الكتاب: تفسير الثعالبي
المؤلف: الثعالبي
الجزء: ١
الوفاة: ٨٧٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الدكتور عبد الفتاح أبو سنة - الشيخ علي محمد معوض - والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤١٨
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي ، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

تفسير الثعالبي
الجزء الأول
1

تفسير الثعالبي
المسمى
بالجواهر الحسان في تفسير القرآن
للإمام عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف أبي زيد الثعالبي المالكي
(786 - 875 ه‍)
حق أصوله على أربع نسخ خطية وعلق عليه وخرج أحاديثه
الشيخ علي محمد معوض
والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
وشارك في تحقيقه
الأستاذ الدكتور عبد الفتاح أبو سنة
خبير التحقيق بمجمع البحوث الاسلامية
وعضو المجلس الأعلى للشئون الاسلامية
وعضو الجنة المصحف بالأزهر الشريف
الجزء الأول
دار احياء التراث العربي مؤسسة التاريخ العربي
بيروت - لبنان
3

رموز الكتاب
ع = يعني ابن عطية في المحرر الوجيز.
ص = الصفاقسي (السفاقسي) إبراهيم بن محمد المالكي (ت
742 ه‍) في كتابيه مختصر تفسير أبي حيان والمجيد في
إعراب القرآن المجيد وغيرهما.
ت = بدلا من قول الثعالبي: (قلت).
م = زيادة الصفاقسي على مختصر أبي حيان.
جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة
لدار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
الطبعة الأولى
1418 ه‍ - 1997 م
4

بسم الله الرحمن الرحيم
" توطئة "
نحمدك اللهم حمد الشاكرين، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، ملء السماوات، وملء
الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شئ بعد، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا
إنك أنت العليم الحكيم.
وصلاة وسلاما دائمين متلازمين على نبينا محمد عبد الله ورسوله، خير من قرأ
كتاب الله، وخير من فسره، وخير من عمل به.
وبعد:
فإن علم التفسير من خير العلوم قاطبة، وشرف العلم من شرف المعلوم، وقدر المرء
قدر ما يحسنه، ولا شك أن الاشتغال بكتاب الله تعالى وتفسيره شرف عظيم، ف‍ " خيركم
من تعلم القرآن وعلمه ".
(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)
(يونس: 57).
وهذا الشفاء لن يتحصل عليه الا من التزم بشرطه، وشرطه التدبر، قال تعالى:
(كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب) (ص: 29).
ولما كانت حاجة الأمة ماسة إلى معرفة تفسير كتاب ربها، والوقوف على أسراره -
قمنا باخراج أحد هذه التفاسير المباركة، ليكون تبصرة للمسلمين، وعونا لهم على فهم
كتاب الله العزيز.
وها نحن أولاء نقدم للأمة الاسلامية تفسير " الجواهر الحسان " للامام العلامة أبي زيد
الثعالبي، رحمه الله تعالى.
وقد جاء هذا الكتاب في قسمين:
القسم الأول: الدراسة. وجاء في ثلاثة مباحث:
5

* المبحث الأول: نبذة عن حياة أبي زيد الثعالبي.
ويشمل: اسمه، كنيته، لقبه، مولده، نشأته، شيوخه، تلاميذه، مصنفاته، ثناء الناس
عليه، ثم وفاته.
* المبحث الثاني: في الحديث عن التفسير قبل أبي زيد الثعالبي.
وفيه ذكرنا معنى التفسير والتأويل، والفرق بينهما، ثم ذكرنا حاجة الناس إلى تفسير
الكتاب العزيز، ثم الحديث عن فهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، ثم ذكرنا أشهر
مفسري القرآن من الصحابة فمن بعدهم، وبينا كذلك قيمة التفسير بالمأثور.
ثم عرضنا لأهم مدارس التفسير، وكانت كما يلي:
1 - مدرسة ابن عباس ب‍ " مكة "، وكان أشهر تلاميذه من التابعين:
- سعيد بن جبير.
مجاهد بن جبير.
- عكرمة.
- طاوس.
- عطاء بن أبي رباح.
2 - مدرسة أبي بن كعب ب‍ " المدينة النبوية "، وأشهر تلاميذه:
- أبو العالية.
- محمد بن كعب القرظي.
- زيد بن أسلم.
3 - مدرسة عبد الله بن مسعود ب‍ " العراق "، وأشهر تلاميذه:
- علقمة.
- مسروق.
- عامر الشعبي.
- الحسن البصري.
- قتادة.
6

ثم تحدثنا عن قيمة التفسير المأثور عن التابعين، واختلاف أهل العلم من بعدهم في
الاحتجاج بأقوالهم.
وكذلك خضنا في ذكر سمات التفسير في تلك المرحلة من مثل: اعتماده على التلقي
والرواية، والخلاف المذهبي الناشئ، وغير ذلك مما هو مسطور في موضعه.
وانتقل بنا الحديث إلى الكلام عن التفسير في عصر التدوين، وتحديد هذا العصر
تاريخيا، وكيف سار هذا التفسير سيره حتى بلغ تابعي التابعين. ثم تدرجنا إلى تبيان
اتجاهات التفسير الموجودة بين المفسرين، وكانت:
- الاتجاه الأثري: وذكرنا من أعلامه " يحيى بن سلام "، ثم " محمد بن جرير
الطبري ".
- الاتجاه اللغوي: وبينا تاريخ بدايته، وبعض أعلامه، مثل " أبي عبيدة معمر بن
المثنى ".
- الاتجاه البياني: وأوضحنا جذوره، وبعض أمثلته.
* المبحث الثالث: الكلام على تفسير أبي زيد.
وتحدثنا فيه عن مصادر الشيخ الثعالبي في تفسيره، والكتب التي استقى منها مادته،
وبنى عليها مصنفه.
ثم تطرقنا إلى بيان منهجه في بناء تفسيره من احتجاج بمأثور، ورأي، وكيف أنه مزج
بينهما، ففسر كتاب الله بعضه ببعض، ثم بالسنة، ثم بتفسير الصحابة والتابعين، واحتجاجه
باللغة والأصول، وحديثه عن التوحيد، والرقائق، وعلوم الآخرة، وغير ذلك.
و تحدثنا عن الإسرائيليات في تفسيره، و كيف أنه أقل منها، و لم يعتمد عليها.
ثم تحدثنا عن المنهج اللغوي في تفسير أبي زيد، وكذلك المنهج البياني، ثم علوم
القرآن في تفسير " الجواهر الحسان "، وهي:
- المكي والمدني.
- القراءات المتواترة والشاذة.
- الناسخ والمنسوخ.
- الأحكام الفقهية المأخوذة من آيات الأحكام.
7

القسم الثاني: وهو قسم تحقيق النص:
وقد كان عملنا في الكتاب مرتبا على النحو التالي:
أولا: اخراج النص سليما خاليا من الأخطاء النحوية والإملائية، وقد اقتضى ذلك من
الموازنة بين النسخ التي تحت أيدينا، فآثرنا النص الأصوب والأرق دون اعتماد على نسخة
بعينها.
ثانيا: إثبات فروق النسخ، وتركنا الكثير منها، حيث لا جدوى من ذكرها.
ثالثا: تخريج الأحاديث الواردة في النص.
رابعا: عزو الآثار إلى مصادرها.
خامسا: توضيح الغريب من الألفاظ الواردة في النص معتمدين في ذلك على
المعاجم اللغوية والفقهية.
سادسا: ترجمة الاعلام الواردة أسماؤهم في النص.
سابعا: غزو القراءات إلى مصادرها، والتعليق على بعضها حسبما احتاج النص مع
بيان كل قراءة.
ثامنا: توضيح بعض المصطلحات الفقهية والأصولية الواردة في النص.
تاسعا: التعليق على بعض الموضوعات التي أشار إليها المصنف.
عاشرا: وضع آيات القرآن الكريم ضمن هلالين مزهرين تيسيرا على القارئ،
وتخريج آيات الشواهد.
8

المبحث الأول
نبذة عن حياة الثعالبي
اسمه، وكنيته، ولقبه:
هو عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف (1)، يكنى أبا زيد، ويلقب ب‍ " الثعالبي " (2).
الجزائري (3)، المغربي، المالكي.
مولده:
ذكر صاحبا " شجرة النور الزكية "، و " الاعلام " أنه ولد سنة 786 ه‍ جزما، بينما
حكى صاحب " نيل الابتهاج بتطريز الديباج " الشك في سنة ميلاده بين ستا وثمانين، وسبع
وثمانين.
نشأته:
لم تذكر المصادر المترجمة لهذا الإمام شيئا عن نشأته، إلا أن الظن بحال من حاله
كالإمام يؤكد أن نشأته في بيت علم وفضل، ولا يبعد وجود أهل صلاح في أسرته، كما أن
الظن بمثله أن يكون درج على طلب العلم، كما يطلبه أهله من قراءة كتاب الله وحفظه في

(1) ينظر ترجمته في: " الضوء اللامع " (4 / 152)، و " شجرة النور الزكية " (265) ت (976)، و " فهرس
الفهارس " (2 / 131)، و " هدية العارفين " (532)، و " ديوان الاسلام " (2 / 56) ت (637)، و " نيل
الابتهاج " (257) ت (306)، و " الاعلام " (3 / 331). والملاحظ اتفاقها على ذكر اسمه وكنيته ولقبه،
بلا زيادة على ما تقدم.
(2) هذه النسبة إلى خياطة جلود الثعلب، وعمل الفراء. وفرق بينهما وبين " الثعلبي "، حيث إن الأخيرة نسبة
إلى القبائل وإلى الموضع، فأما المنتسب إلى القبائل، فإلى ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن
ريث بن غطفان، منهم أسامة بن شريك الثعلبي، وابن أخيه زياد بن علاقة بن مالك الثعلبي، والنسبة
إلى ثعلبة بن ثور بن هدبة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة، بطن من " مزيته "، وأبي
إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي. ويقال: الثعالبي، المفسر المشهور النيسابوري. وثعلبة بن
يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، بطن كبير من تميم. وثعلبة بن جدعاء بن ذهل بن
رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيء، بطن مشهور من طيء، منهم مسعود بن
علبة بن حارثة بن ربيع بن عمرو بن عكوة بن ثعلبة الشاعر. ينظر " الأنساب " (1 / 505)، و " اللباب "
(1 / 237 - 239)، و " الإكمال " (1 / 529) و " لب الألباب " (1 / 185).
(3) نسبة إلى البلدة المعروفة ب‍ " الجزائر " إحدى أقطار المغرب العربي.
9

الصغر، واطلاعه على كتب التاريخ، والتفسير، والحديث، والأصول، والكلام، والأدب،
واللغة، والنحو، والصرف، والعروض، وغيرها.
رحلاته وشيوخه:
مما لا شك فيه أن حاجة العلماء إلى الرحلة عظيمة جدا، سعيا في تحصيل العلم،
والسماع من الأشياخ، لأن في الرحلة إليهم، والالتقاء بهم تثقيفا للعقول، وتنقيحا للعلوم،
وتمحيصا للمحفوظ. ولقد كانت الرحلة سنة العلماء من لدن سيدنا محمد - عليه الصلاة
والسلام - إلى أن وقع الناس فريسة للتخلف والتكاسل، فقعد بهم ذلك عن طلب العلم،
والسعي في تحصيله.
ولقد كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تناءت به الدار، يركب إلى " المدينة "،
فيسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستمر ذلك السعي والترحال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. ولما اتسعت رقعة الدولة
الاسلامية بعد الفتوحات العظيمة، نجد أن الرحلة شاعت، وانتشر أمرها، لتفرق العلماء في
شتى بلدان الدولة الاسلامية.
ولقد ضحى سلفنا الصالح بكل غال ورخيص، ودفعوا المال والجهد، وتكبدوا العناء
والمشاق، في سبيل طلب الحديث وجمعه، والعناية بسنة النبي صلى الله عليه و آله وسلم.
فهذا الصحابي الجليل أبو أيوب الأنصاري يرحل من " المدينة " قاصدا عقبة بن عامر
ب‍ " مصر " ليسأله عن حديث سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إذا وصل إلى منزل عقبة بن عامر،
خرج إليه عقبة فعانقه، وقال: ما جاء بك يا أبا أيوب؟ فقال: حديث سمعته من رسول
الله صلى الله عليه و آله وسلم لم يبق أحد سمعه منه غيري وغيرك، في ستر المؤمن. قال عقبة: نعم، سمعت
رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم يقول: " من ستر مؤمنا في الدنيا على خزية، ستره الله يوم القيامة ".
فقال أبو أيوب: صدقت.
ثم انصرف أبو أيوب من توه إلى راحلته، راجعا إلى " المدينة "، متحملا مشقة السفر،
ووعثاء الطريق، وأخطار المفاوز والقفار.
ويقول سعيد بن المسيب: إني كنت لأسافر مسيرة الأيام والليالي في الحديث
الواحد.
وذات مرة قال عمرو بن أبي سلمة للأوزاعي: يا أبا عمرو أنا ألزمك منذ أربعة أيام،
10

ولم أسمع منك إلا ثلاثين حديثا! قال: وتستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ لقد سار
جابر بن عبد الله إلى " مصر "، واشترى راحلة فركبها، حتى سأل عقبة بن عامر عن حديث
واحد، وانصرف إلى " المدينة "، وأنت تستقل ثلاثين حديثا في أربعة أيام؟ (1).
مما سبق يتبين أن للرحلة أثرا ملحوظا في تمحيض العلوم، وتنقيحها، وتثبيتها في
أذهان العلماء، وأن طلاب العلم نزحوا من قطر إلى قطر، تحملهم ظهور الفيافي والقفار،
تنقيبا عن الحديث، أو المسألة الفقهية، أو السماع من شيخ مشهور، أو التلمذة على يد
عالم إمام.
ولم يكن الامام الثعالبي بدعا في هذا الشأن، بل سار على درب أسلافه من العلماء،
وأقرانه من طلاب العلم في السعي والسفر، رغبة في تحصيل العلم، وطلب مسائله
وقضاياه.
وقد عرفنا الثعالبي نفسه أنه قد رحل في طلب العلم، وسمع من أهل العلم في
مختلف الأقطار، فنراه يقول:
رحلت في طلب العلم من ناحية " الجزائر " في آخر القرن الثامن، فدخلت " بجاية "
عام اثنين وثمانمائة، فلقيت بها الأئمة المقتدى بهم في العلم والدين والورع، أصحاب
الفقيه الزاهد الورع عبد الرحمن الوغليسي، وأصحاب الشيخ أبي العباس أحمد بن إدريس
متوافرون يومئذ، أصحاب ورع ووقوف مع الحد لا يعرفون الأمراء، ولا يخالطونهم،
وسلك أتباعهم مسلكهم، كشيخنا الامام الحافظ أبي الحسن علي بن عثمان المكلاتي،
وشيخنا الولي الفقيه المحقق أبي الربيع سليمان بن الحسن، وأبي الحسن علي بن محمد
البليلتي، وعلي بن موسى، والامام العلامة أبي العباس النقاوسي، حضرت مجالسهم،
وعمدتي على الأولين، ثم دخلت " تونس " عام تسعة أوائل عشرة وأصحاب ابن عرفة
متوافرون، فأخذت عنهم، كشيخنا واحد زمانه أبي مهدي عيسى الغبريني، وشيخنا الجامع
بين علمي المنقول والمعقول أبي عبد الله الأبي، وأبي القاسم البرزلي، وأبي يوسف
يعقوب الزغبي، وغيرهم، وأكثرهم عمدتي على الآبي، ثم رحلت للمشرق، وسمعت
" البخاري " ب‍ " مصر " على البلالي، وكثيرا من اختصار " الاحياء " له، وحضرت مجلس شيخ
المالكية بها أبي عبد الله البساطي، وحضرت كثيرا عند شيخ المحدثين بها ولي الدين
العراقي، وأخذت عنه علوما جمة، معظمها علم الحديث، وفتحا عظيما وأجازني،

(1) روى هذه الآثار الحاكم في " علوم الحديث " ص 7، 8.
11

ثم رجعت ل‍ " تونس " فإذا في موضع الغبريني الشيخ أبو عبد الله القلشاني خلفه فيه عند
موته، فلازمته، وأخذت البخاري إلا يسيرا عن البرزلي، ولم يكن ب‍ " تونس " يومئذ من
يفوقني في علم الحديث، إذا تكلمت أنصتوا، وقبلوا ما أرويه، تواضعا منهم، و إنصافا
واعترافا لحق، وكان بعض فضلاء المغاربة يقول لي لما قدمت من المشرق: كنت آية في
علم الحديث، وحضرت أيضا شيخنا الأبي وأجازني، ثم قدم " تونس " شيخنا ابن مرزوق
عام تسعة عشر، فأقام بها نحو سنة، فأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه " الموطأ " بقراءة
الفقيه أبي حفص عمر القلشاني ابن شيخنا أبي عبد الله وغير شئ، وأجازني وأذن لي هو
والآبي في الإقراء، وأخذت عن غيرهم - اه‍ -.
مما سبق يتضح أن الثعالبي قد ذكر أنه سمع في رحلته من شيوخ كثيرين، سمى منهم
أربعة عشر شيخا، وسنوردهم فيما يلي مع ذكر البلد التي سمع فيها:
1 - محمد بن خلفة بن عمر التونسي الوشتاني (1) الشهير ب‍ " الأبي ":
الإمام، العلامة، المحقق، المدقق، البارع، الحافظ، الحاج، الرحلة، أخذ عن
الإمام ابن عرفة، ولازمه، واشتهر في حياته بالمهارة والتقدم في الفنون، وكان من أعيان
أصحابه ومحققيهم، " وأبة " (2)، بضم الهمزة، قرية من " تونس ".
قال السخاوي: كان سليم الصدر، ذكر ذلك جماعة عنه مع مزيد تقدم في الفنون، له
" إكمال الإكمال " في شرح مسلم في ثلاثة مجلدات، جمع فيه بين المازري، وعياض،
والقرطبي، والنوري مع زيادات مفيدة من كلام ابن عرفة شيخه وغيره.
وله " شرح المدونة " أيضا، وله نظم، وكثر انتقاده لشيخه مشافهة، وربما رجع عليه
سيما في تعريفه الطهارة. ووصفه ابن حجر في المثبتة بالأصولي، عالم المغرب بالمعقول.
وقال: إنه سكن " تونس " وسمى والده خلفا.
وأما شرحه لمسلم، ففي غاية الجودة ملأه بتحقيقات بارعة، وزيادة حسنة نافعة سيما
أوائله، قال الثعالبي: حضرت عليه قراءة بحث وتحقيق وتدقيق من أوله إلى " الطهارة "
متواليا، وكثيرا من " الطهارة " وأكثر " كتاب الصلاة ". وكثيرا من أواخر مسلم أو كله، ومن

(1) ينظر ترجمته في: " شجرة النور الزكية " (244)، و " نيل الابتهاج " (487).
(2) أبة: اسم مدينة بإفريقية، بينها وبين القيروان ثلاثة أيام، وهي من ناحية الأربس، موصوفة بكثرة الفواكه
وإنبات الزعفران. ينظر: " معجم البلدان " (1 / 108).
12

" المدونة " و " الرسالة " و " ابن الحاجب " كلها قراءة بحث وتحقيق، وأكثر " إرشاد " أبي
المعالي وتفسير القرآن، وأذن لي في إقرائها كلها سنة تسعة عشر وثمانمائة - اه‍ - ملخصا.
وسمعت والدي الفقيه أحمد - رحمه الله - يحدث عن بعض المشارقة أنه رأى له
تفسير القرآن في ثمان مجلدات - اه‍.
قال التنبكي: قرأت بخط سيدي يخلفتين حفيد الشيخ عبد الرحمن الثعالبي أن وفاته
سنة ثمان وعشرين وثمانمائة - اه‍. ويذكر أن الإمام ابن عرفة ليم على كثرة الاجتهاد، وتعبه
نفسه في النظر، فقال: كيف أنام وأنا بين أسدين الآبي بفهمه وعقله، والبرزلي بحفظه
ونقله - اه‍.
ووصفه أبو عبد الله المشذالي بالفقيه، المحقق، العالم. وأخذ عنه جماعة من الأئمة
كالقاضي عمر القلشاني، وأبي القاسم بن ناجي، وعبد الرحمن الجدولي، والثعالبي،
والشريف العجيسي، وغيرهم، وقال الثعالبي فيه: شيخنا، مولاي، الإمام، الحجة، الثقة،
إمام المحققين، الجامع بين حقيقتي المنقول والمعقول، ذو التصانيف الفائقة البارعة،
والحجج الساطعة اللامعة - اه‍. توفي، فيما قيل، سنة سبع وعشرين، و " خلفة " بكسر
المعجمة وفتحها ثم لام ساكنة بعدها فاء.
وقد سمع الثعالبي من شيخه الآبي ببلدة " تونس ".
2 - ولي الدين العراقي (1):
وهو أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن، الإمام الحافظ الفقيه،
المصنف، قاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة ابن الإمام العلامة الحافظ زين الدين أبي
الفضل، العراقي الأصل، المصري، ولد في ذي الحجة سنة اثنتين وستين سبعمائة، وبكر
به أبوه، فأحضره عند أبي الحرم القلانسي خاتمة المسندين بالقاهرة، واستجاز له من أبي
الحسن الفرضي، ثم رحل به إلى " الشام " سنة خمس وستين، فأحضره في الثالثة على
جماعة من أصحاب الفخر ابن البخاري، ثم رجع، وأسمعه ب‍ " القاهرة " من جماعة من
المسندين، ثم طلب بنفسه وهو شاب، فقرأ الكثير، ودأب على الشيوخ، ثم رحل إلى
" الشام " صحبه صهره الحافظ نور الدين الهيثمي بعد الثمانين، فسمع الكثير ثم رجع، وهو

(1) ينظر ترجمته في: " إنباء الغمر في أبناء العمر " (8 / 21)، و " البدر الطالع " (1 / 72)، و " طبقات ابن
قاضي شهبة " (4 / 80).
13

مع ذلك ملازم للاشتغال بالفقه، والعربية، والفنون، حتى مهر واشتهر، ولازم الشيخ سراج
الدين البلقيني، وحفظ، وكتب عنه الكثير، وأخذ عن علماء عصره. قال الحافظ قاضي
القضاة شهاب الدين ابن حجر: ونشأ صينا، دينا، خيرا، مع جمال الصورة، وطيب النعمة
والتودد إلى الناس، وناب في الحكم، ودرس في عدة أماكن، ثم استقر في جهات والده
بعد وفاته، وعقد مجلس الإملاء بعده، واشتهر صيته وصنف التصانيف، وخرج التخاريج،
وولي مشيخة " الجمالية ".
ومن تصانيفه: " تحرير الفتاوى " على التنبيه، و " المنهاج "، و " الحاوي "، أخذ نكت
النشائي، والتوشيخ، ونكت ابن النقيب على المنهاج، ونكت الحاوي لابن الملقن، وشحن
الكتاب بفوائد الشيخ سراج الدين البلقيني، وبسبب ذلك اشتهر الكتاب، واجتمع شمل
فوائد الشيخ، وجمع حواشي الشيخ على " الروضة " في مجلدين، واختصر " المهمات "،
وجمع بينها وبين حواشي " الروضة " في مجلدين، وشرح " بهجة " ابن الوردي في مجلدين،
وشرح " جوامع الجوامع " للسبكي في مجلدة، وله وفيات ابتدأ فيها من سنة مولده - رحمه الله
تعالى - قال الحافظ شهاب الدين ابن حجر: وشرح منظومة أبيه في الأصول، وشرح في
شرح " سنن " أبي داود، فكتب نحو السدس منه في سبع مجلدات.
مات في شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة وله ثلاث وستون سنة وثمانية أشهر.
وسمع منه الإمام الثعالبي ب‍ " مصر ".
3 - محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق
الحفيد العجيسي التلمساني (1):
الإمام المشهور، العلامة، الحجة، الحافظ، المحقق الكبير، الثقة الثبت، المطلع
النظار، المصنف، التقي، الصالح، الزاهد، الورع، البركة، الخاشي لله، الخاشع الأواب،
القدوة النبيه، الفقيه المجتهد، الأبرع، الأصولي المفسر المحدث، الحافظ المسند الرواية،
الأستاذ المقرئ المجود، النحوي اللغوي البياني العروضي، الصوفي المسلك المتخلق،
الولي الصالح العارف بالله، الآخذ من كل فن بأوفر نصيب.
أخذ العلم عن جماعة، كالسيد الشريف العلامة أبي محمد عبد الله بن الإمام العلم
الشريف التلمساني، والإمام عالم المغرب سعيد العقباني، والولي الصالح أبي إسحاق

(1) ينظر ترجمته في: " البدر الطالع " (2 / 119)، و " نيل الابتهاج " (499).
14

المصمودي، أفرد ترجمته بتأليف، والعلامة أبي الحسن الأشهب العماري، وعن أبيه وعمه
ابني الخطيب ابن مرزوق، وبتونس عن الإمام ابن عرفة، وأبي العباس القصار، وبفاس عن
الأستاذ النحوي ابن حياتي الإمام، والشيخ الصالح أبي زيد المكودي، والحافظ محمد بن
مسعود الصنهاجي الفيلالي في جماعة، وبمصر عن الأئمة السراج البلقيني، والحافظ أبي
الفضل العراقي، والسراج ابن الملقن، والشمس الغماري، والمجد الفيروزآبادي صاحب
" القاموس "، والإمام محب الدين بن هشام ولد صاحب " المغني "، والنور النويري، والولي
ابن خلدون، والقاضي العلامة ناصر الدين التنسي، وغيرهم.
وأجازه من " الأندلسي " الأئمة كابن الخشاب، وأبي عبد الله القيجاطي، والمحدث
الحفار، والحافظ ابن علاق، وأبي محمد ابن جزي، وغيرهم، وأخذ عنه جماعة من
السادات كالشيخ الثعالبي، وقاضي الجماعة عمر القلشاني، والإمام محمد بن العباس،
والعلامة نصر الزواوي، وولي الله الحسن أبركان، وأبي البركات الغماري، والعلامة أبي
الفضل المشذالي، والسيد الشريف قاضي الجماعة بغرناطة أبي العباس بن أبي يحيى
الشريف، وأخيه أبي الفرج، وإبراهيم بن فائد الزواري، وأبي العباس أحمد بن
عبد الرحمن الندرومي، والعلامة علي بن ثابت، والشهاب ابن كحيل التجاني، وولد
العالم محمد بن محمد بن مرزوق الكفيف، والعلامة أحمد بن يونس القسنطيني، والعالم
يحيى بن بدير، وأبي الحسن القلصادي، والشيخ عيسى بن سلامة البكري، والعلامة
يحيى المازوني، والحافظ التنسي، والإمام ابن زكري. في خلق كثيرين من الاجلاء.
وقال الحافظ السخاوي: هو أبو عبد الله حفيد ابن مرزوق، ويقال له أيضا " ابن
مرزوق "، تلا بنافع على عثمان الزروالي، وانتفع في الفقه بابن عرفة، وأجازه ابن الخشاب
والحفار والقيجاطي. وحج قديما سنة تسعين وسبعمائة رفيقا لابن عرفة، وسمع من البهاء
الدماميني، والنور العقيلي بمكة، وقرأ بها البخاري على ابن صديق، ولازم المحب ابن
هشام في العربية، ثم حج سنة تسعة عشر وثمانمائة، ولقيه رضوان الزيني بمكة، وكذا لقيه
ابن حجر - اه‍.
وأما تأليفه، فكثيرة منها: شروحه الثلاثة على " البردة ": الأكبر المسمى " إظهار صدق
المودة في شرح البردة " استوفي فيه غاية الاستيفاء، ضمنه سبعة فنون في كل بيت،
و " الأوسط " و " الأصغر " المسمى " بالاستيعاب لما فيها من البيان والاعراب " و " المفاتيح
القرطاسية في شرح الشقراطيسية "، و " المفاتيح المرزوقية في استخراج رموز الخزرجية "،
ورجزان في علوم الحديث، الكبير سماه " الروضة " جمع فيه بين ألفيتي ابن ليون والعراقي،
15

و " مختصر الحديقة " اختصر فيه ألفية العراقي، وأرجوزة في الميقات سماه " المقنع الشافي "
في ألف وسبعمائة بيت، وأرجوزة ألفية في محاذاة " الشاطبية "، وأرجوزة نظم " تلخيص
المفتاح "، وأرجوزة نظم " تلخيص ابن البنا " وأرجوزة نظم " الجمل " الخونجي، وأرجوزة في
اختصار " ألفية ابن مالك "، و " نهاية الأمل " في شرح جمل الخونجي، و " اغتنام الفرصة في
محادثة عالم قفصة "، وهو أجوبة على مسائل في الفقه والتفسير وغيرهما، وردت عليه من
عالم قفصة أبي يحيى بن عقيبة فأجابه عنها، و " المعراج إلى استمطار فوائد الأستاذ ابن
سراج " أجاب فيه العالم قاضي الجماعة بغرناطة ابن سراج عن مسائل نحوية ومنطقية،
و " نور اليقين في شرح أولياء الله المتقين " تأليف ألفه في شأن البدلاء تكلم فيه على حديث
في أول " الحلية " و " الدليل المومي في ترجيح طهارة الكاغد الرومي "، و " النصح الخالص
في الرد على مدعي رتبة الكامل للناقص " في سبعة كراريس، ألفه في الرد على عصرية
وبلدية الإمام قاسم العقباني في فتواه في مسألة الفقراء الصوفية في أشياء صوب العقباني
صنيعهم فيها، فخالفه ابن مرزوق، و " مختصر الحاوي في الفتاوي " لابن عبد النور
التونسي، و " الروض البهيج في مسألة الخليج " في أوراق نصف كراس، و " أنوار الدراري
في مكررات البخاري " وتأليف في مناقب شيخه الزاهد الولي إبراهيم المصمودي في مقدار
كراس، و " تفسير سورة الاخلاص على طريقة الحكماء "، وهذه كلها تامة.
وأما ما لم يكمل من تأليفه، " فالمتجر الربيح والسعي الرحب الفسيح في شرح
الجامع الصحيح " صحيح البخاري، و " روضة الأديب في شرح التهذيب "، و " المنزع النبيل
في شرح مختصر خليل " شرح منه الطهارة في مجلدين، ومن الأقضية لآخره في سفرين في
غاية الاتقان، و " التحرير والاستيفاء والتنزيل لألفاظ الكتاب والنقول " لا نظير له أصلا،
لخصه العلامة الراعي، و " إيضاح المسالك في ألفية ابن مالك " انتهى إلى اسم الإشارة
والموصول، مجلد في غاية الاتقان، ومجلد في شرح شواهد شراحها إلى باب كان
وأخواتها، وله خطب عجيبة، وأما أجوبته وفتاويه على المسائل المنوعة، فقد سارت بها
الركبان شرقا وغربا، بدوا وحضرا، ذكر المازوني والونشريسي منها جملة وافرة في
كتابيهما، وله أيضا عقيدته المسماة " عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد "، وعلى
منحاه بنى النسوسي عقيدته الصغرى، و " الآيات الواضحات في وجه دلالة المعجزات "،
و " الدليل الواضح المعلوم في طهارة كاغد الروم " و " إسماع الضم في إثبات الشرف من
قبل الأم ".
وذكر السخاوي أن من تأليفه شرح فرعي ابن الحاجب، وشرح التسهيل، والله أعلم.
16

ومولده، كما ذكره هو في شرحه على البردة، ليلة الاثنتين رابع عشر ربيع الأول عام ستة
وستين وسبعمائة.
وقال تلميذه الامام الثعالبي: وقدم علينا بتونس شيخنا أبو عبد الله بن مرزوق، فأقام
بها وأخذت عنه كثيرا، وسمعت عليه جميع " الموطأ " بقراءة صاحبنا أبي حفص عمر ابن
شيخنا محمد القلشاني، وختمت عليه " أربعينيات النووي " قراءة عليه في منزلة قراءة تفهم،
فكان كلما قرأت عليه حديثا يعلوه خشوع وخضوع، ثم أخذ في البكاء، فلم أزل أقرأ وهو
يبكي حتى ختمت الكتاب، وهو من أولياء الله تعالى الذين إذا رأوا ذكر الله.
وأجمع الناس على فضله من " المغرب " إلى الديار المصرية، واشتهر فضله في
البلاد، فكان بذكره تطرز المجالس، جعل الله حبه في قلوب العامة والخاصة، فلا يذكر
في مجلس إلا والنفوس متشوقة لما يحكي عنه، وكان في التواضع والإنصاف والاعتراف
بالحق في الغاية وفوق النهاية، لا أعلم له نظيرا في ذلك في وقته فيما علمته.
وقال أيضا في موضع آخر: هو سيدي الشيخ الامام، الحبر الهمام، حجة أهل
الفضل في وقتنا وخاتمتهم، ورحلة النقاد وخلاصيتهم، ورئيس المحققين.
توفي يوم الخميس عصر رابع عشر شعبان عام اثنين وأربعين وثمانمائة، وصلى عليه
بالجامع الأعظم بعد صلاة الجمعة، حضر جنازته السلطان فمن دون، لم أر مثله قبله،
وأسف الناس لفقده، وآخر بيت سمع منه عند موته: (البسيط)
إن كان سفك دمي أقصى مرادكم * فما غلت نظرة منكم بسفك دمي
وقد سمع الثعالبي منه بعد عودته من رحلته إلى تونس.
4 - أبو القاسم بن أحمد بن محمد المعتل البلوي، القيرواني، ثم التونسي، الشهير
بالبرزلي، الامام المشهور (1)، نزيل " تونس ":
مفتيها، وفقيهها، وحافظها، العلامة، أحد الأئمة في المذهب المالكي صاحب
" الديوان " في الفقه والنوازل، من كتب المذهب الأجلة، أجاد فيه ما شاء، كان - رحمه
الله - إماما علامة، بارعا، حافظا للفقه متفقها فيه، بحاثا نظارا مستحضرا للفقه، أخذ عن
جماعة، وفي بعض إجازاته ما ملخصه أنه قرأ على الفقيه المحدث الرواية الخطيب أبي
عبد الله بن مرزوق شيئا من الصحيحين، والشاطبيتين، وتكملة القيجاطي، والدرر

(1) ينظر ترجمته في: " شجرة النور الزكية " (245)، و " نيل الابتهاج " (368).
17

اللوامع، يرويهما عن مؤلفهما، والعمدة وغيرها، وعلى الفقيه المحدث الرواية المسن
الصالح أبي الحسن البطروني القراءة السبعة، وكتبا كثيرة، وأحزاب الشاذلي عن الشيخ
ماضي عنه، وعلى الإمام المؤلف الفقيه الصالح المتقن العلم أبي عبد الله بن عرفة، لازمه
ما ينيف على ثلاثين سنة، وقرأ عليه بعض مسلم، وسمع جميعه عليه وجميع البخاري،
و " الموطأ، و " الشفاء "، و " علوم الحديث " لابن الصلاح، وجميع " التهذيب " مرارا،
وابن الحاجب الفرعي، وكثيرا من الأصلي، و " معالم " التلمساني الفقيه، و " جمل "
الخونجي، وكثيرا من " المحصل "، وإلقاء التفسير مرارا، وقرأ عليه مختصره المنطقي وفي
الأصلين وأكثر مختصره الفقهي، وأجازه بالجميع وغيرها، وكتب له بخطه مرارا، وقرأ عليه
الفقيه المقرئ الراوية أحمد بن مسعود البلنسي، (عرف بابن الحاجة) القراءات السبعة
وغيرها، وعلى الفقيه الصالح الراوية المتفنن أبي محمد الشبيبي القراءات السبعة وغيرها،
و " التهذيب "، و " الجلاب "، و " الرسالة " وغيرها، و " الموطأ "، ومسلما، وعلم النحو،
والحساب، والفرائض، والتنجيم، ولازمه من حدود ستين وسبعمائة إلى عام سبعين،
وعلى الفقيه الصالح القاضي العدل الحافظ أحمد بن حيدرة التورزي، لازمه كثيرا، وأخذ
عنه مسائل كثيرة، و قرأ على الفقيه الصالح العدل أبي العباس المومناني الصحيحين،
و " الشفاء "، و غيرها، و كذا أخوه الفقيه الصالح القاضي العدل أبو زيد عبد الرحمن، و قرأ
عليه شيئا من أصلي ابن الحاجب، و أذن له في إقرائه، و على الفقيه المحدث الرواية برهان
الدين الشامي، قرأ على أبعاضا من البخاري، و الترمذي، و الشفاء، و الشاطبية، و غيرها،
وناوله فهرسته، وعلى الرواية المحدث المعمر أبي إسحاق بن صديق الرسام.
وذكر في فتاويه أنه لازم ابن عرفة نحو أربعين عاما، فأخذ هديه وعلمه وطريقته،
وجالس غيره كثيرا في الفقه والرواية في الحديث وغيره، وحصل بذلك علما كثيرا.
وقال السخاوي: كان البرزلي أحد أئمة المالكية ببلاده " المغرب "، وصاحب الفتاوى
المتداولة، قدم " القاهرة " حاجا سنة ست وثمانمائة، وأجاز لشيخنا (يعني: ابن حجر) أخذ
عنه غير واحد ممن لقيناهم، كأحمد بن يونس. توفي بتونس سنة أربع وأربعين، على ما
قيل، أو سنة ثلاث، عن مائة وثلاث سنين، وحينئذ فهو آخر من في القسم الأول من
معجم الحافظ ابن حجر، وكان موصوفا بشيخ الاسلام - اه‍. وقد سمع الثعالبي منه
ب‍ " تونس ".
وكانت وفاته سنة اثنين وأربعين، ومولده (على ما قال السخاوي) في حدود أربعين
وسبعمائة، وممن أخذ عنه الشيخ أبو القاسم بن ناجي، والرصاع، والشيخ حلولو،
18

وغيرهم.
5 - علي بن عثمان المنجلاتي (1)، الزواوي، البجائي:
من علماء المالكية وفقهائها الجلة، أخذ عن الشيخ عبد الرحمن الوغليسي وغيره،
وهو والد العلامة أبي منصور مفتي " بجاية "، قال الشيخ عبد الرحمن الثعالبي في حقه:
شيخنا أبو الحسن، الإمام الحافظ، وعليه كانت عمدة قراءتي ببجاية - اه‍. وله فتاوى نقل
بعضها في " المازونية " و " المعيار ".
وقد سمع منه الثعالبي أثناء رحلته ب‍ " بجاية ".
6 - أحمد النقاوسي البجاني (2)، العلامة:
قال تلميذه أبو زيد عبد الرحمن الثعالبي: هو شيخنا الامام المحقق الجامع بين علمي
المنقول والمعقول، ذو الأخلاق المرضية، والأحوال الصالحة السنية - اه‍.
وقد سمع منه الثعالبي ب‍ " بجاية ".
7 - عيسى بن أحمد بن محمد بن محمد الغبريني، أبو مهدي التونسي (3):
قاضي الجماعة ب‍ " تونس " وعالمها وصالحها، وحافظها وخطيبها، قال الشيخ
الثعالبي: شيخنا أوحد زمانه علما ودينا - اه‍.
ووصفه تلميذه أبو القاسم بن ناجي بأنه ممن يظن به حفظ المذهب بلا مطالعة،
وبالغ في الثناء عليه في غير موضع، بل نقل عنه عصرية أبو القاسم البرزلي في ديوانه في
غير موضع. قال السخاوي في " تاريخ أهل المائة التاسعة " فيه: قاضي " تونس " وعالمها،
أخذ عنه أحمد القلشاني، والشرف العجيسي وغيرهما، مات عام سنة عشر وثمانمائة - اه‍.
قال أحمد التنبكي في " نيل الابتهاج ": بل أخذ عنه غالب تلاميذ ابن عرفة المتأخرة
وغيرهم، كالبسيلي، وأبي يحيى بن عقبة، وعمر القلشاني، وأبي القاسم القسنطيني، وأبي
الحسن علي بن عصفور، وابن ناجي، والزلديوي في خلق كثير، قال ابن ناجي: ما رأيت
أصح منه نقلا، ولا أحسن منه ذهنا، ولا أنصف منه، مع كمال الرئاسة، وشاهدت بعض

(1) وقع في " شجرة النور الزكية " هكذا: المنكلاتي. وفي غيره " المكلاتي ". وهو هنا كما في " نيل الابتهاج "
(332).
(2) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (111).
(3) ينظر ترجمته في: " شجرة النور الزكية " (243)، " نيل الابتهاج " (297).
19

جهال الطلبة، وكان مؤدبا تلقاه لما قام في مجلسه، وسجد بين يديه مشتكيا له بإنسان،
فصاح عليه وانتهره، وهرب منه، وغضب لمخالفته السنة، وحلف له لا أسمع منه الآن
كلمة واحدة - اه‍.
وقال تلميذه الأمير أبو عبد الله المدعو الحسن بن السلطان أبي العباس: شيخنا ابن
عرفة وشيخنا الغبريني ممن يجتهد في المذهب، ولا يحتاج للدليل على ذلك، إذ العيان
شاهد بتلك - اه‍.
وقال أبو العباس القلشاني: استناب ابن عرفة وقت سفره للحج تلميذه القاضي
الجليل أبا مهدي الغبريني على إمامة جامع " الزيتونة "، وهو المشار إليه في كلامه، وتلميذه
حينئذ قاضي الجماعة، ثم استقل بالإمامة المذكورة بعد وفاته، وبقي عليها حتى توفي ليلة
السبت سابع عشرين من ربيع الثاني عام خمسة عشر وثمانمائة - اه‍.
وقد سمع منه الثعالبي ب‍ " تونس ".
8 - سليمان بن الحسن البوزيدي، الشريف التلمساني، أبو الربيع (1):
الإمام العالم، المحصل، السيد، قال الشيخ أبو البركات التالي: شيخنا الفقيه
المحقق، كان قائما على " المدونة " و " ابن الحاجب "، مستحضرا لفقه ابن عبد السلام،
وأبحاثه نصب عينيه - اه‍.
قال القلصادي في رحلته: حضرت مجلس سيدي سليمان البوزيدي، وكان فقيها
إماما عالما بمذهب مالك - اه‍.
وذكر ابن غازي في ترجمة شيخه أبي محمد الورياغلي، أن من شيوخه صاحب
الترجمة، وأنه وصف بالشريف، الحسيب النسيب، الفقيه العالم، المحقق الأفضل - اه‍.
قال الونشريسي: شيخ شيوخنا، الفقيه المحصل المحقق، له إشكالات وجهها لعالم
تونس أبي عبد الله بن عقاب، فأجابها عنها - اه‍.
وقال في وفياته: توفي شيخ شيوخنا، الحافظ الذاكر، شيخ الفروع أبو الربيع سليمان
الشريف عام خمسة وأربعين وثمانمائة.
وسمع منه الثعالبي ب‍ " بجاية ".

(1) تنظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (185).
20

9 - محمد بن علي بن جعفر الشمس، العجلوني، ثم القاهري، الشافعي الصوفي،
ويعرف بالبلالي (1) - بكسر الموحدة ثم لام خفية -:
ولد قبل الخمسين وسبعمائة، واشتغل بتلك البلاد قليلا، ولازم أبا بكر الموصلي،
فانتفع به وبغيره، وتميز في التصوف، ولازم النظر في " الاحياء " بحيث كاد يأتي عليه
حفظا، وصارت له به ملكة قوية بحيث اختصره اختصارا حسنا جدا. وكان بالنسبة لأصله
كالحاوي مع الرافعي، وانتفع به الناس وأقبلوا على تحصيله سيما المغاربة وقرئ عليه غير
مرة، وربما استكثر عليه، وكذا صنف " السول في شئ من أحاديث الرسول "، واختصر
" الروضة " ولكن لم يكملا، واختصر " الشفا "، وعمل مختصرا بديعا في الفروع، وقرض
السيرة النبوية لابن ناهض، وعرف بالخير والصلاح قديما، واشتهر بالتعظيم في الآفاق،
وحسنت عقيدة الناس فيه، واستقدمه سودون الشيخوني نائب السلطنة في حدود التسعين،
وولاه مشيخة سعيد السعداء، فدام بها نحو ثلاثين سنة لم يزل عنها إلا مرة بخادمها خضر،
لقيام تمراز نائب الغيبة في الأيام الناصرية فرج ولم يمض سوى عشرة أيام، ثم جيء
بالقبض عليه، وعد ذلك من كرامات البلالي، ثم أعيد. وكان كثير التواضع إلى الغاية
منطرح النفس جدا، مشهورا بذلك، كثير البذل لما في يده، شديد الحياء، كثير العبادة
والتلاوة والذكر، سليم الباطن جدا بحيث كان كثير من الناس يتكلم فيه بسبب ما له من
المباشرات بالخانقات وتؤثر عنه كرامات وخوارق. ذكره ابن حجر في معجمه بما هذا
حاصله، قال: وكان يودني كثيرا، وأجاز في استدعاء ابني محمد، وذكر أنه ضاع منه
مسموعاته. وكذا ذكره في " الانباء " باختصار، وأنه استقر في مشيخة سعيد السعداء مدة
متطاولة مع التواضع الكامل، والخلق الحسن وإكرام الوارد. واختصر " الاحياء " فأجاد،
وطار اسمه في الآفاق، ورحل إليه بسببه، ثم صنف تصانيف أخرى. وكانت له مقامات
وأوراد، وله محبون معتقدون، ومبغضون منتقدون. ونحوه قول المقريزي: كان معتقدا وله
شهرة طارت في الآفاق، وللناس فيه اعتقاد، وعليه انتقاد. مات في يوم الأربعاء رابع عشر
شوال سنة عشرين، ودفن بمقابر الصوفية بعد شهود ابن حجر الصلاة عليه، وقد جاز
السبعين، وهو في عقود المقريزي، وقال: كان كثير الذكر، متواضعا إلى الغاية بحيث لما
اجتمعت به قبل يدي مرارا، وقدم إلي نعلي لما انصرفت عنه، وهذه سيرته مع كل أحد،
وحضرت عنده وظيفة الذكر بعد العشاء بالخانقاه، وكان يرى رفع الصوت به ويعلل ذلك،

(1) ينظر: " الضوء اللامع " (8 / 178).
21

كثير الحياء يديم التلاوة مع سلامة الباطن، وله محبون يؤثرون عنه كرامات وخوارق،
رحمه الله.
وسمع منه الثعالبي ب‍ " مصر ".
10 - عمر بن محمد القلشاني (1) - بفتح القاف وسكون اللام ثم معجمة أو جيم -
المغربي، التونسي، الباجي الأصل - " باجة تونس " لا " الأندلس " فتلك منها شارح
" الموطأ " - المالكي والد قاضي الجماعة محمد وأخو أحمد. أخذ عن أبيه وغيره، وولي
قضاء الجماعة بتونس، واقرأ الفقه، والأصلين، والمنطق، والمعاني والبيان والعربية.
وحدث بالبخاري عن أبي عبد الله بن مرزوق، وشرح " الطوالع " شرحا حسنا لم يكمل
انتهى منه أكثر من مجلد إلى الإلهيات، وأخذ عنه خلق، منهم ولده، وإبراهيم الأخضري،
وغالب الأعيان، وأبو عبد الله التريكي وآخرون ممن لقيناهم كابن زغدان، وكانت ولايته
أولا قضاء الأنكحة ببلده كأبيه، ثم قضاء الجماعة بعد موت أبي القاسم القسنطيني، وكان
يكون بينهما ما بين الأقران فدام به قليلا حتى مات في سنة ثمان وأربعين. وهناك من أرخه
في سنة سبع وسمى جده عبد الله، وكان أبو القاسم قام على أخيه أحمد بسبب ما وقع منه
من نقل كلام بعض المفسرين في قصة آدم عليه السلام وأفتى بقتله، بل أفتى أخوه أيضا
بذلك قبل علمه به، فلما تبين أنه أخوه قام في الدفع عنه، وكان فصيحا في التقرير بحيث
يستفيد منه من يكون بمجلسه من الأعلى والأدنى، ولا يمكن كبير أحد من الكلام، وقد
قيل: إن سبب دخوله في القضاء أن عمه أحمد لم يسر سير ابن عقارب الذي كان قبله،
فعز على الملك، واقتضى رأيه صرفه بابن أخيه هذا، وحصل لعمه نكاية عظيمة ولكن
أعطوه إمامة جامع " الزيتونة "، واستمر حتى مات، فالله أعلم.
وسمع منه الثعالبي بعد رجعته إلى " تونس ".
11 - علي بن موسى البجائي، أحد شيوخ عبد الرحمن الثعالبي ابن عبد الله بن
محمد بن هيدور التادلي (2):
كان إماما في الفرائض والحساب، حسن الخط كثير التقييد، له مسائل في فنون،
شرح تلخيص ابن البناء، وقيد على رفع الحجابلة، توفي عام سنة عشر وثمانمائة.

(1) ينظر ترجمته في: " الضوء اللامع " (6 / 137).
(2) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (333).
22

وسمع منه الثعالبي ب‍ " بجاية ".
12 - البساطي (1) - محمد بن أحمد بن عثمان بن نعيم بن مقدم البساطي
شمس الدين أبو يوسف القاضي المصري المالكي ولد سنة (756) وتوفي سنة (842)
اثنتين وأربعين وثمانمائة. من تصانيفه: توضيح المعقول وتحرير المنقول في شرح منتهى
السول والأمل لابن الحاجب، حاشية على شرح المواقف، حاشية على شرح لوامع الأسرار
للتحتاني في المنطق والحكمة، حاشية على المطول، الرد الوافر على ابن الناصر، روضة
المجالس وأنس الجالس، شرح الألفية لابن مالك، شرح البديعية لابن حجة، شرح التائية
لابن الفارض، شرح قصيدة البردة، شفاء العليل شرح مختصر الشيخ الخليل في الفروع
قصة الخضر عليه السلام، محاضرات خواص البرية في ألغاز الفقهية، المغني في الفروع،
المفاخرة بين الدمشق والقاهرة، مقدمة في الأصول، مقدمة في الكلام، نكت على طوالع
الأنوار للبيضاوي في الكلام.
وسمع منه الثعالبي أثناء رحلته، وذلك ب‍ " مصر " حرسها الله!!.
13 - أبو الحسن علي بن محمد البليليتي (2):
وسمع منه الثعالبي ب‍ " بجاية ".
14 - أبو يوسف يعقوب الزغبي (3):
وسمع منه ب‍ " تونس ".
وأما شيوخه الذين لم يذكرهم في رحلته، فقد ذكر التنبكي في " نيل الابتهاج " منهم
ثلاثة، وهم:
1 - عبد الله بن مسعود التونسي (4):
شهر بابن قرشية، قال ابن حجر: أخذ عن والده، وقرأت بخطه أن من شيوخه الإمام
ابن عرفة، وقاضي الجماعة أحمد بن محمد بن حيدرة، وأحمد بن إدريس الزواوي، وأبا
الحسن محمد بن أحمد البطروني، وأبا العباس أحمد بن مسعود بن غالب القيسي، وتوفي

(1) ينظر ترجمته في: " هدية العارفين " (192).
(2) ينظر: " نيل الابتهاج " (258).
(3) ينظر: " نيل الابتهاج " (258)، و " شجر النور الزكية " (265)، وفيه " الزعبي " بالعين المهملة.
(4) ينظر ترجمة في: " نيل الابتهاج " (230)، و " الضوء اللامع " (3 / 70).
23

سنة سبع وثلاثين وثمانمائة.
2 - عبد العزيز بن موسى بن معطي العبدوسي (1):
الإمام الحافظ الفقيه المحدث العلامة الجليل، حامل لواء المذهب والحفظ في وقته،
أبو القاسم شيخ الاسلام ابن شيخ الاسلام أبي عمران العبدوسي الفاسي نزيل " تونس "،
أخذ عن أبيه وغيره، ووصل في قوة الحافظة الدرجة العظمى، قال القاضي أبو عبد الله بن
الأزرق: كتب إلى الشيخ الفقيه الجليل أحد المفتيين بتونس أبو عبد الله الزلديوي يعرفني
حاله بالحفظ فيما يقضي منه العجب من الغرابة، قال: ورد علينا في أخريات عام سبعة
عشر وثمانمائة الفقيه العالم الحافظ أبو القاسم ابن الشيخ الإمام أبي عمران موسى
العبدوسي بكتاب في يده من قبل الإمام أبي عبد الله محمد بن مرزوق، ويقول لنا فيه: يرد
عليكم حافظ المغرب الآن، فقلنا: لعل ذلك من تعسيل الإخوان لإخوانهم في الوصية
بهم، فلما اجتمعنا به، وأقام عندنا أزيد من عام رأينا منه العجب العجاب من حفظ لا
نتوهم يكون لأحد لما رأينا في بلادنا إفريقيا ومجالس أشياخنا بتونس وبجاية، كان عندنا
بتونس الشيخ أبو القاسم البرزلي له أهل زماننا في حفظ الفقه، وأشياخ المدونة والناس دونه
في ذلك، وببجاية الشيخ الفقيه أبو القاسم المشذالي حضرنا مجالسهم، فما رأينا ولا سمعنا
من يشبه العبدوسي في حفظه، وعلمنا صدق ابن مرزوق فيما وصفه به، وأن من ورعه ألا
يذكر ولا يكتب إلا بما تحقق، كما قال الشاعر: (الطويل)
فلما التقيا صدق الخبر الخبر
* وقال الآخر: (منهوك الرجز)
* بل صغر الخبر الخبر
وقال الونشريسي في تحليته: إنه الفقيه الحافظ المدرس المحدث الصدر الراوية
المعتبر الأرفع الأفضل - اه‍.
وقال الشيخ الرصاع: شيخنا الامام العلامة المحدث الصالح الرباني يقال: اجتمع ليلة
في جهاز بالشيخ أبي القاسم البرزلي، وهو أعمى، ولما تكلم العبدوسي قال له البرزلي:
أهلا بواعظ بلدنا، فقال له العبدوسي: قل وفقيهها، فسكت البرزلي، فعد ذلك من رجلة
العبدوسي وسرعة جوابه، رحمهم الله تعالى - اه‍.

(1) ينظر ترجمته في: (270)، (317)، و " شجرة النور الزكية " (252).
24

ونقل عنه ابن ناجي في " شرح المدونة "، والشيخ الثعالبي في شرح ابن الحاجب،
وذكر عنه أنه قال: لا يلزم البراذعي مما تعقب به إلا حيث خالف ما في روايته من الأمهات
عن موسى بن عقبة. وذكر الونشريسي في وفياته أن توفي بتونس في التاسع والعشرين في
ذي القعدة عام سبعة وثلاثين وثمانمائة.
3 - عبد الواحد الغرياني (1):
تلاميذه:
أخذ عن الإمام الثعالبي جماعة من أهل العلم منهم:
1 - محمد بن محمد بن أحمد بن الخطيب، الشهير محمد بن أحمد بن محمد بن
محمد بن أبي بكر بن مرزوق (2).
العجيسي التلمساني، عرف بالكفيف، ولد الامام أبي الفضل قطب المغرب الحفيد
ابن مرزوق شارح " المختصر "، كان ولده صاحب الترجمة إماما عالما علامة، وصفه ابن
داود البلوي بشيخنا الامام، علم الاعلام، فخر خطباء الإسلام، سلالة الأولياء وخلف
الأتقياء، المسند الرواية المحدث، العلامة القدوة الحافل الكامل، أبو عبد الله ابن سيدنا
شيخ الاسلام، خاتمة العلماء الاعلام، الحبر البحر، الناقد النافذ النحرير، المشاور العمدة
الكبير، ذي التصانيف العديدة، والأنظار السديدة، أبي عبد الله بن مرزوق.
أخذ العلم عن جماعة منهم: أبو شيخ الاسلام، قرأ عليه " الصحيح "، و " الموطأ "
وغير كتاب من تآليفه وغيرها، وتفقه عليه وأجازه ما يجوز له وعنه روايته. والإمام العالم،
النظار الحجة، أبو الفضل ابن الإمام، والامام العلامة قاضي الجماعة المعمر المشاور أبو
الفضل قاسم العقباني، والأستاذ المقرئ العالم أحمد بن محمد بن عيسى اللجائي
الفاسي، والامام العالم والولي الصالح المحدث عبد الرحمن الثعالبي، والامام العالم الفقيه
النظار أبو عبد الله محمد بن قاسم المشذالي، والامام قاضي الجماعة العالم المحقق أبو
عبد الله بن عقاب الجذامي التونسي، والامام العالم الرواية الرحال، قاضي الأنكحة أبو
محمد عبد الله بن سليمان بن قاسم البجيري التونسي. قرأ وسمع عليهم، وأجازوه عامة،
وأجازه مكاتبة من شيخ الاسلام الحافظ ابن حجر مع أولاد مرزوق عام تسعة وعشرين،

(1) ينظر: " نيل الابتهاج " (259)، و " شجرة النور الزكية " (265).
(2) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (574).
25

ومولده ليلة الثلاثاء غرة ذي القعدة عام أربع وعشرين وثمانمائة.
قال التنبكي: ومن شيوخه الإمام ابن العباس، قال السخاوي: قدم صاحب الترجمة
" مكة " فعرض عليه ظهيرة، وأخذ عنه في الفقه وأصوله، والعربية والمنطق في سنة إحدى
وستين، وسمعت في إحدى وسبعين أنه حي - اه‍.
وفي " وفيات الونشريسي " أن وفاته عام أحد وتسعمائة، ووصفه بالفقيه الحافظ
المصقع. وأخذ عنه الخطيب ابن مرزوق ابن أخته، وابن العباس الصغير، ووصفه بشيخنا
علم الاعلام وحجة الإسلام آخر حفاظ " المغرب "، قرأت عليه الصحيحين وبعض
مختصري ابن الحاجب الأصلي والفرعي، وحضرت عليه جملة من " التهذيب "
و " الخونجي " وغيرها.
وبالإجازة ابن غازي نقل عنه في " المازونية ".
2 - محمد بن يوسف بن عمر شعيب السنوسي (1):
وبه اشتهر نسبة لقبيلة بالمغرب، الحسني، نسبة للحسن بن علي بن أبي طالب من
جهة أم أبيه، قاله تلميذه الملالي في تأليفه التلمساني، عالمها، وصالحها، وزاهدها، وكبير
علمائها، الشيخ، العلامة المتفنن، الصالح الزاهد العابد، الأستاذ المحقق المقرئ،
الخاشع: أبو يعقوب يوسف.
نشأ خيرا مباركا فاضلا صالحا، أخذ (كما قال تلميذه الملالي) عن جماعة، منهم:
والده المذكور، والشيخ العلامة نصر الزواوي، والعلامة محمد بن توزت، والسيد الشريف
أبو الحجاج يوسف بن أبي العباس بن محمد الشريف الحسني، أخذ عنه القراءات، وعن
العالم المعدل أبي عبد الله الحباب علم الأسطرلاب، وعن الإمام محمد بن العباس
الأصول والمنطق، وعن الفقيه الجلاب الفقه، وعن الولي الكبير الصالح الحسن أبركان
الراشدي حضر عنده كثيرا، وانتفع به وببركته، وكان يحبه ويؤثره ويدعو له، فحقق الله فيه
فراسته ودعوته، وعن الفقيه الحافظ أبي الحسن التالوتي أخيه لامه " الرسالة "، وعن الامام
الورع الصالح أبي القاسم الكنابشي " إرشاد " أبي المعالي والتوحيد، وعن الإمام الحجة
الورع الصالح أبي زيد الثعالبي " الصحيحين " وغيرهما من كتب الحديث، وأجازه ما يجوز
له وعنه، وعن الامام العالم العلامة الولي الزاهد الناصح إبراهيم التازي، وروى عنه أشياء

(1) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (563).
26

كثيرة من المسلسلات وغيرها. وعن العالم الاجل الصالح أبي الحسن القلصادي الأندلسي
الفرائض والحساب، وأجازه جميع ما يرويه وغيرهم. وكان آية في علمه وهديه، وصلاح
وسيرته، وزهده وورعه وتوقيه.
جمع تلميذه الملالي في أحواله وسيره وفوائده تأليفا كبيرا في نحو ستة عشر كراسا
من القالب الكبير.
وكان حليما، كثير الصبر، ربما يسمع ما يكره فيتعامى عنه ولا يؤثر فيه، بل يتبسم،
وهذا شأنه في كل ما يغضبه ولا يلقي له بالا، ولا يحقد على أحد، ولا يعبس في وجهه،
يفاتح من تكلم في عرضه بكلام طيب وإعظام حتى يعتقد أنه صديقه، وقع له ممن يدعي
أنه أعلم أهل الأرض كلام ينقصه، فما بالى به، ولما ألف بعض عقائده أنكر عليه كثير من
علماء أهل وقته، وتكلموا بما لا يليق، فتغير لذلك كثيرا وحزن أياما، ثم رأى في منامه
عمر بن الخطاب واقفا على رأسه بيده سيف أو عصا، فهزها على رأسه وهدده بها، وكأنه
قال: ما هذا الخوف من الناس. فأصبح قد زال حزنه، واشتد قلبه على المنكرين،
فخرست حينئذ ألسنتهم، فحلم عنهم وسمح، فأقروا بفضله.
وكان من عاداته أنه إذا صلى الصبح في مسجده وفرغ من ورده، أقرأ العلم إلى وقت
الفطور المعتاد، ثم خرج ووقف مع الناس ساعة بباب داره ثم دخل وصلى الضحى قدر
قراءة عشرة أحزاب، ثم اشتغل بالمطالعة في وقت طول النهار، وإلا ربما زالت الشمس
وهو في الضحى، وخرج بعد الزوال للخلوات، فلا يرجع إلا للغروب، أو يبغي في بيته
فيتوضأ ويصلي أربع ركعات، ثم خرج لمسجده وصلى بالناس الظهر وتنفل أربعا، ويقرئ
ثم يتنفل وقت العصر أربعا، ويصلي العصر ويقرأ، أو يخرج لداره. واشتغل بالورد إلى
الغروب، ثم خرج للمغرب وتنفل بست ركعات، ويبقى هناك حتى يصلي العشاء، ويقرأ ما
تيسر ورجع لداره ونام ساعة، ثم اشتغل بالنظر أو النسخ ساعة وتوضأ، ويصلي باقيا فيها،
أو في ذكر لطلوع الفجر، هذا أكثر حاله.
وأما وعظه، فكان يقرع الاسماع، وتقشعر منه الجلود، كل من حضر يقول: معي
يتكلم، وإياي يعني، جله في الخوف والمراقبة وأحوال الآخرة، لا تخلو مجالسه منه مع
حلاوة له، لا توجد في كلام غيره، يعظ أحد بحسب حاله، ما رؤي قط إلا وشفتاه
متحركتان بالذكر، وربما يكلمه انسان وهو يذكر الله تعالى، وتسمع لقلبه أنينا من شدة
خوفه ومراقبته على الدوام، كان يقول: حقيقة العبودية امتثال الامر، واجتناب النهي مع
كمال الذلة والخضوع.
27

وكان - رحمه الله - أورع زمانه، يبغض الاجتماع بأهل الدنيا والنظر إليهم وقربهم،
وأتاه في مرضه بعض من يذمه من علماء عصره، فطلب منه أن يمسح له، فغفر له ودعا
له، ولما مات بكى عليه هذا العالم شديدا وتألم، ومتى ذكره بكى ويقول: فقدت الدنيا
بفقده، كان يثني كثيرا على رجلين من علماء عصره ممن يذمونه ويسيئون إليه، وكان يصلح
بين الخصام، و يقضي الحوائج، ذكر أنه كتب يوما ثلاثين كتابا بلا فترة، قال: " كلفني بها
انسان لم أقدر على ردها ". ولو كان انسان ينسخ مثل هذا في كل يوم لظفر بعدة أسفار،
وهذه مصائب ابتلينا بها.
ومن صبر كثرة وقوفه مع الخلق، ولا يفارق الرجل حتى ينصرف. وهذا كله مع
إدامة الطاعات وسواء الطريقة وشدة التحرز والإسراع بوفاء حقوق العباد قبل استحقاقها، إذا
أعار كتابا رده في أقرب مدة قبل طلب صاحبه، وربما كان سفرا ضخما لا يمكن مطالعته
إلا في ثلاثة أيام، فيطالعه يوما واحدا ويرده.
وكان يأمر أهله بالصدقة سيما وقت الجوع ويقول: من أحب الجنة فليكثر الصدقة،
خصوصا في الغلاء، كثير التصدق بيده، ويكثر الخروج للخلوات ومواضع الخرب الباقية
آثارها للاعتبار، وإذا رأى ما كان منها متقنا ذكر حديث: " رحم الله عبدا صنع شيئا فأتقنه ".
ويقول: أين سكانها؟ وكيف يتنعمون؟ "
وأما تأليفه فقال الملالي: منها شرحه الكبير على " الحوفية " المسمى " المقرب
المستوفى " كبير الجرم، كثير العلم، ألفه وهو ابن تسعة عشر عاما، ولما وقف عليه شيخه
الحسن أبركان تعجب منه، وأمر بإخفائه حتى يكمل سنه أربعين سنة، لئلا يصاب بالعين،
ويقول له: لا نظير له فيما أعلم، ودعا لمؤلفه، وعقيدته الكبرى سماها " عقيدة التوحيد " في
كراريس من القالب الرباعي، أول ما صنفه في الفن، ثم شرحها، ثم الوسطى وشرحها في
ثلاثة عشر كراسا، ثم الصغرى وشرحها في ست، وهي من أجل العقائد، لا تعادلها
عقيدة، كما أشار إليه هو. حدثني بعضهم أنه مات قريبة وكان صالحا، فرآه في النوم.
فسأله عن حاله فقال: دخلت الجنة فرأيت إبراهيم الخليل (عليه السلام) يقرئ صبيانا
عقيدة السنوسي، يدرسونها في الألواح يجهرون بقراءتها - اه‍.
قال الشيخ: لا شك أنه لا نظير لها فيما علمت، تكفي من اقتصر عليها عن سائر
العقائد، وقد نظم سيدي محمد بن يحبش التازي في مدحها أبياتا، وعقيدته المختصرة
أصغر من الصغرى، وشرحها أربع كراريس، وفيه فوائد ونكت، والمقدمات المبينة لعقيدته
الصغرى قريبة من جرما، وشرحها خمس كراريس، وشرح الأسماء الحسنى في كراريس،
28

وشرحه الكبير على الجزيرية فيه نكت نفيسة، ومختصر الآبي على مسلم في سفرين فيه
نكت حسنة، وشرح " ايساغوجي " في المنطق، تأليف البرهان البقاعي كثير العلم،
ومختصره العجيب فيه زوائد على " الخونجي " وشرحه الحسن جدا، وشرح قصيدة الحباك
في الأسطرلاب شرح جليل، وشرح أبيات الامام الاليري في التصوف، وشرح الأبيات التي
أولها: تطهر بماء الغيب، وشرحه العجيب على البخاري وصل فيه إلى باب " من استبرأ
لدينه "، وشرح مشكلات البخاري في كراسين، ومختصر الزركشي على البخاري.
ومنها عقيدة أخرى فيها دلائل قطعية على من أثبت تأثير الأسباب العادية، كتبها
لبعض الصالحين، ومختصر " حاشية التفتازاني " على " الكشاف "، و " شرح مقدمة الجبر
والمقابلة " لابن الياسمين، وشرح " جمل " الخونجي في المنطلق، و " شرح مختصر ابن
عرفة "، فيه حل صعوبته، وقال لي: إن كلامه صعب سيما هذا المختصر تعبت كثيرا في
حله، لصعوبته إلى الغاية، لا أستعين عليها إلا بالخلوة.
ومنها شرح رجز ابن سينا في الطب لم يكمل، ومختصر في القراءات السبع، وشرح
" الشاطبية " الكبرى لم يكمل، وشرح " الوغليسية " في الفقه لم يكمل، ونظم في الفرائض،
واختصار " رعاية " المحاسبي، ومختصر " الروض الأنف " للسهيلي لم يكمل، ومختصر " بغية
السالك في أشرف المسالك " للساحلي، وشرح " المرشدة " و " الدر المنظوم " في شرح
" الأجرومية "، وشرح " جواهر العلوم " للعضد في علم الكلام على طريقة الحكماء، وهو
كتاب عجيب جدا في ذلك، إلا أنه صعب متعسر على الفهم جدا، وتفسير القرآن إلى
قوله: (وأولئك هم المفلحون) في ثلاثة كراريس، ولم يمكن له التفرغ له، وتفسير سورة
" ص " وما بعدها، فهذا ما علمت من تآليفه مع ما له من الفتاوى والوصايا والرسائل
والمواعظ، مع كثرة الأوراد وقضاء الحوائج والأقراء - اه‍.
وقد أخذ عنه أعلام كابن صعد، وأبي القاسم الزواوي، وابن أبي مدين، والشيخ
يحيى بن محمد، وابن الحاج البيدري، وابن العباس الصغير، وولي الله محمد القلعي
ريحانة زمانه، وإبراهيم الوجديجي وابن ملوكة، وغيرهم من الفضلاء.
وتوفي يوم الأحد ثامن عشر جمادى الأخيرة عام خمسة وتسعين وثمانمائة، وشم
الناس المسك بنفس موته، رحمه الله. مولده بعد الثلاثين وثمانمائة.
3 - أبو العباس أحمد بن عبد الله الجزائري الزواوي (1)، الشيخ الإمام الفاضل،

(1) ينظر ترجمته في: " شجرة النور الزكية " (265).
29

العالم العامل، الولي الصالح الكامل. أخذ عن أبي زيد الثعالبي وغيره، وعنه الشيخ زروق
وغيره. ألف اللامية المشهورة في العقائد، شرحها الشيخ السنوسي، وأثنى على ناظمها
بالعلم والصلاح. توفي سنة 884 ه‍.
4 - محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي (1):
التلمساني خاتمة المحققين، الامام العالم، العلامة الفهامة، القدوة الصالح السني،
أحد الأذكياء، ممن له بسطة في الفهم والتقدم، متمكن المحبة في السنة وبغض أعداء
الدين، وقع له بسبب ذلك أمور مع فقهاء وقته حين قام على يهود " توات "، وألزمهم الذل،
بل قتلهم وهدم كنائسهم، ونازعه في ذلك الفقيه عبد الله العصنوني قاضي " توات "،
وراسلوا في ذلك علماء " فاس " و " تونس " و " تلمسان "، فكتب في ذلك الحافظ التنسي
كتابة مطولة، بصواب رأي صاحب الترجمة، ووافقه عليها الإمام السنوسي.
دخل بلاد " أهر " وبلاد " تكدة "، واجتمع بصاحبها، وأقرأ أهلها وانتفعوا به، ثم دخل
بلاد " كنو وكشن " من بلاد السودان، واجتمع بصاحب " كنو " واستفاد عليه، وكتب رسالة
في أمور السلطنة يحضه على اتباع الشرع، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرر لهم
أحكام الشرع وقواعده.
ثم رحل لبلاد " التكرور "، فواصل إلى بلدة " كاغو "، واجتمع بسلطانها ساسكي محمد
الحاج، وجرى على طريقته من الأمر بالمعروف، وألف له تأليفا أجابه فيه عن مسائل،
وبلغه هناك قتل ولده بتوات من جهة اليهود، فانزعج لذلك، وطلب من السلطان قبض أهل
توات الذين بكاغو حينئذ، فقبض عليهم، وأنكر عليه أبو المحاسن محمود بن عمر، إذ لم
يفعلوا شيئا، فرجع عن ذلك، وأمر بإطلاقهم، ورحل لتوات فأدركته المنية بها، فتوفي
هناك سنة تسع وتسعمائة.
ويقال: إن بعض ملاعين اليهود أو غيرهم مشى لقبره فبال عليه فعمي مكانه، وكان
- رحمه الله - مقداما على الأمور، جسورا جرئ القلب، فصيح اللسان، محبا في السنة
جدليا نظارا محققا.
له تآليف منها: " البدر المنير في علوم التفسير "، و " مصباح الأرواح في أصول
الفلاح " كتاب عجيب في كراسين أرسله للسنوسي، وابن غازي، فقرظاه، وشرح " مختصر

(1) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (576)، و " بروكلمان " (2 / 363).
30

خليل " سماه " مغني النبيل "، اختصر فيه جدا، وصل فيه للقسم بين الزوجات، وله عليه
قطع أخر من البيوعات وغيرها، بل قيل: إنه شرح ثلاثة أرباع المختصر، وحاشية عليه
سماها " إكليل المغني "، وشرح بيوع الآجال من ابن الحاجب، فبحث فيه مع ابن
عبد السلام وخليل، وتأليف في المنهيات، ومختصر " تلخيص المفتاح " وشرحه، و " مفتاح
النظر " في علم الحديث، فيه أبحاث مع النووي في تقريبه، وشرح " الجمل " في المنطق،
ومقدمة فيه، ومنظومة فيه سماها " منع الوهاب "، وثلاثة شروح عليها.
وله أيضا " تنبيه الغافلين عن مكر الملبسين بدعوى مقامات العارفين "، وشرح خطبة
المختصر، ومقدمة في العربية، وكتاب " الفتح المبين "، وفهرسة مروياته، وعدة قصائد،
كالميمية على وزن البردة ورويها في مدحه صلى الله عليه وسلم.
أخذ عن الإمام عبد الرحمن الثعالبي، والشيخ يحيى بن بدير، وغيرهما، وأخذ عنه
جماعة، كالفقيه أيد أحمد، والشيخ العاقب الأنصمني، ومحمد بن عبد الجبار الفيجي
وغيرهم.
ووقع له مراسلة مع الجلال السيوطي في علم المنطق، فمما كتب للسيوطي فيه قوله:
(من الطويل)
سمعت بأمر ما سمعت بمثله * وكل حديث حكمه حكم أصله
أيمكن أن المرء في العلم حجة * وينهى عن الفرقان في بعض قوله
هل المنطق المعني إلا عبارة * عن الحق أو تحقيقه حين جهله
معانيه في كل الكلام وهل ترى * دليلا صحيحا لا يرد لشكله
أرني هداك الله منه قضية * على غير هذا تنفها عن محله
ودع عنك أبداه كفور وذمة * رجال وإن أثبت صحة نقله
خذ الحق حتى من كفور ولا تقم * دليلا على شخص بمذهب مثله
عرفناهم بالحق لا العكس فاستبن * به لا بهم إذ هم هداة لأجله
لئن صح عنهم ما ذكرت فكم هم * وكم عالم بالشرع باح بضله
... في أبيات أخرى، فأجابه السيوطي بقوله: (من الطويل)
حمدت إله العرش شكرا لفضله * وأهدي صلاة للنبي وأهله
عجيب لنظم ما سمعت بمثله * أتاني عن حبر أقر بنبله
31

تعجب مني حين ألفت مبدعا * كتابا جموعا فيه جم بنقله
أقرر فيه النهي عن علم منطق * لما قاله الاعلام من ذم شكله
وسماه بالفرقان يا ليت لم يقل * فذا وصف قرآن كريم لفضله
وقال فيه فيما يقرر رأيه * مقالا عجيبا نائبا عن محله:
ودع عنك أبداه كفور وبعد ذا * خذ الحق حتى من كفور بختله
وقد جاءت الآثار في ذم من حوى * علوم يهود أو نصارى لأجله
يعزز به علما لديه وأنه * يعذب تعذيبا يليق بفعله
وقد منع المختار فاروق صحبه * وقد خط لوحا بعد توراة أهله
وقد جاء من نهى اتباع لكافر * وإن كان ذاك الامر حقا بأصله
أقمت دليلا بالحديث ولم أقم * دليلا على شخص بمذهب مثله
سلام على هذا الامام فكم له * لدي ثناء واعترف بفضله - اه‍
5 - علي بن محمد التالوتي الأنصاري أخو الإمام محمد بن يوسف السنوسي لامه (1):
قال تلميذه الملالي: شيخنا، الفقيه، الحافظ، المتقن، العالم، المتفنن، الصالح،
أبو الحسن، كان محققا متقنا حافظا يحفظ كتاب ابن الحاجب، ويستحضره بين عينيه، قل
أن ترى مثله حافظا، قرأ عليه أخوه محمد السنوسي " الرسالة " في صغره، وكان من أكابر
أصحاب الحسن أبركان، ما رأيته قط مشتغلا بما لا يعنيه، بل إما ذاكرا أو قارئا للقران أو
مشتغلا بمطالعة أو نحوه، يحفظ " الرسالة " و " ابن الحاجب "، و " التسهيل " لابن مالك،
وغيرها، جعل له وردا كل يوم، قرأت عليه " ابن الحاجب " قراءة بحث وإفادة، وسألته عن
وضع الكتاب في الأرض، فقال: حكى شيخنا الحسن أبركان فيه قولين لمتأخري أهل
" تونس " و " بجاية " جوازا ومنعا، وسألته عن مستند الناس في عادتهم من عدم أخد الرجل
المقص من صاحبه بل يضعه على الأرض فيأخذه حينئذ، فقال: سألت عنه شيخنا الحسن
أبركان فقال: هكذا رأينا شيوخنا يفعلون، ثم قال سيدي علي: ولعله علم نسبي - اه‍.
قال التنبكي: وقد ذكر السيد الشريف السمهودي الشافعي في كتابه " جواهر العقدين "
حكمة منعه عن بعض شيوخه فانظره فيه، قال الملالي: وسألته عن الوتر جالسا قال: فيه
قولان بالجواز وعدمه، وذكر أخوه السنوسي أنه يؤخذ جوازه جالسا من قول " المدونة ": أنه

(1) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (341)، و " شجرة النور الزكية " (266).
32

يوتر في سفره على الدابة - اه‍.
وهذا الأخذ نقله ابن ناجي عن بعض الشيوخ، قال الملالي: رأيت بخطه عن بعض
الصالحين، أن من نزل منزلا وجمع أثقالا وخط على حواليها خطا وهو في داخل الخط،
ويقول في داخله ثلاثا: الله الله ربي لا شريك له، لم يضره لص ولا عدو ولا غيره،
ويكون مع ثقله في حرز الله، وهو محبوب - اه‍. وتوفي في صفر عام خمسة وتسعين
وثمانمائة، ورأى أخوه السنوسي قبل موته في المنام دارا عظيمة فيها فرش مرتفع فقيل له:
هي لأخيك علي يدخل فيها عروسا - اه‍ - من الملالي.
6 - علي بن عباد التستري البكري الفاسي المغربي (1):
أخذ عن أبي بكر البرجي الفقه، وأسئلة كثيرة عن محمد القوري، وسمع الحديث
على عبد الرحمن الثعالبي، ومن تآليفه " لطائف الإشارات في مراتب الأنبياء في السماوات "،
ولد سنة ثلاثين وثمانمائة.
قال التنبكي: وتأليفه المذكور في كراسة ذكر في آخره أنه فرغ منه في ذي الحجة عام
ثمانين وثمانمائة.
7 - أحمد بن أحمد بن محمد بن عيسى البرنسي الفاسي الشهير بزروق (2):
الإمام العالم الفقيه، المحدث، الصوفي، الولي، الصالح الزاهد، القطب الغوث
العارف بالله، الحاج الرحلة المشهورة شرقا وغربا، ذو التصانيف العديدة، والمناقب
الحميدة، والفوائد العتيدة، قد عرف بنفسه وأحواله وشيوخه في كناشته وغيرها، فقال:
ولدت يوم الخميس طلوع الشمس ثامن وعشرين من المحرم سنة ست وأربعين و ثمانمائة،
وتوفيت أمي يوم السبت بعده وأبي يوم الثلاثاء بعده كلاهما في سابعي، فبقيت بعين الله
بين جدتي الفقيهة أم البنين، فكفلتني حتى بلغت العشر، وحفظت القرآن، وتعلمت صناعة
الخرز، ثم نقلني الله بعد بلوغي سادس عشر إلى القراءة، فقرأت " الرسالة " على الشيخين:
على السلطي، وعبد الله الفخار قراءة بحث وتحقيق، و " القرآن " على جماعة منهم:
القوري، والزرهوني، وكان رجلا صالحا، والمجاصي، والأستاذ الصغير بحرف نافع،
واشتغلت بالتصوف والتوحيد، فأخذت " الرسالة القدسية "، و " عقائد الطوسي " على الشيخ

(1) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (342).
(2) ينظر ترجمته في: " نيل الابتهاج " (130).
33

عبد الرحمن المجدولي، وهو من تلاميذ الآبي، وبعض " التنوير " على القوري، وسمعت
عليه البخاري كثيرا، وتفقهت عليه في كل " أحكام عبد الحق الصغرى "، و " جامع
الترمذي "، وصحبت جماعة من المباركين لا تحصى كثرة بين فقيه وفقير.
وقال فيه الشيخ ابن غازي: صاحبنا الأود الخلاصة الصفي، الفقيه المحدث، الفقير،
الصوفي البرنسي، و " برنس "، بنون مضمومة بعد الراء، نسبة إلى عرب بالمغرب، انتهت
فهرسته. وقال الحافظ السخاوي: أخذ على القوري، وكتب على " حكم ابن عطاء الله "،
وعلى " القرطبية " في الفقه، ونظم " فصول السلمي " - اه‍.
قال التنبكي: ومن شيوخه، كما ذكره هو، الشيخ الامام عبد الرحمن الثعالبي،
والولي إبراهيم التازي، والمشذالي، والشيخ حلولو، والسراج الصغير، والرصاع،
وأحمد بن سعيد الحباك، والحافظ التنسي، والإمام السنوسي، وابن زكري، وأبو مهدي
عيسى المواسي، وبالمشرق عن جماعة كالنور السنهوري، والحافظ الدميري، والحافظ
السخاوي، والقطب أبي العباس أحمد بن عقبة الحضرمي، وولي الله الشهاب الأنشيطي
في جماعة آخرين. وأما تآليفه: فكثيرة يميل إلى الاختصار مع التحرير، ولا يخلو شئ
منها عن فوائد غزيرة، وتحقيقات مفيدة سيما في التصوف، فقد انفرد بمعرفته وجودة
التأليف فيه، فمنها شرحان على " الرسالة "، وشرح " إرشاد ابن عسكر "، وشرح " مختصر
خليل "، رأيت مواضع منه بخطه عن الأنكحة والبيوع وغيرها، وشرح " الوغليسية "، وشرح
" القرطبية "، وشرح " الغافقية "، وشرح " العقيدة القدسية " للغزالي، ونيف وعشرون شرحا
على الحكم، وقفت على الخامس عشر والسابع عشر منها، وأخبرني والدي - رحمه الله
تعالى - أن بعض المكيين أخبره، أن له عليها أربعا وعشرين شرحا، وشرحان على " حزب
البحر "، وشرح " الحزب الكبير " لأبي الحسن الشاذلي، وشرح مشكلاته، وشرح " الحقائق
والدقائق " للمقري، وشرح قطع الششتري وشرح " الأسماء الحسنى "، وشرح " المراصد " في
التصوف لشيخه ابن عقبة، و " النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية ". واختصره.
و " إعانة المتوجه المسكين على طريق الفتح والتمكين "، وكتاب " القواعد في التصوف "،
وهذه الثلاثة في غاية النبل والحسن، سيما الأخير لا نظير له. وكتاب " النصح الأنفع والجنة
للمعتصم من البدع بالسنة "، وكتاب " عدة المريد الصادق من أسباب المقت في بيان الطريق
وذكر حوادث الوقت " كتاب جليل فيه مائة فصل بين فيه البدع التي يفعلها فقراء الصوفية،
وله تعليق لطيف على " البخاري " قدر عشرين كراسا اقتصر فيه على ضبط الألفاظ
وتفسيرها، وجزء صغير في علم الحديث، وله رسائل كثيرة لأصحابه مشتملة على حكم
34

ومواعظ وآداب ولطائف التصوف مع الاختصار قل أن توجد لغيره، وبالجملة فقدره فوق ما
يذكر، ومن تفرغ فذكر حاله وفوائده وحكمه ورسائله جمع منها مجلدا.
وهو آخر أئمة الصوفية المحققين الجامعين لعلمي الحقيقة والشريعة، له كرامات
عديدة، وحج مرات، وأخذ عنه جماعة من الأئمة، كالشمس اللقاني، والعالم محمد بن
عبد الرحمن الحطاب، والزين طاهر القسنطيني، وغيرهم، وقد أجازني سيدي الشيخ
الصوفي أحمد بن أبي القاسم الهروي التادلي ما أجازه شيخه العريف الخروبي تلميذ زروق
عنه. توفي ب‍ " تكرين " من عمل " طرابلس " (1) في صفر عام تسعة وتسعين وثمانمائة،
ووجدت منسوبا إليه من نظمه قوله: (الطويل)
ألا قد هجرت الخلق طرا بأسرهم * لعلي أرى محبوب قلبي بمقلتي
وخلف أصحابي وأهلي وجيرتي * وتيمت نجلي واعتزلت عشيرتي
ووجهت وجهي للذي فطر السما * وأعرضت عن أفلاكها المستنيرة
وعلقت قلبي بالمعالي تهمسا * وكوشفت بالتحقيق من غير مرية
وقلدت سيف العز في مجمع الوغى * وصرت إمام الوقت صاحب رفعة
وملكت أرض الغرب طرا بأسرها * وكل بلاد الشرق في طي قبضتي
فملكنيها بعض من كان عارفا * وخلفني فيها بأحسن سيرتي
فأرفع قدرا ثم أخفض رتبة * لأرفع مقدارا بأرفع حكمتي
وأعزل قوما ثم أولي سواهم * وأعلي منار البعض فوق المنصة
وأجبر مكسورا وأشهر خاملا * وأرفع مقدارا بأرفع همتي
وأقهر جبارا وأدحض ظالما * وأنظر مظلوما بسلطان سطوتي
وألهمت أسرارا وأعطيت حكمة * وحزت مقامات العلا المستنيرة
أنا لمريدي جامع لشتاته * إذا ما سطا جور الزمان بنكبة
وإن كنت في كرب وضيق ووحشة * فناد أبا زروق، آت بسرعة
فكم كربة تجلى بمكنون عزنا * وكم طرفة تجني بأفراد صحبتي

(1) طرابلس الغرب: بلدة على جانب البحر. ينظر: " مراصد الاطلاع " (882).
35

مصنفات الثعالبي:
لم تحظ أمة من الأمم بمثل ما حظيت به هذه الأمة الإسلامية من تراث تليد، وأثر
حميد، ذلك أن علماءها قد ملئوا مكتباتها بكتب وأسفار تحمل في صفحاتها وصحيفاتها
كل علم نافع، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
ولقد درج الثعالبي - رحمه الله - نفسه تلك السلسلة المباركة، من شيوخ هذه
الأمة، فأخرج لنا نفائس الكتب في مختلف العلوم، إلا أن الذي ذكر لنا في تراجمه لم يكن
بالعدد الضخم الذي يبلغ المائة، ولا ما يزيد، مثل ما كان عدد مصنفات ابن الجوزي مثلا،
فقد قال ابن تميمية عنه: " عددت له ألف مصنف، ثم رأيت بعد ذلك ما لم أر ".
وكانت مصنفات الثعالبي كما يلي:
أولا: في التفسير:
- الجواهر الحسان في تفسير القرآن، وهو هذا الكتاب.
ثانيا: في الفقه:
1 - روضة الأنوار، جمعه من نحو من ستين من أمهات الدواوين المعتمدة.
2 - جامع الأمهات في أحكام العبادات.
ثالثا: في الحديث:
1 - أربعون حديثا مختارة.
2 - المختار من الجوامع.
رابعا: الرقائق وعلوم الآخرة:
1 - الأنوار المضيئة في الجمع بين الشريعة والحقيقة.
2 - العلوم الفاخرة في أحوال الآخرة.
3 - كتاب النصائح.
4 - جامع الفوائد.
5 - الدر الفائق في الأذكار.
36

6 - الإرشاد في مصالح العباد.
خامسا: في القراءات:
- شرح منظومة ابن بري في قراءة نافع.
سادسا: تهذيب النفس:
- إرشاد السالك.
سابعا: إعراب القرآن وغريبه:
1 - تحفة الأقران في إعراب بعض آي القرآن.
2 - الذهب الإبريز في غريب القرآن العزيز.
ثامنا: في الخصائص النبوية:
- كتاب في معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وقد أثنى العلماء على مصنفات الثعالبي، فقال السخاوي: " كان إماما علامة،
مصنفا.. ".، وفي شجرة النور: له تآليف كثيرة مفيدة.
وبالجملة، فهذا تقييم لأحد مترجمي الإمام الثعالبي، ذكر فيه كتبه وحجمها،
ومادتها. قال التنبكي:
وأما تآليفه فكثيرة كتفسيره " الجواهر الحسان " في غاية الحسن، اختصر فيه " ابن
عطية " مع فوائد وزوائد كثيرة، و " روضة الأنوار، ونزهة الأخيار "، وهو قدر " المدونة "، فيه
لباب من نحو ستين من أمهات الدواوين المعتمدة، وهو خزانة كتب لمن حصله قال:
وجمعته في سنين كثيرة، فيه بساتين وروضات - اه‍.
وكتاب " الأنوار في معجزات النبي المختار " صلى الله عليه وسلم، و " الأنوار المضيئة الجامع بين
الحقيقة " في جزء، و " رياض الصالحين " جزء، وكتاب " التقاط الدرر "، وكتاب " الدرر الفائق
في الأذكار والدعوات "، و " العلوم الفاخرة في أحوال الآخرة " مجلد ضخم، وشرح " ابن
الحاجب " الفرعي في سفرين، جمع فيه نخب من كلام ابن رشد وابن عبد السلام وابن هارون
وخليل وغرر ابن عرفة مع جواهر " المدونة " وعيون مسائلها في سفرين، وفي آخره جامع
كبير نحو عشر كراريس من القالب الكبير فيه فوائد، و " إرشاد السالك " جزء صغير،
37

و " الأربعون حديثا مختارة "، و " المختار من الجوامع في محاذاة الدرر اللوامع "، وكتاب
" جامع الفوائد " وكتاب " جامع الأمهات في أحكام العبادات "، وكتاب " النصائح "، وكتاب
" تحفة الاخوان في إعراب بعض آي القرآن "، و " الذهب الابريز في غرائب القرآن العزيز "،
وكتاب " الإرشاد في مصالح العباد "، وذكر جميعها في فهرسته.
ثناء العلماء عليه:
نال الامام الثعالبي ثناء عطرا من أهل العلم، والله (سبحانه) يعلي ذكر المرء في
الأمم والأعصار على قدر إخلاصه ونيته.
قال الإمام السخاوي: " وكان إماما مصنفا... وعمل في الوعظ والرقائق وغير
ذلك ".
وفي " نيل الابتهاج " قال التنبكي: " الشيخ، الإمام، الحجة، العامل، الزاهد، الورع،
ولي الله الناصح الصالح، العارف بالله، أبو زيد، شهر بالثعالبي، صاحب التصانيف
المفيدة، كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها، ومن خيار عباد الله الصالحين،
قال السخاوي: كان إماما علامة مصنفا، اختصر تفسير ابن عطية في جزءين، وشرح " ابن
الحاجب " الفرعي في جزءين، وعمل في الوعظ والرقائق وغيرها - اه‍.
قال الشيخ زروق: شيخنا الفقيه الصالح والديا عليه أغلب من العلم، يتحرى في
النقل أتم التحري، وكان لا يستوفيه في بعض المواضع - اه‍.
قال ابن سلامة البكري: كان شيخنا الثعالبي رجلا صالحا زاهدا عالما عارفا وليا من
أكابر العلماء، له تآليف جمة أعطاني نسخة من تفسير " الجواهر " لا بشراء ولا عوض،
عاوضه الله بالجنة، وقال غيره: سيدنا ووسيلتنا لربنا الامام الولي العارف بالله - اه‍.
قلت: وهو ممن اتفق الناس على صلاحه وإمامته، أثنى عليه جماعة من شيوخه
بالقلم والدين والصلاح، كالإمام الآبي، والولي العراقي، والإمام الحفيد ابن مرزوق.
وقال في " شجرة النور الزكية ": " الإمام، علم الأعلام، الفقيه، المفسر، المحدث،
الرواية، العمدة، الفهامة، الهمام، الصالح، الفاضل، العارف بالله، الواصل. أثنى عليه
جماعة بالعلم والصلاح والدين المتين ".
وقال الغزي في " ديوان الإسلام ": " الإمام، الحبر، العلامة ".
38

وقال الذهبي في " التفسير والمفسرون ": " الإمام الحجة، العالم العامل، الزاهد،
الورع، ولي الله الصالح، العارف بالله، كان من أولياء الله المعرضين عن الدنيا وأهلها،
ومن خيار عباد الله الصالحين ".
وفاته:
كانت وفاة الثعالبي سنة خمس وسبعين وثمانمائة، كما ذكر تلميذه زروق، وذكره
السخاوي في " الضوء اللامع ". إلا أن صاحب " شجرة النور الزكية " حكاها على الشك، بين
خمس وست وسبعين. رحمه الله رحمة واسعة!!
39

المبحث الثاني
التفسير قبل أبي زيد الثعالبي
التفسير والتأويل
التفسير لغة:
التفسير في اللغة: الإيضاح والتبيين، ومنه قوله تعالى: (ولا يأتوك بمثل إلا جئناك
بالحق وأحسن تفسيرا) (الفرقان: 33) أي: بيانا وتفصيلا، وهو مأخوذ من الفسر، وهو:
الإبانة والكشف.
قال الفيروز آبادي (1):
" الفسر: الإبانة وكشف المغطى، كالتفسير، والفعل كضرب ونصر ".
وقال ابن منظور (2):
" الفسر: البيان، فسر الشئ يفسره - بالكسر - ويفسره - بالضم - فسرا، وفسره:
أبانه، والتفسير: مثله... والفسر: كشف المغطى، والتفسير: كشف المراد عن اللفظ
المشكل ".
وقال أبو حيان (3):
"... ويطلق التفسير أيضا على التعرية للانطلاق، قال ثعلب: " تقول: فسرت
الفرس: عريته، لينطلق في حصره، وهو راجع لمعنى الكشف، فكأنه كشف ظهره لهذا
الذي يريده منه من الجري ".
وعلى ذلك: فالمادة تدور حول معنيين (4):
الكشف المادي المحسوس، والكشف المعنوي المعقول.

(1) " القاموس المحيط " " فسر ".
(2) " اللسان ": مادة " فسر ".
(3) " البحر المحيط " 1 / 13.
(4) " التفسير ": معالم حياته - منهجه اليوم - أمين الخولي ص 5، و " التفسير والمفسرون " / للذهبي ج 1 / 15.
40

وقيل: إن أصل الكلمة من التفسرة، وهي الدليل من الماء ينظر فيه الطبيب، فيكشف
عن علة المريض، كما يكشف المفسر عن شأن الآية وقصتها (1).
التفسير اصطلاحا:
عرفه السيوطي قائلا (2):
" هو علم نزول الآيات وشؤونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها
ومدنيها، وبيان محكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها
ومقيدها، ومجملها ومفسرها، وحلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها،
وعبرها وأمثالها، ونحو ذلك ".
وعرفه أبو حيان فقال (3):
" هو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية
والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات ذلك.. " وفيه قصور
وغموض (4)...
وتعريف الزركشي أوضح من التعريفين السابقين، إذ يقول (5):
" التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه،
واستخراج أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو والتصريف، وعلم
البيان، وأصول الفقه، والقراءات، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ ".
وهناك تعريفات أخرى - غير ما ذكرنا (6) - وكلها تتفق " على أن علم التفسير علم
يبحث عن مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية، فهو شامل لكل ما يتوقف عليه فهم المعنى،
وبيان المراد " (7).

(1) " الاتقان في علوم القرآن " / للسيوطي 2 / 294، و " تفسير البغوي " 1 / 18 ط المنار، و " اللسان ": فسر.
(2) " الاتقان " 2 / 174.
(3) " البحر المحيط " ج 1 أو ما بعدها.
(4) راجع: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير أبو شهبة ص 41.
(5) " البرهان " ج 1 / 33.
(6) راجع مثلا: " مناهل العرفان في علوم القرآن " 1 / 406 ط أولى، و " منهج الفرقان في علوم القرآن " ج 2
6، " التيسير في قواعد التفسير " / الكافيجي ص 3، 11 وغيرها.
(7) " التفسير والمفسرون " 1 / 17.
41

التأويل لغة:
أصله: " من الأول، وهو الرجوع ".
قال الفيروز آبادي (1):
" آل إليه أولا ومالا: رجع - وعنه ارتد... وأول الكلام تأويلا، وتأوله: دبره وقدره
وفسره، والتأويل عبارة الرؤيا ".
وقال ابن منظور (2):
" الأول: الرجوع: آل الشئ يؤول أولا ومآلا: رجع، وأول الشئ: رجعه، وألت
عن الشئ: ارتدت "، وفي الحديث: " من صام الدهر، فلا صام ولا آل " أي: لا رجع
إلى خير... وأول الكلام وتأوله: دبره وقدره، وأوله وتأوله: فسره ".
وعليه:
فالتأويل: إرجاع الكلام إلى ما يحتمله من المعاني.
وقيل: التأويل مأخوذ من الإيالة، وهي السياسة، فكأن المؤول ساس الكلام ووضعه
في موضعه، قال الزمخشري (3):
" آل الرعية يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وائتالها، وهو مؤتال لقومه مقتال
عليهم، أي: سائس محتكم، قال زياد في خطبته: قد ألنا وإيل علينا، أي: سسنا
وسسنا... ".
وقد ورد لفظ التأويل في القرآن الكريم على معان مختلفة:
من ذلك قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة
وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله...) (آل عمران: 7). بمعنى: التفسير والتعيين.
وقوله تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله
واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) (النساء: 59) بمعنى: العاقبة والمصير.
وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله...) (الأعراف: 53) وقوله

(1) " القاموس المحيط " 3 / 331.
(2) " اللسان " / مادة " أول " 1 / 171 وما بعدها.
(3) " أساس البلاغة " ص 25 ط الشعب.
42

تعالى: (بل كذبوا بما لم يحيطوا ولما يأتهم تأويله..) (يونس: 39) بمعنى:
وقوع المخبر به.
ومن آيات سورة يوسف (1) أريد بها: نفس مدلول الرؤيا.
ومن آيتي سورة الكهف (2) بمعنى بيان حقيقة الأعمال التي عملها العبد الصالح،
وليس تأويل الأقوال (3).
التأويل اصطلاحا:
التأويل عند السلف له معنيان:
أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه: وبذلك يكون التأويل والتفسير مترادفين، وهذا
ما يعنيه " ابن جرير الطبري " في تفسيره، حين يقول: " القول في تأويل قوله تعالى.. "
وكذا قوله: " اختلف أهل التأويل في هذه الآية.. ". فالتفسير والتأويل كلاهما بمعنى.
ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلبا، كان تأويله نفس الفعل
المطلوب، وإن كان خبرا كان تأويله نفس الشئ المخبر به وعليه:
فالتأويل هنا نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء كانت ماضية أم مستقبلة، فإذا
قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها، وهذا في نظر " ابن تيمية " هو لغة
القرآن التي نزل بها، وعلى هذا فيمكن إرجاع ما جاء في القرآن من لفظ التأويل إلى
هذا المعنى الثاني (4).
أما التأويل عند المتأخرين من الأصوليين والكلاميين وغيرهم:
فهو: " صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوع، لدليل يقترن به "،
وهذا هو التأويل الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف (5).
قال في " جمع الجوامع " (6):

(1) الآيات: 6، 37، 44، 45، 100.
(2) الآيتان: 78، 82.
(3) راجع: " التفسير والمفسرون " 1 / 18، 19.
(4) " التفسير والمفسرون " 1 / 19 (بتصرف وإيجاز).
(5) راجع " التفسير والمفسرون " 1 / 19.
(6) ج 2 / 56، و " التفسير والمفسرون " 1 / 20.
43

" التأويل: حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل عليه، لدليل - فصحيح،
أو لما يظن دليلا من الواقع - ففاسد، أو لا لشئ - فلعب لا تأويل ".
الفرق بين التفسير والتأويل
اختلف علما " التفسير " في بيان الفرق بين التفسير والتأويل، ولعل منشأ هذا الخلاف
" هو استعمال القرآن لكلمة " التأويل "، ثم ذهاب الأصوليين إلى اصطلاح خاص فيها، مع
شيوع الكلمة على ألسنة المتكلمين من أصحاب المقالات والمذاهب " (1).
- ومن العلماء من ذهب إلى أنهما بمعنى واحد، ومن هؤلاء: " أبو عبيد القاسم بن
سلام "، وطائفة معه (2).
- ومنهم من فرق بينهما:
يقول الراغب الأصفهاني (3):
" التفسير أعم من التأويل، وأكثر ما يستعمل التفسير من الألفاظ، والتأويل في
المعاني، كتأويل الرؤيا.
والتأويل يستعمل أكثره في الكتب الإلهية، والتفسير يستعمل فيها وفي غيرها.
والتفسير أكثره يستعمل في مفردات الألفاظ، والتأويل أكثره يستعمل في الجمل،
فالتفسير، إما أن يستعمل في غريب الألفاظ: " كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة "، أو في تبيين
المراد وشرحه، كقوله تعالى: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " (البقرة: 43)، وإما في كلام
مضمن بقصة لا يمكن تصوره إلا بمعرفتها، نحو قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في
الكفر) (التوبة: 37)، وقوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها)
(البقرة: 189).
وأما التأويل: فإنه يستعمل مرة عاما، ومرة خاصا، نحو " الكفر " المستعمل تارة في

(1) " التفسير ": معالم حياة - ص 6.
(2) " الاتقان " 2 / 173، " التفسير والمفسرون " 1 / 21 و " الإسرائيليات والموضوعات " 43.
(3) " التفسير والمفسرون " 1 / 21، " نشأة التفسير في الكتب المقدسة والقرآن " / السيد خليل ص 29، نقلا
عن: مقدمة التفسير للراغب 402 - 403 آخر كتاب " تنزيه القرآن عن المطاعن " للقاضي
عبد الجبار.
44

الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، و " الايمان " المستعمل في التصديق
المطلق تارة، وفي تصديق دين الحق تارة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة، نحو
لفظ " وجد " المستعمل في الجد والوجد والوجود ".
وقال أبو طالب الثعلبي (1):
" التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، والصيب
بالمطر، والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الامر،
فالتأويل: إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير: إخبار عن دليل المراد، لأن اللفظ يكشف عن
المراد، والكاشف دليل، مثال قوله تعالى: (إن ربك لبالمرصاد) (الفجر: 14) تفسيره:
أنه من الرصد: يقال: رصدته إذا رقبته، والمرصاد: مفعال منه، وتأويله: التحذير من
التهاون بأمر الله، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه ".
وقال البغوي (2):
" التأويل: هو صرف الآية إلى معنى محتمل يوافق ما قبلها وما بعدها، غير مخالف
للكتاب والسنة من طريق الاستنباط.
والتفسير: هو الكلام في أسباب نزول الآية وشأنها وقصتها ".
وقيل: التفسير: ما يتعلق بالرواية، والتأويل: ما يتعلق بالدراية " (3) يقول
الكافيجي (4):
"... إن علم التفسير علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد، من حيث إنه يدل
على المراد بحسب الطاقة البشرية، وينقسم إلى قسمين:
تفسير: وهو ما لا يدرك إلا بالنقل أو السماع، أو بمشاهدة النزول وأسبابه، فهو ما
يتعلق بالرواية، ولهذا قيل: إن التفسير للصحابة.
وتأويل: وهو ما يمكن إدراكه بقواعد العربية: فهو ما يتعلق بالدراية، ولهذا قيل: إن
التأويل للفقهاء، فالقول من الأول بلا نقل أو سماع خطأ، وكذا القول من الثاني بمجرد

(1) " الاتقان 2 / 173.
(2) " تفسير البغوي " 1 / 18.
(3) " الإتقان " 2 / 173.
(4) " التفسير في قواعد التفسير " ص 3، 11.
45

التشهي، وأما استنباط المعاني على قانون اللغة فمما يعد فضلا وكمالا ".
وقد رجح المرحوم الدكتور الذهبي هذا الرأي، وعلل ذلك بقوله (1):
" وذلك لان التفسير معناه: الكشف والبيان، والكشف عن مراد الله تعالى لا نجزم به
إلا إذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن بعض أصحابه، الذين شهدوا نزول الوحي، وعملوا
ما أحاط به من حوادث ووقائع، وخالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجعوا إليه فيما أشكل عليهم من
معاني القرآن الكريم.
" وأما التأويل: فملحوظ فيه ترجيح أحد محتملات اللفظ بالدليل، والترجيح يعتمد
على الاجتهاد، وبتوصلي إليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها في لغة العرب، واستعمالها
بحسب السياق، ومعرفة الأساليب العربية، واستنباط المعاني من كل ذلك ".
وهذا هو ما نميل إليه.
حاجة الناس إلى التفسير
نزل القرآن الكريم لغرضين أساسيين:
أولهما: ليكون معجزة، فلا يقدر البشر على أن يأتوا بمثله: (قل لئن اجتمعت
الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)
(الإسراء: 88)، ولا بسورة من مثله: (قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون
الله إن كنتم صادقين) (يونس: 38).
ثانيهما: ليكون منهج حياة، ودستورا للمسلمين، فيه صلاحهم وفلاحهم، إذ تكفل
بكل حاجاتهم من أمور الدين والدنيا: عقائد، وأخلاق، وعبادات، ومعاملات... إلخ.
" يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة
للمؤمنين) (يونس: 57).
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)
(الاسراء: 82)، ففي اتباعه الهداية، وفي الأرض عنه الشقاء والضنك، (فإما يأتينكم
مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة

(1) " التفسير والمفسرون " 1 / 23.
46

ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى) (طه: 123 - 126).
وبه مخرج الأمة من أزماتها، ونجاتها من الفتن، يقول علي - كرم الله وجهه -:
قلت: يا رسول الله، ستكون فتن، فما المخرج منها؟.
قال: صلى الله عليه وسلم: " كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو
الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله،
هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء،
ولا يشبع منه العلماء، ولا يلحق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق،
ومن حكم به عدل، ومن خاصم به أفلح، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم ".
- ولكي يكون معجزا ويتأتى تحديه للبشر..
- ولكي يتأتى اتخاذه دستورا ومنهج حياة..
ولكي يتدبر المؤمنون آياته.. (1).
ولكي يستطيع المسلمون العرب الانطلاق بالدعوة (2).. لكل هذا جاء القرآن عربيا.
وكان القوم - " عند نزوله - سواء من هو حجة له، من المؤمنين الصادقين، ومن هو
حجة عليه، من الكافرين الجاحدين - يفهمونه ويحيطون بمعانيه إفرادا وتركيبا، فيتلقون
دعوته، ويدركون مواعظه، ويعون تحديه بالإعجاز بين مذعنين، يقولون: آمنا به،
ومعاندين يلحدون في آياته، ويمنعون في معارضته كيدا وليا بألسنتهم وطعنا في الدين.
" فما كان منهم من تعذر عليه فهمه، ولا من خفيت عليه مقاصده ومعانيه، بل كان
وضوح معانيه، ويسر فهمه، هو الأصل فيما قام حوله من صراع بين مؤمن يجد فيه شفاء
نفسه، وانشراح صدره، وكافر ينقبض لقوارع آياته، فلا يزال يدفعها بالاعراض والمعارضة،
والدفاع والمقارعة، وكان ذلك هو الأصل أيضا في تكون الأمة المحمدية، وتولد التاريخ
الاسلامي " (3).

(1) قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته...).
(2) قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع...).
(3) " التفسير ورجاله " / محمد الفاضل بن عاشور ص 7 - 8.
47

يقول ابن خلدون (1):
" إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه، ويعلمون
معانيه في مفرداته وتراكيبه ".
وقد سبقه أبو عبيدة معمر بن المثنى، حين قال (2):
" إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين، فلم يحتج السلف، ولا الذين أدركوا وحيه، إلى
النبي صلى الله عليه وسلم أن يسألوا عن معانيه، لأنهم كانوا عرب الألسن، فاستغنوا بعلمهم عن المسألة
عن معانيه، وعما فيه مما في كلام العرب مثله من الوجوه والتلخيص ".
إلا أن هذا الاطلاق يعارضه قول عمر بن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم (3):
" يا رسول الله، إنك تأتينا بكلام من كلام العرب، وما نعرفه، ولنحن العرب حقا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ربي علمتني فتعلمت، وأدبني فتأدبت ".
كما يعارضه صريح القرآن، إذ يقول تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل
إليهم) (النحل: 44).
نعم.. إن هناك ألفاظا لم تستطع بعض القبائل العربية معرفتها، ربما لعدم استعمالهم
لها، أو لاحتمال اللفظ عدة معان، وكذا بعض آيات أشكل عليهم فهم معناها، وذلك
كسؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الامن وهم مهتدون) (الانعام: 82)، فقالوا: وأينا لم يظلم؟ وفزعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبين
لهم أن المراد بالظلم الشرك، واستدل عليه بقوله تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم) (4)
(لقمان: 13).
ولو صح ما ذهب إليه ابن خلدون وأبو عبيدة، لما كانت حاجة الصحابة إلى تفسير
الرسول صلى الله عليه وسلم. لكن تفسير الرسول للقرآن، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة، بيانا لمعنى

(1) المقدمة ص 367 ط الأزهرية سنة 1930.
(2) " مجاز القرآن " - ط ثانية - دار الفكر.
(3) " البرهان في علوم القرآن " للزركشي 1 / 284 ط الحلبي تحقيق أبو الفضل إبراهيم، وقال الصيرفي:
ولست أعرف إسناد هذا الحديث، وإن صح، فقد دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عرف ألسنة العرب.
(4) " الاتقان " للسيوطي 2 / 330 و " البرهان " للزركشي 1 / 14.
48

لفظ، أو توضيحا لمشكل، أو تأكيدا لحكم، أو تفصيلا لمجمل، أو تخصيصا لعام، أو
تقييدا لمطلق.. إلخ.
وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - حراصا على حفظ القرآن، وفهم معانيه، وفقه
أحكامه..
قال أبو عبد الرحمن السلمي:
" حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود،
وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزها حتى يعلموا ما فيها
من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل جميعا ".
وإذا كان العرب الخلص الذين لم تعكر عربيتهم عجمة - يحتاجون إلى التفسير،
فنحن أولى وأحوج، بل وأشد حاجة إلى تفسير القرآن الكريم، إذ صار البون بعيدا بين
العرب والفصحى.
يقول السيوطي (1):
" ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه، وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه
من أحكام الظواهر، لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم، فنحن أشد احتياجا إلى
التفسير ".
والحاجة إلى التفسير " إنما هي حاجة عارضة نشأت من سببين:
السبب الأول: هو أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة، وإنما كان نزوله وتبليغه في ظرف
زمني متسع جدا، قدره أكثر من عشرين عاما، فكان ينزل منجما على أجزاء مع فواصل
زمنية متراخية بين تلك الأجزاء، وكان نزوله في تقدم بعض أجزائه وتأخر البعض الاخر،
على ترتيب يختلف عن ترتيبه التعبدي، لان ترتيب تاريخ النزول كان منظورا فيه إلى مناسبة
الظروف والوقائع، مناسبة ترجع إلى ركن من أركان مطابقة الكلام لمقتضى الحال، وترتيب
التلاوة أو الترتيب التعبدي، كان منظورا فيه إلى تسلسل المعاني وتناسب أجزاء الكلام
بعضها مع بعض،... والترتيب الأول مؤقت زائل بزوال ملابساته من الوقائع والأزمنة
والأمكنة.

(1) " الاتقان " 2 / 296 - 297.
49

أما ترتيب التلاوة التعبدي فباق، لأنه في ذات الكلام، يدركه كل واقف عليه وتال له
من الأجيال المتعاقبة، بينما الترتيب التاريخي لا يدركه إلا شاهد العيان لتلك الملابسات من
الجيل الذي كان معاصرا لنزول القرآن... وكان انقراض تلك الملابسات الوقتية محوجا
إلى معرفتها معرفة نقلية تصورية، ليتمكن الآتون من استعمال القرائن والأحوال، التي
اهتدى بها إلى معاني التراكيب القرآنية سابقوهم.
وأما السبب الثاني: فهو أن دلالات القرآن الأصلية، التي هي واضحة بوضوح ما
يقتضيه من الألفاظ والتراكيب - تتبعها معان تكون دلالة التراكيب عليها محل إجمال أو
محل إبهام، إذ يكون الترتيب صالحا على الترديد لمعان متباينة، يتصور فيها معناه الأصلي
ولا يتبين المراد منها، كأن يقع التعبير عن ذات بإحدى صفاتها، أو يكنى عن حقيقة بإحدى
خواصها، أو أحد لوازمها...، فينشأ عن ذلك إجمال يتطلب بيانا، أو إبهام يتطلب
تعيينا... ولما كان الذين اتصلوا أولا بتلك المجملات أو المبهمات أو المطلقات قد
رجعوا إلى المبلغ صلى الله عليه وسلم في طلب بيانها أو تعيينها أو تقييدها، فتلقوا عندما أفادهم، فاطلعوا
بأن الذين أتوا بعدهم احتاجوا إلى معرفة تلك الأمور المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم لتتضح لهم
تلك المعاني، كما اتضحت لمن قبلهم... " (1).
وبذا تبين أن التفسير نشأ منذ بدء الوحي، إذ احتاج إليه الصحابة، ثم زادت حاجة
التابعين إلى التفسير، ولا سيما ما رآه الصحابة وسمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يتمكنوا هم
من رؤيته ولا سماعه... ثم اشتدت حاجة تابعي التابعين.
وهكذا كلما بعد الناس عن عصر نزوله، زادت الحاجة إلى التفسير بمقدار ما زاد من
غموض (2)...
فهم الصحابة للقرآن الكريم
نزل القرآن عربيا على رسول عربي، وقوم عرب، (هو الذي بعث في الأميين رسولا
منهم يتلوا عليهم آياته...) (الجمعة: 2)، فكانوا أخبر بلغتهم، وفهموا القرآن حق فهمه،
وقد يشكل عليهم فهم آية منه، فيرجعون إلى القرآن نفسه، فقد يجدون فيه توضيحا أو
تفصيلا، وإلا رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفسر لهم ما أشكل عليهم...

(1) " التفسير ورجاله " من 10 - 13.
(2) راجع " التفسير والمفسرون " / للذهبي 1 / 101 - 102.
50

وكان الصحابة يجتهدون في فهم القرآن الكريم مستعينين على ذلك ب‍ (1):
1 - معرفة أوضاع اللغة وأسرارها.
2 - معرفة عادات العرب.
3 - معرفة أحوال اليهود والنصارى في الجزيرة وقت نزول القرآن.
4 - قوة الفهم، وسعة الادراك.
وبدهي أن يتفاوت الصحابة في توافر هذه الأدوات عنده. وبالتالي في فهم القرآن
الكريم، فلم يكونوا جميعا في مرتبة واحدة، ومن هنا كان الاختلاف اليسير بينهم في تفسير
القرآن الكريم.
ومن ذلك:
- ما روى " من الصحابة فرحوا حين نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم)
(المائدة: 3) لظنهم أنها مجرد إخبار وبشرى بكمال الدين، ولكن عمر بكى وقال: ما
بعد الكمال الا النقص، مستشعرا نعي النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان مصيبا في ذلك، إذ لم يعش
النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا واحدا وثمانين يوما، كما روي " (2).
- وفيه ما رواه البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (3):
" كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر. فكأن بعضهم وجد في نفسه، وقال: لم يدخل
هذا معنا، وإن لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من أعلمكم، فدعاهم ذات يوم فأدخلني
معهم، فما رأيت أنه دعاني فيهم إلا ليريهم، فقال: ما تقولون في قوله تعالى: (إذا جاء
نصر الله والفتح) (النصر: 1)؟
فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره، إذ نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم،
ولم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟
فقلت: لا، فقال: ما تقول؟
قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له، قال: (إذا جاء نصر الله والفتح)

(1) راجع " التفسير والمفسرون " 1 / 59 وما بعدها.
(2) " الموافقات " للشاطبي ج 3 / 384، " التفسير والمفسرون " 1 / 61، 62.
(3) " فتح الباري بشرح صحيح البخاري " 8 / 519، / باب التفسير، وكذا " أسد الغابة ".
51

(النصر: 1)، فذلك علامة أجلك، (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا)
(النصر: 3) فقال عمر: لا أعلم منها إلا ما تقول ".
- وقال ابن عباس (1):
" كنت لا أدري ما (فاطر السماوات والأرض) (فاطر: 1)، حتى أتاني أعرابيان
يتخاصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها ".
أشهر مفسري القرآن من الصحابة
عد السيوطي عددا من مفسري القرآن من الصحابة، ذكر منهم:
الخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا
موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم.
أما الخلفاء الثلاثة الأول، فالرواية عنهم في التفسير قليلة جدا، وذلك بسبب تقدم
وفاتهم، ولانشغالهم بمهام الخلافة (2).
1 - علي بن أبي طالب:
وأما علي - كرم الله وجهه - فهو أكثرهم تفسيرا للقرآن، وذلك لأنه لم يشغل
بالخلافة، وإنما كان متفرغا للعلم حتى نهاية عصر عثمان...
وكثرة مرافقته للرسول صلى الله عليه وسلم، وسكناه معه، وزواجه من ابنته فاطمة إلى جانب ما حباه
الله من الفطرة السليمة... كل ذلك أورثه العلم الغزير، حتى قالت عائشة رضي الله
عنها (3):
" أما إنه لأعلم الناس بالسنة " في زمن كان الصحابة - رضي الله عنهم - متوافرين.
وروى معمر، عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل قال: " شهدت عليا يخطب،
وهو يقول: سلوني، فوالله، لا تسألوني عن شئ إلا أخبرتكم به، وسلوني عن كتاب
الله، فوالله، ما من آية إلا أنا أعلم: أبليل نزلت أم بنهار، أم في سهل أم في جبل ".
وقيل لعطاء: أكان في أصحاب محمد أعلم من علي؟

(1) " الاتقان " 2 / 113.
(2) " الإسرائيليات والموضوعات في التفسير " 84، و " التفسير والمفسرون " للذهبي 1 / 64، 65.
(3) " الاستيعاب " 3 / 1104، " أسد الغابة " 4 / 29.
52

قال: لا، والله لا أعلمه.
وقال ابن مسعود: " إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا وله ظهر
وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده من الظاهر والباطن " (1).
نموذج من تفسير علي - رضي الله عنه - للقرآن:
قال في تفسير قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه
إيمانا) (التوبة: 124): إن الايمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد الايمان عظما
ازداد ذلك البياض، حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب، فكلما
ازداد النفاق ازداد بذلك السواد، حتى يسود القلب كله، وأيم الله، لو شققتم عن قلب
مؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلت منافق لوجدتموه أسود " (2).
2 - عبد الله بن مسعود:
هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمح، وقيل " شمخ "... ينتهي
نسبه إلى مضر، يكنى بأبي عبد الرحمن، وأمه: أم عبد بنت عبد ود من هذيل، وكان يقال
له: ابن أم عبد.
أسلم قديما قبل عمر بن الخطاب، وكان سبب إسلامه: حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر - رضي الله عنه - وهو يرعى غنما، فسألاه لبنا فقال: إني مؤتمن، قال: فأخذ
رسول الله صلى الله عليه وسلم عناقا لم ينز عليها الفحل، فاعتقلها، ثم حلب وشرب وسقى أبا بكر، ثم
قال للضرع: اقلص، فقلص، فقلت: علمني من هذا الدعاء، فقال: إنك غلام معلم...
الحديث (3).
كان عبد الله من أحفظ الصحابة لكتاب الله وأقرئهم له، وكان صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن
يقرأه عليه، فقال له يوما: اقرأ علي سورة النساء، قال ابن المسعود: أقرأ عليك، وعليك
أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، يقول: فقرأت عليه، حتى بلغت: (فكيف إذا
جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (النساء: 41)، ففاضت

(1) راجع " الاتقان " 2 / 319.
" تفسير البغوي " - ط المنار 4 / 273.
(3) " البداية والنهاية " 7 / 169، " أسد الغابة " 3 / 256 - 260.
53

عيناه صلى الله عليه وسلم (1).
وكان صلى الله عليه وسلم يقول:
" من سره أن يقرأ القرآن رطبا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " (2) وكان ابن
مسعود حريصا على فهم القرآن الكريم، يروي الطبري وغيره عن ابن مسعود، أنه قال:
" كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن،
وعن مسروق قال (3): قال عبد الله بن مسعود:
" والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت، وأين نزلت،
ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لركبت إليه ".
وطرق الرواية عن ابن مسعود متعددة، وأصح هذه الطرق ما جاء من (4):
1 - طريق الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود.
2 - طريق مجاهد، عن أبي معمر، عن ابن مسعود.
3 - طريق الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود.
وهذه الطرق الثلاثة أخرج منها البخاري في صحيحه.
وهناك طرق أخرى ك‍:
1 - طريق السدي الكبير عن مرة الهمذاني عن ابن مسعود، أخرج منها الحاكم في
مستدركه، وابن جرير في تفسيره - كثيرا.
2 - طريق أبي روق عن الضحاك عن ابن مسعود، وهي طريق غير مرضية، أخرج
منها ابن جرير في تفسيره أيضا، وهي منقطعة، لان الضحاك لم يلق ابن مسعود.
وكان لابن مسعود تلاميذ كثير في الكوفة، وكان عمر - رضي الله عنه - لما ولى
عمار بن ياسر على الكوفة سير معه عبد الله بن مسعود معلما ووزيرا، فجلس الكوفيون
إليه وتعلموا منه.

(1) " البداية والنهاية " 7 / 169.
(2) " مسند الإمام أحمد " 1 / 7.
(3) " صحيح البخاري " - كتاب الفضائل / باب مناقب عبد الله بن مسعود.
(4) " التفسير والمفسرون " للذهبي 1 / 87، 88.
54

ويقول العلماء:
إن ابن مسعود هو الذي وضع الأساس لطريقه الاستدلال، وقد أثرت هذه الطريقة في
مدرسة التفسير، فكثر التفسير بالرأي والاجتهاد (1)، وسوف يأتي ذكر تلاميذه عند حديثنا
عن تفسير التابعين.
3 - أبي بن كعب:
هو: أبي بن كعب بن قيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن
النجار، سيد القراء (2)، كنيته: أبو المنذر أو أبو الطفيل.
شهد بيعة العقبة مع السبعين من الأنصار، وشهد بدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو أحد المشهورين بحفظ القرآن من الصحابة، وبإقرائه، قال فيه عمر بن
الخطاب: " أبي أقرؤنا " (3).
وهو أحد الذين تلمذ عليهم " ابن عباس "، يقول ابن عباس (4):
" ما حدثني أحد قط حديثا فاستفهمته، فلقد كنت آتي باب أبي بن كعب، وهو نائم،
فأقيل على بابه، ولو علم بمكاني لأحب أن يوقظ، لمكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني
أكره أن أمله ".
كان أبي يكتب في مصحفه أشياء ليست من القرآن الكريم مما يعد شرحا، أو تفسيرا،
أو سببا لنزول، أو مما نسخ، وكان يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم (5)، فمن
ذلك مثلا: دعاء القنوت (6).
وكان من أعلم الصحابة بكتاب الله، وذلك لعدة عوامل:
* أنه كان من كتاب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم.
* أنه كان خبرا من أحبار اليهود العارفين بأسرار الكتب القديمة وما ورد فيها.

(1) المصدر السابق 1 / 120.
(2) " تهذيب التهذيب " 1 / 187، " غاية النهاية في طبقات القراء " 1 / 31. " أسد الغابة " 1 / 49 - 51.
(3) رواه البخاري، وانظر " طبقات القراء للذهبي " 6 / 629 وكذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) " طبقات ابن سعد " 2 / 371.
(5) " تاريخ الاسلام " للذهبي 2 / 28.
(6) راجع " الاتقان " 1 / 66.
55

وقد تعددت طرق الرواية عنه، وأشهر هذه الطرق:
1 - طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي، وهي
طريق صحيحة، أخرج منها ابن جرير وابن أبي حاتم كثيرا، وأخرج الحاكم منها في
مستدركه، والإمام أحمد في مسنده.
2 - طريق وكيع عن سفيان، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن
أبي بن كعب، عن أبيه، وهذه يخرج منها الإمام أحمد في مسنده، وهي على شرط
الحسن (1).
وتلاميذ أبي كثير منهم: أبو العالية، وزيد بن أسلم، ومحمد بن كعب القرظي
وغيرهم، ويعد أبي بن كعب أستاذ مدرسة التفسير في المدينة.
4 - عبد الله بن عباس (2):
هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم... يلتقي مع الرسول صلى الله عليه وسلم في
الجد الأول (عبد المطلب)، فهو ابن عم رسول الله.
ولد إبان المقاطعة الاقتصادية التي فرضتها قريش على بني المطلب، أي: قبل الهجرة
بثلاث سنوات.
لازم ابن عباس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول توفي ولابن عباس من العمر ثلاث
عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة..
وقد حظي ابن عباس بدعوة رسول الله له حين قال صلى الله عليه وسلم: " اللهم، علمه الكتاب
والحكمة ".
وفي رواية: " اللهم، فقهه في الدين وعلمه التأويل ".
واستجيبت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان عبد الله بن عباس " ترجمان القرآن " يقول ابن
مسعود:
" نعم ترجمان القرآن ابن عباس "، وذلك لبراعته في التفسير، كما لقب بالحبر، لغزارة
علمه، وبالبحر كذلك.

(1) راجع " التفسير والمفسرون " 1 / 92، 93.
(2) بعض الكتب التي تترجم للمفسرين من الصحابة تقدم ابن عباس على سائر الصحابة لتفوقه في هذا العلم،
وبعضها ترجئه بعد الثلاثة السابقين لتقدمهم في السن عليه وحداثته بينهم.
56

وإذا كان ابن عباس قد فاته طول الصحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استعاض عن ذلك
بملازمة كبار الصحابة، يسألهم، ويتعرف أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك.
يقول ابن عباس (1):
" لم أزل حريصا على أن أسأل عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
اللتين قال الله فيهما: (إن تتوبا إلى الله) (التحريم: 4)، ولم أزل أتلطف له حتى عرفت
أنهما حفصة وعائشة ".
ويقول:
" وجدت عامة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الأنصار، فإني كنت لآتي الرجل، فأجده
نائما، لو شئت أن يوقظ لي لأوقظ، فأجلس على بابه تسفي على وجهي الريح، حتى
يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عما أريد ثم أنصرف ".
لقد تلمذ ابن عباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أولا، فكان الرسول يعلمه ويربيه، قال له
يوما:
" يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، وإذا
سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك
بشئ، لم ينفعوك إلا بشئ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشئ، لم
يضروك إلا بشئ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف ".
وفي خلافة عمر كان لابن عباس تقدير خاص عنده، فكان يدنيه من مجلسه، رغم
حداثة سنه - كما ذكرنا.
وقد أفاد ابن عباس من هؤلاء الذين يعدون بمثابة شيوخه:
عمر بن الخطاب، وأبي بن كعب، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، روى
عبد الرزاق عن معمر قال (2):
" عامة علم ابن عباس من ثلاثة: عمر وعلي وأبي بن كعب ".
وذكر ابن الأثير الجزري في ترجمة ابن عباس أنه (3) " حفظ المحكم في زمن "

(1) " الجامع لأحكام القرآن " / للقرطبي 1 / 22.
(2) " تذكرة الحفاظ " للذهبي 1 / 41.
(3) " طبقات القراء " 425.
57

النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عرض القرآن علي أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وقيل: أنه قرأ على علي بن
أبي طالب - رضي الله عنه ".
لقد أوتي ابن عباس علما غزيرا جعله أبرز المفسرين، وأتمهم اضطلاعا بالتفسير،
حتى إنه " لم يبق عند منتصف القرن الأول من الهجرة من بين الصحابة وغيرهم إلا مذعن
لابن عباس، مسلم له مقدرته الموفقة، وموهبة العجيبة، وعلمه الواسع في تفسير
القرآن " (1).
لقد امتلك ابن عباس أدوات المفسر، فكان عالما بأسرار العربية يحفظ الكثير من
الشعر القديم، ويحث الناس على النظر فيه قائلا (2):
" إذا تعاجم شئ من القرآن، فانظروا في الشعر فإن الشعر عربي ".
وهو القائل (3):
" الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله الله بلغة العرب،
رجعنا إلى ديوانها فالتمسنا ذلك منه ".
وقد ذكر السيوطي بسنده حوارا دار بين نافع بن الأزرق وابن عباس فقال (4):
بينا عبد الله بن عباس جالس بفناء الكعبة، قد اكتنفه الناس يسألونه عن تفسير
القرآن، فقال نافع بن الأزرق لنجدة بن عويمر:
قم بنا إلى هذا الذي يجترئ على تفسير القرآن بما لا علم له به، فقاما إليه، فقالا:
إنا نريد أن نسألك عن أشياء من كتاب الله فتفسرها لنا، وتأتينا بمصادقة من كلام العرب،
فإن الله تعالى إنما أنزل القران بلسان عربي مبين، فقال ابن عباس: سلاني عما بدا لكما
فقال نافع:
أخبرني عن قول الله تعالى: (عن اليمين وعن الشمال عزين) (المعارج: 37).
قال: العزون: حلق الرفاق.

(1) " التفسير ورجاله " / ابن عاشور ص 16.
(2) " التفسير ورجاله " / ابن عاشور ص 17.
(3) " الاتقان " 1 / 119، " غاية النهاية في طبقات القراءة " 426.
(4) " الاتقان " 1 / 120.
58

قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: (الوافر)
فجاؤوا يهرعون إليه حتى * يكونوا حول منبره عزينا
قال: أخبرني عن قوله: (وابتغوا إليه الوسيلة) (المائدة: 35).
قال: الوسيلة: الحاجة.
قال: وهل تعرف العرب ذلك؟
قال: نعم، أما سمعت عنترة وهو يقول: (الكامل).
إن الرجال لهم إليك وسيلة * إن يأخذوك تكحلي وتخضبي
إلى آخر المسائل وأجوبتها (1).
وهي إن دلت فإنما تدل على سعة علمه بلغة العرب، وقوة ذاكرته، مما جعله إمام
التفسير في عهد الصحابة، ومرجع المفسرين في الأعصر التالية لعصره، وهو إمام مدرسة
التفسير في مكة، وأول من ابتدع الطريقة اللغوية في تفسير القرآن.
طرق الرواية عن ابن عباس:
تعددت طرق الرواية عن ابن عباس، واختلفت تلك الطرق، وأشهر هذه الطرق
وأصحها (2):
1 - طريق الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وتعد هذه
الطريق من السلاسل الذهبية، وقد أخرج منها ابن جرير الطبري، وعبد الرزاق في
تفسيرهما.
2 - طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح - وعن
عكرمة أحيانا - عن ابن عباس، وقد أخرج منها عبد الرزاق في تفسيره.
3 - طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس... وقالوا:

(1) راجعها في " الاتقان " 1 / 120 وما بعدها.
(2) راجع: " الاتقان " 2 / 188. " التفسير والمفسرون " 1 / 77، 88، " حبر الأمة عبد الله بن عباس "
ص 182.
59

إن هذه أجود الطرق عنه، وفيها قال الإمام أحمد - رضي الله عنه - " إن بمصر
صحيفة في التفسير رواها علي بن طلحة، لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان
كثيرا ".
وقال الحافظ ابن حجر:
" وهذه النسخة كانت عند أبي صالح كاتب الليث، رواها عن معاوية بن صالح، عن
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهي عند البخاري عن أبي صالح، وقد اعتمد عليها
في صحيحة فيما يعلقه عن ابن عباس ".
4 - طريق عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وهناك طرق أخرى تلي هذه الطرق... (1).
وكان لابن عباس مدرسة في التفسير بمكة، فكان يجلس لأصحابه من التابعين يفسر
لهم كتاب الله تعالى.
يقول الإمام ابن تيمية.
" أما التفسير، فأعلم الناس به أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد،
وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس،
كطاوس، وأبي الشعثاء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم.. " (2).
قيمة التفسير المأثور عن الصحابة
بعض المحدثين يعطي التفسير المأثور عن الصحابي حكم المرفوع، ومن هؤلاء
الإمام الحاكم في " مستدركه "، إذ يقول (3):
" ليعلم طالب الحديث، أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل - عند
الشيخين - حديث مسند ".
ولكن قيد ابن الصلاح والنووي وغيرهما هذا الاطلاق بما يرجع إلى أسباب النزول،
وما لا مجال للرأي فيه.

(1) راجع: " حبر الأمة عبد الله بن عباس " 146 وما بعدها.
(2) " مقدمة في أصول التفسير " ص 15.
(3) راجع: " تدريب الراوي " ص 64، " التفسير والمفسرون " للذهبي 1 / 94.
60

يقول ابن الصلاح (1):
" ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند، فإنما ذلك في تفسير يتعلق بسبب نزول
آية يخبر به الصحابي، أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مدخل
للرأي فيه، كقول جابر - رضي الله عنه -: كانت اليهود تقول:
من أتى امرأة من دبرها في قبلها، جاء الولد أحول، فأنزل الله عز وجل:
(نساؤكم حرث لكم...) (القرة: 223) الآية، فأما سائر التفاسير الصحابة التي لا
تشتمل على إضافة شئ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمعدودة في الموقوفات ".
وذكروا أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع إذا لم يكن للرأي فيه مجال، وأما ما
يكون للرأي فيه مجال، فله حكم الموقوف.
وما حكم عليه بالوقف:
قال بعض العلماء: لا يجب الأخذ به، لأنه مجتهد فيه، وقد يصيب وقد يخطئ
وقال بعضهم:
يجب الأخذ به، لأنه: إما سمعه من الرسول، وإما فسره برأيه، وهم أدرى الناس
بكتاب الله، وهم أهل اللسان، ولما شاهدوه من القرائن والأحوال، ولا سيما ما ورد عن
الأئمة الأربعة وابن مسعود وابن عباس وغيرهم (2).
يقول الزركشي (3):
" اعلم أن القران قسمان: قسم ورد تفسيره بالنقل، وقسم لم يرد، والأول: إما أن يرد
عن النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، أو رؤوس التابعين، فالأول: يبحث فيه عن صحة السند،
والثاني: ينظر فيه تفسير الصحابي: فإن فسره من حيث اللغة، فهم أهل اللسان، فلا شك
في اعتماده، أو بما شاهدوه من الأسباب والقرائن فلا شك فيه... ".
ويقول الحافظ ابن كثير (4):
".. وحينئذ: إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال
الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم
61

من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح، ولا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة
الأربعة، والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم ".
مدرسة مكة
تلاميذ ابن عباس
1 - سعيد بن جبير:
هو (1): سعيد بن جبير بن هشام الأسدي، مولى بني والبة، يكنى بأبي محمد (2) أو
بأبي عبد الله (3)، كان حبشي الأصل، أسود اللون، أبيض الخصال (4).
هو أحد كبار التابعين، وإمام من أئمة الاسلام في التفسير.
كان في أول أمره كاتبا لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم لأبي بردة الأشعري، ثم
تفرغ للعلم حتى صار إماما علما (5).
أخذ العلم عن ابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن مغفل المزني وغيرهم، وتخرج
من مدرسة ابن عباس (6).
وكان ابن عباس يثق بعلمه، ويحيل عليه من يستفتيه، وكان يقول لأهل الكوفة إذا
أتوه ليسألوه عن شئ: أليس فيكم ابن أم الدهماء؟! يعني: سعيد بن جبير (7).
وكان يحب أن يسمع منه، قال له مرة: حدث، فقال: أحدث، وأنت هنا؟ فقال:
أليس من نعمة الله عليك أن تحدث، وأنا شاهد، فأن أصبت فذاك، وإن أخطأت
علمتك (8)؟!

(1) ترجمته في: " طبقات ابن سعد " 6 / 256، " تقريب التهذيب " (1 / 292، وفيات الأعيان " (1 / 204،
" تهذيب التهذيب " 4 / 11، " البداية و النهاية " 9 / 103، " الأعلام " 3 / 145.
(2) " طبقات ابن سعد "، و البداية و النهاية " و غيرهما.
(3) " طبقات ابن سعد "، و " البداية و النهاية " و غيرهما.
(4) " التفسير و المفسرون " (1 / 104).
(5) " الإسرائيليات و الموضوعات " 95.
(6) " الإسرائيليات و الموضوعات " 95.
(7) " التفسير و المفسرون " 1 / 105.
(8) " طبقات ابن سعد " 6 / 257، و " وفيات الأعيان " 1 / 204.
62

مكانته في التفسير: كان - رضي الله عنه - من أعلم التابعين بالقراءات، يقول
إسماعيل بن عبد الملك (1): " كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة
عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدا ".
وساعدته معرفته بالقراءات على معرفة معاني القرآن وأسراره، ومع ذلك كان يتورع
من القول في التفسير برأيه.
يروي ابن خلكان (2): " أن رجلا سأل سعيدا أن يكتب له تفسير القرآن، فغضب،
وقال: لأن يسقط شقي أحب إلي من ذلك ".
وقد شهد له التابعون بتفوقه في العلم، ولا سيما التفسير، قال قتادة (3): " وكان أعلم
الناس أربعة، كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن جبير أعلمهم
بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام ".
وقال سفيان الثوري (4): " خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد بن
جبر، وعكرمة، والضحاك ".
وقال خصيف (5): " كان من أعلم التابعين بالطلاق سعيد بن المسيب، وبالحج عطاء،
وبالحلال والحرام طاوس، وبالتفسير أبو الحجاج مجاهد بن جبر، وأجمعهم لذلك كله
سعيد بن جبير ".
نموذج من تفسيره: " قال سعيد بن جبير: السبع المثاني هي: البقرة وآل عمران،
والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، قال: وسميت بذلك، لأنها بنيت فيها
الفرائض والحدود (6).
قتله:
قتل - رضي الله عنه - سنة أربع وتسعين من الهجرة، قتله الحجاج بن يوسف الثقفي

(1) " وفيات الأعيان " 1 / 204.
(2) " وفيات الأعيان " 1 / 204 - 205.
(3) " الإسرائيليات و الموضوعات " 95.
(4) " الإسرائيليات و الموضوعات " 95.
(5) " وفيات الأعيان " 1 / 204 - 205.
(6) " تفسير الطبري " 1 / 33، 34.
63

صبرا، وذلك: أن سعيد بن جبير خرج على الخليفة مع ابن الأشعث، فلما قتل ابن
الأشعث وانهزم، أصحابه من دير الجماجم هرب سعيد، فلحق بمكة، وكان واليها خالد بن
عبد الله القسري، فأخذه وبعث به إلى الحجاج، فقال له الحجاج: ما اسمك؟ قال:
سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير، قال: بل أمي كانت أعلم باسمي منك.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك، قال: الغيب يعلمه غيرك.
قال: لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى، قال: لو علمت أن ذلك بيدك لاتخذتك إلها.
قال: فما قولك في محمد؟ قال: نبي الرحمة، وإمام الهدى.
قال: فما قولك في علي؟ أهو في الجنة أو هو في النار؟ قال: لو دخلتها وعرفت من
فيها عرفت أهلها
قال: فما قولك في الخلفاء؟ قال: لست عليهم بوكيل.
قال: فأيهم أعجب إليك؟ قال: أرضاهم لخالقهم.
قال: وأيهم أرضى للخالق؟ قال: علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم.
قال: فما بالك لم تضحك؟ قال: وكيف يضحك مخلوق خلق من طين، والطين
تأكله النار؟!
قال: فما بالنا نضحك؟ قال: لم تستو القلوب.
ثم أمر الحجاج باللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فجمعه بين يديه، فقال سعيد:
إن كنت جمعت هذا لتتقي به من فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا ففزعة واحدة تذهل
كل مرضعة عما أرضعت، ولا خير في شئ جمع للدنيا إلا ما طلب وزكا، ثم دعا الحجاج
بالعود والناي، فلما ضرب العود، ونفخ بالناي بكى سعيد.
فقال: ما يبكيك هو اللعب؟
قال سعيد: هو الحزن: أما النفخ، فذكرني يوما عظيما، يوم النفخ في الصور، وأما
هذه رواية المحاجة بين سعيد و الحجاج، أما نحن فننزه سعيدا عن هذه الرد، و نجزم بكون علي من أهل
الجنة.
64

العود، فشجرة قطعت من غير حق، وأما الأوتار، فمن الشاء تبعث معها يوم القيامة.
قال الحجاج: ويلك يا سعيد! قال: لا ويل لمن زحزح عن النار وأدخل الجنة!
قال الحجاج: أختر يا سعيد أي قتلة أقتلك.
قال: اختر لنفسك يا حجاج، فوالله، لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة!
قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان العفو، فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك
ولا عذر.
قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه، فلما خرج، فأخبر الحجاج بذلك فرده،
وقال: ما أضحك؟ قال: عجبت من جرأتك على الله، وحلم الله عليك.
فأمر بالنطع فبسط، وقال: اقتلوه! فقال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض، حنيفا وما أنا من المشركين.
قال: وجهوا به لغير القبلة، قال سعيد: (فأينما تولوا فثم وجه الله) (البقرة
115).
قال: كبوه لوجهه، قال سعيد: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة
أخرى) (طه: 55).
قال الحجاج: اذبحوه! قال سعيد: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأن محمدا عبده ورسوله، خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة، ثم دعي سعيد
فقال: اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.
وكان الحجاج إذا نام يراه في المنام يأخذ بمجامع ثوبه، ويقول: يا عدو الله، فيم
قتلتني؟
فيقول الحجاج: ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد بن جبير؟ (1).
ذكر عن الإمام أحمد أنه قال (2):
قتل سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد ألا وهو محتاج - أو قال: مفتقر -
إلى علمه.

(1) انظر " وفيات الأعيان " 1 / 205 - 206، " تذكرة الحفاظ " 71 - 73 " البداية و النهاية " 9 / 101 - 103.
(2) " طبقات ابن سعد " 6 / 266، " وفيات الأعيان " 1 / 206 " الأعلام " 3 / 145.
65

2 - مجاهد بن جبر:
هو: مجاهد بن جبر، أبو الحجاج القرشي المخزومي، مولى السائب بن أبي السائب
المخزومي، ولد سنة 21 ه‍ في خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة 103 ه‍ (1).
أحد أئمة التابعين والمفسرين، وأحد أعلام القراء، ومن خاصة أصحاب ابن عباس،
اشتهر بقوة حافظته، حتى قال ابن عمر وهو آخذ بركابه:
" وددت أن ابني سالما وغلامي يحفظان حفظك " (2).
كان مجاهد شغوفا بالعلم، وخاصة التفسير، روى الفضل بن ميمون عن مجاهد
قال (3): عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة.
ويقول أيضا (4): عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقف عند كل آية،
أسأله، فيم نزلت، وكيف كانت؟
ولا تعارض بين الروايتين، فالأولى لتمام الضبط والتجويد، والثانية للعلم والتفسير.
أسند مجاهد عن أعلام الصحابة وعلمائهم، عن ابن عمر، وابن عباس، وأبي
هريرة، وابن عمرو، وأبي سعيد، ورافع بن خديج... وروى عنه خلق من التابعين (5).
مكانته في التفسير: كان مجاهد أقل أصحاب ابن عباس رواية عنه في التفسير، وكان
أوثقهم.
قال سفيان الثوري (6): " إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ".
وقال ابن تيمية (7): " ولذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل
العلم " غير أن بعض العلماء كان لا يأخذ بتفسيره، يقول أبو بكر بن عياش: قلت
للأعمش، ما بال تفسير مجاهد مخالف؟ أو: ما بالهم يتقون تفسير مجاهد؟

(1) " طبقات ابن سعد " 5 / 466، " تهذيب التهذيب " 10 / 42، " البداية و النهاية " 9 / 232.
(2) " ميزان الاعتدال " 3 / 9.
(3) " ميزان الاعتدال " 3 / 9.
(4) " تهذيب التهذيب " 10 / 42.
(5) " البداية و النهاية " 9 / 232.
(6) " تفسير الطبري " 1 / 30.
(7) " مقدمة في أصول التفسير " ص 7 لابن تيمية.
66

قال: كانوا يرون أنه يسأل أهل الكتاب (1).
لكن هذا لا يقدح في صدقه وعدالته، فقد " أجمعت الأمة على إمامته والاحتجاج به،
وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة " (2).
ثم إن سؤال أهل الكتاب أمر مباح - فيما لا يتعلق بحكم تشريعي - أباحه
الرسول صلى الله عليه وسلم (3).
كان مجاهد - رضي الله عنه - يعطي عقله حرية واسعة في فهم بعض نصوص القرآن
التي يبدو ظاهرها بعيدا، فإذا ما مر بنص قرآني من هذا القبيل، وجدناه ينزله بكل صراحة
ووضوح على التشبيه والتمثيل، وتلك الخطة كانت فيما بعد مبدأ معترفا به، ومقرر لدى
المعتزلة في تفسير القرآن بالنسبة لمثل هذه النصوص " (4).
نموذج من تفسير مجاهد: روى ابن كثير أن مجاهدا قال في قوله تعالى: (وأسبغ
عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) (لقمان: 20)، قال: أما الظاهرة: فالإسلام والقرآن والرسول
والرزق، وأما باطنه: فما ستر من العيوب والذنوب (5).
وقال في قوله تعالى: (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) (الحجرات: 11) قال:
من لم يتب إذا أصبح وإذا أمسى، فهو من الظالمين (6).
3 - عكرمة:
هو: عكرمة بن عبد الله البربري المدني، مولى عبد الله بن عباس، يكنى بأبي
عبد الله، أصله من البربر بالمغرب (7).
سمع من مولاه " ابن عباس "، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعمرو بن
العاص، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وغيرهم (8).

(1) " طبقات ابن سعد " 5 / 466.
(2) " سير أعلام النبلاء " 4 / 324.
(3) يقول صلى الله عليه و آله و سلم: بلغوا عني ولو آية، و حدثوا عن بني إسرائيل و لا حرج، و من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده
من النار.
(4) " التفسير و المفسرون " 1 / 108.
(5) " البداية و النهاية " 9 / 234.
(6) " البداية و النهاية " 9 / 234.
(7) " طبقات ابن سعد " 5 / 287، " وفيات الأعيان " 1 / 319، " البداية والنهاية " 9 / 254، " الأعلام " 5 / 43.
(8) " طبقات ابن سعد " 5 / 287.
67

تلمذ على يدي عبد الله بن عباس، وكان ابن عباس لا يألوا جهدا في تثقيفه
وتعليمه، بل إنه كان يقسو عليه حتى يعلمه، روى ابن أبي شيبة عن عكرمة قال (1):
" كان ابن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن والسنة ".
وروى البخاري في صحيحه عن عكرمة أن ابن عباس قال له (2):
" حدث الناس كل جمعة مرة، فإن أبيت فمرتين، فإن أكثرت فثلاث مرات، ولا تمل
الناس هذا القرآن، ولا ألفينك تأتي القوم، وهم في حديث من حديثهم، فتقص عليهم،
فتقطع عليهم حديثهم فتملهم، ولكن أنصت، فإذا أمروك فحدثهم، وهم يشتهونه، وانظر
السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك ".
لقد اهتم ابن عباس بتلميذه هذا اهتماما كبيرا، وكأنه كان يعده ليكون خليفته في
تفسير القرآن، وكان يكافئه إذا ما أحسن فهم آية أشكلت على ابن عباس.
روى داود بن أبي هند عن عكرمة قال:
قرأ ابن عباس هذه الآية: (لم تعظون قوما مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا)
(الأعراف: 164) قال ابن عباس: لم أدر أنجى القوم أم هلكوا؟ قال: فما زلت أبين له
حتى عرف أنهم نجوا، فكساني حلة (3).
قال شهر بن حوشب: " عكرمة حبر هذه الأمة " (4).
وقد شهد له الأئمة الاعلام بالثقة والعدالة.
قال المروزي: قلت لأحمد: يحتج بحديث عكرمة؟ فقال: نعم، يحتج به (5).
وقال ابن معين: إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة، فأتهمه على
الإسلام) (6)

(1) " البداية و النهاية " 9 / 255، و الكبل: القيد.
(2) " ميزان الاعتدال " 3 / 93.
(3) " طبقات ابن سعد " 5 / 288.
(4) " ميزان الاعتدال " 3 / 93، مقدمة فتح الباري ص 450.
(5) " مقدمة فتح الباري " ص 340.
(6) " معجم الأدباء " 12 / 189.
68

وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة (1).
وقد أخرج له: البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.
علمه ومكانته في التفسير: كان عكرمة على درجة كبيرة من العلم، فهو من أعلم
الناس بالسير والمغازي.
قال سفيان عن عمرو قال (2):
كنت إذا سمعت عكرمة يحدث عن المغازي كأنه مشرف عليهم ينظر كيف يصفون
ويقتتلون، وهو من علماء زمانه بالفقه والقرآن.
أما التفسير، فقد شهد له الأئمة بذلك، يقول الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله
من عكرمة (3).
وقال حبيب بن أبي ثابت:
اجتمع عندي خمسة: طاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وعطاء، فأقبل
مجاهد، وسعيد بن جبير يلقيان على عكرمة التفسير، فلم يسألاه عن آية إلا فسرها لهما،
فلما نفذ ما عندهما جعل يقول:
أنزلت آية كذا في كذا، وأنزلت آية كذا في كذا (4).
نموذج من تفسير عكرمة: قال عكرمة في قوله تعالى: (ولكنكم فتنتم أنفسكم) أي:
بالشهوات، (وتربصتم) بالتوبة، (وغرتكم الأماني) أي: التسويف، (حتى جاء أمر
الله): الموت، (وغركم بالله الغرور) (الحديد: 14): الشيطان (5).
وتوفي عكرمة - رضي الله عنه - بالمدينة سنة سبع ومائة للهجرة، وقيل: سنة أربع
ومائة (6).

(1) " مقدمة فتح الباري " ص 450.
(2) " البداية و النهاية " 9 / 255، " مقدمة فتح الباري " ص 450.
(3) " البداية و النهاية " 9 / 255.
(4) " مقدمة فتح الباري " ص 450.
(5) " البداية والنهاية " 9 / 259.
(6) " تهذيب التهذيب " 7 / 263 - 273، " تذكرة الحفاظ " 1 / 90، " البداية والنهاية " 9 / 253.
69

4 - طاوس:
هو: طاوس بن كيسان الخولاني، أبو عبد الرحمن.
أول طبقة أهل اليمن من التابعين، وهو من أبناء الفرس الذين أرسلهم كسرى إلى
اليمن (1).
أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم، وروايته عن ابن عباس أكثر، وأخذه عنه في
التفسير أكثر من غيره، ولهذا عد من تلاميذ ابن عباس، وجاء ذكره في مدرسته بمكة (2).
روى عنه خلق من التابعين، منهم: مجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، وغيرهم (3)،
شهد له ابن عباس بالورع والتقوى، فقال: " إني لأظن طاوسا من أهل الجنة " (4). وطاوس
ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
كان طاوس - رضي الله عنه - جريئا في الحق، لا يخشى فيه لومة لائم.
روى الزهري (5):
أن سليمان رأى رجلا يطوف بالبيت، له جمال وكمال، فقال: من هذا يا زهري؟
فقلت: هذا طاوس، وقد أدرك عدة من الصحابة، فأرسل إليه سليمان، فأتاه، فقال:
لو ما حدثتنا!! فقال: حدثني أبو موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أهون الخلق على الله عز وجل من ولي من أمور المسلمين شيئا، فلم يعدل
فيهم "، فتغير وجه سليمان، فأطرق طويلا، ثم رفع رأسه إليه، فقال: لو ما حدثتنا!!
فقال: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن شهاب: ظننت أنه أراد عليا
- قال: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام في مجلس من مجالس قريش، ثم قال:
إن لكم على قريش حقا، ولهم على الناس حق، ما إذا استرحموا رحموا، وإذا
حكموا عدلوا، وإذا ائتمنوا أدوا، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين،

(1) " البداية و النهاية " 9 / 244.
(2) " التفسير والمفسرون " 1 / 114.
(3) " تهذيب التهذيب " 5 / 9.
(4) " تهذيب التهذيب " 5 / 9.
(5) " البداية و النهاية " 9 / 247.
70

لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا ".
قال: فتغير وجه سليمان، وأطرق طويلا، ثم رفع رأسه إليه، وقال: لو ما حدثتنا!!
فقال: حدثني ابن عباس، أن آخر آية نزلت من كتاب الله: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) (البقرة: 281).
علمه: بلغ طاوس من العلم مبلغا عظيما، وكان واثقا من علمه هذا...
أنكر عليه سعيد بن جبير قوله عن ابن عباس: " إن الخلع طلاق "، فلقيه مرة فقال له:
" لقد قرأت القرآن قبل أن تولد، ولقد سمعته وأنت إذ ذاك همك لقم الثريد ".
وقال قيس بن سعد:
" كان طاوس فينا مثل ابن سيرين فيكم ".
والتفسير المأثور عنه قليل جدا، ومعظمه عن ابن عباس، ولقلة التفسير المأثور
عنه وطول باعه في الفقه قالوا عنه: إنه فقيه لا مفسر، وعده علماء الفقه فقيها.
نموذج من تفسيره: قال في قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا
يربوا عند الله..) [الروم: 39] الآية: " هو الرجل يعطي العطية، ويهدي الهدية، ليثاب
أفضل. من ذلك، ليس فيه أجر ولا وزر ".
وقد توفي طاوس - رضي الله عنه - يوم السابع من ذي الحجة سنة 106 ه‍، ووافته
منيته وهو يحج بيت الله الحرام، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، وهو خليفة.
5 - عطاء بن أبي رباح:
هو: عطاء بن أبي رباح، وأبو رباح هو: أسلم بن صفوان، مولى آل أبي ميسرة بن
أبي حثيم الفهري (1).
سيد التابعين علما وعملا وإتقانا في زمانه بمكة (2).
قال ابن سعد (3):

(1) " طبقات ابن سعد " 5 / 467، " وفيات الأعيان " 1 / 318، " البداية و النهاية " 9 / 317، 318.
(2) " ميزان الاعتدال " 3 / 70.
(3) " طبقات ابن سعد " 496، " البداية والنهاية " 9 / 318.
71

سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود، أعوز، أفطس، أشل، أعرج، ثم
عمي بعد ذلك، وكان ثقة، فقيها، عالما، كثير الحديث.
قال أبو جعفر الباقر وغير واحد (1):
ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، وزاد بعضهم: وكان قد حج سبعين حجة،
وعمر مائة سنة، وكان في آخر عمره يفطر في رمضان من الكبر والضعف، ويفدي عن
إفطاره.
روى عن عدد كثير من الصحابة، منهم، ابن عمر، وابن عمرو، وعبد الله بن
الزبير، وأبو هريرة، وغيرهم.
وسمع من ابن عباس التفسير وغيره، وروى عنه من التابعين عدة، منهم: الأزهري،
وعمرو بن دينار، وقتادة، والأعمش، وغيرهم (2).
مكانته في التفسير: كان ابن عباس يقول لأهل مكة إذا جلسوا إليه: تجتمعون إلي
يأهل مكة، وعندكم عطاء؟ (3).
وقال قتادة (4):
كان أعلم التابعين أربعة: كان عطاء بن أبي رباح أعلمهم بالمناسك، وكان سعيد بن
جبير أعلمهم بالتفسير، وكان عكرمة أعلمهم بالسير، وكان الحسن أعلمهم بالحلال
والحرام.
لم يكن عطاء مكثرا من رواية التفسير عن ابن عباس فضلا عن تفسيره هو، ولعل
إقلاله في التفسير يرجع إلى تحرجه من القول بالرأي (5).
قال عبد العزيز بن رفيع (6): سئل عطاء عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: ألا
تقول فيها برأيك؟ قال: إني أستحي من الله أن يدان في الأرض برأيي.

(1) " البداية و النهاية " 9 / 318.
(2) " البداية و النهاية " 9 / 318.
(3) " تذكرة الحفاظ " 1 / 91.
(4) " طبقات ابن سعد " 5 / 496.
(5) " التفسير و المفسرون " 1 / 115.
(6) " التفسير و المفسرون " 1 / 115.
72

لكنه كان يدلي برأيه - أحيانا - في التفسير.
روى الطبراني - بسنده - عن يحيى بن ربيعة الصنعاني قال: سمعت عطاء بن أبي
رباح يقول في قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا
يصلحون) (النمل 48) قال: كانوا يقرضون الدراهم، قيل: كانوا يقصون منها
ويقطعونها (1).
وقيل لعطاء: إن ههنا قوما يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فقال: (والذين
اهتدوا زادهم هدى) (محمد: 17)، فما هذا الهدى الذي زادهم؟ قلت: ويزعمون أن
الصلاة والزكاة ليستا من دين الله، فقال: قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين
له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) (البينة: 5)، فجعل ذلك
دينا (2).
وتوفي - رضي الله عنه - سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة (3).
وبعد:
فهذه هي مدرسة التفسير بمكة، تلك التي أسسها حبر الأمة عبد الله بن عباس،
وهؤلاء أشهر شيوخها الذين تخرجوا فيها على يدي ابن عباس، وفي نهاية مطافنا معها
نرصد ما يلي:
* كان لهذه المدرسة دور ضخم في نشر التفسير، وقد هيأ لها هذا الدور: نبوغ
شيوخها، بالإضافة إلى موطن المدرسة " مكة " حيث البيت الحرام الذي يأتيه الناس من كل
فج عميق.
* لم يكتف شيوخ هذه المدرسة بنشر التفسير في مكة، وإنما كان لهم دور بالغ
الأهمية خارج مكة، فقد كان لسعيد بن جبير رحلة إلى الري، نشر فيها الكثير من
العلم (4)، وكذلك كان لمجاهد رحلات خارج مكة، واستقر طاوس باليمن ينشر هناك علم
ابن عباس وتفسيره، وأما عكرمة فقد طاف البلاد الاسلامية شرقا وغربا، إذ رحل إلى
خراسان، واليمن، والعراق، والشام، ومصر، والحرمين (5).

(1) (2) " البداية و النهاية " 9 / 318، 319.
(3) " المصدر نفسه " 9 / 317.
(4) راجع: " حبر الأمة عبد الله بن عباس " ص 145.
(5) راجع: " وفيات الأعيان " 1 / 319، " معجم الأدباء " 12 / 181، " البداية و النهاية " 9 / 254.
73

جرى الله هؤلاء الأعلام عن القرآن والمسلمين خير الجزاء.
مدرسة المدينة
تلاميذ أبي بن كعب
قامت مدرسة المدينة في التفسير على الصحابي الجليل أبي بن كعب - رضي الله
عنه - فهو أستاذها وأشهر مفسريها.
وكان بالمدينة كثير من الصحابة، أقاموا بها، فجلسوا إلى أبي، يعلمهم كتاب الله
وسنته، ومن أشهر هؤلاء:
1 - أبو العالية:
هو: زياد، وقيل: رفيع بن مهران الرياحي، مولاهم (1).
مخضرم، أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين.
روى عن: علي، وابن مسعود، وابن عباس. وابن عمر، وأبي بن كعب، وغيرهم،
كان من ثقات التابعين، وقد أجمع عليه أصحاب الكتب الستة.
كان يحفظ القرآن ويتقنه، قال:
" قرأت القرآن بعد وفاة نبيكم بعشر سنين ".
وقال: " قرأت القرآن على عهد عمر ثلاث مرات ".
وقال فيه ابن أبي داود:
" ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقراءة من أبي العالية ".
رويت عنه نسخة كبيرة في التفسير، رواها أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن
أبي العالية عن أبي، وهو إسناد صحيح.
توفي سنة تسعين من الهجرة، على أرجح الأقوال.

(1) راجع: " تهذيب التهذيب " 3 / 284 - 285، و " مقدمة فتح الباري " ص 422، و انظر: " التفسير
و المفسرون " 1 / 116، 117.
74

2 - محمد بن كعب القرظي:
هو: محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي، المدني، أبو حمزة، أو أبو
عبد الله، له روايات كثيرة عن جماعة من الصحابة منهم:
علي، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم، وروى عن أبي بن كعب بالواسطة (1).
قال فيه ابن سعد (2): كان ثقة، عالما، كثير الحديث، ورعا، وهو من رجال الكتب
الستة.
قال فيه ابن عون (3):
ما رأيت أحدا أعلم بتأويل القرآن من القرظي:
نموذج من تفسيره (4): قال في قوله تعالى: (... اصبروا وصابروا ورابطوا...)
اصبروا: على دينكم، وصابروا: لوعدكم الذي وعدتم، ورابطوا عدوكم الظاهر والباطن،
(واتقوا الله): فيما بيني وبينكم، (لعلكم تفلحون) (آل عمران: 200) إذا لقيتموني.
توفي سنة مائة وثمان من الهجرة (5)، وقيل: بعد ذلك.
3 - زيد بن أسلم:
هو (6): زيد بن أسلم العدوي: المدني، الفقيه، المفسر، أبو أسامة، أو أبو
عبد الله.
كان أبوه مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان زيد من كبار التابعين الذين عرفوا القول بالتفسير.
قال فيه الإمام أحمد وأبو زرعة وأبو حاتم والنسائي: " ثقة "، وهو عند أصحاب
الكتب الستة.

(1) " البداية و النهاية " 9 / 268 و ما بعدها.
(2) راجع: " التفسير و المفسرون " 1 / 117، و " الإسرائيليات و الموضوعات " 98.
(3) راجع: " التفسير و المفسرون " 1 / 117، و " الإسرائيليات " 98.
(4) " البداية و النهاية " 9 / 268.
(5) المصدر نفسه.
(6) " تهذيب التهذيب " 3 / 395 - 397، و راجع: " التفسير و المفسرون " 1 / 118، 119.
75

عرف بغزارة العلم، كان يقرأ القرآن برأيه، ولا يتحرج من ذلك، إذ يرى جواز
التفسير بالرأي.
وأشهر من أخذ التفسير عن زيد بن أسلم من علماء المدينة: ابنه عبد الرحمن بن
زيد، ومالك بن أنس إمام دار الهجرة.
وتوفي سنة ست وثلاثين ومائة للهجرة، وقيل غير ذلك.
مدرسة العراق
تلاميذ عبد الله بن مسعود
قامت هذه المدرسة على عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - وغيره، إلا أن ابن
مسعود هو أشهر أساتذتها أو هو أستاذها الأول لطول باعه في هذا الميدان، بالإضافة إلى
أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين ولى عمار بن ياسر على الكوفة، سير معه
عبد الله بن مسعود، معلما ووزيرا، فجلس إليه أهل الكوفة وأخذوا عنه أكثر من غيره.
ومن أهم سمات هذه المدرسة: شيوع طريقة الاستدلال فيها: نظرا إلى أن أهل
العراق عرفوا بأنهم أهل الرأي، وقد وضع حجر الأساس لهذه الطريقة عبد الله بن
مسعود (1).
ومن أشهر رجال هذه المدرسة:
1 - علقمة بن قنيس:
هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك، أبو شبل، النخعي، الكوفي.
كان من أكابر أصحاب ابن مسعود وعلمائهم، وكان يشبه بابن مسعود، وكان أعلم
أصحابه بعلم ابن مسعود (2).
قال عثمان بن سعيد: " قلت لابن معين: علقمة أحب إليك أم عبيدة؟ فلم يخير، قال
عثمان: كلاهما ثقة، وعلقمة أعلم بعبد الله ".
وروى عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله: ما أقرأ شيئا ولا أعلمه إلا علقمة

(1) " التفسير والمفسرون " 1 / 120 (بتصرف وإيجاز).
(2) " تهذيب التهذيب " 7 / 276 - 278، " البداية و النهاية " 8 / 219.
76

يقرؤه ويعلمه.
قال فيه الإمام أحمد: ثقة من أهل الخير، وهو عند أصحاب الكتب الستة.
مات سنة إحدى وستين، وقيل:، سنة اثنتين وستين عن تسعين سنة (1).
2 - مسروق:
هو: مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني، الكوفي، العابد، أبو عائشة.
سأله عمر يوما عن اسمه، فقال له: اسمي مسروق بن الأجدع، فقال عمر: الأجدع
شيطان، أنت مسروق بن عبد الرحمن (2).
روى عن الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وغيرهم.
وكان أعلم أصحاب ابن مسعود، وأكثرهم أخذا منه، قال علي بن المديني: ما أقدم
على مسروق أحد امن أصحاب عبد الله، يعني: ابن مسعود.
وقال الشعبي: ما رأيت أطلب للعلم منه.
وقد وثقه علماء الجرح والتعديل، فقال ابن معين:
ثقة، لا يسأل عن مثله، وقال ابن سعد: " كان ثقة، وله أحاديث صالحة "، وقد
أخرج له الستة.
توفي - رضي الله عنه - سنة ثلاث وستين من الهجرة، على الأشهر (3).
3 - عامر الشعبي:
هو: عامر بن شراحيل الشعبي، الحميري، الكوفي، التابعي الجليل أبو عمرو،
قاضي الكوفة (4).

(1) راجع المصدرين السابقين.
(2) " تهذيب التهذيب " 10 / 109 - 111، " التفسير و المفسرون " 1 / 121، 122، " الإسرائيليات
والموضوعات " 99.
(3) " تهذيب التهذيب " 10 / 109 - 111، " التفسير و المفسرون " 1 / 121، 122، " الإسرائيليات
و الموضوعات " 99.
(4) " تهذيب التهذيب " 5 / 65 - 69، " البداية و النهاية " 9 / 239 - 240.
77

كان علامة أهل الكوفة، إماما حافظا، ذا فنون.
وقد أدرك خلقا من الصحابة وروى عنهم، ومنهم: عمر، وعلي، وابن مسعود، وإن
لم يسمع منهم، وروى عن أبي هريرة، وعائشة، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري،
وغيرهم.
قال الشعبي: أدركت خمسمائة من الصحابة.
والشعبي ثقة، فهو عند أصحاب الكتب الستة، وقال ابن حبان في الثقات: كان فقيها
شاعرا.
وعن سليمان بن أبي مجلز قال: ما رأيت أحدا أفقه من الشعبي، لا سعيد بن
المسيب، ولا طاوس، ولا عطاء، ولا الحسن، ولا ابن سيرين.
وقال ابن سيرين:
قدمت الكوفة، وللشعبي حلقة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثير (1).
ومع أنه قد أوتي هذا الحظ الوافر من العلم، لم يكن جريئا على كتاب الله، حتى
يقول فيه برأيه، قال ابن عطية (2): حتى
يقول فيه برأيه، قال ابن عطية (2):
كان جلة من السلف كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي يعظمون تفسير القرآن،
ويتوقفون عنه، تورعا واحتياطا لانسهم، مع إدراكهم وتقدمهم.
توفي سنة أربع ومائة من الهجرة 3)، وقيل: سنة تسع ومائة.
4 - الحسن البصري:
هو: الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، أبو سعيد، مولى الأنصار وأمة خيرة
مولاة أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ربي في حجرها، وأرضعته بلبانها، فعادت عليه بركة
النبوة (4).
78

ولد لسنتين بقيتا من خلافه عمر بن الخطاب.
وهو أحد كبار التابعين الاجلاء علما وعملا وإخلاصا شهد له بالعلم خلق كثير.
قال أنس بن مالك:
" سلوا الحسن، فإنه حفظ ونسينا "، وقال سليمان التميمي: " الحسن شيخ أهل
البصرة "، وروى أبو عوانة عن قتادة أنه قال:
" ما جالست فقيها قط إلا رأيت فضل الحسن عليه ".
وكان أبو جعفر الباقر يقول عنه: " ذلك الذي يشبه كلامه كلام الأنبياء " (1).
وقد التزم الحسن البصري بمنهجه السلفي في تفسير الآيات المتعلقة بالله وصفاته،
ولم يمنعه هذا الالتزام من حرية العقل حين تعرض لغيرها، يقول في تفسير قوله تعالى:
(إنا كل شئ خلقناه بقدر) (القمر: 49)، قدر الله لكل شئ من خلقه قدره الذي ينبغي
له، وهذه هي عقيدة السلف التي بنوها على ما تعلق بالآية من سبب لنزولها، فعن أبي
هريرة قال:
جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية: (إنا كل
شئ خلقناه بقدر) (القمر: 49) (2).
وكان الحسن يعمل عقله وفكره في فهم القرآن وتفسيره، يقول في قوله تعالى:
(لابثين فيها أحقابا) (النبأ: 23).:
" إن الله لم يجعل لأهل النار مدة، بل قال: لابثين فيها أحقابا، فوالله، ما هو إلا أنه
إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر إلى الأبد، فليس للأحقاب عدة إلا الخلود " (3).
وتوفي - رحمه الله - سنة عشر ومائة من الهجرة عن ثمان وثمانين سنة.
5 - قتادة:
هو: قتادة بن دعامة السدوسي: الأكمه، أبو الخطاب، عربي الأصل، كان يسكن
البصرة.
79

أحد علماء التابعين، والأئمة العاملين، روى عن أنس بن مالك وجماعة من التابعين،
منهم سعيد بن المسيب، وأبوا لعالية، وزرارة بن أوفى، وعطاء، ومجاهد، وابن سيرين،
ومسروق، وأبو مجلز، وغيرهم (1).
وحدث عنه جماعات من الكبار، كالأعمش، وشعبة، والأوزاعي، وغيرهم.
وكان قوي الحافظة، واسع الاطلاع في الشعر العربي، بصيرا بأيام العرب.
كان قتادة على مبلغ عظيم من العلم، فضلا عما اشتهر به من معرفته لتفسير كتاب الله
تعالى، وقد شهد له بذلك كبار التابعين والعلماء.
قال فيه سعيد بن المسيب: " ما أتاني عراقي أحسن من قتادة ".
وقد استخدم قتادة معرفته باللغة العربية، في التفسير، وأعمل فكره في تفهم الآيات،
بجانب روايته عن السلف.
وقد توفي - رضي الله عنه - سنة سبع عشرة ومائة من الهجرة، عن ست وخمسين
سنة، على المشهور، وقيل: سنة خمس عشرة ومائة (2).
وبعد: فهذه هي مدارس التفسير المشهورة في عصر التابعين، الذين تلقوا غالب أقوالهم في
التفسير عن الصحابة، وبعضهم استعان بأهل الكتاب، ثم اجتهدوا مستعينين على ذلك بما
بلغوا من العلم ودقة الفهم، وقرب عهدهم من الرسول صلى الله عليه وسلم، والعرب الخلص، فلم تفسد
سليقتهم.
وهناك مدارس أخرى غير هذه المدارس الثلاث، ولكنها لم ترق لشهرة هذه الثلاث،
ومن هذه: مدرسة مصر التي اشتهر من شيوخها:
يزيد بن حبيب الأزدي، وأبو الخير مرثد بن عبد الله، وغيرهما.
ومدرسة اليمن التي أرسى دعائمها طاوس بن كيسان، وكان من أشهر شيوخها:
وهب بن منبه الصنعاني.
80

وهكذا بذل هؤلاء التابعون جهدا ضخما في حمل الأمانة عن الصحابة، ثم جاء تابعو
التابعين، ليكملوا المسيرة، وظلت تتوارث حتى وصلت إلينا، فجزى الله كل من أسهم في
هذا العلم خير الجزاء، ونفعنا الله بالقرآن وعلومه!!
قيمة التفسير المأثور عن التابعين
تفسير التابعي: إما أن يكون مأثورا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته، أو لا، فإن كان
مأثورا عن النبي، يأخذ حكم تفسيره صلى الله عليه وسلم، وكذلك إن كان مأثورا عن الصحابة.
وإن لم يكن مأثورا عن النبي ولا عن الصحابة، فقد اختلف العلماء في الرجوع إليه
والاخذ بأقوال التابعين فيه.
* فقد نقل عن أبي حنيفة أنه قال (1):
ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة تخيرنا، وما
جاء عن التابعين فهم رجال ونحن رجال.
* ونقلوا عن الإمام أحمد روايتين، إحداهما: بالقبول، والأخرى: بعدم القبول (2).
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يؤخذ بتفسير التابعين، لأنهم لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم
بخلاف تفسير الصحابة الذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدوا القرائن والأحوال.
وأكثر المفسرين على الاخذ بأقوال التابعين، لأنهم تلقوا على أيدي الصحابة، كما
سبق أن ذكرنا.
والرأي الذي نرجحه، ونميل إليه هو ما ذكره ابن تيمية، قال (3):
" قال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين ليست حجة، فكيف تكون حجة في
التفسير!! يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم، وهذا صحيح أما إذا أجمعوا
على الشئ فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا، فلا يكون قول بعضهم حجة على
بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن، أو السنة، أو عموم لغة
العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك ".
81

سمات التفسير في تلك المرحلة
اتسم التفسير في تلك المرحلة بعدة سمات، من أبرزها (1):
* أنه اعتمد على التلقي والرواية، وغلب على التلقي والرواية طابع الاختصاص،
فكان لكل بلد مدرسته وأستاذه، فمكة: أستاذها ابن عباس، والمدينة: أستاذها أبي بن
كعب، والعراق: أستاذه ابن مسعود، وهكذا،.
* دخول أهل الكتاب في الاسلام في تسلل الدخيل إلى علم التفسير، وقد
تساهل التابعون في النقل عنهم - فيما لا يتعلق بالأحكام الشرعية - بدون تحر ونقد، وأكثر
من روي عنه في ذلك من مسلمي أهل الكتاب:
عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وغيرهم.
* كان بدهيا أن يختلف التابعون في التفسير، نظرا لتعددهم وكثرتهم واختلاف
مدارسهم، التي تخرجوا فيها، ولكنه خلاف ليس بالكثير إذا ما قيس بالعصور اللاحقة.
* كما ظهرت نواة الخلاف لمذهبي، إذ ظهرت بعض التفسيرات تحمل في طياتها
بذورا لتلك المذاهب.
التفسير في عصر التدوين
تبدأ هذه المرحلة في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، إذ انتشر التدوين
بصورة واسعة، وعني العرب " بتدوين كل ما يتصل بدينهم الحنيف، فقد تأسست في كل
بلدة إسلامية مدرسة دينية عنيت بتفسير الذكر الحكيم، ورواية الحديث النبوي، وتلقين
الناس الفقه وشؤون التشريع، وكان كثير من المتعلمين في هذه المدارس يحرصون على
تدوين ما يسمعونه... " (2).
تدوين التفسير: اختلف في أول من ألف تفسيرا " مكتوبا "، فبعضهم يذكر أن
عبد الملك بن جريج (3) (ت 149) ه‍ هو أول من ألف تفسير مكتوبا.
82

وذكر ابن النديم: أن أبا العباس ثعلبا قال: كان السبب في إملاء كتاب ا لفراء في
المعاني أن عمر بن بكير كان من أصحابه، وكان منقطعا إلى الحسن بن سهل، فكتب إلى
الفراء: إن الأمير الحسن بن سهل، ربما سألني عن الشئ بعد الشئ من القرآن، فلا
يحضرني فيه جواب، فإن رأيت أن تجمع لي أصولا، أو تجعل في ذلك كتابا أرجع إليه،
فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى أملي عليكم كتابا في القرآن.. فقال الفراء
لرجل: أقرأ بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم نوفي الكتاب كله، فقرأ الرجل وفسر الفراء، قال
أبو العباس: " لم يعمل أحد قبله مثله، ولا أحسب أن أحدا يزيد عليه " (1).
وبذلك يكون ابن النديم قد عد " الفراء " من ألف تفسيرا للقرآن مدونا.
ولكن ابن حجر يذكر أن التفسير المدون كان قبل الفراء وقبل ابن جريج، إذ
يقول (2):
" وكان عبد الملك بن مروان (ت 86 ه‍) سأل سعيد بن جبير (ت 95 ه‍) أن يكتب
إليه بتفسير القرآن فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار في الديوان، فأخذه،
فأرسله عن سعيد بن جبير.
ويبدو أنه من الصعب تحديد أول من فسر القرآن تفسيرا مدونا على تتابع آياته
وسوره، كما في المصحف.
أقسام التفسير
وظل الخلف يحمل رسالة السلف جيلا بعد جيل، حتى وصلت مسيرة التفسير إلى
تابعي التابعين، وهنا تعددت اتجاهات التفسير إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي:
أولا - الاتجاه الأثري (التفسير بالمأثور):
والمأثور: اسم مفعول من أثرت الحديث أثرا: نقلته، والأثر: اسم منه، وحديث
مأثور، أي: منقول (3).
وعلى ذلك، فهو يشمل المنقول عن الله تبارك وتعالى، - في القرآن الكريم -،
83

والمنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم والمنقول عن الصحابة، والمنقول عن التابعين.
وجل الذين يكتبون عن تاريخ التفسير ويتحدثون عن الاتجاه الأثري يبدأونه بالطبري،
" فيقطعون بذلك اتصال سلسلة التطور في الأوضاع التفسيرية بين القرن الأول والقرن الثالث
بإضاعة حلقة من تلك السلسلة التي تمثل منهج التفسير في القرن الثاني، لان تفسير ابن
جرير الطبري ألف في أواخر القرن الثالث، وصاحبه توفي في أوائل القرن الرابع،
وبالوقوف على هذه الحلقة - وهي إفريقية تونسية - يتضح كيف تصور فهم التفسير عما كان
عليه في عهد ابن جريج، إلى ما أصبح عليه في تفسير الطبري، ويتضح لمن كان الطبري
مدينا له بذلك المنهج الأثري النظري الذي درج عليه في تفسيره العظيم.
" ذلك التفسير هو أقدم التفاسير الموجودة اليوم على الاطلاق، ويعد صاحبه مؤسس
طريقة التفسير النقدي، أو الأثري النظري الذي صار بعده " ابن جرير الطبري " واشتهر بها.
ذلك هو تفسير " يحيى بن سلام " التميمي البصري المتوفى سنة 200 ه‍، ويقع في
ثلاث مجلدات ضخمة، وقد بناه على إيراد الاخبار مسندة، ثم تعقبها بالنقد والاختبار،
وكان يبني اختياره على المعنى اللغوي والتخريج الأعرابي، وتوجد من هذا التفسير نسخة
بتونس (1).
ويعد ابن جرير الطبري ربيب تلك الطريقة، طريقة يحيى بن سلام، وثمرة غرسه،
وقد ذكر السيوطي عددا من مفسري هذا الاتجاه الأثري منهم:
* يزيد بن هارون ت 117 ه‍.
* شعبة بن الحجاج ت 160 ه‍.
* وكيع بن الجراح ت 197 ه‍.
* سفيان بن عيينة ت 198 ه‍، وغيرهم،
- " ابن جرير الطبري " (2):
لكن التفسير حين انتهى إلى الطبري في أوائل القرن الثالث الهجري " كان نهرا مزبدا،
84

ذا ركام ورواسب، قد انصب إلى بحر خضم عباب، فامتزج بمائه، وتشرب من عناصره،
وصفا إليه من زبده، وتطهر لديه من ركامه ورواسبه " (1).
" وابن جرير " فقيه، عالم تبحر في فنون شتى من العلم، فهو أحد المشاهير من رجال
التاريخ، ويعد كتابه " تاريخ الأمم والملوك " فيه مرجع المراجع، وبه صار إمام المؤرخين
غير منازع.
وقد شهد له بذلك كثير من الاعلام، يقول الخطيب البغدادي (2):
" جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله،
عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الاحكام، عالما بالسنن وطرقها،
وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم،
عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله كتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في
التفسير لم يصف أحد مثله.. ".
لقد امتلك الطبري أدوات التفسير، فأستخدمها بمهارة وحذق، ومن هنا عد تفسيره
" ذا أولية بين كتب التفسير، أولية زمنية، وأولية من ناحية الفنية والصياغة، أما أوليته
الزمنية: فلانه أقدم كتاب في التفسير وصل إلينا وما سبقه من المحاولات التفسيرية، ذهبت
بمرور الزمن، ولم يصل إلينا شئ منها، اللهم، إلا ما وصل إلينا منها في ثنايا ذلك الكتاب
الخالد الذي نحن بصدده (3).
" وأما أوليته من ناحية الفن والصياغة، فذلك أمر يرجع إلى ما يمتاز به الكتاب من
الطريقة البديعة التي سلكها فيه مؤلفه، حتى أخرجه للناس كتابا له قيمته ومكانته " (4).
طريقة الطبري في التفسير:
حين يفسر الطبري آية بضع لها عنوانا هكذا " القول في تأويل قوله جل ثناؤه.. " ثم
يقول: " يعني تعالى بذلك... " ويستشهد على التفسير بما يرويه بسنده إلى الصحابة أو
85

التابعين، عارضا المعاني الحقيقية والمجازية في استعمالات العرب، مستشهدا بالشعر
العربي على ما يثبت استعمال اللفظ في المعنى الذي حمله عليه.
وقد يعرض أقوال الصحابة والتابعين إذا تعددت في الآية الواحدة، ثم لا يكتفي
بمجرد العرض، وإنما يرجح رأيا على رأي بقوله (1):
" وأولى الأقوال عندي بالصواب.. " أو " قال بو جعفر: والصواب من القول في
هذه الآية.. "، أو " وأولى التأويلات بالآية... "، ثم يؤيد رأيه بقله: " وبمثل الذي قلنا
قال أهل التأويل.. " أو بعرض حجج وأدلة قائلا: " وإنما رأين أن ذلك أولى التأويلات
بالآية، لان.. "، وقد عني ابن جرير بالقراءات عناية كبيرة، ولا غرو، فهو من علماء
القراءات المشهورين، وله فيها مؤلف، إلا أنه ضاع ضمن ما ضاع من التراث العربي
القديم.
كما اهتم الطبري بالشعر القديم، يستشهد به على الغريب، وهو في ذلك تابع لابن
عباس، كما كانت له عناية بالمذاهب النحوية البصرية والكوفية، يورد الرأي ويوجهه.
ويورد بعض الأحكام الفقهية في تفسيره، مختارا لاحد الآراء، مؤيدا اختياره بالأدلة
العلمية القيمة... (2).
رحم الله الطبري وجزاه عن القرآن وتفسيره خير الجزاء..
ثانيا - الاتجاه اللغوي:
وقد بدا هذا الاتجاه واضحا في أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث، إذ
نشأ علم النحو، ونضجت علوم اللغة على أيدي الرواد أمثال أبي عمرو بن العلاء،
ويونس بن حبيب، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وغيرهم.
وكان الغرض الأسمى من تأصيل هذه العلوم وتقعيدها خدمة القرآن الكريم، صيانة له
من اللحن، ولا سيما بعد اتصال العرب بالعجم.
وقد أثرت هذه الدراسات في تفسير القرآن تأثيرا كبيرا، إذ اشتغل اللغويون أنفسهم
بالقرآن ولغته، وكان من أشهر هؤلاء العلماء " أبو عبيدة معمر بن المثنى " المتوفى سنة
86

208 ه‍ أو 215 ه‍، وقد ألف كتابه " مجاز القرآن " سنة 188 ه‍ (1)، ويعد هذا الكتاب
أقدم مؤلف في معاني القرآن وصل إلينا.
وأبو عبيدة موسوعة علمية له مؤلفات في مجالات شتى، وقد " أوتي لسانا صارما
جلب على نفسه عداوات كثيرة، ثم تنفس به العمر قرابة قرن كامل زامل فيه أعلاما كبارا،
وجادل خصوما كثارا، وشهد تلاميذه ومن في طبقتهم يجادلون عنه، ويجادلون فيه، فقرب
وباعد، وواصل وقاطع، ولكن مخالفيه كانوا من الكثرة بحيث أرهقوه وضايقوه، حتى جاءه
الاجل فلم ينهض لتشييع جنازته أحد، وعلل ذلك بما ترك من حزازات أدبية " (2).
ويحكي أبو عبيدة سبب تأليفه كتاب " مجاز القرآن " فيقول:
" أرسل إلي الفضل بن الربيع والي البصرة في الخروج إليه سنة ثمان وثمانين ومائة،
فقدمت إلى بغداد واستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت عليه، وهو في مجلس له طويل
عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي،
وهو جالس عليها، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني حتى جلست إليه
على فرشة، ثم سألني وألطفني وباسطني، وقال: أنشدني، فأنشدته فطرب وضحك، وزاد
نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتاب له هيئة، فأجله إلى جانبي، وقال له: أتعرف هذا؟
قال: لا، قال: هذا أبو عبيدة علامة أهل البصرة! أقدمناه لنستفيد من علمه،
وقرظه لفعله هذا، وقال لي: إني كنت إليك مشتاقا، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن
أعرفك إياها؟
فقلت: هات، قال: قال الله عز وجل: (طلعها كأنه رؤوس الشياطين)
(الصافات: 65)، وإنما يقع الوعد والإيعاد بما عرف مثله وهذا لم يعرف، فقلت: إنما
كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس: (الطويل)
أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم، أو عدوا به فاستحسن
الفضل ذلك، واستحسن السائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل
هذا وأشباهه وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سميته

(1) " معجم الأدباء " 19 / 158.
(2) " خطوات التفسير البياني " د. رجب البيومي ص 37، 38، و راجع: " مجعم الأدباء " 19 / 160.
87

المجاز، وسألت عن الرجل السائل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه وهو
إبراهيم بن إسماعيل الكاتب " (1).
وبعض العلماء ينكر هذه القصة، لان أبا عبيدة لم يشر إليها في مقدمة كتابه... (2).
ومن الذين كتبوا عن اتجاهات التفسير من يسلك أبا عبيدة - من خلال كتابه هذا - في
سلك الاتجاه البياني في التفسير، وأكثرهم يعده رائدا في الاتجاه اللغوي.
على أن أبا عبيدة لم " يعن بالمجاز ما هو قسيم الحقيقة، وإنما عنى بمجاز الآية ما
يعبر به عن الآية " (3).
فقد يستعمل أبو عبيدة لفظ المجاز قاصدا به معنى اللفظ، فمثلا في قوله تعالى:
(رب أوزعني أن أشكر نعمتك) (الأحقاف: 15) يقول: " مجازه: شددني إليك، ومنه
قولهم: وزعني الحلم عن السفاه، أي: منعني، ومنه الوزعة: الذين يدفعون الخصوم
والناس عن القضاة والأمراء "، ثم يستشهد بالبيت:
على حين عاتبت المشيب على الصبا * فقلت ألما تصح والشيب وازع (4)
وأما أبو زكريا الفراء المتوفى سنة 207 ه‍، فكان يستعين بتفسيرات السلف، مضيفا
له ما أدى إليه اجتهاده اللغوي، وكذا الزجاج المتوفى سنة 311 ه‍ (5).
لقد استلهم الفراء الحس اللغوي محكما ذوقه وعقله، كما راعى السياق العام في
الآية، ولذا نجده يفضل قراءة التجانس بين الكلمات المتجاورات على غيرها (6).
ثالثا - الاتجاه البياني (7):
وبذور هذا الاتجاه نجدها في تفسير ابن عباس المبثوث في ثنايا التفسير الأثري، ومن

(1) " معجم الأدباء " 19 / 158.
(2) راجع " خطوات التفسير البياني " ص 44، 45 و قد ذكر الدكتور رجب البيومي أسبابا أخرى و مبررات
لرفض هذه القصة.
(3) " فتاوى ابن تيمية " كتاب الإيمان ص 88.
(4) " مجاز القرآن " 2 / 92، 93.
(5) راجع البغوي الفراء ص 238.
(6) راجع البغوي الفراء ص 239، 240 (بتصرف و إيجاز).
(7) بعض المؤلفين في تاريخ التفسير يضعون اتجاها ثالثا بدلا من هذا الاتجاه يطلقون عليه " الاتجاه النقدي "،
و بعضهم يسلك هذا الاتجاه ضمن الاتجاه الأثري. انظر: " التفسير و رجاله ": ابن عاشور ص 26.
88

أمثلة ذلك: ما رواه ابن جرير في تفسير قوله تعالى: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من
نخيل وأعناب... له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار
فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) (البقرة: 266)، أن عمر
- رضي الله عنه - سأل الناس عن هذه الآية، فما وجد أحدا يشفيه، حتى قال ابن عباس،
وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إني أجد في نفسي منها شيئا، فتلفت إليه، فقال: تحول ههنا
لم تحقر نفسك؟ قال:
هذا مثل ضربه الله عز وجل، فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير
وأهل السعادة حتى إذا كان أحوج ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره واقترب
أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه (1).
" وهو من باب الاستعارة التمثيلية، وقد ألمع إليه ابن عباس بقوله المقارب: هذا مثل
ضربه الله عز وجل.. إلخ، وهل قال البلاغيون فيما بعد غير ذلك؟! " (2).
ونهج تلاميذ ابن عباس نهجه، وكان أكثرهم نتاجا في هذا الاتجاه " مجاهدا " (3)، وأما
تأصيل هذا الاتجاه فقد كان على يد " أبي عبيدة " صاحب " مجاز القرآن " ويعد صاحب
الخطوة الأولى في هذا الاتجاه.
" وفضل هذا الكتاب في الدراسات البلاغية: أنه حين تعرض للنصوص القرآنية أشار
إلى ما تدل عليه من حقيقة أو مثل أو تشبيه أو كناية وما يتضمن من ذكر أو حذف أو تقديم
أو تأخير، فوضع بذلك اللبنة الأولى في صرح الدراسات البلاغية للقرآن... وإذا كان
عبد القاهر أظهر من نادى من البلغاء بأن يوضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو،
وهو ما سمي بقضية النظم، فإن بذور قضيته هذه كانت تكمن في مجاز " أبي عبيدة " حيث
رأى في زمنه السابق ما رآه صاحب " الدلائل " في زمنه اللاحق، فكان بذلك الرائد الأول
لعلم المعاني عند من يلتمسون الجذور الضاربة في الأعماق (4).
وقد رتب " أبو عبيدة " كتابه وفق ترتيب السور القرآنية في المصحف، ومن هنا صار
من اليسير أن يرجع الدارس إلى ما ذكر أبو عبيدة في توجيه الآيات الكريمة من مثل قوله
تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) (البقرة: 223) حيث قال: إنها كناية

(1) " تفسير ابن جرير " 3 / 47.
(2) راجع: " خطوات التفسير البياني " ص 21 و فيه شواهد أخرى.
(3) راجع الأمثلة التي ذكرها الدكتور رجب البيومي في " خطوات التفسير البياني " ص 34 و ما بعدها.
(4) " خطوات التفسير البياني " ص 46، 47.
89

وتشبيه (1).
ومن مثل قوله تعالى: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من
أسس بنيانه على شفا جرف هار فأنهار به في نار جهنم) (التوبة: 109)، حيث أتبع الآية
بتحليل بياني وعدها من مجاز التمثيل حين قال:
" ومجاز الآية: مجاز التمثيل، لان ما بنوه على التقوى أثبت أساسا من البناء الذي
بنوه على الكفر والنفاق، فهو على شفا جرف، وهو ما يجرف من الأودية، فلا يثبت البناء
عليه (2).
تلك هي الخطوة الأولى خطاها أبو عبيدة في التفسير البياني للقرآن الكريم، وإن
وجهت إليه كثير من النقود والمطاعن من علماء كبار أمثال الفراء والأصمعي والطبري (3)..
ثم تلت هذه الخطوة خطوات الجاحظ وابن قتيبة وغيرهما...

(1) راجع: " مجاز القرآن " 1 / 73.
(2) " مجاز القرآن " 1 / 269، و انظر: " خطوات التفسير البياني " ص 51، 52.
(3) راجع: " خطوات التفسير البياني " ص 58 و ما بعدها.
90

المبحث الثالث
الكلام على تفسير الثعالبي
أولا: المصادر التي استقى منها أبو زيد الثعالبي في " الجواهر الحسان "
بادئ ذي بدء أقول: إنه لا يستطيع أحد من الناس أن يزعم أنه يستطع أن يأتي
بأفضل مما أتى به أئمة هذه الأمة، فالخلف عيال على السلف، ولولا أن الله حفظ بهم
الدين، لما كان هذا حال المسلمين، ولعبدوا الله تعالى بمذاهب باطلة ما أنزل الله بها من
سلطان، فلله درهم، وعليه شكرهم. (الطويل)
أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وليس هذا من باب تحجير الواسع، أو تضييق رحمة الله، فلم يقصر الله العلم
والشعر والبلاغة على عصر دون عصر، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مفرقا
في الأمة، موجودا لمن التمسه، وكم ترك الأول للآخر!!
إلا أن اللاحق - ولا مفر - ينقل عن السابق، وهكذا دواليك، سنة الله في الذين خلوا
من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا.
من هنا كان للثعالبي أن يعتمد على كلام من سبقوه، فهم سلفه، وهو خلفهم، وهم
شيوخه، وهو تلميذهم، فمن مكثر عنه، ومن مقل.
ولا شك أن للرحلة التي ارتحلها الثعالبي في طلب العلم أثرا بالغا في تحصيل
دواوين أولئك الأعلام، خاصة كتب المشرقيين منهم، فجمع حصيلة وافرة عز اقتناؤها،
وأسفارا عظيمة ندر اقتناصها.
ولقد تنوعت مصادر الثعالبي، وتشكلت على اختلاف العلوم التي يحتاج إليها المفسر
والتفسير، وهذه قائمة بأهم المصادر في كل علم حدة:
أولا: مصادره من كتب التفسير:
اعتمد الثعالبي - رحمه الله - على عدة مصادر مهمة في التفسير، كان أهمها:
1 - تفسير ابن عطية المسمى " المحور الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ": وهو الأصل
الذي اعتضده المصنف، فاختصره، وزاد عليه. ومؤلف " المحرر " هو:
91

عبد الحق بن غالب بن عبد الرحيم. وقيل: عبد الرحمن بن غالب بن تمام بن
عبد الرؤوف بن عبد الله بن تمام بن عطية الغرناطي صاحب التفسير الإمام أبو محمد
الحافظ القاضي. قال ابن الزبير: كان فقيها جليلا عارفا بالأحكام والحديث والتفسير،
نحويا لغويا أديبا بارعا شارعا مفيدا ضابطا نسيبا فاضلا، من بيت علم وجلالة، غاية في
توقد الذهن، وحسن الفهم، وجلالة التصرف. روى عن: أبيه الحافظ أبي بكر، وأبي علي
الغساني، والصفدي، وعنه: ابن مضار، وأبو القاسم بن حبيش، وجماعة. و ولي قضاء
" المرية " يتوخى الحق والعدل.
وألف تفسير القرآن العظيم، وهو أصدق شاهد له بإمامته في العربية وغيرها، وخرج
له برنامجا.
ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وتوفي بلورقة في خامس عشر رمضان سنة ثنتين.
وقيل: إحدى. وقيل: ست وأربعين وخمسمائة.
وذكره في " قلائد العقيان "، ووصفه بالبراعة في الأدب والنظم والنثر.
ولقد نوه أبو حيان في مقدمة تفسيره بالزمخشري، وابن عطية باعتبارهما علمين من
أعلام التفسير، وإمامين من كبار أئمته، ووصفهما بأنهما أجل من صنف في علم التفسير،
وأفضل من تعرض للتنقيح فيه، والتحرير، ثم أثنى أبو حيان في هذه المقدمة كذلك على
كتابيهما في التفسير ثناء، ورفع من شأنهما، وأشار إلى أنه قام في تفسيره بانتقاد هذين
الكتابين والتعقيب عليهما، وذلك حيث يقول:
" ولما كان كتاباهما في التفسير قد أنجدا وأغارا وأشرقا في سماء هذا العلم بدرين،
وأنارا، وتنزلا من الكتب التفسيرية منزلة الانسان من العين، والذهب الإبريز من العين،
ويتيمة الدر من اللآلي، وليلة القدر من الليالي، فعكف الناس شرقا وغربا عليهما، وثنوا
أعنة الاعتناء إليهما، وكان فيهما على جلالتهما مجال لانتقاد ذوي التبريز، ومسرح للتخيل
فيهما والتمييز، ثنيت إليهما عنان الانتقاد، وحللت ما تخيل الناس فيهما من الاعتقاد أنهما
في التفسير الغاية التي لا تدرك، والمسلك الوعر الذي لا يكاد يسلك، وعرضتهما على
محك النظر، وأوريت فيهما نار الفكر، حتى خلصت دسيسهما، وبرز نفيسهما، وسيرى
ذلك من هو للنظر أهل، واجتمع فيه إنصاف وعقل ".
والمقصود ذكر فضل تفسير ابن عطية، وبيان أهميته.
ولقد نص الثعالبي نفسه في مقدمته على أنه قد اعتمد تفسير ابن عطية، فقال: "...
92

فقد ضمنته (يعني: تفسيره) بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية، وزدته فوائد
جمة.. إلخ ".
2 - " مختصر تفسير الطبري " لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي،
النحوي.
3 - مختصر " البحر المحيط " لأبي حيان، اختصره الصفاقسي، وسماه " المجيد في
إعراب القرآن المجيد ":
يقول محمد بن مخلوف في " شجرة النور الزكية " واصفا كتاب " المجيد ": " وهو من
أجل كتب الأعاريب، وأكثرها فائدة ".
ويقول حاجي خليفة في " كشف الظنون " (بعد أن عرف بعلم إعراب القرآن وذكر
بعض من صنف فيه): " وأبو الحسن علي بن إبراهيم الحوفي المتوفى 562 ه‍، وكتابه
أوضحها، وهو في عشر مجلدات، وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري النحوي،
المتوفى سنة 616 ه‍، وكتابه أشهرهما، وسماه " التبيان "،. أوله " الحمد لله... "، وأبو
إسحاق إبراهيم بن محمد الصفاقسي، المتوفى سنة 742 ه‍، وكتابه أحسن منه، وهو في
مجلدات سماه " المجيد في إعراب القرآن المجيد ". وقد ذكره في مقدمته، فقال: " وما نقلته
من الإعراب عن غير ابن عطية، فمن الصفاقسي مختصر أبي حيان... إلخ ".
4 - " مفاتيح الغيب " أو التفسير الكبير، للإمام الرازي:
وهو من أجل التفاسير، وإن كان أطال في الاستدلال ورد الشبه إطالة كادت تغطي
على كونه كتاب تفسير. ولسنا نميل مع أبي حيان في قوله فيه: " فيه كل شئ إلا التفسير "،
فإنه - رحمه الله - مع الاستطراد إلى ذكر الأدلة والبراهين، قد وفى التفسير حقه.
وبالجملة: فالكتاب أشبه ما يكون بموسوعة في علم الكلام، واللغة، والأصول،
والآثار، وفي العلوم الكونية، والطبيعية، وغير ذلك من فنون العلم.
هذا، ولم ينص الثعالبي في مقدمته على أنه استقى من " مفاتيح الغيب "، إلا أنه نقل
منه في ثنايا تفسيره، فأكثر من النقل، فيقول: قال الفخر، ثم يذكر كلامه.
5 - " أحكام القرآن " للقاضي أبي بكر بن العربي:
وقد أكثر الثعالبي - رحمه الله - من النقل عنه، وهذا واضح من خلال استقراء آيات
الأحكام، وتناوله لها.
93

وهذا الكتاب لا يتعرض لسور القرآن كلها، ولكنه يتعرض لما فيها من آيات الأحكام
فقط، وطريقته في ذلك أن يذكر السورة، ثم يذكر عدد ما فيها من آيات الاحكام، ثم يأخذ
في شرحها آية آية.. قائلا: الآية الأولى وفيها خمس مسائل " مثلا "، والآية الثانية وفيها
سبع مسائل " مثلا " وهكذا، حتى يفرغ من آيات الاحكام الموجودة في السورة.
وهذا الكتاب يعتبر مرجعا مهما للتفسير الفقهي عند المالكية، وذلك لان مؤلفه مالكي
تأثر بمذهبه، فظهرت عليه في تفسيره روح التعصب له، والدفاع عنه، غير أنه لم يشتط في
تعصبه إلى الدرجة الذي يتغاضى فيها عن كل زلة علمية تصدر من مجتهد مالكي، ولم يبلغ
به التعسف إلى الحد الذي يجعله يفند كلام مخالفه إذا كان وجيها ومقبولا، والذي يتصفح
هذا التفسير يلمس منه روح الإنصاف لمخالفيه أحيانا، كما يلمس منه روح التعصب
المذهبي التي تستولي على صاحبها، فتجعله أحيانا كثيرة يرمي مخالفه، وإن كان إماما له
قيمته ومركزه بالكلمات المقذعة اللاذعة، تارة بالتصريح، وتارة بالتلويح. ويظهر لنا أن
الرجل كان يستعمل عقله الحر، مع تسلط روح التعصب عليه، فأحيانا يتغلب العقل على
التعصب، فيصدر حكمه عادلا لا تكدره شائبة التعصب، وأحيانا - وهو الغالب - تتغلب
العصبية المذهبية على العقل، فيصدر حكمه مشوبا بالتعسف، بعيدا عن الإنصاف.
وهذا الكتاب أيضا لم ينص المصنف على أنه اعتمد عليه - في مقدمته، بل ذكر النقل
عنه في ثنايا التفسير.
ثانيا: كتب غريب (1) القرآن والحديث:
وقد اعتمد الثعالبي على كتابين في غريب ألفاظ الكتاب العزيز: أولهما: لأبي
عبيد القاسم بن سلام الهروي، والثاني: وهو مختصر غريب القرآن للحافظ زين الدين
العراقي.

(1) قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي الغريب من الكلام انما هو الغامض البعيد من الفهم كما
أن الغريب من الناس إنما هو البعيد عن الوطن المنقطع عن الأهل و الغريب من الكلام يقال به على
وجهين. أحدهما أن يراد به أنه بعيد المعنى غامضه لا يتناوله الفهم إلا عن بعد، و معاناة فكره و الوجه
الأخر أن يراد به كلام من بعدت به الدار من شواذ قبائل العرب، فإذا وقعت إلينا الكلمة من لغاتهم
استغربناها انتهى.
و قال ابن الأثير في " النهاية ": و قد عرفت أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان أفصح العرب لسانا، حتى قال له علي
رضي الله تعالى عنه و قد سمعه يخاطب و قد بني نهد: يا رسول الله نحن بنو أب واحد، و نراك تكلم وفود
العرب بما لا تفهم أكثره، فقال: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " فكان عليه الصلاة و السلام يخاطب العرب
على اختلاف شعوبهم و قبائلهم بما يفهمونه، فكأن الله تعالى قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره، و كان
94

كما اعتمد في غريب السنة على كتاب أبي عبيد بن سلام الهروي.
ثالثا: المصادر التي اعتمد عليها من كتب السنة:
1 - صحيح الإمام البخاري.
2 - صحيح الإمام مسلم.
3 - سنن أبي داود.
4 - سنن الترمذي.
5 - حلية الأبرار " أو " الأذكار، للأمام النووي.
6 - سلاح المؤمن، لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن همام المصري
الشافعي.
7 - مصابيح السنة، للبغوي.
8 - الموطأ، للإمام مالك.
رابعا: كتب الترغيب و الترهيب و الرقائق:
اعتمد الثعالبي في هذا الفن على كتابين هما:
1 - التذكرة في أحوال الموتى و أمور الآخرة، للإمام القرطبي.

أصحابه يعرفون أكثر ما يقوله، و ما جهلوه سألوه عنه، فيوضحه لهم. و استمر عصره إلى حين وفاته -
عليه الصلاة و السلام - و جاء عصر الصحابة جاريا على هذا النمط، فكان اللسان العربي عندهم صحيحا
لا يتداخله الخلل إلى أن فتحت الأمصار، و خالط العرب غير جنسهم، فامتزجت الألسن، و نشأ بينهم
الأولاد، فتعلموا من اللسان العربي ما لا بد لهم في الخاطب، و تركوا ما عداه، و تمادت الأيام إلى أن
انقرض عصر الصحابة، و جاء التابعون فسلكوا سبيلهم، فما انقضى زمانهم إلا و اللسان العربي قد
استحال أعجميا، فلما أعضل الداء ألهم الله سبحانه و تعالى جماعة من أهل المعارف إن صرفوا إلى هذا
الشأن طرفا من عنايتهم، فشرعوا فيه حراسة لهذا العلم الشريف. فقيل: إن أول من جمع في هذا الفن
شيئا أبو عبيدة معمر بن المثنى التميمي التيمي البصري المتوفى سنة 210 عشر و مائتين، فجمع كتابا
صغيرا، و لم تكن قلته لجهله بغيره، و إنما ذلك لأمرين: أحدهما: أن كل مبتدىء [مبتدأ] بشئ لم يسبق
إليه يكون قليلا، ثم يكثر، و الثاني: أن الناس كان فيهم يومئذ بقية، و عندهم معرفة، فلم يكن الجهل قد
عم.
95

2 - العاقبة، للإمام عبد الحق الأشبيلي.
وهذان الكتابان نص عليهما في مقدمته، إلا أنه اعتمد على كتب أخرى في ذلك
الفن، مثل:
3 - الرقائق، لابن المبارك.
4 - بهجة المجالس وأنس المجالس، لأبي عمر بن عبد البر.
5 - رياضة المتعلمين، للأصفهاني.
خامسا: كتب في الأحكام الفقهية والأصولية:
1 - المدونة، لسحنون بن سعيد.
2 - مختصر ابن الحاجب الفرعي.
3 - الإلمام في أحاديث الأحكام، لابن دقيق العيد.
4 - البيان والتحصيل، لابن رشد.
5 - مختصر ابن الحاجب، المسمى ب‍ " المنتهى ".
سادسا: كتب الخصائص والشمائل:
اعتمد الثعالبي في " الجواهر الحسان " في هذا الفن على كتاب القاضي عياض،
والمسمى ب‍ " الشفا بتعريف حقوق المصطفى ".
وكذلك كتاب " الآيات والمعجزات " لابن القطان.
سابعا: كتب في التربية وتهذيب النفوس:
نعت الامام الثعالبي ب‍ " الإمام، الورع، الزاهد، العارف بالله "، وهذا الرجل كان
يترك به، ويكثر من الثناء عليه.
ولهذا عنى في تفسيره بإيراد آثار الصالحين، والتزود من أخبارهم، فأورد عن بعض
كتب أهل العلم المصنفة في ذلك، وكان منها:
1 - " بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما لها وما عليها "
وهو شرح مختصر صحيح البخاري، المسمى " جمع النهاية في بدء الخير والغاية "،
96

للإمام أبي محمد بن أبي جمزة الأندلسي.
وقد ذكره المصنف في مقدمته، فقال: ".... ".
2 - " إحياء علوم الدين "، لأبي حامد الغزالي.
وهو أشهر من أن يذكر، وأعرف من أن يعرف.
وقد نقل منه المصنف، فأكثر من النقل.
واعتمد أيضا على مختصره لمحمد بن علي بن جعفر البلالي.
وقد حكى الثعالبي عن هذا المصنف، فقال: "... وهذا الشيخ البلالي لقيته، ورويت
عنه كتابه هذا ".
وذلك في تفسيره لآيات الصيام من سورة البقرة.
3 - " جواهر القرآن " لأبي حامد الغزالي.
وهو أليق بالتفسير، إلا أنه ذكر فيه أنه ينقسم إلى علوم، وأعمال، والأعمال ظاهرة
وباطنة، والباطنة إلى تزكية وتخلية، فهي أربعة أقسام، علوم وأعمال ظاهرة وباطنة، مذمومة
ومحمودة، وكل قسم يرجع إلى عشرة أصول، فيشتمل على زبدة القرآن.
4 - شرح ابن الفاكهاني على أربعين النووي.
ثامنا: في الأسماء والصفات:
ذكر الثعالبي في ثنايا كلامه نقله عن كتابين في " أسماء الله تعالى "، وهما:
1 - شرح أسماء الله الحسنى، للإمام الرازي.
2 - غاية المغنم في أسماء الله الأعظم. لابن الدريهم الموصلي.
تاسعا: ومن كتب التاريخ:
ذكر الثعالبي أثناء تفسيره نقولا عن أحد الكتب التي عنيت بسير الخلفاء، وهو كتاب:
- الاكتفاء في أخبار الخلفاء، لعبد الملك بن محمد بن القاسم بن الكرديوس.
عاشرا: كتب أخرى منثورة:
1 - لطائف المتن، لابن عطاء الله.
97

2 - الأنواء، للزجاج.
3 - الإفصاح، لشيب بن إبراهيم.
4 - الكوكب الدري، لأبي العباس أحمد بن سعد التجيبي.
5 - الكلم الفارقية.
6 - التشوف، ليوسف بن يحيى التادلي.
7 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لأبي عمر بن عبد البر.
8 - مختصر المدارك، للقضاعي.
9 - تاريخ بغداد، لأبي بكر بن الخطيب.
وغير ذلك مما هو منثور في تفسيره لكتاب الله تعالى.
ثانيا: منهج الإمام الثعالبي في تفسيره
بين يدي المنهج:
ذكر السيوطي في " الإتقان " شروطا يجب توافرها فيمن أقبل على كتاب ربه بنية
تفسيره، وكشف معانيه، فحكى عن بعض العلماء قوله: اختلف الناس في تفسير القرآن،
هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شئ من
القرآن وإن كان عالما، أديبا، متسعا في معرفة الأدلة والفقه، والنحو، والأخبار، والآثار،
وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج إليها، وهي خمسة
عشر علما... ثم ذكرها - رحمه الله -، وهي اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق،
والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول،
والناسخ والمنسوخ، وعلم الفقه، والأحاديث والآثار، لتفصيل المجمل، وتوضيح المبهم،
وهكذا، ثم علم الملكة (أو الموهبة).
وزاد غير السيوطي علوما أخرى، وأيا ما يكن الأمر، فقد ذكر أيضا في " التحبير في
علم التفسير " عن العلماء أنه: " من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه أولا من القرآن، فإن ما
أجمل في مكان قد فسر في مكان آخر، فإن أعياه ذلك طلبه في السنة، فإنها شارحة
للقرآن، وموضحة له.. " وساق كلام الشافعي.
98

والمقصود أن الإمام الثعالبي - رحمه الله - قد أتى بحظ وافر من هذه الشروط التي
ذكرها أهل العلم حدودا ومراسم لمن أقبل على تفسير الكتاب العزيز. فهو قد فسر كتاب
الله بعضه ببعض، وفسره بما فسره من أنزل عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وبما فسره الصحابة
والتابعون، كما استخدم اللغة، وشرح الغيب، وتعرض لتصريف بعض الكلمات، وأكثر
من المسائل الإعرابية، ثم هو بعد ذلك يذكر مسائل في أصول الدين، وأصول الفقه،
وفروعه، وأسباب النزول، وإيراده بعض الإسرائيليات، واحتجاجه بالقراءات المتواترة،
وذكره الشاذ منها، على ما سيتضح مما يلي.
العناصر التي بنى عليها الثعالبي مادة تفسيره:
1 - جمعه بين التفسير بالمأثور من كتاب وسنة، والتفسير بالرأي.
2 - تعرضه لمسائل في أصول الدين.
3 - مسائل أصول الفقه في تفسيره.
4 - تعرضه لآيات الأحكام، وذكره للاختلافات الفقهية.
5 - احتجاجه باللغة، والمسائل النحوية، والتصريفية، وغيرها.
6 - ذكره لأسباب النزول، ومكي القرآن ومدنيه.
7 - ذكره للقراءات الواردة في الآية.
8 - احتجاجه بالشعر واستشهاده به.
9 - موقفه من الإسرائيليات.
وإليك - إيها القارئ الكريم - تفصيل ذلك:
أولا: جمعه بين التفسير بالمأثور والرأي:
من المشهور عند أهل العلم أن خير ما فسر به كتاب الله تعالى، تفسير بعضه ببعض،
أو بما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم قال السيوطي: فإن ما أجمل في مكان، قد فسر في مكان
آخر، فإن أعياه ذلك، طلبه في السنة، فإنها شارحة للقرآن، وموضحة له (1).
وأما تفسيره كتاب الله بعضه ببعض، فمنه (مثلا) في قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان

(1) " التحبير في علم التفسير " (323).
99

عنها..) (البقرة: 36)، يتعرض لمعنى " أزلهما " فيقول: مأخوذ من الزلل، ثم يحكي
اختلافهم في كيفية هذا الإزلال، فيقول: وقال جمهور العلماء: أغواهما مشافهة، بدليل
قوله تعالى: (وقاسمهما) (الأعراف: 21).
وفي الآية التالية، وهي قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)
(البقرة: 37) يحكي عن الحسن أنها قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا...) الآية وهي من
(الأعراف: 23).
وأما تفسيره بالحديث، فهذا كثير جدا، وفيه (مثلا) في قوله تعالى: (الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم...) الآية (الأنعام: 82) يقول: والظلم في هذا الموضع: الشرك،
تظاهرت بذلك الأحاديث الصحيحة.
وفي تفسير قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..) الآية (الأنفال: 60)
قال: وفي صحيح مسلم: " ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ".
وأما آثار السلف من الصحابة والتابعين، فقد حشا بها تفسيره، فهم خير القرون
وأعلمها، فإن سألت عن العربية فهم أرباب الفصاحة فيها، وإن سألت عن علمهم
بالأحكام فهم مؤصلوها، والبحور التي لا تكدرها الدلاء، وإن سألت عن أسباب النزول،
ومعرفتهم بها، فليس المخبر كالمعاين، وليس من رأى كمن سمع، فمن بينهم من كان
يعاين نزول الوحي، ومنهم من نزل بسببه آي الكتاب، وتوبة رب الأرباب.
وقد رأينا الثعالبي - رحمه الله - يزين صحيفته بالنقل عنهم، والأمثلة تملأ الكتاب،
ومنها مثلا: في تفسير قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح..) السورة، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة: " ما أراه إلا حضور أجلي "، قال الثعالبي: وتأوله عمر والعباس بحضرة
النبي صلى الله عليه وسلم فصدقهما. قال: ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره.
وفي سورة القدر في قوله تعالى: (إنا أنزلنا) يقول: قال الشعبي وغيره: المعنى:
إنا ابتدأنا هذا القرآن.
ثانيا: تعرضه لمسائل في أصول الدين:
فقد تعرض لذكر معتقده في مسائل منها، مثل " تكليف ما لا يطاق "، عند تفسيره،
لقوله تعالى: (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء) (البقرة: 31) فقال الثعالبي: " وقال قوم:
يخرج من هذا الأمر بالإنباء تكليف ما لا يطاق، ويتقرر جوازه، لأنه سبحانه علم أنهم لا
100

يعلمون. وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف، إنما هو على جهة
التقرير والتوقيف ".
ثم عاد وذكر المسألة عينها عند تفسير قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو
أخطأنا...) الآية " 286 " من سورة البقرة، وحكى مذهب أبي الحسن الأشعري.
ومنها أيضا: مسألة كلام الله تعالى، فتحدث عن مذهب أهل السنة فيه، عند قوله
تعالى: (قال يا آدم أنبئهم...) الآية (البقرة: 33)، فقال: " وهذا هو قول أهل السنة،
والحق أن كلام الله (عز وجل) صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النقص... إلخ ".
ومنها: تعرضه لمسألة الكسب عند تفسير قوله تعالى: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت
أيديهم...) الآية (البقرة: 95).
ومنها: مسألة رؤية الله تعالى، وهذه قد تعرض لها الثعالبي بالذكر عند قوله تعالى:
(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) (البقرة: 55)، فأشار إلى أن مذهب أهل السنة امتناع
ذلك في الدنيا، وأنه من طريق السمع ورد، ثم عاد فرد على الزمخشري، عند تفسير الآية
(143) من سورة " الأعراف ".
ومنها: مسألة عصمة الأنبياء عليهم السلام، وقد ذكرها عند تفسير قوله تعالى:
(وأرنا مناسكنا وتب علينا) (البقرة: 128) وحكى إجماع الأمة على عصمة الأنبياء في
معنى التبليغ، ومن الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة، وخلافهم في غير ذلك من الصغائر.
وحكاية الإجماع إنما نقلها من مختصر الطبري.
ثالثا: مسائل أصول الفقه في تفسيره:
ولم يتوسع الثعالبي في ذكر مصادر اعتمد عليها في المسائل الأصولية غير ما ذكره
من مختصر ابن الحاجب.
ومن المسائل التي أوردها كلامه على " النسخ " لغة واصطلاحا، وذلك عند قوله
تعالى: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها..) (البقرة: 106)، فنقل
كلام ابن الحاجب، ثم قال: انتهى من مختصره الكبير، ثم تعرض لجواز النسخ عقلا، وأن
البداء لا يجوز على الله تعالى، وبين أن المنسوخ هو الحكم الثابت نفسه، لا ما ذهبت إليه
المعتزلة من أنه مثل الحكم الثابت فيما يستقبل.
كما أنه تعرض لمسألة التقبيح والتحسين، وأنهما في الأحكام من جهة الشرع، لا
101

بصفة نفسية.
ومنها: كلامه على تخصيص العموم، وأن العام المخصص حجة في غير محل
التخصيص، ونقل عن الرازي قوله: وقد ثبت في أصول الفقه، أنه إذا وقع التعارض بين
الإجمال والتخصيص، كان رفع الإجمال ألوى، لأن العام المخصص في غير محل
التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا. ثم قال الثعالبي: وهو حسن.
رابعا: تعرضه لآيات الاحكام، وذكره للاختلافات الفقهية:
قدمنا أن الثعالبي - رحمه الله - نقل من أحكام القاضي ابن العربي، ولم لا، فالرجل
مذهب مالكي مثله، ولا غرو فكان بدهيا أن ينقل ما يخص آيات الأحكام، ويذكر خلاف
أهل العلم فيها.
ومن ذلك: آية الوضوء والطهارة، وهي الآية السادسة من سورة المائدة، فنجد
الثعالبي يقول: قال ابن العربي في أحكامه... ثم حكى كلامه، ونقل المسائل الفقهية منه،
ومنها: قوله: واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا.. واختلف في رد
اليدين في مسح الرأس هل هو فرض أو سنة؟...
ومنها: آية قصر الصلاة، في قوله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) (النساء: 101).
فقال: قال مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن راهويه: تقصر الصلاة في
أربعة برد، وهي ثمانية وأربعون ميلا، وحجتهم: أحاديث رويت في ذلك عن ابن عمر،
وابن عباس، وقال الحسن، والزهري: تقصر في مسيرة يومين. وروي هذا أيضا عن
مالك، وروي عنه: تقصر في مسافة يوم وليلة.
ثم قال: وهذه الأقوال الثلاثة تتقارب في المعنى، والجمهور على جواز القصر في
السفر المباح.. إلخ.
ومنها: تعرضه لشهادة القاذف إذا تاب، وذلك في تفسير سورة النور، عند قوله
تعالى: (وأولئك هم الفاسقون * إلا الذين من بعد ذلك) (النور: 4 - 5). وحكى
عن الجمهور قبول شهادته إذا تاب. قال: ثم اختلفوا في صورة توبته: فقيل: بأن يكذب
نفسه، وإلا لم تقبل، وقالت فرقة منها مالك: توبته أن يصلح وتحسن حاله، وإن لم يرجع
عن قوله بتكذيب. واختلف فقهاء المالكية متى تسقط شهادة القاذف، فقال ابن الماجشون:
102

بنفس قذفه، وقال ابن القاسم وغيره: لا تسقط حتى يجلد، فإن منع من جلده مانع عفو أو
غيره، لم ترد شهادته... إلخ كلامه ".
وفي اللعان يقول: وتحريم اللعان أبدي باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك.
ويلاحظ على الثعالبي أنه لم يتوسع في الاحتجاج للمسائل الفقهية، كما صنع
القرطبي - مثلا - ومن قبله ابن العربي، ولعل السبب في ذلك هو أنه لم يخصص تفسيره
لنقل الأحكام، وإلا لكان كتاب فقه لا تفسير، وهو قد نص في مقدمته على أنه مختصر،
فقال: " فإني جمعت لنفسي ولك في هذا المختصر... إلخ ".
خامسا: احتجاجه باللغة والمسائل النحوية، والتصريفية وغيرها:
وقد ذكرنا آنفا أنه ينقل من الغريبين لأبي عبيد الهروي، ويفسر الألفاظ التي ترد
مشكلة، فإذا كانت ذات دلالة شرعية نص عليها، كما وجدناه ينقل المسائل النحوية معتمدا
على كلام الصفاقسي في اختصاره من أبي حيان.
فمنها: تفسيره للفظ " القسيس " في قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا)
(المائدة: 82)، فنراه يقول: قال الفخر: القس والقسيس: اسم رئيس النصارى، والجمع:
قسيسون، وقال قطرب: القس والقسيس: العالم، بلغة الروم... ".
ويقول في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا
ضربوا في الأرض...) الآية (آل عمران: 156) قال ابن عطية: الرجس: كل مكروه
ذميم، وقد يقال للعذاب والرجز: العذاب لا غير، والركس: العذرة لا غير، والرجس يقال
للأمرين.
ويقول في قوله تعالى: (وزاده بسطة في العلم والجسم) (البقرة: 247) قال أبو
عبيد الهروي: أي: انبساطا وتوسعا في العلم، وطولا وتماما في الجسم...
وفي قوله تعالى: (فصرهن إليك) (البقرة: 260) يقول: يقال: صرت الشئ
أصوره، بمعنى: قطعته، ويقال أيضا: صرت الشئ، بمعنى: أملته... إلخ "
وأما ذكره للمسائل النحوية، فكثير جدا، فمثلا في قوله تعالى: (ولولا كلمة سبقت
من ربك لكان لزاما...) (طه: 129) ينقل عن الصفاقسي قوله: " ولزاما " إما مصدر،
وإما بمعنى ملزم. وأجاز أبو البقاء أن يكون جمع لازم، كقائم وقيام.
وفي قوله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون)
(الأنبياء: 65).
103

نقل عن الصفاقسي قوله: وقولهم: " لقد علمت " جواب قسم محذوف معمول لقول
محذوف في موضع الحال، أي: قائلين: لقد علمت.
وفي أصل الكلمة يقول عند قوله تعالى: (حتى إذا اداركوا فيها جميعا...)
(الأعراف: 38): و " اداركوا " معناه: تلاحقوا. أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف
الوصل.
ويذكر بعض لغات العرب، فيقول عند تفسير قوله تعالى: (قال أحدهما إني أراني
أعصر خمرا..) (يوسف: 36): قيل فيه: إنه سمى العنب خمرا بالمآل. وقيل: هي لغة
أزد عمان، يسمون العنب خمرا.
سادسا: ذكره لأسباب النزول، ومكي القرآن ومدنيه:
وهذا الفن شريف عزيز، فبه يستطيع المفسر أن يحسن الوصول إلى المعنى من
الآية، فيسهل فهمها بمعرفة الملابسات التي أحاطت بنزولها.
وقد ذكر الثعالبي أسباب نزول بعض الآيات، فمثلا:
في قوله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) (النساء: 58) يقول:
" خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن طلحة، ومن ابن عمه
شيبة، فطلبه العباس بن عبد المطلب، ليضيف السدانة إلى السقاية، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم
الكعبة، وكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم، ونزل عليه جبريل بهذه الآية.
قال عمر بن الخطاب: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه،
فدعا عثمان وشيبة، فقال لهم: خذاها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم..).
وفي قوله تعالى: (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا...) (النساء: 128) يقول:
واختلف في سبب نزول الآية، فقال ابن عباس وجماعة: " نزلت في النبي - عليه السلام -
وسودة بنت زمعة... " ثم حكى أقوالا أخرى.
وفي قوله تعالى: (ويسئلونك عن الروح....) (الاسراء: 85) يقول روى ابن
مسعود، أن اليهود قال بعضهم لبعض: سلوا محمدا عن الروح، فإن أجاب فيه عرفتم أنه
ليس بنبي... فسألوه، فنزلت الآية. وقيل: إن الآية مكية، والسائلون هم قريش بإشارة
اليهود.
وأما ما ذكره لمكي القرآن ومدنيه، فكان يذكر في أوائل السور كونها مكية أو مدنية،
104

فمثلا في سورة الحجرات يقول: وهي مدنية بإجماع، و يقول في " ق ": وهي مكية بإجماع،
وفي سورة الأنفال: مدنية كلها، قال مجاهد: إلا آية واحدة، وهي قوله: (وإذ يمكر بك
الذين كفروا...) الآية.
وفي سورة هود: " مكية إلا نحو ثلاث آيات.. " وهكذا.
سابعا: ذكره للقراءات الواردة في الآية:
وبداية، فإن للقراءات الواردة في كتاب الله (تعالى) أثرا كبيرا في إثراء التفاسير
بالمعاني المختلفة المتنوعة، مع اشتراط ما اشترطه أهل هذا لفن من ضوابط للقراءة
المقبولة، واختلاف هذه القراءات له فوائد جمة:
منها: جمع الأمة الإسلامية الجديدة على لسان واحد يوحد بينها، وهو لسان قريش
الذي نزل به القرآن الكريم، والذي انتظم كثيرا من مختارات ألسنة القبائل العربية التي كانت
تختلف إلى مكة في موسم الحج، وأسواق العرب المشهورة، فكان القرشيون يستملحون ما
شاءوا، ويصطفون ما راق لهم من ألفاظ الوفود العربية القادمة إليهم من كل صوب
وحدب، ثم يصقلونه ويهذبونه، ويدخلونه في دائرة لغتهم المرنة، التي أذعن جميع العرب
لها بالزعامة، وعقدوا لها راية الإمامة.
وعلى هذه السياسة الرشيدة نزل القرآن على سبعة أحرف يصطفي ما شاء من لغات
القبائل العربية، على نمط سياسة القرشيين، بل أوفق. ومن هنا صح أن يقال: إنه نزل بلغة
قريش، لأن لغات العرب جمعاء تمثلت في لسان القرشيين بهذا المعنى، وكانت هذه الحكمة
إلهية سامية، فإن وحدة اللسان العام من أهم العوامل في وحدة الأمة، خصوصا أول عهد
بالتوثب والنهوض.
ومنها: بيان حكم من الأحكام، كقوله سبحانه: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة
وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس) (النساء: 12) قرأ سعد بن أبي وقاص: " وله
أخ أو أخت من أم " بزيادة لفظ: " من أم "، فتبين بها أن المراد بالإخوة في هذا الحكم
الإخوة للأم دون الأشقاء، ومن كانوا لأب، وهذا أمر مجمع عليه.
ومثل ذلك قوله سبحانه في كفارة اليمين: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط
ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) (المائدة: 89)، وجاء في قراءة: " أو تحرير
رقبة مؤمنة " بزيادة لفظ " مؤمنة " فتبين بها اشتراط الإيمان في الرقيق الذي يعتق كفارة يمين.
105

وهذا يؤيد مذهب الشافعي، ومن نحا نحوه في وجوب توافر ذلك الشرط.
ومنها: الجمع بين حكمين مختلفين بمجموع القراءتين، كقوله تعالى: (فاعتزلوا
النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن) (البقرة: 222) قرئ بالتخفيف والتشديد
في حرف الطاء من كلمة " يطهرن "، ولا ريب أن صيغة التشديد تفيد وجوب المبالغة في
طهر النساء من الحيض، لان زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، أما قراءة التخفيف، فلا
تفيد هذه المبالغة، ومجموع القراءتين يحكم بأمرين: أحدهما: أن الحائض لا يقربها
زوجها حتى يحصل أصل الطهر، وذلك بانقطاع الحيض. وثانيهما: أنها لا يقربها زوجها
أيضا إلا إن بالغت في الطهر، وذلك بالاغتسال، فلا بد من الطهرين كليهما في جواز قربان
النساء، وهو مذهب الشافعي، ومن وافقه أيضا.
ومنها: الدلالة على حكمين شرعيين، ولكن في حالين مختلفين، كقوله تعالى في
بيان الوضوء: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى
الكعبين) (المائدة: 6) قرىء بنصب لفظ " أرجلكم "، وبجرها، فالنصب يفيد طلب
غسلها، لأن العطف حينئذ يكون على لفظ " وجوهكم " المنصوب، وهو مغسول، والجر
يفيد طلب مسحها، لأن العطب حينئذ يكون على لفظ " رءوسكم " المجرور، وهو ممسوح.
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم: أن المسح يكون للابس الخف، وأن الغسل يجب على من لم يلبس
الخف.
ومنها: دفع توهم ما ليس مرادا: كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة
من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) (الجمعة: 9) وقرئ: " فامضوا إلى ذكر الله "،
فالقراءة الأولى يتوهم منها وجوب السرعة في المشي إلى صلاة الجمعة، ولكن القراءة
الثانية رفعت هذا التوهم، لأن المضي ليس من مدلوله السرعة،
ومنها: بيان لفظ مبهم على البعض: نحو قوله تعالى: (وتكون الجبال كالعهن
المنفوش) (القارعة 5) وقرئ: " كالصوف المنفوش "، فبنيت القراءة الثانية أن العهن هو
الصوف.
ومنها: تجلية عقيدة ضل فيها بعض الناس: نحو قوله تعالى في وصفه الجنة وأهلها:
(وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) (الإنسان: 20) جاءت القراءة بضم الميم،
وسكون اللام في لفظ: " وملكا كبيرا "، وجاءت قراءة أخرى بفتح الميم، وكسر اللام في
هذا اللفظ نفسه، فرفعت هذه القراءة الثانية نقاب الخفاء عن وجه الحق في عقيدة رؤية
106

المؤمنين لله - تعالى - في الآخرة، لأنه سبحانه - هو الملك وحده في تلك الدار: (لمن
الملك اليوم لله الواحد القهار) (غافر: 16).
* والخلاصة: أن تنوع القراءات، يقوم مقام تعدد الآيات، وذلك ضرب من ضروب
البلاغة، يبتدئ من جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز.
أضف إلى ذلك ما في تنوع القراءات من البراهين الساطعة، والأدلة القاطعة على أن
القرآن كلام الله، وعلى صدق من جاء به وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الاختلافات في
القراءة على كثرتها لا تؤدي إلى تناقض في المقروء وتضاد، ولا إلى تهافت وتخاذل، بل
القرآن كله على تنوع قراءاته، يصدق بعضه بعضا، ويبين بعضه بعضا، ويشهد بعضه
لبعض، على نمط واحد في علو الأسلوب والتعبير، وهدف واحد من سمو الهداية
والتعليم، وذلك - من غير شك - يفيد تعدد الإعجاز بتعدد القراءات والحروف.
ومعنى هذا: أن القرآن يعجز إذا قرئ بهذه القراءة، ويعجز أيضا إذا قرىء بهذه
القراءة الثانية، ويعجز أيضا إذا قرئ بهذه القراءة الثالثة، وهلم جرا. ومن هنا تتعدد
المعجزات بتعدد تلك الوجوه والحروف!
ولا ريب أن ذلك أدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أعظم في اشتمال القرآن على
مناح جمة في الإعجاز وفي البيان، على كل حرف ووجه، وبكل لهجة ولسان: (ليهلك
من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم) (الأنفال: 42).
ولقد كان الثعالبي - رحمه الله - يكثر من إيراد القراءات متواترة وشاذة، وكان معتمده
الأول على تفسير ابن عطية، فكان ينقل منه مواضع القراءات ووجوهها.
ومن أمثلة نقله للقراءات:
1 - في قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) (البقرة: 184) قال:
قرأ باقي السبعة غير نافع وابن عامر: " فدية " بالتنوين، " طعام مسكين " بالإفراد. قال: " وهي
قراءة حسنة.. ".
2 - في قوله تعالى: (فاذكروا اسم الله عليها صواف) (الحج: 36) قال: وقرأ ابن
مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وغيرهم: " صوافن " جمع: صافنة، وهي التي رفعت
إحدى يديها بالعقل، لئلا تضطرب، ومنه في الخيل: (الصافنات الجياد) (ص: 31).
3 - وفي قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) (المائدة: 6) قال: وقرأ
107

حمزة وغيره: " وأرجلكم " بالخفض، وقرأ نافع وغيره بالنصب، والعامل " اغسلوا ". ومن
قرأ بالخفض، جعل العامل أقرب العاملين. وجمهور الصحابة والتابعين على أن الفرض في
الرجلين الغسل، وأن المسح لا يجزئ... ثم قال: قال ابن العربي في " القبس ": ومن
قرأ " وأرجلكم " بالخفض، فإنه أراد المسح على الخفين، وهو أحد التأويلات في الآية.
انتهى.
4 - ثم يحتج ببعض القراءات الشاذة على تعضيد المعنى، مثل ما ذكره عند قوله
تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...) الآية (التوبة: 128) قال: وقوله: (من
أنفسكم) يقتضي مدحا لنسبه صلى الله عليه وسلم، وأنه من صميم العرب وشرفها، وقرأ عبد الله بن قسيط
المكي " من أنفسكم " - بفتح الفاء - من النفاسة، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثامنا: احتجاجه بالشعر:
الشعر ديوان العرب، ففيه تاريخهم، وآثارهم، وبه يفتخرون، ويمتدحون، ويرغبون،
ويرهبون، ولم لا وهم قوم الفصاحة والبيان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا،
وإن من الشعر لحكمة ".
وقد مضى سلف الأمة من المفسرين على الاحتجاج بأشعار العرب، وما قصة
نافع بن الأزرق مع ابن عباس ببعيدة عن ذلك.
وقد ذكرت أقوال كثيرة عن ابن عباس تدل على جواز الاحتجاج بالشعر في تفسير
الكتاب العزيز، منها: الشعر ديوان العرب، فإذا خفي علينا الحرف من القرآن الذي أنزله
الله بلغة العرب، رجعنا إلى ديوانه، فالتمسنا معرفة ذلك منه.
ومن سؤالات نافع ونجدة بن عويمر، أنهما قالا: أخبرنا عن قوله تعالى: (عن
اليمين وعن الشمال عزين) (المعارج،: 37)، قال العزون: الحلق الرقاق، قال: وهل
تعرب العرب ذلك؟ قال نعم. أما سمعت عبيد بن الأبرص وهو يقول: (الوافر)
فجاؤوا يهرعون إليه حتى * يكونوا حول منبره عزينا
وهكذا كانت إجابات ابن عباس، قال أبو عبيد في فضائله: حدثنا هشيم، عن
حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، أنه كان يسأل
عن القرآن، فينشد فيه الشعر.
ومن هنا وجدنا الإمام الثعالبي يستشهد بأشعار العرب، فمن ذلك:
108

1 - احتجاجه لقراءة ابن كثير (أتيتم) (البقرة: 233) بمعنى فعلتم - بقول زهير:
(الطويل)
وما كان من خير أتوه فإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
2 - واحتجاجه لمعاني بعض الألفاظ، مثل قوله تعالى: (وكان الله على كل شئ
مقيتا) (النساء: 85). فقال: مقيتا: معناه: قديرا، ومنه قول الزبير بن عبد المطلب:
(الوافر)
وذي ضغن كففت النفس عنه * وكنت على إساءته مقيتا
ومنه: احتجاجه على أن من معنى " الجهالة " أن يتعمد الأمر فيركبه، مع عدم مضادة
للعلم قال: فمنها قول الشاعر: (الوافر)
ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
3 - ومنه احتجاجه على المسائل النحوية، فمثلا في قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار
والإيمان من قبلهم) (الحشر: 9) يقول نقلا عن الصفاقسي: " والإيمان " منصوب بفعل
مقدر، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف الجمل، كقوله: (الرجز)
علفتها تبنا وماء باردا....
وهذا بالإضافة إلى شعر الزهد والرقائق الذي ضمنه تفسيره، والذي يقرؤه القارئ
الكريم، فيستشعر عذوبته ورقته، وحسن اختياره ومكانه.
تاسعا: موقفه من الإسرائيليات:
بادئ ذي بدء، فإن الجنس البشري مر عليه قرون عديدة، وأزمان بعيدة، حملت في
طياتها أخبارا، وأحوالا، وتارة أهوالا، فأخبر بها السلف الخلف، والمتقدم المتأخر.
وإن هذه الأمة المباركة هي الآخرة في تلك السلسلة المديدة من عمر البشرية، فكان
لها زبدة الأخبار، والرصيد الأكبر من تواريخ الأمم والشعوب، فحضيت بالعبر والعظات،
والسعيد من وعظ بغيره.
ولأن أهل الكتاب كانوا سابقين علينا، فقد روي لنا، ورووا هم من أخبارهم وأخبار
السابقين، وفي هذا يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: "... وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ".
فكان ما أخبرونا على ثلاثة أقسام:
109

1 - قسم صدقهم فيه الوحي، فنصدقهم فيه.
2 - قسم أكذبهم فيه الوحي، فنكذبهم فيه.
3 - قسم سكت عنه، فنسكت عنه، ونقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم.
ولكن ما المقصود ب‍ " الإسرائيليات "؟!!
الإسرائيليات: جمع إسرائيلية، نسبة إلى بني إسرائيل، والنسبة في مثل هذا تكون
لعجز المركب الإضافي لا لصدره، وإسرائيل هو: يعقوب - عليه السلام - أي: عبد الله،
وبنوا إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسبوا منهم فيما بعد، إلى عهد موسى، ومن جاء
بعده من الأنبياء، حتى عهد عيسى - عليه السلام - وحتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد عرفوا - " باليهود "، أو " بيهود " من قديم الزمان، أما من آمنوا بعيسى: فقد
أصبحوا يطلق عليهم اسم " النصارى "، وأما من آمن بخاتم الأنبياء: فقد أصبح في عداد
المسلمين، ويعرفون بمسلمي أهل الكتاب ".
وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي
الصالح، حتى يتأسوا به، ويتخلقوا بأخلاقه، ويتركوا ما كانوا عليه من نكران نعم الله
عليهم، وعلى آبائهم، وما كانوا يصفون به من الجحود، والغدر، واللؤم، والخيانة، وكذلك
ذكرهم الله - سبحانه - باسم اليهود في غير ما آية. وأشهر كتب اليهود هي: التوراة، وقد
ذكرها الله في قوله تعالى: (آلم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب
بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان)
(آل عمران: 1 - 4). وقال: (إنا أنزلناه التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين
أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه
شهداء..) (المائدة: 44) والمراد بها: التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف
والتبديل، أما التوراة المحرفة المبدلة، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية، وكونها نورا،
ولا سيما بعد نزول القرآن الكريم، الذي هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية
السابقة، فما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل.
ومن كتبهم أيضا: الزبور، وأسفار الأنبياء، الذين جاءوا بعد موسى - عليه السلام -
وتسمى التوراة، وما اشتملت عليه من الأسفار الموسوية وغيرها (بالعهد القديم).
وكان لليهود بجانب التوراة المكتوبة التلمود، وهي التوراة الشفهية، وهو مجموعة
110

قواعد ووصايا وشرائع دينية وأدبية، ومدنية، وشروح، وتفاسير، وتعاليم، وروايات كانت
تتناقل وتدرس شفهيا من حين إلى آخر... وقد اتسع نطاق الدرس والتعليم فيه إلى درجة
عظيمة جدا، حتى صار من الصعب حفظه في الذاكرة، ولأجل دوام المطالعة، والمداولة،
وحفظا للأقوال والنصوص، والآراء الأصلية المتعددة والترتيبات، والعادات الحديثة،
وخوفا من نسيانها وفقدانها، مع مرور الزمن، وخصوصا وقت الاضطهادات،
والاضطرابات، قد دونها الحاخامون بالكتابة سياجا للتوراة، وقبلت كسنة من سيدنا موسى
عليه السلام -.
ومن التوراة وشروحها، والأسفار وما اشتملت عليه، والتلمود وشروحه، والأساطير
والخرافات، والأباطيل التي افتروها، أو تناقلوها عن غيرهم: كانت معارف اليهود
وثقافتهم، وهذه كلها كانت المنابع الأصلية للإسرائيليات التي زخرت بها بعض كتب
التفسير، والتاريخ والقصص والمواعظ، وهذه المنابع إن كان فيها حق، ففيها باطل كثير،
وإن كان فيها صدق، ففيها كذب صراح، وإن كان فيها سمين ففيها غث كثير، فمن ثم
انجر ذلك إلى الإسرائيليات، وقد يتوسع بعض الباحثين في الإسرائيليات، فيجعلها شاملة
لما كان من معارف اليهود، وما كان من معارف النصارى التي تدور حول الأناجيل
وشروحها، والرسل و سيرهم، ونحو ذلك، وإنما سميت إسرائيليات، لأن الغالب والكثير
منها إنما هو من ثقافة بني إسرائيل، أو من كتبهم ومعارفهم، أو من أساطيرهم وأباطيلهم.
والحق: أن ما في كتب التفسير من المسيحيات، أو من النصرانيات هو شئ قليل
بالنسبة إلى ما فيها من الإسرائيليات، ولا يكاد يذكر بجانبها، وليس لها من الآثار السيئة ما
للإسرائيليات، إذ معظمها في الأخلاق، والمواعظ، وتهذيب النفوس، وترقيق القلوب (1).
والملاحظ أن الثعالبي - رحمه الله - كغيره من التفاسير - ذكر بعض الإسرائيليات،
ولكنه يعقب ما يذكره بما يفيد عدم صحته، أو على الأقل بما يفيد عدم القطع بصحته.
ومن ذلك في قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله
عما يشركون) (الأعراف: 190).
فالثعالبي يقول:... وروي في قصص ذلك أن الشيطان أشار على حواء أن تسمي هذا
المولود عبد الحارث، وهو اسم إبليس، وقال لها: إن لم تفعل قتله، فزعموا أنهما

(1) ينظر: " الإسرائيليات و الموضوعات في كتب التفسير "، د. محمد محمد أبو شهبة، ط. مجمع البحوث
الإسلامية، القاهرة 1404 ه‍، ص 21 فما بعدها.
111

أطاعاه.... ثم ذكر القصة وقال: قلت: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقف
بعد على صحة ما روي من هذه القصص، ولو صح لوجب تأويله... قال: وعلى كل
حال: الواجب التوقف والتنزيه لمن اجتباه الله، وحسن التأويل ما أمكن، وقد قال ابن
العربي في توهين هذا القول وتزييفه: وهذا القول ونحوه مذكور في ضعيف الحديث في
الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات، ولا يعول عليها من له قلب...
إلخ ".
و منه أيضا عند تفسير قوله تعالى: (و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان
من الغائبين) [النمل: 20].
يقول: و أكثر بعض الناس في قصصها بما رأيت اختصاره، لعدم صحته.
و نراه ينتقد ما يروى من آثار إذا خالفت الشرع، أو ما لا يليق أن ينسب إلى الوحي.
فمثلا عند تفسير قوله تعالى: (و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى
ألقى الشيطان في أمنيته) [الحج: 52] - يذكر حديث الغرانيق، ثم يحكي عن أئمة المالكية
مثل القاضي عياض، و أبي بكر بن العلاء إنكارهم لهذه الرواية، و أمثالها، ثم قال: قال أبو
بكر البزار: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بإسناد متصل يجوز ذكره... " و قد
أجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه و آله و سلم، و نزاهته عن مثل هذا.
و منه أيضا ما ذكره في قصة بني إسرائيل لما سألوا عيسى ابن مريم مائدة من السماء
[المائدة: 113 - 115]، ثم قال: و أكثر الناس في قصص المائدة مما رأيت اختصاره،
لعدم سنده.
و على أية حال، فإن الملاحظ على الثعالبي - رحمه الله - ندرة إيراده للإسرائيليات
جدا، فإن أورد بعض ذلك نبه عليه، كما تقدم.
112

وصف النسخ المعتمد عليها
في كتاب تفسير " الثعالبي " المسمى
بجواهر الحسان في تفسير القرآن
اعتمدنا في تحقيق الكتاب على أربع نسخ خطية.
و وصفها على النحو التالي:
النسخة الأولى: المحفوظة بدار الكتب المصرية / تحت رقم (453) طلعت، تقع في
(313) ورقة، و سطرتها 28 سطرا، رمزنا لها بالرمز (أ).
النسخة الثانية: المحفوظة بدار الكتب المصرية، تبدأ من الكهف إلى آخر القرآن،
تقع تحت رقم (5) تفسير، الجزء الثاني فقط، و رمزنا لها بالرمز (ب).
النسخة الثالثة: المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (1157) تفسير، تقع في
(216) ورقة، سطرتها (33) سطرا و هي من مريم إلى آخر القرآن، و رمزنا لها بالرمز (ج).
النسخة الرابعة: المحفوظة بدار الكتب المصرية، و هي من أول الزمر إلى آخر
القرآن، و تحت رقم (47) تفسير م، و تقع في (248) ورقة، و مسطرتها (19) سطرا،
و رمزنا لها بالرمز (د)، هذا، و كان من النسخ المطبوعة المعتمد عليها طبعة مؤسسة الأعلمي
للمطبوعات. و قد رمزنا لها بالرمز (ط).
عملنا في الكتاب
قمنا في تحقيق الكتاب بما يلي:
أولا: المقابلة و إثبات ما كان صوابا في النص و مخالفه في هامش الكتاب، و قمنا
بضبط ما أشكل من الكتاب.
ثانيا: عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها.
ثالثا: تخريج الأحاديث النبوية و الآثار.
رابعا: ترجمة للأعلام الوارد أسمائهم بالكتاب.
113

خامسا: شرح غريب النص. معتمدين في ذلك على كتب المعاجم.
سادسا: التعليق على بعض المسائل الفقهية.
سابعا: التعليق على بعض المسائل النحوية المشار إليها في النص.
ثامنا: توثيق للقراءات الواردة في الكتاب، و بيان ما أبهمه المصنف منها.
تاسعا: توثيق لبعض المصادر التي اعتمد عليها المصنف.
عاشرا: وضع مقدمة للكتاب و ترجمة لمؤلفه.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
114

الجزء الأول من تفسير الثعالبي
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلى الله عليه سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليما
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى المعترف بذنبه، الراجي رحمة ربه، عبد الرحمن بن
محمد بن مخلوف الثعالبي، لطف الله به في الدارين و بسائر المؤمنين.
الحمد لله رب العالمين، و صلوات ربنا و سلامه على سيدنا محمد خاتم النبيين،
و على آله و صحبه السادة المكرمين، و الحمد لله الذي من علينا بالإيمان، و شرفنا بتلاوة
القرآن، فأشرقت علينا بحمد الله أنواره، و بدت لذوي المعارف عند التلاوة أسراره،
و فاضت على العارفين عند التدبر و التأمل بحاره، فسبحان من أنزل على عبده الكتاب،
و جعله لأهل الفهم المتمسكين به من أعظم الأسباب، (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا
آياته و ليتذكر أولوا الألباب) [ص: 29].
أما بعد، أيها الأخ، أشرق الله قلبي و قلبك بأنوار اليقين، وجعلني و إياك من أوليائه
المتقين، الذين شرفهم بنزل قدسه، و أوحشهم من الخليقة بأنسه، و خصهم من معرفته،
و مشاهدة عجائب ملكوته، و آثار قدرته، بما ملأ قلوبهم حبره، و وله عقولهم في عظمته
حيره، فجعلوا همهم به واحدا، و لم يروا في الدارين يره، فهم بمشاهدة كماله و جلاله
يتنعمون، و بين آثار قدرته و عجائب عظمته يترددون، و بالانقطاع إليه و التوكل عليه
يتعززون، لهجين بصادق قوله: (قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) [الأنعام: 91] فإني
جمعت لنفسي و لك في هذا المختصر ما أرجو أن يقر الله به عيني و عينك في الدارين، فقد
ضمنته بحمد الله المهم مما اشتمل عليه تفسير ابن عطية (1)، و زدته فوائد حمه، من غيره
من كتب الأئمة، و ثقات أعلام هذه الأئمة، حسبما رأيته أو رويته عن الأثبات، وذلك قريب
من مائة تأليف، و ما منها تأليف إلا وهو منسوب لإمام مشهور بالدين، ومعدود في

(1) عبد الحق بن غالب بن عطية الغرناطي، كان فقيها جليلا، عارفا بالأحكام، والحديث، و التفسير،
نحويا، لغويا، أديبا، روى عنه ابن مضاء و غيره، له " تفسير القرآن العظيم " مات سنة 541 ه‍.
ينظر: " طبقات المفسرين " - للسيوطي - ص 60، 61 " بغية الوعاة " (2 / 73، 74)، " طبقات المفسرين "
للداوودي (1 / 256).
117

المحققين، و كل من نقلت عنه من المفسرين شيئا فمن تأليفه نقلت، و على لفظ صاحبه
عولت، و لم أنقل شيئا من ذلك بالمعنى، خوف الوقوع في الزلل، و إنما هي عبارات
و ألفاظ لمن أعزوها إليه، و ما انفردت بنقله عن الطبري (1)، فمن اختصار الشيخ أبي
عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد اللخمي النحوي لتفسير الطبري - نقلت، لأنه اعتنى
بتهذيبه، و قد أطنب أبو بكر بن الخطيب في حسن الثناء على الطبري و مدح تفسيره، و أثنى
عليه غاية نسأل الله تعالى أن يعاملنا و إياهم برحمته، و كل ما في آخره انتهى، فليس هو من
كلام ابن عطية، بل ذلك مما انفردت بنقله عن غيره، و من أشكل عليه لفظ في هذا
المختصر، فليراجع الأمهات المنقول منها، فليصلحه منها، و لا يصلحه برأيه و بديهة عقله،
فيقع في الزلل من حيث لا يشعر، و جعلت علامة التاء لنفسي بدلا من " قلت " و من شاء
كتبها " قلت "، و أما العين، فلإبن عطية، و ما نقلته من الإعراب عن غير ابن عطية فمن
الصفاقسي (2) مختصر أبي حيان (3) غالبا، و جعلت الصاد علامة عليه، و ربما نقلت عن غيره
معزوا لمن عنه نقلت، و كل ما نقلته عن أبي حيان، فإنما نقلي له بواسطة الصفاقسي غالبا،
قال الصفاقسي: و جعلت علامة ما زدته على أبي حيان * م *.
و ما يتفق لي إن أمكن، فعلامته " قلت "، و بالجملة فحيث أطلق فالكلام لأبي

(1) أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري، الإمام العلم صاحب التفسير المشهور،
مولده سنة 224، أخذ الفقه عن الزعفراني و الربيع المرادي، و ذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب:
لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام، و هو مذهبه الذي اختاره و جوده واحتج له، و هو ثلاثة و ثمانون
كتابا. مات سنة 310.
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 100)، " تاريخ بغداد " (2 / 162)، " تذكرة الحفاظ " (2 / 610).
(2) هكذا بصاد ثم فاء كما ذكره المؤلف و في الكتب بالسين ثم فاء، و هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم،
القيسي، السفاقسي، أبو إسحاق، برهان الدين: فقيه مالكي. تفقه في " بجاية "، و حج فأخذ عن علماء
" مصر " و " الشام ". و أفتى و درس سنين. له مصنفات منها " المجيد في إعراب القرآن المجيد " و يسمى
" إعراب القرآن "، و " شرح ابن الحاجب " في أصول الفقه.
ينظر: " الأعلام " (1 / 63)، و " الدرر الكامنة " (1 / 55)، و " النجوم الزاهرة " (10 / 98).
(3) محمد بن يوسف بن علي بن حيان بن يوسف، الشيخ الإمام العلامة، الحافظ، المفسر النحوي،
اللغوي، أثير الدين، أبو حيان الأندلسي، الجياني، الغرناطي، ثم المصري، ولد في 652 ه‍ قرأ العربية
على رضي الدين القسنطيني، و بهاء الدين بن النحاس، و غيرهم، سمع نحوا من أربعمائة شيخ، و كان
ظاهريا، فانتمى إلى الشافعية، له مصنفات منها: " البحر المحيط في التفسير " و " النهر في البحر "،
و " شرح التسهيل "، و " ارتشاف الضرب ". سمع منه الأئمة العلماء، و أضر قبل موته بقليل، توفي
بالقاهرة في صفر سنة خمس و أربعين و سبعمائة.
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (3 / 67)، " الأعلام " (8 / 26)، " طبقات السبكي " (6 / 31)، " الدرر
الكامنة " (4 / 302).
118

حيان، و ما نقلته من الأحاديث الصحاح و الحسان عن غير البخاري و مسلم و أبي داود
و الترمذي في باب الأذكار و الدعوات - فأكثره من " النووي " (1) و " سلاح المؤمن "، و في
الترغيب و الترهيب و أحوال الآخرة فمعظمه من " التذكرة " للقرطبي (2)، و " العاقبة "
لعبد الحق، و ربما زدت زيادات كثيرة من " مصابيح البغوي " و غيره، كما ستقف عليه
- إن شاء الله تعالى - كل ذلك معزو لمحاله، و بالجملة فكتابي هذا محشو بنفائس الحكم،
و جواهر السنن الصحيحة و الحسان المأثورة عن سيدنا محمد صلى الله عليه و آله و سلم، و قد قال أبو عمر بن
عبد البر في كتاب " التقصي ": و أولى الأمور بمن نصح نفسه، و ألهم رشده - معرفة

(1) يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حزام، شيخ الإسلام محيي
الدين، أبو زكريا الحزامي النووي، ولد سنة 631، قرأ القرآن ببلده، و ختم و قد ناهز الاحتلام، و كان
محققا في علمه و فنونه، مدققا في علمه و شؤونه، حافظا لحديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، عارفا بأنواعه من
صحيحه و سقيمه و غريب ألفاظه، و استنباط فقهه.. في كثير من المناقب يطول ذكرها صنف " المنهاج في
شرح مسلم "، و " المجموع " و " الأذكار " و غيرها. مات سنة 677.
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (2 / 153)، " طبقات السبكي " (5 / 165)، " النجوم الزاهرة " (7 /
278).
(2) محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح، الأنصاري، الخزرجي، الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من
كبار المفسرين، صالح متعبد من أهل " قرطبة ". رحل إلى الشرق و استقر بمنية ابن خصيب (في شمالي
أسيوط، بمصر) و توفي فيها. من كتبه " الجامع لأحكام القرآن " يعرف بتفسير القرطبي، و " التذكرة بأحوال
الموتى و أمور الآخرة ". و كان ورعا متعبدا. طارحا للتكلف، يمشي بثوب واحد و على رأسه طاقية.
ينظر: " الأعلام " (5 / 322)، " الديباج " (317).
(3) الحسين بن مسعود بن محمد، العلامة محيي السنة، أبو محمد البغوي، يعرف بالفراء أحد الأئمة، تفقه
على القاضي الحسين، و كان دينا، عالما، عاملا على طريقة السلف، قال الذهبي: كان إماما في
التفسير، إماما في الحديث، إماما في الفقه. بورك له في تصانيفه و رزق القبول لحسن قصده و صدق
نيته. و من تصانيفه: " التهذيب "، و " شرح المختصر "، و تفسيره " معالم التنزيل ". و غيرها. مات سنة
516.
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 281)، " وفيات الأعيان " (1 / 402)، " تذكرة الحفاظ " (4 /
1258)، و " الأعلام " (2 / 284)، " شذرات الذهب " (4 / 48)، " النجوم الزاهرة " (5 / 224).
(4) يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري، القرطبي، المالكي، أبو عمر: من كبار حفاظ
الحديث، مؤرخ أديب، بحاثة، يقال له: حافظ المغرب، ولد بقرطبة سنة 368 ه‍، و توفي بشاطبة سنة
463 ه‍، من تصانيفه: " الدرر في اختصار المغازي و السير " و " الاستيعاب " و " جامع بيان العلم و فضله "
و " المدخل " من القراءات، و " بهجة المجالس و أنس المجالس " و " الاستذكار من شرح مذاهب علماء
الأمصار " و " الإنباه على قبائل الرواة " و " الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف ".
ينظر: " الأعلام " (8 / 240)، " وفيات الأعيان " (2 / 348)، " بغية الملتمس " (474).
(5) " تجريد التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد "، أو " التقصي لحديث الموطأ و شيوخ الإمام مالك ".
ص 9.
119

السنن التي هي البيان لمجمل القرآن بها يوصل إلى مراد الله تعالى من عباده فيما تعبدهم به
من شرائع دينه الذي به الابتلاء، و عليه الجزاء، في دار الخلود والبقاء، التي لها يسعى
الألباء العقلاء، و العلماء الحكماء، فمن من الله عليه بحفظ السنن و القرآن، فقد جعل بيده
لواء الإيمان، فإن فقه و فهم، و استعمل ما علم - دعي في ملكوت السماوات عظيما، و نال
فضلا جسيما - انتهى، و الله أسأل أن يجعل هذا السعي خالصا لوجهه، و عملا صالحا يقربنا
إلى مرضاته، و حسبنا الله و نعم الوكيل، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.
و سميته ب‍ " الجواهر الحسان في تفسير القرآن "
أسأل الله أن ينفع به كل من حصله، و صلى الله على سيدنا محمد، و على آله
و صحبه و سلم تسليما كثيرا عدد ما ذكره الذاكرون، و غفل عن ذكره الغافلون، و آخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين.
وها أنا - إن شاء الله - أشرع في المقصود و ألتقط من كلام ابن عطية - رحمه الله - ما
ستقف عليه من النبذ الحسنة المختارة ما تقر به العين، و إذا نقلت شيئا من غيره، عزوته
لصحابه، كما تقدم.
قال * ع * - رحمه الله - بعد كلام في أثناء خطبته: و لما أردت أن أختار لنفسي،
و أنظر في علم أعد أنواره لظلم رمسي، سبرت العلوم بالتنويع والتقسيم، وعلمت أن شرف
العلم على قدر شرف المعلوم، فوجدت أمتنها حبالا، و أرسخها جبالا، و أجملها آثارا،
و أسطعها أنوارا - علم كتاب الله جلت قدرته، و تقدست أسماؤه، الذي (لا يأتيه الباطل من
بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت: 42] الذي استقل بالسنة و الفرض،
ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرض، و أيقنت أنه أعظم العلوم تقريبا إلى الله تعالى،
و تخليصا للنيات، و نهيا عن الباطل، و حضا على الصالحات، إذ ليس من علوم الدنيا،
فيختل حامله من منازلها صيدا، و يمشي في التلطف لها رويدا، و رجوت أن الله تعالى
يحرم على النار فكرا عمرته أكثر عمره معانيه، و نفسا ميزت براعة رصفه و مبانيه، ثم قال:
قال الله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) [المزمل: 5] قال المفسرون: أي: علم
معانيه، و العمل بها، و قد قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " قيدوا العلم بالكتب "، ففزعت إلى تعليق ما

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 34 - 36).
(2) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، و هم: أنس بن مالك، و عبد الله بن عمرو، و عبد الله بن عباس.
120

يتنخل لي في المناظرة من علم التفسير، قال: و لنقدم بين يدي القول في التفسير أشياء قد قدم

= * حديث أنس بن مالك:
أخرجه ابن شاهين في " الناسخ و المنسوخ " (ص 274 - بتحقيقنا) والخطيب في " تاريخ بغداد " (10 / 46)،
و في " تقييد العلم " (ص - 70) و في " الجامع لأخلاق الراوي " (1 / 228)، رقم (440)، وابن الجوزي في
" العلل المتناهية " (1 / 86)، رقم (94)، و ابن عبد البر في " الجامع بيان العلم " (1 / 306)، كلهم من طريق
عبد الحميد بن سليمان، عن ابن المثنى، عن عمه ثمامة بن أنس، عن أنس بن مالك مرفوعا.
و قال الخطيب في " التقييد ": تفرد برواية هذا الحديث عبد الحميد بن سليمان الخزاعي المدني أخو فليح
عن عبد الله بن المثنى مرفوعا، و غيره يرويه موقوفا على أنس، وقال ابن الجوزي: هذا حديث لا
يصح، تفرد بروايته مرفوعا عبد الحميد، قال يحيى بن معين و أبو داود: ليس بثقة. و قال الدارقطني:
ضعيف الحديث. قال: و وهم ابن المثنى في رفعه، و الصواب: عن ثمامة، عن أنس أنه كان يقول ذلك
لبنيه، و لا يرفعه. اه‍.
و عبد الحميد بن سليمان قال الحفاظ في " التقريب " (1 / 468): ضعيف.
و قال العسكري كما في " المقاصد " (ص 55): ما أحسبه من كلام النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و أحسب عبد الحميد و هم
فيه، و إنه من قول أنس، فقد روى عبد الله بن المثنى عن ثمامة قال: كان أنس يقول لبنيه: يا بني قيدوا
العلم بالكتاب. اه‍.
و للحديث طريق آخر مرفوع.
أخرجه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " (2 / 228) و القضاعي في " مسند الشهاب " (637) كلاهما من طريق
إسماعيل بن أبي أويس، عن إسماعيل بن إبراهيم ابن أخي موسى بن عقبة، عن الزهري، عن أنس مرفوعا
به. و إسماعيل بن أبي أويس، قال الحفاظ في " التقريب " (1 / 71): صدوق، أخطأ في أحاديث من حفظه.
و قد ورد هذا الحديث موقوفا على أنس كما أشار إليه بعضهم كما تقدم.
و الموقوف أخرجه الدارمي (1 / 126 - 127)، باب: من رخص في كتابه العلم، و أبو خيثمة في " العلم "
رقم (120)، و الطبراني في " الكبير " (1 / 246)، رقم (700)، و الحاكم (1 / 106)، و الخطيب في
" تقييد العلم " ص (96)، و ابن سعد في " الطبقات الكبرى " (7 / 16)، و الرامهرمزي في " المحدث
الفاصل " (ص 368)، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (1 / 316)، كلهم من طريق عبد الله بن
المثنى الأنصاري، عن ثمامة، عن أنس موقوفا.
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 155) و قال: رواه الطبراني في " الكبير "، و رجاله رجال
الصحيح، و عبد الله بن المثنى قال الحافظ في " هدي الساري " ص - 436): وثقه العجلي والترمذي،
و اختلف فيه قول الدارقطني، و قال ابن معين و أبو زرعة و أبو حاتم صالح، و قال النسائي: ليس بالقوي
و قال الساجي: فيه ضعف، و لم يكن من أهل الحديث، و روى مناكير، و قال العقيلي: لا يتابع على أكثر
حديثه. قلت: لم أر البخاري احتج به إلا في روايته عن عمه ثمامة، فعنده عنه أحاديث، و أخرج له من
روايته عن ثابت عن أنس حديثا توبع فيه عنده، و هو في فضائل القرآن، و أخرج له أيضا في اللباس عن
مسلم بن إبراهيم عنه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر في النهي عن القزع بمتابعة نافع و غيره عن ابن
عمر، و روى له الترمذي و ابن ماجة.
و قال في " التقريب " (1 / 445): صدوق كثير الغلط.
121

أكثرها المفسرون، و أشياء ينبغي أن تكون راسخة في حفظ الناظر في هذا العلم مجتمعة لذهنه.

حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه الحاكم (1 / 106)، و الخطب في " تقييد العلم " (ص 69)، و الطبراني في " الأوسط " (1 / 469)
رقم (852)، و ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 87)، رقم (96) كلهم من طريق عبد الله بن
المؤمل، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبد الله بن عمرو قال: قلت يا رسول الله: أقيد العلم؟ قال:
نعم، قلت: وما تقييده؟ قال: الكتابة.
وضعفه الحاكم، و قال الذهبي: ابن المؤمل ضعيف.
تنبيه: وقع في " المعجم الأوسط " عبد الله بن المؤمل، عن عطاء، و لم يذكر ابن جريج.
و قد اضطرب عبد الله بن المؤمل في إسناد هذا الحديث، فرواه كما تقدم، و رواه مرة، عن ابن أبي مليكة،
عن عبد الله بن عمرو، أخرجه الخطيب في " تقييد العلم " (ص - 68)، و الرامهرمزي في " المحدث
الفاصل " (ص 364)، و أخرجه الخطيب أيضا في " الجامع لأخلاق الراوي " (1 / 228)، رقم (439)، و ابن
الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 86) رقم (95) كلهم من طريق سريج بن النعمان عنه به.
و قد ضعف ابن الجوزي هذا الطريق و الذي قبله، فقال: هذه الطرق كلها لا تصح، أما الطريقان الأولان
ففيهما عبد الله بن المؤمل قال أحمد: أحاديثه مناكير. و قال يحيى بن معين: ضعيف، و قال أبو
حاتم بن حبان: لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد. اه‍.
و اضطرب فيه ابن المؤمل مرة ثالثة، فرواه عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
أخرجه الخطيب البغدادي في " تقييد العلم " (ص - 69)، و قد توبع ابن المؤمل على هذا، تابعه ابن أبي
ذئب: أخرجه الرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (ص 364)، و الخطيب في " تقييد العلم "
(ص - 69)، وابن الجوزي في " العلل المتناهية " (1 / 87)، رقم (97)، كلهم من طريق إسماعيل بن
يحيى، عن ابن أبي ذئب، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده به.
و نقل ابن الجوزي، عن الدارقطني قوله: تفرد به إسماعيل بن يحيى، عن ابن أبي ذئب.
و قال ابن الجوزي: فيه إسماعيل بن يحيى، قال ابن عدي: يحدث عن الثقات بالبواطيل، و قال ابن
حبان: يروي الموضوعات عن الثقات و ما لا أصل له عن الأثبات، لا يحل الرواية عنه بحال، و قال
الدارقطني: كذاب متروك.
* حديث ابن عباس:
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (2 / 792) من طريق حفص بن عمر بن أبي العطاف، عن أبي الزناد، عن
الأعرج. عن ابن عباس مرفوعا.
و قال ابن عدي: و حفص بن عمر حديثه منكر.
و الحديث من هذه الطرق يحتمل التحسين، و له شواهد موقوفة عن عمر بن الخطاب، و ابن عباس.
* أثر عمر:
أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 49)، و الدارمي (1 / 127)، و الخطيب في " تقييد العلم " (ص 88)، والحاكم
(1 / 106) من طريق ابن جريج، عن عبد الله بن عبد الملك بن أبي سفيان، عن عمه عمرو بن أبي
سفيان، عن عمر، فذكره. و صححه الحاكم.
* أثر ابن عباس:
أخرجه الخطيب في " تقييد العلم " ص (92) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير. قال:
122

باب في فضل القرآن (1)
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " إنها ستكون فتن، كقطع الليل المظلم، قيل: فما النجاة منها،
يا رسول الله؟ قال: كتاب الله تبارك و تعالى، فيه نبأ من قبلكم، و خبر ما بعدكم، و حكم
ما بينكم، و هو فصل، ليس بالهزل، من تركه تجبرا، قصمه الله، و من ابتغى الهدى في
غيره أضله الله، و هو حبل الله المتين، و نوره المبين، و الذكر الحكيم، و الصراط
المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تتشعب معه الآراء، و لا يشبع منه العلماء، و لا
يمله الأتقياء، من علم علمه سبق، و من عمل بن أجر، ومن حكم بن عدل، و من اعتصم
به، فقد هدي إلى صراط مستقيم " (2)، و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " من أراد علم الأولين
و الآخرين، فليثور القرآن " (3)، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: " إن الذي يتعاهد القرآن، و يشتد عليه له أجران،
و الذي يقرؤه و هو خفيف عليه مع السفرة الكرام البررة " (4)، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: " اتلوا هذا القرآن،

قال ابن عباس: قيدوا العلم بالكتاب.
و سنده ضعيف، فرواية عكرمة بن عمار عن يحيى مضطربة.
(1) هذا الباب يوجد في " المحرر الوجيز " (1 / 36) هكذا: باب: ما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و عن الصحابة،
و عن نبهة العلماء، في فضل القرآن المجيد، و صورة الاعتصام به.
(2) أخرجه الترمذي (5 / 172)، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضائل القرآن، حديث (2906)،
و الدارمي (2 / 435)، كتاب فضائل القرآن، باب فضل من قرأ القرآن، كلاهما من طريق الحسين بن
علي الجعفي، عن حمزة الزيات، عن أبي المختار الطائي، عن ابن أخي الحارث الأعور، عن الحارث،
عن علي به.
و قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، و إسناده مجهول، و في الحارث مقال.
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (6 / 337)، و عزاه إلى ابن أبي شيبة، و الدارمي، و الترمذي،
ومحمد بن نصر، و ابن الأنباري في " المصاحف ".
(3) ذكره المتقي الهندي في " كنز العمال " (1 / 548) رقم (2454)، و عزاه إلى الديلمي، عن أنس مرفوعا،
و قد ورد هذا الحديث عن ابن مسعود لكن موقوفا، فأخرجه الطبراني في " الكبير " (9 / 146)، رقم
(8665) من طريق زهير، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود، و ذكره الهيثمي في " المجمع "
(7 / 168)، وقال: رواه الطبراني بأسانيد، و رجال أحدها رجال الصحيح.
و أخرجه الطبراني أيضا (9 / 146)، رقم (8666) من طريق شعبة، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن
عبد الله قال: " من أراد العلم فليثور القرآن، فإن فيه علم الأولين و الآخرين " و أخرجه ابن المبارك في
" الزهد " (ص 280)، رقم (814)، و الفريابي في " فضائل القرآن " (ص - 197)، رقم (78)، و أبو عبيد
في " فضائل القرآن " (ص 36) رقم (80). و ابن أبي شيبة (10 / 485)، رقم (10067) كلهم من طريق
سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرة، عن ابن مسعود قال: " إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإن فيه علم
الأولين و الآخرين ".
(4) أخرجه البخاري (8 / 560)، كتاب التفسير، باب سورة " عبس "، حديث (4937)، و مسلم (1 / 550)،
123

فإن الله يأجركم بالحرف منه عشر حسنات، أما إني لا أقول " آلم " حرف، و لكن الألف
حرف، و اللام حرف، و الميم حرف "، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: " ما من شفيع أفضل عند الله من
القرآن، لا نبي و لا ملك "، و قال صلى الله عليه و آله و سلم: " أفضل عبادة أمتي القرآن "، و حدث أنس بن

كتاب " صلاة المسافرين "، باب فضل الماهر بالقرآن، حديث (798 / 244)، و أبو داود (1 / 460)،
كتاب الصلاة، باب في ثواب قراءة القرآن، حديث (1454)، والترمذي (5 / 171)، كتاب " فضائل
القرآن "، باب ما جاء في فضل قارىء القرآن، حديث (2904)، و النسائي في " التفسير " (2 / 492)، رقم
(666)، و ابن ماجة (2 / 1242)، كتاب " الأدب "، باب ثواب القرآن، حديث (3779)، و أحمد (6 /
48، 110، 192، 239)، و عبد الرزاق (2 / 491)، رقم (4194)، و ابن أبي شيبة (10 / 490)، و أحمد (6 /
48، 110، 192، 239)، و عبد الرزاق (2 / 491)، رقم (4194)، و ابن أبي شيبة (10 / 490)، رقم
(10085)، و الدارمي (2 / 444)، كتاب " فضائل القرآن "، باب فضل من يقرأ القرآن و يشتد عليه،
و الطيالسي (2 / 2 - منحة)، رقم (1184)، والبيهقي (2 / 395)، كتاب " الصلاة "، و في " شعب الإيمان "
(4 / 537)، رقم (1822)، و أبو عبيد في " فضائل القرآن " (ص - 5)، رقم (6)، و الفريابي في
" الفضائل " (ص - 114)، و ابن الضريس في " فضائل القرآن " (ص 39)، رقم (29)، و ابن حبان (3 /
44)، رقم (767)، من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام الأنصاري، عن
عائشة مرفوعا.
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1) أخرجه الترمذي (5 / 175)، كتاب " فضائل القرآن "، باب ما جاء فيمن قرأ حرفا من القرآن ما له من
الأجر، حديث (2910)، والبخاري في " التاريخ الكبير " (1 / 216)، و البيهقي في " شعب الإيمان " (4 /
548)، رقم (1831) كلهم من طريق الضحاك بن عثمان، عن أيوب بن موسى قال: سمعت محمد بن
كعب القرظي يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " من قرأ حرفا من كتاب
الله فله به حسنة، و الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (آلم) حرف، و لكن ألف حرف، و ميم حرف ".
و قال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، سمعت قتيبة يقول: بلغني أن
محمد بن كعب القرظي ولد في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم... " اه‍. قلت: الذي ولد في حياة النبي صلى الله عليه و آله و سلم كعب
والد محمد، و ينظر " الإصابة " (6 / 346).
(2) ذكره الغزالي في " الإحياء " (1 / 273).
و قال الحافظ العراقي في " تخريجه ": رواه عبد الملك بن حبيب من رواية سعيد بن سليم مرسلا: اه‍.
و ينظر: " كشف الخفاء " (1 / 20).
(3) أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (2 / 354)، رقم (2022) من طريق سلمة بن كهيل، عن حجية بن
عدي، عن النعمان بن بشير مرفوعا.
و قد ورد بلفظ: " أفضل العبادة قراءة القرآن ".
ذكره المتقي الهندي في " كنز العمال " (1 / 511)، رقم (2263)، و عزاه إلى ابن قانع، عن أسير بن
جابر، و إلى السجزي في " الإبانة "، عن أنس.
و أسير بن جابر في صحبته نظر، قاله ابن الأثير كما في " فيض القدير " (2 / 44).
والحديث ذكره الغزالي في " الإحياء " (1 / 273)، و قال الحافظ العراقي: أخرجه أبو نعيم في " فضائل
القرآن " من حديث النعمان بن بشير، و أنس، و إسنادهما ضعيف.
124

مالك (1) عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: " من قرأ مائة آية، كتب من القانتين، و من قرأ مائتي
آية، لم يكتب من الغافلين، و من قرأ ثلاثمائة آية، لم يحاجه القرآن " (2)، قال الشيخ
يحيى بن شرف النووي (3): أعلم أن قراءة القرآن آكد الأذكار، و أفضلها، فينبغي المداومة
عليها، فلا يخلو عنها يوما و ليلة، و يحصل له أصل القراءة بقراءة الآيات القليلة،
و المطلوب القراءة و الخشوع والخضوع، و قد روينا في كتاب ابن السني عن أنس،
عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم، أنه قال: " من قرأ خمسين آية، لم يكتب من الغافلين، و من قرأ مائة آية،
كتب من القانتين، و من قرأ مائتي آية، لم يحاجه القرآن يوم القيامة، و من قرأ خمسمائة آية،
كتب له قنطار من الأجر "، و في رواية: " من قرأ أربعين آية بدل: " خمسين "، و في رواية:
" عشرين (4) آية " و في رواية عن أبي هريرة (5) عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " من قرأ عشر آيات لم يكتب

(1) أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن
النجار - و اسمه تيم الله - بن ثعلبة بن عمرو بن خزرج بن حارثة.
أبو حمزة. الأنصاري. الخزرجي. النجاري من بني عدي بن النجار. خادم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، توفي سنة
90 و قيل غير ذلك.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (258 / 1 / 151)، " الإصابة " (1 / 71)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 /
31)، " الاستيعاب " (1 / 109)، " الثقات " (3 / 4)، " سير أعلام النبلاء " (3 / 395)، " الجرح و التعديل "
(2 / 1036)، " الأعلام " (2 / 24)، " العبر " (1 / 107)، " تهذيب الكمال " (1 / 122)، " تقريب التهذيب "
(1 / 14)، " الوافي بالوفيات " (9 / 411)، " تاريخ الثقات " (73).
(2) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم و الليلة " رقم (679).
(3) ينظر: " الأذكار " ص 133، بتصرف.
(4) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم و الليلة " رقم (679).
(5) أبو هريرة بن عامر بن عبد ذي الشري بن طريف بن عتاب بن أبي صعب بن منبه بن سعد بن ثعلبة بن
سليم بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران بن كعب. الدوسي. و قيل في نسبه
غير ذلك. و اختلف في اسمه اختلافا كثيرا. ذكره ابن حجر في " الإصابة " و قد عدد من أقوالهم في اسمه
الشئ الكثير.
قال ابن الأثير:
أبو هريرة - الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أكثرهم حديثا عنه، و هو دوسي.. و قد اختلف في اسمه
اختلافا كثيرا لم يختلف في اسم آخر مثله و لا ما يقاربه.. و قيل: رآه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و في كمه هرة فقال:
" يا أبا هريرة ".
وفاته: قيل توفي سنة (57)، و له (78 سنة)، و قيل: مات ب‍ " العقيق "، و حمل إلى المدينة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 318)، " الإصابة " (7 / 199).، " الاستيعاب " (1768)، " تجريد
أسماء الصحابة " (2 / 209)، " تهذيب الكمال " (3 / 1655)، " تهذيب التهذيب " (12 / 262)، " الكنى
والأسماء " (1 / 60)، " المغني " (298)، " الكاشف " (3 / 385)، " الأنساب " (5 / 402)، " تنقيح المقال "
(3 / 38)، " معرفة الثقات " (22756)، " تاريخ الثقات " (2061).
125

من الغافلين " (1)، و جاء في الباب أحاديث كثيرة بنحو هذا. انتهى من " الحلية ".
و روى ابن عباس (2) عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: " أشراف أمتي حملة القرآن " (3)، و روى
أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " القرآن شافع مشفع و ما حل مصدق، و من شفع له
القرآن نجا، و من محل به القرآن يوم القيامة، كبه الله لوجهه في النار " (4)، وأحق من شفع

(1) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم و الليلة " (ص 188)، رقم (702)، و " الحاكم " (1 / 555)، كلاهما
من طريق محمد بن إبراهيم الصوري، عن مؤمل بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي
صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به و قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه.
و وافقه الذهبي.
قلت: و مؤمل بن إسماعيل. وثقه ابن معين و إسحاق بن راهويه.
و قال ابن سعد: ثقة كثير الغلط.
و قال الدارقطني: كثير الخطأ.
و قال الساجي: صدوق كثير الخطأ، و له أوهام يطول ذكرها.
و قال أبو حاتم: صدوق شديد السنة، كثير الخطأ.
و قال البخاري: منكر الحديث.
و قد لخص الحافظ هذه الأقوال في " التقريب " فقال: صدوق إلا أنه سيىء الحفظ.
ينظر: " الجرح و التعديل " (8 / 374)، و " التقريب " (2 / 555) و " التهذيب " (10 / 380 - 381).
(2) هو: عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس. القرشي. الهاشمي. ابن
عم رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. أمه: أم الفضل لبابة بنت الحارث. الهلالية.
ولد و بنو هامش بالشعب قبل الهجرة بثلاث، و قيل: بخمس. كان يسمى " البحر " لسعة علمه، و يسمى
" حبر الأمة "، و يسمى " ترجمان القرآن "، و هو من صغار الصحابة توفي النبي صلى الله عليه و آله و سلم و له على أرجح الأقوال
ثلاث عشرة سنة. توفي ب‍ " الطائف " سنة 68 و له (71 أو 72 أو 74).
ينظر ترجمته في: " الإصابة " (4 / 90)، " أسد الغابة " (3 / 290)، " الاستيعاب " (3 / 933)، " تجريد
أسماء الصحابة (1 / 320)، " التاريخ الكبير " (3 / 3، 5) " الجرح و التعديل " (5 / 116)، " العبر " (1 /
41)، " الأعلام " (4 / 95)، " شذرات الذهب " (1 / 75) " صفوة الصفوة " 1 / 746).
(3) أخرجه السهمي في " تاريخ جرجان " (ص - 494)، والطبراني في " الكبير " (12 - 125)، رقم
(12612)، و البيهقي في " شعب الإيمان " (2 / 556)، رقم (2703)، و الخطيب في " تاريخ بغداد " (4 /
124)، كلهم من طريق سعد بن سعيد الجرجاني: ثنا نهشل بن عبد الله، عن الضحاك، عن ابن عباس
مرفوعا.
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 164)، و قال: وفيه سعد بن سعيد الجرجاني، و هو
ضعيف.
و الحديث ضعفه المنذري في " الترغيب " (919).
(4) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " فضائل القرآن " كما في " تخريج الكشاف " للزيلعي (2 /
187، 188) من طريق حجاج عن ابن جريج قال: حدثت عن أنس، فذكره و قال الزيلعي: وفيه
انقطاع، و حجاج ضعيف.
126

له القرآن أهله وحملته، وأولى من محل به من عدل عنه، وضيعه، وقال قوم من الأنصار
للنبي صلى الله عليه وسلم: " ألم تر يا رسول الله ثابت بن قيس (1)، لم تزل داره البارحة يزهر فيها وحولها
أمثال المصابيح؟! فقال لهم: فلعله قرأ سورة البقرة، فسئل ثابت بن قيس فقال: نعم،
قرأت سورة البقرة " (2)، وفي هذا المعنى حديث صحيح عن أسيد بن حضير (3) في تنزل

و للحديث شواهد من حديث جابر و ابن مسعود.
* حديث جابر:
أخرجه ابن حبان (1793 - موارد)، و البزار (1 / 78 - كشف)، رقم (122)، كلاهما من طريق أبي
كريب محمد بن العلاء: ثنا عبد الله بن الأجلح، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر عن
النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: " القرآن شافع مشفع، و ما حل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلف
ظهر ساقه إلى النار ".
و صححه ابن حبان.
وقال البزار: لا نعلم أحدا يرويه عن جابر إلا من هذا الوجه و ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 /
174)، و قال: و رجال حديث جابر المرفوع ثقات.
* حديث ابن مسعود:
أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (4 / 108)، و الطبراني في " الكبير " (10 / 244)، رقم (10450)، كلاهما
من طريق هشام بن عمار: ثنا الربيع بن بدر، عن الأعمش، عن شقيق أبي وائل، عن ابن مسعود
مرفوعا.
و قال أبو نعيم: غريب من حديث الأعمش، تفرد به عنه الربيع.
(1) ثابت بن قيس بن الشماس بن زهير بن مالك. أبو عبد الرحمن و أبو محمد. الأنصاري الخزرجي.
خطيب الأنصار. قال ابن الأثير: كان ثابت خطيب الأنصار، و خطيب النبي صلى الله عليه وآله و سلم كما كان حسان
شاعره.. شهد أحدا و ما بعدها، و قتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر شهيدا. روى عنه أنس بن مالك
و أولاده.
ينظر ترجمته في: " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 64)، " الاستيعاب " (1 / 200)، " الاستبصار " (1 /
117)، " الإصابة " (1 / 203)، " أسد الغابة " (1 / 275)، " الثقات " (3 / 43)، " تقريب التهذيب " (1 /
116)، " تهذيب التهذيب " (2 / 12)، " تهذيب الكمال " (1 / 368)، " الكاشف " (1 / 171)، " التاريخ
الكبير " (5 / 167)، " الجرح و التعديل " (2 / 456)، " سير أعلام النبلاء " (1 / 308).
(2) أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب: " فضائل القرآن " كما في " تفسير ابن كثير " (1 / 33)، قال
حدثنا عباد بن عباد، عن جرير بن حازم، عن عمه جرير بن يزيد، أن أشياخ أهل المدينة حدثوه،
فذكروا الحديث.
و قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد إلا أن فيه إبهاما، ثم هو مرسل.
(3) هو: أسيد بن الحضير بن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل... قيل كنيته: أبو
حضير، أبو عمرو، أبو عيسى، أبو يحيى، أبو عتيك. الأنصاري. الأشهلي الأوسي، شهد العقبة
الثانية، و كان نقيبا لبني عبد الأشهل. اختلف في شهوده بدرا، و شهد أحدا و كان ممن ثبت يومها، وجرح
حينئذ سبع جراحات، قال ابن إسحاق: حدثنا يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن
127

الملائكة في الظلة لصوته بقراءة سورة البقرة (1).
قلت: وفي رواية سورة الكهف.
وهذا الحديث خرجه البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي. انتهى.
وقال عقبة بن عامر (2): " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فقال: عليكم
بالقرآن " (3)، وقال عبد الله بن عمرو بن العاصي (4): إن من أشراط الساعة أن يبسط

عائشة قالت: " ثلاثة من الأنصار لم يكن أحد منهم يلحق في الفضل كلهم من بني عبد الأشهل:
سعد بن معاذ، و أسيد بن حضير، و عباد بن بشير. توفي سنة (20)، و قيل 21، وقيل: في إمارة عمر.
ينظر ترجمته في: " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 21)، " الثقات " (3 / 6)، " أسد الغابة " (1 / 111)،
" الإصابة " (1 / 48)، " الإكمال " (2 / 482)، " الاستيعاب " (1 / 92)، " تهذيب الكمال " (1 / 113).
(1) أخرجه البخاري (8 / 680)، كتاب " فضائل القرآن "، باب: نزول السكينة و الملائكة عند قراءة القرآن،
حديث (5018).
(2) هو: عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة بن مودعة بن عدي بن غنم بن
الربعة بن رشدان بن قيس بن جهينة... الجهني، أبو حماد. و قيل: أبو لبيد. و أبو عمرو.
قال ابن الأثير في " الأسد ":
روى عنه من الصحابة: ابن عباس، و أبو عباس، و أبو أيوب، و أبو أمامة، و غيرهم، و من التابعين: أبو
الخير، و علي بن رباح أبو قبيل، و سعيد بن المسيب و غيرهم.
شهد " صفين " مع معاوية، و شهد فتوح الشام، و هو كان البريد إلى عمر بفتح " دمشق "، وكان من أحسن
الناس صوتا بالقرآن. توفي بمصر، وكان واليا عليها سنة (58 ه‍).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (4 / 53)، " الإصابة " (4 / 250)، " الثقات " (3 / 280)، " الطبقات
الكبرى " (2 / 376)، " التاريخ الكبير " (6 / 340)، " التاريخ الصغير " (2 / 123)، " الرياض المستطابة "
(220)، " الأعلام " (2 / 240)، " العبر " (1 / 62)، " الإكمال " (6 / 88)، " سير أعلام النبلاء " (2 / 467)،
" طبقات الحفاظ " (10) " تذكرة الحفاظ " (1 / 42)، " روضات الجنات " (8 / 38)، " الجرح و التعديل "
(6 / 313)، " تهذيب الكمال " (2 / 945)، " تقريب التهذيب " (2 / 27).
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (19 / 296)، رقم (658).
(4) هو: عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن
كعب بن لؤي.. أبو محمد. و قيل: أبو عبد الرحمن. القرشي. السهمي. أسلم قبل أبيه، و كان من
فضلاء الصحابة عالما بالقرآن، و قرأ الكتب المتقدمة، و كان من أشهر حفاظهم، و أخباره كثيرة لا يتسع
المقام للحديث عنه.
وفاته: قيل: توفي سنة (63) و قيل غير ذلك.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 349)، " الإصابة " (4 / 111)، " الثقات " (3 / 211)، " الاستيعاب "
(3 / 256)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 326)، " الجرح والتعديل " (5 / 116)، " تقريب التهذيب " (1 /
436)، " تهذيب التهذيب " (5 / 337)، " تهذيب الكمال " (2 / 716)، " شذرات الذهب " (1 / 62)،
" النجوم الزاهرة " (20)، " الوافي بالوفيات " (17 / 380).
128

القول، ويخزن الفعل، ويرفع الأشرار، ويوضع الأخيار، وأن تقرأ المثناة على رؤوس
الناس، لا تغير، قيل: وما المثناة (1)؟ قال: ما استكتب من غير كتاب الله، قيل له: فكيف
بما جاء من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما أخذتموه عمن تأمنونه على نفسه ودينه
فاعقلوه، وعليكم بالقرآن فتعلموه، وعلموه أبناءكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون،
وكفى به واعظا لمن عقل (2)، وقال رجل لعبد الله ابن مسعود (3): أوصني، فقال: إذا
سمعت الله تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا) فارعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر
ينهى عنه (4)، وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أحسن الناس قراءة أو صوتا
بالقرآن فقال: " الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله تعالى " (5)، وقال صلى الله عليه وسلم: " اقرأوا القرآن قبل
أن يجيء قوم يقيمونه كما يقام القدح (6)، ويضيعون معانيه، يتعجلون أجره، ولا

(1) قال العلامة ابن الأثير: و قيل: إن المثناة هي أن أحبار بني إسرائيل بعد موسى - عليه السلام - و ضعوا
كتابا فيما بينهم على ما أرادوا من غير كتاب الله، فهو المثناة، فكأن ابن عمرو كره الأخذ عن أهل
الكتاب، و قد كانت عنده كتب وقعت إليه يوم اليرموك منهم، فقال هذا لمعرفته بما فيها.
قال الجوهري: " المثناة " هي التي تسمى بالفارسية دويتي، و هو الغناء. ينظر: " النهاية في غريب الحديث
و الأثر " (1 / 225 - 226).
(2) أخرجه الدارمي (1 / 123)، باب: من لم ير كتابة الحديث.
(3) هو: عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن سمع بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحرث بن
تيم بن سعد بن هذيل أبو عبد الرحمن الهذلي. حليف بني زهرة.
قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم في أول الإسلام " إنك غلام معلم " و قال هو: لقد رأيتني سادس ستة، و ما على الأرض
مسلم غيرنا، و كان يقول أخذت من في رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم سبعين سورة، و هو أول من جهر بالقرآن بمكة.
توفي سنة: 32، و قيل: 33، و قيل: توفي بالمدينة، و قيل: بالكوفة، والأول أرجح.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 484)، " الإصابة " (4 / 129)، " الثقات " (3 / 208)، " الاستبصار " (65، 139)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 334)، " الأعلام " (4 / 137)، " التاريخ الصغير " (1 / 60)،
" الجرح و التعديل " (5 / 149)، " العبر " (1 / 25)، " حلية الأولياء " (1 / 375)، " سير أعلام النبلاء " (1 /
461).
(4) أخرجه أحمد في " الزهد " (ص 231) رقم (864) و ابن المبارك في " الزهد " (ص 12) رقم (36)
و سعيد بن منصور رقم (50) و ابن أبي حاتم في " تفسيره " كما في " تفسير ابن كثير " (2 / 2) و أبو نعيم في
" الحلية " (1 / 130).
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 195) و لكن عن ابن عباس و أظنه خطأ من الطابع أو الناسخ و زاد
نسبته إلى أبي عبيد في " فضائله " و البيهقي في " شعب الإيمان ".
(5) أخرجه عبد الرزاق (2 / 488) رقم (4185) عن طاوس مرسلا.
و ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 173) من حديث ابن عمر و عزاه للطبراني في الأوسط و قال:
و فيه حميد بن حماد بن حوار وثقه ابن حبان و قال: ربما أخطأ و بقية رجاله رجال الصحيح.
(6) القدح: السهم قبل أن ينصل ويراش. ينظر: " لسان العرب " (3542).
129

يتأجلونه " (1)، وروي أن أهل اليمن، لما قدموا أيام أبي بكر الصديق (2) رضي الله عنه
سمعوا القرآن فجعلوا يبكون، فقال أبو بكر: " هكذا كنا، ثم قست القلوب " (3)، وروي أن
عمر بن الخطاب (4) رضي الله عنه قرأ مرة (إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع)
[الطور: 7، 8] فأن أنة عيد منها عشرين يوما (5)، قال القرطبي في " التذكرة " (6): وما تقرب

(1) أخرجه أبو داود (1 / 280)، كتاب: " الصلاة "، باب: ما يجزئ الأمي والأعجمي من القراءة، حديث
(830)، و أحمد (3 / 397)، و الفريابي في " فضائل القرآن " (ص 244)، رقم (174)، و الآجري في
" أخلاق أهل القرآن " (ص 92)، رقم (28)، والبيهقي في " شعب الإيمان " (5 / 575 - 576)، رقم
(2399)، كلهم من طريق حميد الأعرج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
و أخرجه أحمد (3 / 357)، و أبو يعلى (4 / 140)، رقم (2197)، و البيهقي في " شعب الإيمان "، (5 /
576 - 577)، رقم (2400) من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر به.
و قد روي هذا الحديث عن ابن المنكدر مرسلا.
أخرجه عبد الرزاق (3 / 382) رقم (6034)، و ابن أبي شيبة (10 / 480)، رقم (10053)، والبيهقي
في " شعب الإيمان " (5 / 575)، رقم (2398)، عن ابن المنكدر، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسلا.
(2) هو: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي..
القرشي. التيمي أبو بكر الصديق بن أبي قحافة، خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
ولد بعد الفيل بسنتين و سنة أشهر. هو صحابي شهير غني عن التعريف، و قد جاءت ترجمته في مصادر
يصعب حصرها في مثل هذا الموضع. توفي يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة (13) و له (63 سنة).
ينظر ترجمته في: " الاستيعاب " (293)، " أسد الغابة " (6 / 37)، " الإصابة " (4 / 101)، " المغني "
(286)، " تجريد أسماء الصحابة " (2 / 152)، " الكنى و الأسماء " (1 / 6)، " بقي بن مخلد " (30)،
" الزهد لوكيع " (99)، " تاريخ الثقات " (1906)، " معرفة الثقات " (2092)، " الأعلام " (4 / 102)،
" تهذيب الكمال " (3 / 1589)، " تهذيب التهذيب " (12 / 43)، " تقريب التهذيب " (2 / 401)، " تذكرة
الحفاظ " (1 / 2)، " شرف أصحاب الحديث " (35، 90)، " أصحاب بدر " (41)، " التحفة اللطيفة " (2 /
358)، " تاريخ الإسلام " (2 / 97) " الرياض المستطابة " (140)، " صفة الصفوة " (1 / 235).
(3) أخرجه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (1 / 33 - 34) من طريق الأعمش عن أبي صالح به.
و ذكره الهندي في " كنز العمال " (4097) و عزاه لأبي نعيم.
(4) عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن
كعب بن لؤي.. أبو حفص. القرشي. العدوي. أمير المؤمنين. الفاروق.
ولد بعد " الفجار الأعظم " بأربع سنين قبل المبعث النبوي بثلاثين سنة، و قيل: يرون ذلك. طعن يوم الأربعاء
لأربع ليال بقين من ذي الحجة سنة (23)، و دفن يوم الأحد صباح هلال المحرم سنة (24) على أرجح الأقوال.
" الاستيعاب " (3 / 1144)، " الجرح و التعديل " (6 / 105)، " تقريب التهذيب " (2 / 540)، " تهذيب
التهذيب " (7 / 438)، " الكاشف " (309)، " تاريخ جرجان " (730).
(5) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (6 / 146) و عزاه إلى أبي عبيد في " فضائله ".
(6) ينظر: " التذكرة " (1 / 126).
130

المتقربون إلى الله تعالى بشئ مثل القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب تبارك وتعالى: من شغله
قراءة القرآن عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " رواه الترمذي. انتهى.
قلت: ولفظ الترمذي عن أبي سعيد (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الرب
عز وجل: " من شغله القرآن وذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين "،
وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه "، قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن غريب (2).

(1) هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج.. أبو
سعيد الخدري، الأنصاري.
قال ابن الأثير:
كان من الحفاظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم المكثرين و من العلماء الفضلاء العقلاء. روى عن أبي سعيد قال:
عرضت على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم الخندق و أنا ابن الثلاث عشرة، فجعل أبي يأخذ بيدي و يقول: يا رسول
الله، إنه عبل العظام. فردني. توفي سنة " 74 ه‍ ".
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 163)، " الإصابة " (7 / 84)، " الاستيعاب " (2 / 1671)، " تجريد
أسماء الصحابة " (2 / 172)، " الأنساب " (5 / 6)، " الإكمال " (3 / 296)، " تهذيب الكمال " (3 /
1609)، " تقريب التهذيب " (2 / 428).
(2) أخرجه الترمذي (5 / 184)، كتاب " فضائل القرآن "، باب (25)، حديث (2926)، و الدارمي (2 /
441)، كتاب " فضائل القرآن "، باب فضل كلام الله على سائر الكلام، و ابن نصر في " قيام الليل "
(ص 71)، و العقيلي في " الضعفاء " (4 / 49)، و أبو نعيم في " الحلية " (5 / 106)، و البيهقي في " الأسماء
و الصفات " (ص 238)، كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس،
عن عطية، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعا. و قال الترمذي: حديث حسن غريب.
و الحديث أعله العقيلي في " الضعفاء " بمحمد بن الحسن و قال: لا يتابع عليه.
و قال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 82)، رقم (1738): سألت أبي عن حديث رواه محمد بن
و قال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 82)، رقم (1738): سألت أبي عن حديث رواه محمد بن
الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن عمرو بن قيس، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري، عن
النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال الله عز وجل: " من شغله القرآن عن دعائي و مسألتي أعطيته أفضل ثواب السائلين " قال
أبي: هذا حديث منكر، و محمد بن الحسن ليس بالقوي اه‍. فأعل العقيلي و أبو حاتم هذا الحديث
بمحمد بن الحسن. قلت: قال البيهقي: تابعه الحكم بن بشير، و محمد بن مروان، عن عمرو بن
قيس، لتنحصر علة الحديث في ضعف و تدليس عطية العوفي.
و للحديث شاهد من حديث عمر بن الخطاب: أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " (ص 93)،
و البيهقي في " شعب الإيمان " (1 / 413)، رقم (572)، كلاهما من طريق صفوان بن أبي الصهباء، عن
بكير بن عتيق، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن جده مرفوعا به، و من طريق صفوان أورده
ابن الجوزي في " الموضوعات " (3 / 166)، و قال: قال ابن حبان: هذا موضوع، ما رواه إلا صفوان
بهذا الإسناد، فأما صفوان، فيروي عن الأثبات ما لا أصل له من حديث الثقات، و لا يجوز الاحتجاج
بما انفرد به.
131

وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من
ثلاث "، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح (1). انتهى.
وعماد الأمر التدبر والتفهم، فقلة القراءة مع التفهم أفضل من كثرتها من غير تفهم،
وهذا الذي عليه المحققون، وهو الذي يدل عليه القرآن، وصحيح الآثار، ولولا الإطالة،
لأتينا من ذلك بما يثلج له الصدر، وقد ذكر بعض شراح " الرسالة " (2) في الذي يقرأ القرآن
من غير تأمل ولا تفهم، هل له أجر أم لا؟ قولان، وهذا الخلاف، والله أعلم، في غير
المتعلم، والقول بعدم الأجر على ضعفه هو ظاهر ما حكاه عياض (3) في " المدارك " عن

و للحديث شاهد آخر من حديث حذيفة: أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7 / 313)، عن أبي مسلم
عبد الرحمن بن واقد، ثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن ربعي، عن حذيفة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه و آله و سلم: " قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته قبل أن يسألني ".
و قال أبو نعيم: غريب، تفرد به أبو مسلم.
و أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (1 / 413 - 414)، رقم (573)، من طريق يزيد بن خمير، عن جابر،
عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم عن ربه تبارك و تعالى قال: " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ".
(1) أخرجه الترمذي (5 / 198)، كتاب " القراءات "، باب (13)، حديث (2949)، و أبو داود (1 / 443)،
كتاب " الصلاة "، باب تحزيب القرآن، حديث (1394)، و ابن ماجة (1 / 428)، كتاب " الصلاة "، باب
في كم يستحب يختم القرآن، حديث (1347)، و الدارمي (1 / 350)، كتاب " الصلاة "، باب في كم
يختم القرآن، و أحمد (2 / 195)، و ابن حبان (3 / 35)، رقم (758)، كلهم من طريق قتادة، عن أبي
العلاء يزيد بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا.
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح. و صححه ابن حبان.
(2) هي " الرسالة القشيرية " في التصوف، للإمام أبي القاسم عبد الكريم ابن هوازن القشيري، الأستاذ
الشافعي، المتوفي سنة 465 ه‍، عن تسعة و ثمانين عاما، و هي على أربعة و خمسين بابا، و ثلاثة
فصول، و قد شرحها القاضي زكريا بن محمد الأنصاري ت 910، في مجلد مع المتن، سماه " إحكام
الدلالة على تحرير الرسالة ".
و من شروحها " الدلالة على فوائد الرسالة " للشيخ الفقيه سديد الدين أبي محمد عبد المعطي بن
محمود بن عبد العلي اللخمي.
و شرحها - أيضا - المولى علي القاري في مجلدين. ينظر: " كشف الظنون " (883).
(3) هو أبو الفضل عياض - بكسر العين - بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى اليحصبي - بضم الصاد -
المالكي، سبتي الدار و الميلاد، أندلسي الأصل، ولد سنة 476 ه‍، و رحل إلى
الأندلس "، و أخذ عن
علمائها كأبي الوليد بن رشد، و أبي علي الغساني، و غيرهما، ثم عاد إلى " سبتة " و تولى بها التدريس
و القضاء، و صار إمام وقته في الحديث، و التفسير، والفقه، و الأصول، كما كان عالما بالنحو و اللغة.
و من أشهر مؤلفاته، كتاب " التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة "، و كتاب " ترتيب المدارك في طبقات
أصحاب مالك ". توفي سنة 544 ه‍.
ينظر: " ترتيب المدارك " (1 / 18)، " الفكر السامي " (3 / 58) و ما بعدها، " شجرة النور " ص 140.
132

الشبلي في قصته مع الإمام المقرئ.
وبالجملة فالتدبر والتفهم هو الذي يحصل معه الإنابة والخشوع، وكل خير، ونقل
الباجي (1) في " سنن الصالحين " عن محمد بن كعب القرظي (2) قال: لأن اقرأ في ليلى حتى
أصبح ب‍ " إذا زلزلت "، وبالقارعة إلا لا أزيد عليها وأتردد فيها وأتفكر أحب إلى من أن أهذ
القرآن ليلى هذا، أو قال: انثره نثرا (3)، ونحوه عن مجاهد (4) وغيره، وعن ابن عباس قال:
" ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه (5). انتهى.
قال ابن أبي جمرة (6): والمرغب فيه التدبر في القراءة، وإن قلت وهو خير من كثرة

(1) القاضي أبو الوليد: هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، أصلهم من " بطليموس "،
ثم انتقلوا إلى باجة أعني " باجة " الأندلس، أخذ بالأندلس عن ابن الأصبغ، و ابن محمد المكي، و ابن
شاكر، و غيرهم، و رحل سنة 426، فأقام بالحجاز مع أبي ذر الهروي ثلاثة أعوام، ثم ارتحل إلى
" بغداد "، فدرس الفقه، و سمع الحديث ثم دخل " الشام " ثم " الموصل ". له مؤلفات عديدة منها: كتاب
" السراج في علم الحجاج "، و كتاب " مسائل الخلاف "، و كتاب " شرح المدونة "، و كتاب " المقتبس " من
علم مالك، و كتاب " المهذب في اختصار المدونة "، و كتاب " اختلاف الموطأ "، و كتاب " إحكام الفصول
في أحكام الوصول "، و كتاب " المنتقي في شرح الموطأ "، و هو اختصار لكتاب " الاستيفاء "، و توفي سنة
494 ه‍، و قيل سنة 474.
ينظر: " الديباج " ص 120 و ما بعدها، و " شجرة النور " ص 121.
(2) محمد بن كعب القرظي المدني، ثم الكوفي أحد العلماء. قال ابن عون: ما رأيت أحدا أعلم بتأويل
القرآن من القرظي. و قال ابن سعد: كان ثقة ورعا كثير الحديث. قيل: مات سنة تسع عشرة و مائة.
و قيل: سنة عشرين.
ينظر: " خلاصة تهذيب الكمال " (2 / 452) " تهذيب التهذيب " (9 / 420)، " تقريب التهذيب " (2 /
203)، " الكاشف " (3 / 92)، " الثقات " (5 / 351)، " طبقات ابن سعد " (5 / 370، 371).
(3) أخرجه أبو نعيم في " حلية الأولياء " (3 / 214 - 215).
(4) مجاهد بن جبر، مولى السائب بن أبي السائب، أبو الحجاج المكي، المقرئ، الإمام، المفسر، روى
عن ابن عباس و قرأ عليه. قال مجاهد: عرضت على ابن عباس ثلاثين مرة. روى عن الصحابة. و ثقة ابن
معين و أبو زرعة. ولد سنة 21 ه‍، و توفي ب‍ " مكة " و هو ساجد سنة 102 ه‍، و قيل: غير ذلك.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 10) (6854)، " صفة الصفوة " (2 / 208 - 211)، و " ميزان الاعتدال " (3 /
439 - 440).
(5) ذكره المتقي الهندي في " كنز العمال " (8 / 201) رقم (22544) و عزاه لابن أبي الدنيا في " التفكر ".
(6) عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة، الأزدي، الأندلسي، أبو محمد: من العلماء بالحديث،
مالكي. أصله من " الأندلس "، و وفاته ب‍ " مصر "، من كتبه " جمع النهاية " اختصر به صحيح البخاري،
و يعرف بمختصر ابن أبي جمرة، و " بهجة النفوس " في شرح جمع النهاية، و " المرائي الحسان " في
الحديث، و " الرؤيا ".
ينظر: " الأعلام " (4 / 89)، " البداية و النهاية " (13 / 346).
133

القراءة بلا تدبر، وفائدة التدبر هو أن تعرف معنى ما تتلوه من الآي (1). انتهى.
وقال الحسن بن أبي الحسن (2): إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل، وجعلتم الليل
جملا تركبونه، فتقطعون به المراحل، وان من كان قبلكم رأوه رسائل إليهم من ربهم،
فكانوا يتدبرونه بالليل، وينفذونه بالنهار، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: أنزل
عليهم القرآن ليعملوا به فاتخذوا درسه عملا، إن أحدهم ليتلو القرآن من فاتحته إلى
خاتمته، ما يسقط منه حرفا، وقد أسقط العمل به.
قال * ع (3) *: قال الله تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر) [القمر: 22] وقال تعالى:
(إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) [المزمل: 5]، أي: علم معانيه، والعمل به، والقيام بحقوقه
ثقيل، فمال الناس إلى الميسر، وتركوا الثقيل، وهو المطلوب منهم، وقيل ليوسف بن
أسباط (4): بأي شئ تدعو، إذا ختمت القرآن؟ فقال: أستغفر الله من تلاوتي، لأني إذا
ختمته، ثم تركت ما فيه من الأعمال، خشيت المقت، فاعدل إلى الاستغفار والتسبيح،
وقرأ رجل القرآن على بعض العلماء، قال: فلما ختمته، أردت الرجوع من أوله، فقال لي:
اتخذت القراءة علي عملا، اذهب فاقرأه على الله تعالى في ليلك، وانظر ماذا يفهمك منه،
قال الغزالي في كتاب " التفكر ": وأما طريق الفكر الذي تطلب به العلوم التي تثمر اجتلاب
أحوال محمودة، أو التنزه عن صفات مذمومة، فلا يوجد فيه أنفع من تلاوة القرآن بالفكر،
فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال، وفيه شفاء للعالمين، وفيه ما يورث الخوف،
والرجاء، والصبر، والشكر، والمحبة، والشوق، وسائر الأحوال المحمودة، وفيه ما يزجر

(1) " بهجة النفوس " لابن أبي جمرة (4 / 76).
(2) الحسن بن أبي الحسن البصري، مولى أم سلمة، و الربيع بنت النضر، أو زيد بن ثابت، أبو سعيد
الإمام، أحد أئمة الهدى و السنة. قال ابن سعد: كان عالما جامعا رفيعا ثقة مأمونا عابدا، ناسكا، كثير
العلم فصيحا جميلا، وسيما، ما أرسله فليس بحجة، و كان الحسن شجاعا من أشجع أهل زمانه. قال
ابن علية: مات سنة عشر و مائة. قيل: ولد سنة إحدى و عشرين لسنتين بقيتا من خلافة عمر. قال أبو
زرعة: كل شئ قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم وجدت له أصلا ثابتا خلا أربعة أحاديث.
ينظر: " خلاصة تهذيب الكمال " (1 / 210)، " تهذيب الكمال " (1 / 255)، " تهذيب التهذيب " (2 / 263)
و " تقريب التهذيب " (1 / 165)، " خلاصة تذهيب الكمال " (1 / 210)، " الكاشف " (1 / 220).
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 39).
(4) أحد الزهاد والعباد، و كان له اليد الطولى في المواعظ و الحكم. روى عن الثوري و زائدة بن قدامة
و غيرهما. و روى عنه المسيب بن واضح، و عبد الله بن خبيق. نزل الثغور مرابطا. قال شعيب بن
حرب: ما أقدم على يوسف بن أسباط أحدا. و قد وثقه ابن معين. ينظر ترجمته في: " حلية الأولياء "
(8 / 237)، " سير أعلام النبلاء " (9 / 169).
134

عن سائر الصفات المذمومة، فينبغي أن يقرأه العبد، و يردد الآية التي هو محتاج إلى التفكر
فيها مرة بعد أخرى، ولو ليلة كاملة، فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة من غير تدبر
وفهم، فإن تحت كل كلمة منه أسرارا لا تنحصر، ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن
صفاء القلب بعد صدق المعاملة، وكذلك حكم مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أوتي
عليه السلام جوامع الكلم فكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة، لو تأمله العالم
حق تأمله، لم ينقطع فيه نظره طول عمره، وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول، وانظر
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي (1)، أحبب من أحببت، فإنك مفارقه، وعش ما
شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت، فإنك مجزي به "، فإن هذه الكلمات جامعة لحكم
الأولين والآخرين، وهي كافية للمتأملين، ولو وقفوا على معانيها، وغلبت على قلوبهم
غلبة يقين لاستغرقتهم ولحالت بينهم، وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية. انتهى من
" الاحياء ".
باب في فضل تفسير القرآن وإعرابه
قال النبي صلى الله عليه وسلم: " اعربوا القرآن والتمسوا غرائبه (2)، فإن الله تعالى يحب أن يعرب ".
قال أبو العالية (3) في تفسير قوله عز وجل: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا)

(1) الروع: القلب و العقل، ووقع ذلك في روعي، أي نفسي و خلدي و بالي.
ينظر: " لسان العرب " 1778.
(2) أخرجه أبو يعلى (11 / 436)، رقم (6560)، و الحاكم (2 / 439)، و ابن أبي شيبة (10 / 456)، رقم
(9961)، والخطيب في " تاريخ بغداد " (8 / 77 - 78) كلهم من طريق عبد الله بن سعيد المقبري، عن
أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد على مذهب جماعة من أئمتنا. و تعقبه الذهبي بقوله: بل أجمع على
ضعفه.
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 167) و قال: رواه أبو يعلى، و فيه عبد الله بن سعيد
المقبري، وهو متروك.
و الحديث ذكره السيوطي في " الجامع الصغير " (1 / 558 - فيض)، و عزاه إلى ابن أبي شيبة، و الحاكم،
والبيهقي في " شعب الإيمان " و رمز له بالضعف، و وافقه المناوي.
و ذكره أيضا الألباني في " السلسلة الضعيفة ".. رقم (1345) و قال: ضعيف جدا.
(3) رفيع - بضم أوله مصغرا - ابن مهران الرياحي - بكسر المهملة - مولاهم، أبو العالية البصري، مخضرم،
إمام من الأئمة، صلى خلف عمر، دخل على أبي بكر، روى عن أبي، و علي، و حذيفة، و على خلق.
و عنه قتادة، و ثابت، و داود بن أبي هند بصريون و خلق. قال عاصم الأحوال: كان إذا اجتمع عليه أكثر
من أربعة قام و تركهم. قال مغيرة: أول من أذن ب‍ وراء النهر أبو العالية: قال أبو خلدة: مات سنة
135

[البقرة: 269] قال: الحكمة: الفهم في القرآن (1)، وقال قتادة (2): الحكمة: القرآن، والفقه فيه (3).
وقال غيره: الحكمة: تفسير القرآن (4).
وقال الشعبي (5): رحل مسروق (6) إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إن الذي
يفسرها رحل إلى الشام، فتجهز، ورحل إليه، حتى علم تفسيرها، وذكر علي بن أبي
طالب (7) رضي الله عنه

تسعين، وهو الصحيح.
ينظر: " خلاصة تهذيب الكمال " (1 / 330)، " تهذيب التهذيب " (3 / 284)، " تقريب التهذيب " (1 /
252) و " الكاشف " (1 / 312).
(1) أخرجه الطبري في " تفسيره " (3 / 90) (6179)، و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 40).
(2) قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس. قال ابن
المسيب: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة. و قال ابن سيرين: قتادة أحفظ الناس. و قال ابن مهدي: قتادة
أحفظ من خمسين مثل حميد. قال حماد بن زيد: توفي سنة سبع عشرة و مائة، و قد احتج به أرباب
الصحاح.
ينظر: " طبقات ابن سعد " (9 / 156)، " معرفة الثقات " (1513)، " سير الأعلام " (5 / 269)، " الثقات "
(5 / 322)، " تراجم الأحبار " (3 / 264)، " الحلية " (2 / 333)، " لسان الميزان " (7 / 341)، " ميزان
الاعتدال " (3 / 358)، " تهذيب الكمال " (2 / 1121)، " خلاصة تهذيب الكمال " (2 / 350).
(3) الطبري (3 / 89) (6177)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 616)، و عزاه لعبد بن حميد، و ذكره ابن
عطية الأندلسي في تفسيره (1 / 40).
(4) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسير " (1 / 40).
(5) عامر بن شراحيل الحميري، الشعبي، أبو عمرو الكوفي، الإمام العلم، روى عن كثير من الصحابة،
و روى عنه ابن سيرين و الأعمش، و كان فقيها. قال الشعبي: " ما كتبت سوداء في بيضاء ".
توفي سنة 103 ه‍.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 22) (3263) ابن سعد (6 / 171 - 178)، و " المعارف " (ص 449 - 451)،
و " الحلية " (4 / 310 - 338).
(6) مسروق بن الأجدع الهمداني، أبو عائشة الكوفي، الإمام القدوة. عن أبي بكر و عمر و علي و معاذ
و طائفة. و عنه: زوجته قمير، و أبو وائل، و الشعبي، وخلق. قال أبو إسحاق: حج مسروق فما نام إلا
ساجدا على وجهه، و قال ابن المديني: صلى خلف أبي بكر، و قال ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله.
قال ابن سعد: توفي سنة ثلاث و ستين.
ينظر: " طبقات ابن سعد " (4 / 113)، " سير الأعلام " (4 / 63)، " تاريخ بغداد " (13 / 232)، " معرفة
الثقات " (1709)، " تراجم الأحبار " (3 / 330)، " تهذيب الكمال " (3 / 1320)، " تهذيب التهذيب "
(10 / 110) (205)، " خلاصة تهذيب الكمال " (3 / 21).
(7) علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بين عبد مناف.. أبو الحسن. القرشي. الهاشمي. ابن
عم النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
136

جابر بن عبد الله (1)، فوصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداك، تصف جابرا بالعلم،
وأنت أنت، فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك
إلى معاد) (2) [القصص: 85]، وقال اياس بن معاوية (3): مثل الذين يقرءون القرآن وهم لا
يعلمون تفسيره كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلتهم
روعة (4) لا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعلم التفسير كرجل جاءهم بمصباح فقرأوا
ما في الكتاب (5)، وقال ابن عباس: الذي يقرأ، ولا يفسر كالأعرابي الذي يهذ (6)
الشعر (7)، وقال مجاهد: أحب الخلق إلى الله أعلمهم بما أنزل الله (8)، وقال الحسن:

ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، رابع الخلفاء الراشدين، و زوج فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم
و والد الحسن والحسين، وهو غني عن التعريف، فاضت بذكره كتب التواريخ و السير، قتل في ليلة
السابع عشر من شهر رمضان سنة (40).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (4 / 91)، " الإصابة " (4 / 269)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 392)،
" الاستبصار " (390)، " تاريخ الخلفاء " (166)، " طبقات الكبرى " (9 / 137)، " التاريخ الصغير " (1 /
435)، " الجرح و التعديل " (6 / 191)، " حلية الأولياء " (2 / 87)، " تهذيب الكمال " (2 / 971)،
" تهذيب التهذيب " (7 / 334).
(1) هو: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة أبو عبد الله. و قيل:
أبو عبد الرحمن الأنصاري السلمي شهد العقبة الثانية مع أبيه و هو صبي، و من فضائله قال: استغفر لي
رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ليلة البعير خمسا و عشرين مرة. يعني بقوله: ليلة البعير، أنه باع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعيرا،
واشترط ظهره إلى المدينة، و كان في غزوة لهم. توفي سنة 740 و قيل 77 و كان عمره: 94 سنة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 307)، " الإصابة " (1 / 222)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 73)،
" الاستيعاب " (1 / 219)، " الطبقات الكبرى " (3 / 561)، " الاستبصار " (151)، " التاريخ الكبير " (2 /
207)، " التاريخ الصغير " (1 / 21، 115)، " الجرح والتعديل " (2 / 2019)، " تهذيب الكمال " (1 /
179).
(2) ذكره ابن عطية الأندلس في " تفسيره " (1 / 40).
(3) إياس بن معاوية بن قرة المزني، أبو واثلة البصري، القاضي. عن أبيه، و أنس، وابن المسيب. و عنه
الأعمش، و أيوب، و الحمادان. وثقه ابن سعد و ابن معين. قال إياس: من عدم فضيلة الصدق فقد فجع
بأكرم أخلاقه. و قال: كل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء. قال خليفة: مات ب‍ " واسط " سنة اثنتين
و عشرين و مائة.
ينظر: " خلاصة تهذيب الكمال " (1 / 108)، " تهذيب التهذيب " (1 / 390)، " تقريب التهذيب " (1 /
87)، و " الكاشف " (1 / 144)، " طبقات ابن سعد " (7 / 234).
(4) الروعة: الفزعة. ينظر: " لسان العرب " 1777.
(5) ابن عطية (1 / 40).
(6) الهذ: سرعة القراءة، و منه: هذ القرآن يهذه هذا. ينظر: " لسان العرب " 4643.
(7) ينظر: " المحرر الوجيز " لابن عطية الأندلسي (1 / 40).
(8) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 40).
137

والله ما انزل الله آية إلا أحب أن يعلم فيمن أنزلت، وما يعنى بها (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا
يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة " (2).
فصل فيما قيل في الكلام في تفسير القرآن والجرأة عليه ومراتب المفسرين
روي عن عائشة (3) رضي الله عنها، أنها قالت: " ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر من
كتاب الله تعالى الا آيات بعدد علمهن إياه جبريل عليه السلام ".
قال * ع (4) * ومعنى هذا الحديث في مغيبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا
مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به عباده،
كوقت قيام الساعة ونحوها، ومنها ما يستقرأ من ألفاظه، كعدد النفخات في الصور، وكرتبة
خلق السماوات والأرض.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من تكلم في القرآن برأيه، فأصاب، فقد أخطأ " (5)،
ومعنى هذا أن يسأل الرجل عن معنى في كتاب الله، فيتسور عليه برأيه دون نظر فيما قال
العلماء أو اقتضته قوانين العلوم، كالنحو، والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن
يفسر اللغويون لغته، والنحاة نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كل واحد باجتهاده المبني على
قوانين علم ونظر، فإن هذا القائل على هذه الصفة ليس قائلا بمجرد رأيه، وكان جلة من
السلف، كسعيد بن المسيب (6)، وعامر الشعبي، وغيرهما يعظمون تفسير القرآن، ويتوقفون

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 40).
(2) ينظر: " إتحاف السادة المتقين " (4 / 527).
(3) عائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن
مرة بن كعب بن لؤي. أم عبد الله. أم المؤمنين - رضي الله عنها - القرشية. التيمية.
أمها: أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية. ولدت بعد البعثة بأربع سنين أو خمسة. توفيت سنة (58)
في ليلة الثلاثاء لسبع عشرة خلت من رمضان عند الأكثر، و قيل: (57) ودفنت بالبقيع.
ينظر ترجمتها في: " أسد الغابة " (7 / 188)، " الإصابة " (8 / 139)، " أعلام النساء " (3 / 9)،
" الاستيعاب " (4 / 1881)، " تجريد أسماء الصحابة " (2 / 286)، " التاريخ الصغير " (1 / 102)، " طبقات
ابن سعد " (8 / 39)، " حلية الأولياء " (2 / 43)، " تهذيب الكمال " (3 / 1689)، " تهذيب التهذيب " (12 /
433)، " تقريب التهذيب " (2 / 606)، " الكاشف " (3 / 476)، " خلاصة تهذيب الكمال " (3 / 387)،
" السمط الثمين " (33)، " شذرات الذهب " (1 / 61)، " طبقات الشيرازي " (47)، " العبر " (1 / 62)،
" بقي بن مخلد " (4)، " النجوم الزاهرة " (1 / 150)، " معجم طبقات الحفاظ " (105).
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 41).
(5) سيأتي تخريجه.
(6) سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عابد بن مخزوم المخزومي، أبو محمد المدني،
138

عنه، تورعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم وتقدمهم، وكان جلة من السلف كثير عددهم
يفسرونه، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك رضي الله عن جميعهم.
* ت *: وخرج أبو عيسى الترمذي في " جامعه " عن ابن عباس رضي الله عنهما،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار "، قال أبو
عيسى: هذا حديث حسن صحيح (1)، وخرج أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا
الحديث عني إلا ما علمتم، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ومن قال في
القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار "، قال / أبو عيسى: هذا حديث حسن (2)، وخرج عن
جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في القرآن برأيه، فأصاب، فقد أخطأ " (3)، قال

الأعور، رأس علما ء التابعين، و فردهم، و فاضلهم و فقيههم. ولد سنة خمس عشرة. قال ابن عمر: هو
والله أحد المقتدين به. قال قتادة: ما رأيت أعلم بالحلال و الحرام منه. و قال أحمد: مرسلات سعيد
صحاح. قال أبو نعيم: مات سنة ثلاث و تسعين. وقال الواقدي: سنة أربع.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 390)، " طبقات خليفة " ت (2096)، " تاريخ البخاري " (3 / 510)، " تاريخ
الإسلام " (4 / 4)، " العبر " (1 / 110)، " سير أعلام النبلاء " (4 / 217).
(1) أخرجه الترمذي (5 / 199)، كتاب " التفسير "، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث
(2950)، و أحمد (1 / 233)، و البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 35)، و في " شرح السنة " (1 / 211 -
بتحقيقنا)، كلهم من طريق سفيان، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
و قال الترمذي: حسن صحيح.
قلت: و عبد الأعلى هو ابن عامر الثعلبي.
قال أبو زرعة: ضعيف الحديث، ربما دفع الحديث و ربما وقفه.
و قال أبو حاتم: ليس بقوي.
و قال النسائي: ليس بقوي، و يكتب حديثه.
و قال أحمد: ضعيف الحديث.
ينظر: " ميزان الاعتدال " (2 / 530)، و " تهذيب التهذيب " (6 / 94).
(2) أخرجه الترمذي (5 / 199)، كتاب " التفسير "، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث
(2951)، و أحمد (1 / 293)، و البغوي في " شرح السنة " (1 / 210) من طريق عبد الأعلى، عن
سعيد بن جبير، عن ابن عباس، و قال الترمذي: حديث حسن اه‍.
و مداره على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، و قد مرت ترجمته.
(3) أخرجه الترمذي (5 / 200)، كتاب " تفسير القرآن "، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، حديث
(2952)، و أبو داود (2 / 344)، كتاب " العلم "، باب الكلام في كتاب الله بغير علم، حديث (3652)،
و أبو يعلى (3 / 90)، رقم (1520)، و النسائي في " الكبرى " (5 / 31)، كتاب " فضائل القرآن "، باب من قال
في القرآن بغير علم، حديث (8086)، و البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 35)، و في " شرح السنة " (1 /
211 بتحقيقنا)، كلهم من طريق سهيل أخو حزم، عن أبي عمران الجوني، عن جندب بن عبد الله به.
و قال الترمذي: هذا حديث غريب، و قد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم.
139

أبو عيسى: هكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في
هذا في أن يفسر القرآن بغير علم.
وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم، أنهم فسروا القرآن،
فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم، أو من قبل أنفسهم، وقد روي
عنهم ما يدل على ما قلنا: أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم، حدثنا الحسين بن
مهدي البصري (1)، حدثنا عبد الرزاق (2) عن معمر (3) عن قتادة قال: ما في القرآن آية، إلا
وقد سمعت فيها بشئ، وحدثنا ابن أبي عمر (4)، حدثنا سفيان بن عيينة (5) عن

(1) الحسين بن مهدي الأبلي - بالضم - أبو سعيد البصري. عن عبد الرزاق و عبيد الله بن موسى. و عنه
الترمذي و ابن ماجة قال أبو حاتم: صدوق. مات سنة سبع و أربعين و مائتين.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 232)، " تهذيب الكمال " (1 / 295)، " تهذيب التهذيب " (2 / 372)، " تقريب
التهذيب " (1 / 180).
(2) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، أبو بكر الصنعاني، أحد الأئمة الأعلام الحفاظ. قال أحمد:
من سمع منه بعد ما ذهب بصره فهو ضعيف السماع. وقال ابن عدي: رحل إليه أئمة المسلمين
و ثقاتهم، و لم نر بحديثه بأسا، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع. و قال أحمد: لم أسمع منه شيئا، لكنه رجل
يعجبه أخبار الناس. مات سنة (211) ه‍ عن 85 سنة.
ينظر: " تاريخ البخاري الكبير " (6 / 130)، " الجرح و التعديل " (6 / 204)، " ميزان الاعتدال " (2 / 609)،
" لسان الميزان " (7 / 287)، " سير الأعلام " (9 / 563)، " الثقات " (8 / 412)، " تهذيب الكمال " (2 /
829)، " تهذيب التهذيب " (6 / 310)، " خلاصة التهذيب " (2 / 161)، " البداية و النهاية " (10 / 265).
(3) معمر بن راشد الأزدي، مولى مولاهم، عبد السلام بن عبد القدوس، أبو عروة البصري ثم اليماني،
أحد الأعلام. عن الزهري، و همام بن منبه، و قتادة و خلق. و عنه: أيوب، و الثوري، و ابن المبارك،
و خلق. قال العجلي: ثقة صالح. قال النسائي: ثقة مأمون. و ضعفه ابن معين في ثابت. توفي سنة
(153) ه‍.
ينظر: " نسيم الرياض " (1 / 74)، " تراجم الأحبار " (3 / 255)، " تذكرة الحفاظ " (1 / 78)، " طبقات
ابن سعد " (3 / 397)، " تاريخ الإسلام " (6 / 394)، " لسان الميزان " (7 / 394)، " تهذيب الكمال " (3 /
1355)، " تهذيب التهذيب " (10 / 243)، " خلاصة تهذيب الكمال " (3 / 47)، " الكاشف " (3 / 164).
(4) محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني، أبو عبد الله الحافظ، نزيل مكة. عن فضيل بن عياض، و أبي
معاوية و خلق. وعنه مسلم، و الترمذي و ابن ماجة و هلال بن العلاء. وثقه ابن حبان. و قال أبو حاتم:
صدوق، حدث بحديث موضوع. عن ابن عيينة. قال البخاري: مات سنة ثلاث و أربعين و مائتين.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 468)، " الكاشف " (3 / 107)، " تهذيب التهذيب " (9 / 518).
(5) سفيان بن عيينة بن أبي عمر بن الهلالي، مولاهم أبو محمد الأعور الكوفي، أحد الأئمة الإسلام. روى
عن عمرو بن دينار و الزهري، و زيد بن أسلم و غيرهم، كان حديثه نحو سبعة آلاف. قال ابن وهب: ما
رأيت أعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز، ولد سنة
(107) ه‍، و توفي سنة (198) ه‍.
140

الأعمش (1)، قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود، لم أحتج إلى أن أسأل
ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت. انتهى ما نقلته من الترمذي (2).
ثم قال * ع (3) * فأما صدر المفسرين والمؤيد فيهم، فعلي بن أبي طالب رضي
الله عنه، ويتلوه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهو تجرد للأمر وكمله وتتبعه
العلماء عليه، كمجاهد، وسعيد بن جبير (4)، وغيرهما، والمحفوظ عنه في ذلك أكثر من
المحفوظ عن علي بن أبي طالب، وقال ابن عباس: ما اخذت من تفسير القرآن، فعن
علي بن أبي طالب، وكان علي بن أبي طالب يثني على تفسير ابن عباس، ويحض على
الأخذ عنه، وكان عبد الله بن مسعود يقول: نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس، وهو
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل " (5)، وحسبك بهذه

ينظر: " الخلاصة " (1 / 397)، (2590)، " الحلية " (7 / 270 - 318)، و " المعارف " ص (506 -
507)، " الوفيات " (2 / 391 - 393).
(1) سليمان بن مهران الكاهلي، مولاهم، أبو محمد الكوفي الأعمش، أحد الأعلام الحفاظ والقراء. قال
ابن المديني: له نحو ألف و ثلاثمائة حديث. و قال ابن عيينة: كان أقرأهم و أحفظهم و أعلمهم. و قال
عمرو بن علي: كان يسمى " المصحف "، لصدقه. و قال العجلي، ثقة ثبت، يقال: ظهر له أربعة آلاف
حديث، و لم يكن له كتاب، و كان فصيحا و قال النسائي: ثقة ثبت. و عده من المدلسين. قال أبو نعيم:
مات سنة ثمان و أربعين و مائة، عن أربع و ثمانين سنة.
ينظر: " الثقات " (4 / 302)، " تهذيب التهذيب " (4 / 222)، " تقريب التهذيب " (1 / 331)، " تاريخ
البخاري الكبير " (4 / 37)، " الجرح و التعديل " (4 / 63)، " سير الأعلام " (5 / 226).
(2) ينظر: " سنن الترمذي " (5 / 200)، كتاب " التفسير ".
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 41).
(4) سعيد بن جبير الوالبي، مولاهم الكوفي الفقيه، أحد الأعلام. قال اللالكائي: ثقة إمام حجة. قال
عبد الملك بن أبي سليمان: كان يختم كل ليلتين. قال ميمون بن مهران: مات سعيد و ما على ظهر
الأرض أحد إلا و هو محتاج إلى علمه. قتل سنة خمس و تسعين كهلا، قتله الحجاج فما أمهل بعده. قال
خلف بن خليفة عن أبيه: شهدت مقتل ابن جبير، فلما بان الرأس قال: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، فلما
قالها الثالثة لم يتمها - رضي الله عنه.
ينظر: " تهذيب الكمال " (1 / 479)، " تهذيب التهذيب " (4 / 11)، " خلاصة تهذيب الكمال " (1 / 374)،
" الكاشف " (1 / 356)، " الثقات " (4 / 275)، " تاريخ البخاري الكبير " (3 / 461)، " الحلية " (4 / 272).
(5) أخرجه البخاري (1 / 294)، كتاب " الوضوء "، باب وضع الماء عند الخلاء، حديث (143)، و مسلم
(4 / 1927)، كتاب " فضائل الصحابة "، باب فضائل عبد الله بن عباس، حديث (138 / 2477)،
و أحمد (1 / 327)، و النسائي في " الكبرى " (5 / 51 - 52)، كتاب " المناقب "، باب عبد الله بن
العباس، حديث (8177)، و أبو يعلى (4 / 427)، رقم (2553)، و ابن حيان (15 / 529)، رقم
(7053)، و الطبراني في " الكبير " (11 / 104)، رقم (11204)، كلهم من طريق هاشم بن القاسم: ثنا
141

الدعوة، ويتلوه عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب (1)، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن
عمرو بن العاص.
وكل ما أخذ عن الصحابة، فحسن متقدم، ومن المبرزين في التابعين الحسن بن أبي

ورقاء بن عمر اليكشري، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عباس به.
و أخرجه البخاري (1 / 204)، كتاب " العلم "، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " اللهم علمه الكتاب "، حديث
(75)، و (7 / 126) كتاب " فضائل الصحابة "، باب ذكر ابن عباس (رضي الله عنهما) حديث
(3756)، و (13 / 259)، كتاب " الاعتصام "، حديث (7270)، و الترمذي (5 / 680)، كتاب
" المناقب "، باب مناقب عبد الله بن عباس، حديث (3824)، و النسائي في " الكبرى " (5 / 52)، كتاب
" المناقب "، حديث (8179)، و ابن ماجة (1 / 58)، المقدمة، باب فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم،
حديث (166)، و أحمد (1 / 214، 359)، و الفسوي في " المعرفة و التاريخ " (1 / 518)، و ابن حبان
(15 / 530)، رقم (7054)، و الطبراني في " الكبير " (10 / 293)،، رقم (10588)، كلهم من طريق
خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس.
و قال الترمذي: حسن صحيح.
و أخرجه أحمد (1 / 269)، و الطبراني في " الكبير " (11 / 213)، رقم (11531)، كلاهما من طريق
سليمان بن بلال، عن حسين بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس به. و أخرجه أحمد (1 / 266)،
314، 328، 335)، والفسوي في " المعرفة و التاريخ " (1 / 493 - 494)، و ابن حبان (15 / 531)،
رقم (7055)، والطبراني في الكبير (10587، 10614)، كلهم من طريق سعيد بن جبير، عن ابن
عباس به. و أخرجه الترمذي (5 / 679 - 680)، كتاب " المناقب "، باب مناقب عبد الله بن عباس
(رضي الله عنه)، حديث (3823)، من طريق عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن عباس
قال: دعا لي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أن يؤتيني الحكمة مرتين.
و قال الترمذي:، هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث عطاء، و قد رواه عكرمة، عن ابن
عباس.
(1) هو: أبي بن كعب بن عيس بن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار. أبو المنذر، أبو
الطفيل سيد الفراء، سيد المسلمين، الأنصاري، النجاري، الخزرجي، المعاوي.
كان من أصحاب العقبة الثانية، و شهد بدرا و المشاهد. قال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " ليهنئك العلم يا أبا المنذر "
و قال له: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك ". و كان عمر (رضي الله عنه) يسميه: سيد المسلمين. و هو أول
من كتب للنبي صلى الله عليه و آله و سلم، و أول من كتب في آخر الكتاب: و كتبه فلان بن فلان.
روى عنه من الصحابة: عمر، و كان يسأله عن النوازل، و يتحاكم إليه في المعضلات - و أبو أيوب،
و عبادة بن الصامت، و سهل بن سعد، و أبو موسى، و ابن عباس، و أبو هريرة، و أنس، و سليمان بن
صرد و غيرهم.
مات سنة: 22 في خلافة عمر، و قيل: بقي إلى خلافة عثمان.
تنظر ترجمته في: " أسد الغابة " (ت 33)، " الإصابة (1 / 16)، " الثقات " (3 / 5)، " تقريب التهذيب "
(1 / 48)، " تاريخ ابن معين " (1564)، " سير أعلام النبلاء " (1 / 389).
142

الحسن، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة (1)، وقد قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة
تفهم ووقوف عند كل آية، ويتلوهم عكرمة (2)، والضحاك بن مزاحم (3)، وإن كان لم يلق
ابن عباس، وإنما أخذ عن ابن جبير، وأما السدي (4) - رحمه الله تعالى - فكان عامر
الشعبي يطعن عليه، وعلى أبى صالح (5)، لأنه كان يراهما مقصرين في النظر، ثم حمل
تفسير كتاب الله عز وجل عدول كل خلف، وألف الناس فيه كعبد الزراق، والمفضل،
وعلي بن أبي طلحة، والبخاري، وغيرهم، ثم إن محمد بن جرير الطبري - رحمه الله -

(1) علقمة بن قيس بن عبد الله بن علقمة بن سلامان بن كهيل بن بكر بن عوف بن النخع النخعي، أبو
شبل الكوفي، أحد الأعلام، مخضرم عن أبي بكر، و عمر، و عثمان، و علي، و ابن معسود، و حذيفة،
و طائفة، و عنه إبراهيم النخعي، و الشعبي، و سلمة بن كهيل و خلق. قال إبراهيم: كان يقرأ في خمس.
و قال ابن المديني: أعلم الناس بابن مسعود علقمة و الأسود. قال ابن سعد: مات سنة اثنتين و ستين و قال
أبو نعيم: سنة إحدى و ستين: قيل: عن تسعين سنة.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 241)، " تهذيب التهذيب " (7 / 275)، " تقريب التهذيب " (2 / 30)، " الكاشف "
(2 / 277)، " طبقات ابن سعد " (7 / 34، 209)،
(2) عكرمة البربري، مولى ابن العباس، أبو عبد الله، أحد الأئمة الأعلام. روى عن مولاه، و عائشة، و أبي
هريرة، و غيرهم من الصحابة. قال الشعبي: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، رموه بغير نوع من
البدعة. ثقة بريء مما يرميه الناس به. و ثقة أحمد و النسائي. توفي سنة 105 ه‍.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 240) (4928)، " ابن سعد " (5 / 212 - 216) " الوفيات " (3 / 265 - 266)
و " الداودي " (1 / 380 - 381).
(3) الضحاك بن مزاحم الهلالي، مولاهم الخرساني، يكنى أبا القاسم. روى عن أبي هريرة، و ابن عباس،
و أبي سعيد، و غيرهم، و روى عنه عبد الرحمن بن عوسجة و غيره. قال ابن حبان: في جميع ما روى
نظر، إنما اشتهر بالتفسير. توفي سنة 105 ه‍.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 5) (3146)، " ابن سعد " (6 / 210 - 211)، " صفة الصفوة " (4 / 150)،
" المعارف " ص 457 - 458).
(4) إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي مولى قريش، أبو محمد الكوفي، رمي بالتشيع. عن
أنس، و ابن عباس، و باذان. و عنه أسباط بن نصر، و إسرائيل، و الحسن بن صالح. قال ابن عدي:
مستقيم الحديث صدوق. قال خليفة: توفي سنة سبع و عشرين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 90)، و " تهذيب التهذيب " (1 / 313)، " تقريب التهذيب " (1 / 71، 72)،
" الكاشف " (1 / 125)، " الثقات " (4 / 20)، " ميزان الاعتدال " (1 / 236).
(5) ذكوان المدني، أبو صالح السمان، روى عن سعد، و أبي الدرداء، و عائشة، و أبي هريرة، و خلق. و روى
عنه بنوه سهيل، و عبد الله، و صالح، و عطاء بن أبي رياح، و سمع منه الأعمش ألف حديث. قال
أحمد: ثقة ثقة، شهد الدار. قال محمد بن عمر الواقدي: توفي سنة 101 ه‍.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 311) (1973) " ابن سعد " (5 / 222 و 6 / 158) و " تهذيب التهذيب " (3 / 219 -
220)، و " مرآة الجنان " (1 / 211).
143

جمع على الناس أشتات التفسير، وقرب البعيد وشفى في الإسناد.
ومن المبرزين في المتأخرين أبو إسحاق الزجاج (1)، وأبو علي الفارسي (3)، فإن
كلامهما منخول، وأما أبو بكر النقاش (3)، وأبو جعفر النحاس (4) - رحمهما الله -، فكثيرا
ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما مكي بن أبي طالب (5) - رحمه الله -، وأبو العباس
المهدوي (6) - رحمه الله - متقن التأليف، وكلهم مجتهد مأجور - رحمهم الله - ونضر
وجوههم.

(1) هو: إبراهيم بن السري بن سهل، أبو إسحاق الزجاج، كان من أهل الفضل و الدين، حسن الاعتقاد،
كان يخرط الزجاج، ثم مال إلى النحو فلزم المبرد. صنف: " معاني القرآن و إعرابه " و " الاشتقاق "
و " فعلت و أفعلت " و غيرها. توفي (311 ه‍).
ينظر ترجمته في: " تاريخ بغداد " (6 / 89)، و " النجوم الزاهرة " (3 / 208)، و " بغية الوعاة " (1 / 411).
(2) الحسن بن أحمد بن عبد الغفار، أبو علي الفارسي، النحوي المشهور، أخذ النحو عن أبي إسحاق
الزجاج، ثم عن أبي بكر بن السري، و أخذ عنه كتاب سيبويه، و انتهت إليه رياسة علم النحو، مات
الفارسي سنة 377 ه‍.
ينظر: " غاية النهاية " (1 / 207)، " طبقات الزبيدي " ص 120.
(3) محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي. ولد سنة (266) ه‍. وهو إمام أهل العراق
في القراءات و التفسير، بلا مدافع. و قد قرأ على ابن أبي مهران، و هارون بن موسى الأخفش،
و جماعة. و روى عن أبي مسلم الكجي، و مطين، و آخرين. و روى عنه الدارقطني، و ابن شاهين
و جماعة، و رحل و طوف من مصر إلى ما وراء النهر. و قد صنف في التفسير، و سماه " شفاء الصدور ".
قال هبة الله اللالكائي: تفسير النقاش، إشقاء الصدور، ليس شفاء الصدور. توفي في شوال سنة
(351) ه‍.
ينظر: " الأعلام " (6 / 81)، و " وفيات الأعيان " (1 / 489).
(4) أحمد بن محمد بن إسماعيل المرادي المصري، أبو جعفر النحاس: مفسر، أديب، مولده ب‍ " مصر "،
و وفاته ب‍ " مصر " أيضا سنة (338) ه‍، كان من نظراء نفطويه، و ابن الأنباري، زار " العراق "، و اجتمع
بعلمائه، من مصنفاته: " تفسير القرآن "، و " إعراب القرآن "، و " ناسخ القرآن و منسوخه "، و " شرح
المعلقات السبع ".
ينظر: " الأعلام " (1 / 208)، " البداية و النهاية " (11 / 222)، " إنباه الرواة " (1 / 101).
(5) أبو محمد، مكي بن أبي طالب القيسي، النحوي المقرئ، كان من أهل التبحر في علوم القرآن و العربية
كثير التآليف. صنف: " الكشف عن وجوه القراءات "، و " مشكل إعراب القرآن "، و " الموجز في
القراءات " و غيرها. توفي (437 ه‍).
تنظر ترجمته في: " وفيات الأعيان " (5 / 274)، و " بغية الوعاة " (2 / 298)، و " شذرات الذهب " (3 /
260).
(6) أحمد بن عمار، أبو العباس المهدوي، أستاذ مشهور، قرأ على محمد بن سفيان، و قرأ عليه غانم بن
الوليد، و موسى بن سليمان اللخمي، له: " التفسير المشهور " مات سنة 440 ه‍.
144

فصل
واختلف الناس في معنى قوله صلى الله عليه و آله وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر
منه ".
ثم قال * ع (1) * بعد كلام: والذي مال إليه كثير من أهل العلم، كأبي عبيد (2)
وغيره، أن معنى الحديث أنه أنزل على سبع / لغات لسبع قبائل، ثم اختلفوا في تعيينهم،
وأنا ألخص الغرض جهدي بحول الله، فأصل ذلك وقاعدته قريش، ثم بنو سعد بن
بكر (3)، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرشي، واسترضع في بني سعد، ونشأ فيهم، ثم ترعرع وشب،
وهو يخالط في اللسان كنانة وهذيلا وخزاعة وأسدا وضبة وألفافها، لقربهم من مكة،
وتكرارهم عليها، ثم بعد هذه تميما وقيسا ومن انضاف إليهم وسط جزيرة العرب، فلما
بعثه الله تعالى، ويسر عليه أمر الأحرف أنزل عليه القرآن بلغة هذه الجملة المذكورة، وهي
التي قسمها على سبعة لها السبعة الأحرف، وهي اختلافها في العبارة؟، قال ثابت بن
قاسم: لو قلنا: من هذه الأحرف لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها
لتميم، ومنها لضبة وألفافها (4)، ومنها لقيس، - لكان قد اتي وهو على قبائل مضر في مراتب
سبعة تستوعب اللغات التي نزل بها القرآن، وهذا نحو ما ذكرناه، وهذه الجملة هي التي

ينظر: " بغية الوعاة " (1 / 351)، ط. دار المعارف، و " غاية النهاية " (1 / 92).
(1) انظر " المحرر الوجيز " (1 / 54).
(2) القاسم بن سلام أبو عبيد البغدادي، أحد أئمة الإسلام فقها، و لغة و أدبا، أخذ العلم عن الشافعي،
و القراءات عن الكسائي و غيره. قال ابن الأنباري: كان أبو عبيد يقسم الليل أثلاثا فيصلي ثلثه، و ينام
ثلثه، و يصنف ثلثه. و قال عبد الله بن الإمام أحمد: عرضت كتاب " الغريب " لأبي عبيد على أبي
فاستحسنه، و قال: جزاه الله خيرا. توفي سنة (224).
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 67)، " طبقات ابن سعد " (7 / 355)، و " إنباه الرواة " (3 / 12)،
و " طبقات الشافعية " للأسنوي ص 11، " تهذيب الأسماء واللغات " (2 / 30)، " طبقات الفقهاء " للعبادي
ص 25.
(3) بنو سعد بن بكر: هم بطن من هوازن، من قيس عيلان، أصلهم من العدنانية. و هم بنو سعد بن بكر بن
هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
و هم أصحاب غنم، وهم حضنة النبي صلى الله عليه وآله و سلم، و قد بعثوا سنة تسع للهجرة ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله و سلم، وحديثه مشهور. و من أوديتهم: قرن الحبال، و من مياههم: تقتد.
ينظر: (جمهرة أنساب العرب " لابن حزم (ص 481)، و " نهاية الأرب " للنويري (2 / 335)، و " معجم
قبائل العرب " لكحالة (513).
(4) اللفيف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدا. و جاءوا ألفافا، أي لفيفا.
ينظر: " لسان العرب " (4054).
145

انتهت إليها الفصاحة وسلمت لغاتها من الدخل (1)، ويسرها الله لذلك، ليظهر آية نهيه
بعجزها عن معارضة ما أنزل عليه، وسبب سلامتها أنها في وسط جزيرة العرب في الحجاز
ونجد وتهامة، فلم تطرقها الأمم.
فأما اليمن، وهو جنوبي الجزيرة، فأفسدت كلام عربه خلطة الحبشة والهنود، على
أن أبا عبيد القاسم بن سلام، وأبا العباس المبرد (2) قد ذكرا أن عرب اليمن من القبائل التي
نزل القرآن بلغاتها.
قال * ع (3) *: وذلك عندي إنما هو فيما استعمله عرب الحجاز من لغة اليمن،
كالعرم (4) والفتاح، فأما ما انفردوا به، كالزخيخ (5) والقلوب (6)، فليس في كتاب الله منه
شئ، وأما ما والى العراق من جزيرة العرب، وهي بلاد ربيعة وشرقي الجزيرة، فأفسدت
لغتها مخالطة الفرس والنبط ونصارى الحيرة وغير ذلك، وأما الذي يلي الشام، وهو شمالي
الجزيرة، وهي بلاد آل جفنة وغيرهم، فأفسدها مخالطة الروم، وكثير من بني إسرائيل،
وأما غربي الجزيرة، فهي جبال تسكن بعضها هذيل وغيرهم، وأكثرها غير معمور، فبقيت
القبائل المذكورة سليمة اللغات، لم تكدر صفو كلامها أمة من العجم.
ويقوى هذا المنزع أنه لما أتسع نطاق الاسلام وداخلت الأمم العرب، وتجرد أهل
المصرين، البصرة، والكوفة لحفظ لسان العرب، وكتب لغتها، لم يأخذوا إلا من هذه

(1) الدخل: العيب و الغش و الفساد. ينظر " لسان العرب " (1342).
(2) محمد بن يزيد بن عبد الأكبر، أبو العباس المبرد، إمام العربية ب‍ " بغداد " في زمانه، أخذ عن المازني،
و أبي حاتم السجستاني، له كتاب " الكامل "، و " المقتضب "، و " إعراب القرآن " مات سنة 285 ه‍.
ينظر: " بغية الوعاة " (1 / 269)، و " أخبار النحويين البصريين " - لأبي السعيد الصيرفي - ص 105
ط. الاعتصام.
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 46).
(4) قيل: العرم: اسم الوادي (يعني الذي كان به سبأ). و قيل: اسم الخلد الذي نقب السد حتى فتح و سال
ماؤه، فغرق ديارهم و أهلك بساتينهم. وقيل: العرم: المسناة.
قال ابن الأعرابي: العرم والبر من أسماء الفأرة... و قيل: العرم: المطر الشديد. و خصه بعضهم بالفأر
الذكر، وهو الجراد أيضا.
ينظر: " عمدة الحفاظ "، للسمين الحلبي أحمد بن يوسف ت 756 ه‍، (3 / 78)، و " تفسير غريب
القرآن "، ابن قتيبة الدينوري ص 355.
(5) الزخيخ: النار، يمانية، و قيل: هي شدة بريق الجمر و الحر و الحرير، لأن الحرير يبرق من الثياب.
ينظر: " لسان العرب " 1820.
(6) القليب، و القلوب، و القلوب، و القلوب، و القلاب: الذئب، يمانية. ينظر: " لسان العرب " 3715.
146

القبائل الوسيطة المذكورة، ومن كان معها، وتجنبوا اليمن والعراق والشام، فلم يكتب عنهم
حرف واحد، وكذلك تجنبوا حواضر الحجاز مكة، والمدينة، والطائف، لأن السبي
والتجار من الأمم كثروا فيها، فأفسدوا اللغة، وكانت هذه الحواضر في مدة النبي صلى الله عليه وسلم
سليمة، لقلة المخالطة، فمعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " أنزل القرآن على سبعة أحرف "، أي: فيه
عبارات سبع قبائل، بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبر عن المعنى فيه مرة بعبارة قريش، ومرة
بعبارة هذيل، ومرة بغير ذلك، بحسب الأفصح، والأوجز في اللفظة، ألا ترى أن: " فطر "
معناها عند غير قريش ابتداء خلق الشئ وعمله، فجاءت في القرآن، فلم تتجه لابن عباس
حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما / أنا فطرتها، قال ابن عباس: ففهمت
حينئذ موقع قوله سبحانه: (فاطر السماوات والأرض) [فاطر: 1] (1)، وقال أيضا: ما كنت
أدري معنى قوله تعالى: (ربنا افتح بيننا وبين قومنا) [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي
جدن تقول لزوجها: تعال، أفاتحك، أي: أحاكمك (2)، وكذلك قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وكان لا يفهم معنى قوله تعالى: (أو يأخذهم على تخوف) [النحل: 47]،
فوقف به فتى، فقال: إن أبي يتخوفني حقي، فقال عمر: الله أكبر، (أو يأخذهم على
تخوف) [النحل: 47] أي: على تنقص لهم (3)، وكذلك اتفق لقطبة بن مالك (4)، إذ سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة: (و النخل باسقات) [ق: 10] ذكره مسلم في باب القراءة في
صلاة الفجر (5) إلى غير هذا من الأمثلة، فأباح الله تعالى لنبيه عليه السلام هذه الحروف

(1) أخرجه البيهقي في " الشعب " (2 / 258) (1682)، و ذكره السيوطي في " الدر " في سورة فاطر (5 /
458)، و عزاه لأبي عبيد في فضائله، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في
" الشعب ".
(2) أخرجه الطبري في سورة الأعراف (6 / 4) (14867)، و ذكره السيوطي في " الدر " (3 / 191)، و عزاه
لابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و ابن جرير، وابن أبي حاتم، و ابن الأنباري في " الوقف و الابتداء "،
و البيهقي في " الأسماء و الصفات ".
(3) الطبري (7 / 581) (21618) بنحوه. وذكره السيوطي في " الدر " (4 / 223)، وعزاه لابن جرير.
(4) قطبة بن مالك الثعلبي. صحابي له أحاديث. و عنه ابن أخيه زياد بن علاقة فقط.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 354)، " تهذيب التهذيب " (8 / 389) (673)، " تاريخ البخاري الكبير " (7 /
191)، " الثقات " (3 / 347)، " أسماء الصحابة الرواة " ت (226).
(5) أخرجه مسلم (2 / 414 - نووي / دار الحديث)، كتاب " الصلاة "، باب القراءة في الصبح، حديث
(165 - 167 / 457)، و الترمذي (2 / 108 - 109)، كتاب " الصلاة "، باب ما جاء في القراءة في صلاة
الصبح، حديث (306)، والنسائي (2 / 157)، كتاب " الافتتاح "، باب القراءة في الصبح بقاف، حديث
(950)، و ابن ماجة (1 / 268)، كتاب " الصلاة "، باب القراءة في صلاة الفجر، حديث (816)، و أحمد
147

السبعة، وعارضه بها جبريل في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز، وجودة الرصف (1)،
ولم تقع الإباحة في قوله: (فاقرءوا ما تيسر منه) [المزمل: 20] بأن يكون كل واحد من
الصحابة إذا أراد أن يبدل اللفظة من بعض هذه اللغات، جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان
هذا، لذهب إعجاز القرآن، وكان معرضا أن يبدل هذا وهذا، حتى يكون غير الذي نزل من
عند الله، وإنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي صلى الله عليه وسلم ليوسع بها على أمته، فقرأ مرة
لأبي بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا، وفي صحيح البخاري
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أقرأني جبريل على حرف، فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى
انتهى إلى سبعة أحرف " (2).
فصل في ذكر الألفاظ التي في القرآن
مما للغات العجم بها تعلق
اختلف الناس في هذه المسألة (3)،

(4 / 322)، والحميدي (825)، و ابن خزيمة (527، 1591)، كلهم من طريق زياد بن علاقة، عن
قطبة بن مالك. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1) الرصف: ضم الشئ بعضه إلى بعض و نظمه. ينظر: " لسان العرب " (1656).
(2) أخرجه البخاري (8 / 639)، كتاب " فضائل القرآن "، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، حديث
(4991)، و مسلم (1 / 561)، كتاب " صلاة المسافرين "، باب بيان أن القرآن على سبعة حروف، حديث
(272 / 819)، من حديث ابن عباس.
(3) ذهب أكثر أهل العلم، و منهم الإمام الشافعي، و ابن جرير، و أبو عبيدة والقاضي أبو بكر، و أبو
الحسين بن فارس إلى عدم وقوع لفظ أعجمي في كتاب الله تعالى. و استدلوا بقوله تعالى: (قرآنا
عربيا) [يوسف: 2]، و قوله تعالى: (و لو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي
و عربي) [فصلت: 44]، و قد شدد الشافعي النكير على القائل بعكس ذلك.
و قال أبو عبيدة: إنما أنزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم أن فيه غير العربية فقد أعظم القول، و من
زعم أن " كذا " بالنبطية فقد أكبر القول.
و قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري - رحمه الله -: ما ورد عن ابن عباس و غيره من تفسير ألفاظ من
القرآن إنها بالفارسية و الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات، فتكلمت بها العرب
و الفرس و الحبشة بلفظ واحد.
و قال ابن فارس: لو كان فيه من لغة غير العرب شئ لتوهم متوهم أن العرب إنما عجزت عن الإتيان
بمثله، لأنه أتى بلغات لا يعرفونها.
و ذهب آخرون من العلماء إلى وقوعه فيه، و أجابوا عن قوله تعالى: (قرآنا عربيا) بأن الكلمات اليسيرة
بغير العربية لا تخرجه عن كونه عربيا، والقصيدة الفارسية لا تخرج عنها بلفظة فيها عربية، و عن قوله
تعالى: (أأعجمي و عربي) بأن المعنى من السياق: " أكلام أعجمي و مخاطب عربي! " كما استدلوا
148

فقال أبو عبيدة (1) وغيره: إن في كتاب الله تعالى من كل لغة، وذهب الطبري وغيره إلى أن
القرآن ليس فيه لفظة إلا وهي عربية صريحة، وأن الأمثلة والحروف التي تنسب إلى سائر
اللغات إنما اتفق فيها توارد اللغتين، فتكلمت العرب والفرس أو الحبشة بلفظ واحد، وذلك
مثل قوله تعالى: (إن ناشئة الليل) [المزمل: 6] قال ابن عباس: نشأ بلغة الحبشة: قام من
الليل (2)، ومنه قوله تعالى: (يؤتيكم كفلين من رحمته) [الحديد: 28]، قال أبو موسى
الأشعري (3): كفلان: ضعفان من الأجر بلسان.

باتفاق النحاة على أن منع صرف نحو " إبراهيم "، و " سليمان "، و " داود " للعلمية و العجمة.
ورد هذا الاستدلال بأن الأعلام ليست محل خلاف، فالكلام في غيرها موجه بأنه إذا اتفق على وقوع
الأعلام فلا مانع من وقوع الأجناس.
و قد اختار السيوطي مذهب القاتلين بالوقوع، و استدل له بما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي
ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان. وروي مثله عن سعيد بن جبير و وهب بن منبه.
و كان في ذلك إشارة إلى أن كتاب الله حوى علوم الأولين و الآخرين، و نبأ كل شئ، فلا بد أن تقع فيه
الإشارة إلى أنواع اللغات و الألسن ليتم إحاطته بكل شئ، فاختير له من كل لغة أعذبها و أخفها و أكثرها
استعمالا للعرب.
و أيضا فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسل إلى كل أمة، و قد قال تعالى: (و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)
[إبراهيم: 4] فلا بد و أن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم، و إن كان أصله بلغة قومه هو.
و ثمة مذهب يجمع بين القولين، وهو قول أبي عبيد القاسم بن سلام، فقد قال: و الصواب عندي مذهب
فيه تصديق القولين جميعا، و ذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت
للعرب، فعربتها بألسنتها و حولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها، فصارت عربية، ثم نزل القرآن و قد
اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، و من قال: أعجمية فصادق.
و مال إلى هذا القول الجواليقي و ابن الجوزي و آخرون.
و للتاج السبكي نظم لهذه الكلمات الأعجمية، و قد زاد عليه كل من الحافظ ابن حجر و السيوطي.
ينظر: " الإتقان في علوم القرآن " (2 / 125 - 129)، و " التحبير في علم التفسير " (200 - 202)،
و كلاهما للحافظ السيوطي.
(1) معمر بن المثنى التيمي البصري، أبو عبيدة النحوي: من أئمة العلم بالأدب و اللغة، ولد في 110 ه‍ قال
الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه، كان إباضيا شعوبيا، من حفاظ الحديث، لما مات
له يحضر جنازته أحد، لشدة نقده معاصريه توفي 209 ه‍، له مؤلفات منها: " مجاز القرآن "،
" الشوارد "، " الزرع ".
ينظر: " وفيات " (2 / 105)، " المشرق " (15 / 600)، " تذكرة الحفاظ " (1 / 338)، " بغية الوعاة "
(395)، " السيرافي " (67)، " الأعلام " (7 / 272).
(2) ينظر: " الطبري " (1 / 31) (2)، و البيهقي في " سننه " (3 / 20)، وذكره السيوطي في " الدر " (6 / 443)،
وعزاه لسعيد بن منصور، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن نصر، و ابن المنذر، و البيهقي في " سننه ".
(3) هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حصار بن حرب بن عامر بن غنم بن بكر بن عامر بن عذب بن
وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر.. أبو موسى الأشعري. صحابي مشهور، كان حسن الصوت
149

الحبشة (1)، وكذلك قال ابن عباس في القسورة: إنه الأسد بلغة الحبشة (2)، إلى غير هذا
من الأمثلة.
قال * ع (3) * والذي أقوله إن القاعدة والعقيدة هي أن القرآن بلسان عربي مبين،
وليس فيه لفظة تخرج عن كلام العرب، فلا تفهمها إلا من لسان آخر، فأما هذه الألفاظ وما
جرى مجراها، فإنه قد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر
الألسنة بتجارات وسفر إلى الشام وأرض الحبشة، فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية،
غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في
أشعارها ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح الصريح، ووقع بها البيان، وعلى
هذا الحد نزل بها القرآن، فإن جهلها عربي ما، فكجهله الصريح مما في لغة غيره، كما لم
يعرف ابن عباس معنى " فاطر " إلى غير ذلك، فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في
الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب، وعربتها فهي عربية بهذا الوجه وما ذهب إليه
الطبري من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة، فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع
في الأكثر، لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا.
تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية
هو القرآن، وهو الكتاب، وهو الفرقان، وهو الذكر، فالقرآن: مصدر من قولك: قرأ
الرجل، إذا تلا، يقرأ قرآنا وقراءة.
/ وقال قتادة: القرآن: معناه التأليف، قرأ الرجل إذا جمع وألف قولا، وبهذا فسر
قتادة قوله تعالى: (إن علينا جمعه وقرآنه) [القيامة: 17] أي: تأليفه (4)، والقول الأول

بالقرآن، و له رواية عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم كثيرة توفي سنة 42 أو 44 و له نيف و ستين سنة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 306)، " الإصابة " (4 / 119)، " الاستيعاب " (4 / 1762)، " تجريد
أسماء الصحابة " (2 / 206)، " الأنساب " (1 / 226)، " الكنى و الأسماء " (1 / 57)، " تذكرة الحفاظ " (1 /
23).
(1) ينظر: الطبري (1 / 31) (1)، و قد ذكره السيوطي في " الدر " (6 / 261)، و عزاه لابن أبي شيبة، و عبد بن
حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (1 / 31) (4)، و ذكره السيوطي في " الدر " (6 / 461)، و عزاه لابن أبي حاتم.
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 51).
(4) أخرجه الطبري (1 / 68) (119)، و ذكره السيوطي في " الدر " (6 / 468)، و عزاه لعبد بن حميد، و ابن
المنذر.
150

أقوى، أن القرآن مصدر من قرأ، إذا تلا، ومنه قول حسان بن ثابت (1) يرثي عثمان بن
عفان (2) رضي الله عنه: [البسيط]
ضحوا بأشمط عنوان السجود به * يقطع به الليل تسبيحا وقرآنا (3)
أي: وقراءة.
وأما الكتاب، فهو مصدر من كتب، إذا جمع، ومنه قيل: كتيبة لاجتماعها، ومنه
قول الشاعر: [البسيط]
واكتبها بأسيار (4)

(1) هو: حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن
النجار.. أبو الوليد، و أبو المضرب، و أبو الحسام، و أبو عبد الرحمن الأنصاري. الخزرجي.
النجاري.
شاعر النبي صلى الله عليه و آله و سلم. و هو صحابي شهير، و قد جاء في الصحيحين عن البراء، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال لحسان:
" اهجهم " أو " هاجهم "، و جبريل معك ".
وفاته: قيل: توفي قبل الأربعين و قيل غير ذلك.
ينظر ترجمته في: " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 129)، " الاستيعاب " (1 / 341)، " أسد الغابة " (3 / 5)،
" الإصابة " (2 / 8)، " الثقات " (3 / 71)، " تقريب التهذيب " (1 / 161)، " تهذيب التهذيب " (2 / 247)،
" تهذيب الكمال " (1 / 248)، " الجرح و التعديل " (3 / 1026)، " شذرات الذهب " (1 / 41).
(2) هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. أبو عبد الله و أبو عمرو. القرشي.
الأموي. ذو النورين. أمير المؤمنين. ولد بعد عام الفيل بست سنين. و هو ثالث الخلفاء الراشدين
و مجهز جيش العسرة، وهو الذي تستحي منه ملائكة الرحمن، وهو المقتول ظلما، غني عن التعريف،
كتبت في سيرته الكتب، و تغير وجه التاريخ بمقتله، و الله سبحانه نسأل العودة إلى أصل الإسلام الصافي
قبل الممات بفضله آمين. توفي يوم 22 ذي الحجة سنة 35 و قيل: غير ذلك.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 584)، " الإصابة " (4 / 223)، " الزهد " لوكيع (521)، " التبصرة
و التذكرة " (1 / 131)، " التعديل والتجريح " (1043)، " بقي بن مخلد " (28).
(3) وهو في " ديوانه " ص 216، و " لسان العرب " (عنن)، و (ضحا)، و " الدر المصون " (1 / 466)،
والذهبي في " التاريخ " كما في " خزانة الأدب " (9 / 418)، ونسبه البغدادي لأوس بن مغراء، و كذلك في
المقاصد النحوية (4 / 17)، و لكثير بن عبد الله النهشلي في " الدرر " (5 / 214)، و بلا نسبة في " إصلاح
المنطق " ص 290.
و للبيت رواية أخرى لصدره، و هي: هذا سراقة للقرآن يدرسه. وقوله: " ضحوا "... البيت أي: ذبحوه
كالأضحية، و ذلك أنهم قتلوه في ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين للهجرة. و الشمط: بياض الشعر من
الرأس يخالط سواده. و كأنه قال: بأشمط ظاهر الخير.
(4) هذا جزء من عجز بيت، و هو:
لا تأمنن فزاريا خلوت به * على بعيرك............
151

أي: اجمعها.
وأما الفرقان، فهو أيضا مصدر، لأنه فرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكافر فرقانا
وفرقانا.
وأما الذكر،، فسمي بذلك لأنه ذكر به الناس آخرتهم وإلههم، ولا وما كانوا في غفلة
عنه، فهو ذكر لهم، وقيل: سمي بذلك، لأن فيه ذكر الأمم الماضية، والأنبياء، وقيل:
سمي بذلك، لأنه ذكر وشرف لمحمد صلى الله عليه وسلم وقومه وسائر العلماء به.
وأما السورة، فإن قريشا كلها ومن جاورها من قبائل العرب، كهذيل، وسعد بن
بكر، وكنانة يقولون: سورة، بغير همز، وتميم كلها وغيرهم يهمزون.
فأما من همز، فهي عنده كالبقية من الشئ، والقطعة منه التي هي سؤر وسؤرة من
أسأر، إذا أبقى، ومنه سؤر الشراب. وأما من لا يهمز، فمنهم من يراها من المعنى المتقدم
إلا أنها سهلت همزتها، ومنهم من يراها مشبهة بسورة البناء، أي: القطعة منه، لأن كل بناء
فإنما بني قطعة بعد قطعة، فكل قطعة منها سورة، فكان سور القرآن هي قطعة بعد قطعة،
حتى كمل منها القرآن، ويقال أيضا للرتبة الرفيعة من المجد والملك: سورة، ومنه قول
النابغة الذبياني (1) للنعمان بن المنذر (2) [الطويل]:

والبيت منسوب لسالم بن دارة الفزاري في " الكامل " (988)، و " خزانة الأدب " (5 / 531)، و فيها " على
قلوصك "، و " شرح ديوان الحماسة " للتبريزي (1 / 205)، و بلا نسبة في " اللسان " (كتب)، و " تاج
العروس " (4 / 103). و للبيت رواية أخرى كما في " شرح ديوان الحماسة "، وهي:
و إن خلوت به قفي الأرض وحدكما * فاحفظ قلوصك واكتبها بأسيار
و قصة البيت أن بني فزارة كانت ترمى بغشيان الإبل، فهجاهم سالم بقصيدة مطلعها:
يا صاحبي ألما بي على الدار * بين الهشوم وشطي ذات أمار
(1) زياد بن معاوية بن ضباب الذبياني، الغطفاني المضري، أبو أمامة، شاعر جاهلي. و كان الأعشى
و حسان و الخنساء ممن يعرض شعره على النابغة، كان أحسن شعراء العرب ديباجة، عاش عمرا طويلا.
توفي في (18) ق ه‍.
ينظر: " شرح شواهد المغني " (29)، " معاهد التنصيص " (1 / 233)، " الأغاني " (11 / 3)، و " جمهرة "
(52426)، و " نهاية الأرب " (3 / 59)، و " الشعر و الشعراء " (38)، " الأعلام " (3 / 54).
(2) النعمان الثالث بن المنذر الرابع بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي، أبو قابوس، من أشهر ملوك
" الحيرة " في الجاهلية. كان داهية مقداما. و هو ممدوح النابغة الذبياني، و حسان بن ثابت، و حاتم
الطائي. و هو صاحب إيفاد العرب على كسرى، وباني مدينة " النعمانية " على ضفة دجلة اليمنى،
و صاحب يومي البؤس و النعيم. توفي سنة (15) قبل الهجرة.
152

ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب (1)
فكأن الرتبة انبنت حتى كملت.
وأما الآية، فهي العلامة في كلام العرب، ولما كانت الجملة التامة من القرآن علامة
على صدق الآتي بها، وعلى عجز المتحدي بها، سميت آية، هذا قول بعضهم، وقيل:
سميت آية، لما كانت جملة وجماعة كلام، كما تقول العرب: جئنا بآيتنا، أي: بجماعتنا،
وقيل: لما كانت علامة للفصل بين ما قبلها وما بعدها، سميت آية.
* ت *: وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: " آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب... "
الحديث (2)، و " آية الإيمان حب الأنصار (3)، وآية ما بيننا وبين المنافقين شهود العشاء "
يقوى القول الأول، والله أعلم، وهذا هو الراجح في مختصر الطبري، قال: والآية
العلامة، وذلك أطهر في العربية والقرآن، وأصح القول أن آيات القرآن علامات للإيمان،
وطاعة الله تعالى، ودلالات على وحدانيته وإرسال رسله، وعلى البعث والنشور، وأمور
الآخرة، وغير ذلك مما تضمنته علوم القرآن. انتهى.

انظر: " حمزة الأصفهاني " (73 - 74)، " الصحاح " (2 / 340)، " ابن خلدون " (2 / 265)، " الأعلام "
(8 / 43).
(1) البيت في ديوانه (28)، " ديوان المعاني " (1 / 16)، و " المصون " (154)، و " البحر المحيط " (1 /
242)، و " تفسير القرطبي " (1 / 65)، و " الدر المصون " (1 / 153)، اللسان " (سور) (3 / 2148).
و المعنى: أعطاك رفعة و شرفا و منزلة، و جمعها (سور)، أي: رفع.
(2) أخرجه البخاري (1 / 111)، كتاب " الإيمان "، باب علامة المنافق، حديث (33)، و (5 / 341 -
342)، كتاب " الشهادات "، باب من أمر بإنجاز الوعد، حديث (2682)، (5 / 441)، كتاب " الأدب "،
باب قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)، حديث (6095)، و مسلم (1 /
78)، كتاب " الإيمان "، باب بيان خصال المنافق، حديث (95 / 107)، و الترمذي (5 / 19)، كتاب
" الإيمان "، باب ما جاء في علامة المنافق، حديث (2631)، و النسائي (8 / 117)، كتاب " الإيمان "،
باب علامة المنافق، و أحمد (2 / 375، 397، 536)، و أبو عوانة (1 / 20، 21)، و أبو يعلى (11 /
406)، رقم (6533)، و ابن الجوزي في " مشيخته " (ص 59) من طرق، عن أبي هريرة به.
(3) أخرجه البخاري (7 / 141)، كتاب " مناقب الأنصار "، باب حب الأنصار من الإيمان، حديث (3784)،
و مسلم (1 / 85)، كتاب " الإيمان "، باب الدليل على أن حب الأنصار من الإيمان، حديث (74 / 128)،
و النسائي (8 / 116)، كتاب " الإيمان ": باب علامة الإيمان، و أبو يعلى (7 / 190 - 191)، رقم
(4175)، و البغوي في " شرح السنة " (7 / 240 - بتحقيقنا)، من حديث أنس مرفوعا.
153

باب في الاستعاذة
قال الله عز وجل: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) [النحل: 98]
معناه: إذا أردت أن تقرأ، فأوقع الماضي موقع المستقبل، لثبوته، وأجمع العلماء على أن
قول القارئ: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ليس بآية من كتاب الله، وأجمعوا على
استحسان ذلك، والتزامه عند كل قراءة في غير صلاة.
واختلفوا في التعوذ في الصلاة، فابن سيرين (1) والنخعي (2) وقوم يتعوذون في كل
ركعة، ويمتثلون أمر الله سبحانه بالاستعاذة على العموم في كل قراءة، وأبو حنيفة (3)

(1) محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم، أبو بكر البصري، إمام وقته. عن مولاه أنس، و زيد بن ثابت،
و عمران بن حصين، و أبي هريرة، و عائشة، و طائفة من كبار التابعين. و عنه الشعبي، و ثابت، و قتادة،
و أيوب، و مالك بن دينار، و سليمان التيمي، و خالد الحذاء، و الأوزاعي و خلق كثير. قال أحمد: لم
يسمع من ابن عباس. و قال خالد الحذاء: كل شئ يقول يثبت عن ابن عباس إنما سمعه من عكرمة أيام
المختار. قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا، عاليا، رفيعا، فقيها، إماما، كثير العلم. و قال أبو عوانة: رأيت
ابن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر الله تعالى. و قال بكر المزني: و الله ما أدركنا من هو أورع
منه. و روي أنه اشترى بيتا، فأشرف فيه على ثمانين ألف دينار، فعرض في قلبه منه شئ فتركه. قال
حماد بن زيد: مات سنة عشر و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 412)، " تهذيب التهذيب " (9 / 214)، " الكاشف " (3 / 51)، " تاريخ البخاري
الكبير " (1 / 90)، " الوافي بالوفيات " (3 / 146).
(2) إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أبو عمران الكوفي، الفقيه يرسل كثيرا عن علقمة،
و همام بن الحارث، والأسود بن يزيد، و أبي عبيدة بن عبد الله، و مسروق، و خلق. و عنه الحكم،
و منصور، و الأعمش، و ابن عون، و زبيد و خلق. و كان لا يتكلم إلا إذا سئل. قال مغيرة: كنا نهاب
إبراهيم كما يهاب الأمير. وقال الأعمش. كان إبراهيم يتوقى الشهرة، و لا يجلس إلى الأسطوانة. و قيل:
إنه لم يسمع من عائشة. قال أبو نعيم: مات سنة ست و تسعين. و قال عمرو بن علي: سنة خمس آخر
السنة. و ولد سنة خمسين، و قيل سنة سبع و أربعين.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 59، 60)، " تاريخ البخاري الكبير " (1 / 335)، " الجرح و التعديل " (2 / 146)،
" الثقات " (6 / 25)، " لسان الميزان " (1 / 126).
(3) النعمان بن ثابت، التيمي بالولاء، الكوفي، أبو حنيفة: إمام الحنيفة، الفقيه المجتهد المحقق، أحد
الأئمة الأربعة عند أهل السنة. قيل: من أبناء فارس. ولد و نشأ بالكوفة. كان يبيع الخز و يطلب
العلم في صباه. ثم انقطع للتدريس و الإفتاء، و امتنع عن القضاء ورعا، كان قوي الحجة، و من أحسن
الناس منطقا، كريما في أخلاقه. و قال الشافعي: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة، ولد سنة
(80) ه‍، و توفي سنة (150) ه‍.
انظر: " تاريخ بغداد " (13 / 323)، " النجوم الزاهرة " (2 / 12)، " الأعلام " (8 / 36).
154

والشافعي (1) يتعوذان / في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة
واحدة، ومالك - رحمه الله - لا يرى التعوذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان،
ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ في صلاة.
وأما لفظ الاستعاذة، فالذي عليه جمهور الناس وهو لفظ كتاب الله تعالى: (أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم)، وأما المقرئون، فأكثروا في هذا من تبديل الصفة في اسم الله،
وفي الجهة الأخرى، كقول بعضهم: أعوذ بالله المجيد من الشيطان المريد، ونحو هذا مما
لا أقول فيه: نعمت البدعة، ولا أقول: أنه لا يجوز، ومعنى الاستعاذة الاستجارة والتحيز
إلى الشئ على وجه الامتناع به من المكروه.
وأما الشيطان، فاختلف في اشتقاقه (2)، فقال الحذاق: هو فيعال من شطن، إذا بعد،

(1) محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن
عبد المطلب بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. و شافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقي
النبي صلى الله عليه و آله و سلم في صغره، و أسلم أبوه السائب يوم " بدر "، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، و كانت ولادة
الشافعي بقرية من الشام يقال لها " غزة ". قاله ابن خلكان و ابن عبد البر. و قال صاحب التنقيب: ب‍ " منى "
من مكة، و قال ابن بكار: ب‍ " عسقلان "، و قال الزوزني: ب‍ " اليمن "، و الأول أشهر، و كان ذلك في سنة
خمسين و مائة، و هي السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة (رحمه الله) حمل إلى مكة و هو ابن سنتين،
و نشأ بها، و حفظ القرآن و هو ابن سبع سنين، ثم سلمه أبوه للتفقه إلى مسلم بن خالد مفتي مكة، فأذن له
في الإفتاء. و هو ابن خمسة عشر سنة، فرحل إلى الإمام مالك بن أنس ب‍ " المدينة "، فلازمه حتى توفي
مالك (رحمه الله) ثم قدم " بغداد " سنة خمسة و تسعين و مائة، و أقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها،
و أخذوا عنه العلم ثم خرج إلى " مكة " حاجا، ثم عاد إلى " بغداد " سنة ثمان و تسعين و مائة، فأقام بها
شهرين أو أقل، فلما قتل الإمام موسى الكاظم خرج إلى " مصر "، فلم يزل بها ناشرا للعلم، و صنف بها
الكتب الجديدة، وانتقل إلى رحمة الله (تعالى) يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع و مائتين، و دفن بالقرافة
بعد العصر في يومه.
ينظر: " ابن هداية الله " ص 11، " سير أعلام النبلاء " (10 / 1)، " التاريخ الكبير " (1 / 42)، " طبقات
الحفاظ " (ص 152)، " تذكرة الحفاظ " (1 / 361).
(2) اختلف أهل العربية في اشتقاق " الشيطان "، فقال جمهورهم: هو مشتق من " شطن يشطن " أي: بعد، لأنه
بعيد من رحمة الله تعالى، و أنشدوا: [الوافر]
نأت بسعاد عنك نوى شطوف * فبانت و الفؤاد بها رهين
و قال أمة بن أبي الصلت: [الخفيف]
أيما شاطن عصاه عكاه * ثم يلقى في السجن و الأكبال
و حكى شيخ النحاة سيبويه: " تشيطن " أي فعل فعل الشياطين، فهذا كله يدل على أنه من شطن، لثبوت
النون و سقط الألف في تصاريف الكلمة، و وزنه على هذا " فيعال ".
و قيل: هو مشتق من " شاط يشط " أي: هاج و احترق. و لا شك أن هذا المعنى موجود فيه، فأخذوا
155

لأنه بعد عن الخير والرحمة، وأما الرجيم، فهو فعيل بمعنى مفعول، كقتيل وجريح،
ومعناه، أنه رجم باللغة والمقت وعدم الرحمة.
باب في تفسير: (بسم الله الرحمن الرحيم)
روي أن رجلا قال بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم: " تعس الشيطان "، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا
تقل ذلك، فإنه يتعاظم عنده ولكن قل: بسم الله الرحمن الرحيم، فإنه يصغر حتى يصير
أقل من الذباب " (1) والبسملة تسعة عشر حرفا، قال بعض الناس: إن رواية بلغتهم أن
ملائكة النار الذين قال الله فيهم: (عليها تسعة عشر) [المدثر: 30] إنما ترتب عددهم على
حروف: (بسم الله الرحمن الرحيم) لكل حرف ملك، وهم يقولون في كل أفعالهم:
(بسم الله الرحمن الرحيم)، فمن هنالك هي قوتهم، وباسم الله استضلعوا (2).
قال * ع *: وهذا من ملح التفسير، وليس من متين العلم.
* ت *: ولا يخفى عليك لين ما بلغ هؤلاء، ولقد أغنى الله تعالى بصحيح

بذلك أنه مشتق من هذه المادة، لكن لم يسمع من تصاريفه إلا ثابت النون محذوف الألف، كما تقدم.
و وزنه على هذا " فعلان ". و يترتب على القولين: صرفه و عدم صرفه إذا سمى به، و أما إذا لم يسم به فإنه
منصرف البتة، لأن من شرط امتناع فعلان الصفة ألا يؤنث بالتاء، و هذا يؤنث بها، قالوا: شيطانة.
ينظر: " الدر المصون "، للسمين الحلبي (1 / 48 - 49). بتصرف.
(1) أخرجه أبو داود (2 / 714)، كتاب " الأدب "، باب (77)، حديث (4982)، والنسائي في " الكبرى " (6 /
142)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول إذا عثرت دابته، حديث (10388)، كلاهما من طريق
خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن أبي المليح، عن رجل قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه و آله و سلم فذكره.
و أخرجه الحاكم (4 / 292) من طريق يزيد بن زريع: ثنا خالد الحذاء، عن أبي تميمة، عن رديف رسول
الله صلى الله عليه و آله و سلم به.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد، و لم يخرجاه، و رديف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الذي لم يسمه يزيد بن زريع، عن
خالد سماه غيره أسامة بن مالك والد أبي المليح بن أسامة.
و وافقه الذهبي، و زاد: " و رواه محمد بن حمدان، عن خالد، عن أبي تميمة، عن أبي المليح بن أسامة
عن أبيه. اه‍. و الطريق الذي أشار إليه الذهبي:
أخرجه النسائي في " الكبرى " (6 / 142)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول إذا عثرت به دابته،
حديث (10389)، من طريق أحمد بن عبدة، عن محمد بن حمدان به. و أخرجه أحمد (5 / 59)،
و البغوي في " شرح السنة " (6 / 401 - بتحقيقنا)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن عاصم
الأحول، عن أبي تميمة الهجيمي، عمن كان رديفه.
(2) الضلاعة: القوة و شدة الأضلاع، و الضليع: العظيم الخلق الشديد، يقال: ضليع بين الضلاعة.
ينظر: " لسان العرب " (2599).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 61).
156

الأحاديث وحسنها عن موضوعات الوراقين، فجزى الله نقاد الأمة عنا خيرا.
وما جاء من الأثر عن جابر وأبي هريرة مما يقتضي بظاهره أن البسملة آية من الفاتحة
يرده صحيح الأحاديث، كحديث أنس، وأبي بن كعب، وحديث: " قسمت الصلاة بيني
وبين عبدي " (1) ونحوها، ولم يحفظ قط عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الخلفاء بعده، أنهم
يبسملون في الصلاة (2).

(1) أخرجه مالك (1 / 84)، كتاب " الصلاة "، باب القراءة خلف الإمام، الحديث (39)، و أحمد (2 /
285)، و مسلم (1 / 297)، كتاب " الصلاة "، باب وجوب قراءة الفاتحة، الحديث (39 و 40)، و أبو
داود (1 / 512 - 513 - 514)، كتاب " الصلاة "، باب من ترك قراءة الفاتحة، الحديث (821)،
والترمذي (2 / 25)، كتاب " الصلاة "، باب لا صلاة إلا بفاتحة، الحديث (247)، و النسائي (2 /
135 - 136)، كتاب " الصلاة "، باب ترك قراءة البسملة في الفاتحة، و البخاري في " جزء القراءة "
(ص 4)، و ابن ماجة (2 / 1243)، كتاب " الأدب " باب ثواب القرآن، حديث (3784)، والدارقطني
(1 / 312) و ابن خزيمة (1 / 253)، و البيهقي (2 / 39) عن أبي هريرة.
و لفظ مالك عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: " من
صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام " قال: فقلت: يا أبا
هريرة إني أحيانا أكون وراء الإمام، قال: فغمز ذراعي، ثم قال: اقرأ بها في نفسك يا فارسي، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: " قال الله تبارك و تعالى: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها
لي، ونصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل "، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " اقرءوا، يقول العبد: الحمد لله رب
العالمين، يقول الله تعالى: حمدني عبدي ". الحديث.
(2) ذهب أكثر أهل العلم من الصحابة، فمن بعدهم إلى ترك الجهر بالتسمية، بل يسر بها، منهم أبو بكر،
و عمر، و عثمان، و علي، و غيرهم، وهو قول إبراهيم النخعي، و به قال مالك، و الثوري، و ابن المبارك،
و أحمد، و إسحاق، و أصحاب الرأي.
و ذهب قوم إلى أنه يجهر بالتسمية للفاتحة و السورة جميعا، و به قال من الصحابة أبو هريرة، و ابن عمر،
و ابن عباس، و أبو الزبير، و هو قول سعيد بن جبير، و عطاء، و طاوس، و مجاهد، و إليه ذهب الشافعي.
و روى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله و سلم و أبا بكر يبدءون و عمر و عثمان كانوا يفتتحون القراءة ب‍ " الحمد لله رب
العالمين " معناه: أنهم كانوا يبدءون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، و ليس معناه: أنهم كانوا لا يقرءون
" بسم الله الرحمن الرحيم ". وكان الشافعي يرى أن يبدأ " ببسم الله الرحمن الرحيم " و أن يجهر بها إذا
جهر بالقراءة. قال العلامة أحمد شاكر: و من فقه أبي عيسى الترمذي أن عقد الخلاف في البابين (180،
181) بين الجهر بالبسملة و ترك الجهر بها، و لم يعقد بين أصل قراءتها و تركها. أما أئمة القراءات، فإنهم
جميعا اتفقوا على قراءة البسملة في ابتداء قراءة كل سورة، سواء الفاتحة أو غيرها من السور سوى " براءة "
و لم يرد عن واحد منهم أبدا إجازة ابتداء القراءة بدون التسمية. قال ابن الجزري في " طيبته ".
بسمل بين السورتين (ب‍) س (ن‍) صف * (د) م (ش‍) ق (ر) جا وصل (ف‍) شا
و عن خلف (العاشر) فاسكت فصل * والخلف (ك‍) م (حما) (ج) لا (الأزرق)
إلى أن قال: و في ابتداء السورة كل بسملا.
و قال صاحب " الشاطبية ": و لا بد منها (أي البسملة) في ابتداؤك سورة.
157

* ع (1) *: والباء في (بسم الله) متعلقة عند نحاة البصرة باسم تقديره: ابتدائي
مستقر أو ثابت بسم الله، وعند نحاة الكوفة بفعل تقديره: ابتدأت بسم الله، واسم: أصله
سمو، بكسر السين، أو سمو، بضمها، وهو عند البصريين مشتق من السمو (2).
* ت *: وهو العلو والارتفاع.

والحرف الأول في كلمة من البيتنى يرمز لقارىء أو راو، فالبسملة آية في كل سورة عند الأكثرين،
و هؤلاء هم أهل الرواية المنقولة بالسماع والتلقي شيخا عن شيخ في التلاوة والأداء، و قد اتفقوا جميعا
على قراءتها أول الفاتحة، و إن وصلت بغيرها، و جميع المصاحف التي كتبها الخليفة الثالث عثمان
و أقرها الصحابة دون ما عداها كتبت فيها البسملة في أول كل سورة، سوى " براءة "، و أن الصحابة
(رضوان الله عليهم) حين جمعوا القرآن في المصاحف جردوه من كل شئ غيره، فلم يأذنوا بكتابة
أسماء السور و لا أعداد الآي و لا " آمين "، و منعوا أن يجرؤ أحد على كتابة ما ليس في كتاب الله في
المصاحف، حرصا منهم على الحفاظ عليه، فهل يعقل مع هذا كله أن يكتبوا مائة و ثلاث عشرة بسملة
زيادة على ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، ألا يدل دلالة قاطعة منقولة بالتواتر العمل المؤيد بالكتابة
المتواترة على أنها آية من القرآن في كل موضع كتابة فيه؟!!
تنظر المسألة في: " الأم " للشافعي (1 / 213)، " شرح المهذب " (3 / 288)، " حلية العلماء و معرفة
مذاهب الفقهاء " (2 / 102)، " فتح الوهاب " للشيخ زكريا (1 / 40)، " الحاوي " للماوردي (2 / 104)،
" روضة الطالبين " (1 / 347)، " بدائع الصنائع " (1 / 203)، " المبسوطة " (1 / 15)، " الهداية " (1 / 48)،
" شرح فتح القدير " (1 / 253، 254)، " الاختيار " (1 / 51)، " الحجة على أهل المدينة " (1 / 96)،
" الكافي " لابن عبد البر ص (40)، " المغني " لابن قدامة (2 / 151)، " كشاف القناع " (1 / 335)،
" الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف " (2 / 48)، " بداية المجتهد " لابن رشد (1 / 96 - 97)، " نيل
الأوطار " (2 / 222 - 232)، " فتح العلام " ص (195)، " سبل السلام " (1 / 241)، " شرح البهجة " (1 /
308 - 309)، " الجمل على المنهج " (1 / 345)، " مختلف الرواية " ص (412)، " الأوسط " (3 / 119 -
123).
(1) " المحرر الوجيز " (1 / 61).
(2) اشتقاق الاسم عند المحققين من النحويين من السمو، و هو الارتفاع، و محل مرتفع فهو ظاهر. و الاسم
يظهر المسمى عند السامع، فاشتق من السمو لذلك، و قد قيل: إنما اشتق الاسم من السمو، لكون
الكلام على ثلاثة أقسام. وضع لكل قسم عبارة، وكان الاسم المقدم، فأعطي أرفع العبارات، و كان
الحرف المتأخرة، إذ لا معنى له في ذاته، فأعطي أحط العبارات، و كان الفعل واسطة بينهما فتوسط
اسمه.
وذهب قوم إلى أن اشتقاق الاسم من السمة، و هي العلامة، و الاسم جعل دلالة على المسمى، و هذا
تبطله صناعة العربية، إذ لو كان مشتقا من السمة القيل في تصغيره: و سيم، و لا يقال ذلك إنما يقال في
تصغيره سمي، وكذلك في جمعه أسماء برد لام الفعل. و التكبير التصغير يردان الأشياء إلى أصولها،
فصح أن اشتقاقه من السمو.
ينظر: " العلوم المستودعة في السبع المثاني " (ج 2)، و " الصاوي على الخريدة " (6 - 7).
158

قال * ص (1) *: والاسم: هو الدال بالوضع. على موجود في العيان، إن كان
محسوسا، وفي الأذهان، إن كان معقولا من غير تعرض ببنيته للزمان، ومدلوله هو
المسمى (2)، والتسمية جعل ذلك اللفظ دليلا على المعنى، فهي أمور ثلاثة متباينة، فإذا
أسندت حكما إلى لفظ اسم، فتارة يكون حقيقة، نحو: زيد، اسم ابنك، وتارة يكون
مجازا وهو حيث يطلق الاسم، ويراد به المسمى، كقوله تعالى: (تبارك اسم ربك)
[الرحمن: 78] و (سبح اسم ربك) [الأعلى: 1]، وتأول السهيلي: (سبح اسم ربك)،
على إقحام الاسم، أي: سبح ربك، وإنما ذكر الاسم حتى لا يخلو التسبيح من / اللفظ
باللسان، لأن الذكر بالقلب متعلقه المسمى، والذكر باللسان متعلقه اللفظ، وتأول قوله
تعالى: (ما تعبدون من دونه إلا أسماء) [يوسف: 40]، بأنها أسماء كاذبة غير واقعة على
الحقيقة، فكأنهم لم يعبدوا إلا الأسماء التي اخترعوها. انتهى.
وقال الكوفيون: أصل اسم وسم من السمة، وهي العلامة، لأن الاسم علامة لمن
وضع له، والمكتوبة التي لفظها الله أبهر أسمائه تعالى وأكثرها استعمالا، وهو المتقدم
لسائرها في الأغلب، وإنما تجيء الأخر أوصافا، وحذفت الألف الأخيرة من الله لئلا
يشكل بخط " اللات "، وقيل: طرحت تخفيفا.

(1) ينظر: " المجيد في إعراب القرآن المجيد " لإبراهيم بن محمد الصفاقسي ص (41).
(2) في حقيقة الاسم عند المتكلمين خلاف مشهور، فذهب الأشعرية إلى أنه عين المسمى. و ذهبت المعتزلة
إلى أنه غير المسمى، و قالت الأشعرية و طائفة من المتكلمين: إن الكلام في الاسم و المسمى يعرفك
حقيقة صفات معبودك، فتصل بذلك إلى تصحيح توحيدك، فإذا لم ينظر الإنسان و يستدل فكيف يصل
إلى المعرفة التي كلفها؟! لكن منع الشافعي رضي الله عنه، و ابن حبل، و أكثر الفقهاء، والمحدثين
(رضي الله عنهم) طريق الكلام في الاسم و المسمى. حتى قال الشافعي: إذا سمعت الرجل يقول:
الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد بأنه من أهل الكلام و لا دين له.
و على كل، فطريق المتكلمين غير طريق الفقهاء و المحدثين، فإن الفقهاء و المحدثين أخذوا الأمور
بالتسليم و النقل، و المتكلمون ركبوا إلى النقل طريق بالعقل، فأقاموا صناعة غير معهودة في
السلف، و قالوا: نفتح بها طريق النظر، إذ السلف كانوا لقرب عهدهم بالنبوة ولاشتغال أفكارهم بالنظر
في ملكوت السما ء والأرضين مستغنين عن هذه الصناعة، إذ كانت الأدلة راسخة في قلوبهم، و طرق
الاستدلال نيرة في عقولهم، فلما ذهب ذلك الجيل الجليل و فترت الدواعي، و فشت البدع بسوء النظر،
وجب أن يحر طريق النظر، و تنهج مسلك العبر، و تبين الأدلة الصحيحة من الفاسدة، و تصان عقائد
الخلق عن تشويش المبتدعة و المارقة، فتكلموا بما لم يعهد من السلف الكلام فيه، فمن العلماء من يؤثره
و يراه عين الصواب، و منهم من يجتنبه و يجعله عين الضلال، و منهم من يتوقف فيه، و منهم من يرتضي
منه أسلوبا دون غيره من الأساليب. انظر: " العلوم المستودعة في السبع المثاني " 19 خ.
159

والرحمن (1): صفة مبالغة من الرحمة، معناها: أنه انتهى إلى غاية الرحمة، وهي
صفة تختص بالله تعالى، ولا تطلق على البشر، وهي أبلغ من فعيل، وفعيل أبلغ من
فاعل، لأن راحما يقال لمن رحم ولو مرة واحدة، ورحيما يقال لمن كثر منه ذلك،
والرحمن النهاية في الرحمة (2).

(1) ينظر: " الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى " للإمام القرطبي، (1 / 61: 92).
(2) قال الشيخ أبو حيان: " و كان القياس الترقي كما تقول: عالم نحرير، و شجاع باسل، لكن أردف الرحمن
الذي يتناول جلائل النعم و أصولها، ليكون كالتتمة و الرديف، ليتناول ما دق منها و ما لطف، و اختاره
الزمخشري ".
ينظر: " البحر المحيطة " (1 / 128).
160

تفسير فاتحة الكتاب
بحول الله تعالى وقوته
(بسم الله الرحمن الرحيم (1))
قال ابن عباس وغيره: إنها مكية (1)، ويؤيد هذا أن في سورة الحجر: (و لقد آتيناك
سبعا من المثاني) [الحجر: 87]، والحجر مكية بإجماع، وفي حديث أبي بن كعب أنها
السبع المثاني (2).
ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاة
بغير: (الحمد لله رب العالمين)، وروي عن عطاء بن يسار (3) وغيره،

(1) ذكره السمرقندي في " تفسيره " (1 / 78)، و ابن كثير (1 / 8) عن ابن عباس، و قتادة، و أبي العالية.
و السيوطي في " الدر " (1 / 19 - 20) عن علي و قتادة. و قال الحفاظ في " الفتح " (8 / 9): إن الفاتحة
مكية، و هو قول الجمهور.
(2) أخرجه الترمذي (5 / 297)، كتاب " تفسير القرآن "، باب سورة الحجر، حديث (3125)، (5 / 155)،
كتاب " فضائل القرآن "، باب ما جاء في فضل فاتحة الكتاب، حديث (2875)، و النسائي (2 / 139)،
كتاب " الافتتاح "، باب تأويل قول الله (عز وجل): (و لقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم)،
حديث (914)، و في " التفسير " (1 / 523 - 524)، رقم (225)، و الطبري في " تفسيره " (9 / 142)،
و أحمد (2 / 412 - 413)، و الدارمي (2 / 446)، و عبد الله بن أحمد في " زوائد المسند " (5 / 114)،
و عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " (ص 86)، رقم (165)، و أبو يعلى (11 / 367 - 368)،
رقم (6482)، و ابن خزيمة (1 / 252)، رقم (500، 501)، و ابن حبان (3 / 53)، رقم (775 -
الإحسان)، و الحاكم (1 / 557)، والبيهقي (2 / 375 - 376)، كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن،
عن أبيه، عن أبي هريرة، عن أبي بن كعب به.
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
و صححه الحاكم، و وافقه الذهبي.
و صححه ابن خزيمة و ابن حبان.
و الحديث ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 21) و زاد نسبته إلى أبي عبيد، وابن المنذر، و ابن
مردويه، و أبي ذر الهروي في " فضائل القرآن ".
(3) عطاء بن يسار الهلالي، أبو محمد المدني، أحد الأعلام. عن مولاته ميمونة، وابن مسعود، و أبي بن
كعب، و أبي ذر و خلق. و عنه أبو سلمة، و حبيب بن أبي ثابت، و أبو جعفر الباقر، و عمر بن دينار،
و خلق. قال النسائي: ثقة. قال الهيثم بن عدي: توفي سنة سبع و تسعين. و قال عمرو بن علي: سنة
161

أنها مدينة (1)، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف، هل يقال لها
أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عباس وغيره (2).
وفي تسميتها ب‍ " أم الكتاب " حديث رواه أبو هريرة (3)، واختلف هل يقال لها: " أم
القرآن "؟ فكره ذلك ابن سيرين (4)، وجوزه جمهور العلماء.
وسميت " المثاني "، لأنها تثنى في كل ركعة (5)، وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة.
وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بن كعب، أنها لم ينزل
في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الفرقان مثلها (6)، وروي أنها تعدل ثلثي القرآن، وهذا
العدل إما أن يكون في المعاني، وإما أن يكون تفضيلا من الله تعالى لا يعلل، وكذلك يجيء
عدل: (قل هو الله أحد) [الإخلاص: 1] وعدل: (إذا زلزلت) [الزلزلة: 1] وغيره.

ثلاث و مائة.
ينظر: " تهذيب الكمال " (2 / 938)، و " تهذيب التهذيب " (7 / 317)، و " تقريب التهذيب " (2 / 23)،
و " سير الأعلام " (4 / 448).
(1) ذكره البغوي في " تفسيره " (1 / 37)، و الماوردي في " تفسيره " (1 / 45)، و السيوطي في " الدر " (1 /
20)، و عزاه لوكيع في " تفسيره ". كلهم عن مجاهد. وابن كثير (1 / 8) عن أبي هريرة، و مجاهد،
و عطاء بن يسار، و الزهري. و قال ابن كثير: و الأولى أشبه " أي أنها مكية "، لقوله تعالى: " و لقد آتيناك
سبعا من المثاني " والله تعالى أعلم.
(2) أخرجه البخاري معلقا (8 / 6). و ذكره الماوردي في " تفسيره " (1 / 46)، و ابن كثير (1 / 8). و قال
الحافظ في " الفتح " (8 / 6): و يأتي في تفسير " الحجر " حديث أبي هريرة مرفوعا: " أم القرآن هي السبع
المثاني " و لا فرق بين تسميتها بأم القرآن، و أم الكتاب، و لعل الذي كره ذلك وقف عند لفظ " الأم ".
(3) أخرجه الترمذي (5 / 297)، كتاب " التفسير "، باب و من سورة الحجر، حديث (3124)، و أبو داود
(1 / 461)، كتاب " الصلاة "، باب فاتحة الكتاب، حديث (1457) من طريق ابن أبي ذئب، عن
المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " الحمد لله أم القرآن، و أم الكتاب و السبع المثاني ".
و أخرجه البخاري (8 / 232) بلفظ: " أم القرآن هي السبع، و القرآن العظيم ".
و أخرجه البغوي في " شرح السنة " (3 / 13 - بتحقيقنا)، و قال: هذا حديث صحيح، و أراد بأم القرآن
فاتحة الكتاب، و سميت بأم القرآن، لأنها أصل القرآن، و أم كل شئ أصله، و سميت مكة أم القرى كأنها
أصلها و معظمها، و قيل: سميت أم القرآن، لأنها تتقدم القرآن، و كل من تقدم شيئا فقد أمه ".
(4) ينظر: الماوردي في " تفسيره " (1 / 46)، و ابن كثير (1 / 8)، و الحافظ في " الفتح " (8 / 6)، و السيوطي
في " الدر " (1 / 20)، و عزاه لابن ضريس في " فضائل القرآن ".
(5) ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 103) طبعة أحمد شاكر.
(6) تقدم تخريجه قريبا.
162

* ت *: ونحو حديث أبي حديث أبي سعيد بن المعلى (1)، إذ قال له صلى الله عليه وسلم: " ألا
أعلمك أعظم سورة في القرآن (الحمد الله رب العالمين)، هي السبع المثاني، والقرآن
العظيم الذي أوتيته ". رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة. انتهى من " سلاح
المؤمن " تأليف الشيخ المحدث أبي الفتح تقي الدين محمد بن علي بن همام (2) - رحمه
الله -.
(الحمد لله رب العالمين (1) الرحمن الرحيم (2))
الحمد: معناه الثناء الكامل، والألف واللام فيه لاستغراق الجنس من المحامد، وهو
أعم من الشكر، لأن الشكر إنما يكون على فعل جميل يسدي إلى الشاكر، والحمد المجرد
هو ثناء بصفات المحمود.
قال * ص (3) *: وهل الحمد بمعنى الشكر أو الحمد أعم، أو الشكر ثناء على الله
بأفعاله، والحمد ثناء عليه بأوصافه؟ ثلاثة أقوال. انتهى.
قال الطبري (4): الحمد لله: ثناء أثنى به على نفسه تعالى، وفي ضمنه أمر عبادة أن
يثنوا به عليه، فكأنه قال: قولوا: الحمد لله /، وعلى هذا يجيء: قولوا: (إياك)،
و (اهدنا).

(1) أبو سعيد بن المعلى بن لودان بن حبيب بن عدي بن زيد بن ثعلبة بن مالك بن زيد مناة الأنصاري،
اسمه رافع، له أحاديث، انفرد له البخاري بحديث. وعنه حفص بن عاصم. قال الزيادي: مات سنة
ثلاث و سبعين.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 219)، و " تهذيب التهذيب " (12 / 107)، و " التاريخ الكبير " (9 / 34).
(2) " سلاح المؤمن " لتقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام، المصري، الشافعي، المتوفى
سنة خمس و أربعين و سبعمائة. اشتهر في حياته بالغرناطي. أوله: الحمد لله المنعم على خلقه بجميع
آلاته. إلخ، بوبه على واحد و عشرين بابا، و قد اختصره الذهبي محمد بن أحمد الحافظ المتوفى سنة
ثمان و أربعين و سبعمائة. ينظر: " كشف الظنون " (2 / 994، 995).
(3) " المجيد " ص 50.
(4) " تفسير الطبري " (1 / 139 - 140)، و قد استدل أبو جعفر على حذف ما تعرفه العرب في أحاديثها بقول
الشاعر: [الوافر]
و اعلم أنني سأكون رمسا * إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم؟ * فقال المخبرون لهم: وزير
ثم قال: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما
دل على ذلك... ".
163

قال وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، وهو كثير.
والرب، في اللغة: المعبود، والسيد المالك، والقائم بالأمور المصلح لما يفسد
منها، فالرب على الإطلاق هو رب الأرباب على كل جهة، وهو الله تعالى.
والعالمون: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، يقال لجملته: عالم،
ولأجزائه من الإنس والجن وغير ذلك عالم، عالم، وبحسب ذلك يجمع على العالمين،
ومن حيث عالم الزمان متبدل في زمان آخر، حسن جمعها، ولفظة العالم جمع لا واحد له
من لفظه، وهو مأخوذ من العلم والعلامة، لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج (1)، قال
أبو حيان (2): الألف واللام في العالمين للاستغراق، وهو جمع سلامة، مفرده عالم، اسم
جمع، وقياسه ألا يجمع، وشذ جمعه أيضا جمع سلامة، لأنه ليس بعلم ولا صفة.
* م *: وذهب ابن مالك (3) في " شرح التسهيل " إلى أن " عالمين " اسم جمع لمن
يعقل، وليس جمع عالم، لأن العالم عام، و " عالمين " خاص، قلت: وفيه نظر. انتهى.
وقد تقدم القول في الرحمن الرحيم.
(مالك يوم الدين الدين (4) إياك نعبد و إياك نستعين (5))
(مالك يوم الدين): الدين في كلام العرب على أنحاء، وهو هنا الجزاء يوم الدين،
أي: يوم الجزاء على الأعمال والحساب بها، قاله ابن عباس (4) وغيره، مدينين:
محاسبين (5)، وحكى أهل اللغة: دنته بفعله دينا، بفتح الدال، ودينا، بكسرها: جزيته،

(1) " معاني القرآن و إعرابه " لأبي إسحاق الزجاج (1 / 46).
(2) " البحر المحيط " (1 / 132)، و ينظر " المجيد " ص (53).
(3) محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني، أبو عبد الله، جمال الدين، أحد الأئمة في علوم العربية.
ولد في حيان ب‍ " الأندلس " سنة 600 ه‍، و انتقل إلى دمشق، فتوفي فيها سنة (672) ه‍. من كتبه:
" الألفية " و هو أشهرها في النحو، و " تسهيل الفوائد " في النحو أيضا، و كذلك " الكافية الشافية " أرجوزة
في نحو ثلاثة آلاف بيت، و " إيجاز التعريف " في الصرف، و " العروض ".
ينظر: " الأعلام " (6 / 233)، " بغية الوعاة " (53)، " آداب اللغة " (3 / 140)، و " طبقات السبكي " (5 /
28).
(4) أخرجه ابن جرير (9 / 292) (25889)، و ذكره السيوطي في " الدر " (5 / 65) عن ابن عباس، والقرطبي
(1 / 125).
(5) أخرجه ابن جرير (10 / 491) برقم (29383)، عن قتادة، و (10 / 491) رقم (29384)، عن السدي.
و ذكره السيوطي في " الدر " (5 / 519)، و القرطبي (1 / 125).
164

ومنه قول الشاعر: [الكامل]
واعلم يقينا أن ملكك زائل * واعلم بأن كما تدين تدان (1)
(إياك نعبد): نطق المؤمن به إقرار بالربوبية، وتذلل وتحقيق لعبادة الله، وقدم
" إياك " على الفعل اهتماما، وشأن العرب تقديم الأهم، واختلف النحويون في " إياك " (2)
فقال الخليل (3): " إيا ": اسم مضمر أضيف إلى ما بعده، للبيان لا للتعريف، وحكي عن
العرب: " إذا بلغ الرجل الستين، فإياه وإيا الشواب "، وقال المبرد: إيا: اسم مبهم أضيف
للتخصيص لا للتعريف، وحكى ابن كيسان (4) عن بعض الكوفيين أن " إياك " بكماله اسم

(1) ينظر: " مجاز القرآن " (1 / 23)، " الكامل " (1 / 426)، " إعراب ثلاثين سورة " لابن خالويه (241)، " الجمهرة "
(2 / 306)، " الخزانة " (4 / 230)، " جمهرة الأمثال " للعسكري (169)، " المخصص " (17 / 155)، " تفسير
الطبري " (1 / 155)، " القرطبي " (1 / 101)، " الدر المصون " (1 / 72)، " اللسان و التاج " (دين).
(2) اختلف النحويون في " إيا " هل هو من قبيل الأسماء الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهور على أنه مضمر،
و قال الزجاج: هو اسم ظاهر. و قال ابن درستويه. إنه بين الظاهر و المضمر. و قال الكوفيون: مجموع
" إيا " و لواحقها هو الضمير. و القائلون بأنه ضمير اختلفوا فيه على أربعة أقوال:
أحدها: أنه كله ضمير.
و الثاني: أن " إيا " وحده ضميره، و ما بعده اسم مضاف إليه يبين ما يراد به من تكلم، و غيبة، و خطاب.
و الثالث: أن " إيا " عماد، و ما بعده هو الضمير، و شذت إضافته إلى الظاهر في قولهم: " إذا بلغ الرجل
الستين، فإياه و إيا الشواب " بإضافة " إيا " إلى الشواب. وهذا يؤيد قول من جعل الكاف و الهاء و الياء في
محل جر إذا قلت: إياك، إياه، إياي.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 73)، و " همع الهوامع " (1 / 61)، و " الكتاب " (2 / 355)، و " شرح الكافية "
(2 / 12)، و " سر صناعة الإعراب " (1 / 311)، و " شرح المفصل " (3 / 98)، و " الإنصاف " (2 / 695).
(3) الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم، الفراهيدي، الأزدي، اليحمدي، أبو عبد الرحمن، ولد سنة
(100) ه‍ في البصرة. من أئمة اللغة و الأدب، و واضع علم العروض، و هو أستاذ سيبويه النحوي،
عاش فقيرا صابرا. قال النظر بن شميل: ما رأى الراءون مثل الخليل، و لا رأى الخليل مثل نفسه. فكر
في ابتكار طريقة في الحساب تسهله على العامة، فدخل المسجد و هو يعمل فكره، فصدمته سارية و هو
غافل، فكانت سبب موته سنة (170) ه‍ ب‍ " البصرة ". من كتبه " العين "، و " معاني الحروف "،
و " العروض "، و " الغنم ".
ينظر: " وفيات الأعيان " (1 / 172)، " إنباه الرواة " (1 / 341)، " نزهة الجليس " (1 / 80)، " الأعلام " (2 /
314).
(4) محمد بن أحمد بن إبراهيم، أبو الحسن المعروف ب‍ " ابن كيسان ": عالم بالعربية من أهل " بغداد "، أخذ
عن المبرد و ثعلب، من كتبه " المهذب " في النحو، " غريب الحديث "، " معاني القرآن "، " المختار في علل
النحو " توفي من (299) ه‍.
ينظر: " إرشاد الأريب " (6 / 280)، " معجم المطبوعات " (229). " نزهة الألبا " (301)، " شذرات
الذهب " (2 / 232)، " كشف الظنون " (1703)، " مصابيح الكتاب "، " الأعلام " (5 / 308).
165

مضمر ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره وحكي عن بعضهم أنه قال الكاف والهاء
والياء هو الاسم المضمر، لكنها لا تقوم بأنفسها، ولا تكون إلا متصلات، فإذا تقدمت
الأفعال جعل " إيا " عمادا لها، فيقال: إياك، وإياه، وإياي، فإذا تأخرت، اتصلت بالأفعال،
واستغني عن " إيا ".
و (نعبد): معناه: نقيم الشرع والأوامر مع تذلل واستكانة، والطريق المذلل يقال له
معبد، وكذلك البعير.
و (نستعين)، معناه نطلب العون منك في جميع أمورنا، وهذا كله تبر من الأصنام.
(اهدنا الصراط المستقيم (6) صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم
و لا الضالين (7))
وقوله تعالى: (اهدنا): رغبة، لأنها من المربوب إلى الرب، وهكذا صيغ الأمر
كلها، فإذا كانت من الأعلى، فهي أمر.
والهداية، في اللغة: الإرشاد، لكنها تتصرف على وجوه يعبر عنها المفسرون بغير
لفظ الإرشاد وكلها إذا تأملت راجعة إلى الإرشاد، فالهدى يجيء بمعنى خلق الإيمان في
القلب، ومنه قوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) [البقرة: 5] و (يهدي عبد من يشاء إلى
صراط مستقيم) [النور: 46] [النور: 46] و (إنك على هدى من ربهم) [البقرة: 5] و (يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم) [النور: 46]، و (إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء)
[القصص: 56] (فمن يرد الله أن يهديه) [الأنعام: 125] الآية، قال أبو المعالي (1): فهذه
الآيات لا يتجه جلها إلا على خلق الإيمان في القلب، و هو محض الإرشاد (2).
وقد جاء الهدى بمعنى الدعاء، كقوله تعالى: (و لكل قوم هاد) [الرعد: 7] أي: داع /
(و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم) [الشورى: 52].

(1) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، العلامة إمام الحرمين، أبو
المعالي بن أبي محمد الجويني، ولد سنة (419)، و تفقه على والده، و قعد للتدريس يعده، و حصل
أصول الدين و أصول الفقه على أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف، و صار إماما، حضر درسه الأكابر،
و تفقه به جماعة من الأئمة. قال السمعاني: كان إمام الأئمة على الإطلاق، و من تصانيفه: النهاية
و الغياثي و الإرشاد، و غيرهما. مات سنة (478).
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 255)، " طبقات السبكي " (3 / 249)، " وفيات الأعيان " (2 /
(341)، و " الأنساب " (3 / 430)، " شذرات الذهب " (3 / 358)، " النجوم الزاهرة " (5 / 121)،
و " معجم البلدان " (2 / 193).
(2) ينظر: ص 486.
166

وقد جاء الهدى بمعنى الإلهام، من ذلك قوله تعالى: (أعلى كل شئ خلقه ثم
هدى) [طه: 50].
قال المفسرون: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها.
وقد جاء الهدى بمعنى البيان، من ذلك قوله تعالى: (و أما ثمود فهديناهم)
[فصلت: 17] قال المفسرون: معناه: بينا لهم.
قال أبو المعالي (1): معناه: دعوناهم، وقوله تعالى: (إن علينا للهدى) [الليل: 12]،
أي: علينا أن نبين.
و في هذا كله معنى الإرشاد.
قال أبو المعالي: وقد ترد الهداية، والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان
والطرق المفضية إليها، كقوله تعالى في صفة المجاهدين: (فلن يضل أعمالهم * سيهديهم
ويصلح بالهم) [محمد: 4 - 5] ومنه قوله تعالى: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم)
[الصافات: 23]، معناه: فاسلكوهم إليها.
قال * ع (2) *: وهذه الهداية بعينها هي التي تقال في طرق الدنيا، وهي ضد
الضلال، وهي الواقعة في قوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم)، على صحيح
التأويلات، وذلك بين من لفظ " الصراط " والصراط، في اللغة: الطريق الواضح، ومن ذلك
قول جرير (3): [الوافر]
أمير المؤمنين على صراط * إذا أعوج الموارد مستقيم (4)

(1) ينظر: " الإرشاد " ص (190)، و " المحرر الوجيز " (1 / 73).
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 73).
(3) جرير بن عطية بن حذيفة الخطفى بن بدر الكلبي، اليربوعي، من تميم أشعر أهل عصره، ولد سنة
(28) ه‍، و مات سنة 110 ه‍ في " اليمامة ". و عاش عمره كله يناضل شعراء زمنه و يساجلهم، و كان
هجاءا مرا، فلم يثبت أمامه غير الفرزدق و الأخطل، و كان عفيفا، وهو من أغزل الناس شعرا.
ينظر: " الأعلام " (2 / 19)، " وفيات الأعيان " (1 / 102)، " الشعر والشعراء " (179)، و " خزانة الأدب "
(1 / 36).
(4) البيت في مدح هشام بن عبد الملك، ينظر: ديوانه (507)، " شرح الديوان " لمحمد بن حبيب (1 /
218)، " المحتسب " (1 / 43)، " مجاز القرآن " (1 / 24)، " تفسير الطبري " (1 / 56)، " تفسير القرطبي "
(1 / 103)، " اللسان " (سرط)، " الجمهرة " (2 / 330)، " الدر المصون " (1 / 78).
و الموارد: الطرق، واحدها موردة.
167

و اختلف المفسرون في المعنى الذي استعير له " الصراط " في هذا الموضع: فقال
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: الصراط المستقيم هنا القرآن (1)، وقال جابر: هو
الإسلام، يعني الحنيفية (2).
وقال محمد بن الحنفية (3): هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره (4).
وقال أبو العالية: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه أبو بكر وعمر، أي: الصراط المستقيم
طريق محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر (5)، وهذا قوي في المعنى، إلا أن تسمية أشخاصهم
طريقا فيه تجوز، ويجتمع من هذه الأقوال كلها أن الدعوة هي أن يكون الداعي على سنن
المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في معتقداته، وفي التزامه لأحكام
شرعه، وذلك هو مقتضى القرآن والإسلام، وهو حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه.
وهذا الدعاء إنما أمر به المؤمنون، وعندهم المعتقدات، وعند كل واحد بعض
الأعمال، فمعنى قوله: (اهدنا) فيما هو حاصل عندهم: التثبيت والدوام، و فيما ليس
بحاصل، إما من جهة الجهل به، أو التقصير في المحافظة عليه: طلب الإرشاد إليه، فكل

(1) أخرجه ابن جرير (1 / 173) (176)، و ذكره الماوردي في " تفسيره " (1 / 59)، و البغوي في " تفسيره "
(1 / 41)، عن علي مرفوعا، و ابن كثير (1 / 27)، عن علي موقوفا عليه.
و قال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري: و الإسناد إلى علي بن أبي طالب فيه انهيار.
(2) أخرجه ابن جرير (178)، و صححه الحاكم (2 / 259)، و وافقه الذهبي. و ذكره الماوردي في تفسيره
(1 / 59)، و البغوي (1 / 41)، و ابن كثير (1 / 27)، قال: صحيح، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 40)
و عزاه لوكيع، و عبد بن حميد، وابن المنذر، و ابن جرير، و المحاملي في " أماليه "، و الحاكم. و قال
أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(3) محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد، الإمام المعروف ب‍ " ابن الحنيفة " أمه خولة بنت
جعفر الحنفية، نسب إليها. عن أبيه، و عثمان، و غيرهما. وعنه بنوه: إبراهيم، و عبد الله، والحسن،
و عمرو بن دينار، و خلق. قال إبراهيم بن الجنيد: لا نعلم أحدا أسند عن علي أكثر و لا أصح مما أسند
محمد بن الحنفية. قال أبو نعيم: مات سنة ثمانين.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 440)، و " تهذيب التهذيب " (9 / 354)، و " الكاشف " (3 / 80)، و " الثقات "
(5 / 347).
(4) ذكره الماوردي في " تفسيره " (ص 59)، و ابن كثير (ص 27)، و قال: صحيح.
(5) أخرجه ابن جرير (1 / 105) برقم (184)، و ذكره الماوردي في " تفسيره " (1 / 59)، و البغوي (1 / 41)،
و ابن كثير (1 / ص 27، 28)، و قال: صحيح. وذكره السيوطي في " الدر " (1 / 41)، و عزاه لعبد بن
حميد، و ابن جريج، و ابن أبي حاتم، و ابن عدي، و ابن عساكر. ورواه الحاكم في " المستدرك "، عن ابن
عباس، و قال: صحيح. و وافقه الذهبي.
168

داع به إنما يريد الصراط بكماله في أقواله، وأفعاله، ومعتقداته، واختلف في المشار إليهم
بأنه سبحانه أنعم عليهم، وقول ابن عباس، وجمهور من المفسرين: أنه أراد صراط النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: (ولو أنهم فعلوا ما
يوعظون به لكان خيرا لهم...) الآية [النساء: 66] إلى قوله: (رفيقا) (1).
وقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، اعلم أن حكم كل مضاف إلى
معرفة أن يكون معرفة، وإنما تنكرت " غير " و " مثل " (2) مع إضافتهما إلى المعارف من أجل
معناهما، وذلك إذا قلت: رأيت غيرك، فكل شئ سوى المخاطب، فهو غيره، وكذلك إن
قلت: رأيت مثلك، فما هو مثله لا يحصى، لكثرة وجوه المماثلة.
و (المغضوب عليهم): اليهود، و الضالون: النصارى، قاله ابن مسعود، وابن
عباس، ومجاهد، والسدي، وابن زيد (3).
وروى ذلك عدي بن حاتم (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم (5)، وذلك بين من كتاب الله، لأن ذكر

(1) أخرجه ابن جرير (1 / 106) برقم (188)، و قال أحمد شاكر في تحقيقه للطبري (1 / 178) (188): في
إسناده ضعف. و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 75)، و السيوطي في " الدر " (1 / 42).
(2) هذا يكون في الإضافة المحضة المعنوية لا الإضافة غير المحضة اللفظية.
(3) أخرجه الطبري (1 / 111 - 114) بأرقام (200 - 201 - 202 - 205 - 214 - 219) عن ابن زيد،
و مجاهد، عن ابن عباس، و ابن مسعود، و عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وذكره ابن عطية الأندلسي
في تفسيره (1 / 77)، و السيوطي في " الدر " (1 / 42 - 43).
و ابن زيد هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم المدني روى عن أبيه، و عن وكيع و ابن وهب، و قتيبة،
و خلق. ضعفه أحمد، و ابن المديني، و النسائي، و غيرهم، توفي سنة (182) ه‍.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 133) (4094)، " الجرح و التعديل " (2 / 232 - 233)، و " المغني " (2 / 380).
(4) هو: عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي
أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعلب بن عمرو بن عوث بن طي.. و قيل في نسبه غير ذلك. أبو
الطريف. و قيل: أبو وهب، الطائي.
وهو ابن حاتم الطائي الذي يضرب بكرمه وجوده المثل، و كان هو أيضا كريما جوادا، و قد أسلم بعد أن
كان نصرانيا. وروى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث كثيرة، و ثبت هو و قومه بعد موت النبي صلى الله عليه وآله و سلم وردت كثير من
العرب، فجاء إلى أبي بكر بصدقة قومه. و أخباره في الكلام، و سيرته بين الصحابة شهيرة. توفي
سنة (67) و قيل غير ذلك.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (4 / 8)، " الإصابة " (4 / 228)، " الثقات " (1 / 316)، " الاستيعاب "
(1057)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 376)، " الطبقات الكبرى " (1 / 322)، " التاريخ الكبير " (7 /
43)، " التاريخ الصغير " (1 / 148)، " الجرح و التعديل " (7 / 2).
(5) أخرجه الترمذي (5 / 204)، كتاب " تفسير القرآن "، باب و من سورة فاتحة الكتاب، حديث (2954).
169

غضب الله على اليهود متكرر فيه، كقوله: (وباءوا بغضب / من الله) [آل عمران: 112] (قل
هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله...) الآية [المائدة: 60] وغضب الله تعالى، عبارة
عن إظهاره عليهم محنا وعقوبات وذلة، ونحو ذلك مما يدل على أنه قد أبعدهم عن رحمته
بعدا مؤكدا مبالغا فيه، والنصارى كان محققوهم على شرعة بل ورود شرع محمد صلى الله عليه سلم،
فلما ورد، ضلوا، وأما غير متحققيهم، فضلالتهم قال متقررة منذ تفرقت أقوالهم في عيسى عليه
السلام، وقد قال الله تعالى فيهم: (و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا
وضلوا عن سواء السبيل) [المائدة: 77].
وأجمع الناس على أن عدد آي سورة الحمد سبع آيات، العالمين آية، الرحيم آية،
الدين آية، نستعين آية، المستقيم آية، أنعمت عليهم آية، و لا الضالين آية، وقد ذكرنا عند
تفسير (بسم الله الرحمن الرحيم)، أن ما ورد من خلاف في ذلك ضعيف.
(القول في " آمين ")
روى أبو هريرة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الإمام: (ولا الضالين)،
فقولوا " آمين "، فإن الملائكة في السماء تقول: " آمين "، فمن وافق قوله قول الملائكة، غفر
له ما تقدم من ذنبه " (1).

و أحمد (4 / 378 - 379)، و ابن حبان (1715 - موارد)، والطبراني في " الكبير " (17 / 99 - 100)،
رقم (237)، و الطبري في " تفسيره " (1 / 193 - شاكر)، رقم (208) و البيهقي في " دلائل النبوة " (5 /
340)، كلهم من طريق سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم به مرفوعا.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث سماك بن حرب، و روى شعبة، عن
سماك بن حرب، عن عباد بن حبيش، عن عدي بن حاتم، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم الحديث بطوله.
و صححه ابن حبان.
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 43)، و زاد نسبته إلى عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن أبي
حاتم. و قد ورد هذا الحديث مرسلا.
أخرجه سعيد بن منصور (179) ثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال
لعدي بن حاتم: " المغضوب عليهم: اليهود، و النصارى هم الضالون ".
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 43)، و زاد نسبته إلى سفيان بن عيينة في " تفسيره ". و للحديث
طرق أخرى ضعيفة أخرجها الطبري في " تفسيره " (1 / 193).
و للحديث أيضا شاهد من حديث أبي ذر، أخرجه ابن مردويه كما في " تفسير ابن كثير " (1 / 30). وحسنه
الحافظ في " الفتح " (8 / 9) فقال: و أخرجه ابن مردويه بإسناد حسن عن أبي ذر.
(1) أخرجه مالك (1 / 88)، كتاب " الصلاة "، باب التأمين خلف الإمام، الحديث (47)، و أحمد (2 /
440)، و البخاري (2 / 266)، كتاب " الأذان "، باب جهر المأموم بالتأمين، الحديث (782)، و مسلم
170

* ت *: وخرج مسلم وأبو داود والنسائي من طريق أبي موسى، رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا
قال: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا: " آمين "، يجبكم الله... "
الحديث (1). انتهى.
ومعنى " آمين "، عند أكثر أهل العلم: اللهم، استجب، أو أجب (2) يا رب.
ومقتضى الآثار أن كل داع ينبغي له في آخر دعاءه أن يقول: " آمين "، وكذلك كل

(1 / 310)، كتاب " الصلاة "، باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير، الحديث (87 / 415)، و أبو داود
(1 / 575)، كتاب " الصلاة "، باب التأمين وراء الإمام، الحديث (935)، والنسائي (2 / 144)، كتاب
" الافتتاح "، باب الأمر بالتأمين خلف الإمام، من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة به بزيادة: " فإنه من
وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".
و أخرجه عبد الرزاق (2 / 97)، كتاب " الصلاة "، باب آمين، الحديث (2644) بزيادة، فقال: ثنا معمر،
عن الزهري، عن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " إذا قال الإمام: (غير المغضوب
عليهم و لا الضالين)، فقولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون: آمين، و إن الإمام يقول: آمين، فمن وافق
تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ".
و أخرجه أحمد (2 / 233)، والنسائي (2 / 144)، كتاب " الافتتاح "، باب جهر الإمام بآمين، من طريق
معمر به.
(1) أخرجه مسلم (2 / 283: 286 - الأبي)، كتاب " الصلاة "، باب التشهد في الصلاة، حديث (62 /
404)، و أبو داود (1 / 319 - 320)، كتاب " الصلاة "، باب التشهد، حديث (972)، و النسائي (2 /
196)، كتاب " التطبيق "، باب قوله، ربنا لك الحمد، حديث (1064). و ابن ماجة (1 / 276)، كتاب
" الصلاة "، باب إذا قرأ الإمام فأنصتوا، حديث (847)، و أحمد (4 / 393،، 394، 401، 405،
415)، وابن خزيمة (1584، 1593)، و البيهقي (2 / 96)، كلهم من طريق حطان بن عبد الله
الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.
(2) " آمين " ليست من القرآن إجماعا، و معناها: استجب، فهي اسم فعل مبني على الفتح. و قيل: ليس اسم
فعل، بل هو من أسماء الباري تعالى، و التقدير: يا آمين، و قد ضعف أبو البقاء هذا القول بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يبني على الضم، لأنه منادى مفرد معرفة.
و الثاني: أن أسماء الله تعالى توقيفية.
و في " آمين " لغتان: المد و القصر، تقول العرب: آمين، و أمين، قال الشاعر: [الطويل]
تباعد عني فطحل إذ دعوته * أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
و قال المجنون: [البسيط]
يا رب لا تسلبني حبها أبدا * و يرحم الله عبدا قال آمينا
ينظر: " معاني القرآن " للزجاج (1 / 54)، و " الوسيط " (1 / 70)، و " الدر المصون " (1 / 86)،
و " الزاهر " (1 / 161)، و " غرائب النيسابوري " (1 / 75)، و ابن كثير (1 / 31).
171

قارىء للحمد في غير صلاة، وأما في الصلاة، فيقولها المأموم والفذ، وفي الإمام في
الجهر اختلاف (1).
واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة "، فقيل: في الإجابة،
وقيل: في خلوص النية، وقيل: في الوقت، والذي يترجح أن المعنى: فمن وافق في
الوقت مع خلوص النية والإقبال على الرغبة إلى الله بقلب سليم فالإجابة تتبع حينئذ، لأن
من هذه حاله، فهو على الصراط المستقيم.
وفي " صحيح مسلم " وغيره عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله
عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي، ونصفها لعبدي، ولعبدي
ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله، حمدني عبدي، فإذا قال:
الرحمن الرحيم، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني
عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي في ما سأل،
فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا
الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " (2) انتهى، وعند مالك: " فهؤلاء لعبدي ".
وأسند أبو بكر بن الخطيب (3) عن نافع (4) عن ابن عمر (5) قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من

(1) ذهب جماعة من الصحابة و التابعين فمن بعدهم إلى الجهر بالتأمين، و به يقول الشافعي، و أحمد،
و إسحاق، قال عطاء: كنت أسمع الأئمة - و ذكر ابن الزبير و من بعده - يقولون: آمين، و يقول من خلفه:
آمين، حتى إن للمسجد للجة.
ينظر: " شرح السنة " (2 / 208).
(2) تقدم تخريجه.
(3) أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي، الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، أحد حفاظ الحديث
و ضابطيه المتقنين. ولد سنة (392)، و تفقه على القاضي أبي الطيب الطبري، و أبي إسحاق الشيرازي و أبي نصر
ابن الصباغ، و شهرته في الحديث تغني عن الإطناب. قال ابن ماكولا: و لم يكن للبغداديين بعد الدارقطني مثله.
و قال الشيرازي: كان أبو بكر يشبه بالدارقطني و نظراته في معرفة الحديث و حفظه. مات (463).
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة (1 / 240)، " طبقات السبكي " (3 / 12)، " وفيات الأعيان " (1 / 76).
(4) نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، أبو سهيل المدني عن ابن عمر، و أنس، و عنه ابن أخيه مالك بن
أنس، و الزهري. وثقه أبو حاتم و غيره. قال الواقدي: هلك في إمارة أبي العباس.
ينظر: " تاريخ الإسلام " (5 / 307)، " الثقات " (5 / 471)، " تراجم الأحبار " (4 / 139)، " تاريخ أسماء
الثقات " (1473)، " سير الأعلام " (5 / 283)، " تهذيب الكمال " (3 / 1404)، " تهذيب التهذيب " (10 /
409) (730)، " خلاصة تهذيب الكمال " (3 / 89)، " الكاشف " (3 / 197).
(5) عبد الله بن عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن
172

كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " انتهى من " تاريخ بغداد " ولم يذكر في سنده مطعنا.
وقال ابن العربي (1) في " أحكامه " (2): والصحيح عندي وجوب قراءتها على المأموم
فيما أسر فيه، وتحريمها فيما جهر فيه، إذا سمع / الإمام لما عليه من وجوب الإنصات
والاستماع، فإن بعد عن الإمام، فهو بمنزلة صلاة السر. انتهى.
نجز تفسير سورة الحمد، والحمد لله بجميع محامده، كلها، ما علمت منها، وما لم
أعلم.

عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. أبو عبد الرحمن. القرشي، العدوي. ولد سنة: (3) من البعثة
النبوية توفي سنة: (84).
ينظر ترجمته في: " الإصابة " (4 / 107)، " أسد الغابة " (3 / 340)، " الثقات " (3 / 209)، " شذرات
الذهب " (2 / 15)، " الجرح و التعديل " (5 / 107)، " سير أعلام النبلاء " (3 / 203)، " تجريد أسماء
الصحابة " (1 / 325)، " تقريب التهذيب " (1 / 435)، " تهذيب التهذيب " (5 / 328).
(1) محمد بن عبد الله بن محمد المعافري الأشبيلي المالكي، أبو بكر بن العربي، ولد (468) ه‍، من
حفاظ الحديث بلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين، صنف كتبا في الحديث، والفقه، و الأصول،
و التفسير، و الأدب، و التاريخ، وولي قضاء إشبيلية، من مؤلفه " أحكام القرآن " و " المحصول "،
و " الناسخ و المنسوخ "، و غيرها كثير، توفي (543) ه‍.
ينظر: " طبقات الحفاظ " للسيوطي، " وفيات " (1 / 489)، " نفح الطيب " (1 / 340)، " قضاة الأندلس "
(105)، " جذوة الاقتباس " (2160)، " الأعلام " (6 / 230).
(2) ينظر: " أحكام القرآن " (1 / 5).
173

بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
تفسير سورة البقرة (1)
هذه السورة مدنية نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم،

(1) هذه السورة مترامية أطرافها، و أساليبها ذات أفنان، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا
لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسان. و على الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما
يأتي لنا من تفسيرها، و لكن هذا لا يحجم بنا عن التعرض إلى لائحات منها. وقد حيكت بنسج
المناسبات و الاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، و سدى متين من فصاحة الكلمات.
و معظم أغراضها يتقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه و علو هديه و أصول تطهيره
النفوس، و قسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه و إصلاح مجتمعهم.
و كان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية و أساليب الكتب التشريعية
و أساليب التذكير و الموعظة. يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، و يحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت
بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد
بعده، و انتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن، فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك
الرمز له أشد وقعا على نفوسهم، فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله: (و إن
كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) [البقرة: 23] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب و هديه، و تخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم
هذا الكتاب و انتفاعهم بهديه أصنافا أربعة، و كانوا قبل الهجرة صنفين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك
التلقي، و إذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين -
ابتدىء بذكرهم، و لما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفي المشركين الصرحاء، و المنافقين، لف
الفريقان لفا واحدا، فقورعوا بالحجج الدامغة و البراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق
تشويها لنفاقهم و إعلانا لدخائلهم، ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت من أنوفهم صريح التحدي
الذي رمز إليه بداء تحديا يلجئهم إلى الاستكانة و يخرس ألسنتهم عن التطاول و الإبانة، و يلقي في قرارات
أنفسهم مذلة الهزيمة و صدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر، فاتسع
المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم و خلق السماوات و الأرض، و أنعم عليهم بما
في الأرض جميعا، و تخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان، فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن
توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي تقوم نوح و من بعدهم، و منه على النوع بتفضيل أصلهم على
مخلوقات هذا العالم و بمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى، و كيف نشأت عداوة الشيطان له و لنسله
لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها و لمحاسبتها على دعواتها، فهذه المنة التي شملت كل الأصناف
الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع و هم أهل الكتاب الذين
هم أشد الناس مقاومة لهدي القرآن، و أنفذ الفرق قولا في عامة العرب، لأن أهل الكتاب يومئذ هم أهل
174

وهي: (و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)

العلم، و مظنة اقتداء العامة لهم من قوله: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و أوفوا
بعهدي) [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله و أيامه لهم، و وصف ما لاقوا به نعمه
الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر، و ذلك جامع لخلاصة تكوين أمة
إسرائيل و جامعتهم في عهد موسى ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا
دعوة الإسلام بالحسد و العداوة حتى على الملك جبريل و بيان أخطائهم، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا
في تأهلهم للاقتداء بهم. و ذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم في تعلق الحياة (و لتجدنهم أحرص الناس
على حياة) [البقرة: 96] و محاولة العمل بالسحر (و اتبعوا ما تتلوا الشياطين) [البقرة: 102] إلخ،
و أذى النبي بموجة الكلام (لا تقولوا راعنا) [البقرة: 104].
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركين في قرن حسدهم المسلمين و السخط على الشريعة الجديدة (ما يود
الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين - إلى قوله - و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون) [البقرة:
105 - 112] ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود و النصارى، و ادعاء كل فريق أنه هو المحق (و قالت
اليهود ليست النصارى على شئ - إلى - يختلفون) [البقرة: 112] ثم خص المشركين بأنهم أظلم
هؤلاء الأصناف الثلاثة، لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام، و سمحوا بذلك في
خرابه، و أنهم تشابهوا في ذلك هم و اليهود و النصارى و اتحدوا في كراهية الإسلام.
و الاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، و أن الإسلام على أساس ملة إبراهيم و هو التوحيد، و أن
اليهودية و النصرانية ليستا ملة إبراهيم، و أن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة، ادخره الله للمسلمين آية
على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، و ذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم
على تحويل القبلة، و إن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات: (ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب) [البقرة: 177] و ذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم، و أنه لا بدع في
نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما. ثم عاد إلى محاجة المشركين بآثار صنعة الله (إن في
خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك) [البقرة: 164] إلخ و محاجة المشركين في يوم
يتبرءون فيه من قادتهم، و إبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل (يا أيها الذين آمنوا كلوا من
طيبات ما رزقناكم) [البقرة: 172] و قد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل، و هم المشركون الذين
لم يظهروا الإسلام و لكنهم أظهروا مودة المسلمين (و من الناس من يعجبكم قوله في الحياة الدنيا)
[البقرة: 204].
و لما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان و أوضح برهان انتقل إلى قسم تشريعات الإسلامية إجمالا بقوله:
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب) [البقرة: 177] ثم تفضيلا: القصاص، الوصية،
الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، و نظام المعاشرة و العائلة والمعاملات المالية، و الإنفاق في سبيل
الله و الصدقات، و المسكرات، واليتامى، و المواريث، و البيوع، و الربا، و الديوان، و الإشهاد، والرهن،
و النكاح، و أحكام النساء و العدة والطلاق، و الرضاع، و النفقات، و الأيمان.
و ختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية، و ذلك من جوامع الكلم، فكان هذا
الختام تذليلا و فذلكة: (لله ما في السماوات و ما في الأرض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه).
البقرة: 284] الآيات.
و كانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سيقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات، تجديدا
175

[البقرة: 281]، ويقال لسورة البقرة: " فسطاط القرآن "، وذلك لعظمها وبهائها، وما تضمنت
من الأحكام والمواعظ، وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا، وروي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين (1) من ألواح
موسى (2)، وأعطيت فاتحة الكتاب وخواتم سورة البقرة من تحت العرش " (3).
* ت *: وها أنا إن شاء الله أذكر أصل الحدث بكماله لما اشتمل عليه من الفوائد
العظيمة.
خرج الحاكم أبو عبد الله (4) في " المستدرك على الصحيحين "

لنشاط القارئ و السامع كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، و تخرج بوادر الزهر عقب
الرعود القوارع - من تمجيد الله و صفاته (الله لا إله إلا هو) [البقرة: 255] و رحمته، و سماحة
الإسلام، و ضرب أمثال (أو كصيب) [البقرة: 19] و استحضار نظائر (و إن من الحجارة)
[البقرة: 74] (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) [البقرة: 243]، و علم، و حكمة، و معاني
الإيمان و الإسلام، و تثبيت المسلمين (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر) [البقرة: 153] و الكمالات
الأصلية، والمزايا التحسينية، و أخذ الأعمال و المعاني من حقائقها و فوائدها لا من هيئاتها، و عدم
الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات (و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) [البقرة: 189]
(ليس البر أن تولوا وجوهكم) [البقرة: 177] (و إخراج أهله منه أكبر عند الله) [البقرة: 217]
و النظر و الاستدلال، ونظام المحاجة، و أخبار الأمم الماضية و الرسل و تفاضلهم، و اختلاف الشرائع.
ينظر: " التحرير " (1 / 203 - 206).
(1) و هي السور المبدوءة ب‍ " طس " أو " طسم ".
(2) " موسى " اسم عبراني معرب عن " موشى "، " مو " بالعبرانية: الماء، و " شئ " الشجر، سمي به لأنه أخذ
من بين الماء و الشجر. و هو اسم نبي بني إسرائيل عليه الصلاة و السلام، و هو علم أعجمي لا يقضى عليه
بالاشتقاق، و إنما يشتق " موسى الحديد ". ينظر: " التبيان " (1 / 63).
و هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل.
" الكامل " لابن الأثير (1 / 169).
(3) أخرجه الحاكم (1 / 561)، (2 / 259)، و عنه البيهقي في " شعب الإيمان " (2 / 485)، رقم (2478)،
كلاهما من طريق عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن معقل بن يسار به مرفوعا.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد، و لم يخرجاه.
و تعقبه الذهبي فقال: عبيد الله، قال أحمد: تركوا حديثه.
(4) محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم، الضبي، الطهماني، الحافظ أبو
عبد الله، الحاكم النيسابوري المعروف بابن البيع، صاحب " المستدرك "، و غيره من الكتب المشهورة،
كان مولده سنة (321)، و رحل في طلب الحديث، و سمع الكثير على شيوخ يزيدون على ألفين، و تفقه
على أبي علي بن أبي هريرة و أبي الوليد النيسابوري و أبي سهل الصعلوكي و غيرهم، أخذ عنه أبو بكر
البيهقي و صنف المصنفات الكثيرة. مات سنة (405). انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 193)،
" لسان الميزان " (5 / 232).
176

عن معقل بن يسار (1) رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اعملوا بالقرآن أحلوا
حلاله، وحرموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشئ منه، وما تشابه عليكم منه فردوه إلى
الله وإلى أولي العلم من بعدي كي ما يخبرونكم، وآمنوا بالتوراة والإنجيل والزبور وما
أوتي النبيون من ربهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنه شافع مشفع وما حل
مصدق، وإني أعطيت سورة البقرة من الذكر الأول وأعطيت طه والطواسين والحواميم (3)
من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش " (4)، ما حل، بالمهملة، أي:
ساع، وقيل: خصم. انتهى من " السلاح ".
وفي الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " تجيء " البقرة وآل عمران يوم
القيامة، كأنهما غيايتان (5)، بينهما شرق، أو غمامتان سوداوان، أو كأنهما ظلة من طير
صواف تجادلان عن صاحبهما " (6).
* ت *: أصل الحديث في صحيح مسلم عن أبي أمامة الباهلي (7) رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه،

(1) معقل بن يسار المزني، أبو علي، بايع تحت الشجرة. له أربعة و ثلاثون حديثا، اتفقا على حديث،
و انفرد البخاري بآخر، و مسلم بحديثين و عنه عمران بن حصين. مات في خلافة معاوية.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 45)، و " تهذيب التهذيب " (10 / 235)، و " الثقات " (3 / 392).
(2) أي: خصم مجادل مصدق. و قيل: ساع مصدق، من قولهم: محل بفلان، إذا سعي به إلى السلطان،
يعني أن من اتبعه و عمل بما فيه، فإنه شافع له مقبول الشفاعة، و مصدق عليه فيما يرفع من مساويه إذا
ترك العمل به.
ينظر: " النهاية " (4 / 303).
(3) يعني السور المبدوءة ب‍ " حم ".
(4) أخرجه الحاكم في " المستدرك " (3 / 578) كتاب " معرفة الصحابة " باب معقل بن يسار و سكت عنه هو
و الذهبي.
(5) الغياية: السحابة المنفردة، أو هي كل شئ أظل الإنسان فوق رأسه. ينظر: " النهاية " (3 / 403)،
و " لسان العرب " (2332).
(6) سيأتي تخريجه.
(7) هو: صدي بن عجلان بن الحارث و قيل: عجلان بن وهب... أبو أمامة. الباهلي. السهمي. سكن
" مصر " ثم انتقل منها فسكن " حمص " من الشام، و مات بها، و كان من المشركين في الرواية، و أكثر حديثه
عند الشاميين. و قال ابن الأثير في موضع آخر. روى عنه سليم بن عامر الجنائزي، و القاسم أبو
عبد الرحمن، و أبو غالب حزور، و شرحبيل بن مسلم، و محمد بن زياد، و غيرهم. توفي سنة (81).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 16)، (6 / 16)، " الإصابة " (7 / 9)، " الاستيعاب " (4 / 1602)
(تجريد أسماء الصحابة " (2 / 148)، " بقي بن مخلد " (17)، " الطبقات الكبرى " (1 / 415).
177

اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو
كأنهما فرقان (1) من طير صواف يحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها
بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة "، قال معاوية (2): بلغني أن البطلة: السحرة (3)،
فقوله صلى الله عليه وسلم: " غمامتان " يعني: سحابتين بيضاوين، والغيايتان، بالغين المعجمة.
أبو عبيد: الغياية كل شئ أظل الإنسان فوق رأسه، وهو مثل السحابة، وفرقان،
بكسر الفاء، أي: جماعتان. انتهى من " السلاح ".
وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لكل شئ سنام، وسنام القرآن سورة البقرة فيها
آية هي سيدة آي القرآن، هي آية الكرسي " (4)، وفي " البخاري " أنه صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ

(1) الفرقان: القطعتان، ينظر: " النهاية " (3 / 440).
(2) هو: معاوية بن صخر (أبي سفيان) بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الرحمن.
القرشي. الأموي. أمه: هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف، قيل: ولد قبل البعثة
بخمس سنين، و قيل: بسبع، و قيل: بثلاث عشرة، و القول و الأول أشهر على الصحيح من الأقوال. و هو
خال المؤمنين، و كتاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو الذي طالب بدم عثمان، فكان من الحروب بينه و بين علي ما
كان، و إسلامه و حروبه و إمارته شهيرة جدا، و لا يتسع المقام للحديث عنه. توفي في رجب سنة
(60) ه‍.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (5 / 209)، " الإصابة " (6 / 112)، " الاستيعاب " (3 / 1416)،
" الاستبصار " (40، 67)، " الكاشف " (3 / 157)، " الأعلام " (7 / 261)، " شذرات الذهب " (1 / 418)،
" العبر " (1 / 549)، " العقد الثمين " (7؟ 227)، " تهذيب التهذيب " (10 / 207)، " تهذيب الكمال " (3 /
1344)، " التاريخ الكبير " (7 / 326).
(3) أخرجه مسلم (1 / 553)، كتاب " صلاة المسافرين "، باب فضل قراءة القرآن و سورة البقرة، حديث
(252)، و أحمد (5 / 249)، و الطبراني في " الكبير " (8 / 139)، رقم (7544)، و البيهقي في " السنن
الكبرى " (2 / 395)، كتاب " الصلاة "، باب المعاهدة على قراءة القرآن، و في " شعب الإيمان " (2 /
451)، رقم (2372)، و البغوي في " شرح السنة " (3 / 19 - بتحقيقنا)، كلهم من طريق معاوية بن
سلام، عن أخيه زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام، أنه سمع أبا أمامة، فذكره.
و للحديث شاهد من حديث النواس بن سمعان الكلابي: أخرجه مسلم (1 / 553) كتاب " صلاة
المسافرين " باب فضل قراءة القرآن، و سورة البقرة، حديث (253)، و الترمذي (5 / 160)، كتاب
" فضائل القرآن "، باب ما جاء في سورة آل عمران، حديث (2883). و البيهقي في " شعب الإيمان
(2373)، عن النواس بن سمعان بنحو حديث أبي أمامة.
(4) أخرجه الترمذي (5 / 157)، كتاب " فضائل القرآن "، باب ما جاء في فضل سورة البقرة و آية الكرسي،
حديث (2878)، و عبد الرزاق (3 / 376 - 377)، رقم (6019)، و الحميدي (2 / 437)، رقم
(994)، والحاكم (1 / 560 - 561)، و البيهقي في " شعب الإيمان " (2 / 452)، رقم (2375)، و ابن
عدي في " الكامل " (2 / 637). كلهم من طريق حكيم بن جبير، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
178

بالآيتين من آخر سورة البقرة / في ليلة، كفتاه " (1)، وروى أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال:

و قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير، و قد تكلم شعبة في
حكيم بن جبير و ضعفه اه‍.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد، و لم يخرجاه، و الشيخان لم يخرجا عن حكيم لوهن في رواياته، و إنما
تركاه لغلوه في التشيع. ووافقه الذهبي.
قلت: و الشيخان لم يتركا حكيم لتشيعه فقط، إنما لضعفه أيضا.
فقال الحافظ في " التقريب " (1468): ضعيف، رمي بالتشيع. ولأول الحديث شاهد من حديث
سهل بن سعد: أخرجه أبو يعلى (13 / 547)، رقم (7554)، و ابن حبان (1727 - موارد)، والعقيلي
في " الضعفاء " (2 / 6)، و أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (1 / 101)، و الطبراني في " الكبير " (6 / 163)،
رقم (5864) كلهم من طريق خالد بن سعيد المدني، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد به.
و خالد بن سعيد، قال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
و قال: و في فضل سورة البقرة رواية أحسن من هذا الإسناد و أصلح.
و النسائي في " الكبرى " (5 / 14)، كتاب " فضائل القرآن "، باب الآيتان من سورة البقرة، حديث
(8020)، و الحميدي (1 / 215)، رقم (452)، و عبد الرزاق (3 / 377)، رقم (6021)، وابن خزيمة
(2 / 180)، رقم (1141)، كلهم من طريق سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن
يزيد، عن علقمة، عن أبي مسعود بن مرفوعا. و عند بعضهم: قال عبد الرحمن: ثم لقيت أبا مسعود في
الطواف فسألته عنه، فحدثني، أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم...، و ذكر الحديث و للحديث طرق أخرى
و اختلاف فيها تكلم عليها الحافظ علي بن عمر الدارقطني في كتابه القيم " العلل الواردة في الأحاديث
النبوية " (6 / 171 - 174).
(1) أخرجه البخاري (8 / 672)، كتاب " فضائل القرآن ": باب فضل سورة البقرة، حديث (5009)، و مسلم
(1 / 555)، كتاب " صلاة المسافرين ": باب فضل الفاتحة و خواتيم سورة البقرة (255 / 807)، و أبو
داود (1 / 444)، كتاب " الصلاة "، باب تحزيب القرآن، حديث (1397)، و الترمذي (5 / 159)، كتاب
" فضائل القرآن "، باب ما جاء في آخر سورة البقرة، حديث (2881)، و النسائي في " الكبرى "، (5 / 9)
كتاب " فضائل القرآن "، باب سورة كذا و سورة كذا، حديث (8003)، و (5 / 14)، باب الآيتان من آخر
سورة البقرة، حديث (8018)، و أحمد (4 / 121، 122)، و عبد بن حميد في " المنتخب من المسند "
(ص 105 - 106)، رقم (233)، و عبد الرزاق (3 / 377)، رقم (6020)، و الدارمي (1 / 288)،
و سعيد بن منصور (475)، و ابن الضريس في " فضائل القرآن " (ص - 83)، رقم (161)، و الطبراني في
" الكبير " (17 / 204 - 205) رقم (550، 552)، و البيهقي في " السنن الكبرى "، (3 / 20)، كتاب
" الصلاة "، باب كم يكفي الرجل قراءة القرآن في ليله، و في " شعب الأيمان " (2 / 462)، رقم (2405،
2406)، كلهم من طريق منصور، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: كنت أحدث عن أبي
مسعود حديثا فلقيته و هو يطوف بالبيت، فسألته، فحدث عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: " من قرأ الآيتين
الأخيرتين من سورة البقرة في ليلة كفتاه ".
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: و الذي حدث عبد الرحمن بن يزيد بهذا الحديث هو علقمة بلا شك، فأخرجه البخاري (8 / 712)، كتاب " فضائل القرآن "، باب في كم يقرأ القرآن، حديث (5051).
179

" البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان " (1).
* ت *: وعن ابن عباس قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من
فوقه، فقال له: هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، وقال: أبشر بنورين
أوتيتهما: لم يؤتهما نبي قبلك، فاتحة الكتاب، وخواتم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منها
إلا أعطيته " رواه مسلم، والنسائي (2)، والنقيض، بالنون والقاف: هو الصوت انتهى من
" السلاح ".
وعدد آي سورة البقرة مائتان، وخمس وثمانون آية، وقيل: وست وثمانون آية،
وقيل: وسبع وثمانون.
(آلم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب و يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3))
قوله تعالى: (آلم): اختلف في الحروف التي في أوائل السور على قولين (3)، فقال

(1) الحديث بهذا اللفظ عن عبد الله بن المغفل ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6 / 315)، و قال: رواه
الطبراني، و فيه عدي بن الفضل، و هو ضعيف.
أما الحديث الذي ورد عن أبي هريرة في هذا المعنى، فأخرجه مسلم (1 / 539) من طريق سهيل بن أبي
صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة مرفوعا: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن الشيطان يفر من البيت الذي يقرأ
فيه سورة البقرة ".
(2) أخرجه مسلم (1 / 554)، كتاب: " الإيمان "، باب: في ذكره سدرة المنتهى، حديث (254 / 806)،
و النسائي في " الكبرى " (5 / 15)، كتاب " فضائل القرآن "، باب " الآيتان من آخر سورة البقرة "، حديث
(8021)، و البغوي في " شرح السنة " (2 / 23 - بتحقيقنا)، من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
(3) إنما مما علم باستقراء كتاب الله تعالى أن تسعا و عشرين سورة من القرآن الكريم قد افتتحت بحروف
مقطعة، من جنس كلام العرب.
و بداية، فإن هذه الحروف لم ينقل عن العرب دلالات لها، و لو كانت لها دلالات النقل عليها،
و لنقل ذلك علماء الصحابة و أئمتهم، و هذا الأمر - أعني افتتاح السور بها - لهو في حد ذاته نوع من
التحدي للقيام بالكشف عن أسرارها و التفكر فيها.
و لما لم يذكر عن الغرب لها دلالات فقد كان للعلماء بشأنها موقفان: أولهما: ذهب الشعبي و سفيان
الثوري، و جماعة من أهل الحديث إلى أنها سر الله في القرآن، وهي من المتشابه. و ثانيهما: و هو ما
ذهب إليه الجمهور من أهل العلم: أنه يجب أن يتكلم فيها، و تلتمس الفوائد التي تحتها و المعاني التي
تتخرج عليها.
و قد كان لابن عباس ترجمان القرآن النصيب الأوفر من الأقوال في هذه الأحرف.
و جاء المفسرون من بعده، فاتسعوا في تحديد معاني هذه الفواتح، فقد ذكروا منها: أنها:
180

الشعبي، وسفيان الثوري، وجماعة من المحدثين: هي سر الله في القرآن، وهي من
المتشابه الذي انفرد الله بعلمه، ولا يجب أن يتكلم فيها، ولكن يؤمن بها، وتمر كما
جاءت (1)، وقال الجمهور من العلماء، بل يجب أن يتكلم فيها، وتلتمس الفوائد التي
تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، واختلفوا في ذلك على اثني عشر قولا.
فقال علي، وابن عباس رضي الله عنهما: الحروف المقطعة في القرآن: هي اسم الله
الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها.
وقال ابن عباس أيضا: هي أسماء الله أقسم بها (3)، وقال أيضا: هي حروف تدل
على: أنا الله أعلم، أنا الله أرى (4)، وقال قوم:

1 - اسم الله الأعظم.
2 - قسم أقسم الله به وهو من أسمائه.
3 - أسماء للسور التي وردت فيها.
4 - اسم من أسماء القرآن.
5 - فواتح يفتح الله بها القرآن.
6 - لكل كتاب سر، و سر القرآن فواتحه.
7 - حروف مقطعة من أسماء و أفعال، كل حرف من ذلك لمعنى غير معنى الحرف الآخر.
8 - حروف هجاء موضوع.
9 - حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة.
10 - ابتدئت بذلك السور، ليفتح لاستماعه أسماع المشركين.
11 - علامات لأهل الكتاب أنه سينزل على محمد كتاب يفتتح بالحروف المقطعة.
12 - حروف من حساب الجمل.
ينظر: " البرهان " (1 / 169)، و " جامع البيان " (1 / 205)، و " المحرر الوجيز " (1 / 81)، و " مفاتيح
الغيب " (2 / 3)، و " البحر المحيط " (1 / 154).
(1) ذكره السمرقندي في تفسيره (1 / 87)، و البغوي (1 / 44)، و ابن عطية الأندلسي (1 / 82)، و القرطبي
(1 / 133 - 134).
(2) أخرجه ابن جرير (1 / 119)، (233) مختصرا. و ذكره السمرقندي في " تفسيره " (1 / 87)، عن علي
بلفظ " وهو اسم من أسماء الله تعالى ".، و ابن عطية في " تفسيره " (1 / 82)، و ابن كثير (1 / 36)،
القرطبي (1 / 134)، و السيوطي في " الدر " (1 / 54)، بلفظ " اسم الله أعظم "، و عزاه لابن جريج و ابن
أبي حاتم.
(3) أخرجه ابن جرير (1 / 119) (236)، و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 82)، و البغوي (1 /
44)، بلفظ " أنها أقسام " عن ابن عباس، و الماوردي في " تفسيره " (1 / 64) و ابن كثير (1 / 36)،
و السيوطي في " الدر " (1 / 54)، و عزاه لابن مردويه.
(4) أخرجه ابن جرير (1 / 119) برقم (239) بلفظ: " أنا الله أعلم ". و في (6 / 525) برقم (17534)،
181

هي حساب أبي جاد (1)، لتدل على مدة ملة محمد صلى الله عليه وسلم، كما ورد في حديث حيي بن
أخطب (2)، وهو قول أبي العالية وغيره (3).
* ت *: وإليه مال السهيلي (4) في " الروض الأنف "، فانظره.
قوله تعالى: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين): الاسم من " ذلك ": الذال،
والألف، واللام، لبعد المشار إليه، والكاف للخطاب.
واختلف في " ذلك " هنا، فقيل: هو بمعنى " هذا "، وتكون الإشارة إلى هذه الحروف
من القرآن، وذلك أنه قد يشار بذلك إلى حاضر تعلق به بعض غيبة، وقيل: هو على بابه،
إشارة إلى غائب.
واختلفوا في ذلك الغائب، فقيل: ما قد كان نزل من القرآن، وقيل غير ذلك، أنظره.

بلفظ: " أنا الله أرى ". و السيوطي في " الدر " (1 / 54)، بلفظ: " أنا الله أعلم ". و عزاه لوكيع، و عبد بن
حميد، و ابن جرير، وابن المنذر، و ابن أبي حاتم، والنحاس. و في (3 / 534)، و عزاه لابن جرير، و ابن
المنذر، و ابن أبي حاتم، و أبي الشيخ، و البيهقي في " الأسماء و الصفات "، و ابن النجار في " تاريخه "،
و ذكره القرطبي (1 / 135)، و ابن كثير (1 / 36)، و ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 82).
(1) و أبو جاد: الكلمة الأولى من الكلمات الثماني التي تجمع حروف الهجاء العربية. و يقال: إن عمر بن
الخطاب - رضي الله عنه - لقي أعرابيا فسأله: هل تحسن القراءة؟ فقال: نعم، قال: فاقرأ أم القرآن،
فقال الأعرابي: و الله ما أحسن البنات فكيف الأم؟!، فضربه عمر، و أسلمه إلى الكتاب، فمكث حينا ثم
هرب، و لما رجع إلى أهله أنشدهم [الوافر]:
أتيت مهاجرين فعلموني * ثلاثة أسطر متتابعات
و خطوا لي أبا جاد و قالوا * تعلم سعفصا و قريشيات
و ما أنا و الكتابة و التهجي * و ما حظ البنين مع البنات
ينظر: " المعجم الكبير " (1 / 22، 23).
(2) حيي بن أخطب النضري: جاهلي، من الأشداء العتاة. كان ينعت ب‍ " سيد الحاضر و البادي ". أدرك
الإسلام، و آذى المسلمين فأسروه يوم " قريظة ". ثم قتلوه. ينظر: " سيرة ابن هشام " (2 / 148 - 149)،
" تهذيب الأسماء " (1 / 171)، و " الأعلام " (2 / 292).
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 82) و السيوطي في " الدر " (1 / 56)، و عزاه لابن جرير، و ابن أبي حاتم.
(4) عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد الخثعمي السهيلي: حافظ، عالم باللغة و السير، ضرير. ولد في
" مالقة "، و عمي و عمره (17 سنة). و نبغ فاتصل خبره بصاحب " مراكش " فطلبه إليها و أكرمه، فأقام
يصنف كتبه، من كتبه " الروض الأنف " في شرح " السيرة النبوية " لابن هشام، وغيرها من الكتب في
التفسير. ولد سنة (508 ه‍)، و توفي سنة (581 ه‍).
انظر: " وفيات الأعيان " (1 / 28)، " نكت الهميان " (187)، " زاد المسافر " (96) " الأعلام " (3 / 313).
182

و (لا ريب فيه): معناه: لا شك فيه، و (هدى): معناه إرشاد وبيان، وقوله:
(للمتقين): اللفظ مأخوذ من " وقى "، والمعنى: الذين يتقون الله تعالى بامتثال أوامره،
واجتناب معاصيه، كان ذلك وقاية بينهم وبين عذابه.
قوله تعالى: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
(يؤمنون): معناه يصدقون، وقوله: (بالغيب) قالت طائفة: معناه: يصدقون، إذا غابوا
وخلوا، لا كالمنافقين الذين يؤمنون إذا حضروا، ويكفرون إذا غابوا، وقال آخرون: معناه:
يصدقون بما غاب عنهم مما أخبرت به الشرائع، وقوله: (يقيمون الصلاة) معناه:
يظهرونها ويثبتونها، كما يقال: أقيمت السوق.
* ت *: وقال أبو عبد الله النحوي في اختصاره لتفسير الطبري: إقامة الصلاة إتمام
الركوع، والسجود، والتلاوة، والخشوع، والإقبال عليها. انتهى.
قال * ص (1) * يقيمون الصلاة من التقويم، ومنه: أقمت العود، أو الإدامة،
ومنه: قامت السوق، أو التشمير والنهوض، ومنه: قام بالأمر. انتهى.
وقوله تعالى /: (ومما رزقناهم ينفقون): الرزق (2) عند أهل السنة ما صح الانتفاع

(1) " المجيد " ص 84.
(2) اختلف العلماء في تعريف الرزق في عرف الشرع، فقال أبو الحسين البصري من المعتزلة: الرزق هو
تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء و الحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به، فإذا قلنا: قد رزقنا الله
تعالى الأموال. فمعنى ذلك أنه مكننا من الانتفاع بها، و إذا سألناه تعالى أن يرزقنا مالا فإنا نقصد بذلك أن
يجعلنا بالمال أخص.
و اعلم أن المعتزلة لما فسروا الرزق بذلك لا جرم قالوا: الحرام لا يكون رزقا.
و قال الأشاعرة: الحرام قد يكون رزقا، و حجتهم من وجهين:
الأول: أن الرزق في أصل اللغة هو الحظ و النصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار
حظا ونصيبا، فوجب أن يكون رزقا له.
الثاني: أنه تعالى قال: (و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) [هود: 6] و قد يعيش الرجل طول
عمره لا يأكل إلا من السرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزقه شيئا.
و قد احتج المعتزلة بالكتاب، و السنة، و المعنى:
أما الكتاب فعدة وجوه:
أحدها: قوله تعالى: (ومما رزقناهم ينفقون) [البقرة: 3] مدحهم الله تعالى على الإنفاق مما رزقهم،
فلو كان الحرام رزقا لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وهذا باطل بالاتفاق.
ثانيها: قالوا: لو كان الحرام رزقا لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله سبحانه: (و أنفقوا من ما رزقناكم)
[المنافقون: 10]، و قد أجمع المسلمون على أنه لا يجوز للغاصب أن ينفق مما أخذه، بل يجب عليه
183

به، حلالا كان أو حراما، و (ينفقون): معناه هنا: يؤتون ما ألزمهم الشرع من زكاة، وما
ندبهم إليه من غير ذلك.
(و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك و بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم و أولئك هم المفلحون (5) إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة و لهم عذاب عظيم (7))
قوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم
يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون): اختلف المتأولون من المراد
بهذه الآية والتي قبلها، فقال قوم: الآتيان جميعا في جميع المؤمنين، وقال آخرون: هما
في مؤمني أهل الكتاب، وقال آخرون: الآية الأولى في مؤمني العرب، والثانية في مؤمني
أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام (1)، وفيه نزلت.

رده، فدل ذلك على أن الحرام لا يكون رزقا.
ثالثها: استدلوا بقوله تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما و حلالا قل الله أذن
لكم) [يونس: 59]. فبين سبحانه أن من حرم رزق الله فهو مفتر على الله، فثبت أن الحرام لا يكون
رزقا.
و أما السنة، فما رواه أبو الحسين البصري بإسناده عن صفوان بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إذ
جاءه عمرو بن قرة، فقال له: يا رسول الله! إن الله كتب علي الشقوة، فلا أراني أرزق إلا من دفي
بكفي، فائذن لي في الغناء من غير فاحشة، فقال عليه السلام " لا إذن لك و لا كرامة و لا نعمة، كذبت،
أي عدو الله: لقد رزقك الله رزقا طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من
حلاله، أما إنك لو قلت بعد هذه المقدمة شيئا ضربتك ضربا وجيعا " و أما المعنى، فإن الله تعالى منع
المكلف من الانتفاع بالحرام، و أمر غير بمنعه من الانتفاع به، و من منع من أخذ الشئ و الانتفاع به لا
يقال: إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالا قد منعهم من أخذه، و إنما
يقال: إنه رزقهم ما مكنهم من أخذه و لا يمنعهم منه و لا أمر بمنعهم منه، أجاب أصحابنا عن التمسك
بالآيات بأنه و إن كان الكل من الله، لكنه كما يقال: يا خالق المحدثات و العرش و الكرسي، و لا يقال: يا
خالق الكلاب و الخنازير، و قال: (عينا يشرب بها عباد الله) [الإنسان: 6] فخص اسم العباد بالمتقين،
و إن كان الكفار أيضا من العباد، و كذلك هاهنا خص اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف و إن كان
الحرام رزقا أيضا، و أجابوا عن التمسك بالخبر بأنه حجة لنا، لأن قوله عليه السلام: " فاخترت ما حرم
الله عليك من رزقه " صريح في أن الرزق قد يكون حراما. و أجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة محض
اللغة، و هو أن الحرام هل يسمى رزقا أم لا؟ و لا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ. و الله أعلم. ينظر:
" الفخر الرازي " (2 / 28، 29).
(1) هو: عبد الله بن سلام بن الحارث.. من ذرية يوسف (عليه السلام). أبو يوسف، حليف النوافل من
الخزرج " الإسرائيلي "، الأنصاري.
184

وقوله: (بما انزل إليك): يعني القرآن، (و ما أنزل من قبلك)، يعني: الكتب
السالفة، و (يوقنون) معناه: يعلمون علما متمكنا في نفوسهم، واليقين أعلى درجات
العلم.
وقوله تعالى: (أولئك على هدى من ربهم) إشارة إلى المذكورين، والهدى هنا:
الإرشاد، والفلاح: الظفر بالبغية وإدراك الأمل
قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم...) إلى (عظيم): اختلف
فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها، فقال
قوم: هي فيمن سبق في علم الله، أنه لا يؤمن، وقال ابن عباس: نزلت في حيي بن
اخطب، وأبي ياسر بن اخطب، وكعب بن الأشرف (1)، ونظرائهم (2).
والقول الأول هو المعتمد عليه.
وقوله: (سواء عليهم) معناه: معتدل عندهم، والإنذار: إعلام بتخويف، هذا حده،
وقوله تعالى: (ختم): مأخوذ من الختم، وهو الطبع، والخاتم: الطابع، قال في مختصر
الطبري: والصحيح أن هذا الطبع حقيقة (3)

قال ابن الأثير في " الأسد ": كان إسلامه لما قدم النبي المدينة مهاجرا. روى عنه ابناه يوسف، و محمد،
و أنس بن مالك، و زرارة بن أوفى، و كان قد ذكر قبل ذلك أنه كان اسمه في الجاهلية " الحصين "، فسماه
رسول الله حين أسلم عبد الله. توفي سنة (43) ه‍.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 264)، " الإصابة " (4 / 80)، " الثقات " (3 / 228)، " نقعة الصديان "
(245)، " عنوان النجابة " (124)، " شذرات الذهب " (1 / 40)، " تقريب التهذيب " (1 / 422)، " تهذيب
التهذيب " (5 / 249).
(1) كعب بن الأشرف الطائي، من بني نبهان، شاعر جاهلي. كانت أمه من " بني النضير " فدان باليهودية.
و كان سيدا في أخواله. أدرك الإسلام و لم يسلم، و أكثر من هجوم النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أصحابه، و تحريض القبائل
عليهم و إيذائهم، و التشبيب بنسائهم، و خرج إلى مكة بعد وقعة " بدر " فندب قتلى قريش فيها، و حض
على الأخذ بثأرهم، و عاد إلى المدينة. و أمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم بقتله، فانطلق إليه خمسة من الأنصار فقتلوه في
ظاهر حصنه سنة (3 ه‍). و حملوا رأسه في مخلاة إلى المدينة.
ينظر: " الروض الأنف " (2 / 123)، " إمتاع الأسماع " (1 / 107)، " ابن الأثير " (2 / 53)، " الطبري " (3 /
2)، " الأعلام " (5 / 225).
(2) الطبري (1 / 141) برقم (295) و ذكره السمرقندي (1 / 91 - 92)، و ابن عطية الأندلسي (1 / 87)،
و الماوردي (1 / 72)، و القرطبي (1 / 160)، و السيوطي في " الدر " (1 / 65)، و عزاه لابن إسحاق، وابن
جرير، و ابن أبي حاتم. و ذكره ابن كثير (1 / 45).
(3) قال ابن فارس في " فقه اللغة ": الحقيقة من قولنا: حق الشئ إذا وجب. و اشتقاقه من الشئ المحقق،
185

لا أنه مجاز (1)، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن العبد إذا أذنب ذنبا، نكتت نكتة سوداء في
قلبه، فإن تاب، ونزع واستغفر، صقل (2) قلبه، وإن زاد، زادت، حتى تغلق قلبه، فذلك

و هو المحكم، يقال: ثوب محقق النسج: أي محكمه. فالحقيقة: الكلام الموضوع موضعه الذي ليس
باستعارة، و لا تمثيل، و لا تقديم فيه، و لا تأخير، كقول القائل: أحمد الله على نعمه و إحسانه. وهذا
أكثر الكلام، و أكثر أي القرآن و شعر العرب على هذا.
و ينظر: " البحر المحيط " للزركشي (2 / 152)، " سلاسل الذهب " له ص (182)، " التمهيد " للأسنوي
ص (185)، " نهاية السول " له (2 / 145)، " منهاج العقول " للبدخشي (1 / 327)، " غاية الوصول "
للشيخ زكريا الأنصاري " (ص 46).
(1) المجاز مأخوذ من جاز يجوز إذا استن ماضيا، تقول: جاز بنا فلان، و جاز علينا فارس، هذا هو الأصل.
ثم تقول: يجوز أن تفعل كذا: أي ينفذ و لا يرد و لا يمنع. و تقول: عندنا دراهم وضح وازنة، و أخرى
تجوز جواز الوازنة: أي: إن هذه و إن لم تكن وازنة فهي تجوز مجازها و جوازها لقربها منها.
فهذا تأويل قولنا: " مجاز " يعني: أن الكلام الحقيقي يمضي لسننه لا يعترض عليه، و قد يكون غيره يجوز
جوازه لقربه منه، إلا أن فيه من تشبيه و استعارة و كف ما ليس في الأول، و ذلك كقولنا: عطاء فلان مزن
واكف، فهذا تشبيه، و قد جاز مجاز قوله: عطاؤه كثير واف. و من هذا قوله تعالى: (سنسمه على
الخرطوم) [القلم: 16]. فهذا استعارة.
و قال ابن جني في " الخصائص ": الحقيقية ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة، و المجاز: ما
كان بضد ذلك، و إنما يقع المجاز و يعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة: وهي الاتساع، و التوكيد،
و التشبيه، فإن عدمت الثلاثة تعديت الحقيقة، فمن ذلك قوله صلى الله عليه و آله و سلم في الفرس: " هو بحر "، فالمعاني الثلاثة
موجودة فيه.
ينظر: " البحر المحيط " للزركشي (2 / 158)، " سلاسل الذهب " له ص (190، " التمهيد " للأسنوي
ص (185)، " نهاية السول " له (2 / 145)، " منهاج العقول " للبدخشي (1 / 354)، " غاية الوصول "
للشيخ زكريا الأنصاري ص (47)، " التحصيل من المحصول " للأرموي، (1 / 221)، " المستصفى "
للغزالي (1 / 341)، " حاشية البناني " (1 / 304)، " الإبهاج " لابن السبكي (1 / 273)، " الآيات البينات "
لابن قاسم العبادي (2 / 152)، " تخريج الفروع على الأصول " للزنجاني ص (387)، " حاشية العطار
على جمع الجوامع " (1 / 399)، " المعتمد " لأبي الحسين (1 / 14، 2 / 405)، " الإحكام في أصول
الأحكام " (4 / 437)، " التحرير " لابن الهمام ص (160)، " تيسير التحرير لأمير بادشاه " (1 / 73، 2 /
3)، " كشف الأسرار " للنسفي (1 / 226)، " حاشية التفتازاني و الشريف على مختصر المنتهى " (1 /
138)، " شرح التلويح على التوضيح " لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1 / 72)، " حاشية نسمات
الأسحار " لابن عابدين ص (98)، " شرح مختصر المنار " للكوراني ص (59)، " الوجيز " للكراماستي
ص (8)، " ميزان الأصول " للسمرقندي (1 / 527)، " تقريب الوصول " لابن جزي ص (73)، " إرشاد
الفحول " للشوكاني ص (22)، " نشر البنود " للشنقيطي (1 / 124)، " لكوكب المنير " للفتوحي
ص (39 - 56)، " التقدير و التحبير " لابن أمير الحاج (2 / 2).
(2) الصقل: الجلاء. ينظر: " لسان العرب " (2473).
186

الران الذي قال الله تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) " (1) [المطففين: 14] "
انتهى.
والغشاوة: الغطاء المغشي الساتر، وقوله تعالى: (و لهم عذاب عظيم): معناه:
لمخالفتك يا محمد، وكفرهم بالله، و (عظيم): معناه بالإضافة إلى عذاب دونه.
(و من الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين (8) يخادعون الله و الذين
آمنوا و ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون (9) في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا و لهم عذاب
أليم بما كانوا يكذبون (10) و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون (11) ألا
إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون (12))
قوله تعالى: (و من الناس من يقول آمنا بالله...) إلى (وما يشعرون): هذه الآية
نزلت في المنافقين، وسمى الله تعالى يوم القيامة اليوم الآخر، لأنه لا ليل بعده، ولا يقال
يوم إلا لما تقدمه ليل، واختلف المتأولون في قوله: (يخادعون الله)، فقال الحسن بن
أبي الحسن: المعنى يخادعون رسول الله (2)، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا، لتعلق رسوله
به، ومخادعتهم هي تحيلهم في أن يفشي رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إليهم أسرارهم.
* ع (3) *: تقول: خادعت الرجل، بمعنى: أعملت التحيل عليه، فخدعته، بمعنى:
تمت عليه الحيلة، ونفذ فيه المراد، وقال جماعة: بل يخادعون الله والمؤمنين، بإظهارهم
من الإيمان خلاف ما أبطنوا من الكفر، وإنما خدعوا أنفسهم لحصولهم في العذاب،
(وما يشعرون) بذلك، معناه: وما يعلمون علم تفطن وتهد، وهي لفظة مأخوذة من

(1) أخرجه أحمد (2 / 297)، و الترمذي (5 / 434)، كتاب " تفسير القرآن "، باب و من سورة ويل للمطففين،
حديث (3334)، والنسائي في " التفسير " (2 / 505)، رقم (678)، و في " الكبرى " (6 / 110)، كتاب
" عمل اليوم و الليلة "، باب ما يفعل من بلي بذنب و ما يقول: حديث (10251)، و ابن ماجة (2 /
1418)، كتاب " الزهد " باب ذكر الذنوب، حديث (4244)، و الطبري في " تفسيره " (30 / 62)،
و الحاكم (2 / 517)، و ابن حبان (3 / 210)، رقم (930)، و (1771 - موارد)، كلهم من طريق
محمد بن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه. و وافقه الذهبي. و صححه ابن حبان.
و الحديث ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (6 / 539) و زاد نسبته إلى عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن
مردويه، و البيهقي في " شعب الإيمان "
(2) ذكره ابن عطية (1 / 90)، و القرطبي (1 / 170).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 90).
187

الشعار، كأن الشئ المتفطن له شعار للنفس، وقولهم: ليت شعري: معناه: ليت فطنتي
تدرك.
واختلف، ما الذي نفى / الله عنهم أن يشعروا له؟ فقالت طائفة: وما يشعرون أن
ضرر تلك المخادعة راجع عليهم، لخلودهم في النار، وقال آخرون: وما يشعرون أن الله
يكشف لك سرهم ومخادعتهم في قولهم: (آمنا).
قوله تعالى: (في قلوبهم مرض)، أي: في عقائدهم فساد (1)، وهم المنافقون،
وذلك إما أن يكون شكا، وإما جحدا بسبب حسدهم مع علمهم بصحة ما يجحدون، وقال
قوم: المرض غمهم بظهوره صلى الله عليه وسلم، (فزادهم الله مرضا)، قيل هو دعاء عليهم، وقيل:
هو خبر أن الله قد فعل بهم ذلك، وهذه الزيادة هي بما ينزل من الوحي، ويظهر من
البراهين.
* ت *: لما تكلم * ع *: على تفسير قوله تعالى: (عليهم دائرة السوء)
[الفتح: 6]. قال (2): كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل، فإنما هو بمعنى إيجاب
الشئ، لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته، وهي في قبضته، ومن هذا: (ويل لكل
همزة) [الهمزة: 1]، (ويل للمطففين) [المطففين: 1]، و هي كلها أحكام تامة تضمنها خبره
تعالى: (و لهم عذاب أليم)، أي: مؤلم، (و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) أي:
بالكفر وموالاة الكفرة، ولقول المنافقين: (إنما نحن مصلحون) ثلاث تأويلات:
أحدها: جحد أنهم يفسدون، وهذا استمرار منهم على النفاق.
والثاني: أن يقروا بموالاة الكفار ويدعون أنها صلاح، من حيث هم قرابة توصل.
والثالث: أنهم يصلحون بين الكفار والمؤمنين.

(1) و في تفسير " المرض " قال ابن عباس، و ابن مسعود، و الحسن، و قتادة، و جميع المفسرين: أي شك
و نفاق. و قال الزجاج: المرض في القلب: كل ما خرج به الإنسان من الصحة في الدين.
ينظر: " الوسيط " (1 / 87)، " صحيفة ابن أبي طلحة " (ص 78)، و " معاني الزجاج " (1 / 86)، و نسبه
إلى أبي عبيدة، و " غريب القرآن " (ص 41)، و " الدر المنثور " (1 / 30) عن ابن عباس، و قتادة، و ابن
زيد، و الربيع، و ينظر: " مجاز القرآن " (1 / 32)، و " الزاهر " (1 / 586).
(2) " المحرر الوجيز " (3 / 73).
188

و " ألا ": استفتاح كلام، و " لكن ": حرف استدراك، ويحتمل أن يراد هنا: لا
يشعرون أنهم مفسدون، ويحتمل أن يراد: لا يشعرون أن الله يفضحهم.
(و إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء
و لكن لا يعلمون (13) و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما
نحن مستهزئون (14) الله يستهزئ بهم و يمدهم في طغيانهم يعمهون (15) أولئك الذين اشتروا الضلالة
بالهدى فما ربحت تجارتهم و ما كانوا مهتدين (16))
قوله تعالى: (و إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس...) الآية: المعنى: صدقوا
بمحمد و شرعه كما صدق المهاجرون و المحققون من أهل يثرب، قالوا: أنكون كالذين
خفت عقولهم، والسفه: الخفة والرقة الداعية إلى الخفة، يقال: ثوب سفيه، إذا كان رقيقا
هلهل النسج، وهذا القول إنما كانوا يقولونه في خفاء، فأطلع الله عليه نبيه عليه السلام،
والمؤمنين، وقرر أن السفه ورقة الحلوم وفساد البصائر إنما هو في حيزهم وصفة لهم،
وأخبر أنهم لا يعلمون أنهم السفهاء للرين الذي على قلوبهم.
وقوله تعالى: (و إذا لقوا الذين آمنوا...) الآية: هذه كانت حال المنافقين: إظهار
الإيمان للمؤمنين، وإظهار الكفر في خلواتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم، ويدعهم
في غمرة الاشتباه، مخافة أن يتحدث الناس عنه أنه يقتل أصحابه حسبما وقع في قصة
عبد الله بن أبي ابن سلول (1)، قال مالك: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة
اليوم، واختلف المفسرون في المراد بشياطينهم، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم
رؤساء الكفر (2)، وقيل: الكهان، قال البخاري: قال مجاهد: (إلى شياطينهم)، أي:
أصحابهم من المنافقين والمشركين (3).
قال * ص (4) *: شياطينهم: جمع شيطان، وهو كل متمرد من الجن والإنس

(1) عبد الله بن أبي بن مالك بن الحارث بن عبيد الخزرجي، أبو الحباب، المشهور ب‍ " ابن سلول "،
و سلول جدته لأبيه، من " خزاعة "، رأس المنافقين في الإسلام، من أهل المدينة. كان سيد الخزرج في
آخر جاهليتهم. كان كلما نزلت بالمسلمين نازلة شمت بهم، و كلما سمع بسيئة نشرها. لما مات تقدم
النبي صلى الله عليه وآله و سلم، فصلى عليه و لم يكن ذلك من رأي " عمر " فنزلت: (و لا تصل على أحد منهم مات أبدا)
[التوبة: 84]. ينظر: " الأعلام " (4 / 65)، " طبقات ابن سعد " (3 / 90)، " جمهرة الأنساب " (335).
(2) أخرجه الطبري (1 / 163) برقم (349)، وذكره القرطبي (1 / 179).
(3) أخرجه الطبري (1 / 164) برقم (355)، و ذكره البغوي في " التفسير " (1 / 51)، و السيوطي في " الدر "
(1 / 70)، و عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، و ذكره ابن كثير (1 / 51).
(4) " المجيد في إعراب القرآن المجيد " (ص 118).
189

والدواب. قاله ابن عباس، وأنثاه شيطانة. انتهى.
* ت *: ويجب على المؤمن أن يجتنب هذه الأخلاق الذميمة، وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ".
رواه أبو داود (1)، وفيه عنه صلى الله عليه وسلم: " من كان له وجهان في الدنيا، كان له يوم القيامة لسانان
من نار ". انتهى. / من سنن أبي داود (2).
(الله يستهزئ بهم): اختلف المفسرون في هذا الاستهزاء، فقال جمهور العلماء:
هي تسمية العقوبة باسم الذنب، والعرب تستعمل ذلك كثيرا، وقال قوم: إن الله سبحانه
يفعل بهم أفعالا هي في تأمل البشر هزء، روي أن النار تجمد كما تجمد الإهالة (3)،
فيمشون عليها، ويظنون أنها منجاة، فتخسف بهم، وما روي أن أبواب النار تفتح لهم،
فيذهبون إلى الخروج، نحا هذا المنحى ابن عباس والحسن.
* ت *: وقوله تعالى: (قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا) [الحديد: 13] يقوى هذا
المنحى، وهكذا نص عليه في اختصار الطبري. انتهى.
وقيل: استهزاؤه بهم هو استدراجهم بدرور النعم الدنيوية، و (يمدهم)، أي:
يزيدهم في الطغيان، وقال مجاهد: معناه: يملي لهم (4)، والطغيان الغلو وتعدى الحد،

(1) أخرجه أبو داود (2 / 684)، كتاب " الأدب "، باب في ذي الوجهين، حديث (4872)، من طريق أبي
الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعا بهذا اللفظ، و أخرجه البخاري (10 / 489)، كتاب
" الأدب "، باب ما قيل في ذي الوجهين، حديث (6058)، و مسلم (4 / 1958)، كتاب " فضائل
الصحابة "، باب خيار الناس، حديث (199 / 2526)، بلفظ: " تجدون من شر الناس... "
الحديث.
(2) أخرجه أبو داود (2 / 684 - 685)، كتاب " الأدب " باب في ذي الوجهين، حديث (4873)، و الدارمي
(2 / 314)، كتاب " الرقاق "، باب ما قيل في ذي الوجهين، والبخاري في " الأدب المفردة " (188)، و ابن
حبان (1979 - موارد)، و الطيالسي (2 / 59 - منحة)، رقم (6175)، و ابن أبي شيبة (8 / 558) رقم
(5515)، و البغوي في " شرح السنة " (6 / 523 - بتحقيقنا)، و البيهقي في " شعب الإيمان " (4 / 229)،
رقم (4881)، كلهم من طريق شريك بن عبد الله، عن الركين، عن نعيم بن حنظلة، عن عمار بن
ياسر مرفوعا، و صححه ابن حبان.
و قال العراقي في " تخريج الإحياء " (3 / 137): و سنده حسن.
(3) الإهالة: الدهن. ينظر: " عمدة الحفاظ " (1 / 153).
(4) أخرجه الطبري (1 / 168) برقم (364) عن ابن مسعود و ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله وسلم. و برقم (365) عن
مجاهد، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 70) عن ابن مسعود.
190

كما يقال: طغى الماء، وطغت النار و (يعمهون): معناه: يترددون حيرة، والعمه الحيرة
من جهة النظر، والعامة الذي كأنه لا يبصر.
(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمى فهم لا يرجعون (18) أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد و برق
يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف
أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم إن
الله على كل شئ قدير (20))
قوله تعالى: (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا...) إلى قوله: (يا أيها الناس): قال
الفخر (1): اعلم أن المقصود من ضرب المثال أنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثره عند وصف
الشئ في نفسه، لأن الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكد
الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقا للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح، ألا ترى
أن الترغيب والترهيب إذا وقع مجردا عن ضرب مثل، لم يتأكد وقوعه في القلب، كتأكده
مع ضرب المثل، ولهذا أكثر الله تعالى في كتابه المبين، وفي سائر كتبه الأمثال، قال
تعالى: (و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) [الحشر: 21] انتهى
والمثل والمثل والمثيل واحد، معناه: الشبيه، قاله أهل اللغة.
و (استوقد): قيل: معناه أوقد.
واختلف المتأولون في فعل المنافقين الذي يشبه فعل الذي استوقد نارا، فقالت فرقة:
هي فيمن كان آمن، ثم كفر بالنفاق، فإيمانه بمنزلة النار أضاءت، وكفره بعد بمنزلة
انطفائها، وذهاب النور، وقالت فرقة، منهم قتادة: نطقهم ب‍ " لا اله إلا الله " والقرآن
كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها (2)، قال جمهور النحاة: جواب " لما ":
" ذهب " ويعود الضمير من نورهم على " الذي "، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق
بالمستوقد، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق، على الخلاف المتقدم.
وقال قوم (3): جواب " لما " مضمر، وهو " طفئت "، فالضمير في " نورهم " على هذا

(1) " مفاتيح الغيب " (2 / 66).
(2) ذكره ابن عطية (1 / 100).
(3) و من هؤلاء أبو القاسم الزمخشري، فقد قال عن جواب " لما ". " محذوف.... كأن قيل: فلما أضاءت
ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في
191

للمنافقين، والإخبار بهذا هو عن حال لهم تكون في الآخرة، وهو قوله تعالى: (فضرب
بينهم بسور له باب...) الآية [الحديد: 13] وهذا القول غير قوي.
والأصم: الذي لا يسمع، والأبكم: الذي لا ينطق، ولا يفهم، فإذا فهم، فهو
الأخرس، وقيل: الأبكم والأخرس واحد، ووصفهم بهذه الصفات، إذ أعمالهم من الخطأ
وعدم الإجابة، كأعمال من هذه صفته.
و " صم ": رفع على خبر الابتداء، إما على تقدير تكرير " أولئك "، أو إضمارهم.
وقوله تعالى: (فهم لا يرجعون) قيل: معناه: لا يؤمنون بوجه، وهذا إنما يصح أن
لو كانت الآية في معينين، وقيل: معناه: فهم لا يرجعون ما داموا على الحال التي وصفهم
بها، وهذا هو الصحيح
(أو كصيب): " أو ": للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، والصيب المطر، من:
صاب يصوب، إذا / انحط من علو إلى سفل.
و (ظلمات): بالجمع: إشارة إلى ظلمة الليل وظلمة الدجن، ومن حيث تتراكب
وتتزيد جمعت، وكون الدجن مظلما هول وغم للنفوس، بخلاف السحاب والمطر، إذا
انجلى دجنه، فإنه سار جميل
واختلف العلماء في " الرعد "، فقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب (1)
وغيرهم: هو ملك يزجر السحاب بهذا الصوت المسموع كلما خالفت سحابة، صاح بها،
فإذا اشتد غضبه، طارت النار من فيه، فهي الصواعق، واسم هذا الملك: الرعد (2).

إحياء النار.. " و جعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، و جعل جملة قوله: (ذهب الله بنورهم) مستأنفة أو
بدلا من جملة التمثيل.
و قد رد عليه أبو حيان - كما ذكر السمين عنه - بوجهين: أحدهما: أن هذا تقدير مع وجود ما يغني عنه،
فلا حاجة إليه، إذ التقديرات إنما تكون عند الضرورات. و الثاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة
الاسمية.
ينظر: " الكشاف " (1 / 73)، و " البحر المحيط " (1 / 213)، و " الدر المصون " (1 / 132).
(1) شهر بن حوشب الأشعري، فقيه قارىء، من رجال الحديث. شامي الأصل، سكن " العراق "، و كان
يتزيا بزي الجند، و يسمع الغناء بالآلات. وولي بيت المال مدة، و هو متروك الحديث. وكان ظريفا، قال
له رجل: إني أحبك، فقال: و لم لا تحبني و أنا أخوك في كتاب الله، و وزيرك على دين الله، و مؤنتي
على غيرك.
ينظر: " الأعلام " (3 / 187)، " تهذيب التهذيب (4 / 369)، و " التاج " (1 / 214).
(2) ذكره ابن عطية (1 / 102)، والبغوي في " تفسيره " (1 / 53)، و القرطبي (1 / 187).
192

وقيل: الرعد ملك، وهذا الصوت تسبيحه.
وقيل: الرعد: اسم الصوت المسموع، قاله علي بن أبي طالب (1).
وأكثر العلماء على أن الرعد ملك، وذلك صوته يسبح ويزجر السحاب.
واختلفوا في البرق.
فقال علي بن أبي طالب، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " هو مخراق حديد بيد الملك يسوق
به السحاب " وهذا أصح ما روي فيه (2).
وقال ابن عباس: هو سوط نور بيد الملك يزجي به السحاب (3). وروي عنه: أن
البرق ملك يتراءى (4).
واختلف المتأولون في المقصد بهذا المثل، وكيف تترتب أحوال المنافقين الموازنة
لما في المثل من الظلمات والرعد والبرق والصواعق.
فقال جمهور المفسرين: مثل الله تعالى القرآن بالصيب، فما فيه من الأشكال عليهم
والعمى هو الظلمات، وما فيه من الوعيد والزجر هو الرعد، وما فيه من النور والحجج
الباهرة هو البرق، وتخوفهم وروعهم يكون وحذرهم هو جعل أصابعهم في آذانهم، وفضح
نفاقهم، واشتهار كفرهم، وتكاليف الشرع التي يكرهونها من الجهاد والزكاة ونحوه هي
الصواعق، وهذا كله صحيح بين.
وقال ابن مسعود: إن المنافقين في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يجعلون أصابعهم في
آذانهم، لئلا يسمعوا القرآن، فضرب الله المثل لهم (5)، وهذا وفاق لقول الجمهور.
و (محيط بالكافرين) معناه: بعقابهم، يقال: أحاط السلطان بفلان، إذا أخذه أخذا
حاصرا من كل جهة، ومنه قوله تعالى: (و أحيط بثمره) [الكهف: 42].

(1) ذكره البغوي في " تفسيره " (1 / 53)، و ابن عطية (1 / 102)، والقرطبي (1 / 187).
(2) أخرجه البيهقي في " سننه " (3 / 363)، كتاب " صلاة الاستسقاء "، باب ما جاء في الرعد، عن علي موقوفا
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (4 / 96)، و عزاه لابن أبي الدنيا في كتاب " المطر "، و ابن جرير، و ابن
المنذر، و البيهقي، و الخرائطي في " مكارم الأخلاق ".
(3) ذكره الماوردي في " التفسير " (1 / 82)، و البغوي (1 / 53)، و القرطبي (1 / 187).
(4) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 102)، والقرطبي (1 / 188).
(5) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 103).
193

و (يكاد) فعل ينفي المعنى مع إيجابه، ويوجبه مع النفي (1)، فهنا لم يخطف البرق
الأبصار، والخطف: الانتزاع بسرعة، ومعنى (يكاد البرق يخطف أبصارهم)، تكاد حجج
القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم، ومن جعل البرق في المثل الزجر والوعيد، قال:
يكاد ذلك يصيبهم.
و " كلما ": ظرف، والعامل فيه " مشوا "، و " قاموا " معناه: ثبتوا، ومعنى الآية فيما
روي عن ابن عباس وغيره: كلما سمع المنافقون القرآن، وظهرت لهم الحجج، أنسوا
ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يعمهون فيه، ويضلون به، أو يكلفونه، قاموا، أي:
ثبتوا على نفاقهم.
وروي عن ابن مسعود، أن معنى الآية: كلما صلحت أحوالهم في زروعهم
ومواشيهم، وتوالت عليهم النعم، قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو
أصابتهم شدة، سخطوه وثبتوا في نفاقهم (2).
ووحد السمع، لأنه مصدر يقع للواحد والجمع.
وقوله سبحانه: (على كل شئ قدير) لفظه العموم، ومعناه عند / المتكلمين: فيما
يجوز وصفه تعالى بالقدرة عليه، و قدير بمعنى قادر، وفيه مبالغة، وخص هنا سبحانه صفته
التي هي القدرة - بالذكر، لأنه قد تقدم ذكر فعل مضمنه الوعيد والإخافة، فكان ذكر القدرة
مناسبا لذلك.

(1) و زعم جماعة منهم ابن جني و أبو البقاء وابن عطية أن نفيها إثبات و إثباتها نفي، حتى ألغز بعضهم فيها
فقال: [الطويل]
أنحوي هذا العصر ما هي لفظة * جرت في لساني جرهم و ثمود
إذا نفيت - و الله أعلم - أثبتت * و إن أثبتت قامت مقام جحود
و حكوا عن ذي الرمة أنه لما أنشد قوله: [الطويل]
إذا غير النأي المحبين لم يكد * رسيس الهوى من حب مية يبرح
عيب عليه لأنه قال: لم يكد يبرح فيكون قد برح، فغيره إلى قوله: " لم يزل " أو ما هو بمعناه، و الذي غر
هؤلاء قوله تعالى: (فذبحوها و ما كادوا يفعلون) [البقرة: 71] قالوا: فهي هنا منفية و خبرها مثبت في
المعنى، لأن الذبح وقع لقوله: (فذبحوها). و الجواب عن هذه الآية من وجهين:
أحدهما: أنه يحتمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، و ما كادوا يفعلون في وقت آخر.
و الثاني: أنه عبر بنفي الفعل عن شدة تعنتهم وعسرهم في الفعل. و أما ما حكوه عن ذي الرمة فقد
غلط الجمهور ذا الرمة في رجوعه من قوله و قالوا: هو أبلغ و أحسن مما غيره إليه.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 140).
(2) ينظر: ابن عطية (1 / 104).
194

(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل
لكم الأرض فراشا والسماء بناء و أنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا
لله أندادا و أنتم تعلمون (22) و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله
و ادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا و لن تفعلوا فاتقوا النار التي
وقودها الناس و الحجارة أعدت للكافرين (24))
قوله تعالى: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم...) الآية: " يا " حرف نداء، وفيه تنبيه،
و " أي " هو المنادى، قال مجاهد: (يا أيها الناس) حيث وقع في القرآن مكي، و (يا أيها
الذين آمنوا) مدني (1).
قال * ع (2) * قد تقدم في أول السورة، أنها كلها مدنية، و قد يجيء في المدني:
(يا أيها الناس).
وأما قوله في: (يا أيها الذين آمنوا) فصحيح.
(اعبدوا ربكم): معناه: و حدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم، إذ
كانت العرب مقرة بأن الله خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجة عليهم، ولعل في هذه الآية قال
فيها كثير من المفسرين: هي بمعنى إيجاب التقوى، وليست من الله تعالى بمعنى ترج
وتوقع، وفي " مختصر الطبري ": (لعلكم تتقون) عن مجاهد، أي: لعلكم تطيعون (3)،
والتقوى التوقي من عذاب الله بعبادته، وهي من الوقاية، وأما " لعل " هنا، فهي بمعنى " كي "
أو " لام كي "، أي: لتتقوا، أو لكي تتقوا، وليست هنا من الله تعالى بمعنى الترجي، وإنما
هي بمعنى كي، وقد تجيء بمعنى " كي " في اللغة، قال الشاعر: [الطويل]
وقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا * نكف ووثقتم لنا كل موثق (4)

(1) ينظر المصدر السابق، و القرطبي (1 / 194).
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 105). (3) أخرجه الطبري (1 / 196) برقم (474)، و السيوطي في " الدر " (1 / 74)، و عزاه لوكيع، و عبد بن
حميد، و ابن جرير، و أبي الشيخ.
(4) و بعده:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم * كلمع سراب في الملا متألق
و هما بلا نسبة في " تفسير الطبري " (1 / 364)، و " القرطبي " (1 / 227، 12 / 282)، و " زاد المسير "
(1 / 48)، و " الدر المصون " (1 / 47)، و " الحماسة البصرية " (1 / 56). و الشاهد فيه " لعل ": استعملها
195

انتهى.
قال * ع (1) *: وقال سيبويه (2): ورؤساء اللسان: هي على بابها، والترجي والتوقع
إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجوتم لأنفسكم التقوى،
و " لعل ": متعلقة بقوله: " اعبدوا "، ويتجه تعلقها ب‍ " خلقكم " أي: لما ولد كل مولد على
الفطرة، فهو إن تأمله متأمل، توقع له ورجا أن يكون متقيا، و " تتقون ": مأخوذ من الوقاية،
وجعل بمعنى " صير " في هذه الآية، لتعديها إلى مفعولين، و " فراشا " معناه: تفترشونها،
و " السماء " قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمع، واحده سماوة، وكل
ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، (وأنزل من السماء) يريد السحاب، سمي بذلك
تجوزا، لما كان يلي السماء، وقد سموا المطر سماء للمجاورة، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا (3)
فتجوز أيضا في " رعيناه ".
وواحد الأنداد ند، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأولون من المخاطب بهذه
الآية، فقالت جماعة من المفسرين: المخاطب جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا:
(وأنتم تعلمون) يريد العلم الخاص في أنه تعالى خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق،
وقيل: المراد كفار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلمون من الكتب التي عندكم أن الله لا

الشاعر هنا مجردة من الشك بمعنى " لام كي ". يقول: كفوا الحروب لنكف، و لو كانت " لعل " هنا شكا
لم يوثقوا كل موثق. ينظر: " أمالي ابن الشجري " (1: 71)، و الملا: الصحراء، و الأرض الواسعة.
(1) ينظر: المحرر الوجيز " (1 / 105).
(2) عمرو بن عثمان بن قنير الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب " سيبويه ": إمام النحاة، و أول من بسط علم
النحو: ولد في إحدى قرى " شيراز "، و قدم " البصرة "، فلزم الخليل بن أحمد، ففاقه، و صنف كتابه
المسمى " كتاب سيبويه " في النحو. لم يصنع قبله و لا بعده مثله، ناظر الكسائي و أجازه الرشيد بعشرة
آلاف درهم. كان أنيقا جيملا، توفي شابا، ولد سنة (148 ه‍)، وتوفي سنة (180 ه‍).
ينظر: " ابن خلكان " (1: 385)، " البداية و النهاية " (10: 176)، " الأعلام " (5 / 81).
(3) البيت لمعود الحكماء. انظر: " تأويل مشكل القرآن " (135)، الأصبهاني (214)، الصاحبي (63)،
" معجم الشعراء " (391)، " المفضليات " (359)، " الصناعتين " (212)، " معجم مقاييس اللغة " (3 /
98)، " العمدة " (1 / 237)، و فيه النسبة لجرير بن عطية، " معاهد التنصيص " (2 / 260).
و الشاهد فيه: الاستخدام، وهو أن يراد بلفظ له معنيان: أحدهما، ثم يراد بضمير الآخر، أو يراد بأحد
ضميريه أحدهما، ثم يراد بالآخر الآخر، فالأول كما في البيت هنا، فإنه أراد بالسماء الغيث، و بالضمير
الراجع إليه من " رعيناه " النبت.
196

ند له، وقال ابن فورك (1): يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.
قوله تعالى: (و إن كنتم في ريب)، أي: في شك، (فأتوا بسورة من مثله):
الضمير في " مثله " عند الجمهور: عائد على القرآن (2)، (و ادعوا شهدائكم)، أي: من
شهدكم وحضركم من عون ونصير، قاله ابن عباس (3): (إن كنتم صادقين)، أي: فيما
قلتم من أنكم تقدرون على معارضته. ويؤيد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: /
(لو نشاء لقلنا مثل هذا) [الأنفال: 31]، وفي قوله جل وعلا: (و لن تفعلوا) إثارة
لهممهم، وتحريك لنفوسهم، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضا من الغيوب التي
أخبر بها القرآن.
وقوله تعالى: (فاتقوا النار): أمر بالإيمان وطاعة الله، قال الفخر (4) ولما ظهر
عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإذا صح ذلك، ثم لزموا العناد،
استوجبوا العقاب بالنار، واتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم قوله: (فاتقوا النار) مقام
قوله: " واتركوا العناد "، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة، وذلك يدل على قوتها،
نجانا الله منها برحمته الواسعة.
وقرن الله سبحانه الناس بالحجارة، لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناما يعبدونها، قال
تعالى: (إنهم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) [الأنبياء: 98] فإحدى الآيتين مفسرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوع ما منعوا، انتهى.

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 106). وابن فورك هو: محمد بن الحسين بن فورك، أبو بكر
الأصفهاني، المتكلم، الأصولي، الأديب، النحوي، الواعظ، أخذ طريقة أبي الحسن الأشعري، عن
أبي الحسين الباهلي و غيره، أحيى الله تعالى به أنواعا من العلوم، و بلغت مصنفاته الشئ الكثير،
و جرت له مناظرات عظيمة. مات سنة (406). انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 190)، " طبقات
السبكي " (3 / 52)، " تبيين كذب المفتري " ص (232). " الأعلام " (6 / 313)، " مرآة الجنان " (3 / 17)،
" النجوم الزاهرة " (4 / 240).
(2) و قال قوم آخرون: إن معنى قوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله): من مثل محمد من البشر، لأن محمدا
بشر مثلكم، يعني لأنه لم يكن قرأ الكتب و لا درس، فأتوا بسورة فيها حق من مثل محمد، كما جاء
بذلك صلى الله عليه و آله و سلم.
ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 374)، و " بحر العلوم " للسمرقندي (1 / 102).
(3) أخرجه الطبري (1 / 202) برقم (496)، و ذكره ابن عطية (1 / 107)، و السيوطي في " الدر " (1 / 77)،
و عزاه لابن جرير، و ابن إسحاق، و ابن أبي حاتم.
(4) ينظر: " مفاتيح الغيب " (2 / 112).
197

(و بشر الذين آمنوا و عملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما
رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها و لهم فيها أزواج
مطهرة و هم فيها خالدون (25))
قوله تعالى: (و بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات...) الآية.
(بشر): مأخوذ من البشرة، لأن ما يبشر به الإنسان من خير أو شر يظهر عنه أثر في
بشرة الوجه، والأغلب استعمال البشارة في الخير، وقد تستعمل في الشر مقيدة به، كما قال
تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [التوبة: 34] ومتى أطلق لفظ البشارة، فإنما يحمل على
الخير، وفي قوله تعالى: (و عملوا الصالحات) رد على من يقول: إن لفظة الإيمان
بمجردها تقتضي الطاعات، لأنه لو كان كذلك، ما أعادها، و (جنات) جمع جنة، وهي
بستان الشجر والنخل، وبستان الكرم، يقال له الفردوس، وروى النسائي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم: " أن ثياب الجنة تشقق عنها ثمر الجنة " (1)، وروى الترمذي عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب "، قال أبو عيسى: هذا
حديث حسن (2). انتهى من " التذكرة " (3).
* ت *: وفي الباب عن ابن عباس، وجرير بن عبد الله، وغيرهما: وسميت الجنة
جنة، لأنها تجن من دخلها (4)، أي: تستره، ومنه المجن، والجنن، وجن الليل.
و (من تحتها) معناه من تحت الأشجار التي يتضمنها ذكر الجنة.
* ت *: ومن أعظم البشارات أن هذه الأمة هم ثلثا أهل الجنة، وقد خرج أبو
بكر بن أبي شيبة (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أمتي يوم القيامة ثلثا أهل الجنة، إن أهل

(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه الترمذي (4 / 671 - 672)، كتاب " صفة الجنة "، باب ما جاء في صفة شجرة الجنة، حديث
(2525)، و أبو يعلى (11 / 57)، رقم (6195)، و ابن حبان (2624 - موارد)، و أبو نعيم في " صفة
الجنة " (3 / 240)، رقم (400)، و الخطيب في " تاريخ بغداد " (5 / 108)، كلهم من طريق أبي حازم،
عن أبي هريرة مرفوعا.
و قال الترمذي: حسن غريب. و صححه ابن حبان.
(3) " التذكرة "، تحقيق الدكتور السيد الجميلي، ص (607)، و فيها قول الترمذي: حديث حسن غريب.
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 108).
(5) عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عثمان العبس (بموحدة)، مولاهم، أبو بكر بن أبي شيبة، الكوفي
الحافظ. أحد الأعلام، و صاحب " المصنف ". عن شريك، و هشيم، و ابن المبارك، و جرير بن
198

الجنة يوم القيامة عشرون ومائة صف، وأن أمتي من ذلك ثمانون صفا " (1)، وخرج ابن
ماجة والترمذي عن بريدة بن حصيب (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهل الجنة عشرون
ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم "، قال أبو عيسى:
هذا حديث حسن (3).

عبد الحميد، و ابن عيينة، و عنه البخاري، و مسلم، و أبو داود، و ابن ماجة، و أبو زرعة،
و عثمان بن خرزاد، و أحمد بن علي المروزي، و خلق. قال أبو زرعة: ما رأيت أحفظ منه. و قال
الخطيب: كان متقنا حافظا، صنف التفسير و غيره. و قال نفطويه: اجتمع في مجلسه نحو ثلاثين ألفا.
قال البخاري: مات سنة خمس و ثلاثين و مائتين.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 94)، و " تهذيب التهذيب " (6 / 2)، و " الجرح و التعديل " (5 / 737).
(1) أخرجه ابن أبي شيبة (11 / 470).
(2) هو: بزيدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم بن
مازن بن الحارث بن سلامان بن أسلم بن أفضى بن حارثة بن عمرو بن عامر... أبو عبد الله.
و قيل: أبو سهل. و قيل: أبو ساسان. و قيل أبو الحصيب. الأسلمي. قال ابن الأثير في " الأسد ": أسلم
حين مر به النبي صلى الله عليه و آله و سلم مهاجرا هو و من معه، و كانوا نحو ثمانين بيتا، فصلى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم العشاء
الآخرة، فصلوا خلفه، و أقام بأرض قومه ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعد " أحد "، فشهد معه مشاهده،
و شهد الحديبية و بيعة الرضوان تحت الشجرة.
و كان من ساكني " المدينة " ثم تحول إلى " البصرة "، وابتنى بها دارا، ثم خرج منها غازيا إلى " خراسان "
فأقام ب‍ " مرو " حتى مات و دفن بها، و بقي ولده بها.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 209)، " الإصابة " (1 / 151)، " الثقات " (3 / 29)، " الجرح
و التعديل " (2 / 424)، " سير أعلام النبلاء " (2 / 469)، " الجمع بين رجال الصحيحين " (1 / 61)،
" مشاهير علماء الأمصار " (60)، " تقريب التهذيب " (1 / 96).
(3) أخرجه الترمذي (4 / 683)، كتاب " صفة الجنة "، باب ما جاء في صف أهل الجنة، حديث (2546)،
و أحمد (5 / 347)، كلاهما من طريق ضرار بن مرة، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه
مرفوعا.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن، و قد روي هذا الحديث عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة،
عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسلا، و منهم من قال: عن سليمان بن بريدة، عن أبيه. اه‍.
قلت: أما الطريق المرسل و الذي أشار إليه الترمذي، فأخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 548)، رقم
(1572) من طريق سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسلا.
و أخرجه ابن ماجة (2 / 1433 - 1434)، كتاب " الزهد "، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم، حديث (4289)،
و الدارمي (2 / 337)، كتاب " الرقاق "، باب في صفوف أهل الجنة، و الحاكم (1 / 82) من طرق عن
سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه مرفوعا. و عنه الدارمي: عن علقمة، عن
سليمان قال: أراه عن أبيه. و للحديث شاهد من حديث أبي موسى.
ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 73)، و قال: رواه الطبراني، و فيه القاسم بن غصن، و هو
ضعيف.
199

انتهى من " التذكرة " (1) للقرطبي.
(و الأنهار): المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة، مأخوذة من أنهرت، أي:
وسعت، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه " (2). و معناه: ما
وسع الذبح، حتى جرى الدم كالنهر، ونسب الجري إلى النهر، وإنما يجري الماء تجوزا،
كما قال سبحانه: (و اسأل القرية) [يوسف: 82] وروي أن أنهار الجنة ليست في أخاديد،
إنما تجري على سطح ارض الجنة منضبطة.
وقولهم: (و هذا الذي رزقنا من قبل): إشارة إلى الجنس، أي: هذا من الجنس الذي
رزقنا منه من قبل، والكلام يحتمل / أن يكون تعجبا منهم، وهو قول ابن عباس (3)،
ويحتمل أن يكون خبرا من بعضهم لبعض، قاله جماعة من المفسرين، وقال الحسن،
ومجاهد: يرزقون الثمرة، ثم يرزقون بعدها مثل صورتها، والطعم مختلف، فهم يتعجبون
لذلك، ويخبر بعضهم بعضا (4)، وقال ابن عباس: ليس في الجنة شئ مما في الدنيا سوى

و قال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 215): سألت أبي و أبا زرعة عن حديث رواه القاسم بن غصن، عن
موسى الجهني، عن أبي بردة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم: قال: " أهل الجنة عشرون و مائة صف، أمتي منهم
ثمانون صفا " قالا: هذا خطأ، إنما هو موسى الجهني، عن الشعبي، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسل. قالا: و الخطأ
من القاسم. قلت: ما حال القاسم؟؟! قالا: ليس بقوي.
(1) ينظر: " التذكرة " (2 / 506).
(2) أخرجه أحمد (3 / 463 - 464)، و البخاري (9 / 672)، كتاب " الذبائح و الصيد "، باب إذا أصاب القوم
غنيمة...، حديث (5543)، و مسلم (3 / 1558)، كتاب " الأضاحي "، باب جواز الذبح بكل ما أنهر
الدم، حديث (20 / 1968)، و أبو داود (3 / 247)، كتاب " الأضاحي "، باب في الذبيحة بالمروة،
حديث (2821)، و الترمذي (4 / 81)، كتاب " الأحكام و الفوائد "، باب ما جاء في الزكاة بالقصب
و غيره، حديث (1491)، و النسائي (7 / 226)، كتاب " الضحايا "، باب في الذبح بالسن، و ابن ماجة
(2 / 1061)، كتاب " الذبائح "، باب ما يذكى به، حديث (3178). و الدارمي (2 / 84)، كتاب
" الأضاحي ". باب: في البهيمة إذا ندت، و عبد الرزاق (4 / 465 - 466)، رقم (8481)، و الطيالسي
(963)، و ابن الجارود (895)، و الحميدي (1 / 199)، رقم (410)، وابن حبان (5856 - الإحسان)،
و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4 / 183)، والطبراني في " الكبير " (4 / 321)، رقم (4380،
4381، 4382، 4383)، و البغوي في " شرح السنة " (6 / 18 - بتحقيقنا)، من طريق عباية بن
رفاعة، عن رافع بن خديج قال: قلت يا رسول الله، إنا نلقى العدو غدا، و ليس معنا مدى، فقال
النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " ما أنهر الدم، و ذكر اسم الله عليه، فكلوا ما لم يكن سنا، أو ظفرا، و سأحدثكم عن ذلك،
أما السن فعظم، و أما الظفر فمدى الحبشة ".
(3) ذكره بان عطية الأندلسي (1 / 109)، و الماوردي (1 / 86)، و ابن كثير (1 / 62).
(4) أخرجه الطبري (1 / 209) برقم (528)، و عبد الرزاق في تفسيره (1 / 41)، و ذكره البغوي في " التفسير "
200

الأسماء، وأما الذوات فمتباينة (1)، وقال بعض المتأولين: المعنى أنهم يرون الثمر،
فيميزون أجناسه حين أشبه منظره ما كان في الدنيا، فيقولون: هذا الذي رزقنا من قبل في
الدنيا، وقال قوم: إن ثمر الجنة إذا قطف منه شئ، خرج في الحين في موضعه مثله، فهذا
إشارة إلى الخارج في موضع المجني.
وقوله تعالى: (متشابها) قال ابن عباس وغيره: معناه يشبه بعضه بعضا في المنظر،
ويختلف في الطعم (2)، و (أزواج): جمع زوج، ويقال في المرأة: زوجة، والأول
أشهر، و (مطهرة): أبلغ من طاهرة، أي: مطهرة من الحيض، والبزاق، وسائر أقذار
الآدميات، والخلود: الدوام، وخرج ابن ماجة عن أسامة بن زيد (3)، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم،
ذات يوم لأصحابه: " ألا مشمر للجنة؟ فإن الجنة لاخطر (4) لها، هي، ورب الكعبة، نور

(1 / 56)، و ابن عطية الأندلسي (1 / 109)، والماوردي (1 / 86)، والسيوطي في " الدر " (1 / 83)،
و عزاه لوكيع، و عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ذكره ابن كثير (1 / 63).
(1) أخرجه الطبري (1 / 210) برقم (535)، و ذكره السمرقندي (1 / 104)، و البغوي في التفسير (1 / 56)،
و ابن عطية الأندلسي (1 / 109)، و الماوردي (1 / 86)، و القرطبي " (1 / 206)، و ابن كثير (1 / 63)،
و السيوطي في " الدر " (1 / 82)، و عزاه لمسدد، و هناد في " الزهد "، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي
حاتم، و البيهقي في " البعث ".
(2) أخرجه الطبري (1 / 209) برقم (524)، و ذكره البغوي في التفسير (1 / 56)، و ابن عطية (1 / 109)،
و الماوردي (1 / 86)، و ابن كثير (1 / 63).
(3) أسامة بن زيد بن شراحيل بن عبد العزى بن زيد بن امرئ القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن
عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر، و أبو خارجة، و أبو محمد، و أبو زيد بن الحب
الكلبي.
أمه: أم أيمن حاضنة النبي صلى الله عليه و آله و سلم. ولد في الإسلام، و مناقبه كثيرة، و أحاديثه شهيرة، و كان سكن " المزة "
من عمل " دمشق "، ثم رجع فسكن وادي القرى، ثم نزل إلى " المدينة " فمات بها ب‍ " الجرف ".
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: " إن أسامة بن زيد لأحب إلي (أو من أحب الناس إلي)، و أنا أرجوا أن
يكون من صالحيكم، فاستوصوا به خيرا ".
قيل: توفي في آخر خلافة معاوية، و قيل: مات سنة (54).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 79)، " الإصابة " (1 / 29)، " الاستيعاب " (1 /، 75)، " الاستبصار "
(34)، " الكاشف " (1 / 104)، " صفة الصفوة " (1 / 521)، " بقي بن مخلد " (33)، " تجريد أسماء
الصحابة " (1 / 13)، " التاريخ الكبير " (2 / 20)، " التاريخ لابن معين " (3 / 22).
(4) قوله صلى الله عليه و آله و سلم: " لا خطر لها " أي لا عوض لها و لا مثل. و الخطر بالتحريك - في الأصل: الرهن و ما يخاطر
عليه. و مثل الشئ، و عدله، و لا يقال إلا في الشئ الذي له قدر و مزية.
ينظر: " النهاية " (2 / 46).
201

تتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء
جميلة، وحلل كثيرة في مقام أبد في حبرة (1) ونضرة، في دار عالية سليمة بهية "، قالوا:
نحن المشمرون لها، يا رسول الله، قال: " قولوا: إن شاء الله "، ثم ذكر الجهاد وحض
عليه " (2) انتهى من " التذكرة " (3).
وقوله: لا خطر لها، بفتح الطاء: قيل: معناه: لا عوض لها.
(* إن الله لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا
فيعلمون أنه الحق من ربهم و أما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به
كثيرا و يهدى به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين (26) الذين ينقضون عهد الله من بعد
ميثاقه و يقطعون ما أمر الله به أن يوصل و يفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون (27) كيف
تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون (28) هو
الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السما ء فسواهن سبع سماوات و هو بكل
شئ عليم (29))
قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها): لما كان
الجليل القدر في الشاهد لا يمنعه من الخوض في نازل القول إلا الحياء من ذلك، رد الله
بقوله: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما)، على القائلين كيف يضرب الله مثلا

(1) الحبرة: النعمة وسعة العيش، و كذلك الحبور. ينظر: " النهاية " (1 / 327).
(2) أخرجه ابن ماجة (2 / 1448 - 1449)، كتاب " الزهد "، باب صفة الجنة، حديث (4332)، و ابن حبان
(2620 - موارد)، و الطبراني في " الكبير " (1 / 162 - 163)، رقم (388)، و الفسوي في " المعرفة
و التاريخ " (1 / 304)، و أبو نعيم في " صفة الجنة "، رقم (24)، و البيهقي في " البعث و النشور "
(ص 233)، رقم (391)، كلهم من طريق الضحاك المعافري، عن سليمان بن موسى، عن كريب
مولى ابن عباس، عن أسامة بن زيد مرفوعا.
و قال البوصيري في " الزوائد ": في إسناده مقال: و الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في " الثقات " اه‍.
قال الحافظ في " التقريب " (1 / 374): الضحاك المعافري مقبول. اه‍.
يعني عند المتابعة. و إلا فهو لين ذكره هو في مقدمة " التقريب ".
و الحديث ذكره الهندي في " كنز العمال " (14 / 461)، و عزاه إلى ابن ماجة، و أبي يعلى، و النسائي،
و ابن حبان، و أبي بكر بن أبي داود في " البعث "، والروياني، والرامهرمزي، و الطبراني، و البيهقي في
" البعث "، و سعيد بن منصور، عن أسامة بن زيد.
تنبيه: عزاه الحافظ المزي في " تحفة الأشراف " (1 / 59) إلى ابن ماجة فقط، و لم يعزه للنسائي في
" الصغرى "، و لا في " الكبرى "، و أظن أن عزوه للنسائي خطأ من المتقي الهندي.
(3) ينظر: " التذكرة " (596).
202

بالذباب ونحوه
واختلف في قوله تعالى: (يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا)، هل هو من قول
الكافرين أو خبر من الله تعالى؟ ولا خلاف أن قوله تعالى: (و ما يضل به إلا الفاسقين)
من قوله الله تعالى، والفسق: الخروج عن الشئ، يقال: فسقت الفارة، إذا خرجت من
جحرها، والرطبة، إذا خرجت من قشرها، والفسق في عرف استعمال الشرع: الخروج من
طاعة الله عز وجل بكفر أو عصيان.
قوله تعالى: (الذين ينقضون عهد الله): النقض: رد ما أبرم على أوله غير مبرم.
والعهد: في هذه الآية: التقدم في الشئ، والوصاة به، وظاهر مما قبل وبعد أنه في جميع
الكفار.
* ع (1) *: وكل عهد جائز بين المسلمين، فنقضه لا يحل بهذه الآية، والخاسر
الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز، والخسران النقص، كان في ميزان أو غيره.
قوله تعالى: (كيف تكفرون بالله): هو تقرير وتوبيخ، أي كيف تكفرون، ونعمه
عليكم وقدرته هذه، والواو في قوله: (و كنتم) واو الحال.
واختلف في قوله تعالى: (و كنتم أمواتا...) الآية.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد: المعنى: كنتم أمواتا معدومين قبل أن
تخلقوا دارسين، كما يقال للشيء الدارس: ميت، ثم خلقكم وأخرجكم إلى الدنيا،
فأحياكم، ثم يميتكم / الموت المعهود، ثم يحييكم للبعث يوم القيامة (2)، وهذا التأويل هو
أولى ما قيل: لأنه هو الذي لا محيد للكفار عن الإقرار به، والضمير في " إليه " عائد على
الله تعالى، أي: إلى ثوابه أو عقابه، و (خلق): معناه: اخترع، وأوجد بعد العدم،
و (لكم): معناه: للاعتبار، ويدل عليه ما قبله وما بعده من نصب العبر: الإحياء والإماتة
والاستواء إلى السماء وتسويتها.
وقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء): " ثم " هنا: لترتيب الأخبار، لا لترتيب الأمر

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 113).
(2) أخرجه الطبري (1 / 222 - 223) برقم (576 - 580) بنحوه، عن ابن عباس، و مجاهد. و ذكره ابن
عطية الأندلسي (1 / 114)، و الماوردي (1 / 90)، و السيوطي في " الدر " (1 / 89)، و القرطبي (1 /
213).
203

في نفسه، و (استوى): قال قوم: معناه: علا دون كيف، ولا تحديد، هذا اختيار
الطبري، والتقدير: علا أمره وقدرته وسلطانه، وقال ابن كيسان: معناه: قصد إلى السماء.
* ع (1) *: أي: بخلقه، واختراعه، والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول
الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان.
و (سواهن): قيل: جعلهن سواء، وقيل: سوى سطوحهن بالإملاس، وقال
الثعلبي (2): (فسواهن)، أي: خلقهن. انتهى. وهذه الآية تقتضي أن الأرض وما فيها
خلق قبل السماء، وذلك صحيح، ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء، وبهذا تتفق معاني
الآيات هذه والتي في سورة " المؤمن "، وفي " النازعات ".
(و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها
و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون (30) و علم آدم
الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32))
وقوله تعالى: (و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة): " إذ " ليست
بزائدة عند الجمهور، وإنما هي معلقة بفعل مقدر، تقديره: واذكر إذ قال، وإضافة " رب "
إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ومخاطبته بالكاف - تشريف منه سبحانه لنبيه، وإظهار لاختصاصه به،
و " الملائكة ": واحدها ملك، والهاء في " ملائكة " لتأنيث الجموع غير حقيقي، وقيل: هي
للمبالغة، كعلامة ونسابة، والأول أبين.
و (جاعل)، في هذه الآية بمعنى خالق، وقال الحسن وقتادة: جاعل بمعنى
فاعل (3)، وقال ابن سابط (4) عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الأرض هنا هي مكة، لأن الأرض دحيت

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 115).
(2) هو أحمد بن محمد بن إبراهيم، أبو إسحاق النيسابوري الثعلبي. كان إماما كبيرا، حافظا للغة بارعا في
العربية، روى عن أبي طاهر بن خزيمة، و أبي محمد المخلدي. أخذ عنه الواحدي. له: " العرائس في
قصص الأنبياء " و كتاب " ربيع المذكرين ". توفي (427 ه‍).
ينظر ترجمته في: " بغية الوعاة " (1 / 356)، و " النجوم الزاهرة " (4 / 283)، و " طبقات المفسرين "
للداوودي (1 / 66).
(3) أخرجه الطبري (1 / 235) برقم (597)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 93)، عن الحسن، و عزاه لابن
جرير.
(4) عبد الرحمن بن سابط القرشي، الجمحي، المكي، عن عمر، و معاذ مرسلا، و عن عائشة بواسطة، في
204

من تحتها، ولأنها مقر من هلك قومه من الأنبياء، وأن قبر نوح وهود وصالح بين المقام
والركن " (1).
و (خليفة): معناه: من يخلف.
قال ابن عباس: كانت الجن قبل بني آدم في الأرض، فأفسدوا، وسفكوا الدماء،
فبعث الله إليهم قبيلا من الملائكة قتلهم، والحق فلهم (2) بجزائر البحار، ورؤوس الجبال،
وجعل آدم وذريته خليفة (3)، وقال ابن مسعود: إنما معناه: خليفة مني في الحكم (4).
وقوله تعالى: (أتجعل فيها من يفسد فيها...) الآية: قد علمنا قطعا أن الملائكة لا
تعلم الغيب، ولا تسبق القول، وذلك عام في جميع الملائكة، لأن قوله تعالى: (لا يسبقونه
بالقول) [الأنبياء: 27] خرج على جهة المدح لهم، قال القاضي ابن الطيب (5): فهذه قرينة
العموم، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأ ومقدمة.
قال ابن زيد وغيره: إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون،
ويسفكون الدماء (6)، فقالوا لذلك هذه المقالة: إما على طريق التعجب من استخلاف الله

مسلم فرد حديث، و سعد، و جابر، و عنه علقمة بن مرثد، و ابن جريج، و الليث، و خلق. وثقه ابن معين
و قال: لم يسمع من أبي أمامة، و الدارقطني، و جماعة. قال ابن سعد: مات بمكة سنة ثماني عشرة
و مائة. ينظر: " الخلاصة " (2 / 133)، " تهذيب التهذيب " (6 / 180)، " الثقات " (7 / 69).
(1) أخرجه الطبري في " تفسيره " (1 / 448 - شاكر)، و ابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " (1 / 70) من
طريق عطاء عن ابن سابط به مرفوعا.
و قال ابن كثير: و هذا مرسل، و في سنده ضعف.
و ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 95)، و زاد نسبته إلى ابن عساكر.
(2) الفل: المنهزمون. ينظر: " لسان العرب " (3466).
(3) أخرجه الطبري (1 / 236) برقم (601)، و صححه الحاكم (2 / 261)، و وافقه الذهبي، و ذكره السيوطي
في " الدر " (1 / 93).
(4) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 116)، و الماوردي (1 / 95).
(5) محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، أبو بكر: قاض من كبار علماء الكلام انتهت إليه الرياسة في
مذهب الأشاعرة، ولد في " البصرة " سنة (338) ه‍، و سكن " بغداد " فتوفي فيها سنة (403 ه‍)، كان
جيد الاستنباط، سريع الجواب. من تصانيفه: " إعجاز القرآن "، و " الإنصاف "، و " مناقب الأئمة "،
و " دقائق الكلام "، و " الملل والنحل "، و " هدية المرشدين "، و غير ذلك.
ينظر: " الأعلام " (6 / 176)، " وفيات الأعيان " (1 / 481)، " قضاة الأندلس " (37 - 40)، " تاريخ بغداد "
(5 / 379).
(6) أخرجه الطبري (1 / 244) برقم (614 - 615 - 616)، عن ابن زيد، و ابن إسحاق، و ابن جريج،
و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 94)، عن ابن زيد، و عزاه لابن جرير.
205

من يعصيه، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك، وإما على طريق
الاستعظام والإكبار للفصلين جميعا، الاستخلاف، والعصيان.
وقال أحمد بن يحيى / ثعلب (1) وغيره: إنما كانت الملائكة قد رأت، وعلمت ما
كان من إفساد الجن، وسفكهم الدماء في الأرض، فجاء قولهم: (أتجعل فيها...) (2)
الآية، على جهة الاستفهام المحض، هل هذا الخليفة يا ربنا على طريقة من تقدم من الجن
أم لا؟
وقال آخرون: كان الله تعالى قد أعلم الملائكة، أنه يخلق في الأرض خلقا
يفسدون، ويسفكون الدماء، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك: (إني جاعل) قالوا: ربنا،
(أتجعل فيها...) الآية، على جهة الاسترشاد والاستعلام، هل هذا الخليفة هو الذي كان
أعلمهم به سبحانه قبل، أو غيره؟ ونحو هذا في " مختصر الطبري "، قال: وقولهم:
(أتجعل فيها) ليس بإنكار لفعله عز وجل وحكمه، بل استخبار، هل يكون الأمر هكذا،
وقد وجهه بعضهم بأنهم استعظموا الإفساد وسفك الدماء، فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة
في ذلك، إذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إلا حكمة. انتهى.
* ت *: والعقيدة أن الملائكة معصومون، فلا يقع منهم ما يوجب نقصانا من
رتبتهم، وشريف منزلتهم - صلوات الله وسلامه على جميعهم - والسفك صب الدم، هذا
عرفه، وقولهم: (و نحن نسبح بحمدك).
قال بعض المتأولين: هو على جهة الاستفهام، كأنهم أرادوا: (ونحن نسبح
بحمدك...) الآية، أم نتغير عن هذه الحال؟
قال * ع (3) *: وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: (أتجعل).
وقال آخرون: معناه: التمدح و وصف حالهم، و ذلك جائز لهم، كما قال يوسف:
(إني حفيظ عليم) [يوسف: 55]، وهذا يحسن مع التعجب والاستعظام، لأن يستخلف الله

(1) هو: أبو العباس أحمد بن يحيى بن يسار، و قيل: سيار الشيباني، المعروف بثعلب، إمام الكوفيين في
النحو و اللغة. صنف: " المصون في النحو "، و " معاني القرآن "، و " ما تلحن فيه العاملة "، و " الفصيح "
و غيرها. توفي (291 ه‍).
ينظر ترجمته في: " وفيات الأعيان " (1 / 30)، و " بغية الوعاة " (1 / 296)، و " غاية النهاية " (1 / 148).
(2) ينظر: ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 117).
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 118).
206

من يعصيه في قولهم: (أتجعل)، وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى: (إني أعلم ما لا
تعلمون)، ومعنى: (نسبح بحمدك): ننزهك عما لا يليق بصفاتك، وقال ابن عباس وابن
مسعود: تسبيح الملائكة صلاتهم لله سبحانه (1)، وقال قتادة: تسبيحهم قولهم: " سبحان
الله، على عرفه (2) في اللغة، و (بحمدك): معناه نصل التسبيح بالحمد، ويحتمل أن
يكون قولهم: (بحمدك) اعتراضا بين الكلامين، كأنهم قالوا: ونحن نسبح ونقدس، وأنت
المحمود في الهداية إلى ذلك، وخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر (3)، قال: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى؟
إن أحب الكلام إلى الله تعالى:
" سبحان الله وبحمده "، وفي رواية: " سئل صلى الله عليه وسلم، أي الكلام أفضل؟ قال:
ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده " (4) وفي صحيحي البخاري ومسلم
عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في
الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم " (5) وهذا الحديث

(1) أخرجه الطبري (1 / 248) برقم (619)، و ذكره البغوي (1 / 60)، و ابن عطية الأندلسي (1 / 118)،
و القرطبي (1 / 236)، و ابن كثير (1 / 71).
(2) أخرجه الطبري (1 / 248) برقم (620)، و عبد الرزاق في التفسير (1 / 42)، و ذكره السيوطي في " الدر "
(1 / 95).
(3) قيل هو: جندب بن جنادة بن سكن. و قيل: عبد الله، و قيل: اسمه: برير و قيل بالتصغير، و الاختلاف
في أبيه كذلك، و شهرته: أبو ذر الغفاري، قلت: كان من كبار الصحابة و فضلائهم و مشاهيرهم
و زهادهم، قديم الإسلام، قويا في الحق، صادق اللهجة. و لا يتسع المقام للحديث عنه، و قد ألفت في
سريته المؤلفات الكثيرة. توفي ب‍ " الربذة " سنة (31 أو 32).
تنظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 357)، " الإصابة " (7 / 60)، " بقي بن مخلد " (15)، " تجريد أسماء
الصحابة " (2 / 164)، " حلية الأولياء " (1 / 127)، " تهذيب الكمال " (1603)، " تقريب التهذيب " (2 /
420)، " تهذيب التهذيب " (12 / 90)، " الزهد " لوكيع (33)، " شذرات الذهب " (1 / 31).
(4) أخرجه مسلم (4 / 2093 - 2094)، كتاب " الذكر و الدعاء "، باب فضل سبحان الله و بحمده، حديث
(84، 85 / 2731)، من طريق عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر به.
(5) أخرجه البخاري (11 / 210)، كتاب " الدعوات "، باب فضل التسبيح، حديث (6406)، و (11 /
575)، كتاب " الأيمان و النذور "، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم فصلى، حديث (6682)، و (13 /
547)، كتاب " التوحيد "، باب قول الله تعالى: (و نضع الموازين القسط ليوم القيامة)، حديث
(7563)، و مسلم (4 / 2072)، كتاب " الذكر و الدعاء "، باب فضل التهليل، و التسبيح، و الدعاء،
حديث (31 / 2694)، والترمذي (5 / 512)، كتاب " الدعوات "، باب (60)، حديث (3467)، و ابن
ماجة (2 / 1251)، كتاب " الأدب "، باب فضل التسبيح، حديث (3806)، و النسائي في " الكبرى " (6 /
207 - 208)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يثقل الميزان، حديث (10666)، و أحمد (2 /
232)، و أبو يعلى (10 / 483)، رقم (6096)، و ابن حبان (3 / 112 - 113)، رقم (831)، (3 /
207

به ختم البخاري رحمه الله. انتهى.
(و نقدس لك): قال الضحاك وغيره: معناه: نطهر أنفسنا لك، ابتغاء مرضاتك،
والتقديس: التطهير بلا خلاف (1)، ومنه الأرض المقدسة، أي: المطهرة، وقال آخرون:
(ونقدس لك): معناه: نقدسك، أي: نعظمك ونطهر ذكرك مما لا يليق به، قاله مجاهد
وغيره (2).
وقوله تعالى: (إني أعلم مالا تعلمون).
قال ابن عباس: كان إبليس - لعنه الله - قد أعجب بنفسه، ودخله الكبر لما جعله الله
خازن السماء الدنيا /، واعتقد أن ذلك لمزية له، فلما قالت الملائكة: و نحن نسبح بحمدك
ونقدس لك، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، قال الله سبحانه: (إني أعلم
مالا تعلمون) يعني ما في نفس إبليس (3).
وقال قتادة: لما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها)، وقد علم الله أن في
من يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة، قال لهم: (إني أعلم مالا تعلمون)،
يعني: أفعال الفضلاء (4).

121 - 122)، رقم (841)، و البيهقي في " الأسماء و الصفات " (ص 499)، و في " شعب الإيمان " (1 /
420)، رقم (591)، و البغوي في " شرح السنة " (3 / 81 - بتحقيقنا)، و ابن الجوزي في " مشيخته "
(ص 87)، كلهم من طريق محمد بن فضيل، ثنا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة
مرفوعا. و قال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(1) أخرجه الطبري (1 / 249) برقم (625)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 95)، عن ابن عباس، و ذكره
ابن كثير (1 / 71).
(2) أخرجه الطبري (1 / 249) برقم (623)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 95)، و ابن كثير (1 / 71).
(3) أخرجه الطبري (1 / 249) برقم (626)، و قال أحمد شاكر: بشر بن عمارة ضعيف، قال البخاري في
" التاريخ الكبير " (1 / 2 / 81): تعرف و تنكر.
و قال النسائي في " الضعفاء " ص 6: ضعيف. و قال الدارقطني: متروك. و قال ابن حبان في كتاب:
" المجروحين " (ص 125) رقم، (132): كان يخطئ حتى خرج عن حد الاحتجاج به إذا انفرد، و لم
يكن يعلم الحديث و لا صناعته، و أما شيخه أبو روق فهو عطية بن الحارث الهمداني، و هو ثقة، و قال
أحمد و النسائي: " لا بأس به "، و قد أشار ابن كثير إليه بالانقطاع، لأجل اختلافهم في سماع الضحاك بن
مزاحم الهلالي من ابن عباس و قد رجح أحمد شاكر في " شرح المسند " (2262) سماعه منه، ثم قال:
و كفى ببشر بن عمارة ضعفا في الإسناد إلى نكارة السياق الذي رواه و غرابته. اه‍.
(4) أخرجه الطبري (1 / 250) برقم (639)، و قال أحمد شاكر: ذكره ابن كثير (1 / 130)، و " الدر المنثور "
(1 / 46)، و " الشوكاني " (1 / 50).
208

وقوله تعالى: (و علم آدم الأسماء كلها): معناه: عرف، وتعليم آدم هنا عند قوم
الهام علمه ضرورة، وقال قوم: بل تعليم بقول، إما بواسطة ملك، أو بتكليم قبل هبوطه
الأرض، فلا يشارك موسى - عليه السلام - في خاصته.
* ت *: قال الشيخ العارف بالله عبد الله بن أبي جمرة: تعليمه سبحانه لآدم
الأسماء كلها، إنما كان بالعلم اللدني بلا واسطة. انتهى من كتابه الذي شرح فيه بعض
أحاديث البخاري، وكل ما أنقله عنه، فمنه، واختلف المتأولون في قوله: (الأسماء):
فقال جمهور الأمة: علمه التسميات، وقال قوم: عرض عليه الأشخاص، والأول أبين،
ولفظه علم تعطي ذلك.
ثم اختلف الجمهور في أي الأسماء علمه، فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد علمه
اسم كل شئ من جميع المخلوقات، دقيقها، وجليلها (1)، وقال الطبري (2): علمه أسماء
ذريته، والملائكة، ورجحه بقوله تعالى: (ثم عرضهم) وقال أكثر العلماء: علمه تعالى
منافع كل شئ، ولما يصلح.
وقيل غير هذا.
واختلف المتأولون، هل عرض على الملائكة أشخاص الأسماء أو الأسماء دون
الأشخاص؟.
(و أنبئوني): معناه: أخبروني، والنبأ: الخبر، وقال قوم: يخرج من هذا الأمر
بالإنباء تكليف ما لا يطاق (3)، ويتقرر جوازه، لأنه سبحانه علم أنهم لا يعلمون.

(1) أخرجه الطبري (1 / 252) برقم (646 - 647 - 648 - 649 - 656)، و عبد الرزاق في تفسيره (1 /
42 - 43)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 100 - 101).
(2) ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 485).
(3) حاصل ما في شرح " المواقف "، أشار إليه " الخالي " هو أن ما لا يطاق على ثلاث مراتب:
الأولى: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد، لعلم الله (تعالى) بعدم وقوعه، كإيمان أبي لهب، و هي
المرتبة الأولى من مراتب ما لا يطاق، فإن هذا مقدور للمكلف بالنظر إلى ذاته، و ممتنع له بالنظر إلى
علم الله (تعالى) بعدم وقوعه، و معنى كونه مقدورا أنه يجوز تعلق القدرة الحادثة أي قدرة المكلف به لا
أنه متعلق القدرة بالفعل، لأن القدرة الحادثة لا تتعلق بمثل هذا الفعل، لأن القدرة الحادثة عندنا مع
الفعل لا قبله، فلا يتصور تعلقه بما لم يقع. ثم إن التكليف بهذا المحال جائز و واقع اتفاقا، و لا خلاف
فيه للمعتزلة.
الثانية: ما يمكن في نفسه لكن يمتنع من العبد عادة، كخلق الأجسام، و حمل الجبل، و الطيران إلى
209

وقال المحققون من أهل التأويل: ليس هذا على جهة التكليف، إنما هو على جهة
التقرير والتوقيف.
وقوله تعالى: (هؤلاء) ظاهره حضور أشخاص، وذلك عند العرض على الملائكة،
وليس في هذه الآية ما يدل أن الاسم هو المسمى، كما ذهب إليه مكي والمهدوي.
والذي يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء، وعرض مع ذلك عليه الأجناس
أشخاصا، ثم عرض تلك على الملائكة، وسألهم عن تسمياتها التي قد تعلمها آدم، ثم إن
آدم قال لهم: هذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا.
(وهؤلاء): مبني على الكسر، (وكنتم) في موضع الجزم بالشرط، والجواب عن
سيبويه: فيما قبله، وعند المبرد: محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين، فأنبئوني، وقال ابن
عباس وابن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: معنى الآية: إن كنتم صادقين في أن
الخليفة يفسد ويسفك (1).
* ت *: و في النفس من هذا القول شئ، والملائكة منزهون معصومون، كما
تقدم، والصواب ما تقدم من التفسير عند قوله تعالى: (أتجعل فيها...) الآية.

السماء. و هذه المرتبة الوسطى من مراتب ما لا يطاق، و التكليف بهذا جائز عندنا و إن لم يقع، كما دل
عليه الاستقراء، و قوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) [البقرة: 286] و ما يتوهم من ظاهر
بعض الآيات أنه تكليف بهذا المحال، كقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) [البقرة: 23] فهو للتعجيز
لا للتكليف، و منعت المعتزلة جواز التكليف، لكونه قبيحا منه تعالى عقلا عندهم كما في الشاهد، فإن
من كلف الأعمى نقط المصاحف و الزمني المشي إلى أقصى البلاد، عد سفيها، و قبح ذلك في بداهة
العقول. والجواب: أنه لا يقبح منه تعالى شئ، و لا يجب عليه، إذ يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد،
و المفهوم من كلام صاحب " التوضيح " أن مذهب الماتريدية هنا كمذهب المعتزلة إلا أن عدم جوازه عند
الماتريدية بناء على أنه لا يليق من حكمته و فضله. و عند المعتزلة بناء على أن الأصلح واجب على الله
(تعالى).
الثالثة: ما يمكن في نفسه و لكن يمتنع لنفس مفهومه، كجمع الضدين، و قلب الحقائق. و هي المرتبة
القصوى من مراتب ما لا يطاق، والتكليف به لا يقع و لا يجوز بالاتفاق، أما أنه لا يقع قط، فلأنه لم
يوجد بالاستقراء، و أما أنه لا يجوز، فلأن جواز التكليف فرع تصوره، و لا يمكن تصوره. و في شرح
" المواقف " أن بعضا منا قالوا بوقوع تصوره، فما ذكره صاحب " المواقف " من أن جواز التكليف بالممتنع
لذاته فرع تصوره يشعر بأن هؤلاء يجوزونه.
ينظر: " نشر الطوالع " (295 - 297)، و " البرهان " (1 / 102)، و " المنخول " (ص 22)،
و " المحصول " (1 / 2 / 357)، و المتصفي " (1 / 74).
(1) أخرجه الطبري (1 / 255) برقم (672)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 101).
210

وقال آخرون: إن كنتم صادقين في أنى إن استخلفتكم، سبحتم بحمدي، وقدستم
لي.
وقال / قوم: معناه: إن كنتم صادقين جواب السؤال، عالمين بالأسماء.
و (سبحانك): معناه تنزيها لك وتبرئة أن يعلم أحد من علمك إلا ما علمته،
والعليم: معناه: العالم، ويزيد عليه معنى من المبالغة والتكثير في المعلومات، والحكيم:
معناه: الحاكم وبينهما مزية المبالغة، وقيل: معناه: المحكم، وقال قوم: الحكيم المانع
من الفساد، ومنه حكمة الفرس مانعته.
(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات
و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون (33) و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
أبى و استكبر و كان من الكافرين (34))
و قوله تعالى: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم): أنبئهم: معناه: أخبرهم، والضمير في
" أنبئهم " عائد على الملائكة بإجماع، والضمير في " أسمائهم " مختلف فيه حسب الاختلاف
في الأسماء التي علمها آدم، قال بعض العلماء: إن في قوله تعالى: (فلما أنبأهم) نبوءة
لآدم عليه السلام، إذ أمره الله سبحانه أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله
عز وجل.
وقوله تعالى: (اعلم غيب السماوات والأرض): معناه: ما غاب عنكم، لأن الله
تعالى لا يغيب عنه شئ، الكل معلوم له.
واختلف في قوله تعالى: (ما تبدون وما كنتم تكتمون).
فقال طائفة: ذلك على معنى العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع،
" و إذ " من قوله: (وإذ قلنا للملائكة) معطوفة على " إذ " المتقدمة، وقول (1) الله تعالى

(1) كلام الله تعالى صفة أزلية قديمة قائمة بذاته (تعالى)، منافية للسكوت و الآفة - كما في الخرس - ليست
من جنس الأصوات و الحروف. بل بها آمر ناه. يدل عليها بالعبارات أو الكتابة أو الإشارة. فتلك الصفة
واحدة في ذاتها، و إن اختلفت العبارات الدالة عليها، كما إذا ذكر الله بألسنة مختلفة، فالصفة: هي الأمر
القائم بالغير، فهو جنس في التعريف أو كالجنس، بناء على الخلاف في المفهومات الاصطلاحية: هل
هي حدود أو رسوم.
الأول: مبني على أنها و إن كان أمرا اصطلاحيا طارئا على المعنى اللغوي للكلام، إذ الكلام في اللغة
القول. يقال: أتى بكلام طيب، أي قول، إلا أنه ليست وراء ما اصطلح عليه المصطلح أمر آخر. فذلك
211

وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل، بشرط وجودهم وفهمهم، وهذا هو الباب كله في
أوامر الله تعالى ونواهيه ومخاطباته.

الذي ذكر في تعريف تلك الصفة هو ذاتياتها بحسب الاصطلاح.
و الثاني: مبني على أن لها قبل المعنى الاصطلاحي معنى وضع الواضع اللفظ ليدل عليه، فذلك المعنى
ثان بعد أول، فهو عارض و التعريف بالعوارض رسم. و جزم البعض من المحققين بأنها رسوم، لأن
الاطلاع على ذاتيات تلك الصفات غير ممكن. والحد ما تركب من الذاتيات: الجنس، و الفصل. و حيث
إن الذاتيات لم يطلع عليها فلا تكون إلا رسوما، لأنها بخواص هذه الصفات فقط، لأن الخواص مأخوذة
في تعريف الصفات، حيث أخذ في تعريف صفة الكلام أنها تتعلق دلالة.. و في تعريف صفة القدرة أنها
تتعلق تعلق تأثير.
و على كل ف‍ " صفة " يشمل الصفة القديمة و الحادثة. " قديمة ": فصل أو كالفصل - مخرج لغير الصفة
القديمة، و هو الصفة الحادثة. ثم الأقوال في القديم و الأزلي ثلاثة:
الأول: القديم هو الذي لا ابتداء لوجوده. و الأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا. فكل قديم
أزلي و لا عكس.
الثاني: القديم هو القائم بنفسه الذي لا أول لوجوده. و الأزلي: ما لا أول له عدميا كان أو وجوديا،
قائما بنفسه أو غيره.
الثالث: القديم و الأزلي: ما لا أول له، عدميا كان أو وجوديا، قائما بنفسه أولا.
فعلى الأول: الصفات السلبية لا توصف بالقدم، و توصف بالأزلية، بخلاف ذات الله تعالى و الصفات
الثبوتية، فإنها توصف بالقديم و الأزلية.
و على الثاني: الصفات مطلقا لا توصف بالقدم، و توصف بالأزلية، بخلاف ذاته تعالى، فإنها توصف
بكل منهما.
و على الثالث: كل من الذات و الصفات مطلقا يوصف بالقدم و الأزلية. فالقديم في التعريف صحيح على
الرأي الأول و الثالث، بخلافه على الثاني " قائمة بذاته ". و للقيام معنيان:
قيام: بمعنى التبعية في التحيز كما في العرض بالنسبة لجوهره. و ليس قيام صفة الله بذاته على هذا
النحو، إذ لا تحيز للذات حتى تتبعها الصفة فيه. و قيام: بمعنى آخر هو اختصاص الناعت بالمنعوت.
و هو المراد بقيام الصفة بذاته تعالى.
" ليس بحرف و لا صوت ": لأنه معنى نفسي، و تلك أعراض مشروط حدوث بعضها بانقضاء البعض، إذ
امتناع التكلم بالحرف الثاني بدون انقضاء الحرف الأول بدهي، خلافا للحنابلة، و الحشوية، و الكرامية
القائلين بأن كلامه منتظم من كلمات قائمة بذاته تعالى. قديم عند الحنابلة، حادث عند الكرامية. " منافية
للسكوت و الآفة ": السكوت عدم التكلم مع القدرة عليه.
و الآفة: عدم مطاوعة الآلة، إما بحسب الفطرة كما في الخرس، أو من جهة ضعفها كما في الطفولية.
و لقائل أن يقول: هذا إنما يصدق على الكلام اللفظي دون النفسي، إذ السكوت و الخرس إنما ينافيان
التلفظ.
و يجاب بأن المراد ب‍ " السكوت و الآفة ": الباطنيان، بأن لا يريد في نفسه الكلام، أو لا يقدر عليه،
و يتخلص في أنه كما أن الكلام لفظي و نفسي، كذلك ضده، و هو السكوت و الخرس: لفظي و باطني،
212

* ت *: ما ذكره - رحمه الله - هو عقيدة أهل السنة، وها أنا انقل من كلام الأئمة،
إن شاء الله، ما يتبين به كلامه، ويزيده وضوحا، قال ابن رشد: قوله صلى الله عليه وسلم: " أعوذ بكلمات
الله التامات من شر ما خلق " (1) لا يفهم منه إن لله عز وجل كلمات غير تامات، لأن

و المراد الثاني منها: حيث أريد بالكلام الكلام النفسي، فالله منزه عن الاتصاف بالخرس و الآفة. " هو
بها آمرناه ": فهو صفة واحدة تتكثر بحسب التعلقات. فالكلام باعتبار تعلق بشئ خبر، و بآخر أمر أو
نهي. و بهذا يخرج العلم و القدرة. و هكذا سائر الصفات الوجودية غير الكلام، أنه لا أمر و لا نهي
بواحدة منها.
و غير الأشاعرة يقولون: الكلام هو اللفظ المنتظم من الحروف و الأصوات، و ينفون الصفة النفسية و هم
في ذلك قد انقسموا إلى قسمين:
القسم الأول: كلامه ألفاظ قائمة بذاته، و هي قديمة، و هم بعض الحنابلة، أو حادثة، وهم الكرامية.
و القسم الثاني: يقول: كلام الله ألفاظ قائمة بالغير. و هم المعتزلة. فالحنابلة يعرفونه: بأنه المؤلف من
الكلمات القديمة القائمة بذاته تعالى. و الكرامية يعرفونه: بأنه هو المؤلف من الكلمات الحادثة القائمة
بذاته تعالى. و حيث إن المعتزلة لم يعرفوه بالصفة النفسية، فليس عندهم سوى الألفاظ و هي حادثة،
لأنها مرتبة، و يستحيل قيام الحادث بالقديم. فهم يقولون: إن كلامه ألفاظ قائمة بغيره، فهم يتجوزون
بمتكلم عن موجد و خالق للكلام. و عليه فالمعتزلة لا يثبتون كلاما لله لا نفسيا، كما أثبته الأشاعرة.
و لا لفظيا حادثا كما قالت الكرامية، بل يثبتون كلاما لا على أنه متصف به، بل على أنه مخلوق قائم
بغيره.
فالكلام عند المعتزلة هو المؤلف من الكلمات المسموعة الحادثة القائمة بغير الذات. فقد خالفوا جميع
الفرق.
ينظر: تحقيق " صفة الكلام " لشيخنا حافظ مهدي ص 52 - 54.
(1) أخرجه مالك (2 / 978)، كتاب " الاستئذان "، باب ما يؤمر به من الكلام في السفر، حديث (34)،
و مسلم (4 / 2080 - 2081)، كتاب " الذكر و الدعاء "، باب في التعوذ من سوء القضاء و درك الشقاء
و غيره، حديث (54 / 2708)، و الترمذي (5 / 496)، كتاب " الدعوات "، باب ما يقول إذا نزل منزلا،
حديث (3437)، و النسائي في " الكبرى " (6 / 144)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول إذا نزل
منزلا، حديث (10394)، و أحمد (6 / 377)، و ابن السني في " عمل اليوم و الليلة "، رقم (533)، و ابن
خزيمة (4 / 150 - 151)، رقم (2567)، و ابن حبان (6 / 418)، رقم (2700)، و البيهقي (5 / 253)،
كتاب " الحج "، باب ما يقول إذا نزل منزلا، كلهم من طريق يعقوب بن عبد الله الأشج، عن بسر بن
سعيد، عن سعد بن أبي وقاص، عن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول: " من نزل
منزلا فليقل... " فذكرت الحديث.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
و قال: و روى مالك بن أنس هذا الحديث أنه بلغه، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، فذكر نحو هذا
الحديث.
و روى ابن عجلان هذا الحديث عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، و يقول: عن سعيد بن المسيب،
عن خولة.
213

كلماته هي قوله، وكلامه هو صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النقص، وفي الحديث بيان
واضح على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة إذ لا يستعاذ بمخلوق، وهذا هو قول أهل
السنة، والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات ذاته قديم غير مخلوق، لأن الكلام
هو المعنى القائم في النفس، والنطق به عبارة عنه، قال الله عز وجل: (ويقولون في
أنفسهم) [المجادلة: 8] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس، وتقول: في نفسي كلام، أريد
أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي تسمعه منه، فهو
عبارة عنه، وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم
من قراءة القارئ لا نفس قراءته التي تسمعها، لأن نفس قراءته التي تسمعها محدثة، لم
تكن، حتى قرأ بها، فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته. انتهى بلفظه من
" البيان ".
وقال الغزالي (1) بعد كلام له نحو ما تقدم لابن رشد: وكما عقل قيام طلب التعلم
وإرادته بذات الوالد قبل أن يخلق ولده، حتى إذا خلق ولده، وعقل، وخلق الله سبحانه له
علما بما في قلب أبيه من الطلب، صار مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه، ودام
وجوده إلى وقت معرفة ولده، فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل: (فاخلع
نعليك) / [طه: 12] بذات الله تعالى، ومصير موسى عليه السلام سامعا لذلك الكلام

و حديث الليث أصح من رواية ابن عجلان. اه‍. و هذا توضيح و شرح لكلام الترمذي رحمه الله: أما
رواية مالك، فهي في " الموطأ " (2 / 978)، عن الثقة عنده، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج به. أما
رواية محمد بن عجلان، فأخرجها ابن ماجة (2 / 1174)، كتاب " الطب "، باب الفزع والأرق و ما يتعوذ
منه، حديث (3547)، و النسائي في " الكبرى " (6 / 144)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول إذا
نزل منزلا، حديث (13095)، كلاهما من طريق محمد بن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله بن
الأشج، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك، عن خولة بنت حكيم به.
و قد ورد هذا الحديث، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
أخرجه عبد الرزاق (9260)، والنسائي (6 / 144 - الكبرى)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول
إذا نزل منزلا، كلاهما من طريق ابن عجلان، عن يعقوب بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب مرسلا.
(1) محمد بن محمد بن محمد، حجة الإسلام، أبو حامد الغزالي، ولد سنة (450)، أخذ عن الإمام،
و " البسيط "، وهو كالمختصر للنهاية، و له " الوجيز ". و " المستصفى "، وغيرها. توفي سنة (505).
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 293)، " وفيات الأعيان " (3 / 253)، " الأعلام " (7 / 247)،
و " الباب " (2 / 170)، و " شذرات الذهب " (4 / 10)، و " النجوم الزاهرة " (5 / 203)، " العبر " (4 /
10).
214

مخاطبا به بعد وجوده، إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب، ومعرفة بذلك الكلام القديم.
انتهى بلفظه من " الأحياء ".
وقوله: (للملائكة) عموم فيهم، والسجود في كلام العرب: الخضوع والتذلل،
وغايته وضع الوجه بالأرض، والجمهور على أن سجود الملائكة لآدم إيماء وخضوع، ولا
تدفع الآية أن يكونوا بلغوا غاية السجود، وقوله تعالى: (فقعوا له ساجدين) [الحجر: 29]
لا دليل فيه، لأن الجاثي على ركبتيه واقع، واختلف في حال السجود لآدم.
فقال ابن عباس: تعبدهم الله بالسجود لآدم، والعبادة في ذلك لله (1)، وقال علي بن
أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس أيضا: كان سجود تحية، كسجود أبوي يوسف عليه
السلام له، لا سجود عبادة (2)، وقال الشعبي: إنما كان آدم كالقبلة (3)، ومعنى (لآدم):
إلى آدم.
* ع (4) *: وفي هذه الوجوه كلها كرامة لآدم عليه السلام.
وقوله تعالى: (إلا إبليس) نصب على الاستثناء المتصل، لأنه من الملائكة على
قول الجمهور، وهو ظاهر الآية، وكان خازنا وملكا على سماء الدنيا والأرض، واسمه
عزازيل، قاله ابن عباس (5).
وقال ابن زيد والحسن: هو أبو الجن كما آدم أبو البشر، ولم يك قط ملكا (6)، وقد
روي نحوه عن ابن عباس أيضا، قال: واسمه الحارث (7).

(1) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 124)، و السيوطي في " الدر " (1 / 102) بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 124)، و السيوطي في " الدر " (1 / 102)، بنحوه عن ابن
عباس.
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 124).
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 124).
(5) أخرجه البيهقي في " الشعب " (1 / 170) برقم (146 - 147) بنحوه، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 /
102 - 103)، و عزا أحدهما لابن أبي الدنيا في " مكايد الشيطان "، و ابن أبي حاتم، و ابن الأنباري في
كتاب: " الأضداد "، و البيهقي في " الشعب "، و الثاني عزاه لوكيع، و ابن المنذر، و البيهقي.
(6) أخرجه الطبري (1 / 264) رقم (701)، عن ابن زيد، و ذكره ابن عطية في تفسيره (1 / 124)، والقرطبي
(1 / 251).
(7) أخرجه الطبري (1 / 256) برقم (704)، عن السدي، و ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 124)، و القرطبي
(1 / 251) و السيوطي في " الدر " (1 / 103)، عن السدي بلفظ " كان اسم إبليس الحرث " ".
215

وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلتهم الملائكة
فسبوه صغيرا، وتعبد مع الملائكة، وخوطب معها، وحكاه الطبري عن ابن مسعود (1).
والاستثناء على هذا الأقوال منقطع، واحتج بعض أصحاب هذا القول، بأن الله تعالى
قال في صفة الملائكة: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم: 6] ورجح
الطبري قول من قال: إن إبليس كان من الملائكة، وقال (2): ليس في خلقه من نار، ولا
في تركيب الشهوة والنسل فيه حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة، وقوله تعالى:
(كان من الجن ففسق عن أمر ربه) [الكهف: 50] يتخرج على أنه عمل عملهم، فكان منهم
في هذا، أو على أن الملائكة قد تسمى جنا، لاستتارها، قال الله تعالى: (و جعلوا بينه
وبين الجنة نسبا) [الصافات: 158] وقال الأعشى في ذكر سليمان عليه السلام: [الطويل]
و سخر من جن الملائك تسعة * قياما لديه يعملون بلا أجر (3)
أو على أن يكون نسبه إلى الجنة، كما ينسب إلى البصرة بصري.
قال عياض: ومما يذكرونه قصة إبليس، وأنه كان من الملائكة، ورئيسا فيهم، ومن
خزان الجنة إلى ما حكوه، وهذا لم يتفق عليه، بل الأكثر ينفون ذلك، وأنه أبو الجن.
انتهى من " الشفا " (4).
وإبليس: لا ينصرف، لأنه اسم أعجمي، قال الزجاج: ووزنه فعليل، وقال ابن
عباس وغيره: هو مشتق من أبلس، إذا أبعد عن الخير، ووزنه على هذا إفعيل (5)، ولم

(1) أخرجه الطبري (1 / 263) برقم (698)، و ذكره القرطبي (1 / 251).
(2) ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 508).
(3) البيت للأعشى و قبله:
و لو كان شئ خالدا أو معمرا * لكان سليمان البريء من الدهر
براه إلهي واصطفاه عباده * و ملكه ما بين ثريا إلى مصر
ينظر: " ملحق ديوانه " (243)، و " اللسان " (جنن)، و " تفسير الطبري " (1 / 506)، و " القرطبي " (1 /
295)، و " البحر المحيطة " (1 / 304)، و " الدر المصون " (1 / 186)، و " روح المعاني " (1 / 230)
و قال: و كون الملائكة لا يستكبرون - وهو قد استكبر - لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم -
و إن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا - و في " عقيدة أبي المعين النسفي " ما يؤيد ذلك، و إما لأن
إبليس سلبه الله (تعالى) الصفات الملكية، و ألبسه ثياب الصفات الشيطانية، فعصى عند ذلك، و الملك ما
دام ملكا لا يعصي.
(4) ينظر: " الشفا " من (858).
(5) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 125).
216

تصرفه هذه الفرقة، لشذوذه وقلته، ومنه قوله تعالى: (فإذا هم مبلسون) [الأنعام: 44] أي:
يائسون من الخير، مبعدون منه فيما يرون، و (أبى): معناه: امتنع من فعل ما أمر به،
(واستكبر): دخل في الكبرياء، والإباءة مقدمة على الاستكبار في ظهورهما عليه،
والاستكبار والأنفة مقدمة في معتقده، وروى ابن القاسم (1) عن مالك، أنه قال: بلغني أن
أول معصية كانت الحسد، والكبر، والشح، حسد إبليس آدم، وتكبر، وشح آدم / في أكله
من شجرة قد نهي عن قربها (2).
* ت *: إطلاق الشح على آدم فيه ما لا يخفى عليك، والواجب اعتقاد تنزيه الأنبياء
عن كل ما يحط من رتبتهم، وقد قال الله تعالى في حق آدم: (و لقد عهدنا إلى آدم من قبل
فنسي ولم نجد له عزما) [طه: 115].
وقوله تعالى: (وكان من الكافرين): قالت فرقة: معناه: وصار من الكافرين، ورده
ابن فورك، وقال جمهور المتأولين: معنى: (وكان من الكافرين)، أي: في علم الله
تعالى، وقال أبو العالية: معناه: من العاصين (3)، وذهب الطبري إلى أن الله تعالى أراد
بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع علمهم
بنبوءته، ومع تقدم نعم الله عليهم، وعلى أسلافهم.
* ت *: ولفظ الطبري (4): وفي هذا تقريع لليهود، إذ أبوا من الإسلام مع علمهم بنبوءة
رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة والكتب، حسدا له، ولبني إسماعيل، كما امتنع إبليس من
السجود، حسدا لآدم وتكبرا عن الحق وقبوله، فاليهود نظراء إبليس في كفرهم وكبرهم
وحسدهم وتركهم الانقياد لأمر الله تعالى. انتهى من " مختصر الطبري " لأبي عبد الله
اللخمي النحوي.
واختلف، هل كفر إبليس جهلا أو عنادا؟ على قولين بين أهل السنة، ولا خلاف أنه

(1) عبد الرحمن بن القاسم العتقي: جمع بين الزهد و العلم، و تفقه بمالك و نظرائه، و صحب مالكا عشرين
سنة، و عاش بعد اثنتي عشرة سنة، مولده سنة اثنتين و ثلاثين و مائة، و مات ب‍ " مصر " سنة إحدى
و تسعين و مائة.
ينظر: " الطبقات " للشيرازي (150).
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 125).
(3) أخرجه الطبري (1 / 266) برقم (705).
(4) ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 510).
217

كان عالما بالله قبل كفره، ولا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره، وأبعده عن
الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم: (أسكن).
(و قلنا يا آدم أسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا
من الظالمين (35) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم
في الأرض مستقر و متع إلى حين (36))
قوله تعالى: (و قلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة): (أسكن): معناه: لازم
الإقامة، ولفظه لفظ الأمر، ومعناه الأذن، واختلف في الجنة التي أسكنها آدم عليه السلام،
هل هي جنة الخلد، أو جنة أخرى.
* ت *: والأول هو مذهب أهل السنة والجماعة.
(وكلا منها)، أي: من الجنة، والرغد: العيش الدار الهني، و " حيث " مبنية على
الضم.
وقوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة): معناه لا تقرباها بأكل، والهاء في " هذه "
بدل من الياء، وتحتمل هذه الإشارة أن تكون إلى شجرة معينة واحدة، واختلف في هذه
الشجرة، ما هي؟ فقال ابن عباس، وابن مسعود: هي الكرم (1)، وقيل: هي شجرة
التين (2)، وقيل: السنبلة (3) وقيل غير ذلك.
وقوله: (فتكونا من الظالمين): الظالم، في اللغة: الذي يضع الشئ في غير
موضعه، والظلم، في أحكام الشرع على مراتب: أعلاها الشرك، ثم ظلم المعاصي، وهي
مراتب، و (أزلهما): مأخوذ من الزلل، وهي في الآية مجاز، لأنه في الرأي والنظر،
وإنما حقيقة الزلل في القدم، وقرأ حمزة (4): " فأزالهما " مأخوذ من الزوال، ولا خلاف بين

(1) أخرجه الطبري (1 / 269 - 270) برقم (730) عن ابن عباس و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 107).
(2) أخرجه الطبري (1 / 270) برقم (740) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و سلم بلفظ " التينة " و ذكره السيوطي في
" الدر " (1 / 170) بلفظ: " التين "، و الشوكاني في " تفسيره " (1 / 130).
(3) أخرجه الطبري (1 / 269) عن عدد من الصحابة و التابعين، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 107)،
و عزاه لوكيع، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و أبي الشيخ.
(4) ينظر: " إتحاف فضلاء البشر " (1 / 388)، و " الحجة للقراء السبعة " (2 / 14)، و " طيبة النشر " (4 /
18)، و " العنوان " (69)، و " إعراب القراءات السبع و عللها " (1 / 81)، و " حجة القراءات " (94)،
و " شرح شعلة " (261)، و " معاني القراءات " للأزهري (1 / 147).
و قد قرأ بها الحسن و أبو رجاء. ينظر: " البحر المحيط " (1 / 313)، و " القرطبي " (1 / 213).
218

العلماء أن إبليس اللعين هو متولي إغواء آدم - عليه السلام -، واختلف في الكيفية.
فقال ابن عباس، وابن مسعود، وجمهور العلماء: أغواهما مشافهة (1)، بدليل قوله
تعالى: (وقاسمهما) [الأعراف: 21] و المقاسمة ظاهرها المشافهة.
وقالت طائفة: إن إبليس لم يدخل الجنة بعد أن أخرج منها، وإنما أغوى آدم
بشيطانه، وسلطانه، ووساوسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان
يجري من ابن آدم مجرى الدم / " (2).
* ت *: وإلى هذا القول نحا المازري (3) في بعض أجوبته، ومن ابتلى بشئ من

و حمزة هو: حمزة بن حبيب بن عمارة بن إسماعيل التيمي الزيات. أحد القراء السبعة. كان عالما
بالقراءات. انعقد الإجماع على تلقي قراءته بالقبول.
قال الثوري: ما قرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر.
ينظر: " الأعلام " (2 / 277)، " تهذيب التهذيب " (3 / 27)، " وفيات الأعيان " (1 / 167).
(1) أخرجه الطبري (1 / 272) برقم (741)، عن ابن عباس، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 108)، و عزاه
لابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم. و ذكره الشوكاني في " تفسيره " (1 / 131)، كلاهما عن ابن
عباس.
(2) أخرجه البخاري (4 / 326)، كتاب " الاعتكاف "، باب هل يخرج المعتكف، حديث (2035)، و باب
زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، حديث (2038)، و باب هل يدرأ المعتكف عن نفسه، حديث
(2039)، و (6 / 242 - 243)، كتاب " فرض الخمس "، باب ما جاء في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و آله و سلم حديث
(3101)، و (6 / 387 - 388)، كتاب " بدء الخلق "، باب صفة إبليس و جنوده، حديث (3281)،
و (10 / 613 - 614)، كتاب " الأدب " باب التكبير و التسبيح عند التعجب، حديث (6219)، و (13 /
169)، كتاب " الأحكام "، باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء، حديث (7171)، و مسلم
(4 / 1712)، كتاب " السلام "، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة...، حديث (25 /
2175)، و أبو داود (1 / 749)، كتاب " الصيام "، باب المعتكف يدخل البيت لحاجته، حديث 2470،
2471)، و ابن ماجة (1 / 565 - 566)، كتاب " الصيام "، باب في المعتكف يزوره أهله في المسجد،
حديث (1779)، و أحمد (6 / 337)، و عبد الرزاق (8065)، و ابن خزيمة (3 / 349)، رقم (2233،
2234)، وابن حبان (3671)، و الطحاوي في " مشكل الآثار " (1 / 29 - 30)، و البيهقي (4 / 321)،
كتاب " الصيام "، باب المعتكف يخرج إلى باب المسجد، و البغوي في " شرح السنة " (7 / 397 -
بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن علي بن الحسين، عن صفية بنت حيي به.
(3) الماوردي: هو محمد بن علي بن عمر التميمي، المازوري، يعرف ب‍ " الإمام "، و يكنى بأبي عبد الله،
أصله من " مازر " مدينة في جزيرة " صقلية "، خاتمة العلماء المحققين و الأئمة الأعلام المجتهدين، الحافظ
النظار، كان واسع الباع في العلم و الاطلاع مع حدة في الذهن و رسوخ نام حتى بلغ درجة الاجتهاد، أخذ
عن أبي الحسن اللخمي و غيره و عنه أخذ ما لا يعد، منهم: أبو محمد عبد السلام، و أبو عبد الله
محمد بن عبد الرحيم، و له مؤلفات منها: " شرح التلقين " ليس للمالكية كتاب مثله، و " شرح البرهان "
219

وسوسة هذا اللعين، فأعظم الأدوية له الثقة بالله، والتعوذ به، والإعراض عن هذا اللعين،
وعدم الالتفات إليه، ما أمكن، قال ابن عطاء الله (1) في " لطائف المنن ": كان بي وسواس
في الوضوء، فقال لي الشيخ أبو العباس المرسي (2): إن كنت لا تترك هذه الوسوسة لا تعد
تأتينا، فشق ذلك علي، وقطع الله الوسواس عني، وكان الشيخ أبو العباس يلقن
للوسواس: سبحان الملك الخلاق، (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على
الله بعزيز) [فاطر: 16، 17] انتهى.
قال عياض: في " الشفا " (3)، وأما قصة آدم عليه السلام، وقوله تعالى: (فأكلا منها)
[طه: 121] بعد قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)، وقوله تعالى: (ألم
أنهكما عن تلكما الشجرة) [الأعراف: 22] وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله: (و عصى
آدم ربه فغوى) [طه: 121] أي: جهل، وقيل: أخطأ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله:
(و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما) [طه: 115] قال ابن عباس: نسي
عداوة إبليس، وما عهد الله إليه من ذلك (4)، بقوله: (إن هذا عدو لك ولزوجك...)
[طه: 117] الآية، وقيل: نسي ذلك بما أظهر لهما، وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان
إنسانا، لأنه عهد إليه فنسي (5)، وقيل: لم يقصد المخالفة، استحلالا لها، ولكنهما اغترا
بحلف إبليس لهما: (إني لكما لمن الناصحين) [الأعراف: 21] وتوهما أن أحدا لا يحلف

لأبي المعالي الجويني المسمى " إيضاح المحصول من برهان الأصول ".
ولد سنة (443) ه‍، و توفي سنة (536 ه‍). ينظر: " شجرة النور " ص (127)، " الديباج " (ص 279). (1) أحمد بن محمد بن عبد الكريم، أبو الفضل تاج الدين، ابن عطاء الله الإسكندري: متصوف شاذلي،
من العلماء، كان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية. له تصانيف منها: " الحكم العطائية " في
التصوف، و " تاج العروس " في الوصايا و العظات، و " لطائف المنن في مناقب المرسي و أبي الحسن "
توفي ب‍ " القاهرة ". و ينسب إليه كتاب " مفتاح الفلاح "، و ليس من تأليفه.
ينظر: " الأعلام " (1 / 221) و (222)، " الدر الكامنة " (1 / 273)، " كشف الظنون " (675).
(2) أحمد بن عمر الموسي، أبو العباس، شهاب الدين: فقيه متصوف، من أهل الإسكندرية، أصله من
" مرسية " من " الأندلس ".
ينظر: " الأعلام " (1 / 186)، " النجوم الزاهرة " (7 / 371).
(3) ينظر: " الشفا " ص (822، 823).
(4) ذكره الماوردي في " التفسير " (3 / 430) بنحوه، و القرطبي (6 / 4291).
(5) أخرجه الطبري (8 / 465) برقم (24380)، و الحاكم (2 / 380 - 381)، و صححه، و وافقه الذهبي،
و ذكره السيوطي في " الدر " (4 / 553)، وعزاه لعبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر،
و ابن أبي حاتم، و الطبراني في " الصغير " وابن منده في " التوحيد "، والحاكم.
220

بالله حانثا، وقد روي عذر آدم مثل هذا في بعض الآثار، وقال ابن جبير: حلف بالله لهما
حتى غرهما، والمؤمن يخدع، وقد قيل: نسي، ولم ينو المخالفة، فلذلك قال تعالى:
(ولم نجد له عزما) [طه: 115] أي: قصدا للمخالفة وأكثر المفسرين (1) على أن العزم هنا
الحزم والصبر، وقال ابن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوءة، ودليل ذلك
قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) [طه: 121، 122]
فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل: بل أكلها، وهو متأول، وهو لا يعلم
أنها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي الله تعالى عن شجرة مخصوصة، لا على
الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ، لا من المخالفة، وقيل: تأول أن
الله تعالى لم ينهه عنها نهي تحريم. انتهى بلفظه فجزاه الله خيرا، ولقد جعل الله في شفاه
شفاء.
والضمير في (عنها) يعود على الجنة، وهنا محذوف يدل عليه الظاهر تقديره: فأكلا
من الشجرة، وقوله تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه): قيل: معناه: من نعمة الجنة إلى
شقاء الدنيا، وقيل: من رفعة المنزلة إلى سفل مكانة الذنب.
* ت *: وفي هذا القول ما فيه، بل الصواب ما أشار إليه صاحب " التنوير "، بأن
إخراج آدم لم يكن إهانة له، بل لما سبق في علمه سبحانه من إكرام آدم وجعله في الأرض
خليفة، هو وأخيار ذريته، قائمين فيها بما يجب لله من عبادته، والهبوط النزول من علو
إلى سفل، واختلف من المخاطب بالهبوط.
فقال السدي / وغيره: آدم، وحواء، وإبليس، والحية التي أدخلت إبليس في فمها،
وقال (2) الحسن: آدم، وحواء والوسوسة (3).
و (بعضكم لبعض عدو) جملة في موضع الحال، (ولكم في الأرض مستقر)،
أي: موضع استقرار، وقيل: المراد الاستقرار في القبور، والمتاع: ما يستمتع به، من

(1) قال السمين الحلبي: " قال قتادة: صبرا، و قال غيره: حزما. و هذه غلطة. و الأولى في تفسيرها: و لم
نجد له تصميما على ما هم به. وقال شمر: العزم و العزيمة: ما عقد عليه قلبك من أمر أنك فاعله.
ينظر: " عمدة الحفاظ " (3 / 87).
(2) أخرجه الطبري (1 / 278) برقم (760)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 110) عن ابن عباس، و عزاه
لعبد بن حميد، وابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.، و ذكره ابن كثير (1 / 206)، و الماوردي
(1 / 107) و الشوكاني في " تفسيره " (1 / 131).
(3) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 129)، و القرطبي (1 / 272).
221

أكل، ولبس، وحديث، وأنس، وغير ذلك.
واختلف في " الحين " هنا.
فقالت فرقة: إلى الموت، وهذا قول من يقول: المستقر هو المقام في الدنيا، وقالت
فرقة: (إلى حين): إلى يوم القيامة، وهذا هو قول من يقول: المستقر هو في القبور،
والحين المدة الطويلة من الدهر، أقصرها في الإيمان (1) والالتزامات سنة، قال الله تعالى:
(تؤتي أكلها كل حين) [إبراهيم: 25] وقيل: أقصرها ستة أشهر، لأن من النخل ما يطعم في
كل ستة أشهر.
وفي قوله تعالى: (إلى حين) فائدة لآدم عليه السلام، ليعلم أنه غير باق فيها،
ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها، وهي لغير آدم دالة على المعاد، وروي أن آدم
نزل على جبل من جبال سرنديب (2)، وأن حواء نزلت بجدة (3)، وأن الحية نزلت
بأصبهان (4)،

(1) الأيمان لغة: جميع يمين، وهو القوة، و في الصحاح: اليمين: القسم، و الجمع: الأيمن، والأيمان.
انظر: " الصحاح " (6 / 2221)، " المصباح المنير " (2 / 1057)، و " المغرب " (2 / 399)، " لسان
العرب " (3 / 426)، " القاموس المحيط " (4 / 281).
واصطلاحا:
عرفه الحنفية بأنه: عقد قوي به عزم الحالف على فعل شئ أو تركه.
و عرفه الشافعية بأنه: تحقيق غير ثابت ماضيا كان أو مستقبلا، نفيا أو إثباتا، ممكنا أو ممتنعا، صادقة أو
كاذبة، على العلم بالحال أو الجهل به.
و عرفه المالكية بأنه: تحقيق ما لم يجب بذكر اسم الله أو صفته.
و عرفه الحنابلة بأنه: توكيد حكم (أي: محلوف عليه)، بذكر معظم، أو هو: المحلوف به على وجه
مخصوص.
ينظر: " تبيين الحقائق " (3 / 107)، " شرح فتح القدير " (4 / 2)، " مغني المحتاج " (4 / 320)، " المحلى
على المنهاج " (4 / 370)، " حاشية الدسوقي " (2 / 112)، " شرح منتهى الإرادات " (3 / 419).
(2) سرنديب جزيرة عظيمة بأقصى بلاد الهند. يقال: ثمانون فرسخا في مثلها، فيها الجبل الذي هبط عليه
آدم - عليه السلام - يقال له: الرهون، وهو ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة. و فيه أثر
آدم و قبره، و هي قدم واحدة مغموسة في الحجر طولها نحو سبعين ذراعا. ينظر: " مراصد الاطلاع " (2 /
710).
(3) جدة بالتشديد: بلد على ساحل بحر اليمن، هو فرضة " مكة ". ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 318).
(4) أصبهان منهم من يفتح الهمزة وهو الأكثر الأشهر، و كسرها آخرون. أصبهان: لفظ معرب من سباهان
بمعنى الجيش، فيكون معناه على حذف المضاف مدينة " الجيش ": مدينة عظيمة مشهورة من أعلام
المدن و أعيانها. و أصبهان: اسم للإقليم بأسره. ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 87).
222

وقيل: بميسان (1)، وأن إبليس نزل عند الأبلة (2).
(فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم (37) قلنا اهبطوا منها جميعا فإما
يأتينكم منى هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون (38))
قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات): المعنى: فقال كلمات، فتاب الله عليه
عند ذلك، وقرأ ابن كثير (3) " آدم " بالنصب " من ربه كلمات " بالرفع، واختلف المتأولون في
الكلمات، فقال الحسن بن أبي الحسن: هي قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا...) (4) الآية
[الأعراف: 23]، وقالت طائفة: أن آدم رأى مكتوبا على ساق العرش: محمد رسول الله،
فتشفع به، فهي الكلمات (5)، وسئل بعض سلف المسلمين عما ينبغي أن يقوله المذنب،
فقال: يقول ما قاله أبواه: (ربنا ظلمنا أنفسنا) [الأعراف: 23] وما قاله موسى: (رب إني
ظلمت نفسي فاغفر لي) [القصص: 16] وما قال يونس: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت
من الظالمين) [الأنبياء: 87] وتاب عليه: معناه: راجع به، والتوبة من الله تعالى الرجوع على
عبده بالرحمة والتوفيق، والتوبة من العبد الرجوع عن المعصية، والندم على الذنب، مع
تركه فيما يستأنف.
* ت *: يعني: مع العزم على تركه فيما يستقبل، وإنما خص الله تعالى آدم بالذكر
في التلقي، والتوبة، وحواء مشاركة له في ذلك بإجماع، لأنه المخاطب في أول القصة،
فكملت القصة بذكره و حده، وأيضا: فلأن المرأة حرمة ومستورة، فأراد الله تعالى الستر
لها، ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله: (وعصى آدم ربه) [طه: 121] وبنية التواب
للمبالغة والتكثير، وفي قوله تعالى: (هو التواب) تأكيد فائدته أن التوبة على العبد إنما هي

(1) " ميسان ": كورة واسعة كثيرة القرى والنخل، بين " البصرة " و " واسط " قصبتها " ميسان ".
ينظر: " مراصد الاطلاع " (3 / 1343).
(2) " الأبلة ": بلدة على شاطئ دجلة " البصرة " العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة " البصرة ".
ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 18).
(3) عبد الله بن كثير الداري المكي، أبو معبد: أحد القراء السبعة. كان قاضي الجماعة ب‍ " مكة ". و كانت
حرفته العطارة. و يسمون العطار " داريا ". فعرف ب‍ " الداري ". و هو فارسي الأصل، ولد سنة (45 ه‍)
ب‍ " مكة " و توفي سنة (120 ه‍) بها أيضا.
ينظر: " وفيات الأعيان " (1: 250)، " الأعلام " (4 / 115).
(4) أخرجه الطبري (1 / 281) برقم (778)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 118)، و عزاه لعبد بن حميد،
و ذكره ابن كثير (1 / 81).
(5) ينظر: القرطبي (1 / 276).
223

نعمة من الله تعالى، لا من العبد وحده، لئلا يعجب التائب، بل الواجب عليه شكر الله
تعالى في توبته عليه، وكرر الأمر بالهبوط لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر،
فعلق بالأول العداوة، وبالثاني إتيان الهدى.
* ت *: وهذه الآية تبين أن هبوط آدم كان هبوط تكرمة، لما ينشأ عن ذلك من
أنواع الخيرات، وفنون العبادات.
و (جميعا): حال من الضمير / في " اهبطوا "، واختلف في المقصود بهذا الخطاب.
فقيل: آدم، وحواء، وإبليس، وذريتهم، وقيل: ظاهره العموم، ومعناه الخصوص
في آدم وحواء، لأن إبليس لا يأتيه هدى، والأول أصح، لأن إبليس مخاطب بالإيمان
بإجماع (1).
" وإن " في قوله: (فإما) هي للشرط، دخلت " ما " عليها مؤكدة، ليصح دخول النون
المشددة، واختلف في معنى قوله: (هدى) فقيل: بيان وإرشاد، والصواب أن يقال: بيان
ودعاء، وقالت فرقة: الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر هو
فمن بعده.

(1) يطلق الإجماع في اللغة، على معنيين:
أحدهما: العزم، يقال: أجمعت المسير و الأمر، واجتمعت عليه، أي: عزمت.
ثانيهما: الاتفاق، و منه يقال: أجمع القوم على كذا، إذا اتفقوا، قال في " القاموس ": الإجماع: الاتفاق،
والعزم على الأمر.
عرفه الرازي في " المحصول " و الإجماع اصطلاحا بأنه: عبارة عن اتفاق أهل الحل والعقد من أمة
محمد صلى الله عليه و آله و سلم على أمر من الأمور.
و عرفه الآمدي بقوله: عبارة عنا تفاق جملة أهل الحل و العقد من أمة محمد صلى الله عليه وآله و سلم في عصر من الأعصار
على واقعة من الوقائع.
و عرفه النظام من المعتزلة بقوله: هو كل قول قامت حجته حتى قول الواحد.
و عرفه سراج الدين الأرموي في " التحصيل " بقوله: هو اتفاق المسلمين المجتهدين في أحكام الشرع على
أمر ما من اعتقاد، أو قول، أو فعل.
و يمكن أن يعرف بأنه اتفاق المجتهدين من هذه الأمة بعد وفاة محمد صلى الله عليه و آله و سلم في عصر على أمر شرعي.
ينظر: " البرهان " لإمام الحرمين (1 / 670)، " البحر المحيط " للزركشي (4 / 435)، " الإحكام في الأصول
الأحكام " للآمدي (1 / 179)، " سلاسل الذهب " للزركشي ص (337)، " التمهيد " للأسنوي
ص (451)، " نهاية السول " له (3 / 237)، " زوائد الأصول " له ص (362)، " منهاج العقول " (2 /
377).
224

وقوله تعالى: (فمن تبع هداي): شرط، جوابه: (فلا خوف عليهم)، قال
سيبويه: والشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول في قوله: (فإما يأتينكم).
وقوله تعالى: (فلا خوف عليهم): يحتمل فيما بين أيديهم من الدنيا، (ولا هم
يحزنون) على ما فاتهم منها، ويحتمل: (لا خوف عليهم) يوم القيامة، (ولا هم
يحزنون) فيه.
* ت *: وهذا هو الظاهر، وعليه اقتصر في اختصار الطبري، ولفظه عن ابن زيد:
(فلا خوف عليهم)، أي: لا خوف عليهم أمامهم (1)، قال: وليس شئ أعظم في صدر
من يموت مما بعد الموت، فأمنهم سبحانه منه، وسلاهم عن الدنيا. انتهى.
(والذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (39) يا بني إسرائيل اذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم و إياي فارهبون (40) و آمنوا بما أنزلت مصدقا لما
معكم و لا تكونوا أول كافر به و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا و إياي فاتقون (41))
وقوله تعالى: (والذين كفروا...) الآية: لما كانت لفظة الكفر يشترك فيها كفر
النعم، وكفر المعاصي، ولا يجب بهذا خلود، بين سبحانه أن الكفر هنا هو الشرك، بقوله:
(وكذبوا بآياتنا...) والآيات هنا يحتمل أن يريد بها المتلوة، ويحتمل أن يريد العلامات
المنصوبة، والصحبة الاقتران بالشيء في حالة ما زمنا.
قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي): إسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم - عليهم السلام - وإسرا: هو بالعبرانية عبد، وإيل: اسم الله تعالى، فمعناه عبد
الله، والذكر في كلام العرب على أنحاء، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان،
والنعمة هنا اسم (2) جنس، فهي مفردة بمعنى الجمع، قال ابن عباس، وجمهور العلماء:
الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي صلى الله عليه وسلم

(1) أخرجه الطبري (1 / 285) برقم (796).
(2) الجنس: هو جملة الشئ و مجموع أفراده، و هو أعم من النوع، و قد استعمل النحاة هذا التعبير في مجال
الدلالة على الشيوع و العمومية في النوع الواحد. وقد أطلق النحاة هذا اللفظ في مجال تقسيم العلم و ذكر
أنواعه، قالوا: العلم: علم شخص أو جنس. و استعملوه أيضا في اسم الجنس الذي قسموه إلى ثلاثة
أقسام:
1 - اسم جنس جمعي. 2 - اسم جنس إفرادي. 3 - اسم جنس آحادي.
" معجم المصطلحات النحوية والصرفية "، د. محمد سمير نجيب اللبدي، (ص 55 - 56).
225

وقوله تعالى: (و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم): أمر وجوابه، وهذا العهد في قول
جمهور العلماء عام (1) في جميع أوامره سبحانه ونواهيه ووصاياه لهم، فيدخل في ذلك ذكر
محمد صلى الله عليه وسلم الذي في التوراة، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد، وأسند الترمذي
الحكيم (2) في " نوادر الأصول " له عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " قال ربكم سبحانه: لا أجمع
على عبدي خوفين، ولا أجمع له أمنين، فمن خافني في الدنيا أمنته في الآخرة، ومن أمنني
في الدنيا، أخفته في الآخرة " (3). انتهى من " التذكرة " للقرطبي، ورواه ابن المبارك (4) في

عرفه أبو الحسين البصري في " المعتمد " بقوله: " هو اللفظ المستغرق لما يصلح له ". و زاد الإمام الرازي
على هذا التعريف في " المحصول ": "... بوضوح واحد "، و عليه جرى البيضاوي في " منهاجه ".
و عرفه إمام الحرمين الجويني في " الورقات " بقوله: " العام: ما عم شيئين فصاعدا ". و إلى ذلك أيضا
ذهب الإمام الغزالي، حيث عرفه بأنه: " اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ".
و يرى سيف الدين الآمدي أن العام هو: " اللفظ الواحد الدال على قسمين فصاعدا مطلقا معا ".
و اختار ابن الحاجب: " أن العام ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة ".
ينظر: " البرهان " لإمام الحرمين (1 / 318)، و " البحر المحيط " للزركشي (3 / 5)، و " الإحكام في
أصول الأحكام " للآمدي (2 / 185)، و " سلاسل الذهب للزركشي (ص 219)، و " التمهيد " للإسنوي
(ص 297)، و " نهاية السول " له (2 / 312)، و " زوائد الأصول " له (ص 248)، و " منهاج العقول "
للبدخشي: (2 / 75)، و " غاية الوصول " للشيخ زكريا الأنصاري (ص 69)، و " التحصيل من
المحصول " للأرموي: (1 / 343)، و " المنخول " للغزالي (ص 138)، و " المستصفى " له (2 / 32)،
و " حاشية البناني " (1 / 392)، و " الإبهاج " لابن السبكي (2 / 82)، و " الآيات البينات " لابن قاسم
العبادي (2 / 254)، و " تخريج الفروع على الأصول " للزنجاني (ص 326)، و " حاشية العطار على
جمع الجوامع " (1 / 505)، و " المعتمد " لأبي الحسين (1 / 189)، و " إحكام الفصول في أحكام
الأصول " للباجي (ص 230).
(2) محمد بن علي بن الحسن بن بشر، أبو عبد الله، الحكيم الترمذي: باحث صوفي، عالم بالحديث
و أصول الدين من أهل " ترمذ " نفي منها بسبب تصنيفه كتابا خالف فيه ما عليه أهلها، فشهدوا عليه
بالكفر. و قيل: اتهم باتباع طريقة الصوفية في الإشارات و دعوى الكشف. و قيل: فضل الولاية على
النبوة، ورد بعض العلماء هذه التهمة عنه. أما كتبه، فمنها: " نوادر الأصول في أحاديث الرسول "،
و " الفروق ".
ينظر: " الأعلام " (6 / 272)، " مفتاح السعادة " (2 / 170)، " طبقات السبكي " (2 / 20)، " الرسالة
المستطرفة " (43).
(3) أخرجه ابن حبان (2494 - موارد)، و البزار (4 / 74 - " كشف ")، حديث (3233).
(4) عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة الأعلام
و شيوخ الإسلام. روى عن حميد، و إسماعيل، و غيرهم. كتب عن أربعة آلاف شيخ و روى عن ألف،
عالم المشرق و المغرب، و كان ثقة، ولد سنة (118 ه‍)، و توفي سنة (181 ه‍).
ينظر: " الخلاصة " (2 / 93) (3767)، و " الحلية " (8 / 162 - 190)، و " الوفيات " (3 / 32 - 34).
226

رقائقه من طريق الحسن البصري، وفيه: قال الله: " وعزتي، لا أجمع على عبدي
خوفين، ولا أجمع له أمنين، فإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة، وإذا خافني في الدنيا
أمنته يوم القيامة " (1). انتهى، ورواه أيضا الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الأولياء " قال
صاحب " الكلم الفارقية، والحكم الحقيقية ": " بقدر ما يدخل القلب من التعظيم والحرمة /
تنبعث الجوارح في الطاعة والخدمة ". انتهى.
و (آمنوا): معناه: صدقوا، و (مصدقا) نصب على الحال من الضمير في
(أنزلت)، و (ما أنزلت) كناية عن القرآن، و (لما معكم)، يعني: التوراة.
وقوله: (ولا تكونوا أول كافر به) هذا من مفهوم الخطاب الذي المذكور فيه
والمسكوت عنه حكمهما واحد، وحذروا البدار إلى الكفر به، إذا على الأول كفل من فعل
المقتدى به، ونصب " أول " على خبر " كان ".
* ع (2) *: وقد كان كفر قبلهم كفار قريش، وإنما معناه من أهل الكتاب، إذ هم
منظور إليهم في مثل هذا، واختلف في الضمير في " به "، فقيل: يعود على محمد صلى الله عليه وسلم،
وقيل: على القرآن، وقيل: على التوراة، واختلف في الثمن الذي نهوا أن يشتروه بالآيات.
فقالت طائفة: إن الأحبار كانوا يعلمون دينهم بالأجرة، فنهوا عن ذلك، وفي كتبهم:
" علم مجانا، كما علمت مجانا "، أي: باطلا بغير أجرة.
وقيل: كانت للأخبار مأكلة يأكلونها على العلم.
وقال قوم: أن الأحبار أخذوا رشا على تغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة، فنهوا عن
ذلك.
وقال قوم: معنى الآية: ولا تشتروا بأوامري، ونواهي، وآياتي ثمنا قليلا، يعنى:
الدنيا ومدتها والعيش الذي هو نزر (3) لا خطر له، وقد تقدم نظير قوله: (وإياي فاتقون)،
وبين " اتقون "، و " ارهبون " فرق أن الرهبة مقرون بها وعيد بالغ.
(و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون (42) و أقيموا الصلاة وءآتوا الزكاة

(1) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 50، 51) رقم (157) عن الحسن مرسلا.
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 134).
(3) النزر: القليل التافه. ينظر: " لسان العرب " (4393).
227

و اركعوا مع الراكعين (43))
وقوله تعالى: (و لا تلبسوا الحق بالباطل)، أي: لا تخلطوا، قال أبو العالية: قالت
اليهود: محمد نبي مبعوث، لكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثه حق، وقولهم: إلى غيرنا
باطل، (وتكتموا الحق)، أي: أمر محمد صلى الله عليه وسلم (1)، وفي هذه الألفاظ دليل على تغليظ
الذنب على من وقع فيه، مع العلم به، وأنه أعصى من الجاهل، (وأنتم تعلمون) جملة
في موضع الحال.
قال * ص (2) *: (وتكتموا) مجزوم معطوف على (تلبسوا)، والمعنى النهي عن
كل من الفعلين. انتهى.
(وأقيموا الصلاة): معناه: أظهروا هيئتها، وأديموها بشروطها، والزكاة في هذه الآية
هي المفروضة، وهي مأخوذة من النماء، وقيل: من التطهير.
وقوله تعالى: (واركعوا مع الراكعين): قيل: إنما خص الركوع بالذكر، لأن بني إسرائيل
لم يكن في صلاتهم ركوع.
* ت *: و في هذا القول نظر، وقد قال تعالى في " مريم ": (اسجدي واركعي)
[آل عمران: 43]، وقالت فرقة: إنما قال: (مع)، لأن الأمر بالصلاة أولا لم يقتض شهود
الجماعة، فأمرهم بقوله: (مع) شهود الجماعة.
* ت *: وهذا القول هو الذي عول عليه * ع *: في قصة مريم (3) - عليها
السلام -، والركوع الانحناء بالشخص.
(* أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (44) و استعينوا
بالصبر والصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين (45) الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم و أنهم إليه راجعون (46))
وقوله تعالى: (أتأمرون) خرج مخرج الاستفهام، ومعناه التوبيخ، و " البر " يجمع
وجوه الخير والطاعات، و (تنسون) معناه تتركون أنفسكم.
قال ابن عباس: كان الأحبار يأمرون أتباعهم ومقلديهم باتباع التوراة، وكانوا هم

(1) أخرجه الطبري (1 / 294) برقم (829) بلفظ " كتموا بعث محمد صلى الله عليه وآله و سلم ". و ذكره ابن عطية الأندلسي في
" تفسيره " (1 / 135).
(2) " المجيد " ص / 230.
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 434).
228

يخالفونها في جحدهم منها صفة محمد صلى الله عليه وسلم (1).
وقالت فرقة: كان الأحبار إذا استرشدهم أحد من العرب في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، دلوه
على ذلك، وهم لا يفعلونه.
* ت *: وخرج الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (2) في كتاب " رياضة
المتعلمين "، قال: حدثنا أبو بكر بن خلاد (3)، حدثنا الحارث بن أبي أسامة (4)، حدثنا أبو
النضر (5) /، حدثنا محمد بن عبد الله بن علي بن زيد عن أنس بن مالك - رضي الله
عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رأيت ليلة أسري بي رجالا تقرض ألسنتهم وشفاههم
بمقاريض من نار، فقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: الخطباء من أمتك الذين يأمرون
الناس بالبر، وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون " (6). انتهى.

(1) أخرجه الطبري (1 / 296) برقم (840) بنحوه، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 126)، و عزاه لابن
إسحاق، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم.
(2) أحمد بن عبد الله بن أحمد الأصبهاني، أبو نعيم: حافظ، مؤرخ، من الثقات في الحفظ و الرواية. ولد
و مات في " أصبهان ". من تصانيفه " حلية الأولياء و طبقات الأصفياء "، و " معرفة الصحابة ".
ينظر: " الأعلام " (1 / 157)، " ابن خلكان " (1 / 26)، " ميزان الاعتدال " (1 / 52)، " طبقات الشافعية "
(3 / 7).
(3) محمد بن خلاد بن كثير الباهلي، أبو بكر البصري. عن ابن عيينة، و معتمر بن سليمان، وابن فضيل،
و طبقتهم. و عنه مسلم، و أبو داود، وابن ماجة، و زكريا خياط السنة. قال ابن حبان في " الثقات ": مات
سنة تسع و ثلاثين و مائتين.
ينظر: " خلاصة تذهيب تهذيب الكمال " (2 / 401)، " تهذيب التهذيب " (9 / 152)، " الثقات " (9 / 86).
(4) اسم أبي أسامة: داهر: و نعت الحارث بأنه الحافظ، الصدوق، العالم، مسند العراق، أبو محمد
التميمي، مولاهم البغدادي الخصيب، صاحب " المسند " المشهور، و لم يرتبه على الصحابة، و لا على
الأبواب. ولد في سنة ست و ثمانين و مئة.
ذكره ابن حبان في " الثقات ". و قال الدارقطني: صدوق.
توفي الحارث يوم " عرفة " سنة اثنين و ثمانين و مئتين. ينظر: " سير أعلام النبلاء " (13 / 388 - 390).
(5) هاشم بن القاسم الليثي، أبو النضر الخراساني، قيصر، الحافظ. عن شعبة، و ابن أبي ذئب، و حريز بن
عثمان، و خلق. و عنه أحمد، و إسحاق، و يحيى، و ابن المديني، وخلق. قال العجلي: ثقة، صاحب
سنة. كان أهل " بغداد " يفتخرون به. قال مطين: مات سنة سبع و مائتين. ينظر: " خلاصة تهذيب
التهذيب " (3 / 110)، و " تهذيب التهذيب " (11 / 18)، و " الكاشف " (3 / 217)،، و " الجرح و التعديل "
(6 / 446).
(6) أخرجه أحمد (3 / 120، 180، 231، 239)، و ابن المبارك في " الزهد " (819)، و أبو يعلى (7 / 69)،
رقم (3992)، من طريق حماد عن علي بن زيد، عن أنس به.
229

(واستعينوا بالصبر والصلاة): قال مقاتل (1): معناه: على طلب الآخرة، وقيل:
استعينوا بالصبر على الطاعات، وعن الشهوات على نيل رضوان الله سبحانه، وبالصلاة
على نيل رضوان الله، وحط الذنوب، وعلى مصائب الدهر أيضا، ومنه الحديث: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حزبه (2) أمر، فزع إلى الصلاة " (3)، ومنه ما روي أن عبد الله بن عباس
نعي له أخوه قثم (4) وهو في سفر، فاسترجع، وتنحى عن الطريق، وصلى، ثم انصرف إلى
راحلته، وهو يقرأ: (واستعينوا بالصبر والصلاة) (5)، وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية
الصوم (6)، ومنه قيل لرمضان شهر الصبر، وخص الصوم والصلاة على هذا القول بالذكر،
لتناسبهما في أن الصيام يمنع الشهوات، ويزهد في الدنيا، والصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر، وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر بالآخرة، وقال قوم: الصبر على بابه،
والصلاة الدعاء، وتجئ الآية على هذا القول مشبهة لقوله تعالى: (إذا ولا لقيتم فئة فاثبتوا

و أخرجه أبو يعلى (7 / 180)، رقم (4160)، و ابن حبان. (35 - موارد)، من طريق مالك بن دينار، عن
أنس به.
و أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (8 / 172)، من طريق سليمان التيمي، عن أنس به.
و الحديث ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 64)، و زاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد،
و البزار، و ابن أبي داود في " البعث "، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم، و البيهقي في " شعب الإيمان ".
(1) مقاتل بن سليمان الأزدي، أبو الحسن الخراساني، المفسر عن الضحاك، و مجاهد. و عنه ابن عيينة،
و علي بن الجعد. قال الشافعي: الناس عيال عليه في التفسير. قال ابن المبارك: ما أحسن تفسيره لو كان
ثقة. و قال الحربي: لم يسمع من مجاهد شيئا. و قال أبو حنيفة: مشبه. وكذبه وكيع. قال ابن حبان:
كان يأخذ عن اليهود علم الكتاب، و كان مشبها يكذب. قيل: مات سنة خمسين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 53 - 54)، " تهذيب التهذيب " (10 / 285).
(2) أي إذا نزل به منهم أو أصابه غم.
ينظر: " النهاية " (1 / 377).
(3) أخرجه أحمد (5 / 388)، و أبو داود (1 / 420 - 421) كتاب " الصلاة "، باب وقت قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
الليل، حديث (1319)، من حديث حذيفة.
(4) قثم (بضم أوله، و فتح المثلثة) ابن عباس بن عبد المطلب الهاشمي، صحابي، روى عنه أبو إسحاق
السبيعي، و استشهد في عزو " سمرقند " و قبره بها.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 359)، " تهذيب الكمال " (2 / 1124)، " تهذيب التهذيب " (8 / 361)، " تقريب
التهذيب " (2 / 123).
(5) أخرجه الطبري (1 / 299) برقم (852)، و قال أحمد شاكر: " إسناده صحيح " و أخرجه البيهقي في
" الشعب " (7 / 114) برقم (9682)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 131)، و عزاه لسعيد بن منصور،
و ابن جرير، و ابن المنذر، و البيهقي في " الشعب ".
(6) أخرجه البيهقي في " الشعب " (7 / 113) برقم (9680).
230

واذكروا الله) [الأنفال: 45] لأن الثبات هو الصبر، وذكر الله هو الدعاء، وروى ابن المبارك
في " رقائقه "، قال: أخبرنا حماد بن سلمة (1) عن ثابت البناني (2) عن صلة بن أشيم (3)،
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاة، لم يذكر فيها شيئا من أمر الدنيا، لم يسأل
الله شيئا إلا أعطاه إياه " (4) وأسند ابن المبارك عن عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من توضأ، فأحسن وضوءه، ثم صلى صلاة غير ساه، ولا لاه،
كفر عنه ما كان قبلها من شئ " (5). انتهى
وهذان الحديثان يبينان ما جاء في " صحيح البخاري " عن عثمان حيث توضأ ثلاثا
ثلاثا، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا

(1) حماد بن سلمة بن دينار الربعي، أو التميمي، أو القرشي، مولاهم، أبو سلمة البصري، أحد الأعلام.
عن ثابت، و سماك، و سلمة بن كهيل، و ابن أبي مليكة، و قتادة، و حميد، و خلق. و عنه ابن جريح،
و ابن إسحاق شيخاه، و شعبة، و مالك، و حبان بن هلال، و القعنبي، و أمم. قال القطان: إذا رأيت
الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام. و قال ابن المبارك: ما رأيت أشبه بمسالك الأول من حماد.
و قال وهيب بن خالد: كان حماد بن سلمة سيدنا و أعلمنا. قال حماد: من طلب العلم لغير الله مكر به.
توفي سنة سبع و ستين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 252)، " تهذيب التهذيب " (3 / 11)، و " الثقات " (6 / 216).
(2) ثابت بن أسلم البناني، مولاهم، أبو محمد البصري، أحد الأعلام. قال ابن المديني: له نحو مائتين
و خمسين حديثا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت. و قال شعبة: كان يختم في كل يوم و ليلة
و يصوم الدهر. وثقه النسائي، و أحمد، و العجلي. قال ابن علية: مات سنة سبع و عشرين و مائة عن ست
و ثمانين سنة.
ينظر: " طبقات ابن سعد " (1 / 478 و 7 / 231)، " الوافي بالوفيات " (10 / 461)، " الحلية " (2 / 318)،
" سير الأعلام " (5 / 220)، " تذكرة الحفاظ " (125)، " لسان الميزان " (7 / 187) " ميزان الاعتدال " (1 /
362)، " تهذيب الكمال " (1 / 170)، " خلاصة تهذيب الكمال " (1 / 147).
(3) الزاهد، العابد، القدوة، أبو الصهباء، العدوي، البصري، زوج العالمة معاذة العدوية.
حدث عنه: أهله معاذة، و الحسن، و حميد بن هلال، و ثابت البناني، و غيرهم.
ينظر: " سير الأعلام " (3 / 497).
(4) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 402) رقم (1143)، و ابن شاهين في " الصحابة " كما في " الإصابة "
(3 / 260) من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن صلة بن أشيم به مرسلا.
(5) أخرجه ابن المبارك (ص 402 - 403)، رقم (1145)، و الطبراني في " الكبير " (17 / 326 - 327)،
رقم (902) من طريق ابن لهيعة، عن بكر بن سوادة، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر مرفوعا.
و أخرجه الطبراني (17 / 327)، رقم (903)، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكر بن
سوادة، عن رجل، عن ربيعة بن قيس، عن عقبة بن عامر به.
و ذكره الهيثمي في " المجمع " (2 / 278)، و قال: رواه الطبراني في " الكبير " بإسنادين في أحدهما ابن
لهيعة، و فيه كلام.
231

يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه " (1). انتهى.
والضمير في قوله تعالى: (وإنها) قيل: يعود على الصلاة، وقيل: على العبادة التي
تضمنها بالمعنى ذكر الصبر والصلاة.
قال * ص (2) * " وإنها " الضمير للصلاة، وهو القاعدة في أن ضمير الغائب لا يعود
على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى.
ثم ذكر أبو حيان (3) وجوها أخر نحو ما تقدم.
وكبيرة: معناه: ثقيلة شاقة، والخاشعون: المتواضعون المخبتون، والخشوع هيئة في
النفس يظهر منها على الجوارح سكون وتواضع.
و (يظنون) في هذه الآية، قال الجمهور: معناه: يوقنون، والظن في كلام العرب
قاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يقع موقع اليقين، لكنه لا يقع فيما قد خرج
إلى الحس لا تقول العرب في رجل مرئي أظن هذا إنسانا، وإنما تجد الاستعمال فيما لم
يخرج إلى الحس، كهذه الآية، وكقوله تعالى: (فظنوا أنهم مواقعوها) [الكهف: 53].
قال * ص (4) *: قلت: وما ذكره ابن عطية هو معنى ما ذكره الزجاج (5) في معانيه
عن بعض أهل العلم، أن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده /، وإن كان قد قامت
في نفسك حقيقته، قال: وهذا مذهب إلا أن أهل اللغة لم يذكروه، قال: وسمعته من أبي
إسحاق إسماعيل بن إسحاق القاضي (6)،

(1) أخرجه البخاري (1 / 259)، كتاب " الوضوء "، باب الوضوء ثلاثا، الحديث (159)، (160)، (164)،
(1934)، (6433)، و مسلم (1 / 205)، كتاب " الطهارة "، باب صفة الوضوء، و كماله، الحديث (4 /
226)، و أبو داود (1 / 78 - 81)، كتاب " الطهارة "، باب صفة وضوء النبي صلى الله عليه وآله و سلم، الحديث (106)،
(110)، وابن ماجة (1 / 105)، كتاب " الطهارة "، باب ثواب الطهور، الحديث (285)، و النسائي (1 /
64)، كتاب الطهارة "، باب المضمضة و الاستنشاق، و باب بأي اليدين يتمضمض، و البيهقي (1 / 49)،
كتاب " الطهارة "، باب سنة التكرار في المضمضة و الاستنشاق، و الدارقطني (1 / 83)، كتاب " الطهارة "،
باب وضوء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
(2) " المجيد " ص 233.
(3) ينظر: " البحر المحيط " (1 / 341).
(4) " المجيد " (235).
(5) ينظر: " معاني القرآن و إعرابه " للزاج " (1 / 126).
(6) أبو إسحاق: إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم بن بابك الجهضمي
الأزدي: مولى آل جرير بن حازم. أصله من " البصرة "، و بها نشأ، و استوطن " بغداد " و تفقه بابن
232

رواه عن زيد بن أسلم (1). انتهى.
والملاقاة هي للثواب أو العقاب، ويصح أن تكون الملاقاة هنا بالرؤية التي عليها أهل
السنة، وورد بها متواتر الحديث.
و (راجعون): قيل: معناه: بالموت، وقيل: بالحشر والخروج إلى الحساب
والعرض، ويقوى هذا القول الآية المتقدمة قوله تعالى: (ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه
ترجعون).
(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم و أنى فضلتكم على العالمين (47) و اتقوا يوما لا
تجزي نفس عن نفس شيئا و لا يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون (48))
قوله تعالى: (يا بني إسرائيل...) الآية: قد تكرر هذا النداء و التذكير بالنعمة،
وفائدة ذلك أن الخطاب الأول يصح أن يكون للمؤمنين، ويصح أن يكون للكافرين منهم،
وهذا المتكرر إنما هو للكافرين، بدلالة ما بعده، وأيضا: فإن فيه تقوية التوقيف، وتأكيد
الحض على أيادي الله سبحانه، وحسن خطابهم بقوله سبحانه: (فضلتكم على العالمين)،
لأن تفضيل آبائهم وأسلافهم تفضيل لهم، وفي الكلام اتساع، قال قتادة وغيره: المعنى:
على عالم زمانهم الذي كانت فيه النبوءة المتكررة، لأن الله تعالى يقول لأمة محمد صلى الله عليه وسلم:
(كنتم خير أمة أخرجت للناس) (2) [آل عمران: 110].
(واتقوا يوما)، أي: عذاب يوم، أو هول يوم، ويصح أن يكون يوما نصبه على

المعدل، و كان يقول: أفخر على الناس برجلين ب‍ " البصرة ": ابن المعدل: يعلمني الفقه، و ابن المديني:
يعلمني الحديث.
ينظر: " الديباج المذهب " (1 / 283 - 284).
(1) زيد بن أسلم العدوي، مولاهم، المدني، أحد الأعلام. عن أبيه، و ابن عمر، و جابر، و عائشة، و أبي
هريرة، و قال ابن معين: لم يسمع منه، و لا جابر، و عنه بنوه، و داود بن قيس، و معمر و روح بن
القاسم، قال مالك: كان زيد يحدث من تلقاء نفسه، فإذا قام فلا يجترىء عليه أحد. وثقه أحمد،
و يعقوب بن شيبة. مات سنة ست و ثلاثين و مائة في ذي الحجة.
ينظر: " الخلاصة (1 / 349)، " تهذيب التهذيب " (3 / 395)، " الكاشف " (1 / 136)، " تاريخ البخاري
الكبير " (3 / 387)، " تاريخ البخاري الصغير " (1 / 137)، " الجرح و التعديل " (3 / 2509)، " ميزان
الاعتدال " (2 / 98)، " الثقات " (6 / 246).
(2) أخرجه الطبري (1 / 303) برقم (869) بلفظ " فضلهم على عالم ذلك الزمان " و ذكره السيوطي في " الدر "
(1 / 133) بلفظ " فضلوا على العالم الذي كانوا فيه، و لكل زمان عالم " و عزاه لعبد الرزاق، و عبد بن
حميد.
233

الظرف (1)، و (لا تجزي): معناه: لا تغنى، وقال السدي: معناه: لا تقضي، ويقويه
قوله: (شيئا)، وفي الكلام حذف، التقدير: لا تجزي فيه، وفي مختصر الطبري: أي:
واتقوا يوما لا تقضي نفس عن نفس شيئا، ولا تغنى غناء، وأحدنا اليوم قد يقضي عن قريبه
دينا، وأما في الآخرة، فيسر المرء أن يترتب له على قريبه حق، لأن القضاء هناك من
الحسنات والسيئات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
والشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهما الاثنان، لأن الشافع والمشفوع له شفع، وسبب
هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: " نحن أبناء أنبياء الله، وسيشفع لنا آباؤنا "، وهذا إنما هو
في حق الكافرين، للإجماع، وتواتر الأحاديث بالشفاعة في المؤمنين.
وقوله تعالى: (ولا يؤخذ منها عدل): قال أبو العالية: العدل: الفدية.
قال * ع (2) *: عدل الشئ هو الذي يساويه قيمة وقدرا، وإن لم يكن من جنسه،
والعدل، بكسر العين: هو الذي يساوي الشئ من جنسه، وفي جرمه، والضمير في قوله:
(ولا هم) عائد على الكافرين الذين اقتضتهم الآية، ويحتمل أن يعود على النفسين المتقدم
ذكرهما، لأن اثنين جمع، أو لأن النفس للجنس، وهو جمع، وحصرت هذه الآية المعاني
التي اعتادها بنو آدم في الدنيا، فإن الواقع في شدة مع آدمي لا يتخلص إلا بأن يشفع له، أو
ينصر، أو يفتدى.
* ت *: أو يمن عليه إلا أن الكافر ليس هو بأهل لأن يمن عليه.
(و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم و يستحيون نساءكم و في
ذلكم بلاء من ربكم عظيم (49))
قوله تعالى: (و إذ نجيناكم من آل فرعون): أي: خلصناكم، وآل: أصله أهل،
قلبت الهاء ألفا، ولذلك ردها التصغير إلى الأصل، فقيل: أهيل، وآل الرجل قرابته:
وشيعته، وأتباعه، وفرعون: اسم لكل من ملك من العمالقة بمصر، وفرعون موسى، قيل:

(1) و يكون المفعول حينئذ محذوفا، و تقديره: و اتقوا العذاب في يوم صفته كيت و كيت. و قد منع أبو البقاء
كونه ظرفا، قال: لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة. والجواب عنه - كما يقول السمين الحلبي -:
أن الأمر بالحذر من الأسباب المؤدية إلى العذاب في يوم القيامة.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 214)، " التبيان في إعراب القرآن " لأبي البقاء العكبري، تحقيق علي محمد
البجاوي، دار الشام للتراث، بيروت لبنان، (1 / 60).
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 139).
234

اسمه مصعب بن الريان، وقال ابن إسحاق: اسمه الوليد بن مصعب، وروي أنه كان من
أهل إصطخر (1) ورد مصر، فاتفق له فيها الملك، وكان أصل كون بني إسرائيل بمصر نزول
إسرائيل بها زمن ابنه يوسف عليهما السلام.
و (يسومونكم): معناه: يأخذونكم به، ويلزمونكم إياه، والجملة في موضع نصب
على الحال، أي: سائمين / لكم سوء العذاب، وسوء العذاب أشده وأصعبه، وكان فرعون
على ما روي قد رأى في منامه نارا خرجت من بيت المقدس، فأحرقت بيوت مصر،
فأولت له رؤياه، أن مولودا من بني إسرائيل ينشأ، فيخرب ملك فرعون على يديه، وقال
ابن إسحاق، وابن عباس، وغيرهما: إن الكهنة والمنجمين قالوا لفرعون: قد أظلك زمان
مولود من بني إسرائيل يخرب ملكك (2).
و (يذبحون) بدل من: " يسومون "، (وفي ذلكم): إشارة إلى جملة الأمر،
و (بلاء) معناه: امتحان واختبار، ويكون البلاء في الخير والشر.
وحكى الطبري وغيره في كيفية نجاتهم أن موسى - عليه السلام - أوحي إليه أن يسري
من مصر ببني إسرائيل، فأمرهم موسى أن يستعيروا الحلي والمتاع من القبط (3)، وأحل الله
ذلك لبني إسرائيل، ويروى أنهم فعلوا ذلك دون رأي موسى - عليه السلام - وهو الأشبه
به، فسرى بهم موسى من أول الليل، فأعلم بهم فرعون، فقال: لا يتبعهم أحد حتى تصيح
الديكة، فلم يصح تلك الليلة بمصر ديك، حتى أصبح، وأمات الله تلك الليلة كثيرا من
أبناء القبط، فاشتغلوا بالدفن، وخرجوا في الأتباع مشرقين، وذهب موسى عليه السلام إلى
ناحية البحر، حتى بلغه، وكانت عدة بني إسرائيل نيفا على ستمائة ألف، وكانت عدة
فرعون ألف ألف ومائتي ألف، وحكي غير هذا مما اختصرته لقلة ثبوته، فلما لحق فرعون
موسى، ظن بنو إسرائيل أنهم غير ناجين، فقال يوشع بن نون لموسى: أين أمرت؟ فقال:
هكذا، وأشار إلى البحر، فركض يوشع فرسه، حتى بلغ الغمر (4)، ثم رجع، فقال
لموسى: أين أمرت؟ فوالله: ما كذبت، ولا كذبت، فأشار إلى البحر، وأوحى الله تعالى

(1) إصطخر: بلدة بفارس، يقال: إن كور " فارس " الخمسة، أكبرها و أصلها كورة " إصطخر ". ينظر:
" مراصد الاطلاع " (1 / 87).
(2) أخرجه الطبري (1 / 311) برقم (893)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 133)، و عزاه لابن جرير.
(3) القبط: جيل بمصر. و قيل: هم أهل مصر. ينظر: " لسان العرب " (3514)، و " النهاية " (4 / 6).
(4) عمر البحر: معظمه، والغمر: الماء الكثير، و قيل: الكثير المغرق. ينظر: " لسان العرب " (3293،
3294).
235

إليه، أن اضرب بعصاك البحر، وأوحى الله إلى البحر، أن انفرق لموسى إذا ضربك، فبات
البحر تلك الليلة يضطرب، فحين أصبح، ضرب موسى البحر، وكناه أبا خالد، فانفلق،
وكان ذلك في يوم عاشوراء.
(و إذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم و أغرقنا آل فرعون و أنتم تنظرون (50) و إذ واعدنا موسى
أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده و أنتم ظالمون (51) ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم
تشكرون (52) و إذ آتينا موسى الكتاب و الفرقان لعلكم تهتدون (53) و إذ قال موسى لقومه يا قوم
إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم
فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم (54))
وقوله تعالى: (وإذ فرقنا بكم البحر...) الآية: (فرقنا): معناه: جعلناه فرقا،
ومعنى (بكم) أي: بسببكم، والبحر هو بحر القلزم (1) ولم يفرق البحر عرضا من ضفة
إلى ضفة، وإنما فرق من موضع إلى موضع آخر في ضفة واحدة، وكان ذلك الفرق يقرب
موضع النجاة، ولا يلحق في البر إلا في أيام كثيرة بسبب جبال وأوغار حائلة، وقيل:
انفرق البحر عرضا على اثني عشر طريقا، طريق لكل سبط، فلما دخلوها، قالت كل
طائفة: غرق أصحابنا، وجزعوا، فقال موسى - عليه السلام -: اللهم، أعني على أخلاقهم
السيئة، فأوحى الله إليه أن أدر عصاك على البحر، فأدارها، فصار في الماء فتوح
كالطاق (2)، يرى بعضهم بعضا، وجازوا وجبريل في ساقتهم على ماذيانة (3) يحث بني
إسرائيل، ويقول لآل فرعون: مهلا حتى يلحق آخركم إلى أولكم، فلما وصل فرعون إلى
البحر، أراد الدخول، فنفر فرسه، فتعرض له جبريل بالرمكة (4)، فاتبعها الفرس، ودخل آل
فرعون، وميكائيل يحثهم، فلما لم يبق إلا ميكائيل في ساقتهم على الضفة وحده، انطبق
البحر عليهم، فغرقوا.

(1) بحر القلزم: شعبة من بحر الهند، أوله من بلاد البربر و السودان و الحبش من جهة الجنوب، و من جهة
الشمال " عدن " و بلاد العرب حتى يقطع آخره عند " القلزم "، وهي مدينة صغيرة على أرض مصر.
ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 166).
(2) هو ما عطف و جعل كالقوس من الأبنية.
ينظر: " لسان العرب " (2725)، و " المعجم الوسيط " (577).
(3) قيل: إن الماذيان هو النهر الكبير، و هذه الكلمة ليست بعربية، قال ابن الأثير: و هي سوادية.
ينظر: " النهاية " (4 / 313)، و " اللسان " (4164) (حزن).
(4) الرمكة: الفرس و البرذونة التي تتخذ للنسل، معرب، و الجمع رمك.
ينظر: " لسان العرب " (1733).
236

و (تنظرون): قيل: معناه بأبصاركم لقرب بعضهم من بعض، وقيل: ببصائركم
للاعتبار، لأنهم كانوا في شغل.
قال الطبري: وفي أخبار القرآن على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المغيبات التي لم تكن من
علم العرب، ولا وقعت إلا في خفي علم بني إسرائيل دليل واضح عند بني إسرائيل،
وقائم / عليهم بنبوءة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وموسى: اسم أعجمي، قال ابن إسحاق: هو موسى بن عمران بن يصهر ابن
قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم (1).
وخص الليالي بالذكر في قوله تعالى: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة) إذ الليلة أقدم
من اليوم، وقبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ، قال النقاش: وفي ذلك إشارة إلى صلة
الصوم، لأنه لو ذكر الأيام، لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل، فلما نص على الليالي،
اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل أربعين ليلة بأيامها.
قال * ع (2) *: حدثني أبي - رضي الله عنه - قال: سمعت الشيخ الزاهد الإمام
الواعظ أبا الفضل بن الجوهري - رحمه الله - يعظ الناس بهذا المعنى في الخلوة بالله
سبحانه، والدنو منه في الصلاة، ونحوه، وإن ذلك يشغل عن كل طعام وشراب، ويقول:
أين حال موسى في القرب من الله، ووصال ثمانين من الدهر من قوله، حين سار إلى
الخضر لفتاه في بعض يوم: (آتنا غداءنا) [الكهف: 62].
* ت *: وأيضا في الأثر أن موسى لم يصبه أو لم يشك ما شكاه من النصب،
حتى جاوز الموضع الذي وعد فيه لقاء الخضر عليهما السلام.
قال * ع (3) *: وكل المفسرين على أن الأربعين كلها ميعاد.
وقوله تعالى: (ثم اتخذتم العجل) أي: إلها، والضمير في (بعده) يعود على
موسى، وقيل: على انطلاقه للتكليم، إذ المواعدة تقتضيه، وقصص هذه الآية أن موسى
عليه السلام، لما خرج ببني إسرائيل من مصر، قال لهم: إن الله تعالى سينجيكم من آل
فرعون، وينفلكم حليهم، ويروى أن استعارتهم للحلي كانت بغير إذن موسى - عليه

(1) ينظر: " النكت و العيون " (1 / 120).
(2) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 142).
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 142).
237

السلام - وهو الأشبه به، ويؤيده ما في سورة طه في قولهم لموسى: (ولكنا حملنا أوزارا)
[طه: 87]، فظاهره أنهم أخبروه بما لم يتقدم له به شعور، ثم قال لهم موسى: أنه سينزل
الله علي كتابا فيه التحليل والتحريم والهدى لكم، فلما جاوزا البحر، طلبوا موسى بما قال
لهم من أمر الكتاب، فخرج لميعاد ربه وحده، وقد أعلمهم بالأربعين ليلة، فعدوا عشرين
يوما بعشرين ليلة، وقالوا: هذه أربعون من الدهر، وقد أخلفنا الموعد، وبدا تعنتهم
وخلافهم، وكان السامري رجلا من بني إسرائيل يسمى موسى بن ظفر، ويقال: إنه ابن
خال موسى، وقيل: لم يكن من بني إسرائيل، بل كان غريبا فيهم، والأول أصح، وكان قد
عرف جبريل عليه السلام وقت عبورهم، قالت طائفة: أنكر هيئته، فعرف أنه ملك، وقالت
طائفة: كانت أم السامري ولدته عام الذبح، فجعلته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل
عليه السلام يغذوه بأصبع نفسه، فيجد في أصبع لبنا وفي أصبع عسلا، وفي أصبع سمنا،
فلما رآه وقت جواز البحر، عرفه، فأخذ من تحت حافر فرسه قبضة تراب، والقى في
روعه، أنه لن يلقيها على شئ، ويقول له: كن كذا إلا كان، فلما خرج موسى لميعاده،
قال هارون لبني إسرائيل: إن ذلك الحلي والمتاع الذي استعرتم من القبط لا يحل لكم،
فجيئوا به، حتى تأكله النار التي كانت العادة أن تنزل على القرابين.
وقيل: بل أوقد لهم نارا، وأمرهم بطرح جميع ذلك فيها، فجعلوا يطرحون.
وقيل: بل أمرهم أن يضعوه في حفرة دون نار حتى يجيء موسى، وروي وهو
الأصح الأكثر، أنه ألقى الناس الحلي في حفرة، أو نحوها، وجاء السامري، / فطرح
القبضة، وقال: كن عجلا.
وقيل: أن السامري كان في أصله من قوم يعبدون البقر، وكان يعجبه ذلك.
وقيل: بل كانت بنو إسرائيل قد مرت مع موسى على قوم يعبدون البقر.
* ت *: والذي في القرآن: (يعكفون على أصنام لهم) [الأعراف: 138]، قيل:
كانت على صور البقر، (فقالوا يا موسى أجعل لنا إلها كما لهم آلهة) [الأعراف: 138]،
فوعاها السامري، وعلم أن من تلك الجهة يفتنون، ففتنت بنو إسرائيل بالعجل، وظلت
منهم طائفة يعبدونه، فاعتزلهم هارون بمن تبعه، فجاء موسى من ميعاده، فغضب حسبما
يأتي قصصه في مواضعه، إن شاء الله تعالى، ثم أوحى الله إليه، أنه لن يتوب على بني
إسرائيل، حتى يقتلوا أنفسهم، ففعلت بنو إسرائيل ذلك، فروي أنهم لبسوا السلاح من عبد
منهم، ومن لم يعبد، وألقى الله عليهم الظلام، فقتل بعضهم بعضا، يقتل الأب ابنه،
238

والأخ أخاه، فلما استحر فيهم القتل، وبلغ سبعين ألفا، عفا الله عنهم، وجعل من مات
شهيدا، وتاب على البقية، فذلك قوله سبحانه: (ثم عفونا عنكم) و قال بعض المفسرين:
وقف الذين عبدوا العجل صفا، ودخل الذين لم يعبدوه عليهم بالسلاح، فقتلوهم، وقالت
طائفة: جلس الذين عبدوا بالأفنية، وخرج يوشع بن نون ينادي: ملعون من حل حبوته (1)،
وجعل الذين لم يعبدوه يقتلونهم، وموسى صلى الله عليه وسلم في خلال ذلك يدعو لقومه، ويرغب في
العفو عنهم، وإنما عوقب الذين لم يعبدوا بقتل أنفسهم على أحد الأقوال، لأنهم لم يغيروا
المنكر حين عبد العجل.
(وأنتم ظالمون) ابتداء وخبر في موضع الحال، والعفو تغطية الأثر، وإذهاب الحال
الأول من الذنب أو غيره.
* ت *: ومنه الحديث: " فجعلت أم إسماعيل تعفي أثرها ".
قال * ع (2) *: و لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب، والكتاب هنا هو
التوراة بإجماع، واختلف في الفرقان هنا، فقال الزجاج وغيره: هو التوراة أيضا، كرر
المعنى، لاختلاف اللفظ، وقال آخرون: الكتاب التوراة، والفرقان سائر الآيات التي أوتي
موسى عليه السلام، لأنها فرقت بين الحق والباطل، واختلف هل بقي العجل من ذهب؟
فقال ذلك الجمهور، وقال الحسن بن أبي الحسن: صار لحما ودما، والأول أصح.
* ت *: وقوله تعالى: (فتوبوا عليه إلى بارئكم) عن أبي العالية: إلى خالقكم (3)، من
برأ الله الخلق، أي: خلقهم، فالبريئة: فعيلة بمعنى مفعولة. انتهى من " مختصر أبي
عبد الله اللخمي النحوي للطبري ".
(و إذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعة و أنتم تنظرون (55)
ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون (56) و ظللنا عليكم الغمام و أنزلنا عليكم المن
و السلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون (57))
وقوله تعالى: (و إذ قلتم يا موسى): يريد السبعين الذين اختارهم موسى، واختلف

(1) الحبوة و الحبوة: الثوب الذي يحتبى به، و الاحتباء هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعها به
مع ظهره، و يشده عليها. ينظر: " لسان العرب " (765).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 144).
(3) السيوطي في " الدر " (1 / 136)، و عزاه لابن أبي حاتم.
239

في وقت اختيارهم
فحكى أكثر المفسرين، أن ذلك بعد عبادة العجل، فاختارهم، ليستغفروا لبني
إسرائيل، وحكى النقاش وغيره، أنه اختارهم حين خرج من البحر، وطلب بالميعاد،
والأول أصح.
وقصة السبعين أن موسى عليه السلام، لما رجع من تكليم الله تعالى، ووجد العجل
قد عبد، قالت له طائفة ممن لم يعبد العجل: نحن لم نكفر، ونحن أصحابك، ولكن
أسمعنا كلام ربك، فأوحى الله إليه، أن اختر منهم سبعين، فلم يجد إلا ستين، فأوحى إليه
أن اختر من الشباب عشرة، ففعل، فأصبحوا شيوخا، وكان قد اختار ستة من كل سبط،
فزادوا اثنين على السبعين، فتشاحوا فيمن يتأخر، فأوحي إليه أن من تأخر له أجر من
مضى، فتأخر يوشع بن نون، وكالوث بن يوفنا، وذهب موسى عليه السلام / بالسبعين،
بعد أن أمرهم أن يتجنبوا النساء ثلاثا، ويغتسلوا في اليوم الثالث، واستخلف هارون على
قومه، ومضى حتى أتى الجبل، فألقى عليهم الغمام، قال النقاش: غشيتهم سحابة، وحيل
بينهم وبين موسى بالنور، فوقعوا سجودا، قال السدي وغيره: وسمعوا كلام الله يأمر
وينهى، فلما يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعبر لهم،
ففعل، فلما فرغوا، وخرجوا، بدلت منهم طائفة ما سمعت من كلام الله، فذلك قوله
تعالى: (وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) [البقرة: 75] واضطرب
إيمانهم، وامتحنهم الله تعالى بذلك، فقالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، ولم
يطلبوا من الرؤية محالا، أما أنه عند أهل السنة (1) ممتنع في الدنيا من طريق السمع،

(1) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤيته (تعالى) عقلا في الدنيا و الآخرة، بمعنى أنه تعالى يجوز أن
ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة، و لا اتصال شعاع، و لا حصول في جهة و مقابلة.
و استدلوا على ذلك بأدلة نقلية و أدلة عقلية، فلنذكر الأدلة النقلية، لأنها الأصل في هذا الباب، و هي أكثر
من أن تحصى، و المعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى حكاية عن سيدنا موسى - عليه السلام - في
ميقات المناجاة: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني و لكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف
تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا و خر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك و أنا أول
المؤمنين) [الأعراف: 143].
تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس، و هي مسألة الرؤية، و لم يحدد النطق الكريم الحكم
فيها، بل ترك لذوي العقول البحث.
فكان القول بجوازها و وقوعها، و كان القول باستحالتها و عدم وقوعها، و لم يكن لصاحب كل قول من الآية
الكريمة ما يعتمد عليه صريحا، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة، واللجوء إلى الدليل العقلي
أخرى. غير أن أهل السنة نظروا إلى ظروف الآية و ما سيقت لأجله، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه.
240

فأخذتهم حينئذ الصاعقة، فاحترقوا وماتوا موت همود يعتبر به الغير، وقال قتادة: ماتوا،

فالآية الكريمة تقول: لقد وعى موسى - عليه السلام - لمناجاتنا، ورفعتناه إلى هذا المستوى و اتصل
بالأفق الأعلى، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا، و شهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله
بأقوى الأدلة و البراهين، و أنزله هذه المنزلة، و وقف في ساحة جلاله و حظائر قدسه و مساقط أنوار جماله
و ذاق حلاوة خطابه.
أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس، ليجمع بين حلاوة الكلام و جمال الرؤية، و يؤيد
أن الحامل لموسى - عليه السلام - على طلب الرؤية عوامل الشوق ما روي عن ابن عباس (رضي الله
عنهما) قال: " جاء موسى - عليه السلام - و معه السبعون رجلا، و صعد موسى الجبل، و بقى السبعون في
أسفل الجبل، فكلم الله موسى، و كتب له في الألواح كتابا، و قربه نجيا، فلما سمع موسى صرير القلم
عظم شوقه فقال: (رب أرني أنظر إليك)، نعم طلبها بعامل الشوق، و قال: (رب أرني أنظر إليك)،
و لم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف، حيث جعل النظر مسببا عن الرؤية، و الحال
أن النظر تقليب الحدقة نحو الشئ التماسا لرؤيته، فهي متأخرة عنها، إذ الغرض (رب أرني أنظر
إليك): مكني من رؤيتك، فأنظر إليك، و أراك، ففي الكلام ذكر الملزوم و إرادة اللازم. نعم أقدم موسى
على طلب النظر إلى الذات الأقدس، و انتظر ما يكون من أمر الله، و قد وقع عليه عمود من الغمام،
و تغشى الجبل جلال الرب و سمع النطق الكريم (لن تراني) عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة
الرأس، و لو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى واصطفاء الله له، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من
مطالعة الذات الأقدس، بل المتبادر إلى الذهن " لن تقوى على رؤيتي و أنت على ما أنت عليه، لتوقفها
على استعداد في الرائي، و لم يوجد في موسى - عليه السلام - وقت الطلب يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي
في " نوادر الأصول " عن ابن عباس " تلا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم هذه الآية فقال: قال الله تعالى: " يا موسى إنه لا
يراني حي إلا مات و لا رطب إلا تفرق و إنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم، و لا تبلى
أجسامهم ".
كذلك يدل على أن التأييد المستفاد من قوله تعالى: (لن تراني) إنما هو موقوف على عدم تغيير الحال،
يؤيد ذلك ما رواه أبو الشيخ عن ابن عباس، و فيه يقول: " يا موسى إنه لن يراني أحد فيحيا، قال موسى:
رب أن أراك ثم أموت أحب إلي من ألا أراك ثم أحيا " و قد نبه جل شأنه بقوله: (لن تراني) على وجود
المانع، و هو الضعف عن تحملها، حيث أراه ضعف من هو أقوى منه وتفتته عندما تجلى عليه الرب
و غشيه ذو الجلال و الإكرام.
فكان الجبل و تماسكه و عاد الجبل متقوص الأركان متداخل الأجزاء سقيم القوام، و كان موسى فاقد
الحياة، لطلبه هذه المرئية من الانكشاف، وهو باق على حاله.
أفاق موسى و استرد حياته، و قال: (سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين) [الأعراف: 143] أنزهك من
أن أسألك شيئا بغير إذنك تبت عن الإقدام و أنا أول المؤمنين بأن لا يراك أحد في هذه النشأة، و ليس كما
يزعم الخصم من أن التوبة دليل العصيان، فكان موسى يعلم امتناعها و قد طلبها و هي ممتنعة. بل تاب من
طلب الرؤية بغير إذن، و كيف لا يتوب و هو الرب صاحب الجبروت، وهو موسى المصطفى الكليم.
و قد قيل قديما: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) - إلى هنا كان حتما أن نبين أن أهل السنة كانوا في
غيبة عن أدلة الجواز، لكن دفعتهم أن ما سيكون من الأدلة على الوقوع سمعي فحسب، قد يأتيها الخصم
بمنع إمكان المطلوب، لأجل هذا مهدوا الطريق للوقوع، فبرهنوا على الجواز بالأدلة النقيلة و العقلية،
241

وذهبت أرواحهم، ثم ردوا، لاستيفاء آجالهم، فحين حصلوا في ذلك الهمود، جعل موسى

و كان سلوكهم بهذا الطريق كفايا في الاستدلال على الوقوع بالدليل النقلي، و تفصيل ذلك مذكور في
كتب العقائد.
كذلك اتفقت كلمة الأشاعرة على وقوع رؤية (تعالى) في الآخرة، و استدلوا على ذلك بالكتاب،
و السنة، و الإجماع:
أما دلالة الكتاب: فقوله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22 - 23] فالآية
صريحة في أن وجوه المؤمنين المخلصين يوم القيامة متهللة من عظيم المسرة، يشاهد عليها نظرة
النعيم. (إلى ربها ناظرة) أن تراه مستغرقة في مطالعة جماله، بحيث تغفل عما سواه، ففي حديث
جابر، و قد رواه ابن ماجة: " فينظر إليهم، و ينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون
إليه حتى يحجب عنهم " و الحجاب من قبلهم لا من قبله (عز وجل)، فهذا يدل على أن المراد من النظر
حقيقته، و هو الرؤية.
و وجه الاحتجاج في الآية الكريمة: أن النظر في الآية جاء موصولا بإلى، و كل ما كان كذلك فهو بمعنى
الرؤية، فالنظر في الآية بمعنى الرؤية.
أما الصغرى، فدليلها الآية، و أما الكبرى، فيستدل لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة وتتبع موارد
الاستعمال، فقد نقل عن أهل اللغة أن للنظر معان عدة يتميز بعضها عن بعض بواسطة التعدية، فقد جاء
النظر بمعنى الانتظار متعديا بنفسه قال الله تعالى: (انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد: 13] أي:
انتظرونا، و قول الشاعر: [الوافر]
و إن يك صدر هذا اليوم ولى * فإن غدا لناظره قريب
أي ينتظره.
وجاء بمعنى التفكر و يستعمل ب‍ " في " يقال: نظرت في الأمر الفلاني، أي تفكرت فيه، و جاء بمعنى
الرأفة و التعطف، و يتعدى باللام، يقال: نظر الأمير لفلان، أي رأف به و تعطف.
و جاء بمعنى الرؤية، و يستعمل ب‍ " إلى " قال الشاعر: [الطويل]
نظرت إلى من أحسن الله وجهه * فيان نظرة كادت على رامق تقتضي
و مثل ذلك النظر في الآية، إذ جاء موصولا ب‍ " إلى "، فيجب حمله على الرؤية، فتكون واقعة في ذلك
اليوم، و هو المطلوب. و لا يعكر أن النظر المستعمل ب‍ " إلى " يأتي بمعنى آخر غير الرؤية كالتأخير كما
في قوله تعالى: (فنظرة إلى ميسرة " [البقرة: 280]. لأن لفظة " إلى " في الآية ليست صلة للنظر، بل
لبيان المدة.
و قد اعترضت المعتزلة هذا الدليل، فمنعت صغراه (النظر في الآية موصول بإلى) قالوا: لا نسلم أن النظر
في الآية موصول ب‍ " إلى "، لأنها ليست حرفا، بل هي اسم بمعنى النعمة واحد الآلاء، و مفعول به
للنظر، يشهد لذلك ما قيل عن أهل اللغة أن الآلاء واحدها آلى، وأيلى، وألو، وإلى، وإلى. قال
الأعشى:
أبيض لا يرهبه النزال ولا * يقطع رحما و لا يخون إلي
أي نعمة أو بمعنى " عند " يؤيده قول الشاعر:
فهل لكم فيما إلي فإنني * طبيب بما أعيى النطاس حذيما
أي فيما عند.
242

يناشد ربه فيهم، ويقول: أي رب، كيف أرجع إلى بني إسرائيل دونهم، فيهلكون، ولا
يؤمنون بي أبدا، وقد خرجوا، وهم الأخيار.
قال * ع (1) *: يعني: هم بحال الخير وقت الخروج، وقال قوم: بل ظن موسى أن
السبعين، إنما عوقبوا بسبب عبادة العجل، فذلك قوله: (أتهلكنا) [الأعراف: 155]، يعني
السبعين: (بما فعل السفهاء منا) [الأعراف: 155] يعني: عبدة العجل، وقال ابن فورك:
يحتمل أن تكون معاقبة السبعين، لإخراجهم طلب الرؤية عن طريقه، بقولهم لموسى:
(أرنا) [النساء: 153] وليس ذلك من مقدور موسى عليه السلام.
قال * ع (2) *: ومن قال: أن السبعين سمعوا ما سمع موسى، فقد أخطأ، وأذهب
فضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم.
و (جهرة): مصدر في موضع الحال (3)، والجهر العلانية، ومنه الجهر ضد السر،

و معنى الآية على الأول: منتظرة نعمة ربها، و على الثاني: عند ربها منتظرة نعمته.
أجاب أهل السنة عند المنع:
أولا: لو أريد من النظر في الآية انتظار النعمة لما خص بإسناده إلى الوجوه التي هي محل الأعين
- بالباصرة، و لم يكن للتعدية بالظرف معنى، فإن المؤمنين في دار الدنيا منتظرون نعمته تعالى، و كذلك
الكفار.
ثانيا، أن جعل " إلى " بمعنى النعمة في هذا المقام يخالف المعقول، لأن الانتظار يعد من الآلام، كيف
و قد قيل: إنه الموت الأحمر؟! و يخالف المنقول أيضا، إذ روي أنه صلى الله عليه و آله و سلم قال: " أدنى أهل الجنة منزلة من
ينظر إلى جناته و أزواجه و خدمه و سرره مسيرة ألف سنة، و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجه الله غدوة
و عشية " ثم قرأ (عليه الصلاة و السلام): (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22 - 23]
و الله ما نسخها منذ أنزلها.
ثالثا: إن الانتظار أمارة الغم وعدم الاطمئنان، و قد قيل كما سبق أنه الموت الأحمر، وهذا يخالف ما
سبقت لأجله الآية من التبشير للمؤمنين بالإنعام و حسن الحال و فراغ البال، و ذلك إنما يكون برؤيته
تعالى، فإنها من أجل النعم و الكرامات المستتبعة لنضارة الوجوه.
و ما يقوله المعتزلة من أن ترتب الغم على الانتظار أمر عادي يجوز تخلفه في الآخرة حيث إنها دار خوارق
العادات، على أنه إنما يكون غما إذا لم يكن مقطوعا بما يترتب عليه من حصول النعم، كيف و هو وعد
من لا يخلف وعده، فمدفوع بأن هذا الخروج عن السنن الكونية فقد جرت عادة الله (تعالى) أن يبشر
خلقه و ينذرهم بما يعلمونه لذة و عذابا بحسب العادة، و لذا لم يقع التبشير بالنار والإنذار بالجنة مع إمكان
أن يخلق الله اللذة في النار و العذاب والألم في الجنة.
ينظر: الرؤية لشيخنا عبد الفضيل طلبة ص 40 و ما بعدها.
(1) " المحرر الوجيز " (1 / 147).
(2) السابق.
(3) قوله تعالى: (جهرة) فيه قولان:
243

وجهر الرجل الأمر: كشفه، وفي " مختصر الطبري " عن ابن عباس: (جهرة): قال
علانية (1)، وعن الربيع: (جهرة): عيانا (2). انتهى.
وقوله تعالى: (ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون): أجاب الله تعالى فيهم
رغبة موسى عليه السلام وأحياهم من ذلك الهمود، أو الموت، ليستوفوا آجالهم، وتاب
عليهم، والبعث هنا الإثارة، و (لعلكم تشكرون)، أي: على هذه النعمة، والترجي إنما
هو في حق البشر.
وذكر المفسرون في تظليل الغمام، أن بني إسرائيل، لما كان من أمرهم ما كان من
القتل، وبقي منهم من بقي، حصلوا في فحص (3) التيه بين مصر والشام، فأمروا بقتال
الجبارين، فعصوا، وقالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا) [المائدة: 24] فدعا موسى عليهم،
فعوقبوا بالبقاء في ذلك الفحص أربعين سنة يتيهون في مقدار خمسة فراسخ أو ستة، روي
أنهم كانوا يمشون النهار كله، وينزلون للمبيت، فيصبحون حيث كانوا بكرة أمس، فندم
موسى على دعائه عليهم، فقيل له: (لا تأس على القوم الفاسقين) [المائدة: 26].

أحدهما: أنها مصدر و فيها حينئذ قولان:
أحدهما: أن ناصبها محذوف، و هو من لفظها، تقديره: جهرتم جهرة، نقله أبو البقاء.
و الثاني: أنها مصدر من نوع الفعل فتنتصب انتصاب القرفصاء من قولك: " قعد القرفصاء "، " و اشتمل
الصماء "، فإنها نوع من الرؤية، و به بدأ الزمخشري.
و الثاني: أنها مصدر واقع موقع الحال، و فيها حينئذ أربعة أقوال:
أحدهما: أنه حال من فاعل " نرى " أي: ذوي جهرة، قاله الزمخشري.
و الثاني: أنها حال من فاعل " قلتم "، أي: قلتم ذلك مجاهرين، قاله أبو البقاء، و قال بعضهم: فيكون في
الكلام تقديم و تأخير، أي: قلتم جهرة لن نؤمن لك، و مثل هذا لا يقال فيه تقديم و تأخير: بل أتى
بمفعول القول ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: " ضربت هندا قائما ".
و الثالث: أنها حال من اسم الله تعالى، أي: نراه ظاهرا غير مستور.
و الرابع: أنها حال من فاعل " نؤمن " نقله ابن عطية، و لا معنى له، و الصحيح من هذه الأقوال الستة
الثاني.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 229).
(1) أخرجه الطبري (1 / 338) برقم (948)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 136)، و عزاه لابن جرير،
و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (1 / 339) برقم (949).
(3) الفحص: ما استوى من الأرض. و في حديث كعب: " إن الله بارك في الشأم، و خص بالتقديس من
فحص الأردن إلى رفح " والفحص - هنا - ما بسط من نهر الأردن، و كشف من نواحيه. ينظر: " لسان
العرب " (3356).
244

وروي أنهم ماتوا بأجمعهم في فحص التيه، ونشأ بنوهم على خير طاعة، فهم الذين
خرجوا من فحص التيه، وقاتلوا الجبارين، وإذ كان جميعهم في التيه، قالوا لموسى: من
لنا بالطعام؟ قال: الله، فأنزل الله عليهم المن والسلوى، قالوا: من لنا من حر الشمس؟
فظلل عليهم الغمام، قالوا: بم نستصبح بالليل، فضرب لهم عمود نور في وسط محلتهم،
وذكر مكي عمود نار، قالوا: من لنا بالماء؟ / فأمر موسى بضرب الحجر، قالوا: من لنا
باللباس، فأعطوا ألا يبلى لهم ثوب، ولا يخلق، ولا يدرن، وإن تنمو صغارها حسب نمو
الصبيان، والمن صمغة حلوة، هذا قول فرقة، وقيل: هو عسل، وقيل: شراب حلو،
وقيل: الذي ينزل اليوم على الشجر، وروي أن المن كان ينزل عليهم من طلوع الفجر إلى
طلوع الشمس، كالثلج، فيأخذ منه الرجل ما يكفيه ليومه، فإن ادخر، فسد عليه إلا في يوم
الجمعة، فإنهم كانوا يدخرون ليوم السبت، فلا يفسد عليهم، لأن يوم السبت يوم عبادة.
والسلوى طير، بإجماع المفسرين، فقيل: هو السمانا.
وقيل: طائر مثل السمانا.
وقيل: طائر مثل الحمام تحشره عليهم الجنوب.
* ص (1) *: قال ابن عطية: وغلط الهذلي (2) في إطلاقه السلوى على العسل، حيث
قال: [الطويل]
وقاسمها بالله عهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذا ما نشورها (3)
* ت (4) *: قد نقل صاحب المختصر، أنه يطلق على العسل لغة، فلا وجه

(1) " المجيد " ص (259).
(2) خويلد بن خالد بن محرث، أبو ذؤيب، من بني هذيل بن مدركة، من " مضر ": شاعر فحل، مخضرم،
أدرك الجاهلية و الإسلام، و سكن " المدينة "، و اشترك في الغزو و الفتوح. و عاش إلى أيام عثمان.
قال البغدادي: هو أشعر هذيل من غير مدافعة. وفد على النبي صلى الله عليه و آله وسلم ليلة وفاته، فأدركه وهو مسجى،
و شهد دفنه.
ينظر: " الأغاني " (6 / 56)، " الشعر و الشعراء " (252)، و " خزانة البغدادي " (1 / 203)، و " الأعلام "
(2 / 325).
(3) البيت لأبي ذؤيب، و أنشده ابن منظور في " اللسان " لخالد بن زهير.
ينظر: " ديوان الهذليين " (1 / 158)، و " اللسان " (سلا)، و " البحر المحيط " (1 / 364)، و " القرطبي "
(1 / 407)، و " الدر المصون " (1 / 230)، و " روح المعاني " (1 / 264).
(4) لا زال الكلام للصفاقسي.
245

لتغليظه، لأن إجماع المفسرين لا يمنع من إطلاقه لغة بمعنى آخر في غير الآية. انتهى.
وقوله تعالى: (كلوا...) الآية: معناه: وقلنا: كلوا، فحذف اختصارا لدلالة
الظاهر عليه، والطيبات، هنا جمعت الحلال واللذيذ.
* ص (1) *: وقوله: (وما ظلمونا): قدر ابن عطية قبل هذه الجملة محذوفا، أي:
فعصوا، وما ظلمونا، وقدر غيره: فظلموا، وما ظلمونا، ولا حاجة إلى ذلك، لأن ما تقدم
عنهم من القبائح يغنى عنه. انتهى.
* ت *: وقول أبي حيان: " لا حاجة إلى هذا التقدير... " إلى آخره: يرد بأن
المحذوفات في الكلام الفصيح هذا شأنها، لا بد من دليل في اللفظ يدل عليها إلا أنه
يختلف ذلك في الوضوح والخفاء، فأما حذف ما لا دليل عليه، فإنه لا يجوز.
(و إذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا و ادخلوا الباب سجدا و قولوا حطة
نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين (58) فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم
فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (59) * و إذ استسقى موسى لقومه
فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم كلوا
واشربوا من رزق الله و لا تعثوا في الأرض مفسدين (60))
وقوله تعالى: (وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب
سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين * فبدل الذين ظلموا قولا غير
الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون * وإذ استسقى
موسى لقومه).
(القرية): المدينة، سميت بذلك، لأنها تقرت، أي: اجتمعت، ومنه: قريت الماء
في الحوض، أي: جمعته، والإشارة بهذه إلى بيت المقدس في قول الجمهور.
وقيل: إلى أريحاء، وهي قريب من بيت المقدس، قال عمر بن شبة (2): كانت

(1) " المجيد " (ص 259).
(2) عمر بن شبة - و اسمه زيد - بن عبيدة بن ريطة النميري، البصري، أبو زيد، شاعر، رواية، مؤرخ،
حافظ للحديث، من أهل " البصرة ". توفي ب‍ " سمراء " سنة (262) ه‍، له تصانيف، منها: " كتاب
الكتاب "، و " النسب "، و " أخبار بني نمير "، و " أخبار المدينة " جزء منه، و " تاريخ البصرة "، و " أمراء
الكوفة، و " أمراء البصرة، و " أمراء المدينة "، و " أمراء مكة " و " كتاب السلطان "، و " مقتل عثمان "،
و " السقيفة "، و " جمهرة أشعار العرب "، و " الشعر والشعراء "، و " الأغاني ".
ينظر: " الأعلام " (5 / 47 - 48)، و " تهذيب التهذيب " (7 / 460)، و " الوفيات " (1 / 378).
246

قاعدة، ومسكن ملوك، ولما خرج ذرية بني إسرائيل من التيه، أمروا بدخول القرية المشار
إليها، وأما الشيوخ، فماتوا فيه، وروي أن موسى وهارون عليهما السلام ماتا في التيه،
وحكى الزجاج (1) عن بعضهم أنهما لم يكونا في التيه، لأنه عذاب، والأول أكثر.
* ت *: لكن ظاهر قوله: (فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) [المائدة: 25] يقوى ما
حكاه الزجاج، وهكذا قال الإمام الفخر (2). انتهى
و (كلوا): إباحة، وتقدم معنى الرغد، وهي أرض مباركة عظيمة الغلة، فلذلك
قال: (رغدا).
و (الباب): قال مجاهد: هو باب في مدينة بيت المقدس يعرف إلى اليوم بباب
حطة (3)، و (سجدا): قال ابن عباس: معناه: ركوعا (4)، وقيل: متواضعين خضوعا،
والسجود يعم هذا كله، وحطة: فعلة، من حط يحط، ورفعه على خبر ابتداء (5)، كأنهم
قالوا: سؤالنا حطة لذنوبنا، قال عكرمة وغيره: أمروا أن يقولوا: " لا اله إلا الله "، لتحط
بها ذنوبهم (6)، وقال ابن عباس: قيل / لهم: استغفروا، وقولوا ما يحط ذنوبكم (7).
* ت *: وقال أحمد بن نصر (8) الداوودي في " تفسيره ": " وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سار

(1) ينظر: " معاني القرآن " (2 / 165).
(2) ينظر: " مفاتيح الغيب " (11 / 159).
(3) أخرجه الطبري (1 / 339) برقم (1004).
(4) أخرجه الطبري (1 / 339) برقم (1008)، والحاكم (2 / 262)، و صححه، و وافقه الذهبي، و ذكره
السيوطي في " الدر " (1 / 138)، و عزاه لوكيع، و الفريابي، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر،
و ابن أبي حاتم، و الحاكم.
(5) قال الزجاج: و لو قرىء " حطة " كان وجهها في العربية، كأنهم قيل لهم: قولوا: احطط عنا ذنوبنا حطة.
معاني القرآن (1 / 139).
و قد فات الزجاج أن إبراهيم بن أبي عبلة قرأها بالنصب، كما في " المحرر الوجيز " (1 / 150)، و " البحر
المحيط " (1 / 384)، و " الدر المصون " (1 / 232)، و " الشواذ " لابن خالويه (ص 13).
(6) أخرجه الطبري (1 / 340) برقم (1016)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 138)، وعزاه لعبد بن
حميد، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، كلاهما عن عكرمة. و أخرجه عبد الرزاق في " تفسيره " (1 / 47)،
بلفظ: " لا إله إلا الله ".
(7) أخرجه الطبري (1 / 341) برقم (1017)، بلفظ: " أمروا أن يستغفروا ".
(8) أحمد بن نصر، أبو حفص الداودي، فقيه مالكي. له كتاب " الأموال " في أحكام أموال المغانم
و الأراضي التي يتغلب عليها المسلمون.
ينظر: " الأعلام " (1 / 264).
247

مع أصحابه في سفر، فقال: قولوا: نستغفر الله، ونتوب إليه، فقالوا ذلك، فقال: والله،
إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فلم يقولوها " انتهى.
وحكى عن ابن مسعود وغيره، أنهم أمروا بالسجود، وأن يقولوا: حطة، فدخلوا
يزحفون على أستاههم، ويقولون: حنطة حبة حمراء في شعرة، ويروى غير هذا من
الألفاظ.
وقوله تعالى: (و سنزيد المحسنين) عدة: المعنى: إذا غفرت الخطايا بدخولكم
وقولكم، زيد بعد ذلك لمن أحسن، وكان من بني إسرائيل من دخل كما أمر، وقال: لا إله
إلا الله، فقيل: هم المراد ب‍ (المحسنين) هنا.
وقوله تعالى: (فبدل الذين ظلموا...) الآية.
روي أنهم لما جاءوا الباب، دخلوا من قبل أدبارهم القهقري، وفي الحديث: أنهم
دخلوا يزحفون على أستاههم، وبدلوا، فقالوا: حبة في شعرة، وقيل: قالوا: حنطة حبة
حمراء في شعرة، وقيل: شعيرة، وحكى الطبري، أنهم قالوا: " هطى شمقاثا أزبه " وتفسيره
ما تقدم وفي اختصار الطبري، وعن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا،
ويقولوا: حطة، وطؤطىء لهم الباب، ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم،
وقالوا: حنطة (1).
وذكر عز وجل فعل سلفهم، تنبيها أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم جار على طريق سلفهم
في خلافهم على أنبيائهم، واستخفافهم بهم، واستهزائهم بأمر ربهم. انتهى.
والرجز العذاب، قال ابن زيد وغيره: فبعث الله على الذين بدلوا الطاعون، فأذهب
منهم سبعين ألفا، وقال ابن عباس (2): أمات الله منهم في ساعة واحدة نيفا على عشرين
ألفا.
و (استسقى): معناه: طلب السقيا، وعرف " استفعل " طلب الشئ، وقد جاء في
غير ذلك، كقوله تعالى: (واستغنى الله) [التغابن: 6]، وكان هذا الاستسقاء في فحص
التيه، فأمره الله تعالى بضرب الحجر آية منه، وكان الحجر من جبل الطور على قدر رأس

(1) أخرجه الطبري (1 / 344) برقم (1028)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 139)، و عزاه لعبد بن
حميد، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (1 / 345) برقم (1041) بنحوه. و ذكره الماوردي في " التفسير " (1 / 127)، بنحوه.
248

الشاة، يلقى في كسر جوالق (1)، ويرحل به، فإذا نزلوا وضع في وسط محلتهم، وضربه
موسى، وذكر أنهم لم يكونوا يحملون الحجر لكنهم كانوا يجدونه في كل مرحلة في منزلته
من المرحلة الأولى، وهذا أعظم في الآية، ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا منفصلا تطرد
من كل جهة منه ثلاث عيون، إذا ضربه موسى، وإذا استغنوا عن الماء، ورحلوا، جفت
العيون، وفي الكلام حذف، تقديره: فضربه، فانفجرت، والانفجار: انصداع شئ عن
شئ، ومنه: الفجر، والانبجاس في الماء أقل من الانفجار.
و (أناس): اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه هنا: كل سبط، لأن الأسباط
في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وهم ذرية الاثني عشر أولاد يعقوب عليه السلام.
وقوله سبحانه: (كلوا واشربوا من رزق الله...) الآية.
* ت *: روينا من طريق أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله ليرضى
عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها " رواه مسلم،
والترمذي، والنسائي (2). انتهى.
والمشرب: موضع الشرب، وكان لكل سبط عين من تلك العيون، لا يتعداها.
(ولا تعثوا): معناه: ولا تفرطوا في الفساد.
* ص (3) *: (مفسدين): حال مؤكدة، لأن: " لا تعثوا ": معناه: / لا تفسدوا.
انتهى.
(و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من

(1) الجوالق: وعاء من الأوعية معروف معرب.
ينظر: " لسان العرب " (662).
(2) أخرجه مسلم (4 / 2095)، كتاب " الذكر و الدعاء "، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل و الشرب،
حديث (89 / 2734)، و الترمذي (4 / 265)، كتاب " الأطعمة "، باب ما جاء في الحمد على الطعام إذا
فرغ منه، حديث (1816)، والنسائي في " الكبرى " (4 / 202) كتاب " الدعاء بعد الأكل "، باب ثواب
الحمد لله، حديث (6899)، و أحمد (3 / 100، 117)، و أخرجه أيضا الترمذي في " الشمائل "، رقم
(195)، و البغوي في " شرح السنة " (3 / 65 - بتحقيقنا)، كلهم من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن
سعيد بن أبي بردة، عن أنس مرفوعا. و قال الترمذي: هذا حديث حسن، و لا نعرفه إلا من حديث
زكريا بن أبي زائدة.
(3) " المجيد " (ص 271).
249

بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا
مصرا فإن لكم ما سألتم و ضربت عليهم الذلة و المسكنة و باءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا
يكفرون بآيات الله و يقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون (61) إن الذين
آمنوا والذين هادوا والنصارى و الصابئين من آمن بالله و اليوم الآخر و عمل صالحا فلهم أجرهم
عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون (62) و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا
ما آتيناكم بقوة و اذكروا ما فيه لعلكم تتقون (63) ثم توليتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم
و رحمته لكنتم من الخاسرين (64))
وقوله تعالى: (و إذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد...) الآية: كان هذا
القول منهم في التيه حين ملوا المن والسلوى، وتذكروا عيشهم الأول بمصر، قال ابن
عباس وأكثر المفسرين: الفوم: الحنطة (1)، وقال قتادة، وعطاء: الفوم: جميع الحبوب
التي يمكن أن تختبز (2)، وقال الضحاك: الفوم: الثوم، وهو قراءة عبد الله بن مسعود،
وروى ذلك عن ابن عباس (3)، والثاء تبدل من الفاء، كما قالوا: مغاثير ومغافير (4).
* ت *: قال أحمد بن نصر الداوودي: وهذا القول أشبه لما ذكر معه، أي: من
العدس والبصل. انتهى.
و (أدنى): قال علي بن سليمان الأخفش (5). مأخوذ من الدنيء البين الدناءة، بمعنى:

(1) أخرجه الطبري (1 / 352) برقم (1076) قال أحمد شاكر: " ابن كريب " ضعيف، و قد بين القول في
ضعفه في " شرح المسند " (2571). و أبوه كريب بن أبي مسلم " تابعي ثقة ". اه‍.
و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 141)، و عزاه لعبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي
حاتم.
(2) أخرجه الطبري (1 / 351) برقم (1071) عن قتادة.
(3) ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 141) عن ابن عباس بنحوه، و عزاه لابن أبي حاتم. و ذكره في موضع آخر
عن ابن عباس بلفظ " قراءتي قراءة زيد، و أنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها: " من
بقلها و قثائها و ثومها " و عزاه في هذا الموضوع لابن أبي داود.
(4) المغافير: صمغ شبيه بالأنطف ينضحه العرفط و الرمث. الواحد مغفور و مغثور.
ينظر: " لسان العرب " (3275).
(5) علي بن سليمان بن الفضل، أبو المحاسن، المعروف ب‍ " الأخفش الأصغر ": نحوي، من العلماء. من
أهل بغداد، أقام ب‍ " مصر " سنة (287 - 300 ه‍) و خرج إلى " الحلب "، ثم عاد إلى " بغداد "، و توفي بها
و هو ابن 80 سنة. له تصانيف، منها: " شرح سيبويه "، و " الأنواء "، و " المهذب "، و كان ابن الرومي
مكثرا من هجوه. توفي سنة (315 ه‍).
انظر: " بغية الوعاة " (338)، و " وفيات الأعيان " (1: 332)، و " الأعلام " (4 / 291).
250

الأخس، إلا أنه خففت همزته، وقال غيره: هو مأخوذ من الدون، أي: الأحط فأصله
أدون، ومعنى الآية: أتستبدلون البقل، والقثاء، والفوم، والعدس، والبصل التي هي أدنى
بالمن والسلوى الذي هو خير.
وجمهور الناس يقرءون " مصرا " بالتنوين (1)، قال مجاهد وغيره: أراد مصرا من
الأمصار غير معين (2)، واستدلوا بما اقتضاه القرآن من أمرهم، بدخول القرية، وبما
تظاهرت به الروايات، أنهم سكنوا الشام بعد التيه، وقالت طائفة: أراد مصر فرعون بعينها،
واستدلوا بما في القرآن من أن الله أورث بني إسرائيل ديار آل فرعون وآثارهم، قال في
" مختصر الطبري ": وعلى أن المراد مصر التي خرجوا منها، فالمعنى: أن الذي تطلبون كان
في البلد الذي كان فيه عذابكم، واستعبادكم، وأسركم، ثم قال: والأظهر أنهم مذ خرجوا
من مصر، لم يرجعوا إليها، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى: (فإن لكم ما سألتم) يقتضي أنه وكلهم إلى أنفسهم، و (ضربت
عليهم الذلة والمسكنة) (3) معناه: الزموها، كما قالت العرب: ضربة لازب، (وباءوا
بغضب): معناه: مروا متحملين له، قال الطبري: باءوا به، أي: رجعوا به، واحتملوه،
ولا بد أن يوصل باء بخير أو بشر. انتهى.
وقوله تعالى: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق)
الإشارة ب (ذلك) إلى ضرب الذلة وما بعده، وقوله تعالى: (بغير الحق) تعظيم

(1) و قرأ " مصر " بغير تنوين في هذه الآية الأعمش، كما في مختصر الشواذ لابن خالويه (ص 14).
كما قرأ بها طلحة بن مصرف و الحسن و أبان بن تغلب، و قيل: هي كذلك في مصحف أبي بن كعب
و مصحف عبد الله و بعض مصاحف عثمان. كما في " البحر المحيط " (1 / 396 - 397)، و " الدر
المصون " (1 / 241).
(2) أخرجه الطبري (1 / 354) برقم (1085) بلفظ: " مصرا من الأمصار، زعموا أنهم لم يرجعوا إلى
مصر " اه‍.
(3) قوله تعالى: (الذلة و المسكنة) يعني: فقر النفس. قال السمين الحلبي: و المراد بها هنا الجزية
و الصغار. " عمدة الحفاظ " (2 / 239). وقال الحسن و قتادة: (ضربت عليهم الذلة) هي أنهم يعطون
الجزية عن يد و هم صاغرون، و قال عطاء بن السائب: هي الكستينج (لبس اليهود) وزي اليهودية،
و (المسكنة): زي الفقر، فترى المثرى منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية، و لا يوجد يهودي
غني النفس.
ينظر: " الوسيط " (1 / 147)، و " الطبري " (2 / 137)، و " البغوي " (1 / 66)، و " ابن كثير " (1 /
102)، و " الدر المنثور " (1 / 73).
251

للشنعة (1)، والذنب، ولم يجرم نبي قط ما يوجب قتله، وإنما التسليط عليهم بالقتل كرامة
لهم، وزيادة لهم في منازلهم صلى الله عليهم، كمثل من يقتل في سبيل الله من المؤمنين،
والباء في " بما " باء السبب.
و (يعتدون): معناه: يتجاوزون الحدود، والاعتداء هو تجاوز الحد.
وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين...) الآية.
اختلف في المراد ب‍ (الذين آمنوا) في هذه الآية.
فقالت فرقة: الذين آمنوا هم المؤمنون حقا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: (من آمن
بالله) يكون فيهم بمعنى من ثبت ودام، وفي سائر الفرق: بمعنى: من دخل فيه، وقال
السدي: هم أهل الحنيفية ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، والذين هادوا، ومن عطف عليهم
كذلك ممن لم يلحق محمدا صلى الله عليه وسلم، (والذين هادوا) هم اليهود، وسموا بذلك، لقولهم:
(هدنا إليك) [الأعراف: 156]، أي: تبنا، (والنصارى) لفظة مشتقة من / النصر.
قال * ص (2) *: (والصابئين): قرأ الأكثر بالهمز، صبأ النجم، والسن، إذا خرج،
أي: خرجوا من دين مشهور إلى غيره، وقرأ نافع (3) بغير همز، فيحتمل أن يكون من
المهموز المسهل، فيكون بمعنى الأول، ويحتمل أن يكون من صبا غير مهموز، أي: مال،
ومنه: [الهزج]
إلى هند صبا قلبي * وهند مثلها يصبي (4)
انتهى.
قال * ع (5) *: والصابىء، في اللغة: من خرج من دين إلى دين.
وأما المشار إليهم في قوله تعالى: (و الصابئين) فقال السدي: هم فرقة من أهل

(1) الشنعة: الاسم من الشناعة، و شنع الأمر أو الشئ شناعة و شنعا و شنعا و شنوعا: قبح.
ينظر: " لسان العرب " (2339).
(2) " المجيد " (ص 280).
(3) ينظر: " السبعة " (157)، و " الحجة للقراء السبعة " (2 / 94)، و " حجة القراءات " (100)، و " شرح
شعلة " (265)، و " إتحاف فضلاء البشر " (1 / 396).
(4) البيت أزيد بن ضبة، و هي في " اللسان " صبا.
(5) " الحرر الوجيز " (1 / 157).
252

الكتاب (1)، وقال مجاهد: هم قوم لا دين لهم (2)، وقال ابن جريج (3): هم قوم تركب
دينهم بين اليهودية والمجوسية (4)، وقال ابن زيد: هم قوم يقولون لا إله إلا الله، وليس
لهم عمل ولا كتاب كانوا بجزيرة الموصل (5)، وقال الحسن بن أبي الحسن، وقتادة: هم
قوم يعبدون الملائكة، ويصلون الخمس إلى القبلة، ويقرءون الزبور رآهم زياد بن أبي
سفيان (6)، فأراد وضع الجزية عنهم حتى عرف أنهم يعبدون الملائكة (7).
وقوله تعالى: (و رفعنا فوقكم الطور...) الآية: (الطور): اسم الجبل الذي
نوجي موسى عليه السلام عليه. قاله ابن عباس (8)، وقال مجاهد وغيره: (الطور): اسم
لكل جبل (9)، وقصص هذه الآية أن موسى عليه السلام، لما جاء إلى بني إسرائيل من عند
الله تعالى بالألواح، فيها التوراة، قال لهم: خذوها، والتزموها، فقالوا: لا، إلا أن يكلمنا
الله بها كما كلمك، فصعقوا، ثم أحيوا، فقال لهم: خذوها، فقالوا: لا، فأمر الله
الملائكة، فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين (10) طوله فرسخ في مثله، وكذلك كان

(1) أخرجه الطبري (1 / 361) برقم (1112)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 146)، و عزاه لوكيع.
(2) أخرجه الطبري (1 / 360) برقم (1101) بنحوه، و أخرجه عبد الرزاق في " التفسير " (1 / 47)، و ذكره
السيوطي في " الدر " (1 / 145)، و عزاه لوكيع، و عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن أبي
حاتم.
(3) عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم، أبو الوليد، و أبو خالد المكي، الفقيه، أحد
الأعلام. عن ابن أبي مليكة، و عكرمة مرسلا، و عن طاوس مسألة، و مجاهد، و نافع، و خلق، و عنه
يحيى بن سعيد الأنصاري أكبر منه، و الأوزاعي، والسفيانان، و خلق. قال أبو نعيم: مات سنة خمسين
و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 12)، " تهذيب التهذيب " (6 / 402)، " تهذيب الكمال " (2 / 178)، " الكاشف "
(2 / 210)، " الثقات " (7 / 93).
(4) أخرجه الطبري (1 / 360) برقم (1107).
(5) أخرجه الطبري (1 / 360) برقم (1108).
(6) زياد بن أبيه، و أبيه أبو سفيان، أمير من الدهاة، القادة الفاتحين، الولاة من أهل " الطائف " أدرك
النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لم يره، و أسلم في عهد أبي بكر، ولد في (1 ه‍) قال الشعبي: ما رأيت أحدا أخطب من
زياد، توفي في (53 ه‍).
ينظر: " ميزان الاعتدال " (1: 355)، " الأعلام " (3 / 53).
(7) أخرجه الطبري (1 / 361) برقم (1109)، (1110) عن الحسن و قتادة.
(8) أخرجه الطبري (1 / 366 - 367) برقم (1125).
(9) أخرجه الطبري (1 / 366) برقم (1118)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 146)، و عزاه للفريابي،
و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
(10) فلسطين: آخر كور " الشام " من ناحية " مصر "، قصبتها " بيت المقدس "، و من مشهور مدنها " عسقلان "،
253

عسكرهم، فجعل عليهم مثل الظلة، واخرج الله تعالى البحر من ورائهم، وأضرم نارا من
بين أيديهم، فأحاط بهم غضبه، وقيل لهم: خذوها، وعليكم الميثاق، ولا تضيعوها، وإلا
سقط عليكم الجبل، وأغرقكم البحر، وأحرقتكم النار، فسجدوا، توبة لله سبحانه، وأخذوا
التوراة بالميثاق، قال الطبري عن بعض العلماء: لو أخذوها أول مرة، لم يكن عليهم
ميثاق، وكانت سجدتهم على شق، لأنهم كانوا يرقبون الجبل، خوفا، فلما رحمهم الله
سبحانه، قالوا: لا سجدة أفضل من سجدة تقبلها الله، ورحم بها، فأمروا سجودهم على
شق واحد.
قال * ع (1) *: والذي لا يصح سواه أن الله تعالى اخترع وقت سجودهم الإيمان في
قلوبهم، لا أنهم آمنوا كرها، وقلوبهم غير مطمئنة، قال: وقد اختصرت ما سرد في قصص
هذه الآية، وقصدت أصحه الذي تقتضيه ألفاظ الآية، وخلط بعض الناس صعقة هذه القصة
بصعقة السبعين.
و (بقوة): قال ابن عباس: معناه: بجد واجتهاد (2).
وقال ابن زيد: معناه: بتصديق وتحقيق (2).
(واذكروا ما فيه)، أي: تدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه، ولا تضيعوه.
وقوله تعالى: (ثم توليتم...) الآية: تولى: أصله الإعراض والإدبار عن الشئ
بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور، والأديان، والمعتقدات، اتساعا ومجازا،
وتوليهم من بعد ذلك: إما بالمعاصي، فكان فضل الله بالتوبة والإمهال إليها، وإما أن يكون
توليهم بالكفر، فلم يعاجلهم سبحانه بالهلاك، ليكون من ذريتهم من يؤمن.
(و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين (65) فجعلناها

و " الرملة "، و " غزة "، و " أرسوف "، و " قيسارية "، و " نابلس "، و " أريحا "، و " عمان " و " يافا "،
و " بيت جبرين "، و هي أول أجناد " الشام " أولها من ناحية الغرب " رفح " و آخرها " اللجون " من ناحية
الغور.
ينظر: " مراصد الاطلاع " (3 / 1042).
(1) " المحرر الوجيز " (1 / 159).
(2) أخرجه الطبري (1 / 367) برقم (1131) عن السدي، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 146) و عزاه لابن
جرير.
(3) أخرجه الطبري (1 / 368) برقم (1132) بلفظ: " خذوا الكتاب الذي جاء به موسى بصدق و بحق ".
254

نكالا لما بين يديها و ما خلفها و موعظة للمتقين (66)).
وقوله تعالى: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت...) الآية: علمتم:
معناه: عرفتم، والسبت مأخوذ من السبوت الذي هو الراحة والدعة، وإما من السبت، وهو
القطع، لأن الأشياء فيه سبتت وتمت خلقتها، وقصة اعتدائهم فيه / أن الله عز وجل أمر
موسى عليه السلام بيوم الجمعة، وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء صلوات الله
عليهم، فذكر موسى ذلك لبني إسرائيل عن الله سبحانه، وأمرهم بالتشرع فيه، فأبوا وتعدوه
إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى، أن دعهم، وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأن
أمرهم بترك العمل فيه، وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة، بأن كانت
الحيتان تأتي يوم السبت، حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبي الحسن.
وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء، وذلك إما بإلهام من الله تعالى، أو بأمر لا
يعلل، وإما بأن ألهمها معنى الأمنة التي في اليوم، مع تكراره، كما فهم حمام مكة الأمنة،
وكان أمر بني إسرائيل بأيلة (1) على البحر، فإذا ذهب السبت، ذهبت الحيتان، فلم تظهر
إلى السبت الآخر، فبقوا على ذلك زمانا، حتى اشتهوا الحوت، فعمد رجل يوم السبت،
فربط حوتا بخزمة (2)، وضرب له وتدا بالساحل، فلما ذهب السبت، جاء، فأخذه، فسمع
قوم بفعله، فصنعوا مثل ما صنع.
وقيل: بل حفر رجل في غير السبت حفيرا يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت،
خرج الحوت، وحصل في الحفير، فإذا جزر البحر، ذهب الماء من طريق الحفير، وبقي
الحوت، فجاء بعد السبت، فأخذه، ففعل قوم مثل فعله، وكثر ذلك، حتى صادوه يوم
السبت علانية، وباعوه في الأسواق، فكان هذا من أعظم الاعتداء، وكانت من بني إسرائيل
فرقة نهت عن ذلك، فنجت من العقوبة، وكانت منهم فرقة لم تعص، ولم تنه، فقيل:
نجت مع الناهين، وقيل: هلكت مع العاصين.
و (كونوا): لفظة أمر، وهو أمر التكوين، كقوله تعالى لكل شئ: (كن فيكون)
[يس: 82] قال ابن الحاجب (3)

(1) أيلة: مدينة على ساحل بحر " القلزم " مما يلي " الشام ". قيل: هي آخر الحجاز و أول " الشام ". و هي مدينة
اليهود، الذين اعتدوا في السبت. ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 138).
(2) الخزم: شجر له ليف تتخذ من لحائه الحبال، الواحدة خزمة.
ينظر: " لسان العرب " (1153).
(3) عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو، جمال الدين ابن الحاجب: فقيه مالكي، من كبار
255

في مختصره الكبير المسمى ب‍ " منتهى الوصول " (1): صيغة: افعل، وما في معناها قد صح
إطلاقها بإزاء خمسة عشر محملا.
الوجوب: (أقم الصلاة) [الإسراء: 78] والندب: (فكاتبوهم) [النور: 33].
والإرشاد: (وأشهدوا إذا تبايعتم) [البقرة: 282] والإباحة: (فاصطادوا) [المائدة: 2].
والتأديب: " كل مما يليك ". والامتنان: (كلوا مما رزقكم الله) [الأنعام: 142].
والإكرام: (ادخلوها بسلام) [ق: 34] والتهديد: (اعملوا ما شئتم) [فصلت: 40]
والإنذار: (تمتعوا) [إبراهيم: 30] والتسخير: (كونوا قردة) [الأعراف: 166] والإهانة:
(كونوا حجارة) [الإسراء: 50] والتسوية: (فاصبروا أو لا تصبروا) [الطور: 16] والدعاء:
(اغفر لنا) [آل عمران: 147] والتمني: [الطويل]:
ألا أنجلي
وكمال القدرة: (كن فيكون) [يس: 82]. انتهى.
وزاد غيره كونها للتعجيز، أعني: صيغة " أفعل ".
قال ابن الحاجب: وقد اتفق على أنها مجاز فيما عدا الوجوب والندب والإباحة
والتهديد، ثم الجمهور على أنها حقيقة في الوجوب (3). انتهى.

العلماء بالعربية، كردي الأصل. ولد في " أسنا " (من صعيد مصر) و نشأ في " القاهرة "، و سكن " دمشق "،
و كان أبوه حاجبا، فعرف به، له تصانيف كثيرة منها: " الكافية " في النحو، و " الشافية " في الصرف. ولد
سنة (570 ه‍)، و توفي سنة (646 ه‍).
ينظر: " وفيات " (1: 314)، " الطالع السعيد " (188)، " مفتاح السعادة " (1: 117)، " غاية النهاية "
(1: 508)، " الأعلام " (4 / 211).
(1) ينظر: " البرهان " (1 / 212)، " المحصول " (1 / 2 / 62)، الأحكام " للآمدي (1 / 122)، " المستصفى "
(1 / 420)، " التمهيد " للأسنوي (269)، " المنخول " (105)، " شرح العضد " (2 / 79)، " شرح
الكوكب " (2 / 41)، " المعتمد " (1 / 57)، " التبصرة " (27)، " كشف الأسرار " (1 / 107)، " حاشية
البناني " (1 / 316)، " فواتح الرحموت " (1 / 372)، " تيسير التحرير " (1 / 351)، " أصول السرخسي "
(1 / 15)، " الوصول إلى الأصول " (1 / 133)، " تقريب الوصول " (93)، " ميزان الأصول " (1 / 217).
(2) البيت لامرىء القيس في ديوانه ص (18)، و " الأزهية " ص (271)، و " خزانة الأدب " (2 / 326،
327)، و " سر صناعة الإعراب " (2 / 513)، و " لسان المسالك " (11 / 361) (شلل)، و " المقاصد
النحوية " (4 / 317)، و بلا نسبة في " أوضح المسالك " (4 / 93)، و " جواهر الأدب " ص (78)،
و " رصف المباني " ص (79)، و " شرح الأشموني " (2 / 493).
(3) و لطلب الفعل صيغ مختلفة نوردها فيما يلي:
256

و (خاسئين): معناه: مبعدين أذلاء صاغرين، كما يقال للكلب، وللمطرود:
اخسأ، وروي في قصصهم، أن الله تعالى مسخ العاصين قردة في الليل، فأصبح الناجون

1 - فعل الأمر: و ذلك بصيغته المعروفة، مثل قوله تعالى: (و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة)
[الحج: 78].
2 - صيغة المضارع المقترن ب‍ " لام الأمر " مثل قوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)
[البقرة: 185].
و مثل: (و ليوفوا نذورهم و ليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29].
و مثل: (لينفق ذو سعة من سعته) [الطلاق: 7].
3 - صيغة المصدر القائم مقام فعل الأمر: مثل قوله تعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين)
[المائدة: 89].
و مثل قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) [محمد: 4].
4 - جملة خبرية يراد بها الطلب: مثل قوله تعالى: (و الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد
أن يتم الرضاعة) [البقرة: 233].
إذ ليس المراد من هذا النص الإخبار عن حصول الإرضاع من الوالدات لأولادهن، و إنما المراد هو أمر
الوالدات بإرضاع أولادهن، و طلب إيجاده منهن.
و مثل قوله تعالى: (و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) [النساء: 141].
فإن الظاهر من هذه الآية أنها للخبر، و إنما المراد بها أمر المؤمنين ألا يمكنوا الكافرين من التجبر عليهم،
و التكبر بأية صفة كانت.
و مثل قوله صلى الله عليه وآله و سلم فيما أخرجه الشيخان: " لا تنكح البكر حتى تستأذن ".
و قد اتفق الأصوليون على أن صيغة الأمر تستعمل في مدلولات كثيرة، لكن لا تدل على واحد من هذه
المدلولات بعينه إلا بقرينة، وهذه المدلولات هي كما ذكرها المصنف رحمه الله.
و قد اختلفت آراء العلماء في تعداد هذه الصيغ زيادة، و نقصا، و سبب ذلك تداخل هذه الصيغ مع
بعضها، و اختلاف وجهات النظر في المعنى، و في القرينة التي تحدد وجه الاستعمال.
و اتسعت دائرة الاختلاف بين العلماء و الأصوليين فيما يدل عليه الأمر حقيقة، حيث إن دوران الأمر على
أوجه كثيرة - كما سبق - لا يدل على أنه حقيقة في كل منها.
فإذا ورد أمر من الأوامر في القرآن الكريم، أو في السنة النبوية، فهل يعتبر هذا الأمر دالا على الوجوب؟
أم الندب؟ أم الإباحة؟ أم لمعنى آخر؟
إن خصوصية التعجيز، و التحقير، و التسخير... و غير هذه المعاني غير مستفاد من مجرد صيغة الأمر،
بل إنما تفهم هذه المعاني من القرائن، و عليه فلا خلاف في أن صيغة الأمر ليست حقيقية في جميع
الوجوه السابقة.
و للعلماء آراء متعددة في دلالة الصيغة على الوجوب، أو على الندب، أو على غيرهما، فقد اتفق العلماء
على أن صيغة الأمر لا تدل على أي معنى من المعاني المتقدمة إلا بقرينة، كما قلنا سابقا.
و قد اختلفوا فيما إذا تجردت هذه الصيغة عن القرينة، فهل تدل على الوجوب؟ أم على الندب؟ أم على
الإباحة؟
المذهب الأول: و هو لجمهور العلماء، حيث ذهبوا إلى أن صيغة " افعل " تدل على الوجوب حقيقة،
257

إلى مساجدهم، ومجتمعاتهم، فلم يروا أحدا من الهالكين، فقالوا: إن للناس لشأنا،
ففتحوا عليهم الأبواب لما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة.
وقيل: أن الناجين كانوا قد قسموا بينهم وبين العاصين القرية بجدار، تبريا منهم،
فأصبحوا، ولم تفتح مدينة الهالكين، فتسوروا عليهم الجدار، فإذا هم قردة يثب بعضهم
على بعض /.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت أن المسوخ لا تنسل، ولا تأكل، ولا تشرب، ولا تعيش
أكثر من ثلاثة أيام (1)، ووقع في كتاب مسلم عنه صلى الله عليه وسلم " أن أمة من الأمم فقدت، وأراها

مجازا فيما سواه، أي: في الندب و الإباحة، و سائر المعاني المستعملة فيها الصيغة، و هذا مذهب
الشافعي، و اختاره ابن الحاجب في " المختصر "، و البيضاوي في " المنهاج ".
المذهب الثاني: و يعزى لأبي هاشم الجبائي، و هو وجه عند الشافعية، حيث ذهبوا إلى أن صيغة الأمر
حقيقة في الندب، مجاز فيما سواه.
المذهب الثالث: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في الإباحة، و هو التخيير بين الفعل و الترك، فهي لا تدل إلا
على الجواز حقيقة، لأنه هو المتيقن، فعد خلوه عن القرينة يكون حقيقة في الإباحة، مجازا فيما
سواها.
المذهب الرابع: و يعزى للماتريدي، حيث يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب
والندب، وهو الطلب، لأن كلا من الوجوب و الندب طلب، و يزاد قيد الجزم في جانب الوجوب، لأنه
الطلب الجازم، و الندب غير جازم.
المذهب الخامس: و فيه تكون صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب و الندب اشتراكا لفظيا.
المذهب السادس: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، و الندب، و الإباحة.
المذهب السابع: يرى أن صيغة الأمر حقيقة في القدر المشترك بين هذه الأنواع الثلاثة، و هو الإذن. نص
عليه أبو عمرو بن الحاجب.
المذهب الثامن: و إليه ذهب القاضي أبو بكر الباقلاني، و الغزالي، و الآمدي، حيث كانوا يتوقفون عن
القول بأن الصيغة تدل على الوجوب، أو على الندب، لأن الصيغة استعملت في الوجوب تارة، و في
الندب أخرى، فقالوا بالتوقف.
قال الآمدي: و منهم من توقف، وهو مذهب الأشعري (رحمه الله تعالى) و من تبعه من أصحابه،
كالقاضي أبي بكر، و الغزالي، و غيرهما، و هو الأصح.
المذهب التاسع: يرى أن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، و الندب، و الإباحة، والإرشاد، و التهديد.
و قيل: صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب، و الندب، و التحريم، و الكراهة، و الإباحة، فهي مشتركة بين
الأحكام الخمسة، ووجهة دلالة الصيغة على التحريم و الكراهة، فإنها تستعمل في التهديد، و هو يستلزم
ترك الفعل المهدد عليه، و هو إما محرم، أو مكروه.
ينظر: " الإحكام " للآمدي (2 / 9)، و " التيسير شرح التحرير " (2 / 49).
(1) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 147) و عزاه لابن جرير عن ابن عباس.
258

الفأر "، وظاهر هذا أن المسوخ تنسل، فإن كان أراد هذا، فهو ظن منه صلى الله عليه وسلم في أمر لا
مدخل له في التبليغ، ثم أوحي إليه بعد ذلك،، أن المسوخ لا تنسل، ونظير ما قلناه
نزوله صلى الله عليه وسلم على مياه بدر وأمره بإطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتكم عن الله
تعالى، فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأي في أمور الدنيا، فإنما أنا بشر مثلكم،
والضمير في (جعلناها) يحتمل عوده على المسخة والعقوبة، ويحتمل على الأمة التي
مسخت، ويحتمل على القردة، ويحتمل على القرية، إذ معنى الكلام يقتضيها، والنكال:
الزجر بالعقاب، و (لما بين يديها). قال السدي: ما بين يدي المسخة ما قبلها من ذنوب
القوم، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب (1)، وقال غيره: ما بين يديها من
حضرها من الناجين، وما خلفها، أي: لمن يجيء بعدها (2)، وقال ابن عباس: لما بين
يديها وما خلفها من القرى (3).
(وموعظة): من الاتعاظ، والازدجار، و (للمتقين): معناه: الذين نهوا ونجوا،
وقالت فرقة: معناه: لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، واللفظ يعم كل متق من كل أمة.
(و إذا قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن
أكون من الجاهلين (67) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض و لا بكر
عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون (68) قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه
يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين (69) قالوا ادع ربك يبين لنا ما هي إن
البقر تشابه علينا و إنا إن شاء الله لمهتدون (70) قال إنها يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض و لا
تسقى الحرث مسلمة لاشية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها و ما كادوا يفعلون (71) و إذ
قلتم نفسا فادارءتم فيها و الله مخرج ما كنتم تكتمون (72) فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله
الموتى و يريكم آياته لعلكم تعقلون (73))
وقوله تعالى: (و إذ قال موسى لقومه ان الله يأمركم...) الآية: المراد تذكيرهم
بنقض سلفهم للميثاق، وسبب هذه القصة على ما روي أن رجلا من بني إسرائيل أسن،
وكان له مال، فاستبطأ ابن أخيه موته، وقيل: أخوه، وقيل: ابنا عمه، وقيل: ورثة غير
معينين، فقتله، ليرثه، وألقاه في سبط آخر غير سبطه، ليأخذ ديته، ويلطخهم بدمه.

(1) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 161)، و الماوردي (1 / 136).
(2) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 161).
(3) ذكره ابن عطية (1 / 161)، و قد رجع هذا الخبر الذي رواه ابن عباس.
259

وقيل: كانت بنو إسرائيل في قريتين متجاورتين، فألقاه إلى باب إحدى القريتين،
وهي التي لم يقتل فيها، ثم جعل يطلبه هو وسبطه، حتى وجده قتيلا، فتعلق بالسبط، أو
بسكان المدينة التي وجد القتيل عندها، فأنكروا قتله، فوقع بين بني إسرائيل في ذلك
لحاء (1)، حتى دخلوا في السلاح، فقال أهل النهى، منهم: أنقتتل ورسول الله معنا،
فذهبوا إلى موسى عليه السلام، فقصوا عليه القصة، وسألوه البيان، فأوحى الله تعالى إليه
أن يذبحوا بقرة، فيضرب القتيل ببعضها، فيحيى ويخبر بقاتله، فقال لهم: (إن الله يأمركم
أن تذبحوا بقرة)، فكان جوابهم أن (قالوا أتتخذنا هزوا) وهذا القول منهم ظاهره فساد
اعتقاد ممن قاله، ولا يصح إيمان من يقول لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن الله يأمر
بكذا: أتتخذنا هزوا، ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، لوجب تكفيره.
وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء، وقول موسى عليه
السلام: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) يحتمل معنيين:
أحدهما: الاستعاذة من الجهل في أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا.
والآخر: من الجهل، كما جهلوا في قولهم.
وقوله تعالى: (قالوا ادع لنا ربك /...) الآية: هذا تعنيت منهم، وقلة طواعية،
ولو امتثلوا الأمر، فاستعرضوا بقرة فذبحوها، لقضوا ما أمروا به، ولكن شددوا، فشدد الله
عليهم، قاله ابن عباس وغيره (2).
والفارض: المسنة الهرمة، والبكر، من البقر: التي لم تلد من الصغر، ورفعت " عوان "
على خبر ابتداء مضمر، تقديره: هي عوان، والعوان التي قد ولدت مرة بعد مرة.
قال * م *: قال الجوهري (3): والعوان: النصف في سنها من كل شئ، والجمع
عون. انتهى.

(1) اللحاء - ممدود -: الملاحاة كالسباب، و لا حي الرجل ملاحاة و لحاء: شاتمه. و لاحيته ملاحاة و لحاء:
إذا نازعته. ينظر: " لسان العرب " (4015).
(2) أخرجه الطبري (1 / 389) برقم (1239)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 151)، و عزاه لابن جرير،
و ابن أبي حاتم. كلاهما عن ابن عباس.
(3) إسماعيل بن حماد الجوهري، كان من أعاجيب الزمان ذكاء، وفطنة، و علما، كان إماما في اللغة
و الأدب، قرأ على ابن علي الفارسي، و السيرافي. له: " الصحاح "، و " مقدمة في النحو "، مات سنة
393 ه‍.
ينظر: " البغية " (1 / 446، 447).
260

* ت *: قال الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن حسين العراقي (1) في نظمه لغريب
القرآن جمع أبي حيان: [الرجز]
معنى " عوان " نصف بين الصغر * وبين ما قد بلغت سن الكبر
و كل ما نقلته عن العراقي منظوما، فمن أرجوزته هذه.
وقوله: (فافعلوا ما تؤمرون) تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنت، فما
تركوه. قال ابن زيد: وجمهور الناس في قوله: (صفراء)، أنها كانت كلها صفراء، وفي
" مختصر الطبري ": (فاقع لونها) أي: صاف لونها. انتهى.
والفقوع مختص بالصفرة، كما خص أحمر بقانىء، وأسود بحالك، وأبيض بناصع،
وأخضر بناضر، قال ابن عباس وغيره: الصفرة تسر النفس، وسألوا بعد هذا كله عن ما هي
سؤال متحيرين * قد أحسوا مقت المعصية (2).
وفي استثنائهم في هذا السؤال الأخير إنابة ما، وانقياد، ودليل ندم وحرص على
موافقة الأمر. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لولا ما استثنوا، ما اهتدوا إليها أبدا " (3).

(1) عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن إبراهيم، محدث الديار المصرية، ذو
التصانيف المفيدة، زين الدين أبو الفضل، العراقي الأصل، الكردي. ولد سنة (725)، أحب الحديث،
و سمع كثيرا، وولع بتخريج أحاديث " الإحياء "، و وافق الزيلعي الحنفي، و كان مفرط الذكاء، أكثر الرحلة
و السماع، أخذ عنه الهيثمي و غيره كابن حجر و برهان الدين الحلبي، صنف " ألفية الحديث " و عمل نكتا
على ابن الصالح، و شرع في تكملة شرح الترمذي تذييلا على ابن سيد الناس. ت (806).
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (4 / 29)، " الضوء اللامع " (4 / 171)، " إنباء الغمر " (5 / 170).
(2) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 163).
(3) أخرجه ابن أبي حاتم (1 / 223)، رقم (727)، و البزار (3 / 40 - كشف)، رقم (2188)، و ابن مردويه
كما في " تفسير ابن كثير " (1 / 111)، كلهم من طريق عباد بن منصور، عن الحسن، عن أبي رافع، عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " لولا أن بني إسرائيل قالوا: (و إنا إن شاء الله لمهتدون)
[البقرة: 70] لما أعطوا، و لكن استثنوا " و قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد.
و قال الهيثمي في " المجمع " (6 / 319): رواه البزار، و فيه عباد بن منصور، و هو ضعيف، و بقية رجاله
ثقات.
و قال ابن كثير: و هذا حديث غريب من هذا الوجه، و أحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة.
و الحديث ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 150)، و عزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.
و للحديث شاهد مرسل عن عكرمة.
ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 150)، و عزاه إلى سعيد بن منصور، و الفريابي، و ابن المنذر.
261

وقوله: (لا ذلول تثير الأرض)، أي: غير مذللة بالعمل والرياضة، و (تثير
الأرض) معناه: بالحراثة، وهي عند قوم جملة في موضع رفع على صفة البقرة، أي: لا
ذلول مثيرة، وقال قوم: " تثير " فعل مستأنف والمعنى إيجاب الحرث، وأنها كانت تحرث،
ولا تسقي، و (مسلمة): بناء مبالغة من السلامة، قال ابن عباس وغيره: معناه: من
العيوب (1)، وقال مجاهد: معناه: من الشيات والألوان (2)، و قيل: من العمل (3).
و (لاشية فيها)، أي: لا خلاف في لونها، هي صفراء كلها، قاله ابن زيد وغيره،
والموشى المختلط الألوان، و منه: وشي الثوب: تزينه بالألوان، والثور الأشيه الذي فيه
بلقة، يقال: فرس أبلق، وكبش أخرج، وتيس أبرق، وكلب أبقع، وثور أشيه، كل ذلك
بمعنى البلقة.
وهذه الأوصاف في البقرة سببها أنهم شددوا، فشدد الله عليهم، ودين الله يسر،
والتعمق في سؤال الأنبياء مذموم، وقصة وجود هذه البقرة على ما روي، أن رجلا من بني
إسرائيل ولد له ابن، وكانت له عجلة، فأرسلها في غيضة (4)، وقال: اللهم، إني قد
استودعتك هذه العجلة لهذا الصبي، ومات الرجل، فلما كبر الصبي، قالت له أمه: إن أباك
كان قد استودع الله عجلة لك، فاذهب، فخذها، فلما رأته البقرة، جاءت إليه، حتى أخذ
بقرنيها، وكانت مستوحشة، فجعل يقودها نحو أمه، فلقيه بنو إسرائيل، ووجدوا بقرته على
الصفة التي أمروا بها، فلما وجدت البقرة، ساموا صاحبها، فاشتط عليهم، فأتوا به موسى
عليه السلام وقالوا له: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم موسى: أرضوه في ملكه. / فاشتروها
منه بوزنها مرة، قاله عبيد السلماني (5)،

(1) أخرجه الطبري (1 / 394 - 395) برقم (1262 - 1263 - 1264)، عن قتادة و أبي العالية، و ذكره
السيوطي في " الدر " (1 / 152) عن أبي العالية، و عزاه لابن جرير.
(2) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 194).
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 64).
(4) الغيضة: الأجمة، وهي مغيض ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. ينظر: " لسان العرب " (3327).
(5) أخرجه الطبري (1 / 398) برقم (1290) عن عبيدة السلماني من طريق محمد بن سيرين. كما أخرجه
عبد الرزاق في تفسير (1 / 49).
و هو عبيدة بن عمرو السلماني، قبيلة من " مراد "، مات النبي صلى الله عليه و آله و سلم و هو في الطريق. عن علي، و ابن
مسعود. و عنه الشعبي، والنخعي، و ابن سيرين. قال ابن عيينة: كان يوازي شريحا في القضاء و العلم.
قال أبو مسهر: مات سنة اثنتين و سبعين. و قال الترمذي: سنة ثلاث.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 207)، " طبقات ابن سعد " (6 / 93)، " سير أعلام النبلاء " (4 / 40)، " العبر " (1 /
79)، و " التقريب " (1 / 547).
262

وقيل: بوزنها مرتين (1). وقيل: بوزنها عشر مرات (2)، وقال مجاهد: كانت لرجل يبر أمه،
وأخذت منه بملء جلدها دنانير (3).
و (الآن): مبني على الفتح (4)، معناه: هذا الوقت، وهو عبارة عما بين الماضي
والمستقبل، و (جئت بالحق): معناه، عند من جعلهم عصاة: بينت لنا غاية البيان، وهذه
الآية تعطي أن الذبح أصل في البقر، وإن نحرت أجزأ.
وقوله تعالى: (و ما كادوا يفعلون): عبارة عن تثبطهم في ذبحها، وقلة مبادرتهم إلى
أمر الله تعالى، وقال محمد بن كعب القرظي: كان ذلك منهم لغلاء البقرة (5)، وقيل: كان

(1) ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 164)، و لم يذكر له سندا.
(2) أخرجه الطبري (1 / 398) برقم (1282) عن السدي.
(3) أخرجه الطبري (1 / 398) برقم (1284) بلفظ: " كانت البقرة لرجل يبر أمه. فرزقه الله أن جعل تلك
البقرة له، فباعها بملء جلدها ذهبا ". عن مجاهد. اه‍.
(4) و اختلف في علة بنائه، فقال الزجاج: " لأنه تضمن معنى الإشارة، لأن معنى أفعل الآن أي: هذا
الوقت ". و قيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لفظ واحد، من حيث إنه لا يثنى و لا يجمع و لا يصغر.
و قيل: لأنه تضمن معنى حرف التعريف و هو الألف واللام كأمس، و هذه الألف و اللام زائدة فيه، بدليل
بنائه و لم يعهد معرف بأل إلا معربا، و لزمت فيه الألف و اللام كما لزمت في " الذي " و " التي " و بابهما،
و يعزى هذا للفارسي. و هو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشئ، ثم يؤتي بمثل لفظه.
و هو لازم للظرفية و لا يتصرف غالبا، و قد وقع مبتدأ في قوله - عليه السلام -: " فهو يهوي في قعرها الآن
حين انتهى " فالآن مبتدأ، و بني على الفتح لما تقدم، و " حين " خبره، بني لإضافته إلى غير متمكن،
و مجرورا في قوله:
أإلى الآن لا يبين ارعواء..................
و ادعى بعضهم إعرابه مستدلا بقوله:
كأنهما ملآن لم يتغيرا * و قد مر للدارين من بعدنا عصر
يريد: " من الآن " فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر. و زعم الفراء أنه منقول من فعل
ماض، و أن أصله أن بمعنى حان فدخلت عليه أل زائدة و استصحب بناؤه على الفتح، و جعله مثل
قولهم: " ما رأيته مذ شب إلى دب " و قوله عليه السلام: " و أنهاكم عن قيل و قال "، و رد عليه بأن أل لا
تدخل على المنقول من فعل ماض، و بأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره، و عنه قول آخر أن أصله
" أوان " فحذفت الألف ثم قلبت الواو ألفا، فعلى هذا ألفه عن واو، و قد أدخله الراغب في باب " أين "
فتكون ألفه عن ياء، و الصواب الأول.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 260، 261).
(5) أخرجه الطبري (1 / 397) برقم (1279) بلفظ: " من كثرة قيمتها " قال العلامة أحمد شاكر: " و فيه أبو
معشر بن عبد الرحمن السندي المدني، و هو ضعيف ".، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 152)، و عزاه
لابن جرير، و ذكره الشوكاني في " تفسيره " (1 / 163).
263

ذلك خوف الفضيحة في أمر القاتل (1).
و (ادارأتم): معناه: تدافعتم قتل القتيل، و (فيها)، أي: في النفس.
وقوله تعالى: (اضربوه ببعضها): آية من الله تعالى على يدي موسى عليه السلام أن
أمرهم أن يضربوا ببعض البقرة القتيل، فيحيى ويخبر بقاتله، فقيل: ضربوه، وقيل: ضربوا
قبره، لأن ابن عباس ذكر أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم داموا في طلب البقرة
أربعين سنة.
وقوله تعالى: (كذلك يحيي الله الموتى...) الآية: في هذه الآية حض على
العبرة، ودلالة على البعث في الآخرة، وظاهرها أنها خطاب لبني إسرائيل حينئذ، حكي
لمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعتبر به إلى يوم القيامة.
وذهب الطبري إلى أنها خطاب لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وأنها مقطوعة من قوله:
(اضربوه ببعضها)، وروي أن هذا القتيل لما حيي، وأخبر بقاتله، عاد ميتا كما كان.
(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة و إن من الحجارة لما
يتفجر منه الأنهار و إن منها لما يشقق فيخرج منه الماء و إن منها لما يهبط من خشية الله و ما الله
بغافل عما تعملون (74) * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم
يحرفونه من بعد ما عقلوه و هم يعلمون (75))
و قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم...) الآية: أي: صلبت وجفت، وهي عبارة عن
خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى، قال قتادة وغيره: المراد قلوب بني إسرائيل
جميعا في معاصيهم، وما ركبوه بعد ذلك (2)، و " أو ": لا يصح أن تكون هنا للشك،
فقيل: هي بمعنى " الواو "، وقيل: للإضراب، وقيل: للإبهام، وقيل غير ذلك (3).

(1) أخرجه الطبري (1 / 399) برقم (1292) عن وهب بن منبه كان يقول: " إن القوم إذ أمروا بذبح البقرة،
إنما قال لموسى " أتتخذنا هزوا "، لعلمهم بأنهم سيفتضحون إذا ذبحت، فحادوا عن ذبحها "، و ذكره
ابن عطية في تفسيره (1 / 65)، و القرطبي (1 / 387)، عن وهب بن منبه.
(2) ذكره ابن عطية الأندلسي في تفسيره (1 / 166) عن أبي العالية و قتادة.
(3) في " أو " خمسة أقوال:
أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى أن الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المستوقد الذي هذه
صفته، و منهم من يشبههم بأصحاب صيب هذه صفته.
الثاني: أنها للإبهام، أي: إن الله أبهم على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء.
264

وقوله تعالى: (و إن من الحجارة...) الآية: معذرة للحجارة، وتفضيل لها على
قلوبهم، قال قتادة: عذر الله تعالى الحجارة، ولم يعذر شقي بني آدم (1).
* ت *: وروى البزار عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " أربعة من الشقاء: جمود العين،
وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا " (2). انتهى من " الكوكب الدري " لأبي

الثالث: أنها للشك، بمعنى أن الناظر يشك في تشبيههم.
الرابع: أنها للإباحة.
الخامس: أنها للتخيير، أي: أبيح للناس أن يشبهوهم بكذا أو بكذا، و خيروا في ذلك. و زاد الكوفيون
فيها معنيين آخرين:
أحدهما: كونها بمعنى الواو، و أنشدوا: [البسيط]
جاء الخلافة أو كانت له قدرا * كما أتى ربه موسى على قدر
و الثاني: كونها بمعنى بل، و أنشدوا: [الطويل]
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * و صورتها أو أنت في العين أملح
أي: بل أنت.
ينظر: الدر المصون " (1 / 134 - 135).
(1) أخرجه الطبري (1 / 408) برقم (1323)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 156)، و عزاه لعبد بن
حميد، و ابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (3230 - كشف)، و ابن الجوزي في " الموضوعات " (3 / 125) من طريق هانئ بن
المتوكل عن عبد الله بن سليمان عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا.
و قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، ففيه هانئ بن المتوكل. قال ابن حبان:
كثرت المناكير في روايته، لا يجوز الاحتجاج به. و قال ابن الجوزي: و عبد الله بن سليمان مجهول.
و ذكره الهيثمي في " مجموع الزوائد " (10 / 229)، و قال: رواه البزار، و فيه هانئ بن المتوكل، و هو
ضعيف.
و تعقب السيوطي ابن الجوزي في " اللئالىء " (2 / 312) بما لا طائل تحته، فقال: أورده في " الميزان " في
ترجمة هانئ، و قال: حديث منكر. اه‍.
والحديث ذكره الحافظ في " اللسان " (6 / 186 - 187) و قال: أورده البزار في مسنده، و قال:
عبد الله بن سليمان روى أحاديث لم يتابع عليها.، و أما هانئ فقال ابن القطان: لا يعرف حاله. كذا
قال. و قال أبو حاتم الرازي: أدركته و لم أكتب عنه. اه‍. و للحديث طريق آخر:
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (3 / 1099)، و أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (1 / 246)، (2 / 323)،
و ابن الجوزي في " الموضوعات " (3 / 125) كلهم من طريق سليمان بن عمرو النخعي عن إسحاق بن
عبد الله بن أبي طلحة عن أنس مرفوعا.
و قال ابن عدي: هذا الحديث وضعه سليمان على إسحاق.
و قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، أبو داود النخعي، قال أحمد و يحيى: كان يضع الأحاديث، قال ابن عدي: وضع هذا على إسحاق. و للحديث طريق ثالث:
أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (1756) من طريق الحسن بن عثمان: ثنا أبو سعيد المازني، ثنا
265

العباس أحمد بن سعد التجيبي، قال الغزالي في " المنهاج ": واعلم أن أول الذنب قسوة،
وآخره، والعياذ بالله، شؤم وشقوة، وسواد القلب يكون من الذنوب، وعلامة سواد القلب
ألا تجد للذنوب مفزعا، ولا للطاعات موقعا، ولا للموعظة منجعا. انتهى.
وقيل في هبوط الحجارة: تفيؤ ظلالها، وقيل: إن الله تعال يخلق في بعض
الأحجار خشية وحياة، يهبط بها من علو تواضعا، وقال مجاهد: ما تردى حجر من رأس
جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا خرج ماء منه، إلا من خشية الله عز وجل، نزل بذلك
القرآن (1)، وقال مثله ابن جريج (2).
وقوله تعالى: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم...) الآية: الخطاب للمؤمنين من
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الأنصار كان لهم حرص على إسلام اليهود للحلف والجوار
الذي كان بينهم، ومعنى هذا الخطاب التقرير / على أمر فيه بعد، إذ قد سلف لأسلاف
هؤلاء اليهود أفاعيل سوء، وهؤلاء على ذلك السنن.
وتحريف الشئ: إمالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس إلى أن تحريفهم
وتبديلهم، إنما هو بالتأويل، ولفظ التوراة باق (3)، وذهب جماعة من العلماء، إلى أنهم
بدلوا ألفاظا من تلقائهم، وأن ذلك ممكن في التوراة، لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في
القرآن، لأن الله تعالى ضمن حفظه.
قلت: وعن ابن إسحاق، أن المراد ب‍ " الفريق " هنا طائفة من السبعين الذين سمعوا
كلام الله مع موسى. انتهى من " مختصر الطبري "، وهذا يحتاج إلى سند صحيح.
(و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله

حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعا.
و قال أبو نعيم: تفرد برفعه متصلا عن صالح حجاج.
و هذا الشاهد ذكره السيوطي في " اللئالىء " (2 / 313)، و لم يتكلم عليه.
و قال ابن عراق في " تنزيه الشريعة " (2 / 301) قلت: فيه مضعفون. اه‍.
يقصد رحمه الله صالح المري و يزيد الرقاشي. و أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " (7 / 407) رقم
(10783) عن محمد بن واسع من قوله.
(1) أخرجه الطبري (1 / 408) برقم (1321)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 156)، و عزاه لعبد بن
حميد، و ابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (1 / 408) برقم (1326)، و ذكره القرطبي (1 / 395).
(3) ذكره ابن عطية (1 / 168).
266

عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون (76) أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون
(77) و منهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني و إن هم إلا يظنون (78))
وقوله تعالى: (و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا...) الآية: المعنى: وهم أيضا، إذا
لقوا يفعلون هذا، فكيف يطمع في إيمانهم، ويحتمل أن يكون هذا الكلام مستأنفا، فيه
كشف سرائرهم، ورد في التفسير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يدخلن علينا قصبة (1) المدينة إلا
مؤمن "، فقال كعب بن الأشرف وأشباهه: أذهبوا وتحسسوا وفي أخبار من آمن بمحمد، وقولوا
لهم: آمنا، واكفروا إذا رجعتم، فنزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: نزلت في المنافقين من
اليهود (2)، وروي عنه أيضا أنها نزلت في قوم من اليهود، قالوا لبعض المؤمنين: نحن نؤمن
أنه نبي، ولكن ليس إلينا، وإنما هو إليكم خاصة، فلما خلوا، قال بعضهم: لم تقرون
بنبوءته (3)، وقال أبو العالية وقتادة: أن بعض اليهود تكلم بما في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم
فقال لهم كفرة الأحبار: (أتحدثونهم بما فتح الله عليكم) أي: عرفكم من صفة محمد
صلى الله عليه وسلم (4).
و (يحاجوكم): من الحجة، و (عند ربكم): معناه: في الآخرة.
وقول تعالى: (أفلا تعقلون): قيل: هو من قول الأحبار للأتباع، وقيل: هو خطاب
من الله تعالى للمؤمنين، أي: أفلا تعقلون أن بني إسرائيل لا يؤمنون، وهم بهذه الأحوال.
و (أميون) هنا: عبارة عن عامة اليهود، وجهلتهم، أي: أنهم لا يطمع في إيمانهم
لما غمرهم من الضلال، والأمي في اللغة: الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب، نسب إلى
الأم، إما لأنه بحال أمه من عدم الكتب، لا بحال أبيه، إذ النساء ليس من شغلهن الكتب،
قاله الطبري، وإما لأنه بحال ولدته أمه فيها، لم ينتقل عنها.
و (الكتاب): التوراة.

(1) قصبة البلد: مدينته، و قيل: معظمه، و القصبة: جوف الحصن، يبنى فيه بناء هو أوسطه، و القصبة:
القرية. و قصبة القرية: وسطها.
ينظر: " لسان العرب " (3641).
(2) أخرجه الطبري (1 / 413) برقم (1339)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 157)، و عزاه لابن جرير.
و ذكره ابن عطية الأندلسي في " التفسير " (1 / 168).
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 168).
(4) ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 158)، و عزاه لعبد بن حميد.
267

والأماني: جمع أمنية، واختلف في معنى (أماني)، فقالت طائفة: هي هاهنا من:
تمنى الرجل، إذا ترجى، فمعناه أن منهم من لا يكتب ولا يقرأ، وإنما يقول بظنه شيئا
سمعه، فيتمنى أنه من الكتاب.
وقال آخرون: هي من تمنى إذا تلا، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
تمنى كتاب الله أول ليلة * وآخره لاقى حمام المقادر (1)
فمعنى الآية: أنهم لا يعلمون الكتاب إلا سماع شئ يتلى، لا علم لهم بصحته.
وقال الطبري: هي من تمنى الرجل، إذا حدث بحديث مختلق كذب، أي: لا
يعلمون الكتاب إلا سماع أشياء مختلقة من أحبارهم، يظنونها من الكتاب.
* ص (2) *: (وإن هم إلا يظنون): " ان ": نافية، بمعنى " ما ". انتهى.
(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا
قليلا فويل لهم مما كتب أيديهم وويل لهم مما يكسبون (79) و قالوا لن تمسنا النار إلا
أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون
(80) بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون
(81) و الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (82))
وقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند
الله...) الآية.
قال الخليل: " الويل ": شدة الشر، وهو مصدر، / لا فعل له، ويجمع على ويلات،
والأحسن فيه إذا انفصل: الرفع، لأنه يقتضي الوقوع، ويصح النصب على معنى الدعاء،
أي: ألزمه الله ويلا، وويل وويح وويس تتقارب في المعنى، وقد فرق بينها قوم.
وروى سفيان، وعطاء بن يسار، أن الويل في هذه الآية واد يجري بفناء جهنم من
صديد أهل النار (3).

(1) البيت من شواهد " المحرر الوجيز " (1 / 169) و " البحر المحيط " (1 / 463)، و " الدر الصمون " (1 /
269).
(2) " المجيد " ص 308.
(3) أخرجه الطبري (1 / 423) برقم (1399) بلفظ " واد جهنم لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدة
حره "، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 159)، و عزاه لابن مبارك في " الزهد "، و ابن جرير، و ابن أبي
حاتم، و البيهقي في " البعث ".
268

وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه
الهاوي أربعين خريفا " (1).
وروى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه جبل من جبال النار " (1)، والذين يكتبون:
هم الأحبار والرؤساء.
و (بأيديهم) قال ابن السراج (3): هي كناية عن أنه من تلقائهم دون أن ينزل عليهم،
والذي بدلوه هو صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ليستديموا رياستهم ومكاسبهم، وذكر السدي، أنهم كانوا
يكتبون كتبا يبدلون فيها صفة النبي صلى الله عليه وسلم ويبيعونها من الأعراب، ويبثونها في أتباعهم،
ويقولون هي من عند الله (4)، والثمن: قيل: عرض الدنيا، وقيل: الرشا والمآكل التي
كانت لهم، و (يكسبون) معناه: من المعاصي، وقيل: من المال الذي تضمنه ذكر الثمن.
وقوله تعالى: (و قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة...) الآية: روى ابن زيد
وغيره، أن سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود: " من أهل النار؟ فقالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم،

(1) أخرجه الترمذي (5 / 320) كتاب " تفسير القرآن "، باب سورة الأنبياء، حديث (3164)، و أحمد (3 /
75)، و عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " رقم (924)، و أبو يعلى (2 / 523) رقم (1383)،
و ابن حبان (2610 - موارد)، و الطبري (29 / 155)، والحاكم (4 / 596)، و نعيم بن حماد في " زوائده "
على " الزهد " لابن المبارك رقم (334)، و البيهقي في " البعث و النشور " (ص 271) رقم (464) من طريق
عن دراج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه. ووافقه الذهبي قلت: و سنده ضعيف، لضعف دراج كما هو
معروف، و بعضهم يقبل حديثه عن أبي الهيثم.
قال الحافظ في " التقريب " (1 / 235): دراج صدوق في حديثه عن أبي الهيثم، ضعيف.
والحديث ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 159)، و زاد نسبته إلى هناد، و ابن أبي الدنيا في " صفة
النار "، وابن أبي حاتم، و الطبراني، و ابن مردويه.
(2) أخرجه الطبري في تفسيره (1 / 422) عن عثمان.
(3) محمد بن السري بن سهل، أبو بكر: أحد أئمة الأدب و العربية. من أهل " بغداد "، كان يلثغ بالراء
فيجعلها غينا. و يقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. مات شابا. و كان عارفا
بالموسيقى. من كتبه: " الأصول " في النحو، و " شرح كتاب سيبويه "، و " الشعر و الشعراء "، و " الخط
و الهجاء "، و " المواصلات و المذكرات في الأخبار ". توفي في سنة 316 ه‍.
ينظر: " بغية الوعاة " (44)، و " طبقات النحويين و اللغويين " (122)، و " نزهة الألباء " (313)،
و " الأعلام " (6 / 136).
(4) أخرجه الطبري (1 / 422) برقم (1391)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 660)، و عزاه لابن أبي
حاتم.
269

فقال لهم: كذبتم، لقد علمتم أنا لا نخلفكم " فنزلت هذه الآية (1).
قال أهل التفسير: العهد في هذه الآية: الميثاق والموعد، و " بلى " رد بعد النفي
بمنزلة " نعم " بعد الإيجاب (2)، وقالت طائفة: السيئة هنا الشرك، كقوله تعالى: (و من جاء
بالسيئة فكبت وجوههم في النار) [النمل: 90] والخطيئات: كبائر الذنوب، قال الحسن بن
أبي الحسن، والسدي: كل ما توعد الله عليه بالنار، فهي الخطيئة المحيطة (3)، والخلود في
هذه الآية على الإطلاق والتأبيد في الكفار، ومستعار، بمعنى الطول في العصاة، وإن علم
انقطاعه.
قال محمد بن عبد الله اللخمي في مختصره للطبري: أجمعت الأمة على تخليد من
مات كافرا، وتظاهرت الروايات الصحيحة عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، بأن عصاة
أهل التوحيد لا يخلدون في النار، ونطق القرآن ب‍ (أن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما
دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 116] لكن من خاف على لحمه ودمه، اجتنب كل ما جاء فيه
الوعيد، ولم يتجاسر على المعاصي، اتكالا على ما يرى لنفسه من التوحيد، فقد كان
السلف وخيار الأمة يخافون سلب الإيمان على أنفسهم، ويخافون النفاق عليها، وقد
تظاهرت بذلك عنهم الأخبار. انتهى.
وقوله تعالى: (و الذين آمنوا...) الآية: يدل هذا التقسيم على أن قوله تعالى:
(بلى من كسب سيئة...) الآية في الكفار، لا في العصاة، ويدل على ذلك أيضا قوله:
(و أحاطت)، لأن العاصي مؤمن، فلم تحط به خطيئاته، ويدل على ذلك أيضا أن الرد
كان على كفار ادعوا أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، فهم المراد بالخلود، والله أعلم.
(و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله و بالوالدين إحسانا و ذي القربى و اليتامى
و المساكين و قولوا للناس حسنا و أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلا منكم
و أنتم معرضون (83) و إذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم
أقررتم و أنتم تشهدون (84) ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم و تخرجون فريقا منكم من ديارهم
تظاهرون عليهم بالإثم و العدوان و إن يأتوكم أسارى تفادوهم و هو محرم عليكم إخراجهم

(1) أخرجه الطبري (1 / 426) برقم (1462). و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 163)، و عزاه لابن جرير.
(2) ينظر: " مغني اللبيب " ص 113، ص 346، ص 348.
(3) أخرجه الطبري (1 / 430) برقم (1438) عن الحسن، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 164)، و عزاه
لوكيع.
270

أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في
الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب و ما الله بغافل عما تعملون (85)) وقوله تعالى: (و إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل...) الآية: أخذ الله سبحانه الميثاق
عليهم على لسان موسى - عليه السلام - وغيره من أنبيائهم، وأخذ الميثاق قول، فالمعنى:
قلنا لهم: (لا تعبدون إلا الله...) الآية، قال سيبويه: " لا تعبدون: متلق لقسم "،
والمعنى: وإذ استحلفناهم، والله / لا تعبدون إلا الله، وفي الإحسان تدخل أنواع بر
الوالدين كلها، واليتم في بني آدم: فقد الأب، وفي البهائم فقد الأم، وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يتم
بعد بلوغ والمسكين الذي لا شئ له "، وقيل: هو الذي له بلغة، والآية تتضمن الرأفة
باليتامى، وحيطة أموالهم، والحض على الصدقة، والمواساة، وتفقد المساكين.
وقوله تعالى: (و قولوا للناس حسنا): أمر عطف على ما تضمنه (لا تعبدون إلا
الله) وما بعده، وقرأ حمزة والكسائي (1): " حسنا "، بفتح الحاء والسين، قال الأخفش (2):
وهما بمعنى واحد، وقال الزجاج (3) وغيره: بل المعنى في القراءة الثانية، وقولوا " قولا
حسنا "، بفتح الحاء والسين، أو قولا ذا حسن بضم الحاء وسكون السين في الأولى، قال
ابن عباس: معنى الكلام قولوا للناس: لا إله إلا الله، ومروهم بها (4)، وقال ابن جريج:
قولوا لهم حسنا في الإعلام بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم (5)، وقال سفيان الثوري (6):

(1) ينظر: " العنوان " (70)، و " حجة القراءات " (103)، و " الحجة " (2 / 126)، و " شرح الطيبة " (4 /
44)، و " شرح شعلة (267)، و " إتحاف " (1 / 401)، و " معاني القراءات " للأزهري (1 / 160).
و الكسائي هو: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء، الكوفي، أبو الحسن الكسائي: إمام في
اللغة و النحو و القراءة. من تصانيفه: " معاني القرآن "، و " المصادر "، و " الحروف "، و " القراءات "،
و " النوادر "، و " المتشابه في القرآن "، و " ما يلحن فيه العوام ". توفي ب‍ " الري " في " العراق " سنة
189 ه‍.
ينظر: " ابن خلكان " (1 / 330)، " تاريخ بغداد " (11 / 403)، " الأعلام " (4 / 283).
(2) " معاني القرآن " (1 / 308)، و " المحتسب " (2 / 363).
(3) " معاني القرآن " (1 / 164).
(4) أخرجه الطبري (1 / 432) برقم (1450) من طريق سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. و ذكره
السيوطي في " الدر " (1 / 165)، و عزاه لابن جرير.
(5) ذكره ابن عطية في تفسيره (1 / 173) عن ابن جريج.
(6) سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن موهب بن منقذ بن نصر بن الحكم بن
الحارث بن مالك بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة على الصحيح، و قيل: من ثور
همدان، الثوري، أبو عبد الله الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، كان من الفضلاء، وكان لا يسمع شيئا إلا
حفظه، كان متقنا ضابطا زاهدا ورعا. ولد سنة سبع و سبعين، و توفي ب‍ " البصرة " سنة 161 ه‍.
271

معناه: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر (1)، وقال أبو العالية: قولوا لهم الطيب من
القول، وحاوروهم بأحسن ما تحبون أن تحاوروا به (2)، وهذا حض على مكارم الأخلاق،
وزكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النار على ما تقبل منها، دون ما لم يتقبل.
وقوله تعالى: (ثم توليتم...) الآية: خطاب لمعاصري النبي صلى الله عليه وسلم أسند إليهم تولي
أسلافهم، إذ هم كلهم بتلك السبيل، قال نحوه ابن عباس وغيره (3). والمراد بالقليل
المستثنى جميع مؤمنيهم قديما من أسلافهم، وحديثا كابن سلام وغيره، والقلة على هذا
هي في عدد الأشخاص، ويحتمل أن تكون القلة في الإيمان، والأول أقوى.
* ص (4): (إلا قليلا): منصوب على الاستثناء، وهو الأفصح، لأنه استثناء من
موجب، وروى عن أبي عمرو (5): " إلا قليل "، بالرفع، ووجهه ابن عطية على بدل قليل من
ضمير: " توليتم " على أن معنى " توليتم " النفي، أي: لم يف بالميثاق إلا قليل، ورد بمنع
النحويين البدل من الموجب، لأن البدل يحل محل المبدل منه، فلو قلت: قام إلا زيد، لم
يجز، لأن " إلا " لا تدخل في الموجب، وتأويله الإيجاب بالنفي يلزم في كل موجب باعتبار
نفي ضده أو نقيضه، فيجوز إذن: " قام القوم إلا زيد "، على تأويل: " لم يجلسوا إلا زيد "
ولم تبن العرب على ذلك كلامها، وإنما أجازوا: " قام القوم إلا زيد "، بالرفع على الصفة،
وقد عقد سيبويه (6) لذلك بابا في كتابه. انتهى.
و (دمائكم): جمع دم، وهو اسم منقوص. أصله " دمي "، (ولا تخرجون أنفسكم

ينظر: " الخلاصة " (1 / 396) (2584)، " ابن سعد " (6 / 257 - 260)، و " الحلية " (6 / 356 - 493)،
و (7 / 3 - 141).
(1) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 173) عن سفيان الثوري.
(2) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 173) عن أبي العالية.
(3) أخرجه الطبري (1 / 438) برقم (1465) بلفظ: " أي تركتم ذلك كله "، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 /
165)، و عزاه لابن إسحاق، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم.
(4) " المجيد " ص 319.
(5) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 173)، و " البحر المحيط " (1 / 455)، و " الدر المصون " (1 / 280)،
و " حاشية الشيخ زادة على البيضاوي " (1 / 345).
و هو زيان (و قيل غير ذلك) أبو عمرو بن العلاء، البصري، أحد القراء السبعة، قرأ على سعيد بن جبير،
و شيبة بن نصاح، و عاصم بن أبي النجود، روى القراءة عنه عرضا و سماعا حسين بن علي الجعفي،
و خارجة بن مصعب، مات سنة 154 ه‍.
ينظر: " غاية النهاية " (1 / 288)، و " طبقات الزبيدي " (ص 35).
(6) ينظر: " الكتاب " (2 / 330 - 331).
272

من دياركم): معناه: ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي، وكذلك حكم كل جماعة
تخاطب بهذا اللفظ في القول.
وقوله تعالى: (ثم أقررتم)، أي: خلفا بعد سلف، أن هذا الميثاق أخذ عليكم،
وقوله: (و أنتم تشهدون) قيل: الخطاب يراد به من سلف منهم، والمعنى: وأنتم شهود،
أي: حضور أخذ الميثاق والإقرار.
وقيل: المراد: من كان في مدة محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: وأنتم شهداء، أي: بينة أن
الميثاق أخذ على أسلافكم، فمن بعدهم منكم.
وقوله تعالى: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم...) الآية: (هؤلاء) دالة على أن
المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف، قيل: تقدير الكلام: / يا هؤلاء، فحذف
حرف النداء، ولا يحسن حذفه عند سيبويه (1)، مع المبهمات.
وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد (2)

(1) إلى مذهب سيبويه و البصريين أشار ابن مالك بقوله: [الرجز]
و ذاك في اسم الجنس و المشار له * قل، و من يمنعه فانصر عاذله
أي: ذاك التعري من حرف النداء يكون مع اسم الجنس، و اسم الإشارة - كما في الآية - قليلا، و هو
مذهب الكوفيين، و أما من منع الحذف معهما - و هم البصريون و سيبويه - فهم محجوجون بما روي من
أشعار العرب مما لا يمكن رده، فمما ورده في اسم الإشارة قوله: [الطويل]
إذا هملت عيني لها قال صاحبي * بمثلك - هذا - لوعة و غرام
و قوله: [البسيط]
إن الألى وصفوا قومي لهم فبهم * هذا - أعتصم، تلق من عاداك مخذولا
و قوله: [الخفيف]
ذا، ارعواء، فليس بعد اشتعال الر * رأس شيبا إلى الصبا من سبيل
و جعل منه قوله تعالى: (ثم أنتم - هؤلاء - تقتلون أنفكسم) [البقرة: 85].
و اعلم أن هذا الحذف مع اسم الجنس و اسم الإشارة مقيس مطرد عند الكوفيين، و أما مذهب البصريين
و سيبويه فشاذ أو ضرورة، كما أشار المصنف إليه بمنع سيبويه الحذف.
(2) قال أبو حيان: و هو أبو الحسن عي بن أحمد بن خلف الأنصاري، من أهل بلدنا " غرناطة "، يعرف بابن
الباذش، و هو والد الإمام أبي جعفر أحمد مؤلف كتاب " الإقناع " في القراءات، و له اختيارات في النحو،
حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، و علق عنه في النحو على كتاب
" الجمل " و " الإيضاح "، و مسائل من " كتاب سيبويه ".
و قد السيوطي: و في " تاريخ غرناطة ": أوحد في زمانه إتقانا و معرفة، و تفردا بعلم العربية، و مشاركة في
غيرها. حسن الخطأ، كبير الفضل، مشاركا في الحديث، عالما بأسماء رجاله و نقلته، مع الدين و الفضل
273

شيخنا (1): (هؤلاء): رفع بالابتداء، و (أنتم): خبر، و (تقتلون)، حال بها تم المعنى،
وهي المقصود.
* ص (2) *: قال الشيخ أبو حيان: ما نقله ابن عطية عن شيخه أبي الحسن بن
البادش من جعله (هؤلاء) مبتدأ، و (أنتم) خبر مقدم، لا أدري ما العلة في ذلك، وفي
عدوله عن جعل (أنتم) مبتدأ، (وهؤلاء) الخبر، إلى عكسه. انتهى.
* ت *: قيل: العلة في ذلك دخول هاء التنبيه عليه، لاختصاصها بأول الكلام،
ويدل على ذلك قولهم: " هأنذا قائما "، ولم يقولوا: " أنا هذا قائما "، قال معناه ابن
هشام (3)، ف‍ " قائما " في المثال المتقدم نصب على الحال. انتهى.
وهذه الآية خطاب لقريظة، والنضير، وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت
الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة، ذهبت كل
طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها، فقتل بعضهم بعضا، وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم،
وكانوا مع ذلك يفدى بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة، وهم قد خالفوها بالقتال،
والإخراج.
والديار: مباني الإقامة، وقال الخليل: " محلة القوم: دارهم ".
ومعنى (تظاهرون): تتعاونون، و (العدوان): تجاوز الحدود، والظلم.

و الزهد و الانقباض عن أهل الدنيا، قرأ على نعم الخلف و غيره. و حدث عن القاضي عياض و غيره، و أم
بجامع " غرناطة ".
و صنف: شرح " كتاب سيبويه "، و " المقتضب " و شرح " أصول ابن السراج "، و شرح " الإيضاح "، و شرح
" الجمل "، و شرح " الكافي " للنحاس. توفي سنة ثمان و عشرين و خمسمائة.
ينظر: " البحر المحيط " (1 / 458)، و " بغية الوعاة " (2 / 142 - 143).
(1) هذا من كلام ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 174).
(2) " المجيد " ص 322.
(3) عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام، من أئمة
العربية، قال ابن خلدون: ما زلنا و نحن بالمغرب نسمع أنه ظهر ب‍ " مصر " عالم بالعربية يقال له: " ابن
هشام "، أنحى من سيبويه. من تصانيفه: " مغني اللبيب عن كتب الأعاريب - ط " و " عمدة الطالب في
تحقيق تصريف ابن الحاجب "، و " الجامع الصغير "، و " الجامع الكبير "، و غيرها، و توفي سنة 567 ه‍.
ب‍ " مصر ".
ينظر: " الأعلام " (4 / 147)، " الدر الكامنة " (2 / 308)، " النجوم الزاهرة " (10 / 366).
274

وقرأ حمزة (1): " أسرى تفدوهم "، و (أسارى): جمع أسير، مأخوذ من الأسر،
وهو الشد، ثم كثر استعماله، حتى لزم، وإن لم يكن ثم ربط ولا شد، وأسير: فعيل:
بمعنى مفعول، و (تفادوهم): معناه في اللغة: تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنهم شيئا، وقال
الثعلبي: يقال: فدى، إذا أعطى مالا، وأخذ رجلا، وفادى، إذا أعطى رجلا، وأخذ رجلا
فتفدوهم: معناه بالمال، وتفادوهم، أي: مفادات الأسير بالأسير. انتهى.
* ت *: وفي الحديث من قول العباس رضي الله عنه: " فإني فاديت نفسي
وعقيلا "، وظاهره لا فرق بينهما.
وقوله تعالى: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض...) الآية: والذي آمنوا به
فداء الأسارى، والذي كفروا به قتل بعضهم بعضا، وإخراجهم من ديارهم، وهذا توبيخ
لهم وبيان لقبح فعلهم، والخزي: الفضيحة، والعقوبة، فقيل: خزيهم: ضرب الجزية
عليهم غابر الدهر، وقيل: قتل قريظة، وإجلاء النضير، وقيل: الخزي الذي تتوعد به الأمة
من الناس هو غلبة العدو.
و (الدنيا): مأخوذة من دنا يدنو، وأصل الياء فيها واو، ولكن أبدلت فرقا بين
الأسماء والصفات، و (أشد العذاب): الخلود في جهنم.
وقوله تعالى: (و ما الله بغافل عما يعملون) قرأ نافع، وابن كثير (2) بياء على ذكر
الغائب، فالخطاب بالآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم والآية واعظة لهم بالمعنى، إذ الله تعالى بالمرصاد
لكل كافر وعاص.
وقرأ الباقون بتاء، على الخطاب لمن تقدم ذكره في الآية قبل هذا، وهو قوله:
(أفتؤمنون ببعض الكتاب...) الآية، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم
فقد روي، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: " إن بني إسرائيل قد مضوا، وأنتم
الذين تعنون بهذا، يا أمة محمد، يريد هذا، وما يجرى مجراه (3) /.

(1) و قرأ الجماعة غير حمزة " أسارى "، و قرأ هو أسرى، و قرىء " أسارى " بفتح الهمزة.
ينظر: " الحجة للقراء السبعة " (2 / 143)، و " حجة القراءات " (104)، و " العنوان " (70)، و " إتحاف "
(1 / 402)، و " شرح الطيبة " (4 / 45)، و " شرح شعلة " (268)، و " البحر المحيط " (1 / 459).
(2) ينظر: " حجة القراءات " (105)، و شرح " طيبة النشر " (4 / 40)، و شرح " شعلة " (266)، و " إتحاف
فضلاء البشر " (1 / 403).
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 176).
275

(أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون (86)
و لقد آتينا موسى الكتاب و قفينا من بعده بالرسل و آتينا عيسى ابن مريم البينات و أيدناه بروح
القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون (87)
و قالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون (88))
وقوله تعالى: (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة...) الآية: جعل الله ترك
الآخرة، وأخذ الدنيا عوضا عنها، مع قدرتهم على التمسك بالآخرة - بمنزلة من أخذها، ثم
باعها بالدنيا، (فلا يخفف عنهم العذاب)، في الآخرة، (ولا هم ينصرون)، لا في
الدنيا، ولا في الآخرة.
* ص (1) *: (ولقد آتينا موسى الكتاب): " اللام " في " لقد ": يحتمل أن تكون
توكيدا، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسى هو المفعول الأول، والكتاب الثاني،
وعكس السهيلي.
و (مريم): معناه في السريانية: الخادم، وسميت به أم عيسى، فصار علما عليها.
انتهى.
و (الكتاب): التوراة.
(وقفينا): مأخوذ من القفا، تقول: قفيت فلانا بفلان، إذا جئت به من قبل قفاه،
ومنه: قفا يقفو، إذا اتبع، وكل رسول جاء بعد موسى، فإنما جاء بإثبات التوراة، والأمر
بلزومها إلى عيسى - عليه السلام -.
و (البينات): الحجج التي أعطاها الله عيسى.
وقيل: هي آياته من أحياء، وإبراء، وخلق طير، وقيل: هي الإنجيل، والآية تعم
ذلك.
(وأيدناه): معناه: قويناه، والأيد القوة.
قال ابن عباس: (روح القدس): هو الاسم الذي كان يحيي به الموتى (2)، وقال
ابن زيد: هو الإنجيل، كما سمى الله تعالى القرآن روحا (3)، وقال السدي، والضحاك،

(1) " المجيد " (ص 331).
(2) أخرجه الطبري (1 / 449) برقم (1494)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 167).
(3) أخرجه الطبري (1 / 449) برقم (1493) عن ابن زيد.
276

والربيع، وقتادة: (روح القدس): جبريل - عليه السلام (1) -، وهذا أصح الأقوال، وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: " أهج قريشا، وروح القدس معك " (2) ومرة قال له: " و جبريل
معك "، و (كلما): ظرف، والعامل فيه: (استكبرتم)، وظاهر الكلام الاستفهام، ومعناه
التوبيخ، روي أن بني إسرائيل كانوا يقتلون في اليوم ثلاثمائة نبي، ثم تقوم سوقهم آخر
النهار، وروي سبعين نبيا، ثم تقوم سوق بقلهم آخر النهار.
والهوى أكثر ما يستعمل فيما ليس بحق، وهو في هذه الآية من ذلك، لأنهم إنما
كانوا يهوون الشهوات، ومعنى: (قلوبنا غلف)، أي: عليها غشاوات، فهي لا تفقه، قاله
ابن عباس. ثم بين تعالى سبب نفورهم عن الإيمان إنما هو أنهم لعنوا بما تقدم من كفرهم
واجترامهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بذنب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد.
و (قليلا): نعت لمصدر محذوف، تقديره: فإيمانا قليلا ما يؤمنون، والضمير في
" يؤمنون " لحاضري محمد صلى الله عليه وسلم منهم، وما في قوله: (ما يؤمنون) زائدة مؤكدة (3).

(1) أخرجه الطبري (1 / 448) بأرقام (1488 - 1489 - 1490 - 1491) عن قتادة، و السدي، و الضحاك،
و الربيع.
(2) أخرجه البخاري (6 / 351) كتاب " بدء الخلق "، باب ذكر الملائكة، حديث (3213)، (7 / 480) كتاب
" المغازي "، باب مرجع النبي صلى الله عليه و آله و سلم من الأحزاب، حديث (4123، 4124)، (10 / 562) كتاب
" الأدب "، باب هجاء المشركين، حديث (6153)، و مسلم (4 / 1933) كتاب " فضائل الصحابة "، باب
فضائل حسان بن ثابت، حديث (153 / 2486)، و أحمد (4 / 299، 302)، و ابن حبان (7146)،
و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (4 / 298)، و البيهقي (10 / 237)، و الطبراني في " الكبير " (3588،
3589، 3590) كلهم من طريق عدي بن ثابت عن البراء بن عازب به.
(3) قال السمين الحلبي: في نصب " قليلا " ستة أوجه:
أحدها وهو الأظهر: أنه نعت لمصدر محذوف أي: فإيمانا قليلا يؤمنون.
الثاني: أنه حال من ضمير ذلك المصدر المحذوف أي: فيؤمنونه أي الإيمان في حال قلته، و قد تقدم أنه
مذهب سيبويه و تقدم تقريره.
الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزمانا قليلا يؤمنون، و هو كقوله: (آمنوا بالذي أنزل على الذين
آمنوا وجه النهار و اكفروا آخره).
الرابع: أنه على إسقاط الخافظ و الأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجر انتصب، و يعزى لأبي
عبيدة.
الخامس: أن يكون حالا من فاعل " يؤمنون "، أي فجمعا قليلا يؤمنون أي المؤمن فيهم قليل، قال معناه
ابن عباس و قتادة. إلا أن المهدوي قال: " ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم من يؤمن "، و أنكره
النحويون، و قالوا: لو كان كذلك للزم رفع " قليل ". قلت: لا يلزم الرفع مع القول بالمعنى الذي ذهب
إليه قتادة لما تقدم من أن نصبه على الحال واف بهذا المعنى. و " ما " على هذه الأقوال كلها مزيدة
للتأكيد.
277

(و لما جاءهم كتب من عند الله مصدق لما معهم و كانوا من قبل يستفتحون على الذين
كفروا فلما جاءهم ما عرفوا به فلعنة الله على الكافرين (89) بئسما اشتروا به
أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا
بغضب على غضب و للكافرين عذاب مهين (90) و إذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن
بما أنزل علينا و يكفرون بما وراءه و هو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل
إن كنتم مؤمنين (91))
وقوله تعالى: (و لما جاءهم كتاب من عند الله...) الآية الكتاب: القرآن،
و (مصدق لما معهم): يعني التوراة، و (يستفتحون) معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل
مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما علموا عندهم من صفته، وذكر وقته، وظنوا أنه
منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج، فغلبتهم العرب، قالوا لهم: لو قد خرج النبي
الذي أضل وقته، لقاتلناكم معه، واستنصرنا عليكم به، ويستفتحون: معناه يستنصرون، قال
أحمد بن نصر الداوودي: ومنه: " عسى الله أن يأتي بالفتح "، أي: بالنصر. انتهى.
وروى أبو بكر / محمد بن حسين الاجري (1) عن ابن عباس، قال: كانت يهود خيبر

السادس: أن تكون " ما " نافية أي: فما يؤمنون قليلا و لا كثيرا، و مثله: (قليلا ما تشكرون)
[السجدة: 9]، (قليلا ما تذكرون) [النمل: 62]، وهذا قوي من جهة المعنى، و إنما يضعف شيئا من
جهة تقدم ما في حيزها عليها، قاله أبو البقاء، و إليه ذهب ابن الأنباري، إلا أن تقديم ما في حيزها عليها
لم يجزه البصريون، و أجازه الكوفيون. قال أبو البقاء: " و لا يجوز أن تكون " ما " مصدرية، لأن " قليلا "
يبقى به ناصب ". يعني أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، و يكون المصدر مرفوعا ب‍ " قليلا "
على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ و هذا بخلاف قوله: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون)
[الذاريات: 17] فإن " ما " هناك يجوز أن تكون مصدرية لأن " قليلا " منصوب ب‍ كان. و قال الزمخشري:
" و يجوز أن تكون القلة بمعنى العدم ".
قال أبو حيان: " و ما ذهبت إليه من أن " قليلا " يراد به النفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب "، أعني
قوله تعالى: (فقليلا ما يؤمنون) [البقرة: 88] لأن " قليلا " انتصب بالفعل المثبت فصار نظير " قمت
قليلا " أي: قمت قياما قليلا، و لا يذهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت و جعلت " قليلا " منصوبا نعتا
لمصدر ذلك الفعل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأسا و عدم
وقوعه بالكلية، و إنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلة النفي المحض في قولهم: " أقل رجل يقول
ذلك، و قلما يقوم زيد "، و إذا تقرر هذا فحمل القلة على النفي المحض هنا ليس بصحيح " انتهى. قلت:
ما قاله أبو القاسم الزمخشري - رحمه الله - من أن معنى التقليل هنا النفي قد قال به الواحدي قبله، فإنه
قال: " أي: لا قليلا و لا كثيرا، كما تقول: قلما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلا ".
ينظر: " الدر المصون " (1 / 297).
(1) محمد بن الحسين بن عبد الله، أبو بكر: فقيه شافعي، محدث، نسبته إلى " آجر " (من قرى
278

يقاتلون غطفان، فكلما التقوا، هزمت اليهود، فعاذ اليهود يوما بالدعاء، فقالوا: اللهم، إنا
نسألك بحق محمد النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا
عليهم، فكانوا إذا التقوا، دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
كفروا به، فأنزل الله عز وجل، (و كانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا)،
والاستفتاح: الاستنصار، ووقع ليهود المدينة نحو هذا مع الأنصار قبيل الإسلام (1). انتهى
من تأليف حسن بن علي بن عبد الملك الرهوني المعروف بابن القطان، وهو كتاب نفيس
جدا ألفه في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وآيات نبوءته.
وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على
سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر، كانت نقلتهم إلى الحجاز، وسكناهم به، فإنهم
كانوا علموا صقع (2) المبعث، وما عرفوا هو محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه، ويظهر من هذه الآية العناد
منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة و (لعنة الله) إبعاده لهم، وخزيهم لذلك.
و (بئس): أصله " بئس "، سهلت الهمزة، ونقلت حركتها إلى الباء، و " ما " عند
سيبويه (3): فاعلة ب‍ " بئس " والتقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم.

" بغداد ") ولد فيها، و حدث ب‍ " بغداد " قبل سنة 330، ثم انتقل إلى " مكة "، فتنسك و توفي فيها 360 ه‍،
له تصانيف كثيرة، منها: " أخبار عمر بن عبد العزيز "، و " أخلاق حملة القرآن ".
ينظر: " الأعلام " (6 / 97)، " وفيات الأعيان " (1: 488)، و " الرسالة المستطرفة " (32)، و " صفة
الصفوة " (2 / 265)، و " النجوم الزاهرة " (4 / 60).
(1) أخرجه الحاكم (2 / 263) و قال الذهبي: عبد الملك متروك هالك.
(2) الصقع: ناحية الأرض و البيت.. و فلان من أهل هذا الصقع، أي من أهل هذه الناحية.
ينظر: " لسان العرب " (2472).
(3) ذهب الفراء إلى أنها مع " بئس " شئ واحد ركب تركيب " حبذا "، نقله ابن عطية، و نقل عنه المهدوي أنه
يجوز أن تكون " ما " مع بئس بمنزلة كلما، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها. و ذهب الجمهور إلى أن
لها محلا، ثم اختلفوا: محلها رفع أو نصب؟ فذهب الأخفش إلى أنها في محل نصب على التمييز
و الجملة بعدها في محل نصب صفة لها، و فاعل بئس مضمر تفسره " ما "، و المخصوص بالذم هو قوله:
" أن يكفروا " لأنه في تأويل مصدر، و التقدير: بئس هو شيئا اشتروا به كفرهم، و فيه قال الفارسي في أحد
قوليه، و اختاره الزمخشري، و يجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذم محذوفا، و " اشتروا " صفة له
في محل رفع تقديره: بئس شيئا شئ أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل]
لنعم الفتى أضحى بأكناف حائل
أي: فتى أضحى، و " أن يكفروا " بدل من ذلك المحذوف، أو خبر مبتدأ محذوف أي: هو أن يكفروا.
و ذهب الكسائي إلى أن " ما " منصوبة المحل أيضا، لكنه قدر بعدها " ما " أخرى موصولة بمعنى الذي،
و جعل الجملة من قوله: " اشتروا " صلتها، و " ما " هذه الموصولة هي المخصوص بالذم، و التقدير: بئس
279

و (اشتروا): بمعنى: باعوا و
و (ما أنزل الله)، يعني به القرآن، ويحتمل التوراة، ويحتمل أن يراد الجميع من
توراة، وإنجيل، وقرآن، لأن الكفر بالبعض يستلزم الكفر بالكل، و (من فضله)، يعني:
من النبوءة والرسالة، و (من يشاء)، يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم، لأنهم حسدوه لما لم يكن
منهم، وكان من العرب، ويدخل في المعنى عيسى صلى الله عليه وسلم، لأنهم كفروا به بغيا، والله قد
تفضل عليه.
و (باءوا): معناه: مضوا متحملين لما يذكر، أنهم باءوا به.
وقال البخاري: قال قتادة: (باءو): معناه: انقلبوا (1). انتهى.

شيئا الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محل ل‍ " اشتروا " على هذا، و يكون " أن يكفروا " على هذا القول خبرا
لمبتدأ محذوف كما تقدم، فتخلص في الجملة الواقعة بعد " ما " على القول بنصبها ثلاثة أقوال، أحدها:
أنها صفة لها فتكون في محل نصب أو صلة ل‍ " ما " المحذوفة فلا محل لها أو صفة للمخصوص بالذم
فتكون في محل رفع.
و ذهب سيبويه إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل بئس، فقال سيبويه: هي معرفة تامة، التقدير: بئس
الشئ، و المخصوص بالذم على هذا محذوف أي شئ اشتروا به أنفسهم، و عزي هذا القول أيضا
للكسائي. و ذهب الفراء و الكسائي أيضا إلى أن " ما " موصولة بمعنى الذي و الجملة بعدها صلتها، و نقله
ابن عطية عن سيبويه، و هو أحد قولي الفارسي، و التقدير: بئس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فأن
يكفروا هو المخصوص بالذم.
قال أبو حيان: " و ما نقله ابن عطية عن سيبويه و هم عليه ". و نقل المهدوي و ابن عطية عن الكسائي أيضا
أن " ما " يجوز أن تكون مصدرية، و التقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون " ما " و ما في حيزها في محل رفع.
قال ابن عطية: " و هذا معترض بأن " بئس " لا تدخل على اسم معين يتعرف بالإضافة للضمير ".
قال أبو حيان: " و هذا لا يلزم إلا إذا نص أنه مرفوع بئس، أما إذا جعله المخصوص بالذم و جعل فاعل
" بئس " مضمرا و التمييز محذوف لفهم المعنى، و التقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم فلا يلزم الاعتراض "
قلت: و بهذا - أعني بجعل فاعل بئس مضمرا فيها - جواز أبو البقاء في " ما " أن تكون مصدرية، فإنه قال:
" و الرابع أن تكون مصدرية أي: بئس شراؤهم، و فاعل بئس على هذا مضمر لأن المصدر ههنا مخصوص
ليس بجنس " يعني فلا يكون فاعلا، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في " به " على " ما " و المصدرية لا
يعود عليها، لأنها حرف عند الجمهور، و تقدير أدلة كل فريق مذكور في المطولات. فهذه نهاية القول
في " بئسما " و " نعما " و الله أعلم.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 299 - 300)، و " الكتاب " (1 / 476).
(1) عقله البخاري في " صحيحه " (8 / 11) كتاب " التفسير " و قال للحافظ في " الفتح " (8 / 12): و صله
عبد بن حميد.
280

و (بغضب) معناه من الله تعالى، لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله
تعالى عليهم، قيل: لعبادتهم العجل.
وقيل: لكفرهم بعيسى - عليه السلام - فالمعنى: على غضب قد باء به أسلافهم،
حظ هؤلاء منه وافر، بسبب رضاهم بتلك الأفعال، وتصويبهم لها.
و (مهين): مأخوذ من " الهوان "، وهو الخلود في النار، لأن من لا يخلد من عصاة
المسلمين، إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد، لا هوان فيه، بل هو تطهير له.
وقوله تعالى: " و إذا قيل لهم "، يعني لليهود: (آمنوا بما أنزل الله) على
محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن، (قالوا نؤمن بما أنزل علينا) يعنون: التوراة، (ويكفرون بما
وراءه)، قال قتادة: أي: بما بعده (1)، قال الفراء (2). أي: بما سواه (3). ويعني به:
القرآن، ووصف تعالى القرآن، بأنه الحق و (مصدقا): حال مؤكدة، عند سيبويه.
وقوله تعالى: (قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين) رد من الله تعالى
عليهم، وتكذيب لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.
(* و لقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده و أنتم ظالمون (92)
و إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا
و عصينا و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم
مؤمنين (93) قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت
إن كنتم صادقين (94) و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم و الله عليم بالظالمين (95))
و قوله تعالى: (و لقد جاءكم موسى بالبينات): (البينات): التوراة، والعصا، وفرق
البحر، وسائر الآيات، و (خذوا ما / آتيناكم): يعني: التوراة والشرع (بقوة)، أي:

(1) أخرجه الطبري (1 / 463) برقم (1559)، و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 179).
(2) هو: يحيى بن زياد بن عبد الله بن مروان، الديلمي، إمام العربية، أبو زكريا، أبو زكريا، المعروف ب‍ " الفراء "،
كان أعلم الكوفيين بالنحو بعد الكسائي، كان يميل إلى الاعتزال، من تصانيفه: " معاني القرآن "
و " المذكر و المؤنث "، و " الحدود " في الإعراب و غيرها. توفي (207 ه‍).
ينظر: ترجمته في: " تاريخ بغداد " (14 / 149)، و " بغية الوعاة " (2 / 333)، و " النجوم الزاهرة " (2 /
85).
(3) ينظر: " معاني الفراء " (1 / 60)، و " الطبري " (2 / 348)، و " الوسيط " (1 / 174)، و " بحر العلوم "
(1 / 137).
281

بعزم، ونشاط. وجد.
(واشربوا في قلوبهم العجل): أي: حب العجل، والمعنى: جعلت قلوبهم تشربه،
وهذا تشبيه ومجاز عبارة عن تمكن أمر العجل في قلوبهم.
وقوله تعالى: (بكفرهم) يحتمل أن تكون باء السبب، و يحتمل أن تكون بمعنى
" مع ".
و قوله تعالى: (قل بئسما يأمركم به إيمانكم) أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يوبخهم، لأنه بئس
هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: (نؤمن بما أنزل
علينا).
وقوله تعالى: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة...) الآية: أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أن
يوبخهم، والمعنى: إن كان لكم نعيما وحظوتها، وخيرها، فذلك يقتضي حرصكم على
الوصول إليها، (فتمنوا الموت)، والدار: اسم " كان "، و " خالصة ": خبرها و (من دون
الناس) يحتمل أن يراد ب‍ " الناس ": محمد صلى الله عليه وسلم، ومن تبعه، ويحتمل أن يراد العموم،
وهذه آية بينة أعطاها الله رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود قالت: (نحن أبناء الله وأحباؤه)
[المائدة: 18]، وشبه ذلك من القول، فأمر الله نبيه أن يدعوهم إلى تمني الموت، وأن
يعلمهم أنه من تمناه منهم مات، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فعلموا صدقه، فأحجموا عن تمنيه
فرقا من الله، لقبح أفعالهم ومعرفتهم بكذبهم، وحرصا منهم على الحياة، وقيل: إن الله
تعالى منعهم من التمني، وقصرهم على الإمساك عنه، لتظهر الآية لنبيه صلى الله عليه وسلم.
* ت *: وقال عياض (1): ومن الوجوه البينة في إعجاز القرآن أي وردت بتعجيز قوم
في قضايا (2)، وإعلامهم أنهم لا يفعلونها، فما فعلوا ولا قدروا على ذلك، كقوله تعالى
لليهود: (قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة (3)...) الآية: قال أبو إسحاق
الزجاج (4) في هذه الآية: أعظم حجة، وأظهر دلالة على صحة الرسالة، لأنه قال لهم:
(فتنموا الموت) وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبدا، فلم يتمنه واحد منهم، وعن النبي صلى الله

(1) ينظر: " الشفا " (ص 382 - 383).
(2) قضايا: جمع قضية، و هي الحادثة الواقعة في حكم قضاء الله (تعالى) و قدره.
(3) خالصة: خاصة بكم.
(4) " معاني القرآن " (1 / 176).
282

تعالى عليه وسلم " والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه " (1)، يعني:
يموت مكانه، قال أبو محمد الأصيلي (2): من أعجب أمرهم، أنه لا توجد منهم جماعة ولا
واحد من يوم أمر الله تعالى بذلك نبيه يقدم عليه (3)، ولا يجيب إليه، وهذا موجود مشاهد
لمن أراد أن يمتحنه منهم. انتهى من " الشفا ".
والمراد بقوله: (تمنوا): أريدوه بقلوبكم، واسألوه، هذا قول جماعة من
المفسرين، وقال ابن عباس: المراد به السؤال فقط، وإن لم يكن بالقلب (4)، ثم أخبر تعالى
عنهم بعجزهم، وأنهم لا يتمنونه أبدا، وأضاف ذنوبهم واجترامهم إلى الأيدي، إذ الأكثر
من كسب (5) العبد الخير والشر، إنما هو بيديه، فحمل جميع الأشياء على ذلك.

(1) ينظر: " تفسير ابن كثير " (1 / 182)، الغصة: ما تقف في الحلق، فتمنع النفس حتى تهلكه، و غص
بريقه: وقع الموت به سريعا.
و قد ورد هذا موقوفا على ابن عباس، أخرجه الطبري و ابن أبي حاتم و ينظر: " الدر المنثور " (1 / 173).
(2) عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن جعفر، أبو محمد، الأموي، المعروف بالأصيلي: عالم
بالحديث، و الفقه. من أهل " أصيلة " (" في المغرب ") أصله من كورة " شبدونة " ولد فيها سنة 324 ه‍،
و رحل به أبوه إلى " أصيلا " من بلاد العدوة، فنشأ فيها، و يقال: ولد في " أصيلا ". رحل في طلب العلم،
فطاف في " الأندلس " و المشروق، و دخل " بغداد " سنة 351 ه‍، و عاد إلى " الأندلس " في آخر أيام
المستنصر، فمات ب‍ " قرطبة "، له كتاب " الدلائل على أمهات المسائل " في اختلاف مالك و الشافعي و أبي
حنيفة.
ينظر: " الأعلام " (6 / 63)، و " جذوة المقتبس " (239).
(3) يقدم عليه أي: على تمني الموت. و لا يجب إليه: أي إلى تمنيه، إذا قيل له: تمنه.
(4) ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 172) بلفظ: " فاسألوا الموت "، و عزاه لابن جرير.
و ذكره ابن عطية الأندلسي في " التفسير " (1 / 181) بلفظ: " السؤال فقط وإن لم يكن بالقب ". قاله ابن
عباس.
(5) الكسب أصلي في اللغة: الجمع، قاله الجوهري: وهو طلب الرزق، يقال: كسبت شيئا واكتسبته بمعنى،
و كسبت أهلي خيرا، و كسبت الرجل مالا فكسب، و هذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب:
الجوارح، و تكسب: تكلف الكسب، و الكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: عقد القلب و عزمه، كقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم و لكن يؤاخذكم بما
كسبت قلوبهم) [البقرة: 225] أي بما عزمتم عليه و قصدتموه.
الوجه الثاني: من الكسب: كسب المال من التجارة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما
كسبتم و ما أخرجنا لكم من الأرض) [البقرة: 267]. فالأول للتجار، و الثاني للزراع.
الوجه الثالث: من الكسب: السعي و العمل، كقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
و عليها ما اكتسبت) [البقرة: 286] و قوله: (بما كنتم تكسبون) [الأعراف: 39] (و ذكر به أن تبسل
نفس بما كسبت) [الأنعام: 70] فهذا كله للعمل، و اختلف الناس في الكسب و الاكتساب، هل هما
بمعنى واحد أم بينهما فرق؟
283

وقوله تعالى: (والله عليم بالظالمين): ظاهره الخبر، ومضمنه الوعيد، لأن الله
سبحانه عليم بالظالمين، وغيرهم، ففائدة تخصيصهم حصول الوعيد.
(و لتجدنهم أحرص الناس على حيوة و من الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة و ما
هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر والله بصير بما يعملون (96) قل من كان عدوا لجبريل فإنه
نزله على قلبك بأن الله مصدقا لما بين يديه و هدى و بشرى للمؤمنين (97))

فقالت طائفة: معناهما واحد.
قال أبو الحسن علي بن أحمد: و هو الصحيح عند أهل اللغة، لا فرق بينهما، و قال ذو الرمة: [البسيط]
ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب.
و قال الآخرون: الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه و لغيره، و لا يقال:
يكتسب، قال الحطيئة: [البسيط]
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * فاغفر هداك مليك الناس يا عمر
قلت: و الاكتساب: افتعال، و هو يستدعي اهتماما و تعملا و اجتهادا، و أما الكسب فيصح نسبته بأدنى
شئ، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أو في سعي. و في جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها
فيه اجتهاد و اهتمام.
و القائلون بالكسب اختلفوا في حقيقته، فقالت المعتزلة: هو إحداث العبد لفعله بقدرته و مشيئته
استقلالا، و ليس للرب منع فيه، و لا هو خالق فعله، ولا مكونه، و لا مريد له.
و قالت الأشعرية: هو مقارنة قدرة العبد لفعله الاختياري في محل واحد هو العبد، بمعنى أنه متى خلق
الله القدرة التي هي العرض مقارنة لذلك الفعل، كان ذلك الفعل اختياريا و مكسوبا للعبد بدون أن يكون
لقدرته فيه مدخل أصلا، و إن لم يخلق الله تلك القدرة المقارنة للفعل، بل خلق الفعل في العبد فقط، كان ذلك الفعل اضطراريا، و لم يكن مكسوبا للعبد. و هذا الفريق صرح بأن العبد مجبور في الباطن
مختار في الظاهر، فهو عنده مجبور في صورة مختار.
و لا يخفى أن هذا المذهب و مذهب الجبرية واحد معنى، فيلزم على كل من المذهبين ما يلزم على
الآخر، و التستر بقالب الاختيار، و صورته الظاهرية، المخالفة للواقع لا يفيد.
و قال العلامة الأمير: الكسب هو صرف إرادة العبد إلى الفعل، وهو أمر اعتباري، لا يحتاج لخلق
و إيجاد، و بيان ذلك: أن العبد إذا توجهت إرادته لفعل من أفعاله كالصلاة، أوجد الله (تعالى) في العبد
شيئين مقترنين أحدهما فعله بالمعنى الحاصل بالمصدر أي حركاته و سكناته. و الثاني قدرته المتعلقة بفعله
تعلق مقارنة، و تعلقه المذكور هو فعله بالمعنى المصدري، فالسبب هو توجه إرادة العبد، و المسبب
شيئان وجوديان أوجدهما المولى تعالى مقترنين و هما فعل العبد و قدرته، فلا يناسب حينئذ جعل أحدهما
علة أو شرطا لآخر، و إنما السبب أو الشرط في إيجاد المؤثر لهما إرادة العبد، لكنه عادي لا عقلي. فإذا
قصد العبد فعل الخير خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الخير، و خلق الخير معها. وإن قصد فعل الشر
خلق الله (تعالى) فيه قدرة فعل الشر، و خلق الشر معها. فكان هو المفوت لقدرة فعل الخير، لقصده
فعل الشر، فيستحق الذم.
ينظر: " أفعال العباد " لشيخنا عبد الرحمن إبراهيم ص 51 - 54.
284

وقوله تعالى: (و لتجدنهم أحرص الناس على حياة...) الآية: وحرصهم على
الحياة لمعرفتهم بذنوبهم، وأن لا خير لهم عند الله تعالى.
وقوله تعالى: (و من الذين أشركوا): قيل: المعنى: / وأحرص من الذين أشركوا
لأن مشركي العرب لا يعرفون إلا هذه الحياة الدنيا، والضمير في (أحدهم) يعود في هذا
القول على اليهود، وقيل: إن الكلام تم في حياة، ثم استؤنف الإخبار عن طائفة من
المشركين، أنهم يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، والزحزحة الإبعاد والتنحية، وفي قوله
تعالى: (والله بصير بما يعلمون) وعيد.
وقوله تعالى: (قل من كان عدوا لجبريل...) الآية: أجمع أهل التفسير، أن اليهود
قالت: جبريل عدونا، واختلف في كيفية ذلك، فقيل: أن يهود فدك (1) قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:
" نسألك عن أربعة أشياء، فإن عرفتها، اتبعناك، فسألوه عما حرم إسرائيل على نفسه، فقال:
لحوم الإبل، وألبانها، وسألوه عن الشبه في الولد، فقال: أي ماء علا، كان له الشبه،
وسألوه عن نومه، فقال: تنام عيني، ولا ينام قلبي، وسألوه عن من يجيئه من الملائكة،
فقال: جبريل، فلما ذكره، قالوا: ذاك عدونا، لأنه ملك الحرب، والشدائد، والجدب،
ولو كان الذي يجيئك ميكائيل ملك الرحمة، والخصب، والأمطار، لاتبعناك ".
وفي جبريل لغات:
جبريل (2)، بكسر الجيم والراء من غير همز، وبها قرأ نافع، وجبريل، بفتح الجيم

(1) بالتحريك، و آخره كاف: قرية ب‍ " الحجاز "، بينها وبين " المدينة " يومان. و قيل: ثلاثة، أفاءها الله
(تعالى) على رسوله (عليه السلام) صلحا. فيها عين فوارة و نخل.
ينظر: " مراصد الاطلاع " (3 / 1020).
(2) قرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و حفص: " جبريل " بكسر الجيم و الراء، جعلوا (جبريل) اسما واحدا على
وزن (قطميرا)، و حجتهم قول الشاعر:
وجبريل رسول الله فينا * وروح القدس ليس له كفاء
و قرأ حمزة و الكسائي: " جبرئيل " بفتح الجيم و الراء مهموزا، قال الشاعر:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة * مدى الدهر إلا جبرئيل أمامها
و حجتهم ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: " إنما جبرئيل و ميكائيل " كقولك عبد الله و عبد الرحمن، (جبر)
هو العبد، و " إيل " هو الله، فأضيف (جبر) إليه و بني فقيل (جبرئيل).
و قرأ ابن كثير " جبريل " بفتح الجيم و كسر الراء مثل (سمويل) و هو اسم طائر. قال عبد الله بن كثير:
رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المنام فأقرأني " جبريل " فأنا لا أقرأ إلا كذلك.
و قرأ يحيى عن أبي بكر: " جبرئل " على وزن (جبرعل) و هذه لغة تميم و قيس.
ينظر: " العنوان في القراءات السبع " (71)، و " حجة القراءات " (107)، و " الحجة " (2 / 163)،
و " شرح طيبة النشر " (4 / 50)، و " شرح شعلة " (270)، و " معاني القراءات " للأزهري (1 / 167).
285

وكسر الراء من غير همز، وبها قرأ ابن كثير، وروي عنه، أنه قال: رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في
النوم وهو يقرأ: جبريل وميكال، فلا أزال أقرأها أبدا كذلك.
* ت *: يعني، والله أعلم: مع اعتماده على روايتها، قال الثعلبي: والصحيح
المشهور عن ابن كثير ما تقدم من فتح الجيم، لا ما حكي عنه في الرؤيا من كسرها.
انتهى.
وذكر ابن عباس وغيره، أن جبر، وميك، وإسراف هي كلها بالأعجمية بمعنى عبد
ومملوك، وإيل: الله (1).
وقوله تعالى: (فإنه نزله على قلبك) الضمير في " إنه " عائد على الله تعالى، وفي
" نزله " عائد على " جبريل "، أي: بالقرآن، وسائر الوحي، وقيل: الضمير في " إنه " عائد
على جبريل، وفي " نزله " عائد على القرآن، وخص القلب بالذكر، لأنه موضع العقل
والعلم، وتلقي المعارف.
و (بإذن الله): معناه: بعلمه وتمكينه إياه من هذه المنزلة، و (مصدقا): حال من
ضمير القرآن في " نزله "، و (ما بين يديه): ما تقدمه من كتب الله تعالى، (وهدى)،
أي: إرشاد.
(من كان عدوا لله و ملائكته و رسله و جبريل و ميكال فإن الله عدو للكافرين (98)
و لقد أنزلنا إليك آيات بينات و ما يكفر بها إلا الفاسقون (99) أوكلما عاهدوا عهدا نبذه
فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون (100) و لما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم
نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون (101) و اتبعوا ما
تتلوا الشياطين على ملك سليمان و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
السحر و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة
فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء و زوجه و ما هم بضارين به من أحد إلا
بإذن الله و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من
خلق و لبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون (102) ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة
من عند الله خير لو كانوا يعلمون (103) يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا
و اسمعوا و للكافرين عذاب أليم (104))

(1) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 183).
286

وقوله تعالى: " من كان عدوا لله " الآية: وعيد وذم لمعادي جبريل، وإعلام أن
عداوة البعض تقتضي عداوة الله لهم، وعطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وقد كان ذكر
الملائكة عمهما، تشريفا لهما، قيل: خصا لأن اليهود ذكروهما، ونزلت الآية بسببهما،
فذكرا ليلا تقول اليهود: إنا لم نعاد الله، وجميع ملائكته، وعداوة العبد لله هي معصيته،
وترك طاعته، ومعاداة أوليائه، وعداوة الله للعبد تعذيبه وإظهار أثر العداوة عليه.
وقوله تعالى: (أو كلما عاهدوا عهدا...) الآية: قال سيبويه (1): " الواو للعطف،
دخلت عليها ألف الاستفهام "، والنبذ: الطرح، ومنه المنبوذ، والعهد الذي نبذوه: هو ما
أخذ عليهم في التوراة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم (ولما جاءهم رسول من عند الله) هو محمد صلى الله عليه وسلم
و (مصدق): نعت لرسول، وكتاب الله: القرآن، وقيل: التوراة، لأن مخالفتها نبذ لها،
و (وراء ظهورهم)، مثل، لأن ما يجعل ظهريا، فقد زال النظر إليه جملة، والعرب
تقول: جعل هذا الأمر وراء ظهره، ودبر أذنه.
و (كأنهم لا يعلمون): تشبيه بمن لا يعلم / فيجئ من اللفظ أنهم كفروا على
علم.
وقوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين...) الآية: يعني اليهود، و (تتلوا): قال
عطاء: معناه: تقرأ (2)، وقال ابن عباس: (تتلوا): تتبع (3)، و (على ملك سليمان)،
أي: على عهد ملك سليمان، وقال الطبري: (اتبعوا): بمعنى: فضلوا، و (على ملك
سليمان)، أي: على شرعه ونبوءته، والذي تلته الشياطين، قيل: إنهم كانوا يلقون إلى
الكهنة الكلمة من الحق معها المائة من الباطل، حتى صار ذلك علمهم، فجمعه سليمان،
ودفنه تحت كرسيه، فلما مات، أخرجته الشياطين، وقالت: إن ذلك كان علم سليمان.

(1) اختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال، فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام و الواو زائدة، و هذا
على رأيه في جواز زيادتها. و قال الكسائي: هي " أو " العاطفة التي بمعنى بل، و إنما حركت الواو و يؤيده
قراءة من قرأها ساكنة. و قال البصريون هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف،
و الزمخشري يقدر بين الهمزة و حرف العطف شيئا يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هنا: أكفروا بالآيات
البينات، و كلما عاهدوا. ينظر: " الدر المصون " (1 / 316)، و " الكتاب " (3 / 189).
(2) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 185) بلفظ: " تقرأ من التلاوة " عن عطاء.
(3) أخرجه الطبري (1 / 492) برقم (1658)، و قال العلامة أحمد شاكر: ووقع في المطبوعة " العبقري " وهو
تصحيف، و تصحيحه كالآتي: الحسن بن عمرو بن محمد العنقزي - ضعيف قال أبو زرعة " لا
يصدق "، و هو مترجم في " لسان الميزان "، و " ابن أبي حاتم " (1 / 2 / 61 - 62)، و ذكره ابن عطية في
" تفسيره " (1 / 185)، و السيوطي في " الدر " (1 / 183)، و عزاه لابن جرير.
287

وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر سليمان - عليه السلام - في الأنبياء، قال بعض
اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء، وما كان إلا ساحرا.
وقوله تعالى: (و ما كفر سليمان) تبرئة من الله تعالى لسليمان - عليه السلام.
والسحر والعمل به كفر، ويقتل الساحر عند مالك، كفرا، ولا يستتاب، كالزنديق،
وقال الشافعي: يسأل عن سحره، فإن كان كفرا، استتيب منه، فإن تاب، وإلا قتل، وقال
مالك فيمن يعقد الرجال عن النساء، يعاقب، ولا يقتل، والناس المعلمون: اتباع الشياطين
من بني إسرائيل، (وما أنزل على الملكين): " ما " عطف على السحر، فهي مفعولة، وهذا
على القول بأن الله تعالى أنزل السحر على الملكين، ليكفر به من اتبعه، ويؤمن به من
تركه، أو على قول مجاهد وغيره، أن الله تعالى أنزل على الملكين الشئ الذي يفرق به
بين المرء وزوجه، دون السحر، أو (1) على القول، أن الله تعالى أنزل السحر عليهما،
ليعلم على جهة التحذير منه، والنهي عنه.
قال * ع (2) *: والتعليم، على هذا القول، إنما هو تعريف يسير بمبادئه، وقيل:
" إنما " عطف على " ما " في قوله: (ما تتلوا)، وقيل: " ما " نافية، رد على قوله: (وما كفر
سليمان)، وذلك أن اليهود قالوا: إن الله تعالى أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله
ذلك.
* ت *: قال عياض: والقراءة بكسر اللام من الملكين شاذة (3)، وبابل: قطر من
الأرض، وهاروت وماروت: بدل من الملكين، وما يذكر في قصتهما مع الزهرة كله
ضعيف، وكذا قال: * ع (4) *:
* ت *: قال عياض (5): وأما ما ذكره أهل الأخبار، ونقله المفسرون في قصة

(1) أخرجه الطبري (1 / 49) برقم (1680)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 183)، و ابن عطية الأندلسي
في " تفسيره " (1 / 186).
(2) " المحر الوجيز " (1 / 186).
(3) وقرأ بها الحسن بن علي وابن عباس، كما في مختصر الشواذ ص 16 و قرأ بها أيضا أبو الأسود الدؤلي،
و الضحاك، و ابن أبزي.
ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 186)، و " البحر المحيط " (1 / 497)، و " الدر المصون " (1 / 321).
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 187).
(5) ينظر: " الشفا " (ص 853 - 855).
288

هاروت وماروت. وما روي عن علي، وابن عباس - رضي الله عنهما - في خبرهما،
وابتلائهما، فاعلم - أكرمك الله - أن هذه الأخبار لم يرو منها سقيم ولا صحيح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وليس (1) هو شيئا يؤخذ بقياس، والذي منه في القرآن، اختلف المفسرون في
معناه، وأنكر ما قال بعضهم فيه كثير من السلف، وهذه الأخبار من كتب اليهود،
وافترائهم (2)، كما نصه الله أول الآيات. انتهى. أنظره.
وقوله تعالى: (و ما يعلمان...) الآية: ذكر ابن الأعرابي (3) في " الياقوتة "، أن
(يعلمان) بمعنى " يعلمان (4)، ويشعران "، كما قال كعب بن زهير (5): [الطويل]

(1) و ليس هو، أي ما تضمنته قصتهما. يؤخذ بقياس: يستنبط بقياس، أي ليس مما يجري فيه القياس على
غيره، مما ورد من الآيات و الأحاديث الصحيحة، فلا ينبغي الخوض فيه نفيا أو إثباتا.
قال في " نسيم الرياض ": و هذا الذي ذكره من أنه لم يرد فيه حديث ضعيف، و لا صحيح ردوه - كما نقله
السيوطي في " مناهل الصفا في تخريج أحاديث الشفا " - بأنه ورد من طرق كثيرة، منها ما في مسند أحمد،
عن ابن عمر (رضي الله عنهما) مرفوعا، و رواه ابن حبان، و البيهقي، و ابن جرير، و ابن حميد في
" مسنده "، وابن أبي الدنيا و غيرهم من طرق عديدة.
و قال ابن حجر في " شرح البخاري ": إن له طرقا تفيد العلم بصحته. و كذا في حواشي البرهان الحلبي،
و ذكره مسندا عن ابن عمر (رضي الله عنهما) أنه سمعه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: " لما أهبط الله (تعالى) آدم إلى
الأرض، قالت الملائكة: أتجعل فيها من يفسد فيها! و قالوا: ربنا نحن أطوع لك من بني آدم. فقال الله
تعالى: هلما بملكين يهبطان الأرض. قالوا: ربنا هاروت و ماروت. فأهبطا، فتمثلت لهما الزهرة امرأة
حسنة من البشر، فراوداها عن نفسها، فقالت: لا، و الله، حتى تتكلما بهذه الكلمة من الشرك، فأبيا.
فذهبت و أتت بابن جار لها تحمله، فراوداها. فقالت: لا، حتى تقتلا هذا الصبي، فقالا: لا. ثم راوداها
مرة أخرى، فأتت بقدح خمر، فقالت: لا، حتى تشرباه. فشربا و سكرا، فتكلما بكلمة الكفر، و قتلا
الصبي، فخيرهما الله (تعالى) بين عذاب الدنيا و عذاب الآخرة. فاختارا عذاب الدنيا: " فعلقا بين السماء
و الأرض ". قال الخفاجي: و قد جمع السيوطي طرق هذا الحديث في تأليف مستقل، فبلغت نيفا
و عشرين طريقا.
(2) هذه الأخبار التي ذكرها بعض المفسرين منقولة من كتب اليهود في الإسرائيليات و افترائهم و كذبهم على
أنبياء الله تعالى و ملائكته.
(3) محمد بن زياد، المعروف ب‍ " ابن الأعرابي "، راوية، ناسب، علامة باللغة، ولد 150 ه‍ من أهل
" الكوفة "، كان أحول، لم ير أحد في علم الشعر أغزر منه. له تصانيف منها: " أسماء الخيل و فرسانها "،
و " الأنواء " و " الفاضل " و " البشر " و غيرها. توفي 231 ه‍.
ينظر: " وفيات الأعيان " (1 / 492)، و " تاريخ بغداد " (5 / 282)، و " المقتبس " (6 / 3 - 9)، و " نزهة
الألبا " (207)، و " الأعلام " (6 / 131).
(4) و هي قراءة طلحة بن مصرف، كما في " مختصر الشواذ " (ص 16)، و " البحر المحيط " (1 / 498)،
و " الدر المصون " (1 / 322).
(5) كعب بن زهير بن أبي سلمى المازني، أبو المصرب. شاهر عالي الطبقة من أهل " نجد ". له " ديوان
289

تعلم رسول الله أنك مدركي * وأن وعيدا منك كالأخذ باليد (1)
و حمل هذه الآية على أن الملكين إنما نزلا يعلمان بالسحر، وينهيان عنه، وقال
الجمهور: بل التعليم على عرفه.
* ص (2) *: وقوله تعالى: (من أحد): " من " هنا زائدة مع المفعول لتأكيد /
استغراق الجنس، لأن أحدا من ألفاظ العموم. انتهى.
و (يفرقون): معناه فرقة العصمة، وقيل: معناه يؤخذون (3) الرجل عن المرأة، حتى
لا يقدر على وطئها، فهي أيضا فرقة، و (بإذن الله): معناه: بعلمه، وتمكينه،
و (يضرهم): معناه: في الآخرة، والضمير في علموا عائد على بني إسرائيل، وقال:
(اشتراه)، لأنهم كانوا يعطون الأجرة على أن يعلموا، والخلاق: النصيب والحظ وهو هنا
بمعنى الجاه والقدر، واللام في قوله: " لمن " للقسم المؤذنة بأن الكلام قسم لا شرط.
* م *: (ولبئس ما): أبو البقاء (4): جواب قسم محذوف، والمخصوص بالذم

شعر " كان ممن اشتهر في الجاهلية، و لما ظهر الإسلام هجا النبي صلى الله عليه و آله و سلم و أقام يشبب بنساء المسلمين،
فهدر النبي دمه، فجاءه " كعب " مستأمنا "، و قد أسلم، و أنشده لاميته المشهورة التي مطلها: " بانت سعاد
فقلبي اليوم متبول " فعفا عنه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و خلع عليه بردته. و هو من أعرق الناس في الشعر.
ينظر: " الأعلام " (5 / 226).
(1) البيت في ملحق ديوانه (258)، و " أمالي المرتضى " (2 / 77)، و " المحرر الوجيز " (1 / 187)،
و " تفسير القرطبي " (2 / 54)، و " الدر المصون " (322). و يروى ملفقا من بيتين لأسيد بن أبي إياس
الهذلي في " شرح أشعار الهذليين " (2 / 627)، و بلا نسبة في " شرح الأشموني " (1 / 158)، و " شرح
شذور الذهب " (ص 468)، و " مغني اللبيب " (ص 2 / 594).
و الشاهد فيه استعمال الفعل " تعلم " بمعنى " العم "، فنصب به مفعولين بواسطة " أن " المصدرية المؤكدة،
و هذا هو الأكثر في تعدي هذا الفعل.
(2) " المجيد " (ص 361).
(3) التأخيذ: حبس السواحر أزواجهن عن غيرهم من النساء. والتأخيذ - أيضا -: أن تحتال المرأة بحيل في
منع زوجها من جماع غيرها، يقال: لفلانة أخذة تؤخذ بها الرجال عن النساء.
ينظر: " لسان العرب " (36).
(4) " التبيان " (1 / 101) و أبو البقاء هو عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين، الإمام محب الدين،
أبو البقاء العكبري، البغدادي الضرير، النحوي، الحنبلي، صاحب الإعراب. قال القفطي: أصله من
" عكبرا "، و قرأ بالروايات على أبي الحسن البطائحي، و تفقه بالقاضي أبي يعلى الفراء، و لازمه حتى برع
في المذهب و الخلاف و الأصول، و قرأ العربية على يحيى بن نجاح و ابن الخشاب، حتى حاز قصب
السبق، و صار فيها من الرؤساء المتقدمين، و قصده الناس من الأقطار، و أقرأ النحو، و اللغة، و المذهب،
و الخلاف، و الفرائض، والحساب، ينظر: " بغية الوعاة " (2 / 38، 39).
290

محذوف، أي: السحر أو الكفر، والضمير في " به " عائد على السحر، أو الكفر. انتهى.
و (شروا): معناه: باعوا، والضمير في " يعلمون " عائد على بني إسرائيل اتفاقا،
(ولو أنهم آمنوا): يعني: الذين اشتروا السحر، وجواب: " لو ": (لمثوبة)، والمثوبة،
عند الجمهور: بمعنى الثواب.
وقوله سبحانه، (لو كانوا يعلمون) يحتمل نفي العلم عنهم، ويحتمل: لو كانوا
يعلمون علما ينفع.
وقرأ جمهور الناس (1): (راعنا)، من المراعاة، بمعنى: فاعلنا، أي: أرعنا نرعك،
و في هذا جفاء أن يخاطب به أحد نبيه، وقد حض الله تعالى على خفض الصوت عنده،
وتعزيره وتوقيره، وقالت طائفة: هي لغة للعرب، فكانت اليهود تصرفها إلى الرعونة،
يظهرون أنهم يريدون المراعاة، ويبطنون أنهم يريدون الرعونة التي هي الجهل، فنهى الله
المؤمنين عن هذا القول، سدا للذريعة (2)، لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور،
و (أنظرنا): معناه: انتظرنا، وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى: تفقدنا من النظر،
والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، ولما نهى الله تعالى في هذه الآية،
وأمر، حض بعد على السمع الذي في ضمنه الطاعة، وأعلم أن لمن خالف أمره، فكفر
- عذابا أليما، وهو المؤلم، (واسمعوا): معطوف على (قولوا)، لا على معمولها.

و في مصحف عبد الله و قراءته، و قراءة أبي: " راعونا " على إسناد الفعل لضمير الجمع، وذكر أيضا أن
في مصحف عبد الله (ارعونا) خاطبوه بذلك إكبار و تعظيما إذ أقاموه مقام الجمع، و قرأ الحسن و ابن أبي
ليلى، و أبو حيوة، و ابن محيصن: " راعنا " بالتنوين جعله صفة لمصدر محذوف، أي: قولا راعنا، و هو
على سبيل النسب كالإبن، و تأمر.
ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 189)، و " البحر المحيط " (1 / 508)، و " الدر المصون " (1 / 332)،
و " مختصر الشواذ " (ص 16)، و " إتحاف فضلاء البشر " (1 / 411).
(2) و سد الذرائع: هي التوصل بما هو مصلحة إلى مفسدة، كما يرى الشاطبي، أو وسيلة و طريقة إلى
الشئ، عن شمس الدين ابن القيم، فالشاطبي يقتصر على الذرائع سدا، و ابن القيم يشملها سدا و فتحا.
فسد الذرائع وسيلة مباحة يتوصل بها إلى ممنوع مشتمل على مفسدة.
قال الباجي: ذهب مالك إلى المنع من سد الذرائع، و هي المسألة التي ظاهرها الإباحة، و يتوصل بها إلى
فعل المحظور، مثل: أن يبيع السلعة بمائة إلى أجل، و يشتريها بخمسين
نقدا، فهذا قد توصل إلى
خمسين بذكر السلعة.
291

ربكم و الله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم (105) * ما ننسخ من آية
أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير (106))
وقوله سبحانه: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب...) الآية: يتناول لفظ الآية
كل خير، والرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها، وقال قوم: الرحمة القرآن.
وقوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها...) الآية: النسخ، في كلام العرب، على
وجهين:
أحدهما: النقل، كنقل كتاب من آخر، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، وورد في
كتاب الله تعالى في قوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعلمون) [الجائية: 29].
الثاني: الإزالة، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسم في اللغة على ضربين:
أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ، كقولهم: نسخت الشمس الظل.
والآخر: لا يثبت، كقولهم: نسخت الريح الأثر.
وورد النسخ في الشرع حسب هذين الضربين وحد " الناسخ " عند حذاق أهل السنة:
الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتا، مع
تراخيه عنه.
* ت *: قال ابن الحاجب: والنسخ، لغة: الإزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحكم
الشرعي، بدليل شرعي متأخر (1). انتهى من " مختصره الكبير ".

(1) ينظر: " البرهان " لإمام الحرمين (2 / 1293)، " البحر المحيط " للزركشي (4 / 63)، " الإحكام في أصول
الأحكام " للآمدي (3 / 15)، " سلاسل الذهب " للزكشي (ص 290)، " التمهيد " للأسنوي (ص 435)،
" نهاية السول " له (2 / 548)، " زوائد الأصول " له (ص 308)، " منهاج العقول " للبدخشي (2 / 224)،
" غاية الوصول " للشيخ زكريا الأنصاري (ص 87)، " التحصيل من المحصول " للأرموي (2 / 7)،
" المنخول " للغزالي (ص 288)، " المستصفى " له (1 / 107)، " حاشية البناني " (2 / 74)، " الإبهاج " لابن
السبكي (2 / 226)، " الآيات البينات " لابن قاسم العبادي (3 / 129)، " حاشية العطار على جمع
الجوامع " (2 / 106)، " المعتمد " لأبي الحسين (1 / 363)، " إحكام الفصول في أحكام الأصول " للباجي
(ص 389)، " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم (4 / 463)، " أعلام الموقعين " لابن القيم (1 /
29)، " التقرير و التحبير " لابن أمير الحاج (3 / 49)، " ميزان الأصول " للسمرقندي (2 / 621، 981)،
" حاشية التفتازاني و الشريف على مختصر المنتهى " (2 / 185)، " شرح التلويح على التوضيح " لسعد الدين
مسعود بن عمر التفتازاني (2 / 34)، " شرح المنار " لابن ملك (ص 91)، " الموافقات " للشاطبي (3 /
292

والنسخ جائز على الله تعالى عقلا، لأنه لا يلزم عنه محال (1)، ولا تغيير صفة من
صفاته تعالى /، وليست الأوامر متعلقة بالإرادة، فيلزم من النسخ أن الإرادة تغيرت، ولا
النسخ، لطروء علم، بل الله تعالى يعلم إلى أي وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم
نسخه له بالثاني، والبدأ لا يجوز على الله تعالى، لأنه لا يكون إلا لطرو علم أو لتغير
إرادة، وذلك محال في جهة الله تعالى، وجعلت اليهود النسخ والبدأ واحدا، فلم
يجوزوه، فضلوا.
والمنسوخ عند أئمتنا الحكم الثابت نفسه لا ما ذهبت إليه المعتزلة من أنه مثل
الحكم الثابت فيما يستقبل والذي قادهم إلى ذلك مذهبهم في أن الأوامر مراده وأن

102)، " تقريب الوصول " لابن جزي (ص 125)، " شرح مختصر المنار " للكوراني (ص 91)، " نشر
البنود " للشقيطي (2 / 280)، " شرح الكوكب المنير " للفتوحي (ص 462).
و ينظر: " تهذيب اللغة " (7 / 181)، " لسان العرب " (6 / 4407)، " تاج العروس " (2 / 282)، " معيار
العقول في علم الأصول " لابن المرتضي (1 / 172)، " كشف الأسرار " (3 / 154)، " حواشي المنار "
(708)، " العدة " (3 / 778)، " الحدود " للباجي (ص 49)، " اللمع " (ص 30) " الوصول " لابن برهان
(2 / 7)، " روضة الناظر " (26)، " الرسالة " للشافعي (128)، " المغني " للخبازي (250)، " المسودة "
(195)، " شرح تنقيح الفصول " (301)، " تقريب الوصول " (125)، " المنتهى " لابن الحاجب (113).
(1) أجمع أهل الشرائع طرا من المسلمين و النصارى و اليهود على جوازه عقلا، و خالف في ذلك الشمعونية
من اليهود، متمسكين بشبه واهية.
احتج الجمهور بدليل عقلي حاصله: أن المخالف لا يخلو حاله من أحد أمرين: أما إن يكون ممن يوافق
على أن الله (تعالى) هو الفاعل المختار، له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة و غرض.
و إما أن يكون ممن يعتبر المصلحة في أفعاله (تعالى)، فإن كان الأول، فليس في العقل ما يمنع من أن
يأمر الله بشئ في وقت و ينهى عنه في وقت آخر، كأمره بالصوم في اليوم الأخير من رمضان، و نهيه عنه
في اليوم الأول من شوال. و إن كان الثاني، فلا يمتنع أن يعلم الله أن في الفعل مصلحة في وقت، فيأمر
به، و أن في الفعل مضرة في وقت آخر، فينهى عنه، فإن المصلحة مما تختلف باختلاف الأشخاص
و الأحوال. أما اختلافها بالأشخاص، فإنا نرى الغنى مصلحة لبعض الناس، و الفقر مفسدة له، بينما نرى
الفقر مصلحة للبعض الآخر، و الغنى مفسدة له، يدلنا على ذلك قول الرسول الأمين فيما يرويه عن رب
العالمين: " إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، و لو أغنيته لأفسده. و إن من عبادي من لا يصلح
إيمانه إلا الغنى، و لو أفقرته لأفسده " و أما اختلافها بحسب الأحوال و الأزمان، فإنا نرى الشدة و الغلظة
نافعة في زمان دون زمان، لا ينفع فيه إلا المداراة و المساهلة. و مثل ذلك المريض يكون تناول الدواء
مفيدا له حين مرضه، فيأمره الطبيب بتناوله، و يكون مضرا له بعد سلامته، فينهاه الطبيب عنه حينئذ، أو
كالغداء الجيد لا تتحمله معدة المريض الضعيف، فينهى عنه. فإذا شفي من مرضه و سلمت معدته
و احتاج إلى ما يعيد قوته، حتم عليه الطبيب تناول ما كان يمنعه عنه. واعتبر ذلك في تربية الطفل يعطى
من الغذاء الخفيف ما يناسبه حتى إذا شب زيد له من متين الغذاء بمقداره. و منع من رضاع أمه، إذ كان
ذلك لا يناسب بعد كبره. ينظر: " النسخ " لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص 20.
293

الحسن صفة نفسية للحسن، ومراد الله تعالى حسن، وقد قامت الأدلة على أن الأوامر لا

(1) لا قبح عقلا و شرعا في شئ من الأشياء من حيث كونه مخلوقا لله (تعالى)، سواء كانت أفعال العباد
أو لا، لأن مالك الأمور كلها يفعل ما يشاء. و أما أفعال العباد من حيث كونها منسوبة للعباد، فقد
تتصف بالحسن و القبح الشرعيين. هذا عند الأشاعرة، و أما المعتزلة فقد قالوا: القبيح قبيح في نفسه،
فيقبح من الله (تعالى) كما يقبح منا، و كذا الحسن، و قد يدركان بالعقل، فوقع الاختلاف بين الفريقين في
أن العقل هل له حكم في حسن الأفعال و قبحها أم لا. بل الحاكم بهما الشرع فقط؟! و تفصيل المقام
على ما في شرح " المواقف ": أن العلماء قد ذكروا أن الحسن و القبح يطلقان على ثلاثة معان: الأول:
كون الفعل صفة كمال كالعلم، و كونه صفة نقصان كالجهل، و لا نزاع بين الفريقين في أن الحسن و القبح
بهذا المعنى يدركان بالعقل، فإن العقل يحتم بأن العلم حسن، و الجهل قبيح، و لا يتوقف على حكم
الشرع بالحسن و القبح فيهما. والمعنى الثاني: كون الفعل ملائما للغرض أو منافرا له، فما وافق الغرض
كان حسنا، و ما خالفه كان قبيحا، و ما خلا منهما لا يكون حسنا و لا قبيحا. و قد يعبر عن الحسن و القبح
بهذا المعنى بالمصلحة و المفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، و القبيح: ما فيه مفسدة، و ما خلا
عنهما لا يكون حسنا و لا قبيحا. و لا نزاع في أن الحسن و القبح بهذا المعنى أيضا عقليان، أي يدركان
بالعقل، لكن هذا المعنى يختلف بالاعتبار، فإن قتل زيد مصلحة لأعدائه و موافق لغرضهم، و مفسدة
لأوليائه و مخالف لغرضهم، و المعنى الثالث: كون الفعل متعلق المدح عاجلا و الثواب آجلا، و كونه
متعلق الذم عاجلا و العقاب آجلا. و هذا المعنى الثالث هو محل النزاع، فالحسن والقبح بهذا المعنى عند
الأشعري شرعي، و ذلك لأنهما لا يكونان لذات الفعل، و ليس للفعل صفة لأجلها يكون الفعل حسنا
و قبيحا بهذا المعنى الثالث حتى يدرك العقل ما به الحسن و القبح، و يحكم بالحسن و القبح، بل كل ما أمر
الشارع به فهو حسن، و كل ما نهى الشارع عنه قبيح، حتى لو عكس الأمر لانعكس الحال. و قالت
المعتزلة: للفعل في نفسه (أي مع قطع النظر عن الشرع) جهة محسنة مقتضية لاستحقاق فاعله مدحا
و ثوابا أو مقبحة مقتضية لاستحقاق فاعله ذما و عقابا. ثم إن تلك الجهة المقتضية لهما هو ذات الفعل عند
جمهور المتقدمين منهم، و صفة حقيقية زائدة على ذات الفعل عند بعض المتقدمين منهم. و قال الجبائي
منهم: ليس حسن الأفعال و قبحها لذواتها و لا لصفات حقيقية لها، بل لوجوه و اعتبارات و أوصاف
إضافية تختلف بحسب الاعتبار كما في لطم اليتيم للتأديب. ثم إن المعتزلة قالوا: إن من الحسن و القبح
ما يدركه العقل ضرورة من غير نظر و استدلال، كحسن الصدق النافع، و قبح الكذب الضار. ومنهما ما
يدركه العقل بالنظر و الاستدلال، كقبح الصدق الضار، و حسن الكذب النافع. ومنهما ما لا يدركه العقل
لا بالضرورة و لا بالاستدلال، كحسن صوم آخر رمضان، و قبح صوم أول شوال، لكن إذا ورد به
الشرع، و علم أن ثمة جهة محسنة و مقبحة، فإدراكه الحسن و القبح في هذا القسم موقوف على كشف
الشرع عنهما بأمره و نهيه. و للماتريدية موافقة للمعتزلة في أن حسن بعض أفعال العباد و قبحها يكونان
لذات الفعل أو لصفة له، و يعرفان عقلا كما يعرفان شرعا.
ينظر: " نشر الطوالع " (ص 278 - 280)، " البحر المحيط " للزركشي (1 / 143، 168)، " البرهان "
لإمام الحرمين (1 / 87)، " سلاسل الذهب " للزركشي (97)، " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي (1 /
76)، " التمهيد " للأسنوي (11 - 62)، " نهاية السول " له (1 / 88)، " زوائد الأصول " له (195)، " منهاج
العقول " للبدخشي (1 / 670)، " غاية الوصول " للشيخ زكريا الأنصاري (7)، " التحصيل من المحصول "
للأرموي (1 / 175 - 180)، " المنخول " للغزالي (8)، " المستصفى " له (1 / 55)، " حاشيد البناني (1 /
294

ترتبط بالإرادة وعلى أن الحسن والقبح في الأحكام إنما هو من جهة الشرع لا بصفة
نفسية والتخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به لأن المخصص لم يتناوله العموم قط وقول تناوله
العموم لكان نسخا والنسخ لا يجوز في الأخبار وإنما هو

64)، " الإبهاج " لابن السبكي (1 / 61، 138)، " الآيات البينات " لابن قاسم العبادي (1 / 87 - 88)،
" تخريج الفروع " (244)، " حاشية العطار على جمع الجوامع " (1 / 77 - 81)، " المعتمد " لأبي الحسين
(2 / 327)، " شرح التلويح على التوضيح " لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1 / 173)، " نسمات
الأسحار " لابن عابدين (45)، " شرح المنار " لابن ملك (35)، " ميزان الأصول " للسمرقندي (1 / 150 -
151)، " الكوكب المنير " للفتوحي (95).
(1) معلوم أن التخصيص و النسخ يشتركان في أن كل واحد منهما بيان ما لم يرد باللفظ، إلا أنهما يفترقان في
أمور، وهي أن التخصيص يبنى أن العام لم يتناول المخصوص، و النسخ يرفع بعد الثبوت، و أن
التخصيص لا يرد إلا على العام، و النسخ يرد عليه و على غيره. و أنه يجب أن يكون متصلا، و النسخ لا
يكون إلا متراخيا. و أنه لا يجوز إلى أن لا يبقى شئ، و النسخ يجوز. و أنه قد يكون بأدلة السمع
و غيرها، و النسخ لا يجوز إلا بالسمع. و أنه يكون معلوما و مجهولا. و النسخ لا يكون إلا معلوما. و أنه
لا يخرج المخصوص منه من كونه معلوما به في مستقبل الزمان، و النسخ يخرج المنسوخ عن ذلك. وأنه
يرد في الأخبار و الأحكام، و النسخ لا يرد إلا في الأحكام. و أن دليل الخصوص يقبل التعليل و دليل
النسخ لا يقبله.
ينظر: " النسخ " لشيخنا إمام إبراهيم عيسى ص 91.
(2) تنوعت آراء الأصوليين في موضوع النسخ، فمنهم من ذهب إلى أن النسخ كما يكون في الأوامر و النواهي
يكون في الأخبار. و ينسب لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم و السدي حيث قالا: " قد يدخل النسخ على
الأمر والنهي و على جميع الأخبار " و لم يفصلا، و تابعهما على هذا القول جماعة.
قال أبو جعفر: " و هذا القول عظيم جدا يئول إلى الكفر "، لأن قائلا لو قال: " قام فلان " ثم قال: " لم
يقم " ثم قال: " نسخته " لكان كاذبا.
و بعضهم ذهب إلى أن أمر الناسخ و المنسوخ موكول إلى الإمام، فله أن ينسخ ما شاء. و هذا القول
أعظم، لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلى الله عليه وآله و سلم إلا بالوحي من الله (تعالى)، إما بقرآن مثله على قول قوم، و إما
يوحي من غير القرآن، فلما ارتفع هذا بموت النبي صلى الله عليه وآله و سلم ارتفع النسخ.
و منهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر و النواهي، و أما الأخبار فيفصل فيها بين ما فيه حكم،
فيجوز النسخ فيه، و بين ما لا حكم فيه، فلا يجوز.
و منهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر و النواهي خاصة.
و هذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد، و سعيد بن جبير، و عكرمة بن عمار.
و هناك مذهب خامس، عليه أئمة العلماء، و هو أن النسخ إنما يكون في المتعبدان، لأن لله (عز وجل)
أن يتعبد خلقه بما شاء إلى أي وقت شاء، ثم يتعبدهم بغير ذلك، فيكون النسخ في الأوامر و النواهي و ما
كان في معناهما مثل قوله تعالى: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك) [النور: 3] وقوله تعالى في سورة يوسف - عليه السلام -: (قال تزرعون سبع سنين دأبا)
[يوسف: 47] فالأولى مثال للخبر الذي بمعنى النهي، لأن المعنى. لا تنكحوا زانية و لا مشركة.
295

مختص بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبرا، بأن قال: أليس معناه واجب
عليكم أن تفعلوا كذا، فهذا خبر، والجواب أن يقال: أن في ضمن المعنى: إلا أن أنسخه
عنكم، وأرفعه، فكما تضمن لفظ الأمر ذلك الإخبار، كذلك تضمن هذا الاستثناء، وصور
النسخ تختلف، فقد ينسخ الأثقل إلى الأخف، وبالعكس، وقد ينسخ المثل بمثله ثقلا
وخفة، وقد ينسخ الشئ لا إلى بدل، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم، وبالعكس، والتلاوة
والحكم حكمان، فجائز نسخ أحدهما دون الآخر، ونسخ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر
الواحد بخبر الواحد، وهذا كله متفق عليه، وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة،
وذلك موجود في قوله - عليه السلام - " لا وصية لوارث " (1)، وهو ظاهر مسائل مالك.

و الثانية مثال للخبر الذي بمعنى الأمر، لأن المعنى " ازرعوا " وهذا المذهب عزي إلى الضحاك بن
مزاحم.
ينظر: " الشيخ " لشيخنا إمام عيسى. (ص 18 - 19).
(1) أخرجه أبو داود (3 / 290) كتاب " الوصايا "، باب الوصية للوارث، حديث (2870)، و الترمذي (4 /
433) كتاب " الوصايا "، باب لا وصية لوارث، حديث (2120)، و ابن ماجة (2 / 905) كتاب
" الوصايا "، باب لا وصية لوارث، حديث (2713)، و أحمد (5 / 267)، و الطيالسي (2 / 117 - منحة)
رقم (2407)، و سعيد بن منصور (427)، و الدولابي في " الكنى " (1 / 64)، و أبو نعيم في " تاريخ
أصبهان " (1 / 227)، و البيهقي (6 / 264) كتاب " الوصايا "، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من
إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم يقول في
خطبته عام حجة الوداع: " إن الله (تبارك و تعالى) قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
و أخرجه ابن الجارود في " المنتفى " رقم (949) من طريق الوليد بن مسلم قال: ثنا ابن جابر، ثنا
سليم بن عامر، سمعت أبا أمامة، فذكر الحديث.
و في الباب عن جماعة من الصحابة و هم: عمرو بن خارجة، و أنس بن مالك، و ابن عباس، و جابر،
و علي، و عبد الله بن عمرو، و معقل بن يسار، و زيد بن أرقم، و البراء، و مجاهد مرسلا.
* حديث خارجة: أخرجه الترمذي (4 / 434) كتاب " الوصايا "، باب لا وصية لوارث، حديث
(2121)، و النسائي (6 / 247) كتاب " الوصايا "، باب إبطال الوصية للوارث و ابن ماجة (2 / 905) كتاب
" الوصايا "، باب لا وصية لوارث، و أحمد (4 / 186، 187)، و الدارمي (2 / 419) كتاب " الوصايا "،
باب الوصية للوارث، و الطيالسي (1317)، و أبو يعلى (3 / 78) رقم (1508)، و البيهقي (6 / 264)
كتاب " الوصايا "، باب نسخ الوصية للوالدين، كلهم من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن
غنم عن عمرو بن خارجة، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم خطب على ناقته و أنا تحت جرانها، و إن لعابها يسيل بين
كتفي، فسمعته يقول: " إن الله (عز وجل) أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث ".
قال الترمذي: حسن صحيح.
و للحديث طريق آخر.
296

* ت *: ويعني بالسنة الناسخة للقرآن الخبر المتواتر القطعي، وقد أشار إلى أن هذا

أخرجه الدارقطني (4 / 152) كتاب الوصايا، حديث (10)، و البيهقي (6 / 264) كتاب " الوصايا "، باب
نسخ الوصية للوالدين و الأقربين، عن طريق زياد بن عبد الله عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن
عمرو بن خارجة مرفوعا بلفظ: " لا وصية لوارث، إلا أن يجيز الورثة ".
و ضعف البيهقي سنده: و أخرجه الطبراني في " الكبير " (4 / 202) رقم (4140) من طريق عبد الملك بن
قدامة الجمحي عن أبيه عن خارجة بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال يوم الفتح و أنا عند ناقته: " ليس
لوارث وصية، قد أعطى الله (عز وجل) كل ذي حق حقه، و للعاهر الحجر ".
و قال الهيثمي: رواه الطبراني، و فيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه ابن معين، و ضعفه
الناس. اه‍.
قلت: ووثقه أيضا يعقوب بن سفيان فقال في " المعرفة و التاريخ " (1 / 435): " مديني ثقة ".
لكن عبد الملك هذا ضعفه الجمهور: قال البخاري في " الضعفاء " (220): يعرف و ينكر.
و قال أبو زرعة الرازي: منكر الحديث " سؤالات البرذعي " (ص 356).
و قال أبو حاتم: ضعيف الحديث " علل الحديث " (2435).
و قال النسائي: مدني ليس بالقوي " الضعفاء و المتروكين " (403).
و قال الدارقطني: مدني يترك " سؤالات البرقاني " (301).
* حديث أنس: أخرجه ابن ماجة (2 / 906) كتاب " الوصايا " باب لا وصية لوارث، حديث (2714)،
و الدارقطني (4 / 70) كتاب " الفرائض "، حديث (8)، و البيهقي (6 / 264 - 265) كتاب " الوصايا "، باب
نسخ الوصية للوالدين و الأقربين. من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد عن
أنس به.
قال البوصيري في " الزوائد " (2 / 368): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.
* حديث ابن عباس:
أخرجه الدارقطني (4 / 97) كتاب الفرائض، حديث (89)، و البيهقي (6 / 263) كتاب " الوصايا "، باب
نسخ الوصية للوالدين و الأقربين. من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس. قال البيهقي: عطاء: هو
الخراساني، لم يدرك ابن عباس و لم يره. قاله أبو داود و غيره.
و أخرجه البيهقي (6 / 263 - 264) من طريق يونس بن راشد عن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس.
قال الحافظ في " التلخيص " (3 / 92): حديث حسن.
* حديث جابر:
أخرجه الدارقطني (4 / 97) كتاب " الفرائض "، حديث (90) من طريق فضل بن سهل: ثنى إسحاق بن
إبراهيم الهروي، ثنا سفيان عن عمرو عن جابر به.
قال الدارقطني: الصواب مرسل.
قال أبو الطيب آبادي في " التعليق المغني " (4 / 97): إسحاق بن إبراهيم الهروي، ثم البغدادي، أبو
موسى، و ثقة ابن معين و غيره، و قال عبد الله بن علي بن المديني: سمعت أبي يقول: أبو موسى
الهروي روى عن سفيان عن عمرو عن جابر: " لا وصية.. الحديث ".
كأنه سفيان عن عمرو مرسلا، " كذا في " الميزان " اه‍.
297

الحديث متواتر، ذكره عند تفسير قوله تعالى: (إذا حضر أحدكم الموت) [البقرة: 180]،

و للحديث طريق آخر: أخرجه الدارقطني (4 / 152) كتاب " الوصايا "، حديث (12) من طريق نوح بن
دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " لا وصية
لوارث، و لا إقرار بدين ".
* حديث علي:
أخرجه الدارقطني (4 / 97) كتاب الفرائض، حديث (91)، من طريق يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي
إسحاق الهمداني، عن عاصم بن ضمرة، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " الدين قبل الوصية، و لا
وصية لوارث ".
و من طريق يحيى أخرجه ابن عدي في " الكامل " (7 / 190) و يحيى بن أبي أنيسة. قال أحمد: متروك
الحديث.
و قال ابن المديني: لا يكتب حديثه.
وقال ابن معين: ليس بشئ.
و قال البخاري: لا يتابع في حديثه، و ليس بذاك.
و قال النسائي: متروك الحديث.
و أسند ذلك ابن عدي في " الكامل " عنهم.
* حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه الدارقطني (4 / 98) كتاب " الفرائض "، حديث (93)، و ابن عدي في " الكامل " (2 / 817) من
طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال في خطبته يوم النحر: " لا وصية
لوارث، إلا أن يجيز الورثة ".
* حديث معقل بن يسار:
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (5 / 211) من طريق علي بن الحسن بن يعمر: ثنا المبارك بن فضالة عن
الحسن قال: قال معقل بن يسار: كنا بمنى و كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يخطب و لعاب ناقته بين كتفي، ففهمت
من كلامه قال: " لا وصية لوارث ".
قال ابن عدي: هذا الحديث باطل بهذا الإسناد.
* حديث زيد بن أرقم و البراء:
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6 / 350) من طريق موسى بن عثمان الحضرمي عن أبي إسحاق عن
البراء و زيد بن أرقم قالا: كنا مع النبي صلى الله عليه وآله و سلم يوم غدير " خم " و نحن نرفع غصن الشجرة عن رأسه فقال:
" إن الصدقة لا تحل لي و لا لأهلي، لعن الله من ادعى إلى غير أبيه، و لعن الله من تولى غير مواليه.
الولد للفراش و للعاهر الحجر. ليس لوارث وصية ". قال ابن عدي: موسى بن عثمان: حديثه ليس
بمحفوظ.
و قال أبو حاتم: متروك، ينظر: " اللسان " (6 / 125)، و " الميزان " (4 / 214).
* مرسل مجاهد:
أخرجه البيهقي (6 / 264) كتاب " الوصايا "، باب نسخ الوصية للوالدين و الأقربين، من طريق الشافعي
عن ابن عيينة عن سليمان الأحول عن مجاهد به.
298

واختلف القراء في قراءة قوله تعالى: (أو ننسها) فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: " ننسأها "،
بنون مفتوحة، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزة، وهذه بمعنى التأخير،
وأما قراءة نافع والجمهور: " ننسها "، من النسيان (1)، وقرأت ذلك فرقة إلا أنها همزت بعد
السين (2)، فهذه بمعنى التأخير والنسيان في كلام العرب يجئ في الأغلب ضد الذكر، وقد
يجيء بمعنى الترك، فالمعاني الثلاثة مقولة في هذه القراءات، فما كان منها يترتب في لفظة
النسيان الذي هو ضد الذكر، فمعنى الآية به: ما ننسخ / من آية أو نقدر نسيانك لها، فإنا
نأتي بخير منها لكم أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخير،
فيترتب فيه معان، أنظرها، إن شئت فإني آثرت الاختصار.
* ع (3) *: والصحيح أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الله أن ينساه، ولم يرد أن يثبته
قرآنا - جائز، فأما النسيان الذي هو آفة في البشر، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم منه قبل التبليغ، وبعد
التبليغ، ما لم يحفظه أحد من أصحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز عليه ما يجوز على
البشر لأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ، وأدى الأمانة، ومنه الحديث، حين أسقط آية، فلما فرغ من
الصلاة قال: " أفي القوم أبي؟ قال: نعم، يا رسول الله، قال: فلم لم تذكرني؟ قال:
حسبت أنها رفعت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ترفع، ولكني نسيتها " (4).
وقوله تعالى: (ألم تعلم): معناه: التقرير، ومعنى الآية أن الله تعالى ينسخ ما شاء،
ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كل شئ، وهذا
لإنكار اليهود النسخ، وقوله: (على كل شئ) عموم، معناه الخصوص، إذ لا تدخل فيه
الصفات القديمة، بدليل العقل، ولا المحالات، لأنها ليست بأشياء، والشيء في كلام
العرب: الموجود، و (قدير): اسم فاعل على المبالغة، قال القشيري (5): وإن من علم

(1) ينظر: " السبعة " (168)، و " الكشف " (1 / 257)، و " حجة القراءات " (109)، و " العنوان " (71)،
و " الحجة " (2 / 180)، و " شرح الطيبة " (4 / 54، 55)، و " شرح شعلة " (272)، و " معاني القراءات "
(1 / 169)، و " إتحاف " (1 / 411).
(2) و قد ذكر أبو حيان في البحر اثنتي عشرة قراءة لهذه اللفظة. ينظر: " البحر المحيط " (1 / 513).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 194).
(4) أخرجه أحمد (3 / 407) و ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2 / 72) و قال: رواه أحمد والطبراني
و رجاله رجال الصحيح.
(5) عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، أبو القاسم القشيري، النيسابوري، أخذ عن
أبي علي الدقاق، و أبي عبد الرحمن السلمي، و درس الفقه على أبي بكر الطوسي، و قرأ الكلام على ابن
فورك، و أبي إسحاق الإسفراييني، قال ابن السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله و براعته.
صنف التفسير الكبير، و الرسالة. ولد سنة 376، و مات سنة 465.
299

أن مولاه قدير على ما يريد، قطع رجاءه عن الأغيار، كما قال تعالى عن إبراهيم - عليه
السلام -: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) [إبراهيم: 37] قال أهل الإشارة:
معناه: سهلت طريقهم إليك، وقطعت رجاءهم عن سواك، ثم قال: (ليقيموا الصلاة)،
[إبراهيم: 37] أي: شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم، (فاجعل أفئدة من الناس تهوي
إليهم) [إبراهيم: 37]، أي: إذا احتاجوا شيئا، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم
إليهم، فإنك على ذلك قدير، وان من لزم بابه أوصل إليه محابه، وكفاه أسبابه، وذلل له
كل صعب، وأورده كل سهل عذب من غير قطع شقة، ولا تحمل مشقة انتهى من
" التجبير ".
(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات و الأرض و ما لكم من دون الله من ولى و لا نصير (107)
أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل و من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء
السبيل (108)) وقوله تعالى: (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض...) الآية: الملك
السلطان، ونفوذ الأمر، والإرادة، وجمع الضمير في (لكم) دال على أن المراد بخطاب
النبي صلى الله عليه وسلم خطاب أمته.
وقوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم...) الآية: قال أبو العالية: إن هذه
الآية نزلت حين قال بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: " ليت ذنوبنا جرت مجرى ذنوب بني
إسرائيل في تعجيل العقوبة في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " قد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني
إسرائيل "، وتلا: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما)
[النساء: 110]، وقال ابن عباس: سببها أ ن رافع بن حريملة اليهودي سأل النبي صلى الله عليه وسلم تفجير
عيون، وغير ذلك (1)، وقيل غير هذا، وما سئل موسى - عليه السلام - هو أن يري الله
جهرة.
وكنى عن الإعراض عن الإيمان والإقبال على الكفر بالتبدل، و (ضل): أخطأ
الطريق، والسواء من / كل شئ الوسط، والمعظم، ومنه، (في سواء الجحيم)

انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 254)، " طبقات السبكي " (3 / 243)، " تاريخ بغداد " (11 / 83)،
" الأعلام " (4 / 180).
(1) أخرجه الطبري (1 / 530) برقم (1780) و قال أحمد شاكر في المطبوعة: " من قولهم "، و الصواب ما
أثبت من سيرة ابن هشام (2 / 197) اه‍. و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 201)، و عزاه لابن جرير،
و ابن أبي حاتم، و لابن إسحاق.
300

[الصافات: 55] وقال حسان بن ثاب في رثاء النبي صلى الله عليه وسلم [الكامل]:
يا ويح أنصار النبي ورهطه * بعد المغيب في سواء الملحد (1)
و السبيل: عبارة عن الشريعة التي أنزلها الله تعالى لعباده.
ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند
أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ
قدير (109) و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله إن الله بما
تعملون بصير (110))
وقوله تعالى: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا...)
الآية: قال ابن عباس: المراد ابنا اخطب، حيي وأبو ياسر، أي: واتباعهما (2)، واختلف
في سبب هذه الآية، فقيل: إن حذيفة بن اليمان (3)، وعمار بن ياسر (4) أتيا بيت

(1) ينظر: " ديوانه " ص (66)، و " لسان العرب " (14 / 412) (سوا)، و بلا نسبة من " المقتضب " (2 /
274)، و " السيرة مع الروض " (4 / 266)، و " مجاز القرآن " (1 / 50)، و " الكامل " (3 / 1369).
و ينظر: " تفسير الطبري " (1 / 368)، و " القرطبي " (2 / 70)، " الدر المصون " (1 / 340).
(2) أخرجه الطبري (1 / 534) برقم (1791)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 201)، و عزاه لابن إسحاق،
و ابن جرير، و ابن أبي حاتم. و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 196).
(3) حذيفة بن اليمان (و اسم اليمان حسل، و قيل: حسيل) بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة فروة، ابن
الحارث بن مازن بن قطيعة بن عبس بن بغيض. أبو عبد الله العبسي، و اليمان لقب: حسل والده.
و قيل: لقب جروة بن الحارث. و قيل له ذلك، لأنه حالف الأنصار و هم من اليمن. من كبار الصحابة.
صاحب سر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المنافقين. روى عنه ابنه أبو عبيدة، و عمر بن الخطاب، و علي بن أبي
طالب، و قيس بن أبي حازم، و أبي وائل، و زيد بن وهب، وغيرهم: توفي سنة (36) بعد وفاة عثمان
بأربعين ليلة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 468)، " الإصابة " (1 / 332)، " الثقات " (3 / 80)، " تجريد أسماء
الصحابة " (1 / 125)، " الكاشف " (1 / 210)، " العبر " (1 / 25)، " الاستيعاب " (1 / 344).
(4) عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين بن الوذيم... المذحجي أبو اليقظان.
العنسي. حليف بني مخزوم. هو من السابقين الأولين إلى الإسلام.. و أمه سمية، و هي أول من استشهد
في سبيل الله (عز وجل) و أبوه و أمه من السابقين، و كان إسلام عمار بعد بضعة و ثلاثين، وهو ممن
عذب في الله. قال عمار: لقيت صهيب بن سنان على باب دار الأرقم و رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم فيها فقلت: ما
تريد؟ فقال: ما تريد أنت؟ قلت: أريد أن أدخل على محمد و أسمع منه كلامه. فقال: و أنا أريد ذلك،
فدخلنا عليه، فعرض علينا الإسلام، فأسلمنا. وهو من مشاهير الصحابة رضي الله عنه.
قتل مع علي ب‍ " صفين " سنة (37)، و له (93 سنة).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (4 / 129)، " الإصابة " (4 / 373)، " الثقات " (3 / 302)، " الاستيعاب "
301

المدراس، فأراد اليهود صرفهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إن هذه
الآية تابعة في المعنى لما تقدم من نهي الله عز وجل عن متابعة أقوال اليهود في: (راعنا)
[البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودون أن ينزل على المؤمنين خير، ويودون أن يردوهم كفارا
من بعد ما تبين لهم الحق، وهو نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم.
* ت *: وقد جاءت أحاديث صحيحة في النهي عن الحسد، فمنها حديث مالك في
الموطأ عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا،
وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث " (2) وأسند أبو عمر بن
عبد البر عن الزبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد
والبغضاء، حالقتا الدين، لا حالقتا الشعر " (3). انتهى من " التمهيد ".

(3 / 1135)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 394)، " التاريخ الصغير " (1 / 79)، " الجرح و التعديل " (6 /
389).
(1) المدارس: البيت الذي يدرس فيه القرآن، و كذلك مدارس اليهود، و هو المقصود هنا.
ينظر: " لسان العرب " (1360).
(2) أخرجه البخاري (10 / 496) في الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد و التدابر (6065)، و باب الهجرة
(7076). و مسلم (4 / 1983 - 1984) في البر و الصلة، باب تحريم التحاسد و التباغض و التدابر (23 -
24 / 2559) و أبو داود (2 / 695) في الأدب، باب فيمن يهجر أخاه المسلم (4910)، و الترمذي (4 /
90) في البر و الصلة، باب ما جاء في الحسد (1935)، و مالك في الموطأ (2 / 907) في المهاجرة،
باب ما جاء في حسن الخلق، باب ما جاء في المهاجرة (14). و أحمد (3 / 199، 201، 225، 277،
283). والحميدي (1183)، و الطيالسي (2190) و عبد الرزاق (20222)، و أبو يعلى (3261)
و البيهقي (10 / 232) و البغوي في شرح السنة بتحقيقنا (6 / 490) برقم (3416) من طرق عن أنس.
(3) أخرجه الترمذي (4 / 664) كتاب " صفة القيامة "، باب (56) رقم (2510)، و أحمد (1 / 165، 167)،
و ابن عبد البر في " التمهيد " (6 / 120) كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد، أن مولى
الزبير حدثه، أن الزبير بن العوام حدثه، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال، فذكره. و قال الترمذي: هذا حديث قد
اختلفوا في روايته عن يحيى بن أبي كثير، فروى بعضهم عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش بن الوليد،
عن مولى الزبير عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم و لم يذكروا فيه عن الزبير. اه‍.
و الطريق المرسل الذي أشار إليه الترمذي: أخرجه ابن عبد البر في " التمهيد " (6 / 121). و هذا الحديث
أخرجه البزار (2 / 418، 419 - كشف) رقم (2002) من طريق موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير
عن يعيش بن الوليد موسى لآل الزبير عن ابن الزبير به.
و قال البزار: هكذا رواه موسى بن خلف، و رواه هشام صاحب الدستوائي عن يحيى عن يعيش عن
مولى للزبير عن الزبير. و قال الهيثمي في " المجمع " (8 / 33): و إسناده جيد.
قلت: و فيه نظر كما سيأتي، فقال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 327) رقم (2500): سئل أبو زرعة عن
حديث رواه موسى بن خلف عن يحيى بن أبي كثير عن يعيش مولى ابن الزبير عن الزبير، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم
302

والعفو: ترك العقوبة، والصفح: الإعراض عن المذنب، كأنه يولي صفحة العنق،
قال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون) [التوبة: 29] الآية
إلى قوله: (صاغرون) (1).
وقيل: بقوله: (اقتلوا المشركين) (2) [التوبة: 5]، وقال قوم: ليس هذا حد المنسوخ،
لأن هذا في نفس الأمر كان التوقيف على مدته.
* ت *: وينبغي للمؤمن أن يتأدب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم،
أنه قال: " ألا أدلكم على ما يرفع الله به الدرجات "؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال:
" تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك "
خرجه النسائي (3). انتهى من " الكوكب الدري " لأبي العباس أحمد بن سعد التجيبي.
وقوله تعالى: (إن الله على كل شئ قدير): مقتضاه في هذا الموضع: وعد
للمؤمنين.
وقوله تعالى: (و أقيموا الصلاة...) الآية: قال الطبري (4): إنما أمر الله المؤمنين
هنا بالصلاة والزكاة ليحط ما تقدم من ميلهم إلى قول اليهود: (راعنا) [البقرة: 104]، لأن
ذلك نهي عن نوعه، وقوله: (تجدوه)، أي: تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في " رقائقه "
بسنده قال: " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، مالي لا أحب
الموت؟ فقال: هل لك مال؟ قال: نعم، يا رسول الله، قال: فقدم مالك بين يديك، فإن

قال، فذكر الحديث، قال أبو زرعة: رواه علي بن المبارك و شيبان، و حرب بن شداد عن يحيى بن
أبي كثير عن يعيش بن الوليد بن هشام، أن مولى لآل الزبير حدثه، أن الزبير حدثه عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم. قال
أبو زرعة: الصحيح هذا، وحديث موسى بن خلف و هم.
(1) أخرجه الطبري (1 / 536) برقم (1799)، و البيهقي في " الدلائل " (2 / 582)، و ذكره ابن عطية في
تفسيره (1 / 196)، و السيوطي في " الدر " (1 / 202)، و عزاه لابن جرير، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه،
و البيهقي في " الدلائل ". وذكره الشوكاني في " تفسيره " (1 / 194).
(2) أخرجه الطبري (1 / 536) برقم (1799) عن ابن عباس، و عبد الرزاق في تفسيره (1 / 55) عن قتادة،
و البيهقي في " الدلائل " (2 / 582) عن ابن عباس، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 202) عن ابن عباس،
و عزاه لابن جرير، والبيهقي في " الدلائل "، " و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه. وذكره الشوكاني في " تفسيره "
(1 / 194).
(3) ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (8 / 192) من حديث عبادة بن الصامت، و قال: رواه البزار، و فيه
يوسف بن خالد السمتي، و هو كذاب.
(4) " تفسير الطبري " (2 / 506).
303

المرء مع ماله، إن قدمه، أحب أن يلحقه، وإن خلفه، أحب التخلف " (1). انتهى.
وقوله تعالى: (إن الله بما تعلمون بصير) خبر في اللفظ، معناه الوعد والوعيد /.
(و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم
إن كنتم صادقين (111) بلى من أسلم وجهه لله و هو محسن فله أجره عند ربه و لا خوف
عليهم و لا هم يحزنون (112) و قالت اليهود ليست النصارى على شئ و قالت النصارى ليست اليهود على
شئ و هم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما
كانوا فيه يختلفون (113) و من أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه و سعى في خرابها
أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب
عظيم (114) و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم (115))
وقوله تعالى: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى)، معناه: قال اليهود:
لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى،
فجمع قولهم. ودل تفريق نوعيهم على تفريق قوليهم، وهذا هو الإيجاز واللف.
و (هودا): جمع هائد (2)، ومعناه: التائب الراجع، وكذبهم الله تعالى، وجعل
قولهم أمنية، وأمر نبيه - عليه السلام - بدعائهم إلى إظهار البرهان، وهو الدليل الذي يوقع
اليقين، وقولهم: " لن " نفي حسنت بعده " بلى "، إذ هي رد بالإيجاب في جواب النفي،
حرف مرتجل لذلك، و (أسلم): معناه: استسلم، وخضع، ودان، وخص الوجه بالذكر،
لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العز والذل، (وهو محسن): جملة في موضع
الحال.
وقوله تعالى: (وقالت اليهود...) الآية: معناه: أنه ادعى كل فريق أنه أحق برحمة
الله من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينة عند النبي صلى اله عليه وسلم
فتسابوا، وكفر اليهود بعيسى وبملته، وبالإنجيل، وكفر النصارى بموسى وبالتوراة.
* ع (3) *: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها، لأن الإنجيل يتضمن صدق
موسى، وتقرير التوراة، والتوراة تتضمن التبشير بعيسى، وكلاهما يتضمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم،

(1) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 224) رقم (636) عن عبد الله بن عبيد به.
(2) ينظر: " عمدة الحفاظ " (4 / 307).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 198).
304

فعنفهم الله تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلاف ما قالوا.
وفي قوله تعالى: (و هم يتلون الكتاب) تنبيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القرآن،
والوقوف عند حدوده، والكتاب الذي يتلونه، قيل: هو التوراة والإنجيل، فالألف واللام
للجنس، وقيل: التوراة، لأن النصارى تمتثلها.
وقوله تعالى: (كذلك قال الذين لا يعلمون) يعني: كفار العرب، لأنهم لا كتاب
لهم، (فالله يحكم بينهم يوم القيامة...) الآية، أي: فيثيب من كان على شئ ويعاقب
من كان على غير شئ، (ومن أظلم ممن منع مساجد الله...) الآية، أي: لا أحد أظلم
من هؤلاء، قال ابن عباس وغيره: المراد النصارى الذين كانوا يؤذون من يصلي ببيت
المقدس، وقال ابن زيد: المراد كفار قريش حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد
الحرام، وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين...) الآية: فمن جعل
الآية في النصارى، روى أنه مر زمن بعد ذلك لا يدخل نصراني بيت المقدس إلا أوجع
ضربا، قاله قتادة والسدي، ومن جعلها في قريش، قال: كذلك نودي بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا
يحج مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، (وأينما) شرط، (وتولوا) جزم به،

(1) أخرجه الطبري (1 / 544) برقم (1822) بلفظ: " إنهم النصارى "، و ذكره ابن عطية الأندلسي في
" تفسيره " (1 / 199)، و السيوطي في " الدر " (1 / 204)، و عزاه لابن جرير، و لفظه السيوطي: " هم
النصارى ".
(2) أخرجه الطبري (1 / 546) برقم (1828) و ذكره ابن كثير (1 / 156) ورجح قول ابن زيد. و ذكره ابن
عطية في " تفسيره " (1 / 199)، و البغوي في " تفسيره " (1 / 107)، و لفظه " نزلت في مشركي مكة، و أراد
بالمساجد المسجد الحرام، منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من حجه و الصلاة فيه عام الحديبية "، و ذكره
السيوطي في " الدر " (1 / 204)، و عزاه لابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (1 / 547) برقم (1829) عن قتادة و برقم (1831) عن السدي. و ذكره ابن عطية في
تفسيره (1 / 199) عن قتادة والسدي.
(4) أخرجه البخاري (3 / 483)، كتاب " الحج "، باب لا يطوف بالبيت عريان، الحديث (1622)، و مسلم
(2 / 982)، كتاب " الحج "، باب لا يحج البيت مشرك، الحديث (435 / 1347) و اللفظ له، من حديث
أبي هريرة قال: " بعثني أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: " لا يحج بعد العام مشرك، و لا يطوف بالبيت
عريان ". (5) " أين " هنا اسم شرط بمعنى " إن " و " ما " مزيدة عليها " و تولوا " مجزوم بها وزيادة " ما " ليست لازمة لها
بدليل قوله:
305

(وثم): جوابه، و (وجه الله): معناه: الذي وجهنا إليه كما تقول: سافرت في وجه
كذا، أي: في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضع من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجه
الجهة التي فيها رضاه وعليها ثوابه كما تقول تصدقت لوجه الله، ويتجه في هذه الآية
خاصة أن يراد بالوجه الجهة التي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزول هذه الآية،
فقال ابن عمر: نزلت هذه الآية في صلاة النافلة في السفر، / حيث توجهت بالإنسان
دابته، وقال النخعي: الآية عامة، أينما تولوا في متصرفاتكم ومساعيكم، فثم وجه الله،
أي: موضع رضاه وثوابه، وجهة رحمته التي يوصل إليها بالطاعة، وقال عبد الله بن
عامر بن ربيعة: نزلت فيمن اجتهد في القبلة، فأخطأ، وورد في ذلك حديث رواه
عامر بن ربيعة، قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة، فتحرى قوم القبلة،

أين تضرب بنا العداة تجدنا...................
وهي ظرف مكان، و الناصب لها ما بعدها، و تكون اسم استفهام أيضا فهي لفظ مشترك بين الشرط
و الاستفهام ك‍ " من " و " ما " و زعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة و هي مبنية على الفتح لتضمنه
معنى حرف الشرط أو الاستفهام. ينظر " الدر المصون " (1 / 350).
(1) الطبري (1 / 550) (1839 - 1840) وروي بإسنادين عن ابن عمر أولهما من طريق أبي كريب قال حدثنا
ابن إدريس قال حدثنا عبد الملك عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. و ثانيهما من طريق أبي السائب قال
حدثنا ابن فضيل عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. اه‍.
و قال أحمد شاكر: " والحديث رواه أحمد أيضا (4714) عن يحيى القطان عن عبد الملك بن أبي
سليمان بنحوه و رواه مسلم (1 / 195) من طريق يحيى و آخرين. وكذلك رواه البيهقي في " السنن
الكبرى " (2 / 4) بأسانيد من طريق عبد الملك " اه‍.
و ذكره البغوي في " التفسير " (1 / 108) و ذكره ابن عطية (1 / 200)، و ابن كثير (1 / 158) والشوكاني في
" التفسير " (1 / 197).
(2) أخرجه الطبري (1 / 551) برقم (1844) عن المثنى قال: حدثني الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال:
قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال: أيقظت - شك الطبري - فكان في السماء سحاب، فصليت
لغير القبلة؟ قال: مضت صلاتك، يقول الله (عز وجل): (فأينما تولوا فثم وجه الله. اه‍.
و ذكره ابن عطية في تفسيره (1 / 200).
(3) عبد الله بن عامر بن ربيعة بن مالك بن عامر.. حليف بني عدي بن كعب ثم حليف الخطاب والد
عمرو. و هو من عنز بن وائل. أبو محمود. العنزي. الأصغر. العدوي. ولد على عهد النبي صلى الله عليه و سلم،
و قيل: ولد سنة 6، و توفي سنة (85 ه).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 287)، " الإصابة " (4 / 89)، " الثقات " (3 / 219)، " الجرح
و التعديل " (5 / 122)، " بقي بن مخلد " (647).
(4) أخرجه الطبري (1 / 551) برقم (1845)، و ذكره ابن عطية (1 / 200) و الشوكاني في " فتح القدير " (1 /
197).
306

وأعلموا علامات، فلما أصبحوا، رأوا أنهم قد أخطئوها، فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك،
فنزلت هذه الآية ".

(1) أخرجه أبو داود الطيالسي (ص - 156)، الحديث (1145)، و الترمذي (2 / 176)، كتاب " الصلاة "،
باب ما جاء في الرجل يصلي لغير القبلة في النعيم، الحديث (345)، و ابن ماجة " (1 / 326)، كتاب
" إقامة الصلاة "، باب من يصلي لغير القبلة و هو لا يعلم، الحديث (1020)، و الدارقطني (1 / 272):
كتاب " الصلاة "، باب الاجتهاد في القبلة، الحديث (5)، و أبو نعيم (1 / 179)، و البيهقي (2 / 11)،
كتاب " الصلاة "، باب استبيان الخطأ بعد الاجتهاد، و عبد بن حميد (ص - 130)، رقم (316)،
و الطبري في " تفسيره " (2 / 531)، و العقيلي في " الضعفاء " (1 / 31)، من رواية الربيع بن السمان، عن
عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه به، و قال الترمذي: (ليس إسناده بذلك،
لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، و أشعث بن سعيد، أبو الربيع السمان يضعف في الحديث).
و قال العقيلي: و أما حديث عامر بن ربيعة، فليس يروى من وجه يثبت متنه، و قد توبع أبو الربيع
السمان.
تابعه عمرو بن قيس عند الطيالسي، و سعد بن سعيد، عند عبد بن حميد، لتنحصر علة الحديث في
عاصم بن عبيد الله.
و عاصم بن عبيد الله: قال الحافظ: ضعيف.
ينظر: " التقريب " (1 / 385).
و قال العلامة أحمد شاكر في " تعليقه ع لي الطبري " (2 / 531)، حديث ضعيف.
و قد وردت القصة من وجه آخر من حديث جابر بن عبد الله: أخرجه الحاكم (1 / 206)، كتاب
" الصلاة "، و الدارقطني (1 / 272)، و البيهقي (2 / 10)، من طريق داود بن عمرو، ثنا محمد بن يزيد
الواسطي، عن محمد بن سالم، عن عطاء، عن جابر قال: " كنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر فأصابنا
غيم.. " فذكره، قال الدارقطني: (كذا قال: عن محمد بن سالم، و قال غيره: عن محمد بن يزيد، عن
محمد بن عبيد الله العزرمي عن عطاء، و هما ضعيفان).
و قال الحاكم: (رواته محتج بهم كلهم، غير محمد بن سالم، فإني لا أعرفه بعدالة و لا جرح).
و أخرجه الدارقطني (1 / 272)، و البيهقي (2 / 11)، أيضا من طريق أحمد بن عبيد الله بن الحسن
العنبري قال: وجدت في كتاب أبي: ثنا عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن عطاء بن أبي رباح،
عن جابر (رضي الله عنهما) قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بسرية كنت فيها، فأصابتنا ظلمة، فلم نعرف
القبلة...) فذكر الحديث، و فيه: " فأتينا النبي صلى الله عليه و سلم فسألناه عن ذلك، فسكت، و أنزل الله (عز وجل):
(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) أي حيث كنتم ".
قال البيهقي: (و كذلك رواه الحسن بن علي بن شبيب العمري، و محمد بن محمد بن سليمان
الباعتدي، عن أحمد بن عبيد الله، و لم نعلم لهذا الحديث إسنادا صحيحا قويا، و ذلك، لأن عاصم بن
عبيد الله بن عمر العمري، و محمد بن عبيد الله العزرمي، و محمد بن سالم الكوفي، كلهم ضعفاء،
و الطريق إلى عبد الملك العزرمي غير واضح، لما فيه من الوجادة و غيرها، وفي حديثه أيضا نزول الآية
في ذلك، و صحيح عن عبد الملك بن أبي سليمان العزرمي، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن
عمر بن الخطاب، أن الآية إنما نزلت في التطوع خاصة، حيث توجه بك بعيرك).
307

وقيل: نزلت الآية حين صد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت.
و (واسع): معناه متسع الرحمة، (عليم) أين يضعها، وقيل: (واسع) معناه
هنا أنه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر، (عليم) بالنيات التي هي ملاك العمل.
(وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون (116) بديع
السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون (117))
قوله تعالى: (وقالوا اتخذ الله، ولدا سبحانه...) الآية: اختلف على من يعود
ضمير " قالوا " فقيل: على النصارى، وهو الأشبه، وقيل: على اليهود، لأنهم قالوا: عزير
ابن الله، وقيل: على كفرة العرب، لأنهم قالوا: الملائكة بنات الله.
* ت *: وقال أبو عبد الله اللخمي: ويحتمل أن يعني بالآية كل من تقدم ذكره من
الكفرة، وقد تقدم ذكر اليهود والنصارى والذين لا يعلمون، وهم المشركون، وكلهم قد
ادعى لله ولدا، تعالى الله عن قولهم. انتهى من " مختصر الطبري ".
و (سبحانه): مصدر، معناه: تنزيها له وتبرئة مما قالوا، والقنوت، في اللغة:
الطاعة، والقنوت: طول القيام، فمعنى الآية: إن المخلوقات تقنت لله، أي: تخشع،
وتطيع، والكفار قنوتهم في ظهور الصنعة عليهم وفيهم، وقيل: الكافر يسجد ظله، وهو
كاره، و (بديع): مصروف من مبدع، والمبدع: المخترع المنشئ، وخص السماوات
والأرض بالذكر، لأنها أعظم ما نرى من مخلوقاته جل وعلا.
و (قضى): معناه: قدر، وقد يجيء بمعنى: أمضى، ويتجه في هذه الآية
المعنيان، والأمر: واحد الأمور، وليس هو هنا بمصدر أمر يأمر، وتلخيص المعتقد في هذه
الآية، أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشرط وجودها، قادرا مع تأخر
المقدورات، عالما مع تأخر وقوع المعلومات، فكل ما في الآية مما يقتضي الاستقبال، فهو
بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يستند إلى الله تعالى من
قدرة وعلم وأمر، فهو قديم لم يزل، والمعنى الذي تقتضيه عبارة (كن) هو قديم قائم
بالذات، والوضوح التام في هذه المسألة [لا] يحتاج أكثر من هذا البسط.
* ت *: وقد قدمنا ما يزيد هذا المعنى وضوحا عند قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم) [البقرة: 34]، فانظره.
(وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم
308

مقل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا الآيات لقوم يوقنون (118) إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا
ولا تسئل عن أصحاب الجحيم (119) ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله
هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولى ولا نصير (120)) وقوله تعالى: (وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله...) الآية: قال الربيع
والسدي: هم كفار العرب، وقد طلب عبد الله بن أمية وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا،
وقال مجاهد: هم النصارى، وقال ابن عباس: المراد من كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من
اليهود، لأن رافع بن حريملة قال للنبي / صلى الله عليه وسلم: أسمعنا كلام الله، وقيل: الإشارة إلى
جميع هذه الطوائف، لأنهم كلهم قالوا هذه المقالة، و (لولا) تحضيض بمعنى " هلا "،
والآية هنا العلامة الدالة، و (الذين من قبلهم) هم اليهود والنصارى في قول من جعل
(الذين لا يعلمون) كفار العرب، وهم اليهود في قول من جعل (الذين لا يعلمون)
النصارى، وهم الأمم السالفة في قول من جعل (الذين لا يعلمون) العرب والنصارى
واليهود وتشابه القلوب هنا في طلب ما لا يصح أو في الكفر.
وقوله تعالى: (قد بينا الآيات لقوم يوقنون) قرينة تقتضي أن اليقين صفة لعلمهم،
وقرينة أخرى أن الكلام مدح لهم.
وقوله تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا)، أي: لمن آمن، ونذيرا لمن كفر، وقرأ
نافع وحده ولا تسأل، أي: لا تسأل عن شدة عذابهم، كما تقول: فلان لا تسأل عنه،
تعني أنه في نهاية تشهره أنه من خير أو شر
* ت * وزاد في " مختصر الطبري "، قال: وتحتمل هذه القراءة معنى آخر، وهو،

(1) أخرجه الطبري (1 / 560) برقم (1866) عن الربيع بلفظ: " هم كفار العرب "، و برقم (1867) عن
السدي: " فهم العرب " اه‍.
وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 202).
(2) أخرجه الطبري (1 / 560) برقم (1862)، (1863) من طريقين عن مجاهد.
و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 202)، والبغوي في " معالم التنزيل " (1 / 109).
(3) أخرجه الطبري (1 / 560) برقم (1864) و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 202)، و السيوطي في " الدر "
(1 / 208)، و عزاه لابن إسحاق، و ابن جرير وابن أبي حاتم. وذكره الشوكاني في " تفسيره " (1 / 199).
(4) ينظر: " السبعة " (169)، و " الكشف " (1 / 262)، و " حجة القراءات " (111)، و " الحجة للقراء
السبعة " (2 / 209)، و " العنوان " (71)، و " شرح طيبة النشر " (4 / 60)، و " معاني القراءات " (1 /
170)، و " شرح شعلة " (274)، و " إتحاف " (1 / 414).
309

والله أعلم، أظهر، أي: ولا تسأل عنهم سؤال مكترث بما أصابهم، أو بما هم عليه من
الكفر الذي يوردهم الجحيم، نظير قوله عز وجل: (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات)
[فاطر: 8] وأما ما روي عن محمد بن كعب القرطي ومن وافقه، من أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل، ما
فعل أبواي؟ فنزلت الآية في ذلك، فهو بعيد، ولا يتصل أيضا بمعنى ما قبله. وانتهى.
وقرأ باقي السبعة: " ولا تسأل "، بضم التاء واللام.
و (الجحيم): إحدى طبقات النار.
وقوله تعالى: (إن هدى الله هو الهدى)، أي: ما أنت عليه يا محمد من هدى الله
هو الهدى الحقيقي، لا ما يدعيه هؤلاء، ثم قال تعالى لنبيه: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد
الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير) فهذا شرط خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم
وأمته معه داخلة فيه.
* ت *: والأدب أن يقال: خوطب به صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، لوجود عصمته صلى الله عليه وسلم
وكذلك الجواب في سائر ما أشبه هذا المعنى من الآي، وقد نبه - رحمه الله - على هذا
المعنى في نظيرتها، كما سيأتي، وكان الأولى، أن ينبه على ذلك هنا أيضا، وقد أجاب
عياض عن الآي الواردة في القرآن مما يوهم ظاهره إشكالا، فقال - رحمه الله -: اعلم،
وفقنا الله وإياك، أنه - عليه السلام - لا يصح ولا يجوز عليه ألا يبلغ، وأن يخالف أمر
ربه، ولا إن يشرك ولا أن يتقول على الله ما لا يجب أو يفتري عليه، أو يضل، أو
يختم على قلبه، أو يطيع الكافرين، لكن الله أمره بالمكاشفة والبيان في البلاغ
للمخالفين، وأن إبلاغه، إن لم يكن بهذا البيان فكأنه ما بلغ، وطيب نفسه، وقوى قلبه
بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) [المائدة: 67] كما قال لموسى وهارون - عليهما
السلام -: (لا تخافا) [طه: 46] لتشتد بصائرهم في الإبلاغ وإظهار دين الله، ويذهب

(1) يقال: ما أكترث به، أي ما أبالي، و لا يستعمل إلا في النفي، فإن ورد في إثبات فهو شاذ.
ينظر: " لسان العرب " (3848) (كرث).
(2) أي: يكذب عليه ويفتري.
(3) يختم على قلبه: يطبع عليه ما يمنعه عن قبول الحق.
(4) بالمكاشفة والبيان: بكشفه له وتبيينه.
(5) " ويعصمك من الناس ": أي يحميك ويصونك عنهم حتى لا يقدر أحد على شئ يضرك.
(6) تشتد: تقوى، و تزيد شدة. بصائرهم: المقصود بهم موسى، و هارون، ومحمد. أي: يكونون على
بصيرة ويقين في أمورهم.
310

عنهم خوف العدو المضعف لليقين، وأما قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض
الأقاويل...) [الحاقة: 44] الآية، وقوله: (إذا لأذقناك ضعف الحياة) [الإسراء: 75]
فمعناه: أن هذا جزاء من فعل هذا، وجزاؤك لو كنت ممن يفعله، وهو صلى الله عليه وسلم لا يفعله،
وكذلك قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض) [الأنعام: 116] فالمراد غيره، كما قال:
(إن تطيعوا الذين كفروا...) الآية [آل عمران 149] وقوله: (إن يشأ الله يختم على
قلبك) [الشورى: 24]، و (لئن أشركت ليحبطن عملك) [الزمر: 65] وما أشبهه، فالمراد
غيره، وأن هذا حال من أشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز عليه هذا، وقوله تعالى: (اتق / الله 34 ب
ولا تطع الكافرين) [الأحزاب: 1]، فليس فيه أنه أطاعهم، والله ينهاه عما يشاء، ويأمره بما
يشاء، كما قال تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم...) [الأنعام: 52] الآية، وما كان
طردهم - عليه السلام - ولا كان من الظالمين. انتهى من " الشفا ".
* ص *: (ولئن): هذه اللام هي الموطئة والمؤذنة، وهي مشعرة بقسم مقدر
قبلها. انتهى.
(الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون
(121) بابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأنى فضلتكم على العالمين (122) واتقوا يوما لا تجزى
نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون (123) وإذ ابتلى إبراهيم ربه
بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (124)) وقوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه...) الآية: قال قتادة: المراد ب‍ " الذين "
في هذا الموضع: من أسلم من أمة النبي صلى الله عليه وسلم، والكتاب على هذا: التأويل القرآن، وقال
ابن زيد: المراد من أسلم من بني إسرائيل، والكتاب، على هذا التأويل: التوراة،
و (آتيناهم): معناه: أعطيناهم، و (يتلونه): معناه: يتبعونه حق اتباعه بامتثال الأمر
والنهي، قال أحمد بن نصر الداوودي. وهذا قول ابن عباس، قال عكرمة: يقال: فلان
يتلو فلانا، أي: يتبعه، ومنه: (والقمر إذا تلاها) [الشمس: 2] أي: تبعها. انتهى.

(1) ينظر: " الشفا " (ص 717، 718).
(2) " المجيد " (ص 396).
(3) أخرجه الطبري (1 / 566) برقم (1880)، وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 204)، و السيوطي في
" الدر " (1 / 210)، و عزاه لعبد بن حميد، و ابن جرير.
(4) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 204).
311

ولله در من اتبع كلام ربه، واقتفى سنة نبيه، وإن قل علمه، قال القضاعي في
اختصاره ل‍ " المدارك ": قال في ترجمة سحنون: كان سحنون يقول: مثل العلم القليل
في الرجل الصالح مثل العين العذبة في الأرض العذبة، يزرع عليها صاحبها ما ينتفع به،
ومثل العلم الكثير في الرجل الطالح مثل العين الخرارة في السبخة تهر الليل والنهار، ولا
ينتفع بها. انتهى.
وقيل: (يتلونه): يقرءونه حق قراءته، وهذا أيضا يتضمن الاتباع والامتثال،
و (حق): مصدر، وهو بمعنى أفعل، والضمير في " به " عائد على " الكتاب "، وقيل:
يعود على محمد صلى الله عليه وسلم، لان متبعي التوراة يجدونه فيها، فيؤمنون به، والضمير في (يكفر
به) يحتمل من العود ما ذكر في الأول.
وقوله تعالى: (يا بني إسرائيل...) الآية: تقدم بيان نظيرها، ومعنى: (لا تنفعها
شفاعة): أنه ليست ثم، وليس المعنى أنه يشفع فيهم أحد، فيرد، وأما الشفاعة التي هي
في تعجيل الحساب، فليست بنافعة لهؤلاء الكفرة.
* ت *: ولم ينبه - رحمه الله - على هذا في التي تقدمت أول السورة، و (ابتلى)
معناه: اختبر، وفي " مختصر الطبري ": (ابتلى)، أي: اختبر، والاختبار من الله عز وجل
لعباده على علم منه سبحانه بباطن أمرهم وظاهره، وإنما يبتليهم ليظهر منهم سابق علمه

(1) هو الإمام سحنون، أبو سعيد عبد السلام بن سعيد التنوخي، القيرواني، الفقيه، الحافظ، العابد،
الورع، المتفق على فضله و إمامته، اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، أخذ العلم عن أئمة من أهل
المشرق والمغرب. وأخذ عنه من أئمة الرواة نحو سبعمائة، انتهت إليه الرياسة في العلم، و عليه المعول
في المشكلات، و إليه الرحلة، و مدونته عليها الاعتماد في المذهب المالكي. ولد رحمه الله سنة
160 ه‍، و توفي سنة 240 ه‍ و قبره ب‍ " القيروان ".
ينظر: " الديباج " (2 / 30)، و " الشجرة الزكية " (ص 69).
(2) فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه نصب على المصدر، و أصله: " تلاوة حقا " ثم قدم الوصف و أضيف إلى المصدر، و صار
نظير: " ضربت شديد الضرب " أي: ضربا شديدا، فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه.
الثاني: أنه حال من فاعل يتلونه، أي: يتلونه محقين.
الثالث: أنه نعت مصدر محذوف، و قال ابن عطية: و " حق " مصدر، والعامل فيه فعل مضمر، و هو
بمعنى أفعل، و لا تجوز إضافته إلى واحد معرف، و إنما جازت هنا لأن تعرف التلاوة بإضافتها إلى ضمير
ليس بتعرف محض، و إنما هو بمنزلة قولهم: " رجل واحد أمه، و نسيج وحده " يعني أنه في قوة أفعل
التفضيل بمعنى أحق التلاوة، و كأنه يرى أن إضافة أفعل غير محضة، و لا حاجة إلى تقدير عامل فيه، لأن
ما قبله يطلبه. ينظر: " الدر المصون " (1 / 358).
312

فيهم، وقد روي ذلك عن علي - رضي الله عنه - في قوله عز وجل: (ولنبلونكم حتى
نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) [محمد: 31] فقال رضي الله عنه: إن الله
عز وجل لم يزل عالما بأخبارهم وخبرهم وما هم عليه، وإن قوله: (ولنبلوكم حتى
نعلم)، أي: حتى نسوقكم إلى سابق علمي فيكم. انتهى، وهو كلام حسن.
وقد نبه * ع *: على هذا المعنى فيما يأتي، والعقيدة أن علمه سبحانه قديم، علم
كل شئ قبل كونه، فجرى على قدره لا يكون من عباده قول ولا عمل إلا وقد قضاه،
وسبق علمه به سبحانه لا إله إلا هو.
و (إبراهيم) يقال: إن تفسيره بالعربية أب رحيم، واختلف أهل التأويل في
" الكلمات "، فقال ابن عباس: هي ثلاثون سهما هي الإسلام كله، لم يتمه أحد كاملا إلا
إبراهيم - عليه السلام - منها في " براءة ": (التائبون العابدون...) الآية [التوبة: 112]،
وعشرة في " الأحزاب ": (إن المسلمين والمسلمات...) الآية [الأحزاب: 35] وعشرة في
(سأل سائل) [المعارج: 1].
* ت *: وقيل غير هذا.
وفي " البخاري ": أنه اختتن، وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم، قال الراوي: فأوحى
الله إليه (إني جاعلك للناس إماما) والإمام القدوة.
وإنما سميت هذه الخصال كلمات، لأنها / اقترنت بها أوامر هي كلمات، وروي أن 35 أ

(1) أخرجه الطبري (1 / 572) برقم (1909 - 1910 - 1911)، و الحاكم (2 / 552)، و قال: صحيح
الإسناد، و لم يخرجاه. وصححه الذهبي. وذكره البغوي في " تفسيره " (1 / 111)، و ابن عطية الأندلسي
في " تفسيره " (1 / 205)، و ابن كثير (1 / 165)، و السيوطي في " الدر " (1 / 211)، وعزاه لابن أبي
شيبة، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم، وابن مردويه، و ابن عساكر، وذكره الشوكاني في
" تفسيره " (1 / 204).
(3) أخرجه البخاري (6 / 477) كتاب " أحاديث الأنبياء "، باب قول الله تعالى: (و اتخذ الله إبراهيم خليلا "
حديث (3356)، و مسلم (4 / 1839) كتاب " الفضائل "، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، حديث
(151 / 2370)، و أحمد (2 / 418)، و البيهقي (8 / 325) كتاب " الأشربة "، باب السلطان يكره على
الاختتان. كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " اختتن
إبراهيم على رأس ثمانين سنة، و اختتن بالقدوم ".
و للحديث طريق آخر عن أبي هريرة: أخرجه أبو يعلى (10 / 383 - 384) من طريق
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
313

إبراهيم، لما أتم هذه الكلمات أو أتمها الله عليه، كتب الله له البراءة من النار، فذلك قوله
تعالى: (وإبراهيم الذي وفى) [النجم: 37]. وقول إبراهيم عليه السلام: (ومن ذريتي) هو
على جهة الرغباء إلى الله، أي: ومن ذريتي، يا رب، فاجعل.
وقوله تعالى: (قال لا ينال عهدي الظالمين)، أي: قال الله، والعهد فيما قال
مجاهد: الإمامة.
(وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم
وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود (125) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا
آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم اضطره إلى
عذاب النار وبئس المصير (126))
وقوله تعالى: (وإذ جعلنا البيت)، أي: الكعبة (مثابة)، يحتمل من ثاب إذا
رجع، ويحتمل أن تكون من الثواب، أي: يثابون هناك، (وآمنا) للناس والطير
والوحوش، إذ جعل الله لها حرمة في النفوس، بحيث يلقى الرجل بها قاتل أبيه، فلا
يهيجه، وقرأ جمهور الناس: " واتخذوا "، بكسر الخاء، على جهة الأمر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم،
وقرأ نافع، وابن عامر، " واتخذوا " بفتح الخاء، على جهة الخبر عن من اتخذه من متبعي
إبراهيم - عليه السلام - ومقام إبراهيم في قول ابن عباس، وقتادة، وغيرهما، وخرجه
البخاري هو الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان
إسماعيل يناوله إياها في بناء البيت، وغرقت قدماه فيه، و (مصلى): موضع صلاة.
* ص *: (من مقام): من تبعيضية على الأظهر، أو بمعنى: " في " أو زائدة،

(1) أخرجه الطبري (1 / 578) برقم (1948) بلفظ: " لا يكون إمام ظالما " من طريق ابن أبي نجيح عن
مجاهد. وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 206)، كما ذكر المصنف.
(2) قوله تعالى: (و إذ جعلنا البيت مثابة للناس) قيل: مكانا يثوبون إليه كل وقت على ممر الأيام وتكرر
الأعوام، لا يملون منه. وقيل: مكانا يكسبون فيه الثواب.
قال السمين: و لا شك أنه موجود فيه الأمران. ومنه: إن فلانا لمثابة ولمثابا، أي تأتيه الناس لمعروفه،
ويرجعون إليه مرة أخرى.
ينظر: " عمدة الحفاظ " (1 / 339)، و " غريب القرآن " لابن قتيبة (63).
(3) ينظر: " حجة القراءات " (113). و " الحجة " (2 / 220)، و " العنوان " (71)، و " شرح الطيبة " (4 /
67)، و " إتحاف " (1 / 417).
(4) " المجيد " (ص 402).
314

على مذهب الأخفش، والمقام: مفعل من القيام، والمراد به هنا المكان، انتهى، يعني:
المكان الذي فيه الحجر المسمى بالمقام.
وقوله تعالى: (وعهدنا): العهد، في اللغة: على أقسام، هذا منها، الوصية بمعنى
الأمر، و (طهرا): قيل: معناه: ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة، وقال مجاهد: هو
أمر بالتطهير من عبادة الأوثان، و (للطائفين) ظاهره: أهل الطواف، وقاله عطاء
وغيره، وقال ابن جبير: معناه: للغرباء الطارئين على مكة، (والعاكفين): قال ابن
جبير: هم أهل البلد المقيمون، وقال عطاء: هم المجاورون بمكة، وقال ابن عباس:
المصلون، وقال غيره، المعتكفون، والعكوف، في اللغة: الملازمة.
وقوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا)، أي: من الجبابرة والعدو
المستأصل، وروي أن الله تعالى، لما دعاه إبراهيم، أمر جبريل، فاقتلع فلسطين، وقيل:
بقعة من الأردن، فطاف بها حول البيت سبعا، وأنزلها بوج، فسميت الطائف،
بسبب الطواف.
وقوله تعالى: (قال ومن كفر فأمتعه قليلا...) الآية: قال أبي بن كعب، وابن
إسحاق، وغيرهما: هذا القول من الله عز وجل لإبراهيم، وقال ابن عباس، وغيره:

(1) أخرجه الطبري (1 / 588) برقم (2016) بلفظ: " من الأوثان "، و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره "
(1 / 208).
(2) أخرجه الطبري (1 / 588) برقم (2020) بلفظ: " إذا كان طائفا بالبيت فهو من الطائفين ". و ذكره ابن
عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 208).
(3) أخرجه الطبري (1 / 558) برقم (2019) بلفظ: " من أتاه من غربة "، و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 /
208).
(4) أخرجه الطبري (1 / 589) برقم (2023)، و ابن عطية الأندلسي في " التفسير " (1 / 208).
(5) ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 208).
(6) أخرجه الطبري (1 / 589) برقم (2025)، و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 208).
(7) الأردن: كورة واسعة منها " الغور "، و " طبرية "، و " صور "، و " عكا "، وما بين ذلك.
ينظر: " مراصد الاطلاع " (1 / 54).
(8) بالفتح، ثم التشديد: واد موضع بالطائف به كانت غزاة النبي عليه السلام. ينظر: " مراصد الاطلاع " (3 /
1426).
(9) كانت تسمى قديما " وج "، و سميت " الطائف " لما أطيف عليها الحائط، و هي ناحية ذات نخيل وأعناب
و مزارع وأودية، و هي على ظهر جبل غزوان. ينظر: " مراصد الاطلاع " (2 / 877).
(10) أخرجه الطبري (1 / 594) برقم (2035) عن أبي بن كعب، وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 209)،
والسيوطي في " الدر " (1 / 233)، و الشوكاني في " التفسير " (1 / 208).
315

هذا القول من إبراهيم.
قال * ع *: فكان إبراهيم دعا للمؤمنين، وعلى الكافرين، وفي " مختصر
الطبري ": وقرأ بعضهم، " فأمتعه "، بالجزم، والقطع على الدعاء، ورآه دعاء من إبراهيم،
وروي ذلك عن أبي العالية، كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، سأل ربه أن من كفر
به، فأمتعه قليلا يقول: فارزقه قليلا، ثم اضطره إلى عذاب النار، أي: ألجئه. انتهى،
وعلى هذه القراءة يجيء قول ابن عباس، لا على قراءة الجمهور، و (قليلا): معناه: مدة
العمر، لأن متاع الدنيا قليل.
(وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127)
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
(128) ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت
العزيز الحكيم (129)).
وقوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت...) الآية: القواعد: جمع
قاعدة، وهي الأساس.
* ص *: القواعد، قال الكسائي والفراء: هي الجدر، وقال أبو عبيدة: هي
الأساس. انتهى.
واختلفوا في قصص البيت، فقيل: إن آدم أمر ببنائه، ثم دثر، ودرس حتى دل عليه

(1) أخرجه الطبري (1 / 549) برقم (2037)، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 233)، و الشوكاني في
" التفسير " (1 / 208).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 209).
(3) وهي قراءة شاذة، كما في " المحتسب " (1 / 104)، و نسبها لابن عباس - رضي الله عنهما. قال ابن
جني: فيحتمل أمرين:
أحدهما: - وهو الظاهر - أن يكون الفاعل في " قال " ضمير إبراهيم عليه السلام، أي قال إبراهيم أيضا:
ومن كفر فأمتعه يا رب ثم اضطره يا رب...
و أما الآخر فهو أن يكون الفاعل في " قال " ضمير اسم الله تعالى، أي: فأمتعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر،
أو يا مالك، أو يا إله، يخاطب بذلك نفسه (عز وجل)، فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان
لنفسه، كقراءة من قرأ: (قال اعلم أن الله على كل شئ قدير) [البقرة: 259] أي: اعلم يا إنسان.
وكقول الأعشى: [البسيط]
و هل تطيق وداعا أيها الرجل
(4) " المجيد " (ص 408).
316

إبراهيم، فرفع قواعده، وقيل: إن إبراهيم ابتدأ بناءه بأمر الله، وقيل غير هذا.
* ع *: والذي يصح من هذا كله إن الله سبحانه أمر إبراهيم برفع قواعد البيت، / 35 ب
وجائز قدمه، وجائز أن يكون ذلك ابتداء، ولا يرجح شئ من ذلك إلا بسند يقطع العذر.
(وإسماعيل): عطف على (إبراهيم)، والتقدير: يقولان: (ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم)، أي: السميع لدعائنا، العليم بنياتنا، وخصا هاتين الصفتين، لتناسبهما مع
حالهما، وقولهما: (اجعلنا) بمعنى: صيرنا مسلمين، وكذلك كانا، وإنما أرادا التثبيت
والدوام، والإسلام في هذا الموضع. الإيمان والأعمال جميعا، " ومن " في قوله: (ومن
ذريتنا) للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين، والأمة: الجماعة،
(وأرنا) قالت طائفة: من رؤية البصر، وقالت طائفة: من رؤية القلب، وهذا لا يصح،
قال قتادة: المناسك معالم الحج، واختلف في معنى طلبهم التوبة، وهم أنبياء معصومون،
فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، وقيل: أرادا من بعدهما من الذرية، وقيل، وهو
الأحسن، إنهما لما عرفا المناسك، وبنيا البيت، أرادا أن يسنا للناس، أن تلك المواطن
مكان التنصل من الذنوب، وطلب التوبة.
وقال الطبري: إنه ليس أحد من خلق الله إلا بينه وبين الله معان يحب أن تكون
أحسن مما هي، وأجمعت الأمة على عصمة الأنبياء في معنى التبليغ، ومن الكبائر ومن
الصغائر التي فيها رذيلة، واختلف في غير ذلك من الصغائر، والذي أقول به أنهم
معصومون من الجميع، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إني لأتوب في اليوم واستغفر الله سبعين

(1) " المحرر الوجيز " (1 / 210).
(2) و في " شرح المواقف ": أجمع أهل الملل والشرائع كلها على وجوب عصمتهم عن تعمد الكذب في
دعوى الرسالة و ما يبلغونه من الله (تعالى) إلى الخلائق، و في جواز صدور الكذب عنهم فيما ذكر على
سبيل السهو و النسيان خلاف، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق و كثير من الأئمة، لدلالة المعجزة على صدقهم
في تبليغ الأحكام. و جوز القاضي أبو بكر، و قال: إنما دلت المعجزة على صدقه فيما هو متذكر له عامد
إليه، وأما ما كان من النسيان و فلتات اللسان، فلا دلالة للمعجزة على الصدق فيه، فلا يلزم من الكذب
هناك نقص لدلالتها. و أما ما سوى الكذب في التبليغ، فهو إما كفر أو غيره من المعاصي، أما الكفر
فأجمعت الأمة على عصمتهم عنه قبل النبوة و بعدها.
و جوز الشيعة إظهار الكفر وقاية لنفسه عند الهلاك، و ذلك باطل، لأنه يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية،
لضعفهم و قلة موافقتهم و كثرة مخالفتهم عند دعوتهم أولا. و أيضا منقوض بدعوة إبراهيم و موسى
(عليهما السلام) في زمن نمرود و فرعون مع شدة خوف الهلاك. و أما غير الكفر فإما كبائر أو صغائر،
و كل منهما إما أن يصدر عمدا أو سهوا، فالأقسام أربعة، و كل واحد منهما إما قبل البعثة أو بعدها.
317

مرة "، إنما هو رجوعه من حالة إلى أرفع منها، لتزيد علومه وإطلاعه على أمر ربه، فهو
يتوب من منزلة إلى أعلى، والتوبة هنا لغوية، وقوله: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم...)
الآية: هذا هو الذي أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى "، ومعنى
(منهم)، أي: يعرفوه، ويتحققوا فضله، ويشفق عليهم، ويحرص.
* ت *: وقد تواترت أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبعثته في الكتب السالفة، وعلم بذلك
الأخبار، وأخبروا به، وبتعيين الزمن الذي يبعث فيه.
وقد روى البيهقي أحمد بن الحسين

فالأقسام ثمانية. أما صدور الكبائر عنهم عمدا، فمنعه الجمهور من محققي الأشاعرة والمعتزلة، و أما
صدورها عنهم سهوا أو على سبيل الخطأ في التأويل، فجوزه الأكثرون، و المختار خلافه. و أما الصغائر
عمدا فجوزه الجمهور، خلافا للجبائي. و أما صدورها سهوا، فهو جائز باتفاق أكثر أصحابنا و أكثر
المعتزلة، بشرط أن ينبهوا عليه فينتهوا عنه، إلا الصغائر التي تدل على الخسة و دناءة الهمة، كسرقة حبة
أو لقمة، فإنها لا تجوز أصلا، عمدا و لا سهوا. وهذا كله بعد الاتصاف بالنبوة. و أما قبلها فعند أكثر
أصحابنا و جمع من المعتزلة لا يمتنع أن يصدر عنهم كبيرة (أقول: أي عمدا كان أو سهوا) و قال أكثر
المعتزلة: تمتنع الكبيرة و إن تاب عنها، لأن صدور الكبيرة يوجب النفرة ممن ارتكبها، و المنفور عنه لا
يتبعه الناس، فتفوت مصلحة البعثة. و في " شرح العقائد ": و من المعتزلة من منع ما ينفر الطباع عن
متابعتهم، سواء كان ذنبا لهم أو لا، كعهر الأمهات، أي كونهن زانيات، و الفجور في الآباء و دنائتهم أو
استرذالهم. كذا في شرح " المواقف ". و في شرح " العقائد ": أنه الحق. و لعل ضميري الجمع في
" دنائتهم، و استرذالهم " راجعان إلى الأنبياء، و لا يبعد رجوعهما إلى الآباء. وعند الروافض: لا يجوز
صغيرة و لا كبيرة، لا عمدا و لا سهوا، و لا خطأ في التأويل قبل الوحي و بعده. و المفهوم من شرح
" العقائد ": أن الشيعة كالروافض في هذا الحكم إلا أنهم جوزوا إظهار الكفر عند خوف الهلاك.
تنبيه: العصمة عندنا على ما يقتضيه أصلنا من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار ابتداء: ألا يخلق الله
(تعالى) فيهم ذنبا. و هي عند الفلاسفة بناء على ما ذهبوا إليه من القول بإيجاب الفعل عند استعداد القوابل
ملكة، أي صفة نفسانية راسخة تمنع صاحبها من الفجور، و تحصل هذه الصفة النفسانية ابتداء بالعلم
بمعايب المعاصي و مناقب الطاعات، و تتأكد و تترسخ هذه الصفة في الأنبياء بتتابع الوحي إليهم بالأوامر
و النواهي، و الاعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر و ترك الأولى، فإن الصفات النفسانية تكون في
ابتداء حصولها أحوالا، أي غير راسخة ثم تصير ملكات، أي راسخة في محلها، كذا في شرح
" المواقف ".
ينظر: " نشر الطوالع " (338 - 342).
(1) أحمد بن الحسين بن علي بن موسى، الإمام الحافظ الكبير، أبو بكر البيهقي سمع الكثير و رحل و جمع
و صنف، مولده سنة 384، تفقه على ناصر العمري، و أخذ علم الحديث عن أبي عبد الله الحاكم،
و كان كثير التحقيق و الإنصاف، قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا و للشافعي عليه منه إلا البيهقي، فإن
له على الشافعي منه لتصانيفه في نصرة مذهبه، و من تصانيفه: " السنن الكبير "، و " السنن الصغير "
318

وغيره عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: " حضرت سوق بصرى، فإذا
راهب في صومعة، يقول: سلوا أهل هذا الموسم، أفيهم من هو من هذا الحرم؟ قال:
قلت: أنا، فما تشاء؟ قال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: أحمد بن
عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو خاتم الأنبياء، مخرجه من
الحرم، ومهاجره إلى نخل وسباخ، إذا كان، فلا تسبقن إليه، فوضع في قلبي ما قال،
وأسرعت اللحاق بمكة، فسألت، هل ظهر بعدي أمر؟ فقالوا: محمد الأمي قد تنبأ، وتبعه
أبو بكر بن أبي قحافة، فمشيت إلى أبي بكر، وأدخلني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمت "،
وقد روى العذري وغيره عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: " لقيت شيخا باليمن، فقال
لي: أنت حرمي، فقلت: نعم، فقال: وأحسبك قرشيا، قلت: نعم، قال: بقيت لي فيك
واحدة، اكشف لي عن بطنك، قلت: لا أفعل، أو تخبرني لم ذلك، قال: أجد في العلم
الصحيح أن نبيا يبعث في الحرمين يقارنه على أمره فتى وكهل، أما الفتى، فخواض
غمرات ودفاع معضلات، وأما الكهل، فأبيض نحيف على بطنه شامة، وعلى فخذه
اليسرى علامة، وما عليك أن تريني ما سألتك عنه، فقد تكاملت فيك الصفة، إلا / ما خفي
علي؟ قال أبو بكر: فكشفت له عن بطني، فرأى شامة سوداء فوق سرتي، فقال: أنت هو
ورب الكعبة، إني متقدم إليك في أمر، قلت: ما هو؟ قال: إياك، والميل عن الهدى،

و " دلائل النبوة " و غيرها. مات سنة 458.
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 220)، " الأعلام " (1 / 113).
(1) هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب.. أبو محمد القرشي. التيمي، أحد العشرة. يعرف ب‍ " طلحة الخير ".
قال ابن حجر في " الإصابة " هو أحد العشرة، و أحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، و أحد الخمسة
الذين أسلموا على يد أبي بكر، و أحد الستة أصحاب الشورى. روى عن النبي، و عنه: بنوه يحيى،
و موسى، و عيسى، و قيس بن أبي حازم، و أبو سلمة بن عبد الرحمن، و الأحنف، و مالك بن أبي
عامر، و غيرهم... و كان عند وقعة بدر في تجارة في " الشام "، فضرب له النبي بسهمه و أجره، و شهد
" أحدا "، و أبلى فيها بلاء حسنا، ووقى النبي بنفسه، و اتقى النبل عنه بيده حتى شلت أصبعه. توفي في
جمادى الأولى سنة (36).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 85)، " البداية و النهاية " (7 / 47)، " تهذيب التهذيب " (5 / 20)،
" التحفة اللطيفة " (2 / 264)، " شذرات الذهب " (1 / 42، 43، 59)، " الإصابة " (3 / 290)، " التعديل
و التجريح " (421)، " الاستبصار " (116، 134، 160)، " التاريخ الصغير " (69، 75)، " الرياض
المستطابة " (135)، " الرياض النضرة " (1 / 33)، " تهذيب الكمال " (2 / 628).
(2) أخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " (2 / 165 - 166) عن طلحة بن عبيد الله.
319

وعليك بالتمسك بالطريقة الوسطى، وخف الله فيما خولك، وأعطى، قال أبو بكر: فلما
ودعته، قال: أتحمل عني إلى ذلك النبي أبياتا، قلت: نعم، فأنشأ الشيخ يقول: [الطويل]
ألم تر أني قد سئمت معاشري * ونفسي وقد أصبحت في الحي عاهنا
حييت وفي الأيام للمرء عبرة * ثلاث مئين بعد تسعين آمنا
وقد خمدت مني شرارة قوتي * وألفيت شيخا لا أطيق الشواحنا
وأنت ورب البيت تأتي محمدا * لعامك هذا هذا قد أقام البراهنا
فحي رسول الله عني فإنني * على دينه أحيا وإن كنت قاطنا
قال أبو بكر: فحفظت شعره، وقدمت مكة، وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءني صناديد
قريش، وقالوا: يا أبا بكر، يتيم أبي طالب، يزعم أنه نبي، قال: فجئت إلى منزل
النبي صلى الله عليه وسلم فقرعت عليه، فخرج إلي، فقلت: يا محمد، فقدت من منازل قومك، وتركت
دين آبائك؟ فقال: يا أبا بكر، إني رسول الله إليك، وإلى الناس كلهم، فآمن بالله، فقلت،
وما دليلك؟ قال: الشيخ الراهب الذي لقيته باليمن، قلت: وكم من شيخ لقيت! قال: ليس
ذلك أريد، إنما أريد الشيخ الذي أفادك رسول الأبيات، قلت: ومن أخبرك بها؟ قال: الروح
الأمين الذي كان يأتي الأنبياء قبلي، قلت: مد يمينك، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك
رسول الله، قال أبو بكر: فانصرفت وما بين لابتيها ولا أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحا
بإسلامي ". انتهى من تأليف ابن القطان في " الآيات والمعجزات ".
و (يتلوا عليهم آياتك)، أي: آيات القرآن، و (الكتاب): القرآن، قال قتادة:
(والحكمة) السنة، وروى ابن وهب عن مالك، أن (الحكمة): الفقه في الدين،
والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى.

(1) هم أشرافهم وعظماؤهم، واحدها صنديد. ينظر: " لسان العرب " (2507).
(2) أخرجه الطبري (1 / 607) برقم (2083) و ذكره ابن عطية الأندلسي في " تفسيره " (1 / 212) والسيوطي
في " الدر " (1 / 255)، و عزاه لعبد بن حميد، ابن جرير. وذكره ابن كثير (1 / 184).
(3) ابن وهب هو أبو محمد، عبد الله بن وهب بن مسلم، القرشي، مولاهم. روى عن علماء كثيرين منهم
مالك، و الليث، و ابن أبي ذئب، و السفيانان. و قرأ على نافع بن أبي نعيم، تفقه بمالك، و الليث، وابن
أبي دينار، و أبي حازم، و غيرهم. له مصنفات كثيرة، منها: سماعه من مالك، و جامعه الكبير، و كان
مولده سنة خمس ب‍ " مصر " و توفي يوم الأحد لخمس بقين من شعبان سند سبع و تسعين و مائة.
ينظر: " الديباج المذهب " (1 / 413)، و " تذكرة الحفاظ " (1 / 277)، و " البداية و النهاية " (10 / 240).
(4) أخرجه الطبري (1 / 607) برقم (2084)، وذكره ابن عطية (1 / 212)، و ابن كثير (1 / 184).
320

* ت *: ونقل عياض في " مداركه " عن مالك، أن (الحكمة) نور يقذفه الله في
قلب العبد، وقال أيضا: يقع في قلبي، أن (الحكمة) الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله
القلوب من رحمته وفضله، وقال أيضا: (الحكمة) التفكر في أمر الله، والاتباع له، والفقه
في الدين، والعمل به. انتهى.
وقد أشار * ع *: إلى هذا عند قوله تعالى: (يؤت الحكمة من يشاء)
[البقرة: 269].
* ت *: والظاهر أن المراد ب‍ (الحكمة) هنا: ما قاله قتادة، فتأمله.
(ويزكيهم): معناه يطهرهم، وينميهم بالخير، و (العزيز): الذي يغلب، ويتم
مراده، و (الحكيم): المصيب مواقع الفعل، المحكم لها.
(ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة
لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه
ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون (132) أم كنتم شهداء إذ
حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق إلاها واحدا ونحن له مسلمون (133))
وقوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم...) الآية: " من ": استفهام، والمعنى
ومن يزهد منها، ويربأ بنفسه عنها إلا من سفه نفسه، والملة: الشريعة والطريقة، وسفه من
السفه الذي معناه الرقة والخفة، واصطفى من الصفوة، معناه: تخير الأصفى، ومعنى هذا
الاصطفاء، أنه نبأه، واتخذه خليلا.
(وإنه في الآخرة لمن الصالحين): قيل: المعنى أنه في عمل الآخرة لمن
الصالحين، فالكلام على حذف مضاف، (إذ قال له ربه أسلم) كان هذا القول من الله
تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس، والإسلام هنا على أتم وجوهه، والضمير في
" بها " عائد على كلمته التي هي (أسلمت لرب العالمين)، وقيل: على الملة، والأول
أصوب، لأنه أقرب مذكور.
(ويعقوب): قيل: عطف على (إبراهيم)، وقيل: مقطوع منفرد بقوله: (يا
بني)، والتقدير: ويعقوب قال: يا بني /.

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 364).
321

و (اصطفى) هنا: معناه: تخير صفوة الأديان.
وقوله: (فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون): إيجاز بليغ، وذلك أن المقصود من أمرهم
بالإسلام الدوام عليه، فأتى بلفظ موجز يقتضي المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت،
وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت، ولا يدري متى، فإذا أمر بأمر لا يأتيه الموت إلا وهو
عليه، فقد توجه من وقت الأمر دائبا لازما.
وقوله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت) هذا الخطاب لليهود
والنصارى الذين انتحلوا الأنبياء - صلوات الله عليهم - ونسبوهم إلى اليهودية و النصرانية،
فرد الله عليهم وكذبهم، و أعلمهم أنهم كانوا على الحنيفية الإسلام، وقال لهم على جهة
التقرير والتوبيخ: أشهدتم يعقوب بما أوصى، فتدعون عن علم أو لم تشهدوا، بل أنتم
تفترون، " و أم " (1): للاستفهام في صدر الكلام، لغة يمانية، و حكى الطبري أن " أم " يستفهم

(1) في " أم " هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: و هو المشهور أنها منقطعة، و المنقطعة تقدر ب‍ " بل " و همزة الاستفهام، و بعضهم يقدرها ببل
وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شئ إلى شئ لا إبطال له، و معنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ،
فيؤول معناه إلى النفي أي: بل أكنتم شهداء يعني لم تكونوا.
الثاني: أنها بمعنى همزة الاستفهام و هو قول ابن عطية و الطبري، لا أنهما اختلفا في محلها: فإن ابن
عطية قال: و أم تكون بمعنى ألف الاستفهام في صدر الكلام لغة يمانية، و قال الطبري: إن أم يستفهم بها
وسط كلام قد تقدم صدره.
قال أبو حيان في قول ابن عطية: و لم أقف لأحد من النحويين على ما قال، وقال في قول الطبري: و هذا
أيضا قول غريب.
الثالث: أنها متصلة و هو قول الزمخشري، قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة و جعل الخطاب
للمؤمنين قال بعد ذلك: و قيل الخطاب لليهود، لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليهودية، إلا
أنهم لو شهدوه و سمعوا ما قاله لبنيه و ما قالوه، لظهر لهم حرصه على ملة الإسلام، و لما ادعوا عليه
اليهودية، فالآية منافية لقولهم فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ و لكن الوجه أن تكون " أم " متصلة على
أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني
إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد و ملة الإسلام، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه
براء؟
قال أبو حيان: و لا أعلم أحدا أجاز حذف هذه الجملة، و لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره لو قلت: " أم
زيد " تريد: " أقام عمرو أم زيد " لم يجز، و إنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دل عليه
دليل كقولك: " بلى و عمرا " لمن قال: لم يضرب زيدا، وقوله - تعالى -: (فانفجرت) [البقرة: 60]
أي فضرب فانفجرت و ندر حذفه مع أو كقوله: [الطويل]
فهل لك أو من والد لك قبلنا
أي: من أخ أو والده، و مع حتى كقوله: [الطويل]
322

بها في وسط كلام قد تقدم صدره، وهذا منه، و (شهداء): جمع شاهد، أي: حاضر،
ومعنى الآية، حضر يعقوب مقدمات الموت.
و (من بعدي)، أي: من بعد موتي، ودخل إسماعيل في الآباء لأنه عم.
وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على العباس اسم الأب، فقال: " هذا بقية آبائي "، وقال:
" ردوا علي أبي " الحديث، وقال: " أنا ابن الذبيحين "، على القول الشهير في أن
إسحاق هو الذبيح.
* ت *: وفي تشهيره نظر، بل الراجح أنه إسماعيل على ما هو معلوم في موضعه،
وسيأتي إن شاء الله تعالى

فواعجبا حتى كليب تسبني * كأن أباها نهشل أو مجاشع
أي: يسبني الناس حتى كليب على نظر فيه، و إنما الجائز حذف " أم " مع ما عطفت كقوله: [الطويل]
دعاني إليها القلب إني لأمره * سميع فما أدري أرشد طلابها
أي: أم في، و إنما جاز ذلك، لأن المستفهم عن الإثبات يتضمن نقيضه، و يجوز حذف الثواني
المقابلا إذا دل عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: (نقيكم الحر) [النحل: 81] كيف حذف، " و البرد "
انتهى.
ينظر: " الكتاب " (3 / 18)، " ابن يعيش " (8 / 18)، و " المقتضب " (2 / 41)، و " الأشموني " (3 /
116)، و " البحر المحيط " (1 / 572)، و " الدر المصون " (1 / 377 - 378).
(1) أخرجه الطبراني في " الصغير " (1 / 207) من حديث الحسن بن علي مرفوعا بلفظ: " احفظوني في
العباس، فإنه بقية آبائي ".
و قال: لا يروي عن الحسن بن علي بن أبي طالب إلا بهذا الإسناد. و قال الهيثمي في " المجمع " (9 /
272): رواه الطبراني في " الصغير "، و " الأوسط "، وفيه جماعة لم أعرفهم.
و أخرجه الطبراني في " الكبير " كما في " تخريج الكشاف " للزيلعي (1 / 90) عن ابن عباس بمثل حديث
الحسن.
و قد روي هذا الحديث مرسلا عن مجاهد: أخرجه ابن أبي شيبة (6 / 382) كتاب " الفضائل "، باب
فضائل العباس، حديث (32212)، و عبد الرزاق (2 / 132) كلاهما من طريق ابن عيينة عن داود بن
سابور عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة (14 / 484) كتاب " المغازي "، باب فتح مكة عن عكرمة مرسلا بلفظ: " ردوا علي
أبي، فإن عم الرجل صنو أبيه ".
و ذكره الهندي في " كنز العمال " (30195)، و عزاه إلى ابن أبي شيبة.
(3) الحديث لا أصل له بهذا اللفظ.
قال الزيلعي في " تخريج الكشاف " (3 / 177): غريب، و الخلاف في تعيين الذبيح، هل هو إسماعيل أم
إسحاق منذ عهد الصحابة (رضي الله عنهم)، و الأحاديث التي وردت في تعيين أحدهما لا يصح منها
شئ.
323

(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسئلون عما كانوا يعملون (134) و قالوا
كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين (135) قولوا آمنا
بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب والأسباط و ما أوتي موسى و عيسى
و ما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم و نحن له مسلمون (136) فإن آمنوا بمثل ما
آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (137) صبغة
الله و من أحسن من الله صبغة و نحن له عابدون (138))
وقوله تعالى: (تلك أمة قد خلت) الآية، يعني بالأمة الأنبياء المذكورين،
والمخاطب في هذه الآية اليهود والنصارى، وقولهم: (كونوا هودا أو نصارى تهتدوا)
نظير قولهم: (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) [البقرة: 111]، والحنيف في
الدين: الذي مال عن الأديان المكروهة إلى الحق، ويجئ الحنيف في الدين بمعنى
المستقيم على جميع طاعات الله.
قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق
ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم...) الآية: هذا
الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، (وما أنزل إلينا): يعني القرآن، و (الأسباط) هم ولد
يعقوب، وهم: روبيل، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وريالون، ويشحر، ودينة بنته، وأمهم
ليا، ثم خلف على أختها راحيل، فولدت له يوسف، وبن يامين، وولد له من سريتين:
ذان، وتفثالا، وجاد، واشر.
والسبط في بني إسرائيل بمنزلة القبيلة في ولد إسماعيل، فسموا الأسباط، لأنه كان
من كل واحد منهم سبط.
و (لا نفرق بين أحد منهم)، أي: لا نؤمن ببعض، ونكفر ببعض، كما تفعلون،
(فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به)، أي: فإن صدقوا تصديقا مثل تصديقكم، (فقد اهتدوا، وإن
تولوا)، أي: أعرضوا، يعني: اليهود والنصارى، (فإنما هم في شقاق)، أي: في مشاقة
ومخالفة لك، هم في شق، وأنت في شق، وقيل: شاق معناه: شق كل واحد وصل ما بينه
وبين صاحبه، ثم وعده تعالى أنه سيكفيه إياهم، ويغلبه عليهم، فكان ذلك في قتل بني
قينقاع، وبنى قريظة، وإجلاء النضير.
وهذا الوعد وانتجازه قوله من أعلام نبوءة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
و (السميع) لقول كل قائل، و (العليم) بما ينفذه في عباده، و (صبغة الله):
324

شريعته ودينه وسنته، وفطرته، قال كثير من المفسرين /: وذلك أن النصارى لهم ماء
يصبغون فيه أولادهم، فهذا ينظر إلى ذلك، وقيل: سمي الدين صبغة، استعارة من حيث
تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر الصبغ في الثوب وغيره، ونصب الصبغة على
الإغراء.
(قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (139)
أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم
أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون (140) تلك أمة
قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون (141))
وقوله تعالى: (قل أتحاجوننا في الله...) الآية: معنى الآية: قل يا محمد لهؤلاء
اليهود والنصارى: أتحاجوننا في الله، أي: أتجادلوننا في دينه، والقرب منه، والحظوة لديه
سبحانه، والرب واحد، وكل مجازى بعمله، ثم وبخهم بقوله: (ونحن له مخلصون)،
أي: ولم تخلصوا أنتم، فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم.
وقوله تعالى: (أم تقولون) عطف على ألف الاستفهام المتقدمة، وهذه القراءة بالتاء
من فوق قراءة ابن عامر، وحمزة، وغيرهما، وقرأ نافع وغيره بالياء من أسفل، " وأم "
على هذه القراءة مقطوعة، ووقفهم تعالى على موضع الانقطاع في الحجة، لأنهم إن قالوا:

(1) و في انتصاب " صبغة " أربعة أوجه:
أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، و قال: هو الذي ذكر سيبويه
و القول ما قالت حذام انتهى. قوله و اختلف حينئذ عن ماذا انتصب هذا المصدر؟ فقيل عن قوله: (قولوا
آمنا) [البقرة: 136]، و قيل عن قوله: (ونحن له مسلمون) [البقرة: 136]، و قيل عن قوله: (فقد
اهتدوا) [البقرة: 137].
الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله.
قال أبو حيان: وهذا ينافره آخر الآية، و هو قوله: (و نحن له عابدون) [البقرة: 138] إلا أن يقدر هنا
قول: و هو تقدير لا حاجة إليه، و لا دليل من الكلام عليه.
الثالث: أنها بدل من " ملة، و هذا ضعيف إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة.
الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صبغة الله، ذكره أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة
ليس زائدا، فإن الإغراء أيضا هو نصب بإضمار فعل.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 388).
(2) ينظر: " السبعة " (171)، و " الحجة " (2 / 228)، و " معاني القراءات " (1 / 180)، و " العنوان " (72)،
و " حجة القراءات " (115)، و " شرح الطيبة " (4 / 71)، و " شرح شعلة " (278)، و " إتحاف " (1 /
419).
325

إن الأنبياء المذكورين على اليهودية والنصرانية، كذبوا، لأنه قد علم أن هذين الدينين حدثا
بعدهم، وإن قالوا: لم يكونوا على اليهودية والنصرانية، قيل لهم: فهلموا إلى دينهم، إذ
تقرون بالحق.
وقوله تعالى: (قل أأنتم أعلم أم الله) تقرير على فساد دعواهم، إذ لا جواب
لمفطور إلا أن الله تعالى أعلم، (ومن أظلم ممن كتم شهادة)، أي: لا أحد أظلم منه،
وإياهم أراد تعالى بكتمان الشهادة، قال مجاهد وغيره: فالذي كتموه هو ما كتبهم من أن
الأنبياء على الحنيفية، لا على ما ادعوه، وقال قتادة وغيره: هو ما عندهم من الأمر
بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم والأول أشبه بسياق الآية، " ومن " متعلقة ب‍ " عنده "، ويحتمل أن تتعلق
ب‍ " كتم ".
(وما الله بغافل...) الآية: فيه وعيد وإعلام، أنه لا يترك أمرهم سدى، والغافل:
الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل، وهي التي لا معلم بها.
وقوله تعالى، (تلك أمة...) الآية: كررها عن قرب، لأنها تضمنت معنى التهديد
والتخويف، ولترداد ذكرهم أيضا في معنى غير الأول.
(سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب
يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم (142) وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن
ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله
بالناس لرؤف رحيم (143))
قوله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس...) الآية: اختلف في تعيين هؤلاء
السفهاء، فقال ابن عباس: هم الأحبار، وذلك أنهم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد،
ما ولاك عن قبلتنا، ارجع إليها، ونؤمن بك، يريدون فتنته، وقيل: اليهود والمنافقون،
وقالت فرقة: هم كفار قريش.

(1) ذكره ابن عطية (1 / 217) عن مجاهد، و الحسن، و الربيع.
(2) أخرجه الطبري (1 / 627) برقم (2142) من طريق معمر عن قتادة. وأخرجه عبد الرزاق في " تفسيره "
(1 / 60) بنحوه. و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 260)، و عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. وذكره ابن
عطية في " التفسير " (1 / 217).
(3) أخرجه الطبري (2 / 7) برقم (2167)، و ذكره ابن عطية (1 / 218).
(3) أخرجه الطبري (2 / 7) برقم (2167)، وذكره ابن عطية (1 / 218).
326

و (ولاهم): معناه: صرفهم، و (يهدي من يشاء): إشارة إلى هداية الله تعالى هذه
الأمة إلى قبلة إبراهيم، (وكذلك جعلناكم)، أي، كما هديناكم إلى قبلة إبراهيم وشريعته،
(جعلناكم أمة وسطا)، أي: عدولا، روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عبارات
المفسرين، والوسط: الخيار والأعلى من الشئ، وواسطة القلادة أنفس حجر فيها، ومنه
قوله تعالى: (قال أوسطهم) [القلم: 28].
و (شهداء): جمع شاهد، والمراد بالناس هنا في قول جماعة: جميع الجنس، وإن
أمة محمد صلى الله عليه وسلم تشهد يوم القيامة للأنبياء على أممهم بالتبليغ، وروي في هذا المعنى حديث
صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عنه، أن أمته تشهد لكل نبي ناكره قومه.
* ت *: وهذا الحديث خرجه البخاري، وابن ماجة وابن المبارك في " رقائقه "
وغيرهم، قائلا صلى الله عليه وسلم، فذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا...) الآية.
وكون الرسول شهيدا، قيل: معناه: بأعمالكم يوم القيامة، وقيل: " عليكم " بمعنى
" لكم "، أي: يشهد لكم بالإيمان.
وقوله تعالى: (وما جعلنا القبلة...) الآية: قال قتادة وغيره: القبلة هنا بيت
المقدس، أي: إلا فتنة لنعلم من يتبعك من العرب الذين لم يألفوا إلى إلا مسجد مكة أو من
اليهود على ما قاله الضحاك الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن صليت إلى بيت المقدس،
اتبعناك "، فأمره الله بالصلاة إليه، امتحانا لهم، فلم يؤمنوا.
وقال ابن عباس: القبلة في الآية: الكعبة، و (كنت عليها) بمعنى: أنت عليها،
كقوله تعالى: (كنتم خير أمة) [آل عمران: 110]، بمعنى: أنتم.
وما جعلناها وصرفناك إليها إلا فتنة، وروي في ذلك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حول
إلى الكعبة، أكثر في ذلك اليهود والمنافقون، وارتاب بعض المؤمنين، حتى نزلت الآية،
ومعنى: (لنعلم)، أي، ليعلم رسولي والمؤمنين به، والقاعدة نفي استقبال العلم بعد إن

(1) أخرجه البخاري (8 / 247) كتاب " التفسير "، باب " ذرية من حملنا مع نوح " حديث (4712) ومسلم
(1 / 184) كتاب " الإيمان " باب أدنى أهل الجنة منزلة حديث (327 / 194) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه الطبري (2 / 14) برقم (2206) عن السدي، وذكره ابن عطية (1 / 219). وذكره الشوكاني (1 /
218) عن عطاء.
(3) ذكره ابن عطية (1 / 219).
(4) ذكره ابن عطية (1 / 220).
327

لم يكن، و (ينقلب على عقبيه) عبارة عن المرتد، و الرجوع على العقب أسوأ حالات
الراجع.
وقوله تعالى: (و إن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله...) الآية: الضمير في
" كانت " راجع إلى القبلة إلى بيت المقدس، أو إلى التحويلة إلى الكعبة، حسبما تقدم من
القبلة، كان من قول اليهود: يا محمد، إن كانت الأولى حقا، فأنت الآن على باطل، و إن
كانت هذه حقا، فكنت في الأولى على ضلال، فوجمت نفوس بعض المؤمنين، وأشفقوا
على من مات قبل التحويل من صلاتهم السالفة، فنزلت: (و ما كان الله ليضيع إيمانكم)،
أي: صلاتكم، قاله ابن عباس و غيره، وسمى الصلاة إيمانا لما كانت صادرة عن
الإيمان، و لأن الإيمان هو القطب الذي عليه تدور الأعمال، فذكره إذ هو الأصل، و لئلا
يندرج في اسم الصلاة صلاة المنافقين إلى بيت المقدس، فذكره المعنى الذي هو ملاك
الأمر، وأيضا سميت إيمانا، إذ هي من شعب الإيمان.
* ت *: وفي العتيبة من سماع ابن القاسم، قال مالك: قال الله تبارك و تعالى:
(و ما كان الله ليضيع إيمانكم) قال: هي صلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، قال ابن رشد،
و على هذا القول أكثر أهل التفسير، و قد قيل: إن المعنى في ذلك، وما كان الله ليضيع
إيمانكم بفرض الصلاة عليكم إلى بيت المقدس. انتهى من " البيان ".
والرأفة: أعلى منازل الرحمة.
(قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد
الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره و إن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم و ما
الله بغافل عما يعملون (144) و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع

(1) أخرجه الطبري (2 / 20) برقم (2232)،، و ذكره ابن عطية (1 / 221).
(2) ابن القاسم هو: أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد بن جنادة العتقي بالولاء، المعروف بابن
القاسم، ولد ب‍ " مصر " سنة 128 ه‍، و قيل: سنة 132 ه‍. و قيل غير ذلك، سافر إلى " المدينة "
فصحب الإمام مالكا، وتفقه عليه، وروى عنه وعن الليث بن سعد، و عبد العزيز بن الماجشون،
و غيرهم، و روى عنه أصبغ، و سحنون، و عيسى بن دينار، و غيرهم.
و من مؤلفاته: " كتاب المدونة "، و هي التي أخذها عنه سحنون، و هي من أجل كتب الفقه المالكي، و توفي
ب‍ " مصر " سنة 191 ه‍.
ينظر: " الديباج المذهب " (1 / 465)، " شذرات الذهب " (1 / 329)، " وفيات الأعيان " (3 / 362).
328

قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم
إنك إذا لمن الظالمين (145))
وقوله تعالى: (قد نرى تقلب وجهك في السماء...) الآية: المقصد تقلب البصر،
وأيضا: فالوجه يتقلب بتقلب البصر، قال قتادة وغيره: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في
الدعاء إلى الله تعالى، أن يحوله إلى قبلة مكة، ومعنى التقلب نحو السماء: أن السماء
جهة قد تعود العالم منها الرحمة، كالمطر، والأنوار، والوحي، فهم يجعلون رغبتهم حيث
توالت النعم.
قال * ص *: (فلنولينك): يدل على تقدير حال، أي: قد نرى تقلب وجهك في
السماء طالبا قبلة غير التي أنت مستقبلها، فلنولينك. انتهى.
و (ترضاها): معناه: تحبها /، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب الكعبة والتحول عن بيت
المقدس، لوجوه ثلاثة رويت:
أحدها: لقول اليهود: " ما علم محمد دينه، حتى اتبعنا "، قاله مجاهد.
الثاني: ليصيب قبلة إبراهيم - عليه السلام - قاله ابن عباس.
الثالث: ليستألف العرب، لمحبتها في الكعبة، قاله الربيع والسدي.
* ع *: والميزاب هو قبلة المدينة والشام، وهنالك قبلة أهل الأندلس بتأريب،
ولا خلاف أن الكعبة قبلة من كل أفق.
وقوله تعالى: (فول وجهك...) الآية: أمر بالتحول، ونسخ لقبلة الشام،
و (شطر): نصب على الظرف، ومعناه: نحو، وتلقاء، (وحيث ما كنتم فولوا): أمر

(1) أخرجه الطبري (2 / 22) برقم (2235)، (2236) عن قتادة من طريقين وأخرجه عبد الرزاق في
" التفسير " (1 / 62)، وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 221).
(2) أخرجه الطبري (2 / 23) برقم (2239) بنحوه. و ذكره ابن عطية (1 / 221)، والسيوطي في " الدر " (1 /
269)، و عزاه لعبد بن حميد، و ابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (2 / 23) برقم (2241) بنحوه. و ذكره ابن عطية (1 / 221).
(4) أخرجه الطبري (2 / 22) برقم (2237) عن الربيع، و برقم (2238) عن السدي. و ذكره ابن عطية (1 /
22).
(5) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 222)، والميزاب: المثعب، فارسي معرف، و الجمع مآزيب إذا همز،
و ميازيب إذا لم يهمز. ينظر: " لسان العرب " (4823) (وزب)، و " الوسيط " (407).
329

للأمة ناسخ.
(وإن الذين أوتوا الكتاب...) الآية: المعنى: أن اليهود والنصارى يعلمون أن
الكعبة هي قبلة إبراهيم أمام الأمم، وأن استقبالها هو الحق الواجب على الجميع اتباعا
لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه في كتبهم، وتضمنت الآية الوعيد.
وقوله جلت قدرته: (ولئن أتيت...) الآية: أعلم الله تعالى نبيه - عليه السلام -
حين قالت له اليهود: راجع بيت المقدس، ونؤمن بك، أن ذلك مخادعة منهم، وأنهم لا
يتبعون له قبلة، يعني: جملتهم، لأن البعض قد اتبع، كعبد الله بن سلام وغيره، وأنهم لا
يؤمنون بدينه، أي: فلا تصغ إليهم، والآية هنا العلامة.
وقوله جلت عظمته: (وما أنت بتابع قبلتهم...) لفظ خبر يتضمن الأمر، أي: فلا
تركن إلى شئ من ذلك، (وما بعضهم...) الآية، قال ابن زيد وغيره: المعنى ليست
اليهود متبعة قبلة النصارى، ولا النصارى متبعة قبلة اليهود، فهذا إعلام باختلافهم،
وتدابرهم، وضلالهم، وقبلة النصارى مشرق الشمس، وقبلة اليهود بيت المقدس.
وقوله تعالى: (ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم...) الآية: خطاب
للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وما ورد من هذا النوع الذي يوهم من النبي صلى الله عليه وسلم ظلما متوقعا، فهو
محمول على إرادة أمته، لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقطعا أن ذلك لا يكون منه، وإنما المراد من
يمكن أن يقع ذلك منه، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيما للأمر، قال الفخر: ودلت هذه الآية
على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجهه على غيرهم، لأن قوله: (من بعد ما
جاءك من العلم) يدل على ذلك. انتهى، وهو حسن.
* ص *: (ولئن أتيت) لام " لئن " مؤذنة بقسم مقدر قبلها، ولهذا كان الجواب:
له (ما تبعوا)، ولو كان للشرط، لدخلت الفاء، وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب
القسم عليه، ومن ثم جاء فعل الشرط ماضيا، لأنه إذا حذف جوابه، وجب فعله لفظا.
انتهى.
(الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم و إن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم

(1) أخرجه الطبري (2 / 27) برقم (2263)، وذكره ابن عطية (1 / 223)، و السيوطي في " الدر " (1 / 270)
عن السدي. وذكره الشوكاني في " تفسيره " عن السدي كذلك.
(2) " التفسير الكبير " (4 / 116).
330

يعلمون (146) الحق من ربك فلا تكونن من الممترين (147))
وقوله تعالى: (الذين أتيناهم الكتاب يعرفونه...) الآية: الضمير في يعرفونه عائد
على الحق في القبلة، والتحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس وغيره، وقال مجاهد وغيره:
هو عائد على محمد صلى الله عليه وسلم، أي: يعرفون صدقه ونبوته.
* ت *: بل وصفاته.
(وإن فريقا منهم ليكتمون الحق): الفريق: الجماعة، وخص، [لأن] منهم من أسلم
ولم يكتم والإشارة بالحق إلى ما تقدم على الخلاف في ضمير (يعرفونه) (وهم يعلمون)
ظاهر في صحة الكفر عنادا.
وقوله تعالى: (الحق من ربك)، أي: هو الحق، (فلا تكونن من الممترين):
الخطاب للنبي / صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، وامترى في الشئ، إذا شك فيه، ومنه: المراء، لأن
هذا يشك في قول هذا.
(ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أين ما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل
شئ قدير (148) و من حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله
بغافل عما تعملون (149) ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا
وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم
نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون (150) كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا
ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (151))
وقوله تعالى: (ولكل وجهة): الوجهة: من المواجهة، كالقبلة، والمعنى: ولكل
صاحب ملة وجهة هو موليها نفسه، قاله ابن عباس وغيره.

(1) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 28) برقم (2267) عن ابن عباس، كما أخرج عدة آثار بهذا المعنى عن
قتادة، والربيع، والسدي وغيرهم.
والأثر ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 223)، والسيوطي في " الدر " (1 / 270).
(2) ذكره ابن عطية (1 / 224).
(3) أخرجه الطبري (2 / 31) برقم (2280) عن الربيع وبرقم (2281) عن عطاء وبرقم (2283) عن ابن
عباس.
وذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 224)، وذكره السيوطي في " الدر " (1 / 271)، وعن ابن عباس، وعزاه
لابن جرير، وابن أبي حاتم.
331

وقرأ ابن عامر: " هو مولاها "، أي: الله موليها إياهم، ثم أمر تعالى عباده باستباق
الخيرات، والبدار، إلى سبيل النجاة، وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده، أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " من فتح له باب من الخير فلينتهزه، فإنه لا يدري، متى يغلق عنه ". انتهى.
ثم وعظهم سبحانه بذكر الحشر موعظة تتضمن وعيدا وتحذيرا.
* ص *: " أينما " ظرف مضمن معنى الشرط في موضع خبر " كان ". انتهى.
وقوله: (يأت بكم الله جميعا) يعني به البعث من القبور.
وقوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من
ربك وما الله بغافل عما تعلمون) معناه: حيث كنت، وأنى توجهت من مشارق الأرض،
ومغاربها، وكررت هذه الآية، تأكيدا من الله سبحانه، لأن موقع التحويل كان صعبا في
نفوسهم جدا، فأكد الأمر، ليرى الناس التهمم به، فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه.
وقوله تعالى: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة...) الآية: المعنى: عرفتكم وجه
الصواب في قبلتكم، والحجة لذلك، لئلا يكون للناس عليكم حجة، والمراد ب‍ " الناس "
العموم في اليهود والعرب وغيرهم (إلا الذين ظلموا منهم)، أي: من المذكورين ممن
تكلم في النازلة في قولهم: (ما ولاهم عن قبلتهم) [البقرة: 142].
وقوله تعالى: (فلا تخشوهم واخشوني...) الآية: [فيه] تحقير لشأنهم، وأمر
بإطراح أمرهم، ومراعاة أمره سبحانه، قال الفخر: وهذه الآية تدل على أن الواجب على
المرء في كل أفعاله وتروكه، أن ينصب بين عينيه خشية ربه تعالى، وأن يعلم أنه ليس في
أيدي الخلق شئ البتة وألا يكون مشتغل القلب بهم، ولا ملتفت الخاطر إليهم. انتهى.

(1) وحجته في هذه القراءة أنه: قدر له أن يتولاها، و لم يسند إلى فاعل بعينه، فيجوز أن يكون " هو " كناية
عن الاسم الذي أضيفت إليه " كل ". وهو الفاعل، و يجوز أن يكون فاعل التولية " الله "، و " هو " كناية
عنه. والتقدير: و لكل ذي ملة قبلة الله موليها وجهه. ثم رد ذلك إلى ما لم يسم فاعله.
ينظر: " حجة القراءات " (117)، و " الحجة للقراء السبعة) (2 / 230)، و " العنوان " (72)، و " شرح
طيبة النشر " (4 / 74، 75)، و " شرح شعلة " (278)، و " معاني القراءات " (1 / 181)، و " إتحاف
فضلاء البشر " (1 / 422).
(2) النهزة: الفرصة، و انتهزتها: اغتنمتها. ينظر: " النهاية " (5 / 135).
(3) " التفسير الكبير " (4 / 127).
332

قال * ص *: (إلا الذين) استثناء متصل، قاله ابن عباس وغيره، أي: لئلا تكون
حجة من اليهود المعاندين القائلين ما ترك قبلتنا، وتوجه للكعبة إلا حبا لبلده، وقيل:
منقطع، أي: لكن الذين ظلموا منهم، فإنهم يتعلقون عليكم بالشبه، وزعم أبو عبيدة
معمر بن المثنى: إن " إلا " في الآية بمعنى " الواو " قال ومنه: [الوافر]:
وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي: والذين ظلموا، والفرقدان، ورد بأن " إلا " بمعنى الواو ولا يقوم عليه دليل.
انتهى.
وقوله تعالى: (فولوا وجهكم شطره) أمر باستقبال القبلة، وهو شرط في الفرض
إلا في القتال حالة الالتحام، وفي النوافل إلا في السفر الطويل للراكب، والقدرة على اليقين
في مصادفتها تمنع من الاجتهاد، وعلى الاجتهاد تمنع من التقليد.
وقوله سبحانه: (ولأتم نعمتي عليكم) عطف على قوله: (لئلا) وقيل: هو في
موضع رفع بالابتداء، والخبر مضمر، تقديره: ولأتم نعمتي عليكم، عرفتكم قبلتي،
ونحوه، (ولعلكم تهتدون) ترج في حق البشر، والكاف في قوله: " كما " رد على قوله:
" ولأتم "، أي: إتماما كما، وهذا أحسن الأقوال، أي: لأتم نعمتي عليكم في بيان سنة
إبراهيم عليه السلام /، (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم)، إجابة لدعوته في قوله: (ربنا
وابعث فيهم رسولا منهم) [البقرة: 129].

(1) البيت لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص 178)، و " الكتاب " (2 / 334)، و " لسان العرب " (15 /
432) (ألا)، و " الممتع في التصريف " (1 / 51)، و الحضرمي بن عامر في " تذكرة النحاة " (ص 90)،
و " حماسة البحتري (ص 151)، و " الحماسة البصرية " (2 / 418)، و " شرح أبيات سيبويه " (2 /
46)، و " المؤتلف والمختلف " (ص 85)، ولعمرو أو لحضرمي في " خزانة الأدب " (3 / 421)،
و " الدرر " (3 / 170)، و " شرح شواهد المغني " (1 / 216)، و بلا نسبة في " الأشباه و النظائر " (8 /
180)، و " أمالي المرتضى " (2 / 88)، و " الإنصاف " (1 / 268)، و " الجنى الداني " (ص 519)،
و " خزانة الأدب " (9 / 321، 322)، و " رصف المباني " (ص 92)، و " شرح الأشموني " (1 / 234)،
و " شرح المفصل " (2 / 89)، و " العقد الفريد " (3 / 107، 133)، و " فصل المقال " (ص 257)،
و " مغني اللبيب " (1 / 72)، و " المقتضب " (4 / 409)، و " همع الهوامع " (1 / 229).
واستشهد به على نعت " كل " بقوله: " إلا الفرقدان " على تقدير " غير ". وفيه رد على المبرد الذي زعم أن
الوصف ب‍ " إلا " لم يجئ إلا فيما يجوز فيه البدل. ف‍ " إلا الفرقدان " صفة، ولا يمكن فيه البدل.
(و الفرقدان) نجمان قريبان من القطب، لا يفارق أحدهما الآخر.
333

وقيل: الكاف من " كما " رد على " تهتدون " أي: اهتداء كما
قال الفخر: وهنا تأويل ثالث، وهو أن الكاف متعلقة بما بعدها، أي: كما أرسلنا
فيكم رسولا، وأوليتكم هذه النعم، (فاذكروني أذكركم واشكروا لي...) الآية. انتهى.
* ت *: وهذا التأويل نقله الداوودي عن الفراء. انتهى، وهذه الآية خطاب لأمة
محمد صلى الله عليه وسلم و (آياتنا) يعني: القرآن، و (يزكيكم)، أي: يطهركم من الكفر، وينميكم
بالطاعة، و (الكتاب): القرآن، و (الحكمة): ما يتلقى عنه صلى الله عليه وسلم من سنة، وفقه، ودين،
وما لم تكونوا تعلمون قصص من سلف، وقصص ما يأتي من الغيوب.
(فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون (152) يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة
إن الله مع الصابرين (153))
قوله تعالى: (فاذكروني أذكركم...) الآية: قال سعيد بن جبير: معنى الآية:
اذكروني بالطاعة، أذكركم بالثواب.
* ت *: وفي تفسير أحمد بن نصر الداوودي: وعن ابن جبير: اذكروني بطاعتي،
أذكركم بمغفرتي، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أطاع الله، فقد ذكر الله، وإن قلت
صلاته، وصيامه، وتلاوته القرآن، ومن عصى الله، فقد نسي الله، وإن كثرت صلاته،
وصيامه، وتلاوته القرآن ". انتهى.

(1) ينظر: " التفسير الكبير " (4 / 129)، و " الدر المصون " (1 / 409 - 411).
(2) ذكره ابن عطية (1 / 226).
(3) أخرجه الطبري (2 / 40) برقم (2318)، و ذكره ابن عطية (1 / 226)، و السيوطي في " الدر " (1 / 273)،
و عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأخرجه ابن المبارك في كتاب " الزهد " باب ذكر الله تبارك وتعالى،
(928)، و ذكره البغوي في " تفسيره " (1 / 128).
(4) أخرجه الطبراني في " الكبير " (22 / 154) رقم (413) من طريق الهيثم بن جماز عن الحارث بن حسان
عن زاذان عن واقد مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم به مرفوعا. وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2 / 261)،
وقال: وفيه الهيثم بن جماز، وهو متروك.
و ذكره المتقي الهندي في " كنز العمال " (1 / 446) رقم (1924)، و عزاه إلى الحسن بن سفيان،
والطبراني، و ابن عساكر عن واقد.
وللحديث شاهد مرسل: أخرجه ابن المبارك (ص 17) رقم (70)، و البيهقي في " شعب الإيمان " (1 /
452) رقم (687)، و سعيد بن منصور رقم (230) عن خالد بن أبي عمران مرسلا.
و زاد نسبته السيوطي في " الدر " (1 / 149) إلى ابن المنذر.
334

وروى ابن المبارك في رقائقه بسنده عن أنس بن مالك، قال: ما من بقعة يذكر الله
عليها بصلاة أو بذكر إلا افتخرت على ما حولها من البقاع، واستبشرت بذكر الله إلى
منتهاها من سبع أرضين، وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض. قال ابن
المبارك: وأخبرنا المسعودي عن عون بن عبد الله، قال: الذاكر في الغافلين، كالمقاتل
خلف الفارين. انتهى.
وقال الربيع والسدي: المعنى: اذكروني بالدعاء والتسبيح ونحوه، وفي صحيح
البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يقول الله تبارك وتعالى: " أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه،
ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم... " الحديث. انتهى.

(1) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " ص (115) رقم (339) عن أنس بن مالك موقوفا.
و أخرجه أبو يعلى (7 / 143) رقم (4110) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن يزيد الرقاشي عن أنس
مرفوعا.
و ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 81 - 82) وقال: رواه أبو يعلى، وفيه موسى بن عبيدة
الربذي، وهو ضعيف. اه‍.
وزاد نسبته المناوي في " فيض القدير " (5 / 475) إلى البيهقي في " شعب الإيمان ".
(2) عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله، الكوفي، الزاهد. عن أبيه، و عائشة، و ابن
عباس، و عنه قتادة، وأبو الزبير، و الزهري. وثقه أحمد وابن معين، و رماه ابن سعد بالإرجاء. قال
البخاري: مات بعد العشرين ومائة.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 309)، و " تهذيب التهذيب " (8 / 171)، و " الكاشف " (2 / 358)، و " تاريخ
الثقات " (377).
(3) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 122) رقم (357).
(4) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 40) برقم (2319)، (2320)، و ذكره ابن عطية في تفسيره (1 /
226).
(5) أخرجه البخاري (13 / 395) كتاب " التوحيد "، باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، حديث
(7405)، و مسلم (4 / 2061) كتاب " الذكر و الدعاء "، باب الحث على ذكر الله (تعالى)، حديث (21 /
2675)، و الترمذي (5 / 581) كتاب " الدعوات "، باب في حسن الظن بالله (عز وجل)، حديث
(3603)، وابن ماجة (2 / 1255 - 2156) كتاب " الأدب "، باب فضل العمل، حديث (3822)،
و أحمد (2 / 251، 413)، و ابن خزيمة في " التوحيد " (ص 7)، و ابن حبان (3 / 93)، رقم (811)،
و البغوي في " شرح السنة " (3 / 81 - بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة
مرفوعا.
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
و أخرجه مسلم (4 / 2061) كتاب " الذكر و الدعاء "، باب الحث على ذكر الله (تعالى)، حديث
335

(واشكروا لي)، أي: نعمي وأيادي، (ولا تكفرون): أي: نعمي وأيادي.
* ت *: وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد من نعمة،
فقال: الحمد لله إلا وقد أدى شكرها، فإن قالها الثانية،: جدد الله لها ثوابها، فإن قالها
الثالثة، غفر الله له ذنوبه " رواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح. انتهى من
" السلاح ".
وقوله تعالى: (إن الله مع الصابرين)، أي: بمعونته وإنجاده.
(ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون (154) و لنبلونكم بشئ
من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات و بشر الصابرين (155) الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون (156) أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم
المهتدون (157))
وقوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات...) الآية: سببها أن الناس
قالوا فيمن قتل ببدر وأحد من المؤمنين: مات فلان، مات فلان، فكره الله سبحانه، أن تحط
منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم، فنزلت هذه الآية، وأيضا: فإن المؤمنين صعب عليهم فراق
إخوانهم وقراباتهم، فنزلت الآية مسلية لهم، تعظم منزلة الشهداء، وتخبر عن حقيقة حالهم،
فصاروا مغبوطين لا محزونا لهم، ويظهر ذلك من حديث أم حارثة في السير.
* ت *: وخرجه البخاري في " صحيحه " عن أنس، قال: " أصيب حارثة يوم بدر
إصابة غرب سهم، وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله /، قد

(2675)، والبخاري في " خلق أفعال العباد " (ص 85)، وأحمد (2 / 516، 524) من طريق زيد بن
أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
(1) أخرجه الحاكم (1 / 507 - 508)، وعنه البيهقي في " شعب الإيمان " (4 / 98) رقم (4402) من طريق
عبد الرحمن بن قيس: نا محمد بن أبي حميد، عن محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد. و لم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: ليس بصحيح، قال أبو زرعة: عبد الرحمن بن قيس كذاب.
و الحديث ذكره الذهبي في " الميزان " (2 / 583)، و قال: منكر. اه‍.
و عبد الرحمن بن قيس: قال الحافظ في " التقريب " (1 / 496): متروك، كذبه أبو زرعة و غيره.
(2) أي لا يعرف راميه، يقال: سهم غرب، بفتح الراء و سكونها، وبالإضافة، و غير الإضافة. و قيل: هو
بالسكون إذا أتاه من حيث لا يدري، وبالفتح إذا رماه فأصاب غيره.
ينظر: " النهاية " (3 / 350 - 351).
336

عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر، وأحتسب، وإن تكن الأخرى، ترى ما
أصنع، فقال: ويحك، أو هبلت، أو جنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس
الأعلى...) الحديث. انتهى.
* ع *: والفرق بين الشهيد وغيره إنما هو الرزق، وذلك أن الله تعالى فضلهم بدوام
حالهم التي كانت في الدنيا فرزقهم.
* ت *: وللشهيد أحوال شريفة منها ما خرجه الترمذي وابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار
من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير
من الدنيا، وما فيها، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من
أقربائه ". قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، زاد ابن ماجة: " ويحلى حلة
الإيمان "، قال القرطبي في " تذكرته ". هكذا وقع في نسخ الترمذي وابن ماجة: " ست
خصال " وهي في متن الحديث سبع، وعلى ما في ابن ماجة: " ويحلى حلة الإيمان " تكون
ثمانيا، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " للشهيد
عند الله ثمان خصال " انتهى. وخرج الترمذي، والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الشهيد لا يجد
ألم القتل إلا كما يجد أحدكم ألم القرصة " انتهى.

(1) أخرجه البخاري (7 / 355) كتاب " المغازي، باب فضل من شهد بدرا، حديث (3982)، (11 / 423)
كتاب " الرقاق " باب صفة الجنة والنار، حديث (6550) من حديث أنس.
(2) " المحرر " الوجيز " (1 / 227).
(3) أخرجه الترمذي (4 / 187 - 188) كتاب " فضائل الجهاد "، باب في ثواب الشهيد، حديث (1663)،
و ابن ماجة (2 / 935 - 936) كتاب " الجهاد "، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (2799)
كلاهما من طريق بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب مرفوعا.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
(4) ينظر: " التذكرة " للقرطبي (1 / 218).
(5) الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي، شيخ العراق، أبو بكر أحمد بن سلمان بن الحسن بن إسرائيل،
البغدادي الحنبلي النجاد.
ولد سنة ثلاث و خمسين و مئتين، سمع أبا داود السجستاني، ارتحل إليه، و هو خاتمة أصحابه، و صنف
ديوانا كبيرا في السنن، مات النجاد - رحمه الله تعالى - في ذي الحجة سنة ثمان و أربعين و ثلاثمائة.
ينظر: " سير أعلام النبلاء " (15 / 502 - 504).
(6) أخرجه الترمذي (4 / 190) كتاب " فضائل الجهاد "، باب ما جاء في فضل المرابط، حديث (1668)،
و النسائي (6 / 36) كتاب " الجهاد "، باب ما يجد الشهيد من الألم، حديث (3161)، وابن ماجة (2 /
337

* ع * روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أرواح أن الشهداء في حواصل طير خضر تعلق من
ثمر الجنة "، وروي: " أنهم في قبة خضراء "، وروي: " أنهم في قناديل من ذهب "، إلى
كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوال لطوائف، أو للجميع في أوقات متغايرة.
* ت *: وكذا ذكر شبيب بن إبراهيم في كتاب " الإفصاح " أن المنعمين على جهات
مختلفة، بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب " التذكرة ": وهذا قول
حسن، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع. انتهى.
قال * ع *: وجمهور العلماء على أنهم في الجنة، ويؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم لأم
حارثة: " إنه في الفردوس الأعلى ".
وقال مجاهد: هم خارج الجنة ويعلقون من شجرها، وفي " مختصر الطبري "،
قال: ونهى عز وجل أن يقال لمن يقتل في سبيل الله أموات، وأعلم سبحانه أنه أحياء،

937) كتاب " الجهاد "، باب فضل الشهادة في سبيل الله، حديث (2802)، والدارمي (2 / 205) كتاب
" الجهاد "، باب فضل الشهيد، و أحمد (2 / 297)، والبيهقي (9 / 164) كتاب " السير "، باب فضل
الشهادة في سبيل الله (عز وجل)، و البغوي في " شرح السنة " (5 / 516 - بتحقيقنا) كلهم من طريق
محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
و للحديث شاهد من حديث أبي قتادة: ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (5 / 297) و قال: رواه
الطبراني، وفيه رشدين بن سعد، و هو ضعيف.
و أخرجه أبو نعيم في " الحلية " (7 / 142) من طريق إسحاق العنبري: ثنا يعلى بن عبيد، عن سهيل بن
أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة.
و قال أبو نعيم: غريب من حديث الثوري، تفرد به إسحاق عن يعلى - اه‍.
و إسحاق العنبري: قال الذهبي في " المغني " (1 / 72) رقم (574): قال الأزدي: لا تحل الرواية عنه،
كذاب. اه‍. و للحديث شاهد من حديث سنان بن سنة الأسلمي: أخرجه ابن ماجة (1 / 561) كتاب
كذاب. اه‍. و للحديث شاهد من حديث سنان بن سنة الأسلمي: أخرجه ابن ماجة (1 / 561) كتاب
" الصيام "، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث (1765)، و الدارمي (2 / 95).
و قال البوصيري: إسناده صحيح.
(1) " المحرر الوجيز " (1 / 227).
(2) أخرجه الترمذي (4 / 176) كتاب " فضائل الجهاد "، باب ما جاء في ثواب الشهداء، حديث (1641).
و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 227).
(4) أخرجه الطبري (2 / 42) برقم (2323) بنحوه، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 285)، و عزاه لعبد بن
حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
338

ولكن لا شعور لنا بذلك، إذ لا نشاهد باطن أمرهم، وخصوا من بين سائر المؤمنين، بأنهم
في البرزخ يرزقون من مطاعم الجنة ما يرزق المؤمنون من أهل الجنة على أنه قد ورد في
الحديث: " إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة "، ومعنى: " يعلق ": يأكل، ومنه
قوله: ما ذقت علاقا، أي: مأكلا، فقد عم المؤمنين، بأنهم يرزقون في البرزخ من رزق
الجنة، ولكن لا يمتنع أن يخص الشهداء من ذلك بقدر لا يناله غيرهم، والله أعلم.
انتهى.
وروى النسائي أن رجلا قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين في قبورهم إلا
الشهيد؟ قال: كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة ". انتهى.
* ت *: وحديث: " إنما نسمة المؤمن طائر " خرجه مالك رحمه الله. قال
الداودي: وحديث مالك، هذا أصح ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في
حواصل طير لا يصح في النقل. انتهى.
قال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد ": والأشبه قول من قال: كطير أو كصور
طير، لموافقته لحديث " الموطأ "، هذا / وأسند أبو عمر هذه الأحاديث، ولم يذكر مطعنا في
إسنادها. انتهى.
ثم أعلمهم تعالى أن الدنيا دار بلاء ومحنة، ثم وعد على الصبر، فقال:
(ولنبلونكم) أي: نمتحنكم (بشئ من الخوف)، أي: من الأعداء في الحروب،
(ونقص من الأموال) أي بالسوانح، والمصائب، (والأنفس) بالموت، والقتل،
(والثمرات) بالعاهات، والمراد بشئ من هذا وشئ من هذا، واكتفى بالأول إيجازا، ثم
وصف سبحانه الصابرين الذين بشرهم بقوله: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا
إليه راجعون)، فجعل سبحانه هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب، لما جمعت من
المعاني المباركة من توحيد الله سبحانه، والإقرار له بالعبودية، والبعث من القبور، واليقين

(1) أخرجه الناسئي (4 / 99) كتاب " الجنائز "، باب الشهيد، حديث (2053) عن رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم به مرفوعا.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب السنة سوى النسائي.
(2) ينظر: " التمهيد " (11 / 64).
(3) الجائحة: الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سنة أو فتنة. ينظر: " لسان العرب " (719)
(جوح).
339

بأن رجوع الأمر كله إليه، كما هو له، قال الفخر: قال أبو بكر الوراق: (إنا لله):
إقرار منا له بالملك، (وإنا إليه راجعون) إقرار على أنفسنا بالهلاك.
واعلم أن قوله: (إنا لله) يدل على كونه راضيا بكل ما نزل به، ووردت أخبار كثيرة
في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن استرجع عند المصيبة، جبر الله مصيبته، وأحسن عقباه،
وجعل له خلفا صالحا يرضاه. انتهى.
وروي: " أن مصباح رسول الله صلى الله عليه وسلم انطفأ ذات ليلة، فقال: (إنا لله وإنا إليه
راجعون)، فقيل: أمصيبة هي، يا رسول الله؟ قال: نعم، كل ما آذى المؤمن، فهو
مصيبة ". قال النووي: وروينا في " كتاب ابن السني " عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسترجع أحدكم في كل شئ، حتى في شسع نعله، فإنها من
المصائب ". انتهى من " الحلية ".

(1) " التفسير الكبير " (4 / 140).
(2) الإمام المحدث، أبو بكر، محمد بن إسماعيل بن العباس البغدادي المستملي الوراق. سمع أباه،
والحسن بن الطيب، و عمر بن أبي غيلان، وأحمد بن الحسن الصوفي، ومحمد بن محمد الباغندي،
والبغوي.
و عنه: الدارقطني، و البرقاني، و أبو محمد الخلال، و أحمد بن عمر القاضي، و أبو محمد الجوهري
وعدة.
ولد سنة ثلاث و تسعين و مئتين، و مات في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين و ثلاثمائة.
ينظر: " سير أعلام النبلاء " (16 / 388، 389).
(3) ينظر: " تفسير القرطبي " (2 / 175).
(4) " الأذكار " (ص 158).
(5) الإمام الحافظ الثقة الرحال، أبو بكر، أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الهاشمي،
الجعفري، مولاهم الدينوري، المشهور ب‍ " ابن السني "، ولد في حدود سنة ثمانين ومئتين.
و هو الذي اختصر " سنن النسائي "، و اقتصر على رواية المختصر، وسماه " المجتبى "، و جمع وصنف
كتاب " يوم و ليلة ". توفي آخر سنة أربع و ستين وثلاثمائة. ينظر: " سير أعلام النبلاء " (16 / 255 -
256).
(6) الشسع: أحد سيور النعل، وهو الذي يدخل بين الإصبعين، و يدخل طرفه في الثقب الذي في صدر
النعل المشدود في الزمام، والزمام: السير الذي يعقد فيه الشسع.
ينظر: " النهاية " (2 / 472).
(7) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " (346)، و ذكره الحافظ ابن حجر في " المطالب العالية " (3 /
231) رقم (3351)، وعزاه لمسدد.
340

وقوله تعالى: (أولئك عليهم صلوات من ربهم...) الآية: نعم من الله تعالى على
الصابرين المسترجعين، وصلوات الله على عبده: عفوه، ورحمته، وبركته، وتشريفه إياه
في الدنيا والآخرة، وكرر الرحمة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لما اختلف اللفظ، تأكيدا
منه تعالى وشهد لهم بالاهتداء.
* ت *: وفي " صحيح البخاري ": وقال عمر: نعم العدلان، ونعم العلاوة الذين
إذا أصابتهم مصيبة، قالوا: (إنا لله وإنا إليه راجعون...) إلى (المهتدون)، قال
النووي في " الحلية ": وروينا في سنن ابن ماجة، والبيهقي بإسناد حسن عن عمرو بن
حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبة إلا كساه الله عز وجل من
حلل الكرامة يوم القيامة "، وروينا في كتاب الترمذي، والسنن الكبير للبيهقي عن ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عزى مصابا، فله مثل أجره " إسناده ضعيف، وروينا في

(1) العلاوة: ما عولي فوق الحمل وزيد عليه. ينظر: " النهاية " (3 / 295)، و " الوسيط " (631).
(2) أخرجه البخاري (3 / 205) كتاب " الجنائز "، باب الصبر عند الصدمة الأولى، عن عمر تعليقا.
ووصله الحاكم (2 / 270) من طريق جرير عن منصور عن سعيد بن المسيب عن عمر به.
و قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، و لا أعلم خلافا بين أئمتنا أن سعيد بن
المسيب أدرك أيام عمر (رضي الله عنه)، و إنما اختلفوا في سماعه منه. اه‍.
و له طريق آخر عن عمر بنحوه: ذكره الحافظ في " الفتح " (3 / 205)، و عزاه إلى عبد بن حميد.
(3) " الأذكار " (ص 180).
(4) عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري، الخزرجي، أبو الضحاك، المدني، شهد الخندق، وولي بعض أمور
" اليمن ". له أحاديث. و عنه ابنه محمد، و زياد بن نعيم. قال المدائني: مات سنة إحدى و خمسين.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 282 - 283)، و " تهذيب التهذيب " (8 / 20)، و " الكاشف " (326)،
و " تقريب التهذيب " (2 / 68).
(5) أخرجه ابن ماجة (1 / 511) كتاب " الجنائز " باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (1601)،
و البيهقي (4 / 59) كتاب " الجنائز "، باب ما يستحب من تعزية أهل الميت من طريق قيس أبي عمارة، عن
عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده مرفوعا.
وقال البوصيري: في إسناده قيس أبو عمارة، ذكره ابن حبان في " الثقات "، و قال الذهبي في " الكشاف ":
ثقة. و قال البخاري: فيه نظر، و باقي رجاله على شرط مسلم.
(6) أخرجه الترمذي (3 / 385) كتاب " الجنائز "، باب ما جاء في أجر من عزى مصابا، حديث (1073)،
و ابن ماجة (1 / 511) كتاب " الجنائز "، باب ما جاء في ثواب من عزى مصابا، حديث (1062) من
طريق محمد بن سوفة عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله بن مسعود به.
و قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث علي بن عاصم، و رواه بعضهم عن
محمد بن سوقة بهذا الإسناد موقوفا اه‍.
قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث " المصابيح " (1 / 86): قلت: أخرجه الترمذي، و ابن ماجة
341

كتاب الترمذي أيضا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من عزى ثكلى، كسي بردا في
الجنة ". قال الترمذي ليس إسناده بالقوي. انتهى.
(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن
يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم (158)) قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله): الصفا: جمع صفاة، وهي
الصخرة العظيمة، والمروة واحدة المرو، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين، و (من
شعائر الله) معناه: معالمه، ومواضع عبادته، وقال مجاهد: ذلك راجع إلى القول، أي:
مما أشعركم الله بفضله: مأخوذ من شعرت، إذا تحسست.
و (حج): معناه: قصد، وتكرر، و (اعتمر): زار وتكرر مأخوذ من عمرت
الموضع، والجناح: الإثم، والميل عن الحق والطاعة، ومن اللفظة الجناح /، لأنه في
شق، ومنه: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) [الأنفال: 61]. و (يطوف): أصله يتطوف،
فقوله: (إن الصفا والمروة...) الآية: خبر يقتضي الأمر بما عهد من الطواف بهما،
وقوله: (فلا جناح) ليس المقصود منه إباحة الطواف لمن شاءه، لأن ذلك بعد الأمر لا
يستقيم، وإنما المقصود رفع ما وقع في نفوس قوم من العرب من أن الطواف بينهما فيه
حرج، وإعلامهم أن ما وقع في نفوسهم غير صواب، وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله

من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم. و رجاله رجال " الصحيحين " إلا علي بن عاصم، فإنه
ضعيف عندهم. قال الترمذي بعد تخريجه: " لا تعرفه مرفوعا إلا عن علي بن عاصم ".
و رواه بعضهم عن محمد بن سوقة شيخ علي بن عاصم موقوفا على عبد الله بن مسعود. و قال الترمذي
أيضا: " أنكروه على علي بن عاصم، وعدوه من غلطه ".
و قال أبو أحمد بن عدي: رواه جماعة متابعة لعلي بن عاصم، سرقه بعضهم منه، و أخطأ فيه بعضهم.
و أخرجه ابن عدي من حديث أنس بلفظ: " من عزى أخاه المسلم من مصيبته كساه الله حلة "، و سنده
ضعيف.
و أخرجه أبو الشيخ في " كتاب الثواب " من حديث جابر بمعناه، و أبو يعلى من حديث أبي برزة بلفظ
آخر. وقد قلنا: إن الحديث إذا تعددت طرقه يقوى بعضها ببعض، وإذا قوي كيف يحسن أن يطلق عليه:
إنه مختلق؟! اه‍.
(1) أخرجه الترمذي (3 / 378 - 379)، كتاب " الجنائز "، باب آخر في فضل التعزية، حديث (1076)، من
حديث أبي برزة.
و قال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي.
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب السنة سوى الترمذي.
(2) ذكره ابن عطية (1 / 229).
342

عنها -: " أن ذلك في الأنصار ".
ومذهب مالك والشافعي، أن السعي بينهما فرض لا يجزئ تاركه، إلا العودة،
قال ابن العربي في " أحكامه " والدليل على ركنيته ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن

(1) من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، لما روى " الدارقطني " و " البيهقي " بإسناد حسن أنه صلى الله عليه وآله وسلم
استقبل الناس في المسعى. و قال: " يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم "، أي فرض، و أصل
السعي: الإسراع، و المراد به هنا: مطلق المشي.
و يشترط لصحة السعي شروط ستة:
الأول: البدء بالصفا في الأوتار، و بالمروة في الأشفاع، للاتباع مع خبر " خذوا عني مناسككم "، و خبر
" ابدءوا بما بدأ الله به "، فلو خالف الساعي ذلك لم يصح.
الثاني: كونه سبع مرات يقينا، للاتباع بحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرة، و الإياب من المروة إلى
الصفا مرة أخرى، ولا بد أن تكون السبع متيقنة، فلو شك الساعي في العدد، فإن كان قبل الفراغ، بنى
على الأقل وجوبا، و إن كان بعد الفراغ لم يؤثر.
الثالث: أن يقطع الساعي المسافة بين الصفا والمروة في كل مرة، فلو بقي منها شئ لم يكف.
الرابع: أن تكون قطع المسافة من بطن الوادي، و هو المسعى المعروف الآن.
نعم لو انحرف قليلا في سعيه عن محل السعي لم يضر، كما نص عليه الشافعي - رضي الله عنه -.
الخامس: أن يكون بعد طواف الإفاضة أو طواف القدوم، لأنه الوارد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، و نقل " الماوردي "
الإجماع على ذلك.
و محل كونه يقع صحيحا بعد طواف القدوم إذا لم يكن الساعي قد وقف بعرفة بعد طواف القدوم، فلو
وقف بها بعد طواف القدوم، و قيل السعي، لم يصح سعيه، إلا بعد طواف الإفاضة، لدخول طواف
الفرض، فلا يجوز أن يسعى بعد طواف نفل مع إمكانه بعد طواف الفرض.
و من فعل السعي بعد طواف القدوم لم تسن له إعادته بعد طواف الإفاضة، بل تكره إعادته، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم
وأصحابه لم يسعوا إلا بعد طواف القدوم.
نعم تجب إعادة السعي على صبي ورقيق إذا كملا قبل الوقوف بعرفة، أو في أثنائه، كما تقدم.
السادس: عدم الصارف، فلو حصل السعي بقصد المسابقة مثلا لم يصح.
و يندب في السعي أمور: منها: أن يخرج من باب الصفا عقب الفراغ من صلاة الطواف واستلام الحجر
وتقبيله. و منها: أن يرقى الذكر على الصفا والمروة قدر قامة، فإنه صلى الله عليه و آله و سلم رقى على كل منهما - حتى رأى
البيت. رواه مسلم. أما النساء و الخناثي، فلا يسن لهم ذلك إلا إذا خلا المحل عن الرجال الأجانب.
ومنها: الذكر الوارد عند كل منهما. و منها: أن يكون متطهرا من المحدث و الخبث، مستور العورة.
و منها: عدم الركوب إلا لعذر. ومنها: أن يهرول الذكر في وسط المسافة ذهابا و إيابا، و أما في أول
المسافة و آخرها، فيمشي على حسب عادته، كما أن المرأة و الخنثى لا يهرولان مطلقا. و منها: اتصال
السعي بالطواف، و اتصال أشواط بعضها ببعض من غير تفريق. ومنها: أن يتحرز من إيذاء الغير و ألا
يشتغل بما يشغل القلب، كالنظر إلى الساعين.
و يكره للساعي أن يقف في أثناء سعيه بلا عذر لحديث أو غيره، و أن يصلي بعده ركعتين.
(2) ينظر: " أحكام القرآن " (1 / 48).
343

الله كتب عليكم السعي، فاسعوا "، صححه الدارقطني، ويعضده المعنى، فإنه شعار،
أي: معلم لا يخلو عنه الحج والعمرة، فكان ركنا كالطواف. انتهى.
(ومن تطوع): أي: زاد برا بعد الواجب في جميع الأعمال، وقال بعضهم: معناه:
من تطوع بحج أو عمرة بعد حجة الفريضة، ومعنى (شاكر)، أي: يبذل الثواب والجزاء،
(عليم): بالنيات والأعمال لا يضيع معه لعامل عمل.
(إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك
يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159) إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا
التواب الرحيم (160)) وقوله سبحانه: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا...) الآية: المراد ب‍ " الذين ": أحبار
اليهود، ورهبان النصارى الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وتتناول الآية بعد كل من كتم علما
من دين الله يحتاج إلى بثه، وذلك مفسر في قول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم، فكتمه،
ألجم يوم القيامة بلجام من النار " (3).

(1) أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان، البغدادي الدارقطني، الحافظ
الكبير، ولد سنة 306، تفقه بأبي سعيد الإصطخري، صنف المصنفات المفيدة، منها السنن والعلل
و غيرهما، قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، و إماما في النحو، و القراءة،
و أشهد أنه لم يخلق على أديم الأرض مثله. مات سنة 385.
انظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 161)، " تاريخ بغداد " (12 / 34)، " وفيات الأعيان " (2 / 459).
(2) ينظر: " الطبري " (3 / 249)، و " معاني الزجاج " (1 / 218)، و " الدر المنثور " (1 / 162)، عن مجاهد
و السدي و قتادة، و ابن كثير (1 / 200) عن أبي العالية، و " غرائب النيسابوري " (2 / 67) عن ابن عباس،
و " أسباب النزول " للواحدي (ص 31)، و " أسباب النزول " للسيوطي (ص 27).
(3) ورد من حديث أبي هريرة، و حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، و ابن مسعود، و ابن عباس، وابن
عمر، و أبي سعيد الخدري، و جابر بن عبد الله، و أنس بن مالك، و عمرو بن عبسة، و طلق بن علي.
فأما حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود (2 / 345) في العلم، باب كراهية منع العلم (3658)، والترمذي
(5 / 29) في العلم، باب ما جاء في كتمان العلم (2649)، و ابن ماجة (1 / 96) في " المقدمة "، باب من
سئل عن علم فكتمه (261)، و أحمد في " المسند " (2 / 263، 305، 344، 353، 495)، و ابن أبي
شيبة في " المصنف " (9 / 55)، و الطيالسي (2534)، وأبو يعلى (11 / 268)، برقم (6383)، و ابن
حبان (95 - موارد)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (2534)، و أبو يعلى (11 / 268)، برقم (6383)، و ابن
حبان (95 - موارد)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (432)، من طريقين: حماد بن سلمة، و عمارة بن
زاذان، و عن علي بن الحكم، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة به.
و قال الترمذي: حديث حسن. و قال العقيلي في " الضعفاء " (1 / 74)، إسناده صالح.
و قال الذهبي في " الكبائر " (ص 122): إسناده صحيح، رواه عطاء بن أبي هريرة.
و قال الحافظ في " القول المسدد " ص 45 بعدما أورد الحديث من طريق أبي داود: و الحديث و إن لم
344



يكن في نهاية الصحة.. لكنه صالح للحجة.
و أخرجه أحمد (2 / 296 - 499 - 508)، و ابن أبي شيبة (19 / 55)، و الخطيب البغدادي في " تاريخ
بغداد " (2 / 268)، و ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (134، 135)، من طريق الحجاج بن أرطأة،
عن عطاء به.
وأخرجه الحاكم (1 / 101) من طريق القاسم بن محمد بن حماد، عن أحمد بن عبد الله، عن
محمد بن ثور، عن ابن جريج قال: جاء الأعمش إلى عطاء فسأله عن حديث فحدثه، فقلنا له: تحدث
هذا وهو عراقي؟ قال: لأني سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال: " من سئل... " فذكره.
و قال الحاكم: هذا حديث تداوله الناس بأسانيد كثيرة، تجمع و يذاكر بها. و هذا الإسناد صحيح على
شرط الشيخين و لم يخرجاه. و سكت عنه الذهبي. وتعقبه العراقي كما في " شرح الإحياء " رقم 56
بقوله: لا يصح من هذا الطريق، لضعف القاسم بن محمد بن حماد الدلال الكوفي. قال الدارقطني:
حدثنا عنه وهو ضعيف. فلهذا لم أخرجه من هذا الوجه. قال الدارقطني في الجزء السابع من " الأفراد ":
و إنما يعرف هذا من حديث علي بن الحكم، عن عطاء، عن أبي هريرة.
و أخرجه البيهقي في " المدخل " (574)، و البغوي في " شرح السنة " بتحقيقنا (1 / 238) برقم (140)، من
طريق سماك بن حرب، عن عطاء به.
و قال البغوي: هذا حديث حسن.
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " (4 / 140)، و من طريقه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (137)، من
طريق الحسن بن شعيب قال نا إسماعيل بن إبراهيم نا صغدي بن سنان، عن ابن جريج عن عطاء به.
و قال ابن الجوزي (1 / 106): صغدي، قال يحيى: ليس بشئ.
و أخرجه الطبراني في " الصغير " (1 / 114)، و ابن عدي في " الكامل " (4 / 1395)، و ابن طريقه ابن
الجوزي في " العلل " (136)، من طريق صدقة بن موسى الدقيقي عن مالك بن دينار، عن عطاء به.
قال الطبراني، و ابن عدي: لم يروه عن مالك غير صدقة. و نقل ابن الجوزي قول يحيى في صدقة: ليس
بشئ.
و أخرجه ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (6)، وابن الجوزي في " العلل " (140)، و ابن عدي في
" الكامل " (4 / 1596)، من طريقين عن ليس بن أبي سليم عن عطاء به.
و قال ابن عدي: و هذا لا أعلم رفعه عن ليث غير عبد الرحمن بن أبي الجويني - الراوي عنه عنده،
و عند ابن عبد البر - و رواه جرير الرازي، و غيره عن ليث موقوفا.
و أخرجه ابن ماجة (1 / 98) في " المقدمة "، باب من سئل عن علم فكتمه (266)، والعقيلي (1 / 74) من
طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، قال: أخبرنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أورده ابن
ماجة. و قال العلامة ابن القيم في " تهذيب السنن " (5 / 251): و هؤلاء كلهم ثقات، و عزاه لابن خزيمة
أيضا.
و قال العقيلي في ترجمة الكرابيسي: ليس لحديثه أصل مسند، إنما هو موقوف من حديث ابن عون.
أما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فأخرجه ابن حبان (96 - موارد)، وابن عبد البر (8)، و الحاكم
345

قال ابن العربي: وللآية تحقيق، وهو أن العالم إذا قصد الكتمان، عصى، وإذا لم
يقصده، لم يلزمه التبليغ، إذا عرف أن معه غيره، وقد كان أبو بكر وعمر لا يحدثان بكل
ما سمعا من النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الحاجة، وكان الزبير أقلهم حديثا، ثم قال ابن العربي: فأما
من سئل، فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية، وأما إن لم يسأل، فلا يلزم التبليغ إلا في
القرآن وحده، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة التبليغ بأنه قال: " نضر الله امرأ أسمع
مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها " انتهى من " أحكام القرآن ".

في المستدرك " (1 / 102)، و الخطيب في " التاريخ " (5 / 38 - 39)، و ابن المبارك في " الزهد " (119)،
و البيهقي في " المدخل " (575)، و ابن الجوزي في " العلل " (123)، من طرق عن ابن وهب قال: حدثني
عبد الله بن عياش بن عباس، عن أبيه، عن أبي عبد الرحمن الحلبي، عن عبد الله بن عمرو رفعه به.
و صححه الحاكم، و سكت عنه الذهبي، و قال ابن الجوزي: فيه عبد الله بن وهب الفسوي قال ابن
حبان: دجال يضع الحديث.
و قال المنذري في " المختصر " (5 / 251): وهذا إسناد صحيح. و قد ظن أبو الفرج بن الجوزي أن هذا
هو ابن وهب النسوي الذي قال فيه ابن حبان: يضع الحديث، فضعف الحديث به، وهذا من غلطاته،
بل هو ابن وهب الإمام العلم، و الدليل عليه: أن الحديث من رواية أصبغ بن الفرج، و محمد بن
عبد الله بن الحكم، و غيرهما من أصحاب ابن وهب عنه. و النسوي متأخر. من طبقة يحيى بن
صاعد. و العجب من أبي الفرج كيف خفي عليه هذا؟ و قد ساقها من طريق أصبغ، و ابن عبد الحكم،
عن ابن وهب.
و قال الهيثمي في " المجمع " (1 / 166). رواه الطبراني في " الكبير "، و " الأوسط "، و رجاله موثقون.
و أما حديث ابن مسعود فأخرجه الخطيب في " التاريخ " (6 / 77)، و ابن عبد البر (9)، و ابن عدي في
" الكامل " (3 / 1062، 1293، 6 / 2174)، و ابن الجوزي في " العلل " (115 - 118)، و ابن حبان في
" المجروحين " (3 / 97) من طرق عنه.
و عزاه الهيثمي في " المجمع " (1 / 163) للطبراني في " الكبير "، و الأوسط "، و قال في إسناد " الكبير ":
سوار بن مصعب و هو متروك، و في إسناد " الأوسط ": النضر بن سعيد ضعفه العقيلي.
(1) ينظر: " الأحكام " (1 / 49).
(2) ورد من حديث ابن مسعود، و زيد بن ثابت، و جبير بن مطعم، فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي
(5 / 33) في " العلم "، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2657 - 2658)، و ابن ماجة (1 / 85)
في " المقدمة "، باب ما بلغ علما (232)، و الحميدي في " مسنده " (88)، و أحمد (1 / 437)، و الشافعي
في " مسنده " (1 / 16)، و أبو يعلى (26 / 5، 5296)، و ابن حبان (74، 75، 76) موارد، و الرامهرمزي
في " المحدث الفاصل " برقم (6، 7، 8)، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (188، 189، 190،
191)، و أبو نعيم في " الحلية " (7 / 331)، و الخطيب في " الكفاية " (ص 173)، و في " شرف أصحاب
الحديث ". ص (18 - 19)، و البيهقي في " معرفة السنن و الآثار " (1 / 15 - 16، 43)، و في " الدلائل "
(6 / 540)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (1419، 1420)، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل "
(2 / 9، 10)، و أبو الشيخ في " الأمثال " (204)، و أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " (2 / 90)، والحاكم في
" معرفة علوم الحديث " ص 322 من طرق عنه.
346

و (البينات والهدى): أمر محمد صلى الله عليه وسلم ثم يعم بعد كل ما يكتم من خير، و (في
الكتاب) يراد به التوراة والإنجيل، ويدخل القرآن في عموم الآية.
واختلف في " اللاعنين ".
فقال قتادة، والربيع: الملائكة والمؤمنون (1)، وهذا ظاهر واضح، وقيل: الحشرات
والبهائم (2)، وقيل: جميع المخلوقات ما عدا الثقلين الجن

و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
و أما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (2 / 346)، في " العلم "، باب فضل نشر العلم (3660)،
و الترمذي (2656)، و ابن ماجة (230)، و أحمد (5 / 183)، و ابن حبان (72 - 73) موارد، و الدارمي
(1 / 75)، و الطحاوي في " مشكل الآثار " (3 / 232)، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (184،
185، 186، 187،، و ابن أبي عاصم في " السنة " (94)، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " (2 /
11)، و الرامهرمزي (3، 4)، و الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " (ص 17، 18)، و الخطيب في
" الفقيه و المتفقه " (2 / 71).
و قال الترمذي: حديث حسن.
* و أما حديث جبير بن مطعم:
فأخرجه ابن ماجة (231)، و أحمد (4 / 80، 82)، و الدارمي (1 / 74 - 75)، و الطبراني في " الكبير "
(1541)، و أبو يعلى في " مسنده " (7413)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (1421)، و الطحاوي في
" المشكل " (2 / 232)، و ابن أبي حاتم في " الجرح و التعديل " (2 / 10)، و ابن حبان في " المجروحين "
(1 / 4 - 5)، و ابن عبد البر في " جامع بيان العلم " (195)، والحاكم في " المستدرك " (1 / 87)، من
طرق عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه.
و أخرجه ابن ماجة (231)، والطبراني في " الكبير " (1542)، و الطحاوي في " المشكل " (2 / 232)، من
طريق ابن إسحاق، و عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به.
و قال البوصيري في " الزوائد " (1 / 99): هذا إسناد ضعيف، لضعف عبد السلام... و أخرجه الطبراني
(1543)، و ابن أبي حاتم (1 / 10) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن
جبير، عن أبيه به.
و أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (7414)، و الحاكم (1 / 87 - 88)، من طريق ابن إسحاق، عن
عمرو بن أبي عمرو، عن عبد الرحمن بن الحويرث، عن محمد بن جبير به.
و تابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، أخرجه الدارمي في " سننه " (1 / 74).
و أخرجه الطبراني (1544)، والحاكم (1 / 87) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد عن
صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. و صححه الحاكم، و وافقه الذهبي.
(1) و أخرجه الطبري (2 / 59) برقم (2393 - 2394 - 2395)، عن قتادة، و الربيع، و ذكره ابن عطية (1 /
231)، و أخرجه عبد الرزاق في " التفسير " (1 / 65) عن قتادة بلفظ: " الملائكة ".
(2) أخرجه الطبري (2 / 58) برقم (2385 إلى 2392) عن مجاهد، و عكرمة، أما الأخبار التي عن مجاهد
رويت بأسانيد مختلفة.
وذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 231) و البغوي في " التفسير " (1 / 134) عن مجاهد.
347

والإنس (1)، وهذان القولان لا يقتضيهما اللفظ، ولا يثبتان إلا بسند يقطع العذر، ثم استثنى
الله سبحانه التائبين.
(وأصلحوا)، أي: في أعمالهم وأقوالهم.
(وبينوا)، أي: أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
(إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين (161)
خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينصرون (162))
وقوله تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار...) الآية: هذه الآية محكمة في
الذين وافوا على كفرهم، واختلف في معنى قوله: (والناس أجمعين): والكفار لا يلعنون
أنفسهم.
فقال قتادة، والربيع: المراد ب‍ (الناس): المؤمنون خاصة (2)، وقال أبو العالية:
معنى ذلك في الآخرة (3).
وقوله: (خالدين فيها)، أي: في اللعنة، وقيل: في النار، وعاد الضمير عليها، وإن
لم يجر لها ذكر، لثبوتها في المعنى.
(ولا هم ينظرون)، أي: لا يؤخرون عن العذاب، ويحتمل أن يكون من النظر،
نحو قوله تعالى: (و لا ينظر إليهم / يوم القيامة) [آل عمران: 77] و الأول أظهر، لأن النظر
بالعين إنما يعدى ب‍ " إلى " إلا شاذا في الشعر.
(و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم (163) إن في خلق السماوات و الأرض
واختلاف الليل و النهار والفلك التي تجرى في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء
فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين
السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون (164))

(1) أخرجه الطبري (2 / 60) برقم (2396)، و إسناد هذا الخبر: " حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال:
حدثنا أسباط عن السدي قال: قال البراء بن عازب.... " ثم ذكر الخبر بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (2 / 62) برقم (2400 - 2401) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، و الآخر عن
الربيع. و ذكره ابن عطية (1 / 232)، و السيوطي في " الدر " (1 / 298) عن قتادة.
(3) أخرجه الطبري (2 / 62) برقم (2402) بلفظ: " إن الكافر يوقف يوم القيامة، فيلعنه الله، ثم تلعنه
الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون ".، و ذكره ابن عطية (1 / 232)، و البغوي في " تفسير " (1 / 134)،
و السيوطي في " الدر " (1 / 298)، و عزاه لابن جرير.
348

وقوله تعالى: (وإلهكم اله واحد...) الآية: إعلام بالوحدانية.
قال عطاء: لما نزلت هذه الآية بالمدينة، قال كفار قريش بمكة: ما الدليل على هذا،
وما آيته، وعلامته (1)؟ ونحوه عن ابن المسيب (2)، فنزل عند ذلك قوله تعالى: (إن في
خلق السماوات والأرض...) الآية، أي: في اختراعها وإنشائها.
(والنهار): من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، يقضى بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم
لعدي بن حاتم: " إنما هو بياض النهار، وسواد الليل " (3)، وهذا هو مقتضى الفقه في

(1) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 232).
(2) المصدر السابق.
(3) ورد ذلك من حديث عدي بن حاتم، وسهل بن سعد: فأما حديث عدي بن حاتم: فأخرجه البخاري
(4 / 157) في الصوم: باب قول الله تعالى: (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط
الأسود....)، و في (8 / 31) في التفسير، باب: (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
الخيط الأسود....) (4509)، و مسلم (2 / 766) في الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل
بطلوع الفجر (33 - 1090)، و أبو داود (1 / 717) في الصيام، باب في وقت السحور (2349)،
و الترمذي (5 / 195) في التفسير: باب و من سورة البقرة (2970 - 2971)، و أحمد (4 / 377)، و ابن
أبي شيبة في " مصنفه " (3 / 289) برقم (9079)، و ابن جرير في " تفسيره " (2989)، و الدارمي (2 /
5، 6)، في الصوم، باب متى يمسك المستحر من الطعام و الشراب، و الطبراني في " الكبير " (17 / 79،
80) برقم (176)، و البيهقي (4 / 251) من طريق الشعبي، عن عدي بن حاتم به.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وذكره السيوطي في " الدر " (1 / 360)، فزاد في نسبته إلى سفيان بن عيينة، و سعيد بن منصور، و ابن
المنذر.
و أخرجه البخاري في التفسير (4510)، و النسائي (4 / 148) في الصيام: باب قول الله تعالى: (وكلوا
واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)، و ابن جرير (2989)، و الطبراني (177،
178) من طريق مطرف عن الشعبي، عن عدي قال: قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط
الأسود؟ أهما الخيطان؟ قال: إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين، ثم قال: لا، بل هو سواد الليل،
و بياض النهار. و صححه ابن خزيمة (3 / 209) برقم (1926)، وذكره السيوطي في " الدر "، و زاد نسبته
إلى عبد بن حميد.
و أخرجه أحمد (4 / 377)، و الطبراني في " الكبير " (172، 173، 174، 175)، و ابن جرير (2988)
من طريق مجالد: حدثني عامر حدثني عدي بن حاتم. قال: علمني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الصلاة و الصيام.
فقال: صل كذا، وصل كذا، و صم كذا. فإذا غابت الشمس فكل و اشرب، حتى يتبين لك الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وصم ثلاثين يوما، إلا أن ترى الهلال قبل ذلك. فأخذت خيطين
من شعر أسود و أبيض، فكنت أبصر فيهما فلا يتبين لي، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فضحك، فقال:
يا ابن حاتم، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل.
و أما حديث سهل بن سعد: فأخرجه البخاري (4 / 157) في الصوم، باب قول الله تعالى: (و كلوا
349

الإيمان ونحوها، وأما على ظاهر اللغة، وأخذه من السعة، فهو من الإسفار، وقال الزجاج
في " كتاب الأنوار ": أول النهار ذرور الشمس، قال: وزعم النضر بن شميل (1)، أن أول
النهار ابتداء طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار.
قال * ع (2): وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الحكم.
(والفلك): السفن، ومفرده وجمعه بلفظ واحد.
(وما أنزل الله من السماء من ماء) يعنى به الأمطار، (وبث): معناه: فرق،
وبسط، و (دابة): تجمع الحيوان كله.
و (تصريف الرياح): إرسالها عقيما، وملقحة وصرا ونصرا وهلاكا وجنوبا وشمالا
وغير ذلك، والرياح: جمع ريح، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة، مفردة مع
العذاب، إلا في " يونس " في قوله سبحانه: (و جرين بهم بريح طيبة) [يونس: 22] و هذا،
أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت ريح، يقول:
اللهم، اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا " (3)، وذلك لان ريح العذاب شديدة ملتئمة

و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض...) (1917)، و (8 / 31) في التفسير، باب: (وكلوا
و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود...) (4511). و مسلم (2 / 767) في
الصيام: باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (35 / 1091)، و النسائي في " الكبرى "،
ذكره المزي في " تحفة الأشراف " (4 / 121)، و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2 / 53). و أبو يعلى
في " مسنده " (7540)، و ابن جرير (2990)، و البيهقي (5 / 215) في الصيام، باب الوقت الذي يحرم
فيه الطعام على الصائم من طريق أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: لما نزلت هذه الآية: (و كلوا
و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) قال: فكان الرجل إذا أراد الصوم، ربط
أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل و يشرب حتى يتبين له رئيهما، فأنزل
الله بعد ذلك: (من الفجر) فعلموا أنما يعني بذلك: الليل و النهار.
(1) النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد المازني، التميمي، أبو الحسن: أحد الأعلام بمعرفة أيام العرب
و رواية الحديث وفقه اللغة، ولد ب‍ " مرو " (من بلاد " خراسان ") سنة 122 ه‍. من مصنفاته: " الصفات "
كبير، من صفاته الإنسان، و البيوت، و الجبال، و الإبل، و الغنم، و الطير، والكواكب، والزروع،
و " كتاب السلاح "، و " المعاني " و " غريب الحديث "، و " الأنواء ". توفي ب‍ " مرو " سنة 203 ه‍.
ينظر: " الأعلام " (8 / 33)، و " وفيات الأعيان " (2 / 161)، و " غاية النهاية " (2 / 341).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 233).
(3) أخرجه أبو يعلى (4 / 341) رقم (2456) من طريق حسين بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا.
وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 138)، و قال: رواه الطبراني، و فيه حسين بن قيس. الملقب
بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، و بقية رجاله رجال الصحيح. اه‍.
و الحديث ذكره الحافظ في " المطالب العالية " رقم (3371)، و عزاه إلى مسدد و أبي يعلى.
350

الأجزاء، كأنها جسم واحد، وريح الرحمة لينة تجيء من ههنا وههنا متقطعة، فلذلك يقال
هي رياح، وهو معنى نشر، وأفردت مع الفلك، لأن ريح إجراء السفن، إنما هي واحدة
متصلة، ثم وصفت بالطيب، فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب، وهي لفظة من ذوات
الواو، يقال: ريح، وأرواح، ولا يقال: " أرياح "، وإنما يقال: رياح من جهة الكسرة،
وطلب تناسب الياء معها: وقد لحن في هذه اللفظة عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير (1)،
فاستعمل " الأرياح " في شعره، ولحن في ذلك، وقال له أبو حاتم (2): إن الأرياح لا يجوز،
فقال: أما تسمع قولهم: رياح، فقال أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، فقال: صدقت، ورجع.
(والسحاب): جمع سحابة، سمي بذلك، لأنه ينسحب، وتسخيره بعثه من مكان إلى
آخر، فهذه آيات.
(و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله و الذين آمنوا أشد حبا لله
و لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا و أن الله شديد العقاب (165) إذ تبرأ الذين
اتبعوا من الذين اتبعوا و رأوا العذاب و تقطعت بهم الأسباب (166) و قال الذين اتبعوا لو أن لنا
كرة فلنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات و ما هم بخارجين من
النار (167))
و قوله تعالى: (و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا...) الآية: الند: النظير،

(1) عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية الكلبي، اليربوعي، التميمي: شاعر مقدم، فصيح. من أهل
" اليمامة ". كان يسكن بادية " البصرة "، و يزور الخلفاء من بني العباس، فيجزلون صلته. و بقي إلى أيام
الواثق، و عمي قبل موته. و هو من أحفاد جرير الشاعر. وكان النحويون في البصرة يأخذون اللغة عنه. له
أخبار. وهو القائل: [الطويل]
" بدأتم فأحسنتم، فأثنيت جاهدا * و إن عدتم أثنيت، و العود أحمة "
و القائل: [الطويل]
" و ما النفس إلا نطفة بقرارة * إذا لم تكدر كان صفوا غديرها "
و جمع من نظمه " ديوان شعر " حققه و نشره شاكر العاشور. ينظر: " الأعلام " (5 / 37)، و " تاريخ بغداد "
(12 / 282).
(2) سهل بن محمد بن عثمان الجشمي السجستاني: من كبار العلماء باللغة و الشعر؟ من أهل " البصرة " كان
المبرد يلازم القراءة عليه. له نيف و ثلاثون كتابا، منها كتاب " المعمرين "، و " النخلة "، و " ما تلحن فيه
العامة "، و " الشجر و النبات "، و " الطير " و " الأضداد "، و " الوحوش "، و " الحشرات "، و " الشوق إلى
الوطن "، و " العشب و البقل ". و " القرق بن الآدميين و كل ذي روح "، و " المختصر " في النحو على
مذهب الأخفش و سيبويه، وله شعر جيد.
ينظر: " الأعلام " (3 / 143)، و " الفهرست " لابن النديم (1 / 58)، و " الوفيات " (1 / 218).
351

و المقاوم، قال مجاهد، و قتادة: المراد بالأنداد: الأوثان (1) (كحب الله)، أي: كحبكم
لله، أو كحبهم حسبما قدر كل وجه منها فرقة، و معنى: كحبهم، أي: يسوون بين محبة
الله، و محبة الأوثان، ثم أخبر أن المؤمنين أشد حبا لله، لإخلاصهم، و تيقنهم الحق.
و قوله تعالى: (ولو ترى الذين ظلموا)، أي: و لو ترى، يا محمد، الذين ظلموا في
حال رؤيتهم العذاب، و فزعهم منه، و استعظامهم له، لأقروا أن القوة لله، أو لعلمت أن
القوة لله جميعا، فجواب " لو ": مضمر، على التقديرين (2)، و قد كان النبي صلى الله عليه و آله وسلم / علم

(1) أخرجه الطبري (2 / 71) برقم (2414 - 2415) بإسنادين مختلفين أحدهما: عن قتادة، و مجاهد بلفظ:
" من الكفار لأوثانهم ". و ذكره ابن عطية (1 / 234) و السيوطي في " الدر " (1 / 303 - 304).
(2) جواب " لو " محذوف، واختلف في تقديره، و لا يظهر ذلك إلا بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه
الآية الكريمة: قرأ ابن عامر و نافع: " و لو ترى " بناء الخطاب، " أن القوة " و " أن الله " بفتحهما، و قرأ ابن
عامر: " إذ يرون " بضم الياء، و الباقون بفتحهما. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكوفيون: " ولو يرى " بياء
الغيبة، " أن القوة " و " أن الله " بفتحهما، و قرأ الحسن و قتادة و شيبة و يعقوب و أبو جعفر: " و لو ترى "
بالخطاب، " إن القوة " و " إن الله " بكسرهما، و قرأت طائفة: " و لو يرى " بياء الغيبة، " إن القوة " و " إن
الله " بكسرهما. إذا تقرر ذلك فقد اختلفوا في تقدير جواب لو، فمنهم من قدره قبل قوله: " أن القوة "
و منهم من قدره بعد قوله: " و أن الله شديد العذاب " و هو قول أبي الحسن الأخفش و المبرد.، أما من
قدره قبل " أن القوة " فيكون " أن القوة " معمولا لذلك الجواب. و تقديره على قراءة ترى - بالخطاب -
و فتح أن و أن: لعلمت أيها السامع أن القوة لله جميعا، و المراد بهذا الخطاب: إما النبي عليه السلام و إما
كل سامع. و على قراءة الكسر في " إن " يكون التقدير: لقلت إن القوة لله جميعا، و الخلاف في المراد
بالخطاب كما تقدم، أو كون التقدير: لاستعظمت حالهم، و إنما كسرت " إن " لأن فيها معنى التعليل نحو
قولك: لو قدمت على زيد لأحسن إليك إنه مكرم للضيفان، فقولك: " إنه مكرم للضيفان " علة لقولك:
" أحسن إليك ".
و قال ابن عطية: " تقديره: و لو ترى الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب و فزعهم منه و استعظامهم له
لأقروا أن القوة لله جميعا ".
و ناقشه الشيخ فقال: " كان ينبغي أن يقول: في وقت رؤيتهم العذاب فيأتي بمرادف " إذ " وهو الوقت لا
الحال، و أيضا فتقديره لجواب " لو " غير مرتب على ما يلي " لو " لأن رؤية السامع أو النبي عليه السلام
الظالمين في وقت رؤيتهم لا يترتب عليها إقرارهم بأن القوة لله جميعا، و هو نظير قولك: " يا زيد لو ترى
عمرا في وقت ضربه لأقر أن الله قادر عليه " فإقراره بقدرة الله ليست مترتبة على رؤية زيد. انتهى.
و تقديره على قراءة " يرى " بالغيبة: لعلموا أن القوة، إن كان فاعل " يرى " الذين ظلموا "، و إن كان ضميرا
يعود على السامع فيقدر: لعلم أن القوة.
و أما من قدره بعد قوله: شديد العذاب فتقديره على قراءة " ترى " بالخطاب: لاستعظمت ما حل بهم
و يكون فتح " أن " على أنه مفعول من أجله، أي: لأن القوة لله جميعا، و كسرها على معنى التعديل نحو:
" أكرم زيدا إنه عالم، و أهن عمرا إنه جاهل "، أو تكون جملة معترضة بين " لو " وجوابها المحذوف.
و تقديره على قراءة، " ولو يرى " بالغيبة إن كان فاعل " يرى " ضمير السامع: لاستعظم ذلك، و إن كان فاعله
352

ذلك، و لكن خوطب، و المراد أمته.
و قرأ حمزة و غيره (1) بالياء، أي: و لو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة،
إذ يرون العذاب، لعلموا أن القوة لله.
و (الذين اتبعوا) بفتح التاء و الباء: هم العبدة لغير الله الضالون المقلدون
لرؤسائهم، أو للشياطين، و تبريهم هو بأن قالوا إنا لم نضل هؤلاء، بل كفروا بإرادتهم.
و السبب، في اللغة: الحبل الرابط الموصل،، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين
شيئين، (و قال الذين اتبعوا)، أي: الأتباع.
و الكرة: العودة إلى حال قد كانت كذلك، (يريهم الله أعمالهم...) الآية: يحتمل

" الذين " كان التقدير: لاستعظموا ما حل بهم، و يكون فتح " أن " على أنها معمولة ليرى، على أن يكون
الفاعل " الذين ظلموا "، و الرؤية هنا تحتمل أن تكون من رؤية القلب فتسد " أن " مسد مفعولهما، و أن
تكون من رؤية البصر فتكون في موضع مفعول واحد.
و أما قراءة " يرى الذين " بالغيبة و كسر " إن " و " إن " فيكون الجواب قولا محذوفا و كسرتا لوقوعهما بعد
القول، فتقديره على كون الفاعل ضمير الرأي: لقال إن القوة، و على كونه " الذين ": لقالوا، و يكون
مفعول " يرى " محذوفا أي: لو يرى حالهم. و يحتمل أن يكون الجواب: لاستعظم أو لأستعظموا على
حسب القولين، و إنما كسرتا استئنافا، وحذف جواب " لو " شائع مستفيض، و كثر حذفه في القرآن.
و فائدة حذفه استعظامه و ذهاب النفس كل مذهب فيه بخلاف ما لو ذكر، فإن السامع يقصر همه عليه،
و قد ورد في أشعارهم و نثرهم حذفه كثيرا. قال امرؤ القيس: [الطويل].
وجدك لو شئ أتانا رسوله * سواك و لكن لم نجد لك مدفعا
و قال النابغة: [الطويل]
فما كان بين الخير لو جاء سالما * أبو حجر إلا ليال قلائل
ينظر: " الدر المصون " (1 / 428 - 429)، و " البحر المحيط " (1 / 645 - 646).
(1) قراءة أهل مكة و الكوفة و أبي عمرو بالياء التحتية " يرى "، و هو اختيار أبي عبيد. و قراءة أهل المدينة و أهل
الشام بالفوقية. و المقصود بأهل مكة: ابن كثير، و أهل الكوفة: عاصم، و حمزة، و الكسائي، و خلف
العاشر، و أبو عامر بالياء التحتية، و ابن جماز عن أبي جعفر، و ليس من أهل الشام من يقرأ بياء الغيبة،
و المقصود به ابن عامر.
و أما الذين يقرءون بتاء الخطاب، فهم: نافع، و ابن وردان عن أبي جعفر، و يعقوب البصري.
و المخاطب: السامع، أو الرسول صلى الله عليه و آله و سلم. و " الذين " مفعول به. أما اختيار أبي عبيد لإحدى القراءتين فلا
يطعن في الأخرى، لأن القراءة سنة متبعة.
ينظر: " حجة القراءات " (120)، و " السبعة " (173)، و " الحجة " (2 / 258)، و " العنوان " (72)،
و " شرح طيبة النشر " (4 / 80)، و " معاني القراءات " (1 / 186)، و " إتحاف فضلاء البشر " (1 / 425).
353

أن يكون من رؤية البصر، و يحتمل رؤية القلب، أي: يريهم الله أعمالهم الفاسدة التي
ارتكبوها.
وقال ابن مسعود أعمالهم الصالحة التي تركوها (1)، والحسرة: أعلى درجات
الندامة، والهم بما فات، وهي مشتقة من الشئ الحسير الذي انقطع، وذهبت قوته، وقيل:
من حسر، إذا كشف.
(يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين
(168) إنما يأمركم بالسوء و الفحشاء و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون (169) و إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل
الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون (170))
وقوله تعالى: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا...) الآية: الخطاب
عام، و " ما " بمعنى " الذي "، " وحلالا ": حال من الضمير العائد على " ما "، و " طيبا ":
نعت، ويصح أن يكون حالا من الضمير في " كلوا "، تقديره: مستطيبين، والطيب عند
مالك: الحلال، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المستلذ، ولذلك يمنع
أكل الحيوان القذر.
قال الفخر (2): الحلال هو المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه، وأصله من الحل
الذي هو نقيض العقد. انتهى.
و (خطوات): جمع خطوة، والمعنى: النهي عن اتباع الشيطان، وسلوك سبله،
وطرائقه.
قال ابن عباس: خطواته: أعماله (3)، وقال غيره: آثاره (4).
* ع (5) * وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي، فهي خطوات
الشيطان.

(1) ذكره ابن عطية (1 / 236) عن ابن مسعود، و السدي.
(2) ينظر: " التفسير الكبير " (5 / 3).
(3) أخرجه الطبري (2 / 81) برقم (2446) بلفظ: " عمله "، و ذكره ابن عطية في التفسير (1 / 237)،
و السيوطي في " الدر " (1 / 305).
(4) ينظر: " المحرر " (1 / 237).
(5) ينظر: " المحرر " (1 / 237).
354

وعدو: يقع للمفرد والمثنى والجمع.
(إنما يأمركم بالسوء والفحشاء...) الآية: " إنما " هاهنا: للحصر، وأمر الشيطان:
إما بقوله في زمن الكهنة، وإما بوسوسته.
و (السوء): مصدر من: ساء يسوء، وهي المعاصي، وما تسوء عاقبته،
(والفحشاء): قيل: الزنا، وقيل: ما تفاحش ذكره، وأصل الفحش: قبح المنظر، ثم
استعملت اللفظة فيما يستقبح، والشرع: هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه
الشريعة، فهو من الفحشاء.
و (ما لا تعلمون): قال الطبري (1): يريد: ما حرموا من البحيرة، والسائبة،
ونحوها، وجعلوه شرعا.
(وإذا قيل لهم)، يعني: كفار العرب، وقال ابن عباس: نزلت في اليهود (2)،
والألف في قوله سبحانه: (أو لو كان): للاستفهام، لأن غاية الفساد في الالتزام، أن
يقولوا: نتبع آباءنا، ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا، إذ هذه حال آبائهم.
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطى إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد.
(و مثل الذين كفروا كمثل الذين ينعق بما لا يسمع إلا دعاء و نداء صم بكم عمى فهم لا
يعقلون (171))
(ومثل الذين كفروا...) الآية: المراد تشبيه واعظ الكافرين، وداعيهم بالراعي
الذي ينعق بالغنم أو الإبل، فلا تسمع إلا دعاءه، ونداءه، ولا تفقه ما يقول، هكذا فسر ابن
عباس، وعكرمة، والسدي (3)، وسيبويه (4)، فذكر تعالى بعض هذه الجملة، وبعض هذه،
ودل المذكور على المحذوف، وهذه نهاية الإيجاز.
والنعيق: زجر الغنم، والصياح بها.

(1) " تفسير الطبري " (3 / 303).
(2) أخرجه الطبري (2 / 83)، برقم (2455)، و ذكره ابن عطية (1 / 238)، و ابن كثير (1 / 204).
(3) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 84 - 85) عن ابن عباس، و السدي، و عكرمة، وكذا أخرجه سفيان
الثوري في " التفسير " (1 / 55) عن عكرمة، و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 228)، و ابن كثير في
" التفسير " (1 / 204)، و السيوطي في " الدر " (1 / 306 - 307).
(4) ينظر: " الكتاب " (1 / 108).
355

(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم و اشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون (172)
إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا
إثم عليه إن الله غفور الرحيم (173))
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا / كلوا من طيبات ما رزقناكم...) الآية: الطيب:
هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض " من "، إلى أن الحرام رزق، وحض
سبحانه على الشكر، والمعنى: في كل حالة، وفي " مصابيح البغوي "، عن أبي داود
والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الطاعم الشاكر كالصائم الصابر " (1). انتهى.
قال القشيري: قال أهل العلم بالأصول: نعم الله تعال على ضربين: نعمة نفع،
ونعمة دفع، فنعمة النفع: ما أولاهم، ونعمة الدفع: ما زوي عنهم، وليس كل إنعامه

(1) أخرجه الترمذي (4 / 653)، كتاب " صفة القيامة "، باب (43) رقم (2486)، حدثنا إسحاق بن موسى
الأنصاري، ثنا محمد بن معن، حدثني أبي عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة به مرفوعا.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
و أخرجه الحاكم (4 / 136) من طريق عمر بن علي المقدمي، عن محمد بن معن به.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد، و لم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
و أخرجه ابن حبان (952 - موارد) من طريق معتمر بن سليمان، عن معمر، عن سعيد المقبري، عن أبي
هريرة به.
وهذا سنة منقطع كما أفاد الحفاظ في " الفتح " (9 / 583)، و قال: لكن في الرواية انقطاع خفي على ابن
حبان، فقد رويناه في مسند مسدد عن معتمر، عن معمر، عن رجل من بني غفار عن المقبري اه‍.
و الطريق الذي ذكره الحافظ و عزاه لمسدد: أخرجه عبد الرزاق (10 / 424) رقم (19573)، و أحمد
(2 / 283)، و البيهقي (4 / 306) كتاب " الصيام "، باب ما جاء في الطاعم الشاكر. كلهم من طريق معمر
عن رجل من بني غفار، عن المقبري، عن أبي هريرة به. و للحديث طرق أخرى عن أبي هريرة: فأخرجه
أحمد (2 / 289)، والحاكم (4 / 136) من طريق محمد بن عبد الله بن أبي حرة عن عمه حكيم عن
سلمان الأغر عن أبي هريرة.
و أخرجه ابن ماجة (1 / 561) كتاب " الصيام "، باب فيمن قال: الطاعم الشاكر كالصائم الصابر، حديث
(1764) من طريق عبد الله بن عبد الله الأموي، عن معن بن محمد عن حنظلة بن علي الأسلمي،
عن أبي هريرة به.
و للحديث شاهد آخر من حديث عائشة: أخرجه الحاكم (2 / 12) من طريق عبد العزيز بن يحيى: ثنا
سليمان بن بلال، عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " ليس بالمؤمن
الذي يبيت و جاره جائع إلى جنبه ".
و سكت عنه الحاكم، و قال الذهبي: عبد العزيز ليس بثقة.
و قال ابن حجر في " التقريب " (1 / 523): متروك، كذبه إبراهيم بن المنذر.
356

سبحانه انتظام أسباب الدنيا، والتمكن منها، بل ألطاف الله تعالى فيما زوى عنهم من الدنيا
أكثر، وإن قرب العبد من الرب تعالى على حسب تباعده من الدنيا. انتهى من " التحبير ".
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتابه المسمى ب‍ " بهجة المجالس ". قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد بنعمة، فعلم أنها من عند الله إلا كتب الله له شكرها، وما
علم الله من عبد ندامة على ذنب إلا غفر له قبل أن يستغفره، وإن الرجل ليلبس الثوب،
فيحمد الله، فما يبلغ ركبتيه، حتى يغفر له " (1) قال أبو عمر: مكتوب في التوراة: " اشكر
لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم، إذا شكرت، ولا مقام لها،
إذا كفرت ". انتهى.
" وإن " من قوله: (إن كنتم إياه تعبدون): شرط، والمراد بهذا الشرط التثبيت، وهز
النفوس، كما تقول: أفعل كذا، إن كنت رجلا، و " إنما " هاهنا حاصرة، ولفظ الميتة
عموم، والمعنى مخصص لأن الحوت لم يدخل قط في هذا العموم، وفي مسند البزار عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله حرم الخمر وثمنها، وحرم الميتة وثمنها، وحرم الخنزير
وثمنه " (2) انتهى من " الكوكب الدري "، للإمام أبي العباس أحمد بن سعد التجيبي.

(1) تقدم تخريجه.
(2) لقد أبعد المصنف (رحمه الله) النجعة في هذا الحديث، حيث إن هذا الحديث بهذا اللفظ قد أخرجه أبو
داود (2 / 301) كتاب " البيوع "، باب في ثمن الخمر و الميتة، حديث (3485) من حديث أبي هريرة
مرفوعا.
و للحديث شاهد من حديث جابر: أخرجه البخاري (4 / 424) كتاب " البيوع "، باب بيع الميتة: و الأصنام
حديث (2236)، و مسلم (3 / 1207) كتاب " المساقاة "، باب تحريم بيع الخمر، و الميتة، و الخنزير،
والأصنام حديث (71 / 1581)، و أحمد (3 / 324، 326)، و أبو داود (3 / 756 - 757) كتاب
" البيوع "، باب في ثمن الخمر، و الميتة حديث (3486). و الترمذي (3 / 591) كتاب " البيوع "، باب ما
جاء في بيع جلود الميتة و الأصنام، حديث (1297)، و النسائي (7 / 309 - 310)، كتاب " البيوع "، باب
بيع الخنزير، و ابن ماجة (2 / 732)، كتاب " التجارات "، باب ما يحل بيعه حديث (2167)، و أبو
يعلى (3 / 395 - 396) رقم (1873)، و ابن الجارود (578)، و البيهقي (6 / 12) كتاب " البيوع "، باب
تحريم بيع الخمر، و الميتة، و الخنزير و الأصنام. و البغوي في " شرح السنة " (4 / 218 - بتحقيقنا) من
طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به.
و قال الترمذي: حسن صحيح.
و في الباب عن عمر بن الخطاب، و ابن عباس، و أبو هريرة، و عبد الله بن عمرو، و يحيى بن عباد،
و أنس بن مالك:
* حديث عمر بن الخطاب:
أخرجه البخاري (4 / 483) كتاب " البيوع " باب لا يذاب شحم الميتة و يباع ودكه، حديث (2223)،
357

(والدم) يراد به المسفوح، لأن ما خالط اللحم، فغير محرم بإجماع.
* ت *: بل فيه خلاف شاذ، ذكره ابن الحاجب وغيره، والمشهور: أظهر، لقول

و مسلم (3 / 1208) كتاب " المساقاة "، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام، حديث (1 /
1852)، و النسائي (7 / 177)، كتاب " الفرع و العتيرة "، باب النهي عن الانتفاع بما حرم الله
(عز وجل). وابن ماجة (2 / 1122)، كتاب " الأشربة "، باب التجارة في الخمر، حديث (3383).
و الدارمي (2 / 115) كتاب " الأشربة "، باب النهي عن الخمر و شرائها. و أحمد (1 / 25)، والحميدي
(1 / 9) رقم (13)، و عبد الرزاق (8 / 195 - 196) رقم (14854)، و ابن الجارود رقم (577)، و أبو
يعلى (1 / 178) رقم (200). والبغوي في " شرح السنة " (4 / 220 - 221 - بتحقيقنا) كلهم من طريق
طاوس، عن ابن عباس قال: بلغ عمر أن فلانا باع خمرا فقال: قاتل الله فلانا، ألم يعلم أن رسول
الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: " قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ".
* حديث ابن عباس:
أخرجه أحمد (1 / 347، 293)، و أبو داود (2 / 2 - 3)، كتاب " البيوع "، باب في ثمن الخمر و الميتة
حديث (3488)، والبيهقي (6 / 13) كتاب " البيوع "، باب تحريم بيع ما يكون نجسا لا يحل أكله. كلهم
من طريق أبي الوليد، عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم جالسا عند الركن قال: فرفع بصره إلى
السماء فضحك، فقال: " لعن الله اليهود. ثلاث، إن الله تعالى حرم عليهم الشحوم فباعوها، و أكلوا
أثمانها، و إن الله تعالى إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه ".
* حديث أبي هريرة:
أخرجه البخاري (4 / 484) كتاب " البيوع "، باب لا يذاب شحم الميتة و لا يباع، ودكه حديث (2224)،
و مسلم (3 / 1208) كتاب " المساقاة "، باب تحريم بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام، حديث
(1583) من طريق سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " قاتل الله يهودا،
حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، و أكلوا أثمانها ".
* حديث عبد الله بن عمر:
أخرجه أحمد (2 / 213) عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عام الفتح يقول: " إن الله و رسوله حرم بيع
الخمر، و الميتة، و الخنزير، فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يدهن به الجلود، و يستصبح
بها الناس، فقال: " لا، هي حرام "، ثم قال: " قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم الشحوم جملوها،
ثم باعوها، فأكلوا ثمنها ".
وذكره الهيثمي في " المجمع " (4 / 94)، وقال: رواه أحمد، و الطبراني في " الأوسط "، إلا أنه قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن ثمن الكلب، و ثمن الخنزير، و عن مهر البغي، و عن عسب الفحل. ورجال أحمد
ثقات و إسناد الطبراني حسن.
* حديث يحيى بن عباد:
ذكره الهيثمي في " المجمع " (4 / 92) عنه، قال: أهدي للنبي صلى الله عليه و آله و سلم زق خمر بعدما حرمت فلما أتي بها
النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقال: " إن الخمر قد حرمت "، فقال بعضهم: لو باعوها فأعطوا ثمنها فقراء المسلمين، فأمر
بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم فأهريقت في وادي من أودية " المدينة "، و قال: " لعن الله اليهود، حرمت عليهم شحومها
فباعوها، و أكلوا أثمانها ".
قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط "، و فيه أشعث بن سوار، و هو ثقة، و فيه كلام.
358

عائشة رضي الله عنها - " لو حرم غير المسفوح، لتتبع الناس ما في العروق، ولقد كنا
نطبخ اللحم، والبرمة تعلوها الصفرة ". انتهى.
(وما أهل به لغير الله).
قال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان (1)، و (أهل به): معناه
صيح به، ومنه: استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة،
وغلب ذلك في استعمالهم، حتى عبر به عن النية التي هي علة التحريم.
(فمن اضطر غير باغ ولا عاد) قال قتادة وغيره: غير قاصد فساد (2) وتعد، بأن يجد
عن هذه المحرمات مندوحة، ويأكلها، وأصحاب هذا القول يجيزون الأكل منها في كل
سفر، مع الضرورة، وقال مجاهد وغيره: المعنى: غير باغ على المسلمين، وعاد عليهم،
فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع
الرحم، والغارة على المسلمين، وما شاكله، ولغير هؤلاء: هي الرخصة (3).

* حديث أنس بن مالك:
أخرجه أحمد (3 / 217)، و أبو يعلى (5 / 382) رقم (3042). وابن حبان (1119 - موارد)، من طريق
عبد الرزاق وهو في " مصنفه " (9 / 211 - 212) رقم (16970)، من حديث أنس بن مالك مرفوعا
بلفظ: " قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها، و أكلوا أثمانها ".
(1) أخرجه الطبري (2 / 90) برقم (2479 - 2481) بإسنادين مختلفين عن ابن عباس بنحوه، و ذكره ابن
عطية (1 / 240) و السيوطي في " الدر " (1 / 308)، و عزاه لابن المنذر، و ابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (2 / 92) برقم (2495) بنحوه. وذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 240)، و البغوي في
" التفسير " (1 / 141)، والسيوطي في " الدر " (1 / 308)، و عزاه لعبد بن حميد.
(3) الرخصة (بسكون الخاء و حكي ضمها) في اللغة: التيسير و التسهيل. قال الجوهري: الرخصة في الأمر:
خلاف التشديد فيه، و من ذلك رخص الشعر إذا سهل و تيسر.
و في الاصطلاح: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر.
و تنقسم الرخصة إلى أربعة أقسام:
الأول: الإيجاب، و يمثل له بوجوب أكل الميتة للمضطر الثابت بقوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة) [البقرة: 195] مع قوله تعالى: (فم اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه) [البقرة: 173]
على خلاف قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة..) [المائدة: 3] إلخ فهو رخصة، لأنه حكم ثبت على
خلاف الدليل لعذر هو حفظ الحياة.
الثاني: الندب، كقصر الصلاة الرباعية في السفر الثابت بقوله صلى الله عليه و آله وسلم: " صدقة تصدق الله بها عليكم،
فاقبلوا صدقته " على خلاف الدليل الموجب للإتمام، وهو فعله صلى الله عليه و آله وسلم مع قوله صلى الله عليه و آله وسلم: " صلوا كما رأيتموني
أصلي " المبين للعدد المطلوب في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة).
الثالث: الإباحة، كإباحة السلم الثابت بقوله صلى الله عليه وآله و سلم: " من أسلم فليسلم في كيل معلوم، و وزن معلوم، إلى
359

قال مالك (1) - رحمه الله -: يأكل المضطر شبعه، وفي " الموطإ " وهو لكثير من
العلماء أنه يتزود، إذا خشي الضرورة فيما بين يديه / من مفازة وقفر.
قال ابن العربي في " أحكامه " (2)، وقد قال العلماء: أن من اضطر إلى أكل الميتة،
والدم، ولحم الخنزير، فلم يأكل، دخل النار إلا أن يغفر الله له. انتهى. والمعنى: أنه لم
يأكل حتى مات جوعا، فهو عاص، وكأنه قتل نفسه، وقد قال تعالى: (و لا تقتلوا
أنفسكم...) [النساء: 29] الآية إلى قوله: (ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه
نارا) [النساء: 30] قال ابن العربي: وإذا دامت المخمصة (3)، فلا خلاف في جواز شبع
المضطر، وإن كانت نادرة، ففي شبعه قولان: أحدهما لمالك: يأكل، حتى يشبع،
ويتضلع، وقال غيره: يأكل بمقدار سد الرمق، وبه قال ابن حبيب (4)،

أجل معلوم " على خلاف قوله صلى الله عليه و آله وسلم: " لا تبع ما ليس عندك " الدال على حرمة بين المعدوم. للحاجة إلى
هذا النوع من المعاملة. و إن شئت فارجع إلى كتب الفروع لتقف على حكمة مشروعية السلم.
الرابع: خلاف الأولى، كالفطر في نهار رمضان (للمسافر الذي لا يتأذى بالصوم) المشروع بقوله تعالى:
(فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) [البقرة: 184] على خلاف قوله تعالى: (فمن
شهد منكم الشهر فليصمه) [البقرة: 185] دفعا للمشقة. و كان خلاف الأولى لقوله تعالى: (و أن
تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون] [البقرة: 184].
ينظر: " البحر المحيط " للزركشي (1 / 325 - 326)، " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي (1 / 122)،
" التمهيد " للأسنوي (70)، " نهاية السول " له (1 / 120)، " منهاج العقول " للبدخشي (1 / 93)، " غاية
الوصول " للشيخ زكريا الأنصاري (19)، " التحصيل من المحصول " للأرموي (1 / 179)، " المستصفى "
للغزالي (1 / 98)، " حاشية البناني " (1 / 119 - 123)، " الإبهاج " لابن السبكي (1 / 81)، " الآيات
البينات " لابن قاسم العبادي (1 / 185).
(1) أخرجه الطبري (2 / 91 - 92) بإسنادين عن مجاهد. و سعيد بن منصور في سننه (2 / 645) برقم (243)
و ذكره ابن عطية (1 / 240).
(2) ينظر: " الأحكام " (1 / 56).
(3) المخمصة: مفعلة من الخمص، و هو ضمور البطن، و منه: رجل خامص، و خمصان البطن، و امرأة
خمصآنة، و لما كان الجوع يؤدي إلى ضمور البطن عبر به عنه: أي فمن اضطر في مجاعة.
ينظر: " عمدة الحفاظ " (1 / 617).
لأن الضرورة تقدر بقدرها، فأكل الميتة محظور، و لكن إبقاء مهجة الإنسان عند المخمصة ضرورة،
و ليست أقل من المحظور، فيباح المحظور لأجل الضرورة، فعليه الأكل لإبقاء روحه، فلو لم تبح
الضرورات المحظورات لما تحقق الضرر، و الضرر يزال.
(4) ابن حبيب: هو أبو مروان عبد الملك بن حبيب، كان إماما في الحديث، و الفقه، و اللغة، و النحو،
انتهت إليه رئاسة العلم في الأندلس، ولد في " البيرة "، و سكن " قرطبة "، و تفقه بابن الماجشون،
و مطرف، و عبد الله بن عبد الحكم، و غيرهم، له مؤلفات تزيد على ألف كتاب، أشهرها:
" الواضحة "، توفي عام 238 ه‍، و قيل 239 ه‍.
360

وابن الماجشون (1) انتهى.
(إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب و يشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في
بطونهم إلا النار و لا يكلمهم الله يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم (174) أولئك
الذين اشتروا الضلالة بالهدى و العذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار (175) ذلك بأن الله
نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (176))
وقوله تعالى: (إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب...) الآية.
قال ابن عباس وغيره: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم،
و (الكتاب): التوراة والإنجيل (2).
* ع (3) *: وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار، فإنها تتناول من علماء المسلمين
من كتم الحق مختارا لذلك بسبب دنيا يصيبها، وفي ذكر البطن تنبيه على مذمتهم، بأنهم
باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم (4) بطاعة بطونهم، قال
الربيع وغيره: سمي مأكولهم نارا، لأنه يؤول بهم إلى النار (5)، وقيل: يأكلون النار في
جهنم حقيقة.
* ت *: وينبغي لأهل العلم التنزه عن أخذ شئ من المتعلمين على تعليم العلم،
بل يلتمسون الأجر من الله عز وجل (6)، وقد قال تعالى لنبيه - عليه السلام -: (قل لا

ينظر ترجمته في: " شجرة النور الزكية " (ص 74)، " الديباج " (ص 154)، " شذورات الذهب " (2 / 90).
(1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، كنيته أبو مروان، و الماجشون هو
أبو سلمة، و الماجشون: المورد بالفارسية، سمي بذلك لحمرة في وجهه.
كان عبد الملك فقيها فصيحا، دارت عليه الفتوى في أيامه إلى أن مات، كما دارت على أبيه قبله، فهو
فقيه تفقه بأبيه و بمالك، و غيرهما، و تفقه به خلق كأحمد بن المعذل، و ابن حبيب، توفي عبد الملك
سنة اثنتي عشرة، و قيل: ثلاث عشرة، و قيل: أربع عشرة و مائتين هجرية.
ينظر: " الديباج المذهب " (2 / 6)، و " ترتيب المدارك " (2 / 360)، و " وفيات الأعيان " (2 / 340)،
و " شجرة النور الزكية " (1 / 56).
(2) أخرجه الطبري (2 / 94) برقم (2502 - 2503 - 2504) عن قتادة، و الربيع، و السدي. وذكره ابن
عطية في التفسير (1 / 241).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 241).
(4) الهجنة من الكلام: ما يعيبك، و تقول: لا تفعل كذا فيكون عليك هجنة. ينظر: " لسان العرب " (4625 -
4626).
(5) ينظر: " المحرر " (1 / 241).
(6) " تفسير الطبري " (3 / 330).
361

أسألكم عليه أجرا...) [الأنعام: 90] الآية، وفي سنن أبي داود، عن عبادة بن الصامت (1)،
قال: " علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب، والقرآن، وأهدى إلي رجل منهم قوسا، فقلت:
ليست بمال، وأرمي عليها في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأسألنه، فأتيته، فقلت:
يا رسول الله، رجل أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال،
وأرمي عليها في سبيل الله، قال: إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار، فاقبلها "، وفي
رواية: " فقلت ما ترى فيها، يا رسول الله؟ قال: جمرة بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها " (2).
انتهى.
وقوله تعالى: (و لا يكلمهم الله): قيل: هي عبارة عن الغضب عليهم، وإزالة
الرضا عنهم، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين، وقال
الطبري وغيره: المعنى: لا يكلمهم بما يحبونه.
(ولا يزكيهم)، أي: لا يطهرهم من موجبات العذاب، وقيل: المعنى: لا يسميهم
أزكياء.
وقوله تعالى: (فما أصبرهم على النار): قال جمهور المفسرين: " ما " تعجب، وهو
في حيز المخاطبين، أي: هم أهل أن تعجبوا منهم، ومما يطول مكثهم في النار، وفي
التنزيل: (قتل الإنسان ما أكفره) [عبس: 17] و (أسمع بهم وأبصر) [مريم: 38].

(1) هو: عبادة به الصامت بن قيس بن صرم بن فهر بن قيس بن ثعلبة بن غنم بن سالم بن عوف بن
عمرو بن عوف بن الخزرج، أبو الوليد الأنصاري، الخزرجي.
من مناقبه: نزل فيه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء) [سورة المائدة:
الآية 51] لما تبرأ من حلفه مع نبي قينقاع لما خانوا المسلمين في غزوة الخندق.
توفي سنة 34 بالرملة. و قيل: بيت المقدس. و قيل: عاش إلى سنة " 45 ".
ينظر ترجمته في: " الثقات " (3 / 302)، " أسد الغابة " (3 / 160)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 394)،
" أصحاب بدر " (184)، " الإصابة " (4 / 27)، " الطبقات " (99، 302)، " المصباح المضئ " (1 / 85)،
" الجرح و التعديل " (6 / 95)، " تقريب التهذيب " (1 / 395)، " الاستيعاب " (2 / 807)، " تهذيب
التهذيب " (5 / 111)، " التاريخ الصغير " (1 / 41، 42، 65، 66)، " التاريخ الكبير " (6 / 92)، " الوافي
بالوفيات " (16 / 618)، " الطبقات الكبرى " (9 / 107)، " تهذيب الكمال " (2 / 655)، " طبقات الحفاظ "
(45)، " الأعلام " (3 / 258)، " الرياض المستطاب " (207).
(2) أخرجه أبو داود (2 / 285) كتاب " الإجارة "، باب في كسب المعلم، حديث (3416)، و ابن ماجة (2 /
729 - 730) كتاب " التجارات "، باب الأجر على تعليم القرآن، حديث (2157)، و أحمد (5 / 315)،
و عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " (183) من طريق المغيرة بن زياد الموصلي عن عبادة بن نسي
عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت به.
362

وقال قتادة، والحسن، وابن جبير، والربيع: أظهر التعجب من صبرهم على النار لما
علموا عمل من وطن نفسه عليها (1)، وتقديره ما أجرأهم على النار، إذ يعملون عملا يؤدي
إليها، وذهب معمر بن المثنى، إلى أن " ما " استفهام، معناه: أي شئ صبرهم على
النار (2)، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق...) الآية: المعنى: ذلك الأمر
بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا / به، والإشارة إلى وجوب النار لهم.
و (الكتاب): القرآن، و (بالحق)، أي: بالأخبار الحق، أي: الصادقة.
و (الذين اختلفوا في الكتاب) هم اليهود والنصارى، في قول السدي (3)، وقيل:
هم كفار العرب، لقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم: أساطير، وبعضهم: مفترى، إلى
غير ذلك.
و (بعيد)، هنا: معناه من الحق، والاستقامة.
و (* ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب و لكن البر من آمن بالله و اليوم الآخر
و الملائكة و الكتاب و النبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل
و السائلين و في الرقاب و أقام الصلاة و أتى الزكاة و الموفون بعهدهم إذا عاهدوا و الصابرين في البأساء
و الضراء و حين البأس أولئك الذين صدقوا و أولئك هم المتقون (177))
وقوله تعالى: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب...) الآية: قال
ابن عباس وغيره: الخطاب بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنى: ليس البر الصلاة وحدها (4)،

(1) أخرجه الطبري (2 / 96) برقم (2508 - 2509 - 2510 - 2511 - 2512)، عن قتادة، و الحسن،
و سعيد بن جبير، و الربيع. وذكره ابن عطية (1 / 242)، و أخرجه عبد الرزاق في " التفسير " (1 / 66) عن
قتادة بلفظ: " ما أجرأهم عليها "، و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 309) عن قتادة، و عزاه لابن جرير.
(2) و به قال السدي و جماعة، كما في تفسير الطبري (3 / 332)، عن السدي، و أبي كريب، و ابن زيد، و في
" البحر " (1 / 669) عن ابن عباس والسدي، و المبرد و معمر بن المثنى، و في " الدر " (1 / 169) عن
السدي، و في " فتح القدير " (1 / 172) عنه أيضا. و ينظر: " مجاز القرآن " لأبي عبيدة (1 / 64).
(3) أخرجه الطبري (2 / 98) برقم (2520) و ذكره ابن عطية (1 / 242)، و السيوطي في " الدر " (1 / 309)،
و عزاه لابن جرير.
(4) أخرجه الطبري (2 / 99) برقم (2521 - 2524) بإسنادين عن ابن عباس. و ذكر ابن عطية (1 / 243)،
و السيوطي في " الدر " (1 / 310) بإسنادين، عن ابن عباس، و عزاه لابن جرير، و ابن أبي حاتم.
363

وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهود والنصارى، لأنهم تكلموا في تحويل القبلة، وفضلت
كل فرقة توليها، فقيل لهم: ليس البر ما أنتم فيه، ولكن البر من آمن بالله (1).
وقوله تعالى: (وآتى المال على حبه...) الآية: هذه كلها حقوق في المال سوى
الزكاة، قال الفخر (2): وروت فاطمة بنت قيس، أن في المال حقا سوى الزكاة (3)، وتلا:
(وأتى المال على حبه...) الآية، وعنه صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعان،
وجاره طاويا إلى جنبه " (4) انتهى.

(1) أخرجه الطبري (2 / 99 - 100) برقم (2526 - 2528) عن قتادة، و الربيع بن أنس، وذكره ابن عطية
(1 / 243).
و أخرجه عبد الرزاق في " التفسير " (1 / 66) عن قتادة. و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 310) عن قتادة،
و عزاه لعبد الرزاق، و ابن جرير.
(2) " التفسير الكبير " (5 / 35).
(3) أخرجه الترمذي (3 / 48) في الزكاة، باب ما جاء أن في المال حقا سوى الزكاة (659، 660). و الطبري
(2 / 57)، و الدارمي (1 / 385) في الزكاة، باب ما يجب في مال سوى الزكاة. و الدارقطني (2 / 125)
في الزكاة، باب تعجيل الصدقة قبل الحول رقم (11، 12). و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (2 /
27)، و البيهقي (4 / 84) في الزكاة: باب الدليل على أن من أدى فرض الله في الزكاة، فليس عليه أكثر
منه إلا أن يتطوع... من طريق شريك، عن أبي حمزة، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس بنحوه.
و قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذلك، و أبو حمزة ميمون الأعور يضعف. وروى بيان
و إسماعيل بن سالم، عن الشعبي هذا الحديث من قوله. و هذا أصح. و قال البيهقي: هذا حديث يعرف
بأبي حمزة ميمون الأعور كوفي، و قد جرحه أحمد بن حنبل، و يحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ
الحديث. والذي يرويه أصحابنا في التعاليق ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادا.
و أخرجه ابن ماجة بالإسناد السابق (1 / 570) في الزكاة، باب ما أدي زكاته ليس بكنز (1789) بلفظ:
" ليس في المال حق سوى الزكاة ".
و قال النووي كما في تخريج أحاديث " الكشاف " للزيلعي (1 / 107): حديث " ليس في المال حق سوى
الزكاة " حديث منكر: ثم نقل كلام البيهقي برمته.
و بالجملة فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي. و قال البيهقي: لا
يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، و هو ضعيف. و من تابعه أضعف منه.
و للفظ الأول من الحديث شاهد أخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " (3 / 89، 90)، من طريق
موسى بن إسماعيل، عن محمد بن راشد، عن عبد الكريم، عن حبان بن جزي، عن أبي هريرة، عن
النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " في المال حق بعد الزكاة "؟ قال: نعم، يحمل على النجيبة ".
(4) أخرجه البزار (1 / 76 -. كشف) رقم (115)، من طريق حسين بن علي الجعفي، ثنا سفيان بن عيينة "
عن علي بن زيد بن جدعان، عن أنس مرفوعا بلفظ: " ليس المؤمن الذي يبيت شبعان و جاره طاوي ".
و قال البزار: لا نعلمه، يروى عن أنس إلا من هذا الوجه.
قلت: و في كلام البزار نظر، حيث إن للحديث طريقا آخر عن أنس: أخرجه الطبراني في " المعجم
364

قال ابن العربي في " أحكامه " (1): وإذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلت بعد ذلك حاجة،
فإنه يجب صرف المال إليها باتفاق من العلماء، وقد قال مالك: يجب على كافة المسلمين
فداء أسراهم، وإن استغرق ذلك أموالهم، وكذلك إذا منع الوالي الزكاة، فهل يجب على
الأغنياء إغناء الفقراء؟ الصحيح: وجوب ذلك عليهم. انتهى.
ومعنى: (آتي): أعطى على حبه، أي: على حب المال، ويحتمل أن يعود الضمير
على اسم الله تعالى من قوله: (من آمن بالله)، أي: من تصدق محبة في الله وطاعته.
* ص *:: والظاهر أن الضمير في " حبه " عائد على " المال "، لأن قاعدتهم أن الضمير
لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل. انتهى.
قال * ع (2) *: والمعنى المقصود أن يتصدق المرء في هذه الوجوه، وهو صحيح
شحيح يخشى الفقر، ويأمل الغنى، كما قال صلى الله عليه وسلم (3). والشح، في هذا الحديث: هو

الكبير " (1 / 259) رقم (751)، من طريق محمد بن سعيد الأثرم، ثنا همام، ثنا ثابت، ثنا أنس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " ما آمن بي من بات شبعانا، و جاره جائع إلى جنبه، و هو يعلم به ". و الحديث ذكره
الهيثمي في " المجمع " (8 / 170)، و قال: رواه الطبراني، و البزار، و إسناد البزار حسن.
والحديث ذكره أيضا المنذري في " الترغيب " (3 / 334)، و قال: رواه الطبراني، و البزار، و إسناده
حسن، و للحديث شاهد من حديث ابن عباس.
أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " رقم (110)، و في " التاريخ الكبير " (5 / 195، 196)، و أبو يعلى
(5 / 92) رقم (2699)، و الحاكم (4 / 167)، و الطبراني في " الكبير " (12 / 154) رقم (12741)،
و الخطيب في " التاريخ بغداد " (10 / 392)، كلهم من طريق سفيان عن عبد الملك بن أبي بشير، عن
عبد الله بن المساور، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " ليس المؤمن الذي يشبع، و جاره جائع
إلى جنبه ".
و الحديث ذكره المنذري في " الترغيب " (3 / 334)، و قال: رواه الطبراني، و أبو يعلى وراثته ثقات.
و قال الهيثمي في " المجمع " (8 / 170): رواه الطبراني، و أبو يعلى، و رجاله ثقات.
(1) ينظر: " الأحكام " (1 / 59).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 243).
(3) أخرجه البخاري (3 / 334) في الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح (1419)، و (5 / 439 - 540) في
" الوصايا "، باب الصدقة عند الموت (2748)، و مسلم (2 / 716) في الزكاة، باب بيان أن أفضل الصدقة
صدقة الصحيح الشحيح (92 - 93 / 1032)، و أبو داود (6 / 126) في الوصايا، باب ما جاء في كراهية
الإضرار في الوصيد (2865)، و النسائي (5 / 68) في الزكاة، باب أي الصدقة أفضل، و (6 / 237) في
الوصايا، باب الكراهية في تأخير الوصية، و ابن ماجة (2 / 903) في الوصايا، باب النهي عن الإمساك في
الحياة، و التبذير عند الموت (2706). و البخاري في " الأدب المفرد " (786)، و أحمد (2 / 231،
415، 447)، و ابن خزيمة (4 / 103) برقم (2454)، و البيهقي (4 / 190)، و البغوي (3 / 423) برقم
365

الغريزي الذي في قوله تعالى: (وأحضرت الأنفس الشح) [النساء: 128] وليس المعنى أن
يكون المتصدق متصفا بالشح الذي هو البخل.
(وفي الرقاب)، أي: العتق، وفك الأسرى.
(والصابرين): نصب على المدح، أو على إضمار فعل، وهذا مهيع (1) في تكرار
النعوت.
و (البأساء): الفقر والفاقة.
(والضراء): المرض، ومصائب البدن، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أول من يدعى إلى الجنة الذين يحمدون الله في السراء والضراء "
رواه الحاكم في " المستدرك "، وقال: صحيح على شرط مسلم (2). انتهى من " السلاح ".

(1665)، من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم
فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟...... " فذكره.
(1) المهيع: هو الطريق الواسع المنبسط. ينظر: " لسان العرب " (4783) (هيع).
(2) أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (1 / 103)، و في " الأوسط " (4 / 44) رقم (3057)، و في
" الكبير " (12 / 19) رقم (12345)، و أبو نعيم في " الحلية " (5 / 69). كلهم من طريق قيس بن الربيع،
عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا.
و قال الطبراني: لم يروه عن حبيب إلا قيس بن الربيع، و شعبة بن الحجاج، عن نصر بن حماد الوراق.
و قال أبو نعيم: رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، وذكره الهيثمي في " جمع الزوائد " (10 / 98)،
و قال: رواه الطبراني في الثالثة بأسانيد، وفي أحدها قيس بن الربيع وثقه شعبة، و الثوري، و غيرهما.
و ضعفه يحيى القطان، و غيره، و بقية رجاله رجال الصحيح اه‍.
قلت: قيس بن الربيع في سند الطبراني في معاجمه الثلاثة، و ليس كما يوهم كلام الهيثمي.
و الحديث ضعفه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " (4 / 79)، و أعله بقيس بن الربيع، و قال: ضعفه
الجمهور، وهذا الحديث قد رواه شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، كما أشار إلى ذلك الحافظ أبو نعيم.
أخرجه الطبراني في " الصغير " (1 / 103)، و البغوي في " شرح السنة " (3 / 84 - بتحقيقنا). كلاهما من
طريق نصر بن حماد الوراق، نا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به.
و هذا سند ضعيف جدا.
نصر بن حماد قال النسائي، و غيره: ليس بثقة، ينظر " المغني " للذهبي (6609).
و تابعهما عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن حبيب.
أخرجه الحاكم (1 / 502).
و قال: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. و المسعودي لم يخرج له مسلم شيئا، فضلا عن
اختلاطه.
366

وفي صحيح مسلم، عن صهيب (1)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عجبا لأمر المؤمن،
إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إذا أصابته سراء فشكر، فكان خيرا له
وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له " (2) انتهى.
(وحين البأس)، أي ن: وقت شدة القتال، هذا قول المفسرين في الألفاظ الثلاثة،
تقول العرب: بئس الرجل إذا افتقر، وبؤس إذا شجع، ثم وصف تعالى أهل هذه الأفعال
البرة بالصدق في أمورهم، أي: هم عند الظن بهم والرجاء فيهم، كما تقول: صدقني
المال، وصدقني الرمح، ووصفهم تعالى / بالتقى، والمعنى: هم الذين جعلوا بينهم وبين
عذاب الله وقاية.
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى فمن
عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم و رحمة فمن اعتدى
بعد ذلك فله عذاب أليم (178) و لكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقو (179))
و قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص...) الآية: (كتب):
معناه: فرض، و أثبت، و صورة فرض القصاص (3)، هو أن القاتل فرض عليه، إذا أراد

(1) هو: صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر. أبو يحيى. الرومي. الربعي.
النمري.
و هو صحابي مشهور. روى عنه أولاده حبيب، و حمزة، و سعد، و صالح، و صيفي، و عباد، وعثمان،
و محمد. و حفيده زياد بن صيفي. و روى عنه أيضا جابر الصحابي. و سعيد بن المسيب. و إنما قيل له
الرومي، قيل: لأن الروم سبوه صغيرا حين كان أبوه و عمه عاملين لكسرى على " الأبلة "، و كانت لهم
منازل على " دجلة " عند الموصل، و قيل غير ذلك. وروى الستة عنه قال: لم يشهد رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
مشهدا قط إلا كنت حاضره، ولم يبايع بيعة قط إلا كنت حاضره، و لم يسر سرية قط إلا كنت حاضرها،
و لا غزا غزاة قط إلا كنت فيها عن يمينه أو شماله، و ما خافوا أمامهم قط إلا كنت أمامه، توفي سنة (38)
و قيل (39)، و قيل في شوال سنة 38، و له (70 سنة).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 36)، " الإصابة " (3 / 254)، " الاستيعاب " (2 / 726)، " الاستبصار "
(78، 134)، " الرياض المستطابة " (130)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 268)، " عنوان النجابة "
(106)، " أصحاب بدر " (108)، " الثقات " (3 / 194)، " الكاشف " (2 / 32)، " حلية الأولياء " (1 /
372)، " التحفة اللطيفة " (2 / 144)، " تنقيح المقال " (5811)، " بقي بن مخلد " (95).
(2) أخرجه مسلم (4 / 2295) كتاب " الزهد "، باب المؤمن أمره كله خير، حديث (64 / 2999).
و هذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى مسلم. و ينظر: " تحفة الأشراف " (4 /
200).
(3) القصاص: أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل. كذا في " المغرب ". و في " الصحاح ": القصاص: القود، و قد
أقص الأمير فلانا من فلان إذا اقتص له منه فجرحه مثل جرحه أو قتله.
367

الولي القتل، الاستسلام لأمر الله، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه، وترك
التعدي على غيره، فإن وقع الرضا بدون القصاص من دية أو عفو، فذلك مباح، والآية
معلمه أن القصاص هو الغاية عند التشاح (1)، و (القصاص): مأخوذ من: قص الأثر،
فكأن القاتل سلك طريقا من القتل، فقص أثره فيها.
ينظر: " الصحاح " (3 / 1052)، و " القاموس المحيط " (2 / 324)، و " المصباح المنير " (2 / 778)،
و " المغرب " (2 / 182).
و قد اضطربت القوانين الوضعية في هذا القصاص، و اختلفت أنظار المفكرين في جوازه أو عدمه، و أخذ
كل يدافع عن فكرته، و يحاجج عن رأيه، حتى رمى بعض الغلاة الإسلام بالقسوة في تقرير هذه العقوبة،
و قالوا: إنها غير صالحة لهذا الزمن، و قد نسوا أن الإسلام جاء في ذلك بما يصلح البشر على مر الزمن
مهما بلغوا في الرقي، و تقدموا في الحضارة.
كانت هذه العقوبة موجودة قبل الإسلام، و لكن للاعتداء فيها يده المثمرة، و للإسراف فيها ضرره البالغ،
فحد الإسلام من غلوائها، و قصر من عدوانها، و منع الإسراف منها. فقال تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد
جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا) [الإسراء: 33] فلم يبح دم من لم يشترك في
القتل قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى
بالأنثى).
و قال عز من قائل: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف...)
[المائدة: 45] الآية، و لكنه أفسح المجال للفصل بين الناس، و ترك الجماعة الراقية مع ذلك أن ترى
خيرا في العفو عن الجاني فقال: (فمن تصدق به فهو كفارة له) [المائدة: 45] على أن العقلاء الذين
خبروا الحوادث، وعركوا الأمور، و درسوا طبائع النفوس البشرية، و نزعاتها و غرائزها، فهداهم تفكيرهم
الصحيح إلى صلاح هذه العقوبة، لإنتاج الغاية المقصودة، وهي إقرار الأمن و طمأنة النفوس، و درء
العدوان و البغي، و إنقاذ كثيرين من الهلاك، قال تعالى: (و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
ولقد فهم أولو الألباب هذه الحكمة البالغة، و قدروها حق قدرها، و ها نحن أولاء نرى اليوم أن الاسم
التي ألغت هذه العقوبة عادت إلى تقريرها لما رأته في ذلك من المصلحة.
و أمكننا الآن أن نقول: إنه ليس هناك من خلاف كبير بين الإسلام و القوانين الوضعية في هذا الموضوع.
أما القصاص في غير القتل مما ورد في الآية الكريمة: (و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن
و السن بالسن والجروح قصاص) [المائدة: 45] فهو في غاية الحكمة و العدالة، إذ لو لم يكن الأمر
كذلك لاعتدى القوي على الضعيف، و شوه خلقته، و فعل به ما أمكنته الفرصة لا يخشى من وراء ذلك
ضررا يناله، أو شرا يصيبه، ولو اقتصر الأمر على الديات كما هو الحال في القوانين الوضعية لكان سهلا
على الباغي يسيرا على الجاني، و لتنازل الإنسان عن شئ من ماله في سبيل تعجيز عدوه، و تشويهه ما
دامت القوة في يده، و لكنه لو عرف أن ما يناله بالسوء من أعضاء عدوه سيصيب أعضاءه مثله كذلك،
انكمش و ارتدع، وسلموا جميعا من الشر.

(1) يقال: هما يتشاحان على أمر: إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته...، و تشاح الخصمان في
الجدل كذلك. ينظر: " لسان العرب " (2205).
368

روي عن ابن عباس، أن هذه الآية محكمة (1)، وفيها إجمال فسرته آية " المائدة "،
وأن قوله سبحانه: (الحر بالحر) يعم الرجال والنساء، وأجمعت الأمة على قتل الرجل
بالمرأة، والمرأة بالرجل (2).
وقوله تعالى: (فمن عفي له من أخيه شئ...) الآية: فيه تأويلات:
أحدها: أن " من " يراد بها القاتل، و " عفي ": تتضمن عافيا، وهو ولي الدم، والأخ:
هو المقتول، و " شئ ": هو الدم الذي يعفى عنه، ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن
عباس، وجماعة من العلماء (3)، والعفو على هذا القول على بابه.
والتأويل الثاني: وهو قول مالك، أن " من " يراد بها الولي، وعفي: بمعنى: يسر، لا
على بابها في العفو، والأخ: يراد به القاتل، و " شئ ": هي الدية، والأخوة على هذا أخوة
الإسلام.
والتأويل الثالث: أن هذه الألفاظ في معنى: الذين نزلت فيهم الآية، وهم قوم
تقاتلوا، فقتل بعضهم بعضا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم، ويقاصهم بعضهم من بعض
بالديات على استواء الأحرار بالأحرار، والنساء بالنساء، والعبيد بالعبيد، فمعنى الآية: فمن
فضل له من إحدى الطائفتين على الأخرى شئ من تلك الديات، وتكون: " عفى " بمعنى
فضل.
وقوله تعالى: (فاتباع): تقديره: فالواجب والحكم: اتباع، وهذا سبيل الواجبات،
كقوله تعالى: (فإمساك بمعروف) [البقرة: 229] وأما المندوب إليه، فيأتي منصوبا، كقوله
تعالى، (فضرب الرقاب) [محمد: 4]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء
من الطالب، وحسن القضاء من المؤدي.
وقوله سبحانه: (ذلك تخفيف) إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة، من أخذ الدية،
وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم، إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه

(1) المحكم: هو ما لا يحتمل شيئا من ذلك، و حكمه بثبوت ما انتظمه على اليقين، و يرادفه المبين عند
علماء الشافعية.
(2) أخرجه الطبري (2 / 110) برقم (2579)، و البيهقي في " السنن " (8 / 39 - 40)، و ذكره ابن عطية (1 /
245)، و أورده ابن عباس في " تفسيره " (ص 93 / 52) و ابن كثير (1 / 209)، و السيوطي في " الدر " (1 /
316)، و عزاه للنحاس في " ناسخه ".
(3) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 245).
369

الآية، هو أن يأخذ الرجل دية وليه، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم.
واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه، فقال فريق من العلماء، منهم مالك: هو
كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء، عفا عنه، وعذابه في الآخرة، وقال قتادة
وغيره: يقتل البتة، ولا عفو فيه (1)، وروي في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (و لكم في القصاص حياة): المعنى: أن القصاص إذا أقيم، وتحقق
الحكم به، أزدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه، فحييا بذلك معا، وأيضا: فكانت
العرب إذا قتل الرجل الآخر، حمي قبيلاهما (2)، وتقاتلوا، وكان ذلك داعيا إلى موت العدد
الكثير، فلما شرع الله سبحانه القصاص، قنع الكل به، ووقف عنده، وتركوا الاقتتال،
فلهم في ذلك حياة، وخص أولوا الألباب بالذكر، تنبيها عليهم، لأنهم العارفون القابلون
للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم.
و (تتقون) معناه: القتل، فتسلمون من القصاص، ثم يكون ذلك داعية لأنواع
التقوى في غير ذلك، فإن الله سبحانه / يثيب على الطاعة بالطاعة.
(كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف
حقا على المتقين (180) فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم (181) فمن
خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم (182))
و قوله تعالى: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت...) الآية: (كتب): معناه:
فرض وأثبت، وفي قوله تعالى: (إذا حضر) مجاز، لأن المعنى: إذا تخوف وحضرت
علاماته.
والخير في هذه الآية: المال، واختلف في هذه الآية، هل هي محكمة، أو منسوخة،
فقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة، ونسخ منها كل من
يرث بآية الفرائض (3)، وقال بعض العلماء: إن الناسخ لهذه الآية هي السنة المتواترة، وهو

(1) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 246) عن قتادة، و عكرمة، و السدي، و غيرهم.
(2) القبيل: الجماعة من الناس يكونون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى، كالزنج والروم و العرب، و قد
يكونون من نحو واحد، و ربما كان القبيل من أب واحد كالقبيلة. وجمع القبيل قبل. ينظر: " لسان
العرب " (3519).
(3) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 122 - 123) عن ابن عباس، والحسن، و قتادة بألفاظ متقاربة،
و أخرجه عبد الرزاق في " تفسيره " عن قتادة، و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 248).
370

وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (1).
و (بالمعروف): معناه بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة، ولا تنزير (2)
للوصية و (حقا): مصدر مؤكد، وخص " المتقون " بالذكر، تشريفا للرتبة، ليتبادر الناس
إليها.
وقوله تعالى: (فمن بدله بعد ما سمعه...) الآية: الضمير في " بدله " عائد على
الإيصاء، وأمر الميت، وكذلك في " سمعه "، ويحتمل أن يعود الذي في " سمعه " على أمر
الله تعالى في هذه الآية، والأول أسبق للناظر، و (سميع عليم): صفتان لا يخفى معهما
شئ من جنف الموصين، وتبديل المتعدين، والجنف: الميل.
ومعنى الآية على ما قال مجاهد: من خشي أن يحيف الموصي، ويقطع ميراث
طائفة، ويتعمد الإذاءة، فذلك هو الجنف في إثم، وإن لم يتعمد، فهو الجنف دون إثم (3)،
فالمعنى: من وعظه في ذلك ورده عنه، وأصلح ما بينه وبين ورثته، وما بين الورثة في
ذاتهم، فلا أثم عليه، (إن الله غفور رحيم) بالموصي، إذا عملت فيه الموعظة، ورجع
عما أراد من الإذاءة.
وقال ابن عباس وغيره: معنى الآية: (من خاف)، أي: علم، ورأى بعد موت
الموصي، أن الموصي حاف، وجنف، وتعمد إذاءة بعض ورثته، (فأصلح) ما بين
الورثة، (فلا إثم عليه)، وإن كان في فعله تبديل ما، لأنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي
فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى (4).
(يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم
تتقون (183) أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر و على
الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له و أن تصوموا خير لكم إن

(1) تقدم.
(2) التنزير: تفعيل من التزر، وهو: القليل التافه من كل شئ. و المقصود ألا يقلل من الوصية و لو شيئا
يسيرا.
(3) أخرجه الطبري (2 / 129) برقم (2697) - 2698) بإسنادين مختلفين، عن مجاهد. وذكره ابن عطية
(1 / 249)، والبغوي في تفسيره (1 / 148)، و السيوطي في " الدر " (1 / 321)، و عزاه لابن جرير،
و عبد بن حميد.
(4) أخرجه الطبري (2 / 129) برقم (2699)، وذكره ابن عطية (1 / 249)، والسيوطي في " الدر " (1 /
320)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
371

كنتم تعلمون (184))
قوله جلت قدرته: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام...) الآية: (كتب):
معناه فرض، والصيام، في اللغة: الإمساك، ومنه قوله سبحانه: (إني نذرت للرحمن
صوما) [مريم: 26] وفي الشرع: إمساك عن الطعام والشراب مقترنة به قرائن، من مراعاة
أوقات، وغير ذلك.
وقوله تعالى: (كما كتب على الذين من قبلكم): اختلف في موضع التشبيه: قالت
فرقة: التشبيه: كتب عليكم كصيام قد تقدم في شرع غيركم، ف‍ " الذين " عام في النصارى (1)
وغيرهم.
و (لعلكم): ترج في حقهم.
و (تتقون): قيل على العموم، لأن الصيام، كما قال صلى الله عليه وسلم: " جنة (2) ووجاء، وسبب

(1) هذا قول، و القول الثاني: أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم و إلى قدره، و هذا ضعيف، لأن تشبيه الشئ
بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور، فأما أن يقال: إنه يقتضي الاستواء في كل الأمور فلا. ثم
القائلون بهذا القول ذكروا وجوها. أحدها: أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود، و النصارى،
أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر و صامت يوما من السنة، و زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون، وكذبوا في
ذلك أيضا، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان،
فصادفوا فيه الحر الشديد، فحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: نزيد فيه، فزادوا عشرا، ثم
بعد زمان اشتكى ملكهم، فنذر سبعا، فزادوه، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال: ما بال هذه الثلاثة،
فأتمه خمسين يوما، و هذا معنى قوله تعالى: (اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا) [التوبة: 31] وهذا
مروي عن الحسن. و ثانيها: أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا، فصاموا قبل الثلاثين يوما و بعدها يوما، ثم لم
يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوما، ولهذا كره صوم يوم الشك، و هو
مروي عن الشعبي، و ثالثها: أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام و الشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك
حراما على سائر الأمم. و احتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى: (أحل لكم
ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) [البقرة: 187] يفيد نسخ هذا الحكم، فهذا الحكم لابد فيه من دليل
يدل عليه، و لا دليل عليه إلا هذا التشبيه و هو قوله: (كما كتب على الذين من قبلكم)، فوجب أن يكون
هذا التشبيه دليلا على ثبوت هذا المعنى، قال أصحاب القول الأول: قد بينا أن تشبيه شئ بشئ لا يدل
على مشابهتهما من كل الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصا برمضان،
و أن يكون صومهم مقدرا بثلاثين يوما، ثم إن هذه الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود
و النصارى كونه كذلك.
ينظر: " الفخر الرازي " (5 / 60).
(2) أخرجه البخاري (4 / 125)، كتاب " الصوم "، باب فضل الصوم حديث (1894)، و مسلم (2 / 806)
كتاب " الصيام "، باب فضل الصيام حديث (162 / 1151). ومالك (1 / 301) كتاب " الصيام "، باب
372

تقوى، لأنه يميت الشهوات ".
و (أياما معدودات): قيل: رمضان، وقيل: الثلاثة الأيام من كل شهر، ويوم
عاشوراء التي نسخت بشهر رمضان.
* ص *: و (أياما): منصوب بفعل مقدر يدل عليه ما قبله، أي: صوموا أياما،
وقيل: (أياما): نصب على الظرف (1) انتهى.

جامع الصيام حديث (58). و أبو داود (1 / 72)، كتاب " الصيام "، باب الغيبة للصائم حديث (2363).
و أحمد (2 / 465)، و البيهقي (4 / 269) كتاب " الصيام "، باب الصائم ينزه صيامه عن اللفظة و المشاتمة،
و البغوي في " شرح السنة " (3 / 453 - بتحقيقنا)، كلهم من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة،
أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: " الصيام جنة، فلا يرفث، ولا يجهل، و إن امرؤ قاتله أو شاتمه - فليقل: إني
صائم مرتين -، و الذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه،
و شرابه، و شهوته من أجلي، الصيام لي، و أنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها " لفظ البخاري.
و أخرجه البخاري (4 / 141) كتاب " الصيام "، باب هل يقول الصائم: إني صائم إذا شتم، حديث
(1904). ومسلم (2 / 806)، كتاب " الصيام "، باب فضل الصيام، حديث (163 / 1151). و النسائي
(4 / 1263)، كتاب " الصوم "، باب فضل الصوم، و أحمد (2 / 273)، والبيهقي (4 / 270). كلهم من
طريق ابن جريج، حدثني عطاء عن أبي صالح، عن أبي هريرة به.
و أخرجه البخاري (1 / 381)، كتاب " اللباس "، باب ما يذكر في المسك، حديث (5927). ومسلم
(2 / 806) كتاب " الصيام "، باب فضل الصيام، حديث (161 / 1151). و الترمذي (3 / 136)، كتاب
" الصوم "، باب ما جاء في فضل الصوم، حديث (764). و النسائي (4 / 164)، كتاب " الصوم "، باب
فضل الصوم. و أحمد (2 / 281)، و عبد الرزاق (4 / 306) رقم (7891). والبغوي في " شرح السنة " (3 / 451 - بتحقيقنا). كلهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به.
و قال الترمذي: حديث أبي هريرة حسن غريب من هذا الوجه.
و أخرجه البخاري (13 / 472) كتاب " التوحيد "، باب قول الله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله)
حديث (7492)، و مسلم (2 / 806) كتاب " الصيام "، باب فضل الصيام، حديث (164 / 1151)،
و أحمد (2 / 393، 443، 477، 480).
و ابن ماجة (1 / 525)، كتاب " الصيام "، باب ما جاء في فضل الصيام حديث (1638)، (2 / 1256)،
كتاب " الأدب "، باب فضل العمل حديث (3823)، و البغوي في " شرح السنة " (3 / 45 - بتحقيقنا)، من
طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
و أخرجه البخاري (13 / 521) كتاب " التوحيد "، باب ذكر النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و روايته عن ربه حديث (7538)،
و أحمد (2 / 457، 467، 504). والطيالسي (1 / 181 - منحة) رقم (863)، من طريق محمد بن
زياد، عن أبي هريرة.
و أخرجه أحمد (2 / 503)، و الدارمي (2 / 25) كتاب " الصيام "، باب فضل الصيام، و أبو يعلى (10 /
353) رقم (5947)، من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
(1) و قيل: منصوب بالصيام، و لم يذكر الزمخشري غيره. ونظره بقولك: " نويت الخروج يوم الجمعة "،
373

وقوله سبحانه: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر): التقدير: فأفطر، (فعدة)،
وهذا يسمونه فحوى (1) الخطاب، واختلف العلماء في حد المرض الذي يقع به الفطر،
فقال جمهور العلماء: إذا كان به مرض يؤذيه، ويؤلمه أو يخاف تماديه، أو يخاف من
الصوم تزيده، صح له الفطر، وهذا مذهب حذاق أصحاب مالك، وبه يناظرون، وأما لفظ
مالك: فهو المرض الذي يشق على المرء، ويبلغ به، واختلف في الأفضل / من الفطر أو
الصوم، ومذهب مالك استحباب الصوم لمن قدر عليه، وتقصير الصلاة حسن، لأن الذمة
تبرأ في رخصة الصلاة، وهي مشغولة في أمر الصيام، والصواب: المبادرة بالأعمال.
والسفر: سفر الطاعة، كالحج، والجهاد، بإجماع، ويتصل بهذين سفر صلة الرحم،
وطلب المعاش الضروري.
وأما سفر التجارة، والمباحات، فمختلف فيه بالمنع، والجواز، والقول بالجواز
أرجح.

و هذا ليس بشئ، لأنه يلزم الفصل بين المصدر و معموله بأجنبي، و هو قوله: " كما كتب " لأنه ليس
معمولا للمصدر على أي تقدير قدرته. فإن قيل: يجعل " كما كتب " صفة للصيام، و ذلك على رأي من
يجيز وصف المعرف بأل الجنسية بما يجري مجرى النكرة فلا يكون أجنبيا. قيل: يلزم من ذلك وصف
المصدر قبل ذكر معمولا، و هو ممتنع.
و قيل: منصوب بالصيام على أن تقدر الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، و إن كان
ضعيفا، فيكون التقدير: " الصيام صوما كما كتب " فجاز أن يعمل في " أياما " " الصيام " لأنه إذا ذاك عامل
في " صوما " الذي هو موصوف ب‍ " كما كتب " فلا يقع الفصل بينهما بأجنبي بل بمعمول المصدر.
و قيل: ينتصب بكتب: إما على الظرف و إما على المفعول به توسعا، و إليه نحا الفراء و تبعه أبو البقاء.
قال أبو حيان: " و كلا القولين خطأ: أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، و الكتابة ليست واقعة في
الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام. و أما النصب على المفعول اتساعا فإن ذلك مبني على كونه
ظرف لكتب، و قد تقدم أنه خطأ. ينظر: " الدر المصون " (1 / 460).
(1) وهو: مفهوم الموافقة و هو ما كان مدلول اللفظ في محل المسكوت موافقا لمعناه في محل المنطوق،
و يسمى " دلالة النص "، و " فحوى الخطاب "، و " لحن الخطاب ".
و قد اتفق الشافعية، والحنفية على حجية الفحوى، و اشترط الشافعية أولوية المسكوت.
و ينظر تفصيل ذلك في: " البحر المحيط " للزركشي (4 / 7)، " البرهان " لإمام الحرمين (1 / 449)،
" الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي (3 / 62)، " نهاية السول " للأسنوي (2 / 202)، " غاية الوصول "
للشيخ زكريا الأنصاري (37)، " المنخول " للغزالي (208)، " حاشية البناني " (1 / 240)، " الإبهاج " لابن
السبكي (1 / 367)، " الآيات البينات " لابن قاسم العبادي (20 / 15)، " حاشية العطار على جمع
الجوامع " (1 / 319)، " التحرير " لابن الهمام (29)، " حاشية التفتازاني و الشريف على مختصر المنتهى "
(2 / 172)، " التقرير و التحبير " لابن أمير الحاج (1 / 112).
374

وأما سفر العصيان، فمختلف فيه بالجواز، والمنع، والقول بالمنع أرجح.
ومسافة سفر الفطر، عند مالك، حيث تقصر الصلاة ثمانية وأربعون (1) ميلا.

(1) يباح للمسافر الفطر في رمضان إذا تحققت الشروط الآتية:
الأول: أن يكون سفره سفر قصر، أي: أن يكون سفرا طويلا، و السفر الطويل: ما كان مرتحلين فأكثر،
و هما: سير يومين من غير ليلة على الاعتبار، أو ليلتين بلا يوم كذلك، أو يوم و ليلة مع النزول المعتاد،
لنحو استراحة، أو أكل أو صلاة، و أن تكون المرحلتان بسير الأثقال. أي: الحيوانات المثقلة بالأحمال،
و البحر كالبر في اشتراط المسافة المذكورة، فلو قطع الأميال فيه في ساعة مثلا لشدة جري السفينة
بالهواء، فإنه يبيح له الفطر أيضا، لوجود المسافة الصالحة، و لا يضر قطعها في زمن يسير. فإن قيل: إذا
قطع المسافة في لحظة صار مقيما، فكيف يتصور ترخيصه فيها؟
أجيب بأنه لا يلزم من وصول المقصد انتهاه الرخصة.
الشرط الثاني: أن يكون سفره في غير معصية بألا يكون عاصيا بالسفر، وهو الذي أنشأ سفره معصية،
و لا عاصيا بالسفر في السفر، وهو الذي أنشأ سفره طاعة ثم قلبه معصية. أما العاصي في السفر، وهو من
أنشأ سفره طاعة، و استمر كذلك إلا أنه وقعت منه معصية في أثناء سفره، فيجوز له الفطر، ولم يجوز
الشارع الفطر لمن كان سفره في معصية، لأن ذلك يكون إعانة له على المعصية، و لأن جواز الفطر
رخصة و الرخصة لا تناط بالمعاصي.
و بناء على هذين الشرطين يمكن أن يقال: إن المسافر الذي كان سفره في غير معصية، و كان سفره سفر
قصر يباح له الفطر بالإجماع، لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر)
أي: فله الفطر و عليه عدة من أيام أخر، و لما روت السيدة عائشة - رضي الله عنها، أن حمزة بن عمر
الأسلمي قال: يا رسول الله أأصوم في السفر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " إن شئت فصم، و إن شئت
فأفطر ". ثم إن كان المسافر ممن لا يجهده الصوم. أي: لا يتضرر به، فالأفضل له الصوم، لما روى عن
أنس - رضي الله عنه - أنه قال للصائم في السفر: " إن أفطرت فرخصة، وإن صمت فأفضل ". و أنه لو
أفطر عرض الصوم للنسيان، و حوادث الأيام، و لأن شهر الصوم له أفضلية و مزية على سائر الأيام. وإن
كان المسافر ممن يجهده الصوم، أي: يتضرر به فالأفضل له الفطر، لما روى جابر - رضي الله عنه - أنه
قال: مر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في سفر برجل تحت شجرة يرش عليه الماء، فقال (عليه السلام): " ما بال
هذا "؟ قالوا: صائم يا رسول الله. قال (عليه السلام): " ليس من البر الصيام في السفر ".
فإن صام المسافر ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر، لأن العذر قائم، كما لو صام المريض و أراد أن يفطر.
الشرط الثالث: أن يكون السفر سابقا على الصوم، بأن يكون الشروع فيه سابقا على الشروع في الصوم،
كأن يقع السفر بعد الغروب، و قبل الفجر.
أما إذا كان الشروع في الصوم، فيحرم عليه الفطر، و يجب الصوم.
و قال المزني: له أن يفطر، كما لو أصبح الصحيح صائما، ثم مرض. و المذهب الأول، و هو وجوب
الصوم و عدم جواز الفطر. دليل ذلك: أنه عبادة اجتمع فيها سفر وحضر، وكل عبادة يجتمع فيها سفر
و حضر يغلب جانب الحضر، لأنه الأصل.
و على الأول: لو جامع فيه لزمه الكفارة، لأنه يوم من رمضان هو صائم فيه صوما لا يجوز فيه الفطر.
الشرط الرابع: أن يرجو المسافر إقامة يقضي فيها ما أفطره من أيام سفره، فإن لم يرج إقامة يقتضي فيها ما
375

وقوله تعالى: (فعدة)، أي: فالحكم أو الواجب عدة، وفي وجوب تتابعها قولان،
و (أخر) لا ينصرف للعدل.
وقوله تعالى: (و على الذين يطيقونه فدية...) الآية: قرأ باقي السبعة (1) غير نافع
وابن عامر: " فدية "، بالتنوين " طعام مسكين "، بالإفراد، وهي قراءة حسنة، لأنها بينت
الحكم في اليوم.
واختلفوا في المراد بالآية، فقال ابن عمر وجماعة: كان فرض الصيام هكذا على

أفطره، بأن كان مديم السفر، فلا يباح له الفطر، لأن إباحة الفطر في هذه الحالة تؤدي إلى إسقاط الفرض
بالكلية، نعم، لو قصد القضاء في أيام أخرى من أيام سفره، جاز له الفطر، و لا فرق في جواز الفطر
للمسافر بين أن يكون بأكل أو نحوه، كجماع، وغير ذلك.
و متى أفطر المسافر وجب عليه القضاء دون الفدية، ثم إنه إذا قدم المسافر، أو برئ المريض، و هما
مفطران استحب لهما إمساك بقية النهار، لحرمة الوقت، و لا يجب عليهما ذلك، لأنهما أفطرا بعذر.
و يندب لهما إذا أكلا ألا يأكلا إلا عند من يعرف عذرهما، لخوف التهمة.
و إذا قدم المسافر، وهو صائم، أو برئ المريض وهو صائم، ففي جواز إفطاره وجهان.
أحدهما: أنه يجوز لهما الفطر، وبه قال ابن أبي هريرة، لأنه أبيح لهما الفطر من أول النهار، فجاز لهما
الإفطار في بقية النهار، كما لو دام السفر و المرض.
و ثانيهما: لا يجوز لهما الإفطار، وهو قول القاضي أبي الطيب و جمهور الأصحاب، لأنه زال سبب
الرخصة قبل الترخص. و اعلم أنه لا يباح الفطر في شهر رمضان بسبب من الأسباب المتقدمة، ألا إذا
نوى المفطر الترخص بفطره، بأن يقصد أن الشارع رخص له الفطر، وذلك ليحصل الفرق، و التمييز بين
الفطر الجائز و الفطر الممتنع.
فلو أفطر بدون النية المذكورة حرم عليه الفطر، و أثم به.
(1) و أما قراءة نافع وابن عامر، فهي " فدية طعام مساكين "، وحجتهما في الإضافة أولا: أن الفدية غير
الطعام، و أن الطعام إنما هو المفدى به الصوم، لا الفدية، فإذا كان كذلك فالصواب في القراءة إضافة
الفدية إلى الطعام.
و حجة الجمع أيضا: قوله قبلها: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم)، ثم قال: (أياما معدودات) قالوا: إنما عرف عباده حكم من أفطر الأيام التي كتب عليهم
صومها بقوله: (أياما معدودات)، فإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون قراءة في " المساكين " على
الجمع لا على التوحيد، و يكون تأويل الآية: و على الذين يطيقونه فدية أيام يفطر فيها إطعام مساكين، ثم
تحذف " أياما " و تقديم " الطعام " مكانها.
ينظر: " حجة القراءات " (124 - 125)، " السبعة " (176)، و " و الكشف " (1 / 282)، و " الحجة للقراء
السبعة " (2 / 273)، و " شرح الطيبة " (4 / 91)، و " معاني القراءات " (1 / 192)، " شرح شعلة "
(284، 285)، و " العنوان " (73)، و " إتحاف فضلاء البشر " (1 / 430).
376

الناس، من أراد أن يصوم، صام، ومن أراد أن يفطر أطعم مسكينا، وأفطر، ثم نسخ ذلك
بقوله سبحانه: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) (1) [البقرة: 185]. وقالت فرقة: الآية في
الشيوخ الذين يطيقونه بتكلف شديد (2)، والآية عند مالك: إنما هي فيمن يدركه رمضان
ثان، وعليه صوم من المتقدم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فتركه، والفدية عند
مالك وجماعة من العلماء: مد لكل مسكين.
وقوله تعالى: (فمن تطوع خيرا فهو خير له...) الآية: قال ابن عباس وغيره:
المراد من أطعم مسكينين فصاعدا (3)، وقال ابن شهاب (4): من زاد الإطعام مع.....

(1) أخرجه الطبري (2 / 139) برقم (2747)، و قال أحمد شاكر في " عمدة التفاسير " (3 / 421): " عمر بن
المثنى " هكذا في المطبوعة، و أنا أرجح أن يكون صوابه " محمد بن المثنى "، شيخ الطبري الذي يروي
عنه كثيرا، و لم أجد من يسمى " عمر بن المثنى " إلا رجلا واحدا ذكر في " التهذيب "، و " لسان الميزان "،
على أنه من التابعين ثم لم أجترىء على تصحيحه هذا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذي لم
نجد تراجمهم.
عبد الوهاب: هو ابن عبد الحميد الثقفي.
عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب " العمري " و هو ثقة
مترجم في " التهذيب "، و ابن أبي حاتم (2 / 2 / 109 - 110)، و من المحتمل أن يكون في المطبوعة
خطأ، و أن يكون صوابه " عبيد الله " بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه، و أوثق عند أئمة الجرح
و التعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في " التهذيب "، و ابن أبي حاتم (2 / 2 / 326 - 327)، وهو
و أخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم: " نافع مولى ابن عمر "، و إنما ظننت هذا الاحتمال، لأن
الحديث مروي من حديث " عبيد الله ".
فرواه البيهقي في " السنن الكبرى " (4 / 200)، من طريق عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد الله بن عمر،
عن نافع، عن ابن عمر. و رواه البخاري مختصرا (4 / 164، 8 / 136) من طريق عبد الأعلى، وهو ابن
عبد الأعلى، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
و رواه البيهقي أيضا من أحد طريقي البخاري.
و الحديث صحيح بكل حال. اه‍.
و ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 325)، و عزاه لوكيع، و سعيد بن منصور، و ابن أبي شيبة في
" المصنف "، و البخاري، و ابن جرير، و ابن المنذر، و البيهقي في " سننه ". وذكره ابن عطية (1 / 252)،
عن ابن عمر، و الشعبي، و سلمة بن الأكوع، و ابن شهاب، و معاذ بن جبل، و علقمة، و النخعي،
و الحسن البصري.
(2) و ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 252).
(3) أخرجه الطبري (2 / 148) برقم (2802) عن ابن عباس بلفظ: " فزاد طعام مسكين آخر "، و ذكره ابن
عطية (1 / 253)، و السيوطي في " الدر " (1 / 327)، عن طاوس بلفظ: " إطعام مساكين "، وعزاه لعبد بن
حميد. اه‍.
(4) محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة القرشي،
377

الصوم (1)، وقال مجاهد: من زاد في الإطعام على المد (2)، و (خيرا) الأول قد نزل منزلة
مال، أو نفع، و (خير) الثاني والثالث صفة تفضيل.
وقوله تعالى: (إن كنتم تعلمون) يقتضي الحض على الصوم، أي: فاعلموا ذلك
وصوموا.
* ت *: وجاء في فضل الصوم أحاديث صحيحة مشهورة، وحدث أبو بكر بن
الخطيب بسنده عن سهل بن سعد الساعدي (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صام يوما تطوعا،
لم يطلع عليه أحد، لم يرض الله له بثواب دون الجنة " (4)، قال: وبهذا الإسناد عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله. انتهى (5).

الزهري، أبو بكر المدني، أحد الأئمة الأعلام و عالم الحجاز و الشام. عن ابن عمر، و سهل بن سعد،
و أنس، و محمود بن الربيع، و ابن المسيب و خلق. و عنه أبان بن صالح، و أيوب، و إبراهيم بن أبي
عبلة، و جعفر بن برقان، و ابن عيينة، و ابن جرير، و الليث، و مالك و أمم. قال ابن المديني: له نحو
ألفي حديث. قال ابن شهاب: ما استودعت قلبي شيئا فنسبته. و قال الليث: ما رأيت عالما قط أجمع من
ابن شهاب. و قال أيوب: ما رأيت أعلم من الزهري. و قال مالك: كان ابن شهاب من أسخى الناس
و تقيا، ماله في الناس نظير. قال إبراهيم بن سعد: مات سنة أربع و عشرين و مائة.
ينظر: " تهذيب الكمال " (3 / 1269)، و " تهذيب التهذيب " (9 / 445)، و " تقريب التهذيب " (2 /
207)، و " خلاصة تهذيب الكمال " (2 / 457)، و " الكاشف " (3 / 96)، و " تاريخ البخاري الكبير "
(1 / 220)، و " تاريخ البخاري الصغير " (1 / 56، 320)، و " الجرح و التعديل " (8 / 318).
(1) أخرجه الطبري (2 / 149) برقم (2813)، و ذكره ابن عطية (1 / 253).
(2) أخرجه الطبري (2 / 149) برقم (2814)، وذكره ابن عطية (1 / 253)، و البغوي في " التفسير " (1 /
150).
(3) هو: سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب.
أبو العباس. و قيل: أبو يحيى، الأنصاري، الساعدي.
قال ابن الأثير في " الأسد ": شهد قضاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم في المتلاعنين، و أنه فرق بينهما، و كان اسمه
حزنا، فسماه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم سهلا. قال الزهري: رأى سهل بن سعد النبي صلى الله عليه و آله و سلم و سمع منه، و ذكر أنه
كان له يوم توفي النبي صلى الله عليه وآله و سلم خمس عشرة سنة. توفي سنة (88) و له (96) سنة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (2 / 472)، " الإصابة " (3 / 140)، " الكاشف " (1 / 407)، " تجريد
أسماء الصحابة " (1 / 244)، " الثقات " (3 / 168)، " الاستيعاب " (2 / 664)، " تهذيب الكمال " (1 /
555)، " تهذيب التهذيب " (4 / 252)، " تقريب التهذيب " (1 / 336)، " الجرح و التعديل " (4 / 853)،
" شذرات الذهب " (1 / 63)، " الرياض المستطابة " (110)، " الأعلام " (1 / 143).
(4) أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " (1 / 278)، عن سهل بن سعد الساعدي.
(5) ينظر المصدر السابق.
378

قال ابن عبد البر في كتابه المسمى ب‍ (بهجة المجالس) قال أبو العالية: الصائم في
عبادة ما لم يغتب.
قال الشيخ الصالح أبو عبد الله محمد البلالي الشافعي في " اختصاره للأحياء ": وذكر
السبكي (1) في شرحه، أن الغيبة تمنع ثواب الصوم إجماعا، قال البلالي: وفيه نظر، لمشقة
الاحتراز، نعم، إن أكثر، توجهت المقالة. انتهى، وهذا الشيخ البلالي لقيته، ورويت عنه
كتابه هذا.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إذا دخل شهر رمضان، فتحت أبواب الجنة، وغلقت
أبواب جهنم " (2) قال أبو عمر في " التمهيد " (3)، وذلك لأن الصوم جنة يستجن بها العبد من
النار، وتفتح لهم أبواب الجنة، لأن أعمالهم تزكو فيه، وتقبل منهم، ثم أسند أبو عمر عن
أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان، لم تعطهن
أمة قبلها: خلوف فم الصائم أطيب / عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى
يفطروا، ويزين الله لهم كل يوم جنته، ثم يقول: يوشك عبادي الصائمون أن يلقوا عنهم
المئونة، والأذى، ثم يصيرون إليك، وتصفد (4) فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون إلى ما
كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم آخر ليلة، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟

(1) علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام، الأنصاري، الخزرجي، الشيخ
الإمام الفقيه، المحدث، الحافظ، المفسر، المقرئ، الأصولي، المتكلم، النحوي، اللغوي، الأديب
الحكيم، المنطقي، الجدلي، الخلافي، النظار، شيخ الإسلام، قاضي القضاة تقي الدين السبكي، ولد
بسبك من أعمال الشرقية في صفر سنة ثلاث و ثمانين و ستمائة. قال ابن الرفعة: إمام الفقهاء و مصنفاته
تزيد على المائة و الخمسين. توفي في جمادى الآخرة سنة ست و خمسين و سبعمائة.
ينظر: " ابن قاضي شهبة " (3 / 603)، و " الدرر الكامنة " (3 / 58)، و " شذرات الذهب " (6 / 187).
(2) أخرجه البخاري (4 / 135) كتاب " الصوم "، باب هل يقال: رمضان، أو شهر رمضان، حديث (1898،
1899)، و مسلم (2 / 758)، كتاب " الصيام "، باب فضل شهر رمضان، حديث (1، 2 / 1079).
و النسائي (4 / 126 - 127)، كتاب " الصيام "، باب فضل شهر رمضان، و أحمد (2 / 357، 401)،
و الدارمي (2 / 26)، كتاب " الصوم "، باب في فضل شهر رمضان، و ابن حبان (3434)، والبيهقي (4 /
202) كتاب " الصيام "، باب ما روي في كراهية قول القائل: جاء رمضان، وذهب رمضان. و البغوي في
" شرح السنة " (3 / 446 - بتحقيقنا)، من حديث أبي هريرة مرفوعا.
(3) ينظر: " التمهيد " (16 / 153).
(4) صفده يفصده صفدا و صفودا و صفده: أوثقه، و شده و قيده في الحديد و غيره، و كذلك التصفيد.
ينظر: " لسان العرب " (2457).
379

قال: لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا انقضى " (1)، قال أبو عمر: وفي سنده أبو
المقدام، فيه ضعف، ولكنه محتمل فيما يرويه من الفضائل.
وأسند أبو عمر عن الزهري، قال: " تسبيحة في رمضان أفضل من ألف تسبيحة في
غيره ". انتهى.
* ت *: وخرجه الترمذي عن الزهري قال: " تسبيحة في رمضان أفضل من ألف
تسبيحة في غيره " (2). انتهى.
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان
فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد
الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم
و لعلكم تشكرون (185))
قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن): الشهر: مشتق من الاشتهار.
قال * ص *: الشهر مصدر: شهر يشهر، إذا ظهر، وهو اسم للمدة الزمانية، وقال
الزجاج: الشهر: الهلال، وقيل: سمي الشهر باسم الهلال. انتهى.
ورمضان: علقه هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمض، وشدة الحر، وكان اسمه
قبل ذلك ناثرا (3).
واختلف في إنزال القرآن فيه، فقال الضحاك: أنزل في فرضه، وتعظيمه، والحض

(1) أخرجه أحمد (2 / 292)، و البزار (1 / 458 - كشف) رقم (963)، من طريق هشام بن زياد، عن
محمد بن محمد بن الأسود، عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
و قال البزار: لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعا، إلا بهذا الإسناد، و هشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو
المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم، و ليس هو بالقوي في الحديث.
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3 / 143)، وقال: رواه أحمد، و البزار، وفيه هشام بن زياد
أبو المقدام، وهو ضعيف. اه‍.
و ذكره الحافظ في " المطالب العالية " (932)، و عزاه لأحمد بن منيع في " مسنده ".
(2) ذكره السيوطي في " الدر " (1 / 341)، عن الزهري، و عزاه للأصبهاني.
(3) الصواب كما في " اللسان " (4337) " ناتقا "، قال ابن منظور: " وناتق: شهر رمضان "، و حكاه عن ابن
سيده و غيره.
380

عليه (1)، وقيل: بدىء بنزوله فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن عباس فيما يؤثر: أنزل إلى السماء
الدنيا جملة واحدة ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم كان جبريل ينزله رسلا رسلا في
الأوامر، والنواهي، والأسباب (2)، وروى واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " نزلت
صحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث
عشرة، والقرآن لأربع وعشرين " (3).
و (هدى) في موضع نصب على الحال من القرآن، فالمراد أن القرآن بجملته من
محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ - هدى ثم شرف، بالذكر، والتخصيص البينات منه، يعني:
الحلال والحرام والمواعظ والمحكم كله، فالألف واللام في الهدى للعهد، والمراد الأول.
قال * ص *: (هدى): منصوب على الحال، أي: هاديا، فهو مصدر وضع
موضع اسم الفاعل، وذو الحال القرآن، والعامل " أنزل ". انتهى.
و (الفرقان): المفرق بين الحق والباطل، و (شهد): بمعنى حضر، والتقدير:
من حضر المصر في الشهر، فالشهر نصب على الظرف.
وقوله سبحانه: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال مجاهد، والضحاك: اليسر: الفطر في السفر، والعسر: الصوم في السفر (4).
* ع (5): والوجه عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك قول
النبي صلى الله عليه وسلم: " دين الله يسر ".
قلت: قال ابن الفاكهاني في " شرح الأربعين " للنووي: فإن قلت: قوله تعالى: (إن
مع العسر يسرا...) [الشرح: 6] الآية: يدل على وقوع العسر قطعا، وقوله تعالى: (يريد

(1) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 254).
(2) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 254).
(3) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 343) و عزاه لابن جرير الطبري.
(4) أخرجه أحمد (4 / 107) من حديث واثلة، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 202)، وقال: رواه
أحمد، و الطبراني في " الكبير " و " الأوسط "، وفيه عمران بن داود القطان، ضعفه يحيى، ووثقه ابن
حبان، و قال أحمد: أرجو أن يكون صالح الحديث. و بقية رجاله ثقات.
(5) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 255).
(6) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 255).
381

الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) يدل على نفي العسر قطعا، لأن ما لا يريده تعالى، لا
يكون بإجماع أهل السنة، قلت: العسر المنفي غير المثبت، فالمنفي: إنما هو العسر في
الأحكام، لا غير، فلا تعارض. انتهى.
وترجم البخاري في " صحيحه " قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا تعسروا "، وكان يحب
التخفيف واليسر على الناس. ثم أسند هو ومسلم عن أنس، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يسروا ولا
تعسروا، وسكنوا ولا تنفروا " (1) وأسند البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم /، أنه قال لأبي موسى،
ومعاذ (2): " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا " (3). قال البخاري: حدثنا أبو اليمان (4)، قال:

(1) أخرجه البخاري (1 / 196) كتاب " العلم "، باب ما كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم يتخولهم بالموعظة، حديث (69)،
(10 / 524) كتاب " الأدب "، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم، " يسروا و لا تعسروا " حديث (6125)، و في " الأدب
المفرد " رقم (469)، و مسلم (3 / 1359) كتاب " الجهاد و السير "، باب في الأمر بالتيسير، و ترك التنفير،
حديث (8 / 1834). و أحمد (3 / 131، 209)، و أبو يعلى (7 / 187) رقم (4172)، و البغوي في
" شرح السنة " (5 / 315 - بتحقيقنا)، من طريق أبي التياح عن أنس مرفوعا.
(2) هو: معاد بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدي بن علي بن
أسد بن ساردة.. أبو عبد الرحمن، الخزرجي، الأنصاري. ثم الجشمي.
هو من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و قد روى عنه من الصحابة عمر، و ابنه عبد الله، و أبو قتادة،
و عبد الله بن عمر، و أنس بن مالك، و أبو ليلى الأنصاري، و من التابعين جنادة بن أبي أمية،
و عبد الرحمن بن علم، و أبو إدريس و غيرهم. توفي قيل: في طاعون " عمواس " سنة (18 أو 17) و له
(38) سنة و قيل: (33)، و قيل: (34).
تنظر ترجمته في: " أسد الغابة " (5 / 194)، " الإصابة " (6 / 106)، " الثقات " (3 / 368)، " تجريد أسماء
الصحابة " (2 / 80)، " بقي بن مخلد " (26)، " الاستيعاب " (3 / 1402)، " الاستبصار " (48، 71، 126)،
" شذرات الذهب " (1 / 30، 62، 63)، " الجرح و التعديل " (8 / 44)، " غاية النهاية " (2 / 301)، " العبر "
(1 / 78)، " تهذيب التهذيب " (10 / 186)، " تهذيب الكمال " (3 / 1338)، " سير أعلام النبلاء " (1 /
443)، " المصباح المضئ " (1 / 66)، " الأعلام " (7 / 258)، " الطبقات الكبرى (9 / 184).
(3) أخرجه البخاري (7 / 660)، كتاب " المغازي "، باب بعث أبي موسى و معاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع،
حديث (4345)، و مسلم (3 / 1359)، كتاب " الجهاد والسير "، باب في الأمر بالتيسير، و ترك التنفير،
و أحمد (4 / 409).
(4) تصحف في المطبوعة إلى " أبو اليمان "، و أبو النعمان هو: محمد بن الفضل السدوسي، أبو النعمان
البصري، الحافظ الملقب ب‍ " عارم ". عن الحمادين، و مهدي بن ميمون، و وهيب بن خالد، وخلق.
و عنه البخاري، و أحمد بن حنبل، و محمد بن يحيى، و عبد بن حميد و خلق. اختلط عارم. قال أبو
حاتم: ثقة، من سمع منه قبل سنة عشرين و مائتين، فسماعه جيد. قال عاصم بن عمر المقدمي: مات
سنة أربع و عشرين و مائتين.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 449)، و " تهذيب التهذيب " (9 / 402)، و " الكاشف " (3 / 89)، و " التقريب "
(2 / 200)، و " المغني " (5903).
382

حدثنا حماد بن زيد (1)، عن الأزرق بن قيس (2). قال: " كنا على شاطئ نهر بالأهواز (3) قد
نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي (4) على فرس، فصلى وخلى فرسه، فانطلق الفرس
فترك صلاته، وتبعها، حتى أدركها، فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي،
فأقبل يقول: أنظروا إلى هذا الشيخ، ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل، فقال: ما عنفني أحد
منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال: إن منزلي منزاح، فلو صليت وتركته، لم آت أهلي إلى
الليل، وذكر أنه قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره (5). انتهى.
وقوله تعالى: (و لتكملوا العدة): معناه: وليكمل من أفطر في سفره، أو في مرضه
عدة الأيام التي أفطر فيها.

(1) حماد بن زيد بن درهم الأزدي، أبو إسماعيل الأزرق، البصري، الحافظ، مولى جرير بن حازم، و أحمد
الأعلام. عن أنس بن سيرين، و ثابت، و عاصم بن بهدلة، و ابن واسع، و أيوب و خلق كثير. و عنه
إبراهيم بن أبي عبلة، و الثوري، و ابن مهدي، و أبو الربيع الزهراني و ابن المديني و خلائق. قال ابن
مهدي: ما رأيت أحفظ منه، و لا أعلم بالسنة، و لا أفقه ب‍ " البصرة " منه. وقال أحمد: من أئمة
المسلمين. قال خالد بن خداش: توفي سنة سبع و تسعين و مائة عن إحدى و ثمانين سنة.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 251)، و " تهذيب التهذيب " (3 / 9)، و " التقريب " (1 / 197)، و " الكاشف "
(1 / 251)، و " الثقات " (6 / 217).
(2) أزرق بن قيس الحارثي بلحارث بن كعب بصري. عن أبي برزة و عبد الله بن عمرو و أنس. و عنه
الحمادان و شعبة، ووثقه النسائي. قال الذهبي: بقي إلى حدود العشرين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 64)، و " تهذيب التهذيب " (1 / 200)، و " التقريب " (1 / 51)، و " الكاشف "
(1 / 102)، و " الثقات " (4 / 62).
(3) أصله أحواز جمع " حوز " أبدلته الفرس، لأنه ليس في كلامهم حاء، و كان اسمها في أيام الفرس
" خوزستان ". و قيل: اسمها هرمز شهر، و أهل هذه البلاد بأسرها يقال لهم الحوز. ينظر: " مراصد
الاطلاع " (1 / 135).
(4) أبو برزة الأسلمي. قال ابن الأثير في " الأسد ": اختلف في اسمه و اسم أبيه و أصح ما قيل فيه: نضلة بن
عبيد قاله أحمد بن حنبل و ابن معين، وقال غيرهما: نضلة بن عبد الله و يقال: نضلة بن عابد، و قال
الخطيب أبو بكر عن الهيثم بن عدي: اسم أبي برزة خالد بن نضلة. نزل البصرة و له بها دار و سار إلى
خراسان فنزل مرو و عاد إلى البصرة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 31)، " الإصابة " (6 / 237)، " تجريد أسماء الصحابة " (2 / 151)،
" بقي بن مخلد " (123)، " الاستيعاب " (4 / 1610)، " تقريب التهذيب " (2 / 294)، " تهذيب التهذيب "
(2 / 20)، " تهذيب الكمال "، " المصباح المضئ " (1 / 208)، " التاريخ الصغير " (1 /
128)، " الكنى و الأسماء " (19)، " التاريخ لابن معين " (2 / 151)، " التاريخ الكبير " (9 / 92)، تبصير
المنتبه " (4 / 1472).
(5) أخرجه البخاري (10 / 541)، كتاب " الأدب "، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " يسروا و لا تعسروا " حديث (6127).
383

وقوله تعالى: (و لتكبروا الله) حض على التكبير في آخر رمضان.
قال مالك: و هو من حين يخرج الرجل من منزله إلى أن يخرج الإمام إلى المصلى،
ولفظه عند مالك وجماعة من العلماء: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ثلاثا.
ومن العلماء من يكبر، ويهلل، ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر
كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وقيل غير هذا. والجميع حسن واسع
مع البداءة بالتكبير.
و (هداكم): قيل: المراد: لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وتعميم
الهدى جيد.
(ولعلكم تشكرون) ترج في حق البشر، أي: على نعم الله في الهدى.
* ص *: (ولعلكم تشكرون) علة الترخيص والتيسير، وهذا نوع من اللف لطيف
المسلك انتهى.
(و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا
دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا
بي لعلهم يرشدون (186))
و قوله جل و علا: (و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان...) الآية.
قال الحسن بن أبي الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " أقريب ربنا فنناجيه، أم
بعيد فنناديه "، فنزلت الآية (1).
و (أجيب): قال قوم: المعنى: أجيب إن شئت، وقال قوم: إن الله تعالى يجيب
كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له أجر في
الآخرة، وهذا بحسب حديث " الموطأ "، وهو: " ما من داع يدعو إلا كان بين إحدى
ثلاث... " (2) الحديث.

(1) أخرجه الطبري (2 / 165) برقم (2913)، وقال شاكر في " عمدة التفاسير " (3 / 481): " و هذا الإسناد
صحيح إلى الحسن، و لكن الحديث ضعيف، لأنه مرسل لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة ".
و أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1 / 73)، و ابن كثير (1 / 218).
(2) أخرجه مالك في " الموطأ " (1 / 218). كتاب " القرآن "، باب العمل في الدعاء حديث (41).
384

* ت *: وليس هذا باختلاف قول.
قال ابن رشد في " البيان ": الدعاء عبادة من العبادات يؤجر فيها الأجر العظيم،
أجيبت دعوته فيما دعا به، أو لم تجب، وهأنا انقل، إن شاء الله، من صحيح الأحاديث
في هذا المحل ما يثلج له الصدر، وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تعجزوا عن الدعاء، فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد " رواه الحاكم أبو عبد الله في
" المستدرك " على الصحيحين، وابن حبان في " صحيحه "، واللفظ له، وقال الحاكم:
صحيح الإسناد (1)، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الدعاء:
سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض " رواه الحاكم في " المستدرك "،
وقال: صحيح (2)، وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يدعو
الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقف بين يديه، فيقول: عبدي، إني أمرتك، أن تدعوني،
ووعدتك أن أستجيب لك، فهل كنت تدعوني، فيقول: نعم، يا رب، / فيقول: أما أنك لم
تدعني بدعوة إلا استجبت لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك، أن أفرج عنك
ففرجت عنك؟! فيقول: نعم، يا رب، فيقول: فإني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم
كذا وكذا لغم نزل بك، أن أفرج عنك، فلم تر فرجا؟ قال: نعم، يا رب، فيقول: إني
ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا [و] كذا و كذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم
كذا وكذا، فقضيتها، فيقول: نعم، يا رب، فيقول: فإني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني
في يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك، فلم تر قضاءها، فيقول: نعم، يا رب، فيقول:
إني ادخرت لك في الجنة كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده
المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا، وإما أن يكون أدخر له في الآخرة، قال:
فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجل له شئ من دعائه "، رواه الحاكم في
" المستدرك (3) ".

(1) أخرجه ابن حبان (3 / 152 - 153) رقم (871)، والحاكم (1 / 493 - 494)، من طريق عمر بن محمد
الأسلمي، عن ثابت عن أنس مرفوعا.
(2) أخرجه الحاكم (1 / 492)، وابن عدي في " الكامل " (6 / 2181)، و أبو يعلى (1 / 344) رقم (493).
كلهم من طريق محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن
علي مرفوعا. وليس عن أبي هريرة، كما ذكره المؤلف. و قال الحاكم: هذا حديث صحيح، و وافقه
الذهبي، والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 150)، وقال: رواه أبو يعلى، و فيه
محمد بن الحسن بن أبي يزيد، وهو متروك.
(3) أخرجه الحاكم (1 / 494)، و أبو نعيم في " الحلية " (6 / 208)، من طريق الفضل بن عيسى، عن
385

وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يرد القدر إلا الدعاء "،
رواه الحاكم في " المستدرك " وابن حبان في " صحيحه "، واللفظ للحاكم، وقال: صحيح
الإسناد (1).
قلت: وقد أخرج ابن المبارك في " رقائقه " هذا الحديث أيضا، قال: حدثنا سفيان،
عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد (2)، عن ثوبان (3)، قال: قال رسول

محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا.
و قال الحاكم: هذا حديث تفرد به الفضل بن عيسى الرقاشي، و محله محل من لا يتهم بالوضع، و وافقه
الذهبي، و الفضل بن عيسى، قال الحافظ في " التقريب ": متروك.
(1) أخرجه ابن ماجة (2 / 1334)، كتاب " الفتن "، باب العقوبات حديث (1022)، و أحمد (5 / 277،
280، 282)، و الحاكم (1 / 493)، و ابن أبي شيبة (10 / 441 - 442)، و الطحاوي في " مشكل الآثار "
(4 / 169)، و أبو نعيم في " ذكر أخبار أصبهان " (2 / 10)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (831)، من
حديث ثوبان مرفوعا.
قال البوصيري في " الزوائد ": هذا إسناد حسن، و صححه الحاكم، و وافقه الذهبي، و صححه ابن حبان.
(2) عبد الله بن أبي الجعد الأشجعي. عن ثوبان. و عنه عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى. له عند كل منهما
فرد حديث. وثقه ابن حبان. ينظر: " الخلاصة " (2 / 46).
(3) هو: ثوبان بن يجدد. مولى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم.
قال ابن الأثير في " الأسد ": هو من " حمير " من " اليمن "، و قيل: هو من سعد العشيرة من " مذحج "،
أصابه سباء، فاشتراه رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فأعتقه، و قال له: " إن شئت أن تلحق بمن أنت منهم، و إن شئت أن
تكون منا أهل البيت ". فثبت على ولاء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و لم يزل معه سفرا و حضرا إلى أن توفي رسول
الله صلى الله عليه وآله و سلم، فخرج إلى الشام فنزل إلى " الرملة " و ابتني بها دارا، و ابتني ب‍ " مصر " دارا، و ب‍ " حمص " دارا،
و توفي بها سنة (54).
روى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أحاديث ذوات عدد.
روى عنه شداد بن أوس، و جبير بن نفير، و أبي إدريس الخولاني، و أبي سلام ممطور الحبشي،
و معدان بن أبي طلحة، و أبي الأشعث الصنعاني، وأبي أسماء الرحبي، و غيرهم.
قال البرقي: روي عنه نحو من خمسين حديثا.
توفي ب‍ " حمص " سنة (54).
تنظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 296)، " الإصابة " (1 / 212)، " الثقات " (3 / 48)، " الاستيعاب "
(1 / 218)، " تجريد أسماء الصحابة " (1 / 7)، " العبر " (1 / 59)، " در السحابة " (759)، " صفة الصفوة "
(670)، " الحلية " (1 / 350)، " التحفة اللطيفة " (1 / 401)، " الوافي بالوفيات " (11 / 21)، " التاريخ
الكبير " (2 / 181)، " الجرح و التعديل " (2 / 469)، " تنقيح المقال " (1578)، " الزهد " لوكيع (140)،
" بقي بن مخلد " (34)، " تهذيب الكمال " (1 / 176، 4 / 413)، " تهذيب التهذيب " (2 / 31)، " تقريب
" التهذيب " (1 / 120)، " مشاهير علماء الأمصار " (324).
386

الله صلى الله عليه و آله و سلم: " لا يرد القضاء إلا الدعاء، و إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " (1). انتهى.
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغنى حذر من قدر،
والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل من السماء، فيتلقاه الدعاء، فيعتلجان
إلى يوم القيامة " رواه الحاكم في " مستدركه "، وقال: صحيح الإسناد (2)، وقوله،
" فيعتلجان "، أي: يتصارعان.
وعن سلمان (3) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن يستجاب
له عند الكرب، والشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء "، رواه الحاكم أيضا، وقال: صحيح
الإسناد (4)، وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من فتح له في

(1) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 29) رقم (86).
(2) أخرجه الحاكم (1 / 492)، و الخطيب في " تاريخ بغداد " (8 / 453)، و ابن الجوزي في " العلل " (2 /
359)، من طريق زكريا بن منظور، عن عطاف بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة
مرفوعا.
و قال الحاكم: صحيح الإسناد، و لم يخرجاه، و تعقبه الذهبي فقال: زكريا بن منظور مجمع على ضعفه.
و قال ابن الجوزي: لا يصح، قال يحيى: زكريا ليس بثقة، و قال الدارقطني: متروك.
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (10 / 149)، و قال: رواه الطبراني في " الأوسط "، و البزار،
و فيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات.
(3) هو: سلمان بن الإسلام. و سلمان الخير، و سلمان الفارسي. أبو عبد الله. مولى رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم.
كان اسمه قبل الإسلام: ما به بن بوذخشان بن مورسلان بن يهبوذان بن فيروز بن سهرك، من ولد آب
الملك.
و أول مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم الخندق، و لم يتخلق عن مشهد بعد الخندق، و آخى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
بينه و بين أبي الدرداء.
و مما ذكر في مناقبه قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي و عمار، و سلمان "، كان سلمان من
خيار الصحابة و زهادهم و فضلائهم و ذي القرب من رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم. روى عنه ابن عباس، و أنس،
و عقبة بن عامر، و أبو سعيد، و كعب بن عجرة، و أبو عثمان النهدي. و غيرهم.
توفي سنة (35) آخر خلافة عثمان.
تنظر ترجمته في: " أسد الغابة " (2 / 417)، " الإصابة " (3 / 113)، " الاستيعاب " (2 / 634)،
" الاستبصار " (125)، " الرياض المستطابة " (102)، " حلية الأولياء " (6 / 367)، " الطبقات الكبرى " (9 /
84)، " صفة الصفوة " (1 / 523)، " التاريخ الكبير " (4 / 134)، " التاريخ الصغير " (1 / 71)، " تاريخ
بغداد " (1 / 163)، " الكاشف " (1 / 382)، " تاريخ جرجان " (64، 138)، " التحفة اللطيفة " (167).
(4) أخرجه الحاكم (1 / 544)، من طريق عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي عامر الألهاني،
عن أبي هريرة مرفوعا.
387

الدعاء منكم، فتحت له أبواب الجنة " (1)، قال الغزالي - رحمه الله - في كتاب " الإحياء ":
" فإن قلت: فما فائدة الدعاء، والقضاء لا يرد؟ فأعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء،
فالدعاء سبب لرد البلاء، واستجلاب للرحمة، كما أن الترس سبب لرد السهم، ثم في
الدعاء من الفائدة أنه يستدعي حضور القلب، مع الله عز وجل، وذلك منتهى العبادات،
فالدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة "، فانظره، فإني آثرت الاختصار،
وانظر " سلاح المؤمن " الذي منه نقلت هذه الأحاديث.
ومن " جامع الترمذي ". عن أبي خزامة (2)، واسمه رفاعة، عن أبيه، قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة
نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال: هي من قدر الله "، قال أبو عيسى: هذا حديث
حسن صحيح (3).
وانظر جواب عمر لأبي عبيدة " نعم، نفر من قدر لله إلى قدر الله... " الحديث هو
من هذا المعنى. انتهى، والله الموفق بفضله.
وقوله تعالى: (فليستجيبوا لي) / قال أبو رجاء الخراساني (4): معناه: " فليدعوني ".
قال * ع (5) *: المعنى: فليطلبوا أن أجيبهم، وهذا هو باب " استفعل "، أي: طلب

و قال الحاكم: صحيح الإسناد، احتج البخاري بابن صالح. و أبو عامر الألهاني أظنه الهوزني، و هو
صدوق. و وافقه الذهبي.
و أخرجه الترمذي (3382)، من طريق شهر بن حوشب، عن أبي هريرة مرفوعا. و قال الترمذي:
غريب.
(1) أخرجه الحاكم (1 / 498).
و قال: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، و تعقبه الذهبي فقال: المليكي ضعيف.
(2) أبو خزامة. ذكره المؤلف (رحمنا الله و إياه) بغير نسبته، قال ابن الأثير: كان يسكن " الجناب "، و هي
أرض عذرة. له صحبة، عداده من أهل " الحجاز ". روى عن عطاء بن يسار.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 88)، و " الإصابة " (7 / 51)، و " بقي بن مخلد " (2065)،
و ابن ماجة (2 / 1137)، كتاب " الطب "، باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث (3437).
و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4) عبد الله بن واقد بن الحارث، الحنفي، أبو رجاء الهزوي. عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، و أبي
هارون العبدي. وعنه إسحاق بن منصور السلولي. وثقه أحمد و ابن معين. ينظر: " الخلاصة " (2 /
108).
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 256).
388

الشئ إلا ما شذ، مثل: استغنى الله.
وقال مجاهد وغيره: المعنى: فليجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان، أي:
بالطاعة، والعمل (1).
فائدة: قال صحاب " غاية المغنم في اسم الله الأعظم " وهو إمام عارف (2) بعلم
الحديث، وكتابه هذا يشهد له، قال: ذكر الدينوري (3) في " كتاب المجالسة "، عن ليث بن
سليم، أن رجلا وقف على قوم، فقال: من عنده ضيافة هذه الليلة، فسكت القوم، ثم
عاد، فقال رجل أعمى: عندي، فذهب به إلى منزله، فعشاه ثم حدثه ساعة، ثم وضع له
وضوءا، فقام الرجل في جوف الليل، فتوضأ، وصلى ما قضي له، ثم جعل يدعو، فانتبه
الأعمى، وجعل يسمع لدعائه: فقال اللهم، رب الأرواح الفانية، والأجساد البالية،
أسألك بطاعة الأرواح الراجعة إلى أجسادها، وبطاعة الأجساد الملتئمة في عروقها، وبطاعة
القبور المتشققة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق منهم، وتبريز الخلائق
كلهم من مخافتك ينتظرون قضاءك، ويرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك أن تجعل
النور في بصري، والإخلاص في عملي، وشكرك في قلبي، وذكرك في لساني في الليل
والنهار، ما أبقيتني، قال: فحفظ الأعمى هذا الدعاء، ثم قام، فتوضأ، وصلى ركعتين،
ودعا به فأصبح قد رد الله عليه بصره. انتهى من " غاية المغنم في اسم الله الأعظم "،
وإطلاق الفناء على الأرواح فيه تجوز، والعقيدة أن الأرواح باقية لا تفنى، وإنما عبر عن
مفارقتها لأجسادها بالفناء، هذا هو مراده.
وروى ابن المبارك في " رقائقه " بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إن القلوب أوعية،
وبعضها أوعى من بعض، فادعوا الله أيها الناس، حين تدعون، وأنتم موقنون بالإجابة،
فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل " (4). انتهى.

(1) أخرجه الطبري (2 / 166) برقم (2921) بلفظ: قوله: " فليستجيبوا لي " قال: فليطيعوا لي. قال:
" الاستجابة " الطاعة، وذكره ابن عطية (1 / 256).
(2) و هو الشيخ تاج الدين علي بن محمد بن الدريهم الموصلي، المتوفى سنة اثنتين و ستين و سبعمائة،
و كتابه هذا ذكره حاجي خليفة بعنوان " غاية المغنم في الاسم الأعظم "، و ذكر عنه أنه أورد فيه من
الأحاديث و أقوال العلماء. ينظر: " كشف الظنون " (1194).
(3) " المجالسة " - لأحمد بن مروان الدينوري المالكي، المتوفى سنة 310 عشرة و ثلاثمائة، ضمنه من كتب
الأحاديث والأخبار و محاسن النوادر والآثار، و منتقى الحكم والأشعار، والنخب منه بعضهم و سماء
" نخبة المؤانسة من كتاب المجالسة ". ينظر: " كشف الظنون " (2 / 1591).
(4) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (2 / 21).
389

قال ابن عطاء الله في " لطائف المنن ": وإذا أراد الله أن يعطي عبدا شيئا وهبه
الاضطرار إليه فيه، فيطلبه بالاضطرار، فيعطى، وإذا أراد الله أن يمنع عبدا أمرا، منعه
الاضطرار إليه فيه، ثم منعه إياه، فلا يخاف عليك أن تضطر، وتطلب، فلا تعطى، بل
يخاف عليك أن تحرم الاضطرار، فتحرم الطلب، أو تطلب بغير اضطرار، فتحرم العطاء.
انتهى.
وقوله سبحانه: (و ليؤمنوا بي)، قال أبو رجاء: في أنني أجيب دعاءهم، وقال
غيره: بل ذلك دعاء إلى الإيمان بجملته.
(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم و أنتم لباس لهن علم الله
أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم و عفا عنكم فالآن باشروهن و ابتغوا ما كتب الله
لكم و كلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل
و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته
للناس لعلهم يتقون (187) و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا
فريقا من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون (188))
وقوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام...) الآية: لفظة (أحل تقتضي أنه كان
محرما قبل ذلك (1)، و (ليلة): نصب على الظرف.
و (الرفث): كناية عن الجماع، لأن الله تعالى كريم يكنى، قاله ابن عباس (2)
وغيره، والرفث في غير هذا: ما فحش من القول، وقال أبو إسحاق (3): الرفث: كل ما
يأتيه الرجل، مع المرأة من قبلة، ولمس (4).
* ع (5) *: أو كلام في هذا المعنى، وسبب هذه الآية فيما قال ابن عباس وغيره: إن
جماعة من المسلمين اختانوا أنفسهم، وأصابوا النساء بعد النوم، أو بعد صلاة العشاء على

(1) ينظر: " تفسير الرازي " (5 / 88 - 89).
(2) أخرجه الطبري (2 / 167 - 168) برقم (2928)، و ابن أبي شيبة في " المصنف " (3 / 179) برقم
(13230). وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 256)، و البغوي في " التفسير " (1 / 156).
(3) " معاني القرآن " (1 / 255)، و لفظه: الرفث: كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة.
و ينظر: " عمدة الحفاظ " (2 / 114).
(4) ذكره ابن عطية في " التفسير " (1 / 257).
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 257).
390

الخلاف في ذلك، منهم عمر بن الخطاب: جاء إلى امرأته، فأرادها /، فقالت له قد نمت،
فظن أنها تعتل بذلك، فوقع بها، ثم تحقق أنها قد كانت نامت، وكان الوطء بعد نوم
أحدهما ممنوعا، فذهب عمر، فاعتذر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل صدر الآية (1)، وروي أن
صرمة بن قيس (2) نام قبل الأكل، فبقي كذلك دون أكل، حتى غشي عليه في نهاره
المقبل، فنزل فيه من قوله تعالى: (و كلوا واشربوا) (3).
واللباس: أصله في الثياب، ثم شبه التباس الرجل بالمرأة بذلك.
وتاب عليكم، أي: من المعصية التي وقعتم فيها.
قال ابن عباس وغيره: (باشروهن) كناية عن الجماع، (وابتغوا ما كتب (4) الله
لكم).
قال ابن عباس وغيره: أي: ابتغوا الولد (5)، قال الفخر (6) والمعنى: لا تباشروهن
لقضاء الشهوة فقط، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل، قال - عليه

(1) أخرجه الطبري في " التفسير " 2 / 170 - 171 رقم (2943، 2948، 2949)، و ذكره البغوي في " معالم
التنزيل " (1 / 157)، وابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 257)، و السيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 357)، و عزاه إلى أحمد، و ابن جرير، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم بسند حسن، عن كعب بن
مالك.
(2) صرمة بن قيس بن مالك، النجاري، الأوسي، أبو قيس: شاعر جاهلي، عمر طويلا، و ترهب، و فارق
الأوثان في الجاهلية. و كان معظما في قومه. أدرك الإسلام في شيخوخته، و أسلم عام الهجرة.
ينظر: " الأعلام " (3 / 203)، و " الإصابة " ت (4056)، و " الروض الأنف " (2 / 21).
(3) أخرجه الطبري (2 / 170 - 171 - 173)، وابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 257)،
و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 358)، و عزاه إلى وكيع، و عبد بن حميد، عن عبد الرحمن بن أبي
ليلى.
(4) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 174) رقم (2961)، (2966).
و ذكره ابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 257)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 359)،
و عزاه إلى ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، والبيهقي.
(5) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 175)، و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 157)، و ابن عطية
الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 257)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 359)، و عزاه إلى ابن
جرير، و ابن أبي حاتم.
(6) " التفسير الكبير " (5 / 92).
391

السلام -: " تناكحوا، تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم " (1) انتهى.

(1) أخرجه ابن ماجة (1 / 599)، كتاب " النكاح "، باب تزويج الحرائر و الولود، حديث (1863)، من طريق
طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " انكحوا، فإني مكاثر
بكم ".
و قال البوصيري في " الزوائد " (2 / 73): هذا إسناد ضعيف، لضعف طلحة بن عمرو المكي
الحضرمي اه‍.
و طلحة بن عمرو: قال عمرو بن علي: كان يحيى و عبد الرحمن لا يحدثان عنه. و قال أحمد: لا شئ
متروك الحديث.
و قال البخاري: ليس بشئ.
و قال النسائي: متروك الحديث.
وكذلك ضعفه ابن حبان و غيره.
و له لفظ آخر بإسناد آخر: أخرجه أبو داود (2 / 542)، كتاب " النكاح "، باب النهي عن تزويج من لم يلد
من النساء، حديث (2050)، و النسائي (6 / 60 - 66)، كتاب " النكاح "، باب كراهية تزويج العقيم،
و الحاكم (2 / 162)، وأبو نعيم في " الحلية " (3 / 62)، من حديث معقل بن يسار قال: قال رسول
الله صلى الله عليه و آله و سلم: " تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم ".
و قال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
و أخرجه أيضا ابن حبان (1229 - موارد)، و البيهقي (7 / 81)، كتاب " النكاح، باب استحباب التزويج
بالودود الولود.
و أخرجه أحمد (3 / 158، 245)، و سعيد بن منصور (1 / 164) رقم (490)، و ابن حبان (1228 -
موارد)، والبيهقي (7 / 81 - 82)، كتاب " النكاح "، باب استحباب التزوج بالودود الولود، والقضاعي
في " مسند الشهاب " رقم (675)، و أبو نعيم في " الحلية " (4 / 219)، من حديث أنس بلفظ: " تزوجوا
الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء ".
و صححه ابن حبان.
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 261)، و قال: رواه أحمد، و الطبراني في " الأوسط "،
و إسناده حسن.
و أخرجه ابن عدي في " الكامل " (6 / 2147)، و من طريقه البيهقي (7 / 78)، من حديث أبي أمامة بلفظ:
" تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، ولا تكونوا كرهبانية النصارى ".
و فيه محمد بن ثابت البصري، وهو ضعيف، قاله الحافظ في " التقريب " (2 / 148).
و أخرجه ابن ماجة (1 / 592)، كتاب " النكاح "، باب ما جاء في فضل النكاح، حديث (1846)، من
طريق عيسى بن ميمون، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " النكاح من سنتي، فمن
لم يعمل بسنتي فليس مني، و تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، و من كان ذا طول فلينكح، و من لم يجد
فعليه بالصوم، فإن الصوم له و جاء ".
قال البوصيري في " الزوائد " (2 / 65): هذا إسناد ضعيف، لضعف عيسى بن ميمون اه‍.
و ضعفه الحافظ ابن حجر في " تلخيصه " (2 / 102)، و قال: ضعيف.
392

وقيل: المعنى: ابتغوا ليلة القدر.
وقيل: ابتغوا الرخصة، والتوسعة، قال قتادة، وهو قول حسن (1).
(وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم...) الآية: نزلت بسبب صرمة بن قيس،
و (حتى): غاية للتبين، ولا يصح أن يقع التبين لأحد، ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى
لطلوع الفجر قدر، والخيط استعارة وتشبيه لرقة البياض أولا، ورقة السواد إلحاق به،
والمراد فيما قال جميع العلماء (2): بياض النهار، وسواد الليل.
و (من) الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، و (الفجر): مأخوذ من تفجر
الماء، لأنه ينفجر شيئا بعد شئ، وروي عن سهل بن سعد وغيره من الصحابة، أن الآية
نزلت إلا قوله: (من الفجر)، فصنع بعض الناس خيطين، أبيض وأسود، فنزل قوله
تعالى: (من الفجر) (3).
* ع (4) *: وروي، أنه كان بين طرفي المدة عام من رمضان إلى رمضان تأخر

و أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " (12 / 377)، من حديث ابن عمر بلفظ: " تزوجوا الودود الولود،
فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ".
و أخرجه عبد الرزاق (6 / 173) رقم (10391) عن سعيد بن أبي هلال مرسلا.
والحديث صححه الألباني في " الصحيحة " برقم (1782).
(1) أخرجه الطبري (2 / 176) برقم (2987). وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 157)، و ابن عطية من
" المحرر الوجيز " (1 / 257 - 258).
و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 359)، و عزاه إلى ابن جرير، وابن أبي حاتم.
(2) ينظر: " الطبري " (3 / 509)، و " المحرر الوجيز " (1 / 258)، و " الرازي " (5 / 94)، و " الوسيط " (1 /
287)، و " بحر العلوم " (1 / 186).
(3) أخرجه البخاري (4 / 157) كتاب " الصوم "، باب قوله تعالى: (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط
الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل). حديث (1917). و مسلم (2 / 767)
كتاب " الصيام "، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، و أن له الأكل وغيره، حتى يطلع
الفجر، و بيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام من الدخول في الصوم، و دخول وقت صلاة الصبح
و غير ذلك، حديث (34 / 1091).
و النسائي (6 / 297) (الكبرى)، كتاب " التفسير "، باب قوله تعالى: (و كلوا و اشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر). حديث (11022 / 2).
و الطبري في " التفسير " (2 / 187) رقم (2998)، و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 158)، وابن
عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 258)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 360)، و عزاه إلى
البخاري، و مسلم، و النسائي، و ابن جرير، وابن المنذر، و ابن أبي حاتم.
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 258).
393

البيان (1) إلى وقت الحاجة، وعدي بن حاتم جعل خيطين على وساده، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم

(1) تأخر البيان إلى وقت الحاجة: بادئ ذي بدء أقول: هناك حالان لكل ما يحتاج إلى تأخير بيان، من
عام، و مجمل، و مجاز، ومشترك، و فعل متردد و مطلق:
الحال الأول: أن يتأخر عن وقت الحاجة، وهو الوقت الذي إن أخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من
المعرفة بما تضمنه الخطاب، و هذا يكون في كل ما كان واجبا على الفور، كالإيمان، ورد الودائع.
و قد حكى أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه.
الحال الثاني: أن يؤخر عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل، و ذلك في الواجبات التي
ليست على الفور، و يكون فيما لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة و المشتركة، أو له ظاهر و قد استعمل في
خلافه، كتأخير بيان التخصيص، و تأخير بيان النسخ، و نحوه.
و قد اختلف العلماء في هذا القسم على مذاهب:
الأول: الجواز مطلقا، و عليه عامة العلماء من الفقهاء و المتكلمين، كما قال ابن برهان. و منهم ابن
فورك، و القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وابن السمعاني، و نقلوه عن ابن سريج،
و الإصطخري، و القفال، و كثير من علماء الشافعية. و نقل عن الشافعي - كما قال الزركشي في " البحر ".
و قد اختاره الرازي في " المحصول "، و ابن الحاجب، و قال الباجي: عليه أكثر أصحابنا. و حكاه القاضي
عن مالك.
واستدلوا بآيات، منها قوله سبحانه: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه) [القيامة: 18 - 19].
و هناك حوادث كثرة جدا - كما يقول الشوكاني - وقع البيان لها بعد السنة.
المذهب الثاني: المنع مطلقا، ونقل عن أبي إسحاق المروزي، و الصيرفي، وأبي حامد المروزي،
و الدقاق، و من المالكية: الأبهري.
قال القاضي: و هو قول المعتزلة، وكثير من الحنيفة، و ابن داود الظاهري، ونقله القشيري عن داود.
و قد استدل هؤلاء بما لا طائل تحته، قالوا: لو جاز ذلك فإما أن يجوز إلى مدة معينة أو إلى الأبد،
و كلاهما باطل، أما إلى المدة المعينة، فلكونه تحكما، و لكونه لم يقل به أحد. و أما إلى الأبد، فلكونه
يلزم المحذور، وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم.
و أجيب عنهم: باختيار جوازه إلى مدة معينة يعلمها الله، و هو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه، فلا
تحكم.
المذهب الثالث: جوازه في المجمل دون غيره، و حكي عن الصيرفي و أبي حامد المروزي.
المذهب الرابع: جوازه في العموم، و حكي عن عبد الجبار، و حكاه الروياني و الماوردي وجها
لأصحاب الشافعي.
المذهب الخامس: جوازه في الأوامر و النواهي، لا في الأخبار، و حكي عن الكرخي و بعض المعتزلة.
المذهب السادس: عكسه. حكاه الشيخ أبو إسحاق، و لم ينسبه إلى أحد.
المذهب السابع: جوازه في النسخ دون غيره، ذكره أبو الحسين البصري، و أبو علي، و أبو هاشم،
و عبد الجبار.
المذهب الثامن: التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك فلا يجوز، و ما له ظاهر كالعام فيجوز.
المذهب التاسع: أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلا و لا تغييرا، جاز مقارنا و طارئا، و إن كان تغييرا جاز
مقارنا، و لا يجوز طارئا. نقله ابن السمعاني عن أبي زيد من الأحناف.
394

فقال له: " إن وسادك لعريض " (1).
واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور، وبه أخذ الناس،
ومضت عليه الأمصار والأعصار، ووردت به الأحاديث الصحاح: إنه الفجر المعترض في
الأفق يمنة ويسرة، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك، وروي عن عثمان بن عفان،
وحذيفة بن اليمان، وابن عباس وغيرهم، أن الإمساك يجب بتبين الفجر في الطرق، وعلى
رؤوس الجبال (2)، وذكر عن حذيفة، أنه قال: " تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النهار إلا
أن الشمس لم تطلع " (3).
ومن أكل، وهو يشك في الفجر، فعليه القضاء عند مالك.
وقوله سبحانه: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) أمر يقتضي الوجوب، و (إلى):
غاية، وإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها، فهو داخل في حكمه، وإذا كان من غير
جنسه، لم يدخل في المحدود، والليل: الذي يتم به الصيام: مغيب قرص الشمس فمن
أفطر شاكا في غروبها، فالمشهور من المذهب، أن عليه القضاء والكفارة.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر،
والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، ويقول
الرب تعالى: وعزتي، لأنصرنك، ولو بعد حين " رواه الترمذي /، وابن ماجة، وابن حبان

و المذاهب الثمانية الأخيرة ضعيفة كما أشار إلى ذلك الشوكاني، قال رحمه الله: و أنت إذا تتبعت موارد
هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهرا واضحا لا ينكره
من له أدنى خبرة بها و ممارسة لها.
ينظر: " البحر المحيط " للزركشي (3 / 493)، " البرهان " لإمام الحرمين (1 / 166)، " الإحكام في أصول
الأحكام " للآمدي (3 / 28)، " نهاية السول " (2 / 540)، " زوائد الأصول " للأسنوي (ص 304)، " منهاج
العقول " (2 / 220)، " غاية الوصول " للشيخ زكريا الأنصاري (ص 86)، " التحصيل من المحصول "
للأرموي (1 / 429)، " المنخول " للغزالي (ص 68)، " المستصفى " له (1 / 368)، " حاشية البناني " (2 /
69)، " الآيات البينات " لابن قاسم العبادي (3 / 121)، " حاشية العطار لجمع الجوامع " (2 / 102)،
" المعتمد " لأبي الحسين (1 / 314)، " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم (1 / 81)، " حاشية
التفتازاني و الشريف على مختصر المنتهى " (2 / 164)، و ينظر: " كشف الأسرار " (3 / 108)، " المسودة " (181)، " شرح العضد " (2 / 164).
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه الطبري (2 / 179) برقم (3002)، و ابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 258).
(3) أخرجه الطبري (2 / 181) برقم (3019)، و ابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 258).
395

في " صحيحه "، وقال الترمذي: واللفظ له، حديث حسن، ولفظ ابن ماجة: " حتى
يفطر " (1). انتهى من " السلاح ".
وعنه صلى الله عليه وسلم: " إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد "، رواه ابن السني (2). انتهى من
" حلية النووي " (3).
وعنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " للصائم فرحتان فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه ". رواه
البخاري ومسلم. انتهى (4).
وروى ابن المبارك في " رقائقه "، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن واصل (5) مولى
أبي عيينة، عن لقيط أبي المغيرة، عن أبي بردة (6): أن أبا موسى الأشعري كان في سفينة

(1) أخرجه الترمذي (5 / 539)، كتاب " الدعوات "، باب " في العفو و العافية "، حديث (3598)، و ابن ماجة
(1 / 557)، كتاب " الصيام "، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (1752)، و البيهقي (3 / 345)،
كتاب " صلاة الاستسقاء "، باب استحباب الصيام للاستسقاء لما يرجى من دعاء الصائم، (8 / 162)،
كتاب " قتال أهل البغي "، باب فضل الإمام العادل، و (10 / 88)، كتاب " آداب القاضي "، باب فضل من
ابتلي بشئ من الأعمال، فقام فيه بالقسط، و قضى بالحق، وابن حبان كما في " موارد الظمآن " (3 /
198)، باب دعوة الصائم و غيره، حديث (894)، و الطيالسي (1 / 255)، حديث (1264)، و أحمد
(2 / 304 - 305)، من حديث أبي هريرة بلفظ: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر.... " و قال
الترمذي: " هذا حديث حسن ".
(2) أخرجه ابن ماجة (1 / 557)، كتاب " الصيام "، باب في الصائم لا ترد دعوته، حديث (1753)، و ابن
السني في " عمل اليوم و الليلة " رقم (482)، من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن
العاص مرفوعا.
و قال البوصيري في " الزوائد ": إسناده صحيح.
(3) " حلية " النووي (ص 224).
(4) تقدم تخريجه.
(5) واصل الأسدي مولى أبي عيينة بن المهلب. عن ابن بريدة، و الضحاك. و عنه حماد بن زيد، و عباد بن
عباد. وثقه ابن معين. ينظر: " الخلاصة " (3 / 126).
(6) هو: عامر بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر بن عنز بن بكر بن عامر بن عذر بن
وائل بن ناجية بن الجماهر بن الأشعر بن أذد بن زيد بن يشجب..
أبو بردة. الأشعري. مشهور بكنيته كأخيه. قال ابن حجر في " الإصابة ": قال البغوي: سكن " الكوفة ".
و روى حديثه أحمد، و الحاكم من طريق عاصم الأحول عن كريب بن الحارث بن أبي موسى عن عمه
أبي بردة قال: قال رسول الله: " اللهم اجعل فناء أمتي قتلا في سبيلك بالطعن و الطاعون ".
و له ذكر في حديث آخر من طريق يزيد بن عبد الله بن أبي بردة عن أبي موسى عن جده أبي موسى قال:
خرجنا من اليمن في بضع و خمسين رجلا من قومنا و نحن ثلاثة إخوة: أبو موسى، و أبو بردة، و أبو
رهم، فأخرجنا سفينة النجاشي. أخرجه البغوي من هذا الوجه.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (6 / 29)، " الإصابة " (7 / 17)، " الثقات " (3 / 451)، " تجريد أسماء
396

في البحر مرفوع شراعها، فإذا رجل يقول: يا أهل السفينة، قفوا سبع مرار، فقلنا: ألا ترى
على أي حال نحن، ثم قال في السابعة، قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، أنه من
عطش نفسه لله في يوم حار من أيام الدنيا شديد الحر، كان حقا على الله أن يرويه يوم
القيامة، فكان أبو موسى يبتغي اليوم الشديد الحر، فيصومه. انتهى.
قال يوسف بن يحيى التادلي في " كتاب التشوف "، وخرج عبد الرزاق في " مصنفه "
عن هشام بن حسان (1)، عن واصل بن لقيط، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري،
قال: " غزا الناس برا وبحرا، فكنت ممن غزا في البحر، فبينما نحن نسير في البحر، إذ
سمعنا صوتا يقول: يأهل السفينة، قفوا أخبركم، فنظرنا يمينا وشمالا، فلم نر شيئا إلا لجة
البحر، ثم نادى الثانية، حتى نادى سبع مرات، يقول كذلك، قال أبو موسى: فلما كانت
السابعة، قمت، فقلت: ما تخبرنا؟ قال: أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، أن من
عطش لله في يوم حار، أن يرويه الله يوم القيامة " (2)، وذكره ابن حبيب في " الواضحة "،
بلفظ آخر. انتهى.
قال ابن المبارك: وأخبرنا أبو بكر بن أبي مريم الغساني (3)، قال: حدثني ضمرة بن
حبيب (4)، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شئ بابا، وإن باب العبادة الصيام " (5). انتهى.

الصحابة " (2 / 151)، " بقي بن مخلد " (883)، " الاستيعاب " (4 / 1608)، " التاريخ الكبير " (1 /
211)، " تهذيب الكمال " (3 / 1579)، " تهذيب التهذيب " (12 / 18)، " تقريب التهذيب " (2 / 394)،
" تعجيل المنفعة " (468)، " الاستبصار " (238)، " الجرح و التعديل " (9 / 436)، " الكاشف " (3 / 312).
(1) هشام بن حسان القردوسي الأزدي، مولاهم، أبو عبد الله البصري. أحد الأعلام. عن حفصة،
و محمد، و أنس بن سيرين، و طائفة. و عنه السفيانان و الحمادان. ضعفه القطان عن عطاء. و قال عباد بن
منصور: ما رأيته عند الحسن قط، قال أبو حاتم: صدوق. قال مكي بن إبراهيم: مات سنة ثمان
و أربعين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 113).
(2) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 329) و عزاه للبيهقي.
(3) أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني، الحمصي، اسمه: بكير، أو عبد السلام. عن مكحول،
و خالد بن معدان. و عنه إسماعيل بن عياش، و بقية. قال الحافظ أبو عبد الله: ضعيف. توفي سنة ست
و خمسين و مائة.
ينظر: " الخلاصة " (3 / 203).
(4) ضمرة بن حبيب الزبيدي، أبو عبيد الحمصي. عن أبي أمامة، و شداد بن أوس. وعنه ابنه عتبة
و أرطاة بن المنذر. وثقه ابن معين. ينظر: " الخلاصة " (2 / 6).
(5) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (ص 500) رقم (1423)، و هناد بن السري في " الزهد " (2 / 358) رقم
(679)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (1032)، عن ضمرة بن حبيب مرسلا.
397

وروى البخاري ومسلم في " صحيحهما "، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل عمل ابن آدم
يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله: إلا الصوم، فإنه لي وأنا
أجزي به، إنما يدع شهوته وطعامه من أجلي " (1). انتهى.
وقوله تعالى: (و لا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) قالت فرقة: المعنى: ولا
تجامعوهن، وقال الجمهور: ذلك يقع على الجماع، فما دونه مما يتلذذ به من النساء،
و (عاكفون)، أي: ملازمون، قال مالك - رحمه الله - وجماعة معه: لا اعتكاف إلا في
مساجد الجمعات (2)، وروي عن مالك أيضا، أن ذلك في كل مسجد، ويخرج إلى
الجمعة، كما يخرج إلى ضروري أشغاله، قال ابن العربي في " أحكامه " (3): وحرم الله
سبحانه المباشرة في المسجد، وكذلك تحرم خارج المسجد، لأن معنى الآية، ولا
تباشروهن وأنتم ملتزمون للاعتكاف في المساجد معتقدون له. انتهى. و (تلك) إشارة إلى
هذه الأوامر والنواهي.
والحدود: الحواجز بين الإباحة والحظر، ومنه قيل للبواب حداد، لأنه يمنع، ومنه
الحاد، لأنها تمنع من الزينة، والآيات: العلامات الهادية إلى الحق.
وقوله تعالى: (و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل...) الآية: الخطاب لأمة / نبينا
محمد صلى الله عليه وسلم ويدخل في هذه الآية القمار، والخدع، والغصوب، وجحد الحقوق، وغير
ذلك.
وقوله سبحانه: (و تدلوا بها إلى الحكام...) الآية: يقال: أدلى الرجل بحجة، أو

(1) تقدم تخريجه.
(2) لا يصح الاعتكاف إلا في المسجد، لقوله تعالى: (و لا تباشروهن و أنتم عاكفون في المساجد) و وجه
الدلالة من الآية: أنه لو صح في غير المسجد لم يختص تحريم المباشرة به، لأن الجماع مناف
للاعتكاف بالإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن المراد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها، فدل على أنه لا
يجوز إلا في المسجد، و الأفضل أن يعتكف في المسجد الجامع، لأن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم اعتكف في
المسجد الجامع، و لأن الجماعة في صلواته أكثر، و لأنه يخرج من الخلاف، فإن الزهري قال: لا يجوز
في غيره. و إن نذر أن يعتكف في مسجد غير الثلاثة، و هي المسجد الحرام، و المسجد الأقصى،
و مسجد المدينة، جاز أن يعتكف في غيره، لأنه لا مزية لبعضها على بعض، فلم تتعين و يصح الاعتكاف
في كل مسجد، والجامع أفضل، و أومأ الشافعي في القديم إلى اشتراط الجامع، و الصواب جوازه في كل
مسجد، و يصح في رحبته، و سطحه بلا خلاف، لأنهما منه.
ينظر: " الاعتكاف " لشيخنا أحمد خليفة جبر.
(3) ينظر: " أحكام القرآن " (1 / 96).
398

بأمر يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر يرجو بها الماء، قال قوم: معنى
الآية: تسارعون في الأموال إلى المخاصمة، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم، إما بأن لا
تكون على الجاحد بينه، أو يكون مال أمانة كاليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قوله،
فالباء في " بها " باء السبب (1)، وقيل: معنى الآية: ترشوا بها على أكل أكثر منها، فالباء
إلزاق مجرد، وهذا القول يترجح لأن الحكام مظنة الرشا، إلا من عصم، وهو الأقل،
وأيضا، فإن اللفظين متناسبتان.
(تدلوا): من إرسال الدلو، والرشوة: من الرشاء، كأنها يمد بها، لتقضى الحاجة.
والفريق: القطعة، والجزء.
و (بالإثم) أي: بالظلم.
(وأنتم تعلمون) أي: أنكم مبطلون.
(* يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس و الحج و ليس البر بأن تأتوا البيوت من
ظهورها و لكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها و اتقوا الله لعلكم تفلحون (189)
و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (190) واقتلوهم
حيث ثقفتموهم و أخرجوهم من حيث أخرجوكم و الفتنة أشد من القتل و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى
يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين (191) فإن انتهوا فإن الله غفور الرحيم (192))
وقوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة)، قال ابن عباس وغيره: نزلت على سؤال قوم
من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال، وما فائدة محاقه، وكماله، ومخالفته لحال الشمس (2).
و (مواقيت) أي: لمحل الديون، وانقضاء العدد والأكرية، وما أشبه، هذا من
مصالح العباد، ومواقيت للحج أيضا: يعرف بها وقته وأشهره.
وقوله سبحانه: (و ليس البر...) الآية: قال البراء بن عازب (3)، والزهري،

(1) و قيل: إنها للتعدية، أي: لترسلوا بها إلى الحكام. ينظر: " الدر المصون " (1 / 478).
(2) أخرجه الطبراني في " تفسيره " (2 / 189) رقم (380)، وذكره البغوي (2 / 160)، و ابن عطية الأندلسي
في " المحرر الوجيز " (1 / 261)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 368)، و عزاه إلى ابن جرير، و ابن
أبي حاتم، عن ابن عباس.
(3) هو: البراء بن عازب بن الحارث بن عدي بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن عمرو بن
مالك بن الأوس.. أبو عمرو. و قيل: أبو عمارة، و هو الأصح. الأوسي. الأنصاري.
قال ابن الأثير في " الأسد ":
399

وقتادة: سببها أن الأنصار كانوا إذا حجوا، أو اعتمروا، يلتزمون تشرعا ألا يحول بينهم وبين
السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدرات (1)، وقيل: كانوا يجعلون في
ظهور بيوتهم فتوحا يدخلون منها، ولا يدخلون من الأبواب (2)، وقيل غير هذا مما يشبهه (3).
وقوله تعالى: (و قاتلوا في سبيل الله...) الآية هي أول آية نزلت في الأمر بالقتال.
قال ابن زيد، والربيع: قوله: (ولا تعتدوا) أي: في قتال من لم يقاتلكم، وهذه الموادعة
منسوخة بقوله تعالى: (و قاتلوا المشركين كافة) (4) [التوبة: 36]، وقال ابن عباس وغيره:

رده رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم عن " بدر "، استصغره. و أول مشاهده " أحد "، و قيل: " الخندق ". وغزا مع النبي صلى الله عليه و آله و سلم
أربع عشرة غزوة. و هو الذي افتتح الري سنة أربع و عشرين صلحا أو عنوة في قول أبي عمرو الشيباني.
و قال أبو عبيدة: افتتحها حذيفة. نزل " الكوفة " و ابتنى بها دارا.
توفي في إمارة مصعب بن الزبير، و قيل: في سنة (72).
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 205)، " الإصابة " (1 / 147)، " الاستيعاب " (1 / 155)، " تجريد
أسماء الصحابة " (1 / 46)، " الطبقات الكبرى " (2 / 376)، " الأعلام " (2 / 46)، " التاريخ الكبير " (2 /
117)، " التاريخ الصغير " (1 / 6)، " الجرح و التعديل " (2 / 399)، " تهذيب الكمال " (1 / 2139)،
" تهذيب التهذيب " (1 / 425)، " تقريب التهذيب " (1 / 94)، " تاريخ بغداد " (1 / 177)، " تاريخ ابن
معين " (2 / 147)، " بقي بن مخلد " (14)، " البداية و النهاية " (8 / 328)، " التحفة اللطيفة " (1 / 364)،
" الوافي بالوفيات " (1 / 104)، " الكاشف " (1 / 151)، " الثقات " (3 / 26)، " عنوان النجابة " (49).
(1) أخرجه الطبري (2 / 194) برقم (3090)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 160)، و ابن عطية
الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 261)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 368)، و عزاه إلى
الطيالسي، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن أبي المنذر، و ابن أبي حاتم عن البراء.
و في (1 / 369)، عن الزهري، و عزاه لابن جرير.
و الجدرة: حظيرة تصنع للغنم من حجارة. و الجمع جدر.
و الجديرة: زرب الغنم. و الجديرة: كنيف يتخذ من حجارة يكون للبهم و غيرها. ينظر: " لسان العرب "
(566).
(2) أخرجه الطبري (2 / 192) رقم (3082)، و رقم (3089). و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 /
160)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 261)، عن البراء بن عازب، و الزهري، و قتادة.
و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 369)، عن الزهري.
(3) أخرجه الطبري (2 / 192 / 193 / 194) برقم (3082)، (3083) عن البراء، و برقم (3089)، عن
الزهري و برقم (3090) عن قتادة، و ذكره البغوي (1 / 160)، و ابن عطية (1 / 126) عن البراء بن
عازب، و الزهري، و قتادة.
كما ذكره السيوطي (1 / 368 - 369)، عن البراء بن عازب، و قتادة.
(4) أخرجه الطبري (2 / 195) برقم (3095)، عن الربيع و برقم (3096)، عن زيد.
و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 161)، عن الربيع.
و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 262)، عن ابن زيد، و الربيع.
400

(ولا تعتدوا) في قتل النساء، والصبيان، والرهبان، وشبههم، فهي محكمة (1).
وقوله تعالى: (و اقتلوهم حيث ثقفتموهم...) الآية: قال ابن إسحاق وغيره: نزلت
هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي، وواقد، وهي سرية عبد الله بن جحش (2)،
و (ثقفتموهم) معناه: أحكمتم غلبتهم، يقال: رجل ثقف لقف، إذا كان محكما لما
يتناوله من الأمور (3).
و (أخرجوهم): خطاب لجميع المؤمنين، والضمير لكفار قريش.
و (الفتنة أشد من القتل)، أي: الفتنة التي حملوكم عليها، وراموكم بها على
الرجوع إلى الكفر - أشد من القتل، ويحتمل أن يكون المعنى: والفتنة، أي: الكفر
والضلال الذي هم فيه أشد في الحرم، وأعظم جرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن
الحضرمي.
وقوله تعالى: (و لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام...) الآية.
قال الجمهور (4): كان هذا ثم نسخ، وقال مجاهد: الآية محكمة (5)، ولا يجوز قتال
أحد، يعنى: عند المسجد الحرام، إلا بعد أن يقاتل.
قلت: وظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: " وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ولم تحل لأحد
بعدي " (6) يقوي قول مجاهد، وهذا هو الراجح عند الإمام...

(1) أخرجه الطبري (2 / 196) برقم (3100)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 161) من قول ابن
عباس، و مجاهد، و ذكره ابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 262)، عن ابن عباس،
و عمر بن عبد العزيز، و مجاهد.
و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 370)، و عزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن
عباس.
(2) عبد الله بن جحش الأسدي بن رياب، ابن يعمر الأسدي. حليف بني عبد شمس. أحد السابقين.
قال ابن حبان: له صحبة. و قال ابن إسحاق: هاجر إلى الحبشة، و شهد بدرا.
و دفن هو و حمزة في قبر واحد، و كان له يوم قتل نيف و أربعون سنة.
ينظر: " الإصابة " (4 / 31، 33).
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 262).
(4) ينظر: " تفسير الطبري " (3 / 567)، و " المحرر الوجيز " (1 / 263).
(5) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 162)، عن مجاهد، و جماعة، وابن عطية الأندلسي (1 / 263) عن
مجاهد.
(6) هذا جزء من حديث أخرجه البخاري (46، 47)، كتاب " جزاء الصيد "، باب لا يحل القتال بمكة،
401

الفخر (1)، وأن الآية محكمة، ولا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم. انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه " (2) وقد روى الأئمة / عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام
بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيها لأحد قبلي، و إنما أحلت لي
ساعة من نهار " (3).
فقد ثبت النهي عن القتال فيها قرآنا وسنة، فإن لجأ إليها كافر، فلا سبيل إليه، وأما
الزاني والقاتل، فلا بد من إقامة الحد عليه إلا أن يبتدئ الكافر بالقتال فيها، فيقتل بنص
القرآن. انتهى.
وقرأ حمزة والكسائي (4): " ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه، فإن
قتلوكم فاقتلوهم "، أي: فإن قتلوا منكم، والانتهاء في هذه الآية هو الدخول في الإسلام.

حديث (1834)، و مسلم (2 / 986، 987)، كتاب " الحج "، باب تحريم مكة، وصيدها، و خلاها،
و شجرها، و لقطتها إلا لمنشد على الدوام، حديث (445 / 1335).
و أبو داود (2 / 6) كتاب " الجهاد "، باب في الهجرة هل انقطعت، حديث (2408)، و النسائي (7 / 146)
كتاب " الجهاد "، باب ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة. و الترمذي (4 / 126) كتاب " السير "، باب ما
جاء في الهجرة، حديث (159). و الدارمي (2 / 239)، كتاب " السير "، باب لا هجرة بعد الفتح.
و عبد الرزاق (5 / 309) رقم (9713). و ابن الجارود (1030). و ابن حبان (4845 - الإحسان)،
و البيهقي (5 / 195)، و الطبراني في " الكبير " رقم (10944)، و البغوي في " شرح السنة " (5 / 520 -
بتحقيقنا)، من طريق منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم فذكره.
(2) ينظر: " التفسير الكبير " (5 / 113).
(2) ينظر: " أحكام القرآن " (1 / 106 - 107).
(3) ينظر الحديث السابق.
(4) و حجة جمهور السبعة قوله تعالى: (و قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)، و قوله: (وقاتلوهم حتى
لا تكون فتنة) [البقرة: 193].
و حجة أخرى، و هي: أن القتال إنما يؤمر به الأحياء، فأما المقتولون، فإنهم لا يقاتلون فيؤمروا به،
و على قراءة الأخوين ظاهره أمر للمقتول بقتل القاتلين، و ذلك محال.
و حجتهما: أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله أبلغ في الثناء، و أن المقصود: فإن قتلوا بعضكم
فاقتلوهم، و حكى الفراء عن العرب أنهم يقولون: قتلنا بني فلان. و إنما قتلوا بعضهم.
و احتجا بأثر: " و لا تبدءوهم بالقتل حتى يبدءوكم به ".
ينظر: " حجة القراءات " (128)، و " السبعة " (179)، و " الكشف " (1 / 258)، و " الحجة " (2 / 284 -
285)، و " العنوان " (73)، و " شرح الطيبة " (4 / 94 - 96)، و " شرح شعلة " (286)، و " إتحاف "
(1 / 433)، و " معاني القراءات " (1 / 195).
402

(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين (193) الشهر
الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله
و اعلموا أن الله مع المتقين (194) و أنفقوا في سبيل الله و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة و أحسنوا إن الله يحب
المحسنين (195))
(و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله): (الفتنة): هنا الشرك، و ما تابعه
من أذى المؤمنين. قاله ابن عباس وغيره (1).
و (الدين) هنا: الطاعة، والشرع، والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية
في الكفار، أن يكون الدخول في الإسلام، ويصح أن يكون أداء الجزية.
وقوله تعالى: (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص...) الآية: قال ابن
عباس وغيره: نزلت في عمرة القضية، وعام الحديبية سنة ست، حين صدهم المشركون،
أي: الشهر الحرام الذي غلبكم الله فيه، وأدخلكم الحرم عليهم سنة سبع - بالشهر الحرام
الذي صدوكم فيه، والحرمات قصاص (2).
وقالت فرقة: قوله: (و الحرمات قصاص): مقطوع مما قبله (3)، وهو ابتداء أمر كان
في أول الإسلام أن من انتهك حرمتك، نلت منه مثل ما اعتدى عليك.
(واتقوا الله): قيل معناه في أن لا تعتدوا، وقيل: في ألا تزيدوا على المثل.
وقوله تعالى: (و أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة...) الآية:
سبيل الله هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله، وفي الصحيح أن أبا أيوب
الأنصاري (4) كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم: ألقى هذا
بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، حين أرادوا، لما
ظهر الإسلام، أن يتركوا الجهاد، ويعمروا أموالهم، وأما هذا، فهو الذي قال الله تعالى

(1) أخرجه الطبري (1 / 200) برقم (3124)، و ذكره ابن عطية الأندلسي (1 / 263)، والسيوطي في " الدر
المنثور " (1 / 371)، و عزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، و البيهقي.
(2) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 163)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 263).
(3) ذكره ابن عطية الأندلسي في " المحرر الوجيز " (1 / 264).
(4) خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، الأنصاري، النجاري، أبو أيوب المدني، شهد بدرا و العقبة، و عليه
نزل النبي صلى الله عليه و آله و سلم حين دخل المدينة. له مائة و خمسون حديثا.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 277).
403

فيه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله) (1) [البقرة: 207].
وقال ابن عباس، وحذيفة بن اليمان، وجمهور الناس: المعنى: لا تلقوا بأيديكم،
بأن تتركوا النفقة في سبيل الله، وتخافوا العيلة (2).
(وأحسنوا): قيل: معناه: في أعمالكم بامتثال الطاعات، روي ذلك عن بعض
الصحابة (3)، وقيل: المعنى: وأحسنوا في الإنفاق في سبيل الله، وفي الصدقات، قاله
زيد بن أسلم (4)، وقال عكرمة: المعنى: وأحسنوا الظن بالله عز وجل (5).
* ت *: ولا شك أن لفظ الآية عام يتناول جميع ما ذكر، والمخصص يفتقر إلى
دليل.
فأما حسن الظن بالله سبحانه، فقد جاءت فيه أحاديث صحيحة، فمنها: " أنا عند ظن
عبدي بي " (6)، وفي " صحيح مسلم " عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثة
أيام يقول: " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله " (7) انتهى /.
وأخرج أبو بكر بن الخطيب، بسنده، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حسن عبادة
المرء حسن ظنه " (8). انتهى.

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 265).
(2) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 207) رقم (3155).
و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 164)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 265)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 374)، و عزاه إلى الفريابي، وابن جرير، و ابن المنذر.
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 265).
(4) أخرجه الطبري (2 / 212) برقم (3190)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 265).
(5) أخرجه الطبري (2 / 212)، رقم (3189)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 265)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 375)، و عزاه لعبد بن حميد، و ابن جرير، عن عكرمة.
(6) تقدم تخريجه.
(7) أخرجه مسلم (4 / 2204) كتاب " الجنة و صفة نعيمها و أهلها " باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند
الموت، حديث (81 / 2877)، من حديث جابر.
و ابن ماجة (2 / 1295)، كتاب " الزهد "، باب " التوكل و اليقين " رقم (4167)، و البيهقي (3 / 378)
كتاب " الجنائز "، باب المريض يحسن ظنه بالله - عز وجل - و يرجو برحمته "، و أحمد (3 / 293 -
315 - 325 - 390)، و ابن حبان (2 / 403)، كتاب " الرقاق "، باب ذكر الأمر للمسلم بحسن الظن
بمعبوده، مع قلة التقصير في الطاعات رقم (636)، (2 / 404، 405)، كتاب " الرقاق "، باب حث
المصطفى صلى الله عليه وآله و سلم على حسن الظن بمعبود هم جل و علاء، رقم (638).
(8) أخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " (5 / 377).
404

قال عبد الحق في " العاقبة ": أما حسن الظن بالله عز وجل عند الموت، فواجب،
للحديث. انتهى.
ويدخل في عموم الآية أنواع المعروف، قال أبو عمر ابن عبد البر: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " كل معروف صدقة " (1)، قال أبو جري الهجيمي (2)، قلت: يا رسول الله،
أوصني، قال: " لا تحقرن شيئا من المعروف، أن تأتيه، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء
المستسقى، ولو أن تلقى أخاك، ووجهك منبسط إليه " (3)، وقال عليه السلام: " أهل
المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة " (4)، وقال عليه الصلاة والسلام: " إن لله

(1) أخرجه البخاري (10 / 462) كتاب " الأدب "، باب كل معروف صدقة حديث (6021)، و مسلم (2 /
697)، كتاب " الزكاة " باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف حديث (52 / 1005).
(2) هو جابر بن سليم، و قيل: سليم بن جابر، جري الهجيمي مشهور بكنيته.
ينظر: " أسد الغابة " ت (637)، " الاستيعاب " ت (305)، " الثقات " (3 / 254)، " تجريد أسماء
الصحابة " (1 / 71)، " تقريب التهذيب " (2 / 39)، " الطبقات الكبرى " (179)، " تهذيب الكمال " (1 /
178)، " الوافي بالوفيات " (11 / 26)، " التاريخ الصغير " (1 / 117)، " التاريخ الكبير " (2 / 205)،
" الجرح و التعديل " (2 / 2027)، " تبصير المنتبه " (3 / 915)، " الإصابة " (1 / 542).
(3) أخرجه أبو داود (2 / 454)، كتاب " اللباس "، باب ما جاء في إسبال الإزار، حديث (4084)، و أحمد
(5 / 63)، و الحاكم (4 / 186)، وابن حبان (866 - موارد).
(4) أخرجه الطبراني في " الصغير " (1 / 262 - 263)، و القضاعي في " مسند الشهاب " (301)، و أبو نعيم في
" حلية الأولياء " (9 / 319) من طريق المسيب بن واضح، ثنا علي بن بكار، ثنا هشام بن حسان عن
محمد بن سيرين، عن أبي هريرة مرفوعا.
و قال الطبراني: لم يروه عن هشام إلا علي، تفرد به المسيب، و قال ابن أبي حاتم في " الملل " (2 / 292)
رقم (2380): سألت أبي عن حديث رواه المسيب بن واضح، عن علي بن بكار، عن هشام بن
حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: " أهل المعروف في الدنيا هم
أهل المعروف في الآخرة ". قال أبي: هذا حديث منكر جدا اه‍.
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 266)، و قال: رواه الطبراني في " الصغير "،
و " الأوسط " بإسنادين في أحدهما يحيى بن خالد بن حيان الرقي، و لم أعرفه، ولا ولده أحمد، و في
الأخير المسيب بن واضح، قال أبو حاتم: يخطئ كثيرا. اه‍.
و في الباب عن أبي موسى، و ابن عمر، و عمر، و علي، و سلمان، و أبي الدرداء، و ابن عباس، و أبي
أمامة، و قبيصة بن مرة.
* حديث أبي موسى:
أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (1 / 74) من طريق مؤمل بن إسماعيل، ثنا سفيان، عن عاصم
الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي موسى الأشعري مرفوعا.
وقال الطبراني: لو يروه عن سفيان إلا مؤمل.
والحديث أخرجه الدارقطني في " العلل " (7 / 242 - 243)، و من طريقه ابن الجوزي في " العلل
405



المتناهية " (2 / 508) رقم (838)، من طريق مؤمل بن إسماعيل به.
و قال الدارقطني: هذا حديث يرويه عاصم الأحول، و اختلف عنه، فرواه مؤمل عن الثوري، عن عاصم،
عن أبي عثمان، عن أبي موسى.
و خالفه هشام بن لاحق، رواه عن عاصم عن أبي عثمان عن سلمان، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم.
وغيرهما يرويه عن عاصم، عن أبي عثمان، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم مرسلا، و هو الصواب.
و قال ابن الجوزي: تفرد بن مؤمل عن الثوري، فأسنده عن أبي موسى.
* حديث ابن عمر:
أخرجه البزار (3295 - كشف)، و ابن عدي في " الكامل " (5 / 2001)، و ابن الجوزي في " العلل
المتناهية " (2 / 506) رقم (835)، من طريق خازم بن مروان. قال: حدثني ابن السائب عن نافع، عن
ابن عمر مرفوعا.
قال ابن أبي حاتم في " العلل " (2 / 105) رقم (1808): قال أبي الحديث الذي روي عن عطاء بن
السائب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال: " أهل المعروف في الدنيا، أهل المعروف في
الآخرة ". قال أبي: هذا حديث باطل. اه‍.
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 265)، و قال: رواه البزار، و فيه خازم أبو محمد قال أبو
حاتم: مجهول.
* حديث عمر:
قال الدارقطني في " العلل " (2 / 244 - 246): يرويه عاصم بن سليمان الأحول، و اختلف عنه، فرواه
مؤمل عن الثوري عن عاصم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و رواه هشام بن لاحق عن عاصم عن أبي
عثمان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم. وكلاهما و هم: و الصواب ما رواه حماد بن زيد، و غيره عن عاصم عن
أبي عثمان عن عمر من قوله غير مرفوع، و رواه علي بن مسهر، وغيره، عن عاصم عن أبي عثمان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مرسلا، حدثنا أبو علي المالكي، ثنا زيد بن أخرم، ثنا عبد القاهر بن شعيب قال:
ثنا هشام، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان قال: سمعت عمر على المنبر يقول: " إن أهل
المعروف... الحديث ".
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (7 / 266)، و قال: رواه الطبراني، و فيه هشام بن لاحق
تركه أحمد، و قواه النسائي، و بقية رجاله ثقات. اه‍.
* حديث أبي الدرداء:
أخرجه الخطيب (10 / 420) من طريق هيذام بن قتيبة، قال: نا عبد الملك بن زيد أبو بشر البزار:
قال: نا سفيان الثوري، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي الدرداء مرفوعا، و من طريق
الخطيب، أخرجه ابن الجوزي في " العلل " (2 / 508) رقم (840)، و قال: هيذام مجهول.
* حديث ابن عباس:
أخرجه الطبراني في " الكبير " (11 / 71) رقم (11078) من طريق موسى بن أعين، عن ليث، عن
مجاهد، عن ابن عباس مرفوعا. و أخرجه (11 / 190 - 191) رقم (11460)، من طريق عبد الله بن
هارون الفروي، ثنا محمد بن منصور، حدثني أبي عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس مرفوعا.
406

عبادا خلقهم لحوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة " (1). انتهى من كتابه المسمى ب‍ " بهجة
المجالس وأنس المجالس ". (و أتموا الحج و العمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى و لا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله

و الحديث ذكره الهيثمي في " المجمع " (7 / 266)، و قال: رواه الطبراني في " الكبير "، و " الأوسط "،
و في إسناد الكبير عبد الله بن هارون الفروي و هو ضعيف، و في الآخر ليث بن أبي سليم.
* حديث أبي أمامة:
أخرجه الطبراني في " الكبير " (8 / 312 - 313) رقم (8015)، و قال الهيثمي في " المجمع " (7 / 266):
و فيه من لم أعرفه.
* حديث قبيصة بن مرة:
أخرجه الطبراني في " الكبير " (18 / 376) رقم (96)، و البزار (3294 - كشف)، من طريق نصير بن
عمرو بن يزيد بن قبيصة بن برمة الأسدي الكوفي قال: سمعت برمة بن ليث يقول: سمعت قبيصة بن
برمة به مرفوعا.
و قال الهيثمي في " المجمع " (7 / 265): و فيه علي بن أبي هاشم، قال أبو حاتم: هو صدوق إلا أنه ترك
حديثه من أجل أن يتوقف في القرآن، و فيه من لم أعرفه.
* حديث علي:
أخرجه الخطيب (2 / 244)، من طريق محمد بن الحسين البغدادي، عن محمد بن عبد الله بن
خليس، عن أبي عثمان بكر بن محمد المازني قال: سمعت سيبويه يقول: سمعت الخليل بن أحمد
يقول: سمعت ذرا الهمداني يقول: سمعت الحارث العكلي عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
و له طريق آخر: أخرجه الخطيب (11 / 326) من طريق أيوب بن محمد، عن أبي عثمان المازني به.
و من طريقي الخطيب أخرجه ابن الجوزي في " العلل المتناهية " (2 / 507) رقم (836، 837).
و قال: هذا حديث لا يصح. أما حديث علي ففي الطريق الأول محمد بن الحسين البغدادي، و كان
يسمي نفسه لاحقا، و قد وضع على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ما لا يحصى، ذكره الخطيب. و أما الطريق الثاني
فإن أيوب بن محمد مجهول الحال. اه‍.
وللحديث طريق آخر عن علي: أخرجه الحاكم (4 / 321)، من طريق حبان بن علي عن سعد بن طريف
عن الأصبغ عن نباتة عن علي مرفوعا بلفظ: " يا علي، إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في
الآخرة ". و قال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه.
و تعقبه الذهبي فقال: الأصبغ واه، و حبان ضعفوه.
* حديث سلمان:
أخرجه الطبراني في " الكبير " (6 / 246) رقم (6112)، والعقيلي في " الضعفاء " (4 / 337)، من طريق
هشام بن لاحق، ثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان مرفوعا.
قال ابن الجوزي في " العلل " (2 / 509): و أما حديث سلمان فقال أحمد بن حنبل: تركت حديث
هشام بن لاحق، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به.
(1) أخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " رقم (1007، 1008).
407

فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة
إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة في الحج و سبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك
لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام و اتقوا الله و اعلموا أن الله شديد العقاب (196)) وقوله تعالى: (و أتموا الحج والعمرة لله): قال ابن زيد وغيره: إتمامهما ألا
تفسخا، وأن تتمهما، إذا بدأت بهما (1)، وقال ابن عباس وغيره: إتمامهما أن تقضي
مناسكهما كاملة بما كان فيهما من دماء (2)، وقال سفيان الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا
لهما، لا لتجارة، ولا لغير ذلك (3)، ويؤيد هذا قوله: (لله).
وفروض الحج: النية (4)، والإحرام، والطواف (5) المتصل بالسعي، يعنى: طواف

(1) أخرجه الطبري (2 / 214) برقم (2307)، وذكره ابن عطية (1 / 265).
(2) أخرجه الطبري (2 / 213) برقم (3194). وذكره البغوي (1 / 165)، و ابن عطية (1 / 266)، و السيوطي
(1 / 376)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري (2 / 214) برقم (3206)، وذكره البغوي (1 / 165 - 166)، و ابن عطية (1 / 265).
(4) معناه: نية الدخول في الحج وكيفيته: أن يقصد الحج و الإحرام به لله تعالى، لخبر " إنما الأعمال
بالنيات ".. و يشترط في النية أن تكون في أشهر الحج، لقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) و المراد به
وقت إحرام الحج.
و يسن اقتران النية بالتلبية بأن ينوي و يلبي بلا فاصل، كما يسن في النية - التلفظ باللسان، ليساعد اللسان
القلب، بأن يقول الشخص: نويت الحج و أحرمت به لله (تعالى) إذا كان يحج عن نفسه، أو نويت الحج
عن فلان، و أحرمت به لله تعالى - إذا كان يحج عن غيره.
و صيغة التلبية: " لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك
لك ".
و قال أبو حنيفة (رضي الله عنه): لا ينعقد الإحرام حتى يلبي، أو يسوق الهدي، واستدل " أولا " بقوله
(عليه الصلاة و السلام): " أمرني جبريل أن آمر أصحابي بالتلبية و رفع الصوت. و " ثانيا " بالقياس على
الصلاة.
و أجيب عن الأول بأن الأمر أمر استحباب، و إلا لزم رفع الصوت، كما أجيب عن الثاني، بأن المقصود
من الصلاة الذكر بخلاف الحج.
(5) من أركان الحج الطواف بالبيت، لقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29]، و المراد به
طواف الإفاضة، لانعقاد الإجماع عن ذلك، و لهذا الطواف أسماء غير ذلك، منها " طواف الزيارة "،
و " طواف الفرض "، و قد يسمى " طواف الصدر " بفتح الدال، و الأشهر أن طواف الصدر هو طواف
الوداع.
و محل طواف الإفاضة بعد الخروج عن عرفة، ولهذا سمي طواف الإفاضة، و يدخل وقته بنصف ليلة
النحر، لمن وقف قبله، قياسا على رمي جمرة العقبة، و لا آخر لوقته، إذا الأصل، عدم التأقيت إلا إذا دل
دليل على ذلك، و لا دليل ثمة.
408

الإفاضة، والسعي بين الصفا والمروة عندنا، خلافا لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة (1)، وزاد
ابن الماجشون: جمرة العقبة.
وقوله تعالى: (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) هذه الآية نزلت عام الحديبية
عند جمهور أهل التأويل، وأجمع جمهور الناس على أن المحصر بالعدو يحل حيث
أحصر، وينحر هديه، إن كان ثم هدي، ويحلق رأسه، وأما المحصر بمرض، فقال مالك،
وجمهور من العلماء: لا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، وإن أقام سنين، فإذا وصل
البيت، بعد فوت الحج، قطع التلبية في أوائل الحرم، وحل بعمرة، ثم تكون عليه حجة
قضاء، وفيها يكون الهدي.
و " ما " في موضع رفع (2)، أي: فالواجب، أو: فعليكم ما استيسر، وهو شاة عند الجمهور.

و يسن تأخيره إلى بعد طلوع الشمس، للاتباع، ويكره تأخيره عن يوم النحر، و في تأخيره عن أيام التشريق
كراهة شديدة، وعن خروجه من " مكة " كراهة أشد.
(1) من أركان الحج: الوقوف بعرفة، لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: " الحج عرفة " أي: معظمه، و يبتدئ وقته من زوال اليوم
التاسع من ذي الحجة، لما صح " أنه صلى الله عليه وآله و سلم وقف بعد الزوال " مع خبر " خذوا عني مناسككم "، و ينتهي
بطلوع فجر يوم النحر، و هو اليوم العاشر من ذي الحجة، لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: " من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر
فقد أدرك الحج "، ففي أي جزء من الزمن المذكور وقف المحرم بأرض عرفة أجزأه، دون ما قبله، و دون
ما بعده.
نعم لو وقفوا يوم النحر غلطا لظنهم أنه اليوم التاسع بأن غم عليهم هلال ذي الحجة، فأكملوا ذا القعدة
ثلاثين، ثم بان أن الهلال أهل ليلة الثلاثين، أجزأهم ذلك الوقوف بدون قضاء، بشرط ألا يكون عددهم
أقل من المعتاد، فإذا قل عددهم عن حسب العادة وجب عليهم القضاء، كما يجب عليهم القضاء إذا
وقفوا اليوم الثامن أو الحادي عشر غلطا، لندرة الغلط فيهما.
و المعتبر في الوقوف بعرفة حضور المحرم بها ولو لحظة ماشيا كان أو راكبا، متيقظا كان أو نائما، و سواء
حضر لغرض الوقوف أم لا، كأن كان هاربا أو مارا في طلب آبق، وسواء علم أنها عرفة، أو لم يعلم أنها
هي، و بالجملة فيجزىء الوقوف مع النوم و لو استغرق جميع الوقت، و مع الغفلة، و مع عدم المكث،
و مع الجهل بالبقعة و اليوم.
و في حكم أرض عرفة ما اتصل بها و كان في هوائها، فيكفي كون المحرم على دابة أو سيارة أو شجرة في
أرض المذكورة. و لا يكفي كونه على غصن شجرة خارج عن هوائها، و إن كان أصل الغصن المذكور
فيها، و لا كونه على غصن في هوائها و أصله ليس فيها، كما لا يكفي الطيران في جوها، و لا الوقوف
على جزء نقل منها إلى مكان آخر.
و حد عرفة من وادي " عرنة " إلى الجبال المقبلة على عرفة إلى حوائط بستان بني عامر، و إلى طريق
الحصن، و ليست النمرة، ولا وادي " عرنة ". و لا صدر مسجد إبراهيم (عليه السلام) من عرفات.
(2) و فيها قولان آخران:
أحدهما: أنها في محل نصب، أي: فليهد، أو فلينحر. و هذا مذهب ثعلب.
409

وقال ابن عمر وعروة (1): جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة (2).
وقوله تعالى: (و لا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله) الخطاب لجميع الأمة،
وقيل: للمحصرين خاصة، ومحل الهدي: حيث يحل نحره، وذلك لمن لم يحصر بمنى،
والترتيب: أن يرمي الحاج الجمرة، ثم ينحر، ثم يحلق، ثم يطوف للإفاضة.
وقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا...) الآية: المعنى: فحلق لإزالة الأذى،
(ففدية)، وهذا هو فحوى الخطاب عند أكثر الأصوليين، ونزلت هذه الآية في
كعب بن عجرة (3)، حين رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يتناثر قملا، فأمره بالحلاق، ونزلت
الرخصة.
والصيام، عند مالك، وجميع أصحابه: ثلاثة أيام، والصدقة ستة مساكين، لكل

(1) و الثاني: أنه مبتدأ، و الخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر. و يعزى للأخفش.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 484).
(1) عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، و أحد علماء التابعين،
روى عن أبيه و أمه و كثير من الصحابة.
قال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدلاء. كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن. ولد سنة 29 ه‍ و مات و هو
صائم سنة 92 ه‍، و قيل غير ذلك.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 226) (4826)، ابن سعد (5 / 132 - 135)، و " الحلية " (2 / 176 - 183)،
" الوفيات " (3 / 255 - 258).
(2) أخرجه الطبري (2 / 225) رقم (3275)، وذكره ابن عطية (1 / 267)، والسيوطي (1 / 384)، و عزاه
لوكيع، و سفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و ابن جرير، وابن
المنذر، وابن أبي حاتم، من طرق عن ابن عمر.
(3) هو: كعب بن عجرة بن أمية بن عدي بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن عوف بن غنم بن سواد بن
مري بن إراشة... أبو محمد البلوي، حليف الأنصار.
قال الواقدي: ليس بحليف للأنصار، و لكنه من أنفسهم. قال ابن سعد: طلبت اسمه في نسب الأمصار
فلم أجده. و قال ابن الكلبي. و ساق نسبه إلى " بلي " ثم قال: انتسب كعب في الأنصار في بني عمرو بن
عوف، و تأخر إسلامه ثم أسلم و شهد المشاهد كلها. روى عنه ابن عمر، و جابر بن عبد الله،
و عبد الله بن عمرو بن العاص، و ابن عياش، و طارق بن شهاب و غيرهم.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (4 / 481)، " الإصابة " (5 / 304)، " الثقات " (3 / 351)، " الاستيعاب "
(2 / 1321)، " الاستبصار " (195)، " البر " (1 / 57)، " تجريد أسماء الصحابة " (2 / 31)، " تاريخ
جرجان " (296)، " الأعلام " (5 / 227)، " عنوان النجابة " (149)، " الكاشف " (3 / 8)، " الإكمال " (4 /
391)، " الجرح و التعديل " (7 / 160)، " تهذيب الكمال " (3 / 1147)، " تهذيب التهذيب " (8 / 435)،
" تقريب التهذيب " (2 / 135)، " سير أعلام النبلاء " (3 / 52).
410

مسكين نصف صاع، وذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والنسك: شاة بإجماع، ومن أتى بأفضل
منها ما يذبح أو ينحر، فهو أفضل والمفتدي مخير في أي هذه الثلاثة شاء، حيث شاء من
مكة وغيرها.
قال مالك وغيره: كلما أتى في القرآن " أو أو "، فإنه على التخيير،
وقوله تعالى: (فإذا أمنتم)، أي: من العدو المحصر /، قاله ابن عباس وغيره (1)،
وهو أشبه باللفظ، وقيل: معناه: إذا برأتم من مرضكم (2).
وقوله سبحانه: (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج...) الآية.
قال ابن عباس وجماعة من العلماء: الآية في المحصرين وغيرهم (3)، وصورة
المتمتع (4) أن تجتمع فيه ستة شروط، أن يكون معتمرا في أشهر الحج، وهو من غير

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 268)، و السيوطي (1 / 384)، و عزاه إلى سفيان بن عيينة،
و الشافعي في " الأم "، و عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، و ابن جرير، وابن المنذر، و ابن
أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (2 / 251)، وذكره البغوي (1 / 170)، و ابن عطية (1 / 268).
(3) أخرجه الطبري (2 / 254) برقم (3431)، وذكره ابن عطية (1 / 268)، و السيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 387)، و عزاه إلى ابن جرير، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4) و هو عكس الإفراد أن يحرم الشخص بالعمرة أولا من الميقات الذي مر عليه في طريقه إن كان غير ميقات
بلده، ثم يأتي بأعمالها، و بعد الفراغ منها يحرم بالحج من " مكة " أو من الميقات الذي أحرم منه للعمرة،
أو من مثل مسافته، أو من ميقات أقرب منه، و سواء كان إحرامه بالعمرة في أشهر الحج أو قبل أشهره،
و سواء حج في العام الذي اعتمر فيه، أو أخر الحج إلى عام قابل، فللمتمتع أربع صور، و سمي الآتي به:
متمتعا، لأنه تمتع بمحظورات الإحرام بين النسكين. ولدم التمتع شروط أربعة: أن تقع عمرة المتمتع في
أشهر الحج، فإذا أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج " سواء أتمها قبل دخول أشهر الحج أو أتمها فيها " فلا
يجب عليه الدم، لأنه لم يجمع بين الحج و العمرة في أشهر الحج، فأشبه المفرد. أن يحج من عامه، فإذا
اعتمر في أشهر الحج ثم حج في عام آخر أو لم يحج أصلا، فلا دم عليه، لما روى البيهقي " كان
أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يعتمرون في أشهر الحج، فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا ".
ألا و يعود المتمتع بعد فراغه من العمرة إلى الميقات الذي أحرم منه أولا أو إلى ميقات آخر من مواقيت
الحج ليحرم منه بالحج، فإن عاد المتمتع إلى الميقات ليحرم منه بالحج، فلا دم عليه لأن المقتضي للدم
هو ذبح الميقات، و قد انتفى بعودة المتمتع إليه.
ألا يكون المتمتع من حاضري المسجد الحرام، لقوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد
الحرام) [البقرة: 196]، و المراد بحاضري المسجد الحرام من بين مساكنهم، والحرم أقل من
مرحلتين، فإن كان المتمتع من أهل هذه الجهة، فلا يلزمه الدم، لقربه من الحرم، و القريب من الشئ
يقال له: " حاضره "، قال تعالى: (و أسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) [الأعراف: 163] أي
411

حاضري المسجد الحرام، ويحل وينشىء الحج من عامة ذلك، دون رجوع إلى وطنه، أو
ما ساواه بعدا، هذا قول مالك، وأصحابه، واختلف، لم سمي متمتعا.
فقال ابن القاسم: لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة
إلى وقت إنشائه الحج (1)، وقال غيره: سمي متمتعا، لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين،
وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر، وحق الحج كذلك، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه
الله تعالى هديا كالقارن الذي يجمع الحج والعمرة في سفر واحد، وجل الأمة (2) على جواز
العمرة في أشهر الحج للمكي ولا دم عليه (3).
وقوله تعالى: (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج)، يعني: من وقت يحرم إلى
يوم عرفة، فإن فاته صيامها قبل يوم النحر، فليصمها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج.
(وسبعة إذا رجعتم)، قال مجاهد وغيره: أي: إذا رجعتم من منى (4)، وقال قتادة،
والربيع: هذه رخصة من الله سبحانه (5)، والمعنى: إذا رجعتم إلى أوطانكم، ولما جاز أن
قريبة منه. و المعنى في ذلك أنه لم يربح ميقاتا عاما لأهله ولمن مر به.
و وقت وجوب الدم على المتمتع هو وقت إحرامه بالحج، لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج،
و يجوز له أن يذبح بعد فراغه من العمرة و قبل الإحرام بالحج، لتقدم أحد سببيه. و الأفضل ذبحه يوم
النحر و لا آخر لوقته كسائر دماء الجبر بها.

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 268).
(2) و الأصل في ذلك ما روي عن قتادة أن أنسا أخبره قال: اعتمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم أربع عمر، كلهن في ذي القعدة
إلا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية في ذي القعدة، و عمرة من العام المقبل في ذي القعدة،
و عمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، و عمرة مع حجته ".
أخرجه البخاري (3 / 801)، كتاب العمرة: باب كم اعتمر النبي صلى الله عليه وآله و سلم (1778)، و أطرافه في (1779 -
1780 - 3066 - 4148)، و مسلم (2 / 916)، كتاب " الحج "، باب بيان عدد عمر النبي صلى الله عليه و آله و سلم (217 -
1253).
و روي عن ابن عمر أنه قال: اعتمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع عمر، إحداهن في رجب، فأخبرت عائشة بذلك،
قالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن، ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلا و هو معه، و ما اعتمر في رجب قط.
و روي عن مجاهد، أن علي بن أبي طالب قال: في كل شهر عمرة، و كان أنس بن مالك بمكة، فكان
إذا حمم رأسه، خرج فاعتمر.
أخرجه الشافعي، كذا في " ترتيب المسند " (2 / 379).
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 267 - 268).
(4) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 270).
(5) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 270).
412

يتوهم متوهم التخيير بين ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجع، أزيل ذلك بالجلية من قوله
تعالى: (تلك عشرة).
و (كاملة) (1) قال الحسن بن أبي الحسن: المعنى: كاملة الثواب (2)، وقيل: كاملة (3)
تأكيد، كما تقول: كتبت بيدي، وقيل: لفظها الإخبار (4)، ومعناها الأمر، أي: أكملوها،
فذلك فرضها، وقوله تعالى: (ذلك لمن لم يكن أهله...) الآية: الإشارة بذلك على
قول الجمهور هي إلى الهدي، أي: ذلك الاشتداد والإلزام، وعلى قول من يرى أن المكي
لا تجوز له العمرة في أشهر الحج، تكون الإشارة إلى التمتع، وحكمه، فكأن الكلام، ذلك
الترخيص لمن لم، ويتأيد هذا بقوله: (لمن لم)، لأن اللام أبدا إنما تجيء مع
الرخص (5)، واختلف الناس في (حاضري المسجد الحرام) بعد الاجماع على أهل مكة،
وما اتصل بها، فقيل: من تجب عليه الجمعة بمكة، فهو حضري، ومن كان أبعد من
ذلك، فهو بدوي، قال * ع (6) * فجعل اللفظة من الحضارة، والبداوة.
وقيل: من كان بحيث لا يقصر الصلاة، فهو حاضر، أي: مشاهد، ومن كان أبعد
من ذلك، فهو غائب.
وقال ابن عباس، ومجاهد: أهل الحرم (7) كله حاضرو المسجد الحرام، ثم أمر تعالى
بتقواه على العموم، وحذر من شديد عقابه.
(الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال في

(1) قال الشافعي في في " رسالته ": احتملت أن تكون زيادة في التبيين، و احتملت أن يكون أعلمهم أن ثلاثة إذا
جمعت إلى سبع كانت عشرة كاملة. ينظر: " الرسالة " (26).
(2) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 170) و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 270).
(3) أخرجه الطبري (1 / 264)، وذكره البغوي (1 / 170)، و ابن عطية (1 / 270).
(4) أخرجه الطبري (2 / 264)، وذكره ابن عطية (1 / 270)، و البغوي (1 / 171).
(5) و هذا على قول من قال: إن الإشارة ب‍ " ذلك " المقصود بها: ذلك الترخيص، و أما القائلون بجواز اعتمار
المكي في أشهر الحج، فيقولون: إن اللام في قوله تعالى: " لمن " بمعنى " على "، و يصير المعنى:
وجوب الدم على من لم يكن من أهل مكة، كقوله عليه السلام: " اشترطي لهم الولاء ".
ينظر: " الجامع لأحكام القرآن "، للإمام القرطبي (2 / 268).
(6) " المحرر الوجيز " (1 / 271).
(7) أخرجه الطبري (2 / 265) برقم (3506)، و ذكره ابن عطية (1 / 271)، و السيوطي في " الدر المنثور "
(7) أخرجه الطبري (2 / 265) برقم (3506)، و ذكره ابن عطية (1 / 271)، و السيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 391) عن مجاهد، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر عن ابن عباس.
413

الحج و ما تفعلوا من خير يعلمه الله و تزودوا فإن خير زاد التقوى واتقون يا أولى
الألباب (197))
وقوله تعالى: (الحج أشهر معلومات) في الكلام حذف، تقديره (1): أشهر الحج
أشهر أو وقت الحج أشهر معلومات، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوال، وذو القعدة،
وذو الحجة كله (2).
وقال ابن عباس وغيره: هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة (3)، والقولان
لمالك - رحمه الله - (فمن فرض فيهن الحج)، أي: ألزمه نفسه، وفرض الحج هو بالنية
والدخول في الإحرام، والتلبية تبع لذلك، وقوله تعالى: (فيهن)، ولم يجئ الكلام
" فيها "، فقال قوم: هما سواء / في الاستعمال، وقال أبو عثمان المازني (4): الجمع الكثير

(1) و كان هذا التقدير، لأن " الحج " فعل من الأفعال، و " أشهر " زمان، فهما غيران، فكان لابد من تأويل.
و هناك احتمالان آخران للإعراب، و هما:
الأول: الحج حج أشهر على الإضافة.
و الثاني: أن يجمع الحدث نفس الزمان مبالغة و مجازا، فالحج حال فيه، فلما اتسع في الظرف جعل نفس
الحدث.
و نظيرها: (و حمله و فصاله ثلاثون شهرا) [الأحقاف: 15] و إذا كان ظرف الزمان نكرة مخبرا به عن
حدث جاز فيه الرفع و النصب مطلقا، أي: سواء كان الحدث مستوعبا للظرف أم لا، هذا مذهب
البصريين.
و أما الكوفيون فقالوا: إن كان الحدث مستوعبا فالرفع فقط نحو: " الصوم يوم " و إن لم يكن مستوعبا
فهشام يلتزم رفعه أيضا نحو: " ميعادك يوم " والفراء يجيز نصبه مثل البصريين، وقد نقل عنه أنه منع نصب
" أشهر " يعني في الآية لأنها نكرة، فيكون له في المسألة قولان، و هذه المسألة بعيدة الأطراف تضمها
كتب النحويين. قال ابن عطية: " و من قدر الكلام: الحج في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب
الأشهر، و لم يقرأ به أحد " قال الشيخ: " و لا يلزم ذلك، لأن الرفع على جهة الاتساع، و إن كان أصله
الجر بفي ".
ينظر: " الدر المصون " (1 / 489 - 490).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 271).
(3) أخرجه الطبري (2 / 268) برقم (3525)، وذكره ابن عطية (1 / 271)، والسيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 393)، و عزاه لوكيع، وسعيد بن منصور، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن
المنذر، و ابن أبي حاتم، والبيهقي.
(4) بكر بن محمد بن حبيب بن بقية، أبو عثمان المازني، من مازن شيبان: أحد الأئمة في النحو، من أهل
البصرة. و وفاته فيها. له تصانيف، منها كتاب: " ما تلحن فيه العامة " و " الألف و اللام "، و " التصريف "
و " العروض " و " الديباج ". توفي سنة (249) ه‍. ينظر: " الأعلام " (2 / 69).
414

لما لا يعقل يأتي كالواحدة المؤنثة، والقليل ليس كذلك، تقول: الأجذاع انكسرن والجذوع
انكسرت (1)، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله) [التوبة: 36] ثم قال:
(منها) [التوبة: 36].
وقوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق...) الآية، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: " فلا
رفث ولا فسوق ولا جدال "، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال (2)، و " لا " بمعنى
" ليس "، في قراءة الرفع، والرفث الجماع في قول ابن عباس، ومجاهد، ومالك (3)،
والفسوق قال ابن عباس وغيره: هي المعاصي كلها (4)، وقال ابن زيد، ومالك: الفسوق:
الذبح للأصنام (5)، ومنه قوله تعالى: (أو فسقا أهل لغير الله به) [الأنعام: 145]، والأول
أولى.
قال الفخر (6): وأكثر المحققين حملوا الفسق هنا على كل المعاصي، قالوا: لأن

(1) وهذا بخلاف قوله: (منها أربعة حرم) [التوبة: 36]، فهناك " أشهر " جمع كثرة، و هنا " حرم " جمع
قلة.
(2) و حجة من فتح أنه نفي لجميع جنس الرفث و الفسوق، كما قال: (لا ريب فيه) [البقرة: 2] و كأن قائلا
قال: هل من رفث؟ هل من فسوق؟
و حجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس النفي وقتا واحدا، و لكنه بجميع ضروبه، و قد يكون اللفظ
واحدا، والمراد جميعا.
ينظر: " السبعة " (180)، و " الكشف " (1 / 285)، و " حجة القراءات " (128، 129)، و " الحجة " (2 /
286)، و " شرح الطيبة " (4 / 96)، و " شرح شعلة " (287)، و " العنوان " (73)، و " إتحاف " (1 /
433)، و " معاني القراءات " (1 / 196).
(3) أخرجه الطبري (2 / 276 - 277) رقم (3599 - 3603 - 3613) عن ابن عباس، رقم (3609 -
3614) عن مجاهد.
وذكره البغوي (1 / 172) عن ابن عباس و مجاهد، وابن عطية (1 / 272) عن ابن عباس، و مجاهد،
و مالك.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 395)، و عزاه لوكيع، و سفيان بن عيينة، و الفريابي، و سعيد بن
منصور، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و أبي يعلى، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(4) أخرجه الطبري (2 / 279 - 280) رقم (3634، 3648، 3652، 3656)، وذكره البغوي في " معالم
التنزيل " (1 / 172). وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 272)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 /
395)، وفي (1 / 396)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، و سفيان، و وكيع، و الفريابي، وسعيد بن
منصور، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و ابن أبي يعلى، و ابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الطبري (2 / 282) رقم (3671)، عن ابن زيد. وذكره ابن عطية (1 / 272)، عن ابن زيد،
و مالك.
(6) " التفسير الكبير " (5 / 140).
415

اللفظ صالح للكل ومتناول له، والنهي عن الشئ يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه، فحمل
اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل. انتهى.
قال ابن عباس وغيره: الجدال هنا: أن تماري مسلما (1).
وقال مالك، وابن زيد: الجدال هنا أن يختلف الناس أيهم صادق موقف إبراهيم
- عليه السلام -، كما كانوا يفعلون في الجاهلية (2)، قلت: ومعنى الآية: ترفثوا، ولا
تفسقوا، ولا تجادلوا، كقوله صلى الله عليه وسلم: " والصوم جنة، فإذا كان صوم أحدكم، فلا يرفث، ولا
يصخب، فإن شاتمه أحد، أو قاتله، فليقل إني امرؤ صائم... " (3) الحديث. انتهى.
قال ابن العربي في " أحكامه " (4): قوله تعالى: (فلا رفث ولا فسوق)، أراد نفيه
مشروعا، لا موجودا، فإنا نجد الرفث فيه، ونشاهده، وخبر الله سبحانه لا يقع بخلاف
مخبره. انتهى.
قال الفخر (5): قال القفال: ويدخل في هذا النهي ما وقع من بعضهم من مجادلة
النبي صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فشق عليهم ذلك، وقالوا: " أنروح إلى
منى، ومذاكيرنا تقطر منيا... " الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: (و ما تفعلوا من خير يعلمه الله): المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا
تحضيض على فعل الخير.
* ت *: وروى أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " من صنع إليه معروف،
فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء " رواه الترمذي، والنسائي، وابن حبان في
" صحيحه " بهذا اللفظ (6). انتهى من " السلاح " ونحو هذا جوابه صلى الله عليه وسلم للمهاجرين، حيث

(1) أخرجه الطبري (2 / 283 - 284)، رقم (3674 - 3675 - 3681 - 3695 - 3696)، و ذكره ابن عطية
(1 / 273)، و السيوطي (1 / 395 - 396)، وعزاه إلى وكيع، و سفيان بن عيينة، و الفريابي، و سعيد بن
منصور، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و أبي يعلى، و ابن جرير، و ابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (2 / 286) رقم (3706)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 173)، و ابن عطية (1 /
273) عن مالك، وابن زيد، و ذكره السيوطي (1 / 397)، وعزاه لابن جرير عن ابن زيد.
(3) تقدم تخريجه.
(4) ينظر: " الأحكام " (1 / 134).
(5) " التفسير الكبير " (1 / 141).
(6) أخرجه الترمذي (4 / 380) كتاب " البر و الصلة "، باب ما جاء في المتتبع بما لم يعطه، حديث (2034)،
و النسائي في " الكبرى " (6 / 53)، كتاب " عمل اليوم و الليلة "، باب ما يقول لمن صنع إليه معروفا،
416

قالوا: " ما رأينا كالأنصار "، وأثنوا عليهم خيرا.
وقوله سبحانه: (و تزودوا فإن خير الزاد التقوى...) الآية: قال ابن عمر وغيره:
نزلت الآية في طائفة من العرب، كانت تجيء إلى الحج بلا زاد، ويبقون عالة على الناس،
فأمروا بالتزود (1)، وقال بعض الناس: المعنى: تزودوا الرفيق الصالح، وهذا تخصيص
ضعيف، والأولى في معنى الآية: وتزودوا لمعادكم من الأعمال الصالحة، قلت: وهذا
التأويل هو الذي صدر به الفخر (2) وهو الظاهر، وفي قوله: (فإن خير الزاد التقوى) حض
على التقوى.
(ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفتم
فاذكروا الله عند المشعر الحرام و اذكروه كما هداكم و إن كنتم من قبله لمن الضالين
(198) ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم (199))
وقوله تعالى: (ليس عليكم جناح...) الآية: الجناح: أعم من الإثم، لأنه فيما

حديث (10008)، و ابن السني في " عمل اليوم و الليلة " (276)، و الطبراني في " الصغير " (2 / 148)،
و أبو نعيم في " ذكر أخبار أصبهان " (2 / 345)، كلهم من طريق الأحوص بن جواب، ثنا سعيد بن
الخمس، ثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد مرفوعا.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن جيد غريب، لا نعرفه من حديث أسامة بن زيد، إلا من هذا
الوجه. اه‍.
و صححه ابن حبان برقم (3413).
و قال الترمذي أيضا: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم بمثله، و سألت محمدا فلم يعرفه اه‍. قلت:
و الحديث الذي أشار إليه الترمذي:
أخرجه ابن أبي شيبة (9 / 70)، و البزار (2 / 397 - كشف) رقم (1944)، و الطبراني في " الصغير " (2 /
149)، كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم
قال: إذا قال الرجل لأخيه: جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ".
قال البزار: و محمد بن ثابت لا نعلم روى عنه إلا موسى بن عبيدة، ولا روى عن أبي هريرة هذا
الحديث غيره.
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 153)، و قال: رواه البزار، وفيه موسى بن عبيدة، و هو
ضعيف.
(1) أخرجه الطبري في (2 / 290) رقم (3732)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 173)، وابن عطية
في " المحرر الوجيز " (1 / 273)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 398)، و عزاه إلى ابن جرير، و ابن
مردويه، عن ابن عمر.
(2) ينظر: " التفسير الكبير " (5 / 143).
417

يقتضي العقاب، وفي ما يقتضي الزجر والعتاب.
و (تبتغوا): معناه: تطلبوا، أي: لأدرك (1) في أن تتجروا وتطلبوا / الربح.
وقوله تعالى: (فإذا أفضتم من عرفات): أجمع أهل العلم على تمام حج من وقف
بعرفات بعد الزوال، وأفاض نهارا قبل الليل إلا مالك بن أنس، فإنه قال: لا بد أن يأخذ
من الليل شيئا، وأما من وقف بعرفة ليلا، فلا خلاف بين الأمة في تمام حجه.
وأفاض القوم أو الجيش، إذا اندفعوا جملة، واختلف في تسميتها عرفة، والظاهر أنه
اسم مرتجل، كسائر أسماء البقاع، وعرفة هي نعمان الأراك (2)، والمشعر الحرام جمع كله،
وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضي مأزمي (3) عرفة إلى بطن محسر (4)، قاله ابن
عباس وغيره (5)، فهي كلها مشعر (6) إلا بطن محسر، كما أن عرفة كلها موقف إلا بطن
عرنة (7) بفتح الراء وضمها، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " عرفة كلها موقف إلا بطن
عرنة، والمزدلفة كلها مشعر، إلا وارتفعوا عن بطن محسر " (8) وذكر هذا عبد الله بن

(1) الدرك: التبعة، يسكن و يحرك. يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصة. ينظر: " لسان العرب "
(1364).
(2) هو واد في طريق الطائف يخرج إلى عرفات. ينظر: " لسان العرب " (4484) (نعم).
(3) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين، و منه سمي الموضع الذي بين المشعر و عرفة مأزمين.
ينظر: " لسان العرب " (74) (أزم).
(4) و محسر: بضم الميم، و فتح الحاء، بعدها سين مهملة مشددة مكسورة، بعدها راء، كذا قيده البكري:
وهو واد بين " مزدلفة " و " منى "، و قيل: سمي بذلك، لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه، أي: أعيا. و قال
البكري: هو واد ب‍ " جمع ". و قال الجوهري: هو موضع ب‍ " منى ". ينظر: " المطلع " (196 - 197).
(5) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 298) رقم (3798)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 /
274)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 401)، و عزاه إلى وكيع، و ابن جرير، و ابن المنذر عن ابن
عباس.
(6) المشعر الحرام، بفتح الميم، قال الجوهري: و كسر الميم لغة، و هو موضع معروف ب‍ " مزدلفة "، و يقال
له: " قزح ". وقد تقدم أن المشعر الحرام و " قزح "، من أسماء المزدلفة، فتكون " مزدلفة " كلها سميت
بالمشعر الحرام، و " قزح "، تسمية للكل باسم البعض، كما سمي المكان كله: " بدرا "، باسم ماء به،
و يقال له: " بدر ". ينظر: " المطلع " (197).
(7) بضم العين، و فتح الراء و النون بين عرفة و المزدلفة. وكل طريق بين جبلين فهو مأزم، و موضع الحرب
أيضا: مأزم. قال الجوهري: ومنه سمي الموضع الذي بين المشعر الحرام و عرفة: مأزمين.
ينظر: " المطلع " (196).
(8) بدون الاستثناء لعرفة و محسر: أخرجه: مسلم (2 / 886: 892) كتاب " الحج "، باب حجة النبي صلى الله عليه وآله و سلم،
حديث (147 / 1218)، و غيره من حديث جابر في حديثه الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه و آله و سلم، المعروف من
رواية محمد بن علي، عن جابر.
418



و في حديث آخر له أيضا من رواية عطاء عنه: أخرجه أبو داود (2 / 478، 479)، كتاب " المناسك "
(الحج)، باب الصلاة بجمع، حديث (1937)، و أحمد (3 / 326)، و الدارمي (2 / 56، 57)، كتاب
" المناسك "، باب عرفة كلها موقف، و البيهقي (5 / 122)، كتاب " الحج "، باب حديث ما وقف من
" المزدلفة " أجزأه.
و لفظه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قال: " كل عرفة موقف، و كل مزدلفة موقف، و معنى كلها منحر، وكل فجاج
مكة طريق و منحر ".
و ورد أيضا من حديث علي: أخرجه أبو داود (2 / 478)، كتاب " المناسك " (الحج)، باب الصلاة بجمع
(1935)، و الترمذي (3 / 232)، كتاب " الحج "، باب ما جاء أن عرفة كلها موقف، حديث (885)،
و ابن ماجة (2 / 1001)، كتاب " المناسك "، باب الموقف بعرفات، حديث (3010)، و البيهقي (5 /
122)، كتاب " الحج "، باب حيث ما وقف من " المزدلفة " أجزأه، و أحمد (1 / 76).
و قال الترمذي: حسن صحيح.
أما بزيادة الاستثناء المذكور، فورد من حديث جبير بن مطعم، و جابر، و ابن عباس، و أبي هريرة،
و حبيب بن حماشة، وابن عمر.
* حديث جبير بن مطعم:
أخرجه أحمد (4 / 82)، و البزار (2 / 27)، كتاب " الحج "، باب عرفة كلها موقف، حديث (1126)،
و الطبراني (2 / 138)، رقم (1583)، وابن حبان في " موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان للهيثمي "
(ص 249)، كتاب " الحج "، باب ما جاء في الوقوف بعرفة والمزدلفة، حديث (1008)، و البيهقي (5 /
239)، كتاب " الحج "، باب النحر يوم النحر، و أيام منى كلها، و ابن حزم في " المحلى " (7 / 188) عنه،
قال رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم: " كل عرفات موقف، و ارفعوا عن عرنة، و كل مزدلفة موقف، و ارفعوا عن محسر،
و كل فجاج منى منحر، و كل أيام التشريق ذبح ".
و الحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3 / 254)، و قال: رواه أحمد، والبزار، و الطبراني في
" الكبير "...... و رجاله موثقون. اه‍. و صححه ابن حبان.
* و حديث جابر:
أخرجه ابن ماجة (2 / 1002) كتاب " المناسك "، باب الموقف بعرفات، حديث (3012)، من طريق
القاسم بن عبد الله العمري، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: " كل عرفة
موقف، و ارتفعوا عن بطن عرنة، و كل المزدلفة موقف، و ارتفعوا عن بطن محسر، و كل منى منحر إلا ما
وراء العقبة ".
قال الحافظ البوصيري في " الزوائد " (3 / 27): هذا إسناد ضعيف القاسم بن عبد الله بن عمر قال فيه
أحمد بن حنبل: كان كذابا يضع الحديث، ترك الناس حديثه. و قال البخاري: سكتوا عنه. وقال أبو
حاتم، و أبو زرعة، و النسائي: متروك الحديث. اه‍.
وذكره مالك في " الموطأ " (1 / 388) كتاب " الحج "، باب الوقوف بعرفة المزدلفة (166) بلاغا.
وللحديث طريق آخر عن محمد بن المنكدر مرسلا.
أخرجه البيهقي (5 / 115) كتاب " الحج "، باب حديث ما وقف من عرفة أجزأه من طريق عبد الوهاب بن
عطاء، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن المنكدر به.
419

الزبير (1) في خطبته، وذكر الله تعالى عند المشعر

* حديث ابن عباس:
أخرجه الحاكم (1 / 462)، كتاب " المناسك "، و البيهقي (5 / 115)، كتاب " الحج "، باب حيث ما وقف
من عرفة أجزأه، من طريق سفيان بن عيينة، عن زياد بن سعد، عند أبي الزبير، عن أبي معبد، عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: " عرفة كلها موقف، و ارفعوا عن بطن عرنة، و المزدلفة كلها موقف،
و ارفعوا عن بطن محسر، و شعاب منى كلها منحر ".
و قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، و لم يخرجاه، و شاهده على شرط الشيخين صحيح، إلا أن فيه
تقصيرا في سنده، ثم أخرجه من طريق يحيى القطان، عن ابن جريج، أخبرني عطاء، عن ابن عباس
قال: كان يقال: " ارتفعوا عن محسر، وارتفعوا عن عرفات ".
* حديث أبي هريرة:
أخرجه ابن عدي في " الكامل " (7 / 2716)، من جهة يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن داود بن
فراهج، عنه، والنوفلي ضعيف.
قال الذهبي في " المغني " (2 / 751): مجمع على ضعفه.
وله طريق صحيح، ذكره ابن عبد البر كما في " تلخيص الحبير " (2 / 255)، رواه عبد الرزاق، عن
معمر، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة به.
* حديث حبيب بن خماشة:
أخرجه الحارث بن أبي أسامة (380 - بغية)، في " مسنده "، قال: حدثنا محمد بن عمر، ثنا صالح بن
خوات، عن يزيد بن رومان، عن حبيب بن عمير بن عدي، عن حبيب بن خماشة الجهني، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يقول بعرفة: " عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، و المزدلفة كلها موقف إلا بطن
محسر "، وذكره الحافظ في " التلخيص " (2 / 255)، و قال: رواه ابن قانع في " معجم الصحابة "، و في
إسناده الواقدي، و هو كذاب.
* حديث ابن عمر: أخرجه ابن عدي (4 / 1589، 1590)، وفيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري.
تركوه، و اتهمه بعضهم. و قال الحافظ: متروك.
ينظر: " المغني " للذهبي (2 / 382)، و " التقريب " (1 / 487 - 488).
(1) هو: عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى.. أبو بكر. و قيل أبو خبيب
الأسدي. القرشي.
ولد عام الهجرة، وهو أول مولود للمسلمين بعد الهجرة. من مشاهير الصحابة و فضلائهم، و سيرته
شهيرة مع الحجاج بن يوسف الثقفي، و كان قد حفظ عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم، و عن أبيه، و عن أبي بكر، و عمر،
و عثمان، و خالته عائشة أم المؤمنين، و غيرهم، وهو أحد الشجعان.
توفي في جمادى الأولى سنة (73) ه‍.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 242)، " الإصابة " (4 / 69)، " الثقات " (3 / 212)، " الاستيعاب "
(3 / 95)، " الاستبصار " (73)، " صفة الصفوة " (9 / 117)، " التاريخ الكبير " (3 / 6)، " الجرح و التعديل "
(5 / 56)، " التاريخ الصغير " (1 / 159)، " التاريخ لابن معين " (2 / 49)، " تهذيب الكمال " (2 / 682)،
" غاية النهاية " (1 / 419)، " الأعلام " (4 / 87)، " الرياض المستطابة " (201)، " رياض النفوس " (1 /
42)، " حلية الأولياء " (1 / 329)، " شذرات الذهب " (1 / 42)، " العبر " (1 / 4، 60).
420

الحرام (1) ندب عند أهل العلم، قال مالك: ومن مر به، ولم ينزل، فعليه دم.
وقوله تعالى: (و اذكروه كما هداكم) تعديد للنعمة، وأمر بشكرها.
* ص *: (كما هداكم): الكاف للتشبيه، وهو في موضع نصب على النعت
لمصدر محذوف، و " ما " مصدرية، أي: كهدايته، فتكون " ما " وما بعدها في موضع جر،
إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، ويحتمل أن تكون للتعليل على مذهب الأخفش، وابن
برهان (2)، وجوز ابن عطية وغيره، أن تكون " ما " كافة للكاف عن العمل، والأول أولى (3)،
لأن فيه إقرار الكاف على عملها الجر، وقد منع صاحب " المستوفى " (4) أن تكون الكاف
مكفوفة ب‍ " ما "، واحتج من أثبته بقوله: [الوافر]
لعمرك إنني وأبو حميد * كما النسوان والرجل الحليم
أريد هجاءه وأخاف ربي * وأعلم أنه عبد لئيم (5)
انتهى.

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 274).
(2) عبد الواحد بن علي بن عمر بن إسحاق بن إبراهيم بن برهان أبو القاسم الأزدي العكبري النحوي.
صاحب العربية واللغة والتواريخ و أيام العرب، قرأ على عبد السلام البصري و أبي الحسن و كان أول أمره
منجما فصار نحويا، وكان حنبليا فصار حنفيا. مات في جمادى الآخرة سنة ست و خمسين و أربعمائة.
ينظر: " بغية الوعاة " (2 / 120 - 121).
(3) ينظر: " البحر المحيط " (2 / 106)، و " الدر المصون " (1 / 495).
(4) " المستوفى " في النحو، قال السيوطي في " بغية الوعاة " (355)، " أكثر أبو حيان من النقل عنه ". و هو
لأبي سعد كمال الدين علي بن مسعود بن محمود بن الحكم الفرخان القاضي. و في " كشف الظنون " أنه
علي بن مسعود الفرغاني. لكن قال السيوطي: " كذا، و سماه هكذا ابن مكثوم في " تذكرته ".
(5) البيتان لزياد الأعاجم في ديوانه (ص 97)، و " الجنى الداني " (ص 481)، و " شرح شواهد المغني "
(ص 501)، و " المقاصد النحوية " (3 / 348)، و بلا نسبة في " مغني اللبيب " (1 / 178)، " خزانة
الأدب " (10 / 206 - 208)، " العيني " (3 / 48)، و " شرح أبيات المغني " للبغدادي (4 / 125 - 126)،
و " الدر المصون " (1 / 495).
و يروى البيت الثاني هكذا:
أريد حباءه و يريد قتلي * و اعلم أنه الرجل اللئيم
و بعده:
فإن الخمر من شر المطايا * كما الحفظان شربني تميم
و النشوان: السكران. و النشوة: السكر. و الحليم: الذي عنده تأن.
و تحمل لما يثقل عن النفس. يقول: أنا و أبو حميد كالسكران و الحليم، أتحمل منه وهو يعبث بي.
كالسكران يسفه على الحليم و هو متحمل. وهذا تشبيه تمثيلي. شبه حالته معه بحالة الحليم مع السكران.
ينظر: " خزانة الأدب " (10 / 209).
421

ثم ذكرهم سبحانه بحال ضلالهم، ليظهر قدر إنعامه عليهم.
(وإن كنتم من قبله)، أي: من قبل الهدى.
وقوله سبحانه: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) المخاطب بهذه الآية قريش،
ومن ولدت، قاله ابن عباس وغيره (1)، وذلك أنهم كانوا لا يخرجون من الحرم، ويقفون
بجمع، ويفيضون منه، مع معرفته أن عرفة هي موقف إبراهيم، فقيل لهم: أفيضوا من حيث
أفاض الناس، أي: من عرفة، و " ثم " ليست في هذه الآية للترتيب، إنما هي لعطف جملة
كلام على جملة هي منها منقطعة.
وقال الضحاك: المخاطب بالآية جملة الأمة، والمراد بالناس إبراهيم، ويحتمل أن
تكون إفاضة أخرى، وهي التي من المزدلفة (2)، وعلى هذا عول الطبري (3)، فتكون " ثم "
على بابها، وقرأ سعيد بن جبير: " الناسي " (4)، وتأوله آدم - عليه السلام -، وأمر عز وجل
بالاستغفار، لأنها مواطنه، ومظان القبول، ومساقط الرحمة، وفي الحديث أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم خطب عشية عرفة، فقال: " أيها الناس، إن الله عز وجل تطاول عليكم في مقامكم
هذا، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على
اسم الله "، فلما كان غداة جمع، خطب، فقال: " أيها الناس، إن الله تطاول عليكم،
فعوض التبعات من عنده " (5).
(فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن

(1) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 307)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 175)، و ابن عطية في
" المحرر الوجيز " (1 / 275).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 275).
(3) الطبري لم يصرح بموافقته لتأويل الضحاك، و إنما احترز بوجود الإجماع على خلافه، ولولا الإجماع
لقال بقوله. ينظر: " جامع البيان " (4 / 190 - 191).
(4) و استدل بها أبو الفتح على أن لام التعريف تدخل على الأعلام للذم كما تدخلها للمدح، فمن
الأول قولهم: فلان بن الصعق، لأن ذلك داء ناله، فهي بلوى. ومن الثاني: المظفر، و العباس
و نحوهما.
ينظر: " المحتسب " (1 / 119)، و " الشواذ " (ص 20)، و " المحرر الوجيز " (1 / 276)، و " البحر
المحيط (2 / 109)، و " الدر المصون " (1 / 497).
(5) ذكر ابن الجوزي في " الموضوعات " (2 / 215) أحاديث بهذا المعنى عن أنس، و ابن عمر، و عبادة.
و قال: ليس في هذه الأحاديث شئ يصح.
422

الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا و ما له في الآخرة من خلاق (200) و منهم من يقول
ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار (201) أولئك لهم نصيب
مما كسبوا و الله سريع الحساب (202))
وقوله تعالى: (فإذا قضيتم مناسككم /...) الآية.
قال مجاهد: المناسك: الذبائح، وهي إراقة الدماء (1).
* ع *: والمناسك عندي العبادات في معالم الحج، مواضع النسك فيه.
والمعنى: إذا فرغتم من حجكم الذي هو الوقوف بعرفة، فاذكروا الله بمحامده،
وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادة العرب، إذا قضت حجها، تقف عند الجمرة تتفاخر
بالآباء، وتذكر أيام أسلافها، من بسالة، وكرم، وغير ذلك، فنزلت الآية، يلزموا أنفسهم
ذكر الله تعالى أكثر من التزام ذكر آبائهم بأيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين (3).
وقال ابن عباس، وعطاء: معنى الآية: واذكروا الله، كذكر الأطفال آبائهم،
وأمهاتهم، أي: فاستغيثوا به، والجئوا إليه (4).
قال النووي في " حليته " (5): والمراد من الذكر حضور القلب، فينبغي أن يكون هو
مقصود الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه، فالتدبر في الذكر
مطلوب، كما هو مطلوب في القراءة، لاشتراكهما في المعنى المقصود، ولهذا كان
المذهب الصحيح المختار استحباب مد الذاكر قوله: " لا إله إلا الله "، لما فيه من التدبر،
وأقوال السلف، وأئمة الخلف في هذا مشهورة. انتهى.
قال الشيخ العارف أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري الساحلي المالقي: ومنفعة
الذكر أبدا إنما هي تتبع معناه بالفكر، ليقتبس الذاكر من ذكره أنوار المعرفة، ويحصل على

(1) أخرجه الطبري (2 / 307) رقم (3848)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 276)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 416)، و عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 276).
(3) ينظر: " معاني الزجاج " (1 / 262)، و " الرازي " (5 / 183)، و " الدر " (1 / 232)، و " الوسيط " (1 /
306).
(4) أخرجه الطبري (2 / 309) برقم (3867)، وذكره البغوي (1 / 176)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز "
(1 / 276)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 417).
(5) حلية النووي " (ص 40).
423

اللب المراد، ولا خير في ذكر مع قلب غافل ساه، ولا مع تضييع شئ من رسوم الشرع،
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب الذي ألفه في " السلوك ": ولا مطمع للذاكر في درك
حقائق الذكر إلا بأعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعاني، وليدفع خطرات نفسه
عن باطنه راجعا إلى مقتضى ذكره، حتى يغلب معنى الذكر على قلبه، وقد آن له أن يدخل
في دائرة أهل المحاضرات. انتهى.
وقوله تعالى: (فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا...) الآية: قال أبو وائل
وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدعاء في مصالح الدنيا فقط، إذ كانوا لا يعرفون
الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا، وجاء النهي في صيغة الخبر عنه،
والخلاق: الحظ، والنصيب (1).
قال الحسن بن أبي الحسن: حسنة الدنيا: العلم والعبادة (2).
* ع (3) *: واللفظ أعم من هذا، وحسنة الآخرة الجنة، بإجماع، وعن أنس: قال:
كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار "
رواه البخاري ومسلم وغيرهما (4)، زاد مسلم: " وكان أنس، إذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها
فيه ". انتهى.
(أولئك لهم نصيب مما كسبوا) وعد على كسب الأعمال الصالحة، والرب سبحانه
سريع الحساب، لأنه لا يحتاج إلى عقد، ولا إعمال فكر، قيل لعلي - رضي الله عنه -:
كيف يحاسب الله الخلائق في يوم، فقال: كما يرزقهم في يوم، وقيل: الحساب هنا:
المجازات.
وقيل: معنى الآية: سريع مجيء يوم الحساب، فيكون المقصد بالآية الإنذار بيوم
القيامة.
(* واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه و من تأخر فلا

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 276).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 276).
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 277).
(4) أخرجه البخاري (11 / 195)، كتاب " الدعوات "، باب قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم: " ربنا آتنا في الدنيا حسنة " حديث
(6389)، و مسلم (4 / 2070 - 2071) كتاب " الذكر و الدعاء "، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا
حسنة، حديث (26، 27 / 2690).
424

إثم عليه لمن اتقى و اتقوا الله و اعلموا أنكم إليه تحشرون (203) و من الناس من يعجبك قوله في
الحياة الدنيا و يشهد الله على ما فيه قلبه و هو ألد الخصام (204) و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد
فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد (205))
وقوله تعالى: (و اذكروا الله في أيام معدودات). أمر الله سبحانه بذكره في الأيام
المعدودات /، وهي الثلاثة التي بعد يوم النحر، ومن جملة الذكر التكبير في إثر الصلوات.
قال مالك: يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق،
وبه قال الشافعي، ومشهور مذهب مالك، أنه يكبر إثر كل صلاة ثلاثة تكبيرات.
ومن خواص التكبير وبركته ما رواه ابن السني، بسنده، عن عمرو بن شعيب، عن
أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الحريق، فكبروا، فإن التكبير
يطفئه " (1) انتهى من " حلية النووي " (2).
وقوله تعالى: (فمن تعجل في يومين...) الآية: قال ابن عباس وغيره: المعنى:
من نفر في اليوم الثاني من الأيام المعدودات، فلا حرج عليه، ومن تأخر إلى الثالث، فلا إثم
عليه، كل ذلك مباح، إذ كان من العرب من يذم المتعجل وبالعكس، فنزلت الآية رافعة
للجناح (3). قلت: وأهل مكة في التعجيل كغيرهم على الأصح.
ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكر بالحشر، والوقوف بين يديه.
وقوله تعالى: (و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا...) الآية.
قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق: أظهر الإسلام، ثم هرب، فمر بقوم من
المسلمين، فأحرق لهم زرعا، وقتل حمرا (4).
قال * ع *: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت: وفي ما قاله * ع *: نظر،

(1) أخرجه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " حديث (295)، و العقيلي في " الضعفاء " (2 / 269)، من طريق
عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده مرفوعا.
(2) " حلية النووي " (ص 332).
(3) أخرجه الطبري (2 / 318 - 321) برقم (3931 - 3957).
وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 278)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 423).
(4) أخرجه الطبري (2 / 324) رقم (3964)، و ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 279)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 427)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن السدي.
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 279).
425

ولا يلزم من عدم ثبوته عنده ألا يثبت عند غيره، وقد ذكر أحمد بن نصر الداودي في
تفسيره، إن هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق. انتهى، وسيأتي للطبري نحوه.
وقال قتادة، وجماعة: نزلت هذه الآية في كل مبطن كفر، أو نفاق، أو كذب، أو
ضرار، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك، فهي عامة (1)، و معنى: (ويشهد الله)، أي:
يقول: الله يعلم أني أقول حقا، والألد: الشديد الخصومة الذي يلوي الحجج في كل
جانب، فيشبه انحرافه المشي في لديدي (2) الوادي.
وعنه صلى الله عليه وسلم: " أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ".
و (تولى) و (سعى): يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكونا فعل قلب، فيجئ " تولى " بمعنى: ضل وغضب وأنف في نفسه،
فسعى بحيلة وإدارته الدوائر على الإسلام، نحا هذا المنحى في معنى الآية ابن جريج،
وغيره.
والمعنى الثاني: أن يكونا فعل شخص، فيجئ " تولى " بمعنى: أدبر ونهض وسعى،
أي: بقدميه، فقطع الطريق وأفسدها، نحا هذا المنحى ابن عباس وغيره.
وقوله تعالى: (و يهلك الحرث والنسل): قال الطبري (3): المراد الأخنس في إحراقه
الزرع، وقتله الحمر.
قال * ع *: والظاهر أن الآية عبارة عن مبالغته في الإفساد.
و (لا يحب الفساد) معناه: لا يحبه من أهل الصلاح، أو لا يحبه دينا، وإلا فلا
يقع إلا ما يحب الله وقوعه، والفساد: واقع، وهذا على ما ذهب إليه المتكلمون من أن
الحب بمعنى الإرادة.
قال * ع (5) *: والحب له على الإرادة مزية إيثار، إذ الحب من الله تعالى إنما هو

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 279).
(2) اللديدان: جانبا الوادي. كل واحد منها لديد. ينظر: " لسان العرب " (4019).
(3) " جامع البيان " (4 / 238).
(4) " المحرر الوجيز " (1 / 280).
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 281).
426

لما حسن من جميع جهاته.
(و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد (206) و من
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله و الله رؤوف بالعباد (207) يا أيها الذين آمنوا
ادخلوا في السلم كافة و لا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (208) فإن
زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم (209) هل ينظرون إلا أن
يأتيهم الله في ظلل من الغمام و الملائكة و قضى الأمر و إلى الله ترجع الأمور (210))
وقوله تعالى: (و إذا قيل له اتق الله...) الآية: هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب
بنفسه زهوا، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا، وقد قال بعض العلماء: كفى
بالمرء إثما أن يقول له أخوه: اتق الله، فيقول له: عليك نفسك، مثلك يوصيني. قلت:
قال أحمد بن نصر الداوودي: عن ابن مسعود: من أكبر / الذنب أن يقال للرجل: اتق
الله، فيقول: عليك نفسك، أنت تأمرني (1). انتهى.
و (العزة) هنا: المنعة، وشدة النفس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزة في
الإثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزة مع الإثم.
و (حسبه)، أي: كافيه، و (المهاد): ما مهد الرجل لنفسه، كأنه الفراش.
وقوله تعالى: (و من الناس من يشري نفسه...) الآية: تتناول كل مجاهد في سبيل
الله، أو مستشهد في ذاته، أو مغير منكر، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرجيع (2):
عاصم بن ثابت (3)، وخبيب (4)، وأصحابهما، وقال عكرمة وغيره: هي في طائفة من

(1) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 180)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 430)، و عزاه لوكيع،
و ابن المنذر، و الطبراني، و البيهقي في " الشعب " عن ابن مسعود.
(2) و الرجيع (بفتح الراء وكسر الجيم) هو في الأصل: اسم للروث، سمي بذلك لاستحالته. والمراد هنا
اسم موضع من بلاد هذيل، كانت الوقعة بقرب منه، فسميت به. ينظر: " فتح الباري " (8 / 131).
(3) عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
و اسم أبي الأقلح قيس بن عصمة بن النعمان بن مالك بن أمية بن صبيعة بن زيد بن مالك بن
عمرو بن عوف الأنصاري. جد عاصم بن عمرو بن الخطاب لأمه، من السابقين الأولين من الأنصار.
ينظر: " الإصابة " (3 / 460).
(4) خبيب بن عدي: بن مالك بن عامر بن مجدعة بن جحجبى بن عوف بن كلفة بن عوف بن عمرو بن
عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي.
شهد بدرا و استشهد في عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم. ينظر: " الإصابة " (2 / 225).
427

المهاجرين، وذكروا حديث صهيب (1).
و (يشري): معناه يبيع، ومنه (وشروه بثمن بخس) [يوسف: 20]، وحكى قوم،
أنه يقال: شرى، بمعنى اشترى، ويحتاج إلى هذا من تأول الآية في صهيب، لأنه اشترى
نفسه بماله.
وقوله تعالى: (و الله رؤوف بالعباد) ترجية تقتضي الحض على امتثال ما وقع به
المدح في الآية، كما أن قوله سبحانه: (فحسبه جهنم) تخويف يقتضي التحذير مما وقع
به الذم في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخول في السلم، وهو الإسلام، والمسالمة،
وقال ابن عباس: نزلت في أهل الكتاب، والألف واللام في الشيطان للجنس (2).
و (عدو): يقع للواحد، والاثنين، والجمع، وقوله تعالى: (فإن زللتم من بعد ما
جائتكم البينات...) الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاعتقادات، والآراء،
وغير ذلك، والمعنى: ضللتم، و (البينات) محمد صلى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إذا كان
الخطاب أولا لجماعة المؤمنين، وإذا كان الخطاب لأهل الكتاب، فالبينات ما ورد في
شرائعهم من الإعلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتعريف به.
و (عزيز): صفة مقتضية أنه قادر عليكم لا تعجزونه، ولا تمتنعون منه،
و (حكيم)، أي: محكم فيما يعاقبكم به لزللكم:
وقوله تعالى: (هل ينظرون)، أي: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلون، والظلل:
جمع ظلة، وهي ما أظل من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم الله، وأمره، ونهيه، وعقابه
إياهم.
وذهب ابن جريج وغيره، إلى أن هذا التوعد هو مما يقع في الدنيا (3)، وقال قوم:
بل هو توعد بيوم القيامة (4)، وقال قوم: إلا أن يأتيهم الله وعيد بيوم القيامة (5).

(1) أخرجه الطبري (2 / 333) برقم (4004)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 281)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 430) و عزاه لابن جرير الطبري.
(2) أخرجه الطبري (2 / 337) برقم (4020)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 282) و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 210) و عزاه لابن جرير. من طريق ابن جريج، عن ابن عباس.
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 283).
(4) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 283)
(5) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 283).
428

وأما (الملائكة)، فالوعيد بإتيانهم عند الموت، والغمام: أرق السحاب، وأصفاه
وأحسنه، وهو الذي ظلل به بنو إسرائيل.
وقال النقاش: هو ضباب أبيض، وقضي الأمر: معناه وقع الجزاء، وعذب أهل
العصيان، وقرأ معاذ بن جبل (1): " و قضاء الأمر ".
وإلى الله ترجع الأمور: هي راجعة إليه سبحانه قبل وبعد، وإنما نبه بذكر ذلك في
يوم القيامة على زوال ما كان منها إلى الملوك في الدنيا.
(سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة و من يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله
شديد العقاب (211) زين للذين كفروا الحياة الدنيا و يسخرون من الذين آمنوا و الذين اتقوا فوقهم يوم
القيامة و الله يرزق من يشاء بغير حساب (212))
وقوله سبحانه: (سل بني إسرائيل...) الآية: معنى الآية: توبيخهم على عنادهم
بعد الآيات البينات، والمراد بالآية: كم جاءهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم من آية معرفة به دالة
عليه، و (نعمة الله): لفظ عام لجميع أنعامه، ولكن يقوى من حال النبي صلى الله عليه وسلم معهم، أن
المشار إليه هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدل من بني إسرائيل صفة نعمة الله، ثم جاء
اللفظ منسحبا على كل مبدل نعمة لله، ويدخل في اللفظ كفار قريش /، والتوراة أيضا نعمة
على بني إسرائيل، فبدلوها بالتحريف لها، وجحد أمر محمد صلى الله عليه وسلم، (فإن الله شديد
العقاب): خبر يتضمن الوعيد.
وقوله تعالى: (زين للذين كفروا الحياة الدنيا...) الآية: الإشارة إلى كفار قريش،
لأنهم كانوا يعظمون حالهم من الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم،
كبلال (2)، وصهيب، وابن مسعود، وغيرهم، فذكر الله قبيح فعلهم، ونبه على خفض

(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 284)، و " الكشاف " (1 / 254)، وفيه أنها عطف على " الملائكة "،
و ينظر: " الشواذ " (ص 20).
(2) بلال بن رباح. هو بلال بن حمامة. أبو عبد الرحمن. الحبشي. مؤذن النبي صلى الله عليه وآله و سلم قال ابن حجر: اشتراه
أبو بكر الصديق من المشركين لما كانوا يعذبونه على التوحيد، فأعتقه، فلزم النبي و أذن له، و شهد معه
جميع المشاهد، وآخى النبي بينه وبين أبي عبيدة بن الجراح، ثم خرج بلال بعد النبي مجاهدا. توفي
ب‍ " الشام ".
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 243)، " الإصابة " (1 / 170)، " الاستيعاب " (1 / 178)، " تجريد
أسماء الصحابة " (1 / 56)، " التاريخ الكبير " (2 / 106)، " الجرح و التعديل " (2 / 395)، " الثقات " (3 /
28)، " تهذيب الكمال " (1 / 140)، " تهذيب التهذيب " (1 / 502)، " العبر " (1 / 24)، " تقريب التذهيب "
(1 / 110)، " التحفة اللطيفة " (1 / 382)، " الحلية " (1 / 147).
429

منزلتهم بقوله: (و الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة)، ومعنى الفوقية هنا في الدرجة والقدر،
ويحتمل أن يريد أن نعيم المتقين في الآخرة فوق نعيم هؤلاء الآن. قلت: وحكى الداوودي
عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فوقهم في الجنة (1). انتهى.
ومهما ذكرت الداوودي في هذا " المختصر "، فإنما أريد أحمد بن نصر الفقيه
المالكي، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى.
فإن تشوفت نفسك أيها الأخ إلى هذه الفوقية، ونيل هذه الدرجة العلية، فارفض
دنياك الدنية، وازهد فيها بالكلية، لتسلم من كل آفة وبلية، واقتد في ذلك بخير البرية. قال
عياض في " شفاه " (2): فانظر - رحمك الله - سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخلقه في المال، تجده
قد أوتي خزائن الأرض [و مفاتيح البلاد، و أحلت له الغنائم (3)، و لم تحل لنبي قبله، و فتح
عليه في حياته صلى الله عليه و آله و سلم بلاد الحجاز و اليمن، و جميع جزيرة العرب، و ما دانى ذلك من الشام
و العراق] (4)، و جبيت إليه الأخماس، [و صدقاتها ما لا يجبى (5) للملوك إلا بعضه] (6)،
وهادته جماعة من الملوك، فما استأثر بشئ من ذلك، ولا أمسك درهما منه، بل صرفه
مصارفه وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلى الله عليه وسلم، ودرعه مرهونة في نفقة عياله،
واقتصر من نفقته وملبسه على ما تدعوه ضرورته إليه، وزهد فيما سواه، فكان - عليه

(1) أخرجه الطبري (2 / 346) رقم (4050)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 258)، والسيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 434)، و عزاه لعبد الرزاق عن قتادة.
(2) ينظر: " الشفاء " (122 - 123).
(3) الغنيمة في اللغة: ما ينال الرجل أو الجماعة بسعي، و من ذلك قول الشاعر: [الوافر]
و قد طوفت في الآفاق حتى * رضيت من الغنيمة بالإياب
و تطلق الغنيمة على الفوز بالشيء بلا مشقة، و من قولهم للشيء يحصل عليه الإنسان عفوا بلا مشقة:
" غنيمة باردة ".
و اصطلاحا: عرفها الشافعية بأنها: مال أو مال ألحق به، كخمر محترمة، حصل لنا من كفار أصليين
حربيين، مما هو لهم بقتال منا، أو إيجاف خيل ما، أو نحو ذلك.
و عرفها الحنفية: بما نيل من أهل الشرك عنوة، أي قهرا، أو غلبة و الحرب قائمة.
و عرفها المالكية: بأنها اسم لما أخذه المسلمون من الكفار بإيجاف الخيل أو الركاب.
و عرفها الحنابلة: بأنها ما أخذ من مال حربي قهرا بقتال و ما ألحق به..
ينظر: " الإقناع " للخطيب الشربيني (2 / 517)، " أنيس الفقهاء " (183)، و " كشاف القناع " (3 / 77).
(4) من " الشفا " (1 / 123).
(5) يجبى: يجمع.
(6) من " الشفا " (1 / 123).
430

السلام - يلبس ما وجد، فيلبس في الغالب الشملة، والكساء الخشن، والبرد الغليظ.
انتهى.
(كان الناس أمه واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق
ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا
بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه و الله يهدى من يشاء إلى صراط
مستقيم (213) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء
و الضراء و زلزلوا حتى يقول الرسول و الذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب (214))
وقوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة...) الآية: قال ابن عباس: (الناس):
القرون التي كانت بين آدم ونوح، وهي عشرة كانوا على الحق، حتى اختلفوا، فبعث الله
تعالى نوحا فمن بعده (1)، وقال ابن عباس أيضا: (كان الناس أمة واحدة)، أي: كفارا
يريد في مدة نوح، حين بعثه الله (2).
وقال أبي بن كعب، وابن زيد: المراد ب‍ (الناس) بنو آدم حين أخرجهم الله نسما
من ظهر آدم، أي: كانوا على الفطرة (3)، وقيل غير هذا، وكل من قدر الناس في الآية
مؤمنين، قدر في الكلام " فاختلفوا "، وكل من قدرهم كفارا، قدر: كانت بعثة النبيين إليهم.
والأمة: الجماعة على المقصد، ويسمى الواحد أمة، إذا كان منفردا بمقصد،
و (مبشرين): معناه بالثواب على الطاعة، و (منذرين): بالعقاب، و (الكتاب): اسم
الجنس، والمعنى: جميع الكتب، و (ليحكم): مسند إلى الكتاب، في قول الجمهور،
والذين أوتوه أرباب العلم به، وخصوا بالذكر تنبيها منه سبحانه على عظيم الشنعة، والقبح،
و (البينات): الدلالات، والحجج، والبغي: التعدي بالباطل، وهدى: معناه أرشد،

(1) أخرجه الطبري (2 / 347) برقم (4051)، و ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 268)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 435)، وعزاه إلى البزار، و ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم
عن ابن عباس.
(2) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 186)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 286)، والسيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 435)، و عزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري (2 / 348) برقم (4057)، عن ابن زيد.
و ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 186)، عن أبي بن كعب. و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 /
286)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 435)، و عزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي بن
كعب.
431

والمراد ب‍ (الذين آمنوا) من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالت طائفة: معنى الآية أن الأمم كذب
بعضهم كتاب بعض، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للتصديق بجميعها (1)، وقالت طائفة: إن
الله سبحانه هدى المؤمنين للحق فيما اختلف فيه أهل الكتاب من قولهم: إن إبراهيم كان
يهوديا أو نصرانيا (2)، قال زيد بن أسلم: وكاختلافهم في يوم الجمعة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم /
قال: " هذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فلليهود غد، وللنصارى بعد غد، وفي
صيامهم، وجميع ما اختلفوا (3) فيه.
قال الفراء: وفي الكلام قلب، واختاره الطبري، قال: وتقديره: فهدى الله الذين
آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في
الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، نحا إلى هذا
الطبري في حكايته عن الفراء.
قال * ع *: وادعاء القلب على كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز،
وسوء نظر. وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ورصفه، لأن قوله: (فهدى) يقتضي أنهم
أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: (فيه)، وتبين بقوله: (من الحق) جنس ما وقع
الخلاف فيه، و (بإذنه) قال الزجاج: معناه بعلمه.
* ع *: والاذن هو العلم، والتمكين، فإن اقترن بذلك أمر، صار أقوى من الإذن
بمزية.
وقوله تعالى: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم...) الآية: أكثر المفسرين

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 286).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 287).
(3) أخرجه الطبري (2 / 351) برقم (4064)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 187)، وابن عطية في
" المحرر الوجيز " (1 / 287)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 436)، و عزاه لابن أبي حاتم، عن
زيد بن أسلم.
(4) " تفسير الطبري " (4 / 286).
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 287).
(6) " معاني القرآن " (1 / 285).
(7) " المحرر الوجيز " (1 / 287).
(8) ينظر: " الطبري " (4 / 288)، و " المحرر الوجيز " (1 / 287)، و " بحر العلوم " (1 / 200)، و " الرازي "
(6 / 17).
432

أنها نزلت في قصة الأحزاب حين حصروا المدينة، وقالت فرقة: نزلت تسلية للمهاجرين،
حين أصيبت أموالهم بعدهم، وفيما نالهم من أذاية الكافرين لهم.
و (خلوا): معناه: انقرضوا، أي: صاروا في خلاء من الأرض، و (البأساء) في
المال، و (الضراء) في البدن، و (مثل): معناه شبه، والزلزلة: شدة التحريك، تكون
في الأشخاص والأحوال.
وقرأ نافع: " يقول " بالرفع، وقرأ الباقون بالنصب، وحتى: غاية مجردة تنصب
الفعل بتقدير " إلى أن " وعلى قراءة نافع، كأنها اقترن بها تسبيب، فهي حرف ابتداء ترفع
الفعل.
وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين، ويكون
ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر، لا على شك ولا ارتياب، والرسول اسم
الجنس، وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: حتى يقول الذين آمنوا: متى
نصر الله، فيقول الرسول: إلا أن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة، لمكانته، ثم
قدم قول المؤمنين، لأنه المتقدم في الزمان.
قال * ع *: وهذا تحكم، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر، ويحتمل أن
يكون: (ألا إن نصر الله قريب) إخبارا من الله تعالى مؤتنفا بعد تمام ذكر القول.
(يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل
وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215) كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا
وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (216))
قوله تعالى: (يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير...) الآية: السائلون: هم
المؤمنون، والمعنى: يسألونك، ما هي الوجوه التي ينفقون فيها؟ و " ما " يصح أن تكون في
موضع رفع على الابتداء، و " ذا ": خبرها بمعنى " الذي " و " ينفقون ": صلة، و " فيه " عائد
على " ذا " تقديره: ينفقونه، ويصح أن تكون " ماذا " اسما واحدا مركبا في موضع نصب.

(1) وحجته أنها بمعنى " قال "، و ليست على الاستقبال، و إنما ينصب من هذا الباب ما كان مستقبلا.
و حجة الباقين أنها بمعنى الانتظار.
ينظر: " حجة القراءات " (131 - 132)، و " السبعة " (181)، و " النشر " (2 / 227)، و " الحجة "
للفارسي (2 / 305)، و " الزجاج " (1 / 277).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 288).
433

قال قوم: هذه الآية في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدان، وقال
السدي: نزلت قبل فرض الزكاة، ثم نسختها آية الزكاة المفروضة، وقال ابن جريج
وغيره: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، وعلى هذا لا نسخ فيها.
و (ما تفعلوا) جزم بالشرط، والجواب في الفاء، وظاهر الآية الخبر، وهي تتضمن
الوعد بالمجازات، و (كتب): معناه فرض واستمر الإجماع على أن الجهاد على أمة
محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية.
وقوله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا...) الآية: قال قوم: عسى من الله واجبة،
والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة، وهو خير لكم في أنكم تغلبون

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 288).
(2) أخرجه الطبري (2 / 356) برقم (4071)، وذكره البغوي (1 / 188). وابن عطية في " المحرر الوجيز "
(1 / 288)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 437)، و عزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي.
(3) أخرجه الطبري (2 / 356) برقم (4072)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 289)، والسيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 437)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، عن ابن جريج.
(4) أجمع العلماء على أن الجهاد يكون فرض عين في ثلاثة أحوال:
الأول: أن يستنفر الإمام شخصا أو جماعة للقتال، ففي هذه الحالة يتعين الخروج على من طلب للجهاد.
و الدليل على ذلك قوله (تعالى): (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى
الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) [التوبة: 38].
وجه الدلالة: أن الله (تعالى) أنكر تثاقلهم عن الجهاد، و لو لم يكن متعينا لما أنكره عليهم. وما رواه
الجماعة إلا ابن ماجة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا
استنفرتم فانفروا ".
وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من طلب للجهاد وجب عليه أن ينفر، و هو معنى
الوجوب العيني.
الثاني: أن يدخل العدو بلاد المسلمين، أو يتغلب على قطر من أقطارهم، فيتعين القتال حينئذ، والدليل
عليه الإجماع، لأنه من قبيل إغاثة الملهوف المجمع عليها.
الثالث: عند التقاء الصفين يجب على من حضر القتال، و يحرم الانصراف إلا إذا كان متحرفا لقتال أو
متحيزا إلى فئة. و الدليل عليه قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم
و بئس المصير) [الأنفال: 15 - 16] فقد نهى الله المؤمنين عن التولي يوم الزحف، و توعدهم عليه،
والنهي والتوعد يدلان على أن الثبات واجب، واستفيدت العينية من أداة العموم في قوله عز وجل:
(و من يولهم)...... ثم اختلفوا في غير هذه الأحوال:
فذهب جمهور العلماء إلى أنه فرض كفاية، إذا قام به من فيه الكفاية سقط الطلب عن الباقين.
وقيل: إنه فرض عين، و حكاه الماوردي عن سعيد بن المسيب. وقيل: إنه مندوب.
434

وتظهرون، وتغنمون، وتؤجرون، ومن مات، مات شهيدا، وعسى أن تحبوا الدعة، وترك
القتال، وهو شر لكم في أنكم تغلبون، وتذلون، ويذهب أمركم.
قال * ص *: قوله: (وعسى أن تحبوا شيئا) عسى هنا للترجي، ومجيئها له كثير
في كلام العرب، قالوا: وكل " عسى " في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلا قوله تعالى:
(عسى ربه إن طلقكن) [التحريم: 5] انتهى.
وفي قوله تعالى: (والله يعلم...) الآية - قوة أمر.
(يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به
والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم
حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه قيمت وهو كافر فأولئك
حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (217) إن الذين
آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمت الله والله غفور رحيم (218))
وقوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام...) الآية نزلت في قصة عمرو بن
الحضرمي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية عليها عبد الله بن جحش الأسدي مقدمة
من بدر الأولى، فلقوا عمرو بن الحضرمي، ومعه عثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه
نوفل المخزوميان، والحكم بن كيسان في آخر يوم من رجب على ما قاله ابن إسحاق،
وقالوا: إن تركناهم اليوم، دخلوا الحرم، فأزمعوا قتالهم، فرمى واقد بن عبد الله
عمرو بن الحضرمي بسهم، فقتله، وأسر عثمان بن عبد الله، والحكم، وفر نوفل،
فأعجزهم، واستسهل المسلمون هذا في الشهر الحرام، خوف فوتهم، فقالت قريش:
محمد قد استحل الأشهر الحرم، وعيروا بذلك، وتوقف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " ما أمرتكم بقتال
في الأشهر الحرم " فنزلت هذه الآية، و (قتال) بدل اشتمال عند سيبويه.
وقال الفراء: هو مخفوض بتقدير " عن " وقرئ به، والشهر في الآية اسم الجنس،

(1) أخرجه الطبري في " التفسير " (2 / 360) برقم (4085)، و ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 289).
(2) واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم
التميمي الحنظلي اليربوعي، حليف بني عدي بن كعب.
قال موسى بن عقبة في " المغازي ": واقد، و يقال: وقدان، شهد بدرا، و كذا ذكره ابن إسحاق فيمن شهد
بدرا. ينظر: " الإصابة " (6 / 465).
(3) و هي في مصحف عبد الله بن مسعود، ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 290)، وزاد أبو حيان في " البحر "
(2 / 154) نسبتها إلى ابن عباس، والربيع، والأعمش.
435

وكانت العرب قد جعل الله لها الشهر الحرام قواما تعتدل عنده، فكانت لا تسفك دما، ولا
تغير في الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب، وروى جابر بن
عبد الله، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغزو فيها إلا أن يغزى، فذلك قوله تعالى: (قل قتال فيه
كبير وصد): مبتدأ مقطوع مما قبله، والخبر " أكبر "، ومعنى الآية، على قوم الجمهور:
إنكم يا كفار قريش تستعظمون علينا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم من الصد عن
سبيل الله لمن أراد الإسلام، وكفركم بالله، وإخراجكم أهل المسجد عنه، كما فعلتم
برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أكبر جرما عند الله.
قال الزهري ومجاهد وغيرهما: قوله تعالى: (قل قتال فيه كبير) منسوخ.
* ص *: وسبيل الله: دينه، و (المسجد): قراءة الجمهور بالخفض، قال
المبرد، وتبعه ابن عطية وغيره: هو معطوف على (سبيل الله)، ورد بأنه حينئذ يكون
متعلقا ب‍ " صد "، أي: وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، فيلزم الفصل بين
المصدر، وهو " صد " وبين معموله، وهو " المسجد " بأجنبي، وهو: " وكفر به "، ولا
يجوز.
وقيل: معطوف على ضمير " به "، أي: وكفر به، وبالمسجد، ورد بأن فيه عطفا على
الضمير المجرور من غير إعادة الخافض، ولا يجوز عند جمهور البصريين، وأجازه
الكوفيون، ويونس، وأبو الحسن والشلوبين، والمختار جوازه، لكثرته سماعا، ومنه

(1) أخرجه الطبري (2 / 362 - 363 - 365) برقم (4088)، عن مجاهد، وبرقم (4089)، (4101) عن
الزهري، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 290)، عن الزهري، و مجاهد.
و ذكره أيضا السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 449) و عزاه للفريابي، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن
المنذر، عن مجاهد. وفي (1 / 450) عزاه لعبد الرزاق، و أبي داود في " ناسخه "، وابن جرير، وابن أبي
حاتم، عن الزهري.
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 290).
(3) يونس بن حبيب الضبي بالولاء، البصري، أبو عبد الرحمن. قال السيرافي: بارع في النحو، من
أصحاب أبي عمرو بن العلاء، سمع من العرب، و روى عن سيبويه فأكثر، و له قياس في النحو،
و مذاهب يتفرد بها. سمع منه الكسائي والفراء. و كانت له حلقة ب‍ " البصرة " ينتابها أهل العلم و طلاب
الأدب و فصحاء الأعراب و البادية. مولده سنة تسعين، و مات سنة ثنتين و ثمانين و مائة. ينظر: " البغية "
(2 / 356).
(4) عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله، الأستاذ أبو علي الإشبيلي، الأزدي، المعروف بالشلوبين، ومعناه
بلغة الأندلس: " الأبيض الأشقر ".
436

قراءة حمزة: (تساءلون به والأرحام) [النساء: 1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيد
يخرج الكلام عن فصاحته. انتهى.
وقوله تعالى: (والفتنة أكبر من القتل): المعنى عند جمهور المفسرين: والفتنة التي
كنتم تفتنون المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشد اجتراما من قتلكم في الشهر الحرام،
وقيل: المعنى والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون.
وقوله تعالى: (يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) هو
ابتداء خبر من الله تعالى، وتحذير منه للمؤمنين.
وقوله تعالى: (ومن يرتدد)، أي: يرجع عن الإسلام إلى الكفر، عياذا بالله، قالت
طائفة من العلماء: يستتاب المرتد ثلاثة أيام، فإن تاب، وإلا قتل، وبه قال مالك،
وأحمد، وأصحاب الرأي، والشافعي في أحد قوليه، وفي قول له: يقتل دون استتابة،
وحبط العمل، إذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتد عند مالك والشافعي: في بيت

قال ابن الزبير: كان إمام عصره في العربية بلا مدافع، آخر أئمة هذا الشأن بالمشرق و المغرب، ذا معرفة
بنقد الشعر و غيره، بارعا في التعليم، ناصحا، أبقى الله به ما بأيدي أهل المغرب من العربية.
روى عن السهيلي، وابن بشكوال، وغيرهما، و أجاز له السلفي وغيره، وأخذ عنه ابن أبي الأحوص،
و ابن فرتون و جماعة.
و صنف تعليقا على كتاب سيبويه، و شرحين على الجزولية، و له كتاب في النحو سماه " التوطئة ".
مولده سنة ثنتين وستين و خمسمائة، و مات في العشر الأخير من صفر سنة خمس و أربعين و ستمائة.
ينظر: " البغية " (2 / 224 - 225).
(1) أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي. ولد سنة
164، أخذ الفقه عن الشافعي، وسلك مسلكه، صنف المسند. قال إبراهيم الحربي: كأن الله جمع له
علم الأولين والآخرين. توفي سنة 241.
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 56)، و " حلية الأولياء " (9 / 161)، و " تذكرة الحفاظ " (2 /
431).
(3) إذا قتل المرتد أو مات على ردته، فقد اختلف الفقهاء في إرث ورثته المسلمين لماله على الوجه الآتي:
ذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، و أبو ثور، و أحمد بن حنبل، و مالك، و داود بن علي، و علقمة، و قتادة
إلى عدم إرث ورثته المسلمين من تركته. و اختلف هؤلاء فيما بينهم، فذهب الشافعي، وابن أبي ليلى،
و أبو ثور، و ابن حنبل إلى أن جميع ماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين، و وافقهم مالك على ذلك، إلا
في حالة واحدة هي ما إذا قصد المورث المرتد حرمان ورثته من ماله فيورثه في تلك الحالة عنده. وذهب
داود بن علي إلى أن ماله يكون لورثته الذين ارتد إليهم. و ذهب علقمة، و قتادة إلى أن ماله ينتقل لأهل
الدين الذين ارتد إليهم.
و ذهب الحنفية، و علي بن أبي طالب، و عبد الله بن مسعود، و سعيد بن المسيب، و عمر بن
437

مال المسلمين.
وقوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله...) الآية:

عبد العزيز، و الحسن، و عطاء، و سفيان الثوري، و زفر إلى إرث ورثته المسلمين من تركته.
و الحسن و عطاء، و الصاحبان من الحنفية إلى أن جميع ماله الذي كسبه في الإسلام وبعد ردته يكون
موروثا لورثته المسلمين. وذهب الإمام أبو حنيفة، و سفيان الثوري، وزفر إلى أن الذي يورث هو كسب
إسلامه دون كسب ردته فإنه يكون فيئا.
استدل القاتلون بعدم إرث الورثة المسلمين:
أولا: بما رواه البراء بن عازب قال: مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين تذهب؟ فقال:
أرسلني رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله و أخذ ماله. دلت الرواية على أن مال المرتد فيء
و ليس لورثته، فإن إرسال الرسول الرجل لمن فعل فعلا يخرجه عن الإسلام، و أمره بقتله - دليل على أنه
ارتد بفعله.
و ثانيا: بما روى معاوية بن قرة عن أبيه، " أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن
يضرب عنقه، و يخمس ماله " و هذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة، ولذلك أخذ منه
الخمس.
و نوقش الحديثان:
بأن الرسول صلى الله عليه وآله و سلم إنما فعل ذلك، لأن كلا من الرجلين، كان محاربا بسبب استحلاله لأمر محظور شرعا،
فكان ماله مغنوما. و دليل ذلك: أنم الراية إنما تعقد للمحاربة لا لغيرها. و إذا كان مغنوما، فلا حق لورثته
و الحالة هذا لكونه فيئا.
و استدلوا ثانيا: بأن المرتد كافر بردته، والمسلم لا يرث الكافر.
ونوقش بالفرق بين المرتد و الكافر، فإن ملك المرتد فيما كسبه قبل الردة كان صحيحا، فلم تجز غنيمته،
إذ لا تغنم أموال المسلمين، لصحة ملكهم له. و إن جاز غنيمة ما كسبه بعد الردة لمحاربته الله و الرسول،
فكان كالمربي في أمواله. وبهذا يتبين أن مال المرتد غير مال الكافر، و كيف يكون مثله و المرتد غير مقر
على ما انتقل إليه، و لا يحل التزوج بالمرتدة و لا أكل ذبيحتها و لا كذلك الكافر.
و استدل القائلون بالإرث، و هم الحنيفة:
أولا: بقوله تعالى: (و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) [الأنفال: 75] وجه الدلالة:
أن صلة الرحم باقية بين المرتد و ورثته، فتكون سببا في بقاء الميراث بينهما.
ثانيا: بالآثار: فقد ورد عن كثير من الصحابة توريثهم الورثة المسلمين من المرتد، روى زيد بن ثابت
قال: بعثني أبو بكر عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين. و روي مثله عن
ابن مسعود، وإليه ذهب أكثر التابعين، كسعيد بن المسيب، و الحسن. وروي عن علي بن أبي طالب أنه
أتي بالمستورد العجلي و قد ارتد، فعرض عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، فضرب عنقه، وجعل ميراثه
لورثته المسلمين. وروى ابن حزم من طريق المنهال عن معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي عمرو
الشيباني عن علي بن أبي طالب " اجعلوا ميراث المرتد لورثته من المسلمين ". فدلت هذه الآثار على أن
ورثة المرتد المسلمين أحق بتركته دون غيرهم إذا كانوا يرثونه في الصدر الأول.
438

قال عروة بن الزبير وغيره: لما عنف المسلمون عبد الله بن جحش وأصحابه، شق ذلك
عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقية في كل من فعل ما ذكره الله
عز وجل.
وهاجر الرجل، إذا انتقل نقلة إقامة من موضع إلى موضع، وقصد ترك الأول إيثارا
للثاني، وهي مفاعلة من هجر، وجاهد مفاعلة من جهد، إذا استخرج الجهد،
و (يرجون): معناه يطمعون ويستقربون، والرجاء تنعم، والرجاء أبدا معه خوف ولا بد،
كما أن الخوف معه رجاء.
* ت *: والرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أمنية.
(يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر
من نفعهما ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون (219)
في الدنيا والآخرة ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم
المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم (220))
قوله تعالى: (يسألونك عن الخمر والميسر...) الآية: السائلون هم المؤمنون،
والخمر: مأخوذ من خمر، إذا ستر، ومنه: خمار المرأة، والخمر: ما واراك من شجر
وغيره، ومنه قول الشاعر: [الوافر]
ألا يا زيد والضحاك سيرا * فقد جاوزتما خمر الطريق

و استدلوا ثالثا: بأن المرتد بردته تنتقل أمواله عنه، فلا بد أن تنقل إلى ورثته المسلمين، كما لو انتقلت
بالموت، خصوصا وقد جاء نص المواريث عاما، لأن ظاهر قوله: (يوصيكم الله في أولادكم)
[النساء: 11] يقتضي توريث المسلم من المرتد، إذ لم يفرق بين الميت المسلم و بين المرتد.
و نوقش: بأن العموم في آية المواريث قد خص بحديث أسامة بن زيد: " لا يرث المسلم من الكافر " كما
خص توريث الكافر من المسلم، و هو و إن كان من أخبار الآحاد إلا أن الأمة تلقته بالقبول، واستعملته في
منع توريث الكافر من المسلم، فصار في حيز المتواتر، لأن آية المواريث خاصة بالاتفاق. و أخبار الآحاد
مقبولة في تخصيص مثلها.
و أجيب: بأن حديث أسامة المراد به إسقاط التوارث بين أهل الملتين، وليست الردة بملة قائمة، لأنه غير
مقر عليها. وليس محكوما عليه بحكم الملة التي انتقل إليها، فلم يتناول الحديث محل النزاع.
ينظر: " أثر الاختلاف في الأحكام " لشيخنا " بدران أبو العينين " " تفسير الجصاص " (2 / 127)، " مغني "
ابن قدامة (7 / 147)، " المنتقى " على الموطأ (6 / 250)، " الأم " للشافعي (4 / 3)، " المحلى " لابن حزم
(9 / 308).
(1) أخرجه الطبري (2 / 369) برقم (4106)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 291).
(2) البيت بلا نسبة في " الأزهية " (ص 165)، و " الدر " (6 / 168)، و " شرح قطر الندى " (ص 210).
439

ولما كانت الخمر تستر العقل، وتغطى عليه، سميت بذلك، وأجمعت الأمة على
تحريم خمر العنب، ووجوب الحد في القليل والكثير منه، وجمهور الأمة على أن ما أسكر
كثيره من غير خمر العنب محرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب.
وروي أن هذه الآية أول تطرق إلى تحريم الخمر، ثم بعده: (لا تقربوا الصلاة وأنتم
سكارى) [النساء: 43] ثم (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم...) الآية إلى قوله: (فهل
أنتم منتهون) [المائدة: 91]، ثم قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) [المائدة: 90] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حرمت الخمر "،

و " شرح المفصل " (1 / 129)، و " لسان العرب " (4 / 257) (خمر)، و " اللمع " (ص 195)، و " همع
الهوامع " (2 / 142)، و " الدر المصون " (1 / 535).
واستشهد بقوله: " يا زيد والضحاك " حيث روي بنصب " الضحاك " و رفعه، فدل ذلك على أن المعطوف
على المنادى المبني، إذا كان مفردا، يجوز فيه وجهان: الرفع على لفظ المنادى، والنصب على محله.
(1) أخرجه النسائي (8 / 321)، كتاب " الأشربة "، باب ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من
طريق ابن شبرمة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس موقوفا بلفظ: " حرمت الخمر قليلها
وكثيرها، و السكر من كل شراب ".
قال النسائي: ابن شبرمة لم يسمعه من عبد الله بن شداد، و أخرجه (8 / 321) كتاب " الأشربة "، باب
ذكر الأخبار التي اعتل بها من أراد شرب السكر، من طريق ابن شبرمة قال: حدثني الثقة عن عبد الله بن
شداد، عن ابن عباس به. قال: خالفه أبو عون محمد بن عبيد الله الثقفي.
فرواه عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس بزيادة: " حرمت الخمر بعينها: قليلها، و كثيرها "....
أخرجه النسائي (8 / 321).
ثم أخرجه من طريق عباس بن ذريح، عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال:
" حرمت الخمر، قليلها و كثيرها، و ما أسكر من كل شراب ".
قال النسائي: و هذا أولى بالصواب من حديث ابن شبرمة، و هشيم بن بشير - الراوي عنه - كان يدلس،
و ليس في حديثه ذكر السماع من ابن شبرمة، و رواية أبي عون أشبه بما رواه الثقات عن ابن عباس.
و قد أخرجه النسائي (8 / 321)، و الدارقطني (4 / 256)، و أبو نعيم في " الحلية " (7 / 224)، من طريق
شعبة، عن مسعر، عن أبي عون به، عن ابن عباس موقوفا.
و في الباب عن علي مرفوعا: أخرجه العقيلي في " الضعفاء " (4 / 123 - 124)، من طريق محمد بن
الفرات الكوفي، عن ابن إسحاق السبيعي، عن الحارث، عن علي قال: طاف النبي صلى الله عليه و آله و سلم بين الصفا
و المروة، أسبوعا، ثم استند إلى حائط من حيطان مكة، فقال: " هل من شربة "؟ فأتي بقعب من نبيذ،
فذاقه، فقطب، قال: فرده، قال: فقام إليه رجل من آل حاطب، فقال: يا رسول الله، هذا شراب أهل
مكة، قال: فرده. قال: فصب عليه الماء حتى رغا، ثم شرب، ثم قال: " حرمت الخمر بعينها، و السكر
من كل شراب ".
قال العقيلي: لا يتابع عليه.
و نقل عن يحيى قوله: ليس بشئ، و عن البخاري قوله: منكر الحديث.
440

ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في حد الخمر إلا أنه جلد أربعين، خرجه مسلم، وأبو داوود،
وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه ضرب فيها ضربا مشاعا، وحزره أبو بكر أربعين سوطا، وعمل
بذلك هو، ثم عمر ثم تهافت الناس فيها، فشدد عليهم الحد، وجعله كأخف الحدود

وقول العقيلي: لا يتابع عليه، فيه نظر.
فقد تابعه عبد الرحمن بن بشر الغطفاني.
أخرجه هو في " ضعفائه " (3 / 424) من طريقه، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم عن الأشربة، عام حجة الوداع، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: " حرم الله الخمر بعينها، و السكر
من كل شراب ".
قال العقيلي: عبد الرحمن بن بشر مجهول في النسب و الرواية حديثه غير محفوظ.
ليس له من حديث أبي إسحاق أصل، وهذا يعرف عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن ابن عباس قوله.
(1) أخرجه أحمد (3 / 67)، و الطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3 / 157)، كتاب " الحدود "، باب حد
الخمر، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن زيد العمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال:
جلد على عهد النبي صلى الله عليه و آله و سلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان زمن عمر جلد بدل كل نعل سوطا.
و زيد العمي ضعيف، و المسعودي كان قد اختلط.
(2) أخرجه البخاري (12 / 66) كتاب " الحدود "، باب الضرب بالجريد و النعال، حديث (6778)، و مسلم
(3 / 1332) كتاب " الحدود "، باب حد الخمر، حديث (39 / 1707)، و أبو داود (4 / 626)، كتاب
" الحدود "، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (4486)، وابن ماجة (2 / 858)، كتاب " الحدود "،
باب حد السكران، حديث (2569)، و أحمد (1 / 125)، و أبو يعلى (1 / 281) برقم (336)،
و الطحاوي في " شرح معاني الآثار "، كتاب " الحدود "، باب حد الخمر، و البيهقي (8 / 321)، كتاب
" الأشربة و الحد فيها "، باب الشارب يضرب زيادة على الأربعين. كلهم من حديث علي قال: ما كنت
لأقيم حدا على أحد، فيموت، و أجد في نفسي منه شيئا، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، و ذلك
أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لم يتبين فيه شيئا.
قال البيهقي: و إنما أراد - و الله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لم يسنه زيادة على الأربعين، أو لم يسنه
بالسياط، و قد سنه بالنعال، و أطراف الثياب مقدار أربعين.
(3) أخرجه أبو داود (4 / 628)، كتاب " الحدود "، باب إذا تتابع في شرب الخمر، حديث (4489)،
والشافعي (2 / 90) كتاب " الحدود "، باب حد الخمر، و الحاكم (4 / 375)، كتاب " الحدود "، باب كان
الشارب يضرب بالأيدي و النعال، والبيهقي (8 / 320) كتاب " الأشربة "، باب عدد حد الخمر، عن
عبد الرحمن بن أزهر قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم غداة الفتح، و أنا غلام شاب يتخلل الناس، يسأل عن
منزل خالد بن الوليد، فأتي بشارب، فأمرهم، فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضربه بالسوط، و منهم
من ضربه بعصا، و منهم من ضرب بنعليه، و حتى رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم التراب، فلما كان أبو بكر، فسألهم عن
ضرب النبي صلى الله عليه و آله و سلم الذي ضرب، فعزروه أربعين، فضرب أبو بكر أربعين.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد و لم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
441

ثمانين، وبه قال مالك.

(1) ذهب الحنفية والمالكية إلى أن حد الخمر ثمانون، وهو مذهب إسحاق، و الأوزاعي، والثوري،
و غيرهم، و إحدى الروايتين عن أحمد، و أحد قولي الشافعي، و اختاره ابن المنذر.
و ذهب الشافعي (في أصح مذهبه) إلى أن قدرها أربعون، وهو مذهب الظاهرية، و أبي ثور، و إحدى
الروايتين عن أحمد، قال الشافعي: و للإمام أن يبلغ به ثمانين، و تكون الزيادة على الأربعين تعزيرات
على تسببه في إزالة عقله، و في تعرضه للقذف و القتل و أنواع الإيذاء، و ترك الصلاة و غير ذلك.
و احتج الأولون بما رواه أحمد و مسلم و أبو داود و الترمذي و صححه عن أنس أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم " أتي برجل قد
شرب الخمر، فجلد بجريدتين نحو أربعين. و فعله أبو بكر، فلما كان عمر استشار الناس، فقال
عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانين. فأمر به عمر ".
و بما رواه أحمد عن أبي سعيد قال: جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الخمر بنعلين أربعين، فلما كان
زمن عمر جعل بدل كل نعل سوطا.
وجه الدلالة: أن شارب الخمر كان يجلد بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله وسلم ثمانين، لأنه كان يضرب بالجريدتين
أو بالنعلين مجتمعين أربعين، فتكون الجملة الحاصلة ثمانين، لأن كل ضربة ضربتان. و إن كانت الرواية
الأولى محتملة، لقوله: " فجلد بجريدتين نحو أربعين " إلا أن الثانية جازمة، بأن الضرب بنعلين أربعين،
و لذا استشار عمر الصحابة (رضوان الله عليهم أجمعين) فرأوا أن الجلد في الخمر ثمانون سوطا بدل
الضرب بالنعال و نحوها.
و روى الإمام مالك (رضي الله عنه) عن ثور بن زيد الديلي أن عمر بن الخطاب استشار في الخمر
يشربها الرجل فقال له علي بن أبي طالب: " نرى أن تجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، و إذا سكر
هذى، و إذا هذى افترى. أو كما قال. فجلد عمر في الخمر ثمانين ".
وجه الدلالة: أن عمر (رضي الله عنه) استشار الصحابة في عقوبة شرب الخمر، فأشار عليه علي بأنها
ثمانون، فوافقه عمر عليها، و عمل بها، فدل ذلك على أنها ثمانون، و لم يعلم له مخالف.
و أما المعقول فقالوا: إن هذا حد في معصيته، فلم يكن أقل من ثمانين، كحد الفرية والزنا.
و أما الإجماع، فقالوا: إن الصحابة في عهد عمر أجمعوا على أن حد شرب الخمر ثمانون. يدل لذلك ما
روى الدارقطني قال: حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي،
قال: حدثنا صفوان بن عيسى، قال: حدثنا أسامة بن زيد عن الزهري، قال: أخبرني عبد الرحمن بن
أزهر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم يوم حنين، وهو يتخلل الناس يسأل عن منزل خالد بن الوليد، فأتي
بسكران، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لمن عنده، فضربوه بما في أيديهم، و قال: و حثا رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم
عليه التراب قال. ثم أتي أبو بكر (رضي الله عنه) بسكران، قال: فتوخي الذي كان من ضربهم يومئذ،
فضرب أربعين. قال الزهري: ثم أخبرني حميد بن عبد الرحمن عن ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني
خالد بن الوليد إلى عمر، قال: فأتيته و معه عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و علي بن أبي
طالب وطلحة و الزبير (رضي الله عنهم). وهم معه متكئون في المسجد، فقلت: إن خالد بن الوليد
أرسلني إليك وهو يقرأ عليك السلام، و يقول: إن الناس قد انهمكوا في الخمر و تحاقروا العقوبة فيه،
فقال عمر: هم هؤلاء عندك، فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، و إذا هذى افترى، و على المفتري
ثمانون. قال: فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، قال: فجلد خالد ثمانين، و عمر ثمانين.
442

و يجتنب من المضروب: الوجه، والفرج، والقلب، و الدماغ، والخواصر، بإجماع
قال ابن سيرين، والحسن، و ابن عباس، و ابن المسيب، وغيرهم: كل قمار ميسر،
من نرد و شطرنج، ونحوه، حتى لعب الصبيان بالجوز (1).

و أخرج أبو داود و النسائي من حديث عبد الرحمن بن أزهر في قصة الشارب الذي ضربه النبي صلى الله عليه و آله و سلم
بحنين، وفيه: فلما كان عمر كتب إليه خالد بن الوليد أن الناس قد انهمكوا في الشرب وتحاقروا
العقوبة. قال: و عنده المهاجرون و الأنصار، فسألهم و اجتمعوا على أن يضربه ثمانين.
قال الباجي: " و استدل أن ذلك حكمه، و إلى ذلك ذهب مالك، و أبو حنيفة أن حد شارب الخمر ثمانون،
و قال الشافعي: أربعون. و الدليل على ما نقوله ما روي من الأحاديث الدالة على أنه لم يكن من
النبي صلى الله عليه و آله و سلم نص في ذلك على تحديد، وكان الناس على ذلك ثم وقع الاجتهاد في ذلك في زمن عمر بن
الخطاب، و لم يوجد عند أحد منهم نص على تحديد، وذلك من أقوى الدليل على عدم النص فيه، لأنه
لا يصح أن يكون فيه نص باق حكمه، و يذهب على الأمة، لأن ذلك كان يكون إجماعا منهم على الخطأ
و لا يجوز ذلك على الأمة، ثم أجمعوا و اتفقوا على أن الحد ثمانون، وحكم بذلك على ملأ منهم، و لم
يعلم لأحد فيه مخالفة، فثبت أنه إجماع.
و استدل الشافعي و من معه بالسنة، و الأثر، و المعقول. فمن السنة ما روى مسلم عن أنس (رضي الله
عنه) أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يضرب في الخمر بالنعال و الجريد أربعين.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم كان يضرب في الخمر بالجريد و النعال أربعين، فدل ذلك على أنها حده.
و أما الأثر، فما روى مسلم عن حضين بن المنذر قال: شهدت عثمان بن عفان أتي بالوليد قد صلى
الصبح ركعتين ثم قال: أزيدكم، فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه
يتقيؤها، فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فقال علي: قم يا حسن
فاجلده، فقال الحسن، " ول حارها من تولى قارها " فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر، قم
فجلده، فجلده و علي يعد حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي أربعين، وأبو بكر
أربعين، و عمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي ".
وجه الدلالة: أن عليا (كرم الله وجهه) جزم في إخباره بأن النبي صلى الله عليه وآله و سلم جلد أربعين، و سائر الأخبار ليس
فيها عدد محدد إلا بعض الروايات السالفة عن أنس، ففيها نحو الأربعين. بطريق التقريب، و الجمع بين
الأخبار أن عليا جزم بالأربعين، فهو حجة على من ذكرها بلفظ التقريب، فعملنا بما جزم به علي في
إخباره عن الجلد الواقع في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) وعهد أبي بكر، و من حفظه حجة على
من لم يحفظ و لذلك قال لعبد الله بن جعفر لما بلغ الأربعين: أمسك.
و أما المعقول فقالوا: إن الشرب سبب يوجب الحد، فوجب أن يختص بعدد لا يشاركه فيه غيره، كالزنا
والقذف.
ينظر: " الباجي " على الموطأ (3 / 144)، و " الزرقاني " على الموطأ (4 / 344)، و " تفسير القرطبي "
(12 / 165)، و " فتح الباري " (12 / 55).
(1) أخرجه الطبري (2 / 370 - 371) برقم (4114 - 4115)، عن محمد بن سيرين، و برقم (4118)، عن
الحسين، و برقم (4120) عن سعيد بن المسيب، و برقم (4124) عن ابن عباس.
وذكره ابن عطية (1 / 294).
443

* ت *: وعبارة الداوودي: وعن ابن عمر: الميسر القمار كله، قال ابن عباس:
كل ذلك قمار، حتى لعب الصبيان بالجوز، والكعاب. انتهى.
وقوله تعالى: (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس...) الآية: قال ابن عباس،
والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم /، والمنفعة قبله.
وقال مجاهد: المنفعة بالخمر كسب أثمانها، وقيل: اللذة بها إلى غير ذلك من
أفراحها، ثم أعلم الله عز وجل، أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة
فهذا هو التقدمة للتحريم.
وقوله تعالى: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو) قال جمهور العلماء: هذه نفقات
التطوع، والعفو مأخوذ من عفا الشئ، إذا كثر، فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم،
ولم تؤذوا فيه أنفسكم، فتكونوا عالة على الناس.
وقوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون): الإشارة إلى ما تقدم
تبيينه من الخمر والميسر، والإنفاق، وأخبر تعالى، أنه يبين للمؤمنين الآيات التي تقودهم
إلى الفكرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريق النجاة لمن نفعته فكرته.
قال الداوودي: وعن ابن عباس: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، يعني: في
زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها. انتهى.

(1) أخرجه الطبري (2 / 371) برقم (4133).
(2) أخرجه الطبري (2 / 371) برقم (4124)، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 452)، و عزاه
لعبد بن حميد، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في " ناسخه " عن ابن عباس. والكعاب:
فصوص النرد، واحدها كعب وكعبة.
ينظر: " لسان العرب " (3889).
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 294) والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 453)، و عزاه لابن
جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(4) أخرجه الطبري (2 / 372) برقم (4137)، وذكره ابن عطية (1 / 294).
(5) أخرجه الطبري (2 / 373) برقم (4140)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 294)، و السيوطي
(1 / 452)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، والنحاس في " ناسخه " عن ابن عباس.
(6) أخرجه الطبري (2 / 381) برقم (4181)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 295)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 465)، و عزاه لابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و أبي الشيخ في
" العظمة " عن ابن عباس.
444

قال الغزالي - رحمه الله - تعالى: العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة، فإنها
مصيره مستقره، فيكون له في كل ما يراه من ماء، أو نار، أو غيرهما عبرة، فإن نظر إلى
سواد، ذكر ظلمة اللحد، وإن نظر إلى صورة مروعة، تذكر منكرا ونكيرا والزبانية، وإن
سمع صوتا هائلا، تذكر نفخة الصور، وإن رأى شيئا حسنا، تذكر نعيم الجنة، وإن سمع
كلمة رد أو قبول، تذكر ما ينكشف له من آخر أمره بعد الحساب، من رد أو قبول، ما
أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل، لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا، فإذا
نسب مدة مقامه في الدنيا إلى مدة مقامه في الآخرة، استحقر الدنيا إن لم يكن أغفل قلبه،
وأعميت بصيرته. انتهى من " الأحياء ".
وقوله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير): قال ابن عباس،
وسعيد بن المسيب: سبب الآية أن المسلمين لما نزلت: (ولا تقربوا مال اليتيم...)
[الأنعام: 152] و [الإسراء: 34] الآية، ونزلت: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما "
[النساء: 10]، تجنبوا اليتامى وأموالهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: (وإن تخالطوهم
فإخوانكم...) الآية، وأمر الله سبحانه نبيه، أن يجيب بأن من قصد الإصلاح في مال
اليتيم، فهو خير، فرفع تعالى المشقة، وأباح الخلطة في ذلك إذا قصد الإصلاح، ورفق
اليتيم.
وقوله سبحانه: (والله يعلم المفسد من المصلح): تحذير.
وقوله تعالى: (ولو شاء الله لأعنتكم)، أي: لأتعبكم في تجنب أمر اليتامى،
والعنت: المشقة، ومنه عقبة عنوت، ومنه: عنت العزبة، و (عزيز): مقتضاه لا يرد
أمره، و (حكيم): أي: محكم ما ينفذه.
(ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة و لو أعجبتكم و لا تنكحوا
المشركين حتى يؤمنوا و لعبد مؤمن خير من مشرك و لو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعوا
إلى الجنة و المغفرة بإذنه و يبين آياته للناس لعلهم يتذكرون (221))

(1) أخرجه الطبري (2 / 382 - 383 - 384) برقم (4185 - 4186 - 4192 - 4194 - 4196) عن
ابن عباس، وبرقم (4187) عن سعيد.
وذكره البغوي (1 / 194) عن ابن عباس، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 295 - 296)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 456)، وعزاه لأبي داود، والنسائي، و ابن جرير، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم،
و أبي الشيخ، و ابن مردويه، والحاكم و صححه، و البيهقي في " سننه " عن ابن عباس.
445

وقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) ونكح: أصله في الجماع،
ويستعمل في العقد تجوزا.
قالت طائفة: المشركات هنا: من يشرك مع الله إلها آخر.
وقال قتادة وابن جبير: الآية عامة في كل كافرة، وخصصتها أية المائدة، ولم يتناول
العموم قط الكتابيات، وقال ابن عباس، والحسن: تناولهن العموم، ثم نسخت آية
المائدة بعض العموم في الكتابيات، وهو مذهب مالك - رحمه الله - ذكره ابن حبيب.
وقوله تعالى: (ولأمة مؤمنة خير من مشركة...) الآية. هذا إخبار من الله سبحانه
أن المؤمنة المملوكة خير من المشركة، وإن كانت ذات الحسب والمال، ولو أعجبتكم / في
الحسن وغير ذلك، هذا قول الطبري وغيره.
وقوله سبحانه: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا...) الآية: أجمعت الأمة على
أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على دين الإسلام.
قال بعض العلماء: إن الولاية في النكاح نص في هذه الآية، قلت: ويعني ببعض
العلماء محمد بن علي بن حسين، قاله ابن العربي. انتهى.
ولعبد مؤمن مملوك خير من مشرك حسيب، ولو أعجبكم حسنه وماله، حسبما
تقدم.
قال * ع *: وتحتمل الآية عندي أن يكون ذكر العبد والأمة عبارة عن جميع
الناس حرهم ومملوكهم، إذ هم كلهم عبيده سبحانه.
وقوله تعالى: (أولئك يدعون إلى النار)، أي: بصحبتهم، ومعاشرتهم، والانحطاط
في كثير من أهوائهم، والله عز وجل ممن بالهداية، ويبين الآيات، ويحض على الطاعات

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 296).
(2) أخرجه الطبري (2 / 389) برقم (4220، 4221، 4222) عن قتادة، و برقم (4223) عن سعيد بن
جبير، وذكره البغوي (1 / 195).
و ابن عطية (1 / 296)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 458)، و عزاه إلى وكيع، وابن جرير، و ابن
أبي حاتم، و النحاس في " ناسخه " عن سعيد بن جبير، و عزاه لعبد الرزاق، و عبد بن حميد عن قتادة.
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 296).
(4) ينظر: " الأحكام " (1 / 158).
(5) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 297).
446

التي هي كلها دواع إلى الجنة، والإذن: العلم والتمكين، فإن انضاف إلى ذلك أمر، فهو
أقوى من الإذن، لأنك إذا قلت: أذنت في كذا، فليس يلزمك أنك أمرت، و (لعلهم):
ترج في حق البشر، ومن تذكر، عمل حسب التذكر، فنجا.
(ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا
تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين (222))
قوله تعالى: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) قال الطبري عن السدي: أن
السائل ثابت بن الدحداح، وقال قتادة وغيره: إنما سألوه، لأن العرب في المدينة وما
والاها، كانوا قد استنوا بسنة بني إسرائيل في تجنب مواكلة الحائض، ومساكنتها، فنزلت
الآية.
وقوله تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض) يريد: جماعهن بما فسر من ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تشد الحائض إزارها، ثم شأنه بأعلاها.
قال أحمد بن نصر الداودي: روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اتقوا النساء في
المحيض، فإن الجذام يكون من أولاد المحيض " انتهى.
قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، وقرأ حمزة وغيره " يطهرن "، بتشديد
الطاء والهاء، وفتحهما، وكل واحدة من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن
يراد بها انقطاع الدم، وزوال أذاه، قال ابن العربي في " أحكامه ": سمعت أبا بكر

(1) أخرجه الطبري (2 / 393) برقم (4237)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 298)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 461)، و عزاه لابن جرير.
و هو ثابت بن الدحداح بن نعيم بن غنم بن إياس، حليف الأنصار. و كان بلويا، حالف بني عمرو بن
عوف. و يقال: ثابت بن الدحداحة. ويكنى أبا الدحداح، و أبا الدحداحة. ينظر: " الإصابة " (1 / 503)
(العلمية).
(2) أخرجه الطبري (2 / 393) برقم (4234)، وذكره ابن عطية (1 / 298). و السيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 462)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة.
(3) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 259)، وعزاه لابن المنذر.
(4) ينظر: " السبعة " (182)، و " الكشف " (1 / 293)، و " الحجة " (2 / 321)، و " حجة القراءات " (134،
135)، و " العنوان " (74)، و " شرح الطيبة " (4 / 99)، و " شرح شعلة " (290، 291)، و " معاني
القراءات " للأزهري (1 / 202)، و " إتحاف " (1 / 438).
(5) ينظر: " الأحكام " (10 / 164).
447

الشاشي يقول: إذا قيل: لا تقرب، بفتح الراء، كان معناه: لا تلتبس بالفعل، وإذا كان
بضم الراء، كان معناه لا تدن منه. انتهى.
وجمهور العلماء على أن وطأها في الدم ذنب عظيم يتاب منه، ولا كفارة فيه
بمال، وجمهورهم على أن الطهر الذي يحل جماع الحائض، هو بالماء، كطهر الجنب،
ولا يجزئ من ذلك تيمم ولا غيره.
وقوله تعالى: (فإذا تطهرن...) الآية: الخلاف فيها كما تقدم، وقال مجاهد
وجماعة: (تطهرن)، أي: اغتسلن بالماء بقرينة الأمر بالإتيان، لأن صيغة الأمر من الله

(1) القاسم بن القفال الكبير الشاشي محمد بن علي، مصنف " التقريب "، كان إماما جليلا حافظا، برع في
حياة أبيه، قال العبادي: إن كتابه " التقريب " قد تخرج به فقهاء الخراسان، و ازدادت طريقة أهل العراق به
حسنا، و قد أثنى البيهقي على التقريب، وقال فيه الإسنوي: ولم أر في كتب الأصحاب أجل منه.
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 187)، " هدية العارفين " (1 / 827)، " طبقات الإسنوي "
(ص 108).
(2) اتفق أهل العلم على تحريم غشيان الحائض، و من فعله عالما عصى، و من استحله كفر، لأنه محرم بنص
القرآن، و لا يرتفع التحريم حتى ينقطع الدم و تغتسل عند أكثر أهل العلم، و هو قول سالم بن عبد الله،
و سليمان بن يسار، و مجاهد، و الحسن، و إبراهيم، و إليه ذهب عامة العلماء، لقوله سبحانه و تعالى:
(فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) أي: اغتسلن.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز غشيانها بعد ما انقطع دمها لأكثر الحيض قبل الغسل.
و اختلف أهل العلم في وجوب الكفارة بوطء الحائض، فذهب أكثرهم إلى أنه يستغفر الله و لا كفارة
عليه، و هو قول سعيد بن المسيب، و سعيد بن جبير، و إبراهيم النخعي، و القاسم، و عطاء، و الشعبي،
و ابن سيرين، و به قال ابن المبارك، والشافعي، و أصحاب الرأي.
و ذهب جماعة إلى إيجاب الكفارة بإتيان الحائض، منهم قتادة والأوزاعي، و أحمد، و إسحاق، و قاله
الشافعي في القديم، لما روى عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه و آله و سلم قال في رجل جامع امرأته و هي حائض.،
قال: " إن كان الدم عبيطا، فليتصدق بدينار، و إن كان صفرة، فنصف دينار ".
أخرجه الترمذي (1 / 245)، أبواب الطهارة: باب ما جاء في الكفارة في ذلك (137)، و في سنده
عبد الكريم بن أبي المخارق، ضعيف كما في " التقريب " (1 / 516)، و للحديث طرق أخرى قد بسطها
الشيخ شاكر في شرحه للترمذي (1 / 245 - 254)، فانظرها، ففيها فوائد.
قال أبو عيسى: حديث الكفارة في إتيان الحائض قد روي عن ابن عباس موقوفا، وروي أنه قال: " إن
أصابها في فور الدم تصدق بدينار، و إن كان في انقطاع الدم، فنصف دينار ".
و قال قتادة: دينار للحائض، و نصف دينار إذا أصابها قبل الغسل. و قال أحمد: يتخير بين الدينار
و النصف، و قال الحسن: عليه ما على المجامع في نهار رمضان.
و من لم يوجب الكفارة، ذهب إلى أن حديث ابن عباس لا يصح متصلا مرفوعا. ينظر: " شرح السنة "
(1 / 409 - 410).
(3) أخرجه الطبري (2 / 398 - 399) برقم (4273).
448

تعالى لا تقع إلا على الوجه الأكمل، و (فأتوهن): أمر بعد الحظر يقتضي الإباحة،
والمعنى: من حيث أمركم الله باعتزالهن، وهو الفرج، أو من السرة إلى الركبة، على
الخلاف في ذلك، وقال ابن عباس: المعنى: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض،
وقيل: المعنى من قبل حال الإباحة، لا صائمات ولا محرمات، ولا غير ذلك، والتوابون:
الرجاعون، وعرفه من الشر إلى الخير، والمتطهرون: قال عطاء وغيره: المعنى: بالماء،
وقال مجاهد وغيره: المعنى: من الذنوب.
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه
وبشر المؤمنين (223)) وقوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم) الآية مبيحة لهيئات الإتيان كلها، إذا كان
الوطء في موضع الحرث، ولفظة " الحرث " تعطي أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة،
إذ هو المزدرع.
قال ابن العربي في " أحكامه ": وفي سبب نزول هذه الآية روايات:
الأولى: عن جابر، قال: كانت اليهود تقول: من أتى امرأة في قبلها من دبرها، جاء
الولد أحول، فنزلت الآية، وهذا حديث صحيح خرجه الأئمة.

وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 197)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 299)، و السيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 465)، و عزاه لسفيان بن عيينة، وعبد الرزاق في " المصنف "، و ابن جرير، و ابن
المنذر، و النحاس عن مجاهد.
(1) أخرجه الطبري (2 / 401) برقم (4292)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 99)، و السيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 466)، و عزاه إلى الدارمي، و ابن جرير، و ابن المنذر، عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (2 / 403) برقم (4304 - 4305 - 4306)، وذكره البغوي (1 / 198)، و ابن عطية (1 /
299)، و السيوطي (1 / 466)، و عزاه لوكيع، و عبد بن حميد، و ابن أبي حاتم عن عطاء.
(3) أخرجه الطبري (2 / 403) برقم (4308)، وذكره البغوي (1 / 198)، و ابن عطية (1 / 299).
(4) ينظر: " الأحكام " (1 / 173).
(5) أخرجه البخاري (8 / 37)، كتاب " التفسير " باب (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم و قدموا
لأنفسكم)، حديث (4528)، و مسلم (2 / 1058 - 1059)، كتاب " النكاح "، باب جواز جماعه امرأته
في قبلها من قدامها، و من ورائها، من غير تعرض للدبر، حديث (117 - 119 / 1435)، و أبو داود
(1 / 656) كتاب " النكاح "، باب في جامع النكاح، حديث (2163)، و الترمذي (5 / 200)، كتاب
" التفسير "، باب سورة البقرة، حديث (2982). وابن ماجة (1 / 620) كتاب " النكاح "، باب إتيان النساء
في أدبارهن، حديث (1925)، و الدارمي (1 / 258)، كتاب " الوضوء "، باب إتيان النساء في أدبارهن،
و في (2 / 145 - 146) كتاب " النكاح "، باب النهي عن إتيان النساء في أعجازهن، و أبو يعلى (4 / 21).
449

الثانية: قالت أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم):
قال: " يأتيها مقبلة ومدبرة، إذا كان في صمام واحد " خرجه مسلم، وغيره.
الثالثة: ما روى الترمذي أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: هلكت، قال: " وما
أهلكك؟ قال: حولت البارحة رحلي، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، حتى نزلت: (نساؤكم
حرث لكم) أقبل وأدبر، واتق الدبر " انتهى.

برقم (2024)، وابن حبان (4174)، و الطبري في " تفسيره " (2 / 397)، و الواحدي في " أسباب
النزول " (ص - 53)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3 / 40). والبيهقي (7 / 193، 194، 195)،
من حديث جابر. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 467)، و عزاه إلى وكيع، وابن أبي شيبة،
وعبد بن حميد، و البخاري، و أبي داود، و الترمذي، و النسائي، وابن ماجة، و ابن جرير، وأبي نعيم،
والبيهقي، عن جابر، و قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1) هي: هند بنت أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. أم المؤمنين (رضي الله عنها) أم
سلمة. القرشية. المخزومية.
قال ابن الأثير: كان أبوها يعرف ب‍ " زاد الركب ".. و كانت من المهاجرات إلى الحبشة و إلى المدينة..
و قيل: إنها أول ظعينة هاجرت إلى " المدينة "، و الله أعلم، و تزوجها رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم بعد أبي سلمة.
توفيت سنة (63) على أرجح الأقوال.
ينظر ترجمتها في: " أسد الغابة " (7 / 340)، " الإصابة " (8 / 240)، " الاستيعاب " (4 / 1939)، " تجريد
أسماء الصحابة " (2 / 322)، " أعلام النساء " (2 / 235).
(2) أخرجه الترمذي (5 / 200) في التفسير، باب " و من سورة البقرة " (2979)، و أحمد (6 / 305، 310،
318، 319)، و الدارمي (1 / 256) في الوضوء: باب إتيان النساء في أدبارهن، و أبو يعلى في " مسنده "
(6972)، والطبري في تفسيره (4341 - 4345)، و الطحاوي (3 / 42 - 43)، و البيهقي (7 / 195) عن
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن ابن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، قال: صماما واحدا، صماما واحدا.
و قال الترمذي: هذا حديث حسن..... و يروى في سمام واحد.
و يشهد له حديث جابر عند مسلم (2 / 159) في النكاح: باب جواز جماعه امرأته في قبلها من قدامها،
ومن ورائها، من غير تعرض للدبر (119 - 1435). و الواحدي في " أسباب النزول " ص (53).
و الطحاوي (3 / 41)، و البيهقي (7 / 195) عن النعمان بن راشد، عن الزهري، عن ابن المنكدر، عن
جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته مجبية كان الولد أحول، فنزلت: (نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم)، إن شاء مجبية و إن شاء غير مجبية، غير أن ذلك في صمام واحد.
(3) أخرجه الترمذي (5 / 200) في التفسير، باب " و من سورة البقرة " (2980)، والنسائي في " الكبرى " (5 /
314)، في " عشرة النساء " (8977 / 4) و (6 / 302)، في " التفسير " (11040 / 3)، و أحمد (1 / 267)،
و الطبري في التفسير (4347)، و أبو يعلى (2736)، و البيهقي (7 / 198)، و الواحدي في " أسباب
النزول " ص 53 عن يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس
قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكت...... " فذكره. و قال الترمذي: هذا
حديث حسن غريب.
450

قال * ع *: و (أنى شئتم): معناه عند جمهور العلماء: من أي وجه شئتم،
مقبلة، ومدبرة، وعلى جنب.
قال * ع *: وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مصنف النسائي وفي غيره، أنه
قال: " إتيان النساء في أدبارهن حرام "، وورد عنه فيه، أنه قال: " ملعون من أتى امرأة في
دبرها "، وورد عنه، أنه قال: " من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على قلب
محمد "، وهذا هو الحق المتبع، ولا ينبغي لمؤمن بالله أن يعرج بهذه النازلة على زلة
عالم بعد أن تصح عنه، والله المرشد لا رب غيره.

و ينظر: " الدر المنثور " (1 / 469).
(1) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 299).
(2) ذكره في " المحرر الوجيز " (1 / 300).
(3) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في " السنن الكبرى " (5 / 319)، كتاب " عشرة النساء "، باب ذكر الاختلاف
على عبد الله بن علي بن السائب، حديث (8995).
(4) أخرجه أبو داود (1 / 655)، كتاب " النكاح "، باب في جامع النكاح، حديث (2162)، وأحمد (2 /
444)، و أبو يعلى (11 / 349) برقم (6462)، من حديث أبي هريرة، وليس من حديث خزيمة بن
ثابت، كما في " المهذب ".
(5) أخرجه أبو داود (2 / 408) كتاب " الطب "، باب في الكهان، حديث (3904)، والترمذي (1 / 242
243) كتاب " الطهارة "، باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، حديث (135)، والنسائي في " الكبرى "
(5 / 323)، كتاب " عشرة النساء "، باب ذكر اختلاف ألفاظ الناقلين لخبر أبي هريرة في ذلك، حديث
(9016، 9017)، و ابن ماجة (1 / 209) كتاب " الطهارة "، باب النهي عن إتيان الحائض، حديث
(639)، وأحمد (2 / 408، 476). و الدارمي (1 / 259)، كتاب " النكاح "، باب من أتى امرأته في
دبرها. والبخاري في " التاريخ الكبير " (3 / 16)، و ابن الجارود في " المنتقى " برقم (107)، و العقيلي في
" الضعفاء " (1 / 318). و ابن عدي في " الكامل " (2 / 637). والطحاوي في " شرح معاني الآثار " (3 / 44
- 45). والبيهقي في " السنن الكبرى " (7 / 198). كلهم من طريق حكيم الأثرم، عن أبي تميمة
الهجيمي، عن أبي هريرة مرفوعا. و قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم،
عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي هريرة.
و قال البخاري: هذا حديث لا يتابع عليه، و لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة.
و قال البزار كما في " التلخيص " (3 / 180): هذا حديث منكر، و حكيم لا يحتج به، و ما انفرد به فليس
بشئ.
و قال ابن عدي: الأثرم يعرف بهذا الحديث، و ليس له غيره إلا اليسير.
و قد ضعف هذا الحديث البخاري، والترمذي، وابن سيد الناس، و البغوي، والذهبي فقال: إسناده ليس
بالقائم، وينظر " فيض القدير " (6 / 23). و قد صحح هذا الحديث الشيخ أحمد شاكر في " تعليقه على
المسند " (18 / 56، 19 / 142)، و فند العلل التي عللوا بها الحديث بما لا تراه في مكان، فلينظر.
451

وقوله جلت قدرته: (وقدموا لأنفسكم).
قال السدي: معناه: قدموا الأجر في تجنب ما نهيتم عنه، وامتثال ما أمرتم به
- (واتقوا الله): تحذير - (واعلموا أنكم ملاقوه): خبر يقتضي المبالغة في التحذير،
أي: فهو مجازيكم على البر والإثم (وبشر المؤمنين): تأنيس لفاعلي البر، ومتبعي سنن
الهدى،
(ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم
(224) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم (225))
قوله تعالى: (ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم...) الآية: مقصد الآية: ولا
تعرضوا اسم الله تعالى، فتكثروا الإيمان به، فإن الحنث يقع مع الإكثار، وفيه قلة رعي
لحق الله تعالى.
وقال الزجاج وغيره: معنى الآية: أن يكون الإنسان، إذا طلب منه فعل خير
ونحوه، اعتل بالله، وقال: علي يمين، وهو لم يحلف.
وقوله: (عرضة)، قال ابن العربي في " أحكامه ": اعلم أن بناء عرض في كلام
العرب يتصرف على معان مرجعها إلى المنع، لأن كل شئ عرض، فقد منع، ويقال لما
عرض في السماء من السحاب عارض، لأنه يمنع من رؤيتها، ومن رؤية البدرين،
والكواكب. انتهى.
و (أن تبروا): مفعول من أجله، والبر: جميع وجوه البر، وهو ضد الإثم

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 300).
(2) " معاني القرآن " (1 / 299).
(3) ينظر: " الأحكام " (1 / 174 - 175).
(4) هذا قول الجمهور، ثم اختلفوا في تقديره، فقيل: إرادة أن تبروا، و قيل: كراهة أن تبروا، قاله
المهدوي، و قيل: لترك أن تبروا، قاله المبرد، و قيل: لئلا تبروا، قاله أبو عبيدة والطبري، و أنشدا:
.... فلا والله تهبط تلعة...................
أي: لا تهبط، فحذف " لا " و مثله: (يبين الله لكم أن تضلوا) [النساء: 176] أي: لئلا تضلوا. و تقدير
الإرادة هو الوجه، و ذلك أن التقادير التي ذكرتها بعد تقدير الإرادة لا يظهر معناها، لما فيه من تعليل
امتناع الحلف بانتفاء البر، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر، و لا ينعقد منهما شرط و جزاء، لو قلت في
معنى هذا النهي و علته: " إن حلفت بالله بررت " لم يصح، بخلاف تقدير الإرادة، فإنه يعلل امتناع
452

- و (سميع)، أي: لأقوال العباد - (عليم): بنياتهم، وهو مجاز على الجميع، واليمين:
الحلف، وأصله أن العرب كانت إذا تحالفت، أو تعاهدت، أخذ الرجل يمين صاحبه
بيمينه، ثم كثر ذلك حتى سمي الحلف والعهد نفسه يمينا.
وقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم): سقط الكلام الذي لا
حكم له.
قال ابن عباس، وعائشة، والشعبي، وأبو صالح، ومجاهد: لغو اليمين: قول الرجل
في درج كلامه واستعجاله في المحاورة: لا والله، وبلى والله، دون قصد لليمين، وقد
أسنده البخاري عن عائشة.
وقال أبو هريرة، والحسن، ومالك، وجماعة: لغو اليمين: ما حلف به الرجل على
يقينه، فكشف الغيب خلاف ذلك.
* ع *: وهذا اليقين / هو غلبة الظن.
وقال زيد بن أسلم: لغو اليمين: هو دعاء الرجل على نفسه.
وقال الضحاك: هي اليمين المكفرة.
وحكى ابن عبد البر قولا، أن اللغو إيمان

الحلف بإرادة وجود البر، و ينعقد منهما شرط و جزاء، تقول: إن حلفت لم تبر و إن لم تحلف بررت.
ينظر: " الدر المصون " (1 / 546 - 547).
(1) أخرجه الطبري (2 / 416 - 417 - 418 - 419) برقم (4377 - 4378)، عن عائشة، وبرقم (4387 -
4388 - 4401) عن الشعبي، و برقم (4376) عن ابن عباس، وبرقم (4392) عن أبي صالح.
و ذكره البغوي (1 / 201) عن عائشة، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 301)، والسيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 480)، وعزاه إلى مالك، و وكيع، و الشافعي في " الأم "، و عبد الرزاق، وعبد بن
حميد، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و البيهقي، من طرق عن عائشة. وفي (1 / 481)،
حميد، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه، و البيهقي، من طرق عن عائشة. و في (1 / 481)،
و عزاه لسعيد بن منصور، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (2 / 419 - 420 - 421)، رقم (4409 - 4410 - 4411 - 4412 - 4423) عن
الحسن، (4420 - 4429 - 4430) عن مالك، وذكره البغوي (1 / 201) عن الحسن، و ابن عطية (1 /
301)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 481)، و عزاه لابن جرير عن أبي هريرة.
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 301).
(4) أخرجه الطبري (2 / 424)، وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 201)، وابن عطية (1 / 301).
(5) أخرجه الطبري (2 / 425) برقم (4467)، وذكره ابن عطية (1 / 301).
(6) و قد اختلفوا في تفسير " اللغو ": فمنهم من قال: هو ما جرى على لسان الحالف من غير قصد ك‍ " لا
453

المكره.
قال * ع *: وطريقة النظر أن تتأمل لفظة اللغو، ولفظة الكسب، ويحكم موقعهما
في اللغة، فكسب المرء ما قصده، ونواه، واللغو: ما لم يتعمده، أو ما حقه لهجنته أن
يسقط، فيقوي على هذه الطريقة بعض الأقوال المتقدمة، ويضعف بعضها، وقد رفع الله
عز وجل المؤاخذة بالإطلاق في اللغو، فحقيقته: ما لا إثم فيه، ولا كفارة، والمؤاخذة في
الأيمان هي بعقوبة الآخرة في الغموس المصبورة، وفيما ترك تكفيره مما فيه كفارة،

والله "، و " بلى والله " و هم الشافعية و رواية عن أبي حنيفة، وهو مروي عن ابن عمر، و ابن عباس،
و عائشة (رضي الله عنهم)، و الشعبي، و عكرمة، و عطاء، و القاسم و غيرهم. و سواء تعلق عندهم
بالماضي أو بالمستقبل، لقوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم...) الآية. يقال: لغا
يلغو. ولغا يلغا إذا تكلم بما لا حقيقة له، و لا قصد له فيه، قال الأزهري: اللغو في كلام العرب على
وجهين:
أحدهما: فضول الكلام، و باطله الذي يجري على غير عقد.
والثاني: ما كان فيه رفث و فحش و مأثم.
و قال قتادة في قوله (تعالى): (لا تسمع فيها لاغية) [الغاشية: 11] ما يؤثم. و قالت عائشة (رضي الله
عنها: " إن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال (يعني في اللغو في اليمين)، " هو كلام الرجل في بيته: لا والله، و بلى
و الله ". أخرجه أبو داود، و رواه الزهري، و عبد الملك بن أبي سليمان، و مالك بن مغول عن عطاء عن
عائشة مرفوعا.
و قالت المالكية: هو الحلف على شئ يعتقده الحالف. أي: " يغلب على ظنه فيظهر له خلافه "، وهو
مذهب الحنفية.
و قالت الحنابلة: هو ما جرى على اللسان من غير قصد، أو الحلف على شئ يعتقده، فيظهر له خلافه،
و دليلهم ما تقدم للشافعية والمالكية و الحنفية.
و إذا نظرنا إلى دليل كل وجدنا أن اللغو الذي ينبغي أن يعتبر هو: ما جرى على اللسان من غير قصد
فقط " لأن هذا هو معنى اللغو في اللغة، و الألفاظ تحمل على معانيها اللغوية ما لم يرد عن الشرع ما
يحملها على خلافه، و لم يرد عنه ما يخالف ذلك، بل ورد ما يعضده، فقد أجابت عائشة (رضي الله
عنها) حينما سئلت عن اللغو في اليمين بأنه هو كلام الرجل في بيته: " لا والله، و بلى والله ". ووافقها
على ذلك كثير من الصحابة والتابعين، فإن كان هذا القول قالته عن سماع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالحجة فيه
واضحة، و إن كان قولا منها، فهو تفسير لصحابي يعرف معاني الألفاظ اللغوية و المعاني الشرعية، وقوله
مقبول.
و أما حديث الرماة، فقد قال الحافظ فيه: إنه لا يثبت، لأنه من مراسيل الحسن، و هو ممن لا تعتبر
مراسيله، لأنه كان لا يتحرى الثقة. ينظر: " الكفارات " لشيخنا: حسن علي حسانين.
(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 310).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 302).
(3) اليمين الغموس هي: الحلف على فعل أو ترك ماض كاذبا، سميت به، لأنها تغمس صاحبها في الإثم.
454

وبعقوبة الدنيا في إلزام الكفارة، فيضعف القول بأنها اليمين المكفرة، لأن المؤاخذة قد
وقعت فيها، وتخصيص المؤاخذة، بأنها في الآخرة فقط تحكم.
* ت *: والقول الأول أرجح، وعليه عول اللخمي وغيره.
وقوله تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم).
قال ابن عباس وغيره: ما كسب القلب هي اليمين الكاذبة الغموس، فهذه فيها
المؤاخذة في الآخرة، أي: ولا تكفر.
* ع *: وسميت الغموس، لأنها غمست صاحبها في الإثم، و (غفور حليم):
صفتان لائقتان بما ذكر من طرح المؤاخذة، إذ هو باب رفق وتوسعة.
(للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم (226) وإن عزموا الطلاق
فإن الله سميع عليم (227))
وقوله تعالى: (للذين يؤلون من نسائهم...) الآية: (يولون): معناه يحلفون،
والإيلاء: اليمين.
واختلف من المراد بلزوم حكم الإيلاء. فقال مالك: هو الرجل يغاضب امرأته،
واختلفوا في اليمين الغموس هل لها كفارة؟ فقال أبو حنيفة، ومالك، و أحمد في إحدى الروايتين عنه:
لا كفارة لها، لأنها أعظم من أن تفكر، وقال الشافعي، و أحمد في الرواية الأخرى: تكفر.
ينظر: " أنيس الفقهاء " (172).

(1) أخرجه الطبري (2 / 427) برقم (4472)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 302).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 302).
(3) الإيلاء لغة: الحلف، وهو: مصدر. يقال: آلى بمدة بعد الهمزة، يؤلي إيلاء، وتألى وأتلى، والألية،
بوزن فعيلة: اليمين، و جمعها ألايا: بوزن خطايا، قال الشاعر: [الطويل]
قليل الألايا حافظ ليمينه * و إن سبقت فيه الألية برت
و الألوة (بسكون اللام، و تثليث الهمزة): اليمين أيضا.
ينظر: " الصحاح " (6 / 227)، " المغرب " (28)، " لسان العرب " (1 / 117)، " المصباح المنير " (1 /
35).
واصطلاحا.
عرفه الحنفية بأنه: عبارة عن اليمين على ترك وطء المنكوحة أربعة أشهر أو أكثر.
وعرفه الشافعية بأنه: حلف زوج يصح طلاقه ليمتنعن من وطئها مطلقا أو فوق أربعة أشهر.
و عرفه المالكية بأنه: حلف الزوج المسلم المكلف الممكن وطؤه بما يدل على ترك وطء زوجته غير
الموضع أكثر من أربعة أشهر أو شهرين للعبد، تصريحا أو احتمالا، قيد أو أطلق وإن تعليقا.
455

فيحلف بيمين يلحق عن الحنث فيها حكم ألا يطأها، ضررا منه، أكثر من أربعة أشهر، لا
يقصد بذلك إصلاح ولد رضيع ونحوه، وقال به عطاء وغيره.
وقوله تعالى: (من نسائهم) يدخل الحرائر والإماء، إذا تزوجن، والتربص:
التأني والتأخر، وأربعة أشهر، عند مالك، وغيره: للحر، وشهران: للعبد.
وقال الشافعي: هو كالحر، و (فاؤوا): معناه: رجعوا، ومنه: (حتى تفيء إلى أمر
الله) [الحجرات: 9] قال الجمهور: وإذا فاء كفر، والفيء، عند مالك: لا يكون إلا
بالوطء، أو بالتكفير في حال العذر.
(والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن
كن يؤمن بالله واليوم الأخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن
بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم (228))
قوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) حكم هذه الآية قصد
الاستبراء، لا أنه عبادة، ولذلك خرجت منه من لم يبن بها، بخلاف عدة الوفاة التي هي
عبادة - والقرء، في اللغة: الوقت المعتاد تردده، فالحيض يسمى على هذا قرءا، وكذلك
يسمى الطهر قرءا.

وعرفه الحنابلة بأنه: حلف الزوج - القادر على الوطء - بالله (تعالى) أو صفة من صفاته على ترك وطء
زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر.
و خصت الأربعة الأشهر بالذكر لأن المرأة يعظم ضررها إذا زاد على ذلك، لأنها تصبر عن الزوج أربعة
أشهر، و بعد ذلك يفنى صبرها أو يقل، روى البيهقي عن عمر أنه خرج مرة في الليل في شوارع المدينة
فسمع امرأة تقول: [الطويل]
تطاول هذا الليل و اسود جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله تخشى عواقبه * لحرك من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يصدني * و أخشى لبعلي أن تنال مراتبه
فقال عمر لابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن الزوج؟ و روي أنه سأل النساء فقلن له: تصبر
شهرين، وفي الثالث يقل صبرها، و في آخر الرابع يفقد صبرها، فكتب إلى أمراء الأجناد: ألا تحبسوا
رجلا عن امرأته أكثر من أربعة أشهر.
ينظر: " تبيين الحقائق / شرح كنز الدقائق " (2 / 261)، " مغني المحتاج " (3 / 343)، " الشرح الصغير "
(2 / 278، 279)، " المطلع " (343)، " تحفة المحتاج " (8 / 188)، " شرح المحلى على المنهاج "
(24).
(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 302).
456

واختلف في المراد بالقروء هنا فقال عمر وجماعة كثيرة: المراد بالقروء، في الآية:
الحيض، وقالت عائشة وجماعة من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم: المراد: الأطهار،
وهو قول مالك.
واختلف المتأولون في قوله: (ما خلق الله في أرحامهن).
" فقال ابن عمر، ومجاهد، وغيرهما: هو الحيض، والحبل جميعا، ومعنى النهي عن
الكتمان: النهي عن الإضرار بالزوج في إلزامه النفقة، وإذهاب حقه في الارتجاع، فأمرن
بالصدق نفيا وإثباتا، وقال قتادة: كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل /، ليلحقن
الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية.
وقال ابن عباس: إن المراد الحبل، والعموم راجح، وفي قوله تعالى: (ولا يحل
لهن) ما يقتضي أنهن مؤتمنات على ما ذكر، ولو كان الاستقصاء مباحا لم يمكن كتم.
وقوله سبحانه: (إن كن يؤمن بالله...) الآية أي: حق الإيمان، وهذا كما تقول:
إن كنت حرا، فأنتصر، وأنت تخاطب حرا، والبعل: الزوج، ونص الله تعالى بهذه الآية
على أن للزوج أن يرتجع امرأته المطلقة، ما دامت في العدة والإشارة بذلك إلى المدة
بشرط أن يريد الإصلاح، دون المضارة، كما تشدد على النساء في كتم ما في أرحامهن،
وقوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن...) الآية: تعم جميع حقوق الزوجية.
وقوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة) قال مجاهد: هو تنبيه على فضل حظه على
حظها في الميراث، وما أشبهه، وقال زيد بن أسلم: ذلك في الطاعة، عليها أن تطيعه،
وليس عليه أن يطيعها، وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجل على حسن

(1) أخرجه الطبري (2 / 461) برقم (4738)، عن ابن عمر وبأرقام (4739، 4740، 4745) عن مجاهد.
و ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 350)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 492)، و عزاه لابن
جرير، وابن المنذر، و ابن أبي حاتم، عن ابن عمر وفي (1 / 492)، و عزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن
منصور، و عبد بن حميد، والبيهقي، عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (2 / 462) رقم (4754 - 4755 - 4756)، و ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 /
305)، و السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 492)، و عزاه لعبد الرزاق، و ابن جرير، وابن المنذر،
و عبد بن حميد عن قتادة.
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 305).
(4) أخرجه الطبري (2 / 467) برقم (4773 - 4774).
وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 305). والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 493)، و عزاه
لعبد بن حميد، و ابن جرير عن مجاهد.
(5) أخرجه الطبري (2 / 468) رقم (4777)، وذكره ابن عطية (1 / 305).
457

العشرة، والتوسع للنساء في المال والخلق، أي: أن الأفضل ينبغي أن يتحامل على
نفسه، وهذا قول حسن بارع.
(الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن
شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك
حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (229))
وقوله تعالى: (الطلاق مرتان...) " الآية: قال عروة بن الزبير وغيره: نزلت هذه
الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي، وقال ابن عباس
وغيره: المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، وأن من طلق اثنتين، فليتق الله في الثالثة، فإما
تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها.
* ع *: والآية تتضمن هذين المعنيين.
* ص *: الطلاق: مبتدأ، على حذف مضاف، أي: عدد الطلاق، ومرتان: خبره.
انتهى.
والإمساك بالمعروف: هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتسريح: يحتمل
لفظه معنيين:
أحدهما: تركها تتم العدة من الثانية، وتكون أملك بنفسها، وهذا قول السدي،
والضحاك.
والمعنى الآخر: أن يطلقها ثالثة، فيسرحها بذلك، وهذا قول مجاهد، وعطاء،
وغيرهما، وإمساك: مرتفع بالابتداء والخبر أمثل أو أحسن.
وقوله تعالى: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا...) الآية: خطاب

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 306).
(2) أخرجه الطبري (2 / 469) رقم (4783)، و ذكره البغوي (1 / 206)، و ابن عطية (1 / 306)، و السيوطي
(1 / 494)، وعزاه لمالك، و الشافعي، و عبد بن حميد، وابن جرير، و ابن أبي حاتم عن عروة.
(3) أخرجه الطبري (2 / 470 - 471) برقم (4791)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 306).
(4) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 306).
(5) أخرجه الطبري (2 / 472 - 473)، برقم (4800 - 4807) عن السدي، و أرقام (4801 - 4802 -
4803 - 4808) عن الضحاك، و ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 306).
458

للأزواج، نهاهم به أن يأخذوا من أزواجهم شيئا، على وجه المضارة، وهذا هو الخلع
الذي لا يصح إلا بأن لا ينفرد الرجل بالضرر، وخص بالذكر ما آتي الأزواج نساءهم، لأنه
عرف الناس عند الشقاق والفساد أن يطلبوا ما خرج من أيديهم، وحرم الله تعالى على
الزوج في هذه الآية أن يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بالوعيد،
وحدود الله في هذا الموضع هي ما يلزم الزوجين من حسن العشرة، وحقوق العصمة.
وقوله تعالى: (فإن خفتم ألا يقيما حدود الله): المخاطبة للحكام والمتوسطين لهذا
الأمر، وإن لم يكونوا حكاما، وترك إقامة حدود الله: هو استخفاف المرأة بحق زوجها،
وسوء طاعتها إياه، قال ابن عباس، ومالك، وجمهور العلماء.
وقال الشعبي: (ألا يقيما حدود الله): معناه: إلا يطيعا الله، وذلك أن المغاصبة
تدعو إلى ترك الطاعة.
وقوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) إباحة للفدية، وشركها / في ارتفاع
الجناح، لأنها لا يجوز لها أن تعطيه مالها حيث لا يجوز له أخذه، وهي تقدر على
المخاصمة.
قال ابن عباس، وابن عمر، ومالك، وأبو حنيفة، وغيرهم: مباح للزوج أن يأخذ من
المرأة في الفدية جميع ما تملكه، وقضى بذلك عمر بن الخطاب.

(1) الخلع لغة: النزع، وهو استعارة من خلع اللباس، لأن كل واحد منهما لباس للآخر، فكأن كل واحد نزع
لباسه منه، وخالعت المرأة زوجها مخالعة: إذا افتدت منه، و طلقها على الفدية.
و اصطلاحا:
عرفه الأحناف بأنه: عبارة عن أخذ المال بإزاء ملك النكاح، بلفظ الخلع.
و عرفه الشافعية بأنه: فرقة بين الزوجين بعوض، بلفظ طلاق أو خلع.
و عرفه المالكية بأنه: الطلاق بعوض.
و عرفه الحنابلة بأنه: فراق الزوج امرأته، بعوض يأخذه الزوج، بألفاظ مخصوصة.
ينظر: " لسان العرب " (2 / 1232)، و " المصباح المنير " (1 / 243)، و " المطلع " (331)، " تبيين
الحقائق " (2 / 267)، " شرح فتح القدير " (4 / 210)، " حاشية ابن عابدين " (3 / 422)، " مغني المحتاج "
(3 / 262)، " الشرح الصغير " للدردير (3 / 319)، " بداية المجتهد " (2 / 98)، " الكافي (2 / 597)،
" كشف القناع " (5 / 212)، " المغني " (7 / 536).
(2) أخرجه الطبري (2 / 479) برقم (4839)، عن ابن عباس.
وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 307).
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 307).
(4) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 307 - 308).
459

وقال طاوس، والزهري، والحسن، وغيرهم: لا يجوز له أن يزيد على المهر
الذي أعطاها، وقال ابن المسيب: لا أرى أن يأخذ منها كل ما لها، ولكن ليدع لها
شيئا.
وقوله تعالى: (تلك حدود الله...) الآية: أي: هذه الأوامر والنواهي، فلا
تتجاوزوها، ثم توعد تعالى على تجاوز الحد بقوله: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم
الظالمون)، وهو كما قال صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات يوم القيامة ".
(فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن
ظنا أن يقيما حدود الله و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون (230) و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن
فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا و من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه و لا
تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم و ما أنزل عليكم من الكتاب و الحكمة يعظكم به

(1) طاوس بن كيسان اليماني الجندي - بفتح الجيم والنون - قيل: من الأبناء، و قيل: مولى همدان، الإمام
العلم. قيل: اسمه ذكوان. قاله ابن الجوزي. عن أبي هريرة، و عائشة، و ابن عباس، وزيد بن ثابت،
و زيد بن أرقم. و عنه: مجاهد، و عمرو بن شعيب، و حبيب. قال ابن عباس: إني لأظن طاوسا من أهل
الجنة. مات سنة 106. ينظر: " خلاصة تهذيب الكمال " (2 / 15).
(2) أخرجه الطبري (2 / 483 - 485) بأرقام (4858)، (4859)، (4860)، (4880) عن الحسن، وبرقم
(4862) عن ابن طاووس، وبرقم (4863) عن الزهري. وذكره البغوي (1 / 207) عن الزهري، وابن
عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 308). (3) أخرجه الطبري (2 / 483) برقم (4861)، وذكره البغوي (1 / 207)، وابن عطية في " المحرر الوجيز "
(1 / 308).
(4) أخرجه البخاري (5 / 120 - 121) كتاب " المظالم "، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، حديث (2447)،
وفي " الأدب المفرد " رقم (481)، ومسلم (4 / 1996)، كتاب " البر والصلة "، باب تحريم الظلم،
حديث (57 / 2579). وأحمد (2 / 137، 146)، والبيهقي (6 / 39)، كتاب " الغصب "، باب تحريم
الغصب. والبغوي في " شرح السنة " (7 / 364 - بتحقيقنا). كلهم من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن
عمر مرفوعا، وللحديث شاهد من حديث جابر بلفظ: " اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ".
أخرجه مسلم (4 / 1996)،، كتاب " البر والصلة "، باب تحريم الظلم، حديث (56 / 2579)، والبخاري
في " الأدب المفرد " رقم (479). وأحمد (3 / 323). من طريق عبيد الله بن مقسم، عن جار به.
وله شاهد أيضا من حديث عبد الله بن عمرو.
وأخرجه أحمد (2 / 159) عنه مرفوعا، بلفظ: " الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم
والفحش..... ".
460

واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم (231) وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن
ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الأخر ذلكم
أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون (232))
وقوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد...) الآية: قال ابن عباس وغيره:
هو ابتداء الطلقة الثالثة، قال * ع *: فيجئ التسريح المتقدم ترك المرأة تتم عدتها من
الثانية، وأجمعت الأمة في هذه النازلة على اتباع الحديث الصحيح في امرأة رفاعة، حين
تزوجت عبد الرحمن بن الزبير، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: " لعلك أردت الرجوع إلى رفاعة،
لا، حتى يذوق عسيلتك، وتذوقي عسيلته "، فرأى العلماء أنه لا يحلها إلا الوطء.

(1) أخرجه الطبري (2 / 488) برقم (4886)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 308)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 504)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن
عباس.
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 308).
(3) امرأة رفاعة القرظي التي تزوجها عبد الرحمن بن الزبير اختلف في اسمها فقيل: سهيمة، وقيل: عائشة،
وقيل: تميمة، حكى الأقوال الثلاثة ابن الأثير في مواضع من كتاب، وذكرها في حرف " التاء " تميمة بنت
وهب بن عبيد القرظية، مطلقة رفاعة القرظي.
ينظر: " تهذيب الأسماء " (2 / 370).
(4) عبد الرحمن بن الزبير بفتح الزاي ابن باطيا القرشي، صحابي له حديث، وعنه ابنه الزبير.
ينظر: " الخلاصة " (2 / 132).
(5) أخرجه مالك (2 / 531)، كتاب " النكاح "، باب نكاح المحلل وما أشبهه، حديث (17)، من طريق
المسور بن رفاعة القرظي، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق
امرأته....، ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في " الأم " (5 / 248)، باب نكاح المطلقة ثلاثا، وابن
حبان (1323 - موارد)، والبيهقي (7 / 375) كتاب " الرجعة "، باب نكاح المطلقة ثلاثا.
قال السيوطي في " تنوير الحوالك " (2 / 6)، قال ابن عبد البر: كذا لأكثر الرواة مرسل، ووصله ابن
وهب عن مالك، فقال: عن أبيه، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه،
وتابعه أيضا ابن القاسم، وعلي بن زياد، وإبراهيم بن طهمان، وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي.
كلهم عن مالك، وقالوا فيه: عن أبيه، وهو صاحب القصة. اه‍.
ومن طريق ابن وهب: أخرجه ابن الجارود (682)، والبيهقي، (7 / 375) كتاب " الرجعة "، باب نكاح
المطلقة ثلاثا.
وأخرجه البزار (2 / 194) - كشف) رقم (1504)، من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، ثنا
مالك بن أنس، عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، عن أبيه
قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 343): رواه البزار، والطبراني، ورجالهما ثقات، وقد رواه مالك
في " الموطأ " مرسلا، وهو هنا متصل. اه‍.
461

وكلهم على أن مغيب الحشفة يحل إلا الحسن بن أبي الحسن، قال: لا يحلها إلا الإنزال،

وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة.
أخرجه أحمد (6 / 226)، والبخاري (5 / 249)، كتاب " الشهادات "، باب شهادة المختبئ، حديث
(2639)، ومسلم (2 / 1055 - 1056)، كتاب " النكاح "، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى
تنكح زوجا غيره، حديث (111 / 1433). والترمذي (2 / 293)، كتاب " النكاح، باب ما جاء فيمن
يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1118). والنسائي (6 / 148) كتاب " الطلاق " باب إحلال المطلقة ثلاثا،
وابن ماجة (1 / 621 - 622) كتاب " النكاح "، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا، حديث (1932).
والدارمي (2 / 161) كتاب " الطلاق "، باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها.... والشافعي (2 / 34 -
35) كتاب الطلاق، حديث (110)، والحميد (1 / 111) رقم (226)، وعبد الرزاق (6 / 346 -
347) رقم (11131)، والطيالسي (1 / 314 - 315) رقم (1612، 1613). وسعيد بن منصور (2 /
73 - 74) رقم (1985). وأبو يعلى (7 / 397) رقم (4423). وابن حيان (4199 - الإحسان)،
والبيهقي (7 / 373 - 374). والبغوي في " شرح السنة " (5 / 169 - بتحقيقنا)، من طريق الزهري، عن
عروة، عن عائشة قالت: " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت عند رفاعة، فطلقني،
فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: " أتريدين أن
ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك ".
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وللحديث طرق أخرى عن عائشة.
فأخرجه البخاري (9 / 284)، كتاب " الطلاق "، باب من قال لامرأته: أنت علي حرام، حديث
(5265)، ومسلم (2 / 1057)، كتاب " النكاح "، باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها، حتى تنكح زوجا
غيره، حديث (114 / 1433)، وأحمد (6 / 229)، والدارمي (2 / 162)، من طريق هشام بن عروة،
عن أبيه، عن عائشة به، وأخرجه مسلم (2 / 1057)، كتاب " النكاح "، باب لا تحل المطلقة ثلاثا
لمطلقها، حتى تنكح زوجا غيره، حديث (115 / 1433)، وأحمد (6 / 193). وأبو يعلى (8 / 373
- 374) رقم (4964) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة.
وأخرجه أبو داود (1 / 705) كتاب " الطلاق "، باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا
غيره، حديث (2309). وأحمد (6 / 42) من طريق الأسود عن عائشة.
وأخرجه البخاري (10 / 293)، من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة أن رفاعة طلق امرأته،
فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظي، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها
خضرة بجلدها، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم - والنساء ينصر بعضهن بعضا - قالت عائشة: ما رأيت مثل ما
يلقى المؤمنات، لجلدها أشد خضرة من ثوبها، قال: وسمع أنها قد أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ومعه
ابنان له من غيرها، قالت: والله مالي إليه من ذنب، إلا أن ما معه ليس بأغنى عني من هذه - وأخذت
هدبة من ثوبها - فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن كان ذلك لم تحلي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك، قال: وأبصر معه
ابنين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فوالله لهم أشبه به من
الغراب بالغراب.
462

وهو ذوق العسيلة، والذي يحلها عند مالك النكاح الصحيح، والوطء المباح.
وقوله تعالى: (فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود
الله... " الآية: المعنى: فإن طلقها المتزوج الثاني، فلا جناح عليهما، أي: المرأة
والزوج الأول. قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه، والظن هنا على بابه من تغليب أحد
الجائزين، وخص الذين يعلمون بالذكر تشريفا.

(1) وفي الباب عن ابن عمر، وعبيد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والفضل بن عباس.
* حديث ابن عمر:
أخرجه أحمد (2 / 85)، والنسائي (6 / 148 - 149)، كتاب " النكاح "، باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن
ماجة (1 / 622)، كتاب " النكاح "، باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا فتتزوج، فيطلقها (1933)، من طريق
محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن
عبد الله بن عمر، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر به.
أخرجه أحمد (2 / 62)، والنسائي (6 / 149)، والبيهقي (7 / 375)، من طريق سفيان عن علقمة بن
مرثد، عن رزين بن سليمان، عن ابن عمر. قال النسائي: هذا أولى بالصواب.
وأخرجه أبو يعلى (8 / 374)، رقم (466)، من طريق يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر.
قال الهيثمي في " المجمع " (4 / 343)، رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
* حديث عبيد الله بن عباس:
أخرجه أحمد (1 / 214)، والنسائي (6 / 148)، كتاب " الطلاق "، باب إحلال المطلقة ثلاثا عنه، أن
الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها فقال: يا
رسول الله، هي كاذبة وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ليس ذلك حتى تذوقي عسيلته "، وأخرجه أبو يعلى (12 / 85 - 86) رقم (6718) عن عبيد الله بن
عباس، والفضل بن عباس به.
وقال الهيثمي في " المجمع " (4 / 343)، رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
* - حديث أنس بن مالك:
أخرجه أحمد (3 / 284)، والبزار (2 / 195 - كشف) برقم (1505)، وأبو يعلى (7 / 207) رقم
(4199) عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فمات عنها قبل أن
يدخل بها. هل يتزوجها الأول، قال: " لا، حتى يذوق عسيلتها ".
قال الهيثمي في " المجمع " (4 / 343)، وقال: رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني في
" الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح، خلا محمد بن دينار الطاحي، وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة،
وابن حبان، وفيه كلام لا يضر.
* حديث الفضل بن عباس: ينظر حديث عبيد الله بن العباس.
(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 309).
(2) أخرجه الطبري (2 / 491) برقم (4909)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 309)، والسيوطي في
" الدر المنثور " (1 / 508)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس.
463

وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء...) الآية: خطاب للرجال، نهي الرجل أن
يطول العدة، مضارة لها، بأن يرتجع قرب انقضائها، ثم يطلق بعد ذلك، قاله الضحاك
وغيره، ولا خلاف فيه.
ومعنى: (بلغن أجلهن): قاربن، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك،
ومعنى: أمسكوهن راجعوهن - و (بمعروف): قيل: هو الإشهاد - (ولا تمسكوهن)،
أي: لا تراجعوهن (ضرارا)، وباقي الآية بين.
وقوله تعالى: (ولا تتخذوا آيات الله هزوا...) الآية: المراد بآياته النازلة في
الأوامر والنواهي، وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا أو هازئا، أو راجع
كذلك.
وقالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح،
والطلاق، والرجعة ".
ثم ذكر الله عباده بإنعامه سبحانه عليهم بالقرآن، والسنة، (والحكمة): هي السنة
المبينة مراد الله سبحانه.
وقوله تعالى: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن...) الآية: خطاب
للمؤمنين الذين منهم الأزواج، ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في تعضلوهن، وبلوغ الأجل
في هذا الموضع تناهيه، لأن المعنى يقتضي ذلك.
وقد قال بعض الناس في هذا المعنى: إن المراد ب‍ (تعضلوهن): الأزواج، وذلك
بأن يكون الارتجاع مضارة، عضلا / عن نكاح الغير، فقوله: (أزواجهن)، على هذا،
يعني به: الرجال، إذ منهم الأزواج، وعلى أن المراد ب‍ (تعضلوهن) الأولياء، فالأزواج

(1) أخرجه الطبري (2 / 494) برقم (4922)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 309).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 309)، والبغوي في (1 / 210).
(3) أخرجه الطبري (2 / 496) برقم (4926)، وذكره ابن عطية (1 / 310)، والسيوطي في " الدر المنثور "
(1 / 231)، وعزاه لابن أبي شيبة في " المصنف "، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الحسن.
(4) أخرجه أبو داود (2 / 259)، كتاب " الطلاق "، باب في الطلاق (2194)، والترمذي (3 / 490)، كتاب
" الطلاق "، باب ما جاء في الحد (1184)، وابن ماجة (1 / 658)، كتاب " الطلاق "، باب من طلق أو
نكح (2039)، والدارقطني (4 / 18 - 19)، كتاب " الطلاق "، والحاكم في " المستدرك " (2 / 197
- 198)، كتاب " الطلاق "، باب ثلاث جدهن جد.
464

هم الذين كن في عصمتهم.
" والعضل ": المنع وهو من معنى التضييق والتعسير، كمال يقال: أعضلت الدجاجة،
إذا عسر بيضها، والداء العضال: العسير البرء، وقيل: نزلت هذه الآية في معقل بن
يسار، وأخته، لما طلقها زوجها، وتمت عدتها، أراد ارتجاعها، فمنعه ولي المرأة،
وقيل: نزلت في جابر بن عبد الله، وأخته.
وهذه الآية تقتضي ثبوت حق الولي في إنكاح وليته، وقوله: (بالمعروف): معناه:
المهر، والإشهاد.
وقوله تعالى: (ذلك يوعظ به من كان منكم) خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم رجوع إلى
خطاب الجماعة، والإشارة في (ذلكم أزكى) إلى ترك العضل، و (أزكى...
وأطهر): معناه: أطيب للنفس، وأطهر للعرض والدين، بسبب العلاقات التي تكون بين
الأزواج، وربما لم يعلمها الولي، فيؤدي العضل إلى الفساد، والمخالطة، على ما لا
ينبغي، والله تعالى يعلم من ذلك ما لا يعلم البشر.
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن
وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث
مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهم وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا
جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير (233))
قوله تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة)

(1) معقل بن يسار بن عبد الله بن معبر بن حراق بن أبي بن كعب بن عبد ثور بن هدمة بن لاطم بن
عثمان بن عمرو المزني.
ومزينة هي والدة عثمان بن عمرو، ونسبوا إليها.
ومعقل يكنى أبا علي، وقيل: كنيته أبو عبد الله، وقيل: أبو يسار.
ومات في آخر خلافة معاوية. وقيل: عاش إلى إمرة يزيد. وذكره البخاري في " الأوسط " في فضل من
مات ما بين الستين إلى السبعين.
ينظر: " الإصابة " (6 / 146 - 147).
(2) أخرجه الطبري (2 / 497 - 498 - 499) بأرقام (4930 - 4931 - 4932 - 4933 - 4934)، وذكره
ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 310)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 511)، وعزاه لعبد بن
حميد، وابن جرير عن مجاهد.
(3) أخرجه الطبري (2 / 499) رقم (4942)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 310)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 511)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن السدي.
465

(يرضعن أولادهن): خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى الندب
لبعضهن، فيجب على الأم الإرضاع، أن كانت تحت أبيه، أو رجعية، ولا مانع من علو
قدر بغير أجر، وكذلك إن كان الأب عديما، أو لم يقبل الولد غيرها.
وهذه الآيات في المطلقات جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع،
فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين، فذلك له.
وقوله تعالى: (لمن أراد أن يتم الرضاعة) مبني على أن الحولين ليسا بفرض، لا
يتجاوز، وانتزع مالك - رحمه الله - وجماعة من العلماء من هذه الآية، أن الرضاعة
المحرمة الجارية مجرى النسب، إنما هي ما كان في الحولين، لأن بانقضاء الحولين،
تمت الرضاعة، فلا رضاعة.
* ت *: فلو كان رضاعة بعد الحولين بمدة قريبة، وهو مستمر الرضاع، أو بعد
يومين من فصاله - اعتبر، إذ ما قارب الشئ فله حكمه. انتهى.
وقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن...) الآية: المولود له: اسم جنس،

(1) من شروط الرضاع المحرم: ألا يبلغ الرضيع حولين كاملين يقينا في ابتداء الرضعة الخامسة، فلا أثر
لرضاع من بلغها، ولو بيسير من الزمن، فإن شك في بلوغه وعدمه حرم، لأن الشك لا أثر له مع اليقين
الذي هو الأصل، وهوب قاء المدة، ولو بلغهما في أثناء الرضعة الخامسة حرم، لكفاية ما وجد من هذه
الرضعة في الحولين، ويعتبر الحولان بالأهلة، فإن انكسر الشهر الأول تمم ثلاثين يوما من الشهر
الخامس والعشرين.
والسنة الهلالية، وهي القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسون إمامنا الشافعي (رضي الله تعالى عنه)، وهو قول أبي
يوسف، ومحمد (رضي الله عنهم أجمعين). وقول الإمام مالك في إحدى روايتيه، وبه قال من
الصحابة سيدنا عمر، وابنه، وسيدنا علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وأمهات المؤمنين
سوى سيدتنا عائشة (رضي الله تعالى عنهم)، وقال سيدنا مالك (رضي الله عنه) مدته خمسة وعشرون
شهرا، وقال الإمام أبو حنيفة: مدته ثلاثون شهرا، وقال زفر: مدته ثلاثة أحوال، فهي ستة وثلاثون
شهرا، فكل هؤلاء يشترطون الصغر في الرضاع غير أنهم قد اختلفوا فيما بينهم في مدته.
وذهب بعض الفقهاء (ومنهم الأوزاعي، وداود الظاهري) إلى تحريم رضاع الكبير، ونسب هذا أيضا إلى
الإمام الليث بن سعد، وهو مذهب أم المؤمنين عائشة (رضي الله تعالى عنها) وقال الجصاص: إنه قول
شاذ. ينظر: " الرضاع " لشيخنا قاسم محمد العبدي.
466

وصنف من الرجال، والرزق في هذا الحكم: الطعام الكافي.
وقوله: (بالمعروف) يجمع حسن القدر في الطاعم، وجودة الأداء له، وحسن
الاقتضاء من المرأة.
ثم بين سبحانه، أن الإنفاق على قدر غنى الزوج بقوله: (لا تكلف نفس إلا
وسعها)، وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبان عن عاصم: " لا تضار والدة "، بضم
الراء، وهو خبر، معناه الأمر، ويحتمل أن يكون الأصل، لا تضارر، بكسر الراء الأولى،
ف‍ " والدة " فاعلة، ويحتمل بفتح الراء الأولى، ف‍ " والدة ": مفعول لم يسم فاعله، ويعطف
" مولود له " على هذا الحد في الاحتمالين، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وعاصم: لا
تضار، بفتح الراء، وهذا على النهي، ويحتمل أصله ما ذكرنا في الأولى، ومعنى الآية في
كل قراءة: النهي عن الإضرار، ووجوه الضرر لا تنحصر، وكل ما ذكر منها في التفاسير /
فهو مثال.
* ت *: وفي الحديث: " لا ضرر، ولا ضرار "، رواه مالك في " الموطأ " مرسلا.

(1) وحجتهم في ذلك قوله تعالى قبله: (لا تكلف نفس إلا وسعها) [البقرة: 233]، فجعلا الرفع نسقا
عليه، وجعلاه خبرا بمعنى النهي.
ينظر: " الحجة للقراء السبعة " (2 / 333)، و " العنوان " (74)، و " شرح طيبة النشر " (4 / 100 - 102)،
و " حجة القراءات " (136)، و " معاني القراءات " (1 / 205)، و " شرح شعلة " (290)، و " إتحاف "
(1 / 440).
(2) أبان بن تغلب الربعي، أبو سعد، ويقال: أبو أميمة الكوفي، النحوي، جليل، قرأ على عاصم، وأبي
عمرو الشيباني، وطلحة بن مصرف، والأعمش، وهو أحد الذين ختموا عليه. ويقال: إنه لم يختم
القرآن على الأعمش إلا ثلاثة منهم أبان بن تغلب، أخذ القراءة عنه عرضا محمد بن صالح بن زيد
الكوفي، توفي سنة إحدى وأربعين ومائة. وقال القاضي أسد: سنة ثلاث وخمسين ومائة. ينظر: " غاية
النهاية " (1 / 4).
(3) عاصم بن أبي النجود بهدلة، الكوفي، الأسدي بالولاء، أبو بكر: أحد القراء السبعة، تابعي من أهل
" الكوفة "، ووفاته فيها سنة 127 ه‍، كان ثقة في القراءات، صدوقا في الحديث، قيل: اسم أبيه عبيد،
وبهدلة اسم أمه.
ينظر: " تهذيب التهذيب " (5 / 38)، " الأعلام " (3 / 248)، " الوفيات " (1 / 243)، " غاية النهاية " (1 /
346)، " ميزان الاعتدال " (2 / 5).
(4) ورد هذا الحديث من حديث عبادة بن الصامت، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وعائشة، وأبي
سعيد الخدري، وجابر، وعمرو بن عوف، وأبي لبابة.
* حديث عبادة بن الصامت:
أخرجه ابن ماجة (2 / 784)، كتاب " الأحكام "، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، حديث (2340).
467

قال النووي في " الحلية ": ورويناه في " سنن الدارقطني " وغيره من طرق متصلا، وهو
حسن انتهى.

وأحمد (5 / 326 - 327). وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " (1 / 344)، والبيهقي (10 / 133)، كتاب
" آداب القاضي "، باب ما لا يحتمل القسمة، كلهم من طريق موسى بن عقبة، ثنا إسحاق بن يحيى بن
الوليد، عن عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن لا ضرر ولا ضرار.
قال الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 384)، قال ابن عساكر في " أطرافه ": وأظن إسحاق لم يدرك جده.
وقال العلائي في " جامع التحصيل " (ص 144) إسحاق بن يحيى بن الوليد بن الصامت، عن جد أبيه
عبادة بن الصامت (رضي الله عنه). قال الترمذي: لم يدركه. اه‍. والحديث ذكره البوصيري في " زوائد
ابن ماجة " (2 / 221)، وقال: هذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه منقطع. اه‍. قلت: وهذا فيه نظر، فإن
إسحاق بن يحيى قد ذكره ابن عدي في " الكامل " (1 / 333)، وقال: عامة أحاديثه غير محفوظة.
وقد حكى البوصيري نفسه تضعيفه في " الزوائد " (2 / 179)، فقال عن إسناد فيه إسحاق هذا: هذا إسناد
ضعيف، لضعف إسحاق بن يحيى بن الوليد، وأيضا لم يدرك عبادة بن الصامت، قاله البخاري
والترمذي، وابن حبان، وابن عدي.
والحديث ذكره الحافظ أيضا في " الدارية " (2 / 282)، وقال: وفيه انقطاع.
* حديث ابن عباس:
أخرجه أحمد (1 / 313)، وابن ماجة) (2 / 784) كتاب " الأحكام "، باب من بنى في حقه ما يضر
بجاره، حديث (2341)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن جابر الجعفي، عن عكرمة، عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار ".
قال البوصيري في " الزوائد " (2 / 222): هذا إسناد فيه جابر، وقد اتهم. اه‍.
لكنه توبع تابعه داود بن الحصين: أخرجه الدارقطني (4 / 228)، كتاب " الأقضية "، حديث (84) من
طريق إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس به.
قال الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 385)، قال عبد الحق في " أحكامه ": وإبراهيم بن إسماعيل هذا هو
ابن أبي حبيبة وفيه مقال، فوثقه أحمد، وضعفه أبو حاتم، وقال: هو منكر الحديث، لا يحتج به. اه‍.
قلت: وضعفه أيضا البخاري، فقال: منكر الحديث " التاريخ الكبير " (1 / 873).
وقال الترمذي في " سننه " (1462): يضعف في الحديث، وقال النسائي فقال في " الضعفاء " رقم (2): ضعيف.
وقال الدارقطني: متروك، ينظر " سؤالات البرقاني " (22)، و " الضعفاء " له (32).
وقال أبو حاتم: ليس بالقوي ينظر " العلل " (1575)، وقال الحافظ في " التقريب " (1 / 31) رقم (168)،
ضعيف.
* حديث أبي هريرة:
أخرجه الدارقطني (4 / 228)، كتاب " الأقضية "، حديث (86)، من طريق أبي بكر بن عياش قال: أراه
عن ابن عطاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرورة، ولا يمنعن أحدكم
جاره أن يضع خشبة على حائطه ".
قال الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 385)، وأبو بكر بن عياش مختلف فيه. اه‍.
وللحديث علة أخرى، وهي ابن عطاء، واسمه يعقوب بن عطاء بن أبي رباح.
468

وقوله تعالى: (وعلى الوارث مثل ذلك) قال مالك، وجميع أصحابه، والشعبي،

قال أحمد: منكر الحديث. وقال مرة أخرى: ضعيف، وقال ابن معين، وأبو زرعة، والنسائي:
ضعيف.
وقال أبو حاتم: ليس بالمتين يكتب حديثه.
وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وهو ممن يكتب حديثه، وعنده غرائب.
ينظر " التهذيب " (11 / 393).
وقد لخص الحافظ هذه الأقوال فقال في " التقريب " (2 / 376) رقم (386): ضعيف.
* حديث عائشة:
وله طريقان:
الأول: أخرجه الدارقطني (4 / 227) كتاب " الأقضية "، حديث (83)، من طريق الواقدي: ثنا
خارجة بن عبد الله بن سليمان بن زيد بن ثابت، عن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة، عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرار ".
الطريق الثاني: أخرجه الطبراني في " الأوسط "، كما في " نصب الراية " (4 / 386)، حدثنا أحمد بن
رشدين، ثنا روح بن صلاح، ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي سهيل، عن القاسم بن محمد، عن
عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا إضرار ".
والحديث ذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 113)، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه
أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين. قال ابن عدي: كذبوه. اه‍.
وللحديث طريق آخر أيضا: أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " نصب الراية " (4 / 386)، حدثنا
أحمد بن داود المكي، ثنا عمرو بن مالك الراسبي، ثنا محمد بن سليمان بن مسمول، عن أبي بكر بن
أبي سبرة، عن نافع بن مالك، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا
ضرار ".
قال الطبراني: لم يروه عن القاسم إلا نافع بن مالك.
قلت: وهذا الطريق لم يذكره الهيثمي في " المجمع "، مع أنه على شرطه.
وأبو بكر بن أبي سبرة: قال البخاري: منكر الحديث... " التاريخ الصغير " (2 / 184)، وقال مرة:
ضعيف... " الضعفاء الصغير " (416). وقال النسائي: متروك الحديث... " الضعفاء والمتروكين "
(697). وقال الدارقطني: متروك... " الضعفاء والمتروكين " (612). وقال البزار: لين الحديث...
" كشف الأستار " (1129). وذكره أبو زرعة الرازي في " أسامي الضعفاء " (380).
* حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه الدارقطني (4 / 228) كتاب الأقضية "، حديث (86)، والحاكم (2 / 57)، كتاب " البيوع "، باب
النهي عن المحاقلة...، والبيهقي (6 / 69 - 70)، كتاب " الصلح "، باب لا ضرر ولا ضرار، كلهم
من طريق الدراوردي، عن عمرو بن يحيى المازني، عن أبيه، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا
ضرر ولا ضرار "، قال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وقال البيهقي: تفرد به عثمان بن محمد - عن الدراوردي -. قلت: وفي كلام الثلاثة نظر.
469

والزهري، وجماعة من العلماء: المراد بقوله: (مثل ذلك): ألا يضار، وأما الرزق،
والكسوة، فلا شئ عليه منه، قال * ع *: فالإجماع من الأمة في ألا يضار الوارث،
وإنما الخلاف، هل عليه رزق وكسوة أم لا؟
وقوله تعالى: (فإن أرادا فصالا...) الآية، أي: فإن أراد الوالدان، وفصالا:
معناه: فطاما عن الرضاع.
وتحرير القول في هذا: أن فصله قبل الحولين لا يصح إلا بتراضيهما وألا يكون على
المولود ضرر، وأما بعد تمامهما، فمن دعا إلى الفصل، فذلك له إلا أن يكون في ذلك
على الصبي ضرر.

= أما صحته على شرط مسلم، فعثمان بن محمد لم يخرج له مسلم شيئا، ومع ذلك فهو ضعيف ضعفه
الدارقطني. ينظر: " لسان الميزان " (4 / 175).
وأما قول البيهقي: " تفرد به عثمان بن محمد "، ففيه نظر أيضا، فقد تابعه عبد الملك بن معاذ النصيبي
عن الدراوردي به، كما في " نصب الراية " (4 / 385). قال ابن القطان في كتابه: وعبد الملك هذا لا
يعرف له حال. اه‍.
وأخرجه مالك (2 / 745)، كتاب " الأقضية "، باب القضاء في المرفق، حديث (31)، عن عمرو بن
يحيى المازني، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا ضرر ولا ضرار ". هكذا مرسلا.
* حديث جابر:
أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " نصب الراية " (4 / 386)، ثنا محمد بن عبدوس بن كامل، ثنا
حبان بن بشر القاضي قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن
حبان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ضرر ولا ضرار
في الإسلام ".
وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4 / 113)، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه ابن إسحاق،
وهو ثقة لكنه مدلس. اه‍.
وهذا الحديث رواه عبد الرحمن بن مغراء، ثنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن
عمه واسع بن حبان مرسلا. أخرجه أبو داود في " المراسيل " (ص 294) رقم (407).
* حديث عمرو بن عوف:
ذكره الحافظ في " التهذيب " (8 / 421 - 422)، من طريق كثير بن عبد الله عمرو بن عوف، عن
أبيه.
* حديث أبي لبابة:
أخرجه أبو داود في " المراسيل " (ص 294) رقم (407).
(1) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 213)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 312).
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 312).
470

وقوله تعالى: (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) مخاطبة لجميع الناس، يجمع
الآباء والأمهات، أي: لهم اتخاذ الظئر، مع الاتفاق على ذلك، وأما قوله: (إذا
سلمتم)، فمخاطبة للرجال خاصة إلا على أحد التأويلين في قراءة من قرأ: " أوتيتم "،
وقرأ الستة من السبعة: " آتيتم "، بالمد، بمعنى أعطيتم، وقرأ ابن كثير: " أتيتم "، بمعنى:
فعلتم، كما قال زهير: [الطويل]
وما كان من خير أتوه فإنما * توارثه آباء آبائهم قبل
فأحد التأويلين في هذه القراءة كالأول، والتأويل الثاني لقتادة، وهو إذا سلمتم ما
آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي: سلم كل واحد من الأبوين، ورضي، وكان ذلك على
اتفاق منهما، وقصد خير، وإرادة معروف، وعلى هذا الاحتمال يدخل النساء في الخطاب.
* ت *: وفي هذا التأويل تكلف.
وقال سفيان: المعنى: إذا سلمتم إلى المسترضعة، وهي الظئر أجرها بالمعروف.
وباقي الآية أمر بالتقوى، وتوقيف على أن الله تعالى بصير بكل عمل، وفي هذا
وعيد وتحذير، أي: فهو مجاز بحسب عملكم.
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن

(1) الظئر: المرضعة غير ولدها.
(2) ينظر: " النهاية " (3 / 154)، و " لسان العرب " (2741).
(2) وهي رواية شيبان عن عاصم، كما في شواذ ابن خالويه ص (22).
(3) وقراءة ابن كثير معناها: إذا سلمتم ما أتيتم به.
ينظر: " حجة القراءات " (137)، و " السبعة " (183)، و " الحجة " (2 / 335)، و " معاني القراءات " (1 /
206 - 207)، و " العنوان " (74)، و " شرح الطيبة " (4 / 103)، و " شرح شعلة " (291)، و " إتحاف "
(1 / 440).
(4) البيت في ديوان زهير بن أبي سلمى ص (115)، و " تفسير القرطبي " (3 / 173)، و " الدر المصون "
(1 / 575).
توارثه، يعني: ورثه كابر عن كابر. وقال ابن ميادة في مثله:
إن بني العباس في مشرف * يزل عنه الغفر، الأحمر
له الفعال، وله الوالد ال‍ * أكبر، فالأكبر، فالأكبر
(5) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 313).
(6) أخرجه الطبري (2 / 523) برقم (5073)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 313).
471

فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير (234))
وقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن) هذه الآية في
عدة المتوفى عنها زوجها، وظاهرها العموم، ومعناها الخصوص في الحرائر غير الحوامل،
ولم تعن الآية لما يشذ من مرتابة ونحوها، وعدة الحامل: وضع حملها، عند الجمهور.
وروي عن علي، وابن عباس: أقصى الأجلين، ويتربصن: خبر يتضمن معنى
الأمر، والتربص: الصبر والتأني.
والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم متظاهرة أن التربص بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة،
ولبس المصبوغ الجميل، والطيب، ونحوه، والتزام المبيت في مسكنها، حيث كانت وقت
وفاة الزوج، وهذا قول جمهور العلماء، وهو قول مالك، وأصحابه، وجعل الله تعالى
(أربعة أشهر وعشرا) عبادة في العدة فيها استبراء للحمل، إذ فيها تكمل الأربعون،
والأربعون، والأربعون، حسب الحديث الذي رواه ابن مسعود وغيره، ثم ينفخ الروح /،
وجعل تعالى العشر تكملة، إذا هي مظنة لظهور الحركة بالجنين، وذلك لنقص الشهور، أو
كمالها، أو لسرعة حركة الجنين، أو إبطائها.
قاله ابن المسيب، وغيره.
وقال تعالى: (وعشرا)، تغليبا لحكم الليالي، وقرأ ابن عباس: " وعشر ليال "،
قال جمهور العلماء: ويدخل في ذلك اليوم العاشر.
وقوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف
والله بما تعملون خبير): (فيما فعلن): يريد به التزوج، فما دونه من زينة، واطراح
الإحداد، قاله مجاهد وغيره، إذا كان معروفا غير منكر.
قال * ع *: ووجوه المنكر كثيرة، وقوله سبحانه: (والله بما تعملون خبير)

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 314).
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 914)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 515)، وعزاء لابن
جرير عن قتادة.
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 314)، و " البحر المحيط " (2 / 233).
(4) أخرجه الطبري (2 / 530) برقم (5097 - 5098).
وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 314 - 315).
(5) " المحرر الوجيز " (1 / 315).
472

وعيد يتضمن التحذير، و (خبير): اسم فاعل من " خبر "، إذا تقصى علم الشئ.
(ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم
ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ
الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم (235))
وقوله تعالى: (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء...) الآية:
تصريح خطبة المعتدة حرام، والتعريض جائز، وهو الكلام الذي لا تصريح فيه، (أو
أكننتم): معناه: سترتم، وأخفيتم.
وقوله تعالى: (ستذكرونهن) قال الحسن: معناه: ستخطبونهن، وقال غيره:
معناه: علم الله أنكم ستذكرون النساء المعتدات في نفوسكم وبألسنتكم، فنهى عن أن
يوصل إلى التواعد معهن.
* ع *: والسر، في اللغة: يقع على الوطء حلاله وحرامه، والآية تعطي النهي
عن أن يواعد الرجل المعتدة، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وقال ابن جبير: (سرا)،
أي: نكاحا، وهذه عبارة مخلصة.
وأجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة.
وقوله تعالى: (إلا أن تقولوا قولا معروفا) استثناء منقطع، والقول المعروف هو ما
أبيح من التعريض، كقول الرجل: إنكم لأكفاء كرام، وما قدر كان، ونحو هذا.
وقوله تعالى: (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله): عزم العقدة:
عقدها بالإشهاد، والولي، وحينئذ: تسمى عقدة.

(1) أخرجه الطبري (2 / 535) برقم (5136 - 5138)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 315)،
والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 518)، وعزاه لوكيع، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عن
الحسن.
(2) أخرجه الطبري (2 / 535) رقم (5137)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 316)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 518)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن مجاهد.
(3) " المحرر الوجيز " (1 / 316).
(4) أخرجه الطبري (2 / 537) رقم (5158)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 316)، والسيوطي
في " الدر المنثور " (1 / 519)، وعزاه لعبد الرزاق عن سعيد بن جبير.
473

* ت *: والظاهر أن العزم غير العقد، وقوله تعالى: (حتى يبلغ الكتاب أجله):
يريد تمام العدة، والكتاب هنا هو الحد الذي جعل، والقدر الذي رسم من المدة، وقوله:
(واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه...) الآية: تحذير من الوقوع فيما نهى
عنه، وتوقيف على غفره وحلمه.
(ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع
قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين (236) وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن
وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده، عقدة النكاح وأن
تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير (237))
وقوله تعالى: (ولا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة) هذا ابتداء إخبار برفع الجناح عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم
يفرض، ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوج لمعنى الذوق، وقضاء الشهوة، وأمر
بالتزوج، طلبا للعصمة، والتماس ثواب الله، وقصد دوام الصحبة، وقع في نفوس
المؤمنين، أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه، فنزلت الآية رافعة للجناح
في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
وقال قوم: (لا جناح عليكم): معناه: لا طلب لجميع المهر، بل عليكم نصف
المفروض لمن فرض لها، والمتعة لمن لم يفرض لها، وفرض المهر: إثباته، وتحديده،
وهذه الآية / تعطى جواز العقد على التفويض، لأنه نكاح مقرر في الآية، مبين حكم
الطلاق فيه، قاله مالك في " المدونة ".
والفريضة: الصداق.
وقوله تعالى: (ومتعوهن). أي: أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن، وحمله ابن عمر
وغيره على الوجوب، وحمله مالك وغيره على الندب، واختلف الناس في مقدار المتعة،
قال الحسن: يمتع كل على قدره، هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة،
وكذلك يقول مالك.
وقوله تعالى: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره): دليل على رفض
التحديد، والموسع: أي: من اتسع حاله، والمقتر: المقل القليل المال، و (متاعا):

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 319).
474

نصب على المصدر.
وقوله تعالى: (بالمعروف)، أي: لا حمل فيه، ولا تكلف على أحد الجانبين، فهو
تأكيد لمعنى قوله: (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره)، ثم أكد تعالى الندب بقوله:
(حقا على المحسنين)، أي: في هذه النازلة من التمتيع هم محسنون، ومن قال، بأن
المتعة واجبة، قال: هذا تأكيد للوجوب، أي: على المحسنين بالإيمان والإسلام،
و (حقا): صفة لقوله تعالى: (متاعا).
* ت *: وظاهر الآية عموم هذا الحكم في جميع المطلقات، كما هو مذهب
الشافعي، وأحمد، وأصحاب الرأي، والظاهر حمل المتعة على الوجوب، لوجوه، منها:
صيغة الأمر، ومنها: قوله: (حقا)، ومنها: من جهة المعنى: ما
يترتب على إمتاعها من جبر القلوب، وربما أدى ترك ذلك إلى العداوة والبغضاء بين
المؤمنين، وقد مال بعض أئمتنا المتأخرين إلى الوجوب. انتهى.
وقوله تعالى: (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن...) الآية: اختلف في هذه
الآية، فقالت فرقة، فيها مالك: إنها مخرجة للمطلقة بعد الفرض من حكم التمتيع، إذ
يتناولها.
قوله تعالى: (ومتعوهن): وقال قتادة: نسخت هذه الآية الآية التي قبلها، وقال
ابن القاسم في " المدونة ": كان المتاع لكل مطلقة، بقوله تعالى: (وللمطلقات متاع
بالمعروف) [البقرة: 241] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة " الأحزاب "، فاستثنى
الله سبحانه المفروض لها قبل الدخول بهذه الآية، وأثبت لها نصف ما فرض فقط،
وزعم زيد بن أسلم، أنها منسوخة حكى ذلك في " المدونة " عن زيد بن أسلم زعما.
وقال ابن القاسم: إنها استثناء، والتحرير يرد ذلك إلى النسخ الذي قال زيد، لأن ابن
القاسم قال: إن قوله تعالى: (وللمطلقات متاع) [البقرة: 241] عم الجميع، ثم استثنى الله

(1) ويجوز أن ينتصب على الحال، والعامل فيه حينئذ ما تضمنه الجار والمجرور " على الموسع " من معنى
الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكن في ذلك العامل. والتقدير: قدر الموسع يستقر عليه في
حال كونه متاعا. وينظر: " الدر المصون " (1 / 538).
(2) أخرجه الطبري (2 / 555) برقم (5252)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 320).
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 327).
(4) ينظر المصدر السابق.
475

منه هذه التي فرض لها قبل المسيس، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثور: المتعة لكل
مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، أي: مع
متعتها، وقرأ الجمهور: " فنصف "، بالرفع، والمعنى: فالواجب نصف ما فرضتم.
وقوله تعالى: (إلا أن يعفون): استثناء منقطع، و " يعفون ": معناه: يتركن
ويصفحن، أي: يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج، وذلك إذا كانت المرأة تملك
أمر نفسها.
واختلف في المراد بقوله تعالى: (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح).
فقال ابن عباس، ومجاهد، ومالك، وغيرهم: هو الولي الذي المرأة في حجره،
وقالت فرقة: الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، فعلى القول الأول: / الندب في النصف
الذي يجب للمرأة إما أن تعفو هي، وإما أن يعفو وليها، وعلى القول الثاني: إما أن تعفو
هي أيضا، فلا تأخذ شيئا، وإما أن يعفو الزوج عن النصف الذي يحط، فيؤدي جميع

(1) أبو عبد الله إبراهيم بن خالد بن أبي يمان، أبو ثور، أخذ عن الشافعي - رضي الله عنه - كما أخذ الفقه
عن غيره، قال الخطيب البغدادي: كان أحد الثقات المأمونين، ومن الأئمة الأعلام في الدين، وله كتب
مصنفة في الأحكام.
ينظر: " طبقات ابن قاضي شهبة " (1 / 55)، و " تهذيب التهذيب " (1 / 118)، و " طبقات السبكي " (1 /
277).
(2) وقرأ علي وزيد بن ثابت " فنصف " بضم النون في جميع القرآن. قال ابن عطية: وهي لغة، وكذلك روى
الأصمعي قراءة عن أبي عمرو بن العلاء.
ينظر:، " الشواذ " (ص 22)، و " المحرر الوجيز " (1 / 320). ونسبها أبو حيان في " البحر " (2 / 244)
زيادة على ما تقدم إلى السلمي. (3) أخرجه الطبري (2 / 558 - 559) برقم (5286 - 5287 - 5308) عن مجاهد برقم (5304) عن ابن
عباس. وذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 219) عن ابن عباس. وابن عطية في " المحرر الوجيز "
(4) أخرجه الطبري (2 / 560 - 563) بأرقام (5317 - 5363) عن علي وشريح. وذكره البغوي في " معالم
التنزيل " (1 / 219)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 321)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 /
521). وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني في " الأوسط "، والبيهقي بسند حسن، عن ابن
عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم...
وعزاه لوكيع، وسفيان، والفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم،
والدارقطني، والبيهقي، عن علي بن أبي طالب.
وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي من طرق عن ابن عباس.
476

المهر، ثم خاطب تعالى الجميع، نادبا بقوله: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)، أي: يا جميع
الناس، وقرأ علي بن أبي طالب. وغيره: " ولا تناسوا الفضل "، وهي قراءة متمكنة
المعنى، لأنه موضع تناس، لا نسيان إلا على التشبيه.
وقوله تعالى: (ولا تنسوا الفضل): ندب إلى المجاملة.
وقوله: (إن الله بما تعملون بصير) خبر، وضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير
المحسن.
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين (238) فإن خفتم فرجالا أو
ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون (239)).
قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى...) الآية: الخطاب لجميع
الأمة، والآية أمر بالمحافظة على إقامة الصلوات في أوقاتها، وبجميع شروطها، وخرج
الطحاوي عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره
مائة جلدة، فلم يزل يسأل الله تعالى ويدعوه، حتى صارت واحدة، فامتلأ قبره عليه نارا،
فلما ارتفع عنه، أفاق، فقال: علام جلدتني؟ قال: إنك صليت صلاة بغير طهور، ومررت
على مظلوم، فلم تنصره ". انتهى من " التذكرة " للقرطبي.
وفي الحديث: " أن الصلاة ثلاثة أثلاث الطهور ثلث، والركوع ثلث، والسجود ثلث،

(1) ينظر: " المحتسب " (1 / 127)، و " مختصر الشواذ " (ص 22). وزاد ابن عطية نسبتها إلى مجاهد وأبي
حيوة، وابن أبي عبلة.
ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 322)، و " البحر المحيط " (2 / 247)، و " الدر المصون " (1 / 588).
(2) أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة الأزدي، الطحاوي، أبو جعفر: فقيه انتهت إليه رياسة الحنفية
ب‍ " مصر "، ولد ونشأ في " طحا " من صعيد مصر 239 ه‍، وتفقه على مذهب الشافعي ثم تحول حنفيا.
وتوفي ب‍ " القاهرة " 321 ه‍ وهو ابن أخت المزني. من تصانيفه: " شرح معاني الآثار "، و " بيان السنة "، و " الشفعة "، و " المحاضر والسجلات "، و " مشكل الآثار "، و أحكام القرآن "، و " المختصر " في
الفقه، وشرحه كثيرون.
ينظر: " الأعلام " (1 / 206)، " البداية والنهاية " (11 / 174)، " لسان الميزان " (1 / 274)، " اللباب " (2 /
82).
(3) أخرجه الطحاوي في " مشكل الآثار " (4 / 231)، وقال الطحاوي: في هذا الحديث ما يدل على أن تارك
الصلاة ليس بكافر، لأن من صلى صلاة بغير طهور فلم يصل، وقد أجيبت دعوته، ولو كان كافرا ما
أجيبت له دعوة، لأن الله (تبارك وتعالى) يقول: (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال).
(4) ينظر: " التذكرة " (1 / 195).
477

فمن أداها بحقها، قبلت منه، وقبل منه سائر عمله، ومن ردت عليه صلاته، رد عليه سائر
عمله " رواه النسائي. انتهى من " الكوكب الدري ".
وروى مالك في " الموطإ "، عن يحيى بن سعيد، أنه قال: " بلغني أنه أول ما ينظر
فيه من عمل العبد الصلاة، فإن قبلت منه، نظر فيما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه، لم
ينظر في شئ من عمله ". قال أبو عمر بن عبد البر في " التمهيد ": وقد روي هذا
الحديث مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه صحاح، ثم أسند أبو عمر عن أنس بن حكيم
الضبي، قال: قال لي أبو هريرة: إذا أتيت أهل مصرك، فأخبرهم أني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أول ما يحاسب به العبد المسلم صلاة المكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل:
انظروا، هل له من تطوع، فإن كان له تطوع، أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر
الأعمال المفروضة مثل ذلك "،

(1) أخرجه البزار (1 / 177 - كشف) رقم (349)، من طريق المغيرة بن مسلم، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة به. وقال البزار: لا نعلمه مرفوعا إلا عن المغيرة، وإنما نحفظه عن أبي صالح عن
كعب قوله.
قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1 / 150): المغيرة ثقة، وإسناده حسن.
(2) يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة الأنصاري، النجاري، قاضي المدينة. عن أنس،
وابن المسيب، والقاسم، وعراك بن مالك وخلق. وعنه الزهري، والأوزاعي، ومالك، والسفيانان،
والحمادان، والجريران وأمم. قال ابن المديني: له نحو ثلاثمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة، حجة،
كثير الحديث، وقال أبو حاتم: يوازي الزهري في الكثرة. وقال أحمد: يحيى بن سعيد أثبت الناس.
قال القطان: مات سنة ثلاث وأربعين ومائة. ينظر: " الخلاصة " (3 / 149).
(3) أخرجه مالك في " الموطأ " (1 / 173)، كتاب " قصر الصلاة في السفر "، باب جامع الصلاة، حديث
(89).
(4) أنس بن حكيم الضبي، البصري. عن أبي هريرة. وعنه الحسن، وعلي بن زيد.
ينظر: " الخلاصة " (1 / 104).
(5) أخرجه أبو داود (1 / 290 - 291)، كتاب " الصلاة "، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه،
حديث (864). وأحمد (2 / 425)، والبخاري في " التاريخ الكبير " (2 / 33)، والحاكم (1 / 262)، من
طريق الحسن، عن أنس بن حكيم الضبي، عن أبي هريرة به.
وأخرجه ابن ماجة (1 / 458)، كتاب " الصلاة "، باب ما جاء في أول ما يحاسب به العبد الصلاة، حديث
(1450)، من طريق علي بن زيد، عن أنس بن حكيم الضبي، عن أبي هريرة به.
وأخرجه أبو داود (1 / 291)، كتاب " الصلاة "، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه، حديث
(865). والحاكم (1 / 263)، والبخاري في " التاريخ " (2 / 34)، من طريق حماد بن سلمة، عن
حميد، عن الحسن، عن رجل من بني سليط عن أبي هريرة.
وأخرجه الترمذي (2 / 269 - 270)، كتاب " الصلاة "، باب ما جاء أن أول ما يحاسب به العبد يوم
478

وفي رواية تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم، بهذا المعنى.
قال: " ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك ". انتهى.
وذكر الله سبحانه الصلاة الوسطى ثانية، وقد دخلت قبل في عموم قوله:
" الصلوات "، لأنه أراد تشريفها.
واختلف الناس في تعيينها.
فقال علي، وابن عباس، وجماعة من الصحابة: إنها صلاة الصبح، وهو قول
مالك، وقالت فرقة: هي الظهر، وورد فيه حديث، وقالت فرقة: هي صلاة العصر، وفي

القيامة الصلاة، حديث (413)، والنسائي (1 / 232)، كتاب " الصلاة "، باب المحاسبة على الصلاة،
كلاهما من طريق قتادة، عن الحسن، عن حريث بن قبيصة، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه، عن أبي
هريرة. اه‍. وقد روى هذا الحديث الحسن عن أبي هريرة.
أخرجه أبو داود الطيالسي (1 / 68 - منحة) رقم (264)، وأبو يعلى (11 / 96) رقم (6225)، من طريق
الحسن، عن أبي هريرة.
قال البخاري في " التاريخ " (2 / 35)، ولا يصح سماع الحسن من أبي هريرة في هذا.
وقد وصف الحافظ ابن حجر في " التهذيب " (1 / 374) هذا الحديث بالاضطراب. وصححه الألباني
بطرقه في " الصحيحة " (1358).
(1) هو: تميم بن أوس بن حارثة أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في " الإصابة ": مشهور في الصحابة،
وكان نصرانيا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي قصة الجساسة والدجال، فحدث النبي عنه بذلك على
المنبر، وعد ذلك من مناقبه. وقال أبو نعيم. كان راهب أهل عصره، وعابد أهل " فلسطين "، وهو أول
من أسرج السراج في المسجد. وقال ابن إسحاق: قدم " المدينة " وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ينطر ترجمته في: " أسد الغابة " (1 / 256)، " الإصابة (1 / 191)، " الثقات " (3 / 39)، " الجرح
والتعديل " (2 / 440)، " تقريب التهذيب " (1 / 113)، " سير أعلام النبلاء " (2 / 442)، " جمهرة أنساب
العرب " (422)، (454)، " المتفردات والوحدان " (62)، " مشاهير علماء الأمصار " (52) " الجمع بين
رجال الصحيحين " (64)، " تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم " (22)، " التاريخ لابن معين " (17).
(2) أخرجه أبو داود (1 / 291)، كتاب " الصلاة "، باب كل صلاة لا يتمها صاحبها تتم من تطوعه، حديث
(866)، وابن ماجة (1 / 458) كتاب " الصلاة "، باب ما جاء في أول ما يحاسب بن العبد الصلاة، حديث
(1426). وأحمد (4 / 103). والدارمي (1 / 313)، كتاب " الصلاة "، باب أول ما يحاسب به العبد يوم
القيامة، والحاكم (1 / 262)، والطبراني في " الأوائل " رقم (23). كلهم من طريق داود بن أبي هند، عن
زرارة بن أوفى، عن تميم الداري مرفوعا.
(3) ذكره الماوردي في " النكت والعيون " (1 / 309)، والبغوي في " معالم التنزيل " (1 / 220)، وابن عطية
الأندلسي في " تفسيره " (1 / 322)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 534).
479

مصحف عائشة، وإملاء حفصة: " صلاة العصر "، وعلى هذا القول جمهور العلماء، وبه
أقول.
وقال قبيصة بن ذويب: هي صلاة المغرب، وحكى أبو عمر بن عبد البر عن
فرقة، أنها صلاة العشاء الآخرة، وقالت فرقة: الصلاة الوسطى لم يعينها الله سبحانه، فهي
في جملة الخمس غير معينة، كليلة القدر، وقالت فرقة: هي صلاة الجمعة، وقال بعض
العلماء: هي الخمس، وقوله أولا: (على الصلوات) يعم النفل /، والفرض ثم خص
الفرض بالذكر.
وقوله تعالى: (وقوموا لله قانتين) معناه في صلاتكم.
واختلف في معنى (قانتين).
فقال الشعبي وغيره: معناه مطيعين، قال الضحاك: كل قنوت في القرآن، فإنما
يعنى به الطاعة، وقاله أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن مسعود وغيره: القنوت:
بالسكوت، وذلك أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة حتى نزلت هذه الآية، فأمروا
بالسكوت، وقال مجاهد: معنى (قانتين) خاشعين، فالقنوت: طول الركوع والخشوع،
وغض البصر، وخفض الجناح، قال * ع *: وإحضار الخشية، والفكر في الوقوف

(1) وفي مختصر ابن خالويه: " وصلاة العصر " بزيادة واو، ونسبها إلى عائشة، وابن عباس، وجماعة.
" مختصر الشواذ " (ص 22).
وينظر: " الكشاف " (1 / 287)، و " المحرر الوجيز " (1 / 322 - 323)، و " البحر المحيط " (1 / 249)،
وزاد نسبتها إلى أبي، وعبيد بن عمير.
(2) قبيصة بن ذؤيب، عن أبيه، وأبي هريرة، وعنه الزهري، ورجاء بن حيوة وغيره. وثقه ابن حبان، قال
عمرو بن علي: مات سنة ست وثمانين. ينظر: " الخلاصة " (2 / 349).
(3) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 579)، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 542)، وعزاه لابن أبي
حاتم بسند حسن عن ابن عباس.
(4) ذكره البغوي في " معالم التنزيل " (1 / 221).
(5) أخرجه الطبري (5 / 229)، وذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 323).
(6) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 585)، وذكره السيوطي في " الدر المنثور " (1 / 238).
(7) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 585)، وذكره الماوردي في " تفسيره " (1 / 310) والبغوي في " معالم
التنزيل " (1 / 221)، والسيوطي في " الدر المنثور "، (1 / 544).
(8) " المحرر الوجيز " (1 / 324).
480

بين يدي الله سبحانه، وقال الربيع: القنوت: طول القيام، وطول الركوع.
وقال قوم: القنوت: الدعاء، و (قانتين): معناه داعين، روي معناه عن ابن
عباس.
وقول تعالى: (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا...) الآية، أمر الله تعالى بالقيام له في
الصلاة بحالة قنوات، وهو الوقار والسكينة، وهدو الجوارح، وهذا على الحالة الغالبة من
الأمن والطمأنينة، ثم ذكر تعالى حالة الخوف الطارئة أحيانا، فرخص لعبيده في الصلاة
(رجالا): متصرفين على الأقدام، و (ركبانا): على الخيل والإبل ونحوهما، إيماء،
وإشارة بالرأس، حيث ما توجه، هذا قول جميع العلماء، وهذه هي صلاة الفذ الذي قد
ضايقه الخوف على نفسه في حال المسايفة، أو من سبع يطلبه، أو عدو يتبعه، أو سيل
يحمله، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه، فهو مبيح ما تضمنته هذه الآية.
وأما صلاة الخوف بالإمام، وانقسام الناس، فليس حكمها في هذه الآية، وسيأتي،
إن شاء الله في " سورة النساء ".
والركبان: جمع راكب، وهذه الرخصة في ضمنها، بإجماع من العلماء: أن يكون
الإنسان حيث ما توجه ويتقلب ويتصرف بحسب نظره في نجاة نفسه.
* ت *: وروى أبو داود في " سننه "، عن عبد الله بن أنيس، قال: " بعثني رسول

(1) ذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 239).
(2) ذكره الماوردي في " النكت والعيون " (1 / 310)، وابن عطية في " تفسيره " (1 / 324).
(3) في تفسير الآية (101)، (102).
(4) ينظر: " لسان العرب " (1712)، و " عمدة الحفاظ " (2 / 121).
(5) عبد الله بن أنيس بن أسعد بن حرام بن خبيب بن مالك بن غنم بن كعب بن تيم، أبو يحيى
الجهني. القضاعي. الأنصاري. السلمي. قال ابن الأثير: كان مهاجرا، أنصاريا، عصبيا، شهد بدرا
وأحدا وما بعدهما. روى عنه أولاده: عطية، وعمرو، وضمرة، وعبد الله، وجابر بن عبد الله،
وبسر بن سعيد. هو الذي سأل رسول الله عن ليلة القدر وقال: إني شاسع الدار، فمرني بليلة أنزل لها
قال: " انزل ليلة ثلاث وعشرين " وهو أحد الذين كانوا يكسرون أصنام بني سلمة.
ينظر ترجمته في: " أسد الغابة " (3 / 179)، " الإصابة " (4 / 37)، " الثقات " (3 / 234)، " تجريد أسماء
الصحابة " (1 / 298)، " الاستيعاب " (3 / 896)، " الاستبصار " (137)، " شذرات الذهب " (1 / 60)،
" حلية الأولياء " (2 / 5)،، " عنوان النجابة " (117)، " تقريب التهذيب " (1 / 402)، " تهذيب التهذيب " (5 /
149)، " تهذيب الكمال " (2 / 666)، " بقي بن مخلد " (113)، " الوافي بالوفيات " (17 / 76)،
" الكاشف " (2 / 73)، " رياض النفوس " (1 / 45)، " الجرح والتعديل " (5 / 1)، " التاريخ الكبير " (3 /
14).
481

الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان، وكان نحو عرنة وعرفات، قال: " اذهب فاقتله "، فرأيته وقد
حضرت صلاة العصر، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت
أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه، فلما دنوت منه، قال لي: " من أنت "؟ قلت: رجل من
العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذلك، قال: إني لفي ذلك، فمشيت معه
ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي، حتى برد ". انتهى، وقد ترجم عليه " باب في صلاة
الطالب ".
قال * ع *: واختلف الناس، كم يصلي من الركعات؟ والذي عليه مالك
وجماعة: أنه لا ينقص من عدد الركعات شيئا، فيصلي المسافر ركعتين.
واختلف المتأولون في قوله سبحانه: (فإذا أمنتم فاذكروا الله...) الآية: فقالت
فرقة: المعنى: إذا زال خوفكم، فاذكروا الله سبحانه بالشكر على هذه النعمة، وقالت
فرقة: اذكروا الله أي: صلوا كما علمتم صلاة تامة، يعنى فيما يستقبل من الصلوات.
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج
فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم (240)
وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين (241) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم
تعقلون (242))
قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول
غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن / في أنفسهن من معروف والله عزيز
حكيم): (الذين): رفع بالابتداء، وخبره مضمر، تقديره: فعليهم وصية لأزواجهم، وفي
قراءة ابن مسعود: كتب عليكم وصية، قالت فرقة: كانت هذه وصية من الله تعالى تجب
بعد وفاة الزوج، قال قتادة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، لها السكنى والنفقة حولا
في مال الزوج، ما لم تخرج برأيها، ثم نسخ ما في هذه الآية من النفقة بالربع أو بالثمن

(1) أخرجه أبو داود (1 / 401) كتاب " الصلاة "، باب صلاة الطالب، حديث (1249).
وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة سوى أبي داود.
(2) " المحرر الوجيز " (1 / 325).
(3) وهي في " مختصر شواذ ابن خالويه " ص (22) هكذا: كتب عليكم الوصية لأزواجكم. وينظر:
" الكشاف " (1 / 289). وحكاها ابن عطية في " المحرر " (1 / 326): الوصية لأزواجهم.
(4) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 326).
482

الذي في " سورة النساء "، ونسخ سكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر، وقاله ابن
عباس وغيره: و (متاعا) نصب على المصدر، وقوله تعالى: (غير إخراج) معناه:
ليس لأولياء الميت، ووارثي المنزل إخراجها، وقوله تعالى: (فإن خرجن...) الآية:
معناه: إن الخروج، إذا كان من قبل الزوجة، فلا جناح على أحد ولي أو حاكم، أو غيره
فيما فعلن في أنفسهن من تزويج وتزين، وترك إحداد، إذا كان ذلك من المعروف الذي لا
ينكر، وقوله تعالى: (والله عزيز حكيم): صفة تقتضي الوعيد بالنقمة لمن خالف الحد
في هذه النازلة، وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه.
وقوله تعالى: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين * كذلك يبين الله لكم
آياته لعلكم تعقلون): قال عطاء بن أبي رباح وغيره: هذه الآية في الثيبات اللواتي قد
جومعن، إذ قد تقدم في غير هذه الآية ذكر المتعة للواتي لم يدخل بهن.
وقال ابن زيد: هذه الآية نزلت مؤكدة لأمر المتعة، لأنه نزل قبل (حقا على
المحسنين) [البقرة: 236]، فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن، لم أمتع، فنزلت (حقا على
المتقين).
قال الطبري: فوجب ذلك عليهم.
* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا
ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (243) وقاتلوا في
سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم (244) من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له
أضعافا كثيره والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245))
قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم
الله موتوا...) الآية: هذه رؤية القلب، بمعنى: ألم تعلم، وقصة هؤلاء فيما قال
الضحاك، أنهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد،
فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله، ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شئ،

(1) آية (12).
(2) آية (234) من سورة البقرة.
(3) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 326).
(4) ذكره الطبري (2 / 598)، وابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 327).
(5) ذكره الطبري في " تفسيره " (2 / 599).
483

ثم أحياهم، وأمرهم بالجهاد، بقوله: (وقاتلوا في سبيل الله...) الآية.
وروى ابن جريج عن ابن عباس، أنهم كانوا من بني إسرائيل، وأنهم كانوا
أربعين ألفا، وثمانية آلاف، وانهم أميتوا، ثم أحيوا، وبقيت الرائحة على ذلك السبط
من بني إسرائيل إلى اليوم، فأمرهم الله بالجهاد ثانية، فذلك قوله: (وقاتلوا في سبيل
الله).
قال * ع *: وهذا القصص كله لين الإسناد، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى
أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إخبارا في عبارة التنبيه، والتوقيف عن قوم من البشر خرجوا من
ديارهم فرارا من الموت، فأماتهم الله، ثم أحياهم، ليعلموا هم وكل من خلف بعدهم، أن
الإماتة إنما هي بإذن الله لا بيد غيره، فلا معنى لخوف خائف، وجعل الله تعالى هذه الآية
مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد، هذا قول الطبري، وهو ظاهر
رصف الآية.
والجمهور على أن (ألوف) جمع ألف، وهو جمع كثرة، وقال ابن زيد في لفظة
(ألوف): إنما معناها، وهم مؤتلفون.
وقوله تعالى: (إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون /...)
الآية: تنبيه على فضله سبحانه على هؤلاء القوم الذين تفضل عليهم بالنعم، وأمرهم
بالجهاد، وألا يجعلوا الحول والقوة إلا له سبحانه، حسبما أمر جميع العالم بذلك، فلم
يشكروا نعمته في جميع هذا، بل استبدوا وظنوا أن حولهم وسعيهم ينجيهم، وهذه الآية
تحذير لسائر الناس من مثل هذا الفعل، أي: فيجب أن يشكر الناس فضله سبحانه، في
إيجاده لهم، ورزقه إياهم، وهدايته بالأوامر والنواهي، فيكون منهم المبادرة إلى امتثالها، لا

(1) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 327).
(2) أخرجه الطبري في " تفسيره " (2 / 602) برقم (5608)، وذكره ابن عطية في " تفسيره " (1 / 328)،
والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 553).
(3) ينظر: " المحرر الوجيز " (1 / 328).
(4) ينظر: " جامع البيان " (5 / 278).
(5) هو أحد قسمي جمع التكسير، والآخر هو جمع القلة، فأما جمع القلة فيصدق على الثلاثة إلى العشرة،
وأما جمع الكثرة فيدل على أحد عشر فما فوق، ولكل من النوعين صيغ، فلجمع القلة أربع صيغ،
ولجمع الكثرة ثلاثة وعشرون بناء. ينظر: " معجم المصطلحات النحوية والصرفية " (ص 51).
(6) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 328)، والسيوطي في " الدر المنثور " (1 / 553).
484

طلب الخروج عنها، وفي تخصيصه تعالى: " الأكثر " دلالة على أن الأقل الشاكر.
وقوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله...) الآية: الجمهور أن هذه الآية مخاطبة
لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالقتال في سبيل الله، وهو الذي ينوي به أن تكون كلمة الله هي العليا،
حسب الحديث.
وقال ابن عباس، والضحاك: الأمر بالقتال هو للذين أحيوا من بني إسرائيل، قال
الطبري: ولا وجه لهذا القول، ثم قال تعالى: (من ذا الذي يقرض الله...) الآية،
فدخل في ذلك المقاتل في سبيل الله، فإنه يقرض، رجاء ثواب الله، كما فعل عثمان في
جيش العسرة، ويروى أن هذه الآية، لما نزلت، قال أبو الدحداح: يا رسول الله، أو أن
الله يريد منا القرض؟ قال: " نعم، يا أبا الدحداح "، قال: فإني قد أقرضته حائطي لحائط
فيه ستمائة نخلة، ثم جاء الحائط، وفيه أم الدحداح، فقال: أخرجي، فاني قد أقرضت

(1) أخرجه البخاري في العلم (1 / 268) باب من سأل وهو قائم عالما جالسا (123)، و (6 / 33) في
الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة هي العليا (2810) و (6 / 260) في فرض الخمس (3126)،
و (13 / 450) في التوحيد: باب (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) (7458)، ومسلم (3 /
1512 - 1513) في الإمارة: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (149 - 151 /
1904) وأبو داود (1 / 18) في الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2517 - 2518)
والترمذي (4 / 154) في فضائل الجهاد: باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا (1646)، والنسائي (6 /
23) في الجهاد: باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وابن ماجة (2 / 931) في الجهاد: باب النية
في القتال (2783)، وأحمد (4 / 392، 397، 402، 405، 417)، والطيالسي (1 / 233) برقم
(1135)، وأبو يعلى (7253)، والبيهقي (9 / 167 - 168) من طرق عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن
أبي موسى الأشعري قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله؟ فإن
أحدنا يقاتل غضبا، ويقاتل حمية، فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلا أنه كان قائما، فقال: من
قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله عز وجل ".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2) ذكره ابن عطية في " المحرر الوجيز " (1 / 329).
(3) ينظر: " جامع البيان " (5 / 281).
(4) أبو الدحداح الأنصاري: حليف لهم. قال أبو عمر: لم أقف على اسمه ولا نسبه، أكثر من أنه من
الأنصار حليف لهم، وقال البغوي: أبو الدحداح الأنصاري، ولم يزد.
ينظر: " الإصابة " (7 / 100).
(5) أم الدحداح، زوج أبي الدحداح.
لها ذكر في حديث أبي الدحداح، وصدقته بالحائط الذي فيه النخل. فقال: يا أم الدحداح، اخرجي،
يعني: من الحائط، ذكره الأشيري.
ينظر: " أسد الغابة " (7 / 316).
485

ربي حائطي هذا، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كم من عذق مذلل لأبي الدحداح في
الجنة.
واستدعاء القرض، في هذه الآية وغيرها، إنما هو تأنيس وتقريب للأفهام، والله هو
الغني الحميد.
قال ابن العربي في " أحكامه " وكنى الله عز وجل عن الفقير بنفسه العلية ترغيبا في
الصدقة، كما كنى عن المريض والجائع، والعاطش بنفسه المقدسة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن
الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت، فلم تعدني، قال: يا رب، كيف
أعودك وأنت رب العالمين قال أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده أما علمت
أنك لو عدته لو جدتني عنده يا أبن آدم استطعمتك فلم تطعمني يقال يا رب كيف
أطعمك وأنت رب العالمين قال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه
أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي يا بن آدم استسقيتك فلم تسقني
قال يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين قال استسقاك عبدي فلان فلم تسقه
أما أنك لو سقيته وجدت ذلك عندي انتهى واللفظ لصحيح مسلم قال أبن
العربي وهذا كله خرج مخرج التشريف لمن كني عنه وترغيبا لمن خوطب انتهى
486

وقوله حسنا معناه تطيب فيه النية ويشبه أيضا أن تكون إشارة إلى كثرته
وجودته
وهذه الأضعاف الكثيرة إلى السبع مائة التي رويت ويعطيها مثال السنبلة
ت والحق الذي لاشك فيه وجوب الإيمان بما ذكر المولى سبحانه ولا
سبيل إلى التحديد إلا أن يثبت في ذلك حديث صحيح فيصار إليه وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم
فيما خرجه مسلم والبخاري أنظره عند قوله تعالى كمثل حبة
قال ع روي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب منه أن يسعر بسبب غلاء خيف على المدينة
فقال أن الله هو الباسط القابض وأني لأرجو أن القي الله ولا يتبعني أحد بمظلمة في
نفس ولا مال قال صاحب سلاح المؤمن عند شرحه لاسمه تعالى القابض
الباسط قال بعض العلماء يجب أن يقرن بين هذين الاسمين ولا يفصل بينهما ليكون
أنبأ عن القدرة وأدل على الحكمة كقوله تعالى والله يقبض ويبسط وإذا قلت
القابض مفردا فكأنك قصرت بالصفة على المنع والحرمان وإذا جمعت أثبتت الصفتين
وكذلك القول في الخافض والرافع والمعز والمذل انتهى وما ذكره عن بعض العلماء
هو كلام الإمام الفخر في شرحه لأسماء الله الحسنى ولفظه القابض والباسط الأحسن
487

في هذين الاسمين أن يقرن أحدهما في الذكر بالآخر ليكون ذلك أدل على القدرة
والحكمة ولهذا السبب قال الله تعالى والله يقبض ويبسط وإذا ذكرت القابض
منفردا عن الباسط كنت قد وصفته بالمنع والحرمان وذلك غير جائز وقوله المعز
المذل وقد عرفت أنه يجب في أمثال هذين ذكر كل واحد منها مع الآخر انتهى
قوله تعالى تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الآية هذه
الآية خبر عن قوم من بني إسرائيل نالتهم ذلة وغلبة عدو فطلبوا الاذن في الجهاد وأن
يؤمروا به فلما أمروا كع أكثرهم وصبر الأقل فنصرهم الله وفي هذا كله مثال
للمؤمنين ليحذروا المكروه منه ويقتدوا بالحسن
والملأ في هذه الآية جميع القوم لان المعنى يقتضيه وهو أصل اللفظة
ويسمى الأشراف الملأ تشبيها ومن بعد موسى معناه من بعد موته وانقضاء
مدته
وقوله تعالى (لهم قال ابن إسحاق وغيره هو شمويل بن بابل
وقال السدي هو شمعون وكانت بنو إسرائيل تغلب من حاربها وروي انها
488

كانت تضع التابوت الذي فيه السكينة والبقية في مأزق الحرب فلا تزال تغلب حتى
عصت وظهرت فيهم الأحداث وخالف ملوكهم الأنبياء واتبعوا الشهوات وقد كان الله
تعالى أقام أمورهم بان يكون أنبياؤهم يسددون ما ملوكهم فلما فعلوا ما ذكرناه سلط الله
عليهم أمما من الكفرة فغلبوهم وأخذ لهم التابوت في بعض الحروب فذل أمرهم
وقال السدي كان الغالب لهم جالوت وهو من العمالقة فلما رأوا أنه
الاصطلام وذهاب الذكر أنف بعضهم وتكلموا في أمرهم حتى أجتمع ملأهم على
أن قالوا لنبي الوقت ابعث لنا ملكا الآية وإنما طلبوا ملكا يقوم بأمر القتال
وكانت المملكة في سبط من أسباط بني إسرائيل يقال لهم بنو يهوذا فعلم النبي بالوحي
أنه ليس في بيت المملكة من يقوم بأمر الحرب ويسر الله لذلك طالوت وقرأ جمهور
الناس نقاتل بالنون وجزم اللام على جواب الامر وأراد النبي المذكور عليه
السلام أن يتوثق منهم فوقفهم على جهة التقرير وسبر ما عندهم بقوله هل
عسيتم ومعنى هذه المقالة هل أنتم قريب من التولي والفرار أن كتب عليكم القتال
ص لنبي متعلق بقالوا واللام معناها التبليغ انتهى
ثم أخبر تعالى أنه لما فرض عليهم القتال تولوا أي اضطربت نياتهم وفترت
عزائمهم إلا قليلا منهم وهذا شان الأمم المتنعمة المائلة إلى الدعة تتمنى الحرب أوقات
السعة فإذا حضرت الحرب كعت وعن هذا المعنى نهى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا تتمنوا
لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا
ثم توعد سبحانه الظالمين في لفظ الخبر بقوله والله عليم بالظالمين
وقوله تعالى لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا الآية قال
وهب بن منبه
489

وكان طالوت رجلا دباغا وقال السدي سقاء وكان من سبط بنيامين وكان سبطا
لا نبوءة فيه ولا ملك ثم إن بني إسرائيل تعنتوا وحادوا عن أمر الله وجروا على
سننهم فقالوا أني يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من
المال أي لم يؤت مالا واسعا يجمع به نفوس الرجال ويغلب به أهل الأنفة
قال ع وترك القوم السبب الأقوى وهو قدر الله وقضاؤه السابق وأنه
مالك الملك فاحتج عليهم نبيهم بالحجة القاطعة وبين لهم مع ذلك تعليل اصطفاء
طالوت ببسطته لا في العلم وهو ملاك الانسان والجسم الذي هو معينه في الحرب وعدته
عند اللقاء واصطفى مأخوذ من الصفوة والجمهور على أن العلم في هذه الآية يراد به
العموم في المعارف وقيل المراد علم الحرب وأما جسمه فقال وهب بن منبه أن
أطول رجل في بني إسرائيل كان يبلغ منكب طالوت
ت قال أبو عبيد الهروي قوله وزاده بسطة في العلم والجسم أي
انبساطا أن وتوسعا في العلم وطولا وتماما في الجسم انتهى من شرحه لغريبي القرآن
وأحاديث النبي عليه السلام
ولما علم نبيهم عليه السلام تعنتهم وجدالهم تمم كلامه بالقطع الذي لا اعتراض
عليه وهو قوله والله يؤتي ملكه من يشاء وظاهر اللفظ أنه من قول نبيهم عليه
السلام وذهب بعض المتأولين إلى أنه من قول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر
وواسع معناه وسعت قدرته وعلمه كل شئ وأما قول النبي لهم أن آية
ملكه فإن الطبري ذهب إلى أن بني إسرائيل تعنتوا وقالوا لنبيهم وما آية ملك طالوت
وذلك على جهة سؤال الدلالة على صدقه في قوله إن الله بعثه
قال ع ويحتمل أن نبيهم قال لهم ذلك على جهة التغليظ والتنبيه على هذه النعمة
التي قرنها بملك طالوت دون تكذيب منهم لنبيهم وهذا عندي أظهر من لفظ الآية وتأويل
الطبري أشبه بأخلاق بني إسرائيل الذميمة فإنهم أهل تكذيب وتعنت واعوجاج
490

وقد حكى الطبري معناه عن ابن عباس وغيره
واختلف في كيفية إتيان التابوت فقال وهب لما صار التابوت عند القوم الذين
غلبوا بني إسرائيل وضعوه في كنيسة لهم فيها أصنام فكانت الأصنام تصبح منكسة
فجعلوه في قرية قوم فأصاب أولئك القوم أوجاع فقالوا ما هذا الا لهذا التابوت
فلنرده إلى بني إسرائيل فأخذوا عجلة فجعلوا التابوت عليها وربطوها ببقرتين
فأرسلوهما في الأرض نحو بلاد بني إسرائيل فبعث الله ملائكة تسوق البقرتين حتى
دخلتا به على بني إسرائيل وهم في أمر طالوت فأيقنوا قال بالنصر
وقال قتادة والربيع كان هذا التابوت مما تركه موسى عند يوشع فجعله يوشع في
البرية ومرت عليه الدهور حتى جاء وقت طالوت فحملته الملائكة في الهواء حتى
وضعته بينهم فاستوثقت بنو إسرائيل عند ذلك على طالوت وقيل غير هذا والله أعلم
وقوله تعالى سكينة من ربكم الآية قال ابن عباس السكينة طست من
ذهب من الجنة وقال مجاهد السكينة لها رأس كراس الهرة وجناحان وذنب
وقال عطاء السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها وقال قتادة سكينة
من ربكم أي وقار لكم من ربكم
قال ع والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم
عن تسكن إلى ذلك النفوس وتأنس به ثم قرر تعالى أن مجئ التابوت آية لهم أن كانوا
491

ممن يؤمن ويبصر
ت وهذا يؤيد تأويل الطبري المتقدم
وقوله تعالى فصل طالوت بالجنود " من أي لما اتفق ملأهم على
تمليك طالوت وفصل بهم أي خرج بهم من القطر وفصل حال السفر من حال
الإقامة
قال السدي وغيره وكانوا ثمانين ألفا قال أن الله مبتليكم بنهر أي
مختبركم فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع فيما عدا ذلك ومن غلبته
شهوته في الماء وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى ورخص للمطيعين في
الغرفة ليرتفع عنهم اذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال
ت ولقد أحسن من شبه الدنيا بنهر طالوت فمن اغترف منها غرفة بيد الزهد
واقبل على ما يعنيه من أمر آخرته نجا ومن أكب عليها صدته عن التأهب لآخرته
وقلت سلامته إلا أن يتداركه الله
قال ابن عباس وهذا النهر بين الأردن وفلسطين وقال أيضا هو نهر
فلسطين
492

قال ع وظاهر قول طالوت إن الله مبتليكم أنه بإخبار من النبي لطالوت
ويحتمل أن يكون هذا مما الهم الله إليه طالوت فجرب به جنده وهذا النزعة واجب أن
تقع من كل متولي حرب فليس يحارب إلا بالجند المطيع وبين أن الغرفة كافة ضرر
العطش عند الحزمة الصابرين على شظف العيش الذين هم في غير الرفاهية وقوله
فليس منى أي ليس من أصحابي في هذه الحرب ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان
ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا فليس منا ومن رمانا بالنبل
493

فليس منا وليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود
وفي قوله ومن لم يطعمه سد الذرائع لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم
494

فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم ولهذه المبالغة
لم يأت الكلام ومن لم يشرب منه
ص إلا من أغترف غرفة بيده استثناء من الجملة الأولى وهو قوله
فمن شرب منه فليس مني أي إلا من اغترف غرفة بيده دون الكرع فهو مني
والاستثناء إذا تعقب جملتين فأكثر أمكن عوده إلى كل منها فقيل يعد على الأخير
في وقيل إلى الجميع
وقال أبو البقاء إن شئت جعلته من من الأولى وإن شئت من من الثانية
وتعقب بأنه لو كان استثناء من الثانية وهي ومن لم يطعمه فإنه مني للزم أن
يكون من اغترف غرفة ليس منه لأن الاستثناء من الإثبات نفي من النفي إثبات
على الصحيح وليس كذلك لأنه أبيح لهم الاغتراف والظاهر عوده إلى الأولى
والجملة الثانية مفهومة من الأولى لأنه حين ذكر أن من شربه فليس منه فهم من ذلك
أن من لم يشرب منه فإنه منه انتهى
ثم أخبر تعالى أن الأكثر شرب خالف ما أريد منه روي عن ابن عباس وغيره
أن القوم شربوا على قدر يقينهم فشرب الكفار شرب إليهم وشرب العاصون دون ذلك
وأنصرف من القوم ستة وسبعون ألفا وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا وأخذ بعضهم
الغرفة فاما من شرب فلم يرو بل برح به العطش وأما من ترك الماء فحسنت حاله
495

وكان أجلد ممن أخذ الغرفة
وقوله تعالى جاوزه هو والذين آمنوا معه " الآية أكثر المفسرين على أنه
إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة ومن لم يشرب جملة ثم كانت بصائر هؤلاء
مختلفة فبعض كع وقليل صمم وهم عدة أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا
وقوله تعالى لا طاقة "
بن قال ابن عباس قال كثير من الأربعة الآلاف الباقية مع طالوت الذين جاوزوا النهر
لا طاقة لنا على جهة الفشل والفزع من الموت وانصرفوا عن طالوت فقال
المؤمنون الموقنون بالبعث والرجوع إلى الله تعالى وهم عدة أهل بدر كم من فئة
والظن على هذا القول اليقين والفئة الجماعة التي يرجع إليها في الشدائد وفي قولهم
رضي الله عنهم كم من فئة الآية تحريض هذه بالمثال وحض واستشعار للصبر
واقتداء بمن صدق ربه والله مع الصابرين بنصره وتأييده
وقوله تعالى برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا " الآية
برزوا معناه صاروا في البراز وهو الأفيح من الأرض المتسع والإفراغ أعظم
الصب وكان جالوت أمير العمالقة وملكهم وروي في قصة داود وقتله جالوت أن
أصحاب طالوت كان فيهم أخوة داود وهم بنو سنة أيش وكان داود صغيرا يرعى غنما لأبيه
فلما حضرت الحرب قال في نفسه لأذهبن لرؤية هذه الحرب فلما نهض مر في طريقه
بحجر فناداه يا داود خذني فبي تقتل جالوت ثم ناداه حجر آخر ثم أخر ثم أخر
فأخذها وجعلها في مخلاته وسار فلما حضر البأس خرج جالوت يطلب مبارزا فكع
الناس عنه حتى قال طالوت من برز له ويقتله فأنا أزوجه ابنتي وأحكمه في مالي
فجاء داود فقال أنا أبرز له واقتله فقال له طالوت فأركب فرسي وخذ سلاحي
ففعل وخرج في أحسن شكة فلما مشى قليلا رجع فقال الناس جبن الفتى فقال
داود إن الله سبحانه إن لم يقتله لي ويعينني عليه لم ينفعني هذا الفرس ولا هذا
السلاح ولكني أحب أن أقاتله على عادتي قال وكان داود من أرمى الناس بالمقلاع
فنزل وأخذ مخلاته فتقلدها وأخذ مقلاعه فخرج إلى جالوت وهو شاك في
السلاح فقال له جالوت أنت يا فتى تخرج إلى قال نعم قال هكذا كما
496

يخرج إلى الكلب قال نعم وأنت أهون قال لأطعمن اليوم لحمك الطير والسباع
ثم تدانيا فأدار داود مقلاعه وأدخل يلده إلى الحجارة فروي أنها التأمت فصارت
واحدا فأخذه ووضعه في المقلاع وسمى الله وأداره ورماه فأصاب به رأس
جالوت فقتله وحز رأسه وجعله في مخلاته واختلط الناس وحمل أصحاب طالوت
وكانت الهزيمة ثم إن داود جاء يطلب شرطه من طالوت فقال له إن بنات الملوك لهن
غرائب من المهر لا بد لك من قتل مائتين من هؤلاء الجراجمة الذين يؤذون الناس
وتجيئني بغلفهم وطمع طالوت أن يعرض داود للقتل بهذه النزعة فقتل داود منهم
مائتين وجاء بذلك وطلب امرأته فدفعها إليه طالوت وعظم أمر داود فيروى أن
طالوت تخلى له عن الملك وصار هو الملك وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية
وذلك كله لين الأسانيد فلذلك انتقيت منه ما تنفك به الآية ويعلم به مناقل النازلة
وأما الحكمة التي آتاه الله فهي النبوءة والزبور وعلمه سبحانه صنعة الدروع
ومنطق الطير وغير ذلك من أنواع علمه صلى الله على نبينا وعليه
وقوله تعالى دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض " الآية
أخبر الله سبحانه في هذه الآية أنه لولا دفعه بالمؤمنين في صدور الكفرة على مر الدهر
لفسدت الأرض لأن الكفر كان يطبقها ولكنه سبحانه لا يخلي الزمان من قائم بحق
وداع إلى الله إلى أن جعل ذلك في أمة محمد إلى قيام الساعة له الحمد كثيرا
ص ولكن استدراك بإثبات الفضل لله سبحانه على جميع العالمين لما
يتوهمه من يريد الفساد أن الله غير متفضل عليه إذ لم يبلغه مقاصده واحتيج إلى هذا
التقدير لأن لكن تكون بين متنافيين بوجه ما انتهى
والإشارة بتلك إلى ما سلف من القصص والأنباء وفي هذه القصة بجملتها
مثال عظيم للمؤمنين ومعتبر وقد كان أصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم معدين لحرب الكفار فلهم
في هذه النازلة معتبر يقتضي تقوية النفوس والثقة بالله سبحانه وغير ذلك من وجوه
العبر
497

قوله سبحانه الرسل فضلنا بعضهم على بعض " الآية تلك رفع
بالابتداء والرسل خبره ويجوز أن يكون الرسل عطف بيان وفضلنا الخبر
وتلك إشارة إلى جماعة ونص الله سبحانه في هذه الآية على تفضيل بعض النبيين
على بعض من غير تعيين
وقوله تعالى ورفع بعضهم درجات
قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الناس كافة
وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد قبله وهو أعظم الناس أمة وختم الله به النبوءات
إلى غير ذلك مما أعطاه من الخلق العظيم ومن معجزاته وباهر آياته ويحتمل اللفظ أن
يراد به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره ممن عظمت آياته وبينات عيسى عليه السلام أحياء
الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وخلق الطير من الطين وروح القدس جبريل عليه
السلام وقد تقدم ما قال العلماء فيه
وقوله تعالى شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم " الآية معنى الآية ولو
شاء الله ما اقتتل الناس بعد كل نبي فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى
حطام الدنيا وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله سبحانه ولو شاء الله خلاف ذلك
لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك وهو الفعال لما يريد سبحانه
ص ولو شاء الله ما اقتتل قيل في الكلام حذف أي فاختلف أممهم
فاقتتلوا ولو شاء الله فمفعول شاء محذوف أي أن لا يقتتلوا انتهى
وقوله اقتتلوا " أي بأن قاتل المؤمنون الكافرين على مر الدهر وذلك هو
498

دفاع الله الناس بعضهم
ببعض قوله تعالى أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم " الآية قال ابن جريج هذه
الآية تجمع الزكاة والتطوع أي وجميع وجوه البر من سبيل وصله رحم وهذا كلام
صحيح لكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال رجح أن هذه النفقة في سبيل الله ويقوي
ذلك قوله هم الظالمون " أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال
مما رزقناكم وهذا غاية الأنعام والتفضل منه سبحانه أن رزق ثم ندب للنفقة مما به
أنعم وحذر سبحانه من الإمساك إلى أن يأتي يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا
استدراك نفقة في ذات الله تعالى إذ هي مبايعة إذ البيع فدية لأن المرء قد يشتري نفسه
ومراده بماله فكان معنى الآية أن لا فدية يوم القيامة ولا خلة نافعة وأهل التقوى في
ذلك اليوم بينهم خلة ولكنه غير محتاج إليها
ت وفي قوله غير محتاج إليها قلق ولا شفاعة يومئذ إلا لمن أذن له
سبحانه فالمنفي مثل حال الدنيا من البيع والخلة والشفاعة بغير إذن المشفوع عنده
قال عطاء بن دينار الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ولم يقل
والظالمون هم الكافرون
وقوله تعالى لا إله إلا هو الحي القيوم " الآية هذه الآية سيدة آي
القرآن وورد في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن وورد أن من قرأها أول ليلة لم
يقربه شيطان وكذلك من قرأها أول نهاره وهي متضمنة التوحيد والصفات العلى
499

وعن أنس بن مالك قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة ما منعك أن تسمعي ما أوصيتك به
تقولين إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني
كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين رواه النسائي واللفظ له والحاكم في المستدرك
على الصحيحين وقال صحيح على شرط الشيخين يعني البخاري ومسلما انتهى من
السلاح
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل به هم أو غم قال يا حي يا قيوم
برحمتك استغيث رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الإسناد ورواه الترمذي
من حديث انس والنسائي من حديث ربيعة بن عامر انتهى من السلاح
والله مبتدأ لا إله مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود
وقيوم بناء مبالغة أي هو القائم على كل نفس بما كسبت بهذا المعنى فسره مجاهد
والربيع والضحاك ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة أو نوم وفي لفظ الأخذ غلبة
500

ما فذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي والسنة بدء النعاس وليس يفقد معه كل
الذهن والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن والمراد بالآية التنزيه أنه سبحانه لا
تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال فجعلت هذه مثالا لذلك وأقيم هذا
المذكور من الآفات مقام الجميع وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى ولا تقل
لهما أف
ت وبيانه أنه إذا حرم التأفيف فأحرى ما فوقه من الشتم والضرب في حق
الأبوين وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر
قال وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فارقه ثلاثا ثم
أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره بأن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه
تلتقيان ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يحيى يداه
فانكسرت القارورتان قال ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تستمسك السماء
والأرض
وقوله تعالى ما في السماوات وما في الأرض " أي بالملك فهو مالك
الجميع وربه ثم قرر وقف تعالى من يتعاطى أن يشفع إلا بإذنه أي بأمره
ص من ذا الذي يشفع عنده من مبتدأ وهو استفهام معناه النفي
ولذا دخلت إلا في قوله إلا بإذنه والخبر ذا والذي نعت لذا أو بدل منه
وهذا على أن ذا اسم إشارة وفيه بعد لأن الجملة لم تستقل بمن مع ذا ولو كان
خبرا لاستقل ولم يحتج إلى الموصول فالأولى أن من ركبت مع ذا للاستفهام
انتهى
501

قال مجاهد وغيره ما بين أيديهم الدنيا وما خلفهم الآخرة وهذا
صحيح في نفسه عند موت الانسان لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الانسان وما خلفه
هو كل ما يأتي بعده ولا يحيطون بشئ من علمه أي من معلوماته لأن علم الله
تعالى لا يتبعض ومعنى الآية لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه قال ابن عباس
كرسيه علمه الطبري ومنه الكراسة
قال ع والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي
العرش والعرش أعظم منه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما السماوات السبع في الكرسي إلا
كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقال أبو ذر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما الكرسي في
العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض وهذه الآية منبئة عن عظم
مخلوقا الله سبحانه والمستفاد من ذلك عظم قدرته جل وعلا إذ لا يؤده حفظ
هذه المخلوقات العظيمة ولا يؤده معناه لا يثقله ولا يشق عليه وهو تفسير ابن
عباس وغيره والعلي يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه
منزه عن التحيز وكذا العظيم هو صفة بمعنى عظم القدر والخطر لا على معنى
عظم الأجرام ومن سلاح المؤمن قال وعن أبي إمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت رواه
النسائي عن الحسين بن بشر
502

عن محمد بن حمير عن محمد بن زياد الألهاني عن أبي إمامة فأما الحسين فقال
فيه النسائي لا بأس به وقال في موضع آخر ثقة وقال أبو حاتم شيخ وأما
المحمدان فاحتج بهما البخاري في صحيحه وقد أخرج شيخنا الحافظ أبو محمد
الدمياطي رحمه الله الحديث في بعض تصانيفه من حديث أبي إمامة وعلي
وعبد الله بن عمر والمغيرة وجابر وأنس قال وإذا ضمت هذه الأحاديث بعضها إلى
بعض أخذت قوة انتهى من السلاح
وقد أخرج البخاري والنسائي من حديث أبي هريرة في قصته مع الشيطان وأخذه
الطعام ما هو معلوم من فضل هذه الآية
وفيه أنه إذا قرأتها حين تأوى إلى فراشك لم يزل عليك من الله حافظ ولا يقربك
شيطان حتى تصبح وخرجه الترمذي من حديث أبي أيوب في قصته مع الغول نحو
حديث أبي هريرة قال الغزالي ما معناه إنما وصفت بكونها سيدة أي القرآن لاشتمالها
على اسم الله الأعظم وهو الحي القيوم قاله في الجواهر وأسند صاحب غاية المغنم
503

في اسم الله الأعظم عن غالب القطان قال مكثت عشر سنين ادعو الله أن يعلمني
اسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأتاني الرحمن آت في منامي ثلاث ليال
متواليات يقول يا غالب قل يا فارج الهم ويا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفيا
بالعهد يا منجزا للوعد يا حي يا قيوم لا اله الا أنت انتهى من غاية المغنم
وقوله تعالى اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي الدين في هذه الآية
هو المعتقد والملة ومقتضى قول زيد ابن أسلم ان هذه الآية مكية وانها من آيات
الموادعة التي نسختها آية السيف وقال قتادة والضحاك بن مزاحم هذه الآية محكمة
خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية وقوله تعالى تبين الرشد من الغي
معناه بنصب الأدلة ووجود الرسول صلى الله عليه وسلم الداعي إلى الله والآيات المنيرة والرشد
مصدر من قولك رشد بكسر الشين وضمها يرشد رشدا ورشدا ورشادا والغي
مصدر من غوى يغوى إذا ضل في معتقد أو رأي ولا يقال الغي في الضلال على
الإطلاق والطاغوت بناء مبالغة من طغى يطغي واختلف في معنى الطاغوت فقال
عمر بن الخطاب وغيره هو الشيطان وقيل هو الساحر وقيل الكاهن وقيل
الأصنام وقال بعض العلماء كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت
504

ع وهذه تسمية صحيحة في كل معبود يرضى ذلك كفرعون ونمروذ وأما
من لا يرضى ذلك فسمي طاغوتا في حق العبدة قال مجاهد العروة الوثقى
الإيمان وقال السدي الاسلام وقال ابن جبير وغيره لا إله إلا الله
قال ع وهذه عبارات ترجع إلى معنى واحد
والانفصام الانكسار من غير بينونة وقد يجئ بمعنى البينونة والقصم كسر
بالبينونة
ت وفي الموطأ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الوحي يأتيني أحيانا في مثل
صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت قال أبو عمر في
التمهيد قوله فيفصم عني معناه ينفرج عني ويذهب كما تفصم الخلخال إذا
فتحته لتخرجه من الرجل وكل عقدة حللتها فقد فصمتها قال الله عز وجل فقد
استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها وانفصام العروة أن تنفك عن موضعها واصل
الفصم عند العرب أن تفك الخلخال ولا يبين كسره فإذا كسرته فقد قصمته بالقاف
انتهى
505

ولما كان الإيمان مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب حسن في الصفات
سميع من أجل النطق وعليم من أجل المعتقد
قوله سبحانه ولي الذين آمنوا " الآية الولي من ولي فإذا لازم أحدا
أحدا بنصره ووده واهتباله وكان فهو وليه هذا عرفه لفة ولفظ اية مترتب في الناس
جميعا وذلك أن من آمن منهم فالله وليه أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ومن
كفر بعد وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فشيطانه ومغويه أخرجه من الإيمان إذ هو معد وأهل للدخول
فيه ولفظ الطاغوت في هذه الآية يقتضي أنه اسم جنس ولذلك قال أولياؤهم
بالجمع إذ هي أنواع
قوله تعالى تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه " الآية ألم تر تنبيه
وهي رؤية القلب والذي حاج إبراهيم هو نمروذ بن كنعان ملك زمانه وصاحب
النار والبعوضة قاله مجاهد وغيره قال قتادة هو أول من تجبر وهو صاحب
الصرح ببابل قيل أنه ملك الدنيا بأجمعها وهو أحد الكافرين والآخر بخت
نصر وقيل أن النمروذ الذي حاج إبراهيم هو نمرود بن فالخ وفي قصص هذه
506

المحاجة روايتان
إحداهما ذكر زيد بن أسلم أن النمروذ هذا قعد يأمر للناس بالميرة فكلما جاء
قوم قال من ربكم وإلهكم فيقولون أنت فيقول ميروهم وجاء إبراهيم عليه
السلام يمتار فقال له من ربك وإلهك قال إبراهيم ربي الذي يحي ويميت فلما
سمعها نمروذ قال أنا أحي وأميت فعارضه إبراهيم بأمر الشمس فبهت الذي كفر
وقال لا تميروه فرجع إبراهيم إلى أهله دون شئ فمر على كثيب رمل كالدقيق
فقال لو ملأت غرارتي من هذا فإذا دخلت به فرح الصبيان حتى أنظر لهما فذهب
بذلك فلما بلغ منزله فرح الصبيان وجعلا يلعبان فوق الغرارتين ونام هو من الإعياء
فقالت امرأته لو صنعت له طعاما يجده حاضرا إذا انتبه ففتحت إحدى الغرارتين
فوجدت أحسن ما يكون من الحوارى فخبرته فلما قام وضعته بين يديه فقال من أين
هذا قالت من الدقيق الذي سقت فعلم إبراهيم أن الله يسر لهم ذلك
وقال الربيع وغيره في هذا القصص أن النمروذ لما قال أنا أحي وأميت
أحضر رجلين فقتل أحدهما وأرسل الآخر وقال قد أحييت هذا وأمت هذا فرد
عليه إبراهيم بأمر الشمس
والرواية الأخرى ذكر السيد أنه لما خرج إبراهيم من النار وأدخل على الملك
قال له من ربك قال ربي الذي يحي ويميت
يقال بهت الرجل إذا انقطع وقامت عليه الحجة
507

وقوله تعالى لا يهدي القوم الظالمين " إخبار لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته والمعنى
لا يرشدهم في حججهم على ظلمهم وظاهر اللفظ العموم ومعناه الخصوص لان الله
سبحانه قد يهدى بعض الظالمين بالتوبة والرجوع إلى الإيمان
قوله تعالى كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها " الآية عطفت
أو في هذه الآية على المعنى الذي هو التعجب في قوله ألم تر إلى الذي حاج
قال ابن عباس وغيره الذي مر على القرية هو عزير وقال وهب بن منبه
وغيره هو إرميا قال ابن إسحاق إرميا هو الخضر وحكاه النقاش عن وهب بن
منبه
واختلف في القرية ما هي فقيل المؤتفكة روى وقال زيد بن أسلم قرية الذين
خرجوا من ديارهم وهم ألوف وقال وهب بن منبه وقتادة والضحاك والربيع
وعكرمة هي بيت المقدس لما خربها بخت نصر البابلي والعريش سقف البيت
قال السدي يقول هي ساقطه على سقفها أي سقطت السقف ثم سقطت الحيطان
عليها وقال غيره معناه خاوية من الناس وخاوية معناه خالية يقال خوت الدار
تخوي خواء وخويا ويقال خويت قال الطبري والأول أفصح قال ص
508

وهي خاوية في موضع الحال من فاعل مراو ولم من قرية وعلى عروشها قيل
على بابها والمعنى خاوية من أهلها ثابته على عروشها والبيوت قائمة والمجرور على
هذا يتعلق بمحذوف وهو ثابتة وقيل يتعلق بخاوية والمعنى وقعت جدرانها على
سقوفها بعد سقوط السقوف انتهى وقد زدنا هذا المعنى وضوحا في سورة الكهف والله
الموفق بفضله
وقوله أنى يحيي هذه الله بعد موتها ظاهر اللفظ السؤال عن احياء القرية
بعمارة أو سكان فكان هذا تلهف من الواقف المعتبر على مدينة أحبته ويحتمل أن يكون
سؤاله انما كان عن احياء الموتى فضرب له المثل في نفسه وحكى الطبري عن
بعضهم ان هذا القول منه شك في قدرة الله على الاحياء قال ع والصواب أن لا
يتأول في الآية شك وروي في قصص هذه الآية ان بني إسرائيل لما أحدثوا الأحداث
بعث الله عليهم بخت نصر فقتلهم وجلاهم من بيت المقدس وخربه فلما ذهب عنه
جاء عزير أو إرميا فوقف على المدينة معتبرا فقال أنى يحي هذه الله بعد موتها
فأماته الله تعالى وكان معه حمار قد ربطه بحبل جديد وكان معه سلة فيها تين هو
طعامه وقيل تين وعنب وكانت معه ركوة من خمر وقيل من عصير وقيل قلة
من خماء هي شرابه وبقي ميتا مائة عام فروي أنه بلي وتفرقت عظامه هو وحماره وروي
أن الحمار بلي وتفرقت أوصاله دون عزير
وقوله تعالى بعثه " معناه أحياه فسأله الله تعالى بوساطة الملك كم
لبثت على جهة التقرير فقال لبثت يوما أبو بعض يوم قال ابن جريج وقتادة
والربيع أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قرب الغروب فظن هو اليوم واحدا فقال لبثت
يوما ثم رأى بقية من الشمس فخشي أن يكون كاذبا فقال أو بعض يوم فقيل له
بل لبثت مائة عام
وقوله تعالى فأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه أي لم يتغير
509

ت قال البخاري في جامعة يتسنه يتغير
وأما قوله تعالى أهل إلى حمارك فقال وهب بن منبه وغيره المعنى انظر
إلى اتصال عظامه وأحيائه جزءا جزءا ويروى أنه أحياه الله كذلك حتى صار عظاما
ملتئمة ثم كساه لحما حتى كمل حمارا ثم جاء ملك فنفخ في أنفه الروح فقام
الحمار ينهق
وروي عن الضحاك ووهب بن منبه أيضا أنهما قالا بل قيل له وانظر إلى
حمارك قائما في مربطه لم يصبه شئ مائة سنة قالا وإنما العظام التي نظر إليها عظام
نفسه وأعمى الله العيون عنه وعن حماره طول هذه المدة وكثر أهل القصص في
صورة هذه النازلة تكثيرا اختصرته لعدم صحته
وقوله تعالى آية للناس " قال ع وفي إماتته هذه المدة ثم
إحيائه أعظم آية وأمره كله آية للناس غابر الدهر
قال ابن هشام لا يصح انتصاب مائة بإماتته حديث لأن الإماتة سلب
الحياة وهي لا تمتد وإنما الوجه أن يضمن أماته معنى ألبثه فكأنه قيل فألبثه عند الله
بالموت مائة عام وحينئذ يتعلق به الظرف انتهى من المغنى
ومعنى ننشرها أي نحييها وقرأ حمزة وغيره ننشزها ومعناه نرفعها
أي ارتفاعا قليلا قليلا فكأنه وقف على نبات العظام الرفات وقال النقاش ننشزها
معناه ننبتها لأنه ومن ذلك نشز ناب البعير
510

وقوله تعالى تبين له قال أعلم " أخبرنا قال هو أعلم أن الله على كل
شئ قدير وهذا عندي ليس بإقرار بما كان قبل ينكره كما زعم الطبري بل هو قول
بعثه الاعتبار كما يقول الانسان المؤمن إذا رأى شيئا غريبا من قدرة الله لا إله إلا الله
ونحو هذا
وأما قراءة حمزة والكسائي قال اعلم موصولة الألف ساكنة الميم فتحتمل
وجهين
أحدهما قال الملك له أعلم وقد قرأ ابن مسعود والأعمش قيل أعلم
والوجه الثاني أن ينزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي المنفصل أي قال لنفسه
أعلم وأمثلة هذا كثيرة
قوله تعالى قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولو تؤمن قال
بلى " الآية قال جمهور العلماء أن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا في إحياء
الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم نحن أحق بالشك من
إبراهيم فمعناه أن لو كان شك لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه
511

السلام أحرى أن لا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم والذي روي فيه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك محض الإيمان إنما هو في الخواطر الجارية التي لا تثبت
وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك هو المنفي عن
الخليل صلى الله عليه وسلم
وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم أعلم بذلك يدلك على ذلك
قوله ربي الذي يحي ويميت والشك يبعد على من ثبت قدمه في
512

الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوءة والخلة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر
التي فيها رذيلة إجماعا وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط
شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو عن حال شئ موجود ومتقرر الوجود عند
السائل والمسؤول نحو قولك كيف علم زيد وكيف نسج الثوب فكيف في هذه
الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء والإحياء متقرر ولما وجدنا بعض المنكرين
لوجود شئ قد يعبر عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشئ يعلم أنها لا تصح
فيلزم من ذلك أن الشئ في نفسه لا يصح مثال ذلك أن يقول مدع أنا أرفع هذا
الجبل فيقول المكذب كيف ترفعه فهذه طريقة مجاز في العبارة ومعناها تسليم
جدلي كأنه يقول أفرض أنك ترفعه أرني كيف فلما كان في عبارة الخليل صلى الله عليه وسلم هذا
الاشتراك المجازي خلص الله سبحانه ذلك وحمله على أن يبين الحقيقة فقال له
أولم تؤمن قال بلى فكمل الأمر وتخلص من كل شك ثم علل عليه السلام سؤاله
بالطمأنينة
ت قال الداودي وعن ابن جبير أولم تؤمن بالخلة قال مجاهد
والنخعي ولكن ليطمئن قلبي أي ازداد إيمانا إلى إيماني وعن قتادة لازداد
يقينا انتهى
قال ع وقوله تعالى تؤمن " معناه إيمانا مطلقا دخل فيه فصل
إحياء الموتى والواو واو حال دخلت عليها ألف التقرير وقال ص الهمزة في
أولم تؤمن للتقرير كقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك وكقوله
ألستم خير من ركب المطايا
513

أي قد شرحنا لك صدرك وأنتم خير
وقول أبن عطية الواو للحال دخلت عليها ألف التقرير متعقب والظاهر أن
التقرير منسحب على الجملة المنفية فقط وأن الواو للعطف انتهى
وليطمئن معناه ليسكن فطمأنينة القلب هي أن تسكن فكره في الشئ
المعتقد والفكر في صورة الإحياء غير محظورة كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها بل هي
فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فتذهب فكره في صورة الإحياء إذ حركه إلى
ذلك أما الدابة المأكولة في تأويل وأما قول النمروذ أنا أحي وأميت في تأويل آخر
وروي أن الأربعة التي أخذ إبراهيم عليه السلام هي الديك والطاوس والحمام
والغاب قاله مجاهد وغيره وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي فروي أنه أخذها
عليه السلام حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم
والريش ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل ووقف هو من حيث
يرى تلك الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال تعالين بإذن الله فتطايرت
تلك الأجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت كما كانت أولا
وبقيت بلا رؤوس ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها
وطارت بإذن الله تعالى وقوله تعالى فصرهن يقال صرت الشئ أصوره لو بمعنى قطعته يقال
أيضا صرت الشئ بمعنى أملته وقد تأول المفسرون اللفظة بمعنى التقطيع وبمعنى
الإمالة وقد قال ابن عباس وغيره في هذه الآية صرهن معناه قطعهن وقال
514

قتادة صرهن فصلهن وقال عطاء بن أبي رباح صرهن أضممهن يكون وقال ابن
زيد معناه اجمعهن وعن ابن عباس أيضا أوثقهن
وقرأ قوم فصرهن بضم الصاد وشد الراء كأنه يقول فشدهن ومنه صرة
الدنانير
قوله تعالى الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل
في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم " في الآية بيان شرف
النفقة في سبيل الله وتحسينها وضمنها التحريض على ذلك وهذه الآية في نفقة
التطوع وسبل الله كثيرة وهي جميع ما هو طاعة وعائد بمنفعة على المسلمين وعلى
الملة وأشهرها وأعظمها غناء الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا والحبة اسم جنس لكل
ما يزرعه ابن آدم وأشهر ذلك البر وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة وأما في
سائر الحبوب فأكثر وقد ورد القرآن بأن الحسنة بعشر أمثالها واقتضت الآية أن نفقة
515

الجهاد حسنتها بسبع مائة ضعف وبين ذلك الحديث الصحيح واختلف في معنى قوله
سبحانه يضاعف لمن يشاء " فقيل هي مبينة ومؤكدة لما تقدم من ذكر
السبع مائة وقالت طائفة من العلماء بل هو إعلام من الله تعالى بأنه يضاعف لمن يشاء
أكثر من سبعمائة ضعف
ت وأرجح الأقوال عندي قول هذه الطائفة وفي الحديث الصحيح عن ابن
عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال إن الله تعالى كتب
الحسنات والسيئات ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة
كاملة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف
كثيرة الحديث رواه مسلم والبخاري بهذه الحروف انتهى
وقال ابن عمر لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم رب زد أمتي فنزلت
ذا الذين يقرض الله قرضا حسنا " الآية فقال رب زد أمتي
فنزلت يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب "
وفي الآية حذف مضاف تقديره مثل إنفاق الذين وكمثل ذي حبة وقوله تعالى
ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " لما تقدم في الآية التي قبلها ذكر فضل الانفاق
في سبيل الله على العموم بين أن ذلك إنما هو لمن لم يتبع إنفاقه منا ولا أذى وذلك أن
المنفق في سبيل الله إنما يريد وجه الله تعالى ورجاء ثوابه وأما من أراد من المنفق عليه
جزاء بوجه من الوجوه فهذا لم يرد وجه الله تعلى وهذا هو الذي متى أخلفه ظنه من
بالإنفاق أذى إذ لم يكن إنفاقه مخلصا لوجه الله بالمن والأذى مبطلان للصدقة وهما
كاشفان لمقاصد المنفقين والمن ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها
والأذى السب والتشكي وهو أعم من المن لأن المن جزء من الأذى ولكنه نص
عليه لكثرة وقوعه وقال زيد بن أسلم لئن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه
تريد وجه الله فلا تسلم عليه قالت له امرأة يا أبا أسامة دلني على رجل يخرج
516

في سبيل الله حقا فإنهم إنما يخرجون ليأكلوا الفواكه فإن عندي أسهما وجعبة فقال
لها لا بارك الله في أسهمك مع وجعبتك فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم
وتضمن الله الأجر للمنفق في سبيل الله والأجر الجنة ونفي عنه الخوف لما
يستقبل والحزن على ما سلف من دنياه لأنه يغتبط بآخرته
ت وما جاء من صحيح الآثار في هذا الباب ما رواه مالك في الموطأ عن
ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة يا عبد الله هذا خير فمن
كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب
الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من بابا الصدقة ومن كان من أهل الصيام
دعي من باب الريان فقال أبو بكر يا رسول الله ما على من يدعى من هذه الأبواب من
ضرورة فهل يدعى أحدا من هذه الأبواب كلها قال نعم وأرجوا أن تكون منهم
قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في هذا الحديث من الفقه الحض
على الانفاق في سبيل الخير ومعنى زوجين أي شيئين من نوع واحد نحو درهمين أو
دينارين أو فرسين أو قميصين هكذا قال أهل العلم وفيه أن من أكثر من شئ
عرف به ونسب إليه ألا ترى إلى قوله فمن كان من أهل الصلاة يريد من أكثر
517

منها فنسب إليها لأن الجميع من أهل الصلاة وكذلك من أكثر من الجهاد ومن
الصيام على هذا المعنى والريان فعلان من الري ومعنى الدعاء من تلك الأبواب
اعطاؤه ثواب العاملين تلك الأعمال ونيله ذلك والله أعلم وفيه أن للجنة أبوابا
يعنى متعددة بحسب الأعمال انتهى
وروى ابن أبي شيبة في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أن لكل أهل عمل بابا من أبواب
الجنة يدعون فيه بذلك العمل هذا لفظه على ما نقله صاحب الكوكب الدري
انتهى
قوله تعالى في معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى هذا أخبار جزم
من الله تعالى " أن القول المعروف وهو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله خير من
صدقه هي في ظاهرها صدقة وفي باطنها لا شئ لأن ذلك القول المعروف فيه اجر
وهذه لا اجر فيها والمغفرة الستر للخلة وسوء حالة المحتاج ومن هذا قول الأعرابي
وقد سأل قوما بكلام فصيح فقال له قائل ممن الرجل فقال اللهم غفرا سوء
الاكتساب يمنع من الانتساب
وقال النقاش يقال معناه ومغفرة للسائل ان أغلظ أو جفا إذا حرم
ثم أخبر تعالى بغناه عن صدقة من هذه حاله وحلمه عن من يقع منه هذا وامهاله
وحدث الجوزي في صفوة الصفوة بسنده إلى حارثة بن النعمان
518

الصحابي رضي الله عنه قال لما كف بكر بصره جعل خيطا في مصلاه إلى باب حجرته
ووضع عنده مكتلا فيه تمر وغير ذلك فكان إذا سأل المسكين أخذ من ذلك التمر ثم
أخذ من ذلك الخيط حتى يأخذ إلى باب الحجرة فيناوله المسكين فكان أهله يقولون
نحن نكفيك فيقول سمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول إن مناولة المسكين تقى ميتة السوء
انتهى
وقوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى
العقيدة ان السيئات لا تبطل الحسنات فقال جمهور العلماء في هذه الآية ان الصدقة التي
يعلم الله من صاحبها انه يمن بها أو يؤذي فإنها لا تتقبل صدقة وقيل بل يجعل الله
للملك عليها امارة فهو لا يكتبها قال ع وهذا حسن لأن المان المؤذي لم
تكن نيته خالصة لله سبحانه فلم تترتب له صدقة فهذا هو البطلان بالمن والأذى وهما
لا يبطلان صدقة غيرها سالمة النية
ثم مثل الله سبحانه هذا الذي يمن ويؤذي بحسب مقدمة نيته بالذي ينفق رياء لا
لوجه الله والرياء مصدر من فاعل من الرؤية كان الرياء تظاهر وتفاخر بين من لا
خير فيه من الناس
قال المهدوي والتقدير كأبطال قد الذي ينفق رياء
وقوله تعالى يؤمن بالله واليوم الآخر يحتمل إن يريد الكافر أو المنافق إذ
كل منهما ينفق ليقال جواد ثم مثل سبحانه هذا المنفق رياء بصفوان وفي عليه تراب فيظنه
الظان أرضا منبتة طيبة كما يظن قوم أن صدقة هذا المرائي لها قدر أو معنى فإذا أصاب
الصفوان وابل من المطر انكشف ذلك التراب وبقي صلدا فكذلك هذا المرائي إذا
كان يوم القيامة وحضرت الأعمال انكشف سره وظهر أنه لا قدر لصدقاته كل ولا معنى
والصفوان الحجر الكبير الأملس والوابل الكثير القوي من المطر وهو الذي يسيل وجه
الأرض والصلد من الحجارة الأملس الصلب الذي لا شئ فيه ويستعار للرأس الذي لا
شعر فيه
وقوله تعالى يقدرون يريد الذين ينفقون رياء أي لا يقدرون على الانتفاع
519

بشئ من إنفاقهم ذلك وهو كسبهم
تعالى والله لا يهدى القوم الكافرين أما عموم يراد به الخصوص
ويحتمل لا يهديهم في كفرهم إذ هو ضلال محض ويحتمل لا يهديهم في صدقاتهم
وأعمالهم وهم على الكفر
وقوله تعالى الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله الآية من
أساليب فصاحة القرآن أنه يأتي فيه ذكر نقيض ما يتقدم ذكره ليتبين حال التضاد بعرضها
على الذهن ولما ذكر الله صدقات القوم الذين لا خلاق لصدقاتهم ونهى المؤمنين عن
مواقعة ما يشبه ذلك بوجه ما عقب في هذه الآية بذكر نفقات القوم الذين بذلوا صدقاتهم
على وجهها في الشرع فضرب لها مثلا وتقدير الكلام ومثل نفقة الذين ينفقون كمثل
غارس جنة أو تقدر الإضمار فئ اخر الكلام دون إضمار في أوله كأنه قال كمثل
غارس جنة وابتغاء معناه طلب وهو مصدر في موضع الحال وتثبيتا مصدر
ومرضات مصدر من رضي
وقال ص ابتغاء مرضات الله وتثبيتها كلاهما مفعول من اجله وقاله مكي
ورده ابن عطية بان ابتغاء لا يكون مفعولا من اجله لعطف وتثبيتا عليه ولا يصح
في تثبيت أن يكون مفعولا من أجله لأن الانفاق ليس من أجل التثبيت وأجيب بأنه
يمكن أن يقدر مفعول التثبيت الثواب أي وتحصيلا لأنفسهم الثواب على تلك النفقة
فيصح أن يكون مفعولا من أجله ثم قال أبو حيان بعد كلام والمعنى أنهم يثبتون من
أنفسهم على الإيمان وما يرجونه من الله تعالى بهذا العمل انتهى
520

قال قتادة وغيره وتثبيتا معناه وتيقنا أي أن نفوسهم لها بصائر متأكدة
فهي تثبتهم على الانفاق في طاعة الله تثبيتا وقال مجاهد والحسن معنى قوله
وتثبيتا أي انهم يتثبتون أين يضعون صدقاتهم
قال الحسن كان الرجل إذا هم تثبت فإن كان ذلك لله أمضاه وان خالطه شئ
أمسك
والقول الأول أصوب لأن هذا المعنى الذي ذهب إليه مجاهد والحسن إنما
عبارته وتثبتا فإن قال محتج أن هذا من المصادر التي خرجت على غير الصدر
كقوله تعالى وتبتل إليه تبتيلا والله أنبتكم من الأرض نباتا
فالجواب أن هذا لا يسوغ إلا مع ذكر الصدر والإفصاح بالفعل المتقدم للمصدر وأما
إذا لم يقع إفصاح بفعل فليس لك أن تأتي بمصدر في غير معناه ثم تقول أحمله على
فعل كذا وكذا لفعل لم يتقدم له ذكر هذا مهيع كلام العرب فيما علمت
والربوة ما ارتفع من الأرض ارتفاعا يسيرا معه في الأغلب كثافة التراب وطيبه
وتعمقه وما كان كذلك فنباته أحسن
ولفظ الربوة مأخوذ من ربا يربو إذا زاد وآتت معناه أعطت والأكل بضم
الهمزة الثمر الذي يؤكل والشئ المأكول من كل شئ يقال له أكل واضافته إلى
الجنة إضافة اختصاص كسرج الدابة وباب الدار وضعفين معناه اثنين مما يظن بها
ويحزر من مثلها
ثم أكد سبحانه مدح هذه الربوة بأنها إن لم يصبها وابل فإن الطل يكفيها وينوب
مناب الوابل وذلك لكرم الأرض والطل المستدق من القطر قاله ابن عباس وغيره
وهو مشهور اللغة فشبه سبحانه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم
كتربية الفلو
521

والفصيل حسب الحديث بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة وذلك كله بخلاف
الصفوان وفي قوله تعالى بما تعملون بصير وعد ووعيد
" فلا وقوله تعالى منه أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب الآية حكى
الطبري عن ابن زيد أنه قرأ قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم
بالمن ثم قال ضرب الله في ذلك مثلا فقال أيود
أحدكم الآية وهذا بين وهو مقتضى سياق الكلام وقال ابن عباس هذا مثل
ضربه الله كأنه قال أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير فإذا فني عمره
واقترب اجله ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء فرضي ذلك عمر منه رضي الله
عنه وروى ابن أبي مليكة عن عمر نحوه
ع فهذا نظر يحمل الآية على كل ما يدخل تحت ألفاظها وقال بنحو هذا
مجاهد وغيره ونقل الثعلبي عن الحسن قال قل والله من يعقل هذا المثل شيخ كبر
سنه وضعف جسمه وكثر عياله أفقر ما كان إلى جنته وأحدكم أفقر ما يكون إلى
عمله إذا انقطعت الدنيا عنه انتهى وهو حسن جدا
522

وقال أبو عبد الله اللخمي في مختصرة لتفسير الطبري وعن قتادة هذا مثل
فاعقلوا عن الله أمثاله هذا رجل كبرت سنه ورق عظمه وكثر عياله ثم احترقت جنته
أحوج ما يكون إليها يقول أيحب أحدكم أن يضل عنه عمله يوم القيامة أحوج ما يكون
إليه وعن الحسن نحوه انتهى
وخص الأعناب والنخيل بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر والواو في
قوله وأصابه واو الحال وكذلك في قوله وله ضعفاء جمع ضعيف
والإعصار الريح الشديدة العاصفة التي فيها إحراق لكل ما مرت عليه يكون ذلك في شدة
الحر ويكون في شدة البرد وكل ذلك من فيح جهنم
ولعلكم ترج في حق البشر أي إذا تأمل من بين له هذا البيان رجي له
التفكر وكان أهلا له وقال ابن عباس تتفكرون في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة
وبقائها
قوله تعالى أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " الآية هذا خطاب
لجميع أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهذه صيغة أمر بالإنفاق واختلف المتأولون هل المراد بهذا
الانفاق الزكاة المفروضة أو التطوع والآية تعم الوجهين لكن صاحب الزكاة يتلقاها على
الوجوب وصاحب التطوع يتلقاها على الندب وجمهور المتأولين قالوا معنى من
طيبات من جيد ومختار ما كسبتم وجعلوا الخبيث بمعنى الردئ وقال ابن زيد
معناه من حلال ما كسبتم قال وقوله ولا تيمموا الخبيث أي الحرام
ع وقول ابن زيد ليس بالقوي من جهة نسق الآية لا من معناه في نفسه
523

وكسبتم معناه كانت لكم فيه سعاية ومما أخرجنا لكم من الأرض
النباتات والمعادن والركاز وما ضارع ذلك وتيمموا معناه تعمدوا وتقصدوا
والتيمم القصد وقال الجرجاني قال فريق من الناس أن الكلام تم في قوله
الخبيث ثم ابتدأ خبرا آخر فقال تنفقون منه وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم أي
ساهلتم: قال ع كأن هذا المعنى عتاب للنفس تقريع وعلى هذا فالضمير في
منه عائد على الخبيث
قال الجرجاني وقال فريق آخر بل الكلام متصل إلى قوله فيه وعلى هذا
فالضمير في منه عائد على ما كسبتم كأنه في موضع نصب على الحال والمعنى في
الآية فلا تفعلوا مع الله مالا ترضونه لأنفسكم واعلموا أن الله غني عن صدقاتكم فمن
تقرب وطلب مثوبة فليفعل ذلك بماله قدر
ت وهذا يقوي القول بأنها في الزكاة المفروضة وحميد معناه محمود
وقوله تعالى يعدكم الفقر " الآية هذه الآية وما بعدها وإن لم تكن
أمرا بالصدقة فهي جالبة النفوس إلى الصدقة بين عز وجل فيها نزغات الشيطان
ووسوسته وعداوته وذكر بثوابه هو سبحانه لا رب غيره وذكر بتفضله بالحكمة وأثنى
عليها ونبه أن أهل العقول هم المتذكرون غير الذين يقيمون بالحكمة قدر الانفاق في طاعة
الله وغير ذلك ثم ذكر سبحانه علمه بكل نفقة ونذر وفي ذلك وعد ووعيد ثم بين
الحكم في الإعلان والإخفاء وكذلك إلى آخر المعنى
والوعد في كلام العرب إذا أطلق فهو في الخير وإذا قيد بالموعود فقد يقيد
بالخير وقد يقيد بالشر كالبشارة وهذه الآية مما قيد الوعد فيها بمكروه والفحشاء كل
ما فحش وفحش ذكره روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أن للشيطان لمة
من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فايعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة
الملك فايعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد
الله ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ صلى الله عليه وسلم يعدكم الفقر
ويأمركم بالفحشاء " الآية قلت هذا حديث صحيح خرجه أبو عيسى الترمذي وقال
524

فيه حسن غريب صحيح
والمغفرة هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة والفضل هو الرزق في الدنيا
والتوسعة فيه والنعيم في الآخرة وبكل قد وعد الله جل وعلا وروي أن في التوراة
عبدي أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة وفي
القرآن مصداقه وهو وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين
ت روى الطبراني سليمان بن أحمد بسنده عن عبد الله ابن عمرو قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه من الماء حتى يرويه بعده الله من
النار سبع خنادق ما بين كل خندقين مسيرة مائة عام انتهى
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما مسلم كسا
مسلما ثوبا على عري كساه الله من خضر الجنة وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع
أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله عز وجل من
الرحيق المختوم أخرجه أبو داود من حديث أبي خالد هو الدولاني عن نبيح
525

وقد وثق أبو حاتم أبا خالد وسئل أبو زرعة عن نبيح فقال هو كوفي ثقة انتهى من
الإلمام في أحاديث الاحكام لابن دقيق العيد
وواسع لأنه وسع كل شئ رحمة وعلما يؤتى الحكمة أي يعطيها لمن يشاء من عباده والحكمة مصدر من الاحكام
وهو الاتقان في عمل أو قول وكتاب الله حكمة وسنة نبيه عليه السلام حكمة وكل
ما ذكره المتأولون فيها فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس قال الإمام الفخر في شرحه
لأسماء الله الحسنى قال المحققون العلماء ثلاثة علماء بأحكام الله فقط وهم العلماء
أصحاب الفتوى وعلماء بالله فقط وهم الحكماء وعلماء بالقسمين وهم الكبراء
فالقسم الأول كالسراج يحرق نفسه ويضئ بعد لغيره والقسم الثاني حالهم أكمل من الأول
لأنه أشرق قلبه بمعرفة الله وسره بنور جلال الله إلا أنه كالكنز تحت التراب لا يصل
اثره إلى غيره وأما القسم الثالث فهم أشرف الأقسام فهو كالشمس تضئ العالم لأنه
تام وفوق التام انتهى
وباقي الآية تذكرة بينة وإقامة لهمم الغفلة والألباب العقول واحدها لب
526

وقوله تعالى أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر " الآية يقول يقال نذر الرجل
كذا إذا التزم فعله
وقوله تعالى الله يعلمه " قال الذي مجاهد معناه يحصيه وفي الآية وعد
ووعيد أي من كان خالص النية فهو مثاب ومن أنفق رياء أو لمعنى آخر مما يكشفه
المن والأذى ونحو ذلك فهو ظالم يذهب فعله باطلا ولا يجد ناصرا فيه
وقوله تعالى تبدوا الصدقات فنعما هي " الآية ذهب جمهور المفسرين
إلى أن هذه الآية في صدقة التطوع قال ابن عباس جعل الله صدقة السر في التطوع
تفضل علانيتها يقال بسبعين ضعفا وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها
يقال بخمسة وعشرين ضعفا قال وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها
ع ويقوي ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الرجل في بيته أفضل من صلاته في
المسجد إلا المكتوبة وذلك أن الفرائض لا يدخلها رياء والنوافل عرضة لذلك قال
الطبري أجمع الناس على أن إظهار الواجب أفضل
وقوله تعالى لأن هي " ثناء على إبداء الصدقة ثم حكم أن الإخفاء خير من
ذلك الإبداء والتقرير نعم شئ إبداؤها فالإبداء هو المخصوص بالمدح وخرج أبو
داود في سننه عن أبي أمامة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم انطلق برجل إلى باب الجنة فرفع
رأسه فإذا على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها والقرض الواحد بثمانية عشر
لأن صاحب القرض لا يأتيك إلا وهو محتاج والصدقة ربما وضعت في غني وخرجه
ابن ماجة في سننه قال حدثنا عبيد الله بن عبد الكريم حدثنا هشام بن خالد
حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك قال قال رسول
527

الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوب الصدقة بعشر أمثالها والقرض
بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال إن السائل يسأل
وعنده والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة انتهى من التذكرة
وقرأ ابن كثير وغيره ونكفر بالنون ورفع الراء وقرأ ابن عامر ويكفر
بالياء ورفع الراء وقرأ نافع وغيره ونكفر بالنون والجزم فأما رفع الراء فهو على
وجهين
أحدهما أن يكون الفعل خبر ابتداء تقديره ونحن نكفر أو والله يكفر
والثاني القطع والاستيناف والواو لعطف جملة على جملة والجزم في الراء
أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التفكير في الجزاء وكونه مشروطا إن وقع
الإخفاء وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى ومن في قوله من سيئاتكم
للتبعيض المحض لا أنها زائدة كما زعم قوم والله بما تعلمون خبير وعد ووعيد
وقوله تعالى عليك هداهم " الآية وردت آثار أن النبي صلى الله عليه وسلم منع فقراء
أهل الذمة من الصدقة فنزلت الآية مبيحة لهم وذكر الطبري أن مقصد النبي صلى الله عليه وسلم بمنع
528

الصدقة إنما كان ليسلموا وليدخلوا في الدين فقال الله سبحانه ليس عليك
هداهم قال ع وهذه الصدقة التي أبيحت لهم حسبما تضمنته هذه الآثار إنما
هي صدقة التطوع وأما المفروضة فلا يجزئ دفعها لكافر قال ابن المنذر اجماعا
فيما علمت وقول المهدوي أباحتها هذه الآية مردود قال ابن العربي وإذا كان
المسلم يترك أركان الاسلام من الصلاة والصيام فلا تصرف إليه الصدقة حتى يتوب
وسائر المعاصي تصرف الصدقة إلى مرتكبيها لدخولهم في اسم المسلمين انتهى من
الأحكام ويعني بالصدقة المفروضة والهدى الذي ليس على نبينا محمد صلى اله عليه وسلم هو خلق الايمان
في قلوبهم واما الهدى الذي هو الدعاء فهو عليه ص = وليس بمراد في هذه الآية
ثم أخبر سبحانه أنه يهدي من يشاء وفي الآية رد على القدرية وطوائف المعتزلة
ثم بين تعالى أن النفقة المقبولة ما كان ابتغاء وجه الله
وفي الآية تأويل آخر وهو أنها شهادة من الله تعالى للصحابة أنهم إنما ينفقون
ابتغاء وجه الله سبحانه فهو خير منه لهم فيه تفضيل وما تنفقوا من خير يوف إليكم
أي في الآخرة وهذا هو بيان قوله وما تنفقوا من خير فلأنفسكم والخير هنا
المال بقرينة الانفاق ومتى لم يقترن بما يدل على أنه المال فلا يلزم أن يكون بمعنى
المال وهذا الذي قلناه تحرزا من قول عكرمة كل خير في كتاب الله فهو المال
وقوله تعالى الذين أحصروا في سبيل الله " الآية التقدير الانفاق أو
الصدقة للفقراء قال مجاهد وغيره المراد بهؤلاء الفقراء فقراء المهاجرين من قريش
وغيرهم
529

ع ثم تتناول الآية كل من دخل تحت صفة الفقر غابر الدهر ثم بين الله
سبحانه من أحوال أولئك الفقراء المهاجرين ما يوجب الحنو عليهم بقوله أحصروا
في سبيل الله والمعنى حبسوا ومنعوا وتأول الطبري في هذه الآية أنهم هم
حابسوا أنفسهم بربقة علي الدين وقصد الجهاد وخوف العدو إذ أحاط بهم الكفر فصار
خوف العدو عذرا أحصروا به
ع كأن هذه الأعذار أحصرتهم حتى فالعدو وكل محيط يحصر وقوله في
سبيل الله يحتمل الجهاد ويحتمل الدخول في الاسلام والضرب في الأرض هو
التصرف في التجارة وكانوا لا يستطيعون ضربا في الأرض لكون البلاد كلها كفرا مطبقا
وهذا في صدر الهجرة وكانوا رضي الله عنهم من الانقباض وترك المسألة والتوكل
على الله تعالى بحيث يحسبهم الجاهل بباطن أحوالهم أغنياء
ت واعلم أن المواساة واجبة وقد خرج مسلم وأبو داود عن أبي سعيد
الخدري قال بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة فجعل
يصرف بصره يمينا وشمالا فقال النبي صلى الله عليه وسلم من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا
ظهر له ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له قال فذكر من أصناف المال
ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل انتهى
والتعفف تفعل وهو بناء مبالغة من عف عن الشئ إذا أمسك عنه وتنزه
عن طلبه وبهذا المعنى فسره قتادة وغيره
ت مدح الله سبحانه هؤلاء السادة على ما أعطاهم من غنى النفس وفي
الحديث الصحيح ليس الغنى عن كثرة المال وإنما الغنى غنى النفس وقد صح
530

عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا أخرجه مسلم وغيره وعندي
أن المراد بالآل هنا متبعوه صلى الله عليه وسلم
وفي سنن ابن ماجة عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من غني ولا فقير إلا ود
يوم القيامة أنه أوتي من الدنيا قوتا وروى مسلم والترمذي عن أبي أمامة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام
على كفاف وابدأ بمن تعول واليد العليا خير من اليد السفلى قال أبو عيسى
531

واللفظ له هذا حديث حسن صحيح انتهى
وقوله تعالى بسيماهم السيما مقصورة العلامة واختلف
المفسرون في تعيينها فقال مجاهد هي التخشع والتواضع وقال الربيع والسدي
هي جهد الحاجة وقصف الفقر في وجوههم وقلة النعمة وقال ابن زيد هي رثة
الثياب وقال قوم وحكاه مكي هي أثر السجود قال ع وهذا حسن
وذلك لأنهم كانوا متفرغين متوكلين لا شغل لهم في الأغلب إلا الصلاة فكان أثر
السجود عليهم أبدا والإلحاف والإلحاح بمعنى قال ع والآية تحتمل
معنيين
أحدهما نفي السؤال جملة وهذا هو الذي عليه الجمهور أنهم لا يسألون البتة
والثاني نفي الإلحاف فقط أي لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل وبإجمال
تعالى ت وهذا الثاني بعيد من ألفاظ الآية فتأمله
ت وينبغي للفقير أن يتعفف في فقره ويكتفي بعلم ربه قال الشيخ ابن أبي
جمرة وقد قال أهل التوفيق من لم يرض باليسير فهو أسير انتهى وذكر
532

عبد الملك بن محمد بن أبي القاسم ابن الكردبوس في الاكتفاء في أخبار الخلفاء
قال وتكلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتسع كلمات ثلاث في المناجاة
وثلاث في الحكمة وثلاث في الآداب أما المناجاة فقال كفاني فخرا أن تكون لي ربا
وكفاني عزا أن أكون لك عبدا وأنت كما أحب فاجعلني كما تحب وأما الحكمة
فقال قيمة كل امرئ ما كان يحسنه وما هلك امرؤ عرف قدر نفسه والمرء مخبو تحت
لسانه وأما الآداب فقال استغن عمن شئت فأنت نظيره وتفضل على من شئت
فأنت أميره واضرع إلى من شئت فأنت أسيره انتهى
ولما كانت السيما تدل على حال صاحبها ويعرف بها حاله أقامها الله سبحانه مقام
الإخبار عن حال صاحبها فقال تعرفهم بسيماهم وقد قال الشيخ العارف بالله صاحب
الكلم الفارقية والحكم الحقيقية كل ما دل على معنى فقد أخبر عنه ولو كان صامتا
وأشار إليه ولو كان ساكتا لكن حصول الفهم والمعرفة بحسب اعتبار المعتبر ونظر
المتأمل المتدبر انتهى
قال ع وفي الآية تنبيه على سوء حالة من يسأل الناس إلحافا وقال ص
وقوله تعالى يسألون الناس إلحافا " فإن إذا نفي حكم من محكوم عليه بقيد
فالأكثر في لسانهم انصراف النفي إلى ذلك القيد فالمعنى ذلك القيد فينتفي السؤال والإلحاح وله نظائر
انتهى
وقوله تعالى تنفقوا من خير فإن الله به عليم وعد محض أي يعلمه
ويحصيه ليجازي عليه ويثيب
533

وقوله تعالى ينفقون أموالهم بالليل والنهار " الآية قال ابن عباس
نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب رضي الله عنه كانت له أربعة دراهم فتصدق
بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية وقال قتادة نزلت في
المنفقين في سبيل الله من غير تبذير ولا تقتير قال ع والآية وإن كانت نزلت
في علي رضي الله عنه فمعناها يتناول كل من فعل فعله وكل مشاء بصدقته في الظلم
إلى مظنة الحاجة
وقوله تعالى يأكلون الربا " الآية الربا هو الزيادة مأخوذ من
ربا يربو إذا نما وزاد على ما كان وغالبه ما كانت العرب تفعله من قولها للغريم
أتقضي أم تربي فكان الغريم يزيد في عدد المال ويصبر الطالب عليه ومن الربا البين
التفاضل في النوع الواحد وكذلك أكثر البيوع الممنوعة إنما تجد منعها لمعنى زيادة إما
في عين مال أو في منفعة لأحدهما من تأخير ونحوه ومعنى الآية يكسبون الربا
ويفعلونه " عمر وإنما قصد إلى لفظة الأكل لأنها أقوى مقاصد الناس في المال قال ابن عباس
وغيره معنى قوله سبحانه يقومون " النبي أي من قبورهم في البعث يوم القيامة إلا
كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس قالوا كلهم يبعث كالمجنون عقوبة له
وتمقيتا عند جميع المحشر ويقوي هذا التأويل المجمع عليه أن في قراءة عبد الله بن
مسعود لا يقومون يوم القيامة إلا كما يقوم
وقوله تعالى بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا " معناه عند جميع المتأولين
في الكفار وأنه قول بتكذيب الشريعة والآية كلها في الكفار المربين نزلت ولهم قيل
534

فله ما سلف ولا يقال ذلك لمؤمن عاص ولكن يأخذ العصاة في الربا بطرف من
وعيد هذه الآية ثم جزم الله سبحانه الخبر في قوله الله البيع وحرم الربا "
قيل هذا من عموم القرآن المخصص وقيل من مجمله المبين قال جعفر بن محمد
الصادق وحرم الله الربا ليتقارض الناس
وقوله تعالى ما سلف " أي من الربا لاتباعه عليه في الدنيا والآخرة
وهذا حكم من الله سبحانه لمن أسلم من الكفار وفي قوله تعالى إلى الله " أربع
تأويلا
أحدها أمر الربا في امرار تحريمه وغير ذلك
والثاني أمر ما سلف أي في العفو وإسقاط التبعة فيها
والثالث أن الضمير عائد على ذي الربا بمعنى أمره إلى الله في أن يثبته على
الانتهاء أو يعيده إلى المعصية
والرابع أن يعود الضمير على المنتهى ولكن بمعنى التأنيس له وبسط أمله في
الخير
وقوله تعالى عاد يعني إلى فعل الربا والقول إنما البيع مثل الربا والخلود في
حق الكافر خلود تأبيد حقيقي وإن لحظنا الآية في مسلم عاص فهو خلود مستعار
على معنى المبالغة
وقوله تعالى الله الربا ويربي الصدقات " يمحق معناه ينقص
ويذهب ومنه محاق القمر وهو انتقاصه ويربي الصدقات معناه ينميها
ويزيد ثوابها تضاعفا وإن تقول ربت الصدقة وأرباها الله تعالى ورباها وذلك هو
التضعيف لمن يشاء ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم أن صدقة أحدكم لتقع في يد الله تعالى
535

فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تجئ يوم القيامة وإن اللقمة لعلى قدر
أحد
قال ع وقد جعل الله سبحانه هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشيع
هو من بني آدم إذ يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق ويظن الصدقة تفقره وهي في
الحقيقة نماء في الدنيا والآخرة وعن يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير حدثه أنه
سمع عقبة ابن عامر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل امرئ في ظل صدقته
حتى يفصل بين الناس أو قال حتى يحكم بين الناس قال يزيد وكان أبو الخير لا
يخطئه يوم لا يتصدق بشئ فيه ولو كعكة أو بصلة قال الحاكم صحيح على شرط
مسلم ولم يخرجاه يعني البخاري ومسلما انتهى من الإلمام في أحاديث الأحكام
لابن دقيق العيد
536

قال الشيخ ابن أبي جمرة ولا يلهم للصدقة إلا من سبقت له سابقة خير انتهى
قال أبو عمر في التمهيد وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أحسن عبد
الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على بنيه وكان في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله وحفظ في
يوم صدقته من كل عاهة وآفة انتهى
وروى أبو داود في سننه أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله إن أم
سعد ماتت فأي الصدقة أفضل قال الماء فحفر بيرا وقال هذه لأم سعد
537

وروى أبو داود في سننه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيما مسلم كسا
مسلما ثوبا على عري كساه الله من حضر الجنة وأيما مسلم أطعم مسلما على جوع
أطعمه الله من ثمار الجنة وأيما مسلم سقى مسلما على ظمأ سقاه الله من الرحيق
المختوم انتهى
وقوله تعالى لا يحب كل كفار أثيم " يقتضي الزجر للكفار المستحلين للربا
ووصف الكفار بأثيم إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان وإما ليذهب الاشتراك الذي
في كفار إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض قاله ابن فورك
ولما انقضى ذكر الكافرين عقب سبحانه بذكر ضدهم ليبين ما بين الحالتين
فقال الذين آمنوا " الآية وقد تقدم تفسير مثل هذه الألفاظ
وقوله تعالى أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا " الآية سبب
هذه الآية أنه لما افتتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال في خطبته اليوم الثاني من الفتح الأكل ربا
في الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا
538

العباس فبدأ صلى الله عليه وسلم بعمه وأخص الناس به وهذه من سنن العدل للإمام أن يفيض العدل
على نفسه وخاصته فيستفيض في الناس ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة واستعمل
على مكة عتاب بن أسيد فلما استنزل صلى الله عليه وسلم أهل الطائف بعد ذلك إلى الاسلام اشترطوا
شروطا وكان في شروطهم أن كل ربا لهم على الناس فإنهم يأخذونه وكل ربا عليهم
فهو موضوع فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرر لهم هذه ثم ردها الله بهذه الآية كما رد
539

صلحه لكفار قريش في رد النساء إليهم عام الحديبية وذكر النقاش رواية أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يكتب في أسفل الكتاب لثقيف لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم
فلما جاءت آجال رباهم بعثوا إلى مكة للاقتضاء وسلم وكانت على بني المغيرة المخزوميين
فقال بنو المغيرة لا نعطي شيئا فإن الربا قد وضع ورفعوا أمرهم إلى عتاب بن أسيد
بمكة فكتب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية وكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتاب
فعلمت بها ثقيف فكفت هذا سبب الآية على اختصار مما روى ابن إسحاق وابن
جريج والسدي وغيرهم
فمعنى الآية اجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بترككم ما بقي لكم من ربا
وصفحكم عنه ثم توعدهم تعالى إن لم يذروا الربا بحرب منه ومن رسوله وأمته
والحرب داعية القتل
وقوله تعالى قال سيبويه آذنت أعلمت
ت وهكذا فسره البخاري فقال قال أبو عبد الله فأذنوا فأعلموا وقال
ع هي عندي من الإذن وقال ابن عباس وغيره معناه فستفينوا عنه بحرب
ثم ردهم سبحانه مع التوبة إلى رؤوس أموالهم وقال لهم لا تظلمون في أخذ
الزائد ولا تظلمون في أن يتمسك بشئ من رؤوس أموالكم ويحتمل لا تظلمون في
مطل لأن مطل الغنى ظلم كما قال عليه السلام فالمعنى أنه يكون
540

القضاء مع وضع الربا وهكذا سنة الصلح وهذا أشبه شئ بالصلح ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما أشار على كعب بن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر فقال كعب نعم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم للآخر قم فاقضه فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات
541

وقوله سبحانه وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة حكم الله تعالى لأرباب
الربا برؤوس أموالهم عند الواجدين للمال ثم حكم في ذي العسر بالنظرة إلى حال اليسر
والعسر ضيق الحال من جهة عدم المال والنظرة التأخير
ت وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كان رجل يداين الناس فكان
يقول لفتاه إذا أتيت معسرا فتجاوز عنه لعل الله يتجاوز عنا قال فلقي الله فتجاوز
عنه وفي صحيح مسلم من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن
معسر أو يضع عنه وفي رواية من أنظر معسرا أو وضع عنه أنجاه الله من كرب
يوم القيامة وفي وراية من أنظر معسرا أو وضع عنه أظله الله في ظله انتهى
542

والميسرة مصدر بمعنى اليسر وارتفع ذو عسرة بكان التامة التي هي بمعنى
وجد وحدث وارتفع قوله فنظرة على خبر ابتداء مقدر تقديره فالواجب نظرة
واختلف أهل العلم هل هذا الحكم بالنظرة إلى الميسرة واقف على أهل الربا خاصة
وهو قول ابن عباس وشريح أو هو منسحب على كل دين حلال وهو قول جمهور
543

العلماء
ع وما قاله ابن عباس إنما يترتب إذا لم يكن فقر مدقع وأما مع الفقر
والعدم الصريح فالحكم هي النظرة ضرورة
ت ولا يخالف ابن عباس في ذلك وقوله تعالى تصدقوا خير لكم " ندب الله بهذه الألفاظ إلى الصدقة على
المعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره قاله جمهور العلماء
وروى سعيد ابن المسيب عن عمر بن الخطاب أنه قال كان آخر ما نزل من
القرآن آية الربا وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة
وقال ابن عباس آخر ما نزل آية الربا
قال ع ومعنى هذا عندي أنها من آخر ما نزل لأن جمهور الناس ابن
عباس والسدي والضحاك وابن جريج غيرهم قالوا آخر آية نزلت قوله تعالى
يوما ترجعون فيه إلى الله " وروي أن قوله واتقوا نزلت قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم
بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شئ وروي بثلاث ليال وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث
ساعات وأنه صلى الله عليه وسلم قال اجعلوها بين آية الربا وأية الدين وحكى مكي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال جاءني جبريل فقال اجعلها على مائتين وثمانين آية من البقرة
وقوله تعالى يوما ترجعون فيه إلى الله " الآية وعظ لجميع الناس
وأمر يخص كل انسان
ت حدثني من أثق به أنه جلس عند شيخ من الأفاضل يجود عليه القرآن
544

فقرأت عليه هذه الآية فبكى عندها ثم بكى إلى أن فاضت نفسه ومال فحركوه فإذا
هو ميت رحمه الله ونفع به يا هذا من صحا عقله من سكر هواه وجهله احترق
بنار الندم والخجل من مهابة نظر ربه وتنكرت صورة حاله في عينه نفوس الأغبياء
الجهال غافلة عن العظمة والجلال ولاهية عن أهوال المعاد والمال مشغولة برذائل
الأفعال وفضول القيل والقال والاستنباط والاحتيال لازدياد الأموال ولا يعلمون أنها
فتنة ووبال وطول حساب وبلاء وبلبال اغتنموا يا ذوي البصائر نعمة الإمهال
واطرحوا خوادع الأماني وكواذب الآمال فكأن قد فجأتكم هواجم فيه الآجال انتهى من
الكلم الفارقية في الحكم الحقيقية
ويوما نصب على المفعول لا على الظرف وجمهور العلماء على أن هذا
اليوم المحذر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية وقال قوم هو يوم الموت والأول
أصح وهو يوم تنفطر لذكره القلوب وفي هذه الآية نص على أن الثواب والعقاب متعلق
بكسب الانسان وهذا رد على الجبرية
وقوله تعالى أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه "
الآية
قال ابن عباس هذه الآية نزلت في السلم خاصة
545

قال ع معناه إن سلم أهل المدينة كان سبب الآية ثم هي تتناول جميع
المداينات إجماعا ووصفه الأجل بمسمى دليل على أن الجهالة لا تجوز وقال
جمهور العلماء الأمر بالكتب ندب إلى حفظ الأموال وإزالة الريب وإذا كان الغريم
تقيا فما يضره الكتب وإن كان غير ذلك فالكتب ثقاف في دينه وحاجة صاحب الحق
قال بعضهم إن أشهدت فحزم وإن ائتمنت ففي حل وسعة
ع وهذا هو القول الصحيح ثم علم تعالى أنه سيقع الائتمان فقال إن
وقع ذلك فليؤد الآية فهذه وصية للذين عليهم الديون
واختلف في قوله تعالى بينكم كاتب "
فقال عطاء والشعبي واجب على الكاتب أن يكتب إذا لم يوجد سواه وقال
السدي هو واجب مع الفراغ
وقوله بالعدل معناه بالحق ثم نهى الله سبحانه الكتاب عن الإباية وحكى
المهدوي عن الربيع والضحاك ان قوله تعالى ولا يأب منسوخ بقوله ولا يضار
كاتب ولا شهيد قال ع أما إذا أمكن الكتاب فليس يجب الكتب على
معين بل له الامتناع الا إذا استأجره وأما إذا عدم الكاتب فيتوجه وجوب الندب حينئذ
على الكاتب
وقوله تعالى الذي عليه الحق أمر الله تعالى الذي عليه الحق
بالإملال لأن الشهادة انما تكون بحسب اقراره وإذا كتبت الوثيقة وأقر بها فهي
546

كإملاله صلى والبخس النقص بنوع من المخادعة والمدافعة وهؤلاء الذين أمروا بالإملال
هم المالكون لأنفسهم إذا حضروا
ثم ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان فقال فإن كان الذي عليه
الحق سفيها والسفيه الهلهل وقال الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ لنفسه ولا الإعطاء
منها مشبه بالثوب السفيه وهو الخفيف النسج والسفه الخفة وهذه الصفة في الشريعة
لا تخلو من حجر أب أو وصي وذلك هو وليه ثم قال أو ضعيفا والضعيف هو
المدخول في عقله وهذا أيضا قد يكون وليه أبا أو وصيا والذي لا يستطيع أن يمل هو
الصغير أنه ووليه وصية أو أبوه والغائب عن موضع الإشهاد لمرض أو لغير ذلك من
الأعذار ووليه وكيله وأما الأخرس فيسوغ أن يكون من الضعفاء والأولى أنه ممن لا
يستطيع
وقوله بالعدل معناه بالحق وقصد الصواب
وقوله تعالى شهيدين " وهو الآية الاستشهاد طلب الشهادة وعبر
ببناء مبالغة في شهيدين دلالة على من قد شهد وتكرر ذلك منه فكأنه إشارة إلى
العدالة قال ابن العربي في أحكامه والصحيح أن الأمر بالاستشهاد محمول على
الندب أه
وقوله تعالى من رجالكم نص في رفض الكفار والصبيان والنساء وأما
العبيد فاللفظ يتناولهم
واختلف العلماء فيهم وقول مالك والشافعي وأبي حنيفة وجمهور العلماء أن
شهادتهم لا تجوز وغلبوا نقص الرق
واسم كان الضمير الذي في قوله يكونا والمعنى في قول الجمهور فإن لم
يكن المستشهد رجلين وقال قوم بل المعنى فإن لم يوجد رجلان
ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال قال ع وهذا قول
ضعيف ولفظ الآية لا يعطيه بل الظاهر منه قول الجمهور
547

وقوله فرجل وامرأتان أي فليشهد أو فليكن رجل وامرأتان
وقوله تعالى ترضون من الشهداء " رفع في موضع الصفة لقوله فرجل
وامرأتان وهذا الخطاب لجميع الناس لكن المتلبس بهذه القصة هم الحكام وهذا كثير
في كتاب الله يعم الخطاب فيما يتلبس به البعض
وفي قوله ممن ترضون دليل على أن في الشهود من لا يرضى فيجئ من
ذلك أن الناس ليسوا بمحمولين على العدالة حتى تثبت لهم
وقوله تعالى تضل إحديهما " صلى الله عليه وسلم الآية أن مفعول من أجله والشهادة لم
تقع لأن تضل إحداهما وإنما وقع إشهاد امرأتين لأن تذكر إحداهما إن ضلت
الأخرى قال سيبويه وهذا كما تقول أعددت هذه الخشبة أن يميل الحائط فادعمه
إذا ع ولما كانت النفوس مستشرفة إلى معرفة أسباب الحوادث قدم في هذه
العبارة ذكر سبب الأمر المقصود إلى أن يخبر به وهذا من أبرع الفصاحة إذ لو قال لك
رجل أعددت هذه الخشبة أن أدعم بها هذا الحائط لقال السامع ولم تدعم حائطا
قائما فيجب ذكر السب فيقال إذا مال فجاء في كلامهم تقديم السبب أخصر من هذه
المحاورة قال أبو عبيد ومعنى تضل تنسى
ع والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ويبقى
المرء بين ذلك حيران ضالا
وقوله تعالى يأب الشهداء إذا ما دعوا " الآية قال قتادة وغيره معنى
الآية إذا دعوا ان يشهدوا وقال الحسن بن أبي الحسن الآية جمعت أمرين لا تاب
إذا دعيت إلى تحصيل الشهادة ولا إذا دعيت إلى أدائها وقاله ابن عباس وقال
548

مجاهد معنى الآية لا تاب إذا دعيت إلى أداء شهادة قد حصلت عندك وأسند النقاش
إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسر الآية بهذا
ت وهذا هو الحقيقة في الآية وأما تسمية الشئ بما يؤل إليه فمجاز
والشاهد حقيقة من حصلت له الشهادة قال مجاهد فأما إذا دعيت أو لا فإن شئت
فاذهب وإن شئت فلا تذهب وقاله جماعة قال ع والآية كما قال الحسن
جمعت أمرين والمسلمون مندوبون إلى معونة إخوانهم فإذا كانت الفسحة لكثرة الشهود
والأمن من تعطل الحق فالمدعو مندوب وإن خيف تلف الحق بتأخر الشاهد وجب
عليه القيام بها سيما إن كانت محصلة ودعي لأدائها فهذه آكد لأنها قلادة في العنق
وأمانة تقتضي الأداء
م ولا يأب الشهداء قال أبو البقاء مفعول يأب محذوف أي ولا
يأب الشهداء إقامة الشهادة أو تحمل الشهادة وإذا ظرف ليأب فقال ويحتمل أن يكون
ظرفا للمفعول المحذوف ا ه
وتسموا معناه تملوا وقدم الصغير اهتماما به وأقسط معناه أعدل
وأقوم أي أشد إقامة وقيل أقوم من قام بمعنى اعتدل وأدنى
معناه أقرب وترتابوا أي معناه تشكوا
قال ابن هشام إلى أجله لا يصح تعلقه بتكتبوه لاقتضائه استمرار الكتابة
إلى أجل الدين وإنما هو حال أي مستقرا في الذمة إلى أجله ا ه من المعنى
وقوله تعالى أن تكون تجارة حاضرة " الآية لما علم الله سبحانه مشقة
الكتب عليهم نص على ترك ذلك ورفع الجناح فيه في كل مبايعة بنقد وذلك في
الأغلب إنما هو في قليل كالطعام ونحوه لا في كثير كالأملاك ونحوها وقال السدي
والضحاك هذا فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطي
549

وقوله تعالى ثنا يقتضي التقابض والبينونة في المقبوض
وقوله تعالى إذا تبايعتم " اختلف هل ذلك على الوجوب أو على
الندب والوجوب في ذلك قلق أما في الدقائق فصعب شاق وأما ما كثر فربما يقصد
التاجر الاستيلاف بترك الإشهاد إلى غير ذلك من المصالح فلا يشهد ويدخل ذلك كله
في الإئتمان ويبقى الأمر في الاشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب وحكى
المهدوي عن قوم أنهم قالوا واشهدوا إذا تبايعتم منسوخ بقوله تعالى
أمن الآية وذكره مكي عن أبي سعيد الخدري
واختلف الناس في معنى قوله تعالى يضار كاتب ولا شهيد " أي
كاختلافهم في قوله تعالى تضار والدة بولدها " هل الفعل مسند إلى
الفاعل فأصله ولا يضارر كاتب ولا شهيد بكسر الراء وقيل مسند إلى المفعول
الذي لم يسم فاعله فأصله ولا يضارر بفتحها
ع ووجوه المضارة لا تنحصر وفك الفعل هي لغة الحجاز والإدغام لغة
تميم
وقوله تفعلوا فإنه فسوق بكم " أي وإن تفعلوا المضارة وقوله بكم
أي حال بكم
وباقي الآية موعظة وتهديد والله المستعان لا رب غيره وقيل معنى الآية الوعد
لأن من اتقى علم الخير والهمة
ت وفي العتبية من سماع ابن القاسم قال سمعت مالكا يقول سمعت أنه
يقال ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة ا ه
والمراد بهذا العلم العلم النافع الذي يورث الخشية قال أبو عمر ابن عبد البر روينا
عن مسروق قال كفى بالمرء علما أن يخشى الله وكفى بالمرء جهلا ان يعجب
بعلمه أبو عمر إنما أعرفه بعمله ا ه من كتاب فضل العلم
550

وقوله تعالى كنتم على سفر " الآية لما ذكر الله تعالى الندب إلى
الإشهاد والكتب لمصلحة حفظ الأموال والأديان عقب ذلك بذكر حال الأعذار المانعة
من الكتب وجعل بدلها الرهن ونص على السفر إذ هو الغالب من الأعذار ويدخل في
ذلك بالمعنى كل عذر
قال ع رهن الشئ في كلام العرب معناه دام واستمر قيل ولما كان
الرهن بمعنى الثبوت والدوام فمن ثم بطل الرهن عند الفقهاء إذا خرج من يد
551

المرتهن إلى يد الراهن لأنه فارق ما جعل له
وقوله تعالى به هي بينونة المرتهن بالرهن
وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن وكذلك على قبض وكيله فيما علمت
واختلفوا في قبض عدل يوضع الرهن على يديه
552

فقال مالك وجميع أصحابه وجمهور العلماء قبض العدل قبض
وقال الحكم ابن عتيبة وغيره ليس بقبض
وقول الجمهور أصح من جهة المعنى في الرهن
وقوله تعالى أمن بعضكم بعضا شرط ربط به وصية الذي عليه الحق
بالأداء
قال ابن العربي في أحكامه قوله تعالى أمن بعضكم " هذا بعضا معناه إن
أسقط الكتب والإشهاد والرهن وعول على أمانة المعامل فليؤد الأمانة وليتق الله
ربه وهذا يبين أن الإشهاد ليس بواجب إذ لو كان واجبا لما جاز اسقاطه ثم قال
وجملة الأمر أن الإشهاد حزم والائتمان ثقة بالله تعالى من الدائن ومروءة من المديان
ثم ذكر الحديث الصحيح في قصة الرجل من بني إسرائيل الذي استسلف ألف دينار
وكيف تعاملا على الائتمان ثم قال ابن العربي وقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ
هذه الآية فقال هذا نسخ لكل ما تقدم يعني من الأمر بالكتب والإشهاد
553

والرهن ا ه
وقوله رسول أمر " ولا بمعنى الوجوب وقوله مصدر سمي به الشئ
الذي في الذمة
وقوله تعالى تكتموا الشهادة " الآية نهي فيه تهديد ووعيد وخص
تعالى ذكر القلب إذ الكتم من أفعاله وإذ هو البضعة التي بصلاحها يصلح الجسد كله
كما قال صلى الله عليه وسلم وفي قوله تعالى بما تعلمون عليم " توعد وإن كان لفظها يعم
الوعيد والوعد
وروى البزار في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من مشي إلى غريمه بحقه
صلت عليه دواب الأرض ونون الماء ونبت له بكل خطوة شجرة تغرس في الجنة
وذنبه يغفر ا ه من الكوكب الدري
قوله تعالى ما في السماوات وما في الأرض " الآية المعنى جميع ما
في السماوات وما في الأرض ملك له سبحانه
وقوله تعالى تبدوا ما في أنفسكم " الآية قوله ما في أنفسكم
يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واستصحبت الفكرة فيه وأما الخواطر التي لا
يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز
واختلف في معنى هذه الآية
فقال عكرمة وغيره هي في معنى الشهادة التي نهي عن كتمها فلفظ الآية على
هذا التأويل العموم ومعناه الخصوص وكذا نقل الثعلبي
وقال ابن عباس وأبو هريرة وجماعة من الصحابة والتابعين أن هذه الآية لما
نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا هلكنا يا رسول الله إن حوسبنا بخواطر نفوسنا
وشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكنه قال لهم أتريدون أن تقولوا كما قالت بنو إسرائيل سمعنا
وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا فقالوها فأنزل الله بعد ذلك يكلف الله نفسا إلا
554

وسعها " ونسخ بهذه تلك هذا معنى الحديث الصحيح وله طرق من
جهات واختلفت عباراته وتعاضدت عبارة هؤلاء القائلين بلفظة النسخ في هذه النازلة
وقال ابن عباس لما شق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى يكلف الله نفسا إلا
وسعها " الآية فنسخت الوسوسة وثبت القول والفعل
وقال آخرون هذه الآية محكمة غير منسوخة والله محاسب خلقه على ما عملوه
وأضمروه لم وأرادوه ويغفر للمؤمنين ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ورجح الطبري أن
555

الآية محكمة غير منسوخة ع وهذا هو الصواب وإنما هي مخصصة وذلك أن قوله تعالى وإن
تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه معناه بما هو في وسعكم وتحت كسبكم وذلك
استصحاب المعتقد والفكر فيه فلما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر أشفق
الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم فبين الله تعالى لهم ما أراد بالآية الأولى وخصصها ونص على
حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها والخواطر ليست هي ولا دفعها حدثنا في الوسع بل هي
أمر غالب وليست مما يكسب ولا يكتسب وكان في هذا البيان فرحهم وكشف
كربهم وتأتي الآية محكمة لا نسخ فيها ومما يدفع أمر النسخ أن الآية خبر والأخبار
لا يدخلها النسخ فإن ذهب ذاهب إلى تقرير النسخ فإنما يترتب له في الحكم الذي لحق
الصحابة حين فزعوا من الآية وذلك أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم قولوا سمعنا وأطعنا
يجئ منه الأمر بأن يبنوا على هذا ويلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران فإذا قرر
هذا الحكم فصحيح وقوع النسخ فيه وتشبه الآية حينئذ قوله تعالى يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مائتين " فهذا لفظه الخبر ولكن معناه التزموا هذا
وابنوا عليه واصبروا بحسبه ثم نسخ ذلك بعد ذلك فهذه الآية في البقرة أشبه شئ بها
وقوله تعالى من يشاء " يعني من العصاة وتعلق قوم بهذه الآية ممن
قال بجواز تكليف مالا يطاق وقالوا ان الله قد كلفهم امر الخواطر وذلك مما لا
يطاق قال ع وهذا غير بين وإنما كان أمر الخواطر تأويلا تأوله أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت تكليفا إلا على الوجه الذي ذكرناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على ذلك
قال الشيخ الولي العارف بالله ابن أبي جمرة والخواطر عندهم ستة يعني عند العلماء
العارفين بالله أولها الهمة ثم اللمة ثم الخطرة وهذه الثلاث عندهم غير مؤاخذ بها
ثم نية ثم إرادة ثم عزيمة وهذه الثلاث مؤاخذ بها ا ه
وقوله تعالى الرسول بما أنزل إليه من ربه " الآية سبب هذه الآية أنه لما
نزلت وإن تبدوا ما في أنفسكم واشفق منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم تقرر الأمر على
أن قالوا سمعنا وأطعنا ورجعوا إلى التضرع والاستكانة مدحهم الله تعالى وأثنى
عليهم في هذه الآية وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح
والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى لا كما
556

قالت بنو إسرائيل سمعنا وعصينا فأعقبهم ضد ذلك وهذه ثمرة
العصيان أعاذنا الله من نقمه
وآمن معناه صدق والرسول محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل إليه القرآن وسائر
ما أوحى الله إليه من جملة ذلك وكل لفظة تصلح للإحاطة وهي كذلك هنا والإيمان
بالله هو التصديق به أي بوجوده وصفاته ورفض كل معبود سواه والإيمان بملائكته
هو اعتقادهم أنهم عباد لله مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل سبحانه على أنبيائه
وقرأ الجمهور لا نفرق بالنون والمعنى يقولون لا نفرق
ومعنى هذه الآية أن المؤمنين ليسوا كاليهود والنصارى في أنهم يؤمنون ببعض
ويكفرون ببعض
وقوله تعالى سمعنا وأطعنا " مدح يقتضي الحض على هذه المقالة أن
يكون المؤمن يمتثلها غابر الدهر والطاعة قبول الأوامر وغفرانك مصدر
والعامل فيه فعل تقديره نطلب أو نسأل غفرانك
ت وزاد أبو حيان قال وجوز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ أي
غفرانك بغيتنا ا ه
ابن المصير " إقرار بالبعث والوقوف بين يديه سبحانه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما أنزلت عليه هذه الآية قال له جبريل يا محمد إن الله قد أجل الثناء عليك وعلى
أمتك فسل تعطه فسأل إلى آخر السورة
557

وقوله تعالى يكلف الله نفسا إلا وسعها " الآية خبر جزم نص على أنه لا
يكلف الله العباد من وقت نزول الآية عبادة من أعمال القلب والجوارح ألا وهي في وسع
المكلف وفي مقتضى إدراكه وبنيته وبهذا انكشفت الكربة عن المسلمين في تأولهم أمر
الخواطر وهذا المعنى الذي ذكرناه في هذه الآية يجري مع معنى قوله تعالى الله بكم اليسر ولا يريد
بكم العسر " وقوله تعالى جعل عليكم في الدين من
حرج " وقوله الله ما استطعتم قال العراقي
وسعها أي طاقتها ا ه
قال ع واختلف الناس في جواز تكليف ما لا يطاق في الأحكام التي هي
في الدنيا بعد اتفاقهم على أنه ليس واقعا الآن في الشرع وأن هذه الآية آذنت بعدمه
واختلف القائلون بجوازه هل وقع في رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أم لا
فقالت فرقة وقع في نازلة أبي لهب لأنه حكم عليه بتب اليدين وصلي النار
وذلك مؤذن أنه لا يؤمن وتكليف الشرع له الإيمان راتب فكأنه كلف أن يؤمن وأن
يكون في إيمانه أنه لا يؤمن لأنه إذا آمن فلا محالة أن يدين بسورة تبت يدا أبي
لهب
وقالت فرقة لم يقع قط وقوله تعالى نارا " إنما معناه إن
وافى على كفره
ع ومالا يطاق على أقسام
منه المحال عقلا كالجمع بين الضدين ومنه المحال عادة كرفع انسان جبلا ومنه
ما لا يطاق من حيث هو مهلك كالاحتراق قوله بالنار ونحوه ومنه ما لا يطاق للاشتغال
بغيره وهذا إنما يقال فيه ما لا يطاق على تجوز كثير
وقوله تعالى لا ما كسبت " يريد من الحسنات وعليها ما اكتسبت يريد
558

من السيئات قاله جماعة المفسرين لا خلاف في ذلك والخواطر ونحوها ليس من
كسب الانسان وجاءت العبارة في الحسنات بلها من حيث هي مما يفرح الانسان
بكسبه ويسر المرء بها فتضاف إلى ملكه وجاءت في السيئة بعليها من حيث هي
أوزار وأثقال ومتحملات صعبة وهذا كما تقول لي مال وعلي دين وكرر فعل
الكسب فخالف بين التصريفين حسنا لنمط الكلام كما قال فمهل الكافرين أمهلهم
رويدا هذا وجه
ع والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات مما يكسب دون تكلف إذ كاسبها
على جادة أمر الله ورسم شرعه والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في
أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى ويتخطاه إليها فيحسن في الآية مجئ التصريفين لهذا
المعنى
وقال المهدوي وغيره معنى الآية لا يؤاخذ أحد بذنب أحد قال ع
وهذا صحيح في نفسه لكن من غير هذه الآية
وقوله تعالى ربنا لا تؤاخذنا معناه قولوا واختلف الناس في معنى قوله
سبحانه إن نسينا أو أخطأنا فذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الدعاء في النسيان
الغالب والخطأ غير المقصود وهو الصحيح عندي قال قتادة في تفسير الآية بلغني أن
النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن الله تعالى تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطأها وقال السدي لما نزلت
هذه الآية فقالوها قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قد فعل الله ذلك يا محمد قال ع
فظاهر قوليهما ما صححته وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله
تعالى يحاسبكم به الله أمروا بالدعاء في ذلك النوع الذي ليس من
طاقة الانسان دفعه وذلك في النسيان والخطأ والإصر الثقيل وما لا يطاق على أتم
أنواعه وهذه الآية على هذا القول تقضي بجواز تكليف ما لا يطاق ولذلك أمر المؤمنين
بالدعاء في أن لا يقع هذا الجائز الصعب ومذهب أبي الحسن الأشعري وجماعة من
559

المتكلمين إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلا ولا يخرم ذلك شيئا من عقائد الشرع
وذهب الطبري وغيره إلى أن تكليف ما لا يطاق غير جائز وإن النسيان في الآية
بمعنى الترك أي إن تركنا شيئا من طاعتك والخطأ هو المقصود من العصيان والإصر
هي العبادات الثقيلة كتكاليف بني إسرائيل وما لا طاقة للمرء به هو عندهم على تجوز
كما تقول لا طاقة لي على خصومة فلان أو لا طاقة لنا به من حيث هو مهلك
كعذاب جهنم وغيره ثم قال تعالى فيما أمر المؤمنين بقوله واعف عنا أي فيما
واقعناه له وأغفر لنا أي استر علينا ما علمت منا وارحمنا أي تفضل مبتدئا
برحمة منك لنا فهذه مناح من الدعاء متباينة وأنت مولانا مدح في ضمنه تقرب
إليه وشكر على نعمه ومولى هو من ولي وفي الحديث إن جبريل عليه السلام
قال للنبي صلى الله عليه وسلم قل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فقالها فقال جبريل قد فعل
قال قل كذا وكذا فيقولها فيقول جبريل قد فعل إلى آخر السورة
وتظاهرت بهذا المعنى أحاديث وروى أبو مسعود عقبة ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه يعني من قيام الليل قال
560

صاحب سلاح المؤمن هذا الحديث رواه الجماعة يعني الستة ومعنى كفتاه
أجزتاه ذلك عن قيام الليل وقيل كفتاه من كل شيطان فلا يقربه ليلته وقيل كفتاه ما يكون
من الآفات تلك الليلة وقيل معناه حسبه بهما فضلا وأجرا ويحتمل الجميع والله
أعلم ا ه من سلاح المؤمن
وقال علي رضي الله عنه ما أظن أحدا عقل وأدرك الاسلام ينام حتى
يقرأهما وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة
البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن أحد قبلي
كمل تفسير سورة البقرة، والحمد لله.
561