الكتاب: البرهان
المؤلف: الزركشي
الجزء: ١
الوفاة: ٧٩٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٣٧٦ - ١٩٥٧ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء الكتب العربية ، عيسى البابي الحلبي وشركاءه
ردمك:
ملاحظات:

البرهان
في علوم القرآن
للامام بد ر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
تحقيق
محمد أبو الفضل إبراهيم
الجزء الأول
الطبعة الأولى
1376 ه‍ - 1957 م
دار أحياء الكتب العربية
عيسى البابي الحلبي وشركاءه
تعريف الكتاب 1

" جميع الحقوق محفوظة "
تعريف الكتاب 2

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
1 - بدر الدين الزركشي *
الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي أحد العلماء الأثبات الذين
نجموا بمصر في القرن الثامن; وجهبذ من جهابذة أهل النظر وأرباب الاجتهاد; وهو أيضا
علم من أعلام الفقه والحديث والتفسير وأصول الدين.
ولد بالقاهرة سنة خمس وأربعين وسبعمائة حينما كانت معمورة بالمدارس، غاصة بالفضلاء
وحملة العلم; زاخرة بدور الكتب الخاصة والعامة، والمساجد الحافلة بطلاب المعرفة، والوافدين
من شتى الجهات; ولم يكد يجاوز سن الحداثة حتى انتظم في حلقات الدروس، وتفقه
بمذهب الشافعي; وحفظ كتاب المنهاج في الفروع للإمام النووي; وصار يعرف بالمنهاجي;
نسبة إلى هذا الكتاب.
وكان الشيخ جمال الدين الأسنوي رئيس الشافعية بالديار المصرية بدر العلماء الزاهر،
وكوكبهم المتألق; وإمام أهل الحديث بالمدرسة الكاملية غير مدافع; فلزمه وتلمذ له;
المقدمة 3

ونهل من علمه ما شاء الله له ان ينهل; فكان من أنجب تلاميذه وأوعاهم، وأفضلهم
وأذكاهم; كما تخرج على الشيخ سراج الدين البلقيني، والحافظ مغلطاي، وغيرهم من شيوخ
مصر وعلمائها.
ثم ترامت إليه شهرة الشيخ شهاب الدين الأذرعي بحلب، والحافظ ابن كثير بدمشق
فشد إليهما الرحال; قصد إلى حلب أولا حيث أخذ عن الأذرعي الفقه والأصول; ثم
عمد إلى دمشق حيث تلقى على ابن كثير الحديث; ثم عاد إلى القاهرة وقد جمع أشتات
العلوم، وأحاط بالأصول والفروع; وعرف الغامض والواضح، ووعى الغريب والنادر،
واستقصى الشاذ والمقيس; إلى ذكاء وفطنة، وثقافة وألمعية; فأهله كل ذلك للفتيا
والتدريس، والتوفر على الجمع والتصنيف; واجتمع له من المؤلفات في عمره القصير
ما لم يجتمع لغيره من أفذاذ الرجال; وإن كان هذا الفضل لم يعرفه الناس إلا بعد وفاته;
وحين توارت شمس حياته.
وكان رضى الخلق، محمود الخصال، عذب الشمائل; متواضعا رقيقا، يلبس الخلق
من الثياب، ويرضى بالقليل من الزاد; لا يشغله عن العلم شئ من مطالب الدنيا،
أو شؤون الحياة.
قال ابن حجر: " وكان مقطعا في منزله لا يتردد إلى أحد إلا إلى سوق الكتب;
وإذا حضر إليها لا يشترى شيئا; وإنما يطالع في حانوت الكتبي طول نهاره ومعه ظهور
أوراق يعلق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله إلى تصانيفه ".
وحكى تلميذه شمس الدين البرماوي أنه كان منقطعا إلى الاشتغال بالعلم لا يشتغل
عنه بشئ، وله أقارب يكفونه أمر دنياه.
المقدمة 4

وكان يكتب مصنفاته بنفسه; وخطه ردئ جدا قل من يحسن استخراجه، كما أخبر
بذلك ابن العماد; ولهذا شاع في الكتب المنقولة عن خطه الغموض والإبهام،
والتحريف والتصحيف; ولقى منها القراء والدارسون العناء الكثير.
وتولى من المناصب خانقاه كريم الدين بالقرافة الصغرى. وتوفى بمصر في رجب
سنة أربع وتسعين وسبعمائة، ودفن بالقرافة بالقرب من تربة بكتمر الساقي
يرحمه الله.
2 - مؤلفاته *
1 - الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة
طبع بالمطبعة الهاشمية بدمشق سنة 1939، بتحقيق الأستاذ سعيد الأفغاني.
2 - إعلام الساجد بأحكام المساجد.
منه نسخة خطية بمكتبة الجامع المقدس بصنعاء; كتبت سنة 791، وعنها نسخة
مصورة على الميكروفلم بدار الكتب المصرية.
ومنه نسخة أيضا في مكتبة آصاف (2: 1148)، وأخرى في مكتبة رامبور (166).
3 - البحر المحيط في أصول الفقه.
ومنه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 483 - أصول.
5 المقدمة

4 - البرهان في علوم القران
ويأتي الكلام عليه.
5 - تخريج أحاديث الشرح الكبير للرافعي; المسمى بكتاب،، فتح العزيز على
كتاب الوجيز،،
ذكره السيوطي في حسن المحاضرة وصاحب كشف الظنون; وسماه الزركشي في
كتاب الإجابة ص 87: " الذهب الإبريز، في تخريج أحاديث فتح العزيز ".
6 - تشنيف المسامع بجمع الجوامع
طبع في مجموع شروح جمع الجوامع بمصر سنة 1322 ه‍، ومنه نسخة خطية بدار
الكتب المصرية برقم 489 - أصول
7 - تفسير القرآن
ذكره السيوطي وقال: إنه وصل فيه إلى سورة مريم; وكذا أورده صاحب كشف الظنون.
8 - تكملة شرح المنهاج للإمام النووي.
ذكره الأسدي في الطبقات، وابن العماد في الشذرات، وصاحب كشف الظنون.
وذكر الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية بدار الكتب الظاهرية بدمشق
(الجزء الثالث) برقم 345 - فقه الشافعي.
وكان الإستوى بدأ في شرح المنهاج، وسماه: " كافى المحتاج إلى شرح المنهاج "
المقدمة 6

ووصل فيه إلى باب المساقاة ولم يتمه، فأكمله الزركشي.
9 - التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح
طبع بالمطبعة المصرية بمصر سنة 1933 م. ومنه نسخ خطية بدار الكتب المصرية
بالأرقام: 122، 123، 124، 125، 126، 1550، 35 م، 3 ش - حديث.
10 - خادم الرافعي والروضة في الفروع
ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة، والسيوطي في حسن المحاضرة، وابن العماد في
الشذرات، وقال صاحب كشف الظنون: " ذكر في بغية المستفيد انه أربعة عشر
مجلدا، كل منها خمس وعشرون كراسة; ثم إني رأيت المجلد الأول منها افتتح بقوله:
الحمد لله الذي أمدنا بنعمائه...، وذكر أنه شرح فيه مشكلات الروضة وفتح
مغلقات فتح العزيز; وهو على أسلوب التوسط للأذرعي، وأخذه جلال الدين
السيوطي، واختصره من الزكاة إلى آخر الحج ولم يتمه، وسماه تحصين الخادم ".
وقال ابن حجر: " جمع الخادم على طريق المهمات، فاستمد من التوسط
المقدمة 7

للأذرعي; لكن شحنه بالفوائد الزوائد، من المطلب وغيره ".
ومنه نسخة خطية نفيسة بدار الكتب المصرية برقم 21602 ب تقع في خمسة
عشر مجلدا.
11 - خبايا الزوايا في الفروع
ذكره صاحب كشف الظنون وقال: " ذكر فيه ما ذكره الرافعي والنووي في غير
مظنته من الأبواب; فرد كل شكل إلى شكله، وكل فرع إلى أصله، واستدرك
عليه عز الدين حمزة بن أحمد الحسيني الدمشقي المتوفى سنة 874 وسماه بقايا الخبايا.
ولبدر الدين أبى السعادات محمد بن محمد البلقيني المتوفى سنة 890 حاشية عليه ".
ومنه نسخة خطية بالمكتبة التيمورية برقم 307 - فقه، ونسخة بمكتبة جوته
برقم 981، ونسخة بمكتبة البودليانا 1: 277.
12 - خلاصة الفنون الأربعة
ومنه نسخة خطية بمكتبة برلين برقم 5320.
13 - الديباج في توضيح المنهاج
ذكره السيوطي، وصاحب كشف الظنون، وهو غير تكملة شرج المنهاج. ونقل
الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية في دار الكتب الظاهرية بدمشق
المقدمة 8

في مجلد - برقم 68 فقه الشافعي. ومنه أيضا نسختان بدار الكتب المصرية برقمي
102، 1137 - فقه الشافعي.
- الذهب الإبريز في تخريج أحاديث العزيز = تخريج أحاديث الرافعي.
14 - ربيع الغزلان في الأدب
ذكره الأسدي في الطبقات، وصاحب كشف الظنون.
15 - رسالة في كلمات التوحيد
منها نسخة بمكتبة البلدية بالإسكندرية برقم 87 - فنون متنوعة.
16 - زهر العريش في احكام الحشيش
منه نسخة خطية في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم 3812، ونسخة بدار الكتب
المصرية برقم 150 مجاميع، ونسخة في مكتبة قوله برقم 25 مجاميع، ونسخة
في مكتبة برلين برقم 5486، ونسخة في مكتبة جوته برقم 2096.
17 - سلاسل الذهب في الأصول
منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 22095 ب، كتبت في عصر المؤلف.
18 - شرح الأربعين النووية.
ذكره ابن حجر في الدرر الكامنة
المقدمة 9

19 - شرح البخاري
ذكره السيوطي وكذا ابن حجر وقال: " شرع في شرح البخاري وترك مسودة
وقفت على بعضها; ولخص منها كتاب التنقيح في مجلد ".
20 - شرح التنبيه للشيرازي
ذكره السيوطي وصاحب كشف الظنون، ومنه نسخة خطية في مكتبة برلين
برقم 4466، وأخرى في باتانا 1: 91.
- شرح الجامع الصحيح = شرح البخاري
- شرح جمع الجوامع = تشنيف المسامع
21 - شرح الوجيز في الفروع للغزالي
ذكر الأستاذ سعيد الأفغاني أن منه نسخة خطية في المكتبة الظاهرية بدمشق
برقم 2392.
22 - عقود الجمان وتذييل وفيات الأعيان لابن خلكان
ذكر العلامة أحمد تيمور في مقال له عن نوادر المخطوطات بمجلة الهلال سنة 28 أن
منه نسخة في خزانة عارف حكمت بالمدينة.
23 - الغرر السوافر فيما يحتاج إليه المسافر.
منه نسخة خطية بمكتبة توبنجن بألمانيا، وعنها نسخة مصورة بالميكروفلم
المقدمة 10

في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية. وذكر صاحب كشف الظنون أنه مختصر
على ثلاثة أبواب: الباب الأول في مدلول السفر، والثاني في ما يتعلق عند السفر،
والثالث في الآداب المتعلقة بالسفر.
- غنية المحتاج في شرح المنهاج = الديباج.
24 - فتاوى الزركشي
ذكره صاحب كشف الظنون.
25 - في أحكام التمني
منه نسخة خطية بمكتبة برلين برقم 5410
26 - القواعد في الفروع
ذكره صاحب كشف الظنون وقال: " رتبها على حروف المعجم، وشرحها سراج
الدين العبادي في مجلدين، واختصر الشيخ عبد الوهاب الأصل كما ذكر في متنه ".
وذكر الأستاذ الأفغاني أنه من " مخطوطات دمشق واسمه: القواعد والزوائد ".
ومنه نسختان خطيتان في دار الكتب المصرية برقمي 853، 1103 - فقه شافعي،
ونسخة بمكتبة الأزهر برقم 151 - أصول، ونسخة بالخزانة التيمورية برقم 230 - أصول
ونسخة بمكتبة برلين برقم 4605، ونسختان في أحمد الثالث برقمي 1238، 1239
27 - اللآلئ المنثورة في الأحاديث المشهورة.
أورده بروكلمن في الذيل; وذكره صاحب كشف الظنون غفلا من اسم المؤلف.
المقدمة 11

28 - لقطة العجلان وبلة الظمآن في أصول الفقه والحكمة والمنطق.
طبع بمصر سنة 1326 ه‍ مع تعليقات للشيخ جمال الدين القاسمي; وطبع مرة أخرى
بدمشق.
ومنه نسخة خطية محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 573 - أصول.
29 - مالا يسع المكلف جهله
منه نسخة خطية بمكتبة الأوسكريال برقم 707.
30 - مجموعة الزركشي - في فقه الشافعي
منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية برقم 253 - فقه شافعي
31 - المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر
منه نسخة خطية في المكتبة التيمورية برقم 451 - حديث تيمور. وذكر الأستاذ
سعيد الأفغاني أن منه نسخة في دار الكتب الظاهرية بدمشق برقم
1115 - حديث.
- المنثور = القواعد
- النكت على البخاري = التنقيح.
32 - النكت على عمدة الأحكام.
ذكره ابن تغرى بردى في المنهل الصافي.
33 - النكت على ابن الصلاح
ذكره السيوطي.
المقدمة 12

3 - كتاب البرهان
وكتاب البرهان في علوم القرآن من الكتب العتيدة التي جمدت عصارة أقوال
المتقدمين، وصفوة آراء العلماء المحققين; حول القرآن الكريم، وكتاب الله الخالد;
كسره على سبعة وأربعين نوعا; كل نوع يدور حول موضوع خاص من علوم القرآن
ومباحثه; يستأهل كل نوع ان يكون موضوعا خاص; حاول في كل موضوع
ان يؤرخ له; ويحصى الكتب التي ألفت فيه; ويشير إلى العلماء الذين تدارسوه;
فأشبع الفصول، وجمع أشتات المسائل; و ضم أقوال المفسرين والمحدثين، إلى مباحث
الفقهاء والأصوليين; إلى قضايا المتكلمين وأصحاب الجدل; إلى مسائل العربية وآراء أرباب
الفصاحة والبيان; فجاء كما شاء الله كتابا فريدا في فنه; شريفا في أغراضه، مع سداد
المنهج، وعذوبة المورد; وغزارة المادة، بعيدا عن التعمية واللبس; نائيا عن
الحشو والفضول.
ولكن هذا الكتاب لم يكن معروفا عند الباحثين; ولا متداولا بين الطلاب
والدارسين; عدا قلة من المشغوفين بمعرفة النوادر ورواد المكتبات; شأنه شأن
الكثير من كتب الزركشي على عظيم خطرها، وجلالة موضوعاتها، ومقدار غنائها ونفعها;
حتى جاء جلال الدين السيوطي ووضع كتابه الإتقان، فدل الناس في مقدمته عليه،
وأشاد به; وعده أصلا من الأصول التي بنى عليها كتابه; وتأسى طريقته; وتقيل
مذهبه; وسار في الدرب الذي رسمه; ونقل كثيرا من فصوله; مرة معزوة إليه; ومرة
بدون عزو; وإن كان فيما نقل عنه اقتضب الكلام اقتضابا; واختصره اختصارا;
وبهذا ظفر كتاب الإتقان بمنزلة مرموقة عند العلماء; وغدا مرجعا للباحثين حقبة من
المقدمة 13

الزمان; وظل كتاب البرهان متواريا عن العيان، مطمورا في زوايا النسيان. وأعان على
ذلك قلة نسخة المخطوطة; وتعذر الانتفاع بها.
4 - نسخ الكتاب
وحينما تهيأ لي العمل في هذا الكتاب وقفت على النسخ الآتية:
1 - نسخة مكتوبة بقلم نسخ واضح; قوبلت على أصلها; كما قوبلت على نسخة بخط
المصنف; طالعها بعض العلماء وأثبتوا بعض التعليقات على حواشيها; ومنهم العلامة
محب الدين بن الشحنة المتوفى سنة 815 ه‍; مكتوبة بخط قديم ربما كان في عصر المصنف،
كتبها أحمد بن أحمد المقدسي.
والموجود من هذه النسخ الجزء الأول ينتهى بانتهاء الكلام في أقسام معنى الكلام
ويقع في مائة وستين ورقة، وعدد أسطر صفحاتها سبعة وعشرون سطرا.
وهي محفوظة بدار الكتب المصرية بمكتبة طلعت; برقم 456 - تفسير. وقد رمزت
إليها بالحرف ط
2 - نسخة وقعت في مجلدين:
الأول كتب بخط نسخ واضح مضبوط بالحركات; ويبدو أنه من خطوط القرن التاسع.
ويقع في ست ومائتي ورقة، وعدد أسطر كل صفحة خمسة وعشرون سطرا; وبه
بياضات متفرقة في بعض المواضع.
والثاني يكمل هذه النسخة بخطوط حديثة متعددة، آخره مؤرخ
المقدمة 14

في 11 ذي القعدة سنة 1335 بدون ذكر للأصل المنسوخ عنه، وبه أيضا بياضات متفرقة
في بعض الأماكن ومواضع نقص.
ويقع في ست وثلاثمائة ورقة; وعدد أسطر كل صفحة خمسة وعشرون سطرا.
وهي محفوظة بالخزانة التيمورية برقم 256 - تفسير. وقد رمزت إليها بالحرف ت.
3 - نسخة مصورة عن نسخة مكتوبة بقلم معتاد بدون تاريخ، منقولة عن نسخة
أخرى جاء في آخرها انها كتبت " في رابع عشر شهر شعبان الفرد من شهور سنة تسع
وسبعين وثمانمائة ".
ويبدو من خطها أنها مكتوبة في القرن العاشر وتقع في ثنتين وثلاثين وثلاثمائة ورقة،
وعدد أسطر الصفحة واحد وثلاثون سطرا، وبأولها فهرس لفصول الكتاب وأبوابه
وأقسامه.
وأصل هذه النسخة محفوظ بمكتبة مدينة، الملحقة بمكتبة طوبقبوا سراى بإستانبول
برقم 170. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف م.
* * *
وقد اتخذت هذه النسخ أصلا للعمل في الكتاب; وأثبت ما اخترت منها، وأوضحت
في الحاشية وجوه الاختلاف; كما أنى رجعت إلى ما تيسر لي الاطلاع عليه من الكتب
التي رجع إليها المؤلف; في التفسير والحديث والفقه والنحو واللغة كالصرف والرسم
والبلاغة والقراءات; فكان لها الفضل الكبير في جلاء الغامض، وتصحيح
المقدمة 15

المحرف، وتوضيح المشكل، وإكمال الناقص; كما أعانتني في الحواشي التي وشيت
بها الكتاب.
وما عدا العنوانات التي وضعها المؤلف جعلته بين علامتي الزيادة; وألحقت بكل
جزء فهارس موضوعاته; أما الفهارس المفصلة العامة فسترد في آخر الكتاب إن شاء الله.
وقد بذلت في تحقيقه ما استطعت من الجهد، ومن الله أستمد الرضا وأستمنحه القبول.
مصر الجديدة في 21 رمضان سنة 1276
21 أبريل سنة 1957 محمد أبو الفضل إبراهيم
المقدمة 16

نموذج لأول صفحة من نسخة تيمور (ت)
المقدمة 17

نموذج لآخر صفحة من نسخة طلعت (ط)
المقدمة 19

البرهان
في علوم القرآن
للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي
1

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف
قال الشيخ الإمام العالم العلامة، وحيد الدهر، وفريد العصر، جامع أشتات
الفضائل، وناصر الحق بالبرهان من الدلائل، أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله
الزركشي الشافعي، بلغه الله منه ما يرجوه:
الحمد لله الذي نور بكتابه القلوب، وأنزله في أوجز لفظ وأعجز أسلوب، فأعيت بلاغته
البلغاء، وأعجزت حكمته الحكماء، وأبكمت فصاحته الخطباء.
أحمده ان جعل الحمد فاتحة أسراره، وخاتمة تصاريفه وأقداره، وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبد ه ورسوله المصطفى، ونبيه المرتضى، الظافر من
المحامد بالخصل، الظاهر بفضله على ذوي الفضل. معلم الحكمة، وهادي الأمة
أرسله بالنور الساطع، والضياء اللامع، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحبه الأخيار.
أما بعد; فإن أولى ما أعملت فيه القرائح، وعلقت فيه القرائح، وعلقت به الأفكار اللواقح، الفحص
عن أسرار التنزيل، والكشف عن حقائق التأويل، الذي تقوم به المعالم، وتثبت الدعائم
فهو العصمة الواقية، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، والدلالة الدامغة، وهو شفاء الصدور،
والحكم العدل عند مشتبهات الأمور; وهو الكلام الجزل، وهو الفصل الذي ليس
بالهزل; سراج لا يخبو ضياؤه، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه، وبحر لا يدرك غوره.
3

بهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر إيجازه وإعجازه،
وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه
وبدائعه، قد أحكم الحكيم صيغته ومبناه، وقسم لفظه ومعناه، إلى ما ينشط السامع،
ويقرط المسامع، من تجنيس أنيس، وتطبيق لبيق، وتشبيه نبيه، وتقسيم وسيم، وتفصيل
أصيل، وتبليغ بليغ، وتصدير بالحسن جدير، وترديد ماله مزيد; إلى غير ذلك مما
أجرى من الصياغة البديعة، والصناعة الرفيعة، فالآذان بأقراطه خالية، والأذهان
من أسماطه غير خالية; فهو من تناسب ألفاظه، وتناسق أغراضه، قلادة ذات اتساق;
ومن تبسم رهره وتنسم نشره، حديقه مبهجة للنفوس والاسماع والأحداق; كل كلمة منه
لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن بهجتها درة، لاحت
عليه بهجة القدرة، ونزل ممن له الامر، فله على كل كلام سلطان وإمرة، بهر
تمكن فواصله، وحسن ارتباط أواخره وأوائله، وبديع أشارته، وعجيب انتقالاته;
من قصص باهرة، إلى مواعظ زاجرة، وأمثال سائرة، وأدلة على التوحيد
ظاهرة، وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة، ومواقع تعجب واعتبار، ومواطن تنزيه
واستغفار; إن كان سياق الكلام ترجية بسط، وإن كان تخويفا قبض، وإن كان
وعدا أبهج، وإن كان وعيدا أزعج، وإن كان دعوة حدب، وإن كان زجرة أرعب،
وإن كان موعظة أقلق، وإن كان ترغيبا شوق،
- هذا، وكم فيه من زوايا * وفى زواياه من خبايا -
- ويطمع الحبر في التقاضي * فيكشف الخبر عن قضايا -
فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب،
4

لا يستقصى معانيه فهم الخلق، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق، فالسعيد
من صرف همته إليه، ووقف فكره وعزمه عليه، والموفق من وفقه الله لتدبره، واصطفاه
للتذكير به وتذكره، فهو يرتع منه في رياض، ويكرع منه في حياض.
- أندى على الأكباد من قطر الندى * وألذ في الأجفان من سنة الكرى -
يملأ القلوب بشرا، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا، يحيى القلوب بأوراده، ولهذا
سماه الله روحا; فقال: * (يلقى الروح من أمره على من يشاء من عباده) *، فسماه
روحا لأنه يودي إلى حياة الأبد، ولولا الروح لمات الجسد، فجعل هذا الروح سببا
للاقتدار، وعلما على الاعتبار.
- يزيد على طول التأمل بهجة * كان العيون الناظرات صياقل -
وإنما يفهم بعض معانيه، ويطلع على أسراره ومبانيه; من قوى نظره، واتسع
مجاله في الفكر وتدبره; وامتد باعه، ورقت طباعه; وامتد في فنون الأدب، وأحاط
بلغة العرب.
قال الحر إلى في جزء سماه: " مفتاح الباب المقفل، لفهم الكتاب المنزل ":
لله تعالى مواهب، جعلها أصولا للمكاسب، فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل، ومن
ركب فيه خرقا نقص ضبطه من التحصيل، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع
5

أموره علمه وفهمه، قال: وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهما في كلامه، ووعيا
عن كتابه، وتبصرة في الفرقان، وإحاطة بما شاء من علوم القران، ففيه تمام شهود
ما كتب الله لمخلوقاته من ذكره الحكيم، بما يزيل بكريم عنايته من خطا اللاعبين;
إذ فيه كل العلوم.
وقال الشافعي رضي الله عنه: جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة، وجميع السنة شرح
للقران. وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى، وصفاته العليا - زاد غيره: وجميع الأسماء
الحسنى شرج لاسمه الأعظم - وكما أنه أفضل من كل كلام سواه، فعلومه أفضل من كل
علم عداه; قال تعالى: * (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى.
وقال تعالى: * (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) *.
قال مجاهد: الفهم والإصابة في القرآن. وقال مقاتل: يعنى القرآن.
وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون
في الأرض بغير الحق) *، قال: أحرمهم فهم القران.
وقال سفيان الثوري: لا يجمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب
مؤمن ابدا.
6

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: مثل القرآن مثل الأسد لا يمكن من
غيله سواه.
وقال ذو النون المصري: أبى الله عز وجل [إلا] أن يحرم قلوب البطالين مكنون
حكمة القرآن.
قال عز وجل: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) *. وقال: * (أفلا يتدبرون
القرآن).
وقال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * قال:
القرآن، يقول: أرشدنا إلى علمه.
وقال الحسن البصري: علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور من الرجال.
وقال الله جل ذكره: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) *. وقال تعالى:
* (وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله) *; يقول: إلى كتاب الله.
7

وكل علم من العلوم منزع من القرآن، وإلا فليس له برهان. قال ابن مسعود:
من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين والآخرين. رواه البيهقي في
المدخل وقال: أراد به أصول العلم.
وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم علماء; كل منهم مخصوص بنوع من العلم
كعلى رضى الله تعالى عنه بالقضاء، وزيد الفرائض، ومعاذ بالحلال والحرام، وأبى بالقراءة،
فلم يسم أحد منهم بحرا إلا عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم بالتفسير وعلم التأويل; وقال
فيه علي بن أبي طالب: كأنما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق. وقال عبد الله بن مسعود:
نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس; وقد مات ابن مسعود في سنة ثنتين وثلاثين; وعمر بعده
ابن عباس ستا وثلاثين سنة; فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود! نعم; كان لعلى
فيه اليد السابقة قبل ابن عباس; وهو القائل: لو أردت أن أملى وقر بعير على
الفاتحة لفعلت.
وقال ابن عطية: فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم فعلي بن أبي طالب،
ويتلوه ابن عباس رضي الله عنهما; وهو تجرد للامر [وكمله]، وتتبعه العلماء عليه;
كمجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما.
وكان جلة من السلف كسعيد بن المسيب الشعبي وغيرهما يعظمون تفسير القران،
ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم، مع ادراكهم وتقدمهم.
8

ثم جاء بعدهم طبقة فطبقة، فجدوا واجتهدوا; وكل ينفق مما رزق الله; ولهذا
كان سهل بن عبد الله يقول: لو أعطى العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ
نهاية ما أودعه في آية من كتابه; لأنه كلام الله، وكلامه صفته. وكما أنه ليس لله
نهاية، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه; وإنما يفهم كل بمقدار ما يفتح الله عليه. وكلام الله
غير مخلوق، ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهو محدثة مخلوقة.
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر، ومعانيه لا تستقصى، وجبت العناية بالقدر
الممكن. ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه، كما وضع الناس ذلك
بالنسبة إلى علم الحديث; فاستخرت الله تعالى - وله الحمد - في وضع كتاب في ذلك جامع
لما تكلم الناس في فنونه، وخاضوا في نكته وعيونه، وضمنته من المعاني الأنيقة، والحكم
الرشيقة، ما يهز القلوب طربا، ويبهر العقول عجبا; ليكون مفتاحا لأبوابه، عنوانا على
كتابه; معينا للمفسر على حقائقه، ومطلعا على بعض أسراره ودقائقه; والله المخلص والمعين،
وعليه أتوكل، وبه استعين، وسميته: " البرهان في علوم القران ". وهذه فهرست أنواعه:
الأول: معرفة سبب النزول.
الثاني: معرفة المناسبات بين الآيات.
الثالث: معرفة الفواصل.
الرابع: معرفة الوجوه والنظائر.
الخامس: علم المتشابه.
9

السادس: علم المبهمات
السابع: في أسرار الفواتح.
الثامن: في خواتم السور.
التاسع: في معرفة المكي والمدني.
العاشر: معرفة أول ما نزل.
الحادي عشر: معرفة على كم لغة نزل.
الثاني عشر: في كيفية إنزاله.
الثالث عشر: في بيان جمعه ومن حفظه من الصحابة.
الرابع عشر: معرفة تقسيمه.
الخامس عشر: معرفة أسمائه.
السادس عشر: معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز.
السابع عشر: معرفة ما فيه من غير لغة العرب
الثامن عشر: معرفة غريبه.
التاسع عشر: معرفة التصريف.
العشرون: معرفة الأحكام.
الحادي والعشرون: معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح.
الثاني والعشرون: معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص.
الثالث والعشرون: معرفة توجيه القراءات.
الرابع والعشرون: معرفة الوقف والابتداء.
الخامس والعشرون: علم مرسم الخط.
السادس والعشرون: معرفة فضائله.
10

السابع والعشرون: معرفة خواصه.
الثامن والعشرون: هل في القرآن شئ أفضل من شئ.
التاسع والعشرون: في آداب تلاوته.
الثلاثون: في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب استعمال بعض
آيات القران.
الحادي والثلاثون: معرفة الأمثال الكائنة فيه.
الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه.
الثالث والثلاثون: في معرفة جدله.
الرابع والثلاثون: معرفة ناسخه ومنسوخه.
الخامس والثلاثون: معرفة توهم المختلف.
السادس والثلاثون: في معرفة المحكم من المتشابه.
السابع والثلاثون: في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات.
الثامن والثلاثون: معرفة إعجازه
التاسع والثلاثون: معرفة وجوب تواتره.
الأربعون: في بيان معاضدة السنة للكتاب.
الحادي و الأربعون: معرفة تفسيره
الثاني و الأربعون: معرفة وجوب المخاطبات.
الثالث والأربعون: بيان حقيقته ومجازه.
الرابع والأربعون: في الكناية والتعريض.
الخامس والأربعون: في أقسام معنى الكلام
11

السادس والأربعون: في ذكر ما يتيسر من أساليب القرآن.
السابع والأربعون: في معرفة الأدوات.
واعلم أنه من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الانسان استقصاءه، لاستفرغ عمره،
ثم لم يحكم أمره، ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله، والرمز إلى بعض
فصوله; فإن الصناعة طويلة والعمر قصير، وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير!
- قالوا خذ العين من كل فقلت لهم *
في العين فضل ولكن ناظر العين -
12

فصل
[في علم التفسير]
التفسير علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان
معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه. واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو والتصريف
وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات. ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
وقد أكثر الناس فيه من الموضوعات; ما بين مختصر ومبسوط، وكلهم يقتصر على
الفن الذي يغلب عليه; فالزجاج والواحدي في " البسيط " يغلب عليهما الغريب،
والثعلبي يغلب عليه القصص، والزمخشري علم البيان، والإمام فخر الدين علم
الكلام وما في معناه من العلوم العقلية.
13

واعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه; ولذلك أرسل كل
رسول بلسان قومه، وأنزل كتابه على لغتهم; وإنما احتيج إلى التفسير لما سنذكر، بعد
تقرير قاعدة; وهي أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح;
وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة:
أحدها: كمال فضيلة المصنف; فإنه لقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز،
فربما عسر فهم مراده، فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية; ومن هنا كان شرح
بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.
وثانيها [قد يكون] حذف بعض مقدمات الأقيسة بكر أو أغفل فيها شروطا اعتمادا
على وضوحها، أو لأنها من علم آخر; فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.
وثالثها: احتمال اللفظ لمعان ثلاثة; كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام; فيحتاج
الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه. وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو منه بشر من
السهو والغلط وتكرار الشئ، وحذف المهم; وغير ذلك; فيحتاج الشارح للتنبيه
على ذلك.
* * *
وإذا علم هذا فنقول: إن القرآن إنما أنزل بلسان عربي مبين في زمن أفصح العرب
وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه; أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر،
من سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأكثر; كسؤالهم لما نزل: * (ولم يلبسوا إيمانهم
بظلم) * فقالوا: أينا لم يظلم نفسه! ففسره النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك; واستدل
14

عليه بقوله تعالى: * (إن الشرك يظلم عظيم) * وكسؤال عائشة - رضي الله عنها - عن
الحساب اليسير فقال: " ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب ". وكقصة عدى
ابن حاتم في الخيط الذي وضعه تحت رأسه. وغير ذلك مما سألوا عن آحاد منه.
ولم ينقل إلينا عنهم تفسير القرآن وتأويله بجملته; فنحن نحتاج إلى ما كانوا
يحتاجون إليه، وزيادة على ما لم يكونوا محتاجين إليه من أحكام الظواهر، لقصورنا عن
مدارك أحكام اللغة بغير تعلم; فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير.
ومعلوم أن تفسيره يكون بعضه من قبيل بسط الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها،
وبعضه من قبيل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض لبلاغته ولطف معانيه; ولهذا لا يستغنى
عن قانون عام يعول في تفسيره عليه، ويرجع في تفسيره إليه; من معرفة مفردات ألفاظه
ومركباتها. وسياقه، وظاهره وباطنه، وغير ذلك مما لا يدخل تحت الوهم، ويدق عنه الفهم.
- بين أقداحهم قد حديث قصير * هو سحر، وما سواه كلام -
وفى هذا تتفاوت الأذهان، وتتسابق في النظر إليه مسابقة الرهان، فمن سابق بفهمه،
وراشق وفى كبد الرمية بسهمه، وآخر رمى فأشوى، وخبط في النظر خبط عشوا -
كما قيل. وأين الدقيق من الركيك، وأين الزلال من الزعاق!
15

وقال القاضي شمس الدين الخويي رحمه الله: علم التفسير عسير يسير; أما عسره
فظاهر من وجوه; أظهرها أنه كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه،
ولا إمكان للوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار; فإن الانسان يمكن علمه بمراد المتكلم
بأن يسمع منه، أو يسمع ممن سمع منه، أما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا
بأن يسمع من الرسول عليه السلام، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل. فالعلم بالمراد يستنبط
بأمارات ودلائل، والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده في كتابه; فلم يأمر
نبيه بالتنصيص على المراد; وإنما هو عليه السلام صوب رأى جماعة من المفسرين، فصار
ذلك دليلا قاطعا على جواز التفسير من غير سماع من الله ورسوله.
قال: واعلم أن بعض الناس يفتخر ويقول: كتبت هذا وما طالعت شيئا من
الكتب، ويظن أنه فخر; ولا يعلم أن ذلك غاية النقص; فإنه لا يعلم مزية ما قاله على
ما قيل، ولا مزية ما قيل على ما قاله فبماذا يفتخر! ومع هذا ما كتبت شيئا إلا خائفا من
الله مستعينا به، معتمدا عليه; فما كان حسنا فمن الله وفضله بوسيلة مطالعة كلام عباد الله
الصالحين، وما كان ضعيفا فمن النفس الأمارة بالسوء.
فصل
[في علوم القرآن]
ذكر القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب " قانون التأويل ": إن علوم القرآن
16

خمسون علما وأربعمائة وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم، على عدد كلم القرآن، مضروبة في
أربعة. قال بعض السلف: إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومقطع; وهذا مطلق
دون اعتبار تراكيبه وما بينها من روابط. وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله عز وجل.
قال: وأم علوم القرآن ثلاثة أقسام: توحيد وتذكير وأحكام; فالتوحيد تدخل فيه
معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله. والتذكير، ومنه الوعد والوعيد
والجنة والنار، وتصفية الظاهر والباطن. والأحكام; ومنها التكاليف كلها وتبيين المنافع
والمضار، والأمر والنهى والندب.
فالأول: * (وإلهكم إله واحد) *، فيه التوحيد كله في الذات والصفات والأفعال.
والثاني: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *. والثالث: * (وأن احكم
بينهم) *; ولذلك قيل في معنى كل قوله صلى الله عليه وسلم ": * (قل هو الله أحد) * تعدل
ثلث القرآن) * ". يعنى في الأجر، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقيل ثلثه في المعنى; لأن القرآن ثلاثة أقسام كما ذكرنا. وهذه السورة اشتملت على
التوحيد.
ولهذا المعنى صارت فاتحة الكتاب أم الكتاب; لأن فيها الأقسام الثلاثة:
فأما التوحيد فمن أولها إلى قوله: * (يوم الدين) *. وأما الأحكام ف‍ * (إياك نعبد
وإياك نستعين) *، وأما التذكير فمن قوله: * (اهدنا) * إلى آخرها; فصارت بهذا أما;
لأنه يتفرع عنها كل نبت
17

وقيل: صارت أما لأنها مقدمة على القرآن بالقبلية، والأم قبل البنت.
وقيل: سميت فاتحة لأنها تفتح أبواب الجنة على وجوه مذكورة في مواضعها.
وقال أبو الحكم بن برجان في كتاب " الإرشاد " وجملة القرآن تشتمل على
ثلاثة علوم: علم أسماء الله تعالى وصفاته، ثم علم النبوة وبراهينها، ثم علم التكليف
والمحنة. قال: وهو أعسر لإعرابه وقلة انصراف الهمم إلى تطلبه مكانه.
وقال غيره: القرآن يشتمل على أربعة أنواع من العلوم: أمر، ونهى، وخبر
واستخبار. وقيل: سنة - وزاد الوعد، والوعيد.
وقال محمد بن جرير الطبري: يشتمل على ثلاثة أشياء: التوحيد، والأخبار
والديانات; ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " * (قل هو الله أحد) * تعدل ثلث القرآن ".
وهذه السورة تشمل التوحيد كله.
وقال علي بن عيسى: القرآن يشتمل على ثلاثين شيئا: الإعلام، والتنبيه،
والأمر، والنهى، والوعد، والوعيد، ووصف الجنة، والنار، وتعليم الإقرار باسم الله،
وصفاته [وأفعاله]، وتعليم الاعتراف بإنعامه، والاحتجاج على المخالفين، والرد على الملحدين،
والبيان عن الرغبة، والرهبة، الخير، والشر، والحسن، والقبيح، ونعت الحكمة، وفضل المعرفة،
18

ومدح الأبرار، وذم الفجار، والتسليم، والتحسين، والتوكيد، والتفريع، والبيان عن ذم
الإخلاف، وشرف الأداء.
قال القاضي أبو المعالي عزيزي: وعلى التحقيق أن تلك الثلاثة التي قالها محمد بن
جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها; فإن القرآن لا يستدرك ولا تحصى غرائبه وعجائبه;
قال تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) *.
وقال غيره: علوم ألفاظ القرآن أربعة:
الإعراب; وهو في الخبر.
والنظم; وهو القصد; نحو * (واللائي لم يحضن) *، معنى باطن نظم بمعنى ظاهر.
وقوله: * (قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده قل الله يبدأ
الخلق) *; كأنه قيل: قالوا: ومن يبدأ الخلق ثم يعيده؟ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
أن يقول: * (الله يبدأ الخلق) *; لفظ ظاهر نظم بمعنى باطن.
والتصريف في الكلمة; كأقسط: عدل، وقسط: جار. وبعد: ضد قرب،
وبعد: هلك.
والاعتبار; وهو معيار الأنحاء الثلاثة; وبه يكون الاستنباط والاستدلال; وهو
كثير، منه ما يعرف بفحوى الكلام. ومعنى اعتبرت الشئ طلبت بيانه، عبرت الرؤيا
بينتها; قال الله تعالى: * (فاعتبروا) * بعد: * (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل
19

الكتاب من ديارهم) * دل على أن انتقامه بالخروج من الدار من أعظم الوجوه،
و * (أول الحشر) * دل على أن لها توابع; لأن " أول " لا يكون إلا مع " آخر ";
وكان هذا في بني النضير ثم أهل نجران. * (ما ظننتم أن يخرجوا) * إلا بنبأ، وأنهم
يستقلون عدد من كان مع النبي صلى الله عليه وسلم. * (ولولا أن كتب الله عليهم
الجلاء) * فيه دليل على أن الإخراج مثل العذاب في الشدة; إذ جعل بدله.
وقد يتعدد الاعتبار; نحو أتاني غير زيد، أي أتياه، أو أتاه غير زيد، لا هو. لو شئت
أنت لم أفعل، أمرتني أو نهيتني; قال الله تعالى: * (لو شاء الله ما عبدنا) * رد
عليهم بأن الله لا يأمر بالفحشاء; بدليل قوله: * (والله أمرنا بها) *. * (وإذا
حللتم فاصطادوا) *، فالاعتبار إباحة.
ومن الاعتبار ما يظهر بآي أخر; كقوله: فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده
بصيرا) *، فهذه تعتبر بآخر الواقعة; من أن الناس على ثلاثة منازل; أي أحل كل فريق
في منزلة له، والله بصير بمنازلهم.
20

ومنه ما يظهر بالخبر كقوله تعالى: * (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله) *،
بمعنى الحديث: إن اليهود قالوا: لو جاء به ميكائيل لاتبعناك، لأنه يأتي بالخير، وجبريل
لم يأت بالخير قط، وأي خير أجل من القرآن!
ومن ضروب النظم قوله تعالى: * (من كان يريد العزة فلله) *، إن حمل على أن
يعتبر أن العزة له لم ينتظم به ما بعده، وإن حمل على معنى أن يعلم لمن العزة انتظم.
21

النوع الأول
معرفة أسباب النزول
وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم، وأفردوا فيه تصانيف; منهم علي بن
المديني شيخ البخاري، ومن أشهرها تصنيف الواحدي في ذلك. وأخطأ من زعم
أنه لا طائل تحته، لجريانه مجرى التاريخ، وليس كذلك، بل له فوائد:
منها وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم.
ومنها تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
ومنها الوقوف على المعنى، قال الشيخ أبو الفتح القشيري: بيان سبب النزول
طريق قوى في فهم معاني الكتاب العزيز; وهو أمر تحصل للصحابة بقرائن تحتف
بالقضايا.
ومنها أنه قد يكون اللفظ عاما، ويقوم الدليل على التخصيص; فإن محل السبب لا يجوز
22

اخراجه بالاجتهاد والإجماع; كما حكاه القاضي أبو بكر في " مختصر التقريب ";
لأن دخول السبب قطعي. ونقل بعضهم الاتفاق على أن لتقدم السبب على ورود العموم أثرا.
ولا التفات إلى ما نقل عن بعضهم من تجويز اخراج محل السبب بالتخصيص لأمرين:
أحدهما أنه يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يجوز. والثاني أن فيه عدولا عن
محل السؤال; وذلك لا يجوز في حق الشارع; لئلا يلتبس على السائل. واتفقوا على أنه
تعتبر النصوصية في السبب من جهة استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة; و تؤثر أيضا فيما
وراء محل السبب; وهو إبطال الدلالة على قول، والضعف على قول.
ومن الفوائد أيضا دفع توهم الحصر; قال الشافعي ما معناه في معنى قوله تعالى: * (قل
لا أجد فيما أوحى إلى محرما...) * الآية: إن الكفار لما حرموا ما أحل الله،
وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة جاءت الآية مناقضة لغرضهم; فكأنه قال:
لا حلال إلا ما حرمتموه; ولا حرام إلا ما أحللتموه; نازلا منزلة من يقول: لا تأكل
اليوم حلاوة; فتقول: لا آكل اليوم إلا الحلاوة; والغرض المضادة لا النفي والإثبات على
الحقيقة; فكأنه قال: لا حرام إلا ما حللتموه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به، ولم يقصد حل ما وراءه; إذا القصد إثبات التحريم لا إثبات الحل.
قال إمام الحرمين: " وهذا في غاية الحسن; ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كنا
23

نستجير مخالفة مالك في حصر المحرمات فيما ذكرته الآية. وهذا قد يكون من الشافعي
أجراه مجرى التأويل ". ومن قال بمراعاة اللفظ دون سببه لا يمنع من التأويل.
وقد جاءت [آيات] في مواضع اتفقوا على تعديتها إلى غير أسبابها; كنزول
آية الظهار في سلمة بن صخر، وآية اللعان في شأن هلال بن أمية، ونزول حد
القذف في رماة عائشة رضي الله عنها، ثم تعدى إلى غيرهم، وإن كان قد قال سبحانه:
* (والذين يرمون المحصنات) *، فجمعها مع غيرها; إما تعظيما لها إذ أنها أم المؤمنين -
24

ومن رمى أم قوم فقد رماهم - وإما للإشارة إلى التعميم; ولكن الرماة لها كانوا
معلومين، فتعدى الحكم إلى من سواهم; فمن يقول بمراعاة حكم اللفظ كان الاتفاق
هاهنا هو مقتضى الأصل، ومن قال بالقصر على الأصل خرج عن الأصل في هذه
الآية بدليل. ونظير هذا تخصيص الاستعاذة بالإناث في قوله تعالى: * (ومن شر النفاثات
في العقد) *، لخروجه على السبب; وهو أن بنات لبيد سحرن رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
كذا قال أبو عبيد; وفيه نظر; فإن الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيد
ابن الأعصم كما جاء في الصحيح.
وقد تنزل الآيات على الأسباب خاصة، وتوضع كل واحدة منها مع ما يناسبها من
الآي رعاية لنظم القرآن وحسن السياق; فذلك الذي وضعت معه الآية نازلة على سبب
خاص للمناسبة; إذا كان مسوقا لما نزل في معنى يدخل تحت ذلك اللفظ العام; أو كان
من جملة الأفراد الداخلة وضعا تحت اللفظ العام; فدلالة اللفظ عليه: هل هي كالسبب
فلا يخرج ويكون مرادا من الآيات قطعا؟ أولا ينتهى في القوة إلى ذلك; لأنه قد يراد
غيره; وتكون المناسبة مشبهة به؟ فيه احتمال.
25

واختار بعضهم أنه رتبة متوسطة دون السبب وفوق العموم المجرد; ومثاله قوله
تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *; فإن مناسبتها للآية التي
قبلها، وهي قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت
والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا) * أن
ذلك إشارة إلى كعب بن الأشرف، كان قدم إلى مكة وشاهد قتلى بدر وحرض
الكفار على الأخذ بثأرهم، وغزو النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: من أهدى سبيلا؟
النبي صلى الله عليه وسلم، أو هم؟ فقال: أنتم - كذبا منه وضلالة - لعنه الله! فتلك الآية
في حقه وحق من شاركه في تلك المقالة; وهم أهل كتاب يجدون عندهم في كتابهم بعث
النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، وقد أخذت عليهم المواثيق ألا يكتموا ذلك وأن ينصروه;
وكان ذلك أمانة لازمة لهم فلم يؤدوها وخانوا فيها; وذلك مناسب لقوله: * (إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *. قال ابن العربي في تفسيره: وجه النظم
أنه أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم: إن المشركين
أهدى سبيلا. فكان ذلك خيانة منهم; فانجر الكلام إلى ذكر جميع
الأمانات ". انتهى.
ولا يرد على هذا أن قصة كعب بن الأشرف كانت عقب بدر، ونزول * (إن الله
يأمركم) * في الفتح أو قريبا منها; وبينهما ست سنين; لأن الزمان إنما يشترط في سبب
النزول، ولا يشترط في المناسبة; لأن المقصود منها وضع آية في موضع يناسبها; والآيات
كانت تنزل على أسبابها، ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها في المواضع التي علم من الله
تعالى أنها مواضعها.
26

ومن فوائد هذا العلم إزالة الإشكال; ففي الصحيح عن مروان بن الحكم أنه
بعث إلى ابن عباس يسأله: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتى وأحب أن يحمد بما لم
يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: هذه الآية نزلت في أهل الكتاب; ثم
تلا: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) *
إلى قوله: * (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) *
قال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله وسلم عن شئ فكتموه وأخبروه بغيره;
فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه; فاستحمدوا بذلك إليه; وفرحوا بما أوتوا
من كتمانهم ما سألهم عنه. انتهى
قال بعضهم: وما أجاب به ابن عباس عن سؤال مروان لا يكفى; لأن اللفظ
أعم من السبب; ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي
27

زور "، وإنما الجواب أن الوعيد مرتب على أثر الأمرين المذكورين; وهما الفرح وحب
الحمد; لا عليهما أنفسهما; إذ هما من الأمور الطبيعية التي لا يتعلق بها التكليف أمرا
ولا نهيا.
قلت: لا يخفى عن ابن عباس رضي الله عنه أن اللفظ أعم من السبب; لكنه بين أن
المراد باللفظ خاص; ونظيره تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الظلم بالشرك فيما سبق.
ومن ذلك قوله تعالى، * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا.) * الآية; فحكى عن عثمان بن مظعون وعمرو بن معد يكرب أنهما كانا
يقولان; الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية، وخفى عليها سبب نزولها; فإنه يمنع من
ذلك; وهو ما قاله الحسن وغيره: لما نزل تحريم الخمر، قالوا: كيف بإخواننا الذين
ماتوا وهي في بطونهم، وقد أخبر الله أنها رجس! فأنزل الله تعالى: * (ليس على الذين
آمنوا وعملوا الصالحات جناح) *.
ومن ذلك قوله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم...) *
الآية، قد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الأئمة; وقد بينه سبب النزول; روى
28

أن ناسا قالوا: يا رسول الله; قد عرفنا عدة ذوات الأقراء; فما عدة اللائي لم يحضن من
الصغار والكبار؟ فنزلت; فهذا يبين معنى: * (إن ارتبتم) * أي إن أشكل عليكم
حكمهن، وجهلتم كيف يعتددن; فهذا حكمهن.
ومن ذلك قوله تعالى: * (المشرق والمغرب; فأينما تولوا فثم وجه الله) *;
فإنا لو تركنا مدلول اللفظ لاقتضى أن المصلى لا يجب عليه استقبال القبلة سفرا ولا حضرا;
وهو خلاف الاجماع; فلا يفهم مراد الآية حتى يعلم سببها; وذلك أنها نزلت لما صلى
النبي صلى عليه وسلم على راحلته; وهو مستقبل من مكة إلى المدينة; حيث توجهت
به; فعلم أن هذا هو المراد.
ومن ذلك قوله تعالى: * (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) *; فإن
سبب نزولها أن قوما أرادوا الخروج للجهاد; فمنعهم أزواجهم وأولادهم; فأنزل الله تعالى
هذه الآية; ثم أنزل في بقيتها ما يدل على الرحمة وترك المؤاخذة; فقال: * (وإن تعفوا
وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) *.
فصل
[فيما نزل مكررا]
وقد ينزل الشئ مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه;
وهذا كما قيل في الفاتحة نزلت مرتين: مرة بمكة، وأخرى بالمدينة; وكما ثبت في
29

الصحيحين عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأة قبلة،
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره; فأنزل الله تعالى: * (وأقم الصلاة طرفي النهار
وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) *، فقال الرجل: إلى هذا؟ فقال:
بل لجميع أمتي. فهذا كان في المدينة; والرجل قد ذكر الترمذي أو غيره أنه أبو اليسر.
وسورة هود مكية بالاتفاق; ولهذا أشكل على بعضهم هذا الحديث مع ما ذكرنا، ولا
إشكال، لأنها نزلت مرة بعد مرة.
ومثله ما في الصحيحين عن ابن مسعود في قوله تعالى: * (ويسألونك عن الروح) *
أنها نزلت لما سأله اليهود عن الروح وهو في المدينة، ومعلوم أن هذه في سورة
* (سبحان) *; وهي مكية بالاتفاق; فإن المشركين لما سألوه عن ذي القرنين وعن أهل
الكهف قيل ذلك بمكة وأن اليهود أمروهم أن يسألوه عن ذلك; فأنزل الله الجواب كما
قد بسط في موضعه.
وكذلك ما ورد في * (هو الله أحد) * أنها جواب للمشركين بمكة، وأنها جواب
لأهل الكتاب بالمدينة.
30

وكذلك ما ورد في الصحيحين من حديث المسيب لما حضرت أبا طالب الوفاة;
وتلكأ عن الشهادة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لأستغفرن لك ما لم أنه "،
فأنزل الله: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا
أولى قربى) *، وأنزل الله في أبى طالب: * (إنك لا تهدى من أحببت) *،
وهذه الآية نزلت في آخر الأمر بالاتفاق; وموت أبى طالب كان بمكة; فيمكن أنها نزلت
مرة بعد أخرى، وجعلت أخيرا في " براءة ".
* * *
والحكمة في هذا كله أنه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول
آية; وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها، فتؤدى تلك الآية بعينها إلى النبي صلى الله عليه
وسلم تذكيرا لهم بها، وبأنها تتضمن هذه; والعالم قد يحدث له حوادث، فيتذكر
أحاديث وآيات تتضمن الحكم في تلك الواقعة وإن لم تكن خطرت له تلك الحادثة
قبل; مع حفظه لذلك النص.
وما يذكره المفسرون من أسباب متعددة لنزول الآية قد يكون من هذا; الباب;
لا سيما وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية
31

في كذا فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم; لا أن هذا كان السبب في
نزولها. وجماعة من المحدثين يجعلون هذا من المرفوع المسند; كما في قول ابن عمر في
قوله تعالى: * (نسائكم حرث لكم) *; وأما الإمام أحمد فلم يدخله في المسند;
وكذلك مسلم وغيره، وجعلوا هذا مما يقال بالاستدلال وبالتأويل; فهو من جنس
الاستدلال على الحكم بالآية; لا من جنس النقل لما وقع.
فصل
[خصوص السبب وعموم الصيغة]
وقد يكون السبب خاصا والصيغة عامة; لينبه على أن العبرة بعموم اللفظ. وقال
الزمخشري في نفس سورة الهمزة: يجوز أن يكون السبب خاصا والوعيد عاما;
ليتناول كل من باشر ذلك القبيح; وليكون جاريا مجرى التعريض بالوارد فيه; فإن
ذلك أزجر له، وأنكى فيه.
[تقدم نزول الآية على الحكم]
واعلم أنه قد يكون النزول سابقا على الحكم; وهذا كقوله تعالى: * (قد أفلح من
تزكى) *; فإنه يستدل بها على زكاة الفطر; روى البيهقي بسنده إلى ابن عمر
32

أنها نزلت في زكاة رمضان; ثم أسند مرفوعا نحوه. وقال بعضهم: لا أدرى ما وجه هذا
التأويل! لأن هذه السورة مكية; ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة.
وأجاب البغوي في تفسيره انه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم; كما
قال: * (لا أقسم بهذا البلد. وأنت حل بهذا البلد) *; فالسورة مكية، وظهر أثر الحل
يوم فتح مكة; حتى قال عليه السلام: " أحلت لي ساعة من نهار ".
وكذلك نزل بمكة: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *، قال عمر بن الخطاب:
كنت لا أدرى أي الجمع يهزم; فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: * (سيهزم الجمع ويولون الدبر) *.
فائدة
روى البخاري في كتاب " الأدب المفرد " في بر الوالدين عن سعد بن أبي
وقاص رضي الله عنه قال: نزلت في أربع آيات من كتاب الله عز وجل: كانت
أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب، حتى أفارق محمدا صلى الله عليه وسلم; فأنزل الله تعالى:
* (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا
معروفا) *، والثانية انى كنت أخذت سيفا فأعجبني، فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا;
33

فنزلت: * (يسألونك عن الأنفال) *، والثالثة أنى كنت مرضت، فأتاني رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني أريد أن أقسم مالي [أفأوصى] بالنصف؟ فقال:
لا، فقلت: الثلث؟ فسكت; فكان الثلث بعد جائزا. والرابعة أنى شربت الخمر
مع قوم من الأنصار، فضرب رجل منهم أنفى [بلحى جمل]; فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله [عز وجل] تحريم الخمر.
* * *
واعلم أنه جرت عادة المفسرين أن يبدءوا بذكر سبب النزول ووقع البحث: أيما
أولى البداءة به: بتقدم السبب على المسبب; أو بالمناسبة، لأنها المصححة لنظم الكلام;
وهي سابقة على النزول؟
والتحقيق التفصيل; بين أن يكون وجه المناسبة متوقفا على سبب النزول كالآية السابقة
في * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) *، فهذا ينبغي فيه تقديم
ذكر السبب; لأنه حينئذ من باب تقديم الوسائل على المقاصد; وإن لم يتوقف على ذلك
فالأولى تقديم وجه المناسبة.
34

النوع الثاني
معرفة المناسبات بين الآيات
وقد أفرده بالتصنيف الأستاذ أبو جعفر بن الزبير; شيخ الشيخ أبى حيان. وتفسير
الإمام فخر الدين فيه شئ كثير من ذلك.
واعلم أن المناسبة علم شريف، تحزر به العقول، ويعرف به قدر القائل فيما يقول.
والمناسبة في اللغة: المقاربة: وفلان يناسب فلانا، أي يقرب منه ويشاكله، ومنه النسيب
الذي هو القريب المتصل، كالأخوين وابن العم ونحوه; وإن كانا متناسبين بمعنى رابط
بينهما، وهو القرابة. ومنه المناسبة في العلة في باب القياس: الوصف المقارب للحكم;
لأنه إذا حصلت مقاربته له ظن عند وجود ذلك الوصف وجود الحكم; ولهذا قيل:
المناسبة أمر معقول; إذا عرض على العقول تلقته بالقبول. وكذلك المناسبة في فواتح الآي
وخواتمها; ومرجعها - والله أعلم - إلى معنى ما رابط بينهما: عام أو خاص، عقلي أو
حسى أو خيالي; وغير ذلك من أنواع العلاقات. أو التلازم الذهني; كالسبب والمسبب،
والعلة والمعلول، والنظيرين، والضدين، ونحوه. أو التلازم الخارجي; كالمرتب على ترتيب
الوجود الواقع في باب الخبر.
35

وفائدته جعل أجزاء الكلام بعضها آخذا بأعناق بعض، فيقوى بذلك الارتباط،
ويصير التأليف حاله حال البناء المحكم، المتلائم الأجزاء.
وقد قل اعتناء المفسرين بهذا النوع لدقته; وممن أكثر منه الإمام فخر الدين الرازي
وقال في تفسيره: أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط.
وقال بعض الأئمة: من محاسن الكلام أن يرتبط بعضه ببعض، لئلا يكون منقطعا.
وهذا النوع يهمله بعض المفسرين، أو كثير منهم، وفوائده غزيرة. قال القاضي أبو
بكر بن العربي في: " سراج المريدين ": ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون
كالكلمة الواحدة، متسقة المعاني، منتظمة المباني علم، عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد
عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه; فلما لم نجد له حملة، ورأينا الخلق
بأوصاف البطلة ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورددناه إليه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشهراباني، أول من أظهر ببغداد علم المناسبة ولم نكن
سمعناه من غيره هو الشيخ الإمام أبو بكر النيسابوري; وكان غزير العلم في الشريعة
والأدب، وكان يقول على الكرسي إذا قرئ عليه الآية: لم جعلت هذه الآية إلى جنب
هذه؟ وما الحكمة في جعل هذه السورة إلى جنب هذه السورة؟ وكان يزرى على علماء
بغداد لعدم علمهم بالمناسبة. انتهى.
36

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: المناسبة علم حسن; ولكن يشترط في
حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب
مختلفة لم يشترط فيه ارتباط أحدهما بالآخر.
قال: ومن ربط ذلك فهو متكلف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك يصان عنه
حسن الحديث فضلا عن أحسنه; فإن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة
ولأسباب مختلفة; وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض; إذ لا يحسن أن يرتبط تصرف
الإله في خلقه وأحكامه بعضها ببعض; مع اختلاف العلل والأسباب; كتصرف الملوك
والحكام والمفتين، وتصرف الانسان نفسه بأمور متوافقة ومتخالفة ومتضادة. وليس لأحد أن
يطلب ربط بعض تلك التصرفات مع بعض، مع اختلافها في نفسها واختلاف أوقاتها. انتهى.
قال بعض مشايخنا المحققين: قد وهم من قال: لا يطلب للآي الكريمة مناسبة;
لأنها حسب الوقائع المتفرقة. وفصل الخطاب أنها على حسب الوقائع تنزيلا، وعلى
حسب الحكمة ترتيبا; فالمصحف كالصحف الكريمة على وفق ما في الكتاب المكنون
مرتبة سوره كلها وآياته بالتوقيف. وحافظ القرآن العظيم لو استفتى في أحكام
متعددة، أو ناظر فيها، أو أملاها لذكر آية يقول كل حكم على ما سئل، وإذا رجع إلى التلاوة لم
يتل كما أفتى، ولا كما نزل مفرقا; بل كما أنزل جملة إلى بيت العزة. ومن المعجز البين
أسلوبه، ونظمه الباهر; فإنه * (كتاب أحكمت آياته، ثم فصلت من لدن حكيم
خبير) *. قال: والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول كل شئ عن كونها مكملة لما
قبلها، أو مستقلة. ثم المستقلة; ما وجه مناسبتها لما قبلها؟ ففي ذلك علم جم; وهكذا في
السور يطلب وجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له.
37

قلت: وهو مبنى على أن ترتيب السور توقيفي; وهذا الراجح كما سيأتي، وإذا
اعتبرت افتتاح كل سوره وجدته في غاية المناسبة لما ختم به السورة قبلها; ثم هو يخفى
تارة ويظهر أخرى; كافتتاح سورة الأنعام بالحمد، فإنه مناسب لختام سورة المائدة من
فصل القضاء; كما قال سبحانه: * (وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب
العالمين) *. لأن وكافتتاح سورة فاطر ب‍ * (الحمد) * أيضا; فإنه مناسب لختام ما قبلها
من قوله: * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل) *;
وكما قال تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) *. وكافتتاح
سورة الحديد بالتسبيح، فإنه مناسب لختام سورة الواقعة، من الأمر به. وكافتتاح
البقرة بقوله: * (آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه) * إشارة إلى * (الصراط) * في قوله:
* (اهدنا الصراط المستقيم) *; كأنهم لما سألوا الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم:
ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب.
وهذا معنى حسن يظهر فيه ارتباط سورة البقرة بالفاتحة; وهو يرد سؤال الزمخشري
في ذلك.
وتأمل ارتباط سورة * (لإيلاف قريش) * بسورة الفيل; حتى قال الأخفش
اتصالها بها من باب قوله: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) *.
38

ومن لطائف سورة الكوثر أنها كالمقابلة للتي قبلها; لأن السابقة قد وصف
الله فيها المنافق بأمور أربعة: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة; فذكر
هنا في مقابلة البخل: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي الكثير. وفى مقابلة ترك الصلاة
" فصل " أي دم عليها; وفى مقابلة الرياء * (لربك) *، أي لرضاه لا للناس، وفى مقابلة
منع الماعون: * (وانحر) *; وأراد به التصدق بلحم الأضاحي; فاعتبر هذه
المناسبة العجيبة.
وكذلك مناسبة فاتحة سورة الإسراء بالتسبيح، وسورة الكهف بالتحميد; لأن
التسبيح حيث جاء مقدم على التحميد; يقال: سبحان الله، والحمد الله.
وذكر الشيخ كمال الدين الزملكاني في بعض دروسه مناسبة استفتاحها بذلك
ما ملخصه: إن سورة بنى إسرائيل افتتحت بحديث الإسراء; وهو من الخوارق الدالة
على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول من عند الله، والمشركون كذبوا
ذلك وقالوا: كيف يسير في ليلة من مكة إلى بيت المقدس! وعادوا وتعنتوا وقالوا: صف
لنا بيت المقدس; فرفع له حتى وصفه لهم. والسبب في الإسراء أولا لبيت المقدس، ليكون
ذلك دليلا على صحة قوله بصعود السماوات; فافتتحت بالتسبيح تصديقا لنبيه فيما ادعاه;
لأن تكذيبهم له تكذيب عناد، فنزه نفسه قبل الإخبار بهذا الذي كذبوه. وأما الكهف
فإنه لما احتبس الوحي، وأرجف الكفار بسبب ذلك، أنزلها الله ردا عليهم، وأنه لم يقطع نعمه
عن نبيه صلى الله عليه وسلم، بل أتم عليه بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على
هذه النعمة. وإذا ثبت هذا بالنسبة إلى السور، فما ظنك بالآيات وتعلق بعضها ببعض! بل
عند التأمل يظهر أن القرآن كله كالكلمة الواحدة.
39

[أنواع ارتباط الآي بعضها ببعض]
عدنا إلى ذكر ارتباط الآي بعضها ببعض; فنقول:
ذكر الآية بعد الأخرى; إما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلق الكلام بعضه ببعض
وعدم تمامه بالأولى فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير،
أو الاعتراض والتشديد; وهذا القسم لا كلام فيه.
وإما ألا يظهر الارتباط; بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى، وأنها خلاف
النوع المبدوء به. فإما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف المشترك في
الحكم، أولا:
القسم الأول أن تكون معطوفة; ولا بد أن تكون بينهما جهة جامعة على ما سبق
تقسيمه; كقوله تعالى: * (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من
السماء وما يعرج فيها). وقوله: * (والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) *.
وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين.
وقد تكون العلاقة بينهما المضادة; وهذا كمناسبة ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب،
والرغبة بعد الرهبة. وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا;
ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق; ثم يذكر آيات التوحيد والتنزيه; ليعلم عظم الآمر
والناهي. وتأمل سورة البقرة والنساء والمائدة وغيرها تجده كذلك.
وقد تأتي الجملة معطوفة على ما قبلها ويشكل وجه الارتباط; فتحتاج إلى شرح;
ونذكر من ذلك صورا يلتحق بها ما هو في معناها:
فمنها قوله تعالى: * (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج، وليس
البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها...) الآية; فقد يقال: أي رابط بين أحكام
الأهلة وبين حكم إتيان البيوت؟ والجواب من وجوه:
40

أحدها كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام الأهلة ونقصانها: معلوم أن كل
ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة، ومصلحة لعباده، فدعوا السؤال عنه، وانظروا في واحدة
تفعلونها أنتم; مما ليس من البر في شئ وأنتم تحسبونها برا.
الثاني أنه من باب الاستطراد; لما ذكر أنها مواقيت للحج; وكان هذا من أفعالهم
في الحج; ففي الحديث: أن ناسا من الأنصار كانوا إذا أحرموا لم يدخل أحد منهم حائطا
ولا دارا ولا فسطاطا من باب; فإن أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته; منه يدخل
ويخرج، أو يتخذ سلما يصعد به. وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء; فقيل
لهم: ليس البر بتحرجكم على من دخول الباب; لكن البر بر من اتقى ما حرم الله; وكان
من حقهم السؤال عن هذا وتركهم السؤال عن الأهلة. ونظيره في الزيادة على الجواب
قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المتوضئ بماء البحر فقال: " هو الطهور ماؤه، الحل
ميتته ".
الثالث أنه من قبيل التمثيل لما هم عليه; من تعكيسهم في سؤالهم; وأن مثلهم كمثل من
يترك بابا ويدخل من ظهر البيت; فقيل لهم: ليس البر ما أنتم عليه من تعكيس الأسئلة;
ولكن البر من اتقى ذلك، ثم قال الله سبحانه: * (وأتوا البيوت من أبوابها) * أي
باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها، ولا تعكسوا. والمراد أن يصمم القلب
على أن جميع أفعال الله حكمة منه; وأنه * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * فإن في
السؤال اتهاما.
ومنها قوله سبحانه وتعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد
41

الحرام إلى المسجد الأقصى...) إلى أن قال: * (وآتينا موسى الكتاب) *; فإنه
قد يقال: أي رابط بين الإسراء، و * (آتينا موسى الكتاب) *؟ ووجه اتصالها بما قبلها أن
التقدير: أطلعناه على الغيب عيانا، وأخبرناه بوقائع من سلف بيانا، لتقوم أخبار على معجزته
برهانا; أي سبحان الذي أطلعك على بعض آياته لتقصها ذكرا، وأخبرك بما جرى
لموسى وقومه في الكرتين; لتكون قصتهما آية أخرى. أو أنه أسرى بمحمد إلى ربه كما
أسرى بموسى من مصر حين خرج منها خائفا يترقب. ثم ذكر بعده: * (ذرية من
حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) * ليتذكر بنو إسرائيل نعمة الله عليهم قديما;
حيث نجاهم من الغرق; إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا. وأخبرهم أن نوحا كان
عبدا شكورا; وهم ذريته، والولد سر أبيه; فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم; لأنه
يجب أن يسيروا سيرته فيشكروا.
وتأمل كيف أثنى عليه وكيف تليق صفته بالفاصلة، ويتم النظم بها، مع خروجها
مخرج المرور عن الكلام الأول إلى ذكره ومدحه بشكره، وأن يعتقدوا تعظيم تخليصه
إياهم من الطوفان بما حملهم عليه، ونجاهم منه; حين أهلك من عداهم. وقد عرفهم أنه إنما
يؤاخذهم بذنوبهم وفسادهم فيما سلط عليهم من قتلهم. ثم عاد عليهم بالإحسان والإفضال;
كي يتذكروا ويعرفوا قدر نعمة الله عليهم وعلى نوح الذي ولدهم وهم ذريته; فلما صاروا إلى
جهالتهم وتمردوا عاد عليهم التعذيب.
ثم ذكر تعالى في ثلاث آيات بعد ذلك معنى هذه القصة، بكلمات قليلة العدد، كثيرة
الفوائد; لا يمكن شرحها إلا بالتفصيل الكثير والكلام الطويل، مع ما اشتمل عليه من
التدريج العجيب، والموعظة العظيمة بقوله: * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم
42

فلها) *، ولم ينقطع بذلك نظام الكلام، إلى أن خرج إلى قوله: * (عسى ربكم
أن يرحمكم وإن عدتم عدنا) *، يعنى إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى العفو. ثم خرج
خروجا آخر إلى حكمة القرآن; لأنه الآية الكبرى. وعلى هذا فقس الانتقال من مقام
إلى مقام; حتى ينقطع الكلام.
* * *
وبهذا يظهر لك اشتمال القرآن العظيم على النوع المسمى بالتخلص. وقد أنكره أبو
العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي تعالى وقال: ليس في القرآن الكريم منه شئ، لما فيه من
التكلف. وليس كما قال.
ومن أحسن أمثلته قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض...) * الآية، فإن
فيها خمس تخلصات: وذلك أنه جاء بصفة النور وتمثيله، ثم تخلص منه إلى ذكر الزجاجة
وصفاتها، ثم رجع إلى ذكر النور والزيت يستمد منه، ثم التخلص منه إلى ذكر الشجرة،
ثم تخلص من ذكرها إلى صفة الزيت، ثم تخلص من صفة الزيت إلى صفة النور وتضاعفه،
ثم تخلص منه إلى نعم الله بالهدى على من يشاء.
ومنه قوله تعالى: * (سأل سائل بعذاب واقع...) * الآية; فإنه سبحانه ذكر أولا
عذاب الكفار وأن لا دافع له من الله; ثم تخلص إلى قوله: * (تعرج الملائكة والروح
إليه) * بوصف * (الله ذي المعارج) *.
ومنه قوله تعالى: * (واتل عليهم نبأ إبراهيم. إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون) *،
43

إلى قوله: * (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) *، فهذا تخلص من قصة إبراهيم
وقومه إلى قوله هكذا; وتمنى الكفار في الدار الآخرة الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا بالرسل;
وهذا تخلص عجيب.
وقوله: * (قال هل يسمعونكم إذ تدعون. أو ينفعونكم أو يضرون. قالوا
بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباءكم
الأقدمون. فإنهم عدو لي إلا رب العالمين. الذي خلقني فهو يهدين) *. وذلك أنه
لما أراد الانتقال من أحوال أصنامهم إلى ذكر صفات الله قال: إن أولئك لي أعداء إلا
الله، فانتقل بطريق الاستثناء المنفصل.
وقوله تعالى: * (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش
عظيم. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم
فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات
والأرض ويعلم ما تعلنون. الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم).
وقوله تعالى في سورة الصافات: * (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) *; وهذا من
بديع التخلص; فإنه سبحانه خلص من وصف المخلصين وما أعد لهم، إلى وصف الظالمين
وما أعد لهم.
ومنه أنه تعالى في سورة الأعراف ذكر الأمم الخالية والأنبياء الماضين من آدم عليه
السلام إلى أن انتهى إلى قصة موسى عليه السلام، فقال في آخرها: واختار موسى قومه
سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة..) * إلى * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) *، وهو من بديع التخلص.
44

واعلم أنه حيث قصد التخلص فلا بد من التوطئة له; ومن بديعه قوله تعالى: نحن
نقص عليك أحسن القصص) * يشير إلى قصة يوسف عليه السلام. فوطأ بهذه
الجملة إلى ذكر القصة; يشير إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز. وكقوله
سبحانه موطئا للتخلص إلى ذكر مبتدأ خلق المسيح عليه السلام: * (إن الله اصطفى آدم
ونوحا...) * الآية.
* * *
ومنها قوله تعالى: * (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) *; فإنه
قد يقال: ما وجه اتصاله بما قبله، وهو قوله: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن
يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) * النبي الآية؟ قال الشيخ أبو محمد الجويني في تفسيره:
سمعت أبا الحسين الدهان يقول: وجه اتصالها هو أن ذكر تخريب بيت المقدس قد سبق،
أي فلا يجرمنكم ذلك واستقبلوها، فإن لله المشرق والمغرب.
ومنها قوله تعالى: * (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف
رفعت...) * الآية; فإنه يقال: ما وجه الجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في
هذه الآية؟ والجواب أنه جمع بينهما على مجرى الإلف والعادة بالنسبة إلى أهل الوبر; فإن
كل انتفاعهم في معايشهم من الإبل، فتكون عنايتهم مصروفة إليها; ولا يحصل
إلا بأن ترعى وتشرب; وذلك بنزول المطر; وهو سبب تقلب وجوههم في السماء; ثم لابد
لهم من مأوى يؤويهم، وحصن يتحصنون [به]; ولا شئ في ذلك كالجبال; ثم لا غنى لهم
- لتعذر طول مكثهم في منزل - عن التنقل من أرض إلى سواها; فإذا نظري البدوي في خياله
وجد صورة هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور.
45

ومنها قوله تعالى: * (هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله
شركاء) *، فيقال: ارتباط بينهما؟ وجوابه أن المبتدأ وهو * (من) * خبره محذوف،
أي أفمن هو قائم على كل نفس تترك عبادته؟ أو معادل الهمزة تقديره: أفمن هو قائم على
كل نفس كمن ليس بقائم؟ ووجه العطف على التقديرين واضح. أما الأول فالمعنى: أتترك
عبادة من هو قائم على كل نفس، ولم يكف الترك حتى جعلوا له شركاء! وأما على الثاني
فالمعنى: إذا انتفت المساواة بينهما فكيف تجعلون لغير المساوي حكم المساوي!.
ومنها قوله تعالى: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم...) * إلى قوله: * (والله
لا يهدى القوم الظالمين. أو كالذي مر على قرية) * عطف قصة على قصة; مع أن
شرط العطف المشاكلة، فلا يحسن في نظير الآية * (ألم تر إلى ربك) * * (أو كالذي) *.
ووجه ما بينهما من المشابهة أن * (ألم تر) * بمنزلة: هل رأيت كالذي حاج إبراهيم؟ وإنما
كانت بمنزلتها لأن * (ألم تر) * مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي ولذلك يجاب ببلى
والاستفهام يعطى النفي، إذ حقيقة المستفهم عنه غير ثابتة عند المستفهم; ومن ثم جاء
حرف الاستفهام مكان حرف النفي، ونفى النفي إيجاب، فصار بمثابة " رأيت " غير أنه
مقصود به الاستفهام، ولم يمكن أن يؤتى بحرفه لوجوده في اللفظ; فلذلك أعطى معنى;
هل رأيت.
فإن قلت: من أين جاءت " إلى " ورأيت يتعدى بنفسه؟ أجيب لتضمنه معنى
" تنظر ".
القسم الثاني ألا تكون معطوفة، فلا بد من دعامة تؤذن باتصال الكلام، وهي
قرائن معنوية مؤذنة بالربط; والأول مزج لفظي;، وهذا مزج معنوي، تنزل الثانية من
الأولى منزلة جزئها الثاني، وله أسباب.
46

أحدها التنظير; فإن إلحاق النظير بالنظير من دأب العقلاء; ومن أمثلته قوله تعالى:
* (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق) * عقب قوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا لهم
درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم) * فإن الله سبحانه أمر رسوله أن يمضى لأمره
في الغنائم على كره من أصحابه كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العير وهم كارهون;
وذلك أنهم اختلفوا في القتال يوم بدر في الأنفال، وحاجوا النبي صلى الله عليه وسلم
وجادلوه; فكره كثيرا منهم ما كان من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في النفل،
فأنزل الله هذه الآية، وأنفذ أمره بها، وأمرهم أن يتقوا الله ويطيعوه، ولا يعترضوا عليه فيما
يفعله من شئ ما، بعد أن كانوا مؤمنين. ووصف المؤمنين; ثم قال: * (كما أخرجك ربك
من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) *، يريد أن كراهيتهم لما فعلته من
الغنائم ككراهتهم كما للخروج معك.
وقيل: معناه أولئك هم المؤمنون حقا; كما أخرجك ربك من بيتك بالحق; كقوله تعالى:
* (فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون) *.
وقيل: الكاف صفة لفعل مضمر; وتأويله: افعل في الأنفال كما فعلت في الخروج
إلى بدر، وإن كره القوم ذلك; ونظيره قوله تعالى: * (كما أرسلنا فيكم رسولا
منكم) * معناه: كما أنعمنا عليكم بإرسال رسول من أنفسكم فكذلك أتم نعمتي
عليكم; فشبه كراهتهم ما جرى من أمر الأنفال وقسمتها بالكراهة في مخرجه من بيته.
وكل ما لا يتم الكلام إلا به; من صفة وصلة فهو من نفس الكلام.
وأما قوله تعالى: * (كما أنزلنا على المقتسمين) * بعد قوله: * (وقل إني أنا
47

النذير المبين) * فإن فيه محذوفا; كأنه قال: أنا النذير المبين، عقوبة أو عذابا، مثل
ما أنزلنا على المقتسمين.
وأما قوله تعالى: * (لا تحرك به لسانك لتعجل به) * وقد اكتنفه من جانبيه
قوله: (بل الانسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره) *. وقوله: * (كلا بل
تحبون العاجلة. وتذرون الآخرة) *; فهذا من باب قولك للرجل، وأنت تحدثه
بحديث فينتقل عنك ويقبل على، شئ آخر: أقبل على واسمع ما أقول، وافهم عنى، ونحو
هذا الكلام; ثم تصل حديثك; فلا يكون بذلك خارجا عن الكلام الأول; قاطعا له;
وإنما يكون به مشوقا للكلام. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب;
وكان إذا نزل عليه الوحي وسمع القرآن حرك لسانه بذكر الله، فقيل له: تدبر ما يوحى
إليك، ولا تتلقفه بلسانك; فإنما نجمعه لك ونحفظه عليك.
ونظيره قوله في سورة المائدة: * (اليوم يئس الذين كفروا من دينكم) * إلى
قوله: * (الاسلام دينا) *، فإن الكلام بعد ذلك متصل بقوله أولا: * (ذلكم
فسق) *، ووسط هذه الجملة بين الكلامين ترغيبا في قبول هذه الأحكام، والعمل
بها، والحث على مخالفة الكفار وموت كلمتهم وإكمال الدين. ويدل على اتصال * (فمن
اضطر) * بقوله: * (ذلكم فسق) * آية الأنعام * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما
على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس
أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر) *.
48

الثاني المضادة; ومن أمثلته قوله تعالى في سورة البقرة: * (إن الذين كفروا سواء
عليهم) * الآية، فإنه أول السورة كان حديثا عن القرآن الكريم، وأن من شأنه
كيت وكيت، وأنه لا يهدى القوم الذين من صفاتهم كيت وكيت. فرجع إلى الحديث
عن المؤمنين، فلما أكمله عقب بما هو حديث عن الكفار; فبينهما جامع وهمي بالتضاد
من هذا الوجه، وحكمته التشويق والثبوت على الأول، كما قيل:
* وبضدها تتبين الأشياء *
فإن قيل: هذا جامع بعيد، لأن كونه حديثا عن المؤمنين، بالعرض لا بالذات،
والمقصود بالذات الذي هو مساق الكلام إنما هو الحديث عن الكتاب، لأنه مفتتح القول.
قلنا: لا يشترط في الجامع ذلك، بل يكفى التعلق على أي وجه كان، ويكفى في وجه
الربط ما ذكرنا، لأن القصد تأكيد أمر القرآن والعمل به، والحث على الإيمان به،
ولهذا لما فرغ من ذلك قال: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * الآية.
فرجع إلى الأول.
الثالث: الاستطراد; كقوله تعالى: * (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يوارى
سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذكرون) *.
قال الزمخشري: هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد، عقب ذكر بدو السوءات
وخصف الورق عليها; إظهارا للمنة فيما خلق الله من اللباس، ولما في العرى وكشف
العورة من المهانة والفضيحة، وإشعارا بأن الستر باب عظيم من أبواب التقوى.
وجعل القاضي أبو بكر في كتاب " إعجاز القرآن " من الاستطراد قوله تعالى " * (ألم
49

يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون.
ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون) *.
وقال: " كأن المراد أن يجرى بالقول الأول إلى الإخبار عن أن كل شئ يسجد لله
عز وجل، وإن كان ابتداء الكلام في أمر خاص ". انتهى، وفيه نظر.
ومنه الانتقال من حديث إلى آخر تنشيطا للسامع كقوله تعالى في سورة ص بعد ذكر
الأنبياء: * (هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب) *، فإن هذا القرآن نوع من الذكر،
لما انتهى ذكر الأنبياء، وهو نوع من التنزيل، أراد أن يذكر نوعا آخر، وهو ذكر
الجنة وأهلها، فقال: * (هذا ذكر) *; فأكد تلك الإخبارات باسم الإشارة، تقول: أشير
عليك بكذا، ثم تقول بعده: هذا الذي عندي والأمر إليك. وقال: * (وإن للمتقين لحسن
مآب) *، كما يقول المصنف: هذا باب يشرع في باب آخر. ولذلك لما فرغ من ذكر أهل الجنة
قال: * (هذا وإن للطاغين لشر مآب) *.
فصل
[في اتصال اللفظ والمعنى على خلافه]
وقد يكون اللفظ متصلا بالآخر والمعنى على خلافه; كقوله تعالى: * (ولئن أصابكم
فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة) *; فقوله: * (كأن لم تكن
بينكم وبينه مودة) * منظوم بقوله: * (قال قد أنعم الله على) *; لأنه موضع الشماتة.
وقوله: * (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون) *; فإنه متصل بقوله: * (وإن
50

فريقا من المؤمنين لكارهون. كأنما يساقون) *.
وقوله: * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) * جواب الشرط قوله تعالى:
* (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع) *، وقوله: * (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) *
داخل في الشرط.
وقوله: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به) * إلى قوله: إلا
قليلا. فقوله: * (إلا قليلا) * متصل بقوله: * (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) *. ومثل
بقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) *. على تأويل: ولولا فضل الله عليكم ورحمته
إلا قليلا ممن لم يدخله في رحمته، واتبعوا الشيطان، لا تبعتم الشيطان.
ومما يحتمل الاتصال والانقطاع قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر
فيها اسمه) *; يحتمل أن يكون متصلا بقوله: * (فيها مصباح) *، أي المصباح في بيوت،
ويكون تمامه على قوله: * (ويذكر فيها اسمه) * و * (يسبح له فيها رجال) * صفة للبيوت
ويحتمل أن يكون منقطعا، واقعا خبرا إلا لقوله: * (ورجال لا تلهيهم) *.
ومما يتعين أن يكون منقطعا قوله: * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين) * مستأنف، لأنه لو جعل متصلا " بيعزب " لاختل المعنى، إذ يصير على حد
قولك: ما يعزب عن ذهني إلا في كتاب، أي استدراكه.
وقوله: * (فيه هدى للمتقين) *، منهم من قضى باستئنافه على أنه مبتدأ وخبر، ومنهم
من قضى بجعل * (فيه) * خبر * (لا) * وهدى نصب على الحال في تقدير " هاديا ".
51

ولا يخفى انقطاع * (الذين يحملون العرش) * عن قوله: * (أنهم أصحاب
النار) *.
وكذا * (فلا يحزنك قولهم) * عن قوله سبحانه: * (إنا نعلم ما يسرون وما
يعلنون) *.
وكذلك قوله: * (فأصبح من النادمين) * عن قوله: * (من أجل ذلك كتبنا على
بنى إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس) *.
52

النوع الثالث
معرفة الفواصل ورؤوس الآي
وهي كلمة آخر الآية، كقافية الشعر وقرينة السجع.
وقال الداني: كلمة آخر الجملة.
قال الجعبري: وهو خلاف المصطلح، ولا دليل له في تمثيل سيبويه ب‍ * (يوم
يأت) *، و * (ما كنا نبغ) *، وليسا رأس آي; لأن مراده الفواصل اللغوية لا الصناعية;
ويلزم أبا عمرو إمالة * (من أعطى) * لأبى عمرو.
وقال القاضي أبو بكر: الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، يقع بها إفهام
المعاني. انتهى.
وفرق الإمام أبو عمرو الداني بين الفواصل ورؤوس الآي، قال: أما الفاصلة فهي
الكلام المنفصل مما بعده. والكلام المنفصل قد يكون رأس آية وغير رأس، وكذلك
53

الفواصل يكن رؤوس آي وغيرها. وكل رأس آية فاصلة، وليس كل فاصلة رأس آية;
فالفاصلة فيه تعم النوعين، وتجمع الضربين; ولأجل كون معنى الفاصلة هذا ذكر سيبويه في
تمثيل القوافي * (يوم يأت) * و * (ما كنا نبغ) * - وهما غيره رأس آيتين بإجماع - مع * (إذا
يسر) *; وهو رأس آية باتفاق. انتهى.
وتقع الفاصلة عند الاستراحة في الخطاب لتحسين الكلام بها; وهي الطريقة التي يباين
القرآن بها سائر الكلام. وتسمى فواصل; لأنه ينفصل عندها الكلامان; وذلك أن آخر
الآية فصل بينها وبين ما بعدها، ولم يسموها أسجاعا.
فأما مناسبة فواصل، فلقوله تعالى: * (كتاب فصلت آياته) *. وأما تجنب أسجاع،
فلأن أصله من سجع الطير، فشرف القرآن الكريم أن يستعار لشئ فيه لفظ هو أصل
في صوت الطائر، ولأجل تشريفه عن مشاركة غيره من الكلام الحادث في اسم
السجع الواقع في كلام آحاد الناس، ولأن القرآن من صفات الله عز وجل فلا يجوز وصفه
بصفة لم يرد الإذن بها وإن صح المعنى; ثم فرقوا بينهما فقالوا: السجع هو الذي يقصد
في نفسه ثم يحيل المعنى عليه، والفواصل التي تتبع المعاني، ولا تكون مقصودة في نفسها
قال الرماني في كتاب " إعجاز القرآن "، وبنى عليه أن الفواصل بلاغة والسجع
عيب، وتبعه القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب " إعجاز القرآن "، ونقل عن الأشعرية
امتناع كون في القرآن سجعا. قال: " ونص عليه الشيخ أبو الحسن الأشعري في
غير موضع من كتبه ".
54

قال: " وذهب كثير من مخالفيهم إلى إثبات السجع في القرآن، وزعموا أن ذلك
مما تبين فيه فضل الكلام، وأنه من الأجناس التي يقع بها التفاضل في البيان والفصاحة،
كالتجنيس، والالتفاف ونحوها ". قال: " وأقوى ما استدلوا به الاتفاق على أن
موسى أفضل من هارون عليهما السلام، ولما كان السجع قيل في موضع: * (هارون
وموسى ولما كانت الفواصل في موضع آخر بالواو والنون قيل: * (موسى وهارون) *.
قالوا: وهذا يفارق أمر الشعر لأنه لا يجوز أن يقع في الخطاب إلا مقصودا إليه، وإذا
وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذي نسميه شعرا، وذلك القدر يتفق وجوده من
المفحم كما يتفق وجوده في الشعر. وأما ما جاء في القرآن من السجع فهو كثير لا يصح
أن يتفق كله غير مقصود إليه ".
قال: " وبنوا الأمر في ذلك على تحديد معنى السجع; قال أهل اللغة: هو موالاة
الكلام على وزن واحد. قال: ابن دريد: " سجعت الحمامة: رددت
صوتها ".
قال القاضي: وهذا [الذي يزعمونه] غير صحيح; ولو كان القرآن سجعا لكان
غير خارج عن أساليب كلامهم; ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز، ولو جاز أن
يقال: هو سجع معجز، لجاز لهم أن يقولوا: شعر معجز. وكيف! والسجع مما كانت
55

كهان العرب تألفه; ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر; لأن الكهانة
تخالف النبوات; بخلاف الشعر.
وما توهموا أنه سجع باطل; لأن مجيئه على صورته لا يقتضى كونه هو; لأن
السجع [من الكلام] يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدى السجع; وليس كذلك
ما أتفق مما هو في معنى السجع من القرآن; لأن اللفظ وقع فيه تابعا للمعنى. وفرق
بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدى المعنى المقصود فيه، وبين أن يكون
المعنى منتظما دون اللفظ; ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى
انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى.
قال: و [أما] ما ذكروه في تقديم موسى على هارون في موضع وتأخيره عنه في
موضع لأجل السجع، ولتساوى مقاطع الكلام فمردود، بل الفائدة فيه إعادة
القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدى معنى واحدا، وذلك من الأمر الصعب الذي تظهر
فيه الفصاحة، وتقوى البلاغة، ولهذا أعيدت كثير من القصص [في مواضع كثيرة
مختلفة] على ترتيبات متفاوتة; تنبيها بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله، مبتدأ
به ومكررا.
56

ولو أمكنهم المعارضة لقصدوا تلك القصة وعبروا عنها بألفاظ لهم تؤدى إلى تلك
المعاني ونحوها [وجعلوها بإزاء ما جاء به، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما
حكى وجاء به. وكيف وقد قال لهم: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *]
فعلى هذا هذا يكون المقصد - بتقديم بعض الكلمات على بعض وتأخيرها - إظهار الإعجاز
[على الطريقين جميعا] دون السجع [الذي توهموه].
إلى أن قال: " فبان [بما قلنا] أن الحروف الواقعة في الفواصل مناسبة موقع
النظائر التي تقع في الأسجاع، لا يخرجها عن حدها، ولا يدخلها في باب السجع. وقد بينا
أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء; فكان بعض مصاريعه كلمتين،
وبعضها يبلغ كلمات، ولا يرون ذلك فصاحة، بل يرونه عجزا، فلو فهموا اشتمال
القرآن على السجع لقالوا: نحن نعارضه بسجع معتدل، فنزيد في الفصاحة على طريق
القرآن، [ونتجاوز حده في البراعة والحسن]. انتهى ما ذكره القاضي والرماني.
رد عليهما الخفاجي " في كتاب سر الفصاحة " فقال: " وأما قول الرماني إن السجع
عيب، والفواصل [على الإطلاق] بلاغة فغلط، فإنه إن أراد بالسجع ما يتبع المعنى،
وكأنه غير مقصود فذلك بلاغة، والفواصل مثله. وإن أراد به ما تقع المعاني تابعة له،
وهو مقصود متكلف، فذلك عيب، والفواصل مثله ".
57

قال: " وأظن أن الذي دعاهم إلى تسمية كل ما في القرآن فواصل، ولم يسموا
ما تماثلت حروفه سجعا رغبتهم في تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام
المروى عن الكهنة وغيرهم، وهذا غرض في التسمية قريب، والحقيقة ما قلناه ".
ثم قال: " والتحرير أن الأسجاع حروف متماثلة في مقاطع الفواصل.
فإن قيل: إذا كان عندكم أن السجع محمود فهلا ورد القرآن كله مسجوعا!
وما الوجه في ورود بعضه مسجوعا وبعضه غير مسجوع؟ قلنا: إن القرآن نزل بلغة العرب
وعلى عرفهم وعادتهم، وكان الفصيح منهم لا يكون كلامه كله مسجوعا لما فيه من
أمارات التكلف والاستكراه والتصنع، لا سيما فيما يطول من الكلام، فلم يرد كله
مسجوعا جريا منه على عرفهم في اللطيفة العالية من كلامهم، ولم يخل من السجع; لأنه
يحسن في بعض الكلام على الصفة السابقة، [وعليها ورد في فصيح كلامهم، فلم يجز أن
يكون عاليا في الفصاحة وقد أدخل فيه بشرط من شروطها]. فهذا هو السبب في ورود
بعضه كذلك وبعضه بخلافه ".
وخصت فواصل الشعر باسم القوافي لأن الشاعر يقفوها أي يتبعها في شعره، لا يخرج
عنها، وهي في الحقيقة فاصلة، لأنها تفصل آخر الكلام، فالقافية أخص في الاصطلاح،
إذ كل قافية فاصلة، ولا عكس.
ويمتنع استعمال القافية في كلام الله تعالى، لأن الشرع لما سلب عنه اسم الشعر وجب
58

سلب القافية أيضا عنه لأنها منه، وخاصة به في الاصطلاح. وكما يمتنع استعمال القافية في
في القرآن، لا تطلق الفاصلة في الشعر، لأنها صفة لكتاب الله، فلا تتعداه.
قيل: وقد يقع في القرآن الإيطاء، وهو ليس بقبيح فيه، إنما يقبح في الشعر،
كقوله تعالى في سورة البقرة: * (كأنهم لا يعلمون) *. ثم قال في آخرين: * (لو كانوا
يعلمون) *، ثلاث فواصل متوالية " يعلمون " يعلمون، [يعلمون]، فهذا لا يقبح
في القرآن قولا واحدا.
قيل: ويقع فيه التضمين، وليس بقبيح، إنما يقبح في الشعر، ومنه سورتا الفيل
وقريش، فإن اللام في (لإيلاف قريش) * قيل: إنها متعلقة ب‍ * (جعلهم) * في
آخر الفيل.
وحكى حازم في " منهاج البلغاء " خلافا غريبا فقال: وللناس في الكلام
المنثور من جهة تقطيعه إلى مقادير تتقارب في الكمية، وتتناسب مقاطعها على ضرب منها،
أو بالنقلة من ضرب واقع في ضربين أو أكثر، إلى ضرب آخر مزدوج، في كل ضرب
59

ضرب منها أو يزيد على الازدواج، ومن جهة ما يكون غير مقطع، إلى مقادير بقصد تناسب
أطرافها، وتقارب ما بينها في كمية الألفاظ والحروف ثلاثة مذاهب:
منهم من يكره تقطيع الكلام إلى مقادير متناسبة الأطراف، غير متقاربة في الطول
والقصر لما فيه من التكلف، إلا ما يقع به الإلمام في النادر من الكلام.
والثاني أن التناسب الواقع بإفراغ الكلام في قوالب التقفية وتحليتها بمناسبات المقاطع
أكيد جدا.
والثالث - وهو الوسط - أن السجع لما كان زينة للكلام، فقد يدعو إلى التكلف،
فرئي ألا يستعمل في الكلام، وأن لا يخلى الكلام بالجملة منه أيضا، ولكن يقبل
من الخاطر فيه ما اجتلبه عفوا، بخلاف التكلف، وهذا رأى أبى الفرج قدامة.
قال حازم: وكيف يعاب السجع على الإطلاق! وإنما نزل القرآن على أساليب
الفصيح من كلام العرب، فوردت الفواصل فيه بإزاء ورود الأسجاع في كلام العرب،
وإنما لم يجئ على أسلوب واحد، لأنه لا يحسن في الكلام جميعا أن يكون مستمرا على نمط
واحد، لما فيه من التكلف، ولما في الطبع من الملل عليه. ولأن الافتنان في ضروب الفصاحة
أعلى من الاستمرار على ضرب واحد، فلهذا وردت بعض آي القرآن متماثلة المقاطع،
وبعضها غير متماثل.
[إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل]
واعلم أن إيقاع المناسبة في مقاطع الفواصل حيث تطرد متأكد جدا، ومؤثر في اعتدال
نسق الكلام وحسن موقعه من النفس تأثيرا عظيما، ولذلك خرج عن نظم الكلام
لأجلها في مواضع:
60

أحدها زيادة حرف لأجلها، ولهذا ألحقت الألف ب‍ " الظنون " في قوله تعالى "
* (وتظنون بالله الظنونا) *، لأن مقاطع فواصل هذه السورة ألفات منقلبة عن تنوين
في الوقف، فزيد على النون ألف لتساوى المقاطع، وتناسب نهايات الفواصل، ومثله:
* (فأضلونا السبيلا) *، * (وأطعنا الرسولا) *.
وأنكر بعض المغاربة ذلك وقال: لم تزد الألف لتناسب رؤوس الآي كما قال قوم،
لأن في سورة الأحزاب: * (والله يقول الحق وهو يهدى السبيل) * وفيها: * (فأضلونا
السبيلا) *، وكل واحد منها رأس آية، وثبتت الألف بالنسبة إلى حالة أخرى غير
تلك في الثاني دون الأول، فلو كان لتناسب رؤوس الآي لثبت من الجميع.
قال: وإنما زيدت الألف في مثل ذلك لبيان القسمين، واستواء الظاهر والباطن
بالنسبة إلى حالة أخرى غير تلك. وكذلك لحاق هاء السكت في قوله: * (ماهيه) * في
سورة القارعة، هذه الهاء عدلت مقاطع الفواصل في هذه السورة، وكان للحاقها أي في هذا
الموضع تأثير عظيم في الفصاحة.
وعلى هذا - والله أعلم - ينبغي أن يحمل لحاق النون في المواضع التي قد تكلم في لحاق النون
إياها، نحو قوله تعالى: * (وكل في فلك يسبحون) *، وقوله تعالى: * (كونوا قردة
خاسئين) * فإن من مآخذ الفصاحة ومذاهبها أن يكون ورود هذه النون في مقاطع هذه
الأنحاء للآي راجح الأصالة في الفصاحة، لتكون فواصل السور الوارد فيها ذلك قد
استوثق فيما قبل حروفها المتطرفة، وقوع حرفي المد واللين.
61

وقوله تعالى: * (وطور سينين) * وهو
طور سيناء; لقوله: * (وشجرة تخرج من
طور سيناء) *.
وقوله تعالى: * (لعلى أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) * كرر " لعل " مراعاة لفواصل
الآي، إذ لو جاء على الأصل لقال: لعلى أرجع إلى الناس فيعلموا; بحذف النون
على الجواب.
الثاني حذف همزة أو حرف اطرادا; كقوله تعالى: * (والليل إذا يسر) *.
الثالث الجمع بين المجرورات; وبذلك يجاب عن سؤال في قوله تعالى: * (لا تجدوا
لكم علينا به تبيعا) * فإنه قد توالت المجرورات بالأحرف الثلاثة، وهي اللام في
* (لكم) * والباء في * (به) * و * (على) * في * (علينا) * وكان الأحسن الفصل.
وجوابه أن تأخر * (تبيعا) * وترك الفصل أرجح من أن يفصل به بين بعض الروابط،
وكذلك الآيات التي تتصل بقوله: * (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) *، فإن فواصلها
كلها منصوبة منونة، فلم يكن بد من تأخير قوله: * (تبيعا) * لتكون نهاية هذه الآية
مناسبة لنهايات ثنا ما قبلها حتى تتناسق على صورة واحدة.
الرابع تأخير ما أصله أن يقدم، كقوله تعالى: * (فأوجس في نفسه خيفة موسى) *،
لأن أصل الكلام أن يتصل الفعل بفاعله ويؤخر المفعول، لكن أخر الفاعل، وهو
" موسى " لأجل رعاية الفاصلة.
قلت: للتأخير حكمة أخرى، وهي أن النفس تتشوق لفاعل * (أوجس) *، فإذا جاء
بعد أن أخر وقع بموقع.
62

وكقوله تعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى) *
فإن قوله: * (وأجل مسمى) * معطوف على * (كلمة) * ولهذا رفع. والمعنى: * (ولولا كلمة
سبقت من ربك) * في التأخير * (مسمى) * لكان العذاب لزاما. لكنه قدم
وأخر لتشتبك رؤوس الآي. قاله ابن عطية.
وجوز الزمخشري عطفه على الضمير في * (لكان) *، أي لكان الأجل العاجل وأجل
مسمى لازمين له كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأجل
العاجل.
ومنه قوله تعالى: * (جاء آل فرعون النذر) *، فأخر الفاعل لأجل الفاصلة.
وقوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * أخر الفعل عن المفعول فيها وقدمه فيما قبلها في
قوله: * (يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * لتوافق [رؤوس] الآي. قاله
أبو البقاء، وهو أجود من قول الزمخشري: قدم المفعول للاختصاص.
ومنه تأخير الاستعانة عن العبادة في قوله تعالى: * (نعبد وإياك نستعين) *
وهي قبل العبادة، وإنما أخرت لأجل فواصل السورة في أحد الأجوبة.
الخامس إفراد ما أصله أن يجمع كقوله تعالى: * (إن المتقين في جنات ونهر
قال الفراء: الأصل " الأنهار " وإنما وحد لأنه رأس آية، فقابل بالتوحيد رؤوس
63

الآي. ويقال النهر الضياء والسعة، فيخرج من هذا الباب.
وقوله: * (كنت متخذ المضلين عضدا) * قال ابن سيده في المحكم: أي
أعضادا، وإنما أفرد ليعدل رؤوس الآي بالإفراد. والعضد: المعين.
السادس جمع ما أصله أن يفرد، كقوله تعالى: * (لا بيع فيه ولا خلال) * فإن
المراد " ولا خلة " بدليل الآية الأخرى، لكن جمعه لأجل مناسبة رؤوس الآي.
السابع تثنية ما أصله أن يفرد; كقوله تعالى: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) *.
قال الفراء: هذا باب مذهب العرب في تثنية البقعة الواحدة وجمعها كقوله: " ديار
لها بالرقمتين " وقوله: " بطن المكتين " وأشير بذلك إلى نواحيها، أو للإشعار
بأن لها وجهين، وأنك إذا أوصلتها ونظرت إليها يمينا وشمالا رأيت في كلتا الناحيتين ما يملأ
عينك قرة، وصدرك مسرة ".
64

قال: وإنما ثناهما لأجل الفاصلة; رعاية للتي قبلها والتي بعدها على هذا الوزن.
والقوافي تحتمل في الزيادة والنقصان مالا يحتمله سائر الكلام.
وأنكر ذلك ابن قتيبة عليه وأغلظ وقال: إنما يجوز في رؤوس الآي زيادة هاء
السكت أو الألف، أو حذف همزة أو حرف. فأما أن يكون الله وعد جنتين فنجعلهما ولا جنة
واحدة من أجل رؤوس الآي فمعاذ الله. وكيف هذا وهو يصفها بصفات الاثنين، قال:
* (ذواتا أفنان) *، ثم قال فيها: * (فيهما) *. ولو أن قائلا قال في خزنة النار: إنهم
عشرون، وإنما جعلهم الله تسعة عشر لرأس الآية، ما كان هذا القول إلا كقول الفراء.
قلت: وكأن الملجئ للفراء إلى ذلك قوله تعالى: * (وأما من خاف مقام ربه ونهى
النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى) *، وعكس ذلك قوله تعالى: * (فلا يخرجنكما
من الجنة فتشقى) *; على أن هذا قابل للتأويل; فإن الألف واللام للعموم، خصوصا أنه
يرد على الفراء قوله: * (ذواتا أفنان) *.
الثامن: تأنيث ما أصله أن يذكر، كقوله تعالى: * (كلا إنه تذكرة) *; وإنما
عدل إليها للفاصلة.
التاسع كقوله: * (سبح اسم ربك الأعلى) *، وقال في العلق: * (اقرأ باسم
65

ربك الذي خلق) *، فزاد في الأولى * (الأعلى) *، وزاد في الثانية: * (خلق) *،
مراعاة للفواصل في السورتين، وهي في " سبح " * (الذي خلق فسوى) * وفى
" العلق " * (خلق الانسان من علق) *.
العاشر: صرف ما أصله ألا ينصرف; كقوله تعالى: * (قواريرا. قواريرا) *
صرف الأول لأنه آخر الآية، وآخر الثاني بالألف، فحسن جعله منونا ليقلب تنوينه ألفا،
فيتناسب مع بقية الآي، كقوله تعالى: * (سلاسلا وأغلالا) * فإن * (سلاسلا) * لما نظم إلى
* (أغلالا وسعيرا) * صرف ونون للتناسب، وبقي " قوارير) * الثاني; فإنه وإن لم يكن آخر
الآية جاز صرفه، لأنه لما نون " قواريرا " الأول ناسب، أن ينون " قواريرا " الثاني
ليتناسبا، ولأجل هذا لم ينون " قواريرا " الثاني إلا من ينون " قواريرا " الأول.
وزعم إمام الحرمين في " البرهان " أن من ذلك صرف ما كان جمعا في القرآن
ليناسب رؤوس الآي; كقوله تعالى: * (سلاسلا وأغلالا) *.
وهذا مردود، لأن * (سلاسلا) * ليس رأس آية، ولا " قواريرا " الثاني، وإنما صرف
للتناسب، واجتماعه مع غيره من المنصرفات، فيرد إلى الأصل ليتناسب معها.
ونظيره في مراعاة المناسبة أن الأفصح أن يقال: " بدأ "; ثلاثي قال الله تعالى: * (كما
بدأكم تعودون) *. وقال تعالى: * (كيف بدأ الخلق) * ثم قال: * (أولم يروا
كيف أبو يبدئ الله الخلق ثم يعيده) *، فجاء به رباعيا فصيحا لما حسنه من التناسب
بغيره وهو قوله: * (يعيده) *.
66

الحادي عشر: إمالة ما أصله ألا يمال; كإمالة ألف * (والضحى. والليل إذا سجى) *،
ليشاكل التلفظ بهما التلفظ بما بعدهما.
والإمالة أن تنجو بالألف نحو الياء، والغرض الأصلي منها هو التناسب، وعبر عنه
بعضهم بقوله: الإمالة للإمالة. وقد يمال لكونها آخر مجاور ما أميل آخره; كألف " تلا "
في قوله تعالى: * (والقمر إذا تلاها) *، فأميلت ألف * (تلاها) * ليشاكل اللفظ بها اللفظ
الذي بعدها، مما ألفه غير ياء; نحو * (جلاها) *، و * (غشاها) *.
فإن قيل: هلا جعلت إمالة * (تلاها) * لمناسبة ما قبلها، أعني * (ضحاها) *؟ قيل: لأن ألف
* (ضحاها) * عن واو، وإنما أميل لمناسبة ما بعده.
الثاني عشر: العدول عن صيغة المضي إلى الاستقبال، كقوله تعالى: * (ففريقا
كذبتم وفريقا تقتلون) *; حيث لم يقل " وفريقا قتلتم " كما سوى بينهما في سورة
الأحزاب فقال: * (تقتلون وتأسرون فريقا) *; وذلك لأجل أنها هنا رأس آية.
67

تفريعات
[ختم مقاطع الفواصل بحروف المد واللين]
ثم هنا تفريعات:
الأول: قد كثر في القرآن الكريم ختم كلمة المقطع من الفاصلة بحروف المد واللين
وإلحاق النون; وحكمته وجود التمكن من التطريب بذلك.
قال سيبويه رحمه الله: " أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف
والواو والياء; [ما ينون وما لا ينون]; لأنهم أرادوا مد الصوت.
68

وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم; وناس من
بنى تميم يبدلون مكان المدة النون ". انتهى.
وجاء القرآن على أعذب مقطع، وأسهل موقف.
[مبنى الفواصل على الوقف]
الثاني: إن مبنى الفواصل على الوقف; ولهذا شاع مقابلة المرفوع بالمجرور وبالعكس،
وكذا المفتوح والمنصوب غير المنون; ومنه قوله تعالى: * (إنا خلقناهم من طين
69

لازب; مع تقدم قوله: * (عذاب واصب) *، و * (شهاب ثاقب) *.
وكذا * (بماء منهمر) *، و * (قد قدر) *. وكذا: * (وما لهم من دونه من
وال) * مع * (وينشئ السحاب الثقال) *.
وعبارة السكاكي قد تعطى اشتراط كون السجع يشترط فيه الموافقة في الإعراب
لما قبله; على تقدير عدم الوقوف عليه; كما يشترط ذلك في الشعر. وبه صرح ابن
الخشاب معترضا على قول الحريري في المقامة التاسعة والعشرين:
- يا صارفا عنى المودة * والزمان له صروف -
- ومعنفي أن في فضح من * جاوزت تعنيف العسوف -
- لا تلحني فيما أتيت * فإنني بهم عروف -
- ولقد نزلت بهم فلم * أرهم يراعون الضيوف -
- وبلوتهم فوجدتهم * لما سبكتهمو زيوف -
ألا ترى أنها إذا أطلقت ظهر الأول والثالث مرفوعين، والرابع والخامس منصوبين،
70

والثاني مجرورا، وكذا باقي القصيدة.
والصواب أن ذلك ليس بشرط لما سبق; ولا شك أن كلمة الأسجاع موضوعة على أن
تكون ساكنة الأعجاز، موقوفا عليها; لأن الغرض المجانسة بين القرائن والمزاوجة;
ولا يتم ذلك إلا بالوقف، ولو وصلت لم يكن بد من إجراء كل القرائن على ما يقتضيه
حكم الإعراب فعطلت عمل الساجع الله وفوت غرضهم.
وإذا رأيتهم يخرجون الكلم عن أوضاعها لغرض الازدواج; فيقولون: " آتيك
بالغدايا والعشايا " مع أن فيه ارتكابا لما يخالف اللغة، فما ظنك بهم في ذلك "!
71

[المحافظة على الفواصل لحسن النظم والتئامه]
الثالث: ذكر الزمخشري في كشافه القديم أنه لا تحسن المحافظة على الفواصل لمجردها
إلا مع بقاء المعاني على سدادها، على النهج الذي يقتضيه حسن النظم والتئامه. كما لا يحسن
تخير الألفاظ المونقة في السمع. السلسة على اللسان; إلا مع مجيئها منقادة للمعاني الصحيحة
المنتظمة; فأما أن تهمل المعاني، ويهتم بتحسين اللفظ وحده، غير منظور فيه إلى مؤداه على بال،
فليس من البلاغة في فتيل أو نقير. ومع ذلك يكون قوله: * (وبالآخرة هم يوقنون) *
وقوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * لا يتأتى فيه ترك رعاية التناسب في العطف بين الجمل
الفعلية إيثارا للفاصلة - لأن ذلك أمر لفظي لا طائل تحته - وإنما عدل إلى هذا لقصد
الاختصاص.
[تقسيم الفواصل باعتبار المتماثل والمتقارب في الحروف]
الرابع: أن الفواصل تنقسم إلى ما تماثلت حروفه في المقاطع - وهذا يكون في السجع -
وإلى ما تقاربت حروفه في المقاطع ولم تتماثل; وهذا لا يكون سجعا. ولا يخلو كل واحد
من هذين القسمين: - أعني المتماثل والمتقارب - من أن يأتي طوعا سهلا تابعا للمعاني،
أو متكلفا يتبعه المعنى.
فالقسم الأول هو المحمود الدال على الثقافة وحسن البيان، والثاني هو المذموم. فأما
القرآن فلم يرد فيه إلا القسم الأول لعلوه في الفصاحة.
وقد وردت فواصله متماثلة ومتقاربة.
72

مثال المتماثلة قوله تعالى: * (والطور. وكتاب مسطور. في رق منشور. والبيت
المعمور. والسقف المرفوع) *.
وقوله تعالى: * (طه. ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. إلا تذكرة لمن يخشى.
تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى. الرحمن على العرش استوى) *.
وقوله تعالى: * (والعاديات ضبحا. فالموريات قدحا. فالمغيرات صبحا. فأثرن به
نقعا. فوسطن به جمعا) *.
وقوله تعالى: والفجر. وليال عشر. والشفع والوتر. والليل إذا يسر...) *. إلى
آخره. وحذفت الياء من * (يسر) * طلبا للموافقة في الفواصل.
وقوله تعالى: * (اقتربت الساعة وانشق القمر) *; وجميع هذه السورة على
الازدواج.
وقوله تعالى: * (فلا أقسم بالخنس. الجواري الكنس. والليل إذا عسعس. والصبح
إذا تنفس) *.
73

وقوله تعالى: فلا أقسم بالشفق. والليل وما وسق. والقمر إذا اتسق. لتركبن
طبقا عن طبق) *.
وقوله تعالى: * (فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر) *.
وقوله تعالى: * (أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها) *.
وقوله تعالى: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون) *.
وقوله تعالى: * (فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم
لا يقصرون) *.
وقوله تعالى: * (كلا إذا بلغت التراقي. وقيل من راق...) * الآية.
وقوله تعالى: * (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا، أو لتعودن
في ملتنا) *.
ومثال المتقارب في الحروف قوله تعالى: * (الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين) *.
وقوله تعالى: * (ق. والقرآن المجيد. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال
74

الكافرون هذا شئ عجيب) *.
وهذا لا يسمى سجعا قطعا عند القائلين بإطلاق السجع في القرآن، لأن السجع
ما تماثلت حروفه.
إذا علمت هذا، فاعلم أن فواصل القرآن الكريم لا تخرج عن هذين القسمين;
بل تنحصر في المتماثلة والمتقاربة، وبهذا يترجح مذهب الشافعي على مذهب أبي حنيفة
في عد الفاتحة سبع آيات مع البسملة; وذلك لأن الشافعي المثبت لها في القرآن قال:
* (صراط الذين) *، الخ السورة آية واحدة، وأبو حنيفة لما أسقط البسملة من الفاتحة قال:
* (صراط الذين أنعمت عليهم) * آية، و * (غير المغضوب عليهم) * آية. ومذهب
الشافعي أولى، لأن فاصلة قوله: * (صراط الذين أنعمت عليهم) * لا تشابه فاصلة الآيات
المتقدمة، ورعاية التشابه في الفواصل لازم. وقوله: * (أنعمت عليهم) * ليس من القسمين
فامتنع جعله من المقاطع; وقد اتفق الجميع على أن الفاتحة سبع آيات; لكن الخلاف
في كيفية العدد.
[تقسيم الفواصل باعتبار المتوازي والمتوازن والمطرف]
الخامس: قسم البديعيون عن السجع والفواصل أيضا إلى متواز، ومطرف، [ومتوازن].
وأشرفها المتوازي، وهو أن تتفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع; كقوله تعالى:
* (فيها سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة) *، وقوله * (والتوراة والإنجيل. ورسولا
إلى بنى إسرائيل) *.
75

والمطرف أن يتفقا في حروف السجع لا في الوزن; كقوله تعالى: * (ما لكم لا ترجون
لله وقارا. وقد خلقكم أطوارا) *.
والمتوازن أن يراعى في مقاطع الكلام الوزن فقط، كقوله تعالى: * (ونمارق
مصفوفة. وزرابي مبثوثة) *.
وقوله تعالى: * (وآتيناهما الكتاب المستبين. وهديناهما الصراط المستقيم) *. فلفظ
" الكتاب " و " الصراط " متوازنان. ولفظ " المستبين " و " المستقيم " متوازنان.
وقوله: * (فاصبر صبرا جميلا. إنهم يرونه بعيدا. ونراه قريبا. يوم تكون السماء
كالمهل. وتكون الجبال كالعهن) *.
وقوله تعالى: * (كلا إنها لظى. نزاعة للشوى. تدعو من أدبر وتولى. وجمع
فأوعى) * *.
وقوله: * (والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى...) * إلى آخرها.
وقوله: * (والضحى. والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما قلى... إلى آخرها.
وقد تكرر في سورة " حمعسق " في قوله: تعالى: * (والذين يجادلون في الله من بعد
76

ما استجيب له) * إلى آخر الآيات السبع; فجمع في فواصلها بين " شديد " و " قريب "
و " بعيد " و " عزيز " و " نصيب " و " أليم " و " كبير " على هذا الترتيب; وهو في
القرآن كثير، وفى المفصل خاصة في قصاره.
ومنهم من يذكر بدله الترصيع، وهو أن يكون المتقدم من الفقرتين مؤلفا من كلمات
مختلفة، والثاني مؤلفا من مثلها في ثلاثة أشياء: وهي الوزن والتقفية هذه وتقابل القرائن، قيل:
ولم يجئ هذا القسم في القرآن العظيم لما فيه من التكلف.
وزعم بعضهم أن منه قوله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم. وإن الفجار لفي جحيم) *.
وليس كذلك، لورود لفظة " إن " و " لفي " في كل واحد من الشطرين، وهو مخالف
لشرط الترصيع; إذ شرطه اختلاف الكلمات في الشطرين جميعا.
وقال بعض المغاربة: سورة الواقعة من نوع الترصيع، وتتبع آخر آيها يدل على أن
فيها موازنة.
* * *
قالوا: وأحسن السجع ما تساوت قرائنه، ليكون شبيها بالشعر، فإن أبياته متساوية;
كقوله تعالى: * (في سدر مخضود. وطلح منضود. وظل ممدود) *; وعلته أن السمع
ألف الانتهاء إلى غاية في الخفة بالأولى، فإذا زيد عليها ثقل عنه الزائد، لأنه يكون عند
وصولها إلى مقدار الأول كمن توقع الظفر بمقصوده.
ثم طالت قرينته الثانية، كقوله: * (والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم
وما غوى) *، أو الثالثة كقوله تعالى: * (خذوه فغلوه. ثم الجحيم صلوه. ثم في سلسلة
77

ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) *.
وهو إما قصير كقوله: * (والمرسلات عرفا. فالعاصفات عصفا) *.
أو طويل كقوله: * (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم
ولتنازعتم في الأمر، ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور. وإذ يريكموهم إذ
التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا وإلى الله
ترجع الأمور) *.
أو متوسط كقوله: * (اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا
سحر مستمر) *.
[ائتلاف الفواصل مع ما يدل عليه الكلام]
السادس: اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره،
وإيقاع الشئ فيها بما يشاكله. فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور; أولا وإلا
خرج بعض الكلام عن بعض.
وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك; لكن منه ما يظهر، ومنه ما يستخرج
بالتأمل للبيب.
وهي منحصرة في أربعة أشياء: التمكين، والتوشيح والإيغال والتصدير.
والفرق بينها; أنه إن كان تقدم لفظها بعينه في أول الآية سمى تصديرا. وإن كان في
78

أثناء الصدر سمى توشيحا. سنة وإن أفادت معنى زائدا بعد تمام معنى الكلام سمى إيغالا;
وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما صدره يدل على عجزه. والفرق بينهما
أن دلالة التصدير لفظية، ودلالة التوشيح معنوية.
* * *
الأول: التمكين; وهو أن يمهد قبلها، تمهيدا تأتي به الفاصلة ممكنة في مكانها، مستقرة
في قرارها، مطمئنة في موضعها، غير نافذة ولا قلقة، متعلقا معناها بمعنى الكلام كله
تعلقا تاما; بحيث لو طرحت اختل المعنى واضطرب الفهم.
وهذا الباب يطلعك على سر عظيم من أسرار القرآن، فاشدد يديك به.
ومن أمثلته قوله تعالى: * (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله
المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) *، فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: * (وكفى
الله المؤمنين القتال) * لأوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي
حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، وأن ذلك أمر اتفاقي، فأخبر سبحانه
في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة ليعلم المؤمنين، ويزيدهم يقينا وإيمانا على أنه الغالب
الممتنع، وأن حزبه كذلك، وأن تلك الريح التي هبت ليست اتفاقا; بل هي من
إرساله سبحانه على أعدائه كعادته; وأنه ينوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيمانا وينصرهم
مرة بالقتال كيوم بدر، وتارة بالريح كيوم الأحزاب، وتارة بالرعب كبنى النضير، وطورا
ينصر عليهم كيوم أحد، تعريفا لهم أن الكثرة لا تغنى شيئا، وأن النصر من عنده،
كيوم حنين.
ومنه قوله تعالى: * (أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في
79

مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون. أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض
الجرز فتخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) *. فانظر إلى قوله
في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية: * (أولم يهد لهم) * ولم يقل: " أولم يروا "
وقال بعد ذكر الموعظة: * (أفلا يسمعون) *; لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع أو
أخبار القرون وهو كما يسمع. وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية:
* (أولم يروا) *. وقال بعدها: * (أفلا يبصرون) * لأن سوق الماء إلى الأرض
الجرز مرئى.
ومنه قوله تعالى: * (قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو
أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) *، فإنه لما تقدم ذكر العبادة
والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرشد، لأن الحلم الذي يصح به
التكليف والرشد حسن التصرف في الأموال، فكان آخر الآية مناسبا لأولها مناسبة
معنوية، ويسميه بعضهم ملاءمة.
ومنه قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) *;
فإنه سبحانه لما قدم نفى إدراك الأبصار له عطف على ذلك قوله: * (وهو اللطيف) * خطابا
للسامع بما يفهم; إذ العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار، ألا ترى أن حاسة البصر
إنما تدرك اللون من كل متلون والكون من كل متكون، فإدراكها إنما هو للمركبات
دون المفردات، ولذلك لما قال: * (وهو يدرك الأبصار) * عطف عليه قوله: * (الخبير) *.
مخصصا لذاته سبحانه بصفة الكمال; لأنه ليس كل من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك
الشئ، لأن المدرك للشئ قد يدركه ليخبره، ولما كان الأمر كذلك أخبر سبحانه وتعالى
80

أنه يدرك كل شئ مع الخبرة به; وإنما خص الأبصار بإدراكه ليزيد في الكلام ضربا
من المحاسن يسمى التعطف; ولو كان الكلام: لا تبصره الأبصار، وهو يبصر الأبصار
لم تكن لفظتا * (اللطيف الخبير) * مناسبتين قبل لما قبلهما.
ومنه قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة
إن الله لطيف خبير. له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغنى الحميد) *،
إلى قوله: * (لرءوف رحيم) * إنما فصل الأولى ب‍ " لطيف خبير " لأن ذلك في موضع
الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النبات من الأرض، ولأنه خبير بنفعهم. وإنما فصل الثانية
ب‍ " غنى حميد " لأنه قال: * (له ما في السماوات وما في الأرض) *، أي لا لحاجة; بل هو
غنى عنهما، جواد بهما; لأنه ليس غنى نافعا غناه إلا إذا جاد به، وإذا جاد وأنعم حمده
المنعم عليه، واستحق عليه الحمد; فذكر " الحمد " على أنه الغنى النافع بغناه خلقه. وإنما
فصل الثالثة ب‍ " رؤوف رحيم "، لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض
لهم، وإجراء الفلك في البحر لهم، وتسييرهم وكان في ذلك الهول العظيم، وجعله السماء فوقهم
وإمساكه إياها عن الوقوع، حسن ختامه بالرأفة والرحمة. ونظير هذه الثلاث فواصل مع
اختلافها قوله تعالى في سورة الأنعام: * (وهو الذي جعل لكم النجوم...) *، الآيات.
وقوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغنى
الحميد). فقال: " الغنى الحميد " لينبه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غنى عنه، جواد به،
وإذا جاد به حمده المنعم عليه. إذ " حميد " كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل
وسائر النقائض، فيكون " غنيا " مفسرا بالغنى المطلق، لا يحتاج فيه لتقدير " غنى عنه ".
81

ومنه قوله تعالى: * (قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم
القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون) *. لما كان سبحانه هو الجاعل
الأشياء على الحقيقة، وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل
كأنه سرمد بهذا التقدير، وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر، لا سيما وقد
أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة;
فصار النهار كأنه معدوم; إذ نسب وجوده إلى غير موجد; والليل كأنه لا موجود
سواه; إذ جعل سرمدا منسوبا إليه سبحانه، فاقتضت البلاغة أن يقول: * (أفلا
تسمعون) * لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع، ولا يصلح للإبصار.
وكذلك قال في الآية التي تليها: * (قل أريتم إن جعل الله عليكم النهار
سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا
تبصرون)، لأنه لما أضاف جعل النهار سرمدا إليه صار النهار كأنه سرمد، وهو ظرف
مضئ تنور فيه الأبصار، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة،
فصار الليل كأنه معدوم; إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والنهار كأنه لا موجود سواه، إذ
جعل وجوده سرمدا منسوبا إليه، فاقتضت البلاغة أن يقول * (: أفلا تبصرون) *; إذ
الظرف مضئ صالح للإبصار، وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.
ومنه قوله تعالى في أول سورة الجاثية: * (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين.
وفى خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون. واختلاف الليل والنهار وما
أنزل الله من السماء من رزق فأحيى به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات
لقوم يعقلون). فإن البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى: * (للمؤمنين) *، لأنه
82

سبحانه ذكر العلم بجملته حيث قال: * (السماوات والأرض) * ومعرفة الصانع من الآيات
الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم، وإن دل على وجود صانع مختار لدلالتها على
صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته، فلا بد أولا من التصديق بذاته; حتى تكون هذه
الآيات دالة على صفاته، لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات.
وكذلك قوله في الآية الثانية: * (لقوم يوقنون) *، فإن سر الانسان وتدبر خلقة
الحيوان أقرب إليه من الأول، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول
وكذلك معرفة جزئيات العالم; من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء،
وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح يقتضى رجاحة العقل ورصانته; لنعلم أن من صنع
هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلى التي هي أجرامه وعوارض عنه. ولا يجوز أن يكون
بعضها صنع بعضا. فقد قام البرهان على أن للعالم الكلى صانعا مختارا، فلذلك اقتضت
البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة: * (لقوم يعقلون) * وإن احتيج إلى العقل في
الجميع; إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول; إذ بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال:
إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا، فلا بد إذا من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل.
ومنه قوله تعالى حكاية عن لقمان: * (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من
خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف
خبير) *.
ومنه قوله تعالى: * (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم
أفلا تعقلون) *. والمناسبة فيه قوية; لأن من دل عدوه على عورة نفسه، وأعطاه سلاحه
83

ليقتله به، فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل; فلهذا ختمها بقوله: * (أفلا تعقلون) *.
وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في العقل; نحو قوله تعالى:
* (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) *;
لأن فاعل غير المناسب ليس بعاقل.
وقوله تعالى: * (قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم) *، ختم
بصفة العلم إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم; وما نحن عليه من الحق، وما أنتم عليه
من الباطل وإذا كان عالما بذلك، فنسأله القضاء علينا وعليكم، بما يعلم منا ومنكم.
فصل
وقد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها; وذلك في مواضع:
منها في أوائل النحل، وذلك أنه سبحانه بدأ فيها بذكر الأفلاك فقال: * (خلق
السماوات والأرض بالحق) *، ثم ذكر خلق الانسان فقال: * (من نطفة) *، وأشار
إلى عجائب الحيوان فقال: * (والأنعام) *، ثم عجائب النبات فقال: * (هو الذي
أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع
والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) *.
فجعل مقطع هذه الآية التفكر، لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على
وجود الإله القادر المختار.
84

وفيه جواب عن سؤال مقدر; وهو أنه: لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول
وحركات الشمس والقمر؟ ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال; لا جرم
كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا. إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما أن تغيرات العالم الأسفل مربوطة بأحوال حركات الأفلاك، فتلك الحركات
حيث حصلت; فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل، وإن كان من الخالق
الحكيم فذلك الإقرار بوجود الإله تعالى، وهذا هو المراد بقوله تعالى: * (وسخر لكم
الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم
يعقلون) *، فجعل مقطع هذه الآية العقل; والتقدير كأنه قيل: إن كنت عاقلا فاعلم
أن التسلسل باطل، فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك، وهو
الإله القادر المختار.
والثاني أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة
واحدة. ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة، والآخر في غاية
السواد، فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلمنا أن المؤثر
قادر مختار، وهذا هو المراد من قوله: * (وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك
لآية لقوم يذكرون) *، كأنه قيل: قد ذكرنا ما يرسخ في عقلك أن الموجب
بالذات والطبع لا يختلف تأثيره، فإذا نظرت إلى حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر
ليس هو الطبائع، بل الفاعل المختار، فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
85

تنبيه
من بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة.
وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم
كفار) *، قال في سورة النحل، * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله
لغفور رحيم) *.
قال القاضي ناصر الدين بن المنير في تفسيره الكبير: كأنه يقول: إذا حصلت
النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها; فحصل لك عند أخذها وصفان:
كونك ظلوما،
وكونك كفارا، ولى عند إعطائها وصفان: وهما: أنى غفور رحيم، أقابل ظلمك بغفراني
وكفرك برحمتي، فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير، ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء. انتهى.
وهو حسن، لكن بقي سؤال آخر، وهو: ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعم، وآية إبراهيم
بوصف المنعم عليه، والجواب أن سياق الآية في سورة إبراهيم،
في وصف الانسان وما جبل عليه; فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه. وأما آية النحل
فسيقت في وصف الله تعالى، وإثبات ألوهيته، وتحقيق صفاته، فناسب ذكر وصفه سبحانه.
فتأمل هذه التراكيب، ما أرقاها أهل في درجة البلاغة!
ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
86

ثم إلى ربكم ترجعون) *. وفى فصلت: * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
وما ربك بظلام للعبيد) *.
وحكمة فاصلة الأولى أن قبلها: * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله
ليجزى قوما بما كانوا يكسبون) *، فناسب الختام بفاصلة البعث; لأن قبله وصفهم
بإنكاره وأما الأخرى فالختام حديث بها مناسب; أي لأنه لا يضيع عملا صالحا، و يزيد على
من عمل شيئا.
ونظيره قوله في سورة النساء: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء) *. ختم الآية مرة بقوله: * (فقد افترى إثما عظيما) *، ومرة بقوله: * (ضلالا بعيدا) *;
لأن الأول نزل في اليهود، وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه، والثاني نزل في
الكفار، ولم يكن لهم كتاب، وكان ضلالهم أشد.
وقوله في المائدة: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) *، فذكرها ثلاث مرات، وختم
الأولى بالكافرين، والثانية بالظالمين، والثالثة بالفاسقين; فقيل: لأن الأولى نزلت في أحكام
المسلمين. والثانية نزلت في أحكام اليهود، والثالثة نزلت في أحكام النصارى.
وقيل: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله) * إنكارا له، فهو كافر، ومن لم يحكم بالحق
مع اعتقاد الحق وحكم بضده فهو ظالم، ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم بضده
فهو فاسق.
وقيل: الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد، وهو الكفر، عبر عنه بألفاظ
مختلفة، لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار. وقيل غير ذلك.
87

تنبيه
عكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف، كقوله تعالى في سورة النور:
* (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) * إلى قوله: * (كذلك
يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) *. ثم قال: * (وإذا بلغ الأطفال منكم
الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله
عليم حكيم) *.
قال ابن عبد السلام في تفسيره في الأولى: " عليم بمصالح عباده، " حكيم " في بيان
مراده. وقال في الثانية: " عليم " بمصالح الأنام; " حكيم " ببيان الأحكام. ولم يتعرض
للجواب عن حكمة التكرار.
تنبيه
حق الفاصلة في هذا القسم تمكين المعنى المسوق إليه كما بينا، ومنه قوله تعالى:
* (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة
إنك أنت العزيز الحكيم) *. ووجه مناسبته أن بعث الرسول تولية; والتولية لا تكون
إلا من عزيز غالب على ما يريد، وتعليم الرسول الحكمة لقومه إنما يكون مستندا إلى
حكمة مرسله; لأن الرسول واسطة بين المرسل والمرسل إليه، فلا بد وأن يكون حكيما،
فلا جرم كان اقترانهما مناسبا.
88

وقوله تعالى: * (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن
الله غفور رحيم) *. وجه المناسبة في الحكم محمول على قول مجاهد: إن من حضر
الموصى فرأى منه جنفا على الورثة في وصيته مع فقرهم، فوعظه في ذلك وأصلح بينه
وبينهم حتى رضوا، فلا إثم عليه، وهو غفور للموصى إذا ارتدع بقول من وعظه، فرجع عماهم
به وغفرانه لهذا برحمته لاخفاء به، والإثم المرفوع عن القائل; يحتمل أن يكون إثم التبديل
السابق في الآية قبلها في قوله تعالى: * (فمن بدله بعد ما سمعه) * يعنى من الموصى،
أي لا يكون هذا المبدل داخلا تحت وعيد من بدل على العموم; لأن تبديل هذا
تضمن مصلحة راجحة فلا يكون كغيره. وقد أشكل على ذلك مواضع; منها قوله تعالى:
* (إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) *. فإن قوله:
* (وإن تغفر لهم) * يوهم أن الفاصلة " الغفور الرحيم "، وكذا نقلت عن مصحف أبى
رضي الله عنه، وبها قرأ ابن شنبود. ولكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه
التلاوة; لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، فهو
العزيز; لان العزير في صفات الله هو الغالب; ممن قولهم: عزه يعزه إذا غلبه; ووجب
أن يوصف بالحكيم أيضا، لأن الحكيم من يضع الشئ في محله، فالله تعالى كذلك.
إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله، فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة، فكان
في الوصف بالحكيم احتراس حسن; أي وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا
معترض عليك لأحد في ذلك، والحكمة فيما فعلته. وقيل: لا يجوز " الغفور الرحيم " لأن الله
تعالى قطع لهم بالعذاب في قوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به) *. وقيل لأنه
89

مقام تبر، فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم، وذكر صفة العدل في ذلك بأنه
العزيز الغالب. وقوله * (الحكيم) * الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يعترض عليه إن عفا
عمن يستحق العقوبة.
وقيل: ليس هو على مسألة الغفران، وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى من هو أملك
لهم، ولو قيل: " فإنك أنت الغفور الرحيم " لأوهم الدعاء بالمغفرة. ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن
مات على شركه، لا لنبي ولا لغيره. وأما قوله: * (فإنهم عبادك) * وهم عباده; عذبهم أو لم
يعذبهم; فلأن المعنى إن تعذبهم تعذب من العادة أن تحكم عليه. وذكر العبودية التي
هي سبب القدرة كقول رؤبة:
- يا رب إن أخطأت أو نسيت * فأنت لا تنسى ولا تموت.
والله لا يضل ولا ينسى ولا يموت، أخطأ رؤبة أو أصاب، فكأنه قال: إن أخطأت
تجاوزت لضعفي وقوتك، ونقصى وكمالك.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة براءة: * (أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز
حكيم) * - والجواب ما ذكرناه.
ومثله قوله تعالى في سورة الممتحنة: * (ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا
ربنا إنك أنت العزيز الحكيم) *.
ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة: * (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم
وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم) *.
ومنه قوله تعالى: * (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ولولا
90

فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) *; فإن الذي يظهر في أول النظر
أن الفاصلة " تواب رحيم "، لأن الرحمة مناسبة للتوبة، وخصوصا من هذا الذنب العظيم;
ولكن هاهنا معنى دقيق من أجله قال: * (حكيم) *; وهو أن ينبه على فائدة مشروعية
اللعان، وهي الستر عن هذه الفاحشة العظيمة; وذلك من عظيم الحكم، فلهذا كان
* (حكيم) *، بليغا في هذا المقام دون " رحيم ".
ومن خفى هذا الضرب قوله تعالى في سورة البقرة: * (خلق لكم ما في الأرض
جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شئ عليم) *.
وقوله في آل عمران: * (قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم
ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شئ قدير) *، فإن المتبادر إلى الذهن في
آية البقرة الختم بالقدرة، وفى آية آل عمران الختم بالعلم، لكن إذا أنعم النظر علم أنه يجب
أن يكون ما عليه التلاوة في الآيتين; وكذلك قوله تعالى: * (فإن كذبوك فقل ربكم
ذو رحمة واسعة) *; مع أن ظاهر الخطاب " ذو عقوبة شديدة "، وإنما قال ذلك
نفيا للاغترار بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته; وذلك أبلغ في التهديد;
ومعناه: لا تغتروا بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته; فإنه مع ذلك لا يرد
عذابه عنكم.
وقريب منه: رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه
خطابا) *.
91

وأما قوله تعالى: * (ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم) *; فمناسبة
الجزاء للشرط أنه لما أقدم المؤمنون وهم - ثلاثمائة وبضعة عشر - على قتال المشركين - وهم زهاء
ألف - متوكلين على الله تعالى، وقال المنافقون: * (غر هؤلاء دينهم) * حتى أقدموا على ثلاثة
أمثالهم عددا أو أكثرهم; قال الله تعالى ردا على المنافقين وتثبيتا للمؤمنين: * (ومن يتوكل
على الله فإن الله عزيز حكيم) * في جميع أفعاله.
وأما قوله تعالى: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم
إنه كان حليما غفورا) *. فإن قيل: ما وجه الختام بالحلم والمغفرة عقيب تسابيح الأشياء
وتنزيهها؟ أجاب صاحب الفنون بثلاثة أوجه:
أحدها: إن فسرنا التسبيح على ما درج في الأشياء من العبر، وأنها مسبحات بمعنى
مودعات من دلائل العبر ودقائق الإنعامات والحكم ما يوجب تسبيح المعتبر المتأمل;
فكأنه سبحانه يقول: إنه كان من كبير إغفالكم لو النظر في دلائل العبر مع امتلاء الأشياء
بذلك. وموضع العتب قوله: * (وكأين من دابة في السماوات والأرض يمرون عليها
وهم عنها معرضون) *; كذلك موضع المعتبة قوله: * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) *.
وقد كان ينبغي أن يعرفوا بالتأمل ما يوجب القربة لله; مما أودع مخلوقاته بما يوجب
تنزيهه; فهذا موضع حلم وغفران عما جرى في ذلك من الإفراط والإهمال.
الثاني: إن جعلنا التسبيح حقيقة في الحيوانات بلغاتها فمعناه: الأشياء كلها تسبحه
92

وتحمده، ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون، فالحلم والغفران للتقدير في الآية; وهو
العصيان. يكون وفى الحديث: " لولا بهائم رتع، وشيوخ ركع، وأطفال رضع، لصب عليكم
العذاب صبا ".
الثالث: أنه سبحانه قال في أولها: * (يسبح له السماوات السبع والأرض ومن
فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده) *; أي أنه كان لتسابيح مع المسبحين حليما عن
تفريطهم; غفورا لذنوبهم; ألا تراه قال في موضع آخر: * (والملائكة يسبحون
بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم) *; وكأنها
اشتملت على ثلاثة معان: إما العفو عن ترك البحث المؤدى إلى الفهم، لما في الأشياء من
العبر، وأنتم على العصيان. أو يريد بها الأشياء كلها تسبحه; ومنها ما يعصيه ويخالفه، فيغفر
عصيانهم بتسابيحهم.
تنبيه
قد تكون الفاصلة لا نظير لها في القرآن; كقوله تعالى عقب الأمر بالغض في سورة
النور: * (إن الله خبير بما يصنعون) *. وقوله عقب الأمر بطلب الدعاء والإجابة:
* (لعلهم يرشدون) *. وقيل فيه تعريض بليلة القدر; أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها.
93

وإنما يحتاجون للإرشاد إلى ما لا يعلمون; فإن هذه الآية الكريمة ذكرت عقب الأمر
بالصوم وتعظيم رمضان وتعليمهم الدعاء فيه. وأن أرجى أوقات الإجابة فيه ليلة القدر.
الثاني التصدير، كقوله تعالى: * (لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد
خاب من افترى) *.
وقوله: * (فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلا) *.
وقوله: * (خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون) *.
وقوله: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) *.
وقوله: * (فما كان الله ليظلهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *.
وقوله: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من
ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون) *.
وقوله: * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون) *، فجعل
الفاصلة * (يزرون) * لجناس * (أوزارهم) *; وإنما قال: * (على ظهورهم) * ولم يقل " على رؤوسهم "
لأن الظهر أقوى للحمل; فأشار إلى ثقل الأوزار.
وقوله: * (فقلت استغفروا ربكم إنه كان عفارا) *.
94

وقوله: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) *.
وقوله * (أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) *.
وقوله: * (رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *.
* * *
الثالث التوشيح، ويسمى به لكون نفس الكلام يدل على آخره; نزل المعنى
منزلة الوشاح، ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح، اللذين يجول عليهما الوشاح;
ولهذا قيل فيه: إن الفاصلة تعلم قبل ذكرها.
وسماه ابن وكيع المطمع; لأن صدره مطمع في عجزه; كقوله تعالى: * (ثم
أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *.
وقوله: * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) *;
فإن معنى اصطفاء المذكورين يعلم منه الفاصلة; إذ المذكورون نوع من جنس العالمين.
وقوله: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون) * فإنه من كان
حافظا لهذه السورة، متيقظا إلى أن مقاطع فواصلها النون المردفة; وسمع في صدر هذه
الآية: * (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) * علم أن الفاصلة * (مظلمون) *; فإن من انسلخ
النهار عن ليلة أظلم ما دامت تلك الحال.
95

وقوله: * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *. فإن قوله: * (ليروا أعمالهم) * يدل
على التقسيم.
وقوله: * (وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور. ألا يعلم من
خلق وهو اللطيف الخبير) *.
وقوله: * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شئ قدير) *.
* * *
الرابع الإيغال; وسمى به; لأن المتكلم قد تجاوز المعنى الذي هو آخذ فيه; وبلغ إلى
زيادة على الحد; يقال: أوغل في الأرض الفلانية، إذا بلغ منتهاها; فهكذا المتكلم إذا
تم معناه ثم تعداه بزيادة فيه، فقد أوغل; كقوله تعالى: * (أفحكم الجاهلية يبغون.
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) *، فإن الكلام تم بقوله: * (ومن
أحسن من الله حكما) *. ثم احتاج إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى; فلما أتى بها أفاد
معنى زائدا.
وكقوله تعالى: * (ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين) *; فإن المعنى قد
تم بقوله: * (ولا تسمع الصم الدعاء) *، ثم أراد أن يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال: * (إذا
ولوا مدبرين) *.
96

فإن قيل: ما معنى * (مدبرين) * وقد أغنى عنها * (ولوا) *؟ قلت: لا يغنى عنها * (ولوا) *;
فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب; بدليل قوله: * (أعرض ونأى بجانبه) *;
وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا. ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم يسمعون
أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب، لينفى عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة;
فإن الأصم يفهم بالإشارة، ما يفهم السميع بالعبارة. ثم إن التولي قد يكون بجانب، مع
لحاظه بالجانب الآخر; فيحصل له إدراك بعض الإشارة; فجعل الفاصلة * (مدبرين) * ليعلم
أن التولي كان بجميع الجوانب; بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا، فاحتجب المخاطب
عن المخاطب، أو صار من ورائه، فخفيت عن عينه الإشارة، كما صم أذناه عن العبارة;
فحصلت المبالغة من عدم الإسماع بالكلية. وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع
البتة; فهو من إيغال الاحتياط; الذي أدمجت فيه المبالغة في نفى الاستماع.
وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى،
يحملها معنى واحد، كقوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله..) * الآية.
وقوله: * (فأتوا بسورة من مثله) *.
وقوله: * (فأتوا بعشر سور مثله) *، كما يقول الرجل لمن يجحد: ما يستحق على درهما
ولا دانقا ولا حبة، ولا كثيرا ولا قليلا. ولو قال: " ما يستحق على شيئا " لأغنى في الظاهر;
لكن التفصيل أدل على الاحتياط، وعلى شدة الاستبعاد في الانكار.
ومنه قوله تعالى: * (اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون) * فإن المعنى تم
97

بقوله: * (أجرا) *، ثم زاد الفاصلة لمناسبة رؤوس الآي; فأوغل بها كما ترى; حتى أتى بها
تفيد معنى زائدا على معنى الكلام.
فصل
في ضابط الفواصل
ذكره الجعبري; ولمعرفتها طريقان: توقيفي وقياسي:
الأول التوقيفي، روى أبو داود عن أم سلمة: لما سئلت عن قراءة رسول الله صلى
الله عليه وسلم قالت: " كان يقطع قراءته آية آية. وقرأت: * (بسم الله الرحمن الرحيم) *
إلى * (الذين) *، تقف على كل آية ". فمعنى " يقطع قراءته آية آية "; أي يقف على كل
آية; وإنما كانت قراءته صلى الله عليه وسلم كذلك ليعلم رؤوس الآي.
قال: ووهم فيه من سماه وقف السنة، لأن فعله عليه السلام إن كان تعبدا فهو مشروع
لنا، وإن كان لغيره فلا. فما وقف عليه السلام عليه دائما تحققنا أنه فاصلة، وما وصله دائما
تحققنا أنه ليس بفاصلة، وما وقف عليه مرة ووصله أخرى احتمل الوقف أن يكون لتعريفهما،
أو لتعريف الوقف التام، أو للاستراحة. والوصل أن يكون غير فاصلة، أو فاصلة وصلها
لتقدم تعريفها.
الثاني القياسي; وهو ما ألحق من المحتمل غير المنصوص بالمنصوص، لمناسبة. ولا
محذور في ذلك; لأنه لا زيادة فيه ولا نقصان; وإنما غايته أنه محل فصل أو وصل. والوقف
على كل كلمة جائز، ووصل القرآن كله جائز، فاحتاج القياسي إلى طريق تعرفه; فأقول:
فاصلة الآية كقرينة السجعة في النثر، وقافية البيت في النظم; وما يذكر من عيوب القافية من
98

اختلاف الحذو والإشباع، والتوجيه، فليس بعيب في الفاصلة، وجاز الانتقال في الفاصلة
والقرينة وقافية الأرجوزة; من نوع إلى آخر; بخلاف قافية القصيد.
ومن ثم ترى * (يرجعون) * مع * (عليم) *، و * (الميعاد) * مع * (الثواب) *،
و * (الطارق) * مع * (الثاقب) *.
والأصل في الفاصلة والقرينة المتجردة في الآية والسجعة المساواة; ومن ثم أجمع العادون
على ترك عد * (ويأت بآخرين) * و * (ولا الملائكة المقربون) * بالنساء، و * (كذب
بها الأولون) * بسبحان، و * (لتبشر به المتقين) * بمريم، و * (لعلهم يتقون) *
99

بطه، و * (من الظلمات إلى النور) * و * (أن الله على كل شئ قدير) * بالطلاق حيث
لم يشاكل طرفيه.
وعلى ترك عد * (أفغير دين الله يبغون) * بآل عمران، و * (أفحكم الجاهلية
يبغون) * بالمائدة، وعدوا نظائرها للمناسبة، نحو * (لأولى الألباب) * بآل عمران.
و * (على الله كذبا) * بالكهف، و * (والسلوى) * بطه.
وقد يتوجه الأمران في كلمة فيختلف فيها; فمنها البسملة وقد نزلت بعض آية في
النمل، وبعضها في أثناء الفاتحة في بعض الأحرف السبعة.
فمن قرأ بحرف نزلت فيه عدها آية، ولم يحتج إلى إثباتها بالقياس للنص المتقدم، خلافا
للداني. ومن قرأ بحرف لم تنزل معه لم يعدها; ولزمه من الاجماع على أنها سبع آيات أن يعد
عوضها. وهو بعد * (اهدنا) * لقوله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: " قسمت الصلاة
بيني وبين عبدي نصفين ".
100

أي قراءة الصلاة، تعد منها ولا للعبد إلا هاتان، و * (المستقيم) * محقق، فقسمتا على بعدها قسمين;
فكانت * (عليهم) * الأولى; وهي مماثلة في الروي لما قبلها.
ومنها حروف الفواتح; فوجه عدها استقلالها على الرفع والنصب ومناسبة الروي
والردف. ووجه عدمه الاختلاف في الكمية والتعلق على الجزء.
ومنها بالبقرة * (عذاب أليم) * و * (إنما نحن مصلحون) * فوجه عده مناسبة
الروي، ووجه عدمه تعلقه بتاليه.
ومنها * (إلى بنى إسرائيل) * بآل عمران; حملا على ما في الأعراف والشعراء
والسجدة والزخرف.
ومنها * (فبشر عباد) * بالزمر; لتقدير تاليه مفعولا ومبتدأ.
ومنها * (والطور) *، و * (الرحمن) *، و * (الحاقة، و * (القارعة) *، و * (والعصر) *
حملا على * (والفجر) * و * (والضحى) * للمناسبة، لكن تفاوتت في الكمية.
101

النوع الرابع
في
جمع الوجوه والنظائر
وقد صنف فيه قديما مقاتل بن سليمان، وجمع فيه من المتأخرين ابن الزاغوني
وأبو الفرج بن الجوزي، والدامغاني الواعظ، وأبو الحسين بن فارس، وسمى كتابه
" الأفراد ".
فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل في عدة معان; كلفظ " الأمة "،
والنظائر كالألفاظ المتواطئة.
وقيل: النظائر في اللفظ، والوجوه في المعاني; وضعف; لأنه لو أريد هذا لكان
الجمع في الألفاظ المشتركة; وهم يذكرون في تلك الكتب اللفظ الذي معناه واحد في
مواضع كثيرة; فيجعلون الوجوه نوعا لأقسام، والنظائر نوعا آخر، كالأمثال.
وقد جعل بعضهم ذلك من أنواع معجزات القرآن; حيث كانت الكلمة الواحدة
تنصرف إلى عشرين وجها أو أكثر أو أقل; ولا يوجد ذلك في كلام البشر.
102

وذكر مقاتل في صدر كتابه حديثا مرفوعا: " لا يكون الرجل فقيها كل الفقه
حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة ".
فمنه " الهدى " سبعة عشر حرفا:
بمعنى البيان; كقوله تعالى: * (أولئك على هدى من ربهم) *.
وبمعنى الدين: * (إن الهدى هدى الله) *.
وبمعنى الإيمان: * (ويزيد الله الذين اهتدوا هدى) *.
وبمعنى الداعي: * (ولكل قوم هاد) *. * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) *.
وبمعنى الرسل والكتب: * (فإما يأتينكم منى هدى) *.
وبمعنى المعرفة: * (وبالنجم هم يهتدون) *.
وبمعنى الرشاد: * (اهدنا الصراط المستقيم) *.
وبمعنى محمد صلى الله عليه وسلم: * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
والهدى. * (من بعد ما تبين لهم الهدى) *.
وبمعنى القرآن: * (ولقد جاءهم من ربهم الهدى) *.
103

وبمعنى التوراة: * (ولقد آتينا موسى الهدى) *.
وبمعنى الاسترجاع: * (وأولئك هم المهتدون) *; ونظيرها في التغابن: * (ومن
يؤمن بالله) * أي في المصيبة أنها من عند الله * (يهد قلبه) * للاسترجاع.
وبمعنى الحجة: * (والله لا يهدى القوم الظالمين) * بعد قوله: * (ألم تر إلى الذي
حاج إبراهيم في ربه) *، أي لا يهديهم إلى الحجة.
وبمعنى التوحيد: * (إن نتبع الهدى معك) *.
وبمعنى السنة: * (وإنا على آثارهم مهتدون) *.
وبمعنى الإصلاح: * (وأن الله لا يهدى كيد الخائنين) *.
وبمعنى الإلهام: * (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) *، هدى كلا في معيشته.
وبمعنى التوبة: * (إنا هدنا إليك) * أي تبنا.
وهذا كثير الأنواع.
104

وقال ابن فارس في كتاب " الأفراد ":
كل ما في كتاب الله من ذكر " الأسف " فمعناه الحزن; كقوله تعالى في قصة
يعقوب عليه السلام: * (يا أسفا على يوسف) * إلا قوله تعالى: * (فلما آسفونا) *
فإن معناه " أغضبونا "; وأما قوله في قصة موسى عليه السلام: * (غضبان أسفا) *
فقال ابن عباس: " مغتاظا ".
وكل ما في القرآن من ذكر " البروج " فإنها الكواكب; كقوله تعالى: * (والسماء
ذات البروج) * إلا التي في سورة النساء: * (ولو كنتم في بروج مشيدة) *، فإنها
القصور الطوال، المرتفعة في السماء، الحصينة.
وما في القرآن من ذكر " البر " و " البحر " فإنه يراد بالبحر الماء، وبالبر التراب
اليابس، غير واحد في سورة الروم: * (ظهر الفساد في البر والبحر) * فإنه بمعنى البرية
والعمران. وقال بعض علمائنا: * (في البر) * قتل ابن آدم أخاه، وفى * (البحر) * أخذ الملك
كل سفينة غصبا.
والبخس في القرآن النقص; مثل قوله تعالى: * (فلا يخاف بخسا ولا رهقا) * إلا
حرفا واحدا في سورة يوسف: * (وشروه بثمن بخس) *; فإن أهل التفسير قالوا:
بخس: حرام.
وما في القرآن من ذكر البعل فهو الزوج; كقوله تعالى: * (وبعولتهن أحق
105

بردهن) * إلا حرفا واحدا في الصافات: * (أتدعون بعلا) *، فإنه أراد صنما.
وما في القرآن من ذكر البكم فهو الخرس عن الكلام بالإيمان; كقوله: * (صم
بكم; إنما أراد * (بكم) * عن النطق والتوحيد مع صحة ألسنتهم; إلا حرفين:
أحدهما في سورة بنى إسرائيل: * (عميا وبكما وصما) * والثاني في سورة النحل: قوله
عز وجل: أحدهما أبكم) * فإنهما في هذين الموضعين: اللذان لا يقدران على الكلام.
وكل شئ في القرآن: * (جثيا) * فمعنا " جميعا " إلا التي في سورة الشريعة:
* (وترى كل أمة جاثية) * فإنه أراد تجثو على ركبتيها.
وكل حرف في القرآن " حسبان " فهو من العدد، غير حرف في سورة الكهف:
* (حسبانا من السماء) * فإنه بمعنى العذاب.
وكل ما في القرآن: " حسرة " فهو الندامة; كقوله عز وجل: * (يا حسرة على العباد) *
إلا التي في سورة آل عمران: * (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * فإنه يعنى
به " حزنا ".
وكل شئ في القرآن: " الدحض " و " الداحض " فمعناه الباطل; كقوله:
* (حجتهم داحضة) *، إلا التي في سورة الصافات: * (فكان من المدحضين) *.
وكل حرف في القرآن من " رجز " فهو العذاب; كقوله تعالى في قصة بنى إسرائيل:
106

* (لئن كشفت عنا الرجز) * إلا في سورة المدثر: * (والرجز فاهجر) * فإنه يعنى:
الصنم، فاجتنبوا عبادته.
وكل شئ في القرآن من " ريب " فهو شك، غير حرف واحد; وهو قوله تعالى:
* (نتربص به ريب المنون) * فإنه يعنى حوادث الدهر.
وكل شئ في القرآن: " يرجمنكم " و " يرجموكم " فهو القتل، غير التي في سورة
مريم عليها السلام: * (لأرجمنك) * يعنى لأشتمنك.
قلت: وقوله: * (رجما بالغيب) * أي ظنا. والرجم أيضا: الطرد واللعن; ومنه قيل
للشيطان: رجيم.
وكل شئ في القرآن من " زور " فهو الكذب; ويراد به الشرك; غير التي في
المجادلة: * (منكرا من القول وزورا) *، فإنه كذب غير شرك.
وكل شئ في القرآن من " زكاة " فهو المال، غير التي في سورة مريم: * (وحنانا من
لدنا وزكاة) *; فإنه يعنى " تعطفا ".
وكل شئ في القرآن من " زاغوا " ولا " تزغ " فإنه من " مالوا " ولا " تمل "
غير واحد في سورة الأحزاب: * (وإذا زاغت الأبصار) * بمعنى " شخصت ".
وكل شئ في القرآن من " يسخرون " و " سخرنا " فإنه يراد به الاستهزاء، غير
التي في سورة الزخرف: * (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) *، فإنه أراد أعوانا وخدما.
وكل سكينة في القرآن طمأنينة في القلب، غير واحد في سورة البقرة: * (فيه سكينة
107

من ربكم) *، فإنه يعنى شيئا كرأس الهرة لها جناحان كانت في التابوت.
وكل شئ في القرآن من ذكر " السعير " فهو النار والوقود إلا قوله عز وجل: * (إن
المجرمين في ضلال وسعر) *، فإنه العناد.
وكل شئ في القرآن من ذكر " شيطان " فإنه إبليس وجنوده وذريته إلا قوله
تعالى في سورة البقرة: * (خلوا إلى شياطينهم) *; فإنه يريد كهنتهم; مثل كعب
بن الأشرف وحيى بن أخطب وأبى ياسر أخيه.
وكل " شهيد " في القرآن غير القتلى في الغزو فهم الذين يشهدون على أمور الناس، إلا
التي في سورة البقرة قوله عز وجل: * (وادعوا شهداءكم) *، فإنه يريد شركاءكم.
وكل ما في القرآن من " أصحاب النار " فهم أهل النار إلا قوله: * (وما جعلنا أصحاب
النار إلا ملائكة) * فإنه يريد خزنتها.
وكل " صلاة " في القرآن فهي عبادة ورحمة إلا قوله تعالى: * (وصلوات ومساجد) *
فإنه يريد بيوت عبادتهم.
وكل " صمم " في القرآن فهو عن الاستماع للإيمان، غير واحد في بني إسرائيل، قوله
عز وجل: * (عميا وبكما وصما) *، معناه لا يسمعون شيئا.
وكل " عذاب " في القرآن فهو التعذيب إلا قوله عز وجل: * (وليشهد عذابهما) *
فإنه يريد الضرب.
والقانتون: المطيعون، لكن قوله عز وجل في البقرة: * (كل له قانتون) *
108

معناه " مقرون "، وكذلك في سورة الروم: * (وله من في السماوات والأرض كل له
قانتون) *، يعنى مقرون بالعبودية.
وكل " كنز " في القرآن فهو المال إلا الذي في سورة الكهف: * (وكان تحته كنز
لهما) * فإنه أراد صحفا وعلما.
وكل " مصباح " في القرآن فهو الكوكب إلا الذي في سورة النور: * (المصباح في
زجاجة) *، فإنه السراج نفسه.
النكاح في القرآن التزوج; إلا قوله جل ثناؤه: * (حتى إذ بلغوا النكاح) *
فإنه يعنى الحلم.
النبأ والأنباء في القرآن الأخبار; إلا قوله تعالى: * (فعميت عليهم الأنباء) *; فإنه
بمعنى الحجج.
الورود في القرآن الدخول، إلا في القصص: * (ولما ورد ماء مدين) *، يعنى هجم عليه
ولم يدخله.
وكل شئ في القرآن من * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *; يعنى عن العمل إلا التي
في سورة النساء * (إلا ما آتاها) * يعنى النفقة.
وكل شئ في القرآن من يأس فهو القنوط، إلا التي في الرعد * (أفلم ييئس الذين
آمنوا) * أي ألم يعلموا. قال ابن فارس: أنشدني أبى، فارس بن زكريا:
109

- أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني * ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم -
قال الصاغاني: البيت لسحيم بن وثيل اليربوعي.
وكل شئ في القرآن من ذكر " الصبر " محمود، إلا قوله عز وجل: * (لولا أن صبرنا
عليها) *، و * (واصبروا على آلهتكم) *. انتهى ما ذكره ابن فارس.
* * *
وزاد غيره: كل شئ في القرآن: " لعلكم " فهو بمعنى " لكي " غير واحد في
الشعراء * (لعلكم تخلدون) * فإنه للتشبيه; أي كأنكم.
وكل شئ في القرآن " أقسطوا " فهو بمعنى العدل، إلا واحد في الجن: * (وأما القاسطون
فكانوا لجهنم حطبا) *. يعنى العادلين الذين يعدلون به غيره; هذا باعتبار صورة اللفظ;
وإلا فمادة الرباعي تخالف مادة الثلاثي.
وكل " كسف " في القرآن يعنى جانبا من السماء غير، واحد في سورة الروم: * (ويجعله
كسفا) * يعنى السحاب قطعا.
وكل " ماء معين " فالمراد به الماء الجاري; غير الذي في سورة تبارك; فإن
المراد به الماء الطاهر الذي تناله الدلاء; وهي زمزم.
110

وكل شئ في القرآن " لئلا " فهو بمعنى " كيلا " غير واحد في الحديد: * (لئلا
يعلم أهل الكتاب) *; يعنى لكي يعلم.
وكل شئ في القرآن من " الظلمات إلى النور " فهو بمعنى الكفر والإيمان; غير واحد
في أول الأنعام: * (وجعل الظلمات والنور) * يعنى ظلمة الليل ونور النهار.
وكل " صوم " في القرآن فهو الصيام المعروف، إلا الذي في سورة مريم: * (إني نذرت
للرحمن صوم) * يعنى صمتا.
وذكر أبو عمرو الداني في قوله تعالى: * (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة
البحر) * أن المراد بالحضور هنا المشاهدة. قال: وهو بالظاء بمعنى المنع والتحويط، قال:
ولم يأت بهذا المعنى إلا في موضع واحد; وهو قوله تعالى: * (فكانوا كهشيم
المحتظر) *.
قيل: وكل شئ في القرآن: * (وما أدراك) * فقد أخبرنا به، وما فيه: * (وما
يدريك) * فلم يخبرنا به; حكاه البخاري رحمه الله في تفسيره. واستدرك بعضهم عليه
موضعا، وهو قوله: * (وما يدريك لعل الساعة قريب) *.
وقيل: الانفاق حيث وقع القرآن فهو الصدقة; إلا قوله تعالى: * (فآتوا
الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) * فإن المراد به المهر; وهو صدقة في الأصل;
تصدق الله بها على النساء.
111

النوع الخامس
علم المتشابه
وقد صنف فيه جماعة، ونظمه السخاوي وصنف في توجيهه الكرماني كتاب
" البرهان "، والرازي كتاب " درة التأويل " وأبو جعفر بن الزبير، وهو أبسطها في مجلدين.
وهو إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة. ويكثر في إيراد القصص
والأنباء، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب; ليعلمهم عجزهم عن جميع طرق
ذلك: مبتدأ به ومتكررا، وأكثر أحكامه تثبت من وجهين، فلهذا جاء باعتبارين.
وفيه فصول:
الفصل الأول
[المتشابه باعتبار الأفراد]
الأول باعتبار الأفراد، وهو على أقسام:
112

الأول أن يكون في موضع على نظم، وفى آخر على عكسه، وهو يشبه رد العجز على
الصدر; ووقع في القرآن منه كثير.
ففي البقرة: * (وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) *، وفى الأعراف: * (وقولوا
حطة وادخلوا الباب سجدا) *.
وفى البقرة: * (والنصارى والصابئين) *، وفى الحج: * (والصابئين والنصارى) *.
في البقرة والأنعام: * (قل إن هدى الله هو الهدى) *، وفى آل عمران: * (قل
إن الهدى هدى الله) *.
في البقرة: * (ويكون الرسول عليكم شهيدا) *، وفى الحج: * (شهيدا عليكم) *.
في البقرة: * (وما أهل به لغير الله) *، وباقي القرآن: * (لغير الله به) *.
113

في البقرة: * (لا يقدرون على شئ مما كسبوا) *، وفى إبراهيم: * (مما كسبوا
على شئ) *.
في آل عمران: * (ولتطمئن قلوبكم به) *، وفى الأنفال: * (ولتطمئن به
قلوبكم) *.
في النساء: * (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله) *، وفى المائدة: * (كونوا قوامين
لله شهداء بالقسط) *.
في الأنعام: * (لا إله إلا هو خالق كل شئ) * وفى حم المؤمن: * (خالق كل شئ
لا إله إلا هو) *.
في الأنعام: * (نحن نرزقكم وإياهم) *، وفى بنى إسرائيل: * (نرزقهم
وإياكم) *.
في النحل: * (وترى الفلك مواخر فيه) *، وفى فاطر: * (فيه مواخر) *.
في بني إسرائيل: * (و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن) *، وفى الكهف: * (في
هذا القرآن للناس) *.
في بني إسرائيل: * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) *، و في العنكبوت:
* (بيني وبينكم شهيدا) *.
114

في " المؤمنين " * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) *، وفى النمل: * (لقد
وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل) *.
في القصص: * (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) *. وفى يس: * (وجاء
من أقصى المدينة رجل يسعى) *.
في آل عمران: * (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي
عاقر) *، وفى كهيعص: * (وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) *.
الثاني ما يشتبه بالزيادة والنقصان; ففي البقرة: * (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم) *، وفى يس: * (وسواء) * بزيادة " واو " لأن ما في البقرة جملة هي خبر
عن اسم " إن "، وما في يس جملة عطفت بالواو على جملة.
في البقرة: * (فأتوا بسورة من مثله) *، وفى غيرها بإسقاط * (من) * لأنها للتبعيض
ولما كانت سورة البقرة سنام القرآن وأوله بعد الفاتحة حسن دخول * (من) * فيها ليعلم أن
التحدي واقع على جميع القرآن من أوله إلى آخره، بخلاف غيرها من السور، فإنه لو دخلها
* (من) * لكان التحدي واقعا على بعض السور دون بعض، ولم يكن ذلك بالسهل.
في البقرة: * (فمن تبع هداي) *، وفى طه: * (فمن اتبع هداي) *،
لأجل قوله هناك: * (يتبعون الداعي) *.
115

في البقرة: * (يذبحون) *، بغير " واو " على أنه بدل من * (يسومونكم) *،
ومثله في الأعراف * (يقتلون) *، وفى إبراهيم: * (ويذبحون) * بالواو، لأنه من كلام
موسى عليه السلام، يعدد المحن عليهم.
في البقرة: * (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) *، وفى آل عمران: * (ولكن أنفسهم
يظلمون) *.
في البقرة: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا) *، ثم قال:
* (فمن كان منكم مريضا) *.
في البقرة: * (ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعلمون خبير) *، وسائر
ما في القرآن بإسقاط * (من) *.
وفيها: * (ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) *، وفى آل عمران:
* (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم) *.
قالوا: وجميع ما في القرآن من السؤال لم يقع عنه الجواب بالفاء، إلا قوله تعالى في طه.
* (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربى نسفا...) *، الآية; لأن الأجوبة في الجميع
كانت بعد السؤال، وفى طه كانت قبل السؤال. وكأنه قيل: إن سئلت عن الجواب فقل.
في الأعراف: * (لقد أرسلنا نوحا) *، بغير " واو "، وليس في القرآن غيره.
116

في البقرة: * (ويكون الدين لله) *، وفى الأنفال: * (كله لله) *.
في آل عمران: * (اشهدوا بأنا مسلمون) *، وفى المائدة: * (بأننا مسلمون) *.
في آل عمران: * (جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير) * بباء واحدة
إلا في قراءة ابن عامر، وفى فاطر: * (بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير) *
بثلاث باءات.
في آل عمران: * (ها أنتم تحبونهم ولا يحبونكم) * وسائر ما في القرآن:
* (هؤلاء) * بإثبات الهاء.
في النساء: * (خالدين فيها وذلك الفوز العظيم) * بالواو، وفى * (براءة) *
* (ذلك) * بغير واو.
في النساء: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) *، وفى المائدة بزيادة * (منه) *.
في الأنعام: * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول
لكم إني ملك) *، فكرر * (لكم) *، وقال في هود: * (ولا أقول إني ملك) *; لأنه
تكرر * (لكم) * في قصته أربع مرات فاكتفى بذلك.
في الأنعام: * (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) *،
117

وفى القلم: * (بمن ضل عن سبيله) * بزيادة الباء ولفظ الماضي، وفى النجم: * (هو أعلم
بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) *.
في الأنعام: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين) *، وفى سورة المؤمنين
بزيادة * (نموت) *، وفيها أيضا: * (إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) *
ليس فيها غيره.
وفيها: * (جعلكم خلائف الأرض) *، وفى فاطر; * (خلائف في الأرض) *،
بإثبات * (في) *.
في الأعراف: * (ما منعك ألا تسجد) *، وفى ص: * (أن تسجد) *، وفى
الحجر: * (ألا تكون مع الساجدين) * فزاد * (لا) *.
في الأعراف: * (ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم) * بالفاء، وكذا حيث وقع،
إلا في يونس.
في الأعراف: * (لقد أرسلنا نوحا إلى قومه) * بغير واو، وفى المؤمنين وهود: * (ولقد
أرسلنا) * بالواو.
في الأعراف: * (كذبوا من قبل) * وفى يونس بزيادة * (به) *.
في الأعراف: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم) *، وفى الشعراء بزيادة
* (بسحره) *.
118

في هود: * (وإننا لفي شك مما تدعونا) *، وفى إبراهيم: * (وإنا لفي شك مما
تدعوننا) *.
في يوسف: * (وما أرسلنا من قبلك) *، وفى الأنبياء: * (وما أرسلنا
قبلك) *.
في النحل: * (فأحيى به الأرض بعد موتها) *، وفى العنكبوت: * (من بعد
موتها) *.
وكذلك حذف " من " من قوله: * (لكيلا يعلم بعد علم شيئا) *، وفى
الحج: * (من بعد علم شيئا
في الحج: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) *، وفى السجدة:
* (منها أعيدوا فيها) *.
في النمل: * (وألق عصاك) *، وفى القصص: * (وأن ألق عصاك) *.
في العنكبوت: * (ولما أن جاءت رسلنا لوطا) *، وفى هود: * (ولما جاءت) *
بغير * (أن) *.
119

في العنكبوت: * (فأحيى به الأرض من بعد موتها) * بزيادة * (من) * ليس غيره.
في سورة المؤمن: * (إن الساعة لآتية) *، وفى طه: * (آتية) *.
في النحل: * (والذين يدعون من دون الله) *، وفى الأعراف: * (من
دونه) *.
في المؤمنين: * (موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون) *، وفى
المؤمن بإسقاط ذكر " الأخ ".
في البقرة: * (يذبحون أبناءكم) * وفى سورة إبراهيم: * (ويذبحون) *
بالواو; ووجهه أنه في سورة إبراهيم تقدم * (وذكرهم بأيام الله) *، وهي أوقات عقوبات
إلى أن قال: * (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) *، واللائق أن يعدد
امتحانهم تعديدا يؤذن بصدق الجمع عليه لتكثير المنة; ولذلك أتى بالعاطف ليؤذن بأن
إسامتهم وهو العذاب مغاير لتذبيح الأبناء وسبى النساء; وهو ما كانوا عليه من التسخير،
بخلاف المذكور في البقرة، فإن ما بعد * (يسومونكم) * تفسير له، فلم يعطف عليه. ولأجل
مطابقة السابق جاء في الأعراف: * (يقتلون أبناءكم) *، ليطابق: * (سنقتل أبناءهم
ونستحي نساءهم) *.
الثالث: التقديم والتأخير، وهو قريب من الأول، ومنه في البقرة: * (يتلو عليهم
120

آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) * مؤخر، وما سواه: * (يزكيهم
ويعلمهم الكتاب والحكمة) *.
ومنه تقديم " اللعب " على " اللهو " في موضعين من سورة الأنعام، وكذلك
في القتال والحديد.
وقدم " اللهو " على " اللعب " في الأعراف والعنكبوت، وإنما قدم اللعب في
الأكثر، لأن اللعب زمان الصبا، واللهو زمان الشباب، وزمان الصبا متقدم على زمان اللهو.
تنبيه: ما ذكره في الحديد: * (اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب) *; أي كلعب الصبيان،
* (ولهو) * أي كلهو الشباب، * (وزينة) * كزينة النساء، * (وتفاخر) * كتفاخر الإخوان،
* (وتكاثر) * كتكاثر السلطان. وقريب منه في تقديم اللعب على اللهو قوله: * (وما بينهما
لاعبين. لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) *.
وقدم " اللهو " في الأعراف; لأن ذلك يوم القيامة، فذكر على ترتيب ما انقضى،
وبدأ بما به الانسان انتهى من الحالين.
وأما العنكبوت فالمراد بذكرهما زمان الدنيا، وأنه سريع الانقضاء قليل البقاء. * (وإن
الدار الآخرة لهى الحيوان) *; أي الحياة التي لا أبد لها ولا نهاية لأبدها; فبدأ بذكر اللهو،
لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب; وهو زمان الصبا.
121

ومنه تقديم لفظ " الضرر " على " النفع " في الأكثر، لأن العابد يعبد معبوده خوفا
من عقابه أولا، ثم طمعا في ثوابه.
وحيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع; وذلك في سبعة مواضع: ثلاثة
منها بلفظ الاسم، وهي في الأعراف والرعد وسبأ، وأربعة بلفظ الفعل، وهي في الأنعام:
* (ما لا ينفعنا ولا يضرنا) *. وفى آخر يونس: * (ما لا ينفعك ولا يضرك) *، وفى
الأنبياء: * (ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم) *، وفى الفرقان: * (ما لا ينفعهم ولا
يضرهم) *.
أما في الأعراف فلتقدم قوله: * (من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل) * فقدم
الهداية على الضلال، وبعد ذلك: * (لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) * فقدم
الخير على السوء، وكذا قدم النفع على الضر.
أما في الرعد فلتقدم " الطوع " في قوله: * (طوعا أو كرها) *.
أما في سبأ فلتقدم " البسط " في قوله: * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) *.
وفى يونس قدم الضر على الأصل ولموافقة ما قبلها فإن فيها: * (ما لا يضرهم ولا
122

ينفعهم) * وفيها: * (وإذا مس الانسان الضر) * فتكون الآية ثلاث مرات.
وكذلك ما جاء بلفظ الفعل فلسابقة ثنا معنى يتضمن نفعا.
أما الأنعام ففيها: * (ليس لها من دون الله ولى ولا شفيع، وإن تعدل كل
عدل لا يؤخذ منها) *، ثم وصله بقوله: * (قل أندعو من دون الله مالا ينفعنا ولا
يضرنا) *.
وفى يونس تقدم قوله: * (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننجي
المؤمنين) *، ثم قال: * (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك) *.
وفى الأنبياء، تقدم قول الكفار لإبراهيم في المجادلة: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.
قال أفتعبدون من دون الله مالا ينفعكم شيئا ولا يضركم) *.
وفى الفرقان تقدم: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * نعما جمة في الآيات، ثم
قال: * (ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم) *.
فتأمل هذه المواضع المطردة التي هي أعظم اتساقا من العقود. ومن أمثلته قوله تعالى: * (واتقوا
يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل) *.
ثم قال سبحانه في السورة: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا...) * الآية.
وفيها سؤالان:
123

أحدهما أنه سبحانه في الأولى قدم نفى قبول الشفاعة على أخذ العدل، وفى الثاني قدم نفى
قبول العدل على الشفاعة.
السؤال الثاني: أنه سبحانه وتعالى قال في الأولى: * (لا يقبل منها شفاعة) * وفى
الثانية: * (ولا تنفعها شفاعة) * فغاير بين اللفظين، فهل ذلك لمعنى يترتب عليه، أو
من باب التوسع في الكلام، والتنقل من أسلوب إلى آخر كما جرت عادة العرب؟
والجواب: أن القرآن الحكيم وإن اشتمل على النقل من أسلوب إلى آخر لكنه
يشتمل مع ذلك على فائدة وحكمة، قال الله تعالى: * (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت
من لدن حكيم خبير) * ولم يقل " من رحمن ور رحيم "، للتنصيص على أنه لا بد من
الحكمة; وهاتان الآيتان كلاهما في حق بنى إسرائيل، وكانوا يقولون: إنهم أبناء الأنبياء
وأبناء أبنائهم، وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله أنه لا تنفعهم الشفاعة، لا تجزى نفس عن
نفس شيئا.
وتعلق بهذه الآية المعتزلة على نفى الشفاعة، كما ذكره الزمخشري; وأجاب عنها أهل
السنة بأجوبة كثيرة ليس هذا محلها.
وذكر الله في الآيتين " النفس "، متكررة ثم أتى بضمير يحتمل رجوعه إلى الأولى
أو إلى الثانية، وإن كانت القاعدة عود الضمير إلى الأقرب; ولكن قد يعود إلى غيره،
كقوله تعالى: * (وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا) * فالضمير في التعزير
والتوقير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفى التسبيح عائد إلى الله تعالى، وهو متقدم
على ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فعاد الضمير على غير الأقرب.
إذا علمت ذلك، فقوله في الأولى: * (ولا يقبل منها شفاعة) * الضمير راجع إلى
124

النفس الأولى وهي الشفاعة لغيرها. فلما كان المراد في هذه الآية ذكر الشفاعة للمشفوع له
أخبر أن الشفاعة غير مقبولة للمشفوع احتقارا له وعدم الاحتفاء به; وهذا الخبر يكون باعثا
للسامع في ترك الشفاعة إذا علم أن المشفوع عنده لا يقبل شفاعته، به فيكون التقدير على هذا
التفسير: * (لا تجزى نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة) * " لو شفعت "،
يعنى: وهم لا يشفعون، فيكون ذلك مؤيسا لهم فيما زعموا أن آباءهم الأنبياء ينفعونهم من
غير عمل منهم.
وقوله: * (ولا يؤخذ منها عدل) * إن جعلنا الضمير في * (منها) * راجعا إلى الشافع
أيضا فقد جرت العادة أن الشافع إذا أراد أن يدفع إلى المشفوع عنده شيئا ليكون مؤكدا
لقبول شفاعته فمن هذا قدم ذكر الشفاعة على دفع العدل; وإن جعلنا الضمير راجعا إلى
المشفوع فيه فهو أحرى بالتأخير ليكون الشافع قد أخبره بأن شفاعته قد قبلت، فتقديم
العدل ليكون ذلك مؤسسا لحصول مقصود الشفاعة، وهو ثمرتها للمشفوع فيه.
وأما الآية الثانية فالضمير في قوله: * (منها عدل) * راجع إلى النفس الثانية، وهي النفس
التي هي صاحبة الجريمة، فلا يقبل منها عدل; لأن العادة بذل العدل من صاحب الجريمة
يكون مقدما على الشفاعة فيه; ليكون ذلك أبلغ في تحصيل مقصوده، فناسب ذلك
تقديم العدل الذي هو الفدية من المشفوع له على الشفاعة.
ففي هذه الآية بيان أن النفس المطلوبة بجرمها لا يقبل منها عدل عن نفسها، ولا تنفعها
شفاعة شافع فيها; وقد بذل العدل للحاجة إلى الشفاعة عند من طلب ذلك منه، ولهذا قال
في الأولى: * (يقبل منها شفاعة) * وفى الثانية: * (تنفعها شفاعة) *، لأن
الشفاعة إنما تقبل من الشفاع، وتنفع المشفوع له.
125

وقال الراغب: إنما كرر * (لا) * فيها على سبيل الإنذار بالواعظ إذا وعظ لأمر
فإنه يكرر اللفظ لأجله تعظيما للآمر. قال: وأما تغييره النظم فلما كان قبول وأخذه
وقبول الشفاعة ونفعها متلازمة لم يكن بين اتفاق هذه العبارات واختلافها فرق في المعنى.
وقال الإمام فخر الدين: لما كان الناس متفاوتين، فمنهم من يختار أن يشفع فيه مقدما
على العدل الذي يخرجه; ومنهم من يختار العدل مقدما على الشفاعة، ذكر سبحانه وتعالى
القسمين; فقدم الشفاعة باعتبار طائفة، وقدم العدل باعتبار أخرى.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى: الظاهر أنه سبحانه وتعالى إنما نفى قبول الشفاعة لا نفعها،
ونفى أصل العدل الذي هو الفداء، وبدأ بالشفاعة لتيسيرها هذا على الطالب أكثر من تحصيل العدل
الذي هو الفداء. على ما هو المعروف في دار الدنيا; وفى الآية الثانية أنه لما تقرر زيادة تأكيدها
بدأ فيها بالأعظم الذي هو الخلاص بالعدل، وثنى بنفع الشفاعة فقال: * (ولا تنفعها شفاعة) *
ولم يقل: لا تقبل منها شفاعة، وإن كان نفى الشفاعة يستلزم نفى قبولها، لأن الشفاعة تكون
نافعة غير مقبولة، وتنفع لأغراض: من وعد بخير، وإبدال المشفوع بغيره; فنفى النفع أعم، فلم
يكن بين نفى القبول ونفى النفع بالشفاعة تلازم، كما ادعاه الراغب. وكان التقدير بالفداء الذي
هو نفى قبول العدل ونفى نفع الشفاعة شيئين مؤكدين لاستقرار ذلك في الآية الثانية.
ومما يدل على أن نفى الشفاعة أمر زائد نفى قبولها أنه سبحانه لما أخبر عن المشركين أخبر
بنفي النفع لا بنفي القبول فقال: * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) *، وقال: * (ولا تنفع الشفاعة
عنده) * الآية. وفى الحديث الصحيح أنهم قالوا: يا رسول الله، هل نفعت عمك
126

أبا طالب؟ فقال: " وجدته فنقلته إلى ضحضاح من النار " مع علمهم أنه لا يشفع فيه. فإن قيل:
فقد قال في آخر السورة: * (من قبل أن يأتي لا يوم بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة) *
فنفى الشفاعة ولم ينف نفعها؟
قيل: من باب زيادة التأكيد أيضا; فإنه سبحانه ذكر في هذه الآية الأسباب المنجية
في الدنيا ونفاها هناك، وهي إما البيع الذي يتوصل به الانسان إلى المقاصد، أو الخلة التي هي
كمال المحبة. وبدأ نفى المحبة لأنه أعم وقوعا من الصداقة والمخالة، وثنى بنفي الخلة التي هي
سبب لنيل الأغراض في الدنيا أيضا; وذكر ثالثا نفى الشفاعة أصلا، وهي أبلغ من نفى
قبولها; فعاد الأمر إلى تكرار الجمل في الآيات ليفيد قوة الدلالة.
الرابع: بالتعريف والتنكير، كقوله في البقرة: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) *
وفى آل عمران: * (بغير حق) *.
وقوله في البقرة: * (هذا بلدا آمنا) *، وفى سورة إبراهيم: * (هذا البلد آمنا) *;
لأنه للإشارة إلى قوله: * (بواد غير ذي زرع) *; ويكون *) بلدا) * هنا هو المفعول
الثاني، و * (آمنا) * صفته، وفى إبراهيم * (البلد) * مفعول أول، و * (آمنا) * الثاني.
وقوله في آل عمران: * (وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم) *، وفى
الأنفال: * (إن الله عزيز حكيم) *.
وقوله في حم السجدة: * (فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) * وفى الأعراف:
127

* (إنه سميع عليم) *، لأنها في " حم " مؤكدة بالتكرار بقوله: * (وما يلقاها
إلا الذين صبروا) *; فبالغ بالتعريف، وليس هذا في سورة الأعراف، فجاء على
الأصل: المخبر عنه معرفة والخبر نكرة.
الخامس: بالجمع والإفراد، كقوله في سورة البقرة: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *
وفى آل عمران: * (معدودات) *; لأن الأصل في الجمع إذا كان واحد مذكر أن
يقتصر في الوصف على التأنيث نحو: * (سرر مرفوعة. وأكواب موضوعة. ونمارق
مصفوفة. وزرابي مبثوثة) * فجاء في البقرة على الأصل. وفى آل عمران على الفرع.
السادس: إبدال حرف بحرف غيره، كقوله تعالى في البقرة: * (أسكن أنت
وزوجك الجنة وكلا) * بالواو، وفى الأعراف: * (فكلا) * بالفاء وحكمته أن * (اسكن) *
في البقرة من السكون الذي هو الإقامة. فلم يصلح إلا بالواو; ولو جاءت الفاء لوجب تأخير
الأكل إلى الفراغ من الإقامة. والذي في الأعراف من المسكن وهو اتخاذ الموضع سكنا،
فكانت الفاء أولى، لأن اتخاذ المسكن لا يستدعى زمنا متجددا، وزاد في البقرة * (* (رغدا) *
لقوله: * (وقلنا) *، بخلاف سورة الأعراف فإن فيها: * (قال) * وذهب قوم إلى أن ما في
الأعراف خطاب لهما قبل الدخول، وما في البقرة بعد الدخول.
ومنه قوله تعالى في البقرة: * (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا) * بالفاء
وفى الأعراف بالواو.
128

في البقرة: * (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم) *، ثم قال بعد
ذلك: * (من بعد ما جاءك) *.
في البقرة: * (فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون) *، وفى غيرها:
* (ولا هم ينظرون) *.
في البقرة: * (وما أنزل إلينا) *، وفى آل عمران: * (علينا) *.
في الأنعام: * (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) *، وفى غيرها: * (قل سيروا في
الأرض فانظروا) *.
في الأعراف: * (وما كان جواب قومه) * بالواو، وفى غيرها بالفاء.
في الأعراف: * (آمنتم به) *، وفى الباقي: * (آمنتم له) *.
في سورة الرعد: * (كل يجرى لأجل مسمى) *، وفى لقمان: * (إلى أجل
مسمى) *، لا ثاني له.
في الكهف: * (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها) *، وفى السجدة:
* (ثم أعرض عنها) *.
في طه: * (أفلم يهد لهم) * بالفاء، وفى السجدة: * (أولم يهد لهم) *.
129

في القصص: * (وما أوتيتم من شئ) *، وفى الشورى: * (فما أوتيتم) * بالفاء.
في الطور: * (وأقبل بعضهم على بعض) *، و * (واصبر لحكم ربك) *،
بالواو فيهما; وفى الصافات [* (فأقبل بعضهم على بعض) *، وفى القلم: * (فاصبر لحكم
ربك) *، بالفاء فيهما] كما أن: * (وبئس القرار) *، و * (يذبحون) * بالواو
فيهما، في إبراهيم.
في الأعراف: * (سقناه لبلد ميت) *، [وفى فاطر: * (إلى بلد) *].
السابع: إبدال كلمة بأخرى:
في البقرة: * (ما ألفينا عليه آباءنا) *، وفى لقمان: * (وجدنا) *.
في البقرة: * (فانفجرت) *، وفى الأعراف: فانبجست) *.
في البقرة: * (فأزلهما الشيطان) *، وفى الأعراف: * (فوسوس لهما الشيطان) *.
في آل عمران * (قالت: رب أنى يكون لي ولد) *، وفى مريم: * (قالت أنى يكون
لي غلام) *، لأنه تقدم ذكره في * (لأهب لك غلاما زكيا) *.
130

في النساء: * (إن تبدوا خيرا أو تخفوه) *، وفى الأحزاب: * (شيئا أو تخفوه) *.
في الأنعام: * (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي) *، والثاني
* (يخرج) * بالفعل.
في الكهف: * (ولئن رددت إلى ربى) *، وفى حم: * (ولئن رجعت) *.
في طه: * (فلما أتاها) *، وفى النمل: * (فلما جاءها) *.
في طه: * (وسلك لكم فيها سبلا) *، وفى الزخرف: * (وجعل لكم
فيها سبلا) *.
في الأنبياء: * (ما يأتيهم من ذكر من ربهم) *، وفى الشعراء: * (من
الرحمن) *.
في النمل: * (ويوم ينفخ في الصور ففزع) *، وفى الزمر: * (فصعق) *.
في الأحزاب، في أولها: * (بما تعملون خبيرا) *، وفيها: * (بما تعملون بصيرا) *
بعد * (وجنودا لم تروها) *.
* (عذابا أليما) * بعد * (ليسأل الصادقين) *، و * (عذابا مهينا) * بعد
* (يؤذون الله ورسوله) *.
131

* (أجرا كريما) * [بعد * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) *، و * (رزقا كريما) *.
بعد: * (نؤتها أجرها مرتين) *].
* (سنة الله في الذين خلوا من قبل) * موضعان في الأحزاب، [وفى سورة غافر:
* (سنة الله التي قد خلت) *].
وفى البقرة: * (وهدى وبشرى للمؤمنين) *، وفى النحل: * (للمسلمين) *
في موضعين.
في المائدة: * (قل هل أنبئكم) *، وبالنون في الكهف.
* * *
الثامن: الإدغام وتركه.
في النساء والأنفال: * (ومن يشاقق الرسول) *، وفى الحشر بالإدغام.
في الأنعام: * (لعلهم يتضرعون) * وفى الأعراف: * (يضرعون) *.
132

الفصل الثاني
ما جاء على حرفين
* (لعلكم تتفكرون) * في القرآن، اثنان في البقرة.
* (ولكن أكثرهم لا يشكرون) *، اثنان في يونس والنمل.
* (أن الله غفور حليم) * في البقرة وفى آل عمران * (إن الله غفور حليم) *; وأما * (والله
غفور حليم) *، فواحد في البقرة. وكذلك فيها: * (غنى حليم) * وليس غيره.
* (الحكيم العليم) *، حرفان، في الزخرف وفى الذاريات.
* (فقال الملأ الذين كفروا من قومه: ما هذا إلا بشر مثلكم) *، اثنان في قصة
نوح، في هود والمؤمنون; في السورتين بالفاء.
و * (عذاب يوم أليم) * اثنان، في هود والزخرف.
* (من عباده ويقدر له) * اثنان، في العنكبوت وسبأ، وأما الذي في القصص
فهو * (من عباده ويقدر لولا أن) *، وباقي القرآن * (ويقدر) * فقط.
133

* (فلما أن) *، حرفان: في يوسف * (فلما أن جاء البشير) *، وفى القصص
* (فلما أن أراد أن يبطش) *.
* (ومن أظلم ممن افترى) * بالواو، حرفان في الأنعام. وفى يونس * (فمن
أظلم) * بالفاء.
* (أعرض) * حرفان في الكهف وفى السجدة; إلا أن الأول * (فأعرض) * والثاني
* (ثم أعرض) *.
* (أطيعوا الله والرسول) * من غير تكرار " الطاعة ": حرفان، وهما في آل عمران:
* (قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا) *، و * (وأطيعوا الله والرسول لعلكم
ترحمون) *.
* (وجاءهم البينات) * بغير تاء التأنيث، حرفان، وهما في آل عمران.
* (وما تنفقوا من شئ) *، حرفان، في آل عمران، وفى الأنفال.
* (فإن كذبوك) * بالفاء، حرفان، في آل عمران، وفى الأنعام.
* (قل أرأيتكم إن) * حرفان وهما في الأنعام.
* (لا يهدى القوم الفاسقين) * حرفان، في التوبة وفى المنافقين.
134

* (إن الله لقوى عزيز) *، بزيادة اللام، حرفان [في الحج]. [حديث في
ديارهم جاثمين) * حرفان] في هود في قصة صالح وشعيب. قال بعض المشايخ:
ما كان فيه " الصيحة " فهو * (ديارهم) * على الجمع، وما كان فيه " الرجفة " فهو
* (دارهم) * بالتوحيد.
* (وما كان من دون الله من أولياء) * بتكرير " من " حرفان، هما في هود.
* (أليس في جهنم مثوى للكافرين) *، حرفان، في العنكبوت والزمر.
* (إن في ذلك لآية للمؤمنين) *; بلفظ التوحيد، حرفان في الحجر والعنكبوت.
* (تبع) * بإسقاط الألف حرفان، في البقرة وآل عمران.
* (خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش) *
حرفان في الفرقان، وفى آلم السجدة.
* (إلى أجل مسمى) * حرفان، في لقمان وحم عسق.
135

" اللهو " قبل " اللعب " حرفان، في الأعراف والعنكبوت.
* (أولم يهد) * بالواو، حرفان في الأعراف وآلم السجدة.
* (ثم يوم القيامة) * حرفان، في النحل، والعنكبوت.
* (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * بزيادة * (من) * حرفان، في آل عمران
والنور.
* (إلا الذين تابوا وأصلحوا) * بغير " من " حرفان، في البقرة والنساء.
* (ولله ميراث السماوات والأرض) * حرفان، في آل عمران وفى الحديد.
* (له مقاليد السماوات والأرض) * في الزمر وحم عسق.
* (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) * إخبارا عن الجماعة الغيب، حرفان في
الأعراف وسبأ.
* (أموات) * بالرفع، في البقرة * (أموات بل أحياء) *، وفى النحل: أموات
غير أحياء) *
136

الفصل الثالث
ما جاء على ثلاثة أحرف
* (أولم يسيروا في الأرض) * ثلاثة في القرآن، في الروم وفاطر والمؤمن.
* (فنجيناه) * بالفاء، في يونس والأنبياء والشعراء.
* (قليلا ما تذكرون ثلاثة) * في الأعراف والنمل والحاقة.
* (لعلهم يتذكرون) * اثنان في الأعراف، والثالث في الأنفال.
* (تتذكرون) * بتائين متكررتين; ثلاثة، في الأنعام وآلم السجدة والمؤمن.
* (وما يذكر إلا أولوا الألباب) * في البقرة وآل عمران وإبراهيم.
* (في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم) *، في النساء والتوبة والصف.
* (وباليوم الآخر) * بزيادة الباء في أول البقرة; وفى النساء والتوبة ولكن هو فيهما بالنفي
* (وإذ قال موسى لقومه يا قوم) *، في البقرة وفى المائدة وفى الصف.
* (فلهم أجرهم) * في البقرة اثنان; والثالث في التين والزيتون; إلا أنه بإسقاط
الهاء والميم.
137

* (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *، في هود والرعد والمؤمن.
* (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) *، في البقرة ويوسف والمؤمن.
* (وهم بالآخرة هم كافرون) * في هود ويوسف والسجدة.
* (كم أهلكنا من قبلهم من قرن) * بزيادة " من "، في الأنعام، وص، وآلم
السجدة; لكن بلفظ * (من القرون) *.
* (أجمعون) * بالواو في الحجر والشعراء وص.
* (إن الله خبير بما تعملون) *، في المائدة والنور والحشر.
* (إن الله عليم بذات الصدور) *، في آل عمران والمائدة ولقمان.
* (ولو شئنا) *، في الأعراف والفرقان وآلم السجدة.
* (من ذنوبكم) * بزيادة " من " في إبراهيم والأحقاف ونوح.
* (مبينات) * في النور اثنان، والثالث في الطلاق.
* (لولا أنزل عليه) * في الرعد اثنان، والثالث في يونس.
* (جنات عدن يدخلونها) * في الرعد والنحل وفاطر.
* (فما كان الله ليظلمهم) * في الروم والتوبة والعنكبوت، [لكن بالواو]
138

* (لعلى) * في الحج وسبأ ونون.
* (في السماوات ولا في الأرض) * في سبأ اثنان، وفى آخر فاطر.
* (وإذ قال ربك للملائكة) * بواو، في البقرة والحجر وص.
* (ونزلنا) * ثلاثة أحرف، في طه والنحل وق، والباقي * (وأنزلنا) *.
* (فإن توليتم) * في المائدة ويونس والتغابن.
* (ألم يروا) * بغير واو، في النحل والنمل ويس.
* (أمواتا) * بالنصب; في البقرة * (وكنتم أمواتا) *، وآل عمران، * (في سبيل الله
* (أمواتا) *، وفى المرسلات * (أحياء وأمواتا) *.
* (أجلا) * بالنصب، في الأنعام وبنى إسرائيل والمؤمن.
* (أئذا كنا ترابا) * بغير ذكر " العظام " في الرعد والنمل وق.
* (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) * في الرعد والروم والمؤمن.
139

الفصل الرابع
جاء على أربعة حروف
* (من في السماوات ومن في الأرض) *، بتكرير * (من) * في يونس والحج والنمل
والزمر. * (ملك السماوات والأرض وما بينهما) *، في المائدة اثنان، في ص وآخر الزخرف
* (أرسلنا قبلك) * بإسقاط " من " في بني إسرائيل والأنبياء والفرقان وسبأ.
* (أهؤلاء) * بألف قبل الهاء، في المائدة والأنعام والأعراف وسبأ.
* (من تحتهم) * في الأنعام والأعراف ويونس والكهف; وأما * (تجرى تحتها
الأنهار) * فموضع واحد في براءة.
* (أو أن) * بهمزة قبل الواو. في هود: * (أو أن نفعل) *، وفى بنى إسرائيل * (أو إن
يشأ يعذبكم) *، وفى طه * (أو أن يطغى) *، وفى المؤمن: * (أو أن يظهر في الأرض
الفساد.
140

* (إن الله كان عليما حكيما) * في النساء اثنان، وفى الأحزاب، والإنسان
* (آباؤهم) * بالرفع، في البقرة * (أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا) *
[وفى المائدة: * (أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا) *. وفى هود: * (إلا كما يعبد
آباؤهم) *، وفى يس لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) *].
* (قل يا أيها الناس) * في الأعراف، وفى يونس اثنان منها، وفى الحج:
* (نصرف الآيات) * في الأنعام ثلاثة، والرابع في الأعراف.
* (إن الله لا يهدى القوم الظالمين) *، في المائدة والأنعام والقصص والأحقاف.
* (مباركا) * بالنصب، في آل عمران ومريم والمؤمنين وق.
* (مبارك) * بالرفع، في الأنعام اثنان، وفى الأنبياء وص.
* (ما كسبت) * بحذف الباء من أوله، في البقرة وآل عمران اثنان، وفى إبراهيم
* (من ذكر أو أنثى) * بإثبات الهمزة قبل الواو، في آل عمران والنساء والنحل
وغافر.
* (ألم يروا) * بغير واو، في الأنعام والأعراف والنمل ويس.
141

* (ولبئس) * في البقرة اثنان، * (ولبئس ما شروا به) *، و * (لبئس المهاد) *.
وفى الحج: * (ولبئس العشير) * وفى النور: * (ولبئس المصير. وأما * (فلبئس) *
بالفاء، فموضع واحد في النحل: * (فلبئس مثوى المتكبرين) *.
* (الا قليل) * بالرفع، في النساء، والتوبة، وهود، والكهف.
* (أفلم يسيروا) * في يوسف، وفى الحج، وفى المؤمن، وفى القتال.
* (قل سيروا في الأرض) * في الأنعام: * (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) * وليس
في القرآن " ثم " غيره، وفى النمل: * (قل سيروا في الأرض فانظروا) * وكذا في العنكبوت
والروم.
* (أفرأيت) * بالفاء بعد الهمزة، في مريم، والشعراء، والجاثية، والنجم. اللعب
قبل اللهو، في الأنعام اثنان، وفى القتال، والحديد.
* (لآيات لقوم يعقلون) * بلفظ الجمع، في البقرة، والرعد، والروم، والنحل.
142

* (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * على لفظ الجمع في يونس.
* (لآية لقوم يسمعون) * بالتوحيد في النحل كذلك، وبالجمع في الروم، وآلم
السجدة.
* (قال الذين كفروا للذين آمنوا) * في مريم، والعنكبوت، ويس،
والأحقاف.
* (وما ظلمناهم) * في هود، والنحل اثنان، وفى الزخرف.
* (وإذ قلنا للملائكة) * في البقرة، وبنى إسرائيل، والكهف، وطه.
والأنبياء والنبيين بغير حق: في آل عمران: * (النبيين بغير حق) *.
وفيها: * (ويقتلون الأنبياء بغير حق) *. وفيها أيضا * (وقتلهم الأنبياء بغير
حق) * وفى النساء. فأما الذي في البقرة: * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * فليس
له نظير.
143

الفصل الخامس
ما جاء على خمسة حروف
* (حكيم عليم) * في الأنعام ثلاثة، والرابع في الحجر، والخامس في النمل.
* (مغفرة ورزق كريم) * في الأنفال اثنان، وفى الحج، والنور، وسبأ.
الأرض قبل السماء، في آل عمران، ويونس، وإبراهيم، وطه،
والعنكبوت.
* (لآيات لقوم يتفكرون) * بلفظ الجمع، في الرعد، والروم، والزمر، والجاثية،
وبلفظ التوحيد في النحل.
* (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * بتكرير الطاعة، في النساء، والمائدة، والنور،
والقتال، والتغابن.
144

* (وذلك هو الفوز العظيم) *، منها حرفان بالواو: في التوبة، * (وذلك هو الفوز
العظيم) * وكذلك في المؤمن، والباقي بلا واو: في يونس، والدخان، والحديد.
الفصل السادس
ما جاء على ستة أحرف
* (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) *; في الأنعام، والنحل، والنمل، والعنكبوت
والروم، والزمر.
* (وذلك الفوز العظيم) *، منها بواو، واحد في النساء: * (خالدين فيها وذلك الفوز
العظيم) * وفى المائدة: * (ذلك الفوز العظيم) *، ومثله في التوبة (موضعان)، والصف
والتغابن.
* (فمن أظلم) * بالفاء، في الأنعام (موضعان) والأعراف، ويونس، والكهف، والزمر.
* (ويسألونك) * بالواو، * (ثلاثة) * في البقرة، وبنى إسرائيل، والكهف، وطه
* (فبئس) * بالفاء: في ص (اثنان) وفى الزمر، وفى غافر، والزخرف، والمجادلة.
145

* (نزلنا) * بغير واو، في البقرة، والنساء، والأنعام (موضعان)، والحجر، والإنسان.
* (قل يا أهل الكتاب) * في آل عمران ثلاثة، وفى المائدة ثلاثة.
الفصل السابع
ما جاء على سبعة حروف
* (لعلهم يتذكرون) * في البقرة، وإبراهيم، والقصص، (ثلاثة مواضع)، والزمر
والدخان.
* (السماوات والأرض وما بينهما) * في مريم، والشعراء، والصافات، وص (موضعان)
والزخرف والدخان.
" المرأة مكتوبة بالتاء في سبعة مواضع; في آل عمران، وفى يوسف (موضعان)
* (امرأت العزيز) *، وفى القصص * (امرأت فرعون) *، وفى التحريم (ثلاثة
مواضع).
146

الفصل الثامن
ما جاء على ثمانية حروف
النفع قبل الضر في الأنعام، والأعراف، ويونس، والرعد، والأنبياء،
والفرقان، والشعراء، وسبأ.
* (يتذكر) * بتاء في الرعد، وطه، والملائكة، وص [والزمر]، والمؤمن والنازعات
[والفجر].
الفصل التاسع
ما جاء على تسعة حروف
* (من في السماوات والأرض) * بغير تكرار " من " في آل عمران، والرعد، وفى
بنى إسرائيل، ومريم، والأنبياء، والنور، والنمل، والروم، والرحمن.
147

* (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * بالهاء والميم. في الأنعام، والأعراف، والأنفال، ويونس،
والقصص (موضعان)، [والزمر]. والذي في الدخان والطور.
* (يك) * بالياء، من غير نون بعد الكاف: في الأنفال، والتوبة، والنحل،
ومريم، والمؤمن (موضعان). وفى المدثر (موضعان) بالنون في أوله، وفى القيامة
* (ألم يك نطفة) *.
الفصل العاشر
ما جاء على عشرة أحرف
* (ولما) * بالواو: في هود ويوسف، وفى غيرهما بالفاء: في هود أربعة أحرف
وفى يوسف ستة.
* (أن لا) * تكتب في المصحف بالنون منفصلة عشرة: في الأعراف موضعان،
والتوبة، وفى هود موضعان، والحج، ويس، والدخان، والممتحنة، والقلم.
148

الفصل الحادي عشر
ما جاء على أحد عشر حرفا
أحد عشر * (جنات عدن) *: في التوبة، والرعد، والنحل، والكهف، ومريم،
وطه، والملائكة، وص، والمؤمن، والصف، ولم يكن.
* (ما في السماوات والأرض) *: في البقرة، والنساء، والأنعام، ويونس،
والنحل، والنور، والعنكبوت، ولقمان، والحديد، والحشر، والتغابن.
* (خالدين فيها أبدا) * في النساء ثلاثة مواضع، والمائدة، والتوبة (موضعان)
والأحزاب، والتغابن، والطلاق، والجن والبرية.
* (وتلك) * بالواو، في البقرة، وآل عمران، والأنعام، وهود، والكهف، والشعراء،
والعنكبوت * والزخرف، والمجادلة، والحشر، والطلاق.
* (نعمت الله) * كتبت بالتاء في أحد عشر موضعا: في البقرة * (اذكروا نعمت الله
عليكم) *، وفى آل عمران، والمائدة، وإبراهيم (موضعان)، والنحل (ثلاثة مواضع)
ولقمان، وفاطر، والطور.
149

* (في ما) * كتبت منفصلة في أحد عشر موضعا:
في البقرة: * (في ما فعلن في أنفسهن من معروف) *.
وفى المائدة: * (ليبلوكم في ما آتاكم) *.
وفى الأنعام: * (في ما أوحى) *. إلى وفيها أيضا: * (ليبلوكم في ما آتاكم) *.
وفى الأنبياء: * (وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون) *.
وفى النور: * (لمسكم في ما أفضتم) *.
وفى الشعراء * (أتتركون في ما هاهنا آمنين) *.
وفى الروم: * (شركاء في ما رزقناكم) *.
وفى الزمر: * (تحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون) *.
وفيها أيضا: * (أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا) *.
وفى الواقعة: * (وننشئكم في مالا تعلمون) *.
150

الفصل الثاني عشر
ما جاء على خمسة عشر وجها
* (جنات تجرى من تحتها الأنهار) *; ليس فيها " خالدين " في البقرة (موضعان)،
وآل عمران، والمائدة، والرعد، والنحل، والحج، موضعان، والفرقان، والزمر، والقتال،
والفتح، والصف، والتحريم، والبروج.
* (والسماء والأرض) *، بالتوحيد في البقرة، والأعراف، ويونس، والأنبياء،
(موضعان)، وفى الحج، والنمل (موضعان)، والروم، وسبأ، والملائكة، وص والدخان،
والذاريات، والحديد.
الفصل الثالث عشر
ما جاء على ثمانية عشر وجها
* (أك) *، * (نك) *، و * (يك) *، و * (تك) * بحروف المضارعة في أولها، وبغير
نون في آخرها.
في النساء: * (وإن تك حسنة) *
151

والأنفال: * (لم يك مغيرا) *
وفى التوبة: * (فإن يتوبوا يك خيرا لهم) *.
وفى هود: * (موضعان فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء) *، * (فلا تك في مرية منه
إنه الحق) *.
وفى النحل موضعان: * (ولم يك من المشركين) *، * (ولا تك في ضيق) *.
وفى مريم: * (ثلاثة مواضع، [وفى لقمان، وغافر،، أربع مواضع]، وفى المدثر موضعان،
وفى القيامة.
الفصل الرابع عشر
فيما جاء على عشرين وجها
* (إن في ذلك لآية) * على التوحيد: في البقرة، وآل عمران، وهود، والحجر.
وفى النحل خمسة أحرف بالتوحيد. وفى الشعراء ثمانية. في النمل، والعنكبوت، وسبأ.
152

الفصل الخامس عشر
ما جاء على ثلاثة وعشرين حرفا
وذلك * (نزل) * و * (أنزل) *.
في البقرة: * (ذلك بأن الله نزل الكتاب) *.
وفى آل عمران: * (نزل عليك الكتاب) *.
وفى النساء موضعان: * (والكتاب الذي نزل على رسوله) *. * (وقد نزل عليكم
في الكتاب) *.
وفى الأنعام: * (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) *.
وفى الأعراف موضعان: * (ما نزل الله بها من سلطان) *. * (إن وليي الله الذي
نزل الكتاب) *.
وفى الحجر: * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر) *.
وفى النحل: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) *.
وفى بنى إسرائيل: * (وبالحق نزل) *.
وفى الفرقان ثلاثة مواضع: أولها: * (تبارك الذي نزل الفرقان) *، * (و نزل
الملائكة تنزيلا) *، * (لولا نزل عليه القرآن) *.
153

وفى الشعراء: * (نزل به الروح الأمين) *:
وفى العنكبوت: * (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به الأرض من
بعد موتها) *; وليس في القرآن * (من بعد موتها) * بزيادة " من " غيره.
وفى الصافات: * (فإذا نزل بساحتهم) *.
وفى الزمر: * (الله نزل أحسن الحديث) *.
وفى الزخرف موضعان: * (لولا نزل هذا القرآن) *، * (والذي نزل من السماء
ماء بقدر) *.
وفى القتال موضعان: * (وآمنوا بما نزل على محمد) *. * (ما نزل الله سنطيعكم) *.
وفى الحديد: * (ما نزل من الحق) *.
وفى تبارك: * (ما نزل الله من شئ) *
154

النوع السادس قال
علم المبهمات عن
وقد صنف فيه أبو القاسم السهيلي كتابه المسمى بالتعريف والإعلام، وتلاه
تلميذه ابن عساكر في كتابه المسمى بالتكميل والإتمام.
وهو المبهمات المصنفة في علوم الحديث، وكان في السلف من يعنى به. قال عكرمة:
طلبت الذي خرج في بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت أربع عشرة سنة.
إلا أنه لا يبحث فيما أخبر الله باستئثاره بعلمه; كقوله: * (وآخرين من دونهم
لا تعلمونهم الله يعلمهم) * والعجب ممن تجرأ وقال: قيل إنهم قريظة، وقيل: من الجن.
وله أسباب:
155

الأول: أن يكون أبهم في موضع استغناء ببيانه في آخر في سياق الآية، كقوله
تعالى: * (مالك يوم الدين) * بينه بقوله: * (وما أدراك ما يوم الدين) * الآية.
وقوله: * (الذين أنعمت عليهم) *، بينه بقوله: * (من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين) *.
وقوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة; والمراد
آدم، والسياق بينه.
وقوله: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) *، والمراد بهم
المهاجرون، لقوله في الحشر: * (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) *.
وقد احتج بها الصديق على الأنصار يوم السقيفة فقال: * (نحن الصادقون، وقد أمركم الله
أن تكونوا معنا، أي تبعا لنا - وإنما استحقها دونهم لأنه الصديق الأكبر.
وقوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * يعنى مريم وعيسى، وقال * (آية) *
ولم يقل آيتين وهما آيتان لأنها قضية واحدة، وهي ولادتها له من غير ذكر.
* * *
والثاني أن يتعين لاشتهاره، كقوله: * (اسكن أنت وزوجك الجنة) * ولم يقل
حواء لأنه ليس غيرها.
156

وكقوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) *، والمراد النمروذ لأنه
المرسل إليه.
وقوله: * (وقال الذي اشتراه من مصر) *، والمراد العزيز.
وقوله: * (واتل عليهم نبأ أبنى آدم بالحق) *، والمراد قابيل وهابيل.
وقوله: * (يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين) *.
قالوا: وحيثما جاء في القرآن: * (أساطير الأولين) * فقائلها النضر بن الحارث بن
كلدة، وإنما كان يقولها لأنه دخل بلاد فارس، وتعلم الأخبار ثم جاء، وكان يقول: أنا
أحدثكم أحسن مما يحدثكم محمد، وإنما يحدثكم أساطير الأولين، وفيه نزل: * (من
قال سأنزل مثل ما أنزل الله) *. وقتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا يوم بدر.
وقوله: * (لمسجد أسس على التقوى) *، فإنه ترجح كونه مسجد قباء، بقوله:
* (من أول يوم) * لأنه أسس قبل مسجد المدينة، وحدس هذا بأن اليوم قد يراد به
المدة والوقت; وكلاهما أسس على هذا من أول يوم، أي من أول عام من الهجرة، وجاء
في الحديث تفسير بمسجد المدينة. وجمع بينهما بأن كليهما مراد الآية.
* * *
الثالث: قصد الستر عليه، ليكون أبلغ في استعطافه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
157

بلغه عن قوم شئ خطب فقال: " ما بال رجال قالوا كذا "، وهو غالب ما في القرآن
كقوله تعالى: * (أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) *; قيل: هو مالك بن
الصيف.
وقوله: * (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى) *، والمراد هو
رافع بن حريملة ووهب بن زيد.
وقوله: * (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا) *.
وقوله: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) *.
[وقوله]: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب) *.
158

الرابع ألا يكون في تقيينه كثير فائدة; كقوله تعالى: * (أو كالذي مر على قرية
والمراد بها بيت المقدس.
* (واسألهم عن القرية) * والمراد أيلة، وقيل: طبرية.
* (فلو لا كانت قرية) * والمراد نينوى.
أتيا أهل قرية قيل برقة
فإن قيل ما الفائدة في قوله: * (وإذ قال إبراهبم لأبيه آزر) * قيل: آزر اسم
صنم; وفى الكلام، حذف أي دع آزر; وقيل كلمة زجر; وقيل: بل هو اسم أبيه; وعلى
هذا فالفائدة أن الأب يطلق على الجد، فقال " آزر " لرفع المجاز.
* * *
الخامس: التنبيه على التعميم، وهو غير خاص بخلاف ما لو عين كقوله تعالى: * (ومن
يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) *، قال عكرمة: أقمت أربع عشرة سنة
أسأل عنه حتى عرفته، هو ضمرة بن العيص، وكان من المستضعفين بمكة، وكان مريضا،
فلما نزلت آية الهجرة خرج منها فمات بالتنعيم.
وقوله: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) * قيل نزلت
في على، كان معه أربع دوانق، فتصدق بواحد بالنهار وآخر بالليل وآخر سرا وآخر
علانية.
159

وقوله: * (وما علمتم من الجوارح مكلبين) *، قيل نزلت في عدى
بن حاتم، كان له كلاب [خمسة] قد سماها [بأسماء] أعلام.
* * *
السادس: تعظيمه بالوصف الكامل دون الاسم كقوله: * (ولا يأتل أولوا
الفضل منكم) *، والمراد الصديق.
وكذلك * (والذي جاء بالصدق) * يعنى محمدا * (وصدق به) * يعنى أبا بكر -
ودخل في الآية كل مصدق، ولذلك قال: * (أولئك هم المتقون) *.
السابع: تحقيره بالوصف الناقص، كقوله: * (إن الذين كفروا بآياتنا) *، وقوله:
* (إن شانئك هو الأبتر) * والمراد فيها العاصي بن وائل.
وقوله: * (إن جاءكم فاسق) * والمراد الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وأما قوله: * (تبت يدا أبى لهب) * فذكره هنالك للتنبيه على أن ما له للنار ذات
اللهب.
تنبيهات
الأول: قد يكون للشخص اسمان، فيقتصر على أحدهما دون الآخر لنكتة،
فمنه قوله تعالى في مخاطبة الكتابيين: * (يا بني إسرائيل) * ولم يذكروا في القرآن إلا
160

بهذا، دون " يا بني يعقوب ". وسره أن القوم لما خوطبوا بعبادة الله، وذكروا بدين
أسلافهم; موعظة لهم، وتنبيها من غفلتهم، سموا بالاسم الذي فيه تذكرة بالله، فإن " إسرائيل "
اسم مضاف إلى الله سبحانه في التأويل، ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم قوما إلى الاسلام
يقال لهم: " بنو عبد الله "، قال: " يا بني عبد الله، إن الله قد حسن اسم أبيكم "، يحرضهم بذلك على
ما يقتضيه اسمه من العبودية. ولما ذكر موهبته لإبراهيم وتبشيره به قال: يعقوب، وكان أولى من
إسرائيل، لأنها موهبة تعقب أخرى، وبشرى عقب بها بشرى فقال: * (فبشرناها
بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) * وإن كان اسم يعقوب عبرانيا; لكن لفظه
موافق للعربي، من العقب والتعقيب. فانظر مشاكلة الاسمين للمقامين عمرو فإنه من العجائب.
وكذلك حيث ذكر الله نوحا سماه به، واسمه عبد الغفار، للتنبيه على كثرة نوحه على
نفسه في طاعة ربه.
ومنه قوله تعالى حاكيا عن عيسى: * (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد) *، ولم يقل " محمد "، لأنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد، حمد ربه، فنبأه وشرفه،
فلذلك تقدم على محمد فذكره عيسى به.
ومنه أن مدين هم أصحاب الأيكة، إلا أنه سبحانه حيث أخبر عن مدين قال:
أخاهم شعيبا "، وحيث أخبر عن الأيكة لم يقل " أخوهم ". والحكمة فيه أنه لما
161

عرفهم بالنسب، وهو أخوهم في ذلك النسب ذكره، ولما عرفهم بالأيكة التي أصابهم فيها
العذاب لم يقل أخوهم، وأخرجه عنهم.
ومنه * (وذا النون) *، فأضافه إلى الحوت والمراد يونس، وقال في سورة القلم: * (ولا تكن
كصاحب الحوت) *، والإضافة " بذي " أشرف من الإضافة " بصاحب "، ولفظ
" النون " أشرف من " الحوت "، ولذلك وجد في حروف التهجي، كقوله:
* (ن والقلم) *. وقد قيل: إنه قسم وليس في الآخر ما يشرفه بذلك.
ومنه قوله تعالى: * (تبت يدا أبى لهب) *، فعدل عن الاسم إلى الكنية;
إما لاشتهاره بها، أو لقبح الاسم، فقد كان اسمه عبد العزى.
واعلم أنه لم يسم الله قبيلة من جميع قبائل العرب باسمها إلا قريشا; سماهم بذلك في
القرآن، ليبقى على مر الدهور ذكرهم، فقال تعالى: * (لإيلاف قريش) *.
الثاني: أنه قد بالغ في الصفات للتنبيه على أنه يريد إنسانا بعينه; كقوله تعالى: * (ولا تطع
كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم...) * الآية; قيل: إنه الأخنس بن شريق.
وقوله: * (ويل لكل همزة لمزة) *; قيل: إنه أمية بن خلف; كان يهمز النبي صلى
الله عليه وسلم.
162

الثالث: قيل: لم يذكر الله تعالى " امرأة " في القرآن وسماها باسمها إلا مريم بنت
عمران، فإنه ذكر اسمها في نحو ثلاثين موضعا، لحكمة ذكرها بعض الأشياخ قال: إن الملوك
والأشراف لا يذكرون حرائرهم ولا يبتذلون أسماءهم، يكنون عن الزوجة بالعرس والعيال
والأهل ونحوه، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن، ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر
والتصريح بها، فلما قالت النصارى في مريم وفى ابنها ما قالت صرح الله تعالى باسمها،
ولم يكن عنها; تأكيدا لأمر العبودية التي هي صفة لها، وإجراء للكلام على عادة
العرب في ذكر أبنائها; ومع هذا فإن عيسى لا أب له، واعتقاد هذا واجب، فإذا تكرر
ذكره منسوبا إلى الأم استشعرت القلوب ما يجب عليها اعتقاده من نفى الأب عنه، وتنزيه
الأم الطاهرة عن مقالة اليهود لعنهم الله.
* * *
الرابع: وأما الرجال فذكر منهم كثيرا; وقد قيل في قوله تعالى: * (ذرني ومن
خلقت وحيدا) * إنه الوليد بن المغيرة، وقد سمى الله زيدا في سورة الأحزاب للتصريح
بأنه ليس بابن النبي صلى الله عليه وسلم; وأضيف إلى ذلك السجل; قيل: إنه كان يكتب
للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه المراد بقوله تعالى: * (كطي السجل للكتب) *.
163

النوع السابع
في أسرار الفواتح والسور
اعلم أن سور القرآن العظيم مائة وأربع عشرة سورة; وفيها يلغز فيقال: أي شئ
إذا عددته زاد على المائة; وإذا عددت نصفه كان دون العشرين.
وقد افتح سبحانه وتعالى كتابه العزيز بعشرة أنواع من الكلام; لا يخرج شئ
من السور عنها.
[- الاستفتاح بالثناء]
الأول: استفتاحه بالثناء عليه عز وجل. والثناء قسمان: إثبات لصفات المدح; ونفى
وتنزيه من صفات النقص.
والإثبات نحو * (الحمد لله) * في خمس سور، [و * (تبارك) * في سورتين]:
الفرقان: * (تبارك الذي نزل الفرقان) *، [والملك]: * (تبارك الذي بيده الملك) *.
164

والتنزيه نحو: * (سبحان الذي أسرى بعبده) *، * (سبح اسم ربك الأعلى) *
* (سبح لله ما في السماوات) *، * (يسبح لله) *، كلاهما في سبع سور، فهذه
أربع عشرة سورة استفتحت بالثناء على الله: لثبوت صفات الكمال؟ ونصفها
لسلب النقائص.
قلت: وهو سر عظيم من أسرار الألوهية. قال صاحب العجائب:
" سبح لله " هذه كلمة استأثر الله بها; فبدأ بالمصدر منها في بني إسرائيل لأنه
الأصل; ثم الماضي * (سبح لله) * في الحديد والحشر والصف; لأنه أسبق الزمانين، ثم
المستقبل في الجمعة والتغابن، ثم بالأمر في سورة الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها،
وهي أربع: المصدر، والماضي، والمستقبل، والأمر المخاطب، فهذه أعجوبة وبرهان.
[2 - الاستفتاح بحروف التهجي]
الثاني: استفتاح السور بحروف التهجي نحو: آلم، المص، آلمر، كهيعص، طه،
طس، طسم، حم، حمعسق، ق، ن. وذلك في تسع وعشرين سورة.
قال الزمخشري: " وإذا تأملت الحروف التي افتتح الله بها السور وجدتها نصف
165

أسامي حروف المعجم، أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف،
والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والخاء، والقاف، والنون. في تسع وعشرين
عدد حروف المعجم. ثم تجدها مشتملة على أصناف أجناس الحروف: المهموسة والمجهورة
والشديدة والمطبقة والمستعلية والمنخفضة وحروف القلقلة. ثم إذا استقريت الكلام تجد هذه
الحروف هي أكثر دورا مما بقي، ودليله أن الألف واللام لما كانت أكثر تداورا جاءت
في معظم هذه الفواتح، فسبحان الذي دقت في كل شئ حكمته! ". انتهى.
قيل: وبقي عليه من الأصناف: الشديدة والمنفتحة، وقد ذكر تعالى نصفها. أما
حروف الصفير فهي ثلاثة ليس لها نصف; فجاء منها السين والصاد، ولم يبق إلا الزاي.
وكذلك الحروف اللينة ثلاثة، ذكر منها اثنين الألف والياء، أما المكرر وهو الراء، والهاوي
وهو الألف، والمنحرف وهو اللام فذكرها; ولم يأت خارجا عن هذا النمط إلا ما بين
الشديدة والرخوة; أهل فإنه ذكر فيه أكثر من النصف. وهذا التداخل موجود في كل قسم
قبله: ولولاه لما انقسمت هذه الأقسام كلها. ووهم الزمخشري في عدد حروف القلقلة; إنما
ذكر نصفها، فإنها خمسة ذكر منها حرفان: القاف والطاء.
166

وقال القاضي أبو بكر: إنما جاءت على نصف حروف المعجم; كأنه قيل: من زعم أن
القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي، ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن. وقد علم
ذلك بعض أرباب الحقائق.
واعلم أن الأسماء المتهجات حديث في أول السور ثمانية وسبعون حرفا، فالكاف والنون كل
واحد في مكان واحد، والعين والياء والهاء والقاف كل واحد في مكانين، والصاد في
ثلاثة، والطاء في أربعة، والسين في خمسة، والراء في ستة، والحاء في سبعة، والألف واللام
في ثلاثة عشر، والميم في سبعة عشر، وقد جمع بعضهم ذلك في بيتين وهما:
- كن واحد عيهق عند اثنان ثلاثة صاد * الطاء أربعة والسين خمس علا -
- والراء ست وسبع الحاء آل ودج * وميمها سبع عشر تم واكتملا -
وهي في القرآن في تسعة وعشرين سورة، وجملتها من غير تكرار أربعة عشر حرفا;
يجمعها قولك: " نص حكيم قاطع له سر "; وجمعها السهيلي في قوله: " ألم يسطع
نور حق كره ".
وهذا الضابط في لفظه ثقل، وهو غير عذب في السمع ولا في اللفظ; ولو قال: " لم
يكرها نص حق سطع " لكان أعذب.
ومنهم من ضبط بقوله: " طرق سمعك النصيحة " و " صن سرا يقطعك حمله "، و " على
صراط حق يمسكه ". وقيل: " من حرص على بطه كاسر " وقيل: " سر حصين قطع كلامه ".
ثم بنيتها ثلاثة حروف موحدة: ص ق ن، وعشرة مثنى: طه، طس، يس، حم.
واثنا عشر مثلثة الحروف: آلم، آلر، طسم، واثنان حروفها أربعة: المص، آلمر. واثنان
حروفها خمسة: كهيعص حمعسق.
وأكثر هذه السور التي ابتدئت بذكر الحروف ذكر منها: ما هو ثلاثة أحرف، وما هو
أربعة أحرف (سورتان)، وما ابتدئ بخمسة أحرف (سورتان).
167

وأما ما بدئ بحرف واحد فاختلفوا فيه، فمنهم من لم يجعل ذلك حرفا وإنما جعله
اسما لشئ خاص. ومنهم من جعله حرفا وقال: أراد أن يتحقق الحروف مفردها ومنظومها.
فأما ما ابتدئ بثلاثة أحرف ففيه سر، وذلك أن الألف إذا بدئ بها أولا كانت
همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط مخارج الحروف، وهي أشد
الحروف اعتمادا على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم. وهذه الثلاثة هي أصل
مخارج الحروف; أعني الحلق واللسان والشفتين، وترتبت في التنزيل من البداية، إلى الوسط،
إلى النهاية.
فهذه الحروف تعتمد المخارج الثلاثة، التي يتفرع منها ستة عشر مخرجا; ليصير منها
تسعة وعشرون حرفا; عليها مدار كلام الخلق أجمعين، مع تضمنها سرا عجيبا، وهو أن
الألف للبداية، واللام للتوسط، والميم للنهاية; فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية.
والنهاية، والواسطة بينهما.
وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف فهي مشتملة على مبدأ الخلق ونهايته وتوسطه،
مشتملة على خلق العالم وغايته، وعلى التوسط بين البداية من الشرائع والأوامر. فتأمل
ذلك في البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
وأيضا فلأن الألف واللام كثرت في الفواتح دون غيرها من الحروف لكثرتها
في الكلام.
وأيضا من أسرار علم الحروف أن الهمزة من الرئة; فهي أعمق الحروف، واللام مخرجها
من طرف اللسان ملصقة بصدر الغار الأعلى من الفم; فصوتها يملأ ما وراءها من هواء
الفم، والميم مطبقة; لأن مخرجها من الشفتين إذا أطبقا، ويرمز بهن إلى باقي الحروف; كما رمز
168

صلى الله عليه وسلم بقوله: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " إلى الإتيان
بالشهادتين وغيرهما مما هو من لوازمهما.
وتأمل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن، فإن الطاء جمعت من صفات الحروف
خمس صفات لم يجمعها غيرها: وهي الجهر والشدة والاستعلاء والإطباق [والإصمات]. والسين
مهموس رخو مستقل صفير منفتح، فلا يمكن أن يجمع إلى الطاء حرف يقابلها، كالسين
والهاء; فذكر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السورة التي اجتمعت على الحروف المفردة: كيف تجد السورة مبنية على كلمة
ذلك الحرف; فمن ذلك: * (ق والقرآن المجيد) * فإن السورة مبنية على الكلمات
القافية: من ذكر القرآن، ومن ذكر الخلق، وتكرار القول ومراجعته مرارا، والقرب من ابن
آدم، وتلقى الملكين، وقول العتيد، وذكر الرقيب، وذكر السابق، والقرين، والإلقاء
في جهنم، والتقدم بالوعد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرن، والتنقيب في البلاد،
وذكر القتل مرتين، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، وذكر
القوم، وخوف الوعيد، وغير ذلك.
وسر آخر وهو أن كل معاني السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر
والقلقلة والانفتاح.
وإذا أردت زيادة إيضاح فتأمل ما اشتملت عليه سورة " ص " من الخصومات
المتعددة; فأولها خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم. وقولهم: * (أجعل الآلهة
169

إلها واحدا...) *، إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود، ثم تخاصم أهل النار،
ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات، والكفارات، ثم تخاصم إبليس واعتراضه
على ربه وأمره بالسجود، ثم اختصامه ثانيا في شأن بنيه وحلفه ليغوينهم أجمعين إلا أهل
الإخلاص منهم.
وكذلك سورة * (ن والقلم) *; فإن فواصلها كلها على هذا الوزن، مع ما تضمنت من
الألفاظ النونية.
وتأمل سورة الأعراف زاد فيها " ص " لأجل قوله: * (فلا يكن في صدرك
حرج) * وشرح فيها قصص آدم فمن بعده من الأنبياء، ولهذا قال بعضهم: معنى * (المص) *،
* (ألم نشرح لك صدرك) *. وقيل: معناه المصور، وقيل أشار بالميم لمحمد، وبالصاد
للصديق; وفيه إشارة لمصاحبة الصاد الميم، وأنها تابعة لها كمصاحبة يكون الصديق لمحمد ومتابعته له.
وجعل السهيلي هذا من أسرار الفواتح وزاد في الرعد راء لأجل قوله الله الذي
رفع السماوات) * ولأجل ذكر الرعد والبرق وغيرهما.
واعلم أن عادة القرآن العظيم في ذكر هذه الحروف أن يذكر بعدها ما يتعلق بالقرآن
كقوله: * (ألم ذلك الكتاب) * وقد جاء بخلاف ذلك في العنكبوت والروم فيسأل عن
حكمة ذلك.
تنبيهات
ثم لا بد من التنبيه على أحكام تختص بهذه الفواتح الشريفة:
الأول أن البصريين لم يعدوا شيئا منها آية; وأما الكوفيون فمنها ما عدوه آية، ومنها
170

ما لم يعدوه آية; وهو علم توقيفي لا مجال للقياس فيه; كمعرفة السور; أما * (آلم) * فآية حيث
وقعت من السور المفتتحة بها، وهي ست، وكذلك * (المص) * آية، و * (آلمر) * لم تعد آية، و * (الر) *
وليست بآية من سورها الخمس، و * (طسم) * آية في سورتيها، و * (طه) * و * (يس) * آيتان،
و * (طس) * ليست بآية، و * (حم) *، في سورها كلها، و * (حم. عسق) * آيتان،
و * (كهيعص) * آية واحدة، و * (ص) *، و * (ق) *; و * (ن) *، لم تعد واحدة منها آية;
وإنما عد ما هو في حكم كلمة واحدة آية، كما عد * (الرحمن) * وحده، و * (مدهامتان) *
وحدها آيتين على طريق التوقيف.
وقال الواحدي في " البسيط " في أول سورة يوسف: لا يعد شئ منها آية إلا في
* (طه) *، وسره أن جميعها لا يشاكل ما بعده من رؤوس الآي، فلهذا لم يعد آية; بخلاف
* (طه) * فإنها تشاكل ما بعدها.
الثاني: هذه الفواتح الشريفة على ضربين: أحدهما أن كل ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو
* (كهيص) * و * (الم) *. والثاني ما يتأتى فيه; وهو إما أن يكون اسما مفردا كص وق،
ون، أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد ك " حم "، و " طس " و " يس " فإنها موازنة
لقابيل وهابيل، وكذلك " طسم " يتأتى فيها أن تفتح نونها فتصير (ميم) مضمومة إلى
" طس " فيجعلا اسما واحدا كدار انجرد. فالنوع الأول محكى ليس إلا، وأما النوع
الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب والحكاية.
* * *
171

الثالث: أنه يوقف على جميعها وقف التمام; إن حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى
ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور، وينعق بها كما ينعق بالأصوات; أو جعلت وحدها
أخبار ابتداء محذوف; كقوله تعالى: * (آلم. الله) * أي هذه السورة " آلم " ثم ابتدأ
فقال: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) *.
* * *
الرابع: أنها كتبت في المصاحف الشريفة على صورة الحروف أنفسها، لا على صورة
أساميها، وعلل ذلك بأن الكلمة لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرت
العادة متى تهجيت، ومتى قيل للكاتب: اكتب: كيت وكيت، أن يلفظ بالأسماء،
وتقع في الكتابة الحروف أنفسها; فحمل على ذلك للمشاكلة المألوفة في كتابة هذه
الفواتح. وأيضا فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسنة الأحمر والأسود لها; وأن اللافظ
بها غير متهجاة لا يجئ بطائل فيها، وأن بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده
أمنت وقوع اللبس فيها. وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي
يبنى عليها علم الخط والهجاء; ثم ما عاد ذلك بنكير ولا نقصان لاستقامة اللفظ
وبقاء الحفظ، وكان اتباع خط المصحف سنة لا تخالف. أشار إلى هذه الأحكام المذكورة
صاحب الكشاف.
وقد اختلف الناس في الحروف المقطعة أوائل السور على قولين:
172

أحدهما أن هذا علم مستور، وسر محجوب استأثر الله به، ولهذا قال الصديق رضي الله عنه
: في كل كتاب سر، وسره في القرآن أوائل السور. قال الشعبي: إنها من المتشابه،
نؤمن بظاهرها، ونكل العلم فيها إلى الله عز وجل.
قال الإمام الرازي: وقد أنكر المتكلمون هذا القول وقالوا: لا يجوز أن يرد
في كتاب الله ما لا يفهمه الخلق، لأن الله تعالى أمر بتدبره، والاستنباط منه; وذلك
لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه، ولأنه كما جاز التعبد بما لا يعقل معناه في الأفعال، فلم
لا يجوز في الأقوال بأن يأمرنا الله تارة بأن نتكلم بما نقف
على معناه، وتارة بما لا نقف
على معناه، ويكون القصد منه ظهور الانقياد والتسليم!
القول الثاني أن المراد منها معلوم، وذكروا فيه ما يزيد على عشرين وجها; فمنها
البعيد، ومنها القريب:
أحدها: ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن كل حرف منها مأخوذ من اسم
من أسمائه سبحانه، فالألف من " الله " واللام من " لطيف "، والميم من " مجيد "،
أو الألف من " آلائه "، واللام من " لطفه "، والميم من " مجده ". قال ابن فارس:
وهذا وجه جيد، وله في كلام العرب شاهد: * قلنا لها قفى فقالت ق *
فعبر عن قولها " وقفت " بق.
الثاني: أن الله أقسم بهذه الحروف بأن هذا الكتاب الذي يقرؤه محمد هو الكتاب
المنزل لا شك فيه، وذلك يدل على جلالة قدر هذه الحروف إذ كانت مادة البيان. وما في
كتب الله المنزلة باللغات المختلفة، وهي أصول كلام الأمم بها يتعارفون، وقد أقسم
الله تعالى ب‍ * (الفجر) * * (والطور) *; فكذلك شأن هذه الحروف في القسم بها.
173

الثالث: أنها الدائرة من الحروف التسعة والعشرين; فليس منها حرف إلا وهو مفتاح
اسم من أسمائه عز وجل، أو آلائه، أو بلائه، أو مدة أقوام أو آجالهم، فالألف سنة، واللام
ثلاثون سنة، والميم أربعون; روى عن الربيع بن أنس. قال ابن فارس: وهو قول حسن لطيف،
لأن الله تعالى أنزل على نبيه الفرقان، فلم يدع نظما عجيبا، ولا علما نافعا إلا أودعه إياه، علم
ذلك من علمه، وجهله من جهله.
الرابع: ويروى عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: * (الم) *. أنا الله أعلم، وفى * (المص) *
أنا الله أفضل، و * (الر) * أنا الله أرى، ونحوه من دلالة الحرف الواحد على الاسم العام،
والصفة التامة.
الخامس: أنها أسماء للسور ف‍ * (الم) * اسم لهذه، و * (حم) * اسم لتلك، وذلك أن الأسماء
وضعت للتمييز; فهكذا هذه الحروف وضعت لتمييز هذه السور من غيرها، ونقله الزمخشري
عن الأكثرين وأن سيبويه نص عليه في كتابه. وقال الإمام فخر الدين:
هو قول أكثر المتكلمين. فإن قيل: فقد وجدنا * (الم) * افتتح بها عدة سور، فأين التمييز؟
قلنا: قد يقع الوفاق بين اسمين لشخصين ثم يميز بعد ذلك بصفة وقعت، كما يقال:
زيد وزيد، ثم يميزان بأن يقال: زيد الفقيه، وزيد النحوي، فكذلك إذا قرأ القارئ:
* (ألم. ذلك الكتاب) * فقد ميزها عن * (آلم) *. الله لا إله إلا هو الحي
القيوم) *.
السادس: أن لكل كتاب سرا، وسر القرآن فواتح السور، قال ابن فارس: وأظن
قائل ذلك أراد أنه من السر الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم. واختاره جماعة، منهم
أبو حاتم بن حبان.
174

قلت: وقد استخرج بعض أئمة المغرب من قوله تعالى: * (آلم. غلبت الروم) *
فتوح بيت المقدس واستنقاذه من العدو في سنة معينة، وكان كما قال.
السابع: أن العرب كانوا إذا سمعوا القرآن لغوا فيه، وقال بعضهم: * (لا تسمعوا لهذا
القرآن والغوا فيه) * فأنزل الله هذا النظم البديع ليعجبوا منه، ويكون تعجبهم سببا
لاستماعهم، واستماعهم له سببا لاستماع ما بعده، فترق القلوب وتلين الأفئدة.
الثامن: أن هذه الحروف ذكرت لتدل على أن القرآن مؤلف من الحروف التي
هي: ا، ب، ت، ث... فجاء بعضها مقطعا، وجاء تمامها مؤلفا، ليدل القوم الذين نزل
القرآن بلغتهم أنه بالحروف التي يعقلونها، ويبنون كلامهم منها.
التاسع، واختاره ابن فارس وغيره أن تجعل هذه التأويلات كلها تأويلا واحد;
فيقال: إن الله جل وعلا افتتح السور بهذه الحروف إرادة منه للدلالة بكل حرف منها على
معان كثيرة، لا على معنى واحد، فتكون هذه الحروف جامعة لأن تكون افتتاحا، وأن
يكون كل واحد منها مأخوذا من اسم من أسماء الله تعالى، وأن يكون الله عز وجل قد وضعها
هذا الوضع فسمى بها، وأن كل حرف منها في آجال قوم وأرزاق آخرين، وهي مع
ذلك مأخوذة من صفات الله تعالى في إنعامه وإفضاله ومجده، وأن الافتتاح بها سبب لأن
يسمع القرآن من لم يكن سمع، وأن فيها إعلاما للعرب أن القرآن الدال على نبوة محمد
صلى الله عليه وسلم بهذه الحروف، وأن عجزهم عن الاتيان بمثله مع نزوله بالحروف المتعالمة
بينهم دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم، وأن كل عدد منها إذا وقع أول كل سورة
فهو اسم لتلك السورة.
قال: وهذا القول الجامع للتأويلات كلها. والله أعلم بما أراد من ذلك.
175

العاشر: أنها كالمهيجة لمن سمعها من الفصحاء، والموقظة بعد للهمم الراقدة من البلغاء لطلب
التساجل، والأخذ في التفاضل، وهي بمنزلة زمجرة الرعد قبل الناظر في الأعلام لتعرف الأرض
فضل الغمام، وتحفظ ما أفيض عليها من الإنعام. وما هذا شأنه خليق بالنظر فيه والوقوف
على معانيه بعد حفظ مبانيه.
الحادي عشر: التنبيه على أن تعداد هذه الحروف ممن لم يمارس الخط، ولم يعان الطريقة،
على ما قال تعالى: * (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب
المبطلون.
الثاني عشر: انحصارها في نصف أسماء حروف المعجم، لأنها أربعة عشر حرفا على
ما سبق تفصيله; وهذا واضح على من عد حروف المعجم ثمانية وعشرين حرفا، وقال
" لا " مركبة من اللام والألف; والصحيح أنها تسعة وعشرون حرفا، والنطق " بلا "
في الهجاء كالنطق في " لا رجل في الدار "، وذلك لأن الواضع جعل كل حرف من
حروف المعجم صدر اسمه إلا الألف، فإنه لما لم يمكن أن يبتدأ به لكونه مطبوعا على
السكون فلا يقبل الحركة أصلا توصل إليه باللام; لأنها شابهته الذي في الاعتداد والانتصاب،
ولذلك يكتب على صورة الألف إلا إذا اتصل بما بعده.
فإن قلت: فقد تقدم اسم الألف في أول حروف الهجاء؟ قلت: ذلك اسم الهمزة
لوجهين: أحدهما أنه صدره، والثاني أنها صدر ما تصدر من حروف المعجم لتكون صورته
ثلاثا; وإنما كانت صدره لأن صورتها كالمتكررة أربع مرات; لأنها تلبس صورة العين
وصورة الألف والواو والياء لما يعرض من الحركة والسكون، ولذلك أخروا ما بعد الطاء
176

والظاء والعين; لأن صورتها ليست متكررة. وجوابه على هذا المذهب أن الحرف لا يمكن
تنصيفه، فيتعين سقوط حرف لأنه الأليق بالإيجاز.
الثالث عشر: مجيئها في تسع وعشرين سورة بعدد الحروف. فإن قلت: هلا روعى
صورتها كما روعى عددها؟ قلت: عرض لبعضها الثقل لفظا فأهمل.
فصل
اعلم أنه لما كانت هذه الحروف ضرورية في النطق، واجبة في الهجاء، لازمة التقدم
في الخط والنطق - إذ المفرد مقدم على المركب - فقدمت هذه المفردات على مركباتها
في القرآن، فليس في المفرد ما في المركب، بل في المركب ما في المفرد وزيادة. ولما كان
نزول القرآن في أزمنة متطاولة، تزيد على عشرين سنة، وكان باقيا إلى آخر الزمان; لأنه
ناسخ لما قبله، ولا كتاب بعده، جعل الله تعالى حروفه كالعلائم، وقد مبينة أن هذه السورة
هي من قبيل تلك التي أنزلت من عشر سنين مثلا، حتى كأنها تتمة، لها وإن كان بينهما مدة.
وأما نزول ذلك في مدد وأزمنة، أو نزول سور خالية عن الحروف فبحسب تلك
الوقائع. وأما ترتيب وضعها في المصحف - أعني السور - فله أسباب مذكورة في النوع
الثالث عشر.
وأما زيادة بعض الحروف في بعض السور وتغيير بعضها، فليعلم أن المراد الإعلام
بالحروف فقط; وذلك أنه متى فرض الانسان في بعضها شيئا، مثل * (الم) * السجدة، لزمه في مثلها
مثله، كألف لام ميم البقرة; فلما لم يجد دله ذلك الثاني على بطلان الأول، وتحقق أن هذه
الحروف هي علامات المكتوب والمنطوق. وأما كونها اختصت بسورة البقرة فيحتمل أن
177

ذلك تنبيه على السور، وأنها احتوت على جملة المنطوق به من جهة الدلالة; ولهذا حصلت
في تسعة وعشرين سورة بعدد جملة الحروف. ولو كان القصد الاحتواء على نصف الكتاب
لجاءت في أربع عشرة سورة; وهذا الاحتواء ليس من كل وجه، بل من وجه يرجع إلى
إلى النطق والفصاحة وتركيب ألفاظ اللغة العربية; وما يقتضى أن يقع فيه التعجيز. ويحتمل
أن يكون لمعان أخر، يجدها من يفتح الله عليه بالتأمل والنظر; أو هبة من لدنه سبحانه.
ولا يمتنع أن يكون في بقية السور أيضا كما في ذوات الحروف، بل هذه خصصت بعلامات
لفضيلة وجب من أجلها أن تعلم عليها السور، لينبه على فضلها، وهذا من باب الاحتمال.
والأولى أن الأحرف إنما جاءت في تسعة وعشرين سورة لتكون عدة السور دالة لنا على
عدة الحروف، فتكون السور من جهة العدة مؤدية إلى الحروف من جهة العدة; فيعلم
أن الأربعة عشر عوض عن تسعة وعشرين.
[3 الاستفتاح بالنداء]
النوع الثالث من أنواع استفتاح السور: النداء; نحو: * (يا أيها الذين آمنوا) *.
* (يا أيها النبي) *. * (يا أيها المدثر) *; وذلك في عشر سور.
178

[4 - الاستفتاح بالجمل الخبرية]
الرابع: الجمل الخبرية; نحو * (يسألونك عن الأنفال) *. * (براءة من الله) *. أتى
أمر الله) *. * (إقترب للناس حسابهم) *. * (قد أفلح المؤمنون) *. * (سورة أنزلناها) *
* (تنزيل الكتاب) *. * (الذين كفروا) *. * (إنا فتحنا) *. * (إقتربت الساعة) *.
* (الرحمن علم القرآن) *. * (قد سمع الله) *. * (الحاقة) *. * (سأل سائل) *. * (إنا
أرسلنا) *. * (لا أقسم) * في موضعين. * (عبس) *. * (إنا أنزلناه) *.
* (لم يكن) *. * (القارعة) *. * (ألهاكم) *. * (إنا أعطيناك) *; فتلك ثلاث
وعشرون سورة.
[5 - الاستفتاح بالقسم]
الخامس: القسم; نحو: * (والصافات) *. * (والذاريات) *. * (والطور) *. * (والنجم) *
* (والمرسلات) *. * (والنازعات) *. * (والسماء ذات البروج) *. * (والسماء والطارق) *.
* (والفجر) *. * (والشمس) *. * (والليل) *. * (والضحى) *. * (والتين) *. * (والعاديات) *.
* (والعصر) *; فتلك خمس عشرة سورة.
179

[6 - الاستفتاح بالشرط]
السادس: الشرط; نحو * (إذا وقعت الواقعة) *. * (إذا جاءك المنافقون) *. * (إذا
الشمس كورت) *. * (إذا السماء انفطرت) *. * (إذا السماء انشقت) *. * (إذا زلزلت) *.
* (إذا جاء نصر الله) *; فذلك سبع سور.
[7 - الاستفتاح بالأمر]
السابع: هو الاستفتاح بالأمر; في ست سور: * (قل أوحى) *. * (أقرأ باسم ربك) *.
* (قل يا أيها الكافرون) *. * (قل هو الله أحد) *. * (قل أعوذ) * في سورتين.
[8 - الاستفتاح بالاستفهام]
الثامن: لفظ الاستفهام في: * (هل أتى) *. * (عم يتساءلون) *. * (هل
أتاك) *. * (ألم نشرح) *. * (ألم تر) *. * (أرأيت) *، فتلك ست سور.
[9 - الاستفتاح بالدعاء]
التاسع: الدعاء في ثلاث سور: * (ويل للمطففين) *. * (ويل لكل همزة) *.
* (تبت يدا أبى لهب) *.
[10 - الاستفتاح بالتعليل]
العاشر: التعليل، في موضع واحد، نحو * (لإيلاف قريش) *.
هكذا جمع الشيخ شهاب الدين أبو شامة المقدسي; قال: وما ذكرناه في قسم
180

الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر; وكذا الثناء على الله سبحانه وتعالى كله خبر إلا * (سبح
اسم ربك الأعلى) * فإنه يدخل أيضا في قسم الأمر، و * (سبحان الذي أسرى بعبده) *.
يحتمل الأمر والخبر; ونظم ذلك في بيتين فقال:
- أثنى على نفسه سبحانه بثبوت * المدح والسلب لما استفتح السورا -
والأمر شرط الندا التعليل والقسم الدعا * حروف التهجي استفهم الخبرا
181

النوع الثامن
في خواتم السور
وهي مثل الفواتح في الحسن; لأنها آخر ما يقرع الأسماع; فلهذا جاءت متضمنة
للمعاني البديعة; مع إيذان السامع بانتهاء الكلام حتى يرتفع معه تشوف النفس إلى
ما يذكر بعد.
ومن أوضحه خاتمة سورة إبراهيم: * (هذا بلاغ للناس) *. وخاتمة سورة
الأحقاف: * (بلاغ; فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) *; ولأنها بين أدعية ووصايا
وفرائض ومواعظ وتحميد وتهليل، ووعد ووعيد; إلى غير ذلك. كتفصيل جملة المطلوب
في خاتمة فاتحة الكتاب; إذ المطلوب الأعلى الإيمان المحفوظ من المعاصي المسببة لغضب الله
والضلال; ففصل جملة ذلك بقوله: * (الذين أنعمت عليهم) *; والمراد المؤمنين;
ولذلك أطلق الإنعام ولم يقيده ليتناول كل إنعام; لأن من أنعم عليه بنعمة الإيمان
فقد أنعم عليه بكل نعمة; لأن نعمة الإيمان مستتبعة لجميع النعم; ثم وصفهم بقوله
* (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * يعنى أنهم جمعوا بين النعم المطلقة وهي نعمة
الإيمان، وبين السلامة من غضب الله والضلال المسببين عن معاصيه وتعدى حدوده.
182

وكالدعاء الذي اشتملت عليه الآيتان من آخر سورة البقرة.
وكالوصايا التي ختمت بها سورة آل عمران، بالصبر على تكاليف الدين، والمصابرة
لأعداء الله في الجهاد ومعاقبتهم، والصبر على شدائد الحرب والمرابطة في الغزو المحضوض
عليها بقوله: * (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) *، والتقوى
الموعود عليها بالتوفيق في المضايق وسهولة الرزق في قوله: * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا
ويرزقه من حيث لا يحتسب) *. وبالفلاح لأن * (لعل) * من الله واجبة.
وكالوصايا والفرائض التي ختمت بها سورة النساء، وحسن الختم بها لأنها آخر ما نزل
من الأحكام عام حجة الوداع.
وكالتبجيل وهو والتعظيم الذي ختمت به المائدة: * (لله ملك السماوات والأرض وما
فيهن وهو على كل شئ قدير) *، ولإرادة المبالغة في التعظيم أختيرت " ما " على
" من " لإفادة العموم، فيتناول الأجناس كلها.
وكالوعد والوعيد الذي ختمت به سورة الأنعام بقوله: * (إن ربك سريع العقاب
وإنه لغفور رحيم) * ولذلك أورد على وجه المبالغة في وصف العقاب بالسرعة وتوكيد
الرحمة بالكلام المفيد لتحقيق الوقوع.
183

وكالتحريض إذا على العبادة بوصف حال الملائكة الذي ختمت به سورة الأعراف.
والحض على الجهاد وصلة الأرحام الذي ختم به الأنفال.
ووصف الرسول ومدحه والاعتداد على الأمم به وتسليمه ووصيته والتهليل الذي
ختمت به براءة.
وتسليته عليه الصلاة والسلام الذي ختم بها سورة يونس. ومثلها خاتمة هود.
ووصف القرآن ومدحه الذي ختم به سورة يوسف.
والرد على من كذب الرسول الذي ختم به الرعد.
184

ومدح القرآن وذكر فائدته والعلة في أنه إله واحد الذي ختمت به إبراهيم.
ووصيته الرسول التي ختم بها الحجر.
وتسلية الرسول بطمأنينته ووعد الله سبحانه الذي ختمت به النحل. والتحميد الذي
ختمت به سبحان.
وتحضيض الرسول على البلاغ والإقرار بالتنزيه، والأمر بالتوحيد الذي ختمت به
الكهف.
وقد أتينا على نصف القرآن ليكون مثالا لمن نظر في بقيته.
فصل
[في مناسبة فواتح السور وخواتمها]
ومن أسراره مناسبة فواتح السور وخواتمها. وتأمل سورة القصص وبداءتها فقال بقصة
مبدأ أمر موسى ونصرته، وقوله: * (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * وخروجه من
وطنه ونصرته وإسعافه بالمكالمة، وختمها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بألا يكون ظهيرا
185

للكافرين، وتسليته بخروجه من مكة والوعد بعوده إليها بقوله: * (إن الذي فرض عليك
القرآن لرادك إلى معاد) *.
قال الزمخشري: وقد جعل الله فاتحة سورة المؤمنين * (قد أفلح المؤمنون) * وأورد في
خاتمتها: * (إنه لا يفلح الكافرون) *، فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة!
فصل
[في مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي قبلها]
ومن أسراره مناسبة فاتحة السورة بخاتمة التي; قبلها حتى إن منها ما يظهر تعلقها به
لفظا كما قيل في: * (فجعلهم كعصف مأكول) *، * (لإيلاف قريش) *.
وفى الكواشي لما ختم سورة النساء أمرا بالتوحيد والعدل بين العباد، أكد ذلك
بقوله في أول سورة المائدة: * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) *.
186

النوع التاسع
معرفة المكي والمدني
وما نزل بمكة والمدينة وترتيب ذلك
ومن فوائده معرفة الناسخ والمنسوخ والمكي أكثر من المدني.
اعلم أن للناس في ذلك ثلاثة اصطلاحات:
أحدها أن المكي ما نزل بمكة، والمدني ما نزل بالمدينة.
والثاني - وهو المشهور - أن المكي ما نزل قبل الهجرة، وإن كان بالمدينة، والمدني
ما نزل بعد الهجرة، وإن كان بمكة.
والثالث أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة;
وعليه يحمل قول ابن مسعود الآتي; لأن الغالب على أهل مكة الكفر فخوطبوا ب‍ " يا أيها
الناس " وإن كان غيرهم داخلا فيهم، وكان الغالب على أهل المدينة الإيمان فخوطبوا
ب‍ " يا أيها الذين آمنوا " أي وإن كان غيرهم داخلا فيهم.
وذكر الماوردي أن البقرة مدنية في قول الجميع إلا آية، وهي: * (واتقوا يوما ترجعون
فيه إلى الله) * فإنها نزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى. انتهى.
187

ونزولها هناك لا يخرجها عن المدني بالاصطلاح الثاني أن ما نزل بعد الهجرة مدني سواء
كان بالمدينة أو بغيرها.
وقال الماوردي في سورة النساء: هي مدنية إلا آية واحدة نزلت في مكة في عثمان
ابن طلحة حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة ويسلمها
إلى العباس، فنزلت: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * والكلام
فيه كما تقدم.
ومن جملة علاماته أن كل سورة فيها " يا أيها الناس " وليس فيها " يا أيها الذين آمنوا "
فهي مكية، وفى الحج اختلاف. وكل سورة فيها " كلا " فهي مكية، وكل سورة أولها
حروف المعجم فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، وفى الرعد خلاف. وكل سورة فيها
قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة. وكل سورة فيها ذكر المنافقين فمدنية سوى
العنكبوت.
وقال هشام عن أبيه: كل سورة ذكرت فيها الحدود والفرائض فهي مدنية، وكل
ما كان فيه ذكر القرون الماضية فهي مكية.
وذكر أبو عمرو عثمان بن سعيد الدارمي بإسناده إلى يحيى بن سلام قال: ما نزل
بمكة وما نزل في طريق المدينة قبل أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فهو من المكي
188

وما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره بعد ما قدم المدينة فهو من المدني، وما
كان من القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فهو مدني، وما كان " يا أيها الناس "
فهو مكي.
وذكر أيضا بإسناده إلى عروة بن الزبير قال: ما كان من حد أو فريضة فإنه
أنزل بالمدينة، وما كان من ذكر الأمم والعذاب فإنه أنزل بمكة.
وقال الجعبري: لمعرفة المكي والمدني طريقان: سماعي وقياسي، فالسماعي ما وصل
إلينا نزوله بأحدهما والقياسي، قال علقمة عن عبد الله: كل سورة فيها " يا أيها الناس "
فقط أو " كلا " أو أولها حروف تهج سوى الزهراوين والرعد في وجه، أو فيها قصة آدم
وإبليس سوى الطولى فهي مكية; وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم الخالية مكية،
وكل سورة فيها فريضة أو حد فهي مدنية. انتهى.
وذكر ابن أبي شيبة في مصنفة في كتاب فضائل القرآن: حدثنا وكيع عن الأعمش
عن إبراهيم عن علقمة قال: كل شئ نزل فيه " يا أيها الناس " فهو بمكة، وكل شئ نزل
فيه " يا أيها الذين آمنوا " فهو بالمدينة; وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود.
189

ورواه الحاكم في مستدركه في آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين، قال: حدثنا وكيع
عن أبيه عن الأعمش وعن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود به.
ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة، وكذا رواه البزار في مسنده ثم قال:
وهذا يرويه غير قيس عن علقمة مرسلا، ولا نعلم أحدا أسنده إلا قيس. انتهى.
ورواه ابن مردويه في تفسيره في سورة الحج عن علقمة عن أبيه، وذكر في آخر
الكتاب عن عروة بن الزبير نحوه. وقد نص على هذا القول جماعة من الأئمة منهم
أحمد بن حنبل وغيره، وبه قال كثير من المفسرين، ونقله عن ابن عباس.
وهذا القول إن أخذ على إطلاقه ففيه نظر، فإن سورة البقرة مدنية، وفيها: * (يا أيها
الناس اعبدوا ربكم) * وفيها: * (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) *.
وسورة النساء مدنية، وفيها: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) *، وفيها: * (إن يشأ
يذهبكم أيها الناس) *. وسورة الحج مكية، وفيها: * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا
واسجدوا) *: فإن أراد المفسرون أن الغالب ذلك فهو صحيح، ولذا قال مكي: هذا
190

إنما هو في الأكثر وليس بعام، وفى كثير من السور المكية: * (يا أيها الذين آمنوا) *. انتهى.
والأقرب تنزيل قول من قال: مكي ومدني; على أنه خطاب المقصود به أو جل
المقصود به أهل مكة " يا أيها الذين آمنوا " كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة.
وفى تفسير الرازي عن علقمة والحسن: أن ما في القرآن " يا أيها الناس " مكي،
وما كان " يا أيها الذين آمنوا " فبالمدينة، وأن القاضي قال: إن كان الرجوع في هذا إلى
النقل فمسلم، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة
فضعيف; إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم وجنسهم، ويؤمر غير المؤمنين
بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها انتهى.
فصل
ويقع السؤال: أنه هل نص النبي صلى الله عليه وسلم على بيان ذلك؟ قال القاضي أبو بكر
في الانتصار: إنما هذا يرجع لحفظ الصحابة وتابعيهم، كما أنه لا بد في العادة من معرفة معظمي العالم
والخطيب، وأهل الحرص على حفظ كلامه ومعرفة كتبه ومصنفاته من أن يعرفوا ما صنفه
أولا وآخرا، وحال القرآن في ذلك أمثل، والحرص عليه أشد، غير أنه لم يكن من النبي صلى الله
عليه وسلم في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة
كذا، وفصله لهم. ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر، وإنما لم يفعله أنه لم يؤمر به، ولم يجعل
الله علم ذلك من فرائض الأمة، وإن وجب في بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ
والمنسوخ، ليعرف الحكم الذي تضمنهما، فقد يعرف ذلك بغير نص الرسول بعينه، وقوله
191

هذا هو الأول المكي، وهذا هو الآخر المدني. وكذلك الصحابة والتابعون من بعدهم لما لم
يعتبروا أن من فرائض الدين تفصيل جميع المكي والمدني مما لا يسوغ الجهل به، لم تتوفر
الدواعي على إخبارهم به، ومواصلة ذكره على أسماعهم، وأخذهم بمعرفته. وإذا كان كذلك
ساغ أن يختلف في بعض القرآن هل هو مكي أو مدني، وأن يعلموا في القول بذلك ضربا
من الرأي والاجتهاد، وحينئذ فلم يلزم النقل عنهم ذكر المكي والمدني، ولم يجب على من
دخل في الاسلام بعد الهجرة أن يعرف كل آية أنزلت قبل إسلامه: مكية أو مدنية.
فيجوز أن يقف في ذلك أو يغلب على ظنه أحد الأمرين; وإذا كان كذلك بطل ما توهموه
من وجوب نقل هذا أو شهرته في الناس; ولزوم العلم به لهم، ووجوب ارتفاع الخلاف فيه.
فصل
قال أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب النيسابوري في كتاب " التنبيه على فضل علوم
القرآن " من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته وترتيب ما نزل بمكة ابتداء ووسطا
وانتهاء، وترتيب ما نزل بالمدينة كذلك، ثم ما نزل بمكة وحكمه مدني، وما نزل بالمدينة
وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة، وما نزل بالمدينة في أهل مكة، ثم ما يشبه
نزول المكي في المدني، وما يشبه نزل المدني في المكي، ثم ما نزل بالجحفة، وما نزل ببيت
المقدس، وما نزل بالطائف، وما نزل بالحديبية، ثم ما نزل ليلا، وما نزل نهارا، وما نزل
مشيعا، وما نزل مفردا، ثم الآيات المدنيات في السور المكية، والآيات المكية في السور
المدنية، ثم ما حمل من مكة إلى المدينة، وما حمل من المدينة إلى مكة، وما حمل من
المدينة إلى أرض الحبشة، ثم ما نزل مجملا، وما نزل مفسرا، وما نزل مرموزا، ثم ما اختلفوا
فيه، فقال بعضهم: مدني. هذه خمسة وعشرون وجها; من لم يعرفها ويميز بينها لم يحل
له أن يتكلم في كتاب الله تعالى.
192

ذكر ما نزل من القرآن بمكة ثم ترتيبه
أول ما نزل من القرآن بمكة: * (اقرأ باسم ربك) *، ثم * (ن والقلم) *، ثم * (يا أيها
المزمل) *، ثم * (يا أيها المدثر) *، ثم * (تبت يدا أبى لهب) *، ثم * (إذا الشمس
كورت) *، ثم * (سبح اسم ربك الأعلى) *، ثم * (والليل إذا يغشى) *، ثم * (والفجر) *
ثم * (والضحى) *، ثم * (ألم نشرح) *، ثم * (والعصر) *، ثم * (والعاديات) *، ثم * (إنا
أعطيناك الكوثر) *، ثم * (ألهاكم التكاثر) *، ثم * (أرأيت الذي) *، ثم * (قل يا أيها
الكافرون) *، ثم " سورة الفيل " ثم " الناس "، ثم * (قل هو الله
أحد) *، ثم * (والنجم إذا هوى) *، ثم * (عبس وتولى) *، ثم * (إنا أنزلناه) *، ثم
* (والشمس وضحاها) *، ثم * (والسماء ذات البروج) *، ثم * (والتين والزيتون) *، ثم
* (لايلاف قريش) *، ثم * (القارعة) *، ثم * (لا أقسم بيوم القيامة) *، ثم، الهمزة، ثم
المرسلات، ثم * (ق والقرآن) *، ثم * (لا أقسم بهذا البلد) *، ثم الطارق، ثم * (اقتربت
الساعة) *، ثم * (ص والقرآن) *، ثم الأعراف، ثم الجن، ثم * (يس) * ثم
الفرقان، ثم الملائكة ثم مريم، ثم طه، ثم الواقعة، ثم الشعراء، ثم النمل، ثم
القصص، ثم بنى إسرائيل، ثم يونس، ثم هود، ثم يوسف، ثم الحجر، ثم الأنعام، ثم
الصافات، ثم لقمان، ثم سبأ، ثم الزمر، ثم حم. المؤمن، ثم حم. السجدة، ثم حم. عسق، ثم
حم. الزخرف، ثم حم. الدخان، ثم حم. الجاثية، ثم حم. الأحقاف، ثم * (والذاريات) *،
ثم الغاشية، ثم، الكهف، ثم، النحل، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم الأنبياء، ثم المؤمنون،
ثم * (الم تنزيل) *، ثم * (والطور) * ثم الملك، ثم * (الحاقة) * ثم * (سأل سائل) *، ثم
* (عم يتساءلون) *، ثم * (والنازعات) *، ثم * (إذا السماء انفطرت) *، ثم * (إذا السماء
انشقت) *، ثم الروم.
واختلفوا في آخر ما نزل بمكة، فقال ابن عباس: العنكبوت. وقال الضحاك وعطاء:
193

المؤمنون، وقال مجاهد: * (ويل للمطففين *). فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بمكة، وعليه
استقرت الرواية من الثقات، وهي خمس وثمانون سورة.
ذكر ترتيب ما نزل بالمدينة
وهو تسع وعشرون سورة
فأول ما نزل فيها: سورة البقرة، ثم الأنفال، ثم آل عمران، ثم الأحزاب، ثم
الممتحنة، ثم النساء، ثم * (إذا زلزلت *)، ثم الحديد، ثم محمد، ثم الرعد، ثم الرحمن،
ثم * (هل أتى) *، ثم الطلاق، ثم * (لم يكن) * ثم الحشر، ثم * (إذا جاء نصر الله) *
ثم النور، ثم الحج، ثم المنافقون، ثم المجادلة، ثم الحجرات، ثم * (يا أيها النبي لتحرم) *
ثم الصف، ثم الجمعة، ثم التغابن، ثم الفتح، ثم التوبة، ثم المائدة.
ومنهم من يقدم المائدة على التوبة، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم المائدة في خطبة حجة
الوداع وقال: " يا أيها الناس، إن آخر القرآن نزولا سورة المائدة، فأحلوا حلالها،
وحرموا حرامها "
فهذا ترتيب ما نزل بالمدينة. وأما ما اختلفوا فيه: ففاتحة الكتاب، قال ابن عباس
والضحاك ومقاتل وعطاء: إنها مكية. وقال مجاهد: مدنية; واختلفوا في * (ويل
للمطففين) * فقال ابن عباس: مدنية; وقال عطاء: هي آخر ما نزل بمكة، فجميع
ما نزل بمكة خمس وثمانون سورة، وجميع ما نزل بالمدينة تسع وعشرون سورة، على اختلاف
الروايات.
194

ذكر ما نزل بمكة وحكمه مدني
منها قوله تعالى: * (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا
وقبائل...) * الآية، ولها قصة يطول بذكرها الكتاب ونزولها بمكة يوم فتحها،
وهي مدنية لأنها نزلت بعد الهجرة.
ومنها قوله في المائدة * (اليوم أكملت لكم دينكم) * إلى قوله: * (الخاسرين) *
نزلت يوم الجمعة والناس وقوف بعرفات، فبركت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم من هيبة
القرآن. وهي مدنية لنزولها بعد الهجرة، وهي عدة آيات يطول ذكرها.
ذكر ما نزل بالمدينة وحكمه مكي
منه الممتحنة إلى آخرها; وهي قصة حاطب بن أبي بلتعة وسارة، والكتاب الذي
دفعة إليها - وقصتها مشهورة - فخاطب بها أهل مكة.
ومنها قوله تعالى في سورة النحل: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا...) *
إلى آخر السورة، مدنيات يخاطب بها أهل مكة.
ومنها سورة الرعد يخاطب أهل مكة، وهي مدنية.
195

ومن أول براءة إلى قوله: * (إنما المشركون نجس) * خطاب لمشركي مكة; وهي
مدنية.
فهذا من جملة ما نزل بمكة في أهل المدينة وحكمه مدني، وما أنزل في أهل مكة
وحكمه مكي.
ما يشبه تنزيل المدينة في السور المكية
من ذلك قوله تعالى في النجم: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم) *
يعنى كل ذنب عاقبته النار، * (والفواحش) * يعنى كل ذنب فيه حد * (إلا اللمم) * وهو بين
الحدين من الذنوب، نزلت في نبهان والمرأة التي راودها عن نفسها فأبت; والقصة مشهورة
واستقرت الرواية بما قلنا; والدليل على صحته أنه لم يكن بمكة حد ولا غزو.
ومنها قوله تعالى في هود: * (وأقم الصلاة طرفي النهار...) * الآية نزلت في أبى مقبل
لحسين بن عمر بن قيس والمرأة التي اشترت منه التمر، فراودها.
ما يشبه تنزيل مكة في السور المدنية
من ذلك قوله تعالى في الأنبياء: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا) *
نزلت في نصارى نجران [ومنهم] السيد والعاقب.
196

ومنها سورة * (والعاديات ضبحا) * في رواية الحسين بن واقد، وقصتها مشهورة.
ومنها قوله تعالى في الأنفال: * (وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق... الآية
ما نزل بالجحفة
قوله عز وجل في سورة القصص: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى
معاد) * نزلت بالجحفة والنبي صلى الله عليه وسلم مهاجر.
ما نزل ببيت المقدس
قوله تعالى في الزخرف: * (واسأل من قبلك من رسلنا أجعلنا من
دون الرحمن آلهة يعبدون) *، نزلت عليه ليلة أسرى به.
ما نزل بالطائف
قوله تعالى في الفرقان: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل...) * الآية، ولذلك
قصة عجيبة.
وقوله في: * (إذا السماء انشقت) *: * (بل الذين كفروا يكذبون. والله أعلم
بما يوعدون فبشرهم بعذاب أليم) * يعنى كفار مكة.
ما نزل بالحديبية
قوله تعالى في الرعد: * (وهم يكفرون بالرحمن) * نزلت بالحديبية حين صالح
النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى: اكتب:
197

* (بسم الله الرحمن الرحيم) *، فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمن الرحيم; ولو نعلم
أنك رسول الله لتابعناك، فأنزل الله تعالى: * (وهم يكفرون بالرحمن) * إلى قوله * (متاب) *.
ما نزل ليلا
قوله تعالى في أول سورة الحج: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ
عظيم) *، نزلت ليلا في غزوة بن المصطلق، وهم حي من خزاعة والناس يسيرون.
وقوله تعالى في المائدة: * (والله يعصمك من الناس) *، نزلت في بعض غزوات
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس كل ليلة.
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرس كل ليلة.
قال عبد الله بن عامر بن ربيعة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يحرسنا الليلة؟ "،
فأتاه حذيفة وسعد في آخرين معهم الحجف والسيوف، وكان رسول الله صلى الله
عليه وسلم في خيمة من أدم، فباتوا على باب الخيمة، فلما أن كان بعد هزيع من الليل
أنزل الله عليه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الخيمة فقال: يا أيها
الناس، انصرفوا فقد عصمني الله ".
ومنها قوله: * (إنك لا تهدى من أحببت...) * الآية، قالت عائشة
رضي الله عنها: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه في اللحاف.
ونزل عليه أكثر القرآن نهارا.
198

ما نزل مشيعا
سورة الأنعام نزلت مرة واحدة، شيعها سبعون ألف ملك، طبقوا ما بين السماوات
والأرض، لهم زجل بالتسبيح; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (سبحان الله! "،
وخر ساجدا.
قلت: ذكر أبو عمرو بن الصلاح في " فتاويه " أن الخبر المذكور جاء من حديث أبي
ابن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم; وفى إسناده ضعف، ولم نر له إسنادا صحيحا، وقد
روى ما يخالفه، فروى أنها لم ينزل جملة واحدة بل نزل منها آيات بالمدينة; اختلفوا
في عددها فقيل: ثلاث: هي قوله تعالى: * (قل تعالوا... الخ الآيات، وقيل: ست،
وقيل: غير ذلك، وسائرها نزل بمكة.
وفاتحة الكتاب نزلت ومعها ثمانون ألف ملك.
وآية الكرسي نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك ولا.
وسورة يونس نزلت ومعها ثلاثون ألف ملك.
* (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) * نزلت ومعها عشرون ألف ملك.
وسائر القرآن نزل به جبريل بلا تشييع.
الآيات المدنيات في السور المكية
منها سورة الأنعام، وهي كلها مكية خلا ست آيات، واستقرت بذلك الروايات.
* (وما قدروا الله حق قدره) * نزلت هذه في مالك بن الصيف، إلى آخر الآية،
والثانية والثالثة.
199

* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * نزلت في عبد الله بن أبي سرح، أخي
عثمان من الرضاعة، حين قال: * (سأنزل مثل ما أنزل الله) *، وذلك أنه كان يكتب
لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله جل ذكره: * (ولقد خلقنا الانسان من سلالة
من طين) *، فأملاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ قوله: * (ثم أنشأناه خلقا
آخر) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (اكتب فتبارك الله... الخ الآية فقال:
إن كنت نبيا فأنا نبي; لأنه خطر ببالي ما أمليت على. فلحق كافرا.
وأما قوله * (أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شئ) *، فإنه نزل في مسيلمة
الكذاب، حين زعم أن الله سبحانه أوحى اليه. وثلاث آيات من آخرها: * (قل
تعالوا) * إلى قوله * (تتقون) *.
سورة الأعراف مكية إلا ثلاث آيات: * (واسألهم عن القرية التي كانت) * إلى
قوله: * (وإذ نتقنا الجبل) *.
سورة إبراهيم مكية، غير آيتين نزلتا في قتلى بدر: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله
كفرا...) * الخ الآيتين.
سورة النحل، مكية إلى قوله: * (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا) *
والباقي مدني.
200

سورة بنى إسرائيل مكية، غير قوله: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا
إليك) * يعنى ثقيفا، وله قصة.
سورة الكهف مكية، غير قوله: * (واصبر نفسك) * نزلت في سلمان الفارسي
وله قصة.
سورة القصص مكية، غير آية: * (الذين آتيناهم الكتاب) * - يعنى الإنجيل - من
قبله هم به يؤمنون) * يعنى الفرقان. نزلت في أربعين رجلا من مؤمني أهل الكتاب
201

قدموا من الحبشة مع جعفر بن أبي طالب فأسلموا، ولهم قصة.
سورة الزمر مكية، غير قوله: * (قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم...) * الآية.
الحواميم كلها مكيات، غير آية في الأحقاف نزلت في عبد الله بن سلام: * (قل
أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به) *.
الآيات المكية في السور المدنية لم
منها قوله تعالى في الأنفال: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم...) * الآية:
يعنى أهل مكة حتى يخرجك من بين أظهرهم. استقرت به الرواية.
سورة التوبة مدنية، غير آيتين: * (لقد جاءكم...) * الخ السورة.
سورة الرعد مدنية، غير قوله: * (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) * إلى قوله: * (جميعا) *
سورة الحج مدنية، وفيها أربع آيات مكيات: قوله: * (وما أرسلنا من قبلك من
202

رسول ولا نبي إلا إذا تمنى) * إلى قوله: (عقيم) وله قصة.
سورة * (أرأيت) * مكية إلا قوله: * (فويل للمصلين) * إلى آخرها فإنها مدنية;
كذا قال مقاتل بن سليمان.
ما حمل من مكة إلى المدينة
أول سورة حملت من مكة إلى المدينة سورة يوسف، انطلق بها عوف بن عفراء في
الثمانية الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، فعرض عليهم الاسلام فأسلموا;
وهم أول من أسلم من الأنصار، قرأها على أهل المدينة في بني زريق، فأسلم يومئذ بيوت من
الأنصار. روى ذلك يزيد بن رومان عن عطاء عن ابن يسار عن ابن عباس; ثم حمل
بعدها: * (قل هو الله أحد...) * إلى آخرها. ثم حمل بعدها الآية التي في الأعراف: * (قل
يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) * إلى قوله * (تهتدون) * فأسلم عليها
طوائف من أهل المدينة، وله قصة.
ما حمل من المدينة إلى مكة
من ذلك الأنفال التي في البقرة. * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه...) *
الآية، وذلك حين أورد عبد الله بن جحش كتاب مسلمي مكة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم: بأن المشركين عيرونا ابن قتل ابن الحضرمي وأخذ الأموال والأسارى في الشهر
203

الحرام. فكتب بذلك عبد الله بن جحش إلى مسلمي مكة: إن عيروكم فعيروهم بما
صنعوا بكم.
ثم حملت آية الربا من المدينة إلى مكة في حضور ثقيف وبنى المغيرة إلى عتاب بن
أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكة، فقرأ عتاب عليهم * (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * فأقروا بتحريمه، وتابوا وأخذوا رؤوس
الأموال، ثم حملت مع الآيات من أول سورة براءة من المدينة إلى مكة، قرأهن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه يوم النحر على الناس، وفى ترتيبها قصة.
ثم حملت من الدينة إلى مكة، الآية التي في النساء: * (إلا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان) * إلى قوله: * (عفوا غفورا) * فلا تعاقبهم على تخلفهم عن
الهجرة; فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بها إلى مسلمي مكة، قال جندع بن ضمرة
الليثي، ثم الجندعي لبنيه - وكان شيخا كبيرا: ألست من المستضعفين وأنى لا أهتدي إلى
الطريق! فحمله بنوه على سريره متوجها إلى المدينة، فمات بالتنعيم، فبلغ أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم موته فقالوا: لو لحق بنا لكان أكمل لأجره، فأنزل الله تعالى:
* (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله) * إلى قوله * (غفورا رحيما) *..
204

ما حمل من المدينة إلى الحبشة
هي ست آيات، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جعفر بن أبي طالب في
خصومة الرهبان والقسيسين: * (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم) *، فقرأها جعفر بن أبي طالب عليهم عند النجاشي، فلما بلغ قوله: ما * (كان
إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) * قال النجاشي: صدقوا، ما كانت اليهودية والنصرانية
إلا من بعده، ثم قرأ جعفر: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه...) * الآية.
قال النجاشي: اللهم إني ولى لأولياء إبراهيم، وقال: صدقوا والمسيح، ثم أسلم
النجاشي وأسلموا.
205

النوع العاشر
معرفة أول ما نزل من القرآن وآخر ما نزل
فأما أوله ففي صحيح البخاري في حديث بدء الوحي ما يقتضى أن أول ما نزل عليه
صلى الله عليه وسلم * (اقرأ باسم ربك) * ثم المدثر.
وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث عائشة رضي الله عنها صريحا وقال:
صحيح الإسناد.
ولفظ مسلم: " أول ما نزل من القرآن * (اقرأ باسم ربك) * إلى قوله: * (علم الانسان
ما لم يعلم ".
ووقع في صحيح البخاري إلى قوله: * (وربك الأكرم) *; وهو مختصر، وفى الأول
زيادة، وهي من الثقة مقبولة.
وقد جاء ما يعارض هذا، ففي صحيح مسلم عن جابر: " أول ما نزل من القرآن
سورة المدثر ".
وجمع بعضهم بينهما بأن جابرا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر قصة بدء الوحي،
فسمع آخرها، ولم يسمع أولها، فتوهم أنها أول ما نزلت; وليس كذلك، نعم هي أول
ما نزل بعد سورة * (اقرأ) * وفترة الوحي; لما ثبت في الصحيحين أيضا عن جابر
206

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث عن فترة الوحي، قال في حديثه:
" بينما أنا أمشى، سمعت صوتا من السماء; فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء
جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه [فرقا] فرجعت، فقلت:
زملوني، زملوني، فأنزل الله تبارك وتعالى: * (يا أيها المدثر. قم فأنذر) *
فقد أخبر في هذا الحديث عن الملك الذي جاءه بحراء قبل هذه المرة وأخبر في حديث
عائشة أن نزول: * (كان في غار حراء، وهو أول وحي، ثم فتر بعد ذلك. وأخبر
في حديث جابر أن الوحي تتابع بعد نزول * (يا أيها المدثر) *، فعلم بذلك أن * (اقرأ) *
أول ما نزل مطلقا، وأن سورة المدثر بعده; وكذلك قال ابن حبان في صحيحه: لا تضاد
بين الحديثين; بل أول ما نزل: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * بغار حراء، فلما رجع
إلى خديجة رضي الله عنها وصبت عليه الماء البارد، أنزل الله عليه في بيت خديجة: * (يا أيها
المدثر) *، فظهر أنه لما نزل عليه * (اقرأ) * رجع فتدثر، فأنزل عليه * (يا أيها المدثر) *
وقيل أول ما نزل سورة الفاتحة، روى ذلك من طريق أبى إسحاق عن أبي ميسرة
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصوت انطلق هاربا: وذكر نزول الملك
عليه وقوله قل: * (الحمد لله رب العالمين) * إلى آخرها.
وقال: القاضي أبو بكر في " الانتصار " وهذا الخبر منقطع; وأثبت الأقاويل * (اقرأ باسم
ربك) *، ويليه في القوة * (يا أيها المدثر) *. وطريق الجمع بين الأقاويل أن أول ما نزل من
الآيات * (اقرأ باسم ربك) * وأول ما نزل من أوامر التبليغ * (يا أيها المدثر) *، وأول ما نزل
207

من السور سورة الفاتحة. وهذا كما ورد في الحديث " أول ما يحاسب به العبد الصلاة "، و " أول ما يقضى فيه الدماء " وجمع بينهما بأن أول ما يحكم فيه من المظالم التي بين
العباد الدماء، وأول ما يحاسب به العبد من الفرائض البدنية الصلاة.
وقيل: أول ما نزل للرسالة * (يا أيها المدثر) *، وللنبوة * (اقرأ باسم ربك) *، فإن العلماء
قالوا: قوله تعالى: * (اقرأ باسم ربك) * دال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن النبوة عبارة
عن الوحي إلى الشخص على لسان الملك بتكليف خاص، وقوله تعالى: * (يا أيها المدثر. قم
فأنذر) * دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم; لأنها عبارة عن الوحي إلى الشخص على
لسان الملك بتكليف عام.
وذكر القاضي في " الانتصار " رواية: ثم نزل بعد سورة * (اقرأ) * ثلاث آيات من
أول نوح، وثلاث آيات من أول المدثر.
وعن مجاهد قال: أول سورة أنزلت " اقرأ " ثم نوح.
وذكر الحاكم في " الإكليل " أن أول آية أنزلت في الإذن بالقتال قوله تعالى: * (إن
الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) *.
وروى في المستدرك عن ابن عباس: * (أول آية أنزلت فيه: * (أذن للذين
يقاتلون... الآية.
208

وأما آخره فاختلفوا فيه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: * (إذا جاء نصر الله) *.
وعن عائشة سورة المائدة. وقيل: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) *.
وقال السدي: آخر ما نزل: * (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه
توكلت وهو رب العرش العظيم) *. وفى " صحيح البخاري " في تفسير سورة براءة عن
البراء بن عازب رضي الله عنهما: آخر آية نزلت: * (يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة) *، وآخر سورة نزلت براءة.
وفى رواية غيره: آخر سورة أنزلت كاملة سورة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة النساء.
وذكر ابن الأنباري عن أبي إسحاق عن البراء، قال: آخر آية نزلت من القرآن:
* (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) *، ثم قال: وأخطأ أبو إسحاق، ثم ساق
سنده من طرق إلى ابن عباس: آخر آية أنزلت: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله) *، وكان بين نزولها ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يوما، وقيل: تسع
ليال. انتهى.
وفى مستدرك الحاكم عن شعبة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس
عن أبي بن كعب رضي الله عنه، أنه قال: آخر آية نزلت على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * ثم قرأها إلى آخر السورة. ورواه أحمد
في المسند عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: آخر آية
نزلت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * ثم قرأ إلى
* (وهو رب العرش العظيم) *. قال: هذا آخر ما نزل من القرآن، فختم بما فتح به، بالذي
209

لا إله إلا هو، وهو قول الله تبارك وتعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي
إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) *.
وقال بعضهم: روى البخاري: آخر ما نزل آية الربا.
وروى مسلم: آخر سورة نزلت جميعا: * (إذا جاء نصر الله) *.
قال القاضي أبو بكر في " الانتصار ": وهذه الأقوال ليس في شئ منها ما رفع إلى
النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون قاله قائله بضرب من الاجتهاد، وتغليب الظن، وليس
العلم بذلك من فرائض الدين، حتى يلزم ما طعن به الطاعنون من عدم الضبط.
ويحتمل أن كلا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم في
اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو
لمفارقته له، ونزول الوحي عليه بقرآن بعده.
ويحتمل أيضا أن تنزل الآية، التي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع
آيات نزلت معها، فيؤمر برسم ما نزل وتلاوتها عليهم بعد رسم ما نزل آخرا وتلاوته،
فيظن سامع ذلك أنه آخر ما نزل في الترتيب.
210

النوع الحادي عشر
معرفة على كم لغة نزل
ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" أقرأني جبريل على حرف فراجعته، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني، حتى انتهى
إلى سبعة أحرف ". زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة إنما هي في الأمر الذي
يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام.
وأخرجا أيضا من حديث عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ
سورة الفرقان على غير ما أقرؤها - وفى رواية: على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى
الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير
ما أقرأتنيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أرسله اقرأ "، فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هكذا أنزلت "، ثم قال لي: " اقرأ "، فقرأت، فقال:
" هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف; فاقرءوا ما تيسر منه ".
وأخرج مسلم نحوه عن أبي بن كعب، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإني
أرسل إلى أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه: أن هون على أمتي، فرد إلى الثانية:
211

أقرأه على حرفين، فرددت إليه: أن هون على أمتي; فرد، إلى الثالثة: اقرأه على
سبعة أحرف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي.
وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلى الخلق كلهم، حتى إبراهيم عليه السلام ".
وأخرج قاسم بن أصبغ في مصنفه من حديث المقبري عن أبي هريرة: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا
ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة ".
وأما ما رواه الحاكم في المستدرك عن سمرة يرفعه: " أنزل القرآن على ثلاثة أحرف
فقال أبو عبيد: تواترت الأخبار بالسبعة إلا هذا الحديث.
قال أبو شامة: يحتمل أن يكون معناه: إن بعضه أنزل على ثلاثة أحرف، كحذره
والرهب والصدق; فيقرأ كل واحد على ثلاثة أوجه في هذه القراءة المشهورة. أو أراد أنزل
ابتداء على ثلاثة، ثم زيد إلى سبعة. ومعنى جميع ذلك أنه نزل منه ما يقرأ على حرفين، وعلى
ثلاثة، وأكثر، إلى سبعة أحرف، توسعة على العباد، باعتبار اختلاف اللغات والألفاظ
المترادفة وما يقارب معناها.
وقال ابن العربي: لم يأت في معنى هذا السبع نص ولا أثر، واختلف الناس
في تعيينها.
وقال الحافظ أبو حاتم بن حبان البستي: اختلف الناس فيها على خمسة وثلاثين قولا.
وقد وقفت منها على كثير; فذهب بعضهم إلى أن المراد التوسعة على القارئ ولم يقصد به
الحصر. والأكثر على أنه محصور في سبعة; ثم اختلفوا: هل هي باقية إلى الآن نقرؤها؟
212

أم كان ذلك أولا؟ ثم استقر الحال بعده على قولين.
وقال القرطبي: إن القائلين بالثاني - وهو أن الأمر كان كذلك، ثم استقر على
ما هو الآن - هم أكثر العلماء، منهم سفيان بن عيينة، وابن وهب، والطبري، والطحاوي. ثم
اختلفوا: هل استقر في حياته صلى الله عليه وسلم، أم بعد وفاته؟ والأكثرون على الأول،
واختاره القاضي أبو بكر بن الطيب، وابن عبد البر، وابن العربي، وغيرهم; ورأوا أن ضرورة
اختلاف لغات العرب ومشقة نطقهم بغير لغتهم اقتضت التوسعة عليهم في أول الأمر،
فأذن لكل منهم أن يقرأ على حرفه، أي على طريقته في اللغة; إلى أن انضبط الأمر في
آخر العهد وتدربت الألسن، وتمكن الناس من الاقتصار على الطريقة الواحدة; فعارض
جبريل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن مرتين في السنة الآخرة، واستقر على ما هو عليه
الآن، فنسخ الله سبحانه تلك القراءة المأذون فيها بما أوجبه من الاقتصار على هذه القراءة
التي تلقاها الناس. ويشهد لهذا الحديث الآتي، من مراعاة التخفيف على العجوز والشيخ
الكبير، ومن التصريح في بعضها، بأن ذلك مثل هلم، وتعال.
[القول في القراءات السبع]
والقائلون بأنها كانت سبعا اختلفوا على أقوال:
أحدها: أنه من المشكل الذي لا يدرى معناه; لأن العرب تسمى الكلمة المنظومة
حرفا، وتسمى القصيدة بأسرها كلمة، والحرف يقع على المقطوع من الحروف المعجمة،
والحرف أيضا المعنى والجهة. قاله أبو جعفر محمد بن سعدان النحوي.
213

والثاني: - وهو أضعفها - أن المراد سبع قراءات; وحكى عن الخليل بن أحمد. والحرف
هاهنا القراءة، وقد بين الطبري في كتاب " البيان " وغيره أن اختلاف القراء إنما هو
كله حرف واحد من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، وهو الحرف الذي كتب عثمان
عليه المصحف.
وحكى ابن عبد البر عن بعض المتأخرين من أهل العلم بالقرآن أنه قال: تدبرت
وجوه الاختلاف في القرآن فوجدتها سبعة:
منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، مثل: * (هن أطهر لكم) *
و * (أطهر لكم) * * (ويضيق صدري) * * (ويضيق صدري) *.
ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب، ولا تتغير صورته كقوله: * (ربنا باعد بين
أسفارنا) * و * (ربنا باعد بين أسفارنا) *.
ومنها ما يتغير معناه بالحروف واختلافها ولا تتغير صورته، كقوله: * (كيف ننشزها) *.
و * (ننشرها) *.
214

ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه: * (كالعهن المنفوش) * و " الصوف المنقوش ".
ومنها ما تتغير صورته ومعناه، مثل: * (طلح منضود) * و " طلع ".
ومنها بالتقديم والتأخير ك‍: * (وجاءت سكرة الموت بالحق) *، و " سكرة
الحق بالموت ".
ومنها الزيادة والنقصان، مثل: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * وصلاة
العصر. وقراءة ابن مسعود: * (تسع وتسعون نعجة) * أنثى. * (وأما الغلام فكان أبواه
مؤمنين) *، وكان كافر. قال أبو عمرو: و هذا وجه حسن من وجوه معنى الحديث.
وقال بعض المتأخرين: هذا هو المختار. قال: والأئمة على أن مصحف عثمان أحد الحروف
السبعة، والآخر مثل قراءة ابن مسعود وأبى الدرداء: * (والذكر والأنثى) * كما ثبت في
الصحيحين، ومثل قراءة ابن مسعود: * (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك
أنت الغفور الرحيم) *. وقراءة عمر: * (فامضوا إلى ذكر الله) *; والكل حق،
والمصحف المنقول بالتواتر مصحف عثمان، ورسم الحروف واحد إلا ما تنوعت فيه المصاحف;
وهو بضعة عشر حرفا، مثل " الله الغفور " و " إن الله هو الغفور ".
215

والثالث: سبعة أنواع، كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن بخلاف غيره من
أنحائه، فبعضها أمر ونهى، ووعد ووعيد، وقصص، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه،
وأمثال، وغيره.
قال ابن عبد البر: وفى ذلك حديث رواه ابن مسعود مرفوعا قال: " كان الكتاب
الأول نزل من باب واحد على وجه واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة
أحرف: زاجر، وآمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله،
وحرموا حرامه، واعتبروا بأمثاله، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا: * (آمنا به كل من
عند ربنا) *. قال: وهو حديث عند أهل العلم لا يثبت، وهو مجمع على ضعفه.
وذكره القاضي أبو بكر بن الطيب وقال: هذا التفسير منه صلى الله عليه وسلم
للأحرف السبعة، ولكن ليست هذه التي أجاز لهم القراءة بها على اختلافها، وإنما الحرف
في هذه بمعنى الجهة والطريقة كقوله: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) *.
وقال ابن عبد البر: قد رده من أهل النظر، منهم أحمد بن أبي عمران، قال: من أوله
بهذا فهو فاسد، لأنه محال أن يكون الحرف منها حراما لا ما سواه أو يكون حلالا
لا ما سواه; لأنه لا يجوز أن يكون القرآن يقرأ على أنه حلال كله، أو حرام كله،
أو أمثال كله. حكاه الطحاوي عنه أنه سمعه منه، وقال: هو كما قاله.
وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف; لأن هذه لا تسمى أحرفا، وأيضا فالإجماع على
216

أن التوسعة لم تقع في تحريم حلال ولا تحليل حرام، ولا في تغيير شئ من المعاني
المذكورة.
وقال الماوردي: هذا القول خطأ، لأنه صلى الله عليه وسلم أشار إلى جواز القراءة بكل
واحد من الحروف وإبدال حرف بحرف، وقد أجمع المسلمون على تحريم إبدال آية أمثال
بآية أحكام.
وقال البيهقي في " المدخل ": وقد روى هذا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن مسعود
عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: هذا مرسل جيد، وأبو سلمة لم يدرك ابن مسعود،
ثم ساقه بإسقاط ابن مسعود، ثم قال: فإن صح هذا فمعنى قوله: " سبعة أحرف " أي سبعة
أوجه، وليس المراد به ما ورد في الحديث الآخر من نزول القرآن على سبعة أحرف;
ولكن المراد به اللغات التي أبيحت القراءة عليها، وهذا المراد به الأنواع التي نزل القرآن
عليها.
* * *
والرابع: أن المراد سبع لغات لسبع قبائل من العرب; وليس معناه أن يكون في
الحرف الواحد سبعة أوجه; هذا ما لم يسمع قط، أي نزل على سبع لغات متفرقة في القرآن،
فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة أزد
وربيعة، وبعضه بلغة هوازن وسعد بن بكر، وكذلك سائر اللغات; ومعانيها في هذا كله
واحدة. وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن يحيى ثعلب; وحكاه ابن
دريد عن أبي حاتم السجستاني، وحكاه بعضهم عن القاضي أبى بكر.
217

وقال الأزهري في " التهذيب ": إنه المختار، واحتج بقول عثمان حين أمرهم بكتب
المصاحف: وما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش; فإنه أكثر ما نزل بلسانهم.
وقال البيهقي في ": شعب الإيمان ": إنه الصحيح، أي أن المراد اللغات السبع، التي
هي شائعة في القرآن. واحتج بقول ابن مسعود: سمعت القراء فوجدتهم متقاربين،
اقرأوا كما علمتم، وإياكم والتنطع، فإنما هو كقول أحدهم: هلم، وتعال، وأقبل. قال:
وكذلك قال ابن سيرين. قال: لكن إنما تجوز قراءته على الحروف التي هي مثبتة في
المصحف الذي هو الإمام بإجماع الصحابة، وحملوها عنهم دون غيرها من الحروف، وإن كانت
جائزة في اللغة; وكأنه يشير إلى أن ذلك كان عند إنزاله، ثم استقر الأمر على ما أجمعوا
عليه في الإمامة.
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا القول، وقالوا: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش; لقوله
تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) *.
قال ابن قتيبة: ولا نعرف في القرآن حرفا واحدا يقرأ على سبعة أوجه. وغلطه ابن
الأنباري بحروف منها: * (وعبد الطاغوت) *، وقوله: * (أرسله معنا غدا يرتع
ويلعب) *. وقوله: * (باعد بين أسفارنا) * وقوله: * (بعذاب بئيس) *
وغير ذلك.
218

وقال ابن عبد البر: قد أنكر أهل العلم أن يكون معنى سبعة أحرف سبع لغات;
لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر; لأن ذلك من لغته التي
طبع عليها. وأيضا فإن عمر بن الخطاب وهشام بن حكيم كلاهما قرشي، وقد اختلفت
قراءتهما، ومحال أن ينكر عليه عمر لغته.
ثم اختلف القائلون بهذا في تعيين السبع فأكثروا. وقال بعضهم: أصل ذلك وقاعدته
قريش، ثم بنو سعد بن بكر; لأن النبي صلى الله عليه وسلم استرضع، فيهم ونشأ وترعرع،
وهو مخالط في اللسان كنانة، وهذيلا، وثقيفا، وخزاعة، وأسدا وضبة وألفافها،
لقربهم من مكة وتكرارهم عليها، ثم من بعد هذه تميما وقيسا، ومن انضاف إليهم وسكن
جزيرة العرب.
قال قاسم بن ثابت: إن قلنا من الأحرف لقريش، ومنها لكنانة ولأسد
وهذيل وتميم وضبة وألفافها، وقيس، لكان قد أتى على قبائل مضر في قراءات سبع تستوعب
اللغات التي نزل بها القرآن. وهذه الجملة هي التي انتهت إليها الفصاحة، وسلمت لغاتها من
الدخل، ويسرها الله لذلك; ليظهر أنه نبيه بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه. ويثبت
سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز ونجد وتهامة، فلم تفرقها الأمم.
وقيل: هذه اللغات السبع كلها في مضر، واحتجوا بقول عثمان: نزل القرآن بلسان
مضر. قالوا: وجائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل،
ومنها لضبة، ولطابخة، فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات وتزيد.
قال أبو عمر بن عبد البر: وأنكر آخرون كون كل لغات مضر في القرآن; لأن
219

فيها شواذ لا يقرأ بها، مثل كشكشة قيس، وعنعنة تميم. فكشكشة أبو قيس يجعلون
كاف المؤنث شينا، فيقولون في: * (جعل ربك تحتك سريا) *: * (ربش تحتش) *.;
وعنعنة تميم ويقولون في " أن " " عن "، فيقرأون * (فعسى الله " عن " يأتي بالفتح) *.
وبعضهم يبدل السين تاء، فيقول في " الناس ": " النات ". وهذه لغات يرغب بالقرآن
عنها. وما نقل عن عثمان معارض بما سبق أنه نزل بلغة قريش; وهذا أثبت عنه; لأنه
من رواية ثقات أهل المدينة.
وقد يشكل هذا القول على بعض الناس فيقول: هل كان جبريل عليه السلام
يلفظ باللفظ الواحد سبع مرات؟ فيقال له: إنما يلزم هذا إن قلنا: إن السبعة الأحرف تجتمع في
حرف واحد، ونحن قلنا: كان جبريل يأتي في كل عرضة بحرف إلى أن تمر سبعة.
وقال الكلبي: خمسة منها لهوازن، وثنتان لسائر الناس.
* * *
والخامس: المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة، بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل، وهلم،
وتعال، وعجل، وأسرع، وأنظر، وأخر، وأمهل ونحوه. وكاللغات التي في " أف " ونحو ذلك.
قال ابن عبد البر: وعلى هذا القول أكثر أهل العلم; وأنكروا على من قال:
إنها لغات; لأن العرب لا تركب لغة بعضها بعضا، ومحال أن يقرئ النبي صلى الله
عليه وسلم أحدا بغير لغته. وأسند عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ: * (كلما أضاء لهم
مشوا فيه) * " سعوا فيه ". قال: فهذا معنى السبعة الأحرف المذكورة في الأحاديث
عند جمهور أهل الفقه والحديث; منهم سفيان بن عيينة، وابن وهب، ومحمد بن جرير
الطبري، والطحاوي وغيرهم. وفى مصحف عثمان الذي بأيدي الناس منها حرف واحد.
220

وقال الزهري: إنما هذه الأحرف في الأمر الواحد; وليست تختلف في حلال
ولا حرام.
واحتج ابن عبد البر بحديث سلمان بن صرد عن أبي بن كعب قال: قرأ أبى آية، وقرأ
ابن مسعود آية خلافها، وقرأ رجل آخر خلافهما، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت:
ألم تقرأ آية كذا؟ وقال ابن مسعود: ألم تقرأ آية كذا؟ فقال: " كلكم محسن مجمل ".
وقال: " يا أبى، إني أقرئت القرآن فقلت: على حرف أو حرفين؟ فقال لي الملك: على
حرفين، فقلت: على حرفين أو ثلاثة؟ فقال: على ثلاثة; هكذا حتى بلغ سبعة أحرف، ليس فيها
إلا شاف كاف. قلت غفورا رحيما، أو قلت سميعا حكيما، أو قلت عليما حكيما، أو قلت
عزيزا حكيما، أي ذلك قلت فإنه كذلك ".
قال أبو عمر: إنما أراد بهذا ضرب المثل للحروف التي نزل القرآن عليها أنها
معان متفق مفهومها، مختلف مسموعها، لا يكون في شئ منها معنى وضده، ولا وجه
يخالف معنى وجه خلافا ينفيه ويضاده، كالرحمة التي هي خلاف العذاب وضده.
وكذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأ على
حرف، فقال ميكائيل: استزده، فقال: على حرفين، فقال ميكائيل: استزده، حتى بلغ
إلى سبعة أحرف، فقال: أقرأه، فكل شاف كاف، إلا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب،
وآية عذاب بآية رحمة، نحو هلم، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجل.
وروى ذلك عن ابن مسعود وأبى بن كعب، أنه كان يقرأ: * (للذين آمنوا انظرونا) *:
" أمهلونا أخرونا، أرقبونا " و * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) * " مروا فيه، سعوا فيه ".
قال أبو عمر: إلا أن مصحف عثمان الذي بأيدي الناس اليوم هو فيها حرف واحد،
وعلى هذا أهل العلم.
221

قال: وذكر ابن وهب في كتاب الترغيب من " جامعه "، قال: قيل لمالك: أترى
أن تقرأ مثل ما قرأ عمر بن الخطاب: * (فامضوا إلى ذكر الله) *، قال: جائز، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه "، ومثل " يعلمون "،
و " تعلمون "؟ قال مالك: لا أرى باختلافهم بأسا، وقد كان الناس ولهم مصاحف.
قال ابن وهب: سألت مالكا عن مصحف عثمان; فقال لي: ذهب. وأخبرني مالك
قال: أقرأ عبد الله بن مسعود رجلا: * (إن شجرة الزقوم. طعام الأثيم) *، فجعل
الرجل يقول: " طعام اليتيم "، فقال: " طعام الفاجر "، فقلت لمالك: أترى أن يقرأ
بذلك؟ قال: نعم، أرى أن ذلك واسعا.
قال أبو عمر: معناه عندي أن يقرأ به في غير الصلاة; وإنما لم تجز القراءة به في
الصلاة; لأن ما عدا مصحف عثمان لا يقطع عليه; وإنما يجرى مجرى خبر الآحاد; لكنه
لا يقدم أحد على القطع في رده.
وقال مالك رحمه الله فيمن قرأ في صلاة بقراءة ابن مسعود وغيره من الصحابة;
مما يخالف المصحف: لم يصل وراءه.
قال: وعلماء مكيون مجمعون على ذلك إلا شذوذا لا يعرج عليه منهم إلا عثمان.
وهذا كله يدل على أن السبعة الأحرف التي أشير إليها في الحديث ليس بأيدي الناس
منها إلا حرف زيد بن ثابت الذي جمع عثمان عليه المصاحف.
* * *
222

السادس: أن ذلك راجع إلى بعض الآيات، مثل قوله: * (أف لكم) *; فهذا
على سبعة أوجه بالنصب والجر والرفع; وكل وجه: التنوين وغيره. وسابعها الجزم. ومثل
قوله: * (تساقط عليك) *; ونحوه، ويحتمل في القرآن تسعة أوجه، ولا يوجد ذلك
في عامة الآيات.
قال ابن عبد البر: وأجمعوا على أن القرآن لا يجوز في حروفه وكلماته وآياته كلها أن تقرأ
على سبعة أحرف; ولا شئ منها، ولا يمكن ذلك فيها، بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل
أن تقرأ على سبعة أوجه إلا قليل; مثل * (وعبد الطاغوت) * و * (تشابه علينا) *
و * (عذاب بئيس) * ونحوه، وذلك ليس هذا.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وهذا المجموع في المصحف: هل هو جميع الأحرف
السبعة التي أقيمت القراءة عليها؟ أو حرف واحد منها؟ ميل القاضي أبى بكر إلى أنه
جميعها، وصرح أبو جعفر الطبري والأكثرون من بعده. بأنه حرف منها، ومال
الشيخ الشاطبي إلى قول القاضي فيما جمعه أبو بكر، وإلى قول الطبري فيما جمعه عثمان
رضي الله عنه.
* * *
والسابع: اختاره القاضي أبو بكر، وقال: الصحيح أن هذه الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; وضبطها عنه الأئمة، وأثبتها عثمان والصحابة في المصحف،
223

وأخبروا بصحتها; وإنما حذفوا منها ما لم يثبت متواترا، وأن هذه الأحرف تختلف معانيها
تارة، وألفاظها أخرى، وليست متضادة ولا منافية.
* * *
والثامن: قول الطحاوي، أن ذلك كان في وقت خاص لضرورة دعت إليه; لأن كل
ذي لغة كان يشق عليه أن يتحول عن لغته، ثم لما كثر الناس والكتاب ارتفعت تلك
الضرورة، فارتفع حكم الأحرف السبعة، وعاد ما يقرأ به إلى حرف واحد.
* * *
والتاسع: أن المراد علم القرآن يشتمل على سبعة أشياء: علم الإثبات والإيجاد، كقوله
تعالى: * (إن في خلق السماوات والأرض) *.
وعلم التوحيد، كقوله تعالى: * (قل هو الله أحد) *. * (وإلهكم إله
واحد) *.
وعلم التنزيه، كقوله: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) *. * (ليس كمثله
شئ) *.
وعلم صفات الذات، كقوله: * (ولله العزة) *. * (الملك القدوس) *.
وعلم صفات الفعل، كقوله: * (واعبدوا الله) *. * (واتقوا الله) *. * (وأقيموا
الصلاة) *، * (لا تأكلوا الربا) *.
224

وعلم العفو والعذاب، كقوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) *. * (نبئ عبادي
أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) *.
وعلم الحشر والحساب; كقوله: * (إن الساعة لآتية) *. * (اقرأ كتابك كفى
بنفسك اليوم عليك حسيبا) *
وعلم النبوات كقوله: * (رسلا مبشرين ومنذرين) *. * (وما أرسلنا من
رسول إلا بلسان قومه) *.
والإمامات كقوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم) *. * (ومن يشاقق الرسول) *. * (كنتم خير أمة) *.
والعاشر أن المراد سبعة أشياء المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول
والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر والاستثناء وأقسامه حكاه أبو المعالي بسند
له عن أئمة الفقهاء.
والحادي عشر، حكاه عن أهل اللغة، أن المراد الحذف والصلة، والتقديم والتأخير، والقلب
والاستعارة، والتكرار، والكناية والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر، والظاهر، والغريب.
والثاني عشر، وحكاه عن النحاة، أنها التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والتصريف
225

والإعراب، والأقسام وجوابها، والجمع والتفريق، والتصغير والتعظيم، واختلاف الأدوات
مما يختلف فيها بمعنى، وما لا يختلف في الأداء واللفظ جميعا.
* * *
والثالث عشر، حكاه عن القراء أنها من طريق التلاوة وكيفية النطق بها: من
إظهار، وإدغام، وتفخيم، وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتخفيف وتليين، وتشديد.
والرابع عشر، وحكاه عن الصوفية أنه يشتمل على سبعة أنواع من المبادلات،
والمعاملات، وهي الزهد والقناعة مع اليقين، والحزم والخدمة مع الحياء، والكرم والفتوة
مع الفقر، والمجاهدة والمراقبة مع الخوف، والرجاء والتضرع والاستغفار مع الرضا، والشكر
والصبر مع المحاسبة والمحبة، والشوق مع المشاهدة.
* * *
وقال ابن حبان: قيل أقرب الأقوال إلى الصحة أن المراد به سبع لغات، والسر في
إنزاله على سبع لغات تسهيله على الناس لقوله: * (ولقد يسرنا القرآن للذكر) *
فلو كان تعالى أنزله على حرف واحد لانعكس المقصود. قال: وهذه السبعة التي نتداولها عليه
اليوم غير تلك، بل هذه حروف من تلك الأحرف السبعة كانت مشهورة; وذكر حديث
عمر مع هشام بن حكيم; لكن لما خافت الصحابة من اختلاف القرآن رأوا جمعه على
حرف واحد من تلك الحروف السبعة; ولم يثبت من وجه صحيح تعين كل حرف من هذه
الأحرف; ولم يكلفنا الله ذلك; غير أن هذه القراءة الآن غير خارجة عن الأحرف السبعة.
وقال بعض المتأخرين: الأشبه بظواهر الأحاديث أن المراد بهذه الأحرف اللغات;
وهو أن يقرأ كل قوم من العرب بلغتهم وما جرت عليه عادتهم; من الإظهار والإدغام
226

والإمالة والتفخيم والإشمام والهمز والتليين والمد، وغير ذلك من وجوه اللغات إلى سبعة أوجه
منها في الكلمة الواحدة; فإن الحرف هو الطرف والوجه; كما قال تعالى: * (ومن الناس
من يعبد الله على حرف) *، أي على وجه واحد; وهو أن يعبده في السراء دون الضراء;
وهذه الوجوه هي القراءات السبع التي قرأها القراء السبعة; فإنها كلها صحت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف، وهذه القراءات السبع اختيارات
أولئك القراء; فإن كل واحد اختار فيما روى وعلم وجهه من القراءة ما هو الأحسن عنده
والأولى، ولزم طريقة منها ورواها وقرأ بها، واشتهرت عنه ونسبت إليه; فقيل حرف
نافع، وحرف ابن كثير. ولم يمنع واحد منهم حرف الآخر ولا أنكره، بل سوغه
وحسنه; وكل واحد من هؤلاء السبعة روى عنه اختياران وأكثر; وكل صحيح.
وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار على الاعتماد على ما صح عنهم، وكان الإنزال على
الأحرف السبعة توسعة من الله ورحمة على الأمة; إذا لو كلف كل فريق منهم ترك لغته
والعدول عن عادة نشئوا عليها; من الإمالة، والهمز والتليين، والمد، وغيره لشق عليهم.
ويشهد لذلك ما رواه الترمذي عن أبي بن كعب أنه لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم
جبريل فقال: " يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين; منهم العجوز، والشيخ الكبير،
والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط; فقال: يا محمد، إن القرآن أنزل على
سبعة أحرف ". وقال: حسن صحيح.
227

النوع الثاني عشر
في كيفية إنزاله
قال تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *، وقال سبحانه:
* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *.
واختلف في كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما
في عشرين سنة أو في ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، على حسب الاختلاف في مدة
إقامته بمكة بعد النبوة.
والقول الثاني: أنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل:
في ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة. وقيل: في خمس وعشرين ليلة قدر
من خمس وعشرين سنة، في كل ليلة ما يقدر سبحانه إنزاله في كل السنة، ثم ينزل
بعد ذلك منجما في جميع السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والقول الثالث: أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات
مختلفة من سائر الأوقات.
والقول الأول أشهر وأصح، وإليه ذهب الأكثرون; ويؤيده ما رواه الحاكم في
مستدركه عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، ثم
نزل بعد ذلك في عشرين سنة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.
228

وأخرج النسائي في تفسير من جهة حسان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
فصل القرآن من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا، أبى فجعل جبريل ينزل به على
النبي صلى الله عليه وسلم. وإسناده صحيح، وحسان هو ابن أبي الأشرس، وثقة النسائي وغيره.
وبالثاني قال مقاتل والإمام أبو عبد الله الحليمي في " المنهاج " والماوردي في " تفسيره ".
وبالثالث قال الشعبي وغيره.
واعلم أنه اتفق أهل السنة على أن كلام الله منزل، واختلفوا في معنى الإنزال،
فقيل: معناه إظهار القرآن، وقيل: إن الله أفهم كلامه جبريل وهو في السماء، وهو عال
من المكان وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان.
والتنزيل له طريقان: أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة
البشرية إلى صورة الملائكة وأخذه من جبريل. والثاني أن الملك انخلع إلى البشرية
حتى يأخذ الرسول منه; والأول أصعب الحالين.
ونقل بعضهم عن السمرقندي حكاية ثلاثة أقوال في المنزل على النبي صلى الله
عليه وسلم ما هو:
أحدها: أنه اللفظ والمعنى: وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به.
وذكر بعضهم أن أحرف القرآن في اللوح المحفوظ; كل حرف منها بقدر جبل قاف، وأن
تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله عز وجل، وهذا معنى قول الغزالي: إن هذه
الأحرف سترة لمعانيه.
229

والثاني أنه إنما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمعاني خاصة، وأنه صلى الله عليه وسلم
علم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب; وإنما تمسكوا بقوله تعالى: * (نزل به الروح
الأمين على قلبك) *.
والثالث أن جبريل صلى الله عليه وسلم إنما ألقى عليه المعنى، وأنه عبر بهذه الألفاظ
بلغة العرب، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية، ثم إنه أنزل به كذلك بعد ذلك.
فإن قيل: ما السر في إنزاله جملة إلى السماء؟ قيل: فيه تفخيم لأمره وأمر من نزل
عليه; وذلك بإعلان سكان السماوات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل
لأشرف الأمم; ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم. ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت نزوله
منجما بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة.
فإن قيل: في أي زمان نزل جملة إلى سماء الدنيا; بعد ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
أم قبلها؟ قلت: قال الشيخ أبو شامة: الظاهر أنه قبلها، أن وكلاهما محتمل; فإن كان بعدها
فوجه التفخيم منه ما ذكرناه، وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر.
فإن قلت: فقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *، من جملة القرآن الذي نزل جملة
أم لا؟ فإن لم يكن منه فما نزل جملة؟ وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة؟ قلت:
ذكر فيه وجهين: أحدهما أن يكون معنى الكلام: ما حكمنا بإنزاله في القدر وقضائه
وقدرناه في الأزل ونحو ذلك. والثاني أن لفظه لفظ الماضي ومعناه الاستقبال; أي ينزل جملة
في ليلة مباركة هي ليلة القدر، واختير لفظ الماضي; إما لتحققه وكونه لا بد منه; وإما لأنه
حال اتصاله بالمنزل عليه يكون المضي في معناه محققا; لأن نزوله منجما كان بعد نزوله جملة.
230

فإن قلت: ما السر في نزوله إلى الأرض منجما؟ وهلا نزل جملة كسائر الكتب؟
قلت: هذا سؤال قد تولى الله سبحانه جوابه; فقال تعالى: * (وقال الذين كفروا لولا
نزل عليه القرآن جملة واحدة) *، يعنون: كما أنزل على من قبله من الرسل. فأجابهم
الله بقوله: * (كذلك) *، أي أنزلناه كذلك مفرقا * (لنثبت به فؤادك) *، أي لنقوى به قلبك;
فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب، وأشد عناية بالمرسل إليه; ويستلزم
ذلك كثرة نزول الملك إليه، وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب
العزيز، فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة; ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان
لكثرة نزول جبريل عليه السلام.
وقيل: معنى * (لنثبت به فؤادك) * لنحفظه، فإنه عليه السلام كان أميا لا يقرأ ولا
يكتب; ففرق عليه لييسر علي عليه حفظه; بخلاف غيره من الأنبياء; فإنه كان كاتبا قارئا
فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة.
فإن قلت: كان في القدرة إذا نزل جملة أن يحفظه النبي صلى الله عليه وسلم دفعة.
قلت: ليس كل ممكن لازم الوقوع; وأيضا في القرآن أجوبة عن أسئلة; فهو سبب من
أسباب تفرق النزول; ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا.
وقال ابن فورك: قيل أنزلت التوراة جملة، لأنها نزلت على نبي يقرأ ويكتب - وهو
موسى - وأنزل القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبي أمي. وقيل مما لم ينزل لأجله
جملة واحدة أن منه الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور، ومنه ما هو
إنكار لما كان. انتهى.
231

وكان بين أول نزول القرآن آخره عشرون أو ثلاث وعشرون أو خمس وعشرون سنة;
وهو مبنى على الخلاف في مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة; فقيل عشر،
وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة. ولم يختلف في مدة إقامته بالمدينة أنها عشر. وكان
كلما أنزل عليه شئ من القرآن أمر بكتابته ويقول: في مفترقات الآيات. " ضعوا هذه في
سورة كذا "، وكان يعرضه جبريل في شهر رمضان كل عام مرة، وعام مات مرتين.
وفى صحيح البخاري: قال مسروق عن عائشة عن فاطمة رضي الله عنهما: أسر النبي
صلى الله عليه وسلم إلى " أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وأنه عارضني العام
مرتين، ولا أراه إلا حضور أجلى ".
وأسنده البخاري في مواضع. وقد كرر النبي صلى الله عليه وسلم الاعتكاف فاعتكف عشرين
بعد أن كان يعتكف عشرا.
232

النوع الثالث عشر
في بيان جمعه ومن حفظه من الصحابة رضي الله عنهم
[جمع القرآن على عهد أبى بكر]
روى البخاري في صحيحه: عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلى أبو بكر مقتل
أهل اليمامة، فإذا عمر [بن الخطاب] عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن
القتل قد استحر بيوم اليمامة بقراء القرآن; وإني أخشى أن يستحر القتل بالمواطن،
فيذهب كثير من القرآن; وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف نفعل شيئا
لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: والله إن هذا خير. فلم يزل عمر يراجعني
حتى شرح الله صدري لذلك; وقد رأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد: وقال
أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا أتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: فتتبع القرآن واجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان
بأثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي
شرح له صدر أبى بكر وعمر، فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور
233

الرجال، حتى وجدت آخر التوبة * (لقد جاءكم) * مع أبي خزيمة الأنصاري الذي جعل
النبي صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، لم أجدها مع أحد غيره فألحقتها في سورتها،
فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى قبض، ثم عند حفصة
بنت عمر.
وفى رواية ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد سمع زيد بن ثابت يقول:
فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف; قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقرأ بها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري * (من المؤمنين رجال صدقوا
ما عاهدوا الله عليه) * فألحقناها في سورتها. وخزيمة الأنصاري شهادته بشهادتين.
وقول زيد: " لم أجدها إلا مع خزيمة " ليس فيه إثبات القرآن بخبر الواحد; لأن
زيدا كان قد سمعها وعلم موضعها في سورة الأحزاب بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم،
وكذلك غيره من الصحابة ثم نسيها، فلما سمع ذكره. وتتبعه للرجال كان للاستظهار،
لا لاستحداث العلم. وسيأتي أن الذين كانوا يحفظون القرآن من الصحابة على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أربعة; والمراد: أن هؤلاء كانوا اشتهروا به فقد ثبت أن غيرهم حفظه،
وثبت أن القرآن مجموعة محفوظ كله صدور الرجال أيام حياة النبي صلى الله عليه وسلم،
مؤلفا على هذا التأليف، إلا سورة براءة.
قال ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى
براءة وهي من المئين; فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر * (بسم الله الرحمن الرحيم) *؟
قال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وتنزل عليه السور،
وكان إذا نزل عليه شئ دعا بعض من كان يكتبه فقال: ضعوا هذه الآيات في السورة
234

التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت " الأنفال " من أوائل ما نزل من المدينة، وكانت
" براءة " من آخر القرآن; وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولم يبين لنا أنها منها; فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر
* (بسم الله الرحمن الرحيم) *، ثم كتبت. فثبت أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع
في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ترك جمعه في مصحف واحد; لأن النسخ كان يرد
على بعض، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعض لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه
الله في القلوب إلى انقضاء زمان النسخ، ثم وفق لجمعه الخلفاء الراشدين.
[نسخ القرآن في المصاحف]
واعلم أنه قد اشتهر أن عثمان هو أول من جمع المصاحف; وليس كذلك لما بيناه،
بل أول من جمعها في مصحف واحد الصديق، ثم أمر عثمان حين خاف الاختلاف في
القراءة بتحويله منها إلى المصاحف: هكذا نقله البيهقي.
قال: وقد روينا عن زيد بن ثابت أن التأليف كان في زمن النبي عليه وسلم، وروينا عنه أن الجمع في المصحف كان في زمن أبى بكر والنسخ في المصاحف
في زمن عثمان، وكان ما يجمعون وينسخون معلوما لهم، بما كان مثبتا في صدور
الرجال، وذلك كله بمشورة من حضره من الصحابة وارتضاه علي بن أبي طالب، وحمد
أثره فيه.
وذكر غيره أن الذي استبد به عثمان جمع الناس على قراءة محصورة، والمنع من غير
ذلك، قال القاضي أبو بكر في " الانتصار ": لم يقصد عثمان قصد أبى بكر في جمع نفس
القرآن بين لوحين; وإنما قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه
وسلم وإلغاء ما ليس كذلك، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا تأويل أثبت
235

مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه، خشية
دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد. انتهى.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان
يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم
في القراء وقال [حذيفة] لعثمان: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا [في الكتاب]
اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها
في المصاحف ثم نردها إليك; فأرسلت بها إليه، فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن
الزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شئ من القرآن
فاكتبوه بلسان قريش; فإنما نزل بلسانهم. ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف
رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل في كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من
القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
وفى هذه إثبات ظاهر أن الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن المنزل من غير زيادة
ولا نقص. والذي حملهم على جمعه ما جاء في الحديث أنه كان مفرقا في العسب واللخاف
وصدور الرجال، فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فجمعوه وكتبوه كما سمعوه من النبي
صلى الله عليه وسلم، من غير أن قدموا شيئا أو أخروا. وهذا الترتيب كان منه صلى الله
عليه وسلم بتوقيف لهم على ذلك; وأن هذه الآية عقب تلك الآية; فثبت أن سعى
الصحابة في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيب; فإن القرآن مكتوب في اللوح
المحفوظ على هذا الترتيب الذي هو في مصاحفنا الآن، أنزله الله جملة واحدة إلى سماء الدنيا،
236

كما قال الله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * وقال تعالى: * (إنا
أنزلناه في ليلة القدر) *، ثم كان ينزل مفرقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة
حياته عند الحاجة; كما قال تعالى: * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث
ونزلناه تنزيلا) * فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة; وكان هذا الاتفاق من
الصحابة سببا لبقاء القرآن في الأمة، ورحمة من الله على عباده، وتسهيلا وتحقيقا لوعده بحفظه;
كما قال تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * وزال بذلك الاختلاف،
واتفقت الكلمة.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: كانت قراءة أبى بكر وعمر وعثمان وزيد بن ثابت
والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون القراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول
الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان زيد قد شهد
العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده الصديق في جمعه،
وولاه عثمان كتبة المصحف.
وقال أبو الحسين بن فارس في " المسائل الخمس " جمع القرآن على ضربين: أحدهما
تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين; فهذا الضرب هو الذي تولته الصحابة،
وأما الجمع الآخر - وهو جمع الآيات في السور - فهو توقيفي تولاه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحاكم في المستدرك: وقد روى حديث عبد الرحمن بن شماس عن زيد بن ثابت
قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع... الحديث، قال:
وفيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة النبي
237

صلى الله عليه وسلم، ثم جمع بحضرة الصديق; والجمع الثالث وهو ترتيب السور كان في
خلافة عثمان.
وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب " فهم السنن ":
كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في
الرقاع والأكتاف والعسب; وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك
بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيها القرآن منتشر، فجمعها
جامع، وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شئ.
فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا
يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف، وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم
عشرين سنة فكان تزويد ما ليس منه مأمونا وإنما كان الخوف من ذهاب شئ
من صحيحه.
فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى
كان قد أمنه من النسيان بقوله: * (سنقرئك فلا تنسى. إلا ما شاء الله) * أن يرفع
حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه
ما لم يحتج إليه قبل ذلك.
وفى قول زيد بن ثابت: " فجمعته من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال " ما أوهم
بعض الناس أن أحدا لم يجمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم; وأن من قال:
إنه جمع القرآن أبي بن كعب وزيد ليس بمحفوظ. وليس الأمر على ما أوهم; وإنما
طلب القرآن متفرقا ليعارض بالمجتمع عند من بقي ممن جمع القرآن ليشترك الجميع في علم ما جمع
238

فلا يغيب عن جمع القرآن عنده منه شئ، ولا يرتاب أحد فيما يودع المصحف،
ولا يشكو في أنه جمع عن ملأ منهم.
فأما قوله: " وجدت آخر براءة مع خزيمة بن ثابت، ولم أجدها مع غيره "، يعنى ممن
كانوا في طبقة خزيمة لم يجمع القرآن.
وأما أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل; فبغير شك جمعوا القرآن،
والدلائل عليه متظاهرة، قال: ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب، إذ لم يمكن
ضبطها كما ضبط القرآن. قال: ومن الدليل على ذلك أن تلك المصاحف التي كتب منها
القرآن كانت عنده الصديق لتكون إماما ولم تفارق الصديق في حياته، ولا عمر أيامه. ثم
كانت عند حفصة لا تمكن منها، ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة، وقع الاختيار
عليها في أيام عثمان; فأخذ ذلك الإمام، ونسخ في المصاحف التي بعث بها إلى الكوفة،
وكان الناس متروكين على قراءة ما يحفظون من قراءتهم المختلفة، حتى خيف الفساد
فجمعوا على القراءة التي نحن عليها. قال: والمشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان
رضي الله عنه، وليس كذلك; إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد على اختيار وقع
بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار لما خشى الفتنة عند اختلاف أهل العراق
والشام في حروف القراءات والقرآن. وأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات
المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن; فأما السابق إلى جمع الجملة فهو الصديق;
روى عن علي أنه قال: رحم الله أبا بكر! هو أول من جمع بين اللوحين، ولم يحتج
الصحابة في أيام أبى بكر وعمر إلى جمعه على وجه ما جمعه عثمان; لأنه لم يحدث في أيامهما
من الخلاف فيه ما حدث في زمن عثمان; ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع
الكلمة، وأراح الأمة.
239

وأما تعلق الروافض بأن عثمان أحرق المصاحف فإنه جهل منهم وعمى، فإن هذا من
فضائله وعلمه; فإنه أصلح، ولم الشعث، وكان ذلك واجبا عليه، ولو تركه لعصى، لما فيه
من التضييع; وحاشاه من ذلك. وقولهم: إنه سبق إلى ذلك ممنوع لما بيناه أنه كتب في
زمن النبي صلى الله عليه وسلم في الرقاع والأكتاف; وأنه في زمن الصديق جمعه في
حرف واحد.
قال: وأما قولهم: إنه أحرق المصاحف; فإنه غير ثابت، ولو ثبت لوجب حمله على أنه
أحرق مصاحف قد أودعت ما لا يحل قراءته.
وفى الجملة إنه إمام عدل غير معاند ولا طاعن في التنزيل، ولم يحرق إلا ما يجب
إحراقه، ولهذا لم ينكر عليه أحد ذلك، بل رضوه وعدوه من مناقبه، حتى قال علي: لو وليت
ما ولي عثمان لعملت بالمصاحف ما عمل. انتهى ملخصا.
فائدة
[في عدد مصاحف عثمان]
قال أبو عمرو والداني في " المقنع ": أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف
جعله على أربع نسخ; وبعث إلى كل ناحية واحدا: الكوفة والبصرة والشام، وترك واحدا
عنده. وقد قيل: إنه جعله سبع نسخ، وزاد: إلى مكة وإلى اليمن وإلى البحرين. قال:
والأول أصح وعليه الأئمة.
240

فصل
في بيان من جمع القرآن حفظا عن
[من الصحابة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم]
حفظه في حياته جماعة من الصحابة، وكل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلهم
بالغون حد التواتر، وجاء في ذلك أخبار ثابتة في الترمذي والمستدرك وغيرهما من حديث
ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه
السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول:
" ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا "، قال الترمذي: هذا حديث
حسن. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وفى البخاري عن قتادة قال: سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد
ابن ثابت، وأبو زيد. وفى رواية: مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة
ابن ثابت، وأبو زيد بن ثابت، وأبو زيد. قال الحافظ البيهقي في كتاب " المدخل ":
الرواية الأولى أصح، ثم أسند عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم أربعة لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، وأبى بن كعب، وزيد، وأبو زيد،
واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء وعثمان، وقيل عثمان وتميم الداري.
وعن الشعبي، جمعه ستة: أبى، وزيد، ومعاذ، وأبو الدرداء، وسعد بن عبيد، وأبو زيد.
ومجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاثة. قال: ولم يجمعه أحد من الخلفاء من أصحاب
محمد غير عثمان.
241

قال الشيخ الشيخ شهاب الدين أبو شامة: وقد أشبع القاضي أبو بكر محمد بن الطيب في
كتاب " الانتصار " الكلام في حملة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأدلة
على أنهم كانوا أضعاف هذه العدة المذكورة وأن العادة تحيل خلاف ذلك; ويشهد لصحة
ذلك كثرة القراء المقتولين يوم مسيلمة باليمامة; وذلك في أول خلافة أبى بكر، وما في الصحيحين:
قتل سبعون من الأنصار يوم بئر معونة; كانوا يسمون القراء. ثم أول القاضي الأحاديث
السابقة بوجوه منها: اضطرابها، وبين وجه الاضطراب في العدد وإن خرجت في
الصحيحين، مع أنه ليس منه شئ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنها بتقرير
سلامتها; فالمعنى: لم يجمعه على جميع الأوجه والأحرف والقراءات التي نزل به إلا أولئك
النفر. ومنها أنه لم يجمع ما نسخ منه وأزيل رسمه بعد تلاوته مع ما ثبت رسمه وبقي فرض
حفظه وتلاوته إلا تلك الجماعة. ومنها أنه لم يجمع جميع القرآن عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأخذه من فيه تلقيا غير تلك الجماعة، وغير ذلك.
قال الماوردي: وكيف يمكن الإحاطة بأنه لم يكمله سوى أربعة، والصحابة متفرقون
في البلاد! وإن لم يكمله سوى أربعة فقد حفظ جميع أجزائه مئون لا يحصون.
قال الشيخ: وقد سمى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام القراء من الصحابة في
أول كتاب القراءات له، فسمى عددا كثيرا.
قلت: وذكر الحافظ شمس الدين الذهبي في كتاب " معرفة القراء " ما يبين
ذلك، وأن هذا العدد هم الذين عرضوه على النبي صلى الله عليه، وسلم، واتصلت بنا
أسانيدهم، وأما من جمعه منهم، ولم يتصل بنا فكثير فقال: ذكر الذين عرضوا على النبي
صلى الله عليه وسلم القرآن وهم سبعة: عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب - وقال الشعبي:
242

لم يجمع القرآن أحد من الخلفاء الأربعة إلا عثمان; ثم رد على الشعبي قوله: بأن
عاصما قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي - وأبى بن كعب - وهو أقرأ من أبى بكر
وقد قال: يوم القوم أقرؤهم لكتاب الله وهو مشكل -. وعبد الله بن مسعود، وأبى،
وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري، وأبو الدرداء.
قال: وقد جمع القرآن غيرهم من الصحابة، كمعاذ بن جبل وأبى زيد، وسالم مولى أبى
حذيفة، وعبد الله بن عمر، وعقبة بن عامر; ولكن لم تتصل بنا قراءتهم، قال: وقرأ على أبي
جماعة من الصحابة; منهم أبو هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن السائب.
243

النوع الرابع عشر
تقسيمه بحسب سوره في
وترتيب السور والآيات وعددها
[تقسيم القرآن بحسب سوره]
قال العلماء رضي الله عنهم: القرآن العزيز أربعة أقسام: الطول، والمئون، والمثاني، والمفصل.
وقد جاء ذلك في حديث مرفوع أخرجه أبو عبيد من جهة سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي
المليح، عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أعطيت السبع الطول
مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ".
وهو حديث غريب، وسعيد بن بشير فيه لين. وأخرجه أبو داود الطيالسي في
مسنده عن عمران عن قتادة به.
فالسبع الطول أولها البقرة، وآخرها براءة; لأنهم كانوا يعدون الأنفال وبراءة سورة
واحدة، ولذلك لم يفصلوا بينهما; لأنهما نزلتا جميعا في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وسميت طولا لطولها. وحكى عن سعيد بن جبير أنه عد السبع الطول: البقرة، وآل عمران
والنساء والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس.
والطول، بضم: الطاء جمع طولى، كالكبر جمع كبرى. قال أبو حيان التوحيدي:
وكسر الطاء مرذول.
والمئون: ما ولى السبع الطول; سميت بذلك لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية
أو تقاربها.
244

والمثاني: ما ولى المئين; وقد تسمى سور القرآن كلها مثاني ومنه قوله تعالى: * (كتابا
متشابها مثاني) *، * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *.
وإنما سمى القرآن كله مثاني لأن الأنباء والقصص تثنى فيه. ويقال: إن المثاني في
قوله تعالى: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * هي آيات سورة الحمد، سماها مثاني لأنها
تثنى في كل ركعة.
والمفصل: ما يلي المثاني من قصار السور; سمى مفصلا لكثرة الفصول التي بين السور
ببسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: لقلة المنسوخ فيه. وآخره: * (قل أعوذ برب الناس) *،
وفى أوله اثنا عشر قولا:
أحدها: الجاثية.
ثانيها، القتال; وعزاه الماوردي للأكثرين.
ثالثها: الحجرات.
رابعها: ق; قيل: وهي أوله في مصحف عثمان رضي الله عنه. وفيه حديث ذكره
الخطابي في غريبه، يرويه عيسى بن يونس قال: حدثنا عبد الرحمن يعلى الطائفي
قال: حدثني عمر بن عبد الله بن أوس بن حذيفة عن جده أنه وفد على رسول الله صلى
الله عليه وسلم في وفد ثقيف فسمع [من] أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحزب
القرآن. قال: وحزب المفصل من " ق ". وقيل: إن أحمد رواه في المسند. وقال الماوردي
في تفسيره: حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة; للحديث المذكور.
الخامس: الصافات.
السادس: الصف.
245

السابع: تبارك. حكى هذه الثلاثة ابن أبي الصيف اليمنى في: " نكت
التنبيه ".
الثامن: * (إنا فتحنا لك) *; حكاه الذماري في شرح " التنبيه " المسمى: " رفع
التمويه ".
التاسع: * (الرحمن) *، حكاه ابن السيد في أماليه على " الموطأ " وقال: إنه كذلك
في مصحف ابن مسعود. قلت: رواه أحمد في مسنده كذلك.
العاشر: * (هل أتى على الانسان حين من الدهر) *.
الحادي عشر: * (سبح) *; حكاه ابن الفركاح في تعليقه عن المرزوقي.
الثاني عشر: * (والضحى) *، وعزاه الماوردي لابن عباس; حكاه الخطابي في غريبه;
ووجهه بأن القارئ يفصل بين هذه السور بالتكبير. قال: وهو مذهب ابن عباس
وقراء مكة.
والصحيح عند أهل الأثر أن أوله " ق "; قال أبو داود في سننه في باب تحزيب
القرآن: حدثنا مسدد، حدثنا جرار بن تمام. ح. وحدثنا عبد الله بن سعيد
أبو سعيد الأشج. حدثنا أبو خالد سليمان بن حيان - وهذا لفظه عن عبد الله بن عبد
الرحمن يعلى عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس، قال عبد الله بن سعيد في
حديث أوس بن حذيفة قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم [في] وفد
ثقيف، قال: فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة، وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
بنى مالك في قبة له - قال مسدد: وكان في الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله
246

عليه وسلم من ثقيف - قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة بعد العشاء
يحدثنا - قال أبو سعيد: قائما على راحلته - ثم يقول: " لا سواء، كنا مستضعفين
مستذلين - قال مسدد: بمكة - فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم;
ندال عليهم ويدالون علينا، فلما كانت ليلة، أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت:
لقد أبطأت علينا الليلة، قال: إنه طرأ على حزبي من القرآن، فكرهت أن أجئ
حتى أتمه ".
قال أوس: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزبون القرآن؟
فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب
المفصل وحده.
رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن شيبة عن أبي خالد الأحمر به. ورواه أحمد
في مسنده عن عبد الرحمن بن مهدي وأبو يعلى الطائفي به.
وحينئذ فإذا عددت ثمانيا وأربعين سور كانت التي بعدهن سورة " ق ".
بيانه: ثلاث: البقرة، وآل عمران، والنساء. وخمس: المائدة، والأنعام، والأعراف،
والأنفال، وبراءة. وسبع: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، والنحل.
وتسع: سبحان، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، والحج، والمؤمنون، والنور،
والفرقان. وإحدى عشرة: الشعراء، والنمل، والقصص، والعنكبوت، والروم، ولقمان،
وآلم السجدة، والأحزاب، وسبأ، وفاطر، ويس. وثلاث عشرة: الصافات، وص والزمر،
وغافر، وحم السجدة، وحم عسق، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف، والقتال،
247

والفتح، والحجرات، ثم بعد ذلك حزب المفصل - وأوله سورة " ق " وأما آل حاميم فإنه
يقال: إن حم اسم من أسماء الله تعالى، أضيفت هذه السورة إليه; كما قيل: سور الله لفضلها
وشرفها، وكما قيل: بيت الله، قال الكميت:
- وجدنا لكم في آل حم آية * تأولها منا تقى ومعرب -
وقد يجعل اسما للسورة ويدخل الإعراب عليها ويصرف. ومن قال هذا قال في الجمع:
الحواميم; كما يقال: طس والطواسين. وكره بعض السلف - منهم محمد بن سيرين - أن
يقال: الحواميم; وإنما يقال: آل حم.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن لكل شئ لبابا ولباب القرآن حم - أو
قال: الحواميم.
وقال مسعر بن كدام: كان يقال لهن العرائس; ذكر ذلك كله أبو عبيد
في فضائل القرآن.
وقال حميد بن زنجويه: ثنا عبد الله، ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص
عن أبي عبد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد منزلا، فمر بأثر غيث;
فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات; فقال: عجبت من الغيث
الأول، فهذا أعجب وأعجب; فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن; وإن
مثل هؤلاء الروضات مثل " حم " في القرآن. أورده البغوي.
248

فصل
في عدد سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه
قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ: عدد سور القرآن مائة وأربع
عشرة سورة. وقال: بعث الحجاج بن يوسف إلى قراء البصرة، فجمعهم واختار منهم
الحسن البصري، وأبا العالية، ونصر بن عاصم، وعاصما الجحدري، ومالك بن دينار رحمة
الله عليهم. وقال: عدوا حروف القرآن; فبقوا أربعة أشهر يعدون بالشعير، فأجمعوا على
أن كلماته سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة وتسع وثلاثون كلمة، وأجمعوا على أن عدد
حروفه ثلاثمائة ألف وثلاثة وعشرون ألفا وخمسة عشر حرفا. انتهى.
وقال غيره: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية; ثم اختلفوا فيما زاد على
ذلك على أقوال: فمنهم من لم يزد على ذلك، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات. وقيل:
وأربع عشرة آية. وقيل: مائتان وتسع عشرة آية. وقيل: مائتان وخمس وعشرون آية أو ست
وعشرون آية. وقيل: مائتان وست وثلاثون. حكى ذلك أبو عمرو الداني في كتاب " البيان ".
وأما كلماته فقال: الفضيل بن شاذان عن عطاء بن يسار: سبع وسبعون ألف كلمة وأربعمائة
وسبع وثلاثون كلمة.
وأما حروفه، فقال عبد الله بن جبير عن مجاهد: ثلاثمائة ألف حرف وأحد وعشرون
ألف حرف. وقال سلام أبو محمد الحماني: إن الحجاج جمع القراء والحفاظ والكتاب فقال:
أخبروني عن القرآن كله، كم من حرف هو؟ قال فحسبناه، فأجمعوا على أنه ثلاثمائة ألف
وأربعون ألف وسبعمائة وأربعون حرفا. قال: فأخبروني عن نصفه; فإذا هو إلى الفاء من قوله
249

في الكهف: * (وليتلطف) *. وثلثه الأول عند رأس
مائة من براءة، والثاني على رأس
مائة أو احدى ومائة من الشعراء. والثالث إلى آخره. وسبعه الأول إلى الدال، في قوله:
* (فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه) * والسبع الثاني إلى التاء من قوله في الأعراف:
* (حبطت أعمالهم) *، والثالث إلى الألف الثانية من قوله في الرعد: * (أكلها،
والرابع إلى الألف في الحج من قوله: * (جعلنا منسكا) *، والخامس إلى الهاء من قوله
في الأحزاب: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) *، والسادس إلى الواو من قوله في
الفتح: * (الظانين بالله ظن السوء) * والسابع إلى آخر القرآن.
قال سلام: علمنا ذلك في أربعة أشهر.
قالوا: وكان الحجاج يقرأ في كل ليلة ربع القرآن، فالأول إلى آخر الأنعام، والثاني
إلى * (وليتلطف) * من سورة الكهف، والثالث إلى آخر المؤمن، والرابع إلى آخر القرآن.
وحكى الشيخ أبو عمرو الداني في كتاب " البيان " خلافا في هذا كله.
وأما التحزيب والتجزئة فقد اشتهرت الأجزاء من ثلاثين كما في الربعات بالمدارس
وغيرها. وقد أخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن ماجة عن أوس بن حذيفة أنه سأل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا ثلاث، وخمس،
وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة. وحزب المفصل من " ق " حتى يختم.
أسند الزبيدي في كتاب الطبقات عن المبرد. أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي.
وذكر أيضا أن ابن سيرين كان له مصحف نقطه له يحيى بن يعمر. وذكر أبو الفرج:
250

أن زياد بن أبي سفيان أمر أبا الأسود أن ينقط المصاحف. وذكر الجاحظ في كتاب
" الأمصار " أن نصر بن عاصم أول من نقط المصاحف، وكان يقال له: نصر الحروف.
وأما وضع الأعشار; فقيل: إن المأمون العباسي أمر بذلك. وقيل: إن الحجاج
فعل ذلك.
واعلم أن عدد سور القرآن العظيم باتفاق أهل الحل والعقد مائة وأربع عشرة سورة;
كما هي في المصحف العثماني، أولها الفاتحة وآخرها الناس. وقال مجاهد: وثلاث عشرة بجعل
الأنفال والتوبة سورة واحدة لاشتباه الطرفين وعدم البسملة. ويرده تسمية النبي صلى الله
عليه وسلم كلا منهما. وكان في مصحف ابن مسعود اثنا عشر لم يكن فيها المعوذتان; لشبهة
الرقية; وجوابه رجوعه إليهم، وما كتب الكل. وفى مصحف أبى ست عشرة;
وكان دعاء الاستفتاح والقنوت في آخره كالسورتين. ولا دليل فيه لموافقتهم; وهو دعاء
كتب بعد الختمة.
وعدد آياته في قول علي رضي الله عنه: ستة آلاف ومائتان وثمان عشرة. وعطاء: ستة
آلاف ومائة وسبع وسبعون. وحميد: ستة آلاف ومائتان واثنتا عشرة. وراشد: ستة آلاف
ومائتان وأربع.
وقال حميد الأعرج: نصفه (يحيى صبرا) في الكهف، وقيل: عين
* (تستطيع) *، وقيل: ثاني لامى * (وليتلطف) *.
واعلم أن سبب اختلاف العلماء في عد الآي والكلم والحروف أن النبي صلى الله عليه
251

وسلم، كان يقف على رؤوس الآي للتوقيف; فإذا علم محلها وصل للتمام; فيحسب السامع
أنها ليست فاصلة.
وأيضا البسملة نزلت مع السورة في بعض الأحرف السبعة; فمن قرأ بحرف نزلت فيه
عدها، ومن قرأ بغير ذلك لم يعدها.
وسبب الاختلاف في الكلمة أن الكلمة لها حقيقة ومجاز، ورسم; واعتبار كل منها
جائز; وكل من العلماء اعتبر أحد الجوائز.
وأطول سورة في القرآن هي البقرة، وأقصرها الكوثر.
وأطول آية فيه آية الدين; مائة وثمانية وعشرون كلمة، وخمسمائة وأربعون حرفا.
وأقصر آية فيه * (والضحى) *، ثم * (والفجر) *; كل كلمة خمسة أحرف تقديرا ثم
لفظا، ستة رسما; لا * (مدهامتان) * لأنها سبعة أحرف لفظا ورسما، وثمانية تقديرا
ولا * (ثم نظر) * لأنهما كلمتان، خمسة أحرف رسما وكتابة، وستة أحرف تقديرا;
خلافا لبعضهم.
وأطول كلمة فيه لفظا وكتابة بلا زيادة * (فأسقيناكموه) * الرحمن أحد عشر لفظا، ثم
* (اقترفتموها) * عشرة، وكذا * (أنلزمكموها) * * (والمستضعفين) * ثم
* (ليستخلفنهم) * تسعة لفظا، وعشرة تقديرا.
وأقصرها نحو باء الجر حرف واحد; لا أنها حرفان; خلافا للداني فيهما.
252

فصل
[أنصاف القرآن ثمانية]
قال بعض القراء: إن القرآن العظيم له ثمانية أنصاف باعتبار آية.
فنصفه بالحروف: " النون " من قوله: * (نكرا) * روى في سورة الكهف، والكاف من نصفه الثاني.
ونصفه بالكلمات " الدال " من قوله: * (والجلود) * في سورة الحج، وقوله تعالى:
* (ولهم مقامع من حديد) * من نصفه الثاني.
ونصفه بالآيات * (يأفكون) * من سورة الشعراء، وقوله تعالى: * (فألقى السحرة) *
من نصفه الثاني.
ونصفه على عدد السور، فالأول الحديد، والثاني من المجادلة.
فائدة
سئل ابن مجاهد: كم في القرآن من قوله: * (إلا غرورا) *؟ فأجاب في أربعة مواضع:
من النساء وسبحان والأحزاب وفاطر.
وسئل الكسائي: كم في القرآن آية أولها شين؟ فأجاب أربع آيات: * (شهر
رمضان) *، * (شهد الله) *، * (شاكرا لأنعمه) *، * (شرع لكم من
253

الدين) *. [وسئل] كم آية آخرها شين؟ [فأجاب]: اثنان: * (كالعهن المنفوش) *،
* (لإيلاف قريش) *.
وسئل آخر: كم * (حكيم عليم) *؟ قال: خمسة; ثلاثة في الأنعام، وفى الحجر
واحد، وفى النحل واحد.
* * *
أكثر ما اجتمع في كتاب الله من الحروف المتحركة ثمانية; وذلك في موضعين من
سورة يوسف: أحدهما: * (إني رأيت أحد عشر كوكبا) *، فبين واو " كوكبا "
وياء " رأيت " ثمانية أحرف، كلهن متحرك، والثاني قوله: * (حتى يأذن لي أبى أو
يحكم الله لي) * على قراءة من حرك الياء في قوله * (لي) *، * (أبى) *. ومثل هذين الموضعين
* (سنشد عضدك بأخيك) *.
وفى القرآن سور متواليات كل سورة تجمع حروف المعجم; وهو من أول: * (ألم
نشرح لك صدرك) * إلى آخر القرآن.
وآية واحدة تجمع حروف المعجم، قوله تعالى * (محمد رسول الله...) * الآية.
وسورة، كل آية منها فيها اسمه تعالى، وهي سورة المجادلة.
وفى الحج ستة آيات متواليات، في آخر كل واحدة منهن اسمان من أسماء الله تعالى،
وهي قوله: * (لندخلنهم مدخلا يرضونه) *.
254

وفى القرآن آيات أولها: * (قل يا أيها) * ثلاث: * (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك
من ديني) *، * (قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم) *، * (قل يا أيها
الكافرون ().
وفيه: يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم) * * (يا أيها الانسان إنك
كادح) *.
آية في القرآن فيها ستة عشر ميما، وهي: * (قيل يا نوح اهبط بسلام...) * الآية.
وآية فيها ثلاث وثلاثون ميما: * (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم) *.
سورة تزيد على مائة آية ليس فيها ذكر جنة ولا نار سورة يوسف.
آية فيها الجنة مرتان لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة
أصحاب الجنة) *.
ثلاث آيات متواليات: الأولى رد على المشبهة، وعند والأخرى رد على المجبرة، والأخرى
رد على المرجئة: قوله: * (إذ نسويكم برب العالمين) * رد على المشبهة، * (وما أضلنا
إلا المجرمون) * رد على المجبرة * (فما لنا من شافعين) * رد على المرجئة.
ليس في القرآن " حاء " بعدها " حاء " لا حاجز بينهما إلا في موضعين في البقرة
* (عقدة النكاح حتى) *، وفى الكهف * (لا أبرح حتى) *.
255

ليس فيه كافان في كلمة واحدة لا حرف بينهما إلا في موضعين: في البقرة
* (مناسككم) *، وفى المدثر * (ما سلككم في سقر) *.
وأما ما يتعلق بترتيبه; فأما الآيات في كل سورة وضع البسملة أوائلها فترتيبها توقيفي
بلا شك، ولا خلاف فيه، ولهذا لا يجوز تعكيسها.
قال مكي وغيره: ترتيب الآيات في السور هو من النبي صلى الله عليه وسلم، ولما لم
يأمر بذلك في أول براءة تركت بلا بسملة.
وقال القاضي أبو بكر: ترتيب الآيات أمر واجب وحكم لازم، فقد كان جبريل
يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا.
وأسند البيهقي في كتاب " المدخل والدلائل " عن زيد بن ثابت قال: كنا حول رسول
الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن إذ قال: " طوبى للشام " فقيل له: ولم؟ قال " لأن
ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه ". زاد في الدلائل: " نؤلف القرآن في الرقاع ".
قال: وهذا يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها
فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال:
فيه البيان الواضح أن جمع القرآن لم يكن مرة واحدة، فقد جمع بعضه بحضرة النبي صلى الله
عليه وسلم، ثم جمع بحضرة أبى بكر الصديق، والجمع الثالث - وهو ترتيب السور - كان بحضرة
عثمان; واختلف في الحرف الذي كتب عثمان عليه المصحف، فقيل: حرف زيد بن ثابت،
وقيل: حرف أبي بن كعب; لأنه العرضة الأخيرة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعلى الأول أكثر الرواة. ومعنى حرف زيد، أي قراءته وطريقته.
256

وفى كتاب " فضائل القرآن " لأبى عبيد عن أبي وائل، قيل لابن مسعود: إن فلانا
يقرأ القرآن منكوسا، فقال: ذاك منكوس القلب. رواه البيهقي.
وأما ترتيب السور على ما هو عليه الآن فاختلف: هل هو توقيف من النبي صلى الله
عليه وسلم، أو من فعل الصحابة، أو يفصل؟ في ذلك ثلاثة أقوال:
مذهب جمهور العلماء; منهم مالك، والقاضي أبو بكر بن الطيب - فيما اعتمده واستقر
عليه رأيه من [أحد] قوليه - إلى الثاني، وأنه صلى الله عليه وسلم فوض ذلك إلى أمته بعده.
وذهبت طائفة إلى الأول; والخلاف يرجع إلى اللفظ، لأن القائل بالثاني يقول: إنه
رمز إليهم بذلك لعلمهم بأسباب نزوله ومواقع كلماته; ولهذا قال الإمام مالك: إنما ألفوا
القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله بأن ترتيب السور اجتهاد
منهم. فآل الخلاف إلى أنه: هل ذلك بتوقيف قولي أم بمجرد استناد فعلى، وبحيث بقي
لهم فيه مجال للنظر. فإن قيل: فإذا كانوا قد سمعوه منه، كما استقر عليه ترتيبه ففي ماذا أعملوا
الأفكار؟ وأي مجال بقي لهم بعد هذا الاعتبار؟ قيل: قد روى مسلم في صحيحه عن حذيفة قال:
" صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح سورة البقرة، فقلت: يركع عند المائة،
ثم مضى فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها. ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح
آل عمران... " الحديث. فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما فعل هذا إرادة للتوسعة
على الأمة، وتبيانا لجليل تلك النعمة كان محلا للتوقف، حتى استقر النظر على رأى ما كان
من فعله الأكثر. فهذا محل اجتهادهم في المسألة.
والقول الثالث، مال إليه القاضي أبو محمد بن عطية: أن كثيرا من السور كان قد علم
ترتيبها في حياته صلى الله عليه وسلم كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وأشاروا إلى أن
ما سوى ذلك يمكن أن يكون فوض الأمر فيه إلى الأمة بعده.
257

وقال أبو جعفر بن الزبير: الآثار تشهد بأكثر مما نص عليه ابن عطية، ويبقى منها
قليل يمكن أن يجرى فيه الخلاف، كقوله: " اقرأوا الزهراوين: البقرة وآل عمران ". رواه
مسلم. ولحديث سعيد بن خالد: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبع الطوال في ركعة.
رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وفيه أنه عليه الصلاة والسلام كان يجمع المفصل في ركعة.
وروى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال في بني إسرائيل والكهف ومريم
وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأول، وهن من تلادي; فذكرها نسقا كما استقر ترتيبها.
وفى صحيح البخاري أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع
كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ: * (قل هو الله أحد) * والمعوذتين.
وقال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وروى ذلك عن علي بن أبي طالب، ثم ساق بإسناده إلى أبي داود الطيالسي:
حدثنا عمران القطان عن قتادة عن أبي المليح الهذلي عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: " أعطيت مكان التوراة السبع الطول، وأعطيت مكان الزبور المئين،
وأعطيت مكان الإنجيل المثاني، وفضلت بالمفصل ".
قال أبو جعفر: وهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى
الله عليه وسلم، وأنه مؤلف من ذلك الوقت، وإنما جمع في المصحف على شئ واحد; لأنه
قد جاء هذا الحديث بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تأليف القرآن. وفيه أيضا
دليل على أن سورة الأنفال سورة على حدة، وليست من براءة.
قال أبو الحسين أحمد بن فارس في كتاب " المسائل الخمس ": جمع القرآن على
ضربين: أحدهما تأليف السور، كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين; فهذا الضرب هو
258

الذي تولاه الصحابة رضوان الله عليهم. وأما الجمع الآخر فضم الآي بعضها إلى بعض،
وتعقيب القصة بالقصة، فذلك شئ تولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخبر به جبريل
عن أمر ربه عز وجل. وكذا قال: الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند
الله وفى اللوح المحفوظ، وهو على هذا الترتيب كان يعرض عليه السلام على جبريل كل
سنة ما كان يجتمع عنده منه، وعرض عليه في السنة التي توفى فيها مرتين.
وذهب جماعة من المفسرين إلى أن قوله تعالى: * (فأتوا بعشر سور) * معناه مثل البقرة
إلى سور هود، وهي العاشرة. ومعلوم أن سورة هود مكية، وأن البقرة وآل عمران والنساء
والمائدة والأنفال والتوبة مدنيات نزلت بعدها.
وفسر بعضهم قوله: * (ورتل القرآن ترتيلا) * أي أقرأه على هذا الترتيب من
غير تقديم ولا تأخير. وجاء النكير على من قرأه معكوسا. ولو حلف أن يقرأ القرآن على
الترتيب لم يلزم إلا على هذا الترتيب. ولو نزل القرآن جملة واحدة كما اقترحوا عليه لنزل
على هذا الترتيب; وإنما تفرقت سوره وآياته نزولا، لحاجة الناس إليها حالة بعد حالة;
ولأن فيه الناسخ والمنسوخ، ولم يكن ليجتمعا نزولا. وأبلغ الحكم في تفرقه ما قال
سبحانه: * (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) * وهذا أصل بنى عليه
مسائل كثيرة.
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب: فإن قيل: قد اختلف السلف في ترتيب القرآن، فمنهم
من كتب في المصحف السور على تاريخ نزولها، وقدم المكي على المدني. ومنهم جعل من أوله:
* (اقرأ باسم ربك) *; وهو أول مصحف على، وأما مصحف ابن مسعود، فأوله * (مالك
يوم الدين) * ثم البقرة، ثم النساء على ترتيب مختلف. وفى مصحف أبى كان أوله الحمد، ثم
259

ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة، على اختلاف شديد.
فالجواب أنه يحتمل أن يكون ترتيب السور على ما هي عليه اليوم على وجه الاجتهاد من
الصحابة رضي الله عنهم. وذكر ذلك مكي في سورة براءة، وأن وضع البسملة في الأول
هو من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو بكر بن الأنباري: أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا، ثم فرق في بضع
وعشرين، فكانت السورة تنزل لأمر يحدث، والآية جوابا لمستخبر; ويقف جبريل النبي
صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية. فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف،
كله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم لآيات.
قال القاضي أبو بكر: ومن نظم السور على المكي والمدني لم يدر أين يضع الفاتحة،
لاختلافهم في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية في رأس خمس وثلاثين ومائتين من
البقرة إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن فقد كفر به.
تنبيه
[ترتيب وضع السور في المصحف]
لترتيب وضع السور في المصحف أسباب تطلع على أنه توقيفي صادر عن حكيم:
أحدها بحسب الحروف، كما في الحواميم. وثانيها لموافقة أول السورة لآخر ما قبلها،
كآخر الحمد في المعنى وأول البقرة. وثالثها للوزن في اللفظ، كآخر " تبت " وأول
الإخلاص. ورابعها لمشابهة جملة السورة لجملة الأخرى مثل * (والضحى) * و * (ألم نشرح) *.
قال بعض الأئمة: وسورة الفاتحة تضمنت الإقرار بالربوبية، والالتجاء إليه في دين
الاسلام، والصيانة عن دين اليهودية والنصرانية.
260

وسورة البقرة تضمنت قواعد الدين، وآل عمران مكملة لمقصودها; فالبقرة بمنزلة إقامة
الدليل على الحكم، وآل عمران بمنزلة الجواب عن شبهات الخصوم; ولهذا قرن فيها
ذكر المتشابه من بظهور الحجة والبيان; فإنه نزل أولها في آخر الأمر لما قدم
وفد نجران النصارى، وآخرها يتعلق بيوم أحد. والنصارى تمسكوا بالمتشابه، فأجيبوا عن
شبههم بالبيان. ويوم أحد تمسك الكفار بالقتال فقوبلوا بالبيان، وبه يعلم الجواب
لمن تتبع المتشابه من القول والفعل. وأوجب الحج في آل عمران، وأما في البقرة فذكر أنه
مشروع وأمر بتمامه بعد الشروع فيه، ولهذا ذكر البيت والصفا والمروة. وكان خطاب النصارى
في آل عمران أكثر، كما أن خطاب اليهود في البقرة أكثر; لأن التوراة أصل والإنجيل
فرع لها، والنبي صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة دعا اليهود وجاهدهم، وكان جهاده للنصارى
في آخر الأمر; كما كان دعاؤه لأهل الشرك قبل أهل الكتاب; ولهذا كانت السور المكية فيها
الدين الذي اتفق عليه الأنبياء، فخوطب بها جميع الناس والسور المدنية فيها خطاب من أقر بالأنبياء
من أهل الكتاب والمؤمنين، فخوطبوا: يا أهل الكتاب، يا بني إسرائيل.
وأما سورة النساء فتتضمن جميع أحكام الأسباب التي بين الناس; وهي نوعان: محلوقة
لله تعالى، ومقدورة لهم; كالنسب والصهر، ولهذا افتتحها الله بقوله: * (ربكم الذي خلقكم
من نفس واحدة وخلق منها زوجها) * ثم قال: * (واتقوا الله الذي تساءلون به
والأرحام) *; وبين الذين يتعاهدون ويتعاقدون فيما بينهم; وما تعلق بذلك من أحكام
الأموال والفروج والمواريث. ومنها العهود التي حصلت بالرسالة، والتي أخذها الله
على الرسل.
وأما المائدة فسورة العقود، وبهن تمام الشرائع; قالوا: وبها تم الدين، فهي سورة
261

التكميل. بها ذكر الوسائل كما في الأنعام والأعراف ذكر المقاصد، كالتحليل
والتحريم; كتحريم الدماء والأموال وعقوبة المعتدين. وتحريم الخمر من تمام حفظ العقل
والدين. وتحريم الميتة والدم والمنخنقة، وتحريم الصيد على المحرم من تمام الإحرام. وإحلال
الطيبات من تمام عبادة الله. ولهذا ذكر فيها ما يختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
كالوضوء والحكم بالقرآن، فقال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) *
وذكر أنه من ارتد عوض الله بخبر منه. ولا يزال هذا الدين كاملا; ولهذا قيل: إنها آخر
القرآن نزولا فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها.
وهذا الترتيب بين هذه السور الأربع المدنيات: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة
من أحسن الترتيب; وهو ترتيب المصحف العثماني، وإن كان مصحف عبد الله بن مسعود
قدمت فيه سورة النساء على آل عمران; وترتيب بعضها بعد بعض ليس هو أمرا أوجبه
الله، بل أمر راجع إلى اجتهادهم واختيارهم، ولهذا كان لكل مصحف ترتيب، ولكن ترتيب
المصحف العثماني أكمل; وإنما لم يكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مصحف لئلا
يفضى إلى تغييره كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صلى الله
عليه وسلم، فكتب أبو بكر والصحابة بعده، ثم نسخ عثمان المصاحف التي بعث بها
إلى الأمصار.
فائدة
[سبب سقوط البسملة أول براءة]
اختلف في السبب في سقوط البسملة أول براءة; فقيل: كان من شأن العرب في
الجاهلية إذا كان بينهم وبين قوم عهد وأرادوا نقضه كتبوا لهم كتابا، ولم يكتبوا فيه
262

البسملة; فلما نزلت " براءة " بنقص العهد الذي كان للكفار، قرأها عليهم على ولم يبسمل
على ما جرت به عادتهم. ولكن في صحيح الحاكم أن عثمان رضي الله عنه قال: كانت
الأنفال من أوائل ما نزل وبراءة من آخره، وكانت قصتها شبيها بقصتها، وقضى النبي صلى الله
عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، وظننا أنها منها، ثم فرقت بينهما ولم أكتب بينهما البسملة.
وعن مالك: أن أولها لما سقط سقطت البسملة.
وقد قيل: إنها كانت تعدل البقرة لطولها.
وقيل: لأنه لما كتبوا المصاحف في زمن عثمان اختلفوا: هل هما سورتان، أو الأنفال سورة
وبراءة سورة تركت البسملة بينهما؟
وفى مستدرك الحاكم أيضا عن ابن عباس: سألت عليا عن ذلك فقال: لأن البسملة
أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان.
قال القشيري: والصحيح أن البسملة لم تكن فيها; لأن جبريل عليه السلام ما نزل
بها فيها.
فائدة
[في بيان لفظ السورة لغة واصطلاحا]
قال القتيبي: السورة، تهمز ولا تهمز، فمن همزها جعلها من " أسأرت " أي أفضلت،
من السور، وهو ما بقي من الشراب في الإناء كأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها
جعلها من المعنى المتقدم وسهل همزتها.
ومنهم من شبهها بسور البناء، أي القطعة منه، أي منزلة بعد منزلة.
263

وقيل: من سور المدينة لإحاطتها بآياتها واجتماعها كاجتماع البيوت بالسور; ومنه
السوار لإحاطته بالساعد; وعلى هذا فالواو أصلية.
ويحتمل أن تكون من السورة بمعنى المرتبة; لأن الآيات مرتبة في كل سورة ترتيبا
مناسبا; وفى ذلك حجة لمن تتبع الآيات بالمناسبات.
وقال ابن جنى في شرح منهوكة أبى نواس: إنما سميت سورة لارتفاع قدرها; لأنها
كلام الله تعالى; وفيها معرفة الحلال والحرام; ومنه رجل سوار، أي معربد; لأنه يعلو
بفعله ويشتط. ويقال: أصلها من السورة وهي الوثبة، تقول: سرت إليه وثرت إليه. وجمع
سورة القرآن سور بفتح الواو، وجمع سوره البناء سور بسكونها. وقيل: هو بمعنى
العلو; ومنه قوله تعالى: * (إذ تسوروا المحراب) * نزلوا عليه من علو، فسميت القراءة به
لتركب بعضها على بعض. وقيل: لعلو شأنه وشأن قارئه. ثم كره بعضهم أن يقال: سورة
كذا، والصحيح جوازه. ومنه قول ابن مسعود: هذا مقام الذي أنزلت عليه
سورة البقرة.
وأما في الاصطلاح فقال الجعبري: حد السورة قرآن يشتمل على آي ذوات فاتحة
وخاتمة. وأقلها ثلاث آيات. فإن قيل: فما الحكمة في تقطيع القرآن سورا؟ قلت: هي
الحكمة في تقطيع السور آيات معدودات; لكل آية حد ومطلع; حتى تكون كل سورة
بل كل آية فنا مستقلا وقرآنا معتبرا، وفى تسوير السورة تحقيق لكون السورة بمجردها
معجزة وآية من آيات الله تعالى. وسورت السور طوالا وقصارا وأوساطا; تنبيها على أن
الطول ليس من شرط الإعجاز; فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات وهي معجزة إعجاز
سورة البقرة. ثم ظهرت لذلك حكمة في التعليم، وتدريج الأطفال من السور القصار إلى
264

ما فوقها يسيرا يسيرا، تيسيرا من الله على عباده لحفظ كتابه، فترى الطفل يفرح بإتمام
السورة فرح من حصل على حد معتبر. وكذلك المطيل مع في التلاوة يرتاح عند ختم
كل سورة ارتياح المسافر إلى قطع المراحل المسماة مرحلة بعد مرحلة أخرى; إلى أن كل
سورة نمط مستقل، فسورة يوسف تترجم عن قصته، وسورة براءة تترجم عن أحوال
المنافقين وكامن أسرارهم، وغير ذلك.
فإن قلت: فهلا كانت الكتب السالفة كذلك؟ قلت: لوجهين: أحدهما أنها لم
تكن معجزات من ناحية النظم والترتيب، والآخر أنها لم تيسر للحفظ.
وقال الزمخشري: الفوائد في تفصيل القرآن وتقطيعه سورا كثيرة - وكذلك أنزل الله
التوراة والإنجيل والزبور، وما أوحاه إلى أنبيائه مسورة، وبوب المصنفون في كتبهم أبوابا
موشحة الصدور بالتراجم: منها أن الجنس إذا انطوت تحته أنواع وأصناف كان أحسن
وأفخم من أن يكون بابا واحدا. ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم
أخذ في آخره كان أنشط له، وأبعث على التحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله،
ومثله المسافر إذا قطع ميلا أو فرسخا وانتهى إلى رأس برية نفس ذلك منه ونشطه للمسير;
ومن ثمة جزئ القرآن أجزاء وأخماسا. ومنها أن الحافظ إذا حذق السورة اعتقد أنه أخذ
من كتاب الله طائفة مستقلة فيعظم عنده ما حفظه. ومنه حديث أنس: كان الرجل إذا قرأ
البقرة وآل عمران جل فينا. ومن ثم كانت القراءة في الصلاة بسورة أفضل. ومنها أن
التفصيل يسبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض، وبذلك تتلاحظ سعيد المعاني
والنظم; إلى غير ذلك من الفوائد.
265

فائدة
[في بيان معنى الآية لغة واصطلاحا]
أما الآية فلها في اللغة ثلاثة معان:
أحدها - جماعة الحروف، قال أبو عمرو الشيباني: تقول العرب: خرج القوم بآيتهم
أي بجماعتهم.
ثانيها - الآية: العجب، تقول العرب: فلان آية في العلم وفى الجمال، قال الشاعر:
- آية في الجمال ليس له في ال‍ * حسن شبه وما له من نظير -
فكأن كل آية عجب في نظمها، والمعاني المودعة فيها.
ثالثها - العلامة، تقول العرب: خربت دار فلان وما بقي فيها آية، أي علامة; فكأن
كل آية في القرآن علامة ودلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
واختلف في وزنها فقال سيبويه: " فعلة " بفتح العين، وأصلها " أيية " تحركت الياء
وانفتح ما قبلها فجاءت آية. وقال الكسائي: أصلها " آيية " على وزن " فاعلة "، حذفت
الياء الأولى مخافة أن يلتزم فيها من الإدغام ما لزم في دابة.
وأما في الاصطلاح فقال الجعبري في " كتاب المفرد في معرفة العدد ": حد الآية قرآن
مركب من جمل ولو تقديرا، ذو مبدأ ومقطع مندرج في سورة; وأصلها العلامة، ومنه: * (إن
آية ملكه) * لأنها علامة للفضل والصدق، أو الجماعة، لأنها جماعة كلمة.
وقال غيره: الآية طائفة من القرآن منقطعة عما قبلها وما بعدها ليس بينها شبه
بما سواها.
266

وقيل: هي الواحدة من المعدودات في السور، سميت به لأنها علامة على صدق من
أتى بها، وعلى عجز المتحدى بها.
وقيل: لأنها علامة انقطاع ما قبلها من الكلام وانقطاعها عما بعدها. قال
الواحدي: وبعض أصحابنا يجوز على هذا القول تسمية أقل من الآية آية; لولا أن
التوقيف ورد بما هي عليه الآن.
وقال ابن المنير في البحر: ليس في القرآن كلمة واحدة آية إلا * (مدهامتان) *.
وقال بعضهم: الصحيح أنها إنما تعلم بتوقيف من الشارع، لا مجال للقياس فيه كمعرفة
السورة، فالآية طائفة حروف من القرآن، علم بالتوقيف انقطاعها معنى عن الكلام الذي
بعدها في أول القرآن، وعن الكلام الذي قبلها في آخر القرآن، وعن الكلام الذي قبلها
والذي بعدها في غيرهما، غير مشتمل على مثل ذلك. قال: وبهذا القيد خرجت السورة.
وقال الزمخشري: الآيات علم توقيف لا مجال للقياس فيه، فعدوا * (آلم) * آية حيث
وقعت من السورة المفتتح بها، وهي ست، وكذلك * (المص) * آية، و * (آلمر) *
لم تعد آية، و * (آلر) * ليست بآية في سورها الخمس. و * (طسم) * آية في سورتيها،
و * (طه) * و * (يس) * آيتان، و * (طس) * ليست بآية، و * (حم) * آية في سورها كلها
و * (حم وعسق) * آيتان، و * (كهيعص) * آية واحدة، و * (ص) * و * (ق) * و * (ن) *
ثلاثتها لم تعد آية. هذا مذهب الكوفيين، ومن عداهم لم يعدوا شيئا منها آية.
267

وقال بعضهم: إنما عدوا * (يس) * آية ولم يعدوا * (طس) * لأن * (طس) * تشبه
المفرد، كقابيل في الزنة والحروف، و * (يس) * تشبه الجملة من جهة أن أوله ياء، وليس لنا
مفرد أوله ياء.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الفاتحة سبع
آيات وسورة الملك ثلاثون آية. وصح أنه قرأ العشر الآيات الخواتيم من سورة آل
عمران. قال وتعديد الآي من مفصلات القرآن; ومن آياته طويل وقصير، ومنه ما ينقطع،
ومنه ما ينتهى إلى تمام الكلام، ومنه ما يكون في أثنائه، كقوله: * (أنعمت عليهم) *
على مذهب أهل المدينة، فإنهم يعدونها آية. وينبغي أن يعول في ذلك على
فعل السلف.
* * *
وأما الكلمة، فهي اللفظة الواحدة، وقد تكون على حرفين مثل " ما " و " لي " و " له "
و " لك ". وقد تكون أكثر. وأكثر ما تكون عشرة أحرف، مثل: * (ليستخلفنهم) *،
و * (أنلزمكموها) * و * (فأسقيناكموه) *: وقد تكون الكلمة آية مثل:
* (والفجر) *، * (والضحى) *، * (والعصر) *، وكذلك * (آلم) *، و * (طه) *، و * (حم) *
في قول الكوفيين. و * (حم عسق) * عندهم كلمتان، وغيرهم لا يسمى هذه آيات بل يقول:
هذه فواتح لسور.
وقال أبو عمرو الداني: لا أعلم كلمة هي وحدها آية إلا قوله: * (مدهامتان) *
في سورة الرحمن.
268

خاتمة
[في تعدد أسماء السور]
قد يكون للسورة اسم واحد وهو كثير وقد يكون لها اسمان، كسورة البقرة يقال لها: فسطاط
القرآن لعظمها وبهائها. وآل عمران يقال اسمها في التوراة طيبة، حكاه النقاش.
والنحل تسمى سورة النعم لما عدد الله فيها من النعم على عباده. وسورة * (حم عسق) *،
وتسمى الشورى. وسورة الجاثية وتسمى الشريعة. وسورة محمد صلى الله عليه وسلم
وتسمى القتال.
وقد يكون لها ثلاثة أسماء، كسورة المائدة، والعقود، والمنقذة. وروى ابن عطية فيه
حديثا، وكسورة غافر، والطول، والمؤمن، لقوله: * (وقال رجل مؤمن) *.
وقد يكون لها أكثر من ذلك; كسورة براءة، والتوبة، والفاضحة، والحافرة، لأنها
حفرت عن قلوب المنافقين. قال ابن عباس: ما زال ينزل * (ومنهم) * حتى ظننا أنه لا يبقى
أحد إلا ذكر فيها. وقال حذيفة: هي سورة العذاب. وقال ابن عمر: كنا ندعوها
المشقشقة. وقال الحرث بن يزيد: كانت تدعى المبعثرة، ويقال لها: المسورة، ويقال لها:
البحوث.
وكسورة الفاتحة ذكر بعضهم لها بضعة وعشرين اسما: الفاتحة - وثبت في
الصحيحين - وأم الكتاب، وأم القرآن، وثبتا في صحيح مسلم; وحكى ابن عطية: كراهية
تسميتها عن قوم، والسبع المثاني، والصلاة ثبتا في صحيح مسلم، والحمد، رواه الدارقطني.
269

وسميت مثاني لأنها تثنى في الصلاة، أو أنزلت مرتين، والوافية بالفاء لأن تبعيضها لا يجوز،
ولاشتمالها على المعاني التي في القرآن، والكنز لما ذكرنا، والشافية، والشفاء،
والكافية، والأساس.
وينبغي البحث عن تعداد الأسامي: هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن
كان الثاني فلن يعدم الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني - كثيرة تقتضي اشتقاق
أسمائها وهو بعيد.
خاتمة أخرى
[في اختصاص كل سورة بما سميت]
ينبغي النظر في وجه اختصاص كل سورة بما سميت به، ولا شك أن العرب تراعى
في الكثير من المسميات أخذ أسمائها من نادر أو مستعرب يكون في الشئ من خلق أو
صفة تخصه، أو تكون معه أحكم أو أكثر أو أسبق لإدراك الرائي للمسمى. ويسمون
الجملة من الكلام أو القصيدة الطويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلك جرت
أسماء سور الكتاب العزيز; كتسمية سورة البقرة بهذا الاسم لقرينه ذكر قصة
البقرة المذكورة فيها وعجيب الحكمة فيها. وسميت سورة النساء بهذا الاسم لما تردد فيها
من كثير من أحكام النساء، وتسمية سورة الأنعام لما ورد فيها من تفصيل أحوالها،
وإن كان قد ورد لفظ الأنعام في غيرها; إلا أن التفصيل الوارد في قوله تعالى: * (ومن
الأنعام حمولة وفرشا...) * إلى قوله: * (أم كنتم شهداء) * لم يرد في غيرها;
270

كما ورد ذكر النساء في سور; إلا أن ما تكرر وبسط من أحكامهن لم يرد في غير سورة
النساء. وكذا سورة المائدة لم يرد ذكر المائدة في غيرها فسميت بما يخصها.
فإن قيل: قد ورد في سورة هود ذكر نوح وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وموسى
عليهم السلام، فلم تختص باسم هود وحده؟ وما وجه تسميتها به؟ وقصة نوح فيها أطول
وأوعب. قيل: تكررت هذه القصص في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء بأوعب
مما وردت في غيرها، ولم يتكرر في واحدة من هذه السور الثلاث اسم هود عليه السلام
كتكرره في هذه السورة; فإنه تكرر فيها عند ذكر قصته في أربعة مواضع، والتكرار من
أقوى الأسباب التي ذكرنا.
وإن قيل: فقد تكرر اسم نوح في هذه السورة في ستة مواضع فيها، وذلك أكثر من
تكرار اسم هود. قيل: لما جردت لذكر نوح وقصته مع قومه سورة برأسها فلم يقع
فيها غير ذلك كانت أولى بأن تسمى باسمه عليه السلام من سورة تضمنت قصته
وقصة غيره، وأن تكرر اسمه فيها; أما هود فكانت أولى السور بأن تسمى باسمه
عليه السلام.
واعلم أن تسمية سائر سور القرآن يجرى فيها من رعى التسمية ما ذكرنا. وانظر سورة
* (ق) * لما تكرر فيها من ذكر الكلمات بلفظ القاف. ومن ذلك السور المفتتحة بالحروف
المقطعة، ووجه اختصاص كل واحدة بما وليته، حتى لم تكن لترد * (آلم) * في موضع * (آلر) *،
ولا * (حم) * في موضع * (طس) *; لا سيما إذا قلنا: إنها أعلام لها وأسماء عليها.
وكذا وقع في كل سورة منها ما كثر ترداده فيما يتركب من كلمها; ويوضحه
أنك إذا ناظرت سورة منها بما يماثلها في عدد كلماتها وحروفها وجدت الحروف المفتتح بها
تلك السورة إفرادا وتركيبا أكثر عددا في كلماتها منها في نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها
وحروفها; فإن لم تجد بسورة منها ما يماثلها في عدد كلمها ففي اطراد ذلك في المماثلات مما
271

يوجد له النظير ما يشعر بأن هذه لو وجد ما يماثلها لجرى على ما ذكرت لك. وقد اطرد
هذا في أكثرها فحق لكل سورة منها ألا يناسبها غير الوارد فيها; فلو وضع موضع * (ق) *
من سورة * (ن) * لم يمكن لعدم التناسب الواجب مراعاته في كلام الله تعالى. وقد تكرر في
سورة يونس من الكلم الواقع فيها * (آلر) * مائتا كلمة وعشرون أو نحوها، فلهذا افتتحت
ب‍ * (آلر) *. وأقرب السور إليها مما يماثلها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة النحل
وهي أطول منها مما يركب على * (الر) *. من كلمها مائتا كلمة، مع زيادتها في الطول عليها،
فلذلك وردت الحروف المقطعة في أولها * (الر) *.
272

الخامس عشر
معرفة أسمائه واشتقاقاتها
[أسماء القرآن]
وقد صنف في ذلك الحر إلى جزءا وأنهى أساميه إلى نيف وتسعين.
وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك رحمه الله: اعلم أن الله تعالى سمى القرآن
بخمسة وخمسين اسما:
سماه كتابا: * (فقال حم. والكتاب المبين) *.
وسماه قرآنا فقال: * (إنه لقرآن كريم...) * الآية.
وسماه كلاما فقال: * (حتى يسمع كلام الله) *
وسماه نورا فقال: * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) *
وسماه هدى فقال: * (هدى ورحمة للمحسنين) *
وسماه رحمة فقال: * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) *.
وسماه فرقانا فقال: * (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده...) * الآية.
وسماه شفاء فقال: * (وننزل من القرآن ما هو شفاء) *.
وسماه موعظة فقال: * (قد جاءتكم موعظة من ربكم) *.
273

وسماه ذكرا فقال: * (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) *.
وسماه كريما فقال: * (إنه لقرآن كريم) *.
وسماه عليا فقال: * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم) *.
وسماه حكمة فقال: * (حكمة بالغة) *.
وسماه حكيما فقال: * (آلر. تلك آيات الكتاب الحكيم) *.
وسماه مهيمنا فقال: * (مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) *.
وسماه مباركا فقال: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك...) * الآية.
وسماه حبلا فقال: * (واعتصموا بحبل الله جميعا) *.
وسماه الصراط المستقيم فقال: * (وأن هذا صراطي مستقيما) *.
وسماه القيم فقال: * (ولم يجعل له عوجا. قيما) *.
وسماه فصلا فقال: * (إنه لقول فصل) *.
وسماه نبأ عظيما فقال: * (عم يتساءلون. عن النبأ العظيم) *.
وسماه أحسن الحديث فقال: * (الله نزل أحسن الحديث...) * الآية.
وسماه تنزيلا فقال: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) *.
وسماه روحا فقال: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) *.
274

وسماه وحيا فقال: * (إنما أنذركم بالوحي) *.
وسماه المثاني فقال: * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) *.
وسماه عربيا فقال: * (قرآنا عربيا) *، قال ابن عباس: غير مخلوق.
وسماه قولا فقال: * (ولقد وصلنا لهم القول) *.
وسماه بصائر فقال: * (هذا بصائر للناس) *.
وسماه بيانا فقال: * (هذا بيان للناس) *.
وسماه علما فقال: * (ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم) *.
وسماه حقا فقال: * (إن هذا لهو القصص الحق) *. وسماه الهادي فقال: * (إن هذا القرآن يهدى) *.
وسماه عجبا فقال: * (قرآنا عجبا يهدى) *. وسماه تذكرة فقال: * (وإنه لتذكرة) *.
وسماه بالعروة الوثقى فقال: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) *.
وسماه متشابها فقال: * (كتابا متشابها) *.
وسماه صدقا فقال: * (والذي جاء بالصدق) * أي بالقرآن.
وسماه عدلا فقال: * (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) *.
275

وسماه إيمانا فقال: * (سمعنا مناديا ينادى للإيمان) *.
وسماه أمرا فقال: * (ذلك أمر الله) *.
وسماه بشرى فقال: * (هدى وبشرى) *. وسماه مجيدا فقال: * (بل هو قرآن مجيد) *.
وسماه زبورا فقال: * (ولقد كتبنا في الزبور...) * الآية. وسماه مبينا فقال: * (آلر. تلك آيات الكتاب المبين) *.
وسماه بشيرا ونذيرا فقال: * (بشيرا ونذيرا فأعرض) *. وسماه عزيزا فقال: * (وإنه لكتاب عزيز) *.
وسماه بلاغا فقال: * (هذا بلاغ للناس) *. وسماه قصصا فقال: * (أحسن القصص) *.
وسماه أربعة أسامي في آية واحدة فقال: * (في صحف مكرمة. مرفوعة
مطهرة) *. انتهى
تفسير هذه الأسامي
فأما الكتاب; فهو مصدر كتب يكتب كتابة، وأصلها الجمع، وسميت الكتابة
لجمعها الحروف; فاشتق الكتاب لذلك; لأنه يجمع أنواعا من القصص والآيات والأحكام
والأخبار على أوجه مخصوصة. ويسمى المكتوب كتابا مجازا، قال الله تعالى: * (في كتاب
276

مكنون) *، أي اللوح المحفوظ. والكتابة حركات تقوم بمحل قدرة الكاتب، خطوط
موضوعة مجتمعة تدل على المعنى المقصود; وقد يغلط الكاتب فلا تدل على شئ.
وأما القرآن فقد اختلفوا فيه; فقيل: هو اسم غير مشتق من شئ; بل هو اسم خاص
بكلام الله; وقيل: مشتق من القرى، وهو الجمع; ومنه قريت الماء في الحوض أي جمعته;
قاله الجوهري وغيره.
وقال الراغب: لا يقال لكل جمع قرآن ولا لجمع كل كلام قرآن; ولعل مراده بذلك
في العرف والاستعمال لا أصل اللغة.
وقال الهروي: كل شئ جمعته فقد قرأته.
وقال أبو عبيد: سمى القرآن قرآنا; لأنه جمع السور بعضها إلى بعض.
وقال الراغب: سمى قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب المنزلة السابقة.
وقيل: لأنه جمع أنواع العلوم كلها بمعان; كما قال تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب
من شئ) *.
وقال بعض المتأخرين: لا يكون القرآن و " قرأ " مادته بمعنى جمع، لقوله تعالى:
* (إن علينا جمعه وقرآنه) * فغاير بينهما; وإنما مادته " قرأ " بمعنى أظهر وبين،
والقارئ يظهر القرآن ويخرجه، والقرء: الدم، لظهوره وخروجه. والقرء: الوقت; فإن
التوقيت لا يكون إلا بما يظهر.
وقيل: سمى قرآنا لأن القراءة عنه والتلاوة منه; وقد قرئت بعضها عن بعض.
وفى تاريخ بغداد للخطيب في ترجمة الشافعي قال: " وقرأت القرآن على إسماعيل
277

ابن قسطنطين وكان يقول: القران اسم وليس مهموزا; ولم يؤخذ من " قرأت "; ولو أخذ من
" قرأت " لكان كل ما قرئ [قرآنا] ولكنه اسم للقرآن; مثل التوراة والإنجيل،
يهمز قرأت، ولا يهمز القران.
وقال الواحدي: كان ابن كثير يقرأ بغير همز، وهي قراءة الشافعي أيضا. قال البيهقي:
كان الشافعي يهمز " قرأت " ولا يهمز القران; ويقول: هو اسم لكتاب الله غير مهموز.
قال الواحدي: قول الشافعي هو اسم لكتاب الله، يعنى أنه اسم علم غير مشتق، كما قاله
جماعة من الأئمة.
وقال: وذهب آخرون إلى أنه مشتق من قرنت الشئ بالشئ إذا ضممته إليه فسمى
بذلك لقرآن السور والآيات والحروف فيه، ومنه قيل للجمع بين الحج والعمرة قران، قال:
وإلى هذا المعنى ذهب الأشعري.
وقال القرطبي: القران بغير همز مأخوذ من القرائن; لأن الآيات منه يصدق بعضها
بعضا; ويشابه بعضها بعضا، فهي حينئذ قرائن.
قال الزجاج: وهذا القول سهو، والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف; ونقل
حركة الهمزة إلى الساكن قبلها; وهذا ما أشار إليه الفارسي في " الحلبيات "; وقوله:
* (إن علينا جمعه وقرآنه) * أي جمعه في قلبك حفظا، وعلى لسانك تلاوة، وفى
سمعك فهما وعلما. ولهذا قال بعض أصحابنا: إن عند قراءة القارئ تسمع قراءته المخلوقة،
ويفهم منها كلام الله القديم; وهذا معنى قوله: * (لا تسمعوا لهذا القرآن) *، أي
278

لا تفهموا ولا تعقلوا، لأن السمع الطبيعي يحصل للسامع شاء أو أبى.
وأما الكلام فمشتق من التأثير، يقال: كلمة إذا أثر فيه بالجرح، فسمى الكلام
كلاما لأنه يؤثر في ذهن السامع فائدة لم تكن عنده.
* * *
وأما النور; فلأنه يدرك به غوامض الحلال والحرام.
وأما تسميته " هدى " فلأن فيه دلالة بينة إلى الحق، وتفريقا بينه وبين الباطل.
وأما تسميته " ذكرا " فلما فيه من المواعظ والتحذير وأخبار الأمم الماضية; وهو مصدر
ذكرت ذكرا، والذكر: الشرف، قال تعالى: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه
ذكركم) * أي شرفكم.
وأما تسميته " تبيانا " فلأنه بين فيه أنواع الحق وكشف أدلته.
أما تسميته " بلاغا " فلأنه لم يصل إليهم حال أخبار النبي صلى الله عليه وسلم
وإبلاغه إليهم إلا به.
وأما تسميته " مبينا " فلأنه أبان وفرق بين الحق والباطل.
وأما تسميته " بشيرا ونذيرا " فلأنه بشر بالجنة وأنذر من النار.
وأما تسميته " عزيزا " أي يعجز ويعز على من يروم أن يأتي بمثله فيتعذر ذلك عليه;
لقوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن...) * الآية، والقديم لا يكون له
مثل; إنما المراد أن يأتوا بمثل هذا الإبلاغ والإخبار والقراءة بالوضع البديع. وقيل المراد
بالعزيز نفى المهانة عن قارئه إذا عمل به.
279

وأما تسميته " فرقانا " فلأنه فرق بين الحق والباطل والمسلم والكافر، والمؤمن والمنافق،
وبه سمى عمر بن الخطاب الفارق.
وأما تسميته " مثاني " فلأن فيه بيان قصص الكتب الماضية، فيكون البيان ثانيا
للأول الذي تقدمه فيبين الأول الثاني. وقيل سمى " مثاني " لتكرار الحكم والقصص والمواعظ
فيه. وقيل: إنه اسم الفاتحة وحدها.
وأما تسميته " وحيا " ومعناه تعريف الشئ خفية، سواء كان بالكلام; كالأنبياء والملائكة،
أو بإلهام كالنحل وإشارة النمل; فهو مشتق من الوحي والعجلة، لأن فيه إلهاما بسرعة
وخفية.
وأما تسميته " حكيما " فلأن آياته أحكمت بذكر الحلال والحرام، فأحكمت عن الإتيان
بمثلها; ومن حكمته أن علامته: من علمه وعمل به ارتدع عن الفواحش.
وأما تسميته " مصدقا " فإنه صدق الأنبياء الماضين أو كتبهم قبل أن تغير وتبدل.
وأما تسميته " مهيمنا " فلأنه الشاهد للكتب المتقدمة بأنها من عند الله.
وأما تسميته " بلاغا " فلأنه كان في الإعلام والإبلاغ وأداء الرسالة.
وأما تسميته " شفاء " فلأنه من آمن به كان له شفاء من سقم الكفر، ومن علمه
وعمل به كان له شفاء من سقم الجهل.
وأما تسميته " رحمة " فإن من فهمه وعقله كان رحمة له.
وأما تسميته " قصصا " فلأن فيه قصص الأمم الماضين وأخبارهم.
وأم تسميته " مجيدا " والمجيد الشريف، فمن شرفه أنه حفظ عن التغيير والتبديل
280

والزيادة والنقصان، وجعله معجزا في نفسه عن أن يؤتى بمثله.
وأما تسميته " تنزيلا " فلأنه مصدر نزلته; لأنه منزل من عند الله على لسان جبريل، لأن الله تعالى أسمع جبريل كلامه وفهمه إياه كما شاء من غير وصف ولا كيفية نزل به
على نبيه، فأداه هو كما فهمه وعلمه.
وأما تسميته " بصائر " فلأنه مشتق من البصر والبصيرة، وهو جامع لمعاني أغراض
المؤمنين; كما قال تعالى: * (ولا رطب ولا يابس) * وأما تسميته ذكرى فلأنه ذكر
للمؤمنين; ما فطرهم الله عليه من التوحيد. وأما قوله تعالى: * (ولقد كتبنا في الزبور من
بعد الذكر) * فالمراد بالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء لا يختص بزبور
داود، والذكر أم الكتاب الذي من عند الله تعالى.
وذكر الشيخ شهيب الدين أبو شامة في " المرشد الوجيز " في قوله تعالى: * (ورزق
ربك خير وأبقى) * قال: يعنى القرآن. وقال السخاوي: يعنى ما رزقك الله من القرآن خير
مما رزقهم من الدنيا.
فائدة
ذكر المظفري في تاريخه: لما جمع أبو بكر القرآن قال: سموه، فقال بعضهم:
281

سموه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم: سموه السفر، فكرهوه من يهود. فقال ابن
مسعود: رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به.
فائدة
قال الحافظ أبو طاهر السلفي: سمعت أبا الكرم النحوي ببغداد; وسئل: كل
كتاب له ترجمة، فما ترجمة كتاب الله؟ فقال: * (هذا بلاغ للناس ولينذروا به) *.
282

النوع السادس
معرفة ما وقع من غير لغة أهل الحجاز
من قبائل العرب
قد تقدم في النوع الحادي عشر الإشارة إلى الخلاف في ذلك، والمعروف أنه بلغة
قريش. وحكى عن أبي الأسود الديلي أنه نزل بلسان الكعبين: كعب بن لؤي جد
قريش، وكعب بن عمرو، جد خزاعة، فقال له خالد بن سلمة: إنما نزل بلسان قريش
ولسان خزاعة; وذلك أن الدار كانت واحدة.
وقال أبو عبيد في كتاب " فضائل القرآن " عن ابن عباس رضي الله عنهما: نزل بلغة
الكعبين: كعب قريش، وكعب خزاعة; قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة.
قال أبو عبيد: يعنى أن خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.
وأما الكلبي فإنه روى عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن على سبع
لغات; منها خمس بلغة العجز من هوازن. قال أبو عبيد: العجز هم سعد بن بكر، وجشم
[ابن بكر]، ونصر بن معاوية، وثقيف، وهذه القبائل هي التي يقال لها عليا هوازن
وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء: أفصح العرب عليا و
هوازن وسفلى تميم; فهذه عليا
هوازن، وأما سفلى تميم فبنو دارم.
وقال أبو ميسرة: بكل لسان. وقيل: إن فيه من كل لغات العرب; ولهذا قال الشافعي
283

في " الرسالة ": لا نعلمه يحيط باللغة إلا نبي.
قال الصيرفي: يريد من بعث بلسان جماعة العرب حتى يخاطبها به.
قال: وقد فضل الفراء لغة قريش على سائر اللغات; وزعم أنهم يسمعون كلام
العرب فيختارون من كل لغة أحسنها، فصفا كلامهم. وذكر قبح عنعنة تميم،
وكسكسة ربيعة، وعجرفة منه قيس. وذكر أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله;
إنك تأتينا بكلام من كلام العرب وما نعرفه، ولنحن العرب حقا، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إن ربى علمني فتعلمت، وأدبني فتأدبت ".
قال الصيرفي: ولست أعرف إسناد هذا الحديث، وإن صح فقد دل على أن النبي
صلى الله عليه وسلم قد عرف ألسنة العرب.
وقال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد ": قول من قال: نزل بلغة قريش،
معناه عندي: في الأغلب، لأن لغة غير قريش موجودة في جميع القرآن من تحقيق الهمزة
ونحوها، وقريش لا تهمز. وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أنزل
القرآن على سبعة أحرف صار في عجز هوازن منها خمسة.
وقال أبو حاتم: خص هؤلاء دون ربيعة وسائر العرب، لقرب جوارهم من مولد
284

النبي صلى الله عليه وسلم، ومنزل الوحي; وإنما ربيعة ومضر أخوان. قال: وأحب الألفاظ
واللغات إلينا أن نقرأ بها لغات قريش، ثم أدناهم من بطون مضر.
وقال الشيخ جمال الدين بن مالك: أنزل الله القرآن بلغة الحجازيين إلا قليلا فإنه
نزل بلغة التميميين; فمن القليل إدغام: * (ومن يشاق الله) * في الحشر، * (ومن يرتد
منكم عن دينه) * في قراءة غير نافع وابن عامر; فإن الإدغام في المجزوم والاسم
المضاعف لغة تميم ولهذا قل، والفك لغة أهل الحجاز ولهذا كثر، نحو: * (ومن
يرتدد منكم عن دينه) *، * (وليملل وليه) *، * (ويحببكم الله) *،
* (ويمددكم) *، * (ومن يشاقق) * في النساء والأنفال، * (ومن يحادد الله) *
* (فليمدد) *، * (واحلل عقدة) *، و * (اشدد به أزرى) *، * (ومن يحلل
عليه غضبى) *.
قال: وأجمع القراء على نصب * (إلا اتباع الظن) * لأن لغة الحجازيين
285

التزام النصب في المنقطع، وإن كان بنو تميم يتبعون; كما أجمعوا على نصب * (ما هذا
بشرا) * لأن القرآن نزل بلغة الحجازيين.
وزعم الزمخشري أن قوله تعالى: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب
إلا الله) * أنه استثناء منقطع، جاء على لغة تميم، ثم نازعه في ذلك.
286

النوع السابع عشر
ما فيه من غير لغة العرب
اعلم أن القرآن أنزله الله بلغة العرب، فلا يجوز قراءته وتلاوته إلا بها، لقوله تعالى:
* (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *، وقوله: * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا...) * الآية. وهذا
يدل على أنه ليس فيه غير العربي; لأن الله تعالى جعله معجزة شاهدة لنبيه عليه الصلاة
والسلام، ودلالة قاطعة لصدقه، وليتحدى غير العرب العرباء به، ويحاضر البلغاء والفصحاء
والشعراء بآياته; فلو اشتمل على غير لغة العرب لم تكن له فائدة; هذا مذهب الشافعي
وهو قول جمهور العلماء; منهم أبو عبيدة، ومحمد بن جرير الطبري، والقاضي أبو بكر بن
الطيب في كتاب " التقريب "، وأبو الحسين بن فارس اللغوي وغيرهم.
وقال الشافعي في " الرسالة " في باب البيان الخامس ما نصه: " وقد تكلم في
العلم من لو أمسك عن بعض ما تكلم فيه لكان الإمساك أولى به، [وأقرب من السلامة
له]، فقال قائل منهم: إن في القرآن عربيا وأعجميا، والقرآن يدل على أنه ليس في
كتاب الله شئ إلا بلسان العرب، ووجد قائل هذا القول من قبل ذلك منه تقليدا
له، وتركا للمسألة [له] عن حجته ومسألة غيره ممن خالفه; وبالتقليد أغفل من أغفل
منهم، والله يغفر لنا ولهم ". هذا كلامه.
وقال أبو عبيدة فيما حكاه ابن فارس: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم
أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، ومن زعم أكذا بالنبطية فقد أكبر القول. قال:
287

ومعناه أتى بأمر عظيم; وذلك أن القرآن لو كان فيه من غير لغة العرب شئ لتوهم متوهم أن
العرب إنما عجزت عن الإتيان بمثله; لأنه أتى بلغات لا يعرفونها، وفى ذلك ما فيه. وإن كان
كذلك فلا وجه لقول من يجيز القراءة في الصلاة بالفارسية; لأنها ترجمة غير معجزة، وإذا جاز
ذلك لجازت الصلاة بكتب التفسير، وهذا لا يقول به أحد. انتهى.
وممن نقل عنه جواز القراءة بالفارسية أبو حنيفة; لكن صح رجوعه عن ذلك.
ومذهب ابن عباس وعكرمة وغيرهما أنه وقع في القرآن ما ليس من لغتهم.
فمن ذلك " الطور " جبل بالسريانية. و " طفقا " أي قصدا بالرومية. والقسط
والقسطاس: العدل بالرومية. * (إنا هدنا إليك) *: تبنا بالعبرانية. والسجل
[الكتاب] بالفارسية. والرقيم: اللوح بالرومية. والمهل: عكر الزيت بلسان أهل
المغرب. والسندس: الرقيق من الستر بالهندية. والإستبرق: الغليظ بالفارسية بحذف
القاف. السرى: النهر الصغير باليونانية. طه: أي طأ يا رجل بالعبرانية. يصهر
أي ينضج بلسان أهل المغرب. سينين: الحسن بالنبطية. المشكاة: الكوة بالحبشية
وقيل الزجاجة تسرج. الدرى: المضئ بالحبشية. الأليم: المؤلم بالعبرانية. * (ناظرين
إناه) *: أي نضجه بلسان أهل المغرب. * (الملة الآخرة) *: أي الأولى بالقبطية،
والقبط يسمون الآخرة الأولى، والأولى الآخرة. * (وراءهم ملك) *: أي أمامهم
288

بالقبطية. اليم: البحر، بالقبطية. بطائنها:، ظواهرها بالقبطية. الأب: الحشيش، بلغة
أهل المغرب. * (إن ناشئة الليل) * قال ابن عباس: نشأ بلغة الحبشة: قام من الليل.
* (كفلين من رحمته) * قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: " ضعفين " بلغة
الحبشة. القسورة: الأسد بلغة الحبشة.
واختار الزمخشري أن التوراة والإنجيل أعجميان، ورجح ذلك بقراءة " الإنجيل "
بالفتح، ثم اختلفوا، فقال الطبري: هذه الأمثلة المنسوبة إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن
تتوارد اللغات، فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد. وحكاه ابن فارس عن أبي
عبيد
وقال ابن عطية: " بل كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم بعض
مخالطة لسائر الألسن بتجارات، وبرحلتي قريش، وبسفر مسافرين، كسفر أبى عمرو
إلى الشام، وسفر عمر بن الخطاب، وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض
الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، صحبته [لنصاراها] مع كونه حجة في اللغة، فعلقت
العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية، غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت في تخفيف ثقل
العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها
البيان. وعلى هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربي فكجهله الصريح بما في لغة
غيره، وكما لم يعرف ابن عباس معنى " فاطر "، إلى غير ذلك. قال: فحقيقة العبارة عن هذه
الألفاظ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه ".
289

قال: " وما ذهب إليه الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظه فذلك بعيد; بل إحداهما
أصل والأخرى فرع في الأكثر، لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاقات إلا قليلا شاذ ".
وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك: إنما وجدت هذه في كلام العرب;
لأنها أوسع اللغات وأكثرها ألفاظا، ويجوز أن يكون العرب قد سبقها غيرهم إلى هذه الألفاظ،
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كافة الخلق، قال تعالى: * (وما أرسلنا
من رسول إلا بلسان قومه) *.
وحكى ابن فارس عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه حكى الخلاف في ذلك، ونسب القول
بوقوعه إلى الفقهاء، والمنع إلى أهل العربية. ثم قال أبو عبيد: " والصواب عندي مذهب
فيه تصديق القولين جميعا; وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، إلا أنها
سقطت إلى العرب فعربتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية،
ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو
صادق، ومن قال أعجمية فصادق ". قال: " وإنما فسر هذا لئلا يقدم أحد على الفقهاء فينسبهم
إلى الجهل، ويتوهم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله بغير ما أراده [الله جل وعز]، فهم
كانوا أعلم بالتأويل وأشد تعظيما للقرآن ".
قال ابن فارس: " وليس كل من خالف قائلا في مقالته ينسبه إلى الجهل، فقد
اختلف الصدر الأول في تأويل [آي من] القرآن ".
قال: " فالقول إذن ما قاله أبو عبيد، وإن كان قوم من الأوائل قد ذهبوا إلى غيره ".
290

النوع الثامن عشر
معرفة غريبة
وهو معرفة المدلول; وقد صنف فيه جماعة; منهم أبو عبيدة كتاب " المجاز "،
وأبو عمر غلام ثعلب: " ياقوتة الصراط ". ومن أشهرها كتاب ابن عزيز،
و " الغريبين " للهروي. ومن أحسنها كتاب " المفردات " للراغب.
وهو يتصيد المعاني من السياق; لأن مدلولات الألفاظ خاصة. قال الشيخ أبو عمرو
ابن الصلاح: وحيث رأيت في كتب التفسير: " قال أهل المعاني " فالمراد به مصنفو الكتب
في معاني القرآن، كالزجاج ومن قبله.. وفى بعض كلام الواحدي: " أكثر أهل المعاني:
الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا ". انتهى.
ويحتاج الكاشف عن ذلك إلى معرفة علم اللغة: اسما وفعلا وحرفا; فالحروف لقلتها
تكلم النحاة على معانيها; فيؤخذ ذلك من كتبهم.
وأما الأسماء والأفعال فيؤخذ ذلك من كتب اللغة. وأكثر الموضوعات في علم اللغة
كتاب ابن سيد; فإن الحافظ أبا محمد علي بن أحمد الفارسي ذكر أنه في مائة سفر; بدأ
291

بالفلك وختم بالذرة. ومن الكتب المطولة كتاب الأزهري و " الموعب " بعد لابن
التياني و " المحكم " لابن سيده، وكتاب " الجامع " للقزاز "، والصحاح "
للجوهري، و، البارع " لأبى على القالي، ومجمع " البحرين " للصاغاني.
ومن الموضوعات في الأفعال كتاب ابن القوطية، وكتاب ابن طريف، وكتاب
السرقسطي المنبوز بالحمار، ومن أجمعها كتاب ابن القطاع.
ومعرفة هذا الفن للمفسر ضروري، وإلا فلا يحل له الإقدام على كتاب الله تعالى.
قال يحيى بن نضلة المديني: سمعت مالك بن أنس يقول: لا أوتى برجل يفسر كتاب الله
غير عالم بلغة العرب إلا جعلته نكالا.
وقال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن
عالما بلغات العرب.
292

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: إذا سألتموني عن غريب اللغة فالتمسوه في الشعر;
فإن الشعر ديوان العرب.
وعنه في قوله تعالى: * (والليل وما وسق) * قال: " ما جمع " وأنشد:
- إن لنا قلائصا حقائقا * مستوثقات لو يجدن سائقا -
وقال: ما كنت أدرى ما قوله تعالى: * (ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت
خير الفاتحين) *، حتى سمعت ابنة ذي يزن الحميري وهي تقول: أفاتحك، يعنى أقاضيك.
وفى سورة السجدة: * (متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) * يعنى متى هذا القضاء
وقوله: * (وهو الفتاح العليم) * وقوله: * (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) *.
وقال أيضا: ما كنت أدرى ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعربيان يختصمان
في بئر، فقال أحدهما; أنا فطرتها، يعنى ابتدأتها.
وجاءه رجل من هذيل، فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات وترك أربعة
من الولد وثلاثة من الوراء، فقال ابن عباس: * (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب) * قال: ولد الولد.
ومسائل نافع له عن مواضع من القرآن واستشهاد ابن عباس في كل جواب
293

بيت ذكرها الأنباري في كتاب " الوقف والابتداء " بإسناده، وقال: فيه دلالة على بطلان
قول من أنكر على النحويين احتجاجهم على القرآن بالشعر، وأنهم جعلوا الشعر
أصلا للقرآن، وليس كذلك، وإنما أراد النحويون أن يثبتوا الحرف الغريب من القرآن
بالشعر; لأن الله تعالى قال: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *، وقال تعالى: * (بلسان
عربي مبين) *.
وقال ابن عباس: الشعر ديوان العرب، فإذا خفى عليهم الحرف من القرآن الذي
أنزله الله بلغتهم رجعوا إلى ديوانهم، فالتمسوا معرفة ذلك. ثم إن كان ما تضمنه ألفاظها
يوجب العمل دون العلم كفى فيه الاستشهاد بالبيت والبيتين، وإن كان ما يوجب العلم لم
يكف ذلك، بل لا بد من أن يستفيض ذلك اللفظ، وتكثر شواهده من الشعر.
وينبغي العناية بتدبر الألفاظ كي لا يقع الخطأ، كما وقع لجماعة من الكبار، فروى
الخطابي عن أبي العالية أنه سئل عن معنى قوله: * (الذين هم عن صلاتهم ساهون) *
فقال: هو الذي ينصرف عن صلاته ولا يدرى عن شفع أو وتر، قال الحسن: مه يا أبا
العالية! ليس هكذا، بل الذين سهوا عن ميقاتها حتى تفوتهم، ألا ترى قوله: * (عن
صلاتهم) *! فلما لم يتدبر أبو العالية حرف " في " و " عن " تنبه له الحسن; إذ لو كان
المراد ما فهم أبو العالية لقال " في صلاتهم "، فلما قال: " عن صلاتهم " دل على أن
المراد به الذهاب عن الوقت، ولذلك قال ابن قتيبة في قوله تعالى: * (ومن يعش عن
ذكر الرحمن) * أنه من عشوت أعشو عشوا إذا نظرت; وغلطوه في ذلك، وإنما معنا
يعرض; وإنما غلط لأنه لم يفرق بين عشوت إلى الشئ وعشوت عنه.
294

وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: * (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) * قال: فارغا من
لحزن، لعلمها أنه لم يغرق; ومنه " دم فراغ "، أي لا قود فيه ولا دية.
وقال بعض الأدباء: أخطأ أبو عبيدة في المعنى; لو كان قلبها فارغا من الحزن عليه لما قال:
* (لولا أن ربطنا على قلبها) * لأنها كادت تبدى به.
وهذا الباب عظيم الخطر; ومن هنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن، وتركوا
القول فيه حذرا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد; وإن كانوا علماء باللسان فقهاء في الدين
وكان الأصمعي وهو إمام اللغة لا يفسر شيئا من غريب القرآن، وحكى عنه أنه سئل عن
قوله تعالى: * (شغفها حبا) * فسكت وقال: هذا في القرآن، ثم ذكر قولا لبعض العرب
في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها وهي لكم شغاف! ولم يزد على هذا. ولهذا حث
النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم إعراب القرآن وطلب معاني العربية.
واعلم أنه ليس لغير العالم بحقائق اللغة وموضوعاتها تفسير شئ من كلام الله، ولا يكفى
في حقه تتعلم اليسير منها; فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد المعنى الآخر;
وهذا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أفصح قريش; سئل أبو بكر عن " الأب " فقال
أبو بكر: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كلام الله ما لا أعلم! وقرأ عمر سورة
" عبس "، فلما بلغ " الأب " قال: الفاكهة قد عرفناها، فما الأب؟ ثم قال: لعمرك يا ابن
الخطاب إن هذا لهو التكلف. وروى عنه أيضا أنه قال: * (آمنا به كل من عند
ربنا) *: وفى رواية قال: فما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا، أو ما أمرنا بهذا.
وما ذاك بجهل منهما لمعنى " الأب "; وإنما يحتمل والله أعلم أن " الأب " من الألفاظ المشتركة
في لغتهما أو في لغات، فخشيا إن فسراه بمعنى من معانيه أن يكون المراد غيره; ولهذا اختلف
295

المفسرون في معنى " الأب " على سبعة أقوال; فقيل: ما ترعاه البهائم، وأما ما يأكله الآدمي
فالحصيد. والثاني: التبن خاصة. والثالث: كل ما نبت على وجه الأرض. والرابع: ما سوى
الفاكهة. والخامس: الثمار الرطبة، وفيه بعد، لأن الفاكهة تدخل في الثمار الرطبة; ولا
يقال أفردت للتفصيل، إذ لو أريد ذلك لتأخر ذكرها نحو: * (فاكهة ونخل ورمان) *.
والسادس: أن رطب الثمار هو الفاكهة ويابسها هو الأب. والسابع أنه للأنعام كالفاكهة للناس.
ويحتمل قول عمر غير ما سبق وجهين: أحدهما أن يكون خفى عليه معناه وإن شهر،
كما خفى على ابن عباس معنى " فاطر السماوات ". والثاني تخويف غيره من التعرض
للتفسير بما لا يعلم; كما كان يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا
شريككم، يريد الاحتراز; فإن من احترز قلت روايته.
296

النوع التاسع عشر
معرفة التصريف
وهو ما يلحق الكلمة ببنيتها، وينقسم قسمين:
أحدهما جعل الكلمة على صيغ مختلفة بضروب من المعاني. وينحصر في التصغير،
والتكبير، والمصدر، وأسمى الزمان والمكان، واسم الفاعل، واسم المفعول،
والمقصور، والممدود.
والثاني تغيير الكلمة لمعنى طارئ عليها. وينحصر في الزيادة، والحذف، والإبدال،
والقلب، والنقل، والإدغام.
وفائدة التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن معنى واحد; فالعلم به أهم من
معرفة النحو في تعرف اللغة; لأن التصريف نظر في ذات الكلمة، والنحو نظر في عوارضها.
وهو من العلوم التي يحتاج إليه المفسر.
قال ابن فارس: من فاته علمه فاته المعظم; لأنا نقول " وجد " كلمة مبهمة، فإذا
صرفناها اتضحت، فقلنا في المال " وجدا " وفى الضالة: " وجدانا " وفى الغضب
" موجدة " وفى الحزن " وجدا " وقال تعالى: * (وأما القاسطون فكانوا لجهنم
297

حطبا) *، وقال تعالى: * (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) *; فانظر كيف تحول
المعنى بالتصريف من الجور إلى العدل.
ويكون ذلك في الأسماء والأفعال; فيقولون للطريق في الرمل: " خبة "، وللأرض
المخصبة والمجدبة " خبة "، وغير ذلك.
وقد ذكر الأزهري أن مادة " دكر " بالدال المهملة مهملة غير مستعملة، فكتب التاج
الكندي على الطرة ما ذكر أنه مهمل: مستعمل، قال الله تعالى: * (واد كر بعد أمة) *
* (فهل من مدكر) *. وهذا الذي قاله سهو أوجبه الغفلة عن قاعدة التصريف; فإن
الدال في الموضعين بدل من الذال; لأن ادكر أصله " اذتكر " افتعل من الذكر،
وكذلك مدكر أصله " مذتكر " مفتعل من الذكر أيضا، فأبدلت التاء دالا والذال
كذلك، وأدغمت إحداهما في الأخرى فصار اللفظ بهما كما ترى.
وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: * (سول لهم) * سهل لهم ركوب
المعاصي، من السول وهو الاسترخاء، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف
والاشتقاق جميعا - يعرض بابن السكيت.
وقال أيضا: من بدع التفاسير أن " الإمام " في قوله تعالى: * (يوم ندعو كل
أناس بإمامهم) * جمع " أم " وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون
298

آبائهم، لئلا يفتضح أولاد الزنا. قال: وليت شعري أيهما أبدع، أصحة لفظة أمه
أم [بهاء] حكمته.
يعنى أن " أما " لا يجمع على " إمام "، هذا كلام من لا يعرف الصناعة، ولا
لغة العرب.
وقال الراغب في قوله تعالى: * (فادارأتم فيها) *: هو " تفاعلتم "، [أصله:
" تدارأتم "]، فأريد منه الإدغام تخفيفا، وأبدل من التاء دال، [فسكن للإدغام]
فاجتلبت لها ألف الوصل، فحصل على " افاعلتم ".
وقال بعض الأدباء: * (ادارأتم) * " افتعلتم "; وغلط من أوجه:
أولا: أن * (ادارأتم) * على ثمانية أحرف، و " افتعلتم " فإن على سبعة أحرف.
والثاني: أن الذي يلي ألف الوصل تاء فجعلها دالا.
والثالث: أن الذي يلي الثاني دال، فجعلها تاء.
والرابع: أن الفعل الصحيح العين لا يكون ما بعد تاء الافتعال [منه] إلا متحركا،
وقد جعله هذا ساكنا.
والخامس: أن هاهنا قد دخل بين التاء والدال زائد، وفى " افتعلت " لا يدخل ذلك.
والسادس: أنه أنزل الألف منزلة العين، وليست بعين.
299

والسابع: أن تاء " افتعل " قبله حرفان،، وبعده حرفان و * (ادارأتم) * بعدها ثلاثة
أحرف.
وقال ابن جنى: من قال: " اتخذت " " افتعلت " من الأخذ; فهو مخطئ.
قال: وقد ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج، وأنكره عليه أبو على; وأقام الدلالة على فساده،
وهو أن ذلك يؤدى إلى إبدال الهمزة تاء، وذلك غير معروف.
300

النوع العشرون
معرفة الأحكام من جهة افرادها وتركيبها
ويؤخذ ذلك من علم النحو، وقد انتدب الناس لتأليف إعراب القرآن ومن أوضحها
كتاب " الحوفى " ومن أحسنها كتاب " المشكل "، وكتاب أبى البقاء
العكبري، وكتاب المنتخب الهمداني وكتاب الزمخشري، وابن عطية، وتلاهم
الشيخ أبو حيان.
قالوا: والإعراب يبين المعنى; وهو الذي يميز المعاني، ويوقف على أغراض
المتكلمين; بدليل قولك: ما أحسن زيدا، ولا تأكل السمك وتشرب اللبن، وكذلك
301

فرقوا بالحركات وغيرها بين المعاني، فقالوا: مفتح للآلة التي يفتح بها، ومفتح لموضع الفتح،
ومقص للآلة، ومقص للموضع الذي يكون فيه القص. ويقولون: امرأة طاهر من الحيض
لأن الرجل يشاركها في الطهارة.
وعلى الناظر في كتاب الله، الكاشف عن أسراره النظر في هيئة الكلمة وصيغتها
ومحلها، ككونها مبتدأ أو خبرا، أو فاعلة أو مفعولة، أو في مبادئ الكلام أو في جواب،
إلى غير ذلك من تعريف أو تنكير، أو جمع قلة أو كثرة، إلى غير ذلك.
* * *
ويجب عليه مراعاة أمور:
أحدها - وهو أول واجب عليه - أن يفهم معنى ما يريد أن يعربه مفردا كان أو مركبا
قبل الإعراب; فإنه فرع المعنى; ولهذا لا يجوز إعراب فواتح السور إذا قلنا بأنها من المتشابه
الذي استأثره الله بعلمه; ولهذا قالوا في توجيه النصب في " كلالة: في قوله تعالى: * (وإن
كان رجل يورث كلالة) * أنه يتوقف على المراد بالكلالة; هل هو اسم للميت أو
للورثة أو للمال; فإن كان اسما للميت فهي منصوبة على الحال; وإن كان تامة لا خبر لها
بمعنى وجد. ويجوز أن تكون ناقصة والكلالة خبرها، وجاز أن يخبر عن النكرة لأنها قد
وصفت بقوله " يورث " والأول أوجه. وإن كانت اسما للورثة فهي منصوبة على الحال
من ضمير * (يورث) * لكن على حذف مضاف، أي ذا كلالة، وعلى هذا فكان
ناقصة " ويورث " خبر. ويجوز أن تكون تامة فيورث صفة. ويجوز أن يكون خبرا
فتكون صفته. وإن كانت اسما للمال فهي مفعول ثان ليورث، كما تقول: ورثت
زيدا مالا وقيل تمييز، وليس بشئ. ومن جعل الكلالة الوارثة فهي نعت لمصدر
302

محذوف، أي وارثه كلالة، أي يورث بالوراثة التي يقال لها: الكلالة، هذا كله على
قراءة * (يورث) * بفتح الراء، فأما من قرأ * (يورث) * النبي بكسرها مخففة أو مشددة، فالكلالة
هي الورثة أو المال.
ومن ذلك " تقاة " في قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *، في نصبها ثلاثة
أوجه مبنية على تفسيرها. فإن كانت بمعنى الاتقاء فهي مصدر كقوله تعالى: * (أنبتكم
من الأرض نباتا) *، وإن كانت بمعنى المفعول أي أمرا يجب اتقاؤه، فهي نصب على
المفعول به، وإن كانت جمعا كرام ورماة، فهي نصب على الحال.
ومن ذلك إعراب " أحوى " من قوله: * (غثاء أحوى) *، وفيه قولان متضادان:
أحدهما أنه الأسود من الجفاف واليبس، والثاني أنه الأسود من شدة الخضرة، كما فسر
* (مدهامتان) * فعلى الأول هو صفة لغثاء، وعلى الثاني هو حال من المرعى، وأخر
لتناسب الفواصل.
ومنه قوله تعالى: * (ألم نجعل الأرض كفاتا. أحياء وأمواتا) *; فإنه قيل:
الكفات: الأوعية، ومفردها " كفت " والأحياء والأموات كناية عما نبت وما لا ينبت،
وقيل: الكفات مصدر كفته إذا ضمه وجمعه; فعلى الأول * (أحياء وأمواتا) * صفة
لكفاتا; كأنه قيل: أوعية حية وميتة، أو حالان; وعلى الثاني فهما مفعولان لمحذوف، ودل
عليه * (كفاتا) * أي يجمع أحياء وأمواتا.
ومنه قوله: * (سبعا من المثاني) * فإنه إن كان المراد به القرآن، فمن للتبعيض،
والقرآن حينئذ من عطف العام على الخاص; وإن كانت الفاتحة فمن لبيان الجنس، أي
سبعا هي المثاني.
303

تنبيه: قد يقع في كلامهم: هذا تفسير معنى، وهذا
تفسير إعراب. والفرق بينها أن تفسير الإعراب لا بد فيه من ملاحظة الصناعة النحوية، وتفسير المعنى لا يضر مخالفة ذلك،
وقد قال سيبويه في قوله تعالى: * (مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق) *:
تقديره مثلك يا محمد، ومثل الذين كفروا كمثل الناعق والمنعوق به.
واختلف الشارحون في فهم كلام سيبويه، فقيل هو تفسير معنى، وقيل: تفسير
إعراب; فيكون في الكلام حذفان: حذف من الأول وهو حذف داعيهم، وقد أثبت
نظيره في الثاني، وحذف من الثاني وهو حذف المنعوق، وقد أثبت نظيره في الأول; فعلى
هذا يجوز مثل ذلك في الكلام.
* * *
والثاني: تجنب الأعاريب المحمولة على اللغات الشاذة، فإن القرآن نزل بالأفصح من
لغة قريش; قال الزمخشري في كشافه القديم: القرآن لا يعمل فيه إلا على ما هو فاش
دائر على ألسنة فصحاء العرب، دون الشاذ النادر الذي لا يعثر عليه إلا في موضع أو
موضعين. وبهذا يتبين غلط جماعة من الفقهاء والمعربين حين جعلوا من العطف على الجوار
قوله تعالى: * (وأرجلكم) * في قراءة الجر; وإنما ذلك ضرورة فلا يحمل عليه الفصيح;
ولأنه إنما يصار إليه إذا أمن اللبس، والآية محتملة، ولأنه إنما يجئ مع عدم حرف العطف،
وهو هاهنا موجود. وأيضا فنحن في غنية عن ذلك كما قاله سيبويه: إن العرب يقرب
عندها المسح مع الغسل; لأنهما أساس الماء، فلما تقاربا في المعنى حصل العطف كقوله:
* متقلدا سيفا ورمحا *
304

ومهما أمكن المشاركة في المعنى حسن العطف وإلا امتنع; فظهر أنه ليس على المجاورة
بل على الاستغناء بأحد الفعلين عن الآخر، وهذا بخلاف صرف ما لا ينصرف في قوله تعالى:
* (سلاسلا وأغلالا) *; فإنما أجيز في الكلام، لأنه رد إلى الأصل، والعطف على
الجوار خروج عن الأصل، فافترقا.
* * *
الثالث: تجنب لفظ الزائد في كتاب الله تعالى، أو التكرار، ولا يجوز إطلاقه إلا بتأويل
كقولهم: الباء زائدة ونحوه، مرادهم أن الكلام لا يختل معناه بحذفها; لا أنه لا فائدة
فيه أصلا، فإن ذلك لا يحتمل من متكلم، فضلا عن كلام الحكيم،
وقال ابن الخشاب " في المعتمد ": اختلف في هذه المسألة، فذهب الأكثرون إلى
جواز إطلاق الزائد في القرآن نظرا إلى أنه نزل بلسان القوم ومتعارفهم، وهو كثير; لأن الزيادة
بإزاء الحذف، هذا للاختصار والتخفيف، وهذا للتوكيد والتوطئة. ومنهم من لا يرى الزيادة
في شئ من الكلام ويقول: هذه الألفاظ المحمولة على الزيادة جاءت لفوائد ومعان تخصها،
فلا أقضى عليها بالزيادة، ونقله عن ابن درستويه. قال: والتحقيق أنه إن أريد بالزيادة
إثبات معنى لا حاجة إليه فباطل; لأنه عبث، فتعين أن إلينا به حاجة، لكن
الحاجات إلى الأشياء قد تختلف بحسب المقاصد، فليست الحاجة إلى اللفظ الذي زيد عندها
ولا زيادة، كالحاجة إلى الألفاظ التي رأوها مزيدة عليه، وبه يرتفع الخلاف.
وكثير من القدماء يسمون الزائد صلة، وبعضهم يسميه مقحما، ويقع ذلك في عبارة
مستوية.
* * *
305

الرابع: تجنب الأعاريب التي هي خلاف الظاهر والمنافية لنظم الكلام، كتجويز
الزمخشري في * (للفقراء) * في سورة الحشر، أن يكون بدلا من قوله: * (ولذي القربى
) *، وهذا فصل كبير، وإنما حمله عليه لأن أبا حنيفة يقول: إنه لا يستحق
القريب بقرابته بل لكونه فقيرا، والشافعي يخالفه. ونظيره إعراب بعضهم: * (الذين
ظلموا) * بدلا من المجرور في قوله تعالى: * (اقترب للناس حسابهم) *.
* * *
الخامس: تجنب التقادير البعيدة والمجازات المعقدة، ولا يجوز فيه جميع ما يجوزه النحاة
في شعر امرئ القيس وغيره، وأن نقول في نحو: * (اغفر لنا) * و * (اهدنا) * فعلى دعاء
أو سؤال، ولا نقول: فعلى أمر، تأدبا، من جهة أن الأمر يستلزم العلو والاستعلاء على
الخلاف فيه.
وقال أبو حيان التوحيدي في " البصائر ": سألت السيرافي عن قوله تعالى:
* (قائما بالقسط) * بم انتصب؟ قال: بالحال، قلت: لمن الحال؟ قال: لله تعالى، قلت:
فيقال لله حال؟ قال: إن الحال في اللفظ لا لمن يلفظ بالحال عنه; ولكن الترجمة لا
تستوفى حقيقة المعنى في النفس إلا بعد أن يصوغ الوهم هذه الأشياء صياغة تسكن إليها
النفس، وينتفع بها القلب، ثم تكون حقائق الألفاظ في مفادها غير معلومة ولا
منقوضة باعتقاد، وكما أن المعنى على بعد من اللفظ، كذلك الحقيقة على بعد من الوهم.
306

السادس: البحث عن الأصلي والزائد، ومن هذا قوله تعالى: * (إلا أن يعفون أو
يعفو الذي بيده عقدة النكاح) * فإنه قد نتوهم " الواو " في الأولى ضمير الجمع، فيشكل
ثبوت النون مع " أن " وليس كذلك; بل الواو هنا لام الكلمة، والنون ضمير جمع
المؤنث، فبنى الفعل معها على السكون; فإذا وصل الناصب أو الجازم لا تحذف النون;
ومثله: " النساء يرجون "، بخلاف: " الرجال يرجون "، فإن الواو فيه ضمير الجمع، والنون
حرف علامة للرفع; وأصله " يرجون " إلا أعلت لام الكلمة بما يقتضيه التصريف، فإذا
دخل الجازم حذف النون; وهذا مما اتفق فيه اللفظ واختلف في التقدير.
* * *
وكذلك يبحث عما تقتضيه الصناعة في التقدير، ولا يؤخذ بالظاهر، ففي نحو
قوله تعالى: * (لا مرحبا بهم) * يتبادر إلى الذهن أن * (مرحبا) * نصب، اسم لا،
وهو فاسد، لأن شرط عملها في الاسم ألا يكون معمولا لغيرها; وإنما نصب بفعل مضمر
يجب إضماره، و * (لا) * دعاء، و * (بهم) * بيان للمدعو عليهم. وأجاز أبو البقاء أن ينصب
على المفعول به، أي لا يسمعون مرحبا، وأجاز في جملة * (لا مرحبا) * أن تكون مستأنفة،
وأن تكون حالا، أي هذا فوج مقولا له: * (لا مرحبا) *.
وفيه نظر; لأنه قدر " مقولا " فمقولا وقال هو الحال، و لا مرحبا) * محكية بالقول
في موضع نصب.
ومنه قوله تعالى: * (واعلموا أن فيكم رسول الله) * يتبادر إلى الذهن أن الظرف
قبله خبر " أن " على التقديم، وهو فاسد لأنه ليس المراد الإخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
307

فيهم، وإنما الغرض أنه لو أطاعكم في كثير من الأمر لعنتم، وإنما * (فيكم) * حال، والمعنى:
واعلموا أن رسول الله في حال كونه فيكم لو أطاعكم لكان كذا.
ومنه قوله تعالى: * (لا يقضى عليهم فيموتوا) *، وقوله: * (ولا يؤذن لهم
فيعتذرون) * فإن الجواب وقع فيهما بعد النفي مقرونا بالفاء، وفى الأولى حذفت النون
وفى الثانية أثبتها، فما الفرق بينهما؟ وجوابه أن حذف النون جوابا للنفي هو على أحد معنى
نصب " ما تأتينا فتحدثنا " أي ما يكون إتيان ولا حديث، والمعنى الثاني إثبات الإتيان
ونفى الحديث، أي ما تأتينا محدثا، أي تأتينا غير محدث، وهذا لا يجوز في الآية. وأما إثبات
النون فعلى العطف.
وقريب من ذلك قوله تعالى: * (أبشرا منا واحدا نتبعه) *، وقوله: * (أبشر
يهدوننا) * حيث انتصب " بشرا " في الأول وارتفع في الثاني، فيقال: ما الفرق بينهما؟
والجواب أن نصب " بشرا " على الاشتغال، والشاغل للعامل منصوب، فصح لعامله أن يفسر
ناصبا، وأما في الثانية فالشاغل مرفوع مفسر رافعا; وهذا كما تقول: أزيد قام؟ فزيد
مرفوع على الفاعلية لطلب أداء الفعل; فهذا في الاشتغال والشاغل مرفوع، وتقول فيما
الشاغل فيه منصوب: أزيدا ضربته؟
وقريب منه إجماع القراء على نصب " قليل " في: * (فشربوا منه إلا قليلا) *.
اختلفوا في: * (ما فعلوه إلا قليل) *; وإنما كان كذلك لأن * (قليلا) * الأول استثناء
من موجب، والثاني استثناء من منفى.
308

فإن قيل: فلم أجمعوا على النصب في * (فلا يؤمنون إلا قليلا) * مع أنه استثناء
من غير موجب؟ قيل: لأن هذا استثناء مفرغ; وهو نعت لمصدر محذوف، فالتقدير:
فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا.
ومثله * (وكلا وعد الله الحسنى) * في سورة الحديد، قرأها ابن عامر برفع * (كل) *
ووافق الجماعة على النصب في النساء. والفرق أن الذي في سورة الحديد شغل الخبر بهاء
مضمرة، وليس قبل هذه الجملة جملة فعلية، فيختار لأجلها النصب، فرفع بالابتداء، وأما
التي في سورة النساء فإنما اختير فيها النصب; لأن قبله جملة فعلية، وهي قوله: * (وفضل الله
المجاهدين) *.
تنبيه
قد يتجاذب الإعراب والمعنى الشئ الواحد، وكان أبو على الفارسي يلم به كثيرا،
وذلك أنه يوجد في الكلام أن المعنى يدعو إلى أمر، والإعراب يمنع منه، قالوا: والتمسك
بصحة المعنى يؤول لصحة الإعراب، وذلك كقوله تعالى: * (إنه على رجعه لقادر. يوم
تبلى السرائر) * فالظرف الذي هو * (يوم) * يقتضى المعنى أن يتعلق بالمصدر الذي هو
" رجع "، أي أنه على رجعه في ذلك اليوم لقادر; لكن الإعراب يمنع منه لعدم جواز
الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي، يجعل العامل فيه فعلا مقدرا دل عليه المصدر.
وكذا قوله سبحانه: * (لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون
إلى الإيمان فتكفرون) *، فالمعنى يقتضى تعلق " إذ " بالمقت، والإعراب يمنعه للفصل
بين المصدر ومعموله بالخبر، فيقدر له فعل يدل عليه المقت.
309

وكذلك قوله تعالى: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور. وحصل ما في الصدور.
إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * فالمعنى أن العامل في إذا " خبير "، والإعراب يمنعه; لأن
ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبلها، فاقتضى أن يقدر له العامل.
تنبيه
على النحوي بيان مراتب الكلام; فإن مرتبة العمدة قبل مرتبة الفضلة، ومرتبة
المبتدأ قبل مرتبة الخبر، ومرتبة ما يصل إليه بنفسه قبل مرتبة ما يصل إليه بحرف الجر -
وإن كانا فضلتين - فقال ومرتبة المفعول الأول قبل مرتبة المفعول الثاني. وإذا اتصل الضمير
بما مرتبته التقديم وهو يعود على ما مرتبته التأخير، فلا يجوز أن يتقدم، لأنه يكون متقدما
لفظا ومرتبة، وإذا اتصل الضمير بما مرتبته التأخير وهو يعود على ما مرتبته التقديم فلا يجوز أن
يتقدم; لأنه يكون مقدما لفظا مؤخرا رتبة، فعلى هذا يجوز: " في داره زيد " لاتصال الضمير
بالخبر ومرتبته التأخير، ولا يجوز: " صاحبها في الدار "، لاتصال الضمير بالمبتدأ ومرتبته التقديم.
310

النوع الحادي والعشرون
كون اللفظ والتركيب أحسن وأفصح
ويؤخذ ذلك من علم البيان والبديع، وقد صنف الناس في ذلك تصانيف كثيرة،
وأجمعها ما جمعه الشيخ شمس الدين محمد بن النقيب مجلدين قدمهما أمام تفسيره، وما وضعه
حازم الأندلسي المسمى بمنهاج البلغاء وسراج الأدباء. وهذا العلم أعظم أركان المفسر. فإنه
لا بد من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز، من الحقيقة والمجاز، وتأليف النظم، وأن يؤاخى أي بين
الموارد، ويعتمد ما سيق له الكلام حتى لا يتنافر، وغير ذلك. وأملأ الناس بهذا صاحب
الكشاف. قال السكاكي: واعلم أن شأن الإعجاز عجيب، يدرك ولا يمكن وصفه;
كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها، وكالملاحة، ولا طريق إلى تحصيله لذوي
الفطر السليمة إلا إتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما.
وقال الزمخشري: من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد في
مذاهبه بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليما من القادح،
وإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة على مراحل.
وادعى القاضي أبو الطيب في كتاب " إعجاز القرآن " أن كثيرا من محاسن هذا العلم
لا يعد من البلاغة القرآنية; بناء على اختياره في أن القرآن نزل على خلاف أساليبهم،
وسيأتي الكلام في ذلك.
فإن قلت: كيف عددت هذا من أنواع علومه; مع أن سلف المفسرين من الصحابة
والتابعين لم يخوضوا فيه ولم ينقل عنهم شئ من ذلك، وإنما هذا أحدثه المتأخرون؟
311

قلت: إنما سكت الأولون عنه لأن القصد من إنزال القرآن تعليم الحلال والحرام.
وتعريف شرائع الاسلام وقواعد الإيمان، ولم يقصد منه تعليم طرق الفصاحة; وإنما
جاءت لتكون معجزة، وما قصد به الإعجاز لا سبيل إلى معرفة طريقه، فلم يكن الخوض
فيه مسوغا; إذ البلاغة ليست مقصودة فيه أصلا; لأنه موجود في الصحف الأولى; لامع
هذه البلاغة المعينة; وإنما كان بليغا بحسب كمال المتكلم; فلهذا لم يتكلم السلف في ذلك،
وكان معرفتهم بأساليب البلاغة مما لا يحتاج فيه إلى بيان، بخلاف استنباط الأحكام، فلهذا
تكلموا في الثاني دون الأول.
واعلم أن معرفة هذه الصناعة بأوضاعها هي عمدة التفسير، المطلع على عجائب كلام الله،
وهي قاعدة الفصاحة وواسطة عقد البلاغة، ولو لم يحبب الفصاحة إلا قول الله تعالى:
* (الرحمن علم القرآن. خلق الانسان. علمه البيان) *، [لكفى]، والمعلومات
كثيرة، ومنن الله تعالى جمة، ولم يخصص الله من نعمه على العبد إلا تعليم البيان وقال تعالى:
* (هذا بيان للناس) *، وقال تعالى: * (تبيانا لكل شئ) *.
ولحذف الواو في قوله تعالى: * (علمه البيان) * نكتة علمية، فإنه جعل تعليم
البيان في وزان خلقه، وكالبدل من قوله: * (خلق الانسان) * لأنه حي ناطق; وكأنه
إلى نحوه أشار أهل المنطق بقولهم في حد الانسان: * (حيوان ناطق.
ولا شك أن هذه الصناعة تفيد قوة الإفهام على ما يريد الانسان ويراد منه، ليتمكن
بها من اتباع التصديق به، وإذعان النفس له.
* * *
وينبغي الاعتناء بما يمكن إحصاؤه من المعاني التي تكلم فيها البليغ مثبتا ونافيا.
312

فمنها تحقيق العقائد الإلهية، كقوله سبحانه: * (أليس ذلك بقادر على أن يحيى
الموتى) * بعد ذكره النطفة ومتعلقها في مراتب الوجود. وكقوله: * (وما قدروا
الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) *
فمن يقرع سمعه هذا الكلام المعجز استشعر من روعة النفس، واقشعرار الجلد ما يمكن
خشية الله وعظمته من قبله.
ومنها بيان الحق فيما يشكل من الأمور غير العقائد; كقوله تعالى: * (وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها وتوكل على الله) *، وكقوله صلى الله عليه وسلم: " فمن أين يكون
الشبه "؟ فانظر كيف أعطى في هذه الأحرف اليسيرة الحجة على من أنكر احتلام المرأة
فلا أبين من هذا البيان، ولا أشفى للمرتاب من هذا القول! فإنه يرى إحدى المقدمتين
عيانا، وهو شبه الولد بأمه، ويعلم قطعا أنه ليس هناك سبب يحال الشبه عليه غير الذي أنكر.
ومنها تمكين الانفعالات النفسانية من النفوس مثل الاستعطاف والإعراض،
والإرضاء والإغضاب، والتشجيع والتخويف. ويكون في مدح وذم، وشكاية واعتذار،
وإذن ومنع. وينضم إلى قوة القول البلاغي معنى متصل إعانة لها; مثل فضيلة القائل
وحمية النازع، وقوة البليغ على اطراء نفسه، وتحسين رأيه.
ومن ذلك استدعاء المخاطب إلى فضل تأمل، وزيادة تفهم; قال تعالى: * (قل إنما
أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا) *، وكذلك قوله:
* (وما يعلقها إلا العالمون) *; وسر هذا أن السامع يحرص على أن يكون من هؤلاء
المثنى عليهم، فيسارع إلى التصديق، ويلقى في نفسه نور من التوفيق.
ويكون هذا القول البلاغي ما يسمى الضمير، ويسمى التمثيل; وأعنى بالضمير
313

أن يضمر بالقول المجادل به البيان أحد حرفيه; كقول الفقيه: النبيذ مسكر فهو حرام،
وكقوله تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه
كفورا) *.
وقد يكون هذا الإضمار في القياس الاستثنائي هذا أيضا; كقولك: لو كان فلان عزيزا
لمنع بأعنة الخيل جاره، أو جوادا لشب لساري الليل ناره، معولا على أنه قد علم أنه ما منع
ولا شب، فيثبت بذلك مقابله وهو البخل والذلة; ومن هذا قوله تعالى: * (ولو كنت
فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) *; وقد شهد الحس والعيان انهم ما انفضوا
من حوله وهي المضمرة، فانتفى عنه صلوات الله عليه أنه فظ غليظ القلب.
ومن أحسن ما أبر فيه هذا المضمر قول الشاعر:
- ولو كان عبد الله مولى هجوته * ولكن عبد الله مولى مواليا -
ومثال الاستمالة والاستعطاف قوله تعالى عن آدم: * (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر
لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) *. وحسبك إمام المتقين حين سمع
شعر القائلة:
- ما كان ضرك لو مننت وربما * من الفتى وهو المغيظ المحنق -
قال: " لو بلغني شعرها قبل أن أقتله لما قتلته "، وقال الآخر:
- ونحن الكاتبون وقد أسأنا * فهبنا للكرام الكاتبينا -
314

ومن الاستمالة والاسترضاء رسول ما لا يخرق السمع أنفذ منه إلى القلوب، وأوقع على المطلوب،
قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار وقد وجدوا في نفوسهم قسمة الغنائم في غيرهم: يا معشر
الأنصار، ألم أجدكم كذا! ألم أجدكم كذا! ثم قال: أجيبوني، فما زادوا على قولهم:
الله ورسوله أمن، فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنكم إن شئتم لقلتم - [فلصدقتم]،
ولصدقتم: -: جئتنا بحال كذا وكذا. فانظر ما أعجب هذا! استشعر منهم عليه
السلام أن إمساكهم عن الجواب أدب معه لا عجز عنه، فأعلمهم بأنهم لو قالوا صدقوا،
ولم يكن هو بالذي يغضب من سماعه، ثم زادهم تكريما بقوله: " أما ترضون
أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتنصرفوا برسول الله إلى رحالكم "، ثم زاد يمينه المباركة
البرة على فضل ما ينصرفون به; اللهم انفعنا بمحبته، وتفضل علينا بشفاعته!
ومما تجد من هذا الطراز قول بعضهم:
- أناس أعرضوا عنا * بلا جرم ولا معنى -
- أساءوا ظنهم فينا * فهلا أحسنوا الظنا! -
- فإن عادوا لنا عدنا * وإن خانوا فما خنا -
- وإن كانوا قد استغنوا * فإنا عنهم أغنى -
- وإن قالوا ادن منا بعد * باعدنا من استدنى -
ومن الإغضاب العجيب قوله تعالى: * (إنما ينهاكم الله عن الدين قاتلوكم في
الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم
315

فأولئك هم الظالمون) *، وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى
وعدوكم أولياء) *، وقوله: * (أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو
بئس للظالمين بدلا) * ولله در القائل:
- إذا والى صديقك من تعادى * فقد عاداك وانقطع الكلام -
ومن قسم التشجيع قوله سبحانه: * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا
كأنهم بنيان مرصوص) * وكفى بحب الله مشجعا على منازلة الأقران ومباشرة الطعان!
وقوله عز وجل: * (إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم
بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) *، وكيف لا يكون والقوم صبروا والملك
الحق جل جلاله وعدهم بالمدد الكثير! ثم قال: * (وما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم) *.
وقوله: * (وترجون من الله ما لا يرجون) * وفى مقابلة هذا القسم ما يراد به الأخذ
بالحزم والثاني بالحرب والاستظهار عليها بالعدة، والاستشهاد على ذلك بقوله تعالى: * (ولا
تلقوا بأيدكم إلى التهلكة) * * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) *.
ومنه الإبانة بالمدح، وربما مدح الكريم بالتغافل عن الزلة والتهاون بالذنب; كما
أشار إليه القرآن فيما أسر سيد البشر لبعض نسائه ممن أظهره على إفشائه، فأخبر سبحانه
أنه عرف بعضه وأعرض عن بعض; ولذلك قيل:
- ليس الغبي بسيد في قومه * لكن سيد قومه المتغابي -
316

ومنه التمثيل; وإنما يكون بأمر ظاهر يسلمه السامع، ويقويه ما في القرآن من قصص
الأشقياء تحذيرا لما نزل بهم من العذاب وأخبار السعداء، ترغيبا لما صاروا إليه من الثواب.
وفى الحديث: " أرأيت لو مضضت، أرأيت لو كان على أبيك دين "، كيف ظهر إمكان
نقل الحكم من شبه إلى شبه.
ومنه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار، قال الزمخشري: وسره
إرادة التسليط لاكتساب ما يزلف، له والتثبيط عن اقتراف ما يتلف; فلما ذكر الكفار وأعمالهم
وأوعدهم بالعذاب، ثناه ببشارة عباده المؤمنين.
تنبيه
ليكن محط نظر المفسر مراعاة نظم الكلام الذي سيق له، وإن خالف أصل الوضع
اللغوي لثبوت التجوز; ولهذا ترى صاحب " الكشاف " يجعل الذي سيق له الكلام
معتمدا، حتى كأن غيره مطروح.
317

النوع الثاني والعشرون
اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص أو تغيير
حركة أو إثبات لفظ بدل آخر
وذلك متواتر وآحاد، ويوجد هذا الوجه من علم القراءة. وأحسن الموضوع للقراءات
السبع كتاب " التيسير " لأبى عمرو الداني، وقد نظمه أبو محمد القاسم الشاطبي
في لاميته التي عم النفع بها، وكتاب " الإقناع " لأبى جعفر بن الباذش، وفى
القراءات العشر كتاب المصباح لأبى الكرم الشهرزوري.
واعلم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان، فالقرآن هو الوحي المنزل على محمد
صلى الله عليه وسلم للبيان والإعجاز، والقراءات هي اختلاف ألفاظ الوحي المذكور في كتبة
الحروف أو كيفيتها; من تخفيف وتثقيل وغيرهما، ثم هاهنا أمور:
* * *
أحدها أن القراءات السبع متواترة عند الجمهور، وقيل بل مشهورة، ولا عبرة بإنكار
المبرد قراءة حمزة: * (والأرحام) * و * (مصرخي) *، ولا بإنكار مغاربة النحاة
318

كابن عصفور قراءة ابن عامر * (قتل أولادهم شركائهم) * والتحقيق أنها متواترة عن
الأئمة السبعة، أما تواترها عن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه نظر; فإن إسناد الأئمة السبعة
بهذه القراءات السبعة موجود في كتب القراءات، وهي نقل الواحد عن الواحد لم تكمل
شروط التواتر في استواء الطرفين والواسطة، وهذا شئ موجود في كتبهم، وقد أشار
الشيخ شهاب الدين أبو شامة في كتابه " المرشد الوجيز " إلى شئ من ذلك.
* * *
الثاني: استثنى الشيخ أبو عمرو بن الحاجب قولنا: إن القراءات السبع متواترة
ما ليس من قبيل الأداء، ومثله بالمد والإمالة وتخفيف الهمزة; يعنى فإنها ليست متواترة.
وهذا ضعيف; والحق أن المد والإمالة لا شك في تواتر المشترك بينهما، وهو المد من
حيث هو مد، والإمالة من حيث إنها إمالة، ولكن اختلف القراء في تقدير المد; فمنهم
من رآه طويلا، ومنهم من رآه قصيرا; ومنهم من بالغ في القصر، ومنهم من تزايد،
فحمزة وورش بمقدار ست لغات، وقيل: خمس، وقيل: أربع، وعن عاصم: ثلاث، وعن
الكسائي: ألفان ونصف، وقالون: ألفان، والسوسي ألف، ونصف.
قال الداني في التيسير: أطولهم مدا في الضربين جميعا - يعنى المتصل والمنفصل - ورش
وحمزة، ودونهما عاصم، ودونه ابن عامر والكسائي، ودونهما أبو عمرو من طريق أهل
العراق، وقالون من طريق أبى نشيط بخلاف عنه. وهذا كله على التقريب من غير إفراط،
وإنما هو على مقدار مذاهبهم من التحقيق والحذف. انتهى كلامه.
فعلم بهذا أن أصل المد متواتر والاختلاف والطرق إنما هو في كيفية التلفظ به.
319

وكان الإمام أبو القاسم الشاطبي يقرأ بمدتين: طولى لورش وحمزة، ووسطى لمن بقي.
وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه كره قراءة حمزة لما فيها من طول المد وغيره، فقاض:
لا تعجبني، ولو كانت متواترة لما كرهها. وكذلك ذكر القراء أن الإمالة قسمان: إمالة
محضة، وهي أن ينحى بالألف إلى الياء وتكون الياء أقرب، بالفتحة إلى الكسر وتكون
الكسرة أقرب. وإمالة تسمى بين بين; وهي كذلك; إلا أن الألف والفتحة أقرب،
وهذه أصعب الإمالتين محمد وهي المختارة عند الأئمة. ولا شك في تواتر الإمالة أيضا، وإنما
اختلافهم في كيفيتها مبالغة وحضورا.
أما تخفيف الهمزة - وهو الذي يطلق عليه تخفيف، وتليين، وتسهيل، أسماء مترادفة -
فإنه يشمل أربعة أنواع من التخفيف، وكل منها متواتر بلا شك:
أحدها النقل، وهو نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، نحو * (قد أفلح) *
بنقل حركة الهمزة، وهي الفتحة إلى دال " قد "، وتسقط الهمزة فيبقى اللفظ بدال مفتوحة
بعدها فاء، وهذا النقل قراءة نافع من طريق ورش في حال الوصل والوقف، وقراءة حمزة
في حال الوقف.
الثاني: أن تبدل الهمزة حرف مد من جنس حركة ما قبلها إن كان قبلها فتحة أبدلت
ألفها، نحو " بأس "، وهذا البدل قراءة أبى عمرو بن العلاء، ونافع من طريق ورش في
فاء الفعل، وحمزة إذا وقف على ذلك.
الثالث تخفيف الهمز، بين بين، ومعناه أن تسهل الهمزة بينها وبين الحرف الذي منه
حركتها، فإن كانت مضمومة سهلت بين الهمزة والواو، أو مفتوحة فبين الهمزة والألف،
أو مكسورة فبين الهمزة والياء، وهذا يسمى إشماما، وقرأ به كثير من القراء وأجمعوا
عليه في قوله تعالى: * (قل آلذكرين) * ونحوه، وذكره النحاة عن لغات العرب.
320

قال ابن الحاجب في تصريفه: واغتفر التقاء الساكنين في نحو آلحسن عندك؟ وآيمن الله
يمينك؟ وهو في كل كلمة أولها همزة وصل مفتوحة ودخلت همزة الاستفهام عليها; وذلك ما فيه
لام التعريف مطلقا، وفى أيمن الله وأيم الله خاصة، إذ لا ألف وصل مفتوحة سواها; وإنما
فعلوا ذلك خوف لبس الخبر بالاستخبار، ألا ترى أنهم لو قالوا: الحسن عندك؟ وحذفوا همزة
الوصل على القياس في مثلها لم يعلم استخبار هو أم خبر؟ فأتوا بهذه عوضا عن همزة الوصل
قبل الساكن، فصار قبل الساكن مدة فقالوا: آلحسن عندك؟ وكذلك آيمن إلى الله يمينك؟
فيما ذكره. وبعض العرب يجعل همزة الوصل فيما ذكرنا بين بين، ويقول آلحسن عندك وآيمن
الله يمينك؟ فيما ذكرنا، وقد جاء عن القراء بالوجهين في مثل ذلك، والمشهور الأول. وقد أشار
الصحابة رضي الله عنهم إلى التسهيل بين بين في رسم المصاحف العثمانية، فكتبوا صورة
الهمزة الثانية في قوله تعالى في سورة آل عمران: * (قل أؤنبئكم) * واوا على إرادة التسهيل
بين بين. قاله الداني وغيره.
الرابع تخفيف الإسقاط، وهو أن تسقط الهمزة رأسا. وقد قرأ به أبو عمرو في الهمزتين
من كلمتين إذا اتفقتا في الحركة فأسقط الأولى منهما على رأى الشاطبي، وقيل الثانية في
نحو * (جاء أجلهم) *، ووافقه على ذلك في المفتوحتين نافع من طريق قالون، وابن كثير من
طريق البزي، وجاء هذا الإسقاط في كلمة واحدة في قراءة قنبل عن ابن كثير في: * (أين
شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم) * بإسقاط همزة * (شركائي) *.
الثالث: أن القراءات توقيفية وليست اختيارية، خلافا لجماعة منهم الزمخشري،
حيث ظنوا أنها اختيارية تدور مع اختيار الفصحاء واجتهاد البلغاء. ورد على حمزة قراءة
321

* (والأرحام) * بالخفض; ومثل ما حكى عن أبي زيد والأصمعي ويعقوب الحضرمي
أن خطئوا حمزة في قراءته: * (وما أنتم بمصرخي) * بكسر الياء المشددة، وكذا أنكروا
على أبي عمرو إدغامه الراء عند اللام في: * (يغفلكم كان) *.
وقال الزجاج: إنه خطأ فاحش; ولا تدغم الراء في اللام إذا قلت: " مر لي " بكذا،
لأن الراء حرف مكرر، ولا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به; فأما اللام فيجوز إدغامه
في الراء، ولو أدغمت اللام في الراء لزم التكرير من الراء. وهذا إجماع
النحويين. انتهى.
وهذا تحامل، وقد انعقد الاجماع على صحة قراءة هؤلاء الأئمة وأنها سنة متبعة;
ولا مجال للاجتهاد فيها. ولهذا قال سيبويه في كتابه في قوله تعالى: * (ما هذا بشرا) *
" وبنو تميم يرفعونه إلا من درى كيف هي في المصحف ".
وإنما كان كذلك، لأن القراءة سنة مروية عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تكون
القراءة بغير ما روى عنه. انتهى.
322

الرابع ما تضمنه التيسير والشاطبية، قال الشيخ أثير الدين أبو حيان: لم يحويا
جميع القراءات السبع، وإنما هي نزر يسير منها، ومن عنى بفن القراءات، وطالع ما صنفه
علماء الاسلام في ذلك، علم ذلك العلم اليقين، وذلك أن بلادنا جزيرة الأندلس لم تكن
من قديم بلاد إقراء السبع، لبعدها عن بلاد الاسلام، واجتازوا عند الحج بديار مصر،
وتحفظوا ممن كان بها من المصريين شيئا يسيرا من حروف السبع - وكان المصريون بمصر
إذ ذاك لم تكن لهم روايات متسعة، ولا رحلة إلى غيرها من البلاد التي اتسعت فيها الروايات -
كأبى الطيب بن غلبون وابنه أبى الحسن طاهر، وأبى الفتح فارس بن أحمد،
وابن عبد الباقي، وأبى العباس بن نفيس، وكان بها أبو أحمد السامري، وهو
أعلاهم إسنادا.
323

وسبب قلة العلم والروايات بديار مصر ما كان غلب على أهلها من تغلب الإسماعيلية
عليها، وقتل ملوكهم العلماء.
فكان من قدماء علمائنا ممن حج يأخذ بمصر شيئا يسيرا، كأبى عمر الطلمنكي
صاحب الروضة، وأبى محمد مكي بن أبي طالب. ثم رحل أبو عمرو الداني لطول
إقامته بدانية فأخذ عن أبي خافان، وفارس، وابن غلبون; وصنف كتاب " التيسير ".
وقرأ على هؤلاء. ورحل أيضا أبو القاسم يوسف بن جبارة الأندلسي، فأبعد في الشقة،
وجمع بين طريق المشرق والمغرب، وصنف كتاب الكامل، يحتوى على القراءات السبع
وغيرها، ولم أر ولم أسمع أوسع رحلة منه، ولا أكثر شيوخا.
وقد أقرأ القرآن بمكة أبو معشر الطبري، وأبو عبد الله الكارزيني وكانا
متسعي الرواية.
324

وكان بمصر أبو على المالكي مؤلف الروضة، وكان قد قرأ بالعراق، وأقرأ بمصر.
وبعدهم التاج الكندي فأقرأ الناس بروايات كثيرة لم تصل إلى بلادنا.
وكان أيضا ابن ماموية بدمشق يقرئ القرآن بالقراءات العشر.
وبمصر النظام الكوفي يقرئ بالعشر وبغيرها، كقراءة ابن محيصن والحسن.
وكان بمكة أيضا زاهر بن رستم وأبو بكر الزنجاني، وكانا قد أخذا عن أبي
الكرم الشهرزوري كتاب المصباح الزاهر في القراءات العشر البواهر; وأقرأه الزنجاني
لبعض شيوخنا.
وكان عز الدين الفاروقي بدمشق، يقرئ القرآن بروايات كثيرة، حتى قيل إنه
أقرأ بقراءة أبي حنيفة.
والحاصل اتساع روايات غير بلادنا، وأن الذي تضمنه التيسير، والتبصرة،
والكافي وغيرها من تآليفهم; إنما هو قل من كثر، ونزر من بحر.
وبيانه أن في هذه الكتب مثلا قراءة نافع من رواية ورش وقالون، وقد روى الناس
عن نافع غيرهما; منهم إسماعيل بن أبي جعفر المدني وأبو خلف وابن حبان، والأصمعي
325

والسبتي وغيرهم، ومن هؤلاء من هو أعلم وأوثق من ورش وقالون، وكذا العمل في كل
راو وقارئ.
الخامس: أن باختلاف القراءات يظهر الاختلاف في الأحكام; ولهذا بنى الفقهاء
نقض وضوء الملموس وعدمه على اختلاف القراءات في * (ولمستم) * و * (لامستم) *.
وكذلك جواز وطء الحائض عند الانقطاع وعدمه إلى الغسل على اختلافهم في * (حتى
يطهرن) *.
وكذلك [آية] السجدة في سورة النمل مبنية على القراءتين. قال الفراء: من
خفف * (ألا) * كان الأمر بالسجود، ومن شدد لم يكن فيها أمر به. وقد نوزع في ذلك.
إذا علمت ذلك فاختلفوا في الآية إذا قرئت بقراءتين على قولين: أحدهما أن الله تعالى
قال بهما جميعا. والثاني أن الله تعالى قال بقراءة واحدة إلا أنه أذن أن يقرأ بقراءتين.
وهذا الخلاف غريب رأيته في كتاب " البستان " لأبى الليث السمرقندي. ثم
اختاروا في المسألة توسطا، وهو أنه إن كان لكل قراءة تفسير يغاير الآخر فقد قال بهما جميعا
326

وتصير القراءات بمنزلة آيتين، مثل قوله: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) *. وإن كان
تفسيرهما واحدا كالبيوت والبيوت والمحصنات والمحصنات بالنصب والجر، فإنما قال
بأحدهما وأجاز القراءة بهما لكل قبيلة، على ما تعود لسانهم.
فإن قيل: إذا صح أنه قال بأحدهما فبأي القراءتين قال؟ قيل: بلغة قريش. انتهى.
* * *
السادس: أن القراءات لم تكن متميزة عن غيرها إلا في قرن الأربعمائة، جمعها أبو بكر
ابن مجاهد; ولم يكن متسع الرواية والرحلة كغيره. والمراد بالقراءات السبع المنقولة عن
الأئمة السبعة.
أحدهم عبد الله بن كثير المكي القرشي مولاهم; أبو سعيد وقيل أبو محمد، وقيل أبو
بكر، وقيل أبو الصلت، ويقال له الداري. وهو من التابعين، وسمع عبد الله بن الزبير وغيره.
توفى بمكة سنة عشرين ومائة، وقيل اثنتين وعشرين.
الثاني نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم; مولى جعونة بن شعوب الليثي، هو مدني;
أصله من أصبهان، كنيته أبو رويم; وقيل أبو الحسن، وقيل أبو عبد الرحمن وقيل
327

أبو عبد الله. توفى بالمدينة سنة تسع وستين ومائة.
الثالث عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم بن ربيعة اليحصبي الدمشقي قاضي دمشق،
وهو من كبار التابعين، ولد في أول سنة إحدى وعشرين من الهجرة، وتوفى بدمشق يوم
عاشوراء سنة ثمان عشرة ومائة، وقيل ولد سنة ثمان من الهجرة، ومات وهو ابن مائة
وعشر سنين. وفى كنيته سبعة أقوال: أصحها أبو عمرو. وقيل أبو محمد،، وأبو عبد الله،
وأبو موسى، وأبو نعيم، وأبو عثمان، وأبو مغيث.
الرابع أبو عمرو بن العلاء بن عمار بن عبد الله البصري. قيل اسمه زبان، وقيل
يحيى، وقيل عثمان، وقيل محبوب، وقيل اسمه كنيته. توفى بالكوفة سنة أربع وخمسين
ومائة، وقرأ على ابن كثير وغيره.
الخامس عاصم بن أبي النجود (بفتح النون) أبو بكر الأسدي الكوفي، توفى
بالكوفة سنة سبع، وقيل ثمان وعشرين ومائة. قال سفيان وأحمد بن حنبل وغيرهما:
بهدلة هو أبو النجود. وقال عمرو بن علي: بهدلة أمه. قال أبو بكر داود: هذا خطأ.
وقال عبد الله بن أحمد: قال أبى: أنا أختار قراءة عاصم.
السادس حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل الزيات التيمي، مولاهم، الكوفي
أبو عمارة. توفى بحلوان سنة ثمان، وقيل ست وخمسين ومائة.
328

السابع الكسائي علي بن حمزة الأسدي مولاهم، الكوفي. توفى سنة تسع وثمانين
ومائة; كان قرأ على حمزة. قال مكي: وإنما ألحق بالسبعة في أيام المأمون; وإنما
كان السابع يعقوب الحضرمي، فأثبت ابن مجاهد في سنة ثلاثمائة أو نحوها الكسائي في
موضع يعقوب.
وليس في هؤلاء السبعة من العرب إلا ابن عامر وأبو عمرو.
قال مكي: وإنما كانوا سبعة لوجهين: أحدهما أن عثمان رضي الله عنه كتب سبعة
مصاحف ووجه بها إلى الأمصار، فجعل عدد القراء على عدد المصاحف. الثاني أنه جعل
عددهم على عدد الحروف التي نزل بها القرآن وهي سبعة، على أنه لو جعل عددهم أكثر أو
أقل لم يمتنع ذلك. إذا عدد الرواة الموثوق بهم أكثر من أن يحصى.
وقد ألف ابن جبير المقرئ - وكان قبل ابن مجاهد - كتابا في القراءات وسماه كتاب
الخمسة، ذكر فيه خمسة من القراء لا غير. وألف غيره كتابا وسماه الثمانية، وزاد على هؤلاء
السبعة يعقوب الحضرمي. انتهى.
قلت: ومنهم من زاد ثلاثة وسماه كتاب العشرة.
قال مكي: والسبب في اشتهار هؤلاء السبعة دون غيرهم أن عثمان رضي الله عنه لما
كتب المصاحف، ووجهها إلى الأمصار، وكان القراء في العصر الثاني والثالث كثيري
العدد، فأراد الناس أن يقتصروا في العصر الرابع على ما وافق المصحف، فنظروا إلى إمام
مشهور بالفقه والأمانة في النقل، وحسن الدين، وكمال العلم، قد طال عمره، واشتهر أمره،
وأجمع أهل مصر على عدالته، فأفردوا من كل مصر وجه إليه عثمان مصحفا إماما هذه
صفة قراءته على مصحف ذلك المصر، فكان أبو عمرو من أهل البصرة، وحمزة وعاصم
من أهل الكوفة وسوادها، والكسائي من العراق، وابن كثير من أهل مكة،
329

وابن عامر من أهل الشام، ونافع من أهل المدينة; كلهم ممن اشتهرت إمامتهم، وطال
عمرهم في الإقراء، وارتحل الناس إليهم من البلدان.
وأول من اقتصر على هؤلاء السبعة أبو بكر بن مجاهد سنة ثلاثمائة، وتابعه الناس
وألحق المحققون، منهم البغوي في تفسيره بهؤلاء السبعة [قراءة] ثلاثة وهم يعقوب
الحضرمي، وخلف، وأبو جعفر بن قعقاع المدني شيخ نافع; لأنها لا تخالف
رسم السبع.
وقال الإمام أبو محمد إسماعيل بن إبراهيم الهروي في كتاب الكافي له: فإن قال
قائل: فلم أدخلتم قراءة أبى حفص المدني ويعقوب الحضرمي في جملتهم، وهم خارجون عن
السبعة المتفق عليهم؟ قلنا: إنما اتبعنا قراءتهما كما اتبعنا السبعة; لأنا وجدنا قراءتهما على
الشرط الذي وجدناه في قراءة غيرهما ممن بعدهما في العلم والثقة بهما، واتصال إسنادهما، وانتفاء
الطعن عن روايتهما. ثم إن التمسك بقراءة سبعة فقط ليس له أثر ولا سنة; وإنما السنة
أن تؤخذ القراءة إذا اتصلت رواتها نقلا وقراءة ولفظا ولم يوجد طعن على أحد من رواتها;
ولهذا المعنى قدمنا السبعة على غيرهم وكذلك نقدم أبا جعفر ويعقوب على غيرهما.
ولا يتوهم أن قوله صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف " انصرافه إلى
قراءة سبعة من القراء يولدون من بعد عصر الصحابة بسنين كثيرة; لأنه يؤدى إلى
أن يكون الخبر متعريا عن فائدة إلى أن يحدثوا; ويؤدى إلى أنه لا يجوز لأحد من
الصحابة أن يقرءوا إلا بما علموا أن السبعة من القراء يختارونه. قال: وإنما ذكرناه لأن
قوما من العامة يتعلقون به.
330

وقال الشيخ موفق الدين الكواشي: كل ما صح سنده واستقام مع جهة العربية،
وافق لفظه خط المصحف الإمام فهو من السبع المنصوص عليها، ولو رواه سبعون ألفا
مجتمعين أو متفرقين. فعلى هذا الأصل يبنى من يقول: القراءات عن سبعة كان أو سبعة
آلاف; ومتى فقد واحد من هذه الثلاثة المذكورة في القراءة فاحكم بأنها شاذة; ولا يقرأ
بشئ من الشواذ; وإنما يذكر ما يذكر من الشواذ; ليكون دليلا على حسب المدلول
عليه، أو مرجحا.
وقال مكي: وقد اختار الناس بعد ذلك، وأكثر اختياراتهم إنما هو في الحرف إذا
اجتمع فيه ثلاثة أشياء: قوة وجه العربية، وموافقته للمصحف، واجتماع العامة عليه. والعامة
عندهم هو ما اتفق عليه أهل المدينة وأهل الكوفة; فذلك عندهم حجة قوية توجب
الاختيار. وربما جعلوا العامة ما اجتمع عليه أهل الحرمين، وربما جعلوا الاعتبار بما اتفق
عليه نافع وعاصم; فقراءة هذين الإمامين أولى القراءات، وأصحها سندا وأفصحها في
العربية، ويتلوها في الفصاحة خاصة قراءة أبى عمرو والكسائي.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة: كل قراءة ساعدها خط المصحف مع صحة النقل
فيها ومجيئها على الفصيح من لغة العرب فهي قراءة صحيحة معتبرة; فإن اختل أحد هذه
الأركان الثلاثة أطلق على تلك القراءة أنها شاذة وضعيفة; أشار إلى جماعة من الأئمة
المتقدمين، ونص عليه الشيخ أبو محمد مكي بن أبي طالب القيرواني في كتاب مفرد صنفه
في معاني القراءات السبع، وأمر بإلحاقه بكتاب الكشف، وذكره شيخنا أبو الحسن في
كتابه جمال القراء.
331

قال أبو شامة رحمة الله: وقد ورد إلى دمشق استفتاء من بلاد العجم عن القراءة
الشاذة: هل تجوز القراءة بها؟ وعن قراءة القارئ عشرا، كل آية بقراءة قارئ، فأجاب
عن ذلك جماعة من مشايخ عصرنا; منهم شيخنا الشافعية والمالكية حينئذ، وكلاهما أبو عمر
وعثمان - يعنى ابن الصلاح وابن الحاجب.
قال شيخ الشافعية: يشترط أن يكون المقروء به على تواتر نقله عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قرآنا، واستفاض نقله بذلك، وتلقته الأمة بالقبول كهذه القراءات السبع;
لأن المعتبر في ذلك اليقين والقطع على ما تقرر وتمهد في الأصول; فما لم يوجد فيه ذلك
ما عدا العشرة فممنوع من القراءة به منع تحريم، لا منع كراهة، في الصلاة وخارج
الصلاة، وممنوع منه ممن عرف المصادر والمعاني ومن لم يعرف ذلك، وواجب على من
قدر على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أن يقوم بواجب ذلك، وإنما نقلها من نقلها
من العلماء لفوائد منها ما يتعلق بعلم العربية لا القراءة بها; هذا طريق من استقام سبيله. ثم
قال: والقراءة الشاذة ما نقل قرآنا من غير تواتر واستفاضة متلقاة بالقبول من الأئمة،
كما يشتمل عليه " المحتسب " لابن جنى وغيره. وأما القراءة بالمعنى على تجويزه من
غير أن ينقل قرآنا فليس ذلك من القراءة الشاذة أصلا; والمتجرئ على ذلك متجرئ أبى على عظيم،
وضال ضلالا بعيدا، فيعزر ويمنع بالحبس ونحوه: ويجب منع القارئ بالشواذ وتأثيمه بعد
تعريفه، وإن لم يمتنع فعليه التعزير يشرطه. وأما إذا شرع القارئ في قراءة فينبغي ألا يزال
يقرأ بها ما بقي للكلام متعلق بما ابتدأ به، وما خالف هذا فمنه جائز وممتنع وعذره مانع من
قيامه بحقه، والعلم عند الله تعالى.
وقال شيخ المالكية رحمه الله: لا يجوز أن يقرأ بالقراءة الشاذة في صلاة ولا غيرها،
332

عالما بالعربية كان أو جاهلا; وإذا قرأها قارئ، فإن كان جاهلا بالتحريم عرف به
وأمر بتركها، وإن كان عالما أدب بشرطه، وإن أصر على ذلك أدب على إصراره،
وحبس إلى أن يرتدع عن ذلك. وأما تبديل " آتينا " " بأعطينا " و " سولت " " بزينت "
ونحوه; فليس هذا من الشواذ، وهو أشد تحريما، والتأديب عليه أبلغ، والمنع منه أوجب،
وأما القراءة بالقراءات المختلفة في آي العشر الواحد فالأولى ألا يفعل. نعم إن قرأ بقراءتين
في موضع إحداهما مبنية على الأخرى مثل أن يقرأ " نغفر لكم " بالنون " وخطيئاتكم " بالجمع
ومثل: * (تضل إحداهما فتذكر) * بالنصب، فهذا أيضا ممتنع وحكم المنع كما تقدم.
قال الشيخ شهاب الدين: والمنع من هذا ظاهر، وأما ما ليس كذلك فلا يمنع منه; فإن الجمع
جائز، والتخيير فيه بأكثر من ذلك كان حاصلا بما ثبت من إنزال القرآن على سبعة حروف،
توسعة على القراء; فلا ينبغي أن يضيق بالمنع من هذا ولا ضرر فيه، نعم أكره ترداد الآية
بقراءات مختلفة كما يفعله أهل زماننا في جمع القرآن لما فيه من الابتداع، ولم يرد فيه شئ
من المتقدمين، وقد بلغني كراهته عن بعض متصدري المغاربة المتأخرين.
قلت: وما أفتى به الشيخان نقله النووي في شرح المهذب عن أصحاب الشافعي
فقال: قال أصحابنا وغيرهم: لا تجوز القراءة في الصلاة ولا غيرها بالقراءة الشاذة; لأنها
ليست قرآنا، لأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر، والقراءة الشاذة ليست متواترة; ومن قال
غيره فغالط أو جاهل، فلو خالف وقرأ بالشاذ أنكر عليه قرءاتها ما في الصلاة وغيرها، وقد
اتفق فقهاء بغداد على استتابة من قرأ بالشواذ. ونقل ابن عبد البر إجماع المسلمين على أنه لا
تجوز القراءة بالشواذ، ولا يصلى خلف من يقرأ بها.
* * *
333

الأمر السابع: أن حاصل اختلاف القراء يرجع إلى سبعة أوجه:
الأول الاختلاف في إعراب الكلمة أو في حركات بقائها بما لا يزيلها عن صورتها في
الكتاب، ولا يغير معناها; نحو * (البخل) * و * (البخل) *. و * (ميسرة) *
و * (ميسرة) *. * (وما هن أمهاتهم) *. * (وهن أطهر لكم) * و * (أطهر لكم) *.
* (وهل نجازى إلا الكفور) *، * (وهل يجازى إلا الكفور) *.
الثاني الاختلاف في إعراب الكلمة في حركات بما يغير معناها، ولا يزيلها عن
صورتها في الخط; نحو * (ربنا باعد بين أسفارنا) * و * (ربنا باعد بين أسفارنا *).
و * (إذ تلقونه) * و * (تلقونه) *. * (وادكر بعد أمة) * و * (بعد أمة) *; وهو كثير
يقرأ به، لما صحت روايته ووافق العربية.
الثالث الاختلاف في تبديل حروف الكلمة دون إعرابها بما يغير معناها، ولا يغير
334

صورة الخط بها في رأى العين; نحو * (كيف ننشزها) * و * (ننشزها) *، و * (فزع
عن قلوبهم) * و * (فزع عن قلوبهم) *) و * (يقص الحق) * و * (يقضى الحق) *،
وهو كثير يقرأ به إذا صح سنده ووجهه لموافقته لصورة الخط في رأى العين.
الرابع الاختلاف في الكلمة بما يغير صورتها في الكتابة ولا يغير معناها; نحو; إن
كانت إلا صيحة واحدة) * و * (إلا زقية واحدة) * و * (كالعهن المنفوش) *
و * (كالصوف المنقوش) * فهذا يقبل إذا صحت روايته، ولا يقرأ به اليوم لمخالفته لخط
المصحف، ولأنه إنما ثبت عن آحاد.
الخامس الاختلاف في الكلمة بما يزيل صورتها في الخط ويزيل معناها، نحو * (الم.
تنزيل الكتاب) * في موضع * (آلم ذلك الكتاب) *. و * (طلح منضود) *
و * (طلع منضود) * فهذا لا يقرأ به أيضا; لمخالفته، الخط ويقبل منه ما لم يكن فيه تضاد
لما عليه المصحف.
السادس الاختلاف بالتقديم والتأخير نحو ما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
عنه أنه قرأ عند الموت: * (وجاءت سكرة الحق بالموت) *، وبهذا قرأ ابن
335

مسعود; فهذا يقبل لصحة معناه إذا صحت روايته، ولا يقرأ به لمخالفته المصحف، ولأنه
غير واحد.
السابع الاختلاف بالزيادة والنقص في الحروف والكلم نحو * (وما عملته أيديهم) *
* (وما عملت) *، و * (نعجة أنثى) * ونظائره، فهذا يقبل منه ما لم يحدث حكما لم يقله أحد،
ويقرأ منه ما اتفقت عليه المصاحف في إثباته وحذفه، نحو: * (تجرى تحتها) * في براءة
عند رأس المائة، و * (من تحتها) *، و * (فإن الله هو الغنى الحميد) *، في الحديد،
و * (فإن الله الغنى) *; ونحو ذلك مما اختلف فيه المصاحف التي وجه بها عثمان إلى الأمصار
فيقرأ به إذ لم يخرجه عن خط المصحف، ولا يقرأ منه ما لم تختلف فيه المصاحف، لا يزاد
شئ لم يزد فيها، ولا ينقص شئ لم ينقص منها.
* * *
الأمر الثامن، قال أبو عبيد في كتاب " فضائل القرآن " إن القصد من القراءة الشاذة
تفسير القراءة المشهورة وتبيين معانيها; وذلك كقراءة عائشة وحفصة: " حافظوا على
الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ".
وكقراءة ابن مسعود: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما ".
336

ومثل قراءة أبى: " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن
فاءوا فيهن.
وكقراءة سعد بن أبي وقاص: " وإن كان له أخ أو أخت من أم فلكل... ".
وكما قرأ ابن عباس: " لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلا من ربكم في
مواسم الحج ".
- قلت: وكذا قراءته: " وأيقن أنه الفراق " وقال: ذهب الظن. قال
أبو الفتح: يريد أنه ذهب اللفظ الذي يصلح للشك; وجاء اللفظ الذي هو مصرح باليقين.
انتهى -
وكقراءة جابر: " فإن الله من بعد إكراههن له غفور رحيم ".
فهذه الحروف وما شاكلها قد صارت مفسرة للقرآن، وقد كان يروى مثل هذا عن
بعض التابعين في التفسير فيستحسن ذلك، فكيف إذا روى عن كبار الصحابة، ثم صار
في نفس القراءة! فهو الآن أكثر من التفسير وأقوى; فأدنى ما يستنبط من هذه الحروف
معرفة صحة التأويل; على أنها من العلم الذي لا يعرف العامة فضله; إنما يعرف ذلك
337

العلماء، ولذلك يعتبر بهما وجه القرآن; كقراءة من قرأ: * (يقض الحق) * فلما وجدتها
في قراءة عبد الله: * (يقضى الحق) * علمت أنها إنما هي * (يقض) * فقرأتها على ما في
المصحف; واعتبرت صحتها بتلك القراءة، وكذلك قراءة من قرأ: * (أخرجنا لهم دابة
من الأرض تكلمهم) *، ثم لما وجدتها في قراءة أبى " تنبئهم " علمت أن وجه القراءة
* (تكلمهم) * في أشباه من هذا كثيرة.
فائدة
قيل قراءة ابن كثير ونافع وأبى عمرو راجعة إلى أبي، وقراءة ابن عامر إلى عثمان بن
عفان، وقراءة عاصم وحمزة والكسائي إلى عثمان وعلى وابن مسعود.
فائدة
قال ابن مجاهد: إذا شك القارئ في حرف هل هو ممدود أو مقصور؟ فليقرأ
بالقصر، وإن شك في حرف هل هو مفتوح أو مكسور؟ فليقرأ بالفتح; لأن الأول غير
لحن في بعض المواضع.
338

النوع الثالث والعشرون
معرفة توجيه القراءات وتبيين وجه ما ذهب إليه كل قارئ
وهو فن جليل، وبه تعرف جلالة المعاني وجزالتها، وقد اعتنى الأئمة به، وأفردوا
فيه كتبا، منها كتاب " الحجة " لأبى على الفارسي، وكتاب " الكشف " لمكي
وكتاب " الهداية " للمهدوي. وكل منها قد اشتمل على فوائد. وقد صنفوا أيضا
في توجيه القراءات الشواذ، ومن أحسنها كتاب " المحتسب " لابن جنى، وكتاب
أبى البقاء، وغيرهما.
وفائدته - كما قال الكواشي: أن يكون دليلا على حسب المدلول عليه، أو مرجحا; إلا
أنه ينبغي التنبيه على شئ; وهو أنه قد ترجح إحدى القراءتين على الأخرى ترجيحا يكاد
يسقط القراءة الأخرى; وهذا غير مرضى; لأن كلتيهما متواترة، وقد حكى أبو عمر الزاهد
في كتاب " اليواقيت " عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف الإعراب في القرآن عن السبعة
لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن; فإذا خرجت إلى الكلام (كلام الناس) فضلت
الأقوى; وهو حسن.
وقال أبو جعفر النحاس - وقد حكى اختلافهم في ترجيح * (فك رقبة) * بالمصدرية
والفعلية فقال: والديانة تحظر الطعن على القراءة التي قرأ بها الجماعة، ولا يجوز أن تكون
339

مأخوذة إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال: " أنزل القرآن على سبعة أحرف "،
فهما قراءتان حسنتان، لا يجوز أن تقدم إحداهما على الأخرى. انتهى.
وقال في سورة المزمل: السلامة عند أهل الدين أنه إذا صحت القراءتان عن الجماعة
ألا يقال: أحدهما أجود; لأنهما جميعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيأثم من قال ذلك;
وكان رؤساء الصحابة رضي الله عنهم ينكرون مثل هذا.
وقال الشيخ شهاب الدين أبو شامة رحمه الله: قد أكثر المصنفون في القراءات
والتفاسير من الترجيح بين قراءة * (ملك) * و * (مالك) * حتى إن بعضهم يبالغ إلى
حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى; وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القراءتين; واتصاف
الرب تعالى بهما; ثم قال: حتى إني أصلى بهذه في ركعة، وبهذه في ركعة.
وقال صاحب " التحرير " وقد ذكر التوجيه في قراءة * (وعدنا) * و * (واعدنا) *:
لا وجه للترجيح بين بعض القراءات السبع وبعض في مشهور كتب الأئمة من المفسرين
والقراء والنحويين; وليس ذلك راجعا إلى الطريق حتى يأتي هذا القول; بل مرجعه ما يتعلق
بكثرة الاستعمال في اللغة والقرآن، أو ظهور المعنى بالنسبة إلى ذلك المقام.
وحاصله أن القارئ يختار رواية هذه القراءة على رواية غيرها، أو نحو ذلك; وقد تجرأ بعضهم على قراءة الجمهور في * (فنادته الملائكة) * فقال: أكره التأنيث لما فيه من
موافقة دعوى الجاهلية في زعمها أن الملائكة إناث; وكذلك كره بعضهم قراءة قرأ
بغير تاء; لأن الملائكة جمع.
340

وهذا كله ليس بجيد، والقراءتان متواترتان; فلا ينبغي أن ترد إحداهما البتة;
وفى قراءة عبد الله * (فناداه جبريل) * ما يؤيد أن الملائكة مراد به الواحد.
فصل
[في توجيه القراءة الشاذة]
وتوجيه القراءة الشاذة أقوى في الصناعة من توجيه المشهورة، ومن أحسن ما وضع
فيه كتاب " المحتسب " لأبى الفتح; إلا أنه لم يستوف، وأوسع منه كتاب أبو البقاء
العكبري; وقد يستبشع ظاهر الشاذ بادئ الرأي فيدفعه التأويل، كقراءة: * (قل أغير الله أتخذ
وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم) *، ولا يطعم على بناء الفعل الأول للمفعول
دون الثاني; وتأويل الضمير في * (وهو) * راجع إلى الولي.
وكذلك قوله: * (هو الله الخالق البارئ المصور) * بفتح الواو والراء; على أنه اسم
مفعول; وتأويله أنه مفعول لاسم الفاعل، الذي هو البارئ، فإنه يعمل عمل الفعل; كأنه
قال: الذي برأ المصور.
وكقرءاة: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *، وتأويله أن الخشية هنا بمعنى
الإجلال والتعظيم; لا الخوف.
وكقراءة: * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * بضم التاء على التكلم لله تعالى;
وتأويله على معنى: فإذا أرشدتك إليه وجعلتك تقصده. وجاء قوله: * (على الله) * على
الالتفات; وإلا لقال: * (فتوكل على) *، وقد نسب العزم إليه في قول أم سلمة " ثم عز
الله لي "،، وذلك على سبيل المجاز. وقوله: * (شهد الله إنه لا إله إلا هو) *.
341

النوع الرابع والعشرون
معرفة الوقف والابتداء
وهو فن جليل، وبه يعرف كيف أداء القرآن. ويترتب على ذلك فوائد كثيرة;
واستنباطات غزيرة. وبه تتبين معاني الآيات، ويؤمن الاحتراز عن الوقوع في المشكلات.
وقد صنف فيه الزجاج قديما كتاب " القطع والاستئناف " وابن الأنباري،
وابن عباد، والداني، والعماني، وغيرهم.
وقد جاء عن ابن عمر أنهم كانوا يعملون ما ينبغي أن يوقف عنده، كما يتعلمون
القرآن.
وروى عن ابن عباس * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان) *
قال: فانقطع الكلام.
342

واستأنس له ابن النحاس بقول صلى الله عليه وسلم للخطيب: " بئس الخطيب
أنت " حين قال: [من يطع الله ورسوله فقد رشد] ومن يعصمها - ووقف - قال: قد
كان ينبغي أن يصل كلامه فيقول: ومن يعصمها فقد غوى، أو يقف على: " ورسوله فقد
رشد; " فإذا كان [مثل هذا] مكروها في الخطب ففي كلام الله أشد.
وفيما ذكره نزاع ليس هذا موضعه، وقد سبق حديث: " أنزل القرآن على سبعة
أحرف كل كاف شاف; ما لم تختم آية عذاب بآية رحمة، أو آية رحمة بآية عذاب ".
وهذا تعليم للتمام; فإنه ينبغي أن يوقف على الآية التي فيها ذكر العذاب والنار وتفصل
عما بعدها; نحو: * (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * ولا توصل بقوله:
* (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) *، وكذا قوله: * (حقت كلمة ربك على
الذين كفروا أنهم أصحاب النار) * ولا توصل بقوله: * (الذين يحملون العرش) *
وكذا: * (يدخل من يشاء في رحمته) *; ولا يجوز أن يوصل بقوله: * (والظالمون) *
وقس على هذا نظائره.
] حاجة هذا الفن إلى مختلف العلوم]
وهذا الفن معرفته تحتاج إلى علوم كثيرة; قال أبو بكر بن مجاهد: لا يقوم بالتمام
[في الوقف] إلا نحوي عالم بالقراءات، عالم بالتفسير والقصص وتلخيص بعضها من
بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن. وقال غيره: وكذا علم الفقه; ولهذا من لم يقبل
شهادة القاذف وإن تاب وقف عند قوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) *.
343

فأما احتياجه إلى معرفة النحو وتقديراته، فلأن من قال في قوله تعالى: * (ملة
أبيكم إبراهيم) *: إنه منصوب بمعنى " كملة " أو أعمل فيها ما قبلها، لم يقف
على ما قبلها.
وكذا الوقف على قوله: * (ولم يجعل له عوجا) *، ثم يبتدئ * (قيما) *، لئلا
يتخيل كونه صفة له; إذا العوج لا يكون قيما; وقد حكاه ابن النحاس عن قتادة.
* وهكذا الوقف على ما في آخره هاء; فإنك في غير القرآن تثبت الهاء إذا وقفت،
وتحذفها إذا وصلت; فتقول: قه وعه، وتقول: ق زيدا، وع كلامي; فأما في القرآن
من قوله تعالى: * (كتابه) * و * (حسابيه) * و * (سلطانيه) * و * (ما هيه) *
و * (لم يتسنه) * و * (اقتده) *; وغير ذلك، فالواجب أن يوقف عليه بالهاء; لأنه
مكتوب في المصحف بالهاء، ولا يوصل، لأنه يلزم في حكم العربية اسقاط الهاء في الوصل;
فإن أثبتها خالف العربية،، وإن حذفها خالف مراد المصحف، ووافق كلام العرب،
وإذا هو وقف عليه خرج من الخلافين، واتبع المصحف وكلام العرب *.
فإن قيل: فقد جوزوا الوصل في ذلك.
قلنا: أتوا به على نية الوقف; غير أنهم قصروا زمن الفصل بين النطقين، فظن من
لا خبرة له أنهم وصلوا وصلا محضا، وليس كذلك.
344

ومثله قراءة ابن عامر * (لكنا هو الله ربى) *، بإثبات الألف في حال الوصل;
اتبعوا في إثباتها خط المصحف; لأنهم أثبتوها فيه على نية الوقف، فلهذا أثبتوها في حال
الوصل، وهم على نية الوقف.
* * *
وأما احتياجه إلى معرفة التفسير فلأنه إذا وقف على * (فإنها محرمة عليهم أربعين
سنة) * كان المعنى محرمة عليهم هذه المدة،، وإذا وقف على * (فإنها محرمة عليهم) *
كان المعنى محرمة عليهم أبدا; وأن التيه أربعين; فرجع في هذا إلى التفسير، فيكون
بحسب ذلك.
وكذا يستحب الوقف على قوله: * (من بعثنا من مرقدنا) *، ثم يبتدئ; فيقول:
* (هذا ما وعد الرحمن) * لأنه قيل إنه من كلام الملائكة.
* * *
وأما احتياجه إلى المعنى فكقوله: * (قال، الله على ما تقول وكيل) * فيقف على
* (قال) * وقفة لطيفة; لئلا يتوهم كون الاسم الكريم فاعل: * (قال) * وإنما الفاعل يعقوب
عليه السلام.
وكذا يجب الوقف على قوله: * (ولا يحزنك قولهم) * ثم يبتدئ: * (إن العزة
لله جميعا) *
وقوله: * (فلا يصلون إليكما بآياتنا) *، قال الشيخ عز الدين: الأحسن
345

الوقف على * (إليكما) *; لأن إضافة الغلبة إلى الآيات أولى من إضافة عدم الوصول إليها;
لأن المراد بالآيات العصا وصفاتها، وقد غلبوا بها السحرة، ولم تمنع عنهم فرعون.
وكذا يستحب الوقف على قوله: * (أولم يتفكروا) * والابتداء بقوله:
* (ما بصاحبهم من جنة) *; فإن ذلك يبين أنه رد لقول الكفار: * (يا أيها الذي
نزل عليه الذكر إنك لمجنون) *. وقال الداني: إنه وقف تام.
وكذا الوقف على قوله: * (ولذلك خلقهم) * والابتداء بما بعده; أي لأن يرحمهم،
فإن ابن عباس قال في تفسير الآية: * (ولا يزالون مختلفين) * يعنى اليهود والنصارى
* (إلا من رحم ربك) *، يعنى أهل الاسلام، * (ولذلك خلقهم) * أي لرحمته
خلقهم.
وكذلك الوقف على قوله: * (يوسف أعرض عن هذا) * والابتداء بقوله: * (واستغفري
لذنبك) * فإن بذلك يتبين الفصل بين الأمرين; لأن يوسف عليه السلام أمر بالأعراض;
وهو الصفح عن جهل من جهل قدره، وأراد ضره، والمرأة أمرت بالاستغفار لذنبها لأنها همت بما
يجب الاستغفار منه; ولذلك أمرت به; ولم يهم بذلك يوسف عليه السلام، ولذلك لم يؤمر
بالاستغفار منه; وإنما هم بدفعها عن نفسه لعصمته; ولذلك أكد أيضا بعض العلماء الوقف على
قوله تعالى: * (ولقد همت به) *، والابتداء بقوله: * (وهم بها) * وذلك للفصل
بين الخبرين. وقد قال الداني: إنه كاف، وقيل: تام، وذكر بعضهم أنه على
346

حذف مضاف، أي هم بدفعها، وعلى هذا فالوقف على * (همت به) * كالوقف على قوله
تعالى: * (لنبين لكم) * والابتداء بقوله: * (وهم بها) * كالابتداء بقوله: * (ونقر
في الأرحام) *.
ومثله الوقف مراعاة للتنزيه على قوله: * (وهو الله) *، وقد ذكر * صاحب الاكتفا
أنه تام، وذلك ظاهر على قول ابن عباس أنه على التقديم والتأخير، والمعنى: وهو الله
يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض.
* وكذلك حكى الزمخشري في كشافه القديم عن أبي حاتم السجستاني في قوله:
* (مستهزئون. الله يستهزئ بهم) * قال: ليس * (مستهزئون) * بوقف صالح،
لا أحب استئناف * (الله يستهزئ بهم) *، ولا استئناف * (ومكر الله والله خير
الماكرين) * حتى أصله بما قبله، قال: وإنما لم يستحب ذلك لأنه إنما جاز إسناد
الاستهزاء والمكر إلى الله تعالى على معنى الجزاء عليهما، وذلك على سبيل المزاوجة، فإذا
استأنفت وقطعت الثاني من الأول أوهم أنك تسنده إلى الله مطلقا والحكم في صفاته سبحانه
أن تصان عن * الوهم.
وكذلك قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله) * قال صاحب الاكتفا: إنه
347

تام على قول من زعم أن الراسخين لم يعلموا تأويله، وقول الأكثرين، ويصدقه
قراءة عبد الله: " ويقول الراسخون في العلم آمنا به ".
وكذلك الوقف على: * (وقالوا اتخذ الله ولدا) *، والابتداء بقوله: * (سبحانه) *
وقد ذكر ابن نافع أنه تام، في كتابه الذي تعقب فيه على صاحب الاكتفا، واستدرك
عليه فيه مواقف كثيرة، وذلك أن الله أخبر عنهم بقولهم: * (اتخذ الله ولدا) *، ثم رد
قولهم ونزه نفسه بقوله: * (سبحانه) *، فينبغي أن يفصل بين القولين.
ومثله الوقف على قوله تعالى: * (الشيطان سول لهم) *، والابتداء بقوله:
* (وأملى لهم) *. قال صاحب الكافي: * (سول لهم) * كاف، سواء قرئ
* (وأملى لهم) * على ما يسم فاعله، أو * (وأملى لهم) *، على الإخبار; لأن الإملاء
في كلتا القراءتين مسند إلى الله تعالى، لقوله: * (فأمليت للكافرين) *، فيحسن
قطعه من التسويل الذي هو مسند إلى الشيطان، وهو كما قال، وإنما يحسن قطعه بالوقف
ليفصل بين الحرفين. ولقد نبه بعض من وصله على حسن هذا الوقف، فاعتذر بأن الوصل
هو الأصل.
ومثله الوقف على قوله: * (رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها) *، والابتداء بقوله:
* (ما كتبناها عليهم) *، وذلك للإعلام بأن الله تعالى جعل الرهبانية في قلوبهم،
أي خلق، كما جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم وإن كانوا قد ابتدعوها فالله تعالى خلقها;
بدليل قوله سبحانه: * (والله خلقكم وما تعملون) *; هذا مذهب أهل السنة،
348

وقد نسب أبو على الفارسي إلى مذهب الاعتزال بقوله في الإيضاح حين تكلم على هذه
الآية فقال: ألا ترى أن الرهبانية لا يستقيم حملها على * (جعلنا) * مع وصفها بقوله:
* (ابتدعوها) *، لأن ما يجعله الله لا يبتدعونه، فكذلك ينبغي أن يفصل بالوقف بين المذهبين.
ومثله الوقف على قوله تعالى: * (فإن الله هو مولاه) *، والابتداء بقوله: * (وجبريل
وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) *، أي معينون له صلى الله عليه
وسلم; فتكون هذه الجملة مستأنفة.
* * *
وأما احتياجه إلى المعرفة بالقراءات فلأنه إذا قرأ: * (ويقولون حجرا محجورا) *
بفتح الحاء، كان هذا التمام، وإن ضم الحاء - وهي قراءة الحسن - فالوقف عند
* (حجرا) * يحيى لأن العرب كان إذا نزل بالواحد منهم شدة قال: " حجرا " فقيل له:
" محجورا " أي لا تعاذون كما كنتم تعاذون في الدنيا; حجر الله ذلك عليهم
يوم القيامة.
وإذا قرأ: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * إلى قوله: * (قصاص) * فهو
التام إذا نصب * (والعين بالعين) *، ومن رفع فالوقف عند: * (أن النفس بالنفس) *، وتكون
* (والعين بالعين) * ابتداء حكم في المسلمين وما قبله في التوراة.
349

واعلم أن أكثر القراء يبتغون في الوقف المعنى وإن لم يكن رأس آية، ونازعهم فيه
بعض المتأخرين في ذلك; وقال: هذا خلاف السنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يقف عند كل آية فيقول: * (الحمد لله رب العالمين) * ويقف، ثم يقول: * (الرحمن الرحيم) *
وهكذا، روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، ومعنى
هذا الوقف على رؤوس الآي، وأكثر أواخر الآي في القرآن تام أو كاف، وأكثر
ذلك في السور القصار الآي، نحو الواقعة، قال: وهذا هو الأفضل; أعني الوقف على
رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها، وذهب بعض القراء إلى تتبع الأغراض والمقاصد،
والوقف عند رؤس انتهائها; واتباع السنة أولى. وممن ذكر ذلك الحافظ أبو بكر البيهقي
في كتاب (شعب الإيمان) وغيره، ورجح الوقف على رؤس الآي وإن تعلقت بما بعدها.
قلت: وحكى النحاس عن الأخفش علي بن سليمان أن يستحب الوقوف على قوله:
* (هدى للمتقين) * لأنه رأس آية، وإن كان متعلقا بما بعده.
[أقسام الوقف]
والوقف عند أكثر القراء ينقسم إلى أربعة أقسام: تام مختار، وكاف جائز، وحسن
مفهوم، وقبيح متروك.
* * *
وقسمه بعضهم إلى ثلاثة، وأسقط الحسن. وقسمه آخرون إلى اثنين، وأسقط الكافي والحسن.
* * *
فالتام هو الذي لا يتعلق بشئ مما بعده، فيحسن الوقف عليه والابتداء بما بعد;
350

كقوله تعالى: * (وأولئك هم المفلحون) *; وأكثر ما يوجد عند رؤس الآي كقوله:
* (وأولئك هم المفلحون) *، ثم يبتدئ بقوله: * (إن الذين كفروا) * وكذا:
* (وأنهم إليه راجعون) * ثم يبتدئ بقوله: * (يا بني إسرائيل) *.
وقد يوجد قبل انقضاء الفاصلة، كقوله: * (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) * هنا التمام
لأنه انقضى كلام بلقيس، ثم قال تعالى: * (وكذلك يفعلون) *، وهو رأس الآية.
وكذلك: * (عن الذكر بعد إذ جاءني) * هو التمام لأنه انقضاء كلام الظالم الذي هو
أبي بن خلف، ثم قال تعالى: * (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * وهو رأس آية.
وقد يوجد بعدها كقوله تعالى: * (مصبحين وبالليل) * * (مصبحين) * رأس الآية،
* (وبالليل) * التمام; لأنه معطوف على المعنى، أي والصبح وبالليل.
وكذلك: * (يتكئون) * * (وزخرفا) *. رأس الآية: * (يتكئون) *، * (وزخرفا) * هو
التمام، لأنه معطوف على ما قبله من قوله: * (سقفا) *.
وآخر كل قصة وما قبل أولها وآخر كل سورة تام، والأحزاب، والأنصاف،
والأرباع، والأثمان، والأسباع، والأتساع، والأعشار، والأخماس. وقبل ياء النداء،
وفعل الأمر، والقسم ولامه دون القول، و " الله " بعد رأس كل آية، والشرط ما لم يتقدم جوابه
و " كان الله "، و ما كان "، و " ذلك "، و " لولا " غالبهن تام ما لم يتقدمهن قسم أو قول
أو ما في معناه.
* * *
والكافي منقطع في اللفظ متعلق في المعنى، فيحسن الوقف عليه والابتداء أيضا بما
351

بعده، نحو: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * هنا الوقف، ثم يبتدئ بما بعد ذلك،
وهكذا باقي المعطوفات، وكل رأس آية بعدها " لام كي " و " إلا " بمعنى " لكن " و " إن "
المكسورة المشددة، والاستفهام، و " بل " و " ألا " المخففة، و " السين " و " سوف "
على التهدد، و " نعم " و " بئس "، و " كيلا "، وغالبهن كاف، ما لم يتقدمهن قول أو قسم،
وقيل " أن " المفتوحة المخففة خمسة لا غير. البقرة: * (وأن تصوموا) *، * (وأن تعفوا) *،
* (وأن تصدقوا) *، والنساء * (وأن تصبروا) *، والنور * (وأن يستعففن) *.
* * *
والحسن هو الذي يحسن الوقوف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده، لتعلقه به في
اللفظ والمعنى; نحو * (الحمد لله رب العالمين) * و * (الرحمن الرحيم) *، والوقف
عليه حسن، لأن المراد مفهوم، والابتداء بقوله: * (رب العالمين) * و * (الرحمن
الرحيم) *، و * (مالك يوم الدين) * لا يحسن; لأن ذلك مجرور، والابتداء
بالمجرور قبيح; لأنه تابع.
* * *
والقبيح هو الذي لا يفهم منه المراد نحو * (الحمد) * أهل فلا يوقف عليه، ولا على الموصوف
دون الصفة، ولا على البدل دون المبدل منه، ولا على المعطوف دون المعطوف عليه، نحو
* (كذبت ثمود وعاد) *، ولا على المجرور دون الجار.
352

وأقبح من هذا الوقف على قوله: * (لقد كفر الذين قالوا) *، * (ومن يقل منهم) *
والابتداء بقوله: * (إن الله هو المسيح بن مريم) *، * (إن الله ثالث ثلاثة) *،
* (إني إله) *; لأن المعنى يستحيل بهذا في الابتداء، ومن تعمده وقصد معناه فقد
كفر. ومثله في القبح الوقف على: * (فبهت الذي كفر والله) * و * (مثل السوء ولله) *، عند
وشبهه، ومثله: * (وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه) *، و * (إنما يستجيب
الذين يسمعون والموتى) *.
وأقبح من هذا وأشنع الوقف على النفي دون حروف الإيجاب، نحو: * (لا إله إلا الله) *، * (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) *، وكذا * (وعد الله الذين آمنوا
وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم والذين كفروا والذين كفروا) *، و * (الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم والذين آمنوا) *، فإن اضطر لأجل التنفس
جاز ذلك، ثم يرجع إلى ما قبله حتى يصله بما بعده ولا حرج.
* * *
وقال بعضهم: إن تعلقت الآية بما قبلها تعلقا لفظيا كان الوقف كافيا، نحو * (اهدنا
الصراط المستقيم صراط الذين) *، وإن كان معنويا فالوقف على ما قبلها حسن
كاف، نحو * (الحمد لله رب العالمين) *; وإن لم يكن لا لفظيا ولا معنويا فتام،
353

كقوله: * (ولا هم يحزنون) *، بعده * (الذين يأكلون الربا) *، وإن كانت الآية
مضادة لما قبلها كقوله: * (أنهم أصحاب النار. الذين يحملون العرش) *،
فالوقف عليه قبيح.
* * *
واعلم أن وقف الواجب إذا وقفت قبل " والله " ثم ابتدأت بوالله، وهو الوقف الواجب
كقوله تعالى: * (حذر الموت، والله محيط بالكافرين) *.
وقال بعض النحويين: الجملة التأليفية إذا عرفت أجزاؤها، وتكررت أركانها
كان ما أدركه الحس في حكم المذكور; فله أن يقف كيف شاء. وسواء التام وغيره;
إلا أن الأحسن أن يوقف على الأتم وما يقدر به /
وذهب الجمهور إلى أن الوقف في التنزيل على ثمانية أضرب: تام، وشبيه [به]
وناقص، وشبيه به، [وحسن وشبيه به] وقبيح، وشبيه به، وصنفوا فيه تصانيف، فمنها
ما أثروه عن النحاة، ومنها ما أثروه عن القراء، ومنها ما استنبطوه، ومنها ما اقتدوا فيه بالسنة
فقط، كالوقف على أواخر الآي; وهي مواقف النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب أبو يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة إلى أن تقدير الموقوف عليه من القرآن:
التام، والناقص، والحسن، والقبيح، وتسميته بذلك بدعة، ومتعمد الوقف على نحوه
مبتدع، قال: لأن القرآن معجز، وهو كالقطعة الواحدة، فكله قرآن وبعضه قرآن،
وكله تام حسن، وبعضه تام، حكى ذلك أبو القاسم بن برهان النحوي عنه.
354

وقال ابن الأنباري: لا يتم الوقف على المضاف [دون المضاف إليه]، ولا على الرابع
دون المرفوع، ولا على المرفوع دون الرافع، ولا على الناصب دون المنصوب، ولا عكسه،
ولا على المؤكد دون التأكيد، ولا على المعطوف دون المعطوف عليه، ولا على إن وأخواتها
دون اسمها، ولا على اسمها دون خبرها، وكذا ظننت،، ولا على المستثنى منه دون الاستثناء،
ولا على المفسر عنه دون التفسير، ولا على المترجم عنه دون المترجم، ولا على الموصول دون
صلته، ولا على حرف الاستفهام دون ما استفهم به عنه، ولا على حرف الجزاء دون الفعل
الذي بينهما، ولا على الذي يليه دون الجواب. وجوز أبو على الوقف على ما قبل " إلا "
إذا كانت بمعنى " لكن " كقوله تعالى: * (إلا ما اضطررتم إليه) *، وكقوله:
* (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) *، و * (إلا اتباع الظن) * ونحوه.
وقال أبو عبيد: يجوز الوقف دون * (إلا خطأ) *، * (إلا اللمم) *، * (إلا
سلاما) *، لأن المعنى: لكن يقع خطأ، ولكن قد يلم، ولكن يسلمون سلاما،
وجميعه استثناء منقطع.
وقال غيره: لا يجوز الوقف على المبدل دون البدل إذا كان منصوبا، وإن كان مرفوعا
جاز الوقف عليه.
والحاصل أن كل شئ كان تعلقه بما قبله كتعلق البدل بالمبدل منه أو أقوى لا يجوز
الوقف عليه.
355

مسألة
فصل بعضهم في الصفة بين أن تكون للاختصاص فيمتنع الوقف على موصوفها
دونها، وبين أن تكون للمدح فيجوز، وجرى عليه الرماني في الكلام على قوله تعالى:
* (وبشر الصابرين) *; قال: ويجوز الوقف عليه خلافا لبعضهم، وعامل الصفة
في المدح غير عامل الموصوف، فلهذا جاز قطعها عما قبلها، بخلاف الاختصاص فإن عاملها
عامل الموصوف، وسيأتي في كلام الزمخشري ما يؤيده.
مسألة
لا خلاف في التسامح بالوقف على المستثنى منه دون المستثنى إذا كان متصلا، واختلف
في الاستثناء أخبرنا المنقطع، فمنهم من يجوزه مطلقا، ومنهم من يمنعه مطلقا. وفصل ابن الحاجب
في أماليه فقال: يجوز إن صرح بالخبر، ولا يجوز إن لم يصرح به; لأنه إذا صرح بالخبر
استقلت الجملة واستغنت عما قبلها، وإذا لم يصرح به كانت مفتقرة إلى ما قبلها. قال:
ووجه من جوز مطلقا أنه في معنى مبتدأ حذف خبره للدلالة عليه، فكان مثل قولنا:
زيد، لمن قال: من أبوك! ألا ترى أن تقدير المنقطع في قولك: ما في الدار أحد إلا
الحارث: لكن الحارث في الدار، ولو قلت: " لكن الحارث " مبتدئا به بعد الوقوف
على ما قبله لكان حسنا، ألا ترى إلى جواز الوقف بالإجماع على مثل قوله: * (إن الله
356

لا يظلم الناس شيئا) * والابتداء بقوله: * (ولكن الناس أنفسهم يظلمون) *،
فكذلك هذا. ووجه من قال بالمنع ما أرى من احتياج الاستثناء المنقطع إلى ما قبله لفظا
ومعنى; أما اللفظ فلأنه لم يعهد استعمال " إلا " وما في معناها إلا متصلا بما قبلها لفظا،
ألا ترى أنك إذا قلت: ما في الدار أحد غير حمار، فوقفت على ما قبل " غير " وابتدأت به
كان قبيحا! فكذلك هذا، وأما المعنى فلأن ما قبله مشعر بتمام الكلام في المعنى;
فإن: ما في الدار أحد إلا الحمار، هو الذي صحح قولك: " إلا الحمار " ألا ترى أنك لو قلت:
" إلا الحمار " على انفراده كان خطأ!
مسألة
اختلف في الوقف على الجملة الندائية، والمحققون كما قاله ابن الحاجب على
الجواز; لأنها مستقلة، وما بعدها جملة أخرى; وإن كانت الأولى تتعلق بها من حيث كانت
هي في المعنى.
قاعدة
[في الذي والذين في القرآن]
جمع ما في القرآن من " الذين " و " الذي " يجوز فيه الوصل بما قبله نعتا له، والقطع
على أنه خبر مبتدأ، إلا في سبعة مواضع فإن الابتداء بها هو المعين.
357

الأول قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته) *.
الثاني قوله: * (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) *
في البقرة.
الثالث في الأنعام كذلك.
الرابع قوله: * (الذين يأكلون الربا لا يقومون) *.
الخامس في سورة التوبة: * (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) *.
السادس قوله في سورة الفرقان: * (الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم) *.
السابع قوله في سورة حم المؤمن: * (أنهم أصحاب النار، الذين يحملون العرش
ومن حوله) *.
وقال الزمخشري في تفسير سورة الناس: يجوز أن يقف القارئ على الموصوف ويبتدئ
* (الذي يوسوس) * يا إن جعله على القطع بالرفع والنصب، بخلاف ما إذا جعله صفة. وهذا
يرجع لما سبق عن الرماني من الفصل بالصفة بين التخصيصية والقطيعة.
وجميع ما في القرآن من القول لا يجوز الوقف عليه; لأن ما بعده حكاية القول، قاله
الجويني في تفسيره.
وهذا الإطلاق مردود بقوله تعالى: * (ولا يحزنك قولهم) * فإنه يجب الوقف
358

هنا، لأن قوله: * (إن العزة لله جميعا) * ليس من مقولهم.
قال: وسمعت أبا الحسين الدهان يقول: حيث كان فيه إضمار من القرآن حسن الوقف،
مثاله قوله تعالى: * (فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك الحجر) *، فيحسن الوقوف
هاهنا، لأن فيه إضمارا تقديره: فضرب فانفلق.
فصل
[ملخص في تقسيمات الوقف]
فصل جامع لخصته من كلام صاحب المستوفى في العربية
قال: تقسيمهم الوقف إلى الجودة والحسن والقبح والكفاية وغير ذلك وإن كان
يدل على ذلك فليست القسمة بها صحيحة مستوفاة على مستعملها، وقد حصل لقائلها من
التشويش ما إذا شئت وجدته في كتبهم المصنفة في الوقوف.
فالوجه أن يقال: الوقف ضربان: اضطراري واختياري.
فالاضطراري يكون ما يدعو إليه انقطاع النفس فقط; وذلك لا يخص موضعا دون
موضع; حتى إن حمزة كان يقف في حرفه [على] كل كلمة تقع فيها الهمزة متوسطة أو
متطرفة إذا أراد تسهيلها; وحتى إنه روى عنه الوقف على المضاف دون المضاف، إليه
في نحو قوله: * (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات) * قالوا: وقف هنا
بالتاء على نحو جاءني " طلحت " إشعارا بأن الكلام لم يتم عند ذاك، وكوقفه على * (إلى
359

من قوله: * (وإذا خلوا إلى) * بالفاء حركة الهمزة على الساكن قبلها، كهذه الصورة
" خلولى "، وعلى هذا يجوز أن يقف في المنظوم من القول حيث شئت; وهذا هو
أحسن الوقفين.
والاختياري قد وهو أفضلهما; هو الذي لا يكون باعتبار انفصال ما بين جزأي القول;
وينقسم بانقسام الانفصال أقساما:
الأول التام; وهو الذي يكون بحيث يستغنى كل واحد من جزأي القولين
اللذين يكتنفانه عن الآخر; كالوقف * (على نستعين) * من قوله * (إياك نعبد وإياك
نستعين) *، والآخر: * (اهدنا الصراط المستقيم) * مستغن عن الآخر من حيث
الإفادة النحويين والتعلق اللفظي.
الثاني الناقص; وهو أن يكون ما قبله مستغنيا عما بعده; ولا يكون ما بعده مستغنيا
عما قبله، كالوقف على * (المستقيم) * من قوله * (اهدنا الصراط المستقيم) *; ولأن لك
أن تسكت على * (اهدنا الصراط المستقيم) *، وليس لك أن تقول مبتدئا: * (صراط
الذين أنعمت عليهم) *.
فإن قيل: ولم لا يجوز أن يقدر هاهنا الفعل الذي ينتصب به * (صراط) *؟
قلنا: أول ما في ذلك أنك إذا قدرت الفعل قبل * (صراط) * لم تكن مبتدئا به من
حيث المعنى، ثم إن فعلت ذلك كان الوقف تاما، لأن كل واحد من طرفيه يستغنى
حينئذ عن الآخر. والنحويون يكرهون الوقف الناقص في التنزيل مع إمكان التام; فإن
طال الكلام ولم يوجد فيه وقف تام حسن الأخذ بالناقص; كقوله تعالى: * (قل
أوحى) * إلى قوله: * (فلا تدعوا مع الله أحدا) * إن كسرت بعده * (إن) * فإن
360

فتحتها فإلى قوله: * (كادوا يكونون عليه لبدا) *; لأن الأوجه في " أن " في الآية أن
تكون محمولة على * (أوحى) * وهذا أقرب من جعل الوقف التام * (حطبا) *، وحمل:
* (وأن لو استقاموا) * على القسم، فاضطر في * (وأن المساجد لله) * إلى أن جعل
التقدير: * (فلا تدعوا مع الله أحدا) *; لأن المساجد لله.
فإن قيل: هذا هو الوجه في فتح " أن " في الجملة التي بعد قوله: * (فقالوا إنا سمعنا
قرآنا عجبا. يهدى إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا) * فلم لا يلزم من
جعل الوقف التام * (حطبا) * ألا يقف قبله على هذه الجمل في كسر " إن " في أول كل
واحدة منها؟
قلنا: لأن هذه الجمل داخلة في القول، وما يكون داخلا في القول لا يتم
الوقف دونه; كما أن المعطوف إذا تبع المعطوف عليه في إعرابه الظاهر والمقدر لا يتقدمه
الوقف تاما.
فإن قيل: فهل يجوز الفصل بالمكسورات بين * (أنه استمع) * وبين * (وأنه لما قام
عبد الله) * فيمن فتحهما وقد عطف بالثانية على الأولى.
قيل: أما عندنا فليس ذلك بفصل; لأن ما بعد * (إنا سمعنا) * من المكسورات معطوف
عليها، وهي داخلة في القول، والقول - أعني * (فقالوا) * - معطوف على * (استمع) * و * (استمع) *
من صلة " أن " الأولى المفتوحة، فالمكسورات تكون في خبر المفتوحة الأولى، فيعطف
عليها الثانية بلا فصل بينها، والثانية عندنا هي المخففة في قوله تعالى: * (وأن لو استقاموا على
الطريقة) * ثم الثالثة هي التي في قوله: * (وأن المساجد لله) *.
361

ثم إن فتحت التي في قوله تعالى: * (وأنه لما قام عبد الله) * رابعة تابعة; فإن
فتحت التي بعد * (سمعنا) * كانت هي واللواتي فلا بعدها إلى قوله: * (حطبا) * داخلة في القول
حملا على المعنى، وقد يجوز أن تكون هي الثانية ثم تعد بعدها على النسق.
ونحو قوله تعالى: * (إذا الشمس كورت) * إلى قوله: * (علمت نفس
ما أحضرت) * وعلى هذا القياس.
الثالث الأنقص; ومثل له بقراءة بعضهم: * (وإن كلا لما ليوفينهم) *، وقراءة
بعضهم: * (لكن هو الله) * والفرق بينهما أن التام قد يجوز أن يقع فيه بين القولين
مهلة وتراخ في اللفظ، والناقص لا يجوز أن يقع فيه بين جزأي القول إلا قليل لبث، والذي
دونهما لا لبث فيه ولا مهلة أصلا.
ثم إن كلا من التام والناقص ينقسم في ذاته أقساما. فالتام أتمه مالا يتعلق اللاحق
فيه من القولين بالسابق معنى، كما لا يتعلق به لفظا; وذلك نحو قوله تعالى: * (وإن
تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الانسان كفور. لله ملك السماوات والأرض
وشأن ما يتعلق فيه أحد القولين بالآخر معنى وإن كان لا يتعلق به لفظا، وذلك
كقوله: * (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) *
وتعلق الثاني فيه بالأول تعلق الحال بذي الحال معنى.
362

ونحو قوله تعالى: * (إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عاكفون) * إلى قوله: * (فجعلهم جذاذا) * إلى قوله: * (بل فعله كبيرهم
هذا) *، فهذه الحال قد عطف بعضها في المعنى، وظاهر كل واحد منها
الاستئناف في اللفظ.
ونحو قوله تعالى: * (فهم به مستمسكون. بل قالوا) *، وأنت تعلم أن " بل "
لا يبتدأ بها.
ونحو * (وكنتم أزواجا ثلاثة) *; فإن ما بعده منقطع عنه لفظا إذ لا تعلق له من
جهة اللفظ لكنه متعلق به معنى، وتعلقه قريب من تعلق الصفة بالموصوف إلى قوله:
* (وتصلية جحيم) *.
ونحو قوله: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم) *; فإن الوقف عليه تام، ولكنه
ليس بالأتم، منه لأن ما بعده وهو قوله تعالى: * (إن زلزلة الساعة شئ عظيم) *،
كالعلة لما قبلها، فهو متعلق به معنى; وإن كان لا تعلق له من جهة اللفظ، فقس على
هذا ما سواه، فإنه أكثر أنواع الوقوف استعمالا، وليس إذا حاولت بيان قصة وجب
عليك ألا تقف إلا في آخرها; ليكون الوقف القول على الأتم; ومن ثم أتى به من جعل
الوقف على * (عليكم) * من قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم
كتاب الله عليكم) * غير تام.
363

فصل
[متى يحسن الوقف الناقص]
يحسن الوقف الناقص بأمور:
منها أن يكون لضرب من البيان; كقوله تعالى: * (ولم يجعل له عوجا قيما) *
إذ به تبين أن " قيما " منفصل عن " عوجا " وإنه حال في نية التقدم.
وكما في قوله تعالى: * (وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت) *
ليفصل به بين التحريم النسبي والسببي.
قلت: ومنه قوله تعالى: * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا) *; ليبين أن " هذا "
ليس من مقولهم.
ومنها أن يكون على رؤس الآي، كقوله تعالى: * (ماكثين فيه أبدا. وينذر
الذين قالوا اتخذ الله ولدا) *، ونحوه: * (لعلكم ترحمون. أن تقولوا) *. وكان
نافع يقف على رؤس الآي كثيرا; ومنه قوله تعالى: * (أيحسبون أنما نمدهم به من مال
وبنين. نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) *.
ومنها أن تكون صورته في اللفظ صورة الوصل بعينها، نحو قوله تعالى: * (كلا إنها
لظى. نزاعة للشوى. تدعو من أدبر وتولى. وجمع فأوعى) *
364

ومنها أن يكون الكلام مبنيا على الوقف، فلا يجوز فيه إلا الوقف صيغة، كقوله:
* (يا ليتني لم أوت كتابيه. ولم أدر ما حسابيه) *
هذا في الناقص; ومثاله في التام: * (وما أدراك ما هيه. نار حامية) *.
فصل
[خواص الوقف التام]
من خواص التام المراقبة، وهو أن يكون الكلام له مقطعان على البدل، كل واحد
منهما إذا فرض فيه وجب الوصل في الآخر، وإذا فرض فيه الوصل وجب الوقف
في الآخر، كالحال بين " حياة " وبين " أشركوا " من قوله: * (ولتجدنهم أحرص الناس
على حياة ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر) *، فإنك إن جعلت القطع
على * (حياة) * وجب أن تبتدئ فتقول: * (ومن الذين أشركوا يود) *، على الوصل
لأن * (يود) * صفة للفاعل في موضعه، فلا يجوز الوقف دونه، وكذلك إن جعل
المقطع * (أشركوا) * وجب أن يصل * (على حياة) *، على أن يكون التقدير: وأحرص
من الذين أشركوا - والله أعلم بمراده.
ومنه أيضا ما تراه بين * (لا ريب) *، وبين * (فيه) * من قوله تعالى: * (لا ريب
فيه) *.
365

فصل
[انقسام الناقص بانقسام خاص]
ينقسم الناقص بانقسام ما مر من التعلق اللفظي بين طرفيه، فكلما كان التعلق أشد
وأكثر كان الوقف أنقص، وكلما كان أضعف وأوهى كان الوقف أقرب إلى التمام،
والتوسط يوجب التوسط.
فمن وكيد التعلق ما يكون بين توابع الاسمية والفعلية وبين متبوعاتها; إذا لم يمكن
أن يتمحل لها في إعرابها وجه غير الاتباع; ومن ثم ضعف الوقف على * (منتصرين) * من
قوله تعالى: * (وفى ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين. فعتوا عن أمر ربهم فأخذتهم
الصاعقة وهم ينظرون. فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين. وقوم نوح) *
فيمن جر - غاية الضعف.
وضعف على * (أثيم) * من قوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم.
مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم) *.
وضعف على * (به) * من قوله تعالى: * (سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله
وليا ولا نصيرا) *.
وضعف على * (أبدا) * من قوله: * (ماكثين فيه أبدا. وينذر الذين قالوا اتخذ
الله ولدا) *.
على أن هذه الطبقة من التعلق قد تنقسم أقساما; فإنه ليس بين البدل والمبدل منه من
التعلق بين الصفة والموصوف على ما ذكرناه.
366

وأوهى من هذا التعلق ما يكون بين الفعل وبين ما ينتصب عنه من الزوائد التي
لا يخل حذفها بالكلام كبير إخلال، كالظرف، والتمييز، والاستثناء المنقطع; ولذلك
كان الوقف على نحو * (عجبا) * من قوله * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا
من آياتنا عجبا. إذ أوى الفتية إلى الكهف) * أوهى من الوقوف المذكورة.
فإن وسطت بين التعلق بالمذكور من المتعلق الذي للمفعول أو الحال المخصصة، أو
الاستثناء الذي يتغير بسقوطه المعنى وانتصب - كان لك في الوقف على نحو * (مسغبة) *
من قوله تعالى: * (أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة) *. وعلى نحو
* (قليلا) * من قوله تعالى: * (يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. مذبذبين) *.
وعلى نحو * (مصيرا) * من قوله: * (جزاؤهم جهنم وساءت مصيرا. إلا المستضعفين) *
وعلى نحو * (واحدة) * و * (زوجها) *، من قوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء) *.
وعلى نحو * (نذيرا) * من قوله تعالى * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا. وداعيا إلى
الله بإذنه وسراجا منيرا) * مرتبة بين المرتبتين المذكورتين.
فهذه ثلاث مراتب للوقف الناقص كما ترى; بإزاء ثلاث طبقات من التعلق المذكور،
فإن قسمت طبقة من الطبقات انقسمت بإزائها مرتبة من المراتب; فقد خرج لك بحسب
هذه القسمة - وهي القسمة الصناعية - ستة أصناف من الوقف في الكلام: خمسة منها
بحسب الكلام نفسه، وهي الأتم، والتام، والذي يشبه التام، والناقص المطلق،
والأنقص، وواحد من جهة المتكلم أو القارئ، وهو الذي بحسب انقطاع النفس كما سبق
عن حمزة.
367

واعلم أن الوقف في الكلام قد يمكن أن يكون من غير انقطاع نفس وإن كان لا شئ
من انقطاع النفس إلا ومعه الوقف، والوقوف أمرها على سبيل الجواز إلا الذي بنى
عليه الكلام وما سواه، فعليك منه أن تختار الأفضل فالأفضل; بشرط أن تطابق به
انقطاع نفسك لينجذب عند السكت إلى باطنك من الهواء ما تستعين به ثانيا على الكلام
الذي تنشئه باخراجه على الوجه المذكور.
ومما يدعو إلى الوقف في موضع الوقف الترتيل; فإنه أعون شئ عليه، وقد أمر الله تعالى
به رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: * (ورتل القرآن ترتيلا) *.
ويدعو إليه اجتناب تكرير اللفظة الواحدة في القرآن تكريرا من غير فصل;
كما في قوله تعالى: * (فلينظر الانسان مم خلق. خلق من ماء دافق) *، وقوله:
* (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون
أن يتطهروا والله يحب المطهرين) *.
فصل
[في الكلام على كلا في القرآن]
" كلا " في القرآن على ثلاثة أقسام:
إحداها ما يجوز الوقف عليه والابتداء به جميعا باعتبار معنيين.
والثاني ما لا يوقف عليه ولا يبتدأ به.
368

والثالث ما يبتدأ به ولا يجوز الوقف عليه، وجملته ثلاثة وثلاثون حرفا; تضمنها
خمس عشرة سورة; كلها في النصف الأخير من القرآن; وليس في النصف الأول منها شئ
وللشيخ عبد العزيز الديريني رحمه الله:
- وما نزلت " كلا " بيثرب فاعلمن * ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى -
وحكمة ذلك أن النصف الآخر نزل أكثره بمكة، وأكثرها جبابرة، فتكررت
هذه الكلمة على وجه التهديد والتعنيف لهم، والإنكار عليهم، بخلاف النصف الأول.
وما نزل منه في اليهود لم يحتج إلى إيرادها فيه لذلهم وضعفهم.
* * *
والأول اثنا عشر حرفا:
منها في سورة مريم: * (أم اتخذ عند الرحمن عهدا. كلا) *.
ومنه [فيها]: * (ليكونوا لهم عزا كلا) *
وفى " المؤمنين ": * (فيما تركت كلا) *
وفى المعارج: * (ينجيه. كلا) *. وفيها: * (جنة نعيم. كلا) *.
وفى المدثر: * (أن أزيد. كلا) *. وفيها: * (صحفا منشرة. كلا) *.
وفى القيامة: * (أين المفر. كلا) *.
369

وفى عبس: * (تلهى. كلا) *.
وفى التطفيف: * (قال أساطير الأولين. كلا) *.
وفى الفجر: * (أهانن. كلا) *.
وفى الهمزة: * (أخلده. كلا) *.
* * *
والثاني ثلاثة أحرف:
في الشعراء: * (أن يقتلون. قال كلا) *.
وفيها: * (إنا لمدركون. قال كلا) *.
وفى سبأ: * (ألحقتم به شركاء كلا) *.
* * *
والثالث ثمانية عشر حرفا:
في المدثر: * (كلا والقمر) *. * (كلا إنه تذكرة) *.
وفى القيامة * (كلا بل تحبون العاجلة) *. * (كلا إذا بلغت التراقي) *.
وفى النبأ: * (كلا سيعلمون) *.
وفى عبس: * (كلا لما يقض) *.
370

وفى الانفطار: * (كلا بل تكذبون) *.
وفى التطفيف: * (كلا إن كتاب الفجار) *. * (كلا أنهم) *.
وفى الفجر: * (كلا إذا) *.
وفى العلق: * (كلا إن) *. * (كلا لئن لم ينته) *. كلا لا تطعه) *
وفى التكاثر: * (كلا سوف تعلمون) *.
* * *
وقسمها مكي أربعة أقسام:
الأول: ما يحسن الوقف فيه على " كلا " على معنى الرد لما قبلها والإنكار له; فتكون
بمعنى: ليس الأمر كذلك، والوقف عليها في هذه المواضع هو الاختيار; ويجوز الابتداء
بها على معنى " حقا "، أو " إلا "; وذلك أحد عشر موضعا.
منها الموضعان في مريم. وفى المؤمنين.
وفى سبأ: * (ألحقتم به شركاء كلا) *. وموضعان في المعارج. وموضعان في
المدثر. وموضع في المطففين، والفجر، والحطمة. قال: فهذه أحد عشر موضعا، الاختيار
عندنا وعند أكثر أهل اللغة أن تقف عليها على معنى النفي والإنكار لما تقدمها، ويجوز أن
تبتدئ بها على معنى " حقا "، لجعلها تأكيدا للكلام الذي بعدها، أو الاستفتاح.
* * *
الثاني: مالا يحسن الوقف عليه فيها، ولا يكون الابتداء بها على معنى " حقا "، أو " إلا "
371

أو تعلقها بما قبلها وبما بعدها، ولا يوقف عليها، ولا يبتدأ بها، والابتداء بها في المواضع
أحسن، وذلك في ثمانية عشر موضعا: موضعان في المدثر: * (وما هي إلا ذكرى للبشر.
كلا والقمر) *، * (كلا بل لا يخافون الآخرة. كلا إنه تذكرة) *.
وثلاثة في القيامة: * (أين المفر. كلا) *، * (ثم إن علينا بيانه. كلا) *
* (أن يفعل بها فاقرة. كلا إذا) *.
وموضع في عم: * (كلا سيعلمون) *.
وموضعان في عبس: * (إذا شاء أنشره. كلا) *، * (تلهى. كلا) *.
وموضع في الانفطار: * (ما شاء ركبك. كلا) *
وثلاثة مواضع في المطففين: * (لرب العالمين. كلا إن كتاب الفجار) *.
* (ما كانوا يكسبون. كلا إنهم) *. * (الذي كنتم به تكذبون.
كلا) *.
وموضع في الفجر: * (حبا جما. كلا) *.
وثلاثة مواضع في العلق: * (علم الانسان ما لم يعلم. كلا) *. * (ألم يعلم بأن
الله يرى. كلا) *. * (سندع الزبانية. كلا) *.
372

وموضعان في التكاثر: * (حتى زرتم المقابر. كلا سوف تعلمون) * وقوله:
* (كلا لو تعلمون) *.
فهذه ثمانية عشر موضعا، الاختيار عندنا وعند القراء وعند أهل اللغة أن يبتدأ بها، و " كلا "
على معنى " حقا "، أو " إلا " وألا يوقف عليها.
* * *
الثالث: ما لا يحسن الوقف فيه عليها، ولا يحسن الابتداء بها، ولا تكون موصولة بما
قبلها من الكلام، ولا بما بعدها، وذلك موضعان: في * (عم يتساءلون) *: * (كلا سيعلمون.
ثم كلا سيعلمون) *. وكذا في التكاثر: * (ثم كلا سوف تعلمون) *، فلا
يحسن الوقف عليها ولا الابتداء بها.
* * *
الرابع: ما لا يحسن الابتداء بها ويحسن الوقوف عليها، وهو موضعان في الشعراء:
* (أن يقتلون. قال كلا) *، * (إنا لمدركون. قال كلا) *.
قال: فهذا هو هو الاختيار; ويجوز في جميعها أن تصلها بما قبلها وبما بعدها ولا تقف عليها
ولا تبتدئ بها.
[الكلام على بلى]
وأما * (بلى) * فقد وردت في القرآن في اثنين وعشرين موضعا، في ست عشرة سورة،
وهي على ثلاثة أقسام:
373

أحدها ما يختار فيه كثير من القراء وأهل اللغة الوقف عليها; لأنها جواب لما
قبلها غير متعلق بما بعدها; وذلك عشرة مواضع: موضعان في البقرة: * (ما لا تعلمون.
بلى من كسب سيئة) *. * (إن كنتم صادقين. بلى) *
وموضعان في آل عمران: * (وهم يعلمون بلى من أوفى) *. * (بلى إن تصبروا) *.
وموضع في الأعراف: * (ألست بربكم قالوا بلى) *، وفيه اختلاف.
وفى النحل: * (ما كنا نعمل من سوء بلى) *.
وفى يس: * (أن يخلق مثلهم بلى) *.
وفى غافر: * (رسلكم بالبينات قالوا بلى) *.
وفى الأحقاف: * (على أن يحيى الموتى بلى) *.
وفى الانشقاق: * (أن لن يحور بلى) *.
فهذه عشرة مواضع يختار الوقف عليها; لأنها جواب لما قبلها، غير متعلقة بما بعدها.
وأجاز بعضهم الابتداء بها.
والثاني ما لا يجوز الوقف عليها، لتعلق ما بعدها بها وبما قبلها، وذلك في سبعة مواضع:
في الأنعام: * (بلى وربنا) *. وفى النحل * (لا يبعث الله من يموت بلى) *.
وفى سبأ * (قل بلى وربنا) *. وفى الزمر * (من المحسنين بلى قد جاءتك) *.
وفى الأحقاف: * (بلى وربنا) *.
وفى التغابن: * (قل بلى وربى لتبعثن) *.
374

وفى القيامة: * (أن لن نجمع عظامه بلى) *.
وهذه لا خلاف في امتناع الوقف عليها، ولا يحسن الابتداء بها، لأنها وما بعدها جواب.
الثالث: ما اختلفوا في جواز الوقف عليها; والأحسن المنع; لأن ما بعدها متصل بها
وبما قبلها، وهي خمسة مواضع.
في البقرة: * (بلى ولكن ليطمئن قلبي) *.
وفى الزمر: * (قالوا بلى ولكن حقت) *.
وفى الزخرف: * (ونجواهم بلى ورسلنا) *.
وفى الحديد: * (قالوا بلى) *.
وفى الملك: * (قالوا بلى قد جاءنا نذير) *.
[الكلام على " نعم "]
* (وأما نعم) * ففي القرآن في أربعة مواضع:
في الأعراف: * (قالوا نعم فأذن مؤذن) *، والمختار الوقف على " نعم " لأن ما بعدها
ليس متعلقا بها ولا بما قبلها; إذ ليس هو قول أهل النار، و * (قالوا نعم) * من قولهم.
والثاني والثالث في الأعراف والشعراء: * (قال نعم وإنكم) *.
الرابع في الصافات: * (قل نعم وأنتم داخرون) *.
والمختار ألا يوقف على " نعم " في هذه المواضع لتعلقها بما قبلها لاتصاله بالقول.
وضابط ما يختار الوقف عليه أن يقال: إن وقع بعدها " ما " اختير الوقف عليها وإلا فلا.
أو يقال: إن وقع بعدها واو لم يجز الوقف عليها وإلا اختير، وأنت مخير في أيهما شئت.
375

النوع الخامس والعشرون
مرسوم الخط
ولما كان خط المصحف هو الإمام الذي يعتمده القارئ في الوقف والتمام، ولا يعدو
رسومه، ولا يتجاوز مرسومه، قد خالف خط الإمام في كثير من الحروف والأعلام، ولم
يكن ذلك منهم كيف اتفق; بل على أمر عندهم قد تحقق، وجب الاعتناء به والوقوف
على سببه.
ولما كتب الصحابة المصحف زمن عثمان رضي الله عنه اختلفوا في كتابة " التابوت "
فقال زيد " التابوه " وقال النفر القرشيون: " التابوت "، وترافعوا إلى عثمان فقال:
اكتبوا: " التابوت " فإنما أنزل القرآن على لسان قريش.
قال ابن درستويه: خطان لا يقاس عليهما خط المصحف وخط تقطيع العروض.
وقال أبو البقاء في كتاب اللباب: " ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة
على لفظها إلا في خط المصحف; فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام، والعمل على الأول ".
فحصل أن الخط ثلاثة أقسام: خط يتبع به الاقتداء السلفي، وهو رسم المصحف، وخط
جرى على ما أثبته اللفظ وإسقاط ما حذفه; وهو خط العروض، فيكتبون التنوين ويحذفون
همزة الوصل. وخط جرى على العادة المعروفة; وهو الذي يتكلم عليه النحوي.
376

واعلم أن للشئ في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقته في نفسه. والثانية مثاله
في الذهن - وهذان لا يختلفان باختلاف الأمم. والثالثة اللفظ الدال على المثال الذهني
والخارجي. والرابعة الكتابة الدالة على اللفظ - وهذان قد يختلفان باختلاف الأمم، كاختلاف
اللغة العربية والفارسية، والخط العربي والهندي; ولهذا صنف الناس في الخط والهجاء;
إذ لا يجرى على حقيقة اللفظ من كل وجه.
وقال الفارسي: لما عمل أبو بكر بن السراج كتاب الخط والهجاء قال لي: اكتب
كتابنا هذا، قلت له: نعم إلا أنى آخذ بآخر حرف منه، قال: وما هو؟ قلت: قوله:
" ومن عرف صواب اللفظ عرف صواب الخط "
قال أبو الحسين بن فارس في كتاب فقه اللغة: " يروى أن أول من كتب
الكتاب العربي والسرياني عمر والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمائة سنة،
كتبها في طين وطبخه; فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه، فأصاب
إسماعيل الكتاب العربي.
وكان ابن عباس يقول: أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل عليه السلام.
قال: والروايات في هذا الباب كثيرة ومختلفة.
والذي نقوله: إن الخط توقيفي لقوله: * (علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم) *.
وقال تعالى: * (ن والقلم وما يسطرون) *. [وإذا كان كذا]، فليس ببعيد أن
يوقف آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب.
377

وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها، وانهم لم يعرفوا نحوا
ولا إعرابا ولا رفعا ولا نصبا ولا همزا.
ومذهبنا [فيه التوقيف، فنقول]: إن أسماء هذه الحروف داخلة في الأسماء التي علم
الله تعالى آدم عليه السلام.
قال: وما اشتهر أن أبا الأسود أول من وضع العربية وأن الخليل أول من وضع
العروض فلا ننكره، وإنما نقول: إن هذين العلمين كانا قديما، وأتت عليهما الأيام، وقلا
في أيدي الناس، ثم جددهما هذان الإمامان.
ومن الدليل على عرفان القدماء [من الصحابة وغيرهم] ذلك كتابتهم المصحف
على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء، والهمز والمد والقصر، فكتبوا ذوات الياء
بالياء، وذوات الواو بالواو، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنا، نحو " الخبء "
و " الدفء " و " الملء " فصار ذلك [كله] حجة، وحتى كره بعض العلماء ترك اتباع
المصحف ".
378

وأسند إلى الفراء قال: اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب وقراءة
الفراء أحب إلى من خلافه.
وقال أشهب: سئل مالك رحمه الله: هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من
الهجاء؟ فقال: لا; إلا على الكتبة الأولى. رواه أبو عمرو الداني في المقنع ثم قال:
ولا مخالف له من علماء الأمة.
وقال في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف: أترى
أن تغير من المصحف إذا وجدا فيه كذلك؟ فقال: لا. قال أبو عمرو: يعنى الواو والألف
المزيدتين في الرسم لمعنى، المعدومتين في اللفظ، نحو [الواو في]: * (أولوا الألباب) *،
* (وأولات) * و: * (الربا) *، ونحوه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف
أو غير ذلك.
قلت: وكان هذا في الصدر الأول، والعلم حي غض، وأما الآن فقد يخشى الإلباس;
ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسوم الأولى
باصطلاح الأئمة; لئلا يوقع في تغيير من الجهال. ولكن لا ينبغي إجراء هذا على
إطلاقه; لئلا يؤدى إلى دروس العلم، وشئ أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل
الجاهلين; ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة. وقد قال البيهقي في شعب الإيمان: من
كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف، ولا يخالفهم
فيها، ولا يغير مما كتبوه شيئا; فإنهم أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة
منا; فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم. وروى بسنده عن زيد قال: القراء
379

سنة. قال سليمان بن داود الهاشمي: يعنى ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع.
قال: وبمعناه بلغني عن أبي عبيد في تفسير ذلك: وترى القراء لم يلتفوا إلى مذهب
العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف، واتباع حروف المصاحف عندنا كالسنن
القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها.
مسألة
[في كتابة القرآن بغير الخط العربي]
هل يجوز كتابة القرآن بقلم غير العربي؟ هذا مما لم أر للعلماء فيه كلاما. ويحتمل
الجواز; لأنه قد يحسنه من يقرأه بالعربية، والأقرب المنع، كما تحرم قراءته بغير لسان
العرب، ولقولهم: القلم أحد اللسانين، والعرب لا تعرف قلما غير العربي قال تعالى:
* (بلسان عربي مبين) *.
اختلاف رسم الكلمات في المصحف والحكمة فيه]
واعلم أن الخط جرى على وجوه: فيها ما زيد عليه على اللفظ; ومنها ما نقص، ومنها
ما كتب على لفظه، وذلك لحكم خفية، وأسرار بهية، تصدى لها أبو العباس المراكشي
الشهير بابن البناء; في كتابه: " عنوان الدليل في مرسوم خط التنزيل "، وبين أن هذه
الأحرف إنما اختلف حالها في الخط بحسب اختلاف أحوال معاني كلماتها.
380

ومنها التنبيه على العوالم الغائب والشاهد، ومراتب الوجود، والمقامات. والخط
إنما يرتسم على الأمر الحقيقي لا الوهمي.
[الزائد وأقسامه]
الأول: ما زيد فيه، والزائد أقسام:
[القسم الأول: زيادة الألف]
الأول الألف; وهي إما أن تزاد من أول الكلمة أو من آخرها، أو من وسطها.
فالأول: تكون بمعنى زائد بالنسبة إلى ما قبله في الوجود، مثل; * (لا أذبحنه) *،
و * (ولا أوضعوا خلالكم) * زيدت الألف تنبيها على أن المؤخر أشد في الوجود من
المقدم عليه لفظا; فالذبح أشد من العذاب، والإيضاع أشد إفسادا من زيادة
الخبال; واختلفت المصاحف في حرفين: * (لا إلى الجحيم) * و * (لا إلى الله تحشرون) *;
فمن رأى أن مرجعهم إلى الجحيم أشد من أكل الزقوم وشرب الحميم، وأن
حشرهم إلى الله أشد عليهم من موتهم أو قتلهم في الدنيا أثبت الألف. ومن
381

لم ير ذلك لأنه غيب عنا، فلم يستو القسمان في العلم بهما لم يثبته، وهو أولى.
وكذلك: * (لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس) *، * (أفلم ييأس) * لأن الصبر
وانتظار الفرج أخف من الإياس، والإياس لا يكون في الوجود إلا بعد الصبر والانتظار.
والثاني يكون باعتبار معنى خارج عن الكلمة يحصل في الوجود; لزيادتها بعد الواو
في الأفعال، نحو " يرجوا "، و " يدعوا "، وذلك لأن الفعل أثقل من الاسم; لأنه
يستلزم فاعلا، فهو جملة، والاسم مفرد لا يستلزم غيره، فالفعل أزيد من الاسم في الوجود،
والواو أثقل حروف المد واللين، والضمة أثقل الحركات، والمتحرك أثقل من الساكن،
فزيدت الألف تنبيها على ثقل الجملة، وإذا زيدت مع الواو التي هي لام الفعل، فمع الواو
التي هي ضمير الفاعلين أولى، لأن الكلمة جملة، مثل " قالوا " و " عصوا "، إلا أن
يكون الفعل مضارعا وفيه النون علامة الرفع، فتختص الواو بالنون، التي هي من جهة
تمام الفعل; إذ هي إعرابه فيصير ككلمة واحدة وسطها واو; كالعيون والسكون، فإن
دخل ناصب أو جازم مثل: * (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) * ثبتت الألف.
وقد تسقط في مواضع للتنبيه على اضمحلال الفعل، نحو: * (سعوا في آياتنا معاجزين) *،
فإنه سعى في الباطل لا يصح له ثبوت في الوجود.
وكذلك: * (وجاؤوا بسحر عظيم) *، و * (جاؤوا ظلما وزورا) *، * (وجاؤوا أباهم) *،
* (وجاؤوا على قميصه) *، فإن هذا المجئ ليس على وجهه الصحيح.
وكذلك * (فإن فاؤوا) *، وهو فىء بالقلب والاعتقاد.
382

وكذا * (تبوؤوا الدار والإيمان) * اختاروها سكنا، لكن لا على الجهة المحسوسة; لأنه
سوى بينهما، وإنما اختاروها سكنا لمرضاة الله; بدليل وصفهم بالإيثار مع الخصاصة; فهذا
دليل زهدهم في محسوسات الدنيا، وكذلك * (فاؤوا) * لأنه رجوع معنوي.
وكذلك: * (عسى الله أن يعفو عنهم) *، حذفت ألفه لأن كيفية هذا الفعل
لا تدرك، إذ هو ترك المؤاخذة; إنما هو أمر عقلي.
وكذلك * (وعتوا عتوا كبيرا) *، هذا عتو على الله، لذلك وصفه بالكبر فهو
باطل في الوجود.
وكذلك سقطت من: * (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) *، ولم تسقط من:
* (وإذا ما غصبوا هم يغفرون) *، لأن " غضبوا " جملة بعدها أخرى، والضمير مؤكد
للفاعل في الجملة الأولى، و " كالوهم " جملة واحدة، الضمير جزء منها.
وكذلك زيدت الألف بعد الهمزة في حرفين: * (إني أريد أن تبوأ) * و * (ما إن
مفاتحه لتنوء) * تنبيها على تفصيل المعنى; فإنه يبوء بإثمين من فعل واحد، وتنوء المفاتح
بالعصبة، فهو نوءان للمفاتح، لأنها بثقلها أثقلتهم فمالت وأمالتهم، وفيه تذكير بالمناسبة
يتوجه به من مفاتح كنوز مال الدنيا المحسوس، إلى مفاتح كنوز العلم الذي ينوء بالعصبة
أولي القوة في يقينهم، إلى ما عند الله في الدار الآخرة.
وكذلك زيدت بعد الهمزة من قوله: * (كأمثال اللؤلؤا) * تنبيها على معنى
البياض والصفاء بالنسبة إلى ما ليس بمكنون وعلى تفصيل الإفراد، يدل عليه قوله:
383

* (كأمثال) *، وهو على خلاف حال * (كأنهم لؤلؤ) * فلم تزد الألف للإجمال وخفاء
التفصيل.
وقال أبو عمرو: كتبوا * (اللؤلؤا) * إلا في الحج والملائكة بالألف، واختلف في
زيادتها، فقال أبو عمرو: كما زادوها في " كانوا " وقال الكسائي: لمكان الهمزة.
وعن محمد بن عيسى الأصبهاني. كل ما في القرآن من " لؤلؤ " فبغير الألف في
مصاحف البصريين إلا في موضعين: في الحج والإنسان.
وقال عاصم الجحدري: كلها في مصحف عثمان بالألف إلا التي في الملائكة.
والثالث تكون لمعنى في نفس الكلمة ظاهر، مثل: * (وجئ يومئذ
بجهنم) *، زيدت الألف دليلا على أن هذا المجئ هو بصفة من الظهور ينفصل بها عن
معهود المجئ، وقد عبر عنه بالماضي، ولا يتصور إلا بعلامة من غيره ليس مثله، فيستوى
في علمنا ملكها وملكوتها في ذلك المجئ; ويدل عليه قوله تعالى في موضع آخر:
* (وبرزت الجحيم) *، وقوله: * (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها
تغيظا وزفيرا) *; هذا بخلاف حال: * (وجئ بالنبيين والشهداء) *; حيث
لم تكتب الألف، لأنه على المعروف في الدنيا، وفى تأوله بمعنى البروز في المحشر لتعظيم جناب
الحق أثبتت الأف فيه أيضا.
384

وكذلك: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا) *، الشئ هنا معدوم، وإنما
علمناه من تصور مثله الذي قد وقع في الوجود فنقل له الاسم فيه، من حيث إنه يقدر أنه
يكون مثله في الوجود، فزيدت الألف تنبيها على اعتبار المعدوم من جهة تقدير الوجود،
إذ هو موجود في الأذهان، معدوم في الأعيان.
وهذا بخلاف قوله في النحل: * (إنما قولنا لشئ إذا أردناه) *، فإن الشئ هنا
من جهة قول الله، لا يعلم كيف ذلك، بل نؤمن به تسليما لله سبحانه فيه، فإنه سبحانه
يعلم الأشياء بعلمه لا بها، ونحن نعلمها بوجودها لا بعلمنا، فلا تشبيه ولا تعطيل.
وكذلك: * (إلى فرعون وملائه) *، زيدت الألف بين اللام والهمزة، تنبيها على
تفصيل مهم ظاهر الوجود.
ومثله زيادتها في " مائة "، لأنه اسم يشتمل على كثرة مفصلة بمرتبتين: آحاد
وعشرات:
قال أبو عمرو في المقنع: لا خلاف في رسم ألف الوصل الناقصة من اللفظ في
الدرج، نحو: * (عيسى ابن مريم) * * (والمسيح ابن مريم) * وهو نعت، كما
أثبتوها في الخبر نحو: * (عزير ابن الله) *، و * (المسيح ابن الله) *، ولم تحذف
إلا في خمسة مواضع.
قال: ولا خلاف في زيادة الألف بعد الميم في " مائة " و " مائتين "، حيث وقعا،
385

ولم تزد في " فئة " ولا " فئتين " وزيدت في نحو: * (تبوأ بإثمي) * و * (لتنوء
بالعصبة) *. ولا أعلم همزة متطرفة قبلها ساكن رسمت [خطا] في المصحف إلا في
هذين الموضعين. [ولا أعلم همزة متوسطة قبلها ساكن رسمت في المصحف إلا في قوله:]
* (موئلا) *، في الكهف لا غير.
[القسم الثاني: زيادة الواو]
الزائد الثاني الواو، زيدت للدلالة على ظهور معنى الكلمة في الوجود، في أعظم
رتبة في العيان، مثل: * (سأوريكم دار الفاسقين) *، * (سأوريكم آياتي) *.
ويدل على ذلك أن الآيتين جاءتا للتهديد والوعيد.
وكذلك " أولى " و " أولوا " و " أولات "، زيدت الواو بعد الهمزة حيث وقعت
لقوة المعنى على " أصحاب "، فإن في " أولى " معنى الصحبة وزيادة التمليك والولاية عليه،
وكذلك زيدت في " أولئك " و " أولائكم " حيث وقعا بالواو، لأنه جمع مبهم يظهر
فيه معنى الكثرة الحاضرة في الوجود، وليس للفرق بينه وبين " أولئك " كما قاله قوم
لانتفاضة " بأولا ".
[القسم الثالث زيادة الياء]
الزائد الثالث الياء، زيدت لاختصاص ملكوتي باطن; وذلك في تسعة مواضع
كما قاله في المقنع:
386

* (أفإن مات أو قتل) *.
* (من نبأ المرسلين) *.
* (من تلقاء نفسي) * أ
* (وإيتاء ذي القربى) *.
* (ومن آناء الليل) *.
* (أفإن مت) *.
* (من وراء حجاب) *.
* (والسماء بنيناها بأيد) *.
* (وبأيكم المفتون) *.
قال أبو العباس المراكشي: إنما كتبت * (بأييد) * بياءين فرقا بين " الأيد "
الذي هو القوة، وبين " الأيدي " جمع " يد "، ولا شك أن القوة التي بنى الله بها
السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي، فزيدت الياء لاختصاص اللفظة بمعنى
أظهر في أدراك الملكوتي في الوجود.
وكذلك زيدت بعد الهمزة في حرفين:
* (أفإن مات) *، * (أفإن مت) *.
387

وذلك لأن موته مقطوع به، والشرط لا يكون مقطوعا به، ولا ما رتب على الشرط
هو جواب له، لأن موته لا يلزم منه خلود غيره ولا رجوعه عن الحق، فتقديره: " أهم
الخالدون إن مت "؟! فاللفظ للاستفهام والربط،، والمعنى للإنكار والنفي، فزيدت الياء
لخصوص هذا المعنى، الظاهر للفهم، الباطن في اللفظ.
وكذلك زيدت بعد الهمزة في آخر الكلمة في حرف واحد، في الأنعام: * (من
نبأ المرسلين) * تنبيها على أنها أنباء باعتبار أخبار، وهي ملكوتية ظاهرة.
وكذلك * (بأييكم المفتون) * كتبت بياءين، تخصيصا لهم بالصفة لحصول ذلك
وتحققه في الوجود; فإنهم هم المفتونون دونه، فانفصل حرف " أي " بياءين لصحة هذا
الفرق بينه وبينهم قطعا، لكنه باطن فهو ملكوتي، وإنما جاء اللفظ بالإبهام على أسلوب
المجاملة في الكلام، والإمهال لهم; ليقع التدبر والتذكار، كما جاء: * (وإنا أو إياكم
لعلى هدى أو في ضلال مبين) *، ومعلوم أنا على هدى، وهم على ضلال.
[الناقص وأقسامه]
الوجه الثاني ما نقص عن اللفظ، ويأتي فيه أيضا الأقسام السابقة:
[القسم الأول حذف الألف]
الأول الألف، كل ألف تكون في كلمة لمعنى له تفصيل في الوجود، له اعتباران:
اعتبار من جهة ملكوتية، أو صفات حالية، أو أمور علوية مما لا يدركه الحس
388

فإن الألف تحذف في الخط علامة لذلك واعتبار من جهة ملكية حقيقية في العلم،
أو أمور سفلية; فإن الألف تثبت.
واعتبر ذلك في لفظتي " القرآن " و " الكتاب " فإن القرآن هو تفصيل الآيات التي
أحكمت في الكتاب، فالقرآن أدنى إلينا في الفهم من الكتاب وأظهر في التنزيل; قال الله
تعالى في هود: * (آلر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) *.
وقال في فصلت: * (كتب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) * وقال:
* (إن علينا جمعه وقرآنه) *. ولذلك ثبت في الخط ألف " القرآن " وحذفت
ألف " الكتاب ".
وقد حذفت ألف " القرآن " في حرفين; هو فيهما مرادف للكتاب في الاعتبار;
قال تعالى في سورة يوسف: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *، وفى الزخرف: * (إنا
جعلناه قرآنا عربيا) *، والضمير في الموضعين ضمير الكتاب المذكور قبله.
وقال بعد ذلك في كل واحدة منهما: * (لعلكم تعقلون) *، فقرينته هي من جهة
المعقولية. وقال في الزخرف: * (وإنه في أم الكتب لدينا لعلى حكيم) *.
وكذلك كل ما في القرآن من " الكتاب " و " كتاب " فبغير ألف; إلا في أربعة مواضع
هي مقيدة بأوصاف خصصته من الكتاب الكلى:
في الرعد: * (لكل أجل كتاب) *، فإن هذا " كتاب " الآجال
389

فهو أخص من الكتاب المطلق، أو المضاف إلى الله.
وفى الحجر: * (وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم) *، فإن هذا
" كتاب " إهلاك القرى، وهو أخص من كتاب الآجال.
وفى الكهف: * (واتل ما أوحى إليك من كتاب) *، فإن هذا أخص
من " الكتاب " الذي في قوله: * (أتل ما أوحى إليك من الكتب) *، لأنه أطلق
هذا، وقيد ذلك بالإضافة إلى الاسم المضاف إلى معنى في الوجود، والأخص أظهر تنزيلا.
وفى النمل: * (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) *، هذا " الكتاب " جاء
تابعا للقرآن، والقرآن جاء تابعا للكتاب، كما جاء في الحجر: * (تلك آيات الكتاب
وقرءان مبين) *، فما في النمل له خصوص تنزيل مع الكتاب الكلى، فهو تفصيل
للكتاب الكلى بجوامع كليته.
ومن ذلك حذف الألف في: * (بسم الله) * تنبيها على علوه في أول رتبة الأسماء
وانفراده، وأن عنه انقضت الأسماء; فهو بكليها; أي يدل عليه إضافته إلى اسم الله الذي هو جامع
الأسماء كلها، أولها، ولهذا لم يتسم به غير الله، بخلاف غيره من أسمائه، فلهذا ظهرت الألف
معها، تنبيها على ظهور التسمية في الوجود، وحذفت الألف التي قبلها الهاء من اسم الله،
وأظهرت التي مع اللام من أوله، دلالة على أنه الظاهر من جهة التعريف والبيان، الباطن
من جهة الإدراك والعيان.
وكذلك حذفت الألف قبل النون من اسمه: " الرحمن " حيث وقع، بيانا لأنا
نعلم حقائق تفصيل رحمته في الوجود، فلا يفرق في علمنا بين الوصف والصفة، وإنما الفرقان
390

في التسمية والاسم، لا في معاني الأسماء المدلول عليها بالتسمية، بل نؤمن بها إيمانا مفوضا
في علم حقيقته إليه.
قلت: وعلماء الظاهر يقولون: للاختصار وكثرة الاستعمال، وهو من خصائص الجلالة
الشريفة، فإن همزة الوصل الناقصة من اللفظ في الدرج تثبت خطا إلا في البسملة، وفى قوله
في هود: * (بسم الله مجريها) *، ولا تحذف إلا بشرطين.
أن تضاف إلى اسم الله - ولهذا أثبتت في * (باسم ربك) * - وأن تكون قبله الباء،
ولم يشترط الكسائي الثاني، فجوز حذفها كما تحذف في " بسم الملك "; والجمهور
على الأول.
وكذلك حذف الألف في كثير من أسماء الفاعلين مثل: " قدر " و " علم "، وذلك
أن هذه الألف في وسط الكلمة.
وكذلك الألف الزائدة في الجموع السالمة والمكسرة، مثل " القنتين "، و " الأبرار "
و " الجلل "، و " الإكرم "، و " اختلف "، و " استكبر "، فإنها كلها وردت لمعنى مفصل
يشتمل عليه معنى تلك اللفظة، فتحذف حيث يبطن التفصيل، وتثبت حيث يظهر.
وكذلك ألف الأسماء الأعجمية كإبرهيم لأنها زائدة لمعنى غير ظاهر في لسان العربي;
لأن العجمي بالنسبة إلى العربي باطن خفى لا ظهور له، فحذفت ألفه.
قال أبو عمرو: اتفقوا على حذف الألف من الأعلام الأعجمية [المستعملة]
كإبرهيم وإسماعيل، واسحق، وهارون، ولقمن [وشبهها]، وأما حذفها من: سليمن،
وصلح، وملك - وليست بأعجمية - فلكثرة الاستعمال; فأما ما لم يكثر استعماله من الأعجمية
391

فبالألف، كطالوت، وجالوت، ويأجوج، ومأجوج [وشبهها].
واختلفت المصاحف في أربعة: هاروت، وماروت، وهامان، وقارون;
فأما " داود " فلا خلاف في رسمه بالألف، لأنهم قد حذفوا منه واوا فلم يجحفوا بحذف
ألف أخرى، ومثله " إسرائيل " ترسم بالألف، [في أكثر المصاحف]; لأنه
حذف منه الياء.
وكذلك اتفقوا على حذف الألف في جمع السلامة، مذكرا كان كالعلمين،
والصبرين، والصدقين، أو مؤنثا كالمسلمت، والمؤمنات، والطيبت، والخبيثت، فإن جاء
بعد الألف همزة أو حرف مضعف ثبتت الألف، نحو: السائلين، والصائمين والظانين،
والضالين، وحافين، ونحوه.
قال أبو العباس: وقد تكون الصفة ملكوتية روحانية، وتعتبر من جهة مرتبة سفلى
ملكية، هي أظهر في الاسم، فتثبت الألف; كالأواب، والخطاب، والعذاب، و * (أم كنت
من العالين) *، و * (الوسواس الخناس) *.
وقد تكون ملكية، وتعتبر من جهة مرتبة عليا ملكوتية هي أظهر في الاسم،
فتحذف الألف، كالمحرب، ولأجل هذا التداخل يغمض ذلك، فيحتاج إلى تدبر وفهم.
ومنه ما يكون ظاهر الفرقان، " كالأخير " و " الأشرار "، تحذف من الأول
دون الثاني.
392

ومنه ما يخفى كالفراش، ويطعمون الطعام، فالفراش محسوس والطعام ثابت، ووزنهما
واحد; وهما جسمان، لكن يعتبر في الأول مكان التشبيه، فإن التشبيه محسوس، وصفة
التشبيه غير محسوس، فالمشبه به غير محسوس في حالة الشبه، إذا جعل جزءا من صفة المشبه به
من حيث هو مستفرش مبثوث، لا من حيث هو جسم; وأما الطعام فهو المحسوس المعطى
للمحتاجين.
وكذلك: * (وطعام الذين أوتوا الكتب حل لكم وطعمكم ابن حل لهم) *
ثبتت الألف في الأول; لأنه سفلى بالنسبة إلى طعامنا لمكان التشديد عليهم فيه، وحذفت
من الثاني لأنه علوي بالنسبة إلى طعامهم، لعلو ملتنا على ملتهم.
وكذلك: * (كانا يأكلان الطعم) *، فحذفت لعلو هذا الطعام.
وكذلك: غلقت الأبوب) * " غلقت " فيه التكثير في العمل، فيدخل به
أيضا ما ليس بمحسوس من أبواب الاعتصام فحذفت الألف لذلك، ويدل عليه:
* (واستبقا الباب) * * (وألفيا سيدها لدا الباب) *، فأفرد " الباب " المحسوس من أبواب
الاعتصام.
وكذلك: * (وفتحت أبوبها) *; محذوف لأنها من حيث فتحت ملكوتية علوية،
و: * (مفتحة لهم الأبواب) * ملكية من حيث هي لهم، فثبتت الألف. و * (قيل
ادخلوا أبواب جهنم) *، ثابتة لأنها من جهة دخولهم محسوسة سفلية. وكذلك:
* (سبعة أبواب) * من حيث حصرها العدد في الوجود، ملكية فثبتت الألف.
393

وكذلك: " الجراد " و " الضفدع "، الأول ثابت، فهو الذي في الواحدة
المحسوسة، والثاني محذوف لأنه ليس في الواحدة المحسوسة، والجمع هنا ملكوتي من حيث
هو آية.
وكذلك: * (أن نبدل أمثلكم) * حذفت لأنها أمثال كلية لم يتعين فيها
للفهم جهة التماثل; و * (كأمثال اللؤلؤ) * ثابت الألف لأنه تعين للفهم جهة
التماثل وهو البياض والصفاء. * (كذلك يضرب الله للناس أمثلهم) * حذفت
للعموم. و * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) * ثابت في الفرقان لأنها المذكورة حسية
مفصلة، ومحذوفة في الإسراء لأنها غير مفصلة باطنة.
وكذلك: * (فإذا نفخ في الصور نفخة وحدة) *، و * (دكتا دكة
واحدة) * الأولى محذوفة، لأنها روحانية لا تعلم إلا إيمانا، والثانية ثابتة جسمانية يتصور
أمثالها من الهوى.
وكذلك: [ألف] * (كتبيه) * محذوفة لأنه ملكوتي و [ألف] * (حسابيه) *
ثابتة، لأنها ملكية; وهما معا في موطن الآخرة.
وكذلك: * (القضية) * ملكوتية، * (وماليه) * ملكي محسوس، فحذف
الأول وثبت الثاني.
394

وكذلك: * (ولما برزوا لجلوت) *، حذف لأنه الاسم، * (وقتل داود
جالوت) * ثبت لأنه مجسد محسوس، [فحذف الأول وثبت الثاني].
وكذلك: * (سبحن) * حذفت لأنه ملكوتي إلا حرفا واحدا، واختلف فيه: * (قل
سبحان ربى) *، فمن أثبت الألف قال: هذا تبرئة من مقام الاسلام، وحصره
الأجسام، صدر به مجاوبة للكفار في مواطن الرد والإنكار. ومن أسقط فلعلو حال
المصطفى صلى الله عليه وسلم لا يشغله عن الحضور تقلبه في الملكوت الخطاب في الملك،
وهو أولى الوجهين.
وكذلك: * (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) *، ثبتت ألف * (ثالث) *
لأنهم جعلوه أحد ثلاثة مفصلة، فثبتت الألف علامة لإظهارهم التفصيل في الإله،
تعالى الله عن قولهم! وحذفت ألف * (ثلاثة) * لأنه اسم العدد الواحد من حيث هو كلمة
واحدة.
وكذلك: * (وما من إله إلا إله واحد) *، حذفت من * (إله) * وثبتت في
* (واحد) * ألفه، لأنه إله في ملكوته، تعالى عن أن تعرف صفته بإحاطة الإدراك، واحد
في ملكه، تنزه بوحدة أسمائه عن الاعتضاد والاشتراك. هذا من جهة إدراكنا،
وأما من جهة ما [هي] عليه الصفة في نفسها فلا يدرك ذلك، بل يسلم علمه إلى
الله تعالى فتحذف.
وكذلك سقطت الألف الزائدة لتطويل " هاء " التنبيه في النداء، في ثلاثة أحرف:
395

* (أيه المؤمنون) *، و * (أيه الساحر) *، و * (أيه الثقلان) *، والباقي
بإثبات الألف، والسر في سقوطها في هذه الثلاثة الإشارة إلى معنى الانتهاء إلى غاية
ليس وراءها في الفهم رتبة يمتد النداء إليها، وتنبيه على الاقتصار والاقتصاد من حالهم
والرجوع إلى ما ينبغي.
وقوله: * (وتوبوا إلى الله جميعا) * يدل على أنهم كل المؤمنين، على العموم
والاستغراق فيهم. وقوله تعالى حكاية عن فرعون: * (إن هذا لساحر عليم) *
وقول فرعون: * (إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) * يدل على عظم علمه
عندهم ليس فوقه أحد. وقوله: * (سنفرغ لكم أيه الثقلان) *، فإقامة الوصف مقام
الموصوف يدل على عظم الصفة الملكية، فإنها تقتضي جميع الصفات الملكوتية والجبروتية،
فليس بعدها رتبة أظهر في الفهم على ما ينبغي لهم من الرجوع إلى اعتبار آلاء الله في
بيان النعم ليشكروا، وبيان النقم ليحذروا.
وكذلك حذفت الألف الآتية لمد الصوت بالنداء، مثل * (يقوم) *، * (يعباد) * لأنها
زائدة للتوصل بين المرتبتين; وذلك أمر باطن ليس بصفة محسوسة في الوجود.
قال أبو عمرو: كل ما في القرآن من ذكر " آيتنا " فبغير الألف، إلا في
موضعين: في * (بآياتنا) *، و * (آياتنا بينات) *.
396

وكل ما فيه من ذكر " أيها " فبالألف، إلا في ثلاثة مواضع محذوفة الألف: في
النور: * (أيه المؤمنون) *، وفى الزخرف: * (يا أيه الساحر) *، وفى الرحمن: * (أيه
الثقلان) *.
وكل ما فيه من " ساحر " فبغير الألف إلا في واحد; في الذاريات: * (وقال ساحر
أو مجنون.
[القسم الثاني: حذف الواو]
الثاني حذف الواو اكتفاء بالضمة قصدا للتخفيف، فإذا اجتمع واوان والضم، فتحذف
الواو التي ليست عمدة، وتبقى العمدة، سواء كانت الكلمة فعلا، مثل: * (ليسوءوا
وجوهكم) *، أو صفة مثل " الموءدة " و " ليؤس "، و " الغاون "; أو اسما،
مثل " داود " إلا أن ينوى كل واحد منهما فتثبتان جميعا، مثل " تبوءوا " فإن الواو
الأولى تنوب عن حرفين لأجل الإدغام، فنوبت في الكلمة، والواو الثانية ضمير الفاعل،
فثبتا جميعا.
وقد سقطت من أربعة أفعال، تنبيها على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل،
وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود:
أولها: * (سندع الزبانية) *، فيه سرعة الفعل وإجابة الزبانية وقوة البطش،
397

وهو وعيد عظيم ذكر مبدؤه وحذف آخره، ويدل عليه قوله تعالى: * (وما أمرنا إلا
واحدة كلمح بالبصر) *.
وثانيها: * (ويمح الله الباطل) *، حذفت منه " الواو " علامة على سرعة الحق
وقبول الباطل له بسرعة، بدليل قوله: * (إن الباطل كان زهوقا) *، وليس * (يمح) *
معطوفا على * (يختم) * الذي قبله، لأنه ظهر مع * (يمح) * الفاعل، وعطف على الفعل
ما بعده، وهو: * (ويحق الحق) *.
قلت: إن قيل: لم رسم الواو في: * (يمحو الله ما يشاء ويثبت) *،، وحذفت
في: * (ويمح الله الباطل) *؟
قلت: لأن الإثبات الأصل، وإنما حذفت في الثانية لأن قبله مجزوم، وإن لم يكن
معطوفا عليه، لأنه قد عطف عليه * (ويحق) *، وليس مقيدا بشرط، ولكن قد يجئ
بصورة العطف على المجزوم، وهذا أقرب من عطف الجوار في النحو، والله أعلم.
وثالثها: * (ويدع الانسان بالشر) *، حذف الواو يدل على أنه سهل عليه
ويسارع فيه، كما يعمل في الخير، وإتيان الشر إليه من جهة ذاته أقرب إليه من الخير.
ورابعها: * (يوم يدع الداع) * حذف الواو لسرعة الدعاء وسرعة الإجابة.
[القسم الثالث: حذف الياء]
الثالث: حذف الياء اكتفاء بالكسرة، نحو " فارهبون "، " فاعبدون ".
398

قال أبو العباس: الياء الناقصة في الخط ضربان: ضرب محذوف في الخط ثابت في
التلاوة، وضرب محذوف فيهما.
فالأول هو باعتبار ملكوتي باطن، وينقسم قسمين.
ما هو ضمير المتكلم، وما هو لام الكلمة.
فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم، مثل: * (فكيف كان عذابي
ونذر) *، ثبتت [الياء] الأولى، لأنه فعل ملكوتي. وكذلك * (فما آتان الله
خير مما آتاكم) * حذفت الياء لاعتبار ما آتاه الله من العلم والنبوة، فهو المؤتى
الملكوتي من قبل الآخرة، وفى ضمنه الجسماني للدنيا، لأنه فان، والأول ثابت.
وكذلك: * (فلا تسألن ما ليس لك به علم) *، وعلم هذا المسؤول غيب
ملكوتي، بدليل قوله: * (ما ليس لك به علم) *، فهو بخلاف قوله: * (فلا تسألني
عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) *، لأن هذا سؤال عن حوادث الملك في
مقام الشاهد، كخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار.
وكذلك: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) *، فحذف الضمير في الخط
399

دلالة على الدعاء الذي من جهة الملكوت بإخلاص الباطن.
وكذلك: * (أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) * هو الاتباع العلمي في دين الله
بالجوارح المقصود بها وجه الله وطاعته.
وكذلك: * (لمن خاف مقامي وخاف وعيد) *، ثبتت الياء في " المقام " لاعتبار
المعنى من جهة الملك، وحذفت من " الوعيد " لاعتباره ملكوتيا، فخاف المقام من
جهة ما ظهر للأبصار، وخاف الوعيد من جهة إيمانه بالأخبار.
وكذلك: * (لئن أخرتن إلى يوم القيامة) *، هو التأخير بالمؤاخذة، لا التأخير
الجسمي; فهو بخلاف قوله: * (لولا أخرتني إلى أجل قريب) *، لأن هذا تأخير
جسمي في الدنيا الظاهرة.
وكذلك: * (عسى أن يهدين ربى لأقرب من هذا رشدا) *، سياق الكلام
في أمور محسوسة، والهداية فيه ملكوتية، وقد هداه الله في قصة الغار، وهو في العدد
* (ثاني اثنين) *، حتى خرج بدينه عن قومه بأقرب من طريق أهل الكهف حين
خرجوا بدينهم عن قومهم وعدوهم، على ما قص الله علينا فيه، وهذه الهداية بخلاف
ما قال موسى: * (عسى ربى أن يهديني سواء السبيل) *، فإنها هداية السبيل المحسوسة
إلى مدين في عالم الملك، بدليل قوله: * (ولما توجه تلقاء مدين) *.
وكذلك: * (على أن تعلمن مما علمت رشدا) *
وكذلك: * (ولا تتبعان) *، هو في طريق الهداية لا في مسير موسى إلى ربه; بدليل
400

* (أفعصيت أمرى) *، ولم يأمره بالمسير الحسى، إنما أمره أن يخلفه في قومه ويصلح،
وهذا بخلاف قول هارون: * (فاتبعوني وأطيعوا أمرى) *، فإنه اتباع محسوس في ترك
ما سواه، بدليل قوله: * (وأطيعوا أمرى) *، وهو لا أمر له إلا الحسى.
وكذلك: * (فكيف كان نكير) * حيث وقع، لأن النكير معتبر من جهة الملكوت،
لا من جهة أثره المحسوس، فإن أثره قد انقضى وأخبر عنه بالفعل الماضي، والنكير اسم
ثابت في الأزمان كلها، فيه التنبيه على أنه كما أخذ أولئك يأخذ غيرهم.
وكذلك: * (إني أخاف أن يكذبون) * خاف موسى عليه السلام أن يكذبوه
فيما جاءهم به، وأن يكون سببه من قبله، من جهة إفهامه لهم بالوحي، فإنه كان عالي البيان،
لأنه كليم الرحمن، فبلاغته لا تصل إليها أفهامهم، فيصير إفصاحه العالي عند فهمهم النازل
عقدة عليهم في اللسان، يحتاج إلى ترجمان; فإن يقع بعده تكذيب فيكون من قبل
أنفسهم، وبه تتم الحجة عليهم.
وكذلك: * (إن كدت لتردين) *، هو الإرادة الأخروي الملكوتي.
وكذلك: * (أن ترجمون) *، ليس هو الرجم بالحجارة، إنما هو ما يرمونه
من بهتانهم.
وكذلك: * (فحق وعيد) *، * (لمن خاف مقامي وخاف وعيد) *،
هو الأخروي الملكوتي.
401

وكذلك: * (فيقول ربى أكرمن) *، * (ربى أهانن) *، هذا الانسان يعتبر منزلته
عند الله في الملكوت بما يبتليه في الدنيا، وهذا من الانسان خطأ، لأن الله تعالى يبتلى
الصالح والطالح، لقيام حجته على خلقه.
والقسم الثاني من الضرب الأول; إذا كانت الياء لام الكلمة، سواء كانت في
الاسم أو الفعل، نحو: * (أجيب دعوة الداع) *، حذفت تنبيها على المخلص لله، الذي
قلبه ونهايته في دعائه في الملكوت والآخرة، لا في الدنيا.
وكذلك: * (الداع إلى شئ نكر) *، هو داع ملكوتي من عالم الآخرة.
وكذلك: * (يوم يأت) * هو إتيان ملكوتي أخروي آخره متصل بما وراءه
من الغيب.
وكذلك * (المهتد) *.
وكذلك: * (والباد) *، حذف لأنه على غير حال الحاضر الشاهد، وقد جعل الله
لها سرا.
وكذلك: * (كالجواب) *، من حيث التشبيه، فإنه ملكوتي; إذ هو صفة
تشبيه لا ظهور لها في الإدراك الملكي.
وكذلك: * (يوم التلاق) *، و * (التناد) * كلاهما ملكوتي أخروي.
402

وكذلك: * (والليل إذا يسر) *، وهو السرى الملكوتي الذي يستدل عليه بآخره
من جهة الانقضاء أو بمسير النجوم.
وكذلك: * (ومن آياته الجوار) * ما تعتبر من حيث هي آية يدل ملكها على
ملكوتها، فآخرها بالاعتبار يتصل بالملكوت بدليل قوله: * (إن يشأ يسكن الريح
فيظللن رواكد) *.
وكذلك حذف ياء الفعل من " يحيى " إذا انفردت، وثبتت مع الضمير، مثل: * (من
يحي العظام) *، * (قل يحييها) *، لأن حياة الباطن أظهر في العلم من حياة
الظاهر، وأقوى في الإدراك.
* * *
الضرب الثاني الذي تسقط فيه الياء في الخط والتلاوة، فهو اعتبار غيبة عن باب
الإدراك جملة، واتصاله بالإسلام لله في مقام الإحسان، وهو قسمان: منه ضمير المتكلم،
ومنه لام الفعل.
فالأول إذا كانت الياء ضمير المتكلم فإنها إن كانت للعبد فهو الغائب، وإن كانت
للرب فالغيبة للمذكور معها، فإن العبد هو الغائب عن الإدراك في ذلك كله، فهو في هذا
المقام مسلم مؤمن بالغيب، مكتف بالأدلة، فيقتصر في الخط لذلك على نون الوقاية
والكسرة. ومنه من جهة الخطاب به الحوالة على الاستدلال بالآيات دون تعرض لصفة
الذات; ولما كان الغرض من القرآن جهة الاستدلال واعتبار الآيات وضرب المثال دون
التعرض لصفة الذات - كما قال: * (ويحذركم الله نفسه) *، وقال: * (فلا تضربوا
403

لله الأمثال) * - كان الحذف في خواتم الآي كثيرا; مثل: * (فاتقون) *،
* (فارهبون) *، * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * * (وما أريد أن
يطعمون) *، وهو كثيرا جدا.
وكذلك ضمير العبد، مثل: * (إن يردن الرحمن) * غائب عن علم إرادته
الرحمن، إنما علمه بها تسليما وإيمانا برهانيا.
وكذلك قوله في العقود: * (فلا تخشوا الناس واخشون) * الناس كلى لا يدل على
ناس بأعيانهم ولا موصوفين بصفة فهم كلى، ولا يعلم الكلى من حيث هو كلى;
بل من حيث أثر البعض في الإدراك، ولا يعلم الكلى إلا من حيث هو أثر الجزئي في
الإدراك، فالخشية هنا كلية لشئ غير معلوم الحقيقة; فوجب أن يكون الله أحق بذلك،
فإنه حق، وإن لم نحط به علما، كما أمر الله سبحانه بذلك، ولا يخشى غيره، وهذا الحذف
بخلاف ما جاء في البقرة: * (فلا تخشوهم واخشوني) *، ضمير الجمع يعود على * (الذين
ظلموا) * من الناس، فهم بعض لا كل، ظهروا في الملك بالظلم، فالخشية هنا جزئية،
فأمر سبحانه أن يخشى من جهة ما ظهر، كما يجب ذلك من جهة ما ستر.
وكذلك حذفت الياء من: * (فبشر عباد) * و * (قل يا عباد) * فإنه
خطاب لرسوله عليه السلام على الخصوص، فقد توجه الخطاب إليه في فهمنا، وغاب العباد
كلهم عن علم ذلك، فهم غائبون عن شهود هذا الخطاب; لا يعلمونه إلا بوساطة الرسول.
404

وهذا بخلاف قوله: * (يا عبادي لا خوف عليكم) *، فإنها ثبتت، لأنه خطاب لهم
في الآخرة غير محجوبين عنه - جعلنا الله منهم - إنه منعم كريم، وثبت حرف النداء، فإنه
أفهمهم نداءه الأخروي في موطن الدنيا، في يوم ظهورهم بعد موتهم، وفى محل أعمالهم،
إلى حضورهم يوم ظهورهم الأخروي، بعد موتهم وفى محل جزائهم.
وكذلك: * (يا عبادي الذين أسرفوا على) * ثبت الضمير وحرف النداء
في الخط، فإنه دعاهم من مقام إسلامهم، وحضرة امتثالهم إلى مقام إحسانهم،
ومثله: * (يا عبادي الذين آمنوا) * في العنكبوت، فإنه دعاهم من حضرتهم
في مقام إيمانهم، إلى حضرتهم ومقام إحسانهم، إلى ما لا نعلمه من الزيادة بعد الحسنى.
وكذلك سقطتا في موطن الدعاء مثل: * (رب اغفر لي) * على حذفت الياء لعدم الإحاطة
به عند التوجه إلى الله تعالى لغيبتنا نحن عن الإدراك، وحذف حرف النداء لأنه أقرب إلينا
من أنفسنا. وأما قوله: * (وقيله يا رب) * فأثبت حرف النداء; لأنه دعا ربه من
مرتبة حضوره معهم في مقام الملك لقوله: * (إن هؤلاء) *، وأسقط حرف ضميره
لمغيبه عن ذاته في توجهه في مقام الملكوت ورتبة إحسانه في إسلامه.
وكذلك في مثل: * (يا قوم) * دلالة على أنه خارج عنهم في خطابه، كما هو ظاهر
في الإدراك; وإن كان متصلا بهم في النسبة الرابطة بينهم في الوجود، العلوية
من الدلائل.
والقسم الثاني: إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل أو الاسم; فإنها تسقط
405

من حيث يكون معنى الكلمة يعتبر من مبدئه الظاهر شيئا بعد شئ إلى ملكوتية
الباطن، إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما، فيكون حذف الياء منبها على ذلك،
وإن لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب عرض الخطاب، مثل: * (وسوف
يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) *، هو * (ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) *
وقد ابتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة.
وكذلك: * (وإن الله لهاد الذين آمنوا) *; حذفت لأنه يهديهم بما نصب لهم
في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم، برفع درجاتهم في هدايتهم إلى حيث
لا غاية، قال الله تعالى: * (ولدينا مزيد) *. وكذلك: * (وما أنت بهاد العمى) *
في الروم، هذه الهداية هي الكلية على التفصيل بالتوالي التي ترقى العبد في هدايته من
الأرباب إلى ما يدركه العيان; ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان.
ويدل على ذلك قوله قبلها: * (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد
موتها...) * الآية، فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت
إلى ما لا يدرك إلا إيمانا وتسليما. وهذا بخلاف الحرف الذي في النمل: * (وما أنت بهادي
العمى) *; فثبتت الياء; لأن هذه الهداية كلية كاملة، بدليل قوله: * (إنك على الحق
المبين) *.
وكذلك: * (بالواد المقدس) *، و * (الواد الأيمن) * هما مبدأ التقديس واليمن
406

الذي وصفا به، فانتقل التقديس واليمن منهما إلى الجمال، ذاهبا بهما إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله.
وكذلك: * (واد النمل) * هو موضع لابتداء سماع الخطاب من أخفض الخلق،
- وهي النملة - إلى أعلاهم - وهو الهدهد والطير، ومن ظاهر الناس وباطن الجن إلى قول
العفريت، إلى قول الذي عنده علم من الكتاب، إلى ما وراء ذلك من هداية الكتاب،
إلى مقام الاسلام لله رب العالمين.
وكذلك * (وله الجوار المنشآت في البحر) * سقطت الياء تنبيها على أنها لله
من حق إنشائها بعد أن لم تكن، إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها.
وكذلك * (الجوار الكنس) * حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها
بالخناس، إلى محل اتصافها بالكناس، وذلك يفهم أنه اتصف بالخناس عن حركة
تقدمت بالوصف بالجوار الظاهر، يفهم منه وصف بالجوار في الباطن; وهذا الظاهر مبدأ
كالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة.
فصل
[حذف النون]
ويلحق بهذا القسم حذف النون الذي هو لام فعل، فيحذف تنبيها على صغر مبدأ
الشئ وحقارته، وأن منه ينشأ ويزيد، إلى ما لا يحيط بعلمه غير الله، مثل * (ألم يك
نطفة) *، حذفت النون تنبيها على مهانة مبتدأ الانسان وصغر قدره بحسب ما يدرك
407

من نفسه، ثم يترقى في أطوار التكوين، * (فإذا هو خصيم مبين *)، فهو حين كان نطفة
كان ناقص الكون; كذلك كل مرتبة ينتهى إليها كونه هي ناقصة الكون بالنسبة
لما بعدها، فالوجود الدنيوي كله ناقص الكون عن كون الآخرة، كما قال الله تعالى:
* (وإن الدار الآخرة لهى الحيوان) *.
وكذلك: * (وإن تك حسنة يضاعفها) *، حذفت النون تنبيها على أنها وإن
كانت صغيرة المقدار، حقيرة في الاعتبار، فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها. ومثله: * (إن تك
مثقال حبة من خردل) *.
وكذلك: * (أولم تك تأتيكم رسلكم) * جاءتهم الرسل من أقرب شئ في
البيان، الذي أقل من مبدأ فيه وهو الحس، إلى العقل، إلى الذكر. ورقوهم الله من أخفض
رتبة - وهي الجهل - إلى أرفع درجة في العلم - وهي اليقين - وهذا بخلاف قوله تعالى:
* (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) *; فإن كون تلاوة الآيات قد أكمل كونه وتم.
وكذلك ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها هذا قد تم كونه
وكذلك: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب) *، هذا قد تم كونهم
غير منفكين إلى تلك الغاية المجعولة لهم، وهي مجئ البينة.
وكذلك: * (فلم يك ينفعهم إيمانهم) *، انتفى عن إيمانهم مبدأ الانتفاع
وأقله، فانتفى أصله.
408

فصل
فيما كتبت الألف فيه واوا على لفظ التفخيم
وذلك في أربعة أصول مطردة، وأربعة أحرف متفرعة.
فالأربعة الأصول هي * (الصلاة) *، و * (الزكاة) *، و * (الحياة) *، و * (الربوا) *
والأربعة الأحرف قوله في الأنعام والكهف: * (بالغدوة) *، والنور
* (كمشكاة) *، وفى المؤمن * (النجوة) *، وفى النجم * (ومنوة) *.
فأما قوله: * (وما كان صلاتهم) *، * (إن صلاتي) *، * (حياتنا الدنيا) *،
* (وما آتيتم من ربا) *، فالرسم بالألف في الكل.
والقصد بذلك تعظيم شأن هذه الأحرف فإن الصلاة والزكاة عمودا الاسلام،
والحياة قاعدة النفس، ومفتاح البقاء، وترك الربا قاعدة الأمان، ومفتاح التقوى، ولهذا
قال: * (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) *، إلى قوله: * (فإن لم
تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ويشتمل على أنواع الحرام وأنواع الخبائث
وضروب المفاسد; وهو نقيض الزكاة; ولهذا قوبل بينهما في قوله: * (يمحق الله الربا
ويربي الصدقات) *، واجتنابه أصل في التصرفات المالية; وإنما كتبت بالألف
409

في سورة الروم لأنه ليس العام الكلى; لأن الكلى منفى في حكم الله عليه بالتحريم;
وفى نفى الكلى نفى جميع جزئياته.
فإن قلت: فلم كتب * (الزكاة) * هنا بالواو؟ وهلا جرت على نظم ما قبلها من قوله:
* (وما آتيتم من ربا) *؟
قلت: لأن المراد بها الكلية في حكم الله، ولذلك قال: * (فأولئك هم
المضعفون) *.
وأما كتاب * (النجوة) * بالواو فلأنها قاعدة الطاعات ومفتاح السعادات، قال الله
تعالى: * (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجوة) *.
وأما * (الغدوة) * فقاعدة الأزمان، ومبدأ تصرف الانسان; مشتقة من الغدو.
وأما * (المشكاة) * فقاعدة الهداية، ومفتاح الولاية، قال الله تعالى: * (يهدى الله لنوره من
يشاء) *.
وأما * (مناة) * فقاعدة الضلال، ومفتاح الشرك والإضلال وقد وصفها الله بوصفين:
أحدهما يدل على تكثيرهم الإله من مثنى ومثلث، والثاني يدل على الاختلاف والتغاير،
فمن معطل ومشبه، تعالى الإله عما يقولون!
فصل
مد الياء وقبضها
وذلك أن هذه الأسماء لما لازمت الفعل، صار لها اعتباران: أحدهما من حيث هي
410

أسماء وصفات، وهذا تقبض منه التاء. والثاني من حيث أن يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا
في الوجود، فهذا تمد فيه; كما تمد في " قالت " و " حقت ". وجهة الفعل والأمر ملكية
ظاهرة، وجهة الاسم والصفة ملكوتية باطنة.
فمن ذلك " الرحمة " مدت في سبعة مواضع للعلة المذكورة:
بدليل قوله في أحدها: * (إن رحمت الله قريب من المحسنين) * فوضعهما على
التذكير، فهو الفعل.
وكذلك: * (فانظر إلى آثار رحمت الله) * والأثر هو الفعل ضرورة.
والثالث: * (أولئك يرجون رحمت الله) *.
والرابع في هود: * (رحمت الله وبركاته) *.
والخامس: * (ذكر رحمت ربك) *.
والسادس: * (أهم يقسمون رحمت ربك) *.
والسابع: * (ورحمت ربك خير مما يجمعون) *.
ومنه " النعمة " بالهاء إلا في أحد عشر موضعا مدت بها:
في البقرة: * (واذكروا نعمت الله عليكم) *، في آل عمران،
411

والمائدة. وفى إبراهيم موضعان. والنحل ثلاثة مواضع. وفى لقمان،
وفاطر، والطور.
والحكمة فيها ما ذكرنا أن الحاصلة بالفعل في الوجود تمد، نحو قوله في إبراهيم:
* (وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها) * بدليل قوله: * (إن الانسان لظلوم كفار) *،
فهذه نعمة متصلة بالظلوم الكفار في تنزيلهما. وهذا بخلاف التي في سورة النحل: * (وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها كتبت مقبوضة لأنها بمعنى الاسم بدليل قوله إن
الله لغفور رحيم) *، فهذه نعمة وصلت من الرب، فهي ملكوتية، ختمها باسمه
عز وجل، وختم الأولى باسم الانسان.
ومن ذلك " الكلمة " مقبوضة إلا في موضع في الأعراف: * (وتمت كلمت ربك
الحسنى) * هو ما تم لهم في الوجود الأخروي بالفعل الظاهر دليله في الملك، وهو
412

الاختلاف وتمامها أن لها نهاية تظهر في الوجود بالفعل فمدت التاء.
ومنها " السنة " مقبوضة; إلا في خمسة مواضع حيث تكون بمعنى الإهلاك والانتقام
الذي في الوجود:
أحدها في الأنفال: * (فقد مضت سنت الأولين) * ويدل عليها أنها من الانتقام
قوله قبلها: * (إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *، وقوله بعدها: * (وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة) *.
وفى فاطر: * (فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت الله تبديلا ولن
تجد لسنت الله تحويلا) *، ويدلك على أنها بمعنى الانتقام قوله تعالى قبلها: * (ولا
يحيق المسكر السئ إلا بأهله) *، وسياق ما بعدها) *.
وفى المؤمن:) * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله) *.
أما إذا كانت السنة بمعنى الشريعة والطريقة فهي ملكوتية بمعنى الاسم تقبض تاؤها،
كما في الأحزاب * (سنة الله التي خلت من قبل) * أي حكم الله وشرعه.
[وفى الاسراء]: * (سنت من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) *.
ومنه * (بقيت الله) * فرد، مدت تاؤه; لأنه بمعنى ما يبقى في أموالهم من الربح
المحسوس; لأن الخطاب إنما هو فيها من جهة الملك.
413

ومنه: * (فطرت الله) * فرد، وصفها بأنها فطر الناس عليها، فهي فصل
خطاب في الوجود كما جاء: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث.
ومنه: * (قرت عين لي ولك) *، فرد، مدت تاؤه لأنه بمعنى الفعل إذ هو خبر
عن موسى، وهو موجود حاضر في الملك، وهذا بخلاف: * (قرة أعين) *، فإنه هنا
بمعنى الاسم، وهو ملكوتي إذ هو غير حاضر.
ومنه: * (ومعصية الرسول) * مدت في موضعين في سورة المجادلة; لأن معناها
الفعل والتقدير: * (ولا تتناجوا بأن تعصوا الرسول، ونفس هذا النجو الواقع منهم في الوجود
هو فعل معصية لوقوع النهى عنه.
ومنه " اللعنة " مدت في موضعين: في آية المباهلة، وفى آية اللعان. وكونهما
بمعنى الفعل ظاهر.
ومنه " الشجرة " في موضع: * (إن شجرت الزقوم) *، لأنها بمعنى الفعل اللازم
وهو تزقمها بالأكل; بدليل قوله تعالى: * (في البطون) *، فهذه صفة فعل كما في
الواقعة: * (لآكلون من شجر من زقوم) *، وهذا بخلاف قوله * (أذلك خير نزلا
414

أم شجرة الزقوم) *، فإن هذه وصفها بأنها: * (فتنة للظالمين) *، وأنها
* (شجرة تخرج في أصل الجحيم) * فهو حلية للاسم، فلذلك قبضت تاؤها.
ومنه " الجنة " مدت في موضع واحد، في الواقعة: * (وجنت نعيم) * لكونها
بمعنى فعل التنعم بالنعيم، بدليل اقترانها بالروح والريحان وتأخرها عنهما وهما من الجنة،
فهذه جنة خاصة بالمنعم بها. وأما * (من ورثة جنة النعيم) * و * (إن يدخل جنة
نعيم) *; فإن هذا بمعنى الاسم الكلى.
ولم تمد * (تصلية جحيم) * لأنها اسم ما يفعل بالمكذب في الآخرة، أخبرنا الله
بذلك; فالمؤمن يعلمه تصديقا، ولا يحذف لفعل أبدا، والضابط لذلك: أن ما كان بمعنى الاسم لم
تمد تاؤه، مثل: * (زهرة الحياة الدنيا) * و * (صبغة الله) * وزلزلة
الساعة) *، و * (تحلة أيمانكم) *، و * (رحلة الشتاء والصيف) *، و * (حمالة
الحطب) *
ومنه: * (ومريم ابنت عمران) * مدت التاء تنبيها على معنى الولادة والحدوث
من النطفة المهينة، ولم يضف في القرآن ولد إلى والد ووصف به اسم الولد
إلا عيسى وأمه عليهما السلام، لما اعتقد النصارى فيهما أنهما إلهان، فنبه سبحانه
بإضافتهما الولادية على جهة حدوثهما بعد عدمهما; حتى أخبر تعالى في موطن بصفة
415

الإضافة دون الموصوف وقال: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * لما غلوا في إلاهيته
أكثر من أمه، كما نبه تعالى على حاجتهما وتغير أحوالهما في الوجود، بلحقهما هذه ما يلحق
البشر، قال الله تعالى: * (كانا يأكلان الطعام) *.
ومنه " امرأة " هي في سبعة مواضع; وهي خمس من النساء: " امرأت عمران "،
و " امرأت فرعون "، و " امرأت نوح "، و " امرأت لوط "، و " امرأت العزيز "،
كلها ممدودة تنبيها على فعل التبعل والصحبة وشدة المواصلة والمخالطة والائتلاف في الموجود
والمحسوس. وأربع منهن منفصلات في بواطن أمرهن عن بعولتهن بأعمالهن. وواحدة
خاصة واصلت بعلها باطنا وظاهرا، وهي امرأت عمران، فجعل الله لها ذرية طيبة،
وأكرمها بذلك وفضلها على العالمين. وواحدة من الأربع انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة
لله، وتوكلا عليه وخوفا منه، فنجاها وأكرمها، وهي امرأت فرعون. واثنتان منهن
انفصلتا عن أزواجهما كفرا بالله فأهلكهما الله ودمرهما، ولم ينتفعا بالوصلة الظاهرة;
مع أنها أقرب وصلة بأفضل أحباب الله. كما لم تضر امرأت فرعون وصلتها الظاهرة بأخبث
عبيد الله. وواحدة انفصلت عن بعلها بالباطن اتباعا للهوى وشهوة نفسها، فلم تبلغ من ذلك
مرادها، مع تمكنها من الدنيا واستيلائها على ما مالت إليه بحبها وهو في بيتها وقبضتها،
فلم يغن ذلك عنها شيئا. وقوتها وعزتها إنما كانا لها من بعلها " العزيز "، ولم ينفعها ذلك في
الوصول إلى إرادتها مع عظيم كيدها. كما لم يضر يوسف ما امتحن به منها، ونجاه الله
من السجن، ومكن له في الأرض، وذلك بطاعته لربه. ولا سعادة إلا بطاعة الله، ولا
شقاوة إلا بمعصيته; فهذه كلها عبر وقعت بالفعل في الوجود، في شأن كل امرأة منهن،
فلذلك مدت تاءاتهن قبل.
416

فصل
الفصل والوصل
اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط; كما توصل حروف الكلمة
الواحدة، والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط; كما تفصل كلمة عن كلمة.
فمنه " إنما " بالكسر، كله موصول إلا واحدا * (إن ما توعدون لآت) *، لأن
حرف " ما " هنا وقع على مفصل، فمنه خير موعود به لأهل الخير، ومنه شر موعود به
لأهل الشر; فمعنى " ما " مفصول في الوجود والعلم.
ومنه " أنما " بالفتح كله موصول إلا حرفان: * (وأن ما يدعون من دونه هو
الباطل) *، * (وأن ما يدعون من دونه الباطل) *، وقع الفصل عن حرف
التوكيد; إذ ليس لدعوى غير الله وصل في الوجود; إنما وصلها في العدم والنفي; بدليل
قوله تعالى عن المؤمن: * (أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في
الآخرة) *، فوصل " أنما " في النفي، وفصل في الإثبات، لا لانفصاله عن دعوة
الحق.
ومنه: " كلما " موصول كله إلا ثلاثة:
417

في النساء: * (كل ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها) * فما ردوا إليه ليس شيئا
واحدا في الوجود; بل أنواع مختلفة في الوجود، وصفة مردهم ليست واحدة بل متنوعة،
فانفصل " ما " لأنه لعموم شئ مفصل في الوجود.
وفى سورة إبراهيم: * (وآتاكم من كل ما سألتموه) *، فحرف " ما " واقع
على أنواع مفصلة في الوجود.
وفى قد أفلح: * (كل ما جاء أمة رسولها كذبوه) *، والأمم مختلفة في الوجود،
فحرف " ما " وقع على تفاصيل موجودة لتفصل.
وهذا بخلاف قوله: * (كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا
يقتلون) *; فإن هؤلاء هم بنو إسرائيل أمة واحدة; بدليل قوله: * (فلم تقتلون
أنبياء الله) * والمخاطبون على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء، إنما باشره
آباؤهم; لكن مذهبهم في ذلك واحد،: فحرف " ما " إنما يشمل تفاصيل الزمان، وهو
تفصيل لا مفصل له في الوجود إلا بالفرض والتوهم، لا بالحس، فوصلت " كل " لاتصال
الأزمنة في الوجود، وتلازم أفرادها المتوهمة.
وكذلك: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا) *، هذه موصول; لأن حرف
" ما " جاء لتعميم الأزمنة، فلا تفصيل فيها في الوجود، وما رزقوا هو غير مختلف; لقوله
تعالى: * (وأتوا به متشابها) *.
418

ومنه " أينما " موصول إذا كانت " ما " غير مختلفة الأقسام في الفعل الذي بعدها; مثل:
* (أينما يوجهه) *. * (فأينما تولوا) *. * (أينما ثقفوا أخذوا) *. * (أينما تكونوا
يدرككم الموت) *; فهذه كلها لم تخرج عن " الأين " الملكي، وهو متصل حسا،
ولم يختلف فيه الفعل الذي مع " ما " وتفصل " أين " حيث تكون " ما " مختلفة الأقسام في
الوصف الذي بعدها، مثل: * (أين ما كنتم تعبدون) *. * (وهو معكم أين ما كنتم) *.
* (أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس) *.
ومنه " بئسما " موصول، إلا ثلاثة أحرف: اثنان في البقرة: * (بئس ما اشتروا به
أنفسهم) *. * (بئس ما يأمركم به أيمانكم) *، وفى الأعراف: * (بئس
ما خلفتموني) *.
فحرف " ما " ليس فيه تفصيل، لأنه بمعنى واحد في الوجود من جهة كونه باطلا
مذموما; على خلاف حال " ما " في المائدة: * (ترى كثيرا منهم يسارعون في
الإثم والعدوان وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون) *، فحرف " ما " يشتمل
على الأقسام الثلاثة التي ذكرت قبل. وكذلك: * (لبئس ما قدمت لهم أنفسهم) *
حرف " ما " مفصول; لأنه يعمل ما بعده من الأقسام.
419

ومنه * (يوم هم على النار يفتنون) *. * (يوم هم بارزون) *، حرفان، فصل
الضمير منهما لأنه مبتدأ، وأضيف " اليوم " إلى الجملة المنفصلة عنه.
و * (يومهم الذي فيه يصعقون) * و * (يومهم الذي يوعدون) *، وصل الضمير
لأنه مفرد; فهو جزء الكلمة المركبة من " اليوم " المضاف والضمير المضاف إليه.
ومنه " في " ما مفصول أحد عشر حرفا:
في البقرة: * (في ما فعلن في أنفسهن من معروف) *، وذلك لأن " ما " يقع
على فرد واحد [من] أنواع ينفصل بها المعروف في الوجود [و] على البدلية
أو الجمع; يدل على ذلك تنكيره " المعروف " ودخول حرف التبعيض عليه; فهو حسى
يقسم، وحرف " ما " وقع على كل واحد منهما على البدلية أو الجمع; وأما قوله: * (فلا
جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف) * فهذا موصول لأن " ما " واقعة
على شئ واحد غير مفصل، يدلك عليه وصفه بالمعروف.
وكذلك: * (في ما اشتهت أنفسهم خالدون) *، وهو مفصول; لأن شهوات
الأنفس مختلفة أو مفصلة في الوجود. كذلك فتدبره في سائرها.
ومنه: * (لكيلا) * موصول في ثلاثة مواضع; وباقيها منفصل; وإنما يوصل
حيث يكون حرف النفي دخل على معنى كلى فيوصل; لأن نفى الكلى نفى لجميع
جزئياته، فعلة نفيه هي علة نفى أجزائه; وليس للكلى المنفى أفراد في الوجود، وإنما
420

ذلك فيه بالتوهم، ويفصل حيث يكون حرف النفي دخل على جزئي; فإن نفى الجزئي
لا يلزم منه نفى الكلى; فلا تكون علته علة نفى الجمع:
* (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * في الحج. وفى الأحزاب: * (لكيلا
يكون عليك حرج) *. وفى الحديد: * (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) *.
فهذه هي الموصولة، وهي بخلاف: * (لكي لا يعلم بعد علم شيئا) * في النحل;
لأن الظرف في هذا خاص الاعتبار; وهو في الأول عام الاعتبار لدخول " من " عليه; وهذا
كقوله تعالى عن أهل الجنة: * (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) *، اختص المظروف
بقبل في الدنيا، ففيها كانوا مشفقين خاصة. وقال تعالى: * (إنا كنا من قبل ندعوه إنه
هو البر الرحيم) *،، فهذا الظرف عام لدعائهم بذلك في الدنيا والآخرة فلم يختص
المظروف بقبل بالدنيا.
وكذلك: * (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا
منهن وطرا) * فهذا المنفى هو حرج مقيد بظرفين.
وكذلك: * (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) *، فهذا النفي هو
كون: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى) * دولة بين الأغنياء من المؤمنين،
وهذه قيود كثيرة.
ومن ذلك " هم " ونحوه من الضمائر تدل على جملة المسمى من غير تفصيل،
والإضمار حال لا صفة وجود، فلا يلزمها التقسيم الوجودي إلا الوهمي الشعرى والخطأ بما
يرسم على العلم الحق.
ومن ذلك " مال " أربعة أحرف مفصولة; وذلك أن اللام وصلة إضافية، فقطعت
حيث تقطع الإضافة في الوجود:
421

فأولها في سورة النساء: * (فمال هؤلاء القوم) *، هذه الإشارة للفريق الذين
نافقوا من القوم الذين قيل لهم: * (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة) * فقطعوا وصل
السيئة بالحسنة في الإضافة إلى الله ففرقوا بينهما، كما أخبر سبحانه والله قد وصل ذلك وأمر به
في قوله: * (قل كل من عند الله) * فقطعوا في الوجود ما أمر الله به أن يوصل; فقطع
لام وصلهم في الخط علامة لذلك. وفيه تنبيه على أن الله يقطع وصلهم بالمؤمنين; وذلك
في يوم الفصل: * (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من
نوركم) *.
والثاني في سورة الكهف: * (ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر
صغيرة) *; وهؤلاء قطعوا بزعمهم وصل جعل الموعد لهم بوصل إحصاء الكتاب،
وعدم مغادرته وكان لشئ من أعمالهم في إضافتها إلى الله، فلذلك ينكرون على الكتاب في
الآخرة; ودليل ذلك ظاهر من سياق خبرهم في تلك الآيات من الكهف.
والثالث في سورة الفرقان: * (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام) * فقطعوا
وصل الرسالة لأكل الطعام فأنكروا فقطعوا قولهم هذا ليزول عن اعتقادهم أنه رسول،
فقطع اللام علامة لذلك.
والرابع في المعارج: * (فمال الذين كفروا قبلك مهطعين) *، هؤلاء الكفار تفرقوا
جماعات مختلفات، كما يدل عليه * (عن اليمين وعن الشمال عزين) *، قطعوا وصلهم
في قلوبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقطع الله طمعهم في دخول الجنة; ولذلك قطعت
اللام علامة عليه.
422

ومن ذلك: * (ابن آم) * في الأعراف مفصول، على الأصل، وفى طه * (ابن أم) * روى
موصول لسر لطيف; وهو أنه لما أخذ موسى برأس أخيه اعتذر إليه فناداه من قرب
على الأصل الظاهر في الوجود، ولما تمادى ناداه بحرف النداء، ينبهه لبعده عنه في الحال،
لا في المكان، مؤكدا لوصلة الرحم بينهما بالربط; فلذلك وصل في الخط، ويدل عليه
نصب " الميم " ليجمعهما الاسم بالتعميم.
ومن ذلك ستة أحرف لا توصل بما بعدها، وهي: الألف، والواو، والدال، والذال،
والراء، والزاي; لأنها علامات لانفصالات ونهايات، وسائر الحروف توصل في الكلمة
الواحدة.
فصل
في بعض حروف الإدغام
فمنه: * (عن ما نهوا عنه) *، فرد ظهر فيه النون وقطع عن الوصل، لأن معنى " ما "
عموم كلى تحته أنواع مفصلة في الوجود غير متساوية في حكم النهى عنها، ومعنى
" عن " المجاوزة، للكلى مجاوزة لكل واحد من جزئياته، ففصل علامة
لذلك.
423

وكذلك: * (من ما) * ثلاثة أحرف مفصولة لا غير:
في النساء: * (من ما ملكت أيمانكم) *. وفى الروم: * (هل لكم من ما
ملكت أيمانكم) *. وفى المنافقين: * (وأنفقوا من ما رزقناكم) *.
وحرف " ما " في هذه كلها مقسم في الوجود بأقسام منفصلة غير متساوية
في الأحكام، وهي بخلاف قوله: * (مما كتبت أيديهم) *; فإنها وإن كان تحتها أقسام
كثيرة فهي غير مختلفة في وصفها بكتب أيديهم; فهو نوع واحد يقال على معنى واحد
من تلك الجهة هو في إفراده بالسوية.
وكذلك: " أم من " بالفصل، أربعة أحرف لا غير:
في النساء: * (أم من يكون عليهم وكيلا) *. وفى التوبة: * (أم من أسس
بنيانه) *. وفى الصافات: * (أم من خلقنا) *. وفى السجدة: * (أم من
يأتي) *.
فهذه الأربعة الأحرف " من " فيها تقسم في الوجود بأنواع مختلفة في الأحكام
بخلاف غيرها، مثل: * (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي) *، فهذا
موصول; لأنه من نوع واحد حيث يمشي على صراط مستقيم. وكذا: * (أمن جعل
الأرض قرارا) *; لا تفاصيل تحتها في الوجود.
424

وكذلك: * (عن من) * مفصول:
حرفان في النور: * (عن من يشاء) *، وفى النجم: * (عن من تولى) *، حرف
" من " فيهما كلى وحرف " عن " للمجاوزة، والمجاوزة عن الكلى مجاوزة لجميع جزئياته
دون العكس; فلا وصلة بين الجزأين في الوجود فلا يوصلان في الخط.
وكذلك " ممن " موصول كله لأن " من " بفتح الميم جزئي بالنسبة إلى " ما "،
فمعناه " أزيد " من جهة المفهوم، ومعنى " ما " أزيد من جهة العموم، والزائد من جهة
المفهوم منفصل وجودا بالحصص، والحصة منه لا تنفصل، والزائد من جهة المفهوم
لا ينفصل وجودا.
وكذلك: * (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم) * في سورة الرعد، فردة
مفصولة، ظهر فيها حرف الشرط في الخط لوجهين: أحدهما أن الجواب المرتب عليه بالفاء
ظاهر في موطن الدنيا، وهو البلاغ; بخلاف قوله: * (فإما نرينك) * فإنه أخفى فيه
حرف الشرط في الخط لأن الجواب المرتب عليه بالفاء خفى عنا، وهو الرجوع إلى الله.
والثاني أن القصة الأولى منفصلة من الشرط وجوابه، وانقسم الجواب إلى جزأين:
أحدهما الترتيب بالفاء وهو البلاغ، والثاني المعطوف عليه وهو الحساب. وأحدهما في الدنيا،
والآخر في الآخرة. والأول ظاهر لنا، والثاني خفى عنا.
وهذا الانقسام صحيح في الوجود، فقد انقسمت هذه الشرطية إلى شرطين، لانفصال
425

جوابها إلى قسمين متغايرين، ففصل حرف الشرط علامة لذلك، وإذا انفصلت لزم كتبه
على الوقف، والشرطية الأخرى لا تنفصل، بل هي واحدة لإيجاد جوابها، فانفصال
حرف الشرط علامة لذلك.
وكذلك: * (فإن لم يستجيبوا لك) * فرد في القصص ثابت النون، وفى هود:
* (فإن لم يستجيبوا لكم) * فرد بغير نون; أظهر حرف الشرط في الأول لأن جوابه
المترتب عليه بالفاء هو * (فاعلم) * متعلق بشئ ملكوتي ظاهر، سفلى; وهو اتباعهم
أهواءهم، وأخفى في الثاني لأن جوابه المترتب عليه بالفاء هو علم متعلق بشئ ملكوتي
خفى، علوي وهو إنزال القرآن بالعلم والتوحيد.
ومن ذلك: " أن لن " كله مفصول إلا حرفان: * (ألن يجعل لكم موعدا) * في
الكهف: * (ألن يجمع عظامه) * في القيامة سقطت النون منهما في الخط تنبيها على أن
ما زعموا وحسبوا هو باطل في الوجود وحكم ما ليس بمعلوم نسبوه إلى الحي القيوم، فأدغم
حرف توكيدهم الكاذب في حرف النفي السالب هو، بخلاف قوله: * (زعم الذين
كفروا أن لن يبعثوا) *، فهؤلاء لم ينسبوا ذلك لفاعل; إذ ركب الفعل لما لم يسم
فاعله، وأقيموا فيه مقام الفاعل، فعدم بعثهم تصوروه من أنفسهم، وحكموا به عليها
توهما، فهو كاذب من حيث حكموا به على مستقبل الآخرة، ولكونه حقا بالنسبة إلى
دار الدنيا الظاهرة ثبت التوكيد ظاهرا وأدغم في حرف النفي من حيث الفعل المستقبل
الذي هو فيه كاذب.
426

ومن ذلك كل ما في القرآن " أن لا " فهو موصول إلا عشرة مواضع فهي
مفصولة، تكتب النون فيها باتفاق، وذلك حيث ظهر في الوجود صحة توكيد
القضية ولزومها:
أولها في الأعراف: * (أن لا أقول على الله إلا الحق) *، و * (وأن لا يقولوا على
الله إلا الحق) *.
و * (أن لا ملجأ من الله) * في التوبة.
* (أن لا إله إلا هو) *، و * (أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف) * في هود.
و * (أن لا تشرك بي شيئا) * في الحج.
و * (أن لا تعبدوا الشيطان) * في يس.
و * (أن لا تعلوا على الله) * في الدخان.
و * (أن لا يشركن بالله شيئا) * في الممتحنة.
و * (أن لا يدخلنها) * في القلم.
وواحد فيه خلاف * (أن لا إله إلا أنت) * في الأنبياء.
فتأمل كيف صح في الوجود هذا التوكيد الأخير، فلم يدخلها عليهم مسكين على غير
ما قصدوا وتخيلوا فيه.
427

وكذلك لام التعريف المدغمة في اللفظ في مثلها أو غيرها، لما كانت للتعريف -
وشأن المعرف أن يكون أبين وأظهر، لا أخفى وأستر - ظهرت في الخط، ووصلت
بالكلمة; لأنها صارت جزءا منها حيث هي معرفة بها، هذا هو الأصل، وقد حذف
حيث يخفى معنى الكلمة مثل " الليل " فإنه بمعنى مظلم لا يوضح الأشياء بل يسترها
ويخفيها، وكونه واحدا إما للجزئي أو للجنس فأخفى حرف تعريفه في مثله، فإن تعين
للجزئي بالتأنيث رجع إلى الأصل. ومثل " الذي " و " التي " وتثنيتهما وجمعهما; فإنه
مبهم في المعنى والكم; لأن أول حده للجزئي وللجنس للثلاث أو غيرها; ففيه ظلمة
الجهل كالليل. ومثل " الئى " في الإيجاب، فإن لام التعريف دخلت على " لا " النافية
وفيها ظلمة العدم كالليل، ففي هذه الظلمات الثلاث يخفى حرف التعريف.
وكذلك " الأيكة " نقلت حركة همزتها على لام التعريف وسقطت همزة الوصل
لتحريك اللام، وحذفت ألف عضد الهمزة ووصل اللام، فاجتمعت الكلمتان، فصارت
" ليكة " علامة على اختصار وتلخيص وجمع في المعنى; وذلك في حرفين: أحدهما في
الشعراء جمع فيه قصتهم مختصرة وموجزة عند في غاية البيان، وجعلها جملة; فهي آخر قصة
في السورة بدليل قوله: * (إن في ذلك لآية) * فأفردها، والثاني في ص، جمع الأمم
فيها بألقابهم وجعلهم جهة واحدة، هم آخر أمة فيها، ووصف الجملة، قال تعالى: * (أولئك
الأحزاب) *، وليس الأحزاب وصفا لكل منهم; بل هو وصف جميعهم.
428

وجاء بالانفصال على الأصل حرفان نظير هذين الحرفين: أحدهما في الحجر: * (وإن
كان أصحاب الأيكة لظالمين) * أفردهم بالذكر والوصف. والثاني في ق: * (وأصحاب
الأيكة) *، جمعوا فيه مع غيرهم، ثم حكم على كل منهم لا على الجملة، قال تعالى:
* (كل كذب الرسل) *، فحيث يعتبر فيهم التفضيل فصل لام التعريف، وحيث
يعتبر فيهم التوصيل وصل للتخفيف.
وكذلك: * (لتخذت عليه أجرا) *، حذفت الألف ووصلت، لأن العمل
في الجدار قد حصل في الوجود، فلزم عليه الأجر، واتصل به حكما، بخلاف: * (لاتخذوك
خليلا) * ليس فيه وصلة اللزوم.
فصل
حروف متقاربة تختلف في اللفظ
لاختلاف المعنى
مثل: * (وزاده بسطة في العلم والجسم) *، * (وزادكم في الخلق بصطة) *.
* (يبسط الزق لمن يشاء) *، * (والله يقبض ويبصط) *، فبالسين
السعة الجزئية كذلك علة التقييد، وبالصاد السعة الكلية; بدليل علو معنى
429

الإطلاق، وعلو الصاد مع الجهارة والإطباق.
وكذلك: * (فأتوا بسورة) *، * (في أي صورة) *.
* (فضرب بينهم بسور) *، * (ونفخ في الصور) *، فبالسين ما يحصر
الشئ خارجا عنه، وبالصاد ما تضمنه منه.
وكذلك: * (يعلم ما يسرون) *، * (وكانوا يصرون) *، فبالسين من
السر، وبالصاد من التمادي.
وكذلك: * (يسحبون في النار) * و * (منا يصحبون) *، فبالسين من الجر،
وبالصاد من الصحبة.
وكذلك: * (نحن قسمنا بينهم) * * (وكم قصمنا) *، بالسين تفريق
الأرزاق والإنعام، وبالصاد تفريق الإهلاك والإعدام.
وكذلك: * (وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة) *، بالضاد منعمة بما تشتهيه
الأنفس، وبالظاء منعمة بما تلذ الأعين. وهذا الباب كثير، يكفى فيه اليسير.
فصل
[كتابة فواتح السور]
كتبوا " آلم " و " آلمر " و " آلر " موصولا.
430

إن قيل: لم وصلوه والهجاء مقطع لا ينبغي وصله; لأنه لو قيل لك: ما هجاء " زيد "؟
قلت: زاي، ياء، دال، وتكتبه مقطعا، لتفرق بين هجاء الحروف وقراءته؟
قيل: إنما وصلوه لأنه ليس هجاء لاسم معروف; وإنما هي حروف اجتمعت، يراد
بكل حرف معنى.
فإن قيل: لم قطعوا " حم عسق " ولم يقطعوا " المص "، و " كهيعص "؟
قيل: " حم " قد جرت في أوائل سبع سور، فصارت اسما للسور، فقطعت
مما قبلها.
وجوزوا في: * (ق والقرآن) * و * (ص والقرآن) * وجهين: من جزمهما فهما حرفان،
ومن كسر آخرهما فعلى أنه أمر كتب على لفظهما.
431

النوع السادس والعشرون
معرفة فضائله
وقد صنف فيه أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، والنسائي
وغيرهم. وقد صح فيه أحاديث باعتبار الجملة، وفى بعض السور بالتعيين. وأما حديث أبي
كعب رضي الله عنه في فضيلة سورة سورة، فحديث موضوع.
قال ابن الصلاح: ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه
تفاسيرهم.
قلت: وكذلك الثعلبي، لكنهم ذكروه بإسناد، فاللوم عليهم يقل بخلاف من ذكره
بلا إسناد وجزم به كالزمخشري فإن خطأه أشد.
وعن نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس
في فضائل القرآن سورة سورة؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن
واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعت هذه الأحاديث حسبة.
ثم قد جرت عادة المفسرين ممن ذكر الفضائل أن يذكرها في أول كل سورة لما
فيها من الترغيب والحث على حفظها إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها.
قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني: سألت الزمخشري عن العلة في ذلك
فقال: لأنها صفات لها، والصفة تستدعى تقديم الموصوف.
وقد روى البخاري رحمه الله حديث " خيركم من تعلم القرآن وعلمه ". وروى
أصحاب السنن في حديث إلهي: " من شغله القرآن عن ذكرى ومسألتي أعطيته أفضل
432

ما أعطى السائلين. و " فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ". وقال
عليه السلام: " ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه " قال أبو النضر: يعنى القرآن.
وروى أحمد من حديث أنس رضي الله عنه: " أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ".
وروى مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به
آخرين ". وقدم صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد في القبر أكثرهم قرآنا.
433

النوع السابع والعشرون
معرفة خواصه
وقد صنف فيه جماعة منهم التميمي، وأبو حامد الغزالي. قال بعضهم: وهذه الحروف
التي في أوائل السور جعلها الله تعالى حفظا للقرآن من الزيادة والنقصان; قال تعالى: * (إنا
نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) *.
وذكر بعضهم أنه وقف على أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يكتبها على
ما يريد حفظه من الأموال والمتاع، فيحفظ.
وأخبر رجل من أهل الموصل قال: كان الكيا الهراسي الإمام رحمه الله إذا
ركب في رحلة يقول هذه الحروف التي في أوائل السور، فسئل عن ذلك فقال: ما جعل
ذلك في موضع أو كتب في شئ إلا حفظ تاليها وماله، وأمن في نفسه من التلف. والغرق
وحكى عن الشافعي رحمه الله أنه شكا إليه رجل رمدا، فكتب إليه في رقعة: * (بسم
الله الرحمن الرحيم) *. * (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) *. * (للذين
آمنوا هدى وشفاء) *; فعلق الرجل ذلك عليه فبرأ.
وكان سفيان الثوري يكتب للمطلقة رقعة تعلق على قلبها: * (إذا السماء انشقت.
434

وأذنت لربها وحقت. وإذا الأرض مدت. وألقت) *. * (فاخرج منها) *. * (فخرج
على قومه) *.
وروى ابن قتيبة قال: كان رجل من الصالحين يحب الصلاة بالليل وتثقل عليه،
فشكا ذلك لبعض الصالحين فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ * (قل لو كان البحر
مدادا لكلمات ربى) * إلى قوله * (مددا) *، ثم أضمر. في أي وقت أضمرت
فإنك تقوم فيه، قال: ففعلت فقمت في الوقت المعين.
قال الغزالي: وكان بعض الصالحين في أصبهان أصابه عسر البول، فكتب في
صحيفة: البسملة * (وبست الجبال بسا. فكانت هباء منبثا) *. * (وحملت الأرض
والجبال فدكتا دكة واحدة) *. * (دكادكا) *، وألقى عليه الماء وشربه فيسر عليه
البول، وألقى الحصى.
وحكى الثعلبي في تفسيره أن قوله تعالى: * (لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) *
يكتب على كاغد، ويوضع على شق الضرس الوجع، يبرأ بإذن الله تعالى.
ويحكى أن الشيخ أبا القاسم القشيري رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالي أراك محزونا؟ فقال: ولدى قد مرض، واشتد عليه
الحال، فقال له: أين أنت عن آيات الشفاء: * (ويشف صدور قوم مؤمنين) *.
* (وشفاء لما في الصدور) *. * (فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم
435

يتفكرون) *. * (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) *. * (وإذا
مرضت فهو يشفين) *. * (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء) *! فقرأ هذه الآيات
عليه ثلاث مرات فبرأ.
وحكى ابن الجوزي عن ابن ناصر عن شيوخه عن ميمونة بنت شاقولة البغدادية
رضي الله عنها قالت: آذانا جار لنا، فصليت ركعتين، وقرأت من فاتحة كل سورة آية
حتى ختمت القرآن، وقلت: اللهم أكفنا أمره، ثم نمت وفتحت عيني; وإذا به قد نزل
وقت السحر فزلت قدمه، فسقط ومات.
وحكى عن ابنها أنه كان في دارها حائط له جوف، فقالت: هات رقعة ودواة،
فناولتها، فكتبت في الرقعة شيئا، وقالت: دعه في ثقب منه، ففعلت، فبقي نحوا من
عشرين سنة، فلما ماتت ذكرت ذلك القرطاس، فقمت فأخذته فوقع الحائط، فإذا
في الرقعة: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) *، يا ممسك السماوات
والأرض، أمسكه.
تنبيه
هذا النوع والذي قبله لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيته، وتدبر الكتاب
في عقله وسمعه، وعمر به قلبه، وأعمل به جوارحه، وجعله سميره في ليله ونهاره، وتمسك
به وتدبره هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله
436

مكذبا لقوله; كما روى أن عارفا وقعت له واقعة، فقال له صديق له: نستعين بفلان
فقال: أخشى أن تبطل صلاتي التي تقدمت هذا الأمر، وقد صليتها. قال صديقه: وأين
هذا من هذا؟ قال: لأني قلت في الصلاة: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * فإن
استعنت بغيره كذبت، والكذب في الصلاة يبطلها، وكذلك الاستعاذة من الشيطان
الرجيم لا تكون إلا مع تحقق العداوة، فإذا قبل إشارة الشيطان واستنصحه فقد كذب قوله،
فبطل ذكره.
437

النوع الثامن والعشرون
هل في القرآن شئ أفضل من شئ
وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر،
وأبو حاتم بن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض; لأن الكل كلام الله،
وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينهما. وروى معناه عن مالك; قال يحيى بن يحيى تفضيل
بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها،
احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول، وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه.
قال ابن حبان في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه: " ما أنزل الله في التوارة
ولا في الإنجيل مثل أم القرآن، إن الله لا يعطى لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل
ما يعطى لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم، وأعطاها
من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه ". قال:
وقوله: أعظم سورة، أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض.
وقال قوم بالتفضيل لظواهر الأحاديث، ثم اختلفوا فقال بعضهم، الفضل راجع إلى
عظم الأجر ومضاعفة الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود
أوصاف العلا، وقيل بل يرجع لذات اللفظ، وأن ما تضمنه قوله تعالى: * (وإلهكم إله
واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) * وآية الكرسي وآخر سورة الحشر، وسورة
الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته، ليس موجودا مثلا في * (تبت يدا
438

أبى لهب) * وما كان مثلها فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها; لا من حيث
الصفة، وهذا هو الحق.
وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء.
وتوسط الشيخ عز الدين فقال: كلام الله في الله أفضل من كلام الله في غيره،
ف‍ * (قل هو الله أحد) * أفضل من * (تبت يدا أبى لهب) *، وعلى ذلك بنى الغزالي كتابه
المسمى بجواهر القرآن، واختاره القاضي أبو بكر بن العربي لحديث أبى سعيد بن المعلى في
صحيح البخاري: " إني لأعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن،: * (قال الحمد لله رب
العالمين) * ". ولحديث أبي بن كعب في الصحيحين قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أي آية في كتاب الله أعظم؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبى، أتدري أي آية في
كتاب الله أعظم؟ قال: قلت: * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) *، قال: فضرب
في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر.
وأخرج الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي هريرة: " سيدة آي القرآن
آية الكرسي ".
وفى الترمذي غريبا عنه مرفوعا: " لكل شئ سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة
فيها آية الكرسي ".
وروى ابن عيينة في جامعه عن أبي صالح عنه: " فيها آية الكرسي وهي سنام آي
القرآن ولا تقرأ في دار فيها شيطان إلا خرج منها "; وهذا لا يعارض ما قبله بأفضلية
الفاتحة، لأن تلك باعتبار السور وهذه باعتبار الآيات.
وقال القاضي شمس الدين الخويي: كلام الله أبلغ من كلام المخلوقين، وهل يجوز
439

أن يقال بعض كلامه أبلغ من بعض؟ جوزه بعضهم لقصور نظرهم. وينبغي أن يعلم
أن معنى قول القائل: هذا الكلام أبلغ من هذا الكلام أن هذا في موضعه له حسن
ولطف، وذاك في موضعه له حسن ولطف، وهذا الحسن في موضعه أكمل من ذاك في موضعه.
فإن من قال: إن * (قل هو الله أحد) * أبلغ من * (تبت يدا أبى لهب) *
يجعل المقابلة بين ذكر الله وذكر أبى لهب، وبين التوحيد والدعاء على الكافرين.
وذلك غير صحيح، بل ينبغي أن يقال: * (تبت يدا أبى لهب) * دعاء عليه بالخسران،
فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران أحسن من هذه! وكذلك في * (قل هو الله أحد) *
لا توجد عبارة تدل على الوحدانية أبلغ منها، فالعالم إذا نظر إلى * (تبت يدا أبى لهب
وتب) * في باب الدعاء والخسران، ونظر إلى * (قل هو الله أحد) * في باب التوحيد
لا يمكنه أن يقول: أحدهما أبلغ من الآخر، وهذا القيد يغفل عنه بعض من لا يكون
عنده علم البيان.
قلت: ولعل الخلاف في هذه المسألة يلفت عن الخلاف المشهور إن كلام الله شئ
واحد أولا; عند الأشعري أنه لا يتنوع في ذاته، إنما هو بحسب متعلقاته.
فإن قيل: فقد قال تعالى: * (فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات) *، فجعله شيئين، وأنتم تقولون بعدمه، وأنه صفة واحدة؟
قلنا: من حيث أنه كلام الله لا مزية لشئ منه على شئ. ثم قولنا: " شئ منه "
يوهم التبعيض، وليس لكلام الله الذي هو صفته بعض، ولكن بالتأويل والتفسير وفهم
السامعين اشتمل على جميع أنواع المخاطبات، ولولا تنزله في هذه المواقع لما وصلنا إلى فهم
شئ منه.
440

وقال الحليمي: قد ذكرنا أخبار تدل على جوار المفاضلة بين السور والآيات.
وقال الله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) *; ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء:
أحدها أن تكون آيتا عمل ثابتتان في التلاوة; إلا أن إحداهما منسوخة والأخرى
ناسخة، فنقول: إن الناسخ خير، أي أن العمل بها أولى بالناس وأعود عليهم، وعلى هذا
فيقال: آيات الأمر والنهى والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأن القصص إنما أريد
بها تأكيد الأمر والنهى والتبشير، ولا غنى بالناس عن هذه الأمور، وقد يستغنون
عن القصص، فكل ما هو أعود عليهم وانفع لهم مما يجرى مجرى الأصول خير لهم مما
يحصل تبعا لما لا بد منه.
والثاني أن يقال: إن الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته
والدلالة على عظمته وقدسيته لو أفضل أو خير; بمعنى أن مخبراتها أسنى وأجل قدرا.
والثالث أن يقال: سورة خير من سورة، أو آية خير من آية; بمعنى أن القارئ
يتعجل بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل، ويتأدى منه بتلاوتها عبادة، كقراءة آية
الكرسي، وسورة الإخلاص، والمعوذتين; فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما
يخشى، والاعتصام بالله جل ثناؤه، ويتأدى بتلاوتها منه لله تعالى عبادة، لما فيها من
ذكر اسم الله تعالى جده بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى
فضل الذكر وبركته; فأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم، وإنما
يقع بها علم.
قال: ثم لو قيل في الجملة: إن القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور، بمعنى أن
التعبد بالتلاوة والعمل واقع به دونها، والثواب بحسب بقراءته لا بقراءتها، أو أنه من
441

حيث الإعجاز حجة النبي المبعوث، وتلك الكتب لم تكن معجزة، ولا كانت حجج
أولئك الأنبياء بل كانت دعوتهم والحجج غيرها; وكان ذلك أيضا نظير ما مضى.
وقد يقال: إن سورة أفضل من سورة; لأن الله تعالى اعتد قراءتها كقراءة أضعافها
مما سواها، وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها، وإن كان المعنى الذي لأجله بل
بها هذا المقدار لا يظهر لنا، كما يقال: إن قوما أفضل من قوم، وشهرا أفضل من شهر;
بمعنى أن العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره، والذنب يكون أعظم من الذنب منه في غيره.
وكما يقال: إن الحرم أفضل من الحل، لأنه يتأدى فيه من المناسك ما لا يتأذ في غيره،
والصلاة فيه تكون كصلاة مضاعفة مما تقام في غيره. والله أعلم.
فصل
[أعظمية آية الكرسي]
قال ابن العربي: إنما صارت آية الكرسي أعظم لعظم مقتضاها، فإن الشئ إنما
يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته، وهي في آي القرآن كقل هو الله أحد في سوره،
إلا أن سورة الإخلاص تفضلها بوجهين: أحدهما أنها سورة وهذه آية، فالسورة
أعظم من الآية، لأنه وقع التحدي بها، فهي أفضل من الآية التي لم يتحد بها.
والثاني أن سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفا وآية الكرسي
اقتضت التوحيد في خمسين حرفا، فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى معبر عنه، مكتوب
مدده السبعة الأبحر، لا ينفد، عدد حروفه خمسون كلمة، ثم يعبر عن معنى الخمسين كلمة
خمسة عشر كلمة وذلك كله بيان لعظم القدرة والانفراد بالوحدانية.
وقال أبو العباس أحمد بن المنير المالكي: كان جدي رحمه الله يقول: اشتملت آية
الكرسي على ما لم يشتمل عليه اسم من أسماء الله تعالى; وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر
442

موضعا فيها اسم الله ظاهرا في بعضها، ومستكنا في بعض; ويظهر للكثير من العادين فيها
ستة عشر إلا على حاد البصيرة لدقة استخراجه: 1 - الله، 2 - هو، 3 - الحي، 4 -
القيوم، 5 - ضمير " لا تأخذه "، 6 - ضمير " له "، 7 - ضمير " عنده "، 8 - ضمير
" إلا بأذنه "، 9 - ضمير " يعلم "، 10 - ضمير " علمه "، 11 - ضمير " شاء "، 12 -
ضمير " كرسيه "، 13 - ضمير " يؤوده "، 14 - وهو، 15 - العلى، 16 - العظيم.
فهذه عدة الأسماء.
وأما الخفي في الضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله: " حفظهما " فإنه مصدر مضاف
إلى المفعول، وهو الضمير البارز، ولا بد له من فاعل وهو والله، ويظهر عند فك المصدر،
فتقول: ولا يؤوده أن يحفظهما هو.
قال: وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسى قد رام الزيادة على هذا العدد
لما أخبرته عن الجد، فقال: يمكن أن تعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها
باثنين، لأن كل واحد منها يحمل ضميرا ضرورة كونه مشتقا، وذلك الضمير إنما يعود إلى
الله وهو باعتبار ظهورها اسم، وقد اشتملت على آخر مضمر، فتكون جملة العدد على هذا
أحدا وعشرين اسما، فأجريت معه وجها لطيفا، وهو أن الاسم المشتق لا يحتمل الضمير
بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح، وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى. ثم ولو فرضناها
محتملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزل، فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله
ضميره، ألا تراك إذا قلت: زيد كريم إذا وجدت " كريما " إنما يقع على " زيد " لأن فيه
ضميره; حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد، بل لك أن توقعه على كل موصوف
بالكرم من الناس، ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره، فليس المشتق
إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه، فلا يمكن أن تجعله له حكم
الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين البتة. قال: فرضى عن هذا البحث وصوبه.
443

وقال الغزالي في قوله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس ":
إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر، وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه،
فجعلت قلب القرآن لذلك. واستحسنه فخر الدين الرازي.
قال الجويني: سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: آل حم ديباج القرآن.
وقال ابن عباس: لكل شئ لباب ولباب القرآن آل حم - أو قال: الحواميم.
وقال مسعر بن كدام: كان يقال لهن العرائس.
روى ذلك كله أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن.
وقال حميد بن زنجويه: حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق
عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا،
فمر بأثر غيث، فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات، فقال: عجبت
من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب، فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن،
وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن. أورده البغوي.
وروى أبو عبيد عن بعض السلف - منهم محمد بن سيرين - كراهة أن يقال: الحواميم،
وإنما يقال: آل حم.
وفى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم:
يا رسول الله، قد شبت، قال: " شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون،
وإذا الشمس كورت ". خص هذه السور بالشيب لأنهن أجمع لكيفية القيامة وأهوالها
444

من غيرهن. ولهذا قال في حديث آخر: " من أحب أن يرى القيامة رأى العين فليقرأ: * (إذا
الشمس كورت) * ".
وروى الترمذي من حديث ابن عباس ومن حديث أنس: " إذا زلزلت تعدل نصف
القرآن، وقل يا أيها الكافرون تعدل ربعه ". وقال: في كل منهما غريب.
وقد تكلم ابن عبد البر على حديث: * (قل هو الله أحد) * تعدل ثلث القرآن،
وحكى خلاف الناس فيه، فقيل: لأنه سمع شخصا يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن.
فخرج الجواب على هذا.
وفيه بعد عن ظاهر الحديث.
قيل: لأن القرآن يشتمل على قصص وشرائع وصفات، وقل هو الله أحد كلها
صفات، فكانت ثلثا بهذا الاعتبار. واعترض على ذلك باستلزام كون آية الكرسي
وآخر الحشر ثلث القرآن ولم يرد فيه.
وقيل: تعدل في الثواب، وهو الذي يشهد لظاهر الحديث.
قلت: ضعف ابن عقيل هذا وقال: لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن;
لقوله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات ".
ثم قال ابن عبد البر: على أنى أقول: السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام
فيها وأسلم، ثم أسند إلى إسحاق بن منصور، قلت لأحمد بن حنبل: قوله صلى الله عليه
وسلم: " قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن " ما وجهه؟ فلم يقم لي فيها على. أمر وقال لي
إسحاق بن راهويه: معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا
445

في الثواب لمن قرأه تحريضا على تعلمه; لا أن من قرأ * (قل هو الله أحد) * ثلاث مرات
كان كمن قرأ القرآن جميعه، هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة.
قال أبو عمرو: وهذان إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة.
قلت: وأحسن ما قيل فيه أن القرآن قسمان: خبر وإنشاء، والخبر قسمان: خبر عن
الخالق وخبر عن المخلوق، فهذه ثلاثة أثلاث، وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق،
فهي بهذا الاعتبار ثلث القرآن.
فائدة
[في أي آية في القرآن أرجى]
اختلف في أرجى آية في القرآن على بضعة عشر قولا:
الأول: آية " الدين " ومأخذه أن الله تعالى أرشد عباده إلى مصالحهم الدنيوية
حتى انتهت العناية بمصالحهم إلى أن أمرهم بكتابة الدين الكبير والحقير، فبمقتضى ذلك
يرجى عفو الله تعالى عنهم لظهور أمر العناية العظيمة، بهم حتى في مصلحتهم الحقيرة.
الثاني: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * إلى قوله * (ألا تحبون
أن يغفر الله لكم) *، وهذا رواه مسلم في الصحيح أثر حديث الإفك، عن الإمام
الجليل عبد الله بن المبارك.
الثالث: قال الشبلي في قوله تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد
446

سلف) *، فالله تعالى لما أذن الكافرين بدخول الباكل إذا أتوا بالتوحيد والشهادة
أتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها!
الرابع: قوله تعالى: * (وهل نجازى إلا الكفور) *.
الخامس: قوله: * (إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى) *.
السادس: قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو
عن كثير) *.
السادس: قوله تعالى: * (قل كل يعمل على شاكلته) *.
الثامن: قوله تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) *.
حكى هذه الأقوال الخمسة الأخيرة الشيخ محيى الدين في رؤس المسائل.
التاسع: رأيت في مناقب الشافعي للإمام أبى محمد إسماعيل الهروي صاحب الحاكم
بإسناده عن ابن عبد الحكم، قال: سألت الشافعي: أي آية أرجى؟ قال: قوله تعالى:
* (يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة) *. قال: وسألته عن أرجى حديث
للمؤمن؟ قال: حديث: " إذا كان يوم القيامة يدفع إلى كل مسلم رجل من الكفار فيذهب
به إلى النار ".
العاشر والحادي عشر: روى الحاكم في مستدركه عن محمد بن المنكدر قال: التقى
ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقال ابن عباس: أي آية في كتاب الله أرجى
عندك؟ فقال عبد الله بن عمرو: * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) *، قال:
447

لكن قول إبراهيم: * (قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * هذا لما في
الصدور من وسوسة الشيطان، فرضى الله تعالى من إبراهيم بقوله: * (أولم تؤمن قال بلى) *
وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال النحاس في سورة الأحقاف: * (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) * فقال:
إن هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلا أن ابن عباس قال: أرجى آية في القرآن:
* (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) *.
وأما أخوف آية فعن الإمام أبي حنيفة أنه قال: هي قوله تعالى: * (واتقوا النار التي
أعدت للكافرين) * ولو قيل إنها * (سنفرغ لكم أيه الثقلان) * لكان له وجه;
ولهذا قال بعضهم: لو سمعت هذه الكلمة من خفير الحارة لم أنم.
448

النوع التاسع والعشرون
في آداب تلاوته وكيفيتها
اعلم أنه ينبغي لمح موقع النعم على من علمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه، بكونه
أعظم المعجزات، لبقائه ببقاء دعوة الاسلام، ولكونه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء
والمرسلين، فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان، لأنه كلام رب العالمين،
وأشرف كتبه جل وعلا، فلير من عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة، وليستحضر
من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه; لأن القرآن مشتمل على طلب أمور،
والكف عن أمور، وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا
فأزاغ الله قلوبهم، وأهلكوا لما عصوا، وليحذر من علم حالهم أن يعصى، فيصير
مآله مآلهم; فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقا لكتاب الله تعالى،
وصدره مصحفا له انكفتت نفسه عند التوفيق عن الرذائل، وأقبلت على العمل الصالح
الهائل. وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته، وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه
وسلم: * (ورتل القرآن ترتيلا) * وقال: * (وقرانا فرقناه لتقرأه على الناس
على مكث ونزلناه تنزيلا) *، فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله، وكمال
ترتيله تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه، والإفصاح لجميعه بالتدبر حتى يصل بكل ما بعده،
449

وأن يسكت بين النفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه، وألا يدغم حرفا في حرف; لأن أقل
ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها، وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم;
فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل.
وقيل: أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرأ به، وإن كان مستعجلا في قراءته، وأكمله
أن يتوقف فيها، ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط; فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل
فليقرأه على منازله، فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ
تعظيم لفظ به على التعظيم.
وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه، فيعرف من كل آية
معناها، ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها، فإذا مر به آية رحمة وقف عندها وفرح
بما وعده الله تعالى منها، واستبشر إلى ذلك، وسأل الله برحمته الجنة. وإن قرأ آية عذاب
وقف عندها، وتأمل معناها; فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان، فقال: آمنا بالله
وحده: وعرف موضع التخويف، ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار.
وإن هو مر بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال: " يا أيها الذين آمنوا " وقف عندها -
وقد كان بعضهم: يقول لبيك ربى وسعديك - ويتأمل ما بعدها مما أمر به ونهى عنه;
فيعتقد قبول ذلك. فإن كان من الأمر الذي قد قصر عنه فيما مضى اعتذر عن فعله في
ذلك الوقت، واستغفر ربه في تقصيره، وذلك مثل قوله: * (يا أيها الذين آمنوا قوا
أنفسكم وأهليكم نارا) *.
وعلى كل أحد أن ينظر في أمر أهله في صلاتهم وصيامهم وأداء ما يلزمهم في طهاراتهم
450

وجناياتهم، وحيض النساء ونفاسهن. وفى وعلى كل أحد أن يتفقد ذلك في أهله، ويراعيهم
بمسألتهم عن ذلك، فمن كان منهم يحسن ذلك كانت مسألته تذكيرا له وتأكيدا لما
في قلبه، وإن كان لا يحسن كان ذلك تعليما له، ثم هكذا يراعى صغار ولده ويعلمهم إذا
بلغوا سبعا أو ثماني سنين، ويضربهم إذا بلغوا العشر على ترك ذلك; فمن كان من الناس
قد قصر فيما مضى اعتقد قبوله والأخذ به فيما يستقبل، وإن كان يفعل ذلك وقد عرفه
فإنه إذا مر به تأمله وتفهمه.
وكذلك قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا) *، فإذا
قرأ هذه الآية تذكر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظلامات والغيبة
وغيرها، ورد ظلامته، واستغفر من كل ذنب قصر في عمله، ونوى أن يقوم بذلك
ويستحل كل من بينه وبينه شئ من هذه الظلامات، من كان منهم حاضرا، وأن يكتب
إلى من كان غائبا، وأن يرد ما كان يأخذه على من أخذه منه، فيعتقد هذا في وقت قراءة
القرآن حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع; فإذا فعل الانسان هذا كان قد قام بكمال
ترتيل القرآن; فإذا وقف على آية لم يعرف معناها يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها;
ليكون متعلما لذلك طالبا للعمل به، وإن كانت الآية قد اختلف فيها اعتقد من قولهم
أقل ما يكون، وإن احتاط على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له
وأحوط لأمر دينه.
وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قصص الله على الناس من خبر من مضى من الأمم فلينظر
في ذلك، وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه، فيجدد لله على ذلك شكرا.
451

وإن كان ما يقرؤه من الآي مما أمر الله به أو نهى عنه أضمر قبول الأمر والائتمار،
والانتهاء عن المنهى والاجتناب له. فإن كان ما يقرؤه من ذلك وعيدا وعد الله به المؤمنين
فلينظر إلى قلبه، فإن جنح إلى الرجاء فزعه بالخوف، وإن جنح إلى الخوف فسح له
في الرجاء; حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدلين، فإن ذلك كمال الإيمان.
وإن كان ما يقرؤه من الآي من المتشابه الذي تفرد الله بتأويله، فليعتقد الإيمان به
كما أمر الله تعالى فقال: * (فأما الذين قى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله) * يعنى عاقبة الأمر منه، ثم قال تعالى: * (وما يعلم تأويله
إلا الله) *.
وإن كان موعظة اتعظ بها، فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل.
وقال بعضهم: الناس في تلاوة القرآن ثلاثة مقامات.
الأول: من يشهد أوصاف المتكلم في كلامه ومعرفة معاني خطابه، فينظر إليه من كلامه،
وتكلمه بخطابه، وتمليه كل بمناجاته، وتعرفه من صفاته، فإن كل كلمة تنبئ عن معنى اسم،
أو وصف، أو حكم، أو إرادة، أو فعل; لأن الكلام ينبئ عن معاني الأوصاف، ويدل
على الموصوف، وهذا مقام العارفين من المؤمنين، لأنه لا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته،
ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث أنه منعم عليه، بل هو مقصور الفهم عن المتكلم،
موقوف الفكر عليه، مستغرق بمشاهدة المتكلم; ولهذا قال جعفر بن محمد الصادق: لقد
تجلى الله لخلقه بكلامه، ولكن لا يبصرون.
ومن كلام الشيخ أبى عبد الله القرشي: لو طهرت القلوب لم تشبع من التلاوة للقرآن.
الثاني: من يشهد بقلبه كأنه تعالى يخاطبه ويناجيه بألطافه، ويتملقه بإنعامه
452

وإحسانه، فمقام هذا الحياء والتعظيم، وحاله الإصغاء والفهم، وهذا لعموم المقربين.
الثالث: من يرى أنه يناجي ربه سبحانه، فمقام هذا السؤال والتمكن، وحاله الطلب;
وهذا المقام لخصوص أصحاب اليمين; فإذا كان العبد يلقى السمع من بين يدي سميعه، مصغيا
إلى سر كلامه، شهيد القلب لمعاني صفاته، ناظرا إلى قدرته، تاركا لمعقوله ومعهود
علمه، متبرئا من حوله وقوته، معظما للمتكلم، متفرغا إلى الفهم، بحال مستقيم، وقلب
سليم، وصفاء، يقين، وقوة علم، وتمكين سمع - فصل الخطاب وشهد غيب الجواب; لأن
الترتيل في القرآن، والتدبر لمعاني الكلام، وحسن الاقتصاد إلى المتكلم في الإفهام،
والإيقاف على المراد، وصدق الرغبة في الطلب - سبب للاطلاع على المطلع من المسر المكنون
المستودع. وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات، للعارف من كل جهة مقام ومشاهدات:
أولها الإيمان فلا بها، والتسليم لها، والتوبة إليها، والصبر عليها، والرضا بها، والخوف منها،
والرجا إليها، والشكر عليها، والمحبة لها، والتوكل فيها. فهذه المقامات العشر هي
مقامات المتقين، وهي منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التمكين والمناجاة، ويعرفها
أهل العلم والحياة، لأن كلام المحبوب حياة للقلوب، لا ينذر به إلا حي، ولا يحيا به إلا
مستجيب، كما قال تعالى: * (لينذر من كان حيا) *. وقال تعالى: * (إذا دعاكم
لما يحييكم) *. ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من يتنقل في العشر المقامات
المذكورة في سورة الأحزاب، أولها مقام المسلمين، وآخرها مقام الذاكرين، وبعد مقام
453

الذكر هذه المشاهدات العشر، فعندها لا تمل المناجاة، لوجود المصافاة، وعلم كيف تجلى له
تلك الصفات الإلهية في طي هذه الأدوات، ولولا استتار كنه جمال كلامه بكسوة
الحروف، لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثرى، ولا تمكن منه لفهم عظيم الكلام إلا
على حد فهم الخلق، فكل أحد يفهم عنه بفهمه الذي قسم له، حكمة منه.
قال بعض العلماء: في القرآن ميادين وبساتين، ومقاصير وعرائس، وديابيج ورياض،
فالميمات ميادين القرآن، والراءات بساتين القرآن، والحاءات غير مقاصير القرآن، والمسبحات
عرائس القرآن، والحواميم ديابيج القرآن، والمفصل رياضه، وما سوى ذلك. فإذا
دخل المريد في الميادين، وقطف من البساتين، ودخل المقاصير، وشهد العرائس، ولبس
الديابيج، أحمد وتنزه في الرياض، وسكن غرفات المقامات اقتطعه عما سواه، وأوقف ما يراه،
وشغله المشاهد له عما عداه; ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اعرفوا القرآن والتمسوا
غرائبه، وغرائبه فروضه وحدوده; فإن القرآن على خمسة: حلال، وحرام، ومحكم،
وأمثال، ومتشابه، فخذوا الحلال، ودعوا الحرام، واعملوا بالمحكم، وآمنوا بالتمشابه،
واعتبروا بالأمثال ".
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها. وقال
ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن.
قال ابن سبع في كتاب " شفاء الصدور " هذا الذي قال أبو الدرداء وابن مسعود
لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر; وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف، فهم وما
بقي من فهمه أكثر. وقال آخرون: القرآن يحتوى على سبعة وسبعين ألف علم، إذ لكل
كلمة علم، ثم يتضاعف ذلك أربعا، إذ لكل كلمة ظاهر وباطن، وحد ومطلع.
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته، وفى القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله.
454

فصل
[كراهة قراءة القرآن بلا تدبر]
تكره قراء القرآن بلا تدبر، وعليه محل حديث عبد الله بن عمرو: لا يفقه من قرأ
القرآن في أقل من ثلاث، وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة: أهذا كهذ
الشعر! وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الخوارج: يقرءون القرآن لا يجاوز
تراقيهم ولا حناجرهم " ذمهم بإحكام ألفاظه، وترك التفهم لمعانيه.
فصل
تعلم القرآن
ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان: " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "،
وفى رواية " أفضلكم ". وعن عبد الله يرفعه: " إن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته
ما استطعتم "، رواه البيهقي.
455

وروى أيضا عن أبي العالية قال: " تعلموا القرآن خمس آيات، خمس آيات، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسا خمسا "، وفى رواية:
" من تعلمه خمسا خمسا لم ينسه ".
قال أصحابنا: تعليم القرآن فرض كفاية، وكذلك حفظه واجب على الأمة، صرح به
الجرجاني في " الشافي " والعبادي وغيرهما. والمعنى فيه كما قاله الجويني ألا ينقطع عدد
التواتر فيه، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف; فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين،
وإلا فالكل آثم. فإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم، ولو كان
هناك جماعة يصلحون للتعليم وطلب من بعضهم وامتنع لم يأثم في الأصح; كما قاله النووي في
" التبيان "; وهو نظير ما صححه في كتاب السير أن المفتى والمدرس لا يأثمان بالامتناع
إذا كان هناك من يصلح غيره. وصورة المسألة فيما إذا كانت المصلحة لا تفوت بالتأخير;
فإن كانت تفوت لم يجز الامتناع، كالمصلى يريد تعلم الفاتحة ولو رده لخرج الوقت بسبب
ذهابه إلى الاخر، ولضيق الوقت عن التعليم.
وينبغي تعليمه على التأليف المعهود; فإنه توقيفي; وقد ورد عن ابن مسعود: سئل
عن الذي يقرأ القرآن منكوسا قال: ذاك منكوس القلب.
قال أبو عبيد: وجهه عندي أن يبتدئ من آخر القرآن من آخر المعوذتين;
ثم يرتفع إلى البقرة; كنحو ما تفعل الصبيان في الكتاب، لأن السنة خلاف هذا; وإنما
وردت الرخصة في تعليم الصبى والعجمي من المفصل لصعوبة السور الطوال عليهما.
456

مسألة
[جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن]
ويجوز أخذ الأجرة على التعليم،، ففي صحيح البخاري: " إن أحق ما أخذتم عليه
أجرا كتاب الله ". وقيل: إن تعين عليه لم يجز، واختاره الحليمي، وقال: استنصر
الناس المعلمين لقصرهم زمانهم على معاشرة الصبيان ثم النساء حتى أثر ذلك في عقولهم، ثم
لابتغائهم عليه الأجعال وطمعهم في أطعمة الصبيان، فأما نفس التعليم فإنه يوجب
التشريف والتفصيل.
وقال أبو الليث في كتاب " البستان ": التعليم على ثلاثة أوجه: أحدها للحسبة
ولا يأخذ به عوضا. والثاني أن يعلم بالأجرة. والثالث أن يعلم بغير شرط، فإذا أهدى
إليه قبل.
فالأول: مأجور عليه، وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والثاني: مختلف فيه، قال أصحابنا المتقدمون: لا يجوز; لقوله صلى الله عليه وسلم: " بلغوا
عنى ولو آية ". وقال جماعة من المتأخرين: يجوز، مثل عصام بن يوسف ونصر بن
يحيى وأبى نصر بن سلام. وغيرهم قالوا: والأفضل للمعلم أن يشارط الأجرة للحفظ
457

وتعليم الكتابة، فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به; لأن المسلمين قد توارثوا
ذلك واحتاجوا إليه.
وأما الثالث فيجوز في قولهم جميعا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معلما للخلق
وكان يقبل الهدية. ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة، وجعلوا له جعلا وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: " واضربوا لي معكم فيها بسهم ".
فصل
[في دوام تلاوة القرآن بعد تعلمه]
وليد من على تلاوته بعد تعلمه، قال الله تعالى مثنيا على من كان دأبه تلاوة آيات
الله: * (يتلون آيات الله آناء الليل) * وسماه ذكرا، وتوعد المعرض عنه ومن تعلمه
ثم نسيه. وفى الصحيحين: " تعاهدوا القرآن; فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا
من الإبل في عقالها ". " وقال: " بئسما لأحدهم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت
بل هو نسي [و] استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا في صدور الرجال من النعم
في عقالها ".
458

مسألة
[في استحباب الاستياك والتطهر للقراءة]
يستحب الاستياك وتطهير فمه، والطهارة للقراءة باستياكه، وتطهير بدنه بالطيب
المستحب تكريما لحال التلاوة، لابسا من الثياب ما يتجمل به بين الناس; لكونه
بالتلاوة بين يدي المنعم المتفضل بهذا الإيناس، فإن التالي للكلام، بمنزلة المكالم لذي
الكلام، وهذا غاية التشريف من فضل الكريم العلام. ويستحب أن يكون جالسا
مستقبل القبلة; سئل سعيد بن المسيب عن حديث وهو متكئ; فاستوى جالسا وقال:
أكره أن أحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متكئ; وكلام الله تعالى أولى.
ويستحب أن يكون متوضئا; ويجوز للمحدث، قال إمام الحرمين وغيره: لا يقال
إنها مكروهة، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ مع الحدث وعلى كل حال
سوى الجنابة. وفى معناها الحيض والنفاس. وللشافعي قول قديم في الحائض، تقرأ
خوف النسيان.
وقال أبو الليث: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض أقل من آية واحدة. قال: وإذا
أرادت الحائض التعلم فينبغي لها أن تلقن نصف آية، ثم تسكت ولا تقرأ آية واحدة
بدفعة واحدة. وتكره القراءة حال خروج الريح; وأما غيره من النواقض كاللمس
والمس ونحوه فيحتمل عدم الكراهة; لأنه غير مستقذر عادة، ولأنه في حال خروج
الريح يبعد بخلاف هذه.
459

مسألة
[في التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة]
يستحب التعوذ قبل القراءة، فإن قطعها قطع ترك وأراد العود جدد، وإن قطعها
لعذر عازما على العود كفاه التعوذ الأول ما لم يطل الفصل. ولا بد من قراءة البسملة
أول كل سورة تحرزا من مذهب الشافعي; وإلا كان قارئا بعض السور لا جميعها;
فإن قرأ من أثنائها استحب له البسملة أيضا، نص عليه الشافعي رحمه الله فيما
نقله العبادي.
وقال الفاسي في شرح القصيدة: كان بعض شيوخنا يأخذ علينا في الأجزاء
القرآنية بترك البسملة، ويأمرنا بها في حزب: * (الله لا إله إلا هو) *; وفى حزب:
* (إليه يرد علم الساعة) * لما فيهما بعد الاستعاذة من قبح اللفظ. وينبغي لمن أراد
ذلك أن يفعله; إذا ابتدأ مثل ذلك، نحو: * (الله الذي خلقكم) *، * (وهو الذي
460

أنشأ جنات) *; لوجود العلة المذكورة. وقد كان مكي يختار إعادة الآية قبل كل
حزب من الحزبين المذكورين للعلة المذكورة.
مسألة
ولتكن تلاوته بعد أخذه القرآن من أهل الإتقان لهذا الشأن، الجامعين بين
الدراية والرواية، والصدق والأمانة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع به جبريل
في رمضان فيدارسه القرآن.
مسألة
[في قراءة القرآن في المصحف أفضل أم على ظهر قلب]
وهل القراءة في المصحف أفضل، أم على ظهر القلب، أم يختلف الحال؟
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها من المصحف أفضل; لأن النظر فيه عبادة، فتجتمع القراءة والنظر،
وهذا قاله القاضي الحسين والغزالي، قال: وعلة ذلك أنه لا يزيد على... وتأمل المصحف
وجملة، ويزيد في الأجر بسبب ذلك. وقد قيل: الختمة في المصحف بسبع; وذكر
أن الأكثرين من الصحابة كانوا يقرءون في المصحف، ويكرهون أن يخرج يوم ولم
ينظروا في المصحف.
461

ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رحمه الله تعالى المسجد وبين يديه المصحف
فقال: شغلكم الفقه عن القرآن; إني لأصلي العتمة، وأضع المصحف في يدي فما أطبقه
حتى الصبح.
وقال عبد الله بن أحمد: كان أبى يقرأ في كل يوم سبعا من القرآن
لا يتركه نظرا.
وروى الطبراني من حديث أبي سعيد بن عون المكي عن عثمان بن عبيد الله بن أوس
الثقفي عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قراءة الرجل في غير المصحف
ألف درجة، وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك إلى ألفى درجة. وأبو سعيد قال فيه
ابن معين: لا بأس به.
وروى البيهقي في شعب الإيمان من طريقين إلى عثمان بن عبد الله بن أوس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ القرآن في المصحف كانت له ألفا حسنة، ومن
قرأه في غير المصحف - فأظنه قال - كألف حسنة ". وفى الطريق الأخرى قال:
" درجة "، وجزم بألف إذا لم يقرأ في المصحف.
وروى ابن أبي داود بسنده عن أبي الدرداء مرفوعا: " من قرأ مائتي آية كل يوم نظرا
شفع في سبعة قبور حول قبره، وخفف العذاب عن والديه وإن كانا مشركين ".
وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فضل
القرآن نظرا على من قرأ ظاهرا كفضل الفريضة على النافلة ". وبسنده عن ابن عباس قال:
كان عمر إذا دخل البيت نشر المصحف يقرأ فيه.
462

وروى أبو داود بسنده عن عائشة مرفوعا: " النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر في وجه
الوالدين عبادة، والنظر في المصحف عبادة ".
وعن الأوزاعي كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة. قال بعضهم:
وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة ولا يتركه مهجورا.
والقول الثاني: أن القراءة على ظهر القلب أفضل، واختاره أبو محمد بن عبد السلام،
فقال في أماليه: قيل القراءة في المصحف أفضل; لأنه يجمع فعل الجارحتين; وهما اللسان
والعين، والأجر على قدر المشقة. وهذا باطل; لأن المقصود من القراءة التدبر لقوله تعالى:
* (ليتدبروا آياته) *; والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود،
فكان مرجوحا.
والثالث: واختاره النووي في الأذكار: إن كان القارئ من حفظه يحصل له من
التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل.
وإن استويا فمن المصحف أفضل، وقال: وهو مراد السلف.
مسألة
[في استحباب الجهر بالقراءة]
يستحب الجهر بالقراءة; صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستحب بعضهم
463

الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها; لأن المسر قد يمل، فيأنس بالجهر، والجاهر قد
يكل فيستريح بالإسرار; إلا أن من قرأ بالليل جهر بالأكثر; وإن قرأ بالنهار أسر
بالأكثر; إلا أن يكون بالنهار في موضع لا لغو فيه ولا صخب،، ولم يكن في صلاة
فيرفع صوته بالقرآن، ثم روى بسنده عن معاذ بن جبل يرفعه: " الجاهر بالقرآن كالجاهر
بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة ". نعم من قرأ والناس يصلون فليس له أن يجهر
جهرا يشغلهم به; فإن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد،
فقال: " يا أيها الناس كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة ".
مسألة
[في كراهة قطع القرآن لمكالمة الناس]
ويكره قطع القرآن لمكالمة الناس; وذلك أنه إذا انتهى في القراءة إلى آية وحضره
كلام فقد استقبله التي بلغها والكلام، فلا ينبغي أن يؤثر كلامه على قراءة القرآن،
قاله الحليمي، وأيده البيهقي بما رواه البخاري: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم
حتى يفرغ منه.
مسألة
[في حكم قراءة القرآن بالعجمية]
لا تجوز قراءته بالعجمية سواء أحسن العربية أم لا، في الصلاة وخارجها، لقوله تعالى:
* (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) *، وقوله: * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا) *.
464

وقيل عن أبي حنيفة: تجوز قراءته بالفارسية مطلقا، وعن أبي يوسف: إن لم يحسن
العربية; لكن صح عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك، حكاه عبد العزيز في " شرح
البزرودي ".
واستقر الاجماع على أنه تجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لنقص الترجمة
عنه، ولنقص غيره من الألسن عن البيان الذي اختص به دون سائر الألسنة. وإذا لم تجز
قراءته بالتفسير العربي لمكان التحدي بنظمه. فأحرى أن لا تجوز الترجمة بلسان غيره;
ومن هاهنا قال القفال من أصحابنا: عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية،
قيل له: فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن، قال: ليس كذلك; لأن هناك يجوز أن يأتي
ببعض مراد الله ويعجز عن البعض; أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع
مراد الله، أي فإن الترجمة إبدال لفظه بلفظة تقوم مقامها، وذلك غير ممكن بخلاف التفسير.
وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره أبو الحسين بن فارس في فقه العربية أيضا
فقال: " لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقل القرآن إلى شئ من الألسن; كما نقل الإنجيل
عن السريانية إلى الحبشية والرومية، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى
بالعربية; لأن العجم لم تتسع في الكلام اتساع العرب; ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل
قوله تعالى: * (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء) * لم تستطع أن
465

تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها، وتصل مقطوعها،
وتظهر مستورها، فتقول: إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد، فخفت منهم خيانة ونقضا
فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم، وآذنهم بالحرب; لتكون أنت وهم في العلم
بالنقض على سواء، وكذلك قوله تعالى: * (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين
عددا) * " انتهى.
فظهر من هذا أن الخلاف في جواز قراءته بالفارسية لا يتحقق لعدم إمكان تصوره.
ورأيت في كلام بعض الأئمة المتأخرين أن المنع من الترجمة مخصوص بالتلاوة; فأما
ترجمته للعمل به فإن ذلك جائز للضرورة، وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان المحكم
منه، والغريب المعنى بمقدار الضرورة; من التوحيد وأركان العبادات; ولا يتعرض لما
سوى ذلك، ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي; وهذا هو الذي يقتضيه
الدليل، ولذلك لم يكتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة
لمعنى واحد; وهو توحيد الله والتبري من الإشراك; لأن النقل من لسان إلى لسان قد
تنقص الترجمة عنه كما سبق، فإذا كان معنى المترجم عنده واحدا قل وقوع التقصير فيه;
بخلاف المعاني إذا كثرت; وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لضرورة التبليغ; أو لأن
معنى تلك الآية كان عندهم مقررا في كتبهم; وإن خالفوه.
وقال الكواشي في تفسير سورة الدخان: أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية
بشريطة; وهي أن يؤدى القارئ المعاني كلها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا. قالوا:
وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة; لأن كلام العرب - خصوصا القرآن الذي هو
466

معجز - فيه من لطائف المعاني والإعراب ما لا يستقل به لسان من فارسية وغيرها.
وقال الزمخشري: ما كان أبو حنيفة يحسن الفارسية; فلم يكن ذلك منه عن
تحقيق وتبصر. وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل صاحبيه في
القراءة بالفارسية.
مسألة
[في عدم جواز القراءة بالشواذ]
ولا تجوز قراءته بالشواذ، وقد نقل ابن عبد البر الاجماع على منعه; فقد سبق
في الحديث: كان يمد مدا; يعنى أنه يمكن الحروف ولا يحذفها، وهو الذي يسميه القراء
بالتجويد في القرآن، والترتيل أفضل من الإسراع، فقراءة حزب مرتل مثلا في مقدار
من الزمان، أفضل من قراءة حزبين في مثله بالإسراع.
مسألة
[في استحباب قراءة القرآن بالتفخيم]
يستحب قراءته بالتفخيم والإعراب لما يروى: " نزل القرآن بالتفخيم "، قال الحليمي:
معناه أن يقرأ على قراءة الرجال، ولا يخضع الصوت فيه ككلام النساء، قال: ولا يدخل
في كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء. وقد يجوز أن يكون القرآن نزل بالتفخيم;
فرخص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته على لسان جبريل عليه السلام.
وروى البيهقي من حديث ابن عمر: " من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل
حرف عشرون حسنة، ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات.
467

مسأل
[في فصل السور بعضها عن بعض]
وأن يفصل كل سورة عما قبلها، إما بالوقف أو التسمية، ولا يقرأ من أخرى قبل
الفراغ من الأولى; ومنه الوقف على رؤس الآي، وإن لم يتم المعنى. قال أبو موسى
المديني: وفيه خلاف بينهم; لوقفه صلى الله عليه وسلم في قراءة الفاتحة على كل آية وإن لم يتم
الكلام. قال أبو موسى: ولأن الوقف على آخر السور لا شك في استحبابه; وقد يتعلق
بعضها ببعض; كما في سورة الفيل مع قريش.
وقال البيهقي رحمه الله وقد ذكر حديث " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية
آية ": ومتابعة السنة أولى فيما ذهب إليه أهل العلم بالقراءات من تتبع الأغراض والمقاصد.
* * *
ومنها أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهله لحفظ كتابه ويستصغر عرض
الدنيا أجمع [في جنب ما] ما خوله الله تعالى، ويجتهد في شكره. ومنها ترك المباهاة
فلا يطلب به الدنيا; بل ما عند الله; وألا يقرأ في المواضع القذرة، وأن يكون ذا سكينة
ووقار، مجانبا للذنب، محاسبا نفسه، يعرف القرآن في سمته وخلقه; لأنه صاحب كتاب
الملك والمطلع على وعده ووعيده، [وليتجنب القراءة في الأسواق، قاله الحليمي،
وألحق به الحمام. وقال النووي: لا بأس به في الطريق سرا حيث لا لغو فيها]
مسالة
[في ترك خلط سورة بسورة]
عد الحليمي من الآداب ترك خلط سورة بسورة; وذكر الحديث الآتي. قال
البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال: إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة
468

النبي صلى الله عليه وسلم وأخذه عن جبريل، فالأولى بالقارئ أن يقرأه على التأليف
المنقول المجتمع عليه; وقد قال ابن سيرين: تأليف الله خير من تأليفكم. ونقل القاضي
أبو بكر الاجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة. " وقد روى أبو داود في
سننه من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي بكر وهو يقرأ
يخفض صوته، وبعمر يجهر بصوته وذكر الحديث، وفيه فقال: وقد سمعتك يا بلال
وأنت تقرأ من هذه السورة، ومن هذه السورة " فقال: كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى
بعض; فقال: " كلكم قد أصاب ".
وفى رواية لأبى عبيد في " فضائل القرآن ": قال بلال: أخلط الطيب بالطيب،
فقال: " اقرأ السورة على وجهها " - أو قال على نحوها - وهذه زيادة مليحة. وفى رواية:
" إذا قرأت السورة فأنفذها ".
وروى عن خالد بن الوليد أنه أم الناس فقرأ من سور شتى، ثم التفت إلى الناس
حين انصرف، فقال: شغلني الجهاد عن تعلم القرآن.
وروى المنع عن ابن سيرين. ثم قال أبو عبيد: الأمر عندنا على الكراهة في قراءة القراء
هذه الآيات المختلفة; كما أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلال، وكما اعتذر خالد عن
فعله، ولكراهة ابن سيرين له. ثم قال: إن بعضهم روى حديث بلال، وفيه: فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: " كل ذلك حسن "، وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء. انتهى.
ورواه الحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "; وزاد " مثل بلال كمثل نحلة غدت
تأكل من الحلو والمر، ثم يصير حلوا كله ".
قال: وإنما شبهه بالنحلة في ذلك; لأنها تأكل من الثمرات: حلوها وحامضها،
ورطبها ويابسها، وحارها وباردها; فتخرج هذا الشفاء; وليست كغيرها من الطير تقتصر
على الحلو فقط لحظ شهوته فلا جرم أعاضها الله الشفاء فيما تلقيه; كقوله عليكم
469

بألبان البقرة فإنها ترم من كل الشجر فتأكل ". فبلال رضي الله عنه كان يقصد آيات
الرحمة وصفات الجنة; فأمره أن يقرأ السورة على نحوها كما جاءت ممتزجة; كما أنزل الله
تعالى; فإنه أعلم بدواء العباد وحاجتهم، ولو شاء لصنفها أصنافا، وكل صنف على حدة;
ولكنه مزجها لتصل القلوب بنظام لا يمل، قال: ولقد أذهلني النبي يوما قوله تعالى: * (ويوم
تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا. الملك يومئذ الحق للرحمن) *
فقلت: يا لطيف; علمت أن قلوب أوليائك الذين يعقلون هذه الأوصاف عنك وتتراءى
لهم تلك الأهوال لا تتمالك; فلطفت بهم فنسبت * (الملك) * إلى أعم اسم في الرحمة،
فقلت: * (الرحمن) * ليلاقى وإن هذا الاسم تلك القلوب التي يحل بها الهول، فيمازج تلك
الأهوال، ولو كان بدله اسما آخر، من " عزيز وجبار " لتفطرت القلوب، فكان
بلال يقصد لما تطيب به النفوس، فأمره أن يقرأ على نظام رب العالمين; فهو أعلم بالشفاء.
مسألة
[في استحباب استيفاء الحروف عند القراءة]
يستحب استيفاء كل حرف أثبته قارئ. قال الحيمى: كما هذا ليكون القارئ قد أتى
على جميع ما هو قرآن; فتكون ختمة أصح من ختمة إذا ترخص بحذف حرف أو كلمة
قرئ بهما. ألا ترى أن صلاة كل من استوفى كل فعل امتنع عنه كانت صلاته أجمع من
صلاة من ترخص فحذف منها مالا يضر حذفه.
فصل
[ختم القرآن]
ويستحب ختم القرآن في كل أسبوع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اقرأ القرآن في
470

في كل سبع ولا تزد ". رواه أبو داود. وروى الطبراني بسند جيد: سئل أصحاب رسول الله
صلى الله عليه: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئ القرآن، قال:
كان يجزئه ثلاثا وخمسا، وكره قوم قراءته في أقل من ثلاث، وحملوا عليه حديث:
" لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث " رواه الأربعة، وصححه الترمذي، والمختار -
وعليه أكثر المحققين - أن ذلك يختلف بحال الشخص في النشاط والضعف والتدبر والغفلة;
لأنه روى عن عثمان رضي الله عنه; كان يختمه في ليلة واحدة. ويكره تأخير ختمه أكثر
من أربعين يوما. رواه أبو داود.
وقال أبو الليث في كتاب " البستان ": ينبغي أن القرآن في السنة مرتين إن لم
يقدر على الزيادة. وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: من قرأ القرآن في كل
سنة مرتين فقد أدى للقرآن حقه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرضه على جبريل في
السنة التي قبض فيها مرتين. انتهى
وقال أبو الوليد الباجي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بن عمرو أن يختم
في سبع أو ثلاث يحتمل أنه الأفضل في الجملة أو أنه الأفضل في حق ابن عمرو لما علم من
ترتيله في قراءته، وعلم من ضعفه عن استدامته أكثر مما حد له. وأما من استطاع أكثر
من ذلك فلا تمنع الزيادة عليه. وسئل مالك عن الرجل يختم القرآن في كل ليلة فقال:
ما أحسن ذلك! إن القرآن إمام كل خير.
وقال بشر بن السرى: إنما الآية مثل التمرة كلما مضغتها استخرجت حلاوتها. فحدث
به أبو سليمان، فقال: صدق; إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها.
471

مسألة هو
[في ختم القرآن في الشتاء وفى الصيف]
يسن ختمه في الشتاء أول الليل، وفى الصيف أول النهار; قال ذلك ابن المبارك،
وذكره أبو داود لأحمد، فكأنه أعجبه. ويجمع أهله عند ختمه ويدعو.
وقال بعض السلف: إذا ختم أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسى، وإذا ختم
في أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح. رواه أبو داود.
مسألة
[في التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى]
يسحب التكبير من أول سورة الضحى; إلى أن يختم; وهي قراءة أهل مكة;
أخذها ابن كثير عن مجاهد، ومجاهد عن ابن عباس، وابن عباس عن أبي، وأبى عن
النبي صلى الله عليه وسلم; رواه ابن خزيمة، والبيهقي في شعب الإيمان وقواه ورواه من
طريق موقوفا على أبي بسند معروف; وهو حديث غريب، وقد أنكره أبو حاتم
الرازي على عادته [في] التشديد; واستأنس له الحليمي بأن القراءة تنقسم إلى أبعاض
472

متفرقة; فكأنه كصيام الشهر; وقد أمر الناس أنه إذا أكملوا العدة أن يكبروا
الله على ما هداهم. فالقياس أن يكبر القارئ إذا أكمل عدة السور.
وذكر غيره أن التكبير [كان] لاستشعار انقطاع الوحي; قال: وصفته في آخر
هذه السور أنه كلما ختم سورة وقف وقفة، ثم قال: الله أكبر، ثم وقف وقفة ثم ابتدأ
السورة التي تليها إلى آخر القرآن. ثم كبر كما كبر من قبل، ثم أتبع التكبير الحمد،
والتصديق، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء.
وقال سليم الرازي في تفسيره: يكبر القارئ بقراءة ابن كثير إذا بلغ
" والضحى " بين كل سورتين تكبيرة; إلى أن يختم القرآن ولا يصل آخر السورة
بالتكبير; بل يفصل بينهما بسكتة; وكأن المعنى في ذلك ما روى أن الوحي كان تأخر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما فقال ناس: إن محمدا قد ودعه صاحبه وقلاه،
فنزلت هذه السورة، فقال: الله أكبر،. قال: ولا يكبر في قراءة الباقين; ومن حجتهم
أن في ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن; بأن زيد عليه فيتوهم أنه من القرآن
فيثبتوه إن فيه.
مسألة
[في تكرير الإخلاص]
مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم; نص الإمام أحمد على
473

المنع; ولكن عمل الناس على خلافه; قال بعضهم: والحكمة في التكرير ما ورد أنها تعدل
ثلث القرآن; فيحصل بذلك ختمة.
فإن قيل: فعلى هذا كان ينبغي أن يقرأ ثلاثا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة;
فيحصل ختمتان.
قلنا: مقصود الناس ختمة واحدة; فإن القارئ إذا قرأها ثم أعادها مرتين كان
على يقين من حصول ختمة; إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن، وإما [التي
حصل] ثوابها بقراءة سورة الإخلاص ثلاثا، وليس المقصود ختمة أخرى.
مسألة
[فيما يفعله القارئ عند ختم القرآن]
ثم إذا ختم وقرأ المعوذتين قرأ الفاتحة وقرأ خمس آيات من البقرة إلى قوله: * (هم
المفلحون) * لأن " آلم " آية عند الكوفيين، وعند غيرهم بعض آية. وقد روى الترمذي:
أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الحال المرتحل، قيل المراد به الحث على تكرار الختم وختمة
بعد ختمة; وليس فيه ما يدل على أن الدعاء لا يتعقب الختم.
474

فائدة
روى البيهقي في دلائل النبوة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند
ختم القرآن: اللهم ارحمني بالقرآن، واجعله لي أمانا ونورا وهدى ورحمة، اللهم ذكرني
منه ما نسيت، وعلمني فيه منه ما جهلت، وارزقني تلاوته آناء الليل، واجعله لي حجة يا رب
العالمين. رواه في شعب الإيمان بأطول من ذلك. فلينظر فيه.
مسألة
[في آداب الاستماع]
استماع القرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المحثوث
عليها، ويكره التحدث بحضور
القراءة، قال الشيخ أبو محمد عبد السلام: والاشتغال عن السماع بالتحدث بما لا يكون
أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع، وهو يقتضى أنه لا بأس بالتحدث للمصلحة.
مسألة
[في حكم من يشرب شيئا كتب من القرآن]
وأفتى الشيخ أيضا بالمنع من أن يشرب شيئا كتب من القرآن، لأنه تلاقيه
النجاسة الباطنة.
وفيما قاله نظر; لأنها في معدنها لا حكم لها.
475

وممن صرح بالجواز من أصحابنا العماد النيهى تلميذ البغوي فيما رأيته بخط
ابن الصلاح.
قال: لا يجوز ابتلاع رقعة فيها آية من القرآن، فلو غسلها وشرب ماءها جاز. وجزم
القاضي الحسين، والرافعي بجواز أكل الأطعمة التي كتب عليها شئ من القرآن.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي في ذكر منصور بن عمار: أنه أوتى
الحكمة: وقيل إن سبب ذلك أنه وجد رقعة في الطريق مكتوبا عليها: * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *، فأخذها فلم يجد لها موضعا، فأكلها، فأرى فيما يرى للنائم كأن
قائلا [قد] قال له: قد فتح الله عليك باحترامك لتلك الرقعة فكان بعد ذلك يتكلم بالحكمة.
مسألة
[القيام للمصاحف بدعة]
وقال الشيخ أيضا في " القواعد ": القيام للمصاحف بدعة لم تعهد في الصدر الأول،
476

والصواب ما قاله النووي في " التبيان " من استحباب ذلك والأمر به لما فيه من
التعظيم وعدم التهاون به. وسئل العماد بن يونس الموصلي عن ذلك: هل يستحب للتعظيم
أو يكره خوف الفتنة؟ فأجاب: لم يرد في ذلك نقل مسموع، والكل جائز، ولكل
نيته وقصده.
مسألة
[في حكم الأوراق البالية من المصحف]
وإذا احتيج لتعطيل بعض أوراق المصحف لبلاء ونحوه فلا يجوز وضعه في شق
أو غيره ليحفظ لأنه قد يسقط ويوطأ، ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقة
الكلم; وفى ذلك إزراء بالمكتوب - كذا قاله الحليمي; قال: وله غسلها بالماء، وإن
أحرقها بالنار فلا بأس، أحرق عثمان مصاحف فيها آيات وقراءات منسوخة، ولم
ينكر عليه.
وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل; لأن الغسالة قد تقع على الأرض، وجزم
القاضي الحسين في " تعليقه " بامتناع الإحراق; وأنه خلاف الاحترام، والنووي
بالكراهة، فحصل ثلاثة أوجه.
وفى " الواقعات " من كتب الحنفية أن المصحف إذا بلى لا يحرق بل تحفر له في
الأرض، ويدفن.
ونقل عن الإمام أحمد أيضا. وقد يتوقف فيه لتعرضه للوطء بالأقدام.
477

مسألة
[في أحكام تتعلق باحترام المصحف وتبجيله]
ويستحب تطييب المصحف وجعله على كرسي، ويجوز تحليته بالفضة إكراما له على
الصحيح، روى البيهقي بسنده إلى الوليد بن مسلم قال: سألت مالكا عن تفضيض
المصاحف، فأخرج إلينا مصحفا فقال: حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد
عثمان رضي الله عنه، وأنهم فضضوا المصاحف على هذا ونحوه: وأما بالذهب فالأصح يباح
للمرأة دون الرجل، وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته المنفصلة عنه;
والأظهر التسوية.
ويحرم توسد المصحف وغيره من كتب العلم; لأن فيه إذلالا وامتهانا، وكذلك مد
الرجلين إلى شئ من القرآن أو كتب العلم.
ويستحب تقبيل المصحف; لأن عكرمة بن أبي جهل كان يقبله، وبالقياس على تقبيل
الحجر الأسود; ولأنه هدية لعباده، فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير.
وعن أحمد ثلاث روايات: الجواز، والاستحباب، والتوقف.
وإن كان فيه رفعة وإكرام، لأنه لا يدخله قياس; ولهذا قال عمر في الحجر: لولا
أبى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ويحرم السفر بالقرآن إلى أرض العدو للحديث فيه: خوف أن تناله أيديهم. وقيل:
إن كثر الغزاة وأمن استيلاؤهم عليه لم يمنع; لقوله: " مخافة أن تناله أيديهم ".
478

ويحرم كتابة القرآن بشئ نجس; وكذلك ذكر الله تعالى; وتكره كتابته في
القطع الصغير; رواه البيهقي عن علي وغيره. وعنه تنوق رجل في * (بسم الله الرحمن
الرحيم) * فغفر له.
وقال الضحاك بن مزاحم: ليتني قد رأيت الأيدي تقطع فيمن كتب * (بسم الله
الرحمن الرحيم) *. يعنى لا يجعل له سنات. قال: وكان ابن سيرين يكره ذلك كراهة شديدة
ويستحب تجريد المصحف عما سواه. وكرهوا الأعشار والأخماس معه، وأسماء السور
وعدد الآيات. وكانوا يقولون: جردوا المصحف. وقال الحليمي: يجوز، لأن النقط ليس له
قرار فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا; وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها
لمن يحتاج إليها.
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه في الصلاة وفى فضائل القرآن: حدثنا وكيع، عن
سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: قال عبد الله بن مسعود: جردوا القرآن. وفى
رواية: لا تلحقوا به ما ليس منه. ورواه عبد الرزاق في مصنفه في أواخر الصوم. ومن طريقه
رواه الطبراني في معجمه، ومن طريق ابن أبي شيبة رواه إبراهيم الحربي في كتابه " غريب
الحديث ". وقال: قوله: " جردوا "، يحتمل فيه أمران: أحدهما أي جردوه في التلاوة ولا
تخلطوا به غيره، والثاني أي جردوه في الخط من النقط والتعشير.
قلت: الثاني أولى لأن الطبراني أخرج في معجمه عن مسروق عن ابن مسعود أنه كان
يكره التعشير في المصحف. وأخرجه البيهقي في كتاب " المدخل "، وقال: قال أبو عبيد:
كان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف. ويروى عن عبد الله أنه كره التعشير في
المصحف. قال البيهقي: وفيه وجه آخر أبين منه، وهو أنه أراد: لا تخلطوا به غيره من
الكتب; لأن ما خلا القرآن من كتب الله تعالى إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى;
479

وليسوا بمأمونين عليها. وقوى هذا الوجه بما أخرجه عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال:
لما خرجنا إلى العراق خرج معنا عمر بن الخطاب يشيعنا فقال: إنكم تأتون أهل قرية لهم
دوى بالقرآن كدوي النحل فلا تشغلوهم بالأحاديث فتصدوهم، جردوا القرآن.
قال: فهذا معناه أي لا تخلطوا معه غيره.
خاتمة
روى البخاري في تاريخه الكبير بسند صالح حديث: " من قرأ القرآن عند ظالم ليرفع
منه، لمن بكل حرف عشر لعنات ".
480

النوع الثلاثون
في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب ى وقال
استعمال بعض آيات القرآن
وهل يقتبس منه في شعر ويغير نظمه بتقديم وتأخير
وحركة إعراب
جوز ذلك بعضهم للمتمكن من العربية; وسئل الشيخ عز الدين فقال: ورد عنه
صلى الله عليه وسلم: " وجهت وجهي "، والتلاوة * (إني وجهت وجهي) *.
وما روى البخاري في كتاب إلى هرقل: " سلام على من اتبع الهدى " * (يأهل
الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء) *.
ومن دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم آتنا في الدنيا حسنة ".
وفى حديث آخر لابن عمر: " قد كان لكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم
أسوة حسنة ".
وقال عليه السلام: " اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنا، والشمس والقمر
حسبانا، اقض عنى الدين، وأغنني من الفقر ".
481

وفى سياق كلام لأبى بكر: * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) *،
فقصد الكلام ولم يقصد التلاوة.
وقول علي رضي الله عنه: إني مبايع صاحبكم * (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) *.
وقول الخطيب ابن نباتة: هناك يرفع الحجاب، ويوضع الكتاب، ويجمع
من له الثواب، وحق عليه العذاب، فضرب بينهم بسور له باب.
وقال النووي رحمه الله: إذا قال: * (خذ الكتاب بقوة) * وهو جنب، وقصد
غير القرآن جاز له، وله أن يقول: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين.
قال إمام الحرمين: إذا قصد القرآن بهذه الآيات عصى، وإن قصد الذكر ولم يقصد
شيئا لم يعص.
وللطرطوشي:
- رحل الظاعنون عنك وأبقوا * في حواشي الأحشاء وجدا مقيما -
- قد وجدنا السلام بردا سلاما * إذ وجدنا النوى عذابا أليما -
وثبت عن الشافعي:
482

- أنلني بالذي استقرضت خطا * وأشهد معشرا قد شاهدوه -
- فإن الله خلاق البرايا * عنت لجلال هيبته الوجوه -
- يقول " إذا تداينتم بدين * إلى أجل مسمى فاكتبوه " -
ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني أن تضمين القرآن في الشعر مكروه، وأئمة البيان
جوزوه وجعلوه من أنواع البديع، وسماه القدماء تضمينا والمتأخرون اقتباسا، وسموا
ما كان من شعر تضمينا.
مسألة
[يكره ضرب الأمثال بالقرآن]
يكره ضرب الأمثال بالقرآن، نص عليه من أصحابنا العماد النيهى صاحب البغوي، كما
وجدته في " رحلة ابن الصلاح " بخطه.
وفى كتاب " فضائل القرآن " لأبى عبيد عن النخعي قال: كانوا يكرهون أن يتلو
الآية عند شئ يعرض من أمور الدنيا.
قال أبو عبيد: وكذلك الرجل يريد لقاء صاحبه أو يهم بحاجته، فيأتيه من غير طلب،
فيقول كالمازح: * (جئت على قدر يا موسى) *; فهذا من الاستخفاف بالقرآن; ومنه
قول ابن شهاب: لا تناظر بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبيد: يقول: لا تجعل لهما نظيرا من القول ولا الفعل.
483

تنبيه
[لا يجوز تعدى أمثلة القرآن]
لا يجوز تعدى أمثلة القرآن; ولذلك أنكر على الحريري في قوله في مقامته الخامسة عشرة
" فأدخلني بيتا أحرج من التابوت، وأوهى من بيت العنكبوت "، فأي معنى أبلغ
من معنى أكده الله من ستة أوجه; حيث قال: * (وإن أوهن البيوت لبيت
العنكبوت) * فأدخل إن، وبنى أفعل التفضيل، وبناه من الوهن، وأضافه إلى الجمع،
وعرف الجمع باللام، وأتى في خبر إن باللام! وقد قال تعالى: * (وإذا قلتم فاعدلوا) *;
وكان اللائق بالحريري فقال ألا يتجاوز هذه المبالغة وما بعد تمثيل الله تمثيل; وقول الله أقوم قيل،
وأوضح سبيل; ولكن قال الله تعالى: * (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة) *،
وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثالا لما دون ذلك فقال: " لو كانت الدنيا تزن
عند الله جناح بعوضة... " وكذلك قول بعضهم:
- ولو أن ما بي من جوى وصبابة * على جمل لم يبق في النار خالد -
غفر الله له; والله تعالى يقول: * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في رسم
الخياط) * فقد جعل ولوج الجمل في السم غاية لنفى دخولهم الجنة، وتلك غاية لا توجد، فلا
يزال دخولهم الجنة منفيا، وهذا الشاعر وصف جسمه بالنحول، بما يناقض الآية. ومن هذا جرت
484

جرت مناظرة بين أبى العباس أحمد بن سريج، ومحمد بن داود الظاهري; قال أبو العباس له:
أنت تقول بالظاهر وتنكر القياس، فما تقول في قول الله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا
يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * فمن يعمل مثقال نصف ذرة ما حكمه؟ فسكت
محمد طويلا وقال: أبلعني ريقي; قال له أبو العباس: قد أبلعتك دجلة، قال: أنظرني
ساعة، قال: أنظرتك إلى قيام الساعة، وافترقا، ولم يكن بينهما غير ذلك.
وقال بعضهم: وهذا من مغالطات ابن سريج وعدم تصور ابن داود; لأن الذرة ليس
لها أبعاض فتمثل بالنصف والربع وغير ذلك من الأجزاء; ولهذا قال سبحانه: * (إن الله
لا يظلم مثقال ذرة) * فذكر سبحانه مالا يتخيل في الوهم أجزاؤه، ولا يدرك تفرقه.
485

النوع الحادي والثلاثون
معرفة الأمثال
الكائنة فيه
وقد روى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن القرآن نزل
على خمسة أوجه: حلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فاعملوا بالحلال، واجتنبوا
الحرام، واتبعوا المحكم، وآمنوا بالمتشابه، واعتبروا بالأمثال.
وقد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن. فقال: ثم معرفة
ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته، المثبتة لاجتناب معصيته، وترك الغفلة عن
الحفظ، والازدياد من نوافل الفضل. انتهى.
وقد صنف فيه من المقدمين الحسن بن الفضل وغيره.; وحقيقته اخراج الأغمض
إلى الأظهر; وهو قسمان: ظاهر وهو المصرح به، وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه،
وحكمه حكم الأمثال.
وقسمه أبو عبد الله البكراباذي إلى أربعة أوجه: أحدها اخراج ما لا يقع عليه الحس
إلى ما يقع عليه، وثانيها اخراج ما لا يعلم ببديهة العقل إلى ما يعلم بالبديهة،، وثالثها اخراج
ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، ورابعها اخراج مالا قوة له من الصفة إلى ما له
قوة. انتهى.
وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة: التذكير، والوعظ، والحث،
486

والزجر، والاعتبار، والتقرير وترتيب المراد للعقل، وتصويره في صورة المحسوس;
بحيث يكون نسبته للفعل كنسبة المحسوس إلى الحس. وتأتي أمثال القرآن مشتملة
على بيان تفاوت الأجر، وعلى المدح والذم، وعلى الثواب والعقاب، وعلى تفخيم الأمر أو
تحقيره، وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر، قال تعالى: * (وضربنا لكم الأمثال) *،
فامتن علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد، وقال تعالى: * (ولقد ضربنا للناس في هذا
القرآن من كل مثل) *، وقال: * (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا
العالمون) *.
والأمثال مقادير الأفعال، والمتمثل به كالصانع الذي يقدر صناعته، كالخياط يقدر
الثوب على قامة المخيط، ثم يفريه، ثم يقطع. وكل شئ به قالب ومقدار، وقالب الكلام
ومقداره الأمثال.
وقال الخفاجي: سمى مثلا لأنه ماثل بخاطر الانسان أبدا، أي شاخص، فيتأسى به
ويتعظ، ويخشى ويرجو، والشاخص المنتصب. وقد جاء بمعنى الصفة، كقوله تعالى:
* (ولله المثل الأعلى) * أي الصفة العليا، وهو قول " لا إله إلا الله "، وقوله: * (مثل
الجنة التي وعد المتقون) * أي صفتها.
ومن حكمته تعليم البيان; وهو من خصائص هذه الشريعة، والمثل أعون شئ
على البيان.
فإن قلت: لماذا كان المثل عونا على البيان، وحاصله قياس معنى بشئ، من عرف
ذلك المقيس فحقه الاستغناء عن شبيهه، ومن لم يعرفه لم يحدث التشبيه عنده معرفة!
487

والجواب أن الحكم والأمثال تصور المعاني تصور الأشخاص; فإن الأشخاص
والأعيان أثبت في الأذهان، لاستعانة الذهن فيها بالحواس: بخلاف المعاني المعقولة; فإنها
مجردة عن الحس ولذلك دقت; ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل إلا بأن يكون المثل
المضروب مجربا مسلما عند السامع.
وفى ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يخفى; إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي
بالجلي، والشاهد بالغائب، فالمرغب هذا في الإيمان مثلا إذا مثل له بالنور تأكد في قلبه
المقصود، والمزهد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه.
وفيه أيضا تبكيت الخصم، وقد أكثر تعالى في القرآن وفى سائر كتبه من الأمثال وفى
سور الإنجيل سورة الأمثال.
قال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني، وإدناء المتوهم من المشاهد;
فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله، وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك;
فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلا بأمر استدعته حال الممثل له، ألا ترى أن
الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور، وأن الباطل لما كان بضده تمثل له
بالظلمة، وكذلك جعل بيت العنكبوت مثلا في الوهن والضعف.
والمثل هو المستغرب، قال الله تعالى: * (ولله المثل الأعلى) *، وقال تعالى:
* (مثل الجنة التي وعد المتقون) *; ولما كان المثل السائر فيه غرابة استعير لفظ
المثل للحال، أو الصفة، أو القصة، إذا كان لها شأن وفيها غرابة.
488

أما استعارته للحال فكقوله: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *; أي حالهم
العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا.
وأما استعارته للوصف فكقوله تعالى: * (ولله المثل الأعلى) * أي الوصف الذي
له شأن، وكقوله: * (مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل) *، وكقوله: * (كمثل
صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا) * وقوله: * (كمثل العنكبوت
اتخذت بيتا) *، وقوله سبحانه: * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) *.
وأما استعارته للقصة ثم فكقوله تعالى: * (مثل الجنة التي وعد المتقون) * أي
فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة; ثم أخذ في بيان عجائبها.
لا يقال: إن في هذه الأقسام الثلاثة تداخلا; فإن حال الشئ هي وصفه، ووصفه هو
حاله; لأنا نقول: الوصف يشعر ذكره بالأمور الثابتة الذاتية أو قاربها من جهة اللزوم للشئ
وعدم الانفكاك عنه، وأما الحال فيطلق على ما يتلبس به الشخص مما هو غير ذاتي له
ولا لازم، فتغايرا. وإن أطلق أحدهما على الآخر فليس ذلك إطلاقا حقيقيا. وقد يكون
الشئ مثلا له في الجرم، وقد يكون ما تعلقه النفس ويتوهم من الشئ مثلا، كقوله تعالى:
* (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *; معناه أن الذي يتحصل في النفس الناظر في
أمرهم، كالذي يتحصل في نفس الناظر من أمر المستوقد; قاله ابن عطية، وبهذا يزول
الإشكال الذي في تفسير قوله: * (مثل الجنة) * وقوله: * (ليس كمثله شئ) *;
لأن ما يحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفى ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شئ;
489

وذلك المتحصل هو المثل الأعلى; في قوله تعالى: * (ولله المثل الأعلى) *، وقد جاء:
* (أنه لا إله إلا الله) * ففسر بجهة الوحدانية.
وقال مجاهد في قوله تعالى: * (وقد خلت من قبلهم المثلات) *: هي
الأمثال، وقيل: العقوبات.
وقال الزمخشري: المثل في الأصل بمعنى المثل، أي النظير; يقال: مثل
ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه. ثم قال: ويستعار للحال، أو الصفة، أو القصة إذا
كان لها شأن وفيها غرابة. انتهى.
وظاهر كلام أهل اللغة أن " المثل "، بفتحتين: الصفة كقوله: * (مثلهم كمثل
الذي استوقد نارا) *، وكذا * (مثل الجنة) *. وما اقتضاه كلامه من اشتراط
الغرابة مخالف أيضا لكلام اللغويين. وما قاله من أن المثل والمثل بمعنى ينبغي أن
يكون مراده باعتبار الأصل وهو الشبه; وإلا فالمحققون - كما قاله ابن العربي - على أن المثل
(بالكسر) عبارة عن شبه المحسوس، وبفتحها عيارة عن شبه المعاني المعقولة; فالإنسان
مخالف للأسد في صورته مشبه له في جراءته وحدته، فيقال للشجاع أسد، أي يشبه
الأسد في الجرأة، ولذلك يخالف الانسان الغيث في صورته، والكريم من الانسان
يشابهه في عموم منفعته.
وقال غيره: لو كان المثل والمثل سيان للزم التنافي بين قوله: * (ليس كمثله
شئ) *، وبين قوله * (ولله المثل الأعلى) * فإن الأولى نافية له والثانية مثبتة له.
490

وفرق الإمام فخر الدين بينهما بأن المثل هو الذي يكون مساويا للشئ في تمام الماهية،
والمثل هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية.
وقال حازم في كتاب " منهاج البلغاء ": وأما الحكم والأمثال; فإما أن يكون
الاختيار فيها بجري الأمور على المعتاد فيها، وإما بزوالها في وقت عن المعتاد; عن جهة
الغرابة أو الندور فقط، لتوطن رسول النفس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه; إذ لا يحسن منها
التحرز من ذلك، ولتحذر ما يمكنها التحرز منه ويحسن بها ذلك، ولترغب فيما يجب أن
يرغب فيه، وترهب فيما يجب أن ترهبه، وليقرب عندها ما تستبعده، ويبعد لديها تستقر به;
وليبين لها أسباب الأمور، وجهات الاتفاقات البعيدة الاتفاق بها; فهذه قوانين الأحكام
والأمثال; قلما يشذ عنها من جزئياتها شئ.
فمنه قوله: * (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا) *.
وقوله: * (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق) *.
وقوله: * (إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *.
وقوله: * (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت
بيتا) *.
وقوله: * (كمثل الحمار يحمل أسفارا) *.
وقوله: * (ضرب الله مثلا للذين كفروا) * إلى قوله: * (ومريم ابنة
عمران...) * الآيات.
491

وقوله: * (كمثل صفوان عليه تراب...) * الآية.
وقوله: * (الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا
جاءه لم يجده شيئا) *، ثم قال: * (أو كظلمات في بحر لجي...) * الآية.
وقوله تعالى: * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) *.
فهذه أمثال قصار وطوال مقتضية من كلام الكشاف.
* * *
فإن قلت: في بعض هذه الأمثلة تشبيه أشياء بأشياء لم يذكر فيها المشبهات: وهلا
صرح بها; كما في قوله تعالى: * (وما يستوى الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا
الصالحات ولا المسئ قليلا ما تذكرون) *؟
قلت: كما جاء ذلك تصريحا فقد جاء مطويا، ذكره على طريق الاستعارة، كقوله
تعالى: * (وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج) *،
وكقوله: * (ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل
يستويان) *.
والصحيح الذي عليه علماء البيان أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة المقربة
لا يتكلف لكل واحد شئ بقدر شبهه به; بناء على أن العرب تأخذ أشياء فرادى
معزولا بعضها من بعض، تشبهها بنظائرها، كما جاء في بعض الآيات من القرآن. وقد
تشبه أشياء قد تضامت وتلاحقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها، وذلك كقوله
492

تعالى: * (مثل الذين حملوا التوارة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا) *،
فإن الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار الذي
يحمل أسفار الحكمة، وليس له من حملها إلا الثقل والتعب من غير فائدة. وكذلك
قوله تعالى: * (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) *، المراد قلة
ثبات زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضرة.
وقد ضرب الله تعالى لما أنزله من الإيمان والقرآن مثلين، مثله بالماء، ومثله بالنار،
فمثله بالماء لما فيه من الحياة، وبالنار لما
فيه من النور والبيان; ولهذا سماه الله روحا لما
فيه من الحياة وسماه نورا لما فيه من الإنارة; ففي سورة الرعد قد مثله بالماء فقال:
* (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها...) * الآية، فضرب الله
الماء الذي نزل من السماء فتسيل الأودية بقدرها، كذلك ما ينزله من العلم والإيمان
فتأخذه القلوب كل قلب بقدره، والسيل يحتمل زبدا رابيا، كذلك ما في القلوب يحتمل
شبهات وشهوات. ثم قال: * (ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع
زبد مثله) *; وهذا المثل بالنار التي توقد على الذهب والفضة والرصاص والنحاس
فيختلط بذلك زبد أيضا كالزبد الذي يعلو السيل، قال الله تعالى: * (فأما الزبد فيذهب
جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) *، كذلك العلم النافع يمكث في
القلوب بالتوحيد وعبادة الله وحده.
روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد،
493

يقول. كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته، وكذلك يضمحل
الباطل عن أهله.
وفى الحديث الصحيح: " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل
غيث أصاب أرضا فكان منا طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير،
وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس واستقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة
إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، وذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه
ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله
الذي أرسلت به ".
وقد ضرب الله للمنافقين مثلين: مثلا بالنار، ومثلا بالمطر، فقال: * (مثلهم كمثل الذي
استوقد نارا...) * الآية، يقال: أضاء الشئ وأضاءه حدثنا غيره فيستعمل لازما ومتعديا،
فقوله: * (أضاءت ما حوله) * هو متعد; لأن المقصود أن تضئ النار ما حول من يريدها
حتى يراها، وفى قوله في البرق: * (كلما أضاء لهم) *، ذكر اللازم; لأن البرق بنفسه
يضئ بغير اختيار الانسان; فإذا أضاء البرق سار، وقد لا يضئ ما حول الانسان، إذ
يكون البرق وصل إلى مكان دون مكان، فجعل سبحانه المنافقين كالذي أوقد نارا
فأضاءت ثم ذهب ضوءها، ولم يقل " انطفأت "، بل قال: * (ذهب الله بنورهم) *;
وقد يبقى مع ذهاب النور حرارتها فتضر. وهذا المثل يقتضى أن المنافق حصل له نور ثم
494

ذهب، كما قال الله تعالى: * (ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم
لا يفقهون) *.
* * *
[تم بعون الله وجميل توفيقه الجزء الأول من كتاب البرهان في علوم القرآن للامام بدر الدين الزركشي.
ويليه الجزء الجزء الثاني، وأوله: النوع الثاني والثلاثون - معرفة أحكامه].
495