الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٢٧
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

قوله تعالى
* (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون * واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون * أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هدانى لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لى كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جآءتك ءاياتى فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) *
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بشرح كمال رحمته وفضله وإحسانه في حق العبيد وفيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يعفو عن الكبائر، فقالوا: إنا بينا في هذا الكتاب أن عرف القرآن جار بتخصيص العباد بالمؤمنين قال تعالى: * (وعباد الرحمن
2

الذين يمشون على الأرض هونا (الفرقان: 53) وقال: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6) ولأن لفظ العباد مذكور في معرض التعظيم، فوجب أن لا يقع إلا على المؤمنين، إذا ثبت هذا ظهر أن قوله * (يا عبادي) * مختص بالمؤمنين، ولأن المؤمن هو الذي يعترف بكونه عبد الله، أما المشركون فإنهم يسمون أنفسهم بعبد اللات والعزى وعبد المسيح، فثبت أن قوله * (يا عبادي) * لا يليق إلا بالمؤمنين، إذا ثبت هذا فنقول إنه تعالى قال: * (الذين أسرفوا على أنفسهم) * وهذا عام في حق جميع المسرفين.
ثم قال تعالى: * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * وهذا يقتضي كونه غافرا لجميع الذنوب الصادرة عن المؤمنين، وذلك هو المقصود فإن قيل هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها، وإلا لزم القطع بكون الذنوب مغفورة قطعا، وأنتم لا تقولون به، فما هو مدلول هذه الآية لا تقولون به، والذي تقولون به لا تدل عليه هذه الآية، فسقط الاستدلال، وأيضا إنه تعالى قال عقيب هذه الآية * (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) * إلى قوله * (بغتة وأنتم لا تشعرون) * ولو كان المراد من أول الآية أنه تعالى غفر جميع الذنوب قطعا لما أمر عقيبه بالتوبة، ولما خوفهم بنزول العذاب عليهم من حيث لا يشعرون، وأيضا قال: * (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) * ولو كانت الذنوب كلها مغفورة، فأي حاجة به إلى أن يقول: * (يا حسرتا على فرطت في جنب الله) *؟ وأيضا فلو كان المراد ما يدل عليه ظاهر لفظ الآية لكان ذلك إغراء بالمعاصي وإطلاقا في الإقدام عليها، وذلك لا يليق بحكمة الله، وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن يقال المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن العاصي أنه لا مخلص له من العذاب البتة، فإن من اعتقد ذلك فهو قانط من رحمة الله، إذ لا أحد من العصاة المذنبين إلا ومتى تاب زال عقابه وصار من أهل المغفرة والرحمة، فمعنى قوله * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * أي بالتوبة والإنابة
والجواب قوله الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعا وأنتم لا تقولون به، قلنا بل نحن نقول به ونذهب إليه، وذلك لأن صيغة يغفر صيغة المضارع، وهي للاستقبال، وعندنا أن الله تعالى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، وعلى هذا التقدير فصاحب الكبيرة مغفور له قطعا، إما قبل الدخول في نار جهنم، وإما بعد الدخول فيها، فثبت أن ما يدل عليه ظاهر الآية فهو عين مذهبنا. أما قوله لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة، فالجواب أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم، فإنا لا نقطع بإزالة العقاب بالكلية، بل نقول لعله يعفو مطلقا، ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك، وبهذا الحرف يخرج الجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية تدل على الرحمة من وجوه: الأول: أنه سمى
3

المذنب بالعبد والعبودية مفسرة بالحاجة والذلة والمسكنة، واللائق بالرحيم الكريم إفاضة الخير والرحمة على المسكين المحتاج. الثاني: أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة فقال: * (يا عبادي الذين أسرفوا) * وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب الثالث: أنه تعالى قال: * (أسرفوا على أنفسهم) * ومعناه أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليه بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تلك الذنوب عود مضارها إليهم، ولا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم الرابع: أنه قال: * (لا تقنطوا من رحمة الله) * نهاهم عن القنوط فيكون هذا أمرا بالرجاء والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم الخامس: أنه تعالى قال أولا: * (يا عبادي) * وكان الأليق أن يقول لا تقنطوا من رحمتي لكنه ترك هذا اللفظ وقال: * (لا تقنطوا من رحمة الله) * لأن قولنا الله أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة والفضل السادس: أنه لما قال: * (لا تقنطوا من رحمة الله) * كان الواجب أن يقول إنه يغفر الذنوب جميعا ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم الله وقرن به لفظة إن المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمن السابع: أنه لو قال: * (يغفر الذنوب) * لكان المقصود حاصلا لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال جميعا وهذا أيضا من المؤكدات الثامن: أنه وصف نفسه بكونه غفورا، ولفظ الغفور يفيد المبالغة التاسع: أنه وصف نفسه بكونه رحيما والرحمة تفيد فائدة على المغفرة فكان قوله * (إنه هو الغفور) * إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله * (الرحيم) * إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب العاشر: أن قوله * (إنه هو الغفور الرحيم) * يفيد الحصر، ومعناه أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران، ونسأل الله تعالى الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته.
المسألة الثالثة: ذكروا في سبب النزول وجوها، قيل إنها نزلت في أهل مكة فإنهم قالوا يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس لم يغفر له، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ وقيل نزلت في وحشي قاتل حمزة لما أراد أن يسلم وخاف أن لا تقبل توبته، فلما نزلت الآية أسلم، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه له خاصة أم
للمسلمين عامة؟ فقال بل للمسلمين عامة وقيل نزلت في أناس أصابوا ذنوبا عظاما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام أشفقوا لا يقبل الله توبتهم، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم فتنوا فافتتنوا وكان المسلمون يقولون فيهم لا يقبل الله منهم توبتهم فنزلت هذه الآيات فكتبها عمر، وبعث بها إليهم فأسلموا وهاجروا، واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فنزول هذه الآيات في هذه الوقائع لا يمنع من عمومها. المسألة الرابعة: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم * (يا عبادي) * بفتح الياء والباقون
4

وعاصم في بعض الروايات بغير فتح وكلهم يقفون عليه بإثبات الياء لأنها ثابتة في المصحف، إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء، وقرأ أبو عمرو والكسائي تقنطوا بكسر النون والباقون بفتحها وهما لغتان، قال صاحب " الكشاف "، وفي قراءة ابن عباس، وابن مسعود * (يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء) *.
ثم قال تعالى: " وأنيبوا إلى ربكم) * قال صاحب " الكشاف " أي وتوبوا إليه وأسلموا له أي وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه، وأقول هذا الكلام ضعيف جدا لأن عندنا التوبة عن المعاصي واجبة فلم يلزم من ورود الأمر بها طعن في الوعد بالمغفرة، فإن قالوا لو كان الوعد بالمغفرة حاصلا قطعا لما احتيج إلى التوبة، لأن التوبة إنما تراد لإسقاط العقاب، فإذا سقط العقاب بعفو الله عنه فلا حاجة إلى التوبة، فنقول هذا ضعيف لأن مذهبنا أنه تعالى وإن كان يغفر الذنوب قطعا ويعفو عنها قطعا إلا أن هذا العفو والغفران يقع على وجهين تارة يقع ابتداء وتارة يعذب مدة في النار ثم يخرجه من النار ويعفو عنه، ففائدة التوبة إزالة هذا العقاب، فثبت أن الذي قاله صاحب " الكشاف " ضعيف ولا فائدة فيه.
ثم قال: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * واعلم أنه تعالى لما وعد بالمغفرة أمر بعد هذا الوعد بأشياء فالأول: أمر بالإنابة وهو قوله تعالى: * (وأنيبوا إلى ربكم) * والثاني: أمر بمتابعة الأحسن، وفي المراد بهذا الأحسن وجوه الأول: أنه القرآن ومعناه واتبعوا القرآن والدليل عليه قوله تعالى: * (الله نزل أحسن الحديث كتابا) * (الزمر: 23) الثاني: قال الحسن معناه، والتزموا طاعة الله واجتنبوا معصية الله، فإن الذي أنزل على ثلاثة أوجه، ذكر القبيح ليجتنب عنه، والأدون لئلا يرغب فيه، والأحسن ليتقوى به ويتبع الثالث: المراد بالأحسن الناسخ دون المنسوخ لأن الناسخ أحسن من المنسوخ، لقوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * (البقرة: 106) ولأن الله تعالى لما نسخ حكما وأثبت حكما آخر كان اعتمادنا على المنسوخ.
ثم قال: * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) * والمراد منه التهديد والتخويف والمعنى أنه يفجأ العذاب وأنتم غافلون عنه، واعلم أنه تعالى لما خوفهم بالعذاب بين تعالى أن بتقدير نزول العذاب عليهم ماذا يقولون فحكى الله تعالى عنهم ثلاثة أنواع من الكلمات فالأول: قوله تعالى: * (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله * (أن تقول) * مفعول له أي كراهة أن تقول: * (يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) * وأما تنكير لفظ النفس ففيه وجهان الأول: يجوز أن تراد نفس ممتازة عن سائر النفوس لأجل اختصاصها بمزيد إضرار بما لا ينفي رغبتها في المعاصي والثاني: يجوز أن
5

يراد به الكثرة، وذلك لأنه ثبت في علم أصول الفقه أن الحكم المذكور عقيب وصف يناسبه يفيد الظن بأن ذلك الحكم معلل بذلك الوصف، فقوله * (يا حسرتا) * يدل على غاية الأسف ونهاية الحزن وأنه مذكور عقيب قوله تعالى: * (على ما فرطت في جنب الله) * والتفريط في طاعة الله تعالى يناسب شدة الحسرة وهذا يقتضي حصول تلك الحسرة عند حصول هذا التفريط، وذلك يفيد العموم بهذه الطريقة. المسألة الثانية: القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية، واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت، فلا فائدة في الإعادة، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضوا مخصوصا لله تعالى، فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه، فثبت أنه لا بد من المصير إلى التأويل وللمفسرين فيه عبارات، قال ابن عباس يريد ضيعت من ثواب الله، وقال مقاتل ضيعت من ذكر الله، وقال مجاهد في أمر الله، وقال الحسن في طاعة الله، وقال سعيد بن جبير في حق الله، واعلم أن الإكثار من هذه العبارات لا يفيد شرح الصدور وشفاء الغليل، فنقول: الجنب سمي جنبا لأنه جانب من جوانب ذلك الشيء والشيء الذي يكون من لوازم الشيء وتوابعه يكون كأنه جند من جنوده وجانب من جوانبه فلما حصلت هذه المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب على الحق والأمر والطاعة قال الشاعر: أما تتقين الله جنب وامقله * كبد حرا عليك تقطع
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف " قرىء * (يا حسرتي) * على الأصل و * (يا حسرتاي) * على الجمع بين العوض والمعوض عنه. أما قوله تعالى: * (وإن كنت لمن الساخرين) * أي أنه ما كان مكتفيا بذلك التقصير بل كان من المستهزئين بالدين، قال قتادة لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل * (وإن كنت) * نصب على الحالة كأنه قال: فرطت في جنب الله وأنا ساخر أي فرطت في حال سخريتي. النوع الثاني: من الكلمات التي حكاها الله تعالى عن أهل العذاب أنهم يذكرونه بعد نزول العذاب عليهم قوله * (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) *. النوع الثالث: قوله * (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) * وحاصل الكلام أن هذا المقصر أتى بثلاثة أشياء أولها: الحسرة على التفريط في الطاعة وثانيها: التعلل بفقد الهداية وثالثها: بتمني الرجعة، ثم أجاب الله تعالى عن كلامهم بأن قال بفقد الهداية باطل، لأن الهداية كانت حاصرة والأعذار زائلة، وهو المراد بقوله * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال الزجاج بلى جواب النفي وليس في الكلام لفظ النفي إلا أنه حصل
6

فيه معنى النفي، لأن معنى قوله * (لو أن الله هداني) * أنه ما هداني، فلا جرم حسن ذكر لفظة * (بلى) * بعده.
المسألة الثانية: قال الواحدي رحمه الله: القراءة المشهورة واقعة على التذكير في قوله * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) * لأن النفس تقع على الذكر والأنثى فخوطب بالذكر، وروى الربيع بن أنس عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ على التأنيث، قال أبو عبيد لو صح هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لكان حجة لا يجوز لأحد تركها ولكنه ليس بمسند، لأن الربيع لم يدرك أم سلمة، وأما وجه التأنيث فهو أنه ذكر النفس ولفظ النفس ورد في القرآن في أكثر الأمر على التأنيث بقوله * (سولت لي نفسي) * (طه: 96) و * (إن النفس لأمارة بالسوء) * (يوسف: 53) و * (يا أيتها النفس المطمئنة) * (الفجر: 27).
المسألة الثالثة: قال القاضي هذه الآيات دالة على صحة القول بالقدر من وجوه الأول: أنه لا يقال: فلان أسرف على نفسه على وجه الذم إلا لما يكون من قبله، وذلك يدل على أن أفعال العباد تحصل من قبلهم لا من قبل الله تعالى، وثانيها: أن طلب الغفران والرجاء في ذلك أو اليأس لا يحسن إلا إذا كان الفعل فعل العبد، وثالثها: إضافة الإنابة والإسلام إليه من قبل أن يأتيه العذاب وذلك لا يكون إلا مع تمكنه من محاولتهما مع نزول العذاب، ومذهبهم أن الكافر لم يتمكن قط من ذلك ورابعها: قوله تعالى: * (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * وذلك لا يتم إلا بما هو المختار للاتباع وخامسها: ذمه لهم على أنهم لا يشعرون بما يوجب العذاب وذلك لا يصح إلا مع التمكن من الفعل، وسادسها: قولهم * (يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله) * ولا يتحسر المرء على أمر سبق منه إلا وكان يصح منه أن يفعله، وسابعها: قوله تعالى: * (على ما فرطت في جنب الله) * ومن لا يقدر على الإيمان كما يقول القوم ولا يكون الإيمان من فعله لا يكون مفرطا، وثامنها: ذمه لهم بأنهم من الساخرين، وذلك لا يتم إلا أن تكون السخرية فعلهم وكان يصح منهم أن لا يفعلوه، وتاسعها: قوله * (لو أن الله هداني) * أي مكنني * (لكنت من المتقين) * وعلى هذا قولهم إذا لم يقدر على التقوى فكيف يصح ذلك منه، وعاشرها: قوله * (لو أن لي كرة فأكون من المحسنين) * وعلى قولهم لو رده الله أبدا كرة بعد كرة، وليس فيه إلا قدرة الكفر لم يصح أن يكون محسنا، والحادي عشر: قوله تعالى موبخا لهم * (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) * فبين تعالى أن الحجة عليهم لله لأن الحجة لهم على الله، ولو أن الأمر كما قالوا لكان لهم أن يقولوا: قد جاءتنا الآيات ولكنك خلقت فينا التكذيب بها ولم تقدرنا على التصديق بها. والثاني عشر: أنه تعالى وصفهم بالتكذيب والاستكبار والكفر على وجه الذم ولو لم تكن هذه الأشياء أفعالا لهم لما صح الكلام، والجواب عنه أن هذه الوجوه معارضة، بما أن القرآن مملوء من أن الله تعالى يضل ويمنع ويصدر
7

منه اللين والقسوة والاستدراج، ولما كان هذا التفسير مملوءا منه لم يكن إلى الإعادة حاجة.
قوله تعالى
* (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس فى جهنم مثوى للمتكبرين * وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) *
اعلم أن هذا نوع آخر من تقرير الوعيد والوعد، أما الوعيد فقوله تعالى: * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * وفيه بحثان: أحدهما: أن هذا التكذيب كيف هو؟ والثاني: أن هذا السواد كيف هو؟.
البحث الأول: عن حقيقة هذا التكذيب، فنقول: المشهور أن الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، ومنهم من قال هذا القدر لا يكون كذبا بل الشرط في كونه كذبا أن يقصد الإتيان بخبر يخالف المخبر عنه، إذا عرفت هذا الأصل فنذكر أقوال الناس في هذه الآية: قال الكعبي: ويرد الجبر بأن هذه الآية وردت عقيب قوله * (لو أن الله هداني) * (الزمر: 58) يعني أنه ما هداني بل أضلني، فلما حكى الله عن الكفار ثم ذكر عقيبه * (ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * وجب أن يكون هذا عائدا إلى ذلك الكلام المتقدم، ثم روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما بال أقوام يصلون ويقرأون القرآن، يزعمون أن الله كتب الذنوب على العباد، وهم كذبة على الله، والله مسود وجوههم) * واعلم أن أصحابنا قالوا آخر الآية يدل على فساد هذا التأويل لأنه تعالى قال في آخر الآية: * (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) * وهذا يدل على أن أولئك الذين صارت وجوههم مسودة أقوام متكبرون، والتكبر لا يليق بمن يقول أنا لا أقدر على الخلق والإعادة والإيجاد، وإنما القادر عليه هو الله سبحانه وتعالى، أما الذين يقولون إن الله يريد شيئا وأنا أريد بضده، فيحصل مرادي ولا يحصل مراد الله، فالتكبر بهذا القائل أليق، فثبت أن هذا التأويل الذي ذكروه فاسد، ومن الناس من قال إن هذا الوعيد مختص باليهود والنصارى، ومنهم من قال إنه مختص بمشركي العرب، قال القاضي يجب حمل الآية على الكل من المشبهة والمجبرة وكذلك كل من وصف الله بما لا يليق به نفيا وإثباتا، فأضاف إليه ما يجب تنزيهه عنه أو نزهه عما يجب أن يضاف إليه، فالكل منهم داخلون تحت هذه الآية، لأنهم كذبوا على الله، فتخصيص الآية بالمجبرة والمشبهة أو اليهود
8

والنصارى لا يجوز، واعلم أنا لو أجرينا هذه الآية على عمومها كما ذكره القاضي
لزمه تكفير الأمة، لأنك لا ترى فرقة من فرق الأمة إلا وقد حصل بينهم اختلاف شديد في صفات الله تعالى، ألا ترى أنه حصل الاختلاف بين أبي هاشم وأهل السنة في مسائل كثيرة من صفات الله تعالى، ويلزم على قانون قول القاضي تكفير أحدهما، فثبت أنه يجب أن يحمل الكذب المذكور في الآية على ما إذا قصد الإخبار عن الشيء، مع أنه يعلم أنه كاذب فيما يقول، ومثال هذا كفار قريش فإنهم كانوا يصفون تلك الأصنام بالإلهية مع أنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنها جمادات، وكانوا يقولون إن الله تعالى حرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، مع أنهم كانوا ينكرون القول بأن الله حرم كذا وأباح كذا، وكان قائله عالما بأنه كذب وإذا كان كذلك فإلحاق مثل هذا الوعيد بهذا الجاهل الكذاب الضال المضل (يكون) مناسبا، أما من لم يقصد إلا الحق والصدق لكنه أخطأ يبعد إلحاق هذا الوعيد به.
البحث الثاني: الكلام في كيفية السواد الحاصل في وجوههم، والأقرب أنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، وأقول
إن الجهل ظلمة، والظلمة تتخيل كأنها بواد فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم، وتحت هذا الكلام أسرار عميقة من مباحث أحوال القيامة، فلما ذكر الله هذا الوعيد أردفه بالوعد فقال: * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) * الآية، قال القاضي المراد به من اتقى كل الكبائر إذ لا يوصف بالاتقاء المطلق إلا من كان هذا حاله، فيقال له: أمرك عجيب جدا فإنك قلت لما تقدم قوله تعالى: * (لو أن الله هداني لكنت من المتقين) * (الزمر: 57) وجب أن يحمل قوله (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) * على الذين قالوا * (لو أن الله هداني) * فعلى هذا القانون لما تقدم قوله * (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة) *. ثم قال تعالى بعده: * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) * وجب أن يكون المراد هم الذين اتقوا ذلك الكذب، فهذا يقتضي أن كل من لم يتصف بذلك الكذب أنته يدخل تحت ذلك الوعد المذكور بقوله * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) * وأن يكون قولك * (الذين اتقوا) * المراد منه من اتقى كل الكبائر فاسدا، فثبت أن التعصب يحمل الرجل العاقل على الكلمات المتناقضة، بل الحق أن تقول المتقي هو الآتي باللاتقاء والآتي بالاتقاء في صورة واحدة آت بمسمى الاتقاء، وبهذا الحرف قلنا الأمر المطلق لا يفيد التكرار، ثم ذلك الاتقاء غير مذكور بعينه في هذه اللفظة فوجب حمله على الاتقاء عن الشيء الذي سبق ذكره وهذا هو الكذب على الله تعالى، فثبت أن ظاهر الآية يقتضي أن من اتقى عن تلك الصفة وجب دخوله تحت هذا الوعد الكريم.
ثم قال تعالى: * (بمفازتهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بمفازاتهم على الجمع، والباقون بمفازتهم على التوحيد، وحكى الواحدي عن الفراء أنه قال: كلاهما صواب، إذ يقال في الكلام
9

قد تبين أمر القوم وأمور القوم، قال أبو علي الفارسي: الإفراد للمصدر ووجه الجمع أن المصادر قد تجمع إذا اختلفت أجناسها، كقوله تعالى: * (وتظنون بالله الظنونا) * (الأحزاب: 10) ولا شك أن لكل متق نوعا آخر عن المفازة.
المسألة الثانية: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة، فكأن المعنى أن النجاة في القيامة حصلت بسبب فوزهم في الدنيا بالطاعات والخيرات، فعبر عن الفوز بأوقاتها ومواضعها.
ثم قال: * (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) * والمراد أنه كالتفسير لتلك النجاة، كأنه قيل كيف ينجيهم؟ فقيل: * (لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون) * وهذه كلمة جامعة لأنه إذا لا يمسه السوء كان فارغ البال بحسب الحال عما وقع في قلبه بسبب فوات الماضي، فحينئذ يظهر أنه سلم عن كل الآفات، ونسأل الله الفوز بهذه الدرجات بمنه وكرمه.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن المؤمنين لا ينالهم الخوف والرعب في القيامة، وتأكد هذا بقوله * (لا يحزنهم الفزع الأكبر) * (الأنبياء: 103).
قوله تعالى
* (الله خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل * له مقاليد السماوات والارض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون * قل أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون * ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) *.
واعلم أنه لما أطال الكلام في شرح الوعد والوعيد عاد إلى دلائل الإلهية والتوحيد، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أصحابنا تمسكوا بقوله تعالى: * (خالق كل شيء) * (الأنعام: 102) على أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى، وأطنبنا هناك في الأسئلة والأجوبة، فلا فائدة ههنا
10

في الإعادة، إلا أن الكعبي ذكر ههنا كلمات فنذكرها ونجيب عنها، فقال إن الله تعالى مدح نفسه بقوله * (الله خالق كل شيء) * وليس من المدح أن يخلق الكفر والقبائح فلا يصح أن يحتج المخالف به، وأيضا فلم يكن في صدر هذه الأمة خلاف في أعمال العباد، بل كان الخلاف بينهم وبين المجوس والزنادقة في خلق الأمراض والسباع والهوام، فأراد الله تعالى أن يبين أنها جمع من خلقه، وأيضا لفظة * (كل) * قد لا توجب العموم لقوله تعالى: * (وأوتيت من كل شيء) * (النمل: 23) * (تدمر كل شيء) * (الأحقاف: 25) وأيضا لو كانت أعمال العباد من خلق الله لما ضافها إليهم بقوله * (كفارا حسدا من عند أنفسهم) * (البقرة: 109) ولما صح قوله * (ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله) * (آل عمران: 78) ولما صح قوله * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) * (ص: 27) فهذا جملة ما ذكره الكعبي في تفسيره، وقال الجبائي: * (الله خالق كل شيء) * سوى أفعال خلقه التي صح فيها الأمر والنهي واستحقوا بها الثواب والعقاب، ولو كانت أفعالهم خلقا لله تعالى ما جاز ذلك فيه كما لا يجوز مثله في ألوانهم وصورهم، وقال أبو مسلم: الخلق هو التقدير لا الإيجاد، فإذا أخبر الله عن عباده أنهم يفعلون الفعل الفلاني فقد قدر ذلك الفعل، فيصح أن يقال إنه تعالى خلقه وإن لم يكن موجدا له. واعلم أن الجواب عن هذه الوجوه قد ذكرناه بالاستقصاء في سورة الأنعام، فمن أراد الوقوف عليه فليطالع هذا الموضوع من هذا الكتاب، والله أعلم. أما قوله تعالى: * (وهو على كل شيء وكيل) * فالمعنى أن الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها وتدبيرها من غير منازع ولا مشارك، وهذا أيضا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن فعل العبد لو وقع بتخليق العبد لكان ذلك الفعل غير موكول إلى الله تعالى وكيلا عليه، وذلك ينافي عموم الآية.
ثم قال تعالى: * (له مقاليد السماوات والأرض) * والمعنى أنه سبحانه مالك أمرها وحافظها وهو من باب الكناية، لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي بيده مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت مقاليد الملك إليه وهي المفاتيح، قال صاحب " الكشاف ": ولا واحد لها من لفظها، وقيل مقليد ومقاليد، وقيل مقلاد ومقاليد مثل
مفتاح ومفاتيح، وقيل إقليد وأقاليد، قال صاحب " الكشاف ": والكلمة أصلها فارسية، إلا أن القوم لما عربوها صارت عربية. واعلم أن الكلام في تفسير قوله * (له مقاليد السماوات والأرض) * قريب من الكلام في قوله تعالى: * (وعنده مفاتح الغيب) * (الأنعام: 59) وقد سبق الاستقصاء هناك، قيل سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله * (له مقاليد السماوات والأرض) * فقال: " يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسيرها لا إله إلا الله والله أكبر، سبحان الله وبحمده، أستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير، يحيي ويميت هو على كل شيء قدير " هكذا نقله صاحب " الكشاف ".
11

ثم قال تعالى: * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: صريح الآية يقتضي أنه لا خاسر إلا كافر، وهذا يدل على أن كل من لم يكن كافرا فإنه لا بد وأن يحصل له حظ من رحمة الله.
المسألة الثانية: أورد صاحب " الكشاف " سؤالا، وهو أنه بم اتصل قوله * (والذين كفروا) *؟ وأجاب عنه بأنه اتصل بقوله تعالى: * (وينجي الله الذين اتقوا) * (الزمر: 61) أي ينجي الله المتقين بمفازتهم * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) * واعترض ما بينهما أنه خالق للأشياء كلها، وأن له مقاليد السماوات والأرض. وأقول هذا عندي ضعيف من وجهين الأول: أن وقوع الفاصل الكبير بين المعطوف والمعطوف عليه بعيد الثاني: أن قوله * (وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم) * جملة فعلية، وقوله * (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) * جملة إسمية، وعطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية لا يجوز، بل الأقرب عندي أن يقال إنه لما وصف الله تعالى نفسه بالصفات الإلهية والجلالية، وهو كونه خالقا للأشياء كلها، وكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض بأسرها، قال بعده: والذين كفروا بهذه الآيات الظاهرة الباهرة أولئك هم الخاسرون.
ثم قال تعالى: * (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر تأمرونني بنونين ساكنة الياء وكذلك هي في مصاحف الشام، قال الواحدي وهو الأصل، وقرأ ابن كثير تأمروني بنون مشددة على إسكان الأولى وإدغامها في الثانية، وقرأ نافع تأمروني بنون واحدة خفيفة، على حذل إحدى النونين والباقون بنون واحدة مكسورة مشددة.
المسألة الثانية: * (أفغير الله) * منصوب بأعبد وتأمروني اعتراض، ومعناه: أفغير الله أعبد بأمركم؟ وذلك حين قال له المشركون أسلم ببعض آلهتنا ونؤمن بإلهك، وأقول نظير هذه الآية، قوله تعالى: * (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض) * (الأنعام: 14) وقد ذكرنا في تلك الآية وجه الحكمة في تقديم الفعل.
المسألة الثالثة: إنما وصفهم بالجهل لأنه تقدم وصف الإله بكونه خالقا للأشياء وبكونه مالكا لمقاليد السماوات والأرض، وظاهر كون هذه الأصنام جمادات أنها لا تضر ولا تنفع، ومن أعرض عن عبادة الإله الموصوف بتلك الصفات الشريفة المقدسة، واشتغل بعبادة هذه الأجسام الخسيسة، فقد بلغ في الجهل مبلغا لا مزيد عليه، فلهذا السبب قال: * (أيها الجاهلون) * ولا شك أن وصفهم بهذا الأمر لائق بهذا الموضع.
ثم قال تعالى: * (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك، ولتكونن من الخاسرين) * واعلم أن الكلام التام مع الدلائل القوية، والجواب عن الشبهات في مسألة الإحباط قد ذكرناه في سورة البقرة فلا نعيده، قال صاحب " الكشاف " قرىء * (ليحبطن عملك) * على
12

البناء للمفعول وقرئ بالياء والنون أي: ليحبطن الله أو الشرك وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: كيف أوحي إليه وإلى من قبله حال شركه على التعيين؟ والجواب تقدير الآية: أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك، وإلى الذين من قبلك مثله أو أوحي إليك وإلى كل واحد منهم لئن أشركت، كما تقول كسانا حلة أي كل واحد منا.
السؤال الثاني: ما الفرق بين اللامين؟ الجواب الأولى: موطئة للقسم المحذوف والثانية: لام الجواب. السؤال الثالث: كيف صح هذا الكلام مع علم الله تعالى أن رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ والجواب أن قوله * (لئن أشركت ليحبطن عملك) * قضية شرطية والقضية الشرطية لا يلزم من صدقها صدق جزأيها ألا ترى أن قولك لو كانت الخمسة زوجا لكانت منقسمة بمتساويين قضية صادقة مع أن كل واحد من جزأيها غير صادق، قال الله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) ولم يلزم من هذا صدق القول بأن فيهما آلهة وبأنهما قد فسدتا.
السؤال الرابع: ما معنى قوله * (ولتكونن من الخاسرين) *؟
والجواب كما أن طاعات الأنبياء والرسل أفضل من طاعات غيرهم، فكذلك القبائح التي تصدر عنهم فإنها بتقدير الصدور تكون أقبح لقوله تعالى: * (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * (الإسراء: 75) فكان المعنى ضعف الشرك الحاصل منه، وبتقدير حصوله منه يكون تأثيره في جانب غضب الله أقوى وأعظم. واعلم أنه تعالى لما قدم هذه المقدمات ذكر ما هو المقصود فقال: * (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) *، والمقصود منه ما أمروه به من الإسلام ببعض آلهتهم، كأنه قال إنكم تأمرونني بأن لا أعبد إلا غير الله لأن قوله * (قل أفغير الله تأمروني أعبد) * يفيد أنهم عينوا عليه عبادة غير الله، فقال الله إنهم بئسما قالوا ولكن أنت على الضد مما قالوا، فلا تعبد إلا الله، وذلك لأن قوله * (بل الله فاعبد) * يفيد الحصر.
ثم قال: * (وكن من الشاكرين) * على ما هداك إلى أنه لا يجوز إلا عبادة الإله القادر عن الإطلاق العليم الحكيم، وعلى ما أرشدك إلى أنه يجب الإعراض عن عبادة كل ما سوى الله.
قوله تعالى
* (وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون * ونفخ فى الصور فصعق من فى السماوات ومن
فى
13

الارض إلا من شآء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون * وأشرقت الارض بنور ربها ووضع الكتاب وجىء بالنبيين والشهدآء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون * ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون) *.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن المشركين أنهم أمروا الرسول بعبادة الأصنام، ثم إنه تعالى أقام الدلائل على فساد قولهم وأمر الرسول بأن يعبد الله ولا يعبد شيئا آخر سواه، بين أنهم لو عرفوا الله حق معرفته لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة له المعبودية، فقال: * (وما قدروا الله حق قدره) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج بعض الناس بهذه الآية على أن الخلق لا يعرفون حقيقة الله، قالوا لأن قوله * (وما قدروا الله حق قدره) * يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدرن وصف المؤمنين بذلك، فسقط هذا الكلام.
المسألة الثانية: قوله * (وما قدروا الله حق قدره) * يفيد هذا المعنى إلا أنا ذكرنا أن هذا صفة حال الكفار فلا يلزم من وصف الكفار بأنهم ما قدروا الله حق قدره وصف المؤمنين بذلك، فسقط هذا الكلام. المسألة الثانية: قوله * (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عظموه حق تعظيمه، وهذه الآية مذكورة في سور ثلاث، في سورة الأنعام، وفي سورة الحج، وفي هذه السورة. واعلم أنه تعالى لما بين أنهم ما عظموه تعظيما لائقا به أردفه بما يدل على كمال عظمته ونهاية جلالته، فقال: * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * قال القفال: * (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) * كقول القائل وما قدرتني حق قدري وأنا الذي فعلت كذا وكذا، أي لما عرفت أن حالي وصفتي هذا الذي ذكرت، فوجب أن لا تحطني عن قدري ومنزلتي، ونظيره قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * (البقرة: 28) أي كيف تكفرون بمن هذا وصفه وحال ملكه فكذا ههنا، والمعنى * (وما قدروا الله حق قدره) * إذ زعموا أن له شركاء وأنه لا يقدر على إحياء الموتى مع أن الأرض والسماوات في قبضته وقدرته، قال صاحب " الكشاف " الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته
14

والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو مجاز، وكذلك ما روي أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والثرى على أصبع وسائر الخلق على أصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال، قال صاحب " الكشاف " وإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا إصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول كل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة، التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام ولا تكتنهها الأذهان هينة عليه، قال ولا نرى بابا في علم البيان أدق ولا ألطف من هذا الباب، فيقال له هل تسلم أن الأصل في الكلام حمله على الحقيقة، وأنه إنما يعدل عن الحقيقة إلى المجاز عند قيام الدلالة على أن حمله على حقيقته ممتنع، فحينئذ يجب حمله على المجاز، فإن أنكر هذا الأصل فحينئذ يخرج القرآن بالكلية عن أن يكون حجة، فإن لكل أحد أن يقول المقصود من الآية الفلانية كذا وكذا فأنا أحمل الآية على ذلك المقصود، ولا ألتفت إلى الظواهر، مثاله من تمسك بالآيات الواردة في ثواب أهل الجنة وعقاب أهل النار، قال المقصود بيان سعادات المطيعين وشقاوة المذنبين، وأنا أحمل هذه الآيات على هذا المقصود ولا أثبت الأكل والشرب ولا سائر الأحوال الجسمانية، ومن تمسك بالآيات الوردة في إثبات وجوب الصلاة فقال المقصود منه إيجاب تنوير القلب بذكر الله، فأنا أكتفي بهذا القدر ولا أوجب هذه الأعمال المخصوصة، وإذا عرفت الكلام في هذين المثالين فقس عليه سائر المسائل الأصولية والفروعية، وحينئذ يخرج القرآن عن أن يكون حجة في المسائل الأصولية والفروعية، وذلك باطل قطعا، وأما إن سلم أن أوصل في علم القرآن أن يعتقد أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته، فإن قام دليل منفصل على أنه يتعذر حمله على حقيقته، فحينئذ يتعين صرفه إلى مجازه، فإن حصلت هناك مجازات لم يتعين صرفه إلى مجاز معين إلا إذا كان الدليل يوجب ذلك التعيين، فنقول ههنا لفظ اليمين حقيقة في الجارحة المخصوصة، ولا يمكنك أن تصرف ظاهر الكلام عن هذا المعنى إلا إذا أقمت الدلالة على أن حمل هذه الألفاظ على ظواهرها ممتنع فحينئذ يجب حملها على المجازات، ثم تبين بالدليل أن المعنى الفلاني يصح جعله مجازا عن تلك الحقيقة، ثم تبين بالدليل أن هذا المجاز أولى من غيره، وإذا ثبتت هذه المقدمات وترتيبها على هذا الوجه فهذا هو الطريق الصحيح الذي عليه تعويل أهل التحقيق فأنت ما أتيت في هذا الباب بطريقة جديدة وكلام غريب، بل هو عين ما ذكره أهل التحقيق، فثبت أن الفرح الذي أظهره من أنه اهتدى إلى الطريق الذي لم يعرفه غيره طريق فاسد، دال على قلة وقوفه على المعاني، ولنرجع إلى الطريق الحقيقي فنقول لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الأعضاء والجوارح، إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح
15

لله تعالى، فوجب حمل هذه الأعضاء على وجوه المجاز، فنقول إنه يقال فلان في قبضة فلان إذا كان تحت تدبيره وتسخيره. قال تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) * (المعارج: 30) والمراد منه كونه مملوكا له، ويقال هذه الدار في يد فلان، وفلان صاحب اليد، والمراد من الكل القدرة، والفقهاء يقولون في الشروط وقبض فلان كذا وصار في قبضته، ولا يريدون إلا خلوص ملكه، وإذا ثبت تعذر حمل هذه الألفاظ على حقائقها وجب حملها على مجازاتها صونا لهذه النصوص عن التعطيل، فهذا هو الكلام الحقيقي في هذا الباب، ولنا كتاب مفرد في إثبات تنزيه الله تعالى عن الجسمية والمكان، سميناه بتأسيس التقديس، من أراد الإطناب في هذا الباب فليرجع إليه.
المسألة الثالثة: في تفسير ألفاظ الآية قوله * (والأرض) * المراد منه الأرضون السبع، ويدل عليه وجوه الأول: قوله * (جميعا) * فإن هذا التأكيد لا يحسن إدخاله إلا على الجمع ونظيره قوله * (كل الطعام) * (آل عمران: 93) وقوله تعالى: * (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) * (النور: 31) وقوله
تعالى: * (والنخل باسقات) * (ق: 10) وقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (العصر: 2، 3) فإن هذه الألفاظ الملحة باللفظ المفرد تدل على أن المراد منه الجمع فكذا ههنا والثاني: أنه قال بعده * (والسماوات مطويات) * فوجب أن يكون المراد بالأرض الأرضون الثالث: أن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهذا مقتضى المبالغة، وأما القبضة فهي المرة الواحدة من القبض، قال تعالى: * (فقبضت قبضة من أثر الرسول) * (طه: 96) والقبضة بالضم المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا أعطني قبضة من كذا، يريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، والمعنى والأرضون جميعا قبضته أي ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة من قبضاته، يعني أن الأرضين مع ما لها من العظمة والبسطة لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، أما إذا أريد معنى القبضة، فظاهر لأن المعنى أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة فإن قيل ما وجه قراءة من قرأ قبضته بالنصب، قلنا جعل القبضة ظرفا وقوله * (مطويات) * من الطي الذي هو ضد النشر كما قال تعالى: * (يوم نطوي السماء كطي السجل) * (الأنبياء: 104) وعادة طاوي السجل أن يطويه بيمينه،
ثم قال صاحب الكشاف: وقيل قبضته ملكه ويمينه قدرته، وقيل مطويات بيمينه أي مفنيات بقسمه لأنه أقسم أن يقبضها، ولما ذكر هذه الوجوه عاد إلى القول الأول بأنها وجه ركيكة، وأن حمل هذا الكلام على محض التمثيل أولى، وبالغ في تقرير هذا الكلام فأطنب، وأقول إن حال هذا الرجل في إقدامه على تحسين طريقته، وتقبيح طريقة القدماء عجيب جدا، فإنه إن كان مذهبه أنه يجوز ترك الظاهر اللفظ، والمصير إلى المجاز من غير دليل فهذا طعن في القرآن وإخراج له عن أن يكون حجة في شيء، وإن كان مذهبه أن الأصل في الكلام الحقيقة، وأنه لا يجوز الدول عنه إلا لدليل منفل، فهذا هو الطريقة التي أطبق عليها جمهور المتقدمين، فأين الكلام الذي يزعم أنه علمه؟ وأين العلم الذي لم يعرفه غيره؟ مع أنه وقع في التأويلات
16

العسرة والكلمات الركيكة، فإن قالوا المراد أنه لما دل الدليل على أنه ليس المراد من لفظ القبضة واليمين هذه الأعضاء، وجب علينا أن نكتفي بهذا القدر ولا نشتغل بتعيين المراد، بل نفوض علمه إلى الله تعالى، فنقول هذا هو طريق الموحدين الذين يقولون إنا نعلم ليس مراد الله من هذه الألفاظ هذه الأعضاء، فأما تعيين المراد، فإنا نفوض ذلك العلم إلى الله تعالى، وهذا هو طريقة السلف المعرضين عن التأويلات، فثبت أن هذه التأويلات التي أتى بها هذا الرجل ليس تحتها شيء من الفائدة أصلا، والله أعلم.
واعلم أنه تعالى لما بين عظمته من الوجه الذي تقدم قال: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * يعني أن هذا القادر القاهر العظيم الذي حارت العقول والألباب في وصف عظمته تنزه وتقدس عن أن تجعل الأصنام شركاء له في المعبودية، فإن قيل السؤال على هذا الكلام من وجوه الأول: أن العرش أعظم من السماوات السبع والأرضين السبع، ثم إنه قال في صفة العرش * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) وإذا وصف الملائكة بكونهم حاملين العرش العظيم، فكيف يجوز تقدير عظمة الله بكونه حاملا للسموات والأرض؟
السؤال الثاني: أن قوله * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * شرح حالة لا تحصل إلا في يوم القيامة، والقوم ما شاهدوا ذلك، فإن كان هذا الخطاب مع المصدقين للأنبياء فهم يكونون معترفين بأنه لا يجوز القول بجعل الأصنام شركاء الله تعالى، فلا فائدة في إيراد هذه الحجة عليهم، وإن كان هذا الخطاب مع المكذبين بالنبوة وهم ينكرون قوله * (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) * فكيف يمكن الاستدلال به على إبطال القول بالشرك؟
السؤال الثالث: حاصل القول في القبضة واليمين هو القدرة الكاملة الوافية بحفظ هذه الأجسام العظيمة، وكما أن حفظها وإمساكها يوم القيامة ليس إلا بقدرة الله فكذلك الآن، فما الفائدة في تخصيص هذه الأحوال بيوم القيامة؟ الجواب عن الأول: أن مراتب التعظيم كثيرة فأولها تقرير عظمة الله بكونه قادرا على حفظ هذه الأجسام العظيمة، ثم بعد تقرير عظمته بكونه قادرا على إمساك أولئك الملائكة الذين يحملون العرش. الجواب عن الثاني: أن المقصود أن الحق سبحانه هو المتولي لإبقاء السماوات والأرضين على وجوه العمارة في هذا الوقت، وهو المتولي بتخريبها وإفنائها في يوم القيامة فذلك يدل على حصول قدرة تامة على الإيجاد والإعدام، وتنبيه أيضا على كونه غنيا على الإطلاق، فإنه يدل على أنه إذا حاول تخريب الأرض فكأنه يقبض قبضة صغيرة ويريد إفناءها، وذلك يدل على كمال الاستغناء. الجواب عن الثالث: أنه إنما خصص تلك بيوم القيامة ليدل على أنه كما ظهر كمال قدرته في الإيجاد عند عمارة الدنيا، فكذلك ظهر كمال قدرته عند خراب الدنيا والله أعلم.
17

واعلم أنه تعالى لما قدر كمال عظمته بما سبق ذكره أردفه بذكر طريقة أخرى تدل أيضا على كمال قدرته وعظمته، وذلك شرح مقدمات يوم القيامة لأن نفخ الصور يكون قبل ذلك اليوم، فقال: * (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * واختلفوا في الصعقة، منهم من قال إنها غير الموت بدليل قوله تعالى في موسى عليه السلام * (وخر موسى صعقا) * (الأعراف: 143) مع أنه لم يمت، فهذا هو النفخ الذي يورث الفزع الشديد، وعلى هذا التقدير فالمراد من نفخ الصعقة ومن نفخ الفزع واحد، وهو المذكور في سورة النمل في قوله * (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض) * (النمل: 87) وعلى هذا القول فنفخ الصور ليس إلا مرتين. والقول الثاني: أن الصعقة عبارة عن الموت والقائلون بهذا القول قالوا إنهم يموتون من الفزع وشدة الصوت، وعلى هذا التقدير فالنفخة تحصل ثلاث مرات أولها: نفخة الفزع وهي المذكورة في سورة النمل والثانية: نفخة الصعق والثالثة: نفخة القيام وهما مذكورتان في هذه السورة.
وأما قوله * (إلا من شاء الله) * ففيه وجوه الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: عند نفخة الصعق يموت من في السماوات ومن في الأرض إلا جبريل ومكائيل وإسرافيل وملك الموت ثم يميت الله ميكائيل وإسرافيل ويبقي جبريل وملك الموت ثم يميت جبريل. والقول الثاني: أنهم هم الشهداء لقوله تعالى: * (بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (آل عمران: 169) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش ". القول الثالث
: قال جابر هذا المستثنى هو موسى عليه السلام لأنه صعق مرة فلا يصعق ثانيا. القول الرابع: أنهم الحور العين وسكن العرش والكرسي. والقول الخامس: قال قتادة الله أعلم بأنهم من هم، وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم.
ثم قال تعالى: * (ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * وفيه أبحاث: الأول: لفظ القرآن دل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى، لأن لفظ * (ثم) * يفيد التراخي، قال الحسن رحمه الله القرآن دل على أن هذه النفخة الأولى، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن بينهما أربعين " ولا أدري أربعون يوما أو شهرا أو أربعون سنة أو أربعون ألف سنة. الثاني: قوله * (أخرى) * تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثم نفخ فيه نفخة أخرى، وإنما حسن الحذف لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة.
الثالث: قوله * (فإذا هم قيام) * يعني قيامهم من القبور يحصل عقيب هذه النفخة الأخيرة
18

في الحال من غير تراخ لأن الفاء في قوله * (فإذا هم) * تدل على التعقيب. الرابع: قوله * (ينظرون) * وفيه وجهان الأول: ينظرون يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم والثاني: ينظرون ماذا يفعل بهم، ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والخمود في مكان لأجل استيلاء الحيرة والدهشة عليهم. ولما بين الله تعالى هاتين النفختين قال: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الأرض المذكورة ليست هي هذه الأرض التي يقعد عليها الآن بدليل قوله تعالى: * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * (إبراهيم: 48) وبدليل قوله تعالى: * (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة) * (الحاقة: 14) بل هي أرض أخرى يخلقها الله تعالى لمحفل يوم القيامة.
المسألة الثانية: قالت المجسمة: إن الله تعالى نور محض، فإذا حضر الله في تلك الأرض لأجل القضاء بين عباده أشرقت تلك الأرض بنور الله، وأكدوا هذا بقوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * (النور: 35). واعلم أن الجواب عن هذه الشبهة من وجوه الأول: أنا بينا في تفسير قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * أنه لا يجوز أن يكون الله سبحانه وتعالى نورا بمعنى كونه من جنس هذه الأنوار المشاهدة، وبينا أنه لما تعذر حمل الكلام على الحقيقة وجب حمل لفظ النور ههنا على العدل، فنحتاج ههنا إلى بيان أن لفظ النور قد يستعمل في هذا المعنى، ثم إلى بيان أن المراد من لفظ النور ههنا ليس إلا هذا المعنى، أما بيان الاستعمال فهو أن الناس يقولون للملك العادل أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون أظلمت البلاد بجورك، وقال صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات يوم القيامة " وأما بيان أن المراد من النور ههنا العدل فقط أنه قال: * (وجئ بالنبيين والشهداء) * ومعلوم أن المجيء بالشهداء ليس إلا لإظهار العدل، وأيضا قال في آخر الآية بإثبات العدل وختمها بنفي الظلم والوجه الثاني: في الجواب عن الشبهة المذكورة أن قوله تعالى: * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * يدل على أنه يحصل هناك نور مضاف إلى الله تعالى، ولا يلزم كون ذلك صفة ذات الله تعالى، لأنه يكفي في صدق الإضافة أدنى سبب، فلما كان ذلك النور من خلق الله وشرفه بأن أضافه إلى نفسه كان ذلك النور نور الله، كقوله: بيت الله، وناقة الله وهذا الجواب أقوى من الأول، لأن في هذا الجواب لا يحتاج إلى ترك الحقيقة والذهاب إلى المجاز. والوجه الثالث: أنه قد قال فلان رب هذه الأرض ورب هذه الدار ورب هذه الجارية، ولا يبعد أن يكون رب هذه الأرض ملكا من الملوك، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع كونه نورا.
المسألة الثالثة: أنه تعالى ذكر في هذه الآية من أحوال ذلك اليوم أشياء: أولها: قوله * (وأشرقت الأرض بنور ربها) * وقد سبق الكلام فيه وثانيها: قوله * (ووضع الكتاب) * وفي
19

المراد بالكتاب وجوه الأول: أنه اللوح المحفوظ الذي يحصل فيه شرح أحوال عالم الدنيا إلى وقت قيام القيامة الثاني: المراد كتب الأعمال كما قال تعالى في سورة سبحان * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) * (الإسرار: 13) وقال أيضا في آية أخرى * (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * (الكهف: 49) وثالثها: قوله * (وجئ بالنبيين) * والمراد أن يكونوا شهداء على الناس، قال تعالى: * (كيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) وقال تعالى: * (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم) * (المائدة: 109) ورابعها: قوله * (والشهداء) * والمراد ما قاله في * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) * (البقرة: 143) أو أراد بالشهداء المؤمنين، وقال مقاتل: يعني الحفظة، ويدل عليه قوله تعالى: * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) * (ق: 21) وقيل أراد بالشهداء المستشهدين في سبيل الله، ولما بين الله تعالى أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الحكومات وقطع الخصومات، بين تعالى أنه يوصل إلى كل أحد حقه، وعبر تعالى عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها: قوله تعالى: * (وقضى بينهم بالحق) * وثانيها: قوله * (وهم لا يظلمون) * وثالثها: قوله * (ووفيت كل نفس ما عملت) * أي وفيت كل نفس جزاء ما علمت، ورابعها: قوله: * (وهم أعلم بما يفعلون) * يعني أنه تعالى إذا لم يكن عالما بكيفيات أحوالهم فلعله لا يقضي بالحق لأجل عدم العلم، أما إذا كان عالما بمقادير أفعالهم وبكيفياتها امتنع دخول الخطأ في ذلك الحكم، فثبت أنه تعالى عبر عن هذا المقصود بهذه العبارات المختلفة، والمقصود المبالغة في تقرير أن كل مكلف فإنه يصل إلى حقه.
قوله تعالى
* (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جآءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتهآ ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم ءايات ربكم وينذرونكم لقآء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين * قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) *
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل القيامة على سبيل الإجمال فقال: * (ووفيت كل نفس ما عملت) * (الزمر: 70) بين بعده كيفية أحوال أهل العقاب، ثم كيفية
أحوال أهل الثواب وختم السورة.
20

أما شرح أحوال أهل العقاب فهو المذكور في هذه الآية، وهو قوله * (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) * قال ابن زيدان: سوق الذين كفروا إلى جهنم يكون بالعنف والدفع، والدليل عليه قوله تعالى: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * (الطور: 13) أي يدفعون دفعا، نظيره قوله تعالى: * (فلذلك الذي يدع اليتيم) * (الماعون: 2) أي يدفعه، ويدل عليه قوله تعالى: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * (مريم: 86). وأما الزمر، فهي الأفواج المتفرقة بعض في أثر بعض، فبين الله تعالى أنهم يساقون إلى جهنم فإذا جاءوها فتحت أبوابها، وهذا يدل على أن أبواب جهنم إنما تفتح عند وصول أولئك إليها، فإذا دخلوا جهنم قال لهم خزنة جهنم * (ألم يأتكم رسل منكم) * أي من جنسكم * (ويتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * فإن قيل فلم أضيف اليوم إليهم؟ قلنا أراد لقاء وقتكم هذا وهو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة، واستعمال لفظ اليوم والأيام في أوقات الشدة مستفيض، فعند هذا تقول الكفار: بلى قد أتونا وتلوا علينا * (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) * وفي هذه الآية مسألتان:
المسألة الأولى: تقدير الكلام أنه حقت علينا كلمة العذاب، ومن حقت عليه كلمة العذاب فكيف يمكنه الخلاص من العذاب، وهذا صريح في أن السعيد لا ينقلب شقيا، والشقي لا ينقلب سعيدا، وكلمات المعتزلة في دفع هذا الكلام معلومة، وأجوبتنا عنها أيضا معلومة.
المسألة الثانية: دلت الآية على أنه لا وجوب قبل مجيء الشرع، لأن الملائكة بينوا أنه ما بقي لهم علة ولا عذر بعد مجيء الأنبياء عليهم السلام، ولو لم يكن مجيء الأنبياء شرطا في استحقاق العذاب لما بقي في هذا الكلام فائدة، ثم إن الملائكة إذا سمعوا منهم هذا الكلام قالوا فهم * (ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) * قالت المعتزلة: لو كان دخولهم النار لأجل أنه حقت عليهم كلمة العذاب لم يبق لقول الملائكة * (فبئس مثوى المتكبرين) * فائدة، بل هذا الكلام إنما يبقى مقيدا إذا قلنا إنهم إنما دخلوا النار لأنهم تكبروا على الأنبياء ولم يقبلوا قولهم، ولم يلتفتوا إلى دلائلهم، وذلك يدل على صحة قولنا، والله أعلم بالصواب.
قوله تعالى
* (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جآءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين * وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا
21

الارض نتبوأ من الجنة حيث نشآء فنعم أجر العاملين * وترى الملائكة حآفين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضى بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) *
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل العقاب في الآية المتقدمة، شرح أحوال أهل الثواب في هذه الآية، فقال: * (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) * فإن قيل السوق في أهل النار للعذاب معقول، لأنهم لما أمروا بالذهاب إلى موضع العذاب والشقاوة لا بد وأن يساقوا إليه، وأما أهل الثواب فإذا أمروا بالذهاب إلى موضع الكرامة والراحة والسعادة، فأي حاجة فيه إلى السوق؟
والجواب من وجوه الأول: أن المحبة والصداقة باقية بين المتقين يوم القيامة كما قال تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) * (الزخرف: 67) فإذا قيل لواحد منهم إذهب إلى الجنة فيقول: لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب، فحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثاني: أن الذين اتقوا ربهم قد عبدوا الله تعالى لا للجنة ولا للنار، فتصير شدة استغراقهم في مشاهدة مواقف الجلال الجمال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أكثر أهل الجنة البله وعليون للأبرار " فلهذا السبب يساقون إلى الجنة والرابع: أن أهل الجنة وأهل النار يساقون إلا أن المراد بسوق أهل النار طردهم إليها بالهوان والعنف كما يفعل بالأسير إذ سيق إلى الحبس والقيد، والمراد بسوق أهل الجنة سوق مراكبهم لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، والمراد بذلك السوق إسراعهم إلى دار الكرامة والرضوان كما يفعل بمن يشرف ويكرم من الوافدين على الملوك، فشتان ما بين السوقين.
ثم قال تعالى: * (حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها) * الآية، واعلم أن جملة هذا الكلام شرط واحد مركب من قيود: القيد الأول: هو مجيئهم إلى الجنة والقيد الثاني: قوله تعالى: * (وفتحت أبوابها) * فإن قيل قال أهل النار فتحت أبوابها بغير الواو، وقال ههنا بالواو فما الفرق؟ قلنا الفرق أن أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون متقدما على وصولهم إليها بدليل قوله * (جنات عدن مفتحة لهم الأبواب) * (ص: 50) فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابها. القيد الثالث: قوله * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين) * فبين تعالى أن خزنة الجنة يذكرون لأهل الثواب هذه الكلمات الثلاث فأولها: قولهم * (سلام عليكم) * وهذا يدل على أنهم يبشرونهم بالسلامة من كل الآفات
22

وثانيها: قولهم * (طبتم) * والمعنى طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا وثالها: قولهم * (فادخلوها خالدين) * والفاء في قوله * (فادخلوها) * يدل على كون ذلك الدخول معللا بالطيب والطهارة، قالت المعتزلة هذا يدل على أن أحدا لا يدخلها إلا إذا كان طاهرا عن كل المعاصي، قلنا هذا ضعيف لأنه تعالى يبدل سيئاتهم حسنات، وحينئذ يصيرون طيبين طاهرين بفضل الله تعالى، فإن قيل فهذا الذي تقدم ذكره هو الشرط فأين الجواب؟ قلنا فيه وجهان الأول: أن الجواب محذوف والمقصود من الحذف أن يدل على أنه بلغ في الكمال إلى حيث لا يمكن ذكره الثاني: أن الجواب هو قوله تعالى: * (وقال لهم خزنتها سلام عليكم) * والواو محذوف، والصحيح هو الأول، ثم أخبر الله تعالى بأن الملائكة إذا خاطبوا المتقين بهذه الكلمات، قال المتقون عند ذلك * (الحمد لله الذي صدقنا وعده) * في قوله * (ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * (فصلت: 30) * (وأورثنا الأرض) * والمراد بالأرض أرض الجنة، وإنما عبر عنه بالإرث لوجوه الأول: أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام، لأنه تعالى قال: وكلا منها رغدا حيث شئتما) * (البقرة: 35) فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم كان ذلك سببا
لتسميتها بالإرث الثاني: أن هذا اللفظ مأخوذ من قول القائل: هذا أورث كدا وهذا العمل أورث كدا فلما كانت طاعتهم قد أفادتهم الجنة، لا جرم قالوا * (وأورثنا الأرض) * والمعنى أن الله تعالى أورثنا الجنة بأن وفقنا للإتيان بأعمال أورثت الجنة الثالث: أن الوارث يتصرف فيما يرثه كما يشاء من غي منازع ولا مدافع فكذلك المؤمنون المتقون يتصرفون في الجنة كيف شاءوا وأرادوا، والمشابهة علة حسن المجاز فإن قيل ما معنى قوله * (حيث نشاء) * وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلنا يكون لكل أحد جنة لا يحتاج معها إلى جنة عيره، قال حكماء الإسلام: الجنات نوعان، الجنات الجسمانية والجنات الروحانية فالجنات الجسمانية لا تحتمل المشاركة فيها، أما الروحانيات فحصولها لواحد لا يمنع من حصولها للآخرين، ولما بين الله تعالى صفة أهل الجنة قال: * (فنعم أجر العاملين) * قال مقاتل ليس هذا من كلام أهل الجنة، بل من كلام الله تعالى لأنه لما حكى ما جرى بين الملائكة وبين المتقين من صفة ثواب أهل الجنة قال بعده * (فنعم أجر العاملين) * ولما قال تعالى: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * ذكر عقيبه ثواب الملائكة فقال كما أن دار ثواب المتقين المؤمنين هي الجنة، فكذلك دار ثواب الملائكة جوانب العرش وأطرافه، فلهذا قال: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * أي محفين بالعرش. قال الليث: يقال حف القوم بسيدهم يحفون حفا إذا طافوا به. إذا عرفت هذا، فنقول بين تعالى أن دار ثوابهم هو جوانب العرش وأطرافه
ثم قال: * (يسبحون بحمد ربهم) * وهذا مشعر بأن ثوابهم هو عين ذلك التحميد والتسبيح، وحينئذ رجع حاصل الكلام إلى أن أعظم درجات الثواب استغراق قلوب العباد درجات التنزيه ومنازل التقديس.
ثم قال: * (وقضي بينهم بالحق) * والمعنى أنهم على درجات مختلفة ومراتب متفاوتة، فلكل واحد
23

منهم في درجات المعرفة والطاعة حد محدود لا يتجاوزه ولا يتعداه، وهو المراد من قوله * (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) * أي الملائكة لما قضي بينهم بالحق قالوا الحمد لله رب العالمين على قضائه بيننا بالحق، وههنا دقيقة أعلى مما سبق وهي أنه سبحانه لما قضى بينهم بالحق، فهم ما حمدوه لأجل ذلك القضاء، بل حمدوه بصفته الواجبة وهي كونه ربا للعالمين، فإن من حمد المنعم لأجل أن إنعامه وصل إليه فهو في الحقيقة ما حمد المنعم وإنما حمد الإنعام، وأما من حمد المنعم لا لأنه وصل إليه النعمة فههنا قد وصل إلى لجة بحر التوحيد، هذا إذا قلنا إن قوله * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * شرح أحوال الملائكة في الثواب، أما إذا قلنا إنه من بقية شرح ثواب المؤمنين، فتقريره أن يقال إن المتقين لما قالوا * (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء) * فقد ظهر منهم أنهم في الجنة اشتغلوا بحمد الله وبذكره بالمدح والثناء، فبين تعالى أنه كما أن حرفة المتقين في الجنة الاشتغال بهذا التحميد والتمجيد، فكذلك حرفة الملائكة الذين هم حافون حول العرش الاشتغال بالتحميد والتسبيح، ثم إن جوانب العرش ملاصقة لجوانب الجنة، وحينئذ يظهر منه أن المؤمنين المتقين وأن الملائكة المقربين يصيرون متوافقين على الاستغراق في تحميد الله وتسبيحه، فكان ذلك سببا لمزيد التذاذهم بذلك التسبيح والتحميد.
ثم قال: * (وقضي بينهم بالحق) * أي بين البشر،
ثم قال: * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * والمعنى أنهم يقدمون التسبيح، والمراد منه تنزيه الله عن كل ما لا يليق بالإلهية. وأما قوله تعالى: * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * فالمراد وصفه بصفات الإلهية، فالتسبيح عبارة عن الاعتراف بتنزيهه عن كل ما لا يليق به وهو صفات الجلال، وقوله * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * عبارة عن الإقرار بكونه موصوفا بصفات الإلهية وهي صفات الإكرام، ومجموعهما هو المذكور في قوله * (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) * (الرحمن: 78) وهو الذي كانت الملائكة يذكرونه قبل خلق العالم وهو قولهم * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) وفي قوله * (وقيل الحمد لله رب العالمين) * دقيقة أخرى وهي أنه لم يبين أن ذلك القائل من هو، والمقصود من هذا الإبهام التنبيه، على أن خاتمة كلام العقلاء في الثناء على حضرة الجلال والكبرياء ليس إلا أن يقولوا * (الحمد لله رب العالمين) * وتأكد هذا بقوله تعالى في صفة أهل الجنة * (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10).
24

سورة المؤمن
ثمانون وخمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذى الطول لا إله إلا هو إليه المصير * ما يجادل فى ءايات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم فى البلاد * كذبت قبلهم قوم نوح والاحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب * وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) *.
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي حم بكسر الحاء، والباقون بفتح الحاء، ونافع في بعض الروايات، وابن عامر بين الفتح والكسر وهو أن لا يفتحها فتحا شديدا، قال صاحب " الكشاف ": قرىء بفتح الميم وتسكينها، ووجه الفتح التحريك لالتقاء الساكنين وإيثار أخف الحركات نحو: أين وكيف، أو النصب بإضمار إقرأ، ومنع الصرف إما
25

للتأنيث والتعريف، من حيث إنها اسم للسورة وللتعريف، وإنها على زنة أعجمي نحو قابيل وهابيل، وأما السكون فلأنا بينا أن الأسماء المجردة تذكر موقوفة الأواخر.
المسألة الثانية: الكلام المستقصى في هذه الفواتح مذكور في أول سورة البقرة، والأقرب ههنا أن يقال حم اسم للسورة، فقوله * (حم) * مبتدأ، وقوله * (تنزيل
الكتاب من الله) * خبر والتقدير أن هذه السورة المسماة بحم تنزيل الكتاب، فقوله * (تنزيل) * مصدر، لكن المراد منه المنزل. وأما قوله * (من الله) * فاعلم أنه لما ذكر أن * (حم تنزيل الكتاب) * وجب بيان أن المنزل من هو؟ فقال: * (من الله) * ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملا على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه، فبين أن المنزل هو * (الله العزيز العليم) *.
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو؟ فقال جمع عظيم، أنه العلم بكونه قادرا وبعده العالم بكونه عالما، إذا عرفت هذا فنقول * (العزيز) * له تفسيران أحدهما: الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني: الذي لا مثل له، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر، لأن قوله تعالى: * (الله) * يدل على كونه قادرا، فوجب حمل * (العزيز) * على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسما، والذي لا يكون جسما يكون منزها عن الشهوة والنفرة، والذي يكون كذلك يكون منزها عن الحاجة. وأما * (العليم) * فهو مبالغة في العلم، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالما بكل المعلومات، فقوله * (من الله العزيز العليم) * يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق، الغني المطلق، العالم المطلق، ومن كان كذلك كان عالما بوجوه المصالح والمفاسد، وكان عالما بكونه غنيا عن جر المصالح ودفع المفاسد، ومن كان كذلك كان رحيما جوادا، وكانت أفعاله حكمة وصوابا منزهة عن القبيح والباطل، فكأن سبحانه إنما ذكر عقيب قوله * (تنزيل) * هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقا وصوابا، وقيل الفائدة في ذكر * (العزيز العليم) * أمران أحدهما: أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزا عليما لما صح ذلك والثاني: أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزا لا يغلب وبكونه عليما لا يخفى عليه شيء، ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب، فقال: * (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) * فهذه ستة أنواع من الصفات:
الصفة الأولى: قوله * (غافر الذنب) * قال الجبائي: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة
26

كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة، ومذهب أصحابنا أن الله تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة، وهذه الآية تدل على ذلك وبيانه من وجوه الأول: أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد، وجميع الأنبياء والأولياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبق بينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني: أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقيا موجودا فيستر، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها، فمعنى الغفر فيها غير معقول، ولا يمكن حمل قوله * (غافر الذنب) * على الكبيرة بعد التوبة، لأن معنى كونه قابلا للتوب ليس إلا ذلك، فلو كان المراد غافر الذنب هذا المعنى لزم التكرار وإنه باطل فثبت أن كونه غافر الذنب يفيد كونه غافرا للذنوب الكبائر قبل التوبة الثالث: أن قوله * (غافر الذنب) * مذكور في معرض المدح العظيم، فوجب حمله على ما يفيد أعظم أنواع المدح، وذلك هو كونه غافرا للكبائر قبل التوبة، وهو المطلوب.
الصفة الثانية: * (قابل التوب) * وفيه بحثان: الأول: في لفظ التوب قولان: الأول: أنه مصدر وهو قول أبي عبيدة، والثاني: أنه جماعة التوبة وهو قول الأخفش، قال المبرد يجوز أن يكون مصدرا يقال تاب يتوب توبا وتوبة مثل قال يقول قولا وقولة، ويجوز أن يكون جمعا لتوبة فيكون توبة وتوب مثل ثمرة وثمر إلا أن المصدر أقرب لأن على هذا التقدير يكون تأويله أنه يقبل هذا الفعل. الثاني: مذهب أصحابنا أن قبول التوبة من المذنب يقع على سبيل التفضل، وليس بواجب على الله، وقالت المعتزلة إنه واجب على الله واحتج أصحابنا بأنه تعالى ذكر كونه قابلا للتوب على سبيل المدح والثناء، ولو كان ذلك من الواجبات لم يبق فيه من معنى المدح إلا القليل، وهو القدر الذي يحصل لجميع الصالحين عند أداء الواجبات والاحتراز عن المحظورات.
الصفة الثالثة: قوله * (شديد العقاب) * وفيه مباحث:
البحث الأول: في هذه الآية سؤال وهو أن قوله * (شديد العقاب) * يصلح أن يكون نعتا للنكرة ولا يصلح أن يكون نعتا للمعرفة تقول مررت برجل شديد البطش، ولا تقول مررت بعبد الله شديد البطش، وقوله الله تسم علم فيكون معرفة فكيف يجوز وصفه بكونه شديد العقاب مع أنه لا يصلح إلا أن يجعل وصفا لنكرة؟ قالوا وهذا بخلاف قولنا غافر الذنب وقابل التوب لأنه ليس المراد منهما حدوث هذين الفعلين وأنه يغفر الذنب ويقبل التوبة الآن أو غدا، وإنما أريد
27

ثبوت ذلك ودوامه، فكان حكمهما حكم إله الخلق ورب العرش، وأما * (شديد العقاب) * فمشكل لأنه في تقدير شديد عقابه فيكون نكرة فلا يصح جعله صفة للمعرفة، وهذا تقرير السؤال وأجيب عنه بوجوه الأول: أن هذه الصفة وإن كانت نكرة إلا أنها لما ذكرت مع سائر الصفات التي هي معارف حسن ذكرها كما في قوله * (وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد فعال لما يريد) * (البروج: 14 - 16) والثاني: قال الزجاج إن خفض * (شديد العقاب) * على البدل، لأن جعل النكرة بدلا من المعرفة وبالعكس أمر جائز، واعترضوا عليه بأن جعله وحده بدلا من الصفات فيه نبوة ظاهرة الثالث: أنه لا نزاع في أن قوله * (غافر الذنب وقابل التوب) * يحسن جعلهما صفة، وإنما كان كذلك لأنهما مفيدان معنى الدوام والاستمرار، فكذلك قوله * (شديد العقاب) * يفيد معنى الدوام والاستمرار، لأن صفات الله تعالى منزهة عن الحدوث والتجدد، فكونه * (شديد العقاب) * معناه كونه بحيث يشتد عقابه، وهذا المعنى حاصل أبدا، وغير موصوف بأنه حصل بعد أن لم يكن كذلك، فهذا ما
قيل في هذا الباب.
البحث الثاني: هذه الآية مشعرة بترجيح جانب الرحمة والفضل، لأنه تعالى لما أراد أن يصف نفسه بأنه شديد العقاب ذكر قبله أمرين كل واحد منهما يقتضي زوال العقاب، وهو كونه غافر الذنب وقابل التوب وذكر بعده ما يدل على حصول الرحمة العظيمة، وهو قوله * (ذي الطول) *، فكونه شديد العقاب لما كان مسبوقا بتينك الصفتين وملحوقا بهذه الصفة، دل ذلك على أن جانب الرحمة والكرم أرجح. البحث الثالث: لقائل أن يقول ذكر الواو في قوله * (غافر الذنب وقابل التوب) * ولم يذكرها في قوله * (شديد العقاب) * فما الفرق؟ قلنا إنه لو لم يذكر الواو في قوله * (غافر الذنب وقابل التوب) * لاحتمل أن يقع في خاطر إنسان أنه لا معنى لكونه غافر الذنب إلا كونه قابل التوب، أما لما ذكر الواو زال هذا الاحتمال، لأن عطف الشيء على نفسه محال، أما كونه شديد العقاب فمعلوم أنه مغاير لكونه * (غافر الذنب وقابل التوب) * فاستغنى به عن ذكر الواو.
الصفة الرابعة: * (ذكر الطول) * أي ذي التفضل يقال طال علينا طولا أي تفضل علينا تفضلا، ومن كلامهم طل علي بفضلك، ومنه قوله تعالى: * (أولوا الطول منهم) * (الزمر: 86) ومضى تفسيره عند قوله * (ومن لم يستطع منكم طولا) * (النساء: 25)
واعلم أنه لم يصف نفسه بكونه * (شديد العقاب) * لا بد وأن يكون المراد بكونه تعالى آتيا بالعقاب الشديد الذي لا يقبح منه إتيانه به، بل لا يجوز وصفه تعالى بكونه آتيا لفعل القبيح، وإذا ثبت هذا فنقول: ذكر بعده كونه ذا الطول وهو كونه ذا الفضل، فيجب أن يكون معناه كونه ذا الفضل بسبب أن يترك العقاب الذي له أن يفعله لأنه ذكر كونه ذا الطول ولم يبين أنه ذو الطول فيماذا فوجب صرفه إلى كونه ذا الطول في الأمر الذي سبق ذكره، وهو فعل العقاب الحسن دفعا للإجمال، وهذا يدل على أنه تعالى قد يترك العقاب الذي
28

يحسن منه تعالى فعله، وذلك يدل على أن العفو عن أصحاب الكبائر جائز وهو المطلوب.
الصفة الخامسة: التوحيد المطلق وهو قوله * (لا إله إلا هو) * والمعنى أنه وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه في صفة الرحمة والفضل لما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة، أما إذا كان واحدا وليس له شريك ولا شبيه كانت الحاجة إلى الإقرار بعبوديته شديدة، فكان الترغيب والترهيب الكاملان يحصلان بسبب هذا التوحيد.
الصفة السادسة: قوله * (إليه المصير) * وهذه الصفة أيضا مما يقوى الرغبة في الإقرار بعبوديته، لأنه بتقدير أن يكون موصوفا بصفات الفضل والكرم وكان واحدا لا شريك له، إلا أن القول بالحشر والنشر إن كان باطلا لم يكن الخوف الشديد حاصلا من عصيانه، أما لما كان القول بالحشر والقيامة حاصلا كان الخوف أشد والحذر أكمل، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذه الصفات، واحتج أهل التشبيه بلفظة إلى، وقالوا إنها تفيد انتهاء الغاية، والجواب عنه مذكور في مواضع كثيرة من هذا الكتاب.
واعلم أنه تعالى لما قرر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل لغرض إبطاله وإخفاء أمره فقال: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الجدال نوعان جدال في تقرير الحق وجدال في تقرير الباطل، أما الجدال في تقرير الحق فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النمل: 125) وقال حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام * (يا نوح قد جادلتنا جدالنا) * (هود: 32) وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) * وقال: * (ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) * (الزخرف: 58) وقال: * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) * وقال صلى الله عليه وسلم: " إن جدالا في القرآن كفر " فقوله إن جدالا على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال لأجل تقريره والذب عنه، قال صلى الله عليه وسلم: " إن جدالا في القرآن كفر " وقال: " لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ".
المسألة الثانية: الجدال في آيات الله هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا مما كانوا يقولون من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق.
ثم قال تعالى: * (فلا يغررك تقلبهم في البلاد) * أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم
29

يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش، فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية، وكانت قريش كذلك يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون، ثم كشف عن هذا المعنى فقال: * (كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم) * فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم، كما قال في سورة ص (12، 13) * (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب) * وقوله * (وهمت كل أملا برسولهم ليأخذوه) * أي وعزمت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه * (وجادلوا بالباطل) * أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بإيراد الشبهات * (ليدحضوا به الحق) * أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق * (فأخذتهم فكيف كان عقاب) * أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا، فكيف كان عقابي إياهم، أليس كان مهلكا مستأصلا مهيبا في الذكر والسماع، فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات الله، ثم كشف عن هذا المعنى فقال: * (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار) * أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضا على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب " الكشفا " * (أنهم أصحاب النار) * في محل الرفع بدل من قوله * (كلمة ربك) * أي مثل ذلك
الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء الله بالسعادة والشقاوة لازم لا يمكن تغييره، فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان، لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة، ولتمكنوا من إبطال علم الله وحكمته، ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكنا من كل ما هو من لوازمه، ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه الآية فحينئذ كانوا قد آمنوا بأنهم لا يؤمنون أبدا، وذلك تكليف ما لا يطاق، وقرأ نافع وابن عامر * (حقت كلمات ربك) * على الجمع والباقون على الواحد.
قوله تعالى
* (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين ءامنوا ربنا وسعت كل شىء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
30

الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التى وعدتهم ومن صلح من ءابآئهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم * وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الكفار يبالغون في إظهار العداوة مع المؤمنين، بين أن أشرف طبقات المخلوقات هم الملائكة الذين هم حملة العرش والحافون حول العرش يبالغون في إظهار المحبة والنصرة للمؤمنين، كأنه تعالى يقول إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم ولا تقم لهم وزنا، فإن حملة العرش والحافون من حول العرش معك ينصرونك وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى حكى عن نوعين من فرق الملائكة هذه الحكاية: القسم الأول: * (الذين يحملون العرش) * وقد حكى تعالى أن الذين يحملون العرش يوم القيامة ثمانية، فيمكن أن يقال الذين يحملون في هذا الوقت هم أولئك الثمانية الذين يحملونه يوم القيامة، ولا شك أن حملة العرش أشراف الملائكة وأكابرهم، روى صاحب " الكشاف " أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤسهم قد خرقت العرش وهم خشوع ولا يرفعون طرفهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله تعالى من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية العرش على كاهله، وقدماه في الأرض السفلى، وقد مرق رأسه من سبع سماوات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوضع " قيل إنه طائر صغير، وروي أن الله أمر جميع الملائكة أن يغدو ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة، وقيل خلق الله العرش ممن جوهرة خضراء، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وقيل حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون به مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ومن ورائهم مائة ألف صف وقد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلا ويسبح بما لا يسبح به الآخر، هذه الآثار نقلتها من " الكشاف ".
31

وأما القسم الثاني: من الملائكة الذين ذكرهم الله تعالى في هذه الآية فقوله تعالى: * (ومن حوله) * والأظهر أن المراد منهم ما ذكره في قوله * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * (الزمر: 75) وأقول العقل يدل على أن حملة العرش، والحافين حول العرش يجب أن يكونوا أفضل الملائكة، وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد، فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد، وأيضا يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعلية لجسم العرش أرواح أخر من جنسها، وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله * (وترى الملائكة حافين من حول العرش) * (الزمر: 75) وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية، وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد، إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد، فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح.
المسألة الثانية: دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزه عن أن يكون في العرش، وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية * (الذين يحملون العرش) * وقال في آية أخرى * (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) * (الحاقة: 17) ولا شك أن حامل العرش يكون حاملا لكل من في العرش، فلو كان إله العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإله العالم فحينئذ يكونون حافظين لإله العالم والحافظ القادر أولى بالإلهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية، فحينئذ ينقلب الإله عبدا والعبد إلها، وذلك فاسد، فدل هذا على أن إله العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام.
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء:
النوع الأول: قوله * (يسبحون بحمد ربهم) * ونظيره قوله حكاية عن الملائكة * (ونحن نسبح بحمدك) * (البقرة: 30) وقوله تعالى: * (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم) * (الزمر: 75) فالتسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام، فقوله * (يسبحون بحمد ربهم) * قريب من قوله * (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) * (الرحمن: 78).
النوع الثاني: مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى: * (ويؤمنون به) * فإن قيل فأي فائدة في قوله * (ويؤمنون به) * فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟ قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب " الكشاف "، وقد أحسن فيه جدا فقال إن المقصود منه التنبه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب
المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب
32

المدح والثناء، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك، ورحم الله صاحب " الكشاف " فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا وشرفا.
النوع الثالث: مما حكى الله عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى: * (ويستغفرون للذين آمنوا) * اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين: التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، ويجب أن يكون التعظيم لأمر الله مقدما على الشفقة على خلق الله فقوله * (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به) * مشعر بالتعظيم لأمر الله وقوله * (ويستغفرون للذين آمنوا) * مشعر بالشفقة على خلق الله.
ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج كثير من العلماء بهذه الآية في إثبات أن الملك أفضل من البشر، قالوا لأن هذه الآية تدل على أن الملائكة لما فرغوا من ذكر الله بالثناء والتقديس اشتغلوا بالاستغفار لغيرهم وهم المؤمنون، وهذا يدل على أنهم مستغنون على الاستغفار لأنفسهم إذ لو كانوا محتاجين إليه لقدموا الاستغفار لأنفسهم على الاستغفار لغيرهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " ابدأ بنفسك " وأيضا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم * (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * (محمد: 19) فأمر محمدا أن يذكر أولا الاستغفار لنفسه، ثم بعده يذكر الاستغفار لغيره، وحكى عن نوح عليه السلام أنه قال: * (رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات) * (نوح: 28) وهذا يدل على أن كل من كان محتاجا إلى الاستغفار فإنه يقدم الاستغفار لنفسه على الاستغفار لغيره، فالملائكة لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لكان اشتغالهم لأنفسهم مقدما على اشتغالهم بالاستغفار لغيرهم، ولما لم يذكر الله تعالى عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أن ذلك إنما كان لأنهم ما كانوا محتاجين إلى الاستغفار، وأما الأنبياء عليهم السلام فقد كانوا محتاجين إلى استغفار بدليل قوله تعالى لمحمد عليه السلام * (واستغفر لذنبك) * وإذا ثبت هذا فقد ظهر أن الملك أفضل من البشر والله أعلم.
المسألة الثانية: احتج الكعبي بهذه الآية على أن تأثير الشفاعة في حصول زيادة الثواب للمؤمنين لا في إسقاط العقاب عن المذنبين، قال وذلك لأن الملائكة قالوا * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * قال وليس المراد فاغفر للذين تابوا من الكفر سواء كان مصرا على الفسق أو لم يكن كذلك، لأن من هذا حاله لا يوصف بكونه متبعا سبيل ربه ولا يطلق ذلك فيه، وأيضا إن الملائكة يقولون * (وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) * وهذا لا يليق بالفاسقين، لأن خصومنا لا يقطعون على أن الله تعالى وعدهم الجنة وإنما يجوزون ذلك، فثبت أن شفاعة الملائكة لا يتناول إلا أهل الطاعة، فوجب أن تكون شفاعة الأنبياء كذلك، ضرورة أنه لا قائل بالفرق والجواب أن نقول هذه الآية تدل على حصول الشفاعة من الملائكة المذنبين، فنبين هذا ثم نجيب عما ذكره الكعبي، أما بيان دلالة هذه الآية على ما قلناه فمن وجوه الأول: قوله * (ويستغفرون للذين
33

آمنوا) * والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العقاب. أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا الثاني: قوله تعالى: * (ويستغفرون للذين
آمنوا) * وهذا يدل على أنهم يستغفرون لكل أهل الإيمان، فإذا دلنا على أن صاحب الكبيرة مؤمن وجب دخوله تحت هذه الشفاعة الثالث: قوله تعالى: * (فاغفر للذين تابوا) * طلب المغفرة للذين تابوا، ولا يجوز أن يكون المراد إسقاط عقوبة الكبيرة بعد التوبة، لأن ذلك واجب على الله عند الخصم، وما كان فعله واجبا كان طلبه بالدعاء قبيحا، ولا يجوز أيضا أن يكون المراد إسقاط عقوبة الصغائر، لأن ذلك أيضا واجب فلا يحسن طلبه بالدعاء، ولا يجوز أن يكون المراد طلب زيادة منفعة على الثواب، لأن ذلك لا يسمى مغفرة، فثبت أنه لا يمكن حمل قوله * (فاغفر للذين تابوا) * إلا على إسقاط عقاب الكبيرة قبل التوبة، وإذا ثبت هذا في حق الملائكة فكذلك في حق الأنبياء لانعقاد الإجماع على أنه لا فرق، أما الذي يتمسك به الكعبي وهو أنهم طلبوا المغفرة للذين تابوا، فنقول يجب أن يكون المراد منه الذين تابوا عن الكفر واتبعوا سبيل الإيمان، وقوله إن التائب عن الكفر المصر على الفسق لا يسمى تائبا ولا متبعا سبيل الله، قلنا لا نسلم قوله، بل يقال إنه تائب عن الكفر وتابع سبيل الله في الدين والشريعة، وإذا ثبت أنه تائب عن الكفر ثبت أنه تائب، ألا ترى أنه يكفي في صدق وصفه بكونه ضاربا وضاحكا صدور الضرب والضحك عنه واحدة، ولا يتوقف ذلك على صدور كل أنواع الضرب والضحك عنه فكذا ههنا.
المسألة الثالثة: قال أهل التحقيق: إن هذه الشفاعة الصادرة عن الملائكة في حق البشر تجري مجرى اعتذار عن ذلة سبقت، وذلك لأنهم قالوا في أول تخليق البشر * (أتجعل فيها من يفسد فيها وسفك الدماء) * (البقرة: 30) فلما سبق منهم هذا الكلام تداركوا في آخر الأمر بأن قالوا * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) * وهذا كالتنبيه على أن من آذى غيره، فالأولى أن يجبر ذلك الإيذاء بإيصال نفع عليه.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الملائكة أنهم يستغفرون للذين تابوا، بين كيفية ذلك الاستغفار، فحكى عنهم أنهم قالوا * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أن الدعاء في أكثر الأمور مذكور بلفظ * (ربنا) * ويدل عليه أن الملائكة عند الدعاء قالوا * (ربنا) * بدليل هذه الآية، وقال آدم عليه السلام * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (الأعراف: 23) وقال نوح عليه السلام * (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم) * (هود: 47) وقال أيضا: * (رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا) * (نوح: 5) وقال أيضا: * (رب اغفر لي ولوالدي) * (نوح: 28) وقال عن إبراهيم عليه السلام: * (رب أرني كيف تحيي الموتى) * (البقرة: 260) وقال: * (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) * (إبراهيم: 41) وقال: * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)
* (البقرة: 128) وقال عن يوسف * (رب قد آتيتني من الملك) * (يوسف: 101) وقال عن موسى عليه السلام: * (رب أرني أنظر إليك) * (الأعراف: 143) وقال في قصة الوكز * (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
34

فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين) * (القصص: 16، 17) وحكى تعالى عن داود * (فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب) * (ص: 24) وعن سليمان أنه قال: * (رب اغفر لي وهب لي ملكا) * (ص: 35) وعن ذكريا أنه * (نادى ربه نداء خفيا) * (مريم: 3) وعن عيسى عليه السلام أنه قال: * (ربنا أنزل علينا مائدة من السماء) * (المائدة: 114) وعن محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال له: * (وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين) * (المؤمنون: 97) وحكى عن المؤمنون أنهم قالوا * (ربنا ما خلقت هذا باطلا) * (آل عمران: 191) وأعادوا هذه اللفظة خمس مرات، وحكى أيضا عنهم أنهم قالوا * (غفرانك ربنا وإليك المصير) * (البقرة: 285) إلى آخر السورة.
فثبت بما ذكرنا أن من أرضى الدعاء أن ينادي العبد ربه بقوله يا رب وتمام الإشكال فيه أن يقال لفظ الله أعظم من لفظ الرب، فلم صار لفظ الرب مختصا بوقت الدعاء؟، والجواب كأن العبد يقول: كنت في كتم العدم والمحض والنفي الصرف، فأخرجتني إلى الوجود، وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك.
المسألة الثانية: السنة في الدعاء، يبدأ في بالثناء على الله تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، والدليل عليه هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدأوا بالثناء فقالوا * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * وأيضا أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولا فقال: * (الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني يسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) * (الشعراء: 78 - 82) فكل هذا ثناء على الله تعالى، ثم بعده ذكر الدعاء فقال: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * (الشعراء: 83).
واعلم أن العقل يدل أيضا على رعاية هذا الترتيب، وذلك ذكر الله بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهبا إبريزا فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال الله تعالى على جوهر الروح النطقية، انقلب من نحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة، فثبت أن عند إشراق نور معرفة الله تعالى في جواهر الروح، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقا، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل، فكان حصول الشيء المطلوب أقرب وأكمل، وهذا هو السبب في تقديم الثناء على الله على الدعاء.
المسألة الثالثة: اعلم أن الملائكة وصفوا الله تعالى بثلاثة أنواع من الصفات: الربوبية والرحمة والعلم، أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع، وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم
35

* (ربنا) * إشارة إلى التربية، والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكل أحواله وأحسن صفاته، وهذا يدل على أن هذه الممكنات، كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده، فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء الله، وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر، وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير، لا للاضرار والشر، فإن قيل قوله * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * فيه سؤال، لأن العلم وسع كل شيء، أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء، لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة، وهذا السؤال أيضا مذكور في قوله * (ورحمتي وسعت كل شيء) * (الأعراف: 156) قلنا كل وجود فقد ننال من رحمة الله تعالى نصيبا وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، أما الواجب فليس إلا الله سبحانه وتعالى، وأما الممكن فوجوده من الله تعالى وبإيجاده، وذلك رحمة، فثبت أنه لا موجود غير الله إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة الله، فلهذا قال: * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * وفي الآية دقيقة أخرى، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا * (ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما) * وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب، فالمطلوب بالذات هو الرحمة، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم، والمطلوب بالذات مقدم على المطلوب بالعرض، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوبا بالذات وإزالة المرض مطلوبا بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض، فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة، فكذا ههنا المطلوب بالذات هو الرحمة، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض، لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقا على ذكر العلم.
المسألة الرابعة: دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم، ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء الله وقدره، والجمع بين هذين الأصلين في غاية الصعوبة، فعند هذا قالت الحكماء: الخير مراد مرضي، والشر مراد مكروه، والخير مقضي به بالذات، والشر مقضي به بالعرض، وفيه غور عظيم.
المسألة الخامسة: قوله * (وسعت كل شيء رحمة وعلما) * يدل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات، وأيضا فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء، فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن الله سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة البتة.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على الله تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم، وهو أنهم قالوا * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) *
واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء
36

من الله تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين، فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله * (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب، وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله: فاغفر لهم، وبين قوله * (وقهم عذاب الجحيم) * قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة، فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة، واعلم أنهم لما طلبوا من الله إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من الله إيصال الثواب إليهم فقالوا * (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم) * فإن قيل أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنات عدن، قلنا لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك، لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلت على أنه تعالى لا يخلد أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله في النار، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعدا من الله تعالى لهم بأن يدخلهم في جنات عدن، إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار. قال تعالى: * (ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) * يعني وأدخل معهم في الجنة هؤلاء الطوائف الثلاث، وهم الصالحون من الآباء والأزواج والذريات، وذلك لأن الرجل إذا حضر معه في وضع عيشه وسروره أهله وعشيرته كان ابتهاجه أكمل، قال الفراء والزجاج * (من صلح) * نصب من مكانين فإن شئت رددته على الضمير في قوله * (وأدخلهم) * وإن شئت في * (وعدتهم) * والمراد من قوله * (ومن صلح) * أهل الإيمان، ثم قالوا: * (إنك أنت العزيز الحكيم) * وإنما ذكروا في دعائهم هذين الوصفين لأنه لو لم يكن عزيزا بل كان بحيث يغلب ويمنع لما صح وقوع المطلوب منه، ولو لم يكن حكيما لما حصل هذا المطلوب على وفق الحكمة والمصلحة، ثم قالوا بعد ذلك * (وقهم السيئات) * قال بعضهم المراد وقهم عذاب السيئات، فإن قيل فعلى هذا التقدير لا فرق بين قوله * (وقهم السيئات) * وبين ما تقدم من قوله * (وقهم عذاب الجحيم) * وحينئذ يلزم التكرار الخالي عن الفائدة وإنه لا يجوز، قلنا بل التفاوت حاصل من وجهين الأول: أن يكون قوله * (وقهم عذاب الجحيم) * دعاء مذكور للأصول وقوله * (وقهم السيئات) * دعاء مذكورا للفروع الثاني: أن يكون قوله * (وقهم عذاب الجحيم) * مقصورا على إزالة الجحيم وقوله * (وقهم السيئات) * يتناول عذاب الجحيم وعذاب موقف القيامة وعذاب الحساب والسؤال.
والقول الثاني: في تفسير * (وقهم السيئات) * هو أن الملائكة طلبوا إزالة عذاب النار بقولهم * (وقهم عذاب الجحيم) * وطلبوا إيصال ثواب الجنة إليهم بقولهم * (وأدخلهم جنات عدن) * ثم طلبوا بعد ذلك أن يصونهم الله تعالى في الدنيا عن العقائد الفاسدة، والأعمال الفاسدة، وهو المراد بقولهم * (وقهم السيئات) * ثم قالوا * (ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته) * يعني ومن تق السيئات في الدنيا فقد رحمته في يوم القيامة، ثم قالوا * (وذلك هو الفوز العظيم) * حيث وجدوا بأعمال منقطعة نعيما، وبأعمال حقيرة ملكا لا تصل العقول إلى كنه جلالته.
37

قوله تعالى
* (إن الذين كفروا ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون * قالوا ربنآ أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم الله العلى الكبير) *
اعلم أنه تعالى لما عاد إلى شرح أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله وهم الذين ذكرهم الله في قوله * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) * (غافر: 4) بين أنهم في القيامة يتعرفون بذنوبهم واستحقاقهم العذاب الذي ينزل بهم ويسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم فقال: * (إن الذين كفروا ينادون لقمت الله أكبر من مقتكم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف وفيها أيضا تقديم وتأخير، أما الحذف فتقديره لمقت الله إياكم، وما التقديم والتأخير فهو أن التقدير أن يقال لمقت الله لكم حال ما تدعون إلى الإيمان فتكفرون أكبر من مقتكم أنفسكم وفي تفسير مقتهم أنفسهم وجوه الأول: أنهم إذا شاهدوا القيامة والجنة والنار مقتوا أنفسهم على إصرارهم على التكذيب بهذه الأشياء في الدنيا الثاني: أن الاتباع يشتد مقتهم للرؤساء الذين دعوهم إلى الكفر في الدنيا، والرؤساء أيضا يشتد مقتهم للأتباع فعبر عن مقت بعضهم بعضا بأنهم مقتوا أنفسهم، كما أنه تعالى قال: * (فاقتلوا أنفسكم) * (البقرة: 54) والمراد قتل بعضهم بعضا الثالث: قال محمد بن كعب إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله * (وما كان لي عليكم من سلطان - إلى قوله - ولوموا أنفسكم) * (إبراهيم: 22) ففي هذه الحالة مقتوا أنفسهم، واعلم أنه لا نزاع أن مقتهم أنفسهم إنما يحصل في يوم القيامة، أما مقت الله لهم ففيه وجهان الأول: أنه حاصل في الآخرة، والمعنى لمقت الله لكم في هذا الوقت أشد من مقتكم أنفسكم في هذا الوقت والثاني: وعليه الأكثرون أن التقدير لمقت الله لكم في الدنيا إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، أكبر من مقتكم أنفسكم الآن ففي تفسير الألفاظ المذكورة في الآية أوجه الأول: أن الذين ينادونهم ويذكرون لهم هذا الكلام هم خزنة جهنم الثاني: المقت أشد البغض وذلك في حق الله تعالى محال، فالمراد منه أبلغ الإنكار والزجر الثالث: قال الفراء * (ينادون لمقت الله) * معناه إنهم ينادون إن مقت الله
38

أكبر يقال ناديت وان زيدا لقائم (الرابع) قوله إذ تدعون إلى الإيمان) فيه حذف والتقدير
لمقت الله لكم إذ تدعون إلى الإيمان فتأتون بالكفر أكبر من مقتكم الآن أنفسكم.
ثم إنه تعالى بين أن الكفار إذا خاطبوا بهذا الخطاب * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) * إلى آخر الآية، والمعنى أنهم لما عرفوا أن الذي كانوا عليه في الدنيا كان فاسدا باطلا تمنوا الرجوع إلى الدنيا لكي يشتغلوا عند الرجوع إليها بالأعمال الصالحة، وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: احتج أكثر العلماء بهذه الآية في إثبات عذاب القبر، وتقرير الدليل أنهم أثبتوا لأنفسهم موتتين حيث قالوا * (ربنا أمتنا اثنتين) * فأحد الموتتين مشاهد في الدنيا فلا بد من إثبات حياة أخرى في القبر حتى يصير الموت الذي
يحصل عقيبها موتا ثانيا، وذلك يدل على حصول حياة في القبر، فإن قيل قال كثير من المفسرين الموتة الأولى إشارة إلى الحالة الحاصلة عند كون الإنسان نطفة وعلقة والموتة الثانية إشارة إلى ما حصل في الدنيا، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك، والذي يدل على أن الأمر ما ذكرناه قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم) * (البقرة: 28) والمراد من قوله * (وكنتم أمواتا) * الحالة الحاصلة عند كونه نطفة وعلقة وتحقيق الكلام أن الإماتة تستعمل بمعنيين أحدهما: إيجاد الشيء ميتا والثاني: تصيير الشيء ميتا بعد أن كان حيا كقولك وسع الخياط ثوبي، يحتمل أنه خاطه واسعا ويحتمل أنه صيره واسعا بعد أن كان ضيقا، فلم لا يجوز في هذه الآية أن يكون المراد بالإماتة خلقها مية، ولا يكون المراد تصييرها ميتة بعد أن كانت حية.
السؤال الثاني: أن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة.
السؤال الثالث: أن هذه الآية تدل على المنع من حصول الحياة في القبر، وبيانه أنه لو كان الأمر كذلك لكان قد حصلت الحياة ثلاث مرات أولها: في الدنيا، وثانيها: في القبر، وثالثها: في القيامة، والمذكور في الآية ليس إلا حياتين فقط، فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا.
السؤال الرابع: أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول، أما المنقول فمن وجوه الأول: قوله تعالى: * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) * (الزمر: 9) فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة، ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلا، ولو كان الأمر كذلك لذكره، ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني: أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة * (أفما نحن بميتين
39

إلا موتتنا الأولى) * (الصافات: 58، 59) ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين، وذلك على خلاف قوله * (أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى) * قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها، لأنه الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تمسكتم بها حكاية قول الكافرين الذين دخلوا النار. وأما المعقول فمن وجوه الأول: وهو أن الذي افترسه السباع وأكلته لو أعيد حيا لكان إما أن يعاد حيا بمجموعة أو بأحاد أجزائه، والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع، والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع، فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها، وذلك في غاية الاستبعاد. الثاني: أن الذي مات لو تركناه ظاهرا بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقيا على موته، فلو جاوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حيا لكان هذا تشكيكا في المحسوسات، وإنه دخول في السفسطة (والجواب) قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى وهي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة؟ فنقول هذا لا يجوز، وبيانه أن المذكور في الآية أن الله أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلا قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة، وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا) * لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتا وليس فيها أن الله أماتهم بخلاف الآية التي تحن في تفسيرها، لأنهت تدل على أن الله تعالى أماتهم مرتين، وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق.
أما قوله إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم الله تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر الله تكذيبهم، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم * (والله ربنا ما كنت مشركين) * كذبهم الله في ذلك فقال: * (انظر كيف كذبوا) * (الأنعام: 23، 24) وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين، فنقول (الجواب) عنه من وجوه: الأول: هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة، فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة، فأما الحياة في الدنيا فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني: لعلهم ذكروا الحياتين: وهي الحياة في الدنيا، والحياة في القيامة، أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث: لعلهم لما صاروا أحياء في القبول لم يموتوا بل بقوا أحياء، إما في السعادة، إما في الشقاوة، واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم الله بالاستثناء في قوله * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) * (الزمر: 68) الرابع: لو لم يثبت الحياة في القبر لزم أن لا يحصل الموت إلا مرة واحدة فكان إثبات الموت مرتين كذبا وهو على خلاف لفظ القرآن، أما لو أثبتنا الحياة في القبر لزمنا إثبات الحياة ثلاث مرات والمذكور في القرآن مرتين، أما المرة الثالثة فليس في اللفظ ما يدل على ثبوتها أو عدمها، فثبت أن نفي حياة القبر يقتضي ترك ما دل اللفظ عليه، فأما إثبات حياة القبر فإنه يقتضي إثبات شيء زائد
40

على ما دل عليه اللفظ مع اللفظ لا إشعار فيه بثبوته ولا بعدمه فكان هذا أولى، وأما ما ذكروه في المعارضة الأولى فنقول قوله * (يحذر الآخرة) * (الزمر: 9) تدخل فيه الحياة الآخرة سواء كانت في القبر أو في القيامة، وأما المعارضة الثانية فجوابها أنا نرجح قولنا بالأحاديث الصحيحة الواردة في عذاب القبر. وأما الوجهان العقليان فمدفوعان، لأنا إذا قلنا إن الإنسان ليس عبارة عن هذا الهيكل بل هو عبارة عن جسم نوراني سار في هذا البدن كانت الإشكالات التي ذكرتموها غير واردة في هذا الباب والله أعلم.
المسألة الثانية: اعلم أنا لما أثبتنا حياة القبر فيكون الحاصل في حق بعضهم أربعة أنواع من الحياة وثلاثة أنواع من الموت، والدليل عليه قوله تعالى في سورة البقرة: * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم) * (البقرة: 243) فهؤلاء أربعة مراتب في الحياة، حياتان في الدنيا، وحياة في القبر، وحياة رابعة في القيامة.
المسألة الثالثة: قوله * (اثنتين) * نعت لمصدر محذوف والتقدير إماتتين اثنتين، ثم حكى الله عنهم أنهم قالوا * (فاعترفنا بذنوبنا) * فإن قيل الفاء في قوله * (فاعترفنا) * تقتضي أن تكون الإماتة مرتين والإحياء مرتين سببا لهذا الاعتراف فبينوا هذه السببية، قلنا لأنهم كانوا منكرين للبعث فلما شاهدوا الإحياء بعد الإماتة مرتين لم يبق لهم عذر في الإقرار بالبعث، فلا جرم وقع هذا الإقرار كالمسبب عن ذلك الإحياء وتلك الإماتة، ثم قال: * (فهل إلى خروج من سبيل) * أي هل إلى نوع من الخروج سريع أو بطيء من سبيل، أم اليأس وقع فلا خروج، ولا سبيل إليه؟ وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط، واعلم أن الجواب الصريح عنه أن يقال لا أو نعم وهو تعالى لم يفعل ذلك بل ذكر كلاما يدل على أنه لا سبيل لهم إلى الخروج فقال: * (ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا) * أي ذلكم الذي أنتم فيه، وهو أن لا سبيل لكم إلى الخروج قط، إنما وقع بسبب كفركم بتوحيد الله تعالى، وإيمانكم الإشراك به * (فالحكم لله) * حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي، وقوله * (العلي الكبير) * دلالة على الكبرياء والعظمة، وعلى أن عقابه لا يكون إلا كذلك، والمشبهة استدلوا بقوله تعالى: * (العلي) * على العلو الأعلى في الجهة، وبقوله * (الكبير) * على كبر الجثة والذات، وكل ذلك باطل، لأنا دللنا على أن الجسمية والمكان محالان في حق الله تعالى، فوجب أن يكون المراد من * (العلي الكبير) * العلو والكبرياء بحسب القدرة والإلهية.
قوله تعالى
* (هو الذى يريكم ءاياته وينزل لكم من السمآء رزقا وما يتذكر إلا من ينيب * فادعوا
41

الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر ما يوجب التهديد الشديد في حق المشركين أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليلا على أنه يجوز جعل هذه الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء لله تعالى في المعبودية، فقال: * (هو الذي يريكم آياته) *
واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان، ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان، فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات. ثم قال: * (وما يتذكر إلا من ينيب) * والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله تعالى كالأمر المركوز في العقل، إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال: * (فادعوا الله مخلصين له الدين) * من الشرك، ومن الالتفات إلى غير الله * (ولو كره الكافرون) * قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد.
قوله تعالى
* (رفيع الدرجات ذو العرش يلقى الروح من أمره على من يشآء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شىء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار * اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهرا للآيات منزلا للأرزاق، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله * (رفيع الدرجات ذو العرش
42

يلقي الروح) * قال صاحب " الكشاف " ثلاثة أخبار لقوله * (هو) * مرتبة على قوله * (الذي يريكم) * (غافر: 13) أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا، قرىء * (رفيع الدرجات) * بالنصب على المدح، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة:
الصفة الأولى: قوله * (رفيع الدرجات) * واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول:: أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء درجة معينة، كما قال: * (وما منا إلا له مقام معلوم) * (الصافات: 164) وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * (المجادلة: 11) وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية عنصرية، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني، وأيضا جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل، فقال: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) * (الأنعام: 165) وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي، الذي هو أول لكل ما سواه، وليس له أول وآخر لكل ما سواه، وليس له آخر، أما في العلم: فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات، كما قال: * (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) * (الأنعام: 59) وأما في القدرة: فهو أعلى القادرين وأرفعهم، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه، وأما في الوحدانية: فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير، وأقول: الحق سبحانه له صفتان أحدهما: استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني: افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع، كان معناه أنه أرفع الموجودات
وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام، وإن فسرناه بالرافع، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته.
الصفة الثانية: قوله * (ذو العرش) * ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله * (رفيع الدرجات ذو العرش) * وحملوه على أن المراد بالدرجات، السماوات، وبقوله * (ذو العرش) * أنه موجود في العرش فوق سبع سماوات، وقد يعظموا الفرية
43

على الله تعالى، فأنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسما وفي جهة محال، وأيضا فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه، لأن قوله * (ذو العرش) * لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي في إضافته إليه بكونه مالكا له ومخرجا له من العدم إلى الوجود، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى.
الصفة الثانية: قوله * (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) * وفيه مباحث:
البحث الأول: اختلفوا في المراد بهذا الروح، والصحيح أن المراد هو الوحي، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله * (ينزل الملائكة بالروح من أمره) * (النحل: 2) وقال أيضا: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * (الانعام: 122) وحاصل الكلام فيه: أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح، فإن الروح سبب لحصول الحياة، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات، وذلك لأن كمال كبرياء الله تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل، فههنا أيضا كذلك، فقوله * (رفيع الدرجات) * إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات، وهو إشارة إلى تأثير قدرة الله تعالى في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات، فهذا الكلام عقلي برهاني، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير، وذلك لأن ما سوى الله تعالى إما جسمانيات وإما روحانيات، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى، أما الجسمانيات فأعظمها العرش، فقوله * (ذو العرض) * يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك العقول، أعني قوله * (رفيع الدرجات) * وأما الروحانيات فكلها مسخرة للحق سبحانه، وإليه الإشارة بقوله * (يلقي الروح من أمره) *.
واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم بأركان أربعة فأولها: المرسل وهو الله سبحانه وتعالى، فلهذا أضاف إلقاء الوحي إلى نفسه فقال: * (يلقي الروح) * والركن الثاني: الإرسال والوحي وهو الذي سماه بالروح والركن الثالث: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار إليه في هذه الآية بقوله * (من أمره) * فالركن الروحاني يسمى أمرا، قال تعالى:
44

* (وأوحى في كل سماء أمرها) * (فصلت: 12) وقال: * (ألا له الخلق والأمر) * (الأعراف: 54) والركن الرابع: الأنبياء الذين يلقي الله الوحي إليهم وهو المشار إليه بقوله * (على من يشاء من عباده) * والركن الخامس: تعيين الغرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم، وذلك هو أن الأنبياء عليهم السلام يصرفون الخلق من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، ويحملونهم على الإعراض عن هذه الجسمانيات والإقبال على الروحانيات، وإليه الإشارة بقوله * (لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون) * فهذا ترتيب عجيب يدل على هذه الإشارات العالية من علوم المكاشفات الإلهية.
وبقي ههنا أن نبين أنه ما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق؟ وكم الصفات التي ذكرها الله تعالى في هذه السورة ليوم التلاق؟ أما السبب في تسمية يوم القيامة بيوم التلاق ففيه وجوه: الأول: أن الأرواح كانت متباينة عن الأجساد فإذا جاء يوم القيامة صارت الأرواح ملاقية للأجساد فكان ذلك اليوم يوم التلاق الثاني: أن الخلائق يتلاقون فيه فيقف بعضهم على حال البعض الثالث: أن أهل السماء ينزلون على أهل الأرض فيلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض قال تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) * (الفرقان: 25) الرابع: أن كل أحد يصل إلى جزاء عمله في ذلك اليوم فكان ذلك من باب التلاق هو مأخوذ من قولهم فلان لقي عمله الخامس: يمكن أن يكون ذلك مأخوذا من قوله * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * (الكهف: 110) ومن قوله * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * (الأحزاب: 44) السادس: يوم يلتقي فيه العابدون والمعبودون السابع: يوم يلتقي فيه آدم عليه السلام وآخر ولده الثامن: قال ميمون بن مهران يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم فربما ظلم الرجل رجلا وانفصل عنه ولو أراد أن يجده لم يقدر عليه ولم يعرفه ففي يوم القيامة يحضران ويلقى بعضهم بعضا، قرأ ابن كثير عنه التلاقي والتنادي بإثبات الياء في الوصل والوقف، وهادي وواقي بالياء في الوقف وبالتنوين في الوصل. وأما بين أن الله تعالى كم عدد من الصفات ووصف بها يوم القيامة في هذه الآية، فنقول:
الصفة الأولى: كون يوم التلاق وقد ذكرنا تفسيره.
الصفة الثانية: قوله * (يوم هم بارزون) * وفي تفسير هذا البروز وجوه الأول: أنهم برزوا عن بواطن القبور الثاني: بارزون أي ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو أكمة أو بناء، لأن الأرض بارزة قاع صفصف، وليس عليهم أيضا ثياب إنما هم عراة مكشوفون كما جاء في الحديث: " يحشرون عراة حفاة غرلا " الثالث: أن يجعل كونهم بارزين كناية عن ظهور أعمالهم وانكشاف أسرارهم كما قال تعالى: * (يوم تبلى السرائر) * (الطارق: 9) الرابع: أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات،
فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها.
45

الصفة الثالثة: قوله * (لا يخفى على الله منهم شيء) * والمراد يوم لا يخفى على الله منهم شيء، والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بين أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن الله تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه، فالله تعالى عالم بذلك ونظيره قوله * (يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية) * (الحاقة: 18) وقال: * (يوم تبلى السرائر) * (الطارق: 9) وقال: * (إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور) * (العاديات: 9، 10) وقال: * (يومئذ تحدث أخبارها) * (الزلزلة: 4) فإن قيل الله تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام، فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم؟ قلنا إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا، قال تعالى: * (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون) * (فصلت: 22) وقال: * (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله) * (النساء: 108) وهو معنى قوله: * (وبرزوا لله الواحد القهار) * (إبراهيم: 48).
الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * والتقدير يوم ينادي فيه لمن الملك اليوم؟ وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه قولان: الأول: قال المفسرون إذا هلك كل من السماوات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى: * (لمن الملك اليوم) *؟ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول * (لله الواحد القهار) * قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول: أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء، فبطل قولهم إن الله تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السماوات والأرض والثاني: أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير، أو حال ما لا يحضر الغير، والأول: باطل ههنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل، والثاني: أيضا باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئا كالذي يكرر على الدرس وذلك على الله محال، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضا على الله محال، أو لأجل أن يعبد الله بذلك الذكر وذلك أيضا على الله محال، فثبت أن قول من يقول إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له.
والقول الثاني: أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى مناد * (لمن الملك اليوم) * فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة * (لله الوحد القهار) * فالمؤمنون يقولون تلذذا بهذا الكلام، حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول إن صح القول الأول عن ابن عباس وغيره لم يمتنع أن يكون المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء، وأقول أيضا على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل
46

والمجيب هو الله تعالى، ولا يبعد أيضا أن يكون السائل جمعا من الملائكة والمجيب جمعا آخرين، الكل ممكن وليس على التعيين دليل، فإن قيل وما الفائدة في تخصيص هذا اليوم بهذا النداء؟ فنقول الناس كانوا مغرورين في الدنيا بالأسباب الظاهرة، وكان الشيخ الإمام الوالد عمر رضي الله عنه يقول: لولا الأسباب لما ارتاب مرتاب، وفي يوم القيامة زالت الأسباب، وانعزلت الأرباب، ولم يبق البتة غير حكم مسبب الأسباب، فلهذا اختص النداء بيوم القيامة، واعلم أنه وإن كان ظاهر اللفظ يدل على اختصاص ذلك النداء بذلك اليوم إلا أن قوله * (لله الواحد القهار) * يفيد أن هذا النداء حاصل من جهة المعنى أبدا، وذلك لأن قولنا: الله اسم لواجب الوجود لذاته، وواجب الوجود لذاته واحد وكل ما سواه ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، ومعنى الإيجاد هو ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، وذلك الترجيح هو قهر للجانب المرجوح فثبت أن الإله القهار واحد أبدا، ونداء لمن الملك اليوم إنما ظهر من كونه واحدا قهارا، فإذا كان كونه قهارا باقيا من الأزل إلى الأبد لا جرم كان نداء * (لمن الملك اليوم) * باقيا في جانب المعنى من الأزل إلى الأبد.
الصفة الخامسة: من صفات ذلك اليوم قوله * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) *.
واعلم أنه سبحانه لما شرح صفات القهر في ذلك اليوم أردفه ببيان صفات العدل والفضل في ذلك اليوم فقال: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: هذا الكلام اشتمل على أمور ثلاثة: أولها: إثبات الكسب للإنسان والثاني: أن كسبه يوجب الجزاء والثالث: أن ذلك الجزاء إنما يستوفى في ذلك اليوم فهذه الكلمة على اختصارها مشتملة على هذه الأصول الثلاثة في هذا الكتاب، وهي أصول عظيمة الموقع في الدين، وقد سبق تقرير هذه الأصول مرارا، ولا بأس بذكر بعض النكت في تقرير هذه الأصول أما الأول: فهو إثبات الكسب للإنسان وهو عبارة عن كون أعضائه سليمة صالحة للفعل والترك فما دام يبقى على هذا الاستواء امتنع صدور الفعل والترك عنه، فإذا انضاف إليه الداعي إلى الفعل أو الداعي إلى الترك وجب صدور ذلك الفعل أو الترك عنه. وأما الثاني: وهو بيان ترتب الجزاء عليه، فاعلم أن الأفعال على قسمين منها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الجسمانية الحاصلة في عالم الدنيا، ومنها ما يكون الداعي إليه طلب الخيرات الروحانية التي لا يظهر كمالها إلا في عالم الآخرة وقد ثبت بالتجربة أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة، فمن غلب عليه القسم الأول استحكمت رحمته رغبته في الدنيا وفي الجسمانيات، فعند الموت يحصل الفراق بينه وبين مطلوبه على أعظم الوجوه ويعظم عليه البلاء، ومن غلب عليه القسم الثاني فعند الموت يفارق المبغوض ويتصل بالمحبوب فتعظم الآلاء والنعماء، فهذا هو معنى الكسب، ومعنى كون ذلك الكسب موجبا للجزاء، فظهر بهذا أن كمال الجزاء لا يحصل إلا في يوم القيامة، فهذا قانون كلي
47

عقلي، والشريعة الحقة أتت بما يقوي هذا القانون الكلي في تفاصيل الأعمال والأقوال والله أعلم.
المسألة الثانية: هذه الآية أصل عظيم في أصول الفقه، وذلك لأنا نقول لو كان شيء من أنواع الضرر مشروعا لكان إما أن يكون مشروعا لكونه جزاء على شيء من الجنايات أو لا لكونه جزاء والقسمان باطلان، فبطل القول بكونه مشروعا، أما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروها ليكون جزاء على شيء من الأعمال فلأن هذا النص يقتضي تأخير الأجزية إلى يوم القيامة، فإثباته في الدنيا يكون على خلاف هذا النص، وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون مشروعا للجزاء لقوله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة: 185) ولقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) ولقوله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " عدلنا عن هذه العمومات فيما إذا كانت المضار أجزية، وفيما ورد نص في الإذن فيه كذبح الحيوانات، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة فيما عداه، فثبت بما ذكرنا أن الأصل في المضار والآلام التحريم، فإن وجدنا نصا خاصا يدل على الشرعية قضينا به تقديما للخاص على العام، وإلا فهو باق على أصل التحريم، وهذا أصل كلي منتفع به في الشريعة والله علم.
الصفة السادسة: من صفات ذلك اليوم قوله * (لا ظلم اليوم) * والمقصود أنه لما قال: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * أردفه بما يدل على أنه لا يقع في ذلك نوع من أنواع الظلم، قال المحققون وقوع الظلم في الجزاء يقع على أربعة أقسام أحدها: أن يستحق الرجل ثوابا فيمنع منه وثانيها: أن يعطي بعض بعض حقه ولكنه لا يوصل حقه بالتمام وثالثها: أن يعذب من لا يستحق العذاب ورابعها: أن يكون الرجل مستحقا للعذاب فيعذب ويزداد على قدر حقه فقوله تعالى: * (لا ظلم اليوم) * يفيد نفي هذه الأقسام الأربعة، قال القاضي هذه الآية قوية في إبطال قول المجبرة لأن على قولهم لا ظلم غالبا وشاهدا إلا من الله، ولأنه تعالى إذا خلق فيه الكفر ثم عذبه عليه فهذا هو عين الظلم والجواب عنه معلوم.
ثم قال تعالى: * (إن الله سريع الحساب) * وذكر هذا الكلام في هذا الموضع لائق جدا، لأنه تعالى لما بين أنه لا ظلم بين أنه سريع الحساب. وذلك يدل على أنه يصل إليهم ما يستحقونه في الحال والله أعلم.
قوله تعالى
* (وأنذرهم يوم الازفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع * يعلم خآئنة الاعين وما تخفى الصدور * والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه
48

لا يقضون بشىء إن الله هو السميع البصير * أو لم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وءاثارا فى الارض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوى شديد العقاب) *.
اعلم أن المقصود من هذه الآية وصف يوم القيامة بأنواع أخرى من الصفات الهائلة المهيبة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير يوم الآزفة وجوها الأول: أن يوم الآزفة هو يوم القيامة، والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر لقوله في صفة يوم القيامة * (أزفت الآزفة ليس لها من دون الله كاشفة) * (النجم: 57، 58) وقال شاعر: فأزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل برحالنا وكأن قد
والمقصود منه التنبيه على أن يوم القيامة قريب ونظيره قوله تعالى: * (اقتربت الساعة) * (القمر: 1) قال الزجاج إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها، وما هو كائن فهو قريب.
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث على تقدير يوم القيامة الآزفة أو يوم المجازاة الآزفة قال القفال: وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها يرجع معناها إلى الداهية والقول الثاني: أن المراد بيوم الآزفة وقت الآزفة وهي مسارعتهم إلى دخول النار، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارها من شدة الخوف والقول الثالث: قال أبو مسلم يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل، والذي يدل عليه أنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، و * (يوم هم بارزون) * ثم قال بعده * (وأنذرهم يوم الآزفة) * فوجب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم، وأيضا هذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى: * (فلولا إذا
49

بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) * (الواقعة: 83، 84) وقال: * (كلا إذا بلغت التراقي) * (القيامة: 26) وأيضا فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضا الصفات المذكورة بعد قوله الآزفة لائقة بيوم حضور الموت لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يعظم خوفه، فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف، ويبقوا كاظمين ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق.
المسألة الثانية: اختلفوا في أن المراد من قوله * (إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين) * كناية عن شدة الخوف أو هو محمول على ظاهره، قيل المراد وصف ذلك اليوم بشدة الخوف والفزع ونظيره قوله تعالى: * (وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) * (الأحزاب: 10) وقال: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون) * (الواقعة: 83، 84) وقيل بل هو محمول على ظاهره، قال الحسن: القلوب انتزعت من الصدور بسبب شدة الخوف وبلغت القلوب الحناجر فلا تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروحوا ولكنها مقبوضة كالسجال كما قال: * (فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا) * (الملك: 27) وقوله * (كاظمين) * أي مكروبين والكاظم الساكت حال امتلائه غما وغيظا فإن قيل بم انتصب * (كاظمين) * قلنا أن يكون حال عن القلوب، وأن القلوب كاظمة على غم وكرب فيها مع بلوغها الحناجر، وإنما جمع الكاظمة جمع السلامة لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء كما قال: * (رأيتهم لي ساجدين) * (يوسف: 4) وقال: * (فظلت أعناقهم لها خاضعين) * (الشعراء: 4) ويعضده قراءة من قرأ كاظمون وبالجملة فالمقصود من الآية تقرير أمرين أحدهما: الخوف الشديد وهو المراد من قوله * (إذ القلوب لدى الحناجر) *، والثاني: العجز عن الكلام وهو المراد من قوله * (كاظمين) * فإن الملهوف إذا قدر على الكلام حصلت له خفقة وسكون، أما
إذا لم يقدر على الكلام وبث الشكوى عظم قلقه وقوي خوفه.
المسألة الثالثة: احتج أكثر المعتزلة في نفي الشفاعة عن المذنبين بقوله تعالى: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * قالوا نفى حصول شفيع لهم يطاع فوجب أن لا تحصل لهم هذا الشفيع أجاب أصحابنا عنه من وجوه: الأول: أنه تعالى نفى أن يحصل لهم شفيع يطاع وهذا لا يدل على نفي الشفيع، ألا ترى أنك إذا قلت ما عندي كتاب يباع فهذا يقتضي نفي كتاب يباع ولا يقتضي نفي الكتاب وقالت العرب:
ولا ترى الضب بها ينجحر
ولفظ الطاعة يقتضي حصول المرتبة فهذا يدل على أنه ليس لهم يوم القيامة شفيع يطيعه الله، لأنه ليس في الوجود أحد أعلى حالا من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه الوجه الثاني: في الجواب أن المراد من الظالمين، ههنا الكفار والدليل عليه أن هذه الآية وردت في زجر الكفار
50

الذين يجادلون في آيات الله فوجب أن يكون مختصا بهم، وعندنا أنه لا شفاعة في حق الكفار والثالث: أن لفظ الظالمين، إما أن يفيد الاستغراق، وإما أن لا يفيد فإن أفاد الاستغراق كان المراد من الظالمين مجموعهم وجملتهم ويدخل في مجموع هذا الكلام الكفار، وعندنا أنه ليس لهذا المجموع شفيع لأن بعض هذا المجموع هم الكفار، وليس لهم شفيع فحينئذ لا يكون لهذا المجموع شفيع، وإن لم يفد الاستغراق كان المراد من الظالمين بعض من كان موصوفا بهذه الصفة، وعندنا أن بعض الموصوفين بهذه الصفة ليس لهم شفيع وهم الكفار، أجاب المستدلون عن السؤال الأول، فقالوا يجب حمل كلام الله تعالى على محمل مفيد وكل أحد يعلم أنه ليس في الوجود شيء يطيعه الله لأن المطيع أدون حالا من المطاع، وليس في الوجود شيء أعلى مرتبة من الله تعالى حتى يقال إن الله يطيعه وإذا كان هذا المعنى معلوما بالضرورة كان حمل الآية عليه إخراجا لها عن الفائدة فوجب حمل الطاعة على الإجابة والذي يدل على ورود لفظ الطاعة بمعنى الإجابة قول الشاعر:
رب من أنضجت غيظا صدره قد تمنى لي موتا لم يطع أما السؤال الثاني: فقد أجابوا عنه بأن لفظ الظالمين صيغة جمع دخل عليها حرف التعريف فيفيد العموم، أقصى ما في الباب أن هذه الآية وردت لذم الكفار لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما السؤال الثالث: فجوابه أن قوله * (ما للظالمين من حميم) * يفيد أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع يطاع، فهذا تمام كلام القوم في تقرير ذلك الاستدلال. أجاب أصحابنا عن السؤال الأول فقالوا إن القوم كانوا يقولون في الأصنام إنها شفعاؤنا عند الله وكانوا يقولون إنها تشفع لنا عند الله من غير حاجة فيه إلى إذن الله، ولهذا السبب رد الله تعالى عليهم ذلك بقوله * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * (البقرة: 255) فهذا يدل على أن القوم اعتقدوا أنه يجب على الله إجابة الأصنام في تلك الشفاعة، وهذا نوع طاعة، فالله تعالى نفى تلك الطاعة بقوله * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * وأجابوا عن الكلام الثاني بأن قالوا الأصل في حرف التصريف أن ينصرف إلى المعهود السابق، فإذا دخل حرف التعريف على صيغة الجمع، وكان هناك معهود سابق انصرف إليه، وقد حصل في هذه الآية معهود سابق وهم الكفار الذين يجادلون في آيات الله، فوجب أن ينصرف إليه وأجابوا عن الكلام الثالث بأن قالوا قوله * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * يحتمل عموم السلب، ويحتمل سلب العموم، أما الأول: فعلى تقدير أن يكون المعنى أن كل واحد من الظالمين محكوم عليه بأنه ليس له حميم ولا شفيع، وأما الثاني: فعلى تقدير أن يكون المعنى أن مجموع الظالمين ليس لهم حميم ولا شفيع، ولا يلزم من نفي الحكم عن المجموع نفيه عن كل واحد من آحاد ذلك المجموع والذي يؤكد ما ذكرناه قوله تعالى: * (الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) * (البقرة: 6) فقوله: إن الذين كفروا لا يؤمنون، إن حملناه على أن كل
51

واحد منهم محكوم عليه بأنه لا يؤمن لزم وقوع الخلف في كلام الله، لأن كثيرا ممن كفر فقد آمن بعد ذلك، أما لو حملناه على أن مجموع الذين كفروا لا يؤمنون سواء آمن بعضهم أو لم يؤمن صدق وتخلص عن الخلف، فلا جرم حملنا هذه الآية على سلب العموم ولم نحملها على عموم السلب فكذا قوله * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع) * يجب حمله على سلب العموم لا على عموم السلب، وحينئذ استدلال المعتزلة بهذه الآية فهذا غاية الكلام في هذا الباب.
المسألة الرابعة: في بيان نظم الآية، فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف فأولها: أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم، لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف، حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة والثاني: قوله * (إذ القلوب لدى الحناجر) * والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعا من دخول النفس والثالث: قوله * (كاظمين) * والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب الرابع: قوله * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * فبين أنه ليس لهم قريب ينفعهم، ولا شفيع يطاع فيهم فتقبل شفاعته والخامس: قوله * (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) * والمعنى أنه سبحانه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، والحاكم إذا بلغ في العلم إلى هذا الحد كان خوف المذنب منه شديدا جدا، قال صاحب " الكشاف ": الخائنة صفة النظرة أو مصدر بمعنى الخائنة، كالعافية المعاناة، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحله كما يفعل أهل الريب، والمراد بقوله * (وما تخفي الصدور) * مضمرات القلوب، والحاصل أن الأفعال قسمان: أفعال الجوارح وأفعال القلوب، أما أفعال الجوارح، فأخفاها خائنة الأعين والله أعلم بها، فكيف الحال في سائر الأعمال. وأما أفعال القلوب، فهي معلومة لله تعالى لقوله * (وما تخفي الصدور) * فدل هذا على كونه تعالى عالما بجميع أفعالهم السادس: قوله تعالى: * (والله يقضي بالحق) * وهذا أيضا يوجب عظم الخوف، لأن الحاكم إذا كان عالما بجميع الأحوال، وثبت منه أنه لا يقضي إلا بالحق في كل ما دق وجل، كان خوف المذنب منه في الغاية القصوى السابع: أن الكفار إنما عولوا في دفع العقاب عن أنفسهم على شفاعة هذه الأصنام، وقد بين الله تعالى أنه لا فائدة فيها البتة، فقال: * (والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء) * الثامن: قوله * (إن الله هو السميع البصير) * أي يسمع من الكفار ثناءهم على الأصنام، ولا يسمع
منهم ثناءهم على الله ويبصر خضوعهم وسجودهم لهم، ولا يبصر خضوعهم وتواضعهم لله، فهذه الأحوال الثمانية إذا اجتمعت في حق المذنب الذي عظم ذنبه كان بالغا في التخويف إلى الحد الذي لا تعقل الزيادة عليه، ثم إنه تعالى لما بالغ في تخويف الكفار بعذاب الآخرة أردف ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال: * (أولم
52

يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * والمعنى أن العاقل من اعتبر بغيره، فإن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء الحاضرين من الكفار، وأقوى آثارا في الأرض منهم، والمراد حصونهم وقصورهم وعساكرهم، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله بضروب الهلاك معجلا حتى إن هؤلاء الحاضرين من الكفار يشاهدون تلك الآثار، فحذرهم الله تعالى من مثل ذلك بهذا القول، وبين بقوله * (وما كان لهم من الله من واق) * أنه لما نزل العذاب بهم عند أخذه تعالى لهم لم يجدوا من يعينهم ويخلصهم، ثم بين أن ذلك نزل بهم لأجل أنهم كفروا وكذبوا الرسل، فحذر قوم الرسوم من مثله، وختم الكلام ب * (إنه قوي شديد العقاب) * مبالغة في التحذير والتخويف، والله أعلم. وقرأ ابن عامر وحده * (كانوا هم أشد منكم) * بالكاف، والباقون بالهاء أما وجه قراءة ابن عامر فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب، كقوله * (إياك نعبد وإياك نستعين) * بعد قوله * (الحمد لله) * والوجه في حسن هذا الخطاب أنه في شأن أهل مكة، فجعل الخطاب على لفظ المخاطب الحاضر لحضورهم، وهذه الآية في المعنى كقوله * (مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم) * (الأنعام: 6) وأما قراءة الباقين على لفظ الغيبة فلأجل موافقة ما قبله من ألفاظ الغيبة.
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنا موسى باياتنا وسلطان مبين * إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب * فلما جآءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبنآء الذين ءامنوا معه واستحيوا نسآءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال * وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الارض الفساد * وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) *.
53

واعلم أنه تعالى لما سلى رسوله بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضا بذكر موسى عليه السلام، وأنه مع قوة معجزاته بعثه إلى فرعون وهامان وقارون فكذبوا وكابروه، وقالوا هو ساحر كذاب.
واعلم أن موسى عليه السلام، لما جاءهم بتلك المعجزات الباهرة وبالنبوة وهي المراد بقوله * (فلما جاءهم بالحق من عندنا) * حكى الله تعالى عنهم ما صدر عنهم من الجهالات فالأول: أنهم وصفوه بكونه ساحرا كاذبا، وهذا في غاية البعد، لأن تلك المعجزات كانت قد بلغت في القوة والظهور إلى حيث يشهد كل ذي عقل سليم بأنه ليس من السحر البتة الثاني: أنهم قالوا * (اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) * والصحيح أن هذا القتل غير القتل الذي وقع في وقت ولادة موسى عليه السلام، لأن في ذلك الوقت أخبره المنجمون بولادة عدو له يظهر عليه، فأمر بقتل الأولاد في ذلك الوقت، وأما في هذا الوقت فموسى عليه السلام قد جاءه وأظهر المعجزات الظاهرة، فعند هذا أمر بقتل أبناء الذين آمنوا معه لئلا ينشئوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين دون البنات، فلهذا السبب أمر بقتل الأبناء.
ثم قال تعالى: * (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) * ومعناه أن جميع ما يسعون فيه من مكايدة موسى ومكايدة من آمن معه يبطل، لأن ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها
النوع الثالث: من قبائح أفعال أولئك الكفار مع موسى عليه السلام ما حكاه الله تعالى: * (وقال فرعون ذروني أقتل موسى) * وهذا الكلام كالدلالة على أنهم كانوا يمنعونه من قتله، وفيه احتمالان. والاحتمال الأول: أنهم منعوه من قتله لوجوه الأول: لعله كان فيهم من يعتقد بقلبه كون موسى صادقا، فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون من قتله الثاني: قال الحسن: أن أصحابه قالوا له لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا إنه كان محقا وعجزوا عن جوابه فقتلوه الثالث: لعلهم كانوا يحتالون في منعه من قتله، لأجل أن يبقى فرعون مشغول القلب بموسى فلا يتفرغ لتأديب أولئك الأقوام، فإن من شأن الأمراء أن يشغلوا قلب ملكهم بخصم خارجي حتى يصيروا آمنين من شر ذلك الملك. والاحتمال الثاني: أن أحدا ما منع فرعون من قتل موسى وأنه كان يريد أن يقتله إلا أنه كان خائفا من أنه لو حاول قتله لظهرت معجزات قاهرة تمنعه عن قتله فيفتضح إلا أنه لوقاحته قال: * (ذروني أقتل موسى) * وغرضه منه أنه إنما امتنع عن قتله رعاية لقلوب أصحابه وغرضه منه إخفاء خوفه.
أما قوله * (وليدع ربه) * فإنما ذكره على سبيل الاستهزاء يعني أني أقتله فليقل لربه حتى يخلصه مني. وأما قوله * (إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: فتح ابن كثير الياء من قوله * (ذروني) * وفتح نافع وابن كثير وأبو عمرو
54

الياء من * (إني أخاف) * وأيضا قرأ نافع وابن عمرو * (وأن يظهر) * بالواو وبحذف أو، يعني أنه يجمع بين تبديل الدين وبين إظهار المفاسد، والذين قرأوا بصيغة أو فمعناه أنه لا بد من وقع أحد الأمرين وقرئ يظهر بضم الياء وكسر الهاء والفساد بالنصب على التعدية، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بلفظ أو يظهر بفتح الياء والهاء والفساد بالرفع، أما وجه القراءة الأولى فهو أنه أسند الفعل إلى موسى في قوله * (يبدل) * فكذلك في يظهر ليكون الكلام على نسق واحد، وأما وجه القراءة الثانية فهو أنه إذا بدل الدين فقد ظهر الفساد الحاصل بسبب ذلك التبديل.
المسألة الثانية: المقصود من هذا الكلام بيان السبب الموجب لقتله وهو أن وجوده يوجب إما فساد الدين أو فساد الدنيا، أما فساد الدين فلأن القوم اعتقدوا أن الدين
الصحيح هو الذي كانوا عليه، فلما كان موسى ساعيا في إفساده كان في اعتقادهم أنه ساع في إفساد الدين الحق وأما فساد الدنيا فهو أنه لا بد وأن يجتمع عليه قوم ويصير ذلك سببا لوقوع الخصومات وإثارة الفتن، ولما كان حب الناس لأديانهم فوق حبهم لأموالهم لا جرم بدأ فرعون بذكر الدين فقال: * (إني أخاف أن يبدل دينكم) * ثم أتبعه بذكر فساد الدنيا فقال: * (أو أن يظهر في الأرض الفساد) *.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذا الكلام حكى بعده ما ذكره موسى عليه السلام فحكى عنه أنه قال: * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ نافع وأبو بكر وحمزة والكسائي عذت بإدغام الذال في التاء والباقون بالإظهار. المسألة الثانية: المعنى أنه لم يأت في دفع شره إلا بأن استعاذ بالله، واعتمد على فضل الله لا جرم صانه الله عن كل بلية وأوصله إلى كل أمنية، وعلم أن هذه الكلمات التي ذكرها موسى عليه السلام تشتمل على فوائد: الفائدة الأولى: أن لفظة * (إني) * تدل على التأكيد فهذا يدلل على أن الطريق المؤكد المعتبر في دفع الشرور والآفات عن النفس الاعتماد على الله والتوكل على عصمة الله تعالى. الفائدة الثانية: أنه قال: * (إني عذت بربي وربكم) * فكما أن عند القراءة يقول المسلم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فالله تعالى يصون دينه وإخلاصه عن وساوس شياطين الجن، فكذلك عند توجه الآفات والمخافات من شياطين الإنس إذا قال المسلم: أعوذ بالله فالله يصونه عن كل الآفات والمخافات. الفائدة الثالثة: قوله * (بربي وربكم) * والمعنى كأن العبد يقول إن الله سبحانه هو الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني، ومن الآفات وقاني، وأعطاني نعما لا حد لها ولا حصر، فلما كان المولى ليس إلا الله وجب أن لا يرجع العاقل في دفع كل الآفات إلا إلى حفظ الله تعالى.
55

الفائدة الرابعة: أن قوله * (وربكم) * فيه بعث لقوم موسى عليه السلام على أن يقتدوا به في الاستعاذة بالله، والمعنى فيه أن الأرواح الطاهرة القوية إذا تطابقت على همة واحدة قوي ذلك التأثير جدا، وذلك هو السبب الأصلي في أداء الصلوات في الجماعات. الفائدة الخامسة: أنه لم يذكر فرعون في هذا الدعاء، لأنه كان قد سبق له حق تربية على موسى من بعض الوجوه، فترك التعيين رعاية لذلك الحق. الفائدة السادسة: أن فرعون وإن كان أظهر ذلك الفعل إلا أنه لا فائدة في الدعاء على فرعون بعينه، بل الأولى الاستعاذة بالله في دفع كل من كان موصوفا بتلك الصفة، حتى يدخل فيه كل من كان عدوا سواء كان مظهرا لتلك العداوة أو كان مخفيا لها. الفائدة السابعة: أن الموجب للاقدام على إيذاء الناس أمران أحدهما: كون الإنسان متكبرا قاسي القلب والثاني: كونه منكرا للبعث والقيامة، وذلك لأن التكبر القاسي قد يحمله طبعه على إيذاء الناس إلا أنه إذا كان مقرا بالعبث والحساب صار خوفه من الحساب مانعا له من الجري على موجب تكبره، فإذا لم يحصل عنده الإيمان بالعبث والقيامة كانت الطبيعة داعية له إلى الإيذاء والمانع وهو الخوف من السؤال والحساب زائلا، وإذا كان الخوف من السؤال والحساب زائلا فلا جرم تحصل القسوة والإيذاء. الفائدة الثامنة: أن فرعون لما قال: * (ذروني أقتل موسى) * قال على سبيل الاستهزاء * (ليدع ربه) * فقال موسى ن الذي ذكرته يا فرعون بطريق الاستهزاء هو الدين المبين والحق المنير، وأنا أدعو ربي وأطلب منه أن يدفع شرك عني، وسترى أن ربي كيف يقهرك، وكيف يسلطني عليك.
واعلم أن من أحاط عقله بهذه الفوائد علم أنه لا طريق أصلح ولا أصوب في دفع كيد الأعداء وإبطال مكرهم إلا الاستعاذة بالله والرجوع إلى حفظ الله والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جآءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب) *.
56

اعلم أنه تعالى لما حكى عن موسى عليه السلام أنه ما زاد في دفع مكر فرعون وشره على الاستعاذة بالله، بين أنه تعالى قيض إنسانا أجنبيا غير موسى حتى ذب عنه على أحسن الوجوه وبالغ في تسكين تلك الفتنة واجتهد في إزالة ذلك الشر. يقول منصف هذا الكتاب رحمه الله، ولقد جربت في أحوال نفسي أنه كلما قصدني شرير بشر ولم أتعرض له وأكتفي بتفويض ذلك الأمر إلى الله، فإنه سبحانه يقيض أقواما لا أعرفهم البتة، يبالغون في دفع ذلك الشر، وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في ذلك الرجل الذي كان من آل فرعون، فقيل إنه كان ابن عم لله، وكان جاريا مجرى ولي العهد ومجرى صاحب الشرطة، وقيل كان قبطيا من آل فرعون وما كان من أقاربه، وقيل إنه كان من بني إسرائيل، والقول الأول أقرب لأن لفظ الآل يقع على القرابة والعشيرة قال تعالى: * (إلا آل لوط نجيناهم بسحر) * (القمر: 34) وعن رسول الله أنه قال: " الصديقون ثلاثة: حبيب النجار مؤمن آل ياسين، ومؤمن آل فرعون الذي قال: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) * والثالث علي بن أبي طالب وهو أفضلهم " وعن جعفر بن محمد أنه قال: كان أبو بكر خيرا من مؤمن آل فرعون لأنه كان يكتم إيمانه وقال أبو بكر جهارا * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) * فكان ذلك سرا وهذا كان جهارا.
المسألة الثانية: لفظ من في قوله * (من آل فرعون) * يجوز أن يكون متعلقا بقوله * (مؤمن) * أي كان ذلك المؤمن شخصا من آل فرعون ويجوز أن يكون متعلقا بقوله * (يكتم إيمانه) * والتقدير رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون، وقيل إن هذا الاحتمال غير جائز لأنه يقال كتمت من فلان كذا، إنما يقال كتمته كذا قال تعالى: * (ولا يكتمون الله حديثا) * (النساء: 42).
المسألة الثالثة: رجل مؤمن الأكثرون قرأوا بضم الجيم وقرئ رجل بكسر الجيم كما يقال عضد في عضد.
المسألة الرابعة: قوله تعالى: * (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) * استفهام على سبيل الإنكار، وقد ذكر في هذا الكلام ما يدل على حسن ذلك الاستنكار، وذلك لأنه ما زاد على أن قال: * (ربي الله) * وجاء بالبينات وذلك لا يوجب القتل البتة وقوله * (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) * يحتمل وجهين
الأول: أن قوله * (ربي الله) * إشارة إلى التوحيد، وقوله * (وقد جاءكم بالبينات) * إشارة إلى الدلائل
الدالة على التوحيد، وهو قوله في سورة طه * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * وقوله في
سورة الشعراء * (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) * إلى آخر الآيات، ثم ذكر ذلك المؤمن حجة ثانية في أن الإقدام على قتله غير جائز وهي حجة مذكورة على طريقة التقسيم، فقال إن كان هذا الرجل كاذبا كان وبال كذبه عائدا عليه فاتركوه وإن كان صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم، فثبت أن على كلا التقديرين كان الأولى إبقاؤه حيا.
57

فإن قيل السؤال على هذا الدليل من وجهين الأول: أن قوله * (وإن يك كاذبا فعليه كذبه) * معناه أن ضرر كذبه مقصور عليه ولا يتعداه، وهذا الكلام فاسد لوجوه أحدها: أنا لا نسلم أن بتقدير كونه كاذبا كان ضلالا كذبه مقصورا عليه، لأنه يدعو الناس إلى ذلك الدين الباطل، فيغتر به جماعة منهم، ويقعون في المذهب الباطل والاعتقاد الفاسد، ثم يقع بينهم وبين غيرهم الخصومات الكثيرة فثبت أن بتقدير كونه كاذبا لم يمكن ضرر كذبه مقصورا عليه، بل كان متعديا إلى الكل، ولهذا السبب العلماء أجمعوا على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى زندقته يجب قتله وثانيها: أنه إن كان الكلام حجة له، فلا كذاب إلا ويمكنه أن يتمسك بهذه الطريقة، فوجب تمكن جميع الزنادقة والمبطلين من تقرير أديانهم الباطلة وثالثها: أن الكفار الذين أنكروا نبوة موسى عليه السلام وجب أن لا يجوز الإنكار عليهم، لأنه يقال: إن كان ذلك المنكر كاذبا في ذلك الإنكار فعليه كذبه، وإن يك صادقا انتفعتم بصدقه، فثبت أن هذا الطريق يوجب تصويب ضده، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا.
السؤال الثاني: أنه كان من الواجب أن يقال وإن يك صادقا يصبكم كل الذي يعدكم لأن الذي يصيب في بعض ما يعد دون البعض هم أصحاب الكهانة والنجوم، أما الرسول الصادق الذي لا يتكلم إلا بالوحي فإنه يجب أن يكون صادقا في كل ما يقول فكان قوله * (يصبكم بعض الذي يعدكم) * غير لائق بهذا المقام والجواب: عن الأسئلة الثلاثة بحرف واحد وهو أن تقدير الكلام أن يقال إنه لا حاجة بكم في دفع شره إلى قتله بل يكفيكم أن تمنعوه عن إظهار هذه المقالة ثم تتركوا قتله فإن كان كاذبا فحينئذ لا يعود ضرره إلا إليه، وإن يك صادقا انتفعتم به، والحاصل أن المقصود من ذكر ذلك التقسيم بيان أنه لا حاجة إلى قتله بل يكفيكم أن تعرضوا عنه وأن تمنعوه عن إظهار دينه فبهذا الطريق (تكون) الأسئلة الثلاثة مدفوعة.
وأما السؤال الثاني: وهو قوله كان الأولى أن يقال يصبكم كل الذي يعدكم، فالجواب عنه من وجوه الأول: أن مدار هذا الاستدلال على إظهار الإنصاف وترك اللجاج لأن المقصود منه إن كان كاذبا كان ضرر كذبه مقصورا عليه، وإن كان صادقا فلا أقل من أن يصل إليكم بعض ما يعدكم، وإن كان المقصود من هذا الكلام ما ذكر صح، ونظيره قول الله تعالى: * (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) * (سبأ: 24)، والوجه الثاني: أنه عليه السلام كان يتوعدهم بعذاب الدنيا وبعذاب الآخرة، فإذا وصل إليهم في الدنيا عذاب الدنيا فقد أصابهم بعض الذي يعدهم به، الوجه الثالث: حكي عن أبي عبيدة أنه قال ورود لفظ البعض بمعنى الكل جائز، واحتج بقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها أو يرتبط بعض النفوس حمامها
والجمهور على أن هذا القول خطأ، قالوا وأراد لبيد ببعض النفوس نفسه والله أعلم.
58

ثم حكى الله تعالى عن هذا المؤمن حكاية ثالثة في أنه لا يجوز إيذاء موسى عليه السلام فقال: * (إن الله لا يهدي من هو مسرف مرتاب) * وتقرير هذا الدليل أن يقال: إن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بهذه المعجزات الباهرة، ومن هداه الله إلى الإتيان بالمعجزات لا يكون مسرفا كذابا فهذا يدل على أن موسى عليه السلام ليس من الكاذبين، فكان قوله * (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) * إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام على طريق الرمز والتعريض، ويحتمل أيضا أن يكون المراد أن فرعون مسرف في عزمة على قتل موسى، كذاب في إقدامه على ادعاء الإلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره.
قوله تعالى
* (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الارض فمن ينصرنا من بأس الله إن جآءنا قال فرعون مآ أريكم إلا مآ أرى ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذى ءامن ياقوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الاحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * وياقوم إنى أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد) *.
اعلم أن مؤمن آل فرعون لما أقام أنواع الدلائل على أنه لا يجوز الإقدام على قتل موسى، خوفهم في ذلك بعذاب الله فقال: * (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض) * يعني قد علوتم الناس وقهرتموهم، فلا تفسدوا أمركم على أنفسكم ولا تتعرضوا لبأس الله وعذابه، فإنه لا قبل لكم به، وإنما قال: * (ينصرنا) * و * (جاءنا) * لأنه كان يظهر من نفسه أنه منهم وأن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه، ولما قال ذلك المؤمن هذا الكلام (قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى) أي لا أشير إليكم
59

برأي سوى ما ذكرته أنه يجب قتله حسما لمادة الفتنة * (وما أهديكم) * بهذا الرأي * (إلا سبيل الرشاد) * والصلاح، ثم حكى تعالى أن ذلك المؤمن رد هذا الكلام على فرعون فقال: * (إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) *.
وأعلم أنه تعالى حكى عن ذلك المؤمن أنه كان يكتم إيمانه، والذي يكتم كيف يمكنه أن يذكر هذه الكلمات مع فرعون، ولهذا السبب حصل ههنا قولان الأول: أن فرعون لما قال: * (ذروني أقتل موسى) * (غافر: 26) لم يصرح ذلك المؤمن بأنه على دين موسى، بل أوهم أنه مع فرعون وعلى دينه، إلا أنه زعم أن المصلحة
تقتضي ترك قتل موسى، لأنه لم يصدر عنه إلا الدعوة إلى الله والإتيان بالمعجزات القاهرة وهذا لا يوجب القتل، والإقدام على قتله يوجب الوقوع في ألسنة الناس بأقبح الكلمات، بل الأولى أن يؤخر قتله وأن يمنع من إظهار دينه، لأن على هذا التقدير إن كان كاذبا كان وبال كذبه عائدا إليه، وإن كان صادقا حصل الانتفاع به من بعض الوجوه، ثم أكد ذلك بقوله * (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) * (غافر: 28) يعني أنه إن صدق فيما يدعيه من إثبات الإله القادر الحكيم فهو لا يهدي المسرف الكذاب، فأوهم فرعون أنه أراد بقوله * (إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب) * أنه يريد موسى وهو إنما كان يقصد به فرعون * (ذروني أقتل موسى) * أزال الكتمان وأظهر كونه على دين موسى، وشافه فرعون بالحق.
واعلم أنه تعالى حكى عن هذا المؤمن أنواعا من الكلمات ذكرها لفرعون الأول: قوله * (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * والتقدير مثل أيام الأحزاب، إلا أنه لما أضاف اليوم إلى الأحزاب وفسرهم بقوم نوح وعاد ثمود، فحينئذ ظهر أن كل حزب كان له يوم معين في البلاء، فاقتصر من الجمع على ذكر الواحد لعدم الالتباس، ثم فسر قوله * (إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) * بقوله * (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود) * ودأب هؤلاء دونهم في عملهم من الكفار والتكذيب وسائر المعاصي، فيكون ذلك دائبا ودائما لا يفترون عنه، ولا بد من حذف مضاف يريد مثل جزاء دأبهم، والحاصل أنه خوفهم بهلاك معجل في الدنيا، ثم خوفهم أيضا بهلاك الآخرة، وهو قوله * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * والمقصود منه التنبيه على عذاب الآخرة.
والنوع الثاني: من كلمات ذلك المؤمن قوله تعالى: * (وما الله يريد ظلما للعباد) * يعني أن تدمير أولئك الأحزاب كان عدلا، لأنهم استوجبوه بسبب تكذيبهم للأنبياء، فتلك الجملة قائمة ههنا، فوجب حصول الحكم ههنا، قالت المعتزلة: * (وما الله يريد ظلما للعباد) * يدل على أنه لا يريد أن يظلم بعض العباد بعضا، ويدل على أنه لا يريد ظلم أحد من العباد، فلو خلق الكفر فيهم ثم عذبهم على ذلك الكفر لكان ظالما، وإذا ثبت أنه لا يريد الظلم البتة ثبت أنه غير خالق لأفعال العباد، لأنه لو خلقها لأرادها، وثبت أيضا أنه قادر على الظلم، إذ لو لم يقدر عليه لما حصل المدح بترك
60

الظلم، وهذا الاستدلال قد ذكرناه مرارا في هذا الكتاب مع الجواب، فلا فائدة في الإعادة.
النوع الثالث: من كلمات هذا المؤمن قوله * (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التنادي تفاعل من النداء، يقال تنادي القوم، أي نادى بعضهم بعضا، والأصل الياء وحذف الياء حسن في الفواصل، وذكرنا ذلك في * (يوم التلاق) * (غافر: 15) وأجمع المفسرون على أن * (يوم التناد) * يوم القيامة، وفي سبب تسمية ذلك اليوم بذلك الاسم وجوه الأول: أن أهل النار ينادون أهل الجنة، وأهل الجنة ينادون أهل النار، كما ذكر الله عنهم في سورة الأعراف * (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة) * (الأعراف: 50)، * (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار) * (الأعراف: 44)، الثاني: قال الزجاج: لا يبعد أن يكون السبب فيه قوله تعالى: * (يوم ندعوا كل أناس بإمامهم) * (الإسرار: 71)، الثالث: أنه ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والبثور فيقولون * (ويا ويلنا) *، (الأنبياء: 14)، الرابع: ينادون إلى المحشر، أي يدعون الخامس: ينادي المؤمن * (هاؤم اقرأوا كتابيه) * (الحاقة: 19) والكافر * (يا ليتني لم أوت كتابيه) * (الحاقة: 25)، السادس: ينادى باللعنة على الظالمين السابع: يجاء بالموت على صورة كبش أملح، ثم يذبح وينادى يا أهل القيامة لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا على فرحهم، وأهل النار حزنا على حزنهم الثامن: قال " أبو علي الفارسي: التنادي مشتق من التناد، من قولهم ند فلان إذا هرب، وهو قراءة ابن عباس وفسرها، فقال يندون كما تند الإبل، ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى: * (يوم يفر المرء من أخيه) * (عبس: 34) الآية. وقوله تعالى بعد هذه الآية * (يوم تولون مدبرين) * لأنهم إذا سمعوا زفير النار يندون هاربين، فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه.
المسألة الثانية: انتصب قوله * (يوم التناد) * لوجهين أحدهما: الظرف للخوف، كأنه خاف عليهم في ذلك اليوم، لما يلحقهم من العذاب، إن لم يؤمنوا والآخر أن يكون التقدير إني أخاف عليكم - عذاب - يوم التناد وإذا كان كذلك كان انتصاب يوم انتصاب المفعول به، لا انتصاب الظرف، لأن إعرابه إعراب المضاف المحذوف، ثم قال: * (يوم تولون مدبرين) * وهو بدل من قوله * (يوم التناد) * عن قتادة: منصرفين عن موقف يوم الحساب إلى النار، وعن مجاهد: فارين عن النار غير معجزين، ثم أكد التهديد فقال: * (ما لكم من الله من عاصم) * ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) *.
قوله تعالى
* (ولقد جآءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جآءكم به حتى إذا
61

هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون فى ءايات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين ءامنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) *
واعلم أن مؤمن آل فرعون لما قال: * (ومن يضلل الله فما له من هاد) * (غافر: 33) ذكر لهذا مثلا، وهو أن يوسف لما جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على الشك والشبهة، ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على أن من أضله الله فما له من هاد وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قيل إن يوسف هذا هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام، ونقل صاحب " الكشاف " يوسف بن أفراييم بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفا وعشرين سنة، وقيل إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بقي حيا إلى زمانه وقيل فرعون آخر، والمقصود من الكل شيء واحد وهو أن يوف جاء قومه بالبينات، وفي المراد بها قولان الأول: أن المراد بالبينات قوله * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * (يوسف: 39)، والثاني: المراد بها المعجزات، وهذا أولى، ثم إنهم بقوا
في نبوته شاكين مرتابين، ولم ينتفعوا البتة بتلك البينات، فلما مات قالوا إنه * (لن يبعث الله من بعده رسولا) * وإنما حكموا بهذا الحكم على سبيل التشهي والتمني من غير حجة وبرهان، بل إنما ذكروا ذلك ليكون ذلك أساسا لهم في تكذيب الأنبياء الذين يأتون بعد ذلك وليس في قولهم * (ين يبعث الله من بعد رسولا) * لأجل تصديق رسالة يوسف وكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالة من هو بعده مضموما إلى تكذيب رسالته، ثم قال: * (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) * أي مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف في عصيانه مرتاب في دينه، قال الكعبي هذه الآية حجة لأهل القدر لأنه تعالى بين كفرهم، ثم بين أنه تعالى إنما أضلهم لكونهم مسرفين مرتابين، فثبت أن العبد ما لم يضل عن الدين، فإن الله تعالى لا يضله. ثم بين تعالى ما لأجله بقوا في ذلك الشك والإسراف فقال: * (الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان) * أي بغير حجة، بل إما بناء على التقليد المجرد، وإما بناء على شبهات خسيسة * (كبر مقتا عند الله) * والمقت هو أن يبلغ المرء في القوم مبلغا عظيما فيمقته الله ويبغضه ويظهر خزيه وتعسه. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في ذمة لهم بأنهم يجادلون بغير سلطان دلالة على أن الجدال بلا حجة حسن وحق وفيه إبطال للتقليد.
62

المسألة الثانية: قال القاضي مقت الله إياهم يدل على أن فعلهم ليس بخلق الله لأن كونه فاعلا للفعل وماقتا له محال.
المسألة الثالثة: الآية تدل على أنه يجوز وصف الله تعالى بأنه قد يمقت بعض عباده إلا أن ذلك صفة واجبة التأويل في حق الله كالغضب والحياء والتعجب والله أعلم. ثم بين أن هذا المقت كما حصل عند الله فكذلك قد حصل عند الذين آمنوا.
ثم قال: * (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن عامر وأبو عمرون وقتيبة عن الكسائي * (قلب) * منونا * (متكبر) * صفة للقلب والباقون بغير تنوين على إضافة القلب إلى المتكبر قال أبو عبيد الاختيار الإضافة لوجوه الأول: أن عبد الله قرأ * (على كل قلب متكبر) * وهو شاهد لهذه القراءة الثاني: أن وصف الإنسان بالتكبر والجبروت أولى من وصف القلب بهما، وأما الذين قرأوا بالتنوين فقالوا إن الكبر قد أضيف إلى القلب في قوله * (إن في صدورهم إلا كبر) * (غافر: 56) وقال تعالى: * (فإنه آثم قلبه) * (البقرة: 283) وأيضا فيمكن أن يكون ذلك على حذف المضاف أي على كل ذي قلب متكبر، وأيضا قال قوم الإنسان الحقيقي هو القلب وهذا البحث طويل وقد ذكرناه في تفسير قوله * (نزل به الروح الأمين * على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) قالوا ومن أضاف، فلا بد له من تقدير حذف، والتقدير يطبع الله على قلب كل متكبر.
المسألة الثانية: الكلام في الطبع والرين والقسوة والغشاوة قد سبق في هذا الكتاب بالاستقصاء، وأصحابنا يقولون قوله * (كذلك يطبع الله) * يدل على أن الاكل من الله والمعتزلة يقولون إن قوله * (وكذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) * يدل على أن هذا الطبع إنما حصل من الله لأنه كان في نفسه متكبرا جبارا وعند هذا تصير الآية حجة لكل واحد من هذين الفريقين من وجه، وعليه من وجه آخر، والقول الذي يخرج عليه الوجهان ما ذهبنا إليه وهو أنه تعالى يخلق دواعي الكبر والرياسة في القلب، فتصير تلك الدواعي مانعة من حصول ما يدعون إلى الطاعة والانقياد لأمر الله، فيكون القول بالقضاء والقدر حيا ويكون تعليل الصد عن الدين بكونه متجبرا متكبرا باقيا، فثبت أن هذا المذهب الذي اخترناه في القضاء والقدر هو الذي ينطبق لفظ القرآن من أوله إلى آخره عليه. المسألة الثالثة: لا بد من بيان الفرق بين المتكبر والجبار، قال مقابل * (متكبر) * عن قبول التوحيد * (جبار) * في غير حق، وأقول كما السعادة في غير خق، وأقول كمال السعادة في أمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فعلى قول مقاتل التكبر كالمضاد للتعظيم لأمر الله والجبروت كالمضاد للشفقة على خلق الله والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال فرعون ياهامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الاسباب * أسباب السماوات فأطلع
63

إلى إله موسى وإنى لاظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب) *
اعلم أنه تعالى لما وصف فرعون بكونه متكبرا جبارا بين أنه أبلغ في البلادة والحماقة إلى أن قصد الصعود إلى السماوات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: احتج الجمع الكثير من المشبهة بهذه الآية في إثبات أن الله في السماوات وقرروا ذلك من وجوه الأول: أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله، وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما يذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك، فهو أيضا يذكره كما سمعه، فلولا أنه سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء وإلا لما طلبه في السماء، الوجه الثاني: أنه قال وإني لأظنه كاذبا، ولم يبين أنه كاذب فيماذا، والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه فكأن التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء، ثم قال: * (وإني لأظنه كاذبا) * أي وإني لأظن موسى كاذبا في إدعائه أن الإله موجود في السماء، وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء الوجه الثالث: العلم بأنه لو وجد إله لكان موجودا في السماء علم بديهي متقرر في كل العقول ولذلك فإن الصبيان إذا تضرعوا إلى الله رفعوا وجوههم وأيديهم إلى السماء، وإن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء، وهذا يدل على أن العلم بأن الإله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل. فهذا جملة استدلالات المشبهة بهذه الآية، والجواب: أن هؤلاء الجهال يكفيهم في كمال الخزي والضلال أن جعلوا قول فرعون اللعين حجة لهم على صحة دينهم، وأما موسى عليه السلام فإنه لم يزد في تعريف إله العالم على ذكر صفة الخلاقية فقال في سورة طه * (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) * (طه: 50) وقال في سورة الشعراء * (ربكم ورب آبائكم الأولين * رب المشرق والمغرب وما بينهما) * (الشعراء: 26، 28) فظهر أن تعريف ذات الله بكونه في السماء دين فرعون وتعريفه بالخلاقية والموجودية دين موسى، فمن قال بالأول كان على دين فرعون،
ومن قال بالثاني كان على دين موسى، ثم نقول لا نسلم أن كل ما يقوله فرعون في صفات الله تعالى فذلك قد سمعه من موسى عليه السلام، بل لعله كان على دين المشبهة فكان يعتقد أن الإله لو كان موجودا لكان حاصلا في السماء، فهو إنما ذكر هذا الاعتقاد من قبل نفسه لا لأجل أنه قد سمعه من موسى عليه السلام.
وأما قوله * (وإني لأظنه كاذبا) * فنقول لعله لما سمع موسى عليه السلام قال: * (رب السماوات
64

والأرض) * ظن أنه عنى أنه رب السماوات، كما يقال للواحد منا إنه رب الدار بمعنى كونه ساكنا فيه، فلما غلب على ظنه ذلك حكى عنه، وهذا ليس بمستبعد، فإن فرعون كان بلغ في الجهل والحماقة إلى حيث لا يبعد نسبة هذا الخيال إليه، فإن استبعد الخصم نسبة هذا الخيال إليه كان ذلك لائقا بهم، لأنهم لما كانوا على دين فرعون وجب عليهم تعظيمه. وأما قوله إن فطرة فرعون شهدت بأن الإله لو كان موجودا لكان في السماء، قلنا نحن لا ننكر أن فطرة أكثر الناس تخيل إليهم صحة ذلك لا سيما من بلغ في الحماقة إلى درجة فرعون فثبت أن هذا الكلام ساقط.
المسألة الثانية: اختلف الناس في أن فرعون هل قصد بناء الصرح ليصعد منه إلى السماء أم لا؟ أما الظاهريون من المفسرين فقد قطعوا بذلك، وذكروا حكاية طويلة في كيفية بناء ذلك الصرح، والذي عندي أنه بعيد والدليل عليه أن يقال فرعون لا يخلو إما أن يقال إنه كان من المجانين أو كان من العقلاء، فإن قلنا إنه كان من المجانين لم يجز من الله تعالى إرسال الرسول إليه، لأن العقل شرط في التكليف، ولم يجز من الله أن يذكر حكاية كلام مجنون في القرآن، وإما إن قلنا إنه كان من العقلاء فنقول إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أنه يتعذر في قدرة البشر وضع بناء يكون أرفع من الجبل العالي، ويعلم أيضا ببديهة عقله أنه لا يتفاوت في البصر حال السماء بين أن ينظر إليه من أسفل الجبال وبين أن ينظر إليه من أعلى الجبال، وإذا كان هذا العلمان بديهيين امتنع أن يقصد العاقل وضع بناء يصعد منه إلى السماء، وإذا كان فساد هذا معلوما بالضرورة امتنع إسناده إلى فرعون، والذي عندي في تفسير هذه الآية أن فرعون كان من الدهرية وغرضه من ذكر هذا الكلام إيراد شبهة في نفي الصانع وتقريره أنه قال: إنا لا نرى شيئا نحكم عليه بأنه إله العالم فلم يجز إثبات هذا الإله، أما إنه لا نراه فلأنه لو كان موجودا لكان في السماء ونحن لا سبيل لنا إلى صعود السماوات فكيف يمكننا أن نراه، ثم إنه لأجل المبالغة في بيان أنه لا يمكنه صعود السماوات * (قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب) * والمقصود أنه لما عرف كل أحد أن هذا الطريق ممتنع كان الوصول إلى معرفة وجود الله بطريق الحس ممتنعا، ونظيره قوله تعالى: * (فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية) * (الأنعام: 35) وليس المراد منه أن محمدا صلى الله عليه وسلم طلب نفقا في الأرض أو وضع سلما إلى السماء، بل المعنى أنه لما عرف أن هذا المعنى ممتنع فقد عرف أنه لا سبيل لك إلى تحصيل ذلك المقصود، فكذا ههنا غرض فرعون من قوله * (يا هامان ابن لي صرحا) * يعني أن الاطلاع على إله موسى لما كان لا سبيل إليه إلا بهذا الطريق وكان هذا الطريق ممتنعا، فحينئذ يظهر منه أنه لا سبيل إلى معرفة الإله الذي يثبته موسى فنقول هذا ما حصلته في هذا الباب.
واعلم أن هذه الشبهة فاسدة لأن طرق العلم ثلاثة الحس والخبر والنظر، ولا يلزم من انتفاء طريق واحد وهو الحس انتفاء المطلوب، وذلك لأن موسى عليه السلام كان قد بين لفرعون
65

أن الطريق في معرفة الله تعالى إنما هو الحجة والدليل كما قال: * (ربكم ورب آبائكم الأولين * رب المشرق والمغرب) * (الشعراء: 26، 28) إلا أن فرعون لخبثه ومكره تغافل عن ذلك الدليل، وألقى إلى الجهال أنه لما كان لا طريق إلا الإحساس بهذا الإله وجب نفيه، فهذا ما عندي في هذا الباب وبالله التوفيق والعصمة.
المسألة الثالثة: ذهب قوم إلى أنه تعالى خلق جواهر الأفلاك وحركاتها بحيث تكون هي الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم الأسفل، واحتجوا بقوله تعالى: * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) * ومعلوم أنها ليست أسبابا إلا لحوادث هذا العالم قالوا ويؤكد هذا بقوله تعالى في سورة ص * (فليرتقوا في الأسباب) * (ص: 10) أما المفسرون فقد ذكروا في تفسير قوله تعالى: * (لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات) * أن المراد بأسباب السماوات طرقها وأبوابها وما يؤدي إليها، وكل ما أداك إلى شيء فهو سبب كالرشاد ونحوه.
المسألة الرابعة: قالت اليهود أطبق الباحثون عن تواريخ بني إسرائيل وفرعون أن هامان ما كان موجودا البتة في زمان موسى وفرعون وإنما جاء بعدهما بزمان مديد ودهر داهر، فالقول بأن هامان كان موجودا في زمان فرعون خطأ في التاريخ، وليس لقائل أن يقول إن وجود شخص يسمى بهامان بعد زمان فرعون لا يمنع من وجود شخص آخر يسمى بهذا الاسم في زمانه، قالوا لأن هذا الشخص المسمى بهامان الذي كان موجودا في زمان فرعون ما كان شخصا خسيسا في حضرة فرعون بل كان كالوزير له، ومثل هذا الشخص لا يكون مجهول الوصف والحلية فلو كان موجودا لعرف حاله، وحيث أطبق الباحثون عن أحوال فرعون وموسى أن الشخص المسمى بهامان ما كان موجودا في زمان فرعون وإنما جاء بعده بأدوار علم أن غلط وقع في التواريخ، قالوا ونظير هذا أنا نعرف في دين الإسلام أن أبا حنيفة إنما جاء بعد محمد صلى الله عليه وسلم فلو أن قائلا أدعى أن أبا حنيفة كان موجودا في زمان محمد عليه السلام وزعم أنه شخص آخر سوى الأول وهو يسمى بأبي حنيفة، فإن أصحاب التواريخ يقطعون بخطئه فكذا ههنا والجواب: أن تواريخ موسى وفرعون قد طال العهد بها واضطربت الأحوال والأدوار فلم يبق على كلام أهل التواريخ اعتماد في هذا الباب، فكان الأخذ بقول الله تعالى أولى بخلاف حال رسولنا مع أبي حنيفة فإن هذه التواريخ قريبة غير مضطربة بل هي مضبوطة فظهر الفرق بين البابين، فهذا جملة ما يتعلق بالمباحث المعنوية في هذه الآية، وبقي ما يتعلق بالمباحث اللفظية.
قيل الصرح البناء الظاهر لا يخفى على الناظر وإن بعد، اشتقوه من صرح الشيء إذ ظهر و * (أسباب السماوات) * طرقها، فإن قيل ما فائدة هذا التكرير. لو قيل: لعلي أبلغ الأسباب السماوات، كان كافيا؟ أجاب صاحب " الكشاف " عنه فقال: إذا أبهم الشيء ثم أوضح كان تفخيما لشأنه، فلما أراد تفخيم أسباب السماوات أبهمها ثم
أوضحها، وقوله * (فأطلع إلى إله موسى) * قرأ حفص
66

عن عاصم * (فأطلع) * بفتح العين والباقون بالرفع، قال المبرد: من رفع فقد عطفه على قوله * (أبلغ) * والتقدير لعلي أبلغ الأسباب ثم أطلع إلا أن حرف ثم أشد تراخيا من الفاء، ومن نصب جعله جوابا، والمعنى لعلي أبلغ الأسباب فمتى بلغتها أطلع والمعنى مختلف، لأن الأول: لعلي أطلع والثاني: لعلي أبلغ وأنا ضامر أني متى بلغت فلا بد وأن أطلع.
واعلم أنه تعالى لما حكى عن فرعون هذه القصة قال بعدها * (وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (وصد) * بضم الصاد، قال أبو عبيدة: وبه يقرأ، لأن ما قبله فعل مبني للمفعول به فجعل ما عطف عليه مثله، والباقون * (وصد) * بفتح الصاد على أنه منع الناس عن الإيمان، قالوا ومن صده قوله * (لأقطعن أيديكم وأرجلكم) * (الأعراف: 124) ويؤيد هذه القراءة قوله * (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله) * (النساء: 167) وقوله * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام) * (الفتح: 25).
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (زين) * لا بد له من المزين، فقالت المعتزلة: إنه الشيطان، فقيل لهم إن كان المزين لفرعون هو الشيطان، فالمزين للشيطان إن كان شيطانا آخر لزم إثبات التسلسل في الشياطين أو الدور وهو محال، ولما بطل ذلك وجب انتهاء الأسباب والمسببات في درجات الحاجات إلى واجب الوجود، وأيضا فقوله * (زين) * يدل على أن الشيء إن لم يكن في اعتقاد الفاعل موصوفا بأنه خير وزينة وحسن فإنه لا يقدم عليه، إلا أن ذلك الاعتقاد إن كان صوابا فهو العلم، وإن كان خطأ فهو الجهل، ففاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، لأن العاقل لا يقصد تحصيل الجهل لنفسه، ولأنه إنما يقصد تحصيل الجهل لنفسه إذا عرف كونه جهلا، ومتى عرف كونه جهلا امتنع بقاؤه جاهلا، فثبت أن فاعل ذلك الجهل ليس هو ذلك الإنسان، ولا يجوز أن يكون فاعله هو الشيطان، لأن البحث الأول بعينه عائد فيه، فلم يبق إلا أن يكون فاعله هو الله تعالى والله أعلم. ويقوي ما قلناه أن صاحب " الكشاف " نقل أنه قرىء * (وزين له سوء عمله) * على البناء للفاعل والفعل لله عز وجل، ويدل عليه قوله * (إلى إله موسى) *.
ثم قال تعالى: * (وما كيد فرعون إلا في تباب) * والتباب الهلاك والخسران، ونظيره قوله تعالى: * (وما زادوهم غير تتبيب) * (هود: 101) وقوله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب) * (المسد: 1) والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقال الذى ءامن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * ياقوم إنما هذه الحيوة
67

الدنيا متاع وإن الاخرة هى دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب * وياقوم ما لى أدعوكم إلى النجوة وتدعوننى إلى النار * تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الاخرة وأن مردنآ إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون مآ أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد) *.
اعلم أن هذا من بقية كلام الذي آمن من آل فرعون، وقد كان يدعوهم إلى الإيمان بموسى والتمسك بطريقته.
واعلم أنه نادى في قومه ثلاث مرات: في المرة الأولى دعاهم إلى قبول ذلك الدين على سبيل الإجمال، وفي المرتين الباقيتين على سبيل التفصيل. أما الإجمال فهو قوله * (يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد) * وليس المراد بقوله * (اتبعون) * طريقة التقليد، لأنه قال بعده * (أهدكم سبيل الرشاد) * والهدى هو الدلالة، ومن بين الأدلة للغير يوصف بأنه هداه، وسبيل الرشاد هو سبيل الثواب والخير وما يؤدي إليه، لأن الرشاد نقيض الغي، وفيه تصريح بأن ما عليه فرعون وقومه هو سبيل الغي. وأما التفصيل فهو أنه بين حقارة حال الدنيا وكمال حال الآخرة، أما حقارة الدنيا فهي قوله * (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) * والمعنى أنه يستمتع بهذه الحياة الدنيا في أيام قليلة، ثم تنقطع وتزول، وأما الآخرة فهي دار القرار والبقاء والدوام، وحاصل الكلام أن الآخرة باقية دائمة والدنيا منقضية منقرضة، والدائم خير من المنقضي، وقال بعض العارفين: لو كانت الدنيا
68

ذهبا فانيا، والآخرة خزفا باقيا، لكانت الآخرة خيرا من الدنيا، فكيف والدنيا خزف فان، والآخرة ذهب باق.
واعلم أن الآخرة كما أن النعيم فيها دائم فكذلك العذاب فيها دائم، وإن الترغيب في النعيم الدائم والترهيب عن العذاب الدائم من أقوى وجوه الترغيب والترهيب، ثم بين كيف تحصل المجازاة في الآخرة، وأشار فيه إلى أن جانب الرحمة غالب على جانب العقاب فقال: * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) * والمراد بالمثل ما يقابلها في الاستحقاق، فإن قيل كيف يصح هذا الكلام، مع أن كفر ساعة يوجب عقاب الأبد؟ قلنا إن الكافر يعتقد في كفره كونه طاعة وإيمانا فلهذا السبب يكون الكافر على عزم أن يبقى مصرا على ذلك الاعتقاد أبدا، فلا جرم كان عقابه مؤبدا بخلاف الفاسق فإنه يعتقد فيه كونه خيانة ومعصية فيكون على عزم أن لا يبقى مصرا عليه، فلا جرم قلنا أن عقاب الفاسق منقطع. أما الذي يقوله المعتزلة من أن عقابه مؤبد فهو باطل، لأن مدة تلك المعصية منقطعة والعزم على الإتيان بها أيضا ليس دائما بل منقطعا فمقابلته بعقاب دائم يكون على خلاف قوله * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) *، واعلم أن هذه الآية أصل كبير في علوم الشريعة فيما يتعلق بأحكام الجنايات فإنها تقتضي أن يكون المثل مشروعا، وأن يكون الزائد على المثل غير مشروع، ثم نقول ليس في الآية بيان أن تلك المماثلة معتبرة في أي الأمور فلو حملناه على رعاية المماثلة في شيء معين، مع أن ذلك المعين غير مذكور في الآية صارت الآية مجملة، ولو حملناه على رعاية المماثلة في جميع الأمور صارت الآية عاما مخصوصا، وقد ثبت في أصول الفقه أن التعارض إذا وقع بين الإجمال وبين التخصيص كان دفع الإجمال أولى فوجب أن تحمل هذه الآية على رعاية المماثلة من كل الوجوه إلا في
مواضع التخصيص، وإذا ثبت هذا فالأحكام الكثيرة في باب الجنايات على النفوس، وعلى الأعضاء، وعلى الأموال يمكن تفريعها على هذه الآية. ثم نقول إنه تعالى لما بين أن جزاء السيئة مقصور على المثل بين أن جزاء الحسنة غير مقصور على المثل بل هو خارج عن الحساب فقال: * (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) * واحتج أصحابنا بهذه الآية فقالوا قوله * (ومن عمل صالحا) * نكرة في معرض الشرط في جانب الإثبات فجرى مجرى أن يقال من ذكر كلمة أو من خطا خطوة فله كذا فإنه يدخل فيه كل من أتى بتلك الكلمة أو بتلك الخطوة مرة واحدة، فكذلك ههنا وجب أن يقال كل من عمل صالحا واحدا من الصالحات فإنه يدخل الجنة ويرزق فيها بغير حساب، والآتي بالإيمان والمواظب على التوحيد والتقديس مدة ثمانين سنة قد أتى بأعظم الصالحات وبأحسن الطاعات، فوجب أن يدخل الجنة والخصم يقول إنه يبقى مخلدا في النار أبد الآباد فكان ذلك على خلاف هذا النص الصريح. قالت المعتزلة إنه تعالى شرط فيه كونه مؤمنا وصاحب الكبيرة عندنا
69

ليس بمؤمن فلا يدخل في هذا الوعد والجواب: أنا بينا في أول سورة البقرة في تفسير قوله تعالى: * (الذين يؤمنون بالغيب) * (البقرة: 3) أن صاحب الكبيرة مؤمن فسقط هذا الكلام، واختلفوا في تفسير قوله * (يرزقون فيها بغير حساب) * فمنهم من قال لما كان لا نهاية لذلك الثواب قيل بغير حساب، وقال الآخرون لأنه تعالى يعطيهم ثواب أعمالهم ويضم إلى ذلك الثواب من أقسام التفضل ما يخرج عن الحساب وقوله * (بغير حساب) * واقع في مقابلة * (إلا مثلها) * يعني أن جزاء السيئة له حساب وتقدير، لئلا يزيد على الاستحقاق، فأما جزاء العمل الصالح فبغير تقدير وحساب بل ما شئت من الزيادة على الحق والكثرة والسعة، وأقول هذا يدل على أن جانب الرحمة والفضل راجح على جانب القهر والعقاب، فإذا عارضنا عمومات الوعد بعمومات الوعيد، وجب أن يكون الترجيح بجانب عمومات الوعد وذلك يهدم قواعد المعتزلة، ثم استأنف ذلك المؤمن ونادى في المرة الثالثة وقال: * (يا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) * يعني أنا أدعوكم إلى الإيمان الذي يوجب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي يوجب النار، فإن قيل لم كرر نداء قومه، ولم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني؟ قلنا أما تكرير النداء ففيه زيادة تنبيه لهم وإيقاظ من سنة الغفلة، وإظهار أن له بهذا المهم مزيد اهتمام، وعلى أولئك الأقوام فرط شفقة، وأما المجيء بالواو العاطفة فلأن الثاني يقرب من أن يكون عين الأول، لأن الثاني بيان للأول والبيان عين المبين، وأما الثالث فلأنه كلام مباين للأول والثاني فحسن إيراد الواو العاطفة فيه، ولما ذكر هذا المؤمن أنه يدعوهم إلى النجاة وهم يدعونه إلى النار، فسر ذلك بأنهم يدعونه إلى الكفر بالله وإلى الشرك به، أما الكفر بالله فلأن الأكثرين من قوم فرعون كانوا ينكرون وجود الإله، ومنهم من كان يقر بوجود الله إلا أنه كان يثبت عبادة الأصنام وقوله تعالى: * (وأشرك به ما ليس لي به علم) * المراد بنفي العلم نفي المعلوم، كأنه قال وأشرك به ما ليس بإله وما ليس بإله كيف يعقل جعله شريكا للإله؟ ولما بين أنهم يدعونه إلى الكفر والشرك بين أنه يدعوهم إلى الإيمان بالعزيز الغفار فقوله * (العزيز) * إشارة إلى كونه كامل القدرة، وفيه تنبيه على أن الإله هو الذي يكون كامل القدرة، وأما فرعون فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها، وأما الأصنام فإنها أحجار منحوتة فكيف يعقل القول بكونها آلهة وقوله * (الغفار) * إشارة إلى أنه لا يجب أن يكونوا آيسين من رحمة الله بسبب إصرارهم على الكفر مدة مديدة، فإن إله العالم وإن كان عزيزا لا يغلب قادرا لا يغالب، لكنه غفار يغفر كفر سبعين سنة بإيمان ساعة واحدة، ثم قال ذلك المؤمن * (لا جرم) * والكلام في تفسير لا جرم مر في سورة هود في قوله * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون) * (هود: 22) وقد أعاده صاحب " الكشاف " ههنا فقال * (لا جرم) * مساقه على مذهب البصريين أن يجعل (لا) ردا لما دعاه إليه قومه و * (جرم) * فعل بمعنى حق و * (أنما) * مع ما في حيزه فاعله أي حق ووجب بطلان دعوته أو بمعنى كسب من قوله تعالى: * (ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) * (المائدة: 2) أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يقال إن * (لا جرم) * نظيره لا بد فعل
70

من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله، فكذلك * (لا جرم أن لهم النار) * (النحل: 62) أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقل حقا، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب " الكشاف ".
ثم قال: * (أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) * والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان. الأول: أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنه جمادات والجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها وقوله * (في الآخرة) * يعني أنه تعالى إذا قلبها حيوانا في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين. والاحتمال الثاني: أن يكون قوله * (ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) * معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقا لاسم أحد المتضايقين على الآخر، كقوله * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * (الشورى: 40) ثم قال: * (وأن مردنا إلى الله) * فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها البتة، ومع ذلك فإن مردنا إلى الله العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه؟ وقوله * (وأن المسرفين هم أصحاب النار) * قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية الله بالكلمة والكيفية، أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال: * (فستذكرون ما أقول لكم) * وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد، ثم قال: * (وأفوض أمري إلى الله) * وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضا خوفهم بقوله * (فستذكرون ما أقول لكم) * ثم
عول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل الله تعالى فقال: * (وأفوض أمري إلى الله) * وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله حيث قال: * (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) * (غافر: 27) فتح نافع وأبو عمرو الياء من * (أمري) * والباقون بالإسكان.
ثم قال: * (إن الله بصير بالعباد) * أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم، وتمسك أصحابنا بقوله تعالى: * (وأفوض أمري إلى الله) * على أن الكل من الله، وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير
71

والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى الله، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله * (أفوض) * اعتراف بكونه فاعلا مستقلا بالفعل، والمباحث المذكورة في قوله أعوذ بالله عائدة بتمامها في هذا الموضع. وههنا آخر كلام مؤمن آل فرعون والله الهادي.
قوله تعالى
* (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بال فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا ءال فرعون أشد العذاب * وإذ يتحآجون فى النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيهآ إن الله قد حكم بين العباد * وقال الذين فى النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب * قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا وما دعاء الكافرين إلا فى ضلال) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن ذلك الرجل لم يقصر في تقرير الدين الحق، وفي الذب عنه فالله تعالى رد عنه كيد الكافرين وقصد القاصدين، وقوله تعالى: * (فوقاه الله سيئات ما مكروا) * يدل على أنه لما صرح بتقرير الحق فقد قصدوه بنوع من أنواع السوء، قال مقاتل لما ذكر هذه الكلمات فصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه، وقيل المراد بقوله * (فرقاه الله سيئات ما مكروا) * أنهم قصدوا إدخاله في الكفر وصرفه عن الإسلام فوقاه الله عن ذلك إلا أن الأول أولى لأن قوله بعد ذلك * (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) * لا يليق إلا بالوجه الأول، وقوله تعالى: * (وحاق
72

بآل فرعون) * أي أحاط بهم * (سوء العذاب) * أي غرقوا في البحر، وقيل بل المراد منه النار المذكورة في قوله * (النار يعرضون عليها) * قال الزجاج * (النار) * بدل من قوله * (سوء العذاب) * قال: وجائز أيضا أن تكون مرتفعة على إضمار تفسير * (سوء العذاب) * كأن قائلا قال: ما سوء العذاب؟ فقيل: * (النار يعرضون عليها) *. قرأ حمزة * (حاق) * بكسر الحاء وكذلك في كل القرآن والباقون بالفتح
أما قوله * (النار يعرضون عليه غدوا وعشيا) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات عذاب القبر قالوا الآية تقتضي عرض النار عليهم غدوا وعشيا، وليس المراد منه يوم القيامة لأنه قال: * (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) *، وليس المراد منه أيضا الدنيا لأن عرض النار عليهم غدوا وعشيا ما كان حاصلا في الدنيا، فثبت أن هذا العرض إنما حصل بعد الموت وقبل يوم القيامة، وذلك يدل على إثبات عذاب القبر في حق هؤلاء، وإذ ثبت في حقهم ثبت في حق غيرهم لأنه لا قائل بالفرق، فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد من عرض النار عليهم غدوا وعشيا عرض النصائح عليهم في الدنيا؟ لأن أهل الدين إذا ذكروا لهم الترغيب والترهيب وخوفوهم بعذاب الله فقد عرضوا عليهم النار، ثم نقول في الآية ما يمنع من حمله على عذاب القبر وبيانه من وجهين: الأول: أن ذلك العذاب يجب أن يكون دائما غير منقطع، وقوله * (يعرضون عليها غدوا وعشيا) * يقتضي أن لا يحصل ذلك العذاب إلا في هذين الوقتين، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني: أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدنيا، أما في القبر فلا وجود لهما، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب: عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار، لا أنه يعرض عليهم نفس النار، فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم، وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز، أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز، قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك، وأيضا لا يمتنع يأن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله * (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا) * (مريم: 62)
أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية، قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب؟ والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (أدخلوا آل فرعون) * أي يقال لخزنة جهنم: أدخلوهم في أشد العذاب، والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار: أدخلوا أشد العذاب، والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة، واحتج عليها بقوله تعالى: * (يعرضون) * فهذا يفعل بهم فكذلك * (أدخلوا) * وأما وجه القراءة الثانية فقوله * (أدخلوا أبواب جهنم) *، وههنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون.
73

واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار، لا جرم ذكر الله عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال: * (وإذ يتحاجون في النار) * والمعنى أذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضا، ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء * (إنا كنا لكم تبعا) * في الدنيا، قال صاحب " الكشاف " تبعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفا بالمصدر * (فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) * أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيبا من العذاب، واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم، لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء * (إنا كل فيها) * يعني أن كلنا
واقعون في هذا العذاب، فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي، ثم يقولون * (إن الله قد حكم بين العباد) * يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب، ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم * (ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب) * فإن قيل لم لم يقل: وقال الذين في النار لخزنتها بل قال: * (وقال الذين في النار لخزنة جهنم) *؟ قلنا فيه وجهان الأول: أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني: أن يكون جهنم اسما لموضع هو أبعد النار قعرا، من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر، وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند الله درجة، فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم، فأولئك الملائكة يقولون لهم * (أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات) * والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه * (ما جاءنا من بشير ولا نذير) * (المائدة: 19) أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء: 15) وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع، ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على ذلك ولا نشفع إلا بشرطين أحدهما: كون المشفوع له مؤمنا والثاني: حصول الإذن في الشفاعة ولم يوجد واحد من هذين الشرطين فإقدامنا على هذه الشفاعة ممتنع لكن ادعوا أنتم، وليس قولهم فادعوا لرجاء المنفعة، ولكن للدلالة على الخيبة، فإن الملك المقرب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكفار، ثم يصرحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * فإن قيل إن الحاجة على الله محال، وإذا كان كذلك امتنع أن يقال: إنه تأذى من هؤلاء المجرمين بسبب جرمهم، وإذا كان التأذي محالا عليه كانت شهوة الانتقام ممتنعة في حقه، إذا ثبت هذا فنقول إيصال هذه المضار العظيمة إلى أولئك الكفار إضرار لا منفعة فيه إلى الله تعالى ولا لأحد من العبيد، فهو إضرار خال عن جميع الجهات المنتفعة فكيف يليق بالرحيم الكريم أن يبقى على ذلك الإيلام أبد الآباد ودهر الداهرين،
74

من غير أن يرحم حاجتهم ومن غير أن يسمع دعاءهم ومن غير أن يلتفت إلى تضرعهم وانكسارهم، ولو أن أقصى الناس قلبا فعل مثل هذا التعذيب ببعض عبيده لدعاه كرمه ورحمته إلى العفو عنه مع أن هذا السيد في محل النفع والضرر والحاجة، فأكرم الأكرمين كيف يليق به هذا الإضرار؟ قلنا أفعال الله لا تعلل و * (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) * (الأنبياء: 23) فلما جاء الحكم الحق به في الكتاب الحق وجب الإقرار به والله أعلم بالصواب.
قوله تعالى
* (إنا لننصر رسلنا والذين ءامنوا فى الحيوة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار * ولقد ءاتينا موسى الهدى وأورثنا بنى إسراءيل الكتاب * هدى وذكرى لاولى الالباب * فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشى والابكار) *.
اعلم أن في كيفية النظم وجوها الأول: أنه تعالى لما ذكر وقاية الله موسى صلوات الله عليه وذلك المؤمن من مكر فرعون بين في هذه الآية أنه ينصر رسله والذين آمنوا معه والثاني: لما بين من قبل ما يقع بين أهل النار من التخاصم وأنهم عند الفزع إلى خزنة جهنم يقولون * (أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات) * (غافر: 50) أتبع ذلك بذكر الرسل وأنه ينصرهم في الدنيا والآخرة والثالث: وهو الأقرب عندي أن الكلام في أول السورة إنما وقع من قوله * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد) * (غافر: 4) وامتد الكلام في الرد على أولئك المجادلين وعلى أن المحقين أبدا كانوا مشغولين بدفع كيد المبطلين، وكل لذلك إنما ذكره الله تعالى تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتصبيرا له على تحمل أذى قومه. ولما بلغ الكلام في تقرير المطلوب إلى الغاية القصوى وعد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة فقال: * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) * الآية، أما في الدنيا فهو المراد بقوله * (في الحياة الدنيا) *، وأما في الآخرة فهو المراد بقوله * (ويوم يقوم الأشهاد) *
75

فحاصل الكلام أنه تعالى وعد بأنه ينصر الأنبياء والرسل، وينصر الذين ينصرونهم نصرة يظهر أثرها في الدنيا وفي الآخرة.
واعلم أن نصرة الله المحقين تحصل بوجوه أحدها: النصرة بالحجة، وقد سمى الله الحجة سلطانا في غير موضع، وهذه الصرة عامة للمحقين أجمع، ونعم ما سمى الله هذه النصرة سلطانا لأن السلطنة في الدنيا قد تبطل، وقد تتبدل بالفقر والذلة والحاجة والفتور، أما السلطنة الحاصلة بالحجة فإنها تبقى أبد الآباد ويمتنع تطرق الخلل والفتور إليها وثانيها: أنهم منصورون بالمدح والتعظيم، فإن الظلمة وإن قهروا شخصا من المحقين إلا أنهم لا يقدرون على إسقاط مدحه عن ألسنة الناس وثالثها: أنهم منصورون بسبب أن بواطنهم مملوءة من أنوار الحجة وقوة اليقين، فإنهم إنما ينظرون إلى الظلمة والجهال كما تنظر ملائكة السماوات إلى أخس الأشياء ورابعها: أن المبطلين وإن كان يتفق لهم أن يحصل لهم استيلاء على المحقين، ففي الغالب أن ذلك لا يدوم بل يكشف للناس أن ذلك كان أمرا وقع على خلاف الواجب ونقيض الحق وخامسها: أن المحق إن اتفق له أن وقع في نوع من أنواع المحذور فذلك يكون سببا لمزيد ثوابه وتعظيم درجاته وسادسها: أن الظلمة والمبطلين كما يموتون تموت آثارهم ولا يبقى لهم في الدنيا أثر ولا خبر. وأما المحقون فإن آثارهم باقية على وجه الدهر والناس بهم يقتدون في أعمال البر والخير ولمنحهم يتركون فهذا كله أنواع نصرة الله للمحقين في الدنيا وسابعها: أنه تعالى قد ينتقم للأنبياء والأولياء بعد موتهم، كما نصر يحيى بن زكريا فإنه لما قتل به سبعون ألفا، وأما نصرته تعالى إياهم في الآخرة فذلك بإعلاء درجاتهم في مراتب الثواب وكونهم مصاحبين لأنبياء الله، كمال قال: * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) * (النساء: 69).
واعلم أن في قوله * (إنا لننصر رسلنا) * إلى قوله * (ويوم يقوم الأشهاد) * دقيقة معتبرة وهي أن السلطان العظيم إذا خص بعض خواصه بالإكرام العظيم والتشريف الكامل عند حضور الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب كان ذلك ألذ وأبهج فقوله * (إنا لننصر رسلنا - إلى - ويوم يقوم الأشهاد) * المقصود منه هذه الدقيقة، واختلفوا في المراد بالأشهاد، والظاهر أن المراد كل من يشهد بأعمال العباد يوم القيامة من ملك ونبي ومؤمن، ما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما
شاهدوا، وأما الأنبياء فقال تعالى: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (النساء: 41) وقال تعالى: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) * (البقرة: 143) قال المبرد يجوز أن يكون واحد الأشهاد شاهدا كأطيار وطائر وأصحاب وصاحب، ويجوز أن يكون واحد الأشهاد شهيدا كأشراف وشريف وأيتام ويتيم.
ثم قال تعالى: * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر لا تنفع بالتاء لتأنيث المعذرة والباقون بالياء كأنه أريد الاعتذار.
76

واعلم أن المقصود أيضا من هذا شرح تعظيم ثواب أهل الثواب، وذلك لأنه تعالى بين أنه ينصرهم في يوم يجتمع فيه الأولون والآخرون، فحالهم في علو الدرجات في ذلك اليوم ما ذكرناه وأما حال أعدائهم فهو أنه حصلت لهم أمور ثلاثة أحدها: أنه لا ينفعهم شيء من المعاذير البتة وثانيها: أن * (لهم اللعنة) * وهذا يفيد الحصر يعني اللعنة مقصورة عليهم وهي الإهانة والإذلال وثالثها: سوء الداء وهو العقاب الشديد فهذا اليوم إذا كان الأعداء واقعين في هذه المراتب الثلاثة من الوحشة والبلية، ثم إنه خص الأنبياء والأولياء بأنواع التشريفات الواقعة في الجمع الأعظم فهنا يظهر أن سرور المؤمن كم يكون، وأن غموم الكافرين إلى أين تبلغ. فإن قيل قوله * (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) * يدل على أنهم يذكرون الأعذار إلا أن تلك الأعذار لا تنفعهم فكيف الجمع بين هذا وبين قوله * (ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (المرسلات: 36) قلنا قوله * (لا تنفع الظالمين معذرتهم) * لا يدل على أنهم ذكروا الأعذار، بل ليس فيه إلا أنه ليس عندهم عذر مقبول نافع، وهذا القدر لا يدل على أنهم ذكروه أم لا. وأيضا فيقال يوم القيامة يوم طويل فيعتذرون في وقت ولا يعتذرون في وقت آخر، ولما بين الله تعالى أنه ينصر الأنبياء والمؤمنين في الدنيا والآخرة ذكر نوعا من أنواع تلك النصرة في الدنيا فقال: * (ولقد آتينا موسى الهدى) * ويجوز أن يكون المراد من الهدى ما آتاه الله من العلوم الكثيرة النافعة في الدنيا والآخرة، ويجوز أن يكون المراد تلك الدلائل القاهرة التي أوردها على فرعون وأتباعه وكادهم بها، ويجوز أن يكون المراد هو النبوة التي هي أعظم المناصب الإنسانية، ويجوز أن يكون المراد إنزال التوراة عليه.
ثم قال تعالى: * (وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولى الألباب) * يجوز أن يكون المراد منه أنه تعالى لما أنزل التوراة على موسى بقي ذلك العلم فيهم وتوارثوه خلفا عن سلف، ويجوز أن يكون المراد سائر الكتب التي أنزلها الله عليهم وهي كتب أنبياء بني إسرائيل التوراة والزبور والإنجيل، والفرق بين الهدى والذكرى وأن الهدى ما يكون دليلا على الشيء وليس من شرطه أن يذكر شيئا آخر كان معلوما ثم صار منسيا، وأما الذكرى فهي الذي يكون كذلك فكتب أنبياء الله مشتملة على هذين القسمين بعضها دلائل في أنفسها، وبعضها مذكرات لما ورد في الكتب الإلهية المتقدمة. ولما بين أن الله تعالى ينصر رسله وينصر المؤمنين في الدنيا والآخرة وضرب المثال في ذلك بحال موسى وخاطب بعد ذلك محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: * (فاصبر إن وعد الله حق) * فالله ناصرك كنا نصرهم ومنجز وعده في حقك كما كان كذلك في حقهم، ثم أمره بأن يقبل على طاعة الله النافعة في الدنيا والآخرة فإن من كان لله كان الله له.
واعلم أن مجامع الطاعات محصورة في قسمين التوبة عما لا ينبغي، والاشتغال بما ينبغي، والأول مقدم على الثاني بحسب الرتبة الذاتية فوجب أن يكون مقدما عليه في الذكر، أما التوبة عما لا ينبغي فهو قوله * (واستغفر لذنبك) * والطاعنون في عصمة الأنبياء عليهم السلام يتمسكون به
77

ونحن نحمله على التوبة عن ترك الأولى والأفضل، أو على ما كان قد صدر عنهم قبل النبوة، وقيل أيضا المقصود منه محض التعبد كما في قوله * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك) * (آل عمران: 194) فإن إيتاء ذلك الشيء واجب ثم إنه أمرنا بطلبه، وكقوله * (رب احكم بالحق) * (الأنبياء: 112) من أنا نعلم أنه لا يحكم إلا بالحق، وقيل إضافة المصدر إلى الفاعل والمفعول فقوله * (واستغفر لذنبك) * من باب إضافة المصدر إلى المفعول أي واستغفر لذنب أمتك في حقك، وأما الاشتغال بما ينبغي فهو قوله * (وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار) * والتسبيح عبارة عن تنزيه الله عن كل ما لا يليق به، والعشي والإبكار، قيل صلاة العصر وصلاة الفجر، وقيل الإبكار، عبارة عن أو النهار إلى النصف، والعشي عبارة عن النصف إلى آخر النهار، فيدخل فيه كل الأوقات، وقيل المراد طرفا النهار، كما قال: * (وأقم الصلاة طرفي النهار) * (هود: 114) وبالجملة فالمراد منه الأمر بالمواظبة على ذكر الله، وأن لا يفتر اللسان عنه، وأن لا يغفل القلب عنه، حتى يصير الإنسان بهذا السبب داخلا في زمرة الملائكة، كما قال في وصفهم * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * (الأنبياء: 20) والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن الذين يجادلون فى ءايات الله بغير سلطان أتاهم إن فى صدورهم إلا كبر ماهم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير * لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون * وما يستوى الاعمى والبصير والذين ءامنوا وعملوا الصالحات ولا المسىء قليلا ما تتذكرون * إن الساعة لاتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدئ ردا على الذين يجادلون في آيات الله، واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه، والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا
78

الموضع، ثم إنه تعالى نبه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة، فقال: * (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان) * إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك، فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة.
ثم قال تعالى: * (ما هم ببالغيه) * يعني أنهم يريدون أن يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد، بل لا بد وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك، ثم قال: * (فاستعذ بالله) * أي فالتجئ إليه من كيد من يجادلك * (إنه هو السميع) * بما يقولون، أو تقول * (البصير) * بما تعمل ويعملون، فهو يجعلك نافذ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم.
واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات الله بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالا، فقال * (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) * والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة، وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها: أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها: أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله، فهذا استدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها: أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل البتة، ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السماوات والأرض هو الله سبحانه وتعالى، ويعلمون بالضرورة أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السماوات والأرض يكون قادرا على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا، فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر، فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا حجة، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب، ولما بين الله تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون، وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون، نبه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال: * (وما يستوي الأعمى والبصير) * يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد، ثم قال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ) * فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل، والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة، ثم قال: * (قليلا ما تتذكرون) * يعني أنهم وإن كان يعلمون أن العلم خير من الجهل، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد، إلا أنه قليلا ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل، والنوع المعين من العمل
79

أنه عمل صالح أو فاسد، فإن الحسد يعمي قلوبهم، فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة، وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة، فهذا هو المراد من قوله * (قليلا ما تتذكرون) * قرأ عاصم وحمزة والكسائي * (تتذكرون) * بالتاء على الخطاب، أي قل لهم قليلا ما تتذكرون، والباقون بالياء على الغيبة. ولما قرر الديل الدال على إمكان وجود يوم القيامة، أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال: * (إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) * والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة.
قوله تعالى
* (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين * الله الذى جعل لكم اليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شىء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بايات الله يجحدون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن القوم بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة الله تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر الله تعالى به في هذه الآية فقال: * (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) * واختلف الناس في المراد بقوله * (ادعوني) * فقيل إنه الأمر بالدعاء، وقيم إنه الأمر بالعبادة، بدليل أنه قال بعده * (الذين يستكبرون عن عبادتي) * ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي) * معنى، وأيضا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله * (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * (النساء: 117) وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، بأن ترك الظاهرة لا يصار
80

إليه إلا بدليل منفصل، فإن قيل كيف قال: * (أدعوني أستجيب لكم) * وقد يدعى كثيرا فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال: الدعاء إنما يصح على شرط، ومن دعا كذلك استجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال: فما هو أصلح يفعله بلا دعاء، فما الفائدة في الدعاء! وأجاب: عنه من وجهين الأول: أن فيه الفزع والانقطاع إلى الله والثاني: أن هذا أيضا وارد على الكل، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بد وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وإن علم أنه لا يفعله فإنه البتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وكل ما يقولونه ههنا فهو جوابنا، هذا تمام ما ذكره، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال: * (أدعوني أستجيب لكم) * فكل من دعا الله وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا الله إلا باللسان، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير الله، فهذا الإنسان ما دعا ربه في وقت، أما إذا دعا في وقت لا يبقى في القلب التفات إلى غير الله، فالظاهر أنه تحصل الاستجابة، إذا عرفت هذا ففيه بشارة كاملة، وهي أن انقطاع القلب بالكلية عما سوى الله لا يحصل إلا عند القرب من الموت، فإن الإنسان قاطع في ذلك الوقت بأنه لا ينفعه شيء سوى فضل الله تعالى، فعلى القانون الذي ذكرناه وجب أن يكون الدعاء في ذلك الوقت مقبولا عند الله، ونرجو من فضل الله وإحسانه أن يوفقنا للدعاء المقرون بالإخلاص والتضرع في ذلك الوقت، واعلم أن الكلام المستقصى في الدعاء قد سبق ذكره في سورة البقرة.
ثم قال تعالى: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * أي صاغرين وهذا إحسان عظيم من الله تعالى حيث ذكر الوعيد الشديد على ترك الدعاء، فإن قيل روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال حكاية عن رب العزة أنه قال: * (من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " فهذا الخبر يقتضي أن ترك الدعاء أفضل، وهذه الآية تدل على أن ترك الدعاء يوجب الوعيد الشديد، فكيف الجمع بينهما؟ قلنا لا شك أن العقل إذا كان مستغرقا في الثناء كان ذلك
أفضل من الدعاء، لأن الدعاء طلب للحظ والاستغراق في معرفة جلال الله أفضل من طلب الحظ، أما إذا لم يحصل ذلك الاستغراق كان الاشتغال بالدعاء أولى، لأن الدعاء يشتمل على معرفة عزة الربوبية وذلة العبودية.
ثم قال تعالى: * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * واعلم أن تعلقه بما قبله من وجهين الأول: كأنه تعالى قال: إني أنعمت عليك قبل طلبك لهذه النعم الجليلة العظيمة، ومن أنعم قبل السؤال بهذه النعم العالية فكيف لا ينعم بالأشياء القليلة بعد السؤال والثاني: أنه تعالى لما أمر بالدعاء، فكأنه قيل الاشتغال بالدعاء لا بد وأن يكون مسبوقا بحصول المعرفة، فما الدليل على وجود الإله القادر، وقد ذكر الله تعالى هذه الدلائل العشرة على وجوده وقدرته وحكمته، واعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته، إما فلكية، وإما عنصرية، أما الفلكيات فأقسام كثيرة أحدها: تعاقب الليل والنهار، و (لما) كان أكثر مصالح العالم مربوطا بهما فذكرهما الله
81

تعالى في هذا المقام، وبين أن الحكمة في خلق الليل حصول الراحة بسبب النوم والسكون، والحكمة في خلق النهار، إبصار الأشياء ليحصل مكنة التصرف فيها على الوجه الأنفع، أما أن السكون في وقت النوم سبب للراحة فبيانه من وجهين: الأول: أن الحركات توجب الإعياء من حيث إن الحركة توجب السخونة والجفاف، وذلك يوجب التألم والثاني: أن الإحساس بالأشياء إنما يمكن بإيصال الأرواح الجسمانية إلى ظاهر الحس، ثم إن تلك الأرواح تتحلل بسبب كثرة الحركات فتضعف الحواس والإحساسات، وإذا نام الإنسان عادت الأرواح الحساسة في باطن البدن وركزت وقويت وتخلصت عن الإعياء، وأيضا الليل بارد رطب فبرودته ورطوبته يتداركان ما حصل في النهار من الحر والجفاف بسبب ما حدث من كثرة الحركات، فهذه هي المنافع المعلومة من قوله تعالى: * (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) * وأما قوله * (والنهار مبصرا) * فاعلم أن الإنسان مدني بالطبع، ومعناه أنه ما لم يحصل مدينة تامة لم تنتظم مهمات الإنسان في مأكوله ومشروبه وملبسه ومنكحه، وتلك المهمات لا تحصل إلا بأعمال كثيرة، وتلك الأعمال تصرفات في أمور، وهذه التصرفات لا تكمل إلا بالضوء والنور حتى يميز الإنسان بسبب ذلك النور بين ما يوافقه وبين ما لا يوافقه، فهذا هو الحكمة في قوله * (والنهار مبصرا) * فإن قيل كان الواجب بحسب رعاية النظم أن يقال هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار لتبصروا فيه، أو فجعل لكم الليل ساكنا ولكنه لم يقل كذلك بل قال في الليل لتسكنوا فيه، وقال في النهار مبصرا فما الفائدة فيه؟ وأيضا فما الحكمة في تقديم ذكر الليل على ذكر النهار مع أن النهار أشرف من الليل؟ قلنا: أما الجواب عن الأول: فهو أن الليل والنوم في الحقيقة طبيعة عدمية فهو غير مقصود بالذات، أما اليقظة فأمور وجودية، وهي مقصودة بالذات، وقد بين الشيخ عبد القاهر النحوي في " دلائل الإعجاز " أن دلالة صيغة الاسم على التمام والكمال أقوى من دلالة صيغة الفعل عليهما، فهذا هو السبب في هذا الفرق والله أعلم، وأما الجواب عن الثاني: فهو أن الظلمة طبيعة عدمية والنور طبيعة وجودية والعدم في المحدثات مقدم على الوجود، ولهذا السبب قال في أول سورة الأنعام * (وجعل الظلمات والنور) * (الأنعام: 1).
واعلم أنه تعالى لما ذكر ما في الليل والنهار من المصالح والحكم البالغة قال: * (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * والمراد أن فضل الله على الخلق كثيرا جدا ولكنهم لا يشكرونه، وأعلم أن ترك الشكر لوجوه: أحدها: أن يعتقد الرجل أن هذه النعم ليست من الله تعالى مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها وواجبة الدوران لذواتها، فحينئذ هذا الرجل لا يعتقد أن هذه النعم من الله وثانيها أن الرجل وإن اعتقد أن كل العالم حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن هذه النعم العظيمة، أعني نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان، فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يتفق لبعض الناس والعياذ بالله أن يحبسه بعض الظلمة في آبار عميقة مظلمة مدة مديدة، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة
82

الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء، ورأيت بعض الملوك كان يعذب بعض خدمه بأن أمر أقواما حتى يمنعونه عن الاستناد إلى الجدار، وعن النوم فعظم وقع هذا التعذيب وثالثها: أن الرجل وإن كان عارفا بمواقع هذه النعم إلا أنه يكون حريصا على الدنيا محبا للمال والجاه، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة، ولما كان أكثر الخلق هالكين في أحد هذه الأودية الثلاثة التي ذكرناها، لا جرم قال تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) * ونظيره قوله تعالى: * (وقليل من عباد الشكور) * (سبأ: 13) وقول إبليس * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * (لأعراف: 17) ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر الرحيم الحكيم قال: * (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو) * قال صاحب " الكشاف " ذلكم المعلوم المميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء لا إله إلا هو أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له * (فأنى تؤفكون) * والمراد فأنى تصرفون ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها، ثم قال تعالى: * (وكذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون) * ذ يعني أن كل من جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه همة لطلب الحق وخوف العاقبة أفكر كما أفكوا.
قوله تعالى
* (الله الذى جعل لكم الارض قرارا والسمآء بنآء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين * هو الحى لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين * قل إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جآءنى البينات من ربى وأمرت أن أسلم لرب العالمين * هو الذى خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من
83

علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون) *
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود الله وقدرته إما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها: الأرض والسماء وهو المراد من قوله * (الله الذي جعل لكم الأرض
قرارا والسماء بناء) * قال ابن عباس في قوله * (قرارا) * أي منزلا في حال الحياة وبعد الموت * (والسماء بناء) * كالقبة المضروبة على الأرض، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها * (والسماء بناء) * أي قائما ثابتا وإلا لوقعت علينا، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها: ما هو حاصل مشاهد حال كما حاله والثاني: ما كان حاصلا في ابتداء خلقته وتكوينه. أما القسم الأول: فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها: حدوث صورته وهو المراد من قوله * (وصوركم) * وثانيها: حسن صورته وهو المراد من قوله * (فأحسن صوركم) *، وثالثها: أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله * (ورزقكم من الطيبات) * وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مرارا لا سيما في تفسير قوله تعالى * (ولقد كرمنا بني آدم) * (الإسرار: 70) ولما ذكر الله تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال: * (ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) * وتفسير بتارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات، ثم قال: * (هو الحي لا إله إلا هو) * وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعا ذاتيا وحينئذ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم.
واعلم أن الحي عبارة عن الدارك الفعال والدارك إشارة إلى العلم التام، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي: الوحدانية بقوله لا إله إلا هو، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها: بالدعاء والثاني: بالإخلاص فيه، فقال: * (فأدعوه مخلصين له الدين) * ثم قال: الحمد لله رب العالمين) * فيجوز أن يكون المراد قول: * (الحمد لله رب العالمين) * ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد لله رب العالمين ولما بين صفات الجلال والعظمة قال: * (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله) * فأورد ذلك على المشركين بألين
84

قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبين أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليف إلا به، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل. ولما بين أنه أمر بعبادة الله تعالى فقال: * (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) * وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد لنفسه ألا الأفضل الأكمل، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير الله والإقبال بالكلية على طاعة الله ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه، ثم قال: * (هو الذي خلقكم من تراب) *.
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه لآية أربعة: الليل والنهار والأرض والسماء، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها: الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة، والمذكور ههنا منها ثلاثة أنواع: الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات. وأما القسم الثاني: وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال: * (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة) * فقيل المراد آدم، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبت إنما يكون من التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم، فالله تعالى ترك ذكرها ههنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الأبيات.
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها: كونه طفلا، وثانيها: أن يبلغ أشده، وثالثها: الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية: أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف والنقص، وهذه المرتبة هي المراد من قوله * (ثم لتكونوا شيوخا) * وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التقسيم لا تزيد على هذه الثلاثة، قال صاحب الكشاف " قوله * (لتبلغوا أشدكم) * متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا.
85

ثم قال: * (ومنكم من يتوفى من قبل) * أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. ثم قال: * (ولتبلغوا أجلا مسمى) * ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة.
ثم قال: * (ولعلكم تعقلون) * ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل.
قوله تعالى
* (هو الذى يحى ويميت فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه ترابا إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلا ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده: * (هو الذي يحيي ويميت) * يعني كما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر، فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر وقوله * (فإذا قضى أمرا فإنما يقوله له كن فيكون) * فيه وجوه الأول: معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة، فعبر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال: دكن فيكون) * الوجه الثاني: أنه عبر عن الإحياء والإماتة بقول * (كن فيكون) * فكأنه قيل الإنتقال من كونه ترابا إلى كونه نطفة، ثم إلى كونه علقة انتقالات
تحصل على التدرج قليلا قليلا، وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به، وذلك يحدث دفعة واحدة، فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله * (كن فيكون) * الوجه الثالث: أن من الناس من يقول إن تكون الإنسان إنما ينعقد من المني والدم في الرحم في مدة معينة وبحسب انتقالاته من حالات إلى حالات، فكأنه قيل إنه يمتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخر، لأن التسلسل محال، ووقوع الحادث في الأزل محال، فلا بد من الاعتراف بإنسان هو أول الناس، فحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم، بل بإيجاد الله تعالى ابتداء، فعبر الله تعالى عن هذا المعنى بقوله * (كن فيكون) *.
قوله تعالى
* (ألم تر إلى الذين يجادلون فى ءايات الله أنى يصرفون * الذين كذبوا بالكتاب وبمآ أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون * إذ الاغلال فى أعناقهم والسلاسل يسحبون * فى الحميم ثم فى
86

النار يسجرون * ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون * من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين * ذلكم بما كنتم تفرحون فى الارض بغير الحق وبما كنتم تمرحون * ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) *
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات الله فقال: * (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون) * وهذا ذم لهم على أن جادلوا في آيات الله ودفعها والتكذيب بها، فعجب تعالى منهم بقوله * (أنى يصرفون) * كما يقول الرجل لمن لا يبين: أنى يذهب بك تعجبا من غفلته، ثم بين أنهم هم * (الذين كذبوا بالكتاب) * أي بالقرآن * (وبما أرسلنا به رسلنا) * من سائر الكتب، فإن قيل سوف للاستقبال، وإذ للماضي فقوله * (فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم) * مثل قولك: سوف أصوم أمس قلنا المراد من قوله * (إذ) * هو إذا، لأن الأمور المستقبلة لما كان في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال، هذا لفظ صاحب " الكشاف ".
ثم إنه تعالى وصف كيفية عقابهم فقال: * (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، في الحميم) * والمعنى: أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل، ثم يسحبون بتلك السلاسل في الحميم، أي في الماء المسخن بنار جهنم * (ثم في النار يسجرون) * والسجر في اللغة الإيقاد في التور، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم، ويقرب منه قوله تعالى: * (نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة) * (الهمزة: 6، 7) * (ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله) * فيقولون * (ضلوا عنا) * أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم، ثم قالوا * (بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا) * أي تبين أنهم لو لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا، كما تقول حسبت أن فلانا شيء، فإذا هو ليس بشيء إذا جربته فلم تجد عنده خيرا، ويجوز أيضا أن يقال إنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله، كما أخبر الله
87

تعالى عنهم في سورة الأنعام أنهم قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) *
ثم قال تعالى: * (كذلك يضل الله الكافرين) * قال القاضي: معناه أنه يضلهم عن طريق الجنة، إذ لا يجوز أن يقال يضلهم عن الحجة إذ قد هداهم في الدنيا إليها، وقال صاحب " الكشاف " * (كذلك يضل الله الكافرين) * مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم، حتى أنهم لو طلبوا الآلهة أو طلبتم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر، ثم قال: * (ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض) * أي ذلكم الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق، وهو الشرك وعبادة الأصنام * (ادخلوا أبواب جهنم) * السبعة المقسومة لكم، قال الله تعالى: * (لها سبعة أبواب، لكل باب منهم جزء مقسوم) * (الحجر: 44)، * (خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين) * والمراد منه ما قال في الآية المتقدمة في صفة هؤلاء المجادلين * (إن في صدور إلا كبر) * (غافر: 56).
قوله تعالى
* (فاصبر إن وعد الله حق فإما نرينك بعض الذى نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون * ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتى باية إلا بإذن الله فإذا جآء أمر الله قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون) *
اعلم أنه تعالى لما تكلم من أول السورة إلى هذا الموضع في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله، أمر في هذه الآية رسوله بأي يصبر على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات، ثم قال: * (إن وعد الله حق) * وعنى به ما وعد به الرسول من نصرته، ومن إنزال العذاب على أعدائه، ثم قال: * (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) * يعني أولئك الكفار من أنواع العذاب، مثل القتل يوم بدر، فذلك هو المطلوب * (أو نتوفينك) * قبل إنزال العذاب عليهم * (فإلينا يرجعون) * يوم القيامة فننتقم منهم أشد الانتقام، ونظيره قوله تعالى: * (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون) * (الزخرف: 41، 42).
ثم قال تعالى: * (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم يقصص عليك) * والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا، وكانوا أبدا يقترحون على الأنبياء إظهار لمعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت، ثم إن الله تعالى لم علم أن الصلاح
88

في إظهار ما أظهره، وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقترح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحا، لا جرم ما أظهرناها، وهذا هو المراد من قوله * (وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله) * ثم قال: * (فإذا جاء أمر الله قضى بالحق) * وهذا وعيد ورد عقيب اقتراح الآيات * (وأمر الله) * القيامة * (والمبطلون) * هم المعاندون لذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل التعنت.
قوله تعالى
* (الله الذى جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة فى صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم ءاياته فأى ءايات الله تنكرون) *
اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم، وإلى كذر ما يصلح أن يعد إنعاما على العباد، قال الزجاج الإبل خاصة، وقال القاضي هي الأزواج الثمانية، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه لم أدخل لام الغرض على قوله * (لتبلغوا) * ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه؟ الجواب: قال صاحب " الكشاف " الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجبا أو مندوبا، فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل، وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباحات، فلا جرم ما أدخل عليه حرف التعليل، نظيره قوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * (النحل: 8) فأدخل التعليل على الركوب ولم يدخله على الزينة.
السؤال الثاني: قوله تعالى: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول: لم لم يقل وفي الفلك كما قال * (قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين) * (هود: 40)
والجواب: أن كلمة على للاستعلاء فالشئ الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه، ولما صح الوجهان كانت لفظة أولى حتى يتم المراد في قوله * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * ولما ذكر الله هذه الدلائل الكثير قال: * (ويريكم آيته فأي آيات الله تنكرون) * يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة، فقوله * (فأي آيات الله تنكرون) * تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره، قل صاحب " الكشاف " قوله * (فأي آيات الله) *
89

جاء على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه والله أعلم.
قوله تعالى
* (أفلم يسيروا فى الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وءاثارا فى الارض فمآ أغنى عنهم ما كانوا يكسبون * فلما جآءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت فى عباده وخسر هنالك الكافرون) *
اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا " لطيفا في آخر هذه السورة، وذلك أنه ذكر فصلا في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة، ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد، والمقصود أن هؤلاء الكفار لذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه، فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة، لأن الدنيا فانية ذاهبة، واحتج عليه بقوله تعالى: * (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) * يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين المتمردين، ليست إلا الهلاك والبوار، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين، فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار، والحسرة والبوار، فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين، أما بيان أنهم كانوا أكثر من
90

هؤلاء عددا فإنما يعرف في الأخبار، وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثارا في الأرض، فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم، مثل الأهرام الموجودة بمصر، ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون، ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا.
ثم قال تعالى: * (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) * ما في قوله * (فما أغنى عنهم) * نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب، وما في قوله * (ما كانوا يكسبون) * موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم. ثم بين تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم، واعلم أن الضمير في قوله * (فرحوا) * يحتمل أن يكون عائدا إلى الكفار، وأن يكون عائدا إلى الرسل، أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار، فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان؟ وفيه وجوه الأول: أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم، وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم * (وما يهلكنا إلا الدهر) * (الجاثية: 24) وقولهم * (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) * (الأنعام: 148) وقولهم * (من يحيي العظام وهي رميم) * (يعس: 78)، * (ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا) * (الكهف: 36) وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء، كما قال: * (كل حزب بما لديهم فرحون) * (المؤمنون: 53)، الثاني: يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم، وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا الثالث: يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) * (الروم: 7)، * (ذلك مبلغهم من العلم) * (النجم: 30) فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزؤا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان الأول: أن يجعل الفرح للرسل، ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلا كاملا، وإعراضا عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم، فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم الثاني: أن
يكون المراد فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، كأنه قال استهزؤا بالبينات، وبما جاؤوا به من علم الوحي فرحين، ويدل عليه قوله تعالى: * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) *.
ثم قال تعالى: * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) * البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى: * (بعذاب بئيس) * (الأعراف: 165) فإن قيل أي فرق بين قوله * (فلم يك ينفعهم إيمانهم) * وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم؟ قلنا هو مثل كان في نحو قوله * (ما كان لله أن يتخذ من ولد) * (مريم: 35) والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم، فإن قيل اذكروا ضابطا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان
91

بالإيمان فيه، قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب، لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه، حتى يكون المرء مختارا، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا.
ثم قال تعالى: * (سنة الله التي قد خلت في عباده) * والمعنى أن عدم قبول الإيمان حال اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم. ثن قال: * (وخسر هنالك الكافرون) * فقوله * (هنالك) * مستعار للزمان أي وخسروا وقت رؤية البأس، والله الهادي للصواب.
92

سورة فصلت
السجدة خمسون وأربع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون * بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون * وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفى ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون * قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه واستغفروه وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكوة وهم بالاخرة هم كافرون * إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) *.
اعلم أن في أول هذه السورة احتمالات أحدها: وهو الأقوى أن يقال حم اسم للسورة وهو في موضع المبتدأ وتنزيل خبره، وثانيها: قال الأخفش: تنزيل رفع بالابتداء وكتاب خبره، وثالثها: قال الزجاج: تنزيل رفع بالابتداء وخبره كتاب فصلت آياته ووجهه أن قوله * (تنزيل) *
93

تخصص بالصفة وهو قوله * (من الرحمن الرحيم) * فجاز وقوعه مبتدأ.
واعلم أنه تعالى حكم على السورة المسماة بحم بأشياء أولها: كونه تنزيلا والمراد المنزل والتعبير عن المفعول بالمصدر مجاز مشهور، يقال هذا بناء الأمير أي مبنيه، وهذا الدرهم ضرب السلطان أي مضروبه، والمراد من كونها منزلا أن الله تعالى كتبها في اللوم المحفوظ وأم جبريل عليه السلام بأن يحفظ تلك الكلمات ثم ينزل بها على محمد صلى الله عليه وسلم ويبلغها إليه، فلما حصل تفهيم هذه الكلمات بواسطة نزول جبريل عليه السلام سمي لذلك تنزيلا وثانيها: كون التنزيل من الرحمن الرحيم، وذلك يدل على كون التنزيل نعمة عظيمة من الله تعالى لأن الفعل المقرون بالصفة لا بد وأن يكون مناسبا لتلك الصفة، فكونه تعالى رحمانا رحيما صفتان دالتان على كمال الرحمة، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالا على أعظم وجوه النعمة، والأمر في نفسه كذلك، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم عند الله تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم وثالثها: كونه كتابا وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتابا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ورابعها: قوله * (فصلت آياته) * والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات الله تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السماوات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار، وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن وخامسها: قوله * (قرآنا) * والوجه في تسميته قرآنا قد سبق وقوله تعالى: * (قرآنا) * نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت، وقيل هو نصب على الحال وسادسها: قوله * (عربيا) * والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى: * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * (إبراهيم: 4) وسابعها: قوله تعالى: * (لقوم يعلمون) * والمعنى إنا جعلناه عربيا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد، فإن قيل قوله * (لقوم يعلمون) * متعلق بماذا؟ قلنا يجوز أن يتعلق بقوله * (تنزيل) * أو بقوله * (فصلت) * أي تنزيل من الله لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات وثامنها وتاسعها: قوله * (بشيرا ونذيرا) * يعني بشيرا للمطيعين بالثواب ونذيرا للمجرمين
94

بالعقاب، والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة، كما يقال شعر شاعر وكلام قائل.
الصفة العاشرة: كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف الله القرآن بها، ويتفرع عليها مسائل:
المسألة الأولى: القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول: أنه وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا والمنزل والتنزيل مشعر بالتصير من حال، فوجب أن يكون مخلوقا الثاني: أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث: المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق أو
المكتوب الذي هو المفعول الرابع: أن قوله * (فصلت) * يدل على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز، وذلك لا يليق بالقديم الخامس: أنه إنما سمي قرآنا لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل السادس: وصفه عربيا، وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم، وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بد وأن يكون محدثا ومخلوقا الجواب: أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات، وهي عندنا محدثة مخلوقة، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ والله أعلم.
المسألة الثانية: ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية، فأما حملها على معان أخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعا، وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر، وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدلل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى: * (قرآنا عربيا) * وإنما سماه عربيا لكونه دالا على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم، وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة، وأن ما سواه فهو باطل.
المسألة الثالثة: ذهب قم إلى أنه حصل في القرآن من سائر اللغات كقوله * (استبرق) * (الكهف: 31) و * (سجيل) * (هود: 82) فإنهما فارسيان، وقوله * (مشكاة) * (النور: 35) فإنها من لغة الحبشة وقوله * (قسطاس) * (الإسراء: 35) فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله * (قرآنا عربيا) *، وقوله * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * (إبراهيم: 4).
المسألة الرابعة: قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية، والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى، وعندنا أن هذا باطل، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا
95

من وجه واحد، وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلا، الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق، والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء، كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى: * (قرآنا عربيا) *، وقوله * (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) *.
المسألة الخامسة: إنما وصف الله القرآن بكونه * (عربيا) * في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات.
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره، فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة، وهي مركبة من الحروف، فالكلمة لها مادة وهي الحروف، ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب. فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف، واعلم أن الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع، وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع، ولا يشتبه شيء منها بالآخر. وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض، وذلك يخل بكمال الفصاحة، وأيضا الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر، وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازا ظاهرا جليا، وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب، وذلك أيضا من جنس ما يوجب الفصاحة، وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع: أحدها: أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج، وأيضا الحروف على قسمين منها صلبة ومنها رخوة، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة، والرخوة المتقاربة، والصلبة المتباعدة، والرخوة المتباعدة، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان. صعب اللفظ بها، لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جاريا مجرى ما إذا كان الإنسان مقيدا ثم يمشي، وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج، وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الضعف والإعياء، ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل وثانيها: أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع، وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب وثالثها: الوزن فنقول: الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة، والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى، فهذه ثلاث مراتب، فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة، أما الثنائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة، والغائب في كلام العرب الثلاثيات، فثبت بما ذكرنا ضبط فصائل اللغات، والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها، وأما سائر اللغات فليست كذلك، والله أعلم.
96

المسألة السادسة: قوله * (لقوم يعلمون) * يعني إنما جعلناه * (عربيا) * لأجل أن يعلموا المراد منه، والقائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح والحكم، تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله * (عربيا) * لهذه الحكمة، فهذا يدل على أن تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه جائز.
المسألة السابعة: قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم وفيه ما لا يعلم، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم، والدليل عليه قوله تعالى: * (قرآنا عربيا لقوم يعلمون) * يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما والقوم بأنه غير معلوم يقدح فيه.
المسألة الثامنة: قوله تعالى: * (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) * يدل على أن الهادي من هداه الله وأن الضال من أضله الله وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه، لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب، وكونه * (قرآنا عربيا) * مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه * (بشيرا ونذيرا) * يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة
به، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه الله، ولا ضال إلا من أضله الله. واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم عرضوا عنه ولا يسمعونه، بين أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها: أنهم قالوا * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها: قولهم * (وفي آذاننا وقر) * أي صمم وثقل من استماع قولك وثالثها: قولهم * (ومن بيننا وبينك حجاب) * والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة * (من) * في قوله * (ومن بيننا) * أنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين، وأما بزيادة لفظ * (من) * كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة بالحجاب، وما بقي جزء منها فارغا عن هذا الحجاب فكانت هذه اللفظة دالة على قوة هذا الحجاب، هكذا ذكره صاحب " الكشاف " وهو في غاية الحسن.
واعلم أنه إنما وقع الاقتصار على هذه الأعضاء الثلاثة، وذلك لأن القلب محل المعرفة وسلطان البدن والسمع والبصر هما الآلتان المعينتان لتحصيل المعارف، فلما بين أن هذه الثلاثة محجوبة كان ذلك أقصى ما يمكن في هذا الباب.
واعلم أنه إذا تأكدت النفرة عن الشيء صارت تلك النفرة في القلب فإذا سمع منه كلاما لم يفهم معناه كما ينبغي، وإذا رآه لم تصر تلك الرؤية سببا للوقوف على دقائق أحوالك ذلك
97

المرئي، وذلك المدرك والشاعر هو النفس، وشدة نفرة النفس عن الشيء تمنعها من التدبر والوقوف على دقائق ذلك الشيء، فإذا كان الأمر كذلك كان قولهم * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * استعارات كاملة في إفادة المعنى المراد، فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار في معرض الذم، وذكر أيضا ما يقرب منه في معرض الذم فقال: * (وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم) * (البقرة: 88). ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معرض التقرير والإثبات في سورة الأنعام فقال: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (الأنعام: 25) فكيف الجمع بينهما؟ قلنا إنه لم يقل ههنا أنهم كذبوا في ذلك إنما الذي ذمهم عليه أنهم قالوا: إنا إذا كنا كذلك لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا، وهذا الثاني باطل، أما الأول فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه.
واعلم أنهم لما وصفوا أنفسهم بهذه الصفات الثلاثة قالوا * (فاعمل إننا عاملون) * والمراد فاعمل على دينك إننا عاملون على ديننا، ويجوز أن يكون المراد فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك، والحاصل عندنا أن القوم ما كذبوا في قولهم * (قلوبنا في أمنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب) * بل إنما أتوا بالكفر والكلام الباطل في قولهم * (فاعمل إننا عاملون) *. ولما حكى الله عنهم هذه الشبهة أمر محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذه الشبهة بقوله * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * وبيان هذا الجواب كأنه يقول إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا وقهرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز بيني وبينكم إلا بمجرد أن الله عز وجل أوحى إلي وما أوحى إليكم فأنا أبلغ هذا النحي إليكم، ثم بعد ذلك إن شرفكم الله بالتوحيد والتوفيق قبلتموه، وإن خذلكم بالحرمان رددتموه، وذلك لا يتعلق بنبوتي ورسالتي، ثم بين أن خلاصة ذلك الوحي ترجع إلى أمرين: العلم والعمل، أما العلم فالرأس والرئيس فيه معرفة التوحيد، ذلك لأن الحق هو أن الله واحد وهو المراد من قوله * (إنما إلهكم إله واحد) * وإذا كان الحق في نفس الأمر ذلك وجب علينا أن نعترف به، وهو المراد من قوله * (فاستقيموا إليه) * ونظيره قوله * (إهدنا الصراط المستقيم) * (الفاتحة: 6) وقوله * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * (فصلت: 30) وقوله تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه) * (الأنعام: 153) وفي قوله تعالى: * (فاستقيموا إليه) * وجهان الأول: فاستقيموا متوجهين إليه الثاني: أن يكون قوله * (فاستقيموا إليه) * معناه فاستقيموا له لأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض.
واعلم أن التكليف له ركنان أحدهما: الاعتقاد والرأس والرئيس فيه اعتقاد التوحيد، فلما أمر بذلك انتقل إلى وظيفة العمل والرأس والرئيس فيه الاستغفار، فلهذا السبب قال: * (واستغفروه) *
98

فإن قيل المقصود من الاستغفار والتوبة إزالة ما لا ينبغي وذلك مقدم على فعل ما ينبغي، فلم عكس هذا الترتيب ههنا وقدم ما ينبغي على إزالة ما ينبغي؟ قلنا ليس المراد من هذا الاستغفار الاستغفار عن الكفر، بل المراد منه أن يعمل ثم يستغفر بعده لأجل الخوف من وقوع التقصير في العمل الذي أتى به كما قال صلى الله عليه وسلم: " وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " ولما رغب الله تعالى في الخير والطاعة أمر بالتحذير عما لا ينبغي، فقال: * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) * وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: وجه النظم في هذه الآية من وجوه الأول: أن العقول والشرائع ناطقة بأن خلاصة السعادات مربوطة بأمرين التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله، وذلك لأن الموجودات، إما الخالق وإما الخلق، فأما الخالق فكمال السعادة في المعاملة معه أن يقر بكونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة، ثم يأتي بأفعال دالة على كونه في نهاية العظمة في اعتقادنا وهذا هو المراد من التعظيم لأمر الله، وأما الخلق فكمال السعادة في المعاملة معهم أن يسعى في دفع الشر عنهم وفي إيصال الخير إليهم، وذلك هو المراد من الشفقة على خلق الله، فثبت أن أعظم الطاعات التعظيم لأمر الله، وأفضل أبواب التعظيم لأمر الله الإقرار بكونه واحدا وإذا كان التوحيد أعلى المراتب وأشرفها كان ضده وهو الشرك أخس المراتب وأرذلها، ولما كان أفضل أنواع المعاملة مع الخلق هو إظهار الشفقة عليهم كان الامتناع من الزكاة أخس الأعمال، لأنه ضد الشفقة على خلق الله، إذا عرفت هذا فنقول إنه تعالى أثبت الويل لمن كان موصوفا بصفات ثلاثة أولها: أن يكون مشركا وهو ضد التوحيد. وإليه الإشارة بقوله * (وويل للمشركين) * وثانيها: كونه ممتنعا من الزكاة وهو ضد الشفقة على خلق الله، وإليه الإشارة بقوله * (الذين لا يؤتون الزكاة) * وثالثها: كونه منكرا
للقيامة مستغرقا في طلب الدنيا ولذاتها، وإليه الإشارة بقوله * (وهم بالآخرة هم كافرون) * وتمام الكلام في أنه لا زيادة على هذه المراتب الثلاثة أن الإنسان له ثلاثة أيام: الأمس واليوم والغد. أما معرفة أنه كيف كانت أحوال الأمس في الأزل فهو بمعرفة الله تعالى الأزلي الخالق لهذا العالم. وأما معرفة أنه كيف ينبغي وقوع الأحوال في اليوم الحاضر فهو بالإحسان إلى أهل العالم بقدر الطاقة، وأما معرفة الأحوال في اليوم المستقبل فهو الإقرار بالبعث والقيامة، وإذا كان الإنسان على ضد الحق في هذه المراتب الثلاثة كان في نهاية الجهل والضلال، فلهذا حكم الله عليه بالويل، فقال: * (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) * وهذا ترتيب في غاية الحسن، والله أعلم الوجه الثاني: في تقرير كيفية النظم أن يقال المراد بقوله * (لا يؤتون الزكاة) * أي لا يزكون أنفسهم من لوث الشرك بقولهم: لا إله إلا الله، وهو مأخوذ من قوله تعالى: * (ونفس وما سواها) * (الشمس: 7) الثالث: قال الفراء: إن قريشا كانت تطعم الحاج، فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
99

المسألة الثانية: احتج أصحابنا في إثبات أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام بهذه الآية، فقالوا إنه تعالى ألحق الوعيد الشديد بناء على أمرين أحدهما: كونه مشركا والثاني: أنه لا يؤتي الزكاة، فوجب أن يكون لكل واحد من هذين الأمرين تأثير في حصول ذلك الوعيد، وذلك يدل على أن لعدم إيتاء الزكاة من المشرك تأثيرا عظيما في زيادة الوعيد، وذلك هو المطلوب.
المسألة الثالثة: احتج بعضهم على أن الامتناع من إيتاء الزكاة يوجب الكفر، فقال إنه تعالى لما ذكر هذه الصفة ذكر قبلها ما يوجب الكفر، وهو قوله * (فويل للمشركين) * وذكر أيضا بعدها ما يوجب الكفر، وهو قوله * (وهم بالآخرة هم كافرون) * فلو لم يكن عدم إيتاء الزكاة كفرا لكان ذكره فيما بين الصفتين الموجبتين للكفر قبيحا، لأن الكلام إنما يكون فصيحا إذا كانت المناسبة مرعية بين أجزائه، ثم أكدوا ذلك بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حكم بكفر مانعي الزكاة والجواب: لما ثبت بالدليل أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب والإقرار باللسان وهما حاصلان عند عدم إيتائهم الزكاة، فلم يلزم حصول الكفر بسبب عدم إيتاء الزكاة، والله أعلم. ثم إنه تعالى لما ذكر وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين، فقال: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون) * أي غير مقطوع، من قولك مننت الحبل، أي قطعته، ومنه قولهم قد منه السفر، أي قطعه، وقيل لا يمن عليهم، لأنه تعالى لما سماه أجرا، فإذا الأجر لا يوجب المنة، وقيل نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأحسن ما كانوا يعملون.
قوله تعالى
* (قل أءنكم لتكفرون بالذى خلق الارض فى يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسى من فوقها وبارك فيها وقدر فيهآ أقواتها فى أربعة أيام سوآء للسآئلين * ثم استوى إلى السمآء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتآ أتينا
100

طآئعين * فقضاهن سبع سماوات فى يومين وأوحى فى كل سمآء أمرها وزينا السمآء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) *.
اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى أن يقول * (إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) * (الكهف: 110) * (فاستقيموا إليه واستغفروه) * (فصلت: 6) أردفه بما يدل على أنه لا يجوز إثبات الشركة بينه تعالى وبين هذه الأصنام في الإلهية والمعبودية، وذلك بأن بين كمال قدرته وحكته في خلق السماوات والأرض في مدة قليلة، فمن هذا صفته كيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإلهية والمعبودية؟ فهذا تقرير النظم، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ ابن كثير: أينكم لتكفرون بهمزة وياء بعدها خفيفة ساكنة بلا مد، وأما نافع في رواية قالون وأبو عمرو فعلى هذه الصورة، إلا أنهما يمدان، والباقون همزتين بلا مد.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (أئنكم) * استفهام بمعنى الإنكار، وقد ذكر عنهم شيئين منكرين أحدهما: الكفر بالله. وهو قوله * (لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * وثانيهما: إثبات الشركاء والأنداد له، ويجب أن يكون الكفر المذكور أولا مغايرا لإثبات الأنداد له، ضرورة أن عطف أحدهما على الآخر يوجب التغاير، والأظهر أن المراد من كفرهم وجوه الأول: قولهم إن الله تعالى لا يقدر على حشر الموتى، فلما نازعوا في ثبوت هذه القدرة فقد كفروا بالله الثاني: أنهم كانوا ينازعون في صحة التكليف، وفي بعثة الأنبياء، وكل ذلك قدح في الصفات المعتبرة في الإلهية، وهو كفر بالله الثالث: أنهم كانوا يضيفون إليه الأولاد، وذلك أيضا قدح في الإلهية وهو يوجب الكفر بالله، فالحاصل أنهم كفروا بالله لأجل قولهم بهذه الأشياء، وأثبتوا الأنداد أيضا لله لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام، واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا لله تعالى، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السماوات بأسرها في يومين آخرين؟ فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة، كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر، وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء، وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا له في المعبودية والإلهية، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلما عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقا للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض، وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي
101

الأنبياء، والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم، قلنا إثبات كون السماوات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم، وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال: فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه
تعالى خالقا للأرض في يومين أثر، فنقول هذا أيضا له أثر في هذا الباب، وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية والإلهية؟ فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.
وأما قوله تعالى: * (ذلك رب العالمين) * أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم، فكيف أثبتم له أندادا من الخشب والحجر؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول: قوله * (وجعل فيها رواسي من فوقها) * والمراد منها الجبال، وقد تقدم تفسير كونها * (رواسي) * في سورة النحل، فإن قيل: ما الفائدة في قوله * (من فوقها) * ولم لم يقتصر على قوله * (وجعل فيها رواسي) * كقوله تعالى: * (وجعلنا فيها رواسي شامخات) * (المرسلات: 27) * (وجعلنا في الأرض رواسي) * (الرعد: 3) قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا الله سبحانه وتعالى والنوع الثاني: مما أخبر الله تعالى في هذه الآية قوله * (وبارك فيها) * والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج إليه من الخيرات والنوع الثالث: قوله تعالى: * (وقدر فيها أقواتها) * وفيه أقوال الأول: أن المعنى وقد فيها أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، قال محمد بن كعب: قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان والقول الثاني: قال مجاهد: وقدر فيها أقواتها من المطر، وعلى هذا القول فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله تعالى قدر لكل أرض حظها من المطر والقول
102

الثالث: أن المراد من إضافة الأقوات إلى الأرض كونها متولدة من تلك الأرض، وحادثة فيها لأن النحويين قالوا يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب فالشئ قد يضاف إلى فاعله تارة وإلى محله أخرى، فقوله * (وقدر فيها أقواتها) * أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدنا لنوع آخر من الأشياء المطلوبة، حتى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في تلك البلدة وبالعكس، فصار هذا المعنى سببا لرغبة الناس في التجارات من اكتساب الأموال، ورأيت من كان يقول صنعة الزراعة والحراثة أكثر الحرف والصنائع بركة، لأن الله تعالى وضع الأرزاق والأقوات في الأرض قال: * (وقدر فيها أقواتها) * وإذا كانت الأقوات موضوعة في الأرض كان طلبها من الأرض متعينا، ولما ذكر الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التدبير قال بعده: * (في أربعة أيام سواء للسائلين) * وههنا سؤالات:
السؤال الأول: أنه تعالى ذكر أنه خلق الأرض في يومين، وذكر أنه أصلح هذه الأنواع الثلاثة في أربعة أيام أخر، وذكر أنه خلق السماوات في يومين، فيكون المجموع ثمانية أيام، لكنه ذكر في سائر الآيات أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام فلزم التناقض، واعلم أن العلماء أجابوا عنه بأن قالوا المراد من قوله * (وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) * مع اليومين الأولين، وهذا كقول القائل سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، وسرت إلى الكوفة في خمسة عشر يوما يريد كلا المسافتين، ويقول الرجل للرجل أعطيتك ألفا في شهر وألوفا في شهرين فيدخل الألف في الألوف والشهر في الشهرين. السؤال الثاني: أنه ملا ذكر أنه خلق الأرض في يومين، فلو ذكر أنه خلق هذه الأنواع الثلاثة الباقية في يومين آخرين كان أبعد عن الشبهة وأبعد عن الغلط، فلم ترك هذا التصريح، وذكر ذلك الكلام المجمل؟ والجواب: أن قوله * (في أربعة أيام سواء للسائلين) * فيه فائدة على ما إذا قال خلقت هذه الثلاثة في يومين، وذلك لأنه لو قال خلقت هذه الأشياء في يومين مع أن اليومين ما كانا مستغرقين بذلك العمل، أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قاتل بعده: * (في أربعة أيام سواء للسائلين) * دل ذلك على أن هذه الأيام الأربعة صارت مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ولا نقصان.
السؤال الثالث: كيف القراءات في قوله * (سواء) *؟ والجواب: قال صاحب " الكشاف " قرىء * (سواء) * بالحركات الثلاثة الجر على الوصف والنصب على المصدر استوت سواء والرفع على هي سواء. السؤال الرابع: ما المراد من كون تلك الأيام الأربعة سواء؟ فنقول إن الأيام قد تكون متساوية المقادير كالأيام الموجودة في أماكن خط الاستواء وقد تكون مختلفة كالأيام
103

الموجودة في سائر الأماكن، فبين تعالى أن تلك الأيام الأربعة متساوية غير مختلفة.
السؤال الخامس: بم يتعلق قوله * (للسائلين) *؟ الجواب فيه وجهان: الأول: أن الزجاج قال قوله * (في أربعة أيام) * أي في تتمة أربعة أيام، إذا عرفت هذا فالتقدير * (وقدر فيها أقواتها) * في تتمة أربعة أيام لأجل السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني: أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها، ولما شرح الله تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السماوات فقال: * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * وفيه مباحث:
البحث الأول: قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى: * (فاستقيموا إليه) * (فصلت: 6) والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق
الأرض وما فيها، من غير صرف يصرفه ذلك.
البحث الثاني: ذكر صاحب " الأثر " أنه كان عرش الله على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السماوات. واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلما، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئا، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور، ثم لما ركبها وجعلها سماوات وكواكب وشمسا وقمرا، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد الله تعالى أن يخلق منها السماوات والشمس والقمر كانت مظلمة، فصح تسميتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان، والله أعلم بحقيقة الحال. البحث الثالث: قوله * (ثم استوى إلى السماء وهي دخان) * مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * (النازعات: 30) مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة، والجواب المشهور: أن يقال إنه تعالى
104

خلق الأرض في يومين أولا ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض، وبهذا الطريق يزول التناقض، واعلم أن هذا الجواب مشكل عندي من وجوه الأول: أنه تعالى بين أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثلث * (جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) * وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة، وقوله تعالى: * (وبارك فيها) * مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك * (ثم استوى إلى السماء) * فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني: أنه قد دلت الدلائل الهندسية على أن الأرض كرة، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كانت مدحوة، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة، وذلك باطل الثالث: أن الأرض جسم في غاية العظم، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوا، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة، ثم صارت مدحوة قول باطل، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال، وإن كان المراد منه أنه خلق أولا أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا، فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء الرابع: أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السماوات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دحو الأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس: أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية * (ثم استوى إلى السماء فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) * كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور، ونقل الواحدي في " البسيط " عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماوات قبل الأرض وتأويل قوله * (ثم استوى إلى السماء) * ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان لما قال تعالى: * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * (يوسف: 77) معناه إن يكن سرق، وقال تعالى: * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) * (الأعراف: 4) والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة * (ثم) * تقتضي التأخير، وكلمة كان
105

تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض، وذلك دليل على أنه لم يمكن إجراؤه على ظاهره وقد بينا أن قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله * (ائتيا) * على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرناه، بقي على لفظ الآية سؤالات.
السؤال الأول: ما الفائدة في قوله تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) *؟ الجواب: المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير: ائتي شئتما ذلك أو أبيتما، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ، ولتفعلنه طوعا أو كرها، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين * (قالتا أتينا) * على الطوع لا على الكره، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكر، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها: أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف، تشبه حيوانا مطيعا لله تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها: أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة، قال تعالى: * (يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * (النحل: 50) وأما أهل الأرض فليس الأمر في حقهم كذلك وثالثها: السماء موصوفة بكمال الحال في جميع الأمور، قالوا إنها أفضل الألوان وهي المستنيرة، وأشكالها أفضل الأشكال وهي المستديرة، ومكانها أفضل الأمكنة وهو الجو العالي، وأجرامها أفضل الأجرام وهي الكواكب المتلألئة بخلاف الأرض فإنها مكان الظلمة والكثافة واختلاف الأحوال وتغير الذوات والصفات، فلا جرم وقع التعبير عن تكون السماء بالطوع وعن تكون الأرض بالكره، وإذا كان مدار خلق الأرض على الكره كان أهلها موصوفين أبدا بما ويجب الكره والكرب والقهر والقسر.
السؤال الثاني: ما المراد من قوله * (ائتيا) * ومن قوله * (أتينا) *؟ الجواب: المراد ائتيا إلى الوجود والحصول وهو كقوله * (كن فيكون) * (البقرة: 117) وقيل المعنى ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف، أي بأرض مدحوة قرارا ومهادا وأي بسماء مقبية سقفا لهم، ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد، كما تقول أتى عمله مرضيا وجاء مقبولا، ويجوز أيضا أن يكون المعنى لتأتي كل واحدة منكم صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة والتدبير من كون الأرض قرارا للسماء وكون السماء سقفا للأرض.
السؤال الثالث: هلا قيل طائعين على اللفظ أو طائعات على المعنى، لأنهما سماوات وأرضون؟ الجواب: لما جعلن مخاطبات ومجيبات ووصفن بالطوع والكره قيل طائعين في موضع طائعات نحو قوله * (ساجدين) * (الأعراف: 120) ومنهم من استدل به على كون السماوات أحياء وقال الأرض في جوف السماوات أقل من الذرة الصغيرة في جوف الجبل الكبير، فلهذا السبب صارت اللفظة الدالة العقل والحياة غالبة، إلا أن هذا القول باطل، لإجماع المتكلمين على فساده.
106

ثم قال تعالى: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) * وقضاء الشيء إنما هو إتمامه والفراغ منه والضمير في قوله * (فقضاهن) * يجوز أن يرجع إلى السماء على المعنى كما قال: * (طائعين) * ونحوه * (أعجاز نخل خاوية) * (الحاقة: 7) ويجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بسبع سماوات والفرق بين النصبين أن أحدهما على الحال والثاني على التمييز. ذكر أهل الأثر أنه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السماوات وما فيها في يوم الخميس والجمعة وفزع في آخر ساعة من يوم الجمعة فخلق فيها آدم وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، فإن قيل اليوم عبارة عن النهار والليل وذلك إنما يحصل بسبب طلوع الشمس وغروبها، وقبل حدوث السماوات والشمس والقمر كيف يعقل حصول اليوم؟ قلنا معناه إنه مضى من المدة ما لوم حصل هناك فلك وشمس لكان المقدار مقدرا بيوم.
ثم قال تعالى: * (وأوحى في كل سماء أمره) * قال مقاتل أمر في كل سماء بما أراد، وقال قتادة خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها، وقال السدي خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد، قال والله في كل سماء بيت يحج إليه ويطوف به الملائكة كل واحد منها مقابل الكعبة ولو وقعت منه حصاة ما وقعت إلا على الكعبة، والأقرب أن يقال قد ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، والله تعالى على أهل كل سماء تكليف خاص، فمن الملائكة من هو في القيام في أول خلق العالم إلى قيام القيامة، ومنهم ركوع لا ينتصبون ومنهم سجود لا يرفعون، وإذا كان ذلك الأمر مختصا بأهل ذلك السماء كان ذلك الأمر مختصا بتلك السماء، وقوله تعالى: * (وأوحى في كل سماء أمرها) * أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله * (وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا) * (الأعرف: 4) والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيدا ثم ضربت عمرا بالأمس، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه، والمختار عند أي يقال خلق السماوات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟ فنقول: الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق الله تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله * (خلق الأرض في يومين) * معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء الله بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك
107

الشيء في الحال، فقضاء الله تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يزم منه تقدم إحداث الأرض على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذه الموضع المشكل.
ثم قال تعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) *.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن الله تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان: القول الأول: أن تجري هذه الآية على ظاهرنا فنقول: إن الله تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال: * (يا جبال أوبي معه والطير) * (سبأ: 10) والله تعالى تجلى للجبل قال: * (فلما تجلى ربه للجبل) * (الأعراف: 143) والله تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال: * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) * (النور: 24) وإذ كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق الله في ذات السماء والأرض حياة وعقلا وفهما، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول: أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وههنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني: أنه تعالى أخبر عنهما، فقال: * (قالتا أتينا طائعين) * وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث: قوله تعالى: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) * (الأحزاب: 72) وهذا يدل على كونها عارفة بالله، مخصوصة بتوجيه تكاليف الله عليها، والإشكال عليه أن يقال: المراد من قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السماوات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال: يا موجود كن موجودا، وذلك لا يجوز فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب، فلم يجز توجيه الأمر عليها، فإن قال قائل: روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: قال سبحانه للسموات أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك، وكان الله تعالى أودع فيهما هذه الأشياء ثم أمرهما بإبرازها وإظهارها، فنقول فعلى هذا التقدير لا يكون المراد من قوله * (أتينا طائعين) * حدوثهما في ذاتهما، بل يصير المراد من هذا الأمر أن يظهرا ما كان مودعا فيهما، إلا أن هذا الكلام باطل، لأنه تعالى قال: * (فقضاهن سبع سماوات في يومين) * والفاء للتعقيب، وذلك يدل على أن حدوث السماوات إنما حصل بعد قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * فهذا جملة ما يمكن ذكره في هذا البحث. القول الثاني: أن قوله
تعالى: * (قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) * ليس المراد منه توجيه الأمر والتكليف على السماوات والأرض بل المراد منه أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الأمير المطاع، ونظيره قول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني؟
108

قال الوتد: أسأل من يدقني، فإن الحجر الذي ورائي ما خلاني ورائي.
واعلم أن هذا عدول عن الظاهر، وإنما جاز العدول عن الظاهر إذ قام دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره، وقد بينا أن قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله * (ائتيا طوعا أو كرها) * على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرنا.
واعلم أن إثبات الأمر والتكليف فيهما مشروط بحصول المأمور فيهما، وهذا يدل على أنه تعالى أسكن هذه السماوات والملائكة، أو أنه تعالى أمرهم بأشياء ونهاهم عن أشياء، وليس في الآية ما يدل على أنه إنما خلق الملائكة مع السماوات، أو أنه تعالى خلقهم قبل السماوات، ثم إنه تعالى أسكنهم فيها، وأيضا ليس في الآية بيان الشرائع التي أمر الملائكة بها، وهذه الأسرار لا تليق بعقول البشر، بل هي أعلى من مصاعد أفهامهم ومرامي أوهامهم، ثم قال: * (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) * وهي النيرات التي خلقها في السماوات، وخص كل واحد بضوء معين، وسر معين، وطبيعة معينة، لا يعرفها إلا الله، ثم قال: * (وحفظا) * يعني وحفظناها حفظا، يعني من الشياطين الذين يسترقون السمع، فأعد لكل شيطان نجما يرميه به ولا يخطئه، فمنها ما يحرق، ومنها ما يقتل ومنها ما يجعله مخبلا، وعن ابن عباس أن اليهود سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن خلق السماوات والأرض فقال: " خلق الله تعالى الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال والشجر في يومين وخلق في يوم الخميس السماء، وخلق في يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة، ثم خلق آدم عليه السلام وأسكنه الجنة - ثم قالت اليهود ثم ماذا يا محمد؟ قال - ثم استوى على العرش - قالوا: ثم استراح - فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم " فنزل قوله تعالى: * (وما مسنا من لغوب) * (ق: 38).
واعلم أنه تعالى لما ذكر هذه التفاصيل، قال: * (ذلك تقدير العزيز العليم) * والعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والعليم إشارة إلى كمال العلم، وما أحسن هذه الخاتمة، لأن تلك الأعمال لا تمكن إلا بقدرة كاملة وعلم محيط.
قوله تعالى
* (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود * إذ جآءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شآء ربنا لانزل ملائكة فإنا بمآ
109

أرسلتم به كافرون * فأما عاد فاستكبروا فى الارض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا باياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزى فى الحيوة الدنيا ولعذاب الاخرة أخزى وهم لا ينصرون * وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون * ونجينا الذين ءامنوا وكانوا يتقون) *
اعلم أن الكلام إنما ابتدئ من قوله * (إنما إلهكم إله واحد) * (فصلت: 6) واحتج عليه بقوله * (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) * (فصلت: 9) وحاصله أن الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة كيف يجوز الكفر به، وكيف يجوز جعل هذه الأجسام الخسيسة شركاء له في الإلهية؟ ولما تمم تلك الحجة قال: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * وبيان ذلك لأن وظيفة الحجة قد تمت على أكمل الوجوه، فإن بقوا مصرين على الجهل لم يبق حينئذ علاج في حقهم إلا إنزال لعذاب عليهم فلهذا السبب قال: * (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم) * بمعنى أن أعرضوا عن قبول هذه الحجة القاهرة التي ذكرناها وأصروا على الجهل والتقليد * (فقل أنذرتكم) * والإنذار هو: التخويف، قال المبرد والصاعقة الثائرة المهلكة لأي شيء كان، وقرئ * (صعقة مثل صعقة عاد وثمود) * قال صاحب " الكشاف " وهي المرة من الصعق.
ثم قال: * (إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم) * وفيه وجهان الأول: المعنى أن الرسل المبعوثين إليهم أتوهم من كل جانب واجتهدوا بهم وأتوا بجميع وجوه الحيل فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض، كما حكى الله تعالى عن الشيطان قوله * (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم) * (الأعراف: 17) يعني
110

لآتينهم من كل جهة ولأعملن فيهم كل حيلة، ويقول الرجل: استدرت بفلان من كل جانب فلم تؤثر حيلتي فيه.
السؤال الثاني: المعنى: أن الرسل جاءتهم من قبلهم ومن بعدهم، فإن قيل: الرسل الذين جاؤوا من قبلهم ومن بعدهم، كيف يمكن وصفهم بأنهم جاءوهم؟ قلنا: قد جاءهم هود وصالح داعيين إلى الإيمان بهما وبجميع الرسل، وبهذا التقدير فكأن جميع الرسل قد جاءوهم.
ثم قال: * (ألا تعبدوا إلا الله) * يعني أن الرسل الذي جاءوهم من بين أيديهم ومن خلفهم أمروهم بالتوحيد ونفي الشرك، قال صاحب " الكشاف " أنفي قوله * (ألا تعبدوا إلا الله) * بمعنى أي أو مخففة من الثقيلة أصله بأنه لا تعبدوا أي بأن الشأن والحديث قولنا لكم لا تعبدوا إلا الله. ثم حكى الله تعالى عن أولئك الكفار أنهم قالوا * (لو شاء ربنا لأنزل ملائكة) * يعني أنهم كذبوا أولئك الرسل، وقالوا الدليل على كونهم كاذبين أنه تعالى لو شاء إرسال الرسالة إلى البشر لجعل رسله من زمرة الملائكة، لأن إرسال الملائكة إلى الخلق أفضى إلى المقصود من البعثة والرسالة، ولما ذكروا هذه الشبهة قالوا * (فإنا بما أرسلتم به كافرون) * معناه: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة، فأنتم لستم برسل، وإذا لم تكونوا من الرسل لم يلزمنا قبول قولكم، وهو المراد من قوله * (فأنا بما أرسلتم به كافرون) *.
واعلم أنا بالغنا في الجواب عن هذه الشبهات في سورة الأنعام، وقوله * (أرسلتم به) * ليس بإقرار منهم بكون أولئك الأنبياء رسلا، وإنما ذكروه حكاية لكلام الرسل أو على سبيل الاستهزاء، كما قال فرعون * (إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * (الشعراء: 27). روي أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والسحر والكهانة فكلمه، ثم أتانا بيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة والله لقد سمعت الشعر والسحر والكهانة وعلمت من ذلك
علما وما يخفى علي، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ لم تشتم ألهتنا وتضللنا؟ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك للواء فكنت رئيسنا، وإن تكن بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختارهن، أي بنات من شئت من قريش، وإن كان المال مرادك جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما فزع قال: بسم الله الرحمن الرحيم (حم * تنزيل من الرحمن الرحيم) * إلى قوله * (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) * فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، فلم احتبس عنهم قالوا، لا نرى عتبة إلا قد صبأ، فانطلقوا إليه وقالوا يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك قد صبأت: فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، ثم قال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء ما هو شعر ولا سحر ولا كهانة، ولما بلغ صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود أمسكت بفيه وناشدته بالرحم، ولقد علمت أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب.
واعلم أنه تعالى لما بين كفر قوم عاد وثمود على الإجمال بين خاصية كل واحدة من هاتين الطائفتين فقال: * (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق) * وهذا الاستكبار فيه وجهان الأول: إظهار النخوة والكبر، وعدم الالتفات إلى الغير والثاني: الاستعلاء على الغير
111

واستخدامهم، ثم ذكر تعالى سبب ذلك الاستكبار وهو أنهم قالوا * (من أشد منا قوة) * وكانوا مخصوصين بكبر الأجسام وشدة القوة، ثم إنه تعالى ذكر ما يدل على أنه لا يجوز لهم أن يغتروا بشدة قوتهم، فقال: * (أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) * يعني أنهم وإن كانوا أقوى من غيرهم، فالله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة، فإن كانت الزيادة في القوة توجب كون الناقص في طاعة الكامل، فهذه المعاملة توجب عليهم كونهم منقادين لله تعالى، خاضعين لأوامره ونواهيه.
واحتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة صلى الله عليه وسلم، فقالوا القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله * (الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) * يدل على إثبات القوة لله تعالى ويتأكد هذا بقوله * (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) * (الذريات: 58) فإن قيل صيغة أفعل التفضيل إنما تجري بين شيئين لأحدهما مع الآخر نسبة، لكن قدرة العبد متناهية وقدرة الله لا نهاية لها، والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي، فما معنى قوله إن الله أشد منهم قوة؟ قلنا هذا ورد على قانون قولنا الله أكبر.
ثم قال: * (وكانوا بآياتنا يجحدون) * والمعنى أنهم كانوا يعرفون أنها حق ولكنهم جحدوا كما يجحد المودع الوديعة.
واعلم أن نظم الكلام أن يقال: أما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وكانوا بآياتنا يجحدون، وقوله * (وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) * واعتراض وقع في البين لتقرير السبب الداعي لهم إلى الاستكبار.
واعلم أنا ذكرنا أن مجامع الخصال الحميدة الإحسان إلى الخلق والتعظيم للخالق، فقوله * (استكبروا في الأرض بغير الحق) * مضاد للإحسان إلى الخلق وقوله * (وكانوا بآياتنا يجحدون) * مضاد للتعظيم للخالق، وإذا كان الأمر كذلك فهم قد بلغوا في الصفات المذمومة الموجبة للهلاك والإبطال إلى الغاية القصوى، فلهذا المعنى سلط الله العذاب عليهم فقال: * (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) * وفي الصرصر قولان أحدهما: أنها العاصفة التي تصرصر أن تصوت في هبوبها، وفي علة هذه التسمية وجوه قيل إن الرياح عند اشتداد هبوبها يسمع منها صوت يشبه صوت الصرصر فسميت هذه الرياح بهذا الاسم وقيل هو من صرير الباب، وقيل من الصرة والصيحة، ومنه قوله تعالى: * (فأقبلت امرأته في صرة) * (الذاريات: 29) والقول الثاني: أنها الباردة التي تحرق ببردها كما تحرق النار بحرها، وأصلها من الصر وهو البرد قال تعالى: * (كمثل ريح فيها صر) * (آل عمران: 117) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الرياح ثمان أربع منها عذاب العاصف والصرصر والعقيم والسموم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات " وعن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عباده من الريح إلا قدر خاتمي، والمقصود أنه مع قلته أهلك الكل وذلك يدل على كمال قدرته.
وأما قوله * (في أيام نحسات) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو * (نحسات) * بسكون الحاء والباقون بكسر
112

الحاء، قال صاحب " الكشاف " يقال نحس نحسا نقيض سعد سعدا فهو نحس، وأما نحس فهو إما مخفف نحس أو صفة على فعل أو نصف بمصدر.
المسألة الثانية: استدل الأحكاميون من المنجمين بهذه الآية على أن بعض الأيام قد يكون نحسا وبعضها قد يكون سعدا، وقالوا هذه الآية صريحة في هذا المعنى، أجاب المتكلمون بأن قالوا * (أيام نحسات) * أي ذوات غبار وتراب ثائر لا يكاد يبصر فيه ويتصرف، وأيضا قالوا معنى كون هذه الأيام نحسات أن الله أهلكهم فيها، أجاب المستدل الأول بأن النحسات في وضع اللغة هي المشؤمات لأن السعد يقابله السعد، والكدر يقابله الصافي، وأجاب عن السؤال الثاني أن الله تعالى أخبر عن إيقاع ذلك العذاب في تلك الأيام النحسات، فوجب أن يكون كون تلك الأيام نحسة مغايرا لذلك العذاب الذي وقع فيها.
ثم قال تعالى: * (ولنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) * أي عذاب الهوان والذل، والسبب فيه أنهم استكبروا، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الخزي والهوان والذل إليهم.
ثم قال تعالى * (ولعذاب الآخرة أخزى) * أي أشد إهانة وخزيا * (وهم لا ينصرون) * أي أنهم يقعون في الخزي الشديد ومع ذلك فلا يكون لهم ناصر يدفع ذلك الخزي عنهم. ولما ذكر الله قصة عاد أتبعه بقصة ثمود فقال: * (وأما ثمود) * قال صاحب " الكشاف " قرىء * (ثمود) * بالرفع والنصب منونا وغير منون والرفع أفصح لوقوعه بعد حرف الابتداء وقرئ بضم الثاء وقوله * (فهديناهم) * أي دللناهم على طريق الخير والشر * (فاستحبوا العمى على الهدى) * أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
واعلم أن صاحب " الكشاف " ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية
تبطل قوله، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل، فثبت أن قيد مفضيا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابا شافيا فتركناه، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن الله تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله * (وأما ثمود فهديناهم) * يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله * (فاستحبوا العمى على الهدى) * يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل، على أنهما إنما يحصلان من الله لا من العبد، وبيانه من وجهين: الأول: أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى، لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو الله فقد حصل المطلوب الثاني: أنه تعالى قال: * (فاستحبوا
113

العمى على الهدى) * ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلا، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلما لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقا بجهل آخر، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضا لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب، ولما وصف الله كفرهم قال: * (فأخذتهم صاعقة العذاب الهون) * و * (صاعقة العذاب) * أي داهية العذاب و * (الهون) * الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه * (بما كانوا يكسبون) * يريد من شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وشرع صاحب " الكشاف " ههنا في سفاهة عظيمة. والأولى أن لا يلتفت إليه أنه وإن كان قد سعى سعيا حسنا فيما يتعلق بالألفاظ، إلا أن المسكين كان بعيدا من المعاني.
ولما ذكر الله الوعيد أردفه بالوعد فقال: * (ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون) * يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود، فإن قيل: كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد صرح الله تعالى بذلك في قوله * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم * ((الأنفال: 33) وجاء في الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك، وإن كان أقل درجة مهم وهذا القدر يكفي في التخويف.
قوله تعالى
* (ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار فهم يوزعون * حتى إذا ما جآءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون * وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذى أنطق كل شىء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون * وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون * وذلكم ظنكم الذى ظننتم
114

بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين * فإن يصبروا فالنار مثوى لهم وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) *.
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، وقرأ نافع * (نحشر) * بالنون * (أعداء) * بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه، والتقدير يحشر الله عز وجل أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله * (ونجينا) * (فصلت: 18) فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ، ويقويه قوله * (ويوم نحشر المتقين) * (مريم: 85) * (وحشرناهم) * (الكهف: 47) وأما الباقون فقرؤا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله * (ويم يحشر) * ابتداء كلام آخر، وأيضا الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله * (احشروا) * (الصافات: 22) وهم الملائكة، وأيضا أن هذه القراءة موافقة لقوله * (فهم يوزعون) * (فصلت: 19) وأيضا فتقدير القراءة الأولى أن الله تعالى قال: * (ويوم نحشر أعداء الله إلى النار) * فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء الله يحشرون إلى النار قال: * (فهم يوزعون) * أي يحبس أولهم على آخرهم، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم.
ثم قال: * (حتى إذا ما جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: التقدير حتى إذا جاؤنا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وعلى هذا التقدير فكلمة * (ما) * صلة، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله) * أثم إذا ما وقع آمنتم به) * (يونس: 51) أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. المسألة الثانية: روي أن العبد يقول يوم القيامة: يا رب العزة ألست قد وعدتين أن لا تظلمني، فيقول الله تعالى فإن لك ذلك، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهدا إلا من نفسي، فيختم الله على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه، فذلك قوله * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) * واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها: أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني: أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث: أن يظهر تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان، وتلك الأمارات تسمى
115

شهادات، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه، واعلم أن هذه
المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول: فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لسانا يمتنع أن يكون محلا للعلم والعقل، فإن غير الله تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لسانا وجلدا، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود، فإن قلنا إن الله تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها ناطقة فاهمة، وأما القول الثاني: وهو أن يقال إن الله تعالى خلق هذه الأصوات والحروف في هذه الأعضاء،
وهذا أيضا باطل على أصول المعتزلة لأن مذهبهم أن المتكلم هو الذي فعل الكلام، لا ما كان موصوفا بالكلام، فإنهم يقولون إن الله تعالى خلق الكلام في الشجرة وكان المتكلم بذلك الكلام هو الله تعالى لا الشجرة، فههنا لو قلنا إن الله خلق الأصوات والحروف في تلك الأعضاء لزم أن يكون الشاهد هو الله تعالى لا تلك، ولزم أن يكون المتكلم بذلك الكلام هو الله لا تلك الأعضاء، وظاهر القرآن يدل على أن تلك الشهادة شهادة صدرت من تلك الأعضاء لا من الله تعالى لأنه تعالى قال: * (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم) * وأيضا أنهم قالوا لتلك الأعضاء * (لم شهدتم علينا) * فقالت الأعضاء * (أنطقنا الله الذيب أنطق كل شيء) * وكل هذه الآيات دالة على أن المتكلم بتلك الكلمات هي تلك الأعضاء، وأن تلك الكلمات ليست كلام الله تعالى، فهذا توجيه الإشكال على هذين القولين، وأما القول الثالث: وهو تفسير هذه الشهادة بظهور أمارات مخصوصة على هذه الأعضاء دالة على صدور تلك الأعمال منهم، فهذا عدول عن الحقيقة إلى المجاز والأصل عدمه، فهذا منتهى الكلام في هذا البحث، أما على مذهب أصحابنا فهذا الإشكال غير لازم، لأن عندنا البنية ليست شرطا للحياة ولا للعلم ولا للقدرة، فالله تعالى قادر على خلق العقل والقدرة والنطق في كل جزء من أجزاء هذه الأعضاء، وعلى هذا التقدير فالإشكال زائل وهذه الآية يحسن التمسك بها في بيان أن البنية ليست شرطا للحياة ولا لشيء من الصفات المشروطة بالحياة والله أعلم.
المسألة الثالثة: ما رأيت للمفسرين في تخصيص هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر سببا وفائدة، وأقول لا شك أن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام، فكان هذا داخلا فيه فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، إذا عرفت هذا فنقول نقل عن ابن عباس أنه قال المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج قال وهذا من باب الكنايات كما قال: * (ولكن لا تواعدوهن سرا) * (البقرة: 235) وأراد النكاح وقال: * (أو جاء منكم من الغائط) * (النساء: 43) والمراد قضاء الحاجة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما يتكلم من الآدمي فخذه وكفه " وعلى هذا التقدير فتكون هذه
116

الآية وعيدا شديدا في الإتيان بالزنا، لأن مقدمة الزنا إنما تحصل بالكف، ونهاية الأمر فيها إنما تحصل بالفخذ.
ثم حكى الله تعالى أنهم يقولون لتلك الأعضاء * (لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) * ومعناه أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى حالما كنتم في الدنيا ثم على خلقكم وإنطاقكم في المرة الثانية وهي حال القيامة والبعث يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟
ثم قال تعالى: * (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) * والمعنى إثبات أنهم كانوا يستترون عند الإقدام على الأعمال القبيحة، إلا أن استتارهم ما كان لأجل خوفهم من أن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والقيامة، ولكن ذلك الاستتار لأجل أنهم كانوا يظنون أن الله لا يعلم الأعمال التي يقدمون عليها على سبيل الخفية والاستتار. عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر على ثقفيان وقرشي فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما تقولون؟ فقال الرجلان إذا سمعنا أصواتنا سمع وإلا لم يسمع. فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل * (وما كنتم تستترون) *.
ثم قال تعالى: * (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين) * وهذا نص صريح في أن من ظن بالله تعالى أنه يخرج شيء من المعلومات عن علمه فإنه يكون من الهالكين الخاسرين، قال أهل التحقيق الظن قسمان ظن حسن بالله تعالى وظن فاسد، أما الظن الحسن فهو أن يظن به الرحمة والفضل، قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل: " أنا عند ظن عبدي بي " وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله "، والظن القبيح فاسد وهو أن يظن بالله أنه يعزب عن علمه بعض هذه الأحوال، وقال قتادة: الظن نوعان ظن منج وظن مرد، فالمنج قوله * (إني ظننت أني ملاق حسابيه) * (الحاقة: 20) وقوله * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) * (البقرة: 46)، وأما الظن المردي فهو قوله * (وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرادكم) * قال صاحب " الكشاف " * (وذلكم) * رفع بالابتداء * (وظنكم) * و * (أرداكم) * خبران ويجوز أن يكون ظنكم بدلا من ذلكم وأرداكم الخبر. ثم قال: * (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) * يعني إن أمسكوا عن الاستغاثة لفرج ينتظرونه لم يجدوا ذلك وتكون النار مثوى لهم أي مقاما لهم * (وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين) * أي لم يعطوا العتبى ولم يجابوا إليها، ونظيره قوله تعالى: * (أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص) * (إبراهيم: 21) وقرئ وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين أي أن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون أي لا سبيل لهم إلى ذلك.
قوله تعالى
* (وقيضنا لهم قرنآء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم وحق عليهم القول فى أمم
117

قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تغلبون * فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذى كانوا يعملون * ذلك جزآء أعدآء الله النار لهم فيها دار الخلد جزآء بما كانوا باياتنا يجحدون * وقال الذين كفروا ربنآ أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الاسفلين) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر فقال: * (وقضينا لهم قرناء) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الصحاح ": يقال قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع، وهما قيضان كما يقال بيعان، وقيض الله فلانا أي جاءه به وأتى به له،
ومنه قوله تعالى: * (وقبضنا لهم قرناء) *.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر، فقالوا إنه تعالى ذكر أنه قيض لهم أولئك القرناء، وكان عالما بأنه متى قيض لهم أولئك القرناء فإن يزينوا الباطل لهم، وكل من فعل فعلا وعلم أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر لا محالة، فإن فاعل ذلك الفعل لا بد وأن يكون مريدا لذلك الأثر فثبت أنه تعالى لما قيض لهم قرناء فقد أراد منهم ذلك الكفر، أجاب الجبائي عنه بأن قال لو أراد المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين إذ الفاعل لما أراده منه غيره يجب أن يكون مطيعا له، وبأن قوله * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) يدل على أنه لم يرد منهم إلا العبادة، فثبت بهذا أنه تعالى لم يرد منهم المعاصي، وأما هذه الآية فنقول: إنه تعالى لم يقل وقيضنا لهم قرناء ليزينوا لهم، وإنما قال: * (فزينوا لهم) * فهو تعالى قيض القرناء لهم بمعنى أنه تعالى
118

أخرج كل أحد إلى آخر من جنسه، فقيض أحد الزوجين للآخر والغني للفقير والفقير للغني ثم بين تعالى أن بعضهم يزين المعاصي للبعض.
واعلم أن وجه استدلال أصحابنا ما ذكرناه، وهو أن من فعل فعلا وعلم قطعا أن ذلك الفعل يفضي إلى أثر، فاعل ذلك الفعل يكون مريدا لذلك الأثر، فههنا الله تعالى قيض أولئك القرناء لهم وعلم أنه متى قيض أولئك القرناء لهم فإنهم يقعون في ذلك الكفر والضلال، وما ذكره الجبائي لا يدفع ذلك، وقوله ولو أراد الله منهم المعاصي لكانوا بفعلها مطيعين لله، قلنا لو كان من فعل ما أراده غيره مطيعا له لوجب أن يكون الله مطيعا لعباده إذا فعل ما أرادوه معلوم أنه باطل، وأيضا فهذا إلزام لفظي لأنه يقال إن أردت بالطاعة أنه فعل ما أراد فهذا إلزام للشيء على نفسه، وأن أردت غيره فلا بد، من بيانه حتى ينظر فيه أنه هل يصح أم لا.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله * (فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) * وذكر الزجاج فيه وجهين: الأول: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار وما خلفهم من أمر الدنيا، فزينوا أن الدنيا قديمة، وأنه لا فاعل ولا صانع إلا الطبائع والأفلاك الثاني: زينوا لهم أعمالهم التي يعملونها ويشاهدونها وما خلفهم وما يزعمون أنهم يعلمونه، وعبر ابن زيد عنه، فقال زينوا لهم ما مضى من أعمالهم الخبيثة وما بقي من أعمالهم الخسيسة.
ثم قال تعالى: * (وحق عليهم القوم في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) * فقوله في أمم في محل النصب على الحال من الضمير في عليهم، والتقدير حق عليهم القول حال كونهم كائنين في جملة * (أمم) * من المتقدمين * (إنهم كانوا خاسرين) * واحتج أصحابنا أيضا بأنه تعالى أخبر بأن هؤلاء * (حق عليهم القول) * فلو لم يكونوا كفارا لانقلب هذا القول الحق باطلا وهذا العلم جهلا، وهذا الخبر الصدق كذبا، وكل ذلك محال ومستلزم المحال محال، فثبت أن صدور الإيمان عنهم، وعدم صدور الكفر عنهم محال. واعلم أن الكلام في أول السورة ابتدئ من قوله * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * إلى قوله * (فالعمل إننا عاملون) * (فصلت: 5) فأجاب الله تعالى عن تلك الشبهة بوجوه من الأجوبة، واتصل الكلام بعضه بالبعض إلى هذا الموضع، ثم إنه حكى عنهم شبهة أخرى فقال: * (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) *، قال صاحب " الكشاف " قرىء * (والغوا فيه) * بفتح الغين وضمها يقال لغى يلغي ويلغو واللغو الساقط من الكلام الذي لا طائل تحته.
واعلم أن القوم علموا أن القرآن كلام كامل في المعنى، وفي اللفظ وأن كل من سمعه وقف على جزالة ألفاظه، وأط عقله بمعانيه، وقضى عقله بأنه كلام حق واجد القبول، فدبروا تدبيرا في منع الناس عن استماعه، فقال بعضهم لبعض * (لا تسمعوا لهذا القرآن) * إذا قرىء وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات بالخرافات والأشعار الفاسدة والكلمات الباطلة، حتى تخلطوا على القارئ
119

وتشوشوا عليه وتغلبوا على قراءته، كانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضا، والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغوا وباطلا، لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس، فبهذا الطريق تغلبون محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون باللغو والباطل من العمل والله تعالى ينصر محمدا بفضله، ولما ذكر الله تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال: * (فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا) * لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد، فإذا كان القليل منه عذابا شديدا فكيف يكون حال الكثير منه، ثم قال: * (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) * واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم، وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم، لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة، فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات.
ثم قال تعالى: * (ذلك جزاء أعداء الله النار) * والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة * (ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون) * بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء الله هو النار.
ثم قال تعالى: * (لهم فيها دار الخلد) * أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم * (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) * أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة، وإنما مساه جحودا لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزا إلا أنهم جحدوا للحسد.
واعلم أنه تعالى لما بين أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون * (ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس) * والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن) * (الانعام: 112) وقال: * (الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) * (الناس: 5) وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنة إبليس، والقتل بغير حق سنة قابيل. وقرئ * (أرنا) * بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ، وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر،
فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.
ثم قال تعالى: * (نجعلهما تحت أقدامنا) * قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار * (ليكونا من الأسفلين) * قال الزجاج: ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب، وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * (البقرة: 30)
ثم قال والمراد بقوله * (نجعلها تحت أقدامنا) * يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية، والمراد بكونهما تحت أقدمه كونهما مسخرين للنفس القدسية مطيعين لها، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها.
120

قوله تعالى
* (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم توعدون * نحن أوليآؤكم فى الحيوة الدنيا وفى الاخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم) *
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعيد أردفه بهذا الوعد الشريف، وهذا ترتيب لطيف مدار كل القرآن عليه، وقد ذكرنا مرارا أن الكمالات على ثلاثة أقسام النفسانية والبدنية والخارجية وأشرف المراتب النفسانية وأوسطها البدنية وأدونها الخارجية، وذكرنا أن الكمالات النفسانية محصورة في نوعين العلم اليقيني والعمل الصالح، فإن أهل التحقيق قالوا كما الإنسان في أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ورأس المعارف اليقينية ورئيسها معرفة الله وإليه الإشارة بقوله * (إن الذين قالوا ربنا الله) * ورأس الأعمال الصالحة ورئيسها أن يكون الإنسان مستقيما في الوسط غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط، كما قال: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * (البقرة: 143) وقال أيضا: * (اهدنا الصراط المستقيم) * وإليه الإشارة في هذه الآية بقوله * (ثم استقاموا) * وسمعت أن القارئ قرأ في مجلس العبادي هذه الآية، فقال العبادي: والقيامة في القيامة، بقدر الاستقامة، إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * ليس المراد منه القول باللسان فقط لأن ذلك لا يفيد الاستقامة، فلما ذكر عقيب ذلك القول الاستقامة علمنا أن ذلك القول كان مقرونا باليقين التام والمعرفة الحقيقية، إذ عرفت هذا فنقول في الاستقامة قولان أحدهما: أن المراد منه الاستقامة في الدين والتوحيد والمعرفة الثاني: أن المراد منه الاستقامة في الأعمال الصالحة أما على القول الأول ففيه عبارات: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: ثم استقاموا أي لم يتلفتوا إلى إله غيره، قال ابن عباس في بعض الروايات هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن أبا بكر رضي الله عنه وقع في أنواع شديدة من البلاء والمحنة ولم يتغير البتة عن دينه، فكان هو الذي قال: * (ربنا الله) * وبقي مستقيما عليه لم يتغير بسبب من الأسباب، وأقول يمكن فيه وجوه أخرى، وذلك أن من أقر بأن لهذا العالم إلها بقيت له مقامات أخرى فأولها:
121

أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل ولا يتوغل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه، بل يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل، وأيضا يجب أن يبقى على الخط المستقيم الفاصل بين الجبر والقدر، وكذا في الرجاء والقنوط يجب أن يكون على الخط المستقيم، فهذا هو المراد من قوله * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * وأما على القول الثاني وهو أن نحمل الاستقامة على الإتيان بالأعمال الصالحة، فهذا قول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، قالوا وهذا أولى حتى يكون قوله * (إن الذين قالوا ربنا الله) * متناولا للقول والاعتقاد ويكون قوله * (ثم استقاموا) * متناولا للأعمال الصالحة.
ثم قال: * (تنزل عليهم الملائكة) * قيل عند الموت وقيل في مواقف ثلاثة عند الموت وفي القبر وعند البعث إلى القيامة * (ألا تخافوا) * أن بمعنى أي أو بمخففة من الثقيلة وأصله بأنه لا تخافوا والهاء ضمير لشأن واعلم أن الغاية القصوى في رعاية المصالح دفع المضار وجلب المنافع، ومعلوم أن دفع المضرة أولى بالرعاية من جبل المصحلة، والمضرة إما أن تكون حاصلة في المستقبل أو في الحال أو في الماضي، وههنا دقيقة عقلية وهي أن المستقبل مقدم على الحاضر والحاضر مقدم على الماضي، فإن الشيء الذي لم يوجد ويتوقع حدوثه يكون مستقبلا، فإذا وجد يصير حاضرا، فإذا عدم وفني بعد ذلك يصير ماضيا، وأيضا المستقبل في كل ساعة يصير أقرب حصولا والماضي في كل حالة أبعد حصولا، ولهذا قال الشاعر: فلا زال ما تهواه أقرب من غد ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس وإذا ثبت هذا فالمضار التي يتوقع حصولها في المستقبل أولى بالدفع من المضار الماضية، وأيضا الخوف عبارة عن تألم القلب بسبب توقع حصول مضرة في المستقبل، والغم عبارة عن تألم القلب بسبب قوة نفع كان موجودا في الماضي، وإذا كان كذلك فدفع الخوف أولى من دفع الحزن الحاصل بسبب الغم، إذا عرفت هذا، فنقول: إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم في أول الأمر يخبرون بأنه لا خوف عليكم بسبب ما تستقبلونه من أحوال القيامة، ثم يخبرون بأنه لا حزن عليكم بسبب ما فاتكم من أحوال الدنيا، وعند حصول هذين الأمرين فقد زالت المضار والمتاعب بالكلية، ثم بعد الفراغ منه يبشرون بحصول المنافع وهو قوله تعالى: * (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) * فإن قيل البشارة عبارة عن الخبر الأول بحصول المنافع، فأما إذا أخبر الرجل بحصول منفعة ثم أخبر ثانيا بحصولها كان الإخبار الثاني إخبارا ولا يكون بشارة، والمؤمن قد يسمع بشارات الخير فإذا سمع المؤمن هذا الخبر من الملائكة وجب أن يكون هذا إخبارا ولا يكون بشارة، فما السبب في تسمية هذا الخبر بالبشارة، قلنا المؤمن يسمع أن من كان مؤمنا تقيا كان له الجنة، أما من لم يسمع البتة أنه من أهل الجنة فإذا سمع هذا الكلام من الملائكة كان هذا إخبارا بنفع عظيم مع أنه هو الخبر الأول بذلك فكان ذلك بشارة.
122

واعلم أن هذا الكلام يدل على أن المؤمن عند الموت وفي القبر وعند البعث لا يكون فازعا من الأهوال ومن الفزع الشديد، بل يكون آمن القلب ساكن الصدر لأن قوله * (ألا تخافوا ولا تحزنوا) * يفيد نفي الخوف والحزن على الإطلاق. ثم إنه تعالى أخبر عن الملائكة أنهم قالوا للمؤمنين * (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة)
* وهذا في مقابلة ما ذكره في وعيد الكفار حيث قال: * (وقضينا لهم قرناء) * (فصلت: 25) ومعنى كونهم أولياء للمؤمنين أن الملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية، بالإلهامات والمكاشفات اليقينية، والمقامات الحقيقية، كما أن للشياطين تأثيرات في الأرواح بإلقاء الوساوس فيها وتخييل الأباطيل إليها. وبالجملة فكون الملائكة أولياء للأرواح الطبية الطاهرة حاصل من جهات كثيرة معلومة لأرباب المكاشفات والمشاهدات، فهم يقولون: كما أن تلك الولاية كانت حاصلة في الدنيا فهي تكون باقية في الآخرة فإن تلك العلائق ذاتية لازمة غير قابلة للزوال، بل كأنها تصير بعد الموت أقوى وأبقى، وذلك لأن جوهر النفس من جنس الملائكة، وهي كالشعلة بالنسبة إلى المشي، والقطرة بالنسبة إلى البحر، والتعلقات الجسمانية هي التي تحول بينها وبين الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات " فإذا زالت العلائق الجسمانية والتدبيرات البدنية، فقد زال الغطاء والوطاء، فيتصل الأثر بالمؤثر، والقطرة بالبحر، والشعلة بالشمس، فهذا هو المراد من قوله * (نحن أولياؤكم في الحياة وفي الآخرة) *
ثم قال: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون) * قال ابن عباس: * (ولكم فيها ما تدعون) * أي ما تتمنون، كقوله تعالى: * (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون) * (يس: 57) فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * وبين قوله * (ولكم فيها ما تدعون) * قلنا: الأقرب عندي أن قوله * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) * إشارة إلى الجنة الجسمانية، وقوله * (ولكم فيها ما تدعون) * إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله * (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) * (يونس: 10).
ثم قال: * (نزلا من غفور رحيم) * والنزل: رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال، قال العارفون: دلت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذ أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفسية بعدها، وتلك الخلع النفسية ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام، نسأل الله تعالى أن يجعلنا لها أهلا بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى
* (ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله وعمل صالحا وقال إننى من المسلمين * ولا
123

تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاهآ إلا ذو حظ عظيم * وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) *
اعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدئ حيث قالوا للرسول * (قلوبنا في أكنة مما تدعوننا إليه) * (فصلت: 5) ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة، فقالوا * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * (فصلت: 26) وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات، ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، وعبر عن هذا المعنى فقال: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) * فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة. وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان: التام، وفوق التام، أما التام: فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * (فصلت: 30) إشارة إلى المرتبة الأولى، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * فهذا أيضا وجه حسن في نظم هذه الآيات.
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصابا وافيا من العلوم الإلهية الكشفية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن.
المسألة الثانية: من الناس من قال المراد من قوله * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) *
124

هو الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال هم المؤذنون، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه، والدعوة إلى الله مراتب: فالمرتبة الأولى: دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه أحدها: أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولا، ثم الدعوة بالسيف ثانيا، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين وثانيها: أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل وثالثها: أن نفوسهم أقوى قوة، وأرواحهم أصفى جوهرا، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل، فكانت دعوتهم أفضل ورابعها: أن النفوس على ثلاثة أقسام: ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين وكاملة تقوى على تكميل الناقصين فالقسم الأول: العوام والقسم الثاني: هم الأولياء والقسم الثالث: هم الأنبياء، ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم: " علماء أمتي كأنبياء إسرائيل " وإذا عرفت هذا فنقول: إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان: الكمال في الذات، والتكميل للغير، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى، وكانت درجاتهم أفضل وأكمل، إذا عرفت هذا فنقول: الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان: العلم والقدرة، أما العلماء، فهم نواب الأنبياء في العلم، وأما الملوك، فهم نواب الأنبياء في القدرة، والعلم يوجب الإستيلاء على الأرواح، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد. وإذا عرفت هذا ظهر أن أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء
درجة العلماء، ثم العلماء على ثلاثة أقسام: العلماء بالله، والعلماء بصفات الله، والعلماء بأحكام الله. أما العلماء بالله، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم * (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 229) وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا نهاية لها، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجت لا نهاية لها، وأما الملوك فهم أيضا يدعون إلى دين الله بالسيف، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار، وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا المرتد يقتل، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولا ضعيفا، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة، فكان ذلك داخلا تحت الدعاء إلى الله، وأما كون هذه المرتبة ضعيفة فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات وبتقدير أن يكون محيطا بها إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة، فهذا هو الكلام، في مراتب الدعوة إلى الله.
المسألة الثالثة: قوله * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها، إذا عرفت هذا فنقول: كل
125

ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، إذا عرفت هذا فنقول الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمقتضى هذه الآية، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة، ثم نقول الأذان دعوة إلى الله والدعوة إليه واجبة فينتج لأذان واجب، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية، والدليل القاطع عليه أن لدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال، وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال، لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو لأذان.
المسألة الرابعة: اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل أنا المسلم أو الأولى أن يقول أنا مسلم إن شاء الله، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية فإن التقدير ومن أحسن قولا ممن قال إني من المسلمين، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال، ولو كان قولنا إن شاء الله معتبرا في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية.
المسألة الخامسة: الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة أولها: الدعوة إلى الله وثانيها: العمل الصالح وثالثها: أن يكون من المسلمين، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية. وأما قوله * (وعمل صالحا) * فاعلم أن العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات. وأما قوله * (وقال إنني من المسلمين) * فهو أن ينضم إلى عمل القلب وعمل الجوارح الإقرار باللسان، فيكون هذا الرجل موصوفا بخصال أربعة أحدها: الإقرار باللسان، والثاني: الأعمال الصالحة بالجوارح والثالث: الاعتقاد الحق بالقلب والرابع: الاشتغال بإقامة الحجة على دين الله، ولا شك أن الموصوف بهذه الخصال الأربعة أشرف الناس وأفضلهم، وكمال الدرجة في هذه المراتب الأربعة ليس إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) * وعلم أنا بينا أن الكلام من أول السورة ابتدئ من أن الله حكى عنهم أنهم قالوا * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * (فصلت: 5) فأظهروا من أنفسهم الإصرار الشديد على أديانهم القديمة وعدم التأثر بدلائل محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنه تعالى أطنب في الجواب عنه وذكر الوجوه الكثيرة وأردفها بالوعد والوعيد، ثم حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم * (لاستمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * (فصلت: 26) وأجاب عنها أيضا بالوجوه الكثيرة، ثم إنه تعالى بعد الإطناب في الجواب عن تلك الشبهات رغب محمدا صلى الله عليه وسلم في أن لا يترك الدعوة إلى الله فابتدأ أولا بأن قال: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * فلهم الثواب العظيم ثم ترقى من تلك الدرجة إلى درجة أخرى وهي أن الدعوة إلى الله من أعظم الدرجات، فصار الكلام من أول السورة إلى
126

هذا الموضع واقعا على أحسن وجوه الترتيب، ثم كأن سأل فقال إن الدعوة إلى الله وإن كانت طاعة عظيمة، إلا أن الصبر على سفاهة هؤلاء الكفار شديد لا طاقة لنا به، فعند هذا ذكر الله ما يصلح لأن يكون دافعا لهذا الإشكال فقال: * (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) * والمراد بالحسنة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق، والصبر على جهالة الكفار، وترك الانتقام، وترك الالتفات إليهم، والمراد بالسيئة ما أظهروه من الجلافة في قولهم * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * وما ذكروه في قولهم * (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) * فكأنه قال يا محمد فعلك حسنة وفعلهم سيئة، ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، بمعنى أنك إذا أتيت بهذه الحسنة تكون مستوجبا للتعظيم في الدنيا والثواب في الآخرة، وهم بالضد من ذلك، فلا ينبغي أن يكون إقدامهم على تلك السيئة مانعا لك من الاشتغال بهذه الحسنة.
ثم قال: * (ادفع بالتي هي أحسن) * يعني ادفع سفاهتهم وجهالتهم بالطريق الذي هو أحسن الطرق، فإنك إذا صبرت على سوء أخلاقهم مرة بعد أخرى، ولم تقابل سفاهتهم بالغضب ولا إضرارهم بالإيذاء والإيحاش استحيوا من تلك الأخلاق المذمومة وتركوا تلك الأفعال القبيحة.
ثم قال: * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * يعني إذا قابلت إساءتهم بالإحسان، وأفعالهم القبيحة بالأفعال الحسنة تركوا أفعالهم القبيحة وانقلبوا من العداوة إلى المحبة ومن البغضة إلى المودة، ولما أرشد الله تعالى إلى هذا الطريق النافع في الدين والدنيا والآخرة عظمة فقال: * (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * قال الزجاج: أي وما يلقى هذه الفعلة إلا الذين صبروا على تحمل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ وترك الانتقام.
ثم قال: * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * من الفضائل النفسانية والدرجة العالية في القوة الروحانية، فإن الاشتغال بالانتقام والدفع لا يحصل إلا بعد تأثر النفس، وتأثر النفس من الواردات الخارجية لا يحصل إلا عند ضعف النفس فأما إذا كانت النفس قوية الجوهر لم تتأثر من الواردات الخارجية، وإذا لم تتأثر منها لم تضعف ولم تتأذ ولم تشتغل بالانتقام، فثبت أن هذه السيرة التي شرحناها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم من قوة النفس وصفاء الجوهر وطهارة الذات، ويحتمل أن يكون المراد: وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من ثواب الآخرة، فعلى هذا الوجه قوله * (وما يلقاها إلا الذين صبروا) * مدح بفعل الصبر، وقوله * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * وعد
بأعظم الحظ من الثواب. ولما ذكر هذا الطريق الكامل في دفع الغضب والانتقام، وفي ترك الخصومة ذكر عقيبه طريقا آخر عظيم النفع أيضا في هذا الباب، فقال: * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم) * وهذه الآية مع ما فيها من الفوائد الجليلة مفسرة في آخر سورة الأعراف على الاستقصاء، قال صاحب " الكشاف " النزغ والنسغ بمعنى واحد وهو شبه النخس
127

والشيطان ينزغ الإنسان، كأنه ينخسه ببعثه على ما لا ينبغي وجعل النزغ نازغا، كما قيل: جد جده أو أريد * (وإما ينزغنك) * نازغ وصفا للشيطان بالمصدر، وبالجملة فالمقصود من الآية وإن صرفك الشيطان عما شرعت من الدفع بالتي هي أحسن، فاستعذ بالله من شره، وامض على شأنك ولا تطعه، والله أعلم.
قوله تعالى
* (ومن ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسمون * ومن ءاياته أنك ترى الارض خاشعة فإذآ أنزلنا عليها المآء اهتزت وربت إن الذى أحياها لمحى الموتى إنه على كل شىء قدير) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، تنبيها على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض، فبدأ ههنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء، وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع، فقد شرحناها في هذا الكتاب مرارا، لا سيما في تفسير قوله * (الحمد لله رب العالمين) * (الفاتحة: 2) وفي تفسير قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1).
ولما بين أن الشمس والقمر محدثان، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم
128

فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات، فقال: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) * لأنهما عبدان مخلوقان * (واسجدوا لله) * الخالق القادر الحكيم، والضمير في قوله * (خلقهن) * لليل والنهار والقمر، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال للأقلام بريتها وبريتهن، ولما قال: * (من آياته) * كن في معنى الإناث فقال: * (خلقهن) * وإنما قال: * (إن كنتم إياه تعبدون) * لأن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء، فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى، قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله، فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود، بخلاف الحجر المعني فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية، فكان المقصود من القبلة حاصلا والمحذور المذكور زائلا فكان هذا أولى، واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله * (تعبدون) * لأجل أن قوله * (واسجدوا لله) * متصل به، وعند أبي حنيفة هو قوله * (وهم لا يسأمون) * لأن الكلام إنما يتم عنده. ثم إنه تعالى لما أمر بالسجود قال بعده * (فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) * وفيه سؤالات: السؤال الأول: إن الذين يسجدون للشمس والقمر يقولون نحن أقل وأذل من أن يحصل لنا أهلية عبودية الله تعالى، ولكنا عبيد للشمس وهما عبدان لله، وإذا كان قول هؤلاء هكذا، فكيف يليق أن يقال إنهم استكبروا عن السجود لله؟ والجواب: ليس المراد من لفظ الاستكبار ما ذكرتم، بل المراد فإن استكبروا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر.
السؤال الثاني: أن المشبهة تمسكوا بقوله * (فالذين عند ربك) * في إثبات المكان والجهة لله تعالى والجواب: أنه يقال عند الملك من الجند كذا وكذا، ولا يراد به قرب المكان. فكذا ههنا. ويدل عليه قوله " أنا عند ظن عبدي بي وأنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي في مقعد صدق عند مليك مقتدر " ويقال عند الشافعي رضي الله عنه إن المسلم لا يقتل بالذمي.
السؤال الثالث: هل تدل هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر؟ الجواب: نعم، لأنه إنما يستدل بحال الأعلى على حال الأدون، فيقال هؤلاء الأقوام إن استكبروا عن طاعة فلان فالأكابر يخدمونه ويعترفون بتقدمه، فثبت أن هذا النوع من الاستدلال إنما يحسن بحال الأعلى على حال الأدون.
السؤال الرابع: قال ههنا في صفة الملائكة * (يسبحون بالليل والنهار) * فهذا يدل على
129

أنهم مواظبون على التسبيح، لا ينفكون عنه لحظة واحدة، واشتغالهم بهذا العمل على سبيل الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال ككونهم ينزلون إلى الأرض كما قال: * (نزل به الروح الأمين على قلبك) * (الشعراء: 193، 194) وقال: * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * (الحجر: 51) وقوله تعالى: * (عليها ملائكة غلاظ شداد) * (التحريم: 6) الجواب: إن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا بكونهم مواظبين على التسبيح أقوام معينون من الملائكة وهم الأشراف الأكابر منهم، لأنه تعالى وصفهم بكونهم عنده، والمراد من هذه العندية كمال الشرف والمنقبة، وهذا لا ينافي كون طائفة أخرى من الملائكة مشتغلين بسائر الأعمال، فإن قالوا هب أن الأمر كذلك إلا أنهم لا بد وأن يتنفسوا، فاشتغلهم بذلك التنفس يصدهم عن تلك الحالة من التسبيح قلنا كما أن التنفس سبب لصلاح حال الحياة بالنسبة إلى البشر فذكر الله تعالى سبب لصلاح حالهم في حياتهم، ولا يجب على العاقل المنصف أن يقيس أحوال الملائكة في صفاء جوهرها وإشراق ذواتها واستغراقها في معارج معارف الله بأحوال
البشر، فإن بين الحالتين بعد المشرقين.
ثم قال تعالى: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) *.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الآيات الأربع الفلكية وهي الليل والنهار والشمس والقمر، أتبعها بذكر آية أرضية فقال: * (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) * والخشوع التذلل والتصاغر، واستعير هذا اللفظ لحال الأرض حال خلوها عن المطر والنبات * (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) * أي تحركت بالنبات، وربت: انتفخت لأن النبت إذا قرب أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت، ثم تصدعت عن النبات، ثم قال: * (إن الذي أحياها لمحيي الموتى) * يعني أن القادر على إحياء الأرض بعد موتها هو القادر على إحياء هذه الأجساد بعد موتها، وقد ذكرنا تقرير هذا الدليل مرارا لا حصر لها، ثم قال: * (إنه على كل شيء قدير) * وهذا هو الدليل الأصلي وتقريره إن عودة التأليف والتركيب إلى تلك الأجزاء المتفرقة ممكن لذاته، وعود الحياة والعقل والقدرة إلى تلك الأجزاء بعد اجتماعها أيضا أمر ممكن لذاته، والله تعالى قادر على الممكنات، فوجب أن يكون قادرا على إعادة التركيب والتأليف والحياة والقدرة والعقل والفهم إلى تلك الأجزاء، وهذا يدل دلالة واضحة على أن حشر الأجساد ممكن لا امتناع فيه البتة، والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن الذين يلحدون فى ءاياتنا لا يخفون علينآ أفمن يلقى فى النار خير أم من يأتى ءامنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير * إن الذين كفروا بالذكر لما جآءهم وإنه لكتاب
130

عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) *.
اعلم أنه تعالى لما بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى أعظم المناصب وأشرف المراتب، ثم بين أن الدعوة إلى دين الله تعالى، إنما تحصل بذكر دلائل التوحيد والعدل وصحة البعث والقيامة، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات، ويحاول إلقاء الشبهات فيها، فقال: * (إن الذين يلحدون في آياتنا) * يقال ألحد الحافر ولحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق، فالملحد هو المنحرف، ثم بحكم العرف اختص بالمنحرف عن الحق إلى الباطل، وقوله * (لا يخفون علينا) * تهديد كما إذا قال الملك المهيب: إن الذين ينازعون في ملكي أعرفهم، فإنه يكون ذلك تهديدا، ثم قال: * (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) * وهذا استفهام بمعنى التقرير، والغرض التنبيه على أن الذين يلحدون في آياتنا يلقون في النار، والذين يؤمنون بآياتنا يأتون آمنين يوم القيامة.
ثم قال: * (اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) * وهذا أيضا تهديد ثالث، ونظيره ما يقوله الملك المهيب عند الغضب الشديد إذا أخذ يعاتب بعض عبيده ثم يقول لهم اعملوا ما شئتم فإن هذا مما يدل على الوعيد الشديد.
ثم قال تعالى: * (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم) * وهذا أيضا تهديد، وفي جوابه وجهان: أحدهما: أنه محذوف كسائر الأجوبة المحذوفة في القرآن على تقدير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم يجازون بكفرهم أو ما أشبه والثاني: أن جوابه قوله * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * والأول أصوب، ولما بالغ في تهديد الذين يلحدون في آيات القرآن أتبعه ببيان تعظيم القرآن، فقال: * (وإنه لكتاب عزيز) * والعزيز له معنيان أحدهما: الغالب القاهر والثاني: الذي لا يوجد نظيره، أما كون القرآن عزيزا بمعنى كونه غالبا، فالأمر كذلك لأنه بقوة حجته غلب على كل ما سواه، وأما كونه عزيزا بمعنى عديم النظير، فالأمر كذلك لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته، ثم قال: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * وفيه وجوه: الأول: لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل والزبور، ولا يجيء كتاب من بعده يكذبه الثاني: ما حكم القرآن بكونه حقا لا يصير باطلا، وما حكم بكونه باطلا لا يصير حقا الثالث: معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه. والدليل عليه قوله * (وإنا له لحافظون) * (الحجر: 9) فعل هذا الباطل هو الزيادة والنقصان الرابع: يحتمل أن يكون المراد أنه لا يوجد في المستقبل كتاب يمكن جعله معارضا وله ولم يوجد فيما تقدم
131

كتاب يصلح جعله معارضا له الخامس: قال صاحب " الكشاف " هذا تمثيل، والمقصود أن الباطل لا يتطرق إليه، ولا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتى يتصل إليه.
واعلم أن لأبي مسلم الأصفهاني أن يحتج بهذه الآية على أنه لم يوجد النسخ فيه لأن النسخ إبطال فلو دخل النسخ فيه لكان قد أتاه الباطل من خلفه وإنه على خلاف هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (تنزيل من حكيم حميد) * أي حكيم في جميع أحواله وأفعاله، حميد إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه، ولهذا السبب جعل * (الحمد لله رب العالمين) * (الفاتحة: 2) فاتحة كلامه، وأخبر أن خاتمة كلام أهل الجنة، وهو قوله * (الحمد لله رب العالمين) * (الزمر: 75).
قوله تعالى
* (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم * ولو جعلناه قرءانا أعجميا لقالوا لولا فصلت ءاياته ءاعجمى وعربى قل هو للذين ءامنوا هدى وشفآء والذين لا يؤمنون فى ءاذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد * ولقد ءاتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفى شك منه مريب * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) *.
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات الله، ثم بين شرف آيات الله، وعلو درجة كتاب الله رجع إلى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على أذى قومه
وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم * (قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * إلى قوله * (فاعمل إننا عاملون) * (فصلت: 5)
132

فقال: * (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) * وفيه وجهان: الأول: وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة * (وإن ربك لذو مغفرة) * للمحقين * (وذو عقاب أليم) * للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى الله تعالى الثاني: أن يكون المراد ما قال الله لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة، هو ذكر الأجوبة عن قولهم * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إنا عاملون) * فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة، وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه، وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل، ثم إنه تعالى ذكر جوابا آخر عن قولهم * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * فقال: * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: أأعجمي بهمزتين على الاستفهام، والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله، كقوله * (أأنذرتهم) * (البقرة: 6) ونحوها على الاستفهام، وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة، وأما القراءة بهمزتين: فالهمزة الأولى همزة إنكار، والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وأما القراءة بغير همزة الاستفهام، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي.
المسألة الثانية: نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت، قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية، وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتابا منتظما، فضلا عن ادعاء كونه معجزا؟ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى الله تعالى عنهم من قولهم * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * وهذا الكلام أيضا متعلق به، وجواب له، والتقدير: أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا * (قلوبنا في أمنة ما تدعونا إليه) * أي من هذا الكلام * (وفي آذاننا وقر) * منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب، وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها، فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جوابا عن ذلك الكلام، بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جدا.
133

ثم قال تعالى: * (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) *.
واعلم أن هذا متعلق بقولهم * (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) * إلى آخر الآية، كأنه تعالى يقول: إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة، فبقي أن يقال إن كل من آتاه الله طبعا مائلا إلى الحق، وقلبا مائلا إلى الصدق، وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين، فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى شفاء. أما كونه هدى فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، فذلك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل، وأما من كان غارقا في بحر الخذلان، وتائها في مفاوز الحرمان، ومشغوفا بمتابعة الشيطان، كان هذا القرآن في آذانه وقرا، كما قال: * (وفي آذاننا وقر) * (فصلت: 5) وكان القرآن عليهم عمى كما قال: * (ومن بيننا وبينك حجاب) * (فصلت: 5)، * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن، وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاما واحدا منتظما مسوقا نحو غرض واحد، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه، وقرأ الجمهور * (وهو عليهم عمى) * على المصدر، وقرأ ابن عباس عم على النعت، قال أبو عبيد والأول هو الوجه، كقوله * (هدى وشفاء) * وكذلك * (عمى) * وهو مصدر مثلها، ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في * (عمى) * أجود فيكون نعتا مثلهما، وقوله تعالى: * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء، وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع، وإن سمع لم يفهم، فكذا حال هؤلاء.
ثم قال تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) * وأقول أيضا إن هذا متعلق بما قبله، كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه، فقبله بعضهم ورده الآخرون، فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم الذين يقولون * (قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه) *.
ثم قال تعالى: * (ولولا كلمة سبقت من ربك) * يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، كما قال: * (بل الساعة موعدهم) * (القمر: 46) * (لقضي بينهم) * يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب، فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم * (قلوبنا في أمنة مما تدعونا إليه) *.
ثم قال: * (من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها) * يعني خفف على نفسك إعراضهم، فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، والله سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء * (وما ربك بظلام للعبيد) *.
134

قوله تعالى
* (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركآئى قالوا ءاذناك ما منا من شهيد * وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسام الانسان من دعآء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط * ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضرآء مسته ليقولن هذا لى
ومآ أظن الساعة قآئمة ولئن رجعت إلى ربى إن لى عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ * وإذآ أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعآء عريض * قل أرءيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو فى شقاق بعيد * سنريهم ءاياتنا فى الافاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شىء شهيد * ألا إنهم فى مرية من لقآء ربهم ألا إنه بكل
135

شىء محيط) *.
واعلم أنه تعالى لما هدد الكفار في هذه الآية المتقدمة بقوله * (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) * (فصلت: 46) ومعناه أن جزاء كل أحد يصل إليه في يوم القيامة، وكأن سائلا قال ومتى يكون ذلك اليوم؟ فقال تعالى إنه لا سبيل للخلق إلى معرفة ذلك اليوم ولا يعلمه إلا الله فقال: * (إليه يرد علم الساعة) * وهذه الكلمة تفيد الحصر أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا الله، وكما أن هذا العلم ليس إلا عند الله فكذلك العلم بحدوث الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر من أمثلة هذا الباب مثالين أحدهما: قوله * (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) * والثاني: قوله * (وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه) * قال أبو عبيدة أكمامه أوعيتها وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة، قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم من ثمرات بالألف على الجمع والباقون من ثمرة بغير ألف على الواحد.
واعلم أن نظير هذه الآية قوله * (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث) * (لقمان: 34) إلى آخر لآية، فإن قيل أليس أن المنجمين قد يتعرفون من طالع سنة العالم أحوالا كثيرة من أحوال العالم، وكذلك قد يتعرفون من طوالع الناس أشياء من أحوالهم، وههنا شيء آخر يسمى علم الرمل وهو كثير الإصابة وأيضا علم التعبير بالاتفاق قد يدل على أحوال المغيبات، فكيف الجمع بين هذه العلوم المشاهدة وبين هذه الآية؟ قلنا إن أصحاب هذه العلوم لا يمكنهم القطع والجزم في شيء من المطالب البتة وإنما الغاية القصوى ادعاء ظن ضعيف والمذكور في هذه الآية أن علمها ليس إلا عند الله والعلم هو الجزم واليقين وبهذا لطريق زالت المنافاة والله أعلم، ثم إنه تعالى لما ذكر القيامة أردفه بشيء من أحوال يوم القيامة، وهذا الذي ذكره ههنا شديد التعلق أيضا بما وقع الابتداء به في أول السورة، وذلك لأن أول السورة يدل على أن شدة نفورهم عن استماع القرآن إنما حصلت من أجل أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى التوحيد وإلى البراءة عن الأصنام والأوثان بدليل أنه قال في أول السورة * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) * (فصلت: 6) فذكر في خاتمة السورة وعيد القائلين بالشركاء والأنداد فقال: * (ويوم يناديهم أين شركائي) * أي بحسب زعمكم واعتقادكم * (قالوا آنذاك) * قال ابن عباس أسمعناك كقوله تعالى: * (وأذنت لربها وحقت) * (الانشقاق: 2) بمعنى سمعت، وقال الكلبي أعلمناك وهذا بعيد، لأن أهل القيامة يعلمون الله ويعلمون أنه يعلم الأشياء علما واجبا، فالإعلام في حقه محال.
ثم قال: * (ما منا من شهيد) * وفيه وجوه الأول: ليس أحد منا يشهد بأن لك شريكا، فالمقصود أنهم في ذلك اليوم يتبرؤون من إثبات الشريك لله تعالى الثاني: ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم
136

ضلوا عنهم وضلت عنهم آلهتهم لا يبصرونها في ساعة التوبيخ الثالث: أن قوله * (ما منا من شهيد) * كلام الأصنام فإن الله يحييها، ثم إنها تقول ما منا من أحد يشهد بصحة ما أضافوا إلينا من الشركة، وعلى هذا التقدير فمعنى أنها لا تنفعهم فكأنهم ضلوا عنهم.
ثم قال: * (وظنوا ما لهم من محيص) * وهذا ابتداء كلام من الله تعالى يقول إن الكفار ظنوا أولا ثم أيقنوا أنه لا محيص لهم عن النار والعذاب، ومنهم من قال إنهم ظنوا أولا أنه لا محيص لهم عن النار ثم أيقنوا ذلك بعده، وهذا بعيد لأن أهل النار يعلمون أن عقابهم دائم، ولما بين الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنهم بعد أن كانوا مصرين على القول بإثبات الشركاء والأضداد لله في الدنيا تبرءوا عن تلك الشركاء في الآخرة بين أن الإنسان في جميع الأوقات متبدل الأحوال متغير المنهج، فإن أحس بخير وقدرة انتفخ وتعظم وإن أحس ببلاء ومحنة ذبل، كما قيل في المثل: إن هذا كالقرد، إن رأى خيرا تدلى، وإن رأى شرا تولى، فقال: * (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط) * مبالغة من وجهين أحدهما: من طريق بناء فعول والثاني: من طريق التكرير واليأس من صفة القلب، والقنوط أن يظهر آثار ليأس في الوجه والأحوال الظاهرة.
ثم بين تعالى أن هذا الذي صار آيسا قانطا لو عاودته النعمة والدولة، وهو المراد من قوله * (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) * فإن هذا الرجل يأتي بثلاثة أنواع من الأقاويل الفاسدة والمذاهب الباطلة الموجبة للكفر والبعد عن الله تعالى فأولها أنه لا بد وأن يقول هذا لي وفيه وجهان الأول: معناه أن هذا حقي وصل إلي، لأني استوجبته بما حصل عندي من أنواع الفضائل وأعمال البر والقربة من الله ولا يعلم المسكين أن أحدا لا يستحق على الله شيئا، وذلك لأنه إن كان ذلك الشخص عاريا عن الفضائل، فهذا الكلام ظاهر الفساد وإن كان موصوفا بشيء من الفضائل والصفات الحميدة، فهي بأسرها إنما حصلت له بفضل الله وإحسانه، وإذ تفضل الله بشيء على بعض عبيده، امتنع أن يصير تفضله عليه بتلك العطية سببا لأن يستحق على الله شيئا آخر، فثبت بهذا فساد قوله إنما حصلت هذه الخيرات بسبب استحقاقي والوجه الثاني: أن هذا لي أي لا يزول عني ويبقى علي وعلى أولادي وذريتي.
والنوع الثاني: من كلماتهم الفاسدة أن يقول * (وما أظن الساعة قائمة) * يعني أنه يكون شديد الرغبة في الدنيا عظيم النفرة عن الآخرة، فإذا آل الأمر إلى أحوال الدنيا يقول إنها لي وإذا آل الأمر إلى الآخرة يقول * (وما أظن الساعة قائمة) *.
والنوع الثالث: من كلماتهم الفاسدة أن يقول * (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) *
137

يعني أن الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل، وبتقدير أن يكون حقا فإن لي عنده للحسنى، وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه
الأول: أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني: أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث: قوله * (عنده) * يدل على أن تكل الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير، فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده، فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع: اللام في قوله * (للحسنى) * تفيد التأكيد الخامس: للحسنى يفيد الكمال في الحسنى. ولما حكى الله تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال: * (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) * أي نظهر لهم " أن الأمر على ضد ما اعتقدوا وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * (الفرقان: 23) * (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) * في مقابلة قولهم * (إن لي عنده للحسنى) *. ولما حكى الله تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد ووقعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال: * (وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض) * عن التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله * (ونأى بجانبه) * أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار به الطول أيضا كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم، وبين أن الإنسان جبل على التبدل، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم، وإن أحس بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبة كلاما آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: * (قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد) * وتقرير هذا الكلام أنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم * (قلوبنا في أكمن مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * (فصلت: 5) ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلا علما بديهيا، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوة علما بديهيا، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وأن كيون فاسدا بتقدير أن يكون صحيحا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركوا هذه الثغرة، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه، وإن دل على فساده تركتموه، فأما قبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل، وقوله * (ممن هو في شقاق بعيد) * موضوع موضع منكم بيانا بحالهم وصفاتهم، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوة، وأجاب عن شبهات
138

المشركين وتمويهات الضالين قال: * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) * قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء ونواحيها وأطرافها، وفي تفسير قوله * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * قولان الأول: أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة، وقد أكثر الله منها في القرآن، وقوله * (وفي أنفسهم) * المراد منها الدلائل المأخوذة منن كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، كما قال تعالى: * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) * (الذاريات: 21) يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول الشبهات عن قلوبهم ويحصل فيها الجزم والقطع بوجود الإله القادر الحكيم العلمي المنزه عن المثل والضد، فإن قيل هذا الوجه ضعيف لأن قوله تعالى: * (سنريهم) * يقتضي أنه تعالى ما أطلعهم على تلك الآيات إلى الآن وسيطلعهم عليها بعد ذلك، والآيات الموجودة في العالم الأعلى والأسفل قد كان الله أطلعهم عليها قبل ذلك فثبت أنه تعذر حمل هذا اللفظ على هذا الوجه، قلنا إن القوم وإن كانوا قد رأوا هذه الأشياء إلا أن العجائب التي أودعها الله تعالى في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، فهو تعالى يطلعهم على تلك العجائب زمانا فزمانا، ومثاله كل أحد رأى بعينه بينة الإنسان وشاهدها، إلا أن العجائب التي أبدعها الله في تركيب هذا البدن كثيرة وأكثر الناس لا يعرفونها، والذي وقف على شيء منها فكلما ازداد وقوفا على تلك العجائب والغرائب فصح بهذا الطريق قوله * (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) * والقول الثاني: أن المراد بآيات الآفاق فتح البلاد المحيطة بمكة وبآيات أنفسهم فتح مكة والقائلون بهذا القول رجحوه على القول الأول لأجل أن قوله * (سنريهم) * يليق بهذا الوجه ولا يليق بالأول إلا أنا أجبنا عنه بأن قوله * (سنريهم) * لائق بالوجه الأول كما قررناه، فإن قيل حمل الآية على هذا الوجه بعيد لأن أقصى ما في الباب أن محمدا صلى الله عليه وسلم استولى على بعض البلاد المحيطة بمكة، ثم استولى على مكة، إلا أن الاستيلاء على بعض البلاد لا يدل على كون المستولي محقا، فإنا نرى أن الكفار قد يحصل لهم استيلاء على بلاد الإسلام وعلى ملوكهم، وذلك لا يدل على كونهم محقين، ولهذا السبب قلنا إن حمل الآية على الوجه الأول أولى، ثم نقول إن أردنا تصحيح هذا الوجه، قلنا إنا لا نستدل بمجرد استيلاء محمد صلى الله عليه وسلم على تلك البلاد على كونه محقا في ادعاء النبوة، بل نستدل به من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عن مكة أنه يستولي عليها ويقهر أهلها ويصير أصحابه قاهرين للأعداء، فهذا إخبار عن الغيب وقد وقع مخبره مطابقا لخبره، فيكون هذا إخبارا صدقا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجزة، فبهذا الطريق يستدل بحصول هذا الاستيلاء على كون هذا الدين حقا.
ثم قال: * (أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) * وقوله * (بربك) * في موضع الرفع على أنه
139

فاعل * (يكف) * وأنه على كل شيء شهيد) * بد منه، وتقديره: أو لم يكفهم أن ربك على كل شيء
شهيد، ومعنى كونه تعالى شهيدا على الأشياء أنه خلق الدلائل عليها، وقد استقصينا ذلك في تفسير
قوله * (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله) * (الأنعام: 19) والمعنى ألم تكفهم هذه الدلائل الكثيرة التي أوضحها الله تعالى وقررها في هذه السورة وفي كل سور القرآن الدالة على التوحيد والتنزيه والعدل والنبوة. ثم ختم السورة بقوله * (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) * أي إن القوم في كش عظيم وشبهة شديدة من البعث والقيامة، وقرئ * (في مرية) * بالضم.
ثم قال: * (ألا إنه بكل شيء محيط) * أي عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها فيعلم بواطن هؤلاء
الكفار وظواهرهم، ويجازي كل أحد على فعله بحسب ما يليق به إن حيزا فخير، وإن شرا فشر
فإن قيل قوله * (ألا إنه بكل شيء محيط) * يقتضي أن تكون علومه متناهية، قلنا قوله * (بكل شيء
محيط) * يقتضي أن يكون علمه محيطا بكل شيء من الأشياء فهذا يقتضي كون كل واحد
منها متناهيا، لا كون مجموعها متناهيا، والله أعلم بالصواب.
تم تفسير هذه السورة وقت ظهر الرابع من ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة والحمد
لله رب العالمين، وصلاته على خاتم النبيين محمد وآله وصحبه وسلم
140

سورة الشورى
خمسون وثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (حم * عسق * كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم * له ما فى السماوات وما فى الارض وهو العلى العظيم * تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن فى الارض ألا إن الله هو الغفور الرحيم * والذين اتخذوا من دونه أوليآء الله حفيظ عليهم ومآ أنت عليهم بوكيل) *
اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح معلوم إلا أن في هذا الموضع سؤالان زائدان الأول: أن يقال إن هذه السور السبعة مصدرة بقوله * (حم) * فما السبب في اختصاص هذه السورة بمزيد * (عسق) *؟ الثاني: أنهم اجمعوا على أنه لا يفصل بين * (كهيعص) * (مريم: 1 (وههنا يفصل بين * (حم) * وبين * (عسق) * فما السبب فيه؟ اعلم أن الكلام في أمثال هذه الفواتح يضيف، وفتح باب المجازفات مما لا سبيل إليه، فالأولى أن يفوض علمها إلى الله، وقرأ ابن عباس وابن مسعود * (حم * عسق) *.
أما قوله تعالى: * (كذلك يوحي إليك) * فالكاف معناه المثل وذا للإشارة إلى شيء سبق ذكره، فيكون المعنى: مثل حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك وعند هذا حصل قولان:
141

الأول: نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: " لا نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه حم عشق " وهذا عندي بعيد. الثاني: أن يكون المعنى: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الذين من قبلك، وهذه المماثلة المراد منها المماثلة في الدعوة إلى التوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في التوجه إلى الآخرة، والذي يؤكد هذا أنا بينا في سورة * (سبح اسم ربك الأعلى) * (الأعلى: 1) أو أولها في تقرير التوحيد، وأوسطها في تقرير النبوة، وآخرها في تقرير المعاد، ولما تمم الكلام في تقرير هذه المطالب الثلاثة قال: * (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) * (الأعلى: 18، 19) يعني أن المقصود من إنزال جميع الكتب الإلهية ليس إلا هذه المطالب الثلاثة، فكذلك ههنا يعني مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى كل من قبلك من الأنبياء، والمراد بهذه المماثلة الدعوة إلى هذه المطالب العالية والمباحث المقدسة الإلهية، قال صاحب " الكشاف " ولم يقل أوحي إليك، ولكن قال: * (يوحي إليك) * على لفظ المضارع ليدل على أن إيحاء مثله عادته، وقرأ ابن كثير * (كذلك يوحي) * بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله وهي إحدى الروايتين عن أبي عمرو وعن بعضهم * (نوحي) * بالنون، وقرأ الباقون * (يوحي إليك وإلى الذين من قبلك) * بكسر الحاء، فإن قيل فعلى القراءة الأولى ما رافع اسم الله تعالى؟ قلنا ما دل عليه بوحي، كأن قائلا قال من الموحي؟ فقيل الله ونظيره قراءة السلمي * (وكذلك زين كثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) * (الأنعام: 137) على البناء للمفعول ورفع شركاؤهم، فإن قيل فما رافعه فيمن قرأ * (نوحي) * بالنون؟ قلنا يرفع بالابتداء، والعزيز وما بعده أخبار، أو * (العزيز الحكيم) * صفتان والظرف خبره، ولما ذلك أن هذا الكتاب حصل بالوحي بين أن الموحي من هو فقال إنه هو العزيز الحكيم وقد بينا في أول سورة حم المؤمن أن كونه عزيزا يدل على كونه قادرا على ما لا نهاية له وكونه حكيما يدل على كونه عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحاجات فيحصل لنا من كونه عزيزا حكيما كونه قادرا على جميع المقدورات عالما بجميع المعلومات غنيا عن جميع الحاجات ومن كان كذلك كانت أفعاله وأقواله حكمة وصوابا، وكانت مبرأة عن العيب والعبث، قال مصنف الكتاب قلت في قصيدة:
الحمد لله ذي الآلاء والنعم والفضل والجود والإحسان والكرم
منزه الفعل عن عيب وعن عبث مقدس الملك عن عزل وعن عدم
والصفة الثالثة قوله * (له ما في السماوات وما في الأرض) * وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما: كونه موصوفا بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السماوات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني: أنه لما بين بقوله * (له ما في السماوات وما في الأرض) * أن كل ما في السماوات وما في الأرض فهو ملكه وملك له، وجب أن يكون منزها عن كونه حاصلا في السماوات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكا لنفسه، وإذا
142

ثبت أنه ليس في شيء من السماوات امتنع كونه أيضا في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجودا فوق السماوات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلا في العرش ملكا لله وملكا له، فوجب أن يكون منزها عن كونه حاصلا في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال: * (له ما في السماوات) * وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: إن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى: * (والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها) * (
الشمس: 5، 6) وقال: * (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد) *، (الكافرون: 2، 3) والثاني: أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى: * (إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) * (مريم: 93) وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلت هذه الآية على أن كل من في السماوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجودا في السماوات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السماوات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجودا في السماوات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزها عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي.
والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى: * (وهو العلي العظيم) * ولا يجوز أن يكون المراد بكونه عليا العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله * (الله أحد) * (الإخلاص: 1) فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلهية.
ثم قال: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر * (تكاد) * بالتاء * (يتفطرن) * بالياء والنون، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة * (تكاد) * بالتاء * (يتفطرن) * بالياء والتاء، وقرأ نافع والكسائي: * (يكاد) * بالياء * (يتفطرن) * أيضا بالتاء، قال صاحب " الكشاف ": وروى يونس عن أبي عمرو قراءة غريبة * (تتفطرن) * بالتاءين مع النون، ونظيرها حرف نادر، روي في نوادر ابن الإعرابي: الإبل تتشمسن.
المسألة الثانية: في فائدة قوله * (من فوقهن) * وجوه الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) * قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها.
واعلم أن هذا القول سخيف، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه، ويدل على فساده وجوه: الأول: أن قوله * (من فوقهن) * لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها: هب أنه يحمل على ذلك، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أطلت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد " وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المراد
143

تكاد السماوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلهية والقهر والقدرة؟ فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني: في تأويل الآية ما ذكره صاحب " الكشاف ": وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السماوات، وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، ودع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله تعالى؛ * (يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر به ما في بطونهم والجلود) * (الحج: 19، 20) فجعل مؤثرا في أجزائه الباطنة الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يقال * (من فوقهن) * أي من فوق الأرضين، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية * (له ما في السماوات وما في الأرض) *
ثم قال: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) * أي من فوق الأرضين والوجه الرابع: في التأويل أن يقال معنى * (من فوقهن) * أي من الجهة التي حصلت هذه السماوات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقوله * (من فوقهن) * أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها. المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذه الهيئة لم حصلت؟ وفيه قولان الأول: أنه تعالى لما بين أن الموحي لهذا الكتاب هو الله العزيز الحكيم، بين وصف جلاله وكبريائه، فقال: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) * أي من هيبته وجلالته والقول الثاني: أن السبب في إثباتهم الولد لله لقوله * (تكاد السماوات يتفطرن منه) * (مريم: 90)، وههنا السبب فيه إثباتهم الشركاء لله، لقوله بعد هذه الآية * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * والصحيح هو الأول، ثم قال: * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض) *.
واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان: عالم الجسمانيات وأعظمها السماوات، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة * (عم يتساءلون) * (النبأ: 1) لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات، فقال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا) * (النبأ: 37) ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات، فقال * (يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) * (النبأ: 38) فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، فقال: * (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن) * ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات، فقال: * (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) * فهذا ترتيب شريف وبيان باهر.
واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يقبل الأثر، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام، ومتأثر لا يؤثر، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة، وهو المرتبة
144

المتوسطة، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان: تعلق بعالم الجلال والكبرياء، وهو تعلق القبول، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات، وإذا كان كذلك فلها وجهان: وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني. إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: * (يسبحون بحمد ربهم) * إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء، وقوله * (ويستغفرون لمن في الأرض) * إشارة إلى الوجه الذي لهم
إلى عالم الأجسام، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق، إذا عرفت هذا فنقول: أما الجهة الأولى وهي الجهة العلوية المقدسة، فقد اشتملت على أمرين: أحدهما: التسبيح، وثانيهما: التحميد، لأن قوله * (يسبحون بحمد ربهم) * يفيد هذين الأمرين، والتسبيح مقدم على التحميد، لأن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا ينبغي، والتحميد عبارة عن وصفه بكونه مفيضا لكل الخيرات وكونه منزها في ذاته عما لا ينبغي، مقدم بالرتبة على كونه فياضا للخيرات والسعادات، لأن وجود الشيء مقدم على إيجاد غيره، وحصوله في نفسه مقدم على تأثيره في حصول غيره، فلهذا السبب كان التسبيح مقدما على التحميد، ولهذا قال: * (يسبحون بحمد ربهم) *. وأما الجهة الثانية: وهي الجهة التي لتلك الأرواح إلى عالم الجسمانيات، فالإشارة إليها بقوله * (ويستغفرون لمن في الأرض) * والمراد منه تأثيراتها في نظم أحوال هذا العالم وحصول الطريق الأصوب الأصلح فيها، فهذه ملامح من المباحث العالية الإلهية مدرجة في هذه الآيات المقدسة، ولنرجع إلى ما يليق بعلم التفسير، فإن قيل كيف يصح أن يستغفروا لمن في الأرض وفيهم الكفار، وقد قال تعالى: * (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة) * فكيف يكونون لاعنين ومستغفرين لهم؟، قلنا الجواب: عنه من وجوه:
الأول: أن قوله * (لمن في الأرض) * لا يفيد العموم، لأنه يصح أن يقال إنهم استغفروا لكل من في الأرض وأن يقال إنهم استغفروا لبعض من في الأرض دون البعض، ولو كان قوله * (لمن في الأرض) * صريحا في العموم لما صح ذلك التقسيم الثاني: هب أن هذا النص يفيد العموم إلا أنه تعالى حكى عن الملائكة في سورة حم المؤمن فقال: * (ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) * (غافر: 7) الثالث: يجوز أن يكون المراد من الاستغفار أن لا يعاجلهم بالعقاب كما في قوله تعالى: * (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) * إلى أن قال: * (إنه كان حليما غفورا) * (فاطر: 41) الرابع: يجوز أن يقال إنهم يستغفرون لكل من في الأرض، أما في حق الكفار فبواسطة طلب الإيمان لهم، وأما في حق المؤمنين فبالتجاوز عن سيئاتهم، فإنا نقول اللهم اهد الكافرين
145

وزين قلوبهم بنور الإيمان وأزل عن خواطرهم وحشة الكفر، وهذا في الحقيقة استغفار.
واعلم أن قوله * (ويستغفرون لمن في الأرض) * يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرؤون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له البتة أفضل ممن له ذنب وأيضا فقوله * (ويستغفرون لمن في الأرض) * يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم.
ولما حكى الله تعالى عن الملائكة التسبيح والتحميد والاستغفار قال: * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) * والمقصود التنبيه على أن الملائكة وإن كانوا يستغفرون للبشر إلا أن المغفرة المطلقة والرحمة المطلقة للحق سبحانه وتعالى وبيانه ممن وجوه الأول: أن إقدام الملائكة على طلب المغفرة للبشر من الله تعالى إنما كان لأن الله تعالى خلق في قلوبهم داعية لطلب تلك المغفرة، ولولا أن الله تعالى خلق في قلوبهم تلك الدواعي وإلا لما أقدموا على ذلك الطلب وإذا كان كذلك كان الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله سبحانه وتعالى الثاني: أن الملائكة قالوا في أول الأمر * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * (البقرة: 30) ثم في آخر الأمر صاروا يستغفرون لمن في الأرض، وأما رحمة الحق وإحسانه فقد كان موجودا في الأولى والآخر فثبت أن الغفور المطلق والرحيم المطلق هو الله تعالى الثالث: أنه تعالى حكى عنهم أنهم يستغفرون لمن في الأرض ولم يحك عنهم أنهم يطلبون الرحمة لمن في الأرض فقال: * (ألا إن الله هو الغفور الرحيم) * يعني أنه يعطي المغفرة التي طلبوها ويضم إليها الرحمة الكاملة التامة.
ثم قال تعالى: * (والذين اتخذوا من دونه أولياء) * أي جعلوا له شركاء وأندادا * (الله حفيظ عليهم) * أي رقيب على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيء وهو محاسبهم عليها لا رقيب عليهم إلا هو وحده وما أنت يا محمد بمفوض إليك أمرهم ولا قسرهم على الإيمان، إنما أنت منذر فحسب.
قوله تعالى
* (وكذلك أوحينآ إليك قرءانا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق فى الجنة وفريق فى السعير * ولو شآء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشآء فى رحمته والظالمون ما لهم من ولى ولا نصير * أم اتخذوا من دونه أوليآء فالله هو الولى وهو
146

يحى الموتى وهو على كل شىء قدير * وما اختلفتم فيه من شىء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربى عليه توكلت وإليه أنيب * فاطر السماوات والارض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الانعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شىء وهو السميع البصير * له مقاليد السماوات والارض يبسط الرزق لمن يشآء ويقدر إنه بكل شىء عليم) *.
واعلم أن كلمة (ذلك) للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله * (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا) * يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء هاهنا قد سبق ذكره، وليس هاهنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله * (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل) * (الشورى: 6) يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لهم وقوله تعالى: * (لتنذر أم القرى) * أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله * (واسأل القرية) * (يوسف: 82) وأم القرى أصل القرى وهيب مكة وسميت بهذا الاسم إجلالا لها لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعرب تسمي أصل كل شيء أمة حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر، والإنذار التخويف، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحي إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة وهذا يقتضي أن يكون رسولا إليهم فقط وأن لا يكون رسولا إلى كل العالمين الجواب: أن
التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه، فهذه الآية تدل على كونه رسولا إلى هؤلاء
147

خاصة وقوله * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (سبأ: 28) يدل على كونه رسولا إلى كل العالمين، أيضا لما ثبت كونه رسولا إلى أهل مكة وجب كونه صادقا، ثم إنه نقل إلينا بالتواتر كان يدعى أنه رسول إلى كل العالمين، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه، فثبت أنه رسول إلى كل العالمين.
ثم قال تعالى: * (وتنذر يوم الجمع) * الأصل أن يقال أنذرت فلانا بكذا فكان الواجب أن يقال لتنذر أم القرى بيوم الجمع وأيضا فيه إضمار والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي تسميته بيوم الجمع وجوه الأول: أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى: * (يوم يجمعكم ليوم الجمع) * (التغابن: 9) فيجتمع فيه أهل السماوات من أهل الأرض الثاني: أنه يجمع بين الأرواح والأجساد الثالث: يجمع بين كل عامل وعمله الرابع: يجمع بين الظالم والمظلوم وقوله * (لا ريب فيه) * صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه، وقوله * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فإن قيل قوله * (يوم الجمع) * يقتضي كون القوم مجتمعين وقوله * (فريق في الجنة وفريق في السعير) * يقتضي كونهم متفرقين، والجمع بين الصفتين محال، قلنا إنهم يجتمعون أولا ثم يصيرون فريقين.
ثم قال: * (ولو شاء الله لجمعهم أمة واحدة) * والمراد تقرير قوله * (والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل) * (الشورى: 6) أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان، فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك، ولكنه جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا، فقوله * (يدخل من يشاء في رحمته) * يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة، وقوله * (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) * يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته، وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته، لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة، وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته.
ثم قال تعالى: * (أم اتخذوا من دونه أولياء) * والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولا أنهم اتخذوا من دونه أولياء، ثم قال بعده لمحمد صلى الله عليه وسلم لست عليهم رقيبا ولا حافظا، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا، فإن هذا المعنى لو كان واجبا لفعله الله، لأنه أقدر منك، ثم إنه أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار، فإن قوله * (أم اتخذوا من دونه أولياء) * استفهام على سبيل الإنكار.
ثم قال تعالى: * (فالله هو الولي) * والفاء في قوله * (فالله هو الولي) * جواب شرط مقدر، كأنه قال: إن أرادوا أولياء بحق الله هو الولي بالحق لا ولي سواه، لأنه يحيى الموتى وهو على كل شيء قدير، فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء.
ثم قال: * (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) * وفيه مسائل:
148

المسألة الأولى: وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان قهرا، فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات فقال: * (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) * وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين، وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته، وقيل وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم، ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح، فقولوا الله أعلم به، قال تعالى: * (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * (الإسراء: 85).
المسألة الثانية: تقدير الآية كأنه قال: قل يا محمد * (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) * والدليل عليه قوله تعالى: * (ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب) *.
المسألة الثالثة: احتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا قوله تعالى: * (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) * إما أن يكون المراد فحكمه مستفاد من نص الله عليه، أو المراد فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه، والثاني باطل لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل فيعتبر الأول، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص وذلك ينفي العمل القياس، ولقائل أن يقوم لم لا يجوز أن يكون المراد فحكمه يعرف من بيان الله تعالى، سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس؟ أجيب عنه بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف، والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه، فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (ذلكم الله ربي) * أي ذلكم الحاكم بينكم هو ربي * (عليه توكلت) * في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير * (وإليه أنيب) * أي وإليه أرجع في كل المهمات، وقوله * (عليه توكلت) * يفيد الحصر، أي لا أتوكل إلا عليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله وليا.
ثم قال: * (فاطر السماوات والأرض) * قرىء بالرفع والجر، فالرفع على أنه خبر ذلكم، أو خبر مبتدأ محذوف، والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السماوات والأرض وقوله * (ذلكم الله ربي) * اعتراض وقع بين الصفة والموصوف، * (جعل لكم من أنفسكم) * من جنسكم من الناس * (أزواجا ومن الأنعام أزواجا) * أي خلق من الأنعام أزواجا، ومعناه وخلق أيضا للأنعام من أنفسها أزواجا * (يذرؤكم) * أي يكثركم، يقال: ذرأ الله الخلق، أي كثرهم، وقوله * (فيه) * أي في هذا التدبير، وهو التزويج وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل، والضمير في * (يذرؤكم) * يرجع إلى المخاطبين، إلى أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين الأول: أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء الثاني: أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين، فإن قيل ما معنى يذرؤكم في هذا التدبير، ولم لم يقل يذرؤكم به؟ قلنا جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير، ألا ترى أنه
149

يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * (البقرة: 179).
ثم قال تعالى: * (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) * وهذه الآية فيها مسائل: المسألة الأولى: احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية في نفي كونه تعالى
جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء وحاصلا في المكان والجهة، وقالوا لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام، فيلزم حصول الأمثال والأشباه له، وذلك باطل بصريح قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * ويمكن إيراد هذه الحجة على وجه آخر، فيقال إما أن يكون المراد * (ليس كمثله شيء) * في ماهيات الذات، أو أن يكون المراد ليس كمثله في الصفات شيء، والثاني باطل، لأن العباد يوصفون بكونهم عالمين قادرين، كما أن الله تعالى يوسف بذلك، وكذلك يوصفون بكونهم معلومين مذكورين، مع أن الله تعالى يوصف بذلك، فثبت أن المراد بالمماثلة المساواة في حقيقة الذات، فيكون المعنى أن شيئا من الذوات لا يساوي الله تعالى في الذاتية، فول كان الله تعالى جسما، لكان كونه جسما ذاتا لا صفة، فإذا كان سائر الأجسام مساوية له في الجسمية، أعني في كونها متحيزة طويلة عريضة عميقة، فحينئذ تكون سائر الأجسام مماثلة لذات الله تعالى في كونه ذاتا، والنص ينفي ذلك فوجب أن لا يكون جسما.
واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه " بالتوحيد "، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأن كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: " نحن نثبت لله وجها ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوها، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب.
ثم قال: ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له: وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه ". وذكر في فصل آخر من هذا الكتاب " أن القرآن دل على وقوع التسوية بين ذات الله تعالى وبين خلقه في صفات كثيرة، ولم يلزم منها أن يكون القائل مشبها فكذا ههنا " ونحن نعد الصور التي ذكرها على الاستقصاء فالأول: أنه تعالى قال في هذه الآية * (وهو السميع البصير) * وقال في حق الإنسان * (فجعلناه سميعا بصيرا) * (الإنسان: 2)، الثاني: قال: * (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) * (التوبة: 105) وقال في حق المخلوقين * (أولم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء) * (النحل: 79) الثالث: قال: * (واصنع الفلك بأعيننا) * (هود: 37) * (واصبر لحكم ربك فإنك فأعيننا) * (الطور: 48) وقال في حق المخلوقين * (ترى أعينهم تفيض من الدمع) * (المائدة: 83)
150

الرابع: قال لإبليس * (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) * (ص: 75) وقال: * (بل يداه مبسوطتان) * (المائدة: 64) وقال: في حق المخلوقين * (ذلك بما قدمت أيديكم) * (آل عمران: 182)، * (ذلك بما قدمت يداك) *، (الحج: 10) * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) *، (الفتح: 10) الخامس: قال تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (طه: 5) وقال في الذين يركبون الدواب * (لتستووا على ظهوره) * (الزخرف: 13) وقال في سفينة نوح * (واستوت على الجودي) * (هود: 44)، السادس: سمى نفسه عزيزا فقال: * (العزيز الجبار) * (الحشر: 23)، ثم ذكر هذا الاسم في حق المخلوقين بقوله * (يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا) * (يوسف: 78)، * (يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر) * (يوسف: 88)، السابع: سمى نفسه بالملك وسمى بعض عبيده أيضا بالملك فقال: * (وقال الملك ائتوني به) * (يوسف: 50) وسمى نفسه بالعظيم ثم أوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: * (رب العرش العظيم) * (التوبة: 129) وسمى نفسه بالجبار المتكبر وأوقع هذا الاسم على المخلوق فقال: * (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) * (غافر: 35) ثم طول في ضرب الأمثلة من هذا الجنس، وقال ومن وقف على الأمثلة التي ذكرناها أمكنه الإكثار منها، فهذا ما أورده هذا الرجل في هذا الكتاب.
وأقول هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذه الآية، فنقول المثلان هما اللذان يقوم كل واحد منهما مقام الآخر في حقيقته وماهيته، وتحقيق الكلام فيه مسبوق بمقدمة أخرى فنقول: المعتبر في كل شيء، إما تمام ماهيته وإما جزء من أجزاء ماهيته وإما أمر خارج عن ماهيته، ولكنه من لوازم تلك الماهية، وأما أمر خارج عن ماهيته ولكنه ليس من لوازم تلك الماهية وهذا التقسيم مبني على الفرق بين ذات الشيء وبين الصفات القائمة به وذلك معلوم بالبديهة، فإنا نرى الحبة من الحصرم كانت في غاية الخضرة والحموضة ثم صارت في غاية السواد والحلاوة، فالذات باقية والصفات مختلفة والذات الباقية مغايرة للصفات المختلفة، وأيضا نرى الشعر قد كان في غاية السواد ثم صار في غاية البياض، فالذات باقية والصفات متبدلة والباقي غير المتبدل، فظهر بما ذكرنا أن الذوات مغايرة للصفات. إذا عرفت هذا فنقول: اختلاف الصفات لا يوجب اختلاف الذوات البتة، لأنا نرى الجسم الواحد كان ساكنا ثم يصير متحركا، ثم يسكن بعد ذلك، فالذوات باقية في الأحوال كلها على نهج واحد ونسق واحد، والصفات متعاقبة متزايلة، فثبت بهذا أن اختلاف الصفات والأعراض لا يوجب اختلاف الذوات، إذا عرفت هذا فنقول: الأجسام منها تألف وجه الكلب والقرد مساوية للأجسام التي تألف منها وجه الإنسان والفرس وإنما حصل الاختلاف إنما وقع بسبب الاختلاف في الصفات والأعراض، فأما ذوات الأجسام فهي متماثلة إلا أن العوام لا يعرفون الفرق بين الذوات وبين الصفات، فلا جرم يقولون إن وجه الإنسان مخالف لوجه الحمار، ولقد صدقوا فإنه حصلت تلك بسبب الشكل واللون
151

وسائر الصفات، فأما الأجسام من حيث إنها أجسام فهي متماثلة متساوية، فثبت أن الكلام الذي أورده إنما ذكره لأجل أنه كان من العوام وما كان يعرف أن المعتبر في التماثل والاختلاف حقائق الأشياء وماهياتها لا الأعراض والصفات القائمة بها، بقي ههنا أن يقال فما الدليل على أن الأجسام كلها متماثلة؟ فنقول لنا ها هنا مقامان:
المقام الأول: أن نقول هذه المقدمة إما أن تكون مسلمة أو لا تكون مسلمة، فإن كانت مسلمة فقد حصل المقصود، وإن كانت ممنوعة، فنقول فلم لا يجوز أن يقال إله العالم هو الشمس أو القمر أو الفلك أو العرش أو الكرسي، ويكون ذلك الجسم مخالفا لماهية سائر الأجسام فكان هو قديما أزليا واجب الوجود وسائر الأجسام محدثة
مخلوقة، ولو أن الأولين والآخرين اجتمعوا على أن يسقطوا هذا الإلزام عن المجسمة لا يقدرون عليه؟ فإن قالوا هذا بالطل لأن القرآن دل على أن الشمس والقمر والأفلاك كلها محدثة مخلوقة فيقال هذا من باب الحماقة المفرطة لأن صحة القرآن وصحة نبوة الأنبياء مفرعة على معرفة الإله، فإثبات معرفة الإله بالقرآن وقول النبي لا يقوله عاقل يفهم ما يتكلم به.
والمقام الثاني: أن علماء الأصول أقاموا البرهان القاطع على تماثل الأجسام في الذوات والحقيقة، وإذا ثبت هذا ظهر أنه لو كان إله العالم جسما لكانت ذاته مساوية لذوات الأجسام إلا أن هذا باطل بالعقل والنقل، أما العقل فلأن ذاته إذا كانت مساوية لذوات سائر الأجسام وجب أن يصح عليه ما يصح على سائر الأجسام، فيلزم كونه محدثا مخلوقا قابلا للعدم والفناء قابلا للتفرق والتمزق. وأما النقل فقوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل وعند هذا يظهر أنا لا نقول بأنه متى حصل الاستواء في الصفة لزم حصول الاستواء في تمام الحقيقة إلا أنا نقول لما ثبت أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية، فلو كانت ذاته جسما لكن ذلك الجسم مساويا لسائر الأجسام في تمام الماهية، وحينئذ يلزم أن يكون كل جسم مثلا له، لما بينا أن المعتبر في حصول المماثلة اعتبار الحقائق من حيث هي هي، لا اعتبار الصفات القائمة بها فظهر بالتقرير الذي ذكرناه أن حجة أهل التوحيد في غاية القوة، وأن هذه الكلمات التي أوردها هذا الإنسان إنما أوردها لأنه كان بعيدا عن معرفة الحقائق، فجرى على منهج كلمات العوام فاغتر بتلك الكلمات التي ذكرها ونسأل الله تعالى حسن الخاتمة.
المسألة الثانية: في ظاهر هذه الآية إشكال، فإنه يقال المقصود منها نفي المثل عن الله تعالى وظاهرها يوجب إثبات المثل لله، فإنه يقتضي نفي المثل عن مثله لا عنه، وذلك يوجب إثبات المثل لله تعالى، وأجاب العلماء عنه بأن قالوا إن العرب تقول مثلك لا يبخل أي أنت لا تبخل فنفوا البخل عن مثله، وهم يريدون نفيه عنه، ويقول الرجل: هذا الكلام لا يقال لمثلي أي لا يقال لي قال الشاعر:
" ومثلي كمثل جذوع النخيل "
152

والمراد منه المبالغة فإنه إذا كان ذلك الحكم منتفيا عمن كان مشابها بسبب كونه مشابها له، فلأن يكون منتفيا عنه كان ذلك أولى، ونظيره قولهم: سلام على المجلس العالي، والمقصود أن سلام الله إذا كان واقعا على مجلسه وموضعه فلأن يكون واقعا عليه كان ذلك أولى، فكذا ههنا قوله تعالى: * (ليس كمثله شيء) * والمعنى ليس كهو شيء على سبيل المبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وعلى هذا التقدير فلم يكن هذا الفظ ساقطا عديم الأثر، بل كان مفيدا للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلا لمثل نفسه فقول * (ليس كمثله شيء) * معناه ليس نثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى بالسم الشيء، وعندي فيه طريقة أخرى، وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزها عن المثل، وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه، وهذا محال فإثبات المثل له محال، أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر، وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساويا لمثله في تلك الماهية ومباينا له في نفسه، وما به المشاركة غير ما به المباينة. فتكون ذات كل واحد منهما مركبا وكل مركب ممكن، فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود، إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئا بناء على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود، فهذا ما يحتمله اللفظ.
المسألة الثالثة: هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى: * (وله المثل الأعلى) * (الروم: 27) يقتضي إثبات المثل فلا بد من الفرق بينهما، فنقول المثل هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفا في تمام الماهية.
المسألة الرابعة: قوله * (وهو السميع البصير) * يدل على كونه تعالى سامعا للمسموعات مبصرا للمرئيات، فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على طاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلابا يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو السماع، وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي، فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة، وذلك على الله محال، فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب: الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه، وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تتموج ذلك الهواء. وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة، فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه، فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة، وهذا يدل على أن الرؤية مغايرة لنفس ذلك الانطباع، وإذا ثبت هذا فنقول
153

لا يلزم من امتناع التأثر في حق الله امتناع السمع والبصر في حقه، فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر، فلما كان حصول ذلك التأثر في حق الله تعالى ممتنعا كان حصول السمع والبصر في حق الله ممتنعا، فنقول ظاهر قوله * (وهو السميع البصير) * يدل على كونه سميعا بصيرا فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر، والتأثر في حق الله تعالى ممتنع، فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعا، وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله، وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه، فإن قال قائل قوله * (وهو السميع البصير) * يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر، مع أن العباد أيضا موصوفون بكونهم سميعين بصيرين؟ فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال، والكمال في كل الصفات ليس إلا لله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
أما قوله تعالى: * (له مقاليد السماوات والأرض) * فاعلم أن المراد من الآية أنه تعالى: فاطر السماوات والأرض والأصنام ليست كذلك، وأيضا فهو خالق أنفسنا
وأزواجنا وخالق أولادنا منا ومن أزواجنا، والأصنام ليست كذلك، وأيضا فله مقاليد السماوات والأرض والأصنام ليست كذلك، والمقصود من الكل بيان القادر المنعم الكريم الرحيم، فكيف يجوز جعل الأصنام التي هي جمادات مساوية له في المعبودية؟ فقوله * (له مقاليد السماوات والأرض) * يريد مفاتيح الرزق من السماوات والأرض، فمقاليد السماوات الأمطار، ومقاليد الأرض النبات، وذكرنا تفسير المقاليد في سورة الزمر عند قوله * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * (الزمر: 52) لأن مفاتيح الأرزاق بيده * (إنه بكل شيء) * من البسط والتقدير * (عليم) *.
قوله تعالى
* (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينآ إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبى إليه من يشآء ويهدى إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ولولا
154

كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفى شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كمآ أمرت ولا تتبع أهوآءهم وقل ءامنت بمآ أنزل الله من كتاب وأمرت لاعدل بينكم الله ربنا وربكم لنآ أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير * والذين يحآجون فى الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد * الله الذى أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين ءامنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون فى الساعة لفى ضلال بعيد * الله لطيف بعباده يرزق من يشآء وهو القوى العزيز) *.
اعلم أنه تعالى لما عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله * (كذلك يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) * (الشورى: 3) ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال: * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) *
155

والمعنى شرع الله لكم يا أصحاب محمد من الدين ما وصى به نوحا ومحمدا وإبراهيم وموسى وعيسى، هذا هو المقصود من لفظ الآية، وإنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة، إلا أنه بقي في لفظ الآية إشكالات أحدها: أنه قال في أول الآية * (ما وصى به نوحا) * وفي آخرها * (وما وصينا به إبراهيم) * وفي الوسط * (والذي أوحينا إليك) * فما الفائدة في هذا التفاوت؟ وثانيها: أنه ذكر نوحا عليه السلام على سبيل الغيبة فقال: * (ما وصى به نوحا) * والقسمين الباقيين على سبيل التكلم فقال: * (والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم) * وثالثها: أنه يصير تقدير الآية: شرع الله لكم من الدين الذي أوحينا إليك فقوله * (شرع لكم) * خطاب الغيبة وقوله * (والذي أوحينا إليك) * خطاب الحضور، فهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، فهذه المضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها، وبالجملة فالمقصود من الآية أنه يقال شرع لكم من الدين دينا تطابقت الأنبياء على صحته، وأقول يجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئا مغايرا للتكاليف والأحكام، وذلك لأنها مختلفة متفاوتة قال تعالى: * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * (المائدة: 48) فيجب أن يكون المراد منه الأمور التي لا تختلف باختلاف الشرائع، وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإيمان يوجب الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والسعي في مكارم الأخلاق والاحتراز عن رذائل الأحوال، ويجوز عندي أن يكون المراد من قوله * (ولا تتفرقوا) * أي لا تتفرقوا بالآلهة الكثيرة، كما قال يوسف عليه السلام: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * (يوسف: 39) وقال تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) * (الأنبياء: 25) واحتج بعضهم بقوله * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا) * على أن النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر كان مبعوثا بشريعة نوح عليه السلام، والجواب ما ذكرناه أنه عطف عليه سائر الأنبياء وذلك يدل على أن المراد هو الأخذ بالشريعة المتفق عليها بين الكل، ومحل * (أن أقيما الدين) * إما نصب بدل من مفعول * (شرع) * والمعطوفين عليه، وإما رفع على الاستئناف كأنه قيل ما ذاك المشروع؟ فقيل هو إقامة الدين * (كبر على المشركين) * عظم عليهم وشق عليهم * (ما تدعوهم إليه) * من إقامة دين الله تعالى على سبيل الاتفاق والإجماع، بدليل أن الكفار قالوا * (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) * (ص: 5) وههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج نفاة القياس بهذه الآية قالوا إنه تعالى أخبر أن أكابر الأنبياء أطبقوا على أنه يجب إقامة الدين بحث لا يفضي إلى الاختلاف والتنازع، والله تعالى ذكر في معرض المنة على عباده أنه أرشدهم إلى الدين الخالي عن التفرق والمخالفة ومعلوم أن فتح باب القياس يفضي إلى أعظم أنواع التفرق والمنازعة، فإن الحس شاهد بأن هؤلاء الذين بنوا دينهم على
156

الأخذ بالقياس تفرقوا تفرقا لا رجاء في حصول الاتفاق بينهم إلى آخر القيامة، فوجب أن يكون ذلك محرما ممنوعا عنه.
المسألة الثانية: هذه الآية تدل على أن هذه الشرائع قسمين منها ما يمتنع دخول النسخ والتغيير فيه، بل يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن أصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) * مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل، وبيان منفعته من وجوه الأول: أن للنفوس تأثيرات، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني: أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معينا للآخر في ذلك المقصود المعين، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث: أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب، فلهذا السبب أمر الله تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى * (ولا تنازعوا فتفشلوا) * (الأنفال:
46).
ثم قال تعالى: * (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * وفيه وجهان الأول: أنه تعالى لما أرشد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بين أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني: أنه إنما كبر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبرا وأنفة فبين تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم، ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله * (الله يجتبي إليه) * أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة، وقوله * (من يشاء) * كقوله تعالى: * (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء) * (العنكبوت: 21).
ثم قال: * (ويهدي إليه من ينيب) * وهو كما روي في الخبر " من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة " أي من أقبل إلي بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره.
واعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول: فلماذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب الله تعالى عنهم بقوله * (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي
157

وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلبا للذكر والرياسة، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف، ثم أخب تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب، لأن لكل عذاب عنده أجلا مسمى، أي وقتا معلوما، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة، وهو معنى قوله * (ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم) * والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة، واختلفوا في الذين أريدوا بهذه الصفة من هم؟ فقال الأكثرون هم اليهود والنصارى، والدليل قوله تعالى في آل عمران * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * (آل عمران: 19) وقال في سورة لم يكن * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * (البينة: 4) ولأن قوله * (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * لائق بأهل الكتاب، وقال آخرون: إنهم هم العرب، وهذا باطل للوجوه المذكورة، لأن قوله تعالى بعد هذه الآية * (وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم) * لا يليق بالعرب، لأن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم * (لفي شك منه) * من كتابهم * (مريب) * لا يؤمنون به حق الإيمان.
ثم قال تعالى: * (فلذلك فادع واستقم كما أمرت) * يعني فلأجل ذلك التفرق ولأجل مات حدث من الاختلافات الكثيرة في الدين، فادع إلى الاتفاق على الملة الحنيفية واستقم عليها وعلى الدعوة إليها، كما أمرك الله، ولا تتبع أهواءهم المختلفة الباطلة * (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) * أي بأي كتاب صح أن الله أنزله، يعني لإيمان بجميع الكتب المنزلة، لأن المتفرقين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ونظيره قوله * (نؤمن ببعض ونكفر ببعض) * إلى قوله * (أولئك هم الكافرون) * (النساء: 151)
ثم قال: * (وأمرت لأعدل بينكم) * أي في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم إلي، قل القفال: معناه أن ربي أمرني أن لا أفرق بين نفسي وأنفسكم بأن آمركم بما لا أعمله، أو أخالفكم إلى ما نهيتكم عنه، لكني أسوي بينكم وبين نفسي، وكذلك أسوي بين أكابركم وأصاغركم فيما يتعلق بحكم الله.
ثم قال: * (الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير) * والمعنى أن إله الكل واحد، وكل واحد مخصوص بعمل نفسه، فوجب أن يشتغل كل واحد في الدنيا بنفسه، فإن الله يجمع بين الكل في يوم القيامة ويجازيه على عمله، والمقصود منه المتاركة واشتغال كل أحد بمهم نفسه، فإن قيل كيف يليق بهذه المتاركة ما فعل بهم من القتل وتخريب البيوت وقطع النخيل والإجلاء؟ قلنا هذه المتاركة كانت مشروطة بشرط أن يقبلوا الدين المتفق على صحته بين كل الأنبياء، ودخل فيه التوحيد، وترك عبادة الأصنام، والإقرار بنبوة الأنبياء، وبحصة البعث والقيامة، فلما لم يقبلوا هذا الدين، فحينئذ فات الشرط، فلا جرم فات المشروط.
158

وأعلم أنه ليس المراد من قوله * (لا حجة بيننا وبينكم) * تحريم ما يجري مجرى محاجتهم، ويدل عليه وجوه الأول: أن هذا الكلام مذكور في معرض المحاجة، فلو كان المقصود من هذه الآية تحريم المحاجة، لزم كونها محرمة لنفسها وهو متناقض والثاني: أنه لولا الأدلة لما توجه التكليف الثالث: أن الدليل يفيد العلم وذلك لا يمكن تحريمه، بل المراد أن القوم عرفوا بالحجة صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما تركوا تصديقه بغيا وعنادا، فبين تعالى أنه قد حصل الاستغناء عن محاجتهم لأنهم عرفوا بالحجة صدقه فلا حاجة معهم إلى المحاجة البتة، ومما يقوي قولنا: أنه لا يجوز تحريم المحاجة، قوله * (وجادلهم بالتي هي أحسن) * (النحل: 125) وقوله تعالى: * (ادع إلى سبيل ربك) * (النحل: 125) وقوله * (لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * (العنكبوت: 46) وقوله * (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا) * (هود: 32) وقوله * (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) * (الأنعام: 83).
ثم قال تعالى: * (والذين يحاجون في الله) * أي يخاصمون في دينه * (من بعد ما استجيب له) * أي من بعد ما استجاب الناس لذلك الدين * (حجتهم داحضة) * أي باطلة وتلك المخاصمة هي أن اليهود قالوا ألستم تقولن إن الأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف؟ فنبوة موسى وحقية التوراة معلومة بالاتفاق، ونبوة محمد ليست متفقا عليها، فإذا بنيتم كلامكم في هذه الآية على أن الأخذ بالمتفق أولى، وجب أن يكون الأخذ باليهودية أولى، فبين تعالى أن هذه الحجة داحضة، أي باطلة فاسدة، وذلك لأن اليهود أطبقوا على أنه إنما وجب الإيمان بموسى عليه السلام لأجد ظهور المعجزات على وقف قوله، وههنا ظهرت المعجزات على وفق قول محمد عليه
السلام، واليهود شاهدوا تلك المعجزات، فإن كان ظهور المعجزة يدل على الصدق، فههنا يجب الإعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان لا يدل على الصدق وجب في حق موسى أن لا يقروا بنبوته. وأما الإقرار بنبوة موسى والإصرار على إنكار نبوة محمد مع استوائهما في ظهور المعجزة يكون متناقضا، ولما قرر الله هذه الدلائل خوف المنكرين بعذاب القيامة، فقال: * (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب) * والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على أنواع الدلائل والبينات، وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم، وأنهم لا يعلمون أن القيامة متى تفاجئهم ومتى كان الأمر كذلك، وجب على العاقل أن يجد ويجتهد في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد، ولما كان الرسول يهددهم بنزول القيامة وأكثر في ذلك، وأنهم ما رأوا منه أثرا قالوا على سبيل السخرية: فمتى تقوم القيامة، وليتها قامت حتى يظهر لنا أن الحق ما نحن عليه أو الذي عليه محمد وأصحابه، فلدفع هذه الشبهة قال تعالى: * (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها) * والمعنى ظهر، وإنما يشفقون ويخافون لعلمهم أن عندها تمتنع التوبة، وأما منكر البعث فلأن لا يحصل له هذا الخوف.
ثم قال: * (ألا أن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد) * والممارة الملاجة، قال الزجاج: الذين
159

تدخلهم المرية والشك في وقوع الساعة، فيمارون فيها ويجحدون * (لفي ضلال بعيد) * لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب في العدل، فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله تعالى، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالا بعيدا.
ثم قال: * (الله لطيف بعباده) * أي كثير الإحسان بهم، وإنما حسن ذكر هذا الكلام ههنا لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله بعباده، وأيضا المتفرقون استوجبوا العذاب الشديد، ثم إنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضا من لطف ا لله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم ودفع أعظم المضار عنهم، لا جرم حسن ذكره ههنا، ثم قال: * (يرزق من يشاء) * يعني أن أصل الإحسان والبر عام في حق كل العباد، وذلك هو الإحسان بالحياة والعقل والفهم، وإعطاء ما لا بد منه من الرزق، ودفع أكثر الآفات والبليات عنهم، فأما مراتب العطية والبهجة فمتفاوتة مختلفة.
ثم قال: * (هو القوي) * أي القادر على كل ما يشاء * (العزيز) * الذي لا يغالب ولا يدافع.
قوله تعالى
* (من كان يريد حرث الاخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الاخرة من نصيب * أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم * ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين ءامنوا وعملوا الصالحات فى روضات الجنات لهم ما يشآءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير * ذلك
160

الذى يبشر الله عباده الذين ءامنوا وعملوا الصالحات قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة فى القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور * أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور * وهو الذى يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون * ويستجيب الذين ءامنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد) *
اعلم أنه تعالى لما بين كون لطيفا بعباده كثير الإحسان إليهم بين أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال: * (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) * قال صاحب " الكشاف " إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به القائدة حرثا على سبيل المجاز وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول: أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا، وذلك يدل على التفضيل، لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيها على قوله " نحن الآخرون السابقون " الثاني: أنه قال في مريد حرث الآخرة * (نزد له في حرثه) * وقال في مريد حرث الدنيا * (نؤته منها) * وكلمة من للتبعيض، فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتين كله، وقال في سورة بني إسرائيل * (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * (الإسرار: 18) وأقوال البرهان العقلي مساعد على البابين، وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل، فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات، فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر، وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر، وذلك هو المراد بقوله * (نزد له في حرثه) * وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها
161

أشد، وإذا كان الميل أبدا في التزايد، وكان حصول المطلوب باقيا على حالة واحدة كان الحرمان لازما لا محالة الثالث: أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة * (نرد له في حرثه) * ذ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا، بل بقي الكلام ساكتا عنه نفيا وإثباتا، وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بين أنه لا يعطيه شيئا من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجدا للتبع بقدر الحاجة، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيها على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع: أنه تعالى بين أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه، وبين أن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا، وأما أفي الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب البتة، فبين بالكلام الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبدا في الترقي والتزايد وبين بالكلام الثاني أن طالب الدني يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التام الخامس: أن الآخرة نسيئة والدنيا نقد والنسيئة مرجوحة بالنسبة إلى النقد، لأن الناس يقولون النقد خير من النسيئة فبين تعالى أن هذه القضية انعكست بالنسبة إلى أحوال الآخرة والدنيا، فالآخرة وإن كانت نقدا إلا أنها متوجهة للزيادة والدوام فكانت أفضل وأكمل، والدنيا وإن
كانت نقدا إلا أنها متوجهة إلى النقصان ثم إلى البطلان فكانت أخس وأرذل، فهذا يدل على أن حال الآخرة لا يناسب حال الدنيا البتة، وأنه ليس في الدنيا من أحوال الآخرة إلا مجرد الاسم كما هو مروي عن ابن عباس السادس: الآية دالة على أن منافع الآخرة والدنيا ليست حاضرة بل لا بد في البابين من الحرث، والحرث لا يتأتى إلا بتحمل المشاق في البذر ثم التسقية والتنمية والحصد ثم التنقية، فلما سمى الله كلا القسمين حرثا علمنا أن كل واحد منهما لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق، ثم بين تعالى أن مصير الآخرة إلى الزيادة والكمال وإن مصير الدنيا إلى النقصان ثم الفناء، فكأنه قيل إذا كان لا بد في القسمين جميعا من تحمل متاعب الحراثة والتسمية والتنمية والحصد والتنقية، فلأن تصرف هذه المتاعب إلى ما يكون في التزايد والبقاء أولى من صرفها إلى ما يكون في النقصان والانقضاء والفناء.
المسألة الثانية: في تفسير قوله * (نزد له في حرثه) * قولان الأول: المعنى أنا نزيد في توقيفه وإعانته وتسهيل سبل الخيرات والطاعات عليه، وقال مقاتل * (نزد له في حرثه) * بتضعيف الثواب، قال تعالى: * (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * (فاطر: 30) وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من أصبح وهمه الدنيا شئت لله تعالى عليه همه وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلى ما كتب له، ومن أصبح همه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة عن أنفها " أو لفظا يقرب من أن يكون هذا معناه.
المسألة الثالثة: ظاهر اللفظ يدل على أن من صلى لأجل طلب الثواب أو لأجل دفع العقاب فإنه تصح صلاته، وأجمعوا على أنها لا تصح والجواب: أنه تعالى قال: * (من كان يريد حرث
162

الآخرة) * والحرث لا يتأتى إلا بإلقاء البذر الصحيح في الأرض، والبذر الصحيح لجميع الخيرات والسعادات ليس إلا عبودية الله تعالى.
المسألة الرابعة: قال أصحابنا إذا توضأ بغير نية لم يصح، قالوا لأن هذا الإنسان ما أراد حرث الآخرة، لأن الكلام فيما إذا كان غافلا عن ذكر الله وعن الآخرة، فوجب أن لا يحصل له نصيب فيما يتعلق بالآخرة والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة، فوجب أن لا يحصل في الوضوء العاري عن النية. وأعلم أن الله تعالى لما بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الآخرة والدنيا أردفه بالتنبيه على ما هو الأصل في باب الضلالة والشقاوة فقال: * (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * ومعنى الهمزة في أم التقرير والتقريع و * (شركاؤهم) * شياطينهم الذين زينوا الشرك وإنكار البعث والعمل للدنيا لأنهم يعلمون غيرها، وقيل * (شركاؤهم) * أوثانهم، وإنما أضيفت إليهم لأنهم هم الذين اتخذوها شركاء الله، ولما كان سببا لضلالتهم جعلت شارعة لدين الضلالة كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * (إبراهيم: 36) وقوله * (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) * يعني أن تكل الشرائع بأسرها على ضدين لله، ثم قال: * (ولولا كلمة الفصل) * أي القضاء السابق بتأخير الجزاء، أو يقال ولولا الوعد بأن الفصل أن يكون يوم القيمة * (لقضي بينهم) * أي بين الكافرين والمؤمنين أو بين المشركين وشركائهم * (وإن الظالمين لهم عذاب أليم) * وقرأ بعضهم، وأن بفتح الهمزة في أن عطفا له على كلمة الفصل يعني * (ولولا كلمة الفصل) * وأن تقريره تعذيب الظالمين في الآخرة * (لقضي بينهم) * في الدنيا إنه تعالى ذكر أحوال أهل العقاب وأحوال أهل الثواب الأول: فهو قوله * (ترى الظالمين مشفقين) * خائفين خوفا شديدا * (مما كسبوا) * من السيئات * (وهو واقع بهم) * يريد أن وباله واقع بهم سواء أشفقوا أو لم يشفقو، أما الثاني: فهو أحوال أهل الثواب وهو قوله تعالى: * (والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات) * لأن روضة الجنة أطيب بقعة فيها، وفي الآية تنبيه على أن الفساق من أهل الصلاة كلهم في الجنة، إلا أنه خص الذين آمنوا وعملوا الصالحات بروضات الجنات، وهي البقاع الشريفة من الجنة، فالبقاع التي دون تلك الروضات لا بد وأن تكون مخصوصة بمن كان دون أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ثم قال: * (لهم ما يشاءون عند ربهم) * وهذا يدل على أن كل الأشياء حاضرة عنده مهيأة، ثم قال تعالى في تعظيم هذه الدرجة * (ذلك هو الفضل الكبير) * وأصحابنا استدلوا بهذه الآية على أن الثواب غير واجب على الله، وإنما يحصل بطريق الفضل من الله تعالى قال: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم) * فهذا يدل على أن روضات الجنات ووجدان كل ما يريدونه إنما كان جزاء على الإيمان والأعمال الصالحات.
163

ثم قال تعالى: * (ذلك هو الفضل الكبير) * وهذا تصريح بأن الجزاء المرتب على العمل إنما حصل بطريق الفضل لا بطريق الاستحقاق.
ثم قال: * (ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * قال صاحب " الكشاف " قرىء يبشر من بشره ويبشر من أبشره ويبشر من بشره.
واعلم أن هذه الآيات دالة على تعظيم حال الثواب من وجوه الأول: أن الله سبحانه رتب على الإيمان وعمل الصالحات روضات الجنات، والسلطان الذي هو أعظم الموجودات وأكرمهم إذا رتب على أعمال شاقة جزاء، دل ذلك على أن ذلك الجزاء قد بلغ إلى حيث لا يعلم كنهه إلا الله تعالى الثاني: أنه تعالى قال: * (لهم ما يشاءون عند ربهم) * وقوله * (لهم ما يشاءون) * يدخل في باب غير المتناهي لأنه لا درجة إلا والإنسان يريد ما هو أعلى منها الثالث: أنه تعالى قال: * (ذلك هو الفضل الكبير) * والذي يحكم بكبره من له الكبرياء والعظمة على الإطلاق كان في غاية الكبر الرابع: أنه تعالى أعاد البشارة على سبيل التعظيم فقال: * (الذين يبشر الله عباده) * وذلك يدل أيضا على غاية العظمة، نسأل الله الفوز بها والوصول إليها. واعمل أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب الشريف العالي وأودع فيه الثلاثة أقسام الدلائل وأصناف التكاليف، ورتب على الطاعة الثواب، وعلى المعصية العقاب، بين أني لا أطلب منكم بسبب هذا التبليغ نفعا عاجلا ومطلوبا حاضرا، لئلا يتخيل جاهل أن مقصود محمد صلى الله عليه وسلم من هذا التبليغ المال والجاه فقال: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر الناس في هذه الآية ثلاثة أقوال:
الأول: قال الشعبي أكثر الناس علينا في هذه الآية، فكتبنا إلى بن عباس نسأله عن ذلك فكتب ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب من قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله * (قل لا أسألكم) * على ما أدعوكم إليه * (أجرا إلا) * أن تودوني لقرابتي منكم، والمعنى أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي.
والقول الثاني: روى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة، فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم، فنزل قوله تعلى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا) * أي على الإيمان إلا أن تودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه.
164

القول الثالث: ما ذكره الحسن فقال: إلا أن تودوا إلى الله فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح، فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب، وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب، فإن قيل الآية مشكلة، ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرحوا بنفي طلب الأجرة، فذكر في قصة نوح عليه السلام * (وما أسألكم عليه من أجر أن أجري إلا على رب العالمين) * (الشعراء: 109) وكذا في قصة هود وصالح، وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام، ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النوبة والرسالة أولى الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * (سبأ: 47) وقال: * (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) * (ص: 86) الثالث: العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجبا عليه قال تعالى: * (بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (المائدة: 67) وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلا عن أعلم العلماء الرابع: أن النبوة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * (البقرة: 269) وقال في صفة الدنيا * (قل متاع الدنيا قليل) * (النساء: 77) فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس: أن طلب الأجر كان يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى الله عليه وسلم أن يطلب أجرا البتة على التبليغ والرسالة، وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجرا على التبليغ والرسالة، وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال، والجواب عنه: أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة، بقي قوله * (إلا المودة في القربى) * نقول الجواب عنه من وجهين الأول: أن هذا من باب قوله:
ولا عيب غير أن سيوفهم بها من قراع الدارعين فلول
المعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى: * (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) * (التوبة: 71) وقال صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا " والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجبا فحصولها في حق أشرف المسلمين وأكابرهم أولى، وقوله تعلى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * تقديره والمودة في القربى ليست أجرا، فرجع الحاصل إلى أنه لا أجر البتة الوجه الثاني: في الجواب أن هذا استثناء منقطع، وتم الكلام عند قوله * (قل لا أسألكم عليه أجرا) *.
ثم قال: * (إلا المودة في القربى) * أي لكن أذكركم قرابتي منكم وكأنه في اللفظ أجر وليس بأجر.
المسألة الثالثة: نقل صاحب " الكشاف ": عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على
165

حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة " هذا هو الذي رواه صاحب " الكشاف "، وأنا أقول: آل محمد صلى الله عليه وسلم هم الذين يؤول أمرهم إليه فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل، ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، وأيضا اختلف الناس في الآل فقيل هم الأقارب وقيل هم أمته، فإن حملناه على القرابة فهم الآل، وإن حملناه على الأمة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل فثبت أن على جميع التقديرات هم الآل، وأما غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه. وروى صاحب " الكشاف " أنه لما نزلت هذه الآية قيل يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ فقال علي وفاطمة وابناهما، فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ويدل عليه وجوه: الأول: قوله تعالى: * (إلا المودة في القربى) * ووجه الاستدلال به ما سبق الثاني: لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب فاطمة عليها السلام قال صلى الله عليه وسلم: " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " وثبت بالنقل المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب عليا والحسن والحسين وإذا ثبت ذلك وجب على كل الأمة مثله لقوله * (واتبعوه لعلكم تهتدون) * (الأعراف: 158) ولقوله تعالى: * (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) * (النور: 63) ولقوله * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * (آل عمران: 31) ولقوله سبحانه * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (الأحزاب: 21) الثالث: أن الدعاء للآل منصب عظيم
ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وارحم محمدا وآل محمد، وهذا التعظيم لم يوجد في حق غير الآل، فكل ذلك يدل على أن حب آل محمد واجب، وقال الشافعي رضي الله عنه:
يا راكبا قف بالمحصب من منى * واهتف بساكن خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى * فيضا كما نظم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد * فليشهد الثقلان أنى رافضي
المسألة الثانية: قوله * (إلا المودة في القربى) * فيه منصب عظيم للصحابة لأنه تعالى قال: * (والسابقون السابقون أولئك المقربون) * (الواقعة: 10) فكل من أطاع الله كان مقربا عند الله تعالى فدخل
166

تحت قوله * (إلا المودة في القربى) * والحاصل أن هذه الآية تدل على وجوب حب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب أصحابه، وهذا المنصب لا يسلم إلا على وقل أصحابنا أهل السنة والجماعة الذين جمعوا بين حب العترة والصحابة، وسمعت بعض المذكرين قال إنه صلى الله عليه وسلم قال: " مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا " وقال صلى الله عليه وسلم: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب والثقب والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالبا، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنة سفينة حب آل محمد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة. ولنرجع إلى التفسير: أورد صاحب " الكشاف ": على نفسه سؤالا فقال: هلا قيل إلا مودة القربى، أو إلا مودة للقربى، وما معنى قوله * (إلا المودة في القربى) *؟ وأجاب عنه بأن قال جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها كقوله لي في آل فلان مودة ولي فيهم هوى وحب شديد، تريد أحبهم وخم مكان حبي ومحله.
ثم قال تعالى: * (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) * قيل نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، والظاهر العموم في أي حسنة كانت، إلا أنها لما ذكرت عقيب ذكر المودة في القربى ذل ذلك على أن المقصود التأكيد في تلك المودة.
ثم قال تعالى: * (إن الله غفور شكور) * والشكور في حق الله تعالى مجاز والمعنى أنه تعالى يحسن إلى المطيعين في إيصال الثواب إليهم وفي أن يزيد عليه أنواعا كثيرة من التفضيل. وقال تعالى: * (أم يقولون فترى على الله كذبا) * واعلم أن الكلام في أول السورة إنما ابتدئ في تقرير أن هذا الكتاب إنما حصل بوحي الله وهو قوله تعالى: * (كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) * (الشورى: 3) واتصل الكلام في تقرير هذا المعنى وتعلق البعض بالبعض حتى وصل إلى ههنا، ثم حكى ههنا شبهة القوم وهي قولهم: إن هذا ليس وحيا من الله تعالى فقال: * (أم يقولن افترى على الله كذبا) * قال صاحب " الكشاف ": أم منقطعة، ومعنى الهمزة نفس التوبيخ كأنه قيل: أيقع في قلوبهم ويجري في ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله الذي هو أقبح أنواع الفرية وأفحشها، ثم أجاب عنه بأن قال: * (فإن يشأ الله يختم على قلبك) * وفيه وجوه الأول: قال مجاهد يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم إن مفتر كذاب والثاني: يعني بهذا الكلام أنه إن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى يفتري عليه الكذب فإن لا يجترئ على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل هذه الحالة، والمقصود من ذكر هذا الكلام المبالغة في تقرير الاستبعاد، ومثاله أن ينسب رجل بعض الأمناء إلى الخيانة فيقول
167

الأمين، لعل الله خذلني لعل الله أعمى قلبي، وهو لا يريد إثبات الخذلان وعمى القلب لنفسه، وإنما يريد استبعاد صدور الخيانة عنه.
ثم قال تعالى: * (ويمح الله الباطل ويحق الحق) * أي ومن عادة الله إبطال الباطل وتقرير الحق فلو كان محمد مبطلا كذابا لفضحه الله ولكشف عن باطله ولما أيده بالقوة والنصرة، ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه ليس من الكاذبين المفترين على الله، ويجوز أن يكون هذا وعدا من الله لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ويثبت الحق الذي كان محمد صلى الله عليه وسلم عليه.
ثم قال: * (إنه عليم بذات الصدور) * أي إن الله عليم بما في صدرك وصدورهم فيجري الأمر على حسب ذلك، وعن قتادة يختم على قلبك ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي، بمعنى لو افترى على الله الكذب لفعل الله به ذلك. واعلم أنه تعالى لما قال: * (أم يقولون افترى على الله كذبا) * ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقابا عظيما، لا جرم ندبهم الله على التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته، فقال: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) * وفي هذه الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف ": يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه، فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبول ومنشأه، ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة، وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي عليه السلام يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين فتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ فقال اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة يجب على الله تعالى عقلا قبول التوبة، وقال أصحابنا لا يجب على الله شيء وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل، واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية فقالوا إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدح العظيم، ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما
ولا يقتلهم غضبا، كان ذلك مدحا قليلا، أما إذا قال إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب علي كان ذلك مدحا وثناء.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ويعفو عن السيئات) * إما أن يكون المراد منه أن يعفو
168

عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة، أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر، أو المراد منته أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة، والأول باطل وإلا لصار قوله * (ويعفو عن السيئات) * عين قوله * (وهو الذي يقبل التوبة) * والتكرار خلاف الأصل، والثاني أيضا باطل لأن ذلك واجب وأداء الواجب لا يتمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.
ثم قال: * (ويعلم ما تفعلون) * قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة والباقون بالياء على المغايبة، والمعنى أنه تعالى يعلمه فيثيبه على حسناته ويعاقبه على سيئاته.
ثم قال: * (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله) * وفيه قولان أحدهما: الذين آمنوا وعملوا الصالحات رفع على أنه فاعل تقديره ويجيب المؤمنون الله فيما دعاهم إليه. والثاني: محله نصب والفاعل مضمر وهو الله وتقديره، ويستجيب الله للمؤمنين إلا أنه حذف اللام كما حذف في قوله * (وإذا كالوهم) * (المطففين: 3) وهذا الثاني أولى لأن الخبر فيما قبل وبعد عن الله لأن ما قبل الآية قوله تعالى: * (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) * وما بعدها قوله * (ويزيدهم من فضله) * فيزيد عطف على ويستجيب، وعلى الأول ويجيب العبد ويزيد الله من فضله. أما من قال إن الفعل للذين آمنوا ففيه وجهان: أحدهما: ويجيب المؤمنون ربهم فيما دعاهم إليه والثاني: يطيعونه فيما أمرهم به، والاستجابة الطاعة. وأما من قال إن الفعل لله فقد اختلفوا، فقيل يجيب الله دعاء المؤمنين ويزيدهم ما طلبوه من فضله، فإن قالوا تخصيص المؤمنين بإجابة الدعاء هل يدل على أنه تعالى لا يجيب دعاء الكفار؟ قلنا قال بعضهم لا يجوز لأن إجابة الدعاء تعظيم، وذلك لا يليق بالكفار، وقيل يجوز على بعض الوجوه، وفائدة التخصيص أن إجابة دعاء المؤمنين تكون على سبيل التشريف، وإجابة دعاء الكافرين تكون على سبيل الاستدراج،
ثم قال: * (ويزيدهم من فضله) * أي يزيدهم على ما طلبوه بالدعاء * (والكافرون لهم عذاب شديد) * والمقصود التهديد.
قوله تعالى
* (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا فى الارض ولكن ينزل بقدر ما يشآء إنه بعباده خبير بصير * وهو الذى ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولى الحميد * ومن
169

ءاياته خلق السماوات والارض وما بث فيهما من دآبة وهو على جمعهم إذا يشآء قدير * ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير * ومآ أنتم بمعجزين فى الارض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما قال في الآية الأولى: إنه يجيب دعاء المؤمنين ورد عليه سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يشاهد أثر الإجابة فكيف الحال فيه مع ما تقدم من قوله * (ويستجيب الذين آمنوا) *؟ فأجاب تعالى عنه بقوله * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * أي ولأقدموا على المعاصي، ولما كان ذلك محذورا وجب أن يعطيهم ما طلبوه، قال الجبائي: هذه الآية تدل على بطلان قول المجبرة من وجهين: الأول: أن حاصل الكلام أنه تعالى: * (لو بسط الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * والبغي في الأرض غير مراد فإرادة بسط الرزق غير حاصلة، فهذا الكلام إنما يتم إذا قلنا إنه تعالى يريد البغي في الأرض، وذلك يوجب فساد قول المجبرة الثاني: أنه تعالى بين أنه إنما لم يرد بسط الرزق لأنه يفضي إلى المفسدة فلما بين تعالى أنه لا يريد ما يفضي إلى المفسدة فبأن لا يكون مريدا للمفسدة كان أولى، أجاب أصحابنا بأن الميل الشديد إلى البغي والقسوة والقهر صفة حدثت بعد أن لم تكن فلا بد لها من فاعل، وفاعل هذه الأحوال إما العبد أو الله والأول باطل لأنه إنما يفعل هذه الأشياء لو مال طبعه إليها فيعود السؤال في أنه من المحدث لذلك الميل الثاني؟ ويلزم التسلسل، وأيضا فالميل الشديد إلى الظلم والقسوة عيوب ونقصانات، والعاقل لا يرضى بتحصيل موجبات النقصان لنفسه، ولما بطل هذا ثبت أن محدث هذا الميل والرغبة هو الله تعالى، ثم أورد الجبائي في " تفسيره " على نفسه سؤالا قال: فإن قيل أليس قد بسط الله الرزق لبعض عباده مع أنه بغى؟ وأجاب عنه بأن الذي عنده الرزق وبغى كان المعلوم من حاله أنه يبغي على كل حال سواء أعطى ذلك الرزق أو لم يعط، وأقول هذا الجواب فاسد ويدل عليه القرآن والعقل، أما القرآن فقوله تعالى: * (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) * (العلق: 6، 7) حكم مطلقا بأن حصول الغنى سبب لحصول الطغيان. وأما العقل فهو أن النفس إذا كانت مائلة إلى الشر لكنها كانت فاقدة للآلات والأدوات كان الشر أقل، وإذا كانت واجدة لها كان الشر أكثر، فثبت أن وجدان المال يوجب الطغيان.
170

المسألة الثانية: في بيان الوجه الذي لأجله كان التوسع موجبا للطغيان ذكروا فيه وجوها الأول: أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل لامتنع كون البعض خادما للبعض ولو صار الأمر كذلك لخرب العالم وتعطلت المصالح الثاني: أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من المطر ما يرويهم ومن الكلأ والعشب ما يشبعهم أقدموا على النهب والغارة الثالث: أن الإنسان متكبر بالطبع فإذا وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر، وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر فعاد إلى الطاعة والتواضع.
المسألة الثالثة: قال خباب بن الأرت فينا نزلت هذه الآية وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع فتمنيناها، وقيل نزلت في أهل الصفة تمنوا سعة
الرزق والغنى.
ثم قال تعالى: * (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) * قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (ينزل) * خفيفة والباقون بالتشديد، ثم نقول * (بقدر) * بتقدير يقال قدره قدرا وقدرا * (إنه بعباده خبير بصير) * يعني أنه عالم بأحوال الناس وبطباعهم وبعواقب أمورهم فيقدر أرزاقهم على وفق مصالحهم، ولما بين تعالى أنه لا يعطيهم ما زاد على قدر حاجتهم لأجل أنه علم أن تلك الزيادة تضرهم في دينهم بين أنهم إذا احتاجوا إلى الرزق فإنه لا يمنعهم منه فقال: * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) * قرأ نافع وابن عامر وعاصم * (ينزل) * مشددة والباقون مخففة، قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (قنطوا) * بفتح النون وكسرها، وإنزال الغيث بعد القنوط أدعى إلى الشكر لأن الفرح بحصول النعمة بعد البلية أتم، فكان إقدام صاحبه على الشكر أكثر * (وينشر رحمته) * أي بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب، وعن عمر رضي الله عنه أنه قيل له " اشتد القحط وقنط الناس فقال: إذن مطروا " أراد هذه الآية، ويجوز أن يريد رحمته الواسعة في كل شيء كأنه قيل ينزل الرحمة التي هي الغيث وينشر سائر أنواع الرحمة * (وهو الولي الحميد) * * (الوالي) * الذي يتولى عباده بإحسانه و * (الحميد) * المحمود على ما يوصل للخلق من أقسام الرحمة، ثم ذكر آية أخرى تدل على إلهيته فقال: * (ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة) * فنقول: أما دلالة خلق السماوات والأرض على وجود الإله الحكيم فقد ذكرناها وكذلك دلالة وجود الحيوانات على وجود الإله الحكيم، فإن قيل كيف يجوز إطلاق لفظ الدابة على الملائكة؟ قلنا فيه وجوه الأول: أنه قد يضاف الفعل إلى جماعة وإن كان فاعله واحدا منهم يقال بنو فلان فعلوا كذا، وإنما فعله واحد منهم ومنه قوله تعالى: * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (الرحمن: 22) الثاني: أن الدبيب هو الحركة، والملائكة لهم حركة الثالث: لا يبعد أن يقال إنه تعالى خلق في السماوات أنواعا من الحيوانات يمشون مشي الأناسي على الأرض.
ثم قال تعالى: * (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) * قال صاحب " الكشاف ": إذا تدخل على المضارع كما تدخل على الماضي، قال تعالى: * (والليل إذا يغشى) * (الليل: 1) ومنه * (إذا يشاء قدير) * والمقصود أنه تعالى خلقها متفرقة، لا لعجز ولكن لمصلحة، فلهذا قال: * (وهو على جمعهم إذا يشاء قدير) * يعني الجمع
171

للحشر والمحاسبة، وإنما قال: * (على جمعهم) * ولم يقل على جمعها، لأجل أن المقصود من هذا الجمع المحاسبة، فكأنه تعالى قال: وهو على جمع العقلاء إذا يشاء قدير، واحتج الجبائي بقوله * (إذا يشاء قدير) * على أن مشيئته تعالى محدثة بأن قال: إن كلمة * (إذا) * تفيد ظرف الزمان، وكلمة * (يشاء) * صيغة المستقبل، فلو كانت مشيئته تعالى قديمة لم يكن لتخصيصها بذلك الوقت المعين من المستقبل فائدة، ولما دل قوله * (إذا يشاء قدير) * على هذا التخصيص علمنا أن مشيئته تعالى محدثة والجواب: أن هاتين الكلمتين كما دخلتا على المشيئة، أي مشيئة الله، فقد دخلتا أيضا على لفظ القدير فلزم على هذا أن يكون كونه قادرا صفة محدثة، ولما كان هذا باطلا، فكذا القول فيما ذكره، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر * (بما كسبت) * بغير فاء، وكذلك هي في مصاحف الشام والمدينة، والباقون بالفاء وكذلك هي في مصاحفهم، وتقدير الأول أن ما مبتدأ بمعنى الذي، وبما كسبت خبره، والمعنى والذي أصابكم وقع بما كسبت أيديكم، وتقدير الثاني تضمين كلمة: ما معنى الشرطية. المسألة الثانية: المراد بهذه المصائب الأحوال المكروهة نحو الآلام والأسقام القحط والغرق والصواعق وأشباهها، واختلفوا في نحو الآلام أنها هل هي عقوبات على ذنوب سلفت أم لا؟ منهم من أنكر ذلك لوجوه الأولى: قوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غافر: 17) بين تعالى أن الجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، وقال تعالى في سورة الفاتحة * (مالك يوم الدين) * (الفاتحة: 4) أي يوم الجزاء، وأطبقوا على أن المراد منه يوم القيامة والثاني: أن مصائب الدنيا يشترك فيها الزنديق والصديق، وما يكون كذلك امتنع جعله من باب العقوبة على الذنوب، بل الاستقراء يدل على أن حصول هذه المصائب للصالحين والمتقين أكثر منه للمذنبين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " خص البلاء بالأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل " الثالث: أن الدنيا دار التكليف، فلو جعل الجزاء فيها لكانت الدنيا دار التكليف ودار الجزاء معا، وهو محال، وأما القائلون بأن هذه المصائب قد تكون أجزية على الذنوب المتقدمة، فقد تمسكوا أيضا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: " لا يصيب ابن آدم خدش عود ولا غيره إلا بذنب أو لفظ " هذا معناه وتمسكوا أيضا بقوله تعالى بعد هذه الآية * (أو يوبقهن بما كسبوا) * (الشورى: 34) وذلك تصريح بأن ذلك الإهلاك كان بسبب كسبهم، وأجاب الأولون عن التمسك بهذه الآية، فقالوا إن حصول هذه المصائب يكون من باب الامتحان في التكليف، لا من باب العقوبة كما في حق الأنبياء والأولياء، ويحمل قوله * (فبما كسبت أيديكم) *
172

على أن الأصلح عند إتيانكم بذلك الكسب إنزال هذه المصائب عليكم، وكذا الجواب عن بقية الدلائل، والله أعلم.
المسألة الثالثة: احتج أهل التناسخ بهذه الآية، وكذلك الذين يقولون إن الأطفال البهائم لا تتألم، فقالوا دلت الآية على أن حصول المصائب لا يكون إلا لسابقة الجرم، ثم إن أهل التناسخ قالوا: لكن هذه المصائب حاصلة للأطفال والبهائم، فوجب أن يكون قد حصل لها ذنوب في الزمان السابق، وأما القائلون بأن الأطفال والبهائم ليس لها ألم قالوا قد ثبت أن هذه الأطفال والبهائم ما كانت موجودة فيبدن آخر لفساد القول بالتناسخ فوجب القطع بأنها لا تتألم إذ الألم مصيبة والجواب: أن قوله تعالى: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * خطاب مع من يفهم ويعقل، فلا يدخل فيه البهائم والأطفال، ولم يقل تعالى: إن جميع ما يصيب الحيوان من المكاره فإنه بسبب ذنب سابق، والله أعلم.
المسألة الرابعة: قوله * (فبما كسبت أيديكم) * يقتضي إضافة الكسب إلى اليد، قال والكسب لا يكون باليد، بل بالقدرة القائمة باليد، وإذا كان المراد من لفظ اليد هاهنا القدرة، وكان هذا المجاز مشهورا مستعملا كان لفظ اليد الوارد في حق الله تعالى يجب حمله على القدرة تنزيها لله تعالى عن الأعضاء والأجزاء، والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (ويعفو عن كثير) * ومعناه أنه تعالى قد يترك الكثير من هذه التشديدات بفضله ورحمته، وعن الحسن قال: دخلنا على عمران بن حصين في الوجع الشديد، فقيل له: إنا لنغتم لك من بعض ما نرى، فقال لا تفعلوا فوالله إن أحبه إلى الله أحبه إلي، وقرأ * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) * فهذا بما كسبت يداي، وسيأتيني عفو ربي، وقد روى أبو سخلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: " ما عفى الله عنه فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة، وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد العذاب عليه في الآخرة " رواه الواحدي في " البسيط "، وقال إذا كان كذلك فهذه أرجى آية في كتاب الله لأن الله تعالى جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره عنهم بالمصائب في الدنيا، وصنف عفا عنه في الدنيا، وهو كريم لا يرجع في عفوه، وهذه سنة الله مع المؤمنين، وأما الكافر فلأنه لا يعجل عليه عقوبة ذنبه حتى يوافي ربه يوم القيامة.
ثم قال تعالى: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض) * يقول ما أنتم معشر المشركين بمعجزين في الأرض، أي لا تعجزونني حيثما كنتم، فلا تسبقونني بسبب هربكم في الأرض * (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) * والمراد بهم من يعبد الأصنام، بين أنه لا فائدة فيها البتة، والنصير هو الله تعالى، فلا جرم هو الذي تحسن عبادته.
173

قوله تعالى
* (ومن ءاياته الجوار فى البحر كالاعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن فى ذلك لايات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير * ويعلم الذين يجادلون فى ءاياتنا ما لهم من محيص * فمآ أوتيتم من شىء فمتاع الحيوة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين ءامنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون * والذين إذآ أصابهم البغى هم ينتصرون) *.
في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وأبو عمرو * (الجواري) * بياء في الوصل والوقف، فإثبات الياء في الأصل وحذفها للتخفيف.
المسألة الثانية: الجواري، يعني السفن الجواري، فحذف الموصوف لعدم الالتباس.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى ذكر من آياته أيضا هذه السفن العظيمة التي تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح، واعلم أن المقصود من ذكره أمران أحدهما: أن يستدل به على وجود القادر الحكيم والثاني: أن يعرف ما فيه من النعم العظيمة لله تعالى على العباد أما الوجه الأول: فقد اتفقوا على أن المراد بالأعلام الجبال، قالت الخنساء في مرثية أخيها:
174

وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار
ونقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي إلى هذا البيت، قال: " قاتلها الله ما رضيت بتشبيهها له بالجبل حتى جعلت على رأسه نارا! " إذا عرفت هذا فنقول: هذه السفن العظيمة التي تكون كالجبال تجري على وجه البحر عند هبوب الرياح على أسرع الوجوه، وعند سكون هذه الرياح تقف، وقد بينا بالدليل في سورة النحل، أن محرك الرياح ومسكنها هو الله تعالى، إذ لا يقدر أحد على تحريكها من البشر ولا على تسكينها، وذلك يدل على وجود الإله القادر، وأيضا أن السفينة تكون في غاية الثقل، ثم إنها مع ثقلها بقيت على وجه الماء، وهو أيضا دلالة أخرى وأما الوجه الثاني: وهو معرفة ما فيها من المنافع، فهو أنه تعالى خص كل جانب من جوانب الأرض بنوع آخر من الأمتعة، وإذا نقل متاع هذا الجانب إلى ذلك الجانب في السفن وبالعكس حصلت المنافع العظيمة في التجارة، فلهذه الأسباب ذكر الله تعالى حال هذه السفينة.
ثم قال تعالى: * (إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره) * قرأ أبو عمرو والجمهور: بهمزة * (إن يشأ) * لأن سكون الهمزة علامة للجزم، وعن ورش عن نافع بلا همزة، وقرأ نافع وحده * (يسكن الرياح) * على الجمع، والباقون * (الريح) * على الواحد، قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (يظللن) * بفتح اللام وكسرها من ظل يظل ويظل، وقوله تعالى: * (رواكد) * أي رواتب، أي لا تجري على ظهره، أي على ظهر البحر * (إن في ذلك لآيات لكل صبار) * على بلاء الله * (شكور) * لنعمائه، والمقصود التنبيه، على أن المؤمن يجب أن لا يكون غافلا عن دلائل معرفة الله البتة، لأنه لا بد وأن يكون إما في البلاء، وإما في الآلاء، فإن كان في البلاء كان من الصابرين، وإن كان من النعماء كان من الشاكرين، وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون البتة من الغافلين.
ثم قال تعالى: * (أو يوبقهن بما كسبوا) * يعني أو يهلكهن، يقال أوبقه، أي أهلكه، ويقال للمجرم أوبقته ذنوبه، أي أهلكته، والمعنى أنه تعالى إن شاء ابتلى المسافرين في البحر بإحدى بليتين: إما أن يسكن الريح فتركد الجواري على متن البحر وتقف، وإما أن يرسل الرياح عاصفة فيها فيهلكن بسبب الإغراق، وعلى هذا التقدير فقوله * (أو يوبقهن) * معطوف على قوله * (يسكن) * لأن التقدير إن يشأ يسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها، وقوله * (ويعفو عن كثير) * معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا عن طريق العفو عنهم، فإن قيل فما معنى إدخال العفو في حكم الإيباق حيث جعل مجزوما مثله، قلنا معناه إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم، وأما من قرأ * (ويعفو) * فقد استأنف الكلام.
ثم قال: * (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) * قرأ نافع وابن عامر: يعلم بالرفع على الاستئناف، وقرأ الباقون بالنصب، فالقراءة بالرفع على الاستئناف، وأما بالنصب فللعطف على
175

تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى: * (ولنجعله آية للناس) * (مريم: 21) وقوله تعالى: * (وخلق السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت) * (الجاثية: 22) قال صاحب " الكشاف ": ومن قرأ على جزم * (ويعلم) * فكأنه قال أو إن يشأ، يجمع بين ثلاثة أمور: هلاك قوم، ونجاة قوم، وتحذير آخرين. إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية * (وليعلم الذين يجادلون) * أي ينازعون على وجه التكذيب، أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا الله.
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل، فقال: * (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا) * وسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء.
ثم قال تعالى: * (وما عند الله خير وأبقى) * والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة، ونبه على خساستها بتسميتها بالمتاع، ونبه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني، ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات:
الصفة الأولى: أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى: * (الذين آمنوا) *.
الصفة الثانية: أن يكون من المتوكلين على فضل الله، بدليل قوله تعالى: * (وعلى ربهم يتوكلون) * فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب، فهو متكل على عمل نفسه لا على الله، فلا يدخل تحت الآية. الصفة الثالثة: أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، عن ابن عباس: كبير الإثم، هو الشرك، نقله صاحب " الكشاف ": وهو عندي بعيد، لأن شرط الإيمان مذكور أولا وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية، وبقوله * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * ما يتعلق بالقوة الغضبية، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران، لأن الغضب على طبع النار، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا السبب خصه بهذا اللفظ، والله أعلم. الصفة الرابعة: قوله تعالى: * (والذين استجابوا لربهم) * والمراد منه تمام الانقياد، فإن قالوا أليس أنه لما جعل الإيمان شرطا فيه فقد دخل في الإيمان إجابة الله؟ قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء الله من صميم القلب، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور. ولما ذكر هذا الشرط قال: * (وأقاموا الصلاة) * والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة، لأن هذا هو
176

الشرط في حصول الثواب. وأما قوله تعالى: * (وأمرهم شورى بينهم) * فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى الله عليهم، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه، وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم، والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، ومعنى قوله * (وأمرهم شورى بينهم) * أي ذو شورى.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) * والمعنى أن يقتصروا في الانتصار على ما يجعله الله لهم ولا يتعدونه، وعن النخعي أنه كان إذا قرأها قال كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء، فإن قيل هذه الآية مشكلة لوجهين الأول: أنه لما ذكر قبله * (وإذا ما غضبوا هم يغفرون) * فكيف يليق أن يذكر معه ما يجري مجرى الضد له وهو قوله * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) *؟ الثاني: وهو أن جميع الآيات دالة على أن العفو أحسن قال تعالى: * (وأن تعفو أقرب للتقوى) * (البقرة: 237) وقال: * (وإذا مروا باللغو مروا كراما) * (الفرقان: 72) وقال: * (خذ العفو وأم بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (الأعراف: 199) وقال * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126) فهذه الآيات تناقض مدلول هذه الآية والجواب: أن العفو على قسمين أحدهما: أن يكون العفو سببا لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته والثاني: أن يصير العفو سببا لمزيد جراءة الجاني ولقوة غيظه وغضبه، والآيات في العفو محمولة على القسم الأول، وهذه الآية محمولة على القسم الثاني، وحينئذ يزول التناقض والله أعلم، ألا ترى أن العفو عن المصر يكون كالإغراء له ولغيره، فلو أن رجلا وجد عبده فجر بجاريته وهو مصر فلو عفا عنه كان مذموما، وروي أن زينب أقبلت على عائشة فشتمتها فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عنها فلم تنته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " دونك فانتصري " وأيضا إنه تعالى لم يرغب في الانتصار بل بين أنه مشروع فقط، ثم بين بعده أن شرعه مشروط برعاية المماثلة، ثم بين أن العفو أولى بقوله * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * فزال السؤال والله أعلم.
قوله تعالى
* (وجزآء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين * ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل * إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون فى
177

الارض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم * ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الامور * ومن يضلل الله فما له من ولى من بعده وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل * وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفى وقال الذين ءامنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا إن الظالمين فى عذاب مقيم * وما كان لهم من أوليآء ينصرونهم من دون الله ومن يضلل الله فما له من سبيل) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) * (الشورى: 39) أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيدا بالمثل فإن النقصان
حيف والزيادة ظلم والتساوي هو العدل وبه قامت السماوات والأرض، فلهذا السبب قال: * (وجزاء سيئة مثلها) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى: لقائل أن يقول جزاء السيئة مشروع مأذون فيه، فكيف سمي بالسيئة؟ أجاب صاحب " الكشاف ": عنه كلتا الفعلتين الأولى وجزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به، قال تعالى: * (وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك) * (النساء: 78) يريد ما يسوءهم من المصائب والبلايا، وأجاب غيره بأنه لما جعل أحدهما في مقابلة الآخر على سبيل المجاز أطلق اسم أحدهما على الآخر، والحق ما ذكره صاحب " الكشاف ".
والمسألة الثانية: هذه الآية أصل كبير في علم الفقه فإن مقتضاها أن تقابل كل جناية بمثلها وذلك لأن الإهدار يوجب فتح باب الشر والعدوان، لأن في طبع كل أحد الظلم والبغي والعدوان، فإذا لم يزجر عنه أقدم عليه ولم يتركه، وأما الزيادة على قدر الذنب فهو ظلم والشرع منزه عنه فلم يبق إلا أن يقابل بالمثل، ثم تأكد هذا النص بنصوص أخر، كقوله تعالى: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * (النحل: 126) وقوله تعالى: * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (غافر: 40) وقوله عز وجل: * (كتب عليكم
178

القصاص في القتلى) * (البقرة: 178) والقصاص عبارة عن المساواة والمماثلة وقوله تعالى: * (والجروح قصاص) * (المائدة: 45) وقوله تعالى: * (ولكم في القصاص حياة) * (البقرة: 179) فهذه النصوص بأسرها تقتضي مقابلة الشيء بمثله. ثم هاهنا دقيقة: وهي أنه إذا لم يمكن استيفاء الحق إلا باستيفاء الزيادة فههنا وقع التعارض بين إلحاق زيادة الضرر بالجاني وبين منع المجني عليه من استيفاء حقه، فأيهما أولى؟ فههنا محل اجتهاد المجتهدين، ويختلف ذلك باختلاف الصور، وتفرع على هذا الأصل بعض المسائل تنبيها على الباقي.
المثال الأول: احتج الشافعي رضي الله عنه على أن المسلم لا يقتل بالذمي وأن الحر لا يقتل بالعبد، بأن قال المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة في هاتين المسألتين، فوجب أن لا يجري القصاص بينهما، أما بيان أن المماثلة شرط لجريان القصاص فهي النصوص المذكورة، وكيفية الاستدلال بها أن نقول إما أن نحمل المماثلة المذكورة في هذه النصوص على المماثلة في كل الأمور إلا ما خصه الدليل أو نحملها على المماثلة في أمر معين، والثاني مرجوح لأن ذلك الأمر المعين غير مذكور الآية، فلو حملنا الآية عليها لزم الإجمال، ولو حملنا النص على القسم الأول لزم تحمل التخصيص، ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص، فثبت أن الآية تقتضي رعاية المماثلة في كل الأمور إلا ما خصه دليل العقل ودليل نقلي منفصل، وإذا ثبت هذا فنقول رعاية المماثلة في قتل المسلم بالذمي، وقي قتل الحر بالعبد لا تمكن لأن الإسلام اعتبره الشرع في إيجاب القتل، لتحصيله عند عدمه كما في حق الكافر الأصلي، ولإبقائه عند وجوده كما في حق المرتد وأيضا الحرية صفة اعتبرها الشرع في حق القضاء والإمامة والشهادة، فثبت أن المماثلة شرط لجريان القصاص وهي مفقودة ههنا فوجب المنع من القصاص.
المثال الثاني: احتج الشافعي رضي الله عنه في أن الأيدي تقطع باليد الواحد، فقال لا شك أنه إذا صدر كل القطع أو بعضه عن كل أولئك القاطعين أو عن بعضهم فوجب أن يشرع في حق أولئك القاطعين مثله لهذه النصوص وكل من قال يشرع القطع إما كله أو بعضه في حق كلهم أو بعضهم قال بإيجابه على الكل، بقي أن يقال فيلزم منه استيفاء الزيادة من الجاني وهو ممنوع منه إلا أنا نقول لما وقع التعارض بين جانب الجاني وبين جانب المجني عليه كان جانب المجني عليه بالرعاية أولى.
المثال الثالث: شريك الأب شرع في حقه القصاص، والدليل عليه أنه صدر عنه الجرح فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى: * (والجروح قصاص) * (المائدة: 45) وإذا ثبت هذا ثبت تمام القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال الرابع: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه والدليل عليه هذه النصوص الدالة على مقابلة كل شيء بمماثله.
المثال الخامس: شهود القصاص إذا رجعوا وقالوا تعمدنا الكذب يلزمهم القصاص لأنهم بتلك الشهادة أهدروا دمه، فوجب أن يصير دمهم مهدرا لقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
179

المثال السادس: قال الشافعي رضي الله عنه المكره يجب عليه القود لأنه صدر عنه القتل ظلما فوجب أن يجب عليه مثله، أما أنه صدر عنه القتل فالحس يدل عليه وأما أنه قتل ظلما فلأن المسلمين أجمعوا على أنه مكلف من قبل الله تعالى بأن لا يقتل وأجمعوا على أنه يستحق به الإثم العظيم والعقاب الشديد، وإذا ثبت هذا فوجب أن يقابل بمثله لقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *. المثال السابع: قال الشافعي رضي الله عنه القتل بالمثقل يوجب القود، والدليل عليه أن الجاني أبطل حياته فوجب أن يتمكن ولي المقتول من إبطال حياة القاتل لقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
المثال الثامن: الحر لا يقتل بالعبد قصاصا ونحن وإن ذكرنا هذه المسألة في المثال الأول إلا أنا نذكر
ههنا وجها آخر من البيان، فنقول إن القاتل أتلف على مالك العبد شيئا يساوي عشرة دنانير مثلا فوجب عليه أداء عشرة دنانير لقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وإذا وجب الضمان وجب أن لا يجب القصاص لأنه لا قائل بالفرق.
المثال التاسع: منافع الغضب مضمونة عند الشافعي رضي الله عنه والدليل عليه أن الغاضب فوت على المالك منافع تقابل في العرب بدينار فوجب أن يفوت على الغاضب مثله من المال لقوله تعالى: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وكل من أوجب تفويت هذا القدر على الغاضب قال بأنه يجب أداؤه إلى المغصوب منه.
المثال العاشر: الحر لا يقتل بالعبد قصاصا لأنه لو قتل بالعبد هو مساويا للعبد في المعاني الموجبة للقصاص لقوله * (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) * (غافر: 40) ولسائر النصوص التي تلوناها ثم إن عبده يقتل قصاصا بعبد نفسه فيجب أن يكون عبد غيره مساويا لعبد نفسه في المعاني الموجبة للقصاص لعين هذه النصوص التي ذكرناها، فعلى هذا التقدير يكون عبد نفسه مساويا لعبد غيره في المعاني الموجبة للقصاص، فكان عبد نفسه مثلا لمثل نفسه، ومثل المثل مثل فوجب كون عبد نفسه مثلا
لنفسه في المعاني الموجبة للقصاص، ولو قتل الحر بعبد غيره لقتل بعبد نفسه بالبيان الذي ذكرناه ولا يقتل بعبد نفسه فوجب أن لا يقتل بعبد غيره، فقد ذكرنا هذه الأمثلة العشرة في التفريع على هذه الآية، ومن أخذت الفطانة بيده سهل عليه تفريع كثير من مسائل الشريعة على هذا الأصل والله أعلم.
ثم ههنا بحث وهو أن أبا حنيفة رضي الله عنه قال في قطع الأيدي لا شك أنه صدر كل القطع أو بعضه عن كلهم أو عن بعضهم إلا أنه لا يمكن استيفاء ذلك الحق إلا باستيفاء الزيادة لأن تفويت عشرة من الأيدي أزيد من تفويت يد واحدة، فوجب أن يبقى على أصل الحرمة، فقال الشافعي رضي الله عنه لو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة يد واحدة حراما لكان تفويت عشرة من النفوس في مقابلة نفس واحدة حراما، لأن تفويت النفس يشتمل على تفويت اليد فتفويت عشرة من النفوس في مقابلة النفس الواحدة يوجب تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة
180

فلو كان تفويت عشرة من الأيدي في مقابلة اليد الواحدة حراما لكان تفويت عشرة من النفوس لأجل النفس الواحدة مشتملا على الحرام وكل ما اشتمل على الحرام فهو حرام فكان يجب أن يحرم قتل النفوس العشرة في مقابلة النفس الواحدة، وحيث أجمعنا على أنه لا يحرم علمنا أن ما ذكرتم من استيفاء الزيادة غير ممنوع منه شرا، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قد بينا أن قوله * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * يقتضي وجوب رعاية المماثلة مطلقا في كل الأحوال إلا فيما خصه الدليل، والفقهاء أدخلوا التخصيص فيه في صور كثيرة فتارة بناء على نص آخر أخس منه وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من أعدى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بهذا النص في جميع المطالب، قال مجاهد والسدي إذا قال له أخزاه الله، فليقل له أخزاه الله، أما إذا قذفه قذفا يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله به.
ثم قال تعالى: * (فمن عفا وأصلح) * بينه وبين خصمه بالعفو والإغضاء كما قال تعالى: * (فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) * (فصلت: 34) (، * (فأجره على الله) * وهو وعد مبهم لا يقاس أمره في التعظيم.
تعالى: * (إنه لا يحب الظالمين) * وفيه قولان الأول: أن المقصود منه التنبيه على أن المجني عليه لا يجوز له استيفاء الزيادة من الظالم لأن الظالم فيما وراء ظلمه معصوم والانتصار لا يكاد يؤمن فيه تجاوز التسوية والتعدي خصوصا في حال الحرب والتهاب الحمية، فربما صار المظلوم عند الإقدام على استيفاء القصاص ظالما، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له على الله أجر فليقم، قال فيقوم خلق فقال لهم ما أجركم على الله؟ فيقولون نحن الذين عفونا عمن ظلمنا، فيقال لهم ادخلوا الجنة بإذن الله تعالى " الثاني: أنه تعالى لما حث على العفو عن الظالم أخبر أنه مع ذلك لا يحبه تنبيها على أنه إذ كان لا يحبه ومع ذلك فإنه يندب على عفوه، فالمؤمن الذي هو حبيب الله بسبب إيمانه أولى أن يعفو عنه.
ثم قال تعالى: * (ولمن انتصر بعد ظلمه) * أي ظالم الظالم إياه، وهذا من باب إضافة المصدر إلى المفعول * (فأولئك) * يعني المنتصرين * (ما عليهم من سبيل) * كعقوبة ومؤاخذة لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار واحتج الشافعي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية في بيان أن سراية القود مهدرة، فقال الشرع إما أن يقال إنه أذن له في القطع مطلقا أو بشرط عدم السريان، وهذا الثاني باطل لأن الأصل في القطع الحرمة، فإذا كان تجويزه معلقا بشرط عدم السريان، وكان هذا الشرط مجهولا وجب أن يبقى ذلك القطع على أصل الحرمة، لأن الأصل فيها هو الحرمة، والحل إنما يحصل معلقا على شرط مجهول فوجب أن يبقى ذبك أصل الحرمة، وحيث لم يكن كذلك علمنا أن الشرع أذن له في القطع كيف كان سواء سرى أو لم يسر، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون ذلك السريان مضمونا لأنه قد انتصر من بعد ظلمه فوجب أن لا يحصل لأحد عليه سبيل.
181

ثم قال: * (إنما السبيل على الذين يظلمون الناس) * أي يبدأون بالظلم * (ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم) *.
ثم قال تعالى: * (ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور) * يعني أن عزمه على ترك الانتصار لمن عزم الأمور الجيدة وحذف الراجع لأنه مفهوم كما حذف من قولهم السمن منوان بدرهم ويحكى أن رجلا سب رجلا في مجلس الحسن فكان المسبوب يكظم ويعرقة فيمسح العرق ثم قام وتلا هذه الآية، فقال الحسن عقلها والله وفهمها لما ضيعها الجاهلون.
ثم قال تعالى: * (ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده) * أي فليس له من ناصر يتولاه من بعد خذلانه أي من بعد إضلال الله إياه، وهذا صريح في جواز الإضلال من الله تعالى، وفي أن الهداية ليست في مقدور أحد سوى الله تعالى، قال القاضي المراد من يضلل الله عن الجنة فما له من ولي من بعده ينصره والجواب: أن تتقيد الإضلال بهذه الصورة المعينة خلاف الدليل، وأيضا فالله تعالى ما أضله عن الجنة على قولكم بل هو أضل نفسه عن الجنة.
ثم قال تعالى: * (وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل) * والمراد أنهم يطلبون لرجوع إلى الدنيا لعظم ما يشاهدون من العذاب، ثم ذكر حالهم عند عرض النار عليهم فقال: * (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل) * أي حال كونهم خاشعين حقيرين مهانين بسبب ما لحقهم من الذل، ثم قال: * (ينظرون من طرف خفي) * أي يبتدئ نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف خفي بمسارقة كما ترى الذي يتيقن أن يقتل فإنه ينظر إلى السيف كأنه لا يقدر على أن يفتح أجفانه عليه ويملأ عينيه منه كما يفعل في نظره إلى الحبوبات، فإن قيل أليس أنه تعالى قال في صفة الكفار إنهم يحشرون عميا فكيف قال ههنا إنهم ينظرون من طرف خفي؟ قلنا لعلهم حال الكفار حكى ما يقوله المؤمنون فيهم فقال: * (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) * قال صاحب " الكشاف ": * (يوم القيامة) * إما أن يتعلق بخسروا أو يكون قول المؤمنين واقعا في الدنيا، وإما أن يتعلق بقال أي يقولون يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة.
ثم قال: * (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) * أي دائم قال القاضي، وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أن لفظ الظالم المطلق في القرآن
مخصوص بالكفر قال تعالى: * (والكافرون هم الظالمون) * (البقرة: 254) والذي يؤكد هذا أنه تعالى قال بعده هذه الآية * (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من الله) * والمعنى أن الأصنام التي كانوا يعبدونها لأجل أن تشفع لهم عند الله تعالى ما أتوا بتلك الشفاعة ومعلوم أن هذا لا يليق إلا بالكفار
ثم قال: * (ومن يضلل الله فما له من سبيل) * وذلك يدل على أن المضل والهادي هو الله تعالى على ما هو قولنا ومذهبنا والله أعلم.
182

قوله تعالى
* (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتى يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير * فإن أعرضوا فمآ أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وإنآ إذآ أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور * لله ملك السماوات والارض يخلق ما يشآء يهب لمن يشآء إناثا ويهب لمن يشآء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشآء عقيما إنه عليم قدير) *
اعلم أنه تعالى لما أطنب في الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال: * (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا يمرد له من الله) * وقوله * (من الله) * يجوز أن يكون صلة لقوله * (لا مرد له) * يعني لا يرده الله بعد ما حكم به، ويجوز أن يكون صلة لقوله * (يأتي) * أي من قبل أن يأتي من الله يوم لا يقدر أحد على رده، واختلفوا في المراد بذلك اليوم فقيل يوم ورود الموت، وقيل يوم القيامة لأنه وصف ذلك اليوم بأنه لا مرد له وهذا الوصف موجود في كلا اليومين، ويحتمل أن يكون معنى قوله * (لا مرد له) * أنه لا يقبل التقديم والتأخير أو أن يكون معناه أن لا مرد فيه إلى حال التكليف حتى يحصل فيه التلافي.
ثم قال تعالى في وصف ذلك اليوم * (ما لكم من ملجأ) * ينفع في التخلص من العذاب * (وما لكم من نكير) * ممن ينكر ذلك حتى يتغير حالكم بسبب ذلك المنكر، ويجوز أن يكون المراد من النكير الإنكار أي لا تقدرون أن تنكروا شيئا مما اقترفتموه من الأعمال * (فإن أعرضوا) * أي هؤلاء الذين أمرتهم بالاستجابة أي لم يقبلوا هذا الأمر * (فما أرسلناك عليهم حفيظا) * بأن تحفظ أعمالهم وتحصيها * (إن عليك إلا البلاغ) * وذلك تسلية من الله تعالى، ثم أنه تعالى بين السبب في
183

إصرارهم على مذاهبهم الباطلة، وذلك أنهم وجدوا في الدنيا سعادة وكرامة الفوز بمطالب الدنيا يفيد الغرور والفجور والتكبر وعدم الانقياد للحق فقال: * (وأنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها) * ونعم الله في الدنيا وإن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى السعادات المعدة في الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سماها ذوقا فبين تعالى أن الإنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير الذي حصل في الدنيا فإنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقاصي السعادات، وهذه طريقة من يضعف اعتقاده في سعادات الآخرة، وهذه الطريقة مخالفة لطريقة المؤمن الذي لا يعد نعم الدنيا إلا كالوصلة إلى نعم الآخرة، ثم بين أنه متى أصبتهم سيئة أي شيء يسوءهم في لحال كالمرض والفقر وغيرهما فإنه يظهر منه الكفر وهو معنى قوله * (فإن الإنسان كفور) * والكفور الذي يكون مبالغا في الكفران ولم يقل فإنه كفور، ليبين أن طبيعة الإنسان تقتضي هذه الحالة إلا إذا أدبها الرجل بالآداب التي أرشد الله إليها، ولما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك بقوله * (لله ملك السماوات والأرض) * والمقصود منه أن لا يغتر الإنسان بما ملكه من المال والجاه بل إذا علم أن الكل ملك الله ومله، وأنه إنما حصل ذلك القدر تحت يده لأن الله أنعم عليه به فحينئذ يصير ذلك حاملا له على مزيد الطاعة والخدمة، وأما إذا اعتقد أن تلك النعم، إنما تحصل بسبب عقله وجده واجتهاده بقي مغرورا بنفسه معرضا عن طاعة الله تعالى، ثم ذكر من أقسام تصرف الله في العالم أنه يخص البعض بالأولاد والإناث والبعض بالذكور والبعض بهما والبعض بأن يجعله محروما من الكل، وهو المراد من قوله * (ويجعل من يشاء عميقا) *.
واعلم أن أهل الطبائع يقولوه السبب في حدوث الولد صلاح حال النطفة والرحم وسبب الذكورة استيلاء الحرارة، وسبب الأنوثة استيلاء البرودة، وقد ذكرنا هذا الفصل بالاستقصاء التام في سورة النحل، وأبطلناه بالدلائل اليقينية، وظهر أن ذلك من الله تعالى لا أنه من الطبائع والأنجم والأفلاك وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: أنه قدم الإناث في الذكر على الذكور فقال: * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) * ثم في الآية الثانية قدم الذكور على الإناث فقال: * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) * فما السبب في هذا التقديم والتأخير؟
السؤال الثاني: أنه ذكر الإناث على سبيل التنكير فقال: * (يهب لمن يشاء إناثا) * وذلك الذكور بلفظ التعريف فقال: * (ويهب لمن يشاء الذكور) * فما السبب في هذا الفرق؟
السؤال الثالث: لم قال في إعطاء الإناث وحدهن، وفي إعطاء الذكور وحدهم بلفظ الهبة فقال: * (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) * وقال في إعطاء الصنفين معا * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *.
184

والسؤال الرابع: لما كان حصول الولد هبة من الله فيكفي في عدم حصوله أن لا يهب فأي حاجة في عدم حصوله إلى أن يقول * (ويجعل من يشاء عميقا) *؟.
السؤال الخامس: هل المراد من هذا الحكم جمع معينون أو المراد الحكم على الإنسان المطلق؟ والجواب: عن السؤال الأول من وجوه الأول: أن الكريم يسعى في أن يقع الختم على الخير والراحة والسرور والبهجة فإذا وهب الولد الأنثى أولا ثم أعطاه الذكر بعده فكأنه نقله من الغم إلى الفرح وهذا غاية الكرم، أما إذا أعطى الولد أولا ثم أعطى الأنثى ثانيا فكأنه نقله من الفرح إلى الغم فذكر تعالى هبة الولد الأنثى أولا وثانيا هبة الولد الذكر حتى يكون قد نقله من الغم إلى الفرح فيكون ذلك أليق بالكرم الوجه الثاني: أنه إذا أعطى الولد الأنثى أولا علم أنه لا اعتراض له على الله تعالى فيرضى بذلك فإذا أعطاه الولد الذكر بعد ذلك علم أن هذه الزيادة فضل من الله تعالى وإحسان إليه فيزداد شكره وطاعته، ويعلم أن ذلك إنما حصل بمحض الفضل والكرم والوجه الثالث: قال بعض المذكرين الأنثى ضعيفة ناقصة عاجزة فقدم ذكرها تنبيها على أنه كلما كان العجز والحاجة أتم كانت عناية الله به أكثر الوجه الرابع: كأنه يقال أيتها المرأة الضعيفة العاجزة إن أباك وأمك يكرهان وجودك فإن كانا قد كرها
وجودك فأنا قدمتك في الذكر لتعلمي أن المحسن المكرم هو الله تعالى، فإذا علمت المرأة ذلك زادت في الطاعة والخدمة والبعد عن موجبات الطعن والذم، فهذه المعاني هي التي لأجلها وقع ذكر الإناث مقدما على ذكر الذكور وإنما قدم ذكر الذكور بعد ذلك على ذكر الإناث لأن الذكر أكمل وأفضل من الأنثى والأفضل الأكمل مقدم على الأخس الأرذل، والحاصل أن النظر إلى كونه ذكرا أو أنثى يقتضي تقديم ذكر الذكر على ذكر الأنثى، أما العوارض الخارجية التي ذكرناها فقد أوجبت تقديم ذكر الأنثى على ذكر الذكر، فلما حصل المقتضي للتقديم والتأخير في البابين لا جرم قدم هذا مرة وقدم ذلك مرة أخرى والله أعلم.
وأما السؤال الثاني: وهو قوله لم عبر عن الإناث بلفظ التنكير، وعن الذكور بلفظ التعريف؟ فجوابه أن المقصود منه التنبيه على كون الذكر أفضل من الأنثى.
وأما السؤال الثالث: وهو قوله لم قال تعالى في إعطاء الصنفين * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) *؟ فجوابه أن كل شيئين يقرن أحدهما بالآخر فهما زوجان، وكل واحد منهما يقال له زوج والكناية في * (يزوجهم) * عائدة على الإناث والذكور التي في الآية الأولى، والمعنى يقرن الإناث والذكور فيجعلهم أزواجا.
وأما السؤال الرابع: فجوابه أن العقيم هو الذي لا يولد له، يقال رجل عقيم لا يلد، وامرأة عقيم لا تلد وأصل العقم القطع، ومنه قيل الملك عقيم لأنه يقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق.
وأما السؤال الخامس: فجوابه قال ابن عباس * (يهب لمن يشاء إناثا) * يريد لوطا وشعيبا عليهم السلام لم يكن لهما إلا النبات * (ويهب لمن يشاء الذكور) * يريد إبراهيم عليه السلام لم يكن له
185

إلا الذكور * (أو يزوجهم ذكرانا وإناثا) * يريد محمدا صلى الله عليه وسلم كان له من البنين أربعة القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم، ومن البنات أربعة زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة * (ويجعل من يشاء عقيما) * يريد عيسى ويحيى، وقال الأكثرون من المفسرين هذ الحكم عام في حق كل الناس، لأن المقصود بيان قدرة الله في تكوين الأشياء كيف شاء وأراد فلم يكن للتخصيص معنى والله أعلم. ثم ختم الآية بقوله * (إنه عليم قدير) * قال ابن عباس عليم بما خلق قدير على ما يشاء أن يخلقه والله أعلم.
قوله تعالى
* (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من ورآء حجاب أو يرسل رسولا فيوحى بإذنه ما يشآء إنه على حكيم * وكذلك أوحينآ إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشآء من عبادنا وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم * صراط الله الذى له ما فى السماوات وما فى الارض ألا إلى الله تصير الامور) *
اعلم أنه تعالى لما بين كمال قدرته وعلمه وحكمته أتبعه ببيان أنه كيف يخص أنبياءه بوحيه وكلامه وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: * (وما كان لبشر) * وما صح لأحد من البشر * (أن يكلمه الله) * إلا على أحد ثلاثة أوجه، إما على الوحي وهو الإلهام والقذف في القلب أو المنام كما أوحى الله إلى أم موسى وإبراهيم عليه السلام في ذبح ولده، وعن نجاهد أوحى الله تعالى الزبور إلى داود عليه السلام في صدره، وإما على أن يسمعه كلامه من غير واسطة مبلغ، وهذا أيضا وحي بدليل أنه تعالى أسمع موسى كلامه من غير واسطة مع أنه سماه وحيا، قوله تعالى: * (فاستمع لما يوحى) * (طه: 13) وإما على أن يرسل إليه رسولا من الملائكة فيبلغ ذلك الملك الذي الوحي إلى الرسول البشري فطريق الحصر أن يقال وصول الوحي من الله إلى البشر إما أن يكون من غير واسطة مبلغ أو يكون بواسطة مبلغ، وإذا كان الأول هو أن يصل إليه وحي الله لا بواسطة شخص آخر فههنا إما أن يقال إنه
186

لم يسمع عين كلام الله أو يسمعه، أما الأول: وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر وما سمع عين كلام لله فهو المراد بقوله * (إلا وحيا) * وأم الثاني: وهو أنه وصل إليه الوحي لا بواسطة شخص آخر ولكنه مسع عين كلام الله فهو المراد من قوله * (أو من وراء حجاب) * وأما الثالث: وهو أنه وصل إليه لوحي بواسطة شخص آخر فهو المراد بقوله * (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * واعلم أن كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة وحي، إلا أنه تعالى خصص القسم الأول باسم الوحي، لأن ما يقع في القلب على سبيل الإلهام فهو يقع دفعة فكن تخصيص لفظ الوحي به أولى فهذا هو الكلام في تمييز هذه الأقسام بعضها عن بعض.
المسألة الثانية: القائلون بأن الله في مكان احتجوا بقوله * (أو من وراء حجاب) * وذلك لأن التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون الله من وراء حجاب، وإنما يصحب ذلك لو كان مختصا بمكان معين وجهة معينة والجواب: أن ظاهر اللفظ وإن أوهم ما ذكرتم إلا أنه دلت الدلائل العقلية والنقلية على أنه تعالى يمتنع حصوله في المكان والجهة، فوجب حمل هذا اللفظ على التأويل، والمعنى أن الرجل سمع كلاما مع أنه لا يرى ذلك المتكلم كان ذلك شبيها بما إذا تكلم من وراء حجاب، والمشابهة سبب لجواز المجاز.
المسألة الثالثة: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يرى، وذلك لأنه تعالى حصر أقسام وحيه في هذه الثلاثة ولو صحت رؤية الله تعالى لصح من الله تعالى أنه يتكلم مع العبد حال ما يراه العبد، فحينئذ يكون ذلك قسما رابعا زائدا على هذه الأقسام الثلاثة، والله تعالى نفى القسم الرابع بقوله * (وما كان لبشر أن يكلمه الله) * إلا على هذه الأوجه الثلاثة الجواب: نزيد في اللفظ قيدا فيكون التقدير وما كان لبشر أن يكلمه الله في الدنيا إلا على أحد هذه الأقسام الثلاثة وحينئذ لا يلزم ما ذكرتموه، وزيادة هذا القيد وإن كانت على خلاف الظاهر لكنه يجب المصير إليها للتوفيق بين هذه الآيات وبين الآيات الدالة على حصول الرؤية في يوم القيامة والله أعلم.
المسألة الرابعة: أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم، ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة، وأما الأشعري وأتباعه فإنهم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهذه الحروف والأصوات.
أما الفريق الأول: وهم الذين قالوا كلام الله تعالى هو هذه الحروف والكلمات فهم فريقان أحدهما: الحنابلة الذين قالوا بقدم هذه الحروف وهؤلاء أخس من أن يذكروا في زمرة العقلاء، واتفق أني قلت يوما لبعضهم لو تكلم الله بهذه الحروف إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على هذ التعاقب والتوالي، فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف
187

المتوالية كلام الله تعالى، والثاني: باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة، ولما سمع ذلك لرجل هذا الكلام قال لواجب علينا أن نقر ونمر، يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل، وأما العقلاء من الناس فقد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن حاصلة بعد أن كانت معدومة، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة، أو لا يقال ذلك، بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى، واختلفوا أيضا في أن هذه الحروف هل هي قائمة بذات الله تعالى أو يخلقها في جسم آخر، فالأول: هو قول الكرامية والثاني: قول المعتزلة، وأما الأشعرية الذين زعموا أن كلام الله صفة قديمة تدل عليها هذه الألفاظ والعبارات فقد اتفقوا على أن قوله * (أو من وراء حجاب) * هو أن الملك والرسول يسمع ذلك الكلام المنزه عن الحرف والصوت من وراء حجاب، قالوا وكما لا يبعد أن ترى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفا ولا صوتا؟ وزعم أبو منصور الماتريدي السمرقندي أن تلك الصفة القائمة يمتنع كونها مسموعة، وإنما المسموع حروف وأصوات يخلقها الله تعالى في الشجرة وهذا القول قريب من قول المعتزلة والله أعلم.
المسألة الخامسة: قال القاضي هذه الآية تدل على حدوث كلام الله تعالى من وجوه الأول: أن قوله تعالى: * (أن يكلمه الله) * يدل عليه لأن كلمة أن مع المضرع تفيد الاستقبال الثاني: أنه وصف الكلام بأنه وحي لأن لفظ الوحي يفيد أنه وقع على أسرع الوجوه الثالث: أن قوله * (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * يقتضي أن يكون الكلام الذي يبلغه الملك إلى الرسول البشر مثل الكلام الذي سمعه من الله والذي يبلغه إلى الرسول البشري حادث، فلما كان الكلام الذي سمعه من الله مماثلا لهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري، وهذا الذي بلغه إلى الرسول البشري حادث ومثل الحادث حادث، وجب أن يقال إن الكلام الذي سمعه من الله حادث الرابع: أن قوله * (أو يرسل رسولا فيوحي) * يقتضي كون الوحي حاصلا بعد الإرسال، وما كان حصوله متأخرا عن حصول غيره كان حادثا والجواب: أنا نصرف جملة هذه الوجوه التي ذكرتموها إلى الحروف والأصوات ونعترف بأنها حادثة كائنة بعد أن لم تكن وبديهة العقل شاهدة بأن الأمر كذلك، فأي حاجة إلى إثبات هذا المطلوب الذي علمت صحته ببديهة العقل وبظواهر القرآن؟ والله أعلم.
المسألة السادسة: ثبت أن الوحي من الله تعالى، إما أن لا يكون بواسطة شخص آخر، ويمتنع أن يكون كل وحي حاصلا بواسطة شخص آخر، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور، هما محالان، فلا بد من الاعتراف بحصول وحي يحصل لا بواسطة شخص آخر، ثم ههنا أبحاث:
البحث الأول: أن الشخص الأول الذي سمع وحي الله لا بواسطة شخص آخر كيف
188

يعرف أن الكلام الذي سمعه كلام الله، فإن قلنا إنه سمع تلك الصفة القديمة المنزهة عن كونها حرفا وصوتا، لم يبعد أنه إذا سمعها علم بالضرورة كونها كلام الله تعالى، ولم يبعد أن يقال إنه يحتاج بعد ذلك إلى دليل زائد، أما إن قلنا إن المسموع هو الحرف والصوت امتنع أن يقطع بكونه كلاما لله تعالى، إلا إذا ظهرت دلالة على أن ذلك المسموع هو كلام الله تعالى.
البحث الثاني: أن الرسول إذا سمعه من الملك كيف يعرف أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان مضل؟ والحق أنه لا يمكنه القطع بذلك إلا بناء على معجزة تدل على أن ذلك المبلغ ملك معصوم لا شيطان خبيث، وعلى هذا التقدير، فالوحي من الله تعالى لا يتم إلا بثلاث مراتب في ظهور المعجزات:
المرتبة الأولى: أن الملك إذا سمع ذلك الكلام من الله تعالى، فلا بد له من معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله تعالى.
المرتبة الثانية: أن ذلك الملك إذا وصل إلى الرسول، لا بد له أيضا من معجزة.
المرتبة الثالثة: أن ذلك الرسول إذا أوصله إلى الأمة، فلا بد له أيضا من معجزة، فثبت أن التكليف لا يتوجه على الخلق إلا بعد وقوع ثلاث مراتب في المعجزات.
البحث الثالث: أنه لا شك أن ملكا من الملائكة قد سمع الوحي من الله تعالى ابتداء، فذلك الملك هو جبريل، ويقال لعل جبريل سمعه من ملك آخر، فالكل محتمل ولو بألف واسطة، ولو يوجب، ما يدل على القطع بواحد من هذه الوجوه.
البحث الرابع: هل في البشر من سمع وحي الله تعالى من غير واسطة؟ المشهور أن موسى عليه السلام سمع كلام الله من غير واسطة، بدليل قوله تعالى: * (فاستمع لما يوحى) * (طه: 13) وقيل إن محمدا صلى الله عليه وسلم سمعه أيضا لقوله تعالى: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * (النجم: 10).
البحث الخامس: أن الملائكة يقدرون على أن يظهروا أنفسهم على أشكال مختلفة، فبتقدير أن يراه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مرة وجب أن يحتاج إلى المعجزة، ليعرف أن هذا الذي رآه في هذه المرة عين ما رآه في المرة الأولى، وإن كان لا يرى شخصه كانت الحاجة إلى المعجزة أقوى، لاحتمال أنه حصل الاشتباه في الصوت، إلا أن الإشكال في أن الحاجة إلى إظهار المعجزة في كل مرة لم يقل به أحد.
المسألة السابعة: دلت المناظرات المذكورة في القرآن بين الله تعالى وبين إبليس على أنه تعالى كان يتكلم مع إبليس من غير واسطة، فذلك هل يسمى وحيا من الله تعالى إلى إبليس أو لا، الأظهر منعه، ولا بد في هذا الموضع من بحث غامض كامل.
المسألة الثامنة: قرأ نافع * (أو يرسل رسولا) * برفع اللام، فيوحي بسكون الياء ومحله رفع على تقدير، وهو يرسل فيوحي، والباقون بالنصب على تأويل المصدر
، كأنه قيل ما كان لبشر
189

أن يكلمه الله إلا وحيا أو إسماعا لكلامه من وراء حجاب أو يرسل، لكن فيه إشكال لأن قوله وحيا أو إسماعا اسم وقوله * (أو يرسل) * فعل، وعطف الفعل على الاسم قبيح، فأجيب عنه بأن التقدير: وما كان لبشر أن يكلمه إلا أن يوحي إليه وحيا أو يسمع إسماعا من وراء حجاب أو يرسل رسولا.
المسألة التاسعة: الصحيح عند أهل الحق أن عندما يبلغ الملك الوحي إلى الرسول، لا يقدر الشيطان على إلقاء الباطل في أثناء ذلك الوحي، وقال بعضهم: يجوز ذلك لقوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى الشفاعة ترتجى، وكان صديقنا الملك سام بن محمد رحمه الله، وكان أفضل من لقيته من أرباب السلطنة يقول هذا الكلام بعد الدلائل القوية القاهرة، باطل من وجهين آخرين الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي " فإذا لم يقدر الشيطان على أن يتمثل في المنام بصورة الرسول، فكيف قدر على التشبه بجبريل حال اشتغال تبليغ وحي الله تعالى؟ والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما سلك عمر فجا إلا وسلك الشيطان فجا آخر " فإذا لم يقدر الشيطان أن يحضر مع عمر في فج واحد، فكيف يقدر على أن يحضر مع جبريل في موقف تبليغ وحي الله تعالى؟
المسألة العاشرة: قوله تعالى: * (فيوحي بإذنه ما يشاء) * يعني فيوحي ذلك الملك بإذن الله ما يشاء الله، وهذا يقتضي أن الحسن لا يحسن لوجه عائد عليه، وأن القبيح لا يقبح لوجه عائد إليه، بل لله أن يأمر بما يشاء من غير تخصيص، وأن ينهى عما يشاء من غير تخصيص، إذ لو لم يكن الأمر كذلك لما صح قوله * (ما يشاء) * والله أعلم.
ثم قال تعالى في آخر الآية * (إنه علي حكيم) * يعني أنه علي عن صفات المخلوقين حكيم يجري أفعاله على موجب الحكمة، فيتكلم تارة بغير واسطة على سبيل الإلهام، وأخرى بإسماع الكلام، وثالثا بتوسيط الملائكة الكرام، ولما بين الله تعالى كيفية أقسام الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام، قال: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * والمراد به القرآن وسماه روحا، لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر.
ثم قال تعالى: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * واختلف العلماء في هذه الآية مع الإجماع على أنه لا يجوز أن يقال الرسل كانوا قبل الوحي على الكفر، وذكروا في الجواب وجوها الأول: * (ما كنت تدري ما الكتاب) * أي القرآن * (ولا الإيمان) * أي الصلاة، لقوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) أي صلاتكم الثاني: أن يحمل هذا على حذف المضاف، أي ما كنت تدري ما الكتاب ومن أهل الإيمان، يعني من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن الثالث: ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلا في المهد الرابع:
190

الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف الله تعالى به، وإنه قبل النبوة ما كان عارفا بجميع تكاليف الله تعالى، بل إنه كان عارفا بالله تعالى، وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس: صفات الله تعالى على قسمين: منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية. فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة.
ثم قال تعالى: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * واختلفوا في الضمير في قوله * (ولكن جعلناه) * منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان لأنه هو الذي يعرف به الأحكام، فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدي به، ومنهم من قال إنه راجع إليهما معا، وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * (الجمعة: 11).
ثم قال: * (نهدي به من نشاء من عبادنا) * وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى كما قال: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى الله عليه وسلم * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله * (نهدي به من نشاء من عبادنا) * يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله * (نهدي به من نشاء من عبادنا) * خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله * (نهدي به من نشاء من عبادنا) * أمرا مغايرا لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار، ولا يجوز أيضا أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنة لأنه تعالى قال: * (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا) * أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدنيا، وأيضا فالهداية إلى الجنة عندكم في حق البعض واجب، وفي حق الآخرين محظور، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله * (من نشاء من عبادنا) * فائدة، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه.
ثم قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: * (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) * فبين تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي، وبين أنه يهدي إلى صراط مستقيم وبين أن ذلك الصراط هو * (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * نبه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السماوات والأرض، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير الله. ثم قال: * (ألا إلى الله تصير الأمور) * وذلك كالوعيد والزجر، فبين أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى الله تعالى، أي إلى حيث لا حاكم سواه فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
191

سورة الزخرف
وهي تسع وثمانون آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين * وكم أرسلنا من نبي فى الاولين * وما يأتيهم من نبى إلا كانوا به يستهزءون * فأهلكنآ أشد منهم بطشا ومضى مثل الاولين) *.
اعلم أن قوله * (حم، والكتاب المبين) * يحتمل وجهين الأول: أن يكون التقدير هذه حم والكتاب المبين فيكون القسم واقعا على أن هذه السورة هي سورة حم ويكون قوله * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * ابتداء لكلام آخر الثاني: أن يكون التقدير هذه حم.
ثم قال: * (والكتاب المبين. إنا جعلناه قرآنا عربيا) * فيكون المقسم عليه هو قوله * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * وفي المراد بالكتاب قولان أحدهما: أن المراد به القرآن، وعلى هذا التقدير فقد أقسم بالقرآن أنه جعله عربيا الثاني: أن المراد بالكتاب الكتابة والخط وأقسم بالكتابة لكثرة ما فينا من المنافع، فإن العلوم إنما تكاملت بسبب الخط فإن المتقدم إذا استنبط علما وأثبته في كتاب، وجاء المتأخر ووقف عليه أمكنه أن يزيد في استنباط الفوائد، فبهذا الطريق تكاثرت الفوائد وانتهت إلى الغايات العظيمة، وفي وصف الكتاب بكونه مبينا من وجوه الأول: أنه المبين
192

للذين أنزل إليهم لأنه بلغتهم ولسانهم والثاني: المبين هو الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان كل باب عما سواه وجعلها مفصلة ملخصة.
واعلم أن وصفه بكونه مبينا نجاز لأن المبين هو الله تعالى وسمي القرآن بذلك توسعا من حيث إنه حصل البيان عنده.
أما قوله * (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) * ففيه مسائل: المسألة الأولى: القائلون بحدوث القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول: أن الآية تدل على أن القرآن مجعول، والمجعول هو المصنوع المخلوق، فإن قالوا لم لا يجوز أن يكون المراد أنه سماه عربيا؟ قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أنه لو كان المراد بالجعل هذا لوجب أن من سماه عجميا أن يصير عجميا وإن كان بلغة العرب ومعلوم أنه باطل الثاني: أنه لو صرف الجعل إلى التسمية لزم كون التسمية مجعولة، والتسمية أيضا كلام الله، وذلك يوجب أنه فعل بعض كلامه، وإذا صح ذلك في البعض صح في الكل الثاني: أنه وصفه بكونه قرآنا، وهو إنما سمي قرآنا لأنه جعل بعضه مقرونا بالبعض وما كان كذلك كان مصنوعا معمولا الثالث: أنه وصفه بكونه عربيا، وهو إنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما اختصت بمسمياتهم بوضع العرب واصطلاحاتهم، وذلك يدل على كونه معمولا ومجعولا والرابع: أن القسم بغير الله لا يجوز على ما هو معلوم فكان التقدير حم ورب الكتاب المبين، وتأكد هذا أيضا بما روي أنه عليه السلام كان يقول يا رب طه ويس ويا رب القرآن العظيم والجواب: أن هذا الذي ذكرتموه حق، وذلك لأنكم إنما استدللتم بهذه الوجوه على كون هذه الحروف المتوالية والكلمات المتعاقبة محدثة مخلوقة، وذلك معلوم بالضرورة ومن ينازعكم فيه، بل كان كلامكم يرجع حاصله إلى إقامة الدليل على ما عرف ثبوته بالضرورة.
المسألة الثانية: كلمة لعل للتمني والترجي وهو لا يليق بمن كان عالما بعواقب الأمور، فكان المراد منها هاهنا: كي أي أنزلناه قرآنا عربيا لكي تعقلوا معناه، وتحيطوا بفحواه، قالت المعتزلة فصار حاصل الكلام إنا أنزلناه قرآنا عربيا لأجل أن تحيطوا بمعناه، وهذا يفيد أميرين أحدهما: أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والدواعي والثاني: أنه تعالى إنما أنزل القرآن ليهتدي به الناس، وذلك يدل على أنه تعالى أراد من الكل الهداية والمعرفة، خلاف قول من يقول إنه تعالى أراد من البعض الكفر والإعراض، واعلم أن هذا النوع من استدلالات المعتزلة مشهور، وأجوبتنا عنه مشهورة، فلا فائدة في الإعادة والله أعلم.
المسألة الثالثة: قوله * (لعلكم تعقلون) * يدل على أن القرآن معلوم وليس فيه شيء مبهم مجهول خلافا لمن يقول بعضه معلوم وبعضه مجهول.
ثم قال تعالى: * (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) * وفيه مسائل:
193

المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (أم الكتاب) * بكسر الألف والباقون بالضم.
المسألة الثانية: الضمير في قوله * (وإنه) * عائد إلى الكتاب الذي تقدم ذكره في * (أم الكتاب لدينا) * واختلفوا في المراد بأم الكتاب على قولين: فالقول الأول: إنه اللوح المحفوظ لقوله * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * (البروج: 22).
واعلم أن على هذا التقدير فالصفات المذكورة ههنا كلها صفات اللوح المحفوظ.
الصفة الأولى: أنه أم الكتاب والسبب فيه أن أصل كل شيء أمه والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ، ثم نقل إلى سماء الدنيا، ثم أنزل حالا بحسب المصلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه: " إن أول ما خلق الله القلم، فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق " فالكتاب عنده فإن قيل وما الحكمة في خلق هذا اللوح المحفوظ مع أنه تعالى علام الغيوب ويستحيل عليه السهو والنسيان؟ قلنا إنه تعالى لما أثبت في ذلك أحكام حوادث المخلوقات، ثم إن الملائكة يشاهدون أن جميع الحوادث إنما تحدث على موافقة ذلك المكتوب، استدلوا بذلك على كمال حكمة الله وعلمه.
الصفة الثانية: من صفات اللوح المحفوظ قوله * (لدينا) * هكذا ذكره ابن عباس، و " إنما خصه الله تعالى بهذا التشريف لكونه كتابا جامعا لأحوال جميع المحدثات، فكأنه الكتاب المشتمل على جميع ما يقع في ملك الله وملكوته، فلا جرم حصل له هذا التشريف، قال الواحدي، ويحتمل أن يكون هذا صفة القرآن والتقدير إنه لدينا في أم الكتاب.
الصفة الثالثة: كونه عليا والمعنى كونه عاليا عن وجوه الفساد والبطلان وقيل المراد كونه عاليا على جميع الكتب بسبب كونه معجزا باقيا على وجه الدهر.
الصفة الرابعة: كونه حكيما أي محكما في أبواب البلاغة والفصاحة، وقيل حكيم أي ذو حكمة بالغة، وقيل إن هذه الصفات كلها صفات القرآن على ما ذكرناه والقول الثاني: في تفسير أم الكتاب أنه الآيات المحكمة لقوله تعالى: * (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات من أم الكتاب) * (آل عمران: 7) ومعناه أن سورة
حم واقعة في الآيات المحكمة التي هي الأصل والأم.
ثم قال تعالى: * (أفنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ نافع وحمزة والكسائي * (إن كنتم) * بكسر الألف تقديره: إن كنتم مسرفين لا نضرب عنكم الذكر صفحا، وقيل (إن) بمعنى إذ كقوله تعالى: * (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) * (البقرة: 278) وبالجملة فالجزاء مقدم على الشرط، وقرأ الباقون بفتح الألف على التعليل أي لأن كنتم مسرفين. المسألة الثانية: قال الفراء والزجاج يقول ضربت عنه وأضربت عنه أي تركته وأمسكت عنه وقوله * (صفحا) * أي إعراضا والأصل فيه أنك توليت بصفحة عنقك وعلى هذا فقوله * (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) * تقديره: أفنضرب عنكم إضرابنا أو تقديره أفنصفح عنكم صفحا، واختلفوا
194

في معنى الذكر فقيل معناه أفنرد عنكم ذكر عذاب الله، وقيل أفنرد عنكم النصائح والمواعظ، وقيل أفنرد عنكم القرآن، وهذا استفهام رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ولكن الله برحمته كرره عليهم ودعاهم إليه عشرين سنة إذا عرفت هذا فنقول هذا الكلام يحتمل وجهين: الأول: الرحمة يعني أن لا نترككم مع سوء اختياركم بل نذكركم ونعظكم إلى أن ترجعوا إلى الطريق الحق الثاني: المبالغة في التغليظ يعني أتظنون أن تتركوا مع ما تريدون، كلا بل نلزمكم العمل وندعوكم إلى الدين ونؤاخذكم متى أخللتم بالواجب وأقدمتم على القبيح.
المسألة الثالثة: قال صاحب " الكشاف ": الفاء في قوله * (أفنضرب) * للعطف على محذوف تقديره أنهملكم فنضرب عنكم الذكر.
ثم قال تعالى: * (وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون) * والمعنى أن عادة الأمم مع الأنبياء الذين يدعونهم إلى الدين الحق هو التكذيب والاستهزاء، فلا ينبغي أن تتأذى من قومك بسبب إقدامهم على التكذيب والاستهزاء لأن المصيبة إذا عمت خفت.
ثم قال تعالى: * (فأهلكنا أشد منهم بطشا) * يعني أن أولئك المتقدمين الذين أرسل الله إليهم الرسل كانوا أشد بطشا من قريش يعني أكثر عددا وجلدا، ثم قال: * (ومضى مثل الأولين) * والمعنى أن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم فليحذروا أن ينزل بهم من الخزي مثل ما نزل بهم فقد ضربنا لهم مثلهم كما قال: * (وكلا ضربنا له الأمثال) * (الفرقان: 39) وكقوله * (وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) * إلى قوله * (وضربنا لكم الأمثال) * (إبراهيم: 45) والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم * الذى جعل لكم الارض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذى نزل من السمآء مآء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذى خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون *
195

لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذى سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنآ إلى ربنا لمنقلبون) *.
اعلم أنه قد تقدم ذكر المسرفين وهم المشركون وتقدم أيضا ذكر الأنبياء فقوله * (ولئن سألتهم) * يحتمل أن يرجع إلى الأنبياء، ويحتمل أن يرجع إلى الكفار إلا أن الأقرب رجوعه إلى الكفار، فبين تعال أنهم مقرون بأن خالق السماوات والأرض وما بينهما هو الله العزيز الحكيم، والمقصود أنهم مع كونهم مقرين بهذا المعنى يعبدون معه غيره وينكرون قدرته على البعث، وقد تقدم الإخبار عنهم، ثم إنه تعالى ابتدأ دالا على نفسه بذكر مصنوعاته فقال: * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * ولو كان هذا من جملة كلام الكفار ولوجب أن يقولوا: الذي جعل لنا الأرض مهدا، ولأن قوله في أثناء الكلام * (فأنشرنا به بلدة ميتا) * لا يتعلق إلا بكلام الله ونظيره من كلام الناس يأن يسمع الرجل رجلا يقول الذي بنى هذا المسجد فلان العالم فيقول السامع لهذا الكلام الزاهد الكريم كأن ذلك السامع يقول أنا أعرفه بصفات حميدة فوق ما تعرفه فأزيد في وصفه فيكون النعتان جميعا من رجلين لرجل واحد.
إذا عرفت كيفية النظم في الآية فنقول إنها تدل على أنواع من صفات الله تعالى.
الصفة الأولى: كونه خالقا للسموات والأرض والمتكلمون بينوا أن أول العمل بالله العلم بكونه محدثا للعالم فاعلا له، فلهذا السبب وقع الابتداء بذكر كونه خالقا، وهذا إنما يتم إذا فسرنا الخلق بالإحداث والإبداع.
الصفة الثانية: العزيز وهو الغالب وما لأجله يحصل المكنة من الغلبة هو القدرة وكان العزيز إشارة إلى كمال القدرة.
الصفة الثالثة: العليم وهو إشارة إلى كمال العلم، واعلم أن كمال العلم والقدرة إذا حصل كان الموصوف به قادرا على خلق جميع الممكنات، فلهذا المعنى أثبت تعالى كونه موصوفا بهاتين الصفتين ثم فرع عليه سائر التفاصيل.
الصفة الرابعة: قوله * (الذي جعل لكم الأرض مهدا) * وقد ذكرنا في هذا الكتاب أن كون الأرض مهدا إنما حصل لأجل كونها واقفة ساكنة ولأجل كونها موصوفة بصفات مخصوصة باعتبارها يمكن الانتفاع بها في الزراعة وبناء الأبنية في كونها ساترة لعيوب الأحياء والأموات، ولما كان المهد موضع الراحة للصبي جعل الأرض مهدا لكثرة ما فيها من الراحات.
الصفة الخامسة: قوله * (وجعل لكم فيها سبلا) * والمقصود أن انتفاع الناس إنما يكمل
196

إذا قدر كل أحد أن يذهب من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم، ولولا أن الله تعالى هيأ تلك السبل ووضع عليها علامات مخصوصة وإلا لما حصل هذا الانتفاع.
ثم قال تعالى: * (لعلكم تهتدون) * يعني المقصود من وضع السبل أن يحصل لكم المكنة من الاهتداء، والثاني المعنى لتهتدوا إلى الحق في الدين.
الصفة السادسة: قوله تعالى: * (والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا) * وههنا مباحث أحدها: أن ظاهر هذه الآية يقتضي أن الماء ينزل من السماء، فهل الأمر كذلك أو يقال إنه ينزل من السحاب وسمي نازلا من السماء لأن كل ما سماك فهو سماء؟ وهذا البحث قد مر ذكره بالاستقصاء وثانيها: قوله * (بقدر) * أي إنما ينزل من السماء بقدر ما يحتاج إليه أهل تلك البقعة من غير زيادة ولا نقصان لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم بل يقدر حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم وثالثها: قوله * (فأنشرنا به بلدة ميتا) * أي خالية من النبات فأحييناها وهو الإنشار.
ثم قال: * (كذلك تخرجون) * يعني أن هذا الدليل كما يدل على قدرة الله وحكمته فكذلك يدل على قدرته على البعث والقيامة ووجه التشبيه أنه يجعلهم أحياء بعد الإماتة كهذه الأرض التي أنشرت بعد ما كانت ميتة، وقال بعضهم بل وجه التشبيه أن يعيدهم ويخرجهم من الأرض بماء كالمني كما تنبت الأرض بماء المطر، وهذا الوجه ضعيف لأنه ليس في ظاهر اللفظ إلا إثبات الإعادة فقط دون هذه الزيادة.
الصفة السابعة: قوله تعالى * (والذي خلق الأزواج كلها) * قال ابن عباس الأزواج الضروب والأنواع كالحلو الحامض والأبيض والأسود والذكر والأنثى، وقال بعض المحققين كل ما سوى الله فهو زوج كالفوق والتحت واليمين واليسار والقدام والخلف والماضي والمستقبل والذوات والصفات والصيف والشتاء والربيع والخريف، وكونها أزواجا يدل على كونها ممكنة الوجود في ذواتها محدثة مسبوقة بعدم، فأما الحق سبحانه فهو الفرد المنزه عن الشد والند والمقابل والمعاضد فلهذا قال سبحانه: * (والذي خلق الأزواج كلها) * أي كل ما هو زوج فهو مخلوق، فدل هذا على أن خالقها فرد مطلق منزه عن الزوجية، وأقول أيضا العلماء بعلم الحساب بينوا أن الفرد أفضل من الزوج من وجوه الأول: أن أقل الأزواج هو الاثنان وهو لا يوجد إلا عند، حصول وحدتين فالزوج يحتاج إلى الفرد وهو الوحدة غنية عن الزوج والغني أفضل من المحتاج الثاني: أن الزوج يقبل القسمة بقسمين متساويين والفرد هو الذي لا يقل القسمة وقبول القسمة انفعال وتأثر وعدم قبولها قوة وشدة ومقاومة فكان الفرد أفضل من الزوج الثالث: أن العدد الفرد لا بد وأن يكون أحد قسميه زوجا والثاني فردا فالعدد الفرد حصل فيه الزوج والفرد معا، وأما العدد الزوج فلا بد وأن يكون كل واحد من قسميه زوجا والمشتمل على القسمين أفضل من الذي
197

لا يكون كذلك الرابع: أن الزوجية عبارة عن كون كل واحد من قسميه معادلا للقسم الآخر في الذات والصفات والمقدار، وإذا كان كل ما حصل له من الكمال فمثله حاصل لغيره لم يكن هو كاملا على الإطلاق، أما الفرد فالفردية كائنة له خاصة لا لغيره ولا لمثله فكماله حاصلا له لا لغيره فكان أفضل الخامس: أن الزوج لا بد وأن يكون كل واحد من قسميه مشاركا للقسم الآخر في بعض الأمور ومغايرا له في أمور أخرى وما به المشاركة غير ما به المخالفة فكل زوجين فهما ممكنا الوجود لذاتيهما وكل ممكن فهو محتاج فثبت أن الزوجية منشأ الفقر والحاجة، وأما الفردانية فهي منشأ الاستغناء والاستقلال لأن العدد محتاج إلى كل واحد من تلك الوحدات، وأما كل واحد من تلك الوحدات فإنه غني عن ذلك العدد، فثبت أن الأزواج ممكنات ومحدثات ومخلوقات وأن الفرد هو القائم بذاته المستقبل بنفسه الغين عن كل ما سواه، فلهذا قال سبحانه: * (والذي خلق الأزواج كلها) *.
الصفة الثامنة: قوله * (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) * وذلك لأن السفر إما سفر البحر أو البر، أما سفر البحر فالحامل هو السفينة، وأما سفر البر فالحامل هو الأنعام وههنا سؤالان: السؤال الأول: لم لم يقل على ظهورها؟ أجابوا عنه من وجوه الأول: قال أبو عبيدة التذكير لقوله ما والتقدير ما تركبون الثاني: قال الفراء أضاف الظهور إلى واحد فيه معنى الجمع بمنزل الجيش والجند، ولذلك ذكر وجمع الظهور الثالث: أن هذا التأنيث ليس تأنيثا حقيقيا فجاز أن يختلف اللفظ فيه كما يقال عندي من النساء من يوافقك.
السؤال الثاني: يقال ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك وقد ذكر الجنسين فكيف قال تركبون؟ والجواب: غلب المتعدي بغير واسطة لقوته على المعتدي بواسطة.
ثم قال تعالى: * (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) * ومعنى ذكر نعمة الله، أن يذكروها في قلوبهم، وذلك الذكر هو أن يعرف أن الله تعالى خلق وجه البحر، وخلق الرياح، وخلق جرم السفينة على وجه يتمكن الإنسان من تصريف هذه السفينة إلى أي جانب شاء وأراد، فإذا تذكروا أن خلق البحر، وخلق الرياح، وخلق السفينة على هذه الوجوه القابلة لتصريفات الإنسان ولتحريكاته ليس من تدبير ذلك الإنسان، وإنما هو من تدبير الحكيم العليم القدير، عرف أن ذلك نعمة عظيمة من الله تعالى، فيحمله ذلك على الانقياد والطاعة له تعالى، وعلى الاشتغال بالشكر لنعمه التي لا نهاية لها.
ثم قال تعالى: * (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) *.
واعلم أنه تعالى عين ذكرا معينا لركوب السفينة، وهو قوله * (بسم الله مجراها ومرساها) * (هود: 41) وذكرا آخر لركوب الأنعام، وهو قوله * (سبحان الذي سخر لنا هذا) * وذكر عند دخول المنازل
198

ذكرا آخر، وهو قوله * (رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين) * (المؤمنون: 29) وتحقيق القول فيه أن الدابة التي يركبها الإنسان، لا بد وأن تكون أكثر قوة من الإنسان بكثير، وليس لها عقل يهديها إلى طاعة الإنسان، ولكنه سبحانه خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع، أما خلقها الظاهر: فلأنها تمشي على أربع قوائم، فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه، وأما خلقها الباطن، فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها الله سبحانه بحث تصير منقادة للإنسان ومسخرة له، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار، عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية، فلا بد وأن يقول * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) * قال أبو عبيدة: فلان مقرن لفلان، أي ضابط له. قال الواحدي: وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرنا، ومعن أنا قرن لفلان، أي مثاله في الشدة، فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها
، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته، روى صاحب " الكشاف ": عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال: " بسم الله، فإذا استوى على الدابة، قال الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا، إلى قوله لمنقلبون " وروى القاضي في " تفسيره ": عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام: رأى رجلا ركب دابة، فقال سبحان الذي من علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول: سبحان الذي سخر لنا هذا، وروي أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنه كان إذا سافر وركب راحلته، كبر ثلاثا، ثم يقول: سبحان الذي سخر لنا هذا، ثم قال: اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا السفر واطو عنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا، وأخلفنا في أهلنا " وكان إذا رجع إلى أهله يقول " آيبون تائبون، لربنا حامدون " قال صاحب " الكشاف ": دلت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول: أنه تعالى قال: * (لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم) * فذكره بلام كي، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل، وهذا يدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه، وأراد الإصرار على الإنكار الثاني: أن قوله * (لتستووا) * يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث: أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد، فلو كان فعل العبد فعلا لله تعالى، لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان الله في لسان العبد: وهذا باطل، لأنه تعالى قارد على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسايط.
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم، فلا فائدة في الإعادة.
199

ثم قال تعالى: * (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) * واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك، فإنه كثيرا ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضا كذلك لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب، وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، وأن يقطع أنه هالك لا محالة، وأنه منقلب إلى الله تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره، حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت.
قوله تعالى
* (وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشأ فى الحلية وهو فى الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسالون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم) * (الزخرف: 9) بين أنهم مع إقرارهم بذلك، جعلوا له من عباده جزءا والمقصود منه التنبيه على قلة عقولهم وسخافة عقولهم. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: قرأ عاصم في رواية أبي بكر: * (جزء) * بضم الزاي والهمزة في كل القرآن وهما لغتان، وأما حمزة فإذا وقف عليه قال جزا بفتح الزاي بلا همزة.
المسألة الثانية: في المراد من قوله * (وجعلوا له من عباده جزءا) * قولان: الأول: وهو المشهور أن المراد أنهم أثبتوا له ولدا، وتقرير الكلام أن ولد الرجل جزء منه، قال عليه السلام: " فاطمة بضعة مني " ولأن المعقول من الوالد أن ينفصل عنه جزء من أجزائه، ثم يتربى ذلك الجزء ويتولد منه شخص مثل ذلك أوصل، وإذا كان كذلك فولد الرجل جزء منه وبعض منه،
200

فقوله * (وجعلوا له من عباده جزءا) * معنى جعلوا حكموا وأثبتوا وقالوا به، والمعنى أنهم أثبتوا له جزءا، وذلك الجزء هو عبد من عباده.
واعلم أنه لو قال وجعلوا لعباده منه جزءا، أفاد ذلك أنهم أثبتوا أنه حصل جزء من أجزائه في بعض عباده وذلك هو الولد، فكذا قوله * (وجعلوا له من عباده جزءا) * معناه وأثبتوا له جزءا، وذلك الجزء هو عبد من عباده، والحاصل أنهم أثبتوا لله ولدا، وذكروا في تقرير هذا القول وجوها أخر، فقالوا الجزء هو الأنثى في لغة العرب، واحتجوا في إثبات هذه اللغة ببيتين فالأول قوله: إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكاة أحيانا وقوله: زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبياتها غزل وزعم الزجاج والأزهري وصاحب " الكشاف ": أن هذه اللغة فاسدة، وأن هذه الأبيات مصنوعة والقول الثاني: في تفسير الآية أن المراد من قوله * (وجعلوا له من عباده جزءا) * إثبات الشركاء لله، وذلك لأنهم لما أثبتوا الشركاء لله تعالى فقد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله، وبعضها لغير الله، فهم ما جعلوا لله من عباده كلهم، بل جعلوا له منهم بعضا وجزءا منهم، قالوا والذي يدل على أن هذا القول أولى من الأول، أنا إذا حملنا هذه الآية على إنكار الشريك لله، وحملنا الآية التي بعدها إلى إنكار الولد لله، كانت الآية جامعة للرد على جميع المبطلين.
ثم قال تعالى: * (أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) *.
واعلم أنه تعالى رتب هذه المناظرة على أحسن الوجوه، وذلك لأنه تعالى بين أن إثبات الولد لله محال، وبتقدير أن يثبت الولد فجعله بنتا أيضا محال، أما بيان أن إثبات الولد لله محال، فلأن الولد لا بد وأن يكون جزءا من الوالد، وما كان له جزء كان مركبا، وكل مركب ممكن، وأيضا ما كان كذلك فإنه يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، وما كان كذلك فهو عبد محدث، فلا يكون إلها قديما أزليا.
وأما المقام الثاني: وهو أن بتقدير ثبوت الولد فإنه يمتنع كونه بنتا، وذلك أن الابن أفضل من البنت، فلو قلنا إنه اتخذ لنفسه البنات وأعطى البنين لعباده، لزم أن يكون حال العبد أكمل وأفضل من حال الله، وذلك مدفوع في بديهة العقل، يقال أصفيت فلانا بكذا، أي آثرته به إيثارا حصل له على سبيل الصفاء من غير أن يكون له فيه
مشارك، وهو كقوله * (أفأصفاكم ربكم بالبنين) * (الإسراء: 40) ثم بين نقصان البنات من وجوه الأول: قوله * (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * والمعنى أن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد كيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى! وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:
201

ما لأبي حمزة لا يأتينا يظل في البيت الذي يلينا غضبان أن لا نلد البنينا
ليس لنا من أمرنا ماشينا وإنما نأخذ ما أعطينا
وقوله * (ظل) * أي صار، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة، قال صاحب " الكشاف ": قرىء مسود مسواد، والتقدير وهو مسود، فتقع هذه الجملة موقع الخبر والثاني: قوله * (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ينشؤ بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين على ما لم يسم فاعله، أي يربى، والباقون ينشأ، بضم الياء وسكون النون وفتح الشين، قال صاحب " الكشاف ": وقرئ يناشأ، قال ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء، المغالاة بمعنى الإغلاء.
المسألة الثانية: المراد من قوله * (أو من ينشأ في الحلية) * التنبيه على نقصانها، وهو أن الذي يربى في الحلية يكون ناقص الذات، لأنه لولا نقصان في ذاتها لما احتاجت إلى تزيين نفسها بالحلية، ثم بين نقصان حالها بطريق آخر، وهو قوله * (وهو في الخصام غير مبين) * يعني أنها إذا احتاجت المخاصمة والمنازعة عجزت وكانت غير مبين، وذلك لضعف لسانها وقلة عقلها وبلادة طبعها، ويقال قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بما كان حجة عليها، فهذه الوجوه دالة على كمال نقصها، فكيف يجوز إضافتهن بالولدية إليه!.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن التحلي مباح للنساء، وأنه حرام للرجال، لأنه تعالى جعل ذلك من المعايب وموجبات النقصان، وإقدام الرجل عليه يكون إلقاء لنفسه في الذل وذلك حرام، لقوله عليه السلام: " ليس للمؤمن أن يذل نفسه " وإنما زينة الرجل الصبر على طاعة الله، والتزين بزينة التقوى، قال الشافعي:
تدرعت يوما للقنوع حصينة * أصون بها عرضي أو جعلها ذخرا
ولم أحذر الدهر الخئون وإنما * قصاراه أن يرمي بي الموت والفقرا
فأعددت للموت الإله وعفوه * وأعددت للفقر التجلد والصبرا
ثم قال تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المراد بقوله: * (جعلوا) *، أي حكموا به، ثم قال: * (أشهدوا خلقهم) * وهذا استفهام على سبيل الإنكار، يعني أنهم لم يشهدوا خلقهم، وهذا مما لا سبيل إلى معرفته بالدلائل العقلية، وأما الدلائل النقلية فكلها مفرعة على إثبات النبوة، وهؤلاء الكفار منكرون للنبوة، فلا سبيل لهم إلى إثبات هذا المطلوب بالدلائل النقلية، فثبت أنهم ذكروا هذه الدعوى من غير أن عرفوه لا بضرورة ولا بدليل، ثم إنه تعالى هددهم فقال: * (ستكتب شهادتهم ويسألون) * وهذا يدل على أن القول بغير دليل منكر، وأن التقليد يوجب الذم العظيم والعقاب الشديد.
قال أهل
202

التحقيق: هؤلاء الكفار كفروا في هذا القول من ثلاثة أوجه أولها: إثبات الولد لله تعالى وثانيها: أن ذلك الولد بنت وثالثها: الحكم على الملائكة بالأنوثة.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن كثير وابن عامر: (عند الرحمن) بالنون، وهو اختيار أبي حاتم واحتج عليه بوجوه الأول: أنه يوافق قوله * (إن الذين عند ربك) * (الأعراف: 206) وقوله * (ومن عنده) * (الأنبياء: 19) والثاني: أن كل الخلق عباده فلا مدح لهم فيه والثالث: أن التقدير أن الملائكة يكونون عند الرحمن، لا عند هؤلاء الكفار، فكيف عرفوا كونهم إناثا؟ وأما الباقون فقرأوا عباد جمع عبد وقيل جمع عابد، كقائم وقيام، وصائم وصيام، ونائم ونيام، وهي قراءة ابن عباس، واختيار أبي عبيد، قال لأنه تعالى رد عليهم قولهم: إنهم بنات الله، وأخبر أنهم عبيد، ويؤيد هذه القراءة قوله * (بل عباد مكرمون) * (الأنبياء: 26).
المسألة الثالثة: قرأ نافع وحده: * (آأشهدوا) * بهمزة ومدة بعدها خفيفة لينة وضمة، أي (أ) أحضروا خلقهم، وعن نافع غير ممدود على ما لم يسم فاعله، والباقون: أشهدوا، بفتح الألف، من (أ) شهدوا، أي أحضروا.
المسألة الرابعة: احتج من قال بتفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية، فقال أما قراءة (عند) بالنون، فهذه العندية لا شك أنها عندية الفضل والقرب من الله تعالى بسبب الطاعة، ولفظة * (هم) * توجب الحصر، والمعنى أنهم هم الموصوفون بهذه العندية لا غيرهم، فوجب كونهم أفضل من غيرهم رعاية للفظ الدال على الحصر، وأما من قرأ (عباد) جمع العبد، فقد ذكرنا أن لفظ العباد مخصوص في القرآن بالمؤمنين فقوله * (هم عباد الرحمن) * يفيد حصر العبودية فيهم، فإذا كان اللفظ الدال على العبودية دالا على الفضل والشرف، كان اللفظ الدال على حصر العبودية دالا على حصر الفضل والمنقبة والشرف فيهم وذلك يوجب كونهم أفضل من غيرهم والله أعلم.
قوله تعالى
* (وقالوا لو شآء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون * أم ءاتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مهتدون
203

* وكذلك مآ أرسلنا من قبلك فى قرية من نذير إلا قال مترفوهآ إنا وجدنآ ءابآءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون * قل أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءابآءكم قالوا إنا بمآ أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) *.
اعلم أنه تعالى حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم، وهو أنهم قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم، وفيه مسائل: المسألة الأولى: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على فساد قول المجبرة في أن كفر الكافر يقع بإرادة الله من وجهين الأول: أنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا * (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * وهذا صريح قول المجبرة، ثم إنه تعالى أبطله بقوله * (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * فثبت أنه حكى مذهب المجبرة، ثم أردفه بالإبطال والإفساد، فثبت أن هذا المذهب باطل، ونظيره قوله تعالى في سورة الأنعام: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) * إلى قوله * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) *، (الأنعام: 148) والوجه الثاني: أنه تعالى حكى عنهم قبل هذه الآية أنواع كفرهم فأولها: قوله * (وجعلوا له من عباده جزءا) * (الزخرف: 15)، وثانيها: قوله * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19)، وثالثها: قوله تعالى: * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * فلما حكى هذه الأقاويل الثلاثة بعضها على إثر بعض، وثبت أن القولين الأولين كفر محض فكذلك هذا القول الثالث يجب أن يكون كفرا، واعلم أن الواحدي أجاب في " البسيط " عنه من وجهين الأول: ما ذكره الزجاج: وهو أن قوله تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * عائد إلى قولهم الملائكة إناث وإلى قولهم الملائكة بنات الله والثاني: أنهم أرادوا بقولهم * (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * أنه أمرنا بذلك، وأنه رضي بذلك، وأقرنا عليه، فأنكر ذلك عليهم، فهذا ما ذكره الواحدي في الجواب، وعندي هذان الوجهان ضعيفان أما الأول: فلأنه تعالى حكى عن القوم قولين باطلين، وبين وجه بطلانهما، ثم حكى بعده مذهبا ثالثا في مسألة أجنبية عن المسألتين الأوليين، ثم حكم بالبطلان والوعيد فصرف هذا الإبطال عن هذا الذي ذكره عقيبه إلى كلام متقدم أجنبي عنه في غاية البعد وأما الوجه الثاني: فهو أيضا ضعيف، لأن قوله * (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * ليس فيه بيان متعلق بتلك المشيئة، والإجمال خلاف الدليل، فوجب أن يكون التقدير لو شاء الله ألا نعبدهم ما عبدناهم، وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فهذا يدل على أنه لم توجد مشيئة الله لعدم عبادتهم، وهذا عين مذهب المجبرة، فالإبطال والإفساد يرجع إلى هذا
204

المعنى، ومن الناس من أجاب عن هذا الاستدلال بأن قال إنهم إنما ذكروا ذلك الكلام على سبيل الاستهزاء والسخرية، فلهذا السبب استوجبوا الطعن والذم، وأجاب صاحب " الكشاف " عنه من وجهين الأول: أنه ليس في اللفظ ما يدل على أنهم قالوا مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل الثاني: أنه تعالى حكى عنهم ثلاثة أشياء وهي: أنهم جعلوا له من عباده جزءا وأنهم جعلوا الملائكة إناثا، وأنهم قالوا * (لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * فلو قلنا بأنه إنما جاء الذم على القول الثالث لأنهم ذكروه على طريق الجد، وجب أن يكون الحال في حكاية القولين الأولين كذلك، فلزم أنهم لو نطقوا بتلك الأشياء على سبيل الجد أن يكونوا محقين، ومعلوم أنه كفر، وأما القول بأن الطعن في القولين الأولين إنما توجه على نفس ذلك القول، وفي القول الثالث لا على نفسه بل على سبيل الاستهزاء، فهذا يوجب تشويش النظم، وأنه لا يجوز في كلام الله.
واعلم أن الجواب الحق عندي عن هذا الكلام ما ذكرناه في سورة الأنعام، وهو أن القوم إنما ذكروا هذا الكلام لأنهم استدلوا بمشيئة الله تعالى للكفر على أنه لا يجوز ورود الأمر بالإيمان فاعتقدوا أن الأمر والإرادة يجب كونهما متطابقين، وعندنا أن هذا باطل فالقوم لم يستحقوا الذم بمجرد قولهم إن الله يريد الكفر من الكافر بل لأجل أنهم قالوا لما أراد الكفر من الكافر وجب أن يقبح منه أمر الكافر بالإيمان، وإذا صرفنا الذم والطعن إلى هذا المقام سقط استدلال المعتزلة بهذه الآية، وتمام التقرير مذكور في سورة الأنعام والله أعلم.
المسألة الثانية: أنه تعالى لما حكى عنهم ذلك المذهب الباطل قال: * (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * وتقريره كأنه قيل إن القوم يقولون لما أراد الله الكفر من الكافر وخلق فيه ما أوجب ذلك الكفر وجب أن يقبح منه أن يأمره بالإيمان لأن مثل هذا التكليف قبيح في الشاهد فيكون قبيحا في الغائب فقال تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * أي ما لهم بصحة هذا القياس من علم، وذلك لأن أفعال الواحد منا وأحكامه مبنية على رعاية المصالح والمفاسد لأجل أن كل ما سوى الله فإنه ينتفع بحصول المصالح ويستضر بحصول المفاسد، فلا جرم أن صريح طبعه وعقله يحمله على بناء أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا ينفعه شيء ولا يضره شيء فكيف يمكن القطع بأنه تعالى يبني أحكامه وأفعاله على رعاية المصالح مع ظهور هذا الفارق العظيم فقوله تعالى: * (ما لهم بذلك من علم) * أي ما لهم بصحة قياس الغائب على الشاهد في هذا الباب علم.
ثم قال: * (إن هم إلا يخرصون) * أي كما لم يثبت لهم صحة ذلك القياس فقد ثبت بالبرهان القاطع كونهم كذابين خراصين في ذلك القياس لأن قياس المنزه عن النفع والضر من كل الوجوه على المحتاج المنتفع المتضرر قياس باطل في بديهة العقل.
205

ثم قال: * (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) * يعني أن القول الباطل الذي حكاه الله تعالى عنهم عرفوا صحته بالعقل أو بالنقل، أما إثباته بالعقل فهو باطل لقوله * (ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون) * وأما إثباته بالنقل فهو أيضا بالطل لقوله * (أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون) * والضمير في قوله * (من قبله) * للقرآن أو للرسول، والمعنى أنهم (هل) وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزل قبل القرآن حتى جاز لهم أن يعولوا عليه، وأن يتمسكوا به، والمقصود منه ذكره في معرض الإنكار، ولما ثبت أنه لم يدل عليه لا دليل عقلي ولا دليل نقلي وجب أن يكون القول به باطلا.
ثم قال تعالى: * (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون) * والمقصود أنه تعالى لما بين أن تمسك الجهال بطريقة التقليد أمر كان حاصلا من قديم الدهر فقال: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * وفي الآية مسائل: المسألة الأولى:
قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (على إمة) * بالكسر وكلتاهما من الأم وهو القصد، فالأمة الطريقة التي تؤم أي تقصد كالرحلة للمرحول إليه، والإمة الحالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد.
المسألة الثانية: لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات لكفت في إبطال القول بالتقليد وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه لا بطريق عقلي ولا بدليل نقلي، ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف، وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل، ومما يدل عليه أيضا من حيث العقل أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق وذلك لأنه كم حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة فلو كان التقليد طريقا إلى الحق لوجب كون الشيء ونقيضه حقا ومعلوم أن ذلك باطل.
المسألة الثالثة: أنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا وحب الكسل والبطالة وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال لقوله * (إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة) * والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة أي أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق، وإذا عرفت هذا علمت أن رأسي جميع الآفات حب الدنيا واللذات الجسمانية ورأس جميع الخيرات هو حب الله والدار الآخرة، فلهذا قال عليه السلام: " حب الدنيا رأس كل خطيئة ".
ثم قال تعالى لرسوله: * (قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم) * أي بدين أهدى من دين آبائكم فعند هذات حكى الله عنهم أنهم قالوا إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما
206

هو أهدى * (فإنما بما أرسلتم به كافرون) * وإن كان أهدى مما كنا عليه، فعند هذا لم يبق لهم عذر ولا علة، فلهذا قال تعالى: * (فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين) * والمراد منه تهديد الكفار والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذ قال إبراهيم لابيه وقومه إننى برآء مما تعبدون * إلا الذى فطرنى فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون * بل متعت هؤلاء وءابآءهم حتى جآءهم الحق ورسول مبين * ولما جآءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) *.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أنه ليس لأولئك الكفار داع يدعوهم إلى تلك الأقاويل الباطلة إلا تقليد الآباء والأسلاف، ثم بين أنه طريق باطل ومنهج فاسد، وأن الرجوع إلى الدليل أولى من الاعتماد على التقليد، أردفه بهذه الآية والمقصود منها ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد وتقريره من وجهين: الأول: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تبرأ عن دين آبائه بناء على الدليل فنقول: إما أن يكون تقليد الآباء في الأديان محرما أو جائزا، فإن كان محرما فقد بطل القول بالتقليد، وإن كان جائزا فمعلوم أن أشرف آباء العرب هو إبراهيم عليه السلام، وذلك لأنهم ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده، وإذا كان كذلك فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء، وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره فنقول إنه ترك دين الآباء، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء، وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد، وإذا ثبت هذا فنقول: فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا، فهذا طريق رقيق في إبطال التقليد وهو المراد بهذه الآية.
الوجه الثاني: في بيان أن ترك التقليد والرجوع إلى متابعة الدليل أولى في الدنيا وفي الدين، أنه تعالى بين أن إبراهيم عليه السلام لما عدل عن طريقة أبيه إلى متابعة الدليل لا جرم جعل الله دينه ومذهبه باقيا في عقبه إلى يوم القيامة، وأما أديان آبائه فقد اندرست وبطلت، فثبت أن
207

الرجوع إلى متابعة الدليل يبقى محمود الأثر إلى قيام الساعة، وأن التقليد والإصرار ينقطع أثره ولا يبقى منه في الدنيا خير ولا أير، فثبت من هذين الوجهين أن متابعة الدليل وترك التقليد أولى، فهذا بيان المقصود الأصلي من هذه الآية، ولنرجع إلى تفسير ألفاظ الآية.
أما قوله * (إنني براء مما تعبدون) * فقال الكسائي والفراء والمبرد والزجاج * (براء) * مصدر لا يثنى وا يجمع مثل عدل ورضا وتقول العرب أنا البراء منك والخلاء منك ونحن الراء منك والخلاء ولا يقولون البراآن ولا البرؤن لأن المعنى ذوا البراء وذوو البراء فإن قلت برئ وخلى ثنيت وجمعت. ثم استثنى خالقه من البراءة فقال: * (إلا الذي فطرني) * والمعنى أنا أتبرأ مما تعبدون إلا من الله عز وجل، ويجوز أن يكون إلا بمعنى لكن فيكون المعنى لكن الذي فطرني فإنه سيهدين أي سيرشدني لدينه ويوفقني لطاعته.
واعلم أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام في آية أخرى أنه قال: * (الذي خلقني فهو يهدين) * (الشعراء: 78) وحكى عنه ههنا أنه قال: * (سيهدين) * فأجمع بينهما وقدر كأنه قال: فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال * (وجعلها) * أي وجعل إبراهيم كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله * (إنني براء مما تعبدون) * جاريا مجرى لا إله وقوله * (إلا الذي فطرني) * جاريا مجرى قوله إلا الله فكان مجموع قوله * (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) * جاريا مجرى قوله لا إله إلا الله ثم بين تعالى أن إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في عقبه أي في ذريته فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده * (لعلهم يرجعون) * أي لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم، وقيل وجعلها الله، وقرئ كلمة على التخفيف وفي عقيبه.
ثم قال تعالى: * (بل متعت هؤلاء وآباءهم) * يعني أهل مكة وهم عقب إبراهيم بالمد في العمر والنعمة فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد * (حتى جاءهم الحق) * وهو القرآن * (ورسول مبين) * بين الرسالة وأوضحها بما معه من الآيات والبينات فكذبوا به وسموه ساحرا وما
جاء به سحرا وكفروا به، ووجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق، قال صاحب " الكشاف ": إن قيل ما وجه قراءة من قرأ متعت بفتح التاء؟ قلنا كأن الله سبحانه اعترض على ذاته في قوله * (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * فقال بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد، وأراد بذلك المبالغة في تعييرهم لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه ثم يقبل على نفسه فيقول أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك إليه، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسئ لا تقبيح فعل نفسه.
208

قوله تعالى
* (وقالوا لولا نزل هذا القرءان على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) *.
اعلم أن هذا هو النوع الرابع: من كفرياتهم التي حكاها الله تعالى عنهم في هذه السورة، وهؤلاء المساكين قالوا منصب رسالة الله منصب شريف فلا يليق إلا برجل شريف، وقد صدقوا في ذلك إلا أنهم ضموا إليه مقدمة فاسدة وهي أن الرجل الشريف هو الذي يكون كثير المال والجاه ومحمد ليس كذلك فلا تليق رسالة الله به، وإنما يليق هذا المنصب برجل عظيم الجاه كثير المال في إحدى القريتين وهي مكة والطائف، قال المفسرون والذي بمكة هو الوليد بن المغيرة والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي، ثم أبطل الله تعالى هذه الشبهة من وجهين الأول: قوله * (أهم يقسمون رحمت ربك) * وتقرير هذا الجواب من وجوه أحدها: أنا أوقعنا التفاوت في مناصب الدنيا ولم يقدر أحد من الخلق على تغييره فالتفاوت الذي أوقعناه في مناصب الدين والنبوة بأن لا يقدروا على التصريف فيه كان أولى وثانيها: أن يكون المراد أن اختصاص ذلك الغنى بذلك المال الكثير إنما كان لأجل حكمنا وفضلنا وإحساننا إليه، فكيف يليق بالعقل أن نجعل إحساننا إليه بكثرة المال حجة علينا في أن نحسن إليه أيضا بالنبوة؟ وثالثها: إنا لما أوقعنا التفاوت في الإحسان بمناصب الدنيا لا لسبب سابق فلم لا يجوز أيضا أن نوقع التفاوت في الإحسان بمناصب الدين والنبوة لا لسبب سابق؟ فهذا تقرير الجواب، ونرجع إلى تفسير الألفاظ فنقول الهمزة في قوله * (أهم يقسمون رحمت ربك) * للإنكار الدال على التجهيل والتعجب من إعراضهم وتحكمهم أن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوة، ثم ضرب لهذا مثالا فقال: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أنا أوقعنا هذا التفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول، وإنما فعلنا ذلك لأنا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم
209

يخدم أحد أحدا ولم يصر أحد منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا، ثم إن أحدا من الخلق لم يقدر على تغيير حكمنا ولا على الخروج عن قضائنا، فإن عجزوا عن الإعراض عن حكمنا في أحوال الدنيا مع قلتها ودناءتها، فكيف يمكنهم الاعتراض على حكمنا وقضائنا في تخصيص العباد بمنصب النبوة والرسالة؟.
المسألة الثانية: قوله تعالى: * (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) * يقتضي أن تكون كل أقسام معايشهم إنما تحصل بحكم الله وتقديره، وهذا يقتضي أن يكون الرزق الحرام والحلال كله من الله تعالى والوجه الثاني: في الجواب ما هو المراد من قوله * (ورحمت ربك خير مما يجمعون) *؟، وتقريره أن الله تعالى إذا خص بعض عبيده بنوع فضله ورحمته في الدين فهذه الرحمة خير من الأموال التي يجمعها لأن الدنيا على شرف الانقضاء والانقراض وفضل الله ورحمته تبقى أبد الآباد.
قوله تعالى
* (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا والاخرة عند ربك للمتقين * ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون * حتى إذا جآءنا قال ياليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين * ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم فى العذاب مشتركون) *.
في الآية مسائل:
210

المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى أجاب عن الشبهة التي ذكروها بناء على تفضيل الغني على الفقير بوجه ثالث وهو أنه تعالى بين أن منافع الدنيا وطيباتها حقيرة خسيسة عند الله وبين حقارتها بقوله * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) * والمعنى لولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الخير والرزق لأعطيتهم أكثر الأسباب المفيدة للتنعم أحدها: أن يكون سقفهم من فضة وثانيها: معارج أيضا من فضة عليها يظهرون وثالثها: أن نجعل لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا أيضا من فضة عليها يتكئون.
ثم قال: * (وزخرفا) * وله تفسيران أحدها: أنه الذهب والثاني: أنه الزينة، بدليل قوله تعالى: * (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت) * (يونس: 24) فعلى التقدير الأول يكون المعنى ونجعل بهم مع ذلك ذهبا كثيرا، وعلى الثاني أنا نعطيهم زينة عظيمة في كل باب، ثم بين تعالى أن كل ذلك متاع الحياة الدنيا، وإنما سماه متاعا لأن الإنسان يستمتع به قليلا ثم ينقضي في الحال، وأما الآخرة فهي باقية دائمة، وهي عند الله تعالى وفي حكمه للمتقين عن حب الدنيا المقبلين على حب المولى، وحاصل الجواب أن أولئك الجهال ظنوا أن الرجل الغني أولى بمنصب الرسالة من محمد بسبب فقره، فبين تعالى أن المال والجاه حقيران عند الله، وأنهما
شرف الزوال فحصولهما لا يفيد حصول الشرف والله أعلم.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير وأبو عمرو * (سقفا) * بفتح السين وسكون القاف على لفظ الواحد لإرادة الجنس، كما في قوله * (فخر عليهم السقف من فوقهم) * (النحل: 26) والباقون سقفا على الجمع واختلفوا فقيل هو جمع سقف، كرهن ورهن، قال أبو عبيد: ولا ثالث لهما، وقيل السقف جمع سقوف، كرهن ورهون وزبر وزبور، فهو جمع الجمع.
المسألة الثالثة: قوله * (لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم) * فقوله * (لبيوتهم) * بدل اشتمال من قوله * (لمن يكفر) * قال صاحب " الكشاف ": قرىء معارج ومعاريج، والمعارج كمع معرج، أو اسم جمع لمعراج، وهي المصاعد إلى المساكن العالية كالدرج والسلالم عليها يظهرون، أي على تلك المعارج يطهرون، وفي نصب قوله * (وزخرفا) * قولان: قيل لجعلنا لبيوتهم سقفا من فضة، ولجعلنا لهم زخرفا وقيل من فضة وزخرف، فلما حذف الخافض انتصب.
وأما قوله * (وإن كل ذلك لمتاع الحياة الدنيا) * قرأ عاصم وحمزة * (لما) * بتشديد الميم، والباقون بالتخفيف، وأما قراءة حمزة بالتشديد فإنه جعل لما في معنى إلا، وحكى سيبويه: نشدتك بالله لما فعلت، بمعنى إلا فعلت، ويقوي هذه القراءة أن في حرف أبي، وما ذلك إلا متاع الحياة الدنيا، وهذا يدل على أن لما بمعنى إلا، وأما القراءة بالتخفيف، فقال الواحدي لفظة ما لغو، والتقدير لمتاع الحياة الدنيا، قال أبو الحسن: الوجه التخفيف، لأن لما بمعنى إلا لا تعرف، وحكي عن الكسائي أنه قال: لا أعرف وجه التثقيل.
211

المسألة الرابعة: قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه تعالى إنما لم يعط الناس نعم الدنيا، لأجل أنه لو فعل بهم ذلك لدعاهم ذلك إلى الكفر، فهو تعالى لم يفعل بهم ذلك لأجل أن يدعوهم إلى الكفر، وهذا يدل على أحكام أحدها: أنه إذا لم يفعل بهم ما يدعوهم إلى الكفر فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى وثانيها: أنه ثبت أن فعل الله قائم مقام إزاحة العذر والعلة، فلما بين تعالى أنه لم يفعل ذلك إزاحة للعذر والعلة عنهم، دل ذلك على أنه يجب أن يفعل بهم كل ما كان لطفا داعيا لهم إلى الإيمان، فصارت هذه الآية من هذا الوجه دالة على أنه يجب على الله تعالى فعل اللطف وثالثها: أنه ثبت بهذه الآية، أن الله تعالى إنما يفعل ما يفعله ويترك ما يتركه لأجل حكمة ومصلحة، وذلك يدل على تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله بالمصالح والعلل، فإن قيل لما بين تعالى أنه لو فتح على الكافر أبواب النعم، لصار ذلك سببا لاجتماع الناس على الكفر، فلم لم يفعل ذلك بالمسلمين حتى يصير ذلك سببا لاجتماع الناس على الإسلام؟ قلنا لأن الناس على هذا التقدير كانوا يجتمعون على الإسلام لطلب الدنيا، وهذا الإيمان إيمان المنافقين، فكان الأصوب أن يضيق الأمر على المسلمين، حتى أن كل من دخل الإسلام، فإنما يدخل فيه لمتابعة الدليل ولطلب رضوان الله تعالى، فحينئذ يعظم ثوابه لهذا السبب.
ثم قال تعالى: * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين) * والمراد منه التنبيه على آفات الدنيا، وذلك أن من فاز بالمال والجاه صار كالأعشى عن ذكر الله، ومن صار كذلك صار من جلساء الشياطين الضالين المضلين، فهذا وجه تعلق هذا الكلام بما قبله، قال صاحب " الكشاف ": قرىء * (ومن يعش) * بضم الشين وفتحها، والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل عشي، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به، قيل عشى ونظيره عرج لمن به الآفة، وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج، قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
أي تنظر إليه نظر العشي، لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء، وقرئ يعشو على أن من موصولة غير مضنة معنى الشرط، وحق هذا القارئ أن يرفع * (نقيض) * ومعنى القراءة بالفتح، ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو القرآن، كقوله * (صم بكم عمي) * (البقرة: 18) وأما القراءة بالضم فمعناها ومن يتعام عن ذكره، أي يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتعامى، كقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (النمل: 14)، و * (نقيض له شيطانا) * قال مقاتل: نضم إليه شيطانا * (فهو له قرين) *.
ثم قال: * (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) * يعني وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى والحق وذكر الكناية عن الإنسان والشياطين بلفظ الجمع، لأن قوله * (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا) * يفيد الجمع، وإن كان اللفظ على الواحد * (ويحسبون أنهم مهتدون) * يعني الشياطين يصدون الكفار عن السبيل، والكفار يحسبون أنهم مهتدون، ثم عاد إلى لفظ الواحد، فقال:
212

* (حتى إذا جاءنا) * يعني الكافر، وقرئ (جاءانا)، يعني الكافر وشيطانه، روي أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطانه بيده، فلم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار، فذلك حيث يقول * (يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين) * والمراد يا ليت حصل بيني وبينك بعد على أعظم الوجوه، واختلفوا في تفسير قوله * (بعد المشرقين) * وذكروا فيه وجوها الأول: قال الأكثرون: المراد بعد المشرق والمغرب، ومن عادة العرب تسمية الشيئين المتقابلين باسم أحدهما، قال الفرزدق:
لنا قمراها والنجوم الطوالع
يريد الشمس والقمر، ويقولون للكوفة والبصرة: البصرتان، وللغداة والعصر: العصران، ولأبي بكر وعمر: العمران، وللماء والتمر: الأسودان الثاني: أن أهل النجوم يقولون: الحركة التي تكون من المشرق إلى المغرب، هي حركة الفلك الأعظم، والحركة التي من المغرب إلى المشرق، هي حركة الكواكب الثابتة، وحركة الأفلاك الممثلة التي للسيارات سوى القمر، وإذا كان كذلك فالمشرق والمغرب كل واحد منهما مشرق بالنسبة إلى شيء آخر، فثبت أن إطلاق لفظ المشرق على كل واحد من الجهتين حقيقة الثالث: قالوا يحمل ذلك على مشرق الصيف ومشرق الشتاء وبينهما بعد عظيم، وهذا بعيد عندي، لأن المقصود من قوله * (يا ليت بيني وبينك بعد
المشرقين) * المبالغة في حصول البعد، وهذه المبالغة إنما تحصل عن ذكر بعد لا يمكن وجود بعد آخر أزيد منه، والبعد بين مشرق الصيف ومشرق الشتاء ليس كذلك، فيبعد حمل اللفظ عليه الرابع: وهو أن الحس يدل على أن الحركة اليومية إنما تحصل بطلوع الشمس من المشرق إلى المغرب، وأما القمر فإنه يظهر في أول الشهر في جانب المغرب، ثم لا يزال يتقدم إلى جانب المشرق، وذلك يدل على أن مشرق حركة القمر هو المغرب، وإذا ثبت هذا فالجانب المسمى بالمشرق هو مشرق الشمس، ولكنه مغرب القمر، وأما الجانب المسمى بالمغرب، فإنه مشرق القمر ولكنه مغرب الشمس، وبهذا التقدير يصح تسمية المشرق والمغرب بالمشرقين، ولعل هذا الوجه أقرب إلى مطابقة اللفظ ورعاية المقصود من سائر الوجوه، والله أعلم. ثم قال تعالى: * (فبئس القرين) * أي الكافر يقول لذلك الشيطان يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت، فهذا ما يتعلق بتفسير الألفاظ، والمقصود من هذا الكلام تحقير الدنيا وبيان ما في المال والجاه من المضار العظيمة، وذلك لأن كثرة المال والجاه تجعل الإنسان كالأعشى عن مطالعة ذكر الله تعالى ومن صار كذلك صار جليسا للشيطان ومن صار كذلك ضل عن سبيل الهدى والحق وبقي جليس الشيطان في الدنيا وفي القيامة، ومجالسة الشيطان حالة توجب الضرر الشديد في القيامة بحيث يقول الكافر يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين أنت فثبت بما ذكرنا أن كثرة المال والجاه توجب كمال النقصان والحرمان في الدين والدنيا، وإذا ظهر هذا فقد ظهر أن الذين قالوا * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31)، قالوا كلاما
213

فاسدا وشبهة باطلة.
ثم قال تعالى: * (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) * فقوله * (أنكم) * في محل الرفع على الفاعلية يعني ولن ينفعكم اليوم كونكم مشتركين في العذاب والسبب فيه أن الناس يقولون المصيبة إذا عمت طابت، وقالت الخنساء في هذا المعنى: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي فبين تعالى أن حصول الشركة في ذلك العذاب لا يفيد التخفيف كما كان يفيده في الدنيا والسبب فيه وجوه الأول: أن ذلك العذاب شديد فاشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جرم الشركة لا تفيد الخفة الثاني: أن قوما إذا اشتركوا في العذاب أعان كل واحد منهم صاحبه بما قدر عليه فيحصل بسببه بعض التخفيف وهذا المعنى متعذر في القيامة الثالث: أن جلوس الإنسان مع قرينه يفيده أنواعا كثيرة من السلوة. فبين تعالى أن الشيطان وإن كان قرينا إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقبة وفي كتاب ابن مجاهد عن ابن عامر قرأ * (إذا ظلمتم إنكم) * بكسر الألف وقرأ الباقون أنكم بفتح الألف والله أعلم.
قوله تعالى
* (أفأنت تسمع الصم أو تهدى العمى ومن كان فى ضلال مبين * فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون * أو نرينك الذى وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون * فاستمسك بالذى أوحى إليك إنك على صراط مستقيم * وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسالون * واسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنآ أجعلنا من دون الرحمن ءالهة يعبدون) *.
اعلم أنه تعالى لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمم والعمى
214

وما أحسن هذا الترتيب، وذلك لأن الإنسان في أول اشتغاله بطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رمد ضعيف، ثم كلما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان ميله إلى الجسمانيات أشد وإعراضه عن الروحانيات أكمل، لما ثبت في علوم العقل أن كثرة الأفعال توجب حصول الملكات الراسخة فينتقل الإنسان من الرمد إلى أن يصير أعشى فإذا واظب على تلك الحالة أياما أخرى انتقل من كونه أعشى إلى كونه أعمى، فهذا ترتيب حسن موافق لما ثبت بالبراهين اليقينية، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في دعاء قومه وهم لا يزيدون إلا تصميما على الكفر وتماديا في الغي، فقال تعالى: * (أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي) * يعني أنهم بلغوا في النفرة عنك وعن دينك إلى حيث إذا أسمعتهم القرآن كانوا كالأصم، وإذا أريتهم المعجزات كانوا كالأعمى، ثم بين تعالى أن صممهم وعماهم إنما كان بسبب كونهم في ضلال مبين. ولما بين تعالى أن دعوته لا تؤثر في قلوبهم قال: * (فإما نذهبن بك) * يريد حصول الموت قبل نزول النقمة بهم * (فإنا منهم منتقمون) * بعدك أو نرينك في حياتك ما وعدناهم من الذل والقتل فإنا مقتدرون على ذلك، واعلم أن هذا الكلام يفيد كمال التسلية للرسول عليه السلام لأنه تعالى بين أنهم لا تؤثر فيهم دعوته واليأس إحدى الراحتين، ثم بين أنه لا بد وأن ينتقم لأجله متهم إما حال حياته أو بعد وفاته، وذلك أيضا يوجب التسلية، فبعد هذا أمره أن يستمسك بما أمره تعالى، فقال: * (فاستمسك بالذي أوحي إليك) * بأن تعتقد أنه حق وبأن تعمل بموجبه فإنه الصراط المستقيم الذي لا يميل عنه إلا ضال في الدين. ولما بين تأثير التمسك بهذا الدين في منافع الدين بين أيضا تأثيره في منافع الدنيا فقال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * أي إنه يوجب الشرف العظيم لك ولقومك حيث يقال إن هذا الكتاب العظيم أنزله الله على رجل من قوم هؤلاء، واعلم أن هذه الآية تدل على أن الإنسان لا بد وأن يكون عظيم الرغبة في الثناء الحسن والذكر الجميل، ولو لم يكن الذكر الجميل أمرا مرغوبا فيه لما من الله به على محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: * (وإنه لذكر لك ولقومك) * ولما طلبه إبراهيم عليه السلام حيث قال: * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * (الشعراء: 84) ولأن الذكر الجميل قائم مقام الحياة الشريفة، بل الذكر أفضل من الحياة لأن أثر الحياة لا يحصل إلا في مسكن ذلك الحي، أما أثر الذكر الجميل فإنه يحصل في كل مكان وفي كل زمان.
ثم قال تعالى: * (وسوف تسألون) * وفيه وجوه الأول: قال الكلبي تسألون هل أديتم شكر إنعامنا عليكم بهذا الذكر الجميل الثاني: قال مقاتل المراد أن من كذب به يسأل لم كذبه، فيسأل سؤال توبيخ الثالث: تسألون هل عملتم بما دل عليه من التكاليف، واعلم أن السبب الأقوى في إنكار الكفار لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولبغضهم له أنه كان ينكر عبادة الأصنام، فبين تعالى أن إنكار عبادة الأصنام ليس من خواص دين محمد صلى الله عليه وسلم، بل كل الأنبياء
215

والرسل كانوا مطبقين على إنكاره فقال: * (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون) * وفيه أقوال الأول: معناه واسأل مؤمني أهل
الكتاب أي أهل التوراة والإنجيل فإنهم سيخبرونك أنه لم يرد في دين أحد من الأنبياء عبادة الأصنام، وإذا كان هذا الأمر متفقا عليه بين كل الأنبياء والرسل وجب أن لا يجعلوه سببا لبغض محمد صلى الله عليه وسلم.
والقول الثاني: قال عطاء عن ابن عباس " لما أسرى به صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى بعث الله له آدم وجميع المرسلين من ولده، فأذن جبريل ثم أقام فقال: يا محمد تقدم فصل بهم فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة قال له جبريل عليه السلام واسأل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية، فقال صلى الله عليه وسلم لا أسأل لأني لست شاكا فيه ".
والقول الثلث: أن ذكر السؤال في موضع لا يمكن السؤال فيه يكون المراد منه النظر والاستدلال، كقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك، فإنها إن لم تجبك جوابا أجابتك اعتبارا، فههنا سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء الذين كانوا قبله ممتنع، فكان المراد منه انظر في هذه المسألة بعقلك وتدبر فيها بفهمك والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد أرسلنا موسى باياتنآ إلى فرعون وملايه فقال إنى رسول رب العالمين * فلما جآءهم باياتنآ إذا هم منها يضحكون * وما نريهم من ءاية إلا هى أكبر من أختها وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون * وقالوا ياأيه الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون * فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون * ونادى فرعون فى قومه قال ياقوم أليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون * أم أنآ خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين * فلولا ألقى عليه
216

أسورة من ذهب أو جآء معه الملائكة مقترنين * فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلمآ ءاسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للاخرين) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أن المقصود من إعادة قصة موسى عليه السلام وفرعون في هذا المقام تقرير الكلام الذي تقدم، وذلك لأن كفار قريش طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب كونه فقيرا عديم المال والجاه، فبين الله تعالى أن موسى عليه السلام بعد أن أورد المعجزات القاهرة الباهرة التي لا يشك في صحتها عاقل أورد فرعون عليه هذه الشبهة التي ذكرها كفار قريش فقال: إني غني كثير المال والجاه، ألا ترون أنه حصل لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي، وأما موسى فإنه فقير مهين وليس له بيان ولسان، والرجل الفقير كيف يكون رسولا من عند الله إلى الملك الكبير الغني، فثبت أن هذه الشبهة التي ذكرها كفار مكة وهي قولهن * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وقد أوردها بعينها فرعون على موسى، ثم إنا انتقمنا منهم فأغرقناهم، والمقصود من إيراد هذه القصة تقرير أمرين أحدهما: أن الكفار والجهال أبدا يحتجون على الأنبياء بهذه الشبهة الركيكة فلا يبالي بها ولا يلتفت إليها والثاني: أن فرعون على غاية كمال حاله في الدنيا صار مقهورا باطلا، فيكون الأمر في حق أعدائك هكذا، فثبت أنه ليس المقصود من إعادة هذه القصة عين هذه القصة، بل المقصود تقرير الجواب عن الشبهة المذكورة، وعلى هذا فلا يكون هذا تقريرا للقصة البتة وهذا من نفائس الأبحاث والله أعلم.
المسألة الثانية: في تفسير الألفاظ ذكر تعالى أنه أرسل موسى بآياته وهي المعجزات التي كانت مع موسى عليه السلام إلى فرعون وملائه أي قومه، فقال موسى إني رسول رب العالمين، فلما جاءهم بتلك الآيات إذا هم منها يضحكون، قيل إنه لما ألقى عصاه صار ثعبانا، ثم أخذ فعاد عصا كما كان ضحكوا، ولم عرض عليهم اليد البيضاء ثم عادت كما كانت ضحكوا، فإن قيل كيف جاز أن يجاب عن لما بإذا الذي يفيد المفاجأة؟ قلنا لأن فعل المفاجأة معها مقدر كأنه قيل فلما جاءهم بآياتنا فاجأوا وقت ضحكهم.
217

ثم قال: * (وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) * فإن قيل ظاهر اللفظ يقتضي كون كل واحد منها أفضل من التالي وذلك محال، قلنا إذا أريد المبالغة في كون كل من تلك الأشياء بالغا إلى أقصى الدرجات في الفضيلة، فقد يذكر هذا الكلام بمعنى أنه لا يبعد في أناس ينظرون إليها أن يقول هذا إن هذا أفضل من الثاني، وأن يقول الثاني لا بل الثاني أفضل، وأن يقول الثالث أفضل، وحينئذ يصير كل واحد من تلك الأشياء مقولا فيه إنه أفضل من غيره.
ثم قال تعالى: * (وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) * أي عن الكفر إلى الإيمان، قالت المعتزلة هذا يدل على أنه تعالى يريد الإيمان من الكل وأنه إنما أظهر تلك المعجزات القاهرة لإرادة أن يرجعوا من الكفر إلى الإيمان، قال المفسرون ومعنى قوله * (وأخذناهم بالعذاب) * أي بالأشياء التي سلطها عليها كالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس.
ثم قال تعالى: * (وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون) * فإن قيل كيف سموه بالساحر مع قولهم * (إننا لمهتدون) *؟ قلنا فيه وجوه الأول: أنهم كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر، لأنهم كانوا يستعظمون السحر، وكما يقال في زماننا في العامل العجيب الكامل إنه أتى بالسحر الثاني: * (يا أيها الساحر) * في زعم الناس ومتعارف قوم فرعون كقوله * (يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * (الحجر: 6) أي نزل عليه الذكر في اعتقاده وزعمه الثالث: أن قولهم * (إننا لمهتدون) * وقد كانوا عازمين على خلافه ألا ترى إلى قوله * (فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) * فتسميتهم إياه بالسحر لا ينافي قولهم * (إننا لمهتدون) * ثم بين تعالى أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا ذلك العهد.
ولما حكى الله تعالى معاملة فرعون مع موسى، حكى أيضا معاملة فرعون معه فقال: * (ونادى فرعون في قومه) * والمعنى أنه أظهر هذا القول فقال: * (قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي) * يعني الأنهار التي فصلوها من النيل ومعظمها أربعة نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس، قيل
كانت تجري تحت قصره، وحاصل الأمر أنه احتج بكثرة أمواله وقوة جاهه على فضيلة نفسه.
ثم قال: * (أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين) * وعنى بكونه مهينا كونه فقيرا ضعيف الحال، وبقوله * (ولا يكاد يبين) * حبسة كانت في لسانه، واختلفوا في معنى أم ههنا فقال أبو عبيدة مجازها بل أنا خير، وعلى هذا فقد تم الكلام عند قوله * (أفلا تبصرون) * ثم ابتدأ فقال: * (أم أنا خير) * بمعنى بل أنا خير، وقال الباقون أم هذه متصلة لأن المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وصع قوله * (أنا خير) * موضع تبصرون، لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء، وقال آخرون إن تمام الكلام عند قوله * (أم) * وقوله * (أنا خير) * ابتداء الكلام والتقدير أفلا تبصرون
218

لكنه اكتفى فيه بذكر أم كما تقول لغيرك: أتأكل أم أي أتأكل أم لا تأكل، تقتصر على ذكر كلمة أم إيثارا للاختصار فكذا ههنا، فإن قيل أليس أن موسى عليه السلام سأل الله تعالى أن يزيل الرتة عن لسانه بقوله * (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) * (طه: 27) فأعطاه الله تعالى ذلك بقوله * (قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (طه: 36) فكيف عابه فرعون بتلك الرتة؟ والجواب: عنه من وجهين: الأول: أن فرعون أراد بقوله * (ولا يكاد يبين) * حجته التي تدل على صدقه فيما يدعي ولم يرد أنه لا قدرة له على الكلام والثاني: أنه عابه بما كان عليه أولا، وذلك أن موسى كان عند فرعون زمانا طويلا وفي لسانه حبسة، فنسبه فرعون إلى ما عهده عليه من الرتة لأنه لم يعلم أن الله تعالى أزال ذلك العيب عنه.
ثم قال: * (فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب) * والمراد أن عادة القوم جرت بأنهم إذا جعلوا واحدا منهم رئيسا لهم سوروه بسوار من ذهب وطوقوه بطوق من ذهب، فطلب فرعون من موسى مثل هذه الحالة، واختلف القراء في أسورة فبعضهم قرأ وآخرون أساورة فأسورة جمع سوار لأدنى العدد، كقولك حمار وأحمرة وغراب وأغربة، ومن قرأ أساورة فذاك لأن أساوير جمع أسوار وهو السوار فأساورة تكون الهاء عوضا عن الياء، نحو بطريق وبطارقة وزنديق وزنادقة وفرزين وفرازنة فتكون أساورة جمع أسوار، وحاصل الكلام يرجع إلى حرف واحد وهو أن فرعون كان يقول أنا أكثر مالا وجاها، فوجب أن أكون أفضل منه فيمتنع كونه رسولا من الله، لأن منصب النبوة يقتضي المخدومية، والأخس لا يكون مخدوما للأشرف، ثم المقدمة الفاسدة هي قوله من كان أكثر مالا وجاها فهو أفضل وهي عين المقدمة التي تمسك بها كفار قريش في قولهم * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) ثم قال: * (أو جاء معه الملائكة مقترنين) * يجوز أن يكون المراد مقرنين به، من قولك قرنته به فاقترن وأن يكون من قولهم اقترنوا بمعنى تقارنوا، قال الزجاج معناه يمشون معه فيدلون على صحة نبوته.
ثم قال تعالى: * (فاستخف قومه فأطاعوه) * أي طلب منهم الخفة في الإتيان بما كان يأمرهم به فأطاعوه * (إنهم كانوا قوما فاسقين) * حيث أطاعوا ذلك الجاهل الفاسق * (فلما آسفونا) * أغضبونا، حكي أن ابن جريج غضب في شيء فقيل له أتغضب يا أبا خالد؟ فقال قد غضب الذي خلق الأحلام إن الله يقول * (فلما آسفونا) * أي أغضبونا.
ثم قال تعالى: * (انتقمنا منهم) * واعلم أن ذكر لفظ الأسف في حق الله تعالى محال وذكر لفظ الانتقام وكل واحد منهما من المتشابهات التي يجب أن يصار فيها إلى التأويل، ومعنى الغضب في حق الله إرادة العقاب، ومعنى الانتقام إرادة العقاب لجرم سابق.
ثم قال تعالى: * (فجعلناهم سلفا ومثلا) * السلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض فهو سلف والسلف أيضا من تقدم من آبائك وأقاربك واحدهم سالف، ومنه قول طفيل يرثي قومه:
219

مضوا سلفا قصد السبيل عليهم * وصرف المنايا بالرجال تقلب
فعلى هذا قال الفراء والزجاج يقول: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون، أي جعلناهم سلفا لكفار أمة محمد عليه السلام. وأكثر القراء قرأوا بالفتح وهو جمع سالف كما ذكرناه، وقرأ حمزة والكسائي * (سلفا) * بالضم وهو جمع سلف، قال الليث: يقال سلف بضم اللام يسلف سلوفا فهو سلف أي متقدم، وقوله * (ومثلا للآخرين) * يريد عظة لمن بقي بعدهم وآية وتبرة، قال أبو علي الفارسي المثل واحد يراد به الجمع، ومن ثم عطف على سلف، والدليل على وقوعه على أكثر من واحد قوله تعالى: * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه) * (النحل: 75) فأدخل تحت المثل شيئين والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا ءأالهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى إسراءيل * ولو نشآء لجعلنا منكم ملائكة فى الارض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم * ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى ذكر أنواعا كثيرة من كفرياتهم في هذه السورة وأجاب عنها بالوجوه الكثيرة فأولها: قوله تعالى: * (وجعلوا له من عباده جزءا) * (الزخرف: 15) وثانيها: قوله تعالى: * (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) * (الزخرف: 19) وثالثها: قوله * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * (الزخرف: 20) ورابعها: قوله * (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31) وخامسها: هذه الآية التي نحن الآن في تفسيرها، ولفظ الآية لا يدل إلا على أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويرفعون أصواتهم، فأما أن ذلك المثل كيف كان، وفي أي شيء كان فاللفظ لا يدل عليه والمفسرون ذكروا فيه وجوها كلها محتملة فالأول: أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون
220

عيسى قالوا إذا عبدوا عيسى فآلهتنا خير من عيسى، وإنما قالوا ذلك لأنهم كانوا يعبدون الملائكة الثاني: روي أنه لما نزل قوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم) * (الأنبياء: 98) قال عبد الله بن الزبعري هذا خاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " بل لجميع الأمم " فقال خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أن عيسى ابن مريم نبي وتثني عليه خيرا وعلى أمه، وقد علمت أن النصارى يعبدونهما واليهود يعبدون عزيرا والملائكة يعبدون، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وفرح القوم وضحكوا وضجوا، فأنزل الله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * (الأنبياء: 101) ونزلت هذه الآية أيضا والمعنى، ولما ضرب عبد الله بن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا وجادل رسول الله بعبادة النصارى إياه إذا قومك قريش منه أي من هذا المثل يصدون أي يرتفع لهم ضجيج وجلبة فرحا وجدلا وضحكا بسبب ما رأوا من إسكات رسول الله فإنه قد جرت العادة بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقالوا أآلهتنا أهون الوجه الثالث: في التأويل وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح وجعلوه إلها لأنفسهم، قال كفار مكة إن محمدا يريد أن يجعل لنا إلها كما جعل النصارى المسيح إلها لأنفسهم، ثم عند هذا قالوا * (أآلهتنا خير أم هو) * يعني أآلهتنا خير أم محمد، وذكروا ذلك لأجل أنهم قالوا: إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه، وآباؤنا زعموا أنه يجب عبادة هذه الأصنام، وإذا كان لا بد من أحد هذين الأمرين فعبادة هذه الأصنام أولى، لأن آباءنا وأسلافنا كانوا متطابقين عليه، وأما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فكان الاشتغال بعبادة الأصنام أولى، ثم إنه تعالى بين أنا لم نقل إن الاشتغال بعبادة المسيح طريق حسن بل هو كلام باطل، فإن عيسى ليس إلا عبدا أنعمنا عليه، فإذا كان الأمر كذلك فقد زالت شبهتهم في قولهم: إن محمدا يريد أن يأمرنا بعبادة نفسه، فهذه الوجوه الثلاثة مما يحتمل كل واحد منها لفظ الآية.
المسألة الثانية: قرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم يصدون بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام والباقون بكسر الصاد وهي قراءة ابن عباس، واختلفوا فقال الكسائي هما بمعنى نحو يعرشون ويعرشون ويعكفون، ومنهم من فرق، أما القراءة بالضم فمن الصدود، أي من أجل هذا المثل يصدون عن الحق ويعرضون عنه، وأما بالكسر فمعناه يضجون.
المسألة الثالثة: قرأ عاصم وحمزة والكسائي أآلهتنا استفهاما بهمزتين الثانية مطولة والباقون استفهاما بهمزة ومدة.
ثم قال تعالى: * (ما ضربوه لك إلا جدلا) * أي ما ضربوا لك هذا المثل إلا لأجل الجدل والغلبة
221

في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل * (بل هم قوم خصمون) * مبالغون في الخصومة، وذلك لأن قوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * لا يتناول الملائكة وعيسى، وبيانه من وجوه الأول: أن كلمة ما لا تتناول العقلاء البتة والثاني: أن كلمة ما ليست صريحة في الاستغراق بدليل أنه يصح إدخال لفظتي الكل والبعض عليه، فيقال إنكم وكل ما تعبدون من دون الله، أو إنكم وبعض ما تبعدون من دون الله الثالث: أن قوله إنكم وكل ما تعبدون من دون الله أو وبعض ما تعبدون خطاب مشافهة فلعله ما كان فيهم أحد يعبد المسيح والملائكة الرابع: أن قوله * (إنكم وما تعبدون من دون الله) * هب أنه عام إلا أن النصوص الدالة على تعظيم الملائكة وعيسى أخص منه، والخاص مقدم على العام.
المسألة الرابعة: القائلون بذم الجدل تمسكوا بهذه الآية إلا أنا قد ذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا) * (غافر: 4) أن الآيات الكثيرة دالة على أن الجدل موجب للمدح والثناء، وطريق التوفيق أن تصرف تلك الآيات إلى الجدل الذي يفيد تقرير الحق، وأن تصرف هذه الآية إلى الجدل الذي يوجب تقرير الباطل.
ثم قال تعالى: * (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) * يعني ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه حيث جعلناه آية بأن خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر * (ولو نشاء لجعلنا منكم) * لولدنا منك يا رجال * (ملائكة يخلفونكم في الأرض) * كما يخلفكم أولادكم كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة ولتعرفوا أن دخول التوليد والتولد في الملائكة أمر ممكن وذات الله متعالية عن ذلك * (وإنه) * أي عيسى * (لعلم للساعة) * شرط من أشراطها تعلم به فسمي الشرط الدال على الشيء علما لحصول العلم به، وقرأ ابن عباس: * (لعلم) * وهو العلامة وقرئ للعلم وقرأ أبي: لذكر، وفي الحديث: " أن عيسى ينزل على ثنية في الأرض المقدسة يقال لها أفيق وبيده حربة وبها يقتل الدجال فيأتي ببيت المقدس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب ويخرب البيع والكنائس ويقتل النصارى إلا من آمن به " * (فلا تمترن بها) * من المرية وهو الشك * (واتبعون) * واتبعوا هداي وشرعي * (هذا صراط مستقيم) * أي هذا الذي أدعوكم إليه صراط مستقيم * (ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين) * قد بانت عداواته لكم لأجل أنه هو الذي أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.
قوله تعالى
* (ولما جآء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذى تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون * إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم *
222

فاختلف الاحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم * هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون) *.
اعلم أنه تعالى ذكر أنه لما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات * (قال قد جئتكم بالحكمة) * وهي معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله * (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) * يعني أن قوم موسى كانوا قد اختلفوا في أشياء من أحكام التكاليف واتفقوا على أشياء فجاء عيسى ليبين لهم الحق في تلك المسائل الخلافية، وبالجملة فالحكمة معناها أصول الدين * (وبعض الذي يختلفون فيه) * معناه فروع الدين، فإن قيل لم لم يبين لهم كل الذي يختلفون فيه؟ قلنا لأن الناس قد يختلفون في أشياء لا حاجة بهم إلى معرفتها، فلا يجب على الرسول بيانها، ولما بين الأصول والفروع قال: * (فاتقوا الله) * في الكفر به والإعراض عن دينه * (وأطيعون) *
فيما أبلغه إليكم من التكاليف * (إن الله هو ربي وربكم فاعبدون هذا صراط مستقيم) * والمعنى ظاهر * (فاختلف الأحزاب) * أي الفرق المتحزبة بعد عيسى وهم الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وقيل اليهود والنصارى * (فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم) * وهو وعيد بيوم الأحزاب، فإن قيل قوله * (من بينهم) * الضمير فيه إلى من يرجع؟ قلنا إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله * (قد جئتكم بالحكمة) * وهم قومه.
ثم قال: * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) * فقوله أن تأتيهم بدل من الساعة والمعنى هل ينظرون إلا إتيان الساعة.
فإن قالوا قوله * (بغتة) * يفيد عين ما يفيده قوله * (وهم لا يشعرون) * فما الفائدة فيه؟ قلنا يجوز أن تأتيهم بغتة وهم يعرفونه بسبب أنهم يشاهدونه.
قوله تعالى
* (الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين * ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون * الذين ءامنوا باياتنا وكانوا مسلمين * ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون * يطاف
223

عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين وأنتم فيها خالدون * وتلك الجنة التى أورثتموها بما كنتم تعملون * لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون) *.
اعلم أنه تعالى لما قال: * (هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) * (الزخرف: 66) ذكر عقيبه بعض ما يتعلق بأحوال القيامة فأولها: * (الأخلاء يومئذ بعضهم عدو إلا المتقين) * والمعنى * (الأخلاء) * في الدنيا * (يومئذ) * يعني في الآخرة * (بعضهم لبعض عدو) * يعني أن الخلة إذا كانت على المعصية والكفر صارت عداوة يوم القيامة * (إلا المتقين) * يعني الموحدين الذين يخالل بعضهم بعضا على الإيمان والتقوى، فإن خلتهم لا تصير عداوة، وللحكماء في تفسير هذه الآية طريق حسن، قالوا إن المحبة أمر لا يحصل إلا عند اعتقاد حصول خير أو دفع ضرر، فمتى حصل هذا الاعتقاد حصلت المحبة لا محالة، ومتى حصل اعتقاد أنه يوجب ضررا حصل البغض والنفرة، إذا عرفت هذا فنقول: تلك الخيرات التي كان اعتقاد حصولها يوجب حصول المحبة، إما أن تكون قابلة للتغير والتبدل، أو لا تكون كذلك، فإن كان الواقع هو القسم الأول، وجب أن تبدل تلك المحبة بالنفرة، لأن تلك المحبة إنما حصلت لاعتقاد حصول الخير والراحة، فإذا زال ذلك الاعتقاد، وحصل عقيبه اعتقاد أن الحاصل هو الضرر والألم، وجب أن تتبدل تلك المحبة بالبغضة، لأن تبدل العلة يوجب تبدل المعلول، أما إذا كانت الخيرات الموجبة للمحبة، خيرات باقية أبدية، غير قابلة للتبدل والتغير، كانت تلك المحبة أيضا محبة باقية آمنة من التغير، إذا عرفت هذا الأصل فنقول الذين حصلت بينهم محبة ومودة في الدنيا، إن كانت تلك المحبة لأجل طلب الدنيا وطيباتها ولذاتها، فهذه المطالب لا تبقى في القيامة، بل يصير طلب الدنيا سببا لحصول الآلام والآفات في يوم القيامة، فلا جرم تنقلب هذه المحبة الدنيوية بغضة ونفرة في القيامة، أما إن كان الموجب لحصول المحبة في الدنيا الاشتراك في محبة الله وفي خدمته وطاعته، فهذا السبب غير قابل للنسخ والتغير، فلا جرم كانت هذه المحبة باقية في القيامة، بل كأنها تصير أقوى وأصفى وأكمل وأفضل مما كانت في الدنيا، فهذا هو التفسير المطابق لقوله تعالى: * (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا
224

المتقين).
الحكم الثاني من أحكام يوم القيامة
قوله تعالى (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * وقد ذكرنا مرارا أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد، بالمؤمنين المطيعين المتقين، فقوله * (يا عباد) * كلام الله تعالى، فكأن الحق يخاطبهم بنفسه ويقول لهم * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) * وفيه أنواع كثيرة مما يوجب الفرح أولها: أن الحق سبحانه وتعالى خاطبهم بنفسه من غير واسطة وثانيها: أنه تعالى وصفهم بالعبودية، وهذا تشريف عظيم، بدليل أنه لما أراد أن يشرف محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج، قال: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * (الإسراء: 1) وثالثها: قوله * (لا خوف عليكم اليوم) * فأزال عنهم الخوف في يوم القيامة بالكلية، وهذا من أعظم النعم ورابعها: قوله * (ولا أنتم تحزنون) * فنفى عنهم الحزن بسبب فوت الدنيا الماضية.
ثم قال تعالى: * (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * قيل * (الذين آمنوا) * مبتدأ، وخبره مضمر، والتقدير يقال لهم: أدخلوا الجنة، ويحتمل أن يكون المعنى أعني الذين آمنوا، قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم القيامة، نادى مناد * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم) * فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم، فيقال * (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * فتنكس أهل الأديان الباطلة رؤوسهم الحكم الثالث: من وقائع القيامة، أنه تعالى إذا أمن المؤمنين من الخوف والحزن، وجب أن يمر حسابهم على أسهل الوجوه وعلى أحسنها، ثم يقال لهم * (أدخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون) * والحبرة المبالغة في الإكرام فيما وصف بالجميل، يعني يكرمون إكراما على سبيل المبالغة، وهذا مما سبق تفسيره في سورة الروم. ثم قال: * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب) * قال الفراء: الكوب المستدير الرأس الذي لا أذن له، فقوله * (يطاف عليهم بصحاف من ذهب) * إشارة إلى المطعوم، وقوله * (وأكواب) * إشارة إلى المشروب، ثم إنه تعالى ترك التفصيل وذكر بيانا كليا، فقال: * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون) *.
ثم قال: * (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) * وقد ذكرنا في وراثة الجنة وجهين في قوله * (أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس) * (المؤمنون: 10، 11) ولما ذكر الطعام والشراب فيما تقدم، ذكر ههنا حال الفاكهة، فقال: * (لكم فيها فاكهة منها تأكلون) *.
واعلم أنه تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب أولا، ثم إلى العالمين ثانيا، والعرب كانوا في ضيق شديد بسبب المأكول والمشروب والفاكهة، فلهذا السبب
تفضل الله تعالى عليهم بهذه المعاني مرة بعد أخرى، تكميلا لرغبتهم وتقوية لدواعيهم.
قوله تعالى
* (إن المجرمين فى عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون *
225

وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين * ونادوا يامالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون * لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون * أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون * أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعد، أردفه بالوعيد على الترتيب المستمر في القرآن، وفيه مسائل: المسألة الأولى: احتج القاضي على القطع بوعيد الفسق بقوله * (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) * ولفظ المجرم يتناول الكافر والفاسق، فوجب كون الكل في عذاب جهنم، وقوله * (خالدون) * يدل على الخلود، وقوله أيضا * (لا يفتر عنهم) * يدل على الخلود والدوام أيضا والجواب: أن ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على أن المراد من لفظ المجرمين ههنا الكفار، أما ما قبل هذه الآية فلأنه قال: * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * (الزخرف: 68، 69) فهذا يدل على أن كل من آمن بآيات الله وكانوا مسلمين، فإنهم يدخلون تحت قوله * (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) * والفاسق من أهل الصلاة آمن بالله تعالى وبآياته وأسلم، فوجب أن يكون داخلا تحت ذلك الوعد، ووجب أن يكون خارجا عن هذا الوعيد، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله * (جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) * والمراد بالحق ههنا إما الإسلام وإما القرآن، والرجل المسلم لا يكره الإسلام ولا القرآن، فثبت أن ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على أن المراد من المجرمين الكفار، والله أعلم. المسألة الثانية: أنه تعالى وصف عذاب جهنم في حق المجرمين بصفات ثلاثة أحدهما: الخلود، وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أنه عبارة عن طول المكث ولا يفيد الدوام وثانيها: قوله: * (لا يفتر عنهم) * أي لا يخفف ولا ينقص من قولهم فترت عنه الحمى إذا سكنت ونقص حرها وثالثها: قوله * (وهم فيه مبلسون) * والمبلس اليائس الساكت سكوت يائس من فرج، عن الضحاك يجعل المجرم في تابوت من نار، ثم يقفل عليه فيبقى فيه خالدا لا يرى، قال صاحب " الكشاف ": وقرئ * (وهم فيها) * أي وهم في النار.
226

المسألة الثالثة: احتج القاضي بقوله تعالى: * (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين) * فقال إن كان خلق فيهم الكفر ليدخلهم النار فما الذي نفه بقوله * (وما ظلمناهم) * وما الذي نسبه إليهم مما نفاه عن نفسه؟ أو ليس لو أثبتناه ظلما لهم كان لا يزيد على ما يقوله القوم، فإن قالوا ذلك الفعل لم يقع بقدرة الله عز وجل فقط، بل إنما وقع بقدرة الله مع قدرة العبد معا، فلم يكن ذلك ظلما من الله.
قلنا: عندكم أن القدرة على الظلم موجبة للظلم، وخالق تلك القدرة هو الله تعالى، فكأنه لما فعل مع خلق الكفر قدرة على الكفر خرج عن أن يكون ظالما لهم، وذلك محال لأن من يكون ظالما في فعل، فإذا فعل معه ما يوجب ذلك الفعل يكون بذلك أحق، فيقال للقاضي قدرة العبد هل هي صالحة للطرفين أو هي متعينة لأحد الطرفين؟ فإن كانت صالحة لكلا الطرفين فالترجيح إن وقع لا لمرجع لزم نفي الصانع، وإن افتقر إلى مرجح عاد التقسيم الأول فيه، ولا بد وأن ينتهي إلى داعية مرجحة يخلقها الله في العبد، وإن كانت متعينة لأحد الطرفين فحينئذ يلزمك ما أوردته علينا.
واعلم أنه ليس الرجل من يرى وجه الاستدلال فيذكره، إنما الرجل الذي ينظر فيما قبل الكلام وفيما بعده، فإن رآه واردا على مذهبه بعينه لم يذكره والله أعلم.
المسألة الرابعة: قرأ ابن مسعود * (يا مال) * بحذف الكاف للترخيم فقيل لابن عباس إن ابن مسعود قرأ * (ونادوا يا مال) * فقال: ما أشغل أهل النار عن هذا الترخيم! وأجيب عنه بأنه إنما حسن هذا الترخيم لأنه يدل على أنهم بلغوا في الضعف والنحافة إلى حيث لا يمكنهم أن يذكروا من الكلمة إلا بعضها. المسألة الخامسة: اختلفوا في أن قولهم * (يا مالك ليقض علينا ربك) * على أي وجه طلبوا فقال بعضهم على التمني، وقال آخرون على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم عن ذلك العقاب، وقيل لا يبعد أن يقال إنهم لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا تلك المسألة فذكروه على وجه الطلب.
ثم إنه تعالى بين أن مالكا يقول لهم * (إنكم ماكثون) * وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بمدة طويلة، فلا يمتنع أن تؤخر الإجابة استخفافا بهم وزيادة في غمهم، فعن عبد الله بن عمر بعد أربعين سنة، وعن غيره بعد مائة سنة، وعن ابن عباس بعد ألف سنة والله أعلم بذلك المقدار.
ثم بين تعالى أن مالكا لما أجابهم بقوله * (إنكم ماكثون) * ذكر بعده ما هو كالعلة لذلك الجواب فقال: * (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) * والمراد نفرتهم عن محمد وعن القرآن وشدة بغضهم لقبول الدين الحق، فإن قيل كيف قال: * (ونادوا يا مالك) * بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلنا تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتا لشدة ما بهم، روي أنه يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم
227

فيه من العذاب، فيقولون ادعوا مالكا فيدعون * (يا مالك ليقض علينا ربك) * ولما ذكر الله تعالى كيفية عذابهم في الآخرة ذكر بعده كيفية مكرهم وفساد باطنهم في الدنيا فقال: * (أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون) * والمعنى أم أبرموا أي مشركون مكة أمرا من كيدهم ومكرهم برسول الله، فإنا مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: * (أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون) * (الطور: 42) قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به في دار الندوة، وهو ما ذكره الله تعالى في قوله تعالى: * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * (الأنفال: 30) وقد ذكرنا القصة.
ثم قال: * (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) * السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال، والنجوى ما تكلموا به فيما بينهم * (بلى) * نسمعها ونطلع عليها * (ورسلنا) * يريد الحفظة * (يكتبون) * عليهم تلك الأحوال، وعن يحيى بن معاذ من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في
السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه وهو من علامات النفاق.
قوله تعالى
* (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين * سبحان رب السماوات والارض رب العرش عما يصفون * فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذى يوعدون * وهو الذى فى السمآء إله وفى الارض إله وهو الحكيم العليم * وتبارك الذى له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون * ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون * ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون * وقيله يارب إن هؤلاء قوم
228

لا يؤمنون * فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) *
فيه مسائل: المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي * (ولد) * بضم الواو وإسكان اللام والباقون بفتحها * (فأنا أول العابدين) * قرأ نافع * (فأنا) * بفتحة طويلة على النون والباقون بلا تطويل.
المسألة الثانية: اعلم أن الناس ظنوا أن قوله * (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * لو أجريناه على ظاهره فإنه يقتضي وقوع الشك في إثبات ولد لله تعالى، وذلك محال فلا جرم افتقروا إلى تأويل الآية، وعندي أنه ليس الأمر كذلك وليس في ظاهر اللفظ ما يوجب العدول عن الظاهر، وتقريره أن قوله * (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * قضية شرطية والقضية الشرطية مركبة من قضيتين خبريتين أدخل على إحداهما حرف الشرط وعلى الأخرى حرف الجزاء فحصل بمجموعها قضية واحدة، ومثاله هذه الآية فإن قوله * (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العبادين) * قضية مركبة من قضيتين: إحداهما: قوله * (إن كان للرحمن ولد) *، والثانية: قوله * (فأنا أول العابدون) * ثم أدخل حرف الشرط وهو لفظة إن على لقضية الأولى وحرف الجزاء وهو الفاء على القضية الثانية فحصل من مجموعها قضية الأولى واحدة، وهو القضية الشرطية، إذ عرفت هذا فنقول القضية الشرطية لا تفيد إلا كون الشرط مستلزما للجزاء، وليس فيه إشعار بكون الشرط حقا أو باطلا أو بكون الجزاء حقا أو باطلا، بل نقول القضية الشرطية الحقة قد تكون مركبة من قضيتين حقيتين أو من قضيتين باطلتين أو من شرط باطل وجزاء حق أو من شرط حق وجزاء باطل، فأما القسم الرابع وهو أن تكون القضية الشرطية الحقة مركبة من شرط حق وجزاء باطل فهذا محال. ولنبين أمثال هذه الأقسام الأربعة، فإذا قلنا إن كان الإنسان حيوانا فالإنسان جسم فهذه شرطية حقة وهي مركبة من قضيتين حقيتين، إحداهما قولنا الإنسان حيوان، والثانية قولنا الإنسان جسم، وإذا قلنا إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين فهذه شرطية حقة لكنها مركبة من قولنا لخمسة زوج، ومن قولنا لخمسة منقسمة بمتساويين وهما باطلان، وكونهم باطلين لا يمنع من أن كيون استلزام أحدهما للآخر حقا، وقد ذكرنا أن القضية الشرطية لا تفيد إلا مجرد الاستلزام وإذا قلنا إن كان الإنسان حجرا فهو جسم، فهذا جسم، فهذا أيضا حق لكنها مركبة من شرط باطل وهو قولنا الإنسان حجر، ومن جزء حق وهو قولنا الإنسان جسم، وإنما جاز هذا لأن الباطل قد يكون بحيث يلزم من فرض وقوعه وقوع حق، فإنا فرضنا كون لإنسان حجرا وجب كونه جسما فهذا شرط باطل يستلزم جزءا حقا.
وأما القسم الرابع: وهو تركيب قضية شرطية حقة من شرط حق وجزاء باطل، فهذا
229

محال، لأن هذا التركيب يلزم منه كون الحق مستلزما للباطل وذلك محال بخلاف القسم الثالث فإنه يلزم منه كون الباطل مستلزما للحق وذلك ليس بمحال، إذا عرفت هذا الأصل فلنرجع إلى الآية فنقول قوله * (إن كان الرحمن ولد فأنا أول العابدين) * قضية شرطية حقة من شرط باطل ومن جزاء باطل لأن قولنا كان للرحمن ولد باطل، وقولنا أنا أول العابدين لذلك الولد باطل أيضا إلا أنا بينا أن كون كل واحد منهما باطلا لا يمنع من أن يكون استلزام أحدهما للآخر حقا كما ضربنا من المثال في قولنا إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين، فثبت أن هذا لكلام لا امتناع في إجرائه على ظاهره، ويكون المراد منه أنه إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لذلك الولد، فإن لسلطان إذا كان له ولد فكما يجب على عبده أن يخدمه فكذلك يجب عليه أن يخدم ولده، وقد بينا أن هذا التركيب لا يدل على الاعتراف بإثبات ولد أم لا. ومما يقرب من هذا الباب قوله * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * (الأنبياء: 22) فهذا الكلام قضية شرطية والشرط هو قولنا * (فيهما آلهة) * والجزاء هو قولنا * (فسدتا) * فالشرط في نفسه باطل والجزاء أيضا باطل لأن الحق أنه ليس فيهما آلهة، وكلمة لو تفيد الشيء بانتفاء غيره لأنهما ما فسدتا ثم مع كون الشرط باطلا وكون الجزاء باطلا كان استلزام ذلك الشرط لهذا الجزء حقا فكذا ههنا، فإن قالوا الفرق أن هنا ذكر الله تعالى هذه الشرطية بصيغة لو فقال: * (لو كان فيهما آلهة) * وكلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأما في لآية التي نحن في تفسيرها إنما ذكر الله تعالى كلمة إن وهذه الكلمة لا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، بل هذه الكلمة تفيد الشك في أنه هل حصل الشرط أم لا، وحصول هذا الشك للرسول غير ممكن، قلنا القرف الذي ذكرتم صحيح إلا أن مقصودنا بيان أنه لا يلزم من كون الشرطية صادقة كون جزئيها صادقتين أو كذبتين على ما قررناه أما قوله إن لفظة أن تفيد حصول الشرط هل حصل أم لا، قلنا هذا ممنوع فإن حرف إن حرف الشرط وحرف الشرط لا يفيد كون الشرط مستلزما للجزار، وأما بيان أن ذلك الشرط معلوم الوقوع أو مشكوك الوقوع، فاللفظ لا دلالة فيه عليه البتة، فظهر من المباحث التي لخصناها أن الكلام ههنا ممكن الإجراء على ظاهره من جميع الوجوه وأنه لا حاجة فيه البتة إلى التأويل، والمعنى أنه تعالى قال: * (قل) * يا محمد * (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) * لذلك الولد وأنا أول الخادمين له، والمقصود من هذا الكلام بيان أنى لا أنكر ولده لأجل العناد والمنازعة فإن بتقدير أن يقوم الدليل على ثبوت هذا الولد كنت مقرا به معترفا بوجوب خدمته إلا أنه لم يوجد هذا الولد ولم يقم الدليل على ثبوته البتة، فكيف أقول به؟ بل الدليل القاطع قائم على عدمه فكيف أقول به وكيف أعترف بوجوده؟ وهذا الكلام ظاهر كامل لا حاجة به البتة إلى التأويل والعدول عن الظاهر، فهذا ما عندي في هذ الموضع ونقل عن السدي من المفسرين أنه كان يقول حمل هذه الآية على ظاهرها ممكن ولا حاجة إلى لتأويل، والتقرير الذي ذكرناه يدل على أن الذي
230

قاله هو الحق، أما القائلون بأنه لا بد من التأويل فقد ذكروا وجوها الأول: قال الواحدي كثرت الوجوه في تفسير هذه الآية، والأقوى أن يقال المعنى * (إن كان للرحمن ولد) * في زعمكم * (فأنا أو العابدين) * أي الموحدين لله المكذبين لقولكم بإضافة الولد إليه، ولقائل أن يقول إما أن يكون تقدير الكلام: إن يثبت للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول المنكرين له أو يكون التقدير إن يثبت لكم ادعاء أن للرحمن ولدا فأنا أول المنكرين له، والأول: باطل لأن ثبوت الشيء في نفسه لا يقتضي كون الرسول منكرا له، لأن قوله إن كان الشيء إثباتا في نفسه فأنا أول المنكرين يقتضي إصراره على الكذب والجهل وذلك لا يليق بالرسول، والثاني: أيضا باطل لأنهم سواء أثبتوا لله ولدا أو لم يثبتوه له فالرسول منكر لذلك الولد، فلم يكن لزعمهم تأثير في كون الرسول منكرا لذلك الولد فلم يصلح جعل زعمهم إثبات الولد مؤثرا في كون الرسول منكرا للولد.
الوجه الثاني: قالوا معناه: إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين لآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد إذا اشتدت أنفته فهو عبد وعابد، وقرأ بعضهم (عبدين).
واعلم أن السؤال المذكور قائم ههنا لأنه إن كان المراد: إن كان للرحمن ولد في نفس الأمر فأنا أول الآنفين من الإقرار به، فهذا يقتضي الإصرار على الجهل والكذب، وإن كن المرد إن كان للرحمن ولد في زعمكم واعتقادكم فأنا أول الآنفين، فهذا التعليق فاسد لأن هذه الأنفة حاصلة سواء حصل ذلك الزعم والاعتقاد أو لم يحصل، وإذا كان الأمر كذلك لم يكن هذا التعليق جائزا.
والوجه الثالث: قال بعضهم إن كلمة إن ههنا هي النفية والتقدير ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة أن لا ولد له.
واعلم أن التزام هذه الوجوه البعيدة إنما يكون للضرورة، وقد بينا أنه لا ضرورة البتة فلم يجز المصير إليها والله أعلم.
ثم قال سبحانه وتعالى: * (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عم يصفون) * والمعنى أن إله العالم يجب أن يكون واجب الوجود لذاته، وكل ما كان كذلك فهو فرد مطلق لا يقبل التجزأ بوجه من الوجوه، والولد عبارة عن أن ينفصل عن الشيء جزء من أجزائه فيتولد عن ذلك الجزء شخص مثله، وهذا إنما يعقل فيما تكون ذاته قابلة للتجزئ والتبعيض، وإذا كان ذلك محالا في حق إله العالم امتنع إثبات الولد له، ولما ذكر هذا البرهان القاطع قال: * (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) * والمقصود منه التهديد، يعني قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد ما ذكروا وهم لم يلتفتوا إليها لأجل كونهم مستغرقين في طلب المال والجاه والرياسة فاتركهم في ذلك الباطل واللعب حتى يصلوا إلى ذلك اليوم الذي وعدوا فيه بما وعدوا، والمقصود منه التهديد.
ثم قال تعالى: * (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) * وفي أبحاث:
231

البحث الأول: قال أبو علي نظرت فيما يرتفع به إله فوجدت ارتفاعه يصح بأن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير وهو الذي في السماء هو إله.
والبحث الثاني: هذه الآية من أدل الدلائل على أنه تعالى غير مستقر في المساء، لأنه تعالى بين بهذه الآية أن نسبته إلى السماء بالإلهية كنسبته إلى الأرض، فلما كان إلها للأرض مع أنه غير مستقر فيها فكذلك يجب أن يكون إلها للسماء مع أنه لا يكون مستقرا فيها، فإن قيل وأي تعلق لهذا الكلام بنفي الولد عن الله تعالى؟ قلنا تعلقه به أنه تعالى خلق عيسى بمحض كن فيكون من غير واسطة النطفة والأب، فكأنه قيل إن هذا القدر لا يوجب كون عيسى ولدا لله سبحانه، لأن هذا المعنى حاصل في تخليق السماوات والأرض وما بينهما من انتفاء حصول الولدية هناك.
ثم قال تعالى: * (وهو الحكيم العليم) * وقد ذكرنا في سورة الأنعام أن كون تعالى حكيما عليما ينافي حصول الولد له.
ثم قال: * (وتبارك لذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون) * واعلم أن قوله تبارك إما أن يكون مشتقا من الثبات والبقاء، وإما أن يكون مشتقا من كثرة الخير، وعلى التقديرين فكل واحد من هذين الوجهين ينافي كون عيسى عليه السلام ولدا لله تعالى، لأنه إن كان المراد منه الثبات والبقاء فعيسى عليه السلام لم يكن واجب البقاء والدوام، لأنه حدث بعد أن لم يكن، ثم عند النصارى أنه قتل ومات ومن كان كذلك لم يكن بينه وبين الباقي الدائم الأزلي مجانسة ومشابهة، فامتنع كونه ولدا له، وإن كان المراد بالبركة كثرة الخيرات مثل كونه خالقا للسموات والأرض وما بينهما فعيسى لم يكن كذلك بل كان محتاجا إلى الطعام وعند النصارى أنه كان خائفا من اليهود وبالآخرة أخذوه وقتلوه، فالذي هذا صفته كيف يكون ولدا لمن كان خالقا للسموات والأرض وما بينهما! وأما قوله * (وعنده علم الساعة) * فالمقصود منه أنه لما شرح كمال قدرته فكذلك شرح كمال علمه، والمقصود التنبيه على أن من كان كاملا في الذات والعلم والقدرة على الحد الذي شرحناه امتنع أن يكون ولده في العجز وعدم الوقوف على أحوال العالم بالحد الذي وصفه النصارى.
ولما أطنب الله تعالى في نفي الولد أردفه ببيان نفي الشركاء فقال: * (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) * ذكر المفسرون في هذه الآية قولين أحدهما: أن الذين يدعون من دونه الملائكة وعيسى وعزيز، والمعنى أن الملائكة وعيسى وعزيزا لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، روي أن النصر بن الحرث ونفرا معه قالوا إن كان ما يقول محمد حقا فنحن نتولى الملائكة فهم أحق بالشفاعة من محمد، فأنزل الله هذه الآية يقول لا يقدر هؤلاء أن يشفعوا لأحد ثم استثنى فقال: * (إلا من شهد بالحق) * والمعنى على هذا القول هؤلاء لا يشفعون إلا لمن شهد بالحق، فأضمر اللام أو يقال التقدير إلا شفاعة من شهد بالحق فحذف المضاف، وهذا على لغة من
232

يعدي الشفاعة بغير لام، فيقول شفعت فلانا بمعنى شفعت له كما تقول كلمته وكلمت له ونصحته ونصحت له والقول الثاني: إن الذين يدعون من دونه كل معبود من دون الله، وقوله * (إلا من شهد بالحق) * الملائكة وعيسى وعزيز، والمعنى أن الأشياء التي عبدها الكفار لا يملكون الشفاعة إلا من شهد بالحق، وهم الملائكة وعيسى وعزيز فإن لهم شفاعة عند الله ومنزلة، ومعنى من شهد بالحق من شهد أنه لا إله إلا الله.
ثم قال تعالى: * (وهم يعلمون) * وهذا القيد يدل على أن الشهادة باللسان فقط لا تفيد البتة، واحتج القائلون بأن إيمان المقلد لا ينفع البتة، فقالوا بين الله تعالى أن الشهادة لا تنفع إلا إذا حصل معها العلم والعلم عبارة عن اليقين الذي لو شكك صاحبه فيه لم يتشكك، وهذا لم يحصل إلا عند الدليل، فثبت أن إيمان المقلد لا ينفع البتة.
ثم قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ظن قوم أن هذه الآية وأمثالها في القرآن تدل على أن القوم مضطرون إلى الاعتراف بوجود الإله للعالم، قال الجبائي وهذا لا يصح لأن قوم فرعون قالوا لا إله لهم غيره، وقوم إبراهيم قالوا * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه) * (إبراهيم: 9) فيقال لهم لا نسلم أن قوم فرعون كانوا منكرين لوجود الإله، والدليل على قولنا قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما) * (النمل: 14) وقال موسى لفرعون * (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر) * (الإسراء: 102) فالقراءة بفتح التاء في علمت تدل على أن فرعون كان عارفا بالله، وأما قوم إبراهيم حيث قالوا * (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه) * فهو مصروف إلى إثبات القيامة وإثبات التكاليف وإثبات النبوة.
المسألة الثالثة: اعلم أنه تعالى ذكر هذا الكلام في أول هذه السورة وفي آخرها، والمقصود التنبيه على أنهم لما اعتقدوا أن خالق العالم وخالق الحيوانات هو الله تعالى فكيف أقدموا مع هذا الاعتقاد على عبادة أجسام خسيسة وأصنام خبيثة لا تضر ولا تنفع، بل هي جمادات محضة.
وأما قوله * (فأنى تؤفكون) * معناه لم تكذبون على الله فتقولون إن الله أمرنا بعبادة الأصنام، وقد احتج بعض أصحابنا به على أن إفكهم ليس منهم بل من غيرهم بقوله * (فأنى تؤفكون) * وأجاب القاضي بأن من يضل في فهم الكلام أو في الطريق يقال له أين يذهب بك، والمراد أين تذهب، وأجاب الأصحاب بأن قول القائل أين يذهب بك ظاهره يدل على أن ذاهبا آخر ذهب به، فصرف الكلام عن حقيقته خلاف الأصل الظاهر، وأيضا فإن الذي ذهب به هو الذي خلق تلك الداعية في قلبه، وقد ثبت بالبرهان الباهر أن خالق تلك الداعية هو الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * وفيه مباحث:
الأول: قرأ الأكثرون * (وقيله) * بفتح اللام وقرأ عاصم وحمزة بكسر اللام، قال الواحدي وقرأ أناس من غير السبعة بالرفع، أما الذين قرؤا بالنصب فذكر الأخفش والفراء فيه قولين
233

أحدهما: أنه نصب على المصدر بتقدير وقال قيله وشكا شكواه إلى ربه يعني النبي صلى الله عليه وسلم فانتصب قيله بإضمار قال والثاني: أنه عطف على ما تقدم من قوله * (أنا لا نسمع سرهم ونجواهم... وقيله) * (الزخرف: 80) وذكر الزجاج فيه وجها ثالثا: فقال إنه نصب على موضع الساعة لأن قوله * (وعنده علم الساعة) * معناه أنه علم الساعة، والتقدير علم الساعة، وقيله، ونظيره قولك عجبت من ضرب زيد وعمرا، وأما القراءة بالجر فقال الأخفش والفراء والزجاج إنه معطوف على الساعة، أي عنده علم الساعة، وعلم قيله يا رب، قال المبرد العطف على المنصوب حسن وإن تباعد المعطوف من المعطوف عليه لأنه يجوز أن يفصل بين المنصوب وعامله والمجرور يجوز ذلك فيه على قبح، وأما القراءة بالرفع ففيها وجهان الأول: أن يكون * (وقيله) * مبتدأ وخبره ما بعده والثاني: أن يكون معطوفا على علم الساعة على تقدير حذف المضاف معناه وعنده علم الساعة وعلم قيله، قال صاحب " الكشاف ": هذه الوجوه ليست قوية في المعنى لا سيما وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ثم ذكر وجها آخر وزعم أنه أقوى مما سبق، وهو أن يكون النصب والجر على إضمار حرف القسم وحذفه والرفع على قولهم أيمن الله وأمانة الله ويمين الله، يكون قوله * (إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) * جواب القسم كأنه قيل وأقسم بقيله يا رب أو وقيله يا رب قسمي، وأقوله هذا الذي ذكره صاحب " الكشاف " متكلف أيضا وههنا إضمار امتلأ القرآن منه وهو إضمار أذكر، والتقدير واذكر قيله يا رب، وأما القراءة بالجر، فالتقدير واذكر وقت قيله يا رب، وإذا وجب التزام الإضمار فلأن يضمر شيئا جرت العادة في القرآن بالتزام إضمار أولى من غيره، وعن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله * (وقيله يا رب) * المراد وقيل يا رب والهاء زيادة.
البحث الثاني: القيل مصدر كالقول، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن قيل وقال " قال الليث تقول العرب كثر فيه القيل والقال، وروى شمر عن أبي زيد يقال ما أحسن قيلك وقولك وقالك ومقالتك خمسة أوجه.
البحث الثالث: الضمير في قيله لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
البحث الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضجر منهم وعرف إصرارهم أخبر عنهم أنهم قوم لا يؤمنون وهو قريب مما حكى الله عن نوح أنه قال: * (رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا) * (نوح: 21).
ثم إنه تعالى قال له: * (فاصفح عنهم) * فأمره بأن يصفح عنهم وفي ضمنه منعه من أن يدعو عليهم بالعذاب، والصفح هو الإعراض.
ثم قال: * (وقل سلام) * قال سيبويه إنما معناه المتاركة، ونظيره قول إبراهيم لأبيه * (سلام عليك
234

سأستغفر لك ربي) * (مريم: 47) وكقوله * (سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) * (القصص: 55).
قوله * (فسوف تعلمون) * والمقصود منه التهديد. وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ نافع وابن عامر تعلمون بالتاء على الخطاب، والباقون بالياء كناية عن قوم لا يؤمنون.
المسألة الثانية: احتج قوم بهذه الآية على أنه يجوز السلام على الكافر، وأقول إن صح هذا الاستدلال فهذا يوجب الاقتصار على نجرد قوله سلام وأن يقال للمؤمن سلام
عليكم. والمقصود التنبيه على التحية التي تذكر للمسلم والكافر.
المسألة الثالثة: قال ابن عباس قوله تعالى: * (فاصفح عنهم وقل سلام) * منسوخ بآية السيف، وعندي أن التزام النسخ في أمثال هذه المواضع مشكل، لأن الأمر لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة فإذا أتى به مرة واحدة فقد سقطت دلالة اللفظ، فأي حاجة فيه إلى التزام النسخ، وأيضا فمثله يمين الفور مشهورة عند الفقهاء وهي دالة على أن اللفظ قد يتقيد بحسب قرينة العرف، وإذا كان الأمر كذلك فلا حاجة فيه إلى التزام النسخ والله أعلم بالصواب.
235

سورة الدخان
خمسون وتسع آيات مكية إلا قوله * (إنا كاشفو العذاب) *
بسم الله الرحمن الرحيم
* (حم * والكتاب المبين * إنآ أنزلناه فى ليلة مباركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم * رب السماوات والارض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * لا إله إلا هو يحى ويميت ربكم ورب ءابآئكم الاولين * بل هم فى شك يلعبون) *.
في الآية مسائل: المسألة الأولى: في قوله * (حم والكتاب المبين) * وجوه من الاحتمالات أولها: أن يكون التقدير: هذه حم والكتاب المبين كقولك هذا زيد والله وثانيها: أن يكون الكلام قد تم عند قوله * (حم) * ثم يقال * (والكتاب المبين إنا أنزلناه) *، وثالثها: أن يكون التقدير: وحم، والكتاب المبين، إنا أنزلناه، فيكون ذلك في التقدير قسمين على شيء واحد.
المسألة الثانية: قالوا هذا يدل على حدوث القرآن لوجوه الأول: أن قوله * (حم) * تقديره: هذه حم، يعني هذا شيء مؤلف من هذه الحروف، والمؤلف من الحروف المتعاقبة محدث الثاني: أنه ثبت أن الحلف لا يصح بهذه الأشياء بل بإله هذه الأشياء فيكون التقدير
236

ورب حم ورب الكتاب المبين، وكل من كان مربوبا فهو محدث الثالث: أنه وصفه بكونه كتابا والكتاب مشتق من الجمع فمعناه أنه مجموع والمجموع محل تصرف الغير، وما كان كذلك فهو محدث الرابع: قوله * (إنا أنزلناه) * والمنزل محل تصرف الغير، وما كان كذلك فهو محدث، وقد ذكرنا مرارا أن جميع هذه الدلائل تدل على أن الشيء المركب من الحروف المتعاقبة والأصوات المتوالية محدث، والعلم بذلك ضروري بديهي، لا ينازع فيه إلا من كان عديم العقل وكان غير عارف بمعنى القديم والمحدث، وإذا كان كذلك فكيف ينازع في صحة هذه الدلائل، إنما الذي ثبت قدمه شيء آخر سوى ما تركب من هذه الحروف والأصوات.
المسألة الثالثة: يجوز أن يكون المراد بالكتاب ههنا الكتب المتقدمة التي أنزلها الله على أنبيائه، كما قال تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان) * (الحديد: 25) ويجوز أن يكون المراد اللوح المحفوظ، كما قال: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (الرعد: 39) وقال: * (وإنه في أم الكتاب لدينا) * (الزخرف: 4) ويجوز أن يكون المراد به القرآن، وبهذا التقدير فقد أقسم بالقرآن على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة، وهذا النوع من الكلام يدل على غاية تعظيم القرآن، فقد يقول الرجل إذا أراد تعظيم رجل له حاجة إليه: أستشفع بك إليك وأقسم بحقك عليك.
المسألة الرابعة: * (المبين) * هو المشتمل على بيان ما بالناس حاجة إليه في دينهم ودنياهم، فوصفه بكونه مبينا، وإن كانت حقيقة الإبانة لله تعالى، لأجل أن الإبانة حصلت به، كما قال تعالى: * (وإن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل) * (النمل: 76) وقال في آية أخرى * (نحن نقص عليك أحسن القصص) * (يوسف: 3) وقال: * (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) * (الروم: 35) فوصفه بالتكلم إذ كان غاية في الإبانة، فكأنه ذو لسان ينطق، والمعنى فيه المبالغة في وصفه بهذا المعنى.
المسألة الخامسة: اختلفوا في هذه الليلة المباركة، فقال الأكثرون: إنها ليلة القدر، وقال عكرمة وطائفة آخرون: إنها ليلة البراءة، وهي ليلة النصف من شعبان أما الأولون فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه أولها: أنه تعالى قال: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وهاهنا قال: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * فوجب أن تكون هذه الليلة المباركة هي تلك المسماة بليلة القدر، لئلا يلزم التناقض وثانيها: أنه تعالى قال: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * (البقرة: 185) فبين أن إنزال القرآن إنما وقع في شهر رمضان، وقال هاهنا * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * فوجب بأن تكون هذه الليلة واقعة في شهر رمضان، وكل من قال إن هذه الليلة المباركة واقعة في شهر رمضان، قال إنها ليلة القدر، فثبت أنها ليلة القدر وثالثها: أنه تعالى قال في صفة ليلة القدر * (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هي) * (القدر: 4، 5) وقال أيضا ههنا * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * وهذا مناسب لقوله * (تنزل الملائكة والروح فيها) * وههنا قال: * (أمرا من عندنا) * وقال في تلك الآية * (بإذن ربهم من كل أمر) * وقال ههنا * (رحمة من ربك) * وقال في تلك الآية * (سلام هي) * وإذا تقاربت الأوصاف
237

وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى ورابعها: نقل محمد بن جرير الطبري في " تفسيره ": عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لاثنتي عشرة ليلة مضت منه، والإنجيل لثمان عشرة ليلة مضت منه، والقرآن لأربع وعشرين ليلة مضت من رمضان، والليلة المباركة هي ليلة القدر وخامسها: أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم، لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم، ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب ذلك الزمان، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته، فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة عالية لها قدر عظيم ومرتبة رفيعة، ومعلوم أن منصب الدين أعلى وأعظم من منصب الدنيا، وأعلى الأشياء وأشرفها منصبا في الدين هو القرآن، لأجل أن به ثبتت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم،
وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل في سائر كتب الله المنزلة، كما قال في صفته * (ومهيمنا عليه) * (المائدة: 48) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات، ودركات أرباب الشقاوات، فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدرا وأعلى ذكرا وأعظم منصبا منه فلو كان نزوله إنما وقع في ليلة أخرى سوى ليلة القدر، لكانت ليلة القدر هي هذه الثانية لا الأولى، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر التي وقعت في رمضان، علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة، وأما القائلون بأن المراد من الليلة المباركة المذكورة في هذه الآية، هي ليلة النصف من شعبان، فما رأيت لهم فيه دليلا يعول عليه، وإنما قنعوا فيه بأن نقلوه عن بعض الناس، فإن صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كلام فلا مزيد عليه، وإلا فالحق هو الأول، ثم إن هؤلاء القائلين بهذا القول زعموا أن ليلة النصف من شعبان لها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة، وقيل إنما سميت بليلة البراءة، وليلة الصك، لأن البندار إذا استوفى الخلاج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك الله عز وجل يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، وقيل هذه الليلة مختصة بخمس خصال الأول: تفريق كل أمر حكيم فيها، قال تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * والثانية: فضيلة العبادة فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان "، الخصلة الثالثة: نزول الرحمة، قال عليه السلام: " إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب " والخصلة الرابعة: حصول المغفرة، قال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة، إلا لكاهن، أو مشاحن، أو مدمن خمر، أو عاق للوالدين، أو مصر على الزنا " والخصلة الخامسة: أنه تعالى أعطى رسوله في هذه الليلة تمام الشفاعة، وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطي الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر، فأعطي الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر، فأعطي الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير، هذا الفصل نقلته من " الكشاف "، فإن قيل لا شك أن الزمان عبارة عن المدة الممتدة التي
238

تقديرها حركات الأفلاك والكواكب، وأنه في ذاته أمر متشابه الأجزاء فيمتنع كون بعضها أفضل من بعض، والمكان عبارة عن الفضاء الممتد والخلاء الخالي فيمتنع كون بعض أجزائه أشرف من البعض، وإذا كان كذلك كان تخصيص بعض أجزائه بمزيد الشرف دون الباقي ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وإنه محال، قلنا القول بإثبات حدوث العالم وإثبات أن فاعله فاعل مختار بناء على هذا الحرف وهو أنه لا يبعد من الفاعل المختار تخصيص وقت معين بإحداث العالم فيه دون ما قبله وما بعده، فإن بطل هذا الأصل فقد بطل حدوث العالم وبطل الفاعل المختار وحينئذ لا يكون الخوض في تفسير القرآن فائدة، وإن صح هذا الأصل فقد زال ما ذكرتم من السؤال، فهذا هو الجواب المعتمد، والناس قالوا لا يبعد " أن يخص الله تعالى بعض الأوقات بمزيد تشريف حتى يصير ذلك داعيا للمكلف إلى الإقدام على الطاعات في ذلك الوقت، ولهذا السبب بين أنه تعالى أخفاه في الأوقات وما عينه لأنه لم يكن معينا جوز المكلف في كل وقت معين أن يكون هو ذلك الوقت الشريف فيصير ذلك حاملا له على المواظبة على الطاعات في كل الأوقات، وإذا وقعت على هذا الحرف ظهر عندك أن الزمان والمكان إنما فازا بالتشريفات الزائدة تبعا لشرف الإنسان فهو الأصل وكل ما سواه فهو تبع له والله أعلم.
المسألة السادسة: روي أن عطية الحروري سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * (القدر: 1) وقوله * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الشهور؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن الأسود لو هلكت أنا ووقع هذا في نفسك ولم تجد جوابه هلكت، نزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور، وهو في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالا فحالا. والله أعلم.
المسألة السابعة: في بيان نظم هذه الآيات، اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها: بيان تعظيم القرآن بحسب ذاته الثاني: بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه الثالث: بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته، أما بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه أحدها: أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه وثانيها: أنه تعالى أقسم به على كونه نازلا في ليلة مباركة، وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف وثالثها: أنه تعالى وصفه بكونه مبينا وذلك يدل أيضا على شرفه في ذاته.
وأما النوع الثاني: وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته، ثم نقول إن قوله * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * يقتضي أمرين: أحدها: أنه تعالى أنزله والثاني: كون تلك الليلة مباركة فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجرى مجرى البيان لكل واحد منهما، أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله * (إنا كنا منذرين) * يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم
239

إلا به، وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران: أحدهما: أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم، والثاني: أن ذلك الأمر الحكيم مخصوصا بشرف أنه إنما يطهر من عنده، وإليه الإشارة بقوله * (أمرا من عندنا) *.
وأما النوع الثالث: فهو بيان شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله * (إنا كنا مرسلين) * فبين أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى، ثم بين أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله * (رحمة من ربك) * وكان الواجب أن يقال رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين، ثم بين أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم، ويعلم أنواع حاجاتهم، فلهذا قال: * (إنه هو السميع العليم) * فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض.
المسألة الثامنة: في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أما قوله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * فقد قيل فيه إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف، وقيل يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ويقع الفراغ في ليلة القدر فتدفع نسخة
الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب إلى جبرائيل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
أما قوله تعالى: * (فيها يفرق) * أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قوله فرقت الشيء أفرقه فرقا وفرقانا، قال صاحب " الكشاف " وقرئ يفرق بالتشديد ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصل كل والفارق هو الله عز وجل، وقرأ زيد بن علي نفرق بالنون.
أما قوله * (كل أمر حكيم) * فالحكيم معناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى، فما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة، وهذا من الإسناد بالمجازي، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ووصف الأمر به مجاز، ثم قال: * (أمرا من عندنا) * وفي انتصاب قوله * (أمرا) * وجهان: الأول: أنه نصب على الاختصاص، وذلك أنه تعالى بين شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة، ثم زاد في بين شرفها بأن قال أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا، وكما اقتضه علمنا وتدبيرنا والثاني: أنه نصب على الحال وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أن يكون حال من أحد الضميرين في * (أنزلناه) *، إما من ضمير الفاعل أي: إنا أنزلناه آمرين أمرا أو من ضمير المفعول أي: إنا أنزلناه في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل والثالث: ما حكاه أبو علي الفارسي عن أبي الحسن رحمهما الله أنه حمل قوله * (أمرا) * على الحال وذو الحال قوله * (كل أمر حكيم) * وهو نكرا.
240

ثم قال: * (إنا كنا مرسلين) * يعني أنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين يعني الأنبياء.
ثم قال: * (رحمة من ربك) * أي للرحمة فهي نصب على أن يكون مفعولا له.
ثم قال: * (إنه هو السميع العليم) * يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين، إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم، وإما أن لا يذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم، وإن لم يذكروها فهي تعالى عالم بها فثبت أن كونه سميعا عليما يقتضي أن ينزل رحمته عليهم.
ثم قال: * (رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) * وفيه مسائل: المسألة لأولى: قرأ عاصم وحمزة والكسائي بكسر الباء من رب عطفا على قوله * (رحمة من ربك) * والباقون بالرفع عطفا على قوله * (هو السميع العليم) *.
المسألة الثانية: المقصود من هذه الآية أن المنزل إذا كان موصوفا بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة.
المسألة الثالثة: الفائدة في قوله * (إن كنتم موقنين) * من وجوه الأول: قال أبو مسلم معناه إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا، كقولهم فلان منجد منهم أي يريد نجدا وتهامة والثاني: قال صاحب " الكشاف " كانوا يقرون بأن للسموات والأرض ربا وخالقا فقيل لهم إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب سبحانه وتعالى، ثم قيل إن هذا هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون يأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين، كما تقول هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وسمعت قصته، ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله * (بل هم في شك يلعبون) * وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة بل قول مخلوط بهزء ولعب والله أعلم.
قوله تعالى
* (فارتقب يوم تأتى السمآء بدخان مبين * يغشى الناس هذا عذاب أليم * ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون * أنى لهم الذكرى وقد جآءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عآئدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) *
241

اعلم أن المراد بقوله * (فارتقب) * انتظر ويقال ذلك في المكروه، والمعنى انتظر يا محمد عذابهم فحذف مفعول الارتقاب لدلالة ما ذكر بعده عليه وهو قوله * (هذا عذب أليم) * ويجوز أيضا أن يكون * (يوم تأتي السماء) * مفعول الارتقاب وقوله * (بدخان) * فيه قولان: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على قومه بمكة لما كذبوه فقال: " اللهم اجعل سنيهم كسني يوسف " فارتفع المطر وأجدبت الأرض وأصابت قريشا شدة المجاعة حتى أكلوا العظام والكلاب والجيف، فكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في بعض الرويات ومقاتل مجاهد واختيار الفراء والزجاج وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وكان ينكر أن يكون الدخان إلا هذا الذي أصابهم من شدة الجوع كالظلمة في أبصارهم حتى كانوا كأنهم يرون دخانا، فالحاصل أن هذا الدخان هو الصلمة التي في أبصارهم من شدة الجوع، وذكر ابن قتيبة في تفسير الدخان بهذه الحالة وجهين الأول: أن في سنة القحط يعظم يبس الأرض بسبب انقطاع المطر ويرتفع المطر ويرتفع الغبار الكثير ويظلم الهواء، وذلك يشبه الدخان ولهذا يقال لسنة المجاعة الغبراء الثاني: أن العرب يسمون الشر الغالب بالدخان فيقول كان بيننا أمر ارتفع له دخان، والسبب فيه أن الإنسان إذا اشتد خوفه أو ضعفه أظلمت عيناه فيرى الدنيا كالمملوءة من الدخان.
والقول الثاني: في الدخان أنه دخان يظهر في العالم وهو إحدى علامات القيامة، قالوا فإذا حصلت هذه الحالة حصل لأهل الإيمان منه حالة تشبه الزكام، وحصل لأهل الكفر حالة يصير لأجلها رأسه كرأس الحنيذ، وهذا القول هو المنقول عن علي بن أبي طلب عليه السلام وهو قول مشهور لابن عباس واحتج القائلون بهذا القول بوجوه الأول: أن قوله * (يوم تأتي السماء بدخان) * يقتضي وجود دخان تأتي به السماء وما ذكرتموه من الظلمة الحاصلة في العين بسبب شدة الجوع فذاك ليس بدخان أتت به السماء فكان حمل لفظ الآية على هذا الوجه عدولا عن الظاهر لا لدليل منفصل، وإنه لا يجوز الثاني: أنه وصف ذلك الدخان بكونه مبينا، والحالة التي ذكرتموها ليست كذلك لأنها عارضة تعرض لبعض الناس في أدمغتهم، ومثل هذا لا يوصف بكونها دخانا مبينا والثالث: أنه وصف ذلك الدخان بأنه يغشي الناس، وهذا إنما يصدق
إذا وصل ذلك الدخان إليهم واتصل بهم والحال التي ذكرتموها لا توصف بأنها تغشي الناس إلا على سبيل المجاز وقد ذكرنا أن العدول من الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا لدليل منفصل الرابع: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم عليهما السلام ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر، قال حذيفة يا رسول الله وما الدخان فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية وقال دخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة، أما المؤمن فيصيبه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فهو كالسكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره " رواه
242

صاحب " الكشاف " وروى القاضي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " باكروا بالأعمال ستا، وذلك منه طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان والدابة " أما القائلون بالقول الأول، فلا شك أن ذلك يقتضي صرف اللفظ عن حقيقته إلى المجاز، وذلك لا يجوز إلا عند قيام دليل يدل على أن حمله على حقيقته ممتنع والقوم لم يذكروا ذلك الدليل فكان المصير إلى ما ذكروه مشكلا جدا، فإن قالوا الدليل على أن المراد ما ذكرناه، أنه تعالى حكى عنهم أنهم يقولون * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * وهذا إذا حملناه على القحط الذي وقع بمكة استقام فإنه نقل أن القحط لما اشتد بمكة مشى إليه أبو سيفان وناشده بالله والرحم وأوعده أنه إن دعا لهم وأزال الله عنهم تلك البلية أن يؤمنوا به، فلما أزال الله تعالى عنهم ذلك رجعوا إلى شركهم، أما إذا حملناه على أن المراد منه ظهور علامة من علامات القيامة لم يصح ذلك، لأن عند ظهور علامات القيامة لا يمكنهم أن يقولوا * (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) * ولم يصح أيضا أن يقال لهم * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * والجواب: لم لا يجوز أن يكون ظهور هذه العلامة جاريا مجرى ظهور سائر علامات القيامة في أنه لا يوجب انقطاع التكليف فتحدث هذه الحالة، ثم إن الناس يخافون جدا فيتضرعون، فإذا زالت تلك الواقعة عادوا إلى الكفر والفسق، وإذ كان هذا محتملا فقد سقط ما قالوه والله أعلم. ولنرجع إلى التفسير فنقول قوله تعالى: * (يوم تأتي السماء بدخان مبين) * أي ظاهر الحال لا يشك أحد في أنه دخان يغشي الناس أي يشملهم وهو في محل الجر صفة لقوله * (بدخان) * وفي قوله * (وهذا عذاب أليم) * قولان الأول: أنه منصوب لمحل بفعل مضمر وهو يقولون ويقولون منصوب على الحال أي قائلين ذلك الثاني: قال الجرجاني صاحب " النظم " هذا إشارة إليه وإخبار عن دنوه واقترابه كما يقال هذا العدو فاستقبله والغرض منه التنبيه على القرب.
ثم قال: * (ربنا اكشف عنا العذاب) * فإن قلنا التقدير: يقولون هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب فالمعنى ظاهر وإن لم يضمر القول هناك أضمرناه ههنا والعذاب على القول الأول هو القحط الشديد، وعلى القول الثاني الدخان المهلك * (إنا مؤمنون) * أي بمحمد وبالقرآن، والمراد منه الوعيد بالإيمان إن كشف عنهم العذاب.
ثم قال تعالى: * (أنى لهم الذكرى) * يعني كيف يتذكرون وكيف يتعظون بهذه الحالة وقد جاءهم ما هو أعظم وأدخل في وجوب الطاعة وهو ما ظهر على رسول الله من لمعجزات القاهرة والبينات الباهرة * (ثم تولوا عنه) * ولم يلتفتوا إليه * (وقالوا معلم مجنون) * وذلك لأن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد عليه الصلاة والسلام قولان منهم من كان يقول إن محمدا يتعلم هذه الكلمات من بعض الناس لقوله * (إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) * (النحل: 103) وكقوله تعالى:
243

* (وأعانه عليه قوم آخرون) * (الفرقان: 4) ومنهم من كان يقول إنه مجنون والجن يلقون عليه هذه الكلمات حال ما يعرض له الغشي.
ثم قال تعالى: * (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) * أي كما يكشف العذاب عنكم تعودون في الحال إلى ما كنتم عليه من الشرك، والمقصود التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإذا زال الخوف عادوا إلى الكفر والتقليد لمذاهب الأسلاف.
ثم قال تعالى: * (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) * قال صاحب " الكشاف " وقرئ نبطش بضم الطاء، وقرأ الحسن نبطش بضم النون كأنه تعالى يأمر الملائكة بأن يبطشوا بهم والبطش الأخذ بشدة، وأكثر ما يكون بوقع الضرب المتابع ثم صار بحيث يستعمل في إيصال الآلام المتتابعة، وفي المراد بهذا اليوم قولان: القول الأول: أنه يوم بدر وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد ومقاتل وأبي لعالية رضي الله تعلى عنهم، قالوا إن كفار مكة لما أزال الله تعالى عنهم القحط والجوع عادوا إلى لتكذيب فانتقم الله منهم يوم بدر.
والقول الثاني: أنه يوم القيامة روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قال ابن معسود: البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول هي يوم القيامة، وهذا لقول أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف بهذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إنما يحصل يوم القيامة لقوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (غفر: 17) ولأن هذه البطشة لما وصفت بكونها كبرى على الإطلاق وجب أن تكون أعظم أنواع البطش وذلك ليس إلا في القيامة ولفظ الانتقام في حق الله تعالى من المتشابهات كالغضب والحياء والتعجب، والمعنى معلوم والله أعلم.
قوله تعالى
* (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجآءهم رسول كريم * أن أدوا إلى عباد الله إنى لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إنى ءاتيكم بسلطان مبين * وإنى عذت بربى وربكم أن ترجمون * وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون * فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون * فأسر بعبادى
244

ليلا إنكم متبعون * واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون * كم تركوا من جنات وعيون * وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوما ءاخرين * فما بكت عليهم السمآء والارض وما كانوا منظرين) *
اعلم أنه تعالى لما بين أن كفار مكة مصرون على كفرهم، بين أن كثيرا من المتقدمين أيضا كانوا كذلك، فبين حصول هذه الصفة في أكثر قوم فرعون، قال صاحب " الكشاف " قرىء، * (ولقد فتنا) * بالتشديد للتأكيد قال ابن عباس ابتلينا، وقال الزجاج بلونا، والمعنى عاملناهم معاملة المختبر ببعث الرسول إليهم * (وجاءهم رسول
كريم) * وهو موسى واختلفوا في معنى الكريم ههنا فقال الكلبي كريم على ربه يعني أنه استحق على ربه أنواعا كثيرة من الإكرام، وقال مقاتل حسن الخلق وقال الفراء يقل فلان كريم قومه لأنه قال ما بعث رسول ألا من أشراف قومه وكرامهم.
ثم قال: * (أن أدو إلى عبدا الله) * وفي أن قولان الأول: أنها أن المفسرة وذلك لأن مجيء الرسول إلى من بعث إليهم متضمن لمعنى القول لأنه لا يجيئهم إلا مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله الثاني: أنها المخففة من الثقيلة ومعناه وجاءهم بأن الشأن والحديث أدواء، وعبدا الله مفعول به وهم بنو إسرائيل يقول أدوهم إلى وأرسلوهم معي وهو كقوله * (فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) * (طه: 47) ويجوز أيضا أن يكون نداء لهم والتقدير: أدوا إلى عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان، وقبول دعوتي، وأتباع سبيلي، وعلل ذلك بأنه * (رسول أمين) * قد ائتمنه الله على وحيه ورسالته وأن لا تعلوا أن هذه مثل الأول في وجيهيها أي لا تتكبروا على الله بإهانة وحيه ورسوله * (إني آتيكم بسلطان مبين) * بحجة بينة يعترف بصحتها كل عاقل * (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) * قيل المراد أن تقتلون وقيل * (أن ترجمون) * بالقول فتقولوا ساحر كذاب * (وإن لم تؤمنوا لي) * أي إن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فاللام في لي لام الأجل * (فاعتزلون) * أي خلوا سبيلي لا لي ولا علي.
قال مصنف الكتاب رحمه الله تعالى: إن المعتزلة يتصلفون ويقولون إن لفظ الاعتزال أينما جاء في القرآن كان المراد منه الاعتزال عن
245

الباطل لا عن الحق، فاتفق حضوري في بعض المحافل، وذكر بعضهم هذا الكلام فأوردت عليه هذه الآية، وقلت المراد الاعتزال في هذه الآية الاعتزال عن
دين موسى عليه السلام وطريقته وذلك لا شك أنه اعتزال عن الحق فانقطع الرجل.
ثم قال تعالى: * (فدعا ربه) * الفاء في فدع تدل على أنه متصل بمحذوف قبله التأويل أنهم كفروا ولم يؤمنوا فدعا موسى ربه بأن هؤلاء قوم مجرمون، فإن قالوا الكفر أعظم حال من الجرم، فما السبب في أن جعل صفة الكفار كونهم مجرمين حل ما أراد المبالغة في ذمهم؟ قلت لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه وقد يكون مجرما في دينه وقد يكون فاسقا في دينه فيكون أخس الناس، قال صاحب " الكشاف " قرىء (إن هؤلاء) بالكسر على إضمار القول أي فدعا ربه فقال: إن هؤلاء قوم مجرمون.
ثم قال: * (فأسر بعبادي ليلا) * قرأ بن كثير ونافع * (فأسر) * موصولة بالألف والباقون مقطوعة لألف سرى وأسرى لغتان أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون، أي يتبعكم فرعون وقومه ذلك سببا لهلاكهم * (واترك البحر رهوا) * وفي الرهو قولان أحدهما: أنه الساكن يقال عيش رآه إذا كان خافضا وادعا، وافعل ذلك سهوا رهوا أي ساكنا بغير تشدد، أراد موسى عليه السلام لما جاوز لبحر أن يضربه بعصاه فينطبق كما كان فأمره الله تعالى بأن يتركه ساكنا على هيئته قارا على حاله في انفلاق الماء وبقاء الطريق يبسا حتى تدخله القبط فإذا حصلوا فيه أطبقه الله عليهم والثاني: أن الرهو هو الفرجة الواسعة، والمعنى ذا رهو أي ذا فرجة يعني الطريق الذي أظهره الله فيما بين لبحر أنهم جند مفرقون، يعني اترك الطريق كما كان يدخلوا فيغرقوا، وإنما أخبره الله تعالى بذلك حتى يبقى فارغ القلب عن شرهم وإيذائهم.
ثم قال تعالى: * (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم) * دلت هذه الآية على أنه تعالى أغرقهم، ثم قال بعد غرقهم هذا الكلام، وبين تعالى أنهم تركوا هذه لأشياء الخمسة، وهي الجنات والعيون والزروع والمقام الكريم والمراد بالمقام الكريم ما كان لهم من المجالس والمنازل الحسنة، وقيل المنابر التي كانوا يمدحون فرعون عليها * (ونعمة كانوا فيها فاكهين) * قال علماء اللغة نعمة العيش، بفتح النون حسنه ونضارته، ونعمة الله إحسانه وعطاؤه، قال صاحب " الكشاف " النعمة بالفتح من لتنعم وبالكسر من الإنعام، وقرئ فاكهين وفكهين كذلك الكاف منصوبة على معنى مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها وأورثناها أو في موضع الرفع على تقدير أن الأمر * (كذلك وأورثناها قوما آخرين) * ليسوا منهم في شيء من قرابة ولا دين ولا ولاء، وهم بنو إسرائيل كانوا مستعبدين في أيديهم فأهلكهم الله على أيديهم وأورثهم ملكهم وديارهم.
ثم قال تعالى: * (فما بكت عليهم السماء والأرض) * وفيه وجوه: الأول: قال الواحدي في " البسيط " روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من عبد إلا وله في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " وتلا هذه الآية، قال وذلك
246

لأنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا فتبكي عليهم، ولم يصعد لهم إلى السماء كلام طيب ولا عمل صالح فتبكي عليهم، وهذا قول أكثر المفسرين.
القول الثاني: التقدير: فم بكت عليهم أهل السماء وأهل الأرض، فحذف المضاف والمعنى ما بكت عليهم الملائكة ولا المؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين.
والقول الثالث: أن عادة النس جرت بأن يقولوا في هلاك الرجل العظيم الشأن: إنه أظلمت له الدنيا، وكسفت الشمس والقمر لأجله وبكت الريح والسماء والأرض، ويريدون المبالغة في تعظيم تلك المصيبة لا نفس هذا الكذب.
ونقل صاحب " الكشاف ": عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض ".
وقال جرير:
الشمس طالعة ليس بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وفيه ما يشبه السخرية بهم يعني أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم، وكانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم لو ماتوا لبكت عليهم السماء والأرض، فما كانوا في هذا الحد، بل كانوا دون ذلك، وهذا إنما يذكر على سبيل التهكم.
ثم قال: * (وما كانوا منظرين) * أي لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر لتوبة وتدارك وتقصير.
قوله تعالى
* (ولقد نجينا بنى إسراءيل من العذاب المهين * من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين * ولقد اخترناهم على علم على العالمين * وءاتيناهم من الايات ما فيه بلؤا مبين * إن هؤلاء ليقولون * إن هى إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين * فأتوا بابآئنا إن كنتم صادقين * أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين * وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهمآ
247

إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) *
اعلم أنه تعالى لما بين كيفية إهلاك فرعون وقومه بين كيفية إحسانه إلى موسى وقومه. واعلم أن دفع الضرر مقدم على إيصال النفع فبدأ تعالى ببيان دفع الضرر عنهم فقال: * (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) * يعني قتل الأبناء واستخدام النساء والإتعاب في الأعمال الشاقة. ثم قال: * (من فرعون) * وفيه وجهان: الأول: أن يكون التقدير من العذاب المهين الصادر من فرعون الثاني: أن يكون فرعون بدلا من لعذاب المهين كأنه في نفسه كان عذابا مهينا لإفراطه في تعذيبهم وإهانتهم.
قال صاحب " الكشاف " وقرئ * (من عذاب المهين) * وعلى هذه القراءة (فالمهين) هو فرعون لأنه كان عظيم السعي في إهانة المحقين. وفي قراءة ابن عباس * (من فرعون) * وهو بمعنى الاستفهام وقوله * (إنه كان عاليا من المفسرين) * جوابه كأن التقدير أن يقال هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته؟ ثم عرف حاله بقوله * (إنه كان عاليا من المفسرين) * أي كان عالي الدرجة في طبقة المفسرين، ويجوز أن يكون المراد * (إنه كان عاليا) * لقوله * (إن فرعون علا في الأرض) * (القصص: 4) وكان أيضا مسرفا ومن إسرافه أنه على حقارته وخسته ادعى الإلهية، ولما بين الله تعالى أنه كيف دفع الضرر عن بني إسرائيل وبين أنه كيف أوصل إليهم الخيرات فقال: * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) * وفيه بحثان: البحث الأول: أن قوله * (على علم) * في موضع الحال ثم فيه وجهان أحدهما: أي عالمين بكونهم مستحقين لأن يختاروا ويرجحوا على غيرهم والثاني: أن يكون المعنى مع علمنا بأنهم قد يزيغون ويصدر عنهم الفرطات في بعض الأحوال.
البحث الثاني: ظاهر قوله * (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) * يقتضي كونهم أفضل من كل العالمين فقيل المراد على عالمي زمانهم، وقيل هذا عام دخله التخصيص كقوله * (كنتم خير أمة أخرجت للناس) * (آل عمران: 110).
ثم قال تعالى: * (وأتيناهم من الآيات) * مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، وغيرها من الآيات القاهرة التي ما أظهر الله مثلها على أحد سواهم * (بلاء مبين) * أي نعمة ظاهرة، لأنه تعالى لما كان يبلو بالمحنة فقد يبلو أيضا بالنعمة اختبارا ظاهرا ليتميز لصديق عن الزنديق، وههنا آخر الكلام في قصة موسى عليه السلام ثم رجع إلى ذكر كفار مكة، وذلك لأن الكلام فيهم حيث قال: * (بل هم في شك يلعبون) * أي بل هم في شك من البعث والقيامة، ثم بين كيفية
248

إصرارهم على كفرهم، ثم بين أن قوم فرعون كانوا في الإصرار على الكفر على هذه القصة، ثم بين كيف أهلكهم وكيف أنعم على بني إسرائيل، ثم رجع إلى الحديث الأول، وهو كون كفار مكة منكرين للبعث، فقال: * (أن هؤلاء ليقولون، إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين) * فإن قيل القوم كانوا ينكرون الحياة الثانية فكان من حقهم أن يقولوا: إن هي إلا حياتنا الأولى وما نحن بمنشرين؟ قلنا إنه قيل لهم إنكم تموتون موتة تعقبها حياة، كما أنكم حال كونكم نطفا كنتم أمواتا وقد تعقبها حياة، وذلك قوله * (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم، فقالوا إن هي إلا موتتنا الأولى) * يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقيب الحياة لها إلا الموتة الأولى خاصة، فلا فرق إذا بين هذا الكلام وبين قوله * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * هذا ما ذكره صاحب " الكشاف ".
ويمكن أن يذكر فيه وجه آخر، فيقال قوله * (إن هي إلا موتتنا الأولى) * يعني أنه لا يأتينا شيء من الأحوال إلا الموتة الأولى، فهذا الكلام يدل على أنهم لا تأتيهم الحياة الثانية البتة، ثم صرحوا بهذا المزمور فقالوا * (وما نحن بمنشرين) * فلا حاجة إلى التكلف الذي ذكره صاحب " الكشاف ".
ثم قال تعالى: * (وما نحن بمنشرين) * يقال نشر الله الموتى وأنشرهم إذا بعثهم، ثم إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكنا معقولا فجعلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بأن تسألوا ربكم ذلك، حتى يصير ذلك دليلا عندنا على صدق دعواكم في النبوة والبعث في القيامة، قيل طلبوا من الرسول لله أن يدعو الله حتى ينشر قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي صحة البعث، ولما حكى عنهم ذلك قال: * (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مرجمين) * والمعنى أن كفار مكة لم يذكروا في نفي الحشر والنشر شبهة حتى يحتاج إلى الجواب عنها، ولكنهم أصروا على الجهل والتقليد في ذلك الإنكار، فلهذا السبب اقتصر لله تعالى على الوعيد، فقال إن سائر الكفار كانوا أقوى من هؤلاء، ثم إن الله تعالى أهلكهم فكذلك يهلك هؤلاء، فقوله تعالى: * (أهم خير أم قوم تبع) * استفهام على سبيل الإنكار، قال أبو عبيدة: ملوك اليمن كان كل واحد منهم يسمى تبعا لأن أهل الدنيا كانوا يتبعونه، وموضع تبع في الجاهلية موضع الخليفة في الإسلام وهم الأعاظم من ملوك العرب قالت عائشة، كان تبع رجلا صالحا، وقال كعب: ذم الله قومه ولم يذمه، قال الكلبي هو أبو كرب أسعد، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم ما أدري أكان تبع نبيا أو غير نبي " فإن قيل ما معنى قوله * (أهم خير أم قوم تبع) * مع أنه لا خير في الفريقين؟ قلنا معناه أهم خير في القوة والشوكة، كقوله * (أكفاركم خير من أولئكم) * (القمر: 43) بعد ذكر آل فرعون، ثم إنه تعالى ذكر الدليل القاطع على القول بالبعث والقيامة، فقال: * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) *
249

ولو لم يحصل البعث لكان هذا الخلق لعبا وعبثا، وقد مر تقرير هذه لطريقة بالاستقصاء في أول سورة يونس، وفي آخر سورة * (قد أفلح المؤمنون) * حيث قال: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) * (المؤمنون: 115) وفي سورة ص حيث قال: دوما خلقنا السماء والأرض وما بينهم باطلا) * (ص: 27).
ثم قال: * (ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) * والمراد أهل مكة، وأما استدلال المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر والفسق ولا يريدهما فهو مع جوابه معلوم، والله أعلم.
قوله تعالى
* (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين * يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون * إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم * إن شجرة الزقوم * طعام الاثيم * كالمهل يغلى فى البطون * كغلى الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سوآء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون) *
اعلم أن المقصود من قوله * (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) * (الدخان: 38) إثبات القول بالبعث والقيامة، فلا جرم ذكر عقيبه قوله * (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) * وفي تسمية يوم القيامة بيوم الفصل وجوه الأول: قال الحسن: يفصل الله فيه بين أهل الجنة وأهل النار الثاني: يفصل في الحكم والقضاء بين عباده الثالث: أنه في حق المؤمنين يوم الفصل، بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يكرهه، وفي حق الكفار، بمعنى أنه يفصل بينه وبين كل ما يريده، الرابع: أنه يظهر حال كل أحد كما هو، فلا يبقى في حاله ريبة ولا شبهة، فتنفصل الخيالات والشبهات، وتبقى الحقائق والبينات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: المعنى أن يوم يفصل الرحمن بين عبداه ميقاتهم أجمعين البر والفاخر، ثم وصف ذلك اليوم فقال: * (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) * يريد قريب
250

عن قريب * (ولا هم ينصرون) * أي ليس لهم ناصر، والمعنى أن الذي يتوقع منه النصرة إما القريب في الدين أو في النسب أو المعتق، وكل هؤلاء يسمون بالمولى، فلما لم تحصل النصرة منهم فبأن لا تحصل ممن سواهم أولى، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: * (واتقوا يوما لا تجزى نفس عن نفس شيئا) * إلى قوله * (ولا هم ينصرون) * (البقرة: 123) قال الواحدي: والمراد بقوله * (مولى عن مولى) * الكفار ألا ترى أنه ذكر المؤمن فقال: * (إلا من رحم الله) * قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد المؤمن فإنه تشفع له الأنبياء والملائكة.
اعلم أنه تعالى لما أقام الدلالة على أن القول بالقيامة حق، ثم أردفه بوصف ذلك اليوم ذكر عقيبه وعيد الكفار، ثم بعده وعد الأبرار، أما وعيد الكفار فهو قوله * (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قال صاحب " الكشاف " قرىء * (إن شجرة الزقوم) * بكسر الشين، ثم قال وفيها ثلاث لغات: شجرة بفتح الشين وكسرها، وشيرة بالياء، وشبرة بالباء.
المسألة الثانية: لبحث عن اشتقاق لفظ الزقوم قد تقدم في سورة والصافات، فلا فائدة في الإعادة. المسألة الثالثة: قالت المعتزلة: الآية تدل على حصول هذا الوعيد الشديد للأثيم، والأثيم هو الذي صدر عنه الإثم، فيكون هذا الوعيد حاصلا للفساق والجواب: أنا بينا في أصول الفقه أن اللفظ المفرد الذي دخل عليه حرف التعريف الأصل فيه أن ينصرف إلى المذكور السابق، ولا يفيد العموم، وههنا المذكور السابق هو الكافر، فينصرف إليه.
المسألة الرابعة: مذهب أبي حنيفة أن قراءة القرآن بالمعنى جائز، واحتج عليه بأنه نقل أن ابن مسعود كان يقرئ رجلا هذه الآية فكان يقول: طعام اللئيم، فقال قل طعام الفاجر، وهذا الدليل في غاية الضعف على ما بيناه في أصول الفقه.
ثم قال: * (كالمهل) * قرىء بضم الميم وفتحها وسبق تفسيره في سورة الكهف، وقد شبه الله تعالى هذا الطعام بالمهل، وهو دردي الزيت وعكر القطران ومذاب النحاس وسائر الفلزات، وتم الكلام ههنا، هم أخبر عن غليانه في بطون الكفار فقال: * (يغلي في البطون) * وقرئ بالتاء فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الشجرة، ومن قرأ بالياء حمله على الطعام في قوله * (طعام الأثيم) * لأن الطعام هو (ثمر) الشجرة في المعنى، واختار أبو عبيد الياء لأن الاسم المذكور يعني المهل هو الذي بل الفعل فصار التذكير به أولى، واعلم أنه لا يجوز أن يحمل الغلي على المهل لأن المهل مشبه به، وإنما يغلي ما يشبه بالمهل كغلي الحميم والماء إذا اشتد غليانه فهو حميم.
ثم قال: * (خذوه) * أي خذوا الأثيم * (فاعتلوه) * قرىء بكسر التاء، قال الليث: العتل أن تأخذ بمنكث الرجل فتعتله أي تجره إليك وتذهب به إلى حبس أو منحة، وأخذ فلان بزمان النقة يعتلها
251

وذلك إذا قبض على أصل الزمام عند الرأس وقادها قودا عنيفا، وقال ابن السكيت عتلته إلى السجن وأعتلته إذا دعته دفعا عنيفا، هذا قول جميع أهل اللغة في العتل، وذكروا في اللغتين ضم التاء وكسرها وهما صحيحان مثل يعكفون ويعكفون، ويعرضون ويعرشون.
قوله تعالى: * (إلى سواء الجحيم) * أي إلى وسط الجحيم * (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) * وكان الأصل أن يقال: ثم صبوا من فوق رأسه الحميم أو يصب من فوق رؤوسهم الحميم إلا أن هذه الاستعارة أكمل في المبالغة كأنه يقول: صبوا عليه عذاب ذلك الحميم، ونظيره قوله تعالى: * (ربنا أفرغ علينا صبرا) * (البقرة: 25) و * (ذق إنك أنت العزيز الكريم) * (الدخان: 49) وذكروا فيه وجوها الأول: أنه يخاطب بذلك على سبيل الاستهزاء، والمراد إنك أنت بالضد منه والثاني: أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين جبليها أعز ولا أكرم مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا والثالث: أنك كنت تعتز لا بالله فانظر ما وقعت فيه، وقرئ أنك بمعنى لأنك.
ثم قال: * (إن هذا ما كنتم به تمترون) * أي أن هذا العذاب ما كنتم به تمترون أي تشكون، والمراد منه ما ذكره في أول السورة حيث قال: * (بل هم في شك
يلعبون) * (الدخان: 9).
قوله تعالى
* (إن المتقين فى مقام أمين * فى جنات وعيون * يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين * كذلك وزوجناهم بحور عين * يدعون فيها بكل فاكهة ءامنين * لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم * فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم * فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون * فارتقب إنهم مرتقبون) *
اعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد في لآيات المتقدمة ذكر الوعد في هذه الآيات فقال: * (أن المتقين) * قال أصحابنا كل من اتقى الشرك فقد صدق عليه اسم المتقي فوجب أن يدخل الفاسق في هذا الوعد. واعلم أنه تعالى ذكر من أسباب تنعمهم أربعة أشياء أولها: مساكنهم فقال: * (في مقام أمين) *.
252

واعلم أن المسكين إنما يطيب بشرطين أحدهما: أن يكون آمنا عن جميع ما يخاف ويحذر وهو المراد من قوله * (في مقام أمين) * قرأ الجمهور في مقام بفتح الميم، وقرأ نافع وابن عامر بضم الميم، قال صاحب " الكشاف " المقام بفتح الميم هو موضع القيام، والمراد المكان وهو من الخاص الذي جعل مستعملا في المعنى العام وبالضم هو موضع الإقامة، والأمين من قولك أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو ضد الخائن، فوصف به المكان استعارة لأن المكان المخيف كأنه يخون صاحبه والشرط الثاني: لطيب المكان أن يكون قد حصل فيه أسباب النزهة وهي الجنات والعيون، فلما ذكر تعالى هذين الشرطين في مساكن أهل الجنة فقد وصفها بما لا يقبل الزيادة.
والقسم الثاني: من تنعماتهم الملبوسات فقال: * (يلبسون من سندس واستبرق) * قيل السندس ما رق من الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وهو تعريب استبرك، فإن قالوا كيف جاز ورود الأعجمي في القرآن؟ قلنا لما عرب فقد صار عربيا.
والقسم الثالث: فهو جلوسهم على صفة التقابل والغرض منه استئناس البعض بالبعض، فإن قالوا الجلوس على هذا الوجه موحش لأنه يكون كل واحد منهم مطلعا على ما يفعله الآخر، وأيضا فالذي يقل ثوابه إذا اطلع على حال من يكثر ثوابه يتنغص عيشه، قلنا أحوال الآخرة بخلاف أحوال الدنيا. والقسم الرابع: أزواجهم فقال: * (كذلك وزوجناهم بحور عين) * الكاف فيه وجهان أن تكون مرفوعة والتقدير الأمر كذلك أو منصوبة والتقدير آتيناهم مثل ذلك، قال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجا كما يزوج البعل بالبعل أي جعلناهم اثنين اثنين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزويج أم لا؟، قال يونس قوله * (وزوجناهم بحور عين) * أي قرناهم بهن فليس من عقد التزويج، والعرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها، قال الواحدي رحمه لله والتنزيل يدل على ما قال يونس وذلك قوله * (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) * (الأحزاب: 37) ولو كان المراد تزوجت بها زوجناك بها وأيضا فقول القائل زوجته به معناه أنه كان فردا فزوجته بآخر كما يقال شفعته بآخر، وأما الحور، فقال الواحدي أصل الحور بياض والتحوير التبييض، وقد ذكرنا ذلك في تفسير الحواريين، وعين حوراء إذا اشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها، ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون حور عينيها بياضا في لون الجسد، والدليل على أن المراد بالحور في هذه الآية البيض قراءة ابن مسعود بعيس عين والعيس البيض، وأما العين فجمع عيناء وهي التي تكون عظيمة العينين في النساء، فقال الجبائي رجل أعين إذا كان ضخم العين واسعها والأنثى عيناء والجمع عين، ثم اختلفوا في هؤلاء الحور العين، فقال الحسن هن عجائزكم الدرد ينشئهن الله خلقا آخر، وقال أبو هريرة إنهن ليسوا من نساء الدنيا.
والنوع الخامس: من تنعمات أهل الجنة المأكول فقال: * (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) *
253

قالوا إنهم يأكلون جميع أنواع الفاكهة لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض.
ولما وصف الله تعالى أنواع ما هم فيه من الخيرات والراحات، بين أن حياتهم دائمة، فقال: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * وفيه سؤالان: السؤال الأول: أنهم ما ذاقوا الموتة الأولى في الجنة فكيف حسن هذا الاستثناء؟ وأجيب عنه من وجوه الأول: قال صاحب " الكشاف " أريد أن يقال: لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع قوله * (إلا الموتة الأولى) * موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال في المستقبل، فهو من باب التعليق بالمحال، كأنه قيل إن كانت الموتة الأولى يمكن ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها الثاني: أن إلا بمعنى لكن والتقدير لا يذوقون فيها الموت لكن الموتة الأولى قد ذاقوها والثالث: أن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله تعالى وبطاعته ومحبته، وإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان الذي فاز بهذه السعادة فهو في الدنيا في الجنة وفي الآخرة أيضا في الجنة، وإذا كان لأمر كذلك فقد وقعت الموتة الأولى حين كان الإنسان في لجنة الحقيقية التي هي جنة المعرفة بالله ولمحبة، فذكر هذا الاستثناء كالتنبيه على قولنا إن الجنة الحقيقية هي حصول هذه الحالة لا الدار التي هي دار الأكل والشرب، ولهذا السبب قال عليه السلام: " أنبياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار " والرابع: أن من جرب شيئا ووقف عليه صح أن يقال إنه ذاقه، وإذا صح أن يسمى العلم بالذوق صح أن يسمى تذكره أيضا بالذوق فقوله * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) * يعني إلا الذوق الحاصل بسبب تذكر الموتة الأولى.
السؤال الثاني: أليس أن أهل النار أيضا لا يموتون فلم بشر أهل الجنة بهذا مع أهل النار يشاركونهم فيه؟ والجواب: أن البشارة ما وقعت بدوام الحياة مع سابقة حصول تلك الخيرات والسعادات فظهر الفرق.
ثم قال تعالى: * (ووقاهم عذاب الجحيم) * قرىء ووقاهم بالتشديد، فإن قالوا مقتضى الدليل أن يكون ذكر الوقاية عن عذاب الجحيم متقدما على ذكر الفوز بالجنة لأن الذي وقى عن عذاب الجحيم قد يفوز وقد لا يفوز، فإذا ذكر بعده أنه فاز بالجنة حصلت الفائدة، أما الذي فاز بخيرات الجنة فقد تخلص عن عقاب الله لا محالة فلم يكن ذكر الفوم عن عذاب جهنم بعد الفوز بثواب الجنة مفيدا، قلنا التقدير كأنه تعالى قال: ووقاهم في أول الأمر عن عذاب الجحيم.
ثم قال: * (فضلا من ربك) * يعني كل ما وصل إليه المتقون من الخلاص عن النار والفوز بالجنة فإنما يحصل بتفضل الله، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الثواب
يحصل تفضلا من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق لأنه تعالى لما عدد أقسام ثواب المتقين بين أنها بأسرها إنما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى، قال القاضي أكثر ههذ الأشياء وإن كانوا قد استحقوه بعملهم فهو بفضل الله لأنه تعالى تفضل بالتكليف، وغرضه منه أن يصيرهم إلى هذه المنزلة فهو
254

كمن أعطى غيره مالا ليصل به إلى ملك ضيعة، فإنه يقال في تلك الضيعة إنها من فضله، قلنا مذهبك أن هذا الثواب حق لازم على الله، وإنه تعالى لو أخل به لصار سفيها ولخرج به عن الإلهية فكيف يمكن وصف مثل هذا الشيء بأنه فضل من الله تعالى؟
ثم قال تعالى؛ * (ذلك هو الفوز العظيم) * واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق، فإنه تعالى وصفه بكونه فضلا من الله ثم وصف الفضل من الله بكونه فوزا عظيما، ويدل عليه أيضا أن الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثم خلع على إنسان آخر فإن تلك الخلعة أعلى حالا من إعطاء تلك الأجرة، ولما بين الله تعالى الدلائل وشرح الوعد والوعيد قال: * (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) * والمعنى أنه تعالى وصف القرآن في أول هذه السورة بكونه كتابا مبينا أي كثير البيان والفائدة وذكر في خاتمتها ما يؤكد ذلك فقال: إن ذلك الكتاب المبين، الكثير الفائدة إنما يسرناه بلسانك، أي إنما أنزلنا عربيا بلغتك، لعلهم يتذكرون، قال القاضي وهذا يدل على أنه أراد من الكل الإيمان والمعرفة وأنه ما أراد من أحد الكفر وأجاب أصحابنا أن الضمير في قوله * (لعلهم يتذكرون) * عائد إلى أقوام مخصوصين فنحن نحمل ذلك على المؤمنين.
ثم قال: * (فارتقب) * أي فانتظر ما يحل بهم * (إنهم مرتقبون) * ما يحل بك، متربصون بك الدوائر والله أعلم.
255

سورة الجاثية
ثلاثون وسبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن فى السماوات والارض لايات للمؤمنين * وفى خلقكم وما يبث من دآبة ءايات لقوم يوقنون * واختلاف اليل والنهار ومآ أنزل الله من السمآء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها وتصريف الرياح ءايات لقوم يعقلون * تلك ءايات الله نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وءاياته يؤمنون) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن قوله دحم، تنزيل الكتاب) * وجوها الأول: أن يكون * (حم) * مبتدأ و * (تنزيل الكتاب) * خبره وعلى هذا التقدير فلا بد من حذف مضاف، والتقدير تنزيل حم، تنزيل الكتاب، و * (من الله) * صلة للتنزيل الثاني: أن يكون قوله * (حم) * في تقدير: هذه حم ثم نقول * (تنزيل الكتاب) * واقع من الله العزيز الحكيم الثالث: أن يكون * (حم) * قسما * (وتنزيل الكتاب) * نعتا له، وجواب القسم * (إن في السماوات) * والتقدير: وحم الذي هو تنزيل الكتاب أن الأمر كذا وكذا.
المسألة الثانية: قوله * (العزيز الحكيم) * يجوز جعلهما صفة للكتاب، ويجوز جعلهما صفة لله تعالى، إلا أن هذا الثاني أولى، ويدل عليه وجوه الأول: أنا إذا جعلناهما صفة لله تعالى
256

كان ذلك حقيقة، وإذا جعلناهما صفة للكتاب كان ذلك مجازا والحقيقة أولى من المجاز الثاني: أن زيادة القرب توجب الرجحان الثالث: أنا إذا جعلنا العزيز الحكيم صفة لله كان ذلك إشارة إلى الدليل الدال على أن القرآن حق، لأن كونه عزيزا يدل على كونه قادرا على كل الممكنات وكونه حكيما يدل على كونه عالما بجميع المعلومات غنيا عن كل الحاجات، ويحصل لنا من مجموع كونه تعالى: عزيزا حكيما كونه قادرا على جميع الممكنات، عالما بجميع المعلومات، غنيا عن كل الحاجات، وكل ما كان كذلك امتنع منه صدور العبث والباطل، وإذا كان كذلك كان ظهور المعجز دليلا على الصدق، فثبت أنا إذا جعلنا كونه عزيزا حكيما صفتين لله تعالى يحصل منه هذه الفائدة، وأما إذا جعلناهما صفتين للكتاب لم يحصل منه هذه الفائدة، فكان الأول أولى والله أعلم.
ثم قال تعالى: * (إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين) * وفيه مباحث: البحث الأول: أن قوله * (إن في السماوات والأرض لآيات) * يجوز إجراؤه على ظاهره، لأنه حصل في ذوات السماوات والأرض أحوال دالة على وجود الله تعالى مثل مقاديرها وكيفياتها وحركاتها، وأيضا الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار موجودة في السماوات والأرض وهي آيات، ويجوز أن يكون المعنى: إن في خلق السماوات والأرض كما صرح به في سورة البقرة في قوله * (إن في خلق السماوات والأرض) * (البقرة: 164) وهو يدل على وجود القادر المختار في تفسير قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * (الأنعام: 1).
البحث الثاني: قد ذكرنا الوجوه الكثيرة في دلالة السماوات والأرض على وجود الإله القادر المختار في تفسير قوله * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * ولا بأس بإعادة بعضها فنقول إنها تدل على وجود الإله من وجوه: الأول: أنها أجسام لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فهذه الأجسام حادثة وكل حادث فله محدث الثاني: أنها مركبة من الأجزاء وتلك الأجزاء متماثلة، لما بينا أن الأجسام متماثلة، وتلك الأجزاء وقع بعضها في العمق دون السطح وبعضها في السطح دون العمق فيكون وقوع كل جزء في الموضع الذي وقع فيه من الجائزات وكل جائز فلا بد له من مرجح ومخصص الثالث: أن الأفلاك والعناصر مع تماثلها في تمام الماهية الجسمية اختص كل واحد منها بصفة معينة كالحرارة والبرودة واللطافة والكثافة الفلكية والعنصرية، فيكون ذلك أمرا جائزا ولا بد لها من مرجح الرابع: أن أجرام الكواكب مختلفة في الألوان مثل كمودة زحل، وبياض المشتري، وحمرة المريخ، والضوء الباهر للشمس، ودرية الزهرة، وصفرة عطارد، ومحو القمر،
وأيضا فبعضها سعيدة، وبعضها نحسة، وبعضها نهاري ذكر، وبعضها ليلي أنثى، وقد بينا أن الأجسام في ذواتها متماثلة، فوجب أن يكون اختلاف الصفات لأجل أن الإله القادر المختار خصص كل واحد منها بصفته المعينة الخامس: أن كل فلك فإنه مختص بالحركة إلى جهة معينة ومختص بمقدار واحد من السرعة والبطء، وكل ذلك أيضا من الجائزات، فلا بد من الفاعل المختار السادس: أن كل فلك مختص بشيء معين وكل ذلك أيضا من
257

الجائزات، فلا بد من الفاعل المختار، وتمام الوجوه مذكور في تفسير تلك الآيات.
البحث الثالث: قوله * (لآيات للمؤمنين) * يقتضي كون هذه الآيات مختصة بالمؤمنين، وقالت المعتزلة إنها آيات للمؤمن والكافر، إلا أنه ملا انتفع بها المؤمن دون الكافر أضيف كونها آيات إلى المؤمنين، ونظيره قوله تعالى: * (هدى للمتقين) * (البقرة: 2) فإنه هدى لكل الناس كما قال تعالى: * (هدى للناس) * (البقرة: 185) إلا أنه لما انتفع بها المؤمن خاصة لا جرم قيل * (هدى للمتقين) * فكذا ههنا، وقال الأصحاب الدليل والآية هو الذي يترتب على معرفته حصول العلم، وذلك العلم إنما يحصل بخلق الله تعالى لا بإيجاب ذلك الدليل، والله تعالى إنما خلق ذلك العلم للمؤمن لا للكافر فكان ذلك آية دليلا في حق المؤمن لا في حق الكافر والله أعلم.
ثم قال تعالى؛ * (وفي خلقكم وما يبث منت دابة آيات لقوم يوقنون) * وفيه مباحث: البحث الأول: قال صاحب " الكشاف ": قوله * (وما يبث) * عطف على الخلق المضاف لا على الضمير المضاف إليه، لأن المضاف ضمير متصل مجرور والعطف عليه مستقبح، فلا يقال مررت بك وزيد، ولهذا طعنا في قراءة حمزة * (تساءلون به والأرحام) * (النساء: 1) بالجر في قوله * (والأرحام) * وكذلك إن الذين استقبحوا هذا العطف، فلا يقولون مررت بك أنت وزيد.
البحث الثاني: قرأ حمزة الكسائي * (آيات) * بكسر التاء وكذلك الذي بعده * (وتصريف الرياح آيات) * والباقون بالرفع فيهما، أما الرفع فمن وجهين ذكرهما المبرد والزجاج وأبو علي: أحدهما: العطف على موضع إن وما عملت فيه، لأن موضعهما رفع بالابتداء فيحمل الرفع فيه على الموضع، كما تقول إن زيدا منطلق وعمر، و * (أن الله برئ من المشركين ورسوله) * (التوبة: 3) لأن معنى قوله * (أن الله برئ) * أن يقول الله برئ من المشركين ورسوله، والوجه الثاني: أن يكون قوله * (وفي خلقكم) * مستأنفا، ويكون الكلام جملة معطوفة على جملة أخرى كما تقول إن زيدا منطلق وعمرو كاتب، جعلت قولك وعمرو كاتب كلاما آخر، كما تقول زيد في الدار وأخرج غدا إلى بلد كذا، فإنما حدثت بحديثين ووصلت أحدهما بالآخر بالواو، وهذا الوجه هو اختيار أبي الحسن والفراء، وأما وجه القراءة بالنصب فهو بالعطف على قوله * (إن في السماوات) * على معنى وإن في خلقكم لآيات ويقولون هذه القراءة إنها في قراءة أبي وعبد الله * (لآيات) * ودخول اللام يدل على أن الكلام محمول على إن.
البحث الثالث: قوله * (وفي خلقكم) * معناه خلق الإنسان، وقوله * (وما يبث من دابة) * إشارة إلى خلق سائر الحيوانات، ووجه دلالتها على وجود الإله القادر المختار أن الأجسام متساوية فاختصاص كل واحد من الأعضاء بكونه المعين وصفته المعينة وشكله المعين، لا بد وأن يكون بتخصيص
258

القادر المختار، ويدخل في هذا الباب انتقاله من سن إلى سن آخر ومن حال إلى حال آخر، والاستقصاء في هذا الباب قد تقدم.
ثم قال تعالى: * (واختلاف الليل والنهار) * وهذا الاختلاف يقع على وجوه: أحدها: تبدل النهار بالليل وبالضد منه وثانيها: أنه تارة يزداد طول النهار على طول الليل وتارة بالعكس وبمقدار ما يزداد في النهار الصيفي يزداد في الليل الشتوي وثالثها: اختلاف مطالع الشمس في أيام السنة.
ثم قال تعالى: * (وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها) * وهو يدل على القول بالفاعل المختار من وجوه أحدها: إنشاء السحاب وإنزال المطر منه وثانيها: تولد النبات من تلك الحبة الواقعة في الأرض وثالثها: تولد الأنواع المختلفة وهي ساق الشجرة وأغصانها وأوراقها وثمارها ثم تلك الثمرة منها ما يكون القشر محيطا باللب كالجوز واللوز، ومنها ما يكون اللب محيطا بالقشر كالمشمش والخوخ، ومنها ما يكون خاليا من القشر كالتين، فتولد أقسام النبات على كثرة أصنافها وتباين أقسامها يدل على صحة القول بالفاعل المختار الحكيم الرحيم.
ثم قال: * (وتصريف الرياح) * وهي تنقسم إلى إقسام كثيرة بحسب تقسيمات مختلفة فمنها المشرقية والمغربية والشمالية والجنوبية، ومنها الحارة والباردة ومنها الرياح النافعة والرياح الضارة، ولما ذكر الله تعالى هذه الأنواع الكثيرة من الدلائل قال إنها آيات لقوم يعقلون.
واعلم أن الله تعالى جمع هذه الدلائل في سورة البقرة فقال: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) * (البقرة: 164) فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل والتفاوت بين الموضعين من وجوه الأول: أنه تعالى قال في سورة البقرة: * (إن في خلق السماوات والأرض) * وقال ههنا: * (إن في السماوات) * والصحيح عند أصحابنا أن الخلق عين المخلوق، وقد ذكر لفظ الخلق في سورة البقرة ولم يذكره في هذه السورة تنبيها على أنه لا يتفاوت بين أن يقال السماوات وبين أن يقال خلق السماوات فيكون هذا دليلا على أن الخلق عين المخلوق الثاني: أنه ذكر هناك ثمانية أنواع من الدلائل وذكر ههنا ستة أنواع وأهمل منها الفلك والسحاب، والسبب أن مدار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة فذكر الرياح الذي هو كالسبب يغني عن ذكرهما والتفاوت الثالث: أنه جمع الكل وذكر لها مقطعا واحدا وههنا رتبها على ثلاثة مقاطع والغرض التنبيه على أنه لا بد من إفراد كل واحد منها بنظر تام شاف الرابع: أنه تعالى ذكر في هذا الموضوع ثلاثة مقاطع أولها: يؤمنون وثانيها: يوقنون وثالثها: يعقلون، وأظن أن سبب هذا الترتيب أنه قيل إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين بل أنتم من طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن منتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن
259

تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، واعلم أن كثيرا من الفقهاء يقولون إنه ليس في القرآن العلوم التي يبحث عنها المتكلمون، بل ليس فيه إلا ما
يتعلق بالأحكام والفقه، وذلك غفلة عظيمة لأنه ليس في القرآن سورة طويلة منفردة بذكر الأحكام وفيه سور كثيرة خصوصا المكيات ليس فيها إلا ذكر دلائل التوحيد والنبوة والبعث والقيامة وكل ذلك من علوم الأصوليين، ومن تأمل علم أنه ليس في يد علماء الأصول إلا تفصيل ما اشتمل القرآن عليه على سبيل الإجمال.
ثم قال تعالى: * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق) * والمراد من قوله * (بالحق) * هو أن صحتها معلومة بالدلائل العقلية وذلك لأن العلم بأنها حقة صحيحة إما أن يكون مستفادا من النقل أو العقل والأول باطل لأن صحة الدلائل النقلية موقوفة على سبق العلم بإثبات الإله العالم القادر الحكيم وبإثبات النبوة وكيفية دلالة المعجزات على صحتها، فلو أثبتنا هذه الأصول بالدلائل النقلية لزم الدور وهو باطل، ولما بطل هذا ثبت أن العلم بحقيقة هذه الدلائل لا يمكن تحصيله إلا بمحض العقل، وإذا كان كذلك كان قوله * (تلك آفات الله نتلوها عليك بالحق) * ومن أعظم الدلائل على الترغيب في علم الأصول وتقرير المباحث العقلية.
ثم قال تعالى: * (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) * يعني أن لم ينتفع بهذه الآيات فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به، وأبطل بهذا قول من يزعم أن التقليد كاف وبين أنه يجب على المكلف التأمل في دلائل دين الله، وقوله * (يؤمنون) * قرىء بالياء والتاء، واختار أبو عبيدة الياء لأن قبله غيبة وهو قوله * (لقوم يوقنون) * و * (لقوم يعقلون) * فإن قيل إن في أول الكلام خطابا وهو قوله * (وفي خلقكم) * قلنا الغيبة التي ذكرنا أقرب إلى الحرف المختلف فيه والأقرب أولى، ووجه قول من قرأ على الخطاب أن قل فيه مقدر أي قل لهم فبأي حديث بعد ذلك تؤمنون.
قوله تعالى
* (ويل لكل أفاك أثيم * يسمع ءايات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم * وإذا علم من ءاياتنا شيئا اتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين * من ورآئهم جهنم
260

ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا ولا ما اتخذوا من دون الله أوليآء ولهم عذاب عظيم * هذا هدى والذين كفروا بايات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) *.
اعلم أنه تعالى لما بين الآيات للكفار وبين أنهم بأي حديث يؤمنون إذا لم يؤمنوا بها مع ظهورها، أتبعه بوعيد عظيم لهم فقال: * (ويل لكل أفاك أثيم) * الأفاك الكذب والأثيم المبالغ في اقتراف الآثام، واعلم ن هذا الأثيم له مقامان: المقام الأول: أن يبقى مصرا على الإنكار والاستكبار، فقال تعالى: * (يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر) * أي يقيم على كفره إقامة بقوة وشدة * (مستنكرا) * عن الإيمان بالآيات معجبا بما عنده، قيل نزلت في النضر بن الحرث وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن والآية عامة في كل من كان موصوفا بالصفة المذكورة، فإن قالوا ما معنى ثم في قوله * (ثم يصر مستكبرا) *؟، قلنا نظيره قوله تعالى: * (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * إلى قوله * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * (الأنعام: 1) ومعناه أنه تعالى لما كان خالقا للسموات والأرض كان من المستبعد أن يقابل بالإنكار والإعراض.
ثم قال تعالى: * (كأن لم يسمعها) * الأصل كأنه لم يسمعها ضمير الشأن ومحل الجملة النصب على الحال أي يصير مثل غير السامع.
المقام الثاني: أن ينتقل من مقام الإصرار والاستكبار إلى مقام الاستهزاء فقال: * (وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا) * وكان من حق الكلام أن يقال اتخذه خزوا أي اتخذ ذلك الشيء هزوا إلا أنه تعالى قال: * (اتخذها) * للإشعار بأن هذا الرجل إذا أحس بشيء من الكلام أنه من جملة الآيات التي أنزلها الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم خاض في الاستهزاء بجميع الآيات ولم يقتصر على الاستهزاء بذلك الواحد.
ثم قال تعالى: * (أولئك لهم عذاب مهين) * أولئك إشارة إلى كل أفاك أثيم لشموله جميع الأفاكين، ثم وصف كيفية ذلك العذاب المهين فقال: * (من ورائهم جهنم) * أي من قدامهم جهنم، قال صاحب " الكشاف ": الوراء اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام، ثم بين أن ما ملكوه في الدنيا لا ينفعهم فقال: * (ولا يغتني عنهم ما كسبوا شيئا) *.
ثم بين أن أصنامهم لا تنفعهم فقال: * (ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء) *.
ثم قال: * (ولهم عذاب عظيم) * فإن قالوا إنه قال قبل هذه الآية * (لهم عذاب مهين) * فما الفائدة في قوله بعده * (ولهم عذاب عظيم) * قلنا كون العذاب مهينا يدل على حصول الإهانة مع العذاب
261

وكونه عظيما يدل على كونه بالغا إلى أقصى الغايات في كونه ضررا.
ثم قال: * (هذا هدى) * أي كامل في كونه هدى * (والذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم) * والرجز أشد العذاب بدلالة قوله تعالى: * (فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) * (القرة: 59) وقوله * (لئن كشفت عنا الرجز) * (الأعراف: 134) وقرئ * (أليم) * بالجر والرفع، أما الجر فتقديره لهم عذاب من عذاب أليم وإذا كان عذابهم من عذاب أليم كان عذابهم أليما، ومن رفع كان المعنى له عذاب أليم ويكون المراد من الرجز الرجس الذي هو النجاسة ومعنى النجاسة فيه قوله * (ويسقى من ماء صديد) * (إبراهيم: 16) وكأن المعنى لهم عذاب من تجرع رجس أو شرب رجس فتكون من تبيينا للعذاب.
قوله تعالى
* (الله الذى سخر لكم البحر لتجرى الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون * وسخر لكم ما فى السماوات وما فى الارض جميعا منه إن فى ذلك لايات لقوم يتفكرون * قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون * من عمل صالحا فلنفسه ومن أسآء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون) *
اعلم أنه تعالى ذكر الاستدلال بكيفية جريان الفلك على وجه البحر وذلك لا يحصل إلا بسبب تسخير ثلاثة أشياء أحدها: الرياح التي تجري على وفق المراد ثانيها: خلق
وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها الفلك ثالثها: خلق الخشبة على وجه تبقى طافية على وجه الماء ولا تغوص فيه. وهذه الأحوال الثلاثة لا يقدر عليها واحد من البشر، فلا بد من موجد قادر عليها وهو الله سبحانه وتعالى، وقوله * (ولتبتغوا من فضله) * معناه إما بسبب التجارة، أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان، أو لأجل استخراج اللحم الطري.
ثم قال تعالى: * (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) * والمعنى لولا أن الله تعالى أوقف أجرام السماوات والأرض في مقارها وأحيازه لم يحصل الانتفاع، لأن بتقدير كون
262

الأرض هابطة أو صاعدة لم يحصل الانتفاع بها، وبتقدير كون الأرض من الذهب والفضة أو الحديد لم يحصل الانتفاع، وكل ذلك قد بيناه، فإن قيل ما معنى * (منه) * في قوله * (جميعا منه) *؟ قلنا معناه أنها وقعة موقع الحال، والمعنى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه تعالى مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه، قال صاحب " الكشاف " قرأ سلمة بن محارب منه على أن يكون منه فعل سخر على الإسناد المجازي أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ذلك منه أو هو منه.
واعلم أنه تعالى لم علم عباده دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أتبع ذلك بتعليم الأخلاق الفاضلة والأفعال الحميدة بقوله * (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * والمراد بالذين لا يرجون أيام الله الكفار، واختلفوا في سبب نزول الآية قال ابن عباس * (قل للذين آمنوا) * يعني عمر * (يغفروا للذين لا يرجون أيام الله) * يعني عبد لله بن أبي، وذلك أنهم نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال لها المريسيع، فأرسل عبد الله غلامة ليستقي الماء فأبطأ عليه، فلما أتاه قال له ما حبسك؟ قال غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحد يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك يأكلك، فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله هذه الآية، وقال مقاتل شتم رجل من كفار قريش عمر بمكة فهم أن يبطش به فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية.
وروى ميمون بن مهران أن فنحاص اليهودي لما أنزل قوله * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) * (البقرة: 245) قال احتاج رب محمد، فسمع بذلك عمر فاشتمل على سيفه وخرج في طلبه، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى رده، وقوله * (للذين لا يرجون أيام الله) * قال ابن عباس لا يرجون ثواب الله ولا يخافون عقابه ولا يخشون مثل عقاب الأمم الخالية، وذكرنا تفسير أيام الله عند قوله * (وذكرهم بأيام الله) * (إبراهيم: 5) وأكثر المفسرين يقولون إنه منسوخ، وإنما قالوا ذلك لأنه يدخل تحت الغفران أو لا يقتلوا، فما أمر الله بهذه المقاتلة كان نسخا، والأقرب أن يقل إنه محمول على ترك المنازعة في المحقرات على التجاوز عما يصدر عنهم من الكلمات المؤذية والأفعال الموحشة. ثم قال تعالى: * (ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) * أي لكي يجازي بالمغفرة قوما يعملون الخير، فإن قيل: ما الفائدة في التنكير في قوله * (ليجازي قوما) * مع أن المراد بهم هم المؤمنون المذكورون في قوله * (قل للذين آمنوا) *؟ قلنا التنكير يدل على تعظيم شأنهم كأنه قيل: ليجزي قوما وأي قوم من شأنهم الصفح عن السيئات والتجاوز عن المؤذيات وتحمل الوحشة وتجرع المكروه، وقال آخرون معنى الآية قل للمؤمنين يتجاوزوا عن الكفار، ليجزي الله الكفار بما كانوا يكسبون من الإثم، كأنه قيل لهم لا تكافئوهم أنتم حتى نكافئهم نحن، ثم ذكر الحكم العام فقال: * (من عمل صالحا
263

فلنفسه) * وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون * (ومن أساء فعليها) * مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل، فبين تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله، والعمل الردئ يعود بالضرر على فاعله، وأنه تعالى أمر بهذا ونهى عن ذلك لحظ العبد لا لنفع يرجع إليه، وهذا ترغيب منه في العمل الصالح وزجر عن العمل الباطل.
قوله تعالى
* (ولقد ءاتينا بنى إسراءيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين * وءاتيناهم بينات من الامر فما اختلفوا إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون * ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهوآء الذين لا يعلمون * إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أوليآء بعض والله ولى المتقين * هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون * أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين ءامنوا وعملوا الصالحات سوآء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون) *
اعلم أنه تعالى بين أنه أنعم بنعم كثيرة على بني إسرائيل، مع أنه حصل بينهم الاختلاف على سبيل البغي والحسد: والمقصود أن يبين أن طريقة قومه كطريقة من تقدم.
واعلم أن النعم على قسمين: نعم الدين، ونعم الدنيا، ونعم الدين أفضل من نعم الدنيا، فلهذا
264

بدأ الله تعالى بذكر نعم الدين، فقل * (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة) * والأقرب أن كل واحد من هذه الثلاثة يجب أن يكون مغايرا لصاحبه، أما الكتاب فهو التوراة، وأما الحكم ففيه وجوه، يجوز أن يكون المراد العلم والحكمة، ويجوز أن يكون المراد العلم بفصل الحكومات، ويجوز أن يكون المراد معرفة أحكام الله تعالى وهو علم الفقه، وأما النبوة فمعلومة، وأما نعم الدنيا فهي المراد من قوله تعالى: * (ورزقناهم من الطيبات) * وذلك لأنه تعالى وسع عليهم في الدنيا، فأورثهم أموال قوم فرعون وديارهم ثم أنزل عليهم المن والسلوى، ولما بين تعالى أنه أعطاهم من نعم الدين ونعم الدنيا نصيبا وافرا، قال: * (وفضلناهم على العالمين) * يعني أنهم كانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن سواهم في وقتهم، فلهذا المعنى قال المفسرون المراد: وفضلناهم عن عالمي زمانهم.
ثم قال تعالى: * (وآتيناهم بينات من الأمر) * وفيه وجوه الأول: أنه آتاهم بينات من الأمر، أي أدلة على أمور الدنيا الثاني: قال ابن عباس: يعني بين لهم من أمر
النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من تهامة إلى يثرب، ويكون أنصاره أهل يثرب الثالث: المراد * (وآتيناهم بينات) * أي معجزات قاهرة على صحة نبوتهم، والمراد معجزات موسى عليه السلام.
ثم قال تعالى: * (فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم) * وهذا مفسر في سورة * (حم * عسق) * (الشورى: 1، 2) والمقصود من ذكر هذا الكلام التعجب من هذه الحالة، لأن حصول العم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، ثم ههنا احتمالات يريد أنهم علموا ثم عاندوا، ويجوز أن يريد بالعلم الدلالة التي توصل إلى العلم، والمعنى أنه تعالى وضع الدلائل والبينات التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق، لكنهم على وجه الحسد والعناد اختلفوا وأظهروا النزاع.
ثم قال تعالى: * (إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة فيم كانوا فيه يختلفون) * والمرد أنه لا ينبغي أن يغتر المبطل بنعم الدنيا، فإنها وإن ساوت نعم المحق أو زادت عليها، فإنه سيرى في الآخرة ما يسوءه، وذلك كالزجر لهم، ولما بين تعالى أنهم أعرضوا عن الحق لأجل البغي والحسد، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق، وأن لا يكون له غرض سوى إظهار الحق وتقرير الصدق، فقال تعالى: * (ثم جعلناك على شريعة من الأمر) * أي على طريقة ومنهاج من أمر الدين، فاتبع شريعتك الثابتة بالدلائل والبينات، ولا تتبع ما لا حجة عليه من أهواء الجهال وأديانهم المبنية على الأهواء والجهل، قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: ارجع إلى ملة آبائك فهم كانوا أفضل منك وأسن، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم قال تعالى: * (إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا) * أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة فصرت مستحقا للعذاب، فهم لا يقدرون على دفع عذاب الله عنك، ثم بين تعالى أن الظالمين يتولى بعضهم
265

بعضا في الدنيا وفي الآخرة، ولا ولي لهم ينفعهم في إيصال الثواب وإزالة العقاب، وأما المتقون المهتدون، فالله وليهم وناصرهم وهم موالوه، وما أبين الفرق بين الولايتين، ولما بين الله تعالى هذه البيانات الباقية النافعة، قال: * (هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون) * وقد فسرناه في آخر سورة الأعراف، والمعنى هذا القرآن بصائر للناس جعل ما فيه من البيانات الشافية، والبينات الكافية بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعل في سائر الآيات روحا وحياة، وهو هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب لمن آمن وأيقن، ولم بين لله تعالى الفرق بين الظالمين وبين المتقين من الوجه الذي تقدم، بين الفرق بينهما من وجه آخر، فقال: * (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) * وفيه مباحث: البحث الأول: * (أم) * كلمة وضعت للاستفهام عن شيء حال كونه معطوفا على شيء آخر، سواء كان ذلك المعطوف مذكورا أو مضمرا، والتقدير ههنا: أفيعلم المشركون هذا، أم يحسبون أنا نتولاهم كما نتولى المتقين؟ البحث الثاني: الاجتراح: الاكتساب، ومنه الجوارح، وفلان جارحة أهله، أي كاسبهم، قال تعالى: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) * (الأنعام: 60). البحث الثالث: قال الكلبي: نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: وا ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقا لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنا أفضل حالا منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبين أنه لا يمكن أن يكون حال لمؤمن المطيع مساويا لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
واعلم أن لفظ * (حسب) * يستدعي مفعولين أحدهما: الضمير المذكور في قوله * (أن نجعلهم) * والثاني: الكاف في قوله * (كالذين آمنوا) * والمعنى أحسب هؤلاء المجترحين أن نجعلهم أمثال الذين آمنوا؟ ونظيره قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) * (السجدة: 18) وقوله * (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار) * (غافر: 51، 52) وقوله تعالى: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين * م لكم كيف تحكمون) * (القلم: 35، 36) وقوله * (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) * (ص: 28).
ثم قال تعالى: * (سواء محياهم ومماتهم) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم * (سواء) * بالنصب، والباقون بالرفع، واختيار أبي عبيد النصب، أما وجه القراءة بالرفع، فهو أن قوله * (محياهم ومماتهم) * مبتدأ والجملة في حكم المفرد في محل النصب على البدل من المفعول الثاني لقوله * (أم نجعل) * وهو الكاف في قوله * (كالذين آمنوا) * ونظيره قوله: ظننت زيدا أبوه منطلق، وأما وجه القراءة بالنصب
266

فقال صاحب " الكشاف " أجرى سواء مجرى مستويا، فارتفع محياهم ومماتهم على الفاعلية وكان مفردا غير جملة، ومن قرأ * (ومماتهم) * بالنصب جعل * (محياهم ومماتهم) * ظرفين كمقدم الحاج، وخفوق النجم، أي سواء في محياهم وفي مماتهم، قال أبو علي من نصب سواء جعل المحيا والممات بدلا من الضمير المنصوب في نجعلهم فيصير التقدير أن نجعله (محياهم ومماتهم سواء، قال ويجوز أن نجعله حالا ويكون المفعول الثاني هو الكاف في قوله * (كالذين) *.
المسألة الثانية: اختلفوا في المراد بقوله * (محياهم ومماتهم) * قال مجاهد عن ابن عباس يعني أحسبوا أن حياتهم ومماتهم كحياة المؤمنين وموتهم، كلا فإنهم يعيشون كافرين ويموتون كافرين والمؤمنون يعيشون مؤمنين ويموتون مؤمنين، وذلك لأن المؤمن ما دام يكون في الدنيا فإنه يكون وليه هو الله وأنصاره المؤمنون وحجة الله معه، والكافر بالضد منه، كما ذكره في قوله * (وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض) * وعند القرب إلى الموت، فإن حال المؤمن ما ذكره في قوله تعالى: * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة) * (النمل: 32) وحال الكافر ما ذكره في قوله: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * (النحل: 28
) وأما في القيامة فقال تعالى: * (وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة) * (عبس: 38 - 41) فهذا هو الإشارة إلى بيان وقوع التفاوت بين الحالتين والوجه الثاني: في تأويل الآية أن يكون المعنى إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، وذلك لأن المؤمن والكافر قد يستوي محياهم في الصحة والرزق والكفاية بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن، وإنما يظهر الفرق بينهما في الممات والوجه الثالث: في التأويل أن قوله * (سواء محياهم ومماتهم) * مستأنف على معنى أن نحيا المسيئين ومماتهم سواء فكذلك محيا المحسنين ومماتهم، أي كل يموت على حسب ما عاش عليه، ثم إنه تعالى صرح بإنكار تلك التسوية فقال: * (ساء ما يحكمون) * وهو ظاهر.
قوله تعالى
* (وخلق الله السماوات والارض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون * أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون * وقالوا ما هى إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنآ إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون * وإذا تتلى عليهم ءاياتنا بينات ما كان حجتهم إلا
267

أن قالوا ائتوا بابآئنآ إن كنتم صادقين * قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) *
اعلم إنه تعالى لما أفتى بأن المؤمن لا يساوي الكافر في درجات السعادات، أتبعه بالدلالة الظاهرة على صحة هذه الفتوى، فقال: * (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) * ولو لم يوجد البحث لما كان ذلك بالحق بل كان بالباطل، لأنه تعالى لما خلق الظالم وسلطه على المظلوم الضعيف، ثم لا ينتقم للمظلوم من الظالم كان ظالما، ولو كان ظالما لبطل أنه خلق السماوات والأرض بالحق وتمام تقرير هذه الدلائل مذكور في أول سورة يونس، قال القاضي هذه الآية تدل على أن في مقدور الله ما لو حصل لكان ظلما، وذلك لا يصح إلا على مذهب المجبرة الذين يقولون لو فعل كحل شيء أراده لم يكن ظلما، وعلى قول من يقول إنه لا يوصف بالقدرة على الظلم، وأجاب الأصحاب عنه بأن المراد فعل ما لو فعله غيره لكان ظلما كما أن المراد من الابتلاء والاختبار فعل ما لو فعله غيره لكان ابتلاء واختبارا، وقوله تعالى: * (ولتجزي) * فيه وجهان:
الأول: أنه معطوف على قوله * (بالحق) * فيكون التقدير وخلق الله السماوات والأرض لأجل إظهار الحق ولتجزى كل نفس، الثاني: أن يكون العطف على محذوف، والتقدير: وخلق الله السماوات والأرض بالحق ليدل بهما على قدرته ولتجزى كل نفس والمعنى أن المقصود من خلق هذا العلم إظهار العدل والرحمة، وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث والقيامة وحصل التفاوت في الدرجات والدركات بين المحقين وبين المبطلين، ثم عاد تعالى إلى شرح أحوال الكفار وقبائح طوائفهم، فقال: * (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) * يعني تركوا متابعة الهدى وأقبلوا على متابعة الهوى فكانوا يعبدون الهوى كما يعبد الرجل إلهه، وقرئ * (آلهته هواه) * كلما مال طبعه إلى شيء اتبعه وذهب خلفه، فكأنه اتخذ هواه آلهة شتى يعبد كل وقت واحدا منها.
268

ثم قال تعالى: * (وأضله الله على علم) * يعني على علم بأن جوهر روحه لا يقبل الصلاح، ونظيره في جانب التعظيم قوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * (الأنعام: 124) وتحقيق الكلام فيه أن جواهر الأرواح البشرية مختلفة فمنها مشرقة نورانية علوية إلهية، ومنها كدرة ظلمانية سفلية عظيمة الميل إلى الشهوات الجسمانية، فهو تعالى يقابل كلا منهم بحسب ما يليق بجوهره وماهيته، وهو المراد من قوله * (وأضله الله على علم) * في حق المردودين وبقوله * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * في حق المقبولين.
ثم قال: * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * فقوله * (وأضله الله على علم) * هو المذكور في قوله * (إن الذين كفروا) * إلى قوله * (لا يؤمنون) * (البقرة: 6) وقوله * (وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) * هو المراد من قوله * (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) * (البقرة: 7) وكل ذلك قد مر تفسيره في سورة البقرة بالاستقصاء، والتفاوت بين الآيتين أنه في هذه الآية قدم ذكر السمع على القلب، وفي سورة البقرة قدم القلب على السمع، والفرق أن الإنسان قد يسمع كلاما فيقع في قلبه منه أثر، مثل أن جماعة من الكفار كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه، وأما كفار مكة فهم كانوا يبغضونه بقلوبهم بسبب الحسد الشديد فكانوا يستمعون إليه، ولو سمعوا كلامه ما فهموا منه شيئا نافعا، ففي الصورة الأولى كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الثانية كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فلما اختلف القسمان لا جرم أرشد الله تعالى إلى كلا هذين القسمين بهذين الترتيبين اللذين نبهنا عليهما ولما ذكر الله تعالى هذا الكلام قال: * (فمن يهديه من بعد الله) * أي من بعد أن أضله الله * (أفلا تذكرون) * أيها الناس، قال الواحدي وليس يبقى للقدرية مع هذه الآية عذر ولا حيلة، لأن الله تعالى صرح بمنعه إياهم عن الهدى حين أخبر أنه ختم على سمع هذا الكافر وقلبه وبصره، وأقول هذه المناظرة قد سبقت بالاستقصاء في أول سورة البقرة.
واعلم أنه تعالى حكى عنهم بعد ذلك شبهتهم في إنكار القيامة وفي إنكار الإله القادر، أما شبهتهم في إنكار القيامة فهي قوله تعالى: * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) * فإن قالوا الحياة مقدمة على الموت في الدنيا فمنكرو القيامة كان يجب أن يقولوا نحيا ونموت، فما السبب في تقديم ذكر الموت على الحياة؟ قلنا فيه وجوه الأول: المراد بقوله * (نموت) * حال كونهم نطفا في أصلاب الآباء وأرحام الأمهات، وبقوله * (نحيا) * ما حصل بعد ذلك في الدنيا الثاني: نموت نحن ونحيا بسبب بقاء أولادنا الثالث: يموت بعض ويحيا بعض الرابع: وهو الذي خطر بالبال عند كتابة هذا الموضع أنه تعالى قدم ذكر الحياة فقال: * (ما هي إلا حياتنا الدنيا) * ثم قال بعده: * (نموت ونحيا) * يعني أن تلك الحياة منها ما يطرأ عليها الموت وذلك في حق الذين ماتوا، ومنها ما لم يطرأ الموت عليها، وذلك في حق
الأحياء الذين لم يموتوا بعد، وأما شبهتهم في إنكار الإله الفاعل المختار، فهو قولهم * (وما يهلكنا إلا الدهر) * يعني
269

تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاجات الطبائع، وإذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاص حصلت الحياة، وإذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة والموت تأثيرات الطبائع وحركات الأفلاك، ولا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله وبين إنكار البعث والقيامة.
ثم قال تعالى: * (دوما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون) * والمعنى أن قبل النظر ومعرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل وضده أيضا يحتمل، وذلك هو أن يكون القول بالبعث والقيامة حقا، وأن يكون القول بوجود الإله الحكيم حقا، فإنهم لم يذكروا شبهة ضعيفة ولا قوية في أن هذا الاحتمال الثاني باطل، ولكنه خطر ببالهم ذلك الاحتمال الأول فجزموا به وأصروا عليه من غير حجة ولا بينة، فثبت أنه ليس علم ولا جزم ولا يقين في صحة القول الذي اختاروه بسبب الظن والحسبان وميل القلب إليه من غير موجب، وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بغير حجة وبينة قول باطل فاسد، وأن متابعة الظن والحسبان منكر عند الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: قرىء حجتهم بالنصب والرفع على تقديم خبر كان وتأخيره. المسألة الثانية: سمى قولهم حجة لوجوه الأول: أنه في زعمهم حجة الثاني: أن يكون المراد من كان حجتهم هذا فليس البتة حجة كقوله: تحية بينهم ضرب وجيع (أي ليس بينهم تحية لمنافاة الضرب للتحية) الثالث: أنهم ذكروها في معرض الاحتجاج بها.
المسألة الثالثة: أن حجتهم على إنكار البعث أن قالوا لو صح ذلك فائتوا بآبائنا الذين ماتوا ليشهدوا لنا بصحة البعث.
واعلم أن هذه الشبهة ضعيفة جدا، لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال وجب أن يكون ممتنع الحصول، فإن حصول كل واحد منا كان معدوما من الأزل إلى الوقت الذي حصلنا فيه، ولو كان عدم الحصول في وقت معين يدل على امتناع الحصول لكان عدم حصولنا كذلك، وذلك باطل بالاتفاق.
ثم قال تعالى: * (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة) * فإن قيل هذا الكلام مذكور لأجل جواب من يقول * (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) * فهذا القائل كان منكرا لوجود الإله ولوجود يوم القيامة، فكيف يجوز إبطال كلامه بقوله * (قل الله يحييكم ثم يميتكم) * وهل هذا إلا إثبات للشيء بنفسه وهو باطل، قلنا إنه تعالى ذكر الاستدلال بحدوث الحيوان والإنسان على وجود الفاعل الحكيم في القرآن مرارا وأطوارا. فقوله ها هنا * (قل الله يحييكم) * إشارة إلى تلك الدلائل التي بينها وأوضحها مرارا، وليس المقصود من ذكر هذا الكلام
270

إثبات الإله بقول الإله، بل المقصود منه التنبيه على ما الدليل الحق القاطع في نفس الأمر. ولما ثبت أن الإحياء من الله تعالى، وثبت أن الإعادة مثل الإحياء الأول، وثبت أن القادر على الشيء قادر على مثله، ثبت أنه تعالى قادر على الإعادة، وثبت أن الإعادة ممكنة في نفسها، وثبت أن القادر الحكيم أخبر عن وقت وقوعها فوجب القطع بكونها حقة.
وأما قوله تعالى: * (ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه) * فهو إشارة إلى ما تقدم ذكره في الآية المتقدمة، وهو أن كونه تعال، عادلا خالقا بالحق منزها عن الجور والظلم، يقتضي صحة البعث والقيامة.
ثم قال تعالى: * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أي لكن أكثر الناس لا يعلمون دلالة حدوث الإنسان والحيوان والنبات على وجود الإله القادر الحكيم، ولا يعلمون أيضا أنه تعالى لما كان قادرا على الإيجاد ابتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة ثانيا.
قوله تعالى
* (ولله ملك السماوات والارض ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون * وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إن كنا نستنسخ ما كنتم تعملون * فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم فى رحمته ذلك هو الفوز المبين * وأما الذين كفروا أفلم تكن ءاياتى تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) *.
واعلم أنه تعالى لما احتج بكونه قادرا على الإحياء في المرة الأولى، وعلى كونه قادرا على الإحياء في المرة الثانية في الآيات المتقدمة، عمم الدليل فقال: * (ولله ملك السماوات والأرض) *
271

أي لله القدرة على جميع الممكنات سواء كانت من السماوات أو من الأرض، وإذا ثبت كونه تعالى قادرا على كل الممكنات، وثبت أن حصول الحياة في هذه الذات ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما حصل في المرة الأولى فيلزم من هاتين المقدمتين كونه تعالى قادرا على الإحياء في المرة الثانية. ولما بين تعالى إمكان القول بالحشر والنشر بهذين الطريقين، ذكر تفاصيل أحوال القيامة فأولها: قوله تعالى: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) * وفيه أبحاث: البحث الأول: عامل النصب في يوم تقوم يخسر، ويومئذ بدل من يوم تقوم.
البحث الثاني: قد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن الحياة والعقل والصحة كأنها رأس المال، والتصرف فيها لطلب سعادة الآخرة يجري مجرى تصرف التاجر في رأس المال لطلب الربح، والكفار قد أتعبوا أنفسهم في هذه التصرفات وما وجدوا منها إلا الحرمان والخذلان فكان ذلك في الحقيقة نهاية الخسران وثانيها: قوله تعالى: * (وترى كل أمة جاثية) * قال الليث الجثو الجلوس على الركب كما يجثى بين يدي الحاكم، قال الزجاج ومثله جذا يجذو، قال صاحب " الكشاف ": وقرئ جاذية،
قال أهل اللغة والجذو أشد استيفازا من الجثو، لأن الجاذي هو الذي يجلس على أطراف أصابعه، وعن ابن عباس جاثية مجتمعة مرتقبة لما يعمل بها.
ثم قال تعالى: * (كل أمة تدعى إلى كتابها) * على الابتداء وكل أمة على الإبدال من كل أمة، وقوله * (إلى كتبها) * أي إلى صحائف أعمالها، فاكتفى باسم الجنس كقوله تعالى: * (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه) * (الكهف: 49) والظاهر أنه يدخل فيه المؤمنون والكافرون لقوله تعالى بعد ذلك * (فأما الذين آمنوا) *.
ثم قال تعالى: * (وأما الذين كفروا) * فإن قيل الجثو على الركبة إنما يليق بالخائف والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة، قلنا إن المحق الآمن قد يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقا.
ثم قال تعالى: * (اليوم تجزون) * والتقدير يقال لهم اليوم تجزون، فإن قيل كيف أضيف الكتاب إليهم وإلى الله تعالى؟ قلنا لا منافاة بين الأمرين لأنه كتابهم بمعنى أنه الكتاب المشتمل على أعمالهم وكتاب الله بمعنى أنه هو الذي أمر الملائكة بكتبه * (ينطق عليكم) * أي يشهد عليكم بما عملتم من غير زيادة ولا نقصان * (إنا كنا نستنسخ) * الملائكة * (ما كنتم تعملون) * أي نستكتبهم أعمالكم.
ثم بين أحوال المطيعين فقال: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكر بعد وصفهم بالإيمان كونهم عاملين للصالحات، فوجب أن يكون عمل الصالحات مغايرا للإيمان زائدا عليه.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة علق الدخول في رحمة الله على كونه آتيا بالإيمان والأعمال
272

الصالحة، والمعلق على مجموع أمرين يكون عدما عند عدم أحدهما، فعند عدم الأعمال
الصالحة وجب أن لا يحصل الفوز بالجنة وجوابنا: أن تعليق الحكم على الوصف لا يدل على عدم الحكم عند عدم الوصف.
المسألة الثالثة: سمى الثواب رحمة والرحمة إنما تصح تسميتها بهذا الاسم إذا لم تكن واجبة، فوجب أن لا يكون الثواب واجبا على الله تعالى.
ثم قال تعالى: * (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: ذكر الله المؤمنين والكافرين ولم يذكر قسما ثالثا وهذا يدل على أن مذهب المعتزلة إثبات المنزلتين باطل.
المسألة الثانية: أنه تعالى علل أن استحقاق العقوبة بأن آياته تليت عليهم فاستكبروا عن قبولها، وهذا يدل على استحقاق العقوبة لا يحصل إلا بعد مجيء الشرع، وذلك يدل على أن الواجبات لا تجب إلا بالشرع، خلافا لما يقوله المعتزلة من أن بعض الواجبات قد يجب بالعقل.
المسألة الثالثة: جواب * (أما) * محذوف والتقدير: وأما الذين كفروا فيقال لهم: أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم عن قبول الحق وكنتم قوما مجرمين فإن قالوا كيف يحسن وصف الكافر بكونه مجرما في معرض الطعن فيه والذم له؟ قلنا معناه أنهم مع كونهم كفارا ما كانوا عدولا في أديان أنفسهم، بل كانوا فساقا في ذلك الدين والله أعلم.
قوله تعالى
* (وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندرى ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين * وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون * وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقآء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين * ذلكم بأنكم اتخذتم ءايات
273

الله هزوا وغرتكم الحيوة الدنيا فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون * فلله الحمد رب السماوات ورب الارض رب العالمين * وله الكبريآء فى السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) *.
فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء والساعة رفعا ونصبا قال الزجاج من نصب عطف على الوعد ومن رفع فعلى معنى وقيل: الساعة لا ريب فيها قال الأخفش الرفع أجود في المعنى وأكثر في كلام العرب، إذا جاء بعد خبر إن لأنه كلام مستقل بنفسه بعد مجيء الكلام الأول بتمامه.
المسألة الثانية: حكى الله تعالى عن الكفار أنهم إذا قيل إن وعد الله بالثواب والعقاب حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها قالوا ما ندري ما الساعة إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين.
أقول الأغلب على الظن أن القوم كانوا في هذه المسألة على قولين منهم من كان قاطعا بنفي البعث والقيامة، وهم الذين ذكرهم الله في الآية المتقدمة بقوله * (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا) * (الجاثية: 24) ومنهم من كان شاكا متحيرا فيه، لأنهم لكثرة ما سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكثرة ما سمعوه من دلائل القول بصحبته صاروا شاكين فيه وهم الذين أرادهم الله بهذه الآية، والذي يدل عليه أنه تعالى حكى مذهب أولئك القاطعين، ثم أتبعه بحكاية قول هؤلاء فوجب كون هؤلاء مغايرين للفريق الأول.
ثم قال تعالى: * (وبدا لهم) * أي في الآخرة * (سيئات ما عملوا) * وقد كانوا من قبل يعدونها حسنات فصار ذلك أول خسرانهم * (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) * وهذا كالدليل على أن هذه الفرقة لما قالوا * (إن تظن إلا ظنا) * إنما ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية، وعلى هذا الوجه فهذا الفريق شر من الفريق الأول، لأن الأولين كانوا منكرين وما كانوا مستهزئين، وهذا الفريق ضموا إلى الإصرار على الإنكار الاستهزاء.
ثم قال تعالى: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) * وفي تفسير هذا النسيان وجهان الأول: نترككم في العذاب كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد الثاني: نجعلكم بمنزلة الشيء المنسي غير المبالي به، كما لم تبالوا أنتم بلقاء يومكم ولم تلتفتوا إليه بل جعلتموه كالشئ الذي يطرح نسيا منسيا، فجمع الله تعالى عليهم من وجوه العذاب الشديد ثلاثة أشياء فأولها: قطع رحمة الله تعالى عنهم بالكلية وثانيها: أنه يصير مأواهم النار (وثالثها) أن لا يحصل لهم أجر من الأعوان
274

والأنصار، ثم بين تعالى أنه يقال لهم إنكم إنما صرتم مستحقين لهذه الوجوه الثلاثة من العذاب
الشديد، لأجل أنكم أتيتم بثلاثة أنواع من الأعمال القبيحة (فأولها) الاصرار على إنكار الدين
الحق (وثانيها) الاستهزاء به والسخرية منه، وهذان الوجهان داخلان تحت قوله تعالى (ذلكم
بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا) و (ثالثها) الاستغراق في حب الدنيا والإعراض بالكلية عن الآخرة،
وهو المراد من قوله تعالى: * (وغرتكم الحياة الدنيا) *.
ثم قال تعالى: * (فاليوم لا يخرجون منها) * قرأ حمزة والكسائي * (يخرجون) * بفتح الياء، والباقون بضمها * (ولا هم يستعتبون) * أي ولا يطلب منهم أن يعتبوا ربهم، أي يرضوه، ولما تم الكلام في هذه المباحث الشريفة الروحانية ختم السورة بتحميد الله تعالى، فقال: * (فلله الحمد رب السماوات ورب الأرض رب العالمين) * أي فاحمدوا الله الذي هو خالق السماوات والأرض، بل خالق كل العالمين من الأجسام والأرواح والذوات والصفات، فإن هذه الربوبية توجب الحمد والثناء على كل أحد من المخلوقين والمربوبين.
ثم قال تعالى: * (وله الكبرياء في السماوات والأرض) * وهذا مشعر بأمرين أحدهما: أن التكبير لا بد وأن يكون بعد التحميد، والإشارة إلى أن الحامدين إذا حمدوه وجب أن يعرفوا أنه أعلى وأكبر من أن يكون الحمد الذي ذكروه لائقا بإنعامه، بل هو أكبر من حمد الحامدين، وأياديه أعلى وأجل من شكر الشاكرين والثاني: أن هذا الكبرياء له لا لغيره، لأن واجب الوجود لذاته ليس إلا هو. ثم قال تعالى: * (وهو العزيز الحكيم) * يعني أنه لكمال قدرته يقدر على خلق أي شيء أراد، ولكمال حكمته يخص كل نوع من مخلوقاته بآثار الحكمة والرحمة والفضل والكرم، وقوله * (وهو العزيز الحكيم) * يفيد الحصر، فهذا يفيد، أن الكامل في القدرة وفي الحكمة وفي الرحمة ليس إلا هو، وذلك يدل على أنه لا إله للخلق إلا هو، ولا محسن ولا متفضل إلا هو.
قال مولانا رضي الله عنه: تم تفسير هذه السورة يوم الجمعة بعد الصلاة الخامس عشر م
ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة، والحمد لله حمدا دائما طيبا مباركا مخلدا مؤبدا، كما يليق بعلو شأنه
وباهر برهانه وعظيم إحسانه، والصلاة على الأرواح الطاهرة المقدسة من ساكني أعالي السماوات،
وتخوم الأرضين، من الملائكة والأنبياء والأولياء والموحدين، خصوصا على سيدنا ونبينا محمد
وآله وصحبه أجمعين.
(تم الجزء السابع والعشرون، ويليه الجزء الثامن والعشرون وأوله سورة الأحقاف)
275