراط وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلا
مرضيا. وقوله " أن تضل إحداهما " يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة " فتذكر إحداهما الأخرى " أي يحصل لها ذكر
بما وقع به من الاشهاد وبهذا قرأ آخرون فتذكر بالتشديد من التذكار ومن قال إن شهادتها معها تجعلها كشهادة ذكر فقد
أبعد والصحيح الأول والله أعلم.
وقوله " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " قيل معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة وهو قول قتادة والربيع بن أنس وهذا كقوله
" ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب " ومن ههنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية قيل وهو مذهب
الجمهور المراد بقوله " ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا " للأداء لحقيقة قوله الشهداء والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا
دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت وإلا فهو فرض كفاية والله أعلم. وقال مجاهد وأبو مجلز وغير واحد إذا دعيت
لتشهد فأنت بالخيار وإذا شهدت فدعيت فأجب وقد ثبت في صحيح مسلم والسنن من طريق مالك عن عبد الله بن
أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن زيد بن
خالد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ". فأما الحديث الآخر
في الصحيحين " ألا أخبركم بشر الشهداء " الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا " وكذا قوله " ثم يأتي قوم تسبق
أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم " وفي رواية " ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون " وهؤلاء شهود
الزور وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري أنها تعم الحالين التحمل والأداء.
وقوله " ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله " هذا من تمام الارشاد وهو الامر بكتابة الحق صغيرا كان أو
كبيرا فقال ولا تسأموا أي لا تملوا أن تكتبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله وقوله " ذلكم أقسط
عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا ". أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلا هو أقسط عند
الله أي أعدل وأقوم للشهادة أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه
كما هو الواقع غالبا " وأدنى أن لا ترتابوا " وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه
فيفصل بينكم بلا ريبة.
343

وقوله " إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها " أي إذا كان البيع بالحاضر يدا
بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها.
فأما الاشهاد على البيع فقد قال تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثني
يحيى بن عبد الله بن بكر حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى " وأشهدوا إذا
تبايعتم " يعني أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل فأشهدوا على حقكم على كل حال قال
وروى عن جابر بن زيد ومجاهد وعطاء والضحاك نحو ذلك وقال الشعبي والحسن هذا الامر منسوخ بقوله " فإن أمن
بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته " وهذا الامر محمول عند الجمهور على الارشاد والندب لا على الوجوب
والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري. وقد رواه الإمام أحمد حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن
الزهري حدثني عمارة بن خزيمة الأنصاري أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي
فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الاعرابي فطفق رجال يعترضون الاعرابي فيساومونه
بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الاعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم
فنادى الاعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته فقام النبي صليا الله عليه وسلم حين سمع نداء الاعرابي
قال " أوليس قد ابتعته منك " قال الاعرابي لا والله ما بعتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " بل قد ابتعته منك " فطفق الناس يلوذون
بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الاعرابي يقول هلم شهيدا يشهد أني بايعتك فمن جاء من المسلمين
قال للاعرابي ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقا حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة
الاعرابي يقول: هلم شهيدا يشهد أني بايعتك قال: خزيمة أنا أشهد أنك قد بايعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة
فقال " بم تشهد "؟ فقال بتصديقك يا رسول الله فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين وهكذا رواه أبو
داود من حديث شعيب والنسائي من رواية محمد بن الوليد الزبيدي كلاهما عن الزهري به نحوه ولكن الاحتياط هو
الارشاد لما رواه الإمامان الحافظ أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه من رواية معاذ بن معاذ العنبري عن شعبة
عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ثلاثة يدعون الله فلا
يستجاب لهم: رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ورجل أقرض رجلا مالا فلم
يشهد " ثم قال الحاكم صحيح الاسناد على شرط الشيخين قال ولم يخرجاه لتوقيف أصحاب شعبة هذا الحديث
على أبي موسى وإنما أجمعوا على سند حديث شعبة بهذا الاسناد " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ".
وقوله تعالى " ولا يضار كاتب ولا شهيد " قيل معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يملي ويشهد
هذا بخلاف ما سمع أو يكتمها بالكلية وهو قول الحسن وقتادة وغيرهما وقيل معناه لا يضر بهما قال ابن أبي حاتم
حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا الحسين يعني ابن حفص حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس في
هذه الآية " ولا يضار كاتب ولا شهيد ". قال يأتي الرجل فيدعوهما إلى الكتاب والشهادة فيقولان إنا على حاجة
فيقول إنكما قد أمرتما أن تجيبا فليس له أن يضارهما ثم قال وروى عن عكرمة ومجاهد وطاوس وسعيد بن جبير
والضحاك وعطية ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي نحو ذلك وقوله " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " أي إن
خالفتم ما أمرتم به أو فعلتم ما نهيتم عنه فإنه فسق كائن بكم أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه وقوله
" واتقوا الله " أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره " ويعلمكم الله " كقوله " يا أيها الذين أمنوا أن تتقوا الله
يجعل لكم فرقانا " وقوله " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون
به " وقوله " والله بكل شئ عليم " أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شئ من الأشياء
بل علمه محيط بجميع الكائنات.
344

وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله
ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه أثم قلبه والله بما تعملون عليم (283)
يقول تعالى " وإن كنتم على سفر " أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى " ولم تجدوا كاتبا " يكتب لكم قال
ابن عباس أو وجدوه ولم يجدوا قرطاسا أو دواة أو قلما فرهان مقبوضة أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد
صاحب الحق وقد استدل بقوله " فرهان مقبوضة " على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي
والجمهور واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضا في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد
وذهب إليه طائفة واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعا إلا في السفر قاله مجاهد
وغيره وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من
شعير رهنها قوتا لأهله وفي رواية من يهود المدينة وفي رواية الشافعي عند أبي الشحم اليهودي وتقرير هذه
المسائل في كتاب الأحكام الكبير ولله الحمد والمنة وبه المستعان.
وقوله " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذين ائتمن أمانته " روى ابن أبي حاتم بإسناد جيد عن أبي سعيد الخدري أنه
قال: هذه نسخت ما قبلها وقال الشعبي: إذا ائتمن بعضكم بعضا فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا وقوله
" وليتق الله ربه " يعنى المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية قتادة عن
الحسن عن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " على اليد ما أخذت حتى تؤديه ".
وقوله " ولا تكتموا الشهادة " أي لا تخفوها وتغلوها ولا تظهروها قال ابن عباس وغيره: شهادة الزور من أكبر
الكبائر وكتمانها كذلك ولهذا قال " ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " قال السدي يعني فاجر قلبه وهذه كقوله تعالى
" ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على
أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن
الله كان بما تعملون خبيرا " وهكذا قال ههنا " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم ".
لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب
من يشاء والله على كل شئ قدير (284)
يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا
السرائر والضمائر وإن دقت وخفيت وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم كما قال تعالى
" قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير "
وقال " يعلم السر وأخفى " والآيات في ذلك كثيرة جدا وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو المحاسبة على ذلك
ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل
الأعمال وحقيرها وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم
حدثني أبو عبد الرحمن يعني العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لله ما في السماوات
وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ
قدير " اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من
الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أتريدون
345

أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير "
فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما فعلوا ذلك
نسخها الله فأنزل الله.
" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " إلى آخره
ورواه مسلم منفردا به من حديث يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة فذكر مثله
ولفظه. فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال نعم " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال نعم
" ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال نعم " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم
الكافرين " قال نعم " حديث ابن عباس في ذلك " قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن آدم بن سليمان
سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله "
قال دخل قلوبهم منها شئ لم يدخل قلوبهم من شئ قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا "
فألقى الله الايمان في قلوبهم فأنزل الله " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " إلى قوله " فانصرنا على القوم
الكافرين " وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وإسحق بن إبراهيم ثلاثتهم عن وكيع به وزاد " ربنا
لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " قال قد فعلت " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " قال قد
فعلت " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال قد فعلت " واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على
القوم الكافرين " قال قد فعلت " طريق أخرى " عن ابن عباس قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن
حميد الأعرج عن مجاهد قال: دخلت على ابن عباس فقلت يا أبا عباس كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى
قال: أية آية؟ قلت " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال ابن عباس إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا يعني وقالوا يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما
نعمل فأما قلوبنا فليست بأيدينا فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قولوا سمعنا وأطعنا " فقالوا سمعنا وأطعنا قال فنسختها
هذه الآية " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله " إلى " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما
كسبت وعليها ما اكتسبت " فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالاعمال " طريق أخرى " عنه قال ابن جرير:
حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو
جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية " لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه
يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء " الآية فقال: والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ثم بكى ابن عمر حتى سمع
نشيجه قال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس
يغفر الله لأبي عبد الرحمن لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله
بعدها " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر السورة قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة
للمسلمين بها وصار الامر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل
" طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن
الزهري عن سالم أن أباه قرأ " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فدمعت عيناه فبلغ صنيعه ابن
عباس فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزلت فنسختها الآية التي
بعدها " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس وقد ثبت عن ابن عمر كما ثبت عن ابن
346

عباس قال البخاري: حدثنا إسحاق حدثنا روح حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن مروان الأصغر عن رجل من
أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أحسبه ابن عمر " إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه " قال:
نسختها الآية التي بعدها. وهكذا روي عن علي وابن مسعود وكعب الأحبار والشعبي والنخعي ومحمد بن كعب
القرظي وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة أنها منسوخة بالتي بعدها وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة من
طريق قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت
به أنفسها ما لم تكلم أو تعلم ".
وفى الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قال
الله إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها
فاكتبوها عشرا " لفظ مسلم وهو في إفراده من طريق إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى
سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة " وقال عبد الرزاق: أخبرنا
معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " قال الله إذا تحدث عبدي بأن يعمل
حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما
لم يعملها فإن عملها فأنا أكتبها له بمثلها " وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قالت الملائكة رب وذاك أن عبدك يريد أن يعمل
سيئة وهو أبصر به فقال ارقبوه فإن عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة وإنما تركها من جراي " وقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وكل
سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عز وجل " تفرد به مسلم عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق بهذا السياق واللفظ
وبعضه في صحيح البخاري وقال مسلم أيضا: حدثنا أبو كريب حدثنا خالد الأحمر عن هشام عن ابن سيرين عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له عشرا إلى
سبعمائة ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب له وإن عملها كتبت " تفرد به مسلم دون غيره من أصحاب الكتب. وقال
مسلم أيضا: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا عبد الوارث عن الجعد أبي عثمان حدثنا أبو رجاء العطاردي عن ابن عباس
عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه تعالى قال " إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة
فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده سيئة واحدة " ثم رواه
مسلم عن يحيى بن يحيى عن جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان في هذا الاسناد بمعنى حديث عبد الرزاق زاد
" ومحاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك " وفي حديث سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه فقالوا إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به قال " وقد وجدتموه؟ " قالوا نعم قال
" ذاك صريح الايمان " لفظ مسلم وهو عند مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به وروى مسلم أيضا من حديث مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الوسوسة قال " تلك صريح الايمان ".
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فإنها لم تنسخ لكن الله إذا
جمع الخلائق يوم القيامة يقول إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي فأما المؤمنون
فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله " يحاسبكم به الله " يقول يخبركم وأما أهل الشك والريب
فيخبرهم بما أخفوه من التكذيب وهو قوله " فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " وهو قوله " ولكن يؤاخذكم بما
كسبت قلوبكم " أي من الشك والنفاق وقد روى العوفي والضحاك عنه قريبا من هذا.
347

وروى ابن جرير عن مجاهد والضحاك نحوه وعن الحسن البصري أنه قال: هي محكمة لم تنسخ واختار ابن جرير
ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر وقد يحاسب ويعاقب بالحديث الذي
رواه عند هذه الآية قائلا: حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد بن هشام " ح " وحدثني يعقوب بن إبراهيم
حدثنا ابن علية حدثنا ابن هشام قالا جميعا في حديثهما عن قتادة عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت
مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال يا ابن عمر ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ قال
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له هل تعرف
كذا فيقول رب أعرف مرتين حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك
اليوم قال فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الاشهاد " هؤلاء
الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وغيرهما من طرق متعددة
عن قتادة به وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبيه
قال: سألت عائشة عن هذه الآية " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " فقالت: ما سألني عنها
أحد منذ سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فقالت: هذه مبايعة الله العبد وما يصيبه من الحمى والنكبة والبضاعة يضعها في يد كمه
فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبنته حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر وكذا رواه الترمذي
وابن جرير من طريق حماد بن سلمة به. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من حديثه " قلت " وشيخه علي بن
زيد بن جدعان ضعيف يغرب في رواياته وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة
وليس لها عنها في الكتب سواه.
أمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل أمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين
أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير (285) لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين (286)
" ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما "
" الحديث الأول " قال البخاري: حدثنا محمد بن كثير أخبرنا شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن عبد الرحمن عن ابن
مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قرأ الآيتين - وحدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن
يزيد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وقد أخرجه
بقية الجماعة من طريق سليمان بن مهران الأعمش بإسناده مثله وهو في الصحيحين من طريق الثوري عن منصور عن
إبراهيم عن عبد الرحمن عنه به وهو في الصحيحين أيضا عن عبد الرحمن عن علقمة عن ابن مسعود قال
عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود فحدثني به وهكذا رواه أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن آدم حدثنا شريك عن
عاصم عن المسيب بن رافع عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في
ليلته كفتاه.
" الحديث الثاني " قال الإمام أحمد: حدثنا حسين حدثنا شيبان عن منصور عن ربعي عن خرشة بن الحر عن
المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن
348

نبي قبلي " وقد رواه ابن مردويه من حديث الأشجعي عن الثوري عن منصور عن ربعي عن زيد بن ظبيان عن أبي ذر
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش ".
" الحديث الثالث " قال مسلم حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا مالك بن مغول " ح " وحدثنا ابن
نمير وزهير بن حرب جميعا عن عبد الله بن نمير وألفاظهم متقاربة قال ابن نمير: حدثنا أبي حدثنا مالك بن مغول عن الزبير بن
عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله قال: لما أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء
السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها. قال " إذ يغشى
السدرة ما يغشى " قال فراش من ذهب قال وأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم
سورة البقرة وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات.
" الحديث الرابع " قال أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي حدثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق عن
يزيد أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اقرأ الآيتين من آخر
سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش " هذا إسناد حسن ولم يخرجوه في كتبهم.
" الحديث الخامس " قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي أخبرنا مروان أنبأنا ابن
عوانة عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فضلنا على الناس بثلاث أوتيت هذه الآيات من
آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي " ثم رواه من حديث نعيم بن
أبي هندي عن ربعي عن حذيفة بنحوه.
" الحديث السادس " قال ابن مردويه حدثنا عبد الباقي بن نافع أنبأنا إسماعيل بن الفضل أخبرنا محمد بن حاتم بن
بزيع أخبرنا جعفر بن عون عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: لا أرى أحدا عقل الاسلام
ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز عطية نبيكم - صلى الله عليه وسلم - من تحت العرش
ورواه وكيع في تفسيره عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمير بن عمرو المخارقي عن علي قال: ما أرى أحدا
يعقل بلغه الاسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز تحت العرش.
" الحديث السابع " قال أبو عيسى الترمذي حدثنا بندار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن سلمة عن
أشعث بن عبد الرحمن الحرمي عن أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن
الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار
ثلاث ليال فيقربها شيطان " ثم قال هذا حديث غريب وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث حماد بن سلمة به
وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
" الحديث الثامن " قال ابن مردويه حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن مدين أخبرنا الحسن بن الجهم أخبرنا
إسماعيل بن عمرو أخبرنا ابن مريم حدثني يوسف بن أبي الحجاج عن سعيد عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال " إنهما من كنز الرحمن تحت العرش " وإذا قرأ " من يعمل سوءا
يجز به " " وأن ليس للانسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى " استرجع واستكان.
" الحديث التاسع " قال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن محمد بن كوفي حدثنا أحمد بن يحيى بن حمزة حدثنا محمد بن
بكر حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن أبي حميد عن أبي مليح عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة ".
" الحديث العاشر " قد تقدم في فضائل الفاتحة من رواية عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء
349

فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط قال: فنزل منه ملك فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: أبشر بنورين قد أوتيتهما
لم يؤتهما نبي قبلك فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته رواه مسلم والنسائي وهذا
لفظه.
فقوله تعالى " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " إخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك قال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد
عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لما نزلت عليه هذه الآية " ويحق له أن يؤمن " وقد روى الحاكم في
مستدركه حدثنا أبو النضر الفقيه: حدثنا معاذ بن نجدة القرشي حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا أبو عقيل عن يحيى بن
أبي كثير عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية على النبي - صلى الله عليه وسلم - " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه " قال
النبي - صلى الله عليه وسلم - " حق له أن يؤمن " ثم قال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
وقوله " والمؤمنون " عطف على الرسول ثم أخبر عن الجميع فقال " كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق
بين أحد من رسله " فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره ولا رب سواه. ويصدقون
بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون
ببعض ويكفرون ببعض بل الجميع عندهم صادقون بارون راشدون مهديون هادون إلى سبيل الخير وإن كان
بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة
على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين وقوله " وقالوا سمعنا وأطعنا " أي سمعنا قولك يا ربنا
وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه " غفرانك ربنا " سؤال للمغفرة والرحمة واللطف قال ابن أبي حاتم.
حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضل عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله
" آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون " إلى قوله " غفرانك ربنا " قال قد غفرت لكم " وإليك المصير "
أي المرجع والمآب يوم الحساب. قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن سنان عن حكيم عن جابر قال:
لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " قال جبريل إن الله قد أحسن الثناء عليك
وعلى أمتك فسل تعطه فسأل " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " إلى آخر الآية. وقوله " لا يكلف الله نفسا إلا
وسعها " أي لا يكلف أحد فوق طاقته وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم وهذه هي الناسخة
الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله " وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله " أي هو وإن
حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا
يكلف به الانسان وكراهية الوسوسة السيئة من الايمان وقوله " لها ما كسبت " أي من خير " وعليها ما
اكتسبت " أي من شر وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف. ثم قال تعالى مرشدا عباده إلى سؤاله وقد
تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلمهم أن يقولوا " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " أي إن تركنا فرضا على
جهة النسيان أو فعلنا حراما كذلك أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلا منا بوجهه الشرعي وقد تقدم في
صحيح مسلم من حديث أبي هريره قال: " قال الله نعم " ولحديث ابن عباس قال الله " قد فعلت " وروى ابن
ماجة في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي عمرو الأوزاعي عن عطاء قال ابن ماجة في روايته عن ابن
عباس وقال الطبراني وابن حبان عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الله وضع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وقد روي من طريق آخر وأعله أحمد وأبو حاتم والله أعلم. وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا أبو بكر الهذلي عن شهر عن أم الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " إن
الله تجاوز لامتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والاستكراه " قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن فقال: أجل أما تقرأ
بذلك قرآنا " ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ".
350

وقوله " ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا " أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها كما
شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والآصار التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمدا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة بوضعه في
شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " قال الله نعم " وعن ابن عباس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله قد فعلت " وجاء في الحديث من
طرق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " بعثت بالحنيفية السمحة ".
وقوله " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به وقد قال
مكحول في قوله " ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " قال العزبة والغلمة رواه ابن أبي حاتم قال الله نعم وفي
الحديث الآخر قال الله قد فعلت.
وقوله " واعف عنا " أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا " واغفر لنا " أي فيما بيننا وبين عبادك فلا
تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة " وارحمنا " أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ولهذا قالوا إن
المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم وأن يعصمه فلا
يوقعه في نظيره. وقد تقدم في الحديث أن الله قال نعم وفي الحديث الآخر قال الله قد فعلت.
وقوله " أنت مولانا " أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول لنا ولا قوة إلا بك
" فانصرنا على القوم الكافرين " أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك وعبدوا غيرك وأشركوا
معك من عبادك فانصرنا عليهم واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة قال الله نعم. وفي الحديث الذي
رواه مسلم عن ابن عباس قال الله: قد فعلت. وقال ابن جرير: حدثني مثنى بن إبراهيم حدثنا أبو نعيم حدثنا
سفيان عن أبي إسحاق أن معاذا - رضي الله عنه - كان إذا فرغ من هذه السورة " انصرنا على القوم الكافرين " قال
آمين ورواه وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن رجل من معاذ بن جبل أنه كان إذا ختم البقرة قال آمين.
سورة آل عمران
لان صدرها إلى ثلاث وثمانين آية منها نزل في وفد نجران وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة كما سيأتي بيان
ذلك عند تفسير آية المباهلة منها إن شاء الله تعالى وقد ذكرنا ما ورد من فضلها مع سورة البقرة أول البقرة. بسم الله الرحمن الرحيم
آلم (1) الله لا إله إلا هو الحي القيوم (2) نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة
والإنجيل (3) من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو
انتقام (4)
قد ذكرنا الحديث الوارد في أن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " و " ألم الله لا
إله إلا هو الحي القيوم " عند تفسير آية الكرسي وقد تقدم الكلام على قوله " ألم " في أول سورة البقرة بما أغنى
عن إعادته وتقدم الكلام على قوله " الله لا إله إلا هو الحي القيوم " في تفسير آية الكرسي.
وقوله تعالى " نزل عليك الكتاب بالحق " يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق أي لا شك فيه ولا ريب بل هو
منزل من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا وقوله " مصدقا لما بين يديه " أي من الكتب
351

المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان وهو يصدقها لأنه
طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه. وقوله " وأنزل التوراة " أي
على موسى بن عمران " والإنجيل " أي على عيسى ابن مريم عليهما السلام. " من قبل " أي من قبل هذا القرآن
" هدى للناس " أي في زمانهما " وأنزل الفرقان " وهو الفارق بين الهدى والضلال والحق والباطل والغي والرشاد بما
يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات والبراهين القاطعات ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره
ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك. وقال قتادة والربيع بن أنس: الفرقان ههنا القرآن. واختار ابن جرير أنه مصدر ههنا
لتقدم ذكر القرآن في قوله " نزل عليك الكتاب بالحق " وهو القرآن. وأما ما رواه ابن أبي حاتم عن أبي صالح أن
المراد بالفرقان ههنا التوراة فضعيف أيضا لتقدم ذكر التوراة والله أعلم.
وقوله تعالى " إن الذين كفروا بآيات الله " أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل " لهم عذاب شديد " أي يوم
القيامة " والله عزيز " أي منيع الجناب عظيم السلطان " ذو انتقام " أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام
وأنبياءه العظام.
إن الله لا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء (5) هو الذي الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو
العزيز الحكيم (6)
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شئ من ذلك " هو الذي يصوركم في الأرحام كيف
يشاء " أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى وحسن وقبيح وشقي وسعيد " لا إله إلا هو العزيز الحكيم "
أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام والحكمة والاحكام وهذه الآية
فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى ابن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر لان الله صوره في الرحم وخلقه
كيف يشاء فكيف يكون إلها كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال
كما قال تعالى " يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ".
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه أيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ
فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون أمنا به كل من
عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب (7) ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت
الوهاب (8) ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد (9)
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه
آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكم محكمه على
متشابهة عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال تعالى " هن أم الكتاب " أي أصله الذي يرجع إليه عند
الاشتباه " وأخر متشابهات " أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل شيئا آخر من حيث اللفظ والتركيب لا من
حيث المراد وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه فروي عن السلف عبارات كثيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس رضي الله عنهما: المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وأحكامه ما يؤمر به ويعمل به وعن ابن عباس أيضا أنه
قال: المحكمات قوله تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا " والآيات بعدها وقوله تعالى
" وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " إلى ثلاث آيات بعدها ورواه ابن أبي حاتم وحكاه عن سعيد بن جبير به قال:
352

حدثنا أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في
هذه الآية " هن أم الكتاب وأخر متشابهات " فقال أبو فاختة: فواتح السور. وقال يحيى بن يعمر: الفرائض
والأمر والنهي والحلال والحرام. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير: " هن أم الكتاب " لأنهن
مكتوبات في جميع الكتب وقال مقاتل بن حيان: لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن وقيل في المتشابهات:
المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام وما يؤمن به ولا يعمل به رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
وقيل هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان وعن مجاهد المتشابهات يصدق بعضها بعضا
وهذا إنما هو في تفسير قوله " كتابا متشابها مثاني " هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد
والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار وذكر حال الأبرار وحال الفجار ونحو ذلك. وأما هاهنا
فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا وهو الذي نص عليه محمد بن إسحاق بن يسار
رحمه الله حيث قال " منه آيات محكمات " فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ليس لهن تصريف ولا
تحريف عما وضعن عليه. قال: والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد
كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ويحرفن عن الحق.
ولهذا قال الله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ " أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل " فيتبعون ما تشابه
منه " أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال
لفظه لما يصرفونه فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال الله تعالى " ابتغاء
الفتنة " أي الاضلال لاتباعهم إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم كما لو احتج
النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وتركوا الاحتجاج بقوله " إن هو إلا
عبد أنعمنا عليه " وبقوله " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " وغير ذلك من
الآيات المحكمة المصرحة بأنه خلق من مخلوقات الله وعبد ورسول من رسل الله.
وقوله تعالى " وابتغاء تأويله " أي تحريفه على ما يريدون وقال مقاتل بن حيان والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون
وما عواقب الأشياء من القرآن وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا يعقوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة
رضي الله عنها قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات " إلى قوله " أولوا الألباب " فقال " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " هكذا
وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد من رواية ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها ليس بينهما أحد وهكذا رواه ابن
ماجة من طريق إسماعيل بن علية وعبد الوهاب الثقفي كلاهما عن أيوب به ورواه محمد بن يحيى العبدي في مسنده
عن عبد الوهاب الثقفي به وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب وكذا رواه غير واحد عن أيوب وقد رواه ابن
حبان في صحيحه من حديث أيوب به ورواه أبو بكر بن المنذر في تفسيره من طريقين عن أبي النعمان محمد بن
الفضل السدوسي ولقبه عارم حدثنا حماد بن زيد حدثنا أيوب عن ابن أبي مليكة عن عائشة به وتابع أيوب
أبو عامر الخراز وغيره عن ابن أبي مليكة فرواه الترمذي عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن أبي عامر الخراز
فذكره ورواه سعيد بن منصور في سننه عن حماد بن يحيى عن عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة ورواه ابن جرير من
حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحي كلاهما عن ابن أبي مليكة عن عائشة وقال نافع في روايته عن ابن
أبي مليكة حدثتني عائشة فذكره وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من
صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن العقنبي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن
محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات "
إلى قوله " وما يذكر إلا أولو الألباب " قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك
353

الذين سمى الله فاحذروهم " لفظ البخاري وكذا رواه الترمذي أيضا عن بندار عن أبي داود الطيالسي عن يزيد بن إبراهيم
به وقال حسن صحيح وذكر أن يزيد بن إبراهيم التستري تفرد بذكر القاسم في هذا الاسناد وقد رواه غير واحد عن
ابن أبي مليكة عن عائشة ولم يذكر القاسم كذا قال وقد رواه ابن أبي حاتم فقال: حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد
الطيالسي حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي
الله عنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم " وقال ابن جرير: حدثنا
علي بن سهيل حدثنا الوليد بن مسلم عن حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها قالت: نزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية " فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة " فقال رسول الله صلى عليه وسلم " قد حذركم الله فإذا
رأيتموهم فاحذروهم " ورواه ابن مردويه من طريق أخرى عن القاسم عن عائشة به وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو
كامل حدثنا حماد عن أبي غالب قال: سمعت أبا أمامة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى " فأما الذين في قلوبهم
زيغ فيتبعون ما تشابه منه " قال " هم الخوارج " وفي قوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال: " هم
الخوارج " وقد رواه ابن مردويه من غير وجه عن أبي غالب عن أبي أمامة فذكره وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون
موقوفا من كلام الصحابي ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الاسلام فتنة الخوارج وكان مبدؤهم بسبب الدنيا
حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة فقال
قائلهم: وهو ذو الخويصرة بقر الله خاصرته اعدل فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد خبت وخسرت إن لم
أكن أعدل أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني " فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب وفي رواية خالد بن
الوليد في قتله فقال " دعه فإنه يخرج من ضئضئ هذا أي من جنسه قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وقراءته مع
قراءتهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم " ثم
كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء
ومقالات ونحل كثيرة منتشرة ثم انبعثت القدرية ثم المعتزلة ثم الجهمية وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق
المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " قالوا
وما هم يا رسول الله؟ قال " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو موسى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا المعتمر عن أبيه عن قتادة عن الحسن بن
جندب بن عبد الله أنه بلغه عن حذيفة أو سمعه منه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر " إن في أمتي قوما يقرؤن القرآن
ينثرونه نثر الدقل يتأولونه على غير تأويله " لم يخرجوه.
وقوله تعالى " وما يعلم تأويله إلا الله " اختلف القراء في الوقف ههنا فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس
رضي الله عنه أنه قال: التفسير على أربعة أنحاء فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها
وتفسير يعلمه الراسخون في العلم وتفسير لا يعلمه إلا الله ويروى هذا القول عن عائشة وعروة وأبي الشعثاء وأبي
نهيك وغيرهم. وقال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل بن
عياش حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: " لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خلال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه
المؤمن يبتغي تأويله " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به " الآية وإن يزداد علمهم
فيضيعوه ولا يبالون عنه " غريب جدا. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا
هشام بن عمار حدثنا ابن أبي حاتم عن أبيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن
القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به ". وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر
354

عن ابن طاووس عن أبيه قال: كان ابن عباس يقرأ: وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به. وكذا رواه
ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله. وحكى ابن جرير أن في
قراءة عبد الله بن مسعود إن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به وكذا عن أبي بن كعب واختار
ابن جرير هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله والراسخون في العلم وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول وقالوا الخطاب بما لا
يفهم بعيد وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال
الربيع بن أنس. وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير: وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله
والراسخون في العلم يقولون آمنا به ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لاحد
فيها إلا تأويل واحد فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضا فنفذت الحجة وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به
الكفر وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ومن العلماء من
فصل وهذا المقام قال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشئ وما يؤول أمره
إليه ومنه قوله تعالى " وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " وقوله " هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله "
أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لان حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه
على الجلية إلا الله عز وجل ويكون قوله " والراسخون في العلم " مبتدأ و " يقولون آمنا به " خبره وأما إن أريد
بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشئ كقوله " نبئنا بتأويله " أي بتفسيره فإن أريد به هذا
المعنى فالوقف على " والراسخون في العلم " لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا
علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه وعلى هذا فيكون قوله " يقولون آمنا به " حال منهم وساغ هذا وأن يكون
من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم - إلى قوله -
" يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا " الآية وقوله تعالى " وجاء ربك والملك صفا صفا " أي وجاء الملائكة صفوفا
صفوفا.
وقوله إخبارا عنهم إنهم يقولون آمنا به أي المتشابه كل من عند ربنا أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق
وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له لان الجميع من عند الله وليس شئ من عند الله بمختلف ولا متضاد كقوله
" أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " ولهذا قال تعالى " وما يذكر إلا أولوا
الألباب " أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة وقد قال ابن أبي
حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا فياض الرقي حدثنا عبيد الله بن يزيد وكان قد أدرك
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنسا وأبا أمامة وأبا الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال " من برت يمينه
وصدق لسانه واستقام قلبه ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم ". وقال الإمام أحمد حدثنا معمر عن
الزهري عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتدارؤون فقال " إنما هلك من كان
قبلكم بهذا ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما
علمتم منه فقولوا به. وما جهلتم فكلوه إلى عالمه " وتقدم رواية ابن مردويه لهذا الحديث من طريق هشام بن عمار عن
أبي حازم عن عمرو بن شعيب به وقد قال أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا زهير بن حرب حدثنا أنس بن
عياض عن أبي حازم عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نزل القرآن على سبعة
أحرف والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثا - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله " وهذا
إسناد صحيح ولكن فيه علة بسبب قول الراوي لا أعلمه إلا عن أبي هريرة. وقال ابن المنذر في تفسيره: حدثنا
355

محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد قال: يقال الراسخون في العلم
المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم. ثم قال تعالى عنهم مخبرا
أنهم دعوا ربهم قائلين " ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا " أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا
كالذين في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ودينك القويم " وهب
لنا من لدنك رحمة " تثبت بها قلوبنا وتجمع بها شملنا وتزيدنا بها إيمانا وإيقانا " إنك أنت الوهاب " قال ابن
أبي حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب قالا جميعا حدثنا وكيع عن عبد
الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " ثم قرأ " ربنا
لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " رواه ابن مردويه من طريق محمد بن بكار
عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن أسماء بنت يزيد بن السكن سمعتها تحدث أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: قلت يا رسول الله وإن القلب
ليتقلب؟ قال " نعم ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل فإن شاء أقامه وإن
شاء أزاغه " فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب - وهكذا
رواه ابن جرير من حديث أسد بن موسى عن عبد الحميد بن بهرام به مثله ورواه أيضا عن المثنى عن الحجاج بن
منهال عن عبد الحميد بن بهرام به مثله وزاد قلت: يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي قال " بلى قولي
اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن " ثم قال ابن مردويه حدثنا
سليمان بن أحمد حدثنا محمد بن هارون بن بكار الدمشقي حدثنا العباس بن الوليد الخلال أنا يزيد بن يحيى بن
عبيد الله أنا سعيد بن بشير عن قتادة عن حسان الأعرج عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما
يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قلت يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال " ليس من قلب إلا
وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه أما تسمعي قوله " ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " غريب من هذا الوجه ولكن أصله ثابت في
الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة وقد رواه أبو داود والنسائي وابن مردويه من
حديث أبي عبد الرحمن المقبري زاد النسائي وابن حبان وعبد الله بن وهب كلاهما عن سعيد بن أبي أيوب حدثني
عبد الله بن الوليد التجيبي عن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل
قال " لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي
من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب " لفظ ابن مردويه. وقال عبد الرزاق عن مالك عن أبي عبيد مولى سليمان بن عبد
الملك عن عبادة بن نسي أنه أخبره أنه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد الله الصنابحي أنه صلى وراء
أبي بكر الصديق رضي الله عنه المغرب فقرأ أبو بكر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل وقرأ
من الركعة الثالثة قال: دنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية " ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا " الآية قال أبو عبيد: وأخبرني عبادة بن نسي أنه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال
عمر لقيس: كيف أخبرتني عن أبي عبد الله قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه وإن كنت قبل ذلك لعلى غير
ذلك فقال له رجل على أي شئ كان أمير المؤمنين قبل ذلك قال كنت أقرأ " قل هو الله أحد " وقد روى هذا
الأثر الوليد بن مسلم عن مالك والأوزاعي كلاهما عن أبي عبيد به: وروى هذا الأثر الوليد أيضا عن ابن جابر عن
يحيى بن يحيى الغساني عن محمود بن لبيد عن الصنابحي أنه صلى خلف أبي بكر المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة
الكتاب وسورة قصيرة يجهر بالقراءة فلما قام إلى الثالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتى إن ثيابي لتمس ثيابه فقرأ هذه
الآية " ربنا لا تزغ قلوبنا " الآية.
356

وقوله " ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه " أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم
وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه وتجزي كلا بعمله وما كان عليه في الدنيا من خير وشر.
إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار (10) كدأب
أل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب (11)
يخبر تعالى عن الكفار بأنهم وقود النار " يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " وليس ما أوتوه
في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه كما قال تعالى " ولا تعجبك
أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " وقال تعالى " لا يغرنك
تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جنهم وبئس المهاد " وقال ههنا " إن الذين كفروا " أي بآيات
الله وكذبوا رسله وخالفوا كتابه ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك
هم وقود النار " أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جنهم " الآية. قال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا ابن لهيعة أخبرني ابن الهاد عن هند بنت الحارث عن أم الفضل
أم عبد الله بن عباس قالت: بينما نحن بمكة قام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فنادى " هل بلغت اللهم هل بلغت " ثلاثا
فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال نعم ثم أصبح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليظهرن الاسلام حتى يرد الكفر إلى
مواطنه وليخوضن رجال البحار بالاسلام وليأتين على الناس زمان يتعلمون القرآن ويقرأونه ثم يقولون قرأنا وعلمنا
فمن هذا الذي هو خير منا فهل في أولئك من خير "؟ قالوا يا رسول الله فمن أولئك؟ قال " أولئك منكم وهم وقود
النار " وقد رواه ابن مردويه من حديث يزيد بن عبد الله بن الهاد عن هند بنت الحارث امرأة عبد الله بن شداد عن أم
الفضل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال " هل بلغت " يقولها ثلاثا فقام عمر بن الخطاب وكان أواها فقال اللهم
نعم وحرصت وجهدت ونصحت فاصبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ليظهرن الايمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه وليخوضن
رجال البحار بالاسلام وليأتين على الناس زمان يقرؤن القرآن فيقرؤنه ويعلمونه فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا
الذي هو خير ما؟ فما في أولئك من خير " قالوا يا رسول الله فمن أولئك؟ قال " أولئك منكم أولئك هم وقود النار "
ثم رواه من طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن إبراهيم عن بنت الهاد عن العباس بن عبد المطلب بنحوه.
وقوله تعالى " كدأب آل فرعون " قال الضحاك عن ابن عباس: كصنيع آل فرعون وكذا روى عن عكرمة ومجاهد
وأبي مالك والضحاك وغير واحد ومنهم من يقول: كسنة آل فرعون وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون والألفاظ
متقاربة والدأب بالتسكين والتحريك أيضا كنهر ونهر هو الصنيع والحال والشأن والامر والعادة كما يقال لا يزال هذا
دأبي ودأبك وقال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم * يقولون لا تأسف أسى وتجمل
كدأبك من أم الحويرث قبلها * وجارتها أم الرباب بمأسل
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكت نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها والمعنى في الآية أن
الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد بل يهلكون ويعذبون كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل
فيما جاءوا من آيات الله وحججه " والله شديد العقاب " أي شديد الاخذ أليم العذاب لا يمتنع منه أحد ولا يفوته
شئ بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شئ لا إله غيره ولا رب سواه.
357

قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم أية في فئتين التقتا فئة تقاتل
في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13)
يقول تعالى: قل يا محمد للكافرين ستغلبون أي في الدنيا وتحشرون أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد. وقد
ذكر محمد بن إسحاق بن يسار عن عاصم بن عمرو بن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب
ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال " يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب
قريشا " فقالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال إنك والله لو قاتلتنا
لعرفت أنا نحن الناس وإنك لم تلق مثلنا فأنزل الله في ذلك من قولهم " قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى
جهنم وبئس المهاد " إلى قوله " لعبرة لأولي الأبصار " وقد رواه محمد بن إسحاق أيضا عن محمد بن أبي محمد عن
سعيد وعكرمة عن ابن عباس فذكروه ولهذا قال تعالى " قد كان لكم آية " أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما
قلتم آية أي دلالة على أن الله معز دينه وناصر رسوله ومظهر كلمته ومعل أمره " في فئتين " أي طائفتين " التقتا " أي
للقتال " فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " وهم مشركو قريش يوم بدر وقوله " يرونهم مثليهم رأى العين "
قال بعض العلماء فيما حكاه ابن جرير يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم أي جعل
الله ذلك فيما رأوه سببا لنصرة الاسلام عليهم وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة وهي أن المشركين بعثوا
عمر بن سعد يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسلمين فأخبرهم بأنهم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا وهكذا
كان الامر. كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم.
" والقول الثاني " أن المعنى في قوله تعالى " يرونهم مثليهم رأي العين " أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة مثليهم
أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم وهذا لا إشكال فيه على ما رواه العوفي عن ابن عباس: أن
المؤمنين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا والمشركين كانوا ستمائة وستة وعشرين وكأن هذا القول مأخوذ من
ظاهر هذه الآية ولكنه خلاف المشهور عند أهل التواريخ والسير وأيام الناس وخلاف المعروف عند الجمهور أن
المشركين كانوا بين تسعمائة إلى ألف كما رواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأل ذلك العبد الأسود لبني الحجاج عن عدة قريش قال: كثير. قال " كم ينحرون كل يوم "؟
قال: يوما تسعا ويوما عشرا قال النبي صلى الله عليه وسلم " القوم ما بين تسعمائة إلى ألف ". وروى أبو إسحق السبيعي عن جارية
عن علي رضي الله عنه قال: كانوا ألفا وكذا قال ابن مسعود. والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف
وعلى كل تقدير فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم لكن وجه ابن جرير هذا
وجعله صحيحا كما تقول عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها وتكون محتاجا إلى ثلاثة آلاف وكذا قال وعلى هذا
فلا إشكال لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين وهو أن يقال ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى في
قصة بدر " وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا " فالجواب أن
هذا كان في حالة والآخر كان في حالة أخرى كما قال السدي عن الطيب عن ابن مسعود في قوله تعالى " قد كان
لكم آية في فئتين التقتا " الآية قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: وقد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم
يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا وذلك قوله تعالى " وإذ يريكموهم إذ التقيتم
في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم " الآية وقال أبو إسحق عن أبي عبدة عن عبد الله بن مسعود قال: لقد قللوا
في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: تراهم سبعين قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا كم كنتم؟
قال: ألفا فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا
ويتوجهوا ويطلبوا الإعانة من ربهم عز وجل ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع
358

والهلع ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على
الآخر " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الايمان على الكفر والطغيان ويعز
المؤمنين ويذل الكافرين كما قال تعالى " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " وقال ههنا " والله يؤيد بنصره من
يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " أي إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله
وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد.
زين للناس حب الشهوات من النساء والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام
والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المئاب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند
ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15)
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين فبدأ بالنساء لان الفتنة بهن أشد
كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " فأما إذا كان
القصد بهن الاعفاف وكثرة الأولاد فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج
والاستكثار منه وإن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء وقوله صلى الله عليه وسلم " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة
الصالحة إن نظر إليها سرته وإن أمرها أطاعته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله " وقوله في الحديث الآخر
" حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ". وقالت عائشة رضي الله عنها: لم يكن شئ أحب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء إلا الخيل وفي رواية: من الخيل إلا النساء. وحب البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو
داخل في هذا وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له فهذا محمود
ممدوح كما ثبت في الحديث " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " وحب المال كذلك تارة يكون
للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام
والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعا. وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقوال
وحاصلها أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره وقيل: ألف دينار وقيل ألف ومائتا دينار وقيل اثنا عشر
ألفا وقيل أربعون ألفا وقيل ستون ألفا وقيل سبعون ألفا وقيل ثمانون ألفا وقيل غير ذلك: وقد قال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القنطار
اثنا عشر ألف أوقية كل أوقية خير مما بين السماء والأرض " وقد رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد
الصمد بن عبد الوارث عن حماد بن سلمة به وقد رواه ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن
عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة موقوفا كرواية وكيع في تفسيره حيث قال: حدثنا حماد بن سلمة عن
عاصم بن بهدلة عن ذكوان أبي صالح عن أبي هريرة قال " القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء
والأرض " هذا أصح وهكذا رواه ابن جرير عن معاذ بن جبل وابن عمر وحكاه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة وأبي
الدرداء أنهم قالوا: القنطار ألف ومائتا أوقية. ثم قال ابن جرير رحمه الله: حدثنا زكريا بن يحيى الضرير حدثنا
شبابة حدثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية " وهذا حديث منكر أيضا والأقرب أن يكون موقوفا على أبي بن
كعب كغيره من الصحابة. وقد روى ابن مردويه من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن محمد بن إبراهيم عن موسى
عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين ومن قرأ مائة آية إلى
ألف أصبح له قنطار من الاجر عند الله القنطار منه مثل الجبل العظيم " ورواه وكيع عن موسى بن عبيدة بمعناه. وقال
359

الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي حدثنا محمد بن
عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير بن محمد حدثنا حميد الطويل ورجل آخر عن أنس بن مالك قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى " والقناطير المقنطرة "؟ قال: " القنطار ألفا أوقية " صحيح على شرط الشيخين
ولم يخرجاه هكذا رواه الحاكم وقد رواه ابن أبي حاتم بلفظ آخر فقال أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي أنبأنا
عمرو بن أبي سلمة أنبأنا زهير يعني ابن محمد أنبأنا حميد الطويل ورجل آخر قد سماه يعني يزيد الرقاشي عن أنس
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله " قنطار يعني ألف دينار " وهكذا رواه الطبراني عن عبد الله بن
محمد بن أبي مريم عن عمرو بن أبي سلمة فذكر بإسناده مثله سواء. وروى ابن جرير عن الحسن البصري عنه
مرسلا أو موقوفا عليه: القنطار ألف ومائتا دينار وهو رواية العوفي عن ابن عباس. وقال الضحاك: من العرب من
يقول القنطار ألف ومائتا دينار ومنهم من يقول: اثنا عشر ألفا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عارم عن
حماد عن سعيد الحرسي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: القنطار ملء مسك الثور ذهبا قال أبو
محمد: ورواه محمد بن موسى الحرسي عن حماد بن زيد مرفوعا والموقوف أصح.
" وحب الخيل على ثلاثة أقسام " تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزوا عليها فهؤلاء
يثابون وتارة تربط فخرا ونواء لأهل الاسلام فهذه على صاحبها وزر وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله
في رقابها فهذه لصاحبها ستر كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى " وأعدوا لهم ما استطعتم
من قوة ومن رباط الخيل " الآية: وأما المسومة فعن ابن عباس رضي الله عنهما: المسومة الراعية والمطهمة
الحسان وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبزى والسدي والربيع بن أنس
وأبي سنان وغيرهم. وقال مكحول: المسومة الغرة والتحجيل وقيل غير ذلك. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا
يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن أبي ذر
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم
إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب ماله وأهله إليه أو أحب أهله وماله إليه " وقوله تعالى
" والانعام " يعني الإبل والبقر والغنم " والحرث " يعني الأرض المتخذة للغراس والزراعة. وقال الإمام أحمد:
حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعامة العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال " خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " المأمورة الكثيرة النسل والسكة النخل
المصطف والمأبورة الملقحة.
ثم قال تعالى " ذلك متاع الحياة الدنيا " أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة " والله عنده حسن
المآب " أي حسن المرجع والثواب.
وقد قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن عطاء عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال: قال
عمر بن الخطاب لما نزلت " زين للناس حب الشهوات " قلت: الآن يا رب حين زينتها لنا فنزلت " قل أؤنبئكم
بخير من ذلكم للذين اتقوا " الآية، ولهذا قال تعالى " قل أؤنبئكم بخير من ذلكم " أي قل يا محمد للناس
أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة ثم أخبر عن ذلك فقال
" للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار " أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة
من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " خالدين فيها "
أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولا " وأزواج مطهرة " أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس
وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا " ورضوان من الله " أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدا ولهذا
360

قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة " ورضوان من الله أكبر " أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ثم
قال تعالى " والله بصير بالعباد " أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء.
الذين يقولون ربنا إننا أمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين
والمستغفرين بالاسحار (17)
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى " الذين يقولون ربنا إننا آمنا " أي بك
وبكتابك وبرسولك " فاغفر لنا ذنوبنا " أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا من أمرنا بفضلك
ورحمتك " وقنا عذاب النار " ثم قال تعالى " الصابرين " أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات
" والصادقين " فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة " والقانتين " والقنوت الطاعة والخضوع
" والمنفقين " أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات وصلة الأرحام والقرابات وسد الخلات
ومواساة ذوي الحاجات " والمستغفرين بالاسحار " دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار وقد قيل: إن يعقوب
عليه السلام لما قال لبنيه " سوف أستغفر لكم ربي " أنه أخرهم إلى وقت السحر. وثبت في الصحيحين وغيرهما
من المساند والسنن من غير وجه من جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم قال
" ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فقول: هل من سائل فأعطيه؟
هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ " الحديث. وقد أفرد الحافظ أبو الحسن الدارقطني في ذلك
جزء على حدة فرواه من طرق متعددة. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: من كل الليل قد أوتر
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم من أوله وأوسطه وآخره فانتهى وتره إلى السحر. وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول: يا
نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن
جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في
السحر في ناحية المسجد وهو يقول: يا رب أمرتني فأطعتك وهذا السحر فاغفر لي فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي
الله عنه. وروى ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين
مرة.
شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند
الله الاسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله
سريع الحساب (19) فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم
فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20)
شهد تعالى وكفى به شهيدا وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين " أنه لا إله إلا هو " أي المنفرد بالإلهية
لجميع الخلائق وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه وهو الغني عما سواه كما قال تعالى " لكن الله يشهد بما أنزل
إليك " الآية ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم "
وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام " قائما بالقسط " منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك
" لا إله إلا هو " تأكيد لما سبق " العزيز الحكيم " العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء الحكيم في أقواله
وأفعاله وشرعه وقدره وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي
361

حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو
بعرفة يقرأ هذه الآية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم "
وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا علي بن حسين حدثنا
محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري حدثنا عبد الملك بن يحيى بن
عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الآية " شهد الله أنه
لا إله إلا هو والملائكة " قال: قال " وأنا أشهد أي رب " وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير حدثنا
عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي قالا: حدثنا عمار بن عمر المختار حدثني أبي حدثني غالب القطان قال:
أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريبا من الأعمش فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية
" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله
الاسلام " ثم قال الأعمش: وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة " إن الدين
عند الله الاسلام " قالها مرارا قلت: لقد سمع فيها شيئا فغدوت إليه فودعته ثم ثم قلت يا أبا محمد إني سمعتك
تردد هذه الآية قال: أوما بلغك ما فيها قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة
فأقمت سنة فكنت على بابه فلما مضت السنة قلت يا أبا محمد قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد
أدخلوا عبدي الجنة " وقوله تعالى " إن الدين عند الله الاسلام " إخبارا منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد
سوى الاسلام وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا
من جهة محمد صلى الله عليه وسلم فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى " ومن يبتغ
غير الاسلام دينا فلن يقبل منه " الآية. وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الاسلام " إن
الدين عند الله الاسلام " وذكر ابن جرير: أن ابن عباس قرأ " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم
قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الاسلام " بكسر إنه وفتح أن الدين عند الله الاسلام أي
شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الاسلام والجمهور قرأوها بالكسر على الخبر وكلا
المعنيين صحيح ولكن هذا على قول الجمهور أظهر والله أعلم ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما
اختلفوا بعدما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم فقال " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من
بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم
فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقا ثم قال تعالى " ومن يكفر
بآيات الله " أي من جحد ما أنزل الله في كتابه " فإن الله سريع الحساب " أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه
على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه.
ثم قال تعالى " فإن حاجوك " أي جادلوك في التوحيد " فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن " أي فقل أخلصت
عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له ولا ولد ولا صاحبة له " ومن اتبعن " أي على ديني يقول كمقالتي كما قال
تعالى " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " الآية ثم قال تعالى آمرا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم
أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به: الكتابيين من المليين والأميين من المشركين فقال تعالى
" وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " أي والله عليه
حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ولهذا
قال تعالى " والله بصير بالعباد " أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي " لا يسأل عما
يفعل وهم يسألون " وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات
الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية
362

وحديث فمن ذلك قوله تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله لكم جميعا " وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان
على عبده ليكون للعالمين نذيرا ". وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه
وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالا لأمر الله له
بذلك. وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " والذي نفسي بيده لا يسمع
بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار " رواه مسلم
وقال صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس
عامة ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاما يهوديا كان
يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا
فلان قل لا إله إلا الله " فنظر إلى أبيه فسكت أبوه فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أبيه فقال أبوه: أطع أبا القاسم
فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول " الحمد لله الذي أخرجه بي من
النار " رواه البخاري في الصحيح إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث.
إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم
بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22)
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديما وحديثا التي بلغتهم
إياها الرسل استكبارا عليهم وعنادا لهم وتعاظما على الحق واستنكافا عن اتباعه ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين
حين بلغوهم عن الله شرعه بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق " ويقتلون الذين يأمرون
بالقسط من الناس " وهذا هو غاية الكبر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الكبر بطر الحق وغمط الناس ". وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو الزبير الحسن بن علي بن مسلم النيسابوري نزيل مكة حدثني أبو حفص عمر بن حفص يعني ابن ثابت بن
زرارة الأنصاري حدثنا محمد بن حمزة حدثنا أبو الحسن مولى لبني أسد عن مكحول عن أبي قبيصة بن ذئب
الخزاعي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال
" رجل قتل نبيا أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون
النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم " الآية ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا
عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل
فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعا من آخر النهار من ذلك اليوم فهم الذين ذكر الله عز
وجل " وهكذا رواه ابن جرير عن أبي عبيد الوصابي محمد بن حفص عن ابن حمير عن أبي الحسن مولى بني أسد
عن مكحول به وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا
سوق بقلهم من آخره رواه ابن أبي حاتم ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك
بالذلة والصغار في الدنيا والعذاب المهين في الآخرة فقال تعالى " فبشرهم بعذاب أليم " أي موجع مهين " أولئك
الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ".
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23)
ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم
ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)
363

يقول تعالى منكرا على اليهود والنصارى المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم وهما التوراة والإنجيل
وإذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم تولوا وهم معرضون عنهما
وهذا في غاية ما يكون من ذمهم والتنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد ثم قال تعالى " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار
إلا أياما معدودات " أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم أنهم إنما
يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوما وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة. ثم قال تعالى
" وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون " أي ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم من زعمهم أن النار لا تمسهم
بذنوبها إلا أياما معدودات وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم واختلقوه ولم ينزل الله به سلطانا قال الله تعالى
متهددا لهم ومتوعدا " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه " أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله
وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والله تعالى سائلهم عن ذلك كله وحاكم
عليهم ومجازيهم به ولهذا قال تعالى " فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه " أي لا شك في وقوعه وكونه
" ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ".
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك
على كل شئ قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي
وترزق من تشاء بغير حساب (27)
يقول تبارك وتعالى " قل " يا محمد معظما لربك وشاكرا له ومفوضا إليه ومتوكلا عليه " اللهم مالك الملك " أي لك
الملك كله " تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء " أي أنت المعطي وأنت
المانع وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن. وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى على
رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة لان الله تعالى حول النبوة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي الأمي المكي خاتم الأنبياء
على الاطلاق ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله وخصه
بخصائص لم يعطها نبيا من الأنبياء ولا رسولا من الرسل في العلم بالله وشريعته واطلاعه على الغيوب الماضية والآتية
وكشفه له عن حقائق الآخرة ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان
والشرائع فصلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار ولهذا قال تعالى " قل اللهم مالك
الملك " الآية أي أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال
" وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " قال الله ردا عليهم " أهم يقسمون رحمة ربك "
الآية أي نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد بلا ممانع ولا مدافع ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك
وهكذا يعطي النبوة لمن يريد كما قال تعالى " الله أعلم حيث يجعل رسالته " وقال تعالى " انظر كيف فضلنا
بعضهم على بعض " الآية وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة إسحق بن أحمد من تاريخه عن المأمون
الخليفة أنه رأى في قصر ببلاد الروم مكتوبا بالحميرية فعرب له فإذا هو بسم الله ما اختلف الليل والنهار ولا دارت
نجوم السماء في الفلك إلا بنقل النعيم عن ملك قد زال سلطانه إلى ملك. وملك ذي العرش دائم أبدا ليس بفان ولا
بمشترك وقوله تعالى " تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل " أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا
فيعتدلان ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان وهكذا في فصول السنة ربيعا وصيفا وخريفا وشتاء وقوله
تعالى " وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي " أي تخرج الزرع من الحب والحب من الزرع
والنخلة من النواة والنواة من النخلة والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن والدجاجة من البيضة والبيضة من
364

الدجاجة. وما جرى هذا المجرى في جميع الأشياء " وترزق من تشاء بغير حساب " أي تعطي من شئت من المال
مالا يعده ولا يقدر على إحصائه وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة. قال الطبراني:
حدثنا محمد بن زكريا العلائي حدثنا جعفر بن حسن بن فرقد حدثنا أبي عن عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن
عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران " قل
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على
كل شئ قدير ".
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم
تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28)
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمؤدة من دون المؤمنين ثم
توعد على ذلك فقال تعالى " ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ " أي ومن يرتكب نهي الله في هذا فقد برئ من الله
كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة - إلى أن قال - ومن يفعله
منكم فقد ضل سواء السبيل " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين
أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم
من بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم " الآية. وقال سبحانه وتعالى بعد ذكر موالاة المؤمنين من المهاجرين
والأنصار والاعراب " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " وقوله تعالى
" إلا أن تتقوا منهم تقاة " أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته
كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم. وقال الثوري: قال ابن
عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان وكذا قال أبو
العالية وأبو الشعثاء والضحاك والربيع بن أنس ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من
أكره وقلبه مطمئن بالايمان " الآية وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة ثم قال تعالى " ويحذركم
الله نفسه " أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته وعذابه لمن والى أعداءه وعادى أولياءه. ثم قال تعالى " وإلى
الله المصير " أي إليه المرجع والمنقلب ليجازي كل عامل بعمله. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سويد بن
سعيد حدثنا مسلم بن خالد عن ابن أبي حسين عن عبد الرحمن بن سابط عن ميمون بن مهران قال: قام فينا معاذ
فقال: يا بني أود أني رسول رسول الله إليكم تعلمون أن المعاد إلى الله إلى الجنة أو إلى النار.
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير (29) يوم
تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله
رؤوف بالعباد (30)
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر وأنه لا يخفى عليه منهم خافية بل علمه محيط بهم في
سائر الأحوال والأزمان والأيام واللحظات وجميع الأوقات وجميع ما في الأرض والسماوات لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا
أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار والجبال " والله على كل شئ قدير " أي وقدرته نافذة في جميع
ذلك وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم فإنه عالم بجميع أمورهم
365

وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أنظر من أنظر منهم فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر. ولهذا قال بعد هذا " يوم
تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا " الآية، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال
تعالى " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وآخر " فما رأى من أعماله حسنا سره ذلك وأفرحه وما رأى من قبيح ساءه
وغصه وود لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا وهو الذي
جرأه على فعل السوء " يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين " ثم قال تعالى مؤكدا ومهددا ومتوعدا
" ويحذركم الله نفسه " أي يخوفكم عقابه ثم قال جل جلاله مرجيا لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه
" والله رؤوف بالعباد " قال الحسن البصري: من رأفته بهم حذرهم نفسه وقال غيره: أي رحيم بخلقه يحب لهم
أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم وأن يتبعوا رسوله الكريم.
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول
فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32)
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الامر
حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولهذا قال " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " أي يحصل لكم فوق
ما طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول كما قال بعض العلماء الحكماء: ليس الشأن أن
تحب إنما الشأن أن تحب. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه
الآية فقال " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن
محمد الطنافسي حدثنا عبد الله بن موسى بن عبد الأعلى بن أعين عن يحيى بن أبي كثير عن عروة عن عائشة رضي
الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وهل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله "؟ قال الله تعالى: " قل إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني " وقال أبو زرعة عبد الأعلى: هذا منكر الحديث.
ثم قال تعالى " ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم يحصل لكم هذا من بركة
سفارته ثم قال تعالى آمرا لكل أحد من خاص وعام " قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا " أي تخالفوا عن أمره
" فإن الله لا يحب الكافرين " فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر والله لا يحب من اتصف بذلك وإن ادعى وزعم
في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس
الذي لو كان الأنبياء بل المرسلون بل أولوا العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه والدخول في طاعته واتباع
شريعته كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى " وإذا أخذ الله ميثاق النبيين " الآية إن شاء الله تعالى.
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض فاصطفى آدم عليه والسلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه
وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شئ وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة واصطفى نوحا عليه
السلام وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وانتقم له
لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهارا فلم يزدهم ذلك إلا فرارا فدعا عليهم
فأغرقهم الله عن آخرهم ولم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر
خاتم الأنبياء على الاطلاق محمد صلى الله عليه وسلم وآل عمران والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى ابن مريم
366

عليه السلام. قال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: هو عمران بن ياشم بن ميشا بن حزقيا بن إبراهيم بن غرايا
ابن ناوش بن أجر بن بهوا بن نازم بن مقاسط بن إيشا بن إياذ بن رخيعم بن سليمان بن داود عليهما السلام فعيسى
عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما
وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها
بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36)
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي حنة بنت فاقوذ. قال محمد بن إسحاق: وكانت امرأة لا تحمل فرأت
يوما طائرا يزق فرخه فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولدا فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه
فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محررا أي خالصا مفرغا للعبادة لخدمة بيت المقدس فقالت: يا رب " إني نذرت
لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم " أي السميع لدعائي العليم بنيتي ولم تكن تعلم ما في
بطنها أذكرا أم أنثى " فلما وضعتها قالت: رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت " قرئ برفع التاء على أنها
تاء المتكلم وأن ذلك من تمام قولها وقرئ بتسكين التاء على أنه من قول الله عز وجل " وليس الذكر كالأنثى " أي
في القوة والجلد في العبادة وخدمة المسجد الأقصى " وإني سميتها مريم " فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة
كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا وقد حكى مقررا وبذلك ثبتت السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال " ولد
لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم " أخرجاه وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى
رسول الله صلى الله عليه فحنكه وسماه عبد الله. وفي صحيح البخاري: أن رجلا قال: يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما
أسميه؟ قال " سم ابنك عبد الرحمن " وثبت في الصحيح أيضا: أنه لما جاء أبو أسيد بابنه ليحنكه فذهل عنه فأمر به
أبوه فرد إلى منزلهم فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس سماه المنذر فأما حديث قتادة عن الحسن البصري عن
سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه " فقد رواه
أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي وروى ويدمى وهو أثبت وأحفظ والله أعلم. وكذا ما رواه الزبير بن بكار في
كتاب النسب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن ولده إبراهيم وسماه إبراهيم فإسناده لا يثبت وهو مخالف لما في الصحيح
ولو صح لحمل على أنه اشتهر اسمه بذلك يومئذ والله أعلم وقوله إخبارا عن أم مريم أنها قالت " وإني أعيذها بك
وذريتها من الشيطان الرجيم " أي عوذتها بالله عز وجل من شر الشيطان وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام
فاستجاب الله لها ذلك كما قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخا من مسه إياه إلا مريم وابنها " ثم يقول أبو
هريرة اقرؤا إن شئتم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم " أخرجاه من حديث عبد الرزاق ورواه ابن
جرير عن أحمد بن الفرج عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وروي
من حديث قيس عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود إلا وقد عصره
الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم " ومن حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة ورواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن عمرو بن
الحارث عن أبي يونس عن أبي هريرة ورواه ابن وهب أيضا عن ابن أبي ذئب عن عجلان مولى المشمعل عن أبي
هريرة ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بأصل الحديث وهكذا رواه الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج قال: قال أبو
367

هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن
بالحجاب ".
فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال
يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37)
يخبر ربنا أنه تقبلها من أمها نذيرة وأنه أنبتها نباتا حسنا أي جعلها شكلا مليحا ونظرا بهيجا ويسر لها أسباب القبول
وقرنها بالصالحين من عباده تتعلم منهم العلم والخير والدين فلهذا قال " وكفلها زكريا " بتشديد الفاء ونصب زكريا
على المفعولية أي جعله كافلا لها قال ابن إسحاق: وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة وذكر غيره: إن بني إسرائيل
أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم وإنما قدر الله كون زكريا كفلها
لسعادتها لتقتبس منه علما جما نافعا وعملا صالحا ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير
وغيرهما وقيل: زوج أختها كما ورد في الصحيح " فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة " وقد يطلق على ما ذكره
ابن إسحاق ذلك أيضا توسعا فعلى هذا كانت في حضانة خالتها وقد ثبت في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في
عمارة بنت حمزة أن تكون في حضانة خالتها امرأة جعفر بن أبي طالب وقال: " الخالة بمنزلة الام " ثم أخبر تعالى
عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها فقال " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " قال مجاهد
وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو الشعثاء وإبراهيم النخعي والضحاك وقتادة والربيع بن أنس وعطية العوفي والسدي: يعني
وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. وعن مجاهد " وجد عندها رزقا " أي علما أو
قال: صحفا فيها علم رواه ابن أبي حاتم والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء وفي السنة لهذا نظائر
كثيرة فإذا رأى زكريا هذا عندها " قال يا مريم أنى لك هذا " أي يقول من أين لك هذا؟ " قالت هو من عند
الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سهل بن زنجلة حدثنا عبد الله بن صالح
حدثنا عبد الله بن لهيعة عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك
عليه فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا فأتى فاطمة فقال " يا بنية هل عندك شئ آكله فإني
جائع؟ " قالت: لا والله بأبي أنت وأمي فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم فأخذته
منها فوضعته في جفنة لها وقالت: والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي وكانوا جميعا محتاجين
إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليها فقالت: بأبي أنت وأمي قد أتى الله بشئ فخبأته
لك قال " هلمي يا بنية " قالت فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزا ولحما فلما نظرت إليها بهت وعرفت
أنها بركة من الله فحمدت الله وصليت على نبيه وقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله وقال " من أين لك هذا يا
بنية "؟ قالت: يا أبت " هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فحمد الله وقال " الحمد لله الذي
جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا وسئلت عنه قالت " هو من عند الله إن
الله يرزق من يشاء بغير حساب " فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل علي وفاطمة وحسن
وحسين وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته حتى شبعوا جميعا قالت: وبقيت الجفنة كما هي قالت: فأوسعت ببقيتها
على جميع الجيران وجعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا.
هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي
في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي
368

غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب أجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم
الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار (41)
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء طمع
حينئذ في الولد وإن كان شيخا كبيرا قد وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبا وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقرا
لكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفيا وقال " رب هب لي من لدنك " أي من عندك ذرية طيبة أي ولدا صالحا
إنك سميع الدعاء. قال الله تعالى " فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب " أي خاطبته الملائكة شفاها
خطابا أسمعته وهو قائم يصلي في محراب عبادته ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته. ثم أخبر تعالى عما بشرته
به الملائكة " أن الله يبشرك بيحيى " أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى. قال قتادة وغيره: إنما سمي يحيى
لان الله أحياه بالايمان. وقوله " مصدقا بكلمة من الله ". روى العوفي وغيره عن ابن عباس وقال الحسن وقتادة
وعكرمة ومجاهد وأبو الشعثاء والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيره في هذه الآية " مصدقا بكلمة من الله " أي
بعيسى ابن مريم. وقال الربيع بن أنس: هو أول من صدق بعيسى ابن مريم. وقال قتادة: وعلى سنته ومنهاجه.
وقال ابن جريج: قال ابن عباس في قوله مصدقا بكلمة من الله قال: كان يحيى وعيسى ابني خالة وكانت أم يحيى
تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه وهو أول من صدق
عيسى وكلمة الله عيسى وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضا.
وقوله " وسيدا ". قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة وسعيد بن جبير وغيرهم: الحليم وقال قتادة: سيدا في
العلم والعبادة. وقال ابن عباس والثوري والضحاك السيد الحليم التقي: قال سعيد بن المسيب: هو الفقيه
العالم وقال عطية: السيد في خلقه ودينه وقال عكرمة: هو الذي لا يغلبه الغضب وقال ابن زيد: هو الشريف
وقال مجاهد وغيره هو الكريم على الله عز وجل.
وقوله " وحصورا " روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء وعطية العوفي أنهم
قالوا: الذي لا يأتي النساء. وعن أبي العالية والربيع بن أنس: هو الذي لا يولد له ولا ماء له. وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أنبأنا جرير عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس في الحصور: الذي لا ينزل الماء
وقد روى ابن أبي حاتم في هذا حديثا غريبا جدا فقال: حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب البغدادي حدثني سعيد بن
سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام عن يحيى بن سعيد عن المسيب عن ابن العاص - لا يدري عبد الله أو عمرو - عن
النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " وسيدا وحصورا " قال: ثم تناول شيئا من الأرض فقال " كان ذكره مثل هذا ". وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع سعيد بن المسيب
عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ثم قرأ سعيد
" وسيدا وحصورا " ثم أخذ شيئا من الأرض فقال: الحصور من ذكره مثل ذا وأشار يحيى بن سعيد القطان بطرف
أصبعه السبابة فهذا موقوف أصح إسنادا من المرفوع ورواه ابن المنذر في تفسيره: حدثنا أحمد بن داود السمناني
حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: سمعت عبد الله بن
عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يلقى الله إلا ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا فإن الله يقول " وسيدا
وحصورا " - قال -: وإنما ذكره مثل هدبة الثوب " وأشار بأنملته وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن
حماد ومحمد بن سلمة المرادي قالا: حدثنا حجاج بن سليمان المقري عن الليث بن سعد عن محمد بن عجلان
عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل ابن آدم يلقى الله بذنب يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه
369

إلا يحيى بن زكريا فإنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين " ثم أهوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى قذاة من الأرض فأخذها
وقال: " وكان ذكره مثل هذه القذاة ".
وقد قال القاضي عياض في كتابه الشفاء: اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان " حصورا " ليس كما قاله
بعضهم إنه كان هيوبا أو لا ذكر له بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا: هذه نقيصة وعيب ولا
يليق بالأنبياء عليهم السلام وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها وقيل: مانعا نفسه من
الشهوات وقيل ليست له شهوة في النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل
في كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله عز وجل كيحيى عليه السلام ثم هي في حق من
قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة
ربه بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه
هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال: " حبب إلي من دنياكم " هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور
ليس أنه لا يأتي النساء بل معناه كما قاله هو وغيره: أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من
تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال: " هب
لي من لدنك ذرية طيبة " كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله " ونبيا من الصالحين " هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته وهى أعلى من الأولى كقوله لام موسى
" إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة وأخذ يتعجب من وجود الولد منه
بعد الكبر " قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال " أي الملك " كذلك الله يفعل ما يشاء "
أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شئ ولا يتعاظمه أمر " قال رب اجعل لي آية " أي علامة أستدل بها على وجود
الولد مني " قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح كما في
قوله " ثلاث ليال سويا " ثم أمر بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحال فقال تعالى " أذكر ربك كثيرا وسبح
بالعشي والابكار ". وسيأتي طرف آخر في بسط هذا المقام في أول سورة مريم إن شاء الله تعالى.
وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي
واركعي مع الراكعين (43) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
وما كنت لديهم إذ يختصمون (44)
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها أي
اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس واصطفاها ثانيا مرة بعد مرة لجلالتها على نساء
العالمين. قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله تعالى " إن الله اصطفاك وطهرك
واصطفاك على نساء العالمين " قال: كان أبو هريرة يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير نساء ركبن الإبل نساء قريش
أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده ولم تركب مريم بنت عمران بعيرا قط " ولم يخرجه من
هذا الوجه سوى مسلم فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق به. وقال هشام بن
عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى يقول: " خير
نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد ". أخرجاه في الصحيحين من حديث هشام به مثله وقال الترمذي:
حدثنا أبو بكر بن زنجويه حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون " تفرد به الترمذي
370

وصححه. وقال عبد الله بن أبي جعفر الرازي عن أبيه قال: كان ثابت البناني يحدث أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خير نساء العالمين أربع مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد
وفاطمة بنت رسول الله " رواه ابن مردويه أيضا ومن طريق شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون
وخديجة بنت خويلد وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " وقال ابن جرير: حدثني
المثنى حدثنا آدم العسقلاني حدثنا شعبة حدثنا عمرو بن مرة سمعت مرة الهمداني يحدث عن أبي موسى الأشعري
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة
فرعون ". وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود من طريق عن شعبة به ولفظ البخاري " كمل من الرجال كثير ولم يكمل من
النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام "
وقد استقصيت طرق هذا الحديث وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم عليه السلام في كتابنا البداية والنهاية ولله الحمد
المنة ثم أخبرنا تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والركوع والسجود والدأب في العمل لما
يريد الله بها من الامر الذي قدره الله وقضاه مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة
حيث خلق منها ولدا من غير أب فقال تعالى " يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين " أما القنوت فهو
الطاعة في خشوع كما قال تعالى " وله من السماوات والأرض كل له قانتون " وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا
يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي
سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة " ورواه ابن جرير من طريق ابن
لهيعة عن دراج به وفيه نكارة. وقال مجاهد: كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها والقنوت هو طول
الركوع في الصلاة يعني امتثالا لقول الله تعالى " يا مريم اقنتي لربك " قال الحسن: يعني اعبدي لربك " واسجدي
واركعي مع الراكعين " أي كوني منهم وقال الأوزاعي: ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة حتى نزل ماء
الأصفر في قدميها رضي الله عنها وأرضاها. وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس
الكديمي وفيه مقال: ثنا علي بن بحر بن بري ثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير في قوله: " يا
مريم اقنتي لربك واسجدي " قال: سجدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها وذكر ابن أبي الدنيا ثنا الحسن ابن
عبد العزيز ثنا ضمرة عن أبي شوذب قال: كانت مريم عليها السلام تغتسل في كل ليلة. ثم قال لرسوله بعدما أطلعه
على جلية الامر: " ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك " أي نقصه عليك " وما كنت لديهم " أي ما كنت عندهم يا
محمد فتخبرهم عن معاينة عما جرى بل أطلعك الله على ذلك كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم حين اقترعوا
في شأن مريم أيهم يكلفها وذلك لرغبتهم في الاجر قال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج
عن ابن جريج عن القاسم بن أبي بزة أنه أخبره عن عكرمة وأبي بكر عن عكرمة قال: ثم خرجت بها يعني مريم في
خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام قال: وهم يومئذ يلون في بيت المقدس ما يلي الحجبة
من الكعبة فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فاني حررتها وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض وأنا لا أردها إلى بيتي
فقالوا: هذه ابنة إمامنا وكان عمران يؤمهم في الصلاة وصاحب قرباننا فقال زكريا: ادفعوها لي فإن خالتها
تحتي فقالوا: لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة فقرعهم زكريا
فكفلها وقد ذكر عكرمة أيضا والسدي وقتادة والربيع بن أنس وغير واحد دخل حديث بعضهم في بعض: أنهم ذهبوا
إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك على أن يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها
الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ويقال: إنه ذهب صاعدا يشق جرية الماء وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم
وإمامهم ونبيهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين.
371

إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين
(45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله
يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (47)
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام بأن سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير قال الله تعالى " إذ قالت الملائكة
يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له كن فيكون وهذا تفسير قوله
" مصدقا بكلمة من الله " كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه " اسمه المسيح عيسى ابن مريم " أي يكون هذا
مشهورا في الدنيا يعرفه المؤمنون بذلك وسمي المسيح قال بعض السلف: لكثرة سياحته وقيل: لأنه كان مسيح
القدمين لا أخمص لهما وقيل: لأنه كان إذا مسح أحدا من ذوي العاهات برئ بإذن الله تعالى وقوله تعالى " عيسى
ابن مريم " نسبة إلى أمه حيث لا أب له " وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين " أي له وجاهة ومكانة عند الله في
الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به وفي الدار الآخرة يشفع عند
الله فيمن يأذن له فيه فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله " ويكلم
الناس في المهد وكهلا " أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره معجزة وآية وفي حال كهولته
حين يوحى الله إليه " ومن الصالحين " أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح قال محمد بن إسحاق: عن
يزيد بن عبد الله بن قسيط عن محمد بن شرحبيل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تكلم أحد في صغره إلا
عيسى وصاحب جريج " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا حدثنا أبو الصقر يحيى بن محمد بن قزعة حدثنا الحسين يعني
المروزي حدثنا جرير يعني ابن أبي حازم عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لم يتكلم في المهد إلا
ثلاث: عيسى وصبي كان في زمن جريج وصبي آخر " فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عز وجل
قالت في مناجاتها: " رب أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر " تقول كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات
زوج ولا من عزمي أن أتزوج ولست بغيا حاشا لله فقال لها الملك عن الله عز وجل في جواب ذلك السؤال " كذلك
الله يخلق ما يشاء " أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيئا وصرح ههنا بقوله " يخلق ما يشاء " ولم يقل يفعل كما
في قصة زكريا بل نص ههنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة وأكد ذلك بقوله " إذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون " أي فلا يتأخر شيئا بل يوجد عقيب الامر بلا مهلة كقوله " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " أي إنما نأمر
مرة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشئ سريعا كلمح البصر.
ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (48) ورسولا إلى بني إسرائيل أنى قد جئتكم بأية من ربكم أنى
أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن
الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين (49) ومصدقا لما بين يدي من
التوراة ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون (50) إن الله ربي وربكم
فاعبدوه هذا صراط مستقيم (51)
يقول تعالى مخبرا عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام: إن الله " يعلمه الكتاب والحكمة " الظاهر
المراد بالكتاب ههنا الكتابة والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة والتوراة والإنجيل: فالتوراة الكتاب الذي
372

أنزل على موسى بن عمران والإنجيل الذي أنزل على عيسى ابن مريم عليهما السلام. وقد كان عيسى عليه
السلام يحفظ هذا وهذا، قوله " ورسولا إلى بني إسرائيل " قائلا لهم " أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم
من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ". وكذلك كان يفعل يصور من الطين شكل طير ثم ينفخ فيه
فيطير عيانا بإذن الله عز وجل الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله " وأبرئ الأكمه " قيل: إنه الذي يبصر
نهارا ولا يبصر ليلا وقيل بالعكس وقيل: الأعشى وقيل: الأعمش وقيل: هو الذي يولد أعمى وهو أشبه
لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي " والأبرص " معروف " وأحيي الموتى بإذن الله " قال كثير من العلماء:
بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه فكان الغالب على زمان موسى عليه السلام السحر وتعظيم
السحرة فبعثه الله بمعجزة بهرت الابصار وحيرت كل سحار فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار انقادوا
للاسلام وصاروا من عباد الله الأبرار وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة فجاءهم
من الآيات بما لا سبيل لاحد إليه إلا أن يكون مؤيدا من الذي شرع الشريعة فمن أين للطبيب قدرة على إحياء
الجماد أو على مداواة الأكمه والأبرص وبعث من هو في قبره رهين إلى يوم التناد. وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في
زمان الفصحاء والبلغاء وتجاريد الشعراء فأتاهم بكتاب من الله عز وجل فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا
بمثله أو بعشر سور من مثله أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبدا لو كان بعضهم لبعض ظهيرا وما ذلك إلا أن
كلام الرب عز وجل لا يشبه كلام الخلق أبدا وقوله " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم " أي أخبركم بما
أكل أحدكم الآن وما هو مدخر له في بيته لغد " إن في ذلك " أي في ذلك كله " لآية لكم " أي على صدقي فيما
جئتكم به " إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة " أي مقرا لهم ومثبتا " ولاحل لكم بعض الذي حرم
عليكم " فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين ومن العلماء من
قال: لم ينسخ منها شيئا وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه خطأ وانكشف لهم عن الغطاء في ذلك كما قال
في الآية الأخرى " ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه " والله أعلم. ثم قال " وجئتكم بآية من ربكم " أي بحجة
ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم " فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه " أي أنا وأنتم سواء في
العبودية له والخضوع والاستكانة إليه " هذا صراط مستقيم ".
فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون
(52) ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين (53) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين (54)
يقول تعالى " فلما أحس عيسى " أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال قال: " من أنصاري
إلى الله " قال مجاهد: أي من يتبعني إلى الله وقال سفيان الثوري وغيره: أي من أنصاري مع الله وقول مجاهد
أقرب. والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر " من
رجل يؤويني حق أبلغ كلام ربي فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي " حتى وجد الأنصار فأووه ونصروه وهاجر
إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر رضي الله عنهم وأرضاهم. وهكذا عيسى ابن مريم عليه السلام انتدب له
طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه ولهذا قال تعالى مخبرا عنهم " قال
الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع
الشاهدين " الحواريون قيل: كانوا قصارين وقيل سموا بدلك لبياض ثيابهم وقيل: صيادين. والصحيح أن
الحواري الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ثم ندبهم
فانتدب الزبير رضي الله عنه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لكل نبي حواري وحواري الزبير ". وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو
سعيد الأشج حدثنا وكيع حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " فاكتبنا مع
373

الشاهدين " قال: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد جيد. ثم قال تعالى مخبرا عن ملا بني إسرائيل فيما هموا به من
الفتك بعيسى عليه السلام وإرادته بالسوء والصلب حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان وكان كافرا أن هنا
رجلا يضل الناس ويصدهم عن طاعة الملك ويفسد الرعايا ويفرق بين الأب وابنه إلى غير ذلك مما تقلدوه في
رقابهم ورموه به من الكذب وأنه ولد زنية حتى استثاروا غضب الملك فبعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به فلما
أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به نجاه الله تعالى من بينهم ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء وألقى الله
شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل عيسى فأخذوه وأهانوه وصلبوه
ووضعوا على رأسه الشوك. وكان هذا من مكر الله بهم فإنه نجى نبيه ورفعه من بين أظهرهم وتركهم في ضلالهم
يعمهون يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعنادا للحق ملازما لهم وأورثهم ذلة لا تفارقهم
إلى يوم التناد ولهذا قال تعالى " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ".
إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى
يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون (55) فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في
الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (56) وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين
(57) ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم (58)
اختلف المفسرون في قوله تعالى " إني متوفيك ورافعك إلي " فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر تقديره
إني رافعك إلي ومتوفيك يعني بعد ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك أي مميتك. وقال
محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه قال ابن إسحاق
: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه قال إسحق بن بشر عن إدريس عن وهب: أماته الله
ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه، قال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت وكذا قال ابن جرير توفيه هو
رفعه. وقال الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا النوم كما قال تعالى " وهو الذي يتوفاكم بالليل " الآية. وقال تعالى " الله
يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " الآية وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم: " الحمد لله
الذي أحيانا بعدما أماتنا " الحديث وقال تعالى: " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا
المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم - إلى قوله - وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه
وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " والضمير في
قوله قبل موته عائد على عيسى عليه السلام أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى وذلك حين ينزل إلى الأرض
قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الاسلام. وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه حدثنا الربيع بن أنس
عن الحسن أنه قال في قوله تعالى " إني متوفيك " يعني وفاة المنام رفعه الله في منامه قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لليهود " إن عيسى لم يمت وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة " وقوله تعالى " ومطهرك من الذين كفروا " أي برفعي
إياك إلى السماء " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ". وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما
رفعه الله إلى السماء تفرقت أصحابه شيعا بعده فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته
ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله وآخرون قالوا هو الله وآخرون قالوا هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالتهم في
القرآن ورد على كل فريق فاستمروا على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له
قسطنطين فدخل في دين النصرانية قيل: حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفا وقيل: جهلا منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح
374

وحرفه وزاد فيه ونقص منه ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة وأحل في زمانه لحم
الخنزير وصلوا إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب
ارتكبه فيما يزعمون وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما
يزيد على اثني عشر ألف معبد وبنى المدينة المنسوبة إليه واتبعه طائفة الملكية منهم وهم في هذا كله قاهرون لليهود
أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم وإن كان الجميع كفارا عليهم لعائن الله فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فكان
من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض إذ قد
صدقوا الرسول النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الاطلاق الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق
فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا ثم لو لم يكن شئ من ذلك
لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يبدل ولا يغير إلى قيام
الساعة ولا يزال قائما منصورا ظاهرا على كل دين فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها واحتازوا جميع
الممالك ودانت لهم جميع الدول وكسروا كسرى وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم
بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما
استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا
يشركون بي شيئا " الآية فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقا سلبوا النصارى بلاد الشام وألجئوهم إلى الروم
فلجئوا إلى مدينتهم القسطنطينية ولا يزال الاسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته
بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جدا لم ير الناس مثلها
ولا يرون بعدها نظيرها وقد جمعت في هذا جزءا مفردا ولهذا قال تعالى " وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا
إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في
الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين " وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى عذبهم
في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق " وما لهم
من الله من واق " " وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم " أي في الدنيا والآخرة في الدنيا بالنصر
والظفر وفي الآخرة بالجنات العاليات " والله لا يحب الظالمين ".
ثم قال تعالى " ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم " أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى
ومبدأ ميلاده وكيفية أمره هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ فلا مرية فيه ولا شك كما قال
تعالى في سورة مريم " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " وههنا قال تعالى:
" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (59) الحق من ربك فلا تكن من الممترين
(60) فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين (61) إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن
الله لهو العزيز الحكيم (62) فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين (63)
يقول جل وعلا " إن مثل عيسى عند الله " في قدرة الله حيث خلقه من غير أب " كمثل آدم " حيث خلقه من غير أب
ولا أم بل " خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق
الأولى والأحرى وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقا من غير أب فجوز ذلك في آدم بالطريق الأولى،
375

ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواه في عيسى أشد بطلانا وأظهر فسادا ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته
لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر كما
خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ولهذا قال تعالى في سورة مريم " ولنجعله آية للناس " وقال ههنا " الحق من ربك
فلا تكن من الممترين " أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه وماذا بعد الحق إلا
الضلال. ثم قال تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان " فمن حاجك فيه من
بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " أي نحضرهم في حال
المباهلة " ثم نبتهل " أي نلتعن " فنجعل لعنة الله على الكاذبين " أي منا ومنكم.
وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: إن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون
في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية فأنزل الله صدر في هذه السورة ردا عليهم كما ذكره الإمام محمد
بن إسحاق بن يسار وغيره: قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى
نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح
والسيد وهو الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل وأويس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد وابناه وخويلد
وعمرو وخالد وعبد الله ومحسن وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب
مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم وأبو حارثة بن علقمة
وكان أسقفهم صاحب مدارستهم وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها
وشرفوه وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه
ما علمه من الكتب المتقدمة ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند
أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية من جمال رجال بني الحارث بن
كعب قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دعوهم " فصلوا إلى المشرق قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن
علقمة والعاقب عبد المسيح والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله
ويقولون: هو ولد الله ويقولون: هو ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وكذلك النصرانية فهم يحتجون
في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ويخلق من الطين كهيئة
الطير فينفخ فيه فيكون طيرا وذلك كله بأمر الله وليجعله الله آية للناس ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله
يقولون: لم يكن له أب يعلم وقد تكلم في المهد بشئ لم يصنعه أحد من بني آدم قبله. ويحتجون على قولهم
بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت
وخلقت ولكنه هو وعيسى ومريم - تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا - وفي
كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن. فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسلما " قالا قد أسلمنا قال
" إنكما لم تسلما فأسلما " قالا: بلى قد أسلمنا قبلك قال " كذبتما يمنعكما من الاسلام ادعاؤكما لله ولدا وعبادتكما
الصليب وأكلكما الخنزير " قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك
من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن
قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم أن ردوا ذلك
عليه دعاهم إلى ذلك فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ثم
انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد
عرفتم أن محمدا لنبي مرسل ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم. ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي
376

كبيرهم ولا نبت صغيرهم وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم فإن كنتم أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه
من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا
نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء
اختلفنا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ائتوني العشية أبعث معكم
القوي الأمين " فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الامارة قط حبي إياها يومئذ رجاء أن أكون
صاحبها فرحت إلى الظهر مهجرا فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له
ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه فقال " اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما
اختلفوا فيه " قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق عن
عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر
نحوه إلا أنه قال في الاشراف: كانوا اثني عشر وذكر بقيته بأطول من هذا السياق وزيادات أخر.
وقال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين حدثنا يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة بن زفر عن حذيفة
رضي الله عنه قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه قال: فقال أحدهما
لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا
رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا فقال " لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين " فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال " قم يا أبا عبيدة بن الجراح " فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا أمين هذه الأمة ". رواه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة عن حذيفة بنحوه وقد رواه أحمد
والنسائي وابن ماجة من حديث إسرائيل عن أبي إسحق عن صلة عن ابن مسعود بنحوه. وقال البخاري: حدثنا أبو
الوليد حدثنا شعبة عن خالد عن أبي قلابة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو
عبيدة بن الجراح ". وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد حدثنا قرة عن عبد الكريم بن مالك
الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو جهل قبحه الله إن رأيت محمدا يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ
على رقبته قال: فقال " لو فعل لاخذته الملائكة عيانا ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار
ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالا ولا أهلا " وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي من
حديث عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جدا ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة وفيه غرابة وفيه مناسبة
لهذا المقام قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ أبو سعيد ومحمد بن موسى بن الفضل قالا حدثنا أبو العباس
محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال
يونس - وكان نصرانيا فأسلم - أن رسول الله صلي الله تعالى عليه وعلى آله وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل
عليه طس سليمان " باسم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران
أسلم أنتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد
وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ". فلما أتى
الأسقف الكتاب وقرأه فظع به وذعره ذعرا شديدا وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة وكان
من همدان ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب فدفع الأسقف كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله
إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل ليس لي في أمر النبوة رأي ولو كان
في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك فقال الأسقف: تنح فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس
377

ناحية فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير فأقراه
الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال مثل قول شرحبيل فقال له الأسقف: تنح فاجلس فتنحى عبد الله فجلس ناحية
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه
الكتاب وسأله عن الرأي فيه؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحية فلما اجتمع
الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به ورفعت النيران والمسوح في الصوامع
وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار وإذا كان فزعهم ليلا ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع فاجتمعوا
حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح أهل الوادي أعلاه وأسفله وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع وفيه
ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه فاجتمع رأي
أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي
فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرونها
من حبرة وخواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم وتصدوا لكلامه نهارا طويلا
فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة
لهم فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا يا عثمان ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا كتابا
فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا وتصديقنا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما
أترون أن نرجع؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان
وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم يعودون إليه ففعلوا فسلموا عليه فرد
سلامهم ثم قال " والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم " ثم سألهم وسألوه فلم تزل به وبهم
المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى يسرنا إن كنت نبيا أن نسمع ما تقول
فيه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عندي فيه شئ يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى " فأصبح الغد
وقد أنزل الله هذه الآية " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم - إلى قوله - الكاذبين " فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملا على الحسن والحسين في خميل له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة وله يومئذ
عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي وإني والله
أرى أمرا ثقيلا والله لئن كان هذا الرجل مبعوثا فكنا أول العرب طعنا في عينيه وردا عليه أمره لا يذهب لنا من صدره
ولا من صدور أصحابه حتى يصيبنا بجائحة وأنا لأدنى العرب منهما جوارا ولئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا
يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك فقال صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: أرى أن أحكمه
فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا فقالا له: أنت وذاك قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: إني قد رأيت
خيرا من ملاعنتك فقال " وما هو؟ " فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعل وراءك أحدا يثرب عليك "؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي فسألهما فقالا: ما يرد الوادي
ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه فكتب لهم هذا الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي صلى الله عليه وسلم لنجران - إن كان عليهم حكمه - في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء
وسوداء ورقيق فاضل عليهم وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر ألف حلة "
وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لان الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية
الجزية إنما أنزلت بعد الفتح وهي قوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية وقال أبو بكر بن
مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار عن داود بن
أبي هند عن الشعبي عن جابر قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه
378

الغداة قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له
بالخراج قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والذي بعثني بالحق لو قالا: لا لا مطر عليهم الوادي
نارا " قال جابر: وفيهم نزلت " ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " قال جابر " أنفسنا وأنفسكم "
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب " وأبناءنا " الحسن والحسين " ونساءنا " فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في
مستدركه عن علي بن عيسى عن أحمد بن محمد بن الأزهري عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي
هند به بمعناه. ثم قال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه هكذا. قالا: وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة
عن المغيرة عن الشعبي مرسلا وهذا أصح وقد روى عن ابن عباس والبراء نحو ذلك ثم قال الله تعالى " إن هذا لهو
القصص الحق " أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد " وما
من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا ". أي عن هذا إلى غيره " فإن الله عليم بالمفسدين " أي
من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شئ
سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواة بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا
أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون (64)
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم " قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة "
والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال ههنا ثم وصفها بقوله " سواء بيننا وبينكم " أي عدل ونصف نستوي نحن
وأنتم فيها ثم فسرها بقوله " أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا " لا وثنا ولا صليبا ولا صنما ولا طاغوتا ولا نارا ولا
شيئا بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له وهذه دعوة جميع الرسل قال الله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا
نوحي إليه إنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " ثم
قال تعالى " ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ". وقال ابن جريج: يعني يطيع بعضنا بعضا في معصية الله.
وقال عكرمة: يسجد بعضنا لبعض " فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه
الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الاسلام الذي شرعه الله لكم. وقد ذكرنا في شرح البخاري عند روايته من
طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن أبي سفيان في قصته حين دخل على
قيصر فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه فأخبره بجميع ذلك على الجلية مع أن أبا سفيان
إذ ذاك كان مشركا لم يسلم إلا بعد وكان ذلك بعد صلح الحديبية وقبل الفتح كما هو مصرح به في الحديث ولأنه
لما سأله: هل يغدر؟ قال: فقلت لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها قال: ولم يمكني كلمة أزيد فيها
شيئا سوى هذه والغرض أنه قال ثم جئ بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم
وأسلم يؤتك أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم
أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا
مسلمون.
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغير واحد أن صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها نزلت في وفد نجران. وقال
الزهري: هم أول من بذل الجزية ولا خلاف أن آية الجزية نزلت بعد الفتح فما الجمع بين كتابة هذه الآية قبل
الفتح إلى هرقل في جملة الكتاب وبين ما ذكره محمد بن إسحاق والزهري؟ والجواب من وجوه. " أحدها " يحتمل
أن هذه الآية نزلت مرتين مرة قبل الحديبية ومرة بعد الفتح. " الثاني " يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد
379

نجران إلى هذه الآية وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ويكون قول ابن إسحاق إلى بضع وثمانين آية ليس بمحفوظ
لدلالة حديث أبي سفيان. " الثالث " يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية وأن الذي بذلوه مصالحة عن
المباهلة لا على وجه الجزية بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك
كما جاء فرض الخمس والأربعة أخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ثم نزلت فريضة
القسم على وفق ذلك. " الرابع " يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكتب هذا في كتابه إلى هرقل لم يكن نزل بعد
ثم أنزل القرآن موافقة له صلى الله عليه وسلم كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب في الحجاب وفي الأسارى وفي عدم الصلاة على
المنافقين وفي قوله " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وفي قوله " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا
منكن " الآية.
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء
حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا
ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68)
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم أنه
كان منهم كما قال محمد بن إسحاق بن يسار حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت حدثني سعيد بن جبير أو
عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده فقالت
الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيا فأنزل الله تعالى " يا أهل الكتاب
لم تحاجون في إبراهيم " الآية أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهوديا وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على
موسى وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانيا وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر ولهذا قال تعالى " أفلا
تعقلون ثم قال تعالى " ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم " الآية. هذا
إنكار على من يحاج فيما لا علم له به فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه
علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم وإنما تكلموا فيما لا يعلمون
فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلى عالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها
وجلياتها ولهذا قال تعالى " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ثم قال تعالى " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان
حنيفا مسلما " أي متحنفا عن الشرك قاصدا إلى الايمان " وما كان من المشركين " وهذه الآية كالتي تقدمت في
سورة البقرة " وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا " الآية. ثم قال تعالى " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا
النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " يقول تعالى: أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه وهذا
النبي يعني محمدا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم. قال سعيد بن منصور حدثنا
أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي عز وجل " ثم قرأ " إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه " الآية. وقد رواه الترمذي والبزار من حديث أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري عن أبيه به. ثم قال
البزار: ورواه غير أبي أحمد عن سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن عبد الله ولم يذكر مسروقا وكذا رواه الترمذي
من طريق وكيع عن سفيان ثم قال: وهذا أصح لكن رواه وكيع في تفسيره فقال: حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي
إسحق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي
380

منهم أبي وخليل الله عز وجل إبراهيم عليه السلام " ثم قرأ " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين
آمنوا " الآية وقوله " والله ولي المؤمنين " أي ولي جميع المؤمنين برسله.
ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) يا أهل الكتاب لم
تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون
(71) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون
(72) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل
إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (74)
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الاضلال وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم وهم لا
يشعرون أنهم ممكور بهم ثم قال تعالى منكرا عليهم " أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون " أي
تعلمون صدقها وتتحققون حقها " يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون " أي
تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه " وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي
أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون " الآية. هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من
الناس أمر دينهم وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الايمان أول النهار ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح فإذا جاء
آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين
المسلمين ولهذا قالوا " لعلهم يرجعون " وقال ابن أبي نجيح: عن مجاهد في قوله تعالى إخبارا عن اليهود بهذه الآية
يعني يهودا صلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الصبح وكفروا آخر النهار مكرا منهم ليروا الناس أن قد
بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه. وقال العوفي عن ابن عباس: قالت طائفة من أهل الكتاب إذا لقيتم
أصحاب محمد أول النهار فآمنوا وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا
وهكذا روى عن قتادة والسدي والربيع وأبي مالك.
وقوله تعالى " ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم " أي تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ولا تظهروا
ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم. قال الله تعالى " قل إن الهدى هدى الله " أي هو الذي
يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الايمان بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات والدلائل القاطعات
والحجج الواضحات وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي في كتبكم التي نقلتموها عن
الأنبياء الأقدمين وقوله " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم " يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم
للمسلمين فيتعلموه منكم ويساونكم فيه ويمتازون به عليكم لشدة الايمان به أو يحاجوكم به عند ربكم أي يتخذوه
حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة قال الله تعالى " قل إن الفضل
بيد الله يؤتيه من يشاء " أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع يمن على من يشاء بالايمان والعلم والتصرف
التام ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة وله الحجة التامة
والحكمة البالغة " والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم " أي اختصكم أيها المؤمنون
من الفضل بما لا يحد ولا يوصف بما شرف به نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وهداكم به إلى أكمل الشرائع.
ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما
381

ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (75) بلى من أوفى بعهده
واتقى فإن الله يحب المتقين (76)
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم فإن منهم " من إن تأمنه بقنطار " أي من
المال " يؤده إليك " أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤده إليك " ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت
عليه قائما " أي بالمطالبة والملازمة والالحاح في استخلاص حقك وإذا كان هذا صنيعه في الدينار فما فوقه أولى أن لا
يؤديه إليك. وقد تقدم الكلام على القنطار في أول السورة وأما الدينار فمعروف. وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا
سعيد بن عمرو السكوتي حدثنا بقية عن زياد بن الهيثم حدثني مالك بن دينار قال: إنما سمي الدينار لأنه دين ونار.
وقيل: معناه من أخذه بحقه فهو دينه. ومن أخذه بغير حقه فله النار ومناسب أن يذكر ههنا الحديث الذي علقه
البخاري في غير موضع من صحيحه ومن أحسنها سياقه في كتاب الكفالة حيث قال: وقال الليث حدثني جعفر بن
ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل
سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم فقال: كفى بالله شهيدا فقال: ائتني
بالكفيل قال: كفى بالله كفيلا قال: صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس
مركبا يركبها ليقدم عليه في الاجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه
إلى صاحبه ثم زجج موضعها ثم أتى بها إلى البحر فقال اللهم إنك تعلم أنى استسلفت فلانا ألف دينار فسألني شهيدا
فقلت كفى بالله شهيدا وسألني كفيلا فقلت كفى بالله كفيلا فرضى بك وإني جهدت أن أجد مركبا أبعث إليه الذي
له فلم أقدر وإني استودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج
إلى بلده فخرج الرجل الذي كان سلفه لينظر لعل مركبا يجيئه بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهله حطبا
فلما كسرها وجد المال والصحيفة ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بألف دينار وقال: والله ما زلت جاهدا في
طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه قال: هل كنت بعثت إلى بشئ؟ قال: ألم أخبرك
أنى لم أجد مركبا قبل هذا قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بألف دينار راشدا ". هكذا
رواه البخاري في موضع معلقا بصيغة الجزم وأسنده في بعض المواضع من الصحيح عبد الله بن صالح كاتب
الليث عنه. ورواه الإمام أحمد في مسنده هكذا مطولا عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث به. ورواه البزار في
مسنده عن الحسن بن مدرك عن يحيى بن حماد عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الاسناد. كذا قال وهو خطأ لما تقدم.
وقوله " ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل " أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون: ليس علينا في
ديننا حرج في أكل أموال الأميين وهم العرب فإن الله قد أحلها لنا قال الله تعالى " ويقولون على الله الكذب وهم
يعلمون " أي وقد اختلقوا هذه المقالة وائتفكوها بهذه الضلالة فإن الله حرم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما
هم قوم بهت. قال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أبي إسحق الهمداني عن أبي صعصعة بن يزيد أن رجلا سأل ابن
عباس فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة قال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال: نقول
ليس علينا بذلك بأس قال: هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل
لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم. وكذا رواه الثوري عن أبي إسحق بنحوه وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن يحيى
حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا يعقوب حدثنا جعفر عن سعيد بن جبير قال: لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين
سبيل قال نبي الله صلى الله عليه وسلم " كذب أعداء الله ما من شئ كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة
إلى البر والفاجر " ثم قال تعالى " بلى من أوفى بعهده واتقى " أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب
382

الذي عاهدكم الله عليه من الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث كما أخذ العهد والميثاق على الأنبياء وأممهم بذلك واتقى
محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم " فإن الله يحب المتقين.
إن الذين يشترون بعهد الله ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (77)
يقول تعالى إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره وعن أيمانهم
الكاذبة الفاجرة الآثمة بالأثمان القليلة الزهيدة وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة " أولئك لا خلاق لهم في
الآخرة " أي لا نصيب لهم فيها ولاحظ لهم منها " ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة " أي برحمة منه لهم
يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة " ولا يزكيهم " أي من الذنوب والأدناس بل يأمر بهم
إلى النار " ولهم عذاب أليم ". وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر.
" الحديث الأول " قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا شعبة قال علي بن مدرك أخبرني قال: سمعت أبا زرعة عن
خرشة بن الحر عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم
عذاب أليم " قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من هم؟ خسروا وخابوا قال: وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال " المسبل
والمنفق سلعته بالحلف الكاذب والمنان ". ورواه مسلم وأهل السنن من حديث شعبة به " طريق أخرى " قال
الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي العلاء بن الشخير عن أبي الأحمس قال: لقيت أبا ذر فقلت له
بلغني عنك أنك تحدث حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أما إنه لا يخالني أن كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما سمعته
منه فما الذي بلغك عني؟ قلت بلغني أنك تقول: ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يشنؤهم الله قال: قلته وسمعته
قلت: فمن هؤلاء الذين يحبهم الله؟ قال: " الرجل يلقى العدو في فئة فينصب لهم نحره حتى يقتل أو
يفتح لأصحابه والقوم يسافرون فيطول سراهم حتى يحبوا أن يمسوا الأرض فينزلون فيتنحى أحدهم فيصلي حتى
يوقظهم لرحيلهم والرجل يكون له الجار يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن " قلت: ومن هؤلاء
الذين يشنؤهم الله؟ قال " التاجر الحلاف - أو قال البائع الحلاف - والفقير المحتال والبخيل المنان ". غريب من
هذا الوجه.
" الحديث الثاني " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن جرير بن حازم حدثنا عدي بن عدي أخبرني
رجاء بن حياة والعرس بن عميرة عن أبيه عدي هو ابن عميرة الكندي قال: خاصم رجل من كندة يقال له امرؤ
القيس بن عامر رجلا من حضر موت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فقضى على الحضرمي بالبينة فلم يكن له بينة فقضى
على امرئ القيس باليمين فقال الحضرمي: أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضى فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " قال رجاء: وتلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " فقال امرؤ القيس: ماذا لمن تركها يا
رسول الله؟ فقال " الجنة " قال: فاشهد أني قد تركتها له كلها ورواه النسائي من حديث عدي بن عدي به.
" الحديث الثالث " قال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان " فقال الأشعث: في
والله كان ذلك كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني أرضي فقدمته إلى رسول الله صلى فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألك
بينة "؟ قلت: لا فقال لليهودي: " احلف ". فقلت يا رسول الله إذا يحلف فيذهب مالي فأنزل الله عز وجل " إن الذين
يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية أخرجاه من حديث الأعمش " طريق أخرى " قال أحمد حدثنا يحيى بن
383

آدم حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن شقيق بن سلمة حدثنا عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان " قال: فجاء الأشعث بن قيس فقال:
ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال: كان في هذا الحديث خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر
كانت لي في يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينتك إنها بئرك وإلا فيمينه " قال: قلت يا رسول الله مالي بينة
وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق
لقي الله وهو عليه غضبان " قال: وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا "
الآية.
" الحديث الرابع " قال أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان قال حدثنا رشيدين عن زياد عن سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن لله تعالى عبادا لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم " قيل: ومن أولئك يا
رسول الله؟ قال " متبرئ من والديه راغب عنهما ومتبرئ من ولده ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ
منهم ".
" الحديث الخامس " قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا هشيم أنبأنا العوام يعني ابن حوشب عن
إبراهيم بن عبد الرحمن يعني السكسكي عن عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد
أعطى بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلا من المسلمين فنزلت هذه الآية " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا
قليلا " الآية. ورواه البخاري من غير وجه عن العوام.
" الحديث السادس " قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل منع ابن السبيل
فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة بعد العصر يعني كاذبا ورجل بايع إماما فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم
يف له " ورواه أبو داود والترمذي من حديث وكيع وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما
هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون (78)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد
به ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد
كذبوا وافتروا في ذلك كله ولهذا قال الله تعالى " ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " وقال مجاهد والشعبي
والحسن وقتادة والربيع بن أنس: " يلوون ألسنتهم بالكتاب " يحرفونه وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم
يحرفون ويزيلون وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله لكنهم يحرفونه ويتأولونه على غير تأويله.
وقال وهب بن منبه: إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله تعالى لم يغير منهما حرف ولكنهم يضلون بالتحريف
والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم " ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله " فأما كتب الله فإنها
محفوظة ولا تحول رواه ابن أبي حاتم فإن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك فلا شك أنه قد دخلها التبديل
والتحريف والزيادة والنقص. وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ونقصان ووهم
فاحش وهو من باب تفسير المعرب المعبر وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد وأما إن عنى كتب الله التي
هي كتبه من عنده فتلك كما قال محفوظة لم يدخلها شئ.
384

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما
كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون (79) ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر
بعد إذ أنتم مسلمون (80)
قال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال أبو رافع
القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الاسلام: أتريد يا
محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك
تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ أو كما قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بعبادة غير الله
ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني " أو كما قال صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في ذلك من قولهما " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب
والحكم والنبوة - إلى قوله - بعد إذ أنتم مسلمون " فقوله " ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول
للناس كونوا عبادا لي من دون الله " أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة أن يقول للناس اعبدوني من دون
الله أي مع الله فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل فلان لا يصلح لاحد من الناس غيرهم بطريق الأولى
والأحرى ولهذا قال الحسن البصري: لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته قال: ذلك أن القوم كان يعبد
بعضهم بعضا يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم كما قال الله تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون الله " الآية. وفي المسند والترمذي كما سيأتي أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله ما عبدوهم قال " بلى إنهم
أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " فالجهلة من الأحبار والرهبان ومشايخ
الضلال يدخلون في هذا الذم والتوبيخ بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به
وبلغتهم إياه رسله الكرام وإنما ينهونهم عما نهاهم الله عنه وبلغتهم إياه رسله الكرام. فالرسل صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين هم السفراء بين الله وبين خلقه في أداء ما حملوه من الرسالة وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام
ونصحوا الخلق وبلغوهم الحق وقوله " ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون " أي
ولكن يقول الرسول للناس كونوا ربانيين قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحد أي حكماء علماء حلماء وقال الحسن
وغير واحد: فقهاء وكذا روى عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء الخراساني وعطية العوفي والربيع بن
أنس. وعن الحسن أيضا يعني أهل عبادة وأهل تقوى. وقال الضحاك في قوله " بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم
تدرسون " حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيها تعلمون أي تفهمون معناه وقرئ تعلمون بالتشديد من التعليم
" وبما كنتم تدرسون " تحفظون ألفاظه ثم قال الله تعالى " ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا " أي ولا يأمركم
بعبادة أحد غير الله لا نبي مرسل ولا ملك مقرب " أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون " أي لا يفعل ذلك إلا من دعا
إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله فقد دعا إلى الكفر والأنبياء إنما يأمرون بالايمان وهو عبادة الله وحده
لا شريك له كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال تعالى
" ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " الآية وقال " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا
أجعلنا من دون الله آلهة يعبدون " وقال إخبارا عن الملائكة " ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم
كذلك نجزي الظالمين ".
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه
قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين (81) فمن تولى بعد ذلك
385

فأولئك هم الفاسقون (82)
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام لمهما آتي الله أحدهم من
كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع
من بعث بعده ونصرته ولهذا قال تعالى وتقدس " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة " أي لمهما
أعطيتكم من كتاب وحكمة " ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم
إصري " وقال ابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة والسدي: يعني عهدي وقال محمد بن إسحاق
" إصري " أي ثقل ما حملتم من عهدي أي ميثاقي الشديد المؤكد " قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من
الشاهدين فمن تولى بعد ذلك " أي عن هذا العهد والميثاق " فأولئك هم الفاسقون ". قال علي بن أبي طالب وابن
عمه ابن عباس رضي الله عنهما ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن
به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. وقال طاوس والحسن
البصري وقتادة: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل
يستلزمه ويقتضيه ولهذا روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه مثل قول علي وابن عباس وقد قال
الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أنبأنا سفيان عن جابر عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا
أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن ثابت قلت له ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
فقال عمر: رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا قال: فسرى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال " والذي نفسي بيده لو
أصبح فيكم موسى عليه السلام ثم ابتعتموه وتركتموني لضللتم إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين ".
" حديث آخر " قال الحافظ أبو يعلى حدثنا إسحاق حدثنا حماد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
تسألوا أهل الكتاب عن شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا وإنكم إما أن تصدقوا بباطل وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله
لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " وفي بعض الأحاديث " لو كان موسى وعيسى حين لما
وسعهما إلا اتباعي " فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين هو الامام الأعظم
الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم ولهذا كان إمامهم ليلة الاسراء
لما اجتمعوا ببيت المقدس: وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الرب جل جلاله لفصل القضاء بين عباده وهو
المقام المحمود الذي لا يليق إلا له والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين حتى تنتهى النوبة إليه فيكون هو
المخصوص به صلوات الله وسلامه عليه.
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون (83) قل آمنا بالله وما أنزل
علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق
بين أحد منهم ونحن له مسلمون (84) ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلم يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85)
يقول تعالى منكرا على من أراد دينا سوى دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله وهو عبادة الله وحده لا شريك له
الذي له أسلم من في السماوات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعا وكرها كما قال تعالى " ولله يسجد من في
السماوات والأرض طوعا وكرها " الآية وقال تعالى " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين
386

والشمائل سجدا لله وهم داخرون * ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا
يستكبرون * يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون " فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله والكافر مستسلم لله
كرها فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع. وقد ورد حديث في تفسير هذه الآية
على معنى آخر فيه غرابة فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا سعيد بن حفص
النفيلي حدثنا محمد بن محصن العكاشي حدثنا الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن النبي صلى الله عليه وسلم " وله أسلم من في السماوات
والأرض طوعا وكرها " " أما من في السماوات فالملائكة وأما من في الأرض فمن ولد على الاسلام وأما كرها
فمن أتى به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون " وقد ورد في الصحيح " عجب
ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل " وسيأتي له شاهد من وجه آخر ولكن المعنى الأول للآية أقوى. وقد
قال وكيع في تفسيره: حدثنا سفيان عن منصور عن مجاهد " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها "
قال: هو كقوله " ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله " وقال أيضا: حدثنا سفيان عن الأعمش عن
مجاهد عن ابن عباس " وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها " قال: حين أخذ الميثاق " وإليه يرجعون "
أي يوم المعاد فيجازي كلا بعمله، ثم قال تعالى " قل آمنا بالله وما أنزل علينا " يعني القرآن " وما أنزل على إبراهيم
وإسماعيل وإسحق ويعقوب " أي من الصحف والوحي " والأسباط " وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد
إسرائيل - وهو يعقوب الاثني عشر " وما أوتي موسى وعيسى " يعني بذلك التوراة والإنجيل " والنبيون من ربهم " وهذا
يعم جميع الأنبياء جملة " لا نفرق بين أحد منهم " يعني بل نؤمن بجميعهم " ونحن له مسلمون " فالمؤمنون من هذه
الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل وبكل كتاب أنزل لا يكفرون بشئ من ذلك بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله
وبكل نبي بعثه الله.
ثم قال تعالى " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه " الآية. أي من سلك طريقا سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه
" وهو في الآخرة من الخاسرين " كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد "
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن راشد حدثنا الحسن حدثنا أبو هريرة إذ ذاك ونحن
بالمدينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تجئ الأعمال يوم القيامة فتجئ الصلاة فتقول يا رب أنا الصلاة فيقول إنك على
خير وتجئ الصدقة فتقول يا رب أنا الصدقة فيقول إنك على خير ثم يجئ الصيام فيقول يا رب أنا الصيام
فيقول إنك على خير ثم تجئ الأعمال كل ذلك يقول الله إنك على خير ثم يجئ الاسلام فيقول يا رب أنت
السلام وأنا الاسلام فيقول الله تعالى إنك على خير بك اليوم آخذ وبك أعطي. قال الله في كتابه " ومن يبتغ غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين " تفرد به أحمد قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد
: عباد بن راشد ثقة ولكن الحسن لم يسمع من أبي هريرة.
كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين
(86) أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (87) خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم
ينظرون (88) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (89)
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع البصري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عكرمة عن
ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلوا رسول الله هل
لي من توبة؟ فنزلت " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - إلى قوله - فإن الله غفور رحيم " فأرسل إليه قومه
فأسلم وهكذا رواه النسائي والحاكم وابن حبان من طريق داود بن أبي هند به. وقال الحاكم: صحيح الاسناد
387

يخرجاه. وقال عبد الرزاق أنبأنا جعفر بن سليمان حدثنا حميد الأعرج عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سويد
فأسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله فيه " كيف يهدى الله قوما كفروا
بعد إيمانهم - إلى قوله - غفور رحيم ". قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأ عليه فقال الحارث: إنك - والله ما
علمت - لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه
فقوله تعالى " كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات " أي قامت عليهم
الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ووضح لهم الامر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك فكيف يستحق
هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به العماية؟ ولهذا قال تعالى " والله لا يهدي القوم الظالمين " ثم قال تعالى " أولئك
جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه " خالدين فيها " أي في اللعنة
" لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون " أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ثم قال تعالى
" إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه
أن من تاب إليه تاب عليه.
إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون (90) إن الذين كفروا وماتوا
وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين (91)
يقول تعالى متوعدا ومهددا لمن كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا أي استمر إلى الممات ومخبرا بأنهم لن تقبل لهم
توبة عند الممات كما قال تعالى " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت " الآية ولهذا
قال ههنا " لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون " أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي. قال الحافظ أبو
بكر البزار: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس: أن قوما أسلموا ثم ارتدوا ثم أسلموا ثم ارتدوا فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم فذكروا ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم " هكذا رواه وإسناده
جيد، ثم قال تعالى " إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " أي من
مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبدا ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهبا فيما يراه قربة كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن
عبد الله بن جدعان وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام هل ينفعه ذلك؟ فقال " لا إنه لم يقل يوما من
الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " وكذلك لو افتدى بملء ء الأرض أيضا ذهبا ما قبل منه كما قال تعالى " ولا
يقبل منها عدل ولا ينفعها شفاعة " وقال " لا بيع فيه ولا خلال " وقال " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض
جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم " ولهذا قال تعالى ههنا " إن الذين
كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به " فعطف ولو افتدى به على الأول فدل
على أنه غيره. وما ذكرناه أحسن من أن يقال إن الواو زائدة والله أعلم ويقتضي ذلك أن لا ينقذه من عذاب الله
شئ ولو كان قد أنفق مثل الأرض ذهبا ولو افتدى نفسه من الله بملء ء الأرض ذهبا بوزن جبالها وتلالها وترابها
ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثني شعبة عن أبي عمران الجوني عن
أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شئ
أكنت مفتديا به؟ قال: فيقول نعم، فيقول الله قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم ان
لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك ". وهكذا أخرجه البخاري ومسلم " طريق أخرى " وقال الإمام أحمد: حدثنا
روح حدثنا حماد عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له يا ابن آدم كيف
وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب خير منزل فيقول: سل وتمن فيقول: ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى
388

الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار لما يرى من فضل الشهادة ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له يا ابن آدم كيف
وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب شر منزل فيقول له أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهبا؟ فيقول أي رب نعم فيقول:
كذبت قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل فيرد إلى النار " ولهذا قال " أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من
ناصرين " أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه.
لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شئ فإن الله به عليم (92)
روى وكيع في تفسيره عن شريك عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون " لن تنالوا البر " قال الجنة وقال الإمام أحمد
: حدثنا روح حدثنا مالك عن أبي إسحق بن عبد الله بن أبي طلحة سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة
أكثر الأنصار بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها
ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما نزلت " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال أبو طلحة: يا رسول الله
إن الله يقول " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " وإن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو بها برها
وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بخ بخ ذاك مال رابح ذاك مال رابح وقد
سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين " فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني
عمه أخرجاه. وفي الصحيحين أن عمر قال: يا رسول الله لم أصب مالا قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو
بخيبر فما تأمرني به؟ قال " حبس الأصل وسبل الثمرة " وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أبو الخطاب زياد بن
يحيى الحساني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبد الله بن عمر
قال: قال عبد الله حضرتني هذه الآية " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " فذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا
أحب إلى من جارية لي رومية فقلت: هي حرة لوجه الله فلو أني أعود في شئ جعلته لله لنكحتها يعني تزوجتها.
كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة
فاتلوها إن كنتم صادقين (93) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون (94) قل صدق الله
فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (95)
قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر قال: قال ابن عباس: حضرت عصابة من
اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: حدثنا عن خلال نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي قال " سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي
ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه لتتابعني على الاسلام " قالوا فذلك لك قالوا: أخبرنا
على أربع خلال أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه
والأنثى وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه فقال
" أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديد وطال سقمه فنذر لله نذرا لئن
شفاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه
ألبانها " فقالوا: اللهم نعم فقال " اللهم اشهد عليهم " وقال " أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على
موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله إن
علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكرا بإذن الله وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله " قالوا: نعم قال
" اللهم اشهد عليهم " قال " وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا
ينام قلبه " قالوا: اللهم نعم قال " اللهم اشهد " قال " وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه " قالوا:
389

فعند ذلك نفارقك ولو كان وليك غيره لتابعناك فعند ذلك قال الله تعالى " قل من كان عدوا لجبريل " الآية ورواه
أحمد أيضا عن حسين بن محمد عن عبد الحميد به " طريق أخرى " قال أحمد: حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا
عبد الله بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا يا أبا القاسم إنا نسألك عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل
على بنيه إذ قال " والله على ما نقول وكيل " قال " هاتوا " قالوا: أخبرنا عن علامة النبي؟ قال " تنام عيناه ولا ينام
قلبه " قالوا: أخبرك كيف تؤنث المرأة وكيف تذكر قال " يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت وإذا
علا ماء المراة أنثت " قالوا أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال " كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا
ألبان كذا وكذا - قال أحمد: قال بعضهم يعني الإبل - فحرم لحومها " قالوا: صدقت قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟
قال " ملك من ملائكة الله عز وجل موكل بالسحاب بيده - أو في يديه - مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث
أمره الله عز وجل " قالوا: فما هذا الصوت الذي يسمع؟ قال " صوته " قالوا: صدقت إنما بقيت واحدة وهي التي
نتابعك إن أخبرتنا بها: إنه ليس من نبي إلا له ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال " جبريل عليه السلام "
قالوا: جبريل ذاك ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدونا لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والنبات والقطر لكان
فأنزل الله تعالى " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى
للمؤمنين " والآية بعدها وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن الوليد العجلي به نحوه وقال الترمذي
حسن غريب. وقال ابن جريج والعوفي عن ابن عباس: كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النساء
بالليل. وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عرقا ولا يأكل ولد
ماله عرق وهكذا قال الضحاك والسدي كذا رواه وحكاه ابن جرير في تفسيره قال: فاتبعه بنوه في تحريم ذلك
استنانا به واقتداء بطريقه قال: وقوله " من قبل أن تنزل التوراة " أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة
قلت: ولهذا السياق بعد ما تقدم مناسبتان. " إحداهما " أن إسرائيل عليه السلام حرم أحب الأشياء إليه وتركها لله
وكان هذا سائغا في شريعتهم فله مناسبة بعد قوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". فهذا هو المشروع
عندنا وهو الانفاق في طاعة الله مما يحبه العبد ويشتهيه كما قال تعالى " وآتى المال على حبه " وقال تعالى
" ويطعمون الطعام على حبه " الآية " المناسبة الثانية " لما تقدم بيان الرد على النصارى واعتقادهم الباطل في
المسيح وتبيين زيف ما ذهبوا إليه وظهور الحق واليقين في عيسى وأمه كيف خلقه الله بقدرته ومشيئته وبعثه إلى
بني إسرائيل يدعو إلى عبادة ربه تبارك وتعالى شرع في الرد على اليهود قبحهم الله تعالى وبيان أن النسخ الذي
أنكروا وقوعه وجوازه قد وقع فإن الله تعالى قد نص في كتابهم التوراة أن نوحا عليه السلام لما خرج من السفينة
أباح الله له جميع دواب الأرض يأكل منها ثم بعد هذا حرم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل وألبانها فاتبعه بنوه في
ذلك وجاءت التوراة بتحريم ذلك وأشياء أخرى زيادة على ذلك وكان الله عز وجل قد أذن لآدم في تزويج بناته
من بنيه وقد حرم ذلك بعد ذلك وكان التسري على الزوجة مباحا في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد فعله
إبراهيم في هاجر لما تسرى بها على سارة. وقد حرم مثل هذا في التوراة عليهم وكذلك كان الجمع بين الأختين
سائغا وقد فعله يعقوب عليه السلام جمع بين الأختين ثم حرم عليهم ذلك في التوراة. وهذا كله منصوص عليه
في التوراة عندهم وهذا هو النسخ بعينه. فكذلك فليكن ما شرعه الله للمسيح عليه السلام في إحلاله بعض ما حرم
في التوراة فما بالهم لم يتبعوه بل كذبوه وخالفوه؟ وكذلك ما بعث الله به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين القويم والصراط
المستقيم وملة أبيه إبراهيم فما بالهم لا يؤمنون؟ ولهذا قال تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا
ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " أي كان حلا لهم جميع الأطعمة قبل نزول التوراة إلا ما حرمه
إسرائيل ثم قال تعالى " قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فإنها ناطقة بما قلناه " فمن افترى على الله الكذب من
بعد ذلك فأولئك هم الظالمون " أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائما وإنه
390

لم يبعث نبيا آخر يدعو إلى الله تعالى بالبراهين والحجج بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا " فأولئك
هم الظالمون " ثم قال تعالى " قل صدق الله " أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن " فاتبعوا
ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه
الحق الذي لا شك فيه ولا مرية وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم كما قال تعالى
" قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى " ثم
أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ".
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين (96) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله
كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين (97)
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده
للذي ببكة " يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم
على دينه ومنهجه ولا يحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله له في ذلك ونادى الناس إلى حجه ولهذا قال تعالى
" مباركا " أي وضع مباركا " وهدى للعالمين " وقد قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي
عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال " المسجد الحرام " قلت: ثم
أي؟ قال " المسجد الأقصى " قلت: كم بينهما؟ قال " أربعون سنة " قلت: ثم أي قال " ثم حيث أدركتك الصلاة
فصل فكلها مسجد " وأخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن
محمد بن الصباح حدثنا سعيد بن سليمان عن شريك عن مجالد عن الشعبي عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى
" إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " قال: كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله. وحدثنا أبي
حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى علي رضي الله عنه
فقال: ألا تحدثني عن البيت أهو أول بيت وضع في الأرض؟ قال: لا ولكنه أول بيت وضع فيه البركة مقام إبراهيم
ومن دخله كان آمنا وذكر تمام الخبر في كيفية بناء إبراهيم البيت وقد ذكرنا ذلك مستقصى في أول سورة البقرة
فأغنى عن إعادته هنا. وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض مطلقا والصحيح قول علي رضي الله
عنه. فأما الحديث الذي رواه البيهقي في بناء الكعبة في كتابه دلائل النبوة من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي
حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا " بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فأمرهما ببناء الكعبة
فبناه آدم ثم أمر بالطواف به وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت وضع للناس " فإنه كما ترى من مفردات ابن
لهيعة وهو ضعيف والأشبه والله أعلم أن يكون هذا موقوفا على عبد الله بن عمرو ويكون من الزاملتين اللتين
أصابهما يوم اليرموك من كلام أهل الكتاب.
وقوله تعالى " للذي ببكة " بكة من أسماء مكة على المشهور قيل: سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة
بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها وقيل: لان الناس يتباكون فيها أي يزدحمون. قال قتادة: إن الله بك به
الناس جميعا فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها. وكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير
وعمرو بن شعيب ومقاتل بن حيان. وذكر حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
رضي الله عنه قال: مكة من الفج إلى التنعيم وبكة من البيت إلى البطحاء. وقال شعبة عن المغيرة عن إبراهيم:
بكة البيت والمسجد وكذا قال الزهري. وقال عكرمة في رواية وميمون بن مهران: البيت وما حوله بكة وما وراء
ذلك مكة وقال أبو مالك وأبو صالح وإبراهيم النخعي وعطية العوفي ومقاتل بن حيان: بكة موضع البيت وما سوى
ذلك مكة. وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة مكة وبكة والبيت العتيق والبيت الحرام والبلد الأمين
391

والمأمون وأم رحم وأم القرى وصلاح والعرش على وزن بدر والقادس لأنها تطهر من الذنوب والمقدسة
والناسة بالنون وبالباء أيضا والباسة والحاطمة والرأس وكوثاء والبلدة والبنية والكعبة.
قوله تعالى " فيه آيات بينات " أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم وإن الله عظمه وشرفه ثم قال تعالى " مقام
إبراهيم " يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران حيث كان يقف عليه ويناوله ولده
إسماعيل وقد كان ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق
بحيث يتمكن الطواف منه ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف. لان الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث
قال " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وقال
العوفي عن ابن عباس في قوله " فيه آيات بينات مقام إبراهيم " أي فمنهن مقام إبراهيم والمشاعر وقال مجاهد أثر
قدميه في المقام آية بينة وكذا روى عن عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم. وقال
أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة * على قدميه حافيا غير ناعل
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد وعمرو الأودي قالا: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن ابن
عباس في قوله تعالى " مقام إبراهيم " قال: الحرم كله مقام إبراهيم ولفظ عمرو: الحجر كله مقام إبراهيم:
وروى عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج مقام إبراهيم هكذا رأيته في النسخة ولعله الحجر كله مقام إبراهيم. وقد
صرح بذلك مجاهد وقوله تعالى " ومن دخله كان آمنا " يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء وكذلك
كان الامر في حال الجاهلية كما قال الحسن البصري وغيره: كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم
فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى التميمي عن
عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " ومن دخله كان آمنا " قال: من عاذ بالبيت أعاذه البيت
ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى فإذا خرج أخذ بذنبه. وقال الله تعالى " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف
الناس من حولهم " الآية. وقال تعالى " فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف " وحتى
إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت
الأحاديث والآثار في ذلك عن جماعة من الصحابة مرفوعا وموقوفا. ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عن ابن عباس
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا " وقال يوم فتح
مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال
فيه لاحد قبلي ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكة ولا ينفر
صيده ولا تلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها " فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم
ولبيوتهم فقال " إلا الإذخر " ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه ولهما واللفظ لمسلم أيضا عن أبي شريح العدوي أنه
قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من
يوم الفتح سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال " إن مكة حرمها الله
ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما أو يعضد بها شجرة فإن أحد
ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد
عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد الغائب " فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال: أنا أعلم
بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة وعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحل لاحد أن يحمل السلاح بمكة ". رواه مسلم. وعن عبد الله بن عدي بن الحمراء
الزهري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول " والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى
392

الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ". رواه الإمام أحمد وهذا لفظه والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال
الترمذي: حسن صحيح وكذا صحح من حديث ابن عباس نحوه. وروى أحمد عن أبي هريرة نحوه وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا بشر بن آدم ابن بنت أزهر السمان حدثنا بشر بن عاصم عن زريق بن مسلم الأعمى مولى بني
مخزوم حدثني زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة بن هبيرة في قوله تعالى " ومن دخله كان آمنا " قال: آمنا من
النار وفي معنى هذا القول الحديث الذي رواه البيهقي. أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان حدثنا
أحمد بن عبيد حدثنا محمد بن سليمان بن الواسطي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا ابن المؤمل عن ابن محيصن عن
عطاء عن عبد الله بن عباس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دخل البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة وخرج
مغفورا له " ثم قال: تفرد به عبد بن المؤمل وليس بالقوي. وقوله " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا " هذه آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله " وأتموا الحج والعمرة لله " والأولى أظهر. وقد
وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الاسلام ودعائمه وقواعده وأجمع المسلمون على ذلك إجماعا ضروريا وإنما
يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والاجماع. قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن
هارون حدثنا الربيع بن مسلم القرشي عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أيها الناس
قد فرض عليكم الحج فحجوا " فقال رجل أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو
قلت نعم لوجبت ولما استطعتم " ثم قال " ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على
أنبيائهم وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ فدعوه ". ورواه مسلم عن زهير بن حرب
عن يزيد بن هارون به نحوه. وقد روى سفيان بن حسين وسليمان بن كثير وعبد الجليل بن حميد ومحمد بن أبي
حفصة عن الزهري عن أبي سنان الدؤلي واسمه يزيد بن أمية عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج " فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل
عام؟ فقال " لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فهو تطوع "
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم من حديث الزهري به ورواه شريك عن سماك عن عكرمة عن
ابن عباس بنحوه. وروى من حديث أسامة بن زيد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن أبيه عن البختري عن علي رضي الله عنه قال:
لما نزلت " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت قالوا يا
رسول الله في كل عام؟ قال " لا ولو قلت نعم لوجبت " فأنزل الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن
تبد لكم تسؤكم " وكذا رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث منصور بن وردان به ثم قال الترمذي: حسن
غريب. وفيما قال نظر لان البخاري قال: لم يسمع أبو البختري من على وقال ابن ماجة: حدثنا محمد بن
عبد الله بن نمير حدثنا محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك قال: قالوا: يا
رسول الله الحج في كل عام؟ قال " لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها لعذبتم ". وفي
الصحيحين من حديث ابن جريج عن عطاء عن جابر عن سراقة بن مالك قال: يا رسول الله متعتنا هذه لعامنا هذا أم
للأبد؟ قال " لا بل للأبد " وفي رواية " بل لابد الأبد ".
وفى مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في
حجته " هذه ثم ظهور الحصر " يعني ثم الزمن ظهر الحصر ولا تخرجن من البيوت وأما الاستطاعة فأقسام تارة
يكون الشخص مستطيعا بنفسه وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الاحكام. قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا
عبد الرحمن بن حميد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا إبراهيم بن يزيد قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث عن
ابن عمر رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من الحاج يا رسول الله؟ قال " الشعث التفل "
393

فقام آخر فقال أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال " العج والثج " فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال
" الزاد والراحلة " هكذا رواه ابن ماجة من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الجوزي قال الترمذي: ولا يرفعه إلا من
حديثه وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه كذا قال ههنا وقال في كتاب الحج: هدا حديث حسن لا
يشك أن هذا الاسناد رجاله كلهم ثقات سوى الجوزي هذا وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث لكن قد تابعه غيره
فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن عبد الله العامري حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن
محمد بن عباد بن جعفر قال: جلست إلى عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ما السبيل؟ قال
" الزاد والراحلة " وهكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به ثم قال ابن أبي حاتم:
وقد روى عن ابن عباس وأنس والحسن ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والربيع بن أنس وقتادة نحو ذلك وقد روى
هذا الحديث من طرق أخرى من حديث أنس وعبد الله بن عباس وابن مسعود وعائشة كلها مرفوعة ولكن في
أسانيدها مقال كما هو مقرر في كتاب الأحكام والله أعلم. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا
الحديث. ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله
عز وجل " من استطاع إليه سبيلا " فقيل ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ثم قال صحيح على شرط مسلم ولم
يخرجاه. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن يونس عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقالوا: يا رسول الله ما السبيل؟ قال " الزاد والراحلة " ورواه وكيع في
تفسيره عن سفيان عن يونس به وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنبأنا الثوري عن إسماعيل وهو أبو إسرائيل
الملائي عن فضيل يعني ابن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعجلوا إلى الحج
- يعني الفريضة فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له " وقال أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الحسن بن عمرو
الفقيمي عن مهران ابن أبي صفوان عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أراد الحج فليتعجل " ورواه أبو داود
عن مسدد عن أبي معاوية الصرير به. وقد روى وكيع وابن جرير عن ابن عباس في قوله تعالى " من استطاع إليه
سبيلا " قال: من ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلا. وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة وروى
وكيع بن الجراح عن أبي جناب يعني الكلبي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال: " من استطاع إليه
سبيلا " قال: قال الزاد والبعير وقوله تعالى " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " قال ابن عباس ومجاهد وغير
واحد: أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وقال سعيد بن منصور عن سفيان عن ابن أبي نجيح عن
عكرمة قال: لما نزلت " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه " قالت اليهود: فنحن مسلمون قال الله عز وجل
فأخصمهم فحجهم يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله فرض على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " فقالوا: لم
يكتب علينا وأبوا أن يحجوا قال الله تعالى " ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد
نحوه. وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود حدثنا مسلم بن إبراهيم
وشاذ بن فياض قالا: حدثنا هلال أبو هاشم الخراساني حدثنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ملك زادا وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهوديا أو نصرانيا وذلك بأن الله
قال " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين " ورواه ابن جرير من
حديث مسلم بن إبراهيم به وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي زرعة الرازي حدثنا هلال بن الفياض حدثنا هلال أبو
هاشم الخراساني فذكره بإسناده مثله ورواه الترمذي عن محمد بن علي القطعي عن مسلم بن إبراهيم عن هلال بن
عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي به وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده
مقال وهلال مجهول والحارث يضعف في هذا الحديث. وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن
عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ. وقد روى أبو بكر الإسماعيلي الحافظ من حديث أبي عمرو الأوزاعي حدثني
إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر حدثني عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول:
394

من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهوديا أو نصرانيا وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه. وروى
سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث
رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم
بمسلمين.
قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن
سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99)
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله من أراده
من أهل الايمان بجهدهم وطاقتهم مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله وبما عندهم من العلم عن الأنبياء
الأقدمين والسادة المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وما بشروا به ونوهوا به من ذكر النبي الأمي الهاشمي
العربي المكي سيد ولد آدم وخاتم الأنبياء ورسول رب الأرض والسماء وقد توعدهم الله على ذلك وأخبرهم
بأنه شهيد على صنيعهم ذلك بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ومعاملتهم الرسول المبشر به بالتكذيب والجحود
والعناد فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون أي وسيجزيهم على ذلك " يوم لا ينفع مال ولا بنون ".
يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون
وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (101)
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب الذين يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله
من فضله وما منحهم من إرسال رسوله كما قال تعالى " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا
حسدا من عند أنفسهم " الآية وهكذا قال ههنا " إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم
كافرين " ثم قال تعالى " وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله " يعني أن الكفر بعيد منكم
وحاشاكم منه فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلا ونهارا وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم وهذا كقوله تعالى " وما
لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين " الآية بعدها. وكما جاء في
الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوما " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا "؟ قالوا:
الملائكة قال " وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم " قالوا: فنحن قال " وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ "
قالوا: فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال " قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " وقد ذكرت سند هذا
الحديث والكلام عليه في أول شرح البخاري ولله الحمد. ثم قال تعالى " ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط
مستقيم " أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية والعدة في مباعدة الغواية والوسيلة إلى
الرشاد وطريق السداد وحصول المراد.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (102) واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا
نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي عن مرة عن عبد الله
395

هو ابن مسعود " اتقوا الله حق تقاته " قال: أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر وهذا
إسناد صحيح موقوف وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن
عبد الأعلى عن ابن وهب عن سفيان الثوري عن زبيد عن مرة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا الله حق
تقاته " أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى " وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر
عن زبيد عن مرة عن ابن مسعود مرفوعا فذكره ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال. والأظهر
أنه موقوف والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: وروى نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خيثم وعمرو بن ميمون
وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي الله العبد
حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن
أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى " فاتقوا الله ما استطعتم " وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله تعالى " اتقوا الله حق تقاته " قال: لم تنسخ ولكن " حق تقاته " أن يجاهدوا في سبيله حق
جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وقوله تعالى " ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون " أي حافظوا على الاسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه
من عاش على شئ مات عليه ومن مات على شئ بعث عليه فعياذا بالله من خلاف ذلك.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا شعبة قال: سمعت سليمان عن مجاهد: إن الناس كانوا يطوفون بالبيت وإن
ابن عباس جالس معه محجن فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون " ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم فكيف بمن ليس له طعام إلا
من الزقوم " وكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة
به وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن
عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر
ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ".
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
قبل موته بثلاث " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل " ورواه مسلم من طريق الأعمش به وقال الإمام أحمد
حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله قال
أنا عند ظن عبدي بي فإن ظن بي خيرا فله فإن ظن بي شرا فله " وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين
من وجه آخر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله أنا عند ظن عبدي بي ".
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس
قال: كان رجل من الأنصار مريضا فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه فقال له " كيف أنت يا
فلان؟ " قال: بخير يا رسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يجتمعان في قلب عبد في هذا
الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف " ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان. وهكذا رواه
الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديثه ثم قال الترمذي غريب وكذا رواه بعضهم عن ثابت مرسلا. فأما الحديث
الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام
قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائما ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن
الحارث عن شعبة به وترجم عليه فقال: " باب كيف يخر للسجود " ثم ساقه مثله فقيل معناه أن لا أموت إلا مسلما
وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلا غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.
396

وقوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " قيل " بحبل الله " أي بعهد الله كما قال في الآية بعدها
" ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي بعهد وذمة وقيل " بحبل من الله " يعني
القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعا في صفة القرآن " هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم ".
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري: حدثنا سعيد بن يحيى الأموي
حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن سليمان العزرمي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتاب
الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض ".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن هذا القرآن هو حبل الله المتين وهو النور المبين وهو الشفاء النافع عصمة لمن تمسك به
ونجاة لمن اتبعه " وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك وقال وكيع حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال:
قال عبد الله: إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين: يا أبا عبد الله هذا الطريق هلم إلى الطريق فاعتصموا
بحبل الله فإن حبل الله القرآن.
وقوله " ولا تفرقوا " أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والامر
بالاجتماع والائتلاف كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة
المال " وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضا. وخيف عليهم
الافتراق والاختلاف فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة
من عذاب النار وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " إلى آخر
الآية وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلي وعداواة شديدة وضغائن
وإحن وذحول طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم فلما جاء الله بالاسلام فدخل فيه من دخل منهم
صاروا إخوانا متحابين بجلال الله متواصلين في ذات الله متعاونين على البر والتقوى قال الله تعالى " هو الذي
أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم "
إلى آخر الآية وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للايمان. وقد امتن عليهم
بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم في القسمة بما أراه الله فخطبهم فقال
" يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي؟ "
فكلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس
والخزرج. وذلك أن رجلا من اليهود مر بملا من الأوس والخزرج فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة فبعث رجلا
معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل فلم يزل ذلك دأبه حتى
حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ " وتلا عليهم
هذه الآية فندموا على ما كان منهم فاصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم وذكر عكرمة أن ذلك نزل
فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك والله أعلم.
397

ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (104) ولا تكونوا
كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم (105) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (106) وأما الذين ابيضت
وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون (107) تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين
(108) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور (109)
يقول تعالى: ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر
وأولئك هم المفلحون. قال الضحاك: هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء وقال أبو
جعفر الباقر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير " ثم قال " الخير اتباع القرآن وسنتي ". رواه
ابن مردويه. والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن وإن كان ذلك واجبا على كل
فرد فرد من الأمة بحسبه كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكرا
فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان " وفي رواية " وليس وراء ذلك
من الايمان حبة خردل ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان الهاشمي أنبأنا إسماعيل بن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن
عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن
المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " ورواه الترمذي وابن ماجة من
حديث عمرو بن أبي عمرو به وقال الترمذي: حسن والأحاديث في هذا الباب كثيرة مع الآيات الكريمة كما سيأتي
تفسيرها في أماكنها. ثم قال تعالى " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " الآية ينهى
تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني أزهر بن عبد الله الهروي عن أبي عامر عبد الله بن يحيى
قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن
أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني
الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى
الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله
عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى كلاهما
عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به وقد ورد هذا الحديث من طرق.
وقوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه
أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " قال
الحسن البصري: وهم المنافقون " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " وهذا الوصف يعم كل كافر " وأما الذين
ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون " يعني الجنة ماكثون فيها أبدا لا يبغون عنها حولا وقد قال أبو
عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن الربيع بن صبيح وحماد بن سلمة عن أبي
398

غالب قال: رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال أبو أمامة: كلاب النار شر قتلى تحت أديم
السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " إلى آخر الآية قلت: لأبي أمامة أنت سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا - ما حدثتكموه ثم قال هذا
حديث حسن وقد رواه ابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن
عبد الرزاق عن معمر عن أبي غالب بنحوه.
وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الآية عن أبي ذر حديثا مطولا غريبا عجيبا جدا: ثم قال تعالى " تلك آيات الله
نتلوها عليك " أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد " بالحق " أي نكشف ما الامر عليه في الدنيا
والآخرة " وما الله يريد ظلما للعالمين " أي ليس بظالم لهم بل هو الحاكم العدل الذي لا يجور لأنه القادر على
كل شئ العالم بكل شئ فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحدا من خلقه، ولهذا قال تعالى " ولله ما في
السماوات وما في الأرض " أي الجميع ملك له وعبيد له " وإلى الله ترجع الأمور " أي هو الحاكم المتصرف في
الدنيا والآخرة.
كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب
لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون (110) لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا
ينصرون (111) ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت
عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون (112)
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم فقال تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال البخاري:
حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان بن ميسرة عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه " كنتم خير أمة أخرجت
للناس " قال: خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الاسلام وهكذا قال ابن
عباس ومجاهد وعطية العوفي وعكرمة وعطاء والربيع بن أنس " كنتم خير أمة أخرجت للناس " يعني خير الناس
للناس: والمعنى أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ولهذا قال " تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بالله " قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا شريك عن سماك عن عبد الله بن عميرة عن درة بنت أبي
لهب قالت: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال يا رسول الله أي الناس خير؟ قال " خير الناس أقرأهم
وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم " ورواه أحمد في مسنده والنسائي في سننه
والحاكم في مستدركه من حديث سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت
للناس " قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة. والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع
الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال في
الآية الأخرى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " أي خيارا " لتكونوا شهداء على الناس " الآية.
وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجة ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " وهو حديث مشهور وقد
حسنه الترمذي. ويروى من حديث معاذ بن جبل وأبي سعيد نحوه. وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى
399

الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم
لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل. فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من
أعمال غيرهم مقامه كما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا ابن زهير عن عبد الله يعني ابن محمد بن عقيل
عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت ما
لم يعط أحد من الأنبياء " فقلنا يا رسول الله ما هو؟ قال " نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد
وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم " تفرد به أحمد من هذا الوجه إسناده حسن.
وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو العلاء الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاومة بن أبي حبيش عن يزيد بن ميسرة
قال: سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وما سمعته يكنيه قبلها ولا بعدها يقول " إن الله
تعالى يقول يا عيسى إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا
وصبروا ولا حلم ولا علم قال: يا رب كيف هذا لهم ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي ".
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها ههنا قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم حدثنا المسعودي حدثنا بكير بن
الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله " أعطيت سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير
حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفا "
فقال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن
موسى بن عبيد عن ميمون بن مهران عن عبد الرحمن بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن ربي أعطاني سبعين ألفا
يدخلون الجنة بغير حساب " فقال عمر: يا رسول الله فهلا استزدته فقال استزدته فأعطاني مع كل ألف سبعين ألفا "
قال عمر: فهلا استزدته قال " قد استزدته فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفا " قال عمر: فهلا استزدته قال " قد
استزدته فأعطاني هكذا " وفرج عبد الرحمن ابن أبي بكر بين يديه وقال عبد الله وبسط باعيه وحثا عبد الله وقال
هاشم: وهذا من الله لا يدرى ما عدده.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة قال: قال
شريح بن عبيدة: مرض ثوبان بحمص وعليها عبد الله بن قرط الأزدي فلم يعده فدخل على ثوبان رجل من
الكلاعيين عائدا له فقال له ثوبان: أتكتب؟ قال: نعم قال: اكتب فكتب للأمير عبد الله بن قرط من ثوبان مولى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإنه لو كان لموسى وعيسى عليهما السلام بحضرتك خادم لعدته ثم طوى الكتاب وقال له:
أتبلغه إياه؟ قال نعم فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط فلما رآه قام فزعا فقال الناس ما شأنه أحدث أمر؟
فأتى ثوبان فدخل عليه فعاده وجلس عنده ساعة ثم قام فأخذ ثوبان بردائه وقال: اجلس حتى أحدثك حديثا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا " تفرد
به أحمد من هذا الوجه وإسناد رجاله كلهم ثقات شاميون حمصيون فهو حديث صحيح ولله الحمد والمنة.
" طريق أخرى " قال الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن زريق الحمصي حدثنا محمد بن إسماعيل يعني ابن عياش
حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان رضي الله عنه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن ربي عز وجل وعدني من أمتي سبعين ألفا لا يحاسبون مع كل ألف سبعون ألفا " هذا لعله
هو المحفوظ بزيادة أبي أسماء الرحبي بين شريح وبين ثوبان والله أعلم.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال: أكثرنا الحديث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ثم غدونا إليه فقال " عرضت على الأنبياء
400

الليلة بأممها فجعل النبي يمر ومعه الثلاثة والنبي ومعه العصابة والنبي ومعه النفر والنبي وليس معه أحد حتى
مر على موسى عليه السلام ومعه كبكبة من بني إسرائيل فأعجبوني فقلت من هؤلاء؟ قيل: هذا أخوك موسى ومعه
بنو إسرائيل فقلت: فأين أمتي؟ فقيل انظر عن يمينك فنظرت فإذا الضراب قد سد بوجوه الرجال فقيل لي أرضيت:
فقلت: رضيت يا رب - قال: فقيل لي إن مع هؤلاء سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فداكم
أبي وأمي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين ألفا فافعلوا فإن قصرتم فكونوا من أهل الضراب فإن قصرتم فكونوا من
أهل الأفق فإني قد رأيت ثم أناسا يتهاوشون " فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم
أي من السبعين فدعا له فقام رجل آخر فقال: ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكاشة "
قال: ثم تحدثنا فقلنا من ترون هؤلاء السبعين الألف قوم ولدوا في الاسلام ولم يشركوا بالله شيئا حتى ماتوا فبلغ
ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال " هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " هكذا رواه أحمد
بهذا السند وهذا السياق ورواه أيضا عن عبد الصمد عن هشام عن قتادة بإسناده مثله وزاد بعد قوله " رضيت يا رب
رضيت يا رب: قال رضيت؟ قلت: نعم قال: انظر عن يسارك - قال: فنظرت فإذا الأفق قد سد بوجوه الرجال
فقال: رضيت؟ قلت: رضيت " وهذا إسناد صحيح من هذا الوجه تفرد به أحمد ولم يخرجوه.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن منيع حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز حدثنا حماد عن عاصم عن
زر عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " عرضت علي الأمم بالموسم فراثت علي أمتي ثم رأيتهم
فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم قد ملؤا السهل والجبل فقال أرضيت يا محمد؟ فقلت: نعم قال: فإن مع هؤلاء
سبعين ألفا يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن
محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال " أنت منهم " فقام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني
منهم فقال " سبقك بها عكاشة " رواه الحافظ الضياء المقدسي وقال: هذا عندي على شرط مسلم.
" حديث آخر " قال الطبراني: حدثنا محمد بن محمد الجذوعي القاضي حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا محمد بن أبي
عدي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدخل الجنة من
أمتي سبعون ألفا بغير حساب ولا عذاب " قيل: من هم؟ قال " هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا
يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " ورواه مسلم من طريق هشام بن حسان وعنده ذكر عكاشة.
" حديث آخر " ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة حدثه قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفا تضئ وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " قال أبو
هريرة. فقام عكاشة بن محض الأسدي يرفع نمرة عليه فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعله منهم " ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله فقال " سبقك بها عكاشة ".
" حديث آخر " قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا أبو غسان عن أبي
حازم عن السهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفا - أو سبعمائة ألف - آخذ بعضهم
ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر " أخرجه البخاري ومسلم جميعا عن
قتيبة عن عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل به.
" حديث آخر " قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا هشيم أنبأنا حصين بن
عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب انقض البارحة؟ قلت أنا ثم قلت: أما إني
لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال فما صنعت؟ قلت استرقيت قال: فما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه
الشعبي قال: وما حدثكم الشعبي؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب الأسلمي أنه قال " لا رقية إلا من عين أو
401

حمة " قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " عرضت على الأمم
فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم
أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا
سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب " ثم نهض فدخل منزله
فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الاسلام ولم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم
رسول الله صلى فقال " ما الذي تخوضون فيه؟ " فأخبروه فقال " هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يكتوون ولا
يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون " فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال " أنت منهم " ثم
قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم قال " سبقك بها عكاشة " وأخرجه البخاري عن أسيد بن زيد عن
هشيم وليس عنده: لا يترقون.
" حديث آخر " قال أحمد: حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جرير أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه: " فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر لا يحاسبون ثم الذين يلونهم
كأضواء نجم في السماء " ثم كذلك وذكر بقيته رواه مسلم من حديث روح غير أنه لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب السنن له حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا إسماعيل بن
عياش عن محمد بن زياد سمعت أبا أمامة الباهلي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " وعدني ربي أن يدخل الجنة
من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي عز
وجل " وكذا رواه الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش به وهذا إسناد جيد.
" طريق أخرى " عن أبي أمامة قال ابن أبي عاصم: حدثنا دحيم حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن
سليم بن عامر عن أبي اليمان الهروي واسمه عامر بن عبد الله بن يحيى عن أبي أمامة عن رسول الله صلى قال " إن الله
وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب " فقال يزيد بن الأخنس: والله ما أولئك في أمتك يا
رسول الله إلا مثل الذباب الأصهب في الذباب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإن الله وعدني سبعين ألفا مع كل ألف
سبعون ألفا وزادني ثلاث حثيات " وهذا أيضا إسناد حسن.
" حديث آخر " قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن يزيد بن
سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ربي عز وجل وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ثم يشفع كل ألف
لسبعين ألفا ثم يحثي ربي عز وجل بكفيه ثلاث حثيات " فكبر عمر وقال: إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم
وأبنائهم وعشيرتهم وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر. قال الحافظ الضياء أبو عبد الله المقدسي في
كتاب صفة الجنة: لا أعلم لهذا الاسناد علة والله أعلم.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام يعني الدستوائي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن
هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد
- أو قال بقديد - فذكر حديثا وفيه ثم قال " وعدني ربي عز وجل أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب
وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة " قال الضياء: وهذا
عندي على شرط مسلم.
" حديث آخر " قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس قال: قال رسول الله صلى " إن الله
402

وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف " قال أبو بكر رضي الله عنه: زدنا يا رسول الله قال " والله هكذا " قال
عمر: حسبك يا أبا بكر فقال أبو بكر: دعني وما عليك أن يدخلنا الجنة كلنا. قال عمر: إن الله إن شاء أدخل
خلقه الجنة بكف واحد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق عمر " هذا الحديث بهذا الاسناد تفرد به عبد الرزاق. قال الضياء:
وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني قال: حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي مائة
ألف " فقال أبو بكر: يا رسول الله زدنا قال " وهكذا " وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك قلت: يا رسول الله زدنا فقال
عمر: إن الله قادر على أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق عمر " هذا حديث غريب
من هذا الوجه وأبو هلال اسمه محمد بن سليم الراسبي بصري.
" طريق أخرى " عن أنس قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن بكير حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي حدثنا
حميد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا " قالوا: زدنا يا رسول الله قال " لكل رجل
سبعون ألفا " قالوا: زدنا وكان على كثيب فقالوا فقال " هكذا " وحثا بيديه قالوا: يا رسول الله أبعد الله من دخل
النار بعد هذا؟ وهذا إسناد جيد ورجاله كلهم ثقات ما عدا عبد القاهر بن السري وقد سئل عنه ابن معين
فقال صالح.
" حديث آخر " روى الطبراني من حديث قتادة عن أبي بكر بن عمر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله وعدني أن يدخل
من أمتي ثلاثمائة ألف الجنة بغير حساب " فقال عمر: يا رسول الله زدنا فقال: وهكذا بيده فقال عمر يا رسول الله
زدنا فقال عمر: حسبك إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بحفنة أو بحثية واحدة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق
عمر ".
" حديث آخر " قال الطبراني: حدثنا أحمد بن خليد حدثنا أبو توبة حدثنا معاوية بن سلام عن يزيد بن سلام يقول:
حدثني عبد الله بن عامر أن قيسا الكندي حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن ربي وعدني أن
يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب ويشفع كل ألف لسبعين ألفا ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفيه "
كذا قال قيس فقلت لأبي سعيد: آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم بأذني ووعاه قلبي قال أبو سعيد
قال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم " وذلك إن شاء الله يستوعب مهاجري أمتي ويوفي الله بقيته من أعرابنا " وقد روى هذا
الحديث محمد بن سهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناده مثله وزاد: قال أبو سعيد: فحسب ذلك عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألفا.
" حديث آخر " قال أبو القاسم الطبراني حدثنا هشيم بن مرثد الطبراني حدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش حدثني
أبي حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والذي نفس محمد
بيده ليبعثن منكم يوم القيامة إلى الجنة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض تقول الملائكة لم جاء مع
محمد أكثر مما جاء مع الأنبياء " وهذا إسناد حسن.
" حديث آخر " من الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عز وجل وأنها خير الأمم في
الدنيا والآخرة. قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إني لأرجو أن يكون من يتبعني من أمتي يوم القيامة ربع أهل الجنة " قال: فكبرنا ثم
قال: " أرجو أن يكونوا ثلث الناس " قال: فكبرنا ثم قال " أرجو أن يكونوا الشطر " وهكذا رواه عن روح عن ابن
جريج به وهو على شرط مسلم وثبت في الصحيحين من حديث أبي إسحاق السبيعي عن عمرو بن ميمون عن عبد
الله بن مسعود قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة " فكبرنا ثم قال " أما ترضون
أن تكونوا ثلث أهل الجنة " فكبرنا ثم قال " إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ".
403

" طريق أخرى " عن ابن مسعود قال الطبراني: حدثنا أحمد بن القاسم بن مساور حدثنا عفات بن مسلم حدثنا عبد
الواحد بن زياد حدثني الحارث بن حصين حدثني القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها " قالوا الله ورسوله أعلم قال " كيف أنتم
وثلثها " قالوا: ذاك أكثر قال " كيف أنتم والشطر لكم " قالوا ذاك أكثر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أهل الجنة عشرون
ومائة صف لكم منها ثمانون صفا " قال الطبراني: تفرد به الحارث بن حصين.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا ضرار بن مرة أبو سنان
الشيباني عن محارب بن ديثار عن ابن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أهل الجنة عشرون ومائة صف: هذه الأمة
من ذلك ثمانون صفا " وكذا رواه عن عفان عن عبد العزيز به وأخرجه الترمذي من حديث أبي سنان به وقال: هذا
حديث حسن ورواه ابن ماجة من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به.
" حديث آخر " روى الطبراني من حديث سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا خالد بن يزيد البجلي حدثنا
سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " أهل الجنة عشرون
ومائة صف ثمانون منها من أمتي " تفرد به خالد بن يزيد البجلي وقد تكلم فيه ابن عدي.
" حديث آخر " قال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا موسى بن غيلان حدثنا هاشم بن مخلد حدثنا
عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي عمرو عن أبيه عن أبي هريرة قال: لما نزلت " ثلة من الأولين وثلة من
الآخرين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم ربع أهل الجنة أنتم ثلث أهل الجنة أنتم نصف أهل الجنة أنتم ثلثا أهل
الجنة ".
وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نحن الآخرون
الأولون يوم القيامة نحن أول الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا الله
لما اختلفوا فيه من الحق فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه الناس لنا فيه تبع غدا لليهود وللنصارى بعد غد ". رواه
البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه
ورواه مسلم أيضا من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة " وذكر تمام الحديث.
" حديث آخر " روى الدارقطني في الافراد من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها وحرمت
على الأمم حتى تدخلها أمتي " ثم قال انفرد به ابن عقيل عن الزهري ولم يرو عنه سواه وتفرد به زهير بن محمد
عن ابن عقيل وتفرد به عمرو بن أبي سلمة عن زهير. وقد رواه أبو أحمد بن عدي الحافظ فقال: حدثنا أحمد بن
الحسين بن إسحاق حدثنا أبو بكر الأعين محمد بن أبي غياث حدثنا أبو حفص التنيسي حدثنا صدقة الدمشقي عن
زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الزهري. ورواه الثعلبي حدثنا أبو عباس المخلدي أنبأنا أبو نعيم
عبد الملك بن محمد أنبأنا أحمد بن عيسى التنيسي حدثنا عمرو بن سلمة حدثنا صدقة بن عبد الله عن زهير بن
محمد بن عقيل به.
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون
بالله " فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح كما قال قتادة: بلغنا أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس دعة فقرأ هذه الآية " كنتم خير أمة أخرجت للناس " ثم قال من سره أن
يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها رواه ابن جرير. ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله
404

بقوله تعالى " كانوا لا يتناهون عن منكر " فعلوه الآية: ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات شرع في ذم أهل
الكتاب وتأنيبهم فقال تعالى " ولو آمن أهل الكتاب " أي بما أنزل على محمد " لكان خيرا لهم منهم المؤمنون
وأكثرهم الفاسقون " أي قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وأكثرهم على الضلالة والكفر
والفسق والعصيان.
ثم قال تعالى مخبرا عباده المؤمنين ومبشرا لهم أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى
" لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار ثم لا ينصرون " هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم
وكذلك من قبلهم من يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله. وكذلك النصارى بالشام
كسرهم الصحابة في غير ما موطن وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ولا تزال عصابة الاسلام قائمة
بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ويحكم بملة الاسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فيكسر
الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الاسلام. ثم قال تعالى " ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا
بحبل من الله وحبل من الناس " أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يأمنون " إلا بحبل من الله " أي بذمة من
الله وهو عقد الذمة لهم وضرب الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة " وحبل من الناس " أي أمان منهم لهم كما في
المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة وكذا عبد على أحد قولي العلماء قال ابن عباس
" إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي بعهد من الله وعهد من الناس وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك
والحسن وقتادة والسدي والربيع بن أنس. وقوله " وباءوا بغضب من الله " أي ألزموا فالتزموا بغضب من الله
وهم يستحقونه " وضربت عليهم المسكنة " أي الزموها قدرا وشرعا. ولهذا قال " ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
ويقتلون الأنبياء بغير حق " أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة
أبدا متصلا بذل الآخرة ثم قال تعالى " ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون " أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل
رسل الله وقيضوا لذلك أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله والاعتداء في شرع الله
فعياذا بالله من ذلك والله عز وجل المستعان. قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي
حدثنا شعبة عن سليمان الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر الأزدي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كانت
بنو إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي ثم يقوم سوق بقلهم في آخر النهار.
* ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون (113) يؤمنون بالله
واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين (114) وما
يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين (115) إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله
شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (116) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت
حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (117)
قال ابن أبي نجيح: زعم الحسن بن أبي يزيد العجلي عن ابن مسعود في قوله تعالى " ليسوا سواء من أهل الكتاب
أمة قائمة " قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم وهكذا قال السدي. ويؤيد هذا القول الحديث الذي
رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا أبو النضر وحسن بن موسى قالا: حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن
مسعود قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: " أما إنه ليس
405

من أهل هذه الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم " قال فنزلت هذه الآيات " ليسوا سواء من أهل الكتاب - إلى
قوله - والله عليم بالمتقين " والمشهور عند كثير من المفسرين كما ذكره محمد بن إسحاق وغيره. ورواه العوفي عن
ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأسد بن عبيد وثعلبة بن شعبة
وغيرهم. أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب وهؤلاء الذين أسلموا ولهذا قال تعالى " ليسوا سواء "
أي ليسوا كلهم على حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ولهذا قال تعالى " من أهل الكتاب أمة قائمة " أي
قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه متبعة نبي الله فهي قائمة يعني مستقيمة " يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " أي
يقيمون الليل ويكثرون التهجد ويتلون القرآن في صلواتهم " يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين " وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة " وإن من أهل
الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " الآية، ولهذا قال تعالى ههنا " وما يفعلوا من خير
فلن يكفروه " أي لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء " والله عليم بالمتقين " أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا
يضيع لديه أجر من أحسن عملا ثم قال تعالى مخبرا عن الكفرة المشركين بأنه " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم
من الله شيئا " أي لا ترد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم " وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ثم ضرب
مثلا لما ينفقه الكفار في هذه الدار قاله مجاهد والحسن والسدي فقال تعالى " مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا
كمثل ريح فيه صر " أي برد شديد قال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك والربيع بن أنس
وغيرهم. وقال عطاء: برد وجليد وعن ابن عباس أيضا ومجاهد " فيها صر " أي نار وهو يرجع إلى الأول فإن البرد
الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشئ بالنار " أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته "
أي فأحرقته يعني بذلك السعفة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع
فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه. فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا وثمرها
كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه. وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس " وما ظلمهم الله
ولكن أنفسهم يظلمون ".
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى
صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون (118) ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا
لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور (119)
إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما
يعملون محيط (120)
يقول تبارك وتعالى ناهيا عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه
لأعدائهم والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالا أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن
وبما يستطيعون من المكر والخديعة ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم وقوله تعالى " لا تتخذوا
بطانة من دونكم " أي من غيركم من أهل الأديان وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره.
وقد روى البخاري والنسائي وغيرهما. من حديث جماعة منهم يونس ويحيى بن سعيد وموسى بن عقبة وابن أبي
عتيق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة
406

إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه والمعصوم من عصمة الله "
وقد رواه الأوزاعي ومعاوية بن سلام عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه فيحتمل أنه عند
الزهري عن أبي سلمة عنهما وأخرجه النسائي عن الزهري أيضا وعلقه البخاري في صحيحه فقال: وقال
عبيد الله بن أبي جعفر عن صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعا فذكره فيحتمل أنه عند
أبي سلمة عن ثلاثة من الصحابة والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا
عيسى بن يونس عن أبي حيان التيمي عن أبي الزنباع عن ابن أبي الدهقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو اتخذته كاتبا فقال: قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين ففي
هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين
واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ولهذا قال تعالى " لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم " وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام عن الأزهر بن راشد
قال: كانوا يأتون أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يعني البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات
يوم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا " فلم يدروا ما هو فأتوا
الحسن فقالوا له: إن أنسا حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا "
فقال الحسن: أما قوله " لا تنقشوا في خواتيمكم عربيا " محمد صلى الله عليه وسلم وأما قوله " لا تستضيئوا بنار المشركين " يقول لا
تستشيروا المشركين في أموركم ثم قال الحسن: تصديق ذلك في كتاب الله " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة
من دونكم " هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله تعالى وقد رواه النسائي عن مجاهد بن موسى عن هشيم
ورواه الإمام أحمد عن هشيم بإسناده مثله من غير ذكر تفسير الحسن البصري وهذا التفسير فيه نظر ومعناه ظاهر " لا
تنقشوا في خواتيمكم عربيا " أي بخط عربي لئلا يشابه نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان نقشه محمد رسول الله ولهذا
جاء في الحديث الصحيح أنه نهى أن ينقش أحد على نقشه وأما الاستضاءة بنار المشركين فمعناه لا تقاربوهم في
المنازل بحيث تكونون معهم في بلادهم بل تباعدوا منهم وهاجروا من بلادهم ولهذا روى أبو داود " لا تتراءى
ناراهما " وفي الحديث الآخر " من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله " فحمل الحديث على ما قاله الحسن رحمه
الله والاستشهاد عليه بالآية فيه نظر والله أعلم.
ثم قال تعالى " قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر " أي قد لاح على صفحات وجوههم
وفلتات ألسنتهم من العداوة مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للاسلام وأهله ما لا يخفي مثله على
لبيب عامل ولهذا قال تعالى " قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون " وقوله تعالى " ها أنتم أولاء تحبونهم ولا
يحبونكم " أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الايمان فتحبونهم على ذلك وهم لا يحبونكم لا
باطنا ولا ظاهرا " وتؤمنون بالكتاب كله " أي ليس عندكم في شئ منه شك ولا ريب وهم عندهم الشك والريب
والحيرة وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس " وتؤمنون
بالكتاب كله " أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم
منهم لكم رواه ابن جرير " وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " والأنامل أطراف
الأصابع قاله قتادة.
وقال الشاعر:
وما حملت كفاي أناملي العشرا
وقال ابن مسعود والسدي والربيع بن أنس: الأنامل الأصابع وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الايمان
407

والمودة وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ " وذلك
أشد الغيظ والحنق " قال الله تعالى " قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور " أي مهما كنتم تحسدون عليه
المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ومعل كلمته ومظهر دينه
فموتوا أنتم بغيظكم " إن الله عليم بذات الصدور " أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم وتكنه سرائركم من
البغضاء والحسد والغل للمؤمنين وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون وفي الآخرة بالعذاب
الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها لا محيد لكم عنها ولا خروج لكم منها. ثم قال تعالى " إن تمسسكم
حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها " وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين وهو أنه إذا أصاب
المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المنافقين وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو
أديل عليهم الأعداء لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أحد - فرح المنافقون بذلك قال الله تعالى
مخاطبا المؤمنين: " وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا " الآية يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار
وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به وهو
الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولا يقع في الوجود شئ إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه.
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أحد وما كان فيها من الاختبار لعباده المؤمنين والتمييز بين المؤمنين والمنافقين وبيان
الصابرين فقال تعالى.
وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم (121) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله
وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون (122) ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون (123)
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وعن الحسن البصري
المراد بذلك يوم الأحزاب. ورواه ابن جرير وهو غريب لا يعول عليه. وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة
ثلاث من الهجرة قال قتادة: لاحدى عشرة ليلة خلت من شوال وقال عكرمة: يوم السبت للنصف من شوال فالله
أعلم. وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت
مع أبي سفيان قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان: ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك
فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريبا من أحد تلقاء المدينة فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم
الناس " أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة "؟ فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة فإن أقاموا أقاموا بشر محبس
وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم وأن رجعوا رجعوا خائبين
وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدرا بالخروج إليهم فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته وخرج عليهم وقد
ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إن شئت أن نمكث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما
ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له " فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه فلما كانوا بالشوط رجع
عبد الله بن أبي بثلث الجيش مغضبا لكونه لم يرجع إلى قوله وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالا لاتبعناكم ولكنا لا
نراكم تقاتلون. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي: وجعل ظهره وعسكره إلى أحد
وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال " وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه. وأمر على
الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف. والرماة يومئذ خمسون رجلا فقال لهم " انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين
408

من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم " وظاهر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين. وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار. وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان
يومئذ وأخر آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين. وتهيأت قريش وهم ثلاثة آلاف.
ومعهم مائة فرس قد جنبوها. فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.
ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى. ولهذا قال تعالى
" وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " أي تنزلهم منازلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم
" والله سميع عليم " أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالا حاصله كيف تقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله
تعالى " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " الآية. ثم كان جوابه عنه أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما
كان يوم السبت أول النهار. وقوله تعالى " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا " الآية. قال البخاري: حدثنا علي بن
عبد الله حدثنا سفيان قال: قال عمر سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت " إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا "
الآية. قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة وما نحب - وقال سفيان مرة - وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى
" والله وليهما ". وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به وكذا قال غير واحد من السلف إنهم بنو حارثة وبنو
سلمة. وقوله تعالى " ولقد نصركم الله ببدر " أي يوم بدر وكان يوم جمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من
سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الاسلام وأهله ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه هذا
مع قلة عدد المسلمين يومئذ فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فيهم فارسان وسبعون بعيرا والباقون مشاة
ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد
والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله وبيض وجه النبي
وقبيله وأخزى الشيطان وجيله ولهذا قال تعالى ممتنا على عباده المؤمنين وحزبه المتقين " ولقد نصركم الله ببدر
وأنتم أذلة " أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد ولهذا قال تعالى في الآية
الأخرى " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا - إلى - غفور رحيم " وقال الإمام أحمد حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سماك قال: سمعت عياضا الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء أبو
عبيدة ويزيد بن أبي سفيان وابن حسنة وخالد بن الوليد وعياض - وليس عياض هذا الذي حدث سماكا - قال:
وقال عمر: إذا كان قتالا فعليكم أبو عبيدة قال: فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت واستمددناه فكتب إلينا إنه قد
جاءني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصرا وأحصن جندا الله عز وجل فاستنصروه فإن
محمدا صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر في أقل من عدتكم فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني قال: فقاتلناهم
فهزمناهم أربع فراسخ قال: وأصبنا أموالا فتشاورنا فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة قال: وقال
أبو عبيدة: من يراهنني؟ فقال شاب أنا إن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة ينفران وهو خلفه على
فرس أعرابي وهذا إسناد صحيح وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه واختاره
الحافظ الضياء المقدسي في كتابه وبدر محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له بدر بن
النارين قال الشعبي. بدر بئر لرجل يسمى بدرا: وقوله " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " أي تقومون بطاعته.
إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين (124) بلى إن تصبروا
وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين (125) وما جعله الله إلا بشرى
409

لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم (126) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو
يكبتهم فينقلبوا خائبين (127) ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون (128) ولله ما في السماوات
وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم (129)
اختلف المفسرون في هذا الوعد هل كان يوم بدر أو يوم أحد؟ على قولين " أحدهما " أن قوله " إذ تقول للمؤمنين "
متعلق بقوله " ولقد نصركم الله ببدر " وهذا عن الحسن البصري وعامر الشعبي والربيع بن أنس وغيرهم واختاره
ابن جرير قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من
الملائكة " قال: هذا يوم بدر رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب
حدثنا داود عن عامر يعني الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل
الله تعالى " ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين - إلى قوله - مسومين " قال: فبلغت كرزا
الهزيمة فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة. وقال الربيع بن أنس: أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا
ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله في قصة بدر " إذ
تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين - إلى قوله - إن الله عزيز حكيم "؟ فالجواب أن
التنصيص على الألف ههنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله " مردفين " بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر
مثلهم. وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن
قتال الملائكة إنما كان يوم بدر والله أعلم. وقال سعيد بن أبي عروبة أمد الله المسلمين يوم بدر بخمسة آلاف " القول
الثاني " أن هذا الوعد متعلق بقوله " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال " وذلك يوم أحد وهو قول مجاهد
وعكرمة والضحاك والزهري وموسى بن عقبة وغيرهم. لكن قالوا لم يحصل الامداد بالخمسة الآلاف لان المسلمين
فروا يومئذ زاد عكرمة ولا بالثلاثة الآلاف لقوله تعالى " إن تصبروا وتتقوا " فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك
واحد. وقوله تعالى " بلى إن تصبروا وتتقوا " يعني تصبروا على مصابرة عدوكم وتتقوني وتطيعوا أمري. وقوله تعالى
" ويأتوكم من فورهم هذا " قال الحسن وقتادة والربيع والسدي: أي من وجههم هذا. وقال مجاهد وعكرمة وأبو
صالح أي من غضبهم هذا. وقال الضحاك: من غضبهم ووجههم. وقال العوفي عن ابن عباس: من سفرهم
هذا ويقال من غضبهم هذا. وقوله تعالى " يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " أي معلمين
بالسيما. وقال أبو إسحق السبيعي عن حارثة بن مضرب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان سيما
الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض وكان سيماهم أيضا في نواصي خيولهم رواه ابن أبي حاتم. ثم قال حدثنا أبو
زرعة حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي
الله عنه في هذه الآية " مسومين " قال: بالعهن الأحمر وقال مجاهد: " مسومين " أي محذفة أعرافها معلمة
نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم
مسومين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف وقال قتادة وعكرمة " مسومين " أي
بسيما القتال. وقال مكحول: مسومين بالعمائم. وروى ابن مردويه من حديث عبد القدوس بن حبيب عن عطاء بن
أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله " مسومين " قال " معلمين " وكان سيما الملائكة يوم بدر
عمائم سود ويوم حنين عمائم حمر. وروي من حديث حسين بن مخارق عن سعيد عن الحكم عن مقسم عن
ابن عباس قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر وقال ابن إسحاق حدثني من لا أتهم عن مقسم عن ابن عباس قال: كان
سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ويوم حنين عمائم حمر. ولم تضرب الملائكة في يوم
410

سوى يوم بدر وكانوا يكونون عددا ومددا لا يضربون ثم رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن
عباس فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الأحمسي حدثنا وكيع حدثنا هشام بن عروة عن يحيي بن عباد: أن
الزبير رضي الله عنه كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر رواه ابن مردويه
من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير فذكره. وقوله تعالى " وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن
قلوبكم به " أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا وإلا فإنما النصر من
عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم كما قال تعالى بعد أمره
المؤمنين بالقتال " ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل
أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم " ولهذا قال ههنا " وما جعله الله إلا بشرى لكم
ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " أي هو ذو العزة التي لا ترام والحكمة في قدره
والاحكام. ثم قال تعالى " ليقطع طرفا من الذين كفروا " أي أمركم بالجهاد والجلاء لماله في ذلك من الحكمة في كل
تقدير ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين فقال " ليقطع طرفا " أي ليهلك أمة " من الذين
كفروا أو يكبتهم فينقلبوا " أي يرجعوا " خائبين " أي لم يحصلوا على ما أملوا. ثم اعترض بجملة دلت على أن
الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى " ليس لك من الامر شئ " أي بل الامر كله إلي كما قال
تعالى " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وقال ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " وقال " إنك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " وقال محمد بن إسحاق في قوله " ليس لك من الامر شئ " أي ليس لك
من الحكم شئ في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. ثم ذكر بقية الأقسام فقال " أو يتوب عليهم " أي مما هم فيه من
الكفر فيهديهم بعد الضلالة " أو يعذبهم " أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ولهذا قال " فإنهم ظالمون "
أي يستحقون ذلك. وقال البخاري حدثنا حبان بن موسى أنبأنا عبد الله أنبأنا معمر عن الزهري حدثني سالم عن أبيه
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر " اللهم العن فلانا وفلانا " بعد ما
يقول " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى " ليس لك من الامر شئ " الآية. وهكذا رواه
النسائي من حديث عبد الله بن المبارك وقال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو عقيل - قال أحمد: وهو عبد
الله بن عقيل صالح الحديث ثقة - حدثنا عمر بن حمزة عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم
العن فلانا وفلانا اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية " فنزلت
هذه الآية " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " فتيب عليهم كلهم. وقال أحمد:
حدثنا أبو معاوية العلائي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا محمد بن عجلان عن نافع عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يدعو على أربعة قال: فأنزل الله " ليس لك من الامر شئ " إلى آخر الآية قال: وهداهم الله للاسلام قال
البخاري: قال محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى " ليس لك من الامر شئ " الآية.
وقال البخاري أيضا: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي
سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لاحد
قنت بعد الركوع وربما قال إذا قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد: اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن
هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين. اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني
يوسف " يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر " اللهم العن فلانا وفلانا " لاحياء من أحياء
العرب حتى أنزل الله " ليس لك من الامر شئ " الآية.
وقال البخاري: قال حميد وثابت عن أنس بن مالك: شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "
411

فنزلت " ليس لك من الامر شئ " وقد أسند هذا الحديث الذي علقه البخاري في صحيحه فقال في غزوة
أحد: حدثنا يحيى بن عبد الله السلمي أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري حدثني سالم بن عبد الله عن أبيه أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر " اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا " بعد
ما يقول " سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد " فأنزل الله " ليس لك من الامر شئ " الآية. وعن حنظلة بن أبي
سفيان قال: سمعت سالم بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو
والحارث بن هشام فنزلت " ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " هكذا ذكر هذه الزيادة
البخاري معلقة مرسلة وقد تقدمت مسنده متصلة في مسند أحمد آنفا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا حميد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في
وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل " فأنزل الله
" ليس لك من الامر شئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " انفرد به مسلم فرواه عن القعنبي عن حماد بن
سلمة عن ثابت عن أنس فذكره.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن مطر عن قتادة قال: أصيب
النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته وفرق حاجبه فوقع وعليه درعان والدم يسيل فمر به سالم مولى أبي حذيفة
فأجلسه ومسح عن وجهه فأفاق وهو يقول " كيف بقوم فعلوا هذا نبيهم وهو يدعوهم إلى الله عز وجل؟ " فأنزل الله
" ليس لك من الامر شئ " الآية وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة بنحوه ولم يقل فأفاق.
ثم قال تعالى " ولله ما في السماوات وما في الأرض " الآية. أي الجميع ملك له وأهلهما عبيد بين يديه " يغفر لمن
يشاء ويعذب من يشاء " أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله غفور رحيم.
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت
للكافرين (131) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون (132) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات
والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس
والله يحب المحسنين (134) والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن
يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري
من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين (136)
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافا مضاعفة كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل
الدين إما أن تقضي وإما أن تربي فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخر في القدر وهكذا كل عام فربما تضاعف
القليل حتى يصير كثيرا مضاعفا وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة ثم توعدهم بالنار
وحذرهم منها فقال تعالى " واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون " ثم ندبهم إلى
المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات فقال تعالى " وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها
السماوات والأرض أعدت للمتقين " أي كما أعدت النار للكافرين وقد قيل إن معنى قوله عرضها السماوات والأرض
تنبيها على اتساع طولها كما قال في صفة فرش الجنة " بطائنها من إستبرق " أي فما ظنك بالظهائر وقيل بل عرضها
412

كطولها لأنها قبة فيه تحت العرش والشئ المقبب والمستدير عرضه كطوله وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح " إذا
سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وسقفها عرش الرحمن " وهذه
الآية كقوله في سورة الحديد " سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض " الآية. وقد روينا
في مسند الإمام أحمد أن هرقل كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ". وقد رواه ابن جرير فقال حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني
مسلم بن خالد عن أبي خيثمة عن سعيد بن أبي راشد عن يعلى بن مرة قال لقيت التنوخي رسول هرقل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمص شيخا كبيرا قد فسد فقال قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتاب هرقل فتناول الصحيفة رجل عن
يساره قال: قلت من صاحبكم الذي يقرأ؟ قالوا: معاوية فإذا كتاب صاحبي: إنك كتبت تدعوني إلى جنة عرضها
السماوات والأرض فأين النار قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ". وقال الأعمش
وسفيان الثوري وشعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب: أن ناسا من اليهود سألوا عمر بن الخطاب عن جنة
عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار أين الليل وإذا جاء الليل أين النهار
فقالوا: لقد نزعت مثلها من التوراة رواه ابن جرير من ثلاثة طرق. ثم قال: حدثنا أحمد بن حازم حدثنا أبو نعيم
حدثنا جعفر بن برقان أنبأنا يزيد بن الأصم: أن رجلا من أهل الكتاب قال: يقولون " جنة عرضها السماوات
والأرض " فأين النار؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه أين يكون الليل إذا جاء النهار وأين يكون النهار إذا جاء
الليل. وقد روى هذا مرفوعا فقال البزار حدثنا محمد بن معمر حدثنا المغيرة بن سلمة أبو هشام حدثنا عبد الواحد بن
زياد عن عبيد الله بن عبد الله بن الأصم عن عمه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: أرأيت قوله تعالى " جنة عرضها السماوات والأرض " فأين النار؟ قال " أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شئ
فأين النهار "؟ قال: حيث شاء الله قال " وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل ". وهذا يحتمل معنيين
" أحدهما " أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان وإن
كنا لا نعلمه: وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل وهذا أظهر كما تقدم في حديث أبي هريرة عن البزار
" الثاني " أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب فإن الليل يكون من الجانب الآخر فكذلك
الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل " كعرض السماوات والأرض " والنار
في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار والله أعلم.
ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال " الذين ينفقون في السراء والضراء " أي في الشدة والرخاء والمنشط والمكره
والصحة والمرض. وفي جميع الأحوال كما قال " الذين ينفقون بالليل والنهار سرا وعلانية " والمعنى أنهم لا
يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والانفاق في مراضيه والاحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر وقوله
تعالى " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه وعفوا مع
ذلك عمن أساء إليهم: وقد ورد في بعض الآثار " يقول الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك
فيمن أهلك " رواه ابن أبي حاتم. وقد قال أبو يعلى في مسنده: حدثنا أبو موسى الزمن حدثنا عيسى بن شعيب الضرير
أبو الفضل حدثني الربيع بن سليمان النميري عن أبي عمرو بن أنس بن مالك عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
كف غضبه كف الله عنه عذابه ومن خزن لسانه ستر الله عورته ومن اعتذر إلي قبل الله عذره ". وهذا حديث
غريب وفي إسناده نظر. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس الشديد بالصرعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " وقد
رواه الشيخان من حديث مالك. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم التيمي عن
الحارث بن سويد عن عبد الله وهو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكم مال وارثه أحب إليه من
ماله "؟ قالوا: يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه قال " اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال
413

وارثه أحب إليه من ماله مالك من مالك إلا ما قدمت وما لوارثك إلا ما أخرت ". قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما تعدون الصرعة فيكم؟ " قلنا الذي لا تصرعه الرجال قال " لا ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب " قال:
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدرون ما الرقوب؟ " قلنا الذي لا ولد له قال " لا ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده
شيئا ". أخرج البخاري الفضل الأول منه وأخرج مسلم أصل هذا الحديث من رواية الأعمش به " حديث آخر "
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت عروة بن عبد الله الجعفي يحدث عن أبي حصبة أو ابن
أبي حصين عن رجل شهد النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال " أتدرون ما الرقوب؟ " قلنا الذي لا ولد له قال " الرقوب كل
الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئا " قال " أتدرون من الصعلوك "؟ قالوا الذي ليس له مال فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئا " قال: ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما الصرعة "؟ قالوا: الصريع
الذي لا تصرعه الرجال فقال صلى الله عليه وسلم " الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع
غضبه " " حديث آخر ". قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا هشام هو ابن عروة عن أبيه عن الأحنف بن قيس
عن عم له يقال له حارثة بن قدامة السعدي أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قل لي قولا ينفعني وأقلل علي
لعلي أعيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تغضب " فأعاد عليه حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول " لا تغضب " وهكذا
رواه عن أبي معاوية عن هشام به ورواه أيضا عن يحيى بن سعيد القطان عن هشام به: أن رجلا قال يا رسول الله
قل لي قولا وأقلل علي لعلي أعقله فقال " لا تغضب ". الحديث انفرد به أحمد " حديث آخر ". قال أحمد حدثنا
عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رجل يا
رسول الله أوصني قال " لا تغضب " قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإذا الغضب يجمع الشر كله
انفرد به أحمد " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن أبي حرب ابن أبي
الأسود عن أبي الأسود عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقالوا: أيكم يورد على
أبي ذر ويحسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل: أنا فجاء فأورد على الحوض فدقه وكان أبو ذر قائما فجلس ثم
اضطجع فقيل له يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا " إذا غضب أحدكم وهو قائم
فليجلس فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ". ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بإسناده إلا أنه وقع في روايته
عن أبي حرب عن أبي ذر والصحيح ابن أبي حرب عن أبيه عن أبي ذر كما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه " حديث
آخر " قال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن خالد حدثنا أبو وائل الصنعاني قال: كنا جلوسا عند عروة بن محمد إذ دخل
عليه رجل فكلمه بكلام أغضبه فلما أن أغضبه قام ثم عاد إلينا وقد توضأ فقال: حدثني أبي عن جدي عطية هو ابن
سعد السعدي - وقد كانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من
النار وانما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ ". وهكذا رواه أبو داود من حديث إبراهيم بن خالد
الصنعاني عن أبي وائل القاص المرادي الصنعاني قال أبو داود: أراه عبد الله بن بحير " حديث آخر " قال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا نوح بن معاوية السلمي عن مقاتل بن حيان عن عطاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أنظر معسرا أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ألا إن عمل الجنة حزن بربوة
ثلاثا ألا إن عمل النار سهل بسهوة. والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها
عبد ما كظمها عبد الله إلا ملا الله جوفه إيمانا ". انفرد به أحمد وإسناده حسن ليس فيه مجروح ومتنه حسن " حديث
آخره في معناه " قال أبو داود حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا عبد الرحمن يعني ابن مهدي عن بشر يعني ابن منصور عن
محمد بن عجلان عن سويد بن وهب عن رجل من أبناء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه ملا الله جوفه أمنا وإيمانا ومن ترك لبس ثوب جمال وهو قادر عليه - قال بشر:
أحسبه قال تواضعا - كساه الله حلة الكرامة ومن توج لله كساه الله تاج الملك ". " حديث آخر " قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن يزيد قال حدثنا سعيد حدثني أبو مرحوم عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
414

" من كظم غيظا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء. ورواه أبو
داود والترمذي وابن ماجة من حديث سعيد بن أبي أيوب به وقال الترمذي: حسن غريب " حديث آخر " قال
عبد الرزاق أنبأنا داود بن قيس عن زيد بن أسلم عن رجل من أهل الشام يقال له عبد الجليل عن عم له عن أبي هريرة
رضي الله عنه في قوله تعالى " والكاظمين الغيظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملاه الله
جوفه أمنا وإيمانا " " حديث آخر " قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد أنبأنا يحيي ابن أبي طالب أنبأنا
علي بن عاصم أخبرني يونس بن عبيد عن الحسن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تجرع
عبد من جرعة أفضل أجرا من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله ". رواه ابن جرير وكذا رواه ابن ماجة عن بشر بن
عمر عن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد به فقوله تعالى " والكاظمين الغيظ " أي لا يعملون غضبهم في الناس بل
يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عز وجل ثم قال تعالى " والعافين عن الناس " أي مع كف
الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال " والله
يحب المحسنين ". فهذا من مقامات الاحسان وفي الحديث " ثلاث أقسم عليهن ما نقص مال من صدقة وما
زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله ". روى الحاكم في مستدركه من حديث موسى بن عقبة عن إسحاق
بن يحيي بن أبي طلحة القرشي عن عبادة بن الصامت عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سره أن
يشرف له البنيان وترفع له الدرجات فليعف عمن ظلمه ويعط من حرمه ويصل من قطعه ". ثم قال صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقد أورده ابن مردويه من حديث علي وكعب بن عجرة وأبي هريرة وأم سلمة رضي الله
عنهم بنحو ذلك وروي من طريق الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم
القيامة نادى مناد يقول: أين العافون عن الناس هلموا إلى ربكم وخذوا أجوركم وحق على كل امرئ مسلم إذا عفا
أن يدخل الجنة " وقوله تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " أي إذا صدر
منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا همام بن يحيى عن إسحاق بن عبد الله بن
أبي طلحة عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن رجلا أذنب ذنبا فقال:
رب إني أذنبت ذنبا فاغفره لي فقال الله عز وجل: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت
لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره فقال تبارك وتعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب
ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال: رب إني عملت ذنبا فاغفره لي فقال الله عز وجل: عبدي علم أن
له ربا يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ". أخرجاه في الصحيحين من حديث
إسحق بن أبي طلحة بنحوه " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر وأبو عامر قالا حدثنا زهير حدثنا سعد
الطائي حدثنا أبو المدله مولى أم المؤمنين سمع أبا هريرة قلنا يا رسول الله: إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل
الآخرة وإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد فقال: " لو أنتم تكونون على كل حال على الحال التي
كنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم. ولزارتكم في بيوتكم ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر
لهم " قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال " لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك الأذفر
وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا ييأس ويخلد لا يموت لا تبلى ثيابه ولا
يفنى شبابه ثلاثة لا ترد دعوتهم الإمام العادل والصائم حتى يفطر ودعوة المظلوم تحمل على الغمام وتفتح
لها أبواب السماء ويقول له الرب وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين ". ورواه الترمذي وابن ماجة من وجه آخر من حديث
سعد به. ويتأكد الوضوء وصلاة ركعتين عند التوبة لما رواه الإمام أحمد بن حنبل حدثنا وكيع حدثنا مسعر وسفيان
الثوري عن عثمان بن المغيرة الثقفي عن علي بن ربيعة عن أسماء بن الحكم الفزاري عن علي رضي الله عنه قال:
كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدثني عنه غيره استحلفته فإذا حلف لي
415

صدقته وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني وصدق أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ
ويحسن الوضوء - قال مسعر - فيصلي - وقال سفيان ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عز وجل إلا غفر له ". وهكذا
رواه علي بن المديني والحميدي وأبو بكر بن أبي شيبة وأهل السنن وابن حبان في صحيحه والبزار والدارقطني من
طرق عن عثمان بن المغيرة به وقال الترمذي: هو حديث حسن وقد ذكرنا طرقه والكلام عليه مستقصى في مسند
أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ومما يشهد بصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ثم يقول أشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها
شاء " وفي الصحيحين عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه توضأ لهم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " فقد
ثبت هذا الحديث من رواية الأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين عن سيد الأولين والآخرين ورسول رب العالمين
كما دل عليه الكتاب المبين من أن الاستغفار من الذنب ينفع العاصين وقد قال عبد الرزاق أنبأنا جعفر بن سليمان
عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة أو
ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " الآية بكى وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا محرز بن عون حدثنا عثمان
بن مطر حدثنا عبد الغفور عن أبي نضرة عن أبي رجاء عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليكم بلا إله
إلا الله والاستغفار فأكثروا منهما فإن إبليس قال أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار
فلما رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون " عثمان بن مطر وشيخه ضعيفان وروى الإمام أحمد
في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال إبليس:
يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر
لهما ما استغفروني " وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عمر بن خليفة سمعت أبا بدر
يحدث عن ثابت عن أنس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إني أذنبت ذنبا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أذنبت
فاستغفر ربك قال فإني أستغفر ثم أعود فأذنب قال فإذا أذنبت فعد فاستغفر ربك فقالها في
الرابعة وقال استغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المحسور " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقوله تعالى
" ومن يغفر الذنوب إلا الله " أي لا يغفرها أحد سواه كما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن مصعب حدثنا سلام
ابن مسكين والمبارك عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير فقال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى
محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " عرف الحق لأهله " وقوله " ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " أي تابوا من ذنوبهم
ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ولو تكرر منهم الذنب تابوا
منه كما قال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل وغيره قالوا: حدثنا أبو يحيي
عبد الحميد الحماني عن عثمان بن واقد عن أبي نضرة عن مولى لأبي بكر عن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ". ورواه أبو داود والترمذي والبزار في مسنده من
حديث عثمان بن واقد - وقد وثقه يحيى بن معين به - وشيخه أبو نصر المقاسطي واسمه سالم بن عبيد وثقه الإمام أحمد
وابن حبان وقول علي بن المديني والترمذي: ليس إسناد هذا الحديث بذاك فالظاهر أنه لأجل جهالة مولى
أبي بكر ولكن جهالة مثله لا تضر لأنه تابعي كبير ويكفيه نسبته إلى أبي بكر فهو حديث حسن والله أعلم. وقوله
" وهم يعلمون " قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير " وهم يعلمون " أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى
" ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده " وكقوله " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا
رحيما " ونظائر هذا كثيرة جدا. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أنبأنا جرير حدثنا حبان هو ابن زيد الشرعبي عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وهو على المنبر " ارحموا ترحموا واغفروا يغفر لكم ويل لأقماع القول
416

ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ". تفرد به أحمد. ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به
" أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم " أي جزاؤهم على هذه الصفات " مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها
الأنهار " أي من أنواع المشروبات " خالدين فيها " أي ماكثين فيها " ونعم أجر العاملين " يمدح تعالى الجنة.
قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين (137) هذا بيان للناس وهدى
وموعظة للمتقين (138) ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين (139) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم
قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين (140)
وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين (141) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا
منكم ويعلم الصابرين (142) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون (143)
يقول تعالى مخاطبا عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون " قد خلت من قبلكم سنن " أي قد جرى
نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ولهذا قال
تعالى " فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " ثم قال تعالى " هذا بيان للناس " يعني القرآن فيه بيان
الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم " وهدى وموعظة " يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى
لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم. ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين " ولا تهنوا " أي لا تضعفوا بسبب ما
جرى " ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون " إن يمسسكم قرح فقد
مس القوم قرح مثله " أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل
وجراح " وتلك الأيام نداولها بين الناس " أي نديل عليكم الأعداء تارة وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من
الحكمة ولهذا قال تعالى " وليعلم الله الذين آمنوا " قال ابن عباس: في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء
" ويتخذ منكم شهداء " يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته " والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله
الذين آمنوا " أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله
" ويمحق الكافرين " أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم. ثم قال
تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة
ولم تبتلوا بالقتال والشدائد. كما قال تعالى في سورة البقرة " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا
من قبلكم مستهم بالبأساء والضراء وزلزلوا " الآية. وقال تعالى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون " الآية. ولهذا قال ههنا " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "
أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله والصابرين على مقاومة الأعداء.
وقوله " ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون " أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم
تتمنون لقاء العدو وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم
فقاتلوا وصابروا. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا
لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ". ولهذا قال تعالى " فقد رأيتموه " يعني الموت شاهدتموه
وقت حد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل وهو مشاهدة ما
ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش وعداوة الذئب.
417

وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر
الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144) وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا
نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين (145) وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما
وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين (146) وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا
أغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين (147) فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن
ثواب الآخرة والله يحب المحسنين (148)
لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان: ألا إن محمدا قد قتل ورجع ابن
قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه. فوقع ذلك في
قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم
السلام فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ففي ذلك أنزل الله تعالى " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل " أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه. قال ابن أبي نجيح عن أبيه: أن رجلا من المهاجرين مر
على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن
كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزل " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ". رواه الحافظ أبو
بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف " أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم " أي رجعتم القهقرى " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " أي الذين قاموا
بطاعته وقاتلوا عن دينه واتبعوا رسوله حيا وميتا. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب
الاسلام من طرق متعددة تفيد القطع وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق
رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عقيل
عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه
بالسنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب
حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين أما
الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. وقال الزهري: وحدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم
الناس وقال: اجلس يا عمر قال أبو بكر: أما بعد من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن
الله حي لا يموت قال الله تعالى " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل - إلى قوله - وسيجزي الله الشاكرين "
قال: فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشرا
من الناس إلا يتلوها. وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى
ما تقلني رجلاي وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا عمرو بن
حماد بن طلحة القناد حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس أن عليا كان يقول في حياة
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله لئن مات
أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فمن أحق به مني. وقوله تعالى
" وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها
418

الله له ولهذا قال " كتابا مؤجلا " كقوله " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " وكقوله " هو الذي
خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده " وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال فإن
الاقدام والاحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال:
سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن ظبيان قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي ما يمنعكم
أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - " وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا " ثم أقحم
فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته
منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها " أي من كان عمله للدنيا فقد ناله منها ما قدره الله له ولم يكن له في الآخرة
من نصيب ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها وما قسم له في الدنيا كما قال تعالى " من كان يريد حرث
الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة نصيب " وقال تعالى " من
كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى
لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " ولهذا قال ههنا " وسنجزي الشاكرين " أي سنعطيهم من فضلنا
ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم. ثم قال تعالى مسليا للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم
أحد " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير وهذا
القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا " قتل معه ربيون كثير " فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي
وبعض من معه من الربيين دون جميعهم وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل قال:
ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله " فما وهنوا " وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا
بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا ثم اختار قراءة من قرأ " قتل معه ربيون كثير " لان الله عاتب بهذه الآيات
والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدا قد قتل فعذلهم الله على فرارهم
وتركهم القتال فقال لهم " أفإن مات أو قتل " أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و " انقلبتم على أعقابكم " وقيل:
وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير. وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولا آخر فإنه قال وكأين من
نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم
في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك الصبر " والله يحب الصابرين " فجعل قوله " معه ربيون كثير " حالا وقد
نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه وله اتجاه لقوله " فما وهنوا لما أصابهم " الآية وكذا حكاه الأموي في مغازيه
عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره وقرأ بعضهم " قاتل معه ربيون كثير " أي ألوف وقال ابن عباس
ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني: الربيون الجموع الكثيرة وقال
عبد الرزاق عن معمر عن الحسن " ربيون كثير " أي علماء كثير وعنه أيضا: علماء صبر أي أبرار أتقياء. وحكى
ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل قال ورد بعضهم عليه فقال: لو كان
كذلك لقيل الربيون بفتح الراء وقال ابن زيد: الربيون الاتباع والرعية والربابيون الولاة " فما وهنوا لما أصابهم في
سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا " قال قتادة والربيع بن أنس: " وما ضعفوا " بقتل نبيهم " وما استكانوا " يقول:
فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله وقال ابن عباس " وما
استكانوا " تخشعوا وقال ابن زيد: وما ذلوا لعدوهم وقال محمد ابن إسحاق والسدي وقتادة: أي ما أصابهم ذلك
حين قتل نبيهم " والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا
وانصرنا على القوم الكافرين " أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك " فآتاهم الله ثواب الدنيا " أي النصر والظفر والعاقبة
" وحسن ثواب الآخرة " أي جمع لهم ذلك مع هذا " والله يحب المحسنين ".
419

يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين (149) بل الله مولاكم وهو خير
الناصرين (150) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس
مثوى الظالمين (151) ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الامر وعصيتم من
بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله
ذو فضل على المؤمنين (152) * إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم
لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون (153)
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة ولهذا قال
تعالى " إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين " ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به
والتوكل عليه فقال تعالى " بل الله مولاكم وهو خير الناصرين " ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم
والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال فقال " سنلقي في قلوب
الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين " وقد ثبت في
الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت
بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة وكان النبي
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة ". وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن سليمان التيمي عن سيار
عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فضلني الله على الأنبياء - أو قال على الأمم - بأربع أرسلت إلى الناس كافة وجعلت
لي الأرض كلها ولامتي مسجدا وطهورا فأينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره ونصرت
بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي وأحلت لي الغنائم " ورواه الترمذي من حديث سليمان التيمي عن
سيار القرشي الأموي مولاهم الدمشقي سكن البصرة عن أبي أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه به وقال: حسن
صحيح وقال سعيد بن منصور: أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن أبا يونس حدثه عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نصرت بالرعب على العدو ". ورواه مسلم من حديث ابن وهب: وقال الإمام أحمد: حدثنا
حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي بردة عن أبيه أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت
خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان
قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت
شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئا " تفرد به أحمد. وروى العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " سنلقي في
قلوب الذين كفروا الرعب " قال: قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن أبا
سفيان قد أصاب منكم طرفا. وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب ". رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى " ولقد
صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " قال ابن عباس: وعدهم الله النصر وقد يستدل بهذه الآية على أحد القولين
المتقدمين في قوله تعالى " إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن
تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " أن ذلك كان يوم أحد
لان عدوهم كان ثلاثة آلاف مقاتل فلما واجهوهم كان الظفر والنصر أول النهار للاسلام فلما حصل ما حصل من
عصيان الرماة وفشل بعض المقاتلة تأخر الوعد الذي كان مشروطا بالثبات والطاعة، ولهذا قال " ولقد صدقكم الله
420

وعده " أي أول النهار " إذ تحسونهم " أي تقتلونهم " بإذنه " أي بتسليطه إياكم عليهم " حتى إذا فشلتم " وقال ابن
جريج قال ابن عباس الفشل الجبن " وتنازعتم في الامر وعصيتم " كما وقع للرماة " من بعد ما أراكم ما تحبون "
وهو الظفر بهم " منكم من يريد الدنيا " وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة " ومنكم من يريد الآخرة ثم
صرفكم عنهم ليبتليكم " ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم " ولقد عفا عنكم " أي غفر لكم ذلك الصنيع وذلك
والله أعلم لكثرة عدد العدو وعددهم وقلة عدد المسلمين وعددهم قال ابن جريج: قوله " ولقد عفا عنكم "
قال: لم يستأصلكم وكذا قال محمد بن إسحاق رواهما ابن جرير " والله ذو فضل على المؤمنين " قال الإمام أحمد
: حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عبيد الله عن ابن عباس أنه قال: ما نصر
الله النبي صلى الله عليه وسلم في موطن كما نصره يوم أحد فأنكرنا ذلك! فقال ابن عباس: بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله إن
الله يقول في يوم أحد " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " يقول ابن عباس والحسن الفشل " حتى إذا فشلتم
وتنازعتم في الامر وعصيتم من بعدما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة " الآية. وإنما
عنى بهذا الرماة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أقامهم في موضع وقال: " احموا ظهورنا فإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا
وإن رأيتمونا نغنم فلا تشركونا " فلما غنم النبي صلى الله عليه وسلم وأناخوا عسكر المشركين أكب الرماة جميعا في العسكر ينهبون
ولقد التقت صفوف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم هكذا - وشبك بين يديه - وانتشبوا فلما أخل الرماة تلك الخلة التي
كانوا فيها دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب بعضهم بعضا والتبسوا وقتل من
المسلمين ناس كثير وقد كان النصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار حتى قتل من أصحاب لواء المشركين سبعة أو
تسعة وجال المشركون جولة نحو الجبل ولم يبلغوا حيث يقول الناس الغار إنما كانوا تحت المهراس وصاح
الشيطان قتل محمد فلم يشكوا به أنه حق فلا زلنا كذلك ما نشك أنه حق حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين السعدين
نعرفه بكتفيه إذا مشى قال: ففرحنا حتى كأنه لم يصبنا ما أصابنا قال: فرقي نحونا وهو يقول " اشتد غضب الله على
قوم ادموا وجه رسول الله ". ويقول مرة أخرى " ليس لهم أن يعلونا " حتى انتهى إلينا فمكث ساعة فإذا أبو سفيان
يصيح في أسفل الجبل: أعل هبل - مرتين يعني إلهه - أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب؟ فقال
عمر رضي الله عنه: يا رسول الله ألا أجيبه قال " بلى " فلما قال: أعل هبل قال عمر: الله أعلى وأجل فقال أبو
سفيان: قد أنعمت قال: عنها فقال: أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أبو بكر وهذا أنا عمر قال: فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر الأيام دول وإن الحرب
سجال قال: فقال عمر: لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار قال: إنكم تزعمون ذلك فقد خبنا وخسرنا
إذن. فقال أبو سفيان: إنكم ستجدون في قتلاكم مثلا ولم يكن ذلك على رأي سراتنا قال: ثم أدركته حمية
الجاهلية فقال: أما إنه إن كان ذلك لم نكرهه هذا حديث غريب وسياق عجيب وهو من مرسلات ابن عباس
فإنه لم يشهد أحدا ولا أبوه وقد أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي النضر الفقيه عن عثمان بن سعيد عن
سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس به وهكذا رواه ابن أبي حاتم والبيهقي في دلائل النبوة من حديث
سليمان بن داود الهاشمي به ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها - فقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن
عطاء بن السائب عن الشعبي عن ابن مسعود قال: إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى
المشركين فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر إنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد
الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة سبعة
من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم فلما أرهقوه قال " رحم الله رجلا ردهم عنا " قال: فقام رجل من
الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل فلما أرهقوه أيضا قال " رحم الله رجلا ردهم عنا " فلم يزل يقول ذلك حتى قتل
السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه " ما أنصفنا أصحابنا " فجاء أبو سفيان فقال أعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" قولوا الله أعلى وأجل " فقالوا: الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم فقال
421

رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا: الله مولانا والكافرون لا مولى لهم " فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر فيوم علينا ويوم لنا ويوم
نساء ويوم نسر حنظلة بحنظلة وفلان بفلان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا سواء أما قتلانا فأحياء يرزقون وأما
قتلاكم ففي النار يعذبون " فقال أبو سفيان: لقد كان في القوم مثلة وإن كانت لعن غير ملامنا ما أمرت ولا نهيت
ولا أحببت ولا كرهت ولا ساءني ولا سرني قال: فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم
تستطع أن تأكلها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أكلت شيئا "؟ قالوا: لا قال " ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة في النار "
قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه وجئ برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري
وترك حمزة حتى جئ بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ثم رفع وترك حمزة حتى صلى عليه يومئذ سبعين
صلاة تفرد به أحمد أيضا. وقال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال:
لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال " لا تبرحوا إن رأيتمونا
ظهرنا عليهم فلا تبرحوا وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا ". فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في
الجبل رفعن عن سوقهن وقد بدت خلاخلهن فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله بن جبير: عهد إلي صلى الله عليه وسلم
أن لا تبرحوا فأبوا فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلا فأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال
" لا تجيبوه " فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: " لا تجيبوه " فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن
هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا فلم يملك عمر نفسه فقال له: كذبت يا عدو الله أبقى الله لك ما يحزنك قال أبو
سفيان: أعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه " قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا " الله أعلى وأجل " قال أبو سفيان: لنا
العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أجيبوه " قالوا: ما نقول؟ قال " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم " قال أبو
سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال وستجدون مثلة لم آمر بها ولم تسؤني تفرد به البخاري من هذا الوجه
ثم رواه عن عمرو بن خالد عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بنحوه: وسيأتي بأبسط من هذا - وقال
البخاري أيضا: حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركين فصرخ إبليس: أي عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم
فبصر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمان فقال: أي عباد الله أبي أبي قال: قالت فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه فقال حذيفة:
يغفر الله لكم قال عروة: فوالله ما زلت في حذيفة بقية خير حتى لحق بالله عز وجل. وقال محمد بن إسحاق حدثني
يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده أن الزبير بن العوام قال: والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحباتها
مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب وخلوا
ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب
اللواء حتى ما يدنو منه أحد من القوم. قال محمد بن إسحاق: فلم يزل لواء المشركين صريعا حتى أخذته عمرة بنت
علقمة الحارثية فدفعته لقريش فلاثوا بها وقال السدي عن عبد خير عن علي بن عبد الله بن مسعود قال: ما كنت
أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حثى نزل فينا ما نزل يوم أحد " منكم من يريد الدنيا ومنكم من
يريد الآخرة " وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود وكذا روي عن عبد الرحمن بن عوف وأبي طلحة رواه ابن
مردويه في تفسيره وقوله تعالى " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " قال ابن إسحاق: حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع
أحد بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر عم انس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيدة في رجال
من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما يخليكم؟ فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا
فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه - وقال البخاري: حدثنا حسان بن حسان
حدثنا محمد بن طلحة حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن عمه يعني أنس بن النضر غاب عن بدر فقال: غبت عن
أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أجد فلقي يوم أحد فهزم الناس فقال: اللهم إني
أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين وأبرأ إليك مما جاء به المشركون فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ
422

فقال: أين يا سعد إني أجد ريح الجنة دون أحد فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع
وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم هذا لفظ البخاري وأخرجه مسلم من حديث ثابت بن أنس بنحوه. وقال
البخاري أيضا: حدثنا عبدان حدثنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال: جاء رجل حج البيت فرأى قوما جلوسا
فقال: من هؤلاء القعود؟ قالوا: هؤلاء قريش قال: من الشيخ؟ قالوا: ابن عمر فأتاه فقال إني سائلك عن شئ
فحدثني قال: سل قال: أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد؟ قال: نعم قال: فتعلمه
تغيب عن بدر فلم يشهدها قال: نعم قال: فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها قال: نعم فكبر فقال ابن
عمر: تعال لأخبرك ولابين لك عما سألتني عنه أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه: وأما تغيبه عن بدر فإنه كان
تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه " وأما تغيبه
عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب
عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى " هذه يد عثمان " فضرب بها على يده فقال " هذه يد عثمان اذهب بها الآن
معك " ثم رواه البخاري من وجه آخر عن أبي عوانة عن عثمان بن عبد الله بن موهب.
وقوله تعالى " إذ تصعدون ولا تلوون على أحد " أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبل هاربين من أعدائكم
وقرأ الحسن وقتادة " إذ تصعدون " أي في الجبل " ولا تلوون على أحد " أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش
والخوف والرعب " والرسول يدعوكم في أخراكم " أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من
الأعداء وإلى الرجعة والعودة والكرة: قال السدي لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم
المدينة وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس " إلي عباد الله
إلي عباد الله " فذكر الله صعودهم إلى الجبل ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال " إذ تصعدون ولا تلوون على
أحد والرسول يدعوكم في أخراكم " وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد. قال عبد الله بن الزبعرى: قد
يذكر هزيمة المسلمين يوم أحد في قصيدته وهو مشرك بعد لم يسلم التي يقول في أولها.
يا غراب البين أسمعت فقل * إنما تنطق شيئا قد فعل
إن للخير وللشر مدى * وكلا ذلك وجه وقبل
إلى أن قال:
ليت أشياخي ببدر يشهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حلت بقباء بركها * واستحر القتل في عبد الأشل
ثم خفوا عند ذاكم رقصا * رقص الحفان يعلو في الجبل
فقتلنا الضعف من أشرافهم * وعدلنا ميل بدر فاعتدل
الحفان صغار النعم. كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أفرد في اثني عشر رجلا من أصحابه كما قال الإمام أحمد
حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا أبو إسحق عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على
الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلا - عبد الله بن جبير قال: ووضعهم موضعا وقال " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا
تبرحوا حتى أرسل إليكم " قال فهزموهم قال: فلقد والله رأيت النساء يشتدون على الجبل وقد بدت أسواقهن
وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة أي قوم الغنيمة ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد
الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة فلما أتوهم
صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر
رجلا فأصابوا منا سبعين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين سبعين أسيرا
423

وسبعين قتيلا قال أبو سفيان: أفي القوم محمد أفي القوم محمد أفي القوم محمد؟ ثلاثا - قال: فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم
أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا وقد كفيتموهم فما ملك عمر نفسه أن قال: كذبت والله يا عدو الله
إن الذين عددت لاحياء كلهم وقد أبقى الله لك ما يسوؤك فقال: يوم بيوم بدر والحرب سجال إنكم ستجدون
في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني. ثم أخذ يرتجز يقول أعل هبل أعل هبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا تجيبوه "
قالوا: يا رسول الله ما نقول؟ قال " قولوا الله أعلى وأجل " قال: لنا العزى ولا عزى لكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا
تجيبوه؟ " قالوا: يا رسول الله وما نقول؟ قال " قولوا الله مولانا ولا مولى لكم " وقد رواه البخاري من حديث
زهير بن معاوية مختصرا ورواه من حديث إسرائيل عن أبي إسحق بأبسط من هذا كما تقدم والله أعلم - وروى
البيهقي في دلائل النبوة من حديث عمارة بن غزية عن أبي الزبير عن جابر قال: انهزم الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم
أحد وبقي معه أحد عشر رجلا من الأنصار وطلحة بن عبيد الله وهو يصعد في الجبل فلحقهم المشركون فقال " ألا
أحد لهؤلاء " فقال طلحة: أنا يا رسول الله فقال " كما أنت يا طلحة " فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله
فقاتل عنه وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بقي معه ثم قتل الأنصاري فلحقوه فقال " ألا رجل لهؤلاء " فقال طلحة مثل
قوله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل قوله فقال رجل من الأنصار: فأنا يا رسول الله فقاتل عنه
وأصحابه يصعدون ثم قتل فلحقوه فلم يزل يقول مثل قوله الأول فيقول طلحة فأنا يا رسول الله فيحبسه فيستأذنه
رجل من الأنصار للقتال فيأذن له فيقاتل مثل من كان قبله حتى لم يبق معه إلا طلحة فغشوهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من لهؤلاء؟ " فقال طلحة: أنا فقاتل مثل قتال جميع من كان قبله وأصيبت أنامله فقال: حس فقال رسول الله " لو
قلت بسم الله أو ذكرت اسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون إليك حتى تلج بك في جو السماء " ثم صعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم مجتمعون. وقد روى البخاري عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن إسماعيل عن
قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يعني يوم أحد. وفي الصحيحين من حديث معتمر بن
سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلا طلحة بن عبد الله وسعد عن حديثهما. وقال الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن معاوية عن
هشام بن هشام الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: نثل لي رسول الله
صلى الله عليه وعلى آله وسلم كنانته يوم أحد وقال " ارم فداك أبي وأمي " وأخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد
عن مروان بن معاوية وقال محمد بن إسحاق حدثني صالح بن كيسان عن بعض آل سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه
رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال سعد: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم يناولني النبل ويقول " ارم فداك أبي وأمي " حتى إنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به - وثبت في
الصحيحين من حديث إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره
رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده " يعني جبريل وميكائيل عليهما
السلام - وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد وثابت عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة
من الأنصار واثنين من قريش " فلما أرهقوه قال " من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة " فتقدم رجل من
الأنصار فقاتل حتى قتل " ثم أرهقوه أيضا فقال " من يردهم عنا وله الجنة " فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل:
فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه " ما أنصفنا أصحابنا ". رواه مسلم عن هدبة بن خالد
عن حماد بن سلمة به نحوه. وقال أبو الأسود عن عروة بن الزبير قال: كان أبي بن خلف أخو بني جمح قد حلف
وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال " بل أنا أقتله إن شاء الله ". فلما كان يوم أحد
أقبل أبي في الحديد مقنعا وهو يقول: لا نجوت إن نجا محمد فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله فاستقبله
مصعب بن عمير أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن
424

خلف من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه ولم يخرج من طعنته دم
فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" بل أنا أقتل أبيا " ثم قال: والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون فمات إلى النار
" فسحقا لأصحاب السعير " وقد رواه موسى بن عقبة في مغازيه عن الزهري عن سعيد بن المسيب بنحوه - وذكر
محمد بن إسحاق قال: لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أبي بن خلف وهو يقول: لا نجوت إن نجوت فقال
القوم: يا رسول الله يعطف عليه رجل منا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " دعوه " فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من
الحارث بن الصمة فقال بعض القوم كما ذكر لي فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطاير
الشعر عن ظهر البعير إذا انفض ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأد منها عن فرسه مرارا - وذكر
الواقدي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه
نحو ذلك: وقال الواقدي: وكان ابن عمر يقول: مات أبي بن خلف ببطن رابغ فإني لأسير ببطن رابغ بعد هوى
من الليل فإذا أنا بنار تتأجج لي فهبتها وإذا رجل يخرج منها في سلسلة يجتذبها يهيج به العطش وإذا رجل يقول
لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أبي بن خلف - وثبت في الصحيحين من رواية عبد الرزاق عن معمر
عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله " وأخرجه البخاري أيضا من
حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس: قال اشتد غضب الله على من قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده
في سبيل الله واشتد غضب الله على قوم أدموا وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال ابن إسحاق: أصيبت رباعية
رسول الله صلى الله عليه وسلم وشج في وجنته وكلمت شفته وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص. فحدثني صالح بن كيسان
عن من حدثه عن سعد بن أبي وقاص قال: ما حرصت على قتل أحد قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص
وإن كان ما علمته لسيئ الخلق مبغضا في قومه ولقد كفاني فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " اشتد غضب الله على من أدمى
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم " - وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن عثمان الحريري عن مقسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا
على عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته وأدمى وجهه فقال " اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافرا "
فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار - وذكر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة
عن أبي الحويرث عن نافع بن جبير قال: سمعت رجلا من المهاجرين يقول شهدت أحدا فنظرت إلى النبل يأتي من
كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وسطها كل ذلك يصرف عنه: ولقد رأيت عبد الله بن شهاب الزهري يومئذ يقول:
دلوني على محمد لا نجوت إن نجا ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ليس معه أحد ثم جاوزه فعاتبه في ذلك صفوان فقال:
والله ما رأيته أحلف بالله أنه منا ممنوع خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى لك. قال
الواقدي: والذي ثبت عندنا أن الذي أدمى وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن قميئة والذي دمى شفته وأصاب رباعيته
عتبة بن أبي وقاص: وقال أبو داود الطيالسي حدثنا ابن المبارك عن إسحاق بن يحي بن طلحة بن عبيد الله أخبرني عيسى بن
طلحة عن أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال: ذاك يوم كله لطلحة: ثم أنشأ
يحدث قال: كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلا يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه وأراه قال: حمية فقلت: كن
طلحة حيث فاتني ما فاتني فقلت يكون رجلا من قومي أحب إلي وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وهو يخطف المشي خطفا لا أعرفه فإذا هو أبو عبيدة بن الجراح فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد
كسرت رباعيته وشج في وجهه وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكما صاحبكما "
يريد طلحة وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال: وذهبت لأنزع ذلك من وجهه فقال أبو عبيدة: أقسمت عليك
بحقي لما تركتني فتركته فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأزم عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين
ووقعت ثنيته مع الحلقة وذهبت لاصنع ما صنع فقال: أقسمت عليك بحقي لما تركتني قال ففعل مثل ما فعل في
425

المرة الأولى ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما فأصلحنا من شأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا طلحة في بعض تلك الجفار فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة
وإذا قد قطعت أصبعه فأصلحنا من شأنه ورواه الهيثم بن كليب والطبراني من حديث إسحق بن يحيى به. وعند
الهيثم قال أبو عبيدة أنشدك الله يا أبا بكر إلا تركتني؟ فأخذ أبو عبيدة السهم بفيه فجعل ينضنضه كراهية أن يؤذي
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استل السهم بفيه فبدرت ثنية أبي عبيدة وذكر تمامه واختاره الحافظ الضياء المقدسي في
كتابه وقد ضعف علي بن المديني هذا الحديث من جهة إسحق بن يحيى هذا فإنه تكلم فيه يحيى بن سعيد القطان
وأحمد ويحيى بن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم ومحمد بن سعد والنسائي وغيرهم - وقال ابن وهب أخبرني
عمرو بن الحارث أن عمر بن السائب حدثه أنه بلغه أن مالكا أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مص
الجرح حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له مجه فقال لا والله لا أمجه أبدا ثم أدبر يقاتل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من أراد أن
ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا " فاستشهد. وقد ثبت في الصحيحين من طريق عبد العزيز بن أبي
حازم عن أبيه عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته
وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن فلما رأت فاطمة أن
الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك الدم
وقوله تعالى " فأثابكم غما بغم " أي فجزاكم غما على غم كما تقول العرب نزلت ببني فلان ونزلت على بني
فلان. وقال ابن جرير: وكذا قوله " ولأصلبنكم في جذوع النخل " أي على جذوع النخل قال ابن عباس: الغم
الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل وقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم
ليس لهم أن يعلونا ". وعن عبد الرحمن بن عوف: الغم الأول بسبب الهزيمة والثاني حين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم
كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة رواهما ابن مردويه. وروي عن عمر بن الخطاب نحو ذلك وذكر ابن أبي
حاتم عن قتادة نحو ذلك أيضا وقال السدي: الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح والثاني بإشراف العدو
عليهم. وقال محمد بن إسحاق " فأثابكم غما بغم " أي كربا بعد كرب قتل من قتل من إخوانكم وعلوا عدوكم
عليكم وما وقع في أنفسكم من قول: قتل نبيكم فكان ذلك متتابعا عليكم غما بغم وقال مجاهد وقتادة: الغم
الأول سماعهم قتل محمد والثاني ما أصابهم من القتل والجراح وعن قتادة والربيع بن أنس عكسه. وعن
السدي: الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة والثاني إشراف العدو عليهم وقد تقدم هذا القول عن السدي. قال
ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال " فأثابكم غما بغم " فأثابكم بغمكم أيها المؤمنون بحرمان الله
إياكم غنيمة المشركين والظفر بهم والنصر عليهم وما أصابكم من القتل والجراح يومئذ بعد الذي كان قد أراكم في
كل ذلك ما تحبون بمعصيتكم أمر ربكم وخلافكم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم ظنكم أن نبيكم قد قتل وميل العدو عليكم
ونبوكم منهم: وقوله تعالى " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم " أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم " ولا ما
أصابكم " من الجراح والقتل قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف والحسن وقتادة والسدي " والله خبير بما
تعملون " سبحانه وبحمده لا إله إلا هو جل وعلا.
ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن
الجاهلية يقولون هل لنا من الامر من شئ قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان
لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله
426

ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور (154) إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما
استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم (155)
يقول تعالى ممتنا على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في
حال همهم وغمهم والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر " إذ يغشيكم
النعاس أمنة منه " الآية. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم ووكيع عن سفيان عن عاصم عن
أبي رزين عن عبد الله بن مسعود قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان وقال البخاري وقال لي خليفة
حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط
سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه. هكذا رواه في المغازي معلقا ورواه في كتاب التفسير مسندا
عن شيبان عن قتادة عن أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد قال فجعل سيفي يسقط من
يدي وآخذه ويسقط وآخذه وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن
أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت جحفته من النعاس لفظ
الترمذي وقال حسن صحيح ورواه النسائي أيضا عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن قتيبة عن ابن أبي عدي
كلاهما عن حميد عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس الحديث وهكذا رواه عن الزبير
وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق
الثقفي حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان عن قتادة حدثنا
أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط
وآخذه قال والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق " يظنون بالله غير
الحق ظن الجاهلية " أي إنما هم أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو
كما قال الله فإن الله عز وجل يقول " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم " يعني أهل الايمان
واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال " وطائفة قد
أهمتهم أنفسهم " يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف " يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية " كما قال
في الآية الأخرى " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا " إلى آخر الآية وهكذا هؤلاء اعتقدوا
أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الاسلام قد باد وأهله وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل
أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ثم أخبر تعالى عنهم أنهم " يقولون " في تلك الحال " هل لنا
من الامر من شئ " فقال تعالى " قل إن الامر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك " ثم فسر ما أخفوه في
أنفسهم بقوله " يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا " أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق
فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال فوالله إني لاسمع
قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول " لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا " فحفظتها منه وفي ذلك أنزل
الله " يقولون لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا ههنا " لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى " قل لو كنتم في
بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم " أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا
مناص منه وقوله " وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم " أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث
من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال " والله عليم بذات الصدور " أي بما يختلج في الصدور
427

من السرائر والضمائر ثم قال تعالى " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا "
أي ببعض ذنوبهم السالفة كما قال بعض السلف إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها
ثم قال تعالى " ولقد عفا الله عنهم " أي عما كان منهم من الفرار " إن الله غفور حليم " أي يغفر الذنب ويحلم عن
خلقه ويتجاوز عنهم وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله عفا عنه مع من عفا عنهم عند
قوله " ولقد عفا عنكم " ومناسب ذكره ههنا قال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة عن عاصم عن شقيق
قال لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد مالي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له
عبد الرحمن أبلغه أني لم أفر يوم حنين قال عاصم يقول يوم أحد ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر قال فانطلق
فأخبر بذلك عثمان قال: فقال عثمان أما قوله إني لم أفر يوم حنين فكيف يعيرني بذلك ولقد عفا الله عنه فقال تعالى
" إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم " وأما قوله إني
تخلفت يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ومن ضرب
له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو فأته فحدثه بذلك.
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لاخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا عندنا ما ماتوا
وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير (156) ولئن قتلتم في سبيل الله
أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون (157) ولئن متم أو قتلتم لألى الله تحشرون (158)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في
الاسفار والحروب لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم فقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا
وقالوا لاخوانهم " أي عن إخوانهم " إذا ضربوا في الأرض " أي سافروا للتجارة ونحوها " أو كانوا غزى " أي كانوا في
الغزو " لو كانوا عندنا " أي في البلد " ما ماتوا وما قتلوا " أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى
" ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم " أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم ثم قال
تعالى ردا عليهم " والله يحيي ويميت " أي بيده الخلق وإليه يرجع الامر ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته
وقدره ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شئ إلا بقضائه وقدره " والله بما تعملون بصير " أي علمه وبصره نافذ في
جميع خلقه لا يخفى عليه من أمورهم شئ وقوله تعالى " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير
مما يجمعون " تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضا وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه وذلك خير من
البقاء في الدنيا وجميع حطامها الفاني ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل فيجزيه
بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال تعالى " ولئن متم أو قتلتم لألى الله تحشرون ".
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظا القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم
في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم
فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون (160) وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما
غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (161) أفمن أتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله
428

ومأواه جهنم وبئس المصير (162) هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون (163) لقد من الله على المؤمنين
إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي
ضلال مبين (164)
يقول تعالى مخاطبا رسوله ممتنا عليه وعلى المؤمنين فيما ألان به قلبه على أمته المتبعين لامره التاركين لزجره وأطاب
لهم لفظه " فبما رحمة من الله لنت لهم " أي بأي شئ جعلك الله لهم لينا لولا رحمة الله بك وبهم. وقال قتادة
" فبما رحمة من الله لنت لهم " يقول: فبرحمة من الله لنت لهم وما صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله " فبما
نقضهم ميثاقهم " وبالنكرة كقوله " عما قليل " وهكذا ههنا قال " فبما رحمة من الله لنت لهم " أي برحمة من الله.
وقال الحسن البصري: هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به وهذه الآية الكريمة شبيهه بقوله تعالى " لقد جاءكم رسول
من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " وقال الإمام أحمد حدثنا حياة حدثنا بقية حدثنا
محمد بن زياد حدثني أبو راشد الحراني قال: أخذ بيدي أبو أمامة الباهلي وقال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" يا أبا أمامة إن من المؤمنين من يلين له قلبي ". تفرد به أحمد ثم قال تعالى " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من
حولك " والفظ الغليظ المراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك " غليظ القلب " أي لو كنت سئ الكلام قاسي
القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفا لقلوبهم كما قال
عبد الله بن عمرو إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في
الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح. وقال أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي أنبأنا
بشر بن عبيد حدثنا عمار بن عبد الرحمن عن المسعودي عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله أمرني بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض ". حديث غريب. ولهذا قال تعالى " فاعف
عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر ". ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الامر إذا حدث تطييبا
لقلوبهم ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير فقالوا: يا رسول الله لو استعرضت
بنا عرض البحر لقطعناه معك ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن نقول اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك
مقاتلون. وشاورهم أيضا أين يكون المنزل حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم. وشاورهم في أحد في أن
يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو فأشار جمهورهم بالخروج إليهم فخرج إليهم. وشاورهم يوم الخندق في
مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فترك ذلك.
وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين؟ فقال له الصديق: إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا
معتمرين فأجابه إلى ما قال: وقال صلى الله عليه وسلم في قصة الإفك " أشيروا عليز معشر المسلمين في قوم أبنوا أهلي ورموهم
وأيم الله ما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن؟ والله ما علمت عليه إلا خيرا " واستشار عليا وأسامة في فراق عائشة
رضي الله عنها فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها وقد اختلف الفقهاء هل كان واجبا عليه أو من باب الندب
تطييبا لقلوبهم؟ على قولين وقد روى الحاكم في مستدركه: أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد البغدادي حدثنا يحيى بن أيوب
العلاف بمصر حدثنا سعيد بن أبي مريم أنبأنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله تعالى " وشاورهم
في الامر " قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وكذا رواه
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزلت في أبي بكر وعمر وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي
المسلمين. وقد روى الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن
429

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر " لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما ". وروى ابن مردويه عن علي بن أبي طالب
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم؟ فقال " مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ". وقد وقال ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي
شيبة حدثنا يحيى بن بكير عن سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" المستشار مؤتمن ". ورواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي من حديث عبد الملك بأبسط من هذا. ثم قال ابن ماجة حدثنا أبو بكر
ابن أبي شيبة حدثنا أسود بن عامر عن شريك عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" المستشار مؤتمن " تفرد به. وقال أيضا حدثنا أبو بكر حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة وعلي بن هاشم عن ابن
أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا استشار أحدكم أخاه فليشر عليه " تفرد به أيضا وقوله
تعالى " فإذا عزمت فتوكل على الله " أي إذا شاورتهم في الامر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه " إن الله يحب
المتوكلين " وقوله تعالى " إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله
فليتوكل المؤمنون " وهذه الآية كما تقدم من قوله " وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم " ثم أمرهم بالتوكل عليه
فقال " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " وقوله تعالى " وما كان لنبي أن يغل " قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغير
واحد: ما ينبغي لنبي أن يخون. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا أبو إسحق الفزاري
عن سفيان بن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل
الله " وما كان لنبي أن يغل " أي يخون. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا
عبد الواحد بن زياد حدثنا خصيف حدثنا مقسم حدثني ابن عباس أن هذه الآية " وما كان لنبي أن يغل " نزلت في
قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس: لعل رسول الله أخذها فأكثروا في ذلك فأنزل الله " وما كان لنبي
أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " وكذا رواه أبو داود والترمذي جميعا عن قتيبة عن عبد الواحد بن زياد به
وقال الترمذي حسن غريب ورواه بعضهم عن خصيف عن مقسم يعني مرسلا ورواه ابن مردويه من طريق أبي
عمرو بن العلاء عن مجاهد عن ابن عباس قال: اتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ فقد فأنزل الله تعالى " وما كان
لنبي أن يغل " وروي من غير وجه عن ابن عباس نحو ما تقدم وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع
وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك. وقال العوفي عن ابن عباس " وما كان لنبي أن يغل " أي بأن
يقسم لبعض السرايا ويترك بعضا وكذا قال الضحاك. وقال محمد بن إسحاق " وما كان لنبي أن يغل " بأن يترك
بعض ما أنزل إليه فلا يبلغ أمته وقرأ الحسن البصري وطاوس ومجاهد والضحاك " وما كان لنبي أن يغل " بضم الياء
أي يخان. وقال قتادة والربيع بن أنس: نزلت هذه الآية يوم بدر وقد غل بعض أصحابه ورواه ابن جرير
عنهما ثم حكى بعضهم أنه فسر هذه القراءة بمعنى يتهم بالخيانة ثم قال تعالى " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة
ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد وقد وردت السنة بالنهي عن ذلك أيضا في
أحاديث متعددة. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الملك حدثنا زهير يعني ابن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
عطاء بن يسار عن أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعظم الغلول عند الله ذراع من الأرض تجدون الرجلين
جارين في الأرض - أو في الدار - فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم
القيامة " " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن نمير حدثنا ابن لهيعة عن ابن هبيرة
والحارث بن يزيد عن عبد الرحمن بن جبير قال سمعت المستورد بن شداد يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من
ولي لنا عملا وليس له منزل فليتخذ منزلا أو ليست له زوجة فليتزوج أوليس له خادم فليتخذ خادما أوليس له
دابة فليتخذ دابة ومن أصاب شيئا سوى ذلك فهو غال ". هكذا رواه الإمام أحمد وقد رواه أبو داود بسند آخر
وسياق آخر فقال: حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا المعافي حدثنا الأوزاعي عن الحارث بن يزيد عن جبير بن
نفير عن المستورد بن شداد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كان لنا عاملا فليكتسب زوجة فإن لم يكن له
خادم فليكتسب خادما فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنا " قال: قال أبو بكر أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اتخذ
430

غير ذلك فهو غال - أو سارق ". قال شيخنا الحافظ المزي رحمه الله: رواه أبو جعفر محمد الفريابي عن موسى بن
مروان فقال: عن عبد الرحمن بن جبير بدل جبير بن نفير وهو أشبه بالصواب.
" حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن بشر حدثنا يعقوب القمي حدثنا حفص بن حميد عن
عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى لله عليه وسلم " لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا
محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولاعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملا له رغاء يقول: يا
محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ولاعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسما من أدم
ينادي يا محمد يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك ". لم يروه أحد من أهل الكتب الستة.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن الزهري سمع عروة يقول: حدثنا أبو حميد الساعدي قال:
استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فجاء فقال: هذا لكم وهذا أهدي لي فقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال " ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي: أفلا جلس في
بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشئ إلا جاء به يوم القيامة على
رقبته إذ كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر " ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه: ثم قال " اللهم هل
بلغت " ثلاثا وزاد هشام بن عروة فقال أبو حميد: بصرته بعيني وسمعته أذني واسألوا زيد بن ثابت أخرجاه من
حديث سفيان بن عيينة وعند البخاري واسألوا زيد بن ثابت وغير وجه عن الزهري ومن طرق عن هشام بن
عروة كلاهما عن عروة به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش
عن يحيى بن سعيد عن عروة بن الزبير عن أبي حميد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " هدايا العمال غلول " وهذا الحديث من
أفراد أحمد وهو ضعيف الاسناد وكأنه مختصر من الذي قبله والله أعلم " حديث آخر " قال أبو عيسى الترمذي
في كتاب الأحكام: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة عن داود بن يزيد الأودي عن المغيرة بن شبل عن قيس بن أبي
حازم عن معاذ بن جبل قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فلما سرت أرسل في أثري فرددت فقال " أتدري لم
بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئا بغير إذني فإنه غلول " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " لهذا دعوتك فامض
لعملك " هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي الباب عن عدي بن عميرة وبريدة
والمستورد بن شداد وأبي حميد وابن عمر " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا أبو
حيان يحيى بن سعيد التيمي عن أبي زرعة عن ابن عمر وابن جرير عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما
فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال " لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول: يا
رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على رقبته فرس لها
حمحمة فيقول: يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك لا ألفين أحدكم يجئ يوم القيامة على
رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئا قد بلغتك " أخرجاه من حديث أبي حيان به
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي خالد حدثني قيس عن عدي بن عميرة
الكندي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس من عمل لنا منكم عملا فكتمنا منه مخيطا فما فوقه فهو غل يأتي به
يوم القيامة " قال: فقام رجل من الأنصار أسود - قال مجاهد: هو سعد بن عبادة كأني أنظر إليه - فقال يا رسول الله
اقبل مني عملك قال " وما ذاك؟ " قال سمعتك تقول كذا وكذا قال وأنا أقول ذاك الآن من استعملناه على عمل
فليجئ بقليله وكثيره فما أوتي منه أخذه وما نهى عنه انتهى " وكذا رواه مسلم وأبو داود من طرق عن
إسماعيل بن أبي خالد به " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية عن أبي إسحق الفزاري عن ابن جريج
حدثني منبوذ رجل من آل أبي رافع عن الفضل بن عبد الله بن أبي رافع عن أبي رافع قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى العصر ربما ذهب إلى بني عبد الأشهل فيتحدث معهم حتى ينحدر إلى المغرب قال أبو رافع: فبينما
431

رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا إلى المغرب إذ مر بالبقيع فقال " أف لك أف لك " فلزق في درعي وتأخرت وظننت أنه يريدني
فقال " مالك؟ " قلت أحدثت حدثا يا رسول الله! قال " وما ذاك "؟ قال: إنك قلت لي قال: لا ولكن هذا قبر فلان بعثته
ساعيا على آل فلان فغل نمرة فدرع الآن مثلها من نار " " حديث آخر " قال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا
عبد الله بن سالم الكوفي المفلوج - وكان ثقة - حدثنا عبيد بن الأسود عن القاسم بن الوليد عن أبي صادق عن
ربيعة بن ناجية عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ الوبرة من ظهر البعير من المغنم ثم يقول " مالي فيه
إلا مثل ما لأحدكم إياكم والغلول فإن الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة أدوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك
وجاهدوا في سبيل الله القريب والبعيد في الحضر والسفر فإن الجهاد باب من أبواب الجنة إنه لينجي الله به من الهم والغم وأقيموا
حدود الله في القريب والبعيد ولا تأخذكم في الله لومة لائم " وقد روى ابن ماجة بعضه عن المفلوج به. " حديث
آخر " عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ردوا الخياط والمخيط فإن الغلول عار ونار
وشنار على أهله يوم القيامة " " حديث آخر " قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن مطرف عن أبي
الجهم عن أبي مسعود الأنصاري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعيا ثم قال انطلق أبا مسعود لا ألفينك يوم القيامة
تجئ على ظهرك بعير من إبل الصدقة له رغاء قد غللته " قال: إذا لا أنطلق قال " إذا لا أكرهك " تفرد به أبو داود.
" حديث آخر " قال أبو بكر بن مردويه: أنبأنا محمد بن أحمد بن إبراهيم أنبأنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أنبأنا
عبد الحميد بن صالح أنبأنا أحمد بن أبان عن علقمة عن مرثد عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الحجر
يرمى به في جهنم فيهوي سبعين خريفا ما يبلغ قعرها ويؤتى بالغلول فيقذف معه ثم يقال لمن غل به: ائت به فذلك قوله
" ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة " " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن
عمار حدثني سماك الحنفي أبو زميل حدثني عبد الله بن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل
نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى أتوا على رجل فقالوا فلان شهيد فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلا إني رأيته في النار في بردة غلها - أو عباءة " ثم قال رسول الله صلى الله عيه وسلم " اذهب فناد في الناس إنه لا
يدخل الجنة إلا المؤمنون " قال: فخرجت فناديت إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وكذا رواه مسلم والترمذي من حديث
عكرمة بن عمار به وقال الترمذي: حسن صحيح " حديث آخر عن عمر رضي الله عنه " قال ابن جرير. حدثني
أحمد بن عبد الرحمن بن وهب حدثني عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن موسى بن جبير حدثه أن
عبد الله بن عبد الرحمن بن الحباب الأنصاري حدثه أن عبد الله بن أنيس حدثه أنه تذاكر هو وعمر بن الخطاب يوما
الصدقة فقال: ألم تسمع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر غلول الصدقة " من غل منها بعيرا أو شاة فإنه يحمله يوم
القيامة "؟ قال عبد الله بن أنيس: بلى ورواه ابن ماجة عن عمرو بن سوار عن عبد الله بن وهب به " حديث آخر "
قال ابن جرير: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا أبي حدثنا يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سعد بن عبادة مصدقا فقال " يا سعد إياك أن تجئ يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء " قال:
لا آخده ولا أجئ به فأعفاه. ثم رواه من طريق عبيد الله عن نافع به نحوه " حديث آخر " قال أحمد: حدثنا أبو
سعيد حدثنا عبد العزيز بن محمد حدثنا صالح بن محمد بن زائدة عن سالم بن عبد الله أنه كان مع مسلمة بن
عبد الملك في أرض الروم فوجد في متاع رجل غلولا قال: فسأل سالم بن عبد الله فقال حدثني أبي عبد الله عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من وجدتم في متاعه غلولا فأحرقوه - قال. وأحسبه قال
واضربه " قال. فأخرج متاعه في السوق فوجد فيه مصحفا فسأل سالما؟ فقال: بعه وتصدق بثمنه. وكذا رواه
علي بن المديني وأبو داود والترمذي من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي زاد أبو داود وأبو إسحق الفزاري
كلاهما عن أبي واقد الليثي الصغير صالح بن محمد بن زائدة به. وقال علي بن المديني والبخاري وغيرهما: هذا
حديث منكر من رواية أبي واقد هذا وقال الدارقطني: الصحيح أنه من فتوى سالم فقط وقد ذهب إلى القول
بمقتضى هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل ومن تابعه من أصحابه وقد رواه الأموي عن معاوية عن أبي إسحق عن
432

يونس بن عبيد عن الحسن قال: عقوبة الغال أن يخرج رحله فيحرق على ما فيه: ثم روى عن معاوية عن أبي
إسحق عن عثمان بن عطاء عن أبيه عن علي قال: الغال يجمع رحله فيحرق ويجلد دون حد المملوك ويحرم
نصيبه وخالفه أبو حنيفة ومالك والشافعي والجمهور فقالوا: لا يحرق متاع الغال بل يعزر تعزير مثله: وقد قال
البخاري وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال ولم يحرق متاعه والله أعلم - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا
أسود بن عامر أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحق عن جبير بن مالك قال: أمر بالمصاحف أن تغير قال: فقال ابن مسعود:
من استطاع منكم أن يغل مصحفا فليغله فإنه من غل شيئا جاء به يوم القيامة. ثم قال: قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبعين مرة أفأترك ما أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم - وروى وكيع في تفسير عن شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن
إبراهيم قال لما أمر بتحريق المصاحف قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أيها الناس غلوا المصاحف فإنه من
غل يأت بما غل يوم القيامة ونعم الغل المصحف يأتي به أحكم يوم القيامة - وقال أبو داود: عن سمرة بن جندب
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجوز بغنائمهم فيخمسه ويقسمه فجاء رجل يوما
بعد النداء بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا كان مما أصبناه من الغنيمة فقال " أسمعت بلالا ينادي " ثلاثا قال:
نعم قال " فما منعك أن تجئ " فاعتذر إليه فقال " كلا أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك.
وقوله تعالى " أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير " أي لا يستوي من اتبع
رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه وأجير من وبيل عقابه ومن استحق غضب الله وألزم به فلا
محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى " أفمن يعلم
أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " وقوله " أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة
الدنيا " الآية. ثم قال تعالى " هم درجات عند الله " قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: يعني أهل الخير
وأهل الشر درجات وقال أبو عبيدة والكسائي: منازل يعني متفاوتون في منازلهم درجاتهم في الجنة ودركاتهم في
النار كقوله تعالى " ولكل درجات مما عملوا " الآية ولهذا قال تعالى " والله بصير بما يعملون " أي وسيوفيهم
إياها لا يظلمهم خيرا ولا يزيدهم شرا بل يجازي كل عامل بعمله: وقوله تعالى " لقد من الله على المؤمنين إذ
بعث فيهم رسولا من أنفسهم " أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به كما قال تعالى
" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " أي من جنسكم وقال تعالى " قل إنما أنا بشر مثلكم
يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد " الآية وقال تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام
ويمشون في الأسواق " وقال تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " وقال تعالى " يا
معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسل إليهم منهم بحيث يمكنهم
مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه. ولهذا قال تعالى " يتلو عليهم آياته " يعني القرآن " ويزكيهم " أي يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم
وجاهليتهم " ويعلمهم الكتاب والحكمة " يعني القرآن والسنة " وإن كانوا من قبل " أي من قبل هذا الرسول " لفي
ضلال مبين " أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بين لكل أحد.
أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شئ قدير (165) وما أصابكم
يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين (166) وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا
قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم
بما يكتمون (167) الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين (168)
433

يقول تعالى " أو لما أصابتكم مصيبة " وهي ما أصيب منهم يوم أحد من قتلى السبعين منهم " قد أصبتم مثليها " يعني
يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلا وأسروا سبعين أسيرا " قلتم أنى هذا " أي من أين جرى علينا هذا
" قل هو من عند أنفسكم " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا قراد بن نوح حدثنا
عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم أحد من
العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه.
وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال الدم على وجهه فأنزل الله " أو لما أصابتكم مصيبة قد
أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم " بأخذكم الفداء وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن
غزوان وهو قراد بن نوح بإسناده ولكن بأطول منه وهكذا قال الحسن البصري وقال ابن جرير: حدثنا القاسم
حدثنا الحسين حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون ح قال سنيد وهو حسين وحدثني حجاج عن جريج عن محمد
عن عبيدة عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم
الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل
منهم عدتهم قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا ألا نأخذ فداءهم
فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس في ذلك ما نكره؟ قال فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا
عدة أسارى أهل بدر وهكذا رواه النسائي والترمذي من حديث أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة
عن سفيان بن سعيد عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين به ثم قال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من
حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشام نحوه. وروى عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
وقال محمد بن إسحاق وابن جرير والربيع بن أنس والسدي " قل هو من عند أنفسكم " أي بسبب عصيانكم
لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم يعني بذلك الرماة " إن الله على كل شي قدير " أي
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ثم قال تعالى " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله " أي
فراركم بين يدي عدوكم وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين كان بقضاء الله وقدره وله الحكمة في ذلك
" وليعلم المؤمنين " أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا " وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو
ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم " يعني بذلك أصحاب عبد الله بن أبي ابن سلول الذين رجعوا معه في أثناء
الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الاتيان والقتال والمساعدة ولهذا قال " أو ادفعوا " قال ابن
عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأبو صالح والحسن والسدي: يعني كثروا سواد المسلمين وقال
الحسن بن صالح ادفعوا بالدعاء وقال غيره رابطوا فتعللوا " قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم " قال مجاهد يعنون لو
نعلم أنكم تلقون حربا لجئناكم ولكن لا تلقون قتالا. قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ
وغيرهم من علمائنا كلهم قد حدث قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حين خرج إلى أحد في ألف رجل من
أصحابه حتى إذا كان بالشوط بين أحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس فقال: أطاعهم
فخرج وعصاني ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق
وأهل الريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول: يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم
وقومكم عندما حضر من عدوكم قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ولكن لا نرى أن يكون قتال فلما
استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف عنهم قال: أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال
الله عز وجل " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان " استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في
حال أقرب إلى الكفر وفي حال أقرب إلى الايمان لقوله " هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان " ثم قال تعالى
" يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم " يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ومنه قولهم هذا " لو نعلم قتالا
434

لاتبعناكم فإنهم يتحققون أن جندا من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسب ما أصيب
من أشرافهم يوم بدر وهم أضعاف المسلمين أنه كائن بينهم قتالا لا محالة ولهذا قال تعالى " والله أعلم بما
يكتمون " ثم قال تعالى " الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا " أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في
القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى " قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين " أي إن
كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لابد آت إليكم ولو كنتم في بروج
مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في
عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه.
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله
ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل
وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم
واتقوا أجر عظيم (172) الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل
(173) فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم (174) إنما ذلكم الشيطان
يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين (175)
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن
جرير: حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة حدثنا إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك
في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل بئر معونة قال: لا أدري أربعين أو سبعين وعلى ذلك
الماء عامر بن الطفيل الجعفري فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غارا مشرفا على الماء فقعدوا
فيه ثم قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء فقال - أراه أبو ملحان الأنصاري أنا أبلغ
رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال يا أهل بئر معونة إني رسول الله إليكم
إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه
في جنبه حتى خرج من الشق الآخر فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم
أجمعين عامر بن الطفيل وقال ابن إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآنا بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا
ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زمانا وأنزل الله تعالى " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل
الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " وقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو
معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال: إنا سألنا عبد الله عن هذه الآية. " ولا تحسبن الذين
قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أرواحهم
في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم
ربهم إطلاعة فقال: هل تشتهون شيئا؟ فقالوا: أي شئ نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم
ثلاث مرات فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في
سبيلك مرة أخرى فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا " وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد " حديث
آخر " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا حماد حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من نفس تموت
لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل
435

الشهادة " تفرد به مسلم من طريق حماد. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله المديني حدثنا
سفيان بن محمد بن علي بن ربيعة السلمي عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له: تمن فقال له أرد الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى قال: إني قضيت أنهم إليها لا
يرجعون " تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام
الأنصاري رضي الله عنه قتل يوم أحد شهيدا. قال البخاري: وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر سمعت
جابرا قال: لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم
ينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تبكه - أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع " وقد أسنده هو ومسلم
والنسائي من طرق عن شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: لما قتل أبي يوم أحد جعلت أكشف الثوب عن
وجهه وأبكي وذكر تمامة بنحوه. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبي إسحق حدثنا
إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب
إخوانكم يوم أحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من
ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله
بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هذه الآيات " ولا
تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " وما بعدها ". وهكذا رواه أحمد ورواه ابن
جرير عن يونس عن ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن محمد بن إسحاق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه
من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق به ورواه أبو داود والحاكم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحق الفزاري عن سفيان بن
إسماعيل بن أبي خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في حمزة وأصحابه ولا تحسبن
الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه
وكذا قال قتادة والربيع والضحاك أنها نزلت في قتلى أحد. " حديث آخر " قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا
عبد الله بن جعفر حدثنا هارون بن سليمان أنبأنا علي بن عبد الله المديني أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن
الفاكه الأنصاري سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمت الأنصاري قال: سمعت جابر بن
عبد الله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال " يا جابر مالي أراك مهتما؟ " قلت يا رسول الله استشهد أبي
وترك دينا وعيالا قال: فقال " ألا أخبرك ما كلم الله أحد قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا " قال علي:
والكفاح المواجهة " قال سلني أعطك قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عز وجل إنه قد سبق
مني القول أنهم إليها لا يرجعون قال أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا "
الآية. ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري عن أبيه عن جابر به نحوه وكذا رواه
البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به وقد رواه البيهقي أيضا من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو
عيسى بن عبد الله إن شاء الله عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر " يا جابر ألا أبشرك "
قال: بلى بشرك الله بالخير قال " شعرت بأن الله أحيا أباك فقال تمن علي عبدي ما شت أعطكه قال: يا رب ما
عبدتك حق عبادتك أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى قال إنه سلف مني أنه
إليها لا يرجع ". " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثنا الحارث بن فضيل
الأنصاري عن محمود بن لبيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشهداء على بارق نهر بباب الجنة فيه قبة
خضراء يخرج إليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية " تفرد به أحمد وقد رواه ابن جريج عن أبي كريب حدثنا
عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به وهو إسناد جيد وكأن الشهداء أقسام منهم من تسرح
436

أرواحهم في الجنة ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا
النهر فيجتمعون هنالك ويغدي عليهم برزقهم هناك ويراح والله أعلم - وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثا فيه
البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضا فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور
وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب
المذاهب المتبعة فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله عن مالك بن أنس
الأصبحي رحمه الله عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه " قوله " يعلق " أي
يأكل وفي هذا الحديث " إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة " وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في
حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها فنسأل الله الكريم المنان أن
يميتنا على الايمان - وقوله تعالى " فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا
خوف عليهم ولا هم يحزنون " إلى آخر الآية أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم وهم فرحون بما
هم فيه من النعمة والغبطة ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم وأنهم لا
يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم نسأل الله الجنة وقال محمد بن إسحاق " ويستبشرون " أي
ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي
أعطاهم قال السدي يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا
فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم قال سعيد بن جبير: لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة
للشهداء قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم
حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة وأخبرهم أي ربهم
أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشروا بذلك فذلك قوله " ويستبشرون بالذين لم يلحقوا
بهم من خلفهم " الآية وقد ثبت في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين
قتلوا في غداة واحدة وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم قال أنس: ونزل فيهم قرآن قرأناه
حتى رفع " أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ".
ثم قال تعالى " يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين " قال محمد بن إسحاق: استبشروا أي
سروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذه الآيات جمعت المؤمنين
كلهم سواء الشهداء وغيرهم وقلما ذكر الله فضلا ذكر به الأنبياء وثوابا أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين
من بعدهم، وقوله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ". هذا كان يوم حمراء الأسد
وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم فلما استمروا في سيرهم ندموا لم
لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم
ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلدا ولم يأذن لاحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله
عنه لما سنذكره فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والاثخان طاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن عكرمة قال: لما رجع المشركون عن أحد
قالوا: لا محمدا قتلتم ولا الكواعب أردفتم: بئس ما صنعتم ارجعوا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فندب
المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد - أو بئر أبي عيينة - الشك من سفيان - فقال المشركون: نرجع من قابل
فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تعد غزوة فأنزل الله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح
للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ". وروى ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن
437

عمرو عن عكرمة عن ابن عباس فذكره - وقال محمد بن إسحاق: كان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال فلما
كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو وأذن
مؤذنه أن لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام فقال يا
رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا
رجل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن فأذن
له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة وأن
الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحاق: فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي
السائب مولى عائشة بنت عثمان أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان قد شهد أحدا قال:
شهدنا أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو
وقلت لأخي - أو قال لي -: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله ما لنا من دابة نركبها وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أيسر جراحا منه فكان إذا غلب حملته عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون.
وقال البخاري: حدثنا محمد بن سلام حدثنا أبو معاوية عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها " الذين
استجابوا لله والرسول " الآية. قلت لعروة: يا ابن أختي كان أبوك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب
نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال " من يرجع في أثرهم " فانتدب منهم
سبعون رجلا فيهم أبو بكر والزبير هكذا رواه البخاري منفردا به بهذا السياق وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن
الأصم عن أبي العباس الدوري عن أبي النضر عن أبي سعيد المؤدب عن هشام بن عروة به: ثم قال صحيح الاسناد
ولم يخرجاه كذا قال: ورواه ابن ماجة عن هشام بن عمار وهدبه بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة عن هشام بن
عروة به وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به وقد رواه الحاكم أيضا من
حديث إسماعيل بن أبي خالد عن التيمي عن عروة وقال: قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول
من بعد ما أصابهم القرح ثم قال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه - وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا
عبد الله بن جعفر من أصل كتابه أنبأنا سمويه أنبأنا عبد الله بن الزبير أنبأنا سفيان أنبأنا هشام عن أبيه عن عائشة رضي
الله عنهما قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر
والزبير " ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها
كما قدمناه ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير لأنه ابن
أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم - وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد حدثني عمي حدثني
أبي عن أبيه عن ابن عباس قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعدما كان منه ما كان فرجع إلى
مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا وقد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب " وكانت وقعة أحد
في شوال وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة وإنهم قدموا بعد وقعة
أحد وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين وقال " إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتى
عام مقبل " فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال: إن الناس قد جمعوا لكم فأبى عليه الناس أن يتبعوه وقال " إني
ذاهب وإن لم يتبعني أحد لإحضض الناس " فانتدب معه الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة
وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا فساروا في طلب
أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء فأنزل الله تعالى " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح "
الآية. ثم قال ابن إسحاق فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية
أميال قال ابن هشام: واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء ثم رجع إلى
438

المدينة وقد مر به كما حدثني عبد الله بن أبي بكر معبد بن أبي معبد الخزاعي وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم
عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها ومعبد يومئذ كان مشركا فقال: يا محمد
أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله عافاك فيهم ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى
لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقالوا أصبنا محمدا
وأصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم؟ لنكرن على بقيتهم ثم لنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان
معبدا قال: ما وراءك يا معبد؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله يتحرقون عليكم تحرقا قد
اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا فهم من الحنق عليكم بشئ لم أر مثله قط
قال: ويلك ما تقوله؟ قال والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل قال فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم
لنستأصل بقيتهم قال فإني أنهاك عن ذلك ووالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتا من شعر قال وما قلت؟
قال قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي * إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة * عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة * لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم * إذا تغطمطت البطحاء بالخيل
إني نذير لأهل السيل ضاحية * لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة * وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون؟ قالوا نريد المدينة قال ولم؟ قالوا
نريد الميرة؟ قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا
وافيتمونا؟ قالوا نعم قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنه قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقالوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " وذكر ابن
هشام عن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا
بها لكانوا كأمس الذاهب " وقال الحسن البصري في قوله " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح "
إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله
في قلبه الرعب فمن ينتدب في طلبه فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فتبعوهم فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه فلقى عيرا من التجار فقال ردوا محمدا ولكم من الجعل كذا وكذا وأخبروهم
أني قد جمعت جموعا وأني راجع إليهم فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " حسبنا الله ونعم
الوكيل " فأنزل الله هذه الآية وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد إن هذا السياق نزل في شأن غزوة حمراء الأسد
وقيل نزلت في بدر الموعد والصحيح الأول وقوله تعالى " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم
فزادهم إيمانا " الآية أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله
واستعانوا به " وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل " وقال البخاري حدثنا أحمد بن يونس قال أراه قال حدثنا أبو بكر عن أبي
حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها
محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد
رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله كلاهما عن يحيى بن أبي بكر عن أبي بكر وهو
ابن عياش به والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به ثم قال صحيح الاسناد على شرط
الشيخين ولم يخرجاه ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى
439

عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار " حسبنا الله ونعم الوكيل " وقال عبد الرزاق
قال ابن عيينة وأخبرني زكريا عن الشعبي عن عبد الله بن عمرو وقال هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في
النار. رواه ابن جرير وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري حدثنا عبد الرحيم بن
محمد بن زياد السكري أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له
يوم أحد إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فأنزل الله هذه الآية وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبد الله الرافعي
عن أبيه عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال إن
القوم قد جمعوا لكم فقالوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " فنزلت فيهم هذه الآية ثم قال ابن مردويه حدثنا دعلج بن أحمد
حدثنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو خيثمة بن مصعب بن سعد أنبأنا موسى بن أعين عن الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وقعتم في الامر العظيم فقولوا " حسبنا الله ونعم الوكيل " هذا حديث غريب
من هذا الوجه وقد قال الإمام أحمد حدثنا حياة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بقية حدثنا يحيى بن
سعيد عن خالد بن معدان عن سيف عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه
لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ردوا على الرجل فقال: ما قلت؟ " قال: قلت حسبي الله
ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم
الوكيل " وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن يحيى بن خالد عن سيف وهو الشامي ولم ينسب عن
عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقال الإمام أحمد حدثنا أسباط حدثنا مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ " فقال أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نقول؟ قال " قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ". وقد روى هذا من غير وجه وهو
حديث جيد وقد روينا عن أم المؤمنين زينب وعائشة رضي الله عنهما أنهما تفاخرتا فقالت زينب زوجني الله وزوجكن
أهاليكن وقالت عائشة نزلت براءتي من السماء في القرآن فسلمت لها زينب ثم قالت كيف قلت حين ركبت راحلة
صفوان بن المعطل قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل قالت زينب قلت كلمة المؤمنين ولهذا قال تعالى " فانقلبوا
بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم
فرجعوا إلى بلدهم " بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " مما أضمر لهم عدوهم " واتبعوا رضوان الله والله ذو
فضل عظيم " وقال البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد حدثنا محمد بن نعيم حدثنا
بشر بن الحكم حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس
في قول الله " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " قال النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها
رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى " الذين قال لهم
الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى الله عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا فقال
محمد صلى الله عليه وسلم " عسى " فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا فوافقوا السوق فيها فابتاعوا فذلك قول الله عز وجل
" فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء " الآية. قال وهي غزوة بدر الصغرى رواه ابن جرير وروى أيضا عن
القاسم عن الحسين عن حجاج عن ابن جريج قال: لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين
فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك يريدون أن يرعبوهم فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم
الوكيل حتى قدموا بدرا فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد قال فقدم رجل من المشركين فأخبر أهل مكة بخيل
محمد وقال في ذلك.
نفرت قلوصي من خيول محمد * وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي
440

قال ابن جرير هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ إنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد * وعجوة من يثرب كالعنجد
فهي على دين أبيها الا تلد * قد جعلت ماء قديد موعد
وماء ضجنان لها ضحى الغد
ثم قال تعالى " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه " أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله
تعالى " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي وألجأوا إلي فإني كافيكم
وناصركم عليهم كما قال تعالى " أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه " إلى قوله " قل حسبي الله عليه
يتوكل المتوكلون " وقال تعالى " فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا " وقال تعالى " أولئك حزب
الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون " وقال " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " وقال
" ولينصرن الله من ينصره " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم " الآية. وقال تعالى " إنا لننصر
رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ".
ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ولهم عذاب
عظيم (176) إن الذين اشتروا الكفر بالايمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم (177) ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي
لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين (178) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه
حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبى من رسله من يشاء فأمنوا بالله
ورسله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم (179) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا
لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون
خبير (180)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مبادرة
الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق فقال تعالى ولا يحزنك ذلك " إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل
لهم حظا في الآخرة " أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة " ولهم عذاب
عظيم "، ثم قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا " إن الذين اشتروا الكفر بالايمان " أي استبدلوا هذا بهذا " لن
يضروا الله شيئا " أي ولكن يضرون أنفسهم " ولهم عذاب أليم "، ثم قال تعالى " ولا يحسبن الذين كفروا أنما
نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " كقوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال
وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وكقوله " فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا
يعلمون وكقوله " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم
كافرون "، ثم قال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " أي لابد أن
يعقد شئ من المحنة يظهر فيه وليه ويفضح به عدوه يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر يعني بذلك
يوم أحد الذي امتحن الله به المؤمنين فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهتك
به ستار المنافقين فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى " ما كان الله ليذر
المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد وقال قتادة: ميز بينهم
441

بالجهاد والهجرة وقال السدي: قالوا إن كان محمد صادقا فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر به فأنزل الله تعالى
" ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب " أي حتى يخرج المؤمن من الكافر
روى ذلك كله ابن جرير - ثم قال تعالى " وما كان الله ليطلعكم على الغيب " أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه
حتى يميز لكم المؤمن من المنافق لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك. ثم قال تعالى " ولكن الله يجتبي من
رسله من يشاء " كقوله تعالى " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا * إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين
يديه ومن خلفه رصدا " ثم قال تعالى " فآمنوا بالله ورسله " أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم " وإن تؤمنوا وتتقوا
فلكم أجر عظيم ". وقوله تعالى " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم "
أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه وربما كان في دنياه. ثم أخبر بمال أمر
ماله يوم القيامة فقال " سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة " قال البخاري: حدثنا عبد الله بن منير سمع أبا النضر
حدثنا عبد الرحمن هو ابن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آتاه
الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - يقول: أنا
مالك أنا كنزك " ثم تلا هذه الآية " ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم "
إلى آخر الآية. تفرد به البخاري دون مسلم من هذا الوجه وقد رواه ابن حبان في صحيحه من طريق الليث بن
سعد عن محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح به.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة عن عبد الله بن
دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ثم
يلزمه يطوقه يقول: أنا مالك أنا كنزك ". وهكذا رواه النسائي عن الفضل بن سهل عن أبي النضر هاشم بن القاسم
عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة به ثم قال النسائي: ورواية عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر
أثبت من رواية عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة " قلت " ولا منافاة بين
الروايتين فقد يكون عند عبد الله بن دينار من الوجهين والله أعلم وقد ساقه الحافظ أبو بكر بن مردويه من غير وجه
عن أبي صالح عن أبي هريرة. ومن حديث محمد بن حميد عن زياد الخطمي عن أبي هريرة به. " حديث آخر "
قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن جامع عن أبي وائل عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله
إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فيقول أنا كنزك " ثم قرأ عبد الله مصداقة من كتاب الله " سيطوقون ما
بخلوا به يوم القيامة ". وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة عن جامع بن أبي راشد
زاد الترمذي: وعبد الملك بن أعين كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود به وقال الترمذي:
حسن صحيح. وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث أبي بكر بن عياش وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحق
السبيعي عن أبي وائل عن ابن مسعود به ورواه ابن جرير من غير وجه عن ابن مسعود موقوفا. " حديث آخر " قال
الحافظ أبو يعلى: حدثنا أمية بن بسطام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن
معدان بن أبي طلحة عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من ترك بعده كنزا مثل له شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه فيقول: من
أنت ويلك فيقول: أنا كنزك الذي خلفت بعدك فلا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبع سائر جسده " إسناده
جيد قوي ولم يخرجوه. وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البجلي ورواه ابن جرير وابن مردويه من حديث
بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يأتي الرجل مولاه فيسأله من فضل ماله عنده فيمنعه إياه إلا
دعا له يوم القيامة شجاعا يتلمظ فضله الذي منع " لفظ ابن جرير وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الأعلى
حدثنا داود عن أبي قزعة عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل جعله
الله عنده فيبخل به عليه إلا خرج له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ". ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزعة
442

واسمه حجر بن بيان عن أبي مالك العبدي موقوفا ورواه من وجه آخر عن أبي قزعة مرسلا. وقال العوفي عن ابن
عباس: نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها رواه ابن جرير والصحيح
الأول وإن دخل هذا في معناه وقد يقال: إن هذا أولى بالدخول والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله تعالى " ولله
ميراث السماوات والأرض " أي فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عز وجل:
فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم " والله بما تعملون خبير " أي بنياتكم وضمائركم.
لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا
عذاب الحريق (181) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (182) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن
لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن
كنتم صادقين (183) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير (184)
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا
كثيرة " قالت اليهود: يا محمد: افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله
فقير ونحن أغنياء " الآية رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم. وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد
عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر الصديق بيت المدراس فوجد من يهود ناسا كثيرة قد اجتمعوا
على رجل منهم يقال له فنحاص وكان من علمائهم وأحبارهم ومعه حبر يقال له أشيع فقال له أبو بكر: ويحك يا
فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول من عند الله قد جاءكم بالحق من عنده تجدونه مكتوبا
عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر وإنه إلينا لفقير ما
نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان عنا غنيا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ينهاكم عن
الربا ويعطينا ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا
وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم
صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر " فقال: يا رسول الله إن عدو الله قال قولا عظيما يزعم أن
الله فقير وأنهم عنه أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه فجحد فنحاص ذلك وقال: ما قلت
ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص " لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء " الآية. رواه ابن أبي حاتم
وقوله " سنكتب ما قالوا " تهديد ووعيد ولهذا قرنه تعالى بقوله " وقتلهم الأنبياء بغير حق " أي هذا قولهم في الله
وهذه معاملتهم رسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء ولهذا قال تعالى " ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك
بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد " أي يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وتحقيرا وتصغيرا - وقوله تعالى
" الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار يقول تعالى تكذيبا لهؤلاء الذين زعموا
أن الله عهد إليهم في كتبهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن
تنزل نار من السماء تأكلها قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله عز وجل " قل قد جاءكم رسل من قبلي
بالبينات " أي بالحجج والبراهين " وبالذي قلتم " أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة " فلم قتلتموهم " أي فلم
قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم " إن كنتم صادقين " أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل ثم قال
تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير " أي لا يوهنك
تكذيب هؤلاء لك فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين
443

القاطعة " والزبر " وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين والكتاب المنير أي الواضح
الجلي.
كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد
فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (185) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور (186)
يخبر تعالى إخبارا عاما يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك
ذو الجلال والاكرام " فهو تعالى وحده الذي لا يموت والجن والانس يموتون وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد
الواحد الاحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخرا كما كان أولا وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد
على وجه الأرض حتى يموت فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية أقام
الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها قليلها وكثيرها كبيرها وصغيرها فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ولهذا
قال تعالى " وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد العزيز الأويسي حدثنا علي بن أبي علي
الهاشمي عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما توفي
النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله
وبركاته " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك
ودركا من كل فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته قال:
جعفر بن محمد فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال: أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام. وقوله " فمن
زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئم " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة
فقد فاز " " هذا حديث ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه بدون هذه الزيادة. وقد رواه بهذه الزيادة أبو حاتم
وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن عمرو. هذا ورواه ابن مردويه من وجه آخر
فقال: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى أنبأنا حميد بن مسعدة أنبأنا عمرو بن علي عن أبي
حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " ثم تلا
هذه الآية " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " وتقدم عند قوله تعالى " ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون " ما
رواه وكيع بن الجراح في تفسيره عن الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة عن عبد الله بن
عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله
واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ". وقد رواه الإمام أحمد في مسنده عن وكيع به وقوله تعالى
" وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " تصغير لشأن الدنيا وتحقير لأمرها وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى
" بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى " وقال " وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله
خير وأبقى ". وفي الحديث " والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه "
وقال قتادة في قوله تعالى " وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " قال: هي متاع متروكة أوشكت والله الذي لا إله إلا هو
ان تضمحل عن أهلها فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله وقوله تعالى " لتبلون في أموالكم
وأنفسكم " كقوله تعالى " ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات " إلى آخر
444

الآيتين. أي لابد أن يبتلي المؤمن في شئ من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ويبتلي المؤمن على قدر دينه فإن كان
في دينه صلابة زيد في البلاء " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " يقول تعالى
للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر مسليا لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين وآمرا لهم
بالصفح والصبر والعفو حتى يفرج الله فقال تعالى " وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور " قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله
تعالى " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول
في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم هكذا ذكره مختصرا. وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا
فقال: حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة
بدر حتى مر على مجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول وذلك قبل أن يسلم ابن أبي وإذا في المجلس أخلاط من
المسلمين والمشركين عبدة الأوثان وأهل الكتاب اليهود والمسلمين وفي المجلس عبد الله بن رواحة فلما غشيت
المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفة بردائه وقال: لا تغبروا علينا فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف
فنزل ودعاهم إلى الله عز وجل وقرأ عليهم القرآن فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان
حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا
يتثاورون فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب " يريد عبد الله بن أبي قال كذا وكذا فقال سعد: يا
رسول الله أعف عنه واصفح فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك ولقد اصطلح أهل
هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك فذلك الذي
فعل به ما رأيت فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن
المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى قال الله تعالى " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " الآية - وقال تعالى " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم
كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " الآية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله له فيهم فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا فقتل الله به صناديد كفار قريش قال
عبد الله بن أبي بن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الاسلام
فبايعوا وأسلموا - فكل من قام بحق أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر فلابد أن يؤذى فماله دواء إلا الصبر
في الله والاستعانة بالله والرجوع إلى الله.
وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا
قليلا فبئس ما يشترون (187) لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة
من العذاب ولهم عذاب أليم (188) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شئ قدير (189)
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم
وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره فإذا أرسله الله تابعوه فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه
445

من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف والحظ الدنيوي السخيف فبئست الصفقة صفقتهم وبئست البيعة
بيعتهم. وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ويسلك بهم مسلكهم فعلى العلماء أن
يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع الدال على العمل الصالح ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث المروي
من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار " وقوله تعالى " لا
تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " الآية يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم
يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم " من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة " وفي
الصحيحين أيضا " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور " وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني
ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل:
لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعين فقال ابن عباس ما لكم
وهذه إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ثم تلا ابن عباس " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن
يحمدوا بما لم يفعلوا " الآية. وقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شئ فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد
أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه وهكذا رواه
البخاري في التفسير ومسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما وابن أبي حاتم وابن خزيمة والحاكم في
مستدركه وابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه. ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن
أبي مليكة عن علقمة بن وقاص أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فذكره - وقال البخاري: حدثنا
سعيد بن أبي مريم أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري: أن رجالا من
المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت
" لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " الآية. كذا رواه مسلم من حديث ابن أبي
مريم بنحوه وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال:
قال أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت: كنا عند مروان فقال: يا أبا سعيد أرأيت قوله تعالى " لا تحسبن الذين
يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا " ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل؟ فقال أبو
سعيد: إن هذا ليس من ذاك إنما ذاك أن ناسا من المنافقين يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا فإن كان فيه
نكبة فرحوا بتخلفهم وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم وحمدوهم على سرورهم بالنصر
والفتح فقال مروان: أين هذا من هذا؟ فقال أبو سعيد: وهذا يعلم هذا؟ فقال مروان: أكذلك يا زيد؟ قال:
نعم صدق أبو سعيد. ثم قال أبو سعيد وهذا يعلم ذاك - يعني رافع بن خديج - ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع
قلائصه في الصدقة فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري: ألا تحمدني على ما شهدت لك؟ فقال له أبو
سعيد: شهدت الحق فقال زيد: أولا تحمدني على ما شهدت الحق؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم
عن رافع بن خديج أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة فقال مروان: يا رافع في
أي شئ نزلت هذه الآية؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن
عباس كما تقدم؟ فقال له ما ذكرناه. ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء لان الآية عامة في جميع ما ذكر
والله أعلم. وقد روى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري عن محمد بن ثابت
الأنصاري أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله والله لقد خشيت أن أكون هلكت قال " لم؟ " قال نهى
الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى
الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل
446

شهيدا وتدخل الجنة " فقال: بلى يا رسول الله فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب - وقوله تعالى " فلا
تحسبنهم بمفازة من العذاب " يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد وبالياء على الاخبار عنهم أي لا تحسب أنهم ناجون
من العذاب: بل لابد لهم منه ولهذا قال تعالى " ولهم عذاب أليم " ثم قال تعالى " ولله ملك السماوات والأرض
والله على كل شئ قدير " أي هو مالك كل شئ والقادر على كل شئ فلا يعجزه شئ فهابوه ولا تخالفوه
واحذروا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه القدير الذي لا أقدر منه.
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قياما وقعودا
وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (191) ربنا
إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار (192) ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان أن آمنوا بربكم
فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار (193) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا
يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد (194)
قال الطبراني: حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا يحيى الحماني حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي
المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى؟ قالوا عصاه ويده بيضاء
للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا كيف كان عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمة والأبرص ويحيى الموتى: فأتوا
النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه فنزلت هذه الآية " إن في خلق السماوات والأرض
واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " فليتفكروا فيها. وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن
يكون الصفا ذهبا كان بمكة والله أعلم. ومعنى الآية أن الله تعالى يقول " إن في خلق السماوات والأرض " أي هذه
في ارتفاعها واتساعها وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب
سيارات وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ومنافع مختلفة الألوان
والطعوم والروائح والخواص " واختلاف الليل والنهار " أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر. فتارة يطول هذا
ويقصر هذا ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك
تقدير العزيز العليم ولهذا قال تعالى " لآيات لأولي الألباب " أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها
على جلياتها. وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم " وكأين من آية في السماوات والأرض
يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال
" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم " كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك " أي لا يقطعون ذكره في جميع
أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم " ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " أي يفهمون ما فيهما من الحكم
الدالة على عظمة الخالق وقدرته وحكمته واختياره ورحمته. وقال الشيخ أبو سليمان الداراني: إني لأخرج من
منزلي فما يقع بصري على شئ إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة رواه ابن أبي الدنيا في كتاب التوكل
والاعتبار. وعن الحسن البصري أنه قال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. وقال الفضيل: قال الحسن: الفكرة مرآة
تريك حسناتك وسيئآتك. وقال سفيان بن عيينة: الفكر نور يدخل قلبك وربما تمثل بهذا البيت:
إذا المرء كانت له فكرة * ففي كل شي له عبرة
447

وعن عيسى عليه السلام أنه قال: طوبي لمن كان قيله تذكرا وصمته تفكرا ونظره عبرا. قال لقمان الحكيم: إن
طول الوحدة ألهم للفكرة وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنة. قال وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط
إلا فهم ولا فهم امرؤ قط إلا علم ولا علم امرؤ قط إلا عمل. وقال عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله عز
وجل حسن والفكرة في نعم الله أفضل العبادة. وقال مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكركم وشاهدوا
الموقف بقلوبكم وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامها
وأطباقها وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعا من بين أصحابه قد ذهب عقله. وقال عبد الله بن المبارك: مر
رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال: يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر. كنز الرجال
وكنز الأموال. وعن ابن عمر: أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين
فيقول: أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول: " كل شئ هالك إلا وجهه " وعن ابن عباس أنه قال: ركعتان
مقتصدتان في تفكير خير من قيام ليلة والقلب ساه. وقال الحسن البصري: يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب
في ثلثه ودع ثلثه الآخر تتنفث للفكرة. وقال بعض الحكماء: من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه
بقدر تلك الغفلة. وقال بشر بن الحارث الحافي: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه وقال الحسن عن
عامر بن عبد قيس قال: سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الايمان أو نور
الايمان التفكر. وعن عيسى عليه السلام أنه قال: يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت وكن في الدنيا
ضعيفا واتخذ المساجد بيتا وعلم عينيك البكاء وجسدك الصبر وقلبك الفكر ولا تهتم برزق غد وعن أمير
المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: أنه بكى يوما بين أصحابه فسئل عن ذلك؟ فقال: فكرت في الدنيا
ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن
اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادكر وقال ابن أبي الدنيا: أنشدني الحسين بن عبد الرحمن:
نزهة المؤمن الفكر * لذة المؤمن العبر
نحمد الله وحده * نحن كل على خطر
رب لاه وعمره * قد تقضى وما شعر
رب عيش قد كان فو * ق المنى مونق الزهر
في خرير من العيون * وظل من الشجر
وسرور من النبات * وطيب من الثمر
غيرته وأهله * سرعة الدهر بالغير
نحمد الله وحده * إن في ذا المعتبر
إن في ذا لعبرة * للبيب إن اعتبر
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال: " وكأين من آية في
السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون * وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " ومدح عباده
المؤمنين " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض " قائلين " ربنا ما
خلقت هذا باطلا " أي ما خلقت هذا الخلق عبثا بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا وتجزي الذين أحسنوا
بالحسنى ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا " سبحانك " أي عن أن تخلق شيئا باطلا " فقنا عذاب النار "
أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث قنا من عذاب النار بحولك
وقوتك وقيضنا لأعمال ترضى بها عنا ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم وتجيرنا به من عذابك
الأليم. ثم قالوا " ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته " أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع " وما للظالمين من
448

أنصار " أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ولا محيد لهم عما أردت بهم " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للايمان "
أي داعيا يدعو إلى الايمان وهو الرسول صلى الله عليه وسلم " أن آمنوا بربكم فآمنا " أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له
واتبعناه " ربنا فاغفر لنا ذنوبنا " أي بإيماننا واتباعنا نبيك أي استرها " وكفر عنا سيئاتنا " فيما بيننا وبينك " وتوفنا مع
الأبرار " أي ألحقنا بالصالحين " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك " قيل: معناه على الايمان برسلك. وقيل: معناه
على ألسنة رسلك وهذا أظهر - وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو اليمان حدثنا إسماعيل بن عياش عن عمرو بن
محمد عن أبي عقال عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عسقلان أحد العروسين يبعث الله منها يوم القيامة
سبعين ألفا لا حساب عليهم ويبعث منها خمسين ألفا شهداء وفود إلى الله وبها صفوف الشهداء رؤوسهم مقطعة
في أيديهم تثج أوداجهم دما يقولون: " ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف
الميعاد " فيقول الله: صدق عبيدي اغسلوهم بنهر البيضة فيخرجون منه نقاء بيضا فيسرحون في الجنة حيث
شاءوا " وهذا الحديث يعد من غرائب المسند ومنهم من يجعله موضوعا والله أعلم " ولا تخزنا يوم القيامة " أي
على رؤس الخلائق " إنك لا تخلف الميعاد " أي لا بد من الميعاد الذي أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة
بين يديك. وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا الحافظ أبو شريح حدثنا المعتمر حدثنا الفضل بن عيسى حدثنا
محمد بن المنكدر أن جابر بن عبد الله حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " العار والتخزية تبلغ من ابن آدم في القيامة في
المقام بين يدي الله عز وجل ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار " حديث غريب. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ
هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله: حدثنا سعيد بن أبي مريم
حدثنا محمد بن جعفر أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بت
عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر
قعد فنظر إلى السماء فقال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " الآيات
ثم قام فتوضأ واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
وهكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني عن ابن أبي مريم به ثم رواه البخاري من طرق عن مالك عن
مخرمة بن سليمان عن كريب أن ابن عباس أخبره أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته قال: فاضطجعت
في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طولها فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل أو قبله
بقليل أو بعده بقليل استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من منامه فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ثم قرأ العشر آيات
الخواتيم من سورة آل عمران ثم قام إلى شن معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام يصلي قال ابن عباس رضي
الله عنهما فقمت فصنعت مثل ما صنع ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده اليمنى على رأسي
وأخذ بأذني اليمنى ففتلها فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم
اضطجع حتى جاءه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح. وهكذا أخرجه بقية الجماعة
من طرق عن مالك به ورواه مسلم أيضا وأبو داود من وجوه أخر عن مخرمة بن سليمان به " طريق أخرى " لهذا
الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي حدثنا أبو
يحيى عن أبي ميسرة أنبأنا خلاد بن يحيى أنبأنا يونس عن أبي إسحق عن المنهال بن عمرو عن علي بن عبد الله بن
عباس عن عبد الله بن عباس قال: أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته قال: فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الأخيرة حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيري قام فمر بي فقال من هذا؟
عبد الله؟ قلت: نعم قال فمه؟ قلت: أمرني العباس أن أبيت بكم الليلة قال " فالحق الحق " فلما دخل قال:
افرش عبد الله؟ قال: فأتى بوسادة من مسوح قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سمعت غطيطه ثم استوى على
فراشه قاعدا قال: فرفع رأسه إلى السماء فقال " سبحان الملك القدوس " ثلاث مرات ثم تلا هذه الآيات من آخر
سورة آل عمران حتى ختمها. وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من حديث علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه
449

حديثا في ذلك أيضا " طريق أخرى " رواها ابن مردويه من حديث عاصم بن بهدلة عن بعض أصحابه عن عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء وتلا هذه الآية " إن
في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " إلى آخر السورة. ثم قال: " اللهم اجعل
في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا
ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وأعظم لي نورا يوم القيامة " وهذا الدعاء ثابت في بعض طرق الصحيح من رواية
كريب عن ابن عباس رضي الله عنه. ثم روى ابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت قريش اليهود فقالوا: بم جاءكم موسى من الآيات؟ قالوا عصاه ويده البيضاء
للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا: كيف كان عيسى فيكم؟ فقالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى.
فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا فدعا ربه عز وجل فنزلت " إن في خلق السماوات
والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " قال: فليتفكروا فيها لفظ ابن مردويه. وقد تقدم هذا
الحديث من رواية الطبراني في أول الآية وهذا يقتضي أن تكون هذه الآيات مكية والمشهور أنها مدنية ودليله الحديث
الآخر قال ابن مردويه: حدثنا علي بن إسماعيل حدثنا أحمد بن علي الحراني حدثنا شجاع بن أشرس حدثنا
حشرج بن نباتة الواسطي حدثنا أبو مكرم عن الكلبي وهو ابن حباب عن عطاء قال: انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن
عمير إلى عائشة رضي الله عنها فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب فقالت: يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال
قول الشاعر: زر غبا تزدد حبا. فقال ابن عمر ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكت وقالت:
كل أمره كان عجبا أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال " ذريني أتعبد لربي عز وجل " قالت: فقلت والله
إني لأحب قربك وإني أحب أن تعبد ربك فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ثم قام يصلي فبكى حتى بل
لحيته ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح قالت:
فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال " ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي
وقد أنزل الله علي في هذه الليلة " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " ثم
قال " ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها " وقد رواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عوف الكلبي عن أبي حباب
عن عطاء قال: دخلت أنا وعبد الله بن عمر وعبيد بن عمير على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وهي في خدرها
فسلمنا عليها فقالت: من هؤلاء؟ قال: فقلنا هذا عبد الله بن عمر وعبيد بن عمير قالت: يا عبيد بن عمير ما
يمنعك من زيارتنا؟ قال: ما قال الأول: زر غبا تزدد حبا قالت: إنا لنحب زيارتك وغشيانك قال عبد الله بن
عمر: دعينا من بطالتكما هذه أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فبكت ثم قالت: كل أمره كان
عجبا أتاني في ليلتي حتى دخل معي في فراشي حتى لصق جلده بجلدي ثم قال " يا عائشة ائذني لي أتعبد لربي "
قالت إني لأحب قربك وأحب هواك قالت فقام إلى قربة في البيت فما أكثر من صب الماء ثم قام فقرأ القرآن ثم
بكى حتى رأيت أن دموعه قد بلغت حقويه قالت ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه ثم بكى حتى رأيت دموعه قد
بلغت حجره قالت: ثم اتكأ على جنبه الأيمن ووضع يده تحت خده قالت ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت
الأرض فدخل عليه بلال فآذنه بصلاة الفجر ثم قال: الصلاة يا رسول الله فلما رآه بلال يبكي قال: يا رسول الله
تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال " يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟ وما لي لا أبكي وقد نزل
علي الليلة " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب " إلى قوله " سبحانك فقنا
عذاب النار " ثم قال " ويل لمن قرأ هذه الآيات ثم لم يتفكر فيها ". وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في
صحيحه عن عمران بن موسى عن عثمان بن أبي شيبة عن يحيى بن زكريا عن إبراهيم بن سويد النخعي عن
عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال: دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة فذكر نحوه. وهكذا رواه
عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار عن شجاع بن أشرس به ثم قال: حدثني الحسن بن
450

عبد العزيز سمعت سنيدا يذكر عن سفيان هو الثوري رفعه قال " من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيها ويله " يعد
عشرا - قال الحسن بن عبد العزيز: فأخبرني عبيد بن السائب قال: قيل للأوزاعي ما غاية التفكر فيهن؟ قال:
يقرأهن وهو يعقلهن - قال ابن أبي الدنيا: وحدثني قاسم بن هاشم حدثنا علي بن عياش حدثنا عبد الرحمن بن
سليمان قال: سألت الأوزاعي عن أدنى ما يتعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل؟ فأطرق هنيهة
ثم قال يقرؤهن وهو يعقلهن. " حديث آخر " فيه غرابة. قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الرحمن بن بشير بن
نمير حدثنا إسحاق بن إبراهيم البستي " ح " قال وحدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمر وقال: أنبأنا
هشام بن عمار أنبأنا سليمان بن موسى الزهري أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن
أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف.
فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا
من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار
ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب (195)
يقول تعالى " فاستجاب لهم ربهم " أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر:
وداع دعا: يا من يجيب إلى الندى * فلم يستجبه عند ذاك مجيب
قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أم سلمة قال قالت أم سلمة: يا
رسول الله لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشئ. فأنزل الله تعالى " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل
عامل منكم من ذكر أو أنثى " إلى آخر الآية: وقالت الأنصار هي أول ظعينة قدمت علينا وقد رواه الحاكم في
مستدركه من حديث سفيان بن عيينة. ثم قال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. وقد روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية. " فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر
أو أنثى بعضكم من بعض " إلى آخرها. رواه ابن مردويه ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا
مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم عقب ذلك بفاء التعقيب كما قال تعالى " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب
أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " وقوله تعالى " أني لا أضيع عمل عامل
منكم من ذكر أو أنثى " هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبرا أنه لا يضيع عمل عامل منكم لديه بل يوفي كل
عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى وقوله " بعضكم من بعض " أي جميعكم في ثوابي سواء " فالذين هاجروا " أي
تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الايمان وفارقوا الأحباب والاخوان والخلان والجيران " وأخرجوا من ديارهم " أي
ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ولهذا قال " وأوذوا في سبيلي " أي إنما كان
ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى " يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم " وقال تعالى
" وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " وقوله تعالى " وقاتلوا وقتلوا " وهذا أعلى المقامات أن يقاتل
في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه. وقد ثبت في الصحيحين أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن
قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي؟ قال: نعم؟ ثم قال: كيف قلت فأعاد
عليه ما قال فقال: " نعم إلا الذي قاله لي جبريل آنفا " ولهذا قال تعالى " لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات
تجري من تحتها الأنهار " أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير
ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وقوله " ثوابا من عند الله " أضافه إليه ونسبة إليه ليدل
على أنه عظيم لان العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلا كثيرا كما قال الشاعر:
451

إن يعذب يكن غراما وإن يعط * جزيلا فإنه لا يبالي
وقوله تعالى " والله عنده حسن الثواب " أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحا. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن
دحيم بن إبراهيم قال الوليد بن مسلم أخبرني جرير بن عثمان أنا شداد بن أوس كان يقول: أيها الناس لا تتهموا الله
في قضائه فالله لا يبغي على مؤمن فإذا أنزل بأحدكم شيئا مما يحب فليحمد الله وإذا أنزل به شيئا مما يكره فليصبر
وليحتسب فإن الله عنده حسن الثواب.
لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد (197) لكن الذين اتقوا ربهم لهم
جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار (198)
يقول تعالى لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور فعما قليل يزول هذا كله عنهم
ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة. فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجا وجميع ما هم فيه " متاع قليل ثم مأواهم
جهنم وبئس المهاد " وهذه الآية كقوله تعالى " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد "
وقال تعالى " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب
الشديد بما كانوا يكفرون " وقال تعالى " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال تعالى " فمهل
الكافرين أمهلهم رويدا " أي قليلا وقال تعالى " أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم
هو يوم القيامة من المحضرين " وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم النار قال بعده " لكن الذين اتقوا
ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار " وقال ابن مردويه:
حدثنا أحمد بن نصر حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله أنبأنا هشام بن عمار أنبأنا سعيد أنبأنا يحيى أنبأنا عبد الله بن
الوليد الرصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما سموا الأبرار لأنهم بروا
الآباء والأبناء كما أن لوالديك عليك حقا كذا لولدك عليك حق " كذا رواه ابن مردويه عن عبد الله بن عمرو بن
العاص مرفوعا وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن جناب حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن
الوليد الرصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمرو قال: إنما سماهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء كما أن
لوالديك عليك حقا كذلك لولدك عليك حق وهذا أشبه والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا
مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن رجل عن الحسن قال: الأبرار الذين لا يؤذون الذر. وقال ابن أبي
حاتم أيضا حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة عن الأسود قال عبد الله يعني ابن مسعود ما
من نفس برة ولا فاجرة إلا الموت خير لها لئن كان برا لقد قال الله تعالى " وما عند الله خير للأبرار " وكذا رواه
عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش به وقرأ " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم
ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا ابن أبي جعفر عن نوح بن فضالة
عن لقمان عن أبي داود أنه كان يقول: ما من مؤمن إلا والموت خير له وما من كافر إلا والموت خير له ومن لم
يصدقني فإن الله يقول " وما عند الله خير للأبرار " ويقول " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم
إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين ".
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله
ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب (199) يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا
452

واتقوا الله لعلكم تفلحون (200)
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الايمان ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم
مؤمنون به من الكتب المتقدمة أنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه لا يشترون بآيات الله ثمنا
قليلا أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته وهؤلاء هم خيرة أهل
الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هودا أو نصارى. وقد قال تعالى في سورة القصص " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم
به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين
صبروا " الآية. وقد قال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به " الآية. وقد قال تعالى
" ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وقال تعالى " ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات
الله آناء الليل وهم يسجدون " وقال تعالى " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم
يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا "
وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا
عشرة أنفس وأما النصارى منهم يهتدون وينقادون للحق كما قال تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا
اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " إلى قوله تعالى " فأثابهم الله بما
قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " الآية. وهكذا قال ههنا " أولئك لهم أجرهم عند ربهم " الآية.
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة كهيعص بحضرة النجاشي ملك الحبشة
وعنده البطاركة والقساقسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم. وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال " إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه " فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه.
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: لما توفي
النجاشي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " استغفروا لأخيكم " فقال بعض الناس يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة فنزلت
" وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " الآية. ورواه عبد بن حميد وابن أبي
حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رواه ابن مردويه من طرق عن
حميد عن أنس بن مالك نحو ما تقدم. ورواه أيضا ابن جرير من حديث أبي بكر الهذلي عن قتادة عن سعيد بن
المسيب عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي " إن أخاكم أصحمة قد مات " فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصلى كما يصلي على الجنائز فكبر أربعا. فقال المنافقون يصلي على علج مات بأرض الحبشة فأنزل الله " وإن من
أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " الآية. وقال أبو داود حدثنا محمد بن عمرو الرازي حدثنا سلمة بن الفضل عن
محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما مات النجاشي كنا نحدث أنه لا
يزال يرى على قبره نور. وقد روى الحافظ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو حدثنا عبد
الله بن علي الغزال حدثنا علي بن الحسن بن شقيق حدثنا ابن المبارك حدثنا مصعب بن ثابت عن عامر بن
عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: نزل بالنجاشي عدو من أرضهم فجاءه المهاجرون فقالوا: إنا نحب أن تخرج
نقاتل معك وترى جرأتنا ونجزيك بما صنعت بنا فقال: لداء بنصر الله عز وجل خير من دواء بنصرة الناس. وفيه
نزلت " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " الآية. ثم قال هذا حديث
صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " وإن من أهل الكتاب " يعني مسلمة أهل الكتاب
وقال عباد بن منصور سألت الحسن البصري عن قول الله " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله " الآية. قال هم أهل
الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وعرفوا الاسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين للذي كانوا عليه من الايمان
قبل محمد صلى الله عليه وسلم واتباعهم محمدا صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال: قال
453

رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين فذكر منهم " رجلا من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي " وقوله تعالى " لا
يشترون بآيات الله ثمنا قليلا " أي لا يكتمون ما بأيديهم من العلم كما فعله الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك
مجانا ولهذا قال تعالى " أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب " قال مجاهد سريع الحساب يعني سريع
الاحصاء. رواه ابن أبي حاتم وغيره. وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " قال الحسن البصري
أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الاسلام فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء
حتى يموتوا مسلمين وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم وكذلك قال غير واحد من علماء السلف وأما
المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس وسهل بن حنيف
ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم وروى ابن أبي حاتم ههنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي من حديث
مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرحمن عن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى
المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ". وقال ابن مردويه حدثنا
محمد بن أحمد حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جحيفة علي بن يزيد الكوفي أنبأنا ابن أبي كريمة عن محمد بن
يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال أقبل علي أبو هريرة يوما فقال أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية " يا أيها
الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا " قلت لا. قال أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ولكنها
نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت " اصبروا " أي على
الصلوات الخمس " وصابروا " أنفسكم وهواكم " ورابطوا " في مساجدكم " واتقوا الله " فيما عليكم " لعلكم
تفلحون ". وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور عن مصعب بن ثابت عن داود بن صالح عن
أبي سلمة عن أبي هريرة بنحوه وقال ابن جرير حدثني أبو السائب حدثني ابن فضيل عن عبد الله بن سعيد المقبري
عن جده عن شرحبيل عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أدلكم على ما يكفر الذنوب والخطايا؟
إسباغ الوضوء على المكاره وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط " وقال ابن جرير أيضا حدثني موسى بن سهل
الرملي حدثنا يحيى بن واضح حدثنا محمد بن مهاجر حدثني يحيى بن زيد عن زيد بن أبي أنيسة عن شرحبيل عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ قلنا بلى يا
رسول الله قال " إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ".
وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن علي أنبأنا محمد بن عبد الله بن سلام البرنوثي أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي
أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن أنبأنا الوازع بن نافع عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي أيوب قال: وفد علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هل لكم إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الاجر؟ قلنا نعم يا رسول الله وما هو؟ قال " إسباغ
الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة " قال " وهو قول الله " يا أيها الذين آمنوا
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " فذلك هو الرباط في المساجد " وهذا حديث غريب من هذا
الوجه جدا. وقال عبد الله بن المبارك عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير حدثني داود بن صالح قال: قال لي
أبو سلمة بن عبد الرحمن يا ابن أخي هل تدري في أي شئ نزلت هذه الآية " اصبروا وصابروا ورابطوا " قال قلت
لا قال: إنه لم يكن يا ابن أخي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة رواه ابن
جرير وقد تقدم سياق ابن مردويه له وإنه من كلام أبي هريرة رضي الله عنه والله أعلم وقيل المراد بالمرابطة ههنا
مرابطة الغزو في نحو العدو وحفظ ثغور الاسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت
الاخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه فروى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها ". " حديث آخر " روى مسلم عن سلمان
الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان
454

يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان " " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا ابن المبارك
عن حياة بن شريح أخبرني أبو هانئ الخولاني أن عمرو بن مالك الحيني أخبره أنه سمع فضالة بن عبيد يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه
ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن فتنة القبر ". وهكذا رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني
وقال الترمذي حسن صحيح وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضا.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا حسن بن موسى وأبو سعيد وعبد الله بن يزيد كلهم عن
عبد الله بن لهيعة حدثنا مشرح بن عاهان سمعت عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل ميت يختم له
على عمله إلا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان ". رواه الحارث بن محمد بن أبي
الهامة في مسنده عن المقري وهو عبد الله بن زيد إلى قوله " حتى يبعث " دون ذكر " الفتان " وابن لهيعة إذا صرح
بالتحديث فهو حسن ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد. " حديث آخر " قال ابن ماجة في سننه حدثنا يونس بن
عبد الأعلى حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني الليث عن زهرة بن معبد عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" من مات مرابطا في سبيل الله أجرى عليه عمله الصالح الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن عن الفتان وبعثه الله
يوم القيامة آمنا من الفزع الأكبر " " طريق أخرى " قال الإمام أحمد حدثنا موسى أنبأنا ابن لهيعة عن موسى بن وردان
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من مات مرابطا وقى فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر وغدا عليه ريح برزقه من
الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة " " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق ابن عيسى حدثنا
إسماعيل بن عياش عن محمد بن عمرو بن حلحلة الديلي عن أسحق بن عبد الله عن أم الدرداء ترفع الحديث قالت
" من رابط في شئ من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة " " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا كهمس حدثنا مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان وهو يخطب على منبره:
إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها ". وهكذا رواه أحمد عن روح عن
كهمس عن مصعب بن ثابت عن عثمان وقد رواه ابن ماجة عن هشام بن عمار عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم
عن أبيه عن مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير قال: خطب عثمان الناس فقال: أيها الناس إني سمعت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم وبصحابتكم فليختر مختار لنفسه أو ليدع سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من رابط ليلة في سبيل الله كانت كألف ليلة قيامها وصيامها " " طريق أخرى " عن عثمان رضي
الله عنه قال الترمذي حدثنا الحسن بن علي الخلال حدثنا هشام بن عبد الملك حدثنا الليث بن سعد حدثنا أبو عقيل
زهرة بن معبد عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال: سمعت عثمان وهو على المنبر يقول: إني كتمتكم حديثا سمعته
من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من
هذا الوجه قال محمد يعني البخاري أبو صالح مولى عثمان اسمه بركان وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث والله
أعلم وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة وعنده زيادة في آخره فقال يعني عثمان
" فليرابط امرؤ كيف شاء " هل بلغت؟ قالوا نعم قال اللهم اشهد " حديث آخر " قال أبو عيسى الترمذي حدثنا ابن
أبي عمر حدثنا سفيان حدثنا محمد بن المنكدر قال: مر سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابطة له وقد
شق عليه وعلى أصحابه فقال: ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال بلى قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه ومن مات فيه وقى فتنة القبر
ونمى له عمله إلى يوم القيامة ". تفرد به الترمذي من هذا الوجه وقال هذا حديث حسن وفي بعض النسخ زيادة
455

وليس إسناده بمتصل: وابن المنكدر لم يدرك سلمان " قلت " الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن
السمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عبيدة بن عقبة كلاهما عن شرحبيل بن السمط وله صحبة
عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه الذي
كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان ". وقد تقدم سياق مسلم بمفرده " حديث آخر " قال ابن ماجة: حدثنا
محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا محمد بن يعلى السلمي حدثنا عمرو بن صبيح عن عبد الرحمن بن عمرو عن
مكحول عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حرس ليلة وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان
أعظم أجرا من عبادة مائة سنة صيامها وقيامها ورباط يوم في سبيل الله من وراء عورة المسلمين محتسبا من غير شهر رمضان
أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال -: من عبادة ألف سنة صيامها وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما لم
يكتب عليه سيئة ألف سنة وتكتب له الحسنات ويجري عليه أجر الرباط إلى يوم القيامة ". هذا حديث غريب
من هذا الوجه بل منكر وعمر بن صبيح متهم " حديث آخر " قال ابن ماجة: حدثنا عيسى بن يونس الرملي
حدثنا محمد بن شعيب بن شابور عن سعيد بن خالد بن أبي طويل سمعت أنس بن مالك يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " حرس ليلة في سبيل الله خير من صيام رجل وقيامه في أهله ألف سنة السنة ثلاثمائة يوم واليوم كألف سنة ".
وهذا حديث غريب أيضا وسعيد بن خالد هذا ضعفه أبو زرعة وغير واحد من الأئمة. وقال العقيلي: لا يتابع على
حديثه. وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم: روى عن أنس أحاديث موضوعة.
" حديث آخر " قال ابن ماجة: حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا عبد العزيز بن محمد عن صالح بن محمد بن زائدة عن
عمر بن عبد العزيز عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله حارس الحرس " فيه انقطاع بين
عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر فإنه لم يدركه والله أعلم. " حديث آخر " قال أبو داود: حدثنا أبو توبة حدثنا
معاوية يعني ابن سلام حدثني السلولي أنه حدثه سهل ابن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حتى كانت
عشية فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت
جبل كذا وكذا فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال " تلك غنيمة
المسلمين غدا إن شاء الله " ثم قال " من يحرسنا الليلة " قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله قال " فاركب "
فركب فرسا له فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا
تغز من قبلك الليلة " فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعتين فقال " هل أحسستم فارسكم " فقال
رجل: يا رسول الله ما أحسسناه فثوب بالصلاة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى
صلاته قال " أبشروا فقد جاءكم فارسكم " فجعلنا ننظر في خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء حتى وقف على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما
فنظرت فلم أر أحدا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل نزلت الليلة؟ " قال: لا إلا مصليا أو قاضي حاجة فقال له
" أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها " ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني عن أبي توبة
وهو الربيع بن نافع به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا عبد الرحمن بن شريح سمعت
محمد بن شمير الرعيني يقول: سمعت أبا عامر البجيني. قال الإمام أحمد: وقال غيره زائدا أبا علي الحنفي يقول:
سمعت أبا ريحانة يقول كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه فأصابنا برد شديد حتى
رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الجحفة يعني الترس فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس
نادى " من يحرسنا هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل "؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله قال:
" ادن " فدنا منه فقال " من أنت؟ " فتسمى له الأنصاري ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه قال أبو ريحانة:
فلما سمعت ما دعا به قلت أنا رجل آخر فقال " ادن " فدنوت فقال " من أنت؟ " قال: فقلت أبو ريحانة فدعا
456

بدعاء دون ما دعا به للأنصاري ثم قال: " حرمت النار على عين دمعت - أو بكت - من خشية الله وحرمت النار
على عين سهرت في سبيل الله ". وروى النسائي منه " حرمت النار " إلى آخره عن عصمة بن الفضل عن زيد بن
الحباب به وعن الحارث بن مسكين عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن شريح به وأتم وقال في الروايتين: عن
أبي علي البجيني. " حديث آخر " قال الترمذي: حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر بن عمار وحدثنا
شعيب بن زريق أبو شيبة عن عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عينان
لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله ". ثم قال: حسن غريب لا نعرفه إلا
من حديث شعيب بن زريق قال: وفى الباب عن عثمان وأبي ريحانة " قلت " وقد تقدما ولله الحمد والمنة.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن غيلان حدثنا رشدين عن زياد عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن
أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من حرس من وراء المسلمين متطوعا لا بأجرة سلطان لم ير النار بعينه إلا تحلة القسم
فإن الله يقول: وإن منكم إلا واردها ". تفرد به أحمد رحمه الله. " حديث آخر " روى البخاري في صحيحه عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضي وإن لم يعط
سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة
قدماه إن كان في الحراسة، كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن
شفع لم يشفع " فهذا آخر ما تيسر ايراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ولله الحمد على جزيل الانعام وعلى
تعاقب الأعوام والأيام. وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا مطرف بن عبد الله المديني حدثنا مالك بن زيد بن
أسلم قال: كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم فكتب إليه عمر: أما
بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله له بعدها فرجا وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى
يقول " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " وهكذا روى الحافظ ابن عساكر في
ترجمة عبد الله بن المبارك من طريق محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة قال: أملي على عبد الله بن المبارك هذه
الأبيات بطرسوس وودعته للخروج وأنشدها معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة وفي رواية سنة سبع
وسبعين ومائة.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا * لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه * فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل * فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا * رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا * قول الصحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في * أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا * ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام فلما قرأه ذرفت عيناه وقال: صدق أبو عبد الرحمن
ونصحني ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قال قلت: نعم قال: فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي
عبد الرحمن إلينا وأملى على الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: إن
رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال " هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر
وتصوم فلا تفطر؟ " فقال يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم " فوالذي نفسي بيده لو
طوقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله أو ما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك
الحسنات "؟ وقوله تعالى " واتقوا الله " أي في جميع أموركم وأحوالكم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى
457

اليمن " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " " لعلكم تفلحون " أي في
الدنيا والآخرة - وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو صخر عن محمد بن كعب القرظي أنه كان
يقول في قول الله عز وجل " واتقوا الله لعلكم تفلحون " يقول: اتقوني فيما بيني وبينكم لعلكم تفلحون يقول: غدا
إذا لقيتموني - انتهى تفسير سورة آل عمران والله الحمد والمنة نسأله الموت على الكتاب والسنة آمين.
سورة النساء
قال العوفي عن ابن عباس: نزلت سورة النساء بالمدينة. وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن
ثابت وروى من طريق عبد الله بن لهيعة عن أخيه عيسى عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا حبس " وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو البختري
عبد الله بن محمد شاكر حدثنا محمد بن بشر العبدي حدثنا مسعر بن كدام عن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن
مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " الآية
و " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية و " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " و " ولو أنهم إذ
ظلموا أنفسهم جاؤوك " الآية ثم قال: هذ إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه فقد اختلف في ذلك.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن رجل عن ابن مسعود قال: خمس آيات من النساء لهن أحب إلى من الدنيا جميعا
" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " وقوله " وإن تك حسنة يضاعفها " وقوله " إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقوله " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما "
رواه ابن جرير. ثم روى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: ثماني آيات نزلت في سورة النساء
خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت أولهن " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب
الله عليكم والله عليم حكيم " والثانية " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا
عظيما " والثالثة " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا " ثم ذكر قول ابن مسعود سواء يعني في الخمسة
الباقية - وروى الحاكم من طريق أبي نعيم عن سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن أبي مليكة سمعت
ابن عباس يقول: سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا
الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (1)
يقول تعالى آمرا خلقه بتقواه وهي عبادته وحده لا شريك له ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس
واحدة وهي آدم عليه السلام " وخلق منها زوجها " وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر من خلقه وهو
نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته فأنس إليها وأنست إليه. وقال أبن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا
وكيع عن أبي هلال عن قتادة عن ابن عباس قال: خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل وخلق الرجل
من الأرض فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم. وفي الحديث الصحيح " إن المرأة خلقت من ضلع وأن
أعوج شئ في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن استمتعت بها اسمتعت بها وفيها عوج " وقوله " وبث
458

منهما رجالا كثيرا ونساء " أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ونشرهم في أقطار العالم على
اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. ثم قال تعالى " واتقوا الله الذي
تساءلون به والأرحام " أي واتقوا الله بطاعتكم إياه قال إبراهيم ومجاهد والحسن " الذي تساءلون به " أي كما يقال
أسألك بالله وبالرحم. وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام إن تقطعوها ولكن
بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد. وقرأ بعضهم " والأرحام "
بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالارحام كما قال مجاهد وغيره. وقوله " إن الله كان
عليكم رقيبا " أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم كما قال " والله على كل شئ شهيد ". وفي الحديث
الصحيح " ا عبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن
أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح
مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر -. وهم مجتابوا النمار
أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم
من نفس واحدة " حتى ختم الآية. ثم قال " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " ثم حضهم على
الصدقة فقال " تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره ". وذكره تمام الحديث وهكذا
رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها " يا أيها الناس اتقوا
ربكم " الآية.
وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا (2)
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا
فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا (3) وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه
نفسا فكلوه هنيئا مريئا (4)
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ولهذا قال
" ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب " قال سفيان الثوري عن أبي صالح: لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق
الحلال الذي قدر لك وقال سعيد بن جبير: لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم يقول: لا
تبدلوا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام وقال سعيد بن المسيب والزهري: لا تعط مهزولا وتأخذ سمينا.
وقال إبراهيم النخعي والضحاك: لا تعط زيفا وتأخذ جيدا. وقال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم
اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ويقول: شاة بشاة ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف يقول درهم
بدرهم. وقوله " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " قال مجاهد وسعيد بن جبير وابن سيرين ومقاتل بن حيان والسدي
وسفيان بن حسين: أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا. وقوله " إنه كان حوبا كبيرا " قال ابن عباس: أي إثما عظيما.
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله " حوبا كبيرا " قال " إثما كبيرا " ولكن في إسناده
محمد بن يوسف الكندي وهو ضعيف وروى هكذا عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وابن سيرين وقتادة
ومقاتل بن حيان والضحاك وأبي مالك وزيد بن أسلم وأبي سنان مثل قول ابن عباس وفي الحديث المروي في
سنن أبي داود " اغفر لنا حوبنا وخطايانا " وروى ابن مردويه بإسناده إلى واصل مولى عيينة عن ابن سيرين عن ابن
عباس: أن أبا أيوب طلق امرأته فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوبا " قال ابن سيرين:
459

الحوب الاثم. ثم قال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي حدثنا بشر بن موسى حدثنا هودة بن خليفة
حدثنا عوف عن أنس أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال " إن طلاق أم أيوب لحوب "
فأمسكها ثم روى ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم عن حميد الطويل سمعت أنس بن
مالك أيضا يقول: أراد أبو طلحة أن يطلق أم سليم امرأته فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن طلاق أم سليم لحوب " فكف.
والمعنى: إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه. وقوله " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى " أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى
ما سواها من النساء فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه. وقال البخاري: حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن
جريج أخبرني هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق وكان يمسكها
عليه ولم يكن لها من نفسه شئ فنزلت فيه " وإن خفتم ألا تقسطوا " أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق
وفي ماله. ثم قال البخاري: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن
شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " قالت: يا
ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن
يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن
في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن قال عروة: قالت عائشة: وإن الناس استفتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله " ويستفتونك في النساء " قالت عائشة: وقول الله في الآية الأخرى
" وترغبون أن تنكحوهن " رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها
وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال وقوله " مثنى وثلاث ورباع " أي
انكحوا من شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين وإن شاء ثلاثا وإن شاء أربعا كما قال الله تعالى
" جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع " أي منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له
أربعة ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه بخلاف قصر الرجال على أربع فمن هذه الآية كما
قال ابن عباس وجمهور العلماء لان المقام مقام امتنان وإباحة فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره. قال
الشافعي وقد دلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لاحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يجمع بين أكثر من أربع نسوة وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء إلا ما حكى عن طائفة من الشيعة
أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع وقال بعضهم: بلا حصر وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في
جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح وإما إحدى عشرة كما قد جاء في بعض ألفاظ البخاري.
وقد علقه البخاري وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ودخل منهن بثلاث عشرة
واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من
الأحاديث الدالة على الحصر في أربع ولنذكر الأحاديث في ذلك. قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل ومحمد بن
جعفر قالا: حثنا معمر عن الزهري قال ابن جعفر في حديثه، أنبأنا ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن غيلان بن
سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " اختر منهن أربعا " فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم
ماله بين بنيه فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك
ولعلك لا تلبث إلا قليلا وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولامرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر
أبي رغال. وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم من طرق عن إسماعيل بن علية
وغندر ويزيد بن زريع وسعيد بن أبي عروبة وسفيان الثوري وعيسى بن يونس وعبد الرحمن بن محمد المحاربي
والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ عن معمر بإسناده مثله إلى قوله " اختر منهن أربعا " وباقي الحديث في قصة
عمر من أفراد أحمد: وهي زيادة حسنة وهي مضاعفة لما علل البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي حيث
460

قال بعد روايته له سمعت البخاري يقول: هذا الحديث غير محفوظ والصحيح ما روى شعيب وغيره عن الزهري
حدثت عن محمد بن أبي سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة - فذكره. قال البخاري: وإنما حديث الزهري عن سالم
عن أبيه أن رجلا من ثقيف طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لارجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال وهذا
التعليل فيه نظر والله أعلم - وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري مرسلا وهكذا رواه مالك عن الزهري
مرسلا وقال أبو زرعة: هو أصح. وقال البيهقي ورواه عقيل عن الزهري: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي
سويد عن محمد بن يزيد. وقال أبو حاتم وهذا وهم إنما هو الزهري عن محمد بن أبي سويد بلغنا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكره. قال البيهقي: ورواه يونس وابن عيينة عن الزهري عن محمد ابن أبي سويد وهذا كما علله
البخاري والاسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقات على شرط الشيخين. ثم روى من غير طريق معمر
بل والزهري. قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ويزيد بن عمر بن يزيد
الجرمي أخبرنا يوسف بن عبيد الله حدثنا سرار بن مجشر عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة
كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال
أبو علي بن السكن: تفرد به سرار بن مجشر وهو ثقة وكذا وثقه ابن معين قال أبو علي: وكذلك رواه السميدع بن
وهب عن سرار. قال البيهقي: وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس وعروة بن مسعود الثقفي
وصفوان بن أمية يعني حديث غيلان بن سلمة فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوغ له
رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز
الجمع بين أكثر من أربع بحال فإذا كان هذا في الدوام ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى والله سبحانه
أعلم بالصواب " حديث آخر في ذلك " روى أبو داود وابن ماجة في سننهما من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي
ليلى عن خميصة بن الشمردل وعند ابن ماجة بنت الشمردل وحكى أبو داود أن منهم من يقول الشمرذل بالذال
المعجمة عن قيس بن الحارث وعند أبي داود في رواية الحارث بن قيس أن عميرة الأسدي قال أسلمت وعندي ثمان
نسوة فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " اختر منهن أربعا ". وهذا الاسناد حسن: وهذا الاختلاف لا يضر مثله لما للحديث
من الشواهد " حديث آخر في ذلك " قال الشافعي في مسنده أخبرني من سمع ابن أبي الزناد يقول أخبرني عبد
المجيد عن ابن سهل بن عبد الرحمن عن عوف بن الحرث عن نوفل بن معاوية الديلي قال أسلمت وعندي خمس
نسوة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختر أربعا أيتهن شئت وفارق الأخرى " فعمدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي
منذ ستين سنة فطلقتها. فهذه كلها شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي. وقوله " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو
ما ملكت أيمانكم ". أي إن خفتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن كما قال تعالى " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم " فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري فإنه لا يجب قسم بينهن
ولكن يستحب فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج وقوله " ذلك أدنى ألا تعولوا " قال بعضهم ذلك أدنى أن لا تكثر
عيالكم قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي وهو مأخوذ من قوله تعالى " وإن خفتم عيلة " أي فقرا " فسوف
يغنيكم الله من فضله إن شاء " وقال الشاعر:
فما يدري الفقير متى غناه * وما يدري الغني متى يعيل
وتقول العرب عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر. ولكن في هذا التفسير ههنا نظر فإنه كما يخشى كثرة العائلة من
تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا والصحيح قول الجمهور " ذلك أدنى ألا تعولوا " أي لا تجوروا
يقال عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة:
بميزان قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل
461

وقال هشيم عن أبي إسحق كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شئ عاتبوه فيه: إني لست بميزان أعول. رواه
ابن جرير وقد روى ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن حبان في صحيحه من طريق عبد الرحمن بن أبي إبراهيم وخثيم
حدثنا محمد بن شعيب عن عمرو بن محمد بن زيد عن عبد الله بن عمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن
النبي صلى الله عليه وسلم " ذلك أدنى ألا تعولوا " قال " لا تجوروا " قال ابن أبي حاتم قال أبي هذا خطأ والصحيح عن عائشة
موقوف قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس وعائشة ومجاهد وعكرمة والحسن وأبي مالك وابن رزين والنخعي
والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان أنهم قالوا لا تميلوا وقد استشهد عكرمة ببيت أبي
طالب الذي قدمناه ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة وقد رواه ابن جرير ثم أنشده جيدا واختار ذلك.
وقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس النحلة المهر وقال محمد بن إسحاق
عن الزهري عن عروة عن عائشة نحلة فريضة وقال مقاتل وقتادة وابن جريج نحلة أي فريضة زاد ابن جريج
مسماة وقال ابن زيد النحلة في كلام العرب الواجب يقول: لا تنكحها إلا بشئ واجب لها وليس ينبغي لاحد بعد
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ولا ينبغي أن يكون تسمية الصداق كذبا بغير حق ومضمون كلامهم أن
الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما وأن يكون طيب النفس بذلك كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة
طيبا كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شئ منه فليأكله
حلالا طيبا ولهذا قال " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن
سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن السدي عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة عن علي قال: إذا
اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم أو نحو ذلك فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئا مريئا
شفاء مباركا. وقال هشيم عن سيار عن أبي صالح كان الرجل إذ زوج بنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك
ونزل " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ". رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل
الحميدي حدثنا وكيع عن سفيان عن عمير الخثعمي عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن بن مالك
السلماني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " قالوا يا رسول الله فما العلائق بينهم قال " ما
تراضى عليه أهلوهم ". وقد روى ابن مردويه من طريق حجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن المغيرة عن
عبد الرحمن بن السلماني عن عمر بن الخطاب قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أنكحوا الأيامى " ثلاثا فقام إليه رجل
فقال يا رسول الله فما العلائق بينهم؟ قال " ما تراضى عليه أهلوهم " ابن السلماني ضعيف ثم فيه انقطاع أيضا.
ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا (5) وابتلوا اليتامى
حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان
غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا (6)
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما أي تقوم بها معايشهم من
التجارات وغيرها. ومن ههنا يؤخذ الحجر على السفهاء وهم أقسام فتارة يكون الحجر للصغير فإن الصغير مسلوب
العبارة وتارة يكون الحجر للجنون وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين وتارة للفلس وهو ما إذا أحاطت الديون
برجل وضاق ماله عن وفائها فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه. وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " قال هم بنوك والنساء وكذا قال ابن مسعود والحكم بن عيينة والحسن والضحاك هم
النساء والصبيان وقال سعيد بن جبير هم اليتامى. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة هم النساء. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي
462

أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيمها ". ورواه ابن مردويه مطولا. وقال ابن أبي
حاتم ذكر عن مسلم بن إبراهيم حدثنا حرب بن شريح عن معاوية بن قرة عن أبي هريرة " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم "
قال هم الخدم وهم شياطين الانس وقوله " وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا " قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس يقول: لا تعمد إلى مالك وما خولك الله وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنتك ثم تنظر إلى ما في
أيديهم ولكن أمسك مالك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم. وقال ابن جرير
حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى قال ثلاثة
يدعون الله فلا يستجيب لهم رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال " ولا تؤتوا
السفهاء أموالكم " ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه وقال مجاهد " وقولوا لهم قولا معروفا " يعني في البر
والصلة. وهذه الآية الكريمة تضمنت الاحسان إلى العائلة ومن تحت الحجر بالفعل من الانفاق في الكساوي
والأرزاق بالكلام الطيب وتحسين الأخلاق. وقوله تعالى " وابتلوا اليتامى " قال ابن عباس ومجاهد والحسن والسدي
ومقاتل أي اختبروهم " حتى إذا بلغوا النكاح " قال مجاهد يعني الحلم. قال الجمهور من العلماء البلوغ في الغلام
تارة يكون بالحلم وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد. وفي سنن أبي داود عن علي
قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل ". وفي الحديث الآخر عن عائشة
وغيرها من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رفع القلم عن ثلاثة الصبي حتى يحتلم أو يستكمل خمس عشرة سنة.
وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق " وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر
قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس
عشرة سنة فأجازني. فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث إن هذا الفرق بين الصغير والكبير واختلفوا في
نبات الشعر الخشن حول الفرج وهى الشعرة هل يدل على بلوغ أم لا؟ على ثلاثة أقوال يفرق في الثالث بين صبيان
المسلمين فلا يدل على ذلك لاحتمال المعالجة وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم لأنه لا يتعجل بها
إلى ضرب الجزية عليه فلا يعالجها والصحيح أنها بلوغ في الجميع لان هذا أمر جبلي يستوي فيه الناس واحتمال
المعالجة بعيد ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد على عطية القرظي قال عرضنا على
النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فأمر من ينظر من أنبت فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلي سبيله فكنت فيمن لم ينبت
فخلي سبيلي وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه وقال الترمذي حسن صحيح وإنما كان كذلك لان سعد بن معاذ
كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرية. وقال أبو عبيد في الغريب حدثنا ابن علية عن إسماعيل بن أمية
عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمر أن غلاما ابتهر جارية في شعره فقال عمر انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ
عنه الحد قال أبو عبيد ابتهرها أي قذفها والابتهار أن يقول فعلت بها وهو كاذب. فإن كان صادقا فهو الابتيار قال
الكميت في شعره.
قبيح بمثلي نعت الفتاة * إما ابتهارا وإما ابتيارا
وقوله عز وجل " فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم " قال سعيد بن جبير يعني صلاحا في دينهم وحفظا
لأموالهم وكذا روى عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة وهكذا قال الفقهاء إذا بلغ الغلام مصلحا
لدينه وماله انفك الحجر عنه فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه. وقوله " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا " ينهي
تعالى " عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية " إسرافا وبدارا " أي مبادرة قبل بلوغهم. ثم قال تعالى " ومن
كان غنيا فليستعفف " عنه ولا يأكل منه شيئا. وقال الشعبي: هو عليه كالميتة والدم " ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف " قال ابن أبي حاتم حدثنا الأشج حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة " ومن كان غنيا
فليستعفف " نزلت في مال اليتيم. حدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قال: حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام عن أبيه
عن عائشة " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن
463

يأكل منه. وحدثنا أبي حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني حدثنا علي بن مسهر عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت:
أنزلت هذه الآية في والي اليتيم " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " بقدر قيامه عليه. ورواه
البخاري عن إسحاق بن عبد الله بن نمير عن هشام به. قال الفقهاء: له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر
حاجته. واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين " أحدهما " لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا، وهذا هو الصحيح
عند أصحاب الشافعي لان الآية أباحت الاكل من غير بدل. قال أحمد: حدثنا عبد الوهاب حدثنا حسين عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال " كل من مال يتيمك
غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال - تفدي مالك بماله " شك حسين. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر حدثنا حسين المكتب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن عندي يتيما عنده مال وليس لي مال آكل من ماله؟ قال " كل بالمعروف غير
مسرف ". ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث حسين المعلم وروى ابن حبان في صحيحه وابن مردويه
في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي عن جعفر بن سليمان عن أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلا
قال: يا رسول الله مما أضرب يتيمي؟ قال " مما كنت ضاربا منه ولدك غير واق مالك بماله ولا متأثل منه مالا " وقال
ابن جرير: حدثنا الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال:
جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما وإن لهم إبلا ولي إبل وأنا أمنح من إبلي فقراء فماذا يحل
لي من ألبانها؟ فقال: إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتسعى عليها فاشرب غير مضل بنسل
ولا ناهك في الحب ورواه مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد به. وبهذا القول وهو عدم أداء البدل يقول عطاء
أبي رباح وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطية العوفي والحسن البصري. " والثاني " نعم لان مال اليتيم على الحظر وإنما أبيح للحاجة
فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة. وقد قال ابن أبي الدنيا: حدثنا ابن خيثمة
حدثنا وكيع عن سفيان وإسرائيل عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب قال: قال عمر رضي الله عنه: إني أنزلت
نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم إن استغنيت استعففت وإن احتجت استقرضت فإذا أيسرت قضيت.
طريق أخرى قال سعيد بن منصور: حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحق عن البراء قال: قال لي عمر رضي الله
عنه: إنما أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم إن احتجت أخذت منه فإذا أيسرت رددته وإن استغنيت
استعففت إسناد صحيح. وروى البيهقي عن ابن عباس نحو ذلك. وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " يعني القرض. قال وروى عن عبيدة وأبي
العالية وأبي وائل وسعيد بن جبير في إحدى الروايات ومجاهد والضحاك والسدي نحو ذلك. وروى من طريق
السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " فليأكل بالمعروف " قال يأكل بثلاث أصابع ثم قال حدثنا أحمد بن
سنان حدثنا ابن مهدي عن سفيان عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال يأكل
من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. قال وروى عن مجاهد وميمون بن مهران في إحدى
الروايات والحاكم نحو ذلك. وقال عامر الشعبي لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه
قضاه رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن وهب حدثنا نافع بن أبي نعيم القاري قال سألت يحيى بن سعيد الأنصاري
وربيعة عن قول الله تعالى " ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " الآية. فقال ذلك في اليتيم إن كان فقيرا أنفق عليه
بقدر فقره ولم يكن للولي منه شئ وهذا بعيد من السياق لأنه قال " ومن كان غنيا فليستعفف " يعني من الأولياء
" ومن كان فقيرا " أي منهم " فليأكل بالمعروف " أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرى " ولا تقربوا مال
اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف. وقوله
" فإذا دفعتم إليهم أموالهم " يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم فإذا دفعتم إليهم
أموالهم " فأشهدوا عليهم " وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم
464

أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه ثم قال " وكفى بالله حسيبا " أي وكفى بالله محاسبا
وشاهدا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة
مروج حسابها مدلس أمورها؟ الله عالم بذلك كله. ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا
ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم ".
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر
نصيبا مفروضا (7) وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا
(8) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا (9) إن الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (10)
قال سعيد بن جبير وقتادة كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله
" للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " الآية. أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل
الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء فإنه لحمة
كلحمة النسب. وروى ابن مردويه من طريق ابن هراسة عن سفيان الثوري عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر
قال أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبو هما وليس لهما شئ فأنزل الله
تعالى " للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون " الآية. وسيأتي هذا الحديث عند آيتي الميراث بسياق آخر والله
أعلم وقوله " وإذا حضر القسمة " الآية. قيل المراد حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث " واليتامى
والمساكين " فليرضخ لهم من التركة نصيب وإن ذلك كان واجبا في ابتداء الاسلام وقيل يستحب واختلفوا هل هو
منسوخ أم لا على قولين فقال البخاري حدثنا أحمد بن حميد أخبرنا عبد الله الأشجعي عن سفيان عن الشيباني عن
عكرمة عن ابن عباس في الآية. قال هي محكمة وليست بمنسوخة. تابعه سعيد عن ابن عباس. وقال ابن جرير
حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس
قال هي قائمة يعمل بها وقال الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية. قال هي واجبة على أهل
الميراث ما طابت به أنفسهم وهكذا روى عن ابن مسعود وأبي موسى وعبد الرحمن بن أبي بكر وأبي العالية والشعبي
والحسن. وقال ابن سيرين وسعيد بن جبير ومكحول إبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح والزهري ويحيى بن يعمر
إنها واجبة وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين قال
ولي عبيدة وصية فأمر بشاة فذبحت فأطعم أصحاب هذه الآية. فقال لولا هذه الآية لكان هذا من مالي وقال مالك
فيما يروى عنه في التفسير من جزء مجموع عن الزهري أن عروة أعطى من مال مصعب حين قسم ماله وقال
الزهري هي محكمة. وقال مالك عن عبد الكريم عن مجاهد قال هي حق واجب ما طابت به الأنفس.
" ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم "
قال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق والقاسم بن
محمد أخبراه أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حية فلم يدع في الدار
مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه قالا وتلا " وإذا حضر القسمة أولو القربى " قال القاسم فذكرت ذلك
لابن عباس فقال: ما أصاب ليس ذلك له إنما ذلك إلى الوصية وإنما هذه الآية في الوصية يزيد الميت يوصي لهم.
رواه ابن أبي حاتم.
465

" ذكر من قال إن هذه الآية منسوخة بالكلية "
قال سفيان الثوري عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما " وإذا حضر
القسمة " قال منسوخة. قال إسماعيل بن مسلم المكي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس قال في هذه الآية " وإذا
حضر القسمة أولوا القربى " نسختها الآية التي يعدها " يوصيكم الله في أولادكم " وروى العوفي عن ابن عباس
رضي الله تعالى عنهما في هذه الآية " وإذا حضر القسمة أولو القربى " كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض فأنزل الله
بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفي رواهن ابن مردويه. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس في
قوله " وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين " نسختها آية الميراث فجعل لكل إنسان نصيبه مما
ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر. وحدثنا أسيد بن عاصم حدثنا سعيد بن عامر عن همام حدثنا قتادة عن
سعيد بن المسيب أنه قال إنها منسوخة قبل الفرائض كان ما ترك الرجل من مال أعطي منه اليتيم والفقير والمسكين وذوو
القربى إذا حضروا القسمة ثم نسختها المواريث فألحق الله بكل ذي حق حقه وصارت الوصية من ماله يوصي بها
لذوي قرابته حيث شاء. وقال مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب هي منسوخة نسختها المواريث والوصية.
وهكذا روي عن عكرمة وأبي الشعثاء والقاسم بن محمد وأبي صالح وأبي مالك وزيد بن أسلم والضحاك وعطاء
الخراساني ومقاتل بن حيان وربيعة بن أبي عبد الرحمن أنهم قالوا إنها منسوخة وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة
الأربعة وأصحابهم وقد اختار ابن جرير ههنا قولا غريبا جدا وحاصله أن معنى الآية عنده " وإذا حضر القسمة " أي
وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت " فارزقوهم منه وقولوا " لليتامى والمساكين إذا حضروا " قولا معروفا "
هذا معنى ما حاوله بعد طول العبارة والتكرار وفيه نظر والله أعلم. وقال العوفي عن ابن عباس " وإذا حضر
القسمة " هي قسمة الميراث وهكذا قال غير واحد والمعنى على هذا لا على ما سلكه
ابن جرير رحمه الله بل المعنى أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون
واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل فإن أنفسهم تتوق إلى شئ منه إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا
شئ يعطونه فأمر الله تعالى وهو الرؤف الرحيم أن يرضخ لهم شئ من الوسط يكون برا بهم وصدقة عليهم
وإحسانا إليهم وجبرا لكسرهم. كما قال الله تعالى " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده " وذم الذين ينقلون
المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة " إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين " أي
بليل. وقال " فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين " ف‍ " دمر عليهم وللكافرين أمثالها "
فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه ولهذا جاء في الحديث " ما خالطت الصدقة مالا إلا أفسدته " أي
منعها يكون سبب محق ذلك المال بالكلية وقوله تعالى " وليخش الذين لو تركوا من خلفهم " الآية. قال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يحضره الموت فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته فأمر الله تعالى
الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب فينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم
الضيعة وهكذا قال مجاهد وغير واحد وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص
يعوده قال: يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي قال " لا " قال: فالشطر قال " لا "
قال فالثلث قال " الثلث، والثلث كثير " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة
يتكففون الناس " وفي الصحيح عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " الثلث والثلث كثير " قال الفقهاء: إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في
وصيته الثلث وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث وقيل: المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى
" ولا يأكلوها إسرافا وبدارا " حكاه ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس وهو قول حسن يتأيد بما بعده من
466

التهديد في أكل أموال اليتامى ظلما أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك فعامل الناس في ذرياتهم إذا وليتهم ثم
أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلما فإنما يأكل في بطنه نارا، ولهذا قال " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون نارا تتأجج في
بطونهم يوم القيامة - وفي الصحيحين من حديث سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اجتنبوا السبع الموبقات - قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال - الشرك بالله والسحر وقتل
النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات
المؤمنات " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبيدة أخبرنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمي حدثنا أبو هارون
العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا يا رسول الله ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال " انطلق بي إلى خلق من خلق
الله كثير: رجال كل رجل منهم له مشفر كمشفر البعير وهو موكل بهم رجال يفكون لحاء أحدهم ثم يجاء بصخرة
من نار فتقذف في أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم جؤار وصراخ قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم
يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم. وقال ابن مردويه:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن عمرو حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا يونس بن بكير حدثنا زياد بن المنذر
عن نافع بن الحارث عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم نارا " قيل
يا رسول الله من هم؟ قال " ألم تر أن الله قال: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " الآية " رواه ابن أبي حاتم عن
أبي زرعة عن عقبة بن مكرم وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن أحمد بن علي بن المثنى عن عقبة بن مكرم. قال
ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو عامر العبدي حدثنا عبد الله بن جعفر الزهري
عن عثمان بن محمد عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحرج مال الضعيفين المرأة واليتيم " أي
أوصيكم باجتناب مالهما وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: لما نزلت " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من
طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل الشئ فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير " الآية فخلطوا طعامهم بطعامهم
وشرابهم بشرابهم.
يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة
فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث
فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصى بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب
لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما (11)
هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السور هن آيات علم الفرائض وهو مستنبط من هذه
الآيات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك. ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك. وأما
تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة والحجاج بين الأئمة فموضعه كتب الاحكام والله المستعان. وقد ورد
الترغيب في تعليم الفرائض وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك روى أبو داود وابن ماجة من حديث
عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " العلم ثلاثة
467

وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة قائمة أو فريضة عادلة ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم وهو ينسى وهو أول شئ ينزع من أمتي " رواه ابن ماجة وفي
إسناده ضعيف. وقد روي من حديث ابن مسعود وأبي سعيد وفي كل منهما نظر. قال ابن عيينة: إنما سمى
الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم. وقال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى
حدثنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما
تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " وكذا رواه
مسلم والنسائي من حديث حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج به ورواه الجماعة كلهم من حديث سفيان بن
عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر.
" حديث آخر في سبب نزول الآية " قال أحمد: حدثنا زكريا بن عدي حدثنا عبيد الله هو ابن عمرو الرقي عن
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله
هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبو هما معك في يوم أحد شهيدا إن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا ولا
ينكحان إلا ولهما مال قال: فقال " يقضي الله في ذلك " فنزلت آية الميراث فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما
فقال: " أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك " وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق
عن عبد الله بن محمد بن عقيل به قال الترمذي: ولا يعرف إلا من حديثه. والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزل
بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ولم يكن له بنات وإنما كان يرث
كلالة ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعا للبخاري فإنه ذكره ههنا والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية والله
أعلم.
فقوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " أي يأمركم بالعدل فيهم فإن أهل الجاهلية كانوا
يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث وفاوت بين
الصنفين فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب
وتحمل المشاق فناسب أن يعطى ضعفي ما تأخذه الأنثى. وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى " يوصيكم الله
في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها حيث أوصى الوالدين بأولادهم
فعلم أنه أرحم بهم منهم كما جاء في الحديث الصحيح وقد رأى امرأة من السبي فرق بينها وبين ولدها فجعلت
تدور على ولدها فلما وجدته من السبي أخذته فألصقته بصدرها وأرضعته فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم لأصحابه " أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على ذلك "؟ قالوا: لا يا رسول الله قال " فوالله لله
أرحم بعباده من هذه بولدها " وقال البخاري ههنا: حدثنا محمد بن يوسف عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن عطاء
عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ
الأنثيين وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث وجعل للزوجة الثمن والربع وللزوج الشطر والربع
وقال العوفي عن ابن عباس " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي
فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن
وتعطى الابنة النصف ويعطى الغلام الصغير وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم ولا يحوز الغنيمة اسكتوا عن
هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه أو نقول له فيغير فقالوا: يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها
وليست تركب الفرس ولا تقاتل القوم ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئا وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية
لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ويعطونه الأكبر فالأكبر رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا وقوله " فإن
468

كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " قال بعض الناس: قوله فوق زائدة وتقديره فإن كن نساء اثنتين كما في قوله
" فاضربوا فوق الأعناق " وهذا غير مسلم لا هنا ولا هناك فإنه ليس في القرآن شئ زائد لا فائدة فيه وهذا
ممتنع: ثم قوله " فلهن ثلثا ما ترك " لو كان المراد ما قالوه لقال فلهما ثلثا ما ترك وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين
من حكم الأختين في الآية الأخيرة فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين وإذا ورث الأختان الثلثين فلان يرث
البنتان الثلثين بالطريق الأولى. وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين فدل
الكتاب والسنة على ذلك وأيضا فإنه قال " وإن كانت واحدة فلها النصف " فلو كان للبنتين النصف لنص عليه
أيضا فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم وقوله تعالى " ولأبويه
لكل واحد منهما السدس " إلى آخره الأبوان لهما في الإرث أحوال " أحدها " أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل
واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة فرض لها النصف وللأبوين لكل واحد منهما السدس
وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب " الحال الثاني " أن ينفرد
الأبوان بالميراث فيفرض للأم الثلث والحالة هذه ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض فيكون قد أخذ ضعفي
ما حصل للام وهو الثلثان فلو كان معهما زوج أو زوجة ويأخذ الزوج النصف والزوجة الربع ثم اختلف العلماء
ماذا تأخذ الام بعد ذلك؟ على ثلاثة أقواله: " أحدها " أنها تأخذ ثلث الباقي في المسئلتين لان الباقي كأنه جميع
الميراث بالنسبة إليهما وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب الباقي ثلثيه
هذا قول عمر وعثمان وأصح الروايتين عن علي وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت وهو قول الفقهاء السبعة
والأئمة الأربعة وجمهور العلماء. " والثاني " أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله " فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه
فلأمه الثلث " فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أولا وهو قول ابن عباس. وروى عن علي ومعاذ بن
جبل نحوه. وبه يقول شريح وداود الظاهري واختاره أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري في كتابه
الايجاز في علم الفرائض وهذا فيه نظر بل هو ضعيف لان ظاهر الآية إنما هو إذا استبدأ بجميع التركة وأما
هنا فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ويبقى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثلثه. " والقول الثالث " أنها تأخذ ثلث
جميع المال في مسألة الزوجة خاصة فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر وتأخذ الام الثلث وهو أربعة
فيبقى خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال فتكون
المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة للام ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان.
ويحكى هذا عن ابن سيرين وهو مركب من القولين الأولين وهو ضعيف أيضا والصحيح الأول والله أعلم.
" والحال الثالث من أحوال الأبوين " وهو اجتماعهما مع الاخوة سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الام
فإنهم لا يرثون مع الأب شيئا ولكنهم مع ذلك يحجبون الام عن الثلث إلى السدس فيفرض لها مع وجودهم
السدس فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي. وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الاخوة عند
الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال: إن الأخوين
لا يردان الام عن الثلث قال الله تعالى " فإن كان له إخوة " فالاخوان ليسا بلسان قومك إخوة فقال عثمان: لا
أستطيع تغيير ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس. وفي صحة هذا الأثر نظر فإن شعبة هذا تكلم
فيه مالك بن أنس ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الاخصاء به والمنقول عنهم خلافه
وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه قال: الاخوان تسمى إخوة وقد أفردت لهذه
المسألة جزءا على حدة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة حدثنا يزيد بن زريع عن
سعيد عن قتادة نحوه وقوله " فإن كان له إخوة فلأمه السدس " أضروا بالام ولا يرثون ولا يحجبها الأخ الواحد عن
الثلث ويحجبها ما فوق ذلك وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته
عليهم دون أمهم وهذا كلام حسن. لكن روى عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه
469

عن أمهم يكون لهم وهذا قول شاذ رواه ابن جرير في تفسيره فقال: حدثنا الحسن بن يحيى حدثنا عبد الرزاق
أخبرنا معمر عن أبي طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: السدس الذي حجبته الاخوة الام لهم إنما حجبوا أمهم عنه
ليكون لهم دون أبيهم. ثم قال ابن جرير: وهذا قول مخالف لجميع الأمة. وقد حدثني يونس أخبرنا سفيان أخبرنا
عمرو عن الحسن بن محمد عن ابن عباس أنه قال: الكلالة من لا ولد له ولا والد.
وقوله " من بعد وصية يوصي بها أو دين " أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية وذلك
عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة. وروى أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير من حديث ابن إسحاق
عن الحارث بن عبد الله الأعور عن علي بن أبي طالب قال: إنكم تقرأون " من بعد وصية يوصي بها أو
دين " وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية وإن أعيان بني الام يتوارثون دون بني العلات يرث الرجل أخاه لأبيه
وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي: لا نعرفه إلا من حديث الحارث وقد تكلم فيه بعض أهل العلم " قلت " لكن
كان حافظا للفرائض معتنيا بها وبالحساب فالله أعلم.
وقوله " آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " أي إنما فرضنا للآباء والأبناء وساوينا بين الكل في أصل
الميراث على خلاف ما كان عليه الامر في الجاهلية وعلى خلاف ما كان عليه الامر في ابتداء الاسلام من كون
المال للولد وللأبوين الوصية كما تقدم عن ابن عباس إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ففرض لهؤلاء بحسبهم لان
الانسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه مالا يأتيه من ابنه وقد يكون بالعكس ولذا قال
" آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا " أي أن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من
الآخر فلهذا فرضنا لهذا وهذا وساوينا بين القسمين في أصل الميراث والله أعلم.
وقوله " فريضة من الله " أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من
الله حكم به وقضاه والله عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ومعطي كلا ما يستحقه بحسبه ولهذا قال
" إن الله كان عليما حكيما ".
ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين
بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية
توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحدة منهما السدس فإن كانوا أكثر
من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم (12)
يقول تعالى " ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد " فإن كان لهن ولدا فلكم الربع مما تركن
من بعد الوصية أو الدين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية وبعده الوصية ثم الميراث وهذا أمر مجمع عليه
بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب ثم قال " ولهن الربع مما تركتم " إلى آخره وسواء
في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن فيه وقوله " من بعد وصية " إلخ الكلام
عليه كما تقدم وقوله تعالى " وإن كان رجل يورث كلالة " الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من
جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن
الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه:
الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر قال: إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. كذا رواه ابن جرير
وغيره وقال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا محمد بن يزيد عن سفيان عن سليمان الأحول عن طاوس قال: سمعت
470

ابن عباس يقول: كنت آخر الناس عهدا بعمر فسمعته يقول القول: ما قلت وما قلت وما قلت قال: الكلالة من لا
ولد له ولا والد. وهكذا قال علي وابن مسعود وصح عن غير واحد عن ابن عباس وزيد بن ثابت وبه يقول الشعبي
والنخعي والحسن وقتادة وجابر بن زيد والحكم وبه يقول أهل المدينة وأهل الكوفة والبصرة وهو قول الفقهاء السبعة
والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف بل جميعهم وقد حكى الاجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع قال
أبو الحسين بن اللبان: وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل
الراوي ما فهم عنه ما أراد. وقوله تعالى " وله أخ أو أخت " أي من أم كما هو في قراءة بعض السلف منهم سعد بن
أبي وقاص وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه " فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك
فهم شركاء في الثلث " وإخوة الام يخالفون بقية الورثة من وجوه أحدها: أنهم يرثون من أدلوا به وهي الام
" والثاني " أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء " والثالث " لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة فلا يرثون مع أب
ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن " الرابع " أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم - وقال ابن أبي حاتم
حدثنا يونس حدثنا ابن وهب أخبرنا يونس عن الزهري قال: قضى عمر أن ميراث الإخوة من الام بينهم للذكر مثل
حظ الأنثى. قال الزهري: ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الآية هي التي قال الله
تعالى فيها " فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث " واختلف العلماء في المسألة المشركة وهي زوج وأم أو
جدة واثنان من ولد الام وواحد أو أكثر من ولد الأبوين فعلى قول الجمهور للزوج النصف وللأم أو الجدة
السدس ولولد الام الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والام بما بينهم من القدر المشترك وهو أخوة الام وقد وقعت
هذه المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والام السدس وجعل الثلث لأولاد الام فقال له أولاد
الأبوين: يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم وصح التشريك عن عثمان وهو
إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس رضي الله عنهم وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح
القاضي ومسروق وطاووس ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز والثوري وشريك وهو مذهب
مالك والشافعي وإسحق بن راهويه. وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم بل يجعل الثلث لأولاد الام ولا
شئ لأولاد الأبوين والحالة هذه لأنهم عصبة. وقال وكيع بن الجراح: لم يختلف عنه في ذلك وهذا قول
أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري وهو المشهور عن ابن عباس وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى وأبي حنيفة
وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد وزفر بن الهذيل والإمام أحمد ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد وأبي
ثور وداود بن علي الظاهري واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه الله في كتابه الايجاز. وقوله " من بعد
وصية يوصى بها أو دين غير مضار " أي لتكن وصيته على العدل لا على الاضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض
الورثة أو ينقصه أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمه
وشرعه. ولهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي حدثنا عمر بن المغيرة عن
داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الاضرار في الوصية من الكبائر " وكذا رواه ابن جرير
من طريق عمر بن المغيرة هذا وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة قال ابن عساكر: ويعرف بمغنى المساكين
وروى عنه غير واحد من الأئمة وقال فيه أبو حاتم الرازي: هو شيخ وقال علي بن المديني: هو مجهول لا
أعرفه لكن رواه النسائي في سننه عن علي بن حجر عن علي بن مسهر عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس موقوفا " الاضرار في الوصية من الكبائر " وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن عائذ بن حبيب عن
داود بن أبي هند ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ عن داود عن عكرمة عن ابن عباس موقوفا وفي
بعضها ويقرأ ابن عباس " غير مضار " قال ابن جرير والصحيح الموقوف. ولهذا اختلف الأئمة في الاقرار للوارث
هل هو صحيح أم لا؟ على قولين " أحدهما " لا يصح لأنه مظنة التهمة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي
471

حنيفة والقول القديم للشافعي رحمهم الله وذهب في الجديد إلى أنه يصح الاقرار. وهو مذهب طاوس وعطاء
والحسن وعمر بن عبد العزيز وهو اختيار أبي عبد الله البخاري في صحيحه واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا
تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها. قال: وقال بعض الناس لا يجوز إقراره لسوء الظن بالورثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " وقال الله تعالى " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " فلم يخص
وارثا ولا غيره انتهى ما ذكره فمتى كان الاقرار صحيحا مطابقا لما في نفس الامر جرى فيه هذا الخلاف ومتى كان
حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالاجماع وبنص هذه الآية الكريمة " غير مضار وصية
من الله والله عليم حليم ". ثم قال تعالى:
تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم
(13) ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين (14)
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه هي
حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها. ولهذا قال " ومن يطع الله ورسوله " أي فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص
بعضها بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين " أي لكونه غير ما
حكم الله به وضاد الله في حكمه وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ولهذا يجازيه بالإهانة في
العذاب الأليم المقيم - قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته
فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير
عمله فيدخل الجنة ". قال ثم يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم " تلك حدود الله - إلى قوله - عذاب مهين " قال أبو
داود في باب الاضرار في الوصية من سننه: حدثنا عبيدة بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد حدثنا نصر بن علي الحراني حدثنا
الأشعث بن عبد الله بن جابر الحداني حدثني شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الرجل
ليعمل - أو المرأة - بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار " وقال قرأ علي أبو
هريرة من ههنا " من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار - حتى بلغ - ذلك الفوز العظيم ". وهكذا رواه الترمذي
وابن ماجة من حديث أشعث وأكمل به وقال الترمذي: حسن غريب وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل.
واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن
الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا
رحيما (16)
كان الحكم في ابتداء الاسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن
تموت ولهذا قال " واللاتي يأتين الفاحشة " يعني الزنا " من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا
فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا " فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال
ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم وكذا روى عن
عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطاء الخراساني وأبي صالح وقتادة وزيد بن أسلم والضحاك أنها منسوخة وهو أمر
472

متفق عليه - قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله
الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب لذلك وتغير وجهه
فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال " خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب والبكر
بالبكر الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة والبكر جلد مائة ثم نفي سنة ". وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من
طرق عن قتادة عن الحسن عن حطان عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه " خذوا عني خذوا عني قد جعل
الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". قال الترمذي: هذا حديث
حسن صحيح. وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن
عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عرف ذلك في وجهه فأنزلت " أو يجعل الله لهن سبيلا " فلما ارتفع
الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خذوا خذوا قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة والثيب بالثيب
جلد مائة ورجم بالحجارة ". وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وكيع بن الجراح عن الحسن حدثنا
الفضل بن دلهم عن قبيصة بن حرب عن سلمة بن المحبق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني خذوا عني قد
جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم " وكذا رواه أبو داود مطولا
من حديث الفضل بن دلهم ثم قال: وليس هو بالحافظ كان قصابا بواسط.
" حديث آخر " قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عباس بن حمدان حدثنا أحمد بن
داود حدثنا عمرو بن عبد الغفار حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق عن أبي بن كعب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البكران يجلدان وينفيان والثيبان يجلدان ويرجمان والشيخان يرجمان " هذا حديث غريب من
هذا الوجه وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " البكران يجلدان وينفيان والثيبان يجلدان ويرجمان والشيخان يرجمان " هذا حديث غريب من
هذا الوجه وروى الطبراني من طريق ابن لهيعة عن أخيه عيسى بن لهيعة عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت
سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا حبس بعد سورة النساء " وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل
إلى القول بمقتضى هذا الحديث وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني وذهب الجمهور إلى أن
الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد قالوا: لان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية واليهوديين ولم يجلدهم قبل
ذلك فدل على أن الرجم ليس بحتم بل هو منسوخ على قولهم والله أعلم. وقوله تعالى " واللذان يأتيانها منكم
فآذوهما " أي واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما قال ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وغيرهما: أي
بالشتم والتعيير والضرب بالنعال وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم وقال عكرمة وعطاء والحسن
وعبد الله بن كثير: نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا. وقال السدي: نزلت في الفتيان من قبل أن يتزوجوا. وقال
مجاهد: نزلت في الرجلين إذا فعلا - لا يكنى وكأنه يريد اللواط والله أعلم: وقد روى أهل السنن من حديث
عمرو بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط
فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وقوله " فإن تابا وأصلحا " أي أقلعا ونزعا عما كان عليه وصلحت أعمالهما وحسنت
" فأعرضوا عنهما " أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك لان التائب من الذنب كمن لا ذنب له " إن الله كان توابا
رحيما " وقد ثبت في الصحيحين " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها " أي لا يعيرها بما صنعت بعد
الحد الذي هو كفارة لما صنعت.
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما
(17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم
473

كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)
يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل
الغرغرة. قال مجاهد وغير واحد: كل من عصى الله خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب وقال قتادة عن
أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون: كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة رواه ابن جرير.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شئ عصي الله به فهو
جهالة عمدا كان أو غيره. وقال ابن جريج أخبرني عبد الله بن كثير عن مجاهد قال: كل عامل بمعصية الله فهو
جاهل حين عملها. قال ابن جريج وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوه. وقال أبو صالح عن ابن عباس من جهالته عمل
السوء. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ثم يتوبون من قريب " قال: ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت
وقال الضحاك: ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي: ما دام في صحته وهو مروي عن ابن
عباس وقال الحسن البصري: " ثم يتوبون من قريب " ما لم يغرغر وقال عكرمة: الدنيا كلها قريب " ذكر
الأحاديث في ذلك " قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عياش وعصام بن خالد قال حدثنا ابن ثوبان عن أبيه عن
مكحول عن جبير بن نفير عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر ". رواه الترمذي
وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان به وقال الترمذي حسن غريب ووقع في سنن ابن ماجة:
عن عبد الله بن عمرو وهو وهم إنما هو عبد الله بن عمر بن الخطاب " حديث آخر " قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن
معمر حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي حدثنا أيوب بن نهيك الحلبي سمعت
عطاء بن أبي رباح قال: سمعت عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا
قبل الله منه أدنى من ذلك وقبل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والاخلاص إليه إلا قبل منه " حديث آخر
قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة عن إبراهيم بن ميمونة وأخبرني رجل من ملحان يقال له أيوب قال سمعت
عبد الله بن عمر يقول: من تاب قبل موته بعام تيب عليه ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه ومن تاب قبل موته
بجمعة تيب عليه ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت إنما قال الله
" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب " فقال إنما أحدثك ما سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه أبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي وأبو عامر العقدي عن شعبة. " حديث آخر
قال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا محمد بن مطرف عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن السلماني
قال: اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحدهم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن
يموت بيوم " فقال الآخر أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم؟ قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن
الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم " فقال الثالث أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم قال وأنا
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة " قال الرابع: أنت سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يقيل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه " وقد
رواه سعيد بن منصور عن الدراوردي عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن السلماني فذكر قريبا منه. " حديث
آخر " قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد حدثنا عمران بن عبد الرحيم حدثنا عثمان بن
الهيثم حدثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يقبل توبة عبده ما لم
يغرغر ".
[أحاديث في ذلك مرسلة]
قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
474

" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " هذا مرسل حسن عن الحسن البصري رحمه الله. وقد قال ابن جرير أيضا
رحمه الله: حدثنا ابن بشار حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن العلاء بن زياد عن أبي أيوب
بشير بن كعب أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " وحدثنا ابن بشار حدثنا عبد الأعلى عن
سعيد عن قتادة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فذكر مثله. " حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا
ابن بشار حدثنا أبو داود حدثنا عمران عن قتادة قال: كنا عند أنس بن مالك وثم أبى قلابة فحدث أبو قلابة
فقال: إن الله تعالى لما لعن إبليس سأله النظرة فقال: وعزتك وجلالك لا أخرج من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح.
فقال الله عز وجل: وعزتي لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح وقد ورد هذا في حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في
مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العتواري كلاهما عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال إبليس يا
رب وعزتك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله عز وجل وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما
استغفروني " فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ولهذا قال
تعالى " فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما " وأما متى وقع الأياس من الحياة وعاين الملك وخرجت
الروح في الحلق وضاق بها الصدر وبلغت الحلقوم وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم فلا توبة مقبولة
حينئذ ولات حين مناص. ولهذا قال " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني
تبت الآن " وهذا كما قال تعالى " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده " الآيتين، وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل
الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها في قوله تعالى " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " الآية. وقوله " ولا الذين يموتون وهم كفار " يعني أن الكافر إذا مات
على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ولا يقبل منه فدية ولو بملء ء الأرض. قال ابن عباس وأبو العالية والربيع
بن أنس " ولا الذين يموتون وهم كفار " قالوا نزلت في أهل الشرك وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود قال
حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان حدثني أبي عن مكحول أن عمر بن نعيم حدثه أن أبا ذر حدثهم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يقبل توبة عبده - أو يغفر لعبده - ما لم يقع الحجاب " قيل وما وقوع الحجاب؟ قال " تخرج
النفس وهي مشركة " ولهذا قال الله تعالى " أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما " أي موجعا شديدا مقيما.
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (19) وإن أردتم
استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا (21) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما
قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا (22)
قال البخاري حدثنا محمد بن مقاتل حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال الشيباني
وذكره أبو الحسن السوائي ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قال
كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم
أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " هكذا ذكره البخاري
وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان عن
عكرمة وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء كوفي أعمى كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود حدثنا
475

محمد بن أحمد بن ثابت المروزي حدثني علي بن حسين عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال
" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " وذلك أن
الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فأحكم الله تعالى عن ذلك أي نهى عن ذلك
تفرد به أبو داود وقد رواه عن غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. وروى وكيع عن سفيان عن علي بن نديمة عن
مقسم عن ابن عباس كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبا كان أحق بها فنزلت
" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " يا أيها
الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " قال كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها
من الناس فإن كانت جميلة تزوجها وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وروى العوفي عنه عن الرجل من
أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته فورث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره وحبسها عنده حتى
تفتدي منه بفديه. فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ". وقال زيد بن أسلم في الآية عن
أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يرثها أو يزوجها من
أراد وكان أهل تهامة يسئ الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه
ببعض ما أعطاها فنهى الله المؤمنين عن ذلك رواه ابن أبي حاتم وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن
أحمد بن إبراهيم حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا علي بن المنذر. حدثنا محمد بن فضيل عن يحيى بن سعيد
عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان لهم
ذلك في الجاهلية فأنزل الله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ". ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به ثم
روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة حبسها أهله على الصبي
يكون فيهم فنزلت " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " الآية. وقال ابن جريج قال مجاهد كان الرجل إذا توفي كان
ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج قال
عكرمة نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس توفي عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه فجاءت
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقالت يا رسول الله: لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح! فأنزل الله هذه الآية وقال
السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبا فإن كان له ابن صغير
أو أخ حبسها حتى يشب أو تموت فيرثها فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوبا نجت فأنزل الله " لا يحل
لكم أن ترثوا النساء كرها ". وقال مجاهد في الآية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها فيحبسها رجاء
أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه رواه ابن أبي حاتم ثم قال وروى عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح
وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان نحو ذلك. قلت: فالآية تعم ما كان يفعله
أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ومن وافقه وكل ما كان فيه نوع من ذلك والله أعلم وقوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا
ببعض ما آتيتموهن " أي لا تضاروهن في العشرة لتترك ما أصدقتها أو بعضه أو حقا من حقوقها عليك أو شيئا من ذلك
على وجه القهر لها والاضرار. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ولا تعضلوهن " يقول ولا تقهروهن
" لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به
وكذا قال الضحاك وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير وقال ابن المبارك وعبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني
سماك بن الفضل عن ابن السلماني قال: نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية والأخرى في أمر الاسلام.
قال عبد الله بن المبارك يعني قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " في الجاهلية " ولا تعضلوهن " في الاسلام
وقوله " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب، والشعبي والحسن
البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو
صالح السدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال يعني بذلك الزنا يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق
476

الذي أعطيتها وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها كما قال تعالى في سورة البقرة " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " الآية وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة
النشوز والعصيان واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان والنشوز وبذاء اللسان وغير ذلك. يعني أن
هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها وهذا جيد والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود
منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا
تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته
فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها فأحكم الله عن ذلك أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري:
وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ولكن نهى المسلمون عن فعله في الاسلام. وقال
عبد الرحمن بن زيد كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا
تتزوج إلا بإذنه فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد فإذا جاء الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها.
قال فهذا قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " الآية وقال مجاهد في قوله " ولا تعضلوهن لتذهبوا
ببعض ما آتيتموهن " هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " أي طيبوا أقوالكم لهن
وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى " ولهن مثل الذي
عليهن بالمعروف " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل
العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك قالت سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته
بعدما حملت اللحم فسبقني فقال " هذه بتلك " ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل
معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع
عن كتفيه الرداء وينام بالإزار وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام يؤانسهم
بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل
ذلك موضعه كتب الاحكام ولله الحمد.
وقوله تعالى " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " أي فعسى أن يكون صبركم في
إمساكهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة كما قال ابن عباس في هذه الآية هو أن يعطف عليها فيرزق
منها ولدا ويكون في ذلك الولد خير كثير. وفي الحديث الصحيح " لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقا رضي
منها آخر ".
وقوله تعالى " وإن أردتم استبدال زوح مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما
مبينا " أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئا ولو كان قنطارا
من مال وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الآية دلالة على
جواز الاصداق بالمال الجزيل وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الاصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد
حدثنا إسماعيل حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي قال:
سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغالوا في صداق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان
أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية
وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول كلفت إليك علق القربة ثم رواه
الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن سيب البصري وقال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
477

" طريق أخرى عن عمر " قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن ابن إسحاق
حدثني محمد بن عبد الرحمن عن خالد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب منبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما
بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك ولو كان الاكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها فلا عرفن
ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال: ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير
المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم؟ قال: نعم فقالت: أما سمعت ما أنزل الله
في القرآن؟ قال: وأي ذلك؟ فقالت: أما سمعت الله يقول " وآتيتم إحداهن قنطارا " الآية قال: فقال اللهم
غفرا كل الناس أفقه من عمر ثم رجع فركب المنبر فقال: أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في
صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه
فليفعل إسناده جيد قوي.
" طريقة أخرى " قال ابن المنذر حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن قيس بن ربيع عن أبي حصين عن أبي
عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر بن الخطاب لا تغالوا في مهور النساء فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر إن
الله يقول " وآتيتم إحداهن قنطارا " من ذهب - قال وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود - فلا يحل لكم أن تأخذوا
منه شيئا فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
" طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع " قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال
عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي القصة - يعني يزيد بن الحصين الحارثي - فمن زاد
ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة من صفة النساء طويلة - في أنفها فطس - ما ذاك لك قال: ولم؟
قالت: إن الله قال " وآتيتم إحداهن قنطارا " الآية فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكرا
" وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض " أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت
إليك. قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع - وقد ثبت في الصحيحين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما " الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب " قالها ثلاثا
فقال الرجل: يا رسول الله مالي - يعني ما أصدقها - قال " لا مال لك إن كنت صدقت فهو بما استحللت من
فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها " وفي سنن أبي داود وغيره عن نضرة بن أبي نضرة أنه تزوج امرأة
بكرا في خدرها فإذا هي حامل من الزنا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقضى لها بالصداق وفرق بينهما وأمر
بجلدها وقال " الولد عبد لك والصداق في مقابلة البضع " ولهذا قال تعالى " وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم
إلى بعض ".
وقوله تعالى " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " روى عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير. أن المراد بذلك العقد.
وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله " وأخذن منكم ميثاقا غليظا " قال إمساك
بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروى عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن
أبي كثير والضحاك والسدي نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الآية هو قوله " أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله " فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة قال: وكان فيما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم
ليلة أسري به قال له " وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي " رواه ابن أبي حاتم وفي
صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: " واستوصوا بالنساء خيرا فإنكم أخذتموهن
بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ".
478

وقوله تعالى " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية يحرم الله تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم وإعظاما
واحتراما أن توطأ من بعده حتى أنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن رجل
من الأنصار قال: لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأته
فقالت: إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا قيس توفي فقال:
" خيرا " ثم قالت إن ابنه قيسا خطبني وهو من صالحي قومه وإنما كنت أعده ولدا فما ترى؟ فقال لها " ارجعي
إلى بيتك " قال: فنزلت " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء " الآية وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا
حسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة في قوله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف "
قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله ضمرة وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن
خلف وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار وكانت عند أبيه خلف وفي فاختة
ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف فخلف عليها صفوان بن أمية وقد زعم السهيلي أن نكاح
نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية ولهذا قال " إلا ما قد سلف " كما قال " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد
سلف " قال وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة تزوج بامرأة أبيه فأولدها ابنه النضر بن كنانة قال: وقد قال صلى الله عليه
وسلم " ولدت من نكاح لا من سفاح " قال: فدل على أنه كان سائغا لهم ذلك فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحا. فقد
قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي حدثنا قراد حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس
قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فأنزل الله تعالى " ولا: تنكحوا ما
نكح آباؤكم من النساء " " وأن تجمعوا بين الأختين " وهكذا قال عطاء وقتادة ولكن فيما نقله السهيلي من قصة
كنانة نظر والله أعلم. وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة مبشع غاية التبشع ولهذا قال تعالى " إنه كان
فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وقال " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة
وساء سبيلا " فزاد ههنا " ومقتا " أي بغضا أي هو أمر كبير في نفسه ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج
بامرأته فإن الغالب أن من يتزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة
لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب بل حقه أعظم من حق الاباء بالاجماع بل حبه مقدم على
حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه. وقال عطاء بن أبي رباح في قوله " ومقتا " أي يمقت الله عليه " وساء
سبيلا " أي وبئس طريقا لمن سلكه من الناس فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت
المال كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة - وفي رواية ابن عمر
وفي رواية عمه - أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله وقال الإمام أحمد
: حدثنا هشيم حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: مر بي عمي الحارث بن عمير ومعه
لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن
أضرب عنقه.
" مسألة " وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون
الجماع أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة
فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول نعم المتاع لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن
معاوية ثم قال لا ادع لي ربيعة بن عمرو الحرسي وكان فقيها فلما دخل عليه قال إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها
ذاك وذاك وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له. ثم قال نعم ما
479

رأيت ثم قال: ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري فدعوته وكان آدم شديد الأدمة. فقال: دونك هذه بيض بها
ولدك قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع
معاوية على علي رضي الله عنه.
حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم اللاتي
أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن
فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما
قد سلف إن الله كان غفورا رحيما (23) * والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم
وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة
ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما (24)
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا
محمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان بن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: حرمت
عليكم سبع نسبا وسبع صهرا وقرأ " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " الآية وحدثنا أبو سعيد بن
يحيى بن سعيد حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن عمير مولى ابن عباس عن ابن
عباس قال: يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ثم قرأ " حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم
وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت " فهن النسب. وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء
الزاني عليه بعموم قوله تعالى " وبناتكم " فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن
حنبل وقد حكى عن الشافعي شئ في إباحتها لأنها ليست بنتا شرعية فكما لم تدخل في قوله " يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " فإنها لا ترث بالاجماع فكذلك لا تدخل في هذه الآية والله أعلم وقوله تعالى
" وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك كذلك يحرم عليك
أمك التي أرضعتك ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث مالك بن أنس عن عبد الله ابن أبي بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الرضاعة تحرم ما تحرم
الولادة " وفي لفظ لمسلم " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب " وقال بعض الفقهاء كل ما يحرم من النسب يحرم
من الرضاعة إلا أربع صور وقال بعضهم: ست صور هي مذكورة في كتب الفروع والتحقيق أنه لا يستثنى شئ من
ذلك لأنه يوجد مثل بعضها في النسب وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر فلا يرد على الحديث شئ أصلا
البتة ولله الحمد وبه الثقة. ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد
الرضاع لعموم هذه الآية وهذا قول مالك ويروى عن ابن عمر وإليه ذهب سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير
والزهري. وقال آخرون: لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم من طريق هاشم بن عروة عن
أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحرم المصة والمصتان " وقال قتادة عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث
عن أم الفضل قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان " وفي لفظ آخر " لا
تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان " رواه مسلم. وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه
وأبو عبيد وأبو ثور وهو مروى عن علي وعائشة وأم الفضل وابن الزبير وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير رحمهم
480

الله. وقال آخرون: لا يحرم أقل من خمس رضعات لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك عن عبد الله بن أبي
بكر عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن " عشر رضعات معلومات يحرمن " ثم
نسخن بخمس معلومات فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن، وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن
عروة عن عائشة نحو ذلك. وفي حديث سهلة بنت سهيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن ترضع سالما مولى أبي حذيفة
خمس رضعات وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات وبهذا قال الشافعي
وأصحابه ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وقد قدمنا الكلام
على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله " يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ". ثم
اختلفوا هل يحرم لبن الفحل كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم أو إنما يختص الرضاع بالام فقط ولا
ينتشر إلى ناحية الأب كما هو قول لبعض السلف على قولين تحرير هذا كله في كتاب الأحكام الكبيرة وقوله
" وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح
عليكم " أما أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على بنتها سواء دخل بها أو لم يدخل بها. وأما الربيبة وهي بنت
المرأة فلا تحرم حتى يدخل بأمها فإن طلق الام قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ولهذا قال " وربائبكم اللاتي
في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " في تزويجهن، فهذا خاص
بالربائب وحدهن وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فقال: لا تحرم واحدة من الام ولا البنت بمجرد
العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله " فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم " وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار
حدثنا ابن أبي عدي وعبد الاعلى عن سعيد عن قتادة عن جلاس بن عمرو عن علي رضي الله تعالى عنه في رجل تزوج
امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أيتزوج بأمها قال: هي بمنزلة الربيبة. وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى عن قتادة عن سعيد بن
المسيب عن زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها. وفي رواية عن
قتادة عن سعيد عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: إذا ماتت فأخذ ميراثها كره أن يخلف على أمها فإذا طلقها قبل أن
يدخل بها فإن شاء فعل. وقال ابن المنذر: حدثنا إسحاق عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو بكر بن
حفص عن مسلم بن عويمر الأجدع أن بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال: فلم أجامعها حتى توفي
عمي عن أمها وأمها ذات مال كثير فقال أبي: هل لك في أمها؟ قال: فسألت ابن عباس وأخبرته؟ فقال: انكح
أمها قال: وسألت ابن عمر فقال: لا تنكحها فأخبرت أبي بما قالا فكتب إلى معاوية فأخبره بما قالا فكتب
معاوية: إني لا أحل ما حرم الله ولا أحرم ما أحل الله وأنت وذاك والنساء سواها كثير فلم ينه ولم يأذن لي
فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحنيها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن سماك بن الفضل عن رجل عن عبد الله بن
الزبير قال: الربيبة والام سواء لا بأس بها إذا لم تدخل بالمرأة وفي إسناده مبهم. وقال ابن جريج أخبرني
عكرمة بن كليد أن مجاهدا قال " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم " أراد بهما الدخول جميعا فهذا
القول كما ترى مروى عن علي وزيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير ومجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس وقد توقف فيه
معاوية وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد الصابوني فيما نقله الرافعي عن العبادي وقد روى عن
ابن مسعود مثله ثم رجع عنه. قال الطبراني: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري حدثنا عبد الرزاق عن الثوري عن
أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود: أن رجلا من بني كمخ من فزارة تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته
فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوج أمها فتزوجها وولدت له أولادا ثم أتى ابن مسعود المدينة فسئل عن
ذلك فأخبر أنها لا تحل له فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: إنها عليك حرام ففارقها. وجمهور العلماء على أن
الربيبة لا تحرم بالعقد على الام بخلاف الام فإنها تحرم بمجرد العقد. قال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن محمد
حدثنا هارون بن عروة عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول: إذا طلق الرجل
481

المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها " وروي " أنه قال: إنها مبهمة فكرهها ثم قال: وروى عن ابن
مسعود وعمران بن حصين ومسروق وطاووس وعكرمة وعطاء والحسن ومحكول وابن سيرين وقتادة والزهري نحو
ذلك وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الفقهاء قديما وحديثا ولله الحمد والمنة - قال ابن
جريج: والصواب قول من قال الام من المبهمات لان الله لم يشترط معهن الدخول كما اشترطه مع أمهات
الربائب مع أن ذلك أيضا إجماع الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضا عن
النبي صلى الله عليه وسلم خبر غريب وفي إسناده نظر وهو ما حدثني به ابن المثنى حدثنا حبان بن موسى حدثنا ابن المبارك أخبرنا
المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن
يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل فإذا تزوج بالام فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة " ثم قال:
وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مستغنى عن الاستشهاد على صحته
بغيره. وأما قوله تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم " فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كان في حجر
الرجل أو لم تكن في حجره. قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله تعالى " ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " وفي الصحيحين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله انكح أختي بنت أبي
سفيان - وفي لفظ لمسلم - عزة بنت أبي سفيان قال " أو تحبين ذلك "؟ قالت: نعم لست بك بمخلية وأحب من
شاركني في خير أختي قال " فإن ذلك لا يحل لي " قالت: فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال
" بنت أم سلمة " قالت: نعم قال: " إنها لو لم تكن ربيبتي في حجر ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة
أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن على بناتكن ولا أخواتكن ". وفي رواية للبخاري " إني لو لم أتزوج أم سلمة
ما حلت لي " فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك وهذا هو مذهب الأئمة
الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل فإذا لم
يكن كذلك فلا تحرم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم بن موسى أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف -
عن ابن جريج حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال: كانت عندي امرأة فتوفيت
وقد ولدت لي فوجدت عليها فلقيني علي بن أبي طالب فقال: مالك فقلت: توفيت المرأة فقال علي: لها ابنة؟ قلت:
نعم وهي بالطائف قال: كانت في حجرك؟ قلت: لا هي بالطائف قال: فانكحها قلت: فأين قول الله
" وربائبكم اللاتي في حجوركم؟ " قال: إنها لم تكن في حجرك إنما ذلك إذا كانت في حجرك هذا إسناد قوي
ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم وهو قول غريب جدا وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري
وأصحابه وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك رحمه الله واختاره ابن حزم وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله
الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الامام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم. وقال
ابن المنذر: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا الأثرم عن أبي عبيدة قوله " اللاتي في حجوركم " قال: في بيوتكم
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الامام مالك بن أنس عن ابن شهاب أن عمر بن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها
من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى فقال عمر: ما أحب أن أجيزهما جميعا يريد أن أطأهما جميعا بملك
يميني وهذا منقطع. وقال سنيد بن داود في تفسيره: حدثنا أبو الأحوص عن طاووس عن طارق بن عبد الرحمن
عن قيس قال: قلت لابن عباس أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال: أحلتهما آية وحرمتهما آية ولم
أكن لافعله وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لاحد أن يطأ امرأة وبنتها
من ملك اليمين لان الله حرم ذلك في النكاح قال " وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم "
وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن ابن عمر وابن عباس وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا
من تبعهم. وروى هشام عن قتادة: بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة وكذا قال قتادة
عن أبي العالية. ومعنى قوله " اللاتي دخلتم بهن " أي نكحتموهن قاله ابن عباس وغير واحد وقال ابن جريج
482

عن عطاء: هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها قالت: أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها؟ قال:
هو سواء وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها. وقال ابن جرير: وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا
تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول
إليها بالجماع.
وقوله تعالى " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من
أصلابكم يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية كما قال تعالى " فلما قضى زيد منها وطرا
زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم " الآية وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله
" وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " قال: كنا نحدث والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون
بمكة في ذلك فأنزل الله عز وجل " وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم " ونزلت " وما جعل أدعياءكم أبناءكم "
ونزلت " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن أبي بكر
المقدمي حدثنا خالد بن الحارث عن الأشعث عن الحسن بن محمد أن هؤلاء الآيات مبهمات " وحلائل أبنائكم "
" وأمهات نسائكم " ثم قال: وروى عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك " قلت " معنى مبهمات أي عامة
في المدخول بها وغير المدخول فتحرم بمجرد العقد عليها وهذا متفق عليه فإن قيل فمن أين تحرم امرأة ابنه من
الرضاعة كما هو قول الجمهور ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه
وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " وقوله تعالى " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " الآية
أي وحرم عليكم الجمع بين الأختين معا في التزويج وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد
عفونا عنه وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف كما قال " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى
" فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدا وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديما
وحديثا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ومن أسلم وتحته أختان خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى
لا محالة. قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن أبي وهب الجشاني عن الضحاك بن فيروز
عن أبيه قال: أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما. رواه الإمام أحمد والترمذي وابن
ماجة من حديث ابن لهيعة وأخرجه أبو داود والترمذي أيضا من حديث يزيد بن أبي حبيب كلاهما عن أبي وهب
الجشاني قال الترمذي واسمه دليم بن الهوشع عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه به وفي لفظ للترمذي. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم " اختر أيتهما شئت " ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن وقد رواه ابن ماجة أيضا بإسناد آخر فقال: حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن أبي وهب الجشاني عن أبي
خراش الرعيني قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال " إذا رجعت فطلق
إحداهما " قلت: فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ويحتمل أن يكون غيره فيكون أبو وهب قد رواه
عن اثنين عن فيروز الديلمي والله أعلم. وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى حدثنا
أحمد بن يحيى الخولاني حدثنا هيثم بن خارجة حدثنا يحيى بن إسحاق عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن
زر بن حكيم عن كثير بن مرة عن الديلمي قال: قلت يا رسول الله إن تحتي أختين قال: " طلق أيهما شئت " فالديلمي
المذكور أولا هو الضحاك (1) بن فيروز الديلمي رضي الله عنه وكان من جملة الامراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود
العنسي المتنبئ لعنه الله وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو زرعة حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة - عن ابن
مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين فكرهه فقال له يعني السائل يقول الله تعالى " إلا ما ملكت أيمانكم "
فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: وبعيرك مما ملكت يمينك. وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة

(1) كذا في جميع الأصول والصواب: فيروز الديلمي دون ذكر الضحاك انظر تهذيب التهذيب 8 / 305.
483

وغيرهم وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك وقال الامام مالك عن ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلا
سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما فقال عثمان: أحلتهما آية وحرمتهما آية وما
كنت لأمنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فقال: لو كان لي من الامر
شئ ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. وقال مالك: قال ابن شهاب أراه علي بن أبي طالب قال:
وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك قال ابن عبد البر النمري رحمه الله في كتاب الاستذكار: إنما كنى قبيصة بن
ذؤيب عن علي بن أبي طالب لصحبته عبد الملك بن مروان وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه
ثم قال أبو عمر: حدثني خلف بن أحمد قراءة عليه أن خلف بن مطرف حدثهم حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد بن
سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا: حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا أبو عبد الرحمن المقري عن
موسى بن أيوب الغافقي حدثني عمي إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت إن لي أختين مما ملكت
يميني اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع. فقال علي رضي الله عنه: تعتق
التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى. قلت: فإن ناسا يقولون بل تزوجها ثم تطأ الأخرى فقال علي: أرأيت إن طلقها
زوجها. أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لان تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي: إنه يحرم عليك مما
ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد أو قال إلا الأربع ويحرم عليك من
الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب ثم قال أبو عمر: هذا الحديث رحلة رجل ولم يصب من أقصى
المغرب والمشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته قلت: وقد روي عن علي نحو ما روي عن عثمان. وقال أبو
بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن العباس حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك
المخرمي حدثنا عبد الرحمن بن غزوان حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال علي بن
أبي طالب حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين. قال ابن عباس: يحرمن علي قرابتي منهن ولا يحرمن قرابة
بعضهن من بعض يعني الإماء وكانت الجاهلية يحرمون ما تحرمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين فلما جاء
الاسلام أنزل الله " ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف " " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد
سلف " يعني في النكاح ثم قال أبو عمر: وروى الإمام أحمد بن حنبل حدثنا محمد بن سلمة عن هشام عن ابن
سيرين عن ابن مسعود قال: يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد وعن ابن مسعود والشعبي نحو ذلك قال
أبو عمر وقد روى مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ولكن اختلف عليهم ولم يلتفت إلى ذلك
أحد من فقهاء الأمصار والحجاز والعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام والمغرب إلا من شذ عن جماعتهم
باتباع الظاهر ونفي القياس وقد ترك من يعمل ذلك ظاهرا ما اجتمعنا عليه وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل
الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطئ كما لا يحل ذلك في النكاح وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله
" حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم " إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء
وكذلك يجب أن يكون نظرا وقياسا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب وكذلك هو عند جمهورهم وهم
الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها. وقوله تعالى " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " أي
وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهى المزوجات إلا ما ملكت أيمانكم يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي فإنه
يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان
هو الثوري عن عثمان البتي عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبيا من سبي أوطاس ولهن أزواج
فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الآية " والمحصنات من النساء
إلا ما ملكت أيمانكم " فاستحللنا فروجهن وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن هشيم ورواه النسائي من
حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ثلاثتهم عن عثمان البتي ورواه ابن ماجة من حديث أشعث بن سوار
عن عثمان البتي ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم
484

عن أبي سعيد الخدري فذكره وهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي سعيد الخدري
به وروى من وجه آخر عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري قال الإمام أحمد: حدثنا
ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم أصابوا سبيا يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا
وتأثموا من غشيانهن قال: فنزلت هذه الآية في ذلك " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " وهكذا
رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عروبة زاد مسلم وشعبة ورواه الترمذي من حديث همام بن
يحيى ثلاثتهم عن قتادة بإسناده نحوه وقال الترمذي هذا حديث حسن ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا
الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة - كذا قال وقد تابعه شعبة والله أعلم.
وقد روى الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في سبايا خيبر وذكر مثل حديث أبي سعيد وقد ذهب
جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها أخذا بعموم هذه الآية وقال ابن جرير حدثنا ابن مثنى
حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن مغيرة عن إبراهيم أنه سئل عن الأمة تباع ولها زوج؟ قال: كان عبد الله يقول:
بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم " وكذا رواه سفيان عن منصور ومغيرة
والأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود قال: بيعها طلاقها. وهو منقطع ورواه سفيان الثوري عن خليد عن أبي
قلابة عن ابن مسعود قال: إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها. ورواه سعيد عن قتادة قال أبي بن كعب
وجابر بن عبد الله وابن عباس قالوا: بيعها طلاقها. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن خليد عن
عكرمة عن ابن عباس قال: طلاق الأمة ست بيعها طلاقها وعتقها طلاقها وهبتها طلاقها وبراءتها طلاقها وطلاق
زوجها طلاقها: وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب قوله " والمحصنات من النساء "
قال: هذه ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها وقال معمر: وقال الحسن مثل
ذلك وهكذا رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن في قوله " والمحصنات من النساء إلا ما ملكت
أيمانكم " قال: إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها. وروى عوف عن الحسن بيع الأمة طلاقها وبيعه طلاقها فهذا
قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديما وحديثا فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقا لها لان المشتري نائب
عن البائع والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة
المخرج في الصحيحين وغيرهما فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث،
بل خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال
هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خيرها دل على بقاء النكاح وأن المراد من الآية المسببات فقط والله أعلم وقد قيل
المراد بقوله " والمحصنات من النساء " يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور
وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عمر وعبيدة
" والمحصنات من النساء " ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله تعالى " كتاب الله عليكم " أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم يعني الأربع فالزموا كتابه ولا تخرجوا عن
حدوده والزموا شرعه وما فرضه. وقال عبيدة وعطاء والسدي في قوله " كتاب الله عليكم " يعني الأربع. وقال
إبراهيم " كتاب الله عليكم " يعني ما حرم عليكم. وقوله تعالى " وأحل لكم ما وراء ذلكم " ما دون الأربع
وهذا بعيد. والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة: وأحل لكم ما وراء ذلكم يعني مما ملكت أيمانكم وهذه
الآية هي التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين وقول من قال: أحلتهما آية وحرمتهما آية وقوله
تعالى " أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين " أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما
شئتم بالطريق الشرعي ولهذا قال " محصنين غير مسافحين " وقوله تعالى " فما استمتعتم به منهن فآتوهن
485

أجورهن فريضة " أي كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك كما قال تعالى " وكيف تأخذونه وقد
أفضى بعضكم إلى بعض " وكقوله تعالى " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " وكقوله " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا " وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ولا شك أنه كان مشروعا في ابتداء الاسلام ثم نسخ
بعد ذلك وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين وقال آخرون: أكثر
من ذلك. وقال آخرون: إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك. وقد روى عن ابن عباس وطائفة من الصحابة
القول بإباحتها للضرورة وهو رواية عن الإمام أحمد وكان ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والسدي
يقرؤن " فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجورهن فريضة " وقال مجاهد: نزلت في نكاح المتعة
ولكن الجمهور على خلاف ذلك. والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام
وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة
فقال " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان
عنده منهن شئ فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا " وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ
موضعها كتاب الأحكام وقوله تعالى " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " من حمل هذه الآية على
نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال: لا جناح عليكم إذ انقضى الاجل أن تتراضوا على زيادة به وزيادة للجعل. قال
السدي: إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى يعني الاجر الذي أعطاها على تمتعه بها قبل انقضاء الأجل بينهما
فقال: أتمتع منك أيضا بكذا وكذا فإن زاد قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة وهو قوله تعالى " ولا جناح
عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " قال السدي: إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل وهي منه بريئة
وعليها أن تستبرئ ما في رحمها وليس بينهما ميراث فلا يرث واحد منهما صاحبه ومن قال بهذا القول الأول
جعل معناه كقوله " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة " الآية أي إذا فرضت لها صداقا فأبرأتك منه أو عن شئ منه
فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه
قال: زعم الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون المهر ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال: ولا جناح عليكم أيها
الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة يعني إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ. واختار هذا القول ابن
جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة " والتراضي أن
يوفيها صداقها ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق. وقوله تعالى " إن الله كان عليما حكيما " مناسب ذكر هذين
الوصفين بعد شرع هذه المحرمات.
ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم
بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات
ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن
خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم (25)
يقول تعالى " ومن لم يجد منكم طولا " أي سعة وقدرة " أن ينكح المحصنات المؤمنات " أي الحرائر العفائف.
وقال ابن وهب: أخبرني عبد الجبار عن ربيعة " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات " قال ربيعة:
الطول الهوى يعني ينكح الأمة إذا كان هواه فيها رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ثم أخذ يشنع على هذا القول ويرده
" فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ولهذا
486

قال " من فتياتكم المؤمنات " قال ابن عباس وغيره: فلينكح من إماء المؤمنين وكذا قال السدي ومقاتل بن حيان.
ثم أعترض بقوله " والله أعلم بأيمانكم بعضكم من بعض " أي هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها وإنما لكم أيها
الناس الظاهر من الأمور ثم قال: " فانكحوهن بإذن أهلهن " فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه
وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه كما جاء في الحديث " أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر "
أي زان. فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث " لا تزوج المرأة المرأة ولا
المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها " وقوله تعالى " وآتوهن أجورهن بالمعروف " أي وادفعوا مهورهن
بالمعروف أي عن طيب نفس منكم ولا تبخسوا منه شيئا استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات وقوله تعالى
" محصنات " أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه ولهذا قال " غير مسافحات " وهن الزواني اللاتي لا يمنعن من
أرادهن بالفاحشة - وقوله تعالى " ولا متخذات أخدان " قال ابن عباس: " المسافحات " هن الزواني المعلنات يعني
الزواني اللاتي لا يمنعن أحدا أرادهن بالفاحشة: وقال ابن عباس: ومتخذات أخدان يعني أخلاء وكذا روى عن أبي
هريرة ومجاهد والشعبي والضحاك وعطاء الخراساني ويحيى بن أبي كثير ومقاتل بن حيان والسدي قالوا:
أخلاء وقال الحسن البصري يعني الصديق. وقال الضحاك أيضا " ولا متخذات أخدان " ذات الخليل الواحد
المقرة به نهى الله عن ذلك يعني تزويجها ما دامت كذلك.
وقوله تعالى " فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب " اختلف القراء في " أحصن
فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبنى لما لم يسم فاعله وقرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل:
معنى القراءتين واحد واختلفوا فيه على قولين " أحدهما " أن المراد بالاحصان ههنا الاسلام روى ذلك عن
عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والأسود بن يزيد وزر بن حبيش وسعيد بن جبير وعطاء وإبراهيم النخعي والشعبي
والسدي وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب وهو منقطع وهذا هو القول الذي نص عليه الشافعي في
رواية الربيع قال: وإنما قلنا ذلك استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم. وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا
مرفوعا قال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله حدثنا أبي عن أبيه عن أبي
حمزة عن جابر عن رجل عن أبي عبد الرحمن عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم " فإذا أحصن " قال
" إحصانها إسلامها وعفافها " وقال: المراد به ههنا التزويج قال: وقال علي اجلدوهن ثم قال ابن أبي حاتم: وهو
حديث منكر " قلت " وفي إسناده ضعف وفيه من لم يسم ومثله لا تقوم به حجة وقال القاسم وسالم: إحصانها
إسلامها وعفافها وقيل: المراد به ههنا التزويج. وهو قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة وطاوس وسعيد بن جبير
والحسن وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه الايضاح عن الشافعي فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم
عنه. وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد أنه قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحر وإحصان العبد أن ينكح
الحرة وكذا روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس رواهما ابن جرير في تفسيره. وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي
والنخعي. وقيل: معنى القراءتين متباين. فمن قرأ أحصن بضم الهمزة فمراده التزويج ومن قرأ بفتحها فمراده
الاسلام اختاره أبو جعفر ابن جرير في تفسيره وقرره ونصره، والأظهر والله أعلم أن المراد بالاحصان ههنا
التزويج لان سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه وتعالى " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات " والله أعلم. والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات
فتعين أن المراد بقوله " فإذا أحصن " أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره وعلى كل من القولين إشكاله على
مذهب الجمهور وذلك أنهم يقولون: إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة سواء كانت مسلمة أو كافرة
مزوجة أو بكرا مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء. وقد اختلفت أجوبتهم
عن ذلك فأما الجمهور فقالوا: لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في
487

إقامة الحد على الإماء فقدمناها على مفهوم الآية. فمن ذلك ما رواه
مسلم في صحيحه عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن
منهن ومن لم يحصن فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن
جلدتها أن أقتلها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " أحسنت اتركها حتى تتماثل " وعند عبد الله بن أحمد عن غير أبيه
" فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين " وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا زنت أمة أحدكم
فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة
فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر " ولمسلم " إذا زنت ثلاثا فليبعها في الرابعة " وروى مالك عن يحيى بن سعيد
عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي قال: أمرني عمر بن الخطاب في فتية من قريش
فجلدنا من ولائد الامارة خمسين خمسين من الزنا.
" الجواب الثاني " جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها وإنما تضرب تأديبا وهو
المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه وإليه ذهب طاوس وسعيد بن جبير وأبو عبيد القاسم بن سلام وداود بن علي
الظاهري في رواية عنه وعمدتهم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم
عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال " إن زنت
فحدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير " قال ابن شهاب: لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة أخرجاه
في الصحيحين. وعند مسلم قال ابن شهاب: الضفير الحبل. قالوا: فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة
وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم - وأصرح من
ذلك ما رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن مسعر عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على أمة حد حتى تحصن - يعني تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات "
وقد رواه ابن خزيمة عن عبد الله بن عمران العابدي عن سفيان به مرفوعا وقال: رفعه خطأ إنما هو من قول ابن
عباس وكذا رواه ابن خزيمة عن عبد الله بن عمران وقال: مثل ما قاله ابن خزيمة قالوا: وحديث علي وعمر قضايا
أعيان وحديث أبي هريرة عنه أجوبة " أحدها " أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث
" الثاني " أن لفظة الحد في قوله " فليقم عليها الحد " مقحمة من بعض الرواة بدليل الجواب الثالث وهو أن هذا
من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقديم من رواية واحد وأيضا
فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم من حديث عباد بن تميم عن عمه وكان قد شهد بدرا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " إذا زنت الأمة فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير "
" الرابع " أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد لأنه لما كان الجلد اعتقد أنه حد
أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب كما أطلق الحد على ضرب من زنا من المرضى بعثكال نخل فيه مائة
شمراخ وعلى جلد من زنا بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كأحمد وغيره من
السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ورجم الثيب أو اللائط والله أعلم. وقد روى ابن ماجة وابن جرير
في تفسيره: حدثنا ابن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا
تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج وهذا إسناد صحيح عنه ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب الأمة أصلا لا
حدا وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث وإن أراد أنها لا تضرب حدا ولا ينفي ضربها تأديبا فهو كقول
ابن عباس رضي الله عنه ومن تبعه في ذلك والله أعلم. " الجواب الثالث " أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد
نصف حد الحرة فأما قبل الاحصان فعمومات الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة كقوله تعالى " الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " وكحديث عبادة بن الصامت " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا
488

البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجمها بالحجارة " والحديث في صحيح مسلم وغير
ذلك من الأحاديث. وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري وهو في غاية الضعف لان الله تعالى إذا كان
أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة من العذاب وهو خمسون جلدة فكيف يكون حكمها قبل الاحصان
أشد منه بعد الاحصان وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال وهذا الشارع عليه السلام سأله أصحابه عن الأمة إذا
زنت ولم تحصن فقال " اجلدوها " ولم يقل مائة فلو كان حكمها كما زعم داود لوجب بيان ذلك لهم لأنهم إنما سألوا
عن ذلك لعدم بيان حكم جلد المائة بعد الاحصان في الإماء وإلا فما الفائدة في قولهم ولم تحصن لعدم الفرق بينهما
لو لم تكن الآية نزلت لكن لما علموا أحد الحكمين سألوا عن الآخر فبينه لهم كما في الصحيحين أنهم لما سألوه
عن الصلاة عليه فذكرها لهم ثم قال " والسلام ما قد علمتم " وفي لفظ لما أنزل الله قوله " يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليما " قالوا هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك وذكر الحديث وهكذا هذا السؤال.
" الجواب الرابع " عن مفهوم الآية جواب أبي ثور وهو أغرب من قول داود من وجوه وذلك أنه يقول: فإذا
أحصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات المزوجات الرجم وهو لا يتناصف فيجب أن ترجم الأمة
المحصنة إذا زنت وأما قبل الاحصان فيجب جلدها خمسين فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في
الحكم بل قد قال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم
على مملوك في الزنا وذلك لان الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب
والألف واللام في المحصنات للعهد وهن المحصنات المذكورات في أول الآية " من لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات المؤمنات " والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض للتزويج بحرة وقوله " نصف ما على المحصنات
من العذاب " يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم والله أعلم. وقد روى أحمد
حديثا في رد مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعيد عن أبيه أن صفية قد زنت برجل من الحمس فولدت غلاما
فادعاه الزاني فاختصما إلى عثمان فرفعهما إلى علي بن أبي طالب فقال علي أقضي فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " الولد
للفراش وللعاهر الحجر " وجلدهما خمسين خمسين وقيل بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى أي أن
الإماء على النصف من الحرائر في الحد وإن كن محصنات وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده وإنما
عليهن الجلد بالحالين في السنة قال ذلك صاحب الافصاح وذكر هذا عن الشافعي فيما رواه ابن عبد الحكم وقد ذكر
البيهقي في كتاب السنن والآثار عنه وهو بعيد عن لفظ الآية لأنا إنما استفدنا تنصيف الحد من الآية لا من سواها
فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها وقال بل أريد بأنها في حال الاحصان لا يقيم الحد عليها إلا الامام ولا يجوز
لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه وهو قول في مذهب أحمد رحمه الله فأما قبل الاحصان فله ذلك والحد في
كلا الموضعين نصف حد الحرة وهذا أيضا بعيد لأنه ليس في الآية ما يدل عليه ولولا هذه لم ندر ما حكم الإماء في
التنصيف ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد مائة أو رجمهن كما ثبت في الدليل عليه وقد تقدم عن
علي أنه قال: أيها الناس أقيموا الحد على أرقائكم من أحصن منهم ومن لم يحصن وعموم الأحاديث المتقدمة
ليس فيها تفصيل بين المزوجة وغيرها لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور " إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها
فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ". ملخص الآية أنها إذا زنت أقوال. أحدها تجلد خمسين قبل الاحصان وبعده
وهل تنفي فيه ثلاثة أقوال: أحدها أنها تنفي عنه. والثاني لا تنفي عنه مطلقا والثالث أنها تنفي نصف سنة وهو
نصف نفي الحرة وهذا الخلاف في مذهب الشافعي وأما أبو حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد
وإنما هو رأي الامام إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال
واما النساء فلا لان ذلك مضاد لصيانتهن وما ورد شئ من النفي في الرجال ولا النساء. نعم حديث عبادة وحديث
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة الحد عليه رواه البخاري وذلك مخصوص
بالمعنى وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم والثاني أن الأمة إذا زنت تجلد
489

خمسين بعد الاحصان وتضرب تأديبا غير محدود بعدد محصور وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها لا
تضرب قبل الاحصان وإن أراد نفيه فيكون مذهبا بالتأويل. وإلا فهو كالقول الثاني القول الآخر أنها تجلد قبل
الاحصان مائة وبعده خمسين كما هو المشهور عن داود وهو أضعف الأقوال أنها تجلد قبل الاحصان خمسين وترجم
بعده وهو قول أبي ثور وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وقوله تعالى " ذلك لمن خشي العنت
منكم " أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا وشق عليه الصبر عن
الجماع وعنت بسبب ذلك كله فله حينئذ أن يتزوج بالأمة وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير
له لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج غريبا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي
ولهذا قال " وإن تصبروا خير لكم والله غفور رحيم " ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز نكاح
الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ومن خوف العنت لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ولما فيهن
من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الامرين فقالوا متى لم يكن
الرجل مزوجا بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا سواء كان واجدا لطول حرة أم لا وسواء خاف العنت أم
لا وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " أي العفائف وهو يعم
الحرائر والإماء وهذه الآية عامة وهذه أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم.
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم (26) والله يريد أن يتوب عليكم
ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (27) يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا (28)
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم بما تقدم وذكره في هذه السورة وغيرها
" ويهديكم سنن الذين من قبلكم " يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها " ويتوب عليكم " أي
من الاثم والمحارم " والله عليم حكيم " أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله وقوله " ويريد الذين يتبعون الشهوات أن
تميلوا ميلا عظيما " أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلا عظيما
" يريد الله أن يخفف عنكم " أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال
مجاهد وغيره " وخلق الانسان ضعيفا " فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته قال ابن أبي حاتم حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن طاوس عن أبيه " وخلق الانسان ضعيفا " أي في أمر
النساء وقال وكيع يذهب عقله عندهن وقال موسى الكليم عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الاسراء حين مر عليه
راجعا من عند سدرة المنتهى فقال له: ماذا فرض عليكم فقال: أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة فقال له ارجع إلى
ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا وإن أمتك
أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا فرجع فوضع عشرا ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسا الحديث.
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله
كان بكم رحيما (29) ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30) إن تجتنبوا
كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31)
ينهى الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل أي بأنواع المكاسب التي هي غير
شرعية كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما
490

يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا حتى قال ابن جرير: حدثني ابن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا
داود عن عكرمة عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول إن رضيته أخذته وإلا رددت معه درهما قال
هو الذي قال عز وجل فيه " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن حرب المصلي
حدثنا ابن الفضيل عن داود الأبدي عن عامر عن علقمة عن عبد الله في الآية قال إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى
يوم القيامة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لما أنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل "
قال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل أموالنا فلا يحل لاحد منا أن يأكل عند
أحد فكيف للناس فأنزل الله بعد ذلك " ليس على الأعمى حرج " الآية وكذا قال قتادة وقوله تعالى " إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم " قرئ تجارة بالرفع وبالنصب وهو استثناء منقطع كأنه يقول لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في
اكتساب الأموال لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل
الأموال كما قال تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " وكقوله " لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة
الأولى ". ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول لأنه يدل على التراضي نصا
بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد وخالف الجمهور في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد فرأوا أن الأقوال
كما تدل على التراضي وكذلك الافعال تدل في بعض المحال قطعا فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ومنهم من قال يصح
في المحقرات وفيما يعده الناس بيعا وهو احتياط نظر من محققي المذهب والله أعلم وقال مجاهد " إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم " بيعا أو عطاء يعطيه أحد أحدا ورواه ابن جرير ثم قال وحدثنا وكيع حدثنا أبي عن القاسم عن
سليمان الجعفي عن أبيه عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البيع عن تراض والخيار بعد الصفقة ولا
يحل لمسلم أن يغش مسلما " هذا حديث مرسل ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وفي لفظ البخاري " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار
ما لم يتفرقا " وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف ومن
ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام بحسب ما يتبين فيه مال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها كما
هو المشهور عن مالك رحمه الله وصححوا بيع المعاطاة مطلقا وهو قول في مذهب الشافعي ومنهم من قال يصح بيع
المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه وقوله " ولا تقتلوا
أنفسكم " أي بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل " إن الله كان بكم رحيما " أي فيما
أمركم به ونهاكم عنه. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن
عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام
ذات السلاسل قال: احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي
صلاة الصبح قال: فلما قدمنا على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب "
قال: قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول الله
عز وجل " ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " فتيممت ثم صليت فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب به ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة عن ابن
وهب عن ابن لهيعة وعمر بن الحرث كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن عمران بن أبي أنس عن عبد الرحمن بن
جبير المصري عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عنه فذكر نحوه وهذا والله أعلم أشبه بالصواب. وقال أبو
بكر بن مردويه حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البلخي حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي حدثنا
عبد الله بن عمر القواريري حدثنا يوسف بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن عكرمة عن ابن عباس أن عمرو بن العاص
صلى بالناس وهو جنب فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فدعاه فسأله عن ذلك فقال: يا رسول الله خفت أن
يقتلني البرد وقد قال الله تعالى " ولا تقتلوا أنفسكم " فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أورد ابن مردويه عند هذه الآية
491

الكريمة من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل نفسه بحديدة فحديدته
في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بسم [تردى به] (1) فسمه في يده
يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ". وهذا الحديث ثابت في الصحيحين وكذلك رواه أبو الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وعن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
قتل نفسه بشئ عذب به يوم القيامة ". وقد أخرجه الجماعة في كتبهم من طريق أبي قلابة. وفي الصحيحين من
حديث الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح
فأخذ سكينا نحر بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله عز وجل عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة " ولهذا قال
تعالى " ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما " أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا فيه ظالما في تعاطيه أي عالما
بتحريمه متجاسرا على انتهاكه " فسوف نصليه نارا " الآية. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد فليحذر منه كل عاقل
لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد. وقوله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " الآية أي إذا
اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ولهذا قال " وندخلكم مدخلا
كريما " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا خالد بن أيوب عن
معاوية بن قرة عن أنس رفعه قال: لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا عز وجل ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز
لنا عما دون الكبائر يقول الله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم " الآية. وقد وردت أحاديث متعلقة
بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم عن مغيرة عن أبي معشر عن إبراهيم عن مربع
الضبي عن سلمان الفارسي قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " أتدري ما يوم الجمعة " قلت هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم قال " لكن أدري
ما يوم الجمعة لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الامام صلاته إلا كانت كفارة له ما بينها
وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت المقتلة " وقد روى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه. وقال أبو جعفر بن جرير حدثني
المثنى حدثنا أبو صالح حدثنا الليث حدثني خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر أخبرني صهيب مولى الصواري أنه
سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال " والذي نفسي بيده " ثلاث مرات ثم أكب فأكب كل رجل منا
يبكي لا ندري ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشرى فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال: " ما من عبد
يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم
قيل له ادخل بسلام ". وهكذا رواه النسائي والحاكم في مستدركه من حديث الليث بن سعد به ورواه الحاكم أيضا
وابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال به ثم قال
الحاكم صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه " تفسير هذه السبع " وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث
سليمان بن هلال عن ثور بن زيد عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اجتنبوا السبع
الموبقات " قيل يا رسول الله وما هن؟ قال " الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق والسحر وأكل الربا
وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " " طريق أخرى عنه " قال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا فهد بن عوف حدثنا أبو عوانة عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الكبائر سبع أولها الاشراك بالله ثم قتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم إلى أن
يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنات والانقلاب إلى الاعراب بعد الهجرة " فالنص على هذه السبع
بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب وهو ضعيف عند عدم القرينة ولا سيما عند قيام الدليل
بالمنطوق على عدم المفهوم كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع فمن ذلك ما رواه
الحاكم في مستدركه حيث قال: حدثنا أحمد بن كامل القاضي إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد حدثنا
معاذ بن هانئ حدثنا حرب بن شداد حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عبد الحميد بن سنان عن عبيد بن عمير عن أبيه

(1) كذا في الأصل وهذه الزيادة ليست عند أصحاب الكتاب الستة وأحمد. الدارمي وهي موجودة في بعض نسخ ابن كثير.
492

يعني عمير بن قتادة رضي الله عنه أنه حدثه وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع " ألا إن أولياء الله
المصلون من يقم الصلوات الخمس التي كتب الله عليه ويصوم رمضان ويحتسب صومه يرى أنه عليه حق
ويعطي زكاة ماله يحتسبها ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها " ثم إن رجلا سأله فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فقال
" تسع: الشرك بالله وقتل نفس مؤمن بغير حق وفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف
المحصنة وعقوق الوالدين المسلمين واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ثم لا يموت رجل لا يعمل
هؤلاء الكبائر ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار مصانعها من ذهب " هكذا رواه الحاكم
مطولا وقد أخرجه أبو داود والنسائي مختصرا من حديث معاذ بن هانئ به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه
مبسوطا ثم قال الحاكم: رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان " قلت " وهو حجازي لا
يعرف إلا بهذا الحديث وقد ذكره ابن حبان في كتاب الثقات. وقال البخاري في حديثه نظر وقد رواه ابن جرير عن
سليمان بن ثابت الجحدري عن سالم بن سلام عن أيوب بن عتبة عن يحيى بن أبي كثير عن عبيد بن عمير عن أبيه
فذكره ولم يذكر في الاسناد عبد الحميد بن سنان والله أعلم. " حديث آخر في معنى ما تقدم " قال ابن مردويه:
حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا عبد العزيز عن مسلم بن الوليد عن
المطلب عن عبد الله بن حنطب عن ابن عمر قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال " لا أقسم لا أقسم " ثم نزل فقال:
" أبشروا أبشروا من صلى الصلوات الخمس واجتنب الكبائر السبع نودي من أبواب الجنة ادخل " قال عبد
العزيز: لا أعلمه قال إلا " بسلام " وقال المطلب: سمعت من سأل عبد الله بن عمر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يذكرهن؟ قال: نعم " عقوق الوالدين وأشراك بالله وقتل النفس، وقذف المحصنات وأكل مال اليتيم
والفرار من الزحف وأكل الربا ". " حديث آخر في معناه " قال أبو جعفر بن جرير في التفسير: حدثنا يعقوب
حدثنا ابن علية حدثنا زياد بن مخراق عن طيسلة بن مياس قال: كنت مع النجدات فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من
الكبائر فلقيت ابن عمر فقلت له: إني أصبت ذنوبا لا أرها إلا من الكبائر قال: ما هي؟ قلت: أصبت كذا وكذا
قال: ليس من الكبائر قلت: وأصبت كذا وكذا قال: ليس من الكبائر قال: أشئ لم يسمه طيسلة؟ قال: هي
تسع وسأعدهن عليك: الاشراك بالله وقتل النفس بغير حقها والفرار من الزحف وقذف المحصنة وأكل
الربا وأكل مال اليتيم ظلما وإلحاد في المسجد الحرام والذي يستسخر وبكاء الوالدين من العقوق. قال
زياد وقال طيسلة لما رأى ابن عمر فرقى قال: أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت: نعم قال: وتحب أن تدخل الجنة؟
قلت: نعم قال: أحي والداك؟ قلت: عندي أمي قال: فوالله لئن أنت ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن
الجنة ما اجتنبت الموجبات " طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثنا سليمان بن ثابت الجحدري الواسطي أنا سلمة بن
سلام حدثنا أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي النهدي قال: أتيت ابن عمر وهو في ظل أراك يوم عرفة وهو يصب
الماء على رأسه ووجهه قلت: أخبرني عن الكبائر؟ قال: هي تسع قلت: ما هي؟ قال: الاشراك بالله وقذف
المحصنة قال قلت: مثل قتل النفس قال: نعم ورغما وقتل النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل
الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين المسلمين وإلحاد بالبيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ". هكذا رواه
من هذين الطريقين موقوفا وقد رواه علي بن الجعد عن أيوب بن عتبة عن طيسلة بن علي قال: أتيت ابن عمر
عشية عرفة وهو تحت ظل أراكة وهو يصب الماء على رأسه فسألته عن الكبائر؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" هن سبع " قال قلت: وما هن قال " الاشراك بالله وقذف المحصنات " قال قلت: قبل الدم قال: نعم ورغما " وقتل
النفس المؤمنة والفرار من الزحف والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين وإلحاد بالبيت
الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ". وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب عن أيوب بن عتبة اليماني وفيه ضعف والله
أعلم. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي حدثنا بقية عن يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان أن
أبا رهم السمعي حدثهم عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عبد الله لا يشرك به شيئا وأقام الصلاة وآتى
493

الزكاة وصام رمضان واجتنب الكبائر فله الجنة - أو دخل الجنة " فسأله رجل ما الكبائر؟ فقال " الشرك بالله
وقتل نفس مسلمة والفرار من الزحف ". ورواه أحمد أيضا والنسائي من غير وجه عن بقية " حديث آخر " روى
ابن مردويه في تفسيره من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري عن الحافظ أبي بكر بن
محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن
والديات وبعث به مع عمرو بن حزم قال: وكان في الكتاب " إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة: إشراك بالله
وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار في سبيل الله يوم الزحف وعقوق الوالدين ورمي المحصنة وتعلم
السحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ". " حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور " قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن
جعفر حدثنا شعبة حدثني عبد الله بن أبي بكر قال سمعت أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن
الكبائر فقال " الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين - وقال - ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى قال: الاشراك
بالله وقول الزور - أو شهادة الزور " أخرجاه من حديث شعبة به وقد رواه ابن مردويه من طريقين آخرين غريبين
عن أنس بنحوه. " حديث آخر " أخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم
" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر "؟ قلنا بلى يا رسول الله قال " الاشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئا فجلس فقال -
ألا وشهادة الزور ألا وقول الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت " حديث آخر " فيه ذكر قتل الولد وهو
ثابت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم وفي رواية أكبر؟ قال " أن
تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت: ثم أي قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت ثم أي قال " أن تزاني
حليلة جارك " ثم قرأ " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - إلا من تاب " " حديث آخر " فيه ذكر شرب
الخمر. قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الأعلى أنا ابن وهب حدثني ابن صخر أن رجلا حدثه عن عمرة بن
حزم أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص وهو بالحجر بمكة وسأله رجل عن الخمر فقال والله إن عظيما عند الله
الشيخ مثلي يكذب في هذا المقام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب فسأله ثم رجع فقال: سألته عن الخمر فقال " هي أكبر
الكبائر وأم الفواحش من شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته " غريب من هذا الوجه. " طريق
أخرى " رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن داود بن صالح عن سالم بن
عبد الله عن أبيه أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله
عنهم أجمعين جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه فأرسلوني إلى
عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم فأنكروا
ذلك فوثبوا إليه حتى أتوه في داره فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ملكا من بني إسرائيل أخذ رجلا
فخيره بين أن يشرب خمرا أو يقتل نفسا أو يزني أو يأكل لحم خنزير أو يقتله فاختار شرب الخمر. وإنه لما
شربها لم يمتنع من شئ أراده منه وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لنا مجيبا " ما من أحد يشرب
خمرا إلا لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ولا يموت أحد في مثانته منها شئ إلا حرم الله عليه الجنة فإن مات في
أربعين ليلة مات ميتة جاهلية " هذا حديث غريب من هذا الوجه جدا وداود بن صالح هذا هو التمار المدني مولى
الأنصار قال الإمام أحمد: لا أرى به بأسا وذكره ابن حبان في الثقات ولم أر أحدا جرحه. " حديث آخر " عن
عبد الله بن عمرو وفيه ذكر اليمين الغموس قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن فراس عن
الشعبي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين أو قتل النفس -
شعبة الشاك - واليمين الغموس ". ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة وزاد البخاري وشيبان
كلاهما عن فراس به " حديث آخر في اليمين الغموس " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو صالح كاتب
الليث حدثنا الليث بن سعد حدثنا هشام بن سعيد عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي عن أبي أمامة
الأنصاري عن عبد الله بن أنيس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكبر الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين
494

واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم
القيامة ". وهكذا رواه أحمد في مسنده وعبد بن حميد في تفسيره كلاهما عن يونس بن محمد المؤدب عن الليث
ابن سعد به. وأخرجه الترمذي عن عبد بن حميد به وقال: حسن غريب وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ولا يعرف
اسمه. وقد روي عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث. قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: وقد رواه
عبد الرحمن بن إسحاق المدني عن محمد بن زيد عن عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه عن عبد الله بن أنيس فزاد
عبد الله بن أبي أمامة " قلت " هكذا وقع في تفسير ابن مردويه وصحيح ابن حبان من طريق عبد الرحمن بن إسحاق
كما ذكره شيخنا فسح الله في أجله " حديث آخر " عن عبد الله بن عمرو في التسبب إلى شتم الوالدين. قال ابن أبي
حاتم: حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن مسعر وسفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن
عن عبد الله بن عمرو رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو قال " من الكبائر أن يشتم
الرجل والديه " قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه؟ قال " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه "
أخرجه البخاري عن أحمد بن يونس عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن
عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل
والديه " قالوا وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال " يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه " وهكذا
رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم به مرفوعا بنحوه وقال الترمذي
صحيح. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ". " حديث آخر في ذلك "
قال ابن أبي حاتم حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا دحيم حدثنا عمرو بن أبي سلمة حدثنا زهير بن محمد عن
العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أكبر الكبائر عرض الرجل المسلم
والسبتان بالسبة " هكذا روى هذا الحديث وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن جعفر بن مسافر عن
عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من أكبر الكبائر استطالة
الرجل في عرض رجل مسلم بغير حق ومن الكبائر السبتان بالسبة " وكذا رواه ابن مردويه من طريق عبد الله بن
العلاء بن زيد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله " حديث آخر في الجمع بين الصلاتين من
غير عذر " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن
عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من جمع بين صلاتين من غير عذر فقد أتي بابا من أبواب الكبائر ".
وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف عن المعتمر بن سليمان به ثم قال حنش هو أبو علي
الرحبي وهو حسين بن قيس وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره. وروى ابن أبي حاتم حدثنا
الحسن بن محمد الصباح حدثنا إسماعيل بن علية عن خالد الحذاء عن حميد بن هلال عن أبي قتادة العدوي قال:
قرئ علينا كتاب عمر: من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير عذر - والفرار من الزحف والنهبة وهذا إسناد
صحيح. والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرا وكذا المغرب
والعشاء كالجمع بسبب شرعي فمن تعاطاه بغير شئ من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة فما ظنك بترك الصلاة
بالكلية ولهذا روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة ". وفي السنن
مرفوعا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " وقال " من ترك صلاة
العصر فقد حبط عمله " وقال " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " " حديث آخر " فيه اليأس من روح الله
والامن من مكر الله. قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثنا أبي حدثنا شبيب بن بشر
عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئا فدخل عليه رجل فقال: ما الكبائر فقال " الشرك بالله
واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله عز وجل والامن من مكر الله وهذا أكبر الكبائر ". وقد رواه البزار
عن عبد الله بن إسحاق العطار عن أبي عاصم النبيل عن شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلا قال: يا
495

رسول الله ما الكبائر؟ قال " الشرك بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله عز وجل ". وفي إسناده
نظر والأشبه أن يكون موقوفا فقد روى عن ابن مسعود نحو ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم
حدثنا هشيم أخبرنا مطرف عن وبرة بن عبد الرحمن عن أبي الطفيل قال: قال ابن مسعود: أكبر الكبائر الاشراك
بالله واليأس من روح الله والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله. وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي
إسحق عن وبرة عن أبي الطفيل عن عبد الله به ثم رواه من طرق عدة عن أبي الطفيل عن ابن مسعود وهو
صحيح إليه بلا شك " حديث آخر " فيه سوء الظن بالله قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم بن بندار حدثنا
أبو حاتم بكر بن عبدان حدثنا محمد بن مهاجر حدثنا أبو حذيفة البخاري عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن
عمر أنه قال: أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل حديث غريب جدا " حديث آخر " فيه التعرب بعد الهجرة
قد تقدم من رواية عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد
حدثنا أحمد بن رشدين حدثنا عمرو بن خالد الحراني حدثنا ابن لهيعة عن زياد بن أبي حبيب عن محمد بن سهل
ابن أبي خيثمة عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " الكبائر سبع ألا تسألوني عنهن؟ الاشراك بالله وقتل النفس
والفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا وقذف المحصنة والتعرب بعد الهجرة " وفي إسناده نظر
ورفعه غلط فاحش والصواب ما رواه ابن جرير: حدثنا تميم بن المنتصر حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق
عن محمد بن سهيل بن أبي خيثمة عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد مسجد الكوفة وعلي رضي الله عنه يخطب
الناس على المنبر يقول: يا أيها الناس الكبائر سبع فأصاخ الناس فأعادها ثلاث مرات ثم قال: لم لا تسألوني
عنها؟ قالوا يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: الاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله وقذف المحصنة وأكل
مال اليتيم وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي يا أبت التعرب بعد الهجرة
كيف لحق ههنا، قال يا بني وما أعظم من أن يهاجر الرجل حتى إذا وقع سهمه في الفئ ووجب عليه الجهاد
خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيا كما كان.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم حدثنا أبو معاوية يعني سنان عن منصور عن هلال بن يساف عن
سلمة بن قيس الأشجعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " ألا إنهن أربع لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تسرقوا " قال فما أنا بأشح عليهن إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه من حديث منصور بإسناده مثله.
" حديث آخر " تقدم من رواية عمر بن المغيرة عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" الاضرار في الوصية من الكبائر " والصحيح ما رواه غيره عن داود عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن أبي حاتم هو
صحيح عن ابن عباس من قوله " حديث آخر في ذلك " قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أحمد بن عبد الرحمن
حدثنا عباد بن عباد عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة أن أناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ذكروا الكبائر وهو متكئ فقالوا: الشرك بالله وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وقذف المحصنة وعقوق
الوالدين وقول الزور والغلول والسحر وأكل الربا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأين تجعلون الذين يشترون بعهد
الله وأيمانهم ثمنا قليلا إلى آخر الآية ". في إسناده ضعف وهو حسن.
" ذكر أقوال السلف في ذلك "
قد تقدم ما روى عن عمر وعلي في ضمن الأحاديث المذكورة وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن
علية عن ابن عون عن الحسن أن ناسا سألوا عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا نرى أشياء من كتاب الله عز وجل أمر أن
يعمل بها لا يعمل بها فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه فلقي عمر رضي الله عنه فقال متى
496

قدمت؟ فقال: منذ كذا وكذا قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف رد عليه فقال يا أمير المؤمنين إن ناسا
لقوني بمصر فقالوا إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها فأحبوا أن يلقوك في ذلك قال:
فاجمعهم لي قال فجمعتهم له قال ابن عون أظنه قال في بهو فأخذ أدناهم رجلا فقال أنشدك بالله وبحق الاسلام
عليك أقرأت القرآن كله؟ قال نعم قال فهل أحصيته في نفسك؟ فقال اللهم لا! قال ولو قال نعم لخصمه. قال فهل
أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم فقال ثكلت
عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات قال وتلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون
عنه نكفر عنكم سيئاتكم " الآية. ثم قال هل علم أهل المدينة أو قال: هل علم أحد بما قدمتم قالوا لا قال لو
علموا لوعظت بكم إسناد صحيح ومتن حسن وإن كان من رواية الحسن عن عمر وفيها انقطاع إلا أن مثل هذا
اشتهر فتكفي شهرته. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا علي بن صالح
عن عثمان بن المغيرة عن مالك بن جرير عن علي رضي الله عنه قال: الكبائر الاشراك بالله وقتل النفس وأكل
مال اليتيم وقذف المحصنة والفرار من الزحف والتعرب بعد الهجرة والسحر وعقوق الوالدين وأكل الربا
وفراق الجماعة ونكث الصفقة. وتقدم عن ابن مسعود أنه قال: أكبر الكبائر الاشراك بالله واليأس من روح الله
والقنوط من رحمة الله والامن من مكر الله عز وجل. وروى ابن جرير من حديث الأعمش عن أبي الضحى عن
مسروق والأعمش عن إبراهيم عن علقمة كلاهما عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها.
ومنه حديث سفيان الثوري وشعبة عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: الكبائر من أول
سورة النساء إلى ثلاثين آية ثم تلا " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية. قال ابن حاتم حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا
يعلي بن عبيدة حدثنا صالح بن حيان عن ابن بريدة عن أبيه قال: أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع
فضول الماء بعد الري ومنع طروق الفحل إلا بجعل.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ " وفيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاثة لا ينظر
الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه ابن السبيل " وذكر تمام الحديث
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا " من منع فضل الماء وفضل الكلأ منعه
الله فضله يوم القيامة ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي حدثنا أبو أحمد عن سفيان
عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت: ما أخذ على النساء من الكبائر قال ابن أبي حاتم يعني قوله تعالى
" على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن " الآية. وقال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا
زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة قال أتيت أنس بن مالك فكان فيما يحدثنا قال: لم أر مثل الذي أتانا عن ربنا ثم لم
يخرج عن كل أهل ومال ثم سكت هنيهة ثم قال: والله لما كلفنا من ذلك أنه تجاوز لنا عما دون الكبائر وتلا " إن
تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية.
" أقوال ابن عباس في ذلك "
روى ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن أبيه عن طاوس قال ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع
فقال: أكثر من سبع وسبع قال فلا أدري كم قالها من مرة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن
ليث عن طاوس قال: قلت لابن عباس ما السبع الكبائر قال هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع. ورواه ابن جرير عن
ابن حميد عن ليث عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ما هن قال: هن
إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع وقال عبد الرزاق أنا معمر عن طاوس عن أبيه قال قيل لابن عباس الكبائر سبع؟
قال هن إلى السبعين أقرب وكذا قال أبو العالية الرياحي رحمه الله وقال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا أبو حذيفة
497

حدثنا شبل عن قيس عن سعد عن سعيد بن جبير أن رجلا قال لابن عباس كم الكبائر سبع؟ قال هن إلى سبعمائة
أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث شبل به
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو
غضب أو لعنة أو عذاب رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا ابن فضيل حدثنا
شبيب عن عكرمة عن ابن عباس قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار كبيرة وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري
وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أخبرنا أيوب عن محمد بن سيرين قال نبئت أن ابن عباس كان يقول: كل
ما نهى الله عنه كبيرة وقد ذكرت الطرفة قال هي النظرة وقال أيضا حدثنا أحمد بن حازم أخبرنا أبو نعيم حدثنا
عبد الله بن معدان عن أبي الوليد قال سألت ابن عباس عن النظرة وقال أيضا حدثنا أحم بن حازم أخبرنا أبو نعيم
حدثنا عبد الله بن معدان عن أبي الوليد قال سألت ابن عباس عن الكبائر قال كل شئ عصى الله به فهو كبيرة.
" أقوال التابعين "
قال ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن ابن عون عن محمد قال سألت عبيدة عن الكبائر فقال:
الاشراك بالله وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها والفرار يوم الزحف وأكل مال اليتيم وأكل الربا والبهتان.
قال ويقولون أعرابية بعد هجرة قال ابن عون فقلت لمحمد فالسحر؟ قال إن البهتان يجمع شرا كثيرا وقال ابن جرير
حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم عن أبي إسحاق عن عبيد بن عمير قال الكبائر
سبع ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله الاشراك بالله منهن " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه
الطير أو تهوي به الريح " الآية. " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا " الآية.
" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذين يتخبطه الشيطان من المس " و " الذين يرمون المحصنات الغافلات
المؤمنات " والفرار من الزحف " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا " الآية والتعرب بعد الهجرة " إن
الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى " وقتل المؤمن " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا
فيها " الآية وكذا رواه ابن أبي حاتم أيضا في حديث أبي إسحق عن عبيد بن عمير بنحوه وقال ابن جرير: حدثنا
المثنى حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح عن عطاء يعني ابن أبي رباح قال الكبائر سبع قتل
النفس، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، ورمي المحصنة وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن مغيرة قال: كان يقال شتم أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما من الكبائر قلت وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سب الصحابة وهو رواية عن
مالك بن أنس رحمه الله وقال محمد بن سيرين: ما أظن أحدا يبغض أبا بكر وعمر وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه
الترمذي وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا يونس أنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن عياش قال زيد بن أسلم في قول الله
عز وجل " إن تجتبوا كبائر ما تنهون عنه " من الكبائر: الشرك بالله والكفر بآيات الله ورسوله، والسحر، وقتل
الأولاد، ومن ادعى لله ولدا أو صاحبة - ومثل ذلك من الأعمال والقول الذي لا يصلح معه عمل. وأما كل ذنب
يصلح معه دين ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات قال ابن جرير حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد
حدثنا سعيد: عن قتادة " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه " الآية إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " اجتنبوا الكبائر، وسددوا، وأبشروا " وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس وعن جابر مرفوعا
" شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف إلا ما رواه عبد الرزاق أخبرنا معمر عن
ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين وقد
رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه عن عباس العنبري عن عبد الرزاق ثم قال هذا حديث حسن
498

صحيح. وفي الصحيح شاهد لمعناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة " أترونها للمؤمنين المتقين؟ لا ولكنها للخاطئين
المتلوثين ". وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل هي ما عليه حد في الشرع ومنهم من قال
هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنة وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي في
كتابه الشرح الكبير الشهير في كتاب الشهادات منه ثم اختلف الصحابي رضي الله عنهم فمن بعدهم في الكبائر وفي
الفرق بينها وبين الصغائر ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه أحدها أنها المعصية الموجبة للحد " والثاني "
أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة وهذا أكثر ما يوجد لهم وإلى الأول أميل لكن
الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر " والثالث " قال إمام الحرمين في الارشاد وغيره كل جريمة تنبئ بقلة
اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة " والرابع " ذكر القاضي أبو سعيد الهروي أن الكبيرة كل فعل
نص الكتاب على تحريمه وكل معصية توجب في جنسها حدا من قتل أو غيره وترك كل فريضة مأمور بها على الفور
والكذب في الشهادة والرواية واليمين هذا ما ذكره على سبيل الضبط ثم قال وفصل القاضي الروياني فقال الكبائر
سبع: قتل النفس بغير الحق والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة وأخذ المال غصبا والقذف وزاد
في الشامل على السبع المذكورة شهادة الزور وأضاف إليها صاحب العدة أكل الربا والافطار في رمضان بلا عذر
واليمين الفاجرة وقطع الرحم وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم والخيانة في الكيل
والوزن وتقديم الصلاة على وقتها وتأخيرها عن وقتها بلا عذر وضرب المسلم بلا حق والكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمدا، وسب أصحابه وكتمان الشهادة بلا عذر وأخذ الرشوة والقيادة بين الرجال والنساء
والسعاية عند السلطان ومنع الزكاة وترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ونسيان القرآن بعد
تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب واليأس من رحمة الله والامن من مكر الله
ويقال الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن ومما يعد من الكبائر: الظهار وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.
ثم قال الرافعي وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال قلت: وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه
شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة وإذا قيل إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار
بخصوصها كما قال ابن عباس وغيره وتتبع ذلك اجتمع منه شئ كثير وإذا قال كل ما نهى الله عنه فكثير جدا والله
أعلم.
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وسئلوا
الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32)
قال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال قالت أم سلمة يا رسول الله تغزو الرجال ولا نغزو
ولنا نصف الميراث فأنزل الله " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر عن
سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت: قلت يا رسول الله فذكره وقال غريب ورواه بعضهم عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد أن أم سلمة قالت يا رسول الله فذكره ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مردويه
والحاكم في مستدركه من حديث الثوري عن أبن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة يا رسول الله: لا
نقاتل فنستشهد ولا نقطع الميراث فنزلت الآية ثم أنزل الله " أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى "
الآية. ثم قال ابن أبي حاتم وكذا روى سفيان بن عيينة يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ وروى يحيى القطان
ووكيع بن الجراح عن الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله. وروى عن
مقاتل بن حيان وخصيف نحو ذلك وروى ابن جرير من حديث ابن جرير عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم
سلمة وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن شيخ من أهل مكة قال نزلت هذه الآية في قول النساء ليتنا الرجال فنجاهد كما
499

يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثني أحمد بن
عبد الرحمن حدثني أبي حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس في الآية قال: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله للذكر مثل حظ الأنثيين وشهادة امرأتين برجل أفنحن
في العمل هكذا إن فعلت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة فأنزل الله هذه الآية " ولا تتمنوا " الآية. فإنه عدل مني
وأنا صنعته وقال السدى في الآية أن رجالا قالوا إنا نريد أن يكون لنا من الاجر الضعف على أجر النساء كما لنا في
السهام سهمان وقالت النساء إنا نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الشهداء فإنا لا نستطيع أن نقاتل ولو كتب علينا القتال
لقاتلنا فأبى الله ذلك ولكن قال لهم سلوني من فضلي قال ليس بعرض الدنيا. وقد روى عن قتادة نحو ذلك. وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: ولا يتمنى الرجل فيقول ليت لو أن لي مال فلان وأهله فنهى الله عن
ذلك ولكن يسأل الله من فضله. وقال الحسن ومحمد بن سيرين وعطاء والضحاك نحو هذا وهو الظاهر من الآية ولا
يرد على هذا ما ثبت في الصحيح " لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق فيقول رجل لو
أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الاجر سواء " فإن هذا شئ غير ما نهت عنه الآية. وذلك أن الحديث حض
على تمني مثل نعمة هذا والآية نهت عن تمنى عين نعمة هذا يقول " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض "
أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية لحديث أم سلمة وابن عباس وهكذا قال عطاء بن أبي رباح نزلت في النهي عن
تمني ما لفلان وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون رواه ابن جرير ثم قال " للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء
نصيب مما اكتسبن " أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خير فخير وإن شرا فشر هذا قول ابن جرير وقيل المراد
بذلك في الميراث أي كل يرث بحسبه. رواه الترمذي عن ابن عباس ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال " اسألوا الله
من فضله " لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض فإن هذا أمر محتوم أي إن التمني لا يجدي شيئا ولكن سلوني
من فضلي أعطكم فإني كريم وهاب. وقد روى الترمذي وابن مردويه من حديث حماد بن واقد سمعت إسرائيل عن
أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل
وإن أفضل العبادة انتظار الفرج ". ثم قال الترمذي كذا رواه حماد بن واقد وليس بالحافظ رواه ابن مردويه من
حديث وكيع عن إسرائيل ثم رواه من حديث قيس بن الربيع عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب
الفرج " ثم قال " إن الله كان بكل شئ عليما " أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها وبمن يستحق الفقر فيفقره
وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لاعمالها وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ولهذا قال " إن
الله كان بكل شئ عليما ".
ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ
شهيدا (33)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو صالح وقتادة وزيد بن أسلم والسدي والضحاك ومقاتل بن حيان وغيرهم
في قوله " ولكل جعلنا موالي " أي ورثة وعن ابن عباس في رواية أي عصبة قال ابن جرير والعرب تسمى ابن العم
مولى كما قال الفضل بن عباس.
مهلا بني عمنا مهلا موالينا * لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
قال ويعني بقوله مما ترك الوالدان والأقربون من تركة والديه وأقربيه من الميراث فتأويل الكلام ولكلكم أيها الناس جعلنا
عصبة يرثونه مما ترك والده وأقربوه من ميراثهم له وقوله تعالى " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " أي والذين
500

تحالفتم بالايمان المؤكدة أنتم وهم فأتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الايمان المغلظة إن الله شاهد
بينكم في تلك العهود والمعاقدات وقد كان هذا في ابتداء الاسلام ثم نسخ بعد ذلك وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ولا
ينسوا بعد نزول هذه الآية معاقدة. قال البخاري حدثنا الصلت بن محمد حدثنا أبو أمامة عن إدريس عن طلحة بن
مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولكل جعلنا موالي " قال ورثة " والذين عقدت أيمانكم " كان المهاجرون
لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه للاخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت " ولكل
جعلنا موالي " نسخت ثم قال " والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم " من النصر والرفادة والنصيحة وقد ذهب
الميراث ويوصي له ثم قال البخاري سمع أبو أسامة إدريس وسمع إدريس عن طلحة. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو
سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا إدريس الأودي أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله
" والذين عقدت أيمانكم " الآية قال كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحم
بالاخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فلما نزلت " ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قال
" والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن
عطاء عن عطاء عن ابن عباس قال " والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم " فكان الرجل قبل الاسلام يعاقد
الرجل ويقول وترثني وأرثك وكان الاحياء يتحالفون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل حلف في الجاهلية أو عقد أدركه
الاسلام فلا يزيده الاسلام إلا شدة ولا عقد ولا حلف في الاسلام " فنسختها هذه الآية " وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله " ثم قال وروي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والحسن وابن المسيب وأبي صالح
وسليمان بن يسار والشعبي وعكرمة والسدي والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان أنهم قالوا هم الحلفاء. وقال الإمام أحمد
حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا أبي نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعيد بن إبراهيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
حلف في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة ". وهكذا رواه مسلم ورواه النسائي من
حديث إسحق بن يوسف الأزرق عن زكريا عن سعيد بن إبراهيم عن نافع عن جبير بن مطعم عن أبيه به وقال ابن
جرير حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثنا
أبو كريب حدثنا مصعب بن المقدام عن إسرائيل عن يونس عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة عن عكرمة عن
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا حلف في الاسلام وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الاسلام إلا شدة وما
يسرني أن لي حمر النعم وإني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة " هذا لفظ ابن جرير وقال ابن جرير أيضا
حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن
عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي فما أحب أن لي حمر
النعم وأنا أنكثه " قال الزهري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يصب الاسلام حلفا إلا زاده شدة " قال " ولا حلف في
الاسلام ". وقد ألف النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن
عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري بتمامه وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أخبرني مغيرة عن أبيه عن
شعبة بن التؤام عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف قال فقال " ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا
به ولا حلف في الاسلام ". وهكذا رواه أحمد عن هشيم وحدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن داود بن أبي عبد الله عن
ابن جدعان حدثه عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا حلف في الاسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده
الاسلام إلا شدة " وحدثنا كريب حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال
لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال " يا أيها الناس ما كان من حلف في الجاهلية لم يزده
الاسلام إلا شدة ولا حلف في الاسلام " ثم رواه من حديث حسين المعلم وعبد الرحمن بن الحرث عن عمرو بن
شعيب به وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا ابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه
عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا حلف في الاسلام وأيما حلف كان في
501

الجاهلية لم يزده الاسلام إلا شدة " وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي شيبة بإسناده مثله
ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ثلاثتهم عن زكريا وهو ابن
أبي زائدة بإسناده مثله ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر به. ورواه النسائي من حديث إسحق بن يوسف
الأزرق عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه به. وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم قال
أخبرنا مغيرة عن أبيه عن شعبة بن التوأم عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال " ما كان من حلف في
الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الاسلام " وكذا رواه شعبة عن مغيرة وهو ابن مقسم عن أبيه به وقال محمد بن إسحاق
عن داود بن الحصين قال كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع مع ابن ابنها موسى بن سعد وكان يتيما في حجر أبي
بكر فقرأت عليها " والذين عاقدت أيمانكم " فقالت لا ولكن " والذين عقدت أيمانكم " قالت إنما نزلت في أبي بكر
وابنه عبد الرحمن حين أبي أن يسلم فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم حين حمل على الاسلام بالسيف أمر الله أن
يؤتيه نصيبه رواه ابن أبي حاتم وهذا قول غريب والصحيح الأول وأن هذا كان في ابتداء الاسلام يتوارثون بالحلف
ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل
ذلك وتقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة لا حلف في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده
الاسلام إلا شدة وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه
ورواية عن أحمد بن حنبل والصحيح قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ولهذا قال تعالى " ولكل
جعلنا موالي مما ترك الولدان والأقربون " أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه وهم يرثونه دون سائر الناس كما ثبت
في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لاولى رجل ذكر " أي
اقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة وقوله
" والذين عقدت أيمانكم " أي قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم أي من الميراث فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير
له وقد قيل إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضا فلا توارث به كما قال ابن أبي
حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة حدثنا إدريس الأودي أخبرني طلحة بن مصرف عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس فآتوهم نصيبهم قال من النصرة والنصيحة والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث ورواه ابن جرير عن أبي
كريب عن أبي أسامة وكذا روى عن مجاهد وأبي مالك نحو ذلك وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله
" والذين عاقدت أيمانكم " قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى " وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يقول إلا أن توصوا
لهم بوصية فهي لهم جائزة من ثلث المال وهذا هو المعروف وهكذا نص غير واحد من السلف أنها منسوخة بقوله
" وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " وقال
سعيد بن جبير فأتوهم نصيبهم أي من الميراث قال وعاقد أبو بكر مولى فورثه رواه ابن جرير وقال الزهري عن ابن
المسيب نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم يورثونهم فأنزل الله فيهم فجعل لهم نصيبا في الوصية
ورد الميراث إلى الموالى في ذي الرحم والعصبة وأبى الله أن يكون للمدعين ميراثا ممن ادعاهم وتبناهم ولكن جعل
لهم نصيبا من الوصية رواه ابن جرير وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله فأتوهم نصيبهم أي من النصرة
والنصيحة والمعونة لا أن المراد فأتوهم نصيبهم من الميراث حتى تكون الآية منسوخة ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ
بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط فهي محكمة لا منسوخة وهذا الذي قاله
فيه نظر فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف
وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمة حتى نسخ ذلك فكيف يقول إن هذه الآية
محكمة غير منسوخة والله أعلم.
502

الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات
للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا
عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34)
يقول تعالى " الرجال قوامون على النساء " أي الرجل قيم على المرأة أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها
إذا اعوجت " بما فضل الله بعضهم على بعض " أي لان الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة ولهذا كانت
النبوة مختصة بالرجال وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة " رواه البخاري من حديث
عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه وكذا منصب القضاء وغير ذلك " وبما أنفقوا من أموالهم " أي من المهور والنفقات
والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها
والافضال فناسب أن يكون قيما عليها كما قال الله تعالى " وللرجال عليهن درجة " الآية. وقال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس " الرجال قوامون على النساء " يعنى أمراء عليهن أي تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته وطاعته أن
تكون محسنة لأهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل والسدي والضحاك وقال الحسن البصري: جاءت امرأة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " القصاص " فأنزل الله عز وجل " الرجال
قوامون على النساء " الآية. فرجعت بغير قصاص ورواه ابن جريج وابن أبي حاتم من طرق عنه وكذلك أرسل هذا
الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن جرير وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال حدثنا أحمد بن علي
النسائي حدثنا محمد بن هبة الله الهاشمي حدثنا محمد بن محمد الأشعث حدثنا موسى بن إسماعيل بن
موسى بن جعفر بن محمد قال حدثني أبي عن جدي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال: أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار بامرأة له فقالت يا رسول الله إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في
وجهها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس له ذلك " فأنزل الله تعالى " الرجال قوامون على النساء " أي في الأدب فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أردت أمرا وأراد الله غيره " وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة وابن جريج والسدي أورد ذلك كله ابن
جرير وقال الشعبي في هذه الآية " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من
أموالهم " قال الصداق الذي أعطاها ألا ترى أنه لو قذفها لاعنها ولو قذفته جلدت وقوله تعالى " فالصالحات "
أي من النساء " قانتات " قال ابن عباس وغير واحد يعني مطيعات لأزواجهن " حافظات للغيب " قال السدي وغيره
أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله وقوله " بما حفظ الله " أي المحفوظ من حفظه الله قال ابن جرير حدثني
المثنى حدثنا أبو صالح حدثنا أبو معشر حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها
ومالك " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " الرجال قوامون على النساء " إلى آخرها ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن
حبيب عن أبي داود الطيالسي عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن سعيد المقبري به مثله سواء وقال الإمام أحمد
حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن أبي جعفر أن ابن قارظ أخبره أن عبد الرحمن بن عوف
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها
ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت " تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ عن عبد الرحمن بن عوف وقوله تعالى
" واللاتي تخافون نشوزهن " أي والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن والنشوز هو الارتفاع فالمرأة الناشز
هي المرتفعة على زوجها التاركة لامره المعرضة عنه المبغضة له فمتى ظهر له منها إمارات النشوز فليعظها وليخوفها
عقاب الله في عصيانه فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل
503

والافضال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه
عليها ". وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا دعا
الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح " رواه مسلم ولفظه " إذا باتت المرأة هاجرة فراش
زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح " ولهذا قال تعالى " واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن " وقوله " واهجروهن في
المضاجع " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الهجر هو أن لا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره
وكذا قال غير واحد وزاد آخرون منهم السدي والضحاك وعكرمة وابن عباس في رواية ولا يكلمها مع ذلك ولا
يحدثها وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من
غير أن يرد نكاحها وذلك عليها شديد وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم ومحمد بن كعب ومقسم وقتادة: الهجر هو أن لا
يضاجعها وقد قال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي مرة الرقاشي
عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإن خفتم نشوزهن فاهجروهن في المضاجع " قال حماد يعنى النكاح وفي السنن
والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه قال " أن تطعمها إذا طعمت
وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت " وقوله واضربوهن أي إذا لم يرتد عن
بالموعظة ولا بالهجران فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
في حجة الوداع " واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن
فاضربوهن ضربا غير مبرج ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وكذا قال ابن عباس وغير واحد ضربا غير مبرح قال
الحسن البصري يعني غير مؤثر قال الفقهاء هو أن لا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس: يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربا غير مبرح ولا تكسر لها عظما فإن
أقبلت وإلا قد أحل الله لك منها الفدية. وقال سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن
إياس بن عبد الله بن أبي ذئاب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تضربوا إماء الله " فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال ذئرت النساء على أزواجهن فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين
أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم " رواه أبو
داود والنسائي وابن ماجة وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود يعني أبا داود الطيالسي حدثنا أبو عوانة عن داود الأودي
عن عبد الرحمن السلمي عن الأشعث بن قيس قال ضفت عمر رضي الله عنه فتناول امرأته فضربها فقال يا أشعث
احفظ عني ثلاثا حفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل الرجل فيما ضرب امرأته ولا تنم إلا على وتر ونسي الثالثة وكذا
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن مهدي عن أب عوانة عن داود الأودي به وقوله تعالى
" فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا
سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها ولا هجرانها وقوله " إن الله كان عليا كبيرا " تهديد للرجال إذا بغوا على
النساء من غير سبب فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما
خبيرا (35)
ذكر الحال الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة. ثم ذكر الحال الثاني وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال
تعالى " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " وقال الفقهاء إذا وقع الشقاق بين الزوجين
أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما
بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من
504

التفريق أو التوفيق وتشوف الشارع إلى التوفيق. ولهذا قال تعالى " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله عز وجل أن يبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران
أيهما المسئ فإن كان الرجل هو المسئ حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة
قصروها على زوجها ومنعوها النفقة فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز فإن رأيا أن يجمعا فرضي
أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي رواه ابن أبي
حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن ابن عباس قال بعثت أنا ومعاوية
حكمين قال معمر بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رأيتما أن تفرقا ففرقا وقال
أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت: تصير إلى
وأنفق عليك فكان إذا دخل عليها قالت أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فقال على يسارك في النار إذا دخلت فشدت
عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك فضحك فأرسل ابن عباس ومعاوية فقال ابن عباس لأفرقن بينهما فقال
معاوية ما كنت لافرق بين شخصين من بني عبد مناف فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا وقال
عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد
منهما فئام من الناس فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما فقال علي للحكمين أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن
رأيتما أن تجمعا جمعتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله لي وعلي وقال الزوج أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لا تبرح
حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. رواه ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب
عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي مثله ورواه من وجه آخر عن ابن سيرين عن عبيدة عن علي به وقد أجمع العلماء
على أن الحكمين لهما الجمع والتفرقة حتى قال إبراهيم النخعي إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو
ثلاث فعلا وهو رواية عن مالك. وقال الحسن البصري الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة وكذا قال قتادة
وزيد بن أسلم وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ومأخذهم قوله تعالى " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ولم
يذكر التفريق وأما إذا كانا وكيلين من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان أو هما وكيلان من جهة الزوجين
على قولين والجمهور على الأول لقوله تعالى " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " فسماهما حكمين ومن شأن
الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه وهذا ظاهر الآية والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة. وأصحابه
الثاني منهما قول علي رضي الله عنه للزوج حين قال أما الفرقة فلا فقال كذبت حتى تقر بما أقرت به قالوا فلو كانا
حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج والله أعلم.
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر وأجمعوا
على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة ثم حكى عن الجمهور
أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل.
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار
الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36)
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات
فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل " أتدري ما حق الله
على العباد؟ " قال الله ورسوله أعلم قال " أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ثم أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا
يعذبهم " ثم أوصى بالاحسان إلى الوالدين فإن الله سبحانه جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود وكثيرا ما
505

يقرن الله سبحانه بين عبادته والاحسان إلى الوالدين كقوله " أن اشكر لي ولوالديك " وكقوله " وقضى ربك أن لا
تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " ثم عطف على الاحسان إليهما الاحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء
في الحديث " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم صدقة وصلة " ثم قال تعالى " واليتامى " وذلك لأنهم
فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم فأمر الله بالاحسان إليهم والحنو عليهم ثم قال " والمساكين " وهم
المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم
وتزول به ضرورتهم وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة وقوله " والجار ذي القربى والجار
الجنب " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس والجار ذي القربى يعني الذي بينك وبينه قرابة والجار الجنب الذي
ليس بينك وبينه قرابة وكذا روى عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك لزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان
وقتادة وقال أبو إسحق عن نوف البكالي في قوله " والجار ذي القربى " يعني الجار المسلم والجار الجنب " يعنى اليهودي
والنصراني رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود " والجار ذي القربى " يعني
المرأة وقال مجاهد أيضا في قوله " والجار الجنب " يعني الرفيق في السفر وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر
منها ما تيسر وبالله المستعان. " الحديث الأول " قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمر بن
محمد بن زيد أنه سمع محمدا يحدث عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى
ظننت أنه سيورثه " أخرجاه في الصحيحين من حديث محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر به.
" الحديث الثاني " قال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه ". وروى أبو داود والترمذي نحوه من حديث
سفيان ابن عيينة عن بشير أبي إسماعيل زاد الترمذي وداود بن شابور كلاهما عن مجاهد به ثم قال الترمذي حسن
غريب من هذا الوجه وقد روي عن مجاهد وعائشة وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " الحديث الثالث " قال أحمد أيضا
حدثنا عبد الله بن يزيد أخبرنا حياة أخبرنا شرحبيل بن شريك أنه سمع أبا عبد الرحمن الجيلي يحدث عن عبد الله بن
عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم
لجاره " ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد عن عبد الله بن المبارك عن حياة بن شريح به وقال حسن غريب.
" الحديث الرابع " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يشبع الرجل دون جاره " تفرد به أحمد. " الحديث الخامس " قال الإمام أحمد حدثنا
علي بن عبد الله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا محمد بن سعد الأنصاري سمعت أبا ظبية الكلاعي سمعت
المقداد بن الأسود يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " ما تقولون في الزنا " قالوا حرام حرمه الله ورسوله وهو حرام
إلى يوم القيامة فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " لان يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزنى بحليلة جاره " قال " ما
تقولون في السرقة " قالوا حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة قال " لان يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر
عليه من أن يسرق من جاره " تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود: قلت يا رسول الله أي
الذنب أعظم؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت ثم
أي؟ قال " أن تزاني حليلة جارك ". " الحديث السادس " قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا هشام عن حفصة عن
أبي العالية عن رجل من الأنصار قال: خرجت من أهلي أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه فظننت أن
لهما حاجة قال الأنصاري لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أرثي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طول القيام فلما انصرف قلت يا
رسول الله لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام قال " وقد رأيته " قلت نعم قال " أتدري من هو؟ " قلت لا قال
" ذاك جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " ثم قال " أما إنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام ". " الحديث
السابع " قال عبد بن حميد في مسنده حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا أبو بكر يعني المدني عن جابر بن عبد الله
506

قال: جاء رجل من العوالي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عليه السلام يصليان حيث يصلى على الجنائز فلما انصرف قال
الرجل يا رسول الله من هذا الرجل الذي رأيت يصلى معك؟ قال " وقد رأيته؟ " قال نعم قال " لقد رأيت خيرا
كثيرا هذا جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى رأيت أنه سيورثه " تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.
" الحديث الثامن " وقال أبو بكر البزار حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الربيع المحاربي حدثنا محمد بن إسماعيل بن
أبي فديك أخبرني عبد الرحمن بن الفضل عن عطاء الخراساني عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجيران ثلاثة جار له حق واحد وهو أدنى الجيران حقا وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق وهو
أفضل الجيران حقا. فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له له حق الجوار. وأما الجار الذي له
حقان فجار مسلم له حق الاسلام وحق الجوار. وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار وحق
الاسلام وحق الرحم " قال البزار لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الفضل إلا ابن أبي فديك. " الحديث
التاسع " قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي عمران عن طلحة بن عبد الله عن عائشة أنها
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال " إلى أقربها منك بابا " ورواه البخاري من
حديث شعبة به. " الحديث العاشر " روى الطبراني وأبو نعيم عن عبد الرحمن فزاد قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
فجعل الناس يتمسحون بوضوءه فقال " ما يحملكم على ذلك " قالوا حب الله ورسوله قال " من سره أن يحب الله ورسوله
فليصدق الحديث إذا حدث وليؤد الأمانة إذا ائتمن " " الحديث الحادي عشر " قال أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول خصمين يوم القيامة جاران " الحديث وقوله تعالى " والصاحب بالجنب " قال
الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن علي وابن مسعود قالا: هي المرأة. وقال ابن أبي حاتم وروي عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى وإبراهيم النخعي والحسن وسعيد بن جبير في إحدى الروايات نحو ذلك وقال ابن عباس
وجماعة: هو الضعيف وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة هو الرفيق في السفر وقال سعيد بن جبير هو الرفيق الصالح
وقال زيد بن أسلم هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر. وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة هو الضيف
وقال مجاهد وأبو جعفر الباقر والحسن والضحاك ومقاتل هو الذي يمر عليك مجتازا في السفر وهذا أظهر وإن كان
مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وبالله الثقة وعليه
التكلان. وقوله تعالى " وما ملكت أيمانكم " وصية بالأرقاء لان الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس فلهذا
ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول " الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم " فجعل يرددها
حتى ما يفيض بها لسانه وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا بقية حدثنا جبير بن سعد عن
خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى " ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة وما
أطعمت ولدك فهو لك صدقة وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة " ورواه
النسائي من حديث بقية وإسناده صحيح ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال لا: قال فانطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم " رواه مسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " للمملوك طعامه
وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق ". رواه مسلم أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم
يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه " أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم
" فليقعده معه فليأكل فإن كان الطعام مشفوها قليلا فليضع في يده أكله أو أكلتين " وعن أبي ذر رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فيمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما
يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم " أخرجاه. وقوله تعالى " إن الله لا يحب من كان مختالا
فخورا " أي مختالا في نفسه معجبا متكبرا فخورا على الناس يرى أنه خير منهم فهو في نفسه كبير وهو عند الله
507

حقير وعند الناس بغيض. قال مجاهد في قوله " إن الله لا يحب من كان مختالا " يعني متكبرا " فخورا " يعني بعد
ما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه وهو قليل الشكر على ذلك وقال
ابن جرير حدثني القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن كثير عن عبد الله بن واقد عن أبي رجاء الهروي قال:
لا تجد سئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا وتلا " وما ملكت أيمانكم " الآية ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا وتلا
" وبرأ بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " وروى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب مثله في المختال الفخور وقال
حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم عن الأسود بن شيبان حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: قال مطرف كان يبلغني
عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه فلقيته فقلت يا أبا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يحب ثلاثة
يبغض ثلاثة قال: أجل فلا أخالك أكذب على خليلي ثلاثا؟ قلت من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال المختال
الفخور أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ثم قرأ الآية " إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا " وحدثنا
أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب عن خالد عن أبي تميمة عن رجل من بني الهجيم قال: قلت يا
رسول الله أوصني قال: " إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة والله لا يحب المخيلة ".
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله واعتدنا للكافرين عذابا مهينا (37) والذين
ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا (38) وماذا
عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما زرقهم الله وكان الله بهم عليما (39)
يقول تعالى ذاما الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين والاحسان إلى الأقارب واليتامى
والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم من الأرقاء ولا
يدفعون حق الله فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأي داء أدوأ من البخل ". وقال " إياكم
والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا ".
وقوله تعالى " ويكتمون ما آتاهم الله من فضله " فالبخيل جحود لنعمة الله ولا تظهر عليه ولا تبين لا في مأكله ولا في
ملبسه ولا في إعطائه وبذله كما قال تعالى " إن الانسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد " أي بحاله وشمائله
" وإنه لحب الخير لشديد " وقال ههنا ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ولهذا توعدهم بقوله " وأعتدنا للكافرين عذابا
مهينا " والكفر هو الستر والتغطية فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه. وفي
الحديث " إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه " وفي الدعاء النبوي " واجعلنا شاكرين لنعمتك
مثنين بها عليك قابليها وأتممها علينا " وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم
من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي
محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس وقاله مجاهد وغير واحد. ولا شك أن الآية محتملة لذلك والظاهر
أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الانفاق على الأقارب
والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها وهي قوله " الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس " فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم
البخلاء ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ولا يريدون بذلك وجه الله وفي
حديث " الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم العالم والغازي والمنفق والمراؤون بأعمالهم يقول صاحب
المال ما تركت من شئ تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك فيقول الله كذبت إنما أردت أن يقال جواد فقد قيل "
أي فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم " إن أباك
508

أراد أمرا فبلغه " وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه؟ فقال: لا:
إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين " ولهذا قال تعالى " ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "
الآية أي إنما حملهم صنيعهم هذا القبيح وعدو لهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان فإنه سول لهم وأملى لهم
وقارنهم فحسن لهم القبائح ولهذا قال تعالى " ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا " ولهذا قال الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه * فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى " وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله " الآية. أي وأي شئ يضرهم لو آمنوا
بالله وسلكوا الطريق الحميدة وعدلوا عن الرياء إلى الاخلاص والايمان بالله رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن
يحسن عمله وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها وقوله " وكان الله بهم عليما " أي وهو عليم
بنياتهم الصالحة والفاسدة وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعلم صالح يرضى به عنه
وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي الذي من طرد عن بابه فقد خاب وخسر في الدنيا والآخرة عياذا
بالله من ذلك.
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما (40) فكيف إذا جئنا من كل أمة
بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا (41) يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون
الله حديثا (42)
يقول تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن
كانت حسنة كما قال تعالى " ونضع الموازين القسط " الآية وقال تعالى مخبرا عن لقمان أنه قال " يا بني إنها إن تك
مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله " الآية. وقال تعالى " يومئذ يصدر
الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وفي الصحيحين من حديث
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل وفيه " فيقول
الله عز وجل ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار " وفي لفظ " أدني أدنى أدنى
مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار " فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقول أبو سعيد اقرءوا إن شئتم " إن الله لا يظلم مثقال
ذرة " الآية. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عيسى بن يونس عن هارون بن عنترة عن عبد الله بن
السائب عن زاذان قال: قال عبد الله بن مسعود يؤتى بالعبد أو الأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين
والآخرين هذا فلان بن فلان من كان له حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو
أخيها أو زوجها ثم قرأ " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون " فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس
شيئا فينصب للناس فيقول ائتوا إلى الناس حقوقهم فيقول يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم فيقول خذوا من
أعماله الصالحة فأعطوها كل ذي حق حقه بقدر مظلمته فإن كان وليا لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله
بها الجنة ثم قرأ علينا " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " وإن كان عبدا شقيا قال الملك رب فنيت
حسناته وبقي طالبون كثير فيقول خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكوا له صكا إلى النار ورواه ابن جرير
من وجه آخر عن زاذان به نحوه ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
أبو نعيم حدثنا فضيل يعني ابن مرزوق عن عطية العوفي حدثني عبد الله بن عمر قال نزلت هذه الآية في الاعراب
" من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " قال رجل فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن قال ما هو أفضل من ذلك " إن الله لا
509

يظلم مثقال ذرة إن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " وحدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن
بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله " وإن تك حسنة يضاعفها " فأما
المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبدا وقد يستدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال: يا رسول الله
إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشئ؟ قال: " نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في
الدرك الأسفل من النار ". وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي في
مسنده حدثنا عمران حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق
في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة " وقال أبو هريرة
وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك في قوله " ويؤت من لدنه أجرا عظيما " يعني الجنة نسأل الله
الجنة. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة عن علي بن زيد عن أبي عثمان قال
بلغني عن أبي هريرة أنه قال: بلغني أن الله تعالى يعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة قال فقضي أنى
انطلقت حاجا أو معتمرا فلقيته فقلت بلغني عنك حديث أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يجزي العبد
بالحسنة ألف ألف حسنة " فقلت ويحكم ما أحد أكثر مني مجالسة لأبي هريرة وما سمعت هذا الحديث منه فتحملت
أريد أن ألحقه فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج في طلب هذا الحديث فلقيته فقلت يا أبا هريرة ما حديث
سمعت أهل البصرة يأثرونه عنك قال ما هو؟ قلت: زعموا إنك تقول: إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف حسنة قال يا
أبا عثمان وما تعجب من ذا والله يقول " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " ويقول " وما
متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " والذي نفسي بيده لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يضاعف الحسنة ألفي
ألف حسنة " قال وهذا حديث غريب وعلي بن زيد بن جدعان عنده مناكير ورواه أحمد أيضا فقال حدثنا يزيد، حدثنا
مبارك بن فضالة عن علي بن يزيد عن أبي عثمان النهدي قال أتيت أبا هريرة فقلت له بلغني أنك تقول إن الحسنة
تضاعف ألف ألف حسنة قال وما أعجبك من ذلك فوالله لقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله ليضاعف الحسنة ألفي
ألف حسنة ". ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال حدثنا أبو خلاد وسليمان بن خلاد المؤدب حدثنا محمد
الرفاعي عن زياد بن الجصاص عن أبي عثمان النهدي قال لم يكن أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة فقدم قبلي حاجا
وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يضاعف الحسنة ألف ألف
حسنة فقلت ويحكم ما كان أحد أكثر مجالسة مني لأبي هريرة وما سمعت منه هذا الحديث فهممت أن ألحقه
فوجدته قد انطلق حاجا فانطلقت إلى الحج أن ألقاه في هذا - الحديث - ورواه ابن أبي حاتم من طريق أخرى فقال
حدثنا بشر بن مسلم حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الذهبي عن زياد الجصاص عن أبي عثمان قال
قلت يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يجزي الحسنة ألف
ألف حسنة " فقال أبو هريرة والله بلى سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة " ثم تلا هذه
الآية " وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " وقوله تعالى " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على
هؤلاء شهيدا " يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الامر والحال يوم القيامة حين
يجئ من كل أمة بشهيد يعني الأنبياء عليهم السلام كما. قال تعالى " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع
الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " الآية. وقال تعالى " ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم " الآية. وقال
البخاري حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرأ علي " فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل قال " نعم إني أحب أن أسمعه من غيري "
فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فقال
" حسبك الآن " فإذا عيناه تذرفان. ورواه هو ومسلم أيضا من حديث الأعمش به وقد روى من طرق متعددة عن ابن
مسعود فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان وأبي رزين عنه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو بكر بن أبي
510

الدنيا حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري حدثنا فضيل بن سليمان حدثنا يونس بن محمد بن فضالة الأنصاري
عن أبيه قال وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظفر فجلس على الصخرة التي في بني ظفر
اليوم ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية " فكيف إذا
جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ضرب لحياه وجنباه فقال يا رب هذا
شهدت على من أنا بين أظهرهم فكيف بمن لم أره. وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبد الله الزهري حدثنا سفيان
عن المسعودي عن جعفر بن عمرو بن حرب عن أبيه عن عبد الله هو ابن مسعود في هذه الآية قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شهيد عليهم ما دمت فيهم فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ". وأما ما ذكره أبو عبد الله القرطبي
في التذكرة حيث قال: باب ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته قال أنا ابن المبارك أنا رجل من الأنصار عن
المنهال بن عمرو أنه سمع سعيد بن المسيب يقول ليس من يوم إلا يعرض فيه على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غدوة وعشية
فيعرفهم بأسمائهم وأعمالهم فلذلك يشهد عليهم يقول الله تعالى " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على
هؤلاء شهيدا " فإنه أثر وفيه انقطاع فإن فيه رجلا مبهما لم يسم وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه وقد قبله
القرطبي فقال بعد إيراده قد تقدم أن الأعمال تعرض على الله كل يوم اثنين وخميس وعلى الأنبياء والآباء والأمهات
يوم الجمعة قال ولا تعارض فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ويوم الجمعة مع الأنبياء عليه وعليهم
أفضل الصلاة والسلام. وقوله تعالى " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله
حديثا " أي انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ كقوله " يوم
ينظر المرء ما قدمت يداه " الآية. وقوله " ولا يكتمون الله حديثا " إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا
يكتمون منه شيئا. وقال ابن جرير حدثنا حاكم حدثنا عمرو عن مطرف عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير
قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له سمعت الله عز وجل يقول يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا
" والله ربنا ما كنا مشركين " وقال في الآية الأخرى " ولا يكتمون الله حديثا " فقال ابن العباس أما قوله " والله ربنا ما
كنا مشركين " فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الاسلام قالوا تعالوا فلنجحد فقالوا " والله ربنا كنا
مشركين " فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم " ولا يكتمون الله حديثا " وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن رجل عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياء تختلف علي في القرآن
قال ما هو أشك في القرآن قال ليس هو بالشك ولكن اختلاف قال فهات ما اختلف عليك من ذلك قال أسمع
الله يقول " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " وقال " ولا يكتمون الله حديثا " فقد كتموا. فقال
ابن عباس أما قوله " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر
إلا لأهل الاسلام ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يغفر شركا جحد المشركون فقالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " رجاء أن
يغفر لهم فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك " يود الذين كفروا وعصوا
الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا " وقال جويبر عن الضحاك أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس
فقال يا ابن عباس قول الله تعالى " يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله
حديثا " وقوله " والله ربنا ما كنا مشركين " فقال له ابن عباس إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألقى على
ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد فيقول
المشركون إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده فيقولون تعالوا نجحد فيسألهم فيقولون " والله ربنا ما كنا
مشركين " قال فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم وتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك
يتمنون لو أن الأرض سويت بهم " ولا يكتمون الله حديثا " رواه ابن جرير.
يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا
511

وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا (43)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يدري معه المصلي ما يقول وعن قربان
محالها التي هي المساجد للجنب إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مكث وقد كان هذا قبل تحريم
الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية. فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر فقال " اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه فقال " اللهم
بين لنا في الخمر بيانا شافيا " فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات حتى نزلت " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " إلى قوله تعالى " فهل أنتم منتهون "
فقال عمر: انتهينا انتهينا. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحق عن عمر بن شرحبيل عن عمر بن الخطاب في قصة
تحريم الخمر فذكر الحديث وفيه: فنزلت الآية التي في النساء " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
حتى تعلموا ما تقولون " فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي أن لا يقربن الصلاة سكران لفظ أبي
داود. وذكر ابن أبي شيبة في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة
أخبرني سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات صنع رجل من
الأنصار طعاما فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار فأكلنا وشربنا حتى سكرنا ثم افتخرنا فرفع رجل لحي بعير
فغرز بها أنف سعد فكان سعد مغروز الانف وذلك قبل تحريم الخمر فنزلت " يا أيها الذين أمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى " الآية. والحديث بطوله عند مسلم من رواية شعبة ورواه أهل السنن إلا أبن ماجة من طرق عن سماك
به " سبب آخر " قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدشتكي حدثنا أبو جعفر عن
عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا
من الخمر فأخذت الخمر منا وحضرت الصلاة فقدموا فلانا قال فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما
تعبدون فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " هكذا رواه ابن أبي حاتم
وكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عبد الرحمن الدشتكي به وقال حسن صحيح. وقد رواه ابن جرير عن محمد بن
بشار عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو
وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ " قل يا أيها الكافرون " فخلط فيها فنزلت " لا
تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " وهكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث الثوري به ورواه ابن جرير أيضا عن ابن
حميد عن جرير عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: كان علي في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت
عبد الرحمن بن عوف فطعموا فأتاهم بخمر فشربوا منها وذلك قبل أن يحرم الخمر فحضرت الصلاة فقدموا عليا فقرأ
بهم " قل يا أيها الكافرون " فلم يقرأها كما ينبغي فأنزل الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى " ثم قال حدثني المثنى حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن بن
حبيب وهو أبو عبد الرحمن السلمي أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فصلى بهم المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكم
دينكم ولي دين فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون " وقال العوفي
عن ابن عباس في الآية. رواه ابن جرير قال: وكذا قال أبو رزين ومجاهد وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة:
كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر. وقال الضحاك في الآية لم يعن بها سكر الخمر
وإنما عنى بها سكر النوم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ثم قال ابن جرير والصواب أن المراد سكر الشراب قال ولم
512

يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لان ذاك في حكم المجنون وإنما خوطب بالنهي الثمل الذي يفهم
التكليف وهذا حاصل ما قاله وقد ذكره غير واحد من الأصوليين وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون
السكران الذي لا يدري ما يقال له فإن الفهم شرط التكليف وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السكر
بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في
أوقاتها دائما والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم
مسلمون " وهو الامر لهم بالتأهب للموت على الاسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك وقوله " حتى تعلموا ما
تقولون " هذا أحسن ما يقال في حد السكران إنه الذي لا يدري ما يقول فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم
تدبره وخشوعه فيها وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول " انفرد بإخراجه البخاري دون
مسلم فرواه هو والنسائي من حديث أيوب وفي بعض ألفاظ الحديث " فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه " وقوله " ولا
جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا " قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن الدشتكي أخبرنا
أبو جعفر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس في قوله " ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا " قال لا
تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل قال تمر به مرا ولا تجلس ثم قال وروى عن عبد الله بن مسعود وأنس وأبي
عبيدة وسعيد بن المسيب والضحاك وعطاء ومجاهد ومسروق وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم وأبي مالك وعمرو بن
دينار والحكم بن عتبة وعكرمة والحسن البصري ويحيى بن سعيد الأنصاري وابن شهاب وقتادة نحو ذلك وقال ابن جرير
حدثنا المثنى حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن قول الله عز وجل " ولا جنبا إلا عابري
سبيل " إن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم فيردون الماء ولا يجدون
ممرا إلا في المسجد فأنزل الله " ولا جنبا إلا عابري سبيل " ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حبيب رحمه الله ما ثبت في
صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر " وهذا قاله في آخر
حياته صلى الله عليه وسلم علما منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الامر بعده ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة
فيما يصلح للمسلمين فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ومن روى إلا باب علي كما وقع
في بعض السنن فهو خطأ والصواب ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على
الجنب المكث في المسجد ويجوز له المرور وكذا الحائض والنفساء أيضا في معناه إلا أن بعضهم قال يحرم
مرورهما لاحتمال التلويث ومنهم من قال إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا
فلا. وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ناوليني الخمرة من
المسجد " فقلت إني حائض فقال " إن حيضتك ليست في يدك " وله عن أبي هريرة مثله وفيه دلالة على جواز مرور
الحائض في المسجد والنفساء في معناها والله أعلم. وروى أبو داود من حديث أفلت بن خليفة العامري عن جسرة
بنت دجاجة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب " قال
أبو مسلم الخطابي: ضعف هذا الحديث جماعة وقالوا أفلت مجهول لكن رواه ابن ماجة من حديث أبي الخطاب
الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم به قال أبو زرعة الرازي يقول جسرة عن أم
سلمة والصحيح جسرة عن عائشة فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي
سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي لا يحل لاحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك " فإنه حديث
ضعيف لا يثبت فإن سالما هذا متروك وشيخه عطية ضعيف والله أعلم. " حديث آخر " في معنى الآية قال ابن أبي
حاتم حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا عبد الله بن موسى أخبرني إسحق بن أبي ليلى عن المنهال عن زر بن حبيش
عن علي " ولا جنبا إلا عابري سبيل " قال لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي
حتى يجد الماء ثم رواه من وجه وآخر عن المنهال بن عمرو عن زر عن علي بن أبي طالب فذكره قال وروى عن
513

ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير والضحاك نحو ذلك. وقد روى ابن جرير من حديث وكيع عن ابن
أبي ليلى عن عباد بن عبد الله أو عن زر بن حبيش عن علي فذكره ورواه من طريق العوفي وأبي مجلز عن ابن
عباس فذكره ورواه عن سعيد بن جبير وعن مجاهد والحسن بن مسلم والحكم بن عتبة وزيد بن أسلم وابنه
عبد الرحمن مثل ذلك وروى عن طريق ابن جرير عن عبد الله بن كثير قال كنا نسمع أنه في السفر. ويستشهد لهذا
القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن من حديث أبي قلابة عن عمر بن نجدان عن أبي ذر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن
ذلك خير لك " ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين والأولى قول من قال " ولا جنبا إلا عابري سبيل " أي إلا
مجتازي طريق فيه وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله " وإن كنتم مرضى أو على سفر "
إلى آخره فكان معلوما بذلك أن قوله " ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا " لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة
ذكره في قوله " وإن كنتم مرضى أو على سفر " معنى مفهوم وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك فإذا كان ذلك كذلك
فتأويل الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا تقربوها "
أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل قال والعابر السبيل المجتاز مرا وقطعا يقال منه عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره
عبرا وعبورا ومنه يقال عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ومنه قيل للناقة القوية على الاسفار هي عبر الاسفار لقوتها على
قطع الاسفار وهذا الذي نصره هو قول الجمهور وهو الظاهر من الآية وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة
ناقصة تناقض مقصودها وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا والله
أعلم. وقوله " حتى تغتسلوا " دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي أنه يحرم على الجنب
المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء أو لم يقدر على استعماله بطريقة وذهب الإمام أحمد إلى أنه
متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد لما روى هو وسعيد بن منصور في سننه بسند صحيح: أن الصحابة
كانوا يفعلون ذلك. قال سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد هو الدراوردي عن هشام بن سعد عن
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا
توضأوا وضوء الصلاة. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم والله أعلم.
وقوله " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا
طيبا " أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينه أو تطويل البرء ومن
العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو غسان مالك بن
إسماعيل حدثنا قيس عن حفص عن مجاهد في قوله " وإن كنتم مرضى " قال نزلت في رجل من الأنصار كان
مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الآية هذا
مرسل والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير وقوله " أو جاء أحد منكم من الغائط " الغائط هو المكان
المطمئن من الأرض كنى بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر وأما قوله " أو لامستم النساء " فقرئ لمستم
ولامستم واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين " أحدهما " أن ذلك كناية عن الجماع لقوله " وإن
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد
الأشج حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " أو لمستم النساء " قال:
الجماع. وروى عن علي وأبي بن كعب ومجاهد وطاوس والحسن وعبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة
ومقاتل بن حيان نحو ذلك وقال ابن جرير حدثني حميد بن مسعدة وحدثنا يزيد بن زريع حدثنا شعبة عن أبي بشر
عن سعيد بن جبير قال ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي ليس الجماع وقال ناس من العرب اللمس الجماع قال
514

فلقيت ابن عباس فقلت له إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس فقالت الموالي ليس بالجماع وقالت العرب
الجماع قال: فمن أي الفريقين كنت؟ قلت كنت من الموالي قال غلب فريق الموالي. إن اللمس والمس
والمباشرة الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. ثم رواه عن ابن بشار عن غندر عن شعبة به نحوه ثم رواه من
غير وجه عن سعيد بن جبير نحوه ومثله قال حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال أبو بشر أخبرنا سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: اللمس والمس والمباشرة الجماع ولكن الله يكنى بما شاء. حدثنا عبد الحميد بن بيان أنبأنا إسحق
الأزرق عن سفيان عن عاصم الأحول عن بكر بن عبد الله عن ابن عباس قال: الملامسة الجماع ولكن الله كريم
يكنى بما يشاء. وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن
أبي حاتم عنهم ثم قال ابن جرير وقال آخرون عنى الله تعالى بذلك كل من لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الانسان
وأوجب الوضوء على كل من مس بشئ من جسده شيئا من جسدها مفضيا إليه ثم قال حدثنا ابن بشار حدثنا
عبد الرحمن حدثنا سفيان عن مخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال: اللمس ما دون الجماع وقد روى من
طرق متعددة عن ابن مسعود مثله وروى من حديث الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال:
القبلة من المس وفيها الوضوء. وروى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن مسعود قال يتوضأ الرجل من المباشرة ومن اللمس
بيده ومن القبلة وكان يقول في هذه الآية " أو لامستم النساء " هو الغمز وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب
أخبرني عبد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ويرى فيها الوضوء ويقول هي من اللماس.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة عن مخارق عن طارق عن عبد الله قال: اللمس ما دون الجماع
ثم قال ابن أبي حاتم وروي عن ابن عمر وعبيدة وأبي عثمان النهدي وأبي عبيدة يعني ابن عبد الله بن مسعود وعامر
الشعبي وثابت بن الحجاج وإبراهيم النخعي وزيد بن أسلم نحو ذلك " قلت " وروى مالك عن الزهري عن سالم بن
عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول: قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة فمن قبل امرأته أو جسها بيده
فعليه الوضوء. وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب نحو ذلك ولكن روينا عنه من
وجه آخر أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ فالرواية عنه مختلفة فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على
الاستحباب والله أعلم. والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن
حنبل قال ناصروه قد قرئ في هذه الآية لامستم ولمستم واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى " ولو
نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم " أي جسوه وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا يعرض له بالرجوع عن الاقرار
" لعلك قبلت أو لمست ". وفي الحديث الصحيح " واليد زناها اللمس " وقالت عائشة رضي الله عنها: قل يوم إلا
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة وهو
يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا: ويطلق في اللغة على الجس باليد كما يطلق على الجماع قال
الشاعر:
ولمست كفى كفه أطلب الغنى
واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه أحمد حدثنا عبد الله بن مهدي وأبو سعيد قالا: حدثنا زائدة عن
عبد الملك بن عمير قال أبو سعيد: حدثنا عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال:
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا
إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها. قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل "
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " توضأ ثم صل " قال معاذ: فقلت يا رسول الله أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ فقال " بل
للمؤمنين عامة " ورواه الترمذي من حديث زائدة به وقال ليس بمتصل. ورواه النسائي من حديث شعبة عن عبد
الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها. وأجيب
515

بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ فإنه لم يلقه ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة المكتوبة كما تقدم في
حديث الصديق " ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلى ركعتين إلا غفر الله له " الحديث وهو مذكور في سورة
آل عمران عند قوله " ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " الآية ثم قال ابن جرير وأولى القولين في ذلك بالصواب قول
من قال عني الله بقوله " أو لامستم النساء " الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ثم قال: حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال: أخبرنا أبو بكر بن
عياش عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي
ولا يتوضأ. ثم قال: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن الأعمش عن حبيب عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ قلت: من هي إلا أنت فضحكت. وهكذا
رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن جماعة من مشايخهم عن وكيع به ثم قال أبو داود: روي عن الثوري أنه
قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني وقال يحيى القطان لرجل أحك عني أن هذا الحديث شبه لا شئ وقال
الترمذي: سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال لا شك حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة وقد وقع في
رواية ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت
عن عروة بن الزبير عن عائشة وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ويشهد له قوله من هي إلا أنت فضحكت لكن روى أبو داود عن إبراهيم بن
مخلد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي روق الهمداني الطالقاني عن عبد الرحمن بن مغراء عن الأعمش قال: حدثنا
أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة فذكره والله أعلم. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا أبو زيد عن عمر بن أنيس
عن هشام بن عباد حدثنا مسدد بن علي عن ليث عن عطاء عن عائشة وعن أبي روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينال منى القبلة بعد الوضوء. وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان
عن أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ رواه أبو داود
والنسائي من حديث يحيى القطان زاد أبو داود وابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري به. ثم قال أبو داود والنسائي لم
يسمع إبراهيم التيمي من عائشة ثم قال ابن جرير أيضا. حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي حدثنا يزيد عن
سنان عن عبد الرحمن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو
صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءا. وقال أيضا: حدثنا أبو كريب حدثنا حفص بن غياث عن حجاج عن عمرو بن
شعيب عن زينب السهمية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل ثم يصلى ولا يتوضأ. وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن
فضيل عن حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم به. وقوله تعالى " فإن لم
تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب
الماء فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع كما هو مقرر في موضعه كما
في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع
القوم فقال " يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ألست برجل مسلم؟ " قال: بلى يا رسول الله ولكن أصابتني جنابة
ولا ماء. قال: " عليك بالصعيد فإنه يكفيك " ولهذا قال تعالى " فإن لم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " فالتيمم
في اللغة هو القصد تقول العرب تيممك الله بحفظه أي قصدك ومنه قول امرئ القيس شعرا:
ولما رأت أن المنية وردها * وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج * يفئ عليها الفئ عرمضها طامي
والصعيد قيل هو كل ما صعد على وجه الأرض فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والحجر والنبات وهو قول مالك.
وقيل: ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل: هو التراب فقط وهو
516

قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى " فتصبح صعيدا زلقا " أي ترابا أملس طيبا وبما
ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " فضلنا على الناس
بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد
الماء " وفي لفظ " وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء " قالوا: فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان
فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه والطيب ههنا قيل الحلال وقيل الذي ليس بنجس كما رواه الإمام أحمد وأهل
السنن إلا ابن ماجة من حديث أبي قلابة عن عمرو بن نجدان عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " الصعيد الطيب طهور المسلم إن لم يجد الماء عشر حجج فإذا وجده فليمسه بشرته فإن ذلك خير له " وقال
الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان أيضا ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة وصححه الحافظ
أبو الحسن القطان وقال ابن عباس: أطيب الصعيد تراب الحرث رواه ابن أبي حاتم ورفعه ابن مردويه في تفسيره
وقوله " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " التيمم بدل عن الوضوء في التطهير به لا أنه بدل منه في جميع أعضائه بل
يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالاجماع ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال أحدها وهو مذهب
الشافعي في الجديد أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين لان لفظ اليدين يصدق اطلاقها على
ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة
" فاقطعوا أيديهما " قالوا: وحمل ما أطلق ههنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية وذكر بعضهم ما
رواه الدارقطني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى
المرفقين " ولكن لا يصح لان في إسناده ضعفا لا يثبت الحديث به وروى أبو داود عن ابن عمر في حديث أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على الحائط ومسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ولكن في إسناده
محمد بن ثابت العبدي وقد ضعفه بعض الحفاظ ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر قال البخاري وأبو
زرعة وابن عدي هو الصحيح وهو الصواب وقال البيهقي: رفع هذا الحديث منكر. واحتج الشافعي بما رواه عن
إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية عن الأعرج عن ابن الصمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم
فمسح وجهه وذراعيه. وقال ابن جرير: حدثني موسى بن سهل الرملي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا خارجة بن
مصعب عن عبد الله بن عطاء عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي جهيم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول فسلمت
عليه فلم يرد علي السلام حتى فرغ ثم قام إلى الحائط فضرب بيديه عليه فمسح بهما وجهه ثم ضرب بيديه على
الحائط فمسح بهما يده إلى المرفقين ثم رد علي السلام. والقول الثاني أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين
بضربتين وهو قول الشافعي في القديم. والثالث أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة. وقال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن ذر عن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه أن رجلا أتى عمر فقال:
إني أجنبت فلم أجد ماء فقال عمر لا تصل قال عمار أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد
ماء فأما أنت فلم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال " إنما كان
يكفيك " وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه. قال أحمد أيضا: حدثنا عفان حدثنا
أبان حدثنا قتادة عن عروة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه عن عمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " في التيمم
ضربة للوجه والكفين ". " طريق أخرى " قال أحمد: حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد عن سليمان الأعمش حدثنا
شقيق قال: كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو يعلى لعبد الله: لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل؟ فقال
عبد الله ألا تذكر ما قال عمار لعمر: ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب فلما
رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته فضحك رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وقال " إنما كان يكفيك أن تقول هكذا " وضرب بكفيه إلى
الأرض ثم مسح كفيه جميعا ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة فقال عبد الله لا جرم ما رأيت عمر قنع
بذلك قال: فقال له أبو موسى فكيف بهذه الآية في سورة النساء " فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا " قال: فما
517

دري عبد الله ما يقول وقال: لو رخصنا لهم في التيمم لاوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم وقال في
المائدة " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " فقد استدل بذلك لقول الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون
بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شئ كما روى الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة أنه مر
بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه فضرب بيده عليه فمسح بها
وجهه وذراعيه. وقوله " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " أي في الدين الذي شرعه لكم " ولكن يريد
ليطهركم " فلهذا أباح التيمم إذا لم يجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد والتيمم نعمة عليكم لعلكم تشكرون
ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر
وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ: فعنده مسجده وطهوره -
وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة "
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم " فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا
الأرض مسجدا وتربتها طهورا إذا لم نجد الماء " وقال تعالى في هذه الآية الكريم " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن
الله كان عفوا غفورا " أي ومن عفوه عنكم وغفرانه لكم أن شرع لكم التيمم وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء
توسعة عليكم ورخصة لكم وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى
يصحو المكلف ويعقل ما يقول أو جنابة حتى يغتسل أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء
فإن الله عز وجل قد أرخص في التيمم والحالة هذه رحمة بعباده ورأفة بهم وتوسعة عليهم ولله الحمد والمنة.
" ذكر سبب نزول مشروعية التيمم " وإنما ذكرنا ذلك ههنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية
المائدة وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والخمر إنما حرم بعد أحد بيسير في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني
النضير وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها فناسب أن يذكر السبب هنا وبالله الثقة. قال أحمد:
حدثنا ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله صلى اله عليه وسلم رجالا في
طلبها فوجدوها فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوها بغير وضوء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية
التيمم فقال أسيد بن الحضير لعائشة: جزاك الله خيرا فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه
خيرا.
" طريق أخرى " قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يوسف أنبأنا مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة
قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا
ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم
واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت
عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال: ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي ولا يمنعني من التحرك إلا مكان
رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء حين أصبح فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال
أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
وقد رواه البخاري أيضا عن قتيبة عن إسماعيل ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح قال ابن شهاب حدثني عبيد الله بن عبد الله عن
ابن عباس عن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة فانقطع عقد لها من جزع ظفار
فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد
518

الطيب فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئا
فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الآباط. وقد روى ابن جرير. حدثنا أبو كريب
بإسناده إلى ابن أبي اليقظان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلك عقد لعائشة فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر
فتغيظ أبو بكر على عائشة فنزلت عليه رخصة المسح بالصعيد الطيب فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة نزلت
فيك رخصة فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث
حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا العباس بن أبي سرية حدثني الهيثم عن زريق المالكي من بني مالك بن كعب بن سعد
وعاش مائة وسبعة عشر سنة عن أبيه عن الأسلع بن شريك قال: كنت أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة
في ليلة باردة وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب وخشيت أن
أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء
واغتسلت ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال " يا أسلع مالي أرى رحلتك قد تغيرت؟ " قلت يا رسول الله لم
أرحلها رحلها رجل من الأنصار قال " ولم؟ " قلت: إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي فأمرته أن
يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به. فأنزل الله تعالى " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى
تعلموا ما تقولون " إلى قوله " إن الله كان عفوا غفورا " وقد روي من وجه آخر عنه.
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل (44) والله أعلم بأعدائكم
وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا (45) من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير
مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم
الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا (46)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل
الله على رسوله ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام
الدنيا " ويريدون أن تضلوا السبيل " أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من
الهدى والعلم النافع " والله أعلم بأعدائكم " أي هو أعلم بهم ويحذركم منهم " وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا "
أي كفى به وليا لمن لجأ إليه ونصيرا لمن أستنصره. ثم قال تعالى " من الذين هادوا " من في هذا لبيان الجنس
كقوله " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " وقوله " يحرفون الكلم عن مواضعه " أي يتأولونه على غير تأويله
ويفسرونه بغير مراد الله عز وجل قصدا منهم وافتراء " ويقولون سمعنا " أي سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه
هكذا فسره مجاهد وابن زيد وهو المراد وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم
يعلمون ما عليهم في ذلك من الاثم والعقوبة وقولهم " واسمع غير مسمع " أي اسمع ما نقول لا سمعت رواه
الضحاك عن ابن عباس وقال مجاهد والحسن: واسمع غير مقبول منك قال ابن جرير: والأول أصح وهو كما قال
وهذا استهزاء منهم واستهتار عليهم لعنة الله " وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين " أي يوهمون أنهم يقولون راعنا
سمعك بقولهم راعنا وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله " يا أيها الذين آمنوا لا
تقولوا راعنا وقولوا انظرنا " ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه ليا بألسنتهم
وطعنا في الدين يعني بسبهم النبي صلى الله عله وسلم ثم قال تعالى " ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم
519

وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا " أي قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الايمان
شئ نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى " فقليلا ما يؤمنون " والمقصود أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.
يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم
كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن
يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما (48)
يقول تعالى آمرا أهل الكتاب بالايمان بما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم الذي فيه تصديق الاخبار
التي بأيديهم من البشارات ومتهددا لهم إن لم يفعلوا بقوله " من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " قال
بعضهم: معناه من قبل أن نطمس وجوها فطمسها هو ردها إلى الادبار وجعل أبصارهم من ورائهم ويحتمل أن يكون
المراد من قبل أن نطمس وجوها فلا نبقي لها سمعا ولا بصرا ولا أنفا ومع ذلك نردها إلى ناحية الادبار. وقال العوفي
عن ابن عباس في الآية وهي من قبل أي نطمس وجوها وطمسها أن تعمى فنردها على أدبارها يقول نجعل وجوههم
من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ونجعل لأحدهم عينين من قفاه وكذا قال قتادة وعطية العوفي وهذا أبلغ في
العقوبة والنكال وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى
سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم وهذا كما قال بعضهم في قوله " إنا جعلنا في أعناقهم أغلال
فهي إلى الأذقان فهم مقمحون * وجعلنا من بين أيديهم سدا " الآية أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن
الهدى. قال مجاهد: من قبل أن نطمس وجوها يقول عن صراط الحق فنردها على أدبارها أي في الضلال قال
ابن أبي حاتم: وروى عن ابن عباس والحسن نحو هذا قال السدى: فنردها على أدبارها فنمنعها عن الحق قال
نرجعها كفارا ونردهم قردة قال أبو زيد فردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز. وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم
حين سمع هذه الآية. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند
إبراهيم إسلام كعب فقال أسلم كعب زمان عمر أقبل وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال
يا أبا كعب أسلم فقال: ألستم تقولون في كتابكم " مثل الذين حملوا التوراة إلى أسفارا " وأنا قد حملت
التوراة. قال فتركه عمر ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلا من أهلها حزينا وهو يقول " يا أيها الذين أوتوا
الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " الآية قال كعب يا رب
أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية ثم رجع فأتى أهله في اليمن ثم جاء بهم مسلمين وكذا رواه ابن أبي حاتم
بلفظ آخر من وجه آخر فقال: حدثنا أبي حدثنا ابن نفيل حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن حليس عن أبي إدريس
عائذ الله الخولاني قال: كان أبو مسلم الجليلي معهم كعب وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبعثه إليه
ينظر أهو هو قال كعب: فركبت حتى أتيت المدينة فإذا تال يقرأ القرآن يقول " يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما
نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها " فبادرت الماء فاغتسلت وإني لامس وجهي
مخافة أن أطمس ثم أسلمت وقوله " أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت " يعني الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة
على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف وقوله " وكان أمر الله مفعولا " أي
إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع. ثم أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون
ذلك أي من الذنوب لمن يشاء أي من عباده وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر. " الحديث
الأول " قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون حدثنا صدقة بن موسى حدثنا أبو عمران الجوني عن يزيد بن أبي
موسى عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدواوين من عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ الله به شيئا وديوان لا يترك الله
520

منه شيئا وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله " قال الله عز وجل " إن الله لا يغفر أن
يشرك به " الآية وقال " إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم
العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء وأما الديوان الذي لا
يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة " تفرد به أحمد. " الحديث الثاني " قال الحافظ أبو
بكر البزار في مسنده: حدثنا أحمد بن مالك حدثنا زائدة بن أبي الزناد النمري عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" الظلم ثلاثة فظلم لا يغفره الله وظلم يغفره الله وظلم لا يترك الله منه شيئا: فأما الظلم الذي لا يغفره الله
فالشرك وقال " إن الشرك لظلم عظيم " وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وأما
الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضا حتى يدين لبعضهم من بعض ". " الحديث الثالث " قال الإمام أحمد
: حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون عن أبي إدريس قال: سمعت معاوية يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا "
ورواه النسائي عن محمد بن مثنى عن صفوان بن عيسى به.
" الحديث الرابع " قال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر حدثنا ابن تميم أن أبا ذر
حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يقول: يا عبدي ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان منك يا عبدي
إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة " تفرد به أحمد من هذا الوجه.
" الحديث الخامس " قال الإمام أحمد. حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا حسين بن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه
أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا
دخل الجنة " قلت: وإن زنى وإن سرق قال " وإن زنى وإن سرق " قلت وإن زنى وإن سرق قال " وإن زنى وإن
سرق " ثلاثا. ثم قال في الرابعة " على رغم أنف أبي ذر " قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول: وإن رغم أنف
أبي ذر وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول: وإن رغم أنف أبي ذر. أخرجاه من حديث حسين به. " طريق
أخرى " لحديث أبي ذر قال أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال: كنت أمشي
مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد فقال " يا أبا ذر قلت: لبيك يا رسول الله قال: ما أحب
أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا دينارا أرصده يعنى لدين إلا أن أقول به في عباد الله هكذا
وهكذا فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه قال: ثم مشينا فقال: يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا
من قال هكذا وهكذا " فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره قال ثم مشينا فقال: " يا أبا ذر كما أنت حتى أتيك "
قال: فانطلق حتى توارى عني قال: فسمعت لغطا فقلت لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له قال فهممت أن أتبعه
قال فذكرت قوله " لا تبرح حتى آتيك " فانتظرته حتى جاء فذكرت له الذي سمعت فقال " ذاك جبريل أتاني فقال من
مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " قلت وإن زنى وإن سرق قال " وإن زنى وإن سرق " أخرجاه في
الصحيحين من حديث الأعمش به وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن
عبد العزيز بن رفيع عن زيد بن وهب عن أبي ذر قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده وليس
معه إنسان قال فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد قال: فجعلت أمشي في ظل القمر فالتفت فرآني فقال " من
هذا " فقلت أبو ذر جعلني الله فداك قال " يا أبا ذر تعال " قال فمشيت معه ساعة فقال لي " إن المكثرين هم
المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فجعل يبثه عن يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيرا " قال:
فمشيت معه ساعة فقال لي " اجلس ههنا " فأجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي " اجلس ههنا حتى أرجع إليك "
قال فانطلق في الحرة حتى لا أراه فلبث عني حتى إذا طال اللبث ثم إني سمعته وهو مقبل وهو يقول " وإن زنى
وإن سرق " قال: فلما جاء لم أصبر حتى قلت يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلم في جانب الحرة فإني سمعت
521

أحدا يرجع إليك؟ قال: ذاك جبريل عرض لي من جانب الحرة فقال " بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل
الجنة قلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى قال نعم قلت: وإن سرق وإن زني قال نعم قلت وإن سرق وإن
زنى قال نعم وإن شرب الخمر " الحديث السادس " قال عبد بن حميد في مسنده: حدثنا عبد الله بن موسى عن
ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الموجبتان قال " من
مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار " تفرد به من هذا الوجه وذكر تمام
الحديث. " طريق أخرى " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني حدثنا
منصور بن إسماعيل القرشي حدثنا موسى بن عبيدة الترمذي أخبرني عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من نفس تموت لا تشرك بالله شيئا إلا حلت لها المغفرة إن شاء الله عذبها وإن شاء غفر لها " إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من حديث موسى بن عبيدة
عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب " قيل يا نبي الله
وما الحجاب؟ قال " الاشراك بالله قال: ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى
إن شاء أن يعذبها وإن شاء أن يغفر لها " ثم قرأ نبي الله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء "
" الحديث السابع " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا زكريا عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " تفرد به من هذا الوجه. " الحديث الثامن " قال الإمام أحمد
: حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل عن عبد الله بن ناشر من بني سريع قال: سمعت
أبارهم قاص أهل الشام يقول سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم فقال
لهم: " إن ربكم عز وجل خيرني بين سبعين ألف يدخلون الجنة عفوا بغير حساب وبين الخبيئة عنده لامتي " فقال
بعض أصحابه يا رسول الله أيخبأ ذلك ربك؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر فقال " إن ربي زادني مع كل
ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده " قال أبو رهم يا أبا أيوب وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله الناس بأفواههم
فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو أيوب: دعوا الرجل عنكم أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
أظن بل كالمستيقن إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا
عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه دخل الجنة ". " الحديث التاسع " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مؤمل بن
الفضل الحراني حدثنا عيسى بن يونس وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي حدثنا عيسى بن يونس
نفسه عن واصل بن السائب الرقاشي عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب الأنصاري عن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام قال " وما دينه " قال: يصلي ويوحد الله تعالى قال
" استوهب منه دينه فإن أبي فابتعه منه " فطلب الرجل ذاك منه فأبي عليه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال " وجدته
شحيحا على دينه " قال: فنزلت " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ". " الحديث العاشر "
قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا عمرو بن الضحاك حدثنا أبي حدثنا أبو همام الهنائي حدثنا ثابت عن أنس قال: جاء
رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت قال " أليس تشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدا رسول الله ثلاث مرات " قال نعم قال " فإن ذلك يأتي على ذلك كله ". " الحديث الحادي
عشر " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوش اليمامي قال: قال لي أبو
هريرة يا يمامي لا تقولن لرجل لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة أبدا. فقلت يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها
أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال لا تقلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كان في بني إسرائيل رجلان
أحدهما مجتهد في العبادة وكان الآخر مسرفا على نفسه وكانا متآخيين وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على
الذنب فيقول يا هذا أقصر فيقول خلني وربى أبعثت علي رقيبا إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه فقال له:
ويحك أقصر قال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الجنة أبدا قال: فبعث الله
522

إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده فقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي وقال للآخر أكنت. عالما
أكنت على ما في يدي قادرا اذهبوا به إلى النار قال والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أوبقت دنياه
وآخرته " ورواه أبو داود من حديث عكرمة بن عمار حدثني ضمضم بن جوش به. " الحديث الثاني عشر " قال
الطبراني: حدثنا أبو الشيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصفهاني حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا إبراهيم بن
الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل: من علم أني ذو قدرة
على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا ". " الحديث الثالث عشر " قال الحافظ أبو بكر البزار
والحافظ أبو يعلى: حدثنا هدبة هو ابن خالد حدثنا سهل بن أبي حازم عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ومن توعده على عمل عقابا فهو فيه بالخيار " تفردا به وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا بحر بن نصر الخولاني حدثنا خالد يعني ابن عبد الرحمن الخراساني حدثنا الهيثم بن حماد عن
سلام بن أبي مطيع عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن عمر قال: كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس،
وآكل مال اليتيم وقاذف المحصنات، وشاهد الزور حتى نزلت هذه الآية " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء " فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة. ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد به وقال ابن
أبي حاتم أيضا: حدثنا عبد الملك بن أبي عبيد الرحمن المقري حدثنا عبد الله بن عاصم حدثنا صالح يعني
المري حدثنا أبو بشر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كنا لا نشك في من أوجب الله له النار في الكتاب حتى
نزلت علينا هذه الآية " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " قال فلما سمعناها كففنا عن
الشهادة وأرجينا الأمور إلى الله عز وجل. وقال البزار: حدثنا محمد بن عبد الرحمن حدثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا
حرب بن شريح عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم
يقرأ " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقال " أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم
القيامة " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع: أخبرني مخبر عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت " يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إلى آخر الآية قام رجل فقال: والشرك بالله يا نبي الله؟ فكره ذلك
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك
بالله فقد افترى إثما عظيما " رواه ابن جرير وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر وهذه الآية التي في سورة
تنزيل مشروطة بالتوبة فمن تاب من أي ذنب وان تكرر منه تاب الله عليه ولهذا قال " قل يا عبادي الذين أسرفوا
على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " أي بشرط التوبة ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك
فيه ولا يصح ذلك لأنه تعالى قد حكم ههنا بأنه لا يغفر الشرك وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء أي وإن لم يتب
صاحبه فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه والله أعلم. وقوله " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " كقوله " إن
الشرك لظلم عظيم " وثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال " أن
تجعل لله ندا وهو خلقك " وذكر تمام الحديث. وقال ابن مردويه: حدثنا إسحاق عن إبراهيم بن زيد حدثنا أحمد بن
عمرو حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن
رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال " أخبركم بأكبر الكبائر الاشراك بالله ثم قرأ " ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما " وعقوق
الوالدين ثم قرأ " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير ".
ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكى من يشاء ولا يظلمون فتيلا (49) انظر كيف يفترون على الله الكذب
وكفى به إثما مبينا (50) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا
هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا (51) أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا (52)
523

قال الحسن وقتادة نزلت هذه الآية وهي قوله " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " في اليهود والنصارى حين قالوا:
نحن أبناء الله وأحباؤه وفي قولهم " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وقال مجاهد: كانوا يقدمون
الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم وكذا قال عكرمة وأبو مالك وروى ذلك
ابن جرير وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " وذلك أن اليهود قالوا: إن
أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا فأنزل الله على محمد ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم الآية
ورواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن مصفى حدثنا ابن حمير عن ابن لهيعة عن بشر بن
أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا
خطايا لهم ولا ذنوب. وكذبوا قال الله إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له وأنزل الله " ألم تر إلى الذين يزكون
أنفسهم " ثم قال: وروي عن مجاهد وأبي مالك والسدي وعكرمة والضحاك نحو ذلك وقال الضحاك: قالوا ليس
لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب فأنزل الله " ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم " فيهم وقيل نزلت في ذم التمادح
والتزكية وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب.
وفي الصحيحين من طريق خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على
رجل فقال " ويحك قطعت عنق صاحبك " ثم قال " إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا
يزكي على الله أحدا " وقال الإمام أحمد: حدثنا معتمر عن أبيه عن نعيم بن أبي هند قال: قال عمر بن الخطاب:
من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار ورواه ابن مردويه من
طريق موسى بن عبيدة عن طلحة بن عبيد الله بن كريز عن عمر أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء
برأيه فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ومن قال هو عالم فهو جاهل ومن قال هو في الجنة فهو في النار. وقال الإمام أحمد
: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة حدثنا حجاج أنبأنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن معبد الجهني قال:
كان معاوية فلما كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وكان فلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء
الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإن هذا المال حلو خضر فمن
يأخذه بحقه يبارك له فيه وإياكم والتمادح فإنه الذبح " وروى ابن ماجة منه " إياكم والتمادح فإنه الذبح " عن أبي
بكر بن أبي شيبة عن غندر عن شعبة به ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري وقال ابن جرير:
حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي حدثني أبي عن أبيه عن جده عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب
قال: قال عبد الله بن مسعود: إن الرجل ليغدو بدينه ثم يرجع وما معه منه شئ يلقى الرجل ليس يملك له ضرا ولا
نفعا فيقول له: إنك والله كيت وكيت فلعله أن يرجع ولم يحظ من حاجته بشئ وقد أسخط الله ثم قرأ " ألم تر
إلى الذين يزكون أنفسهم " الآية وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم
بمن اتقى " ولهذا قال تعالى " بل الله يزكي من يشاء " أي المرجع في ذلك إلى الله عز وجل لأنه أعلم بحقائق
الأمور وغوامضها ثم قال تعالى " ولا يظلمون فتيلا " أي ولا يترك لاحد من الاجر ما يوازن مقدار الفتيل قال ابن
عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: هو ما يكون في شق النواة. وعن ابن عباس
أيضا: هو ما فتلت بين أصابعك وكلا القولين متقارب وقوله " انظر كيف يفترون على الله الكذب " أي في تزكيتهم
أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى " وقولهم " لن
تمسنا النار إلا أياما معدودات " واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن
الأبناء شيئا في قوله " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم " الآية ثم قال " وكفى به إثما مبينا " أي
وكفى بصنيعهم هذا كذبا وافتراءا ظاهرا وقوله " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت " أما الجبت فقال محمد بن إسحاق عن حسان بن فائد عن عمر بن الخطاب أنه قال: الجبت السحر
والطاغوت الشيطان. وهكذا روي عن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي
524

والحسن والضحاك والسدي وعن ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير والشعبي والحسن
وعطية: الجبت الشيطان. وزاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضا: الجبت الشرك. وعنه الجبت الأصنام.
وعن الشعبي الجبت الكاهن. وعن ابن عباس الجبت حيي بن أخطب. وعن مجاهد الجبت كعب بن
الأشرف. وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح: الجبت كلمة تقع على الصنم
والكاهن والساحر ونحو ذلك. وفي الحديث " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " قال وليس هذا من محض العربية
لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وهذا الحديث الذي ذكره الإمام أحمد في مسنده
فقال: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف بن حيان ابن العلاء حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه وهو قبيصة بن مخارق أنه
سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " وقال عوف: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في
الأرض والجبت قال الحسن رنة الشيطان وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيره من حديث
عوف الاعرابي به. وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن الضيف حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل
عن الطواغيت فقال: هم كهان تنزل عليهم الشياطين وقال مجاهد: الطاغوت الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون
إليه وهو صاحب أمرهم وقال الامام مالك: هو كل ما يعبد من دون الله عز وجل وقوله " ويقولون للذين كفروا
هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم وقلة دينهم وكفرهم بكتاب الله
الذي بأيديهم. وقد روى ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان عن عمرو عن
عكرمة قال: جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم
فاخبرونا عنا وعن محمد فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء
على اللبن ونفك العاني ونسقى الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير
أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا، فأنزل الله " ألم تر إلى الذين أوتو نصيبا " الآية وقد روى هذا من غير
وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عكرمة عن ابن
عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا
ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال: أنتم خير. قال فنزلت " إن شانئك هو الأبتر
ونزل " ألم تر إلى الذين أوتو نصيبا من الكتاب - إلى - نصيرا " وقال ابن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن
عكرمة أو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن
أخطب وسلام بن أبي الحقيق وأبو رافع والربيع بن أبي الحقيق وأبو عامر ووحوح بن عامر وهودة بن قيس. فأما وحوح
وأبو عامر وهودة فمن بني وائل وكان سائرهم من بني النضير فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل
العلم بالكتب الأول فاسألوهم أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم فقالوا دينكم خير من دينه وأنتم أهدى منه وممن
اتبعه. فأنزل الله عز وجل " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب " إلى قوله عز وجل " وآتيناهم ملكا عظيما "
وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين وإنما قالوا
لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم وقد أجابوهم وجاؤا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة
الخندق فكفى الله شرهم " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا
عزيزا ".
أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا (53) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا
آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم
525

سعيرا (55)
يقول تعالى أم لهم نصيب من الملك وهذا استفهام إنكاري أي ليس لهم نصيب من الملك ثم وصفهم بالبخل فقال:
فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس ولا سيما
محمدا صلى الله عليه وسلم شيئا ولا ما يملا النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين. وهذه الآية كقوله تعالى
" قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الانفاق " أي خوف أن يذهب ما بأيدكم مع أنه لا يتصور
نفاده وإنما هو من بخلكم وشحكم ولهذا قال تعالى " وكان الانسان قتورا " أي بخيلا، ثم قال " أم يحسدون
الناس على ما آتاهم الله من فضله " يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ومنعهم من
تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله
الحضرمي حدثنا يحيى الحماني حدثنا قيس بن الربيع عن السدي عن عطاء عن ابن عباس في قوله " أم يحسدون
الناس " الآية قال ابن عباس: نحن الناس دون الناس قال الله تعالى " فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة
وآتيناهم ملكا عظيما " أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب
وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الملوك ومع هذا فمنهم من آمن به أي بهذا الايتاء وهذا الانعام ومنهم
من صد عنه أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل فقد
اختلفوا عليهم فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ وقال مجاهد: فمنهم من آمن به أي بمحمد صلى الله عليه وسلم ومنهم
من صد عنه فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك وأبعد عما جئتهم به من الهدى والحق المبين ولهذا قال متوعدا لهم
" وكفى بجهنم سعيرا " أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان
عزيزا حكيما (56) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدالهم
فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا (57)
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله فقال " إن الذين كفروا بآياتنا " الآية أي
ندخلهم فيها دخولا يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم. ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال " كلما نضجت
جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب " قال الأعمش عن ابن عمر: إذا احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها
بيضاء أمثال القراطيس، رواه ابن أبي حاتم وقال يحيى بن يزيد الحضرمي أنه بلغه في الآية قال: يجعل
للكافر مائة جلد بين كل جلدين لون من العذاب رواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا
علي بن محمد الطنافسي حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن هشام عن الحسن قوله " كلما نضجت جلودهم "
الآية قال: تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين: وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن كلما
نضجت جلودهم " قيل لهم: عودوا فعادوا. وقال أيضا ذكر عن هشام بن عمار حدثنا سعيد بن يحيى " يعنى
السعداني " حدثنا نافع مولى يوسف السلمي البصري عن نافع عن ابن عمر قال: قرأ رجل عند عمر هذه الآية " كلما
نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها " فقال عمر: أعدها علي فأعادها فقال معاذ بن جبل: عندي
تفسيرها تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه ابن مردويه عن محمد بن
أحمد بن إبراهيم عن عبدان بن محمد المروزي عن هشام بن عمار به ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال: حدثنا
محمد بن إسحاق عن عمران حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا نافع أبو هرمز حدثنا
526

نافع عن ابن عمر قال: تلا رجل عند عمر هذه الآية " كلما نضجت جلودهم " الآية قال فقال عمر: أعدها علي
وثم كعب فقال: يا أمير المؤمنين أنا عندي تفسير هذه الآية قرأتها قبل الاسلام قال فقال: هاتها يا كعب فإن جئت
بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك وإلا لم ننظر إليها فقال: إني قرأتها قبل الاسلام كلما نضجت جلودهم
بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال
الربيع بن أنس: مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا وسنه سبعون ذراعا وبطنه لو وضع فيه جبل
لوسعه فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها. وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا فقال الإمام أحمد:
حدثنا وكيع حدثنا أبو يحيى الطويل عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يعظم أهل النار في النار
حتى أن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام وإن غلظ جلده سبعون ذراعا وإن ضرسه مثل أحد " تفرد
به أحمد من هذا الوجه وقيل المراد بقوله " كلما نضجت جلودهم " أي سرابيلهم. حكاه ابن جرير وهو ضعيف لأنه
خلاف الظاهر. وقوله " والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
أبدا " هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها
حيث شاءوا وأين أرادوا وهم خالدون فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا وقوله " لهم فيها أزواج
مطهرة " أي من الحيض والنفاس والأذى والأخلاق الرذيلة والصفات الناقصة كما قال ابن عباس: مطهرة من
الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو صالح وعطية والسدي. وقال مجاهد: مطهرة من
البول والحيض والنخام والبزاق والمنى والولد. وقال قتادة: مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف. وقوله
" وندخلهم ظلا ظليلا " أي ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا قال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن
وحدثنا ابن المثنى حدثنا ابن جعفر قالا حدثنا شعبة قال: سمعت أبا الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها - شجرة الخلد ".
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به وإن
الله كان سميعا بصيرا (58)
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها. وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أد الأمانة إلى من
ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الإمام أحمد وأهل السنن وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الانسان من
حقوق الله عز وجل على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه
العباد ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به من غير اطلاع بينة على ذلك فأمر الله
عز وجل بأدائها فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود قال:
إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة يؤتي بالرجل يوم القيامة وإن كان قد قتل في سبيل الله فيقال أد أمانتك فيقول فأني
أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه قال فتنزل عن عاتقه فيهوي
على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان فأتيت البراء فحدثته فقال صدق أخي " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها " وقال سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى عن رجل عن ابن عباس في الآية قال: هي مبهمة للبر والفاجر وقال
محمد بن الحنفية هي عامة للبر والفاجر وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه. وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبو سعيد حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال أبي بن كعب من
الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها وقال الربيع بن أنس هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس. وقال علي بن
527

أبي طلحة عن ابن عباس " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " قال: قال يدخل فيه وعظ السلطان النساء
" يعنى يوم العيد " وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم أبي
طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة
وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم أسلم عثمان هذا في الهدنة بين
صلح الحديبية وفتح مكة هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأما عمه عثمان بن طلحة بن أبي طلحة فكان معه
لواء المشركين يوم أحد وقتل يومئذ كافرا وإنما نبهنا على هذا النسب لان كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليه هذا
بهذا وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه. وقال محمد بن إسحاق في
غزوة الفتح حدثني محمد بن جعفر بن الزبير بن عبيد الله بن عبد الله أبي ثور عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل
بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى
طوافه دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم
طرحها ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد. قال ابن إسحاق: فحدثني بعض أهل العلم
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال " لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم
الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ".
وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أن قال: ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فقام إليه علي بن أبي
طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله أجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أين عثمان بن طلحة؟ " فدعي له فقال له " هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر " قال ابن جرير: حدثني
القاسم حدثنا الحسين عن حجاج عن ابن جريج في الآية قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم
مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "
الآية فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو
هذه الآية " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك. حدثنا القاسم
حدثنا الحسين حدثنا الزنجي ابن خالد عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. وروى ابن مردويه من طريق
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " قال: لما فتح
رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة فلما أتاه قال " أرني المفتاح " فأتاه به فلما بسط يده إليه قام إليه العباس
قال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرني المفتاح يا
عثمان " فبسط يده يعطيه فقال العباس مثل كلمته الأولى فكف عثمان يده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عثمان إن كنت
تؤمن بالله واليوم الآخر فهاته " فقال هاك أمانة الله قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح باب الكعبة فوجد في الكعبة تمثال
إبراهيم عليه الصلاة والسلام معه القداح " يستقسم بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما للمشركين قاتلهم الله وما شأن
إبراهيم وشأن القداح " ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه ثم غمس به تلك التماثيل وأخرج مقام إبراهيم وكان
في الكعبة فألزقه في حائط الكعبة ثم قال " يا أيها الناس هذه القبلة " قال: ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت
شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل فيما ذكر لنا برد المفتاح ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يأمركم أن تؤدوا
الأمانات إلى أهلها " حتى فرغ من الآية وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك وسواء كانت نزلت في
ذلك أو لا فحكمها عام ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية: هي للبر الفاجر أي هي أمر لكل أحد. وقوله
" وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ولهذا قال محمد بن كعب
وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب إن هذه الآية إنما نزلت في الامراء يعني الحكام بين الناس وفي الحديث " إن
الله مع الحاكم ما لم يجر فإذا جار وكله إلى نفسه " وفي الأثر " عدل يوم كعبادة أربعين سنة " وقوله " إن الله نعما
يعظكم به " أي يأمركم به من أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس بغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة
528

العظيمة الشاملة وقوله تعالى " إن الله كان سميعا بصيرا أي سميعا " لأقوالكم بصيرا بأفعالكم. كما قال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا عبد الله بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي
الخير عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية " سميعا بصيرا " يقول بكل شئ بصير وقد
قال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى القزويني أنبأنا المقري يعني أبا عبد الرحمن عبد الله بن يزيد حدثنا حرملة يعني ابن
عمران التجيبي المصري حدثني أبو يونس سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى
أهلها " إلى قوله " إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا " ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه
ويقول: هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ويضع أصبعيه وقال أبو زكريا وصفه لنا المقري ووضع أبو زكريا
إبهامه اليمنى على عينه اليمنى والتي تليها على الاذن اليمنى وأرانا فقال هكذا وهكذا. رواه أبو داود وابن حبان في
صحيحه والحاكم في مستدركه وابن مردويه في تفسيره من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده نحوه وأبو
يونس هذا مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير.
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (59)
قال البخاري: حدثنا صدقة بن الفضل حدثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج عن يعلى بن مسلم عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن
قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من حديث حجاج بن محمد
الأعور به وقال الترمذي حديث حسن غريب ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو
معاوية عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية
واستعمل عليهم رجلا من الأنصار فلما خرجوا وجد عليهم في شئ قال: فقال لهم: أليس قد أمركم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا بلى. قال: فاجمعوا لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيها ثم قال: عزمت
عليكم لتدخلنها قال: فقال لهم شاب منهم إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار فلا تعجلوا حتى تلقوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها قال فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال لهم " لو دخلتموها ما
خرجتم منها أبدا إنما الطاعة في المعروف " أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال أبو داود: حدثنا
مسدد حدثنا يحيى عن عبيد الله حدثنا نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " السمع والطاعة على المرء
المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " وأخرجاه من حديث يحيى
القطان. وعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا
ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الامر أهله قال " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " أخرجاه.
وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة "
رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا حبشيا مجدوع
الأطراف. رواه مسلم وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول " ولو استعمل
عليكم عبد يقودكم بكتاب الله اسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم وفي لفظ له " عبدا حبشيا مجدوعا " وقال ابن
جرير: حدثني علي بن مسلم الطوسي حدثنا ابن أبي فديك حدثني عبد الله بن محمد بن عروة عن هشام بن عروة
عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سيليكم ولاة بعدي فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره
فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم "
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا
529

نبي بعدي وسيكون خلفاء فيكثرون قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: " أوفوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن
الله سائلهم عما استرعاهم " أخرجاه. وعن أبن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رأى من أميره
شيئا فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية " أخرجاه. وعن ابن عمر أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من خلع يدا من طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات
ميتة جاهلية " رواه مسلم. وروى مسلم أيضا عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال: دخلت المسجد فإذا
عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس مجتمعون عليه فأتيتهم فجلست إليه فقال: كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل ومنا من هو في جشره إذ نادى منادي
رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل
أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها وسيصيب
آخرها بلاء وأمور ينكرونها وتجئ فتن يرفق بعضها بعضا وتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه مهلكتي ثم
تنكشف وتجئ الفتنة فيقول المؤمن هذه هذه فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله
واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن
استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر قال فدنوت منه فقلت: أنشدك بالله آنت سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي، فقلت له: هذا ابن عمك معاوية
يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ونقتل بعضا بعضا والله تعالى يقول " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما " قال: فسكت ساعة ثم قال:
أطعه في طاعة الله واعصه في معصية الله. والأحاديث في هذا كثيرة. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن الحسين
حدثنا أحمد بن الفضل حدثنا أسباط عن السدي في قوله " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " قال:
بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سرية عليها خالد بن الوليد وفيها عمار بن ياسر فساروا قبل القوم
الذين يريدون فلما بلغوا قريبا منهم عرسوا وأتاهم ذو العينتين فأخبرهم فأصبحوا وقد هربوا غير رجل أمر أهله فجمعوا
متاعهم ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد فسأل عن عمار بن ياسر فأتاه فقال: يا أبا اليقظان إني
قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله لان قومي لما سمعوا بكم هربوا وإني بقيت فهل
إسلامي نافعي غدا وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك فأقم فأقام. فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدا غير
الرجل فأخذه وأخذ ماله فبلغ عمارا الخبر فأتى خالدا فقال: خل عن الرجل فإنه قد أسلم وإنه في أمان مني فقال
خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية على أمير فاستبا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال خالد يا رسول الله أتترك هذا العبد الأجدع يسبني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا خالد لا تسب عمارا فإنه من
سب عمارا يسبه الله، ومن يبغض عمارا يبغضه الله "، ومن يلعن عمارا لعنه الله " فغضب عمار فقام فتبعه خالد فأخذ
بثوبه فاعتذر إليه فرضي عنه فأنزل الله عز وجل قوله " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وهكذا رواه
ابن أبي حاتم من طريق عن السدي مرسلا ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح
عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وأولي الأمر منكم " يعني أهل
الفقه والدين وكذا قال مجاهد وعطاء والحسن البصري وأبو العالية " وأولي الأمر منكم " يعني العلماء والظاهر
والله أعلم أنها عامة في كل أولي الامر من الامراء والعلماء كما تقدم. وقال تعالى " لولا ينهاهم الربانيون والأحبار
عن قولهم الاثم وأكلهم السحت " وقال تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وفي الحديث الصحيح
المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصا
الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصا أميري فقد عصاني " فهذه أوامر بطاعة العلماء والامراء ولهذا قال
تعالى " أطيعوا الله " أي اتبعوا كتابه " وأطيعوا الرسول " أي خذوا بسنته " وأولي الأمر منكم " أي فيما أمروكم به
530

من طاعة الله لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح " إنما الطاعة
في المعروف " وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا همام حدثنا قتادة عن ابن حريث عن عمران بن حصين
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا طاعة في معصية الله ". وقوله " فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول " قال مجاهد
وغير واحد من السلف أي إلى كتاب الله وسنة رسوله. وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شئ تنازع الناس فيه من
أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة كما قال تعالى " وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه
إلى الله " فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ولهذا قال تعالى
" إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله فتحاكموا إليهما
فيما شجر بينكم " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب
والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر وقوله " ذلك خير " أي التحاكم إلى كتاب الله
وسنة رسوله والرجوع إليهما في فصل النزاع خير " وأحسن تأويلا " أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير
واحد. وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.
ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا
أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (60) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت
المنافقين يصدون عنك صدودا (61) فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله
إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا (62) أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا
بليغا (63)
هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الايمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد
أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من
الأنصار ورجل من اليهود تخاصما فجعل اليهودي يقول بيني وبينك محمد وذاك يقول بيني وبينك كعب بن
الأشرف. وقيل في جماعة من المنافقين ممن أظهروا الاسلام أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير
ذلك والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو
المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال " يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت " إلى آخرها. وقوله " ويصدون عنك
صدودا " أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين " وإذا قيل لهم اتبعوا ما
أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا " وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم " إنما كان قول المؤمنين
إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " الآية.
ثم قال تعالى في ذم المنافقين " فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم " أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير
إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك " ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا
وتوفيقا " أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الاحسان والتوفيق أي
المداراة والمصانعة لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله " فترى الذين في قلوبهم مرض
يسارعون فيهم يقولون نخشى - إلى قوله - فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين " وقد قال الطبراني: حدثنا
أبو زيد أحمد بن يزيد الحوطي حدثنا أبو اليمان حدثنا صفوان بن عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أبو برزة
الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المشركين فأنزل الله عز وجل " ألم تر إلى
531

الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قلبك إلى قوله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ".
ثم قال تعالى " أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم " هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم
وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم. ولهذا قال له
" فأعرض عنهم " أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم " وعظهم " أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر
" وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا " أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم.
وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول
لوجدوا الله توابا رحيما () فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجد. ا في أنفسهم حرجا مما قضيت
ويسلموا تسليما (65)
يقول تعالى " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع " أي فرضت طاعته على من أرسل إليهم وقوله " بإذن الله " قال
مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني يعني لا يطيعه إلا من وفقته لذلك قوله " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم
بإذنه " أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم وقوله " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم " الآية يرشد تعالى
العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم
فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ولهذا قال " لو جدوا الله توابا رحيما " وقد ذكر جماعة منهم
الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء
أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر
لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما " وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الاعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النوم فقال: يا عتبي الحق الاعرابي
فبشره أن الله قد غفر له ".
وقوله " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد
حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ولهذا قال " ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في
أنفسهم حرجا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة
ولا منازعة كما ورد في الحديث " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " وقال
البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر حدثنا معمر عن الزهري عن عروة قال: خاصم الزبير رجلا
في شراج الحرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فقال الأنصاري: يا رسول الله إن كان ابن
عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى
جارك " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري وكان أشار عليهما صلى الله عليه
وسلم بأمر لهما فيه سعة قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك
فيما شجر بينهم " الآية. هكذا رواه البخاري ههنا أعني في كتاب التفسير في صحيحه من حديث معمر وفي
كتاب الشرب من حديث ابن جريج ومعمر أيضا وفي كتاب الصلح من حديث شعيب بن أبي حمزة ثلاثتهم عن
532

الزهري عن عروة فذكره وصورته صورة الارسال وهو متصل في المعنى وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح
بالارسال فقال: حدثنا أبو اليمان حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه كان
يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى اله عليه وسلم في شراج الحرة كان يسقيان بها كلاهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير
" اسق ثم أرسل إلى جارك " فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قال " اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر " فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم الزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك
أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه
في صريح الحكم ثم قال: قال عروة فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك " فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " هكذا رواه
الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير فإنه لم يسمع منه والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله فإن
أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا ابن وهب
أخبرني الليث ويونس عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه
خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحرة كانا يسقيان به كلاهما
النخل فقال الأنصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك "
فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " اسق يا زبير ثم احبس
الماء حتى يرجع إلى الجدر " واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي
أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال
الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب به ورواه أحمد والجماعة
كلهم من حديث الليث به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند
عبد الله بن الزبير والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري فإنه روى هذا الحديث من
طريق ابن أخي ابن شهاب عن عمه عن عروة عن عبد الله بن الزبير عن الزبير فذكره ثم قال: صحيح الاسناد ولم
يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا أقام بهذا الاسناد عن الزهري بذكر عبد الله بن الزبير غير ابن أخيه وهو عنه ضعيف
وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن علي أبو دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا الفضل بن دكين حدثنا ابن عيينة
عن عمرو بن دينار عن سلمة رجل من آل أبي سلمة قال: خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير فقال الرجل
له: إنما قضى له لأنه ابن عمته. فنزلت " فلا وربك لا يؤمنون " الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
عمرو بن عثمان حدثنا أبو حياة حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب في قوله " فلا وربك
لا يؤمنون " قال: نزلت في الزبير بن العوام وحاطب بن أبي بلتعة اختصما في ماء فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الاعلى
ثم الأسفل هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري " وذكر سبب آخر غريب جدا " قال ابن أبي حاتم: حدثنا
يونس بن عبد الأعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما فقال المقضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم انطلقا
إليه " فلما أتيا إليه فقال الرجل: يا ابن الخطاب قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا فقال ردنا إلى عمر بن
الخطاب فردنا إليك فقال أكذاك؟ قال نعم فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما فخرج إليهما
مشتملا على سيفه فضرب الذي قال ردنا إلى عمر فقتله وأدبر الآخر فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قتل
عمر والله صاحبي ولولا أنى أعجزته لقتلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن "
فأنزل الله " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك " الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله فكره الله أن يسن ذلك
بعد فأنزل " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " الآية وكذا رواه ابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي
533

الأسود به وهو أثر غريب مرسل وابن لهيعة ضعيف والله أعلم. " طريق أخرى " قال الحافظ أبو إسحق إبراهيم بن
عبد الرحمن بن إبراهيم بن دحيم في تفسيره: حدثنا شعيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة حدثنا عتبة بن ضمرة حدثني
أبي أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل فقال المقضى عليه لا أرضى؟ فقال صاحبه فما
تريد قال: أن تذهب إلى أبي بكر الصديق فذهبا إليه فقال الذي قضى له: قد اختصمناه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى
لي فقال أبو بكر: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى فقال نأتي عمر بن الخطاب
فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي عليه فأبى أن يرضى فسأله عمر بن الخطاب فقال كذلك
فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قد سله فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى فقتله فأنزل الله " فلا وربك
لا يؤمنون " الآية.
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به
لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا (66) وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما (67) ولهديناهم صراطا مستقيما (68) ومن يطع
الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
(69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما (70)
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه لان طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة
الامر وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ولهذا قال تعالى " ولو أنا كتبنا عليهم أن
اقتلوا أنفسكم " الآية قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثني إسحق الأزهر عن إسماعيل عن أبي إسحق
السبيعي قال: لما نزلت " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " الآية قال رجل: لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي
عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " إن من أمتي لرجالا الايمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي " وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير حدثنا روح حدثنا هشام عن الحسن بإسناده عن الأعمش قال: لما نزلت " ولو أنا
كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم " الآية. قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال
" للايمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي " وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من
اليهود فقال اليهودي والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا فقال ثابت " والله لو كتب علينا " أن اقتلوا أنفسكم " لفعلنا
فأنزل الله هذه الآية رواه ابن أبي حاتم. حدثنا أبي حدثنا محمود بن غيلان حدثنا بشر بن السري حدثنا مصعب بن
ثابت عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير قال: لما نزلت " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم "
ما فعلوه إلا قليل منهم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم " وحدثنا أبي حدثنا أبو اليمان حدثنا
إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن شريح بن عبيد قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " ولو أنا كتبنا
عليهم أن اقتلوا أنفسكم " الآية أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رواحة فقال " لو أن الله كتب ذلك لكان
هذا من أولئك القليل " يعني ابن رواحة ولهذا قال تعالى " ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به " أي ولو أنهم فعلوا ما
يؤمرون به وتركوا ما ينهون عنه " لكان خيرا لهم " أي من مخالفة الامر وارتكاب النهي " وأشد تثبيتا " قال
السدي: أي وأشد تصديقا " وإذا لآتيناهم من لدنا " أي من عندنا " أجرا عظيما " يعني الجنة " ولهديناهم
صراطا مستقيما " أي في الدنيا والآخرة ثم قال تعالى " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " أي من عمل بما أمره الله به ورسوله وترك ما نهاه
الله عنه ورسوله فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ويجعله مرافقا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة وهم
الصديقون ثم الشهداء ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم ثم أثنى عليهم
534

تعالى فقال " وحسن أولئك رفيقا " وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا إبراهيم بن سعد عن
أبيه عن عروة عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة " وكان
في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة فسمعته يقول " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين " فعلمت أنه خير وكذا رواه مسلم من حديث شعبة عن سعد بن إبراهيم به وهذا معنى قوله
صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر " اللهم الرفيق الاعلى " ثلاثا ثم قضى عليه أفضل الصلاة والتسليم.
" ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة "
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل
من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا فلان مالي أراك محزونا " فقال يا نبي الله شئ
فكرت فيه فقال ما هو؟ قال نحن نغدو عليك ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل
إليك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأتاه جبريل بهذه الآية " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم
من النبيين " الآية فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره. وقد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق وعن عكرمة وعامر الشعبي وقتادة
وعن الربيع بن أنس وهو من أحسنها سندا قال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع
قوله " ومن يطع الله والرسول " الآية قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من
آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا فأنزل الله في
ذلك يعني هذه الآية فقال يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الأعلين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في
رياض فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه وينزل لهم أهل الدجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به فهم
في روضة يحبرون ويتنعمون فيه " وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن
محمد بن مسلم حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد حدثنا عبد الله بن عمران حدثنا فضيل بن عياض عن منصور
عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي
وأحب إلي من أهلي وأحب إلي من ولدي وإني لاكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك وإذا
ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإن دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد
عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه في صفة الجنة من
طريق الطبراني عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال عن عبد الله بن عمران العابدي به ثم قال: لا أرى بإسناده
بأسا والله أعلم. وقال ابن مردويه أيضا: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا العباس بن الفضل الاسقاطي حدثنا أبو
بكر بن ثابت عن ابن عباس البصري حدثنا خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن عامر الشعبي عن ابن عباس أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك على وأحب أن أكون
معك في الدرجة فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فأنزل الله عز وجل هذه الآية. وقد رواه ابن جرير عن ابن حميد عن
جرير عن عطاء الشعبي مرسلا. وثبت في صحيح مسلم من حديث عقل بن زياد عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته
فقال لي: سل فقلت: يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة فقال أو غير ذلك قلت: هو ذاك قال
" فأعني على نفسك بكثرة السجود " وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرنا ابن لهيعة عن عبد الله بن
أبي جعفر عن عيسى بن طلحة عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت
أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه " تفرد
535

به أحمد. قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم حدثنا ابن لهيعة عن زياد بن قائد عن سهل بن
معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إن شاء الله " وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري عن أبي حمزة عن
الحسن البصري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء "
ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصرى. وأعظم من هذا
كله بشارة ما ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل
عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم فقال " المرء مع من أحب " قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا
الحديث. وفي رواية عن أنس أنه قال: إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرجو أن الله
يبعثني معهم وإن لم أعمل كعملهم. قال الامام مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد
الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر
في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم " قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال
" بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك واللفظ
لمسلم ورواه الإمام أحمد حدثنا فزارة أخبرني فليح عن هلال يعني ابن علي عن عطاء عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو ترون - الكوكب الدري الغابر في الأفق الطالع في
تفاضل الدرجات " قالوا: يا رسول الله أولئك النبيون قال " بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا
المرسلين " قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم. وقال الحافظ أبو القاسم
الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا محمد بن عمار الموصلي حدثنا علي بن عفيف بن
سالم عن أيوب عن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم " سل واستفهم " فقال: يا رسول الله فضلتم علينا بالصور والألوان والنبوة ثم قال: أفرأيت إن آمنت
بما آمنت به وعملت بما عملت به إني لكائن معك في الجنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم والذي نفسي بيده أنه
ليضئ بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله كان له بها عهد عند
الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة " فقال رجل: كيف نهلك
بعد هذا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لاثقله فتقوم
النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتغمده الله برحمته " ونزلت هذه الآيات " هل أتى على الانسان
حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا - إلى قوله - نعيما وملكا كبيرا " فقال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك
في الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فاستبكى حتى فاضت نفسه قال ابن عمر: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه
في حفرته بيديه فيه غرابة ونكارة وسنده ضعيف ولهذا قال تعالى " ذلك الفضل من الله " أي من عند الله
" برحمته " وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم " وكفى بالله عليما " أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (71) وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة
قال قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا (72) ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (73) فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل
الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما (74)
536

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد
بالنفير في سبيل الله " ثبات " أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية والثبات جمع ثبة وقد تجمع
الثبة على ثبين قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " فانفروا ثبات " أي عصبا يعني سرايا متفرقين " أو
انفروا جميعا " يعني كلكم وكذا روى عن مجاهد وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني ومقاتل بن
حيان وخصيف الجزري، وقوله تعالى " وإن منكم لمن ليبطئن " قال مجاهد وغير واحد نزلت في المنافقين وقال
مقاتل بن حيان: " ليبطئن " أي ليتخلفن عن الجهاد ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ويبطئ غيره
عن الجهاد كما كان عبد الله بن أبي سلول قبحه الله يفعل يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه وهذا
قول ابن جريج وابن جرير ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد " فإن أصابتكم
مصيبة " أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة " قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم
شهيدا " أي إذ لم أحضر معهم وقعة القتال بعد ذلك من نعم الله عليه ولم يدر ما فاته من الاجر في الصبر أو
الشهادة إن قتل " ولئن أصابكم فضل من الله " أي نصر وظفر وغنيمة " ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة " أي
كأنه ليس من أهل دينكم " يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما " أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه
وهو أكبر قصده وغاية مراده. ثم قال تعالى " فليقاتل " أي المؤمن النافر " في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا
بالآخرة " أي يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم ثم قال تعالى " ومن يقاتل
في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما " أي كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب فله عند الله
مثوبة عظيمة وأجر جزيل كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه
إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة.
وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه
القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا (75) الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين
كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان ان ضعيفا (76)
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء
والصبيان المتبرمين من المقام بها ولهذا قال تعالى " الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية " يعني مكة كقوله
تعالى " وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك " ثم وصفها بقوله " الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك
وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا " أي سخر لنا من عندك وليا ناصرا. قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا
سفيان عن عبيد الله قال: سمعت ابن عباس قال: كنت أنا وأمي من المستضعفين. حدثنا سليمان بن حرب حدثنا
حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة أن ابن عباس تلا " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان " قال:
كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل ثم قال تعالى " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل
الطاغوت " أي المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان ثم هيج تعالى
المؤمنين على قتال أعدائه بقوله " فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ".
ألم تر الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون
الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة
537

خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا (77) أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة
يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم
لا يكادون يفقهون حديثا (78) ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس
رسولا وكفى بالله شهيدا (79)
كان المؤمنون في ابتداء الاسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النصب وكانوا مأمورين
بمواساة الفقراء منهم وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين وكانوا يتحرقون ويودون لو
أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد
عدوهم ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الامر بالقتال فيه ابتداء كما يقال
فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جزع
بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا " وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب " أي
لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ويتم الأولاد وتأيم النساء وهذه الآية كقوله تعالى
" ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال " الآيات. قال ابن أبي حاتم:
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن عبد العزيز عن أبي زرعة وعلي بن رمحة قالا: حدثنا علي بن الحسن عن
الحسين بن واقد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابه أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة
فقالوا: يا نبي الله كنا في عزة ونحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة قال " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله
الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله " ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم " الآية ورواه النسائي
والحاكم وابن مردويه من حديث علي بن الحسن بن شقيق به وقال أسباط عن السدي لم يكن عليهم إلا الصلاة
والزكاة فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال فلما فرض عليهم القتال " إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو
أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب " وهو الموت قال الله تعالى " قل متاع
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى " وقال مجاهد إن هذه الآية نزلت في اليهود رواه ابن جرير وقوله " قل متاع
الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى " أي آخرة المتقي خير من دنياه " ولا تظلمون فتيلا " أي من أعمالكم بل توفونها
أتم الجزاء وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن هشام
قال: قرأ الحسن " قل متاع الدنيا قليل " قال: رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها
إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ثم انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مصهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له * من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالا فإنها * متاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " أي أنتم صائرون إلى الموت لا محاله ولا
ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى " كل من عليها فان " الآية وقال تعالى " كل نفس ذائقة الموت " وقال تعالى
" وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ولا ينجيه من ذلك شئ
سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلا محتوما ومقاما مقسوما كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه:
لقد شهدت كذا وكذا موقفا وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية وها أنا أموت على فراشي فلا
538

نامت أعين الجبناء وقوله " ولو كنتم في بروج مشيدة " أي حصينة منيعة عالية رفيعة وقيل هي بروج في السماء قاله
السدي وهو ضعيف والصحيح أنها المنيعة أي لا يغنى حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم قيل: المشيدة هي المشيدة كما قال وقصر مشيد وقيل بل بينهما فرق وهو أن المشيدة بالتشديد هي المطولة
وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص وقد ذكر ابن جرير وابن أبي حاتم ههنا حكاية مطولة عن مجاهد أنه ذكر
أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطلق فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار فخرج فإذا هو برجل واقف على الباب فقال: ما
ولدت المرأة فقال جارية فقال أما إنها ستزني بمائة رجل ثم يتزوجها أجيرها ويكون موتها بالعنكبوت. قال فكر
راجعا فبعج بطن الجارية بسكين فشقه ثم ذهب هاربا وظن أنها قد ماتت فخاطت أمها بطنها فبرئت وشبت وترعرعت
ونشأت أحسن امرأة ببلدتها فذهب ذاك الأجير ما ذهب ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ثم رجع إلى بلده وأراد
التزوج فقال لعجوز أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة فقالت ليس ههنا أحسن من فلانة فقال اخطبيها علي
فذهبت إليها فأجابت فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدا فسألته عن أمره ومن أين مقدمه فأخبرها خبره وما كان من أمره
في الجارية فقالت أنا هي وأرته مكان السكين فتحقق ذلك فقال لئن كنت إياها فلقد أخبرني باثنتين لا بد منهما
" إحداهما " أنك قد زنيت بمائة رجل فقالت لقد كان شئ من ذلك ولكن لا أدري ما عددهم فقال هم مائة
" والثاني " أنك تموتين بالعنكبوت فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ليحرزها من ذلك فبينما هم يوما فإذا بالعنكبوت في
السقف فأراها إياها فقالت أهذه التي تحذرها علي والله لا يقتلها إلا أنا فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتها
بإبهام رجلها فقتلتها فطار من سمها شئ فوقع بين ظفرها ولحمها واسودت رجلها فكان في ذلك أجلها فماتت ونذكر
ههنا قصة صاحب الحضر وهو الساطرون لما احتال عليه سابور حتى حصره فيه وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين
وقالت العرب في ذلك أشعارا منها:
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا * - فللطير في ذراه وكور
لم تهبه أيدي المنون فباد الملك * عنه فبابه مهجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول: اللهم أجمع أمة محمد ثم تمثل بقول الشاعر:
أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع * لعاد ملاذا في البلاد ومربعا
يبيت أهل الحصن والحصن مغلق * ويأتي الجبال في شماريخها معا
قال ابن هشام وكان كسرى سابور ذو الأكتاف قتل الساطرون ملك الحضر وقال ابن هشام إن الذي قتل صاحب
الحضر سابور بن أردشير بن بابك أول ملوك بني ساسان وأذل ملوك الطوائف ورد الملك إلى الأكاسرة فأما سابور ذو
الأكتاف فهو من بعد ذلك بزمن طويل والله أعلم ذكره السهيلي قال ابن هشام: فحصره سنتين وذلك لأنه كان أغار
على بلاد سابور في غيبته وهو في العراق وأشرفت بنت الساطرون وكان اسمها النضيرة فنظرت إلى سابور وعليه ثياب
ديباج وعلى رأسه تاج من ذهب مكلل بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ فدست إليه أن تتزوجني إن فتحت لك باب
الحصن فقال نعم. فلما أمسى ساطرون شرب حتى سكر وكان لا يبيت إلا سكران فأخذت مفاتيح باب الحصن
من تحت رأسه فبعثت بها مع مولى لها ففتح الباب ويقال دلتهم على طلسم كان في الحصن لا يفتح حتى تؤخذ
حمامة ورقاء فتخضب رجلاها بحيض جارية بكر زرقاء ثم ترسل فإذا وقعت على سور الحصن سقط ذلك ففتح الباب
ففعل ذلك فدخل سابور فقتل ساطرون واستباح الحصن وخربه وسار بها معه وتزوجها فبينما هي نائمة على فراشها
ليلا إذ جعلت تتململ لا تنام فدعا لها بالشمع ففتش فراشها فوجد فيه ورقة آس فقال لها سابور: هذا الذي أسهرك فما
539

كان أبوك يصنع بك؟ قالت: كان يفرش لي الديباج ويلبسني الحرير ويطعمني المخ ويسقيني الخمر قال
الطبري كان يطعمني المخ والزبد وشهد أبكار النحل وصفو الخمر وذكر أنه كان يرى مخ ساقها قال فكان جزاء
أبيك ما صنعت به أنت إلي بذاك أسرع ثم أمر بها فربطت قرون رأسها بذنب فرس فركض الفرس حتى قتلها وفيه
يقول عدي بن زيد العبادي أبياته المشهورة السائرة:
أيها الشامت المعير بالدهر * أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام * - بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلد أم من * ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر * وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك الروم * لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دجلة * تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلله كلسا * فللطير في ذراه وكور
لم يهبه ريب المنون فباد * الملك عنه فبابه مهجور
وتذكر رب الخورنق إذ أشرف * يوما وللهدى تفكير
سره ماله وكثرة ما يملك * والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال فما غبطه * حي إلى الممات يصير
ثم أضحوا كأنهم ورق جف * فألوت به الصبا والدبور
ثم بعد الفلاح والملك والاماة * وارتهم هناك القبور
وقوله " وإن تصبهم حسنة " أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي
العالية والسدي " يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة " أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت
أولاد أو نتاج أو غير ذلك كما يقوله أبو العالية والسدي " يقولوا هذه من عندك " أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك
واقتدائنا بدينك كما قال تعالى عن قوم فرعون " فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة " يطيروا بموسى
ومن معه " وكما قال تعالى " ومن الناس من يعبد الله على حرف " الآية وهكذا قال " هؤلاء المنافقون الذين دخلوا
في الاسلام ظاهرا " وهم كارهون له في نفس الامر ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال
السدي " وإن تصبهم حسنة " قال والحسنة الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان " قالوا
هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة " والسيئة الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا هذه من عندك
يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء فأنزل الله عز وجل " قل كل من عند الله " أي الجميع بقضاء الله
وقدره وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " قل كل من عند الله " أي
الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري ثم قال تعالى منكرا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك
وريب وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم " فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ". " ذكر حديث غريب
يتعلق بقوله تعالى " قل كل من عند الله " قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا السكن بن سعيد حدثنا عمر بن يونس
حدثنا إسماعيل بن حماد عن مقاتل بن حيان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كنا جلوسا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس وقد ارتفعت أصواتهما فجلس أبو بكر قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم
وجلس عمر قريبا من أبي بكر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم ارتفعت أصواتكما " فقال رجل: يا رسول الله قال أبو بكر
الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فما قلت يا عمر: فقال: قلت الحسنات والسيئات من
الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر وقال جبريل
540

مقالتك يا عمر " فقال " فيختلف أهل السماء وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض " فتحاكما إلى إسرافيل
فقضى بينهما أن الحسنات والسيئات من الله. ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما لو أراد الله
أن لا يعصى لما خلق إبليس ". قال شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيمية هذا حديث موضوع مختلق باتفاق
أهل المعرفة، ثم قال تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الانسان ليحصل الجواب " ما أصابك من حسنة فمن
الله " أي من فضل الله ومنته ولطفه ورحمته " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " أي فمن قبلك ومن عملك أنت
كما قال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " قال السدي والحسن البصري وابن
جريج وابن زيد " فمن نفسك " أي بذنبك وقال قتادة في الآية " فمن نفسك " عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك.
قال: وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يصيب رجلا خدش عود ولا عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله
أكثر " وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح " والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ولا
نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه " وقال أبو صالح " وما أصابك من سيئة فمن نفسك " أي
بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمار حدثنا سهل بن بكار
حدثنا الأسود بن شيبان حدثني عقبة بن واصل ابن أخي مطرف عن مطرف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر أما
تكفيكم الآية التي في سورة النساء " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من
عندك " أي من نفسك والله ما وكلوا إلى القدر وقد أمروا وإليه يصيرون وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية
والجبرية أيضا ولبسطه موضع آخر وقوله تعالى " وأرسلناك للناس رسولا " أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله
ويرضاه وما يكرهه ويأباه " وكفى بالله شهيدا " أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضا بينك وبينهم وعالم بما
تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادا.
من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (80) ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة
منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (81)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله وما ذاك إلا لأنه ما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " من أطاعني فقد أطاع الله ومن
عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ومن عصى الأمير فقد عصاني " وهذا الحديث ثابت في
الصحيحين عن الأعمش به. وقوله " ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا " أي ما عليك منه إن عليك إلا البلاغ
فمن اتبعك سعد ونجا وكان لك من الاجر نظير ما حصل له ومن تولى عنك خاب وخسر وليس عليك من أمره شئ
كما جاء في الحديث " من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه " وقوله
" ويقولون طاعة " يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة " فإذا برزوا من عندك " أي خرجوا
وتواروا عنك " بيت طائفة منهم غير الذي تقول " أي استسروا ليلا فيما بينهم ما أظهروه لك فقال تعالى " والله يكتب ما
يبيتون " أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد والمعنى في هذا التهديد أنه
تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وعصيانه وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة وسيجزيهم على ذلك كما قال تعالى " ويقولون آمنا بالله
وبالرسول وأطعنا " الآية وقوله " فأعرض عنهم " أي اصفح عنهم وأحلم عليهم ولا تؤاخذهم ولا تكشف
أمورهم للناس ولا تخف منهم أيضا " وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا " أي كفى به وليا وناصرا ومعينا لمن توكل
عليه وأناب إليه.
541

أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82) وإذ جاءهم أمر من الامن أو الخوف
أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته
لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (83)
يقول تعالى آمرا لهم بتدبر القرآن وناهيا لهم عن الاعراض عنه وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ومخبرا
لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ولهذا قال تعالى
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها " ثم قال " ولو كان من عند غير الله " أي لو كان مفتعلا مختلفا كما
يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافا أي اضطرابا وتضادا كثيرا أي وهذا
سالم من الاختلاف فهو من عند الله كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم حيث قالوا " آمنا به كل من عند
ربنا " أي محكمة ومتشابهه حق فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم
إلى المتشابه فغووا ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين. قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو
معاوية حدثنا أبو حازم حدثنا عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به
حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا
حجزة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضبا حتى احمر وجهه
يرميهم بالتراب ويقول " مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها
ببعض إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا إنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم
منه فردوه إلى عالمه " وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية عن داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب فقال
لهم " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم " قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده ورواه ابن ماجة من حديث داود بن أبي
هند به نحوه. وقال أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا حماد بن زيد عن أبي عمران الجوني قال: كتب
إلى عبد الله بن رباح يحدث عن عبد الله بن عمرو قال: هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان
في آية فارتفعت أصواتهما فقال " إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب " ورواه مسلم والنسائي من حديث
حماد بن زيد به. وقوله " وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به " إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل
تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها وقد لا يكون لها صحة. وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه: حدثنا أبو بكر بن
أبي شيبة حدثنا علي بن حفص حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع " وكذا رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن محمد بن
الحسين بن أشكاب عن علي بن حفص عن شعبة مسندا ورواه مسلم أيضا من حديث معاذ بن هشام العنبري وعبد
الرحمن بن مهدي وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمرو النمري ثلاثتهم عن شعبة عن حبيب عن
حفص بن عاصم به مرسلا وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال: أي الذي
يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين وفي سنن أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بئس
مطية الرجل زعموا " وفي الصحيح " من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين " ولنذكر ههنا حديث
عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد
الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فاستفهمه أطلقت نساءك؟ فقال " لا " فقلت الله أكبر وذكر
542

الحديث بطوله. وعند مسلم فقلت: أطلقتهن فقال " لا " فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي لم يطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ونزلت هذه الآية " وإذا جاءهم أمر من الامن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى
أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " فكنت أنا استنبطت ذلك الامر ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من
معادنه. يقال: استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها وقوله " لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني المؤمنين. وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " لاتبعتم الشيطان إلا
قليلا " يعني كلكم واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح بن حكيم في مدح يزيد بن المهلب.
أشم ندي كثير النوادي * قليل المثالب والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه.
فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأسا
وأشد تنكيلا (84) من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وكان
الله على كل شئ مقيتا (85) وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها إن الله كان على كل شئ حسيبا (86) الله لا إله
إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ومن أصدق من الله حديثا (87)
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ومن نكل عنه فلا عليه منه ولهذا قال " لا تكلف إلا
نفسك " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن عمرو بن نبيح حدثنا حكام حدثنا الجراح الكندي عن أبي
إسحق قال: سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقي المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله فيه " ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة " قال: قد قال الله تعالى لنبيه " فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين " ورواه
الإمام أحمد عن سليمان بن داود عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحق قال: قلت للبراء: الرجل يحمل على
المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة قال: لا إن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال " فقاتل قي سبيل الله لا تكلف إلا
نفسك " إنما ذلك في النفقة. وكذا رواه ابن مردويه من طريق أبي بكر بن عياش وعلي بن صالح عن أبي إسحق
عن البراء به ثم قال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن النضر العسكري حدثنا مسلم بن
عبد الرحمن الحرثي حدثنا محمد بن حمير حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن البراء قال: لما نزلت على
النبي صلى الله عليه وسلم " فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين " الآية قال لأصحابه " قد أمرني ربي بالقتال
فقاتلوا " حديث غريب وقوله " وحرض المؤمنين " أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه كما قال لهم صلى
الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض " وقد وردت أحاديث كثيرة في
الترغيب في ذلك فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آمن بالله ورسوله وأقام
الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي
ولد فيها " قالوا: يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك؟ فقال: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في
سبيل الله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى
الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " وروى من حديث عبادة ومعاذ وأبي الدرداء نحو ذلك. وعن
أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ونبيا
وجبت له الجنة " قال: فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله ففعل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأخرى
يرفع الله العبد بها مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال: وما هي يا رسول الله؟
543

قال: " الجهاد في سبيل الله " رواه مسلم. وقوله " عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا " أي بتحريضك إياهم
على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ومدافعتهم عن حوزة الاسلام وأهله ومقاومتهم ومصابرتهم.
وقوله تعالى " والله أشد بأسا وأشد تنكيلا " أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة كما قال تعالى " ذلك ولو يشاء الله
لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض " الآية، وقوله " من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها " أي من
يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك " ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها " أي يكون عليه
وزر من ذلك الامر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " اشفعوا تؤجروا
ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء " وقال مجاهد بن جبر: نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض وقال
الحسن البصري قال الله تعالى " من يشفع " ولم يقل من يشفع وقوله " وكان الله على كل شئ مقيتا " قال ابن
عباس وعطاء وعطية وقتادة ومطر الوراق مقيتا أي حفيظا وقال مجاهد شهيدا وفي رواية عنه حسيبا. وقال سعيد
ابن جبير السدي وابن زيد قديرا وقال عبد الله بن كثير المقيت المواظب وقال الضحاك: المقيت الرزاق. وقال ابن
حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الرحيم بن مطرف حدثنا عيسى بن يونس عن إسماعيل عن رجل عن عبد الله بن رواحة
وسأله رجل عن قول الله تعالى " وكان الله على كل شئ مقيتا " قال مقيت لكل إنسان بقدر عمله وقوله " وإذا
حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم أو ردوا عليه بمثل
ما سلم فالزيادة مندوبة والمماثلة مفروضة. قال ابن جرير: حدثنا موسى بن سهل الرملي حدثنا عبد الله بن
السري الأنطاكي حدثنا هشام بن لاحق عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: جاء
رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال " وعليكم السلام ورحمة الله " ثم جاء آخر فقال:
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته " ثم جاء آخر
فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته " فقال له " وعليك " فقال له الرجل: يا نبي الله بأبي أنت وأمي
أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي فقال " إنك لم تدع لنا شيئا، قال الله تعالى
" وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها " فرددناها عليك " وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال: ذكر عن
أحمد بن الحسن والترمذي: حدثنا عبد الله بن السري أبو محمد الأنطاكي قال أبو الحسن وكان رجلا صالحا:
حدثنا هشام بن لاحق فذكر بإسناده مثله ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا عبد الله بن
أحمد بن حنبل حدثنا أبي حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان فذكره مثله ولم أره في المسند والله أعلم وفي هذا الحديث دلالة
على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن كثير أخو سليمان بن كثير حدثنا جعفر بن سليمان عن عوف عن
أبي رجاء العطاردي عن عمران بن حصين أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم يا رسول الله فرد
عليه السلام ثم جلس فقال عشر ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فرد عليه ثم جلس فقال
عشرون ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه السلام ثم جلس فقال ثلاثون " وكذا رواه
أبو داود عن محمد بن كثير وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه ثم قال الترمذي حسن غريب من هذا
الوجه وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حنيف وقال البزار: قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه هذا
أحسنها إسنادا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن حرب الموصلي حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن
الحسن بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا
ذلك بأن الله يقول فحيوا بأحسن منها أو ردوها. وقال قتادة: فحيوا بأحسن منها يعني للمسلمين أو ردوها يعني لأهل الذمة
وهذا التنزيل فيه نظر كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في
السلام رد عليه مثل ما قال فأما أهل الذمة فلا يبدؤن بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن
ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السلام عليكم فقل وعليك " وفي صحيح
544

مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذ لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى
أضيقه ". وقال سفيان الثوري عن رجل عن الحسن البصري قال: السلام تطوع والرد فريضة. وهذا الذي قاله هو
قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعل لأنه خالف أمر الله في قوله فحيوا بأحسن منها
أو ردوها وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي
بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم ". وقوله
الله لا إله إلا هو إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسما لقوله " ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا
ريب فيه " وهذه اللام موطئة للقسم فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد
فيجازى كل عامل بعمله وقوله تعالى " ومن أصدق من الله حديثا " أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده
ووعيده فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا
(88) ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم
واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89) إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق
أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم
فلم يقاتلوكم والقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا (90) ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا
قومهم كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم
واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولآئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا (91)
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين: واختلف في ذلك فقال الإمام أحمد
حدثنا بهز حدثنا شعبة قال عدي بن ثابت أخبرني عبد الله بن يزيد عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد
فرجع ناس خرجوا معه فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين فرقة تقول نقتلهم وفرقة تقول: لا هم المؤمنون
فأنزل الله " فما لكم في المنافقين فئتين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث
الحديد " أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في وقعة أحد أن عبد الله بن
أبي ابن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة وقال العوفي عن ابن عباس نزلت
في قوم كانوا بمكة قد تكلموا بالاسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا إن لقينا
أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة قالت فئة من المؤمنين اركبوا
إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم: وقالت فئة أخرى من المؤمنين سبحان الله أو كما قالوا أتقتلون
قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم فكانوا
كذلك فئتين والرسول عندهم لا ينهي واحدا من الفريقين عن شئ فنزلت " فما لكم في المنافقين فئتين ". رواه ابن
أبي حاتم وقد روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا وقال زيد بن
أسلم عن ابن لسعد بن معاذ أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبي حين استعذر منه
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك وهذا غريب وقيل غير ذلك وقوله تعالى " والله أركسهم بما كسبوا " أي
ردهم وأوقعهم في الخطأ قال ابن عباس " أركسهم " أي أوقعهم وقال قتادة أهلكهم وقال السدي أضلهم وقوله " بما
545

كسبوا أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل " أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن
تجد له سبيلا " أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه وقوله " ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء " أي
هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ولهذا قال " فلا تتخذوا
منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا " أي تركوا الهجرة قاله العوفي عن ابن عباس وقال السدي أظهروا
كفرهم " فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على
أعداء الله ما داموا كذلك ثم استثنى الله من هؤلاء فقال " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " أي إلا
الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم وهذا قول السدي وابن زيد
وابن جرير. وقد روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن
الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال: لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة
بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة فقالوا صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعوه
ما تريد؟ " قال بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الاسلام
وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال اذهب معه فافعل ما يريد
فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم فأنزل الله " ودوا لو تكفرون كما
كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء " ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة وقال فأنزل الله " إلا الذين
يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق " فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام. وفي
صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ومن أحب أن يدخل في
صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم. وقد روى عن ابن عباس أنه قال نسخها قوله " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم " الآية. وقوله " أو جاءوكم حصرت صدورهم " الآية. هؤلاء قوم آخرون من المستثنين
من الامر بقتالهم وهم الذين يجيؤن إلى المصاف وهم حصرت صدورهم أي ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم
ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم " أي
من لطفه بكم أن كفهم عنكم " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم " أي المسالمة " فما جعل الله لكم
عليهم سبيلا " أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني
هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر
بأسره وقوله " ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم " الآية. هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم
ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك فإن هؤلاء قوم منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الاسلام ليأمنوا بذلك عندهم على
دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن
مع أولئك كما قال تعالى " وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم " الآية. وقال ههنا " كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا
فيها " أي انهمكوا فيها. وقال السدي الفتنة ههنا الشرك. وحكى ابن جرير عن مجاهد أنها نزلت في قوم من أهل
مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا
وههنا فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ولهذا قال تعالى " فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم " المهادنة والصلح
" ويكفوا أيديهم " أي عن القتال " فخذوهم " أسراء " واقتلوهم حيث ثقفتموهم " أي أين لقيتموهم " وأولئكم جعلنا
لكم عليهم سلطانا مبينا " أي بينا واضحا.
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطئا ومن قتل مؤمنا خطئا فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن
يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة
546

إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليما حكيما (92) ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما (93)
يقول تعالى ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس
بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة " ثم إذا وقع شئ من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد
الرعية أن يقتله وإنما ذلك إلى الامام أو نائبه وقوله " إلا خطأ " قالوا هو استثناء منقطع كقول الشاعر:
من البيض لم تظعن بعيدا ولم تطأ * على الأرض إلا ريط برد مرحل
ولهذا شواهد كثيرة واختلف في سبب نزول هذه فقال مجاهد وغير واحد نزلت في عياش ابن أبي ربيعة أخي أبي
جهل لامه وهى أسماء بنت مخرمة وذلك أنه قتل رجلا يعذبه مع أخيه على الاسلام وهو الحارث بن يزيد الغامدي
فأضمر له عياش السوء فأسلم ذلك الرجل وهاجر وعياش لا يشعر فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل
عليه فقتله فأنزل الله هذه الآية قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلا وقد قال
كلمة الايمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه فقال كلمته فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال إنما قالها متعوذا فقال له
" هل شققت عن قلبه " وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء. وقوله " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية
مسلمة إلى أهله " هذان واجبان في قتل الخطأ أحدهما الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ ومن شرطها
أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة وحكى ابن جرير عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النخعي والحسن
البصري أنهم قالوا لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدا للايمان وروى من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال
في مصحف أبي " فتحرير رقبة مؤمنة " لا يجزى فيها صبي. واختار ابن جرير أنه إن كان مولودا بين أبوين مسلمين
أجزأ وإلا فلا والذي عليه الجمهور أنه متى كان مسلما صح عتقه عن الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا قال الإمام أحمد
أنبأنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن رجل من الأنصار أنه جاء بأمة سوداء فقال
يا رسول الله إن على عتق رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتشهدين أن لا إله إلا
الله؟ " قالت نعم. قال " أتشهدين أني رسول الله؟ " قال نعم قال " أتؤمنين بالبعث بعد الموت " قالت نعم قال " أعتقها " وهذا
إسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضره. وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود
والنسائي من طريق هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله " قالت في السماء قال " من أنا " قالت أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعتقها فإنها مؤمنة " وقوله " ودية
مسلمة إلى أهله " هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضا لهم عما فاتهم من قتيلهم وهذه الدية إنما
تجب أخماسا كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الحجاج بن أرطاة عن زيد بن بن جبير عن خشف بن
مالك عن ابن مسعود قال قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض وعشرين بني
مخاض ذكورا وعشرين بنت لبون وعشرين جذعة وعشرين حقة لفظ النسائي قال الترمذي لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه
وقد روى عن عبد الله موقوفا كما روى عن علي وطائفة وقيل تجب أرباعا وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل لا
في ماله قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث
الخاصة. وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة
قال: اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى
أن دية جنينها غرة عبد أو أمة وقضى بدية المرأة على عاقلتها وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض
547

في وجوب الدية لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا لشبهة العمد وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر قال: بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني خزيمة فدعاهم إلى الاسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا
صبأنا فجمل خالد يقتلهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يده وقال " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد " وبعث عليا
فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطأ الامام أو نائبه يكون في بيت
المال وقوله " إلا أن يصدقوا " أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب وقوله " فإن كان من
قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة " أي إذا كان القتيل مؤمنا ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم
وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير وقوله " وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق " الآية. أي فإن كان القتيل
أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم فإن كان مؤمنا فدية كاملة وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء وقيل
يجب في الكافر نصف دية المسلم وقيل ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام. ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة
مؤمنة " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما إلى آخرهما فإن أفطر من غير
عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين وقوله " توبة من الله وكان الله
عليما حكيما " أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين: واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام
هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا كما في كفارة الظهار على قولين أحدهما نعم كما هو منصوص عليه في كفارة
الظهار وإنما لم يذكر ههنا لان هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير فلا يناسب أن يذكر فيه الاطعام لما فيه من التسهيل
والترخيص. والقول الثاني لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة " وكان الله عليما
حكيما " قد تقدم تفسيره غير مرة. ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بيان حكم القتل العمد فقال " ومن
يقتل مؤمنا متعمدا " الآية. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك
بالله في غير ما آية في كتاب الله حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون
النفس التي حرم الله إلا بالحق " الآية وقال تعالى " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " الآية
والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء " وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود من رواية
عمرو بن الوليد بن عبيدة المصري عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال المؤمن معنقا صالحا ما
لم يصب دما حراما فإذا أصاب دما حراما بلح " وفي حديث آخر " لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم "
وفي الحديث الآخر " لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار " وفي الحديث
الآخر " من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله " وقد كان ابن
عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدا. وقال البخاري حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال
سمعت ابن جبير قال اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية " ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " هي آخر ما نزل وما نسخها شئ. وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق عن شعبة
به ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل عن ابن مهدي عن سفيان الثوري عن مغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس في قوله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " فقال ما نسخها شئ. وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار
حدثنا ابن عون حدثنا شعبة عن سعيد بن جبير قال: قال عبد الرحمن بن أبزي سئل ابن عباس عن قوله " ومن يقتل
مؤمنا متعمدا " الآية قال لم ينسخها شئ وقال في هذه الآية " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر " إلى آخرها قال نزلت
في أهل الشرك. وقال ابن جرير أيضا حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن منصور حدثني سعيد بن جبير قال سألت ابن
عباس عن قوله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " قال: إن الرجل إذا عرف الاسلام وشرائع الاسلام ثم قتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم ولا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال إلا من ندم. حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا
حدثنا جرير عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال كنا عند ابن عباس بعدما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا
548

عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له
عذابا عظيما. قال أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي
نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول " ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو
بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلني " وأيم
الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل
بعدها من برهان. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت يحيى بن المجيز يحدث عن سالم بن
أبي الجعد عن ابن عباس أن رجلا أتى إليه فقال أرأيت رجلا قتل رجلا عمدا؟ فقال " جزاؤه جهنم خالدا فيها "
الآية. قال لقد نزلت من آخر ما نزل ما نسخها شئ حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل الوحي
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى قال وأنى له بالتوبة وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " ثكلته أمه رجل قتل رجلا متعمدا يجئ يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره أو آخذا رأسه بيمينه أو بشماله
تشخب أوداجه دما من قبل العرش يقول يا رب سل عبدك فيم قتلني " وقد رواه النسائي عن قتيبة وابن ماجة عن
محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن عمار الذهبي ويحيى الجابري وثابت الثمالي عن سالم بن أبي الجعد عن
ابن عباس فذكره وقد روى هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف زيد بن ثابت
وأبو هريرة وعبد الله بن عمر وأبو سلمه بن عبد الرحمن وعبيد بن عمير والحسن وقتادة والضحاك بن مزاحم نقله
ابن أبي حاتم وفي الباب أحاديث كثيرة فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره حدثنا دعلج بن
أحمد حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي " ح " وحدثنا عبد الله بن جعفر وحدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا
عبيد بن عبيدة حدثنا معتمر بن سليمان عن أبيه عن الأعمش عن أبن عمرو بن شرحبيل بإسناده عن عبد الله بن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يجئ المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة أخذا رأسه بيده الأخرى فيقول يا رب سل هذا
فيم قتلني؟ قال فيقول قتلته لتكون العزة لك فيقول فإنها لي قال ويجئ آخر متعلقا بقاتله فيقول رب سل هذا فيم
قتلني؟ قال فيقول قتلته لتكون العزة لفلان قال فإنها ليست له بؤ بإثمه قال فيهوى في النار سبعين خريفا " وقد
رواه النسائي عن إبراهيم بن المستمر العوفي عن عمرو بن عاصم عن معتمر بن سليمان به.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا ثور بن يزيد عن أبي عون عن أبي إدريس قال
سمعت معاوية رضي الله عنه يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا
أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ". وكذا رواه النسائي عن محمد بن المثنى عن صفوان بن عيسى به وقال ابن مردويه
حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا سمويه حدثنا عبد الأعلى بن مسهر حدثنا صدقة بن خالد حدثنا خالد بن دهقان حدثنا
ابن زكريا قال: سمعت أم الدرداء تقول سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل ذنب عسى الله
أن يغفره إلا من مات مشركا أو من قتل مؤمنا متعمدا " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه. والمحفوظ حديث
معاوية المتقدم فالله أعلم. ثم روى ابن مردويه من طريق بقية بن الوليد عن نافع بن يزيد حدثني ابن جبير الأنصاري
عن داود بن الحصين عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل " وهذا
حديث منكر أيضا فإسناده تكلم فيه جدا. قال الإمام أحمد حدثنا النضر حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد
قال: أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي فقال لنا: هلما فأنتما أشب سنا مني، وأوعى للحديث مني فانطلق بنا إلى
بشر بن عاصم فقال له أبو العالية حدث هؤلاء حديثك فقال: حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
سرية فأغارت على قوم فشد مع القوم رجل فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم إني مسلم فلم
ينظر فيما قال قال: فضربه فقتله فنمى الحديث إن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا فبلغ القاتل فبينا رسول الله صلى الله
عليه وعلى آله وسلم يخطب إذ قال القاتل: والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل قال فأعرض رسول الله صلى
549

الله عليه وآله وسلم عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم قال أيضا يا رسول الله ما قال الذي قال إلا تعوذا
من القتل فأعرض عنه وعمن قبله من الناس وأخذ في خطبته ثم لم يصبر حتى قال الثالثة والله يا رسول الله ما قال
الذي قال إلا تعوذا من القتل فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرف المساءة في وجهه فقال " إن الله أبى على من قتل
مؤمنا " ثلاثا. ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له
توبة فيما بينه وبين الله عز وجل فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات
وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته قال الله تعالى " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - إلا من
تاب وآمن وعمل عملا صالحا " الآية. وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين
خلاف الظاهر ويحتاج حمله إلى دليل والله أعلم. وقال تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا
من رحمة الله " الآية وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب
أي من ذلك تاب الله عليه قال الله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " فهذه الآية
عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها لتقوية الرجاء والله
أعلم. وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالما هل لي من توبة فقال: ومن يحول
بينك وبين التوبة ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه فهاجر إليه فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير
مرة وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلان يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى لان الله وضع عنا
الآصار والأغلال التي كانت عليهم وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى " ومن يقتل
مؤمنا متعمدا " الآية. فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف هذا جزاؤه إن جازاه وقد رواه ابن مردويه بإسناده
مرفوعا من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون العنبري عن حجاج الأسود عن محمد بن سيرين عن
أبي هريرة مرفوعا ولكن لا يصح ومعنى هذه الصيغة أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه وكذا كل وعيد على ذنب لكن
قد يكون ذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والاحباط وهذا
أحسن ما يسلك في باب الوعيد والله أعلم بالصواب وبتقدير دخول القاتل في النار أما على قول ابن عباس ومن
وافقه أنه لا توبة له أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا ينجو به فليس بمخلد فيها أبدا بل الخلود هو
المكث الطويل وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من
إيمان " وأما حديث معاوية " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا " فعسى
للترجي فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا تنفي وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل لما ذكرنا من الأدلة وأما
من مات كافرا فالنص أن الله لا يغفر له البتة وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدمين وهي
لا تسقط بالتوبة ولكن لابد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه والمغصوب منه والمقذوف
وسائر حقوق الآدمين فإن الاجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ولكنه لابد من ردها إليهم في صحة التوبة
فإن تعذر ذلك فلابد من المطالبة يوم القيامة لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة إذ قد يكون للقاتل
أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من
فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في
الآخرة، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه قال الله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا "
الآية. ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا، أو يعفوا أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا - ثلاثون حقة وثلاثون جذعة
وأربعون خلفة كما هو مقرر في كتاب الأحكام واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة أو صيام شهرين
متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء
يقولون نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلان تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة
اليمين الغموس واعتذروا بقضاء الصلاة المتروكة عمدا كما أجمعوا على ذلك في الخطأ. وأصحاب الإمام أحمد
550

وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين
الصورتان وبين الصلاة المتروكة عمدا فإنهم يقولون بوجوب قضائها إذا تركت عمدا وقد احتج من ذهب إلى
وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا عامر بن الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك عن
إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا إن
صاحبا لنا قد أوجب قال " فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا منه من النار " وقال أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق
حدثنا ضمرة بن ربيعة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغريف الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا حدثنا
حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب فقال " أعتقوا عنه يعتق الله بكل
عضو منه عضوا منه من النار " وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة به ولفظ أبي داود عن
الغريف بن الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان فغضب فقال: إن
أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص قلنا إنما أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أتينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال " أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من
النار ".
يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة
الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله بما تعملون خبيرا (94)
قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن أبي بكير وخلف بن الوليد وحسين بن محمد قالوا حدثنا إسرائيل عن سماك عن
عكرمة عن ابن عباس قال: مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنما له فسلم عليهم فقالوا لا يسلم
علينا إلا ليتعوذ منا فعمدوا إليه فقتلوه وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا " إلى آخرها. ورواه
الترمذي في التفسير عن عبد الله بن حميد عن عبد العزيز بن أبي رزمة عن إسرائيل به ثم قال هذا حديث حسن
صحيح. وفي الباب عن أسامة بن زيد ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل به ثم قال صحيح
الاسناد ولم يخرجاه. ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن إسرائيل
به. وقال في بعض كتبه غير التفسير وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط وهذا خبر عندنا صحيح سنده وقد يجب
أن يكون على مذهب الآخرين سقيما لعلل منها أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا من هذا الوجه ومنها أن عكرمة
في روايته عندهم نظر ومنها أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه فقال بعضهم نزلت في محلم بن
جثامة وقال بعضهم أسامة بن زيد وقيل: غير ذلك قلت وهذا كلام غريب وهو مردود من وجوه أحدها أنه ثابت عن
سماك حدث به عنه غير واحد من الأئمة الكبار الثاني أن عكرمة محتج به في الصحيح الثالث أنه مروي من غير
هذا الوجه عن ابن عباس كما قال البخاري حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن
عباس " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " قال: قال ابن عباس: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون
فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فأنزل الله في ذلك " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " قال
ابن عباس عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس " السلام " وقال سعيد بن منصور حدثنا منصور عن عمرو بن دينار
عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا في غنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته
فنزلت " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا " وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة
به وقد؟؟ (1) في ترجمة: أن أخاه فزارا هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر أبيه بإسلامهم وإسلام

(1) بياض في الأصل.
551

قومهم فلقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في عماية الليل وكان قد قال لهم إنه مسلم فلم يقبلوا منه فقتلوه فقال أبوه فقدمت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ألف دينار ودية أخرى وسيرني فنزل قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل
الله " الآية. وأما قصة محلم بن جثامة فقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يعقوب حدثني أبي عن محمد بن إسحاق
حدثنا يزيد بن عبد الله بن قسيط عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضم
فخرجت في نفر من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن ربعي ومحلم بن جثامة بن قيس فخرجنا حتى إذا كنا ببطن
إضم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له معه متيع له ووطب من لبن فلما مر بنا سلم علينا فأمسكنا عنه
وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشئ كان بينه وبينه وأخذ بعيره ومتيعه. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه
الخبر نزل فينا " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله - إلى قوله تعالى - خبيرا " تفرد به أحمد. وقال ابن جرير
حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير عن أبي إسحق عن نافع عن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا
فلقيهم عامر بن الأضبط فحياهم بتحية الاسلام وكانت بينهم إحنة في الجاهلية فرماه محلم بسهم فقتله فجاء الخبر
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع فقال الأقرع يا رسول الله سر اليوم وغر غدا فقال عيينة لا والله حتى تذوق
نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي فجاء محلم في بردين فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا غفر الله لك " فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه فما مضت له سابعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فذكروا ذلك له فقال " إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن الله أراد أن يعظكم ثم طرحوه بين صدفي جبل
وألقوا عليه الحجارة فنزلت " يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا " الآية. وقال البخاري قال حبيب بن
أبي عمرة عن سعيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد " إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار
فأظهر إيمانه فقتلته فكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة من قبل " هكذا ذكره البخاري معلقا مختصرا وقد روى مطولا
موصولا. فقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا حماد بن علي البغدادي حدثنا جعفر بن سلمة حدثنا أبو بكر بن علي بن
مقدم حدثنا حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيها المقداد بن
الأسود فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأهوى إليه
المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال " ادعوا لي المقداد يا مقداد
أقتلت رجلا يقول لا إله إلا الله فكيف لك بلا إله إلا الله غدا " قال فأنزل " الله يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل
الله فتبينوا " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من
قبل فمن الله عليكم فتبينوا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد " كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه
فقتلته وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل ". وقوله " فعند الله مغانم كثيرة " أي خير مما رغبتم فيه من عرض
الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام وأظهر لكم الايمان فتغافلتم عنه واتهمتموه
بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا وقوله " كذلك كنتم
من قبل فمن الله عليكم " أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما تقدم في
الحديث المرفوع آنفا. وكما قال تعالى " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض " الآية. وهذا مذهب
سعيد بن جبير لما رواه الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير في قوله " كذلك كنتم من قبل " تخفون
إيمانكم في المشركين ورواه عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عبد الله بن كثير عن سعيد بن جبير في قوله " كذلك
كنتم من قبل " تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه. وهذا اختيار ابن جرير وقال ابن أبي حاتم وذكر
عن قيس عن سالم عن سعيد بن جبير قوله " كذلك كنتم من قبل " لم تكونوا مؤمنين " فمن الله عليكم " أي تاب
عليكم فحلف أسامة لا يقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وقوله
" فتبينوا " تأكيد لما تقدم وقوله " إن الله كان بما تعملون خبيرا " قال سعيد بن جبير هذا تهديد ووعيد.
552

لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين
بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما (95)
درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما (96)
قال البخاري حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن أبي إسحق عن البراء قال: لما نزلت " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدا فكتبها فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله " غير أولى الضرر " حدثنا
محمد بن يوسف عن إسرائيل عن أبي إسحق عن البراء قال لما نزلت " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " قال
النبي صلى الله عليه وسلم " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتب فقال " اكتب " لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون
في سبيل الله " " وخلف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله أنا ضرير فنزلت مكانها " لا يستوي القاعدون من
المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله ". قال البخاري أيضا حدثنا إسماعيل بن عبد الله حدثني
إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب حدثني سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في
المسجد قال فأقبلت حتى جلست إلى جنبه فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى علي " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها علي قال يا رسول الله والله لو
أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت علي حتى خفت
أن ترض فخذي ثم سري عنه فأنزل الله " غير أولى الضرر " تفرد به البخاري دون مسلم وقد روي من
وجه آخر عند الإمام أحمد عن زيد فقال حدثنا سليمان بن داود أنبأنا عبد الرحمن عن أبي الزناد
عن خارجة بن زيد قال: قال زيد بن ثابت: إني قاعد إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم إذ أوحي إليه وغشيته
السكينة قال فرفع فخذه على فخذي حين غشيته السكينة قال زيد فلا والله ما وجدت شيئا قط أثقل
من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سري عنه فقال " اكتب يا زيد " فأخذت كتفا فقال " اكتب " لا يستوي
القاعدون من المؤمنين والمجاهدون " إلى قوله " أجرا عظيما " " فكتبت ذلك في كتف فقام حين سمعها ابن
أم مكتوم وكان رجلا أعمى فقال حين سمع فضيلة المجاهدين يا رسول الله وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ومن هو
أعمى وأشباه ذلك قال زيد فوالله ما قضى كلامه أوما هو إلا أن قضي كلامه - غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة فوقعت فخذه
على فخذي فوجدت ممن ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ثم سري عنه فقال " اقرأ " فقرأت عليه " لا يستوي القاعدون
من المؤمنين والمجاهدون " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " غير أولي الضرر " قال زيد فألحقتها فوالله كأني أنظر إلى ملحقها عند
صدع كان في الكتف. ورواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن
زيد بن ثابت عن أبيه به نحوه. وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر أنبأنا الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال
كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ". فجاء عبد
الله ابن أم مكتوم فقال يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى وذهب بصري قال
زيد فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن ترضها ثم سري عنه ثم قال " اكتب " لا يستوي القاعدون
من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن
جريج أخبرني عبد الكريم هو ابن مالك الجريري أن مقسما مولى عبد الله بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره " لا
يستوي القاعدون من المؤمنين " عن بدر والخارجون إلى بدر انفرد به البخاري دون مسلم وقد رواه الترمذي من
طريق حجاج عن ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس قال " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير
أولي الضرر " عن بدر والخارجون إلى بدر. ولما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم إنا أعميان يا
رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت " لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر " وفضل الله المجاهدين على
553

القاعدين درجة " فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه "
على القاعدين من المؤمنين " غير أولى الضرر ". هذا لفظ الترمذي ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه
فقوله " لا يستوي القاعدون من المؤمنين " كان مطلقا فلما نزل بوحي سريع " غير أولي الضرر " صار ذلك مخرجا
لذوي الاعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرضى عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس: " غير أولي الضرر " وكذا ينبغي أن يكون كما
ثبت في صحيح البخاري من طريق زهير بن معاوية عن حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن بالمدينة أقواما ما
سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال " نعم حبسهم العذر ".
وهكذا رواه أحمد عن محمد بن عدي عن حميد عن أنس به وعلقه البخاري مجزوما ورواه أبو داود عن حماد بن
سلمة عن حميد عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير
ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا وكيف يا رسول الله يكونون معنا فيه؟ قال " نعم حبسهم
العذر " لفظ أبي داود وفي هذا المعنى قال الشاعر:
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد * سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر * ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله " وكلا وعد الله الحسنى " أي الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض.
على الكفاية. قال تعالى " وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما " ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من
الدرجات في غرف الجنان العاليات ومغفرة الذنوب والزلات وأحوال الرحمة والبركات إحسانا منه وتكريما
ولهذا قال " درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ".
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله
للمجاهدين في سبيله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " وقال الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من رمى بسهم فله أجره درجة " فقال رجل يا رسول الله وما
الدرجة؟ فقال " أما إنها ليست بعتبة أمك. ما بين الدرجتين مائة عام ".
إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا (97) إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا (98) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا (99) ومن يهاجر في سبيل
الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره
على الله وكان الله غفورا رحيما (100)
قال البخاري: حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ حدثنا حياة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال:
قطع على أهل المدينة بعث فاكتتبت فيه فلقيت عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته فنهاني عن ذلك أشد النهي قال:
أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم
يرمي به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل فأنزل الله " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ". رواه
الليث عن أبي الأسود. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا أبو أحمد يعني الزبيري حدثنا
554

محمد بن شريك المكي حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا
يستخفون بالاسلام فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم قال المسلمون كان أصحابنا مسلمين
وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " الآية قال فكتب إلى من بقي من
المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم قال فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الآية " ومن الناس من
يقول آمنا بالله " الآية. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في شباب من قريش كانوا تكلموا بالاسلام بمكة منهم علي بن
أمية بن خلف وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو منصور بن الحجاج والحارث بن زمعة قال الضحاك نزلت في ناس
من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه الآية
الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم
لنفسه مرتكب حراما بالاجماع وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم " أي
بترك الهجرة " قالوا فيم كنتم " أي لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة " قالوا كنا مستضعفين في الأرض " أي لا نقدر
على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض " قالوا ألم تكن أرض الله واسعة " الآية: وقال أبو داود حدثنا
محمد بن داود بن سفيان حدثني يحيى بن حسان أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن
يزيد حدثني حبيب بن سليمان عن أبيه سليمان بن سمرة عن سمرة بن جندب أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " وقال السدي: لما أسر العباس وعقيل ونوفل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس " افد
نفسك وابن أخيك " فقال يا رسول الله ألم نصل إلى قبلتك ونشهد شهادتك قال " يا عباس إنكم خاصمتم
فخصمتم " ثم تلا عليه هذه الآية " ألم تكن أرض الله واسعة " رواه ابن أبي حاتم. وقوله إلا المستضعفين إلى
آخر الآية هذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو
قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ولهذا قال " لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا " قال مجاهد وعكرمة والسدي
يعني طريقا، وقوله تعالى " فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم " أي يتجاوز عنهم بترك الهجرة وعسى من الله موجبة " وكان الله
غفورا رحيما " قال البخاري: حدثنا أبو نعيم حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: بينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال " سمع الله لمن حمده " ثم قال قبل أن يسجد " اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة
اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك
على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المقري حدثني
عبد الوارث حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم وهو
مستقبل القبلة فقال " اللهم خلص الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام وضعفة المسلمين
الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار " وقال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا حجاج حدثنا حماد
عن علي بن زيد عن عبد الله أو إبراهيم بن عبد الله القرشي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر
صلاة الظهر " اللهم خلص الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وضعفة المسلمين من أيدي
المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ". ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه
كما تقدم وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن عبيد الله بن أبي يزيد قال سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي
من المستضعفين من النساء والولدان. وقال البخاري: أنبأنا النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب بن أبي مليكة
عن ابن عباس " إلا المستضعفين " قال: كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل، وقوله " ومن يهاجر في سبيل الله
يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " وهذا تحريض على الهجرة وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن
حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه والمرغم مصدر تقول العرب راغم فلان قومه مراغما
ومراغمة قال النابغة ابن جعدة.
كطود يلاذ بأركانه * عزيز المراغم والمهرب
555

وقال ابن عباس: المراغم التحول من أرض إلى أرض. وكذا روي عن الضحاك والربيع بن أنس والثوري وقال
مجاهد: مراغما كثيرا يعني متزحزحا عما يكره وقال سفيان بن عيينة مراغما كثيرا يعني بروجا والظاهر والله أعلم
أنه المنع الذي يتخلص به ويراغم به الأعداء قوله " وسعة " يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال في
قوله " يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة " أي من الضلالة إلى الهدى ومن القلة إلى الغنى وقوله " ومن يخرج
من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله " أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات
في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن
من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة بن أبي وقاص الليثي عن عمر بن
الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن
كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما
هاجر إليه ". وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل
تسعة وتسعين نفسا ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالما هل له من توبة فقال له ومن يحول بينك وبين
التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الأخرى
أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فقال هؤلاء إنه جاء تائبا وقال هؤلاء
إنه لم يصل بعد فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها فأمر الله هذه أن تقترب من
هذه وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة وفي رواية أنه لما جاءه
الموت ناء بصدره إلى الأرض التي هاجر إليها. وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا محمد بن إسحاق عن
محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد الله بن عتيك عن أبيه عبد الله بن عتيك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من
خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله ثم قال وأين المجاهدون في سبيل الله فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على
الله أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله " يعني بحتف أنفه
على فراشه والله إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قتل قعصا فقد استوجب الجنة
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الخزامي حدثني عبد الرحمن بن
المغيرة الخزامي عن المنذر بن عبد الله عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حزام إلى
أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما " قال الزبير: فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة فما
أحزنني شئ حزن وفاته حين بلغتني لأنه قل أحد ممن هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله أو ذوي رحمه ولم يكن
معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره وهذا الأثر غريب جدا فإن هذه القصة مكية ونزول هذه الآية
مدني فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره أن لم يكن ذلك سبب النزول والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر حدثنا سهل بن عثمان حدثنا عبد الرحمن بن سليمان حدثنا أشعث هو ابن
سوار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فنزلت " ومن يخرج من
بيته مهاجرا إلى الله ورسوله " الآية. وحدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء أنبأنا إسرائيل عن سالم عن سعيد بن جبير
عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي الذي كان مصاب البصر وكان بمكة فلما نزلت " إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة " فقلت إني لغني وإني لذو حيلة فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتنعيم
فنزلت هذه الآية " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت " الآية. وقال الطبراني حدثنا
الحسن بن عروبة البصري حدثنا حياة بن شريح الحمصي حدثنا بقية بن الوليد حدثنا ابن ثوبان عن أبيه حدثنا
مكحول عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري أنبأنا أبو مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله قال من انتدب
556

خارجا في سبيلي غازيا ابتغاء وجهي وتصديق وعدي وإيمانا برسلي فهو في ضمان على الله إما أن يتوفاه
بالجيش فيدخله الجنة وإما أن يرجع في ضمان الله وإن طالب عبدا فنغصه حتى يرده إلى أهله مع ما نال من أجر
أو غنيمة ونال من فضل الله فمات أو قتل أو رفصته فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي
حتف شاء الله فهو شهيد ". وروى أبو داود من حديث بقية من فضل الله إلى آخره وزاد بعد قوله فهو شهيد وإن له
الجنة وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا إبراهيم بن زياد حدثنا أبو معاوية حدثنا محمد بن إسحاق عن حميد بن أبي حميد
عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم
القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات كتب له
أجر الغازي إلى يوم القيامة " وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين
كانوا لكم عدوا مبينا (101)
يقول تعالى " وإذا ضربتم في الأرض " أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى " علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون
يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " الآية وقوله " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " أي تخففوا
فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية واستدلوا بها على قصر الصلاة في
السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل لابد أن يكون سفر طاعة من جهاد أو حج أو عمرة أو طلب علم
أو زيارة أو غير ذلك كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ويحيى عن مالك في رواية عنه نحوه لظاهر قوله " إن خفتم
أن يفتنكم الذين كفروا " ومن قائل لا يشترط سفر القربة بل لابد أن يكون مباحا لقوله " فمن اضطر في مخمصة
غير متجانف لاثم " الآية كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصيا بسفره وهذا قول الشافعي
وأحمد وغيرهما من الأئمة وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: جاء رجل فقال
يا رسول الله إني رجل تاجر أختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين فهذا مرسل. ومن قائل يكفي مطلق السفر
سواء كان مباحا أو محظورا حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة
والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور وأما قوله تعالى " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " فقد يكون هذا
خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية فإن في مبدأ الاسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة
بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام أو في سرية خاصة. وسائر الأحيان حرب للاسلام وأهله والمنطوق إذا
خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " وكقوله
تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم " الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن جريج عن
أبي عمار عن عبد الله بن رابية عن يعلى بن أمية قال: سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله " ليس عليكم جناح أن
تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " وقد أمن الناس فقال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ".
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث ابن جريج عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار به. وقال الترمذي
هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر ولا يحفظ إلا من هذا
الوجه ورجاله معروفون. وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك بن مغول عن أبي حنظلة الحذاء قال
سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان فقلت أين قوله " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " ونحن آمنون
فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى حدثنا علي بن محمد بن سعيد حدثنا
منجاب حدثنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك قال: سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال: هي
557

رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها. وقال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن هارون حدثنا ابن عون عن ابن
سيرين عن ابن عباس قال: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين.
وهكذا رواه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن عون به. قال أبو عمر بن عبد البر
وهكذا رواه أيوب وهشام ويزيد بن إبراهيم التستري عن محمد بن سيرين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثله قلت وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن هشيم عن منصور عن زاذان عن محمد بن
سيرين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة لا يخاف إلا رب العالمين فصلى ركعتين ثم قال
الترمذي صحيح وقال البخاري حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا يحيى بن أبي إسحق قال سمعت أنسا يقول:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة قلت: أقمتم
بمكة شيئا قال: أقمنا بها عشرا. وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحق الحضرمي به
وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن أبي إسحق عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم
الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين. ورواه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن ابن أبي إسحق
السبيعي عنه به ولفظ البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة أنبأنا أبو إسحق سمعت حارثة بن وهب قال: صلى بنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين. وقال البخاري حدثنا مسدد حدثنا يحيى حدثنا عبيد الله أخبرني نافع عن
عبد الله بن عمر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها وكذا رواه
مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان به وقال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا عبد الواحد عن الأعمش حدثنا إبراهيم
سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك
لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى
ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان. ورواه
البخاري أيضا من حديث الثوري عن الأعمش به وأخرجه مسلم من طرق عنه منها عن قتيبة كما تقدم. فهذه
الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من
القصر ههنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه واعتضدوا أيضا بما
رواه الامام مالك عن صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين
ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر. وقد روى هذا الحديث البخاري عن
عبد الله بن يوسف التنيسي ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك
به قالوا فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين فكيف يكون المراد بالقصر ههنا قصر الكمية لان ما هو الأصل
لا يقال فيه " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " أصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد حدثنا
وكيع وسفيان وعبد الرحمن عم زبيد اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر رضي الله عنه قال: صلاة السفر
ركعتان وصلاة الأضحى ركعتان وصلاة الفطر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان
محمد صلى الله عليه وسلم. وهكذا رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن زبيد اليامي به وهذا إسناد على
شرط مسلم وقد حكم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى عن عمر وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث
وفي غيره وهو الصواب إن شاء الله وإن كان يحيى بن معين وأبو حاتم والنسائي قد قالوا إنه لم يسمع منه وعلى هذا
أيضا فقال فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي من طريق الثوري عن زبيد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن
الثقة عن عمر فذكره وعند ابن ماجة من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عن زبيد عن عبد الرحمن عن
كعب بن عجرة عن عمر فالله أعلم. وقد روى مسلم في صحيحه وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث أبي عوانة
الوضاح بن عبد الله اليشكري زاد مسلم والنسائي وأيوب بن عائذ كلاهما عن بكير بن الأخنس عن مجاهد عن
عبد الله بن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي
558

الخوف ركعة فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر. ورواه ابن ماجة من حديث أسامة بن
زيد عن طاوس نفسه فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها
أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر فلما استقر ذلك صح أن يقال إن فرض صلاة الحضر
أربع كما قاله ابن عباس والله أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير
مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى " فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة " قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ولهذا قال " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا "
الآية ولهذا قال بعدها " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية فبين المقصود من القصر ههنا وذكر صفته
وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى " وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة - إلى قوله - إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا " وهكذا قال
جويبر عن الضحاك في قوله " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " قال: ذاك عند
القتال يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه وقال أسباط عن السدي في قوله
" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم " الآية أن الصلاة إذا
صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير
ركعة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه
بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر بأربع ركعات بركوعهم وسجودهم
وقيامهم معا جميعا فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم. روى ذلك ابن أبي حاتم ورواه ابن جرير
عن مجاهد والسدي وعن جابر وابن عمر واختار ذلك أيضا فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك وهو الصواب.
وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا ابن أبي فديك حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن
أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر
صلاة المسافر فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به فقد سمي صلاة الخوف مقصورة وحمل
الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا
بنص القرآن وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا. حدثنا أحمد بن الوليد القرشي حدثنا محمد بن جعفر حدثنا
شعبة عن سماك الحنفي قال سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة
المخافة فقلت وما صلاة المخافة؟ فقال: يصلي الامام بطائفة ركعة ثم يجئ هؤلاء إلى مكان هؤلاء وهؤلاء إلى
مكان هؤلاء فيصلى بهم ركعة فيكون للامام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة.
وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم
ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم
وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مصر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم
وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا (102)
صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة وتارة يكون في غير صوبها والصلاة تكون رباعية
وتارة تكون ثلاثية كالمغرب: وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب
فلا يقدرون على الجماعة بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، ورجالا وركبانا ولهم أن يمشوا
والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة. ومن العلماء من قال: يصلون والحالة هذه ركعة واحدة
559

لحديث ابن عباس المتقدم. وبه قال أحمد بن حنبل قال المنذري في الحواشي وبه قال عطاء وجابر والحسن
ومجاهد والحكم وقتادة وحماد وإليه ذهب طاوس والضحاك وقد حكى أبو عصام العبادي عن محمد بن نصر
المروزي أنه يرى رد الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضا وقال إسحاق بن راهويه: أما عند
المسايفة فيجزيك ركعة واحدة تومئ بها إيماء. فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله وقال آخرون يكفي تكبيرة
واحدة فلعله أراد ركعة واحدة كما قاله الإمام أحمد بن حنبل وأصحابه وبه قال جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر
وكعب وغير واحد من الصحابة والسدي ورواه ابن جرير ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء
بتكبيرة واحدة كما هو مذهب إسحاق بن راهويه وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بخت المكي حتى قال: فإن لم
يقدر على التكبيرة فلا يتركها في نفسه يعني بالنية رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عياش عن
شعيب بن دينار عنه فالله أعلم. ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم
الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء وكما قال بعدها يوم بني
قريظة حين جهز إليهم الجيش لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق فقال
منهم قائلون: لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخر الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في
الطريق وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من
الفريقين وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة وبينا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس
الامر وإن كان الآخرون معذورين أيضا والحجة ههنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى
حصار الناكثين للعهد من الطائفة الملعونة اليهود. وأما الجمهور فقالوا هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن
نزلت بعد فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك وهذا أبين في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الشافعي
رحمه الله وأهل السنن ولكن يشكل عليه ما حكاه البخاري في صحيحه حيث قال " باب الصلاة عند مناهضة
الحصون ولقاء العدو " قال الأوزاعي إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرئ لنفسه فإن
لم يقدروا على الايماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلوا ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة
وسجدتين فإن لم يقدروا فلا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا وبه قال مكحول وقال أنس بن مالك:
حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد
ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا قال أنس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها انتهى ما
ذكره ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ثم بحديث أمره إياهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة وكأنه
المختار لذلك والله أعلم. ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر
غالبا ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ولم ينقل أنه أنكر عليهم ولا أحد من الصحابة والله أعلم قال
هؤلاء وقد كانت صلاه الخوف مشروعة في الخندق لان غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء
السير والمغازي وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق وموسى بن عقبة والواقدي ومحمد بن سعد كاتبه
وخليفة بن الخياط وغيرهم وقال البخاري وغيره كانت ذات الرقاع بعد الخندق لحديث أبي موسى وما قدم إلا في
خيبر والله أعلم. والعجب كل العجب أن المزني وأبا يوسف القاضي وإبراهيم بن إسماعيل بن علية ذهبوا إلى أن
صلاة الخوف منسوخة بتأخيره عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وهذا غريب جدا وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق
بصلاة الخوف وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب والله أعلم فقوله تعالى
" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " أي إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى فإن تلك
قصرها إلى ركعة كما دل عليه الحديث - فرادى ورجالا وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ثم ذكر حال الاجتماع
والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال
كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد
560

النبي صلى الله عليه وسلم لقوله " وإذا كنت فيهم " فبعده تفوت هذه الصفة فإنه استدلال ضعيف ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة
الذين احتجوا بقوله " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم " قالوا فنحن لا
ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد بل نخرجها نحن بأيدينا على من نراه ولا ندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن
لنا ومع هذا رد عليهم الصحابة وأبوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقاتلوا من منعها منهم
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها قال ابن جرير حدثني ابن المثنى حدثني إسحق حدثنا
عبد الله بن هاشم أنبأنا سيف عن أبي روق عن أبي أيوب عن علي رضي الله عنه قال: سأل قوم من بني النجار
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي فأنزل الله عز وجل " وإذا ضربتم في الأرض
فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة " ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى
الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن لهم
أخرى مثلها في أثرها قال فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين " إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا " الآيتين فنزلت صلاة
الخوف وهذا سياق غريب جدا ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي واسمه زيد بن الصامت رضي الله
عنه عند الإمام أحمد وأهل السنن فقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن منصور عن مجاهد عن أبي
عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ثم قالوا يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم
من أبنائهم وأنفسهم قال فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " قال
فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح قال: فصفنا خلفه صفين قال: ثم ركع فركعنا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا
ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم
تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعا ثم رفع فرفعوا جميعا ثم
سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ثم سلم
عليهم ثم انصرف. قال: فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ومرة بأرض بني سليم. ثم رواه أحمد عن
غندر عن شعبة عن منصور به نحوه وهكذا رواه أبو داود عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد والنسائي من
حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد كلهم عن منصور به وهذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة فمن ذلك ما
رواه البخاري حيث قال: حدثنا حياة بن شريح حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبد الله بن
عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه فكبر وكبروا معه وركع
وركع ناس منهم ثم سجد وسجدوا معه ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى
فركعوا وسجدوا معه والناس كلهم في الصلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا. وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا
معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن سليمان بن قيس اليشكري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة أي يوم
أنزل أو أي يوم هو فقال جابر: انطلقنا نتلقى عيرا لقريش آتية من الشام حتى إذا كنا بنخلة جاء رجل من القوم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد هل تخافني قال " لا " قال فمن يمنعك مني قال " الله يمنعني منك " قال: فسل
السيف ثم تهدده وأوعده ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ثم نودي بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم
وطائفة أخرى تحرسهم فصلى بالذين يلونه ركعتين ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم
ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم
ركعتين ركعتين فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح. ورواه الإمام أحمد
فقال: حدثنا شريح حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سليمان بن قيس اليشكري عن جابر بن عبد الله قال: قاتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب حفصة فجاء رجل منهم يقال له غورث بن الحارث حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف
فقال: من يمنعك مني قال " الله " فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ومن يمنعك مني " قال: كن
561

خير آخذ قال " أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله "؟ قال لا ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم
يقاتلونك فخلى سبيله فقال جئتكم من عند خير الناس فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف
فكان الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا
فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين فكان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين تفرد به من هذا الوجه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان
حدثنا أبو قطن عمر بن الهيثم حدثنا المسعودي عن يزيد الفقير قال: سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر
أقصرهما فقال: الركعتان في السفر تمام إنما القصر واحدة عند القتال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذ أقيمت
الصلاة فقام رسول الله صلى فصف بطائفة وطائفة وجهها قبل العدو فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ثم الذين
خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة
وسجد بهم سجدتين ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم وسلم الذين خلفه وسلم أولئك فكانت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وللقوم ركعة ركعة ثم قرأ " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " الآية وقال الإمام أحمد
: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم صلى بهم صلاة الخوف فقام صف بن يديه وصف خلفه فصلى بالذين خلفه ركعة وسجدتين ثم تقدم
هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم وجاء أولئك حتى قاموا في مقام هؤلاء فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة
وسجدتين ثم سلم فكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ولهم ركعة ورواه النسائي من حديث شعبة
ولهذا الحديث طرق عن جابر وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في
الصحيح والسنن والمسانيد. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الله بن المبارك أنبأنا
معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة " قال هي صلاة الخوف صلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مقبلة على العدو وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة
على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ثم سلم بهم ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة
وهذا الحديث رواه الجماعة في كتبهم من طريق معمر به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن الجماعة من الصحابة
وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مردويه في سرد طرقه وألفاظه وكذا ابن جرير ولنحرره في كتاب الأحكام الكبير إن
شاء الله وبه الثقة وأما الامر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر
الآية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول الله تعالى " ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم
مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة
" إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ".
فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا (103) ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان
الله عليما حكيما (104)
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ولكن هاهنا آكد لما وقع
فيها من التخفيف في أركانها ومن الرخصة في الذهاب فيها والاياب وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال
562

تعالى في الأشهر الحرم " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ولكن فيها آكد لشدة حرمتها
وعظمها ولهذا قال تعالى " فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم " أي في سائر أحوالكم ثم
قال تعالى " فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة " أي فإذا أمنتم وذهب الخوف وحصلت الطمأنينة " فأقيموا الصلاة " أي
فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها وخشوعها وركوعها وسجودها وجميع شؤونها وقوله تعالى " إن
الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " قال ابن عباس أي مفروضا وقال أيضا: أن للصلاة وقتا كوقت الحج
وكذا روى عن مجاهد وسالم بن عبد الله وعلي بن الحسين ومحمد بن علي والحسن ومقاتل والسدي وعطية
العوفي وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا قال ابن مسعود: إن
للصلاة وقتا كوقت الحج وقال زيد بن أسلم " إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " قال منجما كلما مضى
نجم جاء نجم يعني كلما مضى وقت وجاء وقت. وقوله تعالى " ولا تهنوا في ابتغاء القوم " أي لا تضعفوا في
طلب عدوكم بل جدوا فيهم وقاتلوهم واقعدوا لهم كل مرصد " إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون "
أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " ثم
قال تعالى " وترجون من الله ما لا يرجون " أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم وإياهم والجراح والآلام ولكن
أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق وخبر
صدق وهم لا يرجون شيئا من ذلك فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها
" وكان الله عليما حكيما " أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية
وهو المحمود على كل حال.
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لنحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما (105) واستغفر الله إن الله
كان غفورا رحيما (106) ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما (107) يستخفون من
الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا (108) ها أنتم
هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا (109)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق " أي هو حق من الله وهو يتضمن الحق في
خبره وطلبه وقوله " لتحكم بين الناس بما أراك الله " احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله
عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم
سلمة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال " ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي
بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة
من النار فليحملها أو ليذرها " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا أسامة بن زيد عن عبد الله بن رافع عن أم سلمة
قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي
بينكم على نحو ما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاما
في عنقه يوم القيامة " فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما إذا قلتما فاذهبا
فاقتسما ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما ثم ليحلل كل منكما صاحبه " وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن
زيد به وزاد " إني إنما أقضى بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه " وقد روى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن
عباس أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار
563

فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها
في بيت رجل برئ وقال لنفر من عشيرته إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده فانطلقوا إلى نبي
الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا برئ وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على
رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤس الناس فأنزل
الله " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما * واستغفر الله إن الله كان
غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " الآية ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين
بالكذب " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " الآيتين. يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون
عن الخائنين ثم قال عز وجل " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " الآية يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين
بالكذب ثم قال " ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا " يعني السارق والذين
جادلوا عن السارق وهذا سياق غريب وقد ذكر مجاهد وعكرمة وقتادة والسدي وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها
نزلت في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم وهي متقاربة وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة
فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه وابن جرير في تفسيره: حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي
شعيب أبو مسلم الحراني حدثنا محمد بن سلمة الحراني حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أبيه
عن جده قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق بشر وبشير ومبشر وكان بشير
رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله لبعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا
وقال فلان كذا وكذا فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل
الخبيث أو كما قال الرجل وقالوا ابن الأبيرق قالها قالوا وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والاسلام وكان
الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع
الرجل منها فخص بها نفسه وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي رفاعة بن
زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح ودرع وسيف فعدى عليه من تحت البيت فنقبت
المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمى رفاعة فقال: يا ابن أخي إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه
فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه
الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال: وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى
صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال: أنا أسرق والله ليخالطنكم
هذا السيف أو لتبينن هذه السرقة قالوا: إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك
أنهم أصحابها فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال قتادة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا
علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سامر في ذلك " فلما سمع بذلك بنو أبيرق أتوا رجلا
منهم يقال له أسيد بن عروة فكلموه في ذلك فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا: يا رسول الله إن
قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة:
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال " عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة "
قال فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن
أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان فلم نلبث أن نزل القرآن " إنا أنزلنا إليك
الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " يعني بني أبيرق " واستغفر الله " أي مما
قلت لقتادة " إن الله كان غفورا رحيما * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم " - إلى قوله - " رحيما " أي لو
استغفروا الله لغفر لهم " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه - إلى قوله - إثما مبينا " قوله للبيد " ولولا فضل الله
564

عليك ورحمته - إلى قوله - فسوف نؤتيه أجرا عظيما " فلما نزل القرآن أتي رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله
وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة فقال قتادة: لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخا قد عمى أو عشى الشك من أبي
عيسى في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هي في سبيل الله فعرفت أن
إسلامه كان صحيحا فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فأنزل الله تعالى
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا *
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " فلما نزل على سلافة
بنت سعد هجاها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في
الأبطح ثم قالت: أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير. لفظ الترمذي هذا حديث غريب لا نعلم أحدا
أسنده غير محمد بن سلمة الحراني ورواه يونس بن بكير وغير واحد عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن
قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن أبيه عن جده ورواه ابن أبي حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني عن محمد بن سلمة
به ببعضه ورواه ابن المنذر في تفسيره حدثنا محمد بن إسماعيل يعنى الصائغ حدثنا أحمد بن أبي شعيب
الحراني حدثنا محمد بن سلمة فذكره بطوله ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن عياش بن أيوب
والحسن بن يعقوب كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني عن محمد بن سلمة به ثم قال في آخره
قال محمد بن سلمة سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحق بن إسرائيل وقد روى هذا
الحديث الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن العباس الأصم عن أحمد بن عبد الجبار
العطاردي عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق بمعناه أتم منه وفيه الشعر ثم قال: وهذا حديث صحيح على
شرط مسلم ولم يخرجاه. وقوله تعالى " يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله " الآية هذا إنكار على
المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ويجاهرون الله بها لأنه مطلع على سرائرهم
وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال " وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا "
تهديد لهم ووعيد، ثم قال تعالى " ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا " الآية. أي هب أن هؤلاء
انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك فماذا يكون
صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج
دعواهم أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلا ولهذا قال " أم من يكون عليهم وكيلا ".
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على
نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
(112) ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما (113)
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان فقال تعالى " ومن يعمل سوءا أو يظلم
نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أخبر الله
عباده بعفوه وحلمه وكرمه وسعة رحمته ومغفرته فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرا " ثم يستغفر الله يجد
الله غفورا رحيما " ولو كانت ذنوبه أعظم من السماوات والأرض والجبال رواه ابن جرير. وقال ابن جرير أيضا:
حدثنا محمد بن مثنى حدثنا محمد بن أبي عدي حدثنا شعبة عن عاصم عن أبي وائل قال: قال عبد الله: كان بنو
إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه وإذا أصاب البول منه شيئا قرضه
565

بالمقراض فقال رجل: لقد آتي الله بني إسرائيل خيرا فقال عبد الله رضي الله عنه: ما آتاكم الله خير مما آتاهم
جعل الماء لكم طهورا وقال تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم "
وقال " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " وقال أيضا: حدثني يعقوب حدثنا
هشيم عن ابن عون عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مغفل فسألته عن امرأة فجرت
فحبلت فلما ولدت قتلت ولدها قال عبد الله بن مغفل لها النار فانصرفت وهي تبكي فدعاها ثم قال ما أرى
أمرك إلا أحد أمرين " من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " قال: فمسحت عينها ثم
مضت. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا شعبة عن عثمان بن المغيرة قال:
سمعت علي بن ربيعة من بنى أسد يحدث عن أسماء أو ابن أسماء من بني فزارة قال: قال علي رضي الله عنه:
كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا نفعني الله فيه بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يذنب ذنبا ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له " وقرأ هاتين
الآيتين " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم " الآية وقد تكلما
على هذا الحديث وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق
رضي الله عنه، وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضا وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من وجه آخر عن
علي فقال: حدثنا أحمد بن محمد بن زياد حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحراني حدثنا داود بن مهران الدباغ حدثنا
عمر بن يزيد عن عبد خير عن علي قال: سمعت أبا بكر هو الصديق يقول: سمعت رسول الله صلى يقول " ما من
عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن الوضوء ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه إلا كان حقا على الله أن يغفر له " لان الله
يقول " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه " الآية ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش عن أبي إسحق السبيعي عن
الحارث عن علي عن الصديق بنحوه وهذا إسناد لا يصح وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا
أحمد بن حازم حدثنا موسى بن مروان الرقي حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي عن تمام بن نجيح حدثني كعب بن
ذهل الأزدي قال: سمعت أبا الدرداء يحدث قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله وكانت له حاجة فقام إليها
وأراد الرجوع ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه وأنه قام فترك نعليه قال أبو الدرداء فأخذ ركوة من ماء فاتبعته
فمضى ساعة ثم رجع ولم يقض حاجته فقال " إنه أتاني آت من ربي فقال: إنه " من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم
يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما " فأردت أن أبشر أصحابي " قال أبو الدرداء وكانت قد شقت على الناس الآية التي
قبلها " من يعمل سوءا يجز به " فقلت يا رسول الله وإن زنى وإن سرق ثم استغفر ربه غفر له؟ قال " نعم " ثم
قلت الثانية قال " نعم " ثم قلت الثالثة قال " نعم وإن زنى وإن سرق ثم استغفر الله غفر الله له على رغم أنف أبي
الدرداء " قال: فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه بهذا السياق وفي
إسناده ضعف. وقوله " ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه " الآية كقوله تعالى " ولا تزر وازرة وزر
أخرى " الآية يعني أنه لا يغنى أحد عن أحد وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها ولهذا قال
تعالى " وكان الله عليما حكيما " أي من علمه وحكمته وعدله ورحمته كان ذلك، ثم قال " ومن يكسب خطيئة أو
إثما ثم يرم به بريئا " الآية يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما
تقدم في الحديث أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله
على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم
فعليه مثل عقوبتهم، وقوله " ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما
يضرونك من شئ " وقال الإمام ابن أبي حاتم: أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إلي حدثنا محمد بن
سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه عن جده قتادة بن النعمان وذكر قصة بني
أبيرق فأنزل الله " لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شئ " يعني أسيد بن عروة
566

وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن
الامر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه
في جميع الأحوال وعصمته له وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة " وعلمك ما لم
تكن تعلم " أي قبل نزول ذلك عليك كقوله " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب " إلى
آخر السورة وقال تعالى " وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك " ولهذا قال " وكان فضل الله
عليك عظيما ".
لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله
فسوف نؤتيه أجرا عظيما (114) ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم وساءت مصيرا (115)
يقول تعالى " لا خير في كثير من نجواهم " يعني كلام الناس " إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين
الناس " أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه حدثنا محمد
ابن عبد الله بن إبراهيم حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث حدثنا محمد بن زيد بن حنيش
قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن
أم صالح ردده علي فقال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلام
ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر " فقال سفيان: أو ما سمعت الله في
كتابه يقول " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " فهو هذا بعينه
أو ما سمعت الله يقول " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " فهو هذا
بعينه أو ما سمعت الله يقول في كتابه " والعصر إن الانسان لفي خسر " ألخ فهو هذا بعينه وقد روي هذا
الحديث الترمذي وابن ماجة من حديث محمد بن يزيد بن حنيش عن سعيد بن حسان به ولم يذكر أقوال الثوري
إلى آخرها ثم قال الترمذي حديث غريب لا يعرف إلا من حديث ابن حنيش قال الإمام أحمد: حدثنا يعقوب
حدثنا أبي حدثنا صالح بن كيسان حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف
أخبره أن أمه أم كلثوم بنت عقبة أخبرته أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي
خيرا أو يقول خيرا " وقالت لم أسمعه يرخص في شئ مما يقوله الناس إلا في ثلاث: في الحرب والاصلاح بين
الناس وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها. قال: وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي
بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رواه الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن الزهري به نحوه قال الإمام أحمد: حدثنا أبو
معاوية عن الأعمش عن عمرو بن محمد عن سالم بن أبي الجعد عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى يا رسول الله قال " إصلاح
ذات البين قال: وفساد ذات البين هي الحالقة " ورواه أبو داود والترمذي من حديث أبي معاوية وقال الترمذي
حسن صحيح وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا شريح بن يونس حدثنا عبد الرحمن بن
عبيد الله بن عمر حدثنا أبي عن حميد عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب " ألا أدلك على تجارة " قال: بلى يا
رسول الله قال " تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا " ثم قال البزار وعبد الرحمن بن
عبد الله العمري لين وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها ولهذا قال " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله " أي مخلصا
إلى ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل " فسوف نؤتيه أجرا عظيما " أي ثوابا جزيلا كثيرا واسعا وقوله " ومن
567

يشاقق الرسول من بعدما تبين له الهدى " أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق
والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له وقوله " ويتبع غير سبيل المؤمنين " هذا
ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم
اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت
أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك قد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب أحاديث الأصول ومن العلماء من ادعى تواتر
معناها والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الاجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة
بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة
منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله " نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " أي إذا سلك هذه
الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى " فذرني ومن يكذب بهذا
الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " وقال تعالى " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وقوله " ونذرهم في
طغيانهم يعمهون " وجعل النار مصيره في الآخرة لان من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة
كما قال تعالى " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " الآية وقال تعالى " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها
ولم يجدوا عنها مصرفا ".
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيد (116) إن يدعون
من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا (117) لعنه الله وقال لأتخدن من عبادك نصيبا مفروضا (118) ولأضلنهم
ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد
خسر خسرانا مبينا (119) يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (120) أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون
عنها محيصا (121) والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله
حقا ومن أصدق من الله قيلا (122)
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي قوله " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك " الآية وذكرنا ما
يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روى الترمذي: حدثنا ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة عن أبيه
عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية " إن الله لا يغفر أن يشرك به " الآية ثم
قال هذا حسن غريب وقوله " ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا " أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن
الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه وخسرها في الدنيا والآخرة وفاتته سعادة الدنيا والآخرة وقوله " إن يدعون من
دونه إلا إناثا " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمود بن غيلان أنبأنا الفضل بن موسى أخبرنا الحسن بن واقد عن الربيع
ابن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: مع كل صنم جنية. وحدثنا أبي حدثنا محمد بن سلمة الباهلي عن عبد العزيز
بن محمد عن هشام يعني ابن عروة عن أبيه عن عائشة " إن يدعون من دونه إلا إناثا " قالت: أوثانا. وروى عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير ومجاهد وأبي مالك والسدي ومقاتل نحو ذلك وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية:
قال المشركون للملائكة بنات الله وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى قال فاتخذوهن أربابا وصوروهن جواري
فحكموا وقلدوا وقالوا هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى " أفرأيتم
568

اللات والعزى " الآيات وقال تعالى " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا " الآية وقال " وجعلوا بينه
وبين الجنة نسبا " الآيتين وقال علي بن أبي طلحة والضحاك عن ابن عباس " وإن يدعون من دونه إلا إناثا قال:
يعني موتى وقال مبارك يعني ابن فضالة عن الحسن " إن يدعون من دونه إلا إناثا " قال الحسن الإناث كل شئ ميت ليس
فيه روح إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وهو غريب وقوله " وإن يدعون إلا شيطانا
مريدا " أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الامر كما قال تعالى " ألم
أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان " الآية. وقال تعالى إخبارا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن
المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا " بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون " وقوله " لعنه الله " أي
طرده وأبعده من رحمته وأخرجه من جواره وقال " لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا " أي معينا مقدرا معلوما
قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة " ولأضلنهم " أي عن الحق
" ولأمنينهم " أي أزين لهم ترك التوبة وأعدهم الأماني وآمرهم بالتسويف والتأخير وأغرهم من أنفسهم قوله
" ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام " قال قتادة والسدي وغيرهما: يعني تشقيقها وجعلها سمة وعلامة للبحيرة
والسائبة والوصيلة " ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " قال ابن عباس: يعني بذلك خصي الدواب. وكذا روى عن ابن
عمر وأنس وسعيد بن المسيب وعكرمة وأبي عياض وقتادة وأبى صالح والثوري وقد ورد في حديث النهي عن
ذلك وقال ابن الحسن البصري يعني بذلك الوشم وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه وفي لفظ:
لعن الله من فعل ذلك وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال: لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات
والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل ثم قال: ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في
كتاب الله عز وجل يعني قوله " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال ابن عباس في رواية عنه
ومجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والحكم والسدي والضحاك وعطاء الخراساني في قوله " ولآمرنهم
فليغيرن خلق الله " يعني دين الله عز وجل وهذا كقوله " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها
لا تبديل لخلق الله " على قول من جعل ذلك أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم كما ثبت في
الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء " وهو صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت
عليهم ما أحللت لهم " ثم قال تعالى " ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا " أي فقد خسر
الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها، وقوله تعالى " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا
غرورا " وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة وقد كذب
وافترى في ذلك ولهذا قال الله تعالى " وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " كما قال تعالى مخبرا عن إبليس يوم المعاد
وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان - إلى
قوله - وإن الظالمين لهم عذاب أليم " وقوله " أولئك " أي المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم " مأواهم جهنم "
أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة " ولا يجدون عنها محيصا " أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ولا خلاص
ولا مناص ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء ومالهم من الكرامة التامة فقال تعالى " والذين آمنوا وعملوا
الصالحات " أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات
" سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار " أي يصرفونها حيث شاؤوا وأين شاؤوا " خالدين فيها أبدا " أي بلا
زوال ولا انتقال " وعد الله حقا " أي هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ولهذا أكده
بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله حقا ثم قال تعالى " ومن أصدق من الله قيلا " أي لا أحد أصدق منه
قولا أي خبرا لا إله إلا هو ولا رب سواه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته " إن أصدق الحديث كلام الله وخير
569

الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ".
ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا (123) ومن
يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا (124) ومن أحسن دينا ممن
أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا (125) ولله ما في السماوات وما في الأرض
وكان الله بكل شئ محيطا (126)
قال قتادة ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن
أولى بالله منكم وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت
قبله فأنزل الله " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله
وهو محسن " الآية. ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان. وكذا روي عن السدي ومسروق
والضحاك وأبي صالح وغيرهم وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية: تخاصم أهل
الأديان فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب ونبينا خير الأنبياء وقال أهل الإنجيل مثل ذلك وقال أهل
الاسلام: لا دين إلا الاسلام وكتابنا نسخ كل كتاب ونبينا خاتم النبيين وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل
بكتابنا فقضى الله بينهم وقال " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " الآية وخير بين
الأديان فقال " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " إلى قوله " واتخذ الله إبراهيم خليلا " وقال
مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب وقالت اليهود والنصارى " لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو
نصارى " وقالوا " لن تمسنا النار إلا أياما معدودات " والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني
ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ولا كل من قال إنه على
الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان ولهذا قال تعالى " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب
من يعمل سوءا يجز به " أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه
على ألسنة الرسل الكرام ولهذا قال بعده " من يعمل سوءا يجز به " كقوله " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة قال الإمام أحمد:
حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا
رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " فكل سوء
عملناه جزينا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك
اللاواء " قال بلى قال " فهو مما تجزون به " ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن إسماعيل بن أبي خالد
به ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد
الجصاص عن علي بن زيد عن مجاهد عن ابن عمر قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يعمل
سوءا يجز به في الدنيا " وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن هشام بن جهيمة حدثنا يحيى بن أبي طالب
حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد عن مجاهد قال: قال عبد الله بن عمر: انظروا
المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوبا فلا تمرن عليه قال فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير
فقال يغفر الله لك ثلاثا أما والله ما علمتك إلا صواما قواما وصالا للرحم أما والله إني لأرجو مع مساوئ ما أصبت أن
لا يعذبك الله بعدها قال: ثم التفت إلي فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يعمل
سوءا في الدنيا يجز به " ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصرا وقال
570

في مسند ابن الزبير: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان حدثني أبي عن جدي
حيان بن بسطام قال بسطام قال كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب فقال رحمة الله عليك يا أبا
خبيب سمعت أباك يعني الزبير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يعمل سوءا يجز به في الدنيا والآخرة " ثم قال لا
نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا أحمد بن كامل حدثنا محمد بن سعد
العوفي حدثنا روح بن عبادة حدثنا موسى بن عبيدة حدثني مولى بن السباع قال: سمعت ابن عمر يحدث عن
أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا
نصيرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر ألا أقرئك آية نزلت علي " قال: قلت بلى يا رسول الله أقرأنيها فلا أعلم أنى قد
وجدت انفصاما في ظهري حتى تمطيت لها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مالك يا أبا بكر " قلت بأبي أنت وأمي يا
رسول الله وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما أنت يا أبا بكر وأصحابك
المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا
به يوم القيامة " وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به ثم قال وموسى بن عبيدة
يضعف ومولى بن سباع مجهول وقال ابن جرير: حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال ثنى حجاج عن ابن جريج
قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر جاءت قاصمة الظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما
هي المصيبات في الدنيا " " طريق أخرى عن الصديق " قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق
العسكري حدثنا محمد بن عامر السعدي حدثنا يحيى بن يحيى حدثنا فضيل بن عياض عن سليمان بن مهران
عن مسلم بن صبيح عن مسروق قال: قال أبو بكر الصديق يا رسول الله ما أشد هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء " " طريق أخرى " قال ابن جرير: حدثني
عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا: أنبأنا زيد بن الحباب حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي حدثنا
محمد بن زيد بن منقذ عن عائشة عن أبا بكر قال: لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به " قال أبو بكر: يا رسول الله
كل ما نعمل نؤاخذ به؟ فقال: " يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا فهو كفارة ". " حديث آخر " قال سعيد بن منصور
أنبأنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير
عن عائشة أن رجلا تلا هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به " فقال إنا لنجزى بكل ما عملناه هلكنا إذا فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه " " طريق أخرى " قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن بشير حدثنا هشيم عن عامر عن ابن أبي مليكة عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله
إني لاعلم أشد آية في القرآن فقال " ما هي يا عائشة " قلت: " من يعمل سوءا يجز به " فقال " هو ما يصيب العبد
المؤمن حتى النكبة ينكبها " رواه ابن جرير من حديث هشيم به ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم
الخراز به. " طريق أخرى " قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن ابنته أنها سألت
عائشة عن هذه الآية " من يعمل سوءا يجز به " فقالت: ما سألني أحد عن هذه الآية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: " يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها
فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير ". " طريق أخرى " قال ابن
مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا أبو القاسم حدثنا شريح بن يونس حدثنا أبو معاوية عن
محمد بن إسماعيل عن محمد بن يزيد بن المهاجر عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " من يعمل
سوءا يجز به " قال: " إن المؤمن يؤجر في كل شئ حتى في القبض عند الموت " وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين
عن زائدة عن ليث عن مجاهد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه
الله بالحزن ليكفرها عنه. " حديث آخر " قال سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن عمر بن عبد الرحمن بن
محيصن سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت " من يعمل سوءا يجز به "
571

شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة
يشاركها والنكبة ينكبها " هكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة
به ورواه ابن جرير من حديث روح ومعمر كلاهما عن إبراهيم بن يزيد عن عبد الله بن إبراهيم سمعت أبا هريرة
يقول: لما نزلت هذه الآية " ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به " بكينا وحزنا وقلنا: يا
رسول الله ما أبقت هذه الآية من شئ قال " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه
لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه " وقال عطاء بن
يسار عن أبي سعيد وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا
حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته " أخرجاه. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد بن إسحاق
حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم فقال: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها قال: " كفارات " قال أبي وإن قلت قال حتى الشوكة فما
فوقها قال فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل
الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة فما مسه إنسان حتى وجد حره حتى مات رضي الله عنه تفرد به أحمد.
" حديث آخر " روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قيل يا
رسول الله " من يعمل سوءا يجز به " قال " نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشرا " فهلك من غلب واحدته عشراته
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن " من يعمل سوءا
يجز به " قال الكافر ثم قرأ " وهل نجازي إلا الكفور " وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء
ههنا بالشرك أيضا وقوله " ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس إلا أن
يتوب فيتوب الله عليه رواه ابن أبي حاتم والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا
اختيار ابن جرير والله أعلم وقوله " ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن " الآية لما ذكر الجزاء
على السيئات وأنه لابد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له وإما في الآخرة والعياذ بالله من
ذلك ونسأله العافية في الدنيا والآخرة والصفح والعفو والمسامحة شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول
الأعمال الصالحة من عباده ذكرانهم وإناثهم بشرط الايمان وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا
مقدار النقير وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط الذي في شق النواة وهذا
النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة والثلاثة في القرآن ثم قال تعالى " ومن
أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله " أي أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيمانا واحتسابا " وهو محسن " أي اتبع في
عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي
يكون خالصا صوابا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون متابعا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة وباطنه
بالاخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد فمتى فقد الاخلاص كان منافقا وهم الذين يراؤون الناس ومن
فقد المتابعة كان ضالا جاهلا ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين " الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن
سيئاتهم " الآية. ولهذا قال تعالى " واتبع ملة إبراهيم حنيفا " وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة كما قال تعالى
" إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي " الآية وقال تعالى " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا
وما كان من المشركين " والحنيف هو المائل عن الشرك قصدا أي تاركا له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا
يصده عنه صاد ولا يرده عنه راد وقوله " واتخذ الله إبراهيم خليلا " وهذا من باب الترغيب في اتباعه لأنه إمام
يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة وما
ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله " وإبراهيم الذي وفي " قال كثير من علماء السلف أي قام بجميع
ما أمر به وفي كل مقام من مقامات العبادة فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ولا كبير عن صغير وقال تعالى " وإذا
572

ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن الآية وقال تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين "
الآية والآية بعدها وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير
عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ " واتخذ الله إبراهيم خليلا " فقال رجل
من القوم لقد قرت عين أم إبراهيم. وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه
أصاب أهل ناحيته جدب فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل وقال بعضهم من أهل مصر ليمتار طعاما لأهله من
قبله فلم يصب عنده حاجته فلما قرب من أهله بمفازة ذات رمل فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم
أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقا فلما صار
إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقا فعجنوا منه وخبزوا فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا
فقالوا من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال نعم هو من عند خليلي الله فسماه الله بذلك خليلا وفي
صحة هذا ووقوعه نظر وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب وإنما سمي خليل الله لشدة محبته لربه عز
وجل لما قام له به من الطاعة التي يحبها ويرضاها ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال " أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا
لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله " وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي
وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم
خليلا " وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد حدثنا
إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة حدثنا عبد الله الحنفي حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن
ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع
حديثهم وإذا بعضهم يقول: عجب إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله وقال آخر ماذا بأعجب من أن الله
كلم موسى تكليما وقال آخر فعيسى روح الله وكلمته وقال آخر آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم وقال " قد سمعت
كلامكم وتعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك وموسى كليمه وعيسى روحه وكلمته وآدم اصطفاه الله وهو كذلك
وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإني حبيب الله ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة
الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر " وهذا
حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال:
أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. رواه
الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من
الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبدك القزويني حدثنا محمد يعني
ابن سعيد بن سابق حدثنا عمرو يعنى ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد عن عبيد بن عمير قال: كان إبراهيم
عليه السلام يضيف الناس فخرج يوما يلتمس أحدا يضيفه فلم يجد أحدا يضيفه فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائما
فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني قال: دخلتها بإذن ربها قال ومن أنت قال أنا ملك الموت أرسلني
ربى إلى عبد من عباده أبشره بأن الله قد اتخذه خليلا قال من هو فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينه ثم
لا أبرح له جارا حتى يفرق بيننا الموت قال: ذلك العبد أنت قال أنا قال نعم قال فبم اتخذني ربي خليلا؟
قال إنك تعطي الناس ولا تسألهم. وحدثنا أبي حدثنا محمود بن خالد السلمي حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار قال
لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في
الهواء وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله
" ولله ما في السماوات وما في الأرض " أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك لا راد لما
قضى ولا معقب لما حكم ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله " وكان الله بكل
573

شئ محيطا " أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في
السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.
ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب
لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان
به عليما (127)
قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها " ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن - إلى قوله - وترغبون أن تنكحوهن " قالت عائشة: هو الرجل تكون
عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في
ماله بما شركته فيعضلها فنزلت هذه الآية وكذلك رواه مسلم عن أبي كريب ابن أبي شيبة كلاهما عن أبي أسامة
وقال ابن أبي حاتم: قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب
أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى اله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله " ويستفتونك
في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب " الآية قالت: والذي ذكر الله أنه يتلى عليه في
الكتاب. الآية الأولى التي قال الله " وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء " وبهذا
الاسناد عن عائشة قالت: وقول الله عز وجل " وترغبون أن تنكحوهن " رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في
حجره حتى تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من
أجل رغبتهم عنهن وأصله ثابت في الصحيحين من طريق يونس بن يزيد الابلي به والمقصود أن الرجل إذا كان في
حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء فإن لم يفعل
فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع الله عز وجل وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة وتارة لا
يكون فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الامر فنهاه الله عز وجل أن يعضلها عن الأزواج خشية أن يشركوه في ماله
الذي بينه وبينها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية وهي قوله " في يتامى النساء " الآية. كان
الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقى عليها ثوبه فإذا فعل ذلك فلم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا فإن كانت
جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت فإذا ماتت ورثها. فحرم الله ذلك
ونهى عنه وقال في قوله " والمستضعفين من الولدان " كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات وذلك قوله
" لا تؤتوهن ما كتب لهن " فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال " للذكر مثل حظ الأنثيين " صغيرا
أو كبيرا وكذا قال سعيد بن جبير وغيره. قال سعيد بن جبير في قوله " وأن تقوموا لليتامى بالقسط " كما إذا كانت
ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها وقوله " وما
تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما " تهيجا على فعل الخيرات وامتثالا للأوامر وأن الله عز وجل عالم بجميع
ذلك وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وأحضرت
الأنفس الشح وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (128) ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو
حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما (129) وإن يتفرقا يغن
574

الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما (130)
يقول تعالى مخبرا ومشرعا من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة وتارة في حال اتفاقه معها
وتارة في حال فراقه لها فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها فلها أن تسقط عنه
حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في
بذلها ذلك له ولا عليه في قبوله منها ولهذا قال تعالى " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهم صلحا " ثم قال
" والصلح خير " أي من الفراق وقوله " وأحضرت الأنفس الشح " أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ولهذا
لما كبرت سودة بنت زمعة عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة فقبل ذلك منها
وأبقاها على ذلك " ذكر الرواية بذلك " قال أبو داود الطيالسي: حدثنا سليمان بن معاذ عن سماك بن حرب عن
عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا تطلقني واجعل يومي لعائشة
ففعل ونزلت هذه الآية " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما " الآية قال ابن عباس: فما
اصطلحا عليه من شئ فهو جائز ورواه الترمذي عن محمد بن المثنى عن أبي داود الطيالسي به وقال حسن
غريب وقال الشافعي أخبرنا مسلم عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى عن تسع نسوة
وكان يقسم لثمان. وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لما كبرت سودة بنت زمعة
وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة وفي صحيح البخاري من حديث الزهري عن عروة عن
عائشة نحوه وقال سعيد بن منصور أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام عن أبيه عروة قال: لما أنزل الله في
سودة وأشباهها " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " وذلك أن سودة كانت امرأة قد أسنت ففرقت أن
يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضنت بمكانها منه وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه فوهبت يومها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البيهقي وقد رواه أحمد بن يونس عن الحسن بن أبي الزناد
موصولا وهذه الطريقة رواها الحاكم في مستدركه فقال: حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه أخبرنا الحسن بن علي بن
زياد حدثنا أحمد بن يونس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت له: يا
ابن أخي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا وكان قل يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من
كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وفرقت أن
يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يومى هذا لعائشة فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة ففي ذلك أنزل الله
" وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " وكذلك رواه أبو داود عن أحمد بن يونس به والحاكم في
مستدركه ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق أبى بلال الأشعري عن
عبد الرحمن بن أبي الزناد به نحوه ومن رواية عبد العزيز عن محمد الدراوردي عن هشام بن عروة بنحوه مختصرا
والله أعلم. وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدعولي في أول معجمه: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا
مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي برة قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زمعة
بطلاقها فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة فلما رأته قالت له: أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه واصطفاك
على خلقه لما راجعتني فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال. لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة
فراجعها فقالت: فإني جعلت يومي وليلتي لحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا غريب مرسل. وقال البخاري: حدثنا
محمد بن مقاتل أنبأنا عبد الله أنبأنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا "
قال الرجل تكون عنده المرأة المسنة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول: أجعلك من شأني في حل فنزلت
هذه الآية. وقال ابن جرير: حدثنا وكيع حدثنا أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة " وإن امرأة خافت من
بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " قالت هذا في المرأة تكون عند
575

الرجل فلعله لا يكون بمستكثر منها ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من
شأني. حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام عن عروة عن عائشة في قوله " وان
امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " قالت: هو الرجل يكون له المرأتان إحداهما قد كبرت والأخرى دميمة وهو
لا يستكثر منها فتقول: لا تطلقني وأنت في حل من شأني وهذا الحديث ثابت في الصحيحين من غير وجه عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم ولله الحمد والمنة. قال ابن جرير حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا:
حدثنا جرير عن أشعث عن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة
فسأله آخر عن هذه الآية " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " ثم قال عن مثل هذا فاسألوا ثم قال
هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها فما اصطلحا عليه من شئ فهو
جائز. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين الهسنجاني حدثنا مسدد حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب
عن خالد بن عرعرة قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قول الله عز وجل " وإن امرأة خافت من بعلها
نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما " قال علي: يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو
سوء خلقها أو قذذها فتكره فراقه فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له وإن جعلت له من أيامها فلا حرج
وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم
عن سماك به وكذا فسرها ابن عباس وعبيدة السلماني ومجاهد بن جبير والشعبي وسعيد بن جبير وعطاء وعطية
العوفي ومكحول والحسن والحكم بن عتبة وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة ولا أعلم في ذلك خلافا أن المراد
بهذه الآية هذا والله أعلم. وقال الشافعي: أنبأنا ابن عيينة عن الزهري عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم
كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كبرا أو غيره فأراد طلاقها فقالت لا تطلقني وأقسم لي ما بدا لك فأنزل الله
عز وجل " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " الآية وقد رواه الحاكم في مستدركه من طريق عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق وقال الحافظ أبو بكر البيهقي
حدثنا سعيد بن أبي عمرو حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني أنبأنا علي بن محمد بن عيسى أنبأنا أبو اليمان
أخبرني شعيب بن أبي حمزة عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن السنة في هاتين الآيتين
اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا " إلى
تمام الآيتين أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما
كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه صلح له ذلك وكان صلحها عليه. كذلك ذكر سعيد بن المسيب وسليمان
الصلح الذي قال الله عز وجل " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير " وقد ذكر لي أن رافع بن
خديج الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة
فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها ثم عاد فأثر عليها الشابة فناشدته الطلاق فقال
لها ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك فقالت لا بل
أستقر على الأثرة فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة
فيما أثر به عليها وهكذا رواه بتمامه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن سعيد بن
المسيب وسليمان بن يسار فذكره بطوله والله أعلم وقوله " والصلح خير " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
يعني التخيير أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها والظاهر من الآية أن
صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت
زمعة على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه وفعله ذلك لتتأسى به أمته في
مشروعية ذلك وجوازه فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال
" والصلح خير " بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة جميعا
576

عن كثير بن عبيد عن محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق " ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن معروف عن محارب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر معناه مرسلا وقوله " وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وإن تتجشموا
مشقة الصبر على ما تكرهون منهن وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء
وقوله تعالى " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من
جميع الوجوه فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلابد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن
عباس وعبيدة السلماني ومجاهد والحسن البصري والضحاك بن مزاحم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا
ابن أبي شيبة حدثنا حسين الجعفي عن زائدة عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية " ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم " في عائشة يعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها كما جاء في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد
عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول " اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما
تملك ولا أملك " يعني القلب هذا لفظ أبي داود وهذا إسناد صحيح لكن قال الترمذي رواه حماد بن زيد وغير
واحد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا قال: وهذا أصح وقوله " فلا تميلوا كل الميل " أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن
فلا تبالغوا في الميل بالكلية " فتذروها كالمعلقة " أي فتبقى هذه الأخرى معلقة. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن
جبير والحسن والضحاك والربيع بن أنس والسدي ومقاتل بن حيان معناه لا ذات زوج ولا مطلقة وقال أبو داود
الطيالسي أنبأنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط " وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث
همام بن يحيى عن قتادة به. وقال الترمذي إنما أسنده همام ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال: كان يقال ولا
يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام وقوله " وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما " أي وإن
أصلحتم في أموركم وقسمتم بالعدل فيما تملكون واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى
بعض النساء دون بعض ثم قال تعالى " وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما " وهذه هي الحالة
الثالثة وهي حالة الفراق وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه بأن يعوضه الله من هو خير له
منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه " وكان الله واسعا حكيما " أي واسع الفضل عظيم المن حكيما في جميع
أفعاله وأقداره وشرعه.
ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا
فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا (131) ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا
(132) إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا (133) من كان يريد ثواب الدنيا فعند
الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا (134)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم
وإياكم " أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عز وجل بعبادته وحده لا شريك له ثم قال " وإن تكفروا فإن لله
ما في السماوات وما في الأرض " الآية كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه " إن تكفروا أنتم ومن في
الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " وقال " فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد " أي غني عن عباده
577

" حميد " أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه وقوله " ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا " أي
هو القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب الشهيد على كل شئ وقوله " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين
وكان الله على ذلك قديرا " أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه كما قال " وإن تتولوا يستبدل
قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " قال بعض السلف: ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره وقال تعالى " إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز " أي وما هو عليه بممتنع وقوله " من كان يريد ثواب الدنيا
فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة وإذا سألته من
هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك كما قال تعالى " فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من
خلاق * ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار * أولئك لهم نصيب مما كسبوا "
الآية وقال تعالى " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه " الآية وقال تعالى " من كان يريد العاجلة عجلنا
له فيها ما نشاء لمن نريد - إلى قوله - انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض " الآية وقد زعم ابن جرير أن المعنى في
هذه الآية " من كان يريد ثواب الدنيا " أي من المنافقين الذين أظهروا الايمان لأجل ذلك " فعند الله ثواب الدنيا "
وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين وقوله " والآخرة " أي وعند الله ثواب الآخرة وهو ما ادخره لهم
من العقوبة في نار جهنم جعلها كقوله " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها - إلى قوله - وباطل ما كانوا يعملون " ولا
شك أن هذه الآية معناها ظاهر وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر فإن قوله " فعند الله ثواب الدنيا والآخرة " ظاهر
في حصول الخير في الدنيا والآخرة أي بيده هذا وهذا فلا يقتصر قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط بل لتكن همته
سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع وهو الله الذي لا إله
إلا هو الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا
وممن يستحق هذا. ولهذا قال " وكان الله سميعا بصيرا ".
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا
فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا (135)
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله لومة
لائم ولا يصرفهم عنه صارف وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه وقوله " شهداء لله " كما قال
" وأقيموا الشهادة لله " أي أدوها ابتغاء وجه الله فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا خالية من التحريف والتبديل
والكتمان ولهذا قال " ولو على أنفسكم " أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك وإذا سئلت عن الامر فقل الحق فيه
ولو عادت مضرته عليك فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه وقوله " أو الوالدين
والأقربين " أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم فإن
الحق حاكم على كل أحد وقوله " إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما " أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره والله
يتولاهما بل هو أولى بهما منك واعلم بما فيه صلاحهما وقوله " فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا " أي فلا يحملنكم
الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم بل الزموا العدل على أي حال كان كما قال
تعالى " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما
بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من عند
أحب الخلق إلي ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا
أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات والأرض. وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة إن شاء الله تعالى
578

وقوله " وإن تلووا أو تعرضوا " قال مجاهد وغير واحد من السلف تلووا أي تحرفوا الشهادة وتغيروها واللي هو
التحريف وتعمد الكذب. قال تعالى " وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب " الآية والاعراض هو كتمان
الشهادة وتركها. قال تعالى " ومن يكتمها فإنه أثم قلبه " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن
يسئلها " ولهذا توعدهم الله بقوله " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " أي وسيجازيكم بذلك.
يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن
يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا (136)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الايمان وشعبه وأركانه ودعائمه وليس هذا من باب تحصيل
الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه كما يقول المؤمن في كل صلاة " اهدنا
الصراط المستقيم " أي بصرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه فأمرهم بالايمان به وبرسوله كما قال تعالى " يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " وقوله " والكتاب الذي نزل على رسوله " يعني القرآن " والكتاب الذي أنزل من
قبل وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة وقال في القرآن نزل لأنه " نزل " متفرقا منجما على الوقائع بحسب ما
يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة لهذا قال تعالى " والكتاب
الذي أنزل من قبل " ثم قال تعالى " ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا " أي
فقد خرج عن طريق الهدى وبعد عن القصد كل البعد.
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا (137) بشر
المنافقين بأن لهم عذابا أليما (138) الين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة
لله جميعا (139) وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى
يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا (140)
يخبر تعالى عمن دخل في الايمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة
بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ولا طريقا إلى الهدى ولهذا قال " لم يكن الله ليغفر
لهم ولا ليهديهم سبيلا " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حفص بن جميع عن سماك عن
عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " ثم ازدادوا كفرا " قال: تمادوا على كفرهم حتى ماتوا وكذا قال مجاهد.
وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى عن عامر الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يستتاب المرتد ثلاثا
ثم تلا هذه الآية " إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم
سبيلا " ثم قال " بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما " يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا فطبع
على قلوبهم ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم
ويسرون إليهم بالمودة ويقولون لهم إذا خلوا بهم إنما نحن معكم إنما نحن مستهزؤن أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم
الموافقة، فقال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين " أيبتغون عندهم العزة " ثم أخبر الله تعالى
بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى " من كان يريد العزة فلله العزة
جميعا " وقال تعالى " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " والمقصود من هذا التهييج على
579

طلب العزة من جناب الله والاقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة
الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ويناسب هنا أن نذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا حسين بن محمد حدثنا أبو
بكر بن عياش عن حميد الكندي عن عبادة بن نسي عن أبي ريحانة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من انتسب إلى تسعة آباء كفار
يريد بهم عزا وفخرا فهو عاشرهم في النار " تفرد به أحمد وأبو ريحانة هذا هو أزدي ويقال أنصاري واسمه شمعون
بالمعجمة فيما قاله البخاري وقال غيره بالمهملة والله أعلم وقوله " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات
الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " أي إنكم إذا ارتكبتم النهي
بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها وأقررتموهم على
ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه فلهذا قال تعالى " إنكم إذا مثلهم " في المأثم كما جاء في الحديث " من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في
ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم " الآية قال
مقاتل بن حيان: نسخت هذه الآية التي في سورة الأنعام يعني نسخ قوله " إنكم إذا مثلهم " لقوله " وما على الذين
يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون " وقوله " إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم
جميعا " أي كما أشركوهم في الكفر كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبدا ويجمع بينهم في دار
العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين لا الزلال.
الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ
عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (141)
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم
وذهاب ملتهم " فإن كان لكم فتح من الله " أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة " قالوا ألم نكن معكم " أي يتوددون إلى
المؤمنين بهذه المقالة " وإن كان للكافرين نصيب " أي إدالة على المؤمنين " في بعض الأحيان كما وقع يوم أحد فإن
الرسل تبتلى ثم يكون لها العافية قالوا " ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين " أي ساعدناكم في الباطن وما
ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم وقال السدي: نستحوذ عليكم نغلب عليكم كقوله " استحوذ عليهم
الشيطان " وهذا أيضا تودد منهم إليهم فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم وما ذاك إلا
لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم. قال تعالى " فالله يحكم بينكم يوم القيامة " أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من
البواطن الرديئة فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرا في الحياة الدنيا لما له في ذلك من الحكمة فيوم
القيامة لا تنفعكم ظواهركم بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور وقوله " ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا " قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن ذر عن سبيع الكندي قال: جاء رجل إلى علي بن
أبي طالب فقال كيف هذه الآية " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " فقال علي رضي الله عنه أدنه أدنه
فالله يحكم بينكم يوم القيامة " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ". وكذا روى ابن جريج عن عطاء
الخراساني عن ابن عباس ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا قال ذاك يوم القيامة. وكذا روى السدي
عن أبي مالك الأشجعي يعني يوم القيامة. وقال السدي: سبيلا أي حجة ويحتمل أن يكون المعنى " ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا " أي في الدنيا بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية وإن حصل لهم ظفر في
بعض الأحيان على بعض الناس فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة كما قال تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا
في الحياة الدنيا " الآية وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين
وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم كما قال
580

تعالى " فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم - إلى قوله - نادمين " وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية
الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع العبد المسلم للكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه
والاذلال ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا ".
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا
قليلا (142) مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (143)
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى " يخادعون الله والذين آمنوا " وقال ههنا إن المنافقين يخادعون الله وهو
خادعهم ولا شك أن الله لا يخادع فإنه العالم بالسرائر والضمائر ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم
يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهرا فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة
وأن أمرهم يروج عنده كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ويعتقدون
أن ذلك نافع لهم عنده كما قال تعالى " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم " الآية وقوله " وهو
خادعهم " أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك يوم
القيامة كما قال تعالى " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم - إلى قوله - وبئس
المصير " وقد ورد في الحديث " من سمع سمع الله به ومن رأيا رأيا الله به " وفي الحديث الآخر " إن الله يأمر بالعبد
إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار " عياذا بالله من ذلك وقوله " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى "
الآية هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها
لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه من طريق عبيد الله بن زحر
عن خالد بن أبي عمران عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان
ولكن يقوم إليها طلق الوجه عظيم الرغبة شديد الفرح فإنه يناجي الله وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ثم
يتلو هذه الآية " وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " وروى من غير هذا الوجه عن ابن عباس نحوه فقوله تعالى
" وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى " هذه صفة ظواهرهم كما قال " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " ثم ذكر
تعالى صفة بواطنهم الفاسدة فقال " يراءون الناس " أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس
تقية لهم ومصانعة. ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء وقت العتمة وصلاة الصبح
في وقت الغلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة
الفجر ولو يعلمون ما فيهما لاتوهما ولو حبوا ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ثم أنطلق
معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " وفي رواية " والذي
نفس بيده لو علم أحدهم أنه يجد عرقا سمينا أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة ولولا ما في البيوت من النساء والذرية
لحرقت عليهم بيوتهم بالنار " وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن إبراهيم بن أبي بكر المقدمي حدثنا محمد بن
دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحسن الصلاة حيث يراه
الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عز وجل " وقوله " ولا يذكرون الله إلا قليلا " أي في
صلاتهم لا يخشون ولا يدرون ما يقولون بل هم في صلاتهم ساهون لاهون وعما يراد بهم من الخير معرضون. وقد
روى الامام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك صلاة المنافق تلك
صلاة المنافق تلك صلاة المنافق: يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله
فيها إلا قليلا " وكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر المدني عن العلاء بن عبد الرحمن
581

به وقال الترمذي حسن صحيح وقوله " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " يعني المنافقين محيرين
بين الايمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهرا وباطنا ولا مع الكافرين ظاهرا وباطنا بل ظواهرهم مع المؤمنين
وبواطنهم مع الكافرين ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك " كلما أضاء لهم مشوا فيه
وإذا أظلم عليهم قاموا " الآية. وقال مجاهد " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء " يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " ولا
إلى هؤلاء " يعني اليهود. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا
تدري أيهما تتبع " تفرد به مسلم وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى عن عبد الوهاب فوقف به على ابن عمر
ولم يرفعه قال: حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك قلت وقد رواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله
به مرفوعا وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم عن عبيد الله به مرفوعا عن نافع عن ابن عمر مرفوعا
وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة عن عبدة عن عبد الله به مرفوعا ورواه حماد بن سلمة عن عبيد الله
أو عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا. ورواه أيضا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا الهذيل بن بلال عن ابن أبي عبيدة أنه جلس ذات
يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه فقال ابن أبي عبيدة: قال أبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة
بين الربضين من الغنم إن أتت هؤلاء نطحتها وإن أتت هؤلاء نطحتها " فقال له ابن عمر كذبت فأثنى القوم على
أبي خيرا أو معروفا فقال ابن عمر ما أظن صاحبكم إلا كما تقولون ولكني شاهدي الله إذا قال كالشاة بين الغنمين
فقال هو سواء فقال هكذا سمعته. قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا المسعودي عن ابن جعفر محمد بن علي
قال: بينما عبيد بن عمير يقص وعنده عبد الله بن عمر فقال عبيد بن عمير قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل المنافق كالشاة
بين ربضين إذا أتت هؤلاء نطحتها وإذا أتت هؤلاء نطحتها " فقال ابن عمر ليس كذلك إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كشاة
بين غنمين " قال فاختطف الشيخ وغضب فلما رأى ذلك ابن عمر قال: أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك.
" طريقة أخرى عن ابن عمر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عثمان بن مادويه عن يعفر بن
زودي قال: سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين
الغنمين " فقال ابن عمر: ويلكم لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل المنافق كمثل الشاة
العائرة بين الغنمين " ورواه أحمد أيضا من طرق عن عبيد بن عمير عن ابن عمر ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا عبيد بن موسى أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي الأحوص عن عبد الله هو ابن مسعود قال: مثل المؤمن
والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد فوقع أحدهم فعبر ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه
الذي على شفير الوادي ويلك أين تذهب إلى الهلكة ارجع عودك على بدئك وناداه الذي عبر هلم إلى النجاة
فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة قال فجاءه سيل فأغرقه فالذي عبر هو المؤمن والذي غرق المنافق
" مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " والذي مكث الكافر. وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد
حدثنا شعبة عن قتادة " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " يقول ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا
مشركين مصرحين بالشرك قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة
دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلم إلي فإني
أخشى عليك. وناداه المؤمن أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحظى له ما عنده فما زال المنافق يتردد بينهما حتى
أتى أذى فغرقه وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبي الله
صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول " مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنما على نشز فأتتها وشامتها فلم
تعرف ثم رأت غنما على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف " ولهذا قال تعالى " ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا "
أي ومن صرفه عن طريق الهدى " فلن تجد له وليا مرشدا " فإنه " من يضلل الله فلا هادي له " والمنافقون الذين
582

أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم ولا منقذ لهم مما هم فيه فإنه تعالى " لا معقب لحكمه ولا يسئل " عما
يفعل وهم يسئلون.
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا
(144) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145) إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا
دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (146) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم
وكان الله شاكرا عليما (147)
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين يعني مصاحبتهم ومصادقتهم
ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم كما قال تعالى " لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله
نفسه " أي يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه ولهذا قال ههنا " أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا " أي
حجة عليكم في عقوبته إياكم. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قوله " سلطانا مبينا " قال كل سلطان في القرآن حجة وهذا إسناد صحيح
وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي والضحاك والسدي والنضر بن عربي ثم أخبر
تعالى " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ. قال الوالبي عن ابن
عباس " في الدرك الأسفل من النار " أي في أسفل النار وقال غيره: النار دركات كما أن الجنة درجات وقال
سفيان الثوري عن عاصم عن ذكوان أبي صالح عن أبي هريرة " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " قال
في توابيت ترتج عليهم. كذا رواه ابن جرير عن ابن وكيع عن يحيى بن يمان عن سفيان الثوري به
ورواه ابن أبي حاتم عن المنذر بن شاذان عن عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن عاصم عن أبي
صالح عن أبي هريرة " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " قال
الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد من تحتهم ومن فوقهم وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا
عبد الرحمن حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن خيثمة عن عبد الله يعني ابن مسعود " إن المنافقين في الدرك
الأسفل من النار " قال في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج
عن وكيع عن سفيان عن سلمة عن خيثمة عن ابن مسعود " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار " قال في توابيت
من حديد مبهمة عليهم ومعنى قوله مبهمة أي مغلقة مقفلة لا يهتدي لمكان فتحها وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا أبو أسامة حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن أن ابن مسعود سئل عن
المنافقين فقال: يجعلون في توابيت من نار تطبق عليهم في أسفل درك من النار " ولن تجد لهم نصيرا " أي
ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا
أخلص في توبته وأصلح عمله واعتصم بربه في جميع أمره فقال تعالى " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله
وأخلصوا دينهم لله " أي بدلوا الرياء بالاخلاص فينفعهم العمل الصالح وإن قل. قال ابن أبي حاتم: حدثنا
يونس بن عبد الأعلى قراءة أنبأنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن
عمران عن عمرو بن مرة عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أخلص دينك يكفك القليل من العمل " " فأولئك
مع المؤمنين " أي في زمرتهم يوم القيامة " وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما " ثم قال تعالى مخبرا عن غناه
عما سواء وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم فقال تعالى " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " أي أصلحتم العمل
583

وآمنتم بالله ورسوله " وكان الله شاكرا عليما " أي من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر
الجزاء.
لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148) إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن
سوء فإن الله كان عفوا قديرا (149)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما فإنه قد
أرخص له أن يدعو على من ظلمه وذلك قوله " إلا من ظلم " وإن صبر فهو خير له وقال أبو داود: حدثنا
عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا سفيان عن حبيب عن عطاء عن عائشة قال سرق لها شئ فجعلت تدعو عليه فقال
النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم " لا تسبخي عنه " وقال الحسن البصري لا يدع عليه وليقل اللهم أعني عليه
واستخرج حقي منه وفي رواية عنه قال: قد رخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه وقال
عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله
" ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل " وقال أبو داود: حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز بن محمد عن
العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم " وقال
عبد الرزاق أنبأنا المثنى بن الصباح عن مجاهد في قوله " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال
ضاف رجل رجلا فلم يؤد إليه حق ضيافته فلما خرج أخبر الناس فقال: ضفت فلانا فلم يؤد إلي حق ضيافتي
قال فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم حتى يؤدي الآخر إليه حق ضيافته وقال ابن إسحاق عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " قال: قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن
ضيافته فيخرج فيقول أساء ضيافتي ولم يحسن. وفي رواية هو الضيف المحول رحله فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من
القول وكذا روى عن غير واحد عن مجاهد نحو هذا وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي من طريق
الليث بن سعد والترمذي من حديث ابن لهيعة كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن
عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا فما ترى في ذلك؟ فقال " إذا نزلتم بقوم فأمروا
لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم " وقال الإمام أحمد:
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا الجودي يحدث عن سعد بن المهاجر عن المقدام بن أبي كريمة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أيما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن حقا على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته
من زرعه وماله " تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد أيضا: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة عن منصور عن
الشعبي عن المقدام بن أبي كريمة سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم فإن أصبح بفنائه
محروما كان دينا عليه فإن شاء اقتضاه وإن شاء تركه " ثم رواه أيضا عن غندر عن شعبة. وعن زياد بن عبد الله
البكائي عن وكيع وأبي نعيم عن سفيان الثوري ثلاثتهم عن منصور به وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عوانة عن
منصور به. ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه
الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمر بن علي حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة أن
رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي جارا يؤذيني فقال له: " أخرج متاعك فضعه على الطريق " فأخذ الرجل متاعه
فطرحه على الطريق فكل من مر به قال: مالك؟ قال: جارى يؤذيني فيقول اللهم العنه اللهم أخزه قال: فقال
الرجل ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبدا وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب عن أبي توبة الربيع عن نافع عن
سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر عن محمد بن عجلان به ثم قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا
الاسناد ورواه أبو جحيفة وهب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: " إن
584

تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا " أي إن تظهروا أيها الناس خيرا أو أخفيتموه أو عفوتم
عمن أساء إليكم فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته
على عقابهم ولهذا قال: " فإن الله كان عفوا قديرا " ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله فيقول
بعضهم: سبحانك على حلمك بعد علمك ويقول بعضهم سبحانك على عفوك بعد قدرتك وفي الحديث
الصحيح " ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبدا يعفو إلا عزا ومن تواضع لله رفعه ".
إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون
أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151) والذين آمنوا
بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما (152)
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الايمان فآمنوا ببعض
الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك فإنه لا سبيل لهم إلى
ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن
عمران والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم والله
أعلم. والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الايمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل
الأرض فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانا شرعيا إنما هو عن
غرض وهوى وعصبية ولهذا قال تعالى " إن الذين يكفرون بالله ورسله " فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله " يريدون
أن يفرقوا بين الله ورسله " أي في الايمان " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك
سبيلا " أي طريقا ومسلكا، ثم أخبر تعالى عنهم فقال: " أولئك هم الكافرون حقا " أي كفرهم محقق لا محالة
بمن ادعوا الايمان به لأنه ليس شرعيا إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلا وأقوى
برهانا منه لو نظروا حق النظر في نبوته وقوله " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا " أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم
نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه وإما بكفرهم به
بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة
العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي " وضربت عليهم
الذلة والمسكنة وباؤا بغضب من الله " في الدنيا والآخرة وقوله: " والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد
منهم " يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله كما قال تعالى " آمن الرسول
بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله " الآية. ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل
والعطاء الجميل فقال " أولئك سوف يؤتيهم أجورهم " على ما آمنوا بالله ورسله " وكان الله غفورا رحيما " أي
لذنوبهم أي إن كان لبعضهم ذنوب.
يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم
الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا (153) ورفعنا
فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (154)
585

قال محمد بن كعب القرظي والسدي وابن قتادة: سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما نزلت
التوراة على موسى مكتوبة قال ابن جريج: سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما
جاءهم به وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والالحاد كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو
مذكور في سورة سبحان " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " الآيات ولهذا قال تعالى " فقد
سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم " أي بطغيانهم وبغيهم وعتوهم وعنادهم
وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم
الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " وقوله تعالى " ثم اتخذوا العجل من بعد ما
جاءتهم البينات " أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر وما
كان من إهلاك عدو الله فرعون وجميع جنوده في اليم فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام
لهم فقالوا لموسى " اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " الآيتين ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة
الأعراف وفي سورة طه بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عز وجل ثم لما رجع وكان ما كان جعل الله توبتهم من الذي
صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله عز وجل وقال
الله تعالى " فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا " ثم قال " ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم " وذلك حين امتنعوا
من الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام ورفع الله على رؤسهم جبلا ثم
ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم كما قال تعالى " وإذ نتقنا الجبل
فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " الآية " وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا " أي فخالفوا ما
أمروا به من القول والفعل فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا وهم يقولون حطة. أي اللهم حط عنا
ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة فدخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حنطة
في شعرة " وقلنا لهم لا تعدوا في السبت " أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعا لهم
" وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " أي شديدا فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عز وجل كما هو
مبسوط في سورة الأعراف عند قوله: " واسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر " الآيات وسيأتي حديث
صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات وفيه: وعليكم خاصة يهود أن
لا تعدوا في السبت.
فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم
فلا يؤمنون إلا قليلا (155) وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما (156) وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع
الظن وما قتلوه يقينا (157) بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما (158) وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا (159)
وهذا من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى وهو نقضهم المواثيق والعهود التي
أخذت عليهم وكفرهم بآيات الله أي حججه وبراهينه والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم
السلام قوله: " وقتلهم الأنبياء بغير حق " وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله فإنهم قتلوا جما غفيرا
من الأنبياء عليهم السلام وقولهم " قلوبنا غلف " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة
586

وغير واحد أي في غطاء وهذا كقول المشركين " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه " الآية وقيل معناه أنهم ادعو
أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وقد تقدم نظيره
في سورة البقرة قال الله تعالى: " بل طبع الله عليها بكفرهم " فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم
لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة قال الله بل هي مطبوع عليها بكفرهم وعلى القول الثاني عكس عليهم ما
ادعوه من كل وجه وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة " فلا يؤمنون إلا قليلا " أي تمرنت قلوبهم على
الكفر والطغيان. وقلة الايمان " وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
يعني أنهم رموها بالزنا وكذلك قال السدي وجويبر ومحمد بن إسحاق وغير واحد وهو ظاهر من الآية أنهم رموها وابنها
بالعظائم فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك زاد بعضهم وهي حائض فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم
القيامة وقولهم " إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله " أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا
منهم من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " وكان من خبر اليهود
عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله
تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله ويصور من الطين
طائرا ثم ينفخ فيه فيكون طائرا يشاهد طيرانه بإذن الله عز وجل إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها
على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم
في بلدة بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان
رجلا مشركا من عبدة الكواكب وكان يقال لأهل ملته اليونان وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم
ويفسد على الملك رعاياه فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور وأن يصلبه
ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو وطائفة
من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقال سبعة
عشر نفرا وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من
دخلوهم عليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم
فكأنه استصغره عن ذلك فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب فقال: أنت هو وألقى الله عليه شبه
عيسى حتى كأنه هو وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم فرفع إلى السماء وهو
كذلك كما قال الله تعالى " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي " الآية فلما رفع خرج أولئك النفر فلما
رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه وأظهر اليهود أنهم سعوا
في صلبه وتبجحوا بذلك وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان في البيت مع
المسيح فإنهم شاهدوا رفعه. وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم حتى ذكروا
أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ويقال إنه خاطبها والله أعلم وهذا كله من امتحان الله عباده لما له
في ذلك من الحكمة البالغة وقد أوضح الله الامر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله
الكريم المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات فقال تعالى وهو أصدق القائلين ورب العالمين المطلع على
السرائر والضمائر الذي يعلم السر في السماوات والأرض العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون
" وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " أي رأوا شبهه فظنوه إياه ولهذا قال " وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما
لهم به من علم إلا اتباع الظن " يعني بذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى كلهم
في شك من ذلك وحيرة وضلال وسعر ولهذا قال: " وما قتلوه يقينا " أي وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين
" بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا " أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه " حكيما " أي في جميع
ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والامر القديم قال ابن
587

أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين يعني
فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء فقال: إن منكم من يكفر بي اثني عشر مرة بعد أن آمن بي قال: ثم
قال أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له: اجلس. ثم
أعاد عليهم فقام ذلك الشاب فقال: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا فقال: هو أنت ذاك فألقى
عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم
صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق فقالت فرقة كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى
السماء وهؤلاء اليعقوبية وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه وهؤلاء النسطورية وقالت فرقة:
كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء المسلمون فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها
فلم يزل الاسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ورواه النسائي عن أبي كريب
عن أبي معاوية بنحوه وكذا ذكره غير واحد من السلف أنه قال لهم أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي
في الجنة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب القمي عن هارون بن عنترة عن وهب بن منبه قال: أتى عيسى ومعه
سبعة عشر من الحواريين في بيت فأحاطوا بهم فلما دخلوا عليه صورهم الله عز وجل كلهم على صورة عيسى فقالوا
لهم: سحرتمونا ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا فقال عيسى لأصحابه من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال
رجل منهم أنا فخرج إليهم وقال أنا عيسى وقد صوره الله على صورة عيسى فأخذوه فقتلوه وصلبوه فمن ثم شبه لهم
فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك وهذا سياق غريب
جدا.
قال ابن جرير: وقد روي عن وهب نحو هذا القول وهو ما حدثني المثنى حدثنا إسماعيل عن عبد الكريم حدثني عبد
الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول: إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت وشق عليه
فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال: أحضروني الليلة فإن لي إليكم حاجة فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم
وقام يخدمهم فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ويمسح أيديهم بثيابه فتعاظموا ذلك وتكارهوه
فقال ألا من رد علي الليلة شيئا مما أصنع فليس مني ولا أنا منه فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال: أما ما صنعت بكم
الليلة مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي فليكن لكم بي أسوة فإنكم ترون أنى خيركم فلا يتعاظم بعضكم
على بعض وليبذل بعضكم نفسه لبعض كما بذلت نفسي لكم وأما حاجتي الليلة التي استعنتكم عليها فتدعون الله لي
وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا
دعاء فجعل يوقظهم ويقول سبحان الله أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها فقالوا: والله ما ندري ما لنا لقد كنا
نسمر فنكثر السمر وما نطيق الليلة سمرا وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه فقال يذهب الراعي وتفرق الغنم وجعل
يأتي بكلام نحو هذا ينعي به نفسه. ثم قال: الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات وليبيعني
أحدكم بدراهم يسيرة وليأكلن ثمني. فخرجوا وتفرقوا وكانت اليهود تطلبه وأخذوا شمعون أحد الحواريين وقالوا:
هذا من أصحابه فجحد وقال: ما أنا بصاحبه فتركوه. ثم أخذه آخرون فجحد كذلك ثم سمع صوت ديك فبكى
وأحزنه فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين
درهما فأخذها ودلهم عليه وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه فاستوثقوا منه وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ويقولون له
أنت كنت تحي الموتى وتنهر الشيطان وتبرئ المجنون أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه ويلقون عليه
الشوك حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم فمكث سبعا ثم إن أمه
588

والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام فأبرأها الله من الجنون جاءتا تبكيان حيث المصلوب فجاءهما عيسى
فقال: ما تبكيان؟ فقالتا عليك فقال: إني قد رفعني الله إليه ولم يصبني إلا خيرا وإن هذا شبه لهم فأمري الحواريين
يلقوني إلى مكان كذا وكذا فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر وفقدوا الذي كان باعه ودل عليه اليهود فسأل عنه
أصحابه فقال: إنه ندم على ما صنع فاختنق وقتل نفسه فقال: لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام تبعهم
يقال له يحيى فقال هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان يحدث بلغة قومه فلينذرهم وليدعهم. سياق غريب
جدا.
ثم قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى
عيسى ليقتله رجلا منهم يقال له داود فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد الله بالموت فيما ذكر لي فظعه
ولم يجزع منه جزعه ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه حتى إنه ليقول فيما يزعمون اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس
عن أحد من خلقك فاصرفها عني وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دما فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا
عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين
وكانوا اثني عشر رجلا فرطوس ويعقوبس ويلاونخس أخو يعقوب وانداريس وفيلبس وابن يلما ومنتا وطوماس
ويعقوب بن حلقايا ونداوسيس وقتابيا وليودس ركريايوطا قال ابن حميد: قال سلمة قال ابن إسحاق وكان فيهما
ذكر لي رجل اسمه سرجس وكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى وذلك أنه هو الذي
شبه لليهود مكان عيسى قال فلا أدري هو من هؤلاء الاثني عشر أو كان ثالث عشر فجحدوه حين أقروا لليهود
بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم
بعيسى أربعة عشر وإن كانوا اثني عشر فإنهم دخلوا المدخل وهم ثلاثة عشر.
قال ابن إسحاق: وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إلي قال: يا معشر
الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني فقال سرجس: أنا
يا روح الله. قال: فاجلس في مجلسي فجلس فيه ورفع عيسى عليه السلام فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه فكان هو
الذي صلبوه وشبه لهم به وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة قد رأوهم فأحصوا عدتهم فلما دخلوا ليأخذوه
وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلا من العدة فهو الذي اختلفوا فيه وكانوا لا يعرفون عيسى حتى جعلوا
ليودس ركريايوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه فقال لهم إذا دخلتم عليه فإني سأقبله وهو الذي أقبل
فخذوه فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو فأكب عليه فقبله فأخذوه فصلبوه.
ثم أن ليودس ركريايوطا ندم على ما صنع فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى وقد كان أحد
المعدودين من أصحابه وبعض النصارى يزعم أنه ليودس ركريايوطا هو الذي شبه لهم فصلبوه وهو يقول إني لست
بصاحبكم أنا الذي دللتكم عليه والله أعلم أي ذلك كان. وقال ابن جرير عن مجاهد: صلبوا رجلا شبه بعيسى ورفع
الله عز وجل عيسى إلى السماء حيا واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقى على جميع أصحابه.
وقوله تعالى: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال ابن جرير:
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم معنى ذلك " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " يعني
قبل موت عيسى يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال فتصير الملل كلها واحدة وهي ملة
الاسلام الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن
أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قبل موت عيسى
ابن مريم عليه السلام وقال العوفي عن أبن عباس مثل ذلك وقال أبن مالك في قوله " إلا ليؤمنن به قبل موته "
قال: ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى ابن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال
589

الضحاك عن ابن عباس وإن من هل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " يعني اليهود خاصة وقال الحسن
البصري: يعني النجاشي وأصحابه رواهما ابن أبي حاتم. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا أبو رجاء عن
الحسن وإن من " أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند الله ولكن إذا
نزل آمنوا به أجمعون وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا علي بن عثمان اللاحقي حدثنا جويرية بن بشير قال:
سمعت رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد قول الله عز وجل " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: قبل
موت عيسى إن الله رفع إليه عيسى وهو باعثه قبل يوم القيامة مقاما يؤمن به البر والفاجر. وكذا قال قتادة
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد وهذا القول هو الحق كما سنبينه بعد بالدليل القاطع إن شاء الله وبه الثقة
وعليه التكلان. قال ابن جرير: وقال آخرون يعني بذلك " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به " بعيسى قبل موت
الكتابي ذكر من كان يوجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل لان كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى
يتبين له الحق من الباطل في دينه. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال: لا يموت يهودي حتى
يؤمن بعيسى حدثني المثنى حدثنا أبو حذيفة حدثنا شبل عن ابن نجيح عن مجاهد في قوله " إلا ليؤمنن به قبل
موته " كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته قبل موت صاحب الكتاب. قال ابن عباس: لو ضربت عنقه لم
تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى حدثنا ابن حميد حدثنا أبو نميلة يحيى بن واضح حدثنا حسين بن واقد عن يزيد
النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ولو عجل عليه
بالسلاح حدثني إسحاق بن إبراهيم وحبيب بن الشهيد حدثنا عتاب بن بشير عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: هي في قراءة أبي قبل موتهم ليس يهودي يموت أبدا
حتى يؤمن بعيسى قيل لابن عباس: أرأيت إن خر من فوق بيت قال: يتكلم به في الهوي قيل: أرأيت إن
ضربت عنق أحدهم؟ قال: يلجلج بها لسانه. وكذا روى سفيان الثوري عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس
" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى عليه السلام وإن ضرب
بالسيف تكلم به قال: وإن هوى تكلم به وهو يهوي وكذا روى أبو داود الطيالسي عن شعبة عن أبي هارون
الغنوي عن عكرمة عن ابن عباس فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس وكذا صح عن مجاهد وعكرمة
ومحمد بن سيرين وبه يقول الضحاك وجويبر وقال السدي: وحكاه عن ابن عباس ونقل قراءة أبي بن كعب قبل
موتهم. وقال عبد الرزاق عن إسرائيل عن فرات القزاز عن الحسن في قوله " إلا ليؤمنن به قبل موته " قال: لا
يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه ويحتمل أن يكون
مراده ما أراده هؤلاء قال ابن جرير: وقال آخرون معنى ذلك وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله
عليه وآله وسلم قبل موت الكتابي " ذكر من قال ذلك " حدثني ابن المثنى حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد عن
حميد قال: قال عكرمة لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قوله " وإن من أهل الكتاب إلا
ليؤمنن به قبل موته " ثم قال ابن جرير: وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول وهو أنه لا يبقى أحد من أهل
الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير
هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم
من النصارى الجهلة ذلك فأخبر الله أنه لم يكن الامر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ثم
إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنوردها إن شاء الله قريبا
فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا
يقبل إلا الاسلام أو السيف فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن
التصديق به واحد منهم ولهذا قال: " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " أي قبل موت عيسى عليه
السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " أي بأعمالهم
590

التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا
يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع وذلك أن كل أحد عند احتضاره
ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال تعالى في أول
هذه السورة " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " الآية وقال
تعالى " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده " الآيتين وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد هذا القول
حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما
وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه
في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس: ولو تردى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه
سبع فإنه لابد أن يؤمن بعيسى فالايمان به في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم.
ومن تأمل هذا جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما
ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذب هؤلاء
وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق ففرط هؤلاء
اليهود وأفرط هؤلاء النصارى تنقصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم وأطراه النصارى بحيث ادعو فيه ما ليس فيه
فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية تعالى الله عما يقول هؤلاء وهؤلاء علوا كبيرا وتنزه وتقدس لا
إله إلا هو.
" ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان "
" قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له "
قال البخاري رحمه الله في كتاب ذكر الأنبياء من صحيحه المتلقى بالقبول: " نزول عيسى ابن مريم عليه السلام "
حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبي صالح عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر الصليب ويقتل
الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد وحتى تكون السجدة خيرا له من الدنيا وما فيها " ثم يقول أبو
هريره: اقرءوا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " وكذا رواه
عن الحسن الحلواني وعبد بن حميد كلاهما عن يعقوب به وأخرجه البخاري ومسلم أيضا من حديث سفيان بن عيينة
عن الزهري به وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا يقتل
الدجال ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ويفيض المال وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين " قال أبو
هريرة: اقرؤا إن شئتم " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " موت عيسى ابن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة
ثلاث مرات. " طريق أخرى " عن أبي هريرة قال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا محمد بن أبي حفصة عن
الزهري عن حنظلة بن علي الأسلمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليهلن عيسى ابن مريم بفج الروحاء
بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعا " وكذا رواه مسلم منفردا به من حديث سفيان بن عيينة والليث بن سعد ويونس بن
يزيد ثلاثتهم عن الزهري به وقال أحمد: حدثنا يزيد حدثنا سفيان هو ابن حسين عن الزهري عن حنظلة عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطي المال
حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما " قال وتلا أبو هريرة " وإن من أهل
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " الآية فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال: يؤمن به قبل موت عيسى فلا أدري هذا
591

كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شئ قاله أبو هريرة. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي موسى محمد بن المثنى عن
يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري به. " طريق أخرى " قال البخاري: حدثنا أبو بكير حدثنا الليث عن
يونس عن ابن شهاب عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيف بكم إذا نزل
فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم " تابعه عقيل والأوزاعي وهكذا رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق عن معمر
عن عثمان بن عمر عن ابن أبي ذئب كلاهما عن الزهري به وأخره مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب
به. " طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا قتادة عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن نبي
بيني وبينه وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم
يصبه بلل فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويدعو الناس إلى الاسلام ويهلك الله في زمانه الملل كلها
إلا الاسلام ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ثم تقع الامنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل والنمار مع
البقر والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون "
كذا رواه أبو داود عن هدية بن خالد عن همام بن يحيى ورواه ابن جرير ولم يورد عند هذه الآية سواه عن بشر بن معاذ
عن يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة كلاهما عن قتادة عن عبد الرحمن بن آدم وهو مولى أم برثن صاحب
السقاية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه وقال: يقاتل الناس على الاسلام. وقد روى البخاري عن أبي
اليمان عن شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أنا أولى الناس
بعيسى ابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي " ثم روى عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن
هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي عمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى الناس
بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد " وقال إبراهيم بن طهمان عن
موسى بن عقبة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن بشار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. " حديث آخر " قال
مسلم في صحيحه: حدثني زهير بن حرب حدثنا يعلى بن منصور حدثنا سليمان بن بلال حدثنا سهيل عن أبيه عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة
من خيار أهل الأرض يومئذ فإذا تصافوا قالت الروم خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم فيقول المسلمون لا والله
لا نخلي بينكم وبين إخواننا فيقاتلونهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله
ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم
الشيطان إن المسيح قد خلفكم في أهليكم فيخرجون وذلك باطل فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدون للقتال
يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم فيؤمهم فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو
تركه لذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته ". " حديث آخر " قال أحمد: حدثنا هشيم عن
العوام بن حوشب عن جبلة بن سحيم عن مؤثر بن غفارة عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لقيت ليلة أسرى بي
إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال: لا علم لي بها فردوا
أمرهم إلى موسى فقال: لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله وفيما
عهد إلي ربي عز وجل أن الدجال خارج ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال: فيهلكه الله إذا
رآني حتى إن الحجر والشجر يقول: يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى
بلادهم وأوطانهم فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطؤون بلادهم فلا يأتون على شئ إلا
أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال: ثم يرجع الناس يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى
تجوى الأرض من نتن ريحهم وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي عز
وجل أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها ليلا أو نهارا " رواه ابن
592

ماجة عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به نحوه. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا
يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أي العاص في يوم جمعة
لنعرض عليه مصحفا لنا على مصحفه فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا ثم أتينا بطيب فتطيبنا ثم جئنا المسجد
فجلسنا إلى رجل فحدثنا عن الدجال ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه فجلسنا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " يكون للمسلمين ثلاثة أمصار مصر بملتقى البحرين ومصر بالحيرة ومصر بالشام ففزع الناس ثلاث فزعات
فيخرج الدجال في أعراض الناس فيهزم من قبل المشرق فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين فيصير أهلها
ثلاث فرق فرقه تقول نقيم نشامه ننظر ما هو وفرقة تلحق بالاعراب وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم ومع الدجال
سبعون ألفا عليهم التيجان وأكثر من معه اليهود والنساء وينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق فيبعثون سرحا لهم فيصاب
سرحهم فيشتد ذلك عليهم ويصيبهم مجاعة شديدة وجهد شديد حتى إن أحدهم ليحرق وتر قوسه فيأكله فبينما هم
كذلك إذ نادى مناد من الشجر: يا أيها الناس أتاكم الغوث ثلاثا فيقول بعضهم لبعض إن هذا لصوت رجل
شبعان وينزل عيسى ابن مريم عليه السلام عند صلاة الفجر فيقول له أميرهم: يا روح الله تقدم صل فيقول:
هذه الأمة أمراء بعضهم على بعض فيتقدم أميرهم فيصلي حتى إذا قضى صلاته أخذ عيسى حربته فذهب نحو
الدجال فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص فيضع حربته بين ثندوته فيقتله ويهزم أصحابه فليس يومئذ شئ
يواري منهم أحدا حتى إن الشجرة تقول يا مؤمن هذا كافر ويقول الحجر يا مؤمن هذا كافر " تفرد به أحمد من
هذا الوجه. " حديث آخر " قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه: حدثنا علي بن محمد حدثنا
عبد الرحمن المحاربي عن إسماعيل بن رافع عن أبي زرعة الشيباني يحيى بن أبي عمرو عن أبي أمامة الباهلي قال:
خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثا حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قال " لم تكن فتنة في
الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه وسلم أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبيا إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر
الأنبياء وأنتم آخر الأمم وهو خارج فيكم لا محالة فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم وإن يخرج من
بعدي فكل حجيج نفسه وإن الله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فيعيث يمينا ويعيث
شمالا ألا يا عباد الله: أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي: إنه يبدأ فيقول أنا نبي
فلا نبي بعدي ثم يثني فيقول أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا وإنه أعور وإن ربكم عز وجل ليس بأعور
وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب أو غير كاتب وإن من فتنته أن معه جنة ونارا فناره جنة وجنته نار
فمن ابتلى بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه بردا وسلاما كما كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم
وإن من فتنته أن يقول لأعرابي أرأيت إن بعثت لك أمك وأباك أتشهد أنى ربك؟ فيقول نعم فيتمثل له شيطان في
صورة أبيه وأمه فيقولان يا بني اتبعه فإنه ربك وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى
شقتين ثم يقول انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ثم يزعم أن له ربا غيري فيبعثه الله فيقول له الخبيث من
ربك فيقول ربى الله وأنت عدو الله الدجال والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك منى اليوم " قال أبو حسن الطنافسي:
فحدثنا المحاربي حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله " ذلك الرجل أرفع
أمتي درجة في الجنة " قال: قال أبو سعيد: والله ما كنا نرى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب حتى مضى لسبيله.
ثم قال المحاربي: رجعنا إلى حديث أبي رافع قال " وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن
تنبت فتنبت وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت وإن من فتنته أن يمر بالحي
فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما
كانت وأعظمه وأمده خواصر وأدره ضروعا وإنه لا يبقى شئ من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة فإنه لا
يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتة حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة
فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه فينفي الخبث منها كما ينفي الكير خبث
593

الحديد ويدعى ذلك اليوم يوم الخلاص " فقالت أم شريك بنت أبي العكر: يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال
" هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس وإمامهم رجل صالح فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم
عيسى ابن مريم عليه السلام فرجع ذلك الامام يمشى القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده
بين كتفيه ثم يقول: تقدم فصل فإنها لك أقيمت فيصلي بهم إمامهم فإذا انصرف قال عيسى: افتحوا الباب فيفتح
ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلي وتاج فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في
الماء وينطلق هاربا فيقول عيسى: إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله ويهزم الله
اليهود فلا يبقى شئ مما خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشئ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا
دابة إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعالى اقتله " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وإن أيامه أربعون سنة السنة كنصف السنة والسنة كالشهر والشهر كالجمعة وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على
باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسى " فقيل له: كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار؟ قال
" تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيكون عيسى ابن مريم في أمتي
حكما عدلا وإماما مقسطا يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير
وترتفع الشحناء والتباغض وتنزح حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره وتفر الوليدة الأسد فلا
يضرها ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها وتملا الأرض من السلم كما يملا الاناء من الماء وتكون الكلمة واحدة
فلا يعبد إلا الله وتضع الحرب أوزارها وتسلب قريش ملكها وتكون الأرض لها نور الفضة وتنبت نباتها كعهد آدم حتى
يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ويكون الثور بكذا وكذا من المال
ويكون الفرس بالدريهمات " قيل: يا رسول الله وما يرخص الفرس؟ قال " لا تركب لحرب أبدا " قيل له فما يغلي
الثور؟ قال " يحرث الأرض كلها وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد ويأمر الله
السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية
فتحبس ثلثي مطرها ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ثم يأمر الله عز وجل السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها
كله فلا تقطر قطرة ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله "
قيل: فما يعيش الناس في ذلك الزمان قال " التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى
الطعام ". قال ابن ماجة: سمعت أبا الحسن الطنافسي يقول: سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول ينبغي أن يدفع
هذا الحديث إلى المؤدب حتى يعلمه الصبيان في الكتاب هذا حديث غريب جدا من هذا الوجه ولبعضه شواهد
من أحاديث آخر من ذلك ما رواه مسلم وحديث نافع وسالم عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى " لتقاتلن
اليهود فلتقتلنهم حتى يقول الحجر يا مسلم هذا يهودي فتعال فاقتله " وله من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ
اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد
فإنه من شجر اليهود " ولنذكر حديث النواس بن سمعان ههنا لشبهه بهذا الحديث. قال مسلم في صحيحه:
حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا الوليد بن مسلم حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني جابر بن يحيى الطائي
قاضي حمص حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي (ح) وحدثنا
محمد بن مهران الرازي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي عن
عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض
فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النحل فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فقال " ما شأنكم؟ " قلنا: يا رسول الله
ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل قال " غير الدجال أخوفني عليكم إن يخرج
وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب
594

قطط عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف إنه خارج من خلة
بين الشام والعراق فعاث يمينا وعاث شمالا يا عباد الله فاثبتوا " قلنا: يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال " أربعون
يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم " قلنا: يا رسول الله وذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه
صلاة يوم؟ قال " لا اقدروا له قدره " قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال " كالغيث استدبرته الريح فيأتي
على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت فتروح عليهم سارحتهم أطول ما
كانت ذرى وأسبغه ضروعا وأمده خواصر ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله فينصرف عنهم فيصبحون
ممحلين ليس بأيديهم شئ من أموالهم ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ثم
يدعو رجلا ممتلئا شبابا فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو
كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم عليه السلام فينزل عند المنارة البيضاء شرفي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه
على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات
ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه فيطليه حتى يدركه بباب لد فيقتله ثم يأتي عيسى عليه السلام قوما قد عصمهم الله
منه فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى: إني قد
أخرجت عبادا لي لا يدان لاحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب
ينسلون فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ويحضر نبي الله
عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خير من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه
فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة. ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى
الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملاه زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله
طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ثم يرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل
الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض أخرجي ثمرك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون
بقحفها ويبارك الله في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا
طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر
فعليهم تقوم الساعة " ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به وسنذكره أيضا من
طريق أحمد عند قوله تعالى في سورة الأنبياء " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " الآية. " حديث آخر " قال مسلم
في صحيحه أيضا: حدثنا عبد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن النعمان بن سالم قال: سمعت
يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو وجاءه رجل فقال ما هذا الحديث الذي
تحدث به تقول إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا فقال سبحان الله أو لا إله إلا الله أو كلمة نحوهما لقد هممت أن لا
أحدث أحدا شيئا أبدا إنما قلت إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يحرق البيت ويكون ويكون ثم قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوما أو أربعين شهرا أو أربعين عاما فبعث الله
تعالى عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل
الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن
أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " قال: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فيبقى شرار الناس في
خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون فما
تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا
أصغى ليتا ورفع ليتا قال: وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله - أو قال
ينزل الله - مطرا كأنه الطل أو الظل " نعمان الشاك " فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام
ينظرون ثم يقال يا أيها الناس هلم إلى ربكم " وقفوهم إنهم مسؤولون " ثم يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم
595

فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين قال: فذاك يوم يجعل الولدان شيبا وذلك يوم يكشف عن ساق " ثم
رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعا عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة عن نعمان بن سالم به. " حديث آخر "
قال الإمام أحمد: أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة الأنصاري عن
عبد الله بن زيد الأنصاري عن مجمع بن جارية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يقتل ابن مريم المسيح الدجال
بباب لد أو إلى جانب لد " ورواه أحمد أيضا عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ثلاثتهم عن الزهري عن
عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقتل ابن
مريم الدجال بباب لد " وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به وقال هذا حديث صحيح قال وفي الباب عن
عمران بن حصين ونافع بن عيينة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة وكيسان وعثمان بن أبي العاص وجابر وأبي
أمامة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان وعمرو بن عوف وحذيفة بن اليمان رضي
الله عنهم. ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال وقتل عيسى ابن مريم عليه السلام له فأما أحاديث ذكر الدجال فقط
فكثيرة جدا وهي أكثر من أن تحصى لانتشارها وكثرة روايتها في الصحاح والحسان والمسانيد وغير ذلك. " حديث
آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: أشرف علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة فقال " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من
مغربها والدخان والدابة وخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى ابن مريم والدجال وثلاثة خسوف: خسف
بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر - الناس تبيت معهم
حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا " وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فرات القزاز به ورواه مسلم أيضا من
رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عن أبي شريحة عن حذيفة بن أسيد الغفاري موقوفا والله أعلم فهذه أحاديث
متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبى أمامة والنواس بن سمعان
وعبد الله بن عمرو بن العاص ومجمع بن جارية وأبي شريحة وحذيفة بن أسيد رضي الله عنهم وفيها دلالة على صفة
نزوله ومكانه من أنه بالشام بل بدمشق عند المنارة الشرقية وأن ذلك يكون عند إقامة صلاة الصبح وقد بنيت في هذه
الاعصار في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأموي بيضاء من حجارة منحوتة عوضا عن المنارة التي
هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة وكان أكثر عمارتها من
أموالهم وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب
ويضع الجزية فلا يقبل إلا الاسلام كما تقدم في الصحيحين وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وتقرير وتشريع وتسويغ له
على ذلك في ذلك الزمان حيث تنزاح عللهم وترتفع شبههم من أنفسهم ولهذا كلهم يدخلون في دين الاسلام
متابعين لعيسى عليه السلام وعلى يديه ولهذا قال تعالى " وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته " الآية وهذه
الآية كقوله " وإنه لعلم للساعة " وقرئ " لعلم " بالتحريك أي أمارة ودليل على اقتراب الساعة وذلك لأنه ينزل
بعد خروج المسيح الدجال فيقتله الله على يديه كما ثبت في الصحيح " إن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء " ويبعث
الله في أيامه يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله تعالى ببركة دعائه وقد قال تعالى " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من
كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق " الآية.
" صفة عيسى عليه السلام "
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة " فإذا رأيتموه فاعرفوه: رجل مربوع إلى الحمرة والبياض
عليه ثوبان ممصران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل " وفي حديث النواس بن سمعان " فينزل عند المنارة البيضاء
شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأت قطر وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان
اللؤلؤ ولا يحل لكافر أن يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث انتهى طرفه " وروى البخاري ومسلم من طريق
596

الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليلة أسري بي لقيت موسى " قال فنعته " فإذا
رجل " أحسبه قال " مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة " قال " ولقيت عيسى " فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال " ربعة أحمر
كأنه خرج من ديماس " يعني الحمام " ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به " الحديث. وروى البخاري من حديث
مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت موسى وعيسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر جعد عريض الصدر
وأما موسى فآدم جسيم سبط كأنه من رجال الزط " وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظهراني الناس المسيح الدجال فقال " إن الله ليس بأعور ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى
كأن عينه عنبة طافية " ولمسلم عنه مرفوعا " وأراني الله عند الكعبة في المنام وإذا رجل آدم كأحسن ما ترى من أدم
الرجال تضرب لمته بين منكبيه رجل الشعر يقطر رأسه ماء واضعا يديه على منكبي رجلين وهو يطوف بالبيت فقلت من
هذا؟ قالوا: هو المسيح ابن مريم ثم رأيت وراءه رجلا جعدا قططا أعور العين اليمنى كأشبه من رأيت بابن قطن
واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت فقلت من هذا؟ قالوا: المسيح الدجال " تابعه عبيد الله عن نافع ثم
رواه البخاري عن أحمد بن محمد المكي عن إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: لا والله ما قال
النبي صلى الله عليه وسلم لعيسى أحمر ولكن قال " بينما أنا نائم أطوف بالكعبة فإذا رجل آدم سبط الشعر يتهادى بين رجلين ينطف
رأسه ماء - أو يهراق رأسه ماء - فقلت من هذا؟ فقالوا ابن مريم فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الرأس
أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية قلت من هذا؟ قالوا الدجال وأقرب الناس به شبها ابن قطن " قال الزهري
رجل من خزاعة هلك في الجاهلية هذه كلها ألفاظ البخاري رحمه الله وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم
عن أبي هريرة أن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون وفي
حديث عبد الله بن عمر عند مسلم أنه يمكث سبع سنين فيحتمل والله أعلم أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين
سنة مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله فإنه رفع وله ثلاثة وثلاثون سنة في الصحيح وقد ورد ذلك في حديث في
صفة أهل الجنة أنه على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رفع وله
مائة وخمسون سنة فشاذ غريب بعيد وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه عن
بعض السلف أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته فالله أعلم وقوله تعالى " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " قال
قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله وأقر بعبودية الله عز وجل وهذا كقوله تعالى في أخر سورة المائدة
" وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس " إلى قوله " العزيز الحكيم ".
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160) وأخذهم الربوا وقد نهوا
عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين عذابا أليما (161) لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم
أجرا عظيما (162)
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم كما قال ابن
أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو قال: قرأ ابن عباس " طيبات
كانت أحلت لهم " وهذا التحريم قد يكون قدريا بمعنى أنه تعالى قيضهم لان تأولوا في كتابهم وحرفوا وبدلوا أشياء
كانت حلالا لهم فحرموها على أنفسهم تشديدا منهم على أنفسهم وتضييقا وتنطعا ويحتمل أن يكون شرعيا بمعنى
أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك كما قال تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل
إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة " وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد أن الجميع من
597

الأطعمة كانت حلالا لهم من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها ثم إنه
تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة كما قال في سورة الأنعام " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون " أي
إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه ولهذا قال
" فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " أي صدوا الناس وصدوا
أنفسهم عن اتباع الحق وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ولهذا كانوا أعداء الرسل وقتلوا خلقا من
الأنبياء وكذبوا عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما، وقوله " وأخذهم الربا وقد نهوا عنه " أي أن الله قد
نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل قال
تعالى " وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما " ثم قال تعالى " لكن الراسخون في العلم منهم " أي الثابتون في
الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران " والمؤمنون " عطف على
الراسخين وخبره " يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن سلام
وثعلبة بن سعيه وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الاسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدا صلى الله عليه وسلم وقوله
" والمقيمين الصلاة " هكذا هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف أبي بن كعب وذكر ابن جرير أنها في
مصحف ابن مسعود والمقيمون الصلاة قال: والصحيح قراءة الجميع ثم رد على من زعم أن ذلك من غلط
الكتاب ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم هو منصوب على المدح كما جاء في قوله " والموفون بعهدهم إذا
عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس " قال: وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر:
لا يبعد قومي الذين همو * أسد العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون: هو مخفوض عطفا على قوله " بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك " يعني وبالمقيمين الصلاة وكأنه
يقول وبإقامة الصلاة أي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة وهذا اختيار ابن
جرير يعني يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالملائكة وفي هذا نظر والله أعلم. وقوله " والمؤتون
الزكاة " يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ويحتمل زكاة النفوس ويحتمل الامرين والله أعلم " والمؤمنون بالله
واليوم الآخر " أي يصدقون بأنه لا إله إلا الله ويؤمنون بالبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
وقوله " أولئك " هو الخبر عما تقدم " سنؤتيهم أجرا عظيما " يعني الجنة.
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب
والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وأتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من
قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما (165)
قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال سكن
وعدي بن زيد يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شئ بعد موسى فأنزل الله في ذلك من قولهما " إنا أوحينا
إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " إلى آخر الآيات وقال ابن جرير حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو
معشر عن محمد بن كعب القرظي قال أنزل الله " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " إلى قوله
" وقولهم على مريم بهتانا عظيما " قال فلما تلاها عليهم يعني على اليهود وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة جحدوا كل ما
أنزل الله وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شئ ولا موسى ولا عيسى ولا على نبي من شئ قال فحل حبوته فقال
598

ولا على أحد فأنزل الله عز وجل " وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " وفي هذا الذي قاله
محمد بن كعب القرظي نظر فإن هذه الآية التي في سورة الأنعام مكية وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية وهي رد
عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابا من السماء قال الله تعالى " فقد سألوا موسى أكبر من ذلك " ثم ذكر
فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله
محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين فقال " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " إلى
قوله " وآتينا داود زبورا " والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام وسنذكر ترجمة كل واحد من
هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء الله وبه الثقة وعليه
التكلان. وقوله " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " أي من قبل هذه الآية يعني في
السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم آدم وإدريس ونوح وهود
وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان
وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى. وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله وعليه
وآله وسلم وقوله " ورسلا لم نقصصهم عليك " أي خلقا آخرين لم يذكروا في القرآن وقد اختلف في عدة الأنبياء
والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره حيث قال حدثنا
إبراهيم بن محمد حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن والحسين بن عبد الله بن يزيد قالا حدثنا إبراهيم بن هشام بن
يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال
" مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " قلت يا رسول الله كم الرسل منهم قال " ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير " قلت يا
رسول الله من كان أولهم قال " آدم " قلت يا رسول الله " نبي مرسل " قال " نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم
سواه قبلا " ثم قال " يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث ونوح وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم وأربعة من
العرب هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر وأول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول النبيين آدم
وآخرهم نبيك ". وقد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي في كتابه الأنواع والتقاسيم وقد
وسمه بالصحة وخالفه أبو الفرج بن الجوزي فذكر هذا الحديث في كتابه الموضوعات واتهم به إبراهيم بن هشام هذا
ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث والله أعلم وقد روي هذا الحديث
من وجه آخر عن صحابي آخر فقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف حدثنا أبو المغيرة حدثنا معان بن رفاعة عن
علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قلت يا نبي الله كم الأنبياء؟ قال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا من
ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا " معان بن رفاعة السلامي ضعيف وعلي بن يزيد ضعيف والقاسم أبو
عبد الرحمن ضعيف أيضا وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري
حدثنا علي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعث الله
ثمانية آلاف في أربعة آلاف إلى بني إسرائيل وأربعة آلاف إلى سائر الناس " وهذا أيضا إسناد ضعيف فيه الربذي
ضعيف وشيخه الرقاشي أضعف منه والله أعلم. وقال أبو يعلى حدثنا أبو الربيع حدثنا محمد بن ثابت العبدي حدثنا
معبد بن خالد الأنصاري عن يزيد الرقاشي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء
ثمانية آلاف نبي ثم كان عيسى ابن مريم ثم كنت أنا " وقد رويناه عن أنس من وجه آخر فأخبرنا الحافظ أبو عبد الله
الذهبي أخبرنا أبو الفضل بن عساكر أنبأنا الإمام أبو بكر بن القاسم بن أبي سعيد الصفار أخبرتنا عمة أبي عائشة بنت
أحمد بن منصور بن الصفار أخبرنا الشريف أبو السنابك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القرشي حدثنا الامام
الأستاذ أبو إسحق الأسفرايني قال أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي حدثنا محمد بن عثمان بن أبي
شيبة حدثنا أحمد بن طارق حدثنا مسلم بن خالد حدثنا زياد بن سعد عن محمد بن المنكدر عن صفوان بن سليم عن
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت على أثر ثمانية آلاف نبي منهم أربعة آلاف نبي من بني إسرائيل "
599

وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا فإني لا أعرفه بعدالة ولا
جرح والله أعلم. وحديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام قال محمد بن الحسين الآجري
حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفريابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين حدثنا إبراهيم بن هشام بن
يحيى الغساني حدثنا أبي عن جده عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر قال دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
جالس وحده فجلست إليه فقلت يا رسول الله إنك أمرتني بالصلاة قال " الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل " قال:
قلت يا رسول الله فأي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله وجهاد في سبيله " قلت يا رسول الله فأي المؤمنين
أفضل؟ قال " أحسنهم خلقا " قلت يا رسول الله فأي المسلمين أسلم؟ قال: " من سلم الناس من لسانه ويده " قلت
يا رسول الله فأي الهجرة أفضل؟ قال " من هجر السيئات " قلت يا رسول الله أي الصلاة أفضل؟ قال " طول
القنوت فقلت يا رسول الله فأي الصيام أفضل؟ قال: " فرض مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة " قلت يا رسول الله فأي
الجهاد أفضل قال: " من عقر جواده وأهريق دمه " قلت يا رسول الله فأي الرقاب أفضل؟ قال " أغلاها
ثمنا وأنفسها عند أهلها " قلت يا رسول الله فأي الصدقة أفضل؟ قال " جهد من مقل وسر إلى فقير " قلت
يا رسول الله فأي آية ما أنزل عليك أعظم؟ قال " آية الكرسي " ثم قال " يا أبا ذر وما السماوات السبع
مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة "
قال: قلت يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا " قال: قلت يا رسول الله كم
الرسل من ذلك؟ قال " ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير كثير طيب " قلت فمن كان أولهم؟ قال " آدم " قلت أنبي
مرسل؟ قال " نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسواه قبيلا " ثم قال " يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث
وخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بقلم ونوج وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك يا أبا ذر وأول
أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى وأول الرسل آدم وآخرهم محمد " قال: قلت يا رسول الله كم كتاب أنزله
الله؟ قال " مائة كتاب وأربعة كتب أنزل الله على شيث خمسين صحيفة وعلى خنوخ ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم
عشر صحائف وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان " قال: قلت
يا رسول الله ما كانت صحف إبراهيم؟ قال " كانت كلها يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع
الدنيا بعضها على بعض ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر وكان فيها أمثال وعلى
العاقل أن يكون له ساعات ساعة يناجي فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يفكر في صنع الله وساعة
يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب وعلى العاقل أن لا يكون ظاعنا إلا لثلاث: تزود لمعاد أو مرمة
لمعاش أو لذة في غير محرم وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه ومن حسب
كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه " قال: قلت يا رسول الله فما كانت صحف موسى؟ قال " كانت عبرا كلها
عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح عجبت لمن أيقن بالقدر ثم هو ينصب وعجبت لمن يرى الدنيا وتقلبها
بأهلها ثم يطمئن إليها وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل " قال: قلت يا رسول الله فهل في أيدينا
شئ مما كان في أيدي إبراهيم وموسى وما أنزل الله عليك؟ قال " نعم اقرأ يا أبا ذر " قد أفلح من تزكى * وذكر اسم
ربه فصلى * بل تؤثرون الحياة الدنيا * والآخرة خير وأبقى * إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم
وموسى " " قال: قلت يا رسول الله فأوصني قال " أوصيك بتقوى الله فإنه رأس أمرك " قال: قلت يا رسول الله زدني
قال " عليك بتلاوة القرآن وذكر الله فإنه ذكر لك في السماء ونور لك في الأرض " قال: قلت يا رسول الله زدني قال
" إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه " قلت يا رسول الله زدني قال " عليك بالجهاد فإنه رهبانية
أمتي " قلت زدني قال " عليك بالصمت إلا من خير فإنه مطردة للشيطان وعون لك على أمر دينك " قلت زدني قال
" انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر لك أن لا تزدري نعمة الله عليك " قلت زدني قال " أحبب
المساكين وجالسهم فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عليك " قلت زدني قال " صل قرابتك وإن قطعوك " قلت زدني
600

قال " قل الحق وإن كان مرا " قلت زدني قال " لا تخف في الله لومة لائم " قلت زدني قال " يردك عن الناس ما تعرف
من نفسك ولا تجد عليهم فيما تحب وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك أو تجد عليهم فيما
تحب " ثم ضرب بيده صدري فقال يا أبا ذر " لا عقل كالتدبير ولا ورع كالكف ولا حسب كحسن الخلق ". وروى
الإمام أحمد عن أبي المغيرة عن معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم
فذكر أمر الصلاة والصيام والصدقة وفضل آية الكرسي ولا حول ولا قوة إلا بالله وأفضل الشهداء وأفضل الرقاب ونبوة
آدم وأنه مكلم وعدد الأنبياء والمرسلين كنحو ما تقدم. وقال عبد الله بن الإمام أحمد وجدت في كتاب أبي بخطه
حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب حدثنا يحمى بن سعيد الأموي حدثنا مجالد عن أبي الوداك قال: قال أبو سعيد
هل تقول الخوارج بالدجال قال: قلت لا فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني خاتم ألف نبي أو أكثر وما بعث نبي يتبع
إلا وقد حذر أمته منه وإني قد بين لي فيه ما لم يبين وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا
تخفى كأنها نخامة في حائط مجصص وعينه اليسرى كأنها كوكب دري معه من كل لسان ومعه صورة الجنة
خضراء يجري فيها الماء وصورة النار سوداء تدخن " وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي عن
يحيى بن معين حدثنا مروان بن معاوية حدثنا مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني
أختم ألف ألف نبي أو أكثر ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذرهم الدجال " وذكر تمام الحديث هذا لفظه بزيادة
ألف وقد تكون مقحمة والله أعلم. وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس
بهم وقد روى هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عمرو بن علي
حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لخاتم ألف نبي أو أكثر وإنه
ليس منهم نبي إلا وقد أنذر قومه الدجال وإني قد بين لي ما لم يبين لاحد منهم وإنه أعور وإن ربكم ليس بأعور "
قوله " وكلم الله موسى تكليما " وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة ولهذا يقال له الكليم وقد قال الحافظ
أبو بكر بن مردويه حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي حدثنا مسيح بن حاتم حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال
جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش فقال سمعت رجلا يقرأ " وكلم الله موسى تكليما " فقال أبو بكر ما قرأ هذا إلا كافر
قرأت على الأعمش وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي وقرأ أبو عبد
الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكلم الله موسى تكليما "
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك لأنه حرف لفظ القرآن ومعناه وكان هذا من المعتزلة
الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحدا من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على
بعض المشايخ " وكلم الله موسى تكليما " فقال له يا ابن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى " ولما جاء موسى لميقاتنا
وكلمه ربه " يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا
أحمد بن الحسين بن بهرام حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا هانئ بن يحيى عن الحسن بن أبي جعفر عن قتادة عن
يحيى بن وثاب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما كلم الله موسى كان يبصر دبيب النمل على الصفا في
الليلة الظلماء ". وهذا حديث غريب وإسناده لا يصح وإذا صح موقوفا كان جيدا وقد روى الحاكم في مستدركه
وابن مردويه من حديث حميد بن قيس الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان
على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف وكساء صوف وسراويل صوف ونعلان من جلد حمار غير ذكي " وقال ابن مردويه
بإسناده عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: إن الله ناجى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة في ثلاثة
أيام وصايا كلها فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب عز وجل. وهذا أيضا إسناد
ضعيف فإن جويبر أضعف والضحاك لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن
مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أنه. قال لما كلم الله
موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه فقال له موسى يا رب هذا كلامك الذي كلمتني به قال: لا يا
601

موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها وأنا أقوى من ذلك فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل
قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن قال لا أستطيعه قالوا فشبه لنا قال ألم تسمعوا إلى صوت الصواعق فإنه قريب منه
وليس به وهذا إسناد ضعيف فإن الفضل الرقاشي هذا ضعيف بمرة. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن
أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث عن جزء بن جابر الخيثمي عن كعب قال إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها
سوى كلامه فقال موسى يا رب هذا كلامك قال لا ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له قال يا رب فهل من خلقك شئ
يشبه كلامك قال لا وأشد خلقي سبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق. فهذا موقوف على كعب الأحبار وهو
يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل وفيها الغث والسمين وقوله " رسلا مبشرين ومنذرين "
أي يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب وقوله " لئلا
يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما " أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة
والنذارة وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه لئلا يبقى لمعتذر عذر كما قال تعالى " ولولا أنا أهلكناهم بعذاب
من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " وكذا قوله " ولولا أن تصيبهم مصيبة
بما قدمت أيديهم " الآية. وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أغير من الله
من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل من أجل ذلك
مدح نفسه ولا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين ". وفي لفظ آخر " من
أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه ".
لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا (166) إن الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا (167) إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا (168) إلا طريق
جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا (169) يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم
فآمنوا خيرا لكم وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما (170
لما ضمن قوله تعالى " إنا أوحينا إليك " إلى آخر السياق إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من
المشركين وأهل الكتاب قال تعالى " لكن الله يشهد بما أنزل إليك " أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك
وخالفك فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم " الذي لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " ولهذا قال " أنزله بعلمه " أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد
عليه من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه ويأباه وما فيه من العلم بالغيوب
من الماضي والمستقبل. وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن
يعلمه الله به كما قال تعالى " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " وقال " ولا يحيطون به علما " وقال ابن أبي
حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا الحسن بن سهيل الجعفري وعبد الله بن المبارك قالا حدثنا عمران بن عيينة
حدثنا عطاء بن السائب قال أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال قد أخذت علم
الله فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل ثم يقرأ قوله " أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " قوله " والملائكة
يشهدون " أي بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى لك بذلك " وكفى بالله شهيدا " قال
محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
602

جماعة من اليهود فقال لهم " إني لاعلم والله إنكم لتعلمون أنى رسول الله " فقالوا ما نعلم ذلك. فأنزل الله عز وجل
" لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه " الآية.
وقوله " إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا " أي كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق وسعوا في
صد الناس عن اتباعه والاقتداء به قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه وبعدوا منه بعدا عظيما شاسعا ثم أخبر تعالى عن
حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمة وانتهاك محارمه
بأنه لا يغفر لهم " ولا يهديهم طريقا " أي سبيلا إلى الخير " إلا طريق جهنم " وهذا استثناء منقطع " خالدين فيها
أبدا " الآية ثم قال تعالى " يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم " أي قد جاءكم محمد
صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عز وجل فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرا لكم
ثم قال " وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض " أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم ولا يتضرر بكفرانكم كما
قال تعالى " وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " وقال ههنا " وكان الله عليما "
أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه وبمن يستحق الغواية فيغويه " حكيما " أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته
ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه
أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171)
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والاطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق
المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في
أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا أو
ضلالا أو رشادا أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " الآية.
وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم قال زعم الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن
عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " ثم
رواه هو وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن الزهري كذلك ولفظه " إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "
وقال علي بن المديني هذا حديث صحيح مسند وهكذا رواه البخاري عن الحميدي عن سفيان بن عيينة عن
الزهري به ولفظه " فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " وقال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا حماد بن
سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلا قال يا محمد يا سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس عليكم بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد بن عبد الله عبد الله ورسوله والله ما
أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " تفرد به من هذا الوجه. وقوله تعالى " ولا تقولوا على الله إلا
الحق " أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا وتنزه وتقدس وتوحد في
سؤدده وكبريائه وعظمته فلا إله إلا هو ولا رب سواه ولهذا قال " إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها
إلى مريم وروح منه " أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه قال له كن فكان ورسول من رسله وكلمته
ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان
عيسى بإذنه عز وجل وكانت تلك النقخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب والام والجميع
مخلوق لله عز وجل ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له
603

بها كن فكان والروح التي أرسل بها جبريل. قال الله تعالى " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام " وقال تعالى " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له
كن فيكون " وقال تعالى " والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " وقال تعالى
" ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها " إلى آخر السورة وقال تعالى إخبارا عن المسيح " إن هو إلا عبد أنعمنا
عليه " الآية وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " هو كقوله " كن فيكون "
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال سمعت شاذان بن يحيى يقول في قول الله " وكلمته ألقاها إلى
مريم وروح منه " قال ليس الكلمة صارت عيسى ولكن بالكلمة صار عيسى وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله
" ألقاها إلى مريم " أي أعلمها بها كما زعمه في قوله " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه " أي يعلمك
بكلمة منه ويجعل ذلك كقوله تعالى " وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك " بل الصحيح أنها
الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام. وقال البخاري: حدثنا صدقة بن
الفضل حدثنا الوليد حدثنا الأوزاعي حدثني عمير بن هانئ حدثنا جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " وقال الوليد
فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عمير بن هانئ عن جنادة زاد " من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها
شاء " وكذا رواه مسلم عن داود بن رشيد عن الوليد عن ابن جابر به ومن وجه آخر عن الأوزاعي به فقوله في الآية
والحديث " وروح منه " كقوله " وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " أي من خلقه ومن عنده
وليست " من " للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى
وقد قال مجاهد في قوله " وروح منه " أي ورسول منه وقال غيره ومحبة منه والأظهر الأول وهو أنه مخلوق من روح
مخلوقة وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله " هذه ناقة الله " وفي
قوله " وطهر بيتي للطائفتين " وكما روي في الحديث الصحيح " فأدخل على ربى في داره " أضافها إليه إضافة
تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد وقوله " فأمنوا بالله ورسوله " أي فصدقوا بأن الله واحد أحد لا ولد له ولا
صاحبة واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ولهذا قال تعالى " ولا تقولوا ثلاثة " أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع
الله شريكين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذه الآية والتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى " لقد كفر الذين
قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد " وكما قال في آخر السورة المذكورة " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم
أأنت قلت للناس اتخذوني " الآية وقال في أولها " لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم " الآية.
والنصارى عليهم لعائن الله من جهلهم ليس لهم ضابط ولا لكفرهم حد بل أقوالهم وضلالهم منتشر فمنهم من
يعتقده إلها ومنهم من يعتقده شريكا ومنهم من يعتقده ولدا وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة وأقوال غير
مؤتلفة. ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال: لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولا. ولقد
ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو سعيد بن بطريق بترك الإسكندرية في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية
أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة وذلك في
أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة وأنهم اختلفوا عليه اختلافا لا ينضبط ولا ينحصر فكانوا أزيد من ألفين أسقفا
فكانوا أحزابا كثيرة كل خمسين منهم على مقالة وعشرون على مقالة ومائة على مقالة وسبعون على مقالة وأزيد من
ذلك وأنقص. فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفرا وقد توافقوا على مقالة فأخذها الملك
ونصرها وأيدها وكان فيلسوفا داهية ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت
لهم الكنائس ووضعوا لهم كتبا وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم
عليها وأتباع هؤلاء هم الملكانية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيا فحدث فيهم اليعقوبية ثم مجمعا ثالثا فحدث فيهم
604

النسطورية وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على
زعمهم هل اتحدا أو ما اتحدا أو امتزجا أو حل فيه على ثلاث مقالات وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ونحن نكفر
الثلاثة ولهذا قال تعالى " انتهوا خيرا لكم " أي يكن خيرا لكم " إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد " أي تعالى
وتقدس عن ذلك علوا كبيرا " له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا " أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما
فيهما عبيده وهم تحت تدبيره وتصريفه وهو وكيل على كل شئ فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الآية
الأخرى " بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد " الآية. وقال تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا
إدا - إلى قوله - فردا ".
لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم
إليه جميعا (172) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا
واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا (173)
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن موسى حدثنا هشام عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قوله " لن
يستنكف " لن يستكبر. وقال قتادة: لن يحتشم " المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " وقد استدل
بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال " ولا الملائكة المقربون " وليس له في ذلك
دلالة لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح لان الاستنكاف هو الامتناع والملائكة أقدر على ذلك من المسيح فلهذا
قال " ولا الملائكة المقربون " ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل وقيل إنما ذكروا لأنهم
اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسيح فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه كما قال الله تعالى " وقالوا
اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " الآيات. ولهذا قال " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم
إليه جميعا " أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل الذي لا يجور فيه ولا يحيف. ولهذا قال " فأما
الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله " أي فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم
الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه وقد روى ابن مردويه من طريق بقية عن
إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن سفيان عن عبد الله مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيوفيهم أجورهم
ويزيدهم من فضله " أجورهم قال " أدخلهم الجنة " ويزيدهم من فضله " قال " الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع
إليهم المعروف في دنياهم " وهذا إسناد لا يثبت. وإذا روى عن ابن مسعود موقوفا فهو جيد " وأما الذين استنكفوا
واستكبروا " أي امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك " فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله
وليا ولا نصيرا " كقوله " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " أي صاغرين حقيرين ذليلين كما
كانوا ممتنعين مستكبرين.
يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا (174) فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به
فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما (175)
يقول تعالى مخاطبا جميع الناس ومخبرا بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة
605

للشبه ولهذا قال " وأنزلنا إليكم فورا مبينا " أي ضياء واضحا على الحق قال ابن جريج وغيره هو القرآن " فأما الذين
آمنوا بالله واعتصموا به " أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم وقال ابن جريج: آمنوا
بالله واعتصموا بالقرآن. رواه ابن جرير " فسيدخلهم في رحمة منه وفضل " أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم
ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " أي طريقا واضحا
قصدا قواما لا اعوجاج فيه ولا انحراف وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة
وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات
الجنات. وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " القرآن صراط الله
المستقيم وحبل الله المتين ". وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة.
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن
لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله
لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم (176)
قال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحق قال: سمعت البراء آخر سورة نزلت براءة وآخر آية
نزلت يستفتونك وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله
قال دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل قال فتوضأ ثم صب علي أو قال " صبوا عليه " فقلت إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف
الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة ورواه الجماعة من طريق سفيان بن
عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر به وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث " يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة " الآية. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد حدثنا سفيان وقال أبن الزبير قال يعني جابرا
نزلت في " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وكأن معنى الكلام والله أعلم يستفتونك عن الكلالة " قل الله
يفتيكم " فيها فدل المذكور على المتروك. وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط
بالرأس من جوانبه ولهذا فسرها أكثر العلماء: بمن يموت وليس له ولد ولا والد ومن الناس من يقول الكلالة من لا
ولد له كما دلت عليه هذه الآية " إن امرؤ هلك ليس له ولد " وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن
الخطاب " رضي الله عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا
ننتهي إليه: الجد والكلالة وباب من أبواب الربا. وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال: قال عمر بن الخطاب ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ
أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبه في صدري وقال " يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء " هكذا
رواه مختصرا وأخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا. " طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم حدثنا مالك
يعني ابن مغول يقول سمعت الفضل بن عمرو عن إبراهيم عن عمر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال
" يكفيك آية الصيف " فقال لان أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم وهذا إسناد
جيد إلا أن فيه انقطاعا بين إبراهيم وبين عمر فإنه لم يدركه. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا أبو بكر عن
أبي إسحق عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة فقال " يكفيك آية الصيف ". وهذا إسناد جيد
رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عياش به وكان المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله
أعلم ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها فإن فيها كفاية نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ولهذا قال فلان أكون سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم. وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير حدثنا
606

الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال " أليس قد بين
الله ذلك " فنزلت " يستفتونك " الآية. قال قتادة وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته ألا إن الآية التي نزلت
في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والاخوة من
الام والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الاخوة والأخوات من الأب والام والآية التي ختم بها سورة الأنفال
أنزلها في أولى الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة رواه ابن جرير.
" ذكر الكلام على معناها "
وبالله المستعان وعليه التكلان. قوله تعالى " إن امرؤ هلك " أي مات قال الله تعالى " كل شئ هالك إلا وجهه "
كل شئ يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل كما قال " كل من عليها فإن ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام " وقوله
" ليس له ولد " تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد
وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور
وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد ويدل على ذلك قوله " وله أخت فلها نصف ما ترك " ولو كان معها أب
لم ترث شيثا لأنه يحجها بالاجماع فدل على أنه لا ولد له بنص القرآن ولا والد بالنص عند التأمل أيضا لان الأخت لا
يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية. وقال الإمام أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن
عبد الله عن مكحول وعطية وحمزة وراشد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن زوج وأخت لأب وأم فأعطى الزوج النصف
والأخت النصف فكلم في ذلك فقال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك. تفرد به أحمد من هذا الوجه وقد نقل
ابن جرير وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتا وأختا إنه لا شئ للأخت لقوله " إن
امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك " قال فإذا ترك بنتا فقد ترك ولدا فلا شئ للأخت وخالفهما
الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض وللأخت النصف الآخر بالتعصيب بدليل غير هذه الآية وهذه
الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة وأما وراثتها بالتعصيب فلما رواه البخاري من طريق سليمان عن إبراهيم
عن الأسود قال قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت ثم قال سليمان قضى
فينا ولم يذكر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري أيضا عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعري
عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال للابنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني فسئل ابن مسعود فأخبره
بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت ولبنت
الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال لا تسألوني ما دام هذا
الحبر فيكم. وقوله " وهو يرثها إن لم يكن لها ولد " أي والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا
والد لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئا فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم
وصرف الباقي إلى الأخ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت
الفرائض فلاولى رجل ذكر " وقوله " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك " أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان
فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ومن ههنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم
الأخوات من البنات في قوله " فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك " وقوله " وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر
مثل حظ الأنثيين " هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والاخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطى الذكر مثل
حظ الأنثيين وقوله " يبين الله لكم " أي يفرض لكم فرائضه ويحد لكم حدوده ويوضح لكم شرائعه وقوله " أن
تضلوا " أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان " والله بكل شئ عليم " أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها
607

من الخير لعباده وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى. وقد قال أبو جعفر ابن جرير حدثني
يعقوب حدثني ابن علية أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال كانوا في مسير ورأس راحلة حذيفة عند ردف راحلة
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة قال ونزلت " يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة " فلقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة فلقاها حذيفة عمر فلما كان بعد ذلك سأل عمر عنها حذيفة فقال
والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأزيدك عليها شيئا
أبدا. قال فكان عمر يقول اللهم إن كنت بينتها له فإنها لم تبين لي كذا رواه ابن جرير ورواه أيضا عن الحسن بن
يحيى عن عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين كذلك بنحوه وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة وقد قال
الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده حدثنا يوسف بن حماد المعنى ومحمد بن مرزوق قالا حدثنا
عبد الأعلى بن عبد الأعلى حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه قال نزلت
آية الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة وإذا رأس ناقة حذيفة عند ردف راحلة
النبي صلى الله عليه وسلم فلقاها إياه فنظر حذيفة فإذا عمر رضي الله عنه فلقاها إياه فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة فدعا
حذيفة فسأله عنها فقال حذيفة لقد لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقاني رسول الله صلى الله عليه وسلم والله إني لصادق ووالله لا
أزيدك على ذلك شيئا أبدا. ثم قال البزار وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ولا نعلم له طريقا عن حذيفة
إلا هذا الطريق ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى. وكذا رواه ابن مردويه من حديث عبد الأعلى. وقال عثمان بن
أبي شيبة حدثنا جرير عن الشيباني عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تورث
الكلالة؟ قال فأنزل الله " يستفتونك " الآية قال فكأن عمر لم يفهم فقال لحفصة إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب
نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال " أبوك ذكر لك هذا ما أرى أباك يعلمها " قال فكان عمر يقول ما
أراني أعلمها. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال. رواه ابن مردويه ثم رواه من طريق ابن عيينة وعن عمر بن طاوس أن
عمر أمر حفصة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فأملاها عليها في كتف فقال " من أمرك بهذا أعمر؟ ما أراه يقيمها وما
تكفيه آية الصيف " وآية الصيف التي في النساء " وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة " فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت
الآية التي هي خاتمة النساء فألقى عمر الكتف كذا قال في هذا الحديث وهو مرسل. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب
حدثنا عثام عن الأعمش عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال أخذ عمر كتفا وجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
قال لأقضين في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرقوا فقال لو أراد الله
عز وجل أن يتم هذا الامر لاتمه. وهذا إسناد صحيح وقال الحاكم أبو عبد الله النيسابوري حدثنا علي بن محمد بن
عقبة الشيباني بالكوفة حدثنا الهيثم بن خالد حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت محمد بن
طلحة بن يزيد بن ركانة يحدث عن عمر بن الخطاب قال لان أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحب إلي من حمر
النعم: من الخليفة بعده؟ وعن قوم قالوا نقر بالزكاة في أموالنا ولا نؤديها إليك أيحل قتالهم؟ وعن الكلالة. ثم قال
صحيح الاسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ثم روى هذا الاسناد عن سفيان بن عيينة عن عمر بن مرة عن عمر
قال: ثلاث لان يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها الخلافة والكلالة والربا. ثم قال صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه وبهذا الاسناد إلى سفيان بن عيينة قال سمعت سليمان الأحول يحدث عن طاوس قال
سمعت ابن عباس قال كنت آخر الناس عهدا بعمر فسمعته يقول القول ما قلت قلت وما قلت؟ قال: قلت الكلالة
من لا ولد له. ثم قال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وهكذا رواه ابن مردويه من طريق زمعة بن صالح عن
عمرو بن دينار وسليمان الأحول عن طاوس عن ابن عباس قال كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب قال اختلفت أنا
وأبو بكر في الكلالة والقول ما قلت - قال وذكر أن عمر شرك بين الاخوة للام والأب وبين الاخوة للام في الثلث إذا
اجتمعوا وخالفه أبو بكر " رضي الله عنهما. وقال ابن جرير حدثنا وكيع حدثنا محمد بن حميد العمري عن معمر عن
الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر كتب في الجد والكلالة كتابا فمكث يستخير الله يقول اللهم إن علمت فيه خيرا
608

فأمضه حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه فقال إني كنت كتبت كتابا في الجد والكلالة وكنت
أستخير الله فيه فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه. قال ابن جرير: وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال إني
لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول هو ما عدا الولد والوالد. وهذا الذي قاله الصديق عليه
جمهور الصحابة والتابعين والأئمة في قديم الزمان وحديثه وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء
الأمصار قاطبة وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله " يبين الله لكم أن تضلوا
والله بكل شئ عليم " والله أعلم.
تم الجزء الأول، ويليه الجزء الثاني: وأوله
سورة المائدة
609