الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٣
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة الحج
سبعون وست آيات وهي مكية إلا ثلاث آيات هذان خصمان - إلى قوله - صراط الحميد
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ياأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمآ أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) *.
اعلم أنه تعالى أمر الناس بالتقوى فدخل فيه أن يتقي كل محرم ويتقي ترك كل واجب وإنما دخل فيه الأمران، لأن المتقي إنما يتقي ما يخافه من عذاب الله تعالى فيدع لأجله المحرم ويفعل لأجله الواجب، ولا يكاد يدخل فيه النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب، وإنما يرجو بفعلها الثواب فإذا قال: * (اتقوا ربكم) * فالمراد اتقوا عذاب ربكم.
أما قوله: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الزلزلة شدة حركة الشيء، قال صاحب الكشاف ولا تخلو الساعة من أن تكون على تقدير الفاعلة لها كأنها هي التي تزلزل الأشياء على المجاز الحكمي فتكون الزلزلة مصدرا مضافا إلى فاعله أو على تقدير المفعول فيها على طريقة الاتساع في الظرف وإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: * (بل مكر الليل والنهار) * (سبأ: 33) وهي الزلزلة المذكورة في قوله: * (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * (الزلزلة: 1).
المسألة الثانية: اختلفوا في وقتها فعن علقمة والشعبي أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا وهي التي يكون معها طلوع الشمس من مغربها. وقيل هي التي تكون معها الساعة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الصور " إنه قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع، ونفخة الصعقة، ونفخة القيام لرب العالمين، وإن عند نفخة الفزع يسير الله الجبال وترجف الراجفة، تتبعها الرادفة، قلوب
2

يومئذ واجفة، وتكون الأرض كالسفينة تضربها الأمواج أو كالقنديل المعلق ترجرجه الرياح " وقال مقاتل وابن زيد هذا في أول يوم من أيام الآخرة. واعلم أنه ليس في اللفظ دلالة على شيء من هذه الأقسام، لأن هذه الإضافة تصح وإن كانت الزلزلة قبلها، وتكون من أماراتها وأشراطها، وتصح إذا كانت فيها ومعها، كقولنا آيات الساعة وأمارات الساعة.
المسألة الثالثة: روى " أن هاتين الآيتين نزلتا بالليل والناس يسيرون فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم، فلم ير باكيا أكثر من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السرج ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا القدور، والناس بين باك وجالس حزين متفكر. فقال عليه السلام: " أتدرون أي ذلك اليوم هو؟ قالوا الله ورسوله أعلم، قال ذلك يوم يقول الله لآدم عليه السلام قم فابعث بعث النار من ولدك، فيقول آدم وما بعث النار؟ يعني من كم كم؟ فيقول الله عز وجل من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة، فعند ذلك يشيب الصغير، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، فكبر ذلك على المؤمنين وبكوا، وقالوا فمن ينجو يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام أبشروا وسددوا وقاربوا فإن معكم خليقتين ما كانا في قوم إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبروا وحمدوا الله، ثم قال إني لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنة، إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار إلا كالشامة في جنب البعير أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ثم قال ويدخل من أمتي سبعون ألفا إلى الجنة بغير حساب، فقال عمر سبعون ألفا؟ قال نعم ومع كل واحد سبعون ألفا، فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال أنت منهم، فقام رجل من الأنصار فقال مثل قوله، فقال سبقك بها عكاشة " فخاض الناس في السبعين ألفا فقال بعضهم هم الذين ولدوا على الإسلام، وقال بعضهم هم الذين آمنوا وجاهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قالوا فقال: " هم الذين لا يكتوون ولا يكوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ".
المسألة الرابعة: أنه سبحانه أمر الناس بالتقوى ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة، والمعنى أن التقوى تقتضي دفع مثل هذا الضرر العظيم عن النفس، ودفع الضرر عن النفس معلوم الوجوب، فيلزم أن تكون التقوى واجبة.
المسألة الخامسة: احتجت المعتزلة بقوله تعالى: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) * وصفها بأنها شيء مع أنها معدومة، واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (إن الله على كل شيء قدير) * (البقرة: 20) فالشئ الذي قدر الله عليه إما أن يكون موجودا أو معدوما، والأول محال وإلا لزم كون القادر قادرا على إيجاد الموجود، وإذا بطل هذا ثبت أن الشيء الذي قدر الله عليه معدوم فالمعدوم شيء. واحتجوا أيضا بقوله تعالى: * (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا) * (الكهف: 23) أطلق اسم الشيء في الحال على ما يصير مفعولا
3

غدا، والذي يصير مفعولا غدا يكون معدوما في الحال، فالمعدوم شيء والله أعلم والجواب: عن الأول أن الزلزلة عبارة عن الأجسام المتحركة وهي جواهر قامت بها أعراض وتحقق ذلك في المعدوم محال، فالزلزلة يستحيل أن تكون شيئا حال عدمها، فلا بد من التأويل بالاتفاق. ويكون المعنى أنها إذا وجدت صارت شيئا، وهذا هو الجواب عن البواقي.
المسألة السادسة: وصف الله تعالى الزلزلة بالعظيم ولا عظيم أعظم مما عظمه الله تعالى. أما قوله تعالى: * (يوم ترونها) * فهو منصوب بتذهل أي تذهل في ذلك
اليوم والضمير في ترونها يحتمل أن يرجع إلى الزلزلة وأن يرجع إلى الساعة لتقدم ذكرهما، والأقرب رجوعه إلى الزلزلة لأن مشاهدتها هي التي توجب الخوف الشديد. واعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر من أهوال ذلك اليوم أمورا ثلاثة أحدها: قوله: * (تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * أي تذهلها الزلزلة والذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، فإن قيل: لم قال مرضعة دون مرضع؟ قلت المرضعة هي التي في حال الإرضاع وهي ملقمة ثديها الصبي والمرضع شأنها أن ترضع، وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به، فقيل مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته من فيه لما يلحقها من الدهشة، وقوله: * (عما أرضعت) * أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل فتكون ما بمعنى من على هذا التأويل. وثانيها: قوله: * (وتضع كل ذات حمل حملها) * والمعنى أنها تسقط ولدها لتمام أو لغير تمام من هول ذلك اليوم وهذا يدل على أن هذه الزلزلة إنما تكون قبل البعث، قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام وألقت الحوامل ما في بطونها لغير تمام، وقال القفال: يحتمل أن يقال من ماتت حاملا أو مرضعة تبعث حاملا أو مرضعة تضع حملها من الفزع، ويحتمل أن يكون المراد من ذهول المرضعة ووضع الحمل على جهة المثل كما قد تأول قوله: * (يوم يجعل الولدان شيبا) *، وثالثها: قوله: * (وترى الناس سكارى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء وترى بالضم تقول أريتك قائما أو رأيتك قائما والناس بالنصب والرفع، أما النصب فظاهر، وأما الرفع فلأنه جعل الناس اسم ما لم يسم فاعله وأنثه على تأويل الجماعة، وقرئ سكرى وسكارى، وهو نظير جوعى وعطشى في جوعان وعطشان، سكارى وسكارى نحو كسالى وعجالى، وعن الأعمش: سكرى وسكرى بالضم وهو غريب.
المسألة الثانية: المعنى وتراهم سكارى على التشبيه * (وما هم بسكارى) * على التحقيق، ولكن ما أرهقهم من هول عذاب الله تعالى هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم، وقال ابن عباس والحسن ونراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب، فإن قلت لم قيل أولا ترون ثم قيل ترى على الإفراد؟ قلنا لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، وهي معلقة آخرا بكون الناس على حال من السكر، فلا بد وأن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
4

المسألة الثالثة: إن قيل أتقولون إن شدة ذلك اليوم تحصل لكل أحد أو لأهل النار خاصة؟ قلنا قال قوم إن الفزع الأكبر وغيره يختص بأهل النار، وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون. وقيل بل يحصل للكل لأنه سبحانه لا اعتراض لأحد عليه في شيء من أفعاله، وليس لأحد عليه حق.
قوله تعالى
* (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير) *.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية النظم وجهان: الأول: أخبر تعالى فيما تقدم عن أهوال يوم القيامة وشدتها، ودعا الناس إلى تقوى الله. ثم بين في هذه الآية قوما من الناس الذين ذكروا في الأول. وأخبر عن مجادلتهم الثاني: أنه تعالى بين أنه مع هذا التحذير الشديد بذكر زلزلة الساعة وشدائدها، فإن من الناس من يجادل في الله بغير علم، ثم في قوله: * (ومن الناس) * وجهان: الأول: أنهم الذين ينكرون البعث، ويدل عليه قوله: * (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) * (يس: 77) إلى آخر الآية. وأيضا فإن ما قبل هذه الآية وصف البعث وما بعدها في الدلالة على البعث، فوجب أن يكون المراد من هذه المجادلة هو المجادلة في البعث والثاني: أنها نزلت في النضر بن الحرث، كان يكذب بالقرآن ويزعم أنه أساطير الأولين، ويقول ما يأتيكم به محمد كما كنت أحدثكم به عن القرون الماضية وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما.
المسألة الثانية: هذه الآية بمفهومها تدل على جواز المجادلة الحقة، لأن تخصيص المجادلة مع عدم العلم بالدلائل يدل على أن المجادلة مع العلم جائزة، فالمجادلة الباطلة هي المراد من قوله: * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * (الزخرف: 58) والمجادلة الحقة هي المراد من قوله: * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125).
المسألة الثالثة: في قوله: * (ويتبع كل شيطان مريد) * قولان: أحدهما: يجوز أن يريد شياطين الإنس وهم رؤساء الكفار الذين يدعون من دونهم إلى الكفر والثاني: أن يكون المراد بذلك إبليس وجنوده، قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس، يقال صخرة مرداء أي ملساء، ويجوز أن يستعمل في غير الشيطان إذا جاوز حد مثله.
أما قوله: * (كتب عليه) * ففيه وجهان: أحدهما: أن الكتبة عليه مثل أي كأنما كتب إضلال من عليه ورقم به لظهور ذلك في حاله والثاني: كتب عليه في أم الكتاب، واعلم أن هذه الهاء بعد ذكر من يجادل وبعد ذكر الشيطان، يحتمل أن يكون راجعا إلى كل واحد منهما، فإن رجع إلى من
5

يجادل فإنه يرجع إلى لفظه الذي هو موحد، فكأنه قال كتب على من يتبع الشيطان أنه من تولى الشيطان أضله عن الجنة وهداه إلى النار. وذلك زجر منه تعالى فكأنه تعالى قال كتب على من هذا حاله أنه يصير أهلا لهذا الوعيد، فإن رجع إلى الشيطان كان المعنى ويتبع كل شيطان مريد قد كتب عليه أنه من يقبل منه فهو في ضلال. وعلى هذا الوجه أيضا يكون زجرا عن اتباعه، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال القاضي عبد الجبار إذا قيل المراد بقوله: * (كتب عليه) * قضى عليه فلا جائز أن يرد إلا إلى من يتبع الشيطان، لأنه تعالى لا يجوز أن يقضي على الشيطان أنه يضل، ويجوز أن يقضي على من يقبله بقوله، قد أضله عن الجنة وهداه إلى النار. قال أصحابنا رحمهم الله لما كتب ذلك عليه فلو لم يقع لانقلب خبر الله الصدق كذبا، وذلك محال ومستلزم المحال محال، فكان لا وقوعه محالا.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن المجادل في الله إن كان لا يعرف الحق فهو مذموم معاقب، فيدل على أن المعارف ليست ضرورية.
المسألة الثالثة: قال القاضي فيه دلالة على أن المجادلة في الله ليست من خلق الله تعالى وبإرادته، وإلا لما كانت مضافة إلى اتباع الشيطان، وكان لا يصح القول بأن الشيطان يضله بل كان الله تعالى قد أضله والجواب: المعارضة بمسألة العلم وبمسألة الداعي.
المسألة الرابعة: قرىء أنه بالفتح والكسر فمن فتح فلأن الأول فاعل كتب والثاني عطف عليه، ومن كسر فعلى حكاية المكتوب كما هو كأنما كتب عليه هذا الكلام، كما يقول كتبت أن الله هو الغني الحميد، أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول.
قوله تعالى
* (يا أيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الارحام ما نشآء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الارض هامدة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج
6

بهيج * ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير * وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) *.
القراءة قرأ الحسن * (من البعث) * بالتحريك ونظيره الحلب والطرد في الحلب وفي الطرد * (ومخلقة وغير مخلقة) * بجر التاء والراء، وقرأ ابن أبي عبلة بنصبهما القراءة المعروفة بالنون في قوله: * (لنبين) * وفي قوله: * (ونقر) * وفي قوله: * (ثم نخرجكم طفلا) * ابن أبي عبلة بالياء في هذه الثلاثة، أما القراءة بالنون ففيها وجوه: أحدها: القراءة المشهورة وثانيها: روى السيرافي عن داود عن يعقوب ونقر بفتح النون وضم القاف والراء وهو من قر الماء إذا صبه، وفي رواية أخرى عنه كذلك إلا أنه بنصب الراء وثالثها: ونقر ونخرجكم بنصب الراء والجيم أما القراءة بالياء ففيها وجوه: أحدها: يقر ويخرجكم بفتح القاف والراء والجيم وثانيها: يقر ويخرجكم بضم القاف والراء والجيم وثالثها: بفتح الياء وكسر القاف وضم الراء أبو حاتم * (ومنكم من يتوفى) * بفتح الياء أي يتوفاه الله تعالى ابن عمرة والأعمش * (العمر) * بإسكان الميم القراءة المعروفة * (ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * وفي حرف عبد الله ومنكم من يتوفى ومنكم من يكون شيوخا بغير القراءة المعروفة وربت أبو جعفر وربأت أي ارتفعت، وروى العمري عنه بتليين الهمزة وقرئ وأنه باعث. المعاني: اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين: أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولا وهو موافق لما أجمله في قوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) * (يس: 79) وقوله: * (فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة) * (الإسراء: 51) فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كنتم في ريب مما وعدناكم من البعث، فتذكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أن القادر على خلقكم أولا قادر على خلقكم ثانيا، ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة: المرتبة الأولى: قوله: * (فإنا خلقناكم من تراب) * وفيه وجهان: أحدهما: إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب، لقوله: * (كمثل آدم خلقه من تراب) * (آل عمران: 59) وقوله: * (منها خلقناكم) * (طه: 55)، والثاني: أن خلقة الإنسان من المنى ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعا للتسلسل إلى النبات، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: * (إنا خلقناكم من تراب) *
7

المرتبة الثانية: قوله: * (ثم من نطفة) * والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان، وهو ههنا ماء الفحل فكأنه سبحانه يقول: أنا الذي قلبت ذلك التراب اليابس ماء لطيفا، مع أنه لا مناسبة بينهما البتة المرتبة الثالثة: قوله: * (ثم من علقة) * العلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة المرتبة الرابعة: قوله: * (ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة، لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء) * فالمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ، والمخلقة المسواة الملساء السالمة من النقصان والعيب، يقال خلق السواك والعود إذا سواه وملسه، من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء. ثم للمفسرين فيه أقوال: أحدها: أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين: أحدهما: تامة الصور والحواس والتخاطيط وثانيهما: الناقصة في هذه الأمور فبين أن بعد أن صيره مضغة منها ما خلقه إنسانا تاما بلا نقص ومنها ما ليس كذلك وهذا قول قتادة والضحاك، فكأن الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فتبع ذلك التفاوت، تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم وثانيها: المخلقة الولد الذي يخرج حيا وغير المخلقة السقط وهو قول مجاهد وثالثها: المخلقة المصورة وغير المخلقة أي غير المصورة وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وتشكيل واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله قال: " إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا وقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة، فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دما، وإن قال مخلقة، قال يا رب فما صفتها، أذكر أم أنثى، ما رزقها، ما أجلها، أشقى، أم سعيد؟ فيقول الله سبحانه انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة، فينطلق الملك فينسخها، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها " ورابعها: قال القفال: التخليق مأخوذ من الخلق فما تتابع عليه الأطوار وتوارد عليه الخلق بعد الخلق فذاك هو المخلق لتتابع الخلق عليه، قالوا فما تم فهو المخلق وما لم يتم فهو غير المخلق، لأنه لم يتوارد عليه التخليقات. والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية: * (فإنا خلقناكم) * وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنسانا وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطا ولم يتكامل فيه الخلقة فإن قيل هلا حملتم ذلك على السقط لأجل قوله: * (ونقر في الأرحام ما نشاء) * وذلك كالدلالة على أن فيه مالا يقره في الرحم وهو السقط، فلنا إن ذلك لا يمنع من صحة ما ذكرنا في كون المضغة مخلقة وغير مخلقة، لأنه بعد أن تمم خلقة البعض ونقص خلقة البعض لا يجب أن يتكامل ذلك بل فيه ما يقره الله في الرحم وفيه مالا يقره وإن كان قد أظهر فيه خلقة الإنسان فيكون من هذا الوجه قد دخل فيه السقط.
أما قوله تعالى: * (لنبين لكم) * ففيه وجهان: أحدهما: لنبين لكم أن تغيير المضغة إلى المخلقة هو باختيار الفاعل المختار، ولولاه لما صار بعضه مخلقا وبعضه غير مخلق وثانيهما: التقدير إن كنتم في ريب من البعث فإنا أخبرناكم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبين لكم ما يزيل عنكم ذلك الريب
8

في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة.
أما قوله تعالى: * (ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى) * فالمراد منه من يبلغه الله تعالى حد الولادة، والأجل المسمى هو الوقت المضروب للولادة وهو آخر ستة أشهر، أو تسعة، أو أربع سنين أو كما شاء وقدر الله تعالى فإن كتب ذلك صار أجلا مسمى المرتبة الخامسة: قوله: * (ثم نخرجكم طفلا) * وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلا كقوله: * (والملائكة بعد ذلك ظهير) * (التحريم: 4) المرتبة السادسة: قوله: * (ثم لتبلغوا أشدكم) * والأشد كمال القوة والعقل والتمييز وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد وكأنها شدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا لتبلغوا أشدكم فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط، وذكر بعضهم أنه ليس بين حال الطفولية وبين ابتداء حال بلوغ الأشد واسطة حتى جوز أن يبلغ في السن ويكون طفلا كما يكون غلاما ثم يدخل في الأشد المرتبة السابعة: قوله: * (ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * والمعنى أن منكم من يتوفى على قوته وكماله، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم. فإن قيل كيف قال: * (لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * مع أنه يعلم بعض الأشياء كالطفل؟ قلنا المراد أنه يزول عقله فيصير كأنه لا يعلم شيئا لأن مثل ذلك قد يذكر في النفي لأجل المبالغة، ومن الناس من قال هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وهو ضعيف. لأن معنى قوله: * (ثم رددناه أسفل سافلين) * (التين: 5) هو دلالة على الذم فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ولذلك قال: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) * (التين: 6) فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث الوجه الثاني: الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: * (وترى الأرض هامدة) * وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * والاهتزاز الحركة على سرور فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله: * (اهتزت وربت) * أي تحركت بالنبات وانتفخت.
أما قوله: * (وأنبتت من كل زوج بهيج) * فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها والله تعالى هو المنبت لذلك، لكنه يضاف إليها توسعا، ومعنى * (من كل زوج بهيج) * من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس، والبهجة حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج قال المبرد وهو الشيء المشرق الجميل، ثم إنه سبحانه لما قرر هذين الدليلين رتب عليهما ما هو المطلوب والنتيجة وذكر أمورا خمسة أحدها: قوله ذلك: * (بأن الله هو الحق) * والحق هو الموجود الثابت فكأنه سبحانه بين أن هذه الوجوه دالة على وجود الصانع وحاصلها راجع إلى أن
9

حدوث هذه الأمراض المتنافية وتواردها على الأجسام يدل على وجود الصانع وثانيها: قوله تعالى: * (وأنه يحيي الموتى) * فهذا تنبيه على أنه لما لم يستبعد من الإله إيجاد هذه الأشياء فكيف يستبعد منه إعادة الأموات وثالثها: قوله: * (وأنه على كل شيء قدير) * يعني أن الذي يصح منه إيجاد هذه الأشياء لا بد وأن يكون واجب الإنصاف لذاته بالقدرة ومن كان كذلك كان قادرا على جميع الممكنات ومن كان كذلك فإنه لا بد وأن يكون قادرا على الإعادة ورابعها: قوله: * (وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) * والمعنى أنه لما أقام الدلائل على أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه وتعالى قادر على كل الممكنات وجب القطع بكونه قادرا على الإعادة في نفسها، وإذا ثبت الإمكان والصادق أخبر عن وقوعه فلا بد من القطع بوقوعه، واعلم أن تحرير هذه الدلالة على الوجه النظري أن يقال الإعادة في نفسها ممكنة والصادق أخبر عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها، أما بيان الإمكان فالدليل عليه أن هذه الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات التي كانت قائمة بها حال كونها حية عاقلة والبارئ سبحانه عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات الممكنة وذلك يقتضي القطع بإمكان الإعادة لما قلنا إن تلك الأجسام بعد تفرقها قابلة لتلك الصفات لأنها لو لم تكن قابلة لها في وقت لما كانت قابلة لها في شيء من الأوقات لأن الأمور الذاتية لا تزول، ولو لم تكن قابلة لها في شيء من الأوقات لما كانت حية عاقلة في شيء من الأوقات، لكنها كانت حية عاقلة فوجب أن تكون قابلة أبدا لهذه الصفات. وأما أن البارئ سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن فلأنه سبحانه عالم بكل المعلومات فيكون عالما بأجزاء كل واحد من المكلفين على التعيين وقادرا على كل الممكنات، فيكون قادرا على إيجاد تلك الصفات في تلك الذوات. فثبت أن الإعادة في نفسها ممكنة وأنه سبحانه يمكنه تحصيل ذلك الممكن. فثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها. فإذا أخبر الصادق عن وقوعها فلا بد من القطع بوقوعها، فهذا هو الكلام في تقرير هذا الأصل. فإن قيل فأي منفعة لذكر مراتب خلقة الحيوانات وخلقة النبات في هذه الدلالة؟ قلنا إنها تدل على أنه سبحانه قادر على كل الممكنات وعالم بكل المعلومات، ومتى صح ذلك فقد صح كون الإعادة ممكنة فإن الخصم لا ينكر المعاد إلا بناء على إنكار أحد هذين الأصلين، ولذلك فإن الله تعالى حيث أقام الدلالة على البعث في كتابه ذكر معه كونه قادرا عالما كقوله: * (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) * فقوله: * (قل يحييها الذي أنشأها) * بيان للقدرة وقوله: * (وهو بكل خلق عليم) * (يس: 79) بيان للعلم والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير * ثانى عطفه
10

ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد) *.
القراءة: * (ثاني عطفه) * بكسر العين الحسن وحده بفتح العين * (ليضل) * قرىء بضم الياء وفتحها القراءة المعروفة * (ونذيقه) * بالنون وقرأ زيد بن علي أذيقه، المعاني في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن المراد بقوله: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) * (الحج: 3) من هم؟ على وجوه: أحدها: قال أبو مسلم الآية الأولى وهي قوله: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم) * ويتبع كل شيطان مريد واردة في الأتباع المقلدين وهذه الآية واردة في المتبوعين المقلدين، فإن كلا المجادلين جادل بغير علم وإن كان أحدهما تبعا والآخر متبوعا وبين ذلك قوله: * (ولا هدى ولا كتاب منير) * فإن مثل ذلك لا يقال في المقلد، وإنما يقال فيمن يخاصم بناء على شبهة، فإن قيل: كيف يصح ما قلتم والمقلد لا يكون مجادلا؟ قلنا قد يجادل تصويبا لتقليده وقد يورد الشبهة الظاهرة إذا تمكن منها وإن كان معتمده الأصلي هو التقليد وثانيها: أن الآية الأولى نزلت في النضر بن الحرث، وهذه الآية في أبي جهل وثالثها: أن هذه الآية نزلت أيضا في النضر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما وفائدة التكرير المبالغة في الذم وأيضا ذكر في الآية الأولى اتباعه للشيطان تقليدا بغير حجة، وفي الثانية مجادلته في الدين وإضلاله غيره بغير حجة والوجه الأول أقرب لما تقدم.
المسألة الثانية: الآية دالة على أن الجدال مع العلم والهدى والكتاب المنير حق حسن على ما مر تقريره.
المسألة الثالثة: المراد بالعلم العلم الضروري، وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي، والمعنى أنه يجادل من غير مقدمة ضرورية ولا نظرية ولا سمعية وهو كقوله: * (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم) * (الحج: 71) وقوله: * (ائتوني بكتاب من قبل هذا) * (الأحقاف: 4) أما قوله: * (ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله) * فاعلم أن ثنى العطف عبارة عن الكبر والخيلاء كتصعير الخد ولي الجيد وقوله: * (ليضل عن سبيل الله) * فأما القراءة بضم الياء فدلالة على أن هذا المجادل فعل الجدال وأظهر التكبر لكي يتبعه غيره فيضله عن طريق الحق فجمع بين الضلال والكفر وإضلال الغير. وأما القراءة بفتح الياء فالمعنى أنه لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح حاله في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فيوم
11

بدر روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهما نزلت في النضر بن الحرث وأنه قتل يوم بدر، وأما الذين لم يخصصوا هذه الآية بواحد معين قالوا المراد بالخزي في الدنيا ما أمر المؤمنون بذمه ولعنه ومجاهدته وأما في الآخرة فقوله: * (ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق) * ثم بين تعالى أن هذا الخزي المعجل وذلك العقاب المؤجل لأجل ما قدمت يداه، قالت المعتزلة هذه الآية تدل على مطالب:
الأول: دلت الآية على أنه إنما وقع في ذلك العقاب بسبب عمله وفعله فلو كان فعله خلقا لله تعالى لكان حينما خلقه الله سبحانه وتعالى استحال منه أن ينفك عنه، وحينما لا يخلقه الله تعالى استحال منه أن يتصف به، فلا يكون ذلك العقاب بسبب فعله فإذا عاقبه عليه كان ذلك محض الظلم وذلك على خلاف النص.
الثاني: أن قوله بعد ذلك * (وأن الله ليس بظلام للعبيد) * دليل على أنه سبحانه إنما لم يكن ظالما بفعل ذلك العذاب لأجل أن المكلف فعل فعلا استحق به ذلك العقاب وذلك يدل على أنه لو عاقبه لا بسبب فعل يصدر من جهته لكان ظالما، وهذا يدل على أنه لا يجوز تعذيب الأطفال بكفر آبائهم.
الثالث: أنه سبحانه تمدح بأنه لا يفعل الظلم فوجب أن يكون قادرا عليه خلاف ما يقوله النظام، وأن يصح ذلك منه خلاف ما يقوله أهل السنة.
الرابع: وهو أن لا يجوز الاستدلال بهذه الآية على أنه تعالى لا يظلم لأن عندهم صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم موقوفة على نفي الظلم فلو أثبتنا ذلك بالدليل السمعي لزم الدور والجواب: عن الكل المعارضة بالعلم والداعي.
قوله تعالى
* (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير) *.
12

القراءة: قرىء * (خاسر الدنيا والآخرة) * بالنصب والرفع فالنصب على الحال والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وفي حرف عبد الله * (من ضره) * بغير لام، واعلم أنه تعالى لما بين حال المظهرين للشرك المجادلين فيه على ما ذكرنا عقبه بذكر المنافقين فقال: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف) * وفي تفسير الحرف وجهان: الأول: ما قاله الحسن وهو أن المرء في باب الدين معتمدة القلب واللسان فهما حرفا الدين، فإذا وافق أحدهما الآخر فقد تكامل في الدين وإذا أظهر بلسانه الدين لبعض الأغراض وفي قلبه النفاق جاز أن يقال فيه على وجه الذم يعبد الله على حرف الثاني: قوله: * (على حرف) * أي على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه، وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون طمأنينة كالذي يكون على طرف من العسكر فإن أحس بغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه. وهذا هو المراد * (فإن أصابه خير طمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) * لأن الثبات في الدين إنما يكون لو كان الغرض منه إصابة الحق وطاعة الله والخوف من عقابه فأما إذا كان غرضه الخير المعجل فإنه يظهر الدين عند السراء ويرجع عنه عند الضراء فلا يكون إلا منافقا مذموما وهو مثل قوله تعالى: * (مذبذبين بين ذلك) * (النساء: 143) وكقوله: * (فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم) * (النساء: 141).
المسألة الثانية: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في أعراب كانوا يقدمون على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأن إليه وإن أصابه وجع وولدت امرأته جارية أو أجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان وقال له ما جاءتك هذه الشرور إلا بسبب هذا الدين فينقلب عن دينه. وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير والحسن ومجاهدة وقتادة
وثانيها: وهو قول الضحاك نزلت في المؤلفة قلوبهم، منهم عيينة بن بدر والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس قال بعضهم لبعض ندخل في دين محمد فإن أصبنا خيرا عرفنا أنه حق، وإن أصبنا غير ذلك عرفنا أنه باطل وثالثها: قال أبو سميد الخدري: " أسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فقال يا رسول الله أقلني فإني لم أصب من ديني هذا خيرا، ذهب بصري وولدي ومالي. فقال صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام لا يقال، إن الإسلام ليسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة " فنزلت هذه الآية.
وأما قوله: * (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) * ففيه سؤالات: الأول: كيف قال: * (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) * والخير أيضا فتنة لأنه امتحان وقال تعالى: * (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) *، والجواب: مثل هذا كثير في اللغة لأن النعمة بلاء وابتلاء لقوله: * (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه) * (الفجر: 15) ولكن إنما يطلق اسم البلاء على ما يثقل على الطبع، والمنافق ليس عنده الخير إلا الخير الدنيوي، وليس عنده الشر إلا الشر الدنيوي، لأنه لا دين له. فلذلك وردت
13

الآية على ما يعتقدونه، وإن كان الخير كله فتنة، لكن أكثر ما يستعمل فيما يشتد ويثقل.
السؤال الثاني: إذا كانت الآية في المنافق فما معنى قوله: * (انقلب على وجهه) * وهو في الحقيقة لم يسلم حتى ينقلب ويرتد؟ والجواب: المراد أنه أظهر بلسانه خلاف ما كان أظهره فصار يذم الدين عند الشدة وكان من قبل يمدحه وذلك انقلاب في الحقيقة.
السؤال الثالث: قال مقاتل: الخير هو ضد الشر فلما قال: * (فإن أصابه خير اطمأن به) * كان يجب أن يقول: وإن أصابه شر انقلب على وجهه الجواب: لما كانت الشدة ليست بقبيحة لم يقل تعالى وإن أصابه شر بل وصفه بما لا يفيد فيه القبح.
أما قوله تعالى: * (خسر الدنيا والآخرة) * فذلك لأنه يخسر في الدنيا العزة والكرامة وإصابة الغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء ولا يبقى ماله ودمه مصونا، وأما في الآخرة فيفوته الثواب الدائم ويحصل له العقاب الدائم * (وذلك هو الخسران المبين) *.
أما قوله: * (يدعو من الله مالا يضره وما لا ينفعه) * فالأقرب أنه المشرك الذي يعبد الأوثان وهذا كالدلالة على أن الآية لم ترد في اليهودي لأنه ليس ممن يدعو من دون الله الأصنام، والأقرب أنها واردة في المشركين الذين انقطعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه النفاق وبين تعالى أن: * (ذلك هو الضلال البعيد) *، وأراد به عظم ضلالهم وكفرهم، ويحتمل أن يعني بذلك بعد ضلالهم عن الصواب لأن جميعه وإن كان يشترك في أنه خطأ فبعضه أبعد من الحق من البعض، واستعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالا وطالت وبعدت مسافة ضلاله.
أما قوله تعالى: * (يدعو لمن ضره أقرب من نفعه) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في تفسيره على وجهين: أحدهما: أن المراد رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم لأنه يصح منهم أن يضروا، وحجة هذا القول أن الله تعالى بين في الآية الأولى أن الأوثان لا تضرهم ولا تنفعهم، وهذه الآية تقتضي كون المذكور فيها ضارا نافعا، فلو كان المذكور في هذه الآية هو الأوثان لزم التناقض. القول الثاني: أن المراد الوثن وأجابوا عن التناقض بأمور: أحدها: أنها لا تضر ولا تنفع بأنفسها ولكن عبادتها سبب الضرر وذلك يكفي في إضافة الضرر إليها، كقوله تعالى: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) فأضاف الإضلال إليهم من حيث كانوا سببا للضلال، فكذا ههنا نفي الضرر عنهم في الآية الأولى بمعنى كونها فاعلة وأضاف الضرر إليهم في هذه الآية بمعنى أن عبادتها سبب الضرر. وثانيها: كأنه سبحانه وتعالى بين في الآية الأولى أنها في الحقيقة لا تضر ولا تنفع، ثم قال في الآية الثانية: لو سلمنا كونها ضارة نافعة لكن ضررها أكثر من نفعها. وثالثها: كان الكفار إذا أنصفوا علموا أنه لا يحصل منها نفع ولا ضرر في الدنيا، ثم إنهم في الآخرة يشاهدون العذاب العظيم بسبب عبادتها، فكأنهم يقولون لها في الآخرة: إن ضرركم أعظم من نفعكم.
14

المسألة الثانية: اختلف النحويون في إعراب قوله: * (لمن ضره أقرب) *.
أما قوله: * (لبئس المولى ولبئس العشير) * فالمولى هو الولي والناصر، والعشير الصاحب والمعاشر، واعلم أن هذا الوصف بالرؤساء أليق لأن ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان، فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله تعالى الذي يجمع خير الدنيا والآخرة إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء، ثم ذم الرؤساء بقوله: * (لبئس المولى) * والمراد ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.
قوله تعالى
* (إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار إن الله يفعل ما يريد * من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والاخرة فليمدد بسبب إلى السمآء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ * وكذلك أنزلناه ءايات بينات وأن الله يهدى من يريد) *.
إعلم أنه سبحانه لما بين في الآية السابقة حال عبادة المنافقين وحال معبودهم، بن في هذه الآية صفة عبادة المؤمنين وصفة معبودهم، أما عبادتهم فقد كانت على الطريق الذي لا يمكن صوابه، وأما معبودهم فلا يضر ولا ينفع. وأما المؤمنون فعبادتهم حقيقية ومعبودهم يعطيهم أعظم المنافع وهو الجنة، ثم بين كمال الجنة التي تجمع بين الزرع والشجر وأن تجري من تحتها الأنهار وبين تعالى أنه يفعل ما يريد بهم من أنواع الفضل والإحسان زيادة على أجورهم كما قال تعالى: * (فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * واحتج أصحابنا في خلق الأفعال بقوله سبحانه: * (إن الله يفعل ما يريد) * قالوا: أجمعنا على أنه سبحانه يريد الإيمان ولفظة ما للعموم فوجب أن يكون فاعلا للإيمان لقوله: * (إن الله يفعل ما يريد) * أجاب الكعبي عنه بأن الله تعالى يفعل ما يريد أن يفعله لا ما يريد أن يفعله غيره. والجواب: أن قوله ما يريد
أعم من قولنا ما يريد أن يفعله ومن قولنا ما يريد أن يفعله غيره فالتقييد خلاف النص.
أما قوله: * (من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة) * فالهاء إلى ماذا يرجع؟ فيه وجهان: الأول: وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي، واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم يريد أن من ظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم في الدنيا بإعلاء كلمته
15

وإظهار دينه، وفي الآخرة بإعلاء درجته والانتقام ممن كذبه والرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر في الآية ففيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله: * (إن الله يدخل الذين آمنوا) * والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله فيجب البحث ههنا عن أمرين: أحدهما: أنه من الذي كان يظن أن الله تعالى لا ينصر محمدا صلى الله عليه وسلم؟ والثاني: أنه ما معنى قوله: * (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع) *؟.
أما البحث الأول: فذكروا فيه وجوها: أحدها: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله رسوله من النصر فنزلت هذه الآية. وثانيها: قال مقاتل: نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا نخاف أن الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا. وثالثها: أن حساده وأعداءه كانوا يتوقعون أن لا ينصره الله وأن لا يعليه على أعدائه، فمتى شاهدوا أن الله نصره غاظهم ذلك.
وأما البحث الثاني: فاعلم أن في لفظ السبب قولين: أحدهما: أنه الحبل وهؤلاء اختلفوا في السماء فمنهم من قال هو سماء البيت، ومنهم من قال هو السماء في الحقيقة، فقالوا المعنى: من كان يظن أن لن ينصره الله، ثم يغيظه أنه لا يظفر بمطلوبه فليستقص وسعه في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق، فلينظر أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه. وعلى هذا القول اختلفوا في القطع فقال بعضهم: سمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، وسمى فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، أو على سبيل الاستهزاء إلا أنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه، والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ. وهذا قول الكلبي ومقاتل وقال ابن عباس رضي الله عنه: يشد الحبل في عنقه وفي سقف البيت، ثم ليقطع الحبل حتى يختنق ويهلك، هذا كله إذا حملنا السماء على سقف البيت وهو قول كثير من المفسرين. وقال آخرون: المراد منه نفس السماء فإنه يمكن حمل الكلام على نفس السماء فهو أولى من حمله على سماء البيت، لأن ذلك لا يفهم منه إلا مقيدا، ولأن الغرض ليس الأمر بأن يفعل ذلك، بل الغرض أن يكون ذلك صارفا له عن الغيظ إلى طاعة الله تعالى، وإذا كان كذلك فكل ما كان المذكور أبعد من الإمكان كان أولى بأن يكون هو المراد ومعلوم أن مد الحبل إلى سماء الدنيا والاختناق به أبعد في الإمكان من مده إلى سقف البيت، لأن ذلك ممكن. أما الذين قالوا السبب ليس هو الحبل فقد ذكروا وجهين: الأول: كأنه قال فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع بذلك السبب المسافة، ثم لينظر فإنه يعلم أن مع تحمل المشقة فيما ظنه خاسر الصفقة كأن لم يفعل شيئا وهو قول أبي مسلم. والثاني: كأنه قال فليطلب سببا يصل به إلى السماء فليقطع نصر الله لنبيه، ولينظر هل يتهيأ له الوصول إلى السماء بحيلة، وهل يتهيأ له أن يقطع بذلك نصر الله عن رسوله، فإذا كان ذلك ممتنعا كان غيظه عديم الفائدة، واعلم أن المقصد على كل هذه الوجوه معلوم فإنه زجر للكفار عن الغيظ فيما لا فائدة فيه، وهو في معنى قوله: * (فإن استطعت أن
16

تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء) * (الأنعام: 35) مبينا بذلك أنه لا حيلة له في الآيات التي اقترحوها القول الثاني: أن الهاء في قوله: * (لن ينصره الله) * راجع إلى من في أول الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى مذكور إذا أمكن ذلك ومن قال بذلك حمل النصرة على الرزق. وقال أبو عبيدة وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله. أي من يعطيني أعطاه الله، فكأنه قال من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة، فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد صلى الله عليه وسلم كما وصفه تعالى في قوله: * (وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه) * (الحج: 11) فيبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب التسمية ويجعله مرزوقا.
أما قوله: * (وكذلك أنزلناه آيات بينات) * فمعناه ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات.
أما قوله: * (وأن الله يهدي من يريد) * فقد احتج أصحابنا به فقالوا: المراد من الهداية، إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز لأنه تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين ولأن قوله: * (يهدي من يريد) * دليل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته سبحانه ووضع الأدلة عند الخصم واجب فبقي أن المراد منه خلق المعرفة قال القاضي عبد الجبار في الاعتذار هذا يحتمل وجوها: أحدها: يكلف من يريد لأن من كلف أحدا شيئا فقد وصفه له وبينه له. وثانيها: أن يكون المراد يهدي إلى الجنة والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا. وثالثها: أن يكون المراد أن الله تعالى يلطف بمن يريد ممن علم أنه إذا زاده هدى ثبت على إيمانه كقوله تعالى: * (والذين اهتدوا زادهم هدى) * وهذا الوجه هو الذي أشار الحسن إليه بقوله: إن الله يهدي من قبل لا من لم يقبل، والوجهان الأولان ذكرهما أبو علي والجواب: عن الأول أن الله تعالى ذكر ذلك بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجهان الأخيران فمدفوعان لأنهما عندك واجبان على الله تعالى وقوله: * (يهدي من يريد) * يقتضي عدم الوجوب.
قوله تعالى
* (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شىء شهيد * ألم تر أن الله يسجد له من فى السماوات
17

ومن فى الارض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشآء) *.
القراءة: قرى * (حق) * بالضم وقرئ حقا أي حق عليه العذاب حقا وقرئ * (مكرم) * بفتح الراء بمعنى الإكرام، واعلم أنه تعالى لما قال: * (وأن الله يهدي من
يريد) * أتبعه في هذه الآية ببيان من يهديه ومن لا يهديه، واعلم أن المسلم لا يخالفه في المسائل الأصولية إلا طبقات ثلاثة: أحدها: الطبقة المشاركة له في نبوة نبيه كالخلاف بين الجبرية والقدرية في خلق الأفعال البشرية والخلاف بين مثبتي الصفات والرؤية ونفاتها. وثانيها: الذين يخالفونه في النبوة ولكن يشاركونه في الاعتراف بالفاعل المختار كالخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى وموسى عليهما السلام. وثالثها: الذين يخالفونه في الإله وهؤلاء هم السوفسطائية المتوقفون في الحقائق، والدهرية الذين لا يعترفون بوجود مؤثر في العالم، والفلاسفة الذين يثبتون مؤثرا موجبا لا مختارا. فإذا كانت الاختلافات الواقعة في أصول الأديان محصورة في هذه الأقسام الثلاثة، ثم لا يشك أن أعظم جهات الخلاف هو من جهة القسم الأخير منها. وهذا القسم الأخير بأقسامه الثلاثة لا يوجدون في العام المتظاهرين بعقائدهم ومذاهبهم بكل يكونون مستترين، أما القسم الثاني وهو الاختلاف الحاصل بسبب الأنبياء عليهم السلام، فتقسيمه أن يقال القائلون بالفاعل المختار، إما أن يكونوا معترفين بوجود الأنبياء، أو لا يكونوا معترفين بذلك، فإما أن يكونوا أتباعا لمن كان نبيا في الحقيقة أو لمن كان متنبئا، أما أتباع الأنبياء عليهم السلام فهم المسلمون واليهود والنصارى، وفرقة أخرى بين اليهود والنصارى وهم الصابئون، وأما أتباع المتنبئ فهم المجوس، وأما المنكرون للأنبياء على الإطلاق فهم عبدة الأصنام والأوثان، وهم المسمون بالمشركين، ويدخل فيهم البراهمة على اختلاف طبقاتهم. فثبت أن الأديان الحاصلة بسبب الاختلافات في الأنبياء عليهم السلام هي هذه الستة التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، قال قتادة ومقاتل الأديان ستة واحدة لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان، وتمام الكلام في هذه الآية قد تقدم في سورة البقرة.
أما قوه: * (إن الله يفصل بينهم يوم القيامة) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الزجاج هذا خبر لقول الله تعالى: * (إن الذين آمنوا) * كما تقول إن أخاك، إن الدين عليه لكثير. قال جرير: إن الخليفة إن الله سربله * سربال ملك به ترجى الخواتيم
المسألة الثانية: الفصل مطلق فيحتمل الفصل بينهم في الأحوال والأماكن جميعا فلا يجازيهم
18

جزاء واحدا بغير تفاوت ولا يجمعهم في موطن واحد وقيل يفصل بينهم يقضي بينهم.
أما قوله تعالى: * (إن الله على كل شيء شهيد) * فالمراد أنه يفصل بينهم وهو عالم بما يستحقه كل منهم فلا يجري في ذلك الفصل ظلم ولا حيف.
أما قوله سبحانه وتعالى: * (ألم تر أن الله يسجد له) * ففيه أسئلة:
السؤال الأول: ما الرؤية ههنا الجواب: أنها العلم أي ألم تعلم أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض وإنما عرف ذلك بخبر الله لا أنه رآه.
السؤال الثاني: ما السجود ههنا قلنا فيه وجوه: أحدها: قال الزجاج أجود الوجوه في سجود هذه الأمور أنها تسجد مطيعة لله تعالى وهو كقوله: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11)، * (أن نقول له كن فيكون) * (النحل: 40)، * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) * (البقرة: 74)، * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44)، * (وسخرنا مع داود الجبال يسبحن) * والمعنى أن هذه الأجسام لما كانت قابلة لجميع الأعراض التي يحدثها الله تعالى فيها من غير امتناع البتة أشبهت الطاعة والانقياد وهو السجود فإن قيل هذا التأويل يبطله قوله: * (وكثير من الناس) * فإن السجود بالمعنى الذي ذكرته عام في كل الناس فإسناده إلى كثير منهم يكون تخصيصا من غير فائدة والجواب من وجوه: أحدها: أن السجود بالمعنى الذي ذكرناه وإن كان عاما في حق الكل إلا أن بعضهم تمرد وتكبر وترك السجود في الظاهر، فهذا الشخص وإن كان ساجدا بذاته لكنه متمرد بظاهره، أما المؤمن فإنه ساجد بذاته وبظاهره فلأجل هذا الفرق حصل التخصيص بالذكر. وثانيها: أن نقطع قوله: * (وكثير من الناس) * عما قبله ثم فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن نقول تقدير الآية: ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض ويسجد له كثير من الناس فيكون السجود الأول بمعنى الانقياد والثاني بمعنى الطاعة والعبادة، وإنما فعلنا ذلك لأنه قامت الدلالة على أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في معنييه جميعا. الثاني: أن يكون قوله: * (وكثير من الناس) * مبتدأ وخبره محذوف وهو مثاب لأن خبر مقابله يدل عليه وهو قوله: * (حق عليه العذاب) *، والثالث: أن يبالغ في تكثير المحقوقين بالعذاب فيعطف كثير على كثير ثم يخبر عنهم بحق عليهم العذاب كأنه قيل وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب وثالثها: أن من يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا يقول: المراد بالسجود في حق الأحياء العقلاء العبادة وفي حق الجمادات الانقياد، ومن ينكر ذلك يقول إن الله تعالى تكلم بهذه اللفظة مرتين، فعنى بها في حق العقلاء، الطاعة وفي حق الجمادات الانقياد.
السؤال الثالث: قوله: * (ولله يسجد من في السماوات الأرض) * (الرعد: 15) لفظه لفظ العموم فيدخل فيه الناس فلم قال مرة أخرى * (وكثير من الناس) * الجواب: لو اقتصر على ما تقدم لأوهم أن كل الناس يسجدون كما أن كل الملائكة يسجدون فبين أن كثيرا منهم يسجدون طوعا
19

دون كثير منهم فإنه يمتنع عن ذلك وهم الذين حق عليهم العذاب. القول الثاني: في تفسير السجود أن كل ما سوى الله تعالى فهو ممكن لذاته والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه إلا عند الانتهاء إلى الواجب لذاته كما قال: * (وأن إلى ربك المنتهى) * (النجم: 42) وكما أن الإمكان لازم للممكن حال حدوثه وبقائه فافتقاره إلى الواجب حاصل حال حدوثه وحال بقائه، وهذا الافتقار الذاتي اللازم للماهية أدل على الخضوع والتواضع من وضع الجبهة على الأرض فإن ذلك علامة وضعية للافتقار الذاتي، قد يتطرق إليها الصدق والكذب، أما نفس الافتقار الذاتي فإنه ممتنع التغير والتبدل، فجميع الممكنات ساجدة بهذا المعنى لله تعالى أي خاضعة متذللة معترفة بالفاقة إليه والحاجة إلى تخليفه وتكوينه، وعلى هذا تأولوا قوله: * (وإن من شيء إلا يسبح بحمده) * (الإسراء: 44) وهذا قول القفال رحمه الله. القول الثالث: أن سجود هذه الأشياء سجود ظلها كقوله تعالى: * (يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون) * (النحل: 48) وهو قول مجاهد.
وأما قوله: * (كثير من الناس وكثير حق عليه العذاب) * فقال ابن عباس في رواية عطاء وكثير من الناس يوحده وكثير حق عليه العذاب ممن لا يوحده، وروى عنه أيضا أنه قال وكثير من الناس في الجنة. وهذه الرواية تؤكد ما ذكرنا أن قوله: * (وكثير من الناس) * مبتدأ وخبره محذوف، وقال آخرون: الوقف على قوله: * (وكثير من الناس) * ثم استأنف فقال: * (وكثير حق عليه العذاب) * أي وجب بإبائه وامتناعه من السجود.
وأما قوله تعالى: * (ومن يهن الله فما له من مكرم) * فالمعنى أن الذين حق عليهم العذاب ليس لهم أحد يقدر على إزالة ذلك الهوان عنهم فيكون مكرما لهم، ثم بين بقوله: * (إن الله يفعل ما يشاء) * أنه الذي يصح منه الإكرام والهوان يوم القيامة بالثواب والعقاب، والله أعلم.
قوله تعالى
* (هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم * يصهر به ما فى بطونهم والجلود * ولهم مقامع من حديد * كلمآ أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق * إن الله يدخل لذين ءامنوا
20

وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير * وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) *.
القراءة: روي عن الكسائي * (خصمان) * بكسر الخاء، وقرئ * (قطعت) * بالتخفيف كان الله يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، قرأ الأعمش: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم ردوا فيها) * الحسن * (يصهر) * بتشديد الهاء للمبالغة، وقرئ * (ولؤلؤا) * بالنصب على تقدير ويؤتون لؤلؤا كقوله وحورا عينا ولؤلؤا بقلب الهمزة الثانية واوا، واعلم أنه سبحانه لما بين أن الناس قسمان منهم من يسجد لله ومنهم من حق عليه العذاب ذكر ههنا كيفية اختصامهم، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج من قال أقل الجمع اثنان بقوله: * (هذان خصمان اختصموا) *، والجواب: الخصم صفة وصف بها الفوج أو الفريق فكأنه قيل: هذان فوجان أو فريقان يختصمان، فقوله: * (هذان) * للفظ واختصموا للمعنى كقوله: * (ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا) *. المسألة الثانية: ذكروا في تفسير الخصمين وجوها: أحدها: المراد طائفة المؤمنين وجماعتهم وطائفة الكفار وجماعتهم وأن كل الكفار يدخلون في ذلك، قال ابن عباس رضي الله عنهما يرجع إلى أهل الأديان الستة * (في ربهم) * أي في ذاته وصفاته وثانيها: روى أن أهل الكتاب قالوا نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم، وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بمحمد وآمنا بنبيكم وبما أنزل الله من كتاب، وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسدا، فهذه خصومتهم في ربهم وثالثها: روى قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري رحمه الله أنه كان يحلف بالله أن هذه الآية نزلت في ستة نفر من قريش تبارزوا يوم بدر: حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، وقال علي عليه السلام أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة. ورابعها: قال عكرمة: هما الجنة والنار قالت النار خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة خلقني الله لرحمته فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، والأقرب هو الأول لأن السبب وإن كان خاصا فالواجب حمل الكلام على ظاهره
21

وقوله: * (هذان) * كالإشارة إلى من تقدم ذكره وهم أهل الأديان الستة، وأيضا ذكر صنفين أهل طاعته وأهل معصيته ممن حق عليه العذاب، فوجب أن يكون رجوع ذلك إليهما، فمن خص به مشركي العرب أو اليهود من حيث قالوا في كتابهم ونبيهم ما حكيناه فقد أخطأ، وهذا هو الذي يدل عليه قوله: * (إن الله يفصل بينهم) * أراد به الحكم لأن ذكر التخاصم يقتضي الواقع بعده يكون حكما فبين الله تعالى حكمه في الكفار، وذكر من أحوالهم أمورا ثلاثة: أحدها: قوله: * (قطعت لهم ثياب من نار) * والمراد بالثياب إحاطة النار بهم كقوله: * (لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش) * (الأعراف: 41) عن أنس، وقال سعيد بن جبير من نحاس أذيب بالنار أخذا من قوله تعالى: * (سرابيلهم من قطران) * (إبراهيم: 5) وأخرج الكلام بلفظ الماضي كقوله تعالى: * (ونفخ في الصور) * (الكهف: 99)، * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) * (ق: 21) لأن ما كان من أمر الآخرة فهو كالواقع. وثانيها: قوله: * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم) * يصهر به ما في بطونهم والجلود، الحميم الماء الحار، قال ابن عباس رضي الله عنهما لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها، يصهر أي يذاب أي إذا صب الحميم على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن نحو تأثيره في الظاهر فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله: * (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) * (محمد: 15). وثالثها: قوله: * (ولهم مقامع من حديد) * المقامع السياط وفي الحديث " لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها " وأما قوله: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * فاعلم أن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج والمعنى كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم فخرجوا أعيدوا فيها، ومعنى الخروج ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقاطع فهووا فيها سبعين خريفا وقيل لهم ذوقوا عذاب الحريق، والحريق الغليظ من النار العظيم الإهلاك، ثم إنه سبحانه ذكر حكمه في المؤمنين من أربعة أوجه: أحدها: المسكن، وهو قوله: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار) *، وثانيها: الحلية، وهو قوله: * (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) * فبين تعالى أنه موصلهم في الآخرة إلى ما حرمه عليهم في الدنيا من هذه الأمور وإن كان من أحله لهم أيضا شاركهم فيه لأن المحلل للنساء في الدنيا يسير بالإضافة إلى ما سيحصل لهم في الآخرة. وثالثها: الملبوس وهو قوله: * (ولباسهم فيها حرير) *، ورابعها: قوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول) * وفيه وجوه: أحدها: شهادة أن لا إله إلا الله هو الطيب من القول لقوله: * (ومثلا كلمة طيبة) * (إبراهيم: 24) وقوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10) وهو صراط الحميد لقوله: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * (الشورى: 52)، وثانيها: قال السدي وهدوا إلى الطيب من القول هو القرآن. وثالثها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية
عطاء هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده. ورابعها: أنهم إذا ساروا إلى الدار الآخرة هدوا إلى البشارات التي تأتيهم من قبل الله تعالى بدوام النعيم والسرور والسلام، وهو معنى قوله: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم
22

بما صبرتم فنعم عقبى الدار) * (الرعد: 23، 24) وعندي فيه وجه. خامس: وهو أن العلاقة البدنية جارية مجرى الحجاب للأرواح البشرية في الاتصال بعالم القدس فإذا فارقت أبدانها انكشف الغطاء ولاحت الأنوار الإلهية، وظهور تلك الأنوار هو المراد من قوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد) * والتعبير عنها هو المراد من قوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول) *.
قوله تعالى
* (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذى جعلناه للناس سوآء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) *.
اعلم أنه تعالى بعد أن فصل بين الكفار والمؤمنين ذكر عظم حرمه البيت وعظم كفر هؤلاء فقال: * (إن الذين كفروا) * بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم * (ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام) * وذلك بالمنع من الهجرة والجهاد لأنهم كانوا يأبون ذلك. وفيه إشكال وهو أنه كيف عطف المستقبل وهو قوله: * (ويصدون عن سبيل الله) * الماضي وهو قوله: * (كفروا) * والجواب: عنه من وجهين: الأول: أنه يقال فلان يحسن إلى الفقراء ويعين الضعفاء لا يراد به حال ولا استقبال وإنما يراد استمرار وجود الإحسان منه في جميع أزمنته وأوقاته، فكأنه قيل إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله، ونظيره قوله: * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله) *. وثانيهما: قال أبو علي الفارسي التقدير إن الذين كفروا فيما مضى وهم الآن يصدون ويدخل فيه أنهم يفعلون ذلك في الحال والمستقبل، أما قوله: * (والمسجد الحرام) * يعني ويصدوهم أيضا عن المسجد الحرام، قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية عن المسجد الحرام عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدى فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم وكان محرما بعمرة ثم صالحوه على أن يعود في العام القابل.
أما قوله: * (الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال أبو علي الفارسي أي جعلناه للناس منسكا ومتعبدا وقوله: * (سواء العاكف فيه والباد) * رفع على أنه خبر مبتدأ مقدم أي العاكف والباد فيه سواء، وتقدير الآية المسجد الحرام الذي جعلناه للناس منسكا فالعاكف والبادي فيه سواء وقرأ عاصم ويعقوب سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأن الجعل يتعدى إلى مفعولين والله أعلم.
23

المسألة الثانية: العاكف المقيم به الحاضر. والبادي الطارئ من البدو وهو النازع إليه من عربته، وقال بعضهم يدخل في العاكف القريب إذا جاور ولزمه للتعبد وإن لم يكن من أهله.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أنهما في أي شيء يستويان قال ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الروايات إنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها فليس أحدهما أحق بالمنزل الذي يكون فيه من الآخر إلا أن يكون واحد سبق إلى المنزل وهو قول قتادة وسعيد بن جبير ومن مذهب هؤلاء أن كراء دور مكة وبيعها حرام واحتجوا عليه بالآية. والخبر، أما الآية فهي هذه قالوا إن أرض مكة لا تملك فإنها لو ملكت لم يستو العاكف فيها والبادي، فلما استويا ثبت أن سبيله سبيل المساجد، وأما الخبر فقوله عليه السلام: " مكة مباح لمن سبق إليها " وهذا مذهب ابن عمر وعمر بن عبد العزيز ومذهب أبي حنيفة وإسحق الحنظلي رضي الله عنهم وعلى هذا المراد بالمسجد الحرام الحرم كله لأن إطلاق لفظ المسجد الحرام والمراد منه البلد جائز بدليل قوله تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام) * (الإسراء: 1) وههنا قد دل الدليل وهو قوله: * (العاكف) * لأن المراد منه المقيم إقامة، وإقامته لا تكون في المسجد بل في المنازل فيجب أن يقال ذكر المسجد وأراد مكة. القول الثاني: المراد جعل الله الناس في العبادة في المسجد سواء ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس قال عليه السلام: " يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة من ليل أو نهار " وهذا قول الحسن ومجاهد وقول من أجاز بيع دور مكة. وقد جرت مناظرة بين الشافعي وإسحق الحنظلي بمكة وكان إسحق لا يرخص في كراء بيوت مكة، واحتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) * (الحج: 4) فأضيفت الدار إلى مالكها وإلى غير مالكها، وقال عليه السلام يوم فتح مكة: " من أغلق بابه فهو آمن " وقال صلى الله عليه وسلم: " هل ترك لنا عقيل من ربع " وقد اشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما دار السجن، أترى أنه اشتراها من مالكها أو من غير مالكها؟ قال إسحق: فلما علمت أن الحجة قد لزمتني تركت قولي. أما الذي قالوه من حمل لفظ المسجد على مكة بقرينة قوله العاكف، فضعيف لأن العاكف قد يراد به الملازم للمسجد المعتكف فيه على الدوام، أو في الأكثر فلا يلزم ما ذكروه، ويحتمل أن يراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه فلا وجه لصرف الكلام عن ظاهره مع هذه الاحتمالات.
أما قوله: * (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء * (يرد) * بفتح الياء من الورود، ومعناه من أتى فيه بإلحاد وعن الحسن ومن يرد إلحاده بظلم، والمعنى ومن يرد إيقاع إلحاد فيه، فالإضافة صحيحة على الاتساع في الظرف كمكر الليل والنهار، ومعناه ومن يرد أن يلحد فيه ظالما.
24

المسألة الثانية: الإلحاد العدول عن القصد وأصله إلحاد الحافر، وذكر المفسرون في تفسير الإلحاد وجوها: أحدها: أنه الشرك، يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله تعالى، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس وقول عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل. وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في عبد
الله بن سعد حيث استسلمه النبي صلى الله عليه وسلم فارتد مشركا، وفي قيس بن ضبابة. وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن خطل حين قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح كافرا. وثالثها: قتل ما نهى الله تعالى عنه من الصيد. ورابعها: دخول مكة بغير إحرام وارتكاب ما لا يحل للمحرم. وخامسها: أنه الاحتكار عن مجاهد وسعيد بن جبير. وسادسها: المنع من عمارته. وسابعها: عن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله وبلى والله. وعن عبد الله بن عمر أنه كان له قسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل، فقيل له فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل لا والله وبلى والله. وثامنها: وهو قول المحققين: أن الإلحاد بظلم عام في كل المعاصي، لأن كل ذلك صغر أم كبر يكون هناك أعظم منه في سائر البقاع حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلا بعدن هم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذابا أليما. وقال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات، فإن قيل كيف يقال ذلك مع أن قوله: * (نذقه من عذاب أليم) * غير لائق بكل المعاصي قلنا لا نسلم، فإن كل عذاب يكون أليما، إلا أنه تختلف مراتبه على حسب اختلاف المعصية.
المسألة الثالثة: الباء في قوله: * (بإلحاد) * فيه قولاه: أحدهما: وهو الأولى وهو اختيار صاحب " الكشاف " أن قوله: * (بإلحاد بظلم) * حالان مترادفان ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال ومن يرد فيه مرادا ما عادلا عن القصد ظالما نذقه من عذاب أليم، يعني أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في جميع ما يهم به ويقصده. الثاني: قال أبو عبيدة: مجازه ومن يرد فيه إلحادا والباء من حروف الزوائد.
المسألة الرابعة: لما كان الإلحاد بمعنى الميل من أمر إلى أمر بين الله تعالى أن المراد بهذا الإلحاد ما يكون ميلا إلى الظلم، فلهذا قرن الظلم بالإلحاد لأنه لا معصية كبرت أم صغرت إلا وهو ظلم، ولذلك قال تعالى: * (إن الشرك لظلم عظيم) *.
أما قوله تعالى: * (نذقه من عذاب أليم) * فهو بيان الوعيد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: من قال الآية نزلت في ابن خطل قال: المراد بالعذاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله يوم الفتح، ولا وجه للتخصيص إذا أمكن التعميم، بل يجب أن يكون المراد العذاب في الآخرة لأنه من أعظم ما يتوعد به.
25

المسألة الثانية: أن هذه الآية تدل على أن المرء يستحق العذاب بإرادته للظلم كما يستحقه على عمل جوارحه.
المسألة الثالثة: ذكروا قولين في خبر إن المذكور في أول الآية: الأول: التقدير إن الذين كفروا ويصدون ومن يرد فيه بإلحاد نذقه من عذاب فهو عائد إلى كلتا الجملتين. الثاني: أنه محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره: إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم. وكل من ارتكب فيه ذنبا فهو كذلك.
قوله تعالى
* (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بى شيئا وطهر بيتى للطآئفين والقآئمين والركع السجود * وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق * ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البآئس الفقير * ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق) *.
اعلم أن قوله: * (وإذ بوأنا) * أي واذكر حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة، أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة. وكان قد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء، فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها فكشفت ما حوله فبناه على وضعه الأول، وقيل أمر إبراهيم بأن يأتي موضع البيت فيبنى، فانطلق فخفي عليه مكانه فبعث الله تعالى على قدر البيت الحرام في العرض والطول غمامة وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال يا إبراهيم ابن علي قدري وحيالى فأخذ في البناء وذهبت السحابة، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لا شك أن (أن) هي المفسرة فكيف يكون النهي عن الشرك والأمر
26

بتطهير البيت تفسيرا للتبوئة الجواب: أنه سبحانه لما قال جعلنا البيت مرجعا لإبراهيم، فكأنه قيل ما معنى كون البيت مرجعا له، فأجيب عنه بأن معناه أن يكون بقلبه موحدا لرب البيت عن الشريك والنظير، وبقالبه مشتغلا بتنظيف البيت عن الأوثان والأصنام.
السؤال الثاني: أن إبراهيم لما لم يشرك بالله فكيف قال أن لا تشرك بي الجواب: المعنى لا تجعل في العبادة لي شريكا، ولا تشرك بي غرضا آخر في بناء البيت.
السؤال الثالث: البيت ما كان معمورا قبل ذلك فكيف قال وطهر بيتي الجواب: لعل ذلك المكان كان صحراء وكانوا يرمون إليها الأقذار، فأمر إبراهيم ببناء البيت في ذلك المكان وتطهيره من الأقذار، وكانت معمورة فكانوا قد وضعوا فيها أصناما فأمره الله تعالى بتخريب ذلك البناء ووضع بناء جديد وذلك هو التطهير عن الأوثان، أو يقال المراد أنك بعد أن تبنيه فطهره عما لا ينبغي من الشرك وقول الزور.
وأما قوله: * (للطائفين والقائمين) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما للطائفين بالبيت من غير أهل مكة * (والقائمين) * أي المقيمين بها * (والركع السجود) * أي من المصلين من الكل، وقال آخرون القائمون وهم المصلون، لأن المصلي لا بد وأن يكون في صلاته جامعا بين القيام والركوع والسجود والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (وأذن في الناس بالحج) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن محيصن * (وآذن) * بمعنى أعلم.
المسألة الثانية: في المأمور قولان: أحدهما: وعليه أكثر المفسرين أنه هو إبراهيم عليه السلام قالوا لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت قال سبحانه: * (وأذن
في الناس بالحج) * قال يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال عليك الأذان وعلى البلاغ. فصعد إبراهيم عليه السلام الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس، وفي رواية أخرى على المقام قال إبراهيم كيف أقول؟ قال جبريل عليه السلام: قل لبيك اللهم لبيك فهو أول من لبى، وفي رواية أخرى أنه صعد الصفا فقال: يا أيها الناس إن الله كتب عليكم حج البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض، فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول: لبيك اللهم لبيك، وفي رواية أخرى إن الله يدعوكم إلى حج البيت الحرام ليثيبكم به الجنة ويخرجكم من النار، فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء، وكل من وصل إليه صوته من حجر أو شجر ومدر وأكمة أو تراب، قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء، فمن أجاب مرة حج مرة، ومن أجاب مرتين أو أكثر. فالحج مرتين أو أكثر على ذلك المقدار، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أمر إبراهيم عليه السلام بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، قال القاضي عبد الجبار: يبعد قولهم إنه أجابه الصخر والمدر، لأن الإعلام لا يكون إلا لمن يؤمر بالحج
27

دون الجماد، فأما من يسمع من أهل المشرق والمغرب نداءه فلا يمتنع إذا قواه الله تعالى ورفع الموانع ومثل ذلك قد يجوز في زمان الأنبياء عليهم السلام. القول الثاني: أن المأمور بقوله: * (وأذن) * هو محمد صلى الله عليه وسلم وهو قول الحسن واختيار أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأن ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المخاطب به فهو أولى وتقدم قوله: * (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) * لا يوجب أن يكون قوله: * (وأذن) * يرجع إليه إذ قد بينا أن معنى قوله: * (وإذ بوأنا) * أي واذكر يا محمد * (إذ بوأنا) * فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: * (وأذن) * فإليه يرجع الخطاب وعلى هذا القول ذكروا في تفسير قوله تعالى: * (وأذن) * وجوها: أحدها: أن الله تعالى أمر محمدا صلى الله عليه وسلم بأن يعلم الناس بالحج. وثانيها: قال الجبائي أمره الله تعالى أن يعلن التلبية فيعلم الناس أنه حاج فيحجوا معه قال وفي قوله: * (يأتوك) * دلالة على أن المراد أن يحج فيقتدي به. وثالثها: أنه ابتداء فرض الحج من الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم.
أما قوله: * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الرجال المشاة واحدهم راجل كنيام ونائم وقرئ رجال بضم الراء مخفف الجيم ومثقله ورجال كعجال عن ابن عباس رضي الله عنهما وقوله: * (وعلى كل ضامر) * أي ركبانا والضمور الهزال ضمر يضمر ضمورا، والمعنى أن الناقة صارت ضامرة لطول سفرها. وإنما قال: * (يأتين) * أي جماعة الإبل وهي الضوامر لأن قوله: * (وعلى كل ضامر) * معناه على إبل ضامرة فجعل الفعل بمعنى كل ولو قال يأتي على اللفظ صح وقرئ يأتون صفة للرجال والركبان، والفج الطريق بين الجبلين، ثم يستعمل في سائر الطرق اتساعا، والعميق البعيد قرأ ابن مسعود معيق يقال بئر بعيدة العمق والمعق.
المسألة الثانية: المعنى: وأذن، ليأتوك رجالا وعلى كل ضامر، أي وأذن، ليأتوك على هاتين الصفتين، أو يكون المراد: وأذن فإنهم يأتوك على هاتين الصفتين.
المسألة الثالثة: بدأ الله بذكر المشاة تشريفا لهم، وروى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل يا رسول الله وما حسنات الحرم قال الحسنة بمائة ألف حسنة ".
المسألة الرابعة: إنما قال: * (يأتوك رجالا) * لأنه هو المنادي فمن أتى بمكة حاجا فكأنه أتى إبراهيم عليه السلام لأنه يجيب نداءه.
أما قوله: * (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى لما أمر بالحج في قوله: * (وأذن في الناس بالحج) * ذكر حكمة ذلك الأمر في قوله: * (ليشهدوا منافع لهم) * واختلفوا فيها فبعضهم حملها على منافع الدنيا. وهي أن يتجرو في أيام الحج، وبعضهم حملها على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة عن محمد الباقر عليه السلام، وبعضهم حملها على الأمرين جميعا، وهو الأولى.
28

المسألة الثانية: إنما نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات. المسألة الثالثة: كنى عن الذبح والنحر بذكر اسم الله تعالى لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن دكر اسمه إذا نحروا وذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب به إلى الله تعالى أن يذكر اسم الله تعالى، وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان قال مقاتل إذا ذبحت فقل بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك وتستقبل القبلة، وزاد الكلبي فقال إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، قال القفال: وكان المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدى نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بدل مهجته طلبا لمرضاة الله تعالى، واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته.
المسألة الرابعة: أكثر العلماء صاروا إلى أن الأيام المعلومات عشر ذي الحجة والمعدودات أيام التشريق، وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن، ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله، واحتجوا بأنها معلومة عند الناس لحرصهم على علمها من أجل أن وقت الحج في آخرها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة، والمشعر الحرام وكذلك الذبائح لها وقت منها وهو يوم النحر، وقال ابن عباس في رواية عطاء إنها يوم النحر وثلاثة أيام بعده وهو اختيار أبي مسلم قال لأنها كانت معروفة عند العرب بعدها وهي أيام النحر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
أما قوله: * (بهيمة الأنعام) * فقال صاحب " الكشاف ": البهمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر، فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز.
أما قوله تعالى: * (فكلوا منها) * فمن الناس من قال إنه أمر وجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها ترفعا على الفقراء، فأمر المسلمين بذلك لما فيه من مخالفة الكفار ومساواة الفقراء واستعمال التواضع، وقال الأكثرون إنه ليس على الوجوب. ثم قال العلماء من أهدى أو ضحى فحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله
تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) * ومنهم من قال يأكل الثلث ويدخر الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث، ومذهب الشافعي رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعم جميعها أجزأه وإن أكل جميعها لم يجزه، هذا فيما كان تطوعا، فأما الواجبات كالنذور والكفارات والجبرانات لنقصان مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة ودماء القلم والحلق فلا يؤكل منها.
أما قوله: * (وأطعموا البائس الفقير) * فلا شبهة في أنه أمر إيجاب، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقيرة الذي أضعفه الإعسار وهو مأخوذ من فقار الظهر. قال ابن عباس البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك فتكون ثيابه نقية ووجهه وجه غني.
29

أما قوله: * (ثم ليقضوا تفثهم) * قال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير، وقال المبرد أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. والمراد ههنا قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العامة، والمراد من القضاء إزالة التفث، وقال القفال قال نفطويه: سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله: * (ثم ليقضوا تفثهم) *؟ فقال ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل ما أتفثك وما أدرنك، ثم قال القفال وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي.
أما قوله: * (وليوفوا نذورهم) * فقرئ بتشديد الفاء ثم يحتمل ذلك ما أوجبه الدخول في الحج من أنواع المناسك، ويحتمل أن يكون المراد ما أوجبوه بالنذر الذي هو القول، وهذا القول هو الأقرب فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدى وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه فأمر الله تعالى بالوفاء بذلك.
أما قوله: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * فالمراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة، أما كون هذا الطواف بعد الوقوف ورمي الجمار والحلق، ثم هو في يوم النحر أو بعده ففيه تفصيل، وسمى البيت العتيق لوجوه: أحدها: العتيق القديم لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن. وثانيها: لأنه أعتق من الجبابرة فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله تعالى وهو قول ابن عباس وقول ابن الزبير، ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما قصد أبرهة فعل به ما فعل، فإن قيل فقد تسلط الحجاج عليه فالجواب: قلنا ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه وثالثها: لم يملك قط عن ابن عيينة ورابعها: أعتق من الغرق عن مجاهد وخامسها: بيت كريم من قولهم عتاق الطير والخيل، واعلم أن اللام في ليقضوا وليوفوا وليطوفوا لام الأمر، وفي قراءة ابن كثير ونافع والأكثرين تخفيف هذه اللامات وفي قراءة أبي عمرو تحريكها بالكسر.
قوله تعالى
* (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور * حنفآء لله غير مشركين به ومن
30

يشرك بالله فكأنما خر من السمآء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح فى مكان سحيق * ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) *.
قال صاحب " الكشاف " * (ذلك) * خبر مبتدأ محذوف أي الأمر والشأن ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كلامه في بعض المعاني فإذا أراد الخوض في معنى آخر قال هذا وقد كان كذا، والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله تعالى بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها يحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن أسلم الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمشعر الحرام، وقال المتكلمون ولا تدخل النوافل في حرمات الله تعالى: * (فهو خير له عند ربه) * أي فالتعظيم خير له للعلم بأنه يجب القيام بمراعاتها وحفظها، وقوله: * (عند ربه) * يدل على الثواب المدخر لأنه لا يقال عند ربه فيما قد حصل من الخيرات، قال الأصم فهو خير له من التهاون بذلك، ثم إنه تعالى عاد إلى بيان حكم الحج فقال: * (وأحلت لكم الأنعام) * فقد كان يجوز أن يظن أن الإحرام إذا حرم الصيد وغيره فالأنعام أيضا تحرم فبين الله تعالى أن الإحرام لا يؤثر فيها فهي محللة، واستثنى منه ما يتلى في كتاب الله من المحرمات من النعم وهو المذكور في سورة المائدة، وهو قوله تعالى: * (غير محلى الصيد وأنتم حرم) * وقوله: * (حرمت عليكم) * وقوله: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (الأنعام: 121)، ثم إنه سبحانه لما حث على تعظيم حرماته وحمد من يعظمها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور. لأن توحيد الله تعالى وصدق القول أعظم الخيرات، وإنما جمع الشرك وقول الزور في سلك واحد لأن الشرك من باب الزور، لأن المشرك زاعم أن الوثن تحق له العبادة فكأنه قال فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور، واجتنبوا قول الزور كله، ولا تقربوا منه شيئا لتماديه في القبح والسماجة، وما ظنك بشيء من قبيله عبادة الأوثان وسمى الأوثان رجسا لا للنجاسة، لكن لأن وجوب تجنبها أوكد من وجوب تجنب الرجس ولأن عبادتها أعظم من التلوث بالنجاسات. ثم قال الأصم إنما وصفها بذلك لأن عادتهم في المتقربات أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها وهذا بعيد وقيل إنه إنما وصفها بذلك استحقارا واستخفافا وهذا أقرب، وقوله: * (من الأوثان) * بيان للرجس وتمييز له كقوله عندي عشرون من الدراهم لأن الرجس لما فيه من الإيهام يتناول كل شيء، فكأنه قال فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، وليس المراد أن بعضها ليس كذلك، والزور من الزور والإزورار وهو الانحراف، كما أن الأفك من أفكه إذا صرفه، والمفسرون ذكروا في قول الزور
31

وجوها: أحدها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم وثانيها: شهادة الزور عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه صلى الصبح فلما سلم قام قائما واستقبل الناس بوجهه وقال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله " وتلا هذه الآية وثالثها: الكذب والبهتان ورابعها: قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.
أما قوله تعالى: * (حنفاء لله) * فقد تقدم ذكر تفسير ذلك وأنه الاستقامة على قول بعضهم والميل إلى الحق على قول البعض، والمراد في هذا الموضع ما قيل من أنه
الإخلاص فكأنه قال تمسكوا بهذه الأمور التي أمرت ونهيت على وجه العبادة لله وحده لا على وجه إشراك غير الله به. ولذلك قال غير مشركين به. وهذا يدل على أن الواجب على المكلف أن ينوي بما يأتيه من العبادة الإخلاص فبين تعالى مثلين للكفر لا مزيد عليهما في بيان أن الكافر ضار بنفسه غير منتفع بها. وهو قوله: * (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق) * قال صاحب " الكشاف " إن كان هذا تشبيها مركبا فكأنه قيل من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس وراءه هلاك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرقت أجزاؤه في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة. وإن كان تشبيها مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك بالله كالساقط من السماء والأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة والشيطان الذي يطرحه في وادي الضلالة بالريح التي تهوى بما عصفت به في بعض المهاوي المختلفة. وقرئ بكسر الخاء والطاء وبكسر الفاء مع كسرهما وهي قراءة الحسن وأصلها تختطفه وقرئ الرياح، ثم إنه سبحانه أكد ما تقدم فقال ذلك ومن يعظم شعائر الله واختلفوا فقال بعضهم يدخل فيه كل عبادة وقال بعضهم بل المناسك في الحج وقال بعضهم بل المراد الهدى خاصة والأصل في الشعائر الأعلام التي بها يعرف الشيء فإذا فسرنا الشعائر بالهدايا فتعظيمها على وجهين: أحدهما: أن يختارها عظام الأجسام حسانا جساما سمانا غالية الأثمان ويترك المكاس في شرائها، فقد كانوا يتغالون في ثلاثة ويكرهون المكاس فيهن الهدى والأضحية والرقبة. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه " أنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلثمائة دينار فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيعها ويشتري بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال بل أهدها " " وأهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب " والوجه الثاني: في تعظيم شعائر الله تعالى أن يعتقد أن طاعة الله تعالى في التقرب بها وإهدائها إلى بيته المعظم أمر عظيم لا بد وأن يحتفل به ويتسارع فيه * (فإنها من تقوى القلوب) * أي إن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات، ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ارتبط به وإنما ذكرت القلوب لأن المنافق قد يظهر التقوى من نفسه. ولكن لما كان قلبه خاليا عنها لا جرم لا يكون مجدا في أداء الطاعات، أما المخلص الذي تكون التقوى متمكنة في قلبه
32

فإنه يبالغ في أداء الطاعات على سبيل الإخلاص، فإن قال قائل: ما الحكمة في أن الله تعالى بالغ في تعظيم ذبح الحيوانات هذه المبالغة؟ فالجواب.
قوله تعالى
* (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلهآ إلى البيت العتيق * ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على مآ أصابهم والمقيمى الصلوة ومما رزقناهم ينفقون) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (لكم فيها منافع إلى أجل مسمى) * لا يليق إلا بأن تحمل الشعائر على الهدى الذي فيه منافع إلى وقت النحر، ومن يحمل ذلك على سائر الواجبات يقول لكم فيها أي في التمسك بها منافع إلى أجل ينقطع التكليف عنده، والأول هو قول جمهور المفسرين، ولا شك أنه أقرب. وعلى هذا القول فالمنافع مفسرة بالدر والنسل والأوبار وركوب طهورها، فأما قوله إلى أجل مسمى ففيه قولان: أحدهما: أن لكم أن تنتفعوا بهذه البهائم إلى أن تسموها ضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك وقال آخرون لكم فيها أي في البدن منافع مع تسميتها هديا بأن تركبوها إن احتجتم إليها وأن تشربوا ألبانها إذا اضطررتم إليها إلى أجل مسمى يعني إلى أن تنحروها هذه هي الرواية الثانية عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو اختيار الشافعي، وهذا القول أولى لأنه تعالى قال: * (لكم فيها منافع) * أي في الشعائر ولا تسمى شعائر قبل أن تسمى هديا وروى أبو هريرة أنه عليه السلام " مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد، فقال عليه السلام اركبها فقال يا رسول الله إنها هدى فقال اركبها ويلك " وروى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اركبوا الهدى بالمعروف حتى تجدوا ظهرا " واحتج أبو حنيفة رحمه الله على أنه لا يملك منافعها بأن لا يجوز له أن يؤجرها للركوب فلو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات، وهذا ضعيف لأن أم الولد لا يمكنه بيعها، ويمكنه الانتفاع بها فكذا ههنا.
33

أما قوله تعالى: * (ثم محلها إلى البيت العتيق) * فالمعنى أن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم وأعظم هذه المنافع محلها إلى البيت العتيق أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت، كقوله: * (هديا بالغ الكعبة) * وبالجملة فقوله: * (محلها) * يعني حيث يحل نحرها، وأما البيت العتيق فالمراد به الحرم كله، ودليله قوله تعالى: * (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) * (التوبة: 28) أي الحرم كله فالمنحر على هذا القول كل مكة، ولكنها تنزهت عن الدماء إلى منى ومنى من مكة، قال عليه السلام: " كل فجاج مكة منحر وكل فجاج منى منحر " قال القفال هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت منى فأما الهدى المتطوع به إذا عطب قبل بلوغ مكة فإن محله موضعه.
أما قوله تعالى: * (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله) * فالمعنى شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من عهد إبراهيم عليه السلام إلى من بعده ضربا من القربان وجعل العلة في ذلك أن يذكروا اسم الله تقدست أسماؤه على المناسك، وما كانت العرب تذبحه للصنم يسمى العتر والعتيرة كالذبح والذبيحة، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما منسكا بكسر السين وقرأ الباقون بالفتح وهو مصدر بمعنى النسك والمكسور بمعنى الموضع.
أما قوله تعالى: * (فإلهكم إله واحد) * ففي كيفية النظم وجهان: أحدهما: أن الإله واحد وإنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح الثاني: * (فإلهكم إله واحد) * فلا تذكروا على ذبائحكم غير اسم الله * (فله أسلموا) * أي أخلصوا له الذكر خاصة بحيث لا يشوبه إشراك البتة، والمراد الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه، ومن انقاد له كان مخبتا فلذلك قال بعده * (وبشر المخبتين) * والمخبت المتواضع الخاشع. قال أبو مسلم: حقيقة المخبت من صار في خبت من الأرض، يقال أخبت الرجل إذا صار في الخبت كما يقال أنجد وأشأم وأتهم، والخبت هو المطمئن من الأرض. وللمفسرين فيه عبارات أحدها: المخبتين
المتواضعين عن ابن عباس وقتادة وثانيها: المجتهدين في العبادة عن الكلبي وثالثها: المخلصين عن مقاتل ورابعها: المطمئنين إلى ذكر الله تعالى والصالحين عن مجاهد وخامسها: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا عن عمرو بن أوس.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله: * (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) * فيظهر عليهم الخوف من عقاب الله تعالى والخشوع والتواضع لله، ثم لذلك الوجل أثران أحدهما: الصبر على المكاره وذلك هو المراد بقوله: * (والصابرين على ما أصابهم) * وعلى ما يكون من قبل الله تعالى، لأنه الذي يجب الصبر عليه كالأمراض والمحن والمصائب. فأما ما يصيبهم من قبل الظلمة فالصبر عليه غير واجب بل إن أمكنه دفع ذلك لزمه الدفع ولو بالمقاتلة والثاني: الاشتغال بالخدمة وأعز الأشياء عند الإنسان نفسه وماله. أما الخدمة بالنفس فهي الصلاة، وهو المراد بقوله: * (والمقيمي الصلاة) * وأما الخدمة بالمال فهو المراد من قوله: * (ومما رزقناهم ينفقون) * قرأ الحسن * (والمقيمي الصلاة) * بالنصب على تقدير النون، وقرأ ابن مسعود والمقيمين الصلاة على الأصل.
34

قوله تعالى
* (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صوآف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون * لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها ولكن يناله لتقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (والبدن) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: البدن جمع بدنة كخشب وخشبة، سميت بذلك إذا أهديت للحرم لعظم بدنها وهي الإبل خاصة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق البقر بالإبل حين قال: " البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة " ولأنه قال: * (فإذا وجبت جنوبها) * وهذا يختص بالإبل فإنها تنحر قائمة دون البقر، وقال قوم البدن الإبل والبقر التي يتقرب بها إلى الله تعالى في الحج والعمرة، لأنه إنما سمى بذلك لعظم البدن فالأولى دخولها فيه، أما الشاة فلا تدخل وإن كانت تجوز في النسك لأنها صغيرة الجسم فلا تسمى بدنة.
المسألة الثانية: قرأ الحسن والبدن بضمتين كثمر في جمع ثمرة، وابن أبي إسحق بالضمتين وتشديد النون على لفظ الوقف، وقرئ بالنصب والرفع كقوله: * (والقمر قدرناه منازل) * والله أعلم.
المسألة الثالثة: إذا قال لله على بدنة، هل يجوز له نحرها في غير مكة؟ قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله يجوز، وقال أبو يوسف رحمه الله لا يجوز إلا بمكة واتفقوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة، ولو قال: لله على جزور، أنه يذبحه حيث شاء، وقال أبو حنيفة رحمه الله البدنة بمنزلة الجزور فوجب أن يجوز له نحرها حيث يشاء بخلاف الهدى فإنه تعالى قال: * (هديا بالغ الكعبة) * (يس: 39) فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدى، واحتج أبو يوسف رحمه الله بقوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * فكان اسم البدنة يفيد كونها قربة فكان كاسم الهدى، أجاب أبو حنيفة رحمه الله
35

بأنه ليس كل ما كان ذبحه قربة اختص بالحرم فإن الأضحية قربة وهي جائزة في سائر الأماكن.
أما قوله تعالى: * (جعلناها لكم) * فاعلم أنه سبحانه لما خلق البدن وأوجب أن تهدي في الحج جاز أن يقول * (جعلناها لكم من شعائر الله) * أما قوله: * (لكم فيها خير) * فالكلام فيه ما تقدم في قوله: * (لكم فيها منافع) * (الحج: 33) وإذا كان قوله: * (لكم فيها خير) * كالترغيب فالأولى أن يراد به الثواب في الآخرة وما أخلق العاقل بالحرص على شيء شهد الله تعالى بأن فيه خيرا وبأن فيه منافع، أما قوله: * (فاذكروا اسم الله عليها) * ففيه حذف أي اذكروا اسم الله على نحرها، قال المفسرون هو أن يقال عند النحر أو الذبح بسم الله والله أكبر اللهم منك وإليك، أما قوله: * (صواف) *، فالمعنى قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرئ صوافن من صفون الفرس، وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابعة على طرف سنبكه لأن البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث، وقرئ صوافي أي خوالص لوجه الله تعالى لا تشركوا بالله في التسمية على نحرها أحدا كما كان يفعله المشركون، وعن عمرو بن عبيد صوافيا بالتنوين عوضا عن حرف الإطلاق عند الوقف، وعن بعضهم صوافي نحو قول العرب اعط القوس باريها ولا يبعد أن تكون الحكمة في إصفافها ظهور كثرتها للناظرين فتقوى نفوس المحتاجين ويكون التقرب بنحرها عند ذلك أعظم أجرا وأقرب إلى ظهور التكبير وإعلاء اسم الله وشعائر دينه، وأما قوله: * (فإذا وجبت جنوبها) * فاعلم أن وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط، ووجبت الشمس وجبة إذا غربت، والمعنى إذا سقطت على الأرض وذلك عند خروج الروح منها * (فكلوا منها) * وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيما يجوز أكله منها * (وأطعموا القانع والمعتر) * القانع السائل يقال قنع يقنع قنوعا إذا سأل قال أبو عبيد هو الرجل يكون مع القوم يطلب فضلهم ويسأل معروفهم ونحوه، قال الفراء والمعنى الثاني القانع هو الذي لا يسأل من القناعة يقال قنع يقنع قناعة إذا رضي بما قسم له وترك السؤال، أما المعتر فقيل إنه المتعرض بغير سؤال، وقيل إنه المتعرض بالسؤال قال الأزهري قال ابن الأعرابي يقال عروت فلانا وأعررته وعروته واعتريته إذا أتيته تطلب معروفه ونحوه، قال أبو عبيد والأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالا بعد حال فيفعل ما يدل على أنه لا يقنع بما يدفع إليه أبدا وقرأ الحسن والمعتري وقرأ أبو رجاء القنع وهو الراضي لا غير يقال قنع فهو قنع وقانع.
أما قوله: * (كذلك سخرناها لكم) * فالمعنى أنها أجسم وأعظم وأقوى من السباع وغيرها مما يمتنع علينا التمكن منه، فالله تعالى جعل الإبل والبقر بالصفة التي يمكننا تصريفها على ما نريد، وذلك نعمة عظيمة من الله تعالى في الدين والدنيا، ثم لما بين تعالى هذه النعمة قال بعده * (لعلكم تشكرون) * والمراد لكي تشكروا. قالت المعتزلة: هذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يشكروا فدل هذا
36

على أنه يريد كل ما أمر به ممن أطاع وعصى، لا كما يقوله أهل السنة من أنه تعالى لم يرد ذلك إلا من المعلوم أن يطيع، والكلام عليه قد تقدم غير مرة.
أما قوله تعالى: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: لما كانت عادة الجاهلية على ما روي في القربان أنهم يلوثون بدمائها ولحومها الوثن وحيطان الكعبة بين تعالى ما هو القصد من النحر فقال: * (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم) * فبين أن الذي يصل إليه تعالى ويرتفع إليه من صنع المهدي من قوله ونحره وما شاكله من فرائضه هو تقوى الله دون نفس اللحم والدم، ومعلوم أن شيئا من الأشياء لا يوصف بأنه يناله سبحانه فالمراد وصول ذلك إلى حيث يكتب يدل عليه قوله: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * (فاطر: 10).
المسألة الثانية: قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أمور: أحدها: أن الذي ينتفع به المرء فعله دون الجسم الذي ينتفع بنحره وثانيها: أنه سبحانه غني عن كل ذلك، وإنما المراد أن يجتهد العبد في امتثال أوامره وثالثها: أنه لما لم ينتفع بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه وجب أن تكون تقواه فعلا وإلا لكانت تقواه بمنزلة اللحوم ورابعها: أنه لما شرط القبول بالتقوى وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يكون عمله مقبولا وأنه لا ثواب له والجواب: أما الأولان فحقان، وأما الثالث فمعارض بالداعي والعلم، وأما الرابع فصاحب الكبيرة وإن لم يكن متقيا مطلقا ولكنه متق فيما أتى به من الطاعة على سبيل الإخلاص فوجب أن تكون طاعته مقبولة وعند هذا تنقلب الآية حجة عليهم.
المسألة الثالثة: كلهم قرأوا * (ينال الله) * ويناله بالياء إلا يعقوب فإنه قرأ بالتاء في الحرفين فمن أنث فقد رده إلى اللفظ ومن ذكر فللحائل بين الاسم والفعل. ثم قال: * (كذلك سخرها لكم) * والمراد أنه إنما سخرها كذلك لتكبروا الله وهو التعظيم، بما نفعله عند النحر وقبله وبعده على ما هدانا ودلنا عليه وبينه لنا، ثم قال بعده على وجه الوعد لمن امتثل أمره * (وبشر المحسنين) * كما قال من قبل * (وبشر المخبتين) * (الحج: 34) والمحسن هو الذي يفعل الحسن من الأعمال ويتمسك به فيصير محسنا إلى نفسه بتوفير الثواب عليه.
قوله تعالى
* (إن الله يدافع عن الذين ءامنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور * أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا
37

الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوى عزيز * الذين إن مكناهم فى الارض أقاموا الصلوة وآتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور) *.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * (الحج: 38) وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بالألف ومثله * (ولولا دفع الله) * وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بغير ألف فيهما. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم * (إن الله يدافع) * بالألف * (ولولا دفع) * بغير ألف، فمن قرأ يدافع فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، وقال الخليل يقال دفع الله المكروه عنك دفعا ودافع عنك دفاعا والدفاع أحسنهما.
المسألة الثانية: ذكر * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) * ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين. فلذلك قال بعده * (إن الله لا يحب كل خوان كفور) * (الحج: 38) فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته.
المسألة الثالثة: قال مقاتل: إن الله يدافع كفار مكة عن الذين آمنوا بمكة، هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتلهم سرا فنهاهم.
المسألة الرابعة: هذه الآية بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكف بوائقهم عنهم وهي كقوله: * (لن يضروكم إلا أذى) * (آل عمران: 111) وقوله: * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) * (غافر: 51) وقال: * (إنهم لهم المنصورون) * (الصافات: 172) * (وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب) * (الصف: 13).
أما قوله تعالى: * (إن الله لا يحب كل خوان كفور) * (الحج: 38) فالمعنى أنه سبحانه جعل العلة في أنه يدافع
38

عن الذين آمنوا أن الله لا يحب صدهم، وهو الخوان الكفور أي خوان في أمانة الله كفور لنعمته ونظيره قوله: * (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 27) قال مقاتل أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذه؟
أما قوله تعالى: * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم في رواية حفص * (أذن) * بضم الألف والباقون بفتحها أي أذن الله لهم في القتال، وقرأ أهل المدينة وعاصم * (يقاتلون) * بنصب التاء، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي * (أذن) * بنصب الف * (ويقاتلون) * بكسر التاء. قال الفراء والزجاج: يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل، ومن قرأ بفتح التاء فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال.
المسألة الثانية: في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه.
أما قوله: * (بأنهم ظلموا) * فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديدا وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم اصبروا فإني لم أومر بقتال حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية، وقيل نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن في مقاتلتهم.
أما قوله: * (وإن الله على نصرهم لقدير) * فذلك وعد منه تعالى بنصرهم كما يقول المرء لغيره إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك لا يعني بذلك القدرة بل يريد أنه سيفعل ذلك.
أما قوله تعالى: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق) * فاعلم أنه تعالى لما بين أنهم إنما أذنوا في القتال لأجل أنهم ظلموا فبين ذلك الظلم بقوله: * (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) * فبين تعالى ظلمهم لهم بهذين الوجهين: أحدهما: أنهم أخرجوهم من ديارهم والثاني: أنهم أخرجوهم بسبب أنهم قالوا: * (ربنا الله) * وكل واحد من الوجهين عظيم في الظلم، فإن قيل كيف استثنى من غير حق قولهم: * (ربنا الله) * وهو من الحق؟ قلنا تقدير الكلام أنهم أخرجوا بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير، ومثله * (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) * ثم بين سبحانه بقوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت) * أن عادته جل جلاله أن يحفظ دينه بهذا الأمر قرأ نافع * (لهدمت) * بالتخفيف وقرأ الباقون بالتشديد وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما المراد بهذا الدفاع الذي أضافه إلى نفسه؟ الجواب: هو إذنه لأهل دينه بمجاهدة الكفار فكأنه قال تعالى: ولولا دفاع الله أهل الشرك بالمؤمنين، من حيث يأذن لهم في جهادهم وينصرهم على أعدائهم لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وعطلوا ما يبنونه من
39

مواضع العبادة، ولكنه دفع عن هؤلاء بأن أمر بقتال أعداء الدين ليتفرغ أهل الدين للعبادة وبناء البيوت لها، ولهذا المعنى ذكر الصوامع والبيع والصلوات وإن كانت لغير أهل الإسلام، وذكر المفسرون وجوها أخر: أحدها: قال الكلبي يدفع الله بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين عن الجهاد وثانيها: روى أبو الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يدفع الله بالمحسن عن المسئ، وبالذي يصلي عن الذي لا يصلي، وبالذي يتصدق عن الذي لا يتصدق وبالذي يحج عن الذي لا يحج، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه " ثم تلا هذه الآية وثالثها: قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما يدفع بدين الإسلام وبأهله عن أهل الذمة ورابعها: قال مجاهد يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص.
السؤال الثاني: لماذا جمع الله بين مواضع عبادات اليهود والنصارى وبين مواضع عبادة المسلمين؟ الجواب: لأجل ما سألت عنه اختلفوا على وجوه: أحدها: قال الحسن المراد بهذه المواضع أجمع مواضع المؤمنين، وإن اختلفت العبارات عنها وثانيها: قول الزجاج ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدم في شرع كل نبي المكان الذي يصلي فيه، فلولا ذلك الدفع لهدم في زمن موسى الكنائس التي كانوا يصلون فيها في شرعه، وفي زمن عيسى الصوامع، وفي زمن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم المساجد فعلى هذا إنما دفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف وقبل النسخ وثالثها: بل المراد لهدمت هذه الصوامع في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم لأنها على كل حال يجري فيها ذكر الله تعالى فليست بمنزلة عبادة الأوثان.
السؤال الثالث: ما الصوامع والبيع والصلوات والمساجد؟ الجواب: ذكروا فيها وجوها: أحدها: الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين عن أبي العالية رضي الله عنه وثانيها: الصوامع للنصارى وهي التي بنوها في الصحارى والبيع لهم أيضا وهي التي يبنونها في البلد والصلوات لليهود، قال الزجاج وهي بالعبرانية صلوتا وثالثها: الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود عن قتادة ورابعها: أنها بأسرها أسماء المساجد عن الحسن، أما الصوامع فلأن المسلمين قد يتخذون الصوامع، وأما البيع فأطلق هذا الاسم على المساجد على سبيل التشبيه، وأما الصلوات فالمعنى أنه لولا ذلك الدفع لانقطعت الصلوات ولخربت المساجد.
السؤال الرابع: الصلوات كيف تهدم خصوصا على تأويل من تأوله على صلاة المسلمين؟ الجواب: من وجوه: أحدها: المراد بهدم الصلاة إبطالها وإهلاك من يفعلها كقولهم هدم فلان إحسان فلان إذا قابله بالكفر دون الشكر وثانيها: بل المراد مكان الصلوات لأنه الذي يصح هدمه كقوله: * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) أي أهلها وثالثها: لما كان الأغلب فيما ذكر ما يصح أن
40

أن يهدم جاز ضم ما لا يصح أن يهدم إليه، كقولهم متقلدا سيفا ورمحا، وإن كان الرمح لا يتقلد.
السؤال الخامس: قوله: * (يذكر فيها اسم الله كثيرا) * مختص بالمساجد أو عائد إلى الكل؟ الجواب: قال الكلبي ومقاتل عائد إلى الكل لأن الله تعالى يذكر في هذه المواضع كثيرا، والأقرب أنه مختص بالمساجد تشريفا لها بأن ذكر الله يحصل فيها كثيرا.
السؤال السادس: لم قدم الصوامع والبيع في الذكر على المساجد؟ الجواب: لأنها أقدم في الوجود، وقيل أخرها في الذكر كما في قوله: * (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) * (فاطر: 32) ولأن أول الفكر آخر العمل، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الرسل وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال عليه السلام: " نحن الآخرون السابقون ".
أما قوله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره) * فقال بعضهم من ينصره بتلقي الجهاد بالقبول نصرة لدين الله تعالى، وقال آخرون: بل المراد من يقوم بسائر دينه، وإنما قالوا ذلك لأن نصرة الله على الحقيقة لا تصح، وإنما المراد من نصرة الله نصرة دينه كما يقال في ولاية الله وعداوته مثل ذلك وفي قوله: * (ولينصرن الله من ينصره) * وعد بالنصر لمن هذه حاله ونصر الله تعالى للعبد أن يقويه على أعدائه حتى يكون هو الظافر ويكون قائما بإيضاح الأدلة والبينات، وبكون بالإعانة على
المعارف والطاعات، وفيه ترغيب في الجهاد من حيث وعدهم النصر، ثم بين تعالى أنه قوي على هذه النصرة التي وعدها المؤمنين، وأنه لا يجوز عليه المنع وهو معنى قوله * (عزيز) * لأن العزيز هو الذي لا يضام ولا يمنع مما يريده. ثم إنه سبحانه وتعالى وصف الذين أذن لهم في القتال في الآية الأولى فقال: * (الذين إن مكناهم في الأرض) * والمراد من هذا التمكن السلطنة ونفاذ القول على الخلق لأن المتبادر إلى الفهم من قوله: * (مكناهم في الأرض) * ليس إلا هذا، ولأنا لو حملناه على أصل القدرة لكان كل العباد كذلك وحينئذ يبطل ترتب الأمور الأربعة المذكورة عليه في معرض الجزاء، لأنه ليس كل من كان قادرا على الفعل أتى بهذه الأشياء. إذا ثبت هذا فنقول: المراد بذلك هم المهاجرون لأن قوله: * (الذين إن مكناهم) * صفة لمن تقدم وهو قوله: * (الذين أخرجوا من ديارهم) * والأنصار ما أخرجوا من ديارهم فيصير معنى الآية أن الله تعالى وصف المهاجرين بأنه إن مكنهم من الأرض وأعطاهم السلطنة، فإنهم أتوا بالأمور الأربعة، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن قد ثبت أن الله تعالى مكن الأئمة الأربعة من الأرض وأعطاهم السلطنة عليها فوجب كونهم آتين بهذه الأمور الأربعة. وإذا كانوا آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر وجب أن يكونوا على الحق، فمن هذا الوجه دلت هذه الآية على إمامة الأربعة. ولا يجوز حمل الآية على علي عليه السلام وحده لأن الآية دالة على الجمع، وفي قوله: * (ولله عاقبة الأمور) * دلالة على أن الذي تقدم ذكره من سلطنتهم وملكهم كائن لا محالة. ثم إن الأمور ترجع إلى الله تعالى بالعاقبة فإنه سبحانه هو الذي
41

لا يزول ملكه أبدا وهو أيضا يؤكد ما قلناه.
قوله تعالى
* (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير * فكأين من قرية أهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا فى الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بهآ أو ءاذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور) *.
إعلم أنه تعالى لما بين فيما تقدم إخراج الكفار المؤمنين من ديارهم بغير حق، وأذن في مقاتلتهم وضمن للرسول والمؤمنين النصرة وبين أن لله عاقبة الأمور، أردفه بما يجري مجرى التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر على ما هم عليه من أذيته وأذية المؤمنين بالتكذيب وغيره، فقال: وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم سائر الأمم أنبياءهم، وذكر الله سبعة منهم. فإن قيل: ولم قال: * (وكذب موسى) * ولم يقل قوم موسى؟ فالجواب: من وجهين: الأول: أن موسى عليه السلام ما كذبه قومه بنوا إسرائيل وإنما كذبه غير قومه وهم القبط الثاني: كأنه قيل بعد ما ذكر تكذيب كل قوم رسوله، وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره.
أما قوله تعالى: * (فأمليت للكافرين) * يعني أمهلتهم إلى الوقت المعلوم عندي ثم أخذتهم بالعقوبة * (فكيف كان نكير) * استفهام تقرير (ي)، أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب، أليس كان واقعا
42

قطعا؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة وبالحياة موتا وبالعمارة خرابا؟ ألست أعطيت الأنبياء جميع ما وعدتهم من النصرة على أعدائهم والتمكين لهم في الأرض. فينبغي أن تكون عادتك يا محمد الصبر عليهم، فإنه تعالى إنما يمهل للمصلحة فلا بد من الرضاء والتسليم، وإن شق ذلك على القلب. واعلم أن بدون ذلك يحصل التسلية لمن حاله دون حال الرسول عليه السلام، فكيف بذلك مع منزلته، لكنه في كل وقت يصل إليه من جهتهم ما يزيده غما، فأجرى الله عادته بأن يصبره حالا بعد حال، وقد تقدم ذكر هؤلاء المكذبين وبأي جنس من عذاب الاستئصال هلكوا.
وههنا بحث، وهو أن هذه الآية تدل على أنه سبحانه يفعل به وبقومه كل ما فعل بهم وبقومهم إلا عذاب الاستئصال فإنه لا يفعله بقوم محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان قد مكنهم من قتل أعدائهم وثبتهم. قال الحسن: السبب في تأخر عذاب الاستئصال عن هذه الأمة أن ذلك العذاب مشروط بأمرين: أحدهما: أن عند الله حد (ا) من الكفر من بلغه عذبه ومن لم يبلغه لم يعذبه والثاني: أن الله لا يعذب قوما حتى يعلم أن أحدا منهم لا يؤمن، فأما إذا حصل الشرطان وهو أن يبلغوا ذلك الحد من الكفر وعلم الله أن أحدا منهم لا يؤمن، فحينئذ يأمر الأنبياء فيدعون على أممهم فيستجيب الله دعاءهم فيعذبهم بعذاب الاستئصال وهو المراد من قوله: * (حتى إذا استيأس الرسل) * (يوسف: 110) أي من إجابة القوم، وقوله لنوح: * (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) * (هود: 36) وإذا عذبهم الله تعالى فإنه ينجي المؤمنين لقوله: * (فلما جاء أمرنا) * (هود: 66) أي بالعذاب نجينا هودا، واعلم أن الكلام في هذه المسألة قد تقدم فلا فائدة في الإعادة، فإن قيل كيف يوصف ما ينزله بالكفار من الهلاك بالعذاب المعجل بأنه نكير؟ قلنا إذا كان رادعا لغيره وصادعا له عن مثل ما أوجب ذلك صار نكيرا.
أما قوله: * (فكأين من قربة أهلكناها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: المراد من قوله: * (فكأين) * فكم على وجه التكثير، وقيل أيضا معناه، ورب قرية والأول أولى لأنه أوكد في الزجر، فكأنه تعالى لما بين حال قوم من المكذبين وأنه عجل إهلاكهم أتبعه بما دل على أن لذلك أمثالا وإن لم يذكر مفصلا.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأهل الكوفة والمدينة * (أهلكناها) * بالنون، وقرأ أبو عمرو ويعقوب * (أهلكتها) * وهو اختيار أبي عبيد لقوله في الآية الأولى * (فأمليت للكافرين ثم أخذتهم) *.
المسألة الثالثة: قوله: * (أهلكناها) * أي أهلها ودل بقوله وهي ظالمة على ما ذكرنا، ويحتمل أن يكون المراد إهلاك نفس القرية، فيدخل تحت إهلاكها إهلاك من فيها لأن العذاب النازل إذا بلغ أن يهلك القرية فتصير منهدمة حصل بهلاكها هلاك من فيها وإن كان الأول أقرب.
أما قوله وهي: * (خاوية على عروشها) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: ما معنى هذه اللفظة؟ فقال صاحب الكشاف: كل مرتفع أظلك من سقف بيت أو خيمة أو ظلة فهو عرش، والخاوي الساقط من خوى النجم إذا سقط أو الخالي من
43

خوى المنزل إذا خلا من أهله، فإن فسرنا الخاوي بالساقط، كان المعنى أنها ساقطة على سقوفها، أي خرت سقوفها على الأرض، ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف، وإن فسرناه بالخالي كان المعنى أنها خالية عن الناس مع بقاء عروشها وسلامتها، قال ويمكن أن يكون خبرا بعد خبر، كأنه قيل هي خاوية وهي على عروشها، بمعنى أن السقوف سقطت على الأرض فصارت في قرار الحيطان وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة، وبالجملة فالآية دالة على أنها بقيت محلا للاعتبار.
السؤال الثاني: ما محل هاتين الجملتين من الإعراب. أعني * (وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها) * الجواب: الأولى: في محل النصب على الحال والثانية: لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل. قال أبو مسلم: المعنى فكأين من قرية أهلكناها وهي كانت ظالمة وهي الآن خاوية.
أما قوله: * (وبئر معطلة وقصر مشيد) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الحسن * (معطلة) * من أعطله بمعنى معطلة ومعنى المعطلة أنها عامرة فيها الماء ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان: أحدهما: أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني: أنه المرفوع المطول، والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف، وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهرا خاليا بلا ساكن، وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر. وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) * (الصافات: 137) والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم الله تعالى من العذاب وهم بحضرموت، وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ثم، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح، وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنحاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم الله تعالى، وعطل بئرهم وخرب قصورهم، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري، وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت.
أما قوله تعالى: * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها) * فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك
44

استماع الأخبار فيه مدخل، ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع البتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع، فلهذا قال: * (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) * كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (أفلم يسيروا في الأرض) * هل يدل على الأمر بالسفر الجواب: يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا. السؤال الثاني: ما معنى الضمير في قوله: * (فإنها لا تعمى الأبصار) * والجواب: هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثا ومذكرا وفي قراءة ابن مسعود * (فإنه) * ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الأبصار.
السؤال الثالث: أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر؟ الجواب: أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة، فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول: ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت، لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهوا، ولكني تعمدته على اليقين. وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) * (ق: 37) وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فالله تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.
السؤال الرابع: هل تدل الآية على أن العقل هو العلم وعلى أن محل العلم هو القلب؟ الجواب: نعم لأن المقصود من قوله: * (قلوب يعقلون بها) * العلم وقوله: * (يعقلون بها) * كالدلالة على أن القلب آلة لهذا التعقل، فوجب جعل القلب محلا للتعقل ويسمى الجهل بالعمى لأن الجاهل لكونه متحيرا بشبه الأعمى.
قوله تعالى
* (ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون * وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمة ثم أخذتها وإلى المصير * قل يا أيها الناس إنمآ أنا لكم نذير مبين) *.
45

إعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال: * (ويستعجلونك بالعذاب) * وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان
يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم: * (لو ما تأتينا بالملائكة) * يدل على ذلك فقال تعالى: * (ولن يخلف الله وعده) * لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: * (وإن يوما عند ربك) * يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته * (كألف سنة) * لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه: الوجه الثاني: أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم، وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة. ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله والوجه الثالث: أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة.
أما قوله: * (وكأي من قرية أمليت لها وهي ظالمة) * فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي وهو تفسير قوله: * (وإلى المصير) * فإن قيل فلم قال فيما قبل * (فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة) * (الحج: 45) وقال ههنا: * (وكأين من قرية أمليت لها) * الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلنا: الأولى وقعت بدلا عن قوله: * (فكيف كان نكير) * (الحج: 44) وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: * (ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) *.
أما قوله: * (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نطير مبين) * فالمعنى أنه تعالى أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده ما يكون منهم من الاستعجال للعذاب على سبيل الهزؤ عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.
قوله تعالى
* (فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا فى ءاياتنا معاجزين أولئك أصحاب الجحيم) *.
إعلم أنه تعالى لما بين للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يقول لهم أنا نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن الرجل إنما يكون منذرا بذكر الوعد للمطيعين والوعيد
46

للعاصين. فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجمع بين الوصفين وهذا دليل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح أداء كل واجب وترك كل محظور، ثم بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم. أما المغفرة فإما أن تكون عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفرانا، فبقي الثالث وهو دلالته على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، وكرمه يحتمل أن يكون للصفات السلبية، وهو أن الإنسان هناك يستغني عن المكاسب وتحمل المشاق والذل فيها وارتكاب المآثم والدناءة بسببها، وأن يكون للصفات الثبوتية، وهو أن يكون رزقا كثيرا دائما خالصا عن شوائب الضرر، مقرونا بالتعظيم والتبجيل. والأولى جعل الكريم دالا على كل هذه الصفات، فهذا شرح حال المؤمنين. وأما حال الكفار فقال: * (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) * والمراد اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين، ويقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعا من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا. قال صاحب " الكشاف ": يقال سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه، أما المعاجز فيقال عاجزته، أي طمعت في إعجازه، واختلفوا في المراد، هل معاجزين لله أو للرسول وللمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد. أما الذين قالوا المراد معاجزين لله، فقد ذكروا وجوها: أحدها: المراد بمعاجزين مغالبين مفوتين لربهم من عذابهم وحسابهم حيث جحدوا البعث وثانيها: أنهم يثبطون غيرهم عن التصديق بالله ويثبطونهم بسبب الترغيب والترهيب وثالثها: يعجزون الله بإدخال الشبه في قلوب الناس والجواب: عن الأول أن من جحد أصل الشيء لا يوصف بأنه مغالب لمن يفعل ذلك الشيء، ومن تأول الآية على ذلك فيجب أن يكون مراده أنهم ظنوا مغالبة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يقوله من أمر الحشر والنشر والجواب: عن الثاني والثالث أن المغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة، لا إلى الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (أولئك أصحاب الجحيم) * فالمراد أنهم يدومون فيها وشبههم من حيث الدوام بالصاحب، فإن قيل إنه عليه السلام في هذه الآية بشر المؤمنين أولا وأنذر الكافرين ثانيا، فكان القياس أن يقال: قل يا أيها الناس إنما أنا لكم بشير ونذير، قلنا الكلام مسوق إلى المشركين، ويا أيها الناس نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم * (أفلم يسيروا في الأرض) * (الحج: 46) ووصفوا بالاستعجال وإنما ألقى ذكر المؤمنين وثوابهم في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم.
47

قوله تعالى
* (ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبى إلا إذا تمنى ألقى الشيطان فى أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة للذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفى شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا فى مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم * الملك يومئذ لله يحكم بينهم فالذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم * والذين كفروا وكذبوا باياتنا فأولئك لهم عذاب مهين) *.
أما قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من الناس من قال: الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم
48

يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي، وليس كل نبي يكون رسولا، وهو قول الكلبي والفراء. وقالت المعتزلة كل رسول نبي، وكل نبي رسول، ولا فرق بينهما، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه: أحدها: هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلا، وكذا قوله تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نبي) * (الأعراف: 94)، وثانيها: أن الله تعالى خاطب محمدا مرة بالنبي ومرة بالرسول، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة وثالثها: أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين ورابعها: أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر، أو من قولهم نبأ إذا ارتفع، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة. أما القول الثاني: فاعلم أن شيئا من تلك الوجوه لا يبطله، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص. وقال في موضع آخر * (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) * (الزخرف: 6) وذلك يدل على أنه كان نبيا، فجعله الله مرسلا وهو يدل على قولنا: " وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كم المرسلون؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة، فقيل وكم الأنبياء؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا الجم الغفير " إذا ثبت هذا فنقول: ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أمورا: أحدها: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني: أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعا لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحق ويعقوب وأيوب ويونس وهارون وداود وسليمان رسلا لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث: أن من جاءه الملك ظاهرا وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولا، أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله، فهو النبي الذي لا يكون رسولا وهذا هو الأولى.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة * (والنجم إذا هوى) * (النجم: 1) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله * (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) * (النجم: 19، 20) ألقى الشيطان على لسانه " تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى " فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى
49

جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك؟! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا وخاف من الله خوفا عظيما حتى نزل قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * الآية. هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول. أما القرآن فوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين) * (الحاقة: 44 - 46)، وثانيها: قوله: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (يونس: 15) وثالثها: قوله: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم ورابعها: قوله تعالى: * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا) * (الإسراء: 73) وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل وخامسها: قوله: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * (الإسراء: 74) وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل وسادسها: قوله: * (كذلك لثبت به فؤادك) * (الفرقان: 32). وسابعها: قوله: * (سنقرئك فلا تنسى) * (الأعلى: 6). وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتابا. وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضا فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق. وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه: أحدها: أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمنا أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلا أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجدا مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم ورابعها: قوله: * (فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته) * وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآنا، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلا أولى وخامسها: وهو أقوى الوجوه
50

أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) * (المائدة: 67) فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل
الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعا من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمنى القلب والثاني: القراءة قال الله تعالى: * (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني) * أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها، وقال: أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى، ومنى الله لك أي قدر لك. وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئا فشيئا، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية، إما القراءة، وإما الخاطر، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان: الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه: أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافا إلى الشيطان الوجه الثاني: قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصا آخر ظن الحاضرون أنه كلام
51

الرسول، ثم هذا لا يكون قادحا في النبوة لما لم يكن فعلا له، وهذا أيضا ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاما للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس، قلنا لا يجب على الله إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث: أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته، ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها، وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولا ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطانا وهذا أيضا ضعيف لوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما: لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل، فإن قيل إنما لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤديا إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس، قلنا إن القرآن لم يكن مستقرا على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سببا لزوال اللبس، وأيضا فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع: هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهوا أو قسرا أو اختيارا أما الوجه الأول: وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهوا فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه، فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضا لوجوه: أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع وثانيها: أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحدا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها وثالثها: هب أنه تكلم
52

بذلك سهوا، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه الثاني: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسرا وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضا فاسد لوجوه: أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال وثالثها: أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكيا عن الشيطان * (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22) وقال تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه) * (النحل: 99، 100) وقال: * (إلا عبادك منهم المخلصين) * (الحجر: 40) ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختيارا فههنا
وجهان: أحدهما: أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني: أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين: الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطانا يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني: قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم البتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائنا في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني: وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فههنا أيضا طرق الأول: أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآنا منزلا في وصف الملائكة. فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني: أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال: أشفاعتهن ترتجى؟ الثالث: أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * (النساء: 176) أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى: * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا) * (الأنعام: 151) والمعنى أن تشركوا، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة
53

في قوله تلك الغرانيق العلا قد طهر على القطع كذبها، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة. وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه: أحدها: أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضا خروج عن الدين وبيانه ما تقدم وثانيها: ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها وثالثها: يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملا فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته ورابعها: معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلا مقربا إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) * (الأعراف: 201) وكقوله: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) * (الأعراف: 200) ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) *، والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة: يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبيا إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكا وما أرسلنا إليهم نبيا إلا منهم، وما أرسلنا نبيا خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال وفيما تقدم من قوله: * (قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين) * تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكا بل أرسل رجالا فقد وسوس الشيطان إليهم، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة، واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
54

البحث الأول: كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى: * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) * فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام. أما قوله: * (ثم يحكم الله آياته) * فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة، ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولا ثم في حق المؤمنين ثانيا، أما في حق الكفار فهو قوله: * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة) * والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول صلى الله عليه وسلم الاشتباه في القرآن سهوا يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صوابا.
أما قوله: * (للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم قال: * (فتنة للذين في قلوبهم مرض) * ولم خصهم بذلك الجواب: لأنهم مع كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر، وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر.
السؤال الثاني: ما مرض القلب الجواب: أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال: * (في قلوبهم مرض) * وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على
جهلهم ظاهرا وباطنا.
أما قوله تعالى: * (وإن الظالمين لفي شقاق بعيد) * يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم، فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء، وأما في حق المؤمنين فهو قوله: * (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك) * وفي الكناية ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان، عن الكلبي. وثانيها: أنه الحق أي القرآن عن مقاتل وثالثها: أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق، أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقا، وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صوابا فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن، وكل ميسر لما خلق له، * (وأن الله لهاد الذين آمنوا) * إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرئ لهاد الذين آمنوا بالتنوين، ولما بين سبحانه حال الكافرين أولا ثم حال المؤمنين ثانيا عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال: * (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) * أي من القرآن أو من الرسول، وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه.
أما قوله تعالى: * (حتى تأتيهم الساعة بغتة) * أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. واختلف في المراد باليوم العقيم
55

وفيه قولان: أحدهما: أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة: أحدها: أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن وثانيها: أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز وثالثها: هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا ورابعها: أنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني: أنه يوم القيامة، وإنما وصف بالعقيم لوجوه: أحدها: أنهم لا يرون فيه خيرا وثانيها: أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة وثالثها: أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه، وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى * (ولا يزال الذين كفروا) * ويكون المراد يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر، فإن قيل لما ذكر الساعة. فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار؛ قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكرارا لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
أما قوله: * (الملك يومئذ لله) * فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره، وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم، وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم، والكافرين في العذاب المهين، وقد تقدم وصف الجنة والنار فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب؟ قلنا تقديره: الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة) *.
قوله تعالى
* (والذين هاجروا فى سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم * ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور * ذلك بأن الله يولج اليل فى النهار ويولج النهار فى
56

اليل وأن الله سميع بصير * ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلى الكبير) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر أن الملك له يوم القيامة وأنه يحكم بينهم ويدخل المؤمنين الجنات أتبعه بذكر وعده الكريم للمهاجرين، وأفردهم بالذكر تفخيما لشأنهم فقال عز من قائل * (والذين هاجروا) * واختلفوا فيمن أريد بذلك، فقال بعضهم من هاجر إلى المدينة طالبا لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتقربا إلى الله تعالى، وقال آخرون بل المراد من جاهد فخرج مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده، ومنهم من حمله على الأمرين. واختلفوا من وجه آخر فقال قوم المراد قوم مخصوصون، روى مجاهد أنها نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون فقاتلوهم، وظاهر الكلام للعموم. ثم إنه سبحانه وتعالى وصفهم برزقهم ومسكنهم، أما الرزق فقوله تعالى: * (ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: لا شبهة في أن الرزق الحسن هو نعيم الجنة، وقال الأصم إنه العلم والفهم كقول شعيب عليه السلام * (ورزقني منه رزقا حسنا) * (هود: 88) فهذا في الدنيا وفي الآخرة الجنة، وقال الكلبي رزقا حسنا حلالا وهو الغنيمة وهذان الوجهان ضعيفان، لأنه تعالى جعله جزاء على هجرتهم في سبيل الله بعد القتل والموت وبعدهما لا يكون إلا نعيم الجنة.
المسألة الثانية: لا بد من شرط اجتناب الكبائر في كل وعد في القرآن لأن هذا المهاجر لو ارتكب كبيرة لكان حكمه في المشيئة على قولنا، ولخرج عن أن يكون أهلا للجنة قطعا على قول المعتزلة. فإن قيل فما فضله على سائر المؤمنين في الوعد إن كان كما قلتم؟ قلنا فضلهم يظهر لأن ثوابهم أعظم وقد قال تعالى: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) * (الحديد: 10) فمعلوم أن من هاجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفارق دياره وأهله لتقويته ونصرة دينه مع شدة قوة الكفار وطهور صولتهم صار فعله كالسبب لقوة الدين، وعلى هذا الوجه عظم محل الأنصار حتى صار ذكرهم والثناء عليهم تاليا لذكر المهاجرين لما آووه ونصروه.
المسألة الثالثة: اختلفوا في معنى قوله: * (وإن الله لهو خير الرازقين) * مع العلم بأن كل الرزق من عنده على وجوه: أحدها: التفاوت إنما كان بسبب أنه سبحانه
مختص بأن يرزق ما لا يقدر عليه غيره وثانيها: أن يكون المراد أنه الأصل في الرزق، وغيره إنما يرزق بما تقدم من الرزق من جهة الله تعالى وثالثها: أن غيره ينقل الرزق من يده إلى يد غيره لا أنه يفعل
57

نفس الرزق ورابعها: أن غيره إذا رزق فإنما يرزق لانتفاعه به، إما لأجل أن يخرج عن الواجب، وإما لأجل أن يستحق به حمدا أو ثناء، وإما لأجل دفع الرقة الجنسية، فكان الواحد منا إذا رزق فقد طلب العوض، أما الحق سبحانه فإن كماله صفة ذاتية له فلا يستفيد من شيء كمالا زائدا فكان الرزق الصادر منه لمحض الإحسان وخامسها: أن غيره إنما يرزق لو حصل في قلبه إرادة ذلك الفعل، وتلك الإرادة من الله، فالرازق في الحقيقة هو الله تعالى وسادسها: أن المرزوق يكون تحت منة الرازق ومنة الله تعالى أسهل تحملا من منة الغير، فكان هو * (خير الرازقين) * وسابعها: أن الغير إذا رزق فلولا أن الله تعالى أعطى ذلك الإنسان أنواع الحواس وأعطاه السلامة والصحة والقدرة على الانتفاع بذلك الرزق لما أمكنه الانتفاع به، ورزق الغير لا بد وأن يكون مسبوقا برزق الله وملحوقا به حتى يحصل الانتفاع. وأما رزق الله تعالى فإنه لا حاجة به إلى رزق غيره، فثبت أنه سبحانه * (خير الرازقين) *. المسألة الرابعة: قالت المعتزلة الآية تدل على أمور ثلاثة: أحدها: أن الله تعالى قادر وثانيها: أن غير الله يصح منه أن يرزق ويملك، ولولا كونه قادرا فاعلا لما صح ذلك وثالثها: أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأن قوله * (خير الرازقين) * دلالة على كونهم ممدوحين والجواب: لا نزاع في كون العبد قادرا، فإن عندنا القدرة مع الداعي مؤثرة في الفعل بمعنى الاستلزام. وأما الثالث فبحث لفظي وقد سبق الكلام فيه.
المسألة الخامسة: لما قال تعالى: * (ثم قتلوا أو ماتوا) * فسوى بينهما في الوعد، ظن قوم أن حال المقتول في الجهاد والميت على فراشه سواء، وهذا إن أخذوه من الظاهر فلا دلالة فيه، لأن الجمع بينهما في الوعد لا يدل على تفضيل ولا تسوية، كما أن الجمع بين المؤمنين لا يدل على ذلك. وإن أخذوه من دليل آخر فهو حق، فإنه روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المقتول في سبيل الله تعالى، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل، هما في الخير والأجر شريكان " ولفظ الشركة مشعر بالتسوية، وإلا فلا يبقى لتخصيصهما بالذكر فائدة. وروى أيضا: أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا معك. فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين وهذا يدل على التسوية لأنهم لما طلبوا مقدار الأجر، فلولا التسوية لم يكن الجواب مفيدا. أما المسكن فقوله تعالى: * (ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء مدخلا بضم الميم وهو من الإدخال، ومن قرأ بالفتح فالمراد الموضع.
المسألة الثانية: قيل في المدخل الذي يرضونه إنه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم لها سبعون ألف مصراع، وقال أبو القاسم القشيري هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما قال يرضونه، لأنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت
58

ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا، ونظيره قوله تعالى: * (ومساكن ترضونها) * (التوبة: 24) وقوله: * (في عيشة راضية) * (الحاقة: 21) وقوله: * (ارجعي إلى ربك راضية مرضية) * (الفجر: 28) وقوله: * (ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر) * (التوبة: 72).
المسألة الثالثة: إن قيل ما معنى * (وإن الله لعليم حليم) * وما تعلقه بما تقدم؟ قلنا يحتمل أنه عليم بما يستحقونه فيفعله بهم ويزيدهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه عليم بما يرضونه فيعطيهم ذلك في الجنة، وأما الحليم فالمراد أنه لحلمه لا يعجل بالعقوبة فيمن يقدم على المعصية، بل يمهل ليقع منه التوبة فيستحق منه الجنة.
أما قوله: * (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ذلك) * قد مضى الكلام فيه في هذه الآية في هذه السورة. وقال الزجاج أي الأمر ما قصصنا عليك من إنجاز الوعد للمهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا.
المسألة الثانية: قوله: * (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه) * معناه: قاتل من كان يقاتله، ثم كان المقاتل مبغيا عليه بأن اضطر إلى الهجرة ومفارقة الوطن وابتدئ بالقتال، قال مقاتل: نزلت في قوم من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر، فأبوا وقاتلوهم. فذلك بغيهم عليهم، وثبت المسلمون لهم فنصروا عليهم. فوقع في أنفس المسلمين من القتال في الشهر الحرام ما وقع، فأنزل الله تعالى هذه الآية: وعفا عنهم وغفر لهم وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أي تعلق لهذه الآية بما قبلها؟ الجواب: كأنه سبحانه وتعالى قال مع إكرامي لهم في الآخرة بهذا الوعد لا أدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
السؤال الثاني: هل يرجع ذلك إلى المهاجرين خاصة أو إليهم وإلى المؤمنين؟ الجواب: الأقرب أنه يعود إلى الفريقين فإنه تقدم ذكرهما، وبين ذلك قوله تعالى: * (لينصرنه الله) * وبعد القتل والموت لا يمكن ذلك في الدنيا.
السؤال الثالث: ما المراد بالعقوبة المذكورة؟ الجواب: فيه وجهان: أحدهما: المراد ما فعله مشركو مكة مع المهاجرين بمكة من طلب آثارهم، ورد بعضهم إلى غير ذلك، فبين تعالى أن من عاقب هؤلاء الكفار بمثل ما فعلوا فسينصره عليهم، وهذه النصرة المذكورة تقوي تأويل من تأوله على مجاهدة الكفار لا على القصاص، لأن ظاهر النص لا يليق إلا بذلك والجواب الثاني: أن هذه الآية في القصاص والجراحات، وهي آية مدنية عن الضحاك.
السؤال الرابع: لم سمى ابتداء فعلهم بالعقوبة؟ الجواب: أطلق اسم العقوبة على الأول
59

للتعلق الذي بينه وبين الثاني كقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * * (يخادعون الله وهو خادعهم) *.
السؤال الخامس: أي تعلق لقوله: * (وإن الله لعفو غفور) * بما تقدم؟ الجواب: فيه وجوه: أحدها: أن الله تعالى ندب المعاقب إلى العفو عن الجاني بقوله: * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * (الشورى: 40) * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (البقرة: 237)، * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) * (الشورى: 40) فلما لم يأت بهذا المندوب فهو نوع إساءة، فكأنه سبحانه قال: إني قد عفوت عن هذه الإساءة وغفرتها، فإني أنا الذي أذنت لك فيه وثانيها: أنه سبحانه وإن ضمن له النصر على الباغي، لكنه عرض مع ذلك بما كان أولى به من العفو والمغفرة فلوح بذكر هاتين الصفتين وثالثها: أنه سبحانه دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة، لأنه لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده.
السؤال السادس: أي تعلق لقوله: * (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) * بما قبله؟ والجواب: من وجهين: أحدهما: ذلك أي ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن آيات قدرته البالغة كونه خالقا لليل والنهار ومتصرفا فيهما، فوجب أن يكون قادرا عالما بما يجري فيهما، وإذا كان كذلك كان قادرا على النصر مصيبا فيه وثانيها: المراد أنه سبحانه مع ذلك النصر ينعم في الدنيا بما يفعله من تعاقب الليل والنهار وولوج أحدهما في الآخر.
السؤال السابع: ما معنى إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل الجواب: فيه وجهان: أحدهما: يحصل ظلمة هذا في مكان ضياء ذلك بغيبوبة الشمس، وضياء ذلك في مكان ظلمة هذا بطلوعها، كما يضيء البيت بالسراج ويظلم بفقده وثانيهما: أنه سبحانه يزيد في أحدهما ما ينقص من الآخر من الساعات.
السؤال الثامن: أي تعلق لقوله: * (وإن الله سميع بصير) * بما تقدم؟ الجواب: المراد أنه كما يقدر على ما لا يقدر عليه غيره، فكذلك يدرك المسموع والمبصر، ولا يجوز المنع عليه، ويكون ذلك كالتحذير من الإقدام على ما لا يجوز في المسموع والمبصر.
السؤال التاسع: ما معنى قوله: * (ذلك بأن الله هو الحق) * وأي تعلق له بما تقدم؟ الجواب: فيه وجهان: أحدهما: المراد أن ذلك الوصف الذي تقدم ذكره من القدرة على هذه الأمور إنما حصل لأجل أن الله هو الحق أي هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغير والزوال فلا جرم أتى بالوعد والوعيد ثانيهما: أن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كما قال: * (ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) * (غافر: 43).
السؤال العاشر: أي تعلق لقوله: * (وأن الله هو العلي الكبير) * بما تقدم؟ والجواب: معنى العلي القاهر المقتدر الذي لا يغلب فنبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغبا بذلك في عبادته زاجرا عن عبادة غيره، فأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك أيضا يفيد كمال القدرة.
60

المسألة الثالثة: قوله: * (لينصرنه الله) * إخبار عن الغيب فإنه وجد مخبره كما أخبر فكان من المعجزات.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل يقتل بالسيف. واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية، فإن الله تعالى جوز للمظلوم أن يعاقب بمثل ما عوقب به ووعده النصر عليه.
المسألة الخامسة: قرأ نافع وابن عامر * (تدعون) * بالتاء ههنا وفي لقمان وفي المؤمنين وفي العنكبوت. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو كلها بالياء على الخبر، والعرب قد تنصرف من الخطاب إلى الإخبار ومن الإخبار إلى الخطاب.
قوله تعالى
* (ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء فتصبح الارض مخضرة إن الله لطيف خبير * له ما فى السماوات وما فى الارض وإن الله لهو الغنى الحميد * ألم تر أن الله سخر لكم ما فى الارض والفلك تجرى فى البحر بأمره ويمسك السمآء أن تقع على الارض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم * وهو الذى أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) *.
اعلم أنه تعالى لما دل على قدرته من قبل بما ذكره من ولوج الليل في النهار ونبه به على نعمه، أتبعه بأنواع أخر من الدلائل على قدرته ونعمته وهي ستة.
أولها: قوله تعالى: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في قوله: * (ألم تر) * وجوها ثلاثة: أحدها: أن المراد هو الرؤية الحقيقية، قالوا لأن الماء النازل من السماء يرى بالعين واخضرار النبات على الأرض مرئي، وإذا أمكن حمل الكلام على حقيقته فهو أولى وثانيها: أن المراد ألم تخبر على سبيل الاستفهام
61

وثالثها: المراد ألم تعلم والقول الأول ضعيف لأن الماء وإن كان مرئيا إلا أن كون الله منزلا له من السماء غير مرئي إذا ثبت هذا وجب حمله على العلم، لأن المقصود من تلك الرؤية هو العلم، لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم كانت كأنها لم تحصل.
المسألة الثانية: قرىء * (مخضرة) * كمبقلة ومسبعة أي ذات خضرة، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: * (فتصبح) * الأرض ولم يقل فأصبحت؟ الجواب: لنكتة فيه وهي إفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول أنعم على فلان عام كذا فأروح وأغد شاكرا له، ولو قلت فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع.
السؤال الثاني: لم رفع ولم ينصب جوابا للاستفهام؟ والجواب: لو نصب لأعطى عكس ما هو الغرض، لأن معناه إثبات الإخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الإخضرار مثاله أن تقول لصاحبك ألم تر أني أنعمت عليك فتشكر. وإن نصبته فأنت ناف لشكره شاك لتفريطه، وإن رفعته فأنت مثبت للشكر.
السؤال الثالث: لم أورد تعالى ذلك دلالة على قدرته على الإعادة، كما قال أبو مسلم. الجواب: يحتمل ذلك ويحتمل أنه نبه به على عظيم قدرته وواسع نعمه.
السؤال الرابع: ما تعلق قوله: * (إن الله لطيف خبير) * بما تقدم؟ الجواب: من وجوه أحدها: أراد أنه رحيم بعباده ولرحمته فعل ذلك حتى عظم انتفاعهم به، لأن الأرض إذا أصبحت مخضرة والسماء إذا أمطرت كان ذلك سببا لعيش الحيوانات على اختلافها أجمع. ومعنى * (خبير) * أنه عالم بمقادير مصالحهم فيفعل على قدر ذلك من دون زيادة ونقصان وثانيها: قال ابن عباس * (لطيف) * بأرزاق عباده * (خبير) * بما في قلوبهم من القنوط وثالثها: قال الكلبي * (لطيف) * في أفعاله * (خبير) * بأعمال خلقه ورابعها: قال مقاتل: * (لطيف) * باستخراج النبت * (خبير) * بكيفية خلقه.
الدلالة الثانية: قوله تعالى: * (له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد) * والمعنى أن كل ذلك منقاد له غير ممتنع من التصرف فيه وهو غني عن الأشياء كلها وعن حمد الحامدين أيضا لأنه كامل لذاته، والكامل لذاته غني عن كل ما عداه في كل الأمور، ولكنه لما خلق الحيوان فلا بد في الحكمة من قطر ونبات فخلق هذه الأشياء رحمة للحيوانات وإنعاما عليهم، لا لحاجة به إلى ذلك. وإذا كان كذلك كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه فكان مستحقا للحمد. فكأنه قال إنه لكونه غنيا لم يفعل ما فعله إلا للإحسان، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد فوجب أن يكون حميدا. فلهذا قال: * (وإن الله لهو الغني الحميد) *.
الدلالة الثالثة: قوله: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض) * أي ذلل لكم ما فيها فلا أصلب من الحجر ولا أحد من الحديد ولا أكثر هيبة من النار، وقد سخرها لكم وسخر الحيوانات أيضا حتى ينتفع بها من حيث الأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها، فلولا أن سخر الله
62

تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى يذللهما الضعيف من الناس ويتمكن منهما لما كان ذلك نعمة.
الدلالة الرابعة: قوله تعالى: * (والفلك تجري في البحر بأمره) * والأقرب أن المراد وسخر لكم الفلك لتجري في البحر، وكيفية تسخيره الفلك هو من حيث سخر الماء والرياح لجريها، فلولا صفتهما على ما هما عليه لما جرت بل كانت تغوص أو تقف أو تعطب. فنبه تعالى على نعمه بذلك، وبأن خلق ما تعمل منه السفن، وبأن بين كيف تعمل، وإنما قال بأمره لأنه سبحانه لما كان المجرى لها بالرياح نسب ذلك إلى أمره توسعا، لأن ذلك يفيد تعظيمه بأكثر مما يفيد لو أضافه إلى فعل بناء على عادة الملوك في مثل هذه اللفظة.
الدلالة الخامسة: قوله تعالى: * (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * واعلم أن النعم المتقدمة لا تكمل إلا بهذه لأن السماء مسكن الملائكة فوجب أن يكون صلبا. ووجب أن يكون ثقيلا، وما كان كذلك فلا بد من الهوى لولا مانع يمنع منه، وهذه الحجة مبنية على ظاهر الأوهام، وقوله تعالى: * (أن تقع) * قال الكوفيون: كي لا تقع، وقال البصريون كراهية أن تقع، وهذا بناء على مسألة كلامية وهي أن الإرادات والكراهات هل تتعلق بالعدم؟ فمن منع من ذلك صار إلى التأويل الأول، والمعنى أنه أمسكها لكي لا تقع فتبطل النعم التي أنعم بها.
أما قوله تعالى: * (إن الله بالناس لرؤوف رحيم) * فالمعنى أن المنعم بهذه النعم الجامعة لمنافع الدنيا والدين قد بلغ الغاية في الإحسان والإنعام، فهو إذن رؤوف رحيم.
الدلالة السادسة: قوله: * (وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإنسان لكفور) * والمعنى أن من سخر له هذه الأمور، وأنعم عليه بها فهو الذي أحياه فنبه بالإحياء الأول على إنعام الدنيا علينا بكل ما تقدم. ونبه بالإماتة والإحياء الثاني على نعم الدين علينا، فإنه سبحانه وتعالى خلق الدنيا بسائر أحوالها للآخرة وإلا لم يكن للنعم على هذا الوجه معنى. يبين ذلك أنه لولا أمر الآخرة لم يكن للزراعات وتكلفها ولا لركوب الحيوانات وذبحها إلى غير ذلك معنى، بل كان تعالى يخلقه ابتداء من غير تكلف الزرع والسقي، وإنما أجرى الله العادة بذلك ليعتبر به في باب الدين ولما فصل تعالى هذه النعم قال: * (إن الإنسان لكفور) * وهذا كما قد يعدد المرء نعمه على ولده، ثم يقول إن الولد لكفور لنعم الوالد زجرا له عن الكفران وبعثا له على الشكر، فلذلك أورد تعالى ذلك في الكفار، فبين أنهم دفعوا هذه النعم وكفروا بها وجهلوا خالقها مع وضوح أمرها ونظيره قوله تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * (سبأ: 13) وقال ابن عباس رضي الله عنهما الإنسان ههنا هو الكافر، وقال أيضا هو الأسود بن عبد الأسد وأبو جهل والعاص وأبي بن خلف، والأولى تعميمه في كل المنكرين.
63

قوله تعالى
* (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك فى الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم * وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون * الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) *.
إعلم أنه تعالى لما قدم ذكر نعمه وبين أنه رؤوف رحيم بعباده وإن كان منهم من يكفر ولا يشكر، أتبعه بذكر نعمه بما كلف فقال: * (لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما حذف الواو في قوله: * (لكل أمة) * لأنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله فلا جرم حذف العاطف.
المسألة الثانية: في المنسك أقوال: أحدها: قال ابن عباس عيد (ا) يذبحون فيه وثانيها: قربانا ولفظ المنسك مختص بالذبائح عن مجاهد وثالثها: مألفا يألفونه إما مكانا معينا أو زمانا معينا لأداء الطاعات ورابعها: المنسك هو الشريعة والمنهاج وهو قول ابن عباس في رواية عطاء واختيار القفال وهو الأقرب لقوله تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48) ولأن المنسك مأخوذ من النسك وهو العبادة، وإذا وقع الاسم على كل عبادة فلا وجه للتخصيص. فإن قيل هلا حملتموه على الذبح، لأن المنسك في العرف لا يفهم منه إلا الذبح؟ وهلا حملتموه على موضع العبادة أو على وقتها؟ الجواب: عن الأول لا نسلم أن المنسك في العرف مخصوص بالذبح، والدليل عليه أن سائر ما يفعل في الحج يوصف بأنه مناسك ولأجله قال عليه السلام: " خذوا عني مناسككم " وعن الثاني: أن قوله: * (هم ناسكوه) * أليق
بالعبادة منه بالوقت والمكان. المسألة الثالثة: زعم قوم أن المراد من قوله: * (هم ناسكوه) * من كان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم متمسكا بشرع كاليهود والنصارى، ولا يمتنع أن يريد كل من تعبد من الأمم سواء بقيت آثارهم أو لم تبق، لأن قوله: * (هم ناسكوه) * كالوصف للأمم وإن لم يعبدوا في الحال.
أما قوله تعالى: * (فلا ينازعنك في الأمر) * فقرئ * (فلا ينزعنك) * أي أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يخدعوك ليزيلوك عنه. وأما قوله: * (فلا ينازعنك) * ففيه قولان: أحدهما: وهو قول الزجاج: أنه نهى لهم عن منازعتهم، كما تقول لا يضاربنك فلان أي لا تضاربه والثاني: أن المراد أن عليهم اتباعك وترك مخالفتك، وقد استقر الأمر الآن على شرعك وعلى أنه ناسخ لكل
64

ما عداه. فكأنه تعالى نهى كل أمة بقيت منها بقية أن تستمر على تلك العادة، وألزمها أن تتحول إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: * (وادع إلى ربك) * أي لا تخص بالدعاء أمة دون أمة فكلهم أمتك فادعهم إلى شريعتك فإنك على هدى مستقيم، والهدى يحتمل نفس الدين ويحتمل أدلة الدين وهو أولى. كأنه قال ادعهم إلى هذا الدين فإنك من حيث الدلالة على طريقة واضحة ولهذا قال: * (وإن جادلوك) * والمعنى فإن عدلوا عن النظر في هذه الأدلة إلى طريقة المراء والتمسك بالعادة فقد بينت وأظهرت ما يلزمك * (فقل الله أعلم بما تعملون) * لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا الجنس الذي يجري مجرى الوعيد والتحذير من حكم يوم القيامة الذي يتردد بين جنة وثواب لمن قبل، وبين نار وعقاب لمن رد وأنكر. فقال: * (الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون) * فتعرفون حينئذ الحق من الباطل والله أعلم.
قوله تعالى
* (ألم تعلم أن الله يعلم ما فى السمآء والارض إن ذلك فى كتاب إن ذلك على الله يسير * ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات تعرف فى وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم ءاياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير) *.
إعلم أنه تعالى لما قال من قبل * (فالله يحكم بينكم يوم القيامة) * (النساء: 141) أتبعه بما به يعلم أنه سبحانه عالم بما يستحقه كل أحد منهم، فيقع الحكم منه بينهم بالعدل لا بالجور فقال لرسوله: * (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (ألم تعلم) * هو على لفظ الاستفهام لكن معناه تقوية قلب الرسول صلى الله عليه وسلم والوعد له وإيعاد الكافرين بأن كل فعلهم محفوظ عند الله لا يضل عنه ولا ينسى.
المسألة الثانية: الخطاب مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمراد سائر العباد ولأن الرسالة لا تثبت
65

إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات إذ لو لم يثبت ذلك لجاز أن يشتبه عليه الكاذب بالصادق، فحينئذ لا يكون إظهار المعجز دليلا على الصدق، وإذا كان كذلك استحال أن لا يكون الرسول عالما بذلك. فثبت أن المراد أن يكون خطابا مع الغير.
أما قوله: * (إن ذلك في كتاب) * ففيه قولان: أحدهما: وهو قول أبي مسلم أن معنى الكتاب الحفظ والضبط والشد يقال كتبت المزادة أكتبها إذا خرزتها فحفظت بذلك ما فيها، ومعناه ومعنى الكتاب بين الناس حفظ ما يتعاملون به، فالمراد من قوله: * (إن ذلك في كتاب) * أنه محفوظ عنده * (والتالي) * وهو قول الجمهور أن كل ما يحدثه الله في السماوات والأرض فقد كتبه في اللوح المحفوظ قالوا وهذا أولى، لأن القول الأول وإن كان صحيحا نظرا إلى الاشتقاق لكن الواجب حمل اللفظ على المتعارف، ومعلوم أن الكتاب هو ما تكتب فيه الأمور فكان حمله عليه أولى. فإن قيل فقد يوهم ذلك أن علمه مستفاد من الكتاب وأيضا فأي فائدة في ذلك الكتاب والجواب عن الأول: أن كتبه تلك الأشياء في ذلك الكتاب مع كونها مطابقة للموجودات من أدل الدلائل على أنه سبحانه غني في علمه عن ذلك الكتاب وعن الثاني: أن الملائكة ينظرون فيه ثم يرون الحوادث داخلة في الوجود على وفقه فصار ذلك دليلا لهم زائدا على كونه سبحانه عالما بكل المعلومات. أما قوله: * (إن ذلك على الله يسير) * فمعناه أن كتبه جملة الحوادث مع أنها من الغيب مما يتعذر على الخلق لكنها بحيث متى أرادها الله تعالى كانت فعبر عن ذلك بأنه يسير، وإن كان هذا الوصف لا يستعمل إلا فينا من حيث تسهل وتصعب علينا الأمور، وتعالى الله عن ذلك ثم بين سبحانه ما يقدم الكفار عليه مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله. فقال: * (ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم) * فبين أن عبادتهم لغير الله تعالى ليست مأخوذة عن دليل سمعي وهو المراد من قوله: * (ما لم ينزل به سلطانا) * ولا عن دليل عقلي وهو المراد من قوله: * (وما ليس لهم به علم) * وإذا لم يكن كذلك فهو عن تقليد أو جهل أو شبهة، فوجب في كل قول هذا شأنه أن يكون باطلا، فمن هذا الوجه يدل على أن الكافر قد يكون كافرا، وإن لم يعلم كونه كافرا، ويدل أيضا على فساد التقليد.
أما قوله: * (وما للظالمين من نصير) * ففيه وجهان: أحدهما: أنهم ليس لهم أحد ينتصر لهم من الله كما قد تتفق النصرة في الدنيا والثاني: ما لهم في كفرهم ناصر بالحجة فإن الحجة ليست إلا للحق، واحتجت المعتزلة بهذه الآية في نفي الشفاعة والكلام عليه معلوم.
أما قوله تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات) * يعني من تقدم ذكره وهذه الآيات هي القرآن، ووصفها بأنها بينات لكونها متضمنة للدلائل العقلية وبيان الأحكام، فبين أنهم مع جهلهم إذا نبهوا على الأدلة وعرضت عليهم المعجزة ظهر في وجوههم المنكر والمراد دلالة الغيظ والغضب، قال صاحب " الكشاف " المنكر الفظيع من التهجم والفجور والنشوز والإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام
66

وقرئ تعرف على ما لم يسم فاعله، وللمفسرين في المنكر عبارات: أحدها: قال الكلبي تعرف في وجوههم الكراهية للقرآن ثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما:
التجبر والترفع وثالثها: قال مقاتل أنكروا أن يكون من الله تعالى.
أما قوله تعالى: * (يكادون يسطون) * فقال الخليل والفراء والزجاج: السطو شدة البطش والوثوب، والمعنى يهمون بالبطش والوثوب تعظيما لإنكار ما خوطبوا، به فحكى تعالى عظيم تمردهم على الأنبياء والمؤمنين ثم أمر رسوله بأن يقابلهم بالوعيد فقال: * (قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار) * قال صاحب " الكشاف " قوله: * (من ذلكم) * أي من غيظكم على الناس وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلى عليكم، فقوله: * (من ذلكم) * فيه وجهان: أحدهما: المراد أن الذي ينالكم من النار التي تكادون تقتحمونها بسوء فعالكم أعظم مما ينالكم عند تلاوة هذه الآيات من الغضب ومن هذا الغم والثاني: أن يكون المراد * (بشر من ذلكم) * ما تهمون به فيمن يحاجكم فإن أكبر ما يمكنكم فيه الإهلاك ثم بعده مصيرهم إلى الجنة وأنتم تصيرون إلى النار الدائمة التي لا فرج لكم عنها، وأما * (النار) * فقال صاحب " الكشاف " قرىء * (النار) * بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كأن قائلا يقول ما شر من ذلك؟ فقيل النار أي هو النار. وبالنصب على الاختصاص وبالجر على البدل من شر. ثم بين سبحانه أنه وعدها الذين كفروا إذا ماتوا على كفرهم وهو بئس المصير، قال صاحب " الكشاف " * (وعدها الله) * استئناف كلام ويحتمل أن تكون النار مبتدأ و * (وعدها) * خبرا.
قوله تعالى
* (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوى عزيز) *.
إعلم أنه سبحانه لما بين من قبل أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه ولا علم، ذكر في هذه الآية ما يدل على إبطال قولهم.
67

أما قوله تعالى: * (ضرب مثل) * ففيه سؤالات:
السؤال الأول: الذي جاء به ليس بمثل فكيف سماه مثلا؟ والجواب: لما كان المثل في الأكثر نكتة عجيبة غريبة جاز أن يسمى كل ما كان كذلك مثلا.
السؤال الثاني: قوله: * (ضرب) * يفيد فيما مضى والله تعالى هو المتكلم بهذا الكلام ابتداء؟ الجواب: إذا كان ما يورد من الوصف معلوما من قبل جاز ذلك فيه، ويكون ذكره بمنزلة إعادة أمر قد تقدم.
أما قوله: * (فاستمعوا له) * أي تدبروه حق تدبره لأن نفس السماع لا ينفع، وإنما ينفع التدبر. واعلم أن الذباب لما كان في غاية الضعف احتج الله تعالى به على إبطال قولهم من وجهين: الأول: قوله: * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * قرىء يدعون بالياء والتاء ويدعون مبنيا للمفعول * (ولن) * أصل في نفي المستقبل إلا أنه ينفيه نفيا مؤكدا فكأنه سبحانه قال: إن هذه الأصنام وإن اجتمعت لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها، فكيف يليق بالعاقل جعلها معبودا، فقوله: * (ولو اجتمعوا له) * نصب على الحال كأنه قال يستحيل أن يخلقوا الذباب حال اجتماعهم فكيف حال انفرداهم والثاني: أن قوله: * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) * كأنه سبحانه قال: أترك أمر الخلق والإيجاد وأتكلم فيما هو أسهل منه، فإن الذباب إن سلب منها شيئا، فهي لا تقدر على استنقاذ ذلك الشيء من الذباب، واعلم أن الدلالة الأولى صالحة لأن يتمسك بها في نفي كون المسيح والملائكة آلهة، أما الثانية فلا، فإن قيل هذا الاستدلال إما أن يكون لنفي كون الأوثان خالقة عالمة حية مدبرة، أو لنفي كونها مستحقة للتعظيم والأول: فاسد لأن نفي كونها كذلك معلوم بالضرورة، فأي فائدة في إقامة الدلالة عليه وأما الثاني: فهذه الدلالة لا تفيده لأنه لا يلزم من نفي كونها حية أن لا تكون معظمة، فإن جهات التعظيم مختلفة، فالقوم كانوا يعتقدون فيها أنها طلسمات موضوعة على صورة الكواكب، أو أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، وكانوا يعظمونها على أن تعظيمها يوجب تعظيم الملائكة، وأولئك الأنبياء المتقدمين والجواب: أما كونها طلسمات موضوعة على الكواكب بحيث يحصل منها الإضرار والانتفاع، فهو يبطل بهذه الدلالة فإنها لما لم تنفع نفسها في هذا القدر وهو تخليص النفس عن الذبابة فلأن لا تنفع غيرها أولى، وأما أنها تماثيل الملائكة والأنبياء المتقدمين، فقد تقرر في العقل أن تعظيم غير الله تعالى ينبغي أن يكون أقل من تعظيم الله تعالى، والقوم كانوا يعظمونها غاية التعظيم، وحينئذ كان يلزم التسوية بينها وبين الخالق سبحانه في التعظيم، فمن ههنا صاروا مستوجبين للذم والملام.
أما قوله تعالى: * (ضعف الطالب والمطلوب) * ففيه قولان: أحدهما: المراد منه الصنم والذباب فالصنم كالطالب من حيث إنه لو طلب أن يخلقه ويستنقذ منه ما استلبه لعجز عنه والذباب بمنزلة
68

المطلوب الثاني: أن الطالب من عبد الصنم، والمطلوب نفس الصنم أو عبادتها، وهذا أقرب لأن كون الصنم طالبا ليس حقيقة بل هو على سبيل التقدير، أما ههنا فعلى سبيل التحقيق لكن المجاز فيه حاصل لأن الوثن لا يصح أن يكون ضعيفا، لأن الضعف لا يجوز إلا على من يصح أن يقوى، وههنا وجه ثالث وهو أن يكون معنى قوله: * (ضعف) * لا من حيث القوة ولكن لظهور قبح هذا المذهب، كما يقال للمرء عند المناظرة: ما أضعف هذا المذهب وما أضعف هذا الوجه.
أما قوله: * (ما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموه حق تعظيمه، حيث جعلوا هذه الأصنام على نهاية خساستها شريكة له في المعبودية، وهذه الكلمة مفسرة في سورة الأنعام، وهو * (قوي) * لا يتعذر عليه فعل شيء و * (عزيز) * لا يقدر أحد على مغالبته، فأي حاجة إلى القول بالشريك. قال الكلبي في هذه الآية ونظيرها في سورة الأنعام: إنها نزلت في جماعة من اليهود وهم مالك ابن الصيف وكعب بن الأشرف وكعب بن أسد وغيرهم لعنهم الله، حيث قالوا إنه سبحانه لما فرغ من خلق السماوات والأرض أعيا من خلقها فاستلقى واستراح ووضع إحدى رجليه على الأخرى، فنزلت هذه الآية تكذيبا لهم ونزل قوله تعالى: * (وما مسنا من لغوب) *. واعلم أن منشأ هذه الشبهات هو القول بالتشبيه فيجب تنزيه ذات الله تعالى عن مشابهة سائر الذوات خلاف ما يقوله المشبهة، وتنزيه صفاته عن مشابهة سائر
الصفات خلاف ما يقوله الكرامية، وتنزيه أفعاله عن مشابهة سائر الأفعال، أعني الغرض والداعي واستحقاق المدح والذم خلاف ما تقوله المعتزلة، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري رحمه الله، فهو سبحانه جبار النعت عزيز الوصف فالأوهام لا تصوره والأفكار لا تقدره والعقول لا تمثله والأزمنة لا تدركه والجهات لا تحويه ولا تحده، صمدي الذات سرمدي الصفات.
قوله تعالى
* (الله يصطفى من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الامور) *.
اعلم أنه سبحانه لما قدم ما يتعلق بالإلهيات ذكر ههنا ما يتعلق بالنبوات، قال مقاتل: قال الوليد ابن المغيرة: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: كلمة * (من) * للتبعيض فقوله: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا) * (فاطر: 1) يقتضي أن تكون الرسل بعضهم لا كلهم، وقوله: * (جاعل الملائكة رسلا) * يقتضي كون كلهم رسلا فوقع التناقض والجواب: جاز أن يكون المذكور ههنا من كان رسلا إلى بني آدم، وهم أكابر الملائكة
69

كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل والحفظة صلوات الله عليهم، وأما كل الملائكة فبعضهم رسل إلى البعض فزال التناقض.
السؤال الثاني: قال في سورة الزمر: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء) * (الزمر: 4) فدل على أن ولده يجب أن يكون مصطفى، وهذه الآية دلت على أن بعض الملائكة وبعض الناس من المصطفين، فيلزم بمجموع الآيتين إثبات الولد والجواب: أن قوله: * (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) * يدل على أن كل ولد مصطفى، ولا يدل على أن كل مصطفى ولد، فلا يلزم من دلالة هذه الآية على وجود مصطفى كونه ولدا، وفي هذه الآية وجه آخر، وهو أن المراد تبكيت من عبد غير الله تعالى من الملائكة، كأنه سبحانه أبطل في الآية الأولى قول عبدة الأوثان. وفي هذه الآية أبطل قول عبدة الملائكة، فبين أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة، بل لأن الله تعالى اصطفاهم لمكان عبادتهم، فكأنه تعالى بين أنهم ما قدروا الله حق قدره أن جعلوا الملائكة معبودين مع الله، ثم بين سبحانه بقوله: * (إن الله سميع بصير) * أنه يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون، ولذلك أتبعه بقوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * فقال بعضهم ما تقدم في الدنيا وما تأخر، وقال بعضهم: * (ما بين أيديهم) * أمر الآخرة، * (وما خلفهم) * أمر الدنيا، ثم أتبعه بقوله: * (وإلى الله ترجع الأمور) * فقوله: * (يعلم ما بين أيديهم) * إشارة إلى العلم التام وقوله: * (وإلى الله ترجع الأمور) * إشارة إلى القدرة التامة والتفرد بالإلهية والحكم، ومجموعهما يتضمن نهاية الزجر عن الإقدام على المعصية.
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا فى الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم فى الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهدآء على الناس فأقيموا الصلوة وءاتوا الزكوة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) *.
70

اعلم أنه سبحانه لما تكلم في الإلهيات ثم في النبوات أتبعه بالكلام في الشرائع وهو من أربع أوجه أولها: تعيين المأمور وثانيها: أقسام المأمور به وثالثها: ذكر ما يوجب قبول تلك الأوامر ورابعها: تأكيد ذلك التكليف.
أما النوع الأول: وهو تعيين المأمور فهو قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) * وفيه قولان: أحدهما: المراد منه كل المكلفين سواء كان مؤمنا أو كافرا، لأن التكليف بهذه الأشياء عام في كل المكلفين فلا معنى لتخصيص المؤمنين بذلك والثاني: أن المراد بذلك المؤمنون فقط أما أولا: فلأن اللفظ صريح فيه، وأما ثانيا: فلأن قوله بعد ذلك * (هو اجتباكم) * وقوله: * (هو سماكم المسلمين) * وقوله: * (وتكونوا شهداء على الناس) * كل ذلك لا يليق إلا بالمؤمنين. أقصى ما في الباب أن يقال لما كان ذلك واجبا على الكل فأي فائدة في تخصيص المؤمنين؟ لكنا نقول تخصيصهم بالذكر لا يدل على نفي ذلك عما عداهم بل قد دلت هذه الآية على كونهم على التخصيص مأمورين بهذه الأشياء ودلت سائر الآيات على كون الكل مأمورين بها. ويمكن أن يقال فائدة التخصيص أنه لما جاء الخطاب العام مرة بعد أخرى ثم إنه ما قبله إلا المؤمنون خصهم الله تعالى بهذا الخطاب ليكون ذلك كالتحريض لهم على المواظبة على قبوله وكالتشريق لهم في ذلك الإقرار والتخصيص.
أما النوع الثاني: وهو المأمور به فقد ذكر الله أمورا أربعة: الأول: الصلاة وهو المراد من قوله: * (اركعوا واسجدوا) * وذلك لأن أشرف أركان الصلاة هو الركوع والسجود والصلاة هي المختصة بهذين الركنين فكان ذكرهما جاريا مجرى ذكر الصلاة وذكر ابن عباس رضي الله عنهما أن الناس في أول إسلامهم كانوا يركعون ولا يسجدون حتى نزلت هذه الآية الثاني: قوله: * (واعبدوا ربكم) * وذكروا فيه وجوها: أحدها: اعبدوه ولا تعبدوا غيره وثانيها: واعبدوا ربكم في سائر المأمورات والمنهيات وثالثها: افعلوا الركوع والسجود وسائر الطاعات على وجه العبادة لأنه لا يكفي أن يفعل فإنه ما لم يقصد به عبادة الله تعالى لا ينفع في باب الثواب فلذلك عطف هذه الجملة على الركوع والسجود الثالث: قوله تعالى: * (وافعلوا الخير) * قال ابن عباس رضي الله عنهما يزيد به صلة الرحم ومكارم الأخلاق والوجه عندي في هذا الترتيب أن الصلاة نوع من أنواع العبادة والعبادة نوع من أنواع فعل الخير، لأن فعل الخير ينقسم إلى خدمة المعبود الذي هو عبارة عن التعظيم لأمر الله وإلى الإحسان الذي هو عبارة عن الشفقة على خلق الله ويدخل فيه البر والمعروف والصدقة على الفقراء وحسن القول للناس فكأنه سبحانه قال كلفتكم بالصلاة بل كلفتكم بما هو أعم منها وهو العبادة بل كلفتكم بما هو أعم من العبادة وهو فعل الخيرات.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تفلحون) * فقيل معناه لتفلحوا، والفلاح الظفر بنعيم الآخرة، وقال الإمام أبو القاسم الأنصاري لعل كلمة للترجية فإن الإنسان قلما يخلو في
أداء الفريضة من تقصير
71

وليس هو على يقين من أن الذي أتي به هل هو مقبول عند الله تعالى والعواقب أيضا مستورة " وكل ميسر لما خلق له " الرابع: قوله تعالى: * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * قال صاحب " الكشاف " * (في الله) * أي في ذات الله، ومن أجله. يقال هو حق عالم وجد عالم أي عالم حقا وجدا ومنه * (حق جهاده) * وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما وجه هذه الإضافة وكان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه كما قال: * (وجاهدوا في الله حق جهاده) *؟ والجواب: الإضافة تكون بأدنى ملابسة واختصاص، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه.
السؤال الثاني: ما هذا الجهاد؟ الجواب: فيه وجوه: أحدها: أن المراد قتال الكفار خاصة، ومعنى * (حق جهاده) * أن لا يفعل إلا عبادة لا رغبة في الدنيا من حيث الاسم أو الغنيمة والثاني: أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنعهم يوم بدر، روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * في آخر الزمان كما جاهدتموه في أوله، فقال عبد الرحمن ومتى ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء، واعلم أنه يبعد أن تكون هذه الزيادة من القرآن وإلا لنقل كنقل نظائره، ولعله إن صح ذلك عن الرسول فإنما قاله كالتفسير للآية، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: وجاهدوا في الله حق جهاده كما جاهدتم أول مرة. فقال عمر من الذي أمرنا بجهاده؟ فقال قبيلتان من قريش مخزوم وعبد شمس، فقال صدقت والثالث: قال ابن عباس: حق جهاده، لا تخافوا في الله لومة لائم والرابع: قال الضحاك: واعملوا لله حق عمله والخامس: استفرغوا وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حقوقه بالحرب باليد واللسان وجميع ما يمكن وردوا أنفسكم عن الهوى والميل والوجه السادس: قال عبد الله بن المبارك: حق جهاده، مجاهدة النفس والهوى. ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك قال: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " والأولى أن يحمل ذلك على كل التكاليف، فكل ما أمر به ونهى عنه فالمحافظة عليه جهاد.
السؤال الثالث: هل يصح ما نقل عن مقاتل والكلبي أن هذه الآية منسوخة بقوله: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) كما أن قوله: * (اتقوا الله حق تقاته) * (آل عمران: 102) منسوخ بذلك؟ الجواب: هذا بعيد لأن التكليف مشروط بالقدرة لقوله تعالى: * (لا يكلف لله نفسا إلا وسعها) * فكيف يقول الله وجاهدوا في الله على وجه لا تقدرون عليه، وكيف وقد كان الجهاد في الأول مضيقا حتى لا يصح أن يفر الواحد من عشرة، ثم خففه الله بقوله: * (الآن خفف الله عنكم) * أفيجوز مع ذلك أن يوجبه على وجه لا يطاق حتى يقال إنه منسوخ.
72

النوع الثالث: بيان ما يوجب قبول هذه الأوامر وهو ثلاثة: الأول: قوله: * (هو اجتباكم) * ومعناه أن التكليف تشريف من الله تعالى للعبد، فلما خصكم بهذا التشريف فقد خصكم بأعظم التشريفات واختاركم لخدمته والاشتغال بطاعته، فأي رتبة أعلى من هذا، وأي سعادة فوق هذا، ويحتمل في اجتباكم خصكم بالهداية والمعونة والتيسير.
أما قوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * فهو كالجواب عن سؤال يذكر وهو أن التكليف وإن كان تشريفا واجبا كما ذكرتم لكنه شاق شديد على النفس؟ فأجاب الله تعالى عنه بقوله: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * روي أن أبا هريرة رضي الله عنه قال كيف قال الله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * مع أنه منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الحرج في أصل اللغة؟ الجواب: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لبعض هذيل ما تعدون الحرج فيكم؟ قال الضيق، وعن عائشة رضي الله عنها: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال الضيق ".
السؤال الثاني: ما المراد من الحرج في الآية؟ الجواب: قيل هو الإتيان بالرخص، فمن لم يستطع أن يصلي قائما فليصل جالسا ومن لم يستطع ذلك فليؤم، وأباح للصائح الفطر في السفر والقصر فيه. وأيضا فإنه سبحانه لم يبتل عبده بشيء من الذنوب إلا وجعل له مخرجا منها إما بالتوبة أو بالكفارة، وعن ابن عمر رضي الله عنهما " إنه من جاءته رخصة فرغب عنها كلف يوم القيامة أن يحمل ثقل تنين حتى يقضي بين الناس " وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا اجتمع أمران فأحبهما إلى الله تعالى أيسرهما " وعن كعب: أعطى الله هذه الأمة ثلاثا لم يعطهم إلا للأنبياء: " جعلهم شهداء على الناس، وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال أدعوني أستجب لكم ".
السؤال الثالث: استدلت المعتزلة بهذه الآية في المنع من تكليف مالا يطاق، فقالوا: لما خلق الله الكفر والمعصية في الكافر والعاصي ثم نهاه عنهما كان ذلك من أعظم الحرج وذلك منفي بصريح هذا النص والجواب: لما أمره بترك الكفر وترك الكفر يقتضي انقلاب علمه جهلا فقد أمر الله المكلف بقلب علم الله جهلا وذلك من أعظم الحرج، ولما استوى القدمان زال السؤال.
الموجب الثاني: لقبول التكليف قوله: * (ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) * وفي نصب الملة وجهان: أحدهما: وهو قول الفراء أنها منصوبة بمضمون ما تقدمها كأنه قيل وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه والثاني: أن يكون منصوبا على المدح والتعظيم أي أعني بالدين ملة أبيكم إبراهيم، واعلم أن المقصود من ذكره التنبيه على أن هذه التكاليف والشرائع هي شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام. والعرب كانوا محبين لإبراهيم عليه السلام لأنهم من أولاده، فكان التنبيه على ذلك كالسبب لصيرورتهم منقادين لقبول هذا الدين وههنا سؤالات:
73

السؤال الأول: لم قال: * (ملة أبيكم إبراهيم) * ولم يدخل في الخطاب المؤمنون الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يكن من ولده؟ والجواب: من وجهين: أحدهما: لما كان أكثرهم من ولده كالرسول ورهطه وجميع العرب جاز ذلك وثانيهما: وهو قول الحسن أن الله تعالى جعل حرمة إبراهيم عليه السلام على المسلمين كحرمة الوالد على ولده، ومنه قوله تعالى * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * (الأحزاب: 6) فجعل حرمته كحرمة الوالد على الولد، وحرمة نسائه كحرمة الوالدة على ما قال تعالى: * (وأزواجه أمهاتهم) * (الأحزاب: 6).
السؤال الثاني: هذا يقتضي أن تكون ملة محمد كملة إبراهيم عليهما السلام سواء، فيكون الرسول ليس له شرع مخصوص ويؤكده قوله تعالى: * (أن اتبع ملة إبراهيم) *، الجواب: هذا الكلام إنما وقع مع عبدة الأوثان، فكأنه تعالى قال: عبادة الله وترك الأوثان هي ملة إبراهيم فأما تفاصيل الشرائع فلا تعلق لها بهذا الموضع. السؤال الثالث: ما معنى قوله تعالى: * (هو سماكم المسلمين من قبل) *؟ الجواب: فيه قولان: أحدهما: أن الكناية راجعة إلى إبراهيم عليه السلام، فإن لكل نبي دعوة مستجابة وهو قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * (البقرة: 128) فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وروي أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله تعالى سيبعث محمدا بمثل ملته وأنه ستسمى أمته بالمسلمين والثاني: أن الكناية راجعة إلى الله تعالى في قوله: * (هو اجتباكم) * فروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن الله سماكم المسلمين من قبل " أي في كل الكتب، وفي هذا أي في القرآن. وهذا الوجه أقرب لأنه تعالى قال: * (ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) * فبين أنه سماهم بذلك لهذا الغرض وهذا لا يليق إلا بالله، ويدل عليه أيضا قراءة أبي بن كعب * (الله سماكم) * والمعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضا بين فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة. فلما خصكم الله بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه. وهذا هو العلة الثالثة: الموجبة لقبول التكليف، وأما الكلام في أنه كيف يكون الرسول شهيدا علينا، وكيف تكون أمته شهداء على الناس؟ فقد تقدم في سورة البقرة، وبينا أنه أخذ منه ما يدل على أن الإجماع حجة.
النوع الرابع: شرح ما يجري مجرى المؤكد لما مضى، وهو قوله: * (فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * ويجب صرفها إلى المفروضات لأنها هي المعهودة واعتصموا بالله أي بدلائله العقلية والسمعية وألطافه وعصمته، قال ابن عباس: " سلوا الله العصمة عن كل المحرمات " وقال القفال: اجعلوا الله عصمة لكم مما تحذرون هو مولاكم وسيدكم المتصرف فيكم فنم المولى ونعم البصير، فكأنه سبحانه قال أنا مولاك بل أنا ناصرك وحسبك، واعلم أن المعتزلة احتجوا بهذه الآيات
74

من وجوه: أحدها: أن قوله: * (لتكونوا شهداء على الناس) * يدل على أنه سبحانه أراد الإيمان من الكل، لأنه تعالى لا يجعل الشهيد على عباده إلا من كان عدلا مرضيا، فإذا أراد أن تكونوا شهداء على الناس فقد أراد تكونوا جميعا صالحين عدولا، وقد علمنا أن منهم فاسقا، فدل ذلك على أن الله تعالى أراد من الفسق كونه عدلا وثانيها: قوله: * (واعتصموا بالله) * وكيف يمكن الاعتصام به مع أن الشر لا يوجد إلا منه؟ وثالثها: قوله: * (فنعم المولى) * لأنه لو كان كما يقوله أهل السنة من أنه خلق أكثر عباده ليخلق فيهم الكفر والفساد ثم يعذبهم لما كان نعم المولى، بل كان لا يوجد من شرار الموالي أحد إلا وهو شر منه. فكان يجب أن يوصف بأنه بئس المولى وذلك باطل فدل على أنه سبحانه ما أراد من جميعهم إلا الصلاح. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون نعم المولى للمؤمنين خاصة كما أنه نعم النصير لهم خاصة؟ قلنا إنه تعالى مولى المؤمنين والكافرين جميعا فيجب أن يقال إنه نعم المولى للمؤمنين وبئس المولى للكافرين. فإن ارتكبوا ذلك فقد ردوا القرآن والإجماع وصرحوا بشتم الله تعالى، ورابعها: أن قوله: * (سماكم المسلمين من قبل) * يدل على إثبات الأسماء الشرعية وأنها من قبل الله تعالى لأنها لو كانت لغة لما أضيفت إلى الله تعالى على وجه الخصوص.
والجواب: عن الأول وهو قوله كونه تعالى مريدا لكونه شاهدا يستلزم كونه مريدا لكونه عدلا، فنقول: إن كانت إرادة الشيء مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكافر توجب أن تكون مستلزمة لإرادة جهل الله تعالى فيلزم كونه تعالى مريدا لجهل نفسه. وإن لم يكن ذلك واجبا سقط الكلام.
وأما قوله: * (واعتصموا بالله) * فيقال هذا أيضا وارد عليكم فإنه سبحانه خلق الشهوة في قلب الفاسق وأكدها وخلق المشتهي وقربه منه ورفع المانع ثم سلط عليه الشياطين من الإنس والجن وعلم أنه لا محالة يقع في الفجور والضلال، وفي الشاهد كل من فعل ذلك فإنه يكون بئس المولى، فإن صح قياس الغائب على الشاهد فهذا لازم عليكم وإن بطل سقط كلامكم بالكلية.
75

سورة المؤمنون
مائة وثمان عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (قد أفلح المؤمنون * الذين هم فى صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكوة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى ورآء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) *.
إعلم أنه سبحانه حكم بحصول الفلاح لمن كان مستجمعا لصفات سبع، وقبل الخوض في شرح تلك الصفات لا بد من بحثين:
البحث الأول: أن * (قد) * نقيضة لما فقد تثبت المتوقع ولما تنفيه ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة، وهي الإخبار بثبات الفلاح لهم فخوطبوا بما دل على ثبات ما توقعوه.
76

البحث الثاني: الفلاح الظفر بالراد وقيل البقاء في الخير، وأفلح دخل في الفلاح كأبشر دخل في البشارة، ويقال أفلحه صيره إلى الفلاح، وعليه قراءة طلحة بن مصرف أفلح على البناء للمفعول، وعنه أفلحوا على لغة أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير.
الصفة الأولى: قوله: * (المؤمنون) * وقد تقدم القول في الإيمان في سورة البقرة.
الصفة الثانية: قوله: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) * واختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات، ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى. فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود، ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم، ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى، قال: الحسن وابن سيرين كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه، فإن قيل فهل تقولون إن ذلك واجب في الصلاة؟ قلنا إنه عندنا واجب ويدل عليه أمور: أحدها: قوله تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) * (محمد: 24) والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله تعالى: * (ورتل القرآن ترتيلا) * (المزمل: 4) معناه قف على عجائبه ومعانيه وثانيها: قوله تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) * (طه: 14) وظاهر الأمر للوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره وثالثها: قوله تعالى: * (ولا تكن من الغافلين) * (الأعراف: 205) وظاهر النهي للتحريم ورابعها: قوله: * (حتى تعلموا ما تقولون) * النساء: 43) تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق المهتم بالدنيا وخامسها: قوله عليه السلام: " إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع " وكلمة إنما للحصر، وقوله عليه السلام: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا " وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، وقال عليه السلام: " كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب " وما أراد به إلا الغافل، وقال أيضا: " ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل " وسادسها: قال الغزالي رحمه الله: المصلي يناجي ربه كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة البتة، وبيانه أن الإنسان إذا أدى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها على بعض الوجوه، وهو كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى التي هي عدوة الله تعالى. فلا يبعد أن يحصل منه مقصوده مع الغفلة، وكذا الحج أفعال شاقة، وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء سواء كان القلب حاضرا أو لم يكن. أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، أما الذكر فإنه مناجاة مع الله تعالى. فإما أن يكون المقصود منه كونه مناجاة، أو المقصود مجرد الحروف والأصوات،
77

ولا شك في فساد هذا القسم فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح. فثبت أن المقصود منه المناجاة وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبرا عما في القلب من التضرعات فأي سؤال في قوله * (إهدنا الصراط المستقيم) * (الفاتحة: 6) وكان القلب غافلا عنه؟ بل أقول لو حلف إنسان، وقال: والله لأشكرن فلانا وأثنى عليه وأسأله حاجة. ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم لم يبر في يمينه ولو جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه، ولا يكون كلامه خطابا معه ما لم يكن حاضرا بقلبه، ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب عليه عند نطقه لم يصر بارا في يمينه، ولا شك أن المقصود من القراءة الأذكار والحمد والثناء والتضرع والدعاء والمخاطب هو الله تعالى، فإذا كان القلب محجوبا بحجاب الغفلة وكان غافلا عن جلال الله وكبريائه، ثم إن لسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد ذلك عن القبول. وأما الركوع والسجود فالمقصود منهما التعظيم، ولو جاز أن يكون تعظيما لله تعالى مع أنه غافل عنه، لجاز أن يكون تعظيما للصنم الموضوع بين يديه وهو غافل عنه، ولأنه إذا لم يحصل التعظيم لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس، وليس فيها من المشقة ما يصير لأجله عمادا للدين، وفاصلا بين الكفر والإيمان، ويقدم على الحج والزكاة والجهاد وسائر الطاعات الشاقة، ويجب القتل بسببه على الخصوص، وبالجملة فكل عاقل يقطع بأن مشاهدة الخواص العظيمة ليس أعمالها الظاهرة إلا أن ينضاف إليها مقصود هذه المناجاة، فدلت هذه الاعتبارات على أن الصلاة لا بد فيها من الحضور وسابعها: أن الفقهاء اختلفوا فيما ينويه بالسلام عند الجماعة والانفراد، هل ينوي الحضور أو الغيبة والحضور معا. فإذا احتيج إلى التدبر في معنى السلام الذي هو آخر الصلاة فلأن يحتاج إلى التدبر في معنى التكبير والتسبيح التي هي الأشياء المقصودة من الصلاة بالطريق الأولى، واحتج المخالف بأن اشتراط الخضوع والخشوع على خلاف اجتماع الفقهاء فلا يلتفت إليه والجواب: من وجوه: أحدها: أن الحضور عندنا ليس شرطا للأجزاء، بل شرط للقبول، والمراد من الإجزاء أن لا يجب القضاء، والمراد من القبول حكم الثواب. والفقهاء إنما يبحثون عن حكم الإجزاء لا عن حكم الثواب، وغرضنا في هذا المقام هذا، ومثاله في الشاهد من استعار منك ثوبا ثم رده على الوجه الأحسن، فقد خرج عن العهدة واستحق المدح، ومن رماه إليك على وجه الاستخفاف خرج عن العهدة، ولكنه استحق الذم، كذا من عظم الله تعالى حال أدائه العبادة صار مقيما للفرض مستحقا للثواب، ومن استهان بها صار مقيما للفرض ظاهرا لكنه استحق الذم وثانيها: أنا نمنع هذا الإجماع، أما المتكلمون فقد اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع، واحتجوا عليه بأن السجود لله تعالى طاعة وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من أمر لأجله صار السجود في إحدى الصورتين طاعة،
78

وفي الأخرى معصية، قالوا وما ذاك إلا القصد والإرادة، والمراد من القصد إيقاع تلك الأفعال لداعية الامتثال، وهذه الداعية لا يمكن حصولها إلا عند الحضور، فلهذا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور، أما الفقهاء فقد ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في تنبيه الغافلين: أن تمام القراءة أن يقرأ بغير لحن وأن يقرأ بالتفكر. وأما الغزالي رحمه الله فإنه نقل عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن رحمه الله: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة
أسرع. وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي أيضا مسندا قال عليه السلام: " إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها ". وقال عبد الواحد بن زيد: أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل، وادعى فيه الإجماع إذا ثبت هذا فنقول هب أن الفقهاء بأسرهم حكموا بالجواز، أليس الأصوليون وأهل الورع ضيقوا الأمر فيها، فهلا أخذت بالاحتياط فإن بعض العلماء اختار الإمامة، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي، وإن قرأتها مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الاختلاف والله أعلم.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: * (والذين هم عن اللغو معرضون) * وفي اللغو أقوال: أحدها: أنه يدخل فيه كل ما كان حراما أو مكروها أو كان مباحا، ولكن لا يكون بالمرء إليه ضرورة وحاجة وثانيها: أنه عبارة عن كل ما كان حراما فقط، وهذا التفسير أخص من الأول وثالثها: أنه عبارة عن المعصية في القول والكلام خاصة، وهذا أخص من الثاني ورابعها: أنه المباح الذي لا حاجة إليه، واحتج هذا القائل بقوله تعالى: * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) * (المائدة: 89) فكيف يحمل ذلك على المعاصي التي لا بد فيها من المؤاخذة، واحتج الأولون بأن اللغو إنما سمي لغوا بما أنه يلغي وكل ما يقتضي الدين إلغاءه كان أولى باسم اللغو، فوجب أن يكون كل حرام لغوا، ثم اللغو قد يكون كفرا لقوله: * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * (فصلت: 26) وقد يكون كذبا لقوله: * (لا تسمع فيها لاغية) * (الغاشية: 11) وقوله: * (لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما) * (الواقعة: 25) ثم إنه سبحانه وتعالى مدحهم بأنهم يعرضون عن هذا اللغو والإعراض عنه، هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه، وعلى هذا الوجه قال تعالى: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) واعلم أنه سبحانه وتعالى لما وصفهم بالخشوع في الصلاة أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس الذين هما قاعدتا بناء التكليف وهو أعلم.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (والذين هم للزكاة فاعلون) * وفي الزكاة قولان: أحدهما: قول أبي مسلم: أن فعل الزكاة يقع على كل فعل محمود مرضي، كقوله: * (قد أفلح من تزكى) * (الأعلى: 14) وقوله: * (فلا تزكوا أنفسكم) * (النجم: 32) ومن جملته ما يخرج من حق المال، وإنما سمى بذلك لأنها تطهر من الذنوب لقوله
79

تعالى: * (تطهرهم وتزكيهم بها) * (التوبة: 103). والثاني: وهو قول الأكثرين أنه الحق الواجب في الأموال خاصة وهذا هو الأقرب. لأن هذه اللفظة قد اختصت في الشرع بهذا المعنى، فإن قيل إنه لا يقال في الكلام الفصيح إنه فعل الزكاة، قلنا قال صاحب " الكشاف ": الزكاة اسم مشترك بين عين ومعنى، فالعين القدر الذي يخرجه المزكى من النصاب إلى الفقير، والمعنى فعل المزكى الذي هو التزكية وهو الذي أراده الله تعالى فجعل المزكين فاعلين له ولا يسوغ فيه غيره، لأنه ما من مصدر إلا يعبر عن معناه بالفعل. ويقال لمحدثه فاعل، يقال للضارب فاعل الضرب، وللقاتل فاعل القتل، وللمزكي فاعل الزكاة، وعلى هذا الكلام كله يجوز أن يراد بالزكاة العين، ويقدر مضاف محذوف وهو الأداء فإن قيل إن الله تعالى هناك لم يفصل بين الصلاة والزكاة، فلم فصل ههنا بينهما بقوله: * (والذين هم عن اللغو معرضون) *؟ قلنا لأن الإعراض عن اللغو من متممات الصلاة.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم لم يقل إلا عن أزواجهم الجواب: قال الفراء معناه إلا من أزواجهم وذكر صاحب " الكشاف " فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه في موضع الحال أي إلا والين على أزواجهم أو قوامين عليهن من قولك كان فلان على فلانة، ونظيره كان زياد على البصرة أي واليا عليها، ومنه قولهم فلانة تحت فلان ومن ثم سميت المرأة فراشا. والمعنى أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم وثانيها: أنه متعلق بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين عليه وهو قول الزجاج وثالثها: أن تجعله صلة لحافظين.
السؤال الثاني: هلا قيل من ملكت الجواب: لأنه اجتمع في السرية وصفان: أحدهما: الأنوثة وهي مظنة نقصان العقل والآخر كونها بحيث تباع وتشتري كسائر السلع، فلاجتماع هذين الوصفين فيها جعلت كأنها ليست من العقلاء.
السؤال الثالث: هذه الآية تدل على تحريم المتعة على ما يروى عن القاسم بن محمد الجواب: نعم وتقريره أنها ليست زوجة له فوجب أن لا تحل له، وإنما قلنا إنها ليست زوجة له لأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة له لحصل التوارث لقوله تعالى: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * (النساء: 12) وإذا ثبت أنها ليست بزوجة له وجب أن لا تحل له لقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * وهو أعلم.
السؤال الرابع: أليس لا يحل له في الزوجة وملك اليمين الاستمتاع في أحوال كحال الحيض وحال العدة وفي الأمة حال تزويجها من الغير وحال عدتها، وكذا الغلام داخل في ظاهر قوله وتعالى: * (أو ما ملكت أيمانهم) * والجواب: من وجهين: أحدهما: أن مذهب أبي حنيفة
80

رحمه الله أن الاستثناء من النفي لا يكون إثباتا واحتج عليه بقوله عليه السلام: " لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بولي " فإن ذلك لا يقتضي حصول الصلاة بمجرد حصول الطهور وحصول النكاح بمجرد حصول الولي. وفائدة الاستثناء صرف الحكم لا صرف المحكوم به فقوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم) * معناه أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات الثاني: أنا إن سلمنا أن الاستثناء من النفي إثبات، فغايته أنه عام دخله التخصيص بالدليل فيبقى فيما وراءه حجة.
أما قوله تعالى: * (فأولئك هم العادون) * يعني الكاملون في العدوان المتناهون فيه.
الصفة السادسة: قوله تعالى: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * قرأ نافع وابن كثير * (لأمانتهم) * واعلم أنه يسمى الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه أمانة وعهدا، ومنه قوله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * وقال: * (وتخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 27) وإنما تؤدي العيون دون المعاني فكان المؤتمن عليه الأمانة في نفسه والعهد، ما عقده على نفسه فيما يقربه إلى ربه ويقع أيضا على ما أمر الله تعالى به كقوله: * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا) * (آل عمران: 183) والراعي القائم على الشيء لحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، ويقال من راعى هذا الشيء؟ أي موليه. واعلم أن الأمانة تتناول كل ما تركه يكون داخلا في الخيانة وقد قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) * (الأنفال: 270) فمن ذلك العبادات التي المرء مؤتمن عليها وكل العبادات تدخل في ذلك، لأنها إما أن تخفي أصلا كالصوم وغسل الجنابة وإسباغ الوضوء أو تخفي كيفية إتيانه بها وقال عليه السلام: " أعظم الناس خيانة من لم يتم صلاته " وعن ابن مسعود رضي الله عنه: " أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة " ومن جملة ذلك ما يلتزمه بفعل أو قول فيلزمه الوفاء به كالودائع والعقود وما يتصل بهما. ومن ذلك الأقوال التي يحرم بها العبيد والنساء لأنه مؤتمن في ذلك، ومن ذلك أن يراعى أمانته فلا يفسدها بغصب أو غيره، وأما العهد فإنه دخل فيه العقود والإيمان والنذور، فبين سبحانه أن مراعاة هذه الأمور والقيام بها معتبر في حصول الفلاح.
الصفة السابعة: قوله: * (والذين هم على صلواتهم يحافظون) * وإنما أعاد تعالى ذكرها لأن الخشوع والمحافظة متغايران غير متلازمين، فإن الخشوع صفة للمصلي في حال الأداء لصلاته والمحافظة إنما تصح حال ما لم يؤدها بكمالها. بل المراد بالمحافظة التعهد لشروطها من وقت وطهارة وغيرهما والقيام على أركانها وإتمامها حتى يكون ذلك دأبه في كل وقت، ثم لما ذكر الله تعالى مجموع هذه الأمور قال: * (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون) * وههنا سؤالات: السؤال الأول: لم سمي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث؟ مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقهم في قوله: * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) * الجواب: من
81

وجوه: الأول: ما روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أبين على ما يقال فيه وهو: أنه لا مكلف إلا أعد الله له في النار ما يستحقه إن عصى وفي الجنة ما يستحقه إن أطاع وجعل لذلك علامة. فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار منزل من لم يؤمن كالمنقول إلى المؤمنين وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بد معه من حرمان الثواب كموتهم، فسمى ذلك ميراثا لهذا الوجه، وقد قال الفقهاء إنه لا فرق بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر فيه الملك في أنه يورث عنه كذلك قالوا في الدية التي تجب بالقتل إنها تورث مع أنه ما ملكها على التحقيق وذلك يشهد بما ذكرنا، فإن قيل إنه تعالى وصف كل الذي يستحقونه إرثا وعلى ما قلتم يدخل في الإرث ما كان يستحقه غيرهم لو أطاع. قلنا لا يمتنع أنه تعالى جعل ما هو منزلة لهذا المؤمن بعينه منزلة لذلك الكافر لو أطاع لأنه عند ذلك وكان يزيد في المنازل فإذا آمن هذا عدل بذلك إليه وثانيها: أن انتقال الجنة إليهم بدون محاسبة ومعرفة بمقاديره يشبه انتقال المال إلى الوارث وثالثها: أن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده صار ذلك شبيها بالميراث.
السؤال الثاني: كيف حكم على الموصوفين بالصفات السبع بالفلاح مع أنه تعالى ما تمم ذكر العبادات الواجبة كالصوم والحج والطهارة والجواب: أن قوله: * (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) * يأتي على جميع الواجبات من الأفعال والتروك كما قدمنا والطهارات دخلت في جملة المحافظة على الصلوات الخمس لكونها من شرائطها.
السؤال الثالث: أفيدل قوله تعالى: * (أولئك هم الوارثون) * على أنه لا يدخلها غيرهم؟ الجواب: أن قوله: * (هم الوارثون) * يفيد الحصر لكنه يجب ترك العمل به لأنه ثبت أن الجنة يدخلها الأطفال والمجانين والولدان والحور العين ويدخلها الفساق من أهل القبلة بعد العفو، لقوله تعالى: * (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
السؤال الرابع: أفكل الجنة هو الفردوس؟ الجواب: الفردوس هو الجنة بلسان الحبشة وقيل بلسان الروم، وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار " وروى أبو أمامة عنه عليه السلام أنه قال: " سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان، وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش ".
السؤال الخامس: هل تدل الآية على أن هذه الصفات هي التي لها ولأجلها يكونون مؤمنين أم لا؟ الجواب: ادعى القاضي أن الأمر كذلك بناء على مذهبه أن الإيمان اسم شرعي موضوع لأداء كل الواجبات، وعندنا أن الآية لا تدل على ذلك، لأن قوله: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) * مثل قد أفلح الناس الأذكياء العدول، فإن هذا لا يدل على أن الزكاة والعدالة داخلان في مسمى الناس فكذا ههنا.
السؤال السادس: روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لما خلق الله تعالى جنة عدن قال
82

لها تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون " وقال كعب: " خلق الله آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده، ثم قال لها تكلمي فقالت: قد أفلح المؤمنون "، وروي أنه عليه السلام قال: " إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت حفظك الله كما حافظت علي، وشفعت لصاحبها. وإذا أضاعها قالت أضاعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها " الجواب: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمؤمنين فصار ذلك كالقول منها، وهو كقوله تعالى: * (قالتا أتينا طائعين) * (فصلت: 11) وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها لا أنه وكله إلى غيره، وأما أن الصلاة تثنى على من قام بحقها فهو في الجواز أبعد من كلام الجنة، لأن الصلاة حركات وسكنات ولا يصح عليها أن تتصور وتتكلم فالمراد منه ضرب المثل كما
يقول القائل للمنعم إن إحسانك إلي ينطق بالشكر.
السؤال السابع: هل تدل الآية على أن الفردوس مخلوقة؟ الجواب: قال القاضي دل قوله تعالى: * (أكلها دائم) * (الرعد: 35) على أنها غير مخلوقة فوجب تأويل هذه الآية، كأنه تعالى قال إذا كان يوم القيامة يخلق الله الجنة ميراثا للمؤمنين أو وإذا خلقها تقول على مثال ما تأولنا عليه قوله تعالى: * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) * (الأعراف: 50) وهذا ضعيف لأنه ليس إضمار ما ذكره في هذه الآية أولى من أن يضمر في قوله: * (أكلها دائم) * (الرعد: 35) ثم إن أكلها دائم، يوم القيامة، وإذا تعارض هذان الظاهران فنحن نتمسك في أن الجنة مخلوقة بقوله تعالى: * (أعدت للمتقين) * (آل عمران: 133).
قوله تعالى
* (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة فى قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون * ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق وما كنا عن الخلق غافلين) *.
اعلم أنه سبحانه لما أمر بالعبادات في الآية المتقدمة، والاشتغال بعبادة الله لا يصح إلا بعد معرفة الإله الخالق، لا جرم عقبها بذكر ما يدل على وجوده واتصافه بصفات الجلال والوحدانية فذكر من الدلائل أنواعا:
83

النوع الأول: الاستدلال يتقلب الإنسان في أدوار الخلقة وأكوان الفطرة وهي تسعة:
المرتبة الأولى: قوله سبحانه تعالى: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر، فعالة وهو بناء يدل على القلة كالقلامة والقمامة، واختلف أهل التفسير في الإنسان فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد منه آدم عليه السلام فآدم سل من الطين وخلقت دريته من ماء مهين، ثم جعلنا الكناية راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم، والإنسان شامل لآدم عليه السلام ولولده، وقال آخرون: الإنسان ههنا ولد آدم والطين ههنا اسم آدم عليه السلام، والسلالة هي الأجزاء الطينية المبثوثة في أعضائه التي لما اجتمعت وحصلت في أوعية المنى صارت منيا، وهذا التفسير مطابق لقوله تعالى: * (وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء معين) * (السجدة: 7، 8) وفيه وجه آخر، وهو أن الإنسان إنما يتولد من النطفة وهي إنما تتولد من فضل الهضم الرابع وذلك إنما يتولد من الأغذية، وهي إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانية تنتهي إلى النباتية، والنبات إنما يتولد من صفو الأرض والماء فالإنسان بالحقيقة يكون متولدا من سلالة من طين، ثم إن تلك السلالة بعد أن تواردت على أطوار الخلقة وأدوار الفطرة صارت منيا، وهذا التأويل مطابق للفظ ولا يحتاج فيه إلى التكلفات.
المرتبة الثانية: قوله تعالى: * (ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) * ومعنى جعل الإنسان نطفة أنه خلق جوهر الإنسان أولا طينا، ثم جعل جوهره بعد ذلك نطفة في أصلاب الآباء فقذفه الصلب بالجماع إلى رحم المرأة فصار الرحم قرارا مكينا لهذه النطفة والمراد بالقرار موضع القرار وهو المستقر فسماه بالمصدر ثم وصف الرحم بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها كقولك طريق سائر أو لمكانتها في نفسها لأنها تمكنت من حيث هي وأحرزت.
المرتبة الثالثة: قوله تعالى: * (ثم خلقنا النطفة علقة) * أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد.
المرتبة الرابعة: قوله تعالى: * (فخلقنا العلقة مضغة) * أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف، وسمى التحويل خلقا لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضا غيرها فسمى خلق الأعراض خلقا لها وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.
المرتبة الخامسة: قوله: * (فخلقنا المضغة عظاما) * أي صيرناها كذلك وقرأ ابن عامر عظما والمراد منه الجمع كقوله: * (والملك صفا صفا) *.
المرتبة السادسة: قوله تعالى: * (فكسونا العظام لحما) * وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها.
المرتبة السابعة: قوله تعالى: * (ثم أنشأناه خلقا آخر) * أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة
84

ما أبعدها حيث جعله حيوانا وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا وكان أصم، وبصيرا وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين، ولا شرح الشارحين، وروى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: هو تصريف الله إياه بعد الولادة في أطواره في زمن الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب، وخلق الفهم والعقل وما بعده إلى أن يموت، ودليل هذا القول إنه عقبه بقوله: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) * وهذا المعنى مروي أيضا عن ابن عباس وابن عمر، وإنما قال: * (أنشأناه) * لأنه جعل إنشاء الروح فيه، وإتمام خلقه إنشاء له قالوا في الآية دلالة على بطلان قول النظام في أن الإنسان هو الروح لا البدن فإنه سبحانه بين أن الإنسان هو المركب من هذه الصفات، وفيها دلالة أيضا على بطلان قول الفلاسفة الذين يقولون إن الإنسان شيء لا ينقسم، وإنه ليس بجسم.
أما قوله: * (فتبارك الله) * أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة، وكل ما زاد على الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى، والبركات والخيرات كلها من الله تعالى، وقيل أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال والبقاء والدوام. والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء، وقوله: * (أحسن الخالقين) * أي أحسن المقدرين تقديرا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قالت المعتزلة لولا أن الله تعالى قد يكون خالقا لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدرا لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه، قال الكعبي هذه الآية، وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة، ولا
يقول العبد لسيده هو ربي، ولا يقال إنما قال الله تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين: أحدهما: إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه * (أحسن الخالقين) * الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني: أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضا بأنه يخلق؟ وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول الله تعالى: * (الله خالق كل شيء) * (الزمر: 62) فوجب حمل هذه الآية على أنه * (أحسن الخالقين) * في اعتقادكم وظنكم، كقوله تعالى: * (وهو أهون عليه) * (الروم: 27) أي هو أهون عليه في اعتقادكم وظنكم والجواب الثاني: هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الطن والحسبان، وذلك في حق الله سبحانه محال، فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث: أن الآية تقتضي
85

كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا، لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجدا.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما؟ والجواب: من الناس من حمل الحسن على الإحكام والاتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من الله تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل شيء.
المسألة الثالثة: روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله تعالى: * (خلقا آخر) * عجب من ذلك فقال: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اكتب فهكذا نزلت " فشك عبد الله وقال إن كان محمد صادقا فيما يقول فإنه يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه فهرب إلى مكة فقيل إنه مات على الكفر، وقيل إنه أسلم يوم الفتح، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا نزلت يا عمر. وكان عمر يقول: وافقني ربي في أربع، في الصلاة خلف المقام، وفي ضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن: لتنتهن أو ليبدلنه الله خيرا منكن، فنزل قوله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) * (التحريم: 5) والرابع قلت: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * فقال هكذا نزلت. قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد الله كما قال تعالى: * (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا) * (البقرة: 26) فإن قيل فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزا كما ظنه عبد الله والجواب: هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز فسقطت شبهة عبد الله.
المرتبة الثامنة: قوله: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون) * قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن * (لمائتون) * والفرق بين الميت والمائت، أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غدا، وكقولك يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله: * (وضائق به صدرك) * (هود: 12).
المرتبة التاسعة: قوله: * (ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * فالله سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما الحكمة في الموت، وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الأنعام أبلغ؟ والجواب: هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة الله، يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال، فإنه لا يأتي بذلك الفعل
86

إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره الله تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابدا لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع.
السؤال الثاني: هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر لأنه قال: * (ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون) * ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة والجواب: من وجهين: الأول: أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة والثاني: أن الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة، والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة.
النوع الثاني: من الدلائل الاستدلال بخلقة السماوات وهو قوله تعالى: * (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين) * (المؤمنون: 17).
فقوله: * (سبع طرائق) * (المؤمنون: 17) أي سبع سماوات وإنما قيل لها طرائق لتطارقها بمعنى كون بعضها فوق بعض يقال طارق الرجل نعليه إذا أطبق نعلا على نعل وطارق بين ثوبين إذا لبس ثوبا فوق ثوب. هذا قول الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج هو كقوله: * (سبع سماوات طباقا) * (نوح: 15) وقال علي بن عيسى سميت بذلك لأنها طرائق للملائكة في العروج والهبوط والطيران، وقال آخرون لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه تعالى جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها، وجعلها مقرا للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ولأنها مكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
أما قوله: * (وما كنا عن الخلق غافلين) * (المؤمنون: 17) ففيه وجوه: أحدها: ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) * (فاطر: 41) وثانيها: إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها: أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله: * (وما كنا عن الخلق غافلين) * (المؤمنون: 17) يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر ورابعها: وما كنا عن خلق السماوات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها
عليه كقوله تعالى: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) * (الملك: 3).
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل: إحداها: أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لابد من محول ومغير. وثانيتها: أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجود وثالثتها: تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب
87

والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها: تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها: تدل على جواز الحشر والنشر نظرا إلى صريح الآية ونظرا إلى أن الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها: أن معرفة الله تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا.
النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات.
قوله تعالى
* (وأنزلنا من السمآء مآء بقدر فأسكناه فى الارض وإنا على ذهاب به لقادرون * فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون * وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت بالدهن وصبغ للأكلين) *.
اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره الله تعالى أولا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا.
أما قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر) * فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله: * (وفي السماء رزقكم وما توعدون) * (الذاريات: 22) وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن الله تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله الله تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها.
أما قوله تعالى: * (بقدر) * فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.
88

أما قوله: * (فأسكناه في الأرض) * قيل معناه جعلناه ثابتا في الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما أنزل الله تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضا القرآن.
أما قوله: * (وإنا على ذهاب به لقادرون) * أي كما قدرنا على إنزاله فكذلك نقدر على رفعه وإزالته، قال صاحب " الكشاف " وقوله: * (على ذهاب به) * من أوقع النكرات وأخرها للفصل. والمعنى على وجه من وجوه الذهاب به وطريق من طرقه. وفيه إيذان بكمال اقتدار المذهب وأنه لا يعسر عليه شيء وهو أبلغ في الإيعاد من قوله: * (قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين) * (الملك: 30) ثم إنه سبحانه لما نبه على عظيم نعمته بخلق الماء ذكر بعده النعم الحاصلة من الماء فقال: * (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب) * وإنما ذكر تعالى النخيل والأعناب لكثرة منافعهما فإنهما يقومان مقام الطعام ومقام الأدام ومقام الفواكه رطبا ويابسا وقوله: * (لكم فيها فواكه كثيرة) * أي في الجنات، فكما أن فيها النخيل والأعناب ففيها الفواكه الكثيرة وقوله: * (ومنها تأكلون) * قال صاحب " الكشاف " يجوز أن يكون هذا من قولهم فلان يأكل من حرفة يحترفها ومن صنعة يعملها يعنون أنها طعمته وجهته التي منها يحصل رزقه، كأنه قال وهذه الجنات وجوه أرزاقكم ومعايشكم منها تتعيشون. أما قوله تعالى: * (وشجرة تخرج من طور سيناء) * فهو عطف على جنات وقرئت مرفوعة على الابتداء أي ومما أنشأنا لكم شجرة، قال صاحب " الكشاف " طور سيناء وطور سينين لا يخلو إما أن يضاف فيه الطور إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون اسما للجبل مركبا من مضاف ومضاف إليه كامرئ القيس وبعلبك فيمن أضاف، فمن كسر سين سيناء فقد منع الصرف للتعريف والعجمة أو التأنيث لأنها بقعة وفعلاء لا يكون ألفه للتأنيث كعلباء وحرباء، ومن فتح لم يصرفه لأن ألفه للتأنيث كصحراء، وقيل هو جبل فلسطين وقيل بين مصر وأيلة، ومنه نودي موسى عليه السلام وقرأ الأعمش سينا على القصر.
أما قوله تعالى: * (تنبت بالدهن) * فهو في موضع الحل أي تنبت وفيها الدهن، كما يقال ركب الأمير بجنده، أي ومعه الجند وقرئ تنبت وفيه وجهان: أحدهما: أن أنبت بمعنى نبت قال زهير: فرأيت ذوي لحاجات حول بيوتهم * قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
والثاني: أن مفعوله محذوف، أي تنبت زيتونها وفيه الزيت، قال المفسرون: وإنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأن منها تشعبت في البلاد وانتشرت ولأن معظمها هناك. أما قوله:
89

* (وصبغ للآكلين) * فعطف على الدهن، أي إدام للآكلين، والصبغ والصباغ ما يصطبغ به، أي يصبغ به الخبز، وجملة القول أنه سبحانه وتعالى نبه على إحسانه بهذه الشجرة، لأنها تخرج هذه الثمرة التي يكثر بها الانتفاع وهي طرية ومدخرة، وبأن تعصر فيظهر الزيت منها ويعظم وجوه الانتفاع به.
النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الحيوانات.
قوله تعالى
* (وإن لكم فى الانعام لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون * وعليها وعلى الفلك تحملون) *.
إعلم أنه سبحانه وتعالى ذكر أن فيها عبرة مجملا ثم أردفه بالتفصيل من أربعة أوجه: أحدها: قوله: * (نسقيكم مما في بطونها) * والمراد منه جميع وجوه الانتفاع بألبانها، ووجه الاعتبار فيه أنها تجتمع في الضروع وتتخلص من بين الفرث والدم بإذن الله تعالى، فتستحيل إلى طهارة وإلى لون وطعم موافق للشهوة وتصير غذاء، فمن استدل بذلك على قدرة الله وحكمته. كان ذلك معدودا في النعم الدينية ومن انتفع به فهو في نعمة الدنيا، وأيضا فهذه الألبان التي تخرج من بطونها إلى ضروعها تجدها شرابا طيبا، وإذا ذبحتها لم تجد لها أثرا، وذلك يدل على عظيم قدرة الله تعالى. قال صاحب " الكشاف " وقرئ تسقيكم بتاء مفتوحة، أي تسقيكم الأنعام وثانيها: قوله: * (ولكم فيها منافع كثيرة) * وذلك بيعها والانتفاع بأثمانها وما يجري مجرى ذلك وثالثها: قوله: * (ومنها تأكلون) * يعني كما تنتفعون بها وهي حية تنتفعون بها بعد الذبح أيضا بالأكل ورابعها: قوله: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * لأن وجه الانتفاع بالإبل في المحمولات على البر بمنزلة الانتفاع بالفلك في البحر، ولذلك جمع بين الوجهين في إنعامه لكي يشكر على ذلك ويستدل به، واعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين دلائل التوحيد أردفها بالقصص كما هو العادة في سائر السور وهي ههنا.
القصة الأولى قصة نوح عليه السلام
قوله تعالى
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا
90

تتقون * فقال الملؤا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شآء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا فى ءابآئنا الاولين * إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين) *.
قال قوم: إن نوحا كان اسمه يشكر، ثم سمي نوحا لوجوه: أحدها: لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك، فأهلكهم بالطوفان فندم على ذلك وثانيها: لمراجعة ربه في شأن ابنه وثالثها: أنه مر بكلب مجذوم، فقال له إخسا يا قبيح، فعوتب على ذلك، فقال الله له: أعبتني إذ خلقته، أم عبت الكلب. وهذه الوجوه مشكلة لما ثبت أن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى.
أما قوله: * (اعبدوا الله) * فالمعنى أنه سبحانه أرسله بالدعاء إلى عبادة الله تعالى وحده، ولا يجوز أن يدعوهم إلى ذلك إلا وقد دعاهم إلى معرفته أولا، لأن عبادة من لا يكون معلوما غير جائزة وإنما يجوز ويجب بعد المعرفة.
أما قوله: * (ما لكم من إله غيره) * فالمراد أن عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. ومن حق العبادة أن تحسن لمن أنعم بالخلق والإحياء وما بعدهما، فإذا لم يصح ذلك إلا منه تعالى فكيف يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ وقرئ غيره بالرفع على المحل وبالجر على اللفظ، ثم إنه لما لم ينفع فيهم هذا الدعاء واستمروا على عبادة غير الله تعالى حذرهم بقوله: * (أفلا تتقون) * لأن ذلك زجر ووعيد باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه. ثم إنه سبحانه حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح عليه السلام.
الشبهة الأولى: قولهم: * (ما هذا إلا بشر مثلكم) * وهذه الشبهة تحتمل وجهين: أحدهما: أن يقال إنه لما كان مساويا لسائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض امتنع كونه رسولا لله، لأن الرسول لا بد وأن يكون عظيما عند الله تعالى وحبيبا له، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والمعزة، فلما فقدت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة والثاني: أن يقال هذا الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور، ولكنه أحب الرياسة والمتبوعية فلم يجد إليهما سبيلا إلا بادعاء النبوة، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته، فهذا الاحتمال متأكد بقوله تعالى خبرا عنهم * (يريد أن يتفضل عليكم) * أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله تعالى: * (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) *.
الشبهة الثانية: قولهم: * (ولو شاء الله لأنزل ملائكة) * وشرحه أن الله تعالى لو شاء إرشاد البشر لوجب أن يسلك الطريق الذي يكون أشد إفضاء إلى المقصود، ومعلوم أن بعثة الملائكة أشد
91

إفضاء إلى هذا المقصود من بعثة البشر، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم وكثرة علومهم، فالخلق ينقادون إليهم، ولا يشكون في رسالتهم، فلما لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا البتة.
الشبهة الثالثة: قولهم: * (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين) * وقوله بهذا إشارة إلى نوح عليه السلام، أو إلى ما كلمهم به من الحث على عبادة الله تعالى، أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام، أو بمثل هذا الذي يدعى وهو بشر أنه رسول الله، وشرح هذه الشبهة أنهم كانوا أقواما لا يعولون في شيء من مذاهبهم إلا على التقليد والرجوع إلى قول الآباء، فلما لم يجدوا في نبوة نوح عليه السلام هذه الطريقة حكموا بفسادها. قال القاضي: يحتمل أن يريدوا بذلك كونه رسولا مبعوثا، لأنه لا يمتنع فيما تقدم من زمان آبائهم أنه كان زمان فترة، ويحتمل أن يريدوا بذلك دعاءهم إلى عبادة الله تعالى وحده، لأن آباءهم كانوا على عبادة الأوثان.
الشبهة الرابعة: قولهم: * (إن هو إلا رجل به جنة) * والجنة: الجنون أو الجن، فإن جهال العوام يقولون في المجنون زال عقله بعمل الجن، وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام، فإنه عليه الصلاة والسلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم، فأولئك الرؤساء كانوا يقولون للعوام إنه مجنون، ومن كان مجنونا فكيف يجوز أن يكون رسولا.
الشبهة الخامسة: قولهم: * (فتربصوا به حتى حين) * وهذا يحتمل أن يكون متعلقا بما قبله أي أنه مجنون فاصبروا إلى زمان حتى يظهر عاقبة أمره فإن أفاق وإلا قتلتموه ويحتمل أن يكون كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوي أمره فنحن حينئذ نتبعه وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره
، فحينئذ نستريح منه، فهذه مجموع الشبه التي حكاها الله تعالى عنهم، واعلم أنه سبحانه ما ذكر الجواب عنها لركاكتها ووضوح فسادها، وذلك لأن كل عاقل يعلم أن الرسول لا يصير رسولا إلا لأنه من جنس الملك وإنما يصير كذلك بأن يتميز من غيره بالمعجزات فسواء كان من جنس الملك أو من جنس البشر فعند ظهور المعجز عليه يجب أن يكون رسولا، بل جعل الرسول من جملة البشر أولى لما مر بيانه في السور المتقدمة وهو أن الجنسية مظنة الألفة والمؤانسة، وأما قولهم * (يريد أن يتفضل عليكم) * فإن أرادوا به إرادته لإظهار فضله حتى يلزمهم الانقياد لطاعته فهذا واجب على الرسول، وأن إرادوا به أن يرتفع عليهم على سبيل التجبر والتكبر والانقياد فالأنبياء منزهون عن ذلك، وأما قولهم ما سمعنا بهذا فهو استدلال بعدم التقليد على عدم وجود الشيء وهو في غاية السقوط لأن وجود التقليد لا يدل على وجود الشيء فعدمه من أين يدل على عدمه، وأما قولهم به جنة، فقد كذبوا لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة كمال عقله، وأما قولهم: فتربصوا به، فضعيف لأنه إن ظهرت الدلالة على نبوته وهي المعجزة وجب عليهم قبول قوله في الحال، ولا يجوز توقيف ذلك إلى ظهور دولته لأن الدولة لا تدل على الحقية، وإن لم يظهر المعجز لم يجز قبول
92

قوله سواء ظهرت الدولة أو لم تظهر، ولما كانت هذه الأجوبة في نهاية الظهور لا جرم تركها الله سبحانه.
قوله تعالى
* (قال رب انصرنى بما كذبون * فأوحينآ إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جآء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذى نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلنى منزلا مباركا وأنت خير المنزلين * إن فى ذلك لأيات وإن كنا لمبتلين) *.
أما قوله: * (رب انصرني بما كذبون) * ففيه وجوه: أحدها: أن في نصره إهلاكهم فكأنه قال أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وثانيها: انصرني بدل ما كذبوني كما تقول هذا بذاك أي بدل ذلك ومكانه، والمعنى أبدلني من غم تكذيبهم سلوة النصر عليهم وثالثها: انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب وهو ما كذبوه فيه حين قال لهم: * (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) * (الأعراف: 59) ولما أجاب الله دعاءه قال: * (فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا) * أي بحفظنا وكلئنا كأن معه من الله حافظا بكلؤه بعينه لئلا يتعرض له ولا يفسد عليه مفسد عمله، ومنه قولهم: عليه من الله عين كالئة، وهذه الآية دالة على فساد قول المشبهة في تمسكهم بقوله عليه السلام: " إن الله خلق آدم على صورته " لأن ثبوت الأعين يمنع من ذلك، واختلفوا في أنه عليه السلام كيف صنع الفلك فقيل إنه كان نجارا وكان عالما بكيفية اتخاذها، وقيل إن جبريل عليه السلام علمه عمل السفينة ووصف له كيفية اتخاذها، وهذا هو الأقرب لقوله * (بأعيننا ووحينا) *.
93

أما قوله: * (فإذا جاء أمرنا) * فاعلم أن لفظ الأمر كما هو حقيقة في طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء، فكذا هو حقيقة في الشأن العظيم، والدليل عليه أنك إذا قلت هذا أمر بقي الذهن يتردد بين المفهومين وذلك يدل على كونه حقيقة فيهما وتمام تقريره مذكور في كتاب المحصول في الأصول، ومن الناس من قال: إنما سماه أمرا على سبيل التعظيم والتفخيم، مثل قوله: * (ثم قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) *.
أما قوله: * (وفار التنور) * فاختلفوا في التنور، فالأكثرون على أنه هو التنور المعروف. روي أنه قيل لنوح إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت ومن معك في السفينة، فلما نبع الماء من التنور أخبرته امرأته فركب، وقيل كان تنور آدم وكان من حجارة فصار إلى نوح، واختلف في مكانه، فعن الشعبي في مسجد الكوفة عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وكان نوح عليه السلام عمل السفينة في وسط المسجد، وقيل بالشام بموضع يقال له عين وردة وقيل بالهند القول الثاني: أن التنور وجه الأرض عن ابن عباس رضي الله عنهما الثالث: أنه أشرف موضع في الأرض أي أعلاه عن قتادة والرابع: * (وفار التنور) * أي طلع للفجر عن علي عليه السلام، وقيل إن فوران التنور كان عند طلوع الفجر والخامس: هو مثل قولهم حمى الوطيس والسادس: أنه الموضع المنخفض من السفينة الذي يسيل الماء إليه عن الحسن رحمه الله والقول الأول هو الصواب لأن العدول عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل لا يجوز، واعلم أن الله تعالى جعل فوران التنور علامة لنوح عليه السلام حتى يركب عنده السفينة طلبا لنجاته ونجاة من آمن به من قومه.
أما قوله: * (فاسلك فيها) * أي أدخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلك غيره وأسلكه * (من كل زوجين اثنين) * أي من كل زوجين من الحيوان الذي يحضره في الوقت اثنين الذكر والأنثى لكي لا ينقطع نسل ذلك الحيوان، وكل واحد منهما زوج لا كما تقوله العامة من أن الزوج هو الاثنان، روي أنه لم يحمل إلا ما يلد ويبيض، وقرئ من كل بالتنوين، أي من كل أمة زوجين، واثنين تأكيد وزيادة بيان.
أما قوله: * (وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم) * أي وأدخل أهلك ولفظ على إنما يستعمل في المضار. قال تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * (البقرة: 286) واعلم أن هذه الآية تدل على أمرين أحدهما: أنه سبحانه أمره بإدخال سائر من آمن به وإن لم يكن من أهله، وقيل المراد بأهله من آمن دون من يتصل به نسبا أو سببا وهذا ضعيف. وإلا لما جاز استثناء قوله: * (إلا من سبق عليه القول) * والثاني: أنه قال: * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) * يعني كنعان فإنه سبحانه لما أخبر بإهلاكهم وجب أن ينهاه عن أن يسأله في بعضهم لأنه إن أجابه إليه، فقد صير خبره الصدق كذبا، وإن لم يجبه إليه كان ذلك تحقيرا لشأن نوح عليه السلام فلذلك قال: * (إنهم مغرقون) * أي الغرق نازل بهم لا محالة.
94

أما قوله: * (فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان في السفينة ثمانون إنسانا، نوح وامرأته سوى التي غرقت، وثلاثة بنين: سام وحام ويافث، وثلاث نسوة لهم، واثنان وسبعون إنسانا فكل الخلائق نسل من كان في السفينة.
أما قوله: * (فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: إنما قال: * (فقل) * ولم يقل فقولوا لأن نوحا كان نبيا لهم وإماما لهم، فكان قوله قولا لهم مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوة وإظهار كبرياء الربوبية، وأن رتبة تلك المخاطبة لا يترقى إليها إلا ملك أو نبي.
المسألة الثانية: قال قتادة علمكم الله أن تقولوا عند ركوب السفينة * (بسم الله مجراها ومرساها) * (هود: 41) وعند ركوب الدابة * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) * (الزخرف: 13) وعند النزول * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) * (المؤمنون: 29) قال الأنصاري: وقال لنبينا * (وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) * (الإسراء: 80) وقال: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان) * (النحل: 98) كأنه سبحانه أمرهم أن لا يكونوا عن ذكره وعن الاستعاذة به في جميع أحوالهم غافلين.
المسألة الثالثة: هذه مبالغة عظيمة في تقبيح صورتهم حيث أتبع النهي عن الدعاء لهم الأمر بالحمد على إهلاكهم والنجاة منهم كقوله تعالى: * (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) * (الأنعام: 45) وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق لأنه سبحانه كان عرفه أنه بذلك ينجيه ومن تبعه، فيصح أن يقول: * (نجانا) * من حيث جعله آمنا بهذا الفعل ووصف قومه بأنهم الظالمون لأن الكفر منهم ظلم لأنفسهم لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان: 13) ثم إنه سبحانه بعد أن أمره بالحمد على إهلاكهم أمره بأن يدعو لنفسه فقال: * (وقل رب أنزلني منزلا مباركا) * وقرئ * (منزلا) * بمعنى إنزالا أو موضع إنزال كقوله ليدخلنهم مدخلا يرضونه. واختلفوا في المنزل على قولين: أحدهما: أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك والثاني: أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلا مباركا والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة، فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره. ثم بين سبحانه بقوله: * (وأنت خير المنزلين) * أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة، ثم بين سبحانه أن فيما ذكره من قصة نوح وقومه لآيات ودلالات وعبرا في الدعاء إلى الإيمان والزجر عن الكفر فإن إظهار تلك المياه العظيمة ثم الإذهاب بها لا يقدر عليه إلا القادر على كل المقدورات، وظهور تلك الواقعة على وفق قول نوح عليه السلام يدل على المعجز العظيم وإفناء الكفار وبقاء الأرض لأهل الدين والطاعة من أعظم أنواع العبر.
أما قوله: * (وإن كنا لمبتلين) * فيمكن أن يكون المراد، وإن كنا لمبتلين فيما قبل، ويحتمل أن
95

يكون وإن كنا لمبتلين فيما بعد، وهذا هو الأقرب لأنه كالحقيقة في الاستقبال، وإذا حمل على ذلك احتمل وجوها: أحدها: أن يكون المراد المكلفين في المستقبل أي فيجب فيمن كلفناه أن يعتبر بهذا الذي ذكرناه وثانيها: أن يكون المراد لمعاقبين لمن سلك في تكذيب الأنبياء مثل طريقة قوم نوح وثالثها: أن يكون المراد كما نعاقب من كذب بالغرق وغيره فقد نمتحن بالغرق من لم يكذب على وجه المصلحة لا على وجه التعذيب، لكي لا يقدر أن كل الغرق يجري على وجه واحد.
القصة الثانية - قصة هود أو صالح عليهما السلام
قوله تعالى
* (ثم أنشأنا من بعدهم قرنا ءاخرين * فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون * وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقآء الاخرة وأترفناهم فى الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا الخاسرون * أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات لما توعدون * إن هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين * إن هو إلا رجل افترى على
96

الله كذبا وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرنى بما كذبون * قال عما قليل ليصبحن نادمين * فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثآء فبعدا للقوم الظالمين) *.
اعلم أن هذه القصة هي قصة هود عليه السلام في قول ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين واحتجوا عليه بحكاية الله تعالى قول هود عليه السلام: * (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح) * (الأعراف: 69) ومجئ قصة هود عقيب قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود والشعراء. وقال بعضهم المراد بهم صالح وثمود، لأن قومه الذين كذبوه هم الذين هلكوا بالصيحة، أما كيفية الدعوى فكما تقدم في قصة نوح عليه السلام وههنا سؤالات:
السؤال الأول: حق * (أرسل) * أن يتعدى بإلى كأخواته التي هي وجه وأنفذ وبعث فلم عدى في القرآن بإلى تارة وبفي أخرى كقوله تعالى: * (كذلك أرسلناك في أمة) * * (وما أرسلنا في قرية) * (الأعراف: 94) * (فأرسلنا فيهم رسولا) * (المؤمنون: 32) أي في عاد، وفي موضع آخر * (وإلى عاد أخاهم هودا) * (هود: 50)؟ الجواب: لم يعد بفي كما عدي بإلى ولكن الأمة أو القرية جعلت موضعا للإرسال وعلى هذا المعنى جاء بعث في قوله: * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) * (الفرقان: 51). السؤال الثاني: هل يصح ما قاله بعضهم أن قوله: * (أفلا تتقون) * غير موصول بالأول، وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه، وردوا عليه بعد إقامة الحجة عليهم فعند ذلك قال لهم مخوفا مما هم عليه * (أفلا تتقون) * هذه الطريقة مخافة العذاب الذي أنذرتكم به؟ الجواب: يجوز أن يكون موصولا بالكلام الأول بأن رآهم معرضين عن عبادة الله مشتغلين بعبادة الأوثان، فدعاهم إلى عبادة الله وحذرهم من العقاب بسبب إقبالهم على عبادة الأوثان. ثم اعلم أن الله تعالى حكى صفات أولئك القوم وحكى كلامهم، أما الصفات فثلاث هي شر الصفات: أولها: الكفر بالخالق سبحانه وهو المراد من قوله: * (كفروا) * وثانيها: الكفر بيوم القيامة وهو المراد من قوله: * (وكذبوا بلقاء الآخرة) * وثالثها: الانغماس في حب الدنيا وشهواتها وهو المراد من قوله: * (وأترفناهم في الحياة الدنيا) * أي نعمناهم فإن قيل ذكر الله مقالة قوم هود في جوابه في سورة الأعراف وسورة هود بغير واو * (قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة) * (الأعراف: 66)، قالوا * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) * (هود: 27) وههنا مع الواو فأي فرق بينهما؟ قلنا الذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال فما قال قومه؟ فقيل له كيت
وكيت، وأما الذي مع الواو فعطف لما قالوه على ما قاله ومعناه أنه اجتمع في هذه الواقعة هذا الكلام الحق وهذا الكلام الباطل. وأما شبهات القوم فشيئان: أولهما: قولهم: * (ما هذا إلا بشر
97

مثلكم يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون) *، وقد مر شرح هذه الشبهة في القصة الأولى وقوله: * (مما تشربون) * أي من مشروبكم أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه وهو قوله: * (ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون) * فجعلوا اتباع الرسول خسرانا، ولم يجعلوا عبادة الأصنام خسرانا، أي لئن كنتم أعطيتموه الطاعة من غير أن يكون لكم بإزائها منفعة فذلك هو الخسران وثانيهما: أنهم طعنوا في صحة الحشر والنشر، ثم طعنوا في نبوته بسبب إتيانه بذلك. أما الطعن في صحة الحشر فهو قولهم: * (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) * معادون أحياء للمجازاة، ثم لم يقتصروا على هذا القدر حتى قرنوا به الاستبعاد العظيم وهو قولهم * (هيهات هيهات لما توعدون) * ثم أكدوا الشبهة بقولهم: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) * ولم يريدوا بقولهم نموت ونحيا الشخص الواحد، بل أرادوا أن البعض يموت والبعض يحيا، وأنه لا إعادة ولا حشر. فلذلك قالوا: * (وما نحن له بمبعوثين) * ولما فرغوا من الطعن في صحة الحشر بنوا عليه الطعن في نبوته، فقالوا لما أتى بهذا الباطل فقد * (افترى على الله كذبا) * ثم لما قرروا الشبهة الطاعنة في نبوته قالوا: * (وما نحن له بمؤمنين) * لأن القوم كالتبع لهم، واعلم أن الله تعالى ما أجاب عن هاتين الشبهتين لظهور فسادهما أما الشبهة الأولى: فقد تقدم بيان ضعفها وأما الثانية: فلأنهم استبعدوا الحشر، ولا يستبعد الحشر لوجهين: الأول: أنه سبحانه لما كان قادرا على كل الممكنات عالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على الحشر والنشر والثاني: وهو أنه لولا الإعادة لكن تسليط القوى على الضعيف في الدنيا ظلما. وهو غير لائق بالحكيم على ما قرره سبحانه في قوله: * (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزي كل نفس بما تسعى) * (طه: 15) وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ثنى إنكم للتوكيد وحسن ذلك الفصل ما بين الأول والثاني بالظرف، ومخرجون خبر عن الأول. وفي قراءة ابن مسعود: * (وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون) * (المؤمنون: 35).
المسألة الثانية: قرىء * (هيهات) * بالفتح والكسر، كلها بتنوين وبلا تنوين، وبالسكون على لفظ الوقف.
المسألة الثالثة: هي في قوله: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * ضمير لا يعلم ما يعني به إلا بما يتلوه من بيانه وأصله: إن الحياة إلا حياتنا الدنيا، ثم وضع هي موضع الحياة، لأن الخبر يدل عليه ومنه (قول الشاعر):
والمعنى لا حياة إلا هذه الحياة، ولأن إن النافية دخلت على هي التي في معنى الحياة الدالة على الجنس فنفتها، فوازنت لا التي نفت ما بعدها نفي الجنس.
واعلم أن ذلك الرسول لما يئس من قبول الأكابر والأصاغر فزع إلى ربه وقال: * (رب انصرني بما كذبون) * وقد تقدم تفسيره فأجابه الله تعالى فيما سأل وقال: * (عما قليل ليصبحن نادمين) * (المؤمنون: 40)
98

والأقرب أن يكون المراد بأن يظهر لهم علامات الهلاك، فعند ذلك يحصل منهم الحسرة والندامة على ترك القبول، ويكون الوقت وقت إيمان اليأس فلا ينتفعون بالندامة، وبين تعالى الهلاك الذي أنزله عليهم بقوله: * (فأخذتهم الصيحة بالحق) * وذكروا في الصيحة وجوها: أحدها: أن جبريل عليه السلام صاح بهم، وكانت الصيحة عظيمة فماتوا عندها وثانيها: الصيحة هي الرجفة عن ابن عباس رضي الله عنهما وثالثها: الصيحة هي نفس العذاب والموت كما يقال فيمن يموت: دعي فأجاب عن الحسن ورابعها: أنه العذاب المصطلم، قال الشاعر: صاخ الزمان بآل برمك صيحة * خروا لشدتها على الأذقان
والأول أولى لأنه هو الحقيقة.
وأما قوله: * (بالحق) * فمعناه أنه دمرهم بالعدل من قولك، فلان يقضي بالحق إذا كان عادلا في قضاياه. وقال المفضل: بالحق أي بما لا يدفع، كقوله: * (وجاءت سكرة الموت بالحق) *.
أما قوله: * (فجعلناهم غثاء) * فالغثاء حميل السيل مما بلي واسود من الورق والعيدان، ومنه قوله تعالى: * (فجعله غثاء أحوى) *.
وأما قوله تعالى: * (فبعدا للقوم الظالمين) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قوله: * (بعدا) * وسحقا ودمرا ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها، وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها ومعنى بعدا بعدوا، أي هلكوا يقال بعد بعدا وبعدا بفتح العين نحو رشد رشدا ورشدا بفتح الشين والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: * (بعدا) * بمنزلة اللعن الذي هو التبعيد من الخير، والله تعالى ذكر ذلك على وجه الاستخفاف والإهانة لهم، وقد نزل بهم العذاب دالا بذلك على أن الذي ينزل بهم في الآخرة من البعد من النعيم والثواب أعظم مما حل بهم حالا ليكون ذلك عبرة لمن يجيء بعدهم. القصة الثالثة
قوله تعالى
* (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا ءاخرين * ما تسبق من أمة أجلها وما يستاخرون * ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جآء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون) *.
99

إعلم أنه سبحانه يقص القصص في القرآن تارة على سبيل التفصيل كما تقدم وأخرى على سبيل الإجمال كههنا، وقيل المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام.
فأما قوله: * (ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين) * فالمعنى أنه ما أخلى الديار من مكلفين أنشأهم وبلغهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كان قبلهم في عمارة الدنيا.
أما قوله: * (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) * فيحتمل في هذا الأجل أن يكون المراد آجال حياتها وتكليفها، ويحتمل آجال موتها وهلاكها، وإن كان الأظهر في الأجل إذا أطلق أن يراد به وقت الموت، فبين أن كل أمة لها آجال مكتوبة في الحياة والموت، لا يتقدم ولا يتأخر، منبها بذلك على أنه عالم بالأشياء قبل كونها، فلا توجد إلا على وفق العلم، ونظيره قوله تعالى: * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون) * وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: قال أصحابنا: هذه الآية تدل على أن المقتول ميت بأجله إذ لو قتل قبل أجله لكان قد تقدم الأجل أو تأخر، وذلك ينافيه هذا النص.
المسألة الثانية: قال الكعبي: المراد من قوله: * (ما تسبق من أمة) * أي لا يتقدمون الوقت المؤقت لعذابهم إن لم يؤمنوا ولا يتأخرون عنه، ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم، ولا ضرر على أحد في هلاكهم، وهو كقول نوح عليه السلام: * (إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) * (نوح: 27).
أما قوله تعالى: * (ثم أرسلنا رسلنا تترا) * فالمعنى أنه كما أنشأنا بعضهم بعد بعض أرسل إليهم الرسل على هذا الحد قرأ ابن كثير تترى منونة والباقون بغير تنوين وهو اختيار أكثر أهل اللغة لأنها فعلى من المواترة وهي المتابعة وفعلى لا ينون كالدعوى والتقوى والتاء بدل من الواو فإنه مأخوذ من الوتر وهو الفرد، قال الواحدي تترى على القراءتين مصدر أو اسم أقيم مقام الحال لأن المعنى متواترة.
أما قوله تعالى: * (كلما جاء أمة رسولها كذبوه) * (المؤمنون: 44) يعني أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من تقدم ذكره ممن أهلكه الله بالغرق والصيحة فلذلك قال: * (فأتبعنا بعضهم بعضا) * أي بالهلاك.
(وقوله): * (وجعلناهم أحاديث) * يمكن أن يكون المراد جمع الحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أنه سبحانه بلغ في إهلاكهم مبلغا صاروا معه أحاديث فلا يرى منهم عين ولا أثر ولم يبق منهم إلا الحديث الذي يذكر ويعتبر به.
ويمكن أيضا أن يكون جمع أحدوثة مثل الأضحوكة والأعجوبة، وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا.
ثم قال: * (فبعدا لقوم لا يؤمنون) * على وجه الدعاء والذم والتوبيخ، ودل بذلك على أنهم كما أهلكوا عاجلا فهلاكهم بالتعذيب آجلا على التأبيد مترقب وذلك وعيد شديد.
100

القصة الرابعة - قصة موسى عليه السلام
قوله تعالى
* (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون باياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين * فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون * فكذبوهما فكانوا من المهلكين * ولقد ءاتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) *.
اختلفوا في * (الآيات) * فقال ابن عباس رضي الله عنهما هي الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم وانفلاق البحر والسنون والنقص من الثمرات، وقال الحسن قوله: * (بآياتنا) * أي بديننا واحتج بأن المراد بالآيات لو كانت هي المعجزات والسلطات المبين أيضا هو المعجز فحينئذ يلزم عطف الشيء على نفسه والأقرب هو الأول لأن لفظ الآيات إذا ذكر في الرسل فالمراد منها المعجزات، وأما الذي احتجوا به فالجواب: عنه من وجوه: أحدها: أن المراد بالسلطان المبين يجوز أن يكون أشرف معجزاته وهو العصا لأنه قد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها بها وكونها حارسا وشمعة وشجرة مثمرة ودلوا ورشاء، فلأجل انفراد العصا بهذه الفضائل أفردت بالذكر كقوله جبريل وميكال وثانيها: يجوز أن يكون المراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق، وذلك لأنها وإن شاركت سائر آيات الأنبياء في كونها آيات فقد فارقتها في قوة دلالتها على قوة موسى عليه السلام وثالثها: أن يكون المراد بالسلطان المبين استيلاء موسى عليه السلام عليهم في الاستدلال على وجود الصانع وإثبات النبوة وأنه ما كان يقيم لهم قدرا ولا وزنا.
واعلم أن الآية تدل على أن معجزات موسى عليه السلام كانت معجزات هارون عليه السلام أيضا، وأن النبوة كما أنها مشتركة بينهما فكذلك المعجزات، ثم إنه سبحانه حكى عن فرعون وقومه صفتهم ثم ذكر شبهتهم أما صفتهم فأمران أحدهما: الاستكبار والأنفة والثاني: أنهم كانوا قوما عالين أي رفيعي الحال في أمور الدنيا، ويحتمل الاقتدار بالكثرة والقوة وأما شبهتهم فهي
101

قولهم: * (أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون) * قال صاحب " الكشاف " لم يقل مثلينا كما قال: * (إنكم إذا مثلهم) * (النساء: 14) ولم يقل أمثالهم وقال: * (كنتم خير أمة) * (آل عمران: 110) ولم يقل أخيار أمة كل ذلك لأن الإيجاز أحب إلى العرب من الإكثار والشبهة مبنية على أمرين: أحدهما: كونهما من البشر وقد تقدم الجواب عنه والثاني: أن قوم موسى وهارون كانوا كالخدم والعبيد لهم قال أبو عبيدة العرب تسمى كل من دان لملك عابدا له ويحتمل أن يقال إنه كان يدعي الإلهية فادعى أن الناس عباده وأن طاعتهم له عبادة على الحقيقة ثم بين سبحانه أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب وهو المراد من قوله: * (فكذبوهما) *.
ولما كان ذلك التكذيب كالعلة لكونهم من المهلكين لا جرم رتبه عليه بفاء التعقيب فقال وكانوا ممن حكم الله عليهم بالغرق فإن حصول الغرق لم يكن حاصلا عقيب التكذيب
، إنما الحاصل عقيب التكذيب حكم الله تعالى بكونهم كذلك في الوقت اللائق به.
أما قوله: * (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) * فقال القاضي معناه أنه سبحانه خص موسى عليه السلام بالكتاب الذي هو التوراة لا لذلك التكذيب لكن لكي يهتدوا به فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا أن يهلكوا، واعترض صاحب " الكشاف " عليه فقال لا يجوز أن يرجع الضمير في لعلهم إلى فرعون وملائه لأن التوراة إنما أوتيها بنو إسرائيل بعد إغراق فرعون وملائه بدليل قوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) * (القصص: 43) بل المعنى الصحيح: ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يعملون بشرائعها ومواعظها فذكر موسى والمراد آل موسي كما يقال هاشم وثقيف والمراد قولهما. القصة الخامسة - قصة عيسى وقصة مريم عليهما السلام
قوله تعالى
* (وجعلنا بن مريم وأمه ءاية وءاويناهمآ إلى ربوة ذات قرار ومعين) *.
اعلم أن ابن مريم هو عيسى عليه السلام جعله الله تعالى آية بأن خلقه من غير ذكر وأنطقه في المهد في الصغر وأجرى على يديه إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وأما مريم فقد جعلها الله تعالى آية لأنها حملته من غير ذكر. وقال الحسن تكلمت مريم في صغرها كما تكلم عيسى عليه السلام وهو قولها: * (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * (آل عمران: 37) ولم تلقم ثديا قط، قال القاضي إن ثبت ذلك فهو معجزة لزكريا عليه السلام لأنها لم تكن نبية، قلنا القاضي إنما قال ذلك لأن عنده الإرهاص غير جائز وكرامات الأولياء غير جائزة وعندنا هما جائزان فلا حاجة إلى ما قال، والأقرب أنه جعلهما آية بنفس الولادة لأنه ولد من غير ذكر وولدته من دون ذكر فاشتركا جميعا في هذا الأمر العجيب الخارق للعادة والذي يدل على أن هذا التفسير أولى وجهان: أحدهما: أنه تعالى
102

قال: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * لأن نفس الإعجاز طهر فيهما لا أنه ظهر على يدهما وهذا أولى من أن يحمل على الآيات التي ظهرت على يده نحو إحياء الموتى وذلك لأن الولادة فيه وفيها آية فيهما وكذلك أن نطقا في المهد وما عدا ذلك من الآيات ظهر على يده لا أنه آية فيه الثاني: أنه تعالى قال آية ولم يقل آيتين، وحمل هذا اللفظ على الأمر الذي لا يتم إلا بمجموعهما أولى وذلك هو أمر الولادة لا المعجزات التي كان عيسى عليه السلام مستقلا بها.
أما قوله تعالى: * (وآويناهما إلى ربوة ذات قرار) * أي جعلنا مأواهما الربوة والربوة والرباوة في راءيهما الحركات الثلاث وهي الأرض المرتفعة، ثم قال قتادة وأبو العالية هي إيلياء أرض بيت المقدس، وقال أبو هريرة رضي الله عنه إنها الرملة. وقال الكلبي وابن زيد هي بمصر وقال الأكثرون إنها دمشق وقال مقاتل والضحاك هي غوطة دمشق، والقرار المستقر من (كل) أرض مستوية مبسوطة، وعن قتادة ذات ثمار وماء، يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض. فنبه سبحانه على كمال نعمه عليها بهذا اللفظ على اختصاره. ثم في المعين قولان: أحدهما: أنه مفعول لأنه لظهوره يدرك بالعين من عانه إذا أدركه بعينه وقال الفراء والزجاج إن شئت جعلته فعيلا من الماعون ويكون أصله من المعن والماعون فاعول منه قال أبو علي والمعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى والماعون ما سهل على معطيه، ثم قالوا وسبب الإيواء أنها فرت بإبنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بهما ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد أن مات ملكهم، وههنا آخر القصص والله أعلم.
قوله تعالى
* (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إنى بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون * فذرهم فى غمرتهم حتى حين * أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم فى الخيرات بل لا يشعرون) *.
103

إعلم أن ظاهر قوله: * (يا أيها الرسل) * خطاب مع كل الرسل وذلك غير ممكن لأن الرسل إنما أرسلوا متفرقين في أزمنة متفرقة مختلفة فكيف يمكن توجيه هذا الخطاب إليهم، فلهذا الإشكال اختلفوا في تأويله على وجوه: أحدها: أن المعنى الإعلام بأن كل رسول فهو في زمانه نودي بهذا المعنى ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل ووصوا به حقيق بأن يؤخذ به ويعمل عليه وثانيها: أن المراد نبينا عليه الصلاة والسلام لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل، وإنما ذكر على صيغة الجمع كما يقال للواحد أيها القوم كفوا عني أذاكم ومثله * (الذين قال لهم الناس) * (آل عمران: 173) وهو نعيم بن مسعود كأنه سبحانه لما خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك بين أن الرسل بأسرهم لو كانوا حاضرين مجتمعين لما خوطبوا إلا بذلك ليعلم رسولنا أن هذا التثقيل ليس عليه فقط، بل لازم على جميع الأنبياء عليهم السلام وثالثها: وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى عليه السلام لأنه إنما ذكر ذلك بعدما ذكر مكانه الجامع للطعام والشراب ولأنه روى أن عيسى عليه السلام كان يأكل من غزل أمه، والقول الأول أقرب لأنه أوفق للفظ الآية، ولأنه روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره وهو صائم فرده الرسول إليها وقال من أين لك هذا؟ فقالت من شاة لي، ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال عليه السلام بذلك أمرت الرسل أن لا يأكلوا إلا طيبا ولا يعملوا إلا صالحا.
أما قوله تعالى: * (من الطيبات) * ففيه وجهان: الأول: أنه الحلال وقيل طيبات الرزق حلال وصاف وقوام فالحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي الذي لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل والثاني: أنه المستطاب المستلذ من المأكل والفواكه فبين تعالى أنه وإن ثقل عليهم بالنبوة وبما ألزمهم القيام بحقها، فقد أباح لهم أكل الطيبات كما أباح لغيرهم. واعلم أنه سبحانه كما قال المرسلين * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) * فقال للمؤمنين: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *، واعلم أن تقديم قوله: * (كلوا من الطيبات) * على قوله: * (واعملوا صالحا) * كالدلالة على أن العمل الصالح لا بد وأن يكون مسبوقا بأكل الحلال
، فأما قوله: * (إني بما تعملون عليم) * فهو تحذير من مخالفة ما أمرهم به وإذا كان ذلك تحذيرا للرسل مع علو شأنهم فبأن يكون تحذيرا لغيرهم أولى.
أما قوله: * (وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) * فقد فسرناه في سورة الأنبياء وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: المعنى أنه كما يجب اتفاقهم على أكل الحلال والأعمال الصالحة فكذلك هم متفقون على التوحيد وعلى الاتقاء من معصية الله تعالى. فإن قيل لما كانت شرائعهم مختلفة فكيف يكون دينهم واحدا؟ قلنا المراد من الدين ما لا يختلفون فيه من معرفة ذات الله تعالى وصفاته، وأما الشرائع فإن الاختلاف فيها لا يسمى اختلافا في الدين، فكما يقال في الحائض والطاهر
104

من النساء إن دينهن واحد وإن افترق تكليفهما فكذا ههنا، ويدل على ذلك قوله: * (وأنا ربكم فاتقون) * فكأنه نبه بذلك على أن دين الجميع واحد فيما يتصل بمعرفة الله تعالى واتقاء معاصيه فلا مدخل للشرائع، وإن اختلفت في ذلك.
المسألة الثانية: قرىء وإن بالكسر على الاستئناف وإن بمعنى ولأن وإن مخففة من الثقيلة وأمتكم مرفوعة معها.
أما قوله تعالى: * (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) * فالمعنى فإن أمم الأنبياء عليهم السلام تقطعوا أمرهم بينهم وفي قوله: * (فتقطعوا) * معنى المبالغة في شدة اختلافهم والمراد بأمرهم ما يتصل بالدين.
أما قوله * (زبرا) * فقرئ زبرا جمع زبور أي كتبا مختلفة يعني جعلوا دينهم أديانا وزبرا قطعا استعيرت من زبر الفضة والحديد وزبرا مخففة الباء كرسل في رسل قال الكلبي ومقاتل والضحاك يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. أما قوله تعالى: * (كل حزب بما لديهم فرحون) * فمعناه أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر، ولما ذكر الله تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد، وقال: * (فذرهم في غمرتهم) * حين حتى الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: " فدع هؤلاء الكفار في جهلهم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامرا ساترا لعقولهم "، وعن علي عليه السلام: * (في غمراتهم حتى حين) * وذكروا في الحين وجوها: أحدها: إلى حين الموت وثانيها: إلى حين المعاينة وثالثها: إلى حين العذاب، والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام، والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة، وذلك يحصل إذا عرفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم، ويحصل أيضا عند المحاسبة في الآخرة، ويحصل عند عذاب القبر والمساءلة فيجب أن يحمل على كل ذلك.
ولما كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أن تلك النعم كالثواب المعجل لهم على أديانهم، فبين سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك، فقال: * (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات) * قرىء يمدهم ويسارع بالياء والفاعل هو الله سبحانه وفي المعنى وجهان: أحدهما: أن هدا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم في المعاصي، واستجرارا لهم في زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل للاستدراك لقوله: * (أيحسبون) * يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في ذلك، أهو استدراج أم مسارعة في الخير، وهذه الآية كقوله: * (ولا تعجبك أموالهم وأولادهم) * (التوبة: 85) روي عن يزيد بن ميسرة: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء " أيفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني " ثم تلا: * (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين) * وعن الحسن: لما أتى عمر بسوار كسرى فأخذه ووضعه في يد سراقة فبلغ منكبه. فقال عمر اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة
105

والسلام، كان يحب أن يصيب مالا لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه نظرا. ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك، اللهم لا يكن ذلك مكرا منك بعمر. ثم تلا: * (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين) * الوجه الثاني: وهو أنه سبحانه إنما أعطاهم هذه النعم ليكونوا فارغي البال، متمكنين من الاشتغال بكلف الحق، فإذا أعرضوا عن الحق والحالة هذه، كان لزوم الحجة عليهم أقوى، فلذلك قال: * (بل لا يشعرون) *.
قوله تعالى
* (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بايات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون مآ ءاتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون فى الخيرات وهم لها سابقون) *.
إعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله: * (أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين، نسارع لهم في الخيرات) * ثم قال: * (بل لا يشعرون) * بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة:
الصفة الأولى: قوله: * (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون) * والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف، فمنهم من قال: جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب، والمعنى الذين هم من عذاب ربهم مشفقون، وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة، والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته، جادون في طلب مرضاته. والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية، كان في نهاية الخوف من سخط الله عاجلا، ومن عقابه آجلا، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي. الصفة الثانية: قوله: * (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) * واعلم أن آيات الله تعالى هي المخلوقات الدالة على وجوده، والإيمان بها هو التصديق بها، والتصديق بها إن كان بوجودها فذلك معلوم بالضرورة، وصاحب هذا التصديق لا يستحق المدح، وإن كان بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع فذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر، وصاحبه لا بد وأن يصير عارفا
106

بوجود الصانع وصفاته، وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهرا وذلك هو الإيمان.
الصفة الثالثة: قوله: * (والذين هم بربهم لا يشركون) * وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله تعالى لأن ذلك داخل في قوله: * (والذين هم بآيات ربهم
يؤمنون) * بل المراد منه نفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه الله تعالى وطلب رضوانه والله أعلم.
الصفة الرابعة: قوله: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق الله تعالى: كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين: كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل، وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره، فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الأداء. وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله تعالى؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله تعالى ".
واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي.
والصفة الثانية: دلت على ترك الرياء في الطاعات.
والصفة الثالثة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا الله سبحانه الوصول إليها، فإن قيل: أفتقولون إن قوله: * (وقلوبهم وجلة) * يرجع إلى يؤتون، أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال؟ قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال، إذ المراد أن يؤدي ذلك على وجل من تقصيره، فيكون مبالغا في توفيته حقه، فأما إذا قرىء * (والذين يأتون ما أتوا) * فالقول فيه أظهر، إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل، فإنهم يقدمون عليه مع الوجل، ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال، وأن هناك لا تنفع الندامة، فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك. ثم إنه سبحانه لما ذكر هذه الصفات للمؤمنين المخلصين قال بعده: * (أولئك يسارعون في الخيرات) * وفيه وجهان: أحدهما: أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها ولكيلا تفوتهم دون الاحترام. والثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع ووجوه الإكرام، كما قال: * (فأتاهم الله ثواب الدنيا
107

وحسن ثواب الآخرة) * (آل عمران: 148). * (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * (العنكبوت: 27) لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها وتعجلوها، وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة، لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين وقرئ يسرعون في الخيرات.
أما قوله: * (وهم لها سابقون) * فالمعنى فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها أو وهم لها سابقون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر. والمعنى وهم لها كما يقال أنت لها وهي لك، ثم قال سابقون أي وهم سابقون.
قوله تعالى
* (ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون * بل قلوبهم فى غمرة من هذا ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون * حتى إذآ أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجارون * لا تجاروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) *.
اعلم أنه سبحانه لما ذكر كيفية أعمال المؤمنين المخلصين ذكر حكمين من أحكام أعمال العباد فالأول: قوله: * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) * وفي الوسع قولان: أحدهما: أنه الطاقة عن المفضل والثاني: أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي واحتجوا عليه بأن الوسع إنما سمى وسعا لأنه يتسع عليه فعله ولا يصعب ولا يضيق، فبين أن أولئك المخلصين لم يكلفوا أكثر مما عملوا. قال مقاتل من لم يستطع أن يصلي قائما فليصل جالسا ومن لم يستطع جالسا فليوم إيماء لأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، واستدلت المعتزلة به في نفي تكليف ما لا يطاق وقد تقدم القول فيه الثاني: قوله: * (ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون) * ونظيره قوله * (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) * (الجاثية: 29) وقوله: * (لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49).
واعلم أنه تعالى شبه الكتاب بمن يصدر عنه البيان فإن الكتاب لا ينطق لكنه يعرب بما فيه كما يعرب وينطق الناطق إذا كان محقا، فإن قيل هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه، فإن أحالوه عليه فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، وإن جوزوه عليه لم يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه
108

سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل. فعلى التقديرين لا فائدة في ذلك الكتاب؟ قلنا يفعل الله ما يشاء وعلى أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من الملائكة.
وأما قوله: * (وهم لا يظلمون) * فنظيره قوله: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * (الكهف: 49) فقالت المعتزلة الظلم إما أن يكون بالزيادة في العقاب أو بالنقصان من الثواب أو بأن يعذب على ما لم يعلم أو بأن يكلفهم ما لا يطيقون فتكون الآية دالة على كون العبد موجدا لفعله وإلا لكان تعذيبه عليه ظلما ودالة على أنه سبحانه لا يكلف ما لا يطاق الجواب: أنه لما كلف أبا لهب أن يؤمن، والإيمان يقتضي تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ومما أخبر عنه أن أبا لهب لا يؤمن فقد كلفه بأن يؤمن بأنه لا يؤمن فيلزمكم كل ما ذكرتموه.
وأما قوله تعالى: * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) * ففيه قولان: أحدهما: أنه راجع إلى الكفار وهم الذين يليق بهم قوله: * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) * ولا يليق ذلك بالمؤمنين إذ المراد في غمرة من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الكتاب الذي ينطق بالحق أو من هذا الذي هو وصف المشفقين ولهم أي لهؤلاء الكفار أعمال من دون ذلك أي أعمال سوى ذلك أي سوى جهلهم وكفرهم ثم قال بعضهم أراد أعمالهم في الحال، وقال بعضهم بل أراد المستقبل وهذا أقرب لأن قوله: * (هم لها عاملون) * إلى الاستقبال أقرب وإنما قال: * (هم لها عاملون) * لأنها مثبتة في علم الله تعالى وفي حكم الله وفي اللوح المحفوظ، فوجب أن يعملوها ليدخلوا بها النار
لما سبق لهم من الله من الشقاوة القول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم: * (ولا نكلف نفسا إلا وسعها) * ونهايته ما أتى به هؤلاء المشفقون * (ولدينا كتاب) * يحفظ أعمالهم * (ينطق بالحق وهم لا يظلمون) * بل نوفر عليهم ثواب كل أعمالهم * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) * هو أيضا وصف لهم بالحيرة كأنه قال وهم مع ذلك الوجل والخوف كالمتحيرين في جعل أعمالهم مقبولة أو مردودة ولهم أعمال من دون ذلك أي لهم أيضا من النوافل ووجوه البر سوى ما هم عليه إما أعمالا قد عملوها في الماضي أو سيعملونها في المستقبل، ثم إنه سبحانه رجع بقوله: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) * إلى وصف الكفار.
واعلم أن قول أبي مسلم أولى لأنه إذا أمكن رد الكلام إلى ما يتصل به من ذكر المشفقين كان أولى من رده إلى ما بعد منه خصوصا، وقد يرغب المرء في فعل الخير بأن يذكر أن أعماله محفوظة كما قد يحذر بذلك من الشر، وقد يوصف المرء لشدة فكره في أمر آخرته بأن قلبه في غمرة ويراد أنه قد استولى عليه الفكر في قبول عمله أورده وفي أنه هل أداه كما يجب أو قصر. فإن قيل فما المراد بقوله من هذا، وهو إشارة إلى ماذا؟ قلنا هو إشارة إلى إشفاقهم ووجلهم مع أنهما مستوليان على قلوبهم.
أما قوله تعالى: * (حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب) * فقال صاحب " الكشاف " حتى هذه هي التي
109

يبتدأ بعدها الكلام والكلام الجملة الشرطية.
واعلم أنه لا شبهة (في) أن الضمير في مترفيهم راجع إلى من تقدم ذكره من الكفار لأن العذاب لا يليق إلا بهم وفي هذا العذاب وجهان: أحدهما: أراد بالعذاب ما نزل بهم يوم بدر والثاني: أنه عذاب الآخرة ثم بين سبحانه أن المنعمين منهم إذا نزل بهم العذاب يجأرون أي يرتفع صوتهم بالاستغاثة والضجيج لشدة ما هم عليه ويقال لهم على وجه التبكيت * (لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون) * فلا يدفع عنكم ما يريد إنزاله بكم، دل بذلك سبحانه على أنهم سينتهون يوم القيامة إلى هذه الدرجة من الحسرة والندامة وهو كالباعث لهم في الدنيا على ترك الكفر والإقدام على الإيمان والطاعة فإنهم الآن ينتفعون بذلك.
قوله تعالى
* (قد كانت ءاياتى تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون * أفلم يدبروا القول أم جآءهم ما لم يأت ءابآءهم الاولين * أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون * أم يقولون به جنة بل جآءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون * ولو اتبع الحق أهوآءهم لفسدت السماوات والارض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون * أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين) *.
اعلم أنه سبحانه لما بين فيما قبل أنه لا ينصر أولئك الكفار أتبعه بعلة ذلك وهي أنه متى تليت آيات الله عليهم أتوا بأمور ثلاثة: أحدها: أنهم كانوا على أعقابهم ينكصون وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد وهو قوله: * (فكنتم على أعقابكم تنكصون) * أي تنفرون عن تلك الآيات وعمن يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه وثانيها: قوله: * (مستكبرين به) * والهاء
110

في به إلى ماذا تعود؟ فيه وجوه: أولها: إلى البيت العتيق أو الحرم كانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم والذي يسوغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت وإن لم يكن لهم مفخرة إلا أنهم ولاته والقائمون به وثانيها: المراد مستكبرين بهذا التراجع والتباعد وثالثها: أن تتعلق الباء بسامرا أي يسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه، وهذا هو الأمر الثالث الذي يأتون به عند تلاوة القرآن عليهم، وكانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهجرون، والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع وقرئ سمرا وسامرا يهجرون من أهجر في منطقه إذا أفحش والهجر بالفتح الهذيان والهجر بالضم الفحش أو من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هدى. ثم إنه سبحانه لما وصف حالهم رد عليهم بأن بين أن إقدامهم على هذه الأمور لا بد وأن يكون لأحد أمور أربعة: أحدها: أن لا يتأملوا في دليل ثبوته وهو المراد من قوله: * (أفلا يتدبرون القرآن) * فبين أن القول الذي هو القرآن كان معروفا لهم وقد مكنوا من التأمل فيه من حيث كان مباينا لكلام العرب في الفصاحة، ومبرأ عن التناقض في طول عمره، ومن حيث ينبه على ما يلزمهم من معرفة الصانع ومعرفة الوحدانية فل لا يتدبرون فيه ليتركوا الباطل ويرجعوا إلى الحق وثانيها: أن يعتقدوا أن مجيء الرسل أمر على خلاف العادة وهو المراد من قوله: * (أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين) * وذلك لأنهم عرفوا بالتواتر أن الرسل كانت تتواتر على الأمم وتظهر المعجزات عليها وكانت الأمم بين مصدق ناج، وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال أفما دعاهم ذلك إلى تصديق الرسول وثالثها: أن لا يكونوا عالمين بديانته وحسن خصاله قبل ادعائه للنبوة وهو المراد من قوله: * (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) * نبه سبحانه بذلك على أنهم عرفوا منه قبل ادعائه الرسالة كونه في نهاية الأمانة والصدق وغاية الفرار من الكذب والأخلاق الذميمة فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على تسميته بالأمين ورابعها: أن يعتقدوا فيه الجنون فيقولون إنما حمله على ادعائه الرسالة جنونه وهو المراد من قوله: * (أم يقولون به جنة) * وهذا أيضا ظاهر الفساد لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعفل الناس، والمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتى به من الدلائل القاطعة والشرائع الكاملة، ولقد كان من المبغضين له عليه السلام من سماه بذلك وفيه وجهان: أحدهما: أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم فنسبوه إلى الجنون لذلك والثاني: أنهم قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار له. ثم إنه سبحانه بعد أن عد هذه الوجوه، ونبه على فسادها قال: * (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) * من حيث تمسكوا بالتقليد ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لزالت مناصبهم ولاختلت رياساتهم فلذلك كرهوه فإن قيل قوله: * (وأكثرهم) * فيه دليل على أن أقلهم لا يكرهون الحق، قلنا كان فيهم من يترك الإيمان أنفة من توبيخ قومه وأن
111

يقولوا ترك دين آبائه لا كراهة للحق كما حكى عن أبي طالب ثم بين سبحانه أن الحق لا يتبع الهوى، بل الواجب على المكلف أن يطرح الهوى ويتبع الحق فبين سبحانه
أن اتباع الهوى يؤدي إلى الفساد العظيم فقال: * (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) * وفي تفسيره وجوه: الأول: أن القوم كانوا يرون أن الحق في اتخاذ آلهة مع الله تعالى، لكن لو صح ذلك لوقع الفساد في السماوات والأرض على ما قررناه في دليل التمانع في قوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) والثاني: أن أهواءهم في عبادة الأوثان وتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وهما منشأ المفسدة، والحق هو الإسلام. فلو اتبع الإسلام قولهم لعلم الله حصول المفاسد عند بقاء هذا العالم، وذلك يقتضي تخريب العالم وإفناءه والثالث: أن آراءهم كانت متناقضة فلو اتبع الحق أهواءهم لوقع التناقض ولاختل نظام العالم عن القفال.
أما قوله: * (بل أتيناهم بذكرهم) * فقيل إنه القرآن والأدلة وقيل بل شرفهم وفخرهم بالرسول وكلا القولين متقارب لأن في مجيء الرسول بيان الأدلة وفي مجيء الأدلة بيان الرسول فأحدهما مقرون بالآخر، وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير، وقيل هو الذي كانوا يتمنونه ويقولون: * (لو أن عندنا ذكرا من الأولين، لكنا عباد الله المخلصين) * (الصافات: 168، 169) وقرئ بذكراهم. ثم بين سبحانه أنه عليه الصلاة والسلام لا يطمع فيهم حتى يكون ذلك سببا للنفرة فقال: * (أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير) * وقرئ خراجا، قال أبو عمرو بن العلاء الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه والوجه أن الخرج أخص من الخراج كقولك خراج القرية وخرج الكردة زيادة اللفظ لزيادة المعنى ولذلك حسنت قراءة من قرأ * (خرجا فخراج ربك) * يعني أم تسألهم على هدايتهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخلق خير. فنبه سبحانه بذلك على أن هذه التهمة بعيدة عنه، فلا يجوز أن ينفروا عن قبول قوله لأجلها. فنبه سبحانه بهذه الآيات على أنهم غير معذورين البتة وأنهم محجوجون من جميع الوجوه، قال الجبائي دل قوله تعالى: * (وهو خير الرازقين) * على أن أحدا من العباد لا يقدر على مثل نعمه ورزقه ولا يساويه في الإفضال على عباده ودل أيضا على أن العباد قد يرزق بعضهم بعضا ولولا ذلك لما جاز أن يقول: * (وهو خير الرازقين) *.
قوله تعالى
* (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالاخرة عن الصراط لناكبون * ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا فى طغيانهم يعمهون) *.
112

إعلم أنه سبحانه وتعالى لما زيف طريقة القوم أتبعه ببيان صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) * لأن ما دل الدليل على صحته فهو في باب الاستقامة أبلغ من الطريق المستقيم * (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) * أي لعادلون عن هذا الطريق، لأن طريق الاستقامة واحدة وما يخالفه فكثير.
أما قوله تعالى: * (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) * ففيه وجوه: أحدها: المراد ضرر الجوع وسائر مضار الدنيا وثانيها: المراد ضرر القتل والسبي وثالثها: أنه ضرر الآخرة وعذابها فبين أنهم قد بلغوا في التمرد والعناد المبلغ الذي لا مرجع فيه إلى دار الدنيا، وأنهم * (لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28) لشدة لجاجهم فيما هم عليه من الكفر.
أما قوله تعالى: * (للجوا في طغيانهم يعمهون) * فالمعنى لتمادوا في ضلالهم وهم متحيرون.
قوله تعالى
* (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون * حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون * وهو الذى أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون * وهو الذى ذرأكم فى الارض وإليه تحشرون * وهو الذى يحى ويميت وله اختلاف اليل والنهار أفلا تعقلون) *.
اختلفوا في قوله: * (ولقد أخذناهم بالعذاب) * على وجوه: أحدها: أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة عن أهل مكة فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الجلود والجيف، فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ألست تزعم أنك بعثت رحمة العالمين، ثم قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فادع الله يكشف عنا هذا القحط. فدعا فكشف عنهم فأنزل الله هذه الآية، والمعنى أخذناهم بالجوع فما أطاعوا وثانيها: هو الذي نالهم يوم بدر من القتل والأسر، يعني أن ذلك مع شدته ما دعاهم إلى الإيمان عن الأصم وثالثها: المراد
113

من عذب من الأمم الخوالي * (فما استكانوا) * أي مشركي العرب لربهم عن الحسن ورابعها: أن شدة الدنيا أقرب إلى المكلف من شدة الآخرة، فإذا لم تؤثر فيهم شدة الدنيا فشدة الآخرة كذلك، وهذا يدل على أنهم * (لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28). أما قوله تعالى: * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) * ففيه وجهان: أحدهما: حتى إذا فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أشد من القتل والأسر والثاني: إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون كقوله: * (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون، لا يفتر عنهم، وهم مبلسون) * والإبلاس اليأس من كل خير، وقيل السكون مع التحسير. وههنا سؤالات:
السؤال الأول: ما وزن استكان؟ الجواب: استفعل من السكون أي انتقل من كون إلى كون، كما قيل استحال إذا انتقل من حال إلى حال، ويجوز أن يكون افتعل من السكون أشبعت فتحة عينه.
السؤال الثاني: لم جاء * (استكانوا) * بلفظ الماضي و * (يتضرعون) * بلفظ المستقبل؟ الجواب: لأن المعنى امتحناهم فما وجدنا منهم عقيب المحنة استكانة، وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى يفتح عليهم باب العذاب الشديد وقرئ فتحنا.
السؤال الثالث: العطف لا يحسن إلا مع المجانسة فأي مناسبة بين قوله: * (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار) * وبين ما قبله؟ الجواب: كأنه سبحانه لما بين مبالغة أولئك الكفار في الأعراض عن سماع الأدلة ورؤية العبر والتأمل في الحقائق قال للمؤمنين، وهو الذي أعطاكم هذه الأشياء ووقفكم عليها، تنبيها على أن من لم
يستعمل هذه الأعضاء فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى: * (فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله) * تنبيها على أن حرمان أولئك الكفار ووجدان هؤلاء المؤمنين ليس إلا من الله. واعلم أنه سبحانه بين عظيم نعمه من وجوه: أحدها: بإعطاء السمع والأبصار والأفئدة وخص هذه الثلاثة بالذكر لأن الاستدلال موقوف عليها، ثم بين أنه يقل منهم الشاكرون، قال أبو مسلم وليس المراد أن لهم شكرا وإن قل، لكنه كما يقال للكفور الجاحد للنعمة ما أقل شكر فلان وثانيها: قوله: * (وهو الذي ذرأكم في الأرض) * قيل في التفسير * (خلقكم) * قال أبو مسلم: ويحتمل بسطكم فيها ذرية بعضكم من بعض حتى كثرتم كقوله تعالى: * (ذرية من حملنا مع نوح) * (الإسراء: 3) فنقول: هو الذي جعلكم في الأرض متناسلين، ويحشركم يوم القيامة إلى دار لا حاكم فيها سواه، فجعل حشرهم إلى ذلك الموضع حشرا إليه لا بمعنى المكان وثالثها: قوله: * (وهو الذي يحيي ويميت) * أي نعمة الحياة وإن كانت من أعظم النعم فهي منقطعة وأنه سبحانه وإن أنعم بها فالمقصود منها الانتقال إلى دار الثواب ورابعها: قوله: * (وله اختلاف الليل والنهار) * ووجه النعمة بذلك معلوم، ثم إنه سبحانه حذر من ترك النظر في هذه الأمور فقال: * (أفلا تعقلون) * لأن ذلك دلالة الزجر والتهديد وقرئ * (أفلا يعقلون) *.
114

قوله تعالى
* (بل قالوا مثل ما قال الاولون * قالوا أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمبعوثون * لقد وعدنا نحن وءابآؤنا هذا من قبل إن هذآ إلا أساطير الاولين) *.
اعلم أنه سبحانه لما أوضح القول في دلائل التوحيد عقبه بذكر المعاد فقال: * (بل قالوا مثل ما قال الأولون) * في إنكار البعث مع وضوح الدلائل ونبه بذلك على أنهم إنما أنكروا ذلك تقليدا للأولين وذلك يدل على فساد القول بالتقليد، ثم حكى الشبهة عنهم من وجهين: أحدهما: قولهم: * (أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) * وهو مشهور وثانيهما: قولهم: * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) * كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه عليه الصلاة والسلام فقد وقع قديما من الأنبياء، ثم لم يوجد مع طول العهد، فظنوا أن الإعادة تكون في دار الدنيا، ثم قالوا لما كان كذلك فهو من أساطير الأولين والأساطير جمع أسطار والأسطار جمع سطر أي ما كتبه الأولون مما لا حقيقة له، وجمع أسطورة أوفق.
قوله تعالى
* (قل لمن الارض ومن فيهآ إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون * قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل فأنى تسحرون * بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون) *.
اعلم أنه يمكن أن يكون المقصود من هذه الآيات
115

الرد على منكري الإعادة وأن يكون المقصود الرد على عبدة الأوثان، وذلك لأن القوم كانوا مقرين بالله تعالى فقالوا نعبد الأصنام لتقربنا إلى الله زلفى، ثم إنه سبحانه احتج عليهم بأمور ثلاثة: أحدها: قوله: * (قل لمن الأرض ومن فيها) * ووجه الاستدلال به على الإعادة أنه تعالى لما كان خلقا للأرض ولمن فيها من الأحياء، وخالقا لحياتهم وقدرتهم وغيرها، فوجب أن يكون قادرا على أن يعيدهم بعد أن أفناهم. ووجه الاستدلال به على نفي عبادة عبادة الأوثان، من حيث إن عبادة من خلقكم وخلق الأرض وكل ما فيها من النعم هي الواجبة دون عبادة ما لا يضر ولا ينفع، وقوله: * (أفلا تذكرون) * معناه الترغيب في التدبر ليعلموا بطلان ما هم عليه وثانيها: قوله: * (من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم) * ووجه الاستدلال على الأمرين كما تقدم، وإنما قال: * (أفلا تتقون) * تنبيها على أن اتقاء عذاب الله لا يحصل إلا بترك عبادة الأوثان والاعتراف بجواز الإعادة وثالثها: قوله تعالى: * (قل من بيده ملكوت كل شيء) *.
إعلم أنه سبحانه لما ذكر الأرض أولا والسماء ثانيا عمم الحكم ههنا، فقال من بيده ملكوت كل شيء، ويدخل في الملكوت الملك والملك على سبيل المبالغة، وقوله: * (وهو يجير، ولا يجار عليه) * يقال أجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته. يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا.
أما قوله تعالى: * (فأنى تسحرون) * فالمعنى أنى تخدعون عن توحيده وطاعته، والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين تعالى بقوله: * (بل أتيناهم بالحق) * أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات وغيرها وهم مع ذلك كاذبون، وذلك كالتوعد والتهديد، وقرئ أتيتهم، وأتيتهم بالضم والفتح وههنا سؤالات:
السؤال الأول: قرىء * (قل لله) * في الجواب الأول باللام لا غير، وقرئ الله في الأخيرين بغير اللام في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وباللام في مصاحف أهل البصرة فما الفرق؟ الجواب: لا فرق في المعنى، لأن قولك من ربه، ولمن هو؟ في معنى واحد.
السؤال الثاني: كيف قال: * (إن كنتم تعلمون) * ثم حكى عنهم سيقولون الله وفيه تناقض؟ الجواب: لا تناقض لأن قوله: * (إن كنتم تعلمون) * لا ينفي عملهم بذلك. وقد يقال مثل ذلك في الحجاج على وجه التأكيد لعلمهم والبعث على اعترافهم بما يورد من ذلك.
قوله تعالى
* (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا
116

بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون * عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون * قل رب إما ترينى ما يوعدون * رب فلا تجعلنى فى القوم الظالمين * وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون * ادفع بالتى هى أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) *.
إعلم أنه سبحانه ادعى أمرين أحدهما: قوله: * (ما اتخذ الله من ولد) * وهو كالتنبيه على أن ذلك من قول هؤلاء الكفار، فإن جمعا منهم كانوا يقولون الملائكة بنات الله والثاني: قوله: * (وما كان معه من إله) * وهو قولهم باتخاذ الأصنام آلهة، ويحتمل أن يريد به إبطال قول النصارى والثنوية، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر الدليل
المعتمد بقوله: * (إذا لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهم على بعض) * والمعنى لانفرد على (ذلك) كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخر، ولغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متميزة وهم متغالبون، وحيث لم تروا أثر التمايز في الممالك والتغالب، فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء. فإن قيل: * (إذا) * لا يدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب، فكيف وقع قوله لذهب جزاء وجوابا؟ ولم يتقدمه شرط ولا سؤال سائل، قلنا الشرط محذوف وتقديره ولو كان معه آلهة، وإنما حذف لدلالة قوله: * (وما كان معه من إله) * عليه، ثم إنه سبحانه نزه نفسه عن قولهم بقوله: * (سبحان الله عما يصفون) * من إثبات الولد والشريك.
أما قوله: * (عالم الغيب والشهادة) * فقرئ بالجر صفة لله، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، والمعنى أنه سبحانه هو المختص بعلم الغيب والشهادة، فغيره وإن علم الشهادة فلن يعلم معها الغيب، والشهادة التي يعلمها لا يتكامل بها النفع إلا مع العلم بالغيب وذلك كالوعيد لهم، فلذلك قال: * (فتعالى عما يشركون) * ثم أمره سبحانه بالانقطاع إليه وأن يدعوه بقوله: * (رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم الظالمين) * قال صاحب " الكشاف ": ما والنون مؤكدتان، أي إن كان ولا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، فلا تجعلني قرينا لهم ولا تعذبني بعذابهم، فإن قيل كيف يجوز أن يجعل الله نبيه المعصوم مع الظالمين حتى يطلب أن لا يجعله معهم؟ قلنا يجوز أن يسأل العبد ربه ما علم أنه يفعله، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية وتواضعا لربه. وما أحسن قول الحسن في قول الصديق: وليتكم ولست بخيركم، مع أنه كان يعلم
117

أنه خيرهم، ولكن المؤمن يهضم نفسه، وإنما ذكر رب مرتين مرة قبل الشرط ومرة قبل الجزاء مبالغة في التضرع.
أما قوله تعالى: * (وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون) * ففيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا ينكرون الوعد بالعذاب ويضحكون منه، فقيل لهم: إن الله قادر على إنجاز ما وعد ويحتمل عذابا في الدنيا مؤخرا عن أيامه عليه السلام، فلذلك قال بعضهم: هو في أهل البغي، وبعضهم في الكفار الذين قوتلوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم والثاني: أن المراد عذاب الآخرة.
أما قوله: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون) * فالمراد منه أن الأولى به عليه السلام أن يعامل به الكفار فأمر باحتمال ما يكون منهم من التكذيب وضروب الأذى، وأن يدفعه بالكلام الجميل كالسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه، وبين له أنه أعلم بحالهم منه عليه السلام وأنه سبحانه لما لم يقطع نعمه عنهم، فينبغي أن يكون هو عليه السلام مواظبا على هذه الطريقة، قال صاحب " الكشاف " قوله: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * (المؤمنون: 96) أبلغ من أن يقال بالحسنة السيئة لما فيه من التفضيل، والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الطاقة فيه كانت حسنة مضاعفة بإزاء السيئة. وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل محكمة، لأن المداراة محثوث عليها ما لم تؤد إلى نقصان دين أو مروءة.
قوله تعالى
* (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين * وأعوذ بك رب أن يحضرون * حتى إذا جآء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلى أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قآئلها ومن ورآئهم برزخ إلى يوم يبعثون) *.
اعلم أنه سبحانه لما أدب رسوله بقوله: * (ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * (المؤمنون: 96) أتبعه بما به يقوى على ذلك وهو الاستعاذة بالله من أمرين: أحدهما: من همزات الشياطين، والهمزات جمع الهمزة، وهو الدفع والتحريك الشديد، وهو كالهز والأز، ومنه مهماز الرائض، وهمزاته هو كيده بالوسوسة، ويكون ذلك منه في الرسول بوجهين: أحدهما: بالوسوسة والآخر بأن
118

يبعث أعداءه على إيذائه، وكذلك القول في المؤمنين، لأن الشيطان يكيدهم بهذين الوجهين، ومعلوم أن من ينقطع إلى الله تعالى ويسأله أن يعيذه من الشيطان، فإنه يجب أن يكون متذكرا متيقظا فيما يأتي ويذر، فيكون نفس هذا الانقطاع إلى الله تعالى داعية إلى التمسك بالطاعة وزاجرا عن المعصية، قال الحسن كان عليه السلام يقول بعد استفتاح الصلاة " لا إله إلا الله ثلاثا، الله أكبر ثلاثا، اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفثه ونفخه، فقيل يا رسول الله وما همزه؟ قال الموتة التي تأخذ ابن آدم - أي الجنون الذي يأخذ ابن آدم - قيل فما نفثه؟ قال الشعر قيل فما نفخه؟ قال الكبر وثانيها: قوله: * (وأعوذ بك رب أن يحضرون) * وفيه وجهان: أحدهما: أن يحضرون عند قراءة القرآن لكي يكون متذكرا فيقل سهوه، وقال آخرون بل استعاذ بالله من نفس حضورهم لأنه الداعي إلى وسوستهم كما يقول المرء أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقا يجده فقال: " إذا أردت النوم فقل أعوذ بالله وبكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ".
أما قوله: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " حتى متعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أنه يستزله عن الحلم والله أعلم.
المسألة الثانية: اختلفوا في قوله: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت) * فالأكثرون على أنه راجع إلى الكفار وقال الضحاك كنت جالسا عند ابن عباس، فقال من لم يترك ولم يحج سأل الرجعة عند الموت، فقال واحد إنما يسأل ذلك الكفار فقال ابن عباس رضي الله عنهما أنا أقرأ عليك به قرآنا * (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق) * (المنافقون: 10) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا حضر الإنسان الموت جمع كل شيء
كان يمنعه من حقه بين يديه فعنده يقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت " والأقرب هو الأول إذا عرف المؤمن منزلته في الجنة فإذا شاهدها لا يتمنى أكثر منها، ولولا ذلك لكان أدونهم ثوابا يغتم بفقد ما يفقد من منزلة غيره وأما ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: * (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت) * فهو إخبار عن حال الحياة في الدنيا لا عن حال الثواب فلا يلزم على ما ذكرنا.
المسألة الثالثة: اختلفوا في وقت مسألة الرجعة فالأكثرون على أنه يسأل في حال المعاينة لأنه عندها يضطر إلى معرفة الله تعالى وإلى أنه كان عاصيا ويصير ملجأ إلى أنه لا يفعل القبيح بأن يعلمه الله تعالى أنه لو رامه لمنع منه، ومن هذا حاله يصير كالممنوع من القبائح بهذا الإلجاء فعند ذلك يسأل الرجعة، ويقول: * (رب ارجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت) * وقال آخرون بل يقول ذلك عند معاينة النار في الآخرة، ولعل هذا القائل إنما ترك ظاهر هذه الآية لما أخبر الله تعالى في كتابه
119

عن أهل النار في الآخرة أنهم يسألون الرجعة لكن ذلك مما لا يمنع أن يكونوا سائلين الرجعة في حال المعاينة، والله تعالى يقول: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون) * فعلق قولهم هذا بحال حضور الموت وهو حال المعاينة فلا وجه لترك هذا الظاهر.
المسألة الرابعة: اختلفوا في قوله سبحانه وتعالى: * (ارجعون) * من المراد به؟ فقال بعضهم: الملائكة الذين يقبضون الأرواح وهم جماعة فلذلك ذكره بلفظ الجمع، وقال آخرون بل المراد هو الله تعالى لأن قوله رب بمنزلة أن يقول يا رب وإنما ذكر بلفظ الجمع للتعظيم كما يخاطب العظيم بلفظه فيقول فعلنا وصنعنا وقال الشاعر: فإن شئت حرمت النساء سواكم
ومن يقول بالأول يجعل ذكر الرب للقسم، فكأنه عند المعاينة قال بحق الرب ارجعون، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: كيف يسألون الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة، ومن الدين أن لا رجعة؟ الجواب: أنه وإن كان كذلك فلا يمتنع أن يسألوه لأن الاستعانة بهذا الجنس من المسألة تحسن وإن علم أنه لا يقع فأما إرادته للرجعة فلا يمتنع أيضا على سبيل ما يفعله المتمني.
السؤال الثاني: ما معنى قوله: * (لعلي أعمل صالحا) * أفيجوز أن يسأل الرجعة مع الشك؟ الجواب: ليس المراد بلعل الشك فإنه في هذا الوقت باذل للجهد في العزم على الطاعة إن أعطى ما سأل، بل هو مثل من قصر في حق نفسه وعرف سوء عاقبة ذلك التقصير فيقول مكنوني من التدارك لعلي أتدارك فيقول هذه الكلمة مع كونه جازما بأنه سيتدارك، ويحتمل أيضا أن الأمر المستقبل إذا لم يعرفوه أوردوا الكلام الموضوع للترجي والظن دون اليقين، فقد قال تعالى: * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * (الأنعام: 28).
السؤال الثالث: ما المراد بقوله فيما تركت؟ الجواب: قال بعضهم فيما خلفت من المال ليصير عند الرجعة مؤديا لحق الله تعالى منه، والمعقول من قوله: * (تركت) * التركة وقال آخرون بل المراد أعمل صالحا فيما قصرت فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق، وهذا أقرب كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا في كل ما عصوا.
السؤال الرابع: ما المراد بقوله كلا؟ الجواب: فيه قولان: أحدهما: أنه كالجواب لهم في المنع مما طلبوا، كما يقال لطالب الأمر المستبعد هيهات، روي أنه عليه السلام قال لعائشة رضي الله عنها: " إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان لا بل قدوما على الله، وأما الكافر فيقال له نرجعك فيقول ارجعون فيقال له إلى أي شيء ترغب إلى جمع المال أو غرس الغراس أو بناء البنيان أو شق الأنهار؟ فيقول لعلي أعمل صالحا فيما تركت! فيقول فيقول الجبار كلا " الثاني: يحتمل أن يكون على وجه الإخبار بأنهم يقولون ذلك وأن هذا الخبر حق فكأنه قال: حقا إنها كلمة هو قائلها، والأقرب الأول.
120

أما قوله * (انها كلمة هو قائها) * ففيه وجهان: الأول: أنه لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة عليه الثاني: أنه قائلها وحده ولا يجاب إليها ولا يسمع منه.
أما قوله تعالى: * (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * فالبرزخ هو الحاجز والمانع كقوله في البحرين * (بينهما برزخ لا يبغيان) * (الرحمن: 20) أي فهؤلاء صائرون إلى حالة مانعة من التلافي حاجزة عن الاجتماع وذلك هو الموت، وليس المعنى أنهم يرجعون يوم البعث، إنما هو إقناط كلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة.
قوله تعالى
* (فإذا نفخ فى الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتسآءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم فى جهنم خالدون * تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون * ألم تكن ءاياتى تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) *.
إعلم أنه سبحانه لما قال: * (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * (المؤمنون: 100) ذكر أحوال ذلك اليوم فقال * (فإذا نفخ في الصور) * وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصور آلة إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم، جعله الله تعالى علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرن ينفخ فيه وثانيها: أن المراد من الصور مجموع الصور، والمعنى فإذا نفخ في الصور أرواحها وهو قول الحسن فكان يقرأ بفتح الواو والفتح والكسر عن أبي رزين وهو حجة لمن فسر الصور بجمع صورة وثالثها: أن النفخ في الصور استعارة والمراد منه البعث والحشر، والأول أولى للخبر وفي قوله: * (ثم نفخ فيه أخرى) * (الزمر: 68) دلالة على أنه ليس المراد نفع الروح والإحياء لأن ذلك لا يتكرر.
أما قوله: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * فمن المعلوم أنه سبحانه إذا أعادهم فالأنساب ثابتة لأن المعاد هو الولد والوالد، فلا يجوز أن يكون المراد نفي النسب في الحقيقة بل المراد نفي حكمه. وذلك من وجوه: أحدها: أن من حق النسب أن يقع به التعاطف والتراحم كما يقال في الدنيا: أسألك بالله والرحم أن تفعل كذا.
فنفى سبحانه ذلك من حيث إن كل أحد من أهل النار
121

يكون مشغولا بنفسه وذلك يمنعه من الالتفات إلى النسب، وهكذا الحال في الدنيا لأن الرجل متى وقع في الأمر العظيم من الآلام ينسى ولده ووالده وثانيها: أن من حق النسب أن يحصل به التفاخر في الدنيا، وأن يسأل بعضهم عن كيفية نسب البعض، وفي الآخرة لا يتفرغون لذلك وثالثها: أن يجعل ذلك استعارة عن الخوف الشديد فكل امرئ مشغول بنفسه عن بنيه وأخيه وفصيلته التي تؤويه فكيف بسائر الأمور، قال ابن مسعود رضي الله عنه يؤخذ العبد والأمة يوم القيامة على رؤوس الأشهاد وينادي مناد ألا إن هذا فلان فمن له عليه حق فليأت إلى حقه فتفرح المرأة حينئذ أن يثبت لها حق على أمها أو أختها أو أبيها أو أخيها أو ابنها أو زوجها * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * وعن قتادة لا شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء ثم تلا * (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه) * (عبس: 34) وعن الشعبي قال: قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله، أما نتعارف يوم القيامة، أسمع الله تعالى يقول: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * فقال عليه الصلاة والسلام " ثلاث مواطن تذهل فيها كل نفس؛ حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين، وعلى جسر جهنم " وطعن بعض الملحدة فقال قوله: * (ولا يتساءلون) * وقوله: * (ولا يسأل حميم حميما) * (المعارج: 10) يناقض قوله: * (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * (الصافات: 27) وقوله: * (يتعارفون بينهم) * (يونس: 45) الجواب: عنه من وجوه: أحدها: أن يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة ففيه أزمنة وأحوال مختلفة فيتعارفون ويتساءلون في بعضها، ويتحيرون في بعضها لشدة الفزع وثانيها: أنه إذا نفخ في الصور نفخة واحدة شغلوا بأنفسهم عن التساؤل، فإذا نفخ فيه أخرى أقبل بعضهم على بعض وقالوا: * (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن) * (يس: 52) وثالثها: المراد لا يتساءلون بحقوق النسب ورابعها: أن قوله: * (لا يتساءلون) * صفة للكفار وذلك لشدة خوفهم.
أما قوله: * (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) * فهو صفة أهل الجنة إذا دخلوها، واعلم أنه سبحانه قد بين أن بعد النفخ في الصور تكون المحاسبة، وشرح أحوال السعداء والأشقياء، وقيل لما بين سبحانه أنه ليس في الآخرة إلا ثقل الموازين وخفتها، وجب أن يكون كل مكلف لا بد وأن يكون من أهل الجنة وأهل الفلاح أو من أهل النار فيبطل بذلك القول بأن فيهم من لا يستحق الثواب والعقاب أو من يتساوى له الثواب والعقاب، ثم إنه سبحانه شرح حال السعداء بقوله: * (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون) * (المؤمنون: 102) وفي الموازين أقوال: أحدها: أنه استعارة من العدل وثانيها: أن الموازين هي الأعمال الحسنة فمن أتي بما له قدر وخطر فهو الفائز الظافر، ومن أتى بما لا وزن له كقوله تعالى: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) * (النور: 39) فهو خالد في جهنم. قال ابن عباس رضي الله عنهما الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله تعالى من قوله: * (فلا نقيم لهم يوم
122

القيامة وزنا) * (الكهف: 105) أي قدرا وثالثها: أنه ميزان له لسان وكفتان يوزن فيه الحسنات في أحسن صورة، والسيئات في أقبح صورة فمن ثقلت حسناته سيق إلى الجنة ومن ثقلت سيئاته فإلى النار، وتمام الكلام في هذا الباب قد تقدم في سورة الأنبياء عليهم السلام. وأما الأشقياء فقد وصفهم الله تعالى بأمور أربعة: أحدها: أنهم خسروا أنفسهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما غبنوها بأن صارت منازلهم للمؤمنين، وقيل امتنع انتفاعهم بأنفسهم لكونهم في العذاب وثانيها: قوله: * (في جهنم خالدون) * ودلالته على خلود الكفار في النار بينة. قال صاحب " الكشاف ": * (في جهنم خالدون) * بدل من خسروا أنفسهم أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف وثالثها: قوله: * (تلفح وجوههم النار) * قال ابن عباس رضي الله عنهما أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم، قال الزجاج: اللفح والنفخ واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا ورابعها: قوله: * (وهم فيها كالحون) * والكلوح أن تتقلص الشفتان ويتباعدا عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشوية، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته "، وقرئ (كلحون)، ثم إنه سبحانه لما شرح عذابهم، حكى ما يقال لهم عند ذلك تقريعا وتوبيخا، وهو قوله تعالى: * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) * ثم إنكم كنتم تكذبون بها مع وضوحها، فلا جرم صرتم مستحقين لما أنتم فيه من العذاب الأليم. قالت المعتزلة: الآية تدل على أنهم إنما وقعوا في ذلك العذاب لسوء أفعالهم، ولو كان فعل العباد بخلق الله تعالى لما صح ذلك والجواب: أن القادر على الطاعة والمعصية إن صدرت المعصية عنه لا لمرجح البتة كان صدورها عنه اتفاقيا لا اختياريا، فوجب أن لا يستحق العقاب، وإن كان لمرجح، فذاك المرجح ليس من فعله وإلا لزم التسلسل، فحينئذ يكون صدور تلك الطاعة عند اضطراريا لا اختياريا، فوجب أن لا يستحق الثواب.
قوله تعالى
* (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضآلين * ربنآ أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون * إنه كان فريق من عبادى يقولون ربنآ ءامنا فاغفر لنا
123

او رحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكرى وكنتم منهم تضحكون * إنى جزيتهم ليوم بما صبروا أنهم هم الفآئزون) *.
اعلم أنه سبحانه لما قال: * (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون) * (المؤمنون: 105) ذكروا ما يجري مجرى الجواب عنه وهو من وجهين: الأول: قولهم: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": غلبت علينا ملكتنا من قولك غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك، والشقاوة سوء العاقبة، قرىء: (شقوتنا) و (شقاوتنا) بفتح الشين وكسرها فيهما، قال أبو مسلم: الشقوة من الشقاء كجرية الماء، والمصدر الجري، وقد يجيء لفظ فعله، والمراد به الهيئة والحال، فيقول جلسة حسنة
وركبة وقعدة وذلك من الهيئة، وتقول عاش فلان عيشة طيبة ومات ميتة كريمة، وهذا هو الحال والهيئة، فعلى هذا المراد من الشقوة حال الشقاء.
المسألة الثانية: قال الجبائي: المراد أن طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم، قلنا إنك حملت الشقاوة على طلب تلك اللذات المحرمة، وطلب تلك اللذات حصل باختيارهم أو لا باختيارهم فإن حصل باختيارهم فذلك الاختيار محدث، فإن استغنى عن المؤثر فلم لا يجوز في كل الحوادث ذلك، وحينئذ ينسد عليك باب إثبات الصانع، وإن افتقر إلى محدث فمحدثه إما العبد أو الله تعالى؟ فإن كان هو العبد فذلك باطل لوجوه: أحدها: أن قدرة العبد صالحة للفعل والترك، فإن توقف صدور تلك الإرادة عنها إلى مرجح آخر، عاد الكلام فيه ولزم التسلسل، وإن لم يتوقف على المرجح فقد جوزت رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح، وذلك يسد باب إثبات الصانع وثانيها: أن العبد لا يعلم كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها، والجاهل بالشيء لا يكون محدثا له، وإلا لبطلت دلالة الإحكام والإتقان على العلم والثاني: أن أحدا في الدنيا لا يرضى بأن يختار الجهل، بل لا يقصد إلا تحصيل العلم، فالكافر ما قصد إلا تحصيل العلم، فإن كان الموجد لفعله هو فوجب أن لا يحصل إلا ما قصد إيقاعه، لكنه لم يقصد إلا العلم فكيف حصل الجهل؟ فثبت أن الموجد للدواعي والبواعث هو الله تعالى، ثم إن الداعية إن كانت سائقة إلى الخير كانت سعادة، وإن كانت سائقة إلى الشر كانت شقاوة الوجه الثاني: لهم في الجواب قولهم: * (وكنا قوما ضالين) * وهذا الضلال الذي جعلوه كالعلة في إقدامهم على التكذيب إن كان هو نفس ذلك التكذيب لزم تعليل الشيء بنفسه، ولما بطل ذلك لم يبق إلا أن يكون ذلك الضلال عبارة عن شيء آخر ترتب عليه فعلهم وما ذاك إلا خلق الداعي إلى الضلال، ثم إن القوم لما أوردوا هذين
124

العذرين، قال لهم سبحانه: * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) * وهذا هو صريح قولنا في أن المناظرة مع الله تعالى غير جائزة، بل لا يسأل عما يفعل. قال القاضي في قوله: * (ربنا غلبت علينا شقوتنا) * دلالة على أنه لا عذر لهم إلا الاعتراف، فلو كان كفرهم من خلقه تعالى وبإرادته وعلموا ذلك لكانوا بأن يذكروا ذلك أجدر وإلى العذر أقرب، فنقول قد بينا أن الذي ذكروه ليس إلا ذلك ولكنهم مقرون أن لا عذر لهم فلا جرم، قال لهم: * (اخسؤوا فيها ولا تكلمون) *.
أما قوله: * (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) * فالمعنى: أخرجنا من هذه الدار إلى دار الدنيا، فإن عدنا إلى الأعمال السيئة فإنا ظالمون، فإن قيل كيف يجوز أن يطلبوا ذلك وقد علموا أن عقابهم دائم؟ قلنا يجوز أن يلحقهم السهو عن ذلك في أحوال شدة العذاب فيسألون الرجعة. ويحتمل أن يكون مع علمهم بذلك يسألون ذلك على وجه الغوث والاسترواح.
أما قوله: * (اخسؤا فيها) * فالمعنى ذلوا فيها وانزجروا كما يزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب وخسأ بنفسه.
أما قوله: * (ولا تكلمون) * فليس هذا نهيا لأنه لا تكليف في الآخرة، بل المراد لا تكلمون في رفع العذاب فإنه لا يرفع ولا يخفف، قيل هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير، والعواء كعواء الكلاب، لا يفهمون ولا يفهمون. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن لهم ست دعوات، إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة * (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا) * (السجدة: 12) فيجابون * (حق القول مني) * (السجدة: 13) فينادون ألف سنة ثانية * (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * فيجابون * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم) * (غافر: 12) فينادون ألف ثالثة * (يا مالك ليقض علينا ربك) * (الزخرف: 77) فيجابون * (إنكم ماكثون) * (الزخرف: 77) فينادون ألفا رابعة * (ربنا أخرجنا) * فيجابون * (أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال) * (إبراهيم: 44) فينادون ألفا خامسة * (أخرجنا نعمل صالحا) * (فاطر: 37) فيجابون * (أولم نعمركم) * (فاطر: 37) فينادون ألفا سادسة * (رب ارجعون) * (المؤمنون: 99) فيجابون * (اخسؤا فيها) * ثم بين سبحانه وتعالى، أن فزعهم بأمر يتصل بالمؤمنين، وهو قوله: * (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا) * فوصف تعالى أحد ما لأجله عذبوا وبعدوا من الخير، وهو ما عاملوا به المؤمنين. وفي حرف أبي * (أنه كان فريق) * بالفتح بمعنى لأنه. وقرأ نافع وأهل المدينة وأهل الكوفة عن عاصم بضم السين في جميع القرآن، وقرأ الباقون بالكسر ههنا وفي ص قال الخليل وسيبويه هما لغتان كدرى ودرى. وقال الكسائي والفراء الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول، والضم بمعنى السخرية. قال مقاتل: إن رؤساء قريش مثل أبي جهل وعتبة وأبي بن خلف كانوا يستهزئون بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويضحكون بالفقراء منهم مثل بلال وخباب وعمار وصهيب، والمعنى اتخذتموهم هزوا حتى أنسوكم بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذكرى وأكد ذلك بقوله: * (وكنتم منهم تضحكون) * ثم بين سبحانه ما يقتضي فيهم الأسف والحسرة بأن وصف ما جازى به أولئك المؤمنين فقال: * (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) *
125

قرأ حمزة والكسائي أنهم بالكسر والباقون بالفتح فالكسر استئناف أي قد فازوا حيث صبروا فجوزوا بصبرهم أحسن الجزاء، والفتح على أنه في موضع المفعول الثاني من جزيت، ويجوز أن يكون نصبا بإضمار الخافض أي جزيتهم الجزاء الوافر لأنهم هم الفائزون.
قوله تعالى
* (قال كم لبثتم فى الارض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العآدين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون * أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) *.
اعلم أن في هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " في مصاحف أهل الكوفة * (قال) * وهو ضمير الله أو المأمور بسؤالهم من الملائكة، و * (قل) * في مصاحف أهل
الحرمين والبصرة والشام وهو ضمير الملك أو بعض رؤساء أهل النار.
المسألة الثانية: الغرض من هذا السؤال التبكيت والتوبيخ، فقد كانوا ينكرون اللبث في الآخرة أصلا ولا يعدون اللبث إلا في دار الدنيا ويظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة وهم فيها مخلدون سألهم * (كم لبثتم في الأرض) * تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه، فحينئذ تحصل لهم الحسرة على ما كانوا يعتقدونه في الدنيا من حيث أيقنوا خلافه، فليس الغرض السؤال بل الغرض ما ذكرنا. فإن قيل فكيف يصح في جوابهم أن يقولوا: * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * ولا يقع من أهل النار الكذب قلنا لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا: * (فاسأل العادين) * قال ابن عباس رضي الله عنهما أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين وقيل مرادهم بقولهم: * (لبثنا يوم أو بعض يوم) * تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من أليم العذاب والله أعلم.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن السؤال عن أي لبث وقع، فقال بعضهم لبثهم إحياؤهم في
126

الدنيا ويكون المراد أنهم أمهلوا حتى تمكنوا من العلم والعمل فأجابوا بأن قدر لبثهم كان يسيرا بناء على أن الله تعالى أعلمهم أن الدنيا متاع قليل وأن الآخرة هي دار القرار، وهذا القائل احتج على قوله بأنهم كانوا يزعمون أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى في النار وعذبوا سألوا عن ذلك توبيخا لأنه إلى التوبيخ أقرب، وقال آخرون بل المراد اللبث في حال الموت، واحتجوا على قولهم بأمرين: الأول: أن قوله في الأرض يفيد الكون في القبر ومن كان حيا فالأقرب أن يقال إنه على الأرض وهذا ضعيف لقوله: * (ولا تفسدوا في الأرض) * (الأعراف: 56)، الثاني: قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) * (الروم: 55) ثم بين سبحانه أنهم كذبوا في ذلك وأخبر عن المؤمنين قولهم: * (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث) * (الروم: 56).
المسألة الرابعة: احتج من أنكر عذاب القبر بهذه الآية فقال قوله: * (كم لبثتم في الأرض) * يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون: * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * والجواب: من وجهين: أحدهما: أن الجواب لا بد وأن يكون بحسب السؤال، وإنما سألوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة، وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر والثاني: يحتمل أن يكونوا سألوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه، فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فيصح أن يكون جوابهم * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * عند أنفسنا.
أما قوله: * (فاسأل العادين) * ففيه وجوه: أحدها: المراد بهم الحفظة وأنهم كانوا يحصون الأعمال وأوقات الحياة ويحسبون أوقات موتهم وتقدم من تقدم وتأخر من تأخر، وهو معنى قول عكرمة فاسأل العادين أي الذين يحسبون وثانيها: فاسأل الملائكة الذين يعدون أيام الدنيا وساعاتها وثالثها: أن يكون المعنى سل من يعرف عدد ذلك فإنا قد نسيناه ورابعها: قرىء العادين بالتخفيف أي الظلمة فإنهم يقولون مثل ما قلنا وخامسها: قرىء العاديين أي القدماء المعمرين، فإنهم يستقصرونها فكيف بمن دونهم؟
أما قوله: * (لبثتم إلا قليلا) * فالمعنى أنهم قالوا: * (لبثنا يوم أو بعض يوم) * على معنى أنا لبثنا في الدنيا قليلا، فكأنه قيل لهم صدقتم ما لبثتم فيها إلا قليلا إلا أنها انقضت ومضت، فظهر أن الغرض من هذا السؤال تعريف قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة.
فأما قوله تعالى: * (لو أنكم كنتم تعلمون) * فبين في هذا الوجه أنه أراد أنه قليل لو علمتم البعث والحشر، لكنكم لما أنكرتم ذلك كنتم تعدونه طويلا.
ثم بين تعالى ما هو في التوبيخ أعظم بقوله: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " * (عبثا) * حال أي عابثين كقوله: * (لاعبين) * أو مفعول به أي ما خلقناكم للعبث.
127

المسألة الثانية: أنه سبحانه لما شرح صفات القيامة ختم الكلام فيها بإقامة الدلالة على وجودها وهي أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي والصديق من الزنديق، وحينئذ يكون خلق هذا العالم عبثا، وأما الرجوع إلى الله تعالى فالمراد إلى حيث لا مالك ولا حاكم سواه لا أنه رجوع من مكان إلى مكان لاستحالة ذلك على الله تعالى ثم إنه تعالى نزه نفسه عن العبث بقوله: * (فتعالى الله الملك الحق) * والملك هو المالك للأشياء الذي لا يبيد ولا يزول ملكه وقدرته، وأما الحق فهو الذي يحق له الملك لأن كل شيء منه وإليه، وهو الثابت الذي لا يزول ولا يزول ملكه، وبين أنه لا إله سواه وأن ما عداه فمصيره إلى الفناء وما يفنى لا يكون إلها وبين أنه تعالى: * (رب العرش الكريم) *. قال أبو مسلم والعرش ههنا السماوات بما فيها من العرش الذي تطوف به الملائكة ويجوز أن يعني به الملك العظيم، وقال الأكثرون المراد هو العرش حقيقة وإنما وصفه بالكريم لأن الرحمة تنزل منه والخير والبركة ولنسبته إلى أكرم الأكرمين كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراما وقرئ الكريم بالرفع ونحوه ذو العرش المجيد.
قوله تعالى
* (ومن يدع مع الله إلها ءاخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون * وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *.
اعلم أنه سبحانه لما بين أنه هو الملك الحق لا إله إلا هو أتبعه بأن من ادعى إلها آخر فقد ادعى باطلا من حيث لا برهان لهم فيه، ونبه بذلك على أن كل ما لا برهان فيه لا يجوز إثباته، وذلك يوجب صحة النظر وفساد التقليد ثم ذكر أن من قال بذلك فجزاؤه العقاب العظيم بقوله: * (فإنما حسابه عند ربه) * كأنه قال إن عقابه بلغ إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله تعالى وقرئ أنه لا يفلح بفتح الهمزة ومعناه حسابه عدم الفلاح جعل فاتحة السورة * (قد أفلح المؤمنون) * (المؤمنون: 1) وخاتمتها * (إنه لا يفلح الكافرون) * فشتان ما بين الفاتحة والخاتمة. ثم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول رب اغفر وارحم ويثني عليه بأنه خير الراحمين،
وقد تقدم بيان أنه سبحانه خير الراحمين فإن قيل كيف تتصل هذه الخاتمة بما قبلها؟ قلنا لأنه سبحانه لما شرح أحوال الكفار في جهلهم في الدنيا وعذابهم في الآخرة أمر بالانقطاع إلى الله تعالى والالتجاء إلى دلائل غفرانه ورحمته، فإنهما هما العاصمان عن كل الآفات والمخافات، وروي أن أول سورة * (قد أفلح) * وآخرها من كنوز العرش من عمل بثلاث آيات من أولها، واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله وحده وصلاته على خير خلقه سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه وعترته وأهل بيته.
128

سورة النور
مدنية كلها وهي اثنتان وقيل أربع وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيهآ ءايات بينات لعلكم تذكرون) *.
قرأ العامة سورة بالرفع، وقرأ طلحة بن مصرف بالنصب، أما الذين قرأوا بالرفع فالجمهور قالوا الابتداء بالنكرة لا يجوز، والتقدير هذه سورة أنزلناها، أو نقول سورة أنزلناها مبتدأ موصوف، والخبر محذوف أي فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها، وقال الأخفش لا يبعد الابتداء بالنكرة فسورة مبتدأ وأنزلنا خبره، ومن نصب فعلى معنى الفعل، يعني اتبعوا سورة أو أتل سورة أو أنزلنا سورة، وأما معنى السورة ومعنى الإنزال فقد تقدم، فإن قيل الإنزال إنما يكون من صعود إلى نزول، فهذا يدل على أنه تعالى في جهة، قلنا: الجواب من وجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام كان يحفظها من اللوح المحفوظ ثم ينزلها عليه صلى الله عليه وسلم، فلهذا جاز أن يقال أنزلناها توسعا وثانيها: أن الله تعالى أنزلها من أم الكتاب في السماء الدنيا دفعة واحدة ثم أنزلها بعد ذلك نجوما على لسان جبريل عليه السلام وثالثها: معنى * (أنزلناها) * أي أعطيناها الرسول، كما يقول العبد إذا كلم سيده رفعت إليه حاجتي، كذلك يكون من السيد إلى العبد الإنزال قال الله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * (فاطر: 10).
أما قوله: * (وفرضناها) * فالمشهور قراءة التخفيف، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد.
أما قراءة التخفيف فالفرض هو القطع والتقدير قال الله تعالى: * (فنصف ما فرضتم) * (البقرة: 237) أي قدرتم * (إن الذي فرض عليك القرآن) * (القصص: 85) أي قدر، ثم إن السورة لا يمكن فرضها لأنها قد دخلت في الوجود وتحصيل الحاصل محال، فوجب أن يكون المراد وفرضنا ما بين فيها، وإنما قال ذلك لأن أكثر ما في هذه السورة من باب الأحكام والحدود فلذلك عقبها بهذا الكلام، وأما قراءة التشديد فقال الفراء: التشديد للمبالغة والتكثير، أما المبالغة فمن حيث إنها حدود وأحكام فلا بد من المبالغة في إيجابها ليحصل الانقياد لقبولها، وأما التكثير فلوجهين: أحدهما: أن الله تعالى بين فيها أحكاما مختلفة والثاني: أنه سبحانه وتعالى أوجبها على كل المكلفين إلى آخر
129

الدهر، أما قوله: * (وأنزلنا فيها آيات بينات) * ففيه وجوه: أحدها: أنه سبحانه ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله: * (وفرضناها) * إشارة إلى الأحكام التي بينها أولا ثم قوله: * (وأنزلنا فيها آيات بينات) * إشارة إلى ما بين من دلائل التوحيد، والذي يؤكد هذا التأويل قوله: * (لعلكم تذكرون) * فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكيرها. أما دلائل التوحيد فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها فأمروا بتذكيرها. وثانيها: قال أبو مسلم يجوز أن تكون الآيات البينات ما ذكر فيها من الحدود والشرائع كقوله: * (رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاث ليل سويا) * (آل عمران: 41) سأل ربه أن يفرض عليه عملا وثالثها: قال القاضي إن السورة كما اشتملت على عمل الواجبات فقد اشتملت على كثير من المباحثات بأن بينها الله تعالى، ولما كان بيانه سبحانه لها مفصلا وصف الآيات بأنها بينات.
أما قوله تعالى: * (لعلكم تذكرون) * فقرئ بتشديد الذال وتخفيفها، ومعنى لعل قد تقدم في سورة البقرة، قال القاضي لعل بمعنى كي، وهذا يدل على أنه سبحانه أراد من جميعهم أن يتذكروا والجواب: أنه سبحانه لو أراد ذلك من الكل لما قوى دواعيهم إلى جانب المعصية، ولو لم توجد تلك التقوية لزم وقوع الفعل لا لمرجح، ولو جاز ذلك لما جاز الاستدلال بالإمكان والحدوث على وجود المرجح ويلزم نفي الصانع، وإذا كان كذلك وجب حمل لعل على سائر الوجوه المذكورة في سورة البقرة واعلم أنه سبحانه ذكر في هذه السورة أحكاما كثيرة:
الحكم الأول
قوله تعالى
* (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وليشهد عذابهما طآئفة من المؤمنين) *.
إعلم أن قوله تعالى: * (الزانية والزاني) * رفعهما على الابتداء والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه على معنى: فيما فرض الله عليكم الزانية والزاني أي فاجلدوهما، ويجوز أن يكون الخبر فاجلدوا وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمنه معنى الشرط تقديره التي زنت والذي زنى فاجلدوهما كما تقول من زنا فاجلدوه، وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر، وقرئ والزان بلا ياء، واعلم أن الكلام في هذه الآية على نوعين: أحدهما: ما يتعلق
130

بالشرعيات والثاني: ما يتعلق بالعقليات ونحن نأتي على البابين بقدر الطاقة إن شاء الله تعالى.
النوع الأول: الشرعيات، واعلم أن الزنا حرام وهو من الكبائر ويدل عليه أمور: أحدها: أن الله تعالى قرنه بالشرك وقتل النفس في قوله تعالى: * (والذين لا يدعون
مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما) * (الفرقان: 68) وقال: * (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) * (الإسراء: 32)، وثانيها: أنه تعالى أوجب المائة فيها بكمالها بخلاف حد القذف وشرب الخمر، وشرع فيه الرجم، ونهى المؤمنين عن الرأفة وأمر بشهود الطائفة للتشهير وأوجب كون تلك الطائفة من المؤمنين، لأن الفاسق من صلحاء قومه أخجل وثالثها: ما روى حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا معشر الناس اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى وسوء الحساب وعذاب النار " وعن عبد الله قال قلت يا رسول الله: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت ثم أي؟ قال، وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك قلت: ثم أي؟ قال: وأن تزني بحليلة جارك " فأنزل الله تعالى تصديقها: * (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) * (الفرقان: 68) واعلم أنه يجب البحث في هذه الآية عن أمور: أحدها: عن ماهية الزنا وثانيها: عن أحكام الزنا وثالثها: عن الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبا لتلك الأحكام ورابعها: عن الطريق الذي به يعرف حصول الزنا وخامسها: أن المخاطبين بقوله: * (فاجلدوهم) * (النور: 4) من هم؟ وسادسها: أن الرجم والجلد المأمور بهما في الزنا كيف يكون حالهما؟.
البحث الأول: عن ماهية الزنا قال بعض أصحابنا إنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم قطعا وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن اللواطة هل ينطلق عليها اسم الزنا أم لا؟ فقال قائلون نعم. واحتج عليه بالنص والمعنى، أما النص فما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان " وأما المعنى فهو أن اللواط مثل الزنا صورة ومعنى. أما الصورة فلأن الزنا عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم قطعا، والدبر أيضا فرج لأن القبل إنما سمى فرجا لما فيه من الانفراج، وهذا المعنى حاصل في الدبر أكثر ما في الباب أن في العرف لا تسمى اللواطة زنا ولكن هذا لا يقدح في أصل اللغة، كما يقال هذا طبيب وليس بعالم مع أن الطب علم، وأما المعنى فلأن الزنا قضاء للشهوة من محل مشتهى طبعا على جهة الحرام المحض، وهذا موجود في اللواط لأن القبل والدبر يشتهيان لأنهما يشتركان في المعاني التي هي متعلق الشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك فإن من يقول بالطبائع لا يفرق
131

بين المحلين، وإنما المفرق هو الشرع في التحريم والتحليل، فهذا حجة من قال اللواط داخل تحت اسم الزنا، وأما الأكثرون من أصحابنا فقد سلموا أن اللواط غير داخل تحت اسم الزنا واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: العرف المشهور من أن هذا لواط وليس بزنا وبالعكس والأصل عدم التغيير وثانيها: لو حلف لا يزني فلاط لا يحنث وثالثها: أن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط وكانوا عالمين باللغة فلو سمي اللواط زنا لأغناهم نص الكتاب في حد الزنا عن الاختلاف والاجتهاد، وأما الحديث فهو محمول على الإثم بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " وقال عليه الصلاة والسلام: " اليدان تزنيان والعينان تزنيان " وأما القياس فبعيد لأن الفرج وإن كان سمى فرجا لما فيه من الانفراج فلا يجب أن يسمى كل ما فيه انفراج بالفرج وإلا لكان الفم والعين فرجا، وأيضا فهم سموا النجم نجما لظهوره، ثم ما سموا كل ظاهر نجما. وسموا الجنين جنينا لاستناره، وما سموا كل مستتر جنينا، واعلم أن للشافعي رحمه الله في فعل اللواط قولان أصحهما عليه حد الزنا إن كان محصنا يرجم، وإن لم يكن محصنا يجلد مائة ويغرب عاما وثانيهما: يقتل الفاعل والمفعول به سواء كان محصنا أو لم يكن محصنا، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " ثم في كيفية قتله أوجه: أحدها: تحز رقبته كالمرتد وثانيها: يرجم بالحجارة وهو قول مالك وأحمد وإسحق وثالثها: يهدم عليه جدار، يروى ذلك عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورابعها: يرمى من شاهق جبل حتى يموت، يروى ذلك عن علي عليه السلام وإنما ذكروا هذه الوجوه: لأن الله تعالى عذب قوم لوط بكل ذلك فقال تعالى: * (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل) * (هود: 82) وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يحد اللوطي بل يعذر، أما المفعول به فإن كان عاقلا بالغا طائعا فإن قلنا على الفاعل القتل فيقتل المفعول به على صفة قتل الفاعل للخبر، وإن قلنا على الفاعل حد الزنا فعلى المفعول به مائة جلدة وتغريب عام محصنا كان أو غير محصن، وقيل إن كانت امرأة محصنة فعليها الرجم، وليس بصحيح لأنها لا تصير محصنة بالتمكين في الدبر فلا يلزمها حد المحصنات كما لو كان المفعول به، ذكر حجة الشافعي رحمه الله على وجوب الحد من وجوه: الأول: أن اللواط، إما أن يساوي الزنا في الماهية أو يساويه في لوازم هذه الماهية وإذا كان كذلك وجب الحد بيان الأول: قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان " فاللفظ دل على كون اللائط زانيا، واللفظ الدال بالمطابقة على ماهية دال بالالتزام على حصول جميع لوازمها، ودلالة المطابقة والالتزام مشتركان في أصل الدلالة، فاللفظ الدال على حصول الزنا دال على حصول جميع اللوازم، ثم بعد هذا إن تحقق مسمى الزنا في اللواط دخل تحت قوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا) * وإن لم يتحقق مسمى الزنا وجب أن يتحقق لوازم مسمى الزنا لما ثبت أن اللفظ الدال على تحقق ماهية دال على تحقق جميع تلك اللوازم ترك العمل به في حق الماهية
132

فوجب أن يبقى معمولا به في الدلالة على جميع تلك اللوازم، لكن من لوازم الزنا وجوب الحد فوجب أن يتحقق ذلك في اللواط. أكثر ما في الباب أنه ترك العمل بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان " لكن لا يلزم من ترك العمل هناك تركه ههنا الثاني: أن اللائط يجب قتله فوجب أن يقتل رجما بيان الأول: قوله عليه السلام: " من عمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل منهما والمفعول به " وبيان الثاني: أنه لما وجب قتله وجب أن يكون زانيا وإلا لما جاز قتله لقوله عليه السلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث " وههنا لم يوجد كفر بعد إيمان ولا قتل نفس بغير حق فلو لم يوجد الزنا بعد الإحصان لوجب أن لا يقتل، وإذا ثبت أنه وجد الزنا بعد الإحصان وجب الرجم لهذا الحديث الثالث: نقيس اللواط على الزنا، والجامع أن الطبع داع إليه لما فيه من الالتذاذ وهو قبيح فيناسب الزجر، والحد يصلح زاجرا عنه. قالوا: والفرق من وجهين: أحدهما: أنه وجد في الزنا داعيات، فكان وقوعه أكثر فسادا فكانت الحاجة إلى الزاجر أتم الثاني: أن الزنا يقتضي
فساد الأنساب والجواب: إلغاؤهما بوطء العجوز الشوهاء واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: اللواط ليس بزنا على ما تقدم فوجب أن لا يقتل لقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث " وثانيها: أن اللواط لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الزاجر، ولا في الجناية فلا يساويه في الحد بيان عدم المساواة في الحاجة. أن اللواطة وإن كانت يرغب فيها الفاعل لكن لا يرغب فيها المفعول طبعا بخلاف الزنا، فإن الداعي حاصل من الجانبين، وأما عدم المساواة في الجناية فلأن في الزنا إضاعة النسب ولا كذلك اللواط، إذا ثبت هذا فوجب أن لا يساويه في العقوبة، لأن الدليل ينفي شرع الحد لكونه ضررا ترك العمل به في الزنا، فوجب أن يبقى في اللواط على الأصل وثالثها: أن الحد كالبدل عن المهر فلما لم يتعلق باللواط المهر فكذا الحد والجواب: عن الأول أن اللواط وإن لم يكن مساويا للزنا في ماهيته لكنه يساويه في الأحكام وعن الثاني: أن اللواط وإن كان لا يرغب فيه المفعول لكن ذلك بسبب اشتداد رغبة الفاعل، لأن الإنسان حريص على ما منع وعن الثالث: أنه لا بد من الجامع والله أعلم.
المسألة الثانية: أجمعت الأمة على حرمة إتيان البهائم. وللشافعي رحمه الله في عقوبته أقوال: أحدها: يجب به حد الزنا فيرجم المحصن ويجلد غير المحصن ويغرب والثاني: أنه يقتل محصنا كان أو غير محصن. لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه " فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ فقال: ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها، وقد عمل بها ذلك العمل والقول الثالث: وهو الأصح وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد رحمهم الله: أن عليه التعزيز لأن الحد شرح للزجر عما تميل النفس إليه، وهذا الفعل لا تميل النفس إليه، وضعفوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما لضعف إسناده وإن ثبت فهو معارض بما روي أنه عليه السلام نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
133

المسألة الثالثة: السحق من النسوان وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها إلا التعزيز.
البحث الثاني: عن أحكام الزنا. واعلم أنه كان في أول الإسلام عقوبة الزاني الحبس إلى الممات في حق الثيب، والأذى بالكلام في حق البكر. قال الله تعالى: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا * واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) * (النساء: 15، 16) ثم نسخ ذلك فجعل حد الزنا على الثيب الرجم وحد البكر الجلد والتغريب، ولنذكر هاتين المسألتين:
المسألة الأولى: الخوارج أنكروا الرجم واحتجوا فيه بوجوه: أحدها: قوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات) * (النساء: 25) فلو وجب الرجم على المحصن لوجب نصف الرجم على الرقيق لكن الرجم لا نصف لها وثانيها: أن الله سبحانه ذكر في القرآن أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة، ولم يستقص في أحكامها كما استقصى في بيان أحكام الزنا، ألا ترى أنه تعالى نهى عن الزنا بقوله: * (ولا تقربوا الزنى) * (الإسراء: 32) ثم توعد عليه ثانيا بالنار كما في كل المعاصي، ثم ذكر الجلد ثالثا ثم خص الجلد بوجوب إحضار المؤمنين رابعا، ثم خصه بالنهي عن الرأفة عليه بقوله: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * خامسا، ثم أوجب على من رمى مسلما بالزنا ثمانين جلدة، وسادسا، لم يجعل ذلك على من رماه بالقتل والكفر وهما أعظم منه، ثم قال سابعا: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * ثم ذكر ثامنا من رمى زوجته بما يوجب التلاعن واستحقاق غضب الله تعالى ثم ذكر تاسعا أن * (الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) * (النور: 3)، ثم ذكر عاشرا أن ثبوت الزنا مخصوص بالشهود الأربعة فمع المبالغة في استقصاء أحكام الزنا قليلا وكثيرا لا يجوز إهمال ما هو أجل أحكامها وأعظم آثارها، ومعلوم أن الرجم لو كان مشروعا لكان أعظم الآثار فحيث لم يذكره الله تعالى في كتابه دل على أنه غير واجب وثالثها: قوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا) * يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة، وإيجاب الرجم على البعض بخبر الواحد يقتضي تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد، وهو غير جائز. لأن الكتاب قاطع في متنه، وخبر الواحد غير قاطع في متنه، والمقطوع راجح على المظنون، واحتج الجمهور من المجتهدين على وجوب رجم المحصن لما ثبت بالتواتر أنه عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، قال أبو بكر الرازي روى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة وبعض هؤلاء الرواة روى خبر رجم ماعز وبعضهم خبر اللخمية والغامدية وقال عمر رضي الله عنه: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في المصحف. والجواب: عما احتجوا به أولا أنه مخصوص بالجلد. فإن قيل فيلزم تخصيص القرآن بخبر الواحد قلنا بل بالخبر المتواتر لما بينا أن الرجم منقول بالتواتر، وأيضا فقد بينا في أصول الفقه أن تخصيص القرآن بخبر الواحد جائز والجواب: عن الثاني أنه لا يستبعد تجدد الأحكام الشرعية بحسب تجدد المصالح
134

فلعل المصلحة التي تقضي وجوب الرجم حدثت بعد نزول تلك الآيات والجواب: عن الثالث أنه نقل عن علي عليه السلام أنه كان يجمع بين الجلد والرجم وهو اختيار أحمد وإسحق وداود واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن عموم هذه الآية يقتضي وجوب الجلد والخبر المتواتر يقتضي وجوب الرجم ولا منافاة فوجب الجمع وثانيها: قوله عليه السلام: " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " وثالثها: روى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن عن ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر " أن رجلا زنى بامرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجلد ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصنا فأمر به فرجم " ورابعها: روي أن عليا عليه السلام جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن أكثر المجتهدين متفقون على أن المحصن يرجم ولا يجلد، واحتجوا عليه بأمور: أحدها: قصة العسيف فإنه عليه السلام قال: " يا أنيس اغد إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها " ولم يذكر الجلد ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره وثانيها: أن قصة ماعز رويت من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم جلد، ولو كان الجلد معتبرا مع الرجم لجلده النبي عليه السلام ولو جلده لنقل كما نقل الرجم إذ ليس أحدهما بالنقل أولى من الآخر، وكذا في قصة الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن وضعت ولو جلدها لنقل ذلك وثالثها: ما روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهم قال قال
عمر رضي الله عنه قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، وقد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمنا بعده، فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هو الرجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره أما الجواب: عن التمسك بالآية فهو أنها مخصوصة في حق المحصن وتخصيص عموم القرآن بالخبر المتواتر غير ممتنع، وأما قوله عليه السلام: " الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " فلعل ذلك كان قبل قوله: " يا أنيس اغد إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " وأما أنه عليه السلام جلد امرأة ثم رجمها، فلعله عليه السلام ما علم إحصانها فجلدها، ثم لما علم إحصانها رجمها، وهو الجواب عن فعل علي عليه السلام، فهذا ما يمكن من التكلف في هذه الأجوبة والله أعلم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر، وقال أبو حنيفة رحمه الله يجلد، وأما التغريب فمفوض إلى رأي الإمام، وقال مالك يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة ولا تغرب، حجة الشافعي رحمه الله حديث عبادة أنه عليه السلام قال: " خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة " ويدل أيضا عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد: " أن رجلا جاء إلى
135

النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا وزني بامرأته فافتديت منه بوليدة ومائة شاة، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم فاقض بيننا، فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الغنم والوليدة فرد عليك، وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام، ثم قال لرجل من أسلم أغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " واحتج أبو حنيفة رحمه الله على نفي التغريب بوجوه: أحدها: أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز وقرروا النسخ من ثلاثة أوجه: الأول: أنه سبحانه رتب الجلد على فعل الزنا بالفاء وحرف الفاء للجزاء إلا أن أئمة اللغة قالوا اليمين بغير لله ذكر شرط وجزاء وفسروا الشرط بالذي دخل عليه كلمة إن والجزاء بالذي دخل عليه حرف الفاء والجزاء اسم له يقع به الكفاية مأخوذ من قولهم جازيناه أي كافأناه، وقال عليه السلام: " تجزيك ولا تجزي أحدا بعدك " أي تكفيك، ومنه قول القائل: اجتزت الإبل بالعشب بالماء وإنما تقع الكفاية بالجلد إذا لم يجب معه شيء آخر فإيجاب شيء آخر يقتضي نسخ كونه كافيا الثاني: أن المذكور في الآية لما كان هو الجلد فقط كان ذلك كمال الحد فلو جعلنا النفي معتبرا مع الجلد لكان الجلد بعض الحد لا كل الحد فيفضي إلى نسخ كونه كل الحد الثالث: إن بتقدير كون الجلد كمال الحد فإنه يتعلق بذلك رد الشهادة ولو جعلناه بعض الحد لزال ذلك الحكم، فثبت أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ الآية ثانيها: قال أبو بكر الرازي لو كان النفي مشروعا مع الجلد لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوة الآية توقيف الصحابة عليه لئلا يعتقدوا عند سماع الآية أن الجلد هو كمال الحد ولو كان كذلك لكان اشتهاره مثل اشتهار الآية، فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل كان وروده من طريق الآحاد علم أنه غير معتبر وثالثها: ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمة: " إذا زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها، فإن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بطفير " وفي رواية أخرى: " فليجلدها الحد ولا تثريب عليه " ووجه الاستدلال به أنه لو كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد ورابعها: أنه إما أن يشرع التغريب في حق الأمة أو لا يشرع، ولا جائز أن يكون مشروعا لأنه يلزم منه الإضرار بالسيد من غير جناية صدرت منه وهو غير جائز، ولأنه قال صلى الله عليه وسلم: " بيعوها ولو بطفير " ولو وجب نفيها لما جاز بيعها لأن المكنة من تسليمها إلى المشتري لا تبقى بالنفي ولا جائز أن لا يكون مشروعا لقوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) وخامسها: أن التغريب لو كان مشروعا في حق الرجل لكان إما أن يكون مشروعا في حق المرأة أو لا يكون، والثاني باطل لأن التساوي في الجناية قد وجد في حقهما، وإن كان مشروعا في حق المرأة فإما أن يكون مشروعا في حقها وحدها أو مع ذي محرم والأول غير جائز للنص والمعقول، أما النص فقوله عليه السلام: " لا يحل لامرأة أن تسافر من غير ذي محرم " وأما المعقول فهو أن
136

الشهوة غالبة في النساء، والانزجار بالدين إنما يكون في الخواص من الناس، فإن الغالب لعدم الزنا من النساء بوجود الحفاظ من الرجال، وحيائهن من الأقارب. وبالتغريب تخرج المرأة من أيدي القرباء والحفاظ، ثم يقل حياؤها لبعدها عن معارفها فينفتح عليها باب الزنا، فربما كانت فقيرة فيشتد فقرها في السفر، فيصير مجموع ذلك سببا لفتح باب هذه الفاحشة العظيمة عليها. ولا جائز أن يقال إنا نغربها مع الزوج أو المحرم، لأن عقوبة غير الجاني لا تجوز لقوله تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الأنعام: 164) وسادسها: ما روي عن عمر أنه غرب ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل، فقال عمر لا أغرب بعدها أحدا ولم يستثن الزنا. وروي عن علي عليه السلام أنه قال في البكرين إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة، وعن ابن عمر أن أمة له زنت فجلدها ولم ينفها، ولو كان النفي معتبرا في حد الزنا لما خفي ذلك على أكابر الصحابة وسابعها: ما روي " أن شيخا وجد على بطن جارية يحنث بها في خربة فأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اجلدوه مائة، فقيل إنه ضعيف من ذلك فقال خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله ". ولو كان النفي واجبا لنفاه، فإن قيل إنما لم ينفه لأنه كان ضعيفا عاجزا عن الحركة، قلنا كان ينبغي أن يكتري له دابة من بيت المال ينفى عليها. فإن قيل كان عسى يضعف عن الركوب، قلنا من قدر على الزنا كيف لا يقدر على الاستمساك! وثامنها: أن التغريب نظير القتل لقوله تعالى: * (أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم) * فنزلهما منزلة واحدة، فإذا لم يشرع القتل في زنا البكر وجب أن لا يشرع أيضا نظيره وهو التغريب. والجواب: عن الأول أنه ليس في كلام الله تعالى إلا إدخال حرف الفاء على الأمر بالجلد، فأما أن الذي دخل عليه هذا الحرف فإنه يسمى جزاء، فليس هذا من كلام الله ولا من كلام رسوله، بل هو قول بعض الأدباء فلا يكون حجة.
أما قوله ثانيا: لو كان النفي مشروعا لما كان الجلد كل الحد، فنقول لا نزاع في أنه زال أمره لأن إثبات كل شيء لا أقل من أن يقتضي زوال عدمه الذي كان، إلا أن الزائل ههنا ليس حكما شرعيا، بل الزائل محض البراءة الأصلية، ومثل هذه الإزالة لا يمتنع إثباتها بخبر الواحد، وإنما قلنا إن الزائل محض العدم الأصلي، وذلك لأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب. والقدر المشترك بين القسمين لا إشعار له بواحد من القسمين.
فإذن إيجاب الجلد لا إشعار فيه البتة لا بإيجاب التغريب ولا بعدم إيجابه، إلا أن نفي التغريب كان معلوما بالعقل نظرا إلى البراءة الأصلية، فإذا جاء خبر الواحد ودل على وجوب التغريب، فما أزال البتة شيئا من مدلولات اللفظ الدال على وجوب الجلد بل أزال البراءة الأصلية، فأما كون الجلد وحده مجزيا، وكونه وحده كمال الحد. وتعلق رد الشهادة عليه، فكل ذلك تابع لنفي وجوب الزيادة. فلما كان ذلك النفي معلوما بالعقل جاز قبول خبر الواحد فيه، كما أن الفروض لو كانت خمسا لتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف، وقبول الشهادة
137

ولو زيد فيها شيء آخر لتوقف الخروج عن العهدة وقبول الشهادة على أداء تلك الزيادة، مع أنه يجوز إثباته بخبر الواحد والقياس فكذا ههنا. أما لو قال الله تعالى الجلد كمال الحد وعلمنا أنها وحدها متعلق رد الشهادة، فلا يقبل ههنا في إثبات الزيادة خبر الواحد لأن نفي وجوب الزيادة ثبت بدليل شرعي متواتر والجواب: عن الثاني أنه لو صح ما ذكره لوجب في كل ما خصص آية عامة أن يبلغ في الاشتهار مبلغ تلك الآية، ومعلوم أنه ليس كذلك والجواب: عن الثالث أن قوله: " ثم بيعوها " لا يفيد التعقيب فلعلها تنفى ثم بعد النفي تباع والجواب: عن الرابع أنه معارض بما روى الترمذي في جامعه أنه عليه السلام جلد وغرب، وأن أبا بكر جلد وغرب والجواب: عن الخامس أن للشافعي رحمه الله في تغريب العبد قولين: أحدهما: لا يغرب لأنه عليه السلام قال: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد " ولم يأمر بالتغريب، ولأن التغريب للمعرة ولا معرة على العبد فيه، لأنه ينقل من يد إلى يد، ولأن منافعه للسيد ففي نفيه إضرار بالسيد والثاني: وهو الأصح أنه يغرب لقوله تعالى: * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) ولا ينظر إلى ضرر المولى كما يقتل العبد بسبب الردة ويجلد العبد في الزنا والقذف، وإن تضرر به المولى فعلى هذا كم يغرب فيه قولان: أحدهما: يغرب نصف سنة لأنه يقبل التنصيف كما يجلد نصف حد الأحرار والثاني: يغرب سنة لأن التغريب المقصود منه الإيحاش وذلك معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء أو العنة والجواب: عن السادس أن المرأة لا تغرب وحدها بل مع محرم، فإن لم يتبرع المحرم بالخروج معها أعطى أجرته من بيت المال، وإن لم يكن لها محرم تغرب مع النساء الثقات، كما يجب عليها الخروج إلى الحج معهن. قوله التغريب يفتح عليها باب الزنا، قلنا لا نسلم فإن أكثر الزنا بالإلف والمؤانسة وفراغ القلب، وأكثر هذه الأشياء تبطل بالغربة، فإن الإنسان يقع في الوحشة والتعب والنصب فلا يتفرغ للزنا والجواب: عن السابع، أي استبعاد في أن يكون الإنسان الذي يعجز عن ركوب الدابة يقدر على الزنا؟ والجواب: عن الثامن أنه ينتقض بالتغريب إذا وقع على سبيل التعزير والله أعلم. المسألة الثالثة: اتفقت الأمة على أن قوله سبحانه وتعالى: * (الزانية والزاني) * يفيد الحكم في كل الزناة، لكنهم اختلفوا في كيفية تلك الدلالة فقال قائلون لفظ الزاني يفيد العموم، والمختار أنه ليس كذلك ويدل عليه أمور: أحدها: أن الرجل إذا قال لبست الثوب أو شربت الماء لا يفيد العموم وثانيها: أنه لا يجوز توكيده بما يؤكد به الجمع، فلا يقال جاءني الرجل أجمعون وثالثها: لا ينعت بنعوت الجمع فلا يقال جاءني الرجل الفقراء، وتكلم الفقيه الفضلاء، فأما قولهم أهلك الناس الدرهم البيض والدينار الصفر، فمجاز بدليل أنه لا يطرد، وأيضا فإن كان الدينار الصفر حقيقة وجب أن يكون الدينار الأصفر مجازا، كما أن الدنانير الصفر لما كانت
138

حقيقة كان الدنانير الأصفر مجازا ورابعها: أن الزاني جزئي من هذا الزاني، فإيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد الزاني، فلو كان إيجاب جلد الزاني إيجابا لجلد كل زان لزم أن يكون إيجاب جلد هذا الزاني إيجاب جلد كل زان، ولما لم يكن كذلك بطل ما قالوه. فإن قيل لم لا يجوز أن يقال اللفظ المطلق إنما يفيد العموم بشرط العراء عن لفظ التعيين، أو يقال اللفظ المطلق وإن اقتضى العموم إلا أن لفظ التعيين يقتضي الخصوص، قلنا أما الأول فباطل لأن العدم لا دخل له في التأثير، أما الثاني فلأنه يقتضي التعارض وهو خلاف الأصل وخامسها: أن يقال الإنسان هو الضحاك فلو كان المفهوم من قولنا الإنسان هو كل الإنسان لنزل ذلك منزلة ما يقال كل إنسان هو الضحاك، وذلك متناقض لأنه يقتضي حصر الإنسانية في كل واحد من الناس ومعنى الحصر هو أن يثبت فيه لا في غيره فيلزم أن يصدق على كل واحد من أشخاص الناس أنه هو الضحاك لا غير واحتج المخالف بوجهين: الأول: أنه يجوز الاستثناء منه لقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل تحته الثاني: أن الألف واللام للتعريف، وليس ذلك لتعريف الماهية، فإن ذلك قد حصل بأصل الاسم، ولا لتعريف واحد بعينه، فإنه ليس في اللفظ دلالة عليه، ولا لتعريف بعض مراتب الخصوص فإنه ليس بعض المراتب أولى من بعض، فوجب حمله على تعريف الكل والجواب: عن الأول أن ذلك الاستثناء مجاز بدليل أنه لا يصح أن يقال رأيت الإنسان إلا المؤمنين، وعن الثاني أنه يشكل بدخول الألف واللام على صيغة الجمع، فإن جعلتها هناك للتأكيد فكذا ههنا، ومن الناس من قال إن قوله تعالى: * (الزانية والزاني) * وإن كان لا يفيد العموم بحسب اللفظ، لكنه يفيده بحسب القرينة وذلك من وجهين: الأول: أن ترتيب الحكم على الوصف المشتق يفيد كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا وههنا كذلك، فيدل ذلك على أن الزنا علة لوجوب الجد، فيلزم أن يقال أينما تحقق الزنا يتحقق وجوب الجلد ضرورة أن العلة لا تنفك عن المعلول الثاني: أن المراد من قوله: * (الزانية والزاني) * إما أن يكون كل الزناة أو البعض، فإن كان الثاني صارت الآية مجملة وذلك يمنع من إمكان العمل به، لكن العمل به مأمور وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فوجب حمله على العموم حتى يمكن العمل به والله أعلم.
البحث الثالث: في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبا للرجم تارة والجلد أخرى، فنقول: أجمعوا على أن كون الزنا موجبا لهذين الحكمين مشروط بالعقل وبالبلوغ فلا يجب الرجم والحد على الصبي والمجنون وهذان الشرطان ليسا من خواص هذين الحكمين بل هما معتبران في كل العقوبات، أما كونهما موجبين للرجم فلا بد مع العقل والبلوغ من أمور أخر: الشرط الأول: الحرية وأجمعوا على أن الرقيق لا يجب عليه الرجم البتة الشرط الثاني: التزوج بنكاح صحيح، فلا يحصل الإحصان بالإصابة بملك اليمين ولا بوطء الشبهة ولا بالنكاح الفاسد الشرط
139

الثالث: الدخول ولا بد منه لقوله عليه السلام: " الثيب بالثيب " وإنما تصير ثيبا بالوطء وههنا مسألتان:
المسألة الأولى: هل يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل، فيه وجهان: أحدهما: لا يشترط حتى لو أصاب عبد أمة بنكاح صحيح أو في حال الجنون والصغر ثم كمل حاله فزنى يجب عليه الرجم، لأنه وطء يحصل به التحليل للزوج الأول فيحصل به الإحصان كالوطء في حال الكمال، ولأن عقد النكاح يجوز أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطء والثاني: وهو الأصح وهو ظاهر النص، وقول أبي حنيفة رحمه الله يشترط أن تكون الإصابة بالنكاح بعد البلوغ والحرية والعقل، لأنه لما شرط أكمل الإصابات وهو أن يكون بنكاح صحيح شرط أن يكون تلك الإصابة في حال الكمال.
المسألة الثانية: هل يعتبر الكمال في الطرفين أو يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه دون صاحبه فيه قولان: أحدهما: معتبر في الطرفين حتى لو وطئ الصبي بالغة حرة عاقلة فإنه لا يحصنها وهو قول أبي حنيفة ومحمد والثاني: يعتبر في كل واحد منهما كماله بنفسه وهو قول أبي يوسف رحمه الله.
حجة القول الأول: أنه وطء لا يفيد الإحصان لأحد الوطئين فلا يفيد في الآخر كوطء الأمة.
حجة القول الثاني: أنه لا يشترط كونهما على صفة الإحصان وقت النكاح وكذا عند الدخول الشرط الرابع: الإسلام ليس شرطا في كون الزنا موجبا للرجم عند الشافعي رحمه الله وأبي يوسف، وقال أبو حنيفة رحمه الله شرط، احتج الشافعي بأمور: أحدها: قوله عليه السلام: " فإذا قبلوا الجزية فانبئوهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " ومن جملة ما على المسلم كونه بحيث يجب عليه الرجم عند الإقدام على الزنا، فوجب أن يكون الذمي كذلك لتحصل التسوية وثانيها: حديث مالك عن نافع عن ابن عمر أنه عليه السلام رجم يهوديا ويهودية زنيا فإما أن يقال إنه عليه السلام حكم بذلك بشريعته أو بشريعة من قبله، فإن كان الأول فالاستدلال به بين، وإن كان الثاني فكذلك لأنه صار شرعا له وثالثها: أن زنا الكافر مثل زنا المسلم فيجب عليه مثل ما يجب على المسلم وذلك لأن الزنا محرم قبيح فيناسب الزجر وإيجاب الرجم يصلح زاجرا له ولا يبقى إلا التفاوت بالكفر والإيمان، والكفر وإن كان لا يوجب تغليظ الجناية فلا يوجب تخفيفها واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: التمسك بعموم قوله: * (الزانية والزاني) * وجب العمل به في حق المسلم ولا يجب في الذمي لمعنى مفقود في الذمي، ووجه الفرق أن القتل بالأحجار عقوبة عظيمة فلا يجب إلا بجناية عظيمة، والجناية تعظم بكفران النعم في حق الجاني عقلا وشرعا، أما العقل فلأن المعصية كفران النعمة وكلما كانت النعم أكثر وأعظم كان كفرانها أعظم وأقبح، وأما الشرح فلأن الله تعالى قال في حق نساء النبي صلى الله عليه وسلم: * (يا نساء النبي من يأت
140

منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) * (الأحزاب: 30) فلما كانت نعم الله تعالى في حقهن أكثر كان العذاب في حقهن أكثر، وقال في حق الرسول: * (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا * إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * (الإسراء: 74، 75) وإنما عظمت معصيته لأن النعمة في حقه أعظم وهي نعمة النبوة، ومن المعلوم أن نعم الله تعالى في حق المسلم المحصن أكثر منها في حق الذمي، فكانت معصية المسلم أعظم فوجب أن تكون عقوبته أشد وثانيها: أن الذمي لم يزن بعد الإحصان فلا يجب عليه القتل بيان الأول: قوله عليه السلام: " من أشرك بالله طرفة عين فليس بمحصن " بيان الثاني: أن المسلم الذي لا يكون محصنا لا يجب عليه القتل لقوله عليه السلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث " وإذا كان المسلم كذلك وجب أن يكون الذمي كذلك لقوله عليه السلام: " إذا قبلوا عقد الجزية فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " وثالثها: أجمعنا على أن إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام، فكان إحصان الرجم والجامع ما ذكرنا من كمال النعمة والجواب: عن الأول أنه خص عنه الثيب المسلم فكذا الثيب الذمي، وما ذكروه من حديث زيادة النعمة على المؤمنين فنقول نعمة الإسلام حصلت بكسب العبد فيصير ذلك كالخدمة الزائدة، وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببا لزيادة العقوبة، وعن الثاني لا نسلم أن الذمي مشرك سلمناه، لكن الإحصان قد يراد به التزوج لقوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 40) وفي التفسير: * (فإذا أحصن) * (النساء: 25) يعني فإذا تزوجن إذا ثبت هذا فنقول الذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه لقوله صلى الله عليه وسلم أو زنا بعد إحصان رتب الحكم في حق المسلم على هذا الوصف فدل على كون الوصف علة والوصف قائم في حق الذمي فوجب كونه مستلزما للحكم بالرجم وعن الثالث أن حد القذف لدفع العار كرامة للمقذوف، والكافر لا يكون محلا للكرامة وصيانة العرض بخلاف ما ههنا والله أعلم، أما ما يتعلق بالجلد ففيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن الرقيق لا يرجم واتفقوا على أنه يجلد، وثبت بنص الكتاب أن على الإماء نصف ما على المحصنات من العذاب، فلا جرم اتفقوا على أن الأمة تجلد خمسين جلدة، أما العبد فقد اتفق الجمهور على أنه يجلد أيضا خمسين إلا أهل الظاهر فإنهم قالوا عموم قوله: * (الزانية والزاني) * يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها كان ذلك تخصيصا لعموم الكتاب بالقياس وأنه غير جائز، ومنهم من قال الأمة إذا تزوجت فعليها خمسون جلدة وإذا لم تتزوج فعليها المائة، لظاهر قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * وذكروا أن قوله: * (فإذا أحصن) * أي تزوجن * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25).
المسألة الثانية: قال الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله، الذمي يجلد، وقال مالك رحمه الله لا يجلد لنا وجوه: أحدها: عموم قوله: * (الزانية والزاني) * وثانيها: قوله عليه السلام: " إذا زنت
141

أمة أحدكم فليجلدها " وقوله: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " ولم يفرق بين الذمي والمسلم وثالثها: أنه عليه السلام رجم اليهوديين، فذاك الرجم إن من كان من شرع محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل المقصود، وإن كان من شرعهم فلما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم صار ذلك من شرعه، وحقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
البحث الرابع: فيما يدل على صدور الزنا منه، اعلم أن ذلك لا يحصل إلا من أحد ثلاثة أوجه، إما بأن يراه الإمام بنفسه أو بأن يقر أو بأن يشهد عليه الشهود، أما
الوجه الأول: وهو ما إذا رآه الإمام قال الإمام محيي السنة في كتاب التهذيب لا خلاف أن على القاضي أن يمتنع عن القضاء بعلم نفسه مثل ما إذا ادعى رجل على آخر حقا وأقام عليه بينة، والقاضي يعلم أنه قد أبرأه، أو ادعى أنه قتل أباه وقت كذا، وقد رآه القاضي حيا بعد ذلك، أو ادعى نكاح امرأة وقد سمعه القاضي طلقها، لا يجوز أن يقضي به وإن أقام عليه شهودا، وهل يجوز للقاضي أن يقضي بعلم نفسه مثل أن ادعى عليه ألفا وقد رآه القاضي أقرضه أو سمع المدعي عليه أقربه فيه قولان أصحهما وبه قال أبو يوسف ومحمد والمزني رحمهم الله، أنه يجوز له أن يقضي بعلمه لأنه لما جاز له أن يحكم بشهادة الشهود وهو من قولهم على ظن فلأن يجوز بما رآه وسمعه وهو منه على علم أولى، قال الشافعي رحمه الله في كتاب الرسالة أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين أو بشاهدين وشاهد وامرأتين وهو أقوى من شاهد ويمين أو بشاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين.
والقول الثاني: لا يقضي بعلمه وهو قول ابن أبي ليلى، لأن انتفاء التهمة شرط في القضاء ولم يوجد هذا في المال، أما في العقوبات فينظر إن كان ذلك من حقوق العباد كالقصاص وحد القذف هل يحكم فيه بعلم نفسه يرتب على المال إن قلنا هناك لا يقضي فههنا أولى وإلا فقولان، والفرق أن مبنى حقوق الله تعالى على المساهلة والمسامحة، ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في بلد ولايته وزمان ولايته أو في غيره، وقال أبو حنيفة رحمه الله إن حصل له العلم في بلد ولايته أو في زمان ولايته له أن يقضي بعلمه وإلا فلا، فنقول العلم لا يختلف باختلاف هذه الأحوال، فوجب أن لا يختلف الحكم باختلافها والله أعلم.
الطريق الثاني: الإقرار قال الشافعي رحمه الله الإقرار بالزنا مرة واحدة يوجب الحد، وقال أبو حنيفة رحمه الله بل لا بد من الإقرار أربع مرات في أربع مجالس، وقال أحمد لا بد من الإقرار أربع مرات لكن لا فرق بين أن يكون في أربع مجالس أو في مجلس واحد، حجة الشافعي رحمه الله أمران: الأول: قصة العسيف فإنه قال عليه السلام فإن اعترفت فارجمها، وذلك دليل عل أن الاعتراف مرة واحدة كاف والثاني: أنه لما أقر بالزنا وجب الحد عليه لقوله عليه السلام اقض بالظاهر، والإقرار مرة واحدة يوجب الظهور لا سيما ههنا، وذلك لأن الصارف عن الإقرار بالزنا قوي، لما أنه سبب العار في الحال والألم الشديد في المآل، والصارف عن الكذب أيضا
142

قائم وعند اجتماع الصارفين يقوى الانصراف، فثبت أنه إنما أقدم على هذا الإقرار لكونه صادقا. وإذا ظهر اندرج تحت الحديث وتحت الآية، أو نقيسه على الإقرار بالقتل والردة، واحتج أبو حنيفة رحمه الله بوجوه: أحدها: قصة ماعز والاستدلال بها من وجوه: الأول: أنه عليه السلام أعرض عنه في المرة الأولى، ولو وجب عليه الحد لم يعرض عنه، لأن الإعراض عن إقامة حد الله تعالى بعد كمال الحجة لا يجوز الثاني: أنه عليه السلام قال: " إنك شهدت على نفسك أربع مرات " ولو كان الواحد مثل الأربع في إيجاب الحد كان هذا القول لغوا والثالث: روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لماعز بعدما أقر ثلاث مرات: " لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله " والرابع: عن بريدة الأسلمي قال: " كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقول لو لم يقر ماعز أربع مرات ما رجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم " وثانيها: أنهم قاسوا الإقرار على الشهادة فكما أنه لا يقبل في الزنا إلا أربع شهادات فكذا في الإقرار به والجامع السعي في كتمان هذه الفاحشة وثالثها: أن الزنا لا ينتفي إلا بأربع شهادات أو بأربع أيمان في اللعان فجاز أيضا أن لا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات، وبه يفارق سائر الحقوق فإنها تنتفي بيمين واحد، فجاز أيضا أن يثبت بإقرار واحد والجواب: عن الأول أنه ليس في الحديث إلا أنه عليه السلام حكم بالشهادات الأربع وذلك لا ينافي جواز الحكم بالشهادة الواحدة وعن الثاني: أن الفرق بينهما أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة لسقط الحد عن القاذف، ولولا أن الزنا ثبت لما سقط كما لو شهد اثنان بالزنا لا يسقط الحد عن القاذف حيث لم يثبت به الزنا والله أعلم.
والطريق الثالث: الشهادة وقد أجمعوا على أنه لا بد من أربع شهادات، ويدل عليه قوله تعالى: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * (النساء: 15) والكلام فيه سيأتي إن شاء الله تعالى في قوله: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *.
البحث الخامس: في أن المخاطب بقوله تعالى: * (فاجلدوا) * من هو؟ أجمعت الأمة على أن المخاطب بذلك هو الإمام، ثم احتجوا بهذا على وجوب نصب الإمام، قالوا لأنه سبحانه أمر بإقامة الحد، وأجمعوا على أنه لا يتولى إقامته إلا الإمام وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورا للمكلف فهو واجب فكان نصب الإمام واجبا، وقد مر بيان هذه الدلالة في قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (المائدة: 38) بقي ههنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله السيد يملك إقامة الحد على مملوكه. وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا يملك، وقال مالك يحده المولى من الزنا وشرب الخمر والقذف ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام وهو قول الليث، واحتج الشافعي رحمه الله بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال عليه السلام: " إذا زنت أمة أحدكم
143

فليجلدها " وفي رواية أخرى " فليجلدها الحد " قال أبو بكر الرازي لا دلالة في هذه الأخبار، لأن قوله: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " هو كقوله: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * ومعلوم أن المراد منه رفعه إلى الإمام لإقامة الحد والمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة، وسائر الناس مخاطبون برفع الأمر إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود فكذلك قوله: " أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم " على هذا المعنى، وأما قوله: " إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها " فإنه ليس كل جلد حدا، لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير، فإذا عزرنا فقد وفينا بمقتضى الحديث. والجواب: أن قوله: " أقيموا الحدود " أمر بإقامة الحد فحمل هذا اللفظ على رفع الواقعة إلى الإمام عدول عن الظاهر، أقصى ما في الباب أنه ترك الظاهر في قوله فاجلدوا، لكن لا يلزم من ترك الظاهر هناك تركه ههنا، أما قوله: " فليجلدها " المراد هو التعزير فباطل لأن الجلد المذكور عقيب الزنا لا يفهم منه إلا الحد وثانيها: أن السلطان لما ملك إقامة الحد عليه فسيده به أولى لأن تعلق السيد بالعبد أقوى من
تعلق السلطان به، لأن الملك أقوى من عقد البيعة، وولاية السادة على العبيد فوق ولاية السلطان على الرعية، حتى إذا كان للأمة سيد وأب فإن ولاية النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الأب مقدم على السلطان في ولاية النكاح فيكون السيد مقدما على السلطان بدرجات فكان أولى، ولأن السيد يملك من التصرفات في هذا المحل ما لا يملكه الإمام فثبت أن المولى أولى وثالثها: أجمعنا على أن السيد يملك التعزير فكذا الحد، لأن كل واحد نظير الآخر وإن كان أحدهما مقدرا والآخر غير مقدر، واحتج أبو بكر الرازي على مذهب أبي حنيفة بوجوه: أحدها: قال قوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * لا شك أنه خطاب مع الأئمة دون عامة الناس، فالتقدير فاجلدوا أيها الأئمة والحكام كل واحد منهما مائة جلدة، ولم يفرق في هذه الآية بن المحدودين من الأحرار والعبيد، فوجب أن تكون الأئمة هم المخاطبون بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي وثانيها: أنه لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود، لأن تضمين الشهود يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة، لأنه لو لم يكن يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئا فكان يصير حاكما لنفسه بإيجاب الضمان عليهم وذلك باطل لأنه ليس لأحد من الناس أن يحكم لنفسه. فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده بذلك ولا قطعه وثالثها: أن المالك ربما لا يستوفي الحد بكماله لشفقته على ملكه، وإذا كان متهما وجب أن لا يفوض إليه والجواب: عن الأول أن قوله * (فاجلدوا) * ليس بصريحه خطابا مع الإمام، لكن بواسطة أنه لما انعقد الإجماع على أن غير الإمام لا يتولاه حملنا ذلك الخطاب على الإمام، وههنا لم ينعقد الإجماع على أن الإمام لا يتولاه لأنه عين النزاع والجواب: عن الثاني قال محيي السنة في كتاب " التهذيب " هل يجوز للمولى قطع يد عبده بسبب السرقة أو قطع الطريق؟ فيه وجهان أصحهما أنه يجوز، نص عليه في رواية البويطي لما روي
144

عن ابن عمر أنه قطع عبدا له سرق وكما يجلده في الزنا وشرب الخمر والثاني: لا بل القطع إلى الإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير ولا يملك جنس القطع، ثم قال وكل حد يقيمه المولى على عبده إنما يقيمه إذا ثبت باعتراف العبد، فإن كانت عليه بينة فهل يسمع المولى الشهادة، فيه وجهان: أحدهما: يسمع لأنه ملك الإقامة بالاعتراف فيملك بالبينة كالإمام والثاني: لا يسمع بل ذاك إلى الحكام والجواب: عن الثالث أنه منقوض بالتعزير.
المسألة الثانية: إذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود، بل الأولى أن يعينوا واحدا من الصالحين ليقوم به.
المسألة الثالثة: الخارجي المتغلب هل له إقامة الحدود؟ قال بعضهم له ذلك وقال آخرون: ليس له ذلك، لأن إقامة الحد من جهة من لم يلزمنا أن نزيل ولايته أبعد من أن نفوض ذلك إلى رجل من الصالحين.
البحث السادس: في كيفية إقامة الحد، أما الجلد، فاعلم أن المذكور في الآية هو الجلد، وهذا مشترك بين الجلد الشديد، والجلد الخفيف، والجلد على كل الأعضاء أو على بعض الأعضاء، فحينئذ لا يكون في الآية إشعار بشيء من هذه القيود، بل مقتضى الآية أن يكون الآتي بالجلد كيف كان خارجا عن العهدة، لأنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج من العهدة، قال صاحب " الكشاف " وفي لفظ الجلد إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم، ولأن الجلد ضرب الجلد، يقال جلده كقولك ظهره بفتح الهاء وبطنه ورأسه، إلا أنا لما عرفنا أن المقصود منه الزجر والزجر لا يحصل إلا بالجلد الخفيف لا جرم تكلم العلماء في صفة الجلد على سبيل القياس ثم هنا مسائل:
المسألة الأولى: المحصن يجلد مع ثيابه ولا يجرد، ولكن ينبغي أن يكون بحيث يصل الألم إليه، وينزع من ثيابه الحشو والفرو. روي أن أبا عبيدة بن الجراح أتى برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه، وقال ما ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص، فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه فضربه عليه. أما المرأة فلا خلاف في أنه لا يجوز تجريدها، بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف، ويلي ذلك منها امرأة.
المسألة الثانية: لا يمد ولا يربط بل يترك حتى يتقي بيديه، ويضرب الرجل قائما والمرأة جالسة. قال أبو يوسف رحمه الله: ضرب ابن أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة.
المسألة الثالثة: يضرب بسوط وسط لا جديد يجرح ولا خلق لم يؤلم، ويضرب ضربا بين ضربين لا شديد ولا واه. روى أبو عثمان النهدي قال أتى عمر برجل في حد ثم جيء بسوط فيه شدة، فقال أريد ألين من هذا، فأتى بسوط فيه لين، فقال أريد أشد من هذا، فأتى بسوط بين السوطين فرضي به.
المسألة الرابعة: تفرق السياط على أعضائه ولا يجمعها في موضع واحد، واتفقوا على
145

أنه يتقي المهالك كالوجه والبطن والفرج، ويضرب على الرأس عند الشافعي رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يضرب على الرأس، وهو قول على حجة الشافعي رحمه الله. قال أبو بكر أضرب على الرأس فإن الشيطان فيه. وعن عمر أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه حين سأل عن الذاريات على وجه التعنت، حجة أبي حنيفة رحمه الله، أجمعنا على أنه لا يضرب على الوجه فكذا الرأس والجامع الحكم والمعنى. أما الحكم فلأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه، بدليل أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه واحد، وفارقا سائر البدن، لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما يجب فيها حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة والواقعة في الرأس والوجه، فوجب استواء الرأس والوجه في وجوب صونهما عن الضرب. وأما المعنى فهو إنما منع من ضرب الوجه لما كان فيه من الجناية على البصر، وذلك موجود في الرأس، لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر، وربما حدث منه الماء في العين، وربما حدث منه اختلاط العقل. أجاب أصحابنا عنه بأن الفرق بين الوجه والرأس ثابت، لأن الضربة إذا وقعت على الوجه، فعظم الجبهة رقيق فربما انكسر بخلاف عظم القفا، فإنه في نهاية الصلابة، وأيضا فالعين في نهاية اللطافة، فالضرب عليها يورث العمى، وأيضا فالضرب على الوجه يكسر الأنف لأنه من غضروف لطيف، ويكسر الأسنان لأنها عظام لطيفة، ويقع على الخدين وهما لحمان قريبان من الدماغ، والضربة عليهما في نهاية الخطر لسرعة وصول ذلك الأثر إلى جرم الدماغ، وكل ذلك لم يوجد في الضرب على
الرأس.
المسألة الخامسة: لو فرق سياط الحد تفريقا لا يحصل به التنكيل، مثل أن يضرب كل يوم سوطا أو سوطين لا يحسب، وإن ضرب كل يوم عشرين أو أكثر يحسب، والأولى أن لا يفرق.
المسألة السادسة: إن وجب الحد على الحبلى لا يقام حتى تضع، روى عمران بن الحصين: أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، فقالت يا نبي الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله وليها فقال أحسن إليها، فإذا وضعت فاتني بها ففعل، فأمر بها نبي الله صلى الله عليه وسلم فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها، ولأن المقصود التأديب دون الإتلاف.
المسألة السابعة: إن وجب الجلد على المريض نظر، فإن كان به مرض يرجى زواله من صداع أو ضعف أو ولادة يؤخر حتى يبرأ، كما لو أقيم عليه حد أو قطع لا يقام عليه حد آخر حتى يبرأ من الأول، وإن كان به مرض لا يرجى زواله، كالسل والزمانة فلا يؤخر ولا يضرب بالسياط فإنه يموت وليس المقصود موته، وذلك لا يختلف سواء كان زناه في حال الصحة ثم مرض أو في حال المرض، بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ فيقول ذلك مقام مائة جلدة. كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * (ص: 44) وعند
146

أبي حنيفة رحمه الله: يضرب بالسياط، دليلنا ما روي أن رجلا مقعدا أصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة، ولأن الصلاة إذا كانت تختلف باختلاف حاله فالحد أولى بذلك.
المسألة الثامنة: يقام الحد في وقت اعتدال الهواء، فإن كان في حال شدة حر أو برد نظر إن كان الحد رجما يقام عليه كما يقام في المرض لأن المقصود قتله، وقيل إن كان الرجم ثبت عليه بإقراره فيؤخر إلى اعتدال الهواء وزوال المرض الذي يرجى زواله، لأنه ربما رجع عن إقراره في خلال الرجم وقد أثر الرجم في جسمه فتعين شدة الحر والبرد والمرض على إهلاكه بخلاف ما لو ثبت بالبينة لأنه لا يسقط، وإن كان الحد جلدا لم يجز إقامته في شدة الحر والبرد كما لا يقام في المرض. أما الرجم ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الشافعي رحمه الله، ومالك رحمه الله: يجوز للإمام أن يحضر رجمه وأن لا يحضر، وكذا الشهود لا يلزمهم الحضور. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن ثبت الزنا بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس، وإن ثبت بإقرار بدأ الإمام ثم الناس. حجة الشافعي رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما.
المسألة الثانية: إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك، وقع به بعض الحد أو لم يقع. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله والثوري وأحمد وإسحق، وقال الحسن وابن أبي ليلى وداود لا يقبل رجوعه، وعن مالك رحمه الله روايتان.
حجة القول الأول: أن ماعزا لما مسته الحجارة وهرب، فقال عليه السلام: " هلا تركتموه ".
المسألة الثالثة: يحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل، لما روى أبو سعيد الخدري " أن ماعزا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله إني أصبت فاحشة فأقم على الحد، فرده النبي عليه السلام مرارا، ثم سأل قومه، فقالوا: لا نعلم به بأسا فأمرنا أن نرجمه، فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد فما أوثقناه ولا حفرنا له، قال فرميناه بالعظام والمدر والخزف، قال فاشتد واشتددنا خلفه حتى أتى عرض الحرة وانتصب لنا فرميناه بجلاميد الحرة حتى سكن " وجه الاستدلال أنه قال: " فما أوثقناه ولا حفرنا له " ولأنه هرب، ولو كان في حفرة لما أمكنه ذلك.
المسألة الرابعة: إذا مات في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، فهذا ما أردنا ذكره من بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الآية.
أما المباحث العقلية: فاعلم أن من الناس من قال: لا شك أن البدن مركب من أجزاء كثيرة، فإما أن يقوم بكل جزء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بكل الأجزاء حياة واحدة وعلم واحد وقدرة واحدة، والثاني محال لاستحالة قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة فتعين
147

الأول، وإذا كان كذلك كان كل جزء من أجزاء البدن حيا على حدة وعالما على حدة وقادرا على حدة، وإذا ثبت هذا فنقول الزاني هو الفرج لا الظهر، فكيف يحسن من الحكيم أن يأمر بجلد الظهر، ولأنه ربما كان الإنسان حال إقدامه على الزنا عجيفا نحيفا ثم يسمن بعد ذلك فكيف يجوز إيلام تلك الأجزاء الزائدة مع أنها كانت بريئة عن فعل الزنا، فإن قال قائل هذا مدفوع من وجهين: الأول: وهو أنه ليس كل واحد من أجزاء البدن فاعلا على حدة وحيا على حدة وذلك محال، بل الحياة والعلم والقدرة تقوم بالجزء الواحد ثم توجب حكم الحيية والعالمية والقادرية لمجموع الأجزاء، فيكون المجموع حيا واحدا عالما واحدا قادرا واحدا، وعلى هذا التقدير يزول السؤال الثاني: أن يقال الذي هو الفاعل والمحرك والمدرك شيء ليس بجسم ولا جسماني. وإنما هو مدبر لهذا البدن، وعلى هذا التقدير أيضا يزول السؤال والجواب: أما الأول فضعيف، وذلك لأن العلم إذا قام بجزء واحد، فإما أن يحصل بمجموع الأجزاء عالمية واحدة فيلزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وهو محال، أو يقوم بكل جزء عالمية على حدة فيعود المحذور المذكور، وأما الثاني ففي نهاية البعد لأنه إذا كان الفاعل للقبيح هو ذلك المباين فلم يضرب هذا الجسد؟ واعلم أن المقصود من أحكام الشرع رعاية المصالح، ونحن نعلم أن شرع الحد يفيد الزجر، فكان المقصود حاصلا والله أعلم.
أما قوله تعالى: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الرأفة الرقة والرحمة وقراءة العامة بسكون الهمزة وقرئ رأفة بفتح الهمزة ورآفة على فعالة.
المسألة الثانية: يحتمل أن يكون المراد أن لا تأخذكم رأفة بأن يعطل الحد أو ينقص منه، والمعنى لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها للشفقة والرحمة، وهذا قول مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير واختيار الفراء والزجاج، ويحتمل أن لا تأخذكم رأفة بأن يخفف الجلد وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وقتادة، ويحتمل كلا الأمرين والأول أولى لأن الذي تقدم ذكره الأمر بنفس الجلد، ولم يذكر صفته، فما يعقبه يجب أن يكون راجعا إليه وكفى برسول الله أسوة في ذلك حيث قال: " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " ونبه بقوله في دين الله على أن الدين إذا أوجب أمرا لم يصح استعمال الرأفة في خلافه. أما قوله تعالى: * (إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فهو من باب التهييج والنهاب الغضب لله تعالى ولدينه. قال الجبائي تقدير الآية: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود، وهذا يدل على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان بخلاف ما تقوله المرجئة والجواب: أن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه أن الأولى أن لا تقام تلك الحدود، وحينئذ يكون منكرا للدين فيخرج عن الإيمان في الحديث " يؤتى بوال نقص من الحد سوطا، فيقال له لم فعلت ذاك؟
148

فيقول رحمة لعبادك، فيقال له أنت أرحم بهم مني! فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطا فيقال له لم فعلت ذلك؟ فيقول لينتهوا عن معاصيك، فيقول أنت أحكم به مني! فيؤمر به إلى النار ".
أما قوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة) * أمر وظاهره للوجوب، لكن الفقهاء قالوا يستحب حضور الجمع والمقصود إعلان إقامة الحد، لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من رفع التهمة عمن يجلد، وقيل أراد بالطائفة الشهود لأنه يجب حضورهم ليعلم بقاؤهم على الشهادة.
المسألة الثانية: اختلفوا في أقل الطائفة على أقوال: أحدها: أنه رجل واحد وهو قول النخعي ومجاهد. واحتجا بقوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * (الحجرات: 9) وثانيها: أنه اثنان وهو قول عكرمة وعطاء واحتجا بقوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) * (التوبة: 122) وكل ثلاثة فرقة والخارج من الثلاثة واحد أو اثنان، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وثالثها: أنه ثلاثة وهو قول الزهري وقتادة، قالوا الطائفة هي الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، كأنها الجماعة الحافة حول الشيء، وهذه الصورة أقل ما لا بد في حصولها هو الثلاثة ورابعها: أنه أربعة بعدد شهود الزنا، وهو قول ابن عباس والشافعي رضي الله عنهم وخامسها: أنه عشرة وهو قول الحسن البصري، لأن العشرة هي العدد الكامل.
المسألة الثالثة: تسميته عذابا يدل على أنه عقوبة، ويجوز أن يسمى عذابا لأنه يمنع المعاودة كما سمي نكالا لذلك، ونبه تعالى بقوله: * (من المؤمنين) * على أن الذين يشهدون يجب أن يكونوا بهذا الوصف، لأنهم إذا كانوا كذلك عظم موقع حضورهم في الزجر وعظم موقع إخبارهم عما شاهدوا فيخاف المجلود من حضورهم الشهرة، فيكون ذلك أقوى في الانزجار. والله أعلم. الحكم الثاني
قوله تعالى
* (الزانى لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحهآ إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين) *.
قرىء * (لا ينكح) * بالجزم عن النهي، وقرئ * (وحرم) * بفتح الحاء ثم إن في الآية سؤالات:
السؤال الأول: قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) * ظاهره خبر، ثم إنه ليس الأمر كما يشعر به هذا الظاهر، لأنا نرى أن الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
السؤال الثاني: أنه قال: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * وليس كذلك، فإن المؤمن يحل له
149

التزوج بالمرأة الزانية والجواب: اعلم أن المفسرين لأجل هذين السؤالين ذكروا وجوها: أحدها: وهو أحسنها، ما قاله القفال: وهو أن اللفظ وإن كان عاما لكن المراد منه الأعم الأغلب، وذلك لأن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب كما يقال لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي فكذا ههنا.
وأما قوله: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * فالجواب من وجهين: أحدهما: أن نكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها، وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنا محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتسبب لسوء المقالة فيه والغيبة. ومجالسة الخاطئين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والفجار الثاني: وهو أن صرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات محرم على المؤمنين، لأن قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * معناه أن الزاني لا يرغب إلا في الزانية فهذا الحصر محرم على المؤمنين، ولا يلزم من حرمة هذا الحصر حرمة التزوج بالزانية، فهذا هو المعتمد في تفسير الآية: الوجه الثاني: أن الألف واللام في قوله: * (الزاني) * وفي قوله: * (وحرم ذلك على المؤمنين) * وإن كان للعموم ظاهرا لكنه ههنا مخصوص بالأقوام الذين نزلت هذه الآية فيهم، قال مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة، قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة، ولكل واحدة منهن علامة على بابها كعلامة البيطار، ليعرف أنها زانية، وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين، وقالوا نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فتقدير الآية أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحهن إلا أولئك الزواني وحرم نكاحهن على المؤمنين الوجه الثالث: في الجواب أن قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية)
* وإن كان خبرا في الظاهر، لكن المراد النهي، والمعنى أن كل من كان زانيا فلا ينبغي أن ينكح إلا زانية وحرم ذلك على المؤمنين. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام، وعلى هذا الوجه ذكروا قولين: أحدهما: أن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس ويقال هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة، ثم في هؤلاء من يسوي بين الابتداء والدوام. فيقول كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك لا يحل له إذا زنت تحته أن يقيم عليها، ومنهم من يفصل لأن في جملة ما يمنع من التزويج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة.
150

والقول الثاني: أن هذا الحكم صار منسوخا واختلفوا في ناسخه، فعن الجبائي أن ناسخه هو الإجماع وعن سعيد بن المسيب أنه منسوخ بعموم قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * (النساء: 3) * (وأنكحوا الأيامى) * (النور: 32) قال المحققون هذان الوجهان ضعيفان أما الأول: فلأنه ثبت في أصول الفقه أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وأيضا فالإجماع الحاصل عقيب الخلاف لا يكون حجة، والإجماع في هذه المسألة مسبوق بمخالفة أبي بكر وعمر وعلي فكيف يصح؟
وأما قوله تعالى: * (فانكحوا ما طاب لكم) * فهو لا يصح أن يكون ناسخا، لأنه لا بد من أن يشترط فيه أن لا يكون هناك مانع من النكاح من سبب أو نسب أو غيرهما، ولقائل أن يقول لا يدخل فيه تزويج الزانية من المؤمن، كما لا يدخل فيه تزويجها من الأخ وابن الأخ، ونقول إن للزنا تأثيرا في الفرقة ما ليس لغيره، ألا ترى أنه إذا قذفها بالزنا يتبعها بالفرقة على بعض الوجوه، ولا يجب مثل ذلك في سائر ما يوجب الحد، ولأن من حق الزنا أن يورث العار ويؤثر في الفراش ففارق غيره. ثم احتج هؤلاء الذين يدعون هذا النسخ، بأنه سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل زنى بامرأة فهل له أن يتزوجها؟ فأجازه ابن عباس وشبهه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: " أوله سفاح وآخره نكاح " والحرام لا يحرم الحلال. الوجه الرابع: أن يحمل النكاح على الوطء والمعنى أن الزاني لا يطأ حين يزني إلا زانية أو مشركة وكذا الزانية * (وحرم ذلك على المؤمنين) * أي وحرم الزنا على المؤمنين وعلى هذا تأويل أبي مسلم، قال الزجاج هذا التأويل فاسد من وجهين: الأول: أنه ما ورد النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج، ولم يرد البتة بمعنى الوطء الثاني: أن ذلك يخرج الكلام عن الفائدة، لأنا لو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية فالإشكال عائد، لأنا نرى أن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها ولو قلنا المراد أن الزاني لا يطأ إلا الزانية حين يكون وطؤه زنا فهذا الكلام لا فائدة فيه، وهذا آخر الكلام في هذا المقام.
السؤال الثالث: أي فرق بين قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * وبين قوله: * (والزانية لا ينكحها إلا زان) *؟ والجواب: الكلام الأول يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية وهذا لا يمنع من أن يرغب في نكاح الزانية غير الزاني فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني.
السؤال الرابع: لم قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وههنا بالعكس الجواب: سبقت تلك الآية لعقوبتها على جنايتها، والمرأة هي المادة في الزنا، وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه هو الراغب والطالب.
الحكم الثالث
القذف
قوله تعالى
* (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهدآء
151

فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم) *.
اعلم أن ظاهر الآية لا يدل على الشيء الذي به رموا المحصنات وذكر الرمي لا يدل على الزنا، إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر، بل لا بد من قرينة دالة على التعيين، وقد أجمع العلماء على أن المراد الرمي بالزنا وفي الآية أقوال تدل عليه أحدها: تقدم ذكر الزنا وثانيها: أنه تعالى ذكر المحصنات وهن العفائف، فدل ذلك على أن المراد بالرمي رميهن بضد العفاف وثالثها: قوله: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * يعني على صحة ما رموهن به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط إلا في الزنا ورابعها: انعقاد الإجماع على أنه لا يجب الجلد بالرمي بغير الزنا فوجب أن يكون المراد هو الرمي بالزنا، إذا عرفت هذا فالكلام في هذه الآية يتعلق بالرمي والرامي والمرمي.
البحث الأول: في الرمي وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك، ولو قال زنى بدنك فيه وجهان: أحدها: أنه كناية كقوله: زنى يدك، لأن حقيقة الزنا من الفرج فلا يكون من سائر البدن إلا المعونة والثاني: وهو الأصح أنه صريح، لأن الفعل إنما يصدر من جملة البدن. والفرج آلة في الفعل. أما الكنايات فمثل أن يقول يا فاسقة، يا فاجرة، يا خبيثة، يا مؤاجرة، يا ابنة الحرام، أو امرأتي لا ترد يد لامس، وبالعكس فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده، وكذلك لو قال لعربي يا نبطي، فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده، فإن أراد به القذف فهو قذف لأم المقول له وإلا فلا، فإن قال عنيت به نبطي الدار واللسان، وادعت أم المقول له أنه أراد القذف، فالقول قوله مع يمينه. أما التعريض فليس بقذف وإن أراده، وذلك مثل قوله: يا ابن الحلال، أما أنا فما زنيت وليست أمي زانية، وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله. وقال مالك رحمه الله: يجب الحد فيه، وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا، لنا، أن التعريض بالقذف محتمل للقذف ولغيره، فوجب أن لا يجب الحد، لأن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك، وأيضا فلقوله عليه السلام: " ادرأوا الحدود بالشبهات " ولأن الحدود شرعت على خلاق النص النافي للضرر. والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق
الحاصل بالتعريض، واحتج المخالف بما روى الأوزاعي عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر
152

يضرب الحد في التعريض. وروي أيضا أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أحدهما للآخر: والله ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الناس في ذلك، فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، فجلده عمر ثمانين جلدة والجواب: أن في مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه توقيف، وأنهم قالوا رأيا واجتهادا.
المسألة الثانية: في تعدد القذف اعلم أنه إما أن يقذف شخصا واحدا مرارا أو يقذف جماعة، فإن قذف واحدا مرارا نظر إن كان أراد بالكل زانية واحدة بأن قال: زنيت بعمرو قاله مرارا لا يجب إلا حد واحد، ولو أنشأ الثاني بعدما حد للأول عزر للثاني، وإن قذفها بزنيات مختلفة بأن قال زنيت بزيد، ثم قال زنيت بعمرو، فهل يتعدد الحد أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: يتعدد اعتبارا باللفظ ولأنه من حقوق العباد فلا يقع فيه التداخل كالديون والثاني: وهو الأصح يتداخل فلا يجب فيه إلا حد واحد لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق واحد فوجب أن يتداخل كحدود الزنا، ولو قذف زوجته مرارا، فالأصح أنه يكتفي بلعان واحد سواء قلنا يتعدد الحد أو لا يتعدد. أما إذا قذف جماعة معدودين نظر، إن قذف كل واحد بكلمة يجب عليه لكل واحد حد كامل، وعند أبي حنيفة رحمه الله: لا يجب عليه إلا حد واحد. واحتج أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بالقرآن والسنة والقياس.
أما القرآن فهو قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات) * والمعنى أن كل أحد يرمي المحصنات وجب عليه الجلد، وذلك يقتضي أن قاذف جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين فمن أوجب على قاذف جماعة المحصنات أكثر من حد واحد فقد خالف الآية.
وأما السنة: فما روى عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي عليه السلام: " لا، البينة أو حد في ظهرك " فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سحماء، إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات.
وأما القياس: فهو أن سائر ما يوجب الحد إذا وجد منه مرارا لم يجب إلا حد واحد كمن زنى مرارا أو شرب مرارا أو سرق مرارا فكذا ههنا، والمعنى الجامع دفع مزيد الضرر والجواب: عن الأول أن قوله: * (والذين) * صيغة جمع، وقوله: * (المحصنات) * صيغة جمع، والجمع إذا قوبل بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى كل من رمى محصنا واحدا وجب عليه الجد، وعند ذلك يظهر وجه تمسك الشافعي رحمه الله بالآية، ولأن قوله: * (والذين يرمون المحصنات..... فاجلدوهم) * يدل على ترتيب الجلد على رمي المحصنات وترتيب الحكم على الوصف، لا سيما إذا كان مناسبا فإنه مشعر بالعلية، فدلت الآية على أن رمي المحصن من حيث إنه هذا المسمى يوجب الجلد إذا ثبت
153

هذا فنقول: إذا قذف واحدا صار ذلك القذف موجبا للحد، فإذا قذف الثاني وجب أن يكون القذف الثاني موجبا للحد أيضا، ثم موجب القذف الثاني لا يجوز أن يكون هو الحد الأول لأن ذلك قد وجب بالقذف الأول وإيجاب الواجب محال، فوجب أن يحد بالقذف الثاني حدا ثانيا، أقصى ما في الباب أن يورد على هذه الدلالة حدود الزنا. لكنا نقول ترك العمل هناك بهذا الدليل لأن حد الزنا أغلظ من حد القذف، وعند ظهور الفارق يتعذر الجمع.
وأما السنة فلا دلالة فيها على هذه المسألة لأن قذفهما بلفظ واحد، ولنا في هذه المسألة تفصيل سيأتي إن شاء.
وأما القياس ففاسد لأن حد القذف حق الآدمي. بدليل أنه لا يحد إلا بمطالبة المقذوف وحقوق الآدمي لا تتداخل بخلاف حد الزنا، فإنه حق الله تعالى. هذا كله إذا قذف جماعة كل واحد منهم بكلمة على حدة. أما إذا قذفهم بكلمة واحدة فقال أنتم زناة أو زنيتم، ففيه قولان أصحهما وهو قوله في " الجديد ": يجب لكل واحد حد كامل لأنه من حقوق العباد فلا يتداخل، ولأنه أدخل على كل واحد منهم معرة فصار كما لو قذفهم بكلمات. وفي " القديم " لا يجب للكل إلا حد واحد اعتبارا باللفظ، فإن اللفظ واحد والأول أصح لأنه أوفق لمفهوم الآية. فعلى هذا لو قال لرجل يا ابن الزانيين يكون قذفا لأبويه بكلمة واحدة فعليه حدان.
المسألة الثالثة: فيما يبيح القذف: القذف ينقسم إلى محظور ومباح وواجب، وجملة الكلام أنه إذا لم يكن ثم ولد يريد نفيه فلا يجب، وهل يباح أم لا ينظر إن رآها بعينه تزني أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها أو سمع ممن يثق بقوله أو لم يسمع، لكنه استفاض فيما بين الناس أن فلانا يزني بفلانة، وقد رآه الزوج يخرج من بيتها أو رآه معها في بيت، فإنه يباح له القذف لتأكد التهمة، ويجوز أن يمسكها ويستر عليها.
لما روي " أن رجلا قال يا رسول الله إن لي امرأة لا ترد يد لامس، قال طلقها. قال إني أحبها، قال فأمسكها " أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله أو استفاض من بين الناس ولكن الزوج لم يره معها أو بالعكس لم يحل له قذفها، لأنه قد يذكره من لا يكون ثقة فينتشر ويدخل بيتها خوفا من قاصد أو لسرقة أو لطلب فجور فتأبى المرأة قال الله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) * (النور: 11) أما إذا كان ثم ولد يريد نفيه، نظر فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها الزوج أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولم يدخلها الله جنته " فلما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من ليس منهم كان الرجل أيضا كذلك، أما إن احتمل أن يكون منه بأن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولدون أربع سنين، نظر إن لم
154

يكن قد استبرأها بحيضة، أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء، لا يحل له القذف والنفي وإن اتهمها بالزنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين " فإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له
القذف والنفي. والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه بأن كانا أبيضين فأتت به أسود، نظر إن لم يكن يتهمها بالزنا فليس له نفيه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فقال هل لك من إبل؟ قال نعم، قال ما ألوانها؟ قال حمر، قال فهل فيها أورق؟ قال نعم، قال فكيف ذاك؟ قال نزعه عرق قال فلعل هذا نزعه عرق " وإن كان يتهمها بزنا أو يتهمها برجل فأتت بولد يشبهه هل يباح له نفيه فيه وجهان: أحدهما: لا لأن العرق ينزع والثاني: له ذلك لأن التهمة قد تأكدت بالشبهة.
البحث الثاني: في الرامي وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إذا قذف الصبي أو المجنون امرأته أو أجنبيا فلا حد عليهما ولا لعان، لا في الحال ولا بعد البلوغ، لقوله عليه الصلاة والسلام: " رفع القلم عن ثلاث " ولكن يعزران للتأديب إن كان لهما تمييز، فلو لم تتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ، قال القفال يسقط التعزير لأنه كان للزجر عن إساءة الأدب وقد حدث زاجر أقوى وهو البلوغ.
المسألة الثانية: الأخرس إذا كانت له إشارة مفهومة أو كتابة معلومة وقذف بالإشارة أو بالكناية لزمه الحد، وكذلك يصح لعانه بالإشارة والكناية، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح قذف الأخرس ولا لعانه، وقول الشافعي رحمه الله أقرب إلى ظاهر الآية لأن من كتب أو أشار إلى القذف فقد رمى المحصنة وألحق العار بها فوجب اندراجه تحت الظاهر، ولأنا نقيس قذفه ولعانه على سائر الأحكام.
المسألة الثالثة: اختلفوا فيما إذا قذف العبد حرا فقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان القن عليه أربعون جلدة، روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا عليه السلام قال: " يجلد العبد في القذف أربعين " وعن عبد الله بن عمر أنه قال: " أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء وكلهم يضربون المملوك في القذف أربعين " وقال الأوزاعي يجلد ثمانين وهو مروي عن ابن مسعود، وروي أنه جلد عمر بن عبد العزيز العبد في الفرية ثمانين. ومدار المسألة على حرف واحد وهو أن هذه الآية صريحة في إيجاب الثمانين فمن رد هذا الحد إلى أربعين فطريقه أن الله تعالى قال: * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) فنص على أن حد الأمة في الزنا نصف حد الحرة، ثم قاسوا العبد على الأمة في تنصيف حد الزنا، ثم قاسوا تنصيف حد قذف العبد على تنصيف حد الزنا في حقه، فرجع حاصل الأمر إلى تخصيص عموم الكتاب بهذا القياس.
155

المسألة الرابعة: اتفقوا على دخول الكافر تحت عموم قوله: * (والذين يرمون المحصنات) * لأن الاسم يتناوله ولا مانع، فاليهودي إذا قذف المسلم يجلد ثمانين والله أعلم. البحث الثالث: في المرمى وهي المحصنة، قال أبو مسلم: اسم الإحصان يقع على المتزوجة وعلى العفيفة وإن لم تتزوج، لقوله تعالى في مريم: * (والتي أحصنت فرجها) * (الأنبياء: 91) وهو مأخوذ من منع الفرج فإذا تزوجت منعته إلا من زوجها، وغير المتزوجة تمنعه كل أحد، ويتفرع عليه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر الآية يتناول جميع العفائف سواء كانت مسلمة أو كافرة وسواء كانت حرة أو رقيقة، إلا أن الفقهاء قالوا: شرائط الإحصان خمسة الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا، وإنما اعتبرنا الإسلام لقوله عليه السلام: " من أشرك بالله فليس بمحصن " وإنما اعتبرنا العقل والبلوغ لقوله عليه السلام: " رفع القلم عن ثلاث " وإنما اعتبرنا الحرية لأن العبد ناقص الدرجة فلا يعظم عليه التعيير بالزنا، وإنما اعتبرنا العفة عن الزنا لأن الحد مشروع لتكذيب القاذف، فإذا كان المقذوف زانيا فالقاذف صادق في القذف. وكذلك إذا كان المقذوف وطئ امرأة بشبهة أو نكاح فاسد لأن فيه شبهة الزنا كما فيه شبهة الحل، فكما أن إحدى الشبهتين أسقطت الحد عن الواطئ فكذا الأخرى تسقطه عن قاذفه أيضا، ثم نقول من قذف كافرا أو مجنونا أو صبيا أو مملوكا، أو من قد رمى امرأة، فلا حد عليه، بل يعزر للأذى، حتى لو زنى في عنفوان شبابه مرة ثم تاب وحسن حاله وشاخ في الصلاح لا يحد قاذفه، وكذلك لو زنى كافر أو رقيق ثم أسلم وعتق وصلح حاله فقذفه قاذف لا حد عليه، بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف يحد، لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا، ولو قذف محصنا فقبل أن يحد القاذف زنا المقذوف سقط الحد عن قاذفه لأن صدور الزنا يورث ريبة في حالة فيما مضى لأن الله تعالى كريم لا يهتك ستر عبده في أول ما يرتكب المعصية، فبظهوره يعلم أنه كان متصفا به من قبل، روي أن رجلا زنى في عهد عمر، فقال والله ما زنيت إلا هذه، فقال عمر كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة، وقال المزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف.
المسألة الثانية: قال الحسن البصري قوله: * (والذين يرون المحصنات) * يقع على الرجال والنساء، وسائر العلماء أنكروا ذلك لأن لفظ المحصنات جمع لمؤنث فلا يتناول الرجال، بل الإجماع دل على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات.
المسألة الثالثة: رمي غير المحصنات لا يوجب الحد بل يوجب التعزير إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حد هناك ولا تعزير، فهذا مجموع الكلام في تفسير قوله سبحانه: * (والذين يرمون المحصنات) *.
أما قوله سبحانه: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * ففيه بحثان:
البحث الأول: اعلم أن الله تعالى حكم في القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام
156

أحدها: جلد ثمانين وثانيها: بطلان الشهادة وثالثها: الحكم بفسقه إلى أن يتوب، واختلف أهل العلم في كيفية ثبوت هذه الأحكام، بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة على الزنا، فقال قائلون قد بطلت شهادته ولزمه سمة الفسق قبل إقامة الحد عليه وهو قول الشافعي والليث بن سعد. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر شهادته مقبولة ما لم يحد. قال أبو بكر الرازي وهذا مقتضى قولهم إنه غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد. لأنه لو لزمته سمة
الفسق لما جازت شهادته إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها، ثم احتج أبو بكر على صحة قول أبي حنيفة رحمه الله بأمور: أحدها: قوله سبحانه: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * ظاهر الآية يقتضي ترتب وجوب الحد على مجموع القذف والعجز عن إقامة الشهادة، فلو علقنا هذا الحكم على القذف وحده قدح ذلك في كونه معلقا على الأمرين وذلك بخلاف الآية، وأيضا فوجوب الجلد حكم مرتب على مجموع أمرين فوجب أن لا يحصل بمجرد حصول أحدهما، كما لو قال لامرأته إن دخلت الدار وكلمت فلانا فأنت طالق، فأتت بأحد الأمرين دون الآخر لم يوجد الجزاء فكذا ههنا وثانيها: أن القاذف لا يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه وإذا كان كذلك وجب أن لا ترد شهادته بمجرد القذف. بيان الأول من ثلاثة أوجه: الأول: أن مجرد قذفه لو أوجب كونه كاذبا لوجب أن لا تقبل بعد ذلك بينته على الزنا إذ قد وقع الحكم بكذبه، والحكم بكذبه في قذفه حكم ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا، ولما أجمعوا على قبول بينته ثبت أنه لم يحكم عليه بالكذب بمجرد قذفه الثاني: أن قاذف امرأته بالزنا لا يحكم بكذبه بنفس قذفه، وإلا لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته، ولما أمر بأن يشهد بالله أنه لصادق فيما رماها به من الزنا مع الحكم بكذبه. ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما لاعن بين الزوجين " الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب " فأخبر أن أحدهما بغير تعيين هو الكاذب ولم يحكم بكذب القاذف، وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب كونه كاذبا الثالث: قوله تعالى: * (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون) * (النور: 13) فلم يحكم بكذبهم بنفس القذف فقط، فثبت بهذه الوجوه أن القاذف غير محكوم عليه بكونه كاذبا بمجرد القذف، وإذا كان كذلك وجب أن لا تبطل شهادته بمجرد القذف لأنه كان عدلا ثقة والصادر عنه غير معارض، ولما كان يجب أن يبقى على عدالته فوجب أن يكون مقبول الشهادة وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف " أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد ورابعها: ما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: " يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين " فأخبر أن بطلان شهادته متعلق بوقوع الجلد به وذلك يدل على أن مجرد القذف
157

لا يبطل الشهادة وخامسها: أن الشافعي رحمه الله زعم أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم، فإن كان القذف قد أبطل شهادته فواجب أن لا يقبلها بعد ذلك، وإن شهد معه ثلاثة لأنه قد فسق بقذفه ووجب الحكم بكذبه، وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف، وأما وجه قول الشافعي رحمه الله فهو أن الله تعالى رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أمورا ثلاثة معطوفا بعضها على بعض بحرف الواو، وحرف الواو لا يقتضي الترتيب. فوجب أن لا يكون بعضها مرتبا على البعض، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتبا على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة سواء أقيم الحد عليه أو ما أقيم والله أعلم.
البحث الثاني: في كيفية الشهادة على الزنا قال الله تعالى: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * (النساء: 15) وقال تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * وقال سعد بن عبادة: " يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال نعم " ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: الإقرار بالزنا هل يثبت بشهادة رجلين فيه قولان: أحدهما: لا يثبت إلا بأربعة كفعل الزنا والثاني: يثبت بخلاف فعل الزنا، لأن الفعل يغمض الاطلاع عليه فاحتيط فيه باشتراط الأربع والإقرار أمر ظاهر فلا يغمض الاطلاع عليه.
المسألة الثانية: إذا شهدوا على فعل الزنا يجب أن يذكروا الزاني ومن زنى بها، لأنه قد يراه على جارية له فيظن أنها أجنبية، ويجب أن يشهدوا أنا رأينا ذكره يدخل في فرجها دخول الميل في المكحلة، فلو شهدوا مطلقا أنه زنى لا يثبت، لأنهم ربما يرون المفاخذة زنا، بخلاف ما لو قذف إنسانا فقال زنيت يجب الحد ولا يستفسر، ولو أقر على نفسه بالزنا، هل يشترط أن يستفسر؟ فيه وجهان: أحدهما: نعم كالشهود والثاني: لا يجب كما في القذف.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين، وقال أبو حنيفة رحمه الله إذا شهدوا متفرقين لا يثبت وعليهم حد القذف، حجة الشافعي رحمه الله من وجوه: الأول: أن الإتيان بأربعة شهداء قدر مشترك بين الإتيان بهم مجتمعين أو متفرقين واللفظ الدال على ما به الاشتراك لا إشعار له بما به الامتياز، فالآتي بهم متفرقين يكون عاملا بالنص فوجب أن يخرج عن العهدة الثاني: كل حكم يثبت بشهادة الشهود إذا جاءوا مجتمعين يثبت إذا جاءوا متفرقين كسائر الأحكام، بل هذا أولى لأنهم إذا جاءوا متفرقين كان أبعد عن التهمة، وعن أن يتلقن بعضهم من بعض، فلذلك قلنا إذا وقعت ريبة للقاضي في شهادة الشهود فرقهم ليظهر على عورة إن كانت في شهادتهم الثالث: أنه لا يشترط أن يشهدوا معا في حالة واحدة، بل إذا اجتمعوا عند القاضي وكان يقدم واحد بعد آخر ويشهد فإنه تقبل شهادتهم، فكذا إذا اجتمعوا على بابه. ثم كان يدخل واحد بعد واحد، حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجهين: الأول: أن الشاهد الواحد
158

لما شهد فقد قذفه ولم يأت بأربعة من الشهداء فوجب عليه الحد لقوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * أقصى ما في الباب أنهم عبروا عن ذلك القذف بلفظ الشهادة، وذلك لا عبرة به لأنه يؤدي إلى إسقاط حد القذف رأسا، لأن كل قاذف لا يعجزه لفظ الشهادة، فيجعل ذلك وسيلة إلى إسقاط الحد عن نفسه، ويحصل مقصوده من القذف الثاني: ما روي " أن المغيرة بن شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع ونفيع وقال زياد وكان رابعهم رأيت إستا تنبو ونفسا يعلو ورجلاها على عاتقه كأذني حمار، ولا أدري ما وراء ذلك، فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر " فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف، لأن الحدود مما يتوقف فيها ويحتاط.
المسألة الرابعة: لو شهد على الزنا أقل من أربعة لا يثبت الزنا، وهل يجب حد القذف على الشهود فيه قولان: أحدهما: لا يجب لأنهم جاءوا مجيء الشهود، ولأنا لو
حددنا لا نسد باب الشهادة على الزنا، لأن كل واحد لا يأمن أن لا يوافقه صاحبه فيلزمه الحد والقول الثاني: وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: يجب عليهم الحد، والدليل عليه الوجهان اللذان ذكرناهما في المسألة الثالثة.
المسألة الخامسة: إذا قذف رجل رجلا فجاء بأربعة فساق فشهدوا على المقذوف بالزنا، قال أبو حنيفة رحمه الله: يسقط الحد عن القاذف ولا يجب الحد على الشهود. وقال الشافعي رحمه الله في أحد قوليه: يحدون، وجه قول أبي حنيفة قوله: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * وهذا قد أتى بأربعة شهداء فلا يلزمه الحد. ولأن الفاسق من أهل الشهادة وقد وجدت شرائط شهادة الزنا من اجتماعهم عند القاضي، إلا أنه لم تقبل شهادتهم لأجل التهمة، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك وجب اعتبارها في نفي الحد عنهم، ووجه قول الشافعي رحمه الله أنهم غير موصوفين بالشرائط المعتبرة في قبول الشهادة فخرجوا عن أن يكونوا شاهدين، فبقوا محض القاذفين، وههنا آخر الكلام في تفسير قوله تعالى: * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) *.
أما قوله تعالى: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: المخاطب بقوله: * (فاجلدوهم) * هو الإمام على ما بيناه في آية الزنا، أو المالك على مذهب الشافعي، أو رجل صالح ينصبه الناس عند فقد الإمام.
المسألة الثانية: خص من عموم هذه الآية صور: أحدها: الوالد يقذف ولده أو أحدا من نوافله، فلا يجب عليه الحد، كما لا يجب عليه القصاص بقتله الثانية: القاذف إذا كان عبدا فالواجب جلد أربعين، وكذا المكاتب وأم الولد، ومن بعضه حر وبعضه رقيق فحدهم حد العبيد الثالثة: من قذف رقيقة عفيفة أو من زنت في قديم الأيام ثم تابت فهي بموجب اللغة محصنة، ومع ذلك لا يجب الحد بقذفها.
159

المسألة الثالثة: قالوا أشد الضرب في الحدود ضرب الزنا، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف، لأن سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وزجرا عن هتكها.
المسألة الرابعة: قال مالك والشافعي حد القذف يورث، فإذا مات المقذوف قبل استيفاء الحد وقبل العفو يثبت لوارثه حد القذف، وكذلك إذا كان الواجب بقذفه التعزير، فإنه يورث عنه، وكذا لو أنشأ القذف بعد موت المقذوف ثبت لوارثه طلب الحد. وعند أبي حنيفة رحمه الله: حد القذف لا يورث ويسقط بالموت. حجة الشافعي رحمه الله، أن حد القذف هو حق الآدمي لأنه يسقط بعفوه ولا يستوفي إلا بطلبه ويحلف فيه المدعى عليه إذا أنكر، وإذا كان حق الآدمي وجب أن يورث لقوله عليه السلام: " ومن ترك حقا فلورثته " حجة أبي حنيفة رحمه الله: أنه لو كان موروثا لكان للزوج أو الزوجة فيه نصيب، ولأنه حق ليس فيه معنى المال والوثيقة فلا يورث كالوكالة والمضاربة والجواب: عن الأول أن الأصح عند الشافعية أنه يرثه جميع الورثة كالمال، وفيه وجه ثان أنه يرثه كلهم إلا الزوج والزوجة، لأن الزوجية ترتفع بالموت، ولأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب، وذلك لا يلحق الزوج والزوجة.
المسألة الخامسة: إذا قدف إنسان إنسانا بين يدي الحاكم، أو قذف امرأته برجل بعينه والرجل غائب، فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قذفك وثبت لك حد القذف عليه، كما لو ثبت له مال على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه، وعلى هذا المعنى " بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا ليخبرها بأن فلانا قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها " قال الشافعي رحمه الله وليس للإمام إذا رمى رجل بزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال: * (ولا تجسسوا) * وأراد به إذا لم يكن القاذف معينا، مثل إن قال رجل بين يدي الحاكم الناس يقولون إن فلانا زنى فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله. أما قوله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * فاختلف الفقهاء فيه، فقال أكثر الصحابة والتابعين إنه إذا تاب قبلت شهادته وهو قول الشافعي رحمه الله، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن صالح رحمهم الله لا تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وهذه المسألة مبنية على أن قوله: * (إلا الذين تابوا) * هل عاد إلى جميع الأحكام المذكورة أو اختص بالجملة الأخيرة، فعند أبي حنيفة رحمه الله الاستثناء المذكور عقيب الجمل الكثيرة مختص بالجملة الأخيرة، وعند الشافعي رحمه الله يرجع إلى الكل، وهذه المسألة قد لخصناها في أصول الفقه، ونذكر ههنا ما يليق بهذا الموضع إن شاء الله تعالى، احتج الشافعي رحمه الله على أن شهادته مقبولة بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ومن لا ذنب له مقبول الشهادة، فالتائب يجب أن يكون أيضا مقبول الشهادة وثانيها: أن الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف
160

المسلم إذا تاب عن القذف وجب أن تقبل شهادته، لأن القذف مع الإسلام أهون حالا من القذف مع الكفر، فإن قيل المسلمون لا يألمون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنآن ما يلحقه بقذف مسلم مثله، فشدد على القاذف من المسلمين زجرا عن إلحاق العار والشنآن، وأيضا فالتائب من الكفر لا يجب عليه الحد والتائب من القذف لا يسقط عنه الحد، قلا هذا الفرق ملغى بقوله عليه السلام: " أنبئهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " وثالثها: أجمعنا على أن التائب عن الكفر والقتل والزنا مقبول الشهادة فكذا التائب عن القذف، لأن هذه الكبيرة ليست أكبر من نفس الزنا ورابعها: أن أبا حنيفة رحمه الله يقبل شهادته إذ تاب قبل الحد مع أن الحد حق المقذوف فلا يزول بالتوبة. فلأن تقبل شهادته إذا تاب بعد إقامة الحد وقد حسنت حالته وزال اسم الفسق عنه كان أولى وخامسها: أن قوله: * (إلا الذين تابوا) * استثناء مذكور عقيب جمل فوجب عوده إليها بأسرها ويدل عليه أمور: أحدها: أجمعنا على أنه لو قال عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله، فإنه يرجع الاستثناء إلى الجميع فكذا فيما نحن فيه، فإن قيل الفرق أن قوله: * (إن شاء الله) * (يوسف: 99) يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت فيه شيء، والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا. ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع شيء، ولو قال أنت طالق إلا طلاقا كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية، فثبت أنه لا يلزم من رجوع قوله: * (إن شاء الله) *
إلى جميع ما تقدم صحة رجوع الاستثناء بحرفه إلى جميع ما تقدم، قلنا هذا فرق في غير محل الجمع، لأن إن شاء الله جاز دخوله لرفع حكم الكلام بالكلية، فلا جرم جاز رجوعه إلى جميع الجمل المذكورة وإلا جاز دخوله لرفع بعض الكلام فوجب جواز رجوعه إلى جميع الجمل على هذا الوجه، حتى يقتضي أن يخرج من كل واحد من الجمل المذكورة بعضه وثانيها: أن الواو للجمع المطلق فقوله: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون) * صار الجمع كأنه ذكر معا لا تقدم للبعض على البعض، فلما دخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى بعضها أولى من رجوعه إلى الباقي إذ لم يكن لبعضها على بعض تقدم في المعنى البتة فوجب رجوعه إلى الكل، ونظيره على قول أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * (المائدة: 6) فإن فاء التعقيب ما دخلت على غسل الوجه بل على مجموع هذه الأمور من حيث إن الواو لا تفيد الترتيب. فكذا ههنا كلمة إلا ما دخلت على واحد بعينه لأن حرف الواو لا يفيد الترتيب بل دخلت على المجموع، فإن قيل الواو قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد تكون للاستئناف وهي في قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) * لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه ونظمه جملة واحدة، فيصير الكل كالمذكور معا مثل آية الوضوء فإن الكل أمر
161

واحد كأنه قال فاغسلوا هذه الأعضاء فإن الكل قد تضمنه لفظ الأمر. وأما آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر فلا يجوز أن ينظمهما جملة واحدة، وكان الواو للاستئناف فيختص الاستثناء به، قلنا لم لا يجوز أن نجعل الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط كأنه قيل ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردوا شهادتهم وفسقوهم، أي فاجمعوا لهم الجلد والرد والفسق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإن الله يغفر لهم فينقبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين وثالثها: أن قوله: * (وأولئك هم الفاسقون) * عقيب قوله: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * يدل على أن العلة في عدم قبول تلك الشهادة كونه فاسقا، لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، لا سيما إذا كان الوصف مناسبا وكونه فاسقا يناسب أن لا يكون مقبول الشهادة، إذا ثبت أن العلة لرد الشهادة ليست إلا كونه فاسقا، ودل الاستثناء على زوال الفسق فقد زالت العلة فوجب أن يزول الحكم لزوال العلة ورابعها: أن مثل هذا الاستثناء موجود في القرآن، قال الله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله) * إلى قوله: * (إلا الذين تابوا) * (البقرة: 160) ولا خلاف أن هذا الاستثناء راجع إلى ما تقدم من أول الآية، وأن التوبة حاصلة لهؤلاء جميعا وكذلك قوله: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * إلى قوله: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * (النساء: 43) وصار التيمم لمن وجب عليه الاغتسال، كما أنه مشروع لمن وجب عليه الوضوء، وهذا الوجه ذكره أبو عبيد في إثبات مذهب الشافعي رحمه الله، واحتج أصحاب أبي حنيفة على أن حكم الاستثناء مختص بالجملة الأخيرة بوجوه: أحدها: أن الاستثناء من الاستثناء يختص بالجملة الأخيرة، فكذا في جميع الصور طردا للباب وثانيها: أن المقتضي لعموم الجمل المتقدمة قائم والمعارض وهو الاستثناء يكفي في تصحيحه تعليقه بجملة واحدة، لأن بهذا القدر يخرج الاستثناء عن أن يكون لغوا فوجب تعليقه بالجملة الواحدة فقط وثالثها: أن الاستثناء لو رجع إلى كل الجمل المتقدمة لوجب أنه إذا تاب أن لا يجلد وهذا باطل بالإجماع فوجب أن يختص الاستثناء بالجملة الأخيرة والجواب: عن الأول أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي، فالاستثناء عقيب لو رجع إلى الاستثناء الأول وإلى المستثنى فبقدر ما نفي من أحدهما أثبت في الآخر فينجبر الناقص بالزائد ويصير الاستثناء الثاني عديم الفائدة، فلهذا السبب قلنا في الاستثناء من الاستثناء إنه يختص بالجملة الأخيرة والجواب: عن الثاني أنا بينا أن واو العطف لا تقتضي الترتيب فلم يكن بعض الجمل متأخرا في التقدير عن البعض، فلم يكن تعليقه بالبعض أولى من تعليقه بالباقي، فوجب تعليقه بالكل والجواب: عن الثالث أنه ترك العمل به في حق البعض فلم يترك العمل به في حق الباقي، واحتج أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في المسألة بوجوه من الأخبار أحدها: ما روى ابن عباس رضي الله عنهما في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين " فأخبر رسول الله صلى الله
162

عليه وسلم
أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها وثانيها: أن قوله عليه السلام: " المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف " ولم يشترط فيه وجود التوبة منه وثالثها: ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تجوز شهادة محدود في الإسلام " قالت الشافعية هذا معارض بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: " إذا علمت مثل الشمس فاشهد " والأمر للوجوب فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم تكن مقبولة لما وجبت لأنها تكون عبثا وثانيها: قوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر " وههنا قد حصل الظهور لأن دينه وعقله وعفته الحاصلة بالتوبة تفيد ظن كونه صادقا وثالثها: ما روي عن عمر بن الخطاب " أنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع، ثم قال لهم من أكذب نفسه قبلت شهادته ومن لم يفعل لم أجز شهادته فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا وكان يقبل شهادتهما. وأما أبو بكرة فكان لا يقبل شهادته " وما أنكر عليه أحد من الصحابة فيه، فهذا تمام الكلام في هذه المسألة.
أما قوله تعالى: * (وأولئك هم الفاسقون) * فاعلم أنه يدل على أمرين: الأول: أن القذف من جملة الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب الكبيرة الثاني: أنه اسم لمن يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقا من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب وبأنه رام إلى غير ذلك.
وأما قوله تعالى: * (إلا الذين تابوا) * فاعلم أنهم اختلفوا في أن التوبة عن القذف كيف تكون، قال الشافعي رحمه الله التوبة منه إكذابه نفسه، واختلف أصحابه في معناه فقال الأصطخري يقول: كذبت فيما قلت فلا أعود لمثله، وقال أبو إسحق لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله كذبت كذبا والكذب معصية، والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول القاذف باطلا ندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه.
أما قوله: * (وأصلحوا) * فقال أصحابنا إنه بعد التوبة لا بد من مضي مدة عليه في حسن الحال حتى تقبل شهادته وتعود ولايته، ثم قدروا تلك المدة بسنة حتى تمر عليه الفصول الأربع التي تتغير فيها الأحوال والطباع كما يضرب للعنين أجل سنة، وقد علق الشرع أحكاما بالسنة من الزكاة والجزية وغيرهما.
وأما قوله تعالى: * (فإن الله غفور رحيم) * فالمعنى أنه لكونه غفورا رحيما يقبل التوبة وهذا يدل على أن قبول التوبة غير واجب عقلا إذ لو كان واجبا لما كان في قبوله غفورا رحيما، لأنه إذا كان واجبا فهو إنما يقبله خوفا وقهرا لعلمه بأنه لو لم يقبله لصار سفيها، ولخرج عن حد الإلهية. أما إذا لم يكن واجبا فقبله. فهناك تتحقق الرحمة والإحسان وبالله التوفيق.
163

الحكم الرابع: حكم اللعان
قوله تعالى
* (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهدآء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليهآ إن كان من الصادقين * ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم) *.
إعلم أنه سبحانه لما ذكر أحكام قذف الأجنبيات عقبه بأحكام قذف الزوجات، ثم هذه الآية مشتملة على أبحاث:
البحث الأول: في سبب نزوله وذكروا فيه وجوها: أحدها: قال ابن عباس رحمهم الله: " لما تزل قوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * قال عاصم بن عدي الأنصاري إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدوا بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب وإن سكت سكت على غيظ. اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصما فقال: لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك؟ فقال أخبرني عويمر ابن عمي بأنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعا وقال لعويمر اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها فقال يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت فقالت يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة فصلى العصر
164

ثم قال لعويمر قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثانية قل أشهد بالله أني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين، ثم قال في الثالثة قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين، ثم قال في الرابعة قل أشهد بالله أنها زانية وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامس قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال. ثم قال اقعد، وقال لخولة قومي، فقامت وقالت أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين، وقالت في الثانية أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة أشهد بالله أني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الرابعة أشهد بالله أنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما " وثانيها: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الكلبي: " أن عاصما ذات يوم رجع إلى أهله فوجد شريك بن سحماء على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وتمام الحديث كما تقدم وثالثها: ما روى عكرمة عن ابن عباس " لما نزل * (والذين يرمون المحصنات) * قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار لو وجدت رجلا على بطنها فإني إن جئت بأربعة من الشهداء يكون قد قضى حاجته وذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيدكم؟ فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، فقال سعد يا رسول الله والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق، ولكني عجبت منه، فقال عليه السلام فإن الله يأبى إلا ذلك، قال فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عمر له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، فقال يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، فقال هلال والله يا رسول الله إني لأرى الكراهة في وجهك مما أخبرتك به والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إما البيتة وإما إقامة الحد عليك " فاجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد، فبينا هم كذلك إذ نزل عليه الوحي وكان إذا نزل عليه الوحي أربد وجهه وعلا جسده حمرة فلما سرى عنه قال عليه السلام أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا، قال قد كنت أرجو ذلك من الله تعالى فقرأ عليهم هذه الآيات فقال عليه السلام ادعوها فدعيت فكذبت هلالا، فقال عليه السلام الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب وأمر بالملاعنة فشهد هلال أربع شهادات بالله أنه لمن الصادقين فقال عليه السلام له عند الخامسة اتق الله يا هلال فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد الخامسة، ثم قال رسول الله أتشهدين فشهدت أربع شهادات بالله أنه لمن الكاذبين فلما أخذت في الخامسة قال لها اتقي الله فإن الخامسة هي الموجبة، فتفكرت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت والله لا أفضح قومي وشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ثم قال: انظروها إن جاءت به أثيبج أصهب أحمش الساقين فهو لهلال، وإن
165

جاءت به خدلج الساقين أورق جعدا فهو لصاحبه، فجاءت به أورق خدلج الساقين فقال عليه السلام لولا الإيمان لكان لي ولها شأن " قال عكرمة لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار ولا يدري من أبوه!.
البحث الثاني: ما يتعلق بالقراءة قرىء ولم تكن بالتاء لأن الشهداء جماعة أو لأنهم في معنى الأنفس ووجه من قرأ أربع أن ينصب لأنه في حكم المصدر والعامل فيه
المصدر الذي هو فشهادة أحدهم وهي مبتدأ محذوف الخبر فتقديره فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات، وقرئ أن لعنة الله وأن غضب الله على تخفيف أن ورفع ما بعدها، وقرئ أن غضب الله على فعل الغضب، وقرئ بنصب الخامستين على معنى ويشهد الخامسة.
البحث الثالث: ما يتعلق بالأحكام، والنظر فيه يتعلق بأطراف:
الطرف الأول: في موجب اللعان وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه إذا رمى الرجل امرأته بالزنا يجب عليه الحد إن كانت محصنة والتعزير إن لم تكن محصنة، كما في رمي الأجنبية لا يختلف موجبهما غير أنهما يختلفان في المخلص ففي قذف الأجنبي لا يسقط الحد عن القاذف إلا بإقرار المقذوف أو ببينة تقوم على زناها، وفي قذف الزوجة يسقط عنه الحد بأحد هذين الأمرين أو باللعان، وإنما اعتبر الشرع اللعان في هذه الصورة دون الأجنبيات لوجهين: الأول: أنه لا معرة عليه في زنا الأجنبية والأولى له ستره، أما إذا زنى بزوجته فيلحقه العار والنسب الفاسد، فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمعتذر، فلا جرم خص الشرع هذه الصورة باللعان الثاني: أن الغالب في المتعارف من أحوال الرجل مع امرأته أنه لا يقصدها بالقذف إلا عن حقيقة، فإذا رماها فنفس الرمي يشهد بكونه صادقا إلا أن شهادة الحال ليست بكاملة فضم إليها ما يقويها من الإيمان، كشهادة المرأة لما ضعفت قويت بزيادة العدد والشاهد الواحد يتقوى باليمين على قول كثير من الفقهاء.
المسألة الثانية: قال أبو بكر الرازي كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات والجلد، والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سحماء " ائتني بأربعة يشهدون لك وإلا فحد في ظهرك " فثبت بهذا أن حد قاذف الزوجات كان كحد قاذف الأجنبيات إلا أنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان، وروى نحو ذلك في الرجل الذي قال أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فإن تكلم جلدتموه، وإن قتل قتلتموه، وإن سكت سكت على غيظ. فدلت هذه الأخبار على أن حد قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله نسخه باللعان.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله إذا قذف الزوج زوجته فالواجب هو الحد ولكن المخلص منه باللعان، كما أن الواجب بقذف الأجنبية الحد والمخلص منه بالشهود، فإذا نكل الزوج عن اللعان يلزمه الحد للقذف، فإذا لاعن ونكلت عن اللعان يلزمها حد الزنا، وقال أبو حنيفة رحمه
166

الله إذا نكل الزوج عن اللعان حبس حتى يلاعن، وكذا المرأة إذا نكلت حبست حتى لا تلاعن حجة الشافعي وجوه: أحدها: أن الله تعالى قال في أول السورة: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4) يعني غير الزوجات * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * (النور: 4) ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم) * الآية فكما أن مقتضى قذف الأجنبيات الإتيان بالشهود أو الجلد فكذا موجب قذف الزوجات الإتيان باللعان أو الحد وثانيها: قوله تعالى: * (ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) * والألف واللام الداخلان على العذاب لا يفيدان العموم لأنه لم يجب عليها جميع أنواع العذاب فوجب صرفهما إلى المعهود السابق والمعهود السابق هو الحد لأنه تعالى ذكر في أول السورة * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * (النور: 2) والمراد منه الحد وإذا ثبت أن المراد من العذاب في قوله: * (ويدرأ عنها العذاب) * هو الحد ثبت أنها لو لم تلاعن لحدت وأنها باللعان دفعت الحد، فإن قيل المراد من العذاب هو الحبس. قلنا قد بينا أن الألف واللام للمعهود المذكور، وأقرب المذكورات في هذه السورة العذاب بمعنى الحد، وأيضا فلو حملناه على الحد لا تصير الآية مجملة. أما لو حملناه على الحبس تصير الآية مجملة لأن مقدار الحبس غير معلوم وثالثها: قال الشافعي رحمه الله ومما يدل على بطلان الحبس في حق المرأة أنها تقول إن كان الرجل صادقا فحدوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا الإجماع ولا القياس ورابعها: أن الزوج قذفها ولم يأت بالمخرج من شهادة غيره أو شهادة نفسه، فوجب عليه الحد لقوله تعالى: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم) * (النور: 4) وإذا ثبت ذلك في حق الرجل ثبت في حق المرأة لأنه لا قائل بالفرق وخامسها: قوله عليه السلام لخولة: " فالرجم أهون عليك من غضب الله " وهو نص في الباب حجة أبي حنيفة رحمه الله، أما في حق المرأة فلأنها ما فعلت سوى أنها تركت اللعان، وهذا الترك ليس بينة على الزنا ولا إقرارا منها به، فوجب أن لا يجوز رجمها، لقوله عليه السلام: " لا يحل دم امرئ " الحديث. وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأنه لا قائل بالفرق، وأيضا فالنكول ليس بصريح في الإقرار فلم يجز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا ولغيره. المسألة الرابعة: قال الجمهور إذا قال لها يا زانية وجب اللعان. وقال مالك رحمه الله لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزني أو ينفي حملا لها أو ولدا منها، حجة الجمهور أن عموم قوله * (والذين يرمون المحصنات) * يتناول الكل، ولأنه لا تفاوت في قذف الأجنبية بين الكل، فكذا في حق قذف الزوجة. الطرف الثاني: الملاعن قال الشافعي رحمه الله من صح يمينه صح لعانه، فيجري اللعان بين الرقيقين والذميين والمحدودين، وكذا إذا كان أحدهما رقيقا أو كان الزوج مسلما والمرأة ذمية، قال أبو حنيفة رحمه الله لا يصح في صورتين إحداهما: أن تكون الزوجة ممن لا يجب على
167

قاذفها الحد إذا كان أجنبيا نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية والثاني: أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون محدودا في قذف أو عبدا أو كافرا، ثم زعم أن الفاسق والأعمى مع أنهما ليسا من أهل الشهادة يصح لعانهما، وجه قول الشافعي رحمه الله أن ظاهر قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم) * يتناول الكل ولا معنى للتخصيص والقياس أيضا ظاهر من وجهين: الأول: أن المقصود دفع العار عن النفس، ودفع ولد الزنا عن النفس، وكما يحتاج غير المحدود إليه فكذا المحدود محتاج إليه والثاني: أجمعنا على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى، وإن لم يكونا من أهل الشهادة فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع عار الزنا، ووجه قول أبو حنيفة رحمه الله النص والمعنى، أما النص فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه عليه السلام قال: " أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر " أما المعنى فنقول أما في الصورة الأولى فلأنه كان الواجب على قاذف الزوجة والأجنبية
الحد بقوله: * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 40) ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم اللعان مقامه فلما كان اللعان مع الأزواج قائما مقام الحد في الأجنبيات لم يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي، وأما في الصورة الثانية فالوجه فيه أن اللعان شهادة فوجب أن لا يصح إلا من أهل الشهادة وإنما قلنا إن اللعان شهادة لوجهين: الأول: قوله تعالى: * (ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) * فسمى الله تعالى لعانهما شهادة كما قال: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * (البقرة: 282) وقال: * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * (النساء: 15) الثاني: أنه عليه السلام حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ الشهادة، ولم يقتصر على لفظ اليمين، إذا ثبت أن اللعان شهادة وجب أن لا تقبل من المحدود في القذف لقوله تعالى: * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * (النور: 4) وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في العبد والكافر، إما للإجماع على أنهما ليسا من أهل الشهادة أو لأنه لا قائل بالفرق، أجاب الشافعي رحمه الله بأن اللعان ليس شهادة في الحقيقة بل هو يمين لأنه لا يجوز أن يشهد الإنسان لنفسه، ولأنه لو كان شهادة لكانت المرأة تأتي بثمان شهادات، لأنها على النصف من الرجل، ولأنه يصح من الأعمى والفاسق ولا يجوز شهادتهما، فإن قيل الفاسق والفاسقة قد يتوبان قلنا، وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته، ثم أكد الشافعي رحمه الله بأن العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته في الحال، ثم ألزم أبا حنيفة رحمه الله بأن شهادة أهل الذمة مقبولة بعضهم على بعض، فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية، وهذا كله كلام الشافعي رحمه الله. ثم قال بعد ذلك: وتختلف الحدود بمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن تنصف حد القذف عليه لرقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وعدم إحصانها وحريتها ورقها.
الطرف الثالث: الأحكام المرتبة على اللعان قال الشافعي رحمه الله يتعلق باللعان خمسة أحكام درء الحد ونفي الولد والفرقة والتحريم المؤبد ووجوب الحد عليها، وكلها تثبت بمجرد لعانه
168

ولا يفتقر فيه إلى لعانها ولا إلى حكم الحاكم، فإن حكم الحاكم به كان تنفيذا منه لا إيقاعا للفرقة. فلنتكلم في هذه المسائل:
المسألة الأولى: اختلف المجتهدون في وقوع الفرقة باللعان على أربعة أقوال: أحدها: قال عثمان البتي: لا أرى ملاعنة الزوج امرأته تقتضي شيئا يوجب أن يطلقها وثانيها: قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا تقع الفرقة بفراغهما من اللعان حتى يفرق الحاكم بينهما وثالثها: قال مالك والليث وزفر رحمهم الله إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق الحاكم ورابعها: قال الشافعي رحمه الله إذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا التعنت أو لم تلتعن، حجة عثمان البتي وجوه: أحدها: أن اللعان ليس بصريح ولا كناية عن الفرقة فوجب أن لا يفيد الفرقة كسائر الأقوال التي لا إشعار لها بالفرقة لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قوله وهو لا يوجب تحريما ألا ترى أنه لو قامت البينة عليها لم يوجب ذلك تحريما فإذا كان كاذبا والمرأة صادقة يثبت أنه لا دلالة فيه على التحريم وثانيها: لو تلاعنا فيما بينهما لم يوجب الفرقة فكذا لو تلاعنا عند الحاكم وثالثها: أن اللعان قائم مقام الشهود في قذف الأجنبيات فكما أنه لا فائدة في إحضار الشهود هناك إلا إسقاط الحد، فكذا اللعان لا تأثير له إلا إسقاط الحد ورابعها: إذا أكذب الزوج نفسه في قذفه إياها ثم حد لم يوجب ذلك فرقة فكذا إذا لاعن لأن اللعان قائم مقام درء الحد، قال وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين فكان ذلك في قصة العجلاني وكان قد طلقها ثلاثا بعد اللعان فلذلك فرق بينهما، وأما قول أبي حنيفة وهو أن الحاكم يفرق بينهما فلا بد من بيان أمرين: أحدهما: أنه يجب على الحاكم أن يفرق بينهما ودليله ما روى سهل بن سعد في قصة العجلاني مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا والثاني: أن الفرقة لا تحصل إلا بحكم الحاكم، واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: روى في قصة عويمر أنهما لما فرغا " قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، هي طالق ثلاثا " فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستدلال بهذا الخبر من وجوه: أحدها: أنه لو وقعت الفرقة باللعان لبطل قوله: " كذبت عليها إن أمسكتها " لأن إمساكها غير ممكن وثانيها: ما روي في هذا الخبر أنه طلقها ثلاث تطليقات فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ الطلاق إنما يمكن لو لم تقع الفرقة بنفس اللعان وثالثها: ما قال سهل بن سعد في هذا الخبر مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا، ولو كانت الفرقة واقعة باللعان استحال التفريق بعدها وثانيها: قال أبو بكر الرازي قول الشافعي رحمه الله خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج للاعنت المرأة وهي أجنبية وذلك خلاف الآية لأن الله تعالى إنما أوجب اللعان بين الزوجين وثالثها: أن اللعان شهادة لا يثبت حكمه إلا عند الحاكم فوجب أن لا يوجب الفرقة إلا بحكم الحاكم كما لا يثبت المشهود به إلا بحكم الحاكم ورابعها:
169

اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي بالبينة، فلما لم يجز أن يستحق المدعي مدعاه إلا بحكم الحاكم وجب مثله في استحقاق المرأة نفسها وخامسها: أن اللعان لا إشعار فيه بالتحريم لأن أكثر ما فيه أنها زنت ولو قامت البينة على زناها أو هي أقرت بذلك فذاك لا يوجب التحريم فكذا اللعان وإذا لم يوجد فيها دلالة على التحريم وجب أن لا تقع الفرقة به، فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم، أما قول مالك وزفر فحجته أنهما لو تراضيا على البقاء على النكاح لم يخليا بل يفرق بينهما، فدل على أن اللعان قد أوجب الفرقة، أما قول الشافعي رحمه الله فله دليلان الأول: قوله تعالى: * (ويدرؤ عنها العذاب أن تشهد) * الآية فدل هذا على أنه لا تأثير للعان المرأة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وأن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج الثاني: أن لعان الزوج وحده مستقل بنفي الولد فوجب أن يكون الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه فيعتبر نفي الزوج لا إلحاق المرأة، ولهذا إذا أكذب الزوج نفسه ألحق به الولد وما دام يبقى مصرا على اللعان فالولد منفي عنه إذا ثبت أن لعانه مستقل بنفي الولد وجب أن يكون مستقلا بوقوع الفرقة، لأن الفرقة لو لم تقع لم ينتف الولد لقوله عليه السلام: " الولد للفراش " فما دام يبقى الفراش التحق به، فلما انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أنه يزول الفراش عنه بمجرد لعانه، وأما الأخبار التي استدل بها أبو حنيفة رحمه الله فالمراد به أن النبي عليه السلام أخبر عن وقوع الفرقة وحكم بها وذلك لا ينافي أن يكون المؤثر في الفرقة شيئا آخر، وأما
الأقيسة التي ذكرها فمدارها على أن اللعان شهادة وليس الأمر كذلك بل هو يمين على ما بينا، وأما قوله: اللعان لا إشعار فيه بوقوع الحرمة. قلنا بينته على نفي الولد مقبولة ونفي الولد يتضمن نفي حلية النكاح والله أعلم. المسألة الثانية: قال مالك والشافعي وأبو يوسف والثوري وإسحق والحسن المتلاعنان لا يجتمعان أبدا، وهو قول علي وعمر وابن مسعود، وقال أبو حنيفة ومحمد إذا أكذب نفسه وحد زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد. حجة الشافعي رحمه الله أمور: أحدها: قوله عليه السلام للملاعن بعد اللعان " لا سبيل لك عليها " ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان الإكذاب غاية لهذه الحرمة لردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية، كما قال في المطلقة بالثلاث * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (البقرة: 230). وثانيها: ما روي عن علي وعمر وابن مسعود أنهم قالوا لا يجتمع المتلاعنان أبدا، وهذا قد روي أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالثها: ما روى الزهري عن سهل بن سعد في قصة العجلاني " مضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا " حجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * وقوله: * (فانكحوا ما طاب لكم) *.
المسألة الثالثة: اتفق أهل العلم على أن الولد قد ينفى عن الزوج باللعان، وحكى عن
170

بعض من شذ أنه للزوج ولا ينتفي نسبه باللعان، واحتج بقوله عليه السلام: " الولد للفراش " وهذا ضعيف لأن الأخبار الدالة على أن النسب ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها هذا الواحد.
المسألة الرابعة: قال الشافعي رحمه الله: لو أتى أحدهما ببعض كلمات اللعان لا يتعلق به الحكم، وقال أبو حنيفة رحمه الله أكثر كلمات اللعان تعمل عمل الكل إذا حكم به الحاكم، والظاهر مع الشافعي لأنه يدل على أنها لا تدرأ العذاب عن نفسها إلا بتمام ما ذكره الله تعالى، ومن قال بخلاف ذلك فإنما يقوله بدليل منفصل.
الطرف الرابع: في كيفية اللعان والآية دالة عليها صريحا، فالرجل يشهد أربع شهادات بالله بأن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، ثم يقول من بعد، وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين. ويتعلق بلعان الزوج تلك الأحكام الخمسة على قول الشافعي رحمه الله، ثم المرأة إذا أرادت إسقاط حد الزنا عن نفسها عليها أن تلاعن ولا يتعلق بلعانها إلا هذا الحكم الواحد، ثم ههنا فروع الفرع الأول: أجمعوا على أن اللعان كالشهادة فلا يثبت إلا عند الحاكم الثاني: قال الشافعي رحمه الله يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة والغضب ويقول له أني أخاف إن لم تك صادقا أن تبوء بلعنة الله الثالث: اللعان بمكة بين المقام والركن وبالمدينة عند المنبر وبيت المقدس في مسجده وفي غيرها في المواضع المعظمة ولعان المشرك كغيره في الكيفية، وأما الزمان فيوم الجمعة بعد العصر، ولا بد من حضور جماعة من الأعيان أقلهم أربعة.
الطرف الخامس: في سائر الفوائد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان قول الخوارج في أن الزنا والقذف كفر من وجهين: الأول: أن الرامي إن صدق فهي زانية، وإن كذب فهو قاذف فلا بد على قولهم من وقوع الكفر من أحدهما، وذلك يكون ردة فيجب على هذا أن تقع الفرقة ولا لعان أصلا، وأن تكون فرقة الردة حتى لا يتعلق بذلك توارث البتة الثاني: أن الكفر إذا ثبت عليها بلعانه، فالواجب أن تقتل لا أن تجلد أو ترجم، لأن عقوبة المرتد مباينة للحد في الزنا.
المسألة الثانية: الآية دالة على بطلان قول من يقول إن وقوع الزنا يفسد النكاح، وذلك لأنه يجب إذا رماها بالزنا أن يكون قوله هذا كأنه معترف بفساد النكاح حتى يكون سبيله سبيل من يقر بأنها أخته من الضراع أو بأنها كافرة، ولو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بنفس الرمي من قبل اللعان وقد ثبت بالإجماع فساد ذلك.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة دلت الآية على أن القاذف مستحق للعن الله تعالى إذا كان كاذبا وأنه قد فسق، وكذلك الزاني والزانية يستحقان غضب الله تعالى وعقابه وإلا لم يحسن منهما أن يلعنا أنفسهما، كما لا يجوز أن يدعو أحد ربه أن يلعن الأطفال والمجانين، وإذا صح ذلك فقد
171

استحق العقاب، والعقاب يكون دائما كالثواب ولا يجتمعان فثوابهما أيضا محبط، فلا يجوز إذا لم يتوبا أن يدخلا الجنة، لأن الأمة مجمعة على أن من دخل الجنة من المكلفين فهو مثاب على طاعاته وذلك يدل على خلود الفساق في النار، قال أصحابنا لا نسلم أن كونه مغضوبا عليه بفسقه ينافي كونه مرضيا عنه لجهة إيمانه، ثم لو سلمناه فلم نسلم أن الجنة لا يدخلها إلا مستحق الثواب والإجماع ممنوع.
المسألة الرابعة: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخيلائها وإطماعها ولذلك كانت مقدمة في آية الجلد.
واعلم أنه سبحانه لما بين حكم الرامي للمحصنات والأزواج على ما ذكرنا وكان في ذلك من الرحمة والنعمة ما لا خفاء فيه، لأنه تعالى جعل باللعان للمرء سبيلا إلى مراده، ولها سبيلا إلى دفع العذاب عن نفسها، ولهما السبيل إلى التوبة والإنابة، فلأجل هذا بين تعالى بقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * عظم نعمه فيما بينه من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة ولا شبهة في أن في الكلام حذفا إذ لا بد من جواب إلا أن تركه يدل على أنه أمر عظيم لا يكتنه، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به. الحكم الخامس قصة الإفك
قوله تعالى
* (إن الذين جآءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل مرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذى تولى كبره منهم له عذاب عظيم) *.
الكلام في هذه الآية من وجهين: أحدهما: تفسيره والثاني: سبب نزوله:
أما التفسير فاعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآية ثلاثة أشياء: أولها: أنه حكى الواقعة وهو قوله: * (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) * والإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل هو البهتان وهو الأمر الذي لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه قول مأفوك عن وجهه، وأجمع المسلمون على أن المراد ما
أفك به على عائشة، وإنما وصف الله تعالى ذلك الكذب بكونه إفكا لأن المعروف من حال عائشة خلاف ذلك لوجوه: أحدها: أن كونها زوجة للرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم يمنع من ذلك. لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم
172

ويستعطفوهم، فوجب أن لا يكون معهم ما ينفرهم عنهم وكون الإنسان بحيث تكون زوجته مسافحة من أعظم المنفرات، فإن قيل كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة وأيضا فلو لم يجز ذلك لكان الرسول أعرف الناس بامتناعه ولو عرف ذلك لما ضاق قلبه، ولما سأل عائشة عن كيفية الواقعة قلنا الجواب عن الأول أن الكفر ليس من المنفرات، أما كونها فاجرة فمن المنفرات والجواب: عن الثاني أنه عليه السلام كثيرا ما كان يضيق قلبه من أقوال الكفار مع علمه بفساد تلك الأقوال، قال تعالى: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * (الحجر: 97) فكان هذا من هذا الباب وثانيها: أن المعروف من حال عائشة قبل تلك الواقعة إنما هو الصون والبعد عن مقدمات الفجور، ومن كان كذلك كان اللائق إحسان الظن به وثالثها: أن القاذفين كانوا من المنافقين وأتباعهم، وقد عرف أن كلام العدو المفتري ضرب من الهذيان، فلمجموع هذه القرائن كان ذلك القول معلوم الفساد قبل نزول الوحي. أما العصبة فقيل إنها الجماعة من العشرة إلى الأربعين وكذلك العصابة واعصوصبوا اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم.
أما قوله: * (منكم) * فالمعنى أن الذين أتوا بالكذب في أمر عائشة جماعة منكم أيها المؤمنون، لأن عبد الله كان من جملة من حكم له بالإيمان ظاهرا ورابعها: أنه سبحانه شرح حال المقذوفة ومن يتعلق بها بقوله: * (لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم) * والصحيح أن هذا الخطاب ليس مع القاذفين، بل مع من قذفوه وآذوه، فإن قيل هذا مشكل لوجهين: أحدهما: أنه لم يتقدم ذكرهم والثاني: أن المقذوفين هما عائشة وصفوان فكيف تحمل عليهما صيغة الجمع في قوله: * (لا تحسبوه شرا لكم) *، والجواب عن الأول: أنه تقدم ذكرهم في قوله: * (منكم) * وعن الثاني: أن المراد من لفظ الجمع كل من تأذى بذلك الكذب واغتم، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم تأذى بذلك وكذلك أبو بكر ومن يتصل به، فإن قيل فمن أي جهة يصير خيرا لهم مع أنه مضرة في العاجل؟ قلنا لوجوه: أحدها: أنهم صبروا على ذلك الغم طلبا لمرضاة الله تعالى فاستوجبوا به الثواب وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم وثانيها: أنه لولا إظهارهم للإفك كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر وثالثها: أنه صار خيرا لهم لما فيه من شرفهم وبيان فضلهم من حيث نزلت ثمان عشرة آية كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة وشهد الله تعالى بكذب القاذفين ونسبهم إلى الإفك وأوجب عليهم اللعن والذم وهذا غاية الشرف والفضل ورابعها: صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها فإن الله
173

تعالى لما نص على كون تلك الواقعة إفكا وبالغ في شرحه فكل من يشك فيه كان كافرا قطعا وهذه درجة عالية، ومن الناس من قال قوله تعالى: * (لا تحسبوه شرا لكم) * خطاب مع القاذفين وجعله الله تعالى خيرا لهم من وجوه: أحدها: أنه صار ما نزل من القرآن مانعا لهم من الاستمرار عليه فصار مقطعة لهم عن إدامة هذا الإفك وثانيها: صار خيرا لهم من حيث كان هذا الذكر عقوبة معجلة كالكفارة وثالثها: صار خيرا لهم من حيث تاب بعضهم عنده، واعلم أن هذا القول ضعيف لأنه تعالى خاطبهم بالكاف، ولما وصف أهل الإفك جعل الخطاب بالهاء بقوله تعالى: * (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) * ومعلوم أن نفس ما اكتسبوه لا يكون عقوبة، فالمراد لهم جزاء ما اكتسبوه من العقاب في الآخرة والمذمة في الدنيا، والمعنى أن قدر العقاب يكون مثل قدر الخوض.
أما قوله: * (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء كبره بالضم والكسر وهو عظمه.
المسألة الثانية: قال الضحاك: الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عذرها. وجلد معهما امرأة من قريش، وروي أن عائشة رضي الله عنها ذكرت حسانا وقالت: " أرجو له الجنة، فقيل أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت إذا سمعت شعره في مدح الرسول رجوت له الجنة " وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله يؤيد حسانا بروح القدس في شعره " وفي رواية أخرى " وأي عذاب أشد من العمى " ولعل الله جعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره، والأقرب في الرواية أن المراد به عبد الله بن أبي بن سلول فإنه كان منافقا يطلب ما يكون قدحا في الرسول عليه السلام، وغيره كان تابعا له فيما كان يأتي، وكان فيهم من لا يتهم بالنفاق.
المسألة الثالثة: المراد من إضافة الكبر إليه أنه كان مبتدئا بذلك القول، فلا جرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام " من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " وقيل سبب تلك الإضافة شدة الرغبة في إشاعة تلك الفاحشة وهو قول أبي مسلم.
المسألة الرابعة: قال الجبائي قوله تعالى: * (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) * أي عقاب ما اكتسب، ولو كانوا لا يستحقون على ذلك عقابا لما جاز أن يقول تعالى ذلك، وفيه دلالة على أن من لم يتب منهم صار إلى العذاب الدائم في الآخرة، لأن مع استحقاق العذاب لا يجوز استحقاق الثواب والجواب: أن الكلام في المحابطة قد مر غير مرة فلا وجه للإعادة والله أعلم.
أما سبب النزول فقد روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عقبة بن مسعود كلهم رووا عن عائشة قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه، قالت فأقرع بيننا في
174

غزوة غزاها قبل غزوة بني المصطلق فخرج فيها اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فلما انصرف رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقرب من المدينة نزل منزلا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فإني كنت جارية حديث السن، فظنوا أني في الهودج وذهبوا بالبعير، فلما رجعت لم أجد في المكان أحدا فجلست وقلت لعلهم يعودون في طلبي فنمت، وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في العسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء فلما رآني عرفني، وقال ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت، ثم قاد البعير وافتقدني الناس حين نزلوا وماج الناس في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فتكلم الناس وخاضوا في حديثي، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولحقني وجع، ولم أر منه عليه السلام ما عهدته من اللطف الذي كنت أعرف منه حين اشتكى، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول كيف تيكم فذاك الذي يريبني، ولا أشعر بعد بما جرى حتى نقهت فخرجت في بعض الليالي مع أم مسطح لمهم لنا، ثم أقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح، فأنكرت ذلك وقلت أتسبين رجلا شهد بدرا! فقالت وما بلغك الخبر! فقلت وما هو فقال (- ت) أشهد أنك من المؤمنات الغافلات، ثم أخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فرجعت أبكي، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال كيف تيكم، فقلت ائذن لي أن آتي أبوي فأذن لي فجئت أبوي وقلت لأمي يا أمه ماذا يتحدث الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، ثم قالت ألم تكوني علمت ما قيل حتى الآن؟ فأقبلت أبكي فبكيت تلك الليلة ثم أصبحت أبكي فدخل علي أبي وأنا أبكي فقال لأمي ما يبكيها؟ قالت لم تكن علمت ما قيل فيها حتى الآن فأقبل يبكي ثم قال اسكتي يا بنية، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام وأسامة بن زيد واستشارهما في فراق أهله فقال أسامة يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وسألها عن أمري قالت بريرة يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجن فتأكله، قالت فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا على المنبر، فقال يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي يعني عبد الله بن أبي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي، فقام سعد بن معاذ فقال أعذرك يا رسول الله منه إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج فما أمرتنا فعلناه، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج
175

وكان رجلا صالحا ولكن أخذته الحمية فقال لسعد بن معاذ كذبت والله لا تقدر على قتله، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ وقال كذبت لعمر الله لنقتلنه وإنك لمنافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا، قالت ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي، فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت ولم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل ولقد لبث شهرا لا يوحي الله إليه في شأني شيئا، ثم قال: أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا تاب تاب الله عليه قالت فما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته، فاض دمعي ثم قلت لأبي أجب عني رسول الله، فقال والله ما أدري ما أقول، فقلت لأمي أجيبي عني رسول الله فقالت والله لا أدري ما أقول، فقلت وأنا جارية حديثة السن ما أقرأ من القرآن كثيرا إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به فإن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني وإن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني بريئة لتصدقوني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال العبد الصالح أبو يوسف ولم أذكر اسمه * (فصبر جميل، والله المستعان على ما تصفون) * (يوسف: 18) قالت ثم تحولت واضطجعت على فراشي، وأنا والله أعلم أن الله تعالى يبرئني ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيا يتلى فشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت فوالله ما قام رسول الله من مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله الوحي على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه عند نزول الوحي حتى إنه ليتحدر عنه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي، فسجى بثوب ووضعت وسادة تحت رأسه فوالله ما فرغت ولا باليت لعلمي ببراءتي، وأما أبواي فوالله ما سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أن نفسي أبوي ستخرجان فرقا من أن يأتي الله بتحقيق ما قال الناس، فلما سرى عنه وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال: أبشري يا عائشة أما والله لقد برأك الله. فقلت بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد أصحابك، فقالت أمي قومي إليه، فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد أحدا إلا الله أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى: * (إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم) * العشر آيات، فقال أبو بكر والله لا أنفق على مسطح بعد هذا وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره، فأنزل الله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم) * إلى قوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * (النور: 22) فقال أبو بكر: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع النفقة على مسطح قالت فلما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل ضرب عبد الله بن أبي ومسطحا وحمنة وحسان الحد ".
واعلم أنه سبحانه وتعالى لما ذكر القصة وذكر حال المقذوفين والقاذفين عقبها بما يليق بها من الآداب والزواجر، وهي أنواع:
176

النوع الأول
قوله تعالى
* (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذآ إفك مبين) *.
وهذا من جملة الآداب التي كان يلزمهم الإتيان بها، و * (لولا) * معناه هلا وذلك كثير في اللغة إذا كان يليه الفعل كقوله: * (لولا أخرتني) * (المنافقون: 10)
وقوله: * (فلولا كانت قرية آمنت) * (يونس: 98) فأما إذا وليه الاسم فليس كذلك كقوله: * (لولا أنتم لكنا مؤمنين) * (سبأ: 31) وقوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) * (النور: 10) والمراد كان الواجب على المؤمنين إذ سمعوا قول القاذف أن يكذبوه ويشتغلوا بإحسان الظن ولا يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيه الطهارة، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: هلا قيل لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم فلم عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن المضمر إلى الظاهر؟ الجواب: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وفي التصريح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يظن بالمسلمين إلا خيرا، لأن دينه يحكم بكون المعصية منشأ للضرر وعقله يهديه إلى وجوب الاحتراز عن الضرر، وهذا يوجب حصول الظن باحترازه عن المعصية، فإذا وجد هذا المقتضى للاحتراز ولم يوجد في مقابلته راجح يساويه في القوة وجب إحسان الظن، وحرم الإقدام على الطعن.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله بأنفسهم؟ الجواب: فيه وجهان: الأول: المراد أن يظن بعضهم ببعض خيرا ونظيره قوله: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * (الحجرات: 11) وقوله: * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54) وقوله: * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) * (النور: 61) ومعناه أي بأمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم، روي أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال لأم أيوب أما ترين ما يقال؟ فقالت لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرم رسول الله سوءا؟ قال لا، قالت ولو كنت بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك. وقال ابن زيد ذلك معاتبة للمؤمنين إذ المؤمن لا يفجر بأمه ولا الأم بابنها وعائشة رضي الله عنها هي أم المؤمنين والثاني: أنه جعل المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه جرى على جميعهم. عن النعمان بن بشير قال عليه السلام: " مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا وجع بعضه بالسهر والحمى وجع كله " وعن أبي بردة قال عليه السلام: " المؤمنون للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا ".
السؤال الثالث: ما معنى قوله: * (هذا إفك مبين) * وهل يحل لمن يسمح ما لا يعرفه
177

أن يقول ذلك؟ الجواب: من وجهين: الأول: كذلك يجب أن يقول، لكنه يخبر بذلك عن قول القاذف الذي لا يستند إلى أمارة ولا عن حقيقة الشيء الذي لا يعلمه الثاني: أن ذلك واجب في أمر عائشة لأن كونها زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم المعصوم عن جميع المنفرات كالدليل القاطع في كون ذلك كذبا، قال أبو بكر الرازي هذا يدل على أن الواجب فيمن كان ظاهره العدالة أن يظن به خيرا، ويوجب أن يكون عقود المسلمين وتصرفاتهم محمولة على الصحة والجواز، ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد رجلا مع امرأة أجنبية فاعترفا بالتزويج إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما وزعم مالك أنه يحدهما أن لم يقيما بينة على النكاح، ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا رضي الله عنهم فيمن باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين إنه يخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن بالمؤمنين فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة بينهما، وكذلك إذا باع سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم إنا نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف، وهو يدل أيضا على قول أبي حنيفة رحمه الله في أن المسلمين عدول ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن، وذلك يوجب قبول الشهادة ما لم يظهر منه ريبة توجب التوقف عنها أوردها، قال تعالى: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (النجم: 28). النوع الثاني
قوله تعالى
* (لولا جآءوا عليه بأربعة شهدآء فإذ لم يأتوا بالشهدآء فأولئك عند الله هم الكاذبون) *.
وهذا من باب الزواجر، والمعنى هلا أتوا على ما ذكروه بأربعة شهداء يشهدون على معاينتهم فيما رموها به * (فإذ لم يأتوا بالشهداء) * (النور: 13) أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا، فأولئك عند الله أي في حكمه هم الكاذبون، فإن قيل: أليس إذا لم يأتوا بالشهداء فإنه يجوز كونهم صادقين كما يجوز كونهم كاذبين فلم جزم بكونهم كاذبين؟ والجواب من وجهين: الأول: أن المراد بذلك الذين رموا عائشة خاصة وهم كانوا عند الله كاذبين الثاني: المراد فأولئك عند الله في حكم الكاذبين فإن الكاذب يجب زجره عن الكذب، والقاذف إن لم يأت بالشهود فإنه يجب زجره فلما كان شأنه شأن الكاذب في الزجر لا جرم أطلق عليه لفظ الكاذب مجازا.
النوع الثالث: قوله تعالى * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته فى الدنيا والاخرة لمسكم فى مآ أفضتم فيه عذاب عظيم) *.
178

وهذا من باب الزواجر أيضا، ولولا ههنا لامتناع الشيء لوجود غيره، ويقال أفاض في الحديث واندفع وخاض، وفي المعنى وجهان: الأول: ولولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك والثاني: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم في الدنيا والآخرة معا، فيكون فيه تقديم وتأخير، والخطاب للقذفة وهو قول مقاتل، وهذا الفضل هو حكم الله تعالى من تأخيره العذاب وحكمه بقبول التوبة لمن تاب. النوع الرابع
قوله تعالى
* (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) *.
وهذا أيضا من الزواجر قال صاحب " الكشاف " إذ ظرف لمسكم أو لأفضتم ومعنى تلقونه يأخذه بعضكم من بعض يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه ومنه قوله تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * (البقرة: 37) وقرئ على الأصل تتلقونه وإتلقونه بإدغام الذال في التاء وتلقونه من لقيه بمعنى لفقه وتلقونه من إلقائه بعضهم على بعض وتلقونه، وتألقونه من الولق والألف وهو الكذب، وتلقونه محكية عن عائشة، وعن سفيان: سمعت أمي تقرأ إذ تثقفونه، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود،
واعلم أن الله تعالى وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها أحدها: تلقي الإفك بألسنتهم وذلك أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول له ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى شاع واشتهر فلم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فكأنهم سعوا في إشاعة الفاحشة وذلك من العظائم وثانيها: أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم فأما الذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عما علم كذبه في الحرمة، ونظيره قوله: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (الإسراء: 36) فإن قيل ما معنى قوله: * (بأفواهكم) * والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلنا معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه باللسان وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به، كقوله: * (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) * (آل عمران: 167) وثالثها: أنهم كانوا يستصغرون ذلك وهو عظيم من العظائم، ويدل على أمور ثلاثة: الأول: يدل على أن القذف من الكبائر لقوله: * (وهو عند الله عظيم) * الثاني: نبه بقوله: * (وتحسبونه هينا) * على أن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، بل ربما كان ذلك مؤكدا لعظمها من حيث جهل كونها عظيما،
179

الثالث: الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، إذ لا يأمن أنه من الكبائر، وقيل لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. النوع الخامس
قوله تعالى
* (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنآ أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم) *.
وهذا من باب الآداب، أي هلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وإنما وجب عليهم الامتناع منه لوجوه: أحدها: أن المقتضى لكونهم تاركين لهذا الفعل قائم وهو العقل والدين، ولم يوجد ما يعارضه فوجب أن يكون ظن كونهم تاركين للمعصية أقوى من ظن كونهم فاعلين لها، فلو أنه أخبر عن صدور المعصية لكان قد رجح المرجوح على الراجح وهو غير جائز وثانيها: وهو أنه يتضمن إيذاء الرسول وذلك سبب للعن لقوله تعالى: * (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) * (الأحزاب: 57) وثالثها: أنه سبب لإيذاء عائشة وإيذاء أبويها ومن يتصل بهم من غير سبب عرف إقدامهم عليه، ولا جناية عرف صدورها عنهم، وذلك حرام ورابعها: أنه إقدام على ما يجوز أن يكون سببا للضرر مع الاستغناء عنه، والعقل يقتضي التباعد عنه لأن القاذف بتقدير كونه صادقا لا يستحق الثواب على صدقه بل يستحق العقاب لأنه أشاع الفاحشة، وبتقدير كونه كاذبا فإنه يستحق العقاب العظيم، ومثل ذلك مما يقتضي صريح العقل الاحتراز عنه وخامسها: أنه تضييع للوقت بما لا فائدة فيه، وقال عليه الصلاة والسلام: " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " وسادسها: أن في إظهار محاسن الناس وستر مقابحهم تخلقا بأخلاق الله تعالى، وقال عليه السلام: " تخلقوا بأخلاق الله " فهذه الوجوه توجب على العاقل أنه إذا سمع القذف أن يسكت عنه وأن يجتهد في الاحتراز عن الوقوع فيه، فإن قيل كيف جاز الفصل بين لولا وبين قلتم بالظرف؟ قلنا الفائدة فيه أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به.
أما قوله: * (سبحانك هذا بهتان عظيم) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: كيف يليق سبحانك بهذا الموضع؟ الجواب: من وجوه: الأول: المراد منه التعجب من عظم الأمر، وإنما استعمل في معنى التعجب لأنه يسبح الله عند رؤية العجيب من صانعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه الثاني: المراد تنزيه الله تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة الثالث: أنه منزه عن أن يرضى بظلم هؤلاء الفرقة المفترين الرابع: أنه منزه عن أن لا يعاقب هؤلاء القذفة الظلمة.
180

يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم
الآيات والله عليم حكيم (18)
السؤال الثاني: لم أوجب عليهم أن يقولوا هذا بهتان عظيم مع أنهم ما كانوا عالمين بكونه كذبا قطعا؟ والجواب: من وجهين: الأول: أنهم كانوا متمكنين من العلم بكونه بهتانا، لأن زوجة الرسول لا يجوز أن تكون فاجرة الثاني: أنهم لما جزموا أنهم ما كانوا ظانين له بالقلب كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذبا، ونظيره قوله: * (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * (المنافقون: 1).
النوع السادس: قوله تعالى (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين
كان إخبارهم عن ذلك الجزم كذبا، ونظيره قوله (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون).
(النوع السادس) قوله تعالى (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين
الله لكم الآيات والله عليم حكيم).
وهذا من باب الزواجر، والمعنى يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب
وأن فيه الحد والنكال في الدنيا والعذاب في الآخرة، لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبدا
وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين، وقد تحت ذلك من قال ومن سمع فلم ينكر، لان حالهما سواء
في أن فعلا مالا يجوز وإن كان من أقدم عليه أعظم ذنبا، فبين أن الغرض بما عرفهم من هذه
الطريقة أن لا يعودوا إلى مثل ما تقدم منهم وههنا مسائل:
(المسألة الأولى) استدلت المعتزلة بقوله (إن كنتم مؤمنين) على أن ترك القذف من
الايمان وعلى أن فعل القذف لا يبقى معه الايمان، لان المعلق على الشرط عدم عند عدم الشرط
(والجواب) هذا معارض بقوله (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم) أي منكم أيها المؤمنون
فدل ذلك على أن القذف لا يوجب الخروج عن الايمان وإذا ثبت التعارض حملنا هذه الآية على
التهييج في الاتعاظ والانزجار.
(المسألة الثانية) قالت المعتزلة دلت هذه الآية على أنه تعالى أراد من جميع من وعظه مجانبة
مثل ذلك في المستقبل وإن كانت فيهم من لا يطيع، فمن هذا الوجه تدل على أنه تعالى يريد من كلهم
الطاعة وإن عصوا، لأنه قوله (يعظكم الله أن تعودوا) معناه لكي لا تعودوا لمثله وذلك دلالة
الإرادة (والجواب) عنه قد تقدم مرارا.
(المسألة الثالثة) هل يجوز أن يسمى الله تعالى واعظا لقوله (يعظكم الله أن تعودوا)؟
الأظهر أنه لا يجوز كما لا يجوز أن يسمى معلما لقوله (الرحمن علم القرآن).
أما قوله تعالى (ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) فالمراد من الآيات ما به يعرف المرء
ما ينبغي أن يتمسك به، ثم بين أنه لكونه عليما حكيما يؤثر بما يجب أن بينه ويجب أن يطاع
لأجل ذلك، لان من لا يكون عالما لا يجب قبول تكليفه، لأنه قد يأمر بما لا ينبغي، ولان
181

إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب اليم في
الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)
المكلف إذا أطاعه فقد لا يعلم أنه أطاعه، وحينئذ لا يبقى للطاعة فائدة، وأما من كان عالما لكنه
لا يكون حكيما فقد يأمره بما لا ينبغي فإذا أطاعه المكلف فقد يعذب المطيع وقد يثيب العاصي،
وحينئذ لا يبقى للطاعة فائدة، وأما إذا كان عليما حكيما فإنه لا يأمر إلا بما ينبغي ولا يهمل جزاء
المستحقين، فلهذا ذكر هاتين الصفتين وخصهما بالذكر، وههنا سؤالات:
(الأول) الحكيم هو الذي لا يأتي بما لا ينبغي، وإنما يكون كذلك لو كان عالما بقبح
القبيح وعالما بكونه غنيا عنه فيكون العليم داخلا في الحكيم، فكان ذكرا الحكيم مغنيا عنه. هذا
على قوله المعتزلة، وأما على قول أهل السنة والجماعة فالحكمة هي العلم فقط، فذكر العليم الحكيم
يكون تكرارا محضا (الجواب يحمل ذلك على التأكيد.
(السؤال الثاني) قالت المعتزلة دلت الآية على أنه إنما يجب قبول بيان الله تعالى لمجرد
كونه عالما حكيما، والحكيم هو الذي لا يفعل القبائح فتدل الآية على أنه لو كان خالقا للقبائح لما
جاز الاعتماد على وعده ووعيده (والجواب) الحكيم عندنا هو العليم، وإنما يجوز الاعتماد على
قوله لكونه عالما بكل المعلومات، فان الجاهل لا اعتماد على قوله البتة.
(السؤال الثالث) قالت المعتزلة قوله (يبين الله لكم) أي لأجلكم، وهذا يدل على أن أفعاله
معللة بالأغراض، ولان قوله (لكم) لا يجوز حمله على ظاهره لأنه ليس الغرض نفس ذواتهم بل
الغرض حصول انتفاعهم وطاعتهم وإيمانهم، فدل هذا على أنه تعالى يريد الايمان من الكل
(والجواب) المراد أنه سبحانه فعل بهم ما لو فعله غيره لكان ذلك غرضا.
(النوع السابع) قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الدين آمنوا لهم
عذاب أليم في الدنيا والآخرة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)
اعلم أنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك وما على من سمع منهم، وما ينبغي أن يتمسكوا به
من آداب الدين أتبعه بقوله (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) ليعلم أن من أحب ذلك فقد
أظهره، فكذلك يستحقون العقاب بما أسروه من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وذلك يدل
(المسألة الأولى) معنى الإشاعة الانتشار يقال في هذا العقار سهم شائع إذا كان في الجميع
ولم يكن منفصلا، وشاع الحديث إذا ظهر في العامة.
182

(المسألة الثانية) لا شك أن ظاهر قوله (إن الذين يحبون) يفيد العموم وأنه يتناول كل
من كان بهذه الصفة، ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب فوجب إجزاؤها على ظاهرها في العموم، ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها
بقذفة عائشة قوله تعالى في (الذين آمنوا) فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك،
والذين خصصوه بقذفة عائشة منهم من حمله على عبد الله بن أبي، لأنه هو الذي سعى في إشاعة
الفاحشة قالوا معنى الآية (إن الذين يحبون) والمراد عبد الله أن تشيع الفاحشة أي الزنا في
الذين آمنوا أي في عائشة وصفوان.
(المسألة الثالثة) روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إني لأعرف قوما يضربون صدورهم
ضربا يسمعه أهل النار، وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم
ويشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم وعنه عليه الصلاة والسلام لا يستر عبد مؤمن عورة
عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة ومن أقال مسلما صفقته أقال الله عترته يوم القيامة ومن ستر عورته
ستر الله عورته يوم القيامة وعنه عليه الصلاة والسلام المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وعن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام قال من سره أن
يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله
ويحب أن يؤتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه وعن أنس قال: قال عليه الصلاة والسلام
لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
(المسألة الرابعة) اختلفوا في عذاب الدنيا، فقال بعضهم إقامة الحد عليهم، وقال بعضهم
هو الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسان
لانهم قصدوا أن يغموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أراد غم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وعذابهم في الدنيا
هو ما كانوا يتبعون فيه وينفقون لمقاتلة أوليائهم مع أعدائهم، وقال أبو مسلم: الذين يحبون هم
المنافقون لقوله (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) والأقرب أن المراد بهذا العذاب
ما استحقوه بإفكهم وهو الحد واللعن والذم. فأما عذاب الآخرة فلا شك أنه في القبر عذابه،
وفى القيامة عذاب النار.
أما قوله (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) فهو حسن الموقع بهذا الموضع لان محبة القلب كامنة
ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات، أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شئ، فصار هذا الذكر نهاية في
الزجر لان من أحب إشاعة الفاحشة وإن بالغ في أخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك
منه وإن علمه سبحانه بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره ويعلم قدر الجزاء عليه.
183

ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم (20)
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشآء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى
منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكى من يشآء والله سميع عليم) *. (21)
(المسألة الخامسة) الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق
فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة.
(المسألة السادسة) قال الجبائي دلت الآية على أن كل قاذف لم يتب من قذفه فلا ثواب له
من حيث استحق هذا العذاب الدائم، وذلك يمنع من استحقاق ضده الذي هو الثواب، فمن هذا
الوجه تدل على ما نقوله في الوعيد، واعلم أن حاصله يرجع إلى مسألة المحابطة وقد تقدم الكلام عليه.
(المسألة السابعة) قالت المعتزلة: إن الله تعالى بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة، فلو
كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو، فكان يجب أن لا يستحق الذم
على إشاعة الفاحشة إلا هو، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة وغيره لم يفعل شيئا منها، والكلام
عليه أيضا قد تقدم.
(المسألة الثامنة) قال أبو حنيفة رحمه الله: المصابة بالفجور لا تستنطق، لان استنطاقها
إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه.
(النوع الثامن) قوله تعالى (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم)
وفيه وجوه (أحدها) أن جوابه محذوف وكأنه قال لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم لكنه
رؤوف رحيم، قال ابن عباس الخطاب لحسان ومسطح وحمنة، ويجوز أن يكون الخطاب عاما
(والثاني) جوابه في قوله (ما زكى منكم من أحد أبدا) (والثالث) جوابه لكانت الفاحشة تشيع
فتعظم المضرة وهو قول أبى مسلم، والأقرب أن جوابه محذوف لان قوله من بعد (ولولا فضل
الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد) كالمنفصل من الأول فلا يجب أن يكون جوابا للأول،
خصوصا وقد وقع بين الكلامين كلام آخر، والمراد أنه لولا إنعامه بأن بقى وأمهل ومكن من
التلافي لهلكوا، لكنه لرأفته لا يدع ما هو للعبد أصلح وإن جنى على نفسه.
(النوع التاسع) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان، ومن يتبع
خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر، ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من
أحد أبدا، ولكن الله يزكى من يشاء الله سميع عليم)
184

قرىء خطوات بضم الطاء وسكونها، والخطوات جمع خطوة وهو من خطا الرجل يخطو خطوا، فإذا أردت الواحدة قلت خطوة مفتوحة الأول، والجمع يفتح أوله ويضم، والمراد بذلك السيرة والطريقة، والمعنى لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه في الإصغاء إلى الإفك والتلقي له وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، والله تعالى وإن خص بذلك المؤمنين فهو نهي لكل المكلفين وهو قوله: * (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) * ومعلوم أن كل المكلفين ممنوعون من ذلك، وإنما قلنا إنه تعالى خص المؤمنين بذلك لأنه توعدهم على اتباع خطواته بقوله: * (ومن يتبع خطوات الشيطان) * وظاهر ذلك أنهم لم يتبعوه، ولو كان المراد به الكفار لكانوا قد اتبعوه، فكأنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك من الوعيد أدب المؤمنين أيضا، بأن خصهم بالذكر ليتشددوا في ترك المعصية، لئلا يكون حالهم كحال أهل الإفك والفحشاء والفاحشة ما أفرط قيحه، والمنكر ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه.
أما قوله: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) * (النور: 21) فقرأ يعقوب وابن محيصن ما زكى بالتشديد، واعلم أن الزكي من بلغ في طاعة الله مبلغ الرضا ومنه يقال زكى الزرع، فإذا بلغ المؤمن من الصلاح في الدين إلى ما يرضاه الله تعالى سمى زكيا، ولا يقال زكى إلا إذا وجد زكيا، كما لا يقال لمن ترك الهدى هداه الله تعالى مطلقا، بل يقال هداه الله فلم يهتد، واحتج أصحابنا في مسألة المخلوق بقوله: * (ولكن الله يزكي من يشاء) * (النور: 21) فقالوا التزكية كالتسويد والتحمير فكما أن التسويد تحصيل السواد، فكذا التزكية تحصيل الزكاء في المحل، قالت المعتزلة ههنا تأويلان: أحدهما: حمل التزكية على فعل الألطاف والثاني: حملها على الحكم بكون العبد زكيا، قال أصحابنا: الوجهان على خلاف الظاهر، ثم نقيم الدلالة العقلية على بطلانهما أيضا أما الوجه الأول: فيدل على فساده وجوه: أحدها: أن فعل اللطف هل يرجح الداعي أو لا يرجحه فإن لم يرجحه البتة لم يكن به تعلق فلا يكون لطفا، وإن رجحه فنقول المرجح لا بد وأن يكون منتهيا إلى حد الوجوب، فإنه مع ذلك القدر من الترجيح إما أن يمتنع وقوع الفعل عنده أو يمكن أو يجب، فإن امتنع كان مانعا لا داعيا، وإن أمكن أن يكون وأن لا يكون، فكل ما يمكن لا يلزم من فرض وقوعه محال، فليفرض تارة واقعا وأخرى غير واقع، فامتياز وقت الوقوع عن وقت اللاوقوع، إما أن يتوقف على انضمام قيد إليه أو لا يتوقف، فإن توقف كان المرجح هو المجموع الحاصل بعد انضمام هذا القيد، فلا يكون الحاصل أولا مرجحا، وإن لم يتوقف كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع والآخر باللاوقوع ترجيحا للممكن من غير مرجح وهو محال، وأما إن اللطف مرجحا موجبا كان فاعل اللطف فاعلا للملطوف فيه، فكان تعالى فاعلا لفعل العبد الثاني: أنه تعالى قال: * (ولكن الله يزكي من يشاء) * علق التزكية على المشيئة وفعل اللطف واجب، والواجب لا يتعلق بالمشيئة الثالث: أنه علق التزكية على الفضل والرحمة وخلق
185

الألطاف واجب فلا يكون معلقا بالفضل والرحمة وأما الوجه الثاني: وهو الحكم بكونه زكيا فذلك واجب لأنه لو يحكم به لكان كذبا والكذب على الله تعالى محال، فكيف يجوز تعليقه بالمشيئة؟ فثبت أن قوله: * (ولكن الله يزكي من يشاء) * نص في الباب.
أما قوله: * (والله سميع عليم) * فالمراد أنه يسمع أقوالكم في القذف وأقوالكم في إثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو من كراهيتها، وإذا كان كذلك وجب الاحتراز عن معصيته.
قوله تعالى
* (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين فى سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى كما أدب أهل الإفك ومن سمع كلامهم كما قدمنا ذكره، فكذلك أدب أبا بكر لما حلف أن لا ينفق على مسطح أبدا، قال المفسرون: نزلت الآية في أبي بكر حيث حلف أن لا ينفق على مسطح وهو ابن خالة أبي بكر، وقد كان يتيما في حجره وكان ينفق عليه وعلى قرابته، فلما نزلت الآية قال لهم أبو بكر قوموا فلستم مني ولست منكم ولا يدخلن على أحد منكم، فقال مسطح أنشدك الله والإسلام وأنشدك القرابة والرحم أن لا تحوجنا إلى أحد، فما كان لنا في أول الأمر من ذنب، فقال
لمسطح إن لم تتكلم فقد ضحكت! فقال قد كان ذلك تعجبا من قول حصان فلم يقبل عذره، وقال انطلقوا أيها القوم فإن الله لم يجعل لكم عذرا ولا فرجا، فخرجوا لا يدرون أين يذهبون وأين يتوجهون من الأرض، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأن الله تعالى قد أنزل علي كتابا ينهاك فيه أن تخرجهم فكبر أبو بكر وسره، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية عليه فلما وصل إلى قوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * قال بلى يا رب إني أحب أن يغفر لي، وقد تجاوزت عما كان، فذهب أبو بكر إلى بيته وأرسل إلى مسطح وأصحابه، وقال قبلت ما أنزل الله على الرأس والعين، وإنما فعلت بكم ما فعلت إذ سخط الله عليكم، أما إذا عفا عنكم فمرحبا بكم، وجعل له مثلي ما كان له قبل ذلك اليوم، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في قوله: * (ولا يأتل) * وجهين: الأول: وهو المشهور أنه من ائتلى إذا حلف، افتعل من الألية، والمعنى لا يحلف، قال أبو مسلم هذا ضعيف لوجهين: أحدهما:
186

أن ظاهر الآية على هذا التأويل يقتضي المنع من الحلف على الإعطاء وهم أرادوا المنع من الحلف على ترك الإعطاء، فهذا المتأول قد أقام النفي مكان الإيجاب وجعل المنهي عنه مأمورا به؛ وثانيهما: أنه قلما يوجد في الكلام افتعلت مكان أفعلت، وإنما يوجد مكان فعلت، وهنا آليت من الألية افتعلت. فلا يقال أفعلت كما لا يقال من ألزمت التزمت ومن أعطيت اعتطيت، ثم قال في يأتل إن أصله يأتلي ذهبت الياء للجزم لأنه نهى وهو من قولك ما آلوت فلانا نصحا، ولم آل في أمري جهدا، أي ما قصرت ولا يأل ولا يأتل واحدا، فالمراد لا تقصروا في أن تحسنوا إليهم ويوجد كثيرا افتعلت مكان فعلت تقول كسبت واكتسبت وصنعت واصطنعت ورضيت وارتضيت، فهذا التأويل هو الصحيح دون الأول، ويروى هذا التأويل أيضا عن أبي عبيدة. أجاب الزجاج عن السؤال الأول بأن لا تخذف في اليمين كثيرا قال الله تعالى: * (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا) * (البقرة: 224) يعني أن لا تبروا، وقال امرؤ القيس: فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي إليك وأوصالي
أي لا أبرح، وأجابوا عن السؤال الثاني، أن جميع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم فسروا اللفظة باليمين وقول كل واحد منهم حجة في اللغة فكيف الكل، ويعضده قراءة الحسن ولا يتأل.
المسألة الثانية: أجمع المفسرون على أن المراد من قوله: * (أولوا الفضل) * أبو بكر، وهذه الآية تدل على أنه رضي الله عنه كان أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الفضل المذكور في هذه الآية إما في الدنيا وإما في الدين، والأول باطل لأنه تعالى ذكره في معرض المدح له، والمدح من الله تعالى بالدنيا غير جائز، ولأنه لو كان كذلك لكان قوله: * (والسعة) * تكريرا فتعين أن يكون المراد منه الفضل في الدين، فلو كان غيره مساويا له في الدرجات في الدين لم يكن هو صاحب الفضل لأن المساوي لا يكون فاضلا، فلما أثبت الله تعالى له الفضل مطلقا غير مقيد بشخص دون شخص وجب أن يكون أفضل الخلق ترك العمل به في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فيبقى معمولا به في حق الغير، فإن قيل نمنع إجماع المفسرين على اختصاص هذه الآية بأبي بكر، قلنا كل من طالع كتب التفسير والأحاديث علم أن اختصاص هذه الآية بأبي بكر بالغ إلى حد التواتر، فلو جاز منعه لجاز منع كل متواتر، وأيضا فهذه الآية دالة على أن المراد منها أفضل الناس، وأجمعت الأمة على أن الأفضل إما أبو بكر أو علي، فإذا بينا أنه ليس المراد عليا تعينت الآية لأبي بكر، وإنما قلنا إنه ليس المراد منه عليا لوجهين: الأول: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يتعلق بابنة أبي بكر فيكون حديث علي في البين سمجا الثاني: أنه تعالى وصفه بأنه من أولي السعة، وإن عليا لم يكن من أولي السعة في الدنيا في ذلك الوقت، فثبت أن المراد منه أبو بكر قطعا، واعلم أن الله تعالى وصف أبا بكر في هذه الآية بصفات عجيبة دالة على علو شأنه في الدين أحدها: أنه سبحانه كنى عنه بلفظ الجمع والواحد إذا كنى عنه بلفظ الجمع دل على علو شأنه
187

كقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر) * (الحجر: 9)، * (إنا أعطيناك الكوثر) * (الكوثر: 1) فانظر إلى الشخص الذي كناه الله سبحانه مع جلاله بصيغة الجمع كيف يكون علو شأنه! وثانيها: وصفه بأنه صاحب الفضل على الإطلاق من غير تقييد لذلك بشخص دون شخص، والفضل يدخل فيه الإفضال، وذلك يدل على أنه رضي الله عنه كما كان فاضلا على الإطلاق كان مفضلا على الإطلاق وثالثها: أن الإفضال إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين لمن يقتل نفسه لا يسمى مفضلا لأنه أعطى مالا ينبغي، ومن أعطى ليستفيد منه عوضا إما ماليا أو مدحا أو ثناء فهو مستفيض والله تعالى قد وصفه بذلك فقال: * (وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتى ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى) * (الليل: 17 - 20) وقال في حق علي: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * (الإنسان: 9، 10) فعلي أعطى للخوف من العقاب، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها: أنه قال: * (أولوا الفضل منكم) * فكلمة من للتمييز، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير، وإلا لما كانت مميزة له بعينه، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره البتة وخامسها: أمكن حمل الفضل على طاعة الله تعالى وخدمته وقوله: * (والسعة) * على الإحسان إلى المسلمين، فكأنه كان مستجمعا للتعظيم لأمر الله تعالى والشفقة على خلق الله وهما من أعلى مراتب الصديقين، وكل من كان كذلك كان الله معه لقوله: * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له: * (لا تحزن إن الله معنا) * (التوبة: 40) وسادسها: إنما يكون الإنسان موصوفا بالسعة لو كان جوادا بذولا، ولقد قال عليه الصلاة والسلام: " خير الناس من ينفع الناس " فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة، ولقد كان رضي الله عنه جوادا بذولا في كل شيء، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة، وأيضا فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده، ولكن اتفقوا على
أن عليا حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى الله عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالا بالدعوة إلى دين محمد، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة " فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى الله، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضا وسابعها: أن الظلم من ذوي القربى أشد، قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة * على المرء من وقع الحسام المهند
188

وأيضا فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " وثامنها: أن الله تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها: أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل إلى أن صار كأنه كل العالم وما عداه كالعدم، وهذا وأيضا منقبة عظيمة وعاشرها: قوله: * (وليعفوا وليصفحوا) * وفيه وجوه: منها: أن العفو قرينة التقوى وكل من كان أقوى في العفو كان أقوى في التقوى، ومن كان كذلك كان أفضل لقوله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (الحجرات: 13) ومنها: أن العفو والتقوى متلازمان فلهذا السبب اجتمعا فيه، أما التقوى فلقوله تعالى: * (وسيجنبها الأتقى) * (الليل: 17) وأما العفو فلقوله تعالى: * (وليعفوا وليصفحوا) * وحادي عاشرها: أنه سبحانه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (فاعف عنهم واصفح) * (المائدة: 13) وقال في حق أبي بكر * (وليعفوا وليصفحوا) * فمن هذا الوجه يدل على أن أبا بكر كان ثاني اثنين لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأخلاق حتى في العفو والصفح وثاني عشرها: قوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * فإنه سبحانه ذكره بكناية الجمع على سبيل التعظيم، وأيضا فإنه سبحانه علق غفرانه له على إقدامه على العفو والصفح فلما حصل الشرط منه وجب ترتيب الجزاء عليه، ثم قوله: * (يغفر الله لكم) * بصيغة المستقبل وأنه غير مقيد بشيء دون شيء فدلت الآية على أنه سبحانه قد غفر له في مستقبل عمره على الإطلاق فكان من هذا الوجه ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * (الفتح: 2) ودليلا على صحة إمامته رضي الله عنه فإن إمامته لو كانت على خلاف الحق لما كان مغفورا له على الإطلاق ودليلا على صحة ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في خبر بشارة العشرة بأن أبا بكر في الجنة وثالث عشرها: أنه سبحانه وتعالى لما قال: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * وصف نفسه بكونه غفورا رحيما، والغفور مبالغة في الغفران فعظم أبا بكر حيث خاطبه بلفظ الجمع الدل على التعظيم، وعظم نفسه سبحانه حيث وصفه بمبالغة الغفران، والعظيم إذا عظم نفسه ثم عظم مخاطبه فالعظمة الصادرة منه لأجله لا بد وأن تكون في غاية التعظيم، ولهذا قلنا بأنه سبحانه لما قال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * (الكوثر: 1) وجب أن تكون
189

العطية عظيمة، فدلت الآية على أن أبا بكر ثاني اثنين للرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المنقبة أيضا ورابع عشرها: أنه سبحانه لما وصفه بأنه أولوا الفضل والسعة على سبيل المدح وجب أن يقال إنه كان خاليا عن المعصية، لأن الممدوح إلى هذا الحد لا يجوز أن يكون من أهل النار، ولو كان عاصيا لكان كذلك لقوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (النساء: 14) وإذا ثبت أنه كان خاليا عن المعاصي فقوله: * (يغفر الله لكم) * لا يجوز أن يكون المراد غفران معصية لأن المعصية التي لا تكون لا يمكن غفرانها وإذا ثبت أنه لا يمكن حمل الآية على ذلك وجب حملها على وجه آخر، فكأنه سبحانه قال والله أعلم: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * لأجل تعظيمكم هؤلاء القذفة العصاة، فيرجع حاصل الآية إلى أنه سبحانه قال يا أبا بكر إن قبلت هؤلاء العصاة فأنا أيضا أقبلهم وإن رددتهم، فأنا أيضا أردهم فكأنه سبحانه أعطاه مرتبة الشفاعة في الدنيا، فهذا ما حضرنا في هذه الآية والله أعلم فإن قيل: هذه الآية تقدم في فضيلة أبي بكر من وجه آخر وذلك لأنه نهاه عن هذا الحلف فدل على صدور المعصية منه قلنا الجواب: عنه من وجوه: أحدها: أن النهي لا يدل على وقوعه، قال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (ولا تطع الكافرين والمنافقين) * (الأحزاب: 48) ولم يدل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام أطاعهم بل دلت الأخبار الظاهرة على صدور هذا الحلف منه، ولكن على هذا التقدير لا تكون الآية دالة على قولكم وثانيها: هب أنه صدر عنه ذلك الحلف، فلم قلتم إنه كان معصية، وذلك لأن الامتناع من التفضل قد يحسن خصوصا فيمن يسيء إلى من أحسن إليه أو في حق من يتخذه ذريعة إلى الأفعال المحرمة لا يقال فلو لم تكن معصية لما جاز أن ينهى الله عنه بقوله: * (ولا يأتل أولوا الفضل) * لأنا نقول هذا النهي ليس نهي زجر وتحريم بل هو نهي عن ترك الأولى كأنه سبحانه قال لأبي بكر اللائق بفضلك وسعة همتك أن لا تقطع هذا فكان هذا إرشادا إلى الأولى لا منعا عن المحرم.
المسألة الثالثة: أجمعوا على أن المراد من قوله: * (أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) * مسطح لأنه كان قريبا لأبي بكر وكان من المساكين وكان من المهاجرين، واختلفوا في الذنب الذي وقع منه فقال بعضهم قذف كما فعله عبد الله بن أبي فإنه عليه الصلاة والسلام حده وأنه تاب عن ذلك، وقال ابن عباس رضي الله عنهما كان تاركا للنكر ومظهرا للرضا، وأي الأمرين كان فهو ذنب.
المسألة الرابعة: احتج أصحابنا بهذه الآية على بطلان المحابطة وقالوا إنه سبحانه وصفه بكونه من المهاجرين في سبيل الله بعد أن أتى بالقذف، وهذه صفة مدح، فدل على أن ثواب كونه مهاجرا لم يحبط بإقدامه على القذف.
المسألة الخامسة: أجمعوا على أن مسطحا كان من البدريين وثبت بالرواية الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال افعلوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فكيف
190

صدرت الكبيرة منه بعد أن كان بدريا؟ والجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد منه افعلوا ما شئتم من المعاصي فيأمر بها أو يقيمها لأنا نعلم بالضرورة أن التكليف كان باقيا عليهم لو حملناه على ذلك لاقتضى زوال التكليف عنهم، ولأنه لو كان كذلك لما جاز أن يحد مسطح على ما فعل ويلعن، فوجب حمله على أحد أمرين: الأول: أنه تعالى اطلع على أهل بدر وقد علم توبتهم وإنابتهم فقال افعلوا ما شئتم من النوافل من قليل أو كثير فقد غفرت لكم وأعطيتكم الدرجات العالية في الجنة الثاني: يحتمل أن يكون المراد أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة فذكر حالهم في الوقت وأراد العاقبة.
المسألة السادسة: العفو والصفح عن المسئ حسن مندوب إليه، وربما وجب ذلك ولو لم يدل عليه إلا هذه الآية لكفي، ألا ترى إل قوله: * (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) * (النور: 22) فعلق الغفران بالعفو والصفح وعنه عليه الصلاة والسلام: " من لم يقبل عذرا لمتنصل كاذبا كان أو صادقا فلا يرد على حوضي يوم القيامة " وعنه عليه الصلاة والسلام: " أفضل أخلاق المسلمين العفو " وعنه أيضا: " ينادي مناد يوم القيامة ألا من كان له على الله أجر فليقم فلا يقوم إلا أهل العفو، ثم تلا فمن عفا وأصلح فأجره على الله " وعنه عليه الصلاة والسلام أيضا: " لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ".
المسألة السابعة: في هذه الآية دلالة على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة، وإنما تجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه.
المسألة الثامنة: مذهب الجمهور الفقهاء أنه من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أنا ينبغي له أن يأتي الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه، وقال بعضهم إنه يأتي بالذي هو خير، وذلك كفارته واحتج ذلك القائل بالآية والخبر، أما الآية فهي أن الله تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة، وأما الخبر فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته " وأما دليل قول الجمهور فأمور: أحدها: قوله تعالى: * (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان) * (المائدة: 89) فكفارته وقوله: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * (المائدة: 89) وذلك عام في الحانث في الخير وغيره وثانيها: قوله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * (ص: 44) وقد علمنا أن الحنث كان خيرا من تركه وأمره الله بضرب لا يبلغ منها، ولو كان الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " أما الجواب: عما ذكره أولا فهو أنه تعالى لم يذكر أمر الكفارة في قصة أبي بكر لا نفيا ولا إثباتا لأن حكمه كان معلوما في سائر الآيات والجواب: عما ذكره ثانيا في قوله: " وليأت الذي هو خير وذلك كفارته " فمعناه تكفير الذنب لا الكفارة
191

المذكورة في الكتاب، وذلك لأنه منهي عن نقض الأيمان فأمره ههنا بالحنث والتوبة، وأخبر أن ذلك يكفر ذنبه الذي ارتكبه بالحلف.
المسألة التاسعة: روى القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها أنها: " قالت فضلت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعشر خصال تزوجني رسول صلى الله عليه وسلم بكرا دون غيري، وأبواي مهاجران، وجاء جبريل عليه السلام بصورتي في حريرة وأمره أن يتزوج بي، وكنت أغتسل معه في إناء واحد، وجبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وأنا معه في لحاف واحد، وتزوجني في شوال وبنى بي في ذلك الشهر، وقبض بين سحري ونحري، وأنزل الله تعالى عذري من السماء، ودفن في بيتي وكل ذلك لم يساوني غيري فيه " وقال بعضهم برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف عليه السلام بلسان الشاهد، وشهد شاهد من أهلها، وبرأ موسى عليه السلام من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلو على وجه الدهر، وروى أنه لما قربت وفاة عائشة جاء ابن عباس يستأذن عليها، فقالت: يجيء الآن فيثني علي، فخبره ابن الزبير فقال ما أرجع حتى تأذن لي، فأذنت له فدخل فقالت عائشة: أعوذ بالله من النار، فقال ابن عباس يا أم المؤمنين مالك والنار قد أعاذك الله منها، وأنزل براءتك تقرأ في المساجد وطيبك فقال: * (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) * (النور: 26) كنت أحب نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، ولم يحب صلى الله عليه وسلم إلا طيبا وأنزل بسببك التيمم فقال: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * (النساء: 43) وروي أن عائشة وزينب تفاخرتا، فقالت زينب: أنا التي أنزل ربي تزويجي، وقالت عائشة أنا التي برأني ربي حين حملني ابن المعطل على الراحلة، فقالت لها زينب: ما قلت حين ركبتيها؟ قالت قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقالت قلت كلمة المؤمنين.
قوله تعالى
* (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا فى الدنيا والاخرة ولهم عذاب عظيم * يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون * يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) *.
وفيه مسألتان:
192

المسألة الأولى: اختلفوا في قوله: * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات) * هل المراد منه كل من كان بهذه الصفة أو المراد منه الخصوص؟ أما الأصوليون فقالوا الصيغة عامة ولا مانع من إجرائها على ظاهرها فوجب حمله على العموم فيدخل فيه قذفة عائشة وقذفة غيرها، ومن الناس من خالف فيه ذكر وجوها: أحدها: أن المراد قذفة عائشة قالت عائشة: " رميت وأنا غافلة وإنما بلغني بعد ذلك، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أوحى الله إليه فقال أبشري وقرأ: * (إن
الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات) *، وثانيها: أن المراد جملة أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهن لشرفهن خصصن بأن من قذفهن فهذا الوعيد لاحق به واحتج هؤلاء بأمور: الأول: أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله تعالى في أول السورة: * (والذين يرمون المحصنات) * إلى قوله: * (وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا) * (النور: 54) وأما القاذف في هذه الآية، فإنه لا تقبل توبته لأنه سبحانه قال: * (لعنوا في الدنيا والآخرة) * ولم يذكر الاستثناء، وأيضا فهذه صفة المنافقين في قوله: * (ملعونين أينما ثقفوا) * (الأحزاب: 61)، الثاني: أن قاذف سائر المحصنات لا يكفر، والقاذف في هذه الآية يكفر لقوله تعالى: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) * وذلك صفة الكفار والمنافقين كقوله: * (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار) * (فصلت: 19) الآيات الثلاث. الثالث: أنه قال: * (ولهم عذاب عظيم) * والعذاب العظيم يكون عذاب الكفر، فدل على أن عقاب هذا القاذف عقاب الكفر، وعقاب قذفه سائر المحصنات لا يكون عقاب الكفر الرابع: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، أجاب الأصوليون عنه بأن الوعيد المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون مشروطا بعدم التوبة لأن الذنب سواء كان كفرا أو فسقا، فإذا حصلت التوبة منه صار مغفورا فزال السؤال، ومن الناس ذكر فيه قولا آخر، وهو أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله عهد فكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة. وقالوا إنما خرجت لتفجر، فنزلت فيهم والقول الأول هو الصحيح.
المسألة الثانية: أن الله تعالى ذكر فيمن يرمي المحصنات الغافلات المؤمنات ثلاثة أشياء: أحدها: كونهم ملعونين في الدنيا والآخرة وهو وعيد شديد، واحتج الجبائي بأن التقييد باللعن عام في جميع القذفة ومن كان ملعونا في الدنيا فهو ملعون في الآخرة والملعون في الآخرة لا يكون من أهل الجنة وهو بناء على المحابطة وقد تقدم القول فيه وثانيها: وقوله: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * ونظيره قوله: * (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) * (فصلت: 21) وعندنا البنية ليست شرطا للحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما وقدرة وكلاما، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك فلا جرم ذكروا في تأويل هذه الآية وجهين: الأول: أنه سبحانه يخلق في هذه
193

الجوارح هذا الكلام، وعندهم المتكلم فاعل الكلام، فتكون تلك الشهادة من الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح توسعا الثاني: أنه سبحانه بيني هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها أن تشهد على الإنسان وتخبر عنه بأعماله، قال القاضي وهذا أقرب إلى الظاهر، لأن ذلك يفيد أنها تفعل الشهادة وثالثها: قوله تعالى: * (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) * ولا شبهة في أن نفس دينهم ليس هو المراد لأن دينهم هو عملهم. بل المراد جزاء عملهم، والدين بمعنى الجزاء مستعمل كقولهم كما تدين تدان، وقيل الدين هو الحساب كقوله ذلك الدين القيم أي الحساب الصحيح ومعنى قوله: * (الحق) * أي أن الذي نوفيهم من الجزاء هو القدر المستحق لأنه الحق وما زاد عليه هو الباطل، وقرئ الحق بالنصب صفة للدين وهو الجزاء وبالرفع صفة لله.
وأما قوله: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * (النور: 25) فمن الناس من قال إنه سبحانه إنما سمي بالحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره أو لأنه الحق فيما يأمر به دون غيره ومعنى * (المبين) * يؤيد ما قلنا لأن المحق فيما يخاطب به هو المبين من حيث يبين الصحيح بكلامه دون غيره، ومنهم من قال الحق من أسماء الله تعالى ومعناه الموجود، لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم، ومعنى المبين المظهر ومعناه أن بقدرته ظهر وجود الممكنات، فمعنى كونه حقا أنه الموجود لذاته، ومعنى كونه مبينا أنه المعطي وجود غيره.
قوله تعالى
* (الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم) *.
اعلم أن الخبيثات يقع على الكلمات التي هي القذف الواقع من أهل الإفك، ويقع أيضا على الكلام الذي هو كالذم واللعن، ويكون المراد من ذلك لا نفس الكلمة التي هي من قبل الله تعالى، بل المراد مضمون الكلمة، ويقع أيضا على الزواني من النساء، وفي هذه الآية كل هذه الوجوه محتملة، فإن حملناها على القذف الواقع من أهل الإفك كان المعنى الخبيثات من قول أهل الإفك للخبيثين من الرجال، وبالعكس والطيبات من قول منكري الإفك للطيبين من الرجال وبالعكس، وإن حملناها على الكلام الذي هو كالذم واللعن، فالمعنى أن الذم واللعن معدان للخبيثين من الرجال، والخبيثون منهم معرضون للعن والذم. وكذا القول في الطيبات وأولئك إشارة إلى الطيبين وأنهم مبرؤون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلمات، وإن حملناه حملناه على الزواني فالمعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال وبالعكس، على معنى قوله تعالى:
194

* (الزاني لا ينكح إلا زانية) * (النور: 3) والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والمعنى أن مثل ذلك الرمي الواقع من المنافقين لا يليق إلا بالخبيثات والخبيثين لا بالطيبات والطيبين، كالرسول صلى الله عليه وسلم وأزواجه. فإن قيل فعلى هذا الوجه يلزم أن لا يتزوج الرجل العفيف بالزانية والجواب: ما تقدم في قوله: * (الزاني لا ينكح إلا زانية) * وقوله: * (أولئك مبرؤون) * يعني الطيبات والطيبين مما يقوله أصحاب الإفك، سوى قول من حمله على الكلمات فكأنه قال الطيبون مبرؤون مما يقوله الخبيثون، ومتى حمل أولئك على هذا الوجه كان لفظه كمعناه في أنه جمع، ومتى حملته على عائشة وصفوان وهما اثنان فكيف يعبر عنهما بلفظ الجمع؟ فجوابه من وجهين: الأول: أن ذلك الرمي قد تعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبعائشة وصفوان فبرأ الله تعالى كل واحد منهم من التهمة اللائقة به الثاني: أن المراد به كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه تعالى برأهن من هذا الإفك. لكن لا يقدح فيهن أحد كما أقدموا على عائشة، ونزه الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك عن أمثال هذا الأمر وهذا أبين كأنه تعالى بين أن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ولا أحد أطيب ولا أطهر من الرسول، فأزواجه إذن لا يجوز أن يكن إلا
طيبات، ثم بين تعالى أن: * (لهم مغفرة) * يعني براءة من الله ورسوله ورزق كريم في الآخرة، ويحتمل أن يكون ذلك خبرا مقطوعا به، فيعلم بذلك أن أزواج الرسول عليه الصلاة والسلام هن معه في الجنة، وقد وردت الأخبار بذلك ويحتمل أن يكون المراد بشرط اجتناب الكبائر والتوبة، والأول أولى لأنا إنما نحتاج إلى الشرط إذا لم يمكن حمل الآية عليه، أما إذا أمكن فلا وجه لطلب الشرط، وهذا يدل على أن عائشة رضي الله عنها تصير إلى الجنة بخلاف مذهب الرافضة الذين يكفرونها بسبب حرب يوم الجمل فإنهم يردون بذلك نص القرآن فإن قيل القطع بأنها من أهل الجنة إغراء لها بالقبيح. قلنا أليس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله تعالى بأنه من أهل الجنة ولم يكن ذلك إغراء له بالقبيح، وكذا العشرة المبشرة بالجنة فكذا ههنا، والله أعلم تمت قصة أهل الإفك. الحكم السادس في الاستئذان
قوله تعالى
* (يا أيها الذين ءامنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون * فإن لم تجدوا فيهآ أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم رجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون
195

عليم * ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) *.
اعلم أنه تعالى عدل عما يتصل بالرمي والقذف وما يتعلق بهما من الحكم إلى ما يليق به لأن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت كأنها طريق التهمة، فأوجب الله تعالى أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، لأن في الدخول لا على هذا الوجه وقوع التهمة، وفي ذلك من المضرة ما لا خفاء به فقال: * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: الاستئناس عبارة عن الأنس الحاصل من جهة المجالسة، قال تعالى ولا مستأنسين لحديث، وإنما يحصل ذلك بعد الدخول والسلام فكان الأولى تقديم السلام على الاستئناس فلم جاء على العكس من ذلك؟ والجواب: عن هذا من وجوه: أحدها: ما يروى عن ابن عباس وسعيد بن جبير، إنما هو حتى تستأذنوا فأخطأ الكاتب، وفي قراءة أبي: حتى تستأذنوا لكم والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور، وهو الدخول بغير إذن واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب، وفي الحديث " من سبقت عينه استئذانه فقد دمر، واعلم أن هذا القول من ابن عباس فيه نظر لأنه يقتضي الطعن في القرآن الذي نقل بالتواتر ويقتضي صحة القرآن الذي لم ينقل بالتواتر وفتح هذين البابين يطرق الشك إلى كل القرآن وأنه باطل وثانيها: ما روي عن الحسن البصري أنه قال إن في الكلام تقديما وتأخيرا، والمعنى: حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا، وذلك لأن السلام مقدم على الاستئناس، وفي قراءة عبد الله: حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهذا أيضا ضعيف لأنه خلاف الظاهر وثالثها: أن تجري الكلام على ظاهره. ثم في تفسير الاستئناس وجوه: الأول: حتى تستأنسوا بالإذن وذلك لأنهم إذا استأذنوا وسلموا أنس أهل البيت، ولو دخلوا بغير إذن لاستوحشوا وشق عليهم الثاني: تفسير الاستئناس بالاستعلام والاستكشاف استفعال من آنس الشيء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، والمعنى حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال هل يراد دخولكم. ومنه قولهم استأنس هل ترى أحدا، واستأنست فلم أر أحدا أي تعرفت واستعلمت، فإن قيل وإذا حمل على الأنس ينبغي أن يتقدمه السلام كما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول: " السلام عليكم أأدخل " قلنا المستأذن ربما لا يعلم أن أحدا في المنزل فلا معنى لسلامه والحالة هذه، والأقرب أن يستعلم بالاستئذان هل هناك من يأذن، فإذا أذن ودخل صار مواجها له فيسلم عليه والثالث: أن يكون اشتقاق الاستئناس
196

من الإنس وهو أن يتعرف هل ثم إنسان، ولا شك أن هذا مقدم على السلام والرابع: لو سلمنا أن الاستئناس إنما يقع بعد السلام ولكن الواو لا توجب الترتيب، فتقديم الاستئناس على السلام في اللفظ لا يوجب تقديمه عليه في العمل.
السؤال الثاني: ما الحكم في إيجاب تقديم الاستئذان؟ والجواب: تلك الحكمة هي التي نبه الله تعالى عليها في قوله: * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) * فدل بذلك على أن الذي لأجله حرم الدخول إلا على هذا الشرط هو كون البيوت مسكونة، إذ لا يأمن من يهجم عليها بغير استئذان أن يهجم على ما لا يحل له أن ينظر إليه من عورة، أو على ما لا يحب القوم أن يعرفه غيرهم من الأحوال، وهذا من باب العلل المنبه عليها بالنص، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد وأن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب.
السؤال الثالث: كيف يكون الاستئذان؟ الجواب: استأذن رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أألج؟ فقال عليه الصلاة والسلام لامرأة يقال لها روضة " قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول السلام عليكم أأدخل فسمعها الرجل فقالها، فقال ادخل فدخل وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء وكان يجيب، فقال هل في العلم ما لا تعلمه، فقال عليه الصلاة والسلام: لقد آتاني خيرا كثيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله، وتلا إن الله عنده علم الساعة إلى آخره " وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته حييتم صباحا وحييتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد، فصدق الله تعالى عن ذلك وعلم الأحسن والأجمل، وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح، وقال عكرمة هو التسبيح والتكبير ونحوه.
السؤال الرابع: كم عدد الاستئذان الجواب: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الاستئذان " ثلاث بالأولى يستنصتون، وبالثانية يستصلحون، وبالثالثة يأذنون أو يردون " وعن جندب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له فليرجع " وعن أبي سعيد الخدري قال: " كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له ما أفزعك؟ فقال أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا، فلم يؤذن لي فرجعت، فقال ما منعك أن تأتيني؟ فقلت قد جئت فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي. وقد قال عليه الصلاة والسلام: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال لتأتيني على هذا بالبينة، أو لأعاقبنك. فقال أبي لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال فقام أبو سعيد فشهد له " وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى إني لم أتهمك، ولكني
خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة: الأولى يسمع الحي، والثاني ليتأهبوا والثالث إن شاءوا أذنوا، وإن شاءوا ردوا، واعلم أن هذا من محاسن الآداب، لأن في أول مرة
197

ربما منعهم بعض الأشغال من الإذن، وفي المرة الثانية ربما كان هناك ما يمنع أو يقتضي المنع أو يقتضي التساوي، فإذا لم يجب في الثالثة يستدل بعدم الإذن على مانع ثابت، وربما أوجب ذلك كراهة قربه من الباب فلذلك يسن له الرجوع، ولذلك يقول يجب في الاستئذان ثلاثا، أن لا يكون متصلا، بل يكون بين كل واحدة والأخرى وقت، فأما قرع الباب بعنف والصياح بصاحب الدار، فذاك حرام لأنه يتضمن الإيذاء والإيحاش، وكفى بقصة بني أسد زاجرة وما نزل فيها من قوله تعالى: * (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) * (الحجرات: 4).
السؤال الخامس: كيف يقف على الباب الجواب: روي أن أبا سعيد استأذن على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مستقبل الباب، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تستأذن وأنت مستقبل الباب. وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول السلام عليكم، وذلك لأن الدور لم يكن عليها حينئذ ستور.
السؤال السادس: أن كلمة (حتى) للغاية والحكم بعد الغاية يكون بخلاف ما قبلها فقوله: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) * يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من صاحب البيت إذن فما قولكم فيه؟ الجواب: من وجوه: أحدها: أن الله تعالى جعل الغاية الاستئناس لا الاستئذان، والاستئناس لا يحصل إلا إذا حصل الإذن بعد الاستئذان وثانيها: أنا لما علمنا بالنص أن الحكمة في الاستئذان أن لا يدخل الإنسان على غيره بغير إذنه فإن ذلك مما يسوءه، وعلمنا أن هذا المقصود لا يحصل إلا بعد حصول الإذن، علمنا أن الاستئذان ما لم يتصل به الإذن وجب أن لا يكون كافيا وثالثها: أن قوله تعالى: * (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) * فحظر الدخول إلا بإذن، فدل على أن الإذن مشروط بإباحة الدخول في الآية الأولى، فإن قيل إذا ثبت أنه لا بد من الإذن فهل يقوم مقامه غيره أم لا؟ قلنا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رسول الرجل إلى الرجل إذنه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " إذا دعي أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن " وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما: أن الإذن محذوف من قوله: * (حتى تستأنسوا) * وهو المراد منه والثاني: أن الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثان، وقال بعضهم إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان.
السؤال السابع: ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب: قال الشافعي رحمه الله: لو فقئت عينه فهي هدر، وتمسك بما روى سهل بن سعد قال: " اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه مدري يحك بها رأسه فقال: لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك إنما الاستئذان قبل النظر " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: " من
198

اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه " قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر يرد لوروده على خلاف قياس الأصول، فإنه لا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا والأرش إن كان مخطئا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع، فظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق، فإن صح فمعناه: من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر، فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم يقع فيه ممانعة ولا نهي، ثم جاء إنسان ففقأ عينه، فهذا جان يلزمه حكم جنايته لظاهر قوله تعالى: * (العين بالعين) * إلى قوله: * (والجروح قصاص) * (المائدة: 45) واعلم أن التمسك بقوله تعالى: * (والعين بالعين) * في هذه المسألة ضعيف، لأنا أجمعنا على أن هذا النص مشروط بما إذا لم تكن العين مستحقة، فإنها لو كانت مستحقة لم يلزم القصاص، فلم قلت: إن من اطلع في دار إنسان لم تكن عينه مستحقة؟ وهذا أول المسألة.
أما قوله: إنه لو دخل لم يجز فقء عينه، فكذا إذا نظر قلنا الفرق بين الأمرين ظاهر، لأنه إذا دخل علم القوم دخوله عليهم فاحترزوا عنه وتستروا، فأما إذا نظر فقد لا يكونون عالمين بذلك فيطلع منهم على ما لا يجوز الاطلاع عليه، فلا يبعد في حكم الشرع أن يبالغ ههنا في الزجر حسما لباب هذه المفسدة، وبالجملة فرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا القدر من الكلام غير جائز.
السؤال الثامن: لما بينتم أنه لا بد من الإذن فهل يكفي الإذن كيف كان أو لا بد من إذن مخصوص؟ الجواب: ظاهر الآية يقتضي قبول الإذن مطلقا سواء كان الآذان صبيا أو امرأة أو عبدا أو ذميا فإنه لا يعتبر في هذا الإذن صفات الشهادة وكذلك قبول أخبار هؤلاء في الهدايا ونحوها.
السؤال التاسع: هل يعتبر الاستئذان على المحارم؟ والجواب: نعم، عن عطاء بن يسار: " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أستأذن على أختي؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام نعم أتحب أن تراها عريانة " وسأل رجل حذيفة أستأذن على أختي، فقال إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك، وقال عطاء سألت ابن عباس رضي الله عنهما استأذن على أختي ومن أنفق عليها؟ قال نعم إن الله تعالى يقول: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم) * (النور: 59) ولم يفرق بين من كان أجنبيا أو ذا رحم محرم.
واعلم أن ترك الاستئذان على المحارم وإن كان غير جائز إلا أنه أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء. والتحقيق فيه أن المنع من الهجوم على الغير إن كان لأجل أن ذلك الغير ربما كان منكشف الأعضاء فهذا دخل فيه الكل إلا الزوجات وملك اليمين، وإن كان لأجل أنه ربما كان مشتغلا بأمر يكره إطلاع الغير عليه وجب أن يعم في الكل، حتى لا يكون له أن يدخل على الزوجة والأمة إلا بإذن.
199

السؤال العاشر: إذا عرض أمر في دار من حريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر فهل يجب الاستئذان؟ الجواب: كل ذلك مستثنى بالدليل فهذا جملة الكلام في
الاستئذان، وأما السلام فهو من سنة المسلمين التي أمروا بها، وأمان للقوم وهو تحية أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغينة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح عطس، فقال الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه يرحمك ربك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة، وهم ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم، فلما فعل ذلك رجع إلى ربه فقال هذه تحيتك وتحية ذريتك " وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حق المسلم على المسلم ست؛ يسلم عليه إذا لقيه، ويجيبه إذا دعاه، وينصح له بالغيب، ويشمته إذا عطس، ويعوده إذا مرض، ويشهد جنازته إذا مات " وعن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: " إن سركم أن يسل الغل من صدوركم فأفشوا السلام بينكم ".
أما قوله تعالى: * (ذلكم خير لكم) * فالمعنى فيه ظاهر، إذ المراد أن فعل ذلك خير لكم وأولى لكم من الهجوم بغير إذن * (لعلكم تذكرون) * أي لكي تتذكروا هذا التأديب فتتمسكوا به، ثم قال: * (فإن لم تجدوا فيها) * أي في البيوت أحدا * (فلا تدخلوها) * لأن العلة في الصورتين واحدة وهي جواز أن يكون هناك أحوال مكتومة يكره إطلاع الداخل عليها، ثم قال: * (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) * وذلك لأنه كما يكون الدخول قد يكرهه صاحب الدار فكذا الوقوف على الباب قد يكرهه، فلا جرم كان الأولى والأزكى له أن يرجع إزالة للإيحاش والإيذاء، ولما ذكر الله تعالى حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور التي هي غير مسكونة، فقال: * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) * وذلك لأن المانع من الدخول إلا بإذن زائل عنها واختلف المفسرون في المراد من قوله: * (بيوتا غير مسكونة) * على أقوال: أحدها: وهو قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة، كالاستكنان من الحر والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع، يروى أن أبا بكر قال يا رسول الله إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت هذه الآية. وثانيها: أنها الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز وثالثها: الأسواق ورابعها: أنها الحمامات، والأولى أن يقال إنه لا يمتنع دخول الجميع تحت الآية فيحمل على الكل، والعلة في ذلك أنها إذا كانت كذلك فهي مأذون بدخولها من جهة العرف، فكذلك نقول إنها لو كانت غير مسكونة ولكنها كانت مغصوبة، فإنه لا يجوز للداخل أن يدخل فيها لكن الظاهر من حال الخانات أنها موضوعة لدخول الداخل.
وأما قوله: * (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) * فهو وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
200

الحكم السابع
حكم النظر
قوله تعالى * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو ءابآئهن أو ءابآء بعولتهن أو أبنآئهن أو أبنآء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو نسآئهن أو ما ملكت أيمانهن أو لتابعين غير أولى الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النسآء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون) *.
اعلم أنه تعالى قال: * (قل للمؤمنين) * وإنما خصهم بذلك لأن غيرهم لا يلزمه غض البصر عما لا يحل له ويحفظ الفرج عما لا يحل له، لأن هذه الأحكام كالفروع للإسلام والمؤمنون مأمورون بها ابتداء، والكفار مأمورون قبلها بما تصير هذه الأحكام تابعة له، وإن كان حالهم كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها، لكن المؤمن يتمكن من هذه الطاعة من دون مقدمة، والكافر لا يتمكن إلا بتقديم مقدمة من قبله، وذلك لا يمنع من لزوم التكاليف له.
201

واعلم أنه سبحانه أمر الرجال بغض البصر وحفظ الفرج، وأمر النساء بمثل ما أمر به الرجال وزاد فيهن أن لا يبدين زينتهن إلا لأقوام مخصوصين.
أما قوله تعالى: * (يغضوا من أبصارهم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الأكثرون (من) ههنا للتبعيض والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل، وجوز الأخفش أن تكون مزيدة، ونظيره قوله: * (ما لكم من إله غيره) * (الأعراف: 85) * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * (الحاقة: 47) وأباه سيبويه، فإن قيل كيف دخلت في غض البصر دون حفظ الفرج؟ قلنا دلالة على أن أمر النظر أوسع ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وكذا الجواري المستعرضات، وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه وحظر الجماع إلا ما استثنى منه، ومنهم من قال: * (يغضوا من أبصارهم) * أي ينقصوا من نظرهم فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض ممنوع عنه، وعلى هذا من ليست بزائدة ولا هي للتبعيض بل هي من صلة الغض يقال غضضت من فلان إذا نقصت من قدره.
المسألة الثانية: اعلم أن العورات على أربعة أقسام عورة الرجل مع الرجل وعورة المرأة مع المرأة وعورة المرأة مع الرجل وعورة الرجل مع المرأة، فأما الرجل مع الرجل فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنه إلا عورته وعورته ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة، وعند أبي حنيفة رحمه الله الركبة عورة، وقال مالك الفخذ ليست بعورة، والدليل على أنها عورة ما روي عن حذيفة " أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به في المسجد وهو كاشف عن فخذه فقال عليه السلام غط فخذك فإنها من العورة " وقال لعلي رضي الله عنه: " لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت " فإن كان في نظره إلى وجهه أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه، ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل، وإن كان كل واحد منهما في جانب من الفراش، لما روى أبو سعيد الخدري أنه عليه الصلاة والسلام قال: " لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد " وتكره المعانقة وتقبيل الوجه إلا لولده شفقة، وتستحب المصافحة لما روى أنس قال: " قال رجل يا رسول الله الرجل منا يلقي أخاه أو صديقه أينحني له؟ قال لا، قال أيلتزمه ويقبله؟ قال لا، قال أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال نعم " أما عورة المرأة
مع المرأة فكعورة الرجل مع الرجل، فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، وعند خوف الفتنة لا يجوز، ولا يجوز المضاجعة. والمرأة الذمية هل يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة، قيل يجوز كالمسلمة مع المسلمة، والأصح أنه لا يجوز لأنها أجنبية، في الدين والله تعالى يقول: * (أو نسائهن) * وليست الذمية من نسائنا، أما عورة المرأة مع الرجل فالمرأة إما أن تكون أجنبية أو ذات رحم محرم، أو مستمتعة، فإن كانت أجنبية فإما أن تكون حرة أو أمة فإن كانت حرة فجميع بدنها عورة، ولا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين، لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه في البيع والشراء، وإلى إخراج
202

الكف للأخذ والعطاء، ونعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين، وقيل ظهر الكف عورة. واعلم أنا ذكرنا أنه لا يجوز النظر إلى شيء من بدنها، ويجوز النظر إلى وجهها وكفها، وفي كل واحد من القولين استثناء. أما قوله يجوز النظر إلى وجهها وكفها، فاعلم أنه على ثلاثة أقسام لأنه إما أن لا يكون فيه غرض ولا فيه فتنة، وإما أن يكون فيه فتنة ولا غرض فيه، وإما أن يكون فيه فتنة وغرض أما القسم الأول: فاعلم أنه لا يجوز أن يتعمد النظر إلى وجه الأجنبية لغير غرض وإن وقع بصره عليها بغتة يغض بصره، لقوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) * وقيل يجوز مرة واحدة إذا لم يكن محل فتنة، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ولا يجوز أن يكرر النظر إليها لقوله تعالى: * (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) * (الإسراء: 36) ولقوله عليه السلام: " يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة " وعن جابر قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري " ولأن الغالب أن الاحتراز عن الأولى لا يمكن فوقع عفوا قصد أو لم يقصد أما القسم الثاني: وهو أن يكون فيه غرض ولا فتنة فيه فذاك أمور: أحدها: بأن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفيها، روى أبو هريرة رضي الله عنه: " أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا " وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة " وقال المغبرة بن شعبة " خطبت امرأة فقال عليه السلام نظرت إليها، فقلت لا، قال فانظر فإنها أحرى أن يدوم بينكما " فكل ذلك يدل على جواز النظر إلى وجهها وكفيها للشهوة إذا أراد أن يتزوجها، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) * (الأحزاب: 52) ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن وثانيها: إذا أراد شراء جارية فله أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها وثالثها: أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة إليه ورابعها: ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى غير الوجه لأن المعرفة تحصل به أما القسم الثالث: وهو أن ينظر إليها للشهوة فذاك محظور، قال عليه الصلاة والسلام: " العينان تزنيان " وعن جابر قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري " وقيل: مكتوب في التوراة النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. أما الكلام الثاني: وهو أنه لا يجوز للأجنبي النظر إلى بدن الأجنبية فقد استثنوا منه صورا إحداها: يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إليها للمعالجة، كما يجوز للختان أن ينظر إلى فرج المختون، لأنه موضع ضرورة. وثانيتها: يجوز أن يتعمد النظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة على الزنا، وكذلك ينظر إلى
203

فرجها لتحمل شهادة الولادة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع، وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز للرجل أن يقصد النظر في هذه المواضع، لأن الزنا مندوب إلى ستره، وفي الولادة والرضاع تقبل شهادة النساء فلا حاجة إلى نظر الرجال للشهادة وثالثتها: لو وقعت في غرق أو حرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها، أما إذا كانت الأجنبية أمة فقال بعضهم عورتها ما بين السرة والركبة، وقال آخرون عورتها ما لا يبين للمهنة فخرج منه أن رأسها ساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف المذكور، ولا يجوز لمسها ولا لها لمسه بحال لا لحجامة ولا اكتحال ولا غيره، لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطره، وقال أبو حنيفة رحمه الله يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه أما إن كانت المرأة ذات محرم له بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها معه ما بين السرة والركبة كعورة الرجل، وقال آخرون بل عورتها ما لا يبدو عند المهنة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فأما سائر التفاصيل فستأتي إن شاء الله تعالى في تفسير الآية، أما إذا كانت المرأة مستمتعة كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها، فيجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها حتى إلى فرجها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج وكذا إلى فرج نفسه، لأنه يروي أنه يورث الطمس، وقيل لا يجوز النظر إلى فرجها ولا فرق بين أن تكون الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مرهونة. فإن كانت مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو متزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية، روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة " وأما عورة الرجل مع المرأة (ففيه) نظر إن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة، وقيل جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه، والأول أصح بخلاف المرأة في حق الرجل، لأن بدن المرأة في ذاته عورة بدليل أنه لا تصح صلاتها مكشوفة البدن وبدن الرجل بخلافه، ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما روي عن أم سلمة: " أنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليها فقال عليه الصلاة والسلام: احتجبا منه، فقلت يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه " وإن كان محرما لها فعورته معها ما بين السرة والركبة وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها، ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته، لأنه روي أنه عليه الصلاة والسلام سئل عنه فقال: " الله أحق أن يستحيي منه ". وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: " إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يفضي الرجل إلى أهله " والله أعلم.
المسألة الثالثة: سئل الشبلي عن قوله: * (يغضوا من أبصارهم) * فقال أبصار الرؤوس عن المحرمات، وأبصار القلوب عما سوى الله تعالى.
204

وأما قوله تعالى: * (ويحفظوا فروجهم) * فالمراد به عما لا يحل، وعن أبي العالية أنه قال: كل ما في القرآن من قوله: * (يحفظوا فروجهم) *، ويحفظن
فروجهن، من الزنا إلا التي في النور: * (يحفظوا فروجهم، ويحفظن فروجهن) * أن لا ينظر إليها أحد، وهذا ضعيف لأنه تخصيص من غير دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم الله عليه من الزنا والمس والنظر، وعلى أنه إن كان المراد حظر النظر فالمس والوطء أيضا مرادان بالآية، إذ هما أغلظ من النظر، فلو نص الله تعالى على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب حظر الوطء والمس، كما أن قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * (الإسراء: 23) اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب.
أما قوله تعالى: * (ذلك أزكى لهم) * (النور: 30) أي تمسكهم بذلك أزكى لهم وأطهر، لأنه من باب ما يزكون به ويستحقون الثناء والمدح، ويمكن أن يقال إنه تعالى خص في الخطاب المؤمنين لما أراده من تزكيتهم بذلك، ولا يليق ذلك بالكافر.
أما قوله تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن) * فالقول فيه على ما تقدم، فإن قيل فلم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج، قلنا لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر، ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه.
أما قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * فمن الأحكام التي تختص بها النساء في الأغلب، وإنما قلنا في الأغلب لأنه محرم على الرجل أن يبدي زينته حليا ولباسا إلى غير ذلك للنساء الأجنبيات، لما فيه من الفتنة وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في المراد بزينتهن، واعلم أن الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى سائر ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلى وغير ذلك، وأنكر بعضهم وقوع اسم الزينة عل الخلقة، لأنه لا يكاد يقال في الخلقة إنها من زينتها. وإنما يقال ذلك فيما تكتسبه من كحل وخضاب وغيره، والأقرب أن الخلقة داخلة في الزينة، ويدل عليها وجهان: الأول: أن الكثير من النساء ينفردن بخلقتهن عن سائر ما يعد زينة، فإذا حملناه على الخلقة وفينا العموم حقه، ولا يمنع دخول ما عدا الخلقة فيه أيضا الثاني: أن قوله: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) * يدل على أن المراد بالزينة ما يعم الخلقة وغيرها فكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقتهن بأن أوجب سترها بالخمار، وأما الذين قالوا الزينة عبارة عما سوى الخلقة فقد حصروه في أمور ثلاثة: أحدها: الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والغمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها وثانيها: الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها: الثياب قال الله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * (الأعراف: 31) وأراد الثياب.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد من قوله: * (إلا ما ظهر منها) * أما الذين حملوا الزينة على الخلقة، فقال القفال معنى الآية إلا ما يظهره الإنسان في العادة الجارية، وذلك في النساء الوجه والكفان، وفي الرجل الأطراف من الوجه واليدين والرجلين، فأمروا بستر ما لا تؤدي
205

الضرورة إلى كشفه ورخص لهم في كشف ما اعتيد كشفه وأدت الضرورة إلى إظهاره إذ كانت شرائع الإسلام حنيفية سهلة سمحة، ولما كان ظهور الوجه والكفين كالضروري لا جرم اتفقوا على أنهما ليسا بعورة، أما القدم فليس ظهوره بضروري فلا جرم اختلفوا في أنه هل هو من العورة أم لا؟ فيه وجهان: الأصح أنه عورة كظهر القدم، وفي صوتها وجهان أصحهما أنه ليس بعورة، لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال، وأما الذين حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فقالوا إنه سبحانه إنما ذكر الزينة لأنه لا خلاف أنه يحل النظر إليها حالما لم تكن متصلة بأعضاء المرأة، فلما حرم الله سبحانه النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة كان ذلك مبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة، وعلى هذا القول يحل النظر إلى زينة وجهها من الوشمة والغمرة وزينة بدنها من الخضاب والخواتيم وكذا الثياب، والسبب في تجويز النظر إليها أن تسترها فيه حرج لأن المرأة لا بد لها من مناولة الأشياء بيديها والحاجة إلى كشف وجهها في الشهادة والمحاكمة والنكاح.
المسألة الثالثة: اتفقوا على تخصيص قوله: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * بالحرائر دون الإماء، والمعنى فيه ظاهر، وهو أن الأمة مال فلا بد من الاحتياط في بيعها وشرائها، وذلك لا يمكن إلا بالنظر إليها على الاستقصاء بخلاف الحرة.
أما قوله تعالى: * (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) * فالخمر واحدها خمار، وهي المقانع. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يشددن خمرهن من خلفهن، وإن جيوبهن كانت من قدام فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليتغطى بذلك أعناقهن ونحورهن وما يحيط به من شعر وزينة من الحلي في الأذن والنحر وموضع العقدة منها، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء، والباء للإلصاق، وعن عائشة رضي الله عنها " ما رأيت خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرت فأصبحن على رؤوسهن الغربان " وقرئ * (جيوبهن) * بكسر الجيم لأجل الياء وكذلك * (بيوتا غير بيوتكم) *.
فأما قوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن) * فاعلم أنه سبحانه لما تكلم في مطلق الزينة تكلم بعد ذلك في الزينة الخفية التي نهاهن عن إبدائها للأجانب، وبين أن هذه الزينة الخفية يجب إخفاؤها عن الكل، ثم استثنى اثنتي عشرة صورة أحدها: أزواجهن وثانيها: آباؤهن وإن علون من جهة الذكران والإناث كآباء الآباء وآباء الأمهات وثالثها: آباء أزواجهن ورابعها وخامسها: أبناؤهن وأبناء بعولتهن، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا من الذكران والإناث كبني البنين وبني البنات وسادسها: إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما وسابعها: بنو إخوانهن وثامنها: بنو أخواتهن وهؤلاء كلهم محارم، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أفيحل لذوي المحرم في المملوكة والكافرة ما لا يحل له في المؤمنة؟
206

الجواب: إذا ملك المرأة وهي من محارمه فله أن ينظر منها إلى بطنها وظهرها لا على وجه الشهوة، بل لأمر يرجع إلى مزية الملك على اختلاف بين الناس في ذلك.
السؤال الثاني: كيف القول في العم والخال؟ الجواب: القول الظاهر أنهما كسائر المحارم في جواز النظر وهو قول الحسن البصري، قال لأن الآية لم يذكر فيها
الرضاع وهو كالنسب وقال في سورة الأحزاب * (لا جناح عليهن في آبائهن) * (الأحزاب: 55) الآية. ولم يذكر فيها البعولة ولا أبناءهم وقد ذكروا ههنا، وقد يذكر البعض لينبه على الجملة. قال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله لئلا يصفهما العم عند ابنه الخال كذلك، ومعناه أن سائر القرابات تشارك الأب والابن في المحرمية إلا العم والخال وأبناءهما، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم فيقرب تصوره لها بالوصف من نظره إليها، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهم في التستر.
السؤال الثالث: ما السبب في إباحة نظر هؤلاء إلى زينة المرأة؟ الجواب: لأنهم مخصوصون بالحاجة إلى مداخلتهن ومخالطتهن ولقلة توقع الفتنة بجهاتهن، ولما في الطباع من النفرة عن مجالسة الغرائب، وتحتاج المرأة إلى صحبتهم في الأسفار وللنزول والركوب وتاسعها: قوله تعالى: * (أو نسائهن) * وفيه قولان: أحدهما: المراد والنساء اللاتي هن على دينهن، وهذا قول أكثر السلف. قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها لقوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانهن) * وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات وثانيهما: المراد بنسائهن جميع النساء، وهذا هو المذهب وقول السلف محمول على الاستحباب والأولى وعاشرها: قوله تعالى: * (أو ما ملكت أيمانهن) * وظاهر الكلام يشمل العبيد والإماء، واختلفوا فمنهم من أجرى الآية على ظاهرها، وزعم أنه لا بأس عليهن في أن يظهرن لعبيدهن من زينتهن ما يظهرن لذوي محارمهن، وهو مروي عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما، واحتجوا بهذه الآية وهو ظاهر. وبما روى أنس: " أنه عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بها، قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك " وعن مجاهد: كان أمهات المؤمنين لا يحتجبن عن مكاتبهن ما بقي عليه درهم. وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت لذكوان: " إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وروي أن عائشة رضي الله عنها: كانت تمتشط والعبد ينظر إليها، وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، واحتجوا عليه بأمور: أحدها: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم " والعبد ليس بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها، وإذا لم يجز له السفر بها لم
207

يجز له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي وثانيها: أن ملكها للعبد لا يحلل ما يحرم عليه قبل الملك إذ ملك النساء للرجال ليس كملك الرجال للنساء، فإنهم لم يختلفوا في أنها لا تستبيح بملك العبد منه شيئا من التمتع كما يملكه الرجل من الأمة وثالثها: أن العبد وإن لم يجز له أن يتزوج بمولاته إلا أن ذلك التحريم عارض كمن عنده أربع نسوة فإنه لا يجوز له التزوج بغيرهن فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب. إذا ثبت هذا ظهر أن المراد من قوله: * (أو ما ملكت أيمانهن) * الإماء فإن قيل الإماء دخلن في قوله: * (نسائهن) * فأي فائدة في الإعادة؟ قلنا الظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن من في صحبتهن من الحرائر والإماء، وبيانه أنه سبحانه ذكر أولا أحوال الرجال بقوله: * (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن) * إلى آخر ما ذكر فجاز أن يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذ كانوا ذوي المحارم أو غير ذات المحارم، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله: * (أو ما ملكت أيمانهن) * لئلا يظن أن الإباحة مقصورة على الحرائر من النساء إذ كان ظاهر قوله: * (أو نسائهن) * يقتضي الحرائر دون الإماء كقوله: * (شهيدين من رجالكم) * (البقرة: 282) على الأحرار لإضافتهم إلينا كذلك قوله: * (أو نسائهن) على الحرائر، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر وحادي عشرها: قوله تعالى: * (أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قيل هم الذين يتبعونكم لينالوا من فضل طعامكم، ولا حاجة بهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون من أمرهن شيئا، أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، ومعلوم أن الخصي والعنين ومن شاكلهما قد لا يكون له إربة في نفس الجماع ويكون له إربة قوية فيما عداه من التمتع، وذلك يمنع من أن يكون هو المراد. فيجب أن يحمل المراد على من المعلوم منه إنه لا إربة له في سائر وجوه التمتع، إما لفقد الشهوة، وإما لفقد المعرفة، وإما للفقر والمسكنة، فعلى هذه الوجوه الثلاثة اختلف العلماء. فقال بعضهم هم الفقراء الذين بهم الفاقة، وقال بعضهم: المعتوه والأبله والصبي، وقال بعضهم: الشيخ، وسائر من لا شهوة له، ولا يمتنع دخول الكل في ذلك، وروى هشام بن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا عبد الله إن فتح الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان " فقال عليه الصلاة والسلام: " لا يدخلن عليكم هذا " فأباح النبي عليه الصلاة والسلام دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولى الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولى الإربة فحجبه، وفي الخصي والمجبوب ثلاثة أوجه: أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما والثاني: تحريمها عليهما والثالثة: تحريمها على الخصي دون المجبوب.
المسألة الثانية: الإربة الفعلة من الأرب كالمشية والجلسة من المشي والجلوس والأرب
208

الحاجة والولوع بالشيء والشهوة له، والإربة الحاجة في النساء، والإربة العقل ومنه الأريب.
المسألة الثالثة: في * (غير) * قراءتان قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر غير بالنصب على الاستثناء أو الحال يعني أو التابعين عاجزين عنهن والقراءة الثانية بالخفض على الوصفية وثاني عشرها: قوله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الطفل اسم للواحد لكنه وضع ههنا موضع الجمع لأنه يفيد الجنس، ويبين ما بعده أنه يراد به الجمع ونظيره قوله تعالى: * (ثم نخرجكم طفلا) * (الحج: 5).
المسألة الثانية: الظهور على الشيء على وجهين: الأول: العلم به كقوله تعالى: * (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) * (الكهف: 20) أي إن يشعروا بكم والثاني
: الغلبة له والصولة عليه كقوله: * (فأصبحوا ظاهرين) * (الصف: 14) فعلى الوجه الأول يكون المعنى أو الطفل الذين لم يتصوروا عورات النساء ولم يدروا ما هي من الصغر وهو قول ابن قتيبة، وعلى الثاني الذين لم يبلغوا أن يطيقوا إتيان النساء، وهو قول الفراء والزجاج. المسألة الثالثة: أن الصغير الذي لم يتنبه لصغره على عورات النساء فلا عورة للنساء معه، وإن تنبه لصغره ولمراهقته لزم أن تستر عنه المرأة ما بين سرتها وركبتها، وفي لزوم ستر ما سواه وجهان: أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والثاني: يلزم كالرجل لأنه يشتهي والمرأة قد تشتهيه وهو معنى قوله: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * واسم الطفل شامل له إلى أن يحتلم، وأما الشيخ إن بقيت له شهوة فهو كالشاب، وإن لم يبق له شهوة ففيه وجهان: أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة والثاني: أن جميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، وههنا آخر الصور التي استثناها الله تعالى، قال الحسن هؤلاء وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الباطنة فهم على أقسام ثلاثة، فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها، والحرمة الثانية للابن والأب والأخ والجد وأبي الزوج وكل ذي محرم والرضاع كالنسب يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك، والحرمة الثالثة هي للتابعين غير أولي الإربة من الرجال وكذا مملوك المرأة فلا بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا والستر في هذا كله أفضل، ولا يحل للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب، فهذا ضبط هؤلاء المراتب.
أما قوله تعالى: * (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) * فقال ابن عباس وقتادة كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، ومعلوم أن الرجل الذي يغلب عليه شهوة النساء إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعية له زائدة في مشاهدتهن، وقد علل تعالى ذلك بأن قال: * (ليعلم ما يخفين من زينتهن) * فنبه به على أن الذي لأجله نهى عنه أن يعلم زينتهن من
209

الحلي وغيره وفي الآية فوائد: الفائدة الأولى: لما نهى عن استماع الصوت الدال على وجود الزينة فلأن يدل على المنع من إظهار الزينة أولى الثانية: أن المرأة منهية عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب إذ كان صوتها أقرب إلى الفتنة من صوت خلخالها، ولذلك كرهوا أذان النساء لأنه يحتاج فيه إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك الثالثة: تدل الآية على حظر النظر إلى وجهها بشهوة إذا كان ذلك أقرب إلى الفتنة.
أما قوله سبحانه وتعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في التوبة وجهان: أحدهما: أن تكاليف الله تعالى في كل باب لا يقدر العبد الضعيف على مراعاتها وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا ينفك من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار وتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا والثاني: قال ابن عباس رضي الله عنهما توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة، فإن قيل قد صحت التوبة بالإسلام والإسلام يجب ما قبله فما معنى هذه التوبة؟ قلنا قال بعض العلماء إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكره أن يجدد عنه التوبة، لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه إلى أن يلقى ربه.
المسألة الثانية: قرىء * (أيه المؤمنون) * بضم الهاء، ووجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها والله أعلم.
المسألة الثالثة: تفسير لعل قد تقدم في سورة البقرة في قوله: * (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) * والله أعلم. الحكم الثامن ما يتعلق بالنكاح
قوله تعالى
* (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقرآء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر من قبل بغض الأبصار وحفظ الفروج بين من بعد أن الذي أمر به إنما هو فيما لا يحل، فبين تعالى بعد ذلك طريق الحل فقال: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب الكشاف الأيامى واليتامى أصلهما أيايم ويتايم فقلبا، وقال النضر بن شميل الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها، وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية الضحاك، تقول: زوجوا أيامكم بعضكم من بعض، وقال الشاعر:
فإن تنكحي انكح وإن تتأيمي * وإن كنت أفتى منكموا أتأيم
210

المسألة الثانية: قوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى) * (النور: 32) أمر وظاهر الأمر للوجوب على ما بيناه مرارا، فيدل على أن الولي يجب عليه تزويج مولاته وإذا ثبت هذا وجب أن لا يجوز النكاح إلا بولي، إما لأن كل من أوجب ذلك على الولي حكم بأنه لا يصح من المولية، وإما لأن المولية لو فعلت ذلك لفوتت على الولي التمكن من أداء هذا الواجب وأنه غير جائز، وإما لتطابق هذه الآية مع الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " قال أبو بكر الرازي هذه الآية وإن اقتضت بظاهرها الإيجاب إلا أنه أجمع السلف على أنه لم يرد به الإيجاب، ويدل عليه أمور: أحدها: أنه لو كان ذلك واجبا لورد النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف مستفيضا شائعا لعموم الحاجة إليه، فلما وجدنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأعضاء بعده قد كان في الناس أيامى من الرجال والنساء، فلم ينكروا عدم تزويجهن ثبت أنه ما أريد به الإيجاب وثانيها: أجمعنا على أن الأيم الثيب لو أبت التزوج لم يكن للولي إجبارها عليه وثالثها: اتفاق الكل على أنه لا يجبر على تزويج عبده وأمته وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه غير واجب في الجميع بل ندب في الجميع ورابعها: أن اسم الأيامى ينتظم فيه الرجال والنساء وهو في الرجال ما أريد به الأولياء دون غيرهم كذلك في النساء والجواب: أن جميع ما ذكرته
تخصيصات تطرقت إلى الآية والعام بعد التخصيص يبقى حجة، فوجب أن يبقى حجة فيما إذا التمست المرأة الأيم من الولي التزويج وجب، وحينئذ ينتظم وجه الكلام.
المسألة الثالثة: قال الشافعي رحمه الله، الآية تقتضي جواز تزويج البكر البالغة بدون رضاها، لأن الآية والحديث يدلان على أمر الولي بتزويجها، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج الثيب الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها أيضا بغير رضاها، لعموم الآية، قال أبو بكر الرازي قوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى) * لا يختص بالنساء دون الرجال على ما بينا فلما كان الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء، وأيضا فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئمار البكر بقوله: " البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها " وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر، فثبت أنه لا يجوز تزويجها إلا بإذنها والجواب: أما الأول فهو تخصيص للنص وهو لا يقدح في كونه حجة والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده أمره بخلاف المرأة، فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها في التزويج أظهر، وأيضا فلفظ الأيامى وإن تناول الرجال والنساء، فإذا أطلق لم يتناول إلا النساء، وإنما يتناول الرجال إذا قيد وأما الثاني: ففي تخصيص الآية بخبر الواحد كلام مشهور.
المسألة الرابعة: قال أبو حنيفة رحمه الله العم والأخ يليان تزويج البنت الصغيرة، ووجه الاستدلال بالآية كما تقدم.
211

المسألة الخامسة: قال الشافعي رحمه الله، الناس في النكاح قسمان منهم من تتوق نفسه في النكاح فيستحب له أن ينكح إن وجد أهبة النكاح سواء كان مقبلا على العبادة أو لم يكن كذلك، ولكن لا يجب أن ينكح، وإن لم يجد أهبة النكاح يكسر شهوته لما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإن الصوم له وجاء، أما الذي لا تتوق نفسه إلى النكاح فإن كان ذلك لعلة به من كبر أو مرض أو عجز يكره له أن ينكح، لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وكذلك إذا كان لا يقدر على النفقة وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له النكاح، لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى، وقال أبو حنيفة رحمه الله: النكاح أفضل من التخلي للعبادة، وحجة الشافعي رحمه الله وجوه: أحدها: قوله تعالى: * (وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) * (آل عمران: 39) مدح يحيى عليه السلام بكونه حصورا والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن، ولا يقال هو الذي لا يأتي النساء مع العجز عنهن، لأن مدح الإنسان بما يكون عيبا غير جائز، وإذا ثبت أنه مدح في حق يحيى وجب أن يكون مشروعا في حقنا لقوله تعالى: * (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) * ولا يجوز حمل الهدى على الأصول لأن التقليد فيها غير جائز فوجب حمله على الفروع وثانيها: قوله عليه الصلاة والسلام: " استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة " ويتمسك أيضا بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن " وثالثها: أن النكاح مباح لقوله عليه الصلاة والسلام: " أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح " ويحمل الأحب على الأصلح في الدنيا لئلا يقع التناقض بين كونه أحب وبين كونه مباحا، والمباح ما استوى طرفاه في الثواب والعقاب، والمندوب ما ترجح وجوده على عدمه فتكون العبادة أفضل ورابعها: أن النكاح ليس بعبادة بدليل أنه يصح من الكافر والعبادة لا تصح منه، فوجب أن تكون العبادة أفضل منه لقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) والاشتغال بالمقصود أولى وخامسها: أن الله تعالى سوى بين التسري والنكاح ثم التسري مرجوح بالنسبة إلى العبادة ومساوي المرجوح مرجوح، فالنكاح مرجوح، وإنما قلنا إنه سوى بين التسري والنكاح لقوله تعالى: * (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم) * (النساء: 3) وذكر كلمة أو للتخيير بين الشيئين، والتخيير بين الشيئين أمارة التساوي، كقول الطبيب للمريض كل الرمان أو التفاح، وإذا ثبت الاستواء فالتسري مرجوح، ومساوي المرجوح مرجوح، فالنكاح يجب أن يكون مرجوحا وسادسها: أن النافلة أشق فتكون أكثر ثوابا بيان أنها أشق أن ميل الطباع إلى النكاح أكثر، ولولا ترغيب الشرع لما رغب أحد في النوافل، وإذا ثبت أنها أشق وجب أن تكون أكثر ثوابا لقوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل العبادات أحمزها " وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة: " أجرك على قدر نصبك " وسابعها: لو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب مع
212

أن النوافل أشق منه لما كانت النوافل مشروعة. لأنه إذا حصل طريقان إلى تحصيل المقصود وكانا في الإفضاء إلى المقصود سيين وكان أحدهما شاقا والآخر سهلا، فإن العقلاء يستقبحون تحصيل ذلك المقصود بالطريق الشاق مع المكنة من الطريق السهل، ولما كانت النوافل مشروعة علمنا أنها أفضل وثامنها: لو كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لكان الاشتغال بالحراثة والزراعة أولى من النافلة بالقياس على النكاح والجامع كون كل واحد منهما سببا لبقاء هذا العالم ومحصلا لنظامه وتاسعها: أجمعنا على أنه يقدم واجب العبادة على واجب النكاح، فيقدم مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب وعاشرها: أن النكاح اشتغال بتحصيل اللذات الحسية الداعية إلى الدنيا، والنافلة قطع العلائق الجسمانية وإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر؟ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " فرجح الصلاة على النكاح، حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه: الأول: أن النكاح يتضمن صون النفس عن الزنا فيكون ذلك دفعا للضرر عن النفس، والنافلة جلب النفع ودفع الضرر أولى من جلب النفع الثاني: أن النكاح يتضمن العدل والعدل أفضل من العبادة لقوله عليه الصلاة والسلام: " لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة " الثالث: النكاح سنة مؤكدة لقوله عليه الصلاة والسلام: " من رغب عن سنتي فليس مني " وقال في الصلاة وإنها خير موضوع: " فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل " فوجب أن يكون النكاح أفضل.
المسألة السادسة: قوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى) * (النور: 32) وإن كانت تتناول جميع الأيامى بحسب الظاهر لكنهم أجمعوا على أنه لا بد فيها من شروط، وقد تقدم شرحها في قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24).
أما قوله تعالى: * (منكم) * فقد حمله كثير من المفسرين على أن المراد هم الأحرار لينفصل الحر من العبد، وقال بعضهم بل المراد بذلك من يكون تحت ولاية
المأمور من الولد أو القريب، ومنهم من قال الإضافة تفيد الحرية والإسلام.
أما قوله تعالى: * (والصالحين من عبادكم وإمائكم) * (النور: 32) ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ظاهر أنه أيضا أمر للسادة بتزويج هذين الفريقين إذا كانوا صالحين، وأنه لا فرق بين هذا الأمر وبين الأمر بتزويج الأيامى في باب الوجوب، لكنهم اتفقوا على أنه إباحة أو ترغيب، فأما أن يكون واجبا فلا، وفرقوا بينه وبين تزويج الأيامى بأن في تزويج العبد التزام مؤنة وتعطيل خدمة، وذلك ليس بواجب على السيد وفي تزويج الأمة استفادة مهر وسقوط نفقة، وليس ذلك بلازم على المولى.
المسألة الثانية: إنما خص الصالحين بالذكر لوجوه: الأول: ليحصن دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم الثاني: لأن الصالحين من الأرقاء هم الذين مواليهم يشفقون عليهم (و) ينزلونهم منزلة
213

الأولاد في المودة، فكانوا مظنة للتوصية بشأنهم والاهتمام بهم وتقبل الوصية فيهم، وأما المفسدون منهم فحالهم عند مواليهم على عكس ذلك الثالث: أن يكون المراد الصلاح لأمر النكاح حتى يقوم العبد بما يلزم لها، وتقوم الأمة بما يلزم للزوج الرابع: أن يكون المراد الصلاح في نفس النكاح بأن لا تكون صغيرة فلا تحتاج إلى النكاح.
المسألة الثالثة: ظاهر الآية يدل على أن العبد لا يتزوج بنفسه، وإنما يجوز أن يتولى المولى تزويجه، لكن ثبت بالدليل أنه إذا أمره بأن يتزوج جاز أن يتولى تزويج نفسه، فيكون توليه بإذنه بمنزلة أن يتولى ذلك نفس السيد، فأما الإماء فلا شبهة في أن المولى يتولى تزويجهن خصوصا على قول من لا يجوز النكاح إلى بولي.
أما قوله تعالى: * (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) * (النور: 32) ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: الأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج. بل المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون تزويجها ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح، وليس في الفقر ما يمنع من الرغبة في النكاح، فهذا معنى صحيح وليس فيه أن الكلام قصد به وعد الغني حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، وروي عن قدماء الصحابة ما يدل على أنهم رأوا ذلك وعدا، عن أبي بكر قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وعن عمر وابن عباس مثله قال ابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح، وشكى رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال: " عليك بالباءة " وقال طلحة بن مطرف: تزوجوا فإنه أوسع لكم في رزقكم وأوسع لكم في أخلاقكم ويزيد في مروءتكم، فإن قيل: فنحن نرى من كان غنيا فيتزوج فيصير فقيرا؟ قلنا الجواب عنه من وجوه: أحدها: أن هذا الوعد مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى: * (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله إن الله عليم حكيم) * (التوبة: 28) المطلق محمول على المقيد، وثانيها: أن اللفظ وإن كان عاما إلا أنه يكون خاصا في بعض المذكورين دون البعض وهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون وثالثها: أن يكون المراد الغنى بالعفاف فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن الوقوع في الزنا.
المسألة الثانية: من الناس من استدل بهذه الآية على أن العبد والأمة يملكان، لأن ذلك راجع إلى كل من تقدم فتقتضي الآية بيان أن العبد قد يكون فقيرا وقد يكون غنيا، فإن دل ذلك على الملك ثبت أنهما يملكان، ولكن المفسرون تأولوه على الأحرار خاصة. فكأنهم قالوا هو راجع إلى الأيامى، أما إذا فسرنا الغنى بالعفاف فالاستدلال به على ذلك ساقط.
أما قوله: * (والله واسع عليم) * فالمعنى أنه سبحانه في الإفضال لا ينتهي إلى حد تنقطع قدرته على الإفضال دونه، لأنه قادر على المقدورات التي لا نهاية لها، وهو مع ذلك عليم بمقادير ما يصلحهم من الإفضال والرزق.
214

قوله تعالى
* (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) *
اعلم أنه سبحانه لما ذكر تزويج الحرائر والإماء، ذكر حال من يعجز عن ذلك، فقال: * (وليستعفف) * أي وليجتهد في العفة، كأن المستعفف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه.
وأما قوله: * (لا يجدون نكاحا) * فالمعنى لا يتمكنون من الوصول إليه، يقال لا يجد المرء الشيء إذا لم يتمكن منه، قال الله تعالى: * (فمن لم يجد فصيام شهرين) * والمراد به بالإجماع من لم يتمكن، ويقال في أحدنا هو غير واجد للماء وإن كان موجودا، إذا لم يمكنه أن يشتريه، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال، فبين سبحانه وتعالى أن من لا يتمكن من ذلك فليطلب التعفف، ولينتظر أن يغنيه الله من فضله، ثم يصل إلى بغيته من النكاح، فإن قيل أفليس ملك اليمين يقوم مقام نفس النكاح؟ قلنا لكن من لم يجد المهر والنفقة، فبأن لا يجد ثمن الجارية أولى والله أعلم. الحكم التاسع في الكتابة إعلم أنه تعالى لما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء مع الرق، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك، ليصيروا أحرارا فيتصرفوا في أنفسهم كالأحرار، فقال: * (والذين يبتغون الكتاب) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (والذين يبتغون) * مرفوع على الابتداء، أو منصوب بفعل مضمر يفسره فكاتبوهم، كقولك زيدا فاضربه، ودخلت الفاء لتضمن معنى الشرط.
المسألة الثانية: الكتاب والكتابة كالعتاب والعتابة، وفي اشتقاق لفظ الكتابة وجوه: أحدها: أن أصل الكلمة من الكتب وهو الضم والجمع ومنه الكتيبة سميت بذلك لأنها تضم النجوم بعضها إلى بعض وتضم ماله إلى ماله وثانيها: يحتمل أن يكون اللفظ مأخوذا من الكتاب ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال، وكتبت
لي على نفسك أن تفي لي بذلك، أو كتبت لي كتابا عليك بالوفاء بالمال وكتبت على العتق، وهذا ما ذكره الأزهري وثالثها: إنما سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل بالمال المعقود عليه، لأنه لا يجوز أن يقع على مال هو في يد العبد حين يكاتب، لأن ذلك مال لسيده اكتسبه في حال ما كانت يد السيد غير
215

مقبوضة عن كسبه، فلا يجوز لهذا المعنى أن يقع هذا العقد حالا ولكنه يقع مؤجلا ليكون متمكنا من الاكتساب وغيره حين ما انقبضت يد السيد عنه، ثم من آداب الشريعة أن يكتب على من عليه المال المؤجل كتاب، فسمى لهذا المعنى هذا العقد كتابا لما يقع فيه من الأجل، قال تعالى: * (لكل أجل كتاب) * (الرعد: 38).
المسألة الثالثة: قال محي السنة: الكتابة أن يقول لمملوكه كاتبتك على كذا ويسمى مالا معلوما يؤديه في نجمين أو أكثر، ويبين عدد النجوم وما يؤدي في كل نجم، ويقول إذا أديت ذلك المال فأنت حر، أو نوي ذلك بقلبه ويقول العبد قبلت، وفي هذا الضبط أبحاث.
البحث الأول: قال الشافعي رحمه الله: إن لم يقل بلسانه أو لم ينو بقلبه إذا أديت ذلك المال فأنت حر لم يعتق، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر رحمهم الله لا حاجة إلى ذلك، حجة أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى: * (فكاتبوهم) * خال عن هذا الشرط فوجب أن تصح الكتابة بدون هذا الشرط، وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع، حجة الشافعي رحمه الله: أن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، لأن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بملكه، بل قوله كاتبتك كتابة في العتق فلا بد من لفظ العتق أو نيته. البحث الثاني: لا تجوز الكتابة الحالة عند الشافعي، وتجوز عند أبي حنيفة، وجه قول الشافعي رحمه الله أن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال، وإذا عقد حالا توجهت المطالبة عليه في الحال، فإذا عجز عن الأداء لم يحصل مقصود العقد، كما لو أسلم في شيء لا يوجد عند المحل لا يصح بخلاف ما لو أسلم إلى معسر فإنه يجوز، لأنه حين العقد يتصور أن يكون له ملك في الباطن، فالعجز لا يتحقق عن أدائه، وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله تعالى: * (فكاتبوهم) * مطلق يتناول الكتابة الحالة والمؤجلة، وأيضا لما كان مال الكتابة بدلا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان السلع المبيعة فيجوز عاجلا وآجلا، وأيضا أجمعوا على جواز العتق معلقا على مال حال فوجب أن تكون الكتابة مثله، لأنه بدل عن العتق في الحالين إلا أن في أحدهما العتق معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما.
البحث الثالث: قال الشافعي رحمه الله: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين، يروى ذلك عن علي وعثمان وابن عمر، روى أن عثمان رضي الله عنه غضب على عبده، فقال: لأضيقن الأمر عليك، ولأكاتبنك على نجمين، ولو جاز على أقل من ذلك لكاتبه على الأقل، لأن التضييق فيه أشد، وإنما شرطنا التنجيم لأنه عقد إرفاق، ومن شرط الإرفاق التنجيم ليتيسر عليهم الأداء. وقال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز الكتابة على نجم واحد، لأن ظاهر قوله: * (فكاتبوهم) * ليس فيه تقييد.
المسألة الرابعة: تجوز كتابة المملوك عبدا كان أو أمة، ويشترط عند الشافعي رحمه الله أن يكون عاقلا بالغا، فإذا كان صبيا أو مجنونا لا تصح كتابته، لأن الله تعالى قال: * (والذين
216

يبتغون الكتاب) * ولا يتصور الابتغاء من الصبي والمجنون. وعند أبي حنيفة رحمه الله: تجوز كتابة الصبي ويقبل عنه المولى.
المسألة الخامسة: يشرط أن يكون المولى مكلفا مطلقا، فإن كان صبيا أو مجنونا أو محجورا عليه بالسفه لا تصح كتابته كما لا يصح بيعه، ولأن قوله: * (فكاتبوهم) * خطاب فلا يتناول غير العاقل، وعند أبي حنيفة رحمه لله تصح كتابة الصبي بإذن الولي.
المسألة السادسة: اختلف العلماء في أن قوله: * (فكاتبوهم) * أمر إيجاب أو أمر استحباب؟ فقال قائلون هو أمر إيجاب، فيجب على الرجل أن يكاتب مملوكه إذا سأله ذلك بقيمته أو أكثر إذا علم فيه خيرا، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه، وهذا قول عمرو بن دينار وعطاء، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد بن جرير، واحتجوا عليه بالآية والأثر. أما الآية فظاهر قوله تعالى: * (فكاتبوهم) * لأنه أمر وهو للإيجاب، ويدل عليه أيضا سبب نزول الآية، فإنها نزلت في غلام لحويطب ابن عبد العزى يقال له صبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، فنزلت الآية فكاتبه على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا، وأما الأثر فما روي أن عمر أمر أنسا أن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى، فرفع عليه الدرة وضربه وقال: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * وحلف عليه ليكاتبنه، ولو لم يكن ذلك واجبا لكان ضربه بالدرة ظلما، وما أنكر على عمر أحد من الصحابة فجرى ذلك مجرى الإجماع، وقال أكثر الفقهاء إنه أمر استحباب وهو ظاهر قول ابن عباس والحسن والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري واحتجوا عليه بقوله عليه الصلاة والسلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه " وأنه لا فرق أن يطلب الكتابة أو يطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة، فكما لا يجب ذلك فكذا الكتابة وهذه طريقة المعاوضات أجمع وههنا سؤالان:
السؤال الأول: كيف يصح أن يبيع ماله بماله؟ قلنا إذا ورد الشرع به فيجب أن يجوز كما إذا علق عتقه على مال يكتسبه فيؤديه أو يؤدي عنه صار سببا لعتقه.
السؤال الثاني: هل يستفيد العبد بعقد الكتابة ما لا يملكه؟ لولا الكتابة؟ قلنا نعم لأنه لو دفع إليه الزكاة، ولم يكاتب لم يحل له أن يأخذها وإذا صار مكاتبا حل له وإذا دفع إلى مولاه حل له، سواء أدى فعتق أو عجز فعاد إلى الرق، ويستفيد أيضا أن الكتابة تبعثه على الجد والاجتهاد في الكسب، فلولاها لم يكن ليفعل ذلك، ويستفيد المولى الثواب لأنه إذا باعه فلا ثواب، وإذا كاتبه ففيه ثواب، ويستفيد أيضا الولاء لأنه لو عتق من قبل غيره لم يكن له ولاء وإذا عتق بالكتابة فالولاء له، فورد الشرع بجواز الكتابة لما ذكرناه من الفوائد.
أما قوله تعالى: * (إن علمتم فيهم خيرا) * فذكروا في الخير وجوها: أحدها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن علمتم لهم حرفة، فلا تدعوهم كلا على الناس " وثانيها: قال عطاء الخير
217

المال وتلا * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا) * أي ترك مالا، قال وبلغني ذلك عن ابن عباس وثالثها: عن ابن سيرين قال إذا صلى وقال النخعي
وفاء وصدقا وقال الحسن صلاحا في الدين ورابعها: قال الشافعي رحمه الله المراد بالخير الأمانة والقوة على الكسب، لأن مقصود الكتابة قلما يحصل إلا بهما فإنه ينبغي أن يكون كسوبا يحصل المال ويكون أمينا يصرفه في نجومه ولا يضيعه فإذا فقد الشرطان أو أحدهما لا يستحب أن يكاتبه، والأقرب أنه لا يجوز حمله على المال لوجهين: الأول: أن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا فلان فيه خير إنما يريدون به الصلاح في الدين ولو أراد المال لقال إن علمتم لهم خيرا، لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال الثاني: أن العبد لا مال له بل المال لسيده، فالأولى أن يحمل على ما يعود على كتابته بالتمام، وهو الذي ذكره الشافعي رحمه الله وهو أن يتمكن من الكسب ويوثق به بحفظ ذلك لأن كل ذلك مما يعود على كتابته بالتمام ودخل فيه تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الخير لأنه عليه الصلاة والسلام فسره بالكسب وهو داخل في تفسير الشافعي رحمه الله.
أما قوله: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: اختلفوا في المخاطب بقوله: * (وآتوهم) * على وجوه: أحدها: أنه هو المولى يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءا مما أخذ منه، وهؤلاء اختلفوا في قدره فمنهم من جعل الخيار له وقال يجب أن يحط قدرا يقع به الاستغناء، وذلك يختلف بكثرة المال وقلته ومنهم من قال يحط ربع المال، روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك له ربع مكاتبته، وقال إن عليا كان يأمرنا بذلك ويقول وهو قول الله تعالى: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * فإن لم يفعل فالسبع، لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدا له بخمس وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف، ويروى أن عمر كاتب عبدا له فجاء بنجمه فقال له اذهب فاستعن به على أداء مال الكتابة، فقال المكاتب لو تركته إلى آخر نجم؟ فقال إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ هذه الآية، وكان ابن عمر يؤخره إلى آخر النجوم مخافة أن يعجز. وثانيها: المراد وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات في قوله: * (وفي الرقاب) * وعلى هذا فالخطاب لغير السادة وهو قول الحسن والنخعي، ورواية عطاء عن ابن عباس، وأجمعوا على أنه لا يجوز للسيد أن يدفع صدقته المفروضة إلى مكاتب نفسه. وثالثها: أن هذا أمر من الله تعالى للسادة والناس أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم، وهذا قول الكلبي وعكرمة والمقاتلين والنخعي وقال عليه الصلاة والسلام: " من أعان مكاتبا على فك رقبته أظله الله تعالى في ظل عرشه "، وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم علمني عملا يدخلني الجنة قال: " لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعظمت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة، فقال أليسا واحدا؟ فقال لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " قالوا ويؤكد هذا القول وجوه: أحدها: أنه أمر بإعطائه
218

من مال الله تعالى وما أطلق عليه هذه الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب. وثانيها: أن قوله: * (من مال الله الذي آتاكم) * هو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه على عبده والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح. وثالثها: أن ما آتاه الله فهو الذي يحصل في يده ويمكنه التصرف فيه، وما سقط عقيب العقد لم يحصل له عليه يد ملك، فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه، فإن قيل ههنا وجهان يقدحان في صحة هذا التأويل أحدهما: أنه كيف يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ من مال الصدقة. والثاني: أن قوله: * (وآتوهم) * معطوف على قوله: * (فكاتبوهم) * فيجب أن يكون المخاطب في الموضعين واحدا، وعلى هذا التأويل يكون المخاطب في الآية الأولى السادات، وفي الثانية سائر المسلمين قلنا: أما الأول فجوابه أن تلك الصدقة تحل لمولاه وكذلك إذا لم تقف الصدقة بجميع النجوم وعجز عن أداء الباقي كان للمولى ما أخذه لأنه لم يأخذه بسبب الصدقة، ولكن بسبب عقد الكتابة كمن اشترى الصدقة من الفقير أو ورثها منه. يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة " هو لها صدقة ولنا هدية " والجواب: عن الثاني أنه قد يصح الخطاب لقوم ثم يعطف عليه بمثل لفظه خطابا لغيرهم، كقوله تعالى: * (وإذا طلقتم النساء) * (البقرة: 231) فالخطاب للأزواج ثم خاطب الأولياء بقوله: * (فلا تعضلوهن) * وقوله: * (مبرؤون مما يقولون) * والقائلون غير المبرئين فكذا ههنا قال للسادة * (فكاتبوهم) * وقال لغيرهم * (وآتوهم) * أو قال لهم ولغيرهم.
المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله يجب على المولى إيتاء المكاتب وهو أن يحط عنه جزءا من مال الكتابة أو يدفع إليه جزءا مما أخذ منه، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه إنه مندوب إليه لكنه غير واجب، حجة الشافعي رحمه الله ظاهر قوله: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * والأمر للوجوب فقيل عليه إن قوله: * (فكاتبوهم) * وقوله: * (وآتوهم) * أمران وردا في صورة واحدة فلم جعلت الأولى ندبا والثاني إيجابا؟ وأيضا فقد ثبت أن قوله * (وآتوهم) * ليس خطابا مع الموالي بل مع عامة المسلمين. حجة أبي حنيفة رحمه الله من حيث السنة والقياس، أما السنة فما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه عليه الصلاة والسلام قال: " أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد " فلو كان الحط واجبا لسقط عنه بقدره، وعن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: " جاءتني بريرة فقالت يا عائشة إني قد كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فأعيتني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا فقالت عائشة رضي الله عنها ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون ولاؤك لي فعلت، فأبوا فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا يمنعك ذلك منها ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق " وجه الاستدلال أنها ما قضت من كتابتها شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها بالكلية وذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترك رسول الله النكر عليها، ولم يقل إنها تستحق أن يحط عنها بعض كتابتها فثبت قولنا. وأما القياس فمن وجهين الأول: لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد موجبا
219

له ومسقطا له وذلك محال لتنافي الإسقاط والإيجاب الثاني: لو كان الحط واجبا لما أحتاج إلى أن يضع عنه بل كان يسقط القدر المستحق كمن له على إنسان دين ثم حصل لذلك الآخر على الأول مثله فإنه يصير قصاصا، ولو كان كذلك لكان قدر الإيتاء إما أن يكون معلوما أو مجهولا فإن كان معلوما وجب أن تكون الكتابة بألفين فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف. والكتابة أربعة آلاف وذلك باطل لأن أداء جميعها مشروط فلا يعتق بأداء بعضها، ولأنه عليه السلام قال: " المكاتب عبد ما بقي عليه درهم " وإن كان مجهولا صارت الكتابة مجهولة لأن الباقي بعد الحط مجهول فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيئا وذلك غير جائز والله أعلم.
الحكم العاشر الإكراه على الزنا
قوله تعالى: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم من تزويج العبيد والإماء وكتابتهم أتبع ذلك بالمنع من إكراه الإماء على الفجور، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في سبب نزولها على وجوه الأول: كان لعبد الله بن أبي المنافق ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت (ا) ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وثانيها: أن عبد الله بن أبي أسر رجلا فراود الأسير جارية عبد الله وكانت الجارية مسلمة فامتنعت الجارية لإسلامها وأكرهها ابن أبي على ذلك، رجاء أن تحمل من الأسير فيطلب فداء ولده فنزلت وثالثها: روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " جاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية من أجمل النساء تسمى معاذة، فقال يا رسول الله هذه لأيتام فلان أفلا نأمرها بالزنا فيصيبون من منافعها؟ فقال عليه الصلاة والسلام لا فأعاد الكلام " فنزلت الآية وقال جابر بن عبد الله " جاءت جارية لبعض الناس فقالت إن سيدي يكرهني على البغاء " فنزلت الآية.
المسألة الثانية: الإكراه إنما يحصل متى حصل التخويف بما يقتضي تلف النفس فأما باليسير من الخوف فلا تصير مكرهة، فحال الإكراه على الزنا كحال الإكراه على كلمة الكفر والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أن حال الحرائر كذلك.
المسألة الثالثة: العرب تقول للمملوك فتى وللمملوكة فتاة، قال تعالى: * (فلما جاوزا قال لفتاه) * (الكهف: 62) وقال: * (تراود فتاها) * (يوسف: 30) وقال: * (فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) * (النساء: 25) وفي الحديث
220

" ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي ".
المسألة الرابعة: البغاء الزنا يقال بغت تبغي بغاء فهي بغي.
المسألة الخامسة: الذي نقول به أن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، والدليل عليه اتفاق أهل اللغة على أن كلمة إن للشرط واتفاقهم على أن الشرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه، ومجموع هاتين المقدمتين النقليتين، يوجب الحكم بأن المعلق بكلمة إن على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء، واحتج المخالف بهذه الآية فقال إنه سبحانه علق المنع من الإكراه على البغاء على إرادة التحصن بكلمة إن فلو كان الأمر كما ذكرتموه لزم أن لا ينتفي المنع من الإكراه على الزنا إذا لم توجد إرادة التحصن وذلك باطل، فإنه سواء وجدت إدارة التحصن أو لم توجد فإن المنع من الإكراه على الزنا حاصل والجواب: لا نزاع أن ظاهر الآية يقتضي جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن ولكنه فسد ذلك لامتناعه في نفسه لأنه متى لم توجد إرادة التحصن في حقها لم تكن كارهة للزنا، وحال كونها غير كارهة للزنا يمتنع إكراهها على الزنا فامتنع ذلك لامتناعه في نفسه وذاته، ومن الناس من ذكر فيه جوابا آخر وهو أن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن، والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما أن الخلع يجوز في غير حالة الشقاق ولكن لما كان الغالب وقوع الخلع في حالة الشقاق لا جرم لم يكن لقوله تعالى: * (فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * مفهوم ومن هذا القبيل قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * (النساء: 101) والقصر لا يختص بحال الخوف ولكنه سبحانه أجراه على سبيل الغالب، فكذا ههنا والجواب: الثالث معناه إذا أردن تحصنا لأن القصة التي وردت الآية فيها كانت كذلك على ما روينا أن جارية عبد الله بن أبي أسلمت وامتنعت عليه طلبا للعفاف فأكرهها فنزلت الآية موافقة لذلك، نظيره قوله تعالى: * (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) * (البقرة: 23) أي وإذا كنتم في ريب.
المسألة السادسة: أنه تعالى لما منع من إكراههن على الزنا ففيه ما يدل على أن لهم إكراههن على النكاح فليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها بل له أن يكرهها على ذلك وهذه الدلالة دلالة دليل الخطاب.
أما قوله * (إن أردن تحصنا) * أي تعففا * (لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) * يعني كسبهن وأولادهن.
أما قوله: * (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) * فاعلم أنه ليس في الآية (بيان) أنه تعالى غفور رحيم للمكره أو للمكرهة لا جرم ذكروا فيه وجهين: أحدهما: فإن الله غفور رحيم بهن، لأن الإكراه أزال الإثم والعقوبة، لأن الإكراه عذر للمكرهة، أما المكره فلا عذر له فيما فعل الثاني: المراد فإن الله غفور رحيم بالمكره بشرط التوبة وهذا ضعيف لأن على التفسير
221

الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار، وعلى التفسير الثاني يحتاج إليه.
قوله تعالى
* (ولقد أنزلنآ إليكم ءايات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين) *.
اعلم أنه سبحانه لما ذكر في هذه السورة هذه الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاثة: أحدها: قوله: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) * أي مفصلات، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم مبينات بكسر الياء على معنى أنها تبين للناس كما قال: * (بلسان عربي مبين) * (الشعراء: 19) أو تكون من بين بمعنى تبين، ومنه المثل: قد بين الصبح لذي عينين وثانيها: قوله: * (ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) * وفيه وجهان: أحدهما: أنه تعالى يريد بالمثل ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود فأنزل في القرآن مثله، وهو قول الضحاك والثاني: قوله: * (ومثلا) * أي شبها من حالهم بحالكم في تكذيب الرسل، يعني بينا لكم ما أحللنا بهم من
العقاب لتمردهم على الله تعالى، فجعلنا ذلك مثلا لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب، وهو قول مقاتل وثالثها: قوله: * (وموعظة للمتقين) * والمراد به الوعيد والتحذير من فعل المعاصي ولا شبهة في أنه موعظة للكل، لكنه تعالى خص المتقين بالذكر للعلة التي ذكرناها في قوله: * (هدى للمتقين) * وههنا آخر الكلام في الأحكام. القول في الإلهيات اعلم أنه تعالى ذكر مثلين: أحدهما: في بيان أن دلائل الإيمان في غاية الظهور الثاني: في بيان أن أديان الكفرة في نهاية الظلمة والخفاء.
[بم أما المثل الأول فهو قوله سبحانه وتعالى:
قوله تعالى
* (الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح فى زجاجة الزجاجة كأنها كوكب درى يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدى الله لنوره
222

من يشآء ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شىء عليم) *.
اعلم أن الكلام في هذه الآية مرتب على فصول: الفصل الأول في إطلاق اسم النور على الله تعالى اعلم أن لفظ النور موضوع في اللغة لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على الأرض والجدران وغيرهما، وهذه الكيفية يستحيل أن تكون إلها لوجوه: أحدها: أن هذه الكيفية إن كانت عبارة عن الجسم كان الدليل الدال على حدوث الجسم دالا على حدوثها، وإن كانت عرضا فمتى ثبت حدوث جميع الأعراض القائمة به ولكن هذه المقدمة إنما تثبت بعد إقامة الدلالة على أن الحلول على الله تعالى محال وثانيها: أنا سواء قلنا النور جسم أو أمر حال في الجسم فهو منقسم، لأنه إن كان جسما فلا شك في أنه منقسم، وإن كان حالا فيه، فالحال في المنقسم منقسم، وعلى التقديرين فالنور منقسم وكل منقسم فإنه يفتقر في تحققه إلى تحقق أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره، وكل مفتقر فهو في تحققه مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته محدث بغيره، فالنور محدث فلا يكون إلها وثالثها: أن هذا النور المحسوس لو كان هو الله لوجب أن لا يزول هذا النور لامتناع الزوال على الله تعالى ورابعها: أن هذا النور المحسوس يقع بطلوع الشمس والكواكب. وذلك على الله محال وخامسها: أن هذه الأنوار لو كانت أزلية لكانت إما أن تكون متحركة أو ساكنة، لا جائز أن تكون متحركة لأن الحركة معناها الانتقال من مكان إلى مكان فالحركة مسبوقة بالحصول في المكان الأول. والأزلي يمتنع أن يكون مسبوقا بالغير فالحركة الأزلية محال. ولا جائز أن تكون ساكنة لأن السكون لو كان أزليا لكان ممتنع الزوال لكن السكون جائز الزوال، لأنا نرى الأنوار تنتقل من مكان إلى مكان فدل ذلك على حدوث الأنوار وسادسها: أن النور إما أن يكون جسما أو كيفية قائمة بالجسم، والأول محال لأنا قد نعقل الجسم جسما مع الذهول عن كونه نيرا ولأن الجسم قد يستنير بعد أن كان مظلما فثبت الثاني لكن الكيفية القائمة بالجسم محتاجة إلى الجسم، والمحتاج إلى الغير لا يكون إلها، وبمجموع هذه الدلائل يبطل قول المانوية الذين يعتقدون أن الإله سبحانه هو النور الأعظم. وأما المجسمة المعترفون بصحة القرآن فيحتج على فساد قولهم بوجهين: الأول: قوله: * (ليس كمثله شيء) * (الشورى: 11) ولو كان نورا لبطل ذلك لأن الأنوار كلها متماثلة الثاني: أن قوله تعالى: * (مثل نوره) * صريح في أنه ليس ذاته نفس النور بل النور مضاف إليه. وكذا قوله: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * فإن قيل قوله: * (الله نور السماوات) * يقتضي ظاهره أنه في ذاته نور. وقوله: * (مثل نوره) * يقتضي أن لا يكون هو في ذاته نورا وبينهما تناقض، قلنا نظير هذه الآية قولك زيد
223

كرم وجود، ثم تقول ينعش الناس بكرمه وجوده، وعلى هذا الطريق لا تناقض الثالث: قوله سبحانه وتعالى: * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1) وذلك صريح في أن ماهية النور مجعولة لله تعالى فيستحيل أن يكون الإله نورا، فثبت أنه لا بد من التأويل، والعلماء ذكروا فيه وجها: أحدها: أن النور سبب للظهور والهداية لما شاركت النور في هذا النور في هذا المعنى صح إطلاق اسم النور على الهداية وهو كقوله تعالى: * (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * (البقرة: 257).
وقوله: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) * (الأنعام: 122) وقال: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * (الشورى: 52) فقوله: * (الله نور السماوات والأرض) * أي ذو نور السماوات والأرض والنور هو الهداية ولا تحصل إلا لأهل السماوات، والحاصل أن المراد الله هادي أهل السماوات والأرض وهو قول ابن عباس والأكثرين رضي الله عنهم وثانيها: المراد أنه مدبر السماوات والأرض بحكمة بالغة وحجة نيرة فوصف نفسه بذلك كما يوصف الرئيس العالم بأنه نور البلد، فإنه إذا كان مدبرهم تدبيرا حسنا فهو لهم كالنور الذي يهتدى به إلى مسالك الطرق، قال جرير: وأنت لنا نور وغيث وعصمة (c)
وهذا اختيار الأصم والزجاج وثالثها: المراد ناظم السماوات والأرض على الترتيب الأحسن فإنه قد يعبر بالنور على النظام، يقال ما أرى لهذا الأمر نورا ورابعها: معناه منور السماوات والأرض ثم ذكروا في هذا القول ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منور السماء بالملائكة والأرض بالأنبياء والثاني: منورها بالشمس والقمر والكواكب والثالث: أنه زين السماء بالشمس والقمر والكواكب وزين الأرض بالأنبياء والعلماء، وهو مروي عن أبي بن كعب والحسن وأبي العالية والأقرب هو القول الأول لأن قوله في آخر الآية: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * يدل على أن المراد بالنور الهداية إلى العلم والعمل. واعلم أن الشيخ الغزالي رحمه الله صنف في تفسير هذه الآية الكتاب المسمى بمشكاة الأنوار، وزعم أن الله نور في الحقيقة بل ليس النور إلا هو، وأنا أنقل محصل ما ذكره مع زوائد كثيرة تقوي كلامه ثم ننظر في صحته وفساده على سبيل الإنصاف فقال: اسم النور إنما وضع للكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ظواهر هذه الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الثوب ونور السراج على الحائط، ومعلوم أن هذه الكيفية إنما اختصت بالفضيلة والشرف لأن المرئيات تصير بسببها ظاهرة منجلية، ثم من المعلوم أنه كما يتوقف
إدراك هذه المرئيات على كونها مستنيرة فكذا يتوقف على وجود العين الباصرة إذ المرئيات بعد استنارتها لا تكون ظاهرة في حق العميان فقد ساوى الروح الباصرة النور الظاهرة في كونه ركنا لا بد منه للظهور، ثم يرجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك، وأما النور الخارج فليس بمدرك ولا به الإدراك بل عنده الإدراك، فكان وصف الإظهار بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر فلا جرم أطلقوا
224

اسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعف نور بصره. وفي الأعمى إنه فقد نور البصر. إذا ثبت هذا فنقول إن للإنسان بصرا وبصيرة فالبصر هو العين الظاهرة المدركة للأضواء والألوان، والبصيرة هي القوة العاقلة وكل واحد من الإدراكين يقتضي ظهور المدرك، فكل واحد من الإدراكين نور إلا أنهم عددوا لنور العين عيوبا لم يحصل شيء منها في نور العقلي، والغزالي رحمه الله ذكر منها سبعة، ونحن جعلناها عشرين الأول: أن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها، أما أنها لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها فلأن القوة الباصرة وإدراك القوة الباصرة ليسا من الأمور المبصرة بالعين الباصرة، وأما آلتها فهي العين، والقوة الباصرة بالعين لا تدرك العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب والدماغ، فثبت أن نور العقل أكمل من نور البصر الثاني: أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات والقوة العاقلة تدركها، ومدرك الكليات وهو القلب أشرف من مدرك الجزئيات، أما أن القوة الباصرة لا تدرك الكليات فلأن القوة الباصرة لو أدركت كل ما في الوجود فهي ما أدركت الكل لأن الكل عبارة عن كل ما يمكن دخوله في الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل، وأما أن القوة العاقلة تدرك الكليات فلأنا نعرف أن الأشخاص الإنسانية مشتركة في الإنسانية ومتمايزة بخصوصياتها، وما به المشاركة غير ما به الممايزة، فالإنسانية من حيث هي إنسانية أمر مغاير لهذه المشخصات فقد عقلنا الماهية الكلية، وأما أن إدراك الكليات أشرف فلأن إدراك الكليات ممتنع التغير، وإدراك الجزئيات واجب التغير، ولأن إدراك الكلي يتضمن إدراك الجزئيات الواقعة تحته، لأن ما ثبت للماهية ثبت لجميع أفرادها ولا ينعكس، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الثالث: الإدراك الحسي غير منتج والإدراك العقلي منتج فوجب أن يكون العقل أشرف، أما كون الإدراك الحسي غير منتج فلأن من أحس بشيء لا يكون ذلك الإحساس سببا لحصول إحساس آخر له، بل لو استعمل له الحس مرة أخرى لأحس به مرة أخرى ولكن ذلك لا يكون إنتاج الإحساس لإحساس آخر، وأما أن الإدراك العقلي منتج فلأنا إذا عقلنا أمورا ثم ركبناها في عقولنا توسلنا بتركيبها إلى اكتساب علوم أخرى، وهكذا كل تعقل حاصل فإنه يمكن التوسل به إلى تحصيل تعقل آخر إلى ما لا نهاية له، فثبت أن الإدراك العقلي أشرف الرابع: الإدراك الحسي لا يتسع للأمور الكثيرة والإدراك العقلي، يتسع لها فوجب أن يكون الإدراك العقلي أشرف. أما أن الإدراك الحسي لا يتسع لها فلأن البصر إذا توالى عليه ألوان كثيرة عجز عن تمييزها، فأدرك لونا كأنه حاصل من اختلاط تلك الألوان (و) السمع إذا توالت عليه كلمات كثيرة التبست عليه تلك الكلمات ولم يحصل التمييز، وأما أن الإدراك العقلي متسع لها فلأن كل من كان تحصيله للعلوم أكثر كانت قدرته على كسب الجديد أسهل، وبالعكس وذلك يوجب الحكم بأن الإدراك العقلي أشرف الخامس: القوة الحسية إذا
225

أدركت المحسوسات القوية ففي ذلك الوقت تعجز عن إدراك الضعيفة، فإن من سمع الصوت الشديد ففي تلك الحالة لا يمكنه أن يسمع الصوت الضعيف والقوة العقلية لا يشغلها معقول عن معقول السادس: القوى الحسية تضعف بعد الأربعين، وتضعف عند كثرة الأفكار التي هي موجبا لاستيلاء النفس على البدن الذي هو موجب لخراب البدن، والقوى العقلية تقوى بعد الأربعين وتقوى عند كثرة الأفكار الموجبة لخراب البدن، فدل ذلك على استغناء القوة العقلية عن هذه الآلات واحتياج القوى الحسية إليها السابع: القوة الباصرة لا تدرك المرئي مع القرب القريب ولا مع البعد البعيد، والقوة العقلية لا يختلف حالها بحسب القرب والبعد، فإنها تترقى إلى ما فوق العرش وتنزل إلى ما تحت الثرى في أقل من لحظة واحدة، بل تدرك ذات الله وصفاته مع كونه منزها عن القرب والبعد والجهة فكانت القوة العقلية أشرف الثامن: القوة الحسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها فإذا أدركت الإنسان فهي في الحقيقة ما أدركت الإنسان لأنها ما أدركت إلا السطح الظاهر من جسمه، وإلا اللون القائم بذلك السطح، وبالاتفاق فليس الإنسان عبارة عن مجرد السطح واللون فالقوة الباصرة عاجزة عن النفوذ في الباطن، أما القوة العاقلة فإن باطن الأشياء وظاهرها بالنسبة إليها على السواء فإنها تدرك البواطن والظواهر وتغوص فيها وفي أجزائها، فكانت القوة العاقلة نورا بالنسبة إلى الباطن والظاهر، أما القوة الباصرة فهي بالنسبة إلى الظاهر نور وبالنسبة إلى الباطن ظلمة، فكانت القوة العاقلة أشرف من القوة الباصرة التاسع: أن مدرك القوة العاقلة هو الله تعالى وجميع أفعاله، ومدرك القوة الباصرة هو الألوان والأشكال، فوجب أن تكون نسبة شرف القوة العاقلة إلى شرف القوة الباصرة كنسبة شرف ذات الله تعالى إلى شرف الألوان والأشكال العاشر: القوة العاقلة تدرك جميع الموجودات والمعدومات والماهيات التي هي معروضات الموجودات والمعدومات، ولذلك فإن أول حكمه أن الوجود والعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، وذلك مسبوق لا محالة بتصور مسمى الوجود ومسمى العدم فكأنه بهذين التصورين قد أحاط بجميع الأمور من بعض الوجوه. وأما القوة الباصرة فإنها لا تدرك إلا الأضواء والألوان وهما من أخس عوارض الأجسام والأجسام أخس من الجواهر الروحانية، فكان متعلق القوة الباصرة أخس الموجودات. وأما متعلق القوة العاقلة فهو جميع الموجودات والمعدومات فكانت القوة العاقلة أشرف. الحادي عشر: القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير وتكثير الواحد، والقوة الباصرة لا تقوى على ذلك. أما أن القوة العاقلة تقوى على توحيد الكثير، فذاك لأنها تضم الجنس إلى الفصل فيحدث منهما طبيعة نوعية واحدة، وأما أنها تقوى على تكثير الواحد فلأنها تأخذ الإنسان وهي ماهية واحدة فتقسمها إلى مفهوماتها وإلى عوارضها اللازمة وعوارضها المفارقة، ثم تقسم مقوماته إلى الجنس وجنس الجنس، والفصل وفصل الفصل، وجنس الفصل وفصل الجنس،
226

إلى سائر الأجزاء المقومة التي لا تعد من الأجناس ولا من الفصول، ثم لا تزال تأتي بهذا لتقسيم في كل واحد من هذه الأقسام حتى تنتهي من تلك المركبات إلى البسائط الحقيقية، ثم تعتبر في العوارض اللازمة أن تلك العوارض مفردة أو مركبة ولازمة بوسائط أو بوسط، أو بغير وسط، فالقوة العاقلة كأنها نفذت في أعماق الماهيات
وتغلغلت فيها وميزت كل واحد من أجزائها عن صاحبه، وأنزلت كل واحد منها في المكان اللائق به. فأما القوة الباصرة فلا تطلع على أحوال الماهيات، بل لا ترى إلا أمرا واحدا ولا تدري ما هو وكيف هو، فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثاني عشر: القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية، والقوة الحاسة لا تقوى على ذلك: بيان الأول من وجوه: الأول: القوة العاقلة يمكنها أن تتوصل بالمعارف الحاضرة إلى استنتاج المجهولات، ثم إنها تجعل تلك النتائج مقدمات في نتائج أخرى لا إلى نهاية، وقد عرفت أن القوة الحاسة لا تقوى على الاستنتاج أصلا الثاني: أن القوة العاقلة تقوى على تعقل مراتب الأعداد ولا نهاية لها الثالث: أن القوة العاقلة يمكنها أن تعقل نفسها، وأن تعقل أنها عقلت وكذا إلى غير النهاية الرابع: النسب والإضافات غير متناهية وهي معقولة لا محسوسة فظهر أن القوة العاقلة أشرف الثالث عشر: الإنسان بقوته العاقلة يشارك الله تعالى في إدراك الحقائق وبقوته الحاسة يشارك البهائم، والنسبة معتبرة فكانت القوة العاقلة أشرف الرابع عشر: القوة العاقلة غنية في إدراكها العقلي عن وجود المعقول في الخارج، والقوة الحاسة محتاجة في إدراكها الحسي إلى وجود المحسوس في الخارج، والغني أشرف من المحتاج. الخامس عشر: هذه الموجودات الخارجية ممكنة لذواتها وأنها محتاجة إلى الفاعل، والفاعل لا يمكنه الإيجاد على سبيل الاتقان إلا بعد تقدم العلم، فإذن وجود هذه الأشياء في الخارج تابع للإدراك العقلي، وأما الإحساس بها فلا شك أنه تابع لوجودها في الخارج، فإذن القوة الحساسة تبع لتبع القوة العاقلة السادس عشر: القوة العاقلة غير محتاجة في العقل إلى الآلات بدليل أن الإنسان لو اختلت حواسه الخمس، فإنه يعقل أن الواحد نصف الاثنين، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية. وأما القوة الحساسة فإنها محتاجة إلى آلات كثيرة، والغني أفضل من المحتاج، السابع عشر: الإدراك البصري لا يحصل إلا للشيء الذي في الجهات، ثم إنه غير متصرف في كل الجهات بل لا يتناول إلا المقابل أو ما هو في حكم المقابل، واحترزنا بقولنا في حكم المقابل عن أمور أربعة: الأول: العرض فإنه ليس بمقابل لأنه ليس في المكان، ولكنه في حكم المقابل لأجل كونه قائما بالجسم الذي هو مقابل الثاني: رؤية الوجه في المرآة، فإن الشعاع يخرج من العين إلى المرآة، ثم يرتد منها إلى الوجه فيصير الوجه مرئيا، وهو من هذا الاعتبار كالمقابل لنفسه. الثالث: رؤية الإنسان قفاه إذا جعل إحدى المرآتين محاذية لوجهه والأخرى لقفاه. والرابع: رؤية ما لا يقابل بسبب انعطاف الشعاع في الرطوبات ما هو مشروح في كتاب المناظر وأما
227

القوة العاقلة فإنها مبرأة عن الجهات، فإنها تعقل الجهة والجهة ليست في الجهة، ولذلك تعقل أن الشيء إما أن يكون في الجهة، وإما أن لا يكون في الجهة، وهذا الترديد لا يصح إلا بعد تعقل معنى قولنا ليس في الجهة. الثامن عشر: القوة الباصرة تعجز عند الحجاب، وأما القوة العاقلة فإنها لا يحجبها شيء أصلا فكانت أشرف. التاسع عشر: القوة العاملة كالأمير، والحاسة كالخادم والأمير أشرف من الخادم، وتقرير (الفرق بين) الإمارة والخدمة مشهور. العشرون: القوة الباصرة قد تغلط كثيرا فإنها قد تدرك المتحرك ساكنا وبالعكس، كالجالس في السفينة، فإنه قد يدرك السفينة المتحركة ساكنة والشط الساكن متحركا، ولولا العقل لما تميز خطأ البصر عن صوابه، والعقل حاكم والحس محكوم، فثبت بما ذكرنا أن الإدراك العقل أشرف من الإدراك البصري، وكل واحد من الإدراكين يقتضي الظهور الذي هو أشرف خواص النور، فكان الإدراك العقلي أولى بكونه نورا من الإدراك البصري، وإذا ثبت هذا فنقول هذه الأنوار العقلية قسمان: أحدهما: واجب الحصول عند سلامة الأحوال وهي التعقلات الفطرية والثاني: ما يكون مكتسبا وهي التعقلات النظرية أما الفطرية فليست هي من لوازم جوهر الإنسان لأنه حال الطفولية لم يكن عالما البتة فهذه الأنوار الفطرية إنما حصلت بعد أن لم تكن فلا بد لها من سبب وأما النظريات فمعلوم أن الفطرة الإنسانية قد يعتريها الزيغ في الأكثر وإذا كان كذلك فلا بد من هاد مرشد ولا مرشد فوق كلام الله تعالى وفوق إرشاد الأنبياء، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل بمنزلة نور الشمس عند العين الباصرة إذ به يتم الإبصار، فبالحري أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا، فنور القرآن يشبه نور الشمس ونور العقل يشبه نور العين وبهذا يظهر معنى قوله: * (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا) * (التغابن: 61) وقوله: * (قد جاءكم برهان من ربكم) * (النساء: 174) * (وأنزلنا إليكم نورا مبينا) * (النساء: 174) وإذا ثبت أن بيان الرسول أقوى من نور الشمس وجب أن تكون نفسه القدسية أعظم في النورانية من الشمس، وكما أن الشمس في عالم الأجسام تفيد النور لغيره ولا تستفيده من غيره فكذا نفس النبي صلى الله عليه وسلم تفيد الأنوار العقلية لسائر الأنفس البشرية، ولا تستفيد الأنوار العقلية من شيء من الأنفس البشرية، فلذلك وصف الله تعالى الشمس بأنها سراج حيث قال: * (وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا) * (الفرقان: 61) ووصف محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه سراج منير، إذا عرفت هذا فنقول ثبت بالشواهد العقلية والنقلية أن الأنوار الحاصلة في أرواح الأنبياء مقتبسة من الأنوار الحاصلة في أرواح الملائكة قال تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) * (النحل: 2) وقال: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وقال: * (قل نزله روح القدس من ربك بالحق) * (النحل: 102) وقال تعالى: * (إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى) * (النجم: 4، 5) والوحي لا يكون إلا بواسطة الملائكة فإذا جعلنا أرواح الأنبياء أعظم استنارة من الشمس فأرواح الملائكة التي هي كالمعادن لأنوار عقول الأنبياء لا بد وأن تكون أعظم من أنوار أرواح الأنبياء، لأن السبب لا بد وأن يكون أقوى من المسبب. ثم نقول ثبت أيضا بالشواهد العقلية والنقلية أن الأرواح السماوية مختلفة فبعضها مستفيدة وبعضها
228

مفيدة، قال تعالى في وصف جبريل عليه السلام: * (مطاع ثم أمين) * (التكوير: 21) وإذا كان هو مطاع الملائكة فالمطيعون لا بد وأن يكونوا تحت أمره وقال: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) وإذا ثبت هذا فالمفيد أولى بأن يكون نورا من المستفيد للعلة المذكورة ولمراتب الأنوار في عالم الأرواح مثال وهو أن ضوء الشمس إذا وصل إلى القمر ثم دخل في كوة بيت ووقع على مرآة منصوبة على حائط ثم انعكس منها إلى حائط آخر نصب عليه مرآة أخرى ثم انعكس منها إلى طست مملوء من الماء موضوع على الأرض انعكس منه إلى سقف البيت فالنور الأعظم في الشمس التي هي المعدن، وثانيا في القمر، وثالثا ما وصل إلى المرآة الأولى، ورابعا ما وصل إلى المرآة الثانية، وخامسا ما وصل إلى الماء، وسادسا ما وصل إلى السقف، وكل ما كان أقرب إلى المنبع الأول فإنه أقوى مما هو أبعد منه فكذا
الأنوار السماوية لما كانت مرتبة لا جرم كان نور المفيد أشد إشراقا من نور المستفيد، ثم تلك الأنوار لا تزال تكون مترقية حتى تنتهي إلى النور الأعظم والروح الذي هو أعظم الأرواح منزلة عند الله الذي هو المراد من قوله سبحانه: * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا) * (النبأ: 38) ثم نقول لا شك أن هذه الأنوار الحسية إن كانت سفلية كانت كأنوار النيران أو علوية كانت كأنوار الشمس والقمر والكواكب، وكذا الأنوار العقلية سفلية كانت كالأرواح السفلية التي للأنبياء والأولياء أو علوية كالأرواح العلوية التي هي الملائكة، فإنها بأسرها ممكنة لذواتها والممكن لذاته يستحق العدم من ذاته والوجود من غيره، والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور، فكل ما سوى الله مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى، فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلا بإظهاره، وخاصة النور إعطاء الإظهار والتجلي والانكشاف، وعند هذا يظهر أن النور المطلق هو الله سبحانه وأن إطلاق النور على غيره مجاز إذ كل ما سوى الله، فإنه من حيث هو هو ظلم محضة لأنه من حيث إنه هو عدم محض، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات، لأنها من حيث هي هي ممكنات، والممكن من حيث هو هو معدوم، والمعدوم مظلم. فالنور إذا نظر إليه من حيث هو هو ظلمة، فأما إذا التفت إليها من حيث أن الحق سبحانه أفاض عليها نور الوجود فبهذا الاعتبار صارت أنوارا. فثبت أنه سبحانه هو النور. وأن كل ما سواه فليس بنور إلا على سبيل المجاز. ثم إنه رحمه الله تكلم بعد هذا في أمرين: الأول: أنه سبحانه لم أضاف النور إلى السماوات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السماوات والأرض مشحونة بالأنوار العقلية والأنوار الحسية، أما الحسية فما يشاهد في السماوات من الكواكب والشمس والقمر وما يشاهد في الأرض من الأشعة المنبسطة على سطوح الأجسام حتى ظهرت به الألوان المختلفة، ولولاها لم يكن للألوان ظهور بل وجود، وأما الأنوار العقلية فالعالم الأعلى مشحون بها وهي جواهر الملائكة والعالم الأسفل
229

مشحون بها وهي القوى النباتية والحيوانية والإنسانية وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهور نظام عالم العلو، وهو المعنى بقوله تعالى: * (ليستخلفنهم في الأرض) * (النور: 55) وقال: * (ويجعلكم خلفاء الأرض) * (النمل: 62) فإذا عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنية العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج فإن السراج هو الروح النبوي، ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور، وأن العلويات مقتبسة بعضها من بعض وأن بينها ترتيبا في المقامات، ثم ترتقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول، وأن ذلك هو الله وحده لا شريك له، فإذن الكل نوره فلهذا قال: * (الله نور السماوات والأرض) *.
السؤال الثاني: فإذا كان الله النور فلم احتيج في إثباته إلى البرهان؟ أجاب فقال إن معنى كونه نور السماوات والأرض معروف بالنسبة إلى النور الظاهر البصري، فإذا رأيت خضرة الربيع في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان فربما ظننت أنك لا ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة إلا أنك عند غروب الشمس تدرك تفرقة ضرورية بين اللون حال وقوع الضوء عليه وعدم وقوعه عليه، فلا جرم تعرف أن النور معنى غير اللون يدرك مع الألوان إلا أنه كان لشدة اتحاده به لا يدرك ولشدة ظهوره يختفي وقد يكون الظهور سبب الخفاء، إذا عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله ونوره حاصل مع كل شيء لا يفارقه، ولكن بقي ههنا تفاوت وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس، ويحجب فحينئذ يظهر أنه غير اللون، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره فيبقى مع الأشياء دائما، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة، ولو تصورت غيبته لانهدمت السماوات والأرض ولأدرك عنده من التفرقة ما يحصل العلم الضروري به، ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وجود خالقها، وأن كل شيء يسبح بحمده لا بعض الأشياء، وفي جميع الأوقات لا في بعض الأوقات ارتفعت التفرقة وخفي الطريق، إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له بتشابه أحواله، فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة ظهوره وجلائه، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره واحتجب عنهم بإشراق نوره، واعلم أن هذا الكلام الذي رويناه عن الشيخ الغزالي رحمه الله كلام مستطاب ولكن يرجع حاصله بعد التحقيق إلى أن معنى كونه سبحانه نورا أنه خالق للعالم وأنه خالق للقوى الدراكة، وهو المعنى من قولنا معنى كونه نور السماوات والأرض أنه هادي أهل السماوات والأرض، فلا تفاوت بين ما قاله وبين الذي نقلناه عن المفسرين في المعنى والله أعلم.
الفصل الثاني: في تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: " إن لله سبعين حجابا من نور
230

وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره " وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا، فأقول: لما ثبت أن الله سبحانه وتعالى متجل في ذاته لذاته كان الحجاب بالإضافة إلى المحجوب لا محالة والمحجوب لا بد وأن يكون محجوبا، إما بحجاب مركب من نور وظلمة، وإما بحجاب مركب من نور فقط، أو بحجاب مركب من ظلمة فقط، أما المحجوبون بالظلمة المحضة فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لم يلتفت خاطرهم إلى أنه هل يمكن الاستدلال بوجود هذه المحسوسات على وجود واجب الوجود أم لا؟ وذلك لأنك قد عرفت أن ما سوى الله تعالى من حيث هو هو مظلم، وإنما كان مستنيرا من حيث استفاد النور من حضرة الله تعالى، فمن اشتغل بالجسمانيات من حيث هي هي وصار ذلك الاشتغال حائلا له عن الالتفات إلى جانب النور كان حجابه محض الظلمة، ولما كانت أنواع الاشتغال بالعلائق البدنية خارجة عن الحد والحصر فكذا أنواع الحجب الظلمانية خارجة عن الحد والحصر. القسم الثاني: المحجوبون بالحجب الممزوجة من النور والظلمة اعلم أن من نظر إلى هذه المحسوسات فإما أن يعتقد فيها أنها غنية عن المؤثر، أو يعتقد فيها أنها محتاجة، فإن اعتقد أنها غنية فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة * (أما النور) * فلأنه تصور ماهية الاستغناء عن الغير، وذلك من صفات جلال الله تعالى وهو من صفات النور * (وأما الظلمة) * فلأنه اعتقد حصول ذلك
الوصف في هذه الأجسام مع أن ذلك الوصف لا يليق بهذا الوصف وهذا ظلمة، فثبت أن هذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، ثم أصناف هذا القسم كثيرة، فإن من الناس من يعتقد أن الممكن غني عن المؤثر، ومنهم من يسلم ذلك لكنه يقول المؤثر فيها طبائعها أو حركاتها أو اجتماعها وافتراقها أو نسبتها إلى حركات الأفلاك أو إلى محركاتها وكل هؤلاء من هذا القسم. القسم الثالث: الحجب النورانية المحضة واعلم أنه لا سبيل إلى معرفة الحق سبحانه إلا بواسطة تلك الصفات السلبية والإضافية ولا نهاية لهذه الصفات ولمراتبها، فالعبد لا يزال يكون مترقيا فيها فإن وصل إلى درجة وبقي فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدرجة حجابا له عن الترقي إلى ما فوقها، ولما كان لا نهاية لهذه الدرجات كان العبد أبدا في السير والانتقال، وأما حقيقته المخصوصة فهي محتجبة عن الكل فقد أشرنا إلى كيفية مراتب الحجب، وأنت تعرف أنه عليه الصلاة والسلام إنما حصرها في سبعين ألفا تقريبا لا تحديدا فإنها لا نهاية لها في الحقيقة. الفصل الثالث في شرح كيفية التمثيل اعلم أنه لا بد في التشبيه من أمرين: المشبه والمشبه به، واختلف الناس ههنا في أن المشبه أي شئ هو؟ وذكروا وجوها: أحدها: وهو قول جمهور المتكلمين ونصره القاضي أن المراد
231

من الهدى التي هي الآيات البينات، والمعنى أن هداية الله تعالى قد بلغت في الظهور والجلاء إلى أقصى الغايات وصارت في ذلك بمنزلة المشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية. وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء، فإن قيل لم شبهه بذلك وقد علمنا أن ضوء الشمس أبلغ من ذلك بكثير، قلنا إنه سبحانه أراد أن يصف الضوء الكامل الذي يلوح وسط الظلمة لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل الذي يظهر فيما بين الظلمات، وهذا المقصود لا يحصل من ضوء الشمس لأن ضوءها إذا ظهر امتلأ العالم من النور الخالص، وإذا غاب امتلأ العالم من الظلمة الخالصة فلا جرم كان ذلك المثل ههنا أليق وأوفق، واعلم أن الأمور التي اعتبرها الله تعالى في هذا المثال مما توجب كمال الضوء فأولها: المصباح لأن المصباح إذا لم يكن في المشكاة تفرقت أشعته، أما إذا وضع في المشكاة اجتمعت أشعته فكانت أكثر إنارة، والذي يحقق ذلك أن المصباح إذا كان في بيت صغير فإنه يظهر من ضوئه أكثر مما يظهر في البيت الكبير وثانيها: أن المصباح إذا كان في زجاجة صافية فإن الأشعة المنفصلة عن المصباح تنعكس من بعض جوانب الزجاجة إلى البعض لما في الزجاجة من الصفاء والشفافية وبسبب ذلك يزداد الضوء والنور، والذي يحقق ذلك أن شعاع الشمس إذا وقع على الزجاجة الصافية تضاعف الضوء الظاهر حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك الضوء، فإن انعكست تلك الأشعة من كل واحد من جوانب الزجاجة إلى الجانب الآخر كثرت الأنوار والأضواء وبلغت النهاية الممكنة وثالثها: أن ضوء المصباح يختلف بحسب اختلاف ما يتقد به، فإذا كان ذلك الدهن صافيا خالصا كانت حالته بخلاف حالته إذا كان كدرا وليس في الأدهان التي توقد ما يظهر فيه من الصفاء مثل الذي يظهر في الزيت فربما يبلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض فيه وشعاع يتردد في أجزائه ورابعها: أن هذا الزيت يختلف بحسب اختلاف شجرته، فإذا كانت لا شرقية ولا غربية بمعنى أنها كانت بارزة للشمس في كل حالاتها يكون زيتونها أشد نضجا، فكان زيته أكثر صفاء وأقرب إلى أن يتميز صفوه من كدره لأن زيادة الشمس تؤثر في ذلك، فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة وتعاونت صار ذلك الضوء خالصا كاملا فيصلح أن يجعل مثلا لهداية الله تعالى وثانيها: أن المراد من النور في قوله: * (مثل نوره) * القرآن ويدل عليه قوله تعالى: * (قد جاءكم من الله نور) * (المائدة: 15) وهو قول الحسن وسفيان بن عيينة وزيد بن أسلم وثالثها: أن المراد هو الرسول لأنه المرشد، ولأنه تعالى قال في وصفه: * (وسراجا منيرا) * (الأحزاب: 46) وهو قول عطاء، وهذان القولان داخلان في القول الأول، لأن من جملة أنواع الهداية إنزال الكتب وبعثة الرسل. قال تعالى في صفة الكتب: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * (الشورى: 52) وقال في صفة الرسل: * (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) * (لنساء: 165) ورابعها: أن المراد منه ما في قلب المؤمنين من معرفة
232

الله تعالى ومعرفة الشرائع، ويدل عليه أن الله تعالى وصف الإيمان بأنه نور والكفر بأنه ظلمة، فقال: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * (الزمر: 22) وقال تعالى: * (ليخرج الناس من الظلمات إلى النور) * وحاصله أنه حمل الهدى على الاهتداء، والمقصود من التمثيل أن إيمان المؤمن قد بلغ في الصفاء عن الشبهات، والامتياز عن ظلمات الضلالات مبلغ السراج المذكور، وهو قول أبي ابن كعب وابن عباس، قال أبي: مثل نور المؤمن، وهكذا كان يقرأ، وقيل إنه كان يقرأ: مثل نور من آمن به، وقال ابن عباس: مثل نوره في قلب المؤمن وخامسها: ما ذكره الشيخ الغزالي رحمه الله وهو: أنا بينا أن القوى المدركة أنوار، ومراتب القوى المدركة الإنسانية خمسة أحدها: القوة الحساسة، وهي التي تتلقى ما تورده الحواس الخمس وكأنها أصل الروح الحيواني، وأوله إذ به يصير الحيوان حيوانا وهو موجود للصبي الرضيع وثانيها: القوة الخيالية وهي التي تستثبت ما أورده الحواس وتحفظه مخزونا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه. وثالثها: القوة العقلية المدركة للحقائق الكلية ورابعها: القوة الفكرية وهي التي تأخذ المعارف العقلية فتؤلفها تأليفا فتستنتج من تأليفها علما بمجهول وخامسها: القوة القدسية التي تختص بها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبعض الأولياء، وتتجلى فيها لوائح الغيب وأسرار الملكوت وإليه الإشارة بقوله تعالى: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * (والشورى: 52) وإذا عرفت هذه القوى فهي بجملتها أنوار، إذ بها تظهر أصناف الموجودات، وأن هذه المراتب الخمسة يمكن تشبيهها بالأمور الحسنة التي ذكرها الله تعالى وهي: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت. أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من عدة أثقب كالعينين والأذنين والمنخرين وأوفق مثال له من عالم الأجسام المشكاة وأما الثاني: وهو الروح الحيالي فنجد له خواص ثلاثة: الأولى: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف لأن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحيز، ومن شأن العلائق الجسمانية أن تحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي هي التعقلات الكلية المجردة والثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفا ورق وهذب صار موازنا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها وغير حائل عن إشراق نورها، ولذلك فإن المعبر يستدل بالصور الخيالية على المعاني العقلية، كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس
وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح والثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جدا ليضبط بها المعارف العقلية ولا تضطرب، فنعم المثالات الخيالية الجالبة للمعارف العقلية، وأنت لا تجد شيئا في الأجسام يشبه الخيال في هذه الصفات الثلاثة إلا الزجاجة، فإنها في الأصل من جوهر كثيف ولكن صفا ورق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه على الانطفاء بالرياح العاصفة وأما الثالث: وهو القوة العقلية فهي القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف
233

الإلهية، فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح، وقد عرفت هذا حيث بينا كون الأنبياء سرجا منيرة وأما الرابع: وهو القوة الفكرية فمن خواصها أنها تأخذ ماهية واحدة، ثم تقسمها إلى قسمين كقولنا الموجود إما واجب وإما ممكن، ثم تجعل كل قسم مرة أخرى قسمين وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم تقضي بالآخرة إلى نتائج وهي ثمراتها، ثم تعود فتجعل تلك الثمرات بذورا لأمثالها حتى تتأدى إلى ثمرات لا نهاية لها، فبالحري أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة، وإذا كانت ثمارها مادة لتزايد أنوار المعارف ونباتها، فبالحري أن لا يمثل بشجرة السفرجل والتفاح، بل بشجرة الزيتون خاصة، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، وله من بين سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان، وإذا كانت الماشية التي يكثر درها ونسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالذي لا يتناهى إلى حد محدود أولى أن يسمى شجرة مباركة، وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام، فبالحري أن تكون لا شرقية ولا غربية وأما الخامس: وهو القوة القدسية النبوية فهي في نهاية الشرف والصفاء، فإن القوة الفكرية تنقسم إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه وإلى ما لا يحتاج إليه، ولا بد من وجود هذا القسم قطعا للتسلسل، فبالحري أن يعبر عن هذا القسم بكماله وصفائه وشدة استعداده بأنه يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فهذا المثال موافق لهذا القسم، ولما كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحس هو الأول وهو كالمقدمة للخيال والخيال كالمقدمة للعقل، فبالحري أن تكون المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح وسادسها: ما ذكره أبو علي بن سينا فإنه نزل هذه الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية، فقال لا شك أن النفس الإنسانية قابلة للمعارف الكلية والإدراكات المجردة، ثم إنها في أول الأمر تكون خالية عن جميع هذه المعارف فهناك تسمى عقلا هيوليا وهي المشكاة وفي المرتبة الثانية: يحصل فيها العلوم البديهية التي يمكن التوصل بتركيباتها إلى اكتساب العلوم النظرية، ثم إن أمكنة الانتقال إن كانت ضعيفة فهي الشجرة، وإن كانت أقوى من ذلك فهي الزيت، وإن كانت شديدة القوة جدا فهي الزجاجة التي تكون كأنها الكوكب الدري، وإن كانت في النهاية القصوى وهي النفس القدسية التي للأنبياء فهي التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار وفي المرتبة الثالثة: يكتسب من العلوم الفطرية الضرورية العلوم النظرية إلا أنها لا تكون حاضرة بالفعل ولكنها تكون بحيث متى شاء صاحبها استحضارها قدر عليه وهذا يسمى عقلا بالفعل وهذا المصباح وفي المرتبة الرابعة: أن تكون تلك المعارف الضرورية والنظرية حاصلة بالفعل ويكون صاحبها كأنه ينظر إليها وهذا يسمى عقلا مستفادا وهو نور على نور لأن الملكة نور وحصول ما عليه الملكة نور آخر، ثم زعم أن هذه العلوم التي تحصل في الأرواح البشرية، إنما تحصيل من جوهر روحاني يسمى بالعقل الفعال وهو مدبر ما تحت كرة القمر وهو النار وسابعها: قول بعض الصوفية هو أنه سبحانه شبه الصدر بالمشكاة والقلب
234

بالزجاجة والمعرفة بالمصباح، وهذا المصباح إنما توقد من شجرة مباركة وهي إلهامات الملائكة لقوله تعالى: * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وقوله: * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193) وإنما شبه الملائكة بالشجرة المباركة لكثرة منافعهم، وإنما وصفها بأنها لا شرقية ولا غربية لأنها روحانية وإنما وصفهم بقوله: * (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) * لكثرة علومها وشدة إطلاعها على أسرار ملكوت الله تعالى والظاهر ههنا أن المشبه غير المشبه به وثامنها: قال مقاتل مثل نوره أي مثل نور الإيمان في قلب محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة فيها مصباح، فالمشكاة نظير صلب عبد الله والزجاجة نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والمصباح نظير الإيمان في قلب محمد أو نظير النبوة في قلبه وتاسعها: قال قوم المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام والزجاجة نظير إسماعيل عليه السلام والمصباح نظير جسد محمد صلى الله عليه وسلم والشجرة النبوة والرسالة وعاشرها: أن قوله مثل نوره يرجع إلى المؤمن وهو قول أبي بن كعب وكان يقرأها مثل نور المؤمن، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك، واعلم أن القول الأول هو المختار لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات) * فإذا كان المراد بقوله: * (مثل نوره) * أي مثل هذه وبيانه كان ذلك مطابقا لما قبله، ولأن لما فسرنا قوله: * (الله نور السماوات والأرض) * بأنه هادي أهل السماوات والأرض فإذا فسرنا قوله: * (مثل نوره) * بأن المراد مثل هداه كان ذلك مطابقا لما قبله.
الفصل الرابع - في بقية المباحث المتعلقة بهذه الآية وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة، هذا هو القول المشهور، وذكروا فيه وجوها أخر: أحدها: قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري المشكاة القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة، وهو قول مجاهد والقرظي والثاني: قال الزجاج هي ههنا قصبة القنديل من الزجاجة التي توضع فيها الفتيلة الثالث: قال الضحاك إنها الحلقة التي يعلق بها القنديل والأول هو الأصح.
المسألة الثانية: زعموا أن المشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، قال الزجاج المشكاة من كلام العرب ومثلها المشكاة وهي الدقيق الصغير.
المسألة الثالثة: قال بعضهم هذه الآية من المقلوب، والتقدير مثل نوره كمصباح في مشكاة لأن المشبه به هو الذي يكون معدنا للنور ومنبعا له وذلك هو المصباح لا المشكاة.
المسألة الرابعة: المصباح السراج وأصله من الضوء ومنه الصبح.
المسألة الخامسة: قرىء * (زجاجة) * الزجاجة بالضم والفتح والكسر، أما * (درى) * فقرئ بضم الدال وكسرها وفتحها، أما الضم ففيه ثلاثة أوجه: الأول: ضم الدال وتشديد الراء والياء من غير همز وهو القراءة المعروفة، ومعناه أنه يشبه الدر لصفائه ولمعانه، وقال عليه الصلاة والسلام: " إنكم لترون أهل الدرجات العلى
كما ترون الكوكب الدري في أفق السماء " الثاني:
235

أنه كذلك إلا أنه بالمد والهمزة وهو قراءة حمزة وعاصم في رواية أبي بكر وصار بعض أهل العربية إلى أنه لحن قال سيبويه وهذا أضعف اللغات وهو مأخوذ من الضوء والتلألؤ وليس بمنسوب إلى الدر، قال أبو علي وجه هذه القراءة أنه فعيل من الدرء بمعنى الدفع وأنه صفة وأنه في الصفة مثل المرئ في الاسم والثالث: ضم الدال وتخفيف الراء والياء من غير مد ولا همز، أما الكسر ففيه وجهان: الأول: درىء بكسر الدال وتشديد الراء والمد والهمز، وهي قراءة أبي عمرو والكسائي قال الفراء هو فعيل من الدرء وهو الدفع كالسكير والفسيق فكان ضوأه يدفع بعضه بعضا من لمعانه الثاني: بكسر الدال وتشديد الراء من غير همز ولا مد وهي قراءة ابن خليد وعتبة بن حماد عن نافع، أما الفتح ففيه وجوه أربعة: الأول: بفتح الدال وتشديد الراء والمد والهمز عن الأعمش الثاني: بفتح الدال وتشديد الراء من غير مد ولا همز عن الحسن ومجاهد وقتادة الثالث: بفتح الدال وتخفيف الراء مهموزا من غير مد ولا ياء عن عاصم الرابع: كذلك إلا أنه غير مهموز وبياء خفيفة بدل الهمزة، أما قوله: * (توقد) * القراءة المعروفة توقد بالفتحات الأربعة مع تشديد القاف بوزن تفعل وعن الحسن ومجاهد وقتادة كذلك إلا أنه يضم الدال، وذكر صاحب " الكشاف " يوقد بفتح الياء المنقوطة من تحت بنقطتين والواو والقاف وتشديدها ورفع الدال قال وحذف التاء لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب، وعن سعيد بن جبير بياء مضمومة وإسكان الواو وفتح القاف مخففة ورفع الدال وعن نافع وحفص كذلك إلا أنه بالتاء، وعن عاصم بياء مضمومة وفتح الواو وتشديد القاف وفتحها، وعن أبي عمرو كذلك إلا أنه بالتاء، وعن طلحة توقد بتاء مضمومة وواو ساكن وكسر القاف وتخفيفها.
المسألة السادسة: قوله: * (كأنها كوكب دري) * أي ضخم مضيء ودراري النجوم عظامها، واتفقوا على أن المراد به كوكب من الكواكب المضيئة كالزهرة والمشتري والثوابت التي في العظم الأول.
المسألة السابعة: قوله: * (من شجرة مباركة) * أي من زيت شجرة مباركة أي كثيرة البركة والنفع، وقيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقد بارك فيها سبعون نبيا، منهم الخليل، وقيل المراد زيتون الشام، لأنها هي الأرض المباركة فلهذا جعل الله هذه شجرة مباركة.
المسألة الثامنة: اختلفوا في معنى وصف الشجرة بأنها لا شرقية ولا غربية على وجوه: أحدها: قال الحسن إنها شجرة الزيت من الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية وهذا ضعيف لأنه تعالى إنما ضرب المثل بما شاهدوه وهم ما شاهدوا شجرة الجنة وثانيها: أن المراد شجرة الزيتون في الشام لأن الشام وسط الدنيا فلا يوصف شجرها بأنها شرقية أو غربية وهذا أيضا ضعيف لأن من قال الأرض كرة لم يثبت المشرق والمغرب موضعين معينين بل لكل بلد مشرق ومغرب على حدة، ولأن المثل مضروب لكل من يعرف الزيت، وقد يوجد في
236

غير الشام كوجوده فيها وثالثها: أنها شجرة تلتف بها الأشجار فلا تصيبها الشمس في شرق ولا غرب، ومنهم من قال هي شجرة يلتف بها ورقها التفافا شديدا فلا تصل الشمس إليها سواء كانت الشمس شرقية أو غربية، وليس في الشجر ما يورق غصنه من أوله إلى آخره مثل الزيتون والرمان، وهذا أيضا ضعيف لأن الغرض صفاء الزيت وذلك لا يحصل إلا بكمال نضج الزيتون وذلك إنما يحصل في العادة بوصول أثر الشمس إليه لا بعدم وصوله ورابعها: قال ابن عباس المراد الشجرة التي تبرز على جبل عال أو صحراء واسعة فتطلع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة واختيار الفراء والزجاج، قالا ومعناه لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها ولكنها شرقية وغربية وهو كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر ويقيم، وهذا القول هو المختار لأن الشجرة متى كانت كذلك كان زيتها في نهاية الصفاء وحينئذ يكون مقصود التمثيل أكمل وأتم وخامسها: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه والمصباح ما في قلبه صلى الله عليه وسلم من الدين، توقد من شجرة مباركة، يعني واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم صلوات الله عليه فالشجرة هي إبراهيم عليه السلام، ثم وصف إبراهيم فقال لا شرقية ولا غربية أي لم يكن يصلي قبل المشرق ولا قبل المغرب كاليهود والنصارى بل كان عليه الصلاة والسلام يصلي إلى الكعبة.
المسألة التاسعة: وصف الله تعالى زيتها بأنه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رؤي من بعيد يرى كأن له شعاعا، فإذا مسه النار ازداد ضوأ على ضوء، كذلك يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد نورا على نور وهدى على هدى، قال يحيى بن سلام قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له لموافقته له، وهو المراد من قوله عليه الصلاة والسلام: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " وقال كعب الأحبار المراد من الزيت نور محمد صلى الله عليه وسلم أي يكاد نوره يبين للناس قبل أن يتكلم، وقال الضحاك يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم بالحكمة قبل الوحي، وقال عبد الله بن رواحة:
لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بديهته تنبيك بالخبر
المسألة العاشرة: قوله تعالى: * (نور على نور) * المراد ترادف هذه الأنوار واجتماعها، قال أبي بن كعب: المؤمن بين أربع خلال أن أعطى شكر وإن ابتلى صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل، فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين الأموات يتقلب في خمس من النور، كلامه نور وعمله نور ومدخله نور ومخرجه نور ومصيره إلى النور يوم القيامة، قال الربيع سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال سره وعلانيته.
المسألة الحادية عشرة: قال الجبائي دلت الآية على أن كل من جهل فمن قبله أتى وإلا فالأدلة واضحة ولو نظروا فيها لعرفوا، قال أصحابنا هذه الآية صريح مذهبنا فإنه سبحانه بعد أن
237

بين أن هذه الدلائل بلغت في الظهور والوضوح إلى هذا الحد الذي لا يمكن الزيادة عليه، قال: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * يعني وضوح هذه الدلائل لا يكفي ولا ينفع ما لم يخلق الله الإيمان ولا يمكن أن يكون المراد من قوله: * (يهدي الله) * إيضاح الأدلة والبيانات لأنا لو حملنا النور على إيضاح الأدلة لم يجز حمل الهدى عليه
أيضا، وإلا لخرج الكلام عن الفائدة، فلم يبق إلا حمل الهدى ههنا على خلق العلم أجاب أبو مسلم بن بحر عنه من وجهين: الأول: أن قوله: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * محمول على زيادات الهدى الذي هو كالضد للخذلان الحاصل للضال الثاني: أنه سبحانه يهدي لنوره الذي هو طريق الجنة من يشاء وشبهه بقوله: * (يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات) * (الحديد: 12) وزيف القاضي عبد الجبار هذين الجوابين أما الأول: فلأن الكلام المتقدم هو في ذكر الآيات المنزلة فإذا حملناه على الهدى دخل الكل فيه وإذا حملناه على الزيادة لم يدخل فيه إلا البعض، وإذا حمل على طريق الجنة لا يكون داخلا فيه أصلا إلا من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ولما زيف هذين الجوابين، قال الأولى أن يقال إنه تعالى هدى بذلك البعض دون البعض وهم الذين بلغهم حد التكليف.
واعلم أن هذا الجواب أضعف من الجوابين الأولين، لأن قوله: * (يهدي الله لنوره من يشاء) * يفهم منه أن هذه الآيات مع وضوحها لا تكفي، وهذا لا يتناول الصبي والمجنون فسقط ما قالوه. المسألة الثانية عشرة: قوله تعالى: * (ويضرب الله الأمثال للناس) * والمراد للمكلفين من الناس وهو النبي ومن بعث إليه، فإنه سبحانه ذكر ذلك في معرض النعمة العظيمة، واستدلت المعتزلة به فقالوا إنما يكون ذلك نعمة عظيمة لو أمكنهم الانتفاع به، ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع به، وجوابه ما تقدم، ثم بين أنه سبحانه * (بكل شيء عليم) * وذلك كالوعيد لمن لا يعتبر ولا يتفكر في أمثاله ولا ينظر في أدلته فيعرف وضوحها وبعدها عن الشبهات.
238