الكتاب: تفسير الثعالبي
المؤلف: الثعالبي
الجزء: ٤
الوفاة: ٨٧٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الدكتور عبد الفتاح أبو سنة - الشيخ علي محمد معوض - والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الثعالبي
الجزء الرابع
1

تفسير الثعالبي
المسمى
بالجواهر الحسان في تفسير القرآن
للإمام عبد الرحمن بن محمد بن مخلوق أبي زيد الثعالبي المالكي
(786 - 875 ه‍)
حقق أصوله على أربع نسخ خطية وعلق عليه وخرج أحاديثه
الشيخ على محمد معوض
والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
وشارك في تحقيقه
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو سنة
خبير التحقيق بمجمع البحوث الاسلامية
وعضو المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية
وعضو لجنة المصحف بالأزهر الشريف
الجزء الرابع
دار إحياء التراث العربي مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
3

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
لدار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
دار إحياء التراث العربي
بيروت حارة حريك شارع دكاش بناية كليوباترا - بملكه
فاكس 2124783422 001
4

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها، فقيل: مكية.
وقيل: مدنية.
قوله عز وجل: * (كهيعص) * قد تقدم الكلام في فواتح السور.
وقوله: * (ذكر رحمت ربك) * مرتفع بقوله: * (كهيعص) * في قول فرقة.
وقيل: إنه ارتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذا ذكر، وحكى أبو عمرو
الداني عن ابن يعمر أنه قرأ: " ذكر رحمة ربك ": بفتح الذال، وكسر الكاف المشددة، ونصب
الرحمة.
وقوله * (نادى) *: معناه بالدعاء والرغبة; قاله ابن العربي في " أحكامه ".
وقوله تعالى: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) *: يناسب قوله: * (ادعوا ربكم تضرعا
وخفية) *. [الأعراف: 55].
وفي " الصحيح " عن النبي ص أنه قال: " خير الذكر الخفي، وخير الرزق ما يكفي "
5

وذلك; لأنه أبعد من الرياء، فأما دعاء زكريا عليه السلام فإنما كان خفيا لوجهين:
أحدهما: أنه كان ليلا.
والثاني: أنه ذكر في دعائه أحوالا تفتقر إلى الإخفاء; كقوله: * (وإني خفت الموالي
من ورائي) *. وهذا مما يكتم انتهى.
و * (وهن العظم) * معناه ضعف، و * (اشتعل) * مستعار للشيب من اشتعال النار.
وقوله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) * شكر لله - عز وجل - على سالف أياديه
عنده، معناه: قد أحسنت إلي فيما سلف، وسعدت بدعائي إياك; فالإنعام يقتضي أن يشفع
أوله آخره.
* ت *: وكذا فسر الداوودي، ولفظه: " أكن بدعائك رب شقيا "، يقول: كنت
تعرفني الإجابة فيما مضى، وقاله قتادة: انتهى.
وقوله: * (وإني خفت الموالي...) * الآية، قيل: معناه خاف أن يرث الموالي ماله،
والموالي: بنو العم، والقرابة.
وقوله * (من ورائي) * أي: من بعدي.
وقالت فرقة: إنما كان مواليه مهملين للدين; فخاف بموته أن يضيع الدين; فطلب
وليا يقوم بالدين بعده; حكى هذا القول: الزجاج، وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل زكريا من
يرث ماله; إذ الأنبياء لا تورث.
قال: * ع *: وهذا يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: " إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو
صدقة ". والأظهر الأليق بزكريا عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين، فتكون الوراثة
6

مستعارة، وقد بلغه الله أمله.
قال ابن هشام: و * (من ورائي) * متعلق ب‍ * (الموالي) *، أو بمحذوف هو حال من
الموالي، أو مضاف إليهم، أي: كائنين من ورائي، أو فعل الموالي من ورائي، ولا يصح
تعلقه ب‍ " خفت "; لفساد المعنى. انتهى من " المغنى ".
و * (خفت الموالي) * هي قراءة الجمهور، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وجماعة " خفت " بفتح الخاء،
وفتح الفاء وشدها، وكسر التاء، والمعنى على هذا: قد انقطع أوليائي، وماتوا، وعلى هذه
القراءة، فإنما طلب وليا يقوم بالدين.
قال ابن العربي في " أحكامه ": ولم يخف زكرياء وارث المال، وإنما أراد إرث
7

النبوءة، وعليها خاف أن تخرج عن عقبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنا - معاشر
الأنبياء - لا نورث، ما تركناه صدقة " انتهى.
وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وغيرهما - رضي الله عنهم - " يرثني وارث
من آل يعقوب ".
* ت *: وقوله: * (فهب لي) * قال ابن مالك في " شرح الكافية " اللام هنا: هي لام
التعدية; وقاله ولده في " شرح الخلاصة ".
قال ابن هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيدا لعمرو، وما أحبه
لبكر، انتهى.
وقوله: * (من آل يعقوب) * يريد يرث منهم الحكمة / والعلم، والنبوءة، و * (رضيا) *
معناه: مرضيا، والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة، وكذلك العاقر من الرجال.
وقوله: * (لم نجعل له من قبل سميا) * معناه في اللغة: لم نجعل له مشاركا في هذا
الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس وغيره.
وقال مجاهد وغيره: * (سميا) * معناه: مثيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا
8

يفضل على إبراهيم وموسى عليهما السلام إلا أن يفضل في خاص; كالسودد،
فقال
والحصر.
والعتي، والعسي: أي المبالغة في الكبر، أو يبس العود، أو شيب الرأس، أو عقيدة ما
وزكرياء: هو من ذرية هارون - عليهما السلام - ومعنى قوله: * (سويا) * فيما قال الجمهور،
صحيحا من غير علة، ولا خرس.
وقال ابن عباس: ذلك عائد على الليالي، أراد: كاملات مستويات.
وقوله: * (فأوحى إليهم) * قال قتادة، وغيره: كان ذلك بإشارة.
وقال مجاهد: بل بكتابة في التراب.
قال * ع *: وكلا الوجهين وحي.
وقوله: * (أن سبحوا) * قال قتادة: معناه صلوا السبحة، والسبحة: الصلاة، وقالت
فرقة: بل أمرهم بذكر الله، وقول: سبحان الله.
وقوله - عز وجل -: [* (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * المعنى: قال الله له: يا يحيى]
خذ الكتاب، وهو التوراة، وقوله: * (بقوة) * أي: العلم به، والحفظ له، والعمل به،
والالتزام للوازمه.
9

وقوله: * (صبيا) * يريد: شابا لم يبلغ حد الكهولة، ففي لفظ صبي على هذا، تجوز،
واستصحاب حال.
وروى معمر أن الصبيان دعوا يحيى إلى اللعب، وهو طفل، فقال: إني لم أخلق
للعب، فتلك الحكمة التي آتاه الله عز وجل وهو صبي، وقال ابن عباس: من قرأ القرآن
قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحكمة صبيا. " والحنان " الرحمة، والشفقة، والمحبة;
قاله جمهور المفسرين، وهو تفسير اللغة; ومن الشواهد في " الحنان " قول النابغة:
[الطويل]
- أبا منذر، أفنيت فاستبق بعضنا * حنانيك بعض الشر أهون من بعض -
وقال عطاء بن أبي رباح: * (حنانا من لدنا) * بمعنى تعظيما من لدنا.
قال * ع * وهو أيضا ما عظم من الأمر لأجل الله عز وجل ومنه قول زيد بن
عمرو بن نفيل في خبر بلال: والله، لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حنانا.
قال * ص *: قال أبو عبيدة: وأكثر ما يستعمل مثنى. انتهى، والزكاة التنمية،
والتطهير في وجوه الخير.
قال مجاهد: كان طعام يحيى العشب، وكان للدمع في خده مجار ثابتة، ولم يكن
جبارا عصيا، روي أن يحيى عليه السلام لم يواقع معصية قط صغيرة ولا كبيرة، والبر
كثير البر، والجبار: المتكبر، كأنه يجبر الناس على أخلاقه.
10

وقوله: * (وسلام عليه) * قال الطبري، وغيره: معناه وأمان عليه.
قال * ع *: والأظهر عندي: أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان;
لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه، وهو أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم
الله عليه، وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف، والحاجة، وقلة
الحيلة.
* (واذكر في الكتاب مريم) *، الكتاب: هو القرآن، والانتباذ: التنحي.
قال السدي: انتبذت لتطهر من حيض، وقال غيره: لتعبد الله عز وجل.
قال * ع *: وهذا أحسن.
وقوله: * (شرقيا) * يريد: في جهة الشرق من مساكن أهلها، وكانوا يعظمون جهة
المشرق; قاله الطبري.
وقال بعض المفسرين: اتخذت المكان بشرقي المحراب.
وقوله سبحانه: * (فاتخذت من دونهم حجابا) *، أي: لتستتر به عن الناس; لعبادتها.
" والروح ": جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى: * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) *، المعنى: قالت مريم
للملك الذي تمثل لها بشرا، لما رأته قد خرق الحجاب / الذي اتخذته فأساءت به الظن:
أعوذ بالرحمن منك إن كنت ذا تقى، فقال لها جبريل عليه السلام: * (إنما أنا رسول ربك
لأهب لك غلاما زكيا) *.
11

وقرأ أبو عمرو ونافع بخلاف عنه " ليهب ".
* (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا) *، والبغي: الزانية،
وروي: أن جبريل - عليه السلام - حين قاولها هذا هذه المقاولة، نفخ في جيب درعها; فسرت
النفخة بإذن الله تعالى حتى حملت منها; قاله وهب بن منبه، وغيره.
وقال أبي بن كعب: دخل الروح المنفوخ من فمها; فذلك قوله تعالى:
* (فحملته) * أي: فحملت الغلام، ويذكر أنها كانت بنت ثلاث عشرة سنة، فلما أحست
بذلك، وخافت تعنيف الناس، وأن يظن بها الشر * (انتبذت) * أي: تنحت مكانا بعيدا; حياء
وفرارا على وجهها، و * (أجاءها) * معناه: اضطرها، وهو تعدية [جاء] بالهمزة.
و * (المخاض) *: الطلق، وشدة الولادة، وأوجاعها، وروي: أنها بلغت إلى موضع
كان فيه جذع نخلة بال يابس، في أصله مذود بقرة، على جرية ماء، فاشتد بها الأمر
هنالك، واحتضنت الجذع; لشدة الوجع، وولدت عيسى عليه السلام فقالت عند ولادتها;
لما رأته من صعوبة الحال من غير ما وجه: * (يا ليتني مت قبل هذا) * فتمنت الموت من
جهة الدين; أن يظن بها الشر، وخوف أن تفتتن بتعيير قومها، وهذا مباح; وعلى هذا الحد
تمناه عمر - رضي الله عنه -.
12

* (وكنت نسيا) * أي: شيئا متروكا محتقرا، والنسي في كلام العرب; الشئ الحقير
الذي شأنه أن ينسى، فلا يتألم لفقده; كالوتد، والحبل للمسافر، ونحوه.
وهذا القصة تقتضي أنها حملت واستمرت حاملا على عرف البشر، واستحيت من
ذلك; ومرت بسببه، وهي حامل، وهو قول جمهور المتأولين.
وروي عن ابن عباس أنه قال: ليس إلا أن حملت، فوضعت في ساعة واحدة; والله
أعلم.
وظاهر قوله: * (فأجاءها المخاض) * أنها كانت على عرف النساء.
وقوله سبحانه: * (فناداها من تحتها) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر،
وعاصم: " فناداها من تحتها على أن " من " فاعل بنادى، والمراد ب‍ " من " عيسى; قاله
مجاهد، والحسن، وابن جبير، وأبي بن كعب.
13

وقال ابن عباس: المراد ب‍ " من " جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
والقول الأول أظهر وأبين، وبه يتبين عذر مريم، ولا تبقى بها استرابة.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: " من تحتها " بكسر الميم،
واختلفوا أيضا فقالت فرقة: المراد عيسى، وقالت فرقة: المراد جبريل المحاور لها قبل.
قالوا: وكان في بقعة أخفض من البقعة التي كانت هي عليها; والأول أظهر.
وقرأ ابن عباس: " فناداها ملك من تحتها ".
والسري: من الرجال العظيم السيد، والسري: أيضا الجدول من الماء; وبحسب هذا
اختلف الناس في هذه الآية.
فقال قتادة، وابن زيد: أراد جعل تحتك عظيما من الرجال، له شأن.
وقال الجمهور: أشار لها إلى الجدول، ثم أمرها بهز الجذع اليابس; لترى آية
أخرى.
وقالت فرقة: بل كانت النخلة مطعمة رطبا، وقال السدي: كان الجذع مقطوعا،
وأجري تحتها النهر لحينه.
قال * ع *: والظاهر من الآية: أن عيسى هو المكلم لها، وأن الجذع كان يابسا;
فهي آيات تسليها، وتسكن إليها.
قال * ص *: قوله: * (وهزي إليك) * تقرر في علم النحو أن الفعل لا يتعدى إلى
ضمير متصل، وقد رفع المتصل، وهما لمدلول واحد، وإذا تقرر هذا; ف‍ " إليك " لا
يتعلق ب‍ " هزي "، ولكن يمكن أن يكون " إليك " حالا من جذع النخلة; فيتعلق بمحذوف;
أي: هزي بجذع النخلة منتهيا إليك. انتهى.
14

والباء في قوله: * (بجذع) *: زائدة مؤكدة، * (وجنيا) *: معناه: قد طابت / وصلحت
للاجتناء، وهو من جنيت الثمرة.
وقال عمرو بن ميمون: ليس شئ للنفساء خيرا من التمر، والرطب.
وقرة العين مأخوذة من القر; وذلك، أنه يحكى: أن دمع الفرح بارد المس، ودمع
الحزن سخن المس، وقيل: غير هذا.
قال * ص *: * (وقرى عينا) * أي: طيبي نفسا. أبو البقاء: " عينا ": تمييز. آه‍.
وقوله سبحانه: * (فأما ترين من البشر أحدا...) * الآية، المعنى: أن الله عز وجل
أمرها على لسان جبريل عليه السلام أو ابنها; على الخلاف المتقدم: بأن تمسك عن
مخاطبة البشر، وتحيل على ابنها في ذلك; ليرتفع عنها خجلها، وتبين الآية; فيقوم
عذرها.
وظاهر الآية: أنها أبيح لها أن تقول مضمن هذه الألفاظ التي في الآية; وهو قول
الجمهور.
وقالت فرقة: معنى * (قولي) * بالإشارة، لا بالكلام.
قال * ص *: وقوله: * (فقولي) * جواب الشرط، وبينهما جملة محذوفة يدل عليها
المعنى; أي فإما ترين من البشر أحدا، وسألك أو حاورك الكلام، فقولي. انتهى.
* (وصوما) * معناه عن الكلام; إذ أصل الصوم الإمساك.
وقرأت فرقة: " أني نذرت للرحمن صمتا " ولا يجوز في شرعنا نذر الصمت; فروي:
أن مريم عليها السلام لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين
عذرها، أتت به تحمله مدلة من المكان القصي الذي كانت منتبذة به، والفري: العظيم
الشنيع; قاله مجاهد، والسدي، وأكثر استعماله في السوء.
15

واختلف في معنى قوله تعالى: * (يا أخت هارون) *، فقيل: كان لها أخ اسمه
هارون; لأن هذا الاسم كان كثيرا في بني إسرائيل.
وروى المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسله إلى أهل نجران في أمر من
الأمور، فقالت له النصارى: إن صاحبك يزعم أن مريم هي أخت هارون، وبينهما في
المدة ست مائة سنة.
قال المغيرة: فلم أدر ما أقول، فلما قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له، فقال: ألم
يعملوا أنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين.
قال * ع *: فالمعنى أنه اسم وافق اسما.
وقيل: نسبوها إلى هارون أخي موسى; لأنها من نسله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أخا
صداء أذن، ومن أذن، فهو يقيم ".
16

وقال قتادة: نسبوها إلى هارون اسم رجل صالح في ذلك الزمان.
وقالت فرقة: بل كان في ذلك الزمان رجل فاجر اسمه هارون نسبوها إليه; على جهة
التعيير.
* ت * والله أعلم بصحة هذا، وما رواه المغيرة إن ثبت هو المعول عليه، وقولهم:
* (ما كان أبوك امرأ سوء) * المعنى: ما كان أبوك، ولا أمك أهلا لهذه الفعلة، فكيف جئت
أنت بها؟ والبغي: التي تبغي الزنا، أي: تطلبه.
وقوله تعالى: * (فأشارت إليه) * يقوي قول من قال: إن أمرها ب‍ * (قولي) *، إنما أريد
به الإشارة.
وقوله: * (آتاني الكتاب) * يعني الإنجيل، ويحتمل أن يريد التوراة والإنجيل، و " آتاني "
معناه: قضى بذلك - سبحانه - وأنفذه في سابق حكمه، وهذا نحو قوله تعالى: * (أتى أمر
الله) * [النحل:].
* (وأوصاني بالصلاة والزكاة) * قيل: هما المشروعتان في البدن، والمال.
وقيل: الصلاة: الدعاء، والزكاة: التطهر من كل عيب، ونقص، ومعصية. والجبار;
المتعظم; وهي خلق مقرونة بالشقاء; لأنها مناقضة لجميع الناس، فلا يلقى صاحبها من كل
أحد إلا مكروها، وكان عيسى عليه السلام في غاية التواضع; يأكل الشجر، ويلبس الشعر،
ويجلس على الأرض، ويأوي حيث جنه الليل. لا مسكن له.
17

قال قتادة: وكان يقول: سلوني; فإني لين القلب، صغير في نفسي.
وقالت فرقة: إن عيسى عليه السلام كان أوتي الكتاب وهو في سن الطفولية، وكان
يصوم، ويصلي.
قال * ع *: / وهذا في غاية الضعف.
* ت *: وضعفه من جهة سنده; وإلا فالعقل لا يحيله; لا سيما وأمره كله خرق
عادة، وفي قصص هذه الآية; عن ابن زيد، وغيره: أنهم لما سمعوا كلام عيسى أذعنوا
وقالوا: إن هذا الأمر عظيم.
وقوله تعالى: * (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) * المعنى: قل يا
محمد، لمعاصريك حدثنا من اليهود والنصارى ذلك الذي هذه قصته; عيسى ابن مريم.
وقرأ نافع، وعامة الناس: " قول الحق " برفع القول; على معنى هذا هو قول
الحق.
وقرأ عاصم، وابن عامر: " قول الحق " بنصب اللام; على المصدر.
وقوله: * (إن الله ربي وربكم...) * الآية، هذا من تمام القول الذي أمر به
محمد صلى الله عليه وسلم: أن يقوله، ويحتمل أن يكون من قول عيسى ويكون قوله: " أن "
بفتح الهمزة، عطفا على قوله: " الكتاب ".
وقد قال وهب بن منبه: عهد عيسى إليهم: أن الله ربي وربكم.
18

* ت *: وما ذكره وهب [مصرح به في القرآن، ففي آخر المائدة: * (ما قلت لهم
إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم...) * الآية. [المائدة: 117]. وامتراؤهم]
في عيسى هو اختلافهم; فيقول بعضهم: لزنية، وهم اليهود، ويقول بعضهم: هو الله;
تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، فهذا هو امتراؤهم، وسيأتي شرح ذلك بإثر هذا
وقوله: * (فاختلف الأحزاب من بينهم) * هذا ابتداء خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم بأن
بني إسرائيل اختلفوا أحزابا، أي: فرقا.
وقوله: * (من بينهم) * بمعنى: من تلقائهم، ومن أنفسهم ثار شرهم، وإن الاختلاف
لم يخرج عنهم; بل كانوا هم المختلفين.
وروي في هذا عن قتادة: أن بني إسرائيل جمعوا من أنفسهم أربعة أحبار غاية في
المكانة والجلالة عندهم وطلبوهم أن يبينوا لهم أمر عيسى فقال أحدهم: عيسى هو الله;
تعالى الله عن قولهم.
وقال له الثلاثة: كذبت، واتبعه اليعقوبية، ثم قيل للثلاثة; فقال أحدهم: عيسى
ابن الله، [تعالى الله عن قولهم] فقال له الاثنان: كذبت، واتبعه النسطورية، ثم قيل
للاثنين; فقال أحدهما: عيسى أحد ثلاثة: الله إله، ومريم إله، وعيسى إله; [تعالى الله
عن قولهم علوا كبيرا] فقال له الرابع: كذبت، واتبعته الإسرائيلية، فقيل للرابع; فقال:
عيسى عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، فاتبع كل واحد فريق من بني إسرائيل، ثم اقتتلوا
فغلب المؤمنون، وقتلوا، وظهرت اليعقوبية على الجميع.
و " الويل ": الحزن، والثبور، وقيل: " الويل ": واد في جهنم، و * (مشهد يوم عظيم) *:
هو يوم القيامة.
19

وقوله سبحانه: * (أسمع بهم وأبصر * (أي: ما أسمعهم، وأبصرهم يوم يرجعون إلينا،
ويرون ما نصنع بهم، * (لكن الظالمون اليوم) * أي: في الدنيا في * (ضلال مبين) * أي بين،
* (وأنذرهم يوم الحسرة) * وهو يوم ذبح الموت; قاله الجمهور.
وفي هذا حديث صحيح خرجه البخاري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن الموت يجاء به
في صورة كبش أملح، فيذبح على الصراط بين الجنة والنار، وينادى: يا أهل الجنة،
خلود لا موت، ويا أهل النار، خلود لا موت، ثم قرأ: * (وأنذرهم يوم الحسرة...) *
الآية
قال * ع *: [وعند ذلك تصيب أهل النار حسرة لا حسرة مثلها.
وقال ابن زيد، وغيره: يوم الحسرة]: هو يوم القيامة.
قال * ع *: ويحتمل أن يكون يوم الحسرة اسم جنس شامل لحسرات كثيرة;
بحسب مواطن الآخرة: منها يوم موت الإنسان، وأخذ الكتاب بالشمال، وغير ذلك،
* (وهم في غفلة) * يريد: في الدنيا.
20

قوله سبحانه: * (أنا نحن نرث الأرض...) * الآية، عبارة عن بقائه - جل وعلا - بعد
فناء مخلوقاته، لا إله غيره.
وقوله: - عز وجل -: * (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا / نبيا...) *
الآية، قوله * (واذكر) * بمعنى أتل وشهر; لأن الله تعالى هو الذاكر; * (والكتاب) *: هو
القرآن، والصديق: بناء مبالغة فكان إبراهيم عليه السلام [يوصف] بالصدق في أفعاله
وأقواله.
وقوله: * (يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن...) * الآية، قال
الطبري: " أخاف " بمعنى أعلم.
قال: ع *: والظاهر عندي أنه خوف على بابه; وذلك أن إبراهيم عليه السلام في
وقت هذه المقالة لم يكن آيسا ذلك من إيمان أبيه.
* ت *: ونحو هذا عبارة المهدوي، قال: قيل: " أخاف " معناه: أعلم، أي: إني
أعلم إن مت على ما أنت عليه.
ويجوز أن يكون " أخاف " على بابه، ويكون المعنى: أني أخاف أن تموت على
كفرك; فيمسك العذاب. انتهى.
وقوله: * (لأرجمنك) * قال الضحاك، وغيره: معناه بالقول، أي: لأشتمنك.
وقال الحسن: معناه لأرجمنك بالحجارة.
21

وقالت: فرقة: معناه لأقتلنك، وهذان القولان بمعنى واحد.
وقوله: * (واهجرني) * على هذا التأويل إنما يترتب بأنه أمر على حياله; كأنه قال: إن
لم تنته قتلتك بالرجم، ثم قال له: واهجرني، أي: مع انتهائك، و * (مليا) * معناه: دهرا
طويلا مأخوذ من الملوين; وهما الليل والنهار; هذا قول الجمهور.
وقوله: * (قال سلام عليك) * اختلف في معنى تسليمه على أبيه، فقال بعضهم: هي
تحية مفارق، وجوزوا تحية الكافر وأن يبدأ بها.
وقال الجمهور: ذلك السلام بمعنى المسالمة، لا بمعنى التحية.
وقال الطبري: معناه أمنة مني لك; وهذا قول الجمهور; وهم لا يرون ابتداء
الكافر بالسلام.
وقال النقاش: حليم خاطب سفيها; كما قال تعالى: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما) * [الفرقان: 63].
وقوله: * (سأستغفر لك ربي) * معناه: سأدعو الله تعالى في أن يهديك، فيغفر لك
بإيمانك، ولما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
والحفي: المهتبل المتلطف، وهذا شكر من إبراهيم لنعم الله تعالى عليه، ثم أخبر
إبراهيم عليه السلام بأنه يعتزلهم، أي: يصير عنهم بمعزل، ويروي: أنهم كانوا بأرض
كوثى، فرحل عليه السلام حتى نزل الشام، وفي سفرته تلك لقي الجبار الذي أخدم
هاجر... " الحديث الصحيح بطوله، و * (تدعون) * معناه: تعبدون.
وقوله: * (عسى) * ترج في ضمنه خوف شديد.
وقوله سبحانه: * (فلما اعتزلهم...) * إلى آخر الآية: إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
أنه لما رحل إبراهيم عن بلد أبيه وقومه، عوضه الله تعالى من ذلك ابنه إسحاق، وابن ابنه
22

يعقوب - على جميعهم السلام - وجعل الولد له تسلية، وشد لعضده.
وإسحاق أصغر من إسماعيل، ولما حملت هاجر بإسماعيل، غارت سارة; فحملت
بإسحاق، هكذا فيما روي.
وقوله تعالى: * (ووهبنا لهم من رحمتنا) * يريد: العلم، والمنزلة، والشرف في الدنيا،
والنعيم في الآخرة; كل ذلك من رحمة الله عز وجل، ولسان الصدق، هو الثناء الباقي
عليهم آخر الأبد; قاله ابن عباس وإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم وذريته معظمة في جميع الأمم
والملل.
قال * ص *: * (وكلا جعلنا [نبيا]) * أبو البقاء: هو منصوب ب‍ * (جعلنا) *. انتهى.
وقوله (عز وجل): * (واذكر في الكتاب موسى) *، أي: على جهة التشريف له،
* (وناديناه) * هو تكليم الله له، والأيمن: صفة لجانب، وكان على يمين موسى، وإلا
فالجبل نفسه لا يمنه له ولا يسرة، ويحتمل أن يكون الأمن مأخوذا من الأيمن، * (وقربناه) *
أي: تقريب تشريف، والنجي: من المناجاة.
وقوله تعالى: * (واذكر في الكتاب إسماعيل) * هو أيضا من لسان الصدق المضمون
بقاؤه على إبراهيم عليه السلام وإسماعيل عليه السلام: هو أبو العرب اليوم; وذلك أن
اليمنية والمضرية ترجع إلى ولد إسماعيل، وهو الذبيح في قول الجمهور.
وهو الراجح; من وجوه: / منها قوله تعالى: * (ومن وراء إسحاق يعقوب) *
23

فولد بشر أبواه بأن سيكون منه ولد كيف يؤمر بذبحه؟!.
ومنها أن أمر الذبح كان بمنى بلا خلاف، وما روي قط أن إسحاق دخل تلك البلاد،
وإسماعيل بها نشأ، وكان أبوه يزوره مرارا كثيرة يأتي من الشام، ويرجع من يومه على
البراق; وهو مركب الأنبياء.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا ابن الذبيحين " وهو أبوه عبد الله، والذبيح الثاني هو
إسماعيل.
ومنها [ترتيب] آيات سورة " والصافات " يكاد ينص على أن الذبيح غير إسحاق،
ووصفه الله تعالى بصدق الوعد; لأنه كان مبالغا في ذلك; وروي أنه وعد رجلا أن يلقاه
في موضع، فبقي في انتظاره يومه وليلته، فلما كان في اليوم الآخر جاء الرجل، فقال له
إسماعيل: ما زلت هنا في انتظارك منذ أمس، وقد فعل مثله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه،
خرجه الترمذي وغيره.
قال سفيان بن عيينة: أسوأ الكذب إخلاف الميعاد، ورمي الأبرياء بالتهم.
و * (أهله) * المراد بهم قومه، وأمته; قاله الحسن.
وفي مصحف ابن مسعود: " وكان يأمر قومه ".
وإدريس عليه السلام من أجداد نوح عليه السلام.
* (ورفعناه مكانا عليا) * قالت فرقة من العلماء: رفع إلى السماء.
قال ابن عباس: كان ذلك بأمر الله تعالى.
وقوله: * (وبكيا) * قالت فرقة: جمع باك، وقالت فرقة: هو مصدر بمعنى البكاء;
التقدير: وبكوا بكيا.
24

واحتج الطبري، ومكي لهذا القول; بأن عمر رضي الله عنه قرأ سورة مريم،
فسجد ثم قال: هذا السجود، فأين البكي؟ يعني: البكاء.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد عمر رضي الله عنه فأين الباكون؟ وهذا الذي ذكروه
عن عمر، ذكره أبو حاتم، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: * (فخلف من بعدهم خلف...) * الآية، الخلف، - [بسكون] اللام -
مستعمل إذا كان الآتي مذموما; هذا مشهور كلام العرب، والمراد بالخلف: من كفر
وعصى بعد من بني إسرائيل، ثم يتناول معنى الآية من سواهم إلى يوم القيامة، وإضاعة
الصلاة بتركها وبجحدها، وبإضاعة أوقاتها.
وروى أبو داود الطيالسي في " مسنده " بسنده عن عبادة بن الصامت قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أحسن الرجل الصلاة، فأتم ركوعها، وسجودها، قالت الصلاة:
حفظك الله; كما حفظتني: وترفع، وإذا أساء الصلاة; فلم يتم ركوعها، ولا
سجودها، قالت الصلاة: ضيعك الله; كما ضيعتني، وتلف كما يلف الثوب الخلق،
فيضرب بها وجهه ". انتهى من " التذكرة "، والشهوات: عموم، وألغي: الخسران;
قاله ابن زيد.
25

وقد يكون [الغي بمعنى الضلال، والتقدير: يلقون جزاء الغي.
وقال عبد الله بن عمرو، وابن مسعود: الغي: واد في] جهنم، وبه وقع التوعد
في هذه الآية.
وقال * ص *: الغي عندهم كل شر; كما أن الرشاد كل خير. [انتهى].
و * (جنات عدن) *: بدل من الجنة في قوله * (يدخلون الجنة) *.
وقوله * (بالغيب) *، أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم، وفي هذا مدح لهم على
سرعة إيمانهم وبدارهم إذ لم يعاينوا، و * (مأتيا) * مفعول على بابه.
وقال جماعة من المفسرين: هو مفعول في اللفظ; بمعنى فاعل; ف‍ * (مأتيا) * بمعنى
آت، وهذا بعيد.
* ت *: بل هو الظاهر، وعليه اعتمد * ص *.
واللغو: السقط من القول.
وقوله * (بكرة وعشيا) * يريد في التقدير.
وقوله عز وجل: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك...) * / الآية، قال ابن عباس، وغيره:
سبب هذه الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطأ عنه جبريل عليه السلام مدة فلما جاءه قال: " يا جبريل،
قد اشتقت إليك، أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا " فنزلت هذه الآية.
26

وقال الضحاك، ومجاهد: سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في
السؤالات المتقدمة في سورة الكهف: " غدا أخبركم ".
وقال الداودي عن مجاهد: أبطأت الرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى جبريل عليه
السلام قال: ما حبسك؟ قال: وكيف نأتيكم. وأنتم لا تقصون. أظفاركم. ولا تأخذون
شواربكم ولا تستاكون، وما نتنزل إلا بأمر ربك. انتهى.
وقد جاءت في فضل السواك آثار كثيرة، فمنها: ما رواه البزار في " مسنده " عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن العبد إذا تسوك ثم قام يصلي، قام الملك خلفه، فيسمع لقراءته،
فيدنو منه حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فيه شئ من القرآن إلا صار في جوف
الملك ". انتهى من " الكوكب الدري ".
وفيه: عن ابن أبي شيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " صلاة على أثر سواك أفضل من
سبعين صلاة بغير سواك انتهى.
27

وفي " البخاري ": أن السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب. اه‍.
وقوله سبحانه: * (له ما بين أيدينا...) * الآية، المقصود بهذه الآية الإشعار بملك الله
تعالى لملائكته، وأن قليل تصرفهم، وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما
[هو] بحد منه.
وقوله: * (وما كان ربك نسيا) * أي: ممن يلحقه نسيان لبعثنا إليك، * (نسيا) *. فعيل
من النسيان، وهو الذهول عن الأمور.
وقرأ ابن مسعود: " وما نسيك ربك ".
وقوله * (سميا) * قال قوم: معناه موافقا في الاسم.
قال * ع * 6 وهذا يحسن فيه أن يريد بالاسم ما تقدم من قوله * (رب السماوات
والأرض وما بينهما) * أي: [هل] تعلم من يسمى بهذا، أو يوصف بهذه الصفة; وذلك
أن الأمم والفرق لا يسمون بهذا الاسم وثنا، ولا شيئا سوى الله تعالى.
28

قال القشيري في " التحبير ": قوله تعالى: * (واصطبر لعبادته) *: الاصطبار: نهاية
الصبر، ومن صبر ظفر، ومن لازم وصل; وفي معناه انشدوا: [البسيط].
[لا تيئسن وإن طالت مطالبة * إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا]
- أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته * عليه ومدمن القرع للأبواب أن يلجأ -
وأنشدوا: [البسيط]
- إني رأيت وفي الأيام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثر -
- وقل من جد في شئ يحاوله * واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر -
انتهى.
وقال ابن عباس، وغيره: * (سميا) * معناه: مثيلا، أو شبيها، ونحو ذلك; وهذا
قول حسن، وكأن السمي بمعنى: المسامي، والمضاهي; فهو من السمو.
وقوله تعالى: * (الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا) *، الإنسان: اسم جنس
يراد به الكافرون، وروي أن سبب نزول هذه الآية هو: أن رجالا من قريش كانوا يقولون
هذا ونحوه، وذكر: أن القائل هو أبي بن خلف.
وروي أن القائل هو العاصي بن وائل، وفي قوله تعالى: * (ولم يك شيئا) * دليل
على أن المعدوم لا يسمى شيئا.
وقال أبو علي الفارسي: أراد شيئا موجودا.
29

قال * ع *: وهذه من أبي علي نزعة اعتزالية; [فتأملها]، والضمير في
* (لنحشرنهم) * عائد على الكفار القائلين ما تقدم، ثم أخبر تعالى: أنه يقرن بهم الشياطين
المغوين لهم، و * (جثيا) * جمع جاث، فأخبر سبحانه: أنه يحضر هؤلاء المنكرين البعث مع
الشياطين [المغوين]، فيجثون / حول جهنم; وهو قعود الخائف الذليل على ركبتيه
كالأسير، ونحوه.
قال ابن زيد: الجثي: شر الجلوس، و " الشيعة ": الفرقة المرتبطة بمذهب وأحد،
المتعاونة فيه، فأخبر سبحانه أنه ينزع من كل شيعة أعتاها ما وأولاها بالعذاب، فنكون مقدمتها
إلى النار.
قال أبو الأحوص: المعنى: نبدأ بالأكابر جرما، وأي: هنا بنيت لما حذف
الضمير العائد عليها من صدر صلتها، وكأن التقدير: أيهم هو أشد، و * (صليا) *: مصدر
صلي يصلي إذا باشره.
وقوله عز وجل: * (وإن منكم إلا واردها) * قسم، والواو تقتضيه، ويفسره
قول صلى الله عليه وسلم: " من مات له ثلاثة أولاد، لم تمسه النار إلا تحلة القسم ". وقرأ ابن
30

عباس، وجماعة: " وإن منهم " بالهاء على إرادة الكفار.
قال * ع *: ولا شغب في هذه القراءة، وقالت فرقة من الجمهور القارئين " منكم "،
المعنى: قل لهم يا محمد، فالخطاب ب‍ * (منكم) * للكفرة، وتأويل هؤلاء أيضا سهل التناول.
وقال الأكثر: المخاطب العالم كله، ولا بد من ورود الجميع، ثم اختلفوا في كيفية
ورود المؤمنين، فقال ابن عباس، وابن مسعود، وخالد بن معدان، وابن جريج،
وغيرهم: هو ورود دخول، لكنها لا تعدو عليهم، ثم يخرجهم الله عز وجل منها بعد
معرفتهم حقيقة ما نجوا منه.
وروى جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الورود في هذه الآية هو
الدخول "، وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود مع الجهل بالصدر -
جعلنا الله تعالى من الناجين بفضله ورحمته -، وقالت فرقة: بل هو ورود إشراف،
واطلاع، وقرب، كما تقول: وردت الماء; إذا جئته، وليس يلزم أن تدخل فيه، قالوا:
31

وحسب المؤمن بهذا هولا; ومنه قوله تعالى: * (ولما ورد ماء مدين) * [القصص: الآية 23].
وروت فرقة أثرا: أن الله تعالى يجعل النار يوم القيامة جامدة الأعلى كأنها إهالة فيأتي
الخلق كلهم; برهم وفاجرهم، فيقفون عليها، ثم تسوخ بأهلها، ويخرج المؤمنون
الفائزون، لم ينلهم ضر، قالوا: فهذا هو الورود.
قال المهدوي: وعن قتادة قال: يرد الناس جهنم وهي سوداء مظلمة، فأما
المؤمنون فأضاءت لهم حسناتهم، فنجوا منها، وأما الكفار فأوبقتهم سيئاتهم، واحتبسوا
بذنوبهم. [انتهى].
وروت حفصة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخل النار أحد من أهل
بدر والحديبية " قالت: فقلت: يا رسول الله، وأين قول الله تعالى: * (وإن منكم إلا
واردها) * فقال صلى الله عليه وسلم: " فمه، * (ثم ننجي الذين اتقوا) * " ورجح الزجاج هذا القول;
بقوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون) * [الأنبياء: 101].
* ت *: وحديث حفصة هذا أخرجه مسلم، وفيه: " أفلم تسمعيه يقول: * (ثم ننجي
الذين اتقوا) *.
وروى ابن المبارك في " رقائقه ": أنه لما نزلت هذه الآية: وإن منكم إلا واردها) *
ذهب ابن رواحة إلى بيته فبكى [فجاءت امرأته، فبكت]، وجاءت الخادم فبكت، وجاء
32

أهل البيت فجعلوا يبكون، فلما انقضت عبرته، قال: يا أهلاه، ما يبكيكم، قالوا: لا
ندري، ولكن رأيناك بكيت فبكينا، فقال: آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبئني فيها ربي أني
وراد النار، ولم ينبئني أني صادر عنها، فذلك الذي أبكاني. انتهى.
وقال ابن مسعود: ورودهم /: هو جوازهم على الصراط، وذلك أن الحديث
الصحيح تضمن أن الصراط مضروب على متن جهنم.
والحتم: الأمر المنفذ المجزوم، و * (الذين اتقوا) *: معناه اتقوا الكفر * (ونذر) * دالة
على أنهم كانوا فيها.
قال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد " بعد أن ذكر رواية جابر، وابن مسعود في
الورود: وروي عن كعب أنه تلا: * (وإن منكم إلا ورادها) * لا فقال: أتدرون ما ورودها؟ إنه
يجاء بجهنم فتمسك للناس كأنها متن إهالة: يعني: الودك الذي يجمد على القدر من
المرقة، حتى إذا استقرت عليها أقدام الخلائق: برهم وفاجرهم، نادى مناد: أن خذي
أصحابك، وذري أصحابي، فيخسف بكل ولي لها، فلهي أعلم بهم من الوالدة بولدها،
وينجو المؤمنون ندية ثيابهم.
وروي هذا المعنى عن أبي نضرة، وزاد: وهو معنى قوله تعالى: * (فاستبقوا الصراط
فأنى يبصرون) * [يس: 66]. انتهى.
وقوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين
خير مقاما...) * هذا، افتخار من كفار قريش; وأنه إنما أنعم الله عليهم; لأجل أنهم
على الحق بزعمهم. والندي، والنادي: المجلس، ثم رد الله تعالى حجتهم وحقر أمرهم;
فقال تعالى: * (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورءيا) * أي: فلم يغن ذلك عنهم
شيئا، والأثاث: المال العين، والعرض والحيوان.
وقرأ نافع وغيره: " ورءيا " بهمزة بعدها ياء; من رؤية العين.
33

قال البخاري: ورءيا: منظرا.
وقرأ نافع أيضا، وأهل المدينة: " وريا " بياء مشددة، فقيل: هي بمعنى القراءة
الأولى، وقيل: هي بمعنى الري في السقيا; إذا أكثر النعمة من الري والمطر.
وقرأ ابن جبير، وابن عباس، ويزيد البريري: " وزيا " بالزاي المعجمة بمعنى:
الملبس. [وأما]:
قوله سبحانه: * (من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا) *، فيحتمل أن يكون
بمعنى الدعاء والابتهال; كأنه يقول: الأضل منا ومنكم مد الله له، أي: أملي له; حتى
يؤول ذلك إلى عذابه، ويحتمل أن يكون بمعنى الخبر; أنه سبحانه هذه عادته: الإملاء
للضالين: * (إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب) *، أي: في الدنيا بنصر الله للمؤمنين
عليهم، * (وإما الساعة) * فيصيرون إلى النار، والجند الناصرون: القائمون بأمر الحرب،
و * (شر مكانا) * بإزاء قولهم * (خير مقاما) * و * (أضعف جندا) * بإزاء قولهم: * (أحسن نديا) *
ولما ذكر سبحانه ضلالة الكفرة وافتخارهم بنعم الدنيا عقب ذلك بذكر نعمة الله على
المؤمنين في أنه يزيدهم هدى في الارتباط بالأعمال الصالحة، والمعرفة بالدلائل الواضحة،
وقد تقدم تفسير الباقيات الصالحات عن النبي صلى الله عليه وسلم: " وأنها: سبحان الله، والحمد لله، ولا
إله إلا الله، والله أكبر " وقد قال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء: " خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال
بينك، وبينهن; فهن الباقيات الصالحات، وهن من كنوز الجنة "، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" خذوا جنتكم، قالوا: يا رسول الله، أمن عدو حضر؟ قال: من النار، قالوا: ما هي يا
رسول الله؟ قال: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وهن الباقيات
الصالحات ".
34

وكان أبو الدرداء يقول إذا ذكر هذا الحديث: لأهللن، ولأكبرن الله، ولأسبحنه أن حتى
إذا رآني الجاهل ظنني مجنونا.
* ت *: ولو ذكرنا ما ورد من صحيح الأحاديث في هذا الباب، لخرجنا بالإطالة عن
مقصود الكتاب.
وقوله سبحانه: * (أفرأيت الذي كفر بآيتنا) * هو العاصي بن وائل السهمي; قاله
جمهور المفسرين، وكان خبره أن خباب بن الأرت كان قينا في الجاهلية، فعمل له عملا،
واجتمع له عنده دين; فجاءه يتقاضاه، فقال له العاصي: لا أقضيك حتى تكفر بمحمد،
فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله، ثم يبعثك; فقال العاصي: أو مبعوث أنا
بعد الموت؟! فقال: نعم، فقال: فإنه إذا كان ذلك، فسيكون لي مال، وولد، وعند ذلك
أقضيك دينك; فنزلت الآية في ذلك.
وقال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة.
قال: * ع *: وقد كانت للوليد أيضا، أقوال تشبه هذا الغرض.
* ت * إلا أن المسند الصحيح في " البخاري " هو الأول.
35

وقوله: * (أم اتخذ عند الرحمن عهدا) * معناه بالأيمان، والأعمال الصالحات.
و * (كلا) * زجر، ورد، وهذا المعنى لازم ل‍ " كلا "، ثم أخبر سبحانه: أن قول هذا
الكافر سيكتب على معنى حفظه عليه، ومعاقبته به، ومد العذاب: هو إطالته وتعظيمه.
وقوله سبحانه: * (ونرثه ما يقول) * أي: هذه الأشياء التي سمي أنه يؤتاها في الآخرة.
يرث الله ماله منها [في الدنيا; بإهلاكه، وتركه لها، فالوراثة مستعارة].
وقال النحاس: * (نرثه ما يقول) * معناه: نحفظه عليه; لنعاقبه به; ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" العلماء ورثة الأنبياء " أي: حفظة ما قالوا.
قال * ع * فكأن هذا المجرم يورث هذه المقالة.
وقوله: * (ويكونون عليهم ضدا) * معناه: يجدونهم خلاف ما كانوا أملوه في
معبوداتهم; فيؤول ذلك بهم إلى ذلة وضد ما أملوه من العز، وغيره، وهذه صفة عامة.
و * (تؤزهم) * معناه: تقلقهم وتحركهم إلى الكفر والضلال.
قال قتادة: تزعجهم إزعاجا، وقال ابن زيد: تشليهم إشلاء، ومنه: أزيز القدر،
وهو غليانه وحركته; ومنه الحديث: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يصلي، وهو يبكي،
ولصدره أزيز كأزيز المرجل ".
36

* ت *: هذا الحديث خرجه مسلم، وأبو داود عن مطرف عن أبيه.
وقال العراقي: * (تؤزهم) * أي: تدفعهم: انتهى.
وقوله سبحانه: * (فلا تعجل عليهم) * أي: لا تستبطئ عذابهم.
وقوله تعالى: * (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا) *.
قال * ع *: وظاهر هذه الوفادة أنها بعد انقضاء الحساب، وإنما هي النهوض
إلى الجنة، وكذلك سوق المجرمين إنما هو لدخول النار.
و * (وفدا) * قال المفسرون: معناه ركبانا، وهي عادة الوفود; لأنهم سراة الناس،
وأحسنهم شكلا، وإنما شبههم بالوفد هيئة، وكرامة.
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنهم يجيئون ركبانا على النوق المحلاة بحلية
الجنة: خطمها من ياقوت، وزبرجد، ونحو هذا.
وروي عمرو ابن قيس الملائي: في أنهم يركبون على تماثيل من أعمالهم الصالحة، وهي
37

في غاية الحسن.
وروي: أنه يركب كل واحد منهم ما أحب; فمنهم، من يركب الإبل، ومنهم: من
يركب الخيل، ومنهم من يركب السفن، فتجيء عائمة بهم، وقد ورد في " الضحايا ": أنها
مطاياكم إلى الجنة; وأكثر هذه فيها ضعف من جهة الإسناد، والسوق: يتضمن هوانا،
والورد: العطاش; قاله ابن عباس، وأبو هريرة، والحسن.
واختلف في الضمير في قوله: * ([لا] يملكون) * فقالت / فرقة: هو عائد على
* (المجرمين) * أي: لا يملكون أن يشفع لهم; وعلى هذا فالاستثناء منقطع، أي: لكن من
اتخذ عند الرحمن عهدا يشفع له.
والعهد على هذا الأيمان، وقال ابن عباس: العهد: لا إله إلا الله، وفي الحديث:
يقول الله تعالى يوم القيامة: " من كان له عندي عهد، فليقم ".
قال * ع *: ويحتمل: أن يكون المجرمون يعم الكفرة والعصاة، أي: إلا من اتخذ
عند الرحمن عهدا من عصاة المؤمنين; فإنه يشفع لهم، وبكون الاستثناء متصلا.
38

وقالت فرقة: الضمير في * (لا يملكون) * للمتقين.
وقوله: * (إلا من اتخذ...) * الآية أي: إلا من كان له عمل صالح مبرور; [فيشفع]
فيشفع، وتحتمل الآية أن يراد ب‍ " من " النبي صلى الله عليه وسلم، وبالشفاعة الخاصة له العامة في أهل
الموقف، ويكون الضمير في * (لا يملكون) * لجميع أهل الموقف; ألا ترى أن سائر
الأنبياء يتدافعون الشفاعة إذ ذاك، حتى تصير إليه صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) *.
قال الباجي في " سنن الصالحين " له: روي عن ابن مسعود، أنه قال: إن الجبل ليقول
للجبل: يا فلان، هل مر بك اليوم ذاكر لله تعالى؟ فإن قال: نعم، سر به، ثم قرأ
عبد الله: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا) * إلى قوله: * (وتخر الجبال هدا أن
دعوا للرحمن ولدا) * قال: أترونها تسمع الزور، ولا تسمع الخير. انتهى.
وهكذا رواه ابن المبارك في " رقائقه " وما ذكره ابن مسعود لا يقال من جهة الرأي،
وقد روي عن أنس، وغيره نحوه.
قال الباجي بإثر الكلام المتقدم: وروى جعفر بن زيد، عن أنس بن مالك أنه قال:
ما من صباح ولا رواح إلا وتنادى بقاع الأرض بعضها بعضا: أي جاره، هل مر بك اليوم
عبد يصلى أو يذكر الله؟ فمن قائلة: لا، ومن قائلة: نعم، فإذا قالت: نعم، رأت لها
فضلا بذلك. انتهى.
39

وقوله سبحانه: * (لقد جئتم شيئا إدا) * الآية، الإد: الأمر الشنيع الصعب.
* ت * وقال العراقي: " إدا "، أي: عظيما، انتهى.
والانفطار: الانشقاق، والهد: الانهدام، قال محمد بن كعب: كاد أعداء الله أن
يقيموا علينا الساعة.
وقوله: * (إن كل من في السماوات...) * الآية، إن نافية بمعنى ما.
وقوله: * (فردا) * يتضمن عدم النصير، والحول والقوة، أي: لا مجير له مما يريد الله به.
وعبارة الثعلبي: " فردا " أي: وحيدا بعمله، ليس معه من الدنيا شئ. آه‍.
* ت *: وهذه الآية تنظر إلى قوله تعالى * (ولقد جئتمونا فرادى...) * الآية.
وقوله تعالى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * ذهب أكثر المفسرين إلى: أن هذا الود
هو القبول الذي يضعه الله لمن يحب من عباده; حسبما في الحديث الصحيح المأثور،
وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه -: أنها بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم " من أسر سريرة ألبسه
الله رداءها ".
* ت *: والحديث المتقدم المشار إليه أصله في " الموطإ " ولفظه: مالك، عن
سهيل بن أبي صالح السمان، عن أبيه عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب
الله العبد قال لجبريل: يا جبريل قد أحببت فلانا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادى في أهل
السماء: إن الله أحب فلانا، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يضع له القبول في
الأرض ".
وإذا أبغض العبد، قال مالك: لا أحسبه إلا قال في [البغض] مثل ذلك.
40

قال أبو عمر [بن عبد البر] في " التمهيد " /، وممن روى هذا الحديث عن
سهيل، بإسناده هذا فذكر البغض من غير شك معمر وعبد العزيز بن المختار،
وحماد بن سلمة، قالوا في آخره: وإذا أبغض بمثل ذلك، ولم يشكوا.
قال أبو عمر: وقد قال المفسرون في قوله تعالى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) *:
يحبهم ويحببهم إلى الناس وقاله مجاهد وابن عباس ثم أسند أبو عمر عن كعب أنه
قال: والله ما استقر لعبد ثناء في أهل الدنيا حتى يستقر له في أهل السماء.
قال كعب: وقرأت في التوراة أنه لم تكن محبة لأحد من أهل الأرض إلا كان
بدأها من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء، ثم ينزلها على أهل الأرض، ثم قرأت
القرآن، فوجدت فيه: * (أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا) * وأسند
أبو عمر، عن قتادة [قال] قال: هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله تعالى إلا أقبل
الله بقلوب أهل الإيمان عليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. انتهى.
قال ابن المبارك في " رقائقه ": أخبرنا سلميان بن المغيرة، عن ثابت قال: قيل:
يا رسول الله، من أهل الجنة؟ قال: " من لا يموت حتى يملأ [الله] سمعه مما
41

يحب " قال: فقيل: يا رسول الله، من أهل النار؟ قال: " من لا يموت حتى يملأ الله
سمعه مما يكره ". انتهى.
قال * ع *: وفي حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من عبد إلا وله
في السماء صيت، فإن كان حسنا، وضع في الأرض حسنا، وإن كان سيئا وضع في
الأرض سيئا ".
* ت *: وهذا الحديث خرجه أبو داود في كتاب " الزهد ".
وقوله تعالى: * (فإنما يسرناه بلسانك) * أي: القرآن * (لتبشر به المتقين) * أي: بالجنة،
والنعيم الدائم، والعز في الدنيا.
و * (قوما لدا) * هم: قريش، ومعناه: مجادلين مخاصمين، والألد: المخاصم المبالغ
في ذلك، ثم مثل لهم بإهلاك من قبلهم إذ كانوا أشد منهم، وألد وأعظم قدرا، و " الركز ":
الصوت الخفي.
42

تفسير سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
وهي مكية
قوله سبحانه وتعالى: * (طه
قوله سبحانه وتعالى: * (طه * ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى) * قيل: طه: اسم من أسماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: معناه: يا رجل; بالسريانية،
وقيل: بغيرها من لغات العجم.
قال البخاري: قال ابن جبير: * (طه) * يا رجل، بالنبطية. انتهى.
وقيل: إنها لغة يمانية في " عك "; وأنشد الطبري في ذلك: [الطويل]
- دعوت ب‍ " طه " في القتال فلم يجب * فخفت عليه أن يكون موائلا -
وقال آخر: [البسيط]
- إن السفاهة - طه - من خلائقكم * لا بارك الله في القوم الملاعين -
وقالت فرقة من العلماء: سبب نزول هذه الآية أن قريشا لما نظرت إلى عيش النبي صلى الله عليه وسلم
وشظفه وكثرة عبادته; قالت: أن محمدا مع ربه في شقاء، فنزلت الآية رادة عليهم.
43

وأسند عياض في " الشفا " من طريق أبي ذر الهروي، عن الربيع بن أنس قال: كان
النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى /، قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله; * (طه) * يعني: طإ
الأرض يا محمد، * (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) * ولا خفاء بما في هذا كله من الإكرام
له (صلى الله عليه وسلم) وحسن المعاملة. انتهى.
قال * ص *: * (لتشقى * إلا تذكرة) * علتان لقوله: * (ما أنزلنا) *. انتهى].
وقد تقدم القول في مسألة الاستواء، وباقي الآية بين.
قال ابن هشام: قوله تعالى: * (وإن تجهر بالقول) * أي: فاعلم أنه غني عن جهرك;
* (فإنه يعلم السر وأخفى) *، فالجواب محذوف. انتهى.
وقوله سبحانه: * (وهل أتاك حديث موسى * إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني
آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى) * هذا الاستفهام توقيف مضمنه:
تنبيه النفس إلى استماع ما يورد عليها، وهذا كما تبدأ الرجل إذا أردت إخباره بأمر غريب;
فتقول: أعلمت كذا، وكذا، ثم تبدأ تخبره.
وكان من قصة موسى - عليه السلام - أنه رحل من مدين بأهله بنت شعيب -
عليه السلام - وهو يريد أرض مصر، وقد طالت مدة جنايته هنالك، فرجا خفاء أمره، وكان
فيما يزعمون رجلا غيورا، فكان يسير الليل بأهله، ولا يسير بالنهار مخافة كشفة الناس،
فضل عن طريقه في ليلة مظلمة، فبينما هو كذلك، وقد قدح بزنده، فلم يور شيئا * (إذ رأى
نارا فقال لأهله امكثوا) *، أي: أقيموا، وذهب هو إلى النار، فإذا هي مضطرمة في شجرة
خضراء يانعة، قيل: كانت من عناب، وقيل: من عوسج، وقيل: من عليق، فكلما
44

دنا منها، تباعدت منه، ومشت فإذا رجع عنها اتبعته، فلما رأى ذلك أيقن أن هذا من أمور
الله الخارقة للعادة، ونودي، وانقضى أمره كله في تلك الليلة; هذا قول الجمهور، وهو
الحق، وما حكي عن ابن عباس: أنه قال: أقام في ذلك الأمر حولا، فغير صحيح عن ابن
عباس.
و * (آنست) *: معناه: أحسست، والقبس: الجذوة من النار، تكون على رأس
العود.
والهدى: أراد هدى الطريق، أي: لعلي أجد مرشدا لي، أو دليلا.
وفي قصة موسى بأسرها في هذه السورة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما لقي في تبليغه من
المشقات صلى الله عليه وسلم والضمير في قوله: * (أتاها) * عائد على النار.
وقوله: " نودي ": كناية عن تكليم الله تعالى له (عليه السلام).
وقرأ نافع وغيره: أني - بكسر الهمزة - على الابتداء، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير:
" أني " - بفتحها - على معنى: لأجل أني أنا ربك، فاخلع نعليك.
واختلف في السبب الذي من أجله أمر بخلع النعلين: فقالت فرقة: كانتا من جلد
حمار ميت، فأمر بطرح النجاسة.
وقالت فرقة: بل كانت نعلاه من جلد بقرة ذكي; لكن أمر بخلعهما لينال بركة الوادي
المقدس، وتمس قدماه تربة الوادي.
قال * ع *: وتحتمل الآية معنى آخر: هو الأليق بها عندي; وهو: أن الله تعالى
أمره أن يتأدب، ويتواضع; لعظم الحال التي حصل فيها، والعرف عند الملوك: أن تخلع
45

النعلان، ويبلغ الإنسان إلى غاية تواضعه، فكأن موسى - عليه السلام - أمر بذلك على هذا
الوجه، ولا نبالي كيف كانت نعلاه من ميتة أو غيرها.
و * (المقدس) *: معناه المطهر، و * (طوى) *: [معناه] مرتين.
فقالت فرقة: معناه قدس مرتين، وقالت فرقة: معناه طويت لك الأرض مرتين من
ظنك.
قال الفخر: وقيل: إن طوى اسم واد بالشام، وهو عند الطور الذي أقسم الله به في
القرآن.
وقيل /: أن * (طوى) * بمعنى: يا رجل، بالعبرانية، كأنه قيل: يا رجل اذهب إلى
فرعون. انتهى " من تفسيره لسورة والنازعات ".
قال * ع *: وحدثني أبي - رحمه الله - قال: سمعت أبا الفضل ابن الجوهري
- رحمه الله تعالى - يقول: لما قيل لموسى: استمع لما يوحى، وقف على حجر، واستند
إلى حجر، ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره، ووقف يستمع، وكان كل
لباسه صوفا.
وقوله تعالى: * (وأقم الصلاة لذكري) *: يحتمل أن يريد: لتذكرني فيها، أو يريد:
لأذكرك في عليين بها، فالمصدر محتمل الإضافة إلى الفاعل، أو المفعول.
وقالت فرقة: معنى قوله * (لذكري) * أي: عند ذكرى، أي: إذا ذكرتني، وأمري لك
بها.
* ت *: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من نسي صلاة، فليصلها إذا ذكرها;
فإن ذلك وقتها; قال الله تعالى: * (أقم الصلاة لذكرى) * ". انتهى.
46

فقد بين لك صلى الله عليه وسلم ما تحتمله الآية، والله الموفق بفضله; وهكذا استدل ابن العربي هنا
بالحديث، ولفظه: وقد روى مالك وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نام عن صلاة أو
نسيها، فليصلها إذا ذكرها; فإن الله تعالى يقول: أقم الصلاة لذكري ". انتهى من
" الأحكام ". وقرأت فرقة: " للذكري "، وقرأت فرقة: " للذكر "، وقرأت فرقة: " للذكرى لذكري "
بغير تعريف.
وقوله تعالى: * (إن الساعة) *: يريد: القيامة آتية، فيه تحذير ووعيد.
وقرأ ابن كثير، وعاصم: " أكاد أخفيها " - بفتح الهمزة - بمعنى: أظهرها، أي: إنها
من تيقن وقوعها تكاد تظهر، لكن تنحجب إلى الأجل المعلوم، والعرب تقول: خفيت
الشئ بمعنى: أظهرته.
47

وقرأ الجمهور: " أخفيها " - بضم الهمزة - فقيل: معناه: أظهرها، وزعموا: أن
" أخفيت " من الأضداد.
وقالت فرقة: * (أكاد) * بمعنى أريد، أي: أريد إخفاءها عنكم; لتجزى كل نفس بما
تسعى، واستشهدوا بقول الشاعر: [الكامل]
كادت وكدت وتلك خير إرادة......
وقالت فرقة: أكاد: على بابها بمعنى: أنها مقاربة ما لم يقع لكن الكلام جار على
استعارة العرب، ومجازها، فلما كانت الآية عبارة عن شدة خفاء أمر القيامة ووقتها، وكان
القطع بإتيانها مع جهل الوقت أهيب على النفوس; بالغ - سبحانه - في إبهام وقتها، فقال:
* (أكاد أخفيها) *; حتى لا تظهر ألبتة، ولكن ذلك لا يقع، ولا بد من ظهورها، وهذا
التأويل هو الأقوى عندي.
وقوله سبحانه: " فلا يصدنك عنها ": أي: عن الإيمان بالساعة، ويحتمل عود الضمير
على الصلاة.
وقوله: * (فتردى) *: معناه فتهلك، والردى، الهلاك وهذا الخطاب كله لموسى
عليه السلام، وكذلك ما بعده.
وقال النقاش: الخطاب ب‍ * (لا يصدنك) *: لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذا بعيد.
وقوله سبحانه: * (وما تلك بيمينك يا موسى) * تقرير مضمنه التنبيه، وجمع النفس;
لتلقى ما يورد عليها، وإلا فقد علم سبحانه ما هي في الأزل.
48

قال ابن العربي في " أحكامه ": وأجاب موسى عليه السلام بقوله: * (هي عصاي...) *
الآية، بأكثر مما وقع السؤال عنه; وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " /
لمن سأله عن طهورية ماء البحر. انتهى.
49

* ت *: والمستحسن من الجواب: أن يكون مطابقا للسؤال، أو أعم منه; كما في
الآية، والحديث، أما كونه أخص منه، فلا. انتهى.
* (وأهش) *: معناه: أخبط بها الشجر; حتى ينتثر الورق، للغنم وعصا موسى عليه
السلام هي التي كان أخذها من بيت عصي الأنبياء عليهم السلام الذي كان عند شعيب عليه
السلام حين اتفقا على الرعي، وكانت عصا آدم عليه السلام، هبط بها من الجنة، وكانت
من العير الذي في ورق الريحان، وهو الجسم المستطيل في وسطها، ولما أراد الله سبحانه
تدريب موسى في تلقي النبوءة، وتكاليفها، أمره بإلقاء العصا، فألقاها، فإذا هي حية
تسعى، أي تنتقل، وتمشي، وكانت عصا ذات شعبتين، فصارت الشعبتان فما يلتقم
الحجارة، فلما رآها موسى رأى عبرة; فولى مدبرا ولم يعقب; فقال الله تعالى له: * (خذها
ولا تخف) * فأخذها بيده، فصارت عصا كما كانت أول مرة; وهي سيرتها الأولى،
* (واضمم يدك إلى جناحك) *، أي: جنبك.
قال * ع *: وكل مرعوب من ظلمة ونحوها فإنه إذا ضم يده إلى جناحه، فتر
52

رعبه، وربط جأشه، فجمع الله سبحانه لموسى عليه السلام تفتير الرعب مع الآية في
اليد.
وروي أن يد موسى خرجت بيضاء تشف وتضئ; كأنها شمس من غير سوء، أي:
من غير برص، ولا مثلة، بل هو أمر ينحسر، ويعود بحكم الحاجة إليه، ولما أمره الله
تعالى بالذهاب إلى فرعون، علم أنها الرسالة، وفهم قدر التكليف; فدعا الله في المعونة;
إذ لا حول له إلا به.
و * (اشرح لي صدري) * معناه: لفهم ما يرد علي من الأمور، والعقدة التي دعا في
حلها هي التي اعترته بالجمرة في فيه، حين جربه فرعون، وروي في ذلك: أن فرعون
أراد قتل موسى، وهو طفل حين مد يده عليه السلام إلى لحية فرعون، فقالت له امرأته:
إنه لا يعقل، فقال: بل هو يعقل، وهو عدوي، فقالت له: نجربه، فقال لها: أفعل، فدعا
بجمرات من النار، وبطبق فيه ياقوت، فقالا: إن أخذ الياقوت، علمنا أنه يعقل، وإن أخذ
النار، عذرناه، فمد موسى يده إلى جمرة فأخذها، فلم تعد على يده، فجعلها في فيه،
فأحرقته، وأورثت لسانه عقدة، وموسى عليه السلام إنما طلب من حل العقدة قدرا يفقه
معه قوله، فجائز أن تكون تلك العقدة قد زالت كلها، وجائز أن يكون قد بقي منها
القليل، فيجتمع أن يؤتى هو سؤله، وأن يقول فرعون: * (ولا يكاد يبين) * [الزخرف: 52].
ولو فرضنا زوال العقدة جملة، لكان قول فرعون سبا لموسى بحالته القديمة.
والوزير: المعين القائم بوزر الأمور، وهو ثقلها، فيحتمل الكلام أن طلب الوزير من
أهله على الجملة، ثم أبدل هارون من الوزير المطلوب، ويحتمل أن يريد: واجعل هارون
وزيرا، فيكون مفعولا أولا ل‍ * (أجعل) *، وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى
عليه السلام بأربع سنين، والأزر: الظهر; قاله أبو عبيدة.
وقوله: * (كثيرا) * نعت لمصدر محذوف، أي: تسبيحا كثيرا.
53

وقوله سبحانه و: * (لقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * قيل:
هو وحي إلهام، وقيل، بملك، وقيل: برؤيا رأتها، وكان من قصة موسى عليه السلام فيما
روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه يكون على يد غلام من بني إسرائيل; فأمر بقتل
كل / مولود يولد لبني إسرائيل، ثم إنه رأى مع أهل مملكته: أن فناء بني إسرائيل يعود
على القبط بالضرر; إذ هم كانوا عملة الأرض، والصناع، ونحو هذا; فعزم على أن يقتل
الولدان سنة، ويستحييهم سنة، فولد هارون عليه السلام في سنة الاستحياء، ثم ولد موسى
عليه السلام في العام الرابع سنة القتل، فخافت عليه أمه; فأوحى الله إليها: * (أن اقذفيه في
التابوت) * فأخذت تابوتا فقذفت فيه موسى راقدا في فراش، ثم قذفته في يم النيل، وكان
فرعون جالسا في موضع يشرف منه على النيل إذ رأى التابوت فأمر به، فسيق إليه، وامرأته
معه، ففتح فرأوه فرحمته امرأته; وطلبته لتتخذه ابنا، فأباح لها ذلك، ثم أنها عرضته
للرضاع، فلم يقبل امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة، ويطاف به يعرض للمراضع،
فكلما عرضت عليه امرأة أباها، وكانت أمه قالت لأخته: * (قصيه فبصرت به) *
وفهمت أمره، فقالت لهم: أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، وهم له ناصحون،
فتعلقوا بها، وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي، فأنكرت، وقالت: لا، غير أن أعلم من
أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى المملكة، والجد في خدمتها، ورضاها، فتركوها
وسألوها الدلالة، فجاءت بأم موسى، فلما قربته، شرب ثديها، فسرت بذلك آسية امرأة
فرعون (رضي الله عنها) وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت لها: ما كنت لأدع بيتي
وولدي، ولكنه يكون عندي، فقالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان،
54

واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع، والسبب من المملكة وأقام موسى عليه السلام حتى كمل
رضاعه، فأرسلت إليها آسية: أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها، ومن معها أن
يلقينه بالتحف، والهدايا، واللباس; فوصل إليها على ذلك، وهو بخير حال وأجمل شباب،
فسرت به، ودخلت به على فرعون؟ ليراه ويهب له فرآه وأعجبه، وقربه فأخذ موسى
عليه السلام بلحية فرعون، وجبذها، فاستشاط فرعون، وقال: هذا عدو لي، وأمر بذبحه،
فناشدته فيه امرأته، وقالت: إنه لا يعقل، فقال فرعون: بل يعقل، فاتفقا على تجريبه وكان
بالجمرة والياقوت; حسب ما تقدم، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه، فشب عندها،
فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع، وكان فتى جلدا فاضلا كاملا، فاعتزت به بنوا
إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع، وكان يحميهم، ويكون ضلعه معهم، وهو يعلم من نفسه أنه
منهم، ومن صميمهم، فكانت بصيرته في حمايتهم أكيدة، وكان يعرف ذلك أعيان بني
إسرائيل، ثم وقعت له قصة القبطي المتقاتل ولم مع الإسرائيلي على ما سيأتي إن شاء الله
تعالى، وعدد الله سبحانه على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة: من لطفه سبحانه
به في كل فصل، وتخليصه من قصة إلى أخرى، وهذه الفتون التي فتنه بها، أي: اختبره
بها، وخلصه حتى صلح للنبوءة، بين وسلم لها.
وقوله * (ما يوحى) * / إبهام يتضمن عظم الأمر وجلالته وهذا كقوله تعالى: * (إذ
يغشى السدرة ما يغشى) * [النجم: 16] * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * [النجم: 10]. وهو كثير
في القرآن، والكلام الفصيح.
وقوله: * (فليلقه اليم بالساحل) * خبر خرج في صيغة الأمر [مبالغة; ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم " قوموا فلأصل لكم " فأخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه، مبالغة، وهذا
كثير، والمراد بالعدو في الآية، فرعون ثم أخبر تعالى موسى عليه السلام أنه ألقى عليه
محبة منه.
55

قالت فرقة: أراد القبول الذي يضعه الله في الأرض لخيار عباده، وكان حظ موسى
منه في غاية الوفر; وهذا أقوى ما قيل هنا من الأقوال.
وقرأ الجمهور: " ولتصنع " بكسر اللام، وضم التاء; على معنى: ولتغذي، حديث
وتطعم، وتربي.
وقوله: * (على عيني) * معناه: بمرأى مني.
وقوله: * (على قدر) * أي: لميقات محدود للنبوة عند التي قد أرادها الله تعالى،
* (واصطنعتك) *: معناه جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان.
وقوله: * (لنفسي) * إضافة تشريف; وهذا كما تقول: بيت الله، ونحوه: " والصيام
لي " وعبر بالنفس عن شدة القرب، وقوة الاختصاص.
وقوله تعالى: * (ولا تنيا في ذكري) * معناه: لا تبطئا وتضعفا; تقول: وني فلان في
كذا، إذا تباطأ فيه عن ضعف، والونى: الكلال، والفشل في البهائم والإنس.
وفي مصحف ابن مسعود: " ولا تهنا في ذكري " معناه: لا تلينا; من قولك: هين
لين. * (فقولا له قولا لينا) * أي: حسنا له الكلمة مع إكمال الدعوة.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وفي الآية دليل على جواز الأمر بالمعروف، والنهي
عن المنكر باللين لمن معه القوة، وفي الإسرائيليات: أن موسى عليه السلام أقام بباب
فرعون سنة لا يجد من يبلغ كلامه حتى لقيه حين خرج، فجرى له ما قص الله تعالى علينا
من خبره; وكان ذلك تسلية لمن جاء بعده من المؤمنين في سيرتهم لأنه مع الظالمين. انتهى.
وقولهما: * (إننا نخاف أن يفرط) * معناه: يعجل، ويتسرع أخبرنا إلينا بمكروه.
وقوله عز وجل * (إنني معكما) * أي بالنصر والمعونة.
56

وقوله تعالى: * (فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا
تعذبهم...) * الآية جملة ما دعي إليه فرعون الإيمان، وإرسال بني إسرائيل، وأما تعذيبه
بني إسرائيل، فبذبح أولادهم، وتسخيرهم وإذلالهم.
وقولهما: * (والسلام على من اتبع الهدى) * يحتمل أن يكون آخر كلام; فيقوى أن
يكون السلام بمعنى التحية; كأنهما رغبا بها عنه، وجريا على العرف في التسليم عند الفراغ
من القول.
ويحتمل أن يكون في درج القول، فيكون خبرا بأن السلامة للمهتدين، وبهذين
المعنيين قالت كل فرقة من العلماء.
وقوله سبحانه: * (أعطى كل شئ خلقه) * قالت فرقة: المعنى أعطى كل موجود من
مخلوقاته خلقته، وصورته، أي: أكمل ذلك له، وأتقنه * (ثم هدى) *، أي: يسر كل شئ
لمنافعه; وهذا أحسن ما قيل هنا، وأشرف معنى وأعم في الموجودات.
وقول فرعون: * (فما بال القرون الأولى) * يحتمل أن يريد ما بال القرون الأولى لم
تبعث لها، ولم يوجد أمرك عندها؟ ويحتمل أن يريد فرعون قطع الكلام، والرجوع إلى
سؤال موسى عن حالة من سلف من الأمم; روغانا يا في الحجة، وحيدة.
وقيل: البال: الحال، فكأنه سأله عن حالهم، وقول موسى [عليه السلام]: * (علمها
عند ربي في كتاب) * يريد في اللوح المحفوظ، و * (لا يضل) * معناه لا ينتلف ويعمه،
" والأزواج " هنا: بمعنى الأنواع.
وقوله: * (شتى) * نعت للأزواج، أي: مختلفة.
وقوله * (كلوا وارعوا) * بمعنى هي صالحة للأكل والرعي، فاخرج العبارة في صيغة
الأمر; لأنه أرجى الأفعال، وأهزها للنفوس. و * (النهى) * جمع نهية، والنهية: العقل الناهي
عن القبائح.
57

وقوله سبحانه: * (منها خلقناكم) * يريد من الأرض * (وفيها نعيدكم) * أي: بالموت،
والدفن. * (ومنها نخرجكم) * أي: بالبعث ليوم القيامة.
وقوله: * (ولقد أريناه آياتنا) * إخبار لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله * (كلها) * عائد على الآيات التي رآها فرعون، لا أنه رأى كل آية لله عز وجل
وإنما المعنى: أن الله أراه آيات ما; كاليد، والعصا، والطمسة، وغير ذلك. وكانت رؤيته
لهذه الآيات مستوعبة يرى الآيات كلها كاملة. ومعنى * (سوى) * أي: عدلا ونصفه، أي:
حالنا فيه مستوية.
وقالت فرقة: معناه مستويا من الأرض; لا وهد فيه، ولا نشز، فقال موسى:
* (موعدكم يوم الزينة) * وروي أن يوم الزينة كان عيدا لهم، ويوما مشهورا.
وقيل: هو يوم كسر الخليج الباقي إلى اليوم.
وقوله: * (وأن يحشر الناس) * عطفا على * (الزينة) *; فهو في موضع خفض.
* (فتولى فرعون فجمع كيده) * أي: جمع السحرة، وأمرهم بالاستعداد لموسى، فهذا
هو كيده.
* (ثم أتى) * فرعون بجمعه، فقال موسى للسحرة: * (ويلكم لا تفتروا على الله كذبا) *
وهذه مخاطبة محذر، وندبهم في هذه الآية إلى قول الحق إذا رأوه، وأن لا يباهتوا بكذب;
* (فيسحتكم) * أي: فيهلككم، ويذهبكم، فلما سمع السحرة هذه المقالة، هالهم هذا
المنزع، ووقع في نفوسهم من هيبته شديد الموقع. و * (تنازعوا أمرهم) * والتنازع يقتضي
اختلافا كان بينهم في السر; فقائل منهم يقول: هو محق، وقائل يقول: هو مبطل، ومعلوم
أن جميع تناجيهم إنما كان في أمر موسى عليه السلام و * (النجوى) * المسارة، أي: كل
واحد يناجي من يليه سرا; مخافة من فرعون أن يتبين له فيهم ضعف.
58

وقالت فرقة: إنما كان تناجيهم بالآية التي بعد هذا.
* (إن هذان لساحران) * قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة والكسائي: " إن هذان
لساحران " فقالت فرقة: قوله: " إن " بمعنى: نعم; كما قال صلى الله عليه وسلم إن
الحمد لله، برفع
الحمد.
وقالت فرقة: إن هذه القراءة على لغة بلحارث بن كعب، وهي إبقاء ألف التثنية في
حال النصب، والخفض، وتعزى هذه اللغة لكنانة، وتعزى لخثعم.
وقال الزجاج: في الكلام ضمير تقديره: إنه هذان لساحران
وقرأ أبو عمرو وحده: " إن هذين لساحران ".
[وقرأ ابن كثير: " إن هذان لساحران " بتخفيف إن، وتشديد نون هذان
لساحران].
وقرأ حفص عن عاصم: " إن " بالتخفيف " هذان " خفيفة أيضا " لساحران ".
وعبر كثير من المفسرين عن الطريقة بالسادة أهل العقل والحجا; وحكوا / أن
العرب تقول: فلان طريقة قومه، أي: سيدهم، والأظهر في الطريقة هنا أنها السيرة،
والمملكة، والحال التي كانوا عليها.
و * (المثلي) * تأنيث أمثل، أي: الفاضلة الحسنة.
وقرأ جمهور القراء: " فأجمعوا ": بقطع الهمزة، وكسر الميم; على معنى:
أنفذوا، وأعزموا.
59

وقرأ أبو عمرو وحده " فأجمعوا " من جمع، أي: ضموا سحركم بعضه إلى بعض.
وقوله * (صفا) * أي: مصطفين، وتداعوا إلى هذا; لأنه أهيب، وأظهر لهم،
و * (أفلح) * معناه: ظفر ببغيته، وباقي الآية بين مما تقدم.
وقوله: * (فأوجس) * عبارة عما يعتري نفس الإنسان إذا وقع ظنه في أمر على شئ
يسوءه، وعبر المفسرون عن أوجس بأضمر; بكر وهذه العبارة أعم من الوجيس بكثير.
* (إنك أنت الأعلى) * أي الغالب، وروي في قصص هذه الآية: أن فرعون (لعنه الله)
جلس في علية له طولها ثمانون ذراعا، والناس تحته في بسيط، وجاء وجاء سبعون ألف ساحر،
فألقوا من حبالهم وعصيهم ما فيه وقر ثلاث مائة بعير، فهال الأمر، ثم إن موسى عليه
السلام ألقى عصاه من يده، فاستحالت ثعبانا، وجعلت تنمو حتى روي أنها عبرت النهر
بذنبها، وقيل: البحر، وفرعون في هذا كله يضحك; ويرى أن الاستواء حاصل، ثم أقبلت
تأكل الحبال والعصي حتى أفنتها، ثم فغرت فاها نحو فرعون; ففزع عند ذلك; واستغاث
بموسى، فمد موسى يده إليها، فرجعت عصا كما كانت، فنظر السحرة، وعلموا
الحق، ورأوا عدم الحبال والعصي; فأيقنوا أن الأمر من الله عز وجل فآمنوا رضي الله
عنهم.
وقوله سبحانه: * (فألقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى * قال آمنتم له
قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف
ولأصلبنكم في جذوع النخل) *.
قال * ص *: " في " على بابها، وقيل: بمعنى على.
* ت *: والأول أصوب.
* (ولتعلمن أينا) * قوله: أينا; يريد نفسه، ورب موسى عليه السلام.
60

وقال الطبري: يريد نفسه، وموسى، والأول أذهب مع مخرقة فرعون، وباقي الآية
بين، ثم قال السحرة لفرعون: * (لن نؤثرك) * أي: لن نفضلك، وفي ونفضل السلامة منك على
ما رأينا من حجة الله تعالى، وآياته، وعلى الذي فطرنا، هذا على قول جماعة: أن الواو
في قوله * (والذي) *: عاطفة.
وقالت فرقة: هي واو القسم، * (وفطرنا) * أي: خلقنا، واخترعنا، كل فافعل يا فرعون ما
شئت; وإنما قضاؤك في هذه الحياة الدنيا، والآخرة من وراء ذلك لنا بالنعيم، ولك
بالعذاب الأليم.
وهؤلاء السحرة اختلف الناس: هل نفذ فيهم وعيد فرعون، أم لا؟ والأمر في ذلك
محتمل.
وقولهم: * (والله خير وأبقى) * رد لقول فرعون: * (أينا أشد عذابا وأبقى) *.
وقوله عز وجل * (إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا
يحيى...) * الآية.
قالت فرقة: هذه الآية بجملتها من كلام السحرة لفرعون على جهة الموعظة له،
والبيان فيما فعلوه.
وقالت فرقة: بل هي من كلام الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم تنبيها على قبح ما فعل
فرعون، وحسن ما فعل السحرة، وموعظة، وتحذيرا قد تضمنت القصة المذكورة مثاله.
وقوله: * (لا يموت فيها ولا يحيى) * مختص بالكافر; فإنه معذب عذابا ينتهي به إلى
الموت، ثم لا يجهز عليه فيستريح /، بل يعاد جلده، ويجدد عذابه.
وأما من يدخل النار من المؤمنين بالمعاصي، فهم قبل أن تخرجهم الشفاعة في غمرة
61

قد قاربوا الموت، إلا أنهم لا يجهز عليهم، ولا يجدد عذابهم; فهذا فرق ما بينهم وبين
الكفار، وفي الحديث الصحيح: " أنهم يماتون فيها إماتة "، وهذا هو معناها; لأنه لا موت
في الآخرة: * (وتزكى) * معناه، أطاع الله، وأخذ بأزكى الأمور.
وقوله سبحانه: * (ولقد أوحينا إلى موسى) * هذا استيناف إخبار عن شئ من أمر
موسى، وباقي الآية بين، وقد تقدم ذكر ما يخصها من القصص.
وقوله تعالى: * (لا تخاف دركا) * أي: من فرعون، وجنوده، * (ولا تخشى غرقا من
البحر.
وقوله * (ما غشيهم) * إبهام أهول من النص; وهذا كقوله: * (إذ يغشى السدرة ما
يغشى) *. [النجم: 16].
* (وأضل فرعون قومه) * يريد: من أول أمره إلى هذه النهاية، * (وما هدى) * مقابل
لقوله: * (وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) *] غافر:، 290].
وقوله عز وجل: * (يا بني إسرائيل قد أنجيناكم...) * الآية، ظاهر هذه الآية: أن هذا
القول قيل لبني إسرائيل حينئذ عند حلول النعم التي عددها الله عليهم، ويحتمل أن تكون
هذه المقالة خوطب بها معاصرو النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى: هذا فعلنا بأسلافكم; وتكون الآية
على هذا اعتراضا في أثناء قصة موسى، والقصد به توبيخ هؤلاء الحضور إذ لم يصبر
سلفهم على أداء شكر نعم الله تعالى، والمعنى الأول أظهر وأبين.
وقوله سبحانه: * (وواعدناكم جانب الطور الأيمن...) * الآية، وقصص هذه الآية:
أن الله تعالى لما أنجى بني إسرائيل، وغرق فرعون، وعد بني إسرائيل أن يسيروا إلى
جانب طور سيناء; ليكلم فيه موسى، ويناجيه بما فيه صلاحهم، فلما أخذوا في السير،
تعجل موسى عليه السلام; ابتغاء مرضاة ربه، حسبما يأتي بعد.
وقرأ جمهور الناس: " فيحل " بكسر الحاء، " ويحلل " بكسر اللام.
62

وقرأ الكسائي وحده بضمهما، ومعنى الأول: فيجب، ويحق، ومعنى الثاني: فيقع
وينزل، و * (هوى) * معناه: سقط أي: هوى في جهنم، وفي سخط الله - عافانا الله من
ذلك -، ثم رجى سبحانه عباده بقوله: * (وأني لغفار لمن تاب..) * الآية، والتوبة من ذنب
تصح مع الإقامة على غيره، وهي توبة مقيدة، وإذا تاب العبد، ثم عاود الذنب بعينه بعد
مدة; فيحتمل عند حذاق أهل السنة: أن لا يعيد الله تعالى عليه الذنب الأول; لأن التوبة قد
كانت محته، ويحتمل: أن يعيده; لأنها توبة لم يوف بها، واضطرب الناس في قوله
سبحانه: * (ثم اهتدى) * من حيث وجدوا الهدى ضمن الإيمان والعمل; فقالت فرقة: ثم
لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقيل: غير هذا، والذي يقوى في معنى: * (ثم اهتدى) * أن يكون: ثم حفظ معتقداته
من أن تخالف الحق في شئ من الأشياء; فإن الاهتداء على هذا الوجه غير الإيمان، وغير
العمل; ورب مؤمن عمل صالحا قد أوبقه عدم الاهتداء; كالقدرية والمرجئة، وسائر أهل
البدع، فمعنى: * (ثم اهتدى) *: ثم مشى في عقائد الشرع على طريق قويم - جعلنا الله منهم
بمنه - وفي حفظ المعتقدات ينحصر معظم أمر الشرع.
63

وقوله سبحانه: / * (وما أعجلك عن قومك يا موسى) * الآية، وقصص هذه الآية: أن
موسى عليه السلام لما شرع في النهوض ببني إسرائيل إلى جانب الطور; حيث كان الموعد
أن يكلم الله موسى بمالهم فيه شرف العاجل والآجل - رأي موسى عليه السلام على جهة
الاجتهاد أن يتقدم وحده مبادرا لأمر الله سبحانه; طلبا لرضائه، وحرصا على القرب منه،
وشوقا إلى مناجاته، واستخلف عليهم هارون، وقال لهم موسى: تسيرون إلى جانب
الطور، فلما انتهى موسى صلى الله عليه وسلم وناجى ربه، زاده الله في الأجل عشرا، وحينئذ وقفه على
معنى استعجاله دون القوم; ليخبره موسى أنهم على الأثر، فيقع الأعلام له بما صنعوا،
وأعلمه موسى أنه إنما استعجل طلب الرضى، فأعلمه الله سبحانه: أنه قد فتن بني
إسرائيل، أي: اختبرهم بما صنع السامري، ويحتمل أن يريد: ألقيناهم في فتنة، فلما أخبر
الله تعالى موسى بما وقع، رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وباقي الآية بين، وقد تقدم
قصصها مستوفى; وسمي العذاب غضبا من حيث هو عن الغضب.
وقرأ نافع، وعاصم: " بملكنا " بفتح الميم، وقرأ حمزة، والكسائي: " بملكنا "
بضمة، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: " بملكنا " بكسرة; فأما فتح الميم، فهو
مصدر من ملك، والمعنى: ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب، ولا وفقنا له، بل غلبتنا
أنفسنا.
وأما كسر الميم، فقد كثر استعماله فيما تحوزه اليد، ولكنه يستعمل في الأمور التي
يبرمها الإنسان، ومعناها كمعنى التي قبلها، والمصدر مضاف في الوجهين إلى الفاعل.
وقولهم: * (ولكنا حملنا أوزارا...) * الآية; سموها أوزارا من حيث هي ثقيلة
الأجرام، أو من حيث تأثموا في قذفها، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: " حملنا "
بفتح الحاء، والميم.
وقولهم: * (فكذلك) * أي: فكما قذفنا نحن، فكذلك أيضا ألقي السامري.
قال * ع *: وهذه الألفاظ تقتضي أن العجل لم يصغه السامري، ثم أخبر تعالى
64

عن فعل السامري بقوله: * (فأخرج لهم عجلا) * ومعنى قوله * (جسدا *) أي شخصا لا روح
فيه، وقيل: معناه جسدا لا يتغذى، " والخوار ": صوت فلا البقر.
قالت فرقة منهم ابن عباس: كان هذا العجل يخور ويمشي، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: * (فقالوا) * يعني: بني إسرائيل: * (هذا إلهكم واله موسى فنسي) *
موسى إلهه، وذهب يطلبه في غير موضعه، ويحتمل أن يكون قوله * (فنسي) * إخبارا من الله
تعالى عن السامري; أي: فنسي السامري دينه، وطريق الحق، فالنسيان في التأويل الأول
بمعنى الذهول، وفي الثاني بمعنى الترك.
* ت *: وعلى التأويل الأول عول البخاري: وهو الظاهر.
ولقولهم أيضا قبل ذلك: * (أجعل لنا إلها) * [الأعراف: 138].
وقول هارون: * (فاتبعوني) * أي: إلى الطور الذي واعدكم الله تعالى إليه * (وأطيعوا
أمري) * فيما ذكرته لكم; فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون، وندبهم إلى الحق: * (لن
نبرح) * عابدين لهذا الإله عاكفين عليه، أي: ملازمين له.
ويحتمل قوله: * (ألا تتبعني) * أي: ببني إسرائيل نحو جبل الطور، ويحتمل قوله:
* (ألا تتبعن) * أي: ألا تسير بسيري، وعلى طريقتي في الإصلاح والتسديد.
/ وقوله: * (يبنؤم) * قالت فرقة: إن هارون لم يكن أخا موسى إلا من أمه.
قال * ع *: وهذا ضعيف. وقالت فرقة: كان شقيقه; وإنما دعاه بالأم استعطافا
برحم الأم، وقول موسى: * (ما خطبك يا سامري) * هو كما تقول: ما شأنك، وما أمرك،
لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا; لأن الخطب مستعمل في المكاره، و * (بصرت) * بضم
الصاد: من البصيرة، وقرأت فرقة بكسرها، فيحتمل أن يراد من البصيرة، ويحتمل من
البصر.
65

وقرأ حمزة، والكسائي: " بما لم تصروا " بالتاء من فوق، يريد موسى مع بني
إسرائيل، والرسول هنا: هو جبريل عليه السلام والأثر: هو تراب تحت حافر فرسه.
وقوله: * (فنبذتها) * أي: على الحلي، فكان منها ما ترى، * (وكذلك سولت لي
نفسي) * أي: وكما وقع وحدث قربت لي نفسي، وجعلت لي سؤلا وإربا منه حتى فعلته،
وكان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو بوحي، فعاقبه باجتهاد نفسه،
بأن أبعده ونحاه عن الناس، وأمر بني إسرائيل باجتنابه، واجتناب قبيلته وأن لا يؤاكلوا ولا
يناكحوا، ونحو هذا، وجعل له أن يقول مدة حياته: لا مساس، أي: لا مماسة، ولا إذاية.
وقرأ الجمهور: " لن تخلفه " بفتح اللام، أي: لن يقع فيه خلف، وقرأ ابن كثير،
وأبو عمرو: " تخلفه " بكسر اللام، على معنى لن تستطيع الروغان، والحيدة عن موعد
العذاب، ثم وبخه عليه السلام بقوله: * (وأنظر إلى إلهك...) * الآية، و * (ظلت) * وظل
معناه: أقام يفعل الشئ نهارا، ولكنها قد تستعمل في الدائب ليلا ونهارا، بمثابة طفق.
وقرأ ابن عباس وغيره: " لنحرقنه " بضم الراء وفتح النون; بمعنى لنبردنه بالمبرد،
وقرأ نافع وغيره: " لنحرقنه " وهي قراءة تحتمل الحرق بالنار، وتحتمل بالمبرد. وفي
مصحف ابن مسعود: " لنذبحنه " ثم لنحرقنه ثم لننسفنه وهذه القراءة هي مع رواية من
روى أن العجل صار لحما ودما، وعلى هذه الرواية يتركب أن يكون هناك حرق بنار، وإلا
فإذا كان جمادا من ذهب ونحوه، فإنما هو حرق بمبرد، اللهم إلا أن تكون إذابة، ويكون
النسف مستعارا، لتفريقه في اليم مذابا.
66

وقرأت فرقة: " لننسفنه " بكسر السين، وقرأت فرقة بضمها، والنسف: تفريق الريح
الغبار، وكل ما هو مثله; كتفريق الغربال ونحوه، فهو نسف، و * (اليم) *: غمر الماء من
بحر أو نهر، وكل ما غمر الإنسان من الماء فهو يم، واللام في وقوله * (لنحرقنه) * لام قسم،
وقال مكي (رحمه الله تعالى): وأسند أن موسى عليه السلام كان مع السبعين في
المناجاة، وحينئذ وقع أمر العجل، وأن الله تعالى أعلم موسى بذلك، فكتمه موسى
عنهم، وجاء بهم حتى سمعوا لغط بني إسرائيل حول العجل، فحينئذ أعلمهم.
قال * ع *: وهذه رواية ضعيفة، والجمهور على خلافها، وإنما تعجل موسى عليه
السلام وحده فوقع أمر العجل، ثم جاء موسى، وصنع ما صنع بالعجل، ثم خرج بعد ذلك
بالسبعين على معنى الشفاعة في ذنب بني إسرائيل، وأن يطلعهم أيضا على أمر المناجاة،
فكان لموسى عليه السلام نهضتان، والله أعلم.
وقوله سبحانه: * (كذلك نقص عليك) * مخاطبة / لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أي كما قصصنا
عليك نبأ بني إسرائيل، كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق مدتك، والذكر: القرآن.
وقوله: * (من أعرض عنه) * يريد بالكفر به، و * (زرقا) * قالت فرقة معناه: يحشرون
أول قيامهم سود الألوان، زرق العيون، فهو تشويه، ثم يعمون بعد ذلك، وهي مواطن.
وقالت فرقة: أراد زرق الألوان، وهي غاية في التشويه، لأنهم يجيئون كلون الرماد،
ومهيع في كلام العرب أن يسمى هذا اللون أزرق: * (يتخافتون بينهم أن لبثتم إلا عشرا) *
أي: يتخافت المجرمون بينهم، أي: يتسارون، والمعنى: أنهم لهول المطلع وشدة ذهاب
أذهانهم، قد عزب عنهم قدر مدة لبثهم.
واختلف الناس فيما ذا، فقالت فرقة: في دار الدنيا، ومدة العمر، وقالت فرقة: في
الأرض مدة البرزخ.
67

و * (أمثلهم طريقة) * معناه: أثبتهم نفسا يقول: إن لبثتم إلا يوما، أي: فهم في هذه
المقالة يظنون أن هذا قدر لبثهم.
وقوله سبحانه: * (ويسئلونك عن الجبال...) * الآية، السائل: قيل: رجل من ثقيف،
وقيل: السائل: جماعة من المؤمنين، وروي: أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا،
فتدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث، فذلك
هو النسف.
والقاع: هو المستوى من الأرض، والصفصف: نحوه في المعنى. والأمت: ما
يعتري الأرض من ارتفاع وانخفاض.
وقوله: لا عوج له) * يحتمل: أن يريد الإخبار به، أي: لا شك فيه، ولا يخالف
وجوده خبره، ويحتمل: أن يريد لا محيد لأحد عن اتباع الداعي، والمشي نحو صوته،
والخشوع: التطامن، والتواضع، وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء.
والهمس: الصوت الخفي الخافت، وهو تخافتهم بينهم، وكلامهم السر، ويحتمل
أن يريد صوت الأقدام; وفي " البخاري ": همسا صوت الأقدام، انتهى. ومن في
قوله * (إلا من أذن له الرحمن) * يحتمل أن تكون للشافع، ويحتمل أن تكون للمشفوع
فيه.
وقوله تعالى: * (عنت الوجوه) * معناه: ذلت، وخضعت، والعاني: الأسير; ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم في أمر النساء: " هن عوان عندكم " وهذه حالة الناس يوم القيامة.
قال * ص *: وعنت: من عنا يعنو: ذل، وخضع; قال أمية بن أبي الصلت:
[الطويل]
68

- مليك على عرش السماء مهيمن * لعزته تعنو الوجوه وتسجد -
انتهى.
* ت *: وأحاديث الشفاعة قد استفاضت، وبلغت حد التواتر، ومن أعظمها شفاعة
أرحم الراحمين سبحانه وتعالى ففي " صحيح مسلم "، من حديث أبي سعيد الخدري قال:
فيقول الله عز وجل: " شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا
أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط، قد عادوا
حمما، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة " وفيه: " فيخرجون كاللؤلؤ، في رقابهم الخواتم،
يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الجنة بغير عمل عملوه، ولا خير
قدموه... " / الحديث، وخرج أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الختلي بسنده عن ابن
عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا فرغ الله تعالى من القضاء بين خلقه، أخرج كتابا
من تحت العرش; أن رحمتي سبقت غضبي، وأنا أرحم الراحمين، قال: فيخرج من النار
مثل أهل الجنة، أو قال: مثلي أهل الجنة، قال: وأكبر ظني أنه قال: مثلي أهل الجنة،
مكتوب بين أعينهم: عتقاء الله ". انتهى من " التذكرة ".
و * (قد خاب من حمل ظلما) *، معنى خاب: لم ينجح، ولا ظفر بمطلوبه، والظلم
يعم الشرك والمعاصي، وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم.
وقوله سبحانه: * (ومن يعمل من الصالحات) * معادل لقوله: * (من حمل ظلما) * والظلم
والضهم: أحمد هما متقاربان في المعنى، ولكن من حيث تناسقا بعد في هذه الآية; ذهب قوم إلى
تخصيص كل واحد منهما بمعنى، فقالوا: الظلم أن نعظم عليه سيئاته، وتكثر أكثر مما يجب.
والهضم: أن ينقص من حسناته، ويبخسها.
وكلهم قرأ: " فلا يخاف " على الخبر غير ابن كثير; فإنه قرأ: " فلا يخف " على
النهي.
69

* (وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم) * بحسب توقع البشر،
وترجيهم * (يتقون) * الله، ويخشون عقابه; فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم
من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله: * (أو يحدث لهم ذكرا) *.
وقالت فرقة: معناه أو يكسبهم شرفا، ويبقى عليهم إيمانهم ذكرا صالحا في الغابرين.
وقوله تعالى: * (ولا تعجل بالقرآن...) * الآية، قالت فرقة: سببها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يخاف وقت تكليم جبريل له أن ينسى أول القرآن، فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه
السلام الوحي; فنزلت في ذلك، وهي على هذا في معنى قوله: * (تحرك به لسانك
لتعجل به) * [القيامة: 16]. وقيل غير هذا.
وقوله عز وجل: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي...) * الآية، العهد هنا بمعنى
الوصية، والشئ الذي عهد إلى آدم عليه السلام هو ألا يقرب الشجرة.
* ت *: قال عياض: وأما قوله تعالى: * (وعصى آدم ربه فغوى) * [طه: 121] أي:
جهل، فإن الله تعالى أخبر بعذره بقوله: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له
عزما) * قيل: نسي، ولم ينو المخالفة; فلذلك قال تعالى: * (ولم نجد له عزما) *، أي:
قصدا للمخالفة.
* ت *: وقيل: غير هذا مما لا أرى ذكره هنا، ولله در ابن العربي حيث قال:
يجب تنزيه الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عما نسب إليهم الجهال. ولكن الباري سبحانه
بحكمه النافذ، وقضائه السابق أسلم آدم إلى الأكل من الشجرة متعمدا للأكل، ناسيا للعهد،
فقال في تعمده: * (وعصي آدم) * وقال في بيان عذره: * (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) *
فمتعلق العهد غير متعلق النسيان، وجاز لأن للمولى أن يقول في عبده لحقه: عصى تثريبا،
70

ويعود عليه بفضله فيقول: نسي تقريبا، ولا يجوز لأحد منا أن يطلق ذلك على آدم، أو
يذكره إلا في تلاوة القرآن أو قول النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى من " الأحكام ".
وقوله سبحانه: * (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى) * المعنى: إن لك يا آدم في الجنة
نعمة تامة، لا يصيبك جوع، ولا عري، ولا ظمأ /، ولا بروز للشمس يؤذيك، وهو
الضحاء.
وقوله: * (فوسوس إليه) * * ص *: عدي هنا ب‍ " إلي " على معنى أنهى الوسوسة إليه،
وفي " الأعراف " باللام، فقال أبو البقاء: لأنه بمعنى ذكر لهما. انتهى.
ثم أعلمهم سبحانه: أن من اتبع هداه فلا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وأن
من أعرض عن ذكر الله، وكفر به; فإن له معيشة ضنكا، و " الضنك ": النكد الشاق من
العيش والمنازل، ونحو ذلك.
وهل هذه المعيشة الضنك تكون في الدنيا، أو في البرزخ، أو في الآخرة؟ أقوال.
* ت *: ويحتمل في الجميع، قال القرطبي: قال أبو سعيد الخدري، وابن مسعود:
ضنكا: عذاب القبر، وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون فيمن نزلت هذه
الآية: * (فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى) * " أتدرون ما المعيشة الضنك؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: عذاب الكافر في القبر; والذي نفسي بيده، إنه ليسلط عليه
تسعة وتسعون تنينا - وهي الحيات - لكل حية تسعة رؤوس، ينفخن في جسمه، ويلسعنه
71

ويخدشنه إلى يوم القيامة، ويحشر من قبره إلى موقفه أعمى ". انتهى من " التذكرة " فإن
صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، وإن لم يصح، فالصواب حمل الآية على عمومها;
والله أعلم.
قال الثعلبي: قال ابن عباس: * (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) * قال: أجار الله
تعالى تابع القرآن من أن يضل في الدنيا، أو يشقى في الآخرة. وفي لفظ آخر: " ضمن
الله تعالى لمن قرأ القرآن... " الحديث، وعنه: من قرأ القرآن واتبع ما فيه، هداه الله
تعالى من الضلالة ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب. انتهى.
وقوله سبحانه: " ونحشره يوم القيامة أعمى " قالت فرقة: وهو عمى البصر، وهذا هو
الأوجه، وأما عمى البصيرة، فهو حاصل للكافر.
وقوله سبحانه: * (كذلك أتتك آياتنا فنسيتها) * النسيان هنا: هو الترك، ولا مدخل
للذهول علي في هذا الموضع، و * (تنسى) * أيضا بمعنى: تترك في العذاب.
وقوله سبحانه: * (أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون) * المعنى: أفلم يبين
لهم.
72

وقرأت فرقة: " نهد " بالنون، والمراد بالقرون المهلكين: عاد، وثمود، والطوائف
التي كانت قريش تجوز على بلادهم في المرور إلى الشام وغيره، ثم أعلم سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم
أن العذاب كان يصير لهم لزاما لولا كلمة سبقت من الله تعالى في تأخيره عنهم إلى أجل
مسمى عنده، فتقدير الكلام. ولولا كلمة سبقت في التأخير، وأجل مسمى، لكان العذاب
لزاما; كما تقول لكان حتما، أو واقعا، لكنه قدم وأخر; لتشابه رؤوس الآي.
واختلف في الأجل المسمى: هل هو يوم القيامة، أو موت كل واحد منهم، أو يوم
بدر؟ وفي " صحيح البخاري ": أن يوم بدر هو: اللزام، وهو: البطشة الكبرى، يعني:
وقع في البخاري من تفسير ابن مسعود، وليس هو من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ص *: و * (لزاما) *: إما مصدر، وإما بمعنى ملزم، وأجاز أبو البقاء: أن يكون
جمع لازم، كقائم وقيام. انتهى.
ثم أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه
كاذب إلى غير ذلك.
وقوله سبحانه: / * (وسبح بحمد ربك...) * الآية، قال أكثر المفسرين: هذه إشارة
إلى الصلوات الخمس; فقبل طلوع الشمس الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر، ومن
آناء الليل العشاء، وأطراف النهار المغرب والظهر.
[قال ابن العربي: والصحيح أن المغرب من طرف الليل، لا من طرف النهار.
انتهى من " الأحكام "].
وقالت فرقة: آناء الليل: المغرب والعشاء، وأطرف النهار: الظهر وحدها، ويحتمل
اللفظ أن يراد به قول: سبحان الله وبحمده.
73

وقالت فرقة: في الآية: إشارة إلى نوافل، فمنها آناء الليل، ومنها قبل طلوع الشمس
ركعتا الفجر.
* ت *: ويتعذر على هذا التأويل قوله: * (وقبل غروبها) *; إذ ليس ذلك الوقت وقت
نفل، على ما علم إلا أن يتأول ما قبل الغروب بما قبل صلاة العصر وفيه بعد.
قال * ص *: * (بحمد ربك) * في موضع الحال، أي: وأنت حامد. انتهى.
وقرأ الجمهور: * (لعلك ترضى) * بفتح التاء، أي: لعلك تثاب على هذه الأعمال
بما ترضى به.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وهذه الآية تماثل قوله تعالى: * (ولسوف يعطيك
ربك فترضى) * [الضحى: 5].
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر; فإن استطعتم ألا
تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس يعني: الصبح، وقبل غروبها; فافعلوا ".
وفي الحديث الصحيح أيضا: " من صلى البردين، دخل الجنة ". انتهى.
وقرأ الكسائي، وأبو بكر عن عاصم: " ترضى " أي: لعلك تعطى ما يرضيك، ثم
أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بالاحتقار لشأن الكفرة، والإعراض عن أموالهم، وما في أيديهم من
الدنيا; إذ ذلك منحسر عنهم صائر إلى خزي، والأزواج: الأنواع، فكأنه قال: إلى ما متعنا
به أقواما منهم، وأصنافا.
74

وقوله: * (زهرة الحياة الدنيا) * شبه سبحانه نعم هؤلاء الكفار بالزهر، وهو ما اصفر
من النور، وقيل: الزهر: النور جملة; لأن الزهر له منظر، ثم يضمحل عن قرب، فكذلك
مآل هؤلاء، ثم أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن ذلك إنما هو ليختبرهم به، ويجعله فتنة لهم
وأمرا يجازون عليه أسوأ الجزاء; لفساد تقلبهم فيه.
* ص *: و * (زهرة) *: منصوب على الذم، أو مفعول ثان ل‍: * (متعنا) * مضمن معنى
أعطينا. آه‍.
ورزق الله تعالى الذي أحله للمتقين من عباده، خير وأبقى، أي: رزق الدنيا خير
ورزق الآخرة أبقى، وبين أنه خير من رزق الدنيا، ثم أمره سبحانه وتعالى بأن يأمر أهله
بالصلاة، ويمتثلها معهم ويصطبر عليها ويلازمها، وتكفل هو تعالى برزقه لا إله إلا هو،
وأخبره أن العاقبة للمتقين بنصره في الدنيا، ورحمته في الآخرة، وهذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
ويدخل في عمومه: جميع أمته.
وروي: أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين
وأحوالهم، بادر إلى منزله، فدخله وهو يقول: * (ولا تمدن عينيك...) * الآية إلى قوله
* (وأبقى) * ثم ينادي: الصلاة الصلاة رحمكم الله، ويصلي.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي هو ويتمثل
بالآية.
قال الداودي: وعن عبد الله بن سلام، قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو
شدة أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: * (وأمر أهلك بالصلاة) * إلى قوله * (للتقوى) *. انتهى.
قال ابن عطاء الله في " التنوير ": وأعلم أن هذه الآية علمت أهل الفهم عن الله تعالى
كيف يطلبون / رزقهم، فإذا توقفت عليهم أسباب المعيشة، أكثروا من الخدمة والموافقة،
وقرعوا باب الرزق بمعاملة الرزاق - جل وعلا - ثم قال: وسمعت شيخنا أبا العباس
75

المرسي رضي الله عنه يقول: والله ما رأيت العزة إلا في رفع الهمة عن الخلق، وأذكر
رحمك الله هنا: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * [المنافقون: 8].
ففي العز الذي أعز الله به المؤمن رفع همته إلى مولاه، وثقته به دون من سواه،
وأستحي من الله بعد أن كساك حله الإيمان، وزينك بزينة العرفان; أن تستولي عليك الغفلة
والنسيان; حتى تميل إلى الأكوان، أو تطلب من غيره تعالى وجود إحسان، ثم قال:
ورفع الهمة عن الخلق: هو ميزان ذوي الكمال ومسبار الرجال، وكما توزن الذوات كذلك
توزن الأحوال والصفات. انتهى.
ومن كتاب " صفوة التصوف " لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي الحافظ حديث
بسنده عن ابن عمر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فقال: يا رسول الله، حدثني حديثا، وأجعله
موجزا، فقال له النبي صلى الله عليه: " صل صلاة مودع، كأنك تراه، فإن كنت لا تراه، فإنه يراك،
وايأس مما في أيدي الناس، تعش غنيا، وإياك وما يعتذر منه " ورواه أبو أيوب الأنصاري
بمثله عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
* (وقالوا لولا يأتينا) * محمد * (بآية من ربه) *، أي: بعلامة مما اقترحناها عليه، ثم
وبخهم سبحانه بقوله: * (أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) * أي: [ما في] التوراة،
وغيرها، ففيها أعظم شاهد، وأكبر آية له سبحانه.
وقوله سبحانه: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله) * أي: من قبل إرسالنا إليهم
محمدا، * (لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا...) * الآية، وروى أبو سعيد الخدري، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب
76

على عقله، والصبي الصغير. فيقول المغلوب على عقله: رب، لم تجعل لي عقلا،
ويقول الصبي نحوه، ويقول الهالك في الفترة. رب، لم ترسل إلي رسولا، ولو جاءني،
لكنت أطوع خلقك لك، قال: فترتفع لهم نار، ويقال لهم: ردوها، فيردها من كان في
علم الله أنه سعيد ويكع عنها الشقي، فيقول الله تعالى: إياي عصيتم فكيف برسلي لو
أتتكم ".
قال * ع *: أما الصبي، والمغلوب على عقله، فبين أمرهما، وأما صاحب الفترة،
فليس ككفار قريش قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن كفار قريش، وغيرهم ممن علم وسمع نبوة
ورسالة في أقطار الأرض، ليس بصاحب فترة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: " أبي وأبوك في
النار " ورأى صلى الله عليه وسلم، عمرو بن لحي في النار وإلى غير هذا مما يطول ذكره، وإنما صاحب
الفترة يفرض أنه آدمي لم يطرأ إليه أن الله تعالى بعث رسولا، ولا دعا إلى دين، وهذا قليل
الوجود إلا أن يشذ في أطراف الأرض، والمواضع المنقطعة عن العمران.
* ت *: والصحيح في هذا الباب: " أن أولاد المشركين في الجنة، وأما أولاد
المسلمين ففي الجنة من غير شك " متفق عليه.
وقد أسند أبو عمر في " التمهيد " من طريق أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " سألت ربي
في اللاهين من ذرية البشر ألا يعذبهم فأعطانيهم ". قال أبو عمر: إنما قيل للأطفال:
77

اللاهون; لأن أعمالهم كاللهو، واللعب من غير عقد، ولا عزم، ثم أسند أبو عمر،
/ عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولاد المشركين خدم أهل الجنة ".
قال أبو عمر، وروى شعبة، وسعيد بن أبي عروبة، وأبو عوانة، عن قتادة، عن
أبي سراية العجلي، عن سلمان قال: أطفال المشركين خدم أهل الجنة ".
وذكر البخاري حديث الرؤيا الطويل، وفيه: " وأما الرجل الطويل الذي في الروضة،
فإنه إبراهيم عليه السلام وأما الولدان حوله، فكل مولود يولد على الفطرة قال: فقيل: يا
رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأولاد المشركين "، وفي رواية:
" والصبيان حوله أولاد الناس " وظاهره الهموم في جميع أولاد الناس. انتهى [من التمهيد]
والذل، والخزي مقترنان بعذاب الآخرة.
وقوله: * (قل كل) * أي: منا ومنكم * (متربص) * والتربص: التأني، والصراط:
الطريق، وهذا وعيد بين; والله الموفق، والهادي إلى الرشاد بفضله.
78

سورة الأنبياء
مكية بإجماع
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
قوله عز وجل: * (اقترب للناس حسابهم...) * الآية: روي أن رجلا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، كان يبني جدارا، فمر به آخر يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني
الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليوم * (اقترب للناس حسابهم وهم في
غفلة معرضون) * فنفض يديه من البنيان، وقال: والله لا بنيت. قال أبو بكر بن العربي: قال
لي شيخي: في العبادة لا يذهب لك الزمان; في مصاولة الأقران; ومواصلة الإخوان، ولم
أر للخلاص شيئا أقرب من طريقين: إما أن يغلق الإنسان على نفسه بابه، وإما أن يخرج
إلى موضع لا يعرف فيه، فإن اضطر إلى مخالطة الناس، فليكن معهم ببدنه، ويفارقهم بقلبه
ولسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، ولا يفارق السكوت. قال القرطبي: ولأبي سليمان
الخطابي في هذا المعنى: [الوافر]
- أنست بوحدتي ولزمت بيتي * فدام الأنس لي ونما السرور -
- وأدبني الزمان فلا أبالي * بأني لا أزار ولا أزور -
- ولست بسائل ما دمت حيا * أسار الجيش أم ركب الأمير -
انتهى من " التذكرة ".
وقوله: * (اقترب للناس حسابهم) * عام في جميع الناس، وأن كان المشار إليه في
ذلك الوقت كفار قريش; ويدل على ذلك ما يأتي بعد من الآيات.
قال * ص *: اقترب: بمعنى الفعل المجرد وهو قرب، وقيل: اقترب أبلغ للزيادة
* (وهم في غفلة) * الواو للحال، انتهى.
وقوله: * (وهم في غفلة معرضون) * يريد: الكفار، ويأخذ عصاة المؤمنين من هذه
الألفاظ قسطهم.
79

* ت *: أيها الأخ أشعر قلبك مهابة ربك، فإليه مآلك; وتأهب للقدوم عليه; فقد آن
ارتحالك; أنت في سكرة لذاتك; وغشية شهواتك; وإغماء غفلاتك; ومقراض / الفناء
يعمل في ثوب حياتك; ويفصل أجزاء عمرك جزءا جزءا في سائر ساعاتك; كل نفس من
أنفاسك جزء منفصل من جملة ذاتك وبذهاب الأجزاء تذهب الجمل، أنت جملة تؤخذ،
آحادها وأبعاضها، إلى أن تستوفي سائرها عساكر الأقضية، والأقدار محدقة بأسوار
الأعمار; تهدمها بمعاول الليل والنهار; فلو أضاء لنا مصباح الاعتبار; لم يبق لنا في جميع
أوقاتنا سكون ولا قرار. انتهى من " الكلم الفارقية والحكم الحقيقية ".
وقوله: * (ما يأتيهم من ذكر) * وما بعده مختص بالكفار، والذكر: القرآن، ومعناه
محدث نزوله، لا هو في نفسه.
وقوله: * (وهم يلعبون) * جملة في موضع الحال، أي: استماعهم في حال لعب; فهو
غير نافع، ولا واصل إلى النفس.
وقوله * (لاهية) * حال بعد حال، واختلف النحاة في إعراب قوله: * (وأسروا النجوى
الذين ظلموا) * فمذهب سيبويه (رحمه الله تعالى): أن الضمير في * (أسروا) *: فاعل، وأن
* (الذين) * بدل منه، وقال: ليس في القرآن لغة من قال: أكلوني البراغيث، ومعنى:
* (أسروا النجوى) * تكلمهم بينهم في السر، ومناجاة بعضهم لبعض.
80

وقال أبو عبيدة: أسروا: أظهروا، وهو من الأضداد، ثم بين تعالى الأمر الذي
تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض على جهة التوبيخ بزعمهم: * (أفتأتون السحر) * المعنى:
أفتتبعون السحر وأنتم تبصرون، ثم أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول لهم وللناس جميعا:
قل * (ربي يعلم القول في السماء والأرض) * أي: يعلم أقوالكم هذه، وهو بالمرصاد في
المجازاة عليها، ثم عدد سبحانه جميع ما قالته طوائفهم ووقع الإضراب بكل مقالة عن
المتقدمة لها; ليبين اضطراب أمرهم فقال تعالى: * (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو
شاعر) * والأضغاث: الأخلاط، ثم حكى سبحانه اقتراحهم، آية تضطرهم; كناقة صالح
وغيرها، وقولهم: * (كما أرسل الأولون) * دال على معرفتهم بإتيان الرسل الأمم المتقدمة.
وقوله سبحانه: * (ما آمنت قبلهم) * فيه محذوف يدل عليه المعنى تقديره: والآية التي
طلبوها عادتنا أن القوم إن كفروا بها عاجلناهم، وما آمنت قبلهم قرية من القرى التي نزلت
بها هذه النازلة، أفهذه كانت تؤمن؟
وقوله: * (أهلكناها) * جملة في موضع الصفة ل‍ * (قرية) * والجمل: إذا اتبعت
النكرات; فهي صفات لها، وإذا اتبعت المعارف; فهي أحوال منها.
وقوله سبحانه: * (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون) * هذه الآية رد على من استبعد منهم أن يبعث الله بشرا رسولا و * (الذكر) * هو
كل ما يأتي من تذكير الله عباده، فأهل القرآن أهل ذكر، وأما المحال على سؤالهم في هذه
الآية فلا يصح أن يكونوا أهل القرآن في ذلك الوقت; لأنهم كانوا خصومهم، وإنما أحيلوا
على سؤال أحبار أهل الكتاب من حيث كانوا موافقين لكفار قريش على ترك الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم. * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - 8 - ثم صدقناهم الوعد
فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكناها المسرفين - 9 - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون - 10 -
وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين - 11 - فلما أحسوا بأسنا إذا
هم منها يركضون - 12 -) *
81

وقوله سبحانه: * (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) * قيل: الجسد من الأحياء:
مالا يتغذى، وقيل: الجسد يعم المتغذى من الأجسام وغير المتغذى ف‍ * (جعلناهم
جسدا) * على التأويل الأول: منفى، وعلى الثاني: موجب، والنفي واقع على صفته.
وقوله سبحانه: * (ثم صدقناهم الوعد) * الآية، هذه آية وعيد.
وقوله: * (ومن نشاء) * يعنى من المؤمنين، و * (المسرفون) *: الكفار، ثم وبخهم تعالى
بقوله: * (لقد أنزلنا إليكم كتابا) * / يعنى: القرآن، * (فيه ذكركم) *، أي: شرفكم، آخر
الدهر، وفى هذا التحريض لهم، ثم أكد التحريض بقوله: * (أفلا تعقلون) * و * (كم) * للتكثير،
و * (قصمنا) * معناه: أهلكنا، وأصل القصم: الكسر في الأجرام، فإذا استعير للقوم والقرية
ونحو ذلك فهو ما يشبه الكسر وهو إهلاكهم، و * (أنشأنا) *، أي: خلقنا وبثثنا أمة أخرى غير
المهلكة.
وقوله: * (فلما أحسوا) * وصف عن حال قرية من القرى المجملة أولا; قيل: كانت
باليمن تسمى " حضور "، بعث الله تعالى إلى أهلها رسولا فقتلوه، فأرسل الله تعالى عليهم
بختنصر صاحب بني إسرائيل فهزموا جيشه مرتين، فنهض في الثالثة بنفسه، فلما هزمهم،
وأخذ القتل فيهم ركضوا هاربين، ويحتمل أن لا يريد بالآية قرية بعينها، وأن هذا وصف
حال كل قرية من القرى المعذبة إذا أحسوا العذاب; من أي نوع كان; أخذوا في الفرار
و * (أحسوا) * باشروه بالحواس.
* ص *: * (إذا هم منها يركضون) * " إذا " الفجائية، وهي وما بعدها جواب لما.
انتهى.
وقوله: * (لا تركضوا) * يحتمل على الرواية المتقدمة أن يكون من قول رجال بختنصر
على جهة الخداع والاستهزاء بهم، فلما انصرفوا راجعين أمر بختنصر أن ينادى فيهم: يا
ثارات النبي المقتول، فقتلوا بالسيف عن آخرهم.
82

قال * ع *: وهذا كله مروي، ويحتمل أن يكون: * (لا تركضوا) * إلى آخر الآية.
من كلام ملائكة العذاب على جهة الهزء بهم.
وقوله: * (حصيدا) * أي: بالعذاب كحصيد الزرع بالمنجل، و * (خامدين) * أي: موتى
مشبهين بالنار إذا طفئت، ثم وعظ سبحانه السامعين بقوله: * (وما خلقنا السماء والأرض
وما بينهما لاعبين) *.
وقوله سبحانه: * (لو أردنا أن نتخذ لهوا) * الآية: ظاهر الآية: الرد على من قال من
الكفار في أمر مريم - عليها السلام -، وما ضارعه من الكفر تعالى الله عن قول المبطلين
و " إن " في قوله: * (إن كنا فاعلين) * يحتمل أن تكون شرطية، ويحتمل أن تكون نافية بمعنى:
ما كنا فاعلين، وكل هذا قد قيل، و " الحق " عام في القرآن والرسالة والشرع، وكل ما هو
حق، * (فيدمغه) * معناه: يصيب دماغه، وذلك مهلك في البشر; فكذلك الحق يهلك
الباطل، و * (الويل) * الخزي.
وقيل: هو اسم واد في جهنم، وأنه المراد في هذه الآية، وهذه مخاطبة للكفار الذين
وصفوا الله عز وجل بما لا يجوز عليه تعالى الله عن قولهم.
وقوله: * (ومن عنده...) * الآية: عند هنا ليست في المسافات، وإنما هي تشريف
في المنزلة. * (ولا يستحسرون) * أي: لا يكلون، والحسير من الإبل: المعيي.
وقوله: * (لا يفترون) * وفي " الترمذي " عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني
أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط; ما فيها موضع أربع
أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله " الحديث. قال أبو عيسى: هذا حديث
صحيح، وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وأنس، انتهى من أصل الترمذي، أعني:
جامعة ".
83

وقوله سبحانه: * (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون) * أي: يحيون غيرهم، ثم
بين تعالى أمر التمانع بقوله: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * وقد تقدم إيضاح ذلك
عند قوله تعالى: * (إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * [الإسراء: 42].
/ وقوله: * (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) * يحتمل أن يريد بالإشارة بقوله،
* (هذا) * إلى جميع الكتب المنزلة قديمها وحديثها - أنها بين أن الله الخالق واحد لا شريك
له، ويحتمل أن يريد بقوله: * (هذا) * القرآن والمعنى: فيه نبأ الأولين والآخرين فنص أخبار
الأولين، وذكر الغيوب في أمورهم، حسبما هي في الكتب المتقدمة، وذكر الآخرين
بالدعوة، وبيان الشرع لهم، ثم حكم عليهم سبحانه بأن أكثرهم لا يعلمون الحق،
لإعراضهم عنه، وليس المعنى: فهم معرضون; لأنهم لا يعلمون; بل المعنى: فهم
معرضون، ولذلك لا يعلمون الحق، وباقي الآية بين، ثم بين سبحانه نوعا آخر من كفرهم
بقوله: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا) * الآية; كقوله بعضهم: اتخذ الملائكة بناتا، وكما قالت
النصارى في عيسى ابن مريم، واليهود في عزير.
وقوله سبحانه: * (بل عباد مكرمون) * عبارة تشمل الملائكة وعيسى وعزير. وقال
* ص *: بل إضراب عن نسبة الولد إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا. و * (عباد) * خبر مبتدأ
محذوف، أي: هم عباد. قاله أبو البقاء انتهى.
وقوله سبحانه: * (لا يسبقونه بالقول) * عبارة عن حسن طاعتهم ومراعاتهم لامتثال
84

الأمر، ثم أخبر تعالى: أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله أن يشفع له، قال بعض
المفسرين: لأهل لا إله إلا الله، والمشفق: المبالغ في الخوف، المحترق النفس من الفزع
على أمر ما.
وقوله سبحانه: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه) * الآية، المعنى: ومن يقل
منهم كذا أن لو قاله، وليس منهم من قال هذا، وقال بعض المفسرين: المراد بقوله:
* (ومن يقل...) * الآية: إبليس، وهذا ضعيف; لأن إبليس لم يرو قط أنه ادعى الربوبية،
ثم وقفهم سبحانه على عبرة دالة على وحدانيته جلت قدرته، فقال: * (أولم ير الذين كفروا
أن السماوات والأرض كانت رتقا *) والرتق: الملتصق بعضه ببعض، الذي لا صدع فيه ولا
فتح، ومنه: امرأة رتقاء، واختلف في معنى قوله: * (كانتا رتقا ففتقناهما) * فقالت فرقة:
كانت السماء ملتصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء، وقالت فرقة: كانت السماوات ملتصقة
بعضها ببعض، والأرض كذلك ففتقهما الله سبعا سبعا; فعلى هذين القولين فالرؤية
الموقف عليها رؤية قلب، وقالت فرقة: السماء قبل المطر رتق، والأرض قبل النبات رتق
ففتقهما الله تعالى بالمطر والنبات; كما قال تعالى: * (والسماء ذات الرجع * والأرض ذات
الصدع) * [الطارق: 11، 12].
وهذا قول حسن يجمع العبرة وتعديد النعمة والحجة بمحسوس بين، ويناسب قوله
تعالى: * (وجعلنا من الماء كل شئ حي) *، أي من الماء الذي كان عن الفتق، فيظهر
معنى الآية، ويتوجه الاعتبار بها، وقالت فرقة: السماء والأرض رتق بالظلمة ففتقهما الله
بالضوء; والرؤية على هذين القولين رؤية العين، وباقي الآية بين.
قال * ص *: قال الزجاج: السماوات جمع أريد به الواحد; ولذا قال: * (كانتا رتقا) *.
وقال الحوفي: " قال: * (كانتا) * - والسماوات جمع -: لأنه أراد الصنفين " انتهى.
وقوله: * (سقفا محفوظا) * الحفظ هنا عام في الحفظ من الشيطان، ومن الوهي
والسقوط، وغير ذلك من الآفات، والفلك: الجسم الدائر دورة اليوم والليلة /.
و * (يسبحون) * معناه: يتصرفون، وقالت فرقة: الفلك موج مكفوف، قوله: * (يسبحون) * من
السباحة وهي: العوم.
وقوله عز وجل: * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد...) * الآية، وتقدير الكلام:
85

أفهم الخالدون، إن مت؟!
وقوله سبحانه: * (كل نفس ذائقة الموت...) * الآية: موعظة بليغة لمن وفق; قال
أبو نعيم: كان الثوري (رضي الله عنه) إذا ذكر الموت لا ينتفع به أياما ". انتهى. من
" التذكرة " للقرطبي.
قال عبد الحق في " العاقبة ": وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذكر الموت، وأعاد القول فيه;
تهويلا لأمره، وتعظيما لشأنه، ثم قال: واعلم أن كثرة ذكر الموت يردع عن المعاصي،
ويلين القلب القاسي.
قال الحسن: ما رأيت عاقلا قط إلا وجدته حذرا من الموت، حزينا من أجله، ثم
قال: واعلم: أن طول الأمل يكسل عن العمل، ويورث التواني، ويخلد إلى الأرض
ويميل إلى الهوى، وهذا امر قد شوهد بالعيان; فلا يحتاج إلى بيان، ولا يطالب صاحبه
بالبرهان; كما أن قصره يبعث على العمل، ويحمل على المبادرة، ويحث على المسابقة;
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا النذير، والموت المغير، والساعة الموعد " ذكره القاضي أبو
الحسن بن صخر في الفوائد. انتهى.
* (ونبلوكم) * معناه: نختبركم، وقدم * (الشر) * على لفظة * (الخير) *; لأن العرب من
عادتها أن تقدم الأقل والأردى; ومنه قوله تعالى: * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم
سابق بالخيرات) * [فاطر: 32]. فبدأ تعالى في تقسيم أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالظالم.
و * (فتنة) * معناه: امتحانا.
وقوله تعالى: * (وإذا رآك الذين كفروا) *: كأبي جهل وغيره، " وإن " بمعنى: " ما "،
وفى الكلام حذف تقديره: يقولون: أهذا الذي؟
86

وقال * ص *: " إن ": نافية، والظاهر أنها وما دخلت عليه جواب إذا، انتهى.
وقوله سبحانه: * (وهم بذكر الرحمن هم كافرون) * روى: أن الآية نزلت حين أنكروا
هذه اللفظة، وقالوا: ما نعرف الرحمن إلا في اليمامة، وظاهر الكلام: أن * (الرحمن) *
قصد به العبارة عن الله عز وجل، ووصف سبحانه الإنسان الذي هو اسم جنس بأنه خلق
من عجل، وهذا على جهة المبالغة; كما تقول للرجل البطال: أنت من لعب ولهو.
وقوله سبحانه: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار...) *
الآية: حذف جواب " لو " إيجازا لدلالة الكلام عليه، وتقدير المحذوف: لما استعجلوا،
ونحوه، وذكر الوجوه; لشرفها من الإنسان، ثم ذكر الظهور; ليبين عموم النار لجميع
أبدانهم، والضمير في قوله: * (بل تأتيهم بغتة) *: للساعة التي تصيرهم به إلى العذاب،
ويحتمل أن يكون للنار، و * (ينظرون) * معناه: يؤخرون، و * (حاق) * معناه: حل ونزل،
ويكلؤكم) *، أي: يحفظكم.
وقوله سبحانه: * (ولا هم منا يصبحون) * يحتمل تأويلين:
أحدهما: يجارون ويمنعون.
والآخر: ولاهم منا يصبحون بخير وتزكية ونحو هذا.
وقوله سبحانه: * (أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها..) * الآية * (نأتي
الأرض) * معناه: بالقدرة، ونقص الأرض: إما أن يريد بتخريب المعمور، وإما بموت
البشر.
87

وقال قوم: النقص من الأطراف: موت العلماء، ثم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم متوعدا
لهؤلاء / الكفرة بقوله: * (ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك...) * الآية، والنفحة: الخطرة
والمسة، والمعنى: ولئن مستهم صدمة عذاب ليندمن، وليقرن بظلمهم وباقي الآية بين.
وقال الثعلبي: * (نفحة) *، أي: طرف; قاله ابن عباس، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ليوم القيامة) * قال أبو حبان: اللام للظرفية بمعنى " في " انتهى.
قال القرطبي في " تذكرته ": قال العلماء: إذا انقضى الحساب ولا بعده وزن
الأعمال; لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، واختلف في الميزان
والحوض: أيهما قبل الآخر، قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل الميزان،
وذهب صاحب " القوت " وغيره إلى: أن حوض النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعد الصراط.
قال القرطبي: والصحيح: " أن النبي صلى الله عليه وسلم حوضين، وكلاهما يسمى كوثرا، وأن
الحوض الذي يذاد عنه من بدل وغير، يكون في الموقف قبل الصراط، وكذا حياض
الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - تكون في الموقف; على ما ورد في ذلك من الأخبار "
انتهى.
والفرقان الذي أوتى موسى وهارون قيل: التوراة، وهي الضياء والذكر.
88

وقالت فرقة: الفرقان: هو ما رزقهما الله تعالى من نصر وظهور على فرعون وغير
ذلك، والضياء: التوراة، والذكر: بمعنى التذكرة.
وقوله سبحانه: * (وهذا ذكر مبارك) * يعني: القرآن، ثم وقفهم سبحانه; تقريرا
وتوبيخا: هل يصح لهم إنكار بركته وما فيه من الدعاء إلى الله تعالى وإلى صالح العمل؟
وقوله سبحانه: * (ولقد آتينا إبراهيم رشده...) * الآية. الرشد عام، أي: في جميع
المراشد وأنواع الخيرات.
وقال الثعلبي: * (رشده) * أي: توفيقه، وقيل: صلاحه، انتهى.
وقوله: * (وكنا به عالمين) *: مدح لإبراهيم عليه السلام، أي: عالمين بما هل له;
وهذا نحو قوله تعالى: * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * [الأنعام: 124] والتماثيل:
الأصنام.
وقوله: * (وتالله لأكيدن أصنامكم...) * الآية. روى: أنه حضرهم عيد لهم، فعزم
قوم منهم على إبراهيم في حضوره; طعما منهم أن يستحسن شيئا من أحوالهم، فمشى
معهم، فلما كان في الطريق ثنى عزمه على التخلف عنهم، فقعد، وقال لهم: أنى سقيم،
فمر به جمهورهم، ثم قال في خلوة من نفسه: * (وتالله لأكيدن أصنامكم) * فسمعه قوم من
ضعفتهم ممن كان يسير في آخر الناس.
وقوله: * (بعد أن تولوا مدبرين) * معناه: إلى عيدكم، ثم انصرف إبراهيم عليه السلام
إلى بيت أصنامهم فدخله، ومعه قدوم، فوجد الأصنام قد وقفت، أكبرها أول، ثم الذي
يليه فالذي يليه، وقد جعلوا أطعمتهم في ذلك اليوم بين يدي الأصنام; تبركا لينصرفوا من
ذلك العيد إلى أكله: فجعل - عليه السلام - يقطعها بتلك القدوم، ويهشمها لم حتى أفسد
أشكالها، حاشا الكبير; فإنه تركه بحاله وعلق القدوم في يده، وخرج عنها، و * (جذاذا) *:
89

معناه: قطعا صغارا، والجذ: القطع، والضمير في * (إليه) * أظهر ما فيه أنه عائد على
إبراهيم، أي: فعل هذا كله; ترجيا منه أن يعقب ذلك منهم رجعه إليه والى شرعه،
ويحتمل أن يعود على كبيرهم.
وقوله سبحانه: * (قالوا من فعل هذا...) * الآية. المعنى: فانصرفوا من عيدهم فرأوا
ما حدث بآلهتهم، ف‍ * (قالوا من فعل هذا بآلهتنا) *؟ و * (قالوا) * الثاني: الضمير فيه للقوم
الضعفة الذين سمعوا قول إبراهيم: * (تالله لأكيدن أصنامكم) *.
وقوله: * (على أعين الناس) * يريد في الحفل، وبمحضر الجمهور، وقوله:
* (يشهدون) *: يحتمل أن يريد: الشهادة عليه بفعله، أو بقوله: * (لأكيدن) *، ويحتمل أن
يريد به: المشاهدة، أي: يشاهدون عقوبته أو غلبته المؤدية إلى عقوبته، وقوله عليه
السلام: * (بل فعله كبيرهم هذا) * على معنى الاحتجاج عليهم، أي: إنه غار من أن يعيد هو
وتعبد الصغار معه، ففعل هذا بها لذلك; وفى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم
يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات: قوله: * (إني سقيم [الصافات: 89]، وقوله:
* (بل فعله كبيرهم هذا) *، وقوله للملك: هي أختي. وكانت مقالاته هذه في ذات الله،
وذهبت فرقة إلى أن معنى الحديث: لم يكذب إبراهيم، أي: لم يقل كلاما ظاهرة الكذب
أو يشبه الكذب، وذهب الفراء إلى جهة أخرى في التأويل بأن قال: قوله: * (فعله) * ليس
من الفعل، وإنما هو فعله على جهة التوقع، حذف اللام على قولهم: عله بمعنى: لعله،
ثم خففت اللام.
قال * ع *: وهذا تكلف.
قلت: قال عياض: واعلم، (أكرمك الله) * أن هذه الكلمات كلها خارجة عن الكذب،
لا في القصد ولا في غيره، وهي داخلة في باب المعاريض التي فيها مندوحة عن الكذب،
فأما قوله: * (بل فعله كبيرهم هذا) * فإنه علق خبره بشرط النطق، كأنه قال: إن كان ينطق
فهو فعله; على طريق التبكيت لقومه. انتهى.
90

ثم ذكر بقية التوجيه وهو واضح لا نطيل بسرده.
وقوله سبحانه: * (فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون) * أي: في توقيف
هذا الرجل على هذا الفعل وأنتم معكم من تسئلون ثم رأوا ببديهة العقل أن الأصنام لا
تنطق، فقالوا لإبراهيم حين نكسوا في حيرتهم: * (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) *، فوجد
إبراهيم عليه السلام عند هذه المقالة موضع الحجة ووقفهم موبخا لهم بقوله: * (أفتعبدون
من دون الله مالا ينفعكم شيئا...) * الآية. ثم حقر شأنهم وشأنها بقوله: * (أف لكم ولما
تعبدون من دون الله...) * الآية.
* ص *: وقولهم: * (لقد علمت) *: جواب قسم محذوف معمول لقول محذوف
في موضع الحال، أي: قائلين، لقد علمت. انتهى.
وقال الثعلبي: * (فرجعوا إلى أنفسهم) * أي: تفكروا بعقولهم فقالوا: ما نراه إلا كما
قال، إنكم أنتم الظالمون في عبادتكم الأصنام الصغار مع هذا الكبير. اه‍.
وما قدمناه عن * ع * هو الأوجه و * (أف) * لفظة تقال عند المستقذرات من الأشياء،
ويستعار ذلك للمستقبح من المعاني، ثم أخذتهم العزة بالإثم وانصرفوا إلى طريق الغلبة
والغشم، فقالوا: * (حرقوه) *; روي: أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب
فارس، أي: من باديتها، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة،
وروي: أنه لما أجمع رأيهم على تحريقه حبسه نمرود الملك (لعنه الله) وأمر بجمع
91

الحطب حتى اجتمع منه ما شاء الله، ثم أضرم نارا فلما أرادوا طرح إبراهيم فيها لم يقدروا
على القرب منها، فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم: أنا أصنع لكم آلة يلقى بها،
فعلمهم صنعة المنجنيق، ثم أخرج إبراهيم عليه السلام فشد رباطا، ووضع في كفة
المنجنيق، ورمى به، فتلقاه جبريل - عليه السلام - - في الهواء فقال له: ألك حاجة؟ فقال:
أما إليك فلا، وأما إلى الله فبلى.
قلت: قال ابن عطاء الله في " التنوير ": وكن أيها الأخ إبراهيما; إذ زج به في
المنجنيق، فتعرض له جبريل فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى ربى، فبلى،
قال: فاسأله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي، فانظر كيف رفع همته عن الخلق،
ووجهها إلى الملك الحق، فلم يستغث بجبريل، ولا احتال على السؤال، بل رأى ربه
تعالى أقرب إليه من جبريل ومن سؤاله; فلذلك سلمه من نمرود ونكاله، وأنعم عليه بنواله
وأفضاله. انتهى.
وقوله سبحانه: * (قلنا يا نار كوني بردا وسلاما) * قال بعض العلماء فيما روي: إن الله
تعالى لو لم يقل: * (وسلاما لهلك إبراهيم من برد النار، وروي أنه لما وقع في النار سلمه
الله، واحترق الحبل الذي ربط به، وقد أكثر الناس في قصصه فاختصرناه; لعدم صحة
أكثره، وروى: أن إبراهيم عليه السلام كان له بسط وطعام في تلك النار كل ذلك من
الجنة، وروى: أن العيدان أينعت وأثمرت له هناك ثمارها، وروي: أنهم قالوا: أن هذه نار
مسحورة، لا تحرق، فرموا فيها شيخا منهم فاحترق، والله أعلم بما كان من ذلك.
قلت: قال صاحب " غاية المغنم في اسم الله الأعظم " وهو من الأئمة المحدثين،
وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: إنه يكتب للمحموم ويعلق عليه: بسم الله الرحمن
الرحيم، يا الله يا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم * (يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم *
وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين) *، اللهم رب جبريل وميكائيل اشف حاملها بحولك
وقوتك وجبروتك يا ارحم الراحمين. انتهى.
وقوله: * (وسلاما) * معناه: وسلامة، و " الكيد ": هو ما أرادوه من حرقه.
92

وقوله سبحانه: * (ونجيناه ولوطا...) * الآية. روى أن إبراهيم عليه السلام لما خرج
من النار أحضره نمرود، وقال له في بعض قوله: يا إبراهيم، أين جنود ربك الذي تزعم؟
فقال له عليه السلام: سيريك فعل أضعف جنوده، فبعث الله تعالى على نمرود وأصحابه
سحابة من بعوض فأكلتهم عن آخرهم ودوابهم حتى كانت العظام تلوح بيضاء، ودخلت
منها بعوضة في رأس نمرود فكان رأسه يضرب بالعيدان وغيرها، ثم هلك منها، وخرج
إبراهيم وابن أخيه لوط - عليهما السلام - من تلك الأرض مهاجرين، وهي " كوثى " من
العراق، ومع إبراهيم ابنة عمه، سارة زوجته، وفي تلك السفرة لقي الجبار الذي رام
أخذها منه، واختلف في الأرض التي بورك فيها ونحا إليها إبراهيم ولوط
- عليهما السلام - فقالت فرقة: هي مكة، وقال الجمهور: هي الشام، فنزل إبراهيم
بالسبع من ارض فلسطين، وهي برية الشام، ونزل لوط بالمؤتفكة، " والنافلة ": العطية،
وباقي الآية بين، وخبائث قرية لوط هي إتيان الذكور، وتضارطهم في مجالسهم، إلى غير
ذلك من قبيح أفعالهم.
وقوله سبحانه في نوح - عليه السلام -: * (ونصرناه من القوم...) * الآية، لما كان
جل نصرته النجاة، وكانت غلبة قومه بأمر أجنبي منه - حسن أن يقول: " نصرناه من "، ولا
تتمكن هنا " على ".
قال * ص *: عدي " نصرناه " ب‍ " من "; لتضمنه معنى: نجينا، وعصمنا، ومنعنا.
وقال أبو عبيدة: " من " بمعنى " على ".
93

قلت: وهذا أولى، وأما الأول ففيه نظر; لأن تلك الألفاظ المقدمة كلها غير مرادفة
ل‍ " نصرنا "، انتهى.
قلت: وكذا يظهر من كلام ابن هشام: ترجيح الثاني، وذكر هؤلاء الأنبياء - عليهم
السلام - ضرب مثل لقصة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع قومه، ونجاة الأنبياء، وهلاك مكذبيهم
ضمنها توعد لكفار قريش.
وقوله تعالى: * (وداود وسليمان) * المعنى: واذكر داود وسليمان، هكذا قدره جماعة
من المفسرين، ويحتمل أن يكون المعنى: وآتينا داود، " والنفش ": هو الرعي ليلا، ومضى
الحكم في الإسلام بتضمين أرباب النعم ما أفسدت بالليل; لأن على أهلها أن يثقفوها، إلى
وعلى أهل الزروع حفظها بالنهار، هذا هو مقتضى الحديث في ناقة ابن عازب، وهو
مذهب مالك وجمهور الأمة، وفى كتاب ابن سحنون: إن الحديث إنما جاء في أمثال
المدينة التي هي حيطان محدقة، وأما البلاد التي هي زروع متصلة غير محظرة فيضمن
أرباب النعم ما أفسدت بالليل والنهار.
قال * ص *: والضمير في قوله: * (لحكمهم) * يعود على الحاكمين والمحكوم له;
وعليه أبو البقاء.
وقيل: الضمير لداود وسليمان - عليهما السلام - فقط، وجمع; لأن الاثنين جمع.
انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه ": المواشي على قسمين: ضوار، وغير ضوار،
وهكذا قسمها مالك، فالضواري: أبو هي المعتادة بأكل الزرع والثمار، فقال مالك: تغرب
وتباع في بلد لا زرع فيه، ورواه ابن القاسم في الكتاب وغيره.
قال ابن حبيب: وإن كره ذلك أربابها، وكان قول مالك في الدابة التي ضريت بفساد
الزرع أن تغرب وتباع، وأما ما يستطاع الاحتراز منه فلا يؤمر صاحبه بإخراجه عن ملكه،
وهذا بين. انتهى.
وقوله: * (يسبحن) *، اي: يقلن: سبحان الله; هذا قول الأكثر، وذهبت فرقة منهم
94

منذر بن سعيد إلى أنه بمعنى: يصلين معه بصلاته، واللبوس في اللغة: هو السلاح، فمنه
الدرع وغيره.
قال * ص *: و * (لبوس) * معناه: ملبوس; كالركوب بمعنى المركوب; قال الشاعر
[الطويل].
- عليها أسود ضاريات لبوسهم * سوابغ بيض لا تخرقها أو النبل -
* (ولسليمان الريح) * أي: وسخرنا لسليمان الريح، هذا على قراءة [النصب] وقرأت
فرقة " الريح " بالرفع، ويروى أن الريح العاصفة كانت تهب على سرير سليمان الذي فيه
بساطه، وقد مد حول البساط بالخشب والألواح حتى صنع سريرا يحمل جميع عسكره
وأقواته، فتقله من الأرض في الهواء، ثم تتولاه الريح الرخاء بعد ذلك فتحمله إلى حيث
أراد سليمان.
قال * ص *: والعصف: الشدة، والرخاء: اللين. انتهى.
وقوله تعالى: * (إلى الأرض التي باركنا فيها) * اختلف فيها، فقالت فرقة: هي الشام،
وكانت مسكنة وموضع ملكه، وقد قال بعضهم: إن العاصفة هي في القفول على عادة البشر
والدواب في الإسراع إلى الوطن وإن الرخاء كانت في البدأة حيث أصاب، أي: حيث
يقصد; لأن ذلك وقت تأن / وتدبير وتقلب رأي، ويحتمل: أن يريد الأرض التي يسير
إليها سليمان كائنة ما كانت، وذلك أنه لم يكن يسير إلى الأرض إلا أصلحها الله تعالى
به، صلى الله عليه وسلم ولا بركة أعظم من هذا، والغوص: الدخول في الماء والأرض، والعمل دون ذلك
البنيان وغيره من الصنائع والخدمة ونحوها، * (وكنا لهم حافظين) * قيل: معناه: من إفسادهم
ما صنعوه، وقيل: غير هذا.
قلت: وقوله سبحانه: * (وأنت أرحم الراحمين) * هذا الاسم المبارك مناسب لحال
أيوب عليه السلام، وقد روى أسامة بن زيد (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن
لله تعالى ملكا موكلا بمن يقول: يا أرحم الراحمين، فمن قالها ثلاثا، قال له الملك: إن
95

أرحم الراحمين قد أقبل عليك; فاسئل " رواه الحاكم في " المستدرك "، وعن أنس بن
مالك (رضي الله عنه) قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل، وهو يقول: يا أرحم الراحمين،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل; فقد نظر الله " إليك رواه الحاكم، انتهى من " السلاح ".
وفى قصص أيوب عليه السلام طول واختلاف، وتلخيص بعض ذلك: أن أيوب عليه
السلام أصابه الله تعالى بأكلة في بدنه، فلما عظمت، وتقطع بدنه، أخرجه الناس من
بينهم، ولم يبق معه غير زوجته، ويقال: كانت بنت يوسف الصديق عليه السلام قيل:
اسمها رحمة، وقيل في أيوب: أنه من بني إسرائيل وقيل: إنه من " الروم " من قرية
" عيصو " فكانت زوجته تسعى عليه، وتأتيه بما يأكل، وتقوم عليه، ودام عليه ضره مدة
طويلة، وروي أن أيوب (عليه السلام) * لم يزل صابرا شاكرا، لا يدعو في كشف ما به،
حتى إن الدودة تسقط منه فيردها، فمر به قوم كانوا يعادونه فشمتوا به; فحينئذ دعا ربه
سبحانه فاستجاب له، وكانت امرأته غائبة عنه في بعض شأنها، فأنبع الله تعالى له عينا،
وأمر بالشرب منها فبرئ باطنه، وأمر بالاغتسال فبرئ ظاهره، ورد إلى أفضل جماله،
وأوتي بأحسن ثياب، وهب عليه رجل من جراد من ذهب فجعل يحتقن منه في ثوبه،
فناداه ربه سبحانه وتعالى: " يا أيوب ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ فقال: بلى يا رب، ولكن
لا غنى بي عن بركتك " فبينما هو كذلك إذ جاءت امرأته، فلم تره في الموضع، فجزعت
وظنت أنه أزيل عنه، فجعلت تتوله رضي الله عنها، فقال لها، ما شأنك أيتها المرأة؟
فهابته; لحسن هيئته، وقالت: إني فقدت مريضا لي في هذا الموضع، ومعالم المكان
قد تغيرت، وتأملته في أثناء المقاولة فرأت أيوب، فقالت له: أنت أيوب؟ فقال لها:
نعم، وأعتنقها، وبكى، فروي أنه لم يفارقها حتى أراه الله جميع ماله حاضرا بين يديه.
واختلف الناس في أهله وولده الذين آتاه الله، فقيل: كان ذلك كله في الدنيا فرد الله عليه
ولده بأعيانهم، وجعل مثلهم له عدة في الآخرة، وقيل: بل أوتي جميع ذلك في الدنيا من
أهل ومال.
* ت *: وقد قدم * ع * في صدر القصة: إن الله سبحانه أذن لإبليس (لعنه الله)
96

في إهلاك مال أيوب، وفى إهلاك بنيه وقرابته، ففعل ذلك أجمع، والله أعلم بصحة ذلك،
ولو بصحة لوجب تأويله.
وقوله سبحانه: * (وذكرى للعابدين) * أي: وتذكرة وموعظة للمؤمنين، ولا يعبد الله
إلا مؤمن.
وقوله سبحانه: * (وإسماعيل وإدريس) * المعنى: واذكر إسماعيل، وقوله سبحانه:
* (وذا النون إذ ذهب مغاضبا) * التقدير واذكر ذا النون، قال السهيلي: لما ذكر الله تعالى
يونس هنا في معرض الثناء، قال: * (وذا النون) *، وقال في الآية الأخرى: * (ولا تكن
كصاحب الحوت) * [القلم: 48] / والمعنى واحد، ولكن بين اللفظين تفاوت كثير في حسن
الإشارة إلى الحالتين، وتنزيل الكلام في الموضعين والإضافة بذي أشرف من الإضافة
بصاحب; لأن قولك: ذو يضاف بها إلى التابع، وصاحب يضاف بها إلى المتبوع.
انتهى.
والنون: الحوت، والصاحب: يونس بن متى - عليه السلام - وهو نبي من أهل
نينوى.
وقوله: * (مغاضبا) * قيل: إنه غاضب قومه حين طال عليه أمرهم وتعنتهم، فذهب فارا
بنفسه، وقد كان الله تعالى أمره بملازمتهم والصبر على دعائهم، فكان ذلك ذنبه، أي: في
خروجه عن قومه بغير إذن ربه.
قال عياض: والصحيح في قوله تعالى: * (إذ ذهب مغاضبا) * أنه مغاضب لقومه;
لكفرهم، وهو قول ابن عباس، والضحاك وغيرهما، لا لربه; إذ مغاضبة الله تعالى معاداة له، ومعاداة الله كفر لا يليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء - عليهم السلام -؟! وفرار
97

يونس عليه السلام خشية تكذيب قومه بما وعدهم به من العذاب.
وقوله سبحانه: * (فظن أن لن نقدر عليه) * معناه: أن لن نضيق عليه، وقيل: معناه:
نقدر عليه ما أصابه، وقد قرئ " نقدر " عليه بالتشديد، وذلك، كما قيل لحسن ظنه بربه:
أنه لا يقضي عليه بعقوبة، وقال عياض في موضع آخر: وليس في قصة يونس عليه السلام
نص على ذنب، وإنما فيها أبق وذهب مغاضبا، وقد تكلمنا عليه، وقيل: إنما نقم الله -
تعالى - عليه خروجه عن قومه، فارا من نزول العذاب. وقيل: بل لما وعدهم العذاب، ثم
عفا الله عنهم، قال والله لا ألقاهم بوجه كذاب أبدا، وهذا كله ليس فيه نص على
معصية. انتهى.
وقوله سبحانه: * (فظن أن لن نقدر عليه) *. قالت فرقة: معناه: أن لن نضيق عليه في
مذهبه; من قوله تعالى: * (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * [الرعد: 26]، وقرأ الزهري:
" نقدر " بضم النون، وفتح القاف، وشد الدال، ونحوه عن الحسن.
وروي: أن يونس عليه السلام سجد في جوف الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في
قعر البحر.
وقوله: * (إني كنت من الظالمين) *: يريد فيما خالف فيه من ترك ملازمة قومه والصبر
عليهم، هذا أحسن الوجوه، فاستجاب الله له.
* ت * وليس في هذه الكلمة ما يدل أنه اعترف بذنب، كما أشار إليه بعضهم، وفى
الحديث الصحيح: " دعوة أخي ذي النون، في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك،
إني كنت من الظالمين) * ما دعا بها عبد مؤمن - أو قال: مسلم -، إلا استجيب له "
98

الحديث، انتهى. وعن سعد ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: * (لا إله إلا
أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) * أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في
مرضه ذلك - أعطى أجر شهيد، وإن برئ وقد غفر الله له جميع ذنوبه " أخرجه
الحاكم في " المستدرك "، انتهى من " السلاح ".
وذكر صاحب " السلاح " أيضا عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت، سبحانك إني كنت من
الظالمين; فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شئ قط إلا استجاب الله تعالى له " رواه
الترمذي، واللفظ له، والنسائي والحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح الإسناد، وزاد فيه
من طريق آخر: " فقال رجل: يا رسول الله، هل كانت ليونس خاصة، أم للمؤمنين عامة؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا تسمع إلى قول الله عز وجل: * (ونجيناه من الغم وكذلك ننجي
المؤمنين) * ". انتهى.
والغم: ما كان ناله حين التقمه الحوت.
وقوله سبحانه: / * (وزكريا إذ نادى ربه...) * الآية تقدم أمر زكرياء.
وقوله سبحانه: * (وأصلحنا له زوجه) * قيل: بأن جعلت ممن تحمل وهي عاقر قاعد،
وعموم اللفظ يتناول جميع الإصلاح.
وقوله تعالى: * (ويدعوننا رغبا ورهبا) * المعنى: أنهم يدعون في وقت تعبداتهم، أن وهم
بحال رغبة ورجاء، ورهبة وخوف في حال واحدة; لأن الرغبة والرهبة متلازمان،
والخشوع: التذلل بالبدن المتركب على التذلل بالقلب.
قال القشيري في " رسالته ": سئل الجنيد عن الخشوع فقال: تذلل القلوب لعلام
الغيوب، قال سهل بن عبد الله: من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان. انتهى.
99

وقوله سبحانه: * (والتي أحصنت فرجها) * المعنى: واذكر التي أحصنت فرجها، وهي
الجارحة المعروفة، هذا قول الجمهور، وفى إحصانها هو المدح، وقالت فرقة: الفرج هنا
هو فرج ثوبها [الذي منه نفخ الملك]. وهذا قول ضعيف، وقد تقدم أمرها.
* ت *: وعكس (رحمه الله) في سورة التحريم النقل، فقال: قال الجمهور: هو
فرج الدرع.
وقوله تعالى: * (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) * يحتمل أن يكون
منقطعا خطابا لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم ثم أخبر عن الناس أنهم تقطعوا، ثم وعد وأوعد،
ويحتمل أن يكون متصلا بقصة مريم وابنها - عليهما السلام -.
* ص *: أبو البقاء: * (وتقطعوا أمرهم) * أي، في أمرهم، يريد أنه منصوب على
إسقاط حرف الجر.
وقيل: عدي بنفسه; لأنه بمعنى قطعوا، أي فرقوا، انتهى.
وقال البخاري: * (أمتكم أمة واحدة) *، أي: دينكم دين واحد. انتهى.
وقرأ جمهور السبعة: " وحرام "، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم:
" وحرم " - بكسر الحاء وسكون الراء - وهما مصدران بمعنى، فأما معنى الآية، فقالت فرقة:
حرام وحرم معناه: جزم وحتم، فالمعنى: وحتم على قرية أهلكناها، أنهم لا يرجعون إلى
الدنيا فيتوبون ويستعتبون، بل هم صائرون إلى العقاب.
وقالت طائفة: حرام وحرم، أي: ممتنع.
100

وقوله سبحانه: * (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون...) *
الآية، تحتمل " حتى " في هذه الآية أن تتعلق ب‍ * (يرجعون) *، وتحتمل أن تكون حرف
ابتداء، وهو الأظهر بسبب " إذا "; لأنها تقتضي جوابا، واختلف هنا في الجواب، والذي
أقول به: أن الجواب [في قوله] * (فإذا هي شاخصة) * وهذا هو المعنى الذي قصد ذكره.
قال * ص *: قال أبو البقاء: * (حتى إذا) * متعلقة في المعنى ب‍ * (حرام) * أي: يستمر
الامتناع إلى هذا الوقت، ولا عمل لها في " إذا ". انتهى.
وقرأ الجمهور: " فتحت " بتخفيف التاء، وقرأ ابن عامر وحده " فتحت " بالتشديد،
وروي أن يأجوج ومأجوج يشرفون في كل يوم على الفتح، فيقولون: غدا نفتح، ولا يردون
المشيئة إلى الله تعالى، فإذا كان غد وجدوا الردم كأوله حتى إذا أذن الله تعالى في فتحه،
قال قائلهم: غدا نفتحه إن شاء الله تعالى، فيجدونه كما تركوه قريب الانفتاح فيفتحونه
حينئذ.
* ت * وقد تقدم في " سورة الكهف " كثير من أخبار يأجوج ومأجوج فأغنانا عن
إعادته، وهذه عادتنا في هذا المختصر أسأل الله تعالى أن ينفعنا وإياكم به، ويجعله لنا نورا
بين أيدينا، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والحدب: كل مسنم من
الأرض، كالجبل والظرب والكدية، والقبر ونحوه.
وقالت فرقة: المراد بقوله: * (وهم) * يأجوج ومأجوج، يعنى أنهم يطلعون من كل ثنية
ومرتفع ويملأون الأرض من كثرتهم.
وقالت فرقة: المراد بقوله: " وهم " جميع العالم، وإنما هو تعريف بالبعث من
القبور.
101

وقرأ ابن مسعود: " وهم من كل جدث " بالجيم والثاء المثلثة، وهذه القراءة تؤيد
/ هذا التأويل، و * (ينسلون) *: معناه: يسرعون في تطامن، وأسند الطبري عن أبي سعيد
قال: " يخرج يأجوج ومأجوج فلا يتركون أحدا إلا قتلوه، إلا أهل الحصون، فيمرون على
بحيرة طبرية فيمر آخرهم فيقول: كان هنا مرة ماء، قال فيبعث الله عليهم النغف حتى تكسر
أعناقهم، فيقول أهل الحصون: لقد هلك أعداء الله، فيدلون رجلا ينظر، فيجدهم قد
هلكوا، قال: فينزل الله من السماء ماء فيقذف بهم في البحر، فيطهر الله الأرض منهم "
وفي حديث حذيفة نحو هذا، وفي آخره قال: وعند ذلك طلوع الشمس من مغربها.
وقوله سبحانه: * (واقترب الوعد الحق) * يريد يوم القيامة.
وقوله: * ([فإذا] هي) *: مذهب سيبويه أنها ضمير القصة، وجوز الفراء أن تكون
ضمير الإبصار تقدمت; لدلالة الكلام، ومجئ ما يفسرها، والشخوص بالبصر إحداد النظر
دون أن يطرف، وذلك يعتري من الخوف المفرط ونحوه، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم...) * الآية: هذه الآية
مخاطبة لكفار مكة، أي: إنكم وأصنامكم حصب جهنم، والحصب: ما توقد به النار; إما
102

لأنها تحصب به، أي: ترمى، وإما أن يكون لغة في الحطب إذا رمي، وأما قبل أن يرمى
فلا يسمى حصبا إلا بتجوز، وحرق الأصنام بالنار على جهة التوبيخ لعابديها، ومن حيث
تقع " ما " لمن يعقل في بعض المواضع، اعترض في هذه الآية عبد الله بن الزبعرى على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عيسى وعزيرا ونحوهما قد عبدا من دون الله، فيلزم ان يكونوا
حصبا لجهنم; فنزلت: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى) * الآية. والورود في هذه الآية:
ورود الدخول، والزفير: صوت المعذب، وهو كنهيق الحمير وشبهه إلا أنه من الصدر.
وقوله سبحانه: * (لا يسمعون حسيسها) * هذه صفة الذين سبقت لهم الحسنى، وذلك
بعد دخولهم الجنة; لأن الحديث يقتضي أن في الموقف تزفر جهنم زفرة لا يبقى نبي ولا
ملك إلا جثا على ركبتيه، قال البخاري: الحسيس والحس: واحد، وهو الصوت
الخفي، انتهى. والفزع الأكبر عام في كل هول يكون يوم القيامة، فكأن يوم القيامة بجملته
هو الفزع الأكبر.
وقوله سبحانه: * (وتتلقاهم الملائكة) * يريد: بالسلام عليهم والتبشير لهم، أي: هذا
يومكم الذي وعدتم فيه الثواب والنعيم، و * (السجل) * في قول فرقة: هو الصحيفة التي
يكتب فيها، والمعنى: كما يطوى السجل من أجل الكتاب الذي فيه، فالمصدر مضاف إلى
المفعول; وهكذا قال البخاري: السجل: الصحيفة، انتهى، وما خرجه أبو داود في
" مراسيله " من أن السجل: اسم رجل من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال السهيلي فيه: هذا غير
معروف. انتهى.
103

وقوله سبحانه: * (كما بدأنا أول خلق نعيده) * يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون
خبرا عن البعث، أي كما اخترعنا الخلق أولا على غير مثال كذلك ننشئهم قال تارة أخرى،
فنبعثهم من القبور.
والثاني أن يكون خبرا عن أن كل شخص يبعث يوم القيامة على هيئته التي خرج بها
إلى الدنيا، ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " يحشر / الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا * (كما بدأنا
أول خلق نعيده) * ".
وقوله: * (كما بدأنا) * الكاف متعلقة بقوله: * (نعيده) *، وقالت فرقة: * (الزبور) * هنا
يعم جميع الكتب المنزلة; لأنه مأخوذ من: زبرت الكتاب إذا كتبته، و * (الذكر) * أراد به
اللوح المحفوظ، وقالت فرقة: * (الزبور) * هو زبور داود عليه السلام، و * (الذكر) *:
التوراة.
وقالت فرقة: * (الزبور) *: ما بعد التوراة من الكتب، و * (الذكر) *: التوراة.
وقالت فرقة: * (الأرض) * هنا: أرض الدنيا، أي: كل ما يناله المؤمنون من الأرض،
وقالت فرقة: أراد ارض الجنة، واستشهدوا بقوله تعالى: * (وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة
حيث نشأ) * [الزمر: 74].
وقوله سبحانه: * (إن في هذا لبلاغا) *: الإشارة ب‍ " هذا " إلى هذه الآيات المتقدمة في
قول فرقة.
104

وقالت فرقة: الإشارة إلى القرآن بجملته، والعبادة تتضمن الإيمان.
وقوله سبحانه: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) *: قالت فرقة: هو صلى الله عليه وسلم رحمة
للعالمين عموما، أما للمؤمنين فواضح، وأما للكافرين فلأن الله تعالى رفع عنهم ما كان
يصيب الأمم والقرون السابقة قبلهم من التعجيل بأنواع العذاب المستأصلة; كالطوفان
وغيره.
وقوله * (آذنتكم) * معناه: عرفتكم بنذارتي، وأردت أن تشاركوني في معرفة ما عندي
من الخوف عليكم من الله تعالى، وقال البخاري: * (آذنتكم) *: أعلمتكم، فإذا أعلمتهم
فأنت وهم على سواء، انتهى، ثم أخبر أنه لا يعرف تعيين وقت لعقابهم، هل هو قريب أم
بعيد؟ وهذا أهول وأخوف.
قال * ص *: * (وإن أدري) * بمعنى: ما أدري، انتهى. والضمير في قوله: * (لعلة) *
عائد على الإملاء لهم، و * (فتنة) * معناه: امتحان وابتلاء، وال‍ * (متاع) *: ما يستمتع به مدة
الحياة الدنيا، ثم أمره تعالى أن يقول على جهة الدعاء: * (رب احكم بالحق) * وهذا دعاء فيه
توعد، ثم توكل في آخر الآية واستعان بالله تعالى; قال الداودي: وعن قتادة: أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا شهد قتالا قال: * (رب احكم بالحق) *. انتهى.
105

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحج
و [هي] مكية
سوى ثلاث آيات وهي: * (هذا خصمان) * إلى تمام ثلاث آيات، هذا قول ابن
عباس، ومجاهد.
وقال الجمهور: السورة مختلطة، منها مكي ومنها مدني، وهذا هو الأصح; لأن
الآيات تقتضي ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم) * الزلزلة:
التحريك العنيف، وذلك مع نفخة الفزع، ومع نفخة الصعق; حسبما تضمنه حديث أبي
هريرة من ثلاث نفخات، والجمهور على أن " زلزلة الساعة " هي كالمعهودة سنة في الدنيا إلا أنها
في غاية الشدة، واختلف المفسرون في الزلزلة المذكورة، هل هي في الدنيا على القوم
الذين تقوم عليهم القيامة، أم هي في يوم القيامة على جميع العالم؟ فقال الجمهور: [هي
في الدنيا، والضمير في * (ترونها) * عائد عندهم على الزلزلة، وقوى قولهم أن الرضاع]
والحمل إنما هو في الدنيا، وقالت فرقة: الزلزلة في يوم القيامة، والضمير عندهم عائد على
الساعة، والذهول: الغفلة عن الشئ بطريان ما يشغل عنه من هم أو وجع أو غيره; قال
106

ابن زيد: المعنى: تترك ولدها للكرب الذي نزل بها.
/ قلت: وخرج البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله
عز وجل يوم القيامة: يا آدم، فيقول: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال:
يا رب، وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى
الجنة، فحينئذ تضع الحامل حملها، ويشيب الوليد، وترى الناس سكارى، وما هم
بسكارى ولكن عذاب الله شديد " الحديث. انتهى.
وهذا الحديث نص صريح في أنه يوم القيامة، وانظر قوله:: يوما يجعل الولدان
شيبا) * [المزمل: 17]، وقوله: * (وإذا العشار عطلت) * [التكوير: 4] تجده موافقا للحديث، وجاء
في حديث أبي هريرة فيما ذكره علي بن معبد: " أن نفخة الفزع تمتد، وأن ذلك يوم الجمعة
في النصف من شهر رمضان، فيسير الله الجبال، فتمر مر السحاب، ثم تكون سرابا، ثم
ترتج الأرض بأهلها رجا، وتضع الحوامل ما في بطونها، ويشيب الولدان، ويولي الناس
مدبرين، ثم ينظرون إلى السماء، فإذا هي كالمهل، ثم انشقت "، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والموتى لا يعلمون شيئا من ذلك، قلت: يا رسول الله، فمن استثنى الله عز وجل
يقول: * (ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) *؟ قال: أولئك هم
الشهداء ". انتهى مختصرا، وهذا الحديث ذكره الطبري، والثعلبي، وصححه ابن
العربي في " سراج المريدين ".
107

وقال عبد الحق: بل هو حديث منقطع، لا يصح، والذي عليه المحققون أن هذه
الأهوال هي بعد البعث، قاله صاحب " التذكرة " وغيره، انتهى.
والحمل: - بفتح الحاء - ما كان في بطن أو على رأس شجرة.
وقوله سبحانه: * (وترى الناس سكارى) * تشبيها لهم، أي: من الهم، ثم نفى عنهم
السكر الحقيقي الذي هو من الخمر، قاله الحسن وغيره، وقرأ حمزة والكسائي:
" سكرى " في الموضعين.
قال سيبويه: وقوم يقولون: سكرى جعلوه مثل مرضى، ثم جعلوا: روبى مثل
سكرى، وهم المستثقلون قبل نوما من شرب الرائب.
وقوله سبحانه: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد) *.
قال ابن جريج: هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث وأبي بن خلف، وقيل في أبي
جهل بن هشام، ثم هي بعد تتناول كل من اتصف بهذه الصفة، ومجادلتهم في أن الله
تعالى لا يبعث من يموت، والشيطان هنا هو مغويهم من الجن، ويحتمل من الأنس،
والمريد: المتجرد من الخير للشر، ومنه الأمرد، وشجرة مرداء، أي: عارية من الورق،
وصرح ممرد، أي: مملس، والضمير في * (عليه) * عائد على الشيطان; قاله قتادة،
ويحتمل لان يعود على المجادل، وأنه في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله،
و " أنه " الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها، وقيل: هي مكررة للتأكيد فقط، وهذا
معترض بأن الشئ لا يؤكد إلا بعد تمامه، وتمام " أن " الأولى إنما هو بصلتها في قوله:
108

* (السعير) * وكذلك لا يعطف عليه، ولسيبويه في مثل هذا: أنه بدل، وقيل: " إنه " الثانية
خبر مبتدأ محذوف تقديره: فشأنه أنه يضله.
قال * ع *: ويظهر لي أن الضمير في * (أنه) * الأولى للشيطان، وفي الثانية لمن
الذي هو المتولي، وقرأ أبو عمرو: " فإنه " بالكسر فيهما.
وقوله عز وجل: * (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث...) * الآية: هذا احتجاج
على العالم بالبدأة الأولى، وضرب سبحانه وتعالى في هذه الآية مثلين، إذا اعتبرهما الناظر
جوز في العقل البعثة / من القبور، ثم ورد الشرع بوقوع ذلك.
وقوله: * (فإنا خلقناكم من تراب) * يريد آدم عليه السلام.
* (ثم من نطفة) * يريد: المنى، والنطفة: تقع على قليل الماء وكثيره.
* (ثم من علقة) * يريد: من الدم الذي تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة،
والعلق الدم الغليظ، وقيل: العلق الشديد الحمرة.
* (ثم من مضغة) * يريد مضغة لحم على قدر ما يمضغ.
وقوله: * (مخلقة) * معناه: متممة، * (وغير مخلقة) * غير متممة، أي: التي تسقط، قاله
مجاهد وغيره، فاللفظة بناء مبالغة من خلق، ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة، وكل
واحد منها مختص بخلق - - حسن في جملته تضعيف الفعل; لأن فيه خلقا كثيرا.
109

وقوله سبحانه: * (لنبين لكم) * قالت فرقة: معناه أمر البعث، * (ونقر) * أي: ونحن نقر
في الأرحام، والأجل المسمى مختلف بحسب حين حين، فثم من يسقط، وثم من يكمل
أمره ويخرج حيا.
وقوله سبحانه: * (ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من
يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) * قد تقدم بيان هذه المعاني، والرد إلى
أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه، واختلال العقل والقوة، فهذا مثال واحد يقتضي
للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل، المتقن لها - قادر على إعادة تلك الأجساد التي
أوجدها بهذه المناقل، إلى حالها الأولى.
وقوله عز وجل: * (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت
من كل زوج بهيج) * هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعث الأجساد;
وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين; فكذلك الأجساد، و * (هامدة) *: معناه: ساكنة دارسة
بالية، واهتزاز الأرض: هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء، * (وربت) *:
معناه: نشزت وارتفعت; ومنه الربوة وهي المكان المرتفع، والزوج: النوع، والبهيج: من
البهجة، وهي الحسن; قاله قتادة وغيره.
وقوله: * (ذلك) * إشارة إلى كل ما تقدم ذكره، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: * (ومن الناس من يجادل في الله بغير علم...) * الآية، الإشارة
بقوله: * (ومن الناس) * إلى القوم الذين تقدم ذكرهم، وكرر هذه الآية; على جهة التوبيخ
فكأنه يقول: فهذه الأمثال في غاية الوضوح، ومن الناس مع ذلك من يجادل، و * (ثاني) *:
حال من الضمير في * (يجادل) *.
110

وقوله: * (ثاني عطفه) *: عبارة عن المتكبر المعرض; قاله ابن عباس وغيره;
وذلك أن صاحب الكبر يرد وجهه عمن يتكبر عنه، فهو برد وجهه يصعر خده، ويولي
صفحته، ويلوي عنقه، ويثني عطفه، وهذه هي عبارات المفسرين، والعطف: الجانب.
وقوله تعالى: * (ذلك بما قدمت يداك) * أي: يقال له ذلك، واختلف في الوقف على:
* (يداك) * فقيل: لا يجوز: لأن التقدير: وبأن الله، أي: أن هذا هو العدل فيك بجرائمك.
وقيل: يجوز بمعنى: والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد.
وقوله سبحانه: * (ومن الناس من يعبد الله على حرف...) * الآية نزلت في إعراب،
وقوم لا يقين لهم; كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له اتفاقات حسان: من نمو مال، وولد
يرزقه، وغير ذلك - قال: هذا دين جيد، وتمسك به لهذه المعاني، وإن كان الأمر بخلاف
ذلك، تشاءم به، وارتد; كما فعل العرنيون، قال هذا المعنى ابن عباس وغيره.
وقوله: * (على حرف) * معناه: على انحراف منه عن العقيدة البيضاء، وقال البخاري:
* (على حرف) *: على شك، ثم أسند عن ابن عباس ما تقدم من حال الأعراب، / انتهى.
وقوله: * (يدعوا من دون الله ما لا يضره) * يريد الأوثان، ومعنى * (يدعو) *: يعبد،
ويدعو أيضا في ملماته، واللام في قوله: * (لمن ضره) *: لام مؤذنة بمجيء القسم، والثانية
في * (لبيس) *: لام القسم، و * (العشير) *: القريب المعاشر في الأمور.
111

* ت * وفى الحديث في شأن النساء: " ويكفرن العشير " يعني الزوج.
قال أبو عمر بن عبد البر: قال أهل اللغة: العشير: الخليط من المعاشرة
والمخالطة، ومنه قوله عز وجل: * (لبئس المولى ولبئس العشير) * انتهى من " التمهيد "، والذي
يظهر: أن المراد بالمولى والعشير هو الوثن الذي ضره أقرب من نفعه، وهو قول مجاهد،
ثم عقب سبحانه بذكر حالة أهل الإيمان وذكر ما وعدهم به فقال: * (إن الله يدخل الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار...) * الآية، ثم أخذت الآية في توبيخ
أولئك الأولين كأنه يقول: هؤلاء العابدون على حرف صحبهم القلق، وظنوا أن الله تعالى لن
ينصر محمدا وأتباعه، ونحن إنما أمرناهم بالصبر وانتظار وعدنا، فمن ظن غير ذلك فليمدد
بسبب، وهو الحبل وليختنق ولم هل يذهب بذلك غيظه؟ قال هذا المعنى قتادة، وهذا على
جهة المثل السائر في قولهم: " دونك الحبل فاختنق "، و * (السماء) * على هذا القول: الهواء
علوا، فكأنه أراد سقفا أو شجرة، ولفظ البخاري: وقال ابن عباس: " بسبب إلى سقف
البيت "، انتهى، والجمهور على أن القطع هنا هو الاختناق.
قال الخليل: وقطع الرجل: إذا اختنق بحبل ونحوه، ثم ذكر الآية، ويحتمل المعنى
من ظن أن محمدا لا ينصر فليمت كمدا; هو منصور لا محالة، فليختنق هذا الظان غيطا
وكمدا، ويؤيد هذا: أن الطبري والنقاش قالا: ويقال: نزلت في نفر من بني أسد وغطفان،
قالوا: نخاف ألا ينصر محمد; فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من يهود من المنافع،
والمعنى الأول الذي قيل للعابدين على حرف - ليس بهذا; ولكنه بمعنى: من قلق واستبطأ
النصر، وظن أن محمدا لا ينصر فليختنق سفاهة; إذ تعدى الأمر الذي حد له في الصبر
وانتظار صنع الله، وقال مجاهد: الضمير في * (ينصره) * عائد على * (من) * والمعنى: من كان
من المتقلقين أهل من المؤمنين، وما في قوله: * (ما يغيظ) * بمعنى الذي، ويحتمل أن تكون
مصدرية حرفا; فلا عائد عليها، وأبين الوجوه في الآية: التأويل الأول وباقي الآية بين.
وقوله: * (وكثير من الناس) *، أي: ساجدون مرحومون بسجودهم، وقوله: * (وكثير
112

حق عليه العذاب) * معادل له، ويؤيد هذا قوله تعالى بعد هذا: * (ومن يهن الله فما له من
مكرم) * الآية.
وقوله سبحانه: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم...) * الآية، نزلت هذه الآية في
المتبارزين يوم بدر، وهم ستة نفر: حمزة، وعلى، وعبيدة بن الحارث (رضي الله عنهم)
برزوا لعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وشيبة بن ربيعة، قال علي بن أبي طالب: أنا أول
من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله تعالى، وأقسم أبو ذر على هذا القول ووقع
في " صحيح البخاري " (رحمه الله تعالى): أن الآية فيهم، وقال ابن عباس: الإشارة إلى
المؤمنين وأهل الكتاب; وذلك أنه وقع بينهم تخاصم، فقالت اليهود: نحن أقدم دينا
منكم، ونحو هذا; فنزلت الآية، وقال مجاهد وجماعة: الإشارة إلى المؤمنين والكفار
على العموم.
قال * ع *: وهذا قول تعضده الآية; وذلك أنه تقدم قوله: * (وكثير من الناس) *
المعنى: هم مؤمنون ساجدون، ثم قال تعالى: * (وكثير حق عليه العذاب) * /، ثم أشار
إلى هذين الصنفين بقوله: * (هذان خصمان) * والمعنى: أن الإيمان وأهله، والكفر وأهله -
خصمان مذ كانا إلى يوم القيامة بالعداوة والجدال والحرب، وخصم مصدر يوصف به
الواحد والجمع، ويدل على أنه أراد الجمع قوله: * (اختصموا) *; فإنه قراءة الجمهور
وقرأ ابن أبي عبلة: " اختصما ".
113

* ت *: وهذه التأويلات متفقات في المعنى، وقد ورد أن أول ما يقضى به بين الناس
يوم القيامة في الدماء، ومن المعلوم أن أول مبارزة وقعت في الإسلام مبارزة علي
وأصحابه، فلا جرم كانت أول خصومة وحكومة يوم القيامة; وفي " صحيح مسلم "
عنه صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة; المقضي لهم قبل الخلائق "
وفى رواية: " المقضي بينهم ".
وقوله: * (في ربهم) * أي: في شأن ربهم وصفاته وتوحيده، ويحتمل في رضى ربهم
وفي ذاته.
وقال * ص *: * (في ربهم) * أي: في دين ربهم، انتهى، ثم بين سبحانه حكم
الفريقين، فتوعد تعالى الكفار بعذابه الأليم، و * (قطعت) * معناه جعلت لهم بتقدير كما
يفصل الثوب، وروي: أنها من نحاس، و * (يصهر) * معناه: يذاب، وقيل: معناه: ينضج;
قيل: إن الحميم بحرارته يهبط كل ما في الجوف ويكشطه، حديث ويسلته، عند وقد روى أبو هريرة
نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه يسلته، ويبلغ به قدميه، ويذيبه ثم يعاد كما كان ".
وقوله سبحانه: * (كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) * روي فيه: أن
لهب النار إذا ارتفع رفعهم; فيصلون إلى أبواب النار، فيريدون الخروج، فتردهم الزبانية
بمقامع الحديد، وهي المقارع.
وقوله سبحانه: * (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات...) * الآية
معادلة لقوله: * (فالذين كفروا) * [الحج: 19] واللؤلؤ: الجوهر، وأخبر سبحانه: بأن لباسهم
فيها حرير; لأنه من أكمل حالات الدنيا; قال ابن عباس: لا تشبه أمور الآخرة أمور
الدنيا إلا في الأسماء فقط، وأما الصفات فمتباينة، والطيب من القول: لا إله إلا الله وما
114

جرى معها من ذكر الله وتسبيحه، وتقديسه، وسائر كلام أهل الجنة من محاورة وحديث
طيب; فإنها لا تسمع فيها لاغية، و * (صراط الحميد) * هو طريق الله الذي دعا عباده إليه،
ويحتمل أن يريد بالحميد نفس الطريق، فأضاف إليه على حد إضافته في قوله: * (دار
الآخرة) *، وقال البخاري: * (وهدوا إلى الطيب) *: أي: ألهموا إلى قراءة القرآن،
* (وهدوا إلى صراط الحميد) *: أي: إلى الإسلام، انتهى.
وقوله سبحانه * (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) * هذه الآية نزلت عام
الحديبية حين صد النبي صلى الله عليه وسلم وجاء * (يصدون) *; مستقبلا; إذ هو فعل يديمونه وخبر * (إن) *
محذوف مقدر عند قوله: و * (الباد) *: تقديره: خسروا أو هلكوا. و * (العاكف) *: المقيم في
البلد، و " البادي ": القادم عليه من غيره.
وقوله: * (بإلحاد) * قال أبو عبيدة: الباء فيه زائدة.
* ت * قال ابن العربي في " أحكامه ": وجعل الباء زائدة لا يحتاج إليه في سبيل
العربية; لأن حمل المعنى على القول أولى من حمله على الحروف، فيقال: المعنى ومن
يهم فيه بميل، لأن الإلحاد هو الميل في اللغة، إلا أنه قد صار في عرف الشرع ميلا
مذموما، فرفع الله الإشكال، وبين سبحانه أن الميل بالظلم هو المراد هنا، انتهى.
/ قال * ع *: والإلحاد الميل وهو يشمل جميع المعاصي من الكفر إلى الصغائر،
فلعظم حرمة المكان توعد الله تعالى على نية السيئة فيه، ومن نوى سيئة ولم يعملها - لم
115

يحاسب بذلك إلا في مكة. هذا قول ابن مسعود وجماعة من الصحابة وغيرهم.
قال * ص *: وقوله: * (أن لا تشرك) *: أن: مفسرة لقول مقدر، أي: قائلين له، أو
موحين له: لا تشرك، وفي التقدير الأول نظر فانظره، انتهى.
وقوله تعالى: * (وطهر بيتي للطائفين والقائمين...) * الآية: تطهير البيت عام في
الكفر، والبدع، وجميع الأنجاس، والدماء، وغير ذلك، * (والقائمين) *: هم المصلون،
وخص سبحانه بالذكر من أركان الصلاة أعظمها، وهو القيام والركوع والسجود، وروي:
" أن إبراهيم - عليه [الصلاة] والسلام - لما أمر بالأذان بالحج - قال: يا رب، وإذا أذنت،
فمن يسمعني؟ فقيل له: ناد يا إبراهيم، فعليك النداء وعلينا البلاغ; فصعد على أبي
قبيس، وقيل: على حجر المقام، ونادى: أيها الناس، إن الله تعالى قد أمركم بحج هذا
البيت; فحجوا، فروي أن يوم نادى أسمع كل من يحج إلى يوم القيامة في أصلاب
الرجال، وأجابه كل شئ في ذلك الوقت: من جماد، وغيره: لبيك اللهم لبيك; فجرت
التلبية على ذلك ". قاله ابن عباس، وابن جبير، و * (رجالا) *: جمع راجل،
وال‍ * (ضامر) *: قالت فرقة: أراد بها الناقة; وذلك أنه يقال: ناقة ضامر، وقالت فرقة: لفظ
" ضامر " يشمل كل من اتصف بذلك من جمل، أو ناقة، وغير ذلك.
قال * ع *: وهذا هو الأظهر، وفي تقديم * (رجالا) * تفضيل للمشاة في الحج;
وإليه نحا ابن عباس.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: * (يأتين) * رد الضمير إلى الإبل; تكرمة
لها لقصدها الحج مع أربابها; كما قال تعالى: * (والعاديات ضبحا) * [العاديات: 1]. في خيل
الجهاد; تكرمة لها حين سعت في سبيل الله، انتهى. والفج: الطريق الواسعة، والعميق:
116

معناه: البعيد; قال الشاعر [الطويل]:
- - إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة * يمد بها في السير أشعث شاحب -
وال‍ * (منافع) * في هذه الآية التجارة في قول أكثر المتأولين، ابن عباس وغيره،
وقال أبو جعفر محمد بن علي: أراد الأجر ومنافع الآخرة، وقال مجاهد بعموم
الوجهين.
* ت *: وأظهرها عندي قول أبى جعفر; يظهر ذلك من مقصد، الآية والله أعلم.
وقال ابن العربي: الصحيح: القول بالعموم، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة
الأنعام) * ذهب قوم إلى: أن المراد ذكر اسم الله على النحر والذبح، وقالوا: إن في ذكر
الأيام دليلا على أن الذبح في الليل لا يجوز، وهو مذهب مالك وأصحاب الرأي.
وقالت فرقة فيها مالك وأصحابه: الأيام المعلومات: يوم النحر ويومان بعده.
وقوله: * (فكلوا) * ندب، واستحب أهل العلم أن يأكل الإنسان من هديه وأضحيته،
وأن يتصدق بالأكثر، والبائس: الذي قد مسه ضر الفاقة وبؤسها، والمراد أهل الحاجة،
والتفث: ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه، وإزالة شعث ونحوه،
* (وليوفوا نذورهم) *: وهو ما معهم من هدي وغيره، * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *: يعني:
طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج.
117

قال الطبري /: ولا خلاف بين المتأولين في ذلك.
قال مالك: هو واجب، ويرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف الوداع; فإنه
يجزيه عنه، ويحتمل أن تكون الإشارة بالآية إلى طواف الوداع، وقد أسند الطبري عن
عمرو بن أبي سلمة قال: سألت زهيرا عن قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * فقال:
هو طواف الوداع; وقاله مالك في " الموطإ "، واختلف في وجه وصف البيت بالعتيق، فقال
مجاهد وغيره: عتيق، أي: قديم.
وقال ابن الزبير: لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة.
وقيل: أعتقه من غرق الطوفان، وقيل غير هذا.
وقوله: * (ذلك يحتمل أن يكون في موضع رفع بتقدير: فرضكم ذلك، أو الواجب
ذلك، ويحتمل أن يكون في محل نصب بتقدير: امتثلوا ذلك ونحو هذا الإضمار، وأحسن
الأشياء مضمرا أحسنها مظهرا; ونحو هذه الإشارة البليغة قول زهير: [البسيط]
- هذا، وليس كمن يعي بخطبته * وسط الندي إذا ما ناطق نطقا -
والحرمات المقصودة هنا هي أفعال الحج.
118

وقال ابن العربي في " أحكامه ": الحرمات: امتثال ما أمر الله تعالى به، واجتناب
ما نهى عنه; فإن للقسم الأول حرمة المبادرة إلى الامتثال، وللثاني حرمة الانكفاف
والانزجار. انتهى.
وقوله: * (فهو خير) * ظاهره أنها ليست للتفضيل، وإنما هي عدة بخير، ويحتمل أن
يجعل * (خير) * للتفضيل على تجوز في هذا الموضع.
* ص *: * (فهو خير له) * أي: فالتعظيم خير له، [انتهى].
وقوله تعالى: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * يحتمل معنيين.
أحدهما: أن تكون " من " لبيان الجنس أي: الرجس الذي هو الأوثان; فيقع النهي
عن رجس الأوثان فقط، وتبقى سائر الأرجاس نهيها في غير هذا الموضع.
والمعنى الثاني: أن تكون " من " لابتداء الغاية فكأنه نهاهم سبحانه عن الرجس
عموما، ثم عين لهم مبدأه الذي منه يلحقهم; إذ عبادة الوثن جامعة لكل فساد ورجس،
ويظهر أن الإشارة إلى الذبائح التي كانت للأوثان فيكون هذا مما يتلى عليهم، والمروي عن
ابن عباس وابن جريج: أن الآية نهي عن عبادة الأوثان، و * (الزور) * عام في الكذب
والكفر; وذلك أن كل ما عدا الحق فهو كذب وباطل.
وقال ابن مسعود وغيره: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " عدلت شهادة الزور بالشرك،
119

وتلا هذه الآية " والزور: مشتق من الزور، وهو الميل، ومنه في جانب فلان زور،
120

ويظهر أن الإشارة إلى زور أقوالهم في تحريم وتحليل ما كانوا قد شرعوا في الأنعام
و * (حنفاء) * معناه مستقيمين أو مائلين إلى الحق، بحسب أن لفظة الحنف من الأضداد، تقع
على الاستقامة، وتقع على الميل، والسحيق: البعيد.
وقوله سبحانه: * (ذلك ومن يعظم شعائر الله) * التقدير في هذا الموضع: الأمر ذلك،
و * (الشعائر) * جمع شعيرة وهي كل شئ لله عز وجل فيه أمر أشعر به وأعلم.
قال الشيخ ابن أبي جمرة: * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * قال:
121

تعظيم شعائر الله، - كان من البقع أو من البشر أو ممن شاء الله تعالى - زيادة في الإيمان
وقوة في اليقين. انتهى.
وقال العراقي في أرجوزته: [الرجز]
أعلام طاعة هي الشعائر...
البيت.
وقالت فرقة: قصد بالشعائر في هذه الآية الهدي والأنعام المشعرة، ومعنى تعظيمها
التسمين والاهتبال بأمرها، قاله ابن عباس وغيره، ثم اختلف المتأولون في قوله سبحانه:
* (لكم فيها منافع...) * الآية: فقال مجاهد وقتادة: أراد أن للناس في أنعامهم منافع من
الصوف، واللبن، والذبح للأكل، وغير ذلك ما لم يبعثها ربها هديا، فإذا بعثها فهو الأجل
المسمى، وقال عطاء: أراد لكم في الهدي المبعوث منافع، من الركوب، والاحتلاب
لمن اضطر، والأجل نحرها، وتكون " ثم " من قوله: * (ثم محلها إلى البيت العتيق
لترتيب الحمل; لأن المحل قبل الأجل، ومعنى الكلام عند هذين الفريقين: ثم محلها إلى
موضع النحر، وذكر البيت; لأنه أشرف الحرم، وهو المقصود بالهدي وغيره.
وقال ابن زيد، والحسن، وابن عمر، ومالك: الشعائر في هذه الآية: مواضع الحج
كلها، ومعالمه بمنى، وعرفة، والمزدلفة، والصفا والمروة، والبيت وغير ذلك، وفي
الآية التي تأتي أن البدن من الشعائر، والمنافع: التجارة وطلب الرزق أو الأجر والمغفرة،
والأجل المسمى: الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة، ومحلها مأخوذ من إحلال المحرم،
والمعنى: ثم أخروا هذا كله إلى طواف الإفاضة بالبيت العتيق، فالبيت على هذا التأويل
مراد بنفسه، قاله مالك في " الموطأ ".
122

* ت * وأظهر هذه التأويلات عندي تأويل عطاء، وفى الثالث بعض تكلف، ثم أخبر
تعالى أنه جعل لكل أمة من الأمم المؤمنة منسكا، أي: موضع نسك وعبادة، هذا على أن
المنسك ظرف، ويحتمل أن يريد به المصدر كأنه قال: عبادة، والناسك العابد،
وقال مجاهد: سنة في هراقة دماء الذبائح.
وقوله: * (ليذكروا اسم الله) * معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله، وأن يكون الذبح
له; لأنه رازق ذلك، وقوله: * (فله أسلموا) * أي: آمنوا، ويحتمل أن يريد استسلموا، ثم
أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبشر بشارة على الإطلاق، وهي أبلغ من المفسرة; لأنها مرسلة مع
نهاية التخيل للمخبتين المتواضعين الخاشعين المؤمنين، والخبت ما انخفض من الأرض،
والمخبت المتواضع الذي مشيه متطامن كأنه في حدور من الأرض، وقال عمرو بن
أوس: المخبتون الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
قال * ع *: وهذا مثال شريف من خلق المؤمن الهين اللين، وقال مجاهد: هم
المطمئنون بأمر الله تعالى، ووصفهم سبحانه بالخوف والوجل عند ذكر الله تعالى، وذلك
لقوة يقينهم ومراقبتهم لربهم، وكأنهم بين يديه جل وعلا، ووصفهم بالصبر وبإقامة الصلاة
وإدامتها، وروي: أن هذه الآية قوله: * (وبشر المخبتين) * نزلت في أبي بكر، وعمر،
وعثمان، وعلي (رضي الله عنهم أجمعين).
وقوله سبحانه: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * البدن: جمع بدنة، وهي
ما أشعر من ناقة أو بقرة; قاله عطاء وغيره، وسميت بذلك; لأنها تبدن، أي:
تسمن.
123

وقيل: بل هذا الاسم خاص بالإبل، والخير هنا قيل فيه ما قيل في المنافع التي تقدم
ذكرها، والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
وقوله: * (عليها) * يريد عند نحرها، و * (صواف) * أي: مصطفة، وقرأ ابن
مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: " صوافن " جمع صافنة، وهي التي رفعت
إحدى يديها بالعقل; ليلا تضطرب، ومنه في الخيل * (الصافنات الجياد) * [ص: 31]،
و " وجبت " معناه: سقطت.
وقوله: * (فكلوا منها) *: / ندب، وكل العلماء يستحب أن يأكل الإنسان من هديه،
وفيه أجر وامتثال; إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هديهم، وتحرير القول في
* (القانع) *: أنه السائل و * (المعتر) * المتعرض من غير سؤال; قاله الحسن ومجاهد
وغيرهما، وعكست فرقة هذا القول، فحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال: القانع:
المستغنى بما أعطيته، والمعتر: هو المتعرض، وحكي عنه أنه قال: القانع:
المتعفف، والمعتر: السائل.
قال * ع *: يقال: قنع الرجل - بفتح النون - يقنع قنوعا فهو قانع إذا سأل;
فالقانع: هو السائل بفتح النون في الماضي، وقنع - بكسر النون - يقنع قناعة فهو قنع إذا
تعفف واستغنى ببلغته; قاله الخليل بن أحمد.
124

وقوله سبحانه: * (لن ينال الله لحومها...) * الآية: عبارة مبالغة، وهي بمعنى: لن
ترفع عنده سبحانه، وتتحصل قد سبب ثواب، والمعنى، ولكن تنال الرفعة عنده، وتحصل
الحسنة لديه بالتقوى.
وقوله تعالى: * (لتكبروا الله على ما هداكم وبشر المحسنين) * روي: أن قوله: " وبشر
المحسنين " نزلت في الخلفاء الأربعة حسبما تقدم في التي قبلها، وظاهر اللفظ العموم في
كل محسن.
وقوله سبحانه: * (إن الله يدافع عن الذين آمنوا...) * الآية، وقرأ أبو عمرو، وابن
كثير: " يدفع " * (ولولا دفع) * [الحج: 40].
قال أبو علي: أجريت " دافع " مجرى " دفع " كعاقبت اللص وطارقت النعل، قال أبو
الحسن الأخفش: يقولون: دافع الله عنك، ودفع عنك، إلا أن " دفع " أكثر في الكلام.
قال * ع *: ويحسن " يدافع "; لأنه قد عن للمؤمنين من يدفعهم ويؤذيهم، فيجئ
دفعه سبحانه مدافعة عنهم، وروي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة
وآذاهم الكفار; هم بعضهم أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال، ويغدر، فنزلت هذه
الآية إلى قوله: * (كفور) *، ثم أذن الله سبحانه في قتال المؤمنين لمن قاتلهم من الكفار
بقوله: * (أذن للذين يقاتلون) *.
وقوله: * (بأنهم ظلموا) * معناه: كان الإذن بسبب أنهم ظلموا، قال ابن جريح:
وهذه الآية أول ما نقضت الموادعة.
125

قال ابن عباس، وابن جريج: نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وقال أبو بكر الصديق: لما سمعتها، علمت أنه سيكون قتال.
قلت: وهذا الحديث خرجه الترمذي، قال ابن العربي: ومعنى * (أذن) *: أبيح، وقرئ
" يقاتلون " بكسر التاء وفتحها، فعلى قراءة الكسر: تكون الآية خبرا عن فعل المأذون
لهم، وعلى قراءة الفتح: فالآية خبر عن فعل غيرهم، وأن الإذن وقع من أجل ذلك لهم،
ففي فتح التاء بيان سبب القتال، وقد كان الكفار يتعمدون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالإذاية
ويعاملونهم بالنكاية، وقد قتل أبو جهل سمية أم عمار بن ياسر، وعذب بلال، وبعد ذلك
جاء الانتصار بالقتال، انتهى، ثم وعد سبحانه بالنصر في قوله: * (وإن الله على نصرهم
لقدير) *.
وقوله سبحانه: * (الذين أخرجوا من ديارهم) * يريد كل من خرج من مكة وآذاه أهلها
حتى أخرجوه بإذايتهم، - طائفة إلى الحبشة وطائفة إلى المدينة - -، ونسب الإخراج إلى
الكفار; لأن الكلام في معرض تقرير الذنب، وإلزامه لهم.
126

وقوله: * (إلا أن يقولوا / ربنا الله) * استثناء منقطع.
قال * ص *: وأجاز أبو إسحاق وغيره أن يكون في موضع بدلا من حق، أي:
بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار، لا موجب الإخراج،
ومثله: * (هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله) * [المائدة: 59] انتهى، وهو حسن من حيث المعنى،
والانتقاد عليه مزيف.
وقوله: * (ولولا دفاع الله الناس) * الآية تقويه للأمر بالقتال، وذكر أنه متقدم في الأمم،
وبه صلحت الشرائع، فكأنه قال: أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ولولا القتال والجهاد
لتغلب على الحق في كل أمة، هذا أصوب تأويلات الآية، والصومعة: موضع العبادة،
وهي بناء مرتفع، منفرد، حديد الأعلى، والأصمع من الرجال: الحديد القول، وكانت قبل
الإسلام مختصة برهبان النصارى، وعباد الصابين; قاله قتادة، ثم استعملت في
مئذنة المسلمين، والبيع: كنائس النصارى، واحدتها: بيعة.
وقال الطبري: قيل: هي كنائس اليهود، ثم أدخل عن مجاهد مالا يقتضي ذلك،
والصلوات مشتركة لكل ملة; واستعير الهدم للصلوات من حيث تعطيلها، أو أراد موضع
صلوات، وقال أبو العالية: الصلوات مساجد الصابين، وقيل: غير هذا.
وقوله: * (يذكر فيها) * الضمير عائد على جميع ما تقدم، ثم وعد سبحانه بنصرة دينه
وشرعه، وفى ذلك حض على القتال والجد فيه، ثم الآية تعم كل من نصر حقا إلى يوم
القيامة.
وقوله سبحانه: * (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة...) * الآية: قالت
فرقة: هذه الآية في الخلفاء الأربعة، والعموم في هذا كله أبين، وبه يتجه الأمر في جميع
الناس، وإنما الآية آخذة فلا عهدا على كل من مكن [في الأرض] على قدر ما مكن، والآية
127

أمكن ما هي في الملوك.
وقوله سبحانه: * (ولله عاقبة الأمور) *: توعد للمخالف عن هذا الأمور التي تقتضيها
الآية لمن مكن.
وقوله سبحانه: * (وإن يكذبوك) *: يعني: قريشا، * (فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد
وثمود * وقوم إبراهيم وقوم لوط * وأصحاب مدين وكذب موسى...) * الآية: فيها وعيد
لقريش، و * (أمليت) * معناه: أمهلت، والنكير مصدر بمعنى الإنكار.
و [قوله]: " وبير معطلة " قيل: هو معطوف على العروش، وقيل: على القرية; وهو
أصوب.
ثم وبخهم تعالى على الغفلة وترك الاعتبار بقوله: * (أفلم يسيروا في الأرض فتكون
لهم قلوب يعقلون بها) * وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب، وذلك هو الحق، ولا ينكر
أن للدماغ اتصالا بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ.
وقوله: * (فتكون نصب بالفاء في جواب الاستفهام; صرف الفعل من الجزم إلى
النصب.
وقوله سبحانه: * (فإنها لا تعمى الأبصار) * لفظ مبالغة كأنه قال: ليس العمى عمى
العين، وإنما العمى كل العمى عمى القلب، ومعلوم أن الأبصار تعمى، ولكن المقصود ما
128

ذكرنا; وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة "، و " ليس المسكين بهذا الطواف "،
والضمير في * (إنها) * للقصة ونحوها من التقدير، والضمير في * (يستعجلونك) * لقريش.
وقوله: * (ولن يخلف الله وعده) * وعيد وإخبار بأن كل شئ إلى وقت محدود،
والوعد هنا مقيد بالعذاب.
وقوله سبحانه: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * / قالت فرقة: معناه
وإن يوما من أيام عذاب الله كألف سنة من هذه; لطول العذاب وبؤسه، منه فكان المعنى أي
من هذه السنين فما أجهل من يستعجل هذا، وكرر قوله: * (وكأين) *; لأنه جلب معنى
آخر; ذكر أولا القرى المهلكة دون إملاء، بل بعقب التكذيب، ثم ثنى سبحانه بالممهلة;
لئلا يفرح هؤلاء بتأخير العذاب عنهم، وباقي الآية بين، والرزق الكريم: الجنة،
و * (معاجزين) * معناه: مغالبين، كأنهم طلبوا عجز صاحب الآيات، والآيات تقتضي
تعجيزهم; فصارت مفاعلة.
وقوله سبحانه: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان
في أمنيته... الآية.
قلت: قال [القاضي أبو الفضل] عياض: وقد توجهت ها هنا لبعض الطاعنين
سؤالات منها ما روى من: " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة " والنجم " وقال: * (أفرأيتم اللات
والعزى * ومناة الثالثة الأخرى " [النجم: 19، 20] قال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتها
لترتجي ".
129

قال عياض: اعلم (أكرمك الله) أن لنا في الكلام على مشكل هذا الحديث مأخذين:
أحدهما: في توهين أصله.
والثاني: على تقدير تسليمه.
أما المأخذ الأول: فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه
ثقة بسند متصل سليم; وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب،
المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي أبو بكر ابن العلاء المالكي
(رحمه الله تعالى) حيث يقول: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير، ثم قال
عياض: قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد متصل يجوز
ذكره; وإنما يعرف عن الكلبي. قال عياض: والكلبي ممن لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره;
لقوة ضعفه وكذبه، كما أشار إليه البزار، وقد أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم ونزاهته عن
مثل هذا، انتهى، ونحو هذا لابن عطية قال: وهذا الحديث الذي فيه: هن الغرانقة وقع
في كتب التفسير ونحوها، ولم يدخله البخاري ولا مسلم، ولا ذكره - في علمي - مصنف
مشهور; بل يقتضي مذهب أهل الحديث أن الشيطان ألقى، ولا يعينون هذا السبب ولا
غيره.
132

قال * ع *: وحدثني أبي (رحمه الله تعالى) أنه لقي بالمشرق من شيوخ العلماء
والمتكلمين من قال: هذا لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعصوم في التبليغ; وإنما الأمر
يعني على تقدير صحته - أن الشيطان نطق بلفظ أسمعه الكفار عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: * (أفرأيتم
اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى) * [النجم: 19، 20]. وقرب صوته من صوت النبي صلى الله عليه وسلم
حتى التبس الأمر على المشركين، وقالوا: محمد قرأها، هذا على تقدير صحته، وقد روي
نحو هذا التأويل عن الإمام أبي المعالي.
قلت: قال عياض: وقد أعاذنا الله من صحته، وقد حكى موسى بن عقبة في
" مغازيه " نحو هذا، وقال: إن المسلمين لم يسمعوها، وإنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع
المشركين، ومعنى قوله تعالى: * (تمنى) * أي: تلا; ومنه قوله تعالى: * (لا يعلمون الكتاب
إلا أماني) * [البقرة: 78]. أي: تلاوة، * (فينسخ الله ما يلقي الشيطان) * أي: يذهبه، ويزيل
اللبس به ويحكم آياته، وعبارة البخاري: وقال ابن عباس * (إذا تمنى ألقى الشيطان في
أمنيته) *، أي: إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقى الشيطان / ويحكم
آياته، ويقال: * (أمنيته) *: قراءته. انتهى.
قال عياض: وقيل: معنى الآية هو ما يقع للنبي صلى الله عليه وسلم من السهو إذا قرأ فيتنبه لذلك،
ويرجع عنه، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة) * الفتنة: الامتحان والاختبار، والذين
في قلوبهم مرض: عامة الكفار، * (والقاسية قلوبهم) * خواص منهم عتاة: كأبي جهل
وغيره، والشقاق: البعد عن الخير والكون في شق غير شق الصلاح، و * (الذين أوتوا
العلم) *: هم أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في * (أنه) *: عائد على القرآن، * (فتخبت
133

له قلوبهم) *: معناه: تتطامن وتخضع، وهو مأخوذ من الخبت وهو المطمئن من الأرض
كما تقدم.
* (ولا يزال الذين كفروا في مرية منه) * أي: من القرآن، والمرية: الشك، * (حتى
تأتيهم الساعة) * يعني يوم القيامة، * (أو يأتيهم عذاب يوم عقيم) * قيل: يوم بدر، وقيل:
الساعة ساعة موتهم، واليوم [العقيم] يوم القيامة.
وقوله سبحانه: * (والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا...) * الآية، ابتداء
معنى آخر; وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون، وأبو سلمة بن عبد الأسد قال بعض
الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه. فنزلت هذه الآية مسوية بينهم
في أن الله تعالى يرزق جميعهم رزقا حسنا، وليس هذا بقاض بتساويهم في الفضل، وظاهر
الشريعة أن المقتول أفضل، وقد قال بعض الناس: المقتول والميت في سبيل الله شهيدان،
ولكن للمقتول مزية ما أصابه في ذات الله، والرزق الحسن يحتمل: أن يريد به رزق
الشهداء عند ربهم في البرزخ، ويحتمل أن يريد بعد يوم القيامة في الجنة، وقرأت
فرقة: " مدخلا " - بضم الميم -; من أدخل; فهو محمول على الفعل [المذكور، وقرأت
فرقة: " مدخلا " - بفتح الميم -; من دخل; فهو محمول على فعل] مقدر تقديره:
فيدخلون مدخلا، ثم أخبر سبحانه عمن عاقب من المؤمنين من ظلمه من الكفرة، ووعد
المبغي عليه بأنه ينصره، وذلك أن هذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم كفار في
134

الأشهر الحرم; فأبى المؤمنين من قتالهم، وأبى المشركون إلا القتال، فلما اقتتلوا، جد
المؤمنين ونصرهم الله تعالى; فنزلت الآية فيهم، وجعل تقصير الليل وزيادة النهار
وعكسهما إيلاجا; تجوزا وتشبيها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: * (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله
لطيف خبير * له ما في السماوات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد) * قوله:
* (فتصبح) * عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء; وروي عن عكرمة أنه قال: هذا لا يكون
إلا ب‍ " مكة " و " تهامة ".
[قال * ع *: ومعنى هذا أنه أخذ قوله: * (فتصبح) * مقصودا به صباح ليلة المطر،
وذهب إلى أن ذلك الاخضرار في سائر البلاد يتأخر].
قال * ع *: وقد شاهدت هذا في السوس الأقصى، نزل المطر ليلا بعد قحط،
وأصبحت تلك الأرض الرملة التي تسفيها الرياح قد اخضرت بنبات ضعيف دقيق.
قلت: وقد شاهدت أنا ذلك بصحراء سواكن بالمشرق، وهي في حكم مكة إلا أن
البحر قد حال بينهما; وذلك أن التعدية من جدة إلى " سواكن " مقدار يومين في البحر أو
أقل بالريح المعتدلة، وكان ذلك في أول الخريف، وأجرى الله العادة أن أمطار تلك البلاد
تكون بالخريف فقط، هذا هو الغالب، ولما شاهدت ذلك تذكرت هذه الآية / الكريمة،
فسبحان الله ما أعظم قدرته! واللطيف: المحكم للأمور برفق.
135

وقوله سبحانه: * (ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر
بأمره) * أي: سخر لنا سبحانه ما في الأرض من الحيوان والمعادن وسائر المرافق، وباقي
الآية بين مما ذكر في غير هذا الموضع.
وقوله سبحانه: * (لكل أمة جعلنا منسكا) * الآية، المنسك: المصدر، فهو بمعنى:
العبادة والشرعة، وهو أيضا موضع النسك، وقوله: * (هم ناسكوه) * يعطي أن المنسك:
المصدر، ولو كان الموضع لقال: هم ناسكون فيه.
وقوله سبحانه: * (وإن جادلوك...) * الآية موادعة محضة نسختها آية السيف،
وباقي الآية وعيد.
وقوله سبحانه: * (إن ذلك في كتاب) * يعني: اللوح المحفوظ.
وقوله سبحانه: * (إن ذلك على الله يسير) * يحتمل أن تكون الإشارة إلى الحكم في
الاختلاف.
وقوله سبحانه: * (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر) *
يعني: أن كفار قريش كانوا إذا تلي عليهم القرآن، وسمعوا ما فيه من رفض آلهتهم
والدعاء إلى التوحيد - عرفت المساءة في وجوههم والمنكر من معتقدهم وعداوتهم، وأنهم
يريدون ويتسرعون إلى السطوة بالتالين، والسطو إيقاع ببطش، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام
136

أن يقول لهم على جهة الوعيد والتقريع: * (أفأنبئكم) * أي: أخبركم. * (بشر من ذلكم) *:
والإشارة بذلكم إلى السطو، ثم ابتدأ بخبر; كأن قائلا قال له: وما هو؟ قال: * (النار) *
أي: نار جهنم.
وقوله: * (وعدها الله الذين كفروا) * يحتمل أن يكون أراد: أن الله تعالى وعدهم
بالنار، فيكون الوعد في الشر، ويحتمل أنه أراد: أن الله سبحانه وعد النار بأن يطعمها
الكفار، فيكون الوعد على بابه، إذ الذي يقتضى قولها: * (هل من مزيد [ق: 30] ونحو
ذلك. أن ذلك من مسارها.
قلت: والظاهر الأول.
وقوله سبحانه: * (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه...) * الآية: ذكر تعالى
أمر سالب الذباب، وذلك أنهم كانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب فكان الذباب يتسلط
ويذهب بذلك الطيب، وكانوا يتألمون من ذلك، فجعلت مثلا، واختلف المتأولون في قوله
تعالى: * (ضعف الطالب والمطلوب) * فقالت فرقة: أراد بالطالب: الأصنام، وبالمطلوب:
الذباب، أي: أنهم ينبغي أن يكونوا طالبين لما يسلب من طيبهم على معهود الأنفة في
الحيوان، وقيل: معناه ضعف الكفار في طلبهم الصواب والفضيلة من جهة الأصنام،
وضعف الأصنام في إعطاء ذلك وإنالته.
قال * ع *: ويحتمل أن يريد: ضعف الطالب وهو الذباب في استلابه ما على
الأصنام، وضعف الأصنام في أن لا منعة لهم، وبالجملة فدلتهم الآية على أن الأصنام في
أحط رتبة، وأخس منزلة لو كانوا يعقلون. و * (ما قدروا الله حق قدره) * المعنى: ما وفوه
حقه سبحانه من التعظيم والتوحيد.
137

وقوله سبحانه: * (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس...) * الآية: نزلت
بسبب قول الوليد بن المغيرة: * (أأنزل عليه الذكر من بيننا) * [ص: 8].
* ص *: أبو البقاء: * (ومن الناس) * أي: رسلا، انتهى ثم أمر سبحانه بعبادته
وخص الركوع والسجود بالذكر; تشريفا / للصلاة، واختلف الناس: هل [في] هذه
الآية سجدة أم لا؟.
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) *
تقبلها قوم على أنها سجدة تلاوة; فسجدوها.
وقال آخرون: هو سجود الصلاة فقصروه فإن عليه، ورأى عمر وابنه عبد الله رضي الله
عنهما: أنها سجدة تلاوة، وإني لأسجدها وأراها كذلك; لما روى ابن وهب، وغيره
عن مالك، وغيره، انتهى.
وقوله سبحانه: * (وافعلوا الخير) * ندب فيما عدا الواجبات.
قلت: وهذه الآية الكريمة عامة في أنواع الخيرات، ومن أعظمها الرأفة والشفقة على
خلق الله، ومواساة الفقراء وأهل الحاجة، وقد روى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه]
قال: " أيما مسلم] كسا مسلما ثوبا على عري، كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم
أطعم مسلما على جوع، أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ،
سقاه الله من الرحيق المختوم ". انتهى. وروى علي بن عبد العزيز البغوي في " المسند
المنتخب " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أيما مسلم كسا مسلما ثوبا، كان في حفظ الله ما بقيت
عليه منه رقعة ". وروى ابن أبي شيبة في " مسنده " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما أهل
138

عرصة ظل فيهم مرؤ جائعا، فقد برئت منهم ذمة الله " انتهى من " الكوكب الدري "
وقوله سبحانه: * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * قالت فرقة: الآية في قتال الكفار.
وقالت بل: هي أعم من هذا، وهو جهاد النفس، وجهاد الكفار والظلمة، وغير
ذلك، أمر الله عباده بأن يفعلوا ذلك في ذات الله حق فعله.
قال * ع *: والعموم أحسن، وبين أن عرف اللفظة يقتضي القتال في سبيل الله.
وقوله: * (هو اجتباكم) * [أي: تخيركم]، * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *
أي: من تضييق، وذلك أن الملة حنيفية سمحة، ليست كشدائد بني إسرائيل وغيرهم، بل
فيها التوبة والكفارات، والرخص، ونحو هذا مما يكثر عده، ورفع الحرج عن هذه الأمة
لمن استقام منهم على منهاج الشرع، وأما السلابة والسراق وأصحاب الحدود فهم أدخلوا
الحرج على أنفسهم بمفارقتهم الدين، وليس في الدين أشد من إلزام رجل لاثنين في
سبيل الله، ومع صحة اليقين، وجودة العزم ليس بحرج و * (ملة) * نصب بفعل مضمر من
أفعال الإغراء.
139

وقوله: * (هو سماكم المسلمين) * قال ابن زيد: الضمير ل‍ * (إبراهيم) * - عليه
السلام - والإشارة إلى قوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) * [البقرة: 128]، وقال ابن عباس،
وقتادة، ومجاهد: الضمير لله عز وجل. * (ومن قبل) * معناه: في الكتب القديمة، * (وفي
هذا) * أي: في القرآن، وهذه اللفظة تضعف قول من قال: الضمير لإبراهيم عليه السلام،
ولا يتوجه إلا على تقدير محذوف من الكلام مستأنف.
قال * ص *: * (هو) * قيل: يعود على الله تعالى، وقيل: على إبراهيم، وعلى هذا
فيكون: * (وفى هذا) *: القرآن، [أي]: وسميتم بسببه فيه، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ليكون الرسول شهيدا عليكم) * أي: بالتبليغ.
وقوله: * (وتكونوا شهداء على الناس) * أي: بتبليغ رسلهم إليهم على ما أخبركم
نبيكم، ثم أمر سبحانه بالصلاة المفروضة أن تقام ويدام عليها بجميع حدودها، وبالزكاة أن
تؤدى، ثم أمر سبحانه بالاعتصام به، أي: بالتعلق به والخلوص له وطلب النجاة منه،
ورفض التوكل على سواه.
وقوله سبحانه: / * (هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) * المولى: في هذه الآية
معناه: الذي يليكم نصره وحفظه، [وباقي الآية بين].
140

تفسير سورة المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
قوله سبحانه: * (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون) * أخبر الله
سبحانه عن فلاح المؤمنين، وأنهم نالوا البغية، وأحرزوا البقاء الدائم.
قلت: وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه
الوحي، يسمع عند وجهه صلى الله عليه وسلم دوي كدوي النحل، فأنزل عليه يوما، فمكثنا ساعة، وسري
عنه، فاستقبل القبلة، ورفع يديه، فقال: اللهم، زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا
ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، وأرضنا وارض عنا "، ثم قال: " أنزلت علي عشر آيات
من أقامهن عنه دخل الجنة "، ثم قرأ: * (قد أفلح المؤمنون) * حتى ختم عشر آيات; رواه
الترمذي واللفظ له والنسائي والحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من
" سلاح المؤمن ".
قلت: وقد نص بعض أئمتنا على وجوب الخشوع في الصلاة، قال الغزالي
141

- رحمه الله -: ومن مكائد الشيطان أن يشغلك [في الصلاة بفكر الآخرة وتدبير فعل
الخيرات; لتمتنع عن فهم ما تقرأه، واعلم أن كل ما أشغلك] عن معاني قراءتك فهو
وسواس; فإن حركة اللسان غير مقصودة; بل المقصود معانيها، انتهى من " الأحياء ".
وروي عن مجاهد: أن الله تعالى لما خلق الجنة، وأتقن حسنها قال: * (قد أفلح
المؤمنون) * ثم وصف تعالى هؤلاء المفلحين: فقال: * (الذين هم في صلاتهم خاشعون) *
والخشوع التطامن، وسكون الأعضاء، والوقار، وهذا إنما يظهر في الأعضاء ممن في قلبه
خوف واستكانة; لأنه إذا خشع قلبه خشعت جوارحه، وروي أن سبب الآية أن المسلمين
كانوا يلتفتون في صلاتهم يمنة ويسرة; فنزلت هذه الآية، وأمروا أن يكون [بصر]
المصلى حذاء قبلته أو بين يديه، وفى الحرم إلى الكعبة، و * (اللغو) *: سقط القول، وهذا
يعم جميع ما لا خير فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أي:
يعرضون عن اللغو، وكأن الآية فيها موادعة.
* (والذين هم للزكوة فاعلون) * ذهب الطبري وغيره إلى: أنها الزكاة المفروضة في
الأموال، وهذا بين، ويحتمل اللفظ أن يريد بالزكاة: الفضائل، كأنه أراد الأزكى من كل
فعل; كما قال تعالى: * (خيرا منه زكاة وأقرب رحما) * [الكهف: 81].
وقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون) * إلى قوله: * (العادون) * يقتضي
تحريم الزنا والاستمناء ومواقعة البهائم، وكل ذلك داخل في قوله: * (وراء ذلك) * ويريد:
وراء هذا الحد الذي حد، والعادي: الظالم، والأمانة والعهد يجمع كل ما تحمله الإنسان
من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، ورعاية ذلك
حفظه والقيام به، والأمانة أعم من العهد; إذ كل عهد فهو أمانة، وقرأ الجمهور:
142

" صلواتهم " وقرأ حمزة والكسائي: " صلاتهم " بالإفراد، و * (الوارثون) * يريد الجنة، وفي
حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة، ومسكنا
في النار، فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم، ويرثون منازل الكفار، ويحصل الكفار في
منازلهم / في النار ".
قلت: وخرجه ابن ماجة أيضا بمعناه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما
منكم إلا [من] له منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإذا مات - يعني الإنسان -
ودخل النار، ورث أهل الجنة منزله; فذلك قوله تعالى: * (أولئك هم الوارثون) * " قال
القرطبي في " التذكرة ": إسناده صحيح، انتهى من " التذكرة ".
قال * ع *: ويحتمل أن يسمى الله تعالى حصولهم في الجنة وراثة من حيث
حصلوها دون غيرهم، وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله أحاط حائط الجنة: لبنة من
ذهب، ولبنة من فضة، وغرس غراسها بيده، وقال لها: تكلمي، فقالت: " قد أفلح
المؤمنون " فقال: طوبى لك! منزل الملوك " خرجه البغوي في " المسند المنتخب " له،
انتهى من " الكوكب الدري ".
143

وقوله سبحانه: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين...) * الآية: اختلف في
قوله: " الإنسان " فقال قتادة وغيره [أراد آدم - عليه السلام -; لأنه استل من الطين.
وقال ابن عباس وغيره]: المراد ابن آدم، والقرار المكين من المرأة: هو موضع
الولد، والمكين: المتمكن، والعلقة: الدم الغليظ، والمضغة: بضعة اللحم قدر ما يمضغ،
واختلف في الخلق الآخر، فقال ابن عباس وغيره: هو نفخ الروح فيه.
وقال ابن عباس أيضا: هو خروجه إلى الدنيا.
وقال أيضا: تصرفه في أمور الدنيا، وقيل: هو نبات شعره.
قال * ع *: وهذا التخصيص كله لا وجه له، وإنما هو عام في هذا وغيره: من
وجوه النطق، والإدراك، وحسن المحاولة، و * (تبارك) * مطاوع بارك، فكأنها بمنزلة تعالى
وتقدس من معنى البركة.
وقوله: * (أحسن الخالقين) * معناه: الصانعين: يقال لمن صنع شيئا: خلقه، وذهب
بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس; فقال ابن جريج: إنما قال: * (الخالقين) *;
لأنه تعالى أذن لعيسى في أن يخلق، واضطرب بعضهم في ذلك.
144

قال * ع *: ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع; وإنما هي منفية بمعنى
الاختراع والإيجاد من العدم.
وقوله سبحانه: * (ثم إنكم بعد ذلك [لميتون] أي: بعد هذه الأحوال المذكورة،
ويريد بالسبع الطرائق: السماوات، والطرائق: كل [ما كان] طبقات بعضه فوق بعض;
ومنه طارقت نعلي. ويجوز أن تكون الطرائق بمعنى المبسوطات; من طرقت الشئ.
قلت: وقوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر...) * الآية: ظاهر الآية أنه ماء
المطر، وأسند أبو بكر ابن لخطيب في أول " تاريخ بغداد " عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: " أنزل الله من الجنة إلى الأرض خمسة أنهار: سيحون: وهو نهر الهند،
وجيحون: وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات: وهما نهرا العراق، والنيل: وهو نهر مصر،
أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة من أسفل درجة من درجاتها على جناحي
جبريل، فاستودعها الجبال، وأجراها في الأرض، وجعل فيها منافع للناس في أصناف
معايشهم، فذلك قوله تعالى: * (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) * فإذا كان
عند خروج يأجوج ومأجوج، أرسل الله تعالى جبريل فرفع من الأرض القرآن، والعلم
كله، والحج من ركن البيت، ومقام إبراهيم، وتابوت موسى بما فيه، وهذه
الأنهار الخمسة، فيرفع ذلك / كله إلى السماء; فذلك قوله تعالى: * (وإنا على ذهاب به
لقادرون) *، فإذا رفعت هذه الأشياء من الأرض، فقد أهلها خير الدين والدنيا ". وفى رواية:
" خير الدنيا والآخرة ". انتهى، فإن صح هذا الحديث، فلا نظر لأحد معه، ونقل ابن
العربي في " أحكامه " هذا الحديث أيضا عن ابن عباس وغيره، ثم قال في آخره: وهذا جائز
في القدرة إن صحت به الرواية، انتهى.
145

قال * ع *: قوله تعالى: * (ماء بقدر) * قال بعض العلماء: أراد المطر.
وقال بعضهم: إنما أراد الأنهار الأربعة سيحان وجيحان والفرات والنيل.
قال * ع *: والصواب أن هذا كله داخل تحت الماء الذي أنزله الله تعالى.
وقوله تعالى: * (لكم فيها فواكه كثيرة) * يحتمل: أن يعود الضمير على الجنات;
فيشمل أنواع الفواكه، ويحتمل أن يعود على النخيل والأعناب خاصة; إذ فيهما مراتب
وأنواع، والأول أعم لسائر الثمرات.
وقوله سبحانه: * (وشجرة) * عطف على قوله: * (جنات) * ويريد بها الزيتونة، وهي
كثيرة في طور سيناء من ارض الشام، وهو الجبل الذي كلم فيه موسى عليه السلام; قاله
ابن عباس، وغيره، وال‍ * (طور) *: الجبل في كلام العرب، واختلف في * (سيناء) * فقال
قتادة: معناه الحسن، وقال الجمهور: هو اسم الجبل، كما تقول جبل أحد، وقرأ
الجمهور: " تنبت " بفتح التاء وضم الباء، فالتقدير تنبت ومعها الدهن; كما تقول خرج زيد
146

بسلاحه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " تنبت " بضم التاء [وكسر الباء] واختلف في
التقدير على هذه القراءة، فقالت [فرقة: الباء زائدة، كما في قوله تعالى: * (ولا تلقوا
بأيدكم إلى التهلكة) * [البقرة: 195 وقالت]، فرقة: التقدير تنبت جناها ومعه الدهن،
فالمفعول محذوف، وقيل: نبت وأنبت بمعنى; فيكون المعنى كما مضى في قراءة
الجمهور، والمراد بالآية تعديد النعم على الإنسان، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله
غيره أفلا تتقون * فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل
عليكم...) * الآية: هذا ابتداء تمثيل لكفار قريش بأمم كفرت بأنبيائها فيه فأهلكوا، وفي ضمن
ذلك الوعيد بأن يحل بهؤلاء نحو ما حل بأولئك، والملأ: الأشراف، والجنة، الجنون،
و * (حتى حين) * معناه إلى وقت يريحكم القدر منه، ثم إن نوحا عليه السلام دعا على قومه
حين يئس منهم، وإن كان دعاؤه في هذه الآية ليس بنص; وإنما هو ظاهر من قوله: * (بما
كذبون) * فهذا يقتضي طلب العقوبة، وأما النصرة بمجردها فكانت تكون بردهم إلى
الإيمان.
وقوله عز وجل: * (فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار
التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه منهم ولا تخاطبني
في الذين ظلموا إنهم مغرقون * فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك الحمد لله) *
قوله: * (بأعيننا) *: عبارة عن الإدراك هذا مذهب الحذاق، ووقفت الشريعة على أعين
وعين، ولا يجوز أن يقال: عينان من حيث لم توقف الشريعة على التثنية، و * (وحينا) * معناه
في كيفية العمل، ووجه البيان لجميع حكم السفينة وما يحتاج إليه، و * (أمرنا) * يحتمل أن
147

يكون واحد الأوامر، ويحتمل أن يريد واحد الأمور، والصحيح من الأقوال في * (التنور) *
أنه تنور الخبز، وأنها أمارة كانت بين الله تعالى وبين نوح - عليه السلام -.
وقوله: * (فاسلك) *: معناه: فادخل; يقال سلك وأسلك بمعنى، وقرأ حفص / عن
عاصم: " من كل " بالتنوين، والباقون بغير تنوين، والزوجان: كل ما شأنه الاصطحاب
من كل شئ; نحو: الذكر والأنثى من الحيوان، ونحو: النعال وغيرها، هذا موقع اللفظة
في اللغة.
وقوله: * (وأهلك) * يريد: قرابته، ثم استثنى من سبق عليه القول بأنه كافر، وهو ابنه
وامرأته، ثم أمر نوح ألا يراجع ربه، ولا يخاطبه شافعا في أحد من الظالمين، ثم أمر
بالدعاء في بركة المنزل.
وقوله سبحانه: * (أن في ذلك لآيات) * خطاب لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثم أخبر سبحانه أنه
يبتلي عباده الزمن بعد الزمن على جهة الوعيد لكفار قريش بهذا الإخبار، واللام في
* (لمبتلين) * لام تأكيد، و " مبتلين ": معناه: مصيبين ببلاء، ومختبرين اختبارا يؤدي إلى
ذلك.
وقوله سبحانه: * (ثم أنشأنا وهو من بعدهم قرنا آخرين) *.
قال الطبري - رحمه الله -: إن هذا القرن هم ثمود، قوم صالح.
قال * ع *: وفي جل الروايات ما يقتضي أن قوم عاد أقدم، إلا أنهم لم يهلكوا
بصيحة.
148

قلت: وهو ظاهر ترتيب قصص القرآن أن عادا أقدم، * (وأترفناهم) * معناه نعمناهم،
وبسطنا لهم الأموال والأرزاق وقولهم: * (أيعدكم) * استفهام على جهة الاستبعاد و * (أنكم) *:
الثانية بدل من الأولى عند سيبويه، وقولهم: * (هيهات هيهات) * استبعاد، وهيهات أحيانا
تلي الفاعل دون لام، تقول هيهات مجيء زيد، أي: بعد ذلك، ومنه قول جرير:
[الطويل]:
- - فهيهات هيهات العقيق ومن به * وهيهات خل بالعقيق نواصله -
وأحيانا يكون الفاعل محذوفا، وذلك عند وجود اللام كهذه الآية، التقدير: بعد الوجود;
لما توعدن.
قال * ص *: ورد بأن فيه حذف الفاعل، وحذف المصدر وهو الوجود وذلك غير
جائز عند البصريين، وذكر أبو البقاء: أن اللام زائدة و " ما " فاعل، أي: بعد ما توعدون.
قال أبو حيان: وهذا تفسير معنى لا إعراب; لأنه لم تثبت مصدرية " هيهات "،
انتهى. وقولهم: * (إن هي إلا حياتنا الدنيا) * أرادوا: أنه لا وجود لنا غير هذا الوجود; وإنما
تموت منا طائفة فتذهب، وتجئ طائفة جديدة، وهذا هو كفر الدهرية.
وقوله: * (قال عما قليل ليصبحن نادمين) * المعنى: قال الله لهذا النبي الداعي: عما
قليل يندم قومك على كفرهم حين لا ينفعهم الندم، ومن ذكر الصيحة ذهب الطبري إلى
149

أنهم قوم ثمود.
وقوله: * (بالحق) * أي: بما استحقوا بأفعالهم وبما حق منا في عقوبتهم، والغثاء: ما
يحمله السيل من زبده الذي لا ينتفع به، فيشبه كل هامد وتالف بذلك.
قال أبو حيان: " وبعدا " منصوب بفعل محذوف، أي: بعدوا بعدا، أي: هلكوا،
انتهى، ثم أخبر سبحانه: " إنه أنشأ بعد هؤلاء أمما كثيرة، كل أمة بأجل، وفي كتاب لا
تتعداه في وجودها وعند موتها، وتترى: مصدر من تواتر الشئ.
وقوله سبحانه: * (فأتبعنا بعضهم بعضا) * أي: في الإهلاك.
وقوله تعالى: * (وجعلناهم أحاديث) * يريد أحاديث مثل، وقلما يستعمل الجعل حديثا
إلا في الشر، و * (عالين) * / معناه: قاصدين للعلو بالظلم، وقولهم: * (وقومهما لنا
عابدون) * معناه: خادمون متذللون، والطريق المعبد المذلل، و * (من المهلكين) *: يريد
بالغرق.
وقوله سبحانه: * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * يعني: التوراة، و * (لعلهم) * يريد: بني
إسرائيل; لأن التوراة إنما نزلت بعد هلاك فرعون والقبط، والربوة: المرتفع من الأرض،
والقرار: التمكن، وبين أن ماء هذه الربوة يرى معينا جاريا على وجه الأرض; قاله ابن
عباس، والمعين: الظاهر الجري للعين، فالميم زائدة، وهو الذي يعاين جريه، لا كالبئر
ونحوه، ويحتمل أن يكون من قولهم: معن الماء إذا كثر وهذه الربوة هي الموضع الذي
فرت إليه مريم وقت وضع عيسى عليه السلام هذا قول بعض المفسرين، واختلف الناس
في موضع الربوة، فقال ابن المسيب: هي الغوطة بدمشق وهذا أشهر الأقوال; لأن صفة
الغوطة أنها ذات قرار ومعين على الكمال.
150

وقال كعب الأحبار: الربوة بيت المقدس، وزعم أن في التوراة أن بيت المقدس
أقرب الأرض إلى السماء وأنه يزيد على الأرض ثمانية عشر ميلا.
قال * ع *: ويترجح: أن الربوة في بيت لحم من بيت المقدس; لأن ولادة عيسى
هنالك كانت، وحينئذ كان الإيواء، وقال ابن العربي في " أحكامه ": اختلف الناس في تعيين
هذه الربوة على أقوال منها: ما تفسر لغة ومنها: ما تفسر نقلا، فيفتقر إلى صحة سنده إلى
النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن ها هنا نكتة، وذلك أنه إذا نقل للناس نقل تواتر أن هذا موضع كذا، وأن
هذا الأمر جرى كذا - وقع العلم به، ولزم قبوله، لأن الخبر المتواتر ليس من شرطه
الإيمان، وخبر الآحاد لا بد من كونه المخبر به بصفة الإيمان; لأنه بمنزلة الشاهد، والخبر
المتواتر بمنزلة العيان، وقد بينا ذلك في " أصول الفقه "، والذي شاهدت عليه الناس
ورأيتهم يعينونه تعيين تواتر - موضع في سفح الجبل في غربي دمشق، انتهى، وما ذكره:
من أن التواتر ليس من شرطه الإيمان هذا هو الصحيح، وفيه خلاف إلا أنا لا نسلم أن هذا
متواتر; لاختلال شرطه، انظر " المنتهى " لابن الحاجب.
151

وقوله سبحانه: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون
عليم) * يحتمل أن يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسل، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: * (يا أيها
الرسل) * للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: والوجه في هذا أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وخرج بهذه الصيغة،
ليفهم وجيزا أن المقالة قد خوطب بها كل نبي، أو هي طريقتهم التي ينبغي لهم الكون
عليها; كما تقول لعالم: يا علماء إنكم أئمة يقتدى بكم; فتمسكوا بعلمكم، وقال
الطبري: الخطاب لعيسى - عليه السلام -.
قلت: والصحيح في تأويل الآية: أنه أمر للمرسلين كما هو نص صريح في الحديث
الصحيح; فلا معنى للتردد في ذلك، وقد روى مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به
المرسلين، فقال: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون
عليم) * / [المؤمنون: الآية 51]. وقال: * (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم) *
[البقرة: 172]. ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يديه إلى السماء: يا رب،
يا رب، ومطعمه [حرام] ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام; فأنى يستجاب
لذلك؟! " اه‍.
وقوله تعالى: * (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم
زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) *، وهذه الآية تقوي أن قوله تعالى: * (يا أيها الرسل) * إنما
هو مخاطبة لجميعهم، وأنه بتقدير حضورهم، وإذا قدرت: * (يا أيها الرسل) * مخاطبة
للنبي صلى الله عليه وسلم - قلق اتصال هذه واتصال قوله: * (فتقطعوا) *، ومعنى الأمة هنا: الملة
والشريعة، والإشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام، وهو دين
الإسلام.
152

وقوله سبحانه: * (فتقطعوا) * يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مطاوع; كما
تقول: تقطع الثوب; بل هو فعل متعد بمعنى قطعوا، وقرأ نافع: " زبرا " جمع زبور،
وهذه القراءة تحتمل معنيين.
أحدهما: أن الأمم تنازعت كتبا منزلة فاتبعت فرقة الصحف، وفرقة التوراة، وفرقة
الإنجيل، ثم حرف الكل وبدل، وهذا قول قتادة - والثاني: أنهم تنازعوا أمرهم كتبا
وضعوها وضلالة ألفوها; قاله ابن زيد، وقرأ أبو عمرو بخلاف: " زبرا " بضم الزاي
وفتح الباء، ومعناها: فرقا كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالا
لقريش - خاطب الله سبحانه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في شأنهم متصلا بقوله: * (فذرهم) * أي: فذر
هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم، والغمرة: ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء
الغمر بما حصل فيه، والخيرات هنا نعم الدنيا.
وقوله سبحانه: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة...) * الآية: أسند الطبري
عن عائشة أنها قالت: قلت: يا رسول الله، قوله تعالى: * (يؤتون ما آتوا) * أهي في الذي
يزني ويسرق؟ قال: " لا، يا بنت أبي بكر، بل هي في الرجل يصوم ويتصدق وقلبه وجل،
يخاف ألا يتقبل منه ".
153

قال * ع *: ولا نظر مع الحديث، والوجل: نحو الإشفاق والخوف، وصورة هذا
الوجل إما المخلط; فينبغي أن يكون أبدا تحت خوف من أن يكون ينفذ عليه الوعيد
بتخليطه، وإما التقى أو التائب، فخوفه أمر الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموت، وفي قوله
تعالى: * (أ نهم إلى ربهم راجعون) *: تنبيه على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون
ما يفعلون من البر، ويخافون ألا ينجيهم ذلك من عذاب ربهم، وهذه عبارة حسنة،
وروي عن الحسن أيضا أنه قال: المؤمن يجمع إحسانا وشفقة، هذا والمنافق يجمع إساءة
وأمنا.
قلت: ولهذا الخطب العظيم أطال الأولياء في هذه الدار حزنهم وأجروا على
الوجنات مدامعهم.
قال ابن المبارك في " رقائقه ": أخبرنا سفيان قال: إنما الحزن على قدر البصيرة.
قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عبد الله
بمثل طول الحزن، وقال ابن المبارك أيضا: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التيمي قال:
إن من أوتي من العلم مالا يبكيه لخليق ألا يكون أوتي علما ينفعه; لأن الله تعالى نعت
العلماء فقال: * (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم) * / إلى قوله: * (ويخرون
للأذقان يبكون) * [الإسراء: 107 - 109]. انتهى.
154

وقوله سبحانه: * (أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) * أي: إليها
سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله: * (لها) *، وقالت فرقة: معناه وهم من أجلها سابقون،
وقال الطبري عن ابن عباس: المعنى: سبقت لهم السعادة في الأزل; فهم لها، ورجحه
الطبري بأن اللام متمكنة في المعنى.
وقوله سبحانه: * (ولدينا كتاب ينطق بالحق) * أظهر ما قيل فيه أنه أراد كتاب إحصاء
الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل: الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: * (بل قلوبهم في غمرة من هذا) * اختلف في الإشارة بقوله: * (من
هذا) * هل هي: إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاء، أو إلى الدين بجملته، أو إلى
النبي صلى الله عليه وسلم؟ * (ولهم أعمال) * أي: من الفساد * (هم لها عاملون) *: في الحال والاستقبال،
والمترف: المنعم في الدنيا، الذي هو منها في سرف، ويجأرون) * معناه: يستغيثون
بصياح كصياح البقر، وكثر استعمال الجؤار في البشر; ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
- يراوح من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤارا -
وقال * ص *: جأر الرجل إلى الله تعالى، أي: تضرع; قاله الحوفي، انتهى،
وذهب مجاهد وغيره إلى أن هذا العذاب المذكور هو الوعيد بيوم بدر، وقيل: غير
هذا.
وقوله سبحانه: * (لا تجئروا اليوم) * أي: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا اليوم.
155

وقوله: * (قد كانت آياتي تتلى عليكم) * يعني القرآن و * (تنكصون) * معناه: ترجعون
وراءكم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحق و * (مستكبرين) * حال والضمير في
* (به) *: عائد على الحرم والمسجد وإن لم يتقدم له ذكر; لشهرته، والمعنى: إنكم تعتقدون
في نفوسكم أن لكم بالمسجد الحرام أعظم الحقوق على الناس والمنزلة عند الله، فأنتم
تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن المعنى: يحدث لكم سماع آياتي ولا كبرا
وطغيانا، وهذا قول جيد، وذكر منذر ابن سعيد: أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بما
بعده، كأن الكلام تم في قوله: * (مستكبرين) * ثم قال: بمحمد عليه السلام سامرا تهجرون،
و * (سامرا) * حال، وهو مفرد بمعنى الجمع; يقال: قوم سمر وسمر وسامر، ومعناه: سهر
الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس
للسمر تتحدث وهذا أوجب معرفتها بالنجوم; لأنها تجلس في الصحراء فترى الطوالع من
الغوارب، وقرأ أبو رجاء: " سمارا " وقرأ ابن عباس وغيره: " سمرا " وكانت قريش
تسمر حول الكعبة في أباطيلها لم وكفرها، وقرأ السبعة غير نافع: " تهجرون " بفتح التاء
156

وضم الجيم; قال ابن عباس معناه: تهجرون الحق وذكر الله، وتقطعونه; من الهجران
المعروف، وقال ابن زيد: هو من هجر المريض: إذا هذى، أي: تقولون اللغو من
القول; وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده: " تهجرون " بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة
أهل المدينة، ومعناه: تقولون الفحش والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سبهم النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه; قال ابن عباس أيضا وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله: * (أفلم يدبروا القول) *
لأنهم بعد التدبير والنظر الفاسد / قال بعضهم: شعر، وبعضهم: سحر وغير ذلك، أم
جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين أي: ليس ببدع بل قد جاء آباءهم الأولين، وهم سالف
الأمم الرسل; كنوح، وإبراهيم، وإسماعيل وغيرهم، وفي هذا التأويل من التجوز أن جعل
سالف الأمم، آباء; إذ الناس في الجملة آخرهم من أولهم.
* (أم لم يعرفوا رسولهم) * المعنى: ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدة عمره صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: * (ولو أتبع الحق أهواءهم) *.
قال ابن جريج، وأبو صالح: الحق: الله تعالى.
قال * ع *: وهذا ليس من نمط الآية، وقال غيرهما: الحق هنا: الصواب والمستقيم.
قال * ع *: وهذا هو الأحرى، ويستقيم على فساد السماوات والأرض ومن
فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاء; وذلك أنهم جعلوا لله شركاء وأولادا، ولو كان هذا حقا
لم تكن لله عز وجل الصفات العلية، ولو لم تكن له سبحانه - لم تكن الصنعة، ولا القدرة
كما هي، وكان ذلك فساد السماوات والأرض ومن فيهن: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا) * [الأنبياء: 22].
157

وقوله سبحانه: * (بل أتيناهم بذكرهم) * قال ابن عباس: بوعظهم، ويحتمل:
بشرفهم، وهو مروي.
* (أم تسألهم خرجا) * الخرج والخراج بمعنى، وهو: المال الذي يجبى ويؤتى به
لأوقات محدودة.
وقوله سبحانه: * (فخراج ربك خير) * يريد ثوابه، ويحمل أن يريد بخراج ربك:
رزقه، ويؤيده قوله: * (وهو خير الرازقين) *.
و " الصراط المستقيم " دين الإسلام، " وناكبون ": أي: مجادلون ومعرضون، وقال
البخاري: * (لناكبون) *: لعادلون، انتهى.
قال أبو حيان: يقال: نكب عن الطريق ونكب بالتشديد، أي: عدل عنه، انتهى،
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القحط، ومن الله عليهم بالخصب، ورحمهم
بذلك - لبقوا على كفرهم ولجوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المدة التي أصاب فيها
قريشا السنون الجدبة والجوع الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " اللهم اجعلها عليهم سنين
كسني يوسف " الحديث.
* (ولقد أخذناهم بالعذاب) *، قال ابن عباس وغيره: هو الجوع والجدب حتى
أكلوا الجلود وما جرى مجراها، وروي أنهم لما بلغهم الجهد ركب أبو سفيان، وجاء إلى
النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: يا محمد، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ قال: بلى،
قال: قد قتلت الآباء بالسيف، والأبناء بالجوع، وقد أكلنا العلهز; فنزلت الآية،
158

و * (استكانوا) * معناه: تواضعوا وانخفضوا.
وقوله سبحانه: * (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد...) * الآية توعد بعذاب
غير معين، وهذا هو الصواب، وهذه المجاعة إنما كانت بعد وقعة بدر، والملبس الذي قد
نزل به شر ويئس من زواله ونسخه بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نعم في نفس تعديدها
استدلال بها على عظم قدرته سبحانه، فقال: * (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار...) *
الآية، أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوب، وذرأ: بث وخلق.
وقوله: * (بل) * إضراب، والجحد قبله مقدر / كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه
الآيات أو نحو هذا، و * (الأولون) *: يشير به إلى الأمم الكافرة: كعاد وثمود.
وقوله تعالى: * (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل...) * الآية، قولهم:
* (وآباؤنا) * إن حكي المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم، جعلوهم آباء من
حيث النوع واحد، وكونهم سلفا، وفيه تجوز، وإن حكي ذلك عن الأولين فالأمر مستقيم
فيهم.
وقوله سبحانه: * (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله قل أفلا
تذكرون * قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون لله قل أفلا تتقون
* قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون * سيقولون لله
قل فأنى تسحرون) * أمر الله تعالى نبيه عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا
159

يمكنهم إلا الإقرار بها، ويلزم من الإقرار [بها] توحيد الله وإذعانهم لشرعه ورسالة
رسله، وقرأ الجميع في الأول: " لله " بلا خلاف، واختلف في الثاني والثالث، فقرأ أبو
عمرو وحده: " الله " جوابا على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: " لله " جوابا على المعنى، كأنه
قال في السؤال: لمن ملك السماوات السبع؟
وقوله سبحانه: * (فأنى تسحرون) * استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط ووضع
الأفعال والأقوال غير مواضعها ما يقع من المسحور; عبر عنهم بذلك.
وقالت فرقة: * (تسحرون) * معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لغة، والإجارة:
المنع، والمعنى: أن الله تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذه فلا مانع
له.
وقوله سبحانه: * (وإنهم لكاذبون) * أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك،
تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا، وفي قوله سبحانه: * (وما كان معه من إله) * [الآية].
دليل [التمانع] وهذا هو الفساد الذي تضمنه قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا) *. [الأنبياء: الآية 22]. والجزء المخترع محال أن تتعلق به قدرتان فصاعدا، وقد تقدم
الكلام على هذا الدليل; فأغنى عن إعادته.
وقوله: * (إذا) * جواب لمحذوف تقديره: لو كان معه [إله] إذا لذهب.
160

وقوله: * (عالم الغيب) * المعنى: هو عالم الغيب، وقرأ أبو عمرو وغيره: " عالم "
بالجر; اتباعا للمكتوبة.
وقوله سبحانه: * (قل رب إما تريني ما يوعدون * رب فلا تجعلني في القوم
الظالمين) * أمر الله تعالى نبيه - عليه السلام - أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظلمة إن
كان قضي أن يرى ذلك، " وان " شرطية و " ما " زائدة و " تريني " ذلك جزم بالشرط لزمته النون
الثقيلة وهي لا تفارق، " إما " عند المبرد، ويجوز عند سيبويه أن تفارق، ولكن استعمال
القرآن لزومها، فمن هنالك ألزمه المبرد، وهذا الدعاء فيه استصحاب الخشية والتحذير من
الأمر المعذب من أجله، ثم نظيره لسائر الأمة دعاء في حسن الخاتمة، وقوله ثانيا: " رب "
اعتراض بين الشرط وجوابه.
وقوله سبحانه: ادفع بالتي هي أحسن السيئة) * أمر بالصفح ومكارم الأخلاق، وما
كان منها لهذا فهو محكم باق في الأمة أبدا، وما كان بمعنى الموادعة فمنسوخ بآية القتال.
وقوله: * (نحن أعلم بما يصفون) * يقتضي أنها آية موادعة.
وقال مجاهد: الدفع بالتي هي أحسن: هو السلام، تسلم عليه إذا لقيته.
وقال الحسن: والله لا يصيبها / أحد حتى يكظم غيظه، ويصفح عما يكره، وفي
الآية عدة للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: اشتغل أنت بهذا وكل أمرهم إلينا، ثم أمره سبحانه بالتعوذ من
همزات الشياطين، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه; وكأنها هي التي
كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المجادلة، ولذلك اتصلت بهذه الآية، وقال ابن زيد:
همز الشيطان: الجنون، وفي " مصنف أبي داود ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إني
أعوذ بك من الشيطان: همزه، ونفخه، ونفثة ". قال أبو داود: همزة: الموتة، ونفخة:
161

الكبر، ونفثة: السحر.
قال * ع *: والنزغات وسورات الغضب من الشيطان، وهي المتعوذ منها في الآية،
وأصل الهمز: الدفع والوكز بيد أو غيرها.
قلت: قال صاحب " سلاح المؤمن ": وهمزات الشياطين: خطراتها التي تخطرها
بقلب الإنسان، انتهى.
وقال الواحدي: همزات الشياطين: نزغاتها ووساوسها، انتهى.
وقوله سبحانه: * (حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون * لعلي أعمل
صالحا فيما تركت) * * (حتى) * في هذا الموضع حرف ابتداء، والضمير في قوله: * (أحدهم) *
للكفار، وقوله: * (ارجعون) * أي: إلى الحياة الدنيا، والنون في: * (ارجعون) *: نون
العظمة; وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: " إذا عاين المؤمن الموت، قالت له الملائكة: نرجعك؟
فيقول: إلى دار الهموم والأحزان؟ بل قدما إلى الله، وأما الكافر، فيقول: * (ارجعون *
لعلى أعمل صالحا) *.
وقوله: * (كلا) *: رد وزجر.
وقوله: * (إنها كلمة هو قائلها) * تحتمل ثلاثة معان:
أحدها: الأخبار المؤكد بأن هذا الشئ يقع، ويقول هذه الكلمة.
الثاني: أن يكون المعنى: إنها كلمة لا تغني أكثر من أنه يقولها، ولا نفع له فيها ولا
غوث - الثالث: أن يكون إشارة إلى أنه لورد لعاد، والضمير في: * (ورائهم للكفار،
والبرزخ في كلام العرب: الحاجز بين المسافتين، ثم يستعار لما عدا ذلك، وهو هنا:
للمدة التي بين موت الإنسان وبين بعثه; هذا إجماع من المفسرين.
162

وقوله عز وجل: * (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم...) * الآية: قال ابن
مسعود وغيره: هذا عند النفخة الثانية وقيام الناس من القبور; فهم حينئذ لهول المطلع
واشتغال كل امرئ بنفسه قد انقطعت بينهم الوسائل، وزال انتفاع الأنساب; فلذلك نفاها
سبحانه، والمعنى: فلا أنساب نافعة، وروي عن قتادة أنه: ليس أحد أبغض إلى الإنسان
في ذلك اليوم ممن يعرف، لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة، وفي ذلك اليوم يفر
المرء من أخيه; وأمه وأبيه; وصاحبته وبنيه، ويفرح كل أحد يومئذ أن يكون له حق على
ابنه وأبيه، وقد ورد بهذا حديث، وكأن ارتفاع التساؤل لهذه الوجوه، ثم تأتي في القيامة
مواطن يكون فيها السؤال والتعارف.
قال * ع *: وهذا التأويل حسن، وهو مروي المعنى عن ابن عباس، وذكر
البزار من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ملك موكل بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف
بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه، نادى / الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان
سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي
فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا "، انتهى من العاقبة ". وروى أبو داود في " سننه " عن
عائشة رضى اله عنها أنها ذكرت النار فبكت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك؟ قالت:
ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما في ثلاثة
مواطن، فلا يذكر أحد أحدا، عند الميزان حتى يعلم: أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب
حتى يقول: * (هاؤم اقرؤوا كتابيه) * [الحاقة: 19]، حتى يعلم أين يعطى كتابه: أفي يمينه أم في
شماله، أم من وراء ظهره، وعند الصراط، إذا وضع بين ظهري جهنم "، انتهى. ولفح
النار: إصابتها بالوهج والإحراق، والكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان، وقد شبه ابن
163

مسعود ما في الآية بما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار; فإنها تكلح، ومنه كلوح
الكلب والأسد.
قلت: وفى " الترمذي " عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: * (وهم فيها
كالحون) * قال: تشويه النار، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته
السفلى حتى تضرب سرته... " الحديث قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح
غريب، انتهى.
وهذا هو المعول في فهم الآية، وأما قول البخاري: * (كالحون) * معناه:
عابسون - فغير ظاهر، ولعله لم يقف على الحديث.
وقوله سبحانه: * (ألم تكن آياتي) * أي: يقال لهم، والآيات هنا القرآن، وقرأ حمزة:
" شقاوتنا " ثم وقع جواب رغبتهم بحسب ما حتمه الله من عذابهم بقوله: * (اخسئوا فيها ولا
تكلمون) * ويقال: إن هذه الكلمة إذا سمعوها يئسوا من كل خير، فتنطبق عليهم جهنم،
وبقع اليأس - عافانا الله من عذابه بمنه وكرمه -!
وقوله: * (اخسئوا) * زجر، وهو مستعمل في زجر الكلاب.
164

وقوله عز وجل: * (إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا...) * الآية الهاء في
* (أنه) *: مبهمة: وهي ضمير الأمر والشأن، والفريق المشار إليه: كل مستضعف من
المؤمنين يتفق أن تكون حاله مع كفار مثل هذه الحال، ونزلت الآية في كفار قريش مع
صهيب، وعمار، وبلال، ونظرائهم، ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر،
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: " سخريا " بضم السين، والباقون بكسرها; فقيل هما بمعنى
واحد; ذكر ذلك الطبري.
وقال ذلك أبو زيد الأنصاري: إنهما بمعنى الهزء، وقال أبو عبيدة وغيره: إن ضم
السين من السخرة والاستخدام، وكسرها من السخر وهو الاستهزاء، ومعنى الاستهزاء
هنا أليق; ألا ترى إلى قوله * (وكنتم منهم تضحكون) *.
وقوله سبحانه: كم لبثتم في الأرض عدد سنين...) * الآية قوله: * (في الأرض) *
قال الطبري معناه: في الدنيا أحياء، وعن هذا وقع السؤال، ونسوا لفرط هول
العذاب حتى قالوا: * (يوما أو بعض يوم) *، والغرض توقيفهم على أن أعمارهم قصيرة
أداهم الكفر فيها إلى عذاب طويل، عافانا الله من ذلك بمنه وكرمه!.
وقال الجمهور: ومعناه: كم لبثتم في جوف التراب أمواتا؟ قال * ع *: وهذا هو
165

الأصوب من حيث أنكروا البعث /. وكان قولهم: إنهم لا يقومون من التراب، وقوله
آخرا: * (وأنكم إلينا لا ترجعون) * يقتضي ما قلناه.
قلت: الآيات محتملة للمعنيين، والله أعلم بما أراد سبحانه; قال البخاري: قال
ابن عباس: * (فاسأل العادين) * أي: الملائكة، انتهى.
* ص *: قرأ الجمهور: " العادين " - بتشديد الدال - اسم فاعل من " عد "، وقرأ
الحسن والكسائي في رواية: " العادين " بتخفيف الدال، أي: الظلمة، و " إن " من قوله:
* (إن لبثتم) * نافية، أي: ما لبثتم إلا قليلا، اه‍ و * (عبثا) *: معناه: باطلا، لغير غاية مرادة،
وخرج أبو نعيم الحافظ عن حنش الصنعاني عن ابن مسعود " أنه قرأ في أذن مبتلى:
* (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا...) * إلى آخر السورة، فأفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما
قرأت في أذنه؟ قال: قرأت: * (أفحسبتم...) * إلى آخر السورة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أن
رجلا موقنا قرأها على جبل لزال "، انتهى، وخرجه ابن السني أيضا، ذكره النووي.
وقوله سبحانه: * (فتعالى الله الملك الحق) *: المعنى: فتعالى الله عن مقالتهم في
دعوى الشريك والصاحبة والولد، ثم توعد سبحانه عبده الأوثان بقوله: * (فإنما حسابه عند
ربه) *، وفي حرف عبد الله: " عند ربك "، وفي حرف أبي: " عند الله " ثم أمر تعالى
نبيه صلى الله عليه وسلم بالدعاء والذكر له فقال: " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) *.
166

تفسير سورة النور
وهي مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (سورة أنزلناها وفرضناها...) * الآية معنى " فرضنا ": أوجبنا وأثبتنا،
وقال الثعلبي والواحدي: * (فرضناها) * أي: أوجبنا ما فيها من الأحكام، انتهى، وقال
البخاري: قال ابن عباس: * (سورة أنزلناها) *: بيناها، انتهى. وما تقدم أبين.
* ص *: * (فرضناها) * الجمهور: بتخفيف الراء أي: فرضنا أحكامها، وأبو عمرو
وابن كثير: بتشديد الراء: إما للمبالغة في الإيجاب، وإما لأن فيها فرائض شتى، انتهى،
والآيات البينات: أمثالها ومواعظها وأحكامها.
وقوله تعالى: * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة...) * الآية، هذه الآية
ناسخة لآية الحبس باتفاق، وحكم المحصنين منسوخ بأية الرجم والسنة المتواترة على ما تقدم
في سورة النساء، وقرأ الجمهور: " رأفة " بهمزة ساكنة; من رأف إذا رق ورحم، والرأفة
المنهي عنها هي [في] إسقاط الحد، أي: أقيموه ولابد، وهذا تأويل ابن عمر وغيره.
167

وقال قتادة وغيره: هي في تخفيف الضرب عن الزناة، ومن رأيهم أن يخفف
ضرب الخمر، والفرية دون ضرب الزنا.
وقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * أي: إغلاظا على الزناة،
وتوبيخا لهم، ولا خلاف أن الطائفة كلما كثرت فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أقل ما
يجزئ فقال الزهري: الطائفة: ثلاثة فصاعدا، وقال عطاء: لا بد من اثنين، وهذا هو
مشهور قول مالك فرآها موضع شهادة.
وقوله تعالى: * (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) * مقصد الآية تشنيع الزنا وتشنيع
أمره، وأنه محرم على المؤمنين / ويريد بقوله: * (لا ينكح) * أي: لا يطأ، فالنكاح هنا
بمعنى: الجماع; كقوله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) * [البقرة: 230]. وقد بينه صلى الله عليه وسلم في
الصحيح أنه بمعنى الوطء، حيث قال: " لا حتى تذوقي عسيلته... " الحديث، وتحتمل
الآية وجوها هذا أحسنها.
168

وقوله سبحانه: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء...) * الآية
نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قذف النساء من حيث هو أهم وأبشع، وقذف
الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، و * (المحصنات) * هنا: العفائف،
وشدد تعالى على القاذف بأربعة شهداء; رحمه بعباده، وسترا لهم، وحكم شهادة الأربعة
أن تكون على معاينة مبالغة كالمرود في المكحلة في موطن واحد، فإن اضطرب منهم واحد
170

جلد الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا،
171

وهذا يقتضى مدة أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى من تاب وأصلح من بعد
القذف، فالاستثناء غير عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واختلف في
عمله في رد الشهادة، والجمهور أنه عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته،
ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يكذب نفسه، وإلا لم تقبل، وقالت فرقة منها مالك:
توبته أن يصلح وتحسن حاله. وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاء المالكية
متى تسقط شهادة القاذف فقال ابن الماجشون: بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وغيره: لا
تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو غيره لم ترد شهادته، قال اللخمي:
شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، و * (تابوا) * معناه: رجعوا، وقد رجح الطبري
وغيره قول مالك، واختلف أيضا على القول بجواز شهادته، فقال مالك: تجوز في كل
شئ بإطلاق، وكذلك كل من حد في شئ.
وقال سحنون: من حد في شئ فلا تجوز شهادته في مثل ما حد فيه، واتفقوا فيما
أحفظ على ولد الزنا أن شهادته لا تجوز في الزنا.
وقوله سبحانه: * (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم...) *
الآية: لما رمى هلال بن أمية الواقفي زوجته بشريك بن سحماء - عزم النبي صلى الله عليه وسلم على ضربه
حد القذف; فنزلت هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح، فجمعهما صلى الله عليه وسلم في المسجد،
172

وتلاعنا، وجاء أيضا عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن، والمشهور: أن نازلة هلال
قبل، وأنها سبب الآية، والأزواج في هذه الآية: يعم المسلمات والكافرات والإماء; فكلهن
يلاعنهن الزوج; للانتفاء من الحمل، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسها، وقرأ
السبعة غير نافع: * (أن لعنت) *، و * (أن غضب) * بتشديد " أن " فيهما ونصب اللعنة
والغضب، والعذاب المدرأ في قول الجمهور: هو الحد، وجعلت اللعنة للرجل الكاذب;
لأنه مفتر مباهت، فأبعد باللعنة، وجعل الغضب، الذي هو أشد على المرأة التي باشرت
المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت - بالقول، والله أعلم وأجمع مالك وأصحابه على
وجوب اللعان بادعاء الرؤية زنا لا وطء من / الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب.
وقال مالك: إن اللعان يجب بنفي حمل يدعى قبله استبراء والمستحب من ألفاظ
اللعان أن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج: أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني،
173

وأني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة، وأن لعنة الله علي إن كنت من
الكاذبين، وأما في لعان نفي الحمل فيقول: ما هذا الولد مني، وتقول المرأة: أشهد بالله ما
زنيت، وأنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول: غضب الله علي إن كان من الصادقين، فإن
منع جهلهما من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب: أن
نفس تمام اللعان بينهما فرقة، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أبدي
باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب * (لولا) * محذوف تقديره: لكشف الزناة بأيسر
من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا.
وقوله تعالى: * (إن الذين جاءوا بالإفك...) * الآية: نزلت في شأن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها ففي " البخاري " في غزوة بني المصطلق عن عائشة رضي الله عنها
قالت: وأنزل الله العشر الآيات في برائتي: * (إن الذين جاءوا بالإفك...) * الآيات:
والإفك: الزور والكذب، وحديث الإفك في " البخاري " ومسلم وغيرهما مستوعب،
والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين.
وقوله سبحانه: * (لا تحسبوه) * خطاب لكل من ساءه ذلك من المؤمنين.
وقوله تعالى: * (بل هو خير لكم) * معناه: أنه تبرئة في الدنيا، وترفيع من الله تعالى
في أن نزل وحيه بالبراءة من ذلك، وأجر جزيل في الآخرة، وموعظة للمؤمنين في غابر
الدهر، و * (اكتسب) *: مستعملة في المأثم، والإشارة بقوله تعالى: * (والذي تولى كبره) * هي
إلى: عبد الله بن أبي ابن سلول وغيره من المنافقين، وكبره: مصدر كبر الشئ وعظم
ولكن استعملت العرب ضم الكاف في السن.
وقوله تعالى: * (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا...) * الآية:
الخطاب للمؤمنين حاشى من تولى كبره، وفي هذا عتاب للمؤمنين، أي: كان الإنكار واجبا
عليهم، ويقيس فضلاء المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يبعد فيهم فأم المؤمنين
أبعد، لفضلها، ووقع هذا النظر السديد من أبي أيوب وامرأته; وذلك أنه دخل عليها فقالت
له: " يا أبا أيوب، أسمعت ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذب; أكنت أنت يا أم أيوب
174

تفعلين ذلك؟ قالت: لا، والله، قال: فعائشة - والله - - أفضل منك، قالت أم أيوب:
نعم " فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين; إذ لم يفعله جميعهم،
والضمير في قوله: * (لولا جاءوا) * الذين تولوا كبره.
وقوله تعالى: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما
أفضتم فيه عذاب عظيم) * هذا عتاب من الله تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديث وإن لم
يكن المخبر والمخبر مصدقين، ولكن نفس التعاطي والتلقي من لسان إلى لسان والإفاضة
في الحديث - هو الذي وقع العتاب فيه، وقرأ ابن يعمر وعائشة (رضي الله عنها) وهي
أعلم الناس بهذا الأمر: " إذ تلقونه " / - بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف -، ومعنى
هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل ولقا إذا كذب، وحكى الطبري: أن هذه اللفظة
مأخوذة من: الولق الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشئ; يقال: ولق في سيره إذا أسرع
والضمير في: * (تحسبونه) * للحديث والخوض فيه والإذاعة له.
وقوله تعالى: * (سبحانك) * أي: تنزيها لله أن يقع هذا من زوج نبيه صلى الله عليه وسلم وحقيقة
البهتان: أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة: أن يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم
تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
175

وقوله سبحانه: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا...) * الآية: قال
مجاهد وغيره: الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا: الحدود، وفي
الآخرة: النار، وقالت فرقة: الآية عامة في كل قاذف، و [هذا] هو الأظهر.
وقوله تعالى: * (والله يعلم) * معناه: يعلم البريء من المذنب، ويعلم سائر الأمور،
وجواب * (لولا) * أيضا محذوف تقديره: لفضحكم بذنوبكم، أو لعذبكم ونحوه.
وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان...) * الآية: خطوات
جمع خطوة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكان المعنى: لا تمشوا في سبله وطرقه.
قلت: وفى قوله سبحانه: * (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد
أبدا) *: ما يردع العاقل عن الاشتغال بغيره، ويوجب له الاهتمام بإصلاح نفسه قبل هجوم
منيته وحلول رمسه، وحدث أبو عمر في " التمهيد " بسنده عن إسماعيل بن كثير قال:
سمعت مجاهدا يقول: " إن الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت
الملائكة: ولك مثله، وإذا ذكره بشر، قالت الملائكة: ابن آدم المستور عورته، أربع على
نفسك، واحمد الله الذي يستر عورتك " انتهى، وروينا في " سنن أبي داود " عن سهل بن
معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حمى مؤمنا من منافق - أراه قال:
بعث الله ملكا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلما بشئ يريد به شينه،
حبسه الله - عز وجل - على جسر جهنم حتى يخرج مما قال "، وروينا أيضا عن أبي
داود بسنده عن جابر بن عبد الله وأبى طلحة بن سهل الأنصاريين أنهما قالا: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه
من عرضه - إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلما في
موضع ينتقص فيه من عرضه، وينتهك فيه من حرمته - إلا نصره الله في موضع يحب فيه
176

نصرته "، انتهى، ثم ذكر تعالى أنه يزكي من يشاء ممن سبقت له السعادة، وكان عمله
الصالح أمارة على سبق السعادة له.
وقوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم...) * الآية: المشهور من الروايات أن
هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة، وكان من قرابة أبي
بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكنته، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أنه: وقع مسطح
مع من وقع; فحلف أبو بكر: لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح معتذرا /
وقال: إنما كنت أسمع ولا أقول، فنزلت الآية، والفضل: الزيادة في الدين، والسعة هنا:
هي المال، ثم قال تعالى: * (إلا تحبون أن يغفر الله لكم...) * الآية، أي: كما تحبون عفو
الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أن أبا بكر قال: بلى، إني أحب
أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان يجري عليه من النفقة والإحسان.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وفي هذه الآية دليل على أن الحنث إذا رآه الإنسان
خيرا هو أولى من البر، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير،
وليكفر عن يمينه " انتهى. وقال بعض الناس: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل من
177

حيث لطف سبحانه بالقذفة العصاة بهذا اللفظ.
قال * ع *: وإنما تعطي الآية تفضلا من الله تعالى في الدنيا، وإنما الرجاء في
الآخرة، إما أن الرجاء في هذه الآية بقياس، أي: إذا أمر أولي الفضل والسعة بالعفو، فطرد
هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رب غيره، وإنما آيات الرجاء: قوله تعالى: * (قل
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * [الزمر: 53]. وقوله تعالى: * (الله لطيف بعباده
178

[الشورى: 19] وسمعت أبي رحمه الله يقول: أرجى آية في كتاب الله عندي قوله تعالى:
* (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * [الأحزاب: 47]. وقال بعضهم: أرجى آية قوله
تعالى: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * [الضحى: 5].
وقوله تعالى: * (إن الذين يرمون المحصنات...) * الآية: قال ابن جبير: هذه الآية
خاصة في رماة عائشة، وقال ابن عباس وغيره: بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لمكانهن
من الدين ولم يقرن بآخر الآية توبة.
قال * ع *: وقاذف غيرهن له اسم الفسق، وذكرت له التوبة، ولعن الدنيا:
الإبعاد، وضرب الحد، والعامل في قوله: * (يوم) * فعل مضمر تقديره: يعذبون يوم أو نحو
هذا، والدين في هذه الآية: الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود وأبي: * (يومئذ يوفيهم الله
الحق دينهم) * بتقديم الصفة على الموصوف.
وقوله: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * يقوي قول من ذهب: أن الآية في
المنافقين عبد الله بن أبي وغيره.
179

وقوله تعالى: * (الخبيثات للخبيثين...) * الآية: قال ابن عباس وغيره: الموصوف
بالخبث والطيب: الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد: الموصوف بالخبث والطيب، النساء
والرجال، ومعنى هذا التفريق بين حكم ابن أبي وأشباهه وبين حكم النبي صلى الله عليه وفضلاء
أصحابه وأمته.
وقوله تعالى: * (أولئك مبرؤون مما يقولون) * إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل:
الإشارة ب‍ * (أولئك) * إلى عائشة - رضي الله عنها - ومن في معناها.
وقوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) * سبب هذه الآية فيما
روى الطبري: أن امرأة من الأنصار قالت: يا رسول الله، إني أكون في منزلي على
الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها، لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل علي رجل
من أهلي، وأنا على تلك الحال; فنزلت هذه الآية، ثم هي عامة في الأمة غابر الدهر،
وبيت الإنسان: هو الذي لا أحد معه فيه، أو البيت الذي فيه زوجته أو أمته، وما عدا هذا
فهو غير بيته، و * (تستأنسوا) * معناه: تستعلموا / من في البيت، وتستبصروا، تقول:
آنست: إذا علمت عن حس وإذا أبصرت; ومنه قوله تعالى: * (آنستم منهم رشدا) *
[النساء: 6].
و " استأنس " وزنه: استفعل، فكأن المعنى في * (تستأنسوا) *: تطلبوا أن تعلموا ما
يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله،
فذلك يكون بالاستيذان على من فيه، أو بأن يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه، ويتأنى
قدر ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك.
وذهب الطبري في: * (تستأنسوا) * إلى أنه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم
بالتنحنح والاستيذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أن قد شعر بكم.
180

قال * ع *: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس، وقرأ أبي وابن عباس:
" حتى تستأذنوا وتسلموا " وصورة الاستيذان أن يقول الإنسان: السلام عليكم، أأدخل؟ فان
أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا ثم ينصرف، جاءت
في هذا كله آثار، والضمير في قوله: * (تجدوا فيها) *: للبيوت التي هي بيوت الغير، وأسند
الطبري عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما
أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مغتبط; لقوله
تعالى: * (هو أزكى لكم) *.
وقوله تعالى: * (والله بما تعملون عليم) * توعد لأهل التجسس.
وقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة...) * الآية: أباح
سبحانه في هذه الآية رفع الاستيذان في كل بيت لا يسكنه أحد; لأن العلة في الاستيذان
خوف الكشفة على المحرمات، فإذا زالت العلة زال الحكم، وباقي الآية بين ظاهر التوعد،
وعن مالك رحمه الله: أنه بلغه أنه كان يستحب إذا دخل البيت غير المسكون، أن يقول
181

الذي يدخله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، انتهى، أخرجه في " الموطإ ".
وقوله تعالى: * (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) * أظهر ما في * (من) * أن تكون
للتبعيض، لأن أول نظرة لا يملكها الإنسان; وإنما يغض فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض
بخلاف الفروج; إذ حفظها عام لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك
كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وحفظ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا
يحل.
قلت: النواظر صوارم مشهورة فأغمدها من في غمد الغض والحياء من نظر المولى
وإلا جرحك بها عدو الهوى، لا ترسل بريد النظر فيجلب لقلبك رديء الفكر، غض البصر
يورث القلب نورا، وإطلاقه يقدح في القلب نارا. انتهى من " الكلم الفارقية في الحكم
الحقيقية ".
قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: * (ذلك أزكى لهم) * يريد: أطهر
وأنمى، يعنى: إذا غض بصره كان أطهر له من الذنوب وأنمى لعمله في الطاعة.
قال ابن العربي: ومن غض البصر: كف التطلع إلى المباحات من زينة الدنيا
وجمالها; كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم
زهرة الحياة / الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى) * [طه: 131]. يريد ما عند الله
تعالى، انتهى.
وقوله تعالى: * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن...) * الآية: أمر الله تعالى
النساء في هذه الآية بغض البصر عن كل ما يكره - من جهة الشرع - النظر إليه، وفي حديث
أم سلمة قالت: كنت أنا وعائشة عند النبي صلى الله عليه وسلم فدخل ابن أم مكتوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" احتجبن، فقلن: إنه أعمى! فقال صلى الله عليه وسلم: " أفعمياوان أنتما " و * (من) * الكلام فيها كالتي
قبلها.
182

قال ابن العربي في " أحكامه ": وكما لا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل
للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقته بها كعلاقتها به، وقصده منها كقصدها منه، ثم
استدل بحديث أم سلمة المتقدم، انتهى. وحفظ الفرج يعم الفواحش، وستر العورة، وما
دون ذلك مما فيه حفظ، ثم أمر تعالى بألا يبدين زينتهن إلا ما يظهر من الزينة; قال ابن
مسعود: ظاهر الزينة: هو الثياب.
وقال ابن جبير وغيره: الوجه والكفان والثياب.
وقيل: غير هذا.
قال زينتها * ع * ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي، وأن
تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كل ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة
حركة فيما لابد منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المعفو عنه، وذكر أبو
عمر: الخلاف في تفسير الآية كما تقدم; قال وروي عن أبي هريرة في قوله تعالى: * (ولا
يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) * قال: القلب والفتخة.
183

قال جرير بن حازم: القلب: السوار، والفتخة: الخاتم، انتهى من " التمهيد ".
وقوله تعالى: * (وليضربن بخمورهن على جيوبهن) *.
قال ابن العربي: الجيب هو الطوق، والخمار: هو المقنعة، انتهى.
قال * ع *: سبب الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة
سدلنها من وراء الظهر; فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك، فأمر الله تعالى بلي
الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك يستر جميع ما ذكرناه، وقالت عائشة - رضي الله عنها -
رحم الله المهاجرات الأول; لما نزلت هذه الآية عمدن إلى أكثف المروط فشققنها
أخمرة، وضربن بها على الجيوب.
وقوله سبحانه: * (أو نسائهن) * يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين،
وكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح أن يمنع نساء أهل الذمة أن يدخلن الحمام مع نساء
المسلمين فامتثل.
وقوله سبحانه: * (أو ما ملكت أيمانهن) * يدخل فيه الإماء الكتابيات والعبيد.
وقال ابن عباس وجماعة: لا يدخل العبد على سيدته فيرى شعرها إلا أن يكون
وغدا.
وقوله تعالى: * (أو التابعين) * يريد الأتباع ليطعموا، وهم فسول الرجال الذين لا إربة
لهم في الوطء، ويدخل في هذه الصنيفة: المجبوب، والشيخ الفاني، وبعض المعتوهين،
والذي لا إربة له من الرجال قليل، والإربة: الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس،
184

/ ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم، و * (يظهروا) * معناه: يطلعوا بالوطء.
وقوله تعالى: * (ولا يضربن بأرجلهن...) * الآية، قيل: سببها أن امرأة مرت على
قوم فضربت برجلها الأرض فصوت الخلخال، وسماع صوت هذه الزينة أشد تحريكا
للشهوة من إبدائها; ذكره الزجاج، ثم أمر سبحانه بالتوبة مطلقة عامة من كل شئ صغير
وكبير.
وقوله تعالى: * (وأنكحوا الأيامى منكم) * الأيم: من لا زوجة له أو لا زوج لها;
فالأيم: يقال للرجل والمرأة.
وقوله: * (والصالحين) * يريد: للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شخص
شخص، ففي نازلة: يتصور وجوبه، وفي نازلة: الندب وغير ذلك حسبما هو مذكور في
كتب الفقه; قال ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: * (والصالحين من عبادكم) *
الأظهر فيه: أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادة في
العبيد والإماء; كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى. ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء
المتزوجين; طلب رضا الله عنهم، واعتصاما من معاصيه، ثم أمر تعالى كل من يتعذر عليه
النكاح أن يستعفف حتى يغنيهم الله من فضله، إذ الغالب من موانع النكاح عدم المال،
فوعد سبحانه المتعفف بالغنى. والمكاتبة: مفاعلة من حيث يكتب هذا على نفسه وهذا
على نفسه، ومذهب مالك: أن الأمر بالكتابة هو على الندب.
وقال عطاء: ذلك واجب، وهو ظاهر مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
185

وقوله: * (إن علمتم فيهم خيرا) * قالت فرقة: الخير هنا المال.
وقال مالك: إنه ليقال: الخير القوة والأداء، وقال عبيدة السلماني: الخير هو: الصلاح في
الدين.
وقوله تعالى: * (وآتوهم) * قال المفسرون: هو أمر لكل مكاتب أن يضع عن العبد من
مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على الندب، ولم ير لقدر الوضيعة حدا، واستحسن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يوضع عنه الربع، وقيل: الثلث، وقيل: العشر،
ورأى عمر أن يكون ذلك من أول نجومه; مبادرة إلى الخير، وخوف أن لا يدرك آخرها،
ورأى مالك وغيره: أن يكون الوضع من آخر نجم; وعلة ذلك أنه: ربما عجز العبد فرجع
هو وماله إلى السيد، فعادت إليه، وضيعته وهي شبه الصدقة.
قلت: والظاهر أن هذا لا يعد رجوعا كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعي
وغيره: أن الوضيعة واجبة يحكم بها.
وقال الحسن وغيره: الخطاب بقوله تعالى: * (وآتوهم) *: للناس أجمعين في أن
يتصدقوا على المكاتبين.
وقال زيد بن أسلم: إنما الخطاب لولاه الأمور.
وقوله سبحانه: * (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا الآية: روي أن
سبب الآية هو أن عبد الله بن أبي ابن سلول كانت له أمة، فكان يأمرها بالزنا والكسب به،
فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية فيه، وفيمن فعل فعله من المنافقين.
186

وقوله: * (إن أردن تحصنا) * راجع إلى الفتيات; وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن
فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت
الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد: لا تكرهها: لأن الإكراه لا يتصور فيها
وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه، وذهب هذا النظر عن كثير من
المفسرين /: فقال بعضهم قوله: * (إن أردن) * راجع إلى الأيامى في قوله: * (وأنكحوا
الأيامى منكم) *، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله * (إن أردن) * ملغي ونحو هذا مما هو
ضعيف، والله الموفق للصواب برحمته.
قلت: وما اختاره * ع * هو الذي عول عليه ابن العربي ونصه، وإنما ذكر الله
تعالى إرادة التحصن من المرأة; لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأما إذا كانت هي راغبة
في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إن شاء الله، انتهى من " الأحكام " وقرأ ابن مسعود
وغيره: " فإن الله من بعد إكراههن [لهن] غفور رحيم " ثم عدد سبحانه نعمة على
المؤمنين في قوله: * (ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم) * ليقع
التحفظ مما وقع أولئك فيه.
187

وقوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض...) * الآية: النور في كلام العرب
الأضواء المدركة بالبصر، ويستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح; فيقال: كلام له
نور، ومنه الكتاب المنير، والله تعالى ليس كمثله شئ فواضح أنه ليس من الأضواء
المدركة، ولم يبق إلا أن المعنى منور السماوات والأرض، أي: به وبقدرته أنارت
أضواؤها، واستقامت أمورها، كما تقول: الملك نور الأمة، أي: به قوام أمورها وصلاح
جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة الله تعالى حقيقة محضة، وقرأ
أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: " الله نور " - بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء -
والضمير في * (نوره) * يعود على الله تعالى; قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق كما
تقول: ناقة الله، وبيت الله، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم،
وقيل: هو المؤمن، وقيل: هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أبي بن كعب: " مثل نور
المؤمنين " والمشكاة: هي الكوة غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يطرد
فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى قول من قال: الممثل محمد صلى الله عليه وسلم - وهو
قول كعب الأحبار - فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوءة وما يتصل
بها من علمه وهداه، والزجاجة: قلبه، والشجرة المباركة: هي الوحي، والزيت: هو
الحجج والبراهين. وعلى قول من قال: إن الممثل به هو المؤمن - وهو قول أبي بن
كعب - -، فالمشكاة صدره، والمصباح: الإيمان والعلم، والزجاجة: قلبه، والشجرة
القرآن، وزيتها: هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قول أبي فهو على أحسن الحال يمشي
في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أن يريد مثل
نور الله الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه
الصفة; التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أيها البشر; وقال أبو موسى:
المشكاة: الحديدة أو الرصاصة التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأول أصح.
188

وقوله: * (في زجاجة) * لأنه جسم شفاف، المصباح فيه أنور منه في غير الزجاجة،
والمصباح: الفتيل بناره.
وقوله: * (كأنه كوكب دري) * أي / في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إما أن
يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها; لصفائها وجودة جوهرها، وهذا
التأويل أبلغ في التعاون على النور; قال الضحاك: الكوكب الدري: الزهرة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " توقد " - بفتح التاء والدال -، والمراد: المصباح، وقرأ
نافع وغيره: " يوقد " أي: المصباح.
وقوله: * (من شجرة) * أي من زيت شجرة، والمباركة: المنماة.
وقوله تعالى: * (لا شرقية ولا غربية) * قال الحسن: أي: ليست هذه الشجرة من
شجر الدنيا; وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية
وإما غربية، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: * (يكاد زيتها يضيء...) * الآية مبالغة في صفة صفائه وحسنه.
وقوله: * (نور على نور) * أي: هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النور الممثل به، وفي
هذا الموضع تم المثال، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * قال ابن عباس وغيره: هي المساجد
المخصوصة بعبادة الله التي من عادتها أن تنور بهذا النوع من المصابيح. وقوله:
* (أذن الله) *: بمعنى: أمر وقضى، و * (ترفع) * قيل: معناه تبنى وتعلى; قاله مجاهد
وغيره; كقوله تعالى: * (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت...) * [البقرة: 127].
189

وقال الحسن: معناه تعظم ويرفع شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة
قولا وفعلا، و * (يسبح له فيها) * أي: في المساجد، * (بالغدو والآصال) * قال ابن عباس:
أراد ركعتي الضحى. [والعصر، وإن ركعتي الضحى] لفي كتاب الله وما يغوص عليها
إلا غواص; ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم رضاه، لا
يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شئ من أمور الدنيا.
قلت: وعن عمر - رضي الله عنه - - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يجمع الناس في صعيد
واحد، ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي، فينادي مناد: سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم
ثلاث مرات، ثم يقول: أين الذين كانت * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * [السجدة: 16]،
ثم يقول: أين الذين كانوا * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * إلى آخر الآية، ثم
ينادي مناد سيعلم أهل الجمع لمن الكرم اليوم، ثم يقول: أين الحمادون الذين يحمدون
ربهم؟ " مختصرا رواه الحاكم في " المستدرك على الصحيحين " وله طرق عن أبي
إسحاق، انتهى من " السلاح "، ورواه أيضا ابن المبارك من طريق ابن عباس قال: " إذا كان
يوم القيامة نادى مناد: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحامدون لله تعالى على
كل حال، فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثانية: ستعلمون من أصحاب الكرم
ليقم الذين كانت جنوبهم تتجافى عن المضاجع; يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم
ينفقون; قال: فيقومون، فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي ثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب
الكرم; ليقم الذين كانت: * (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة
يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار) * فيقومون، فيسرحون إلى الجنة ". انتهى من
" التذكرة ". والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة لله.
وقال الحسن: هي الزكاة المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة،
190

ومعنى الآية: إن ذلك اليوم لشدة هوله القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة.
/ قلت: ومن " الكلم الفارقية ": سعادة القلب إقباله على مقبله والعالم بحال مآله
ومنقلبه، القلوب بحار جواهرها المعارف، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة،
غواص بحر الصور يغوص بصورته في طلب مكسبه، والعارف يغوص بمعنى قلبه في بحار
غيب ربه، فيلتقط جواهر الحكمة ودرر الدراية، قلوب العارفين كالبحار، تنعقد في أصداف
ضمائرهم جواهر المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي ولم إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه
ما عنده، أما من بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس، أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس،
انتهى.
قلت: فإن أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلا على طاعة مولاك;
فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
قال الواحدي: تتقلب فيه القلوب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك،
والإبصار تتقلب في أي ناحية يؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال، ومن أي جهة يؤتون
كتبهم، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ليجزيهم) * أي فعلوا ذلك ليجزيهم " أحسن ما عملوا " أي " ثواب
أحسن ما عملوا، ولما ذكر تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبهم عقب ذلك بذكر الكفرة
وأعمالهم، فقال: * (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة) * وهي جمع قاع، والقاع:
المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب‍ * (جاءه) *: جاء موضعه الذي تخيله فيه، ويحتمل
أن يعود الضمير في: * (جاءه) * على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يدل
عليه الظاهر تقديره: فكذلك الكافر يوم القيامة، يظن عمله نافعا حتى إذا جاءه لم يجده
شيئا.
وقوله: * (ووجد الله عنده) * أي بالمجازات والضمير في * (عنده) * عائد على العمل،
وباقي الآية وعيد بين.
191

وقوله تعالى: * (أو كظلمات) * عطف على قوله: * (كسراب) * وهذا المثال الأخير تضمن
صفة أعمالهم في الدنيا، أي أنهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه
الأشياء، وذهب بعض الناس إلى أن في هذا المثال أجزاء تقابل أجزاء من الممثل به فقال
الظلمات: الأعمال الفاسدة والمعتقدات الباطلة، والبحر اللجي: صدر الكافر وقلبه، واللجي
معناه: ذو اللجة وهي معظم الماء وغمرة، واجتماع ما به أشد لظلمته، والموج، هو الضلال
والجهالة التي قد غمرت قلبه، والسحاب هو شهوته في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
قال * ع *: وهذا التأويل سائغ وألا يقدر هذا التقابل سائغ.
وقوله: * (إذا أخرج يده لم يكد يراها) * لفظ يقتضي مبالغة الظلمة، واختلف في هذه
اللفظة، هل معناها أنه لم يريده البتة؟ أو المعنى أنه رآها بعد عسر وشدة وكاد ألا يراها،
ووجه ذلك أن " كاد " إذا صحبها حرف النفي، وجب الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها
انتفى الفعل، وكاد معناها: قارب.
وقوله تعالى: * (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) * قالت فرقة: يريد في
الدنيا، أي: من لم يهده الله لم يهتد، وقالت فرقة: أراد في الآخرة، أي: من لم
يرحمه الله وينور حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له.
قال * ع *: والأول أبين / وأليق بلفظ الآية، وأيضا فذلك متلازم، ونور الآخرة
إنما هو لمن نور قلبه في الدنيا.
وقوله تعالى: * (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض...) * الآية: الرؤية
هنا قلبية، والتسبيح: التنزيه والتعظيم، والآية عامة عند المفسرين لكل شئ من العقلاء
والجمادات.
192

وقوله تعالى: * (كل قد علم صلاته وتسبيحه) * قال الزجاج وغيره: المعنى: كل قد
علم [الله] صلاته وتسبيحه.
وقال الحسن: المعنى: كل قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه.
وقالت فرقة: المعنى: كل قد علم صلاة الله وتسبيح الله اللذين أمر بهما وهدى
إليهما، فهذه إضافة خلق إلى خالق، وباقي الآية وعيد، و * (يزجي) * معناه: يسوق،
والركام، الذي يركب بعضه بعضا ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخاري: * (من خلاله) *
أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى.
وقوله تعالى: * (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) * قيل: ذلك حقيقة، وقد
جعل الله في السماء جبالا من برد، وقالت فرقة: ذلك مجاز، وإنما أراد وصف كثرته،
وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم.
قلت: وحمل اللفظ على حقيقته أولى إن لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب " الفرج "
بعد الشدة " للقاضي أبي على التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدارقطني والمختصين
به - قال: أخبرنا أبو بكر الصولي عن بعض العلماء قال: رأيت امرأة بالبادية، وقد جاء البرد
فذهب بزرعها، فجاء الناس يعزونها، فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنت
المأمول لأحسن الخلف وبيدك التعويض مما تلف، فافعل بنا ما أنت أهله، فإن أرزاقنا
عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرح حتى مر رجل من الأجلاء، فحدث بما كان;
فوهب لها خمسمائة دينار، فأجاب الله دعوتها وفرج في الحين كربتها، انتهى. وال‍ * (سنا) *
مقصورا: الضوء، وبالمد: المجد، والباء في قوله * (بالأبصار) * يحتمل أن تكون زائدة.
193

وقوله سبحانه: * (والله خلق كل دابة من ماء) * الآية آية اعتبار، والدابة: كل ما دب
من جميع الحيوان، وقوله: * (من ماء) * قال الجمهور: يعني أن خلقة كل حيوان فيها ماء;
كما خلق آدم من الماء والطين، وقال النقاش: أراد مني الذكور، والمشي على البطن:
للحيات، والحوت، والدود، وغيره، وعلى رجلين: للإنسان، والطير إذا مشى، وعلى
أربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أبي بن كعب: " ومنهم من يمشي على أكثر " فعمم
بهذه الزيادة جميع الحيوان.
وقوله تعالى: * (لقد أنزلنا آيات مبينات) * يعم كل ما نصب الله تعالى من آية.
وقوله تعالى: * (ويقولون) * يعني المنافقين; روي أن رجلا من المنافقين اسمه بشر
دعاه يهودي إلى التحاكم عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان المنافق مبطلا، فأبى، ودعا اليهودي إلى
كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية، فيه، والحيف: الميل.
وقوله سبحانه: * (إنما كان قول المؤمنين...) * الآية المعنى: إنما كان الواجب أن
يقوله المؤمنون إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله - سمعنا وأطعنا.
وقوله سبحانه: * (ومن يطع / الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) *
قال الغزالي في " المنهاج ": التقوى في القرآن تطلق على ثلاثة أشياء:
أحدها: بمعنى الخشية والهيبة; قال الله عز وجل: * (وإياي فاتقون) * [البقرة: 41].
وقال سبحانه: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله [البقرة: 281].
والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة; قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته) *
[آل عمران: 102]. قال ابن عباس: أطيعوا الله حق طاعته، وقال مجاهد: هو أن يطاع فلا
يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر.
194

والثالث: بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون
الأوليين; ألا ترى أن الله تعالى يقول: * (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك
هم الفائزون) * ذكر الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلمت أن حقيقة التقوى معنى سوى
الطاعة والخشية، وهي تنزيه القلب عن الذنوب، انتهى.
وقوله تعالى: * (وأقسموا بالله جهد أيمانهم...) * الآية: جهد اليمين: بلوغ الغاية في
تعقيدها، و * (ليخرجن) * معناه: إلى الغزو، وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دعوا إلى
الله ورسوله.
وقوله تعالى: * (قل لا تقسموا طاعة معروفة) * يحتمل معاني:
أحدها: النهي عن القسم الكاذب; إذ قد عرف أن طاعتهم دغلة فكأنه يقول: لا
تغالطوا فقد عرف ما أنتم عليه.
والثاني: أن المعنى: لا تتكلفوا القسم; فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة أمثل
وأجدر بكم، وفي هذا التأويل إبقاء عليهم، وقيل غير هذا.
وقوله: * (تولوا) * معناه: تتولوا، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم هو التبليغ، والذي حمل
الناس هو السمع والطاعة واتباع الحق، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: * (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم...) *
الآية عامة لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في أن يملكهم الله البلاد كما هو الواقع، فسبحانه ما أصدق
وعده! وقال الضحاك في كتاب " النقاش ": هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور، واللام في
* (ليستخلفنهم) * لأم القسم.
وقوله: * (يعبدونني) * فعل مستأنف، أي: هم يعبدونني.
195

وقوله: * (ومن كفر) * يحتمل أن يريد كفر هذه النعم، ويحتمل الكفر المخرج عن
الملة عياذا بالله من سخطه! وباقي الآية بين مما تقدم في غيرها.
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت إيمانكم) * الآية: قيل:
" الذين ملكت أيمانهم ": الرجال والنساء، ورجحه الطبري، وقيل: الرجال خاصة، وقيل:
النساء خاصة، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء: أن الله تعالى أدب عباده بأن يكون
العبيد والأطفال الذين عقلوا معاني الكشفة ونحوها - يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات
الثلاث، وهي الأوقات التي تقتضي عادة الناس الانكشاف فيها وملازمة التعري في
المضاجع، وهي: عند الصباح، وفي وقت القائلة وهي الظهيرة; لأن النهار ويظهر فيها إذا
علا واشتد حره، وبعد العشاء; لأنه وقت التعري للنوم، وأما في غير هذه الأوقات فالعرف
من الناس التحرز / والتحفظ فلا حرج في دخول هذه الصنيفة بغير إذن; إذ هم طوافون
يمضون ويجيئون، لا يجد الناس بدا من ذلك.
وقوله: * (بعضكم على بعض) * بدل من قوله: * (طوافون) *، * (وثلاث مرات) * نصب
على الظرف; لأنهم لم يؤمروا بالاستيذان ثلاثا; وإنما أمروا بالاستيذان في ثلاث مواطن،
فالظرفية في ثلاث بينة.
وقوله سبحانه: * (كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) * بين للمتأمل.
وقوله سبحانه: * (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم...) * الآية: أمر تعالى في هذه الآية
أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستيذان في كل وقت، وهذا بيان من الله
عز وجل.
196

وقوله تعالى: * (كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم) * - بين لا يحتاج إلى
تفسير.
* (والقواعد من النساء) *: هن اللواتي قد أسنن وقعدن عن الولد، واحدتهن قاعد،
وقال ربيعة: هي هنا التي تستقذر من كبرها، قال غيره: وقد تقعد المرأة عن الولد وفيها
مستمتع، ولما كان الغالب من النساء أن ذوات هذا السن لا مذهب للرجال فيهن - أبيح لهن
ما لم يبح لغيرهن، وقرأ ابن مسعود وأبي " أن يضعن من ثيابهن " والعرب تقول: امرأة
واضع للتي كبرت، فوضعت خمارها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب ألا يقصدن به
التبرج وإبداء الزينة; فرب عجوز يبدو منها الحرص على أن يظهر لها جمال، والتبرج:
طلب البدو والظهور للعين، ومنه: بروج مشيدة، والذي أبيح وضعه لهن الجلباب الذي
فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود وغيره، ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن،
واستعفافهن عن وضع الثياب، والتزامهن ما يلتزم الشواب من الستر - أفضل لهن وخير.
وقوله تعالى: " والله سميع عليم أي: سميع لما يقول كل قائل وقائلة، عليم بمقصد
كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير.
وقوله تعالى: * (ليس على الأعمى حرج) * إلى قوله * (كذلك يبين الله لكم الآيات
لعلكم تعقلون) * ظاهر الآية وأمر الشريعة أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه
العذر، وتقتضي نيتهن الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أن يكون يقع منهم الأنقص، فالحرج
مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصات يطول ذكرها، وذكر الله تعالى
197

بيوت القرابات، وسقط منها بيوت الأبناء; فقال المفسرون: ذلك لأنها داخلة في قوله:
* (من بيوتكم) * لأن بيت ابن الرجل بيته.
وقوله تعالى: * (أوما ملكتم مفاتحه) * يريد ما خزنتم سعيد وصار في قبضتكم، فمعظمه ما
ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضحاك ومجاهد، وعند جمهور
المفسرين: يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والأجراء بالمعروف. وقرأ ابن جبير: " ملكتم
مفاتيحه " مبنيا للمفعول وزيادة ياء بين التاء والحاء، وقرن تعالى في هذه للآية الصديق
بالقرابة المحضة الوكيدة; لأن قرب المودة لصيق; قال معمر: قلت لقتادة: ألا أشرب من
هذا الجب؟ قال: أنت لي صديق، فما هذا الاستيذان؟ قال ابن عباس في " كتاب
النقاش ": الصديق أوكد من القرابة; ألا ترى استغاثة الجهنميين: * (فما لنا من شافعين *
ولا صديق حميم) * [الشعراء: 100، 101].
وقوله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) *: رد لمذهب جماعة
من العرب كانت / لا تأكل أفذاذا البتة، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه،
وأن إحضار الأكيل لحسن ولكن بألا يحرم الانفراد، قال البخاري: أشتاتا وشتى واحد،
انتهى.
وقال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: [" إن دماءكم وأموالكم
عليكم حرام " الحديث، وبقوله تعالى: * (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا) *
198

الآية، وبقوله عليه السلام] من حديث ابن عمر: " لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا
بإذنه... " الحديث.
قلت: والحق أن لا نسخ في شئ مما ذكر، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
وقوله سبحانه: * (فإذا دخلتم بيوتا) *: قال النخعي: أراد المساجد، والمعنى:
سلموا على من فيها، فإن لم يكن فيها أحد فالسلام أن يقول:
السلام على رسول الله صلى عليه وسلم
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
وقال ابن عباس وغيره: المراد البيوت المسكونة: أي: سلموا على من فيها،
[قالوا: ويدخل في ذلك غير المسكونة]، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين.
قلت: وفى " سلاح المؤمن "، وعن ابن عباس في قوله عز وجل: * (فإذا دخلتم بيوتا
199

فسلموا على أنفسكم) * قال: هو المسجد إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين " رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط الشيخين، يعني
البخاري ومسلما، انتهى وهذا هو الصحيح عن ابن عباس، وفهم النووي أن الآية في
البيوت المسكونة، قال: ففي الترمذي عن أنس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " يا بني، إذا
دخلت على أهلك، فسلم، يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك " قال الترمذي: حديث
حسن صحيح، وفي أبي داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة كلهم ضامن على
الله عز وجل: [رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل] فهو ضامن على الله تعالى
حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة، ورجل راح إلى المسجد; فهو
ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أجر وغنيمة; ورجل
دخل بيته بسلام; فهو ضامن على الله تعالى "، حديث حسن رواه أبو داود بإسناد حسن،
ورواه آخرون، والضمان: الرعاية للشيء والمعنى: أنه في رعاية الله عز وجل، انتهى.
وقوله تعالى: * (تحية من عند الله مباركة) * وصفها تعالى بالبركة; لأن فيها الدعاء
واستجلاب مودة المسلم عليه.
قلت: وقد ذكرنا في سورة النساء: ما ورد في المصافحة من رواية ابن السني قال
النووي: وروينا في " سنن " أبي داود والترمذي وابن ماجة عن البراء بن عازب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا " انتهى.
والكاف من قوله: * (كذلك) *: كاف تشبيه; وذلك: إشارة إلى هذه السنن.
وقال أيضا بعض الناس في هذه الآية: أنها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة.
قال * ع *: والنسخ لا يتصور في شئ من هذه الآيات، بل هي محكمة، أما
200

قوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * [البقرة: 188] ففي التعدي والخدع ونحوه، وأما
هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها - استباحة طعامها على هذه الصفة،
وأما آية الإذن فعله إيجاب الاستيذان خوف الكشفة، فإذا استأذن المرء ودخل المنزل بالوجه
المباح صح له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
وقوله / تعالى: * (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله...) * الآية: إنما هنا:
للحصر، والأمر الجامع يراد به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة، فالأدب
اللازم في ذلك ألا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمارة،
وروي: أن هذه الآية نزلت في وقت حفر النبي صلى الله عليه وسلم خندق المدينة، فكان المؤمنون
يستأذنون، والمنافقون يذهبون دون إذن، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالاستغفار لصنفي
المؤمنين: من أذن له، ومن لم يؤذن [له] وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.
وقوله تعالى: * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * أي: لا
تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أن يدعو
رسول الله بأشرف أسمائه; وذلك هو مقتضى التوقير، فالأدب في الدعاء أن يقول: يا
رسول الله، ويكون ذلك بتوقير وبر، وخفض صوت، قاله مجاهد، واللواذ: الروغان،
ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونقمته إذا خالفوا أمره ومعنى * (يخالفون عن أمره
أي: يقع خلافهم بعد أمره، ثم أخبر تعالى أنه قد علم ما أهل الأرض والسماء عليه، وباقي
الآية بين، والحمد لله.
201

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وسلم
تفسير سورة الفرقان
[وهي] مكية في قول الجمهور
قوله تعالى: * (تبارك هو مطاوع " بارك " من البركة، و " بارك " فاعل من واحد،
ومعناه: زاد، و " تبارك ": فعل مختص بالله تعالى، لم يستعمل في غيره، وهو صفة فعل،
أي: كثرت بركاته، ومن جملتها: إنزال كتابه الذي هو الفرقان بين الحق والباطل.
والضمير في قوله: * (ليكون) * قال ابن زيد: هو لمحمد صلى الله عليه وسلم وهو عبده المذكور،
ويحتمل أن يكون للفرقان.
وقوله: * (وخلق كل شئ) * عام في كل مخلوق، ثم عقب تعالى بالطعن على قريش
في اتخاذهم آلهة ليست لها صفات الألوهية. والنشور: بعث الناس من القبور.
* (وقال الذين كفروا) * يعني: قريشا * (إن هذا إلا أفك افتراه) *: محمد * (وأعانه عليه
قوم آخرون) * تقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة النحل، ثم أكذبهم الله تعالى، وأخبر أنهم
202

ما جاؤوا إلا إثما وزورا، أي: ما قالوا إلا باطلا وبهتانا; قال البخاري: * (تملى عليه) *
تقرأ عليه; من أمليت وأمللت، انتهى. ثم أمر تعالى نبيه - عليه السلام - أن يقول: إن الذي
أنزله هو الذي يعلم سر جميع الأشياء التي في السماوات والأرض، وعبارة الشيخ العارف
بالله، سيدي عبد الله بن أبي جمرة (رضي الله عنه): ولما كان المراد منا بمقتضى الحكمة
الربانية العبادة ودوامها; ولذلك خلقنا كما ذكر مولانا سبحانه في الآية الكريمة يعني:
* (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * الآية [الذاريات: 56]. وهو عز وجل غني عن
عبادتنا وعن كل شئ; لكن الحكمة اقتضته لأمر لا يعلمه إلا هو; كما قال الله عز وجل:
* (الذي يعلم السر في السماوات والأرض) * أي: الذي يعلم الحكمة في خلقها وكذلك في
خلقنا وخلق جميع المخلوقات، انتهى.
/ * (وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام...) * الآية: المعنى عندهم: أن من كان
رسولا فهو مستغن عن الأكل والمشي في الأسواق، ومحاجتهم بهذا مذكورة في السير، ثم
أخبر تعالى عن كفار قريش، وهم الظالمون المشار إليهم، أ نهم قالوا: * (إن تتبعون إلا
رجلا مسحورا) * أي: قد سحر، ثم نبه تعالى نبيه مسليا له عن مقالتهم فقال: * (انظر كيف
ضربوا لك الأمثال...) * الآية، والقصور التي في هذه الآية تأولها الثعلبي وغيره أنها في
الدنيا، والقصور هي البيوت المبنية بالجدرات، لأنها قصرت عن الداخلين والمستأذنين،
وباقي الآية بين، والضمير في * (رأتهم) * لجهنم.
203

وقوله سبحانه: * (قل أذلك خير أم جنة الخلد) * المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفرة
الصائرين إلى هذه الأحوال من النار: أذلك خير أم جنة الخلد، وهذا استفهام على جهة
التوقيف والتوبيخ; لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء; ليرى هل يجيبه
بالصواب أو بالخطإ.
وقوله تعالى: " ويوم نحشرهم " يعني الكفار، * (وما يعبدون من دون الله) * يريد كل
شئ عبد من دون الله، وقرأ ابن عامر: " فنقول " بالنون، قال جمهور المفسرين:
والموقف المجيب كل من ظلم بأن عبد ممن يعقل كالملائكة وعيسى وعزير وغيرهم، وقال
الضحاك وعكرمة: الموقف المجيب: الأصنام التي لا تعقل يقدرها الله تعالى على هذه
المقالة، ويجيء خزي الكفرة لذلك أبلغ، وقرأ الجمهور: " نتخذ " - بفتح النون -،
وذهبوا بالمعنى إلى أنه من قول من يعقل، وأن هذه الآية بمعنى التي في سورة سبأ: * (ويوم
نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة) * الآية [سبأ: 40]. وكقول عيسى * (ما قلت لهم إلا ما
أمرتني به) * [المائدة: 117].
وقولهم: * (حتى نسوا الذكر) * أي: ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء - عليهم
السلام -، منه وقرأ زيد بن ثابت وجماعة: " نتخذ " - بضم النون -.
204

وقوله تعالى: * (فقد كذبوكم...) * الآية: خطاب من الله تعالى للكفرة، أخبرهم أن
معبوداتهم كذبتهم، وفي هذا الإخبار خزي وتوبيخ لهم، وقرأ حفص عن عاصم: فما
تستطيعون " - بالتاء من فوق -; قال مجاهد: الضمير في " يستطيعون " هو للمشركين،
و * (صرفا) * معناه رد التكذيب أو العذاب.
وقوله تعالى: * (ومن يظلم منكم) * قيل: هو خطاب للكفار، وقيل: للمؤمنين،
والظلم هنا: الشرك، قاله الحسن وغيره، وقد يحتمل أن يعم غيره من المعاصي، وفي
حرف أبي: " ومن يكذب منكم نذقه عذابا كبيرا ".
وقوله تعالى: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين...) * الآية: رد على قريش في
قولهم: * (ما هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) * ثم أخبر عز وجل أن السبب
في ذلك أنه جعل بعض عبيده فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر،
والتوقيف ب‍ * (أتصبرون) * خاص بالمؤمنين المحققين، قال ابن العربي في " الأحكام ":
ولما كثر الباطل في الأسواق، وظهرت فيه المناكر - كره علماؤنا دخولها لأرباب الفضل
والمقتدى يهم في الدين; تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله تعالى فيها، انتهى. ثم
أعرب قوله تعالى: * (وكان ربك بصيرا) * عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين، وعن
عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من دخل السوق، فقال: لا
إله إلا الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت،
بيده الخير / وهو على كل شئ قدير - كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف
سيئة، ورفع له ألف ألف درجة "، رواه الترمذي وابن ماجة، وهذا لفظ الترمذي، وزاد
في رواية أخرى: " وبنى له بيتا في الجنة "، ورواه الحاكم في " المستدرك " من عدة طرق،
انتهى من " السلاح ".
205

وقوله تعالى: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا...) * الآية: الرجاء هنا على بابه
وقيل: هو بمعنى الخوف، ولما تمنت كفار قريش رؤية ربهم أخبر تعالى عنهم أنهم عظموا
أنفسهم، وسألوا ما ليسوا له بأهل.
* ص *: * (لقد) * جواب قسم محذوف، انتهى. والضمير في قوله: * (ويقولون) * قال
مجاهد، وغيره: هو للملائكة، والمعنى: يقول الملائكة للمجرمين: حجرا محجورا
عليكم البشرى، أي: حراما محرما، والحجر: الحرام، وقال [مجاهد أيضا] وابن
جريج: الضمير للكافرين المجرمين، قال ابن جريج: كانت العرب إذا كرهوا شيئا،
قالوا: حجرا، قال مجاهد: حجرا عوذا يستعيذون من الملائكة.
قال * ع *: ويحتمل أن يكون المعنى: ويقولون حرام محرم علينا العفو، وقد ذكر
أبو عبيدة أن هاتين اللفظتين عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم، أو في شهر حرام
إذا لقيه وبينهما ترة; قال الداودي: وعن مجاهد: * (وقدمنا) * أي: عمدنا، انتهى.
قال * ع *: * (وقدمنا) * أي: قصد حكمنا وإنفاذنا ونحو هذا من الألفاظ اللائقة،
ومعنى الآية: وقصدنا إلى أعمالهم التي لا تزن شيئا فصيرناها غير هباء، أي: شيئا لا تحصيل
له، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة ولا يكاد يرى إلا في الشمس، قاله ابن
206

عباس وغيره، ومعنى هذه الآية: جعلنا أعمالهم لا حكم لها ولا منزلة، ووصف تعالى
الهباء في هذه الآية بمنثور، ووصفه في غيرها بمنبث، فقالت فرقة: هما سواء، وقالت
فرقة: المنبث: أرق وأدق من المنثور; لأن المنثور يقتضي أن غيره نثره، والمنبث كأنه
انبث من دقته.
وقوله تعالى: * (وأحسن مقيلا) * ذهب ابن عباس والنخعي وابن جريج: إلى أن
حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في
النار، فالمقيل: القائلة.
قال * ع *: ويحتمل أن اللفظة إنما تضمنت تفضيل الجنة جملة، وحسن هوائها;
فالعرب تفضل البلاد بحسن المقيل; لأن وقت القائلة يبدي فساد هواء البلاد، فإذا كان بلد
في وقت فساد الهواء حسنا حاز الفضل، وعلى ذلك شواهد.
* (ويوم تشقق السماء) * يريد: يوم القيامة.
* ص *: * (بالغمام) * الباء: للحال، أي: متغيمة، أو للسبب، أو بمعنى " عن "،
انتهى. وفي قوله تعالى: * (وكان يوما على الكافرين عسيرا) *: دليل على أنه سهل على
المؤمنين، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليهون يوم القيامة على المؤمن، حتى
يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ". وعض اليدين هو فعل النادم; قال
ابن عباس وجماعة من المفسرين: الظالم في هذه الآية عقبة بن أبي معيط; وذلك أنه كان
أسلم أو جنح إلى الإسلام، وكان أبي بن خلف الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أحد خليلا
207

لعقبة، فنهاه عن الإسلام، فقبل نهيه; فنزلت الآية فيهما، فالظالم: عقبة، و * (فلانا) *
أبي. قال السهيلي: وكنى سبحانه عن هذا الظالم ولم يصرح باسمه; ليكون هذا الوعيد غير
مخصوص به ولا مقصور عليه; بل يتناول جميع من فعل مثل فعله، انتهى.
/ وقال مجاهد وغيره: * (الظالم) * عام، اسم جنس، وهذا هو الظاهر، وإن مقصد
الآية تعظيم يوم القيامة وذكر هوله بأنه يوم تندم فيه الظلمة، وتتمنى أنها لم تطع في دنياها
أخلاءها، والسبيل المتمناة: هي طريق الآخرة، وفي هذه الآية لكل ذي نهية تنبيه على
تجنب قرين السوء، والأحاديث والحكم في هذا الباب كثيرة مشهورة * (والذكر) *: ما ذكر
الإنسان أمر آخرته من قرآن، أو موعظة ونحوه.
* (وكان الشيطان للإنسان خذولا) * يحتمل: أن يكون من قول الظالم، ويحتمل: أن
يكون ابتداء إخبار من الله عز وجل على وجه التحذير من الشيطان الذي بلغهم ذلك
المبلغ.
وقوله تعالى: * (وقال الرسول) * حكاية عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وتشكيه ما
يلقى من قومه; هذا قول الجمهور، وهو الظاهر، وقالت فرقة: هو حكاية عن قوله ذلك
في الآخرة، و * (مهجورا) * يحتمل: أن يريد مبعدا مقصيا من الهجر بفتح الهاء، وهذا قول
ابن زيد، ويحتمل: أن يريد مقولا فيه الهجر - بضم الهاء -; إشارة إلى قولهم: شعر
وكهانة ونحوه; قاله مجاهد.
قال * ع *: وقول ابن زيد منبه للمؤمن على ملازمة المصحف، وألا يكون الغبار
208

يعلوه في البيوت، ويشتغل بغيره، وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من علق مصحفا،
ولم يتعاهده - جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب، هذا اتخذني مهجورا; اقض بيني
وبينه " وفي حلية النووي قال: وروينا في " سنن أبي داود " و " مسند الدارمي " عن سعد بن
عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لمن قرأ القرآن ثم نسيه، لقي الله تعالى يوم القيامة أجذم "،
وروينا في كتاب أبي داود والترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عرضت على أجور أمتي
حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي قلم أر ذنبا أعظم من
سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها " تكلم الترمذي فيه، انتهى، ثم سلاه تعالى
عن فعل قومه بقوله: * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) * أي: فاصبر كما
صبروا; قاله ابن عباس، ثم وعد تعالى بقوله: * (وكفى بربك هاديا ونصيرا) * والباء في
* (بربك) *: للتأكيد دالة على الأمر; إذ المعنى: اكتف بربك.
* (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) * قال ابن عباس وغيره:
قالوا في بعض معارضاتهم: لو كان من عند الله لنزل جملة كالتوراة والإنجيل.
وقوله: * (كذلك) * يحتمل أن يكون من قول الكفار; إشارة إلى التوراة والإنجيل،
ويحتمل أن يكون من الكلام المستأنف وهو أولى، ومعناه: كما نزل أردناه، فالإشارة إلى
نزوله متفرقا، والترتيل: التفريق بين الشئ المتتابع، ومنه ترتيل القرآن، وجعل الله تعالى
السبب في نزوله متفرقا: تثبيت قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأن ينزله في النوازل والحوادث التي
209

قد قدرها وقدر نزوله فيها، وأن هؤلاء الكفرة لا يجيئون بمثل يضربونه على جهة المعارضة
منهم إلا جاء القرآن بالحق في ذلك والجلية، ثم هو أحسن تفسيرا، وأفصح بيانا، وباقي
الآية بين تقدم تفسير نظيره، والجمهور: أن هذا المشي على الوجوه حقيقة، وقد جاء
كذلك في الحديث، وقد تقدم، ولفظ البخاري عن أنس [رضي الله عنه]: أن رجلا قال:
يا نبي الله، أيحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: " " أليس الذي أمشاه على الرجلين في
الدنيا قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة " قال قتادة: بلى وعزة ربنا، انتهى.
وقوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب...) * الآيات تنبيه لكفار قريش، وتوعد أن
يحل بهم ما حل بهؤلاء المعذبين; قال قتادة: أصحاب الرس، وأصحاب الأيكة: قومان
أرسل إليهما شعيب، وقاله وهب بن منبه، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: * (وقرونا بين ذلك كثيرا) * إبهام لا يعلم حقيقته إلا الله عز وجل،
والتبار: الهلاك، والقرية التي أمطرت مطر السوء هي: " سذوم " مدينة قوم لوط، وما لم
نذكر تفسيره قد تقدم بيانه للفاهم المتيقظ، علي ثم ذكر سبحانه أنهم إذا رأوا محمدا عليه السلام
قالوا على جهة الاستهزاء: * (أهذا الذي بعث الله رسولا) *.
قال * ص *: إن يتخذونك) * [إن] نافية، جواب " إذا "، انتهى، ثم آنس الله
تعالى نبيه بقوله: * (أرأيت من اتخذ إلهه هواه...) * الآية، المعنى: لا تتأسف عليهم،
210

ومعنى * (اتخذ إلهه هواه) * أي: جعل هواه مطاعا فصار كالإله. * (إن هم إلا كالأنعام) * أي:
بل هم كالأنعام.
قلت: وعبارة الواحدي * (إن هم) * أي: ما هم إلا كالأنعام، انتهى.
وقوله سبحانه: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل...) * الآية: مد الظل بإطلاق: هو
ما بين أول الإسفار إلى بزوغ الشمس، ومن بعد مغيبها أيضا وقتا يسيرا; فإن في هذين
الوقتين على الأرض كلها ظلا ممدودا.
* (ولو شاء لجعله ساكنا) * أي: ثابتا غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس
ونسخها إياه، وطردها له من موضع إلى موضع; دليلا عليه مبينا لوجوده ولوجه العبرة فيه،
وحكى الطبري أنه: لولا الشمس لم يعلم أن الظل شئ، إذ الأشياء إنما تعرف
بأضدادها.
وقوله تعالى: * (قبضا يسيرا) * يحتمل أن يريد، لطيفا، أي: شيئا بعد شئ، لا في
مرة واحدة.
قال الداودي: قال الضحاك: * (قبضا يسيرا) * يعني: الظل إذا علته الشمس،
انتهى. قال الطبري: ووصف الليل باللباس من حيث يستر الأشياء ويغشاها، والسبات:
ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا، فشبه النوم به، والنشور هنا: الإحياء، شبه اليقظة
به، ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق، و * (أناسي) *: قيل [هو] جمع إنسان،
211

والياء المشددة بدل من النون في الواحد، قاله سيبويه، وقال المبرد: هو جمع إنسي،
والضمير في * (صرفناه) * عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر، ويعضد ذلك قوله:
* (وجاهدهم به جهادا كبيرا) *
وقوله تعالى: * (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج) * مرج
معناه: خلط.
قال * ع *: والذي أقول به في معنى هذه الآية: أن المقصود بها التنبيه على قدره
الله تعالى في أن بث في الأرض مياها عذبه كثيرة، جعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج
خلالها، كما هو مرئي تجد البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفته، وتجد الماء العذب في
الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، وكل باق على حاله ومطعمه; فالبحران: يراد بهما
جميع الماء العذب، وجميع الماء الأجاج، والبرزخ والحجر هو ما بين البحرين من الأرض
واليبس; قاله الحسن، والفرات: الصافي اللذيذ المطعم، والأجاج أبلغ ما يكون من
الملوحة.
وقوله تعالى: * (وهو الذي خلق من الماء / بشرا...) * الآية تعديد نعم على الناس،
والنسب: هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أم، والصهر هو تواشج المناكحة، فقرابة
الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار يقع عاما لذلك كله.
وقوله تعالى: * (وكان الكافر على ربه ظهيرا) * أي: معينا; يعينون على ربهم غيرهم
من الكفرة بطاعتهم للشيطان، وهذا تأويل مجاهد وغيره، والكافر هنا اسم جنس، وقال
212

ابن عباس: هو أبو جهل.
قال * ع *: فيشبه أن أبا جهل هو سبب الآية، ولكن اللفظ عام للجنس كله.
قلت: والمعنى: على دين ربه ظهيرا.
وقوله تعالى: * (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) * الظاهر فيه: أنه استثناء منقطع،
والمعنى: لكن مسؤولي فإن ومطلوبي من شاء أن يهتدي ويؤمن، ويتخذ إلى رحمة ربه طريق
نجاه.
وقوله سبحانه: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) *.
قال القشيري في " التحبير ": وإذا علم العبد أن مولاه حي لا يموت، صح توكله
عليه; قال تعالى: * (وتوكل على الحي الذي لا يموت) * قيل: إن رجلا كتب إلى آخر أن
صديقي فلانا قد مات، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصري، فكتب إليه: الذنب لك
حين أحببت الحي الذي يموت، فهلا أحببت الحي الذي لا يموت حتى لا تحتاج إلى
البكاء عليه، انتهى. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما كربني النبي أمر إلا تمثل
لي جبريل عليه السلام فقال يا محمد، قل: توكلت على الحي الذي لا يموت،
والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من
الذل، وكبره تكبيرا " رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح الإسناد، انتهى من
" السلاح ".
213

وقوله تعالى: * (وسبح بحمده) * أي: قل سبحان الله وبحمده أي: تنزيهه واجب
وبحمده أقول، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال في كل يوم سبحان الله وبحمده مائة مرة
غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر " فهذا معنى قوله: * (وسبح بحمده) * وهي إحدى
الكلمتين الخفيفتين على اللسان الثقيلتين في الميزان، الحديث في البخاري وغيره.
* ت *: وعن جويرية - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين
صلى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال: " ما زلت
على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت بعدك أربع كلمات
ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا
نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " رواه الجماعة إلا البخاري، زاد النسائي في آخره:
" والحمد لله كذلك " وفي رواية له: " سبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله، والله أكبر عدد
خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته " انتهى من " السلاح ". وقوله سبحانه: * (وكفى به
بذنوب عباده خبيرا) *: وعيد بين.
وقوله تعالى: " الرحمن ": يحتمل أن يكون رفعه بإضمار مبتدأ أي: هو الرحمن،
ويحتمل أن يكون: بدلا من الضمير في قوله: * (استوى) *.
وقوله: * (فسئل به خبيرا) * [فيه تأويلان: أحدهما: فاسأل عنه خبيرا] والمعنى:
اسأل جبريل والعلماء وأهل الكتاب، والثاني: أن يكون المعنى كما تقول: لو لقيت فلانا
لقيت به البحر كرما، أي: لقيت منه، والمعنى: فاسأل الله عن كل أمر، وقال عياض في
" الشفا " قال القاضي أبو بكر بن العلاء: المأمور بالسؤال غير النبي صلى الله عليه وسلم والمسؤول / الخبير
هو النبي صلى الله عليه وسلم انتهى.
214

قال أبو حيان: والظاهر تعلق به * (فاسأل) * وبقاء الباء على بابها، و * (خبيرا) * من
صفاته تعالى، نحو: لقيت بزيد أسدا، أي: أنه الأسد شجاعة، والمعنى: فاسأل الله الخبير
بالأشياء، انتهى.
* (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) * يعني أن كفار قريش قالوا: ما
نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، وهو مسيلمة الكذاب، وكان مسيلمة تسمى بالرحمن.
* (أنسجد لما تأمرنا وزادهم) * هذا اللفظ * (نفورا) * والبروج هي التي علمتها العرب،
وهي المشهورة عند اللغويين وأهل تعديل الأوقات، وكل برج منها على منزلتين وثلث من
منازل القمر التي ذكرها الله تعالى في قوله: * (والقمر قدرناه منازل) * [يس: 39].
* (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفه) * أي: هذا يخلف هذا، وهذا يخلف هذا، قال
مجاهد وغيره: * (لمن أراد أن يذكر) * أي: يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على
آلائه، وقال عمر وابن عباس والحسن: معناه: لمن أراد أن يذكر ما فاته من الخير
والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه، وقرأ حمزة وحده: " يذكر "
بسكون الذال وضم الكاف، ثم لما قال تعالى: * (لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * جاء
بصفات عباده الذين هم أهل التذكر والشكور.
وقوله: * (الذين يمشون) *. [خبر مبتدأ، والمعنى: وعباده حق عباده هم الذين
يمشون.
215

وقوله: * (يمشون] على الأرض) * عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم،
و * (هونا) * بمعنى أن أمرهم كله هين، أي: لين حسن; قال مجاهد: بالحلم والوقار.
وقال ابن عباس: بالطاعة والعفاف والتواضع، وقال الحسن: حلماء، إن جهل
عليهم لم يجهلوا.
قال الثعلبي: قال الحسن: يمشون حلماء علماء مثل الأنبياء، لا يؤذون الذر في
سكون وتواضع وخشوع، وهو ضد المختال الفخور الذي يختال في مشيه، اه‍.
قال عياض في صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يخطو تكفؤا، ويمشي هونا، كأنما ينحط من
صبب، انتهى من " الشفا ".
قال أبو حيان: * (هونا) *: نعت لمصدر محذوف، أي: مشيا هونا، أو حال، أي:
هينين، انتهى، وروى الترمذي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بمن يحرم
على النار أو بمن تحرم عليه النار؟ على كل قريب، هين، سهل "، قال أبو عيسى: هذا
216

حديث حسن، انتهى.
* (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * العامل في * (سلاما) * * (قالوا) * والمعنى:
قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد: معنى * (سلاما) * قولا سدادا، أي: يقول للجاهل كلاما
يدفعه به برفق ولين، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة، وبقي
أدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، قال صاحب " الحكم الفارقية " إذا نازعك إنسان فلا
تجبه; فإن الكلمة الأولى أنثى وإجابتها فحلها، فإن أمسكت عنها بترتها عنه وقطعت نسلها،
وإن أجبتها ألقحتها، فكم من نسل مذموم يتولد بينهما في ساعة واحدة، انتهى.
* (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) * هذه آية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة،
قال الحسن: لما [فرغ من] وصف نهارهم، وصف في هذه ليلهم، و * (غراما) *:
معناه: ملازما ثقيلا، و * (مقاما) *: من الإقامة، وعن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل الله الجنة ثلاث مرات، قالت / الجنة: اللهم، أدخله الجنة،
ومن استجار من النار ثلاث مرات، قالت النار: اللهم أجره من النار "، رواه أبو داود،
217

والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان في " صحيحه " بلفظ واحد، ورواه الحاكم في
" المستدرك "، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: * (والذين إذا انفقوا لم يسرفوا...) * الآية: عبارة أكثر المفسرين أن
الذي لا يسرف هو المنفق في الطاعة وإن أفرط، والمسرف هو المنفق في المعصية وإن قل
إنفاقه، وأن المقتر هو الذي يمنع حقا عليه; وهذا قول ابن عباس وغيره، والوجه أن
يقال: إن النفقة في المعصية أمر قد حظرت الشريعة قليلة وكثيرة، وهؤلاء الموصوفون
منزهون عن ذلك وإنما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات والمباحات، فأدب
الشريعة فيها ألا يفرط الإنسان حتى يضيع حقا آخر أو عيالا نحو هذا، وألا يضيق أيضا
ويقتر حتى يجمع العيال ويفرط في الشح، والحسن في ذلك هو القوام، أي: المعتدل،
والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها; ولهذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أبا
بكر الصديق يتصدق بجميع ماله; لأن ذلك وسط بنسبة جلده وصبره في الدين، ومنع غيره
من ذلك.
وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟
فقال له عمر: الحسنة بين السيئتين، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه -: كفى بالمرء سرفا ألا يشتهي شيئا إلا اشتراه فأكله. و * (قواما) *: خبر * (كان) *
واسمها مقدر، أي: الإنفاق.
* (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) * الآية في نحو هذه الآية قال ابن مسعود:
218

قلت يوما: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت:
ثم أي قال: أن تقتل ولدك، خشية أن يطعم معك; قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة
جارك " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية والآثام في كلام العرب: العقاب، وبه فسر ابن
زيد وقتادة هذه الآية.
قال * ع *: * (يضاعف) *: بالجزم بدل من * (يلق) * قال سيبويه: مضاعفة العذاب
هو لقي الآثام.
وقوله تعالى: * (إلا من تاب) *: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر
والزاني، واختلفوا في القاتل، وقد تقدم بيان ذلك في " سورة النساء ".
وقوله سبحانه: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات أي: بأن يجعل أعمالهم بدل
معاصيهم الأولى طاعة; قاله ابن عباس وغيره، ويحتمل أن يكون في ذلك في يوم القيامة،
يجعل بدل السيئات الحسنات تكرما منه سبحانه وتعالى; كما جاء " في صحيح مسلم "،
وهو تأويل ابن المسيب.
* ص *: والأولى: أن يكون الاستثناء هنا منقطعا، أي: لكن من تاب
219

وآمن، وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، انتهى. ثم أكد سبحانه أمر
التوبة، ومدح المتاب فقال: " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا " كأنه قال:
فإنه يجد بابا للفرج والمغفرة عظيما، ثم استمرت الآيات في صفة عباد الله المؤمنين بأن
نفى / عنهم شهادة الزور، و * (يشهدون) * في هذا الموضع ظاهر، معناها: يشاهدون
ويحضرون، والزور: كل باطل زور، وأعظمه الشرك، وبه فسر الضحاك، ومنه الغناء،
وبه فسر مجاهد، وقال علي وغيره: معناه لا يشهدون بالزور، فهي من
الشهادة لامن
المشاهدة، والمعنى الأول أعم. واللغو: كل سقط من فعل أو قول، وقال الثعلبي: اللغو
كل ما ينبغي أن يطرح ويلغى، انتهى. و * (كراما) * معناه: معرضين مستحيين، يتجافون عن
ذلك، ويصبرون على الأذى فيه.
قال * ع *: وإذا مر المسلم بمنكر فكرمه أن يغيره، وحدود التغير معروفة.
وقوله تعالى: * (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم) * يريد: ذكروا بالقرآن أمر آخرتهم
ومعادهم.
وقوله: * (لم يخروا عليها صما وعميانا) * يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون
المعنى: لم يكن خرورهم بهذه الصفة; بل يكونوا سجدا وبكيا، وهذه كما تقول: لم يخرج
زيد إلى الحرب جزعا، أي: إنما خرج جريئا مقداما، وكأن الذي يخر أصم أعمى هو
المنافق أو الشاك، والتأويل الثاني: ذهب إليه الطبري وهو أن: يخروا صما وعميانا، هي
صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم.
وقال الفراء: * (لم يخروا) * أي: لم يقيموا، وهو نحو تأويل الطبري، انتهى. وقال
220

ابن العربي في " أحكامه ": قوله تعالى: * (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها
صما وعميانا) *.
قال علماؤنا: يعني الذين إذا قرأوا القرآن قرأوه بقلوبهم قراءة فهم وتثبيت، ولم
ينثروه وهو نثر الدقل، فإن المرور عليه بغير فهم ولا تثبيت صمم وعمى، انتهى. وقرة العين:
من القر وهذا هو الأشهر; لأن دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن; فلهذا يقال أقر الله
عينك، وأسخن عين العدو، وقرة العين في الأزواج والذرية أن يراهم الإنسان مطيعين
لله تعالى; قاله ابن عباس والحسن وغيرهما، وبين المقداد بن الأسود الوجه من ذلك
بأنه كان في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر، أو الزوج والزوجة كافرة، فكانت قرة
أعينهم في إيمان أحبابهم.
* (واجعلنا للمتقين إماما) * أي: اجعلنا يأتم بنا المتقون، وذلك بأن يكون الداعي متقيا
قدوة، وهذا هو قصد الداعي، قال النخعي: لم يطلبوا الرياسة، بل أن يكونوا قدوة في
الدين، وهذا حسن أن يطلب ويسعى له.
قال الثعلبي: قال ابن عباس: المعنى: واجعلنا أئمة هدى، انتهى، وهو حسن،
لأنهم طلبوا أن يجعلهم أهلا لذلك. والغرفة من منازل الجنة وهي الغرف فوق الغرف.
وهي اسم جنس; كما قال: [من الهزج]
- ولولا الحبة السمراء * لم تحلل بواديكم -
* ت *: وأخرج أبو القاسم، زاهر بن طاهر بن محمد بن الشحامي عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة لغرفا ليس لها معاليق من فوقها ولا عماد من
تحتها، قيل: يا رسول الله، وكيف يدخلها أهلها؟ قال: يدخلونها أشباه الطير، قيل: هي
يا رسول الله لمن؟ قال: هي لأهل / الأسقام والأوجاع والبلوى ". انتهى من
" التذكرة ". وقرأ حمزة وغيره: " يلقون " بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف.
221

وقوله تعالى: * (قل ما يعبؤ بكم) * الآية، ما نافية وتحتمل التقرير، ثم الآية تحتمل أن
تكون خطابا لجميع الناس، فكأنه قال لقريش منهم: ما يبالي الله بكم، ولا ينظر إليكم لولا
عبادتكم إياه، أن لو كانت، إذ ذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله; قال تعالى: * (وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون) * [الذاريات: 56]. وقال النقاش وغيره: المعنى: لولا استغاثتكم
إليه في الشدائد، وقرأ ابن الزبير وغيره: " فقد كذب الكافرون " وهذا يؤيد أن الخطاب
بما يعبأ هو لجميع الناس، ثم يقول لقريش: فأنتم قد كذبتم، ولم تعبدوه فسوف يكون
العذاب أو التكذيب الذي هو سبب العذاب لزاما، ويحتمل أن يكون الخطاب بالآيتين
لقريش [خاصة] وقال الداودي: وعن ابن عيينة: * (لولا دعاؤكم) * معناه: لولا دعاؤكم
إياه لتطيعوه، انتهى، قال ابن العربي في " أحكامه ": زعم بعض الأدباء أن " لولا دعاؤكم "
معناه: لولا سؤالكم إياه وطلبكم منه، ورأى أنه مصدر أضيف إلى فاعل، وليس كما زعم;
وإنما هو مصدر أضيف إلى مفعول، والمعنى: قل يا محمد للكفار: لولا دعاؤكم ببعثة
الرسول إليكم وتبين الأدلة لكم فقد كذبتم; فسوف يكون لزاما; ذكر هذا عند قوله تعالى:
* (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) * [النور:]. في آخر سورة النور.
انتهى.
* ت * والحق أن الآية محتملة لجميع ما تقدم، ومن ادعى التخصيص فعليه بالدليل،
والله أعلم.
ويعبأ: مشتق من العبء وهو الثقل الذي يعبأ ويرتب كما يعبأ الجيش.
222

قال الثعلبي: قال أبو عبيدة: يقال: ما عبأت به شيئا، أي: لم أعده شيئا فوجوده
وعدمه سواء، انتهى.
وقال العراقي: * (ما يعبأ) * أي: ما يبالي، انتهى. [وأكثر الناس على أن اللزام المشار
إليه هو يوم بدر، وقالت فرقة: هو توعد بعذاب الآخرة]، وقال ابن عباس: اللزام
الموت، وقال البخاري: * (فسوف يكون لزاما) * أي: هلكة، انتهى.
223

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
تفسير سورة الشعراء
وهي مكية كلها في قول الجمهور
قوله تعالى: * (طسم * تلك آيات الكتاب المبين * لعلك باخع نفسك ألا يكونوا
مؤمنين) * تقدم الكلام على الحروف التي في أوائل السور، والباخع: القاتل والمهلك نفسه
بالهم، والخضوع للآية المنزلة إما لخوف هلاك كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإما لأجل
الوضوح وبهر العقول، بحيث يقع الإذعان لها. والأعناق الجارحة المعلومة، وذلك أن
خضوع العنق والرقبة هو علامة الذلة والانقياد.
وقيل: المراد بالأعناق جماعتهم; يقال: جاء عنق من الناس، أي: جماعة.
وقوله تعالى: * (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين * فقد
كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون * أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل
زوج كريم) * تقدم تفسير / هذه الجملة فانظره في محله، وقوله تعالى: * (فسيأتيهم) * وعيد
بعذاب الدنيا كبدر وغيرها، ووعيد بعذاب الآخرة، والزوج: النوع والصنف، والكريم:
الحسن المتقن قاله مجاهد وغيره.
وقوله تعالى: * (وما كان أكثرهم مؤمنين) * حتم على أكثرهم بالكفر، ثم توعد تعالى بقوله:
* (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) * أي عزيز في انتقامه من الكفار، رحيم بأوليائه المؤمنين.
224

وقوله تعالى: * (وإذ نادى ربك موسى) * التقدير: واذكر إذ نادى ربك موسى، وسوق
هذه القصة تمثيل لكفار قريش في تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: * (فأرسل إلى هارون) * معناه: يعينني * (ولهم علي ذنب) * يعني قتله القبطي.
وقوله تعالى: * (كلا) * ردا لقوله * (إني أخاف) * أي: لا تخف ذلك، وقول فرعون
لموسى: * (ألم نربك فينا وليدا) * هو على جهة المن عليه والاحتقار، أي: ربيناك صغيرا،
ولم نقتلك في جملة من قتلنا * (ولبثت فينا من عمرك سنين) *: فمتى كان هذا الذي
تدعيه، ثم قرره على قتل القبطي بقوله * (وفعلت فعلتك) * والفعلة - بفتح الفاء -: المرة،
وقوله: * (وأنت من الكافرين) * يريد: وقتلت القبطي وأنت في قتلك إياه من الكافرين; إذ
هو نفس لا يحل قتلها; قاله الضحاك، أو يريد: وأنت من الكافرين بنعمتي في قتلك
إياه; قاله ابن زيد; ويحتمل أن يريد: وأنت الآن من الكافرين بنعمتي، وكان بين
خروج موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا إلى فرعون - أحد عشر عاما
غير أشهر.
وقوله: * (قال فعلتها إذا) *: من كلام موسى عليه السلام والضمير في قوله:
* (فعلتها) * لقتله القبطي. وقوله: * (وأنا من الضالين) * قال ابن زيد: معناه: من الجاهلين بأن
وكزتي إياه تأتي على نفسه، وقال أبو عبيدة: معناه من الناسين، ونزع بقوله: * (أن
تضل إحداهما [البقرة: 282]، وفى قراءة ابن مسعود وابن عباس: وأنا من الجاهلين "،
ويشبه أن تكون هذه القراءة على جهة التفسير، و * (حكما) * يريد: النبوءة وحكمتها.
225

وقوله: * (وجعلني من المرسلين) * درجة ثانية للنبوءة، فرب نبي ليس برسول.
وقوله: * (وتلك نعمة تمنها على) * الآية: قال قتادة: هذا من موسى على جهة الإنكار
على فرعون كأنه يقول: أو يصح لك أن تعد علي نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت
بني إسرائيل وقتلتهم؟! أي: ليست بنعمة; لأن الواجب كان ألا تقتلني ولا تقتلهم، ولا
تستعبدهم، وقرأ الضحاك: " وتلك نعمة ما لك أن تمنها على " وهذه قراءة تؤيد هذا
التأويل، وقال الطبري والسدي: هذا الكلام من موسى عليه السلام علي جهة الإقرار
بالنعمة كأنه يقول: نعم، وتربيتك نعمة علي; من حيث عبدت غيري وتركتني، ولكن
ذلك لا يدفع رسالتي، ولما لم يجد فرعون حجة رجع إلى معارضة موسى في قوله: * (وما
رب العالمين) * واستفهمه استفهاما فقال موسى / هو * (رب السماوات والأرض...) *
الآية، فقال فرعون عند ذلك: * (ألا تستمعون) *: على معنى الإغراء والتعجب من شنعة
المقالة [إذ] كانت عقيدة القوم; أن فرعون ربهم ومعبودهم، والفراعنة قبله كذلك، فزاده
موسى في البيان بقوله: * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * فقال فرعون حينئذ على جهة
الاستخفاف: * (أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) * فزاده موسى في بيان الصفات التي
تظهر نقص فرعون، وتبين أنه في غاية البعد عن القدرة عليها، وهي ربوبية المشرق
والمغرب، ولم يكن لفرعون إلا ملك مصر، ولما انقطع فرعون في باب الحجة، رجع إلى
الاستعلاء والتغلب فقال لموسى: * (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) * وفي
226

توعده بالسجن ضعف; لأنه خارت طباعه معه، وكان فيما روي أنه يفزع من موسى فزعا
شديدا حتى كان لا يمسك بوله، وكان عند موسى من أمر الله والتوكل عليه مالا يفزعه
توعد فرعون، فقال له موسى على جهة اللطف به والطمع في إيمانه: * (أو لو جئتك بشئ
مبين) *: يتضح لك معه صدقي، فلما سمع فرعون ذلك طمع أن يجد أثناءه به موضع معارضة
فقال له: * (فأت به إن كنت من الصادقين) * فألقى موسى عصاه * (فإذا هي ثعبان مبين) * على
ما تقدم بيانه و * (نزع يده) * من جيبه * (فإذا هي) *: تتلألأ كأنها قطعة من الشمس، فلما رأى
فرعون ذلك هاله، ولم يكن له فيه مدفع غير أنه فزع إلى رميه بالسحر.
وقوله: * (يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحرة) * تقدم بيانه، وكذلك قولهم:
* (وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم) * تقدم بيانه.
وقوله تعالى: * (قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) * يريد بتقريبهم الجاه الزائد على
العطاء الذي طلبوه.
227

وقوله تعالى: * (فألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين * رب موسى
وهارون * قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون
لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين * قالوا لا ضير إنا إلى ربنا
منقلبون) * تقدم بيان هذه الجملة، والحمد لله فانظره في محله; قال ابن العربي في
" أحكامه " قال مالك: دعا موسى فرعون أربعين سنة إلى الإسلام، وأن السحرة آمنوا في
يوم واحد، انتهى، وقولهم: * (لا ضير) * أي: لا يضرنا ذلك مع انقلابنا إلى مغفرة الله
ورضوانه، وقولهم: * (أن كنا أول المؤمنين) * يريدون: من القبط وصنيفتهم، ثم وإلا فقد كانت
بنو إسرائيل آمنت، والشرذمة: الجمع القليل المحتقر، وشر ذمة كل شئ: بقيته الخسيسة.
وقوله: * (لغائظون) * يريد بخلافهم الأمر وبأخذهم الأموال عارية و * (حاذرون) * جمع
حذر، والضمير في قوله * (فأخرجناهم) * عائد على القبط، والجنات والعيون بحافتي النيل
من أسوان إلى رشيد; قاله ابن عمر وغيره، والمقام الكريم: قال ابن لهيعة: هو الفيوم،
وقيل: هو المنابر، وقيل: مجالس الأمراء والحكام، وقيل: / المساكن الحسان
و * (مشرقين) * معناه: عند شروق الشمس، وقيل: معناه: نحو المشرق، والطود: هو
الجبل، و * (أزلفنا) * معناه: قربنا، وقرأ ابن عباس: " وأزلقنا " بالقاف.
* (واتل عليهم نبأ إبراهيم...) * الآية: هذه الآية تضمنت الإعلام بغيب، والعكوف:
اللزوم.
228

وقوله: * (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) * قالت فرقة: هو استثناء متصل، لأن في
الآباء الأقدمين من قد عبد الله تعالى، وقالت فرقة: هو استثناء منقطع; لأنه إنما أراد عباد
الأوثان من كل قرن منهم، وأسند إبراهيم عليه السلام المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه
عز وجل، وهذا حسن أدب في العبارة، والكل من عند الله، وأوقف عليه السلام نفسه
على الطمع في المغفرة، وهذا دليل على شدة خوفه مع علو منزلته عند الله، وروى
الترمذي لم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عاد مريضا أو زار أخا [له] في
الله - ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا "، قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن، انتهى. وفي " صحيح مسلم " عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من عاد مريضا لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع، قيل: يا
رسول الله، وما خرفة الجنة؟ قال: جناها " انتهى، وعنه صلى الله عليه وسلم: " من عاد مريضا لم
يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك -
إلا عافاه الله سبحانه " خرجه أبو داود، والترمذي، والحاكم في " المستدرك " على
الصحيحين " بالإسناد الصحيح، انتهى من " حلية النووي: " وعن ابن عباس رضي الله
عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عاد مريضا لم يحضر أجله، فقال عند رأسه سبع مرات:
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم - أن يشفيك - إلا عافاه الله من ذلك المرض ".
رواه أبو داود واللفظ له، والترمذي والنسائي والحاكم وابن حبان في " صحيحيهما "
بمعناه، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، يعني: البخاري ومسلما، وفي رواية
النسائي وابن حبان: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عاد المريض، جلس عند رأسه، ثم قال "، فذكر
مثله بمعناه انتهى من " السلاح ".
229

وقوله: * (خطيئتي) * ذهب أكثر المفسرين إلى: أنه أراد كذباته الثلاث، قوله: هي
أختي في شأن سارة، وقوله: إني سقيم) * [الصافات: 89]، وقوله: * (بل فعله كبيرهم) *
[الأنبياء: 63]، وقالت فرقة: أراد بالخطيئة اسم الجنس، فدعا في كل أمره من غير تعيين.
قال * ع *: وهذا أظهر عندي.
وقوله: * (رب هب لي حكما) * أي: حكمة ونبوءة، ودعاؤه في مثل هذا هو في معنى
التثبيت والدوام، ولسان الصدق: هو الثناء الحسن، واستغفاره لأبيه في هذه الآية هو قبل
أن يتبين له أنه عدو لله.
وقوله: * (بقلب سليم) * معناه: خالص من الشرك والمعاصي وعلق الدنيا المتروكة، وإن
كانت مباحة; كالمال والبنين; قال سفيان هو الذي يلقى ربه / وليس في قلبه شئ غيره.
قال * ع *: وهذا يقتضي عموم اللفظة، ولكن السليم من الشرك هو الأهم، وقال
الجنيد: بقلب [لديغ من خشية الله، والسليم: اللديغ.
* ص *: * (إلا من أتى الله) * الظاهر أنه استثناء منقطع، أي: لكن من أتى الله
بقلب] سليم، نفعته سلامة قلبه، انتهى. * (وأزلفت) * معناه: قربت، والغاوون الذين
برزت لهم الجحيم هم: المشركون، ثم أخبر سبحانه عن حال يوم القيامة من أن الأصنام
تكبكب في النار، أي: تلقى كبة واحدة.
230

وقال * ص *: * (فكبكبوا) *، أي: قلب بعضهم على بعض، وحروفه كلها أصول
عند جمهور البصريين، وذهب الزجاج وابن عطية وغيرهما إلى أنه مضاعف الباء من
" كب ".
وقال غيرهما: وجعل التكرير من اللفظ دليلا على التكرير في المعنى، وذهب
الكوفيون إلى: أن أصله " كبب " والكاف بدل من الباء الثانية، انتهى. والغاوون: الكفرة
الذين شملتهم الغواية وجنود إبليس: نسله وكل من يتبعه; لأنهم جند له وأعوان، ثم
وصف تعالى أن أهل النار يختصمون فيها ويتلاومون قائلين لأصنامهم: * (تالله إن كنا لفي
ضلال مبين) *: في أن نعبدكم ونجعلكم سواء مع الله الذي هو رب العالمين، ثم عطفوا
يردون الملامة على غيرهم، أي: ما أضلنا إلا كبراؤنا وأهل الجرم والجراءة، ثم قالوا على
جهة التلهف والتأسف حين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان
عموما، وشفاعة الصديق في صديقه خصوصا: * (فما لنا من شافعين * ولا صديق
حميم) *، والحميم: الولي والقريب الذي يخصك أمره وتخصه أمرك، وحامة الرجل
خاصته، وباقي الآية بين.
231

وقول نوح عليه السلام: * (إني لكم رسول أمين) * أي: أمين على وحي الله ورسالته.
* ص *: قرأ الجمهور: " واتبعك " والجملة حال، أي وقد اتبعك، ويعقوب:
" وأتباعك "، وعن اليماني: " وأتباعك " بالجر; عطفا على الضمير في " لك " انتهى،
و * (الأرذلون) *: جمع الأرذل، ولا يستعمل إلا معرفا أو مضافا، أو بمن.
قال * ع *: ويظهر من الآية [أن] مراد قوم نوح بنسبة الرذيلة إلى المؤمنين
تهجين أفعالهم لا النظر في صنائعهم، وذهب أشراف قوم نوح في استنقاصهم له ضعفة
المؤمنين مذهب كفار قريش في شأن عمار بن ياسر. وصهيب وبلال وغيرهم، وقولهم:
* (من المرجومين) * يحتمل أن يريدوا بالحجارة أو بالقول والشتم، وقوله: * (افتح) * معناه:
احكم، والفتاح، القاضي بلغة يمانية، و * (الفلك) *: السفينة، و * (المشحون) * معناه:
المملوء.
232

وقول هود عليه السلام لقومه: * (أتبنون) * هو على جهة التوبيخ، والريع: المرتفع من
الأرض وله في كلام العرب شواهد، وعبر المفسرون عن الريع بعبارات، وجملة ذلك أنه
المكان المشرف، وهو الذي يتنافس البشر في مبانيه، والآية: البنيان; قال ابن عباس: آية
علم.
وقال مجاهد: أبراج الحمام، وقيل: القصور الطوال، والمصانع جمع مصنع وهو
ما صنع وأتقن في بنيانه من قصر مشيد ونحوه، قال البخاري: كل بناء مصنعة، انتهى.
وقوله: * (لعلكم تخلدون) * أي: كأنكم تخلدون / وكذا نقله البخاري عن ابن عباس
غير مسند، انتهى. والبطش: الأخذ بسرعة، والجبار: المتكبر، ثم ذكرهم عليه السلام بأياد
الله تعالى فيما منحهم، وحذرهم من عذابه، فكانت مراجعتهم أن سووا بين وعظه وتركه
الوعظ، وقرأ نافع وغيره: " خلق الأولين " - بضم اللام - فالإشارة بهذا إلى دينهم، أي ما
هذا الذي نحن عليه إلا خلق ذلك الناس وعادتهم، وقرأ ابن كثير وغيره: " خلق " - بسكون
اللام -، فيحتمل المعنى: ما هذا الذي تزعمه إلا أخلاق الأولين من الكذبة; فأنت على
منهاجهم، وروى علقمة عن ابن مسعود،: إلا اختلاق الأولين.
وقول صالح لقومه: * (أتتركون فيما ها هنا) *: تخويف لهم بمعنى: أتطمعون أن تقروا
233

في النعم على معاصيكم، والهضيم: معناه اللين الرطب. والطلع الكفرى. وهو عنقود
التمر قبل أن يخرج من الكم في أول نباته، فكأن الإشارة إلى أن طلعها يتم ويرطب; قال
ابن عباس: [إذا أينع وبلغ فهو هضيم، وقال الزجاج: هو فيما قيل الذي رطبه بغير
نوى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس] هضيم: لطيف ما دام في كفراه، انتهى. وقرأ
الجمهور: " تنحتون ": - بكسر الحاء -، و " فرهين ": من الفراهة وهي جودة منظر الشئ
وخبرته وقوته.
وقوله: * (ولا تطيعوا أمر المسرفين) * خاطب به جمهور قومه وعنى بالمسرفين:
كبراءهم وأعلام الكفر والإضلال فيهم * (قالوا إنما أنت من المسحرين) * أي: قد سحرت،
* ص *: قرأ: " الجمهور: " شرب ". بكسر الشين -، أي: نصيب، وقرأ ابن أبي
عبلة: - بضم الشين - فيهما، انتهى.
وقوله تعالى: * (كذبت قوم لوط المرسلين * إذ قال لهم أخوهم لوط) * قال
[النقاش]: إن في مصحف ابن مسعود وأبي وحفصة: " إذ قال لهم لوط " وسقط أخوهم.
وقوله: * (إني لعملكم من القالين) * القلى: البغض، فنجاه الله بأن أمره بالرحلة على
ما تقدم في قصصهم.
234

وقوله تعالى: * (كذب أصحاب ليكة المرسلين) * قرأ نافع وابن كثير وابن عامر:
" أصحاب ليكة " على وزن فعله هنا، وفي [ص] وقرأ الباقون: " الأيكة " وهي: الدوحة
الملتفة من الشجر على الإطلاق، وقيل من شجر معروف له غضارة تألفة الحمام والقماري
ونحوها، و " ليكة " اسم البلد في قراءة من قرأ ذلك; قاله بعض المفسرين، وذهب قوم إلى
أنها مسهلة من الأيكة، وأنها وقعت في المصحف هنا وفى " ص " بغير ألف.
وقوله تعالى: * (كذبت قوم نوح المرسلين) * [الشعراء: 105] وكذلك ما بعده بلفظ
الجمع من حيث إن تكذيب نبي واحد يستلزم تكذيب جميع الأنبياء; لأنهم كلهم يدعون
الخلق إلى الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وفي قول الأنبياء - عليهم السلام -: " ألا
تتقون " عرض رفيق وتلطف، كما قال تعالى: * (فقل هل لك إلى أن تزكى) * [النازعات: 18]
والجبلة: الخليقة والقرون الماضية، والكسف: القطع، واحدها كسفه، و * (يوم الظلة) *: هو
يوم عذابهم، وصورته فيما روي أن الله امتحنهم بحر شديد، وأنشأ الله سبحانه في بعض
قطرهم فجاء بعضهم إلى ظلها فوجد لها بردا وروحا، فتداعوا إليها / حتى تكاملوا
فاضطرمت عليهم نارا، فأحرقتهم عن آخرهم.
وقيل غير هذا، والحق أنه عذاب جعله الله ظلة عليهم.
235

وقوله تعالى: * (وإنه لتنزيل رب العالمين) * يعني القرآن.
وقوله: * (بلسان عربي) * متعلق ب‍ * (نزل) *، أي: سمعة النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل حروفا
عربية، وهذا هو القول الصحيح، وما سوى هذا فمردود.
وقوله سبحانه: * (وإنه لفي زبر الأولين) * أي: القرآن مذكور في الكتب المنزلة
القديمة، منبه عليه، مشار إليه * (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) *;
كعبد الله بن سلام ونحوه; قاله ابن عباس ومجاهد، قال مقاتل: هذه الآية مدنية،
ومن قال إن الآية مكية ذهب إلى أن علماء بني إسرائيل ذكروا لقريش أن في التوراة صفة
النبي الأمي، وأن هذا زمانه، فهذه الإشارة إلى ذلك; وذلك أن قريشا بعثت إلى الأحبار
يسألونهم عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر تعالى أن هذا القرآن لو سمعوه من أعجم، أي: من
حيوان غير ناطق، أو من جماد، والأعجم: كل ما لا يفصح - ما كانوا يؤمنون،
والأعجمون: جمع أعجم، وهو الذي لا يفصح، وإن كان عربي النسب، وكذلك يقال
للحيوانات والجمادات، ومنه الحديث: " جرح العجماء جبار " والعجمي هو الذي نسبه
236

في العجم، وإن كان أفصح الناس، وقرأ الحسن: الأعجميين.
قال أبو حاتم: أراد جمع الأعجمي المنسوب إلى العجم.
وقال الثعلبي: معنى الآية: ولو نزلناه على رجل ليس بعربي اللسان، فقرأه عليهم
بغير لغة العرب - لما آمنوا أنفة من اتباعه، انتهى.
وقوله تعالى: * (كذلك سلكناه في قلوب المجرمين) *.
قال * ع *: و * (سلكناه) * معناه: أدخلناه، والضمير فيه للكفر الذي يتضمنه قوله:
* (ما كانوا به مؤمنين) * [الشعراء: 199]; قاله الحسن، وقيل الضمير للتكذيب، وقيل للقرآن
ورجح بأنه المتبادر إلى الذهن، والمجرمون أراد به مجرمي كل أمة، أي: أن هذه عادة الله
فيهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب، فكفار قريش كذلك و * (هل نحن منظرون أي:
مؤخرون.
وقوله سبحانه: * (أفبعذابنا يستعجلون) * توبيخ لقريش على استعجالهم العذاب،
وقولهم للنبي صلى الله عليه وسلم: أسقط علينا كسفا من السماء، وقولهم: أين ما تعدنا؟ ثم خاطب
سبحانه نبيه - عليه السلام - بقوله: * (أفرأيت إن متعناهم سنين) *.
قال عكرمة: * (سنين) *: يريد عمر الدنيا، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من
237

القرى إلا بعد إرسال من ينذرهم عذاب الله عز وجل; ذكرى لهم وتبصرة.
وقوله تعالى: * (وما تنزلت به الشياطين) * الضمير في * (به) * عائد على القرآن.
وقوله تعالى: * (إنهم عن السمع لمعزولون) * أي: لان السماء محروسة بالشهب
الجارية إثر الشياطين، ثم وصى تعالى نبيه بالثبوت على التوحيد والمراد: أمته فقال: * (فلا
تدع تجعل مع الله إلها آخر...) * الآية.
وقوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين... الآية: وفي " صحيح البخاري " وغيره
عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: " يا
صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من
سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: / نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير
لكم بين يدي عذاب شديد " الحديث، وخص بإنذاره عشيرته; لأنهم مظنة الطواعية، وإذ
يمكنه من الإغلاظ عليهم ما لا يحتمله غيرهم، ولأن الإنسان غير متهم على عشيرته،
والعشيرة: قرابة الرجل، وخفض الجناح: استعارة معناه: لين الكلمة، وبسط الوجه،
والبر، والضمير في * (عصوك) * عائد على عشيرته، ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالتوكل
عليه في كل أموره، ثم جاء بالصفات التي تؤنس المتوكل وهي العزة والرحمة.
وقوله: * (الذي يراك حين تقوم) * يراك عبارة عن الإدراك، وظاهر الآية أنه أراد قيام
الصلاة، ويحتمل سائر التصرفات; وهو تأويل مجاهد وقتادة.
وقوله سبحانه: * (وتقلبك في الساجدين) * قال ابن عباس وغيره: يريد أهل
238

الصلاة، أي: صلاتك مع المصلين.
وقوله تعالى: * (قل هل أنبئكم) * أي: قل لهم يا محمد: هل أخبركم * (على من تنزل
الشياطين) *؟ والأفاك: الكذاب، والأثيم: الكثير الأثيم، ويريد الكهنة; لأنهم كانوا يتلقون
من الشياطين الكلمة الواحدة التي سمعت من السماء فيخلطون معها مائة كذبة، حسبما جاء
في الحديث، وقد ذكرناه في غير هذا الموضع، والضمير في * (يلقون) * يحتمل أن يكون
للشياطين، ويحتمل أن يكون للكهنة، ولما ذكر الكهنة بإفكهم عليه وحالهم التي تقتضي نفي
كلامهم عن كلام الله تعالى - عقب ذلك بذكر الشعراء وحالهم; لينبه على بعد كلامهم من
كلام القرآن، إذ قال بعض الكفرة في القرآن: إنه شعر والمراد شعراء الجاهلية، ويدخل
في الآية كل شاعر مخلط يهجو ويمدح; شهوة، ويقذف المحصنات، ويقول الزور.
وقوله: * (الغاوون) * قال ابن عباس: هم المستحسنون لأشعارهم، المصاحبون
لهم.
وقال عكرمة: هم الرعاع الذين يتبعون الشاعر ويغتنمون إنشاده.
وقوله: * (في كل واد يهيمون) * عبارة عن تخليطهم وخوضهم في كل فن من غث
الكلام وباطله; قاله ابن عباس وغيره، وروى جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" من مشى سبع خطوات في شعر، كتب من الغاوين " ذكره أسد بن موسى، وذكره النقاش.
239

وقوله تعالى: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات...) * الآية: هذا الاستثناء هو في
شعراء الإسلام; كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وكل من
اتصف بهذه الصفة، ويروى عن عطاء بن يسار وغيره أن هؤلاء شق عليهم ما ذكر قبل في
الشعراء، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت آية الاستثناء بالمدينة.
وقوله تعالى: * (وذكروا الله كثيرا) * يحتمل أن يريد في أشعارهم، وهو تأويل ابن
زيد، ويحتمل أن ذلك خلق لهم وعبادة; قاله ابن عباس، فكل شاعر في الإسلام
يهجو ويمدح عن غير حق فهو داخل في [هذه الآية] وكل تقي منهم يكثر من الزهد،
ويمسك عن كل ما يعاب فهو داخل في] الاستثناء.
* ت *: قد كتبنا - والحمد لله - في هذا المختصر جملة صالحة في فضل الأذكار;
عسى الله أن ينفع به من وقع بيده، ففي " جامع الترمذي " عن أبي سعيد الخدري، قال:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال: " الذاكرون الله
كثيرا، قلت: ومن الغازي في سبيل الله عز وجل؟! قال: لو ضرب بسيفه في الكفار
والمشركين حتى ينكسر ويختضب دما - لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه " / وروى
الترمذي، وابن ماجة عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أنبئكم بخير
أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب
والورق; وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى،
قال: ذكر الله تعالى ". قال الحاكم أبو عبد الله في كتابة " المستدرك على الصحيحين ":
240

هذا حديث صحيح الإسناد، انتهى من " حلية النووي ". وقوله: * (وانتصروا من بعد ما
ظلموا) * إشارة إلى ما رد به حسان وعلى وغيرهما على قريش.
قلت: قيل: وأنصف بيت قالته العرب: قول حسان لأبي سفيان أو لأبي جهل:
[الوافر]
- أتهجوه ولست له بكف ء * فشركما لخيركما الفداء -
وباقي الآية وعيد لظلمة كفار مكة وتهديد لهم.
241

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد
تفسير سورة النمل
وهي مكية
قوله تعالى: * (طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين * هدى وبشرى للمؤمنين) * تقدم
القول في الحروف المقطعة، وعطف الكتاب على القرآن وهما لمسمى واحد; من حيث
هما صفتان لمعنيين، فالقرآن: لأنه اجتمع، والكتاب: لأنه يكتب، " وإقامة الصلاة ":
إدامتها وأداؤها على وجهها.
وقوله تعالى: * (زينا لهم أعمالهم) * أي: جعل سبحانه عقابهم على كفرهم أن حتم
عليهم الكفر، وحبب إليهم الشرك وزينة في نفوسهم. والعمة: الحيرة والتردد في الضلال.
ثم توعدهم تعالى بسوء العذاب; فمن ناله منه شئ في الدنيا بقي عليه عذاب الآخرة، ومن
لم ينله عذاب الدنيا كان سوء عذابه في موته وفى ما بعده.
وقوله تعالى: * (وإنك لتلقى القرآن) * تلقى: مضاعف لقي يلقى، ومعناه تعطى، كما
قال: * (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) * [فصلت: 35].
وهذه الآية رد على كفار قريش في قولهم: إن القرآن من تلقاء محمد; و * (من لدن) *
معناه: من عنده; ومن جهته. ثم قص - تعالى - خبر موسى; حين خرج بزوجه; بنت
شعيب عليه السلام يريد مصر، وقد تقدم في " طه " قصص الآية.
وقوله: * (سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس...) * الآية، أصل الشهاب:
242

الكوكب المنقص في أثر مسترق السمع; وكل ما يقال له " شهاب " من المنيرات; فعلى
التشبيه، والقبس: يحتمل أن يكون اسما، ويحتمل أن يكون صفة. وقرأ الجمهور بإضافة
" شهاب " إلى " قبس "، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتنوين " شهاب قبس ": فهذا على
الصفة.
: ص *: وقوله: * (جاءها) * ضمير المفعول، عائد على النار، وقيل على الشجرة،
انتهى. * (وبورك) * معناه: قدس ونمي خيره، والبركة، مختصة بالخير.
وقوله تعالى: * (من في النار) * قال ابن عباس: أراد النور، وقال الحسن وابن
عباس: وأراد ب‍ * (من حولها) * الملائكة وموسى.
قال * ع *: ويحتمل أن تكون * (من) * للملائكة; لأن ذلك النور الذي حسبه موسى
نارا; لم يخل من ملائكة، * (ومن حولها) * لموسى والملائكة المطيفين به.
وقرأ أبي بن كعب " أن بوركت النار ومن حولها ".
وقوله تعالى: * (وسبحان الله رب العالمين) *، هو تنزيه لله تعالى مما عساه أن
يخطر / ببال; في معنى النداء من الشجرة، أي: هو منزه عن جميع ما تتوهمه الأوهام;
وعن التشبيه والتكييف، والضمير في * (إنه) * للأمر والشأن.
243

وقوله سبحانه: * (وألق عصاك...) * الآية، أمره - تعالى - بهذين الأمرين إلقاء
العصا، وأمر اليد تدريبا له في استعمالهما، والجان: الحيات; لأنها تجن أنفسها; أي:
تسترها. وقالت فرقة: الجان: صغار الحيات.
وقوله تعالى: * (ولى مدبرا ولم يعقب) *، أي: ولى فارا. قال مجاهد: ولم
يرجع، وقال قتادة: ولم يلتفت.
قال * ع *: وعقب الرجل إذا ولى عن أمر; ثم صرف بدنه أو وجهه إليه. ثم ناداه
سبحانه مؤنسا له: * (يا موسى لا تخف أني لا يخاف لدي المرسلون) *.
وقوله تعالى: * (إلا من ظلم) * قال الفراء; وجماعة: الاستثناء منقطع، وهو إخبار عن
غير الأنبياء، كأنه سبحانه - قال: لكن من ظلم من الناس ثم تاب; فإني غفور رحيم، وهذه
الآية تقتضي المغفرة للتائب، والجيب الفتح في الثوب لرأس الإنسان.
وقوله تعالى: * (في تسع آيات) * متصل بقوله: * (ألق) * * (وأدخل يدك) * وفيه
اقتضاب وحذف، والمعنى في جملة تسع آيات، وقد تقدم بيانها، والضمير في
* (جاءتهم) * لفرعون وقومه، وظاهر قوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها) * حصول الكفر
عنادا; وهي مسألة خلاف; قد تقدم بيانها و * (ظلما) * معناه: على غير استحقاق للجحد،
والعلو في الأرض أعظم آفة على طالبه، قال الله تعالى: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين
لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) * [القصص: 83].
244

وقوله تعالى: * (ولقد آتينا داود وسليمان علما...) *، الآية هذا ابتداء قصص فيه
غيوب وعبر.
* (وورث سليمان داود) *، أي: ورث ملكه ومنزلته من النبوءة; بعد موت أبيه، وقوله:
" علمنا منطق الطير " إخبار بنعمة الله تعالى عندهما; في أن فهمهما من أصوات الطير
المعاني التي في نفوسها، وهذا نحو ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع أصوات الحجارة بالسلام
عليه; وغير ذلك حسب ما هو في الآثار.
قال قتادة وغيره: إنما كان هذا الأمر في الطير خاصة، والنملة طائر; إذ قد يوجد لها
جناحان.
وقالت فرقة: بل كان ذلك في جميع الحيوان; وإنما خص الطير; لأنه كان جندا من
جنود سليمان; يحتاجه في التظليل من الشمس; وفى البعث في الأمور. والنمل حيوان
فطن قوي شمام جدا; يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين ليلا ينبت، ويشق الكزبرة
بأربع قطع; لأنها تنبت إذا قسمت شقين، ويأكل في عامة نصف ما جمع، ويستبقي سائره
عدة. قال ابن العربي في " أحكامه ": ولا خلاف عند العلماء في أن الحيوانات كلها لها
أفهام وعقول، وقد قال الشافعي: الحمام أعقل الطير، انتهى.
وقوله: * (وأوتينا من كل شئ * (معناه: يصلح لنا ونتمناه; وليست على العموم. ثم
ذكر شكر فضل الله تعالى، واختلف في مقدار جند سليمان عليه السلام اختلافا شديدا; لا
أرى ذكره; لعدم صحة التحديد، غير أن الصحيح في هذا أن ملكه كان عظيما ملأ الأرض
وانقادت له المعمورة كلها، وكان كرسيه يحمل أجناده من الأنس والجن، وكانت الطير
تظله من الشمس، ويبعثها في الأمور، و * (يوزعون) * معناه: يرد أولهم إلى آخرهم،
ويكفون، قال قتادة: فكأن لكل صنف / وزعة، ومنه قول الحسن البصري حين ولي
قضاء البصرة: لابد للحاكم من وزعة، ومنه قول أبي قحافة للجارية: ذلك يا بنية
245

الوازع; ومنه قول الشاعر: [الطويل]
- على حين عاتبت المشيب على الصبا * فقلت: ألما أصح والشيب وازع -
أي: كاف، وهكذا نقل ابن العربي عن مالك; فقال: * (يوزعون) * أي: يكفون.
قال ابن العربي: وقد يكون بمعنى يلهمون; من قوله " أوزعني أن أشكر نعمتك "
أي: ألهمني، انتهى من " الأحكام ".
وقوله تعالى: * (فتبسم ضاحكا من قولها) * التبسم هو ضحك الأنبياء في غالب
أمرهم; لا يليق بهم سواه، وكان تبسمه سرورا بنعمة الله تعالى عليه في أسماعه وتفهيمه.
وفى قول النملة: * (وهم لا يشعرون) * ثناء على سليمان وجنوده يتضمن تنزيههم عن تعمد
القبيح. ثم دعا سليمان عليه السلام ربه أن يعينه ويفرغه لشكر نعمته، وهذا معنى إيزاع
الشكر، وقال الثعلبي وغيره: " أوزعني " معناه: ألهمني، وكذلك قال العراقي: * (أوزعني) *
ألهمني، انتهى.
246

وقوله تعالى: * (وتفقد الطير...) * الآية، قالت فرقة: ذلك بحسب ما تقتضيه العناية
بالمملكة والتهمم بكل جزء منها، وهذا ظاهر الآية أنه تفقد جميع الطير، وقالت فرقة: بل
تفقد الطير; لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد; فكان ذلك سبب تفقد الطير; ليبين من
أين دخلت الشمس، وقال عبد الله بن سلام: إنما طلب الهدهد; لأنه احتاج إلى معرفة
الماء; على كم هو من وجه الأرض; لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء، وأن الهدهد
كان يرى باطن الأرض وظاهرها; فكان يخبر سليمان بموضع الماء، ثم كانت الجن تخرجه
في ساعة، وقيل غير هذا; والله أعلم بما صح من ذلك. ثم توعد - عليه السلام - الهدهد
بالعذاب، فروي عن ابن عباس وغيره: أن تعذيبه للطير كان بنتف ريشه. والسلطان:
الحجة; حيث وقع في القرآن [العظيم]; قاله ابن عباس. وفعل سليمان هذا بالهدهد
إغلاظا على العاصين; وعقابا على إخلاله بنبوته ورتبته، والضمير في * (مكث) * يحتمل أن يكون
لسليمان أو للهدهد، وفي قراءة ابن مسعود " فتمكث ثم جاء فقال " وفي قراءة
أبي " فتمكث ثم قال أحطت ".
* ت *: وهاتان القراءتان تبينان أن الضمير في " مكث " للهدهد; وهو الظاهر أيضا في
قراءة الجماعة، ومعنى * (مكث) *: أقام.
وقوله: * (غير بعيد) * يعني: في الزمن.
وقوله: * (أحطت) * أي: علمت.
وقرأ الجمهور " سبأ " بالصرف على أنه اسم رجل; وبه جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
من حديث فروة بن مسيك وغيره، سئل - عليه السلام - عن سبأ فقال: " كان رجلا له
عشرة من الولد تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة ". ورواه الترمذي من طريق فروة بن
247

مسيك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " سبأ " بفتح الهمزة وترك الصرف; - على أنه اسم
بلدة; وقاله الحسن وقتادة.
وقوله: * (وأوتيت من كل شئ) * أي: مما تحتاجه المملكة، قال الحسن: من كل
أمر الدنيا، وهذه المرأة هي " بلقيس "، ووصف عرشها بالعظم في الهيئة ورتبة الملك،
وأكثر بعض الناس / في قصصها بما رأيت اختصاره; لعدم صحته، وإنما اللازم من الآية:
أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن، ذات ملك عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
وقوله: * (ألا يسجدوا لله) * إلى قوله * (العظيم) *، ظاهره: أنه من قول الهدهد; وهو
قول ابن زيد وابن إسحاق، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضا بين الكلامين،
وقراءة التشديد في * (ألا) * تعطي: أن الكلام للهدهد; وهي قراءة الجمهور، وقراءة
التخفيف; وهي للكسائي من تمنعه وتقوي الآخر; فتأمله، وقرأ الأعمش * (هلا
يسجدون) * وفي حرف عبد الله " ألا هل تسجدون " بالتاء، و * (الخبء) *: الخفي من
248

الأمور; وهو من: خبأت الشئ، واللفظة تعم كل ما خفي من الأمور; وبه فسر ابن
عباس، وقرأ الجمهور: " يخفون ويلعنون " بياء الغائب; وهذه القراءة تعطي أن الآية من
كلام الهدهد. وقرأ الكسائي وحفص عن عاصم " تخفون وتعلنون " بتاء الخطاب; وهذه
القراءة تعطي أن الآية من خطاب الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: * (فألقه إليهم ثم تول عنهم) *، قال وهب بن منبه: أمره بالتولي حسن أدب
ليتنحى حسب ما يتأدب به مع الملوك، بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم، وليكل
الأمر، إلى حكم ما في الكتاب دون أن تكون للرسول ملازمة ولا إلحاح. وروى
وهب بن منبه في قصص هذه الآية: أن الهدهد وصل; فوجد دون هذه الملكة حجب
جدرات، فعمد إلى كوة كانت بلقيس صنعتها، لتدخل منها الشمس عند طلوعها; لمعنى
عبادتها إياها; فدخل منها ورمى بالكتاب إليها; فقرأته وجمعت أهل ملكها; فخاطبتهم
بما يأتي بعد. * (قالت يا أيها الملأ) * تعنى: الأشراف: * (إني ألقي إلى كتاب كريم) * وصفت
الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم، أو لأنه بدئ باسم كريم. ثم أخذت تصف لهم ما
في الكتاب، ثم أخذت في حسن الأدب مع رجالها ومشاورتهم في أمرها; فراجعها قومها
بما يقر عينها من إعلامهم إياها بالقوة، والبأس. ثم سلموا الأمر إلى نظرها; وهذه محاورة
حسنة من الجميع. وفي قراءة عبد الله: " ما كنت قاضية أمرا " بالضاد من القضاء، ثم
أخبرت بلقيس بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها، وفي كلامها خوف على قومها
وحيطة لهم، قال الداودي، وعن ابن عباس: رضي الله عنه * (إذا دخلوا قرية أفسدوها) *
قال: إذا أخذوها عنوة، أخربوها، انتهى.
وقوله: * (وكذلك يفعلون) * قالت فرقة: هو من قول بلقيس، وقال ابن عباس: هو
249

من قول الله تعالى معرفا لمحمد عليه السلام وأمته بذلك.
* (وإني مرسلة إليهم بهدية...) * الآية، روي أن بلقيس قالت لقومها: إني أجرب هذا
الرجل بهدية فيها نفائس الأموال، فإن كان ملكا دنيويا أرضاه المال; وإن كان نبيا لم يقبل
الهدية، ولم يرضه منا إلا أن نتبعه على دينه، فينبغي أن نؤمن به، ونتبعه على دينه، فبعث
إليه بهدية عظيمة.
وقوله تعالى: * (فلما جاء سليمان) * يعني: رسل بلقيس، وقول سليمان: * (إرجع) *
خطاب لرسلها; لأن الرسول يقع على الجمع والإفراد والتذكير والتأنيث. هذه وفي قراءة ابن
مسعود: " فلما جاءوا سليمان " وقرأ " ارجعوا "، ووعيد سليمان لهم مقترن بدوامهم على
الكفر، قال البخاري: * (لا قبل لهم بها) * أي: لا طاقة لهم، انتهى. ثم قال سليمان
لجمعه / * (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها) *.
قال ابن زيد: وغرضه في استدعاء عرشها; أن يريها القدرة التي من عند الله
وليغرب عليها، و * (مسلمين) * في هذا التأويل بمعنى: مستسلمين، ويحتمل أن يكون
بمعنى الإسلام.
وقال قتادة: كان غرض سليمان أخذه قبل أن يعصمهم الإسلام;
فالإسلام على هذا التأويل يراد به الدين.
250

* ت *: والتأويل الأول أليق بمنصب النبوءة، فيتعين حمل الآية عليه، والله أعلم.
وروي أن عرشها كان من ذهب وفضة; مرصعا بالياقوت والجوهر، وأنه كان في
جوفه سبعة أبيات عليها سبعة أغلاق. والعفريت هو من الشياطين: القوي المارد.
وقوله: * (قبل أن تقوم من مقامك) * قال مجاهد وقتادة: معناه: قبل قيامك من
مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى وقت الظهر في كل يوم، وقيل: معناه: قبل
أن تستوي من جلوسك قائما. وقول الذي عنده علم من الكتاب: * (أنا آتيك به قبل أن يرتد
إليك طرفك) * قال ابن جبير وقتادة معناه: قبل: أن يصل إليك من يقع طرفك عليه في
أبعد ما ترى. وقال مجاهد: معناه: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي: مدة ما يمكنك
أن تمد بصرك دون تغميض; وذلك ارتداده.
قال * ع *: وهذان القولان يقابلان القولين قبلهما.
وقوله: * (لقوي أمين) * معناه: قوي على حمله; أمين على ما فيه. ويروى أن الجن
كانت تخبر سليمان بمناقل سير بلقيس، فلما قربت، قال: * (أيكم يأتيني بعرشها) * فدعا
الذي عنده علم من التوراة، - وهو الكتاب المشار إليه - باسم الله الأعظم; الذي كانت
العادة في ذلك الزمان أن لا يدعو به أحد إلا أجيب فشقت الأرض بذلك العرش، حتى
نبع بين يدي سليمان عليه السلام. وقيل: بل جيء به في الهواء. وجمهور المفسرين على
أن هذا الذي عنده علم من الكتاب - كان رجلا صالحا من بني إسرائيل اسمه (آصف بن
برخيا)، روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان [عليه السلام] يا نبي الله; أمدد بصرك
251

نحو اليمن، فمد بصره; فإذا بالعرش، فما رد سليمان بصره إلا وهو عنده. وقال قتادة:
اسمه بلخيا. وقول سليمان - عليه السلام - -: * (نكروا لها عرشها) * يريد تجربة ميزها
ونظرها، وروت فرقة أن الجن أحست من سليمان أو ظنت به أنه ربما تزوجها، فكرهوا
ذلك وعيبوها عنده، بأنها غير عاقلة ولا مميزة; وأن رجلها كحافر دابة، فجرب عقلها
وميزها بتنكير السرير، وجرب أمر رجلها بأمر الصرح، لتكشف عن ساقيها عنده، وتنكير
العرش: تغيير وضعه وستر بعضه. وقولها * (كأنه هو) * تحرز فصيح، وقال الحسن بن
الفضل: شبهوا عليها فشبهت عليهم. ولو قالوا: * (أهذا عرشك؟) * لقالت: نعم، ثم قال
سليمان عند ذلك: * (وأوتينا العلم من قبلها) * الآية وهذا منه; على جهة تعديد
نعم الله عليه وعلى آبائه.
وقوله تعالى: * (وصدها ما كانت تعبد) * أي: عن الإيمان، وهذا الكلام يحتمل أن
يكون من قول سليمان; أو من قول الله، إخبارا لمحمد عليه السلام: قال محمد بن كعب
القرظي / وغيره: ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا; وهو السطح
في الصحن من غير سقف وجعلته مبنيا كالصهريج وملئ ماء وبث فيه السمك وطبقه
بالزجاج الأبيض الشفاف، وبهذا جاء صرحا. والصرح أيضا كل بناء عال، وكل هذا من
التصريح; وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمان في وسط الصرح كرسيا، فلما وصلته
بلقيس; قيل لها: ادخلي إلى النبي - عليه السلام -، فلما رأت الصرح حسبته لجة وهو
معظم الماء، ففزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء،
ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فكشفت عن ساقيها، فرأى سليمان
ساقيها سليمة مما قالت الجن غير أنها كثيرة الشعر، فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان
عليه السلام: * (إنه صرح ممرد من قوارير) * والممرد: المحكوك المملس; ومنه الأمرد،
فعند ذلك قالت: * (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) * فروي أن
252

سليمان تزوجها عند ذلك، وأسكنها الشام; قاله الضحاك. وقيل: تزوجها
وردها إلى ملكها باليمن وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة، فولدت له غلاما سماه داود;
مات في حياته. وروي أن سليمان لما أراد زوال شعر ساقيها; أمر الجن بالتلطف في
زواله، فصنعوا النورة ولم تكن قبل، وصنعوا الحمام.
وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا...) * الآية، تمثيل لقريش،
و * (فريقان) *: يريد بهما من آمن بصالح. ومن كفر به. واختصامهم هو تنازعهم. وقد ذكر
تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحا - عليه السلام - ترفق بقومه ووقفهم على
خطئهم في استعجالهم العذاب; قبل الرحمة. أو المعصية لله قبل الطاعة، ثم أجابوه
بقولهم: * (اطيرنا بك) * أي: تشاء منا بك. * (وتسعة رهط) * هم رجال كانوا من أوجه القوم
وأعتاهم; وهم أصحاب قدار، والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم.
وقوله تعالى: * (تقاسموا) *.
قال الجمهور: هو فعل أمر، أشار بعضهم على بعض بأن يتخالفوا على هذا الفعل
بصالح، وحكى الطبري أنه يجوز أن يكون تقاسموا فعلا ماضيا في موضع الحال، كأنه
قال: متقاسمين أو متحالفين بالله لنبيتنه وأهله، وتؤيده قراءة عبد الله: " ولا يصلحون
تقاسموا " بإسقاط " قالوا ".
253

قال * ع *: وهذه الألفاظ الدالة على قسم تجاوب باللام، وإن لم يتقدم قسم
ظاهر، فاللام في * (لنبيتنه) *: جواب القسم. وروي في قصص هذه الآية أن هؤلاء التسعة;
لما كان في صدر الثلاثة الأيام بعد عقر الناقة وقد أخبرهم صالح بمجيء العذاب، اتفق
هؤلاء التسعة فتحالفوا على أن يأتوا دار صالح ليلا فيقتلوه وأهله المختصين به، قالوا: فإن
كان كذبا في وعيده أوقعنا به ما يستحق، وإن كان صادقا كنا قد عجلناه قبلنا وشفينا به
نفوسنا، فجاؤوا واختفوا لذلك في غار قريب من داره، فروي أنه انحدرت عليهم صخرة
شدختهم جميعا /، وروي أنها طبقت عليهم الغار فهلكوا فيه حين هلك قومهم، وكل
فريق لا يعلم بما جرى على الآخر، وقد كانوا بنوا على جحود الأمر من قرابة صالح،
ويعني بالأهل كل من آمن به; قاله الحسن.
وقوله سبحانه: * (ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون) * قال ابن العربي الحاتمي: المكر
إرداف النعم مع المخالفة وإبقاء الحال مع سوء الأدب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية.
والتدمير: الهلاك و * (خاوية) * معناه: قفرا، وهذه البيوت المشار إليها هي التي قال فيها
النبي صلى الله عليه وسلم عام تبوك: " لا تدخلوا بيوت المعذبين إلا أن تكونوا باكين ". الحديث في
" صحيح مسلم " وغيره.
وقوله تعالى: * (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون
الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) * تقدم قصص هؤلاء القوم،
و * (تبصرون) * معناه: بقلوبكم.
قال أبو حيان: و * (شهوة) * مفعول من أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ". لعن الله من عمل عمل لوط ". رواه أبو داود والترمذي والنسائي;
254

واللفظ له; وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، انتهى من " السلاح ".
وقوله تعالى: * (قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آالله خير أما
تشركون) * الآيات: هذا ابتداء تقرير وتنبيه لقريش والعرب وهو بعد يعم كل مكلف من
الناس جميعا، وافتتح ذلك بالقول بحمده - سبحانه - وتمجيده وبالسلام على عباده الذين
اصطفاهم للنبوءة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجميعهم من ولد آدم، وكأن هذا صدر خطبة
للتقرير المذكور، قالت فرقة: وفي الآية حذف مضاف في موضعين، التقدير: أتوحيد الله
خير أم عبادة ما تشركون، ف‍ " ما "، على هذا: موصولة بمعنى: الذي، وقالت فرقة: " ما "
مصدرية، وحذف المضاف إنما هو أولا تقديره: أتوحيد الله خير أم شرككم.
* ت *: ومن كلام الشيخ العارف بالله أبى الحسن الشاذلي قال - رحمة الله -، إن
أردت أن لا يصدأ لك قلب; ولا يلحقك هم; ولا كرب; ولا يبقى عليك ذنب - فأكثر من
قولك " سبحان الله وبحمده; سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، اللهم ثبت علمها، في
قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنين والمؤمنات، وقل الحمد لله وسلام على عباده
الذين اصطفى " انتهى.
وقوله تعالى * (أمن خلق) * وما بعدها من التقريرات توبيخ لهم وتقرير على مالا
مندوحة عن الإقرار به، و " الحدائق " مجتمع الشجر من الأعناب والنخيل وغير ذلك، قال
قوم: لا يقال حديقة إلا لما عليه جدار قد أحدق له.
وقال قوم: يقال ذلك كان جدار أو لم يكن; لأن البياض محدق بالأشجار، والبهجة
الجمال والنضارة.
وقوله سبحانه " * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * أي: ليس ذلك في قدرتكم،
255

و * (يعدلون) * يجوز أن يراد به: يعدلون عن طريق الحق، ويجوز أن يراد به يعدلون بالله
غيره، أي: يجعلون له عديلا ومثيلا، و * (خلالها) * معناه: بينها، والرواسي: الجبال،
والبحران /: الماء العذب والماء الأجاج; على ما تقدم، والحاجز: ما جعل الله بينهما من
حواجز الأرض وموانعها على رقتها في بعض المواضع، ولطافتها; لولا قدرة الله لغلب
المالح العذب.
وقوله سبحانه: * (أمن يجيب المضطر إذا دعاه...) * الآية، وعن حبيب بن سلمة
الفهري; وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يجتمع ملأ فيدعو
بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله تعالى "، رواه الحاكم في " المستدرك "، انتهى من
" سلاح المؤمن "، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا الله
وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه " رواه
الترمذي; وهذا لفظه. قال " صاحب السلاح ": ورواه الحاكم في " المستدرك " وقال: مستقيم
الإسناد انتهى. و * (السوء) * عام في كل ضر يكشفه الله تعالى عن عباده قال ابن
عطاء الله: ما طلب لك شئ مثل الاضطرار، ولا أسرع بالمواهب لك مثل الذلة
والافتقار، انتهى. و " الظلمات " عام; لظلمة الليل; ولظلمة الجهل والضلال، والرزق من
256

السماء هو بالمطر; ومن الأرض بالنبات; هذا هو مشهور ما يحسه البشر، وكم لله بعد من
لطف خفى. ثم أمر تعالى نبيه - عليه السلام - أن يوقفهم على أن الغيب مما انفرد الله
بعلمه; ولذلك سمى غيبا لغيبه عن المخلوقين. روي: أن هذه الآية من قوله: * (قل لا
يعلم) * إنما نزلت لأجل سؤال الكفار عن الساعة الموعود بها، فجاء بلفظ يعم الساعة
وغيرها، وأخبر عن البشر أنهم لا يشعرون أيان يبعثون.
* ص *: * (أيان) * اسم استفهام بمعنى: متى، وهي معمولة ل‍ * (يبعثون) *، والجملة
في موضع نصب ب‍ * (يشعرون) *، انتهى.
وقرأ جمهور القراء: * (بل ادارك) * أصله: تدارك. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر:
" بل أدرك " على وزن افتعل، وهي بمعنى: تفاعل.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " بل أدرك " وهذه القراءات تحتمل معنيين: أحدهما: أدرك
علمهم، أي: تناهى، كما تقول أدرك النبات، والمعنى: قد تناهى علمهم بالآخرة إلى أن
لا يعرفوا لها مقدارا، فيؤمنوا لأنه وإنما لهم ظنون كاذبة، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقتا، والمعنى
الثاني: بل أدرك بمعنى: أي أنهم في الآخرة يدرك علمهم وقت القيامة، ويرون
العذاب والحقائق التي كذبوا بها، وأما في الدنيا; فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس، ونحا
إليه الزجاج، فقوله: * (في الآخرة) * على هذا التأويل: ظرف; وعلى التأويل الأول:
* (في) * بمعنى الباء. ثم وصفهم عز وجل بأنهم في شك منها، ثم أردف بصفة هي أبلغ من
الشك وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، و * (عمون) *: أصله: (عميون) فعلون
كحذرون.
257

وقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون * لقد وعدنا
هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين) *، هذه الآية معناها واضح مما تقدم في
غيرها. ثم ذكر - تعالى استعجال كفار قريش أمر الساعة والعذاب بقولهم: * (متى هذا
الوعد) * معنى التعجيز، و * (ردف) * معناه: قرب وأزف; قاله ابن عباس وغيره،
ولكنها عبارة عما يجيء بعد الشئ قريبا منه، والهاء في * (غائبة) * للمبالغة، أي ما من شئ
في غاية الغيب والخفاء إلا في كتاب عند الله وفي مكنون علمه، لا إله إلا هو. ثم نبه -
تعالى - على أن / هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الأشياء التي كان بينهم اختلاف
في صفتها، جاء بها القرآن على وجهها، * (وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) * كما أنه عمى على
الكافرين المحتوم عليهم، ثم سلى نبيه بقوله * (إنك لا تسمع الموتى) * فشبههم مرة
بالموتى، ومرة بالصم من حيث إن فائدة القول لهؤلاء معدومة.
وقرأ حمزة: " وما أنت تهدي العمي " بفعل مستقبل، ومعنى قوله تعالى * (وإذا وقع
القول عليهم) *، أي: إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك،
وهذا بمنزلة قوله تعالى: * (حقت كلمة العذاب) * [الزمر: 71]، فمعنى الآية وإذا أراد الله أن
ينفذ في الكافرين سابق علمه لهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض، وروي أن ذلك
حين ينقطع الخير، ولا يؤمر بمعروف، ولا ينهى عن منكر، ولا يبقى منيب ولا تائب،
258

و * (وقع) * عبارة عن الثبوت واللزوم، وفي الحديث: أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب
من أول الأشراط، وهذه الدابة روي أنها تخرج من الصفا بمكة; قاله ابن عمر وغيره،
وقيل غير هذا.
وقرأ الجمهور: * (تكلمهم) * من الكلام. وقرأ ابن عباس وغيره: * (تكلمهم) * -
بفتح التاء وتخفيف اللام -، من الكلم وهو الجرح، وسئل ابن عباس عن هذه الآية
" تكلمهم أو تكلمهم "؟ فقال: كل ذلك، والله تفعل: تكلمهم وتكلمهم، وروي أنها تمر
على الناس فتسم الكافر في جبهته وتزبره وتشتمه وربما خطمته، وتمسح على وجه المؤمن
فتبيضه، ويعرف بعد ذلك الإيمان والكفر من أثرها، وفي الحديث: " تخرج الدابة ومعها
خاتم سليمان وعصا موسى، فتجلو وجوه المؤمنين بالعصا; وتختم انف الكافر بالخاتم،
حتى إن الناس ليجتمعون، فيقول هذا: يا مؤمن، ويقول هذا: يا كافر ". رواه البزار،
انتهى من " الكوكب الدري ".
وقرأ الجمهور: " إن الناس " بكسر " إن ".
وقرأ حمزة الكسائي وعاصم: " أن " بفتحها.
وفي قراءة عبد الله: " تكلمهم بأن "، وعلى هذه القراءة; فيكون قوله: أن
الناس) * إلى آخرها من الكلام الدابة، وروي ذلك عن ابن عباس. ويحتمل أن يكون من كلام
الله تعالى.
259

وقوله تعالى: * (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) *: هو تذكير بيوم القيامة، والفوج
الجماعة الكثيرة، و * (يوزعون) * معناه: يكفون في السوق، يحبس أولهم على آخرهم;
قاله قتادة، ومنه وازع الجيش، ثم أخبر - تعالى - عن توقيفه الكفرة يوم القيامة وسؤالهم
على جهة التوبيخ: * (أكذبتم...) * الآية، ثم قال: * (أما ذا كنتم تعلمون) * على معنى استيفاء
الحجج، أي: إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي:
نفوذ العذاب وحتم القضاء وأنهم لا ينطقون بحجة، وهذا في موطن من مواطن القيامة.
ولما تكلم المحاسبي على أهوال القيامة، قال: واذكر الصراط بدقته وهوله; وزلته وعظيم
خطره; وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فياله من منظر; ما أفظعه وأهوله، فتوهم ذلك
بقلب فارغ، وعقل جامع، فإن أهوال يوم القيامة إنما خفت على الذين توهموها في الدنيا
بعقولهم، فتحملوا في الدنيا الهموم خوفا من مقام ربهم، فخففها مولاهم يوم القيامة عنهم،
انتهى من " كتاب التوهم ".
* (ويوم ينفخ في الصور) * وهو القرن في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو
إسرافيل - عليه السلام -، وهذه النفخة المذكورة هنا هي نفخة الفزع /، وروى أبو
هريرة أنها ثلاث نفخات: نفخة الفزع، وهو فزع حياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر، ونفخة
الصعق، ونفخة القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جعلوا الفزع
والصعق في نفخة واحدة مستدلين بقوله تعالى: * (ثم نفخ فيه أخرى...) * الآية [الزمر: 68].
قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية. قال * ع *: والأول أصح، وأخرى يقال في الثالثة،
ومنه قوله تعالى: * (ومناة الثالثة الأخرى) *. [النجم: 20].
وقوله تعالى: * (إلا من شاء الله) * استثناء فيمن قضى الله سبحانه من ملائكته، وأنبيائه،
وشهداء عبيده أن لا ينالهم فزع النفخ في الصور، حسب ما ورد في ذلك من الآثار.
260

قال * ع *: وإذا كان الفزع الأكبر لا ينالهم فهم حريون أن لا ينالهم هذه.
وقرأ حمزة: " وكل أتوه " على صيغة الفعل الماضي، والداخر: المتذلل الخاضع،
قال ابن عباس وابن زيد: الداخر: الصاغر، وقد تظاهرت الروايات بأن الاستثناء في هذه
الآية إنما أريد به الشهداء: لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وهم أهل للفزع; لأنهم بشر
لكن فضلوا بالأمن في ذلك اليوم.
* ت *: واختار الحليمي هذا القول قال: - وهو مروي عن ابن عباس -: إن المستثنى
هم الشهداء. وضعف ما عداه من الأقوال، قال القرطبي، في " تذكرته ": وقد ورد في
حديث أبي هريرة; بأنهم الشهداء، وهو حديث صحيح، انتهى.
وقوله تعالى: * (وترى الجبال تحسبها جامدة...) * الآية، هذا وصف حال الأشياء
يوم القيامة عقب النفخ في الصور، والرؤية: هي بالعين، قال ابن عباس: جامدة:
قائمة، والحسنة الإيمان، وقال ابن عباس وغيره: هي " لا إله إلا الله " وروي عن
علي بن الحسين أنه قال: كنت في بعض خلواتي فرفعت صوتي: ب‍ " لا إله إلا الله "
فسمعت قائلا يقول: إنها الكلمة التي قال الله فيها: " من جاء بالحسنة فله خير منها.
261

وقال ابن زيد: يعطى بالحسنة الواحدة عشرا.
قال * ع *: والسيئة التي في هذه الآية هي الكفر والمعاصي. فيمن حتم الله عليه
من أهل المشيئة بدخول النار.
وقوله: * (إنما أمرت) * المعنى: قل يا محمد لقومك: إنما أمرت أن أعبد رب هذه
البلدة، يعني: مكة، * (وأن أتلوا القرآن) * معناه: تابع في قراءتك، أي: بين آياته واسرد.
قال * ص *: * (وأن اتلوا) * معطوف على " أن أكون ".
وقرأ عبد الله: " وأن أتل " بغير واو وقوله: * (ومن ضل) * جوابه محذوف يدل عليه
ما قبله، أي: فوبال ضلاله عليه، أو يكون الجواب: فقل، ويقدر ضمير عائد من الجواب
على الشرط; لأنه اسم غير ظرف، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سبب
الاهتداء إلى كل خير.
وقوله تعالى: * (سيريكم آياته) * توعد بعذاب الدنيا كبدر ونحوه، وبعذاب الآخرة.
* (وما ربك بغافل عما تعملون) * فيه وعيد.
262

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
تفسير " سورة القصص "
وهي مكية
إلا قوله تعالى * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * فإنها نزلت بالجحفة
في وقت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة; قاله ابن سلام وغيره، وقال مقاتل: فيها من
المدني: * (الذين آتيناهم الكتاب) * إلى قوله * (لا نبتغي الجاهلين) *.
/ قوله تعالى: * (طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلو عليك من نبأ موسى...) *
الآية، معنى * (نتلو) *: نقص وخص تعالى بقوله * (لقوم يؤمنون) * من حيث إنهم هم
المنتفعون بذلك دون غيرهم، و * (علا في
الأرض) * أي: علو طغيان وتغلب، و * (في
الأرض) * يريد أرض مصر، والشيع: الفرق، والطائفة المستضعفة: هم بنو إسرائيل،
* (يذبح أبناءهم) * خوف خراب ملكه على ما أخبرته كهنته، أو لأجل رؤيا رآها; قاله
السدي. وطمع بجهله أن يرد القدر، وأين هذا المنزع من قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " إن يكنه
263

فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله " يعني: ابن صياد; إذ خاف عمر أن
يكون هو الدجال، وباقي الآية بين; وتقدم قصصه. والأئمة: ولاة الأمور; قاله قتادة.
* (ونجعلهم الوارثين) * يريد: أرض مصر والشام، وقرأ حمزة: " ويرى فرعون " -
بالياء وفتح الراء - والمعنى: ويقع فرعون وقومه فيما خافوه وحذروه من جهة بني إسرائيل،
وظهورهم، وهامان: هو وزير فرعون وأكبر رجاله، وهذا الوحي إلى أم موسى، قيل:
وحي إلهام، وقيل: بملك.
وقيل: في منام
وجملة الأمر أنها علمت أن هذا الذي وقع في نفسها هو من عند الله، قال السدي
وغيره: أمرت أن ترضعه عقب الولادة، وتصنع به ما في الآية; لأن الخوف كان عقب
كل ولادة، واليم: معظم الماء، والمراد: نيل مصر، واسم أم موسى يوحانذ، وروي في
قصص هذه الآية: أن أم موسى لفته في ثيابه وجعلت له تابوتا صغيرا، وسدته عليه بقفل،
وعلقت مفتاحه عليه، وأسلمته ثقة بالله وانتظارا لوعده سبحانه، فلما غاب عنها عاودها بثها
وأسفت كل عليه، وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح، وجعلت الأخت تقصه، أي:
تطلب أثره، وتقدم باقي القصة في " طه " وغيرها، والالتقاط: اللقاء عن غير قصد، وآل
فرعون: أهله وجملته، واللام في * (ليكون) *: لام العاقبة.
وقال * ص *: * (ليكون) *: اللام للتعليل المجازى، ولما كان مآله إلى ذلك، عبر عنه
بلام العاقبة، وبلام الصيرورة، انتهى.
264

وقرأ حمزة، والكسائي " وحزنا " - بضم الحاء وسكون الزاي - والخاطئ: متعمد
الخطأ، والمخطئ الذي لا يتعمده.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) * أي: بأنه هو الذي يفسد ملك فرعون على يده; قاله
قتادة وغيره.
* (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) * أي: فارغا من كل شئ إلا من ذكر موسى.
قاله ابن عباس.
قال مالك: هو ذهاب العقل، وقالت فرقة: * (فارغا) * من الصبر.
وقوله تعالى: * (إن كادت لتبدي به) * أي: أمر ابنها، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كادت
أم موسى أن تقول: " وابناه وتخرج سائحة على وجهها ". والربط على القلب: تأنيسه
وتقويته، و * (لتكون من المؤمنين) * أي: من المصدقين بوعد الله وما أوحي إليها
به، * (وعن جنب) * أي: ناحية، فمعنى * (عن جنب) *: عن بعد لم تدن منه فيشعر لها.
وقوله: * (وهم لا يشعرون) * معناه: أنها أخته، ووعد الله المشار إليه هو الذي
أوحاه إليها أو لا، إما بملك / أو بمنامة، حسبما تقدم، والقول بالإلهام ضعيف أن يقال
فيه وعد.
وقوله: * (وأكثرهم) * يريد به القبط، والأشد: شدة البدن واستحكام أمره وقوته،
265

و * (استوى) * معناه: تكامل عقله، وذلك عند الجمهور مع الأربعين. والحكم: الحكمة،
والعلم: المعرفة بشرع إبراهيم عليه السلام.
وقوله تعالى: * (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) *.
قال السدي: كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب
مراكبه حتى إنه كان يدعى موسى بن فرعون، فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من
مدائن مصر، فركب موسى بعده ولحق بتلك المدينة في وقت القائلة، وهو حين الغفلة;
قاله ابن عباس، وقال أيضا: هو بين العشاء والعتمة، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: * (هذا من شيعته) * أي من بني إسرائيل، و * (عدوه) * هم القبط،
و " الوكز ": الضرب باليد مجموعة، وقرأ ابن مسعود: " فلكزه " والمعنى: واحد; إلا أن
اللكز في اللحي، والوكز على القلب، و * (قضى عليه) * معناه: قتله مجهزا، ولم يرد
266

- عليه السلام - قتل القبطي، لكن وافقت وكزته الأجل; فندم، ورأى أن ذلك من نزع
الشيطان في يده، ثم إن ندامة موسى حملته على الخضوع لربه والاستغفار من
ذنبه، فغفر الله له ذلك، ومع ذلك لم يزل عليه السلام يعيد ذلك على نفسه مع علمه أنه
قد غفر له، حتى إنه في القيامة يقول: " وقتلت نفسا لم أؤمر بقتلها "; حسبما صح في
حديث الشفاعة، ثم قال موسى - عليه السلام - معاهدا لربه: رب بنعمتك علي وبسبب
إحسانك وغفرانك، فأنا ملتزم ألا أكون معينا للمجرمين; هذا أحسن ما تأول.
وقال الطبري: إنه قسم; أقسم بنعمة الله عنده.
قال * ع *: واحتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور
ومعونتهم في شئ من أمورهم، ورأوا أنها تتناول ذلك; نص عليه عطاء بن أبي رباح
وغيره.
قال ابن عباس: ثم إن موسى - عليه السلام - مر وهو بحالة الترقب; وإذا ذلك
الإسرائيلي الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل آخر من القبط، وكان القبطي قد خفي
على الناس واكتتم، فلما رأى الإسرائيلي موسى، استصرخه، بمعنى صاح به مستغيثا فلما
رأى موسى - عليه السلام - قتاله لآخر; أعظم ذلك وقال له معاتبا ومؤنبا * (إنك لغوي
مبين) * وكانت إرادة موسى - عليه السلام - مع ذلك، أن ينصر الإسرائيلي، فلما دنا
منهما، وحبس الإسرائيلي وفزع منه، وظن أنه ربما ضربه، وفزع من قوته التي رأى
بالأمس، فناداه بالفضيحة وشهر أمر المقتول، ولما اشتهر أن موسى قتل القتيل، وكان
قول الإسرائيلي يغلب على النفوس تصديقه على موسى، مع ما كان لموسى من المقدمات
أتى رأي فرعون وملئه على قتل موسى، وغلب على نفس فرعون أنه المشار إليه بفساد
المملكة، فأنفذ فيه من يطلبه ويأتي به للقتل، وألهم الله رجلا; يقال إنه مؤمن من آل
فرعون أو غيره، فجاء إلى موسى وبلغه قبلهم و * (يسعى) * / معناه: يسرع في مشيه; قاله
الزجاج وغيره، وهو دون الجري، فقال: * (يا موسى إن الملأ يأتمرون بك...) *
الآية
* ت * قال الهروي: قوله تعالى: * (يأتمرون بك) * أي: يؤامر بعضهم بعضا في
267

قتلك، وقال الأزهري: الباء في قوله: * (يأتمرون بك) * بمعنى: " في " يقال: ائتمر القوم إذا
شاور بعضهم بعضا، انتهى. وعن أبي مجلز - واسمه لاحق بن حميد - قال: من خاف من
أمير ظلما فقال: رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبينا وبالقرآن الذي حكما وإماما،
نجاه الله منه; رواه ابن أبي شيبة في " مصنفه " انتهى من " السلاح ". و * (تلقاء) * معناه ناحية
مدين، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام، وكان ملك مدين لغير فرعون، ولما خرج عليه
السلام فارا بنفسه منفردا حافيا; لا شئ معه ولا زاد وغير عارف بالطريق; أسند أمره إلى
الله تعالى وقال: * (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) * ومشى - عليه السلام - حتى ورد
ماء مدين، ووروده الماء، معناه: بلوغه، ومدين: لا ينصرف إذ هو بلد معروف، والأمة:
الجمع الكثير، و * (يسقون) * معناه: ماشيتهم، و * (من دونهم) * معناه: ناحية إلى الجهة التي
جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصوله إلى الأمة، و * (تذودان) * معناه: تمنعان،
وتحبسان غنمهما عن الماء; خوفا من السقاة الأقوياء، و * (أبونا شيخ كبير) * أي: لا
يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه.
وقوله تعالى: * (فسقى لهما) *.
قالت فرقة: كانت آبارهم مغطاة علي بحجارة كبار، فعمد إلى بئر، وكان حجرها لا يرفعه
إلا جماعة، فرفعه وسقى للمرأتين. فعن رفع الصخرة وصفته إحداهما بالقوة، وقيل:
وصفته بالقوة; لأنه زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى لهما.
وقرأ الجمهور " يصدر الرعاء " - على حذف المفعول - تقديره: مواشيهم، وتولى
موسى إلى الظل وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله: * (رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) *
ولم يصرح بسؤال; هكذا، روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله، قال
ابن عباس: وكان قد بلغ به عليه السلام الجوع إلى أن اخضر لونه من أكل البقل، وريئت
خضرة البقل في بطنه، وإنه لأكرم الخلق يومئذ على الله، وفي هذا معتبر وحاكم بهوان
الدنيا على الله تعالى، وعن معاذ بن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أكل طعاما، فقال:
268

الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعام ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة - غفر له ما تقدم
من ذنبه، ومن لبس ثوبا، فقال: الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول
مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر " رواه أبو داود; واللفظ له، والترمذي
وابن ماجة والحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح على شرط البخاري، وقال الترمذي:
حسن غريب، انتهى من " السلاح ".
وقوله تعالى: * (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء...) * الآية: في هذا الموضع
اختصار يدل عليه الظاهر، قدره ابن إسحاق: فذهبتا إلى أبيهما فأخبرتاه بما كان من
الرجل، فأمر إحدى ابنتيه أن تدعوه له، فجاءته، على ما في الآية / وقوله: * (على
استحياء) * أي: خفرة، قد سترت وجهها بكم درعها; قاله عمر بن الخطاب - رضي الله
عنه -. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحياء من الإيمان
والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء; والجفاء في النار " قال أبو عيسى: هذا حديث
269

حسن صحيح; انتهى.
والجمهور أن الداعي لموسى - عليه السلام - هو شعيب عليه السلام وأن المرأتين
ابنتاه، ف‍ * (قالت إن أبي يدعوك...) * الآية، فقام يتبعها فهبت ريح ضمت قميصها إلى
بدنها فتحرج موسى عليه السلام من النظر إليها; فقال لها: أمشي خلفي وأرشديني إلى
الطريق، ففهمت عنه; فذلك سبب وصفها له بالأمانة; قاله ابن عباس. * (فلما جاءه
وقص عليه القصص) * فآنسه بقوله: * (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) * فلما فرغ
كلامهما قالت إحدى الابنتين * (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) * فقال
لها أبوها: ومن أين عرفت هذا منه؟ قالت: أما قوته ففي رفع الصخرة، وأما أمانته ففي
تحرجه عن النظر إلي; قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم، فقال له الأب عند
ذلك: * (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين...) * الآية، قال ابن العربي: في
" أحكامه " قوله: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) * يدل على أنه عرض لا عقد;
لأنه لو كان عقدا، لعين المعقود عليها; لأن العلماء وإن اختلفوا في جواز البيع، إذا قال
له: بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا، فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح; لأنه
خيار وشئ من الخيار لا يلحق بالنكاح. وروي أنه قال شعيب: أيتهما تريد؟ قال:
الصغرى، انتهى. " وتاجر " معناه: تثيب وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا ووكل العامين
إلى المروءة، ولما فرغ كلام شعيب قرره موسى; وكرر معناه على جهة التوثق في أن
الشرط إنما وقع في ثمان حجج، و * (أيما استفهام نصب ب‍ * (قضيت) * و " ما " وصلة
للتأكيد و " لا عدوان " معناه لاتباعه علي، و " الوكيل ": الشاهد القائم بالأمر.
270

وقوله تعالى: * (فلما قضى موسى الأجل) * قال ابن عباس: قضى أكملهما عشر
سنين; وأسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: * (إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون *
فلما أتاها نودي...) * الآية، تقدم قصصها، فانظره في محاله، قال البخاري: والجذوة
قطعة غليظة من الخشب فيها لهب، انتهى. قال العراقي: و " آنس " معناه: أبصر، انتهى.
وقوله: * (من الشجرة) * يقتضي: أن موسى - عليه السلام - - ما سمع من جهة
الشجرة، وسمع وأدرك غير مكيف ولا محدد.
قال السهيلي: قيل إن هذه الشجرة عوسجة، وقيل: عليقة، والعوسج إذا عظم قيل
له: الغرقد، انتهى. * (ولم يعقب) * معناه: لم يرجع على عقبه من توليته.
271

وقوله تعالى: * (واضمم إليك جناحك من الرهب) * ذهب مجاهد وابن زيد
إلى: أن ذلك حقيقة، أمره بضم عضده وذراعه; وهو الجناح إلى جنبه; ليخف بذلك
فزعه; ورهبه، ومن شأن / الإنسان إذا فعل ذلك في أوقات فزعه; أن يقوى قلبه، وذهبت
فرقة إلى أن ذلك على المجاز، وأنه أمر بالعزم على ما أمر به، كما تقول العرب: اشدد
حيازيمك; واربط جأشك، أي: شمر في أمرك ودع عنك الرهب.
وقوله تعالى: * (فذانك برهانان من ربك) * قال مجاهد والسدي: هي إشارة إلى
العصا واليد.
وقرأ الجمهور: " ردأ " بالهمز -.
وقرأ نافع وحده: " ردا " - بتنوين الدال دون همز وذلك على التخفيف من ردء،
والردء: الوزير المعين، وشد العضد: استعارة في المعونة، والسلطان: الحجة.
وقوله: * (بآياتنا) *: متعلق بقوله * (الغالبون) * أي: تغلبون بآياتنا; وهي المعجزات،
ثم إن فرعون استمر في الطريق مخرقته على قومه، وأمر هامان بأن يطبخ له الآجر وأن
يبني له صرحا أي سطحا في أعلى الهواء، موهما لجهلة قومه أن يطلع بزعمه في السماء،
ثم قال: * (وإني لأظنه من الكاذبين) * يعني: موسى في أنه أرسله مرسل و * (نبذناهم) * معناه:
طرحناهم، و * (اليم) *: بحر القلزم في قول أكثر الناس; وهو الأشهر.
272

وقوله تعالى: * (وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار...) * الآية، عبارة عن حالهم
وأفعالهم، وخاتمتهم، أي: هم بذلك كالداعين هو إلى النار; وهم فيه أئمة من حيث اشتهروا،
وبقي حديثهم، فهم قدوة لكل كافر وعات إلى يوم القيامة، و * (المقبوحين) * الذين يقبح كل
أمرهم، قولا لهم وفعلا بهم، قال ابن عباس: هم الذين قبحوا بسواد الوجوه وزرقة
العيون، و * (يوم) * ظرف مقدم * (ولقد آتينا موسى الكتاب) * يعني: التوراة والقصد بهذا
الإخبار التمثيل لقريش; بما تقدم في غيرها من الأمم و * (بصائر) * نصب على الحال، أي:
طرائق هادية.
وقوله تعالى: * (وما كنت بجانب الغربي...) * الآية، أي: ما كنت يا محمد حاضرا
لهذه الغيوب التي تخبرهم بها، ولكنها صارت إليك بوحينا، أي: فكان الواجب أن
يسارعوا إلى الإيمان بك.
قال السهيلي: وجانب الغربي هو جانب الطور الأيمن، فحين ذكر سبحانه نداءه
لموسى قال: * (وناديناه من جانب الطور الأيمن) * [مريم: 52] وحين نفى عن محمد عليه السلام أن
يكون بذلك الجانب قال: * (وما كنت بجانب الغربي) * والغربي: هو الأيمن، وبين اللفظين
في ذكر المقامين ما لا يخفى في حسن العبارة وبديع الفصاحة والبلاغة; فإن محمد عليه
السلام لا يقال له: وما كنت بالجانب الأيمن; فإنه لم يزل بالجانب الأيمن مذ كان في ظهر
آدم عليه السلام، انتهى.
وقوله سبحانه: * (فتطاول عليهم العمر) * [قال] الثعلبي: أي: فنسوا عهد الله،
انتهى. و * (قضينا) * معناه: أنفذنا، و * (الأمر) * يعني: التوراة.
وقالت فرقة: يعني به: ما أعلمه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: وهذا تأويل حسن يلتئم معه ما بعده من قوله * (ولكنا أنشأنا قرونا) *.
* ت *: قال أبو بكر بن العربي: قوله تعالى: * (إذ قضينا إلى موسى الأمر) * معناه:
273

أعلمناه، وهو أحد ما يرد تحت لفظ القضاء مرادا، انتهى من كتاب " تفسير الأفعال الواقعة
في القرآن ". و " الثاوي ": عنه المقيم.
وقوله تعالى: * (وما كنت / بجانب الطور) * يريد وقت إنزال التوراة إلى موسى -
عليه السلام -. وقوله: * (إذ نادينا) * روي عن أبي هريرة: أنه نودي يومئذ من السماء: " يا
أمة محمد، استجبت لكم قبل أن تدعوني، وغفرت لكم قبل أن تسألوني "، إن فحينئذ قال
موسى عليه السلام: اللهم، اجعلني من أمة محمد، فالمعنى: إذ نادينا بأمرك وأخبرنا
بنبوتك.
وقال الطبري: معنى قوله: * (إذ نادينا) *: بأن * (سأكتبها للذين يتقون ويؤتون
الزكاة...) * الآية [الأعراف: 156].
وقوله سبحانه: * (ولولا أن تصيبهم مصيبة...) * الآية، المصيبة: عذاب في الدنيا
على كفرهم، وجواب * (لولا) * محذوف يقتضيه الكلام; تقديره لعاجلناهم بما يستحقونه.
وقال الزجاج: تقديره: لما أرسلنا الرسل.
وقوله سبحانه: * (فلما جاءهم الحق) * يريد القرآن ومحمد عليه السلام، والمقالة التي
قالتها قريش: * (لولا أوتي مثل ما أوتي موسى) * كانت من تعليم اليهود لهم; قالوا لهم: لم
لا يأتي بأية باهرة كالعصا واليد، وغير ذلك، فعكس الله عليهم قولهم، ووقفهم على أنهم
قد وقع منهم في تلك الآيات ما وقع من هؤلاء في هذه، فالضمير في قوله * (يكفروا
لليهود، وقرأ الجمهور: " ساحران " والمراد: موسى وهارون.
274

قال * ع *: ويحتمل أن يريد ب‍ * (ما أوتي موسى) * من أمر محمد والإخبار به الذي
هو في التوراة.
وقوله: * (وقالوا إنا بكل كافرون) * يؤيد هذا التأويل، وقرأ حمزة والكسائي
وعاصم: " سحران " والمراد بهما: التوراة والقرءان; قاله ابن عباس، و * (تظاهرا) *: معناه:
تعاونا.
وقوله: * (أهدى منهما) *.
قال الثعلبي: يعني: أهدى من كتاب محمد وكتاب موسى; انتهى.
* ت *: ويحتمل أن الضمير في * (يكفروا) * لقريش كما أشار إليه الثعلبي، وكذا
في * (قالوا) * لقريش عنده. و * (ساحران) * يريدون موسى ومحمدا - عليهما السلام - وهو
ظاهر قولهم: * (إنا بكل كافرون) *; لأن اليهود لا يقولون ذلك في موسى في عصر نبينا
محمد عليه السلام، ويبين هذا كله قوله تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك... الآية، فإن
ظاهر الآية أن المراد قريش وعلى هذا كله مر الثعلبي، انتهى.
275

وقوله تعالى: * (ولقد وصلنا لهم القول...) * الآية; الذين وصل لهم القول: هم
قريش; قاله مجاهد وغيره، قال الجمهور: والمعنى: واصلنا لهم في، القرآن، وتابعناه
موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزواجر، والدعاء، إلى الإسلام. وذهبت فرقة إلى: أن
الإشارة بتوصيل القول إنما هي إلى الألفاظ، فالمعنى: ولقد وصلنا لهم قولا معجزا دالا
على نبوتك.
قال * ع *: والمعنى الأول تقديره: ولقد وصلنا لهم قولا يتضمن معاني; من
تدبرها اهتدى. ثم ذكر - تعالى - القوم الذين آمنوا بمحمد من أهل الكتاب مباهيا بهم
قريشا. واختلف في تعيينهم فقال الزهري: الإشارة: إلى صلى النجاشي.
وقيل: إلى سلمان، وابن سلام، وأسند الطبري إلى رفاعة القرظي، قال: نزلت
هذه الآية / في اليهود في عشرة أنا أحدهم، أسلمنا فأوذينا; وقال فنزلت فينا هذه. الآية
والضمير في * (قبله) * يعود على القرآن. و * (أجرهم مرتين) * معناه: على ملتين; وهذا
المعنى هو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين; رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه
وآمن بي... الحديث. و * (يدرءون) * معناه: يدفعون; وهذا وصف لمكارم الأخلاق،
أي: يتغابون ومن قال لهم سوءا لاينوه وقابلوه من القول الحسن بما يدفعه، واللغو سقط
القول، والقول يسقط لوجوه يعز حصرها، والمراد منه في الآية: ما كان سبا وأذى ونحوه;
فأدب الإسلام الإعراض عنه. و * (سلام) * في هذا الموضع قصد به المتاركة لا التحية. قال
276

الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال، و * (لا نبتغي الجاهلين) * معناه: لا نطلبهم للجدال
والمراجعة والمشاتمة.
* ت *: قال ابن المبارك في " رقائقه ": أخبرنا حبيب بن حجر القيسي، قال: كان
يقال: ما أحسن الإيمان يزينه العلم، وما أحسن العلم يزينه العمل، وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه
الرفق، وما أضفت شيئا إلى شئ مثل حلم إلى علم، انتهى. وأجمع جل المفسرين على
أن قوله تعالى: * (إنك لا تهدي من أحببت) * إنما نزلت في شأن أبي طالب، فروى أبو
هريرة وغيره " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليه، وهو يجود بنفسه، فقال له: أي عم، قل: لا إله إلا
الله، كلمة أشهد لك بها عند الله... " الحديث قد ذكرناه في سورة: " براءة "، فمات أبو
طالب على كفره، فنزلت هذه الآية فيه.
قال أبو روق: قوله تعالى: * (ولكن الله يهدى من يشاء) * إشارة إلى العباس،
والضمير في قوله: * (وقالوا) * لقريش.
قال ابن عباس: والمتكلم بذلك فيهم الحارث بن نوفل، وحكى الثعلبي أنه قال له:
إنا لنعلم أن الذي تقول حق ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب. و * (تجبنى) *: معناه: تجمع
وتجلب.
وقوله: * (كل شئ) * يريد مما به صلاح حالهم، ثم توعد قريشا بقوله * (وكم أهلكنا
من قرية) * و * (بطرت) * معناه: سفهت وأشرت وطغت; قاله ابن زيد وغيره.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: * (بطرت معيشتها) *، أي: في معيشتها، والبطر:
الطغيان عند النعمة، انتهى. ثم أحالهم على الاعتبار في خراب ديار الأمم المهلكة كحجر
ثمود، وغيره. ثم خاطب تعالى قريشا محقرا لما كانوا يفتخرون به من مال وبنين، وأن
ذلك متاع الدنيا الفاني، وأن الآخرة وما فيها من النعيم الذي أعده الله للمؤمنين خير
وأبقى.
* ت *: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح
277

بعوضه ما سقى كافرا منها شربة " رواه الترمذي من طريق سهل بن سعد، قال: وفي
الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح، انتهى. وباقي الآية بين لمن
أبصر واهتدى، جعلنا الله منهم بمنه.
وقوله سبحانه: * (أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه...) * الآية، معناها، يعم جميع
العالم و * (من المحضرين) *: معناه: في عذاب الله; قاله مجاهد وقتادة، ولفظة
* (محضرين) * مشيرة إلى سوق [بجبر].
وقوله تعالى: * (ويوم يناديهم) * الضمير المتصل ب‍ " ينادي " لعبدة الأوثان، والإشارة
إلى قريش وكفار العرب.
وقوله: * (قال الذين حق عليهم القول) * هؤلاء / المجيبون هم كل مغو داع إلى
الكفر من الشياطين والإنس; طمعوا في التبري من متبعيهم; فقالوا ربنا هؤلاء إنما
أضللناهم ثنا كما ضللنا نحن باجتهاد لنا ولهم، وأحبوا الكفر كما أحببناه * (به تبرأنا إليك ما
كانوا إيانا يعبدون) *. ثم أخبر تعالى: * (أنه يقال للكفرة العابدين للأصنام: * (ادعوا
شركاءكم) * يعني: الأصنام، * (فدعوهم) * فلم يكن في الجمادات ما يجيب، ورأى الكفار
العذاب.
278

وقوله تعالى: * (لو أنهم كانوا يهتدون) * ذهب الزجاج وغيره إلى أن جواب " لو "
محذوف. تقديره: لما نالهم العذاب.
وقالت فرقة: لو: متعلقة بما قبلها، تقديره: فودوا حين رأوا العذاب لو أنهم كانوا
يهتدون.
وقوله سبحانه: * (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) * هذا النداء أيضا للكفار،
و * (عميت عليهم الأنباء) *: معناه أظلمت عليم جهاتها.
وقوله: * (فهم لا يتساءلون) * معناه، في قول مجاهد: لا يتساءلون بالأرحام
ويحتمل أن يريد أنهم لا يتساءلون عن الأنباء، ليقين جميعهم أنه لا حجة لهم.
قوله سبحانه * (فعسى أن يكون من المفلحين) *.
قال كثير من العلماء: " عسى " من الله واجبة.
قال * ع *: وهذا ظن حسن بالله تعالى يشبه كرمه وفضله سبحانه، واللازم من
" عسى ": أنها ترجيه لا واجبة، وفي كتاب الله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن) *
[التحريم: 5].
* ت *: ومعنى الوجوب هنا: الوقوع.
279

وقوله سبحانه: * (وربك يخلق ما يشاء ويختار...) * الآية، قيل: سببها، قول
قريش: * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * [الزخرف: 31].
ونحو ذلك من قولهم; فرد الله عليهم بهذه الآية، وجماعة المفسرين: أن " ما " نافية،
أي: ليس لهم الخيرة، وذهب الطبري إلى أن * (ما) * مفعولة ب‍ * (يختار) * أي ويختار
الذي لهم فيه الخيرة، وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سعادة ابن
آدم استخارته الله، ومن شقاوته تركه " رواه الحاكم في " المستدرك "; وقال: صحيح
الإسناد، انتهى من " السلاح ". وباقي الآية بين. والسرمد من الأشياء: الدائم الذي لا
ينقطع.
* ت *: وقوله سبحانه: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا
من فضله...) *، الآية معناها بين، وينبغي للعاقل ألا يجعل ليله كله نوما; فيكون ضائع
العمر جيفة بالليل بطالا بالنهار، كما قيل: [الطويل]
- نهارك بطال وليلك نائم * كذلك في الدنيا تعيش البهائم -
فإن أردت أيها الأخ; أن تكون من الأبرار فعليك بالقيام في الأسحار، وقد نقل
صاحب " الكوكب الدري " عن البزار; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أتدرون ما قالت أم سليمان
280

لسليمان - عليه السلام -: يا بني، لا تكثر النوم بالليل; فإن كثرة النوم بالليل، يدع الرجل
فقيرا يوم القيامة " انتهى. وابتغاء الفضل: هو بالمشي والتصرف.
وقوله تعالى: * (ونزعنا من كل أمة شهيدا) * أي: عدول الأمم وأخيارها، فيشهدون
على الأمم بخيرها وشرها، فيحق العذاب على من شهد عليه بالكفر، وقيل له: على جهة
الإعذار في المحاورة: * (هاتوا برهانكم) *، ومن هذه الآية انتزع قول القاضي عند إرادة
الحكم: أبقيت لك حجة.
وقوله تعالى: * (إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم...) * الآية، كان قارون
من قرابة موسى: ممن آمن بموسى وحفظ / التوراة وكان عند موسى عليه السلام من عباد
المؤمنين، ثم إن الله أضله وبغى على قومه بأنواع البغي; من ذلك كفره بموسى.
وقال الثعلبي: قال ابن المسيب: كان قارون عاملا لفرعون على بني إسرائيل; ممن
يبغي عليهم ويظلمهم. قال قتادة: بغى عليهم بكثرة ماله وولده، انتهى.
* ت *: وما ذكره ابن المسيب، هو الذي يصح في النظر لمتأمل الآية، ولولا الإطالة
281

لبينت وجه ذلك، والمفاتح ظاهرها: أنها التي يفتح بها، ويحتمل أن يريد بها: الخزائن
والأوعية الكبار; قاله الضحاك; لأن المفتح في كلام العرب الخزانة، وأما قوله:
* (لتنوء) * فمعناه: تنهض بتحامل واشتداد، قال كثير من المفسرين: إن المراد: أن العصبة
تنوء بالمفاتح المثقلة لها فقلب.
* قلت *: وقال عريب الأندلسي في كتاب " الأنواء ": له نوء كذا; معناه: مثله ومنه:
* (لتنوء بالعصبة) *، انتهى، وهو حسن إن ساعده النقل. وقال الداوودي عن ابن عباس:
* (لتنوء بالعصبة أولي القوة) * يقول تثقل; وكذا قال الواحدي، انتهى. واختلف في العصبة:
كم هم؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه -: ثلاثة، وقال قتادة: هم من العشرة إلى
الأربعين، قال البخاري: يقال: الفرحين المرحين.
قال الغزالي في " الإحياء ": الفرح بالدنيا والتنعم بها سم قاتل يسري في العروق;
فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال القيامة; وهذا هو موت القلب
والعياذ بالله، فأولوا الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمواتاة الدنيا،
وعلموا أن النجاة في الحزن الدائم، والتباعد من أسباب الفرح، والبطر; فقطعوا النفس عن
ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها; حلالها وحرامها، وعلموا أن حلالها حساب وهو نوع
عذاب، ومن نوقش الحساب عذب، فخلصوا أنفسهم من عذابها، وتوصلوا إلى الحرية
والملك في الدنيا والآخرة; بالخلاص من أسر الشهوات ورقها، والأنس بذكر الله تعالى
والاشتغال بطاعته، انتهى.
قال ابن الحاج في " المدخل ": قال يمن بن رزق - رحمه الله تعالى -: وأنا أوصيك
بأن تطيل النظر في مرآة الفكرة مع كثرة الخلوات، حتى يريك شين المعصية وقبحها،
فيدعوك ذلك النظر إلى تركها، ثم قال يمن بن رزق: ولا تفرحن بكثرة العمل مع قلة
الحزن، واغتنم قليل العمل مع الحزن، فإن قليل حزن الآخرة الدائم في القلب; ينفي كل
سرور ألفته من سرور الدنيا، وقليل سرور الدنيا في القلب; ينفي عنك جميع حزن
282

الآخرة. والحزن لا يصل إلى القلب إلا مع تيقظه; وتيقظه حياته، وسرور الدنيا لغير الآخرة
لا يصل إلى القلب إلا مع غفلة; وغفلة القلب موته، وعلامة ثبات اليقين في القلب
استدامة الحزن فيه. وقال - رحمه الله -: اعلم أني لم أجد شيئا أبلغ في الزهد في الدنيا
من ثبات حزن الآخرة في القلب، وعلامة ثبات حزن الآخرة في القلب أنس العبد بالوحدة،
انتهى.
وقولهم له: * (ولا تنس نصيبك من الدنيا) *.
قال ابن عباس والجمهور: معناه: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في
دنياك; إذ الآخرة إنما يعمل لها في الدنيا، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها;
فينبغي / أن لا يهمله. وحكى الثعلبي أنه قيل: أرادوا بنصيبه الكفن.
قال * ع *: وهذا كله وعظ متصل; ونحو هذا قول الشاعر: [الطويل]
- نصيبك مما تجمع الدهر كله * رداءان تلوى فيهما وحنوط -
وقال ابن العربي في " أحكامه ": وفي معنى النصيب ثلاثة أقوال: الأول: لا تنس حظك
من الدنيا، أي: لا تغفل أن تعمل في الدنيا للآخرة، الثاني: أمسك ما يبلغك; فذلك حظ
الدنيا، وأنفق الفضل فذلك حظ الآخرة، الثالث: لا تغفل عن شكر ما أنعم الله به عليك،
انتهى. وقولهم: * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * أمر بصلة المساكين وذوي الحاجات.
* ص *: * (كما أحسن) *: - الكاف للتشبيه أو للتعليل -، انتهى، وقول قارون * (إنما
أوتيته على علم عندي) * قال الجمهور: ادعى أن عنده علما استوجب به أن يكون صاحب
ذلك المال، ثم اختلفوا في ذلك العلم، فقال ابن المسيب: أراد علم الكيمياء.
وقال أبو سليمان الداراني: أراد العلم بالتجارة ووجوه تثمير المال، وقيل غير هذا.
وقوله تعالى: * (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) *.
قال محمد بن كعب: هو كلام متصل بمعنى ما قبله، والضمير في * (ذنوبهم) * عائد
على من أهلك من القرون، أي: أهلكوا ولم يسئل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم، أي: كل
283

أحد إنما يكلم ويعاتب بحسب ما يخصه، وقالت فرقة: هو إخبار مستأنف عن حال يوم
القيامة، وجاءت آيات أخر تقتضي السؤال، فقال الناس في هذا: إنها مواطن وطرائف.
وقيل غير هذا، ويوم القيامة هو مواطن. ثم أخبر تعالى عن خروج قارون على قومه
في زينته من الملابس والمراكب وزينة الدنيا وأكثر الناس في تحديد زينة قارون وتعيينها بما
لا صحة له; فتركته، وباقي الآية بين في اغترار الجهلة والأغمار له من الناس.
وقوله سبحانه: * (وقال الذين أوتوا العلم ويلكم...) * الآية: أخبر تعالى عن الذين
أوتوا العلم والمعرفة بالله وبحق طاعته أنهم زجروا الأغمار ذلك الذين تمنوا حال قارون
وحملوهم على الطريقة المثلى; من أن النظر والتمني إنما ينبغي أن يكون في أمور
الآخرة، وأن حالة المؤمن العامل الذي ينتظر ثواب الله تعالى خير من حال كل ذي دنيا.
ثم أخبر تعالى عن هذه النزعة وهذه القوة في الخير والدين أنها * (لا يلقاها) * أي: لا
يمكن فيها ويخولها إلا الصابر على طاعة الله وعن شهوات نفسه; وهذا هو جماع الخير
كله.
وقال الطبري: الضمير عائد على الكلمة; وهي قوله: * (ثواب الله خير لمن آمن
وعمل صالحا) *، أي: لا يلقن هذه الكلمة إلا الصابرون; وعنهم تصدر، وروي في
الخسف بقارون وداره أن موسى عليه السلام لما أمضه فعل قارون به وتعديه عليه; استجار
بالله تعالى وطلب النصرة; فأوحى الله إليه، أي قد أمرت الأرض أن تطيعك في قارون
وأتباعه، فقال موسى: يا أرض; خذيهم فأخذتهم إلى الركب، فاستغاثوا: يا موسى; يا
موسى; فقال: خذيهم، فأخذتهم شيئا فشيئا إلى أن تم الخسف بهم /، فأوحى الله إليه:
يا موسى; لو بي استغاثوا وإلي تابوا لرحمتهم. قال قتادة وغيره: روي أنه يخسف به كل
يوم قامة; فهو يتجلجل إلى يوم القيامة.
284

* ت *: وفى الترمذي; عن معاذ بن أنس الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من
ترك اللباس تواضعا لله، وهو يقدر عليه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق; حتى
يخيره; من أي حلل الإيمان شاء يلبسها ". وروى الترمذي عن عائشة -
قالت: كان لنا قرام ستر فيه تماثيل على بابي فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " انزعيه فإنه
يذكرني الدنيا "، الحديث وروى الترمذي عن كعب ابن عياض قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: " إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي: المال "; قال أبو عيسى: هذا حديث حسن
صحيح; وفيه عن عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس لابن آدم حق في
سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء ".
قال النضر بن شميل: " جلف الخبز " يعني: ليس معه إدام. انتهى. فهذه الأحاديث
وأشباهها تزهد في زينة الدنيا وغضارة عيشها الفاني.
285

وقوله: * (ويكأن) * مذهب الخليل وسيبويه: أن " وى " حرف تنبيه منفصلة من (كأن)،
لكن أضيفت لكثرة الاستعمال.
وقال أبو حاتم وجماعة: ويك: هي (ويلك) حذفت اللام منها لكثرة الاستعمال.
وقالت فرقة: " ويكأن " بجملتها كلمة.
وقوله تعالى: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا
فسادا...) * الآية: هذا إخبار مستأنف من الله تعالى لنبيه - عليه السلام -، يراد به جميع
العالم، ويتضمن الحض على السعي، حسب ما دلت عليه الآية، ويتضمن الانحناء على
حال قارون ونظرائه، والمعنى: أن الآخرة ليست في شئ من أمر قارون; وأشباهه; وإنما
هي لمن صفته كذا وكذا، والعلو المذموم: هو بالظلم والتجبر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " وذلك أن
تريد أن يكون شراك نعلك أفضل من شراك نعل أخيك "، والفساد يعم وجوه الشر.
وقوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن) * قالت فرقة: معناه فرض عليك أحكام
القرآن.
وقوله تعالى: * (لرادك إلى معاد) * قال الجمهور: معناه: لرادك إلى الآخرة، أي:
باعثك بعد الموت، وقال ابن عباس وغيره: المعاد: الجنة، وقال ابن عباس أيضا;
286

ومجاهد: المعاد: مكة، وفي البخاري بسنده عن ابن عباس: * (لرادك إلى معاد) *: إلى
مكة، انتهى. وهذه الآية نزلت بالجحفة; كما تقدم، والمعاد: الموضع الذي يعاد إليه.
وقوله تعالى: * (وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك) * هو تعديد
نعم، والظهير: المعين.
وقوله تعالى: * (ولا يصدنك عن آيات الله) *: بأقوالهم; ولا تلتفت نحوهم; وامض
لشأنك، وادع إلى ربك، وآيات الموادعة كلها منسوخة.
وقوله تعالى: * (كل شئ هالك إلا وجهه) * قالت فرقة: المعنى: كل شئ هالك إلا
هو سبحانه; قاله الطبري وجماعة منهم أبو المعالي - رحمه الله - وقال الزجاج: إلا إياه.
287

بسم الله الرحمن الرحيم
/ وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله
تفسير " سورة العنكبوت "
وهي مكية
إلا الصدر منها العشر الآيات; فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين
بمكة; هذا أصح ما قيل هنا والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: * (ألم) * تقدم الكلام على هذه الحروف.
وقوله تعالى: * (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) * نزلت هذه
الآية في قوم من المؤمنين بمكة; وكان كفار قريش يؤذونهم، ويعذبونهم على الإسلام،
فكانت صدورهم تضيق لذلك; وربما استنكر بعضهم أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين.
قال مجاهد وغيره: فنزلت هذه الآية مسلية، ومعلمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبارا
للمؤمنين، ليعلم الصادق من الكاذب، و " حسب " بمعنى: ظن.
و * (الذين من قبلهم) * يريد بهم: المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر.
288

وقوله تعالى: * (أم حسب الذين يعملون السيئات) * أم: معادلة للهمزة; في قوله:
* (أحسب) * [العنكبوت: 2] وكأنه تعالى قرر الفريقين: قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا
يفتنون، وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات; في تعذيب المؤمنين; وغير ذلك على
ظنهم; أنهم يسبقون عقاب الله; ويعجزونه، ثم الآية بعد تعم كل عاص، وعامل
سيئة من المسلمين; وغيرهم، وفي الآية وعيد شديد للكفرة الفاتنين، وفي قوله تعالى:
* (من كان يرجوا لقاء الله) * تثبيت للمؤمنين، وباقي الآية بين، والله الموفق.
وقال * ص *: قول * ع *: أم: معادلة للألف في قوله: * (أحسب) * يقتضي أنها
هنا متصلة; وليس كذلك; بل " أم " هنا: منقطعة مقدره ب‍ " بل "; للاضراب، بمعنى:
الانتقال; لا بمعنى الإبطال; وهمزة الاستفهام; للتقرير والتوبيخ; فلا تقتضي جوابا،
انتهى.
وقوله تعالى: * (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم) * إخبار عن
المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى; نوه بهم - عز وجل -
وبحالهم; ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة; وهم الذين فتنهم الكفار.
* (ولنجزينهم أحسن) *، أي: ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
وقوله تعالى * (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما) * روي عن قتادة وغيره: أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص; وذلك
أنه هاجر; فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها; ويكفر بمحمد، فلج هو في
هجرته، ونزلت الآية.
وقيل: بل نزلت في عياش بن أبي ربيعة; وكانت قصته كهذه ثم خدعه أبو جهل;
289

ورده إلى أمه. الحديث في كتب السيرة، وباقي الآية بين. ثم كرر تعالى التمثيل بحالة
المؤمنين العاملين; ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم.
قال الثعلبي: قوله تعالى: * (لندخلنهم في الصالحين) * / أي: في زمرتهم.
وقال محمد بن جرير: في مدخل الصالحين: وهو الجنة.
وقيل * (في) * بمعنى: " مع " و " الصالحون ": هم الأنبياء والأولياء، انتهى.
وقوله تعالى: * (ومن الناس من يقول آمنا بالله) * إلى قوله * (المنافقين) *، نزلت في
المتخلفين عن الهجرة; المتقدم ذكرهم; قاله ابن عباس. ثم قررهم تعالى على علمه بما
في صدورهم، أي: لو كان يقينهم تاما وإسلامهم خالصا; لما توقفوا ساعة ولركبوا كل
هول إلى هجرتهم ودار نبيهم.
وقوله تعالى: * (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) * هنا انتهى المدني من
هذه السورة.
وقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا...) * الآية، روي: أن
قائل هذه المقالة: هو الوليد بن المغيرة، وقيل: بل كانت شائعة من كفار قريش; لاتباع
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: * (وليحملن أثقالهم... الآية، لأنه يلحق كل داع إلى ضلاله; كفل
منها حسبما صرح به الحديث المشهور.
290

وقوله تعالى: * (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم...) * الآية، العطف بالفاء
يقتضي ظاهرة أنه لبث هذه المدة رسولا; يدعو إلى عبادة الله تعالى، و * (الطوفان) *:
العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء، أو نار، أو موت.
وقوله: * (وهم ظالمون) * يريد: بالشرك. ثم ذكر تعالى قصة إبراهيم عليه السلام
وقومه، وذلك أيضا تمثيل لقريش.
وقوله تعالى: * (وتخلقون إفكا) * قال ابن عباس: هو نحت الأصنام.
وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان; وغير ذلك.
وقوله تعالى: * (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده...) * الآية، هذه الحالة
هي على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض، والنبات; وإعادته; ونحو ذلك مما هو
دليل على البعث من القبور، ثم أمر تعالى نبيه محمد عليه السلام، ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه
السلام بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج، بالسير في الأرض، والنظر في أقطارها، و * (النشأة
الآخرة) *: نشأة القيام من القبور.
وقوله تعالى: * (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء...) * الآية، قال ابن
291

زيد: لا يعجزه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء; إن عصوه. وقيل:
معناه: ولا في السماء لو كنتم فيها. وقيل: المعنى ليس للبشر حيلة إلى صعود أو نزول;
يفلتون بها. قال قتادة: ذم الله قوما هانوا عليه; فقال: * (أولئك يئسوا من رحمتي...) *
الآية.
قال * ع *: وما تقدم من قوله: * (أولم يروا كيف...) * إلى هذه الآية المستأنفة;
ويحتمل أن يكون خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم، ويكون اعتراضا في قصة إبراهيم عليه السلام،
ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم عليه السلام; ومحاورة لقومه; وعند آخر ذلك ذكر
جواب قومه.
وقوله تعالى: * (فأنجاه الله من النار) * أي بأن جعلها بردا وسلاما.
قال كعب الأحبار - رضي الله عنه -: ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أوثقوه به;
وجعل سبحانه ذلك آية، وعبره، ودليلا على توحيده لمن شرح صدره; ويسره للإيمان. ثم
ذكر تعالى أن إبراهيم - عليه السلام - قررهم على أن اتخاذهم الأوثان; إنما كان اتباعا من
بعضهم لبعض; وحفظا لمودتهم الدنيوية; وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا،
ويتلاعنون; لأن توادهم كان على غير تقوى، الأخلاء عبد يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا
المتقين) * [الزخرف: 67].
292

وقوله تعالى: * (فآمن عليه له / لوط) * معناه: صدق، وآمن: يتعدى باللام والباء، والقائل
* (إني مهاجر) * هو إبراهيم عليه السلام. قاله قتادة والنخعي; وقالت فرقة: هو لوط -
عليه السلام -.
وقوله تعالى: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب وآتيناه
أجره في الدنيا...) * الآية، الأجر الذي آتاه الله في الدنيا: العافية من النار ومن الملك
الجائر. والعمل الصالح; أو الثنا الحسن; قاله مجاهد ويدخل في عموم اللفظ غير ما
ذكر.
قوله تعالى: * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) *، أي: في عداد الصالحين الذين
نالوا رضا الله عز وجل، وقول لوط عليه السلام: * (أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون
السبيل) *، قالت فرقة: كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم، وقيل غير هذا، والنادي
المجلس الذي يجتمع الناس فيه. واختلف في هذا المنكر الذي يأتونه في ناديهم: فقالت
فرقة: كانوا يخذفون الناس بالحصباء; ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم; وروته أم
هانئ عن النبي صلى الله عليه وسلم: وكانت خلقهم مهملة; لا يربطهم دين; ولا مروءة، وقال
293

مجاهد: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم; وبعضهم يرى بعضا.
وقال ابن عباس: كانوا يتضارطون ويتصافعون مجالسهم، وقيل غير هذا، وقد
تقدم قصص الآية مكررا والرجز: العذاب.
وقوله تعالى: * (ولقد تركنا منها) * أي: من خبرها وما بقي من آثارها، والآية:
موضع العبرة، وعلامة القدرة، ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى.
وقوله تعالى: * (وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر...) * الآية، الرجاء في الآية: على بابه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى: وخافوا،
و * (تعثوا) * معناه: تفسدوا، و * (السبيل) *: هي طريق الإيمان، ومنهج النجاة من النار، و * (ما
كانوا سابقين) * أي: مفلتين أخذنا وعقابنا، وقيل: معناه: وما كانوا سابقين الأمم إلى
الكفر، وباقي الآية بين.
294

وقوله تعالى: * (إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شئ) *، قيل: معناه: إن الله
يعلم الذين تدعون من دونه من جميع الأشياء، وقيل: ما نافية; وفيه نظر، وقيل: ما
استفهامية، قال جابر: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: * (وما يعقلها إلا العالمون) *: العالم:
من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته وانتهى عن معصيته.
وقوله تعالى: * (وخلق الله السماوات والأرض بالحق) * أي: لا للعبث واللعب; بل
ليدل على سلطانه; وتثبيت شرائعه، ويضع الدلالة لأهلها ويعم بالمنافع; إلى غير ذلك مما
لا يحصى عدا. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالنفوذ لأمره; وتلاوة القرآن الذي أوحي
إليه، وإقامة الصلاة، أي: إدامتها; والقيام بحدودها. ثم أخبر سبحانه حكما منه أن الصلاة
تنهى صاحبها وممتثلها عن الفحشاء والمنكر.
قال * ع *: وذلك عندي بأن المصلى إذا كان على الواجب من الخشوع،
والإخبات وتذكر الله، وتوهم الوقوف بين يديه، وإن قلبه وإخلاصه مطلع عليه مرقوب
صلحت لذلك نفسه، وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى; فاطرد ذلك في أقواله،
وأفعاله، وانتهى عن الفحشاء والمنكر، ولم يكد يفتر من ذلك حتى تظله صلاة أخرى;
يرجع بها إلى أفضل حاله; فهذا معنى هذا الإخبار; لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن
تكون، وقد روي عن بعض السلف: أنه كان إذا أقام الصلاة ارتعد، واصفر لونه، فكلم في
ذلك، فقال: إني أقف بين يدي الله تعالى.
قال * ع *: فهذه صلاة تنهى - ولا بد - عن الفحشاء / والمنكر، وأما من كانت
صلاته دائرة حول الإجزاء، بلا تذكر ولا خشوع، ولا فضائل; فتلك تترك صاحبها من
منزلته حيث كان.
وقوله تعالى: * (ولذكر الله أكبر) * قال ابن عباس وأبو الدرداء وسلمان وابن
295

مسعود وأبو قرة: معناه: ولذكر الله إياكم; أكبر من ذكركم إياه.
وقيل: معناه: ولذكر الله أكبر; مع المداومة من الصلاة في النهي عن الفحشاء
والمنكر. وقال ابن زيد وغيره: معناه: ولذكر الله أكبر من كل شئ. وقيل لسليمان: أي
الأعمال أفضل؟ فقال: أما تقرأ * (ولذكر الله أكبر) *. والأحاديث في فضل الذكر كثيرة; لا
تنحصر.
وقال ابن العربي في " أحكامه ": قوله: و * (لذكر الله أكبر) * فيه أربعة أقوال:
الأول: ذكر الله لكم أفضل من ذكركم له; أضاف المصدر إلى الفاعل.
الثاني: ذكره الله أفضل من كل شئ.
الثالث: ذكر الله في الصلاة; أفضل من ذكره في غيرها; يعني: لأنهما عبادتان.
الرابع: ذكر الله في الصلاة; أكبر من الصلاة; وهذه الثلاثة الأخيرة من إضافة
المصدر إلى المفعول، وهذه كلها صحيحة، وإن للصلاة بركة عظيمة، انتهى.
قال * ع *: وعندي، أن المعنى: ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي: هو الذي
ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة; يفعل ذلك، وكذلك يفعل في
غير الصلاة، لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله تعالى، مراقب له، وثواب ذلك الذكر أن
يذكره الله تعالى، كما في الحديث الصحيح: " ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير
منهم " والحركات التي في الصلاة; لا تأثير لها في نهي، والذكر النافع هو مع العلم;
وإقبال القلب وتفرغه إلا من الله تعالى. وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى،
وذكر الله تعالى للعبد; هو إفاضة الهدى ونور العلم عليه; وذلك ثمرة ذكر العبد ربه.
296

قال الله عز وجل: * (فاذكروني أذكركم) * [البقرة: 152].
وعبارة الشيخ ابن أبي جمرة: * (ولذكر الله أكبر) * معناه: ذكره لك في الأزل أن
جعلك من الذاكرين له; أكبر من ذكرك أنت الآن له، انتهى.
قال القشيري في " رسالته ": الذكر ركن قوي في طريق الحق سبحانه; وهو العمدة في
هذا الطريق; ولا يصل أحد إلى الله سبحانه إلا بدوام الذكر، ثم الذكر على ضربين: ذكر
باللسان، وذكر بالقلب، فذكر اللسان: به يصل العبد إلى استدامة ذكر القلب، والتأثير لذكر
القلب، فإذا كان العبد ذاكرا بلسانه، وقلبه; فهو الكامل في وصفه، سمعت أبا علي الدقاق
يقول: الذكر منشور الولاية، فمن وفق للذكر; فقد وفق للمنشور، ومن سلب الذكر فقد
عزل، والذكر بالقلب مستدام في عموم الحالات. وأسند القشيري عن المظفر الجصاص
قال: كنت أنا ونصر الخراط ليلة في موضع; فتذاكرنا شيئا من العلم; فقال الخراط:
الذاكر لله تعالى فائدته في أول ذكره: أن يعلم أن الله ذكره; فبذكر الله له ذكره، قال:
فخالفته، فقال: لو كان الخضر ها هنا لشهد لصحته، قال: فإذا نحن بشيخ يجيء بين
السماء والأرض، حتى بلغ إلينا وقال: صدق; الذاكر لله، بفضل الله، وذكره له ذكره،
فعلمنا أنه الخضر عليه السلام، انتهى. وباقي الآية ضرب من التوعد وحث على المراقبة،
قال الباجي في " سنن الصالحين ": / قال بعض العلماء: إن الله عز وجل يقول: " أيما عبد
اطلعت على قلبه; فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري; توليت سياسته، وكنت جليسه
ومحادثه وأنيسه ". انتهى.
وقوله تعالى: * (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) * هذه الآية مكية، ولم
يكن يومئذ قتال، وكانت اليهود يومئذ بمكة; وفيما جاورها، فربما وقع بينهم وبين بعض
المؤمنين جدال واحتجاج في أمر الدين; وتكذيب، فأمر الله المؤمنين ألا يجادلوهم إلا
بالتي هي أحسن; دعاء إلى الله تعالى وملاينة، ثم استثنى من ظلم منهم المؤمنين;
وحصلت منه أذية; فإن هذه الصنيفة استثني لأهل الإسلام معارضتها; بالتغيير عليها،
297

والخروج معها عن التي هي أحسن. ثم نسخ هذا بعد بآية القتال; وهذا قول قتادة; وهو
أحسن ما قيل في تأويل الآية.
* ت *: قال عز الدين بن عبد السلام في " اختصاره لقواعد الأحكام ": فائدة: لا
يجوز الجدال والمناظرة إلا لإظهار الحق ونصرته; ليعرف ويعمل به، فمن جادل لذلك;
فقد أطاع، ومن جادل لغرض آخر، فقد عصى وخاب، ولا خير فيمن يتحيل لنصرة
مذهبه; مع ضعفه وبعد أدلته من الصواب، انتهى.
تنبيه: روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحياء والعي: شعبتان من الإيمان،
والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ". وروى أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن
الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " حديث
298

غريب، انتهى; وهما في " مصابيح البغوي ". وروى أبو داود عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من تعلم صرف الكلام ليسبي به قلوب الرجال، أو الناس - لم يقبل الله
منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " انتهى.
وقوله تعالى: * (وقولوا آمنا) * الآية، قال أبو هريرة: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة
بالعبرانية; ويفسرونها بالعربية للمسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا
تكذبوهم "، وقولوا: * (آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له
مسلمون) * " وروى ابن مسعود; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ، فإنهم
لن يهدوكم; وقد ضلوا: إما أن تكذبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل ".
وقوله تعالى: * (فالذين آتيناهم الكتاب) * يريد: التوراة والإنجيل; كانوا في وقت
نزول الكتاب عليهم يؤمنون بالقرءان. ثم أخبر عن معاصري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن منهم أيضا
من يؤمن به ولم يكونوا آمنوا بعد: ففي هذا إخبار بغيب; بينه الوجود بعد ذلك.
قوله تعالى: * (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) * يشبه أن يراد بهذا الانحناء كفار
قريش. ثم بين تعالى الحجة وأوضح البرهان: أن مما يقوى أن نزول هذا القرآن من عند
الله; أن محمد - عليه السلام - جاء به في غاية الإعجاز والطول والتضمن للغيوب، وغير
ذلك؟ وهو أمي; لا يقرأ ولا يكتب; ولا يتلو كتابا / ولا يخط حروفا; ولا سبيل له إلى
التعلم، ولو كان ممن يقرأ أو يخط، لارتاب المبطلون، وكان لهم في ارتيابهم معلق، وأما
ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة; فظاهر فساده.
قوله تعالى: * (بل هو آيات بينات) * يعني: القرآن، ويحتمل: أ ن يعود على أمر
محمد صلى الله عليه وسلم و * (الظالمون) * و * (المبطلون) * يعم لفظهما كل مكذب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن عظم
299

الإشارة بهما إلى قريش; لأنهم الأهم; قاله مجاهد.
* (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه *) الضمير في: * (قالوا) * لقريش ولبعض اليهود;
لأنهم كانوا يعلمون قريشا مثل هذه الحجة; على ما مر في غير ما موضع. ثم احتج عليهم
في اقتراحهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات; ومعجز للجن والإنس; فقال سبحانه:
* (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب...) * الآية.
وقوله: * (آمنوا بالباطل) * يريد: الأصنام وما في معناها.
وقوله تعالى: * (ويستعجلونك بالعذاب) * يريد: كفار قريش، وباقي الآية بين مما
تقدم مكررا والله الموفق بفضله. و * (بغتة) *: معناه: فجأة: وهذا هو عذاب الدنيا; كيوم
بدر ونحوه. ثم توعدهم سبحانه بعذاب الآخرة في قوله: * (يستعجلونك بالعذاب وإن
جهنم...) * الآية.
وقوله تعالى: * (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون...) * الآيات،
هذه الآيات نزلت في تحريض المؤمنين الكائنين بمكة على الهجرة. قال ابن جبير،
وعطاء ومجاهد: إن الأرض التي فيها الظلم والمنكر; تترتب فيها هذه الآية وتلزم
300

الهجرة عنها إلى بلد حق; وقاله مالك.
وقوله سبحانه: * (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) * تحقير لأمر الدنيا
ومخاوفها، كأن بعض المؤمنين نظر في عاقبة تلحقه في خروجه من وطنه; أنه يموت أو
يجوع ونحو هذا; فحقر الله سبحانه شأن الدنيا، أي وأنتم لا محالة ميتون ومحشورون إلينا،
فالبدار إلى طاعة الله والهجرة إليه أولى يمتثل. ذكر هشام بن عبد الله القرطبي في
تاريخه المسمى ب‍ " بهجة النفس " قال: بينما المنصور جالس في منزله في أعلى قصره; إذ
جاءه سهم عائد فسقط بين يديه; فذعر المنصور منه ذعرا شديدا، ثم اخذه فجعل يقلبه،
فإذا مكتوب عليه بين الريشتين: [الوافر]
- أتطمع في الحياة إلى التنادي * وتحسب أن مالك من معاد -
- ستسأل عن ذنوبك والخطايا * من وتسأل بعد ذاك عن العباد -
ومن الجانب الآخر: [البسيط]
- أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت * بن ولم تخف سوء ما يأتي به القدر -
- وساعدتك هذه الليالي فاغتررت بها * وعند صفو الليالي يحدث الكدر -
وفى الآخر: [البسيط]
- هي المقادير تجري في أعنتها * فاصبر فليس لها صبر على حال -
- يوما تريك خسيس القوم ترفعه * إلى السماء ويوما تخفض العالي -
/ ثم قرأ على الجانب الآخر من السهم: [البسيط]
- من يصحب الدهر لا يأمن تصرفه * يوما فللدهر إحلاء سنة وإمرار -
301

- لكل شئ وإن طالت سلامته * إذا انتهى مدة لا بد إقصار -
انتهى.
وقرأ حمزة: " لنثوينهم من الجنة غرفا ": من أثوى يثوي بمعنى: أقام.
وقوله تعالى: * (وكأين من دابة...) * الآية: تحريض على الهجرة; لأن بعض
المؤمنين فكر في الفقر والجوع الذي يلحقه في الهجرة، وقالوا: غربة في بلد لا دار لنا فيه
ولا عقار، ولا من يطعم، فمثل لهم بأكثر الدواب التي لا تتقوت ولا تدخر، ثم قال
تعالى: * (الله يرزقها وإياكم) * فقوله: * (لا تحمل) * يجوز أن يريد من الحمل، أي: لا تنتقل
ولا تنظر في ادخاره.
قاله مجاهد وغيره.
قال * ع *: والادخار ليس من خلق الموقنين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن
عمر: " كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس; يخبئون رزق سنة بضعف اليقين "،
ويجوز أن يريد من الحمالة; أي: لا تتكفل لنفسها.
قال الداودي: وعن علي بن الأقمر: * (لا تحمل رزقها) * أي: لا تدخر شيئا لغد،
انتهى. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أنكم تتوكلون
على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا ". قال أبو
عيسى: هذا حديث حسن صحيح. انتهى.
302

ثم خاطب تعالى في أمر الكفار وإقامة الحجة عليهم، بأنهم إن سئلوا عن الأمور
العظام التي هي دلائل القدرة، لم يكن لهم إلا التسليم بأنها لله تعالى، * (ويؤفكون) * معناه:
يصرفون.
وقوله تعالى: * (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) * وصف الله تعالى الدنيا في هذه
الآية بأنها لهو ولعب، أي: ما كان منها لغير وجه الله تعالى; وأما ما كان لله تعالى فهو من
الآخرة، وأما أمور الدنيا التي هي زائدة على الضروري الذي به قوام العيش، والقوة على
الطاعات; فإنما هي لهو ولعب، وتأمل ذلك في الملابس، والمطاعم، والأقوال،
والمكتسبات، وغير ذلك، وانظر أن حالة الغني والفقير من الأمور الضرورية واحدة:
كالتنفس في الهواء، وسد الجوع، وستر العورة، وتوقي الحر والبرد; هذه عظم أمر
العيش، و * (الحيوان) * و * (الحياة) * بمعنى، والمعنى: لا موت فيها، قاله مجاهد وهو
حسن، ويقال: أصله حييان; فأبدلت إحداهما واوا لاجتماع المثلين. ثم وقفهم تعالى
على حالهم في البحر; عند الخوف العظيم; ونسيانهم عند ذلك للأصنام، وغيرها، على ما
تقدم بيانه في غير هذا الموضع: و * (ليكفروا) * نصب ب‍ " لام كي " ثم عدد تعالى على كفرة
قريش نعمته عليهم في الحرم; و " المثوى ": موضع الإقامة، وألفاظ هذه الآية في غاية
الاقتضاب والإيجاز; وجمع المعاني. ثم ذكر تعالى حال أوليائه والمجاهدين فيه.
وقوله: * (فينا) * معناه: في مرضاتنا وبغيه ثوابنا.
قال السدي وغيره: نزلت هذه الآية قبل فرض القتال.
قال * ع *: فهي / قبل الجهاد العرفي وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب
مرضاته.
303

قال الحسن بن أبي الحسن: الآية في العباد. وقال إبراهيم ابن أدهم: هي في
الذين يعلمون بما علموا. وقال أبو سليمان الداراني: ليس الجهاد في هذه الآية قتال
العدو وفقط; بل هو نصر الدين والرد على المبطلين وقمع الظالمين; وأعظمه الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله عز وجل وهو الجهاد
الأكبر; قاله الحسن وغيره، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم " رجعتم من الجهاد الأصغر إلى
الجهاد الأكبر " والسبل " هنا يحتمل أن تكون طرق الجنة ومسالكها، ويحتمل أن تكون
سبل الأعمال المؤدية إلى الجنة، قال يوسف بن أسباط: هي إصلاح النية في الأعمال،
وحب التزيد والتفهم، وهو أن يجازى العبد على حسنة بازدياد حسنة وبعلم ينقدح من علم
متقدم.
قال * ص *: * (والذين جاهدوا) *: مبتدأ خبره القسم المحذوف، وجوابه وهو:
* (لنهدينهم) *، انتهى.
وقال الثعلبي: قال سهل بن عبد الله: * (والذين جاهدوا) * في إقامة السنة
* (لنهدينهم) * سبل الجنة; انتهى. واللام في قوله * (لمع) * لام تأكيد.
304

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
تفسير سورة الروم
وهي مكية اتفاقا
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (ألم * غلبت الروم) * قرأ الجمهور: " غلبت " - بضم الغين، -
وقالوا: معنى الآية: أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزم جيش الروم بأذرعات; وهي
أدنى الأرض إلى مكة; قاله عكرمة. فسر بذلك كفار مكة فبشر الله تعالى المؤمنين بأن
الروم سيغلبون في بضع سنين، فخرج أبو بكر رضي الله عنه إلى المسجد الحرام; فقال
للكفار: أسركم أن غلبت الروم؟ فإن نبينا أخبرنا عن الله تعالى: أنهم سيغلبون في بضع
سنين، فقال له أبي بن خلف وأخوه أمية بن خلف: يا أبا بكر: تعال فلنتناحب، أي:
نتراهن في ذلك، فراهنهم أبو بكر على خمس قلائص، والأجل ثلاث سنين، وذلك قبل
أن يحرم القمار، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك; فقال له، إن البضع إلى التسع، ولكن زدهم في
305

الرهن; واستزدهم في الأجل، ففعل أبو بكر، فجعلوا القلائص مائة، والأجل تسعة أعوام،
فغلبت الروم فارس في أثناء الأجل يوم بدر. وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، يوم بيعة
الرضوان; وفي كلا اليومين كان نصر من الله تعالى للمؤمنين، وذكر الناس سرور المؤمنين
بغلبة الروم; من أجل أنهم أهل كتاب، وفرحت قريش بغلبة الفرس; من أجل أنهم أهل
أوثان ونحوه من عبادة النار.
وقوله تعالى: * (لله الأمر من قبل ومن بعد) *. أي: له إنفاذ الأحكام من قبل ومن
بعد هذه الغلبة التي بين هؤلاء ثم أخبر تعالى أن يوم غلبة الروم للفرس يفرح المؤمنين
بنصر الله، * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * يريد: كفار قريش والعرب، أي: لا يعلمون
أن الأمور من عند الله، وأن وعده لا يخلف، وأن ما يورده / نبيه حق.
قال * ع *: وهذا الذي ذكرناه عمدة ما قيل. ثم وصف تعالى الكفرة الذين لا
يعلمون أمر الله وصدق وعده بأنهم إنما: * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة
هم غافلون) *، قال صاحب " الكلم الفارقية ": الدنيا طبق مسموم، لا يعرف ضرره إلا أرباب
الفهوم. قوة الرغبة في الدنيا علامة ضعفها في الآخرة. بحسب انصراف الرغبة إلى الشئ،
يجد الراغب في طلبه، وتتوفر دواعيه على تحصيله. المطلوبات تظهر وتبين أقدار طلابها;
فمن شرفت همته شرفت رغبته; وعزت طلبته. يا غافل، سكر حبك لدنياك; وطول
متابعتك لغاوي هواك - أنساك عظمه مولاك; وثناك عن ذكره وألهاك; وصرف وجه رغبتك
عن آخرتك إلى دنياك. إن كنت من أهل الاستبصار، فألق ناظر رغبتك عن زخارف هذه
الدار; فإنها مجمع الأكدار، ومنبع المضار; وسجن الأبرار; ومجلس سرور الأشرار. الدنيا
كالحية تجمع في أنيابها; سموم نوائبها; وتفرغه في صميم قلوب أبنائها، انتهى. قال
عياض في " الشفا ": قال أبو العباس المبرد - رحمه الله - قسم كسرى أيامه; فقال: يصلح
يوم الريح للنوم، ويوم الغيم للصيد، ويوم المطر للشرب واللهو، ويوم الشمس للحوائج.
قال ابن خالويه: ما كان أعرفهم بسياسة دنياهم، * (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن
الآخرة هم غافلون) *، لكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم جزأها ثلاثة أجزاء: جزءا لله تعالى، وجزءا
لأهله، وجزءا لنفسه. ثم جزأ جزءه بينه وبين الناس; فكان يستعين بالخاصة على العامة;
ويقول: أبلغوا حاجة من لا يستطيع إبلاغي; فإنه من أبلغ حاجة من لا يستطيع، أمنه الله
يوم الفزع الأكبر، انتهى. والمؤمن المنهمك في أمور الدنيا التي هي أكبر همه، يأخذ من
هذه الآية بحظ. نور الله قلوبنا بهداه.
306

* ت *: قد تقدم ما جاء في الفكرة في " آل عمران ". قال ابن عطاء الله: الفكرة
سراج القلب; فإذا ذهبت فلا إضاءة له. وقال: ما نفع القلب شئ مثل عزلة يدخل بها
ميدان فكرة، انتهى وباقي الآية بين.
وقوله عز وجل: * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض...) * الآية، يريد أثاروا الأرض بالمباني، والحرث،
والحروب وسائر الحوادث التي أحدثوها هي كلها إثارة للأرض; بعضها حقيقة وبعضها
بتجوز، والضمير في * (عمروها) * الأول للماضين، وفي الثاني للحاضرين المعاصرين.
وقوله تعالي: * (ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله) *.
قرأ نافع وغيره: " عاقبة " - بالرفع - على أنها اسم * (كان) *، والخبر يجوز أن يكون
* (السوأى) *، ويجوز أن يكون * (أن كذبوا) *، وتكون * (السوأى) * على هذا مفعولا
ب‍ * (أساؤوا) * وإذا كان * (السوأى) * خبرا ف‍ * (أن كذبوا) * مفعول من أجله.
وقرأ حمزة والكسائي وغيرهما " عاقبة " بالنصب على أنها خبر مقدم، واسم كان
أحد ما تقدم، و * (السوأى) *: مصدر كالرجعى، والشورى، والفتيا. قال ابن عباس:
* (أساؤوا) * هنا بمعنى: كفروا، و * (السوأى) * هي النار. وعبارة البخاري: وقال مجاهد
* (السوأى) * أي: الإساءة جزاء المسيئين، انتهى. والإبلاس الكون: في شر، مع اليأس
من الخير.
307

* ص *: وقال الزجاج: المبلس: الساكت المنقطع / في حجته; اليأس من أن
يهتدى إليها، انتهى.
وقوله جلت عظمته: * (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) * معناه: في المنازل
والأحكام والجزاء. قال قتادة: فرقة; والله - لا اجتماع بعدها. و * (يحبرون) * معناه
ينعمون; قاله مجاهد. والحبرة والحبور: السرور، وقال يحيى بن أبي كثير:) * يحبرون) *
معناه: يسمعون الأغاني; وهذا نوع من الحبرة.
* ت *: وفي الصحيح من قول أبي موسى: لو شعرت بك يا رسول الله لحبرته لك
تحبيرا; أو كما قال.
وقال * ص *: * (يحبرون) *: قال الزجاج: التحبير: التحسين، والحبر العالم، إنما
هو من هذا المعنى; لأنه متخلق بأحسن أخلاق المؤمنين، والحبر المداد إنما سمى به; لأنه
يحسن به، انتهى. قال الأصمعي: ولا يقال: روضة حتى يكون فيها ماء; يشرب منه.
ومعنى: * (في العذاب محضرون) * أي: مجموعون له: لا يغيب أحد عنه.
308

وقوله تعالى: * (فسبحان الله...) * الآية خطاب للمؤمنين بالأمر بالعبادة والحض
على الصلاة في هذه الأوقات، كأنه يقول سبحانه: إذا كان أمر هذه الفرق هكذا من النعمة
والعذاب، فجد أيها المؤمن في طريق الفوز برحمة الله. وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: " من قال حين يصبح " * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * إلى قوله:
* (وكذلك تخرجون) * أدرك ما فاته في يومه ذلك، ومن قالهن حين يمسى أدرك ما فاته في
ليلته. رواه أبو داود، انتهى من " السلاح ".
قال ابن عباس وغيره: في هذه الآية تنبيه على أربع صلوات: المغرب، والصبح،
والظهر، والعصر، قالوا: والعشاء الأخيرة هي في آية أخرى: في زلف الليل، وقد تقدم
بيان هذا مستوفى في محاله.
وقوله تعالى: * (يخرج الحي من الميت...) * الآية، تقدم بيانها. ثم بعد هذه الأمثلة
القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلا; ساق الخبر سبحانه بأن كذلك خروجنا من قبورنا،
و * (تنتشرون) * معناه: تتصرفون وتتفرقون، والمودة والرحمة: هما على بابهما المشهور من
التواد والتراحم; هذا هو البليغ. وقيل: غير هذا.
309

وقرأ الجمهور: " للعالمين " - بفتح اللام - يعني: جميع العالم. وقرأ حفص عن
عاصم - بكسرها - على معنى: أن أهل الانتفاع بالنظر فيها إنما هم أهل العلم، وباقي الآية
اطلبه في محاله; تجده إن شاء الله مبينا، وهذا شأننا الإحالة في هذا المختصر; على ما
تقدم بيانه، فاعلمه راشدا.
* ت *: وهذه الآيات والعبر إنما يعظم موقعها في قلوب العارفين بالله سبحانه، ومن
أكثر التفكر في عجائب صنع الله تعالى حصلت له المعرفة بالله سبحانه.
قال الغزالي في " الإحياء ": وبحر المعرفة لا ساحل له; والإحاطة بكنه جلال الله
محال، وكلما كثرت المعرفة بالله تعالى وصفاته وأفعاله وأسرار مملكته وقويت - كثر النعيم
في الآخرة; وعظم، كما أنه كلما كثر البذر وحسن - كثر الزرع وحسن.
وقال أيضا في كتاب " شرح عجائب القلب " من " الإحياء ": وتكون سعة ملك العبد
في الجنة; بحسب سعة معرفته بالله، وبحسب ما يتجلى له من عظمة الله - سبحانه -،
وصفاته، وأفعاله، انتهى.
وقوله تعالى: * (أن تقوم السماء والأرض) * معناه: تثبت، كقوله تعالى: * (وإذا أظلم
عليهم قاموا) * [البقرة: 20].
وهذا كثير، والدعوة من الأرض: هي البعث ليوم القيامة، قال مكي: والأحسن عند
أهل النظر أن الوقف في هذه الآية يكون في آخرها، * (تخرجون) *; لأن مذهب سيبويه
والخليل في " إذا " الثانية: أنها جواب / الأولى، كأنه قال: ثم إذا دعاكم خرجتم; وهذا
أسد الأقوال.
وقال * ص *: * (إذا أنتم) *، " إذا ": للمفاجأة، وهل هي ظرف مكان أو ظرف زمان؟
خلاف، و * (من الأرض) * علقه الحوفي ب‍ " دعا "، وأجاز * ع *: أن يتعلق ب‍ " دعوة "
انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي: " تخرجون " - بفتح التاء، والباقون بضمها -، والقنوت هنا
310

بمعنى الخضوع، والانقياد في طاعته سبحانه. وإعادة الخلق: هو بعثهم من القبور.
وقوله تعالى: * (وهو أهون عليه) * قال ابن عباس وغيره: المعنى: وهو هين
عليه، وفي مصحف ابن مسعود " وهو هين عليه "، وفي بعض المصاحف " وكل هين
عليه ".
وقال ابن عباس أيضا وغيره: المعنى: وهو أيسر عليه، قال: ولكن هذا
التفضيل إنما هو بحسب معتقد البشر; وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في
كثير من الأشياء أهون علينا من البدءة. ولما جاء بلفظ فيه استعارة، وتشبيه بما يعهده
الناس من أنفسهم خلص جانب العظمة; بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يلحقه
تكييف ولا تماثل مع شئ. ثم بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله -
بضربه هذا المثل -; وهو قوله: * (ضرب لكم مثلا من أنفسكم...) * الآية، ومعناه:
أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم; فإنكم لا تشركونهم في أموالكم، ومهم
أموركم، ولا في شئ على جهة استواء المنزلة. وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن
يرثوا أموالكم، أو يقاسموكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض; فإذا كان هذا
فيكم، فكيف تقولون: إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته; هذا تفسير ابن
عباس والجماعة.
311

وقوله تعالى: * (فأقم وجهك للدين حنيفا...) * الآية، إقامة الوجه: هي تقويم
المقصد والقوة على الجد في أعمال الدين. وخص الوجه; لأنه جامع حواس الإنسان;
ولشرفه. و * (فطرت الله) * نصب على المصدر.
وقيل: بفعل مضمر تقديره: اتبع أو التزم فطرة الله، واختلف في الفطرة ها هنا،
والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي
معدة مهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه، ويعرف شرائعه; ويؤمن
به، فكأنه تعالى، قال: أقم وجهك للدين الذي هو الحنيف، وهو فطرة الله الذي على
الإعداد له فطر البشر; لكن تعرضهم العوارض; ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " كل
مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه... " الحديث -، ثم يقول:
312

* (فطرة الله...) * الآية، إلى * (القيم) * فذكر الأبوين إنما هما مثال للعوارض التي هي
كثيرة. وقال البخاري: فطرة الله: هي الإسلام، انتهى.
وقوله تعالى: * (لا تبديل لخلق الله) * يحتمل أن يريد بها هذه الفطرة، ويحتمل أن
يريد بها الإنحاء على الكفرة; اعترض به أثناء الكلام; كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي
من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة قد خلق الله لهم الكفر، و * (لا تبديل لخلق الله) *،
أي: أنهم لا يفلحون، وقيل غير هذا، وقال البخاري: * (لا تبديل لخلق الله) * أي:
لدين الله، وخلق الأولين: دينهم. انتهى. و * (القيم) * بناء مبالغة من القيام الذي هو بمعنى
الاستقامة، و * (منيبين) * يحتمل أن يكون حالا من قوله * (فطر الناس) * لا سيما على رأى من
رأى أن ذلك خصوص في المؤمنين، ويحتمل أن يكون حالا من قوله * (أقم وجهك) *
وجمعه: لأن الخطاب بإقامة الوجه هو للنبي / صلى الله عليه وسلم ولأمته نظيرها قوله تعالى: * (يا أيها النبي
إذا طلقتم النساء) * [الطلاق: 1]. والمشركون المشار إليهم في هذه الآية: هم اليهود
والنصارى; قاله قتادة، وقيل غير هذا.
313

وقوله تعالى: * (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه...) * الآية، ابتداء إنحاء
على عبدة الأصنام.
قال * ع *: ويلحق من هذه الألفاظ شئ للمؤمنين; إذا جاءهم فرج بعد شدة;
فعلقوا ذلك بمخلوقين، أو بحذق آرائهم، وغير ذلك; لأن فيه قلة شكر لله تعالى; ويسمى
تشريكا مجازا. والسلطان هنا البرهان من رسول أو كتاب، ونحوه.
وقوله تعالى: * (فهو يتكلم) * معناه فهو يظهر حجتهم، ويغلب مذهبهم، وينطق
بشركهم. ثم قال تعالى: * (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها...) * الآية، وكل أحد يأخذ
من هذه الخلق بقسط، فالمقل والمكثر، إلا من ربطت الشريعة جأشه، ونهجت السنة
سبيله، وتأدب بآداب الله، فصبر عند الضراء; وشكر عند السراء، ولم يبطر عند النعمة،
ولا قنط عند الابتلاء، والقنط: اليأس الصريح. ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره; لم
ييأس من روح الله - وهو أنه سبحانه يخص من يشاء من عباده ببسط الرزق، ويقدر على
من يشاء منهم. فينبغي لكل عبد أن يكون راجيا ما عند ربه. ثم أمر تعالى نبيه -
عليه السلام - أمرا تدخل فيه أمته - على جهة الندب - بإيتاء ذي القربى حقه من صلة
المال، وحسن العاشرة ولين القول، قال الحسن: حقه المواساة في اليسر، وقول
ميسور في العسر.
قال * ع *: ومعظم ما قصد أمر المعونة بالمال.
314

وقرأ الجمهور: * (وما آتيتم) * بمعنى: أعطيتم، وقرأ ابن كثير بغير مد، بمعنى:
وما فعلتم، وأجمعوا على المد في قوله * (وما آتيتم من زكاة) * والربا: الزيادة.
قال ابن عباس وغيره: هذه الآية نزلت في هبات الثواب.
قال * ع *: وما جرى مجراها مما يضعه الإنسان ليجازى عليه; كالسلم وغيره،
فهو وإن كان لا إثم فيه; فلا أجر فيه ولا زيادة عند الله تعالى، وما أعطى الإنسان تنمية
لماله وتطهيرا; يريد بذلك وجه الله تعالى; فذلك هو الذي يجازى به أضعافا مضاعفة على
ما شاء الله له. وقرأ جمهور السبعة " ليربوا " بإسناد الفعل إلى الربا، وقرأ نافع وحده
" لتربوا " وباقي الآية بين. ثم ذكر تعالى - على جهة العبرة - ما ظهر من الفساد بسبب
المعاصي، قال مجاهد: البر البلاد البعيدة من البحر، والبحر السواحل والمدن التي على
ضفة البحر، وظهور الفساد فيهما: هو بارتفاع البركات، ووقوع الرزايا، وحدوث الفتن
وتغلب العدو، وهذه الثلاثة توجد في البر والبحر، قال ابن عباس: الفساد في البحر:
انقطاع صيده بذنوب بني آدم، وقلما توجد أمة فاضلة مطيعة مستقيمة الأعمال إلا يدفع
الله عنها هذه الأمور، والأمر بالعكس في المعاصي، وبطر النعمة; ليذيقهم عاقبة بعض ما
عملوا ويعفوا عن كثير. و * (لعلهم يرجعون) *، أي: يتوبون ويراجعون بصائرهم في طاعة
ربهم; ثم حذر - تعالى - من يوم القيامة تحذيرا يعم العالم وإياهم المقصد بقوله * (فأقم
وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) * الآية و * (لا مرد له) *: معناه
ليس فيه رجوع لعمل، ويحتمل أن يريد / لا يرده راد. وهذا ظاهر بحسب اللفظ
و * (يصدعون) *: معناه: يتفرقون بعد جمعهم إلى الجنة وإلى النار. ثم ذكر تعالى من آياته
أشياء وهي ما في الريح من المنافع وذلك أنها بشرى بالمطر ويلقح بها الشجر، وغير ذلك،
315

وتجري بها السفن في البحر. ثم آنس سبحانه نبيه عليه السلام بقوله: ولقد أرسلنا من
قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات...) * الآية، ثم وعد تعالى محمد عليه السلام
وأمته النصر بقوله: * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * وحقا خبر كان قدمه اهتماما.
وقوله تعالى: * (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا...) * الآية. الإثارة: تحريكها
من سكونها، وتسييرها، وبسطه في السماء هو نشره في الآفاق، والكسف: القطع.
وقوله تعالى: * (من قبله) * تأكيد أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى
الاستبشار، والإبلاس: الكون في حال سوء مع اليأس من زوالها.
وقوله تعالى: * (كيف يحيى) * الضمير في * (يحيى) * يحتمل أن يكون للأثر ويحتمل أن
يعود على الله تعالى وهو أظهر. ثم أخبر تعالى عن حال تقلب بني آدم، في أنه بعد
الاستبشار بالمطر، إن بعث الله ريحا فاصفر بها النبات; ظلوا يكفرون قلقا منهم وقلة تسليم
لله تعالى، والضمير في * (رأوه) * للنبات واللام في * (لئن) * مؤذنة بمجيء القسم وفى
* (لظلوا) * لام القسم.
وقوله تعالى: * (إنك لا تسمع الموتى...) * الآية: استعارة للكفار وقد تقدم بيان
ذلك في " سورة النمل ".
316

وقوله تعالى: * (الله الذي خلقكم من ضعف) * قال كثير من اللغويين: ضم الضاد في
البدن، وفتحها في العقل، وهذه الآية إنما يراد بها حال الجسم، والضعف الأول هو: كون
الإنسان من ماء مهين، والقوة بعد ذلك: الشبيبة وشدة الأسر، والضعف الثاني هو الهرم
والشيخوخة، هذا قول قتادة وغيره وروى أبو داود في " سنته " بسند صحيح، عن
عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تنتفوا الشيب، ما
من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نورا يوم القيامة ". وفى رواية " إلا كتب
الله عز وجل له بها حسنة، وحط عنه خطيئة " انتهى.
ثم أخبر عز وجل عن يوم القيامة فقال: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما
لبثوا) * أي: تحت التراب * (غير ساعة) * وقيل: المعنى: ما لبثوا في الدنيا كأنهم استقلوها.
* (كذلك كانوا) * في الدنيا * (يؤفكون) * أي: يصرفون عن الحق.
قال * ص *: * (ما لبثوا) *: جواب القسم على المعنى، ولو حكي قولهم لكان ما
لبثنا; انتهى. ثم أخبر تعالى أن الكفرة لا ينفعهم يومئذ اعتذار ولا يعطون عتبى، وهي
الرضا وباقي الآية بين، ولله الحمد.
317

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
تفسير " سورة لقمان "
وهي مكية
غير آيتين قال قتادة: أولهما: * (ولو أن ما في الأرض) * إلى آخر الآيتين، وقال ابن
عباس ثلاث.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: * (آلم * تلك آيات الكتاب الحكيم * هدى ورحمة للمحسنين) *:
خصه للمحسنين من حيث لهم نفعه، وإلا فهو هدى في نفسه.
وقوله تعالى: * (ومن الناس من يشترى لهو الحديث) * / روي: أن الآية نزلت في
شأن رجل من قريش; اشترى جارية مغنية; لتغني له بهجاء النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنه ابن خطل.
وقيل: نزلت في النضر بن الحارث، وقيل غير هذا، والذي يترجح أن الآية نزلت في
لهو حديث مضاف إلى كفر; فلذلك اشتدت ألفاظ الآية، و * (لهو الحديث) * كل ما يلهي من
غناء وخناء. ونحوه، والآية باقية المعنى في الأمة غابر الدهر; لكن ليس ليضلوا عن
سبيل الله، ولا ليتخذوا آيات الله هزوا، ولا عليهم هذا الوعيد; بل ليعطلوا عبادة،
ويقطعوا زمنا بمكروه.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وروى ابن وهب عن مالك عن محمد بن المنكدر:
318

أن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين الذين كانوا ينزهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو
ومزامير الشيطان; أدخلوهم في أرض المسك، ثم يقول الله تعالى للملائكة: أسمعوهم
ثنائي وحمدي; وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. انتهى.
وقوله عز وجل: * (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كان لم يسمعها كأن في أذنيه
وقرا فبشره بعذاب أليم) * الوقر في الأذن: الثقل الذي يعسر معه إدراك المسموعات،
و " الرواسي ": هي الجبال و " الميد ": التحرك يمنه ويسرة، وما قرب من ذلك، والزوج:
النوع والصنف. و * (كريم) *: مدحه بكرم جوهره، وحسن منظره، وغير ذلك. ثم وقف
تعالى الكفرة على جهة التوبيخ فقال: * (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) *.
وقوله تعالى: * (ولقد آتينا لقمان الحكمة) * اختلف في لقمان; هل هو نبي أو رجل
صالح فقط، وقال ابن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لم يكن لقمان نبيا; ولكن كان عبدا
كثير التفكير، حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمن عليه بالحكمة وخيره في أن يجعله
خليفة; يحكم بالحق، فقال: رب إن خيرتني، فلا قبلت العافية، وتركت البلاء، وإن عزمت
علي، فسمعا وطاعة، فإنك ستعصمني، منه وكان قاضيا في بني إسرائيل نوبيا أسود، مشقق
الرجلين، ذا مشافر "، قاله سعيد بن المسيب وابن عباس وجماعة: وقال له رجل -
319

كان قد رعى معه الغنم -: ما بلغ بك يا لقمان ما أرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء
الأمانة، وتركي ما لا يعنيني، وحكم لقمان كثيرة مأثورة.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وروى علماؤنا عن مالك قال: قال لقمان لابنه: يا
بنى، إن الناس قد تطاول عليهم ما يوعدون، وهو إلى الآخرة سراعا يذهبون، وإنك قد
استدبرت الدنيا مذ كنت، واستقبلت الآخرة مع أنفاسك، وإن دارا ستسير إليها; أقرب إليك
من دار تخرج منها، انتهى.
وقوله: * (أن أشكر) * يجوز أن تكون " أن " في موضع نصب على إسقاط حرف الجر،
أي: بأن أشكر لله ويجوز أن تكون مفسرة، أي: كانت حكمته دائرة على الشكر لله،
وجميع العبادات داخلة في الشكر لله عز وجل، و * (حميد) * بمعنى: محمود أي: هو
مستحق ذلك بذاته وصفاته.
وقوله تعالى: * (ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) * هاتان الآيتان
اعتراض أثناء وصية لقمان و * (وهنا على وهن) * معناه ضعفا على ضعف، كأنه قال: حملته
أمه، والضعف يتزيد بعد الضعف إلى أن ينقضي أمده.
وقال * ص *: * (وهنا على وهن) * حال من أمه أي شدة بعد شدة، أو جهدا على
جهد، وقيل * (وهنا) * نطفة، ثم علقة، فيكون حالا من الضمير المنصوب في * (حملته) *.
انتهى.
320

وقوله تعالى: * (أن أشكر لي ولوالديك) *.
قال سفيان بن عيينة: من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا
لوالديه في إدبار الصلوات فقد شكرهما.
وقوله سبحانه: * (وإن جاهداك على أن تشرك بي...) * الآية روي أن هاتين الآيتين
نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان، على ما تقدم بيانه، وجملة
هذا الباب; أن طاعة الأبوين لا تراعى في ركوب كبيرة، ولا في ترك فريضة على الأعيان،
وتلزم طاعتهما في المباحات وتستحسن في ترك الطاعات الندب.
وقوله سبحانه: * (واتبع سبيل من أناب إلي) * وصية لجميع العالم. وهذه سبيل الأنبياء
والصالحين.
وقوله تعالى - حاكيا عن لقمان * (يا بنى إنها إن تك مثقال حبة...) * الآية: ذكر كثير
من المفسرين: إنه أراد مثقال حبة من أعمال المعاصي والطاعات، وبهذا المعنى يتحصل
في الموعظة ترجيه وتخويف منضاف إلى تبيين قدرة الله تعالى.
وقوله: * (واصبر على ما أصابك) * يقتضى حضا على تغير المنكر وإن نال ضررا،
فهو إشعار بأن المغير يؤذى أحيانا.
وقوله: * (إن ذلك من عزم الأمور) * يحتمل أن يريد مما عزمه الله وأمر به، قاله ابن
جريج: ويحتمل أن يريد أن ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين
طريق النجاة; قاله جماعة. والصعر: الميل، فمعنى الآية: ولا تمل خدك للناس كبرا
عليهم وإعجابا واحتقارا لهم; قاله ابن عباس وجماعة. وعبارة البخاري: ولا تصاعر،
أي: لا تعرض، والتصاعر: الإعراض بالوجه; انتهى. والمرح: النشاط، والمشي مرحا:
هو في غير شغل، ولغير حاجة، وأهل هذه الخلق ملازمون للفخر والخيلاء، فالمرح
مختال في مشيه، وقد ورد من صحيح الأحاديث في جميع ذلك وعيد شديد يطول بنا
سرده.
321

قال عياض: كان أبو إسحاق الجبنياني قل قل ما يترك ثلاث كلمات; وفيهن الخير كله:
اتبع ولا تبتدع، اتضع ولا ترفع، من ورع لا يتسع، انتهى. وغض الصوت أوقر للمتكلم
وأبسط لنفس السامع وفهمه، ثم عارض ممثلا بصوت الحمير على جهة التشبيه، أي: تلك
هي التي بعدت عن الغض فهي أنكر الأصوات، فكذلك ما بعد عن الغض من أصوات
البشر; فهو في طريق تلك، وفي الحديث: " إذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من
الشيطان; فإنها رأت شيطانا.
وقال سفيان الثوري: صياح كل شئ تسبيح إلا صياح الحمير.
* ت *: ولفظ الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم صياح
الديكة فسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار، فتعوذوا بالله من
الشيطان; فإنه رأى شيطانا "، رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وفي لفظ النسائي: " إذا سمعتم
الديكة تصيح بالليل "، وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا سمعتم نباح الكلاب
ونهيق الحمير من الليل، فتعوذوا بالله من الشيطان الرجيم; فإنها ترى ما لا ترون، وأقلوا
الخروج إذا جدت; فإن الله يبث في ليله من خلقه ما يشاء ". رواه أبو داود والنسائي
والحاكم في " المستدرك ". واللفظ له، وقال: صحيح على شرط مسلم; انتهى من
" السلاح ".
/ وقوله تعالى: * (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة) *.
قال المحاسبي - رحمه الله - الظاهرة: نعم الدنيا، والباطنة: نعم العقبى. والظاهر
عندي التعميم. ثم وقف تعالى الكفرة على اتباعهم دين آبائهم أيكون وهم بحال من يصير
322

إلى عذاب السعير، فكأن القائل منهم يقول: يتبعون دين آبائهم ولو كان مصيرهم إلى
السعير. فدخلت ألف التوقيف على حرف العطف; كما كان اتساق الكلام فيه; فتأمله.
وقوله تعالى: * (ومن يسلم وجهه إلى الله) * معناه يخلص ويوجه ويستسلم به،
والوجه هنا: الجارحة، استعير للمقصد; لأن القاصد إلى شئ فهو مستقبله بوجهه،
فاستعير ذلك للمعاني، والمحسن: الذي جمع القول والعمل، وهو الذي شرحه صلى الله عليه وسلم حين
سأله جبريل - عليه السلام - عن الإحسان. والمتاع القليل هنا هو العمر في الدنيا. -
وقوله: * (قل الحمد لله) * أي: على ظهور الحجة.
وقوله تعالى: * (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام...) * الآية. روي عن ابن
عباس: أن سبب نزولها أن اليهود قالت: يا محمد; كيف عنينا بهذا القول * (وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا) * [الإسراء: 85] ونحن قد أوتينا التوراة تبيانا لكل شئ؟ فنزلت الآية، وقيل
غير هذا.
قال * ع *: وهذه الآية بحر نظر وفكرة، نور الله قلوبنا بهداه.
323

وقوله تعالى: * (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) * أي: لأنه كله ب‍ " كن
فيكون "، قاله مجاهد.
وقوله تعالى: * (كل يجري إلى أجل مسمى) * يريد: القيامة.
وقوله: * (بنعمة الله) * يحتمل أن يريد ما تحمله السفن من الطعام والأرزاق
والتجارات، فالباء: للإلزاق، ويحتمل أن يريد بالريح وتسخير الله البحر ونحو هذا، فالباء
باء السبب. وذكر تعالى من صفات المؤمن الصبار والشكور; لأنهما عظم أخلاقه، الصبر
على الطاعات وعلى النوائب، وعن الشهوات، والشكر على الضراء والسراء. وقال
الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصفه الآخر، واليقين الإيمان كله. و " غشي "
غطى أو قارب، والظلل: السحاب.
وقوله تعالى: * (فمنهم مقتصد) *.
قال الحسن: منهم مؤمن يعرف حق الله في هذه النعم، والخيار القبيح الغدر،
وذلك أن منن الله على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها، والعبادة لمسديها،
فمن كفر ذلك وجحد به، فكأنه ختر وخان، قال الحسن: الختار هو الغدار.
و * (كفور) *: بناء مبالغة.
وقوله تعالى: * (يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده...) *
الآية يجزي معناه يقضي، والمعنى: لا ينفعه بشئ، وقرأ الجمهور: ": - الغرور بفتح
324

الغين - وهو الشيطان; قاله مجاهد وغيره، واعلم أيها الأخ أن من فهم كلام ربه ورزق
التوفيق لم ينخدع بغرور الدنيا وزخرفها الفاني; بل يصرف همته بالكلية إلى التزود لآخرته;
ساعيا في مرضاة ربه، وأن من أيقن أن الله يطلبه صدق الطلب إليه، كما قاله الإمام العارف
بالله ابن عطاء الله. وإنه لا بد لبناء هذا الوجود أن تنهدم دعائمه وأن تسلب كرائمه،
فالعاقل; من كان بما هو أبقى أفرح منه بما هو يفنى، قد أشرق نوره وظهرت تباشيره،
فصدف عن هذه الدار مغضيا، وأعرض عنها موليا، فلم يتخذها وطنا، ولا جعلها /
سكنا; بل أنهض الهمة فيها إلى الله وصار فيها مستعينا به في القدوم عليه، فما زالت
مطية عزمه لا يقر قرارها. دائما تسيارها، إلى أن أناخت بحضرة القدس، وبساط الأنس،
انتهى.
وروينا في " جامع الترمذي " عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أغبط أوليائي
عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان
غامضا في الناس; لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافا; فصبر على ذلك، ثم نفض
بيده فقال: عجلت منيته، قلت نوائحه; قل تراثه "، قال أبو عيسى: وبهذا الإسناد عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: عرض على ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، قلت: لا، يا رب،
ولكن أشبع يوما وأجوع يوما، أو قال: ثلاثا أو نحو هذا، فإذا جعت، تضرعت إليك،
وإذا شبعت شكرتك وحمدتك ". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، وفي الباب عن
فضالة بن عبيد، انتهى. والغرور: التطميع بما لا يحصل. وقال ابن حبير: معنى الآية: أن
تعمل المعصية وتتمنى المغفرة، وفي الحديث الصحيح: عنه صلى الله عليه و سلم قال: " خمس من
الغيب لا يعلمهن إلا الله تعالى; وتلا الآية: * (إن الله عنده علم الساعة وينزل
الغيث...) * إلى آخرها ". قال أبو حيان: * (بأي أرض) *: - الباء ظرفية والجملة في
موضع نصب - ب‍ * (تدري) *. انتهى.
325

بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
تفسير " سورة السجدة "
وهي مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة
وهي قوله تعالى: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) * إلى تمام ثلاث آيات.
قال جابر: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام حتى يقرأ: * (آلم) * السجدة، و * (تبارك الذي
بيده الملك) *. و * (تنزيل) * أصح أن يرتفع بالابتداء، والخبر: * (لا ريب) *، ويصح أن يرتفع
على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: ذلك تنزيل، والريب: الشك، وكذلك هو في كل القرآن
إلا قوله * (ريب المنون) * [الطور: 30].
وقوله: * (أم يقولون. ضراب; كأنه قال: بل أيقولون: ثم رد على مقالتهم وأخبر أنه
الحق من عند الله.
وقوله سبحانه: * (ما أتاهم) * أي: لم يباشرهم ولا رأوه هم ولا آباؤهم العرب.
وقوله تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * [فاطر: 24] يعم من بوشر من النذر
ومن سمع به، فالعرب من الأمم التي خلت فيها النذر على هذا الوجه، لأنها علمت
بإبراهيم ونبيه، وبدعوتهم ولم يأتهم نذير مباشر لهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عباس ومقاتل: المعنى: لم يأتهم نذير في الفترة بين عيسى ونبينا
محمد صلى الله عليه وسلم.
326

وقوله تعالى: * (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض...) * الآية، الأمر اسم جنس
لجميع الأمور، والمعنى ينفذ سبحانه قضاءه بجميع ما يشاءه، ثم يعرج إليه خبر ذلك في
يوم من أيام الدنيا; مقداره أن لو سير فيه السير المعروف من البشر ألف سنة، أي: نزولا
وعروجا لأن ما بين السماء والأرض خمس مائة سنة، هذا قول ابن عباس ومجاهد
وغيرهما.
وقيل: المعنى: يدبر الأمر من السماء إلى الأرض في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه
يوم القيامة، ويوم القيامة مقداره ألف سنة من عدنا، وهو على الكفار قدر خمسين ألف
سنة. وقيل: غير هذا، وقرأ الجمهور /: " الذي أحسن كل شئ خلقه ": - بفتح اللام
على أنه فعل ماض، ومعنى: " أحسن ": أتقن وأحكم فهو حسن من جهة ما هو
لمقاصده التي أريد لها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: " خلقه ": - بسكون
اللام -. وذهب بعض الناس على هذه القراءة إلى أن: " أحسن " هنا معناه: ألهم، وأن
هذه الآية بمعنى قوله تعالى: * (أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) * [طه: الآية 50] أي:
ألهم. والإنسان هنا آدم - عليه السلام -، والمهين: الضعيف، * (ونفخ) *: عبارة عن
إفاضة الروح في جسد آدم عليه السلام والضمير في * (روحه) * لله تعالى، وهي إضافة
ملك إلى مالك وخلق إلى خالق، ويحتمل أن يكون الإنسان في هذه الآية اسم جنس
و * (قليلا) * صفة لمصدر محذوف.
327

وقوله تعالى: * (وقالوا أإذا ضللنا في الأرض) * أي: تلفنا وتقطعت أوصالنا، فذهبنا
في التراب حتى لم نوجد; * (إنا لفي خلق جديد) * أي: أنخلق بعد ذلك خلقا جديدا;
إنكارا منهم للبعث واستبعادا له، و * (يتوفاكم) * معناه يستوفيكم; هو روي عن مجاهد: أن الدنيا
بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان يأخذ من حيث أمر.
وقوله تعالى: * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) * الآية تعجيب لمحمد
عليه السلام وأمته من حال الكفرة، وما حل بهم، وجواب * (لو) * محذوف; لأن حذفه
أهول في النفوس، وتنكيس رؤوسهم هو من الذل واليأس والهم بحلول العذاب. وقولهم
* (أبصرنا وسمعنا) * أي: ما كنا نخبر به في الدنيا، ثم طلبوا الرجعة حين لا ينفع ذلك. ثم
أخبر تعالى عن نفسه أنه لو شاء لهدى الناس أجمعين; بأن يلطف بهم لطفا يؤمنون به،
ويخترع الإيمان في نفوسهم، هذا مذهب أهل السنة، و * (الجنة) *: الشياطين، و * (نسيتم) *
معناه: تركتم; قاله ابن عباس وغيره.
وقوله: * (إنا نسيناكم) * سمى العقوبة باسم الذنب. ثم أثنى سبحانه على القوم الذين
يؤمنون بآياته، ووصفهم بالصفة الحسنى من سجودهم عند التذكير، وتسبيحهم وعدم
استكبارهم.
328

وقوله تعالى: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع...) * الآية، تجافى الجنب عن
موضعه إذا تركه، قال الزجاج وغيره: التجافي التنحي إلى فوق.
قال * ع *: وهذا قول حسن، والجنوب جمع جنب، والمضاجع جمع مضجع
الاضطجاع للنوم.
* ت *: وقال الهروي: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * أي: ترتفع وتتباعد،
والجفاء بين الناس هو التباعد، انتهى. وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة أن عبد الله بن
رواحة - رضي الله عنه - قال: [الطويل]
- وفينا رسول الله يتلو كتابه * إذا انشق معروف من الفجر ساطع -
- أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع -
- يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالكافرين المضاجع -
انتهى. وجمهور المفسرين: على أن المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل.
قال * ع *: وعلى هذا التأويل أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح وفيه أحاديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم يذكر عليه السلام قيام الليل; ثم يستشهد بالآية; ففي حديث معاذ " ألا أدلك على
أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئي الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل
من جوف الليل، ثم قرأ * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) * /، حتى بلغ * (يعملون) * " رواه
الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح; ورجح الزجاج ما قاله الجمهور بأنهم:
جوزوا بإخفاء، فدل ذلك على أن العمل إخفاء أيضا، وهو قيام الليل * (يدعون ربهم خوفا) * أي: من عذابه * (وطمعا) *، أي:.
329

قال * ص *: * (تتجافى) * أعربه أبو البقاء: حالا، و * (يدعون) *: حال أو مستأنف
و * (خوفا وطمعا) *: مفعولان من أجله أو مصدران في موضع الحال; انتهى. وفي " الترمذي "
عن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رسول، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن
النار، قال: " لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه; تعبد الله لا
تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال: ألا
أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة
الرجل في جوف الليل، ثم تلا: * (تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ * (يعملون) *. ثم
قال: ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى، يا رسول الله. قال: رأس
الأمر الإسلام، وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد، ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟
قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله، وإنا
لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا
حصائد ألسنتهم؟! " قال الترمذي: حديث حسن صحيح. انتهى.
وقرأ حمزة وحده: " أخفى " - بسكون الياء كأنه قال: أخفي أنا. وقرأ الجمهور
" أخفي " - بفتح الياء -، وفي معنى الآية قال صلى الله عليه وسلم: " قال الله - عز وجل -: أعددت
لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخرا بله ما اطلعتم
عليه، واقرأوا إن شئتم: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين...) * الآية " انتهى.
قال القرطبي في " تذكرته ": " وبله " معناه: غير، وقيل: هو اسم فعل بمعنى دع،
وهذا الحديث خرجه البخاري، وغيره.
330

* ت *: وفي رواية للبخاري: قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: * (فلا تعلم
نفس...) * الآية. انتهى.
وقال ابن مسعود * في التوراة مكتوب " على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "، وباقي الآية بين; والضمير
في قوله تعالى: * (ولنذيقنهم) * لكفار قريش، ولا خلاف أن العذاب الأكبر هو عذاب
الآخرة، واختلف في تعيين العذاب الأدنى; فقيل هو السنون التي أجاعهم الله فيها، وقيل
هو مصائب الدنيا من الأمراض; ونحوها، وقيل هو القتل بالسيف كبدر وغيرها.
وقوله سبحانه: * (إنا من المجرمين منتقمون) * ظاهر الإجرام هنا أنه الكفر، وروى
معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: " ثلاث من فعلهن، فقد أجرم: وهو من عقد لواء في غير
حق، ومن عق والديه، ومن نصر ظالما ".
وقوله تعالى: * (ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه) * اختلف في
الضمير الذي في * (لقائه) * على من يعود؟ فقال قتادة وغيره: يعود على موسى، والمعنى:
فلا تكن يا محمد، في شك من أ نك تلقى موسى، أي: في ليلة الإسراء، وهذا قول جماعة
من السلف، وقالت فرقة: الضمير: عائد على الكتاب، أي: فلا تكن في شك من لقاء
موسى للكتاب.
331

* ص *: وقيل: يعود على الكتاب / على تقدير مضمر، أي: من لقاء مثله، أي:
آتيناك مثل ما آتينا موسى، والتأويل الأول هو الظاهر، انتهى. والمرية: الشك، والضمير
في * (جعلناه) *: يحتمل أن يعود على الكتاب أو على موسى; قاله قتادة.
وقوله تعالى: * (إن ربك هو يفصل بينهم...) * الآية، حكم يعم جميع الخلق،
وذهب بعضهم إلى تخصيص الضمير وذلك ضعيف.
وقوله تعالى: * (أو لم يهد) * معناه يبين; قاله ابن عباس، والفاعل ب‍ * (يهد) * هو
الله; في قول فرقة، والرسول في قول فرقة، وقرأ أبو عبد الرحمن: " نهد " - بالنون -
وهي قراءة الحسن وقتادة، فالفاعل الله تعالى، والضمير في * (يمشون) * يحتمل أن يكون
للمخاطبين أو للمهلكين، و * (الجرز) *: الأرض العاطشة التي قد أكلت نباتها من العطش
والقيظ; ومنه قيل للأكول جروز. وقال ابن عباس وغيره: * (الأرض الجرز) *: أرض
أبين من اليمن وهي أرض تشرب بسيول لا بمطر، وفي " البخاري ": وقال ابن عباس:
* (الجرز) *: التي لم تمطر إلا مطرا لا يغني عنها شيئا. انتهى.
ثم حكى سبحانه عن الكفرة أنهم يستفتحون; ويستعجلون فصل القضاء بينهم وبين
الرسل على معنى الهزء والتكذيب، و * (الفتح) *: الحكم، هذا قول جماعة من المفسرين،
وهو أقوى الأقوال.
332

قال مجاهد و * (الفتح) * هنا هو حكم الآية الآخرة. ثم أمر تعالى نبيه عليه السلام بالإعراض
عن الكفرة وانتظار الفرج، وهذا مما نسخته آية السيف.
وقوله: * (إنهم منتظرون) * أي: العذاب بمعنى هذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون.
333

تفسير " سورة الأحزاب "
وهي مدنية بإجماع فيما علمت
قوله تعالى: * (يا أيها النبي اتق الله...) * الآية. قوله: * (اتق) * معناه: دم على
التقوى، ومتى أمر أحد بشئ وهو به متلبس; فإنما معناه الدوام في المستقبل على مثل
الحالة الماضية. وحذره تعالى من طاعة الكافرين والمنافقين تنبيها على عداوتهم، وألا
يطمئن إلى ما يبدونه من نصائحهم. والباء في قوله وكفى بالله زائدة على مذهب
سيبويه، وكأنه قال وكفى الله، وغيره يراها غير زائدة متعلقة ب‍ " كفى " على أنه بمعنى:
اكتف بالله. واختلف في السبب في قوله تعالى: * (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) *
فقال ابن عباس: سببها أن بعض المنافقين قال: إن محمدا له قلبان، وقيل غير هذا.
قال * ع *: ويظهر من الآية بجملتها أنها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك
الوقت، وإعلام بحقيقة الأمر، فمنها أن العرب كانت تقول: إن الإنسان له قلب يأمره،
وقلب ينهاه، وكان تضادا الخواطر يحملها على ذلك، وكذلك كانت العرب تعتقد الزوجة
إذا ظاهر منها بمنزلة الأم، وتراه طلاقا، وكانت تعتقد الدعي المتبنى ابنا، فنفى الله ما
اعتقدوه من ذلك.
وقوله سبحانه: * (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) * سببها أمر زبد بن حارثة كانوا يدعونه:
زيد بن محمد، و * (السبيل) * هنا سبيل الشرع والإيمان. ثم أمر تعالى في هذه الآية بدعاء
334

الأدعياء لآبائهم، أي: إلى آبائهم للصلب، فمن جهل ذلك فيه; كان مولى وأخا في الدين،
فقال الناس: زيد بن حارثة وسالم مولى أبي حذيفة، إلى غير ذلك و * (أقسط) *: معناه:
أعدل.
وقوله عز وجل: * (وليس عليكم جناح...) * الآية: رفع الحرج عمن وهم ونسي
وأخطأ، فجرى على العادة من نسبة زيد إلى محمد، وغير ذلك: مما يشبهه، وأبقى الجناح
في المتعمد، والخطأ مرفوع عن هذه الأمة عقابه; قال صلى الله عليه وسلم: " وضع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما أكرهوا عليه ". وقال - عليه السلام -: " ما أخشى عليكم الخطأ وإنما أخشى
العمد ".
قال السهيلي: ولما نزلت الآية وامتثلها زيد فقال: أنا زيد بن حارثة; جبر الله
وحشته وشرفه بأن سماه باسمه في القرآن فقال: * (فلما قضى زيد منها وطرا) * [الأحزاب: 37]
ومن ذكره سبحانه باسمه في الذكر الحكيم، حتى صار اسمه قرآنا يتلى في المحاريب، فقد
نوه به غاية التنويه، فكان في هذا تأنيس له وعوض من الفخر بأبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم له; ألا
ترى إلى قول أبي بن كعب حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك
سورة كذا، فبكى أبي وقال: أو ذكرت هنالك "، وكان بكاؤه من الفرح حين أخبر أن الله
تعالى ذكره; فكيف بمن صار اسمه قرآنا يتلى مخلدا لا يبيد، يتلوه أهل الدنيا إذا قرؤوا
القرآن، وأهل الجنة كذلك في الجنان، ثم زاده في الآية غاية الإحسان أن قال: * (وإذ تقول
للذي أنعم الله عليه) * [الأحزاب: 37] يعني بالإيمان; فدل على أنه عند الله من أهل الجنان
وهذه فضيلة أخرى هي غاية منتهى أمنية الإنسان، انتهى.
335

وقوله تعالى: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * أزال الله بهذه الآية أحكاما كانت
في صدر الإسلام منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين، فدكر الله تعالى;
أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من
نفسه، حسب حديث عمر بن الخطاب، ويلزم أن يمتثل أوامره، أحبت نفسه ذلك أو
كرهت، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية: " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من ترك
مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي، أنا وليه، اقرؤوا إن شئتم: * (النبي أولى
بالمؤمنين من أنفسهم...) * ".
* ت *: ولفظ البخاري من رواية أبي هريرة. ن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن إلا وأنا
أولى به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) * "، فأيما
مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا، فليأتني فأنا مولاه ".
قال ابن العربي: في " أحكامه ": فهذا الحديث هو تفسير الولاية في هذه الآية.
انتهى.
قال * ع *: وقال بعض العارفين: هو صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم; لأن
أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة.
قال * ع *: ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم: " فأنا آخذ بحجزكم عن النار، وأنتم تقحمون فيها
تقحم الفراش ".
قال عياض في " الشفا ": قال أهل التفسير في قوله تعالى: * (النبي أولى ثم بالمؤمنين من
أنفسهم) * أي: ما أنفذه فيهم من أمر; فهو ماض عليهم; كما يمضي حكم السيد على
عبده، وقيل: اتباع أمره أولى من اتباع رأي النفس. انتهى، وشرف تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم
بأن جعلهن أمهات المؤمنين في المبرة وحرمة النكاح، وفي مصحف أبي بن كعب:
336

وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " وقرأ ابن عباس " من أنفسهم وهو أب لهم " ووافقه أبي
على ذلك. ثم حكم تعالى: بأن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في التوارث، مما كانت
الشريعة وقررته من التوارث بأخوة الإسلام، و * (في كتاب الله) * يحتمل أن يريد القرآن أو
اللوح المحفوظ.
وقوله: * (من المؤمنين) * متعلق ب‍ * (أولى) * الثانية.
وقوله تعالى: * (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) * يريد الإحسان في الحياة والصلة
والوصية عند الموت و " الكتاب المسطور ": يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا.
وقوله سبحانه: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) * المعنى واذكر إذ أخذنا من النبيين،
وهذا الميثاق:
قال الزجاج وغيره: إنه الذي أخذ عليهم وقت استخراج البشر من صلب آدم
كالذر، بالتبليغ وبجميع ما تضمنته النبوءة. وروي نحوه عن أبي بن كعب.
وقالت فرقة: بل أشار إلى أخذ الميثاق عليهم وقت بعثهم وإلقاء الرسالة إليهم، وذكر
تعالى النبيين جملة، ثم خصص أولى العزم منهم تشريفا لهم، واللام في قوله * (ليسأل) *
يحتمل أن تكون لام كي، أو لام الصيرورة.
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود...) *
الآيات إلى قوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك) * [الأحزاب: 28] نزلت في شأن غزوة
337

الخندق، وما اتصل بها من أمر بني قريظة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجلى بني النضير من
موضعهم عند المدينة إلى خيبر، فاجتمعت جماعة منهم، ومن غيرهم من اليهود، وخرجوا
إلى مكة مستنهضين قريشا إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجسروهم على ذلك، وأزمعت
قريش السير إلى المدينة، ونهض اليهود إلى غطفان، وبني أسد، ومن أمكنهم من أهل نجد
وتهامة، فاستنفروهم إلى ذلك وتحزبوا وساروا إلى المدينة، واتصل خبرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم،
فحفر الخندق حول المدينة، وحصنها، فوردت الأحزاب، وحصروا المدينة، وذلك في
شوال سنة خمس، وقيل: أربع من الهجرة، وكانت قريظة قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاقدوه ألا
يلحقه منهم ضرر، فلما تمكن ذلك الحصار، وداخلهم بنو النضير غدروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونقضوا عهده، وضاق الحال على المؤمنين، ونجم النفاق وساءت ظنون قوم،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مع ذلك يبشر ويعد النصر، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوب
الكافرين، وتخاذلوا ويئسوا من الظفر، وأرسل الله عليهم ريحا وهي الصبا، وملائكة /
تسدد الريح، وتفعل نحو فعلها، وتلقي الرعب في قلوب الكفرة، وهي الجنود التي لم تر،
فارتحل الكفرة وانقلبوا خائبين.
وقوله تعالى: * (إذ جاءوكم من فوقكم) * يريد: أهل نجد مع عيينة بن حصن * (ومن
أسفل منكم) *: يريد أهل مكة وسائر تهامة قاله مجاهد. * (وزاغت الأبصار) * معناه مالت
عن مواضعها وذلك فعل الواله الفزع المختبل. * (وبلغت القلوب الحناجر) * عبارة عما يجده
الهلع من ثوران نفسه وتفرقها ويجد كأن حشوته وقلبه يصعد علوا، وروى أبو سعيد أن
المؤمنين قالوا يوم الخندق: يا نبي الله، بلغت القلوب الحناجر; فهل من شئ نقوله؟
قال: نعم; قولوا: " اللهم، استر عوراتنا، وآمن روعاتنا " فقالوها; فضرب الله وجوه الكفار
بالريح فهزمهم.
وقوله سبحانه: * (وتظنون بالله الظنونا...) * الآية: عبارة عن خواطر خطرت
للمؤمنين لا يمكن البشر دفعها، وأما المنافقون فنطقوا، ونجم نفاقهم. و * (ابتلي
338

المؤمنون) * معناه: اختبروا * (وزلزلوا) *: معناه: حركوا بعنف. ثم ذكر تعالى قول المنافقين
والمرضى القلوب; على جهة الذم لهم * (ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) * فروي عن
يزيد بن رومان أن معتب بن قشير قال: يعدنا محمد أن نفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة;
ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط; ما يعدنا إلا غرورا، وقال غيره من
المنافقين نحو هذا.
وقوله سبحانه: * (وإذ قالت طائفة منهم) * أي: من المنافقين * (لا مقام لكم) * أي: لا
موضع قيام وممانعة، فارجعوا إلى منازلكم وبيوتكم، وكان هذا على جهة التخذيل عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والفريق المستأذن هو أوس بن قيظي; استأذن في ذلك على اتفاق من
أصحابه المنافقين; فقال: * (إن بيوتنا عورة) * أي: منكشفة للعدو فأكذبهم الله - تعالى - ولو
دخلت المدينة * (من أقطارها) * أي: من نواحيها، واشتد الخوف الحقيقي، ثم سئلوا الفتنة
والحرب لمحمد وأصحابه لبادروا إليها وآتوها محبين فيها ولم يلبثوا في بيوتهم
لحفظها إلا يسيرا، قيل: قدر ما يأخذون سلاحهم.
ثم أخبر تعالى عنهم أنهم قد كانوا عاهدوا الله إثر أحد لا يولون الأدبار وفي قوله
تعالى: * (وكان عهد الله مسؤولا) * توعد وباقي الآية بين. ثم وبخهم بقوله: * (قد يعلم الله
المعوقين منكم) * وهم الذين يعوقون الناس عن نصرة الرسول ويمنعونهم بالأقوال والأفعال
من ذلك ويسعون على الدين، وأما القائلون لإخوانهم هلم إلينا فقال ابن زيد وغيره: أراد
339

من كان من المنافقين يقول لإخوانه في النسب وقرابته هلم، أي: إلى المنازل والأكل
والشرب، واترك القتال. وروي أن جماعة منهم فعلت ذلك وأصل * (هلم) *
ها المم. وهذا مثل تعليل " رد " من " أردد " والبأس: القتال و * (إلا قليلا) * معناه إلا إتيانا
قليلا، و * (أشحة) * جمع شحيح والصواب تعميم الشح أن يكون بكل ما فيه للمؤمنين
منفعة.
وقوله: * (فإذا جاء الخوف) * قيل: معناه: فإذا قوي الخوف رأيت هؤلاء المنافقين
ينظرون إليك / نظر الهلع المختلط; الذي يغشى عليه، فإذا ذهب ذلك الخوف العظيم
وتنفس المختنق: * (سلقوكم) * أي: خاطبوكم مخاطبة بليغة، يقال: خطيب سلاق ومسلاق
ومسلق ولسان أيضا كذلك إذا كان فصيحا مقتدرا ووصف الألسنة بالحدة لقطعها المعاني
ونفوذها في الأقوال، قالت فرقة: وهذا السلق هو في مخادعة المؤمنين بما يرضيهم من
القول على جهة المصانعة والمخاتلة.
وقوله: * (أشحة) * حال من الضمير في * (سلقوكم) *.
وقوله: * (على الخير) * يدل على عموم الشح في قوله أولا: * (أشحة عليكم) *
وقيل: المراد بالخير: المال، أي: أشحة على مال الغنائم، والله أعلم. ثم أخبر تعالى
عنهم أنهم لم يؤمنوا، وجمهور المفسرين على أن هذه الإشارة إلى منافقين لم يكن لهم
قط إيمان، ويكون قوله: * (فأحبط الله أعمالهم) * أي: أنها لم تقبل قط، والإشارة بذلك
في قوله * (وكان ذلك) * إلى حبط أعمال هؤلاء المنافقين، والضمير في قوله: * (يحسبون
الأحزاب) * للمنافقين، والمعنى: أنهم من الفزع والجزع بحيث رحل الأحزاب وهزمهم
الله تعالى، وهؤلاء يظنون أنها من الخدع; وأنهم لم يذهبوا، * (وإن يأت الأحزاب) *،
أي: يرجعوا إليهم كرة ثانية * (يودوا) * من الخوف والجبن * (لو أنهم بأدون) * أي:
خارجون إلى البادية. * (في الإعراب) * وهم أهل العمود ليسلموا من القتال. * (يسئلون) *
أي من ورد عليهم. ثم سلى سبحانه عنهم وحقر شأنهم بأن أخبر أنهم لو حضروا لما
أغنوا ولما قاتلوا إلا قتالا قليلا; لا نفع له. ثم قال تعالى - على جهة الموعظة -: * (لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * حين صبر وجاد بنفسه، و * (أسوة) * معناه قدوة،
ورجاء الله تابع للمعرفة به، ورجاء اليوم الآخر ثمرة العمل الصالح، وذكر الله كثيرا من
خير الأعمال فنبه عليه.
340

* ت *: وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي
إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه ". رواه ابن ماجة، واللفظ له وابن حبان في " صحيحه "
ورواه الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي الدرداء.
وروى جابر بن عبد الله; قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا أيها الناس، إن الله سرايا
من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض، فارتعوا في رياض الجنة، قالوا:
وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر; فاغدوا وروحوا في ذكر الله; وذكروه
أنفسكم من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله; فلينظر كيف منزلة الله عنده; فإن الله ينزل
العبد منه، حيث أنزله من نفسه " رواه الحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح الإسناد.
وعن معاذ بن جبل قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال:
" إن تموت ولسانك رطب من ذكر الله " رواه ابن حبان في " صحيحه "، انتهى من
" السلاح ". ولولا خشية الإطالة، لأتيت في هذا الباب بأحاديث كثيرة، وروى ابن المبارك
في " رقائقه " قال: أخبرنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: لا يكون
الرجل من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات; حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا، انتهى.
وفي " مصحف ابن مسعود " " يحسبون الأحزاب / قد ذهبوا فإذا وجدوهم لم يذهبوا ودوا
أنهم بأدون في الأعراب.
341

وقوله تعالى: * (ولما رأى المؤمنون الأحزاب... الآية. قالت فرقة: لما أمر -
رسول الله صلى الله عليه وسلم - بحفر الخندق أعلمهم بأنهم سيحصرون، وأمرهم بالاستعداد لذلك،
وأعلمهم بأنهم سينصرون بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب: * (قالوا: هذا ما وعدنا الله
ورسوله) * الآية، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله تعالى: * (أم
حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * إلى قوله * (قريب) * [القرة: 214].
قال * ع *: ويحتمل أنهم أرادوا جميع ذلك. ثم أثنى سبحانه على رجال عاهدوا
الله على الاستقامة فوفوا، وقضوا نحبهم، أي: نذرهم، وعهدهم، " والنحب " في كلام
العرب: النذر والشيء الذي يلتزمه الإنسان، وقد يسمى الموت نحبا، وبه فسر ابن
عباس وغيره هذه الآية، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات: قضى فيه نحبه، ويقال
لمن مات: قضى فلان نحبه; فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بهذه الآية أنس بن النضر
عم أنس بن مالك، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك، وقال لئن شهدت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا ليرين الله ما أصنع. فلما كان أحد أبلى بلاء حسنا حتى قتل ووجد
فيه نيف على ثمانين جرحا، فكانوا يرون أن هذه الآية في أنس بن النضر ونظرائه.
وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب; هم جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفوا
بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة
منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة ممن لم ينص عليه، ويصحح هذه المقالة أيضا ما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر، فقال له أعرابي: يا رسول الله، من الذي قضى
نحبه؟ فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد، وعليه
ثوبان أخضران، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أين السائل؟ فقال: هأنذا، يا رسول الله قال
342

هذا ممن قضى نحبه ".
قال * ع *: فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شرطه الموت.
وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: طلحة ممن قضى نحبه،
وروت عائشة نحوه.
وقوله تعالى: * (ومنهم من ينتظر) * يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب
الإيمان والصلاح، وهم بسبيل ذلك وما بدلوا ولا غيروا، واللام في: * (ليجزي) * يحتمل
أن تكون لام الصيرورة أو " لام كي "، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق
إلى موتهم، والتوبة موازية لتلك الإدامة، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما
درجتان: إدامة على نفاق أو توبة منه، وعنهما ثمرتان: تعذيب أو رحمة. ثم عدد
سبحانه - نعمة على المؤمنين في هزم الأحزاب; فقال: * (ورد الله الذين كفروا
بغيظهم...) * الآية.
وقوله تعالى: * (وأنزل الذين ظاهروهم) * يريد: بني قريظة، وذلك أنهم لما غدروا
وظاهروا الأحزاب، أراد الله النقمة منهم، فلما ذهب الأحزاب; جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقت الظهر; فقال: يا محمد، إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة، فنادى
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وقال لهم: / " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة،
فخرج الناس إليهم، وحصرهم النبي صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد بن
معاذ; فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والعيال والأموال، وأن تكون
الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن
يكون للمهاجرين أموال كما لكم أموال، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حكمت فيهم بحكم
343

الملك من فوق سبعة أرقعة " فأمر صلى الله عليه وسلم برجالهم فضربت أعناقهم، وفيهم حيي بن أخطب
النضيري، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر، و * (ظاهروهم) *: معناه: عاونوهم،
و " الصياصي ": الحصون، واحدها صيصية وهي كل ما يتمنع به، ومنه يقال لقرون البقر:
الصياصي، والفريق المقتول: الرجال، والفريق المأسور: العيال والذرية.
وقوله سبحانه: * (وأرضا لم تطئوها) * يريد بها: البلاد التي فتحت على المسلمين بعد
كالعراق والشام واليمن وغيرها، فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة، وأخبر أنه
قد قضى بذلك. قاله عكرمة.
وقوله تعالى: * (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها...) *
الآية، ذكر جل المفسرين أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وآذينه بزيادة
النفقة والغيرة، فهجرهن وآلى ألا يقربهن شهرا، فنزلت هذه الآية، فبدأ بعائشة، وقال:
" يا عائشة، إني ذاكر لك أمرا ولا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك، ثم تلا عليها
الآية، فقالت له: وفي أي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة،
قالت: وقد علم أن أبوي لا يأمراني ما بفراقه، ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول
344

عائشة، فاخترن الله ورسوله - رضي الله عنهن.
قالت فرقة قوله: * (بفاحشة مبينة) * يعم جميع المعاصي ولزمهن رضي الله عنهن
بحسب مكانتهن، أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب.
وقوله: * (ضعفين) * معناه: يكون العذاب عذابين، أي: يضاف إلى عذاب سائر الناس
عذاب آخر مثله، و * (يقنت) *: معناه: يطيع ويخضع بالعبودية; قاله الشعبي وقتادة.
والرزق الكريم: الجنة. ثم خاطبهن الله سبحانه بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن; فما
بعد، بل هن أفضل بشرط التقوى، وإنما خصصنا النساء لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله;
وقد أشار إلى هذا قتادة. ثم نهاهن سبحانه عما كانت الحال عليه في نساء العرب من
مكالمة الرجال برخيم القول; و * (لا تخضعن) * معناه: لا تلن.
قال ابن زيد: خضع القول ما يدخل في القلوب الغزل; والمرض في هذه الآية
قال قتادة: هو النفاق.
وقال عكرمة: الفسق والغزل، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره
الشريعة ولا النفوس. وقرأ الجمهور: " وقرن " - بكسر القاف -، وقرأ نافع وعاصم:
" وقرن " - بالفتح -، فأما الأولى فيصح أن تكون من الوقار، ويصح أن تكون من
القرار، وأما قراءة الفتح فعلى لغة العرب قررت - بكسر الراء -، أقر - بفتح القاف في
المكان /، وهي لغة ذكرها أبو عبيد في " الغريب " المصنف وذكرها الزجاج وغيره،
فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي صلى الله عليه وسلم بملازمة بيوتهن، ونهاهن عن التبرج;
345

والتبرج إظهار الزينة والتصنع بها، ومنه البروج لظهورها وانكشافها للعيون، واختلف
الناس في * (الجاهلية الأولى) * فقال الشعبي: ما بين عيسى ومحمد - عليهما السلام -،
وقيل: غير هذا.
قال * ع: والذي يظهر عندي; أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة
عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيره الكفرة، وجعلها أولى بالإضافة إلى
حاله الإسلام، وليس المعنى. أن ثم جاهلية آخرة، و * (الرجس) * اسم يقع على الإثم وعلى
العذاب وعلى النجاسات والنقائص، فأذهب الله جميع ذلك عن أهل البيت، قالت أم
سلمة: نزلت هذه الآية في بيتي; فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فدخل
معهم تحت كساء خيبري، وقال: " هؤلاء أهل بيتي، وقرأ الآية، وقال اللهم أذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: فقلت: وأنا يا رسول الله، فقال: أنت من أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم وأنت إلى خير ". والجمهور على هذا، وقال ابن عباس وغيره: أهل البيت:
أزواجه خاصة، والجمهور على ما تقدم.
قال * ع *: والذي يظهر لي: أن أهل البيت أزواجه وبنته وبنوها وزوجها أعني
عليا، ولفظ الآية: يقتضي أن الزوجات من أهل البيت; لأن الآية فيهن والمخاطبة
لهن.
قال * ص *: و * (أهل البيت) *: منصوب على النداء أو على المدح أو على
الاختصاص وهو قليل في المخاطب، وأكثر ما يكون في المتكلم، كقوله [الرجز]:
346

- نحن بنات طارق * نمشي على النمارق -
انتهى.
* ت *: واستصوب ابن هشام نصبه على النداء، قاله في " المغني ". وقوله تعالى:
* (واذكرن) * يعطي أن أهل البيت نساؤه، وعلى قول الجمهور: هي ابتداء مخاطبة، والحكمة
السنة، فقوله: * (واذكرن) * يحتمل مقصدين: كلا هما موعظة أحدهما: أن يريد تذكرنه،
وأقدرنه قدره، وفكرن في أن من هذه حاله ينبغي أن تحسن أفعاله، والثاني: أن يريد:
* (اذكرن) * بمعنى: احفظن واقرأن وألزمنه ألسنتكن.
* ت *: ويحتمل أن يراد ب‍ * (اذكرن) * إفشاؤه ونشره للناس، والله أعلم. وهذا هو
الذي فهمه ابن العربي من الآية، فإنه قال: أمر الله أزواج رسوله أن يخبرن بما ينزل من
القرآن في بيوتهن وبما يرين من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم وأقواله، حتى يبلغ ذلك إلى الناس،
فيعملوا بما فيه ويقتدوا به، انتهى. وهو حسن وهو ظاهر الآية وقد تقدم له نحو هذا في
قوله تعالى: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا) * [النساء: 128] الآية ذكره في
" أحكام القرآن ".
وقوله تعالى: * (إن المسلمين والمسلمات...) * الآية: روي في سببها; أن أم سلمة
قالت: يا رسول الله، يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شئ، ولا يذكرنا، فنزلت
الآية في ذلك، وألفاظ الآية في غاية البيان.
347

وقوله سبحانه: * (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات...) * الآية. وفي الحديث:
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: " سبق المفردون! قالوا: وما المفردون، / يا رسول الله؟ قال:
الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " رواه مسلم واللفظ له، والترمذي، وعنده: قالوا: يا
رسول الله، وما المفردون؟ قال: " المستهترون في ذكر الله، يضع الذكر عنهم أثقالهم،
فيأتون يوم القيامة خفافا ".
قال عياض: " والمفردون " عن ضبطناه على متقني شيوخنا - بفتح الفاء وكسر الراء -.
وقال ابن الأعرابي: فرد الرجل إذا تفقه واعتزل الناس، وخلا لمراعاة الأمر والنهي،
وقال الأزهري: هم المتخلون من الناس بذكر الله تعالى، وقوله: المستهترون في
ذكر الله هو - بفتح التاءين المثناتين - يعني: الذين أولعوا بذكر الله، يقال: استهتر فلان
بكذا، أي: أولع به، انتهى من " سلاح المؤمن ".
وقوله سبحانه: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم
الخيرة...) * الآية: قوله: * (وما كان) * لفظه النفي، ومعناه الحظر والمنع والخيرة مصدر
بمعنى التحيز.
قال ابن زيد: نزلت هذه الآية بسبب أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت
نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب
ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، وقيل غير هذا، والعصيان هنا يعم الكفر فما دون، وفي
348

حديث الترمذي; عن النبي صلى الله عليه وسلم; أنه قال: " من سعادة ابن آدم رضاه بما قضاه الله، ومن
شقاوة ابن آدم سخطه بما قضاه الله له " انتهى.
وقوله في تعالى: * (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه...) * الآية: ذهب
جماعة من المتأولين إلى أن الآية لا كبير عتب فيها على النبي صلى الله عليه وسلم; فروي عن علي بن
الحسين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد أوحي إليه أن زيدا يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج الله
إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خلق زينب، وأنها لا تطيعه، وأعلمه بأنه يريد طلاقها،
قال له النبي صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصية: " اتق الله - أي: في قولك - وأمسك عليك
زوجك " - وهو يعلم أنه سيفارقها - وهذا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلم في نفسه ولم يرد أن يأمره
بالطلاق لما علم من أنه سيتزوجها، وخشي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس، في أن يتزوج
زينب بعد زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه الله على هذا القدر من أن خشي
الناس في شئ; قد أباحه الله تعالى له.
قال عياض: وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن
عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى.
وقوله: * (أنعم الله عليه) * يعني بالإسلام وغير ذلك * (وأنعمت عليه) * يعني بالعتق،
وهو زيد بن حارثة، وزينب هي بنت جحش، بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم; ثم أعلم - تعالى - نبيه أنه زوجها منه لما قضى زيد وطره منها; لتكون
سنة للمسلمين في أزواج أدعيائهم، وليبين أنها ليست كحرمة البنوة، والوطر: الحاجة
والبغية.
وقوله تعالى: * (وكان أمر الله مفعولا) *: فيه حذف مضاف تقديره: وكان حكم أمر
الله، أو مضمن أمر الله، وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر
واحد الأمور التي شأنها أن تفعل / وعبارة الواحدي: * (وكان أمر الله مفعولا) * أي: كائنا
لا محالة، وكان قد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى.
349

وقوله تعالى: * (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له...) * الآية: هذه
مخاطبة من الله تعالى لجميع الأمة; أعلمهم أنه لا حرج على نبيه في نيل ما فرض الله له
وأباحه من تزويجه لزينب بعد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء،
من أن ينالوا ما أحله الله لهم، وعبارة الواحدي: * (ما كان على النبي من حرج فيما فرض
الله له) * أي: أحل الله له من النساء. * (سنة الله في الذين خلوا من قبل) *، يقول: هذه سنة
قد مضت لغيرك; يعني كثرة أزواج داود وسليمان - عليهما السلام - * (وكان أمر الله قدرا
مقدورا) * قضاء مقضيا. وقوله تعالى: * (الذين يبلغون رسالات الله) * من نعت قوله: * (في
الذين خلو من قبل) *، انتهى.
وقوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * إلى قوله * (كريما) * أذهب الله
بهذه الآية ما وقع في نفوس المنافقين وغيرهم; لأنهم استعظموا أن يتزوج زوجة ابنه، فنفى
القرآن تلك البنوة، وقوله: * (أبا أحد من رجالكم) * يعني المعاصرين له وباقي الآية بين. ثم
أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكرا كثيرا، وجعل تعالى ذلك دون حد ولا تقرير; لسهولته
على العبد، ولعظم الأجر فيه. قال ابن عباس: لم يعذر أحد في ترك ذكر الله عز وجل إلا
من غلب على عقله، وقال: الذكر الكثير أن لا تنساه أبدا.
وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " أكثروا ذكر الله; حتى يقولوا: مجنون " * ت *:
350

وهذا الحديث خرجه ابن حبان في " صحيحه ".
وقوله: * (وسبحوه بكرة وأصيلا) * أراد في كل الأوقات فحدد الزمن بطر في نهاره
وليله، والأصيل من العصر إلى الليل، وعن ابن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن
خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والأظلة لذكر الله " رواه الحاكم في
" المستدرك "، انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: * (هو الذي يصلى عليكم وملائكته...) * الآية: صلاة الله على العبد
هي رحمته له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين
تأنيسا لهم.
وقوله تعالى: * (تحيتهم يوم يلقونه سلام) * قيل: يوم القيامة تحي الملائكة المؤمنين
بالسلام، ومعناه: السلامة من كل مكروه، وقال قتادة: يوم دخولهم الجنة يحي بعضهم
بعضا بالسلام، والأجر الكريم: جنة الخلد في جوار الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: * (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا...) * الآية، هذه الآية فيها
تأنيس للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم.
وقوله: * (وداعيا إلى الله بإذنه) * أي: بأمره * (وسراجا منيرا) * استعارة للنور الذي
تضمنه شرعه.
وقوله تعالى: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) *.
351

قال * ع *: قال لنا أبي - رحمه الله -: هذه الآية من أرجئ اية عندي في كتاب الله -
عز وجل -.
قال أبو بكر بن الخطيب: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قال:
قال النبي صلى الله عليه وسلم أنزلت علي آية * (يا أيها النبي إنا أرسلناك / شاهدا ومبشرا ونذيرا) * قال:
شاهدا: على أمتك، ومبشرا: بالجنة، ونذيرا: من النار، وداعيا: إلى شهادة أن لا إله إلا
الله، بإذنه: بأمره، وسراجا منيرا: بالقرآن. انتهى من " تاريخ بغداد " له، من ترجمة
" محمد بن نصر ".
وقوله تعالى: * (ودع أذاهم) * يحتمل أن يريد أن يأمره تعالى بترك أن يؤذيهم هو
ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضاف إلى المفعول، ويحتمل أن يريد: أعرض عن أقوالهم
وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل; وهذا تأويل مجاهد،
وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: * (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك...) * الآية، ذهب ابن زيد
والضحاك في تفسير هذه الآية إلى: أن الله تعالى أحل لنبيه أن يتزوج كل امرأة يؤتيها
مهرها، وأباح له كل النساء بهذا الوجه، وإنما خصص هؤلاء بالذكر تشريفا لهن; فالآية
على هذا التأويل فيها إباحة مطلقة في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور
حكمهن في غير هذه الآية. ثم قال بعد هذا * (تزجي من تشاء منهن) * أي: من هذه
الأصناف كلها، ثم تجري الضمائر بعد ذلك على العموم إلى قوله تعالى: * (ولا أن نبدل
352

بهن) * [الأحزاب: 52] فيجئ هذا الضمير مقطوعا من الأول عائدا على أزواجه التسع فقط;
على الخلاف في ذلك، وتأول غير ابن زيد في قوله: * (أحللنا لك أزواجك) * من في
عصمته ممن تزوجها بمهر; وأن ملك اليمين بعد حلال له; وأن الله أباح له مع المذكورات
بنات عمه وعماته، وخاله، وخالاته، ممن هاجر معه، والواهبات خاصة، فيجئ الأمر
على هذا التأويل أضيق على النبي صلى عليه وسلم، ويؤيد هذا التأويل ما قاله ابن عباس: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتزوج في أي النساء شاء، وكان ذلك يشق على نسائه، فلما نزلت هذه الآية،
وحرم عليه بها النساء; إلا من سمي سر نساؤه بذلك.
وقوله سبحانه: * (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي...) * الآية، قال السهيلي: ذكر
البخاري عن عائشة - رضي اله عنها - أنها قالت: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن
أنفسهن; لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فدل على أنهن كن غير واحدة، انتهى: وقوله: * (خالصة
لك) * أي: هبة النساء أنفسهن خاصة بك دون أمتك.
قال * ع *: ويظهر من لفظ أبي بن كعب أن معنى قوله: " خالصة لك " يراد به
جميع هذه الإباحة; لأن المؤمنين لم يبح لهم الزيادة على أربع. وقوله تعالى: * (قد
علمنا فرضنا عليهم في أزواجهم) * يريد هو كون النكاح بالولي والشاهدين، والمهر،
والاقتصار على أربع; قاله قتادة ومجاهد.
وقوله: * (لكي لا) * أي: بينا هذا البيان. * (لكي لا يكون عليك حرج) * ويظن بك
أنك قد أثمت عند ربك.
وقوله تعالى: * (ترجي من تشاء منهن...) * الآية، ترجي معناه: تؤخر و * (تؤوي) *
353

معناه: تضم وتقرب، ومعنى هذه الآية: أن الله تعالى فسح لنبيه فيما يفعله في جهة النساء،
والضمير في * (منهن) * عائد على من تقدم ذكره من الأصناف; حسب الخلاف المذكور في
ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني; منها: أن المعنى في القسم، أي: تقرب من
شئت في القسمة لها من نفسك وتؤخر عنك من شئت وتكثر لمن شئت وتقل لمن شئت،
لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن هن أن هذا هو حكم الله / لك; رضين وقرت
أعينهن; وهذا تأويل مجاهد وقتادة والضحاك.
قال * ع *: لأن سبب هذه الآية تغاير وقع بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تأذى به.
وقال ابن عباس: المعنى في طلاق من شاء وإمساك من شاء.
وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى في تزوج من شاء; وترك من شاء.
قال * ع *: وعلى كل معنى فالآية معناها: التوسعة على النبي صلى الله عليه وسلم والإباحة له
وذهب هبة الله في " الناسخ المنسوخ " له إلى أن قوله * (ترجي من تشاء...) * الآية، ناسخ
لقوله: * (لا يحل لك النساء من بعد) * [الأحزاب: 52] الآية.
وقوله تعالى: * (ومن ابتغيت ممن عزلت) * يحتمل معاني: أحدها; أن تكون " من "
للتبعيض، أي: من أردت; وطلبته نفسك ممن كنت قد عزلته وأخرته; فلا جناح عليك في
رده إلى نفسك وإيواءه إليك، ووجه ثان; وهو أن يكون مقويا ومؤكدا لقوله: * (ترجي من
تشاء) * وتؤي من تشاء " فيقول بعد ومن ابتغيت ومن عزلت فذلك سواء; لا جناح عليك
في رده إلى نفسك وايوائه إليك.
وقوله: * (ويرضين بما آتيتهن) * أي من نفسك، ومالك، واتفقت الروايات على أنه -
354

عليه السلام - مع ما جعل الله له من ذلك كان يسوي بينهن في القسم تطييبا لنفوسهن;
وأخذا بالفضل، وما خصه الله من الخلق العظيم - صلى الله عليه وسلم وعلى آله - غير أن سودة
وهبت يومها لعائشة تقمنا لمسرة رسول الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: * (لا يحل لك النساء من بعد) * قيل كما قدمنا: إنها حظرت عليه النساء
إلا التسع وما عطف عليهن; على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة:
وجازاهن الله بذلك، لما اخترن الله ورسوله، ومن قال: بأن الإباحة كانت له مطلقة قال
هنا: * (لا يحل لك النساء) * معناه: لا يحل لك اليهوديات ولا النصرانيات، ولا ينبغي أن
يكن أمهات المؤمنين; وروي هذا عن مجاهد وكذلك قدر: ولا أن تبدل اليهوديات
والنصرانيات بالمسلمات; وهو قول أبي رزين وابن جبير وفيه بعد.
وقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام
غير ناظرين إناه) * هذه الآية تضمنت قصتين: إحداهما: الأدب في أمر الطعام والجلوس،
والثانية: أمر الحجاب.
355

قال الجمهور: سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش، أولم عليها; ودعا
الناس، فلما طعموا، قعد نفر في طائفة من البيت يتحدثون، فثقل على النبي صلى الله عليه وسلم مكانهم،
فخرج; ليخرجوا بخروجه، ومر على حجر نسائه، ثم عاد فوجدهم في مكانهم، وزينب
في البيت معهم، فلما دخل ورآهم انصرف، فخرجوا عند ذلك، قال أنس بن مالك: فأعلم
أو أعلمته بانصرافهم، فجاء، فلما وصل الحجرة، أرخى الستر بيني وبينه; ودخل،
ونزلت آية الحجاب بسبب ذلك.
قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أدب أدب الله به الثقلاء، وقالت عائشة وجماعة:
سبب الحجاب: كلام عمر للنبي صلى الله عليه وسلم مرارا في أن يحجب نساءه، و * (ناظرين) * معناه:
منتظرين، و إناه) *: مصدر " أنى " الشئ يأني أني، إذا فرغ وحان، ولفظ البخاري: يقال:
إناه: إدراكه أنى يأنى إناءة، انتهى.
وقوله تعالى: * (والله لا يستحي من الحق) * معناه: لا يقع منه ترك الحق، ولما كان
ذلك يقع من البشر لعلة الاستحياء; نفى عنه تعالى العلة الموجبة لذلك في البشر، وعن
ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يحل لأحد أن يفعلهن; لا يؤم رجل قوما;
فيخص نفسه بالدعاء دونهم; فإن فعل، فقد خانهم، ولا ينظر في قعر بيت /; قبل أن
يستأذن; فإن فعل، فقد خان، ولا يصلي وهو حاقن حتى يتخفف ". رواه أبو داود
356

واللفظ له، وابن ماجة، والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه أبو داود أيضا من
حديث أبي هريرة، انتهى من " السلاح ".
وقوله تعالى: * (وإذا سألتموهن متاعا...) * الآية، هي آية الحجاب، والمتاع عام في
جميع ما يمكن أن يطلب من المواعين وسائر المرافق، وباقي الآية بين. وقد تقدم في سورة
النور طرف من بيانه فأغنى عن إعادته.
وقوله تعالى: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي...) * الآية، تضمنت شرف
النبي صلى الله عليه وسلم وعظيم منزلته عند الله تعالى.
قالت فرقة: تقدير الآية: أن الله يصلي وملائكته يصلون، فالضمير في قوله
* (يصلون) *: للملائكة فقط. وقالت فرقة: بل الضمير في * (يصلون) * لله والملائكة; وهذا
قول من الله تعالى، شرف به ملائكته; فلا يرد عليه الاعتراض الذي جاء في قول
الخطيب: من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعصهما، فقد ضل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" بئس الخطيب أنت ". وهذا القدر كاف هنا، وصلاة الله تعالى: رحمة منه وبركة،
وصلاة الملائكة: دعاء، وصلاة المؤمنين: دعاء، وتعظيم، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل
حين; من الواجبات وجوب السنن المؤكدة التي لا يسع تركها; ولا يغفلها إلا من لا خير
فيه، وفي حديث ابن عباس: أنه لما نزلت هذه الآية; قال قوم من الصحابة: " هذا السلام
عليك يا رسول الله; قد عرفناه، فكيف نصلي عليك؟ " الحديث.
357

* ت *: ولفظ البخاري: عن كعب بن عجرة قال: قيل: يا رسول الله; أما السلام
عليك، فقد عرفناه، فكيف الصلاة؟ قال: " قولوا: اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد;
كما صليت على إبراهيم; إنك حميد مجيد، الهم بارك على محمد وعلى آل محمد; كما
باركت على إبراهيم; إنك حميد مجيد ". انتهى; وفيه طرق يزيد فيها بعض الرواة على
بعض، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة
فيه فإن صلاتكم علي " الحديث رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة، واللفظ
لأبي داود، ورواه الحاكم في " المستدرك " من حديث أبي مسعود الأنصاري، وقال: صحيح
الإسناد، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يسلم علي
إلا رد الله علي روحي; حتى أرد عليه السلام " وعنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " صلوا علي،
فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ". رواهما أبو داود، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن
358

النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة ". رواه الترمذي، وابن
حبان في " صحيحه "، ولفظهما سواء، وقال الترمذي: حسن غريب. انتهى من " السلاح ".
وقوله سبحانه: * (يدنين عليهن من جلابيبهن) * الجلباب: ثوب أكبر من الخمار،
وروي عن ابن عباس وابن مسعود: أنه الخمار، واختلف في صورة إدنائه: فقال ابن
عباس / وغيره: ذلك أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال
ابن عباس أيضا وقتادة: ذلك أن تلويه على الجبين وتشده، ثم تعطفه على الأنف، وإن
ظهرت عيناها; لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه.
وقوله: * (ذلك أدنى أن يعرفن) *: أي حتى لا يختلطن بالإماء فإذا عرفن لم يقابلن
بأذى من المعارضة; مراقبة لرتبة الحرائر، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من
هي; وكان عمر إذا رأى أمة قد تقنعت قنعها بالدرة محافظة على زي الحرائر.
وقوله تعالى: * (لئن لم ينته المنافقون...) * الآية. اللام في قوله: * (لئن) * هي
المؤذنة بمجيء القسم، واللام في * (لنغرينك) *: هي لام القسم.
359

قلت: وروى الترمذي عن ابن عمر قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فنادى بصوت
رفيع، فقال: " يا معشر من قد أسلم بلسانه، ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا
المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم; يتبع الله
عورته; ومن يتبع الله عورته يفضحه، ولو في جوف رحله... " الحديث. انتهى. ورواه
أبو داود في " سننه " من طريق أبي برزة الأسلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم وتوعد الله سبحانه هذه
الأصناف في هذه الآية.
وقوله سبحانه * (والذين في قلوبهم مرض) * المرض، هنا: هو الغزل وحب الزنا;
قاله عكرمة. * (والمرجفون في المدينة) *: هم قوم كانوا يتحدثون بغزو العرب المدينة;
ونحو هذا مما يرجفون به نفوس المؤمنين، فيحتمل أن تكون هذه الفرق داخلة في جملة
المنافقين، ويحتمل أن تكون متباينة و * (نغرينك) * معناه: نحضك عليهم بعد تعيينهم لك.
وفي " البخاري ": وقال ابن عباس: * (لنغرينك) * لنسلطنك. انتهى.
وقوله تعالى: * (ثم لا يجاورونك) * أي: بعد الإغراء لأنك تنفيهم بالإخافة
والقتل.
وقوله: * (إلا قليلا) * يحتمل: أن يريد إلا جوارا قليلا، أو وقتا قليلا، أو عددا قليلا،
كأنه قال: إلا أقلاء، و * (ثقفوا) *: معناه: حصروا وقدر عليهم و * (أخذوا) *: معناه: أسروا
والأخيذ الأسير. و * (الذين خلوا) * هم منافقوا الأمم، وباقي الآية متضح المعنى.
و * (السبيلا) *: مفعول ثان; لأن * (أضل) * متعد بالهمزة، وهي سبيل الإيمان والهدى،
360

و * (الذين آذوا موسى) *: هم قوم من بني إسرائيل. ابن عباس وأبو هريرة وجماعة:
الإشارة إلى ما تضمنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم " من أن بني إسرائيل كانوا عراة، وكان
موسى عليه السلام رجلا ستيرا حييا، لا يكاد يرى من جسده شئ; فقالوا: والله، ما يمنع
موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر حديث أو به برص، فذهب يغتسل; فوضع ثوبه على حجر، ففر
الحجر بثوبه، فلج موسى في إثره يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، فمر بهم فنظروا إليه;
فقالوا: والله، ما بموسى من بأس ". الحديث خرجه البخاري وغيره، وقيل في إذايتهم
غير هذا. * (فبرأه الله مما قالوا) * والوجيه: المكرم الوجه، والقول السديد: يعم جميع
الخيرات. وقال عكرمة: أراد " لا إله إلا الله " وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض...) * الآية، ذهب
الجمهور: إلى أن الأمانة كل شئ يؤتمن الإنسان عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا;
فالشرع / كله أمانة; ومعنى الآية: إنا عرضنا على هذه المخلوقات العظام أن تحمل الأوامر
والنواهي ولها الثواب إن أحسنت، والعقاب إن أساءت، فأبت هذه المخلوقات وأشفقت،
فيحتمل أن يكون هذا بإدراك يخلقه الله لها، ويحتمل أن يكون هذا العرض على من فيها
من الملائكة، وحمل الإنسان الأمانة، أي: التزم القيام بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه
جهول بقدر ما دخل فيه; وهذا هو تأويل ابن عباس وابن جبير. قال ابن عباس وأصحابه:
و * (الإنسان) * آدم تحمل الأمانة; فما تم له يوم حتى وقع في أمر الشجرة. وقال بعضهم:
* (الإنسان) *: النوع كله; فعلى تأويل الجمهور يكون قولهما في الآية الأخرى * (أتينا
طائعين) * إجابة لأمر أمرت به وتكون هذه الآية إباية وإشفاقا من أمر عرض عليها وخيرت
فيه.
361

وقوله تعالى: * (ليعذب) *: اللام لام العاقبة، وكذا قال أبو حيان: اللام في
* (ليعذب) *: للصيرورة; لأنه لم يحمل الأمانة ليعذب، ولكن آل أمره إلى ذلك.
* ص *: أبو البقاء: اللام تتعلق ب‍ * (حملها) * وقرأ الأعمش: " ويتوب " بالرفع
على الاستيناف، والله أعلم. انتهى. وباقي الآية بين.
362

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير " سورة سبأ "
وهي مكية
واختلف في قوله تعالى: * (ويرى الذين أوتوا العلم) * الآية. فقيل: ذلك مكي
وقيل: مدني.
قوله تعالى: * (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * الألف واللام في
* (الحمد) *: لاستغراق جنس المحامد، أي: الحمد على تنوعه هو لله تعالى من جميع
جهات الفكرة، و * (يلج) * معناه: يدخل، و * (يعرج) * معناه: يصعد.
وقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) * روي: أن قائل هذه المقالة هو أبو
363

سفيان ابن حرب، واللام من قوله: * (ليجزي) * يصح أن تكون متعلقة بقوله: * (لتأتينكم) *
و * (الذين) * معطوف على * (الذين) * الأولى، أي: وليجزي ليجزي الذين سعوا
و * (معاجزين) * معناه: محاولين تعجيز قدرة الله فيهم، ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا العلم
يرون الوحي المنزل على محمد عليه السلام حقا، و * (الذين أوتوا العلم) * قيل: هم من
أسلم من أهل الكتاب، وقال قتادة: هم أمة محمد المؤمنون به، ثم حكى الله تعالى عن
الكفار مقالتهم التي قالوها على جهة التعجب والهزء واستبعاد البعث، * (هل ندلكم على
رجل) *; يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم * (ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق) * بالبلى وتقطع الأوصال في القبور
وغيرها و * (جديد) * بمعنى مجدد، وقولهم: * (أفترى على الله كذبا) * هو أيضا من قول
بعضهم لبعض، ثم أضرب عن قولهم; فقال: * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب) *:
يريد عذاب الآخرة; لأنهم صائرون إليه، ويحتمل أن يريد عذاب الدنيا أيضا، والضمير في
قوله: * (أفلم يروا) * لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة; وقفهم الله على قدرته، وخوفهم من
إحاطتها بهم، والمعنى: أليس يرون أمامهم ووراءهم سمائي وأرضي، وباقي الآية بين، ثم
ذكر الله تعالى نعمته على داود وسليمان / احتجاجا على ما منح محمدا، و * (أوبي) * معناه:
رجعي معه، قال ابن عباس وغيره: معناه: يا جبال سبحي معه، أي: يسبح هو وترجع هي
معه التسبيح، أي: تردده بالذكر.
وقال مؤرج: * (أوبي) * سبحي بلغة الحبشة، وقرأ عاصم: " والطير " - بالرفع -
عطفا على لفظ قوله: " يا جبال " وقرأ نافع وابن كثير: " والطير " - بالنصب -.
364

قال سيبويه: عطف على موضع قوله: " يا جبال " لأن موضع المنادى المفرد نصب،
وقيل: نصبها بإضمار فعل تقديره: وسخرنا الطير، * (وألنا له الحديد) * معناه: جعلناه لينا،
وروى قتادة وغيره: أن الحديد كان له كالشمع; لا يحتاج في عمله إلى نار،
و " السابغات ": الدروع الكاسيات ذوات الفضول.
وقوله تعالى: * (وقدر في السرد) * قال ابن زيد: الذي أمر به هو في قدر الحلقة،
أي: لا تعملها صغيرة فتضعف; فلا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة، فينال
لابسها من خلالها.
وقال ابن عباس: التقدير: الذي أمر به هو في المسمار، وذكر البخاري في
" صحيحه " ذلك; فقال: المعنى: لا تدق المسمار فيتسلل ولا تغلظه فينقصم بالقاف،
وبالفاء أيضا رواية.
* ت *: قال الهروي: قوله تعالى: * (وقدر في السرد) * " السرد " متابعة حلق الدرع
شيئا بعد شئ حتى يتناسق، يقال: فلان يسرد الحديث سردا، أي: يتابعه. انتهى.
وقوله تعالى: * (ولسليمان الريح) * المعنى: ولسليمان سخرنا الريح، و * (غدوها شهر
ورواحها شهر) *.
قال قتادة: معناه: إنها كانت تقطع به في الغدو إلى قرب الزوال; مسيرة شهر،
365

وتقطع في الرواح من بعد الزوال إلى الغروب، مسيرة شهر، وكان سليمان إذا أراد قوما لم
يشعروا حتى يظلهم في جو السماء. وقوله تعالى: * (وأسلنا مع له عين القطر) *:
قال ابن عباس، وغيره: كانت تسيل له باليمن عين جارية من نحاس; يصنع له
منها جميع ما أحب، و * (القطر) *: النحاس، و * (يزغ) *: معناه: يمل، أي: ينحرف
عاصيا، وقال: * (عن أمرنا) * ولم يقل: " عن إرادتنا " لأنه لا يقع في العالم شئ يخالف
إرادته سبحانه ويقع ما يخالف الأمر، وقوله: * (من عذاب السعير) * قيل: عذاب
الآخرة.
وقيل: بل كان قد وكل بهم ملك بيده سوط من نار السعير; فمن عصى ضربه
فأحرقه، و " المحاريب ": الأبنية العالية الشريفة، قال قتادة: القصور والمساجد
والتماثيل، قيل: كانت من زجاج ونحاس تماثيل أشياء ليست بحيوان، والجوابي ":
جمع جابية وهي البركة التي يجبى إليها الماء و * (راسيات) * معناه: ثابتات لكبرها، ليست
مما ينقل أو يحمل ولا يستطيع على عمله إلا الجن، ثم أمروا مع هذه النعم بأن يعملوا
بالطاعات، و * (شكرا) * يحتمل نصبه على الحال، أو على جهة المفعول، أي: اعملوا
عملا هو الشكر كأن العبادات كلها هي نفس الشكر، وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد
المنبر فتلا هذه الآية، ثم قال: " ثلاث من أوتيهن فقد أوتي العمل شكرا: العدل في الرضا
والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية "، وهكذا نقل ابن
366

العربي هذا الحديث في " أحكامه " وعبارة الداودي: وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ على المنبر
* (اعملوا آل داود شكرا) *، وقال: ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل
في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، وذكر الله تعالى / في السر والعلانية "
قال القرطبي الشكر تقوى الله والعمل بطاعته. انتهى.
قال ثابت: روي أن داود كان قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله; فلم تكن تأتي
ساعة من ساعات الليل والنهار; إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي; يتناوبون دائما،
وكان سليمان - عليه السلام - فيما روي - يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار، ويطعم
المساكين الدرمك، وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك; فقال: أخاف إن شبعت أن
أنسى الجياع.
وقوله تعالى: * (وقليل من عبادي الشكور) * يحتمل: أن تكون مخاطبة لآل داود،
ويحتمل: أن تكون مخاطبة لنبينا محمد عليه السلام وعلى كل وجه; ففيها تحريض وتنبيه، قال ابن
عطاء الله في " الحكم ": من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها
بعقالها.
وقال صاحب " الكلم الفارقية ": لا تغفل عن شكر الصنائع; وسرعة استرجاع
الودائع، وقال أيضا: يا ميتا قد نشر من قبر العدم، بحكم الجود والكرم، لا تنس سوالف
العهود والذمم، أذكر عهد الإيجاد، وذمة الإحسان والإرفاد، وفي وحال الإصدار والإيراد،
وفاتحة المبدأ وخاتمة المعاد، وقال - رحمة الله -: يا دائم الغفلة عن عظمة ربه، أين النظر
في عجائب صنعه، والتفكر في غرائب حكمته، أين شكر ما أفاض عليك من ملابس
إحسانه ونعمه، يا ذا الفطنة، اغتنم نعمة المهلة، وفرصة المكنة، وخلسة السلامة، قبل
حلول الحسرة والندامة. انتهى.
367

قوله تعالى: * (فلما قضينا عليه الموت...) * الآية. روي عن ابن عباس وابن
مسعود في قصص هذه الآية كلام طويل، حاصله: أن سليمان عليه السلام لما أحس بقرب
أجله; اجتهد - عليه السلام - وجد في العبادة; وجاءه ملك الموت، وأخبره أنه أمر بقبض
روحه، وأنه لم يبق له إلا مدة يسيرة.
قال الثعلبي: وقال سليمان عند ذلك: اللهم، علي الجن موتى; حتى يعلم
الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب
أشياء، وأنهم يعلمون ما في غد، ولما أعلمه ملك الموت بقرب الأجل أمر حينئذ الجن،
فصنعت له قبة من زجاج تشف; ودخل فيها يتعبد; ولم يجعل لها بابا، وتوكأ على عصاه
على وضع يتماسك معه وإن مات، ثم توفي - عليه السلام - على تلك الحالة، فلما مضى
لموته سنة، خر عن عصاه، والعصا قد أكلتها الأرضة; وهي الدودة التي تأكل العود; فرأت
الجن انخراره فتوهمت موته; " والمنساة ": العصا، وقرأ الجمهور: * (تبينت الجن) * بإسناد
الفعل إليها، أي: بان أمرها، كأنه قال: افتضحت الجن، أي: للإنس، هذا تأويل،
ويحتمل أن يكون قوله: * (تبينت الجن) * بمعنى: علمت الجن وتحققت، ويريد بالجن:
جمهورهم، والخدمة منهم، ويريد بالضمير في * (كانوا) *: رؤساءهم وكبارهم لأنهم هم
الذين يدعون علم الغيب لأتباعهم من الجن والإنس.
/ وقرأ يعقوب: " تبينت الجن " على بناء الفعل للمفعول، أي: تبينها الناس،
و * (العذاب المهين) *: ما هم فيه من الخدمة والتسخير وغير ذلك، والمعنى: أن الجن لو
كانت تعلم الغيب لما خفي عليها موت سليمان; وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في
الخدمة الصعبة، وهو ميت ف‍ * (المهين) * المذل، من الهوان، وحكى الثعلبي: أن الشياطين
قالت للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام والشراب، ولكنا سننقل إليك
الماء والطين; فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت شكرا لها، انتهى.
368

وقوله تعالى: * (لقد كان لسبأ في مساكنهم آية...) * الآية، هذا مثل لقريش بقوم
أنعم الله عليهم فلم يشكروا; فانتقم منهم، أي: فأنتم أيها القوم مثلهم، و * (سبأ) * هنا يراد
به القبيل، واختلف: لم سمي القبيل بذلك؟ فقالت فرقة: هو اسم امرأة.
وقيل: اسم موضع سمي به القبيل، وقال الجمهور: هو اسم رجل، هو أبو القبيل
كله، وفيه حديث فروة بن مسيك المتقدم في " سورة النمل "; خرجه الترمذي، و * (آية) *:
معناه: عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته، و * (جنتان) *: مبتدأ وخبره: * (عن يمين
وشمال) *، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي جنتان، وقيل: * (جنتان) * بدل من * (آية) *
وضعف، وروي في قصصهم أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين، وكانت جنبتا
الوادي فواكه وزروعا، وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين; جسر عظيم من
حجارة من الجبل إلى الجبل، فاحتبس الماء فيه، وصار بحيرة عظيمة، وأخذ الماء من
جنبتيها فمشى مرتفعا يسقي جنات كثيرة جنبتي الوادي، قيل: بنته بلقيس، وقيل بناه حمير
أبو القبائل اليمانية كلها، وكانوا بهذه الحال في أرغد، عيش وكانت لهم بعد ذلك قرى
ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان.
* ت *: وقول * ع *: " وكان قد بني في رأس الوادي عند أول الجبلين " صوابه:
وكان قد بني في أسفل الوادي عند آخر الجبلين، و * (كلوا) *: فيه حذف معناه: قيل لهم:
كلوا، و * (طيبة) * معناه: كريمة التربة حسنة الهواء، وروي أن هذه المقالة; من الأمر بالأكل
والشكر والتوقيف على طيب البلدة وغفران الرب مع الإيمان به; هي من قول الأنبياء لهم،
وبعث إليهم فيما روي ثلاثة عشر نبيا فكفروا بهم وأعرضوا; فبعث الله على ذلك السد
جرذا أعمى; توالد فيه; وخرقه شيئا بعد شئ; فانخرق السد وفاض الماء على أموالهم
وجناتهم فغرقها; وأهلك كثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، واختلف في * (العرم) *.
فقال المغيرة بن حكيم وأبو ميسرة: هو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء، وقال ابن
369

عباس وغيره: * (العرم) *: اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني له "، وقال ابن
عباس أيضا: * (العرم) * الشديد.
قال * ع *: فكأنه صفة للسيل من العرامة، والإضافة إلى الصفة مبالغة; وهي كثيرة
في كلام العرب، وقيل: * (العرم) *: صفة للمطر الشديد الذي كان عنه ذلك السيل.
وقوله تعالى: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين) * فيه تجوز واستعارة، وذلك أن البدل - من
الخمط والأثل - لم يكن جنات; لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره:
هذا الضرب ثوب صالح لك; ونحو هذا، و " الخمط ": شجر الأراك، قاله ابن عباس
وغيره، وقيل: " الخمط ": كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة أو حموضة أو
نحوه، ومنه تخمط اللبن إذا تغير طعمه و " الأثل ": ضرب من الطرفاء، هذا هو الصحيح،
و " السدر ": معروف وهو له نبق العناب لكنه دونه في الطعم بكثير، وللخمط منه ثمر غث
هو البرير، وللأثل ثمر قليل الغناء غير حسن الطعم، وقرأ نافع وابن كثير: أكل ": -
بضم الهمزة وسكون الكاف -، والباقون: - بضمهما - وهما بمعنى الجنى والثمرة، ومنه:
* (تؤتي أكلها كل حين) * [سورة إبراهيم: 25]. أي: جناها، وقرأ أبو عمرو: " أكل خمط "
بإضافة " أكل " إلى " خمط ".
370

وقوله تعالى: * (ذلك) * إشارة إلى ما أجراه عليهم.
وقوله: " وهل يجازى "، أي: يناقش ويقارض بمثل فعله قدرا بقدر، لأن جزاء
المؤمن إنما هو بتفضل وتضعيف ثواب، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو الكافر، وقرأ
حمزة والكسائي: " وهل نجازي " - بالنون وكسر الزاي " الكفور " - بالنصب -.
وقوله تعالى: * (وجعلنا بينهم وبين القرى...) * الآية، هذه الآية وما بعدها وصف
حالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تعالى مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة
بهم; كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة; وعمرها وجعلهم أربابها; وقدر السير بأن قرب
القرى بعضها من بعض; حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في
قرية فلا يحتاج إلى حمل زاد، و * (القرى) *: المدن، والقرى التي بورك فيها: هي بلاد
الشام بإجماع المفسرين، والقرى الظاهرة: هي التي بين الشام ومأرب وهي اسم بلدهم.
قال ابن عباس وغيره: هي قرى عربية بين المدينة والشام. واختلف في معنى
* (ظاهرة) * فقالت فرقة: معناه: مستعلية مرتفعه في الآكام وهي أشرف القرى، وقالت فرقة:
معناه: يظهر بعضها من بعض; فهي أبدا في قبضة عين المسافر; لا يخلو عن رؤية شئ
منها و
قال * ع *: والذي يظهر لي أن معنى * (ظاهرة) * خارجة عن المدن فهي عبارة عن
القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن; والله أعلم، و * (آمنين) *، أي: من الخوف
والجوع والعطش وآفات السفر، ثم حكى - سبحانه - عنهم مقاله قالوها على جهة البطر
والأشر; وهي طلب البعد بين الأسفار كأنهم ملوا النعمة في القرب وطلبوا استبدال الذي
371

هو أدنى بالذي هو خير، وظلموا أنفسهم ففرق الله شملهم وخرب بلادهم وجعلهم
أحاديث; ومنه المثل السائر " تفرقوا أيادي سبا وأيدي سبا " يقال المثل بالوجهين; وهذا هو
تمزيقهم كل ممزق; فتيامن منهم ستة قبائل، وتشاءمت منهم أربعة حسبما في الحديث، ثم
أخبر تعالى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته على جهة التنبيه; بأن هذا القصص فيه آيات وعبر لكل مؤمن
متصف بالصبر والشكر.
وقوله تعالى: * (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه...) * الآية، قرأ نافع وأبو عمرو وابن
عامر: " ولقد صدق " بتخفيف الدال، وقرأ حمزة والكسائي: " صدق " بتشديدها; فالظن
على هذه القراءة مفعول " بصدق " ومعنى / الآية: أن إبليس ظن فيهم ظنا حيث قال: * (ولا
تجد أكثرهم شاكرين) * [الأعراف: 17]. وغير ذلك فصدق ظنه; فيهم وأخبر تعالى أنهم اتبعوه
وهو اتباع في كفر لأنه في قصة قوم كفار.
وقوله: * (ممن هو منها في شك) * يدل على ذلك و " من " في قوله: * (من المؤمنين) *
لبيان الجنس لا للتبعيض.
وقوله: * (وما كان له عليهم من سلطان) * أي: من حجة، قال الحسن: والله ما كان
له سيف ولا سوط ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه.
372

وقوله تعالى: * (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) * يريد: الأصنام والملائكة;
وذلك أن منهم من كان يعبد الملائكة; وهذه آية تعجيز وإقامة حجة; ويروى أن الآية نزلت
عند الجوع الذي أصاب قريشا، ثم جاء بصفة هؤلاء الذين يدعونهم آلهة أنهم لا يملكون
ملك اختراع مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض; وأنهم لا شرك لهم فيهما، وهذان
نوعا الملك: إما استبداد وإما مشاركة; فنفى عنهم جميع ذلك ونفى أن يكون منهم لله
تعالى معين في شئ، و " الظهير ": المعين، ثم قرر في الآية بعد أن الذين يظنون أنهم
يشفعون لهم عند الله; لا تصح منهم شفاعة لهم إذ هؤلاء كفرة ولا يأذن الله في الشفاعة
في كافر، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو " أذن " - بضم الهمزة -.
وقوله تعالى: * (حتى إذا فزع عن قلوبهم...) * الآية، الضمير في * (قلوبهم) * عائد
على الملائكة الذين دعوهم آلهة.
قال * ع *: وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه غير وسلم أن هذه الآية - أعني قوله:
* (حتى إذا فزع عن قلوبهم...) * - إنما هي في الملائكة; إذا سمعت الوحي إلى جبريل،
أو الأمر يأمر الله به، سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما
وهيبة لله تبارك وتعالى وقيل: خوفا أن تقوم الساعة; فإذا فرغ ذلك، فزع عن قلوبهم،
أي: أطير الفزع عنها وكشف، فيقول بعضهم لبعض ولجبريل: ماذا قال ربكم؟ فيقول
المسؤولون: قال الحق، وهو العلى الكبير.
* ت *: ولفظ الحديث من طريق أبي هريرة; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله أمرا
في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع
عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق، وهو العلى الكبير " انتهى.
373

وقرأ الجمهور " فزع " - بضم الفاء - ومعناه أطير الفزع عنهم وقولهم: * (وهو العلي
الكبير) * تمجيد وتحميد، ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جهة الاحتجاج وإقامة الدليل على الرازق
لهم من السماوات والأرض من هو، ثم أمره أن يقتضب الاحتجاج بأن يأتي بجواب
السؤال; إذ هم في بهتة ووجمة أحمد من السؤال; وإذ لا جواب لهم إلا أن يقولوا: هو الله،
وهذه السبيل في كل سؤال جوابه في غاية الوضوح; لأن المحتج يريد أن يقتضب ويتجاوز
إلى حجة أخرى يوردها، ونظائرها في القرآن كثير.
وقوله تعالى: * (وإنا أو إياكم) * تلطف في الدعوة والمحاورة والمعنى: كما تقول لمن
خالفك في مسألة: أحدنا مخطئ تثبت وتنبه; والمفهوم من كلامك أن مخالفك هو
المخطئ بعد فكذلك هذا، معناه: وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين; وإنكم لعلى هدى أو
في ضلال مبين; فتنبهوا، والمقصد أن الضلال في حيزهم; / وحذف أحد الخبرين لدلالة
الباقي عليه.
وقوله: * (قل لا تسألون) * الآية مهادنة ومتاركة منسوخة.
وقوله تعالى: * (قل يجمع بيننا ربنا) * إخبار بالعبث و * (يفتح) * معناه: يحكم:
والفتاح: القاضي، وهو مشهور في لغة اليمن و * (أروني) *: هي رؤية قلب، وهذا هو
الصحيح، أي: أروني بالحجة والدليل.
وقوله: * (كلا) * رد لما تقرر من مذهبهم في الإشراك.
وقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس...) * الآية: إعلام من الله تعالى بأنه
بعث محمدا عليه السلام إلى جميع العالم وهي إحدى خصائصه التي خص بها من بين سائر الأنبياء
وباقي الآية بين.
374

قال أبو عبيدة: الوعد والوعيد والميعاد: بمعنى; وخولف في هذا، والذي عليه
الناس أن الوعد إذا أطلق ففي الخير; والوعيد في المكروه; والميعاد يقع لهذا ولهذا.
وقوله تعالى: * (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) * هذه
المقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بالذي بين يديه من التوراة
والإنجيل والزبور، فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله - عز وجل - وإنما فعلوا هذا لما وقع
الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد - عليه السلام -.
قال الواحدي: قوله تعالى: * (يرجع بعضهم إلى بعض القول) * أي: في التلاوم،
انتهى. وباقي الآية بين. وقولهم: * (بل مكر الليل والنهار) *، المعنى: بل كفرنا بمكركم الذي بنا
في الليل والنهار; وأضاف المكر إلى الليل والنهار من حيث هو فيهما، ولتدل هذه الإضافة
على الدؤوب والدوام، والضمير في * (أسروا) * عام لجميعهم من المستضعفين والمستكبرين.
وقوله تعالى: * (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به
كافرون) * هذه لآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن فعل قريش وقولها، أي: هذه يا محمد سيرة
الأمم، فلا يهمنك أمر قومك، والقرية: المدينة، والمترف: الغني المنعم، القليل تعب
النفس والبدن، فعادتهم المبادرة بالتكذيب.
وقوله: * (وقالوا نحن أكثر أموالا...) * لآية: يحتمل أن يعود الضمير في * (قالوا) *
على المترفين; ويحتمل أن يكون لقريش، ويكون كلام المترفين قد تم قبله، وفي " صحيح
مسلم " عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى
375

قلوبكم وأعمالكم ". انتهى.
واعلم أن المال الزائد على قدر الحاجة قل أن يسلم صاحبه من الآفات إلا من عصمه
الله تعالى، * (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) * [الشورى: 27].
وقد جاء في " صحيح البخاري " وغيره من رواية أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" الأكثرون مالا هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا " - وأشار ابن
شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله - وقليل ما هم " اه‍. وروى ابن المبارك في " رقائقه "
قال: أخبرنا حيوة بن شريح عن عقيل بن خالد عن سلمة بن أبي سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم /: " إن الشيطان قال: لن ينجو
مني الغني من إحدى ثلاث: إما أن أزين ماله في عينيه فيمنعه من حقه; وإما أن أسهل له
سبيله فينفقه في غير حقه; وإما أن أحببه فيكسبه بغير حقه "; انتهى. و " الزلفى ": مصدر
بمعنى القرب.
وقوله: * (إلا من آمن) * استثناء منقطع، وقرأ الجمهور: " جزاء الضعف "، بالإضافة
و * (الضعف) *: هنا اسم جنس، أي: بالتضعيف، إذ بعضهم يجازى إلى عشرة، وبعضهم
أكثر صاعدا إلى سبع مائة بحسب الأعمال ومشيئة الله فيها.
376

وقوله تعالى: * (والذين يسعون في آياتنا معاجزين) * تقدم تفسيره و * (محضرون) * من
الإحضار والإعداد، ثم كرر القول ببسط الرزق لا على المعنى الأول; بل هذا هنا على
جهة الوعظ، والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في
ذلك. إما في الدنيا، وإما في الآخرة، وفى " البخاري " أن ملكا ينادي كل يوم: اللهم، أعط
منفقا خلفا، ويقول ملك آخر: اللهم، أعط ممسكا تلفا. وروى الترمذي عن أبي كبشة
الأنصاري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه،
قال: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا
فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها " الحديث، قال أبو
عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى. وقوله تعالى: * (ويوم نحشرهم...) * الآية:
تقدم تفسير نظيرها مكررا، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت في سورة الأنعام
وغيرها; ثم قال تعالى: * (فاليوم) * أي: يقال لمن عبد ومن عبد: " اليوم لا يملك بعضكم
لبعض نفعا ولا ضرا ".
وقوله تعالى: * (وما آتيناهم من كتب يدرسونها...) * الآية المعنى: أن هؤلاء الكفرة
يقولون بآرائهم في كتاب الله، فيقول بعضهم: سحر، وبعضهم: افتراء، وذلك منهم تسور
لا يستندون فيه إلى أثارة علم; فإنا ما آتيناهم من كتب يدرسونها; وما أرسلنا إليهم قبلك
من نذير يباشرهم ويشافههم فيمكنهم أن يسندوا دعواهم إليه.
وقوله تعالى: * (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) * الضمير في: * (بلغوا) * يعود على
قريش، وفي اتيناهم على الأمم الذين من قبلهم، والمعنى: من القوة والنعم والظهور في
377

الدنيا; قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد: والمعشار: العشر ولم يأت هذا البناء إلا في
العشرة والأربعة، فقالوا: مرباع ومعشار; و " النكير " مصدر كالإنكار في المعنى، وكالعذير
في الوزن، و * (كيف) *: تعظيم للأمر وليست استفهاما مجردا; وفي هذا تهديد لقريش،
أي: أنهم متعرضون لنكير مثله، ثم أمر - تعالى - نبيه عليه السلام أن يدعوهم إلى عبادة
الله - تعالى - والنظر في حقيقة نبوته هو، ويعظهم بأمر مقرب للأفهام، فقوله: * (بواحدة
معناه: بقضية واحدة إيجازا لكم وتقريبا عليكم وهو أن تقوموا لله، أي: لأجل الله أو
لوجه الله مثنى أي: اثنين اثنين متناظرين وفرادى، أي: واحدا واحدا، ثم تتفكروا، هل
بصاحبكم جنة، أو هو بريء من ذلك، والوقف عند أبي حاتم * (تتفكروا) * / فيجئ: * (ما
بصاحبكم) * نفيا مستأنفا، وهو عند سيبويه جواب ما تنزل منزلة القسم; وقيل في الآية غير
هذا مما هو بعيد من ألفاظها فتعين تركه.
وقوله تعالى: * (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) * معنى الآية بين واضح لا يفتقر إلى
بيان.
وقوله: * (يقذف بالحق) * يريد بالوحي وآيات القرآن واستعار له القذف من حيث كان
الكفار يرمون بآياته وحكمه.
وقوله سبحانه: * (قل جاء الحق) * يريد الشرع بجملته، * (وما يبدئ الباطل وما يعيد) *
قالت فرقة: الباطل غير الحق من الكذب والكفر ونحوه، استعار له الإبداء والإعادة ونفاهما
عنه، كأنه قال: وما يصنع الباطل شيئا.
وقوله: * (فبما يوحي) * يحتمل أن تكون " ما " بمعنى الذي أو مصدرية.
378

وقوله - تعالى -: * (ولو ترى إذ فزعوا...) * الآية. قال الحسن بن أبي الحسن: ذلك
في الكفار عند خروجهم من القبور في القيامة.
قال * ع *: وهو أرجح الأقوال هنا، وأما معنى الآية فهو التعجيب من حالهم إذا
فزعوا من أخذ الله إياهم ولم يتمكن لهم أن يفوت منهم أحد * (وأخذوا من مكان قريب) *،
أي: أن الأخذ يجيئهم من قرب في طمأنينتهم وبعقبها، بينما الكافر يؤمل ويترجى إذ غشيه
الأخذ، ومن غشيه أخذ من قريب; فلا حيلة له ولا روية، و * (قالوا آمنا به) * الضمير في
* (به) * عائد على الله - تعالى -، وقيل: على محمد وشرعه والقرآن، وقرأ نافع وعامة
القراء: " التناوش " دون همز ومعناه التناول، من قولهم ناش ينوش إذا تناول، وعبارة
الواحدي * (وإني لهم التناوش) * أي: كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم. انتهى.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: " التناوش " بالهمز فيحتمل أن يكون تفسيره
كالقراءة الأولى، ويحتمل أن يكون من الطلب; تقول: انتأشت فإن الخير إذا طلبته من بعد.
* ت *: وقال البخاري: التناوش الرد من الآخرة إلى الدنيا، انتهى.
* (ويقذفون بالغيب) * أي: يرجمون بظنونهم ويرمون بها الرسول وكتاب الله، وذلك
غيب عنهم في قولهم سحر وافتراء وغير ذلك، قاله مجاهد، وقال قتادة: قذفهم بالغيب
هو قولهم: لا بعث ولا جنة ولا نار.
379

وقوله سبحانه: * (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) *.
قال الحسن: معناه من الإيمان والتوبة والرجوع إلى الإنابة والعمل الصالح، وذلك
أنهم اشتهوه في وقت لا تنفع فيه التوبة. وقاله أيضا قتادة; وقال مجاهد: وحيل
بينهم وبين نعيم الدنيا.
وقيل: معناه حيل بينهم وبين الجنة ونعيمها كما فعل بأشياعهم من قبل، والأشياع
الفرق المتشابهة، فأشياع هؤلاء هم الكفرة من كل أمة.
* ص *: قال أبو حيان: و * (مريب) * اسم فاعل من أراب، أي: أتى بريبة وأربته
أوقعته في ريبة، ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز.
قال * ع *: والشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاما، انتهى.
380

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله
تفسير سورة فاطر
وهي مكية
قوله تعالى: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل / الملائكة رسلا أولي
أجنحة...) * الآية * (رسلا) * معناه: بالوحي وغير ذلك من أوامره سبحانه، كجبريل
وميكائيل وعزرائيل رسل، والملائكة المتعاقبون رسل وغير ذلك، و * (مثنى وثلاث ورباع) *
ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، عدلت في حالة التنكير فتعرفت
بالعدل فهي لا تنصرف للعدل والتعريف، وقيل: للعدل والصفة، وفائدة العدل الدلالة على
التكرار لأن مثنى بمنزلة قولك: اثنين اثنين.
قال قتادة: إن أنواع الملائكة هم هكذا منها ماله جناحان; ومنها ماله ثلاثة، ومنها
ماله أربعة، ويشذ منها ماله أكثر من ذلك، وروي: أن لجبريل - عليه السلام - ست
مائة جناح منها اثنان يبلغان من المشرق إلى المغرب.
وقوله تعالى: * (يزيد في الخلق ما يشاء) * تقرير لما يقع في النفوس من التعجب عند
الخبر بالملائكة، أولي الأجنحة، أي: ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى، فإنه يزيد في
الخلق ما يشاء؟ وروي عن الحسن وابن شهاب أنهما قالا: المزيد هو حسن الصوت،
381

قال الهيثم الفارسي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال لي: أنت الهيثم الذي تزين القرآن
بصوتك جزاك الله خيرا.
وقيل من الأقوال في الزيادة غير هذا وذلك على جهة المثال لا أن المقصد هي
فقط.
وقوله تعالى: * (ما يفتح الله) * * (ما) * شرط و * (يفتح) * مجزوم بالشرط.
وقوله: * (من رحمة) * عام في كل خير يعطيه الله تعالى لعباده.
وقوله: * (من بعده) * فيه حذف مضاف، أي: من بعد إمساكه ومن هذه الآية سمت
الصوفية ما تعطاه من الأموال والمطاعم وغير ذلك " الفتوحات ".
وقوله تعالى: * (يا أيها الناس) * خطاب لقريش وهو متوجه لكل كافر.
وقوله سبحانه: * (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) *.
* ت *: هذه الآية معناها بين، قال ابن عطاء الله: ينبغي للعبد أن يقلل الدخول في
أسباب الدنيا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن قليل الدنيا يلهي عن كثير الآخرة " وقال صلى الله عليه وسلم: " ما
طلعت شمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان: يا أيها الناس، هلموا إلى ربكم، فإن ما قل وكفى
خير مما كثر وألهى ". انتهى من " لطائف المنن ". وقرأ جمهور الناس: " الغرور " - بفتح
الغين - وهو الشيطان. قاله ابن عباس.
وقوله: * (إن الشيطان لكم عدو) * الآية: يقوي قراءة الجمهور * (فاتخذوه عدوا) *.
أي: بالمباينة والمقاطعة والمخالفة له باتباع الشرع.
382

وقوله تعالى: * (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) * توقيف وجوابه محذوف يمكن
أن يقدر كمن اهتدى ونحو هذا من التقدير وأحسن التقدير ما دل اللفظ بعد عليه; وقرأ
الجمهور: * (فلا تذهب) * - بفتح التاء والهاء -: * (نفسك) * - بالرفع -، وقرأ قتادة وغيره
" تذهب " - بضم التاء وكسر الهاء - " نفسك " - بالنصب - ورويت عن نافع، والحسرة هم
النفس على فوات أمر، وهذه الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن كفر قومه، ووجب التسليم لله عز
وجل في إضلال من شاء وهداية من شاء.
وقوله سبحانه: * (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت) * هذه آية
احتجاج عل الكفرة في إنكارهم البعث من القبور.
وقوله تعالى: * (من كان يريد العزة) * يحتمل أن يريد: من كان يريد العزة بمغالبة فلله
العزة: أي: ليست لغيره ولا تتم إلا به، ونحا إليه مجاهد وقال: من كان يريد العزة بعبادة
الأوثان.
قال * ع *: وهذا تمسك بقوله تعالى: * (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم
عزا) * [مريم: 81].
ويحتمل / / أن يريد: من كان يريد العزة وطريقها القويم وكحب نيلها على وجهها فلله
383

العزة، أي: به، وعن أوامره، لا تنال عزته إلا بطاعته، ونحا إليه قتادة.
وقوله تعالى: * (إليه يصعد الكلم الطيب) * أي: التوحيد، والتحميد، وذكر الله
ونحوه.
وقوله تعالى: * (والعمل الصالح يرفعه) * قيل: المعنى; يرفعه الله، وهذا أرجح
الأقوال.
وقال ابن عباس وغيره: إن العمل الصالح هو الرافع للكلم، وهذا التأويل إنما
يستقيم بأن يتأول على معنى أنه يزيد في رفعه وحسن موقعه.
* ت *: وعن ابن مسعود; قال: " إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك في
كتاب الله سبحانه: " إن العبد إذا قال: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر وتبارك الله "
قبض عليهن ملك; فضمهن تحت جناحه; وصعد بهن وسلم لا يمر بهن على جمع من الملائكة
إلا استغفروا لقائلهن حتى يجاء بهن وجه الرحمن سبحانه. ثم تلا عبد الله بن مسعود:
* (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * ". رواه الحاكم في " المستدرك " وقال:
صحيح الإسناد: انتهى من " السلاح ". و * (يمكرون السيئات) * أي: المنكرات السيئات:
و * (يبور) * معناه: يفسد ويبقى لا نفع فيه.
384

وقوله تعالى: * (والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا وما تحمل من
أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره) * الآية. قيل: معنى
الأزواج هنا: الأنواع، وقيل: أراد تزويج الرجال النساء، والضمير في * (عمره) * قال ابن
عباس وغيره، ما مقتضاه: أنه عائد على * (معمر) * الذي هو اسم جنس; والمراد غير
الذي يعمر، وقال ابن جبير وغيره: بل المراد شخص واحد وعليه يعود الضمير، أي: ما
يعمر إنسان ولا ينقص من عمره بأن يحصي ما مضى منه إذا مر حول كتب ما مضى منه،
فإذا مر حول آخر كتب ذلك، ثم حول، ثم حول; فهذا هو النقص.
قال ابن جبير: فما مضى من عمره; فهو النقص وما يستقبل; فهو الذي يعمره.
وقوله تعالى: * (وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج
ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من
فضله ولعلكم تشكرون) * تقدم تفسير نظير هذه الآية. وقوله تعالى: * (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى) * الآية: الأجل
المسمى هو قيام الساعة، وقيل: آماد الليل، وآماد النهار، والقطمير: القشرة الرقيقة التي
على نوى التمرة. وقال الضحاك وغيره: القطمير القمع الذي في رأس التمرة، والأول
أشهر وأصوب. ثم بين تعالى بطلان الأصنام بثلاثة أشياء: أولها: أنها لا تسمع إن دعيت،
والثاني: أنها لا تجيب إن لو سمعت، وإنما جاء بهذه; لأن القائل متعسف أن يقول:
عساها تسمع، والثالث: أنها تتبرأ يوم القيامة من الكفرة.
وقوله تعالى: * (ولا ينبئك مثل خبير) * قال المفسرون: الخبير هنا هو الله سبحانه فهو
385

الخبير الصادق الخبر، ونبأ بهذا; فلا شك في وقوعه.
وقوله تعالى: * (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) * الآية: آية وعظ وتذكير، والإنسان
فقير إلى الله - تعالى - في دقائق الأمور وجلائلها; لا يستغني عنه طرفة عين; وهو به
مستغن عن كل أحد، * (والله هو الغني / الحميد) * أي: المحمود بالإطلاق.
وقوله: * (بعزيز) * أي: بممتنع و * (تزر) * تحمل، وهذه الآية في الذنوب، وأنثت
* (وازرة) * لأنه ذهب بها مذهب النفس وعلى ذلك أجريت * (مثقلة) *، واسم * (كان) * مضمر
تقديره: ولو كان الداعي. ثم أخبر تعالى نبيه أنه إنما ينذر أهل الخشية. ثم حض على
التزكي بأن رجى عليه غاية الترجية. ثم توعد بعد ذلك بقوله: * (وإلى الله المصير) *.
قال * ع *: وكل عبارة فهي مقصرة عن تفسير هذه الآية، وكذلك كتاب الله كله،
ولكن يظهر الأمر لنا نحن في مواضع أكثر منه في مواضع; بحسب تقصيرنا.
وقوله سبحانه: * (وما يستوي الأعمى والبصير) * الآية: مضمن هذه الآية الطعن على
الكفرة وتمثيلهم بالعمي والظلمات; وتمثيل المؤمنين بإزائهم بالبصراء والأنوار.
و * (الحرور) *: شدة الحر.
386

قال الفراء وغيره: إن السموم يختص بالنهار و * (الحرور) * يقال في حر الليل وحر
النهار. وتأول قوم الظل في هذه الآية الجنة والحرور جهنم، وشبه المؤمنين بالأحياء،
والكفرة بالأموات; من حيث لا يفهمون الذكر ولا يقبلون عليه.
وقوله سبحانه: * (وما أنت بمسمع من في القبور) * تمثيل بما يحسه البشر ويعهده
جميعا من أن الميت الشخص الذي في القبر لا يسمع، وأما الأرواح فلا نقول إنها في
القبر، بل تتضمن الأحاديث أن أرواح المؤمنين; في شجر عند العرش، وفي قناديل وغير
ذلك، وأن أرواح الكفرة في سجين، ويجوز في بعض الأحيان أن تكون الأرواح عند
القبور; فربما سمعت، وكذلك أهل قليب بدر إنما سمعت أرواحهم; فلا تعارض بين الآية
وحديث القليب.
وقوله تعالى: * (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) * معناه: أن دعوة الله تعالى قد عمت
جميع الخلق، وإن كان فيهم من لم تباشره النذارة; فهو ممن بلغته; لأن آدم بعث إلى بنيه،
ثم لم تنقطع النذارة إلى زمن محمد صلى الله عليه وسلم، و * (البينات) * و * (الزبر) * و * (الكتاب المنير) *: شئ
واحد; لكنه أكد أوصاف بعضها ببعض.
وقوله تعالى: * (ومن الجبال جدد...) * الآية: جمع " جدة " وهي: الطريقة تكون من
الأرض والجبل كالقطعة العظيمة المتصلة طولا، وحكى أبو عبيدة في بعض كتبه: أنه يقال:
جدد في جمع " جديد "، ولا معنى لمدخل الجديد في هذه الآية، وقال الثعلبي: وقيل
الجدد القطع; جددت الشئ; إذا قطعته، انتهى.
وقوله: * (وغرابيب سود) * لفظان لمعنى واحد، وقدم الوصف الأبلغ، وكان حقه أن
يتأخر، وكذلك هو في المعنى; لكن كلام العرب الفصيح يأتي كثيرا على هذا النحو،
والمعنى: ومنها، أي: من الجبال; سود غرابيب، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله
يبغض الشيخ الغربيب " يعني: الذي يخضب بالسواد. * (ومن الناس والدواب
والأنعام) *، أي: خلق مختلف ألوانه.
وقوله تعالى: * (كذلك) * يحتمل أن يكون من كلام الأول فيجئ الوقف عليه
حسنا، وإلى هذا ذهب كثير من المفسرين ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني; خرج
مخرج السبب كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله كذلك * (إنما يخشى الله من عبادة
387

العلماء) *، أي: المحصلون لهذه العبر، الناظرون فيها، / وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:
" أعلمكم بالله أشدكم له خشية "; وقال صلى الله عليه وسلم " رأس مخافة الله ".
وقال الربيع بن أنس: من لم يخش الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير
هذه الآية: كفى بالزهد علما، ويقال: إن فاتحة الزبور: " رأس الحكمة خشية الله " وقال
ابن مسعود: كفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا.
وقال مجاهد والشعبي: إنما العالم من يخشى الله. و * (إنما) * في هذه الآية
تحضيض للعلماء; لا للحصر. قال ابن عطاء الله في " الحكم ": العلم النافع هو الذي
ينبسط في الصدر شعاعه، ويكشف به عن القلب قناعه، خير العلم ما كانت الخشية معه;
والعلم إن قارنته الخشية فلك; وإلا; فعليك.
وقال في " التنوير ": اعلم أن العلم; حيث ما تكرر في الكتاب العزيز أو في السنة;
فإنما المراد به العلم النافع الذي تقارنه الخشية وتكتنفه المخافة: قال تعالى: * (إنما يخشى
الله من عباده العلماء) * فبين سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما
هم أهل الخشية. انتهى.
قال ابن عباد في " شرح الحكم ": واعلم أن العلم النافع المتفق عليه فيما سلف
وخلف; إنما هو العلم الذي يؤدي صاحبه إلى الخوف، والخشية، وملازمة التواضع،
والذلة، والتخلق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا، والزهادة فيها، وإيثار
الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية
والمناحي السنية. انتهى. وهذه المعاني كلها محصلة في كتب الغزالي وغيره; رضي الله
عن جميعهم، ونفعنا ببركاتهم.
388

قال صاحب: " الكلم الفارقية والحكم الحقيقية ": العلم النافع ما زهدك في دنياك،
ورغبك في أخراك، وزاد في خوفك وتقواك، وبعثك على طاعة مولاك، وصفاك من كدر
هواك. وقال - رحمة الله -: العلوم النافعة ما كانت للهمم رافعة، وللأهواء قامعة،
وللشكوك صارفة دافعة. انتهى.
وقوله تعالى: * (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم...) *
الآية، قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء.
قال * ع *: وهذا على أن * (يتلون) * بمعنى: يقرءون، وإن جعلناه بمعنى: يتبعون،
صح معنى الآية; وكانت في القراء وغيرهم ممن اتصف بأوصاف الآية، وكتاب الله هو
القرآن، وإقامة الصلاة، أي: بجميع شروطها، والنفقة هي في الصدقات ووجوه البر * (ولن
تبور) * معناه: لن تكسد. و * (يزيدهم من فضله) * قالت فرقة: هو تضعيف الحسنات،
وقالت فرقة: هو إما النظر إلى وجه الله عز وجل، وإما أن يجعلهم شافعين في غيرهم;
كما قال: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * [يونس: 26].
* ت *: وقد خرج أبو نعيم بإسناده عن الثوري عن شقيق عن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * قال: أجورهم: يدخلهم الجنة،
ويزيدهم من فضله: الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليه المعروف في الدنيا. وخرج
ابن ماجة في " سننه " عن انس بن مالك /، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يصف الناس
صفوفا ". وقال ابن نمير: أهل الجنة - فيمر الرجل من أهل النار على الرجل من أهل
الجنة، فيقول: يا فلان، أما تذكر يوم استسقيتني، ثنا فسقيتك شربة؟ قال: فيشفع له. ويمر
389

الرجل على الرجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له " قال ابن نمير:
" ويقول: يا فلان; أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا، فذهبت لك؟ فيشفع له ".
وخرجه الطحاوي وابن وضاح بمعناه، انتهى من " التذكرة ".
وقوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا...) * الآية: * (أورثنا) * معناه:
أعطيناه فرقة بعد موت فرقة، و * (الكتاب) * هنا يريد به: معاني الكتاب، وعلمه، وأحكامه،
وعقائده، فكأن الله تعالى لما أعطى أمة محمد القرآن; وهو قد تضمن معاني الكتب
المنزلة قبله; فكأنه ورث أمة محمد الكتاب الذي كان في الأمم قبلها. قال ابن عطاء الله
في " التنوير ": قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي - رحمه الله تعالى -: أكرم المؤمنين; وإن
كانوا عصاه فاسقين، وأمرهم بالمعروف، وانههم عن المنكر، واهجرهم رحمة بهم; لا
تعززا عليهم، فلو كشف عن نور المؤمن العاصي، لطبق السماء والأرض، فما ظنك بنور
المؤمن المطيع، ويكفيك في تعظيم المؤمنين - وإن كانوا عن الله غافلين - قول رب
العالمين: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) * فانظر كيف أثبت لهم الاصطفاء مع وجود ظلمهم، واعلم
أنه لا بد في مملكته من عباد هم نصيب الحلم، ظهور الرحمة والمغفرة، ووقوع
الشفاعة، انتهى. و * (الذين اصطفينا) * يريد بهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ابن عباس وغيره.
و * (اصطفينا) * معناه: اخترنا وفضلنا، والعباد عام في جميع العالم، واختلف في عود
الضمير من قوله: * (فمنهم) * فقال ابن عباس وغيره; ما مقتضاه: إن الضمير عائد على
390

* (الذين اصطفينا) * وإن الأصناف الثلاثة هي كلها في أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فالظالم لنفسه:
العاصي المسرف، والمقتصد: متقي الكبائر، وهم جمهور الأمة، والسابق: المتقي على
الإطلاق، وقالت هذه الفرقة: الأصناف الثلاثة في الجنة، وقاله أبو سعيد الخدري،
والضمير في * (يدخلونها) * عائد على الأصناف الثلاثة، قالت عائشة - رضي الله عنها -
وكعب - رضي الله عنه -: دخلوها كلهم ورب الكعبة، وقال أبو إسحاق السبيعي: أما
الذي سمعت منذ ستين سنة فكلهم ناج.
وقال ابن مسعود: هذه الأمة يوم القيامة أثلاث: ثلث: يدخلون الجنة بغير حساب،
وثلث: يحاسبون حسابا يسيرا; ثم يدخلون الجنة، وثلث: يجيئون بذنوب عظام; فيقول
الله - عز وجل -: ما هؤلاء؟ - وهو أعلم بهم - فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم
يشركوا; فيقول - عز وجل - أدخلوهم في سعة رحمتي. وروى أسامة بن زيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال: " كلهم في الجنة " وقرأ عمر هذه الآية، ثم قال /: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له "; وقال عكرمة والحسن
وقتادة; ما مقتضاه: أن الضمير في * (منهم) * عائد على العباد، فالظالم لنفسه: الكافر،
والمقتصد: المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق. وقالوا هذه الآية نظير قوله
391

تعالى: * (وكنتم أزواجا ثلاثة) * [الواقعة: 7] الآية.
والضمير في * (يدخلونها) * على هذا التأويل خاص بالمقتصد والسابق، وباقي الآية
بين، و * (الحزن) * في هذه الآية عام في جميع أنواع الأحزان، وقولهم: * (إن ربنا لغفور
شكور) * وصفوه سبحانه بأنه يغفر الذنوب، ويجازي على القليل من الأعمال بالكثير من
الثواب، وهذا هو شكره، لا رب سواه، و * (دار المقامة) *: الجنة، و * (المقامة) *: الإقامة
و " النصب ": تعب البدن و " اللغوب ": تعب النفس اللازم عن تعب البدن.
وقوله سبحانه: * (والذين كفروا لهم نار جهنم) * هذه الآية تؤيد التأويل الأول من أن
الثلاثة الأصناف هي كلها في الجنة، لأن ذكر الكافرين أفرد هاهنا.
وقوله: * (لا يقضى عليهم) * أي لا يجهز عليهم.
وقولهم: * (ربنا أخرجنا) * أي: يقولون هذه المقالة فيقال لهم على جهة التوبيخ:
* (أو لم نعمركم) * الآية. واختلف في المدة التي هي حد للتذكر، فقال الحسن بن أبي
الحسن: البلوغ، يريد أنه أول حال التذكر. وقال ابن عباس أربعون سنة; وهذا قول
حسن; ورويت فيه آثار. وروي أن العبد إذا بلغ أربعين سنة ولم يتب; مسح الشيطان
على وجهه، وقال: بأبي وجه لا يفلح، وقيل: الستين وفيه حديث.
* ت *: وفى " البخاري ": من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه; لقوله: * (أو لم
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) * يعني: الشيب. ثم أسند عن أبي هريرة عن
392

النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أعذر الله امرأ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة ". انتهى. و * (النذير) * في
قول الجمهور: الأنبياء. قال الطبري: وقيل: النذير: الشيب، وهذا أيضا قول حسن.
وقوله: * (فعليه كفره) * أي وبال كفره و " المقت ": احتقارك الإنسان من أجل معصيته،
والخسار: مصدر خسر يخسر، و * (أرأيتم) * هذا تتنزل عند سيبويه منزلة أخبروني، ولذلك لا
تحتاج إلى مفعولين، والرؤية في قوله * (أروني) * رؤية بصر.
* ت *: قال ابن هشام: قوله * (من الأرض) *، " من ": مرادفة " في ". ثم قال:
والظاهر أنها لبيان الجنس، مثلها: * (ما ننسخ من آية...) * [البقرة: 106] الآية. انتهى. ثم
أضرب سبحانه عنهم بقوله: * (بل إن يعد) * أي: بل إنما يعدون أنفسهم غرورا.
وقوله: * (أن تزولا) * أي: ليلا تزولا، ومعنى الزوال هنا: التنقل من مكانها،
والسقوط من علوها. وعن ابن مسعود أن السماء لا تدور وإنما تجري فيها الكواكب.
وقوله تعالى: * (ولئن زالتا) * قيل: أراد يوم القيامة. وقوله تعالى * (إن أمسكهما من
أحد من بعده) * أي: من بعد تركه الإمساك.
قال * ص *: * (إن أمسكهما) *: إن نافية بمعنى، ما، وأمسك: جواب القسم المقدر
قبل اللام الموطئة في * (لئن) *، وهو بمعنى: يمسك; لدخول إن الشرطية; كقوله تعالى:
* (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك) * [البقرة: 145] أي: ما يتبعون /
وكقوله: * (ولئن أرسلنا ريحا) * الآية إلى قوله: * (لظلوا من بعده) * [الروم: 51] أي: ليظلون ثم،
وحذف جواب إن في هذه المواضع لدلالة جواب القسم عليه.
وقوله: * (من أحد) * * (من) *: زائدة لتأكيد الاستغراق انتهى.
393

وقوله تعالى: * (وأقسموا بالله) * يعني: قريشا * (لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من
إحدى الأمم) * الآية: وذلك أنه روي: أن كفار قريش كانت قبل الإسلام تنكر على اليهود
والنصارى، وتأخذ عليهم في تكذيب بعضهم بعضا وتقول: لو جاءنا نحن رسول لكنا
أهدى من هؤلاء، و * (إحدى الأمم) *: يريدون: اليهود والنصارى، * (فلما جاءهم نذير) *
وهو: محمد صلى الله عليه وسلم * (ما زادهم إلا نفورا) * وقرأ ابن مسعود: و " مكرا سيئا "، و * (يحيق) *:
معناه: يحيط ويحل وينزل، ولا يستعمل إلا في المكروه و * (ينظرون) * معناه: ينتظرون
والسنة: الطريقة والعادة. وقوله: * (فلن تجد لسنة الله تبديلا) * أي: لتعذيبه الكفرة
المكذبين، وفي هذا وعيد بين.
وقوله تعالى: * (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الأرض) * لما
توعدهم سبحانه بسنة الأولين وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق
الشام وغيره; كديار ثمود ونحوها، و " يعجزه ": معناه: يفوته ويفلته.
وقوله تعالى: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) * الآية:
قوله: * (من دابة) * مبالغة، والمراد: بنو آدم; لأنهم المجازون، وقيل: المراد الإنس
والجن، وقيل: المراد: كل ما دب من الحيوان وأكثره إنما هو لمنفعة ابن آدم، وبسببه،
والضمير في: * (ظهرها) * عائد على الأرض، والأجل المسمى: القيامة.
وقوله تعالى: * (فإن الله كان بعباده بصيرا) *: وعيد، وفيه للمتقين وعد، وصلى الله
على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله على ما أنعم به.
394