الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٦
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء السادس
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

(سورة طه مكية إلا آيتي 130 و 131 فمدنيتان وآياتها 135)
بسم الله الرحمن الرحيم «طه» فخمهما قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب على الأصل والطاء وحده أبو عمرو وورش لاستعلائه وأمالهما الباقون وهو من الفواتح التي يصدر بها السور الكريمة وعليه جمهور المتقنين وقيل معناه يا رجل وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي إلا أنه عند سعيد على اللغة النبطية وعند قتادة على السريانية وعند عكرمة على الحبشية وعند الكلبي على لغة عكا وقيل عكل وهي لغة يمانية قالوا إن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بقلب الياء طاء وحذف ذا من هذا وما استشهد به من قول الشاعر
[إن السفاهة طه في خلائقكم * لا قدس الله أخلاق الملاعين]
ليس بنص في ذلك لجواز كونه قسما كما في حم لا ينصرون وقد جوز أن يكون الأصل طاها بصيغة الأمر من الوطء فقلبت الهمزة في يطأ ألفا لانفتاح ما قبلها كما في قول من قال لا هناك المرتع وها ضمير الأرض على أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يطأ الأرض بقدميه لما كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه مبالغة في المجاهدة ولكن يأباه كتابتهما على صورة الحرف كما تأبى التفسير يا رجل فإن الكتابة على صور الحرف مع كون التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم وقرئ طه إما على أن أصله طأ فقلب همزته هاء كما في أمثال هرقت أو قلبت الهمزة في يطأ ألفا كما مر ثم بنى منه الأمر والحق به هاء السكت وإما على أنه اكتفى في التلفظ بشطري الاسمين وأقيما مقامهما في الدلالة على المسميين فكأنهما اسماهما الدالان عليهما وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول من قال أو اكتفى بشطري الكلمتين وعبر عنهما باسمهما وإلا فالشطران لم يذكرا من حيث إنهما مسميان لا سميهما ليقعا معبرا عنهما بل من حيث إنهما جزءان لهما قد اكتفى بذكرهما عن ذكرهما ولذلك وقع التلفظ بأنفسهما لا بأسميهما بأن يراد بضمير التثنية في الموضعين الشطران من حيث هما مسميان لا من حيث هما جزءان للإسمين ويراد باسمهما الشطران من حيث هما قائمان مقام الاسمين فالمعنى اكتفى في التلفظ بشطري الكلمتين أي الاسمين فعبر عنهما أي عن الشطرين من حيث هما مسميان بهما من حيث هما قائمان مقام الاسمين وأما حمله على معنى أنه اكتفى في الكتابة بشطري الكلمتين يعني طا على تقديري كونه أمرا وكونه حرف نداءوها على تقديري كونها كناية عن الأرض وكونها حرف تنبيه وعدل عن ذينك الشطرين في التلفظ باسمهما فبين البطلان كيف وطاؤها على ما ذكر من التقادير ليسا باسمين للحرفين المذكورين بل الأول
2

أمر أو حرف نداء والثاني ضمير الأرض أو حرف تنبيه على أن كتابة صورة الحرف والتلفظ بغيره من خواص حروف المعجم كما مر فالحق ما سلف من أنها من الفواتح إما مسرودة على نمط التعديد بأحد الوجهين المذكورين في مطلع سورة البقرة فلا محل لها من الإعراب وكذا ما بعدها من قوله تعالى «ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى» فإنه استئناف مسوق لتسليته صلى الله عليه وسلم عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب فإن الشقاء شائع في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مهر أي ما أنزلناه عليك لتتعب بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العتاة ومحاورة الطغاة وفرط التأسف على كفرهم به والتحسر على أن يؤمنوا كقوله له عز وجل فلعلك باخع نفسك على آثارهم الآية بل للتبليغ والتذكير وقد فعلت فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك أو لصرفه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة كما يروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه قال له جبريل عليه السلام أبق على نفسك فإن لها عليك حقا أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضات الشاقة والشدائد الفادحة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وقيل إن أبا جهل والنظر بن الحرث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك شقي حيث تركت دين آبائك وأن القرآن نزل عليك لتشقى به فرد ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لما قالوا والأول هو الأنسب كما يشهد به الاستثناء الآتي هذا وإما اسم للقرآن محله الرفع على أنه مبتدأ وما بعده خبره والقرآن ظاهر أوقع موقع العائد إلى المبتدأ كأنه قيل القرآن ما أنزلناه عليك لتشقى أو النصب على إضمار فعل القسم أو الجر بتقدير حرفه وما بعده جوابه وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسما للسورة أيضا بخلاف الوجه الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مقامه فإن القرآن صادق على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدر المشترك بين الكل والبعض أو باعتبار الاندراج إن أريد به الكل بل لأن نفي كون إنزاله للشقاء يستدعي سبق وقوع الشقاء مترتبا على إنزاله قطعا إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بحسب زعم الكفرة كما لو أريد به ضد السعادة ولا ريب في أن ذلك إنما يتصور في إنزال ما أنزل من قبل وأما إنزال السورة الكريمة فليس مما يمكن ترتب الشقاء السابق عليه حتى يتصدى لنفيه عنه أما باعتبار الاتحاد فظاهر وأما باعتبار الاندراج فلأن مآله أن يقال هذه السورة ما أنزلنا القرآن المشتمل عليها لتشقى ولا يخفى أن جعلها مخبرا عنها مع أنه لا دخل لإنزالها في الشقاء
السابق أصلا مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل وقوله تعالى «إلا تذكرة» نصب على أنه مفعول له لأنزلنا لكن لا من حيث إنه معلل بالشقاء على معنى ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه إلا تذكرة الآية كقولك ما ضربتك للتأديب إلا إشفاقا لما أنه يجب في أمثاله أن يكون بين العلتين ملابسة بالسببية والمسببية حتما كما في المثال المذكور وفي قولك ما شافهتك بالسوء لتتأذى إلا زجرا لغيرك فإن التأديب في الأول مسبب عن الإشفاق والتأذي في الثاني سبب لزجر
3

الغير وقد عرفت ما بين الشقاء والتذكرة من التنافي ولا يجدي أن يراد به التعب في الجملة المجامع للتذكرة لظهور أن لا ملابسة بينهما بما ذكر من السببية والمسببية وإنما يتصور ذلك أن لو قيل مكان إلا تذكرة إلا تكثيرا لثوابك فإن الأجر بقدر التعب ولا من حيث إنه بدل من محل لتشقى كما في قوله تعالى ما فعلوه إلا قليل لوجوب المجانسة بين البدلين وقد عرفت حالهما بل من حيث إنه معطوف عليه بحسب المعنى بعد نفيه بطريق الاستدارك المستفاد من الاستثناء المنقطع كأنه قيل ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب في تبليغه ولكن تذكرة «لمن يخشى» وقد جرد التذكرة عن اللام لكونها فعلا لفاعل الفعل المعلل أي لمن من شأنه أن يخشى الله عز وعلا ويتأثر بالإنذار لرقة قلبه ولين عريكته أو لمن علم الله تعالى أنه يخشى بالتخويف وتخصيصا بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها وقوله تعالى «تنزيلا» مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله أي نزل تنزيلا أو لما تفيده الجملة الاستثنائية فإنها متضمنة لأن يقال أنزلناه للتذكرة والأول هو الأنسب بما بعده من الالتفات أو منصوب على المدح والاختصاص وقيل هو منصوب يخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلا من الله تعالى وأنت خبير بأن تعليق الخشية والخوف ونظائرهما بمطلق التنزيل غير معهود نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائره كما في قوله تعالى يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم وقيل هو بدل من تذكرة لكن لا على أنه مفعول له لأنزلنا إذ لا يعلل الشيء بنفسه ولا بنوعه بل على أنه مصدر بمعنى الفاعل واقع موقع الحال من الكاف في عليك أو من القرآن ولا مساغ له إلا بأن يكون قيدا لأنزلنا بعد تقييده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف وقرئ تنزيل على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومن في قوله تعالى «ممن خلق الأرض والسماوات العلى» متعلقة بتنزيلا أو بمضمر هو صفة له مؤكدة لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ونسبة التنزيل إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير وتخصيص خلقهما بالذكر مع أن المراد خلقهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى
«له ما في السماوات وما في الأرض» الآية لأصالتهما واستتباعهما لما عداهما وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس وأظهر عنده ووصف السماوات بالعلا وهو جمع العليا تأنيث الأعلى لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل وكل ذلك إلى قوله تعالى له الأسماء الحسنى مسوق لتعظيم شأن المنزل عز وجل المتتبع لتعظيم شأن المنزل الداعي إلى تربية المهانة وإدخال الروعة المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان واستمالهم نحو الخشية المفضية إلى التذكرة والإيمان «الرحمن» رفع على المدح أي هو الرحمن وقد عرفت في صدر سورة البقرة أن المرفوع مدحا في حكم الصفة الجارية في ما قبله وإن لم يكن تابعا له في الإعراب ولذلك التزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلق من
4

متعلقاته وقد قرئ بالجر على أنه صفة صريحة للموصول وما قيل من أن الأسماء الناقصة لا يوصف منها إلا الذي وحده مذهب الكوفيين وأيا ما كان فوصفه بالرحمانية إثر وصفه بخالقية السماوات والأرض للإشعار بأن خلقهما من آثار رحمته تعالى كما أن قوله تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن للإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الرحمة وفيه إشارة إلى أن تنزيل القرآن أيضا من أحكام رحمته تعالى كما ينبئ عنه قوله تعالى
«الرحمن علم القرآن» أو رفع على الابتداء واللام للعهد والإشارة إلى الموصول والخبر قوله تعالى «على العرش استوى» وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بين لا سترة به غنى عن الإخبار به صريحا وعلى متعلقة باستوى قدمت عليه لمراعاة الفواصل والجار والمجرور على الأول خبر مبتدأ محذوف كما في القراءة الجر وقد جوز أن يكون خبرا بعد خبر والاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع على الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال استوى فلان على سرير الملك يراد به ملك وإن لم يقعد على السرير أصلا والمراد بيان تعلق إرادته الشريفة إيجاد الكائنات وتدبير أمرها وقوله تعالى «له ما في السماوات وما في الأرض» سواء كان ذلك بالجزئية مهما أو بالحلول فيهما «وما بينهما» من الموجودات الكائنة في الجو دائما كالهواء والسحاب أو أكثر يا كالطير أي له وحده دون غيره لا شركة ولا استقلالا كل ما ذكر ملكا وتصرفا وإحياء وإمالة وإيجادا وإعداما «وما تحت الثرى» أي ما وراء الترب وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادة التقرير روى عن محمد بن كعب أنه ما تحت الأرضين السبع وعن السدى أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة «وإن تجهر بالقول» بيان لإحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء إثر بيان سعة سلطنته وشمول قدرته لجميع الكائنات أي وإن تجهر بذكره تعالى ودعائه فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك «فإنه يعلم السر وأخفى» أي ما أسررته إلى غيرك وشيئا أخفى من ذلك وهو ما أخطرته ببالك من غير أن تتفوه به أصلا أو ما أسررته لنفسك وأخفى منه وهو ما ستسره فيما سيأتي تنكيره للمبالغة في الخفاء وهذا إما نهي عن الجهر كقوله تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه سبحانه بل لغرض آخر من تصوير النفس بالذكر وتثبيته فيها ومنعها من الاشتغال بغيره وقطع الوسوسة عنها وهضمها بالتضرع ولا جؤار وقوله تعالى «الله» خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما ذكر من صفات الكمال موصوفها ذلك المعبود بالحق أي ذلك المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة الله عز وجل وقوله تعالى «لا إله إلا هو» تحقيق للحق وتصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه فإن ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات
5

والرحمانية والمالكية للكل والعلم الشامل مما يقتضيه اقتضاء بينا وقوله تعالى «له الأسماء الحسنى» بيان لكون ما ذكر من الخالقية والرحمانية والمالكية والعالمية أسماءه
وصفاته من غير تعدد في ذاته تعالى فإنه روى أن المشركين حين سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول يا الله يا رحمن قالوا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلها آخر والحسنى تأنيث الأحسن بوصف به الواحدة المؤنثة والجمع من المذكر والمؤنث كمآرب أخرى وآياتنا الكبرى «وهل أتاك حديث موسى» استئناف مسوق لتقرير أمر التوحيد الذي إليه ينتهي مساق الحديث وبيان أنه أمر مستمر فيما بين الأنبياء كابرا عن كابر وقد خوطب به موسى عليه الصلاة والسلام حيث قيل له إني أنا الله لا إله إلا أنا وبه ختم عليه الصلاة والسلام مقاله حيث قال إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وأما ما قيل من أن ذلك لترغيب النبي صلى الله عليه وسلم في الائتساء بموسى عليه الصلاة والسلام في تحمل أعباء النبوة والصبر على مقاساة الخطوب في تبليغ أحكام الرسالة فيأباه أن مساق النظم الكريم لصرفه عليه الصلاة والسلام عن اقتحام المشاق وقوله تعالى «إذ رأى نارا» ظرف للحديث وقيل لمضمر مؤخر أي حين رأى نارا كان كيت وكيت وقيل مفعول لمضمر مقدم أي اذكر وقت رؤيته نارا روى أنه عليه الصلاة والسلام استأذن شعبيا عليهما الصلاة والسلام في الخروج إلى أمه وأخيه فخرج بأهله وأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام فلما وافي وادي طوى وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له ولد في ليلة مظلمة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فبينما هو في ذلك إذ رأى نارا على يسار الطريق من جانب الطور «فقال لأهله امكثوا» أي أقيموا مكانكم أمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لئلا يتبعوه فيما عزم عليه الصلاة والسلام من الذهاب إلى النار كما هو المعتاد لا لئلا ينتقلوا إلى موضع آخر فإنه مما لا يخطر بالبال والخطاب للمرأة والولد والخادم وقيل لها وحدها والجمع إما لظاهر لفظ الأهل أو للتفخيم كما في قول من قال [وإن شئت حرمت النساء سواكم] «إني آنست نارا» أي أبصرتها إبصارا بينا لا شبهة فيه وقيل الإيناس خاص بإبصار ما يؤنس به والجملة تعليل للأمر أو المأمور به «لعلي آتيكم منها» أي أجيئكم من النار «بقبس» أي بشعلة مقتبسة من معظم النار وهي المرادة بالجذوة في سورة القصص وبالشهاب القبس «أو أجد على النار هدى» هاديا يدلني على الطريق على أنه مصدر سمي به الفاعل مبالغة أو حذف منه المضاف أي ذا هداية أو على أنه إذا وجد الهادي فقد وجد الهدى وقيل هاديا يهديني إلى أبواب الدين فإن أفكار الأبرار مغمورة بالهمة الدينية في عامة أحوالهم لا يشغلهم عنها شاغل والأول هو الأظهر لأن مساق النظم الكريم لتسلية أهله وقد نص عليه في سورة القصص حيث قيل لعلي آتيكم منها بخير أو جذوة الآية وكلمة أو في الموضعين لمنع الخلو دون منع الجمع ومعنى الاستعلاء في قوله
6

تعالى على النار أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها أو لأنهم عند الاصطلاء يكتنفونها قياما وقعودا فيشرفون عليها ولما كان الإتيان بهما مترقبا غير محقق الوقوع صدر الجملة بكلمة الترجى وهي إما علة لفعل قد حذف ثقة بما يدل عليه من الأمر بالمكث والإخبار بإيناس النار وتفاديا عن التصريح بما يوحشهم وإما حال من فاعله أي فأذهب إليها لآتيكم أو كي آتيكم أو راجيا أن آتيكم منها بقبس الآية وقد مر تحقيق ذلك مفصلا في تفسير قوله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون «فلما أتاها» أي النار التي آنسها قال ابن عباس رضي الله عنهما رأى شجرة خضراء أطافت بها من أسفلها إلى أعلاها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجبا من شدة ضوئها وشدة خضرة الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوءها قالوا النار أربعة أصناف صنف يأكل ولا يشرب وهي نار الدنيا وصنف يشرب ولا يأكل وهي نار الشجر الأخضر وصنف يأكل ويشرب وهي نار جهنم وصنف لا يأكل ولا يشرب وهي نار موسى عليه الصلاة والسلام وقالوا أيضا هي أربعة أنواع نوع له نور وإحراق وهي نار الدنيا ونوع لا نور له ولا إحراق وهي نار الأشجار ونوع له نور بلا إحراق وهي نار موسى عليه الصلاة والسلام ونوع له إحراق بلا نور وهي نار جهنم روى أن الشجرة كانت عوسجة وقيل كانت سمرة «نودي يا موسى» أي نودي فقيل يا موسى «إني أنا ربك» أو عومل النداء معاملة القول لكونه ضربا منه وقرئ بالفتح أي بأني وتكرير الضمير لتأكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة روي أنه لما نودي يا موسى قال عليه الصلاة والسلام من المتكلم فقال الله عز وجل أنا ربك فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال أنا عرفت أنه كلام الله تعالى بأني أسمعه من جميع الجهات بجميع الأعضاء قلت وذلك لأن سماع ما ليس من شأنه ذلك من الأعضاء ليس إلا من آثار قدرة الخلاق العليم تعالى وتقدس وقيل تلقى عليه الصلاة والسلام كلام رب العزة تلقيا روحانيا ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه وانتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة «فاخلع نعليك» أمر عليه الصلاة والسلام بذلك لأن الحفوة أدخل في التواضع وحسن الأدب ولذلك كان السلف الصالحون يطوفون بالكعبة حافين وقيل ليباشر الوادي بقدميه تبركا به وقيل لما أن نعليه كانا من جلد حمار غير مدبوغ وقيل معناه فرغ قلبك من الأهل والمال والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها فإن ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام من موجبات الأمر ودواعيه وقوله تعالى «إنك بالواد المقدس» تعليل لوجوب الخلع المأمور به وبيان لسبب ورود الأمر بذلك من شرف البقعة وقدسها روى أنه عليه الصلاة والسلام خلعهما وألقاهما وراء الوادي «طوى» بضم الطاء غير منون وقرئ منونا وقرئ بالكسر منونا وغير منون فمن نونه أوله بالمكان دون البقعة وقيل هو كثنى من الطي مصدر لنودي أو المقدس أي نودي نداءين أو قدس مرة
7

بعد أخرى «وأنا اخترتك» أي اصطفيتك للنبوة والرسالة وقرئ وإنا اخترناك بالفتح والكسر والفاء في قوه «فاستمع» لترتيب الأمر أو المأمور به على ما قبلها فإن اختياره عليه السلام لما ذكر مر موجبات الاستماع والأمر به واللام في قوله تعالى «لما يوحى» متعلقة باستمع وما موصولة أو مصدرية أي فاستمع للذي يوحى إليك أو للوحي لا باخترتك كما قيل لكن لا لما قيل من أنه من باب التنازع وإعمال الأول فلا بد حينئذ من إعادة الضمير مع الثاني بل لأن قوله تعالى «إنني أنا الله لا إله إلا أنا» بدل من ما يوحى ولا ريب في ان اختياره عليه الصلاة والسلام ليس لهذا الوحي فقط والفاء في قوله تعالى «فاعبدني» لترتيب المأمور به على ما قبلها فإن اختصاص الألوهية به سبحانه وتعالى من موجبات تخصيص العبادة به عز وجل «وأقم الصلاة» خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر مع اندراجها في الأمر بالعبادة لفضلها وإنافتها على سائر العبادات بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره وذلك قوله تعالى «لذكري» أي لتذكرني فإني ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار أو لذكرى خاصة لا تشوبه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضا آخر أو لتكون ذاكرا لي غير ناس وقيل لذكري إياها وأمري بها في الكتب أو لأن أذكرك بالمدح والثناء وقيل لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما
روى أنه صلى الله عليه وسلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لأن الله تعالى يقول وأقم الصلاة لذكري وقرئ لذكري بألف التأنيث وللذكرى معروفا وللذكر بالتعريف والتنكير وقوله تعالى «إن الساعة آتية» تعليل لوجوب العبادة وإقامة الصلاة أي كائنة لا محالة وإنما عبر عن ذلك بالإتيان تحقيقا لحصولها بإبرازها في معرض أمر محقق متوجه نحو المخاطبين «أكاد أخفيها» أي لا أظهرها بأن أقول إنها آتية لولا أن ما في الإخبار بذلك من اللطف وقطع الأعذار لما فعلت أو أكاد أظهرها بإيقاعها من أخفاه إذا أظهره بسلب خفائه ويؤيده القراءة بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره وقيل أخفاه من الأضداد يجيء بمعنى الإظهار والستر وقوله تعالى «لتجزى كل نفس بما تسعى» متعلق بآتية وما بينهما اعتراض أو بأخفيها على المعنى الأخير وما مصدرية أي لتجزي كل نفس بسعيها في تحصيل ما ذكر من الأمور المأمور بها وتخصيصه في معرض الغاية لإتيانها مع أنه الجزاء كل نفس بما صدر عنها سواء كان سعيا فيما ذكر أو تقاعدا عنه بالمرة أو سعيا في تحصيل ما يضاده للإيذان بأن المراد بالذات من إتيانها هو الإثابة بالعبادة وأما العقاب بتركها فمن مقتضيات سوء اختيار العصاة وبأن المأمور به في قوة الوجوب والساعة في شدة الهول والفظاعة بحيث يوجبان على كل نفس أن تسعى في الامتثال بالأمر وتجد في تحصيل ما ينجيها من الطاعات وحينئذ تحترز عن
8

اقتراف ما يرديها من المعاصي وعليه مدار الأمر في قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا فإن الابتلاء مع شموله لكافة المكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط قد علق بالأخيرين لما ذكر من أن المقصود الأصلي من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وإن ذلك لكونه على أتم الوجوه الرائقة وأكمل الأنحاء اللائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدي كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعف وأما الإعراض عن ذلك والوقوع في مهاوي الضلال فبمعزل من الوقوع فضلا عن أن ينتظم في سلك الغاية لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له أو مسوغ هذا ويجوز أن يراد بالسعي مطلق العمل «فلا يصدنك عنها» أي عن ذكر الساعة ومراقبتها وقيل عن تصديقها والأول هو الأليق بشأن موسى عليه الصلاة والسلام وإن كان النهي بطريق التهييج والإلهاب وتقديم الجار والمجرور على قوله تعالى «من لا يؤمن بها» لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مستشرفة له فيتمكن عند وروده لها فضل تمكن ولأن في المؤخر نوع طول ربما يخل تقديمه بجزالة النظم الكريم وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكافر عن صد موسى عليه الصلاة والسلام عن الساعة لكنه في الحقيقة نهى له عليه الصلاة والسلام عن الانصداد عنها على أبلغ وجه وآكده فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه نهى عنه بالطريق البرهاني وإبطال للسبية من أصلها كما في قوله تعالى ولا يجرمنكم الخ فإن صد الكافر حيث كان سببا لانصداده عليه الصلاة والسلام كان النهي عنه نهيا بأصله وموجبه وإبطالا له بالكلية ويجوز أن يكون من باب النهي عن المسبب وإرادة النهي عن السبب على أن يراد نهيه عليه الصلاة والسلام عن إظهار لين الجانب للكفرة فإن ذلك سبب لصدهم إياه عليه الصلاة والسلام كما في قوله لا أرينك ههنا فإن المراد به نهي المخاطب عن الحضور لديه الموجب لرؤيته «واتبع هواه» أي ما تهواه نفسه من اللذات الحسية الفانية «فتردى» أي فتهلك فإن الإغفال عنها وعن تحصيل ما ينجي عن أهوالها مستتبع للهلاك لا محالة وهو في محل النصب على جواب النهي أو في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فأنت تردى «وما تلك بيمينك يا موسى» شروع في حكاية ما كلف به عليه الصلاة والسلام من الأمور المتعلقة بالخلق إثر حكاية ما أمر به من الشؤون الخاصة بنفسه فما استفهامية في حيز الرفع بالابتداء وتلك خبرة أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بنفسه فما استفهامية في حيز الرفع بالابتداء وتلك خبره أو بالعكس وهو أدخل بحسب المعنى وأوفق بالجواب وبيمينك متعلق بمضمر وقع حالا أي وما تلك قارة أو مأخوذة بيمينك والعامل معنى الإشارة كما في قوله عز وعلا وهذا بعلى شيخا وقيل تلك موصولة أي ما التي هي بيمينك وأيا ما كان فالاستفهام
9

إيقاظ وتنبيه له عليه الصلاة والسلام على ما سيبدو له من التعاجيب وتكرير النداء لزيادة التأنيس والتنبيه «قال هي عصاي» نسبها إلى نفسه تحقيقا لوجه كونها بيمينه وتمهيدا لما يعقبه من الأفاعيل المنسوبة إليه عليه الصلاة والسلام وقرئ عصى على لغة هذيل «أتوكأ عليها» أي أعتمد عليها عند الإعياء أو الوقوف على رأس القطيع «وأهش بها» أي أخبط بها الورق وأسقطه «على غنمي» وقرئ أهش بكسر الهاء وكلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته وقرئ بالسين غير المعجمة وهو زجر الغنم وتعديته بعلى لتضمين معنى الإنحاء والإقبال أي أزجرها منحيا ومقبلا عليها «ولي فيها مآرب أخرى» أي حاجات أخر من هذا الباب مثل ما روى أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق به أدواته من القوس والكنانة والحلاب ونحوها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبيتها وألقى عليها الكساء واستظل به وإذا قصر الرشاء وصله بها وإذا تعرضت لغنمه السباع قاتل بها وقيل ومن جملة المآرب أنها كانت ذات شبعتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا أراد كسره لواه بالشعبتين وكأنه عليه الصلاة والسلام فهم أن المقصود من السؤال بيان حقيقتها وتفصيل منافعها بطريق الاستقصاء حتى إذا ظهرت على خلاف تلك الحقيقة وبدت منها خواص بديعة علم أنها آيات باهرة ومعجزات قاهرة أحدثها الله تعالى وليست من الخواص المترتبة عليها فذكر حقيقتها ومنافعها على التفصيل والإجمال على معنى أنها من جنس العصى مستتبعة لمنافع بنات جنسها ليطابق جوابه الغرض الذي فهمه من سؤال العليم الخبير «قال» استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قيل فماذا قال عز وجل فقيل قال «ألقها يا موسى» لترى من شأنها ما لم يخطر ببالك من الأمور وتكرير النداء لتأكيد التنبيه «فألقاها» على الأرض «فإذا هي حية تسعى» روى أنه عليه الصلاة والسلام حين ألقاها انقلبت حية صفراء في غلظ العصا ثم انتفخت وعظمت فلذلك شبهت بالجان تارة وسميت ثعبانا أخرى وعبر عنها ههنا بالاسم العام للحالين وقيل قد انقلبت من أول الأمر ثعبانا وهو الأليق بالمقام كما يفصح عنه قوله عز وجل فإذا هي ثعبان مبين وإنما شبهت بالجان في الجلادة وسرعة الحركة لا في صغر الجثة وقوله تعالى تسعى إما صفة لحية أو خبر ثان عند من يجوز كونه جملة «قال» استئناف كما سبق «خذها ولا تخف» عن ابن عباس رضي الله عنهما انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع كل شيء من الصخر والشجر فلما رآه كذلك خاف ونفر وملكه ما يملك البشر عند مشاهدة الأهوال والمخاوف من الفزع والنفار وفي
عطف النهي على الأمر إشعار بأن عدم النهي عنه
10

مقصود لذاته لا لتحقيق المأمور به فقط وقوله تعالى «سنعيدها سيرتها الأولى» مع كونه استئنافا مسوق لتعليل الامتثال بالأمر والنهي فإن إعادتها إلى ما كانت عليه من موجبات أخذها وعدم الخوف منها عدة كريمة بإظهار معجزة أخرى أخرى على بدء عليه الصلاة والسلام وإيذان بكونها مسخرة له عليه الصلاة والسلام ليكون على طمأنينة من أمره ولا يعتريه شائبة تزلزل عند محاجة فرعون أي سنعيدها بعد الأخذ إلى حالتها الأولى التي هي الهيئة العصوية قيل بلغ عليه الصلاة والسلام عند ذلك من الثقة وعدم الخوف إلى حيث كان يدخل يده في فمها ويأخذ بلحييها والسيرة فعلة من السير تجوز بها للطريقة والهيئة وانتصابها على نزع الجار أي إلى سيرتها أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه أو على الظرفية أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها وإيقاعها حالا من المفعول أي سنعيدها عصا كما كانت من قبل تسير سيرتها الأولى أي سائرة سيرتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل «واضمم يدك إلى جناحك» أمر عليه الصلاة والسلام بذلك بعد ما أخذ الحية وانقلبت عصا كما كانت أي أدخلها تحت عضدك فإن جناحي الإنسان جنباه كما أن جناحي العسكر ناحيتاه مستعار من جناحي الطائر وقد سميا جناحين لأنه يجنحهما أي يميلهما عند الطيران وقوله تعالى «تخرج» جواب الأمر وقوله تعالى «بيضاء» حال من الضمير فيه وقوله تعالى «من غير سوء» متعلق بمحذوف هو حال من الضمير في بيضاء أي كائنة من غير عيب وقبح كنى به عن البرص كما كنى بالسوءة عن العورة لما أن الطباع تعافه وتنفر عنه روى أنه عليه الصلاة والسلام كان آدم فأخرج يده من مدرعته بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس تغشى البصر «آية أخرى» أي معجزة أخرى غير العصا وانتصابها على الحالية إما من الضمير في تخرج على أنها بدل من الحال الأولى وإما من الضمير في بيضاء وقيل من الضمير في الجار والمجرور وقيل هي منصوبة بفعل مضمر نحو خذ أو دونك وقوله تعالى «لنريك من آياتنا الكبرى» متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل فعلنا ما فعلنا من الأمر والإظهار لنريك بذلك بعض آياتنا الكبرى على أن الكبرى صفة لآياتنا أو نريك بذلك من آياتنا ما هي كبرى على أن الكبرى مفعول ثان لنريك من آياتنا متعلق بمحذوف هو حال من ذلك المفعول وأيا ما كان فالآية الكبرى عبارة عن العصا واليد جميعا وإما تعلقه بما دل عليه آية أي دللنا بها لنريك الخ أو بقوله تعالى واضمم أو بقوله تخرج أو بما قدر من نحو خذ ودونك كما قال بكل من ذلك قائل فيؤدي إلى عراء آية العصا عن وصف الكبر فتدبر «اذهب إلى فرعون» تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة فصل عما قبله من الأوامر إيذانا بأصالته أي اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقوله تعالى «إنه طغى» تعليل للأمر أو لوجوب المأمور به أي جاوز الحد في التكبر والعتو والتجبر حتى تجاسر على
11

العظيمة التي هي دعوى الربوبية «قال» استئناف مبني على سؤال ينساق إليه الذهن كأنه قبل فماذا قال عليه الصلاة والسلام حين أمر بهذا الأمر الخطير والخطب العسير فقيل قال مستعينا بربه عز وجل «رب اشرح لي صدري» «ويسر لي أمري» لما أمر بما أمر به من الخطب الجليل تضرع إلى ربه عز وجل وأظهر عجزه بقوله ويضيق صدري ولا ينطلق لساني وسأله تعالى أن يوسع صدره ويفسح قلبه ويجعله عليما بشؤون الحق وأحوال الخلق حليما حمولا يستقل ما عسى يرد عليه من الشدائد والمكاره بجميل الصبر وحسن الثبات ويتلقاها بصدر فسيح وجأش رابط وأن يسهل عليه مع ذلك أمره الذي هو أجل الأمور وأعظمها وأصعب الخطوب وأهولها بتوفيق الأسباب ورفع الموانع وفي زيادة كلمة لي مع انتظام الكلام بدونها تأكيد لطلب الشرح والتيسير بإيهام الشروح والميسر أولا وتفسيرهما ثانيا وفي تقديمها وتكريرها إظهار مزيد اعتناء بشأن كل من المطلوبين وفضل اهتمام باستدعاء حصولهما له واختصاصهما به «واحلل عقدة من لساني» روى أنه كان في لسانه عليه الصلاة والسلام رتة من جمرة أدخلها فاه في صغره وذلك أن فرعون حمله ذات يوم فأخذ لحيته ينتفها لما كان فيها من الجواهر فغضب وأمر بقتله فقالت آسية إنه صبي لا يفرق بين الجمر والتمر والياقوت فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة فوضعها في فيه قيل واحترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنه واختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله تعالى قد أوتيت سؤلك ومن لم يقل به احتج بقوله تعالى هو أفصح مني وقوله تعالى ولا يكاد يبين وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه بالكلية بل حل عقدة تمنع الإفهام ولذلك نكرها ووصفها بقوله من لساني أي عقدة كائنة من عقد لساني وجعل قوله تعالى «يفقهوا قولي» جواب الأمر وغرضا من الدعاء فيحلها في الجملة يتحقق إيتاء سؤله عليه الصلاة والسلام والحق أن ما ذكر لا يدل على بقائها في الجملة أما قوله تعالى هو أفصح مني فلأنه عليه الصلاة والسلام قاله استدعاء الحل كما ستعرفه على أن أفصحيته منه عليهما الصلاة والسلام لا تستدعي بقاءها أصلا بل تستدعي عدم البقاء لما أن الأفصيحة توجب ثبوت أصل الفصاحة في المفضول أيضا وذلك مناف للعقدة رأسا وأما قوله تعالى ولا يكاد يبين فمن باب غلو اللعين في العتو والطغيان وإلا لدل على عدم زوالها أصلا وتنكيرها إنما يفيد قلتها في نفسها لا قلتها باعتبار كونها بعضا من الكثير وتعلق كلمة من في قوله تعالى من لساني بمحذوف هو صفة لها ليس بمقطوع به بل الظاهر تعلقها بنفس الفعل فإن المحلول إذا كان
12

متعلقا بشيء ومتصلا به فكما يتعلق الحل به يتعلق بذلك الشيء أيضا باعتبار إزالته عنه أو ابتداء حصوله منه «واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي» أي موازرا يعاونني في تحمل أعباء ما كلفته علي أن اشتقاقه من الوزر الذي هو الثقل أو ملجأ اعتصم برأيه على أنه من الوزر وهو الملجأ وقيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة فعيل بمعنى فاعل كالعشير والجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر ونصبه على أنه مفعول ثان لا جعل قدم على الأول الذي هو قوله تعالى هارون اعتناء بشأن الوزارة ولي صلة للجعل أو متعلق بمحذوف هو حال من وزيرا إذ هو صفة له في الأصل ومن أهلي إما صفة لوزيرا أو صلة لا جعل وقيل مفعولاه لي وزيرا وهارون عطف بيان للوزير ومن أهلي كما مر من الوجهين وأخي في الوجهين بدل من هارون أو عطف بيان آخر وقيل هما وزيرا من أهلي وبي وتبيين كما في قوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد ورد بأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية ولا مساغ لجعل وزيرا مبتدأ ويخبر عنه بما بعده «اشدد به أزري» «وأشركه في أمري» كلاهما على صيغة الدعاء أي أحكم به قوتي واجعله شريكي في أمر الرسالة حتى نتعاون على أدائها كما ينبغي وفصل الأول عن الدعاء السابق لكمال
الاتصال بينهما فإن شد الأزر عبارة عن جعله وزيرا وأما الإشراك في الأمر فحيث كان من أحكام الوزارة توسط بينهما العاطف «كي نسبحك كثيرا» «ونذكرك كثيرا» غاية للأدعية الثلاثة الأخيرة فإن فعل فيها كل واحد منهما من التسبيح والذكر مع كونه مكثرا لفعل الآخر ومضاعفا له بسبب انضمامه إليه مكثر له في نفسه أيضا بسبب تقويته وتأييده إذ ليس المراد بالتسبيح والذكر ما يكون منهما بالقلب أو في الخلوات حتى لا يتفاوت حاله عند التعدد والانفراد بل ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة العتاة إلى الحق وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والانفراد فإن كلا منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الانفراد وكثيرا في الموضعين نعت لمصدر محذوف أو زمان محذوف أي ننزهك عما لا يليق بك من الصفات والأفعال التي من جملتها ما يدعيه فرعون الطاغية ويقبله منه فئته الباغية من ادعاء الشركة في الألوهية ونصفك بما يليق بك من صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال تنزيها
13

كثيرا أو زمانا كثيرا من جملته زمان دعوة فرعون وأوان المحاجة معه وأما ما قيل من أن المعنى كي نصلي لك كثيرا ونحمدك ونثني عليك فلا يساعده المقام «إنك كنت بنا بصيرا» أي عالما بأحوالنا وبأن ما دعوتك به مما يصلحنا ويفيدنا في تحقيق ما كلفته من إقامة مراسم الرسالة وبأن هارون نعم الردء في أداء ما أمرت به والباء متعلقة ببصيرا قدمت عليه لمراعاة الفواصل «قال قد أوتيت سؤلك» أي أعطيت سؤلك فعل بمعنى مفعول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والايتاء عبارة عن تعلق ارادته تعالى بوقوع تلك المطالب وحصولها له عليه السلام البتة وتقديره إياها حتما فكلها حاصلة له عليه السلام وإن كان وقوع بعضها بالفعل مترقبا بعد كتيسير الأمر وشد الأزر وباعتباره قيل سنشد عضدك بأخيك وقوله تعالى «يا موسى» تشريف له عليه السلام بشرف الخطاب إثر تشريفه بشرف قبول الدعاء وقوله تعالى «ولقد مننا عليك» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب فلان ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى وتصديره بالقسم لكمال الاعتناء بذلك أي وبالله لقد أنعمنا «مرة أخرى» أي في وقت غير هذا الوقت لا أن ذلك مؤخر عن هذا فإن أخرى تأنيت آخر بمعنى غير والمرة في الأصل اسم للمرور الواحد ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات متعدية كانت أو لازمة ثم شاع في كل فرد واحد من أفراد ماله أفراد متجددة متعددة فصار علما في ذلك حتى جعل معيارا لما في معناه من سائر الأشياء فقيل هذا بناء المرة ويقرب منها الكرة والتارة والدفعة والمراد بها ههنا الوقت الممتد الذي وقع فيه ما سيأتي ذكره من المنن العظيمة الكثيرة وقوله تعالى «إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى» ظرف لمننا والمراد بالإيحاء إما الإيحاء على لسان نبي في وقتها كقوله تعالى وإذا أوحيت إلى الحواريين الآية وإما الإيحاء بواسطة الملك لا على وجه النبوة كما أوحي إلى مريم وإما الإلهام كما في قوله تعالى وأوحى ربك إلى النحل وإما الإرادة في المنام والمراد بما يوحى وسيأتي من الأمر بقذفه في التابوت وقذفه في البحر أيهم أولا تهويلا له وتفخيما لشأنه ثم فسر ليكون أقر عند النفس وقيل معناه ما ينبغي أن يوحى ولا يخل به لعظم شأنه وفرط الاهتمام به وقيل مالا يعلم إلا بالوحي وفيه إنه لا يلائم المعنيين الأخيرين للوحي إذ لا تفخيم لشأنه في أن يكون مما لا يعلم إلا بالإلهام أو بالإرادة في المنام
14

وأن في قوله تعالى «أن اقذفيه في التابوت» مفسرة لأن الوحي من باب القول أو مصدرية محذف منها الباء أي بأن اقذفيه ومعنى القذف ههنا الوضع وأما في قوله تعالى «فاقذفيه في اليم» فالإلقاء وهذا التفصيل هو المراد بقوله تعالى فإذا خفت عليه فألقيه في اليم لا القذف بلا تابوت «فليلقه اليم بالساحل» لما كان إلقاء البحر إياه بالساحل أمرا واجب الوقوع لتعلق الإرادة الربانية به جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمر بذلك وأخرج الجواب مخرج الأمر والضمائر كلها لموسى عليه السلام والمقذوف في البحر والملقى بالساحل وإن كان هو التابوت أصالة لكن لما كان المقصود بالذات ما فيه جعل التابوت تابعا له في ذلك «يأخذه عدو لي وعدو له» جواب للأمر بالإلقاء وتكرير العدو للمبالغة والتصريح بالأمر والإشعار بأن عداوته له مع تحققها لا تؤثر فيه ولا تضره بل تؤدي إلى المحبة فإن الأمر بما هو سبب للهلاك صورة من قذفه في البحر ووقوعه في يد عدو الله تعالى وعدوه مشعر بأن هناك لطفا خفيا مندرجا تحت قهر صوري وقيل الأول باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع وليس المراد بالساحل نفس الشاطئ بل ما يقابل الوسط وهو ما يلي الساحل من البحر بحيث يجري ماؤه إلى نهر فرعون لما روى أنها جعلت في التابوت قطنا ووضعته فيه ثم قيرته وألقته في اليم وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر صغير فدفعه الماء إليه فأتى به إلى بركة في البستان وكان فرعون جالسا ثمة مع آسية بنت مزاحم بأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يكاد يتمالك الصبر عنه وذلك قوله تعالى «وألقيت عليك محبة مني» كلمة من متعلقة بمحذوف هو صفة لمحبة مؤكدة لما في تنكيرها من الفخامة الإضافية أي محبة عظيمة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك ولذلك أحبك عدو الله وآله وقيل هي متعلقة بألقيت أي أحببتك ومن أحبه الله تعالى أحبته القلوب لا محالة وقوله تعالى «ولتصنع على عيني» متعلق بألقيت معطوف على علة له مضمرة أي ليتعطف عليك ولنربي بالحنو والشفقة بمراقبتي وحفظي أو بمضمرة مؤخر هو عبارة عما قبله من إلقاء المحبة والجملة مبتدأة أي ولتصنع على عيني فعلت ذلك وقري ولتصنع على صيغة الأمر بسكون اللام وكسرها وقرئ بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك على عين مني لئلا يخالف به عن أمري «إذ تمشي أختك» ظرف لتصنع على أن المراد به وقت وقع فيه مشيها إلى بيت فرعون وما ترتب عليه من القول والرجع إلى أمها وتربيتها له بالبر والحنو وهو المصداق لقوله تعالى ولتصنع على عيني إذ لا شفقة
15

أعظم من شفقة الأم وصنعها على موجب مراعاته تعالى وقيل هو بدل من إذ أوحينا على أن المراد به زمان متسع متباعد الأطراف وهو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى فنجيناك من الغم الخ فإن جميع ذلك من المنن الإلهية ولا تعلق لشيء منها الصنع المذكور وأما كونه ظرفا لألقيت كما جوز فربما يوهم أن إلقاء المحبة لم يحص قبل ذلك ولا ريب في أن معظم آثار إلقائها ظهر عند فتح التابوت «فتقول» أي لفرعون وآسية حين رأتهما يطلبان له عليه السلام مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثديا وصيغة المضارع في الفعلين لحكاية الحال الماضية «هل أدلكم على من يكفله» أي يضمه إلى نفسه ويربيه وذلك إنما يكون بقبوله ثديها يروى أنه فشا الخبر بمصر أن آل
فرعون أخذوا غلاما في النيل لا يرتضع ثدي امرأة واضطروا إلى تبليغ النساء فخرجت أخته مريم لتعرف خبره فجاءتهم متنكرة فقالت ما قالت وقالوا ما قالوا فجاءت بأمه فقبل ثديها فالفاء في قوله تعالى «فرجعناك إلى أمك» فصيحة معربة عن محذوف قبلها يعطف عليه ما بعدها أي فقالوا دلينا عليها فجاءت بأمك فرجعناك إليها «كي تقر عينها» بلقائك «ولا تحزن» أي لا يطرأ عليها الحزن بفراقك بعد ذلك وإلا فزوال الحزن مقدم على السرور المعبر عنه بقرة العين فإن التخلية متقدمة على التحلية وقيل ولا تحزن أنت بفقد إشفاقها «وقتلت نفسا» هي نفس القبطي الذي استغاثه الإسرائيلي عليه «فنجيناك من الغم» أي غم قتله خوفا من عقاب الله تعالى بالمغفرة ومن اقتصاص فرعون بالإنجاء منه بالمهاجرة إلى مدين «وفتناك فتونا» أي ابتليناك ابتلاء أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز في حجزه وبدور في بدرة أي خلصناك مرة أخرى وهو إجمال ما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن ومفارقة الإلاف والمشي راجلا وفقد الزاد وقد روي أن سعيد ابن جبير سأل عنه ابن عباس رضي الله عنهما فقال خلصناك من محنة بعد محنة ولد في عام كان يقتل فيه الولدان فهذه فتنة يا ابن جبير وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقتل قبطيا وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة وكان يقول عند كل واحدة فهذه فتنة يا ابن جبير ولكن الذي يقتضيه النظم الكريم أن لا تعد إجارة نفسه وما بعدها من تلك الفتون ضرورة أن المراد بها ما وقع قبل وصوله عليه السلام إلى مدين بقيضة الفاء في قوله تعالى «فلبثت سنين في أهل مدين» إذ لا ريب في أن الإجارة المذكورة وما بعدها مما وقع بعد الوصول إليهم وقد أشير بذكر لبثه عليه السلام فيهم دون وصوله إليهم إلى جميع ما قاساه عليه السلام في تضاعيف تلك السنين العشر من فنون الشدائد والمكاره التي كل واحد منها فتنة وأي فتنة ومدين بلدة شعيب عليه الصلاة والسلام على ثماني مراحل مصر «ثم جئت» إلى المكان الذين أونس فيه النار ووقع فيه النداء والجؤار وفي كلمة التراخي إيذان بأن مجيئه عليه السلام كان بعد اللتيا والتي من ضلال الطريق وتفرق الغنم في الليلة المظلمة الشاتية وغير ذلك «على قدر» أي تقدير قدرته لأن أكلك وأستنبئك في وقت قد عينته لذلك فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأجر وقيل على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء عليهم السلام وهو رأس أربعين سنة وقوله تعالى «يا موسى» تشريف له عليه الصلاة والسلام وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولا
16

وقوله تعالى «واصطنعتك لنفسي» تذكير لقوله تعالى وأنا اخترتك وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيدا بأخيه حسبما استدعاه بعد تذكير المنن السابغة السابقة تأكيدا لوثوقه عليه السلام بحصول نظائرها اللاحقة وهذا تمثيل لما خوله عز وعلا من الكرامة العظمى بتقريب الملك بعض خواصه واصطناعه لنفسه وترشيحه لبعض أموره الجليلة والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى وفتناك ونظيريه السابقين تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص أي اصطفيتك برسالاتي وبكلامي وقوله تعالى «اذهب أنت وأخوك» أي وليذهب أخوك حسبما استدعيت استئناف مسوق لبيان ما هو المقصود بالاصطناع «بآياتي» أي بمعجزاتي التي أريتكها من اليد والعصا فإنهما وإن كانتا اثنتين لكن في كل منهما آيات شتى كما في قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم فإن انقلاب العصا حيوانا آية وكونها ثعبانا عظيما لا يقادر قدره آية أخرى وسرعة حركته مع عظم جرمه آية أخرى وكونه مع ذلك مسخرا له عليه السلام بحيث كان يدخل يده في فمه فلا يضره آية أخرى ثم انقلابها عصا آية أخرى وكذلك اليد فإن بياضها في نفسه آية وشعاعها آية ثم رجوعها إلى حالتها الأولى آية أخرى والباء للمصاحبة لا للتعدية إذ المراد ذهابهما إلى فرعون ملتبسين بالآيات متمسكين بها في إجراء أحكام الرسالة وإكمال أمر الدعوة لا مجرد إذهابها وإيصالها إليه «ولا تنيا» لا تفترا ولا تقصرا وقرئ لا تنيا بكسر التاء للاتباع «في ذكري» أي بما يليق بي من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلى وقيل المعنى لا تنيا في تبليغ رسالتي فإن الذكر يقع على جميع العبادات وهو أجلها وأعظمها وقيل لا تنسياني حيثما تقلبتما واستمدا بذكري العون والتأييد وأعلما أن أمرا من الأمور لا يتأتى ولا يتسنى إلا بذكري «اذهبا إلى فرعون» جمعهما في صيغة أمر الحاضر مع غيبة هارون إذ ذاك للتغليب وكذا الحال في صيغة النهي روى أنه أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى عليهما السلام وقيل سمع بإقباله فتلقاه «إنه طغى» تعليل لموجب الأمر والفاء في قوله تعالى «فقولا له قولا لينا» لترتيب ما بعدها على طغيانه فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة قال ابن عباس رضي الله عنهما لا تعنفا في قولكما وقيل القول اللين مثل هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فإنها دعوة في صورة عرض ومشورة ويرده ما سيجئ من قوله تعالى فقولا إنا رسولا ربك الآيتين وقيل كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة وقيل
17

عداه شبابا لا يهرم ويبقى له لذة المطعم والمشرب ومنكح وملكا لا يزول إلا بالموت وقرئ لينا «لعله يتذكر» بما بلغتماه من ذكري ويرغب فيما رغبتماه فيه «أو يخشى» عقاب ومحل الجملة النصب على الحال من ضمير التثنية أي فقولا له قولا لينا راجين أن يتذكر أو يخشى وكلمة أو لمنع الخلو أي باشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع في أن يثمر علمه ولا يخيب سعيه وهو يجتهد بطوقه ويحتشد بأقصى وسعه وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بحاله إلزام الحجة وقطع المعذرة «قالا ربنا» أسند القول إليهما مع ان القائل حقيقة هو موسى عليه الصلاة والسلام بطريق التغليب إيذانا بأصالته في كل قول وفعل وتبعية هارون عليه السلام له في كل ما يأتي ويذر ويجوز أن يكون هارون قد قال ذلك بعد تلاقيهما فحكى ذلك مع قول موسى عليه السلام عند نزول الآية كما في قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات فإن هذا الخطاب قد حكى لنا بصيغة الجمع مع أن كلا من المخاطبين لم يخاطب إلا بطريق الانفراد ضرورة استحالة اجتماعهم في الوجود فكيف باجتماعهم في الخطاب «إننا نخاف أن يفرط علينا» أي يعجل علينا بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار المعجزة من فرط إذا تقدم ومنه الفارط وفرس فارط يسبق الخيل وقرئ يفرط من أفرطه إذا حمله على العجلة أي نخاف أن يحمله حامل من الاستكبار أو الخوف على الملك أو غيرهما على المعاجلة بالعقاب «أو أن يطغى» أي يزداد طغيانا إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لكمال جراءته وقساوته وإطلاقه من حسن الأدب وإظهار كلمة أن مع سداد المعنى بدونه لإظهار كمال الاعتناء بالأمر والإشعار بتحقق الخوف من كل منهما «قال» استئناف مبني على السؤال الناشئ من النظم الكريم ولعل إسناد الفعل إلى ضمير الغيبة للإشعار بانتقال الكلام من مساق إلى آخر فإن ما قبله من الأفعال الواردة على
صيغة التكلم حكاية لموسى عليه السلام بخلاف ما سيأتي من قوله تعالى فلنا لا تخف إنك أنت الأعلى فإن ما قبله أيضا وارد بطريق الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل فماذا قال لهما ربهما عند تضرعهما إليه فقيل قال «لا تخافا» ما توهمتما من الأمرين وقوله تعالى «إنني معكما» تعليل لموجب النهي ومزيد تسلية لهما والمراد بالمعية كمال الحفظ والنصرة كما ينبئ عنه قوله تعالى «أسمع وأرى» أي ما جري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل في كل حال ما يليق بها من دفع ضر وشر وجلب نفع وخير ويجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سميعا بصيرا والحافظ الناصر إذا كان كذلك فقد تم وبلغت النصرة غايتها «فأتياه» أمرا بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعدما أمر بالذهاب إليه فلا تكرار وهو عطف على لا تخافا باعتبار
18

تعليله بما بعده «فقولا إنا رسولا ربك» أمرا بذلك تحقيقا للحق من أول الأمر ليعرف الطاغية شأنهما ويبنى جوابه عليه وكذا التعرض لربوبيته تعالى له والفاء في قوله تعالى «فأرسل معنا بني إسرائيل» لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن كونهما رسولي ربه مما يوجب إرسالهم معهما والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر والقسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معه معهما إلى الشام كما ينبئ عنه قوله تعالى «ولا تعذبهم» أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب فإنهم كانوا تحت ملكة القبط يستخدمونهم في الأعمال الصعبة الفادحة من الحفر ونقل الأحجار وغيرهما من الأمور الشاقة ويقتلون ذكور أولادهم عاما دون عام ويستخدمون نساءهم وتوسيط حكم الإرسال بين بيان رسالتهما وبين ذكر المجيء بآية دالة على صحتها لإظهار الاعتناء به مع ما فيه من تهوين الأمر على فرعون فإن إرسالهم معهما من غير تعرض لنفسه وقومه بفنون التكاليف الشاقة كما هو حكم الرسالة عادة ليس مما يشق عليه كل المشقة ولأن في بيان مجيء الآية نوع طول كما ترى فتأخير ذلك عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم وأما ما قيل من أن ذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان فكلا «قد جئناك بآية من ربك» تقرير لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة وتعليل لوجوب الإرسال فإن مجيئهما بالآية من جهته تعالى مما يحقق رسالتهما ويقررها ويوجب الامتثال بأمرهما وإظهار اسم الرب في موضع الإضمار مع الإضافة إلى ضمير المخاطب لتأكيد ما ذكر من التقرير والتعليل وتوحيد الآية مع تعددها لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا بيان تعدد الحجة وكذلك قوله تعالى قد جئتكم ببينة وقوله تعالى أو لو جئتك بشيء مبين وأما قوله تعالى فأت بآية إن كنت من الصادقين فالظاهر أن المراد بها آية من الآيات «والسلام» المستتبع لسلامة الدارين من الله تعالى والملائكة وغيرهم من المسلمين «على من اتبع الهدى» بتصديق آيات الله تعالى الهادية إلى الحق وفيه من ترغيبه في اتباعهما على ألطف وجه مالا يخفى «إنا قد أوحي إلينا» من جهة ربنا «أن العذاب» الدنيوي والأخروي «على من كذب» أي بآياته تعالى «وتولى» أي أعرض عن قبولها وفيه من التلطيف في الوعيد حيث لم يصرح بحلول العذاب به مالا مزبد عليه «قال» أي فرعون بعدما أتياه وبلغاه ما أمرا به وإنما طوى ذكره للإيجاز والإشعار بأنهما كما أمرا بذلك سارعا إلى الامتثال به من غير تلعثم وبأن ذلك من الظهور بحيث لا حاجة إلى التصريح به «فمن ربكما يا موسى» لم يضف الرب إلى نفسه ولو بطريق حكاية ما في قوله تعالى إنا رسولا ربك وقوله تعالى قد جئناك بآية من ربك لغاية عتوه ونهاية طغيانه بل أضافه إليهما لما أن المرسل لابد أن يكون ربا للرسول أو لأنهما قد صرحا بربوبيته تعالى للكل بأن قالا إنا رسول رب العالمين كما وقع في سورة الشعراء والاقتصار ها هنا على ذكر ربوبيته تعالى لفرعون لكفايته فيما هو المقصود والفاء لترتيب السؤال على ما سق من كونهما رسولي ربهما أي إذا كنتما رسولي ربكما فأخبرا من ربكما الذي
19

أرسلكما وتخصيص النداء بموسى عليه الصلاة والسلام مع توجيه الخطاب إليهما لما أنه الأصل في الرسالة وهارون وزيره وأما ما قيل من أن ذلك لأنه قد عرف أن له عليه الصلاة والسلام رتة فأراد أن يفحمه فيرده ما شاهده منه عليه الصلاة والسلام من حسن البيان القاطع لذلك الطمع الفارع وأما قوله ولا يكاد يبين فمن غلوه في الخبث والدعارة كما مر «قال» أي موسى عليه الصلاة والسلام مجيبا له «ربنا» إما مبتدأ وقوله تعالى «الذي أعطى كل شيء خلقه» خبره أو هو خبر لمبتدأ محذوف والموصول صفته وأيا ما كان فلم يريدا بضمير المتكلم أنفسهما فقط حسبما أراد اللعين بل جميع المخلوقات تحقيقا للحق وردا عليه كما يفصح عنه ما في حيز الصلة أي هو ربنا الذي أعطى كل شئ من الأشياء خلقه أي صورته وشكله اللائق بما نيط به من الخواص والمنافع أو أعطى مخلوقاته كل شئ تحتاج هي إليه وترتفق به وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث زوج الحصان بالفرس والبعير بالناقة والرجل بالمرأة ولم يزوج شيئا من ذلك بخلاف جنسه وقرئ خلقه على صيغة الماضي على أن الجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه وحذف المفعول الثاني إما للاقتصار على الأول أي كل شيء خلقه الله تعالى لم يحرمه من عطائه وإنعامه أو للاختصار من كونه منويا مدلولا عليه بقرينة الحال أي أعطى كل شيء خلقه الله تعالى ما يحتاج إليه «ثم هدى» أي إلى طريق الانتفاع والاتفاق بما أعطاه وعرفه كيف يتوصل إلى بقائه وكماله إما اختيارا كما في الحيوانات ولما كان الخلق الذي هو عبارة عن تركيب الأجزاء وتسوية الأجسام متقدما على الهداية التي هي عبارة عن إيداع القوى المحركة والمدركة في تلك الأجسام وسط بينهما كلمة التراخي ولقد ساق عليه الصلاة والسلام جوابه على نمط رائق وأسلوب لائق حيث بين أنه تعالى عالم قادر بالذات خالق لجميع الأشياء منعم عليها بجميع ما يليق بها بطريق التفضل وضمنه أن إرساله تعالى إلى الطاغية من جملة هداياته تعالى إياه بعد أن هداه إلى الحق بالهدايات التكوينية حيث ركب فيه العقل وسائر المشاعر والآلات الظاهرة والباطنة «قال فما بال القرون الأولى» لما شاهر اللعين ما نظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلال من البرهان النير على الطراز الرائع خاف أن يظهر للناس حقية مقالاته عليه الصلاة والسلام وبطلان خرافات نفسه ظهورا بينا فأراد أن يصرفه عليه الصلاة والسلام عن سننه إلى مالا يعنيه من الأمور التي لا تعلق لها بالرسالة من الحكايات ويشغله عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوع غفلة فيتسلق بذلك إلى أن يدعى بين يدي قومه نوع معرفة فقال ما حال القرون الماضية والأمم الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصلة فأجاب عليه الصلاة والسلام بأن العلم بأحوالهم مفصلة مما لا ملابسة له بمنصب الرسالة وإنما علمها عند الله عز وجل وأما ما قيل من أنه سأله عن حال من خلا من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد فيأباه
20

قوله تعالى «قال علمها عند ربي» فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبد لا أعلم مها إلا ما علمنيه من الأمور المتعلقة بما أرسلت به ولو كان المسؤول عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادة لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلم ومن تولى فقد عذب حسبما نطق به قوله تعالى والسلام الآيتين «في كتاب» أي مثبت في اللوح المحفوظ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا لتمكنه وقرره في علم الله عزل وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة كما يلوح به قوله تعالى «لا يضل ربي ولا ينسى» أي لا يخطئ ابتداء ولا يذهب علمه بقاء بل ثابت أبدا فإنهما محالان عليه سبحانه وهو على الأول لبيان أن إثباته في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداء أو بقاء وإظهار ربي في موقع الإضمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقرير والإشعار بعلة الحكم فإن الربوبية مما يقتضى عدم الضلال والنسيان حتما ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجواب عبقري بديع حيث كشف عن حقيقة الحق حجابها مع أنه لم يخرج عما كان بصدده من بيان شؤونه تعالى ثم تخلص إليه حيث قال بطريق الحكاية عن الله عز وجل لما سيأتي من الالتفات «الذي جعل لكم الأرض مهدا» على أن الموصول إما مرفوع على المدح أو منصوب عليه أو خبر مبتدأ محذوف أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذات مهد وهو مصدر سمي به المفعول وقرئ مهادا وهو اسم لما يمهد كالفراش أو جمع مهد أي جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم «وسلك لكم فيها سبلا» أي حصل لكم طرقا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من قطر إلى قطر لتقضوا منها مآربكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها «وأنزل من السماء ماء» هو المطر «فأخرجنا به» أي بذلك الماء وهو عطف على أنزل داخل تحت الحكاية وإنما التفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مطاع عظيم الشأن تنقاد لأمره وتذعن لمشيئته الأشياء المختلفة كما في قوله تعالى ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها وقوله تعالى أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة خلا أن ما قبل الالتفات هناك صريح كلامه تعالى وأما ها هنا فحكاية عنه تعالى وجعل قوله تعالى فأخرجا به هو المحكي مع كون ما قبله كلام موسى عليه الصلاة والسلام خلاف الظاهر مع أنه يفوت حينئذ الالتفات لعدم اتحاد المتكلم «أزواجا» أصنافا سميت بذلك لازدواجها واقتران بعضها ببعض «من نبات» بيان أو صفة لأزواجا أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى «شتى» أي متفرقة جمع شتيت ويجوز أن يكون صفة لنبات لما أنه في الأصل مصدر يستوي فيه الواحد والجمع يعني أنها شتى مختلفة في الطعم والرائحة والشكل والنفع بعضها صالح للباس على اختلاف وجوه الصلاح وبعضها للبهائم فإن من تمام نعمته تعالى
21

أن أرزاق عباده لما كان تحصلها بعمل الأنعام جعل علفها مما يفضل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعاما لهم وقوله تعالى «كلوا وارعوا أنعامكم» حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي أخرجنا منها أصناف النبات قائلين كلوا وارعوا أنعامكم أي معديها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك «إن في ذلك» إشارة إلى ما ذكر من شؤونه تعالى وأفعاله وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الكمال والتنكير في قوله تعالى «لآيات» للتفخيم كما وكيفا أي لآيات كثيرة جليلة واضحة الدلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله وعلى صحة نبوة موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام «لأولي النهى» جمع نهيه سمى بها العقل لنهيه عن اتباع الباطل وارتكاب القبائح كما سمى بالعقل والحجر لعقله وحجره عن ذلك أي لذوي العقول الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما يدعيه الطاغية ويقبله منه فئته الباغية وتخصيص كونها آيات بهم مع أنها آيات للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها «منها خلقناكم» أي في ضمن أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام منها فإن كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه الصلاة والسلام إذ لم تكن قطرته البديعة مقصورة على نفسه عليه الصلاة والسلام بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه الصلاة والسلام منها خلقا للكل مها وقيل المعنى خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة من الأغذية المتولدة من الأرض بوسائط وقيل إن الملك الموكل بالرحم يأخذ من تربة المكان الذي يدفن المولود فيبددها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة «وفيها نعيدكم» بالإمانة وتفريق الأجزاء وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار المديد فيها «ومنها نخرجكم تارة أخرى» بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الهيئة السابقة ورد الأرواح إليها وكون هذا الإخراج تارة أخرى باعتبار أن خلقهم من الأرض إخراج لهم منها وإن لم يكن على نهج التارة الثانية والتارة في الأصل اسم للتور الواحد وهو الجريان ثم أطلق على كل فعلة واحدة من الفعلات المتجددة كما مر في المرة «ولقد أريناه» حكاية إجمالية لما جرى بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين فرعون إثر حكاية ما ذكره عليه الصلاة والسلام بجلائل نعمائه الداعية له إلى قبول الحق والانقياد له وتصديرها بالقسم لإبراز كما العناية بمضمونها وإسناد الإراءة إلى نون العظمة نظرا إلى الحقيقة لا إلى موسى نظر إلى الظاهر لتهويل أمر الآيات وتفخيم شأنها وإظهار كمال شاعة للعين وتماديه في المكابرة والعناد أي وبالله لقد بصرنا فرعون أو عرفناه «آياتنا» حين قال لموسى عليه الصلاة والسلام إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين وصيغة الجمع مع كونهما اثنتين باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون
22

حسبما بين في تفسير قوله تعالى اذهب أنت وأخوك بآياتي وقد ظهر عند فرعون أمور أخر كل واحد منها داهية دهياء فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ألقاها انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر وتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه فصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك إلا أخذته فأخذه فعاد عصا وروى أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون أنشدك الخ ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا خراجا عن حدود العادات قد غلب شعاعه شعاع الشمس يجتمع عليه النظارة تعجبا من أمره ففي تضاعيف كل من الآيتين آيات جمة لكنها لما كانت غير مذكورة صراحة أكدت بقوله تعالى «كلها» كأنه قيل أريناه آيتينا بجميع مستتبعاتهما وتفاصيلهما قصدا إلى بيان أنه لم يبق له في ذلك عذر ما ولا مساغ لعد بقية الآيات التسع منها لما أنها إنما ظهرت على يده عليه الصلاة والسلام بعدما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة كما مر في تفسير سورة الأعراف ولا ريب في أن أمر السحرة مترقب بعد وأبعد من ذلك أن يعد
منها ما جعل لإهلاكهم لا لإرشادهم إلى الإيمان من فلق البحر وما ظهر بعد مهلكه من الآيات الظاهرة لبني إسرائيل من نتق الجبل والحجر سواء أريد به الحجر الذي فر بثوبه أو الذي انفجرت منه العيون وكذا أن يعد منها الآيات الظاهرة على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بناء على أن حكايته عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون في حكم إظهارها بين يديه وإراءته إياها لاستحالة الكذب عليه عليه الصلاة والسلام فإن حكايته عليه الصلاة والسلام إياها لفرعون مما لم يجر ذكره ههنا على أن ما سيأتي من حمل ما أظهره عليه الصلاة والسلام على السحر والتصدي للمعارضة بالمثل يأباه إباء بينا وينطق بأن المراد بها ما ذكرناه قطعا ولولا ذلك لجاز جعل ما فصله عليه الصلاة والسلام من أفعاله تعالى الدالة على اختصاصه بالربوبية وأحكامها من جملة الآيات «فكذب» موسى عليه الصلاة والسلام من غير تردد وتأخر مع ما شاهد في يده من الشواهد الناطقة بصدقه جحودا وعنادا «وأبى» الإيمان والطاعة لعتوه واستكباره وقيل كذب بالآيات جميعا وأبى أن يقبل شيئا منها أو أبى قبول الحق وقوله تعالى «قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى» استئناف مبين لكيفية تكذيبه وإبائه والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وادعاء أنه أمر محال والمجئ إما على حقيقته أو بمعنى الإقبال على الأمر والتصدي له أي أجئتنا من مكانك الذي كنت فيه بعدما غبت عنا أو أقبلت علينا لتخرجنا من مصر بما أظهرته من السحر فإن ذلك مما لا يصدر عن العاقل لكونه من باب محاولة المحال وإنما قاله لحمل قومه على غاية المقت لموسى عليه الصلاة والسلام بإبراز أن مراده عليه الصلاة والسلام ليس مجرد إنجاء بني إسرائيل من أيديهم بل إخراج القبط من وطنهم وحيازة أموالهم وأملاكهم بالكلية حتى لا يتوجه إلى اتباعه أحد ويبالغوا في المدافعة والمخاصمة وسمي ما أظهره عليه الصلاة والسلام من المعجزة الباهرة سحرا لتجسيرهم على المقابلة ثم ادعى أنه يعارضه
23

بمثل ما أتى به عليه الصلاة والسلام فقال «فلنأتينك بسحر مثله» الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها واللام جواب قسم محذوف كأنه قيل إذا كان كذلك فو الله لنأتينك بسحر مثل سحرك «فاجعل بيننا وبينك موعدا» أي وعدا كما ينبئ عنه وصفه بقوله تعالى «لا نخلفه» فإنه المناسب لا المكان والزمان أي لا نخلف ذلك الوعد «نحن ولا أنت» وإنما فوض اللعين أمر الوعد إلى موسى عليه الصلاة والسلام للاحتراز عن نسبته إلى ضعف القلب وضيق المجال وإظهار الجلادة وإراءة أنه متمكن من تهيئة أسباب المعارضة وترتيب آلات المغالبة طال الأمد أم قصر كما أن تقديم ضميره على ضمير موسى عليه الصلاة والسلام وتوسيط كلمة النفي بينهما للإيذان بمسارعته إلى عدم الإخلاف وأن عدم إخلافه لا يوجب إخلافه عليه الصلاة والسلام ولذلك أكد النفي بتكرير حرفه وانتصاب «مكانا سوى» بفعل يدل عليه المصدر لا به فإنه موصوف أو بأنه بدل من موعدا على تقدير مكان مضاف إليه فحينئذ تكون مطابقة الجواب في قوله تعالى «قال موعدكم يوم الزينة» من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه يومئذ أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول أو وعدكم وعد يوم الزينة وقرئ يوم بالنصب وهو ظاهر في أن المراد به المصدر ومعنى سوى منتصفا تستوي مسافته إلينا وإليك وهو في النعت كقولهم قوم عدى في الشذوذ وقرئ بكسر السين قيل يوم الزينة يوم عاشوراء أو يوم النيروز أو يوم عيد كان لهم في كل عام وإنما خصه عليه الصلاة والسلام بالتعيين لإظهار كمال قوته وكونه على ثقة من أمره وعدم مشهور على رؤوس الأشهاد ويشيع ذلك فيما بين كل حاضر وباد «وأن يحشر الناس ضحى» عطف على يوم أو يوم الزينة وقرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون وبالياء على أن الضمير له على سنن الملوك أو لليوم «فتولى فرعون» أي انصرف عن المجلس «فجمع كيده» أي ما يكاد به من السحرة وأدواتهم «ثم أتى» أي الموعد ومعه ما جمعه من كيده وفي كلمة التراخي إماء إلى أنه لم يسارع إليه بل أتاه بعد لأي وتلعثم وقوله تعالى «قال لهم موسى» الخ بطريق الاستئناف المبني على السؤال يقضي بأن المترقب من أحواله عليه الصلاة والسلام حينئذ والمحتاج إلى السؤال والبيان ليس إلا ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام من الكلام وأما إتيانه أولا فأمر محقق غني عن التصريح به كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه الصلاة والسلام عند إتيان فرعون بما جمعه من السحرة فقيل قال لهم بطريق النصيحة «ويلكم لا تفتروا على الله
24

كذبا» بأن تدعوا آياته التي ستظهر على يدي سحرا كما فعل فرعون «فيسحتكم» أي يستأصلكم بسببه «بعذاب» هائل لا يقادر قدره وقرئ يسحتكم من الثلاثي على لغة أهل الحجاز والإسحات لغة بني تميم ونجد «وقد خاب من افترى» أي على الله كائنا من كان بأي وجه كان فيدخل فيه الافتراء المنهي عنه دخولا أوليا أو وقد خاب فرعون المفترى فلا تكونوا مثله في الخيبة والجملة اعتراض مقرر لمضمون ما قلها «فتنازعوا» أي السحرة حين سمعوا كلامه عليه الصلاة والسلام كأن ذلك غاظهم فتنازعوا «أمرهم» الذين أريد منهم من مغالبته عليه الصلاة والسلام وتشاوروا وتناظروا «بينهم» في كيفية المعارضة وتجاذبوا أهداب القول في ذلك «وأسروا النجوى» أي من موسى عليه الصلاة والسلام لئلا يقف عليه فيدافعه وكان نجواهم ما نطق به قوله تعالى «قالوا» أي بطريق التناجي والإسرار «إن هذان لساحران» الخ فإنه تفسير له ونتيجة لتنازعهم وخلاصة ما استقرت عليه آراؤهم بعد التناظر والتشاور وإن مخففة من أن قد أهملت عن العمل واللام فارقة وقرئ بتشديد نون هذان وقيل هي نافية واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران وقرئ إن بالتشديد وهذان اسمها على لغة بلحارث بن كعب فإنهم يعربون التثنية تقديرا وقيل اسمها ضمير الشأن المحذوف وهذان لساحران خبرها وقيل إن بمعنى نعم وما بعدها جملة من مبتدأ وخبر وفيهما أن اللام لا تدخل خبر المبتدأ وقيل أصله أنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير وفيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف وقرئ إن هذين لساحران وهي قراءة واضحة «يريدان أن يخرجاكم من أرضكم» أي أرض مصر بالاستيلاء عليها «بسحرهما» الذي أظهراه من قبل «ويذهبا بطريقتكم المثلى» أي بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب وأمثلها بإظهار مذهبهما وإعلاء دينهما يريدون به ما كان عليه قوم فرعون لا طريقة السحر فإنهم ما كانوا يعتقدونه دينا وقيل أرادوا أهل طريقتكم وهم بنو إسرائيل لقول موسى عليه الصلاة والسلام أرسل معنا نبي إسرائيل وكانوا أرباب علم فيما بنيهم ويأباه أن إخراجهم من أرضهم إنما يكون الاستيلاء عليها تمكنا وتصرفا فكيف يتصور حينئذ نقل بني إسرائيل إلى الشأم وحمل الإخراج على إخراج بني إسرائيل منها مع بقاء قوم فرعون على حالهم مما يجب تنزيه التنزيل عن أمثاله على أن هذه المقالة منهم للإغراء بالمبالغة في المغالبة والاهتمام بالمناصبة فلا بد أن يكون الإنذار والتحذير بأشد المكاره وأشقها عليهم ولا ريب في أن إخراج بني إسرائيل من بنيهم والذهاب بهم إلى الشأم وهم آمنون في ديارهم ليس فيه كثير محذور وقيل الطريقة اسم لوجوه القوم
وأشرافهم لما أنهم قدوة لغيرهم ولا يخفى أن تخصيص الإذهاب بهم مما لا مزية فيه
25

وقوله تعالى «فأجمعوا كيدكم» تصريح بالمطلوب إثر تمهيد المقدمات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من كونهما ساحرين يريد أن بكم ما ذكر من الإخراج والإذهاب فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعا عليه بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم وارموا عن قوس واحدة وقريء فأجمعوا من الجمع ويعضده قوله تعالى فجمع كيده أي فاجمعوا أدوات سحركم ورتبوها كما ينبغي «ثم ائتوا صفا» أي مصطفين أمروا بذلك لأنه أهيب في صدور الرائين وأدخل في استجلاب الرهبة من المشاهدين قيل كانوا سبعين ألفا مع كل منهم حبل وعصا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة وقيل كانوا اثنين وسبعين ساحرا اثنان من القبط والباقي من بني إسرائيل وقيل تسعمائة ثلاثمائة من الفرس وثلاثمائة من الروم وثلاثمائة من الإسكندرية وقيل خمسة عشر ألفا وقيل بضعة وثلاثين ألفا والله أعلم ولعل الموعد كان مكانا متسعا خاطبهم موسى عليه الصلاة والسلام بما ذكره في قطر من أقطاره وتنازعوا أمرهم في قطر آخر منه ثم أمروا بأن يأتوا وسطه على الوجه المذكور وقد فسر الصف بالمصلى لاجتماع الناس فيه في الأعياد والصلوات ووجه صحته أن يكون علما لموضع معين من المكان المعود وأما إرادة مصلى من مصليات بعد تعين المكان الموعود فلا مساغ لها قطعا وقوله تعالى «وقد أفلح اليوم من استعلى» اعتراض تذييلي من قبلهم مؤكد لما قله من الأمرين أي قد فاز بالمطلوب من غلب يريدون بالمطلوب ما وعدهم فرعون من الأجر والتقريب حسبما نطق به قوله تعالى قال نعم وإنكم لمن المقربين وبمن غلب أنفسهم جميعا على طريقة قولهم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون أو من غلب منهم حثا لهم على بذل المجهود في المغالبة هذا هو اللائق بتجاوب أطراف النظم الكريم وقد قيل كان نجواهم أن قالوا حين سمعوا مقالة موسى عليه الصلاة والسلام ما هذا بقول ساحر وقيل كان ذلك أن قالوا إن غلبنا موسى اتبعناه وقيل كان ذلك قولهم إن كان ساحرا فسنغلبه وإن كان من السماء فله أمر فيكون إسرارهم حينئذ من فرعون وملئه ويحمل قولهم إن هذان لساحران الخ على أنهم اختلفوا فيما بنيهم على الأقاويل المذكورة ثم رجعوا عن ذلك بعد التنازع والتناظر واستقرت أراؤهم على ذلك وأبوا إلا المناصبة للمعارضة وأما جعل ضمير قالوا لفرعون وملئه على أنهم قالوا ذلك للسحرة ردا لهم عن الاختلاف وأمروهم الإجماع والإزماع وإظهار الجلادة بالإتيان على وجه الاصطفاف فمخل بجزالة النظم الكريم كما يشهد به الذوق السليم «قالوا» استئناف مبني على سؤال ناشئ من حكاية ما جرى بين السحرة من المقاولة كأنه قيل فماذا فعلوا بعد ما قالوا فيما بينهم ما قالوا فقيل قالوا «يا موسى» وإنما لم يتعرض لإجماعهم وإتيانهم بطريق الاصطفاف إشعارا بظهور أمرهما وغناهما عن البيان «إما أن تلقي» أي ما نلقيه أولا على أن المفعول محذوف لظهوره أو تفعل الإلقاء أولا على أن الفعل منزل منزلة اللازم «وإما أن نكون أول من ألقى» ما يلقيه أو أول من يفعل الإلقاء خيروه عليه الصلاة والسلام بما ذكر مراعاة للأدب لما رأوا
26

منه عليه الصلاة والسلام ما رأوا من مخايل الخير ورزانة الرأي وإظهارا للجلادة بإراءة أنه لا يختلف حالهم بالتقديم والتأخير وأن مع ما في حيزها منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية مبتدأ محذوف أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إما إلقاؤك أو إلقاؤنا «قال» استئناف كما سلف ناشيء من حكاية تخيير السحرة إياه عليه الصلاة والسلام كأنه قيل فماذا قال عليه الصلاة والسلام فقيل قال «بل ألقوا» أنتم أولا مقابلة للأدب بأحسن من أدبهم حيث بت القول بإلقائهم أولا وإظهارا لعدم المبالاة بسحرهم ومساعدة لما أوهموا من الميل إلى البدء وليبرزوا ما معهم ويستفرغوا أقصى جهدهم ويستنفدوا قصارى وسعهم ثم يظهر الله عز وجل سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه لما علم أن ما سيظهر بيده سيلقف ما يصنعون من مكايد السحر «فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى» الفاء فصيحة معربة عن مسارعتهم إلى الإلقاء كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فألقوا فإذا حبالهم وهي للمفاجأة والتحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا بنصبها وجملة تضاف إليها لكنها خصت بكون متعلقها فعل المفاجأة والجملة ابتدائية والمعنى فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة والسلام وقت أن يخيل إليه سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم وذلك أنهم كانوا لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيل إليه أنها تتحرك وقرئ تخيل بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال والعصي وإبدال أنها تسعى منه بدل اشتمال وقرئ يخيل بإسناده إليه تعالى وقرئ تخيل بحذف إحدى التاءين من تتخيل «فأوجس في نفسه خيفة موسى» أي أضمر فيها بعض خوف من مفاجأته بمقتضى البشرية المجبولة على النفرة من الحيات والاحتراز من ضررها المعتاد من اللسع ونحوه وقيل من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه وليس بذاك كما ستعرفه وتأخير الفاعل لمراعاة الفواصل «قلنا لا تخف» أي ما توهمت «إنك أنت الأعلى» تعليل لما يوجبه النهي من الانتهاء عن الخوف وتقرير لغلبته على أبلغ وجه وآكده كما يعرب عنه الاستئناف وحرف التحقيق وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو المنبئ عن الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل «وألق ما في يمينك» أي عصاك كما وقع في سورة الأعراف وإما أوثر الإبهام تهويلا لأمرها وتفخيما لشأنها وإيذانا بأنها ليست من جنس العصي المعهودة المستتبعة للآثار المعتادة بل خارجة عن حدود سائر أفراد الجنس مبهمة الكنه مستتبعة لآثار غريبة وعدم مراعاة هذه النكتة عند حكاية الأمر في موضع آخر لا يستدعى عدم مراعاتها عند وقوع المحكي هذا وحمل الإبهام على التحقير بان يراد لا تبال بكثرة حبالهم
27

وعصيهم وألق العويد الذي في يدك فإنه بقدرة الله تعالى يلقفها مع وحدته وكثرتها وصغره وعظمها يأباه ظهور حالها فيما مر مرتين على أن ذلك المعنى إنما يليق بما لو فعلت العصا ما فعلت وهي على هيئتها الأصلية وقد كان منها ما كان وقوله تعالى «تلقف ما صنعوا» بالجزم جوابا للأمر من لقفه إذا ابتلعه والتقمه بسرعة والتأنيث لكون ما عبارة عن العصا أي تبتلع ما صنعوه من الحبال والعصي التي خيل إليك سعيها وخفتها والتعبير عنها بما صنعوا للتحقير والإيذان بالتمويه والتزوير وقرئ تلقف بتشديد القاف وإسقاط إحدى التاءين من تتلقف وقرئ بالرفع على الحال أو الاستئناف والجملة الأمرية معطوفة على النهي متممة بما في حيزها لتعليل موجبه ببيان كيفية غلبته عليه الصلاة والسلام وعلوه فإن ابتلاع عصاه لأباطيلهم التي منها أوجس في نفسه ما أوجس مما يقلع مادته بالكلية وهذا كما ترى صريح في أن خوفه عليه الصلاة والسلام لم يكن مما ذكر من مخالجة الشك للناس وعدم اتباعهم له عليه الصلاة والسلام وإلا لعلل بما يزيله من الوعد بما يوجب إيمانهم واتباعهم له عليه الصلاة والسلام
وقوله تعالى «إنما صنعوا» الخ تعليل لقوله تعالى تلقف ما صنعوا وما إما موصولة أو موصوفة أي إن الذي صنعوه أو إن شيئا صنعوه «كيد ساحر» بالرفع على أنه خبر لن أي كيد جنس الساحر وتنكيره للتوسل به إلى تنكير ما أضيف إيه للتحقير وقرئ بالنصب على أنه مفعول صنعوا وما كافة وقرئ كيد سحر على أن الإضافة للبيان كما في علم فقه أو على معنى ذي سحر أو على تسمية الساحر سحرا مبالغة وقوله تعالى «ولا يفلح الساحر» أي هذا الجنس «حيث أتى» أي حيث كان وأين اقبل من تمام التعليل وعدم التعرض لشأن العصا وكونها معجزة إلهية مع ما في ذلك من تقوية التعليل للإيذان بظهور أمرها والفاء في قوله تعالى «فألقي السحرة سجدا» كما سلف فصيحة معربة عن محذوفين ينساق إليهما النظم الكريم غنيين عن التصريح بهما لعدم احتمال تردد موسى عليه السلام في الامتثال بالأمر واستحالة عدم وقوع اللقف الموعود أي فألقاه عليه السلام فوقع ما وقع من اللقف فألقى السحرة سجدا لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر وإنما هي آية من آيات الله عز وجل روى أن رئيسهم قال كنا نغلب الناس وكانت الآلات تبقى علينا فلو كان هذا سحرا فأين ما ألقيناه من الآلات فاستدل بتغير أحوال الأجسام على الصانع القادر العالم وبظهور ذلك على يد موسى عليه الصلاة والسلام على صحة رسالته لا جرم ألقاهم ما شاهدوه على وجوههم وتابوا وآمنوا وأتوا بما هو غاية الخضوع قيل لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار والثواب والعقاب وعن عكرمة لما خروا سجدا أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم في الجنة ولا ينافيه قولهم إنا آمنا بربنا يغفر لنا خطايانا الخ لأن كون تلك المنازل منازلهم باعتبار صدور هذا القول عنهم «قالوا» استئناف كما مر غير مرة «آمنا برب هارون وموسى» تأخير موسى عند حكاية كلامهم لرعاية الفواصل وقد جوز أن يكون ترتيب كلامهم أيضا هكذا إما لكبر سن هارون عليه الصلاة والسلام وإما للمبالغة في الاحتراز عن التوهم الباطل من جهة فرعون وقومه حيث كان فرعون ربي موسى عليه الصلاة والسلام فلو قدموا موسى عليه الصلاة والسلام لربما توهم اللعين وقومه من أول الأمر
28

أن مرادهم فرعون «قال» أي فرعون للسحرة «آمنتم له» أي لموسى عليه الصلاة والسلام واللام لتضمين الفعل معنى الاتباع وقرئ على الاستفهام التوبيخي «قبل أن آذن لكم» أي من غير أن آذن لكم في الإيمان له كما في قوله تعالى لنقد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن إذنه لهم في ذلك واقع بعده أو متوقع «أنه» يعني موسى عليه الصلاة والسلام «لكبيركم» أي في فنكم وأعلمكم به وأستاذكم «الذي علمكم السحر» فتواطأتم على ما فعلتم أو فعلمكم شيئا دون شيء فلذلك غلبكم وهذه شبهة زورها اللعين وألقاها على قومه وأراهم أن أمر الإيمان منوط بإذنه فلما كان إيمانهم بغير إذنه لم يكن معتدا به وأنهم من تلامذته عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بما أظهره كما لا عبرة بما أظهروه وذلك لما اعتراه من الخوف من اقتداء الناس بالسحرة في الإيمان بالله تعالى ثم أقبل عليهم بالوعيد المؤكد حيث قال «فلأقطعن» أي فو الله لأقطعن «أيديكم وأرجلكم من خلاف» أي اليد اليمنى والرجل اليسرى ومن ابتدائية كأن القطع ابتداء من مخالفة العضو العضو فإن المبتدئ من المعروض مبتدئ من العارض أيضا وهي مع مجرورها في حيز النصب على الحالية أي لأقطعنها مخلفات وتعيين تلك الحال للإيذان بتحقيق الأمر وإيقاعه لا محالة بتعيين كيفيته المعهودة في باب السياسة لا لأنها أفظع من غيرها «ولأصلبنكم في جذوع النخل» أي عليها وإيثار كلمة في للدلالة على إبقائهم عليها زمانا مديدا تشبيها لاستمرارهم عليها باستقرار المظروف في الظرف المشتمل عليه قالوا وهو أول من صلب وصيغة التفعيل في الفعلين للتكثير وقد قرئا بالتخفيف «ولتعلمن أينا» يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله آمنتم له قبل أن آذن لكم واللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى وهذا إما لقصد توضيع موسى عليه الصلاة والسلام والهزء به لأنه لم يكن من التعذيب في شيء وإما لإراءة أن إيمانهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل موسى عليه الصلاة والسلام حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا وقيل يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم آمنا برب هارون وموسى «أشد عذابا وأبقى» أي أدوم «قالوا» غير مكترثين بوعيده «لن نؤثرك» لن نختارك بالإيمان والاتباع «على ما جاءنا» من الله على يد موسى عليه الصلاة والسلام «من البينات» من المعجزات الظاهرة فإن ما ظهر بيده عليه الصلاة والسلام من العصا كان مشتملا على معجزاته جمعة كما مر تحقيقه فيما سلف فإنهم كانوا عارفين بجلائلها ودقائقها «والذي فطرنا» أي خلقنا وسائر المخلوقات وهو عطف على ما جاءنا وتأخيره لأن ما في ضمنه آية عقلية نظرية وما شاهدوه آية حسية ظاهرة وإيراده تعالى بعنوان فاطريته تعالى لهم للإشعار بعلة الحكم فإن خالقيته تعالى لهم وكون فرعون من جملة مخلوقاته مما يوجب عدم إيثارهم له عليه
29

سبحانه وتعالى وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله آمنتم له قبل أن آذن لكم وقيل هو قسم محذوف الجواب لدلالة المذكور عليه أي وحق الذي فطرنا لا نؤثرك الخ ولا مساغ لكون المذكور جوابا له عند من يجوز تقديم الجواب أيضا لما أن القسم لا يجاب بلن إلا على شذوذ وقوله تعالى «فاقض ما أنت قاض» جواب عن تهديده قوله لأقطعن الخ أي فاصنع ما أنت صانعه أو فاحكم ما أنت حاكم به وقوله تعالى «إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» مع ما بعده تعليل لعدم المبالاة المستفاد مما سبق من الأمر بالقضاء أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الحياة الدنيا فحسب وما لنا من رغبة في عذبها ولا رهبة من عذابها «إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا» التي اقترفنا فيها من الكفر والمعاصي ولا يؤاخذنا بها في الدار الآخرة لا ليمتعنا بتلك الحياة الفانية حتى نتأثر بما أوعدتنا به من القطع والصلب وقوله تعالى «وما أكرهتنا عليه من السحر» عطف على خطايانا أي ويغفر لنا السحر الذي علمناه في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام بإكراهك وحشرك إيانا من المدائن القاصية خصوه بالذكر مع اندراجه في خطاياهم إظهارا لغاية نفرتهم عنه ورغبتهم في مغفرته وذكر الإكراه للإيذان بأنه مما يجب أن يفرد بالاستغفار منه مع صدوره عنهم بالإكراه وفيه نوع اعتذار لاستجلاب المغفرة وقيل أرادوا الإكراه على تعلم السحر حيث روى أن رؤساءهم كانوا اثنين وسبعين اثنان منهم من القبط والباقي من بني إسرائيل وكان فرعون أكرههم على تعلم السحر وقيل إنه أكرههم على المعارضة حيث روى أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه ويأباه تصديهم للمعارضة على الرغبة والنشاط كما يعرب عنه قولهم أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين وقولهم بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون «والله خير» أي في خد ذاته وهو ناظر إلى قولهم والذي فطرنا «وأبقى» أي جزاء ثوابا كان أو عذابا خير ثوابا وأبقى عذابا وقوله تعالى «أنه» إلى آخر الشرطيتين
تعليل من جهتهم لكونه تعالى خيرا وأبقى جزاء وتحقيق له وإبطال لما ادعاه فرعون وتصديرهما بضمير الشأن للتنبيه على فخامة مضمونهما لأن مناط وضع الضمير موضعه ادعاء شهدته المغنية عن ذكره مع ما فيه من زيادة التقرير فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن كأنه قيل إن الشأن الخطير هذا أي قوله تعالى «من يأت ربه مجرما» بأن مات على الكفر والمعاصي «فإن له جهنم لا يموت فيها» فينتهي عذابه وهذا تحقيق لكون عذابه أبقى «ولا يحيى» حياة ينتفع بها «ومن يأته مؤمنا» به تعالى وبما جاء من عنده من المعجزات التي من جملتها ما شاهدناه «قد عمل الصالحات» الصالحة كالحسنة جارية مجرى الاسم ولذلك لا تذكر غالبا مع
30

الموصوف وهي كل ما استقام من الأعمال بدليل العقل والنقل «فأولئك» إشارة إلى من والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين السابقين باعتبار لفظها وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات «لهم» بسبب إيمانهم وأعمالهم الصالحة «الدرجات العلى» أي المنازل الرفيعة وليس فيه ما يدل على عدم اعتبار الإيمان المجرد عن العمل الصالح في استتباع الثواب لأن ما نيط بالإيمان المقرون بالأعمال الصالحة هو الفوز بالدرجات العلى لا بالثواب مطلقا وهل التشاجر إلا فيه «جنات عدن» بدل من الدرجات العلى أو بيان وقد مر أن عدنا علم لمعنى الإقامة أو لأرض الجنة فقوله تعالى «تجري من تحتها الأنهار» حال من الجنات وقوله تعالى «خالدين فيها» حال من الضمير في لهم والعامل معنى الاستقرار أو الإشارة «وذلك» إشارة إلى ما أتيح لهم من الفوز بما ذكر من الدرجات العلى ومعنى البعد لما مر من التفخيم «جزاء من تزكى» أي تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة وهذا تحقيق لكون ثوابه تعالى أبقى وتقديم ذكر حال المجرم للمسارعة إلى بيان أشدية عذابه ودوامه ردا على ما ادعاه فرعون بقوله أينا أشد عذابا وأبقى هذا وقد قيل هذه الآيات الثلاث ابتداء كلام من الله عز وجل قالوا ليس في القرآن أن فرعون فعل بأولئك المؤمنين ما أوعدهم به ولم يثبت في الأخبار «ولقد أوحينا إلى موسى» حكاية إجمالية لما انتهى إليه أمر فرعون وقومه وقد طوى في البين ذكر ما جرى عليهم من الآيات المفصلات الظاهرة على يد موسى عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرة في نحو من عشرين سنة حسبما فصل في سورة الأعراف وتصديرها بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها وأن في قوله تعالى «أن أسر بعبادي» إما مفسرة لأن الوحي فيه معنى القول أو مصدرية حذف عنها الجار والتعبير عنهم بعنوان كونهم عبادا له تعالى لإظهار المرحمة والاعتناء بأمرهم والتنبيه على غاية قبح صنيع فرعون بهم حيث استعبدهم وهم عباده عز وجل وفعل بهم من فنون الظلم ما فعل أي وبالله لقد أوحينا إليه عليه الصلاة والسلام أن أسر بعبادي الذين أرسلتك لإنقاذهم من ملكة فرعون أي سربهم من مصر ليلا «فاضرب لهم» أي فاجعل أو فاتخذ لهم «طريقا في البحر يبسا» أي يابسا على أنه مصدر وصف به الفاعل مبالغة وقرئ يبسا وهو إما مخفف منه أو وصف كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد للمبالغة أو لتعدده حسب تعدد الأسباط «لا تخاف دركا» حال من المأمور رأى آمنا من أن يدرككم العدو أو صفة أخرى لطريقا والعائد محذوف وقرئ لا تخف جوابا للأمر «ولا تخشى» عطف على لا تخاف داخل في حكمه أي ولا تخشى الغرق وعلى قراءة الجزم استئناف أي وأنت لا تخشى أو عطف عليه والألف للإطلاق كما في قوله تعالى وتظنون بالله الظنونا وتقديم نفي الخوف المذكور للمسارعة إلى إزاحة
31

ما كانوا عليه من الخوف العظيم حيث قالوا إنا لمدركون «فأتبعهم فرعون بجنوده» أي تبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم يقال أتبعتهم أي تبعتهم وذلك إذا كانوا سبقوك فلحقتهم ويؤيده أنه قرئ فأتبعهم من الافتعال وقيل المعنى أتبعهم فرعون نفسه فحذف المفعول الثاني وقيل الباء زائدة والمعنى فأتبعهم فرعون جنوده أي ساقهم خلفهم وأيا ما كان فالفاء فصيحة معربة عن مضمر قد طوى ذكره ثقة بغاية ظهوره وإيذانا بكمال مسارعة موسى عليه الصلاة والسلام إلى الامتثال بالأمر أي ففعل ما أمر به من الإسراء بهم وضرب الطريق وسلوكه فأتبعهم فرعون بجنوده برا وبحرا روي أن موسى عليه الصلاة والسلام خرج بهم أول الليل وكانوا ستمائة وسبعين ألفا فأخبر فرعون بذلك فأتبعهم بعساكره وكانت مقدمته سبعمائة ألف فقص أثرهم فلحقهم بحيث تراءى الجمعان فعند ذلك ضرب عليه الصلاة والسلام بعصاه البحر فانفلق على اثني عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم فعبر موسى عليه الصلاة والسلام بمن معه من الأسباط سالمين وتبعهم فرعون بجنوده «فغشيهم من اليم ما غشيهم» أي علاهم منه وغمرهم ما غرمهم من الأمر الهائل الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه وقيل غشيهم ما سمعت قصته وليس بذاك فإن مدار التهويل والتفخيم خروجه عن حدود الفهم والوصف لا سماع قصته وقرئ فغشاهم من اليم ما غشاهم أي غطاهم ما غطاهم والفاعل هو الله عز وعلا أو ما غشاهم وقيل فرعون لأنه الذي ورطهم للهلكة ويأباه الإظهار في قوله تعالى «وأضل فرعون قومه» أي سلك بهم مسلكا أداهم إلى الخيبة والخسران في الدين والدنيا معا حيث ماتوا على الكفر بالعذاب الهائل الدنيوي المتصل بالعذاب الخالد الأخروي وقوله تعالى «وما هدى» أي ما أرشدهم قط إلى طريق موصل إلى مطلب من المطالب الدينية والدنيوية تقرير لإضلاله وتأكيد له إذ رب مضل قد يرشد من يضله إلى بعض مطالبه وفيه نوع تهكم به في قوله وما أهديكم إلا سبيل الرشاد فإن نفي الهداية عن شخص مشعر بكونه ممن يتصور منه الهداية في الجملة وذلك إنما يتصور في حقه بطريق التهكم وحمل الإضلال والهداية على ما يختص بالديني منهما يأباه مقام بيان سوقه بجنوده إلى مساق الهلاك الدنيوي وجعلهما عبارة عن الإضلال في البحر والإنجاء منه مما لا يقبله العقل السليم «يا بني إسرائيل» حكاية لما خاطبهم الله تعالى بعد إغراق فرعون وقومه وإنجائهم منهم لكن لا عقيب ذلك بل بعد ما أفاض عليهم من فنون النعم الدينية والدنيوية ما أفاض وقيل هو إنشاء خطاب للذين كانوا منهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على معنى أنه تعالى قد من عليهم بما فعل بآبائهم أصالة وبهم تبعا ويرده ما سيأتي من قوله تعالى وما أعجلك الآية ضرورة استحالة حمله على الإنشاء فالوجه
32

هو الحكاية بتقدير قلنا عطفا على أوحينا أي وقلنا يا بني إسرائيل «قد أنجيناكم من عدوكم» فرعون وقومه حيث كانوا يبغونكم الغوائل ويسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وقرئ نجيناكم ونجيتكم «وواعدناكم جانب الطور الأيمن» بالنصب على أنه صفة للمضاف وقرئ بالجر للجوار أي واعدناكم بواسطة نبيكم إيتان جانبه الأيمن نظرا إلى السالك من مصر إلى الشام أي إتيان موسى عليه الصلاة والسلام للمناجاة وإنزال التوراة عليه ونسبت المواعدة إليهم مع كونها لموسى عليه
الصلاة والسلام نظرا إلى ملابستها إياهم وسراية منفعتها إليهم وإيفاء لمقام الامتنان حقه كما في قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم حيث نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين مع أن المخلوق المصور بالذات هو آدم عليه الصلاة والسلام وقرئ واعدتكم ووعدناكم «ونزلنا عليكم المن والسلوى» أي الترنجبين والسماني حيث كان ينزل عليهم المن وهم في التيه مثل الثلج من الفجر إلى الطلوع لكل إنسان صاع ويبعب الجنوب عليهم السماء فيذبح الرجل منه ما يكفيه كما مر مرارا «كلوا» جملة مستأنفة مسوقة لبيان إباحة ما ذكر لهم وإماما للنعمة عليهم «من طيبات ما رزقناكم» أي من لذائذه أو حلالاته وقرئ رزقتكم وفي البدء بنعمة الإنجاء ثم بالنعمة الدينية ثم بالنعمة الدنيوية من حسن النظم ولطف الترتيب مالا يخفى «ولا تطغوا فيه» أي فيما رزقناكم بالإخلال بشكره والتعدي لما حد لكم فيه كالسرف والبطر والمنع من المستحق «فيحل عليكم غضبي» جواب للنهي أي فنلزمكم عقوبتي وتجب لكم من حل الدين إذا وجب أداؤه «ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى» أي تردى وهلك وقيل وقع في الهاوية وقرئ فيحل بضم الحاء من حل يحل إذا نزل «وإني لغفار لمن تاب» من الشرك والمعاصي التي من جملتها الطغيان فيما ذكره «وآمن» بما يجب الإيمان به «وعمل صالحا» أي علم صالحا مستقيما عند الشرع والعقل وفيه ترغيب لمن وقع منه الطغيان فيما ذكر وحث على التوبة والإيمان وقوله تعالى «ثم اهتدى» أي استقام على الهدى إشارة إلى أن من لم يسئمر عليه بمعزل من الغفران وثم للتراخي الرتبي «وما أعجلك عن قومك يا موسى» حكاية لما جرى بينه تعالى وبين موسى عليه الصلاة والسلام من الكلام عند ابتداء موافاته الميقات بموجب المواعدة المذكورة أي وقلنا له أي شئ أعجلك منفردا عن قومك وهذا كما ترى سؤال عن سبب تقدمه على النقباء مسوق لإنكار انفراده عنهم لما في ذلك بحسب الظاهر من مخايل إغفالهم وعدم الاعتداد بهم مع كونه مأمورا باستصحابهم وإحضارهم معه لا لإنكار نفس العجلة الصادرة عنه عليه الصلاة والسلام لكونها نقيصة منافية للحزم اللائق بأولي العزم ولذلك أجاب عليه
33

الصلاة والسلام بنفي الانفراد المنافي للاستصحاب والمعية حيث «قال هم أولاء على أثري» يعني أنهم معي وإنما سبقتهم بخطا يسيرة ظننت انها لا تخل بالمعية ولا تقدح في الاستصحاب فإن ذلك مما لا يعتد به فيما بين الرفقة أصلا وبعد ما ذكر عليه الصلاة والسلام أن تقدمه ذلك ليس لأمر منكر ذكر أنه لأمر مرضي حيث قال «وعجلت إليك رب لترضى» عني بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك واعتنائي بالوفاء بعهدك وزيادة رب لمزيد الضراعة والابتهال رغبة في قبول العذر «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية اعتذاره عليه الصلاة والسلام وهو السر في وروده على صيغة الغائب لا أنه التفات من التكلم إلى الغيبة لما أن المقدر فيما سبق من الموضعين على صيغة التكلم كأنه قيل من جهة السامعين فماذا قال له ربه حينئذ فقيل قال «فإنا قد فتنا قومك من بعدك» أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم وهم الذين خلقهم مع هارون عليه الصلاة والسلام وكانوا ستمائة ألف ما نجا منهم من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا والفاء لترتيب الإخبار بما ذكر من الابتلاء على إخبار موسى عليه الصلاة والسلام بعجلته لكن لا لأن الإخبار بها سبب موجب للإخبار به بل لما بينهما من المناسبة المصححة للانتقال من أحدهما إلى الآخر من حيث إن مدار الابتلاء المذكور عجلة القوم فإنه روى أنهم أقاموا على ما وصى به موسى عليه الصلاة والسلام عشرين ليلة بعد ذهابه فحسبوها مع أيامها أربعين وقالوا قد أكملنا العدة وليس من موسى عليه الصلاة والسلام عين ولا أثر «وأضلهم السامري» حيث كان هو المدبر في الفتنة فقال لهم إنما أخلف موسى عليه الصلاة والسلام ميعادكم لما معكم من حلي القوم وهو حرام عليكم فكان من أمر العجل ما كان فأخبره تعالى بوقوع هذه الفتنة عند قدومه عليه الصلاة والسلام إما باعتبار تحققها في علمه تعالى ومشيئته وإما بطريق التعبير عن المتوقع بالواقع كما في قوله تعالى ونادى أصحاب الجنة ونظائره أو لأن السامري كان قد عزم على إيقاع الفتنة عند ذهاب موسى عليه الصلاة والسلام وتصدى لترتيب مبانيها وتمهيد مباديها فكانت الفتنة واقعة عند الإخبار بها وقرئ وأضلهم السامري على صيغة لتفضيل أي أشدهم ضلالا لأنه ضال ومضل والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة وقيل كان علجا من كرمان وقيل من أهل باجرما واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا قد أظهر الإسلام وكان من قوم يبعدون البقر «فرجع موسى إلى قومه» عند رجوعه المعهود أي بعد ما استوفى الأربعين وأخذ التوراة لا عقيب الإخبار بالفتنة فسببية ما قبل الفاء لما بعدها إنما هي باعتبار قيد الرجوع المستفاد من قوله تعالى
34

«غضبان أسفا» لا باعتبار نفسه وإن كانت داخلة عليه حقيقة فإن كون الرجوع بعد تمام الأربعين أمر مقرر مشهور لا يذهب الوهم إلى كونه عند الإخبار بالفتنة كما إذا قلت شايعت الحجاج ودعوت لهم بالسلامة فرجعوا سالمين فإن أحدا لا يرتاب في أن المراد رجوعهم المعتاد لا رجوعهم إثر الدعاء وأن سببية الدعاء باعتبار وصف السلامة لا باعتبار نفس الرجوع والأسف الشديد الغضب وقيل الحزين «قال» استئناف مبني على سؤال ناشيء من حكاية رجوعه كذلك كأنه قيل فماذا فعل بهم فقيل قال «يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا» بأن يعطيكم التوراة فيها ما فيها من النور والهدى والهمزة لإنكار عدم الوعد ونفيه وتقرير وجوده على أبلغ وجه وآكدة أي وعدكم بحيث لا سبيل لكم إلى إنكاره والفاء في قوله تعالى «أفطال عليكم العهد» أي الزمان للعطف على مقدر والهمزة لإنكار المعطوف ونفيه فقط أي أوعدكم ذلك فطال زمان الإنجاز فأخطأتم بسبيه «أم أردتم أن يحل» أي يجب «عليكم غضب» شديد لا يقادر قدره كائن «من ربكم» أي من مالك أمركم على الإطلاق «فأخلفتم موعدي» أي وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات على إضافة المصدر إلى مفعوله للقصد إلى زيادة تقبيح حالهم فإن إخلافهم الوعد الجاري فيما بينهم وبينه عليه السلام من حيث إضافته إليه عليه السلام أشنع منه من حيث إضافته إليهم والفاء لترتيب ما بعدها على كل واحد من شقي الترديد على سبيل البدل كأنه قيل أنسيتم الوعد بطول العهد فأخلفتموه خطأ أم أردتم حلول الغضب عليكم فأخلفتموه عمدا وأما جعل الموعد مضافا إلى فاعله وحمل إخلافه على معنى وجدان الخلف فيه أي فوجدتم الخلف في موعدي لكم بالعود بعد الأربعين فما لا يساعده السباق ولا السياق أصلا «قالوا ما أخلفنا موعدك» أي وعدنا إياك الثابت على ما أمرتنا به وإيثاره على أن يقال موعدنا على إضافة المصدر إلى فاعله لما مر آنفا «بملكنا» أي بأن ملكنا أمورنا يعنون أنا لو خلينا وأمورنا ولم يسول لنا السامري ما سوله مع مساعدة بعض الأحوال لما أخلفناه وقرئ بملكنا بكسر الميم وضمها والكل لغات في مصدر ملكت الشيء «ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم» استدراك عما سبق واعتذار عما فعلوا
ببيان منشأ الخطأ وقرئ حلمنا بالتخفيف أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر باسم العرس وقيل كانوا استعاروها لعبد كان لهم ثم لم يردوها إليهم عند الخروج مخافة أن يقفوا على أمرهم وقيل هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوها ولعل تسميتهم لها أوزارا لأنها تبعات وآثام حيث لم تكن الغنائم تحل حينئذ «فقذفناها» أي في النار رجاء للخلاص عن ذنبها «فكذلك» أي فمثل ذلك القذف «ألقى السامري» أي ما كان معه منها وقد كان أراهم أنه أيضا يلقى ما كان معه من الحلي فقالوا ما قالوا على زعمهم وإما كان الذي ألقاه التربة التي أخذها من أثر الرسول كما سيأتي روى أنه قال لهم إنما تأخر موسى عنكم لما معكم من الأوزار فالرأي أن نحفر
35

حفيرة ونسجر فيها نارا ونقذف فيها كل ما معنا ففعلوا «فأخرج» أي السامري «لهم» للقائلين «عجلا» من تلك الحلي المذابة وتأخيره مع كونه مفعولا صريحا عن الجار والمجرور لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم فإن قوله تعالى «جسدا» أي جثة ذا دم ولحم أو جسدا من ذهب لا روح له بدل منه وقوله تعالى «له خوار» أي صوت عجل نعت له «فقالوا» أي السامري ومن افتتن به أول ما رآه «هذا إلهكم وإله موسى فنسي» أي غفل عنه وذهب يطلبه في الطور وهذا حكاية لنتيجة فتنة السامري فعلا وقولا من جهته تعالى قصدا إلى زيادة تقريرها ثم ترتيب الإنكار عليها لا من جهة القائلين وإلا لقيل فأخرج لنا والحمل على أن عدولهم إلى ضمير الغيبة لبيان أن الإخراج والقول المذكورين للكل لا للعبادة فقط خلاف الظاهر مع أنه مخل باعتذارهم فإن مخالفة بعضهم للسامري وعدم افتتانهم بتسويله مع كون الإخراج والخطاب لهم مما يهون مخالفته للمعتذرين فافتتانهم بعد ذلك أعظم جناية وأكثر شناعة وأما ما قيل من أن المعتذرين هم الذين لم يعبدوا العجل وأن نسبة الإخلاف إلى أنفسهم وهم برآء منه من قبيل قولهم بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم كأنهم قالوا ما وجد الإخلاف فيما بيننا بأمر كنا نملكه بل تمكنت الشبهة في قلوب العبدة حيث فعل السامري ما فعل فأخرج لهم ما أخرج وقال ما قال فلم نقدر على صرفهم عن ذلك ولم نفارقهم مخافة ازدياد الفتنة فيقضي بفساده سباق النظم الكريم وسياقه وقوله تعالى «أفلا يرون» الخ إنكار وتقيح من جهته تعالى الحال الضالين والمضلين جميعا وتسفيه لهم فيما اقدموا عليه من المنكر الذي لا يشتبه بطلانه واستحالته على أحد وهو اتخاذه إلها والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألا يتفكرون فلا يعلمون «ألا يرجع إليهم قولا» أي أنه لا يرجع إليهم كلاما ولا يرد عليهم جوابا فكيف يتوهمون أنه إله وقرئ يرجع بالنصب قالوا فالرؤية حينئذ بصرية فإن الناصبة لا تقع بد أفعال اليقين أي ألا ينظرون فلا يبصرون عدم رجعه إليهم قولا من الأقوال وتعليق الإبصار بما ذكر مع كونه أمرا عديما للتنبيه على كمال ظهوره المستدعى لمزيد تشنيعهم وتركيك عقولهم وقوله تعالى «ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا» عطف على لا يرجع داخل معه في حيز الرؤية أي أفلا يرون أنه لا يقدر على أن يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا أو لا يقدر على أن يضرهم إن لم يعبدوه أو ينفعهم إن عبدوه «ولقد قال لهم هارون من قبل» جملة قسمية مؤكدة لما قبلها من الإنكار والتشنيع ببيان عتوهم واستعصائهم على الرسول إثر بيان مكابرتهم لقضية
36

العقول اي وبالله لقد نصح لهم هارون ونبههم على كنه الأمر من قبل رجوع موسى عليه السلام إليهم وخطابه إياهم بما ذكر من المقالات وقيل من قبل قول السامري كأنه عليه السلام أو وما أبصره حين طلع من الحفيرة توهم منهم الافتتان به فسارع إلى تحذيرهم وقال لهم «يا قوم إنما فتنتم به» اي أوقعتم في الفتنة بالعجل أو أضللتم به على توجيه القصر المستفاد من كلمة إنما إلى نفس الفعل بالقياس إلى مقابله الذي يدعيه القوم لا إلى قيده المذكور بالقياس إلى قيد آخر على معنى إنما فعل بكم الفتنة لا الإرشاد إلى الحق لا على معنى إنما فتنتم بالعجل لا بغيره وقوله تعالى «وإن ربكم الرحمن» بكسر إن عطفا على إنما إرشاد لهم إلى الحق إثر زجرهم عن الباطل والتعرض لعنوان الربوبية والرحمة للاعتناء باستمالتهم إلى الحق كما أن التعرض لوصف العجل للاهتمام بالزجر عن الباطل أي أن ربكم المستحق للعبادة هو الرحمن لا غير والفاء في قوله تعالى «فاتبعوني» لترتيب ما بعدها على ما قبلها من مضمون الجملتين اي إذا كان الأمر كذلك فاتبعوني في الثبات على الدين «وأطيعوا أمري» هذا واتركوا عبادة ما عرفتم شأنه «قالوا» في جواب هارون عليه السلام «لن نبرح عليه» على العجل وعبادته «عاكفين» مقيمين «حتى يرجع إلينا موسى» جعلوا رجوعه عليه السلام إليهم غاية لعكوفهم على عبادة العجل لكن لا على طريق الوعد بتركها عند رجوعه عليه السلام بل بطريق التعليل والتسويق وقد دسوا تحت ذلك أنه عليه السلام لا يرجع بشيء مبين تعويلا على مقالة السامري روى أنهم لما قالوه اعتزلهم هارون عليه السلام في اثنى عشر ألفا وهم الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى عليه السلام وسمع الصياح وكانوا يرقصون حول العجل قال للسبعين الذين كانوا معه هذا صوت الفتنة فقال لهم ما قال وسمع منهم ما قالوا وقوله تعالى «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية جوابهم لهارون عليه السلام كأنه قيل فماذا قال موسى لهارون عليهما السلام حين سمع جوابهم له وهل رضي بسكوته بعد ما شاهد منهم ما شاهد فقيل قال له وهو مغتاظ قد أخذ بلحيته ورأسه «يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا» بعبادة العجل وبلغوا من المكابرة إلى أن شافهوك بتلك المقالة الشنعاء أن لا تتبعر أي أن تتبعني على أن لا تريدة وهو مفعول ثان لمنع وهو عامل في إذ أي شيء منعك حين رؤيتك لضلالهم أن تتبعني في الغضب لله تعالى والمقاتلة مع من كفر به وقيل المعنى ما حملك على أن لا تتبعني فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابلة وقيل ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم فتكون مفارقتك مزجرة لهم وفيه أن نصائح هارون عليه السلام حيث لم تزجرهم عما كانوا عليه فلأن لا تزجرهم مفارقته إياهم عنه أولى والاعتذار بأنهم إذا علموا أنه يلحقه ويخبره القصة يخافون رجوع موسى عليه السلام فينزجروا عن ذلك بمعزل من حيز القبول كيف لا وهم قد صرحوا بأنهم عاكفون عليه إلى حين رجوعه عليه السلام
37

«أفعصيت أمري» اي بالصلابة في الدين والمحاماة عليه فإن قوله له عليهما السلام اخلفني متضمن الأمر بهما حتما فإن الخلافة لا تتحقق إلا بمباشرة الخليفة ما كان يباشره المستخف لو كان حاضرا والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم تتبعني أو أخالفتني فعصيت أمري «قال يا ابن أم» خص الأم بالإضافة استعظاما لحقها وترقيقا لقلبه لا لما قيل من أنه كان أخاه لأم فإن الجمهور على أنهما كانا شقيقين «لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي» أي ولا بشعر رأسي روى أنه
عليه السلام أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لله وكان عليه السلام حديدا متصلبا في كل شيء فلم يتمالك حين رآهم يعبدون العجل ففعل ما فعل وقوله تعالى «إني خشيت» الخ استئناف سيق لتعليل موجب النهي ببيان الداعي إلى ترك المقاتلة وتحقيق أنه غير عاص لأمره بل ممتثل به أي إني خشيت لو قاتلت بعضهم بعض وتفانوا وتفرقوا «أن تقول فرقت بين بني إسرائيل» برأيك مع كونهم أبناء واحد كما ينبأ عنه ذكرهم بذلك العنوان دون القوم ونحوه وأراد عليه السلام بالتفريق ما يستتبعه القتال من التفريق الذي لا يرجى بعده الاجتماع «ولم ترقب قولي» يريد به قوله عليه السلام اخلفني في قومي وأصلح الخ يعني إني رأيت أن الإصلاح في حفظ الدهماء والمداراة معهم إلى أن ترجع إليهم فلذلك استأنيتك لتكون أنت المتدارك للأمر حسبما رأيت لا سيما وقد كانوا في غاية القوة ونحن على القلة والضعف كما يعرب عنه قوله تعالى إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني قال استئناف وقع جوابا عما نشأ من حكاية ما سلف من اعتذار القوم بإسناد الفساد إلى السامري واعتذار هارون عليه السلام كأنه قيل فماذا صنع موسى عليه السلام بعد سماع ما حكى من الاعتذارين واستقرار أصل الفتنة على السامري فقيل قال موبخا له هذا شأنهم «فما خطبك يا سامري» أي ما شأنك وما مطلوبك مما فعلت خاطبه عليه السلام بذلك ليظهر للناس بطلان كيده باعترافه ويفعل به وبما صنعه من العقاب ما يكون نكالا للمفتونين به ولمن خلفهم من الأمم قال أي السامري مجيبا له عليه السلام «بصرت بما لم يبصروا به» بضم الصاد فيما وقرئ بكسرها في الأول وفتحها في الثاني وقرئ بالتاء على الوجهين على خطاب موسى عليه السلام وقومه أي علمت ما لم يعلمه القوم وفطن لما لم يفطنوا له أو رأيت ما لم يروه وهو الأنسب بما سيأتي من قوله وكذلك سولت لي نفسي لا سيما على القراءة بالخطاب فإن ادعاء علم ما لم يعلمه موسى عليه السلام جرأة عظيمة لا تليق بشأنه ولا بمقامه بخلاف ادعاء رؤية ما لم يره
38

عليه السلام فإن مما يقع بحسب ما يتفق وقد كان رأي أن جبريل عليه السلام جاء راكبا فرسا وكان كلما رفع الفرس يديه أو رجليه على الطريق اليبس يخرج من تحته النبات في الحال فعرف أن له شأنا فأخذ من موطئه حفنة وذلك قوله تعالى «فقبضت قبضة من أثر الرسول» وقرئ من أثر فرس الرسول أي من تربة موطئ فرس الملك الذي ارسل إليك ليذهب بك إلى الطور ولعل ذكره بعنوان الرسالة للإشعار بوقوفه على ما لم يقف عليه القوم من الأسرار الإلهية تأكيدا لما صدر به مقالته والتنبيه على وقت أخذ ما اخذ والقبضة المرة من القبض أطلقت على المقبوض مرة وقرئ بضم القاف وهو اسم المقبوض كالغرفة والمضغة وقرئ فقبصت قبصة بالصاد المهملة والأول للأخذ بجميع الكف والثاني بأطراف الأصابع ونحوهما الخضم والقضم فنبذتها أي في الحلي المذابة فكان ما كان «وكذلك سولت لي نفسي» أي ما فعلته من القبض والنبذ فقوله تعالى ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده ومحل كذلك في الأصل النصب على أنه مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف والتقدير سولت لي نفسي تسويلا كائنا مثل ذلك التسويل فقدم على الفعل لإفادة القصر واعتبرت الكاف مقحمة لإفادة تأكيد ما أفاده اسم الإشارة من الفخامة فصار نفس المصدر المؤكد لا نعتا له أي ذلك التزيين البديع زيت لي نفسي ما فعلته لا تزيينا أدنى منه ولذلك فعلته وحاصل جوابه أن ما فعله إنما صدر عنه بمحض اتباع هوى النفس الأمارة بالسوء وإغوائها لا بشيء آخر من البرهان العقلي أو الإلهام الإلهي فعند ذلك «قال» عليه السلام «فاذهب» أي من بين الناس وقوله تعالى «فإن لك في الحياة» الخ تعليل لموجب الأمر وفي متعلقة بالاستقرار في لك أي ثابت لك في الحياة أو بمحذوف وقع حالا من الكاف والعامل معنى الاستقرار في الظرف المذكور لاعتماده على ما هو مبتدأ معنى لا بقوله تعالى «أن تقول لا مساس» لمكان أي أن ثابت لك كائنا في الحياة أي مدة حياتك أن تفارقهم مفارقة كلية لكن لا بحسب الاختيار بموجب التكليف بل بحسب الاضطرار الملجئ إليها وذلك أنه تعالى رماه بداء عقام لا يكاد يمس أحدا أو بمسه أحد كائنا من كان إلا حما من ساعته حمى شديدة فتحامى الناس وتحاموه وكان يصيح بأقصى طوقه لا مساس وحرم عليهم ملاقاته ومواجهته ومكالمته ومبايعته وغيرها مما يعتاد جريانه فيما بين الناس من المعاملات وصار بين الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم ومن الوحش النافر في البرية ويقال إن قومه باق فيهم تلك الحالة إلى اليوم وقرئ لا مساس كفجار وهو علم للمسة ولعل السر في مقابلة جنايته بتلك العقوبة خاصة ما بينهما من مناسة التضاد فإنه لما أنشأ الفتنة بما كانت ملابسته سببا لحياة الموات عوقب مما يضاده حيث جعلت ملابسته سببا للحمى التي هي من أسباب موت الأحياء «وإن لك موعدا» أي في الآخرة «لن تخلفه» اي لن يخلفك الله ذلك الوعد بل ينجزه لك البتة بعد ما عاقبك في الدنيا وقرئ بكسر اللام والأظهر أنه من أخلفت الموعد أي وجدته خلفا وقرئ
39

بالنون على حكاية قوله عز وجل «وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا» أي ظللت مقيما على عبادته فحذفت اللام الأولى تخفيفا وقرئ بكسر الظاء بنقل حركة اللام إليها «لنحرقنه» جواب قسم محذوف أي بالنار ويؤيده قراءة لنحرقنه من الإحراق وقيل بالمبرد على أنه مبالغة في حرق إذا برد بالمبرد ويعضده قراءة لنحرقنه «ثم لننسفنه» أي لنذرينه وقرئ بضم السين «في اليم» رمادا أو مبرودا كأنه هباء «نسفا» بحيث لا يبقى منه عين ولا اثر ولقد فعل عليه السلام ذلك كله يشهد به الأمر بالنظر وإنما لم يصرح به تنبيها على كمال ظهوره واستحالة الخلف في وعده المؤكد باليمين «إنما إلهكم الله» استئناف مسوق لتحقيق الحق إثر إبطال الباطل بتلوين الخطاب وتوجيه إلى الكل أي إنما معبودكم المستحق للعبادة الله «الذي لا إله» في الوجود لشيء من الأشياء «إلا هو» وحده من غير أن يشاركه شيء من الأشياء بوجه من الوجوه التي من جملتها أحكام الألوهية وقرئ الله لا إله إلا هو الرحمن رب العرش وقوله تعالى «وسع كل شيء علما» اي وسع علمه كل ما من شأنه أن يعلم بدل من الصلة كأنه قيل إنما إلهكم الله الذي وسع كل شيء علما لا غيره كائنا ما كان فيدخل فيه العجل دخولا أوليا وقرئ وسع بالتشديد فيكون انتصاب علما على المفعولية لأنه على القراءة الأولى فاعل حقيقة وبنقل الفعل إلى التعدية إلى المفعولين صار الفاعل مفعولا أول كأنه قيل وسع علمه كل شيء وبه تم حديث موسى عليه السلام المذكور لتقرير أمر التوحيد حسبما نطقت به خاتمته وقوله تعالى «كذلك نقص عليك» كلام مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوعد الجميل بتنزيل أمثال ما مر من أنباء الأمم السالفة وذلك إشارة إلى اقتصاص حديث موسى عليه السلام وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل ومحل الكاف النصب على أنه نعت لمصدر مقدر أي نقص عليك «من أنباء ما قد سبق» من الحوادث الماضية الجارية على الأمم الخالية قصا مثل ذلك القص المار والتقديم
للقصر المفيد لزيادة التعيين ومن في قوله تعالى من أنباء في حيز النصب إما على أنه مفعول نقص باعتبار مضمونه وإما على أنه متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول كما في قوله تعالى ومنا دون ذلك أي جمع دون ذلك والمعنى نقص عليك بعض من أنباء ما قد سبق أو بعضا كائنا من أنباء ما قد سبق وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى ومن الناس من يقول الخ وتأخيره عن عليك لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أي مثل ذلك القص البديع الذي سمعته نقص عليك ما ذكر من الأنباء لا قصا ناقصا عنه تبصرة لك وتوفير لعلمك وتكثيرا لمعجزاتك وتذكر للمستبصرين من أمتك «وقد آتيناك من لدنا ذكرا» أي كتابا منطويا على هذه الأقاصيص والأخبار حقيقا بالتفكر والاعتبار وكلمة من متعلقة بآتيناك وتنكير ذكر للتفخيم وتأخيره عن الجار والمجرور لما أن مرجع الإفادة في الجملة كون المؤتى من لدنه تعالى ذكرا عظيما وقرآنا كريما جامعا لكل كمال لا كون ذلك الذكر مؤتى من لدنه عز وجل مع ما فيه من نوع طول بما بعده من
40

الصفة فتقديمه يذهب برونق النظم الكريم «من أعرض عنه» عن ذلك الذكر العظيم الشأن المستتبع لسعادة الدارين وقيل عن الله عز وجل ومن إما شرطية أو موصولة وأيا ما كانت فالجملة صفة لذكرا «فإنه» أي المعرض عنه «يحمل يوم القيامة وزرا» أي عقوبة ثقيلة فادحة على كفره وسائر ذنوبه وتسميتها وزرا إما لتشبيهها في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الذي يفدح الحامل وينقض ظهره أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم والأول هو الأنسب بما سيأتي من تسميتها حملا وقوله تعالى «خالدين فيه» أي في الوزر أو في احتماله المستمر حال من المستكن في يحمل والجمع بالنظر إلى معنى من لما أن الخلود في النار مما يتحقق حال اجتماع أهلها كما أن الإفراد فيما سبق من الضمائر الثلاثة بالنظر إلى لفظها «وساء لهم يوم القيامة حملا» أي بئس لهم ففيه ضمير مبهم يفسره حملا والمخصوص بالذم محذوف اي ساء حملا وزرهم واللام للبيان كما في هيت لك كأنه لما قيل ساء قيل لمن يقال هذا فأجيب لهم وإعادة يوم القيامة لزيادة التقرير وتهويل الأمر «يوم ينفخ في الصور» بدل من يوم القيامة أو منصوب بإضمار اذكر أو ظرف لمضمر قد حذف للإيذان بضيق العبارة عن حصره وبيان حسبما مر في تفسير قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل وقوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا وقرئ ننفخ بالنون على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له وبالياء المفتوحة على أن ضميره لله عز وجل أو لإسرافيل عليه السلام وإن لم يجر ذكره لشهرته «ونحشر المجرمين يومئذ» أي يوم إذ ينفخ في الصور وذكره صريحا مع تعين أن الحشر لا يكون إلا يومئذ للتهويل وقرئ ويحشر المجرمون «زرقا» أي حال كونهم زرق العيون وإنما جعلوا كذلك لأن الزرقة أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب فإن الروم الذين كانوا أعدى عدوهم زرق ولذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد واصهب السبال وازرق العين أو عميا لأن حدقة الأعمى تزرق وقوله تعالى «يتخافتون بينهم» اي يخفضون أصواتهم ويخفونها لما يملأ صدورهم من الرعب والهول استئناف ببيان ما يأتون وما يذرون حينئذ أو حال أخرى من المجرمين أي يقول بعضهم لبعض بطريق المخافتة «إن لبثتم» أي ما لبثتم في الدنيا «إلا عشرا» أي عشر ليال استقصار لمدة لبثهم فيها لزوالها أو لاستطالتهم مدة الآخرة أو لتأسفهم عليها لما عاينوا الشدائد وأيقنوا انهم استحقوها على إضاعتها في قضاء الأوطار واتباع الشهوات أو في القمر وهو الأنسب بحالهم فإنهم حين يشاهدون البعث الذي كانوا ينكرونه في الدنيا ويعدونه من قبيل المحالات لا يتمالكون من أن يقولوا ذلك اعترافا به وتحقيقا لسرعة وقوعه كأنهم قالوا قد بعثتم وما لبثتم في القبر إلا مدة يسيرة
41

وإلا فحالهم أفظع من أن تمكنهم من الاشتغال بتذكر أيام النعمة والسرور واستقصارها والتأسف عليها «نحن أعلم بما يقولون» وهو مدة لبثهم «إذ يقول أمثلهم طريقة» اي أعد لهم رأيا أو عملا «إن لبثتم إلا يوما» ونسبة هذا القول إلى أمثلهم استرجاع منه تعالى له لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق بل لكونه أدل على شدة الهول «ويسألونك عن الجبال» أي عن مآل أمرها وقد سأل عنه رجل من ثقيف وقيل مشركو مكة على طريق الاستهزاء «فقل ينسفها ربي نسفا» أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها والفاء للمسارعة إلى إلزام السائلين «فيذرها» الضمير إما للجبال باعتبار أجزائها السالفة الباقية بعد النسف وهي مقارها ومراكزها أي فيذر ما انبسط منها وساوى سطحه سطوح سائر أجزاء الأرض بعد نسف ما نتأمنها ونشز وإما للأرض المدلول عليها بقرينة الحال لأنها الباقية بعد نسف الجبال وعلى التقديرين يذر الكل «قاعا صفصفا» لأن الجبال إذا سويت وجعل سطحها مساويا لسطوح سائر أجزاء الأرض فقد جعل الكل سطحا واحدا والقاع قيل السهل وقيل المنكشف من الأرض وقيل المستوي الصلب منها وقيل مالا نبات فيه ولا بناء والصفصف الأض المستوية الملساء كان أجزاءه صف واحد من كل جهة وانتصاب قاعا على الحالية من الضمير المنصوب أو هو مفعول ثان ليذر على تضمين معنى التصيير وصفصفا إما حال ثانية أو بدل من المفعول الثاني وقوله تعالى «لا ترى فيها» أي في مقار الجبال أو في الأرض على ما مر من التفصيل «عوجا» بكسر العين أي اعوجاجا ما كأنه لغاية خفائه من قبيل ما في المعاني أي لا تدركه إن تأملت بالمقاييس الهندسية «ولا أمتا» أي نتوءا يسيرا استئناف مبين لكيفية ما سبق من القاع الصفصف أو حال أخرى أو صفة لقاعا والخطاب لكل أحد ممن تأتي منه الرؤية وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر مع ما فيه من طول ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم «يومئذ» أي يوم إذ نسفت الجبال على إضافة اليوم إلى وقت النسف وهو ظرف لقوله تعالى «يتبعون الداعي» وقيل بدل من يوم القيامة وليس بذاك اي يتبع الناس داعي الله عز وجل إلى المحشر وهو إسرافيل عليه السلام يدعو الناس عند النفخة الثانية قائما على صخرة بيت المقدس ويقول أيتها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة قومي إلى
42

عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه «لا عوج له» لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه «وخشعت الأصوات للرحمن» اي خضعت لهيبته «فلا تسمع إلا همسا» اي صوتا خفيا ومنه الهميس لصوت إخفاف الإبل وقد فسر الهمس بخفق أقدامهم ونقلها إلى المحشر «يومئذ» اي يوم إذ يقع ما ذكر من الأمور الهائلة «لا تنفع الشفاعة» من الشعفاء أحدا «إلا من أذن له الرحمن» أن يشفع له «ورضي له قولا» إي ورضي لأجله قول الشافع في شأنه أو رضي قوله لأجله وفي شأنه وأما من عداه فلا تكاد تنفعه وإن فرض صدورها عن الشفعاء المتصدين للشفاعة للناس كقوله تعالى فما تنفعهم شفاعة الشافعين فالاستثناء كما ترى من أعم المفاعيل وأما كونه استثناء من الشفاعة على معنى لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أن يشفع لغيره كما جوزوه فلا سبيل إليه لما أن حكم الشفاعة ممن لم يؤذن له أن لا يملكها
ولا تصدر هي عنه أصلا كما في قوله تعالى لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا وقوله تعالى ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فالإخبار عنها بمجرد عدم نفعها للمشفوع له ربما يوهم إمكان صدورها عمن لم يؤذن له مع إخلاله بمقتضى مقام تهويل اليوم وأما قوله تعالى ولا يقبل منها شفاعة فمعناه عدم الإذن في الشفاعة لا عدم قبولها بعد وقوعها «يعلم ما بين أيديهم» اي ما تقدمهم من الأحوال وقيل من أمر الدنيا «وما خلفهم» وما بعدهم مما يستقبلونه وقيل من امر الآخرة «ولا يحيطون به علما» اي لا تحيط علومهم بمعلوماته تعالى وقيل بذاته اي من حيث اتصافه بصفات الكمال التي من جملتها العلم الشامل وقيل الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعها فإنهم لا يعلمون جميع ذلك ولا تفصيل ما علموا منه «وعنت الوجوه للحي القيوم» أي ذلت وخضعت خضوع العتاة أي الأسارى في يد الملك القهار ولعلها وجوه المجرمين كقوله تعالى سيئت وجوه الذين كفورا ويؤيده قوله تعالى «وقد خاب من حمل ظلما» قال ابن عباس رضي الله عنهما خسر من اشرك بالله ولم يتب وهو استئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم أو اعتراض كأنه قيل خابوا وخسروا وقيل حال من الوجوه ومن عبارة عنها مغنية عن ضميرها وقيل الوجوه على العموم فالمعنى حينئذ وقد خاب من حمل منهم ظلما فقوله تعالى «ومن يعمل من الصالحات» الخ قسم لقوله تعالى وقد خاب من حمل ظلما لا لقوله تعالى وعنت الوجوه الخ كما أنه كذلك على الوجه الأول أي ومن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات على أحد الوجهين المذكورين في تفسير قوله تعالى من أنباء ما قد سبق «وهو مؤمن» فإن الإيمان شرط في صحة الطاعات وقبول الحسنات «فلا يخاف ظلما» اي منع ثواب مستحق بموجب الوعد «ولا
43

هضما» ولا كسرا منه ينقص أو لا يخاف جزاء ظلم وهضم إذا لم يصدر عنه ظلم ولا هضم حتى يخافهما وقرئ فلا يخف على النهي «وكذلك» عطف على كذلك نقص وذلك إشارة إلى إنزال ما سبق من الآيات المتضمنة للوعيد المنبثة عما سيقع من أحوال القيامة وأهوالها أي مثل ذلك الإنزال «أنزلناه» اي القرآن كله وإضماره من غير سبق ذكره للإيذان بنباهة شأنه وكونه مركوزا في العقول حاضرا في الأذهان «قرآنا عربيا» ليفهمه العرب ويقفوا على ما فيه من النظم المعجز الدال على كونه خارجا عن طوق البشر نازلا من عند خلاق القوى والقدر «وصرفنا فيه من الوعيد» اي كررنا فيه بعض الوعيد أو بعضا من الوعيد حسبما أشير إليه آنفا «لعلهم يتقون» أي كي يتقو الكفر والمعاصي بالفعل «أو يحدث لهم ذكرا» اتعاظا واعتبارا مؤديا بالآخرة إلى الاتقاء «فتعالى الله» استعظام له تعالى ولشئونه التي يصرف عليها عباده من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد وغير ذلك اي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأفعاله وأحواله «الملك» النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده «الحق» في ملكوته وألوهيته لذاته أو الثابت في ذاته وصفاته «ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك» أي يتم «وحيه» كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقى إليه جبريل عليه السلام الوحي يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ فنهى عن ذلك إثر ذكر الإنزال بطريق الاستطراد لما أن استقرار الألفاظ في الأذهان تابع لاستقرار معانيها فيها وربما يشغل التلفظ بكلمة عن سماع ما بعدها وامر باستفاضة العلم واستزادته منه تعالى فقيل «وقل» أي في نفسك «رب زدني علما» أي سل الله عز وجل زيادة العلم فإنه الموصل إلى طلبتك دون الاستعجال وقيل أنه نهى عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه وليس بذلك فإن تبليغ المجمل وتلاوته قبل البيان مما لا ريب في صحته ومشروعيته «ولقد عهدنا إلى آدم» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من تصريف الوعيد في القرآن وبيان ان أساس بني آدم على العصيان وعرقه راسخ في النسيان مع ما فيه من إنجاز الموعود في قوله تعالى كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق يقال عهد إليه الملك وعزم عليه وتقدم إليه إذا امره ووصاه والمعهود محذوف يدل عليه ما بعده واللام جواب قسم محذوف أي واقسم أو وبالله أو تالله لقد أمرناه ووصيناه «من قبل» اي من قبل هذا الزمان «فنسي» أي العهد ولم يعتن به حتى غفل عنه أو تركه ترك المسي عنه وقرئ فنسي أي نساه الشيطان «ولم نجد له عزما»
44

تصميم رأي وثبات قدم في المور إذ لو كان كذلك لما أزله الشيطان ولما استطاع أن يغره وقد كان ذلك منه عليه السلام في بدء أمره من قبل أن يجرب الأمور ويتولى حارها وقارها ويذوق شريها وأريها عن النبي صلى الله عليه وسلم لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه وقد قال الله تعالى ولم نجد له عزما وقيل عزما على الذنب فإنه أخطأ ولم يتعمد وقوله تعالى ولم نجد إن كان من الوجود العلمي فله عزما مفعولا قدم الثاني على الأول لكونه ظرفا وإن كان من الوجود المقابل للعدم وهو الأنسب لأن مصب الفائدة هو المفعول وليس في الإخبار بكون العزم المعدوم له مزيد مزية فله متعلق به قدم على مفعوله لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف هو حال من مفعوله المنكر كأنه قيل ولم نصادف له عزما وقوله تعالى «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» شروع في بيان المعود وكيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي واذكر وقت قولنا لهم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرها فإن الوقت مشتمل على تفاصيل الأمور الواقعة فيه فالأمر بذكره أمر بذكر تفاصيل ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل على أعيان الحوادث فإذا ذكر صارت الحوادث كأنها موجودة في ذهن المخاطب بوجوداتها لعينية اي اذكر ما وقع في ذلك الوقت منا ومنه حتى يتبين لك نسيانه وفقدان عزمه «فسجدوا إلا إبليس» قد سبق الكلام فيه مرارا «أبى» جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ عن الإخبار بعدم سجوده كأنه قيل ما باله لم يسجد فقيل أبى واستكبر ومفعول أبى إما محذوف اي أبى السجود كما قوله تعالى أبى أن يكون مع الساجدين أو غير منوي رأسا بتنزيله منزلة اللازم اي فعل الإباء واظهره «فقلنا» عقيب ذلك اعتناء بنصحه «يا آدم إن هذا» الذي رايت ما فعل «عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما» اي لا يكونن سببا لإخراجكما (من الجنة) والمراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يستبب الشيطان إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني كما في قولك لا ارينك ههنا والفاء لترتيب موجب النهي على عداوته لهما أو على الإخبار بها فتشقى جواب للنهي وإسناد الشقاء إليه خاصة بعد تعليق الإخراج الموجب له بهما معا لأصالته في الأمور واستلزام شقائه لشقائها مع ما فيه من مراعاة الفواصل وقيل المراد بالشقاء التعب في تحصيل مبادئ المعاش وذلك من وظائف الرجال «إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى» «وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى» تعليل لما يوجبه النهي فإن اجتماع أسباب الراحة فيها مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل
45

مبادئ البقاء فيها والجد في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها والعدول عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعما بفنون النعم من المآكل والمشارب وتمتعا بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها ما لا يخفى إلى ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحى لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها على أن الترغيب قد حصل بما سوغ له من التمتع بجميع ما فيها سوى ما استثنى من الشجرة حسبما نطق به قوله تعالى ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما وقد طوى ذكره ههنا اكتفاء بما ذكر في موضع آخر واقتصر على ما ذكر من الترغيب المتضمن الترهيب ومعنى أن لا تجوع فيها الخ أن لا يصيبه شيء من الأمور الأربعة أصلا فغن الشبع والري والكسوة والكن قد تحصل بعد عروض أضدادها بإعواز الطعام والشراب واللباس والمسكن وليس الأمر فيها كذلك بل كل ما وقع فيها شهوة وميل إلى شيء من الأمور المذكورة تمتع به من غير أن يصل إلى حد الضرورة ووجه إفراده عليه السلام بما ذكر ما مر آنفا وفصل الظمأ عن الجوع في الذكر مع تجانسهما وتقارنهما في الذكر عادة وكذا حال العري والضحو المتجانسين لتوفيه مقام الامتنان حقه بالإشارة إلى أن نفي كل واحد من تلك الأمور نعمة على حيالها ولو جمع بين الجوع والظمأ لربما توهم أن نفيهما نعمة واحدة وكذا الحال في الجمع بين العري والضحو على منهاج قصة البقرة ولزيادة التقرير بالتنبيه على أن نفي كل واحد من الأمور المذكورة مقصوده بالذات مذكور بالإصالة لا أن نفي بعضها مذكورة بطريق والتبعية لنفي بعض آخر كما عسى يتوهم لو جمع بين كل من المتجانسين وقرىء إنك بالكسر والجمهور على الفتح بالعطف على أن لا تجوع وصحة وقوع الجملة بأن المفتوحة اسما للمكسورة المشاركة لها في إفادة التحقيق مع امتناع وقوعها خبرا لها لما أن المحذور اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة لا اجتماع فيما نحن فيه لاختلاف مناط التحقيق فيما في حيز هما بخلاف ما لو وقعت خبرا لها فإن اتحاد المناط حينئذ مما لا ريب فيه بيانه أن كل واحد من المكسورة والمفتوحة موضوعة لتحقيق مضمون الجملة الخبرية المنعقدة من اسمها وخبرها ولا يخفى أن مرجع خبريتها ما فيها من الحكم الإيجابي أو السلبي وأن مناط ذلك الحكم خرها لا اسمها فمدلول كل منهما تحقيق ثبوت خبرها لا سمها لا ثبوت اسمها في نفسها فاللازم من وقوع الجملة المصدرة بالمفتوحة اسما للمكسورة تحقيق ثبوت خبرها لتلك الجملة المؤولة بالمصدر وأما تحقيق ثبوتها في نفسها فهو مدلول المفتوحة حتما فلم يلزم اجتماع حرفي التحقيق في مادة واحدة قطعا وإنما لم يجوزوا أن يقال إن أن زيدا قائم حق مع اختلاف المناط بل شرطوا الفصل بالخبر كقولنا إن عندي أن زيادا قائم للتجافي عن صورة الاجتماع والواو العاطفة وإن كانت نائبة عن المكسورة التي يمتنع دخولها على المفتوحة بلا فصل وقائمة مقامها في إفضاء معناها وإجراء أحكامها على مدخولها لكنها حيث لم تكن حرفا موضوعا للتحقيق لم يلزم من دخولها على المفتوحة اجتماع حرفي التحقيق أصلا فالمعنى إن لك عدم الجوع وعدم العري وعدم الظمأ خلا أنه لم يقتصر على بيان أن الثابت له عليه السلام عدم الظمأ والضحو مطلقا كما فعل مثله في المعطوف عليه بل قصد بيان أن الثابت له عليه السلام تحقيق عدمها فوضع موضع الحرف المصدري
46

المحض أن المفيدة له كأنه قيل إن لك فيها عدم ظمئك على التحقيق «فوسوس إليه الشيطان» أي أنهى إليه وسوسته أو أسرها إليه «قال» إما بدل من وسوس أن استئناف وقع وجوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل فماذا قال في وسوسته فقيل قال «يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» أي شجرة من أكل منها خلد ولم يمت أصلا سواء كان على حاله أو بأن يكون ملكا لقوله تعالى إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين «وملك لا يبلى» أي لا يزول ولا يختل بوجه من الوجوه «فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما» قال ابن عباس رضي الله عنهما عريا عن النور الذي كان الله تعالى ألبسهما حتى بدت فروجهما «وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة» قد مر تفسيره في سورة الأعراف «وعصى آدم ربه» بما ذكر من أكل الشجرة «فغوى» ضل عن مطلوبه الذي هو الخلود أو عن المأمور به أو عن الرشد حيث اغتر بقول العدو العدو وقرئ فغوى من غوى الفصيل إذا اتخم من اللبن وفي وصفه عليه السلام بالعصيان والغواية مع صغر زلته تعظيم لها وزجر بليغ لأولاده عن أمثالها «ثم اجتباه ربه» أي اصطفاه وقربه إليه بالجمل على التوبة والتوفيق لها من اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه كقولك اجتمعته أو من جبى إلى كذا فاجتبيته مثل جليب على العروس فاجتليتها وأصل الكلمة الجمع وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام مزيد تشريف له عليه السلام «فتاب عليه» أي قبل توبته حين تاب هو وزوجته قائلين ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين وإفراده عليه السلام بالاجتباء وقبول التوبة قد مر وجهه «وهدى» أي إلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب العصمة «قال» استئناف مبنى على السؤال نشأ من الإخبار بأنه تعالى قبل توبته وهداه كأنه قيل فماذا أمره تعالى بعد ذلك فقيل قال له ولزوجته «اهبطا منها جميعا» أي انزلا من الجنة إلى الأرض وقوله تعالى «بعضكم لبعض عدو» حال من ضمير المخاطب في اهبطا والجمع لما أنهما أصل الذرية ومنشأ الأولاد أي متعادين في أمر المعاش كما علي الناس من التجاذب والتحارب «فإما يأتينكم مني هدى» من كتاب ورسول «فمن اتبع هداي» وضع الظاهر موضع المضمر مع الإضافة إلى ضميره تعالى لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه «فلا يضل» في الدنيا «ولا يشقى» في الآخرة
47

«ومن أعرض عن ذكري» أي عن الهدى الذاكر لي والداعي إلى «فأن له» في الدنيا «معيشة ضنكا» ضيقا مصدر وصف به ولذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث وقرئ ضنكى كسكرى وذلك لأن مجامع همته ومطامح نظره مقصورة على أعراض الدنيا وهو متهالك على ازديادها وخائف من انتقاصها بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر ويوسع ببركة الإيمان كما قال تعالى وضربت عليهم الذلة والمسكنة وقال تعالى ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض وقوله تعالى ولو أن أهل الكتاب آمنوا إلى قوله تعالى لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم وقيل هو الضريع والزقوم في النار وقيل عذاب القبر «ونحشره» وقرئ بسكون الهاء على لفظ الوقف والجزم عطفا على محل فإن له معيشة ضنكا لأنه جواب الشرط «يوم القيامة أعمى» فاقد البصر كما في قوله تعالى ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما لا أعمى عن الحجة كما قيل «قال» استئناف كما مر «رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا» أي في الدنيا وقرئ أعمى بالإمالة في الموضعين وفي الأول فقط لكونه جديرا بالتغيير لكونه رأس الآية ومحل الوقف «قال كذلك» أي مثل ذلك فعلت أنت ثم فسره بقوله تعالى «
أتتك آياتنا» واضحة نيرة بحيث لا تخفى على أحد «فنسيتها» أي عميت عنها وتركتها ترك المنسي الذي لا يذكر أصلا «وكذلك» ومثل ذلك النسيان الذي كنت فعلته في الدنيا «اليوم تنسى» تترك في العمى والعذاب جزاء وفاقا لكن لا أبدا كما قيل بل إلى ما شاء الله ثم يزيله عنه فيرى أهوال القيامة ويشاهد مقعده من النار ويكون ذلك له عذابا فوق العذاب وكذا البكم والصمم يزيلهما الله تعالى عنهم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا «وكذلك» أي مثل ذلك الجزاء الموافق للجناية «نجزي من أسرف» بالانهماك في الشهوات «ولم يؤمن بآيات ربه» بل كذبها وأعرض عنها «ولعذاب الآخرة» على الإطلاق أو عذاب النار «أشد وأبقى» أي من ضنك العيش أو منه ومن الحشر على العمى «أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من قوله تعالى وكذلك نجزي الآية والهمزة للإنكار التوبيخي والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام واستعمال الهداية باللام إما لتنزيلها منزلة اللام فلا حاجة
48

إلى المفعول أو لأنها بمعنى التبيين والمفعول محذوف وأيا ما كان فالفاعل هو الجملة بمضمونها ومعناها وضمير لهم للمشركين المعاصرين لرسوله الله صلى الله عليه وسلم والمعنى أغفلوا فلم يفعل الهداية لهم أو فلم يبين لهم مآل أمرهم كثرة أهلا كنا للقرون الأولى وقد مر في قوله عز وجل أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها الآية وقيل الفاعل الضمير العائد إلى الله عز وجل ويؤيده القراءة بنون العظمة وقوله تعالى كم أهلكنا الخ إما معلق للفعل ساد مسد مفعوله أو مفسر لمفعوله المحذوف هكذا قيل والأوجه أن لا يلاحظ له مفعول كأنه قيل أفلم يفعل الله تعالى لهم الهداية ثم قيل بطريق الالتفات كم أهلكنا الخ بيانا لتلك الهداية ومن القرون في محل النصب على أنه وصف لمميزكم أي كم قرنا كائنا من القرون وقوله تعالى «يمشون في مساكنهم» حال من القرون أو من مفعول أهلكنا أي أهلكناهم وهم في حال أمن وتقلب في ديارهم أو من الضمير في لهم مؤكد للإنكار والعامل يهد والمعنى أفلم يهد لهم إهلاكنا للقرون السالفة من أصحاب الحجر وثمود وقريات قوم لوط حال كونهم ماشين في مساكنهم إذا سافروا إلى الشام مشاهدين لآثار هلاكهم مع أن ذلك مما يوجب أن يهتدوا إلى الحق فيعتبروا لئلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يمكنون من المشي «إن في ذلك» تعليل للإنكار وتقرير للهداية مع عدم اهتدائهم وذلك إشارة إلى مضمون قوله تعالى كم أهلكنا ألخ وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلته وعلو شأنه في بابه «لآيات» كثيرة عظيمة واضحات الهداية ظاهرات الدلالة على الحق فإذن هو هادوا إيما هاد ويجوز أن تكون كلمة في تجريدية فافهم «لأولي النهى» لذوي العقول الناهية عن القبائح التي من أقبحها ما يتعاطاه كفار مكة من الكفر بآيات الله تعالى والتعامى عنها وغير ذلك من فنون المعاصي وفيه دلالة على أن مضمون الجملة هو الفاعل لا المفعول وقوله تعالى «ولولا كلمة سبقت من ربك» كلام مستأنف سيق لبيان حكمة عدم وقوع ما يشعر به قوله تعالى أفلم يهد لهم الآية من أن يصيبهم مثل ما أصاب القرون المهلكة أي ولولا الكلمة السابقة وهي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة لحكمة تقتضيه ومصلحة تستدعيه «لكان» عقاب جناياتهم «لزاما» أي لازما لهؤلاء الكفرة بحيث لا يتأخر عن جناياتهم ساعة لزوم ما نزل بأولئك العابرين وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام تلويح بان ذلك لتأخير لتشريفه عليه السلام كما ينبئ عنه قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم واللزام إما مصدر لازم وصف به مبالغة وإما فعال بمعنى مفعل جعل آلة اللزوم لفرط لزومه كما يقال لزاز خصم «وأجل مسمى» عطف على كلمة أي ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم وهو يوم القيامة ويوم بدر لما تأخر عذابهم أصلا وفصله عما عطف عليه للمسارعة إلى بيان جواب لولا وللإشعار باستقلال كل منهما بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآي الكريمة وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل المفهوم من السياق تنزيلا للفصل بالخبر منزلة التأكيد اي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كدأب عاد وثمود
49

وأضرابهم ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل «فاصبر على ما يقولون» أي إذا كان الأمر على ما ذكر من أن تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهال وانه لازم لهم البتة فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر فإن علمه عليه السلام بأنهم معذبون لا محالة مما يسليه ويحمله على الصبر «وسبح» ملتبسا «بحمد ربك» أي صل وأنت حامد لربك الذي يبلغك إلى كمالك على هدايته وتوفيقه أو نزهه تعالى عما ينسبونه إليه مما لا يليق بشأنه الرفيع حامدا له على ما ميزك بالهدى معترفا بأنه مولى النعم كلها والأول هو الأظهر المناسب لقوله تعالى «قبل طلوع الشمس» الخ فإن توقيت التنزيه غير معهود فالمراد صلاة الفجر «وقبل غروبها» يعني صلاتي الظهر والعصر لأنهما قبل غروبها بعد زوالها وجمعها لمناسبة قوله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل صلاة العصر «ومن آناء الليل» اي من ساعاته جمع إني بالكسر والقصر وأناء بالفتح والمد «فسبح» أي فصل والمراد به المغرب والعشاء وتقديم الوقت فيهما لاختصاصهما بمزيد الفضل فإن القلب فيهما أجمع والنفس إلى الاستراحة أميل فتكون العبادة فيهما أشق ولذلك قال تعالى إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وأقوم قيلا «وأطراف النهار» تكرير لصلاة الفجر والمغرب إيذانا باختصاصهما بمزيد مزية ومجيئه بلفظ الجمع لأمن من الإلباس كقول من قال ظهراهما مثل ظهور الترسين أو أمر بصلاة الظهر فإنه نهاية النصف الأول من النهار وبداية النصف الأخير وجمعه باعتبار النصفين أو لأن النهار جنس أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار «لعلك ترضى» متعلق بسبح أي سبح في هذه الأوقات رجاء أن تنال عنده تعالى ما ترضى به نفسك وقرئ ترضى على صيغة البناء للمفعول من أرضى أي يرضيك ربك «ولا تمدن عينيك» اي لا تطل نظر هما بطريق الرغبة والميل «إلى ما متعنا به» من زخارف الدنيا وقوله تعالى «أزواجا منهم» أي أصناما من الكفرة مفعول متعنا قدم عليه الجار والمجرور للاعتناء به أو هو حال من الضمير والمفعول منهم أي إلى الذي متعنا به وهو أصناف وأنواع بعضهم على أنه معنى من التبعيضية أو بعضا منهم على حذف الموصوف كما مر مرارا «زهرة الحياة الدنيا» منصوب بمحذوف يدل عليه متعنا أي أعطينا أو به على تضمين معناه أو بالبدلية من محل به أومن أزواجا بتقدير مضاف أو بدونه أو بالذم وهي الزينة والبهجة وقرئ زهرة بفتح الهاء وهي لغة كالجهرة في الجهرة أو جمع زاهر وصف لهم بأنهم زاهر والدنيا لتنعمهم وبهاء زيهم بخلاف ما عليه المؤمنون الزهاد «لنفتنهم فيه» متعلق بمتعنا جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلا إثر إظهار بهجته حالا أي لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه أو لنعذبهم في الآخرة بسببه «ورزق ربك» أي ما ادخر لك في الآخرة أو ما رزقك في الدنيا من النبوة والهدى «خير» مما منحهم في الدنيا لأنه مع كونه
50

في نفسه أجل ما يتنافس فيه المتنافسون مأمون الغائلة بخلاف ما منحوه «وأبقى» فإنه لا يكاد ينقطع نفسه أو أثره أبدا كما عليه زهرة الدينا «وأمر أهلك بالصلاة» أمر صلى الله عليه وسلم بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة بعد ما أمر هو بها ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم ولا يهتموا بأمر المعيشة ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة «واصطبر عليها» وثابر عليها غير غير مشتغل بأمر المعاش «لا نسألك رزقا» أي لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك «نحن نرزقك» وإياهم ففرغ بالك بأمر الآخرة «والعاقبة» الحميدة «للتقوى» أي لأهل التقوى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيها على أن ملاك الأمر هو التقوى روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية «وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه» حكاية لبعض أقاويلهم الباطلة التي أمر صلى الله عليه وسلم بالصبر عليها أي هلا يأتينا بآية تدل على صدقه في دعوى النبوة أو أية مما اقترحوها بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال من قبيل الآيات حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء وقوله تعالى «أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى» أي التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية رد من جهته عز وعلا لمقالتهم القبيحة وتكذيب لهم دسوا تحتها من إنكار إتيان الآية بإتيان القرآن الكريم الذي هو أم الآيات وأس المعجزات وأعظمها فيما وأبقاها لأن حقيقة المعجزة اختصاص مدعى النبوة بنوع من الأمور الخارقة للعادات أي أمر كان ولا ريب في أن العلم أجل الأمور وأعلاها إذ هو أصل الأعمال ومبدأ الأفعال ولقد ظهر مع حيازته لجميع علوم الأولين والآخرين على يد أمي لم يمارس شيئا من العلوم ولم يدارس أحدا من أهلها أصلا فأي معجزة تراد بعد وروده وأي آية ترام مع وجوده وفي إيراده بعنوان كونه بينة لما في الصحف الأولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية أي شاهدا بحقية ما فيها من العقائد الحقة وأصول الأحكام التي أجمعت عليها كافة الرسل وبصحة ما تنطق به من أنباء الأمم من حيث إنه غنى بإعجازه عما يشهد بحقيته حقيق بإثبات حقية غيره مالا يخفى من تنويه شأنه وإنارة برهانه ومزيد تقرير وتحقيق لإتيانه وإسناد الإتيان إليه مع جعلهم إياه مأتيا به للتنبيه على أصالته فيه مع ما فيه من المناسبة للبينة والهمزة لإنكار الوقوع والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل ألم تأتهم سائر الآيات ولم تأتهم خاصة بينة ما في الصحف الأولى تقريرا لإتيانه وإيذانا بأنه من الوضوح بحيث لا يتأتى منهم إنكاره أصلا وإن اجترءوا على إنكار سائر الآيات مكابرة وعنادا وقرئ أو لم يأتهم بالياء التحتانية وقرئ الصحف بالسكون تخفيفا وقوله تعالى «ولو أنا
51

أهلكناهم بعذاب» إلى آخر الآية جملة مستأنفة سيقت لتقرير ما قبلها من كون القرآن آية بينة لا يمكن إنكارها ببيان أنهم يعترفون بها يوم القيامة والمعنى لو أنا أهلكناهم في الدينا بعذاب مستأصل «من قبله» متعلق بأهلكنا أو بمحذوف هو صفة لعذاب أي بعذاب كائن من قبل إتيان البينة أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم «لقالوا» أي يوم القيامة «ربنا لولا أرسلت إلينا» في الدنيا «رسولا» مع كتاب «فنتبع آياتك» التي جاءنا بها «من قبل أن نذل» بالعذاب في الدنيا «ونخزى» بدخول النار اليوم اليوم ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها فانقطعت معذرتهم فعند ذلك قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء «قل» لأولئك الكفرة المتمردين «كل» أي كل واحد منا ومنكم «متربص» منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم «فتربصوا» وقرئ فتمتعوا «فستعلمون» عن قريب «من أصحاب الصراط السوي» أي المستقيم وقرئ السواء أي الوسط الجيد وقرئ السوء والسوءى والسوى تصغير السوء «ومن اهتدى» من الضلالة ومن في الموضعين استفهامية محلها الرفع بالابتداء خبرها وما بعدها والجملة سادة مسد مفعولى العلم أو مفعوله ويجوز كون الثانية موصولة بخلاف الأولى لعدم العائد فتكون معطوفة على محل الجملة الإستفهامية المعلق عنها الفعل على أن العلم بمعنى المعرفة أو على أصحاب أو على الصراط وقيل العائد في الأولى محذوف والتقدير من هم أصحاب الصراط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة طه أعطى يوم القيامة ثواب المهاجرين والأنصار وقال لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إلا سورة طه ويس
52

سورة الأنبياء مكية وآياتها مائة واثنتا عشرة آية
1 «بسم الله الرحمن الرحيم» «اقترب للناس حسابهم» مناسبة هذه الفاتحة الكريمة لما قبلها من الخاتمة الشريفة غنية عن البيان قال ابن عباس رضي الله عنهما المراد بالناس المشركون وهو الذي يفصح عنه ما بعده والمراد باقتراب حسابهم اقترابه في ضمن اقتراب الساعة وإسناد الاقتراب إليه لا إلى الساعة مع استتباعها له ولسائر ما فيها من الأحوال والأهوال الفظيعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم ذلك واللام متعلقة بالفعل وتقديمها على الفاعل للمسارعة إلى إدخال الروعة فإن نسبة الاقتراب إليهم من أول الأمر مما يسوؤهم ويورثهم رهبة وانزعاجا من المقترب كما أن تقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح في قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض لتعجيل المسرة لما أن بيان كون الخلق لأجل المخاطبين مما يسرهم ويزيدهم رغبة فيما خلق لهم وشوقا إليه وجعلها تأكيدا للإضافة على أن الأصل المتعارف فيما بين الأوساط اقترب حساب الناس ثم اقترب للناس الحساب ثم اقترب للناس حسابهم مع أنه تعسف تام بمعزل عما يقتضيه المقام وإنما الذي يستدعيه حسن النظام ما قدمناه والمعنى دنا منهم حساب أعمالهم السيئة الموجبة للعقاب وفي إسناد الاقتراب المنبىء عن التوجه نحوهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يعتبر التوجه والإقبال من جهتهم نحوه من تفخيم شأنه وتهويل أمره مالا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطالبهم ويصيبهم لا محالة ومعنى اقترابه لهم تقاربه ودنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة من ساعات الزمان أقرب إليهم منه في الساعة السابقة هذا وأما الاعتذار بان قربه بالإضافة إلى ما مضى من الزمان أو بالنسبة إلى الله عز وجل أو باعتبار أن كل آت قريب فلا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق أصل معناه نعم قد يفهم عنه عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى التوجيه بالوجه الأول دون الأخرين أما الثاني فلا سبيل إلى اعتباره ههنا لأن قربه بالنسبة إليه تعالى مما لا يتصور فيه التجدد والتفاوت حتما وإنما اعتباره في قوله تعالى لعل الساعة قريب ونظائره مما لا دلالة فيه على الحدوث وأما الثالث فلا دلالة فيه على الحدوث وأما الثالث فلا دلالة فيه على القرب حقيقة ولو بالنسبة إلى شيء آخر «وهم في غفلة» أي في غفلة تامة منه ساهون عنه بالمرة لا أنهم غير مبالين به مع اعترافهم بإتيانه بل منكرون له كافرون به مع اقتضاء عقولهم أن الأعمال لا بد لها من الجزاء «معرضون» أي عن الآيات والنذر المنبهة لهم عن سنة الغفلة وهما خبران للضمير وحيث كانت
53

الغفلة أمرا جبليا لهم جعل الخبر الأول ظرفا منبئا عن الاستقرار بخلاف الإعراض والجملة حال من الناس وقد جوز كون الظرف حالا من المستكن في معرضون «ما يأتيهم من ذكر» من طائفة نازلة من القرآن تذكرهم ذلك أكمل تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر ومن في قوله تعالى «من ربهم» لابتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة لذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وكمال شناعة ما فعلوا به والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد التشنيع «محدث» بالجر صفة لذكر وقرئ بالرفع حملا على محله أي محدث تنزيله بحسب اقتضاء الحكمة وقوله تعالى «إلا استمعوه» استثناء مفرغ محله النصب على أنه حال من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور وقوله تعالى «وهم يلعبون» حال من فاعل استمعوه وقوله تعالى «لاهية قلوبهم» إما حال أخرى منه أومن واو يلعبون والمعنى ما يأتيهم ذكر من ربهم محدث في حال من الأحوال إلا حال استماعهم إياه لاعبين مستهزئين به لاهين عنه أو لاعبين به حال كون قلوبهم لاهية عنه لتناهي غفلتهم وفرط إعراضهم عن النظر في الأمور والتفكر في العواقب وقرئ لاهية بالفرع على أنه خبر بعد خبر «وأسروا النجوى» كلام مستأنف مسوق لبيان جناياتهم خاصة إثر حكاية جناياتهم المعتادة والنجوى اسم من التناجي ومعنى إسرارها مع أنها لا تكون إلا سرا أنهم بالغوا في إخفائها أو أسروا نفس التناجي بحيث لم يشعر أحد بأنهم متناجون وقوله تعالى «الذين ظلموا» بدل من واو أسروا منبىء عن كونهم موصوفين بالظلم الفاحش فيما أسروا به أو هو مبتدأ خبره أسروا النجوى قدم عليه اهتماما به والمعنى هم أسروا النجوى فوضع الموصول موضع الضمير تسجيلا على فعلهم بكونه ظلما أو منصوب على الذم وقوله تعالى «هل هذا إلا بشر مثلكم» الخ في حيز النصب على أنه مفعول لقول مضمر هو جواب عن سؤال نشأ عما قبله كأنه قيل ماذا قالوا في نجواهم فقيل قالوا هل هذا الخ أو بدل من أسروا أو معطوف عليه أو على أنه بدل من النجوى أي أسروا هذا الحديث وهل بمعنى النفي والهمزة في قوله تعالى «أفتأتون السحر» للانكار والفاء للعطب على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى «وأنتم تبصرون» حال من فاعل تأتون مقررة للانكار ومؤكدة للاستبعاد والمعنى ما هذا إلا بشر مثلكم أي من جنسكم وما أتى به سحر أتعلمون ذلك فتأتونه وتحضرونه على وجه الاذعان والقبول وأنتم تعاينون أنه سحر قالوه بناء على ما ارتكز في اعتقادهم الزائغ أن الرسول لا يكون إلا ملكا وأن كل ما يظهر على يد البشر من الخوارق من قبيل السحر وزل عنهم أن ارسال البشر إلى عامة البشر هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية قاتلهم الله أنى يؤفكون وإنما أسروا ذلك لأنه كان على طريق توثيق العهد وترتيب مبادى الشر والفساد وتمهيد مقدمات المكر والكيد في هدم أمر النبوة وإطفاء نور الدين والله
54

متم نوره ولو كره الكافرون (قال ربي يعلم القول في السماء والأرض) حكاية من جهته تعالى لما قله عليه السلام بعد ما أوحي إليه أحوالهم وأقوالهم بيانا لظهور أمرهم وانكشاف سرهم وإيثار القول المنتظم للسر والجهر على السر لإثبات علمه تعالى بالسر على النهج البرهاني مع ما فيه من الإيذان بأن علمه تعالى بالسر والجهر على وتيرة واحدة لا تفاوت بينهما بالجلاء والخفاء قطعا كما في علوم الخلق وقرئ قل ربي الخ وقوله تعالى في السماء والأرض متعلق بمحذوف وقع حالا من القول أي كائنا في السماء والأرض وقوله تعالى «وهو السميع العليم» أي المبالغ في العلم بالمسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أسروه من النجوى فيجازيهم بأقوالهم وأفعالهم اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله متضمن للوعيد (بل قالوا أضغاث أحلام) إضراب من جهته تعالى وانتقال من حكاية قولهم السابق إلى حكاية قول آخر مضطرب في مسالك البطلان أي لم يقتصروا على أن يقولوا في حقه عليه السلام هل هذا إلا بشر وفى حق ما ظهر على يده من القرآن الكريم إنه سحر بل قالوا تخاليط الأحلام ثم أضربوا عنه فقالوا (بل افتراه) من تلقاء نفسه من غير أن يكون له أصل أو شبه أصل ثم قالوا (بل هو شاعر) وما أتى به شعر يخيل إلى السامع معاني لا حقيقة لها وهكذا شأن المبطل المحجوج متحير لا يزال يتردد بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد فالاضراب الأول كما ترى من جهته تعالى والثاني والثالث من قبلهم وقد قيل الكل من قبلهم حيث أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام مفترى ثم إلى أنه قول شاعر ولا ريب في أنه كان ينبغي حينئذ بأن قال قالوا بل أضغاث أحلام والاعتذار بأن بل قالوا مقول لقالوا المضمر قبل قوله تعالى هل هذا إلا بشر الخ كأنه قيل وأسرو النجوى قالوا هل هذا إلى قوله بل أضغاث أحلام وإنما صرح بقالوا بعد بل لبعد العهد مما يجب ننزيه ساحة التنزيل عن أمثاله (فليأتنا بآية) جواب شرط محذوف يفصح عنه السياق كأنه قيل وإن لم يكن كما قلنا بل كان رسولا من الله تعالى فليأتنا بآية (كما أرسل الأولون) أي مثل الأية التي أرسل بها الأولون كا ليد والعصا ونظائرهما حتى نؤمن به فما موصولة ومحل الكاف الجر على أنها صفة لآية ويجوز أن تكون مصدرية فالكاف منصوبة على أنها مصدر تشبيهي أي نعت لمصدر محذوف إي فليأتنا بآية إتيانا كائنا مثل إرسال الأولين بها وصحة التشبيه من حيث إن الإتيان بالآية من فروع الارسال بها إلى مثل إتيان مترتب على الإرسال ويجوز أن يحمل النظم الكريم على أنه أريد كل واحد من الإتيان والارسال في كل واحد من طرفي التشبيه لكنه ترك في جانب المشبه ذكر الإرسال وفى جانب المشبه به ذكر الاتيان اكتفاء بما ذكر في كل موطن عما ترك في الموطن الآخر حسبما مر في آخر سورة يونس عليه السلام (ما آمنت قبلهم من قرية) كلام مستأنف مسوق لتكذيبهم فيما تنبىء عنه خاتمة مقالهم من الوعد
55

الضمني بالإيمان كما أشير إليه وبيان أنهم في اقتراح تلك الآيات كالباحث عن حتفه بظلفه وأن في ترك الإجابة إليه إبقاء عليهم كيف لا ولو أعطوا ما اقترحوا مع عدم إيمانهم قطعا لوجب استئصالهم لجريان سنة الله عز وجل في الأمم السالفة على أن المقترحين إذا أعطوا ما اقترحوه ثم لم يؤمنوا نزل بهم عذاب الاستئصال لا محالة وقد سبقت كلمة الحق منه تعالى أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال فقوله من قرية أي من أهل قرية في محل الرفع على الفاعلية ومن مزيدة لتأكيد العموم وقوله تعالى «أهلكناها» أي بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات صفة لقرية والهمزة في قوله تعالى «أفهم يؤمنون» لإنكار الوقوع والفاء للعطف إما على مقدر دخلته الهمزة فأفادت إنكار وقوع إيمانهم ونفيه عقيب عدم إيمان الأولين فالمعنى أنه لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوه من الآيات أهم لم يؤمنوا فهؤلاء يؤمنون لو أجيبوا إلى ما سألوا وأعطوا ما اقترحوا مع كونهم أعنى منهم وأطغى وإما على ما آمنت على أن الفاء متقدمة على الهمزة في الاعتبار مفيدة لترتيب إنكار وقوع إيمانهم على عدم إيمان الأولين وإنما قدمت عليها الهمزة لاقتضائها الصدارة كما هو رأى الجمهور وقوله عز وجل «وما أرسلنا قبلك إلا رجالا» جواب
لقولهم هل هذا إلا بشر الخ متضمن لرد ما دسوا تحت قولهم كما أرسل الأولون من التعرض بعدم كونه عليه السلام مثل أولئك الرسل صلوات الله تعالى عليهم أجمعين ولذلك قدم عليه جواب قولهم فليأتنا بآية ولأنهم قالوا ذلك بطريق التعجيز فلا بد من المسارعة إلى رده وإبطاله كما مر في تفسير قوله تعالى قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين وقوله تعالى ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين ولأن في هذا الجواب نوع بسط يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم والحق أن ما اتخذوه سببا للتكذيب موجب للتصديق في الحقيقة لأن مقتضى الحكمة أن يرسل إلى البشر البشر وإلى الملك الملك حسبما ينطق به قوله تعالى قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا فإن عامة البشر بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية لتوقفها على التناسب بين المفيض والمستفيض فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك منهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب آخر وقوله تعالى «نوحي إليهم» استئناف مبين لكيفية الإرسال وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية المستمرة وحذف المفعول لعدم القصد إلى خصوصه والمعنى وما أرسلنا إلى الأمم قبل إرسالك إلى أمتك إلا رجالا مخصوصين من أفراد الجنس مستأهلين للاصطفاء والإرسال نوحي إليهم بواسطة الملك ما نوحي من الشرائع والأحكام وغيرهما من القصص والأخبار كما نوحى إليك من غير فرق بينهما في حقيقة الوحي وحقية مدلوله حسبما يحكيه قوله تعالى إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين إلى قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما كمالا فرق بينك وبينك وبينهم في البشرية فمالهم لا يفهمون أنك لست بدعا من الرسل وأن ما أوحي إليك ليس مخالفا لما أوحي إليهم
56

فيقولون ما يقولون وقرئ يوحي إليهم بالياء على صيغة المبنى للمفعول جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بتعين الفاعل وقوله تعالى «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى الكفرة لتبكيتهم واستنزالهم عن رتبة الاستبعاد والنكير إثر تحقيق الحق على طريقة الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه الحقيق بالخطاب في أمثال تلك الحقائق الأنيقة وأما الوقوف عليها بالاستخبار من الغير فهو من وظائف العوام والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أي إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أيها الجهلة أهل الكتاب الواقفين على أحوال الرسل السالفة عليهم الصلوات لنزول شبهتكم أمروا بذلك لأن إخبار الجم الغفير يوجب العلم لا سيما وهم كانوا يشايعون المشركين في عداوته عليه السلام ويشاورونهم في أمره عليه السلام ففيه من الدلالة على كمال وضوح الأمر وقوة شأن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى «وما جعلناهم جسدا» بيان لكون الرسل عليهم السلام أسوة لسائر أفراد الجنس في أحكام الطبيعة البشرية إثر بيان كونهم أسوة لهم في نفس البشرية والجسد جسم الإنسان والجن والملائكة ونصبه إما على أنه مفعول ثان للجعل لكن لا بمعنى جعله جسدا بعد أن لم يكن كذلك كما هو المشهور من معنى التصبير بل بمعنى جعله كذلك ابتداء على طريقة قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل كما مر في قوله تعالى وجعلنا آية النهار مبصرة وإما حال من الضمير والجعل إبداعي وإفراده لإرادة الجنس المنتظم للكثير أيضا وقيل بتقدير المضاف أي ذوي جسد وقوله تعالى «لا يأكلون الطعام» صفة له أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل والشرب بل محتاجا إلى ذلك لتحصيل بدل ما يتحلل منه (وما كانوا خالدين) لأن مال التحلل هو الفناء لا محالة وفي إيثار ما كانوا على ما جعلناهم تنبيه على أن عدم الخلود مقتضى جبلتهم التي أشير إليها بقوله تعالى وما جعلنا هم الخ لا بالجعل المستأنف والمراد بالخلود إما المكث المديد كما هو شأن الملائكة أو الا بدية وهم معتقدون أنهم لا يموتون والمعنى جعلناهم أجسادا متغذية صائرة إلى الموت بالآخرة على حسب آجالهم لا ملائكة ولا أجسادا مستغنية عن الأغذية مصونة عن التحلل كالملائكة فلم يكن لها خلود كخلودهم فالجملة مقررة لما قيلها من كون الرسل السالفة عليهم السلام بشرا لا ملكا مع ما في ذلك من الرد على قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام وقوله تعالى «ثم صدقناهم الوعد» عطف على ما يفهم من حكاية وحيه تعالى إليهم على الاستمرار النجددي كأنه قيل أوحينا إليهم ما أوحينا ثم صدقناهم في الوعد الذي وعدناهم في تضاعيف الوحي بإهلاك أعدائهم «فأنجيناهم ومن نشاء» من المؤمنين وغيرهم ممن تستدعي الحكمة إبقاءه كمن سيؤمن هو أو بعض فروعه بالآخرة وهو السر في حماية العرب من عذاب الاستئصال «وأهلكنا المسرفين» أي المجاوزين للحدود في الكفر والمعاصي
57

«لقد أنزلنا إليكم» كلام مستأنف مسوق لتحقيق حقية القرآن العظيم الذي ذكر في صدر السورة الكريمة إعراض الناس عما يأتيهم من آياته واستهزاؤهم به وتسميتهم تارة سحرا أو تارة أضغاث أحلام وأخرى مفترى وشعرا وبيان علو رتبته إثر تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ببيان أنه كسائر الرسل الكرام عليهم الصلاة والسالم قد صدر بالتوكيد القسمي إظهارا لمزيد الاعتناء بمضمونه وإيذانا يكون المخاطبين في أقصى مراتب النكير أي والله لقد أنزلنا إليكم يا معشر قريش «كتابا» عظيم الشأن نير البرهان وقوله تعالى «فيه ذكركم» صفة لكتابا مؤكدة لما أفاده التنكير التفخيمي من كونه جليل المقدار بأنه جميل الآثار مستجلب لهم منافع جليلة أي فيه شرفكم وصيتكم كقوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وقيل ما تحتاجون إليه في أمور دينكم ودنياكم وقيل ما تطلبون به حسن الذكر من مكارم الأخلاف وقيل فيه موعظتكم وهو الأنسب بسباق النظم الكريم وسياقه فإن قوله تعالى «أفلا تعقلون» إنكار توبيخي فيه بعث لهم على التدبر في أمر الكتاب والتأمل فيما في تضاعيفه من فنون المواعظ والزواجر التي من جملتها القوارع السابقة واللاحقة والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي ألا تتفكرون فلا تعقلون ان الأمر كذلك أولا تعقلون شيئا من الأشياء التي من جملتها ما ذكر وقوله تعالى «وكم قصمنا من قرية» نوع تفصيل لإجمال قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وبيان لكيفية إهلاكهم وسببه وتنبيه على كثرتهم وكم خبرية مفيدة للتكثير محلها النصب على أنها مفعول لقصمنا ومن قرية تمييز وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بإبانة أجزاء المكسورة وإزالة تأليفها بالكلية من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط مالا يخفي وقوله تعالى «كانت ظالمة» في محل الجر على أنها صفة لقرية بتقدير مضاف ينبئ عنه الضمير الآتي أي وكثيرا قصمنا من أهل قرية كانوا ظالمين بآيات الله تعالى كافرين بها كدأبكم «وأنشأنا بعدها» أي بعد إهلاكها «قوما آخرين» اي ليسوا منهم نسبا ولا دينا ففيه تنبيه على استئصال الأولين وقطع دابرهم بالكلية وهو السر في تقديم حكاية إنشاء هؤلاء على حكاية مبادئ إهلاك أولئك بقوله تعالى «فلما أحسوا بأسنا إذا هم») أي أدركوا عذابنا الشديد إدراكا تاما كأنه إدراك
المشاهد المحسوس «منها يركضون» يهربون مسرعين راكضين دوابهم أو مشبهين بهم في فرط الإسراع «لا تركضوا» أي قيل لهم بلسان الحال أو بلسان المقال من الملك أو ممن ثمة من المؤمنين بطريق الاستهزاء والتوبيخ لا تركضوا «وارجعوا إلى ما أترفتم فيه» من التنعم والتلذذ والإتراف إبطار النعمة «ومساكنكم» التي كنتم تفتخرون بها «لعلكم تسألون» تقصدون للسؤال والتشاور والتدبير في المهمات
58

والنوازل أو تنفقدون إذا رئيت مساكنكم خالية وتسألون أين أصحابها أو يسألكم الوافدون نوالكم على أنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رياء وبخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم «قالوا» لما يئسوا من الخلاص بالهرب وأيقنوا بنزول العذاب «يا ويلنا» أي هلاكنا «إنا كنا ظالمين» أي مستوجبين للعذاب وهو اعتراف منهم بالظلم وباستتباعه للعذاب وندم عليه حين لم ينفعهم ذلك «فما زالت تلك دعواهم» أي فما زالوا يرددون تلك الكلمة وتسميتها دعوى أي دعوة لأن المدلول كأنه يدعوا الويل قائلا يا ويل تعال فهذا أوانك «حتى جعلناهم حصيدا» أي مثل الحصيد وهو المحصود من الزرع والنبت ولذلك لم يجمع «خامدين» أي ميتين من خمدت النار إذا طفئت وهو مع حصيدا في حيز المفعول الثاني للجعل كقولك جعلته حلوا حامضا والمعنى جعلنا هم جامعين لمماثلة الحصيد والخمود أو حال من الضمير المنصوب في جعلناهم أو من المستكن في حصيدا أو صفة لحصيدا لتعدده معنى لأنه في حكم جعلناهم أمثال حصيد «وما خلقنا السماء والأرض» إشارة إجمالية إلى أن تكوين العالم وإبداع بني آدم مؤسس على قواعد الحكم البالغة المستتبعة للغايات الجليلة وتنبيه على أن ما حكى من العذاب الهائل والعقاب النازل بأهل القرى من مقتضيات تلك الحكم ومتفرعاتها حسب اقتضاء أعمالهم إياه وأن للمخاطبين المقتدرين بآثارهم ذنوبا مثل ذنوبهم أي ما خلقناهما «وما بينهما» من المخلوقات التي لا تحصى أجناسها وأفرادها ولا تحصر أنواعها وآحادها على هذا النمط البديع والأسلوب المنيع خالية عن الحكم والمصالح وإنما عبر عن ذلك باللعب واللهو حيث قيل «لاعبين» لبيان كمال تنزهه تعالى عن الخلق الخالي عن الحكمة بتصويره بصورة مالا يرتاب أحد في استحالة صدوره عنه سبحانه بل إنما خلقناهما وما بينهما لتكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يقوده إلى تحصيل معرفتنا التي هي الغاية القصوى بواسطة طاعتنا وعبادتنا كما ينطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون وقوله تعالى «لو أردنا أن نتخذ لهوا» استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب واللهو أي لو أردنا أن نتخذ ما يتلهى به ويلعب «لاتخذناه من لدنا» أي من جهة قدرتنا أو من عندنا مما يليق بشأننا من المجردات لا من الأجسام المرفوعة والأجرام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها لكن يستحيل إرادتنا له لما فاته الحكمة فيستحيل إتخاذنا له قطعا وقوله تعالى «إن كنا فاعلين» جرا به محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه اي إن كنا فاعلين لاتخذناه وقيل إن نافية أي ما كنا فاعلين أي لاتخاذ اللهو لعدم إرادتنا إياه فيكون بيانا
59

لانتفاء التالي لانتفاء المقدم أو لإرادة اتخاذ فيكون بيانا لانتفاء المقدم المستلزم لانتفاء التالي وقيل اللهو
18 الولد بلغة اليمن وقيل الزوجة والمراد الرد على النصارى ولا يخفي بعده «بل نقذف بالحق على الباطل» إضراب عن اتخاذ اللهو بل عن إرادته كأنه قيل لكنا لا نريده بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من قبيله اللهو وتخصيص شأنه هذا من بين سائر شؤونه تعالى بالذكر للتخلص إلى ما سيأتي من الوعيد «فيدمغه» أي يمحقه بالكلية كما فعلنا بأهل القرى المحكية وقد استعير لإيراد الحق على الباطل القذف الذي هو الرمي الشديد بالجرم الصلب كالصخرة ولمحقه للباطل الدمغ الذي هو كسر الشيء الرخو الأجوف وهو الدماغ بحيث يشق غشاءه المؤدى إلى زهوق الروح تصويرا له بذلك وقرئ فيدمغه بالنصب وهو ضعيف وقرئ فيدمغه بضم الميم «فإذا هو زاهق» أي ذاهب بالكلية وفي إذا الفجائية والجملة الإسمية من الدلالة على كمال المسارعة في الذهاب والبطلان مالا يخفي فكأنه زاهق من الأصل «ولكم الويل مما تصفون» وعيد لقريش بأن لهم أيضا مثل ما لأولئك من العذاب والعقاب ومن تعليلية متعلقة بالاستقرار الذي تعلق به الخبر أو بمحذوف هو حال من الويل أومن ضميره في الخبر وما إما مصدرية أو موصولة أو موصوفة أي واستقر لكم الويل والهلاك من أجل وصفكم له سبحانه بما لا يليق بشأنه الجليل أو بالذي تصفونه به من الولد أو كائنا مما تصفونه تعالى به «وله من في السماوات والأرض» استئناف مقرر لما قبله من خلقه تعالى لجميع مخلوقاته على حكمة بالغة ونظام كامل وأنه تعالى يحق الحق ويزهق الباطل أي له تعالى خاصة جميع المخلوقات خلقا وملكا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وتعذيبا وإثابة من غير أن يكون لأحد في ذلك دخل ما استقلالا أو استتباعا «ومن عنده» وهم الملائكة عليهم السلام عبر عنهم بذلك إثر ما عبر عنهم بمن في السماوات تنزيلا لهم لكرامتهم عليه عز وعلا وزلفاهم عنده منزلة المقربين عند الملوك بطريق التمثيل وهو مبتدأ خبره «لا يستكبرون عن عبادته» أي لا يتعظمون عنها ولا يعدون أنفسهم كبيرا «ولا يستحسرون» ولا يكلون ولا يعبون وصيغة الاستفعال المنبئة عن المبالغة في الحسور للتنبيه على أن عباداتهم بثقلها ودوامها حقيقة بان يستحسر منها ومع ذلك لا يستحسرون لا لإفادة نفى المبالغة في الحسور مع ثبوت أصله في الجملة كا أن نفى الظلامية في قوله تعالى وما أنا بظلام للعبيد لإفادة كثرة الظلم المفروض تعلقه بالعبيد لا لإفادة نفى المبالغة في الظلم مع ثبوت أصل الظلم في الجملة وقيل من عنده معطوف على من الأولى وإفرادهم بالذكر مع دخولهم في من في السماوات والأرض للتعظيم كما في قوله تعالى وجبريل وميكال فقوله تعالى لا يستكبرون حينئذ حال من الثانية «يسبحون الليل والنهار» أي ينزهونه في جميع الأوقات ويعظمونه ويمجدونه دائما وهو استئناف
60

وقع جوابا عما نشأ مما قبله كأنه قيل ماذا يصنعون في عباداتهم أو كيف يعبدون فقيل يسبحون ألخ أوحال من فاعل يستحسرون وكذا قوله تعالى «لا يفترون» أي لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو بشغل آخر «أم اتخذوا آلهة» حكاية لجناية أخرى من جناياتهم بطريق الإضراب والانتقال من فن إلى فن آخر من التوبيخ إثر تحقيق الحق ببيان انه تعالى خلق جميع المخلوقات على منهاج الحكمة وأنهم قاطبة تحت ملكوته وقهره وأن عباده مذعنون لطاعته ومثابرون على عبادته منزهون له عن كل مالا يليق بشأنه من الأمور التي من جملتها الأنداد ومعنى الهمزة في أم المنقطعة إنكار الواقع وقوله تعالى «من الأرض» متعلق باتخذوا أو بمحذوف هو صفة لآلهة وأيا ما كان فالمراد هو التحقير لا التخصيص وقوله تعالى «هم ينشرون» أي يبعثون الموتى صفة لآلهة وهو الذي يدور عليه الإنكار والتجهيل والتشنيع لا نفس الإتخاذ فإنه واقع لا
محالة اي بل اتخذوا آلهة من الأرض هم خاصة مع حقارتهم وجماديتهم ينشرون الموتى كلا فإن ما اتخذوها آلهة بمعزل من ذلك وهم وإن لم يقولوا بذلك صريحا لكنهم حيث ادعوا لها الإلهية فكأنهم ادعوا لها الإنشار ضرورة أنه من الخصائص الإلهية حتما ومعنى التخصيص في تقديم الضمير ما أشير إليه من التنبيه على كمال مباينة حالهم للإنشار الموجبة لمزيد الإنكار كما في قوله تعالى أفي الله شك وقوله تعالى أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون فإن تقديم الجار والمجرور للتنبيه على كمال مباينة أمره تعالى لأن يشك فيه ويستهزأ به ويجوز أن يجعل ذلك من مستتبعات ادعائهم الباطل لأن الألوهية مقتضية للاستقلال بالإبداء والإعادة فحيث ادعوا للأصنام الآلهية فكأنهم ادعوا لها الاستقلال بالإنشار كما أنهم جعلوا بذلك مدعين لأصل الإنشار «لو كان فيهما آلهة إلا الله» إبطال لتعدد الإله بإقامة البرهان على انتفائه بل على استحالته وإيراد الجمع لوروده إثر إنكار اتخاذ الآلهة لا لأن للجمعية مدخلا في الإستدلال وكذا فرض كونها فيهما وإلا بمعنى غير على أنها صفة لآلهة ولا مساغ للاستثناء لاستحالة شمول ما قبلها لما بعدها وإفضائه إلى فساد المعنى لدلالته حينئذ على أن الفساد لكونها فيهما بدونه تعالى ولا للرفع على البدل لأنه متفرع على الاستثناء ومشروط بأن يكون في كلام غير موجب أي لو كان في السماوات والأرض آلهة غير الله كما هو اعتقادهم الباطل «لفسدتا» اي لبطلتا بما فيهما جميعا وحيث انتفى التالي علم انتفاء المقدم قطعا بيان الملازمة أن الإلهية مستلزمة للقدرة على الاستبداد بالتصرف فيهما على الإطلاق تغييرا وتبديلا وإيجادا وإعداما وإحياء وإماتة فبقاؤهما على ما هما عليه إما بتأثير كل منها وهو محال لاستحالة وقوع المعلول المعين بعلل متعددة وإما بتأثير واحد منها فالبواقي بمعزل من الإلهية قطعا واعلم ان جعل التالي فسادهما بعد وجودهما لما أنه اعتبر في المقدم تعدد الآلهة فيهما وإلا فالبرهان يقضى باستحالة التعدد على الإطلاق فإنه لو تعدد الإله فإن توافق الكل في المراد تطاردت عليه القدر وإن تخالفت
61

تعاوقت فلا يوجد موجود أصلا وحيث انتفى التالي تعين انتفاء المقدم والفاء في قوله تعالى «فسبحان الله» لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ثبوت الوحدانية بالبرهان أي فسبحوه سبحانه اللائق به ونزهوه عما لا يليق به من الأمور التي من جملتها أن يكون له شريط في الألوهية وإيراد الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية مناط لجميع صفات كماله التي من جملتها تنزهه تعالى عما لا يليق به ولتربية المهابة وإدخال الروعة وقوله تعالى «رب العرش» صفة للإسم الجليل مؤكدة لتنزهه عز وجل «عما يصفون» متعلق بالتسبيح أي فسبحوه عما يصفونه من أن يكون من دونه آلهة «لا يسأل عما يفعل» استئناف ببيان أنه تعالى لقوة عظمته وعزة سلطانه القاهر بحيث ليس لأحد من مخلوقاته أن يناقشه ويسأله عما يفعل من أفعاله إثر بيان أن ليس له شريك في الإلهية «وهم» أي العباد «يسألون» عما يفعلون نقيرا
24 وقطميرا لأنهم مملوكون له تعالى مستعبدون ففيه وعيد للكفرة «أم اتخذوا من دونه آلهة» إضراب وانتقال من إظهار بطلان كون ما اتخذوه آلهة آلهة حقيقة بإظهار خلوها عن خصائص الإلهية التي من جملتها الإنشار وإقامة البرهان القاطع على استحالة تعدد الإله على الإطلاق وتفرده سبحانه بالألوهية إلى إظهار بطلان اتخاذهم تلك الآلهة مع عرائها عن تلك الخصائص بالمرة شركاء لله عز سلطانه وتبكيتهم بإلجائهم إلى إقامة البرهان على دعواهم الباطلة وتحقيق أن جميع الكتب السماوية ناطقة بحقية التوحيد وبطلان الإشراك والهمزة لإنكار الاتخاذ المذكور واستقباحه واستعظامه ومن متعلقة باتخذوا والمعنى بل اتخذوا متجاوزين إياه تعالى مع ظهور شؤونه الجليلة الموجبة لتفرده بالألوهية آلهة مع ظهور خلودهم عن خواص الألوهية بالكلية «قل» لهم بطريق التبكيت وإلقام الحجر «هاتوا برهانكم» على ما تدعونه من جهة العقل والنقل فإنه لا صحة لقول لا دليل عليه في الأمور الدينية لا سيما في مثل هذا الشأن الخطير وما في إضافة البرهان إلى ضميرهم من الإشعار بان لهم برهانا ضرب من التهكم بهم وقوله تعالى «هذا ذكر من معي وذكر من قبلي» إنارة لبرهانه وإشارة إلى أنه مما نطقت به الكتب الإلهية قاطبة وشهدت به ألسنة الرسل المتقدمة كافة وزيادة تهييج لهم على إقامة البرهان لإظهار كمال عجزهم أي هذا الوحي الوارد في شأن التوحيد المتضمن للبرهان القاطع العقلي ذكر أمتي اى عظمتهم وذكرهم الأمم السالفة قد أقمته فأقيموا أنتم أيضا برهانكم وقيل المعنى هذا كتاب أنزل على أمتي وهذا كتاب أنزل على أمم الأنبياء عليهم السلام من الكتب الثلاثة والصحف فراجعوها وانظروا هل في واحد منها غير الأمر بالتوحيد والنهى عن الإشراك ففيه تبكيت لهم متضمن لإثبات نقيض مدعاهم وقرئ بالتنوين والإعمال كقوله تعالى أو إطعام في يوم ذي مسغبة يقيما وبه وبمن الجارة على أن مع اسم هو ظرف كقبل وبعد وقوله تعالى «بل أكثرهم لا يعلمون الحق»
62

إضراب من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن وانتقال من الأمر بتبكيتهم بمطالبة البرهان إلى بيان أنه لا ينجح فيهم المحاجة بإظهار حقية الحق وبطلان الباطل فإن أكثرهم لا يفهمون الحق ولا يميزون بينه وبين الباطل «فهم» لأجل ذلك «معرضون» أي مستمرون على الإعراض عن التوحيد واتباع الرسول لا يرعوون عما هم عليه من الغي والضلال وإن كررت عليهم البينات والحجج أو معرضون عما ألقى عليهم من البراهين العقلية والنقلية وقرئ الحق بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وسط بين السبب والمسبب تأكيدا للسببية وقوله تعالى «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون»
25 استئناف مقرر لما أجمل فيما قبله من كون التوحيد مما نطقت به الكتب الإلهية وأجمعت عليه الرسل عليهم السلام وقرئ يوحى على صيغة الغائب مبنيا للمفعول وأيا ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورة الوحي «وقالوا اتخذ الرحمن ولدا» حكاية لجناية فريق من المشركين جئ بها لإظهار
26 بطلانها وبيان تنزهه تعالى عن ذلك إثر بيان تنزهه سبحانه عن الشركاء على الإطلاق وهم حي من خزاعة يقولون الملائكة بنات الله تعالى ونقل الواحدي أن قريشا وبعض أجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح يقولون ذلك والتعرض لعنوان الرحمانية المنبئة عن كون جميع ما سواه تعالى مربوبا له تعالى نعمة أو منعما عليه لإبراز كمال شناعة مقالتهم الباطلة «سبحانه» أي تنزه بالذات تنزهه اللائق به على أن السبحان مصدر من سبح اي بعد أو أسبحه تسبيحه على أنه علم للتسبيح وهو مقول على ألسنة العباد أو سبحوه تسبيحه وقوله تعالى «بل عباد» إضراب وإبطال لما قالوه كأنه قيل ليست الملائكة كما قالوا بل هم عباد له تعالى «مكرمون» مقربون عنده وقرى مكرمون بالتشديد وفيه تنبيه على منشأ غلط القوم وقوله تعالى «لا يسبقونه بالقول» صفة أخرى لعباد منبئة عن كمال طاعتهم وانقيادهم لأمره تعالى أي
27 لا يقولون شيئا حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به وأصله لا يسبق قولهم قوله تعالى فأسند السبق إليهم منسوبا إليه تعالى تنزيلا لسبق قولهم قوله تعالى منزلة سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبق المعرض به للذين يقولون مالا يقوله الله تعالى وجعل القول محلا للسبق وأداة له ثم أنيب اللام عن الإضافة للاختصار والتجافى عن التكرار وقرئ لا يسبقونه بضم الباء من سابقته فسبقته أسبقه وفيه مزيد استهجان للسبق وإشعار بان من سبق قوله قوله تعالى فقد تصدى لمغالبته تعالى في السبق فسبقه فغلبه والعياذ بالله تعالى وزيادة تنزيه لهم عما نفى عنهم ببيان أن ذلك عندهم بمنزلة الغلبة بعد المغالبة فأتى يتوهم صدور عنهم «وهم بأمره يعملون» بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له تعالى في الأقوال فإن نفى سبقهم له تعالى بالقول عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه كأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره
63

يعملون لا بغير أمره أصلا فالقصر المستفاد من تقديم الجار معتبر بالنسبة إلى غير أمره لا إلى أمر
28 غير «يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم» استئناف وقع تعليلا لما قبله وتمهيدا لما بعده فإن لعلمهم بإحاطته تعالى بما قدموا وأخروا من الأقوال والأعمال لا يزالون يراقبون أحوالهم فلا يقدرون على قول أو عمل بغير أمره تعالى «ولا يشفعون إلا لمن ارتضى» أن يشفع له مهابة منه تعالى «وهم» مع ذلك «من خشيته» عز وجل «مشفقون» مر تعدون وأصل الخشية الخوف مع التعظيم ولذلك خص بها العلماء والإشفاق الخوف مع الاعتناء فعند تعديته بمن يكون معنى الخوف فيه أظهر وعند تعديته
29 بعلى ينعكس الأمر «ومن يقل منهم» أي من الملائكة الكلام فيهم وفي كونهم بمعزل مما قالوا في حقهم «إني إله من دونه» متجاوزا إياه تعالى «فذلك» الذي فرض قوله فرض محال «نجزيه جهنم» كسائر المجرمين ولا يغنى عنهم ما ذكر من صفاتهم السنية وأفعالهم المرضية وفيه من الدلالة على قوة ملكوته تعالى وعزة جبروته واستحالة كون الملائكة بحيث يتوهم في حقهم ما توهمه أولئك الكفرة مالا يخفى «كذلك نجزي الظالمين» مصدر تشبيهي مؤكد لمضمون ما قبله اي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي الذين يضعون الأشياء في غير مواضعها ويتعدون أطوارهم والقصر المستفاد من التقديم معتبر بالنسبة إلى النقصان
دون الزيادة أي لا جزاء أنقص منه «أولم ير الذين كفروا» تجهيل لهم بتقصيرهم في التدبر في الآيات التكوينية الدالة على استقاله تعالى بالألوهية وكن جميع ما سواه مقهورا تحت ملكوته والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر وقرئ بغير واو الرؤية قلبية أي ألم يتفكروا ولم يعلموا «أن السماوات والأرض كانتا» أي جماعتا السماوات والأرضين كما في قوله تعالى إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا «رتقا» الرتق الضم والالتحام والمعنى إما على حذف المضاف أو هو بمعنى المفعول أي كانتا ذواتي رتق أو مر توقتين وقرئ رتقا شيئا رتقا أي مرتوقا «ففتقناهما» قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والحسن البصري وقتادة وسعيد بن جبير كانتا شيئا واحدا ملتزمين ففصل الله تعالى بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وقال كعب خلق الله تعالى السماوات والأرض ملتصقين ثم خلق ريحا فتوسطتها ففتقتها وعن الحسن خلق الله تعالى الأرض في موضع بيت المقدس كيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السماوات وامسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما وقال مجاهد والسدي كانت السماوات مرتتقة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع سماوات وكذلك الأرض كانت مرتفعة طبعة واحدة ففتقها فجعلها سبع أرضين وقال ابن عباس في
64

رواية عطاء وعليه أكثر المفسرين ابن السماوات كانت رتقا مستوية صلبة لا تمطر والأرض رتقا لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات فيكون المراد بالسموات السماء الدنيا والجمع باعتبار الآفاق أو السماوات جميعا على ان لها مدخلا في الأمطار وعلم الكفرة الرتق والفتق بهذا المعنى مما لا سترة به وأما بالمعاني الأول فهم وإن لم يعلموهما لكنهم متمكنون من علمها إما بطريق النظر والتفكير فغن الفتق عارض مفترق إلى مؤثر قديم وإما بالاستفسار من العلماء ومطالعة الكتب «وجعلنا من الماء كل شيء حي» أي خلقنا من الماء كل حيوان كقوله تعالى والله خلق كل دابة من ماء وذلك لأنه من أعظم مواده أو لفرط احتياجه إليه وانتفاعه به أو صيرنا كل شئ حي من الماء أي بسبب منه لا بد له من ذلك وتقديم المفعول الثاني للاهتمام به لا لمجرد أن المفعولين في الأصل مبتدأ وخبر وحق الخبر عند كونه ظرفا أن يتقدم على المبتدأ فإن ذلك مصحح محض لامر جح وقرئ حيا على أنه صفة كل أو مفعول ثان والظرف كما في الوجه الأول قدم على المفعول للاهتمام به والتشوق إلى المؤخر «أفلا يؤمنون» إنكار لعدم إيمانهم بالله وحده مع ظهور ما يوجبه حتما من الآيات الآفاقية والأنفسية الدالة على تفرده عز وجل بالألوهية وعلى كون ما سواه من مخلوقاته مقهورة تحت ملكوته وقدرته والفاء للعطف على مقدر يستدعيه الانكار السابق اى أيعلمون ذلك فلا يؤمنون «وجعلنا في الأرض رواسي» أي جبالا ثوابت جمع راسية من رسا الشئ
31 إذا ثبت ورسخ ووصف جمع المذكر يجمع المؤنث في غير العقلاء مما لا ريب في صحته كقوله تعالى أشهر معلومات وأياما معدودات «أن تميد بهم» أي كراهة أن تتحرك وتضطرب بهم أو لئلا تميد بهم بحذف اللام ولا لعدم الالباس «وجعلنا فيها» أي في الأرض وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين ولتوفية مقام الامتنان حقه أو في الرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق «فجاجا» مسالك واسعة وإنما قدم على قوله تعالى «سبلا» وهو وصف له ليصير حالا فيفيد انه تعالى حين خلقها كذلك أو ليبدل منها سبلا فيدل ضمنا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التوكيد «لعلهم يهتدون» أي إلى مصالحهم ومهماتهم «وجعلنا السماء سقفا محفوظا» من الوقوع بقدرتنا القاهرة أو الفساد والانحلال إلى الوقت المعلوم
32 بمشيئتنا أو من استراق السمع بالشهب «وهم عن آياتها» الدالة على وحدانيته تعالى وعلمه وحكمته وقدرته وإرادته التي بعضها محسوس وبعضها معلوم بالبحث عنه في علمي الطبيعة والهيئة «معرضون» لا يتدبرون فيها فيبقون على ما هم عليه من الكفر والضلال وقوله تعالى «وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس»
33 القمر اللذين هما آيتاهما بيان لبعض تلك الآيات التي هم عنها معرضون بطريق الالتفات الموجب
65

لتأكيد الاعتناء بفحوى الكلام أي هو الذي خلقهن وحده «كل» أي كل واحد منهما على أن التنوين عوض عن المضاف إليه «في فلك يسبحون» إي يجرون في سطح
الفلك كالسبح في الماء والمراد بالفلك الجنس كقولك كساهم الخليفة حلة والجملة حال من الشمس والقمر وجاز انفرادهما بها لعدم اللبس
34 والضمير لهما والجمع باعتبار المطالع وجعل الضمير واو العق لأن السباحة حالهم «وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد» إي في الدنيا لكونه مخالفا للحكمة التكوينية والتشريعية «أفإن مت» بمقتضى حكمتنا «فهم الخالدون» نزلت حين قالوا نتربص به ريب المنون والفاء لتعليق الشرطية بما قبلها والهمزة لإنكار مضمونها بعد تقرر القاعدة الكلية النافية لذلك بالمرة والمراد بإنكار خلودهم ونفيه إنكار ما هو مدار له وجودا وعدما من شماتتهم بموته صلى الله عليه وسلم فإن الشماتة بما يعتريه أيضا مما لا ينبغي أن تصدر عن العاقل كأنه قيل أفإن
35 مت فهم الخالدون حتى يشمتوا بموتك وقوله تعالى «كل نفس ذائقة الموت» أي ذائقة مرارة مفارقها جسدها برهان على ما أنكر من خلودكم «ونبلوكم» الخطاب إما للناس كافة بطريق التلوين أو للكفرة بطريق الالتفات أي نعاملكم معاملة من يبلوكم «بالشر والخير» بالبلايا والنعم هل تصبرون وتشكرون أولا «فتنة» مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه «وإلينا ترجعون» لا إلى غيرنا لا استقلالا ولا اشتراكا فنجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال فهو على الأول وعد ووعيد وعلى الثاني وعيد محض وفيه إيماء إلى أن المقصود من هذه الحياة الدنيا الابتلاء والتعريض للثواب والعقاب وقرئ يرجعون بالياء على الالتفات
26 «وإذا رآك الذين كفروا» أي المشركون «إن يتخذونك إلا هزوا» اي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه عليه السلام على اتخاذهم إياه هزوا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزوا كما هو المتبادر كأنه قيل ما يفعلون بك إلا إتخاذك هزوا وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلى في سورة الأنعام «أهذا الذي يذكر آلهتكم» على إرادة القول أي ويقولون أو قائلين ذلك أي يذكرهم بسوء كما في قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم الخ وقوله تعالى «وهم بذكر الرحمن هم كافرون» في حيز النصب على الحالية من ضمير القول المقدر والمعنى أنهم يعيبون عليه عليه الصلاة والسلام أن يذكر آلهتهم التي لا تضر ولا تنفع بالسوء والحال أنهم بذكر الرحمن المنعم عليهم بما يليق به من التوحيد أو بإرشاد الخلق بإرسال الرسل وإنزال الكتب أو بالقرآن كافرون فهم أحقاء بالعيب والإنكار فالضمير الأول مبتدأ خبره كافرون وبذكر متعلق بالخبر والتقدير وهم كافرون بذكر الرحمن والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول
66

فوقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول «خلق الإنسان من عجل» جعل لفرط
37 استعجاله وقلة صبره كأنه مخلوق منه تنزيلا لما طبع عليه من الأخلاق منزلة ما طبع منه من الأركان إيذانا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه ومن عجلته مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد روى أنها نزلت في النضر بن الحرث حين استعجل العذاب بقوله اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر الآية وعن ابن عباس رضي الله عنهما ان المراد بالإنسان آدم عليه السلام وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه أراد أن يقوم وروى أنه لما دخل الروع في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل جوفه اشتهى الطعام وقيل خلقه الله تعالى في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل غيبتها فالمعنى خلق الإنسان خلقا ناشئا من عجل فذكره لبيان أنه من دواعي عجلته في الأمور والأظهر أن المراد به الجنس وإن كان خلقه عليه السلام ساريا إلى أولاده وقيل العجل الطين بلغة حمير ولا تقريب له ههنا وقوله تعالى «سأريكم آياتي» تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستعجلين بطريق التهديد والوعيد أي سأريكم نقماتي في الآخرة كعذاب النار وغيره «فلا تستعجلون» بالإتيان بها والنهى عما جبلت عليه نفوسهم ليقعدوها عن مرادها «ويقولون متى هذا الوعد» أي وقت مجىء الساعة التي كانوا يوعدون وإنما كانوا يقولونه استعجالا لمجيئه بطريق الاستهزاء والإنكار كا يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقته بطريق الإلزام كما في سورة الملك «إن كنتم صادقين» أي في وعدكم بأنه يأتينا والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه حسبما حذف في مثل قوله تعالى فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فإن قولهم متى هذا الوعد استبطاء منهم للموعود وطلب لإتيانه بطريق العجلة فإن ذلك في قوة الامر بالإتيان عجلة كأنه قيل فليأتنا بسرعة إن كنتم صادقين «لو يعلم الذين كفروا» استئناف
39 مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه وفظاعة ما فيه من العذاب وأنهم إنما يستعجلونه لجهلهم بشأنه وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما في قولك لو تحسن إلى لشكرتك فإن المعنى أن انتفاء الشكر لاستمرار انتفاء الإحسان لا لإنتفاء استمرار الإحسان ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم وقوله تعالى «حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم» مفعول يعلم وهو عبارة عن الوقت الموعود الذي كانوا
67

يستعجلونه وإضافته إلى الجملة الجارية مجرى الصفة التي حقها أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند المخاطب أيضا مع إنكار الكفرة لذلك للإيذان بأنه من الظهور بحيث لا حاجة له إلى الإخبار به وإنما حقه الإنتظام في سلك المسلمات المفروغ عنها وجواب لو محذوف أي لو لم يستمر عدم عليهم بالوقت الذي يستعلجونه بقولهم متى هذا الوعد من الحين الذي تحيط بهم النار فيه من كل جانب وتخصيص الوجوه والظهور بالذكر بمعنى القدام والخلف لكونهما أشهر الجوانب واستلزام الإحاطة بهما الإحاطة بالكل بحيث لا يقدرون على دفعها بأنفسهم من جانب من جوانبهم «ولا هم ينصرون» من جهة الغير في دفعها الخ لما فعلوا ما فعلوا من الاستعجال ويجوز أن يكون يعلم متروك المفعول منزلا منزلة اللازم أي لو كان لهم علم لما فعلوه وقوله تعالى حين ألخ استئناف مقرر لجهلهم ومبين لاستمراره إلى ذلك الوقت
40 كأنه قيل حين يرون ما يرون يعلمون حقيقة الحال «بل تأتيهم» عطف على لا يكفون أي لا يكفونها بل تأتيهم أي العدة أو النار أو الساعة «بغتة فتبهتهم» أي تغلبهم أو تحيرهم وقرئ الفعلان بالتذكير على ان الضمير للوعد أو الحين وكذا الهاء في قوله تعالى «فلا يستطيعون ردها» بتأويل الوعد بالنار أو العدة والحين بالساعة ويجوز عودة إلى النار وقيل إلى البغتة أي لا يستطيعون ردها عنهم بالكلية «ولا هم ينظرون» أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين وفيه تذكير لإمهالهم في الدنيا «ولقد استهزئ
برسل من قبلك» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به صلى الله عليه وسلم في ضمن الاستعجال وعدة ضمنية بأنه يصيبهم مثل ما أصاب المتسهزئين بالرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام وتصديرها بالقسم لزيادة تحقيق مضمونها وتنوين الرسل للتفخيم والتكثير ومن متعلقة بمحذوف هو صفة له أي وبالله لقد استهزىء برسل أولى شأن خطير وذوي عدد كثير أو حل أو نحو ذلك فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ولا يكاد يستعمل إلا في الشر والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله وقوله تعالى «بالذين سخروا منهم» أي من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى «ما كانوا به يستهزؤون» للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم وما إما موصولة مفيدة للتهويل والضمير المجرور عائد إليها والجار متعلق بالفعل وتقديمه عليه لرعاية الفواصل أي فأحاط بهم الذين كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله وإما مصدرية فالضمير المجرور راجع حينئذ إلى جنس الرسول المدلول عليه بالجمع كما قالوا ولعل إيثاره على الجمع للتنبيه على أنه يحيق بهم جزاء استهزائهم بكل واحد واحد منهم عليه السلام لا جزاء استهزائهم بكلهم من حيث هو كل فقط أي فنزل بهم جزاء استهزائهم على وضع السبب موضع السبب إيذانا بكمال الملابسة بينهما أو عين استهزائهم إن أريد بذلك العذاب الأخروى بناء على تجسم الأعمال فإن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح
68

وعلى ذلك بني الوزن وقد مر تفصيله في سورة الأعراف وفي قوله تعالى إنما بغيكم على أنفسكم الآية إلى آخرها «قل» خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إثر تسليته بما ذكر من مصير أمرهم إلى الهلاك وأمر له عليه
42 السلام بأن يقول لأولئك المتسهزئين بطريق التقريع والتبكيت
«من يكلؤكم» أي يحفظكم «بالليل والنهار من الرحمن» اى بأسه الذي تستحقون نزوله ليلا أو نهار أو تقديم الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعا وأشد وقعا وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كالئهم ليس إلا رحمته العامة وبعد ما أمر عليه السلام بما ذكر من السؤال على الوجه المذكور حسبما تقتضيه حالهم لأنهم بحيث لولا أن الله تعالى يحفظهم في الملوين لحل بهم فنون الآفات فهم أحقاد بأن يكلفوا الاعتراف بذلك فيوبخوا على ما هم عليه من الإشراك أضرب عن ذلك بقوله تعالى «بل هم عن ذكر ربهم معرضون» ببيان أن لهم حالا أخرى مقتضية لصرف الخطاب عنهم هي أنهم لا يخطرون ذكره تعالى ببالهم فضلا ان يخافوا بأسه ويعدوا ما كانوا عليه من الأمن والدعة حفظا وكلاءة حتى يسألوا عن الكالىء على طريقة قول من قال
[عوجوا فحيوا النعمى دمنة الدار * ماذا تحيون من نؤى وأحجار]
وفي تعليق الإعراض بذكره تعالى وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبىء عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي مالا يخفى وكلمة أم في قوله تعالى «أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا» منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب والانتقال عما قبله من بيان أن جهلهم بحفظه تعالى إياهم لعدم خوفهم الناشئ عن إعراضهم عن ذكر ربهم بالكلية إلى توبيخهم بإعتمادهم على آلهتهم وإسنادهم الحفظ إليها والهمزة لإنكار أن يكون لهم آلهة تقدر على ذلك والمعنى ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا أو حفظنا أو من عذاب كائن من عندنا فهم معولون عليها واثقون بحفظها وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة الموصوفة بما ذكر من المنع لا إلى نفس الصفة بأن يقال أم تمنعهم آلهتهم الخ من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود فضلا عن رتبة المنع مالا يخفى وقولع عز وعلا «لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون» استئناف مقرر لما قبله من الإنكار وموضح لبطلان اعتقادهم أي هم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ولا يصحبون بالنصر من جهتنا فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم وقوله تعالى «بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر» إضراب عما توهما ببيان أن الداعي
44 إلى حفظهم تمتيعنا إياهم بما قدر لهم من الأعمال أو عن الدلالة على بطلانه بيان ما أوهمهم ذلك هو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وانه بسبب ما هم عليه
69

ولذلك عقب بما يدل على أنه طمع فارغ وأمل كذاب حيث قيل «أفلا يرون» أي ألا ينظرون فلا يرون «أنا نأتي الأرض» أي أرض الكفرة «ننقصها من أطرافها» فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله عز وجل من ديارهم على أيدي المسلمين ويضيفها إلى دار الإسلام «أفهم الغالبون» على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والفاء لإنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص ارض الكفرة بتسليط المسلمين عليها كأنه قيل أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم كما مر في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه وقوله تعالى قل أفاتخذتم من دونه أولياء وفي التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة
45 المعروفون بها «قل إنما أنذركم» بعد ما بين من جهته تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون ونهاية سوء حالهم عند إتيانه ونعي عليهم جهلهم بذلك وإعراضهم عن ذكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار وغير ذلك من مساوى أحوالهم امر صلى الله عليه وسلم بان يقول لهم إنما أنذركم ما تستعجلونه من الساعة «بالوحي» الصادق الناطق بإتيانها وفظاعة ما فيها من الأهوال أي إنما شأني أن أنذركم بالإخبار بذلك لا بالإتيان بها فإنه مزاحم للحكمة التكوينية والتشريعية إذ الإيمان برهاني لا عيانى وقوله تعالى «ولا يسمع الصم الدعاء» إما من تتمة الكلام الملقن تذييل له بطريق الاعتراض قد أمر عليه السلام بأن يقوله لهم توبيخا وتقريعا وتسجيلا عليهم بكمال الجهل والعناد واللام للجنس المنتظم للمخاطبين انتظاما أوليا أو للعهد فوضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالتصام وتقييد نفى السماع بقوله تعالى «إذا ما ينذرون» مع ان الصم لا يسمعون الكلام إنذارا كان أو تبشيرا لبيان كمال شدة الصمم كما أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصواب عالية مكررة مقارنة لهيآت دالة عليه فإذا لم يسمعوها يكون صممهم في غاية لا غاية وراءها وإما من جهته تعالى على طريقة قوله تعالى بل هم عن ذكر ربهم معرضون ويؤيده القراءة على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم من الإسماع بنصب الصم والدعاء كأنه قيل قل لهم ذلك وأنت بمعزل من إسماعهم وقرئ بالياء
أيضا على أن الفاعل هو عليه السلام وقرئ على
46 البناء للمفعول أي لا يقدر أحد على إسماع الصم وقوله تعالى «ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك» بيان لسرعة تأثرهم من مجىء نفس العذاب إثر بيان عدم تأثرهم من مجيء خبرة على نهج التوكيد القسمي اي وبالله لئن أصابهم أدنى إصابة أدنه شيء من عذابه تعالى كما ينبئ عنه المس والنفحة بجوهرها وبنائها فإن أصل النفخ هبوب رائحة الشيء «ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين» ليدعن على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفن
47 عليها بالظلم وقوله تعالى «ونضع الموازين القسط» بيان لما سيقع عند إتيان ما أنذروه أي نقيم الموازين
70

العادلة التي توزن بها صحائف الأعمال وقيل وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السوى والجزاء على حسب الأعمال وقد مر تفصيل ما فيه من الكلام في سورة الأعراف وإفراد القسط لأنه مصدر وصف به مبالغة «ليوم القيامة» التي كانوا يستعجلونها أي لجزائه أو لأجل أهله أو فيه كما في قولك جئت لخمس خلون من الشهر «فلا تظلم نفس» من النفوس «شيئا» حقا من حقوقها أو شيئا ما من الظلم بل يوفى كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين «وإن كان» أي العمل المدلول عليه بوضع الموازين «مثقال حبة من خردل» أي مقدار حبة كائنة من خردل أي وإن كان في غاية القلة والحقارة فإن حبة الخردل مثل في الصغر وقرئ مثقال حبة بالرفع على أن كان تامة «أتينا بها» أي أحضرنا ذلك العمل المعبر عنه بمثقال حبة الخردل للوزن والتأنيث لإضافته إلى الحبة وقرئ آتينا بها أي جازينا بها من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء وقرئ أثبنا من الثواب وقرئ جئنا بها «وكفى بنا حاسبين» إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا «ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان»
«وضياء وذكرا للمتقين» نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم إلى قوله تعالى وأهلكنا المسرفين وإشارة إلى كيفية إنجائهم وإهلاك أعدائهم وتصديره بالتوكيد القسمي لإظهار كمال الاعتناء بمضمونه والمراد بالفرقان هو التوراة وكذا بالضياء والذكر أي وبالله لقد آتيناهما وحيا ساطعا وكتابا جامعا بين كونه فارقا بين الحق والباطل وضياء الجهل والغواية وذكرا يتعظ به الناس وتخصيص المتقين بالذكر لأنهم المستضيئون بأنواره المغتنمون لمغانم آثاره أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع والأحكام وقيل الفرقا النصر وقيل فلق البحر والأول هو اللائق بمساق النظم الكريم فإنه لتحقيق أمر القرآن المشارك لسائر الكتب الإلهية لا سيما التوراة فيما ذكر من الصفات ولأن فلق البحر هو الذي اقترح الكفرة مثله بقولهم فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وقرئ ضياء بغير واو على أنه حال من الفرقان وقوله تعالى «الذين يخشون ربهم» أي عذابه مجرور المحل على أنه صفة مادحة للمتقين أو بدل أو بيان أو منصوب أو مرفوع على المدح «بالغيب» حال من المفعول أي يخشون عذابه تعالى وهو غائب عنهم غير مشاهد لهم ففيه تعريض بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهدوا ما أنذروه وقيل من الفاعل «وهم من الساعة مشفقون» أي خائفون منها بطريق الاعتناء وتقديم الجار لمراعاة الفواصل وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخوفات وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون وإيثار الجملة الإسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه «وهذا» أي القرآن الكريم أشير إليه بهذا إيذانا بغاية وضوح أمره «ذكر» يتذكر به
71

من يتذكر وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقته لما مر في صدر السورة الكريمة «مبارك» كثير الخير غزير النفع يتبرك به «أنزلناه» إما صفة ثانية لذكر أو خبر آخر «أفأنتم له منكرون» إنكار لإنكارهم بعد ظهور كون إنزاله كإيتاء التوراة كأنه قيل أبعد أن علمتم أن شأنه كشأن التوراة في الإيتاء والإيحاء أنتم منكرون لكونه منزلا من عندنا فإن ذلك بعد ملاحظة حال التوراة مما لا مساغ له أصلا «ولقد آتينا إبراهيم رشده» أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار وهو الاهتداء الكامل المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي والاقتدار على إصلاح الأمة باستعمال النواميس الإلهية وقرئ رشده وهما لغتان كالحزن والحزن «من قبل» أي من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة وتقديم ذكر إيتائها لما بينه وبين إنزال القرآن من الشبه التام وقيل من قبل استنبائه أو قبل بلوغه ويأباه المقام «وكنا به عالمين» أي بأنه أهل لما آتيناه وفيه من الدليل على أنه تعالى عالم بالجزئيات مختار في افعاله ما لا يخفي
«إذ قال لأبيه وقومه» ظرف لآتينا على أنه وقت متسع وقع فيه الإيتاء وما ترتب عليه من أفعاله وأقواله وقيل مفعول لمضمر مستأنف وقع تعليلا لما قبله أي اذكر وقت قوله لهم «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» لتقف على كمال رشده وغاية فضله والتمثال اسم لشيء مصنوع مشبه بخلق من خلائق الله تعالى وهذا تجاهل منه عليه السلام حيث سألهم عن أصنامهم بما التي يطلب بها بيان الحقيقة أو شرح الاسم كأنه لا يعرف أنها ماذا مع إحاطته بان حقيقتها حجر أو شجر اتخذوها معبودا وعبر عن عبادتهم لها بمطلق العكوف الذي هو عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض قصدا إلى تحقيرها وإذلالها وتوبيخا لهم على إجلالها واللام في لها للاختصاص دون التعدية وإلا لجىء بكلمة على والمعنى أنتم فاعلون العكوف لها وقد جوز تضمين العكوف معنى العبادة كما ينبئ عنه قوله تعالى «قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين» أجابوا بذلك لما أن مآل سؤاله عليه السلام الاستفسار عن سبب عبادتهم لها كما ينبئ عنه وصفه عليه السلام إياهم بالعكوف لها كأنه قال ما هي هل تستحق ما تصنعون من العكوف عليها فلما لم يكن لهم ملجأ يعتد به التجأوا إلى التقليد فأبطله عليه السلام على طريقة التوكيد القسمي حيث «قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم» الذين سنوا للكم هذه السنة الباطلة «في ضلال» عجيب لا يقادر قدره «مبين» أي ظاهر بين بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه كذلك ومعنى كنتم مطلق استقرارهم على الضلال لا استقرارهم الماضي الحاصل قبل زمان الخطاب المتناول لهم ولآبائهم أي والله لقد كنتم مستقرين على ضلال عظيم
72

ظاهر لعدم استناده إلى دليل ما والتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحقية في الجملة «قالوا» لما سمعوا مقالته عليه السلام استبعادا لكون ما هم عليه ضلالا وتعجبا من تضليله عليه السلام إياهم بطريق التوكيد القسمي وترددا في كون ذلك منه عليه السلام على وجه الجد «أجئتنا بالحق» اي بالجد «أم أنت من اللاعبين» فتقول ما تقول على
وجه المداعبة والمزاح وفي إيراد الشق الأخير بالجملة الإسمية الدالة على الثبات إيذان برجحانه عندهم «قال» عليه السلام إضرابا عما بنوا عليه مقالهم من اعتقاد كونها أربابا لهم كما يفصح عنه قولهم نعبد أصناما فنظل لها عاكفين كأنه قيل ليس الامر كذلك «بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن» وقيل هو إضراب عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادعاه وضمير هن للسموات والأرض وصفه تعالى بإيجادهن إثر وصفة تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقا للحق وتنبيها على ان ها لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدون من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه ورجع الضمير إلى التماثيل أدخل في تضليلهم وأظهر في إلزام الحجة عليهم لما فيه من التصريح المغنى عن التأمل في كون ما يعبدونه من جملة المخلوقات «وأنا على ذلكم» الذي ذكرته من كون ربكم رب السماوات والأرض فقط دون ما عداه كائنا ما كان «من الشاهدين» أي العالمين به على سبيل الحقيقة المبرهنين عليه فإن الشاهد على الشيء من تحققه وحققه وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه وإثباته بها كأنه قال وإنا أبين ذلك وأبرهن عله «وتالله» وقرئ بالباء وهو الأصل والتاء بدل من الواو التي هي بدل من الأصل وفيها تعجيب «لأكيدن أصنامكم» أي لأجتهدن في كسرها وفيه إيذان بصعوبة الانتهاز وتوقفه على استعمال الحيل وإنما قاله عليه السلام سرا وقيل سمعه رجل واحد «بعد أن تولوا مدبرين» من عبادتهم إلى عيدكم وقرئ تولوا من التولي بحذف إحدى التاءين ويعضدها قوله تعالى فتولوا عنه مدبرين والفاء في قوله تعالى «فجعلهم» فصيحة أي فولوا فجعلهم «جذاذا» أي قطاعا فعال بمعنى مفعول من الجذ الذي هو القطع كالحطام من الحطم الذي هو الكسر وقرئ بالكسر وهي لغة أو جمع جذيذ كخفاف وخفيف وقرئ بالفتح وجذذا جمع جذيذ وجذذا جمع جذة روى أن آزر خرج به في يوم عيد لهم فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه فسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا إلى أن نرجع تركت الآلهة على طعامنا فذهبوا وبقى إبراهيم عليه السلام فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفا وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه
73

جوهرتان تضيئان بالليل فكسر الكل بفأس كانت في يده ولم يبق إلا الكبير وعلق الفأس في عنقه وذلك قوله تعالى «إلا كبيرا لهم» أي للأصنام «لعلهم إليه» أي إلى إبراهيم عليه السلام «يرجعون» فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم ويبكتهم وقيل يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن الكاسر لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في الملمات وقيل يرجعون إلى الله تعالى وتوحيده عند تحققهم عجز آلهتهم عن دفع ما يصيبهم وعن الإضرار بمن كسرهم «قالوا» أي حين رجعوا من عيدهم ورأوا ما رأوا «من فعل هذا بآلهتنا» على طريقة الإنكار والتوبيخ والتشنيع وإنما عبروا عنها بما ذكر ولم يشتروا إليها بهؤلاء وهي بين أيديهم مبالغة في التشنيع وقوله تعالى «إنه لمن الظالمين» استئناف مقرر لما قبله وقيل من موصولة وهذه الجملة في حين الرفع على أنها خبر لها والمعنى الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة إما لجرأته على إهانتها وهي حقيقة بالإعظام أو لإفراطه في الكسر والحطم وتماديه في الاستهانة بها أو بتعريض نفسه للهلكة «قالوا» أي بعض منهم مجيبين للسائلين «سمعنا فتى يذكرهم» أي يعيبهم فلعله فعل ذلك بها فقوله تعالى يذكرهم إما مفعول ثان لسمع لتعلقه بالعين أو صفة لفتى مصححة لتعلقه به هذا إذا كان القائلون سمعوه عليه السلام بالذات يذكرهم وإن كانوا قد سمعوا من الناس أنه عليه السلام يذكرهم بسوء فلا حاجة إلى المصحح «يقال له إبراهيم» صفة أخرى لفتى أي يطلق عليه هذا الاسم «قالوا» أي السائلون «فأتوا به على أعين الناس» أي بمرأى منهم بحيث يكون نصب أعينهم في مكان مرتفع لا يكاد يخفى على أحد «لعلهم يشهدون» أي يحضرون عقوبتنا له وقيل لعلهم يشهدون بفعله أو بقوله ذلك فالضمير حينئذ ليس للباس بل لبعض منهم مبهم أو معهود «قالوا» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية قولهم كأنه قيل فماذا فعلوا به عليه السلام بعد ذلك هل أتوا به أولا فقيل أتوا به ثم قالوا «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» اقتصارا على حكاية مخاطبتهم إياه عليه السلام للتنبيه على ان إتيانهم به ومسارعتهم إلى ذلك أمر محقق غنى عن البيان «قال بل فعله كبيرهم هذا» مشيرا إلى الذي لم يكسره سلك عليه السلام مسلكا تعريضيا يؤديه إلى مقصده الذي هو إلزامهم الحجة على ألطف وجه وأحسنه بحملهم على التأمل في شأن آلهتهم مع ما فيه من التوقي من الكذب حيث أبرز الكبير قولا في معرض المباشر للفعل بإسناده إليه كما أبرزه في ذلك
74

المعرض فعلا يجعل الفأس في عنقه وقد قصد إسناده إليه بطريق التسبيب حيث كانت تلك الأصنام غاظته عليه السلام حين أبصرها مصطفة مرتبة للعبادة من دون الله سبحانه وكان غيظ كبيرهم أكبر وأشد حسب زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه باعتبار أنه الحامل عليه وقيل هو حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على ما هو أشد من ذلك ويحكى أنه عليه السلام قال فعله كبيرهم هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار وهو أكبر منها فيكون تمثيلا أراد به عليه السلام تنبيههم على غضب الله تعالى عليهم لإشراكهم بعبادته الأصنام وأما ما قيل من أنه عليه السلام لم يقصد نسبة الفعل الصادر عنه إلى الضم بل إنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم ومثل لذلك بما لو قال لك أمي فيما كتبته بخط رشيق وأنت شهير بحسن الحظ أأنت كتبت هذا فقلت له بل أنت كتبته كان قصدك تقرير الكتابة لنفسك مع الاستهزاء بالسائل لا نفيها عنك وإثباتها له فبمعزل من التحقيق لأن خلاصة المعنى في المثال المذكور مجرد تقرير الكتابة لنفسك وادعاء ظهور الامر مع الاستهزاء بالسائل وتجهيله في السؤال لابتنائه على أن صدورها عن غيرك محتمل عنده مع استحالته عندك ولا ريب في أن مراده عليه السلام من إسناد الكسر إلى الصنم ليس مجرد تقريره لنفسه ولا تجهيلهم في سؤالهم لابتنائه على احتمال صدوره عن الغير عندهم بل إنما مراده عليه السلام توجيههم نحو التأمل في أحوال أصنامهم كما ينبئ عنه قوله «فاسألوهم إن كانوا ينطقون» أي إن كانوا ممن يمكن ان ينطقوا وإنما لم يقل عليه السلام إن كانوا يسمعون أو يعقلون مع أن السؤال موقوف على السمع والعقل أيضا لما أن نتيجة السؤال هو الجواب وأن عدم نطقهم أظهر وتبكيتهم بذلك أدخل وقد حصل ذلك أولا حسبما نطق به قوله تعالى «فرجعوا إلى أنفسهم» أي راجعوا عقولهم وتذكروا أن مالا يقدر على دفع المضرة عن نفسه ولا على الإضرار بمن كسره بوجه من الوجوه يستحيل أن يقدر على دفع مضرة عن غيره أو جلب منفعة له فكيف يستحق أن يكون معبودا «فقالوا» أي قال بعضهم لبعض فيما بينهم «إنكم أنتم
الظالمون» أي بهذه السؤال لأنه كان على طريقة التوبيخ المستتبع للمؤاخذة أو بعبادة الأصنام لامن ظلمتموه بقولكم إنه لمن الظالمين أو أنتم ظالمون بعبادتها لا من كسرها «ثم نكسوا على رؤوسهم» أي انقلبوا إلى المجادلة بعد ما استقاموا بالمراجعة شبه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه وقرئ نكسوا بالتشديد ونكسوا على البناء للفاعل أي نكسوا أنفسهم «لقد علمت ما هؤلاء ينطقون» على إرادة القول أي قائلين والله لقد علمت أن ليس من شأنهم النطق فيكف تأمرنا بسؤالهم على أن المراد استمرار نفى النطق لا نفى استمراره كما توهمه صيغة المضارع
75

«قال» مبكتا لهم «أفتعبدون» أي أتعلمون ذلك فتعبدون «من دون الله» أي متجاوزين عبادته تعالى «ما لا ينفعكم شيئا» من النفع «ولا يضركم» فإن العلم بحاله المنافية للألوهية مما يوجب الإجتناب عن عبادته قطعا «أف لكم ولما تعبدون من دون الله» تضجر منه عليه السلام من إصرارهم على الباطل البين وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لمزيد استقباح ما فعلوا وأف صوت المتضجر ومعناه قبحا ونتنا واللام لبيان المتأفف له «أفلا تعقلون» اى الا تتفكرون فلا تعقلون قبح صنيعكم «قالوا» اى قال بعضهم لبعض لما عجزوا عن المحاجة وضاقت عليه الحيل وعيت بهم العلل وهكذا ديدن المبطل المحجوج إذا قرعت شبهته بالحجة القاطعة وافتضح لا يبقى له مفزع إلا المناصبة «حرقوه» فإنه أشد العقوبات «وانصروا آلهتكم» الانتقام لها «إن كنتم فاعلين» أي للنصر أو لشيء يعتد به قيل القائل نمرود بن كنعان بن السنجاريب ابن نمرود بن كوس بن حاء بن نوح وقيل رجل من أكراد فارس اسمه هيون وقيل هدير خسفت به الأرض روى أنهم لما أجمعوا على إحراقه عليه السلام بنوا له حظيرة بكوثى قرية من قرى الأنباط وذلك قوله تعالى قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم فجمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب مدة أربعين يوما فأوقدوا نارا عظيمة لا يكاد يحوم حولها أحد حتى إن كانت الطير لتمر بها وهي في أقصى الجو فتحترق من شدة وهجها ولم يكد أحد يحوم حولها فلم يعلموا كيف يلقونه عليه السلام فيها فأتى إبليس وعلمهم عمل المنجنيق فعملوه وقيل صنعه لهم رجل من الأكراد فخسف الله تعالى به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ثم عمدوا إلى إبراهيم عليه السلام فوضعوه فيه مغلولا فرموا به فيها فقال له جبريل عليهما السلام هل لك حاجة قال أما إليك فلا قال فاسأل ربك قال حسبي من سؤالي علمه بحالي فجعل الله تعالى ببركة قوله الحظيرة روضة وذلك قوله تعالى «قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم» أي كوني ذات برد وسلام أي ابردى بردا غير ضار وفيه مبالغات جعل النار المسخرة لقدرته تعالى مأمورة مطاوعة وإقامة كونى ذات برد مقام أبردى ثم حذف المضاف وإقامة المضاف غليه مقامه وقيل نصب سلاما بفعله أي وسلمنا سلاما عليه روى أن الملائكة أخذوا بضبعي إبراهيم وأقعدوه على الأرض فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار إلا وثاقه وروى أنه عليه السلام مكث فيها أربعين يوما أو خمسين وقال ما كنت أطيب عيشا منى إذ كنت فيها قال ابن يسار وبعث الله تعالى ملك الظل فقعد إلى جنبه يؤنسه فنظر نمرود من صرحه فأشرف عليه فرآه جالسا في روضة مونقة ومعه جليس على أحسن ما يكون من الهيئة
76

والنار محيطة به فناداه يا إبراهيم هل تسطيع أن تخرج منها قال نعم قال فقم فأخرج فقام يمشي فخرج منها فاستقبله نمرود وعظمه وقال من الرجل الذي رأيته معك قال ذلك ملك الظل ارسله ربى ليؤنسني فقال إني مقرب إلى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك فقال عليه السلام لا يقبل الله منك ما دمت على دينك هذا قال لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبح له أربعة آلاف بقرة فذبحها وكف عن إبراهيم عليه السلام وكان إذ ذاك ابن ست عشرة سنة وهذا كما ترى من أبدع المعجزات فإن انقلاب النار هواء طيبا وإن لم يكن بدعا من قدرة الله عز وجل لكن وقوع ذلك على هذه الهيئة مما يخرق العادات وقيل كانت النار على حالها لكنه تعالى دفع عنه عليه السلام إذاها كما تراه في السمندل كما يشعر به ظاهر قوله تعالى على إبراهيم «وأرادوا به كيدا» مكرا عظيما في الإضرار به «فجعلناهم الأخسرين» أي أخسر من كل خاسر حيث عاد سعيهم في إطفاء نور الحق برهانا قاطعا على أنه عليه السلام على الحق وهم على الباطل وموجبا لارتفاع درجته واستحقاقهم لأشد العذاب «ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» أي من العراق إلى الشام وبركاته العامة أن أكثر الأنبياء بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم التي هي مبادى الكمالات والخيرات الدينية والدنيوية وقيل كثرة النعم والخصب الغالب روى انه عليه السلام نزل بفلسطين ولوط عليه السلام بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة «ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة» أي عطية فهي حال منهما أو ولد ولد أو زيادة على ما سأل وهو إسحق فتختص بيعقوب ولا لبس فيه للقرينة الظاهرة «وكلا» أي كل واحد من هؤلاء الأربعة لا بعضهم دون بعض «جعلنا صالحين» بأن وفقناهم للصلاح في الدين والدنيا فصاروا كاملين «وجعلناهم أئمة» يقتدى بهم في أمور الدين إجابة لدعائه عليه السلام بقوله ومن ذريتي «يهدون» أي الأمة إلى الحق «بأمرنا» لهم بذلك وإرسالنا إياهم حتى صاروا مكملين «وأوحينا إليهم فعل الخيرات» ليحثوهم عليه فيتم كمالهم بانضمام العمل إلى العلم وأصله ان تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات وكذا قوله تعالى «وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة» وهو من عطف الخاص على العام دلالة على فضله وإنافته وحذفت تاء الإقامة المعوضة من إحدى الألفين لقيام المضاف إليه مقامه «وكانوا لنا» خاصة دون غيرنا «عابدين» لا يخطر ببالهم غير عبادتنا
77

«ولوطا» قيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى «آتيناه» أي وآتينا لوطا وقيل باذكر «حكما» أي حكمة أو نبوة أو فصلا بين الخصوم بالحق «وعلما» بما ينبغي علمه للأنبياء عليهم السلام «ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث» أي اللواطة وصفت بصفة أهلها وأسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مقامه كما يؤذن به قوله تعالى «إنهم كانوا قوم سوء فاسقين» فإنه كالتعليل له «وأدخلناه في رحمتنا» أي في أهل رحمتنا أو في جنتنا «إنه من الصالحين» الذين سبقت لهم منا الحسنى «ونوحا» أي اذكر نوحا أي خبره وقوله تعالى «إذ نادى» أي دعا الله تعالى على قومه بالهلاك ظرف للمضاف المقدر أي اذكر نبأة الواقع وقت دعائه «من قبل» أي من قبل هؤلاء المذكورين «فاستجبنا له» أي دعاءه الذي من جملته قوله إني مغلوب فانتصر «فنجيناه وأهله من الكرب العظيم» وهو الطوفان وقيل أذية قومه وأصل الكرب الغم الشديد «ونصرناه» نصرا مستتبعا للانتقام والانتصار ولذلك قيل «من القوم الذين كذبوا بآياتنا» وحمله على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإن ظاهره يوجب إسناد الانتصار إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الامر وقوله تعالى «إنهم كانوا قوم سوء» تعليل لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى «
فأغرقناهم أجمعين» فإن الاصرار على تكذيب الحق والانهماك في الشر والفساد مما يوجب الإهلاك قطعا «وداود وسليمان» إما عطف على نوحا معمول لعامله وإما لمضمر معطوف على ذلك العامل بتقدير المضاف وقوله تعالى «إذ يحكمان» ظرف للمضاف المقدر وصيغة المضارع حكاية للحال الماضية لاستحضار صورتها أي اذكر خبرهما وقت حكمهما «في الحرث» أي في حق الزرع أو الكرم المتدلى عناقيده كما قبل أو بدل اشتمال منهما وقوله تعالى «إذ نفشت» أي تفرقت وانتشرت «فيه غنم القوم» ليلا بلا راع فرعته وأفسدته ظرف للحكم «وكنا لحكمهم» اي لحكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما فإن الإضافة لمجرد الإختصاص المنتظم لاختصاص القيام واختصاص الوقوع وقرئ لحكمهما «شاهدين» حاضرين علما والجملة اعتراض مقرر للحكم ومفيد لمزيد الاعتناء بشأنه
78

«ففهمناها سليمان» عطف على يحكمان فإنه في حكم الماضي وقرئ فأفهمناها والضمير والضمير للحكومة أو الفتيا روى أنه دخل على داود عليه السلام رجلان فقال أحدهما إن غنم هذا دخلت في حرثى ليلا فأفسدته فقضى له بالغنم فخرجا فمرا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك فقال غير هذا أرفق بالفريقين فسمعه داود فدعاه فقال له بحق البنوة والأبوة إلا أخبرتني بالذي أرفق بالفريقين فقال أرى أن تدفع الغنم إلى صاحب الأرض لينتفع بدرها ونسلها وصوفها والحرث إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعود إلى ما كان ثم بترادا فقال القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك والذي عندي أن حكمها عليه السلام كان بالاجتهاد فإن قول سليمان عليه السلام غير هذا أرفق بالفريقين ثم قوله أرى أن تدفع الخ صريح في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبت القول بذلك ولما ناشده داود عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يظهره بدء أو حرم عليه كتمه ومن ضرورته أن يكون القضاء السابق أيضا كذلك ضرورة استحالة نقض حكم النص بالاجتهاد بل أقول والله تعالى أعلم أن رأى سليمان عليه السلام استحسان كما ينبئ عنه قوله أرفق بالفريقين ورأى داود عليه السلام قياس كما أن العبد إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبي حنيفة إلى المجنى عليه أو يفديه وببيعه في ذلك أو يفديه عند الشافعي وقد روى أنه لم يكن بين قيمة الحرث وقيمة الغنم تفاوت واما سليمان عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول ملك المالك عن الغنم وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزول الضرر الذي أتاه من قبله كما قال أصحاب الشافعي فيمن عصب عبدا فأبق منه أنه يضمن القيمة فينتفع بها المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من المنافع فإذا ظهر الآبق ترادا وفي قوله تعالى ففهمناها سليما دليل على رجحان قوله ورجوع داود عليه السلام إليه مع أن الحكم المبنى على الإجتهاد لا ينقض باجتهاد آخر وإن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتنا على أنه ورد في الأخبار أن داود عليه السلام لم يكن بت الحم في ذلك حتى سمع من سليمان ما سمع وأما حكم المسئلة في شريعتنا فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا ضمان إن لم يكن معها سائق أو قائد وعند الشافعي يجب الضمان ليلا لا نهارا وقوله تعالى «وكلا آتينا حكما وعلما» لدفع ما عسى يوهمه تخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم من عدم كون حكم داود عليه السلام حكما شرعيا أي وكل واحد منهما آتينا حكما وعلما كثيرا لا سليمان وحده وهذا إنما يدل على خطأ المجتهد لا يقدح في كونه مجتهدا وقيل بل على أن كل مجتهد مصيب وهو مخالف لقوله تعالى ففهمناها سليمان ولولا النقل لاحتمل توافقهما ما على أن قوله تعالى ففهمناها سليمان لإظهار ما تفضل عليه في صغره فإنه عليه السلام كان حينئذ ابن إحدى عشرة سنة «وسخرنا مع داود الجبال» شروع في بيان ما يختص بكل منهما من كرامته تعالى إثر بيان كرامته العامة لهما «يسبحن» أي يقدسن الله عز وجل معه بصوت يتمثل له أو يخلق الله تعالى فيها الكلام وقيل يسرن معه بأن السباحة
79

وهو حال من الجبال أو استئناف مبين لكيفية التسخير ومع متعلقة بالتسخير وقيل بالتسبيح وهو بعيد «والطير» عطف على الجبال أو مفعول معه وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي والطير مسخرات وقيل على العطف على الضمير في يسبحن وفيه ضعف لعدم التأكيد والفصل «وكنا فاعلين» أي من شأننا أن نفعل أمثاله فليس ذلك ببدع منا وإن كان بديعا عندكم «وعلمناه صنعة لبوس» أي عمل الدرع وهو في الأصل اللباس قال قائلهم
* ألبس لكل حالة لبوسها
* إما نعيمها وإما بوسها
* وقيل كانت صفائح فحلقها وسردها «لكم» متعلق بعلمنا أو بمحذوف هو صفة لبوس «لتحصنكم» أي اللبوس بتأويل الدرع وقرئ بالتذكير على ان الضمير لداود عليه السلام أو للبوس وقرئ بنون العظمة وهو بدل اشتمال من لكم بإعادة الجار مبين لكيفية الاختصاص والمنفعة المستفادة من لام لكم «من بأسكم» قيل من حرب عدوكم وقيل من وقع السلاح فيكم «فهل أنتم شاكرون» أمر وارد على صورة الاستفهام للمبالغة أو التقريع «ولسليمان الريح» أي وسخرنا له الريح وإيراد اللام ههنا دون الأول للدلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت فإن تسخير ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرها كان بطريق الانقياد الكلي له والامتثال بأمره ونهيه والمقهورية تحت ملكوته وأما تسخير الجبال والطير لداود عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعية له عليه السلام والاقتداء به في عبادة الله عز وعلا «عاصفة» حال من الريح والعامل فيها الفعل المقدر أي وسخرنا له الريح حال كونها شديدة الهبوب من حيث إنها كانت تبعد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان كما قال تعالى غدوها شهر ورواحها شهر وكانت رخاء في نفسها طيبة وقيل كانت رخاء تارة وعاصفة أخرى حسب إرادته عليه السلام وقرئ الريح بالرفع على الابتداء والخبر هو الظرف المقدم وعاصفة حينئذ حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعامل ما فيه من معنى الاستقرار وقرئ الرياح نصبا ورفعا «تجري بأمره» بمشيئته حال ثانية أو بدل من الأولى أو حال من ضميرها «إلى الأرض التي باركنا فيها» وهي الشأم رواحا بعد ما سار به منه بكرة قال الكلبي كان سليمان عليه السلام وقومه يركبون عليها من إصطخر إلى الشام وإلى حيث شاء ثم يعود إلى منزلة «وكنا بكل شيء عالمين» فنجزيه حسبما تقتضيه الحكمة «ومن الشياطين» أي وخسر ناله من الشياطين «من يغوصون له» في البحار ويستخرجون له من نفائسها وقيل من رفع على الابتداء وخبره ما قبله والأول هو الأظهر «ويعملون عملا دون ذلك» أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصور واختراع الصنائع الغريبة لقوله تعالى يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل الآية وهؤلاء إما الفرقة الأولى أو غيرها لعموم كلمة من كأنه قيل ومن يعملون وجمع
الضمير الراجع إليها باعتبار معناها بعد ما رشح جانبه بقوله تعالى ومن الشياطين روى أن المسخر له عليه السلام كفارهم
80

لا مؤمنوهم لقوله تعالى ومن الشياطين وقوله تعالى «وكنا لهم حافظين» أي من أن يزيغوا عن امره أو يفسدوا على ما هو مقتضى جبلتهم قيل وكل بهم جمعا من الملائكة وجمعا من مؤمني الجن وقال الزجاج كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عملوا وكان دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوه بالنهار «وأيوب» الكلام فيه كما مر في قوله تعالى وداود وسليمان أي واذكر خبر أيوب «إذ نادى ربه أني» أي بأنى «مسني الضر» وقرئ بالكسر على إضمار القول أو تضمين النداء معناه والضر شائع في كل ضرر وبالضم خاص بما في النفس من مرض وهزال ونحوهما «وأنت أرحم الراحمين» وصفة تعالى بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها واكتفى به عن عرض المطلب لطفا في السؤال وكان عليه السلام روميا من ولد عيص بن إسحاق استبأه الله تعالى وكثر أهله وماله فابتلاه الله تعالى بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله والمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو سبعا وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات روى أن امرأته ماخير بنت ميشا ابن يوسف عليه السلام أو رحمه بنت إفرايم بن يوسف قالت له بوما لو دعوت الله تعالى فقال كم كانت مدة الرخاء فقالت بمانين سنة فقال استحي من الله تعالى أن ادعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي وروى أن إبليس أتاها على هيئة عظيمة فقال أنا إله الأرض فعلت بزوجك ما فعلت لأنه تركني وعبد إله السماء فلو سجد لي سجدة لرددت عليه وعليك جميع ما أخذت منكما وفي رواية لو سجدت لي سجدة لرجعت المال والولد وعافيت زوجك فرجعت إلى أيوب وكان ملقى في الكناسة لا يقرب منه أحد فأخبرته بالقصة فقال عليه السلام كأنك افتتنت بقول اللعين لئن عافاني الله عز وجل لأضربنك مائة سوط وحرام على أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك فطردها فبقى طريحا على الكناسة لا يحوم حوله أحد من الناس فعند ذلك خر ساجدا فقال رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فقيل له ارفع رأسك فقد استجبت لك اركض برجلك فركض فنبعت من تحته عين ماء فاغتسل منها فلم ببق في ظاهر بدنه دابة إلا سقطت ولا جراحة إلا برئت ثم ركض مرة أخرى فنبعث عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وعاد صحيحا ورجع إليه شبابه وجماله ثم كسى حلة وذلك قوله تعالى «فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر» فلما قام جعل يلفت فلا يرى شيئا مما كان له من الأهل والمال إلا وقد ضاعفه الله تعالى وذلك قوله تعالى «وآتيناه أهله ومثلهم معهم» وقيل كان ذلك بأن ولد له ضعف ما كان ثم إن امرأته قالت في نفسها هب إنه طردني أفأتركه حتى يموت جوعا ويأكله السباع لأرجعن إليه فلما رجعت ما رأت تلك الكناسة ولا تلك الحال وقد تغيرت الأمور فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي وهابت صاحب الحلة أن
81

تأتيه وتسأل عنه فأرسل إليها أيوب ودعاها فقال ما تريدين يا أمة الله فبكت وقالت أريد ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة قال لها ما كان منك فبكت وقالت بعلى قال أتعرفينه إذا رأيته قالت وهل يخفى على فتبسم فقال أنا ذلك فعرفته بضحكة فاعتنقته «رحمة من عندنا وذكرى للعابدين» أي آتيناه ما ذكر لرحمتنا أيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر فيثابوا كما أثيب أو لرحمتنا العابدين الذين من جملتهم أيوب وذكرنا إياهم بالإحسان وعدم نسياننا لهم «وإسماعيل وإدريس وذا الكفل» أي واذكرهم وذو الكفل إلياس وقيل يوشع بن نون وقيل زكريا سمى به لأنه كان ذا حظ من الله تعالى أو تكفل منه أو ضعف عمل أنبياء زمانه وثوابهم فإن الكفل يجيىء بمعنى النصيب والكفالة والضعف «كل» أي كل واحد من هؤلاء «من الصابرين» أي على مشاق التكاليف وشدائد النوب والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الامر بذكرهم «وأدخلناهم في رحمتنا» أي في النبوة أو في نعمة الآخرة «إنهم من الصالحين» أي الكاملين في الصلاح الكامل الذي لا يحوم حوله شائبة الفساد وهم الأنبياء فإن صلاحهم معصوم من كدر الفساد «وذا النون» أي واذكر صاحب الحوت وهو يونس عليه السلام «إذ ذهب مغاضبا» أي مراغما لقومه لما برم من طول دعوته إياهم وشدة شكيمتهم وتمادى إصرارهم مهاجرا عنهم قبل أن يؤمر وقيل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم فغضب من ذلك وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرئ مغضبا «فظن أن لن نقدر عليه» أن لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر ويؤيده أنه قرىء مشددا أو لن نعمل فيه قدرتنا وقيل هو تمثيل لحاله بحال من يظن ان لن نقدر عليه أي نعامله معاملة من يظن ان لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لامرنا كما في قوله تعالى يحسب أن ماله أخلده أي نعامله معاملة من يحسب ذلك وقيل خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة وقرئ بالياء مخففا ومثقلا مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول «فنادى» الفاء فصيحة اي فكان ما كان من المساهمة والتقام الحوت فنادى «في الظلمات» أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو في ظلمات بطن الحوت والبحر والليل وقيل ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطني الحوتين وظلمتي البحر والليل «أن لا إله إلا أنت» أي بأنه لا إله إلا أنت على أن ان مخففة من ان وضمير الشأن محذوف أو أي لا إله إلا أنت على أنها مفسرة «سبحانك» أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يعجزك شيء أو أن يكون ابتلائي بهذا بغير سبب
82

من جهتي «إني كنت من الظالمين» لأنفسهم بتعريضها للهلكة حيث بادرت إلى المهاجرة «فاستجبنا له» أي دعاءه الذي دعاه في ضمن الاعتراف بالذنب على ألطف وجه وأحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا إستجيب له «ونجيناه من الغم» بان قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان فيها في بطنه وقيل بعد ثلاثة أيام وقيل الغم غم الالتقام وقيل الخطئية «وكذلك» أي مثل ذلك الإنجاء الكامل «ننجي المؤمنين» من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاق لا إنجاء أدنى منه وفي الإمام نجى ولذلك أخفى الجماعة النون الثانية فإنها تخفى مع حروف الفم وقرئ بتشديد الجيم على أن أصله ننجى فحذفت الثانية كما حذفت التاء في تظاهرون وهي وإن كانت فاء فحذفها أوقع من حذف حرف المضارعة التي لمعنى ولا يقدح فيه اختلاف حركتي النونين فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام وامتناع الحذف في تتجافى لخوف اللبس وقيل هو ماض مجهول أسند إلى ضمير المصدر وسكن آخره تخفيفا ورد بأنه لا يسند إلى المصدر والمفعول مذكور والماضي لا يسكن آخره «وزكريا» أي واذكر خبره «إذ نادى ربه» وقال «رب لا تذرني فردا» أي وحيدا بلا ولد يرثى «وأنت خير الوارثين» فحسبى أنت إن لم
ترزقني وارثا «فاستجبنا له» أي دعاءه «ووهبنا له يحيى» وقد مر بيان كيفية الاستجابة والهبة في سورة مريم «وأصلحنا له زوجه» أي أصلحناها للولادة بعد عقرها أو أصلحناها للمعاشرة بتحسين خلقها وكانت حردة وقوله تعالى «إنهم كانوا يسارعون في الخيرات» تعليل لما فصل من فنون إحسانه تعالى المتعلقة بالأنبياء المذكورين أي كانوا يبادرون في وجوه الخيرات مع ثباتهم واستقرارهم في أصل الخير وهو السر في إيثار كلمة في على كلمة إلى المشعرة بخلاف المقصود من كونهم خارجين عن أصل الخيرات متوجهين إليها كما في قوله تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة «ويدعوننا رغبا ورهبا» ذوى رغب ورهب أو راغبين في الثواب راجين للإجابة أوفي الطاعة وخائفين العقاب أو المعصية أو للرغب والرهب «وكانوا لنا خاشعين» أي مخبتين متضرعين أو دائمي الوجل والمعنى أنهم نالوا من الله تعالى ما نالوا بسبب اتصافهم بهذه الخصال الحميدة «والتي أحصنت فرجها» أي اذكر خبر التي أحصنته على الإطلاق من الحلال والحرام والتعبير عنها بالموصول لتفخيم شأنها وتنزيهها عما زعموه في حقها آثر ذي أثير «فنفخنا فيها» أي أحيينا عيسى في جوفها «من روحنا» من الروح الذي هو من أمرنا وقيل فعلنا النفخ فيها من جهة روحنا جبريل
83

عليه السلام «وجعلناها وابنها» أي قصتهما أو حالهما «آية للعالمين» فإن من تأمل حالهما تحقق كمال قدرته عز وجل فالمراد بالآية ما حصل بهما من الآية التامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما وقيل أريد بالآية الجنس الشامل لما لكل واحد منهما من الآيات المستقلة وقيل المعنى وجعلناها آية وابنها آية فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها «إن هذه» أي ملة التوحيد والإسلام أشير إليها بهذه تنبيها على كمال ظهور امرها في الصحة والسداد «أمتكم» أي ملتكم التي يجب ان تحافظوا على حدودها وتراعوا حقوقها ولا تخلوا بشيء منها والخطاب للناس قاطبة «أمة واحدة» نصب على الحالية من أمتكم اي غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم السلام إذ لا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع ولا احتمال لتبدلها وتغيرها كفروع الشرائع المتبدلة حسب تبدل الأمم والاعصار وقرئ أمتكم بالنصب على البدلية من اسم إن وأمة واحدة بالرفع على الخبرية وقرئتا بالرفع على أنهما خبران «وأنا ربكم» لا إله لكم غيري «فاعبدون» خاصة لا غير وقوله تعالى «وتقطعوا أمرهم بينهم» التفات إلى الغيبة لينعى عليهم ما أفسدوه من التفرق في الدين وجعل أمره قطعا موزعة وينهى قبائح أفعالهم إلى الآخرين كأنه قيل إلا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله الذي أجمعت عليه كافة الأنبياء عليهم السلام «كل» أي كل واحدة من الفرق المتقطعة أوكل واحد من آحاد كل واحدة من تلك الفرق «إلينا راجعون» بالبعث لا إلى غيرنا فتجازيهم حينئذ بحسب أعماله وإيراد اسم الفاعل للدلالة على الثبات والتحقق وقوله تعالى «فمن يعمل من الصالحات» الخ تفصيل للجزاء أي فمن يعمل بعض الصالحات أو بعضا من الصالحات «وهو مؤمن» بالله ورسله «فلا كفران لسعيه» أي لا حرمان لثواب عمله ذلك عبر عن ذلك بالكفران الذي هو ستر النعمة وجحودها لبيان كمال نزاهته تعالى عنه بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى ونفى نفى الجنس للمبالغة في التنزيه وعبر عن العمل بالسعي لإظهار الاعتداد به «وإنا له» أي لسعيه «كاتبون» أي مثبتون في صحائف أعمالهم لا نغادر من ذلك شيئا «وحرام على قرية» أي ممتنع على أهلها غير متصور منهم وقرئ حرم وهي لغة كالحل والحلال «أهلكناها» قدرنا هلاكها أو حكمنا به لغاية طغيانهم وعتوهم وقوله تعالى «أنهم لا يرجعون» في حيز كل إلينا راجعون وما في ان من معنى التحقيق معتبر في النفي المستفاد الرفع على أنه مبتدأ خبره حرام أو فاعل له ساد مسد خبره والجملة لتقرير مضمون ما قبلها من قوله تعالى من حرام لا في المنفى أي ممتنع البتة عدم رجوعهم إلينا للجزاء لا أن عدم رجوعهم المحقق ممتنع وتخصيص امتناع عدم رجوعها بالذكر مع شمول
84

الامتناع لعدم رجوع الكل حسبما نطق به قوله تعالى كل إلينا راجعون لأنهم المنكرون للبعث والرجوع دون غيرهم وقيل ممتنع رجوعهم إلى التوبة على أن لا صلة وقرئ إنهم لا يرجعون بالكسر على أنه استئناف تعليلى لما قبله فحرام خبر مبتدأ محذوف أي حرام عليها ذلك وهو ما ذكر في الآية السابقة من العمل الصالح المشفوع بالإيمان والسعي المشكور ثم علل بقوله تعالى إنهم لا يرجعون عما هم عليه من الكفر فكيف لا يمتنع ذلك ويجوز حمل المفتوحة أيضا على هذا المعنى بحذف اللام عنها أي لأنهم لا يرجعون وحتى في قوله تعالى «حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج» الخ هي التي يحكى بعدها الكلام وهي على الأول غاية لما يدل عليه ما قبلها كأنه قيل يستمرون على ما هم عليه من الهلاك حتى إذا قامت القيامة يرجعون إلينا ويقولون يا ويلنا الخ وعلى الثاني غاية للحرمة اي يستمر امتناع رجوعهم إلى التوبة حتى إذا قامت القيامة يرجعون إليها حين لا تنفعهم التوبة وعلى الثالث غاية لعدم الرجوع عن الكفر أي لا يرجعون عنه حتى إذا قامت القيامة يرجعون عنه حين لا ينفعهم الرجوع ويأجوج ومأجوج قبيلتان من الإنس قالوا الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج والمراد بفتحها فتح سدها على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وقرئ فتحت بالتشديد «وهم» أي يأجوج ومأجوج وقيل الناس «من كل حدب» أي نشز من الأرض وقرئ جدث وهو القبر «ينسلون» أي يسرعون وأصله مقاربة الخطو مع الإسراع وقرئ بضم السين «واقترب الوعد الحق» عطف على فتحت والمراد به ما بعد النفخة الثانية من البعث والحساب والجزاء لا النفخة الأولى «فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا» جواب الشرط وإذا للمفاجاة تسد مسد الفاه الجزائية كما في قوله تعالى إذا هم يقنطون فإذا دخلتها الفاء تظاهرت على وصل الجزاء بالشرط والضمير للقصة أو مبهم يفسره ما بعده «يا ويلنا» على تقدير قول وقع حالا من الموصول اي يقولون يا ويلنا تعال فهذا وأن حضورك وقيل هو الجواب للشرط «قد كنا في غفلة» تامة «من هذا» الذي دهمنا من البعث والرجوع إليه تعالى للجزاء ولم نعلم أنه حق «بل كنا ظالمين» إضراب عما قبله من وصف أنفسهم بالغفلة أي لم نكن غافلين عنه حيث نبهنا عليه بالآيات والنذر بل كنا ظالمين بتلك الآيات والنذر مكذبين بها أو ظالمين لأنفسنا بتعريضها للعذاب الخالد بالتكذيب وقوله تعالى «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم» خطاب لكفار مكة وتصريح بمأل أمرهم مع كونه معلوما مما سبق على وجه الإجمال مبالغة في الإنذار وإزاحة الاعتذار وما تعبدون عبارة عن أصنامهم لأنها التي يعبدونها كما يفصح عنه كلمة ما وقد روى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
85

تلا الآية قال له ابن الزبعرى خصمتك ورب الكعبة أليست اليهود عبدوا عزيزا والنصارى المسيح وبنو مليح الملائكة رد عليه بقوله صلى الله عليه وسلم ما أجهلك بلغة
قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل ولا يعارضه ما روى إنه صلى الله عليه وسلم رده بقوله بل هم عبدوا الشياطين التي امرتهم بذلك ولا ما روى أن ابن الزبعرى قال هذا شيء لآلهتنا خاصة أو لكل من عبد من دون الله فقال صلى الله عليه وسلم بل لكل من عبد من دون الله تعالى إذ ليس شيء منهما نصا في عموم كلمة ما كما أن الأول نص في خصوصها وشمول حكم النص لا يقتضى شموله بطريق العبارة بل يكفي في ذلك شموله لهم بطريق دلالة النص بجامع الشركة في المعبودية من دون الله تعالى فعلله صلى الله عليه وسلم بعدما بين مدلول النظم الكريم بما ذكر وعدم دخول المذكورين في حكمه بطريق العبارة بين عدم دخولهم فيه بطريق الدلالة أيضا تأكيدا للرد والإلزام وتكريرا للتبكيت والإفحام لكن لا باعتبار كونهم معبودين لهم كما هو زعمهم فإن إخراج بعض المعبودين عن حكم منبىء عن الغضب على العبدة والمعبودين مما يوهم الرخصة في عبادته في الجملة بل بتحقيق الحق وبيان أنهم ليسوا من العبودية في شيء حتى يتوهم دخولهم في الحكم المذكور دلالة بموجب شركتهم للأصنام في المعبودية من دون الله تعالى وإنما معبودهم الشياطين التي أمرتهم بعبادتهم كما نطق به قوله تعالى سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن الآية فهم الداخلون في الحكم المذكور لاشتراكهم مع الأصنام في المعبودية من دونه تعالى دون المذكورين عليهم السلام وهذا هو الوجه في التوفيق بين الإخبار المذكورة وأما تعميم كلمة ما للعقلاء أيضا وجعل ما سيأتي من قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الخ بيانا للتجوز أو التخصيص فما لا يساعده السباق والسياق كما يشهد به الذوق السليم والحصب ما يرمى به ويهيج به النار من حصبه إذا رماه بالحصباء وقرئ بسكون الصاد وصفا له بالمصدر للمبالغة «أنتم لها واردون» استئناف أو بدل من حصب جهنم واللام معوضة من على الدلالة على الاختصاص وأن وردهم لأجلها والخطاب لهم ولما يعبدون تغليبا «لو كان هؤلاء» أي أصنامهم «آلهة» كما يزعمون «ما وردوها» وحيث تبين ورودهم إياها تعين امتناع كونها آلهة بالضرورة وهذا كما ترى صريح في أن المراد بما يعبدون هي الأصنام لأن المراد إثبات نقيض ما يدعونه وهم إنما يدعون إلهية الأصنام لا إلهية الشياطين حتى يحت بوردها النار على عدم إلهيتها وأما ما وقع في الحديث الشريف فقد وقع بطريق التكملة بإنجرار الكلام إليه عند بيان ما سيق له النظم الكريم بطريق العبارة حيث سأل ابن الزبعرى عن حال سائر المعبودين وكان الاقتصار على الجواب الأول مما يوهم الرخصة في عبادتهم في الجملة لأنهم المعبودون عندهم أجيب بيان أن المعبودين هم الشياطين وأنهم داخلون في حكم النص لكن بطريق العبارة لئلا يلزم التدافع بين الخبرين «وكل» أي من العبدة والمعبودين «فيها خالدون» لاخلاص لهم عنها «لهم فيها زفير» أي أنين وتنفس شديد وهو مع كونه من أفعال العبدة أضيف إلى الكل للتغليب ويجوز أن يكون الضمير
86

للعبدة لعدم الإلباس وكذا في قوله تعالى «وهم فيها لا يسمعون» أي لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدة الهول وفظاعة العذاب وقيل لا يسمعون ما يسرهم من الكلام «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى» شروع في بيان حال المؤمنين إثر شرح حال الكفرة حسبما جرت به سنة التنزيل من شفع الوعد بالوعيد وإيراد الترغيب مع الترهيب أي سبقت لهم منا في التقدير الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة وقبل التوفيق للطاعة أو سبقت لهم كلمتنا بالبشرى بالثواب على الطاعة وهو الأدخل الأظهر في الحمل عليها لما أن الأولين مع خفائهما ليسا من مقدورات المكلفين فالجملة مع ما بعدها تفصيل لما أجمل في قوله تعالى فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون كما أن ما قبلها من قوله تعالى إنكم وما تعبدون الخ تفصيل لما أجمل في قوله تعالى وحرام الخ «أولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الشرف والفضل أي أولئك المنعوتون بما ذكر من النعت الجميل «عنها» أي عن جهنم «مبعدون» لأنهم في الجنة وشتان بينها وبين النار وما روى أن عليا رضي الله عنه خطب يوما فقرأ هذه الآية ثم قال أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح رضوان الله تعالى عنهم أجمعين ثم أقيمت الصلاة فقام يجر رداءه ويقول «لا يسمعون حسيسها» ليس بنص في كون الموصول عبارة عن طائفة مخصوصة والحسيس صوت يحس به أي لا يسمعون صوتها سمعا ضعيفا كما هو المعهود عند كون المصوت بعيدا وإن كان صوته في غاية الشدة لا أنهم لا يسمعون صوتها الخفي في نفسه فقط والجملة بدل من مبعدون أو حال ن ضميره مسوقة للمبالغة في إنقاذهم منها وقوله تعالى «وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون» بيان لفوزهم بالمطالب إثر بيان خلاصهم من المهالك والمعاطب أي دائمون في غاية التنعم وتقديم الظرف للقصر والاهتمام به وقوله تعالى «لا يحزنهم الفزع الأكبر» بيان لنجاتهم من الإفزاع بالكلية بعد بيان نجاتهم من النار لأنهم إذا لم يحزنهم أكبر الأفزاع لا يحزنهم ما عداه بالضرورة عن الحسن رضي الله عنه أنه الانصراف إلى النار وعن الضحاك حتى يطبق على النار وقيل حين يذبح الموت في صورة كبش أملح وقيل النفخة الأخيرة لقوله تعالى ففزع من في السماوات ومن في الأرض وليس بذاك فإن الآمن من ذلك الفزع من استثناه الله تعالى بقوله إلا من شاء الله لا جميع المؤمنين الموصوفين بالأعمال الصالحة على أن الأكثرين على أن ذلك في النفخة الأولى دون الأخيرة كما سيأتي في سورة النمل «وتتلقاهم الملائكة» أي تستقبلهم مهنئين لهم «هذا يومكم» على إرادة القول أي قائلين هذا اليوم يومكم «الذي كنتم توعدون» في الدنيا وتبشرون بما فيه من فنون المثوبات على الإيمان والطاعات وهذا كما ترى صريح في أن المراد بالذين
87

سبقت لهم الحسنى كافة المؤمنين الموصوفين بالايمان والاعمال الصالحة لا من ذكر من المسيح وعزير والملائكة عليهم السلام خاصة كما قيل «يوم نطوي السماء» بنون العظمة منصوب باذكر وقيل ظرف لقوله تعالى لا يحزنهم الفزع وقيل بتتلقاهم وقيل حال مقدرة من الضمير المحذوف في توعدون والطي ضد النشر وقيل المحو وقرئ يطوى بالياء والتاء والبناء للمفعول «كطي السجل» وهى الصحيفة أي طيا كطى الطومار وقرئ السجل كلفظ الدلو وبالكسر والسجل على وزن العتل وهما لغتان واللام في قوله تعالى «للكتب» متعلقة بمحذوف هو حال من السجل أو صفة له على رأى من يجوز حذف الموصول مع بعض صلته أي كطى السجل كائنا للكتب أو الكائن للكتب فإن الكتب عبارة عن الصحائف وما كتب فيها فسجلها بعض أجزائها وبه يتعلق الطي حقيقة وقرئ للكتاب وهو إما مصدر واللام للتعليل أي كما يطوى الطومار للكتابة أو اسم كالإمام فاللام كما ذكر أولا قيل السجل اسم ملك يطوى كتب أعمال بنى آدم إذا رفعت إليه وقيل هو كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم «كما بدأنا أول خلق نعيده» أي نعيد ما خلقناه مبتدأ إعادة مثل بدئنا إياه في كونها إيجادا بعد العدم أو جمعا من الأجزاء المتبددة والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول
الإمكان الذاتي المصحح للمقدورية وتناول القدرة لهما على السواء وما كافة أو مصدرية وأول مفعول لبدأنا أو لفعل يفسره نعيده أو موصولة والكاف متعلقة بمحذوف يفسره نعيده أي نعيد مثل الذي بدأناه وأول خلق ظرف لبدأنا أو حال ضمير الموصول المحذوف «وعدا» مصدر مؤكد لفعله ومقرر لنعيده أو منتصف به لأنه عدة بالإعادة «علينا» أي علينا إنجازه «إنا كنا فاعلين» لما ذكر لا محالة «ولقد كتبنا في الزبور» هو كتاب دواد عليه السلام وقيل هو اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء عليهم السلام «من بعد الذكر» أي التوراة وقيل اللوح المحفوظ أي وبالله لقد كتبنا في كتاب داود بعد ما كتبنا في التوراة أو كتبنا في جميع الكتب المنزلة بعدما كتبنا وأثبتنا في اللوح المحفوظ «أن الأرض يرثها عبادي الصالحون» أي عامة المؤمنين بعد إجلاء الكفار وهذا وعد منه تعالى بإظهار الدين وإعزاز أهله وعن ابن عباس رضى الله عنهما أن المراد أرض الجنة كما ينبئ عنه قوله تعالى وقالوا الحمد لله الذي صدقناه وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وقيل الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم «إن في هذا» أي فيما ذكر في السورة الكريمة من الإخبار والمواعظ البالغة والوعد والوعيد والبراهين القاطعة الدالة على التوحيد وصحة النبوة «لبلاغا» أي كفاية أو سبب بلوغ إلى البغية «لقوم عابدين» أي لقوم همهم
88

العبادة دون العادة «وما أرسلناك» بما ذكر وبأمثاله من الشرائع والأحكام وغير ذلك من الأمور التي هي مناط لسعادة الدارين «إلا رحمة للعالمين» هو في حيز النصب على أنه استثناء من أعم العلل أو من أعم الأحوال أي ما أرسلناك أذكر لعلة من العلل إلا برحمتنا الواسعة للعالمين قاطبة أو ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك رحمة لهم فإن لها بعثت به سبب لسعادة الدارين ومنشأ لانتظام مصالحهم في النشأتين ومن لم يغتنم مغانم آثاره فإنما فرط في نفسه وحرمه حقه لا أنه تعالى حرمه مما يسعده وقيل كونه رحمه في حق الكفار أمنهم من الخسف والمسخ والاستئصال حسبما ينطق به قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم «قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد» اي ما يوحى إلى إلا أنه لا إله لكم إلا إله واحد لأنه المقصود الأصلي من البعثة وأما ما عداه فمن الأحكام المتفرعة عليه فإنما الأولى لقصر الحكم على الشيء كقولك إنما يقوم زيد أي ما يقوم إلا زيد والثانية لقصر الشيء على الحكم كقولك إنما زبد قائم أي ليس له إلا صفة القيام «فهل أنتم مسلمون» أي مخلصون العبادة لله تعالى مخصصون لها به تعالى والفاء للدلالة على أن ما قبلها موجب لما بعدها قالوا فيه دلالة على أن صفة الوحدانية تصح أن يكون طريقها السمع «فإن تولوا» عن الإسلام ولم يلتفتوا إلى ما يوجبه من الوحي «فقل» لهم «آذنتكم» أي أعلمتكم ما أمرت به أو حربي لكم «على سواء» كائنتين على سواء في الإعلام به لم أطوه عن أحد منكم أو مستوين به أنا وأنتم في العلم بما أعلمتكم به أو في المعادة أو إيذانا على سواء وقيل أعلمتكم أنى على سواء أي عدل واستقامة رأى بالبرهان النير «وإن أدري» أي ما أدرى «أقريب أم بعيد ما توعدون» من غلبة المسلمين وظهور الدين أو الحشر مع كونه آتيا لا محالة «إنه يعلم الجهر من القول» أي ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وتكذيب الآيات التي من جملتها ما نطق بمجيء الموعود «ويعلم ما تكتمون» من الإحن والأحقاد للمسلمين فيجازيكم عليه نقيرا أو قطميرا «وإن أدري لعله فتنة لكم» أي ما أدرى لعل تأخير جزائكم استدراج لكم وزيادة في افتتانكم أو امتحان لكم لينظر كيف تعملون «ومتاع إلى حين» أي وتمتع لكم إلى أجل مقدر تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة ليكون ذلك حجة عليكم
89

«قال رب احكم بالحق» حكاية لدعائه صلى الله عليه وسلم وقرئ قل رب على صيغة الأمر أي اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل المقتضى لتعجيل العذاب والتشديد عليهم وقد استجيب دعاؤه صلى الله عليه وسلم حيث عذبوا بيد أي تعذيب وقرئ رب احكم بضم الباء وربى أحكم على صيغة التفضيل وربي أحكم من الإحكام «وربنا الرحمن» مبتدأ أي كثير الرحمة على عباده وقوله تعالى «المستعان» أي المطلوب منه المعونة وخبر آخر للمبتدأ وإضافة الرب فيما سبق إلى ضميره صلى الله عليه وسلم خاصة لما أن الدعاء من الوظائف الخاصة به صلى الله عليه وسلم كما أن إضافته ههنا إلى ضمير الجمع المنتظم للمؤمنين أيضا لما أن الاستعانة من الوظائف العامة لهم «على ما تصفون» من الحال فإنهم كانوا يقولون إن الشوكة تكون لهم وإن راية الإسلام تخفق ثم تركد وإن المتوعد به لو كان حقا لنزل بهم إلى غير ذلك مما لا خير فيها فاستجاب الله عز وجل دعوة رسوله صلى الله عليه وسلم فخيب آمالهم وغير أحوالهم ونصر أولياءه عليهم فأصابهم يوم بدر ما أصابهم والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله وقرئ يصفون بالياء التحتانية وعن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ اقترب حاسبه الله تعالى حسابا يسيروا وصافحه وسلم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن
90

سورة الحج مدنية إلا الآيات 52 53 54 55 فبين مكة والمدينة وآياتها 78
«بسم الله الرحمن الرحيم» «يا أيها الناس اتقوا ربكم» خطاب يعم حكمه المكلفين عند النزول ومن سينتظم في سلكهم بعد من الموجودين القاصرين عن رتبة التكليف والحادثين بعد ذلك إلى يوم القيامة وإن كان خطاب المشافهة مختصا بالفريق الأول على الوجه الذي مر تقريره في مطلع سورة النساء ولفظ الناس ينتظم الذكور والإناث حقيقة وإما صيغة جمع المذكور فواردة على نهج التغليب لعدم تناولها للإناث حقيقة إلا عند الحنابلة والمأمور به مطلق التقوى الذي هو التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك ويندرج فيه الإيمان بالله واليوم الآخر حسبما ورد به الشرع اندراجا أوليا والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية والتربية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين لتأييد الامر وتأكيد إيجاب الامتثال به ترهيبا وترغيبا اي احذورا عقوبة مالك أموركم ومربيكم وقوله تعالى «إن زلزلة الساعة شيء عظيم» تعليل لموجب الأمر بذكر بعض عقوباته الهائلة فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مباديه ومقدماته من الأحوال والأهوال التي لا ملجأ منها سوى التدرع بلباس التقوى مما يوجب مزيد الاعتناء بملابسته وملازمته لا محالة والزلزلة التحريك الشديد والإزعاج العنيف بطريق التكرير بحيث يزيل الأشياء من مقارها ويخرجها عن مراكزها وإضافتها إلى الساعة إما إضافة المصدر إلى فاعله على المجاز الحكمي كأنها هي التي تزلزل الأشياء أو إضافته إلى الظرف إما بإجرائه مجرى المفعول به إتساعا أو بتقدير في كما في قوله تعالى بل مكر الليل والنهار وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى إذا زلزلت الأرض زلزالها عن الحسن أنها تكون يوم القيامة وعن ابن عباس رضي الله عنهما
زلزلة الساعة قيامها وعن علقمة والشعبي انها قبل طلوع الشمس من مغربها فإضافتها إلى الساعة حينئذ لكونها من أشراطها وفي التعبير عنها بالشيء إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها والعبارة ضيقة لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام وقوله تعالى «يوم ترونها» منتصب بما بعده قدم عليه اهتماما به والضمير للزلزلة أي وقت رؤيتكم إياها ومشاهدتكم لهول مطلعها «تذهل كل مرضعة» أي مباشرة للإرضاع «عما أرضعت» أي تغفل مع دهشة عما هي بصدد
91

إرضاعه من طفلها الذي ألقمته ثديها والتعبير عنه بما دون من لتأكيد الذهول وكونه بحيث لا يخطر ببالها أنه ماذا لا أنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه وقيل ما مصدرية أي تذهل عن إرضاعها والأول أدل على شدة الهول وكمال الإنزعاج وقرئ تذهل من الإذهال مبنيا للمفعول أو مبنيا للفاعل مع نصب كل أي تذهلها الزلزلة «وتضع كل ذات حمل حملها» أي تلقى جنيها لغير تمام كما أن المرضعة تذهل عن ولدها لغير فطام وهذا ظاهر على قول علقمة والشعبي وأما على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما فقد قيل إنه تمثيل لتهويل الأمر وفيه أن الامر حينئذ أشد من ذلك وأعظم وأهول مما وصف وأطم وقيل إن ذلك يكون عند النفخة الثانية فإنهم يقومون على ما صعقوا في النفخة الأولى فتقوم المرضعة على إرضاعها والحامل على حملها ولا ريب في ان قيام الناس من قبورهم بعد النفخة الثانية لا قبلها حتى يتصور ما ذكر «وترى الناس» بفتح التاء والراء على خطاب كل أحد من المخاطبين برؤية الزلزلة والاختلاف بالجمعية والإفراد لما أن المرئي في الأول هي الزلزلة التي يشاهدها الجميع وفي الثاني حال من عدا المخاطب منهم فلا بد من إفراد المخاطب على وجه يعم كل واحد منهم لكن من غير اعتبار اتصافه بتلك الحالة فإن المراد بيان تأثير الزلزلة في المرئي لا في الرائي باختلاف مشاعره لان مداره حيثية رؤيته للزلزلة لا لغيرها كأنه قيل ويصير الناس سكارى الخ وإنما أوثر عليه ما في التنزيل للإيذان بكمال ظهور تلك الحالة فيهم وبلوغها من الجلاء إلى حد لا يكاد يخفى على أحد أي يراهم كل أحد «سكارى» أي كأنهم سكارى «وما هم بسكارى» حقيقة «ولكن عذاب الله شديد» فيرهقهم هوله ويطير عقولهم ويسلب تمييزهم فهو الذي جعلهم كما وصفوا وقرئ ترى بضم التاء وفتح وقرىء برفع الناس على إسناد الفعل المجهول إليه والتأنيث على تأويل الجماعة وقرئ ترى بضم التاء وكسر الراء أي ترى الزلزلة الخلق جميع الناس سكارى وقرئ سكرى وسكرى كعطشى وجوعي إجراء للسكر مجرى العلل «ومن الناس» كلام مبتدأ جيء به إثر بيان عظيم شأن الساعة المنبئة عن البعث بيانا لحال بعض المنكرين لها ومحل الجار الرفع على الابتداء إما بحمله على المعنى أو بتقدير ما يتعلق به كما مر مرارا أي وبعض الناس أو وبعض كائن من الناس «من يجادل في الله» أي في شأنه تعالى ويقول فيه مالا خير فيه من الأباطيل وقوله تعالى «بغير علم» حال من ضمير يجادل موضحة لما يشعر بها المجادلة من الجهل أي ملابسا بغير علم روى أنها نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا بعث بعد الموت وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين «ويتبع» أي فيما يتعاطاه من المجادلة أو في كل ما يأتي وما يذر من الأمور الباطلة التي من جملتها ذلك «كل شيطان مريد» عات متمرد متجرد للفساد وأصله العرى المنبىء عن التمحض له كالتشمر ولعله مأخوذ من تجرد المصارعين عند المصارعة قال الزجاج المريد والمارد المرتفع الأملس والمراد إما رؤساء الكفرة الذين يدعون من دونهم إلى الكفر وإما إبليس وجنوده
92

وقوله تعالى «كتب عليه» أي على الشيطان صفة أخرى له وقوله تعالى «أنه» فاعل كتب والضمير للشأن أي رقم به لظهور ذلك من حاله أن الشأن «من تولاه» أي اتخذه وليا وتبعه «فإنه يضله» بالفتح على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف والجملة جواب الشرط إن جعلت من شرطية وخبر لها إن جعلت موصولة متضمنة لمعنى الشرط أي من تولاه فشأنه أنه يضله عن طريق الجنة أو طريق الحق أو فحق انه يضله قطعا وقيل فإنه معطوف على أنه وفيه من التعسف مالا يخفى وقيل وقيل مما لا يخلو عن التمحل والتأويل وقرئ فإنه بالكسر على أنه خبر لمن أو جواب لها وقرئ بالكسر فيهما على حكاية المكتوب كما هو مثل ما في قولك كتبت إن الله يأمر بالعدل والإحسان أو على إضمار القول أو تضمين الكتب معناه على رأى من يراه «ويهديه إلى عذاب السعير» بحمله على مباشرة ما يؤدى إليه من السيئات «يا أيها الناس» إثر ما حكى أحوال المجادلين بغير علم وأشير إلى ما يؤول إليه أمرهم أقيمت الحجة الدالة على تحقيق ما جادلوا فيه من البعث «إن كنتم في ريب من البعث» من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى أو من وقوعه وقرئ من البعث بالتحريك كالجلب في الجلب والتعبير عن اعتقادهم في حقه بالريب مع التنكير المنبىء عن القلة مع انهم جازمون باستحالته وإيراد كلمة الشك مع تقرر حالهم في ذلك وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال إن ارتبتم في البعث فقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا «فإنا خلقناكم» أي فانظروا إلى مبدأ خلقكم ليزول ريبكم فانا خلقناكم أي خلقنا كل فرد منكم «من تراب» في ضمن خلق آدم منه خلقا إجماليا فإن خلق كل فرد من أفراد البشر له خظ من خلقه عليه السلام إذا لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام من التراب خلقا للكل منه كما مر تحقيقه مرارا «ثم من نطفة» أي ثم خلقناكم خلقا تفصيليا من نطفة أي من منى من النطف الذي هو الصب «ثم من علقة» أي قطعة من الدم جامدة متكونة من المنى «ثم من مضغة» أي من قطعة اللحم متكونة من العلقة وهي في الأصل مقدار ما يمضغ «مخلقة» بالجر صفة مضغة أي مستبينة الخلق مصورة «وغير مخلقة» أي لم يستبن خلقها وصورتها بعد والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء
93

من الأعضاء ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا وكان مقتضى الترتيب السابق المبنى على التدرج من المبادئ البعيدة إلى القريبة أن يقدم غير المخلقة على المخلقة وإنما أخرت عنها لأنها عدم الملكة هذا وقد فسرتا بالمسواة وغير المسواة وبالتامة والساقطة وليس بذاك وفي جعل كل واحدة من هذه المراتب مبدأ لخلقهم لا لخلق ما بعدها من المراتب كما في قوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الآية مزيد دلالة على عظيم قدرته تعالى وكسر لسورة استبعادهم «لنبين لكم» متعلق بخلقنا وترك المفعول لتفخيمه كما وكيفا أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم بذلك مالا تحصره العبارة من الحقائق والدقائق التي من جملتها سر البعث فإن من تأمل فيما ذكر من الخلق التدريجي تأملا حقيقيا جزم جزما ضروريا بان على خلق البشر أو لا من تراب لم يشم رائحة الحياة قط وإنشائه على وجه مصحح لتوليد مثله مرة بعد أخرى بتصريفه في
أطوار الخلقة وتحويله من حال إلى حال مع ما بين تلك الأطوار والأحوال من المخالفة والتباين فهو قادر على إعادته بل هو أهو في القياس نظرا إلى الفاعل والقابل وقرئ ليبين بطريق الالتفات وقوله تعالى «ونقر في الأرحام ما نشاء» استئناف مسوق لبيان حالهم بعد تمام خلقهم وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبين مع كونهما من متمماته ومن مبادى التبيين أيضا لما ان دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات التي من جملتها البعث المبحوث عنه أجلى وأظهر أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء ان نقره فيها «إلى أجل مسمى» هو وقت الوضع وأدناه ستة أشهر وأقصاه سنتان وقيل أربع سنين وفيه إشارة إلى أن بعض ما في الأرحام لا يشاء الله تعالى إقراره فيها بعد تكامل خلقه فتسقطه والتعرض للإزلاق لا يناسب المقام لأن الكلام فيما جرى عليه أطوار الخلق وهذا صريح في ان المراد بغير المخلقة ليس من ولد ناقصا أو معيبا وأن ما فصل إلى هنا هو الأطوار المتواردة على المولود قبل الولادة وقرئ يقر بالياء ونقر ويقر بضم القاف من قررت الماء إذا صببته «ثم نخرجكم» أي من بطون أمهاتكم بعد إقراركم فيها عند تمام الأجل المسمى «طفلا» اي حال كونكم أطفالا والإفراد باعتبار كل واحد منهم أو بإرادة الجنس المنتظم للواحد والمتعدد وقرئ يخرجكم بالياء وقوله تعالى «ثم لتبلغوا أشدكم» علة لنجرجكم معطوفة على علة أخرى له مناسبة لها كأنه قيل ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل والتمييز وقيل التقدير ثم نمهلكم لتبلغوا الخ وما قيل إنه معطوف على نبين مخل بجزالة النظم الكريم هذا وقد قرىء مما قبله من الفعلين بالنصب حكاية وغيبة فهو حينئذ عطف على نبين مثلهما والمعنى خلقناكم على التدريج المذكور لغايتين مترتبتين عليه إحداهما ان نبين شئوننا والثانية أن نقركم في الأرحام ثم نخرجكم صغارا ثم لتبلغوا أشدكم وتقديم التبيين على ما بعده مع ان حصوله بالفعل بعد الكل للإيذان بأنه غاية الغايات ومقصود بالذات وإعادة اللام ههنا مع تجريد الأولين عنها للإشعار بأصالته في الغرضية بالنسبة إليهما إذ عليه يدور التكليف المؤدى إلى السعادة والشقاوة وإيثار البلوغ مسندا إلى المخاطبين على التبليغ مسندا إليه تعالى كالأفعال السابقة لأنه المناسب لبيان حال اتصافهم بالكمال واستقلالهم بمبدئية الآثار والأفعال والأشد من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأسد والقتود وكأنها حين كانت شدة في غير شيء بنيت على لفظ الجمع «ومنكم من يتوفى» أي بعد بلوغ الأشد أو قبله
94

وقرئ يتوفى مبنيا للفاعل اي يتوفاه الله تعالى «ومنكم من يرد إلى أرذل العمر» وهو الهرم والخوف وقرئ بسكون الميم وإيراد الرد والتوفى على صيغة المبنى للمفعول للجرى على سنن الكبرياء لتعيين الفاعل «لكيلا يعلم من بعد علم» أي علم كثير «شيئا» أي شيئا من الأشياء أو شيئا من العلم مبالغة في انتفاص علمه وانتكاس حاله أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولية من ضعف البنية وسخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه وفيه من التنبيه على صحة البعث مالا يخفى «وترى الأرض هامدة» حجة أخرى على صحة البعث والخطاب لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وهي بصرية وهامدة حال من الأرض أي ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا «فإذا أنزلنا عليها الماء» أي المطر «اهتزت» تحركت بالنبات «وربت» انتفخت وازدادت وقرئ ربأت أي ارتفعت «وأنبتت من كل زوج» أي صنف «بهيج» حسن رائق يسر ناظره «ذلك بأن الله هو الحق» كلام مستأنف جيء به إثر تحقيق حقية البعث وإقامة البرهان عليه من العالمين الإنساني والنباتي لبيان أن ذلك من آثار ألوهيته تعالى وأحكام شؤونه الذاتية والوصفية والفعلية وان ما ينكرون وجوده بل إمكانه من إتيان الساعة والبعث من أسباب تلك الآثار العجيبة التي يشاهدونها في الأنفس والآفاق ومبادى صدورها عنه تعالى وفيه من الإيذن بقوة الدليل وأصله المدلول في التحقيق وإظهار بطلان إنكاره مالا يخفى فإن إنكار تحقق السبب مع الجزم بتحقيق المسبب مما يقضى ببطلانه بديهة العقول والمراد بالحق هو الثابت الذي يحق ثبوته لا محاله لكونه لذاته لا الثابت مطلقا وذلك إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان على أطوار مختلفة وتصريفه في أحوال متباينة وإحياء الأرض بعد موتها وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الكمال وهو مبتدأ خبره الجار والمجرور اي ذلك الصنع البديع حاصل بسبب أنه تعالى هو الحق وحده في ذاته وصفاته وأفعاله المحقق لما سواه من الأشياء «وأنه يحيي الموتى» أي شأنه وعادته إحياؤها وحاصلة أنه تعالى قادر على إحيائها بدء وإعادة وإلا لما أحيا النطفة والأرض الميتة مرارا بعد مرار وما تفيده صيغة المضارع من التجدد إنما هو باعتبار تعلق القدرة ومتعلقها لا باعتبار نفسها «وأنه على كل شيء قدير» أي مبالغ في القدرة وإلا لما أوجد هذه الموجودات الفائتة للحصر التي من جملتها ما ذكر وأما الاستدلال على ذلك بان قدرته تعالى لذاته الذي نسبته إلى الكل سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها فمنشأه الغفول عما سيق له النظم الكريم من بيان كون الآثار الخاتمة المذكورة من فروع القدرة العامة اللامة ومسبباتها وتخصيص إحياء الموتى بالذكر مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها للتصريح بما فيه النزاع والدفع في نحور المنكرين وتقديمه لإبراز الاعتناء به «وأن الساعة آتية» أي فيما سيأتي وإيثار صيغة الفاعل على الفعل للدلالة على تحقيق إتيانها وتقرره البتة لاقتضاء الحكمة إياه لا محالة وتعليله بأن التغير من مقدمات الإنصرام وطلائعه مبنى على ما ذكر من الغفول وقوله تعالى «لا ريب فيه» إما خبر
95

ثان ى ن أو حال من ضمير الساعة في الخبر ومعنى نفى الريب عنها انها في ظهور أمرها ووضوح دلائلها التكوينية والتنزيلية بحيث ليس فيها مظنة أن يرتاب في إتيانها حسبما مر في مطلع سورة البقرة والجملة عطف على المجرور بالباء كما قبلها من الجملتين داخلة مثلهما في حيز السببية وكذا قوله عز وجل «وأن الله يبعث من في القبور» لكن لا من حيث إن إتيان الساعة وبعث الموتى مؤثران فيما ذكر من أفاعليه تعالى تأثير القدرة فيها بل من حيث إن كلا منهما سبب داع له عز وجل بموجب رأفته بالعباد المبنية على الحكم البالغة إلى ما ذكر من خلقهم ومن إحياء الأرض الميتة على نمط بديع صالح للاستشهاد به على مكانهما ليتأملوا في ذلك ويستدلوا به على وقوعهما لا محالة ويصدقوا بما ينطق بهما من الوحي المبين وينالوا به السعادة الأبدية ولولا ذلك لما فعل تعالى ما فعل بل لما خلق العالم رأسا وهذا كما ترى من أحكام حقيته تعالى في أفعاله وابتنائها على الحكم الباهرة كما أن ما قبله من أحكام حقيته تعالى في صفاته وكونها في غاية الكمال وقد جعل إتيان الساعة وبعث من في القبور لكونهما من روادف الحكمة كناية عن كونه تعالى حكيما كأنه قيل ذلك بسبب أنه تعالى قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم لا يخلف ميعاده وقد وعد
بالساعة والبعث فلا بد أن ينفى بما وعد وأنت خبير بأن مآله الاستدلال بحكمته تعالى على إتيان الساعة والبعث وليس الكلام في ذلك بل إنما هو في سببيتها لما مر من خلق الإنسان وإحياء الأرض فنأمل وكن على الحق المبين وقيل قوله تعالى وأن الساعة آتية ليس معطوفا على المجرور بالياء ولا داخلا في حيز السببية بل هو خبر والمبتدأ محذوف لفهم المعنى والتقدير والامر أن الساعة آتية وأن الثانية معطوفة على الأول وقيل المعنى ذلك لتعلموا بان الله هو الحق الآتين «ومن الناس من يجادل في الله» هو أبو جهل بن هشام حسبما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما وقيل هو من يتصدى لاضلال الناس وإغوائهم كائنا من كان كما أن الأول من يقلدهم على أن الشيطان عبارة عن المضل المغوى على الاطلاق «بغير علم» متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير يجادل أي كائنا بغير علم والمراد بالعلم العلم الضروري كما أن المراد بالهدى في قوله قوله تعالى «ولا هدى» هو الاستدلال والنظر الصحيح الهادي إلى المعرفة «ولا كتاب منير» وحى مظهر للحق أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بمقدمة ضرورية ولا بحجة نظرية ولا ببرهان سمعي كما في قوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم وأما ما قيل من أن المراد به المجادلة الأول والتكرير للتأكيد والتمهيد لما بعده من بيان أنه لا سند له من استدلال أو وحى فلا يساعده النظم الكريم كيف لا وأن وصفه باتباع كل شيطان موصوف بما ذكر يغنى عن وصفه بالعراء عن الدليل العقلي والسمعى «ثاني عطفه» حال أخرى من فاعل يجادل أي عاطفا لجانبه وطاويا كشحه معرضا متكبرا فإن ثنى العطف كناية عن
96

التكبر وقرئ بفتح العين أي مانعا لتعطفه «ليضل عن سبيل الله» متعلق بيجادل فإن غرضه الاضلال عنه وان لم يعترف بأنه إضلال والمراد به إما الإخراج من الهدى إلى الضلال فالمفعول من يجادله من المؤمنين أو الناس جميعا بتغليب المؤمنين على غيرهم وإما التثبيت على الضلال أو الزيادة عليه مجازا فالمفعول هم الكفرة خاصة وقرئ بفتح الياء وجعل ضلاله غاية لجداله من حيث إن المراد به الضلال المبين الذي لا هداية له بعده مع تمكنه منها قبل ذلك «له في الدنيا خزي» جملة مستأنفة مسوقة لبيان نتيجة ما سلكه من الطريقة أي يثبت له في الدنيا بسبب ما فعله خزى وهو ما أصابه يوم بدر من القتل والصغار «ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق» أي النار المحرقة «ذلك» أي ما ذكر من العذاب الدنيوي والأخروي وما فيه من معنى البعد للايذان بكونه في الغاية القاصية من الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بما قدمت يداك» أي بسبب ما اقترفته من الكفر والمعاصي وإسناده إلى يديه لما أن الاكتساب عادة يكون بالأيدي والالتفات لتأكيد الوعيد وتشديد التهديد ومحل أن في قوله عز وعلا «وأن الله ليس بظلام للعبيد» الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي والامر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما نقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظالما بالغا قد مر تحقيقه في سورة آل عمران والجملة اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبلها وأما ما قيل من أن محل أن هو الجر بالعطف على ما قدمت فقد عرفت حاله في سورة الأنفال «ومن الناس من يعبد الله على حرف» شروع في بيان المذبذبين إثر بيان حال المجاهرين أي ومنهم من يعبده تعالى على طرف من الدين لاثبات له فيه كالذي ينحرف إلى طرف الجيش فإن أحس بظفر قر وإلا فر «فإن أصابه خير» أي دنيوي من الصحة والسعة «اطمأن به» أي ثبت على ما كان عليه ظاهرا ألا أنه اطمأن به اطمئنان المؤمنين الذين لا يلويهم عنه صارف ولا يثنيهم عاطف «وإن أصابته فتنة» أي شئ يفتتن به من مكروه يعتريه في نفسه أو أهله أو ماله «انقلب على وجهه» روى أنها نزلت في أعاريب قدموا المدينة وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته ولدا سويا وكثر ماله وماشيته قال ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا الا خيرا واطمأن وإن كان الأمر بخلافه قال ما أصبت إلا شرا وانقلب وعن أبى سعيد الخدري رضى الله عنه أن يهوديا أسلم فأصابته مصائب فتشاءم بالاسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أقلني فقال صلى الله عليه وسلم إن الاسلام لا يقال فنزلت وقيل نزلت في المؤلفة قلوبهم «خسر الدنيا والآخرة» فقدهما وضيعهما بذهاب عصمته وحبوط عمله بالارتداد وقرئ خاسر بالنصب على الحال والرفع على الفاعلية ووضع موضع الضمير
97

تنصيصا على خسرانه أو على أنه خبر مبتدأ محذوف «ذلك» أي ما ذكر من الخسران وما فيه من معنى البعد للايذان بكونه في غاية ما يكون «هو الخسران المبين» الواضح كونه خسرانا إذا لا خسران مثله «يدعو من دون الله» استئناف مبين لعظم الخسران أي يعبد متجاوزا عبادة الله تعالى «ما لا يضره» إذا لم يعبده «وما لا ينفعه» إن عبده أي جمادا ليس من شأنه الضر والنفع كما يلوح به تكرير كلمة ما «ذلك» الدعاء «هو الضلال البعيد» عن الحق والهدى مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق «يدعو لمن ضره أقرب من نفعه» استئناف مسوق لبيان مآل دعائه المذكور وتقرير كونه ضلالا بعيدا مع إزاحة ما عسى يتوهم من نفى الضرر عن معبوده بطريق المباشرة نفيه عنه بطريق التسبب أيضا فالدعاء بمعنى القول واللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا له ومن مبتدأ وضره مبتدأ ثان خبره أقرب والجملة صلة للمبتدأ الأول وقوله تعالى «لبئس المولى ولبئس العشير» جواب لقسم مقدر هو وجوابه خبر للمبتدأ الأول وإيثار من على ما مع كون معبوده جمادا وإيراد صيغة التفضيل مع خلوه عن النفع بالمرة للمبالغة في تقبيح حاله والامعان في ذمه أي يقول ذلك الكافر يوم القيامة بدعاء وصراخ حين يرى تضرره بمعبوده ودخوله النار بسببه ولا يرى منه أثر النفع أصلا لمن ضره أقرب من نفعه والله لبئس الناصر هو ولبئس الصاحب هو فكيف بما هو ضرر محض عار عن النفع بالكلية ويجوز أن يكون يدعو الثاني إعادة للأول لا تأكيد له فقط بل وتمهيدا لما بعده من بيان سوء حال معبوده إثر بيان سوء حال عبادته بقوله تعالى ذلك هو الضلال البعيد كأنه قيل من جهته تعالى بعد ذكر عبادته لما لا يضره ولا ينفعه يدعو ذلك ثم قيل لمن ضره أقرب من نفعه والله لبئس المولى ولبئس العشير فكلمة من وصيغة التفضيل للتهكم به وقيل اللام زائدة ومن مفعول يدعو ويؤيده القراء بغير لام أي يعبد من ضره أقرب من نفعه وإيراد كلمة من وصيغة التفضيل تهكم به أيضا والجملة القسمية مستأنفة «إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات» استئناف جئ به لبيان كمال حسن حال المؤمنين العابدين له تعالى وأن الله عز وجل يتفضل عليهم بما لا غاية وراءه من أجل المنافع وأعظم الخيرات إثر بيان غاية سوء حال الكفرة ومآلهم من فريقى المجاهرين والمذبذبين وأن معبودهم لا يجديهم شيئا من النفع بل يضرهم مضرة عظيمة وأنهم يعترفون بسوء
ولايته وعشرته ويذمونه مذمة عامة وقوله تعالى «تجري من تحتها الأنهار» صفة لجنات فإن أريد بها الأشجار المتكاثقة السائرة لما تحتها فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض فلا بد من تقدير مضاف
98

أي من تحت أشجارها وإن جعلت عبارة عن مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق اسم الجنة على الكل كما مر تفصيله في أوائل سورة البقرة وقوله تعالى «إن الله يفعل ما يريد» تعليل لما قبله وتقرير له بطريق التحقيق أي يفعل البتة كل ما يريده من الافعال المتقنة اللائقة المبنية على الحكم الرائقة التي من جملتها إثابة من آمن به وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقاب من اشرك به وكذب برسول الله صلى الله عليه وسلم ولما كان هذا من آثار نصرته تعالى له صلى الله عليه وسلم عقب بقوله عز وعلا «من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة» تحقيقا لها وتقريرا لثبوتها على أبلغ وجه وآكده وفيه إيجاز بارع واختصار رائع والمعنى أنه تعالى ناصر لرسوله في الدنيا والآخرة لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه فمن كان يغيظه ذلك من أعاديه وحساده ويظن أن لن يفعله تعالى بسبب مدافعته ببعض الأمور ومباشرة ما يرده من المكايد فليبالغ في استفراغ المجهود وليجاوز في الجد كل حد معهود فقصارى أمره وعاقبة مكره أن يختنق حنقا مما يرى من ضلال مساعيه وعدم إنتاج مقدماته ومباديه «فليمدد بسبب إلى السماء» فليمدد حبلا إلى سقف بيته «ثم ليقطع» أي ليختنق من قطع إذا اختنق لأنه يقطع نفسه بحبس مجاريه وقيل ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى «فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ» تقدير النظر وتصويره أي فليصور في نفسه النظر هل يذهبن كيده ذلك الذي هو أقصى ما انتهت إليه قدرته في باب المضادة والمضارة ما يغيظه من النصرة كلا ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه وقيل المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي وقيل ليقطع المسافة حتى يبلغ عنانها فيجتهد في دفع نصره ويأباه أن مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا وقيل كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم وحنقهم على المشركين يستبطئون ما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من النصر وآخرون من المشركين يريدون اتباعه صلى الله عليه وسلم ويخشون أن لا يثبت أمره فنزلت وقد فسر النصر بالرزق فالمعنى أن الرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته تعالى فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يغلب القسمة ولا يرده مرزوقا «وكذلك» أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوى على الحكم البالغة «أنزلناه» أي القرآن الكريم كله وقوله تعالى «آيات بينات» أي واضحات الدلالة على معانيها الرائقة حال من الضمير المنصوب مبينة لما أشير إليه بذلك «وأن الله يهدي» به ابتداء أو يثبت على الهدى أو يزيد فيه «من يريد» هدايته
99

أو تثبيته أو زيادته فيها ومحل الجملة إما الجر على حذف الجار المتعلق بمحذوف مؤخر أي ولأن الله يهدى من يريد أنزله كذلك أو الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي والأمر ان الله يهدي من يريد هدايته «إن الذين آمنوا» أي بما ذكر من الآيات البينات بهداية الله تعالى أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا «والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس» قيل هم قوم يعبدون النار وقيل الشمس والقمر وقيل هم قوم من النصارى اعتزلوا عنهم ولبسوا المسوح وقيل اخذوا من دين النصارى شيئا ومن دين اليهود شيئا وهم القائلون بان للعالم أصلين نورا وظلمة «والذين أشركوا» هم عبدة الأصنام وقوله تعالى «إن الله يفصل بينهم يوم القيامة» في حيز الرفع على أنه خبر لأن السابقة وتصدير طرفي الجملتين بحرف التحقيق لزيادة التقرير والتأكيد أي يقضى بين المؤمنين وبين الفرق الخمس المنفقة على ملة الكفر بإظهار المحق من المبطل وتوفيه كل منهما حقه من الجزاء بإثابة الأول وعقاب الثاني بحسب استحقاق أفراد كل منهما وقوله تعالى «إن الله على كل شيء شهيد» تعليل لما قبله من الفصل أي عالم بكل شيء من الأشياء ومراقب لأحواله ومن قضيته الإحاطة بتفاصيل ما صدر عن كل فرد من أفراد الفرق المذكورة وإجراء جزائه اللائق به عليه وقوله تعالى «ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض» الخ بيان لما يوجب الفصل المذكور من أعمال الفرق المذكورة مع الإشارة إلى كيفيته وكونه بطريق التعذيب والإثابة والإكرام والإهانة إثر بيان ما يوجبه من كونه تعالى شهيدا على جميع الأشياء التي من جملتها أحوالهم وأفعالهم والمراد بالرؤية العلم عبر عنه بها إشعار بظهور المعلوم والخطاب لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤية بناء على أنه من الجلاء بحيث لا يخفى على أحد والمراد بالسجود هو الانقياد التام لتدبيره تعالى بطريق الاستعارة المبنية على تشبهه بأكمل أفعال المكلف في باب الطاعة إيذانا بكونه في أقصى مراتب التسخر والتذلل لا سجود الطاعة الخاصة بالعقلاء سواء جعلت كلمة من عامة لغيرهم أيضا وهو الأنسب بالمقام لإفادته شمول الحكم لكل ما فيهما بطريق القرار فيهما أو بطريق الجزئية منهما فيكون قوله تعالى «والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب» إفرادا لها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها عادة أو جعلت خاصة بالعقلاء لعدم شمول سجود الطاعة لكلهم حسبما ينبئ عنه قوله تعالى «وكثير من الناس» فإنه مرتفع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس سجود
100

طاعة وعبادة ومن قضيته انتفاء ذلك عن بعضهم وقيل هو مرفوع على الابتداء حذف خبره ثقة بدلالة خبر قسيمه عليه نحو حق له الثواب والأول هو الأولى لما فيه من الترغيب في السجود والطاعة وقد جوز أن يكون من الناس خبرا له أي من الناس الذين هم الناس على الحقيقة وهم الصالحون والمتقون وأن يكون قوله تعالى «وكثير» معطوفا على كثير الأول للإيذان بغاية الكثرة ثم يخبر عنهم باستحقاق العذاب كأنه قيل وكثير وكثير من الناس «حق عليه العذاب» أي بكفره واستعصائه وقرئ حق بالضم وحقا أي حق عليه العذاب حقا «ومن يهن الله» بأن كتب عليه الشقاوة حسبما علمه من صرف اختياره إلى الشر «فما له من مكرم» يكرمه بالسعادة وقرئ بفتح الراء على أنه مصدر ميمي «إن الله يفعل ما يشاء» من الأشياء التي من جملتها الإكرام والإهانة «هذان» تعيين لطرفي الخصام وإزاحة لما عسى يتبادر إلى الوهم من كونه بين كل واحدة من الفرق الست وبين البواقي وتحرير لمحله أي فريق المؤمنين وفريق الكفرة المقسم إلى الفرق الخمس «خصمان» أي فريقان مختصمان وإنما قيل «
اختصموا في ربهم» حملا على المعنى أي اختصموا في شأنه عز وجل وقيل في دينه وقيل في ذاته وصفاته والكل من شؤونه تعالى فإن اعتقاد كل من الفريقين بحقية ما هو عليه وبطلان ما عليه صاحبه وبناء أقواله وأفعاله عليه خصومة للفريق الآخر وإن لم يجر بينهما التحاور والخصام وقيل تخاصمت اليهود والمؤمنون فقالت اليهود نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله منكم آمنا بمحمد ونبيكم وبما أنزل الله من كتاب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم كفرتم به حسدا فنزلت «فالذين كفروا» تفصيل لما أجمل في قوله تعالى يفصل بينهم يوم القيامة «قطعت لهم» أي قدرت على مقادير جثثهم وقرئ بالتخفيف «ثياب من نار» أي نيران هائلة تحيط بهم إحاطة الثياب بلابسها «يصب من فوق رؤوسهم الحميم» أي الماء الحار الذي انتهت حرارته قال ابن عباس رضي الله عنهما لو قطرت قطرة منها على جبال الدنيا لأذابتها والجملة مستأنفة أو خبر ثان للموصول أو حال من ضمير لهم «يصهر به» أي يذاب «ما في بطونهم» من الأمعاء والأحشاء وقرئ يصهر بالتشديد «والجلود» عطف على ما وتأخيره عنه إما لمراعاة الفواصل أو للإشعار بغاية شدة الحرارة بإيهام أن تأثيرها في الباطن أقدم من تأثيرها في الظاهر مع أن ملابستها على العكس والجملة حال من الحميم «ولهم» للكفرة أي لتعذيبهم وأجلهم «مقامع من حديد» جمع مقمعة وهي آلة القمع «كلما أرادوا أن يخرجوا منها» أي أشرفوا على
101

الخروج من النار ودنوا منه حسبما يروى أنها تضربهم بلهيبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهروا فيها سبعين خريفا «من غم» أي من غم شديد من غمومها وهو بدل اشتمال من الهاء بإعادة الجار والرابط محذوف كما أشير إليه أو مفعول له للخروج «أعيدوا فيها» أي في قعرها بأن ردوا من أعاليها إلى أسافلها من غير أن يخرجوا منها «وذوقوا» على تقدير قول معطوف على أعيدوا أي وقيل لهم ذوقوا «عذاب الحريق» أي الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك «إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار» بيان لحسن حال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة وقد غير الأسلوب فيها بإسناد الإدخال إلى الله عز وجل وتصدير الجملة بحرف التحقيق إيذانا بكمال مباينة حالهم لحال الكفرة وإظهارا لمزيد العناية بأمر المؤمنين ودلالة على تحقق مضمون الكلام «يحلون فيها» على البناء للمفعول بالتشديد من التحلية وقرئ بالتخفيف من الإحلاء بمعنى الإلباس أي يحليهم الملائكة بأمره تعالى وقرئ يحلون من حلية المرأة إذا لبست حليتها ومن في قوله تعالى «من أساور» إما للتبعيض أي بعض أساور وهي جمع أسورة جمع سوار أو للبيان لما أن ذكر التحلية مما ينبئ عن الحلى المبهم وقيل زائدة وقيل نعت لمفعول محذوف ليحلون فإنه بمعنى يلبسون «من ذهب» بيان للأساور «ولؤلؤا» عطف على محل من أساور أو على المفعول المحذوف أو منصوب بفعل مضمر يدل عليه يحلون أي يؤتون وقرئ بالجر عطفا على أساور وقرئ لؤلؤا بقلب الهمزة الثانية واوا ولوليا بقلبها ياء بعد قلبهما واوا وليليا بقلبهما ياء «ولباسهم فيها حرير» غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا لكن لا للدلالة على أن الحرير ثيابهم المعتادة أو لمجرد المحافظة على هيئة الفواصل بل للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان إذ لا يمكن عراؤهم عنه وإنما المحتاج إلى البيان أن لباسهم ماذا بخلاف الأساور واللؤلؤ فإنها ليست من اللوازم الضرورية فجعل بيان تحليتهم بها مقصودا بالذات ولعل هذا هو الباعث لي تقديم بيان التحلية على بيان حال اللباس «وهدوا إلى الطيب من القول» وهو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة الآية «وهدوا إلى صراط الحميد» أي المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة ووجه تأخير هذه الهداية عن ذكر الهداية إلى القول المذكور المتأخر عن دخول الجنة المتأخر عن الهداية إلى طريقها لرعاية الفواصل وقيل المراد بالحميد الحق المستحق لذاته لغاية الحمد وهو الله عز وجل وصراطه الإسلام ووجه التأخير حينئذ أن ذكر الحمد يستدعى ذكر المحمود «إن الذين كفروا
102

ويصدون عن سبيل الله» ليس المراد به حالا ولا استقبالا وإنما هو استمرار الصد ولذلك حسن عطفه على الماضي كما في قوله تعالى الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله وقيل هو حال من فاعل كفروا أي وهم يصدون وخبر إن محذوف لدلالة آخر الآية الكريمة عليه فإن من ألحد في الحرم حيث عوقب بالعذاب الأليم فلأن يعاقب من جمع إليه الكفر والصد عن سبيل اله بأشد من ذلك أحق وأولى «والمسجد الحرام» عطف على سبيل الله قيل المراد به مكة بدليل وصفه بقوله تعالى «الذي جعلناه للناس» أي كائنا من كان من غير فرق بين مكي وآفاقي «سواء العاكف فيه والباد» أي المقيم والطارئ وسواء أي مستويا مفعول ثان لجعلناه والعاكف مرتفع به واللام متعلق به ظرف له وفائدة وصف المسجد الحرام بذلك زيادة تشنيع الصادين عنه وقرئ سواء بالرفع على أنه خبر مقدم والعاكف مبتدأ والجملة مفعول ثان للجعل وقرئ العاكف بالجر على أنه بدل من الناس «ومن يرد فيه» مما ترك مفعوله ليتناول كل متناول كأنه قبل ومن برد فيه مرادا ما «بإلحاد» بعدول عن القصد «بظلم» بغير حق وهما حالان مترادفان أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجار أو صلة أي ملحدا بسبب الظلم كالإشراك واقتراف الآثام «نذقه من عذاب أليم» جواب لمن «وإذ بوأنا» يقال بوأه منزلا أي أنزله فيه ولما لزمه جعل الثاني مباءة للأول قيل «لإبراهيم مكان البيت» وعليه مبنى قول ابن عباس رضي اله عنهما جعلناه أي اذكر وقت جعلنا مكان البيت مباءة له عليه السلام أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيانه غير مرة وقيل اللام زائدة ومكان ظرف كما في أصل الاستعمال أي أنزلناه فيه قيل رفع البيع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله تعالى إبراهيم عليه السلام مكانه بريح أرسلها يقال لها الخجوج كنست ما حوله فبناه على رأسه القديم روى أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات إحداها بناء الملائكة وكانت من ياقوتة حمراء ثم رفعت أيام الطوفان والثانية بناء إبراهيم عليه السلام والثالثة بناء قريش في الجاهلية وقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البناء والرابعة بناء ابن الزبير والخامسة بناء الحجاج وقد أوردنا ما في هذا الشأن من الأقاويل في تفسير قوله تعالى وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وأن في قوله تعالى «أن لا تشرك بي شيئا» مفسرة لبوأنا من حيث إنه متضمن لمعنى تعبدنا لأن التبوئة للعبادة أو مصدرية موصولة بالنهي وقد مر تحقيقه في أوائل سورة هود أي فعلنا ذلك لئلا تشرك بي في العبادة شيئا «وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود» أي وطهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلي فيه ولعل التعبير عن الصلاة بأركانها للدلالة على أن كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك فكيف وقد اجتمعت وقرئ يشرك بالياء «وأذن في الناس» أي ناد فيهم وقرئ آذان «بالحج» بدعوة
103

الحج والأمر به روى أنه عليه السلام صعد أبا قبيس فقال يا أيها الناس حجوا بيت ربكم فأسمعه الله تعالى من في أصلاب الرجال وأرحام النساء فيما بين المشرق والمغرب ممن سبق في علمه تعالى أن يحج وقيل الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في حجة الوداع ويأباه كون السورة مكية «يأتوك» جواب للأمر «رجالا» أي مشاة جمع راجل كقيام جمع قائم وقرئ بضم الراء وتخفيف الجيم وتشديده ورجالي كعجالي «وعلى كل ضامر» عطف على رجالا أي وركبانا على كل بعير مهزول أتعبه بعد الشقة فهزله أو زاد هزاله «يأتين» صفة لضامر محمولة على المعنى وقرئ يأتون على انه صفة للرجال والركبان أو استئناف فيكون الضمير للناس «من كل فج» طريق واسع «عميق» بعيد وقرئ معيق يقال بئر بعيدة العمق وبعيدة المعق بمعنى كالجذب والجبذ «ليشهدوا» متعلق بيأتوك لا بأذن أي ليحضروا «منافع» عظيمة الخطر كثيرة العدد أو نوعا من المنافع الدينية والدنيوية المختصة بهذه العبادة واللام في قوله تعالى «لهم» متعلق بمحذوف هو صفة لمنافع أي منافع كائنة لهم «ويذكروا اسم الله» عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها وفي جعله غاية للإتيان إيذان بأنه الغاية القصوى دون غيره وقيل هو كناية عن الذبح لأنه لا ينفك عنه «في أيام معلومات» هي أيام النحر كما ينبئ عنه قوله تعالى «على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» فإن المراد بالذكر ما وقع عند الذبح وقيل هي عشر ذي الحجة وقد علق الفعل بالمرزوق وبين بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على الذكر «فكلوا منها» التفات إلى الخطاب والفاء فصيحة عاطفة لمدخولها على مقدر قد حذف للإشعار بأنه أمر محقق غير محتاج إلى التصريح به كما في قوله تعالى فانفجرت أي فاذكروا اسم الله على ضحاياكم فكلوا من لحومها والأمر للإباحة وإزاحة ما كانت عليه أهل الجاهلية من التحرج فيه أو للندب إلى مواساة الفقراء ومساواتهم «وأطعموا البائس» أي الذي أصابه بؤس وشدة «الفقير» المحتاج وهذا الأمر للوجوب وقد قيل به في الأول أيضا «ثم ليقضوا تفثهم» أي ليؤذوا إزالة وسخهم أو ليحكموها بقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال «وليوفوا نذورهم» ما ينذرون من البر في حجهم وقيل مواجب الحج وقرئ بفتح الواو وتشديد الفاء «وليطوفوا» طواف الركن الذي به يتم التحلل فإنه قرينة فضاء التفث وقيل طواف الوداع «بالبيت العتيق» أي القديم فإنه أول بيت وضع للناس أو المعتق من تسلط الجبابرة فكأين من جبار سار إليه ليهدمه فقصمه الله عز وجل وأما الحجاج الثقفي فإنما قصد إخراج ابن الزبير رضي الله عنهما منه لا التسلط عليه «ذلك» أي الأمر ذلك وهذا وأمثاله
104

يطلق للفصل بين الكلامين أو بين وجهي كلام واحد «ومن يعظم حرمات الله» أي أحكامه وسائر مالا يحل هتكه بالعلم بوجوب مراعاتها والعمل بموجبه وقيل الحرم وما يتعلق بالحج من التكليف وقيل الكعبة والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام «فهو خير له» أي فالتعظيم خير له ثوابا «عند ربه» أي في الآخرة والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير من لتشريفه والإشعار بعلة الحكم «وأحلت لكم الأنعام» وهي الأزواج الثمانية على الإطلاق فقوله تعالى «إلا ما يتلى عليكم» أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه استثناء متصل منها على أن ما عبارة عما حرم منها لعارض كالميتة وما أهل به لغير الله تعالى والجملة اعتراض جيء به تقريرا لما قبله من الأمر بالأكل والإطعام ودفعا لما عسى بتوهم أن الإحرام يحرمه كما يحرم الصيد وعدم الاكتفاء ببيان عدم كونها من ذلك القبيل بحمل الأنعام على ما ذكر من الضحايا والهدايا المعهودة خاصة لئلا يحتاج إلى الاستثناء المذكور إذ ليس فيها ما حرم لعارض قطعا لمراعاة حسن التخلص إلى ما بعده من قوله تعالى «فاجتنبوا الرجس من الأوثان» فإنه مترتب على ما يفيده قوله تعالى ومن يعظم حرمات الله من وجوب مراعاتها والاجتناب عن هتكها ولما كان بيان حل الأنعام من دواعي التعاطي لا من مبادئ الاجتناب عقب بما يوجب الاجتناب عنه من المحرمات ثم أمر بالاجتناب عما هو أقصى الحرمات كأنه قيل ومن يعظم حرمات الله فهو خير له والأنعام ليست من الحرمات فإنها محللة لكم إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه فإنه مما يجب الاجتناب عنه فاجتنبوا ما هو معظم الأمور التي يجب الاجتناب عنها وقوله تعالى «واجتنبوا قول الزور» تعميم بعد تخصيص فإن عبادة الأوثان رأس لزور كأنه لما حث على تعظيم الحرمات أتبع ذلك ردا لما كانت الكفرة عليه من تحريم البحائر والسوائب ونحوهما والافتراء على الله تعالى بأنه حكم بذلك وقيل شهادة الزور لما روى أنه عليه السلام قال عدلت شهادة الزور الإشراك بالله تعالى ثلاثا وتلا هذه الآية والزور من الزور وهو الانحراف كالإفك المأخوذ من الإفك الذي هو القلب والصرف فإن الكذب منحرف مصروف عن الواقع وقيل هو قول أهل الجاهلية في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك «حنفاء لله» مائلين عن كل دين زائغ إلى الدين الحق مخلصين له تعالى «غير مشركين به» أي شيئا من الأشياء فيدخل في ذلك الأوثان دخولا أوليا وهما حالان من واو فاجتنبوا «ومن يشرك بالله» جملة مبتدأة مؤكدة لما قبلها من الاجتناب عن الإشراك وإظهار الاسم الجليل لإظهار حال قبح الإشراك «فكأنما خر من السماء» لأنه مسقط من أوج الإيمان إلى حضيض الكفر «فتخطفه الطير» فإن الأهواء المردية توزع أفكاره وقرئ فتخطفه بفتح الخاء وتشديد الطاء وبكسر الخاء والطاء وبكسر التاء مع كسرهما وأصلهما تختطفه «أو تهوي به الريح» أي تسقطه وتقذفه «في مكان سحيق» بعيد فإن الشيطان قد طوح به في الضلالة
105

وأو للتخيير كما في أو كصيب أو للتنويع ويجوز أن يكون من باب التشبيه المركب فيكون المعنى ومن يشرك بالله فقد هلكت نفسه هلاكا شبيها بهلاك أحد الهالكين «ذلك» أي الأمر ذلك أو امتثلوا ذلك «ومن يعظم شعائر الله» أي الهدايا فإنها من معالم الحج وشعائره تعالى كما ينبئ عنه والبدن جعلناها لكم من شعائر الله وهو الأوفق لما بعده وتعظيمها اعتقاد أن التقرب بها من أجل القربات وأن يختارها حسانا سمانا غالية الأثمان روي أنه صلى الله عليه وسلم أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب وأن عمر رضي الله عنه أهدى نجيبة طلبت منه بثلاثمائة دينار «فإنها» أي فإن تعظيمها «من تقوى القلوب» أي من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات والعائد إلى من أو فإن تعظيمها ناشئ من تقوى القلوب وتخصيصها بالإضافة لأنها مراكز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء «لكم فيها» أي في الهدايا «منافع» هي درها ونسلها وصوفها وظهرها «إلى أجل مسمى» هو وقت نحرها والتصدق بلحمها والأكل منه «ثم محلها» أي وجوب نحرها أو وقت نحرها منتهية «إلى البيت العتيق» أي إلى ما يليه من الحرم وثم للتراخي الزماني أو الرتبي أي لكم فيها منافع دنيوية إلى وقت نحرها ثم منافع دينية أعظمها في النفع محلها أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها إلى البيت العتيق أي منتهية إليه هذا وقد قيل المراد بالشعائر مناسك الحج ومعالمه والمعنى لكم فيها منافع بالأجر
والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى هو انقضاء أيام الحج ثم محلها أي محل الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أي منته إليه بأن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك فإضافة المحل إليها لأدنى ملابسة «ولكل أمة» أي لكل أهل دين «جعلنا منسكا» أي متعبدا وقربانا يتقربون به إلى الله عز وجل وقرئ بكسر السين أي موضع نسك وتقديم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص أي لكل أمة من الأمم جعلنا منسكا لا لبعض دون بعض «ليذكروا اسم الله» خاصة دون غيره ويجعلوا نسيكتهم لوجهه الكريم علل الجعل به تنبيها على أن المقصود الأصلي من المناسك تذكر المعبود «على ما رزقهم من بهيمة الأنعام» عند ذبحها وفيه تنبيه على أن القربان يجب أن يكون من الأنعام والخطاب في قوله تعالى «فإلهكم إله واحد» للكل تغليبا والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن جعله تعالى لكل أمة من الأمم منسكا مما يدل على وحدانيته تعالى وإنما قيل إله واحد ولم يقل واحد لما أن المراد بيان أنه تعالى واحد في ذاته كما أنه واحد في إلهيته للكل والفاء في قوله تعالى «فله أسلموا» لترتيب ما بعدها من الأمر بالإسلام على وحدانيته تعالى وتقديم الجار والمجرور على الأمر
106

للقصر أي فإذا كان إلهكم إلها واحدا فأخلصوا له التقرب أو الذكر واجعلوه لوجهه خاصة ولا تشوبوه بالشرك «وبشر المخبتين» تجريد للخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المتواضعين أو المخلصين فإن الإخبات من الوظائف الخاصة بهم «الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» منه تعالى لإشراق أشعة جلاله عليها «والصابرين على ما أصابهم» من مشاق التكاليف ومؤنات النوائب «والمقيمي الصلاة» في أوقاتها وقرئ بنصب الصلاة على تقدير النون وقرئ والمقيمين الصلاة على الأصل «ومما رزقناهم ينفقون» في وجوه الخيرات «والبدن» بضم الباء وسكون الدال وقرئ بضمها وهما جمعا بدنة وقيل الأصل ضم الدال كخشب وخشبة والتسكين تخفيف منه وقرئ بتشديد النون على لفظ الوقف وإنما سميت بها الإبل لعظم بدنها مأخوذة من بدن بداية وحيث شاركها البقرة في الإجزاء عن سبعة بقوله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة جعلا في الشريعة جنسا واحدا وانتصابه بمضمر يفسره «جعلناها لكم» وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ والجملة خبره وقوله تعالى «من شعائر الله» أي من أعلام دينه التي شرعها الله تعالى مفعول ثان للجعل ولكم ظرف لغو متعلق به وقوله تعالى «لكم فيها خير» أي منافع دينية ودنيوية جملة مستأنفة مقررة لما قبلها «فاذكروا اسم الله عليها» بأن تقولوا عند ذبحها الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك «صواف» أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن وقرئ صوافن من صفن الفرس إذا قام على ثلاث وعلى طرف سنبك الرابعة لان البدنة تعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث وقرئ صوافا بإبدال التنوين من حرف الإطلاق عند الوقف وقرئ صوافي أي خوالص لوجه الله عز وجل وصواف على لغة من يسكن الياء على الإطلاق كما في قوله
لعلي أرى باق على الحدثان
«فإذا وجبت جنوبها» سقطت على الأرض وهو كناية عن الموت «فكلوا منها وأطعموا القانع» الراضي بما عنده وبما يعطى من غير مسئلة ويؤيده أنه قرئ القنع أو السائل من قنع إليه قنوعا إذا خضع له في السؤال «والمعتر» أي المتعرض للسؤال وقرئ المعترى يقال عره وعراه واعتره واعتراه «كذلك» مثل ذلك التسخير البديع المفهوم من قوله تعالى صواف «سخرناها لكم» مع كمال عظمها ونهاية قوتها فلا تستعصى عليكم حتى تأخذوها منقادة فتعقلونها وتحبسونها صافة قوائمها ثم تطعنون في لباتها «لعلكم تشكرون» لتشكروا إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص «لن ينال الله» أي لن يبلغ مرضاته ولن يقع منه موقع القبول «لحومها»
107

المتصدق بها «ولا دماؤها» المهراقة بالنحر من حيث إنها لحوم ودماء «ولكن يناله التقوى منكم» ولكن يصيبه تقوى قلوبكم التي تدعوكم إلى الامتثال بأمره تعالى وتعظيمه والتقرب إليه والإخلاص له وقيل كان أهل الجاهلية يلطخون الكعبة بدماء قرابينهم فهم به المسلمون فنزلت «كذلك سخرها لكم» تكرير للتذكر والتعليل بقوله تعالى «لتكبروا الله» أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره فتوحدوه بالكبرياء وقيل هو التكبير عند الإحلال أو الذبح «على ما هداكم» أي أرشدكم إلى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها وما مصدرية أو موصولة أي على هدايته إياكم أو على ما هداكم إليه وعلى متعلقة بتكبروا لتضمنه معنى الشكر «وبشر المحسنين» أي المخلصين في كل ما يأنون وما يذرون في أمور دينهم «إن الله يدافع عن الذين آمنوا» كلام مستأنف مسوق لتوطين قلوب المؤمنين ببيان أن الله تعالى ناصرهم على أعدائهم بحيث لا يقدرون على صدهم عن الحج ليتفرغوا إلى أداء مناسكه وتصديره بكلمة التحقيق لإبراز الاعتناء التام بمضمونه وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو الدلالة على تكرر الدفع فإنها قد تجرد عن وقوع الفعل المتكرر من الجانبين فيبقى تكرره كما في الممارسة أي يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من جملته الصد عن سبيل الله مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد أخرى حسبما تجدد منهم القصد إلى الإضرار بالمسلمين كما في قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله وقرئ يدفع والمفعول محذوف وقوله تعالى «إن الله لا يحب كل خوان كفور» تعليل لما في ضمن الوعد الكريم من الوعيد للمشركين وإيذان بأن دفعهم بطريق القهر والخزي ونفى المحبة كناية عن البغض أي إن الله يبغض كل خوان في أماناته تعالى وهي أوامره ونواهيه أو في جميع الأمانات التي هي معظمها كفور لنعمته وصيغة المبالغة فيهما لبيان أنهم كذلك لا لتقييد البغض بغاية الخيانة والكفر أو للمبالغة في نفي المحبة على اعتبار النفي أو لا وإيراد معنى المبالغة ثانيا «آذن» أي رخص وقرئ على البناء للفاعل أي أذن الله تعالى «للذين يقاتلون» أي يقاتلهم المشركون والمأذون فيه محذوف لدلالة المذكور عليه فإن مقاتلة المشركين إياهم دالة على مقاتلتهم إياهم دلالة نيرة وقرئ على صيغة المبنى للفاعل أي يريدون أن يقاتلوا المشركين فيما سيأتي ويحرصون عليه فدلالته على المحذوف أظهر «بأنهم ظلموا» أي بسبب أنهم ظلموا وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم كان المشركون يؤذونهم وكانوا يأتونه صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول صلى الله عليه وسلم لم اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجروا فأنزلت وهي أول آية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية «وإن الله على نصرهم لقدير» وعد لهم بالنصر وتأكيد لما مر من العدة الكريمة بالدفع وتصريح بان المراد به ليس مجرد تخليصهم من أيدي المشركين بل تغليبهم وإظهارهم عليهم والإخبار بقدرته تعالى على نصرهم وارد على سنن الكبرياء وتأكيده بكلمة التحقيق واللام للمزيد تحقيق مضمونه وزيادة توطين نفوس المؤمنين
108

وقوله تعالى «الذين أخرجوا من ديارهم» في حيز الجر على أنه صفة للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه أو في محل النصب على المدح أو في محل الرفع بإضمار مبتدأ والجملة مرفوعة على المدح والمراد بديارهم مكة المعظمة «بغير حق» متعلق بأخرجوا أي أخرجوا بغير ما يوجب إخراجهم وقوله تعالى «إلا أن يقولوا ربنا الله» بدل من حق أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجبا للإقرار والتمكين دون الإخراج والتسيير لكن لا على الظاهر بل على طريقة قول النابغة [ولا عيب فيهم غير ان سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب] وقي الاستثناء منقطع «ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض» بتسليط المؤمنين على الكفارين في كل عصر وزمان وقرئ دفاع «لهدمت» لخربت باستيلاء المشركين على أهل الملل وقرئ هدمت بالتخفيف «صوامع» للرهابنة «وبيع» للنصارى «وصلوات» أي وكنائس لليهود سميت بها لأنها يصلى فيها وقيل أصلها صلوتا بالعبرية فعربت «ومساجد» للمسلمين «يذكر فيها اسم الله كثيرا» أي ذكرا كثيرا أو وقتا كثيرا صفة مادحة للمساجد خصت بها دلالة على فضلها وفضل أهلها وقيل صفة للأربع وليس كذلك فإن بيان ذكر الله عز وجل في الصوامع والبيع والكنائس بعد انتساخ شرعيتها مما لا يقتضيه المقام ولا يرتضيه الأفهام «ولينصرن الله من ينصره» أي وبالله ينصرن الله من ينصر أولياءه أو من ينصر دينه ولقد أنجز الله عز سلطانه وعده حيث سلط المهاجرين والأنصار على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرة الروم وأورثهم أرضهم وديارهم «إن الله لقوي» على كل ما يريده من مراداته التي من جملتها نصرهم «عزيز» لا يمانعه شيء ولا يدافعه «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر» وصف من الله عز وجل للذين أخرجوا من ديارهم بما سيكون منهم من حسن السيرة عند تمكينه تعالى إياهم في الأرض وإعطائه إياهم زمام الأحكام منيء عن عدة كريمة على أبلغ وجه وألطفه وعن عثمان رضي الله عنه هذا والله ثناء قبل بلاء يريد أنه تعالى أثنى عليهم قبل أن يحدثوا من الخير ما أحدثوا قالوا وفيه دليل على صحة أمر الخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم من المهاجرين لاحظ في ذلك للأنصار والطلقاء وعن الحسن رحمه الله هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الذين بدل من قوله من ينصره «ولله» خاصة «عاقبة الأمور» فإن مراجعها إلى حكمه وتقديره فقط وفيه تأكيد للوعد بإظهار أوليائه وإعلاء كلمته
109

«وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم متضمنة للوعد الكريم بإهلاك من يعاديه من الكفرة وتعيين لكيفية نصره تعالى له الموعود بقوله تعالى ولينصرن الله من ينصره وبيان لرجوع عاقبة لأمور إليه تعالى وصيغة المضارع في الشرط مع تحقق التكذيب لما أن المقصود تسليته صلى الله عليه وسلم عما يترتب على التكذيب من الحزن المتوقع أي وإن تحزن على تكذيبهم إياك فاعلم أنك لست بأوحدى في ذلك فق كذبت قبل تكذيب قومك إياك قوم نوح «وعاد وثمود» «وقوم إبراهيم وقوم لوط» «وأصحاب مدين» أي رسلهم ممن ذكر ومن لم يذكر وإنما حذف لكمال ظهور المراد أو لأن المراد نفس الفعل أي فعلت التكذيب قوم نوح إلى آخره «وكذب موسى» غير النظم الكريم بذكر المفعول وبناء الفعل له لا لأن قومه بنو إسرائيل وهم لم يكذبوه وإنما كذبه القبط لما أن ذلك إنما يقتضي عدم ذكرهم بعنوان كونهم قوم موسى لا بعنوان آخر على أن بني إسرائيل أيضا قد كذبوه مرة بعد أخرى حسبما ينطق به قوله تعالى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ونحو ذلك من الآيات الكريمة بل للإيذان بأن تكذيبهم له كان في غاية الشناعة لكون آياته في كمال الوضوح وقوله تعالى «فأمليت للكافرين» أي أمهلتهم حتى انصرمت حبال آجالهم والفاء لترتيب إمهال كل فريق من فرق المكذبين على تكذيب ذلك الفريق لا لترتيب إمهال الكل على تكذيب الكل ووضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى المكذبين لذمهم بالكفر والتصريح بمكذبي موسى عليه السلام حيث لم يذكروا فيما قبل صريحا «ثم أخذتهم» أي أخذت كل فريق من فرق المكذبين بعد انقضاء مدة إملائه وإمهاله «فكيف كان نكير» أي إنكاري عليهم بالإهلاك أي فكان ذلك في غاية ما يكون من الهول والفظاعة وقوله تعالى «فكأين من قرية» منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى «أهلكناها» أي فأهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها والجملة بدل من قوله تعالى فكيف كان نكير أو مرفوع على الابتداء وأهلكنا خبره أي فكثير من القرى أهلكناها وقرئ أهلكتها على وفق قوله تعالى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير «وهي ظالمة» جملة حالية من مفعول أهلكنا وقوله تعالى «فهي خاوية» عطف على أهلكناها لأعلى وهي ظالمة لأنها حال والإهلاك ليس في حال خواتها فعلى الأول لا محل له من الإعراب كالمعطوف عليه وعلى الثاني في محل الرفع لعطفه على الخبر والخواء إما بمعنى السقوط من خوى النجم إذا سقط فالمعنى فهي ساقطة حيطانها
110

«على عروشها» أي سقوفها بان تعطل بنيانها فخرت سقوفها ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف وإسناد السقوط على العروش إليها لتنزيل الحيطان منزلة كل البنيان لكونها عمدة فيه وأما بمعنى الخلو من خوى المنزل إذا خلا من أهله فالمعنى فهي خالية مع بقاء عروشها وسلامتها فتكون على بمعنى مع ويجوز أن يكون على عروشها خبرا بعد خبر أي فهي خالية وهي على عروشها أي قائمة مشرفة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض وبقيت الحيطان قائمة فهي مشرفة على السقوف الساقطة وإسناد الإشراف إلى الكل مع كونه حال الحيطان لما مر آنفا «وبئر معطلة» عطف على قرية أي وكم بئر عارة في البوادي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها وقرئ بالتخفيف من أعطله بمعنى عطله «وقصر مشيد» مرفوع البنيان أو مجصص أخليناه عن ساكنيه وهذا يؤيد كون معنى خاوية على عروشها خالية مع بقاء عروشها وقيل المراد بالبئر بئر بسفح جبل بحضرموت وبالقصر قصر مشرف على قلته كانا لقوم حنظلة بن صفوان من بقايا قوم صالح فلما قتلوه أهلكهم الله تعالى وعطلهما «أفلم يسيروا في الأرض» حث لهم أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا وهم وإن كانوا قد سافروا فيها ولكنهم حيث لم يسافروا للاعتبار جعلوا غير مسافرين فحثوا على ذلك والفاء لعطف ما بعدها على مقدر يقتضيه المقام أي أغفلوا فلم يسيروا فيها «فتكون لهم» بسبب ما شاهدوه من مواد الاعتبار ومظان الاستبصار «قلوب يعقلون بها» ما يجب أن يعقل من التوحيد «أو آذان يسمعون بها» ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم «فإنها لا تعمى الأبصار» الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار وفي تعمى ضمير راجع إليه وقد أقيم الظاهر مقامه «ولكن تعمى القلوب التي في الصدور» أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما هو في عقولهم باتباع الهوى والانهماك في الغفلة وذكر الصدور للتأكيد ونفى توهم التجوز وفضل التنبيه على أن العمى
الحقيقي ليس المتعارف الذي يختص بالبصر قيل لما نزل قوله تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت «ويستعجلونك بالعذاب» كانوا منكرين لمجئ العذاب المتوعد به أشد الإنكار وإنما كانوا يستعجلون به استهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم وتعجيزا له على زعمهم فحكى عنهم ذلك بطريق التخطئة والاستنكار فقوله تعالى «ولن يخلف الله وعده» إما جملة حالية جئ بها لبيان بطلان إنكارهم لمجيئه في ضمن استعجالهم به وإظهار خطئهم فيه كأنه قيل كيف ينكرون مجئ العذاب الموعود والحال أنه تعالى لا يخلف وعده أبدا وقد سبق الوعد فلابد من مجيئه حتما أو اعتراضية مبينة لما ذكر وقوله تعالى «وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون» جملة مستأنفة إن كانت الأولى حالية ومعطوفة عليها إن كانت اعتراضية سيقت لبيان
111

خطئهم في الاستعجال المذكور ببيان كمال سعة ساحة حلمه تعالى ووقاره وإظهار غاية ضيق عطلهم المستتبع لكون المدة القصيرة عنده تعالى مددا طوالا عندهم حسبما ينطق به قوله تعالى إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا ولذلك يرون مجيئه بعيدا ويتخذونه ذريعة إلى إنكاره ويجترئون على الاستعجال به ولا يدرون أن معيار تقدير الأمور كلها وقوعا وإخبارا ما عنده تعالى من المقدار وقراءة يعدون على صيغة الغيبة أي يعده المستعجلون أوفق لهذا المعنى وقد جعل الخطاب في القراءة المشهورة لهم أيضا بطريق الالتفاف لكن الظاهر أنه للرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وقيل المراد بوعده تعالى ما جعل لهلاك كل أمة من موعد معين وأجل مسمى كما في قوله تعالى ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب فتكون الجملة الأولى حالية كانت أو اعتراضية مبينة لبطلان الاستعجال به ببيان استحالة مجيئه قبل وقته الموعود والجملة الأخيرة بيانا لبطلانه ببيان ابتناء على استطالة ما هو قصير عنده تعالى على الوجه الذي مر بيانه فلا يكون في النظم الكريم حينئذ تعرض لإنكارهم الذي دسوه تحت الاستعجال بل يكون الجواب مبنيا على ظاهر مقالهم ويكتفي في رد إنكارهم ببيان عاقبة من قبلهم من أمثالهم هذا وحمل المستعجل به على عذاب الآخرة وجعل اليوم عبارة عن يوم العذاب المستطال لشدته أو عن أيام الآخرة الطويلة حقيقة أو المستطالة لشدة عذابها مما لا يساعده سباق النظم الجليل ولا سياقه فإن كلا منهما ناطق بأن المراد هو العذاب الدنيوي وأن الزمان الممتد هو الذي مر عليهم قبل حلوله بطريق الإملاء والإمهال لا الزمان المقارن له ألا يرى إلى قوله تعالى «وكأين من قرية» الخ فإنه كما سلف من قوله تعالى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم صريح في أن المراد هو الأخذ العاجل الشديد بعد الإملاء المديد أي وكم من أهل قرية فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب ورجع الضمائر والأحكام مبالغة في التعميم والتهويل «أمليت لها» كما أمليت لهؤلاء حتى أنكروا مجئ ما وعدوا من العذاب واستعجلوا به استهزاء برسلهم كما فعل هؤلاء «وهي ظالمة» جملة حالية مفيدة لكمال حلمه تعالى ومشعرة بطريق التعريض بظلم المستعجلين أي أمليت لها والحال أنها ظالمة مستوجبة لتعجيل العقوبة كدأب هؤلاء «ثم أخذتها» بالعذاب والنكال بعد طول الإملاء والإمهال وقوله تعالى «وإلي المصير» اعتراض تذييلي مقرر لما قبله ومصرح بما أفاده ذلك بطريق التعريض من أن مآل أمر المستعجلين أيضا ما ذكر من الأخذ الوبيل أي إلى حكمي مرجع الكل جميعا لا إلى أحد غيري لا استقلالا ولا شركة فأفعل بهم ما أفعل مما يليق بأعمالهم «قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين» أنذركم إنذارا بينا بما أوحى من أنباء الأمم المهلكة من غير أن يكون لي دخل في إتيان ما توعدونه من العذاب حتى تستعجلوني به والاقتصار على الإنذار مع بيان حال الفريقين بعده لما أشير إليه من أن مساق الحديث للمشركين وعقابهم وإنما ذكر المؤمنون وثوابهم زيادة في غيظهم
112

«فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة» لما ندر منهم من الذنوب «ورزق كريم» هي الجنة والكريم من كل نوع ما يجمع فصائله ويجوز كما لأنه «والذين سعوا في آياتنا معاجزين» أي سابقين أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لهم وأصله من عاجزه وعجزه فأعجزه إذا سابقه فسبقه لأن كلا من المتسابقين يريد إعجاز الآخر عن اللحاق به وقرئ معجزين أي مثبطين الناس عن الإيمان على أنه حال مقدرة «أولئك» الموصوفون بما ذكر من السعي والمعاجزة «أصحاب الجحيم» أي ملازمو النار الموقدة وقيل هو اسم دركة من دركاتها «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي» الرسول من بعثه الله تعالى بشريعة جديدة يدعو الناس إليها والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شريعة سابقة كأنبياء بني إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ولذلك شبه صلى الله عليه وسلم علماء أمته بهم فالنبي أعم من الرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الأنبياء فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل فكم الرسل منهم فقال ثلاثمائة وثلاثة عشر جماء غفيرا وقيل الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه والنبي غير الرسول من لا كتاب له وقيل الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يقال له ولمن يوحى إليه في المنام «إلا إذا تمنى» أي هيأ في نفسه ما يهواه «ألقى الشيطان في أمنيته» في تشهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم وإنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم سعين مرة «فينسخ الله ما يلقي الشيطان» فيبطله ويذهب به بعصمته عن الركون إليه وإرشاده إلى ما يزيحه «ثم يحكم الله آياته» أي يثبت آياته الداعية إلى الاستغراق في شؤون الحق وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي وإظهار الجلالة في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإيذان بأن الألوهية من موجبات إحكام آياته الباهرة «والله عليم» مبالغ في العلم بكل ما من شأنه أن يعلم ومن جملته ما صدر عن العباد من قول وفصل عمدا أو خطأ «حكيم» في كل ما يفعل والإظهار ههنا أيضا لما كر مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذييلي قيل حدث نفسه بزوال المسكنة فنزلت وقيل تمنى لحرصه على إيمان قومه أن ينزل عليه ما يقربهم إليه واستمر به ذلك حتى كان في ناديهم فنزلت عليه سورة النجم فأخذ يقرؤها فلما بلغ ومناة الثالثة الأخرى وسوس إليه الشيطان حتى سبق لسانه سهوا إلى أن قال تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى ففرح به المشركون حتى شايعوه بالسجود لما سجد في آخرها بحيث لم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلا سجد ثم نبهه جبريل عليه السلام فاغتنم به فعزاه الله عز وجل بهذه الآية وهو مردود عند المحققين ولئن صح فابتلاء يتميز به الثابت على الإيمان عن المتزلزل فيه وقيل
113

تمنى بمعنى قرأ كقوله [تمنى كتاب الله أول ليلة تمنى داود الزبور على رسل وأمنيته قراءته وإلقاء الشيطان فيها أن يتكلم بذلك رافعا صوته بحيث ظن السامعون أنه من
قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وقد رد بأنه أيضا يخل بالوثوق بالقرآن ولا يندفع بقوله تعالى فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته لأنه أيضا يحتمله وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام وتطرق الوسوسة إليهم «ليجعل ما يلقي الشيطان» علة لما ينبئ عنه ما ذكر من إلقاء الشيطان من تمكينه تعالى إياه من ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم خاصة كما يعرب عنه سياق النظم الكريم لما أن تمكينه تعالى إياه من الإلقاء في حق سائر الأنبياء عليهم السلام لا يمكن تعليله بما سيأتي وفيه دلالة على أن ما يلقيه أمر ظاهر يعرفه المحق والمبطل «فتنة للذين في قلوبهم مرض» أي شك ونفاق كما في قوله تعالى في قلوبهم مرض الآية «والقاسية قلوبهم» أي المشركين «وإن الظالمين» أي الفريقين المذكورين فوضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم مع ما وصفوا به من المرض والقساوة «لفي شقاق بعيد» أي عداوة شديدة ومخالفة تامة ووصف الشقاق بالبعد مع أن الموصوف به حقيقة هو معروضه للمبالغة والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله «وليعلم الذين أوتوا العلم أنه» أي القرآن «الحق من ربك» أي هو الحق النازل من عنده تعالى وقيل ليعلموا أن تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحق المتضمن للحكمة البالغة والغاية الجميلة لأنه مما جرت به عادته في جنس الإنس من لدن آدم عليه السلام فحينئذ لا حاجة إلى تخصيص التمكين فيما سبق بالإلفاء في حقه عليه السلام لكن يأباه قوله تعالى «فيؤمنوا به» أي بالقرآن أي يثبتوا على الإيمان به أو يزدادوا إيمانا برد ما يلقى الشيطان فتخبت له قلوبهم بالانقياد والخشية والإذعان لما فيه من الأوامر والنواهي ورجع الضميرين لا سيما الثاني إلى تمكين الشيطان من الإلقاء مما لا وجه له «وإن الله لهاد الذين آمنوا» أي في الأمور الدينية خصوصا في المداحض والمشكلات التي من جملتها ما ذكر «إلى صراط مستقيم» هو النظر الصحيح الموصل إلى الحق الصريح والجملة اعتراض مقر لما قبله «ولا يزال الذين كفروا في مرية» أي في شك وجدال «منه» أي من القرآن وقيل من الرسول صلى الله عليه وسلم والأول هو الأظهر بشهادة ما سبق من قوله تعالى ثم يحكم الله آياته وقوله تعالى أنه الحق من ربك فيؤمنوا به وما لحق من قوله تعالى وكذبوا بآياتنا وأما تجويز كون الضمير
114

لما ألقى الشيطان في أمنيته فمما لا مساغ له لأن ذلك ليس من هنانهم التي تستمر إلى الأمد المذكور بل إنما هي مريتهم في شأن القرآن ولا يجدي حمل من على السببية دون الابتدائية لما أن مريتهم المستمرة كما أنها ليست مبتدأة من ذلك ليست ناشئة منه ضرورة أنها مستمرة منهم من لدن نزول القرآن الكريم «حتى تأتيهم الساعة» أي القيامة نفسها كما يؤذن به قوله تعالى «بغتة» أي فجاءة فإنها الموصوفة بالإتيان كذلك لا أشراطها وقيل الموت «أو يأتيهم عذاب يوم عقيم» أي يوم لا يوم بعده كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام فما لا يوم بعده يكون عقيما والمراد به الساعة أيضا كأنه قيل أو يأتيهم عذابها فوضع ذلك موضع ضميرها لمزيد التهويل ولا سبيل إلى حمل الساعة على أشراطها لما عرفته وأما ما قيل من أن المراد يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر سمى به لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن أو لأن المقاتلين أبناء الحرب فإذا قتلوا صارت عقيما أي ثكلى فوصف اليوم بوصفها اتساعا أو لأنه لا خير لهم فيه ومنه الريح العقيم لما لم ينشئ مطرا ولم يلقح شجرا أو لأنه لا مثل له لقتال الملائكة عليهم السلام فيه فمما لا يساعده سياق النظم الكريم أصلا كيف لا وإن تخصيص الملك والتصرف الكلي فيه بالله عز وجل ثم بيان ما يقع فيه من حكمه تعالى بين الفريقين بالثواب والعذاب الأخرويين يقضي بأن المراد به يوم القيامة قضاء بينا لا ريب فيه «الملك» أي السلطان القاهر والاستيلاء التام والتصرف على الإطلاق «يومئذ لله» وحده بلا شريك أصلا بحيث لا يكون فيه لأحد تصرف من التصرفات في أمر من الأمور لا حقيقة ولا مجازا ولا صورة ولا معنى كما في الدنيا فإن للبعض فيها تصرفا صوريا في الجملة وليس التنوين نائبا عما تدل عليه الغاية من زوال مريتهم كما قيل ولا عما يستلزمه ذلك من إيمانهم كما قيل لما أن القيد المعتبر مع اليوم حيث وسط بين طرفي الجملة يجب أن يكون مدارا لحكمها أعنى كون الملك لله عز وجل وما يتفرع عليه من الإثابة والتعذيب ولا ريب في أن إيمانهم أو زوال مريتهم ليس مما له تعلق ما بما ذكر فضلا عن المدارية له فلا سبيل إلى اعتبار شيء منهما مع اليوم قطعا وإنما الذي يدور عليه ما ذكر إتيان الساعة التي هي منتهى تصرفات الخلق ومبدأ ظهور أحكام الملك الحق جل جلاله فإذن هو نائب عن نفس الجملة الواقعة غاية لمريتهم فالمعنى الملك يوم إذ تأتيهم الساعة أو عذابها لله تعالى وقوله تعالى «يحكم بينهم» جملة مستأنفة وقعت جوابا عن سؤال نشأ من الإخبار بكون الملك يومئذ لله كأنه قيل فماذا يصنع بهم حينئذ فقيل يحكم بين فريقي المؤمنين به والممارين فيه بالمجازاة وقوله تعالى «فالذين آمنوا» الخ تفسير للحكم المذكور وتفصيل له أي فالذين آمنوا بالقرآن الكريم ولم يماروا فيه «وعملوا الصالحات» امتثالا بما أمروا في تضاعيفه «في جنات النعيم» أي مستقرون فيها «والذين كفروا وكذبوا بآياتنا» أي أصروا على ذلك واستمروا «فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في
115

الشر والفساد أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الكفر والتكذيب وهو مبتدأ وقوله تعالى «لهم عذاب» جملة اسمية من مبتدأ وخبر مقدم عليه وقعت خبرا لأولئك أو لهم خبر لأولئك وعذاب مرتفع على الفاعلية بالاستقرار في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وأولئك مع خبره على الوجهين خبر للمصول وتصديره بالفاء للدلالة على أن تعذيب الكفار بسبب أعمالهم السيئة كما أن تجريد خبر الموصول الأول عنها للإيذان بان إثابة المؤمنين بطريق التفضل لا لإيجاب الأعمال الصالحة إياها وقوله تعالى «مهين» صفة لعذاب مؤكدة لما افاده التنوين من الفخامة وفيه من المبالغة من وجوه شتى ما لا يخفى «والذين هاجروا في سبيل الله» أي في الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى «ثم قتلوا أو ماتوا» أي في تضاعيف المهاجرة ومحل الموصول الرفع على الابتداء وقوله تعالى «ليرزقنهم الله» جواب لقسم محذوف والجملة خبره ومن منع وقوع الجملة القسمية وجوابها خبرا للمبتدأ يضمر قولا هو الخبر والجملة محكية به وقوله تعالى «رزقا حسنا» إما مفعول ثان على أنه من باب الرعي والذبح أي مرزوقا حسنا أو مصدر مؤكد والمراد به ما لا ينقطع أبدا من نعيم الجنة وإنما سوى بينهما في الوعد لاستوائهما في القصد وأصل العمل على أن مراتب الحسن متفاوتة فيجوز تفاوت حال المرزوقين حسب تفاوت الأرزاق الحسنة وروى أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله تعالى من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك فنزلت وقيل نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى المدينة للهجرة فتبعهم المشركون
فقتلوهم «وإن الله لهو خير الرازقين» فإنه يرزق بغير حساب مع أن ما يرزقه لا يقدر عليه أحد غيره والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قله وقوله تعالى «ليدخلنهم مدخلا يرضونه» بدل من قوله تعالى ليرزقنهم الله أو استئناف مقرر لمضمونه ومدخلا إما اسم مكان أريد به الجنة فهو مفعول ثان للإدخال أو مصدر ميمي أكد به فعله قال ابن عباس رضي الله عنهما إنما قيل يرضونه لما أنهم يرون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه «وإن الله لعليم» بأحوالهم وأحوال معاديهم «حليم» لا يعاجلهم بالعقوبة «ذلك» خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك والجملة لتقرير ما قبله والتنبيه على أن ما بعده كلام مستأنف «ومن عاقب بمثل ما عوقب به» أي لم يزد في الاقتصاص وإنما سمي الابتداء بالعقاب الذي هو جاز الجناية للمشاكلة أو لكونه سببا له «ثم بغي عليه» بالمعاودة إلى العقوبة «لينصرنه الله» على من بغى عليه لا محالة «إن الله لعفو غفور» أي مبالغ في العفو والغفران
116

فيعفو عن المنتصر ويغفر له ما صدر عنه من ترجيح الانتقام على العفو والصبر المندوب إليهما بقوله تعالى ولمن صبر وغفر إن ذلك أي ما ذكر من الصبر والمغفرة لمن عزم الأمور فإن فيه حثا بليغا على العفو والمغفرة فإنه تعالى مع كمال قدرته لما كان يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك وتنبيها على أنه تعالى قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده «ذلك» إشارة إلى النصر وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى «بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل» أي بسبب أنه تعالى من شأنه وسننه تغليب بعض مخلوقاته على بعض والمداولة بين الأشياء المتضادة وعبر عن ذلك بإدخال أحد الملوين في الآخر بأن يزيد فيه ما ينقص على الآخر أو بتحصيل أحدهما في مكان الآخر لكونه أظهر المواد وأوضحها «وأن الله سميع» بكل المسموعات التي من جملتها قول المعاقب «بصير» بجميع المبصرات ومن جملتها أفعاله «ذلك» أي الاتصاف بما ذكر من كمال القدرة والعلم وما فيه من معنى البعد لما مر آنفا وهو مبتدأ خبره قوله تعالى «بأن الله هو الحق» الواجب لذاته الثابت في نفسه وصفاته وأفعاله وحده فإن وجوب وجوده ووحدته يقتضيان كونه مبدأ لكل ما يوجد من الموجودات عالما بكل المعلومات أو الثابت إلهية فلا يصلح لها إلا من كان عالما قادرا «وأن ما يدعون من دونه» إلها وقرئ على البناء للمفعول على أن الواو لما فإنه عبارة عن الآلهة وقرئ بالتاء على خطاب المشركين «هو الباطل» أي المعدوم في حد ذاته أو الباطل ألوهيته «وأن الله هو العلي» على جميع الأشياء «الكبير» عن ان يكون له شريك لا شيء أعلى منه شأنا وأكبر سلطانا «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء» استفهام تقرير كما يفصح عنه الرفع في قوله تعالى «فتصبح الأرض مخضرة» بالعطف على أنزل وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بتجدد أثر الإنزال واستمراره أو لاستحضار صورة الاخضرار «إن الله لطيف» يصل لطفه أو علمه إلى كل ما جل ودق «خبير» بما يليق من التدابير الحسنة ظاهرا وباطنا «له ما في السماوات وما في الأرض» خلقا وملكا وتصرفا «وإن الله لهو الغني» عن كل شيء «الحميد» المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله «ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض» أي جعل ما فيها من الأشياء مذللة لكم معدة لمنافعكم تتصرفون فيها كيف شئتم فلا
117

أصلب من الحجر ولا أشد من الحديد ولا أهيب من النار وهي مسخرة لكم وتقديم الجار والمجرور على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم لتعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر «والفلك» عطف على ما أو على اسم أن وقرئ بالرفع على الابتداء «تجري في البحر بأمره» حال من الفلك على الأول وخبر على الأخيرين «ويمسك السماء أن تقع على الأرض» أي من أن تقع أو كراهة أن تقع بأن خلقها على هيئة متداعية إلى الاستمساك «إلا بإذنه» أي بمشيئته وذلك يوم القيامة وفيه رد لاستمساكها بذاتها فإنها مساوية في الجسمية لسائر الأجسام القابلة للميل الهابط فتقبله كقبول غيرها «إن الله بالناس لرؤوف رحيم» حيث هيأ لهم أسباب معاشهم وفتح عليهم أبواب المنافع وأوضح لهم مناهج الاستدلال بالآيات التكوينية والتنزيلية «وهو الذي أحياكم» بعد أن كنتم جمادا عناصر ونطفا حسبما فصل في مطلع السورة الكريمة «ثم يميتكم» عند مجئ آجالكم «ثم يحييكم» عند البعث «إن الإنسان لكفور» أي جحود للنعم مع ظهورها وهذا وصف للجنس بوصف بعض أفراده «لكل أمة» كلام مستأنف جئ به لزجر معاصريه صلى الله عليه وسلم من أهل الأديان السماوية عن منازعته صلى الله عليه وسلم ببيان حال ما تمسكوا به من الشرائع وإظهار خطئهم في النظر أي لكل أمة معينة من الأمم الخالية والباقية «جعلنا» أي وضعنا وعينا «منسكا» أي شريعة خاصة لا لأمة أخرى منهم على معنى عينا كل شريعة لأمة معينة من الأمم بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها إلى شريعة أخرى لا استقلالا ولا اشتراكا وقوله تعالى «هم ناسكوه» صفة لمنسكا مؤكدة للقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور على الفعل والضمير لكل أمة باعتبار خصومها أي تلك الأمة المعينة ناسكوه والعاملون به لا أمة أخرى فالأمة التي كانت من مبعث موسى عليه السلام إلى مبعث عيسى عليه السلام منسكهم التوراة هم ناسكوها والعاملون بها لا غيرهم والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم منسكهم الإنجيل هم ناسكوه والعاملون به لا غيرهم وأما الأمة الموجودة عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من الموجودين إلى يوم القيامة فهم أمة واحدة منسكهم الفرقان ليس إلا كما مر في تفسير قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا والفاء في قوله تعالى «فلا ينازعنك في الأمر» لترتيب الهي أو موجبه على ما قبلها فإن تعيينه تعالى لكل أمة من الأمم التي من جملتهم هذه الأمة شريعة مستقلة بحيث لا تتخطى أمة منهم شريعتها المعينة لها موجب لطاعة هؤلاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم منازعتهم إياه في أمر الدين زعما منهم أن شريعتهم ما عين لآبائهم الأولين من التوراة والإنجيل فإنهما شريعتان لمن مضى من الأمم قبل انتساخهما وهؤلاء أمة مستقلة منسكهم القرآن المجيد فحسب والنهي إما على حقيقته أو كلية عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الالتفات إلى نزاعهم للنبي على زعمهم المذكور وأما جعله عبارة عن نهيه صلى الله عليه وسلم
118

عن منازعتهم فلا يساعده المقام وقرئ فلا ينزعنك على تهييجه صلى الله عليه وسلم والمبالغة في تثبيته وأيا ما كان فمحل النزاع ما ذكرناه وتخصيصه بأمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين وغيرهم للمسلمين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلوا ما قتله الله تعالى مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وأنه يستدعى أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدينونه من الأباطيل من جملة المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل «وادع» أي وادعهم أو وادع الناس كافة على أنهم داخلون فيهم
دخولا أوليا «إلى ربك» إلى توحيده وعبادته حسبما بين لهم في منسكهم وشريعتهم «إنك لعلى هدى مستقيم» أي طريق موصل إلى الحق سوى والمراد به إما الدين والشريعة أو أدلتها «وإن جادلوك» بعد ظهور الحق بما ذكر من التحقيق ولزوم الحجة عليهم «فقل» لهم على سبيل الوعيد «الله أعلم بما تعملون» من الأباطيل التي من جملتها المجادلة «الله يحكم بينكم» يفصل بين المؤمنين منكم والكافرين «يوم القيامة» بالثواب والعقاب كما فصل في الدنيا بالحجج والآيات «فيما كنتم فيه تختلفون» من امر الدين «ألم تعلم» استئناف مقرر لمضمون ما قبله والاستفهام للتقرير أي قد علمت «أن الله يعلم ما في السماء والأرض» فلا يخفى عليه شيء من الأشياء التي من جملتها ما يقوله الكفرة وما يعملونه «إن ذلك» أي ما في السماء والأرض «في كتاب» هو اللوح قد كتب فيه قبل حدوثه فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له «إن ذلك» أي ما ذكر من العلم والإحاطة به وإثباته في اللوح أو الحكم بينكم «على الله يسير» فإن علمه وقدرته مقتضى ذاته فلا يخفى عليه شيء ولا يعسر عليه مقدور «ويعبدون من دون الله» حكاية لبعض أباطيل المشركين وأحوالهم الدالة على كمال سخافة عقولهم وركاكة آرائهم من بناء امر دينهم على غير مبنى من دليل سمعي أو عقلي وإعراضهم عما ألقى عليهم من سلطان بين هو أساس الدين وقاعدته أشد إعراض أي يعبدون متجاوزين عبادة الله «ما لم ينزل به» أي بجواز عبادته «سلطانا» أي حجة «وما ليس لهم به» أي بجواز عبادته «علم» من ضرورة العقل أو استدلاله «وما للظالمين» أي الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم العظيم الذي يقضي ببطلانه وكونه ظلما بديهة العقول «من نصير» يساعدهم بنصرة مذهبهم وتقرير رأيهم أو بدفع العذاب الذي يعتريهم بسبب ظلمهم
119

«وإذا تتلى عليهم آياتنا» عطف على يعبدون وما بينهما اعتراض وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار التجددي «بينات» أي حال كونها واضحات الدلالة على العقائد الحقة والأحكام الصادقة أو على بطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام أو على كونها من عند الله عز وجل «تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر» أي الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام أو الفظيع من التجهم والبسور أو الشر الذي يقصدونه بظهور مخايله من الأوضاع والهيئات وهو الأنسب بقوله تعالى «يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا» أي يثبون ويبطشون بهم من فرط الغيظ والغضب لأباطيل أخذوها تقليدا وهل جهالة أعظم وأطم من أن يعبدوا ما لا يوهم صحة عبادته شيء ما أصلا بل يقضي ببطلانها العقل والنقل ويظهروا لمن يهديهم إلى الحق البين بالسلطان المبين مثل هذا المنكر الشنيع كلا ولهذا وضع الذين كفروا موضع الضمير «قل» ردا عليهم وإقناطا عما يقصدونه من الإضرار بالمسلمين «أفأنبئكم» أي أأخاطبكم فأخبركم «بشر من ذلكم» الذي فيكم من غيظكم على التالين وسطوتكم بهم أو مما تبغونهم من الغوائل أو مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوه عليكم «النار» أي هو النار على أنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل ما هو وقيل هو مبتدأ خبره قوله تعالى «وعدها الله الذين كفروا» وقرئ النار بالنصب على الاختصاص وبالجر بدلا من شر فتكون الجملة الفعلية استئنافا كالوجه الأول أو حالا من النار بإضمار قد «وبئس المصير» النار «يا أيها الناس ضرب مثل» أي بين لكم حال مستغربة أو قصة بديعة رائعة حقيقة بأن تسمى مثلا وتسير في الأمصار والأعصار أو جعل لله مثل أي مثل في استحقاق العبادة وأريد بذلك ما حكى عنهم من عبادتهم للأصنام «فاستمعوا له» أي للمثل نفسه استماع تدبر وتفكر أو فاستمعوا لأجله ما أقول فقوله تعالى «إن الذين تدعون من دون الله» الخ بيان للمثل وتفسير له على الأول وتعليل لبطلان جعلهم الأصنام مثل الله سبحانه في استحقاق العبادة على الثاني وقرئ بياء الغيبة مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول والراجع إلى الموصول على الأولين محذوف «لن يخلقوا ذبابا» أي لن يقدروا على خلقه أبدا مع صغره وحقارته فإن لن بما فيها من تأكيد النفي دالة على منافاة ما بين المنفى والمنفي عنه «ولو اجتمعوا له» أي لخلقه وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على شرطية أخرى محذوفة ثقة بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقوه ولو اجتمعوا له لن يخلقوه كما مر تحقيقه مرارا وهما في موضع الحال كأنه قيل لن يخلقوا ذبابا
120

على كل حال «وإن يسلبهم الذباب شيئا» بيان لعجزهم عن الامتناع عما يفعل يهم الذباب بعد بيان عجزهم عن خلقه أي إن يأخذ الذباب منهم شيئا «لا يستنقذوه منه» مع غاية ضعفه ولقد جهلوا غاية التجهيل في إشراكهم بالله القادر على جميع المقدورات المنفرد بإيجاد كافة الموجودات تماثيل هي أعجز الأشياء وبين ذلك بأنها لا تقدر على أقل الأحياء وأذلها ولو اتفقوا عليه بل لا تقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل وتعجز عن ذبه عن نفسها واستنقاذ ما يختطفه منها قيل كانوا يطيبونها بالطيب والعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله «ضعف الطالب والمطلوب» أي عابد الصنم ومعبوده أو الذباب الطالب لما يسلبه من الصنم من الطيب والصنم المطلوب منه ذلك أو الصنم والذباب كأنه يطلبه ليستنقذ منه ما يسلبه ولو حققت وجدت الصنم أضعف من الذباب بدرجات وعابده أجهل من كل جاهل وأضل من كل ضال «ما قدروا الله حق قدره» أي ما عرفوه حق معرفته حيث أشركوا به وسموا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة «إن الله لقوي» على خلق الممكنات بأسرها وإفناء الموجودات عن آخرها «عزيز» غالب على جميع الأشياء وقد عرفت حال آلهتهم المقهورة لأذلها العجزة عن أقلها والجملة تعليل لما قبلها من نفي معرفتهم له تعالى «الله يصطفي من الملائكة رسلا» يتوسطون بينه تعالى وبين الأنبياء عليهم السلام بالوحي «ومن الناس» وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون بكلا العالمين الروحاني والجسماني يتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق فيدعونهم إليه تعالى بما أنزل عليهم ويعلمونهم شرائعه وأحكامه كأنه تعالى لما قرر وحدانيته في الألوهية ونفى أن يشاركه فيها شيء من الأشياء بين أن له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء بهم إلى عبادته عز وجل وهو أعلى الدرجات وأقصى الغايات لمن عداه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وقولهم الملائكة بنات الله وغير ذلك من الأباطيل «إن الله سميع بصير» عليم بجميع المسموعات والمبصرات فلا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال «يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور» لا إلى أحد غيره لا اشتراكا ولا استقلالا «يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا» أي في صلواتكم أمرهم بهما لما أنهم ما كانوا يفعلونهما أول الإسلام أوصلوا عبر عن الصلاة بهما لأنهما أعظم أركانها أو اخضعوا لله تعالى وخروا له سجدا
121

«واعبدوا ربكم» بسائر ما تعبدكم به «وافعلوا الخير» وتحروا ما هو خير وأصلح في كل ما تأتون وما تذرون كنوافل الطاعات وصلة الأرحام ومكارم الأخلاق «لعلكم
تفلحون» أي افعلوا هذه كلها وأنتم راجون بها الفلاح غير متيقنين له واثقين بأعمالكم والآية آية سجدة عند الشافعي رحمه الله لظاهر ما فيها من الأمر بالسجود ولقوله صلى الله عليه وسلم فضلت سورة الحج بسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها «وجاهدوا في الله» أي لله تعالى ولأجله أعداء دينه الظاهرة كأهل الزيغ والباطنة كالهوى والنفس وعنه صلى الله عليه وسلم أنه رجع من غزوة تبوك فقال رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر «حق جهاده» أي جهادا فيه حقا خالصا لوجهه فعكس وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا أو لأنه مختص به تعالى من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله «هو اجتباكم» أي هو اختاركم لدينه ونصرته لا غيره وفيه تنبيه على ما يقتضي الجهاد ويدعو إليه «وما جعل عليكم في الدين من حرج» أي ضيق بتكليف ما يشق عليكم إقامته إشارة إلى أنه لا مانع لهم عنه ولا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به حيث يشق عليهم لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وقيل ذلك بأن جعل لهم من كل ذنب مخرجا بأن رخص لهم في المضايق وفتح لهم باب التوبة وشرع لهم الكفارات في حقوقه والأروش والديات في حقوق العباد «ملة أبيكم إبراهيم» نصب على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف أي وسع عليكم دينكم توسعة ملة أبيكم أو على الإغراء أو على الاختصاص وإنما جعله أباهم لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كالأب لأمته من حيث إنه سبب لحياتهم الأبدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الآخرة أو لأن أكثر العرب كانوا من ذريته صلى الله عليه وسلم فغلبوا على غيرهم «هو سماكم المسلمين من قبل» في الكتب المتقدمة «وفي هذا» أي في القرآن والضمير لله تعالى ويؤيده أنه قرئ الله سماكم أو لإبراهيم وتسميتهم بالمسلمين في القرآن وإن لم تكن منه صلى الله عليه وسلم كانت بسبب تسميته من قبل في قوله ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وقيل وفي هذا تقديره وفي هذا بيان تسميته إياكم المسلمين «ليكون الرسول» يوم القيامة متعلق بسماكم «شهيدا عليكم» بأنه بلغكم فيدل على قبول شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته أو بطاعة من أطاع وعصيان من عصى «وتكونوا شهداء على الناس» بتبليغ الرسل إليهم «فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة» أي فتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات وتخصيصهما بالذكر لأنافتهما وفضلهما «واعتصموا بالله» أي ثقوا به في مجامع أموركم ولا تطلبوا الإعانة والنصرة إلا منه «هو مولاكم» ناصركم ومتولي أموركم «فنعم المولى ونعم النصير» هو إذ لا مثل له في الولاية والنصرة
122

بل لا ولي ولا نصير في الحقيقة سواه عز وجل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الحج أعطى من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي مكية وهي عند البصريين مائة وتسع عشرة آية وعند الكوفيين مائة وثماني عشرة آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «قد أفلح المؤمنون» الفلاح الفوز بالمرام والنجاة من المكروه وقيل البقاء في الخير والإفلاح الدخول في ذلك كالإبشار الذي هو الدخول في البشارة وقد يجيء متعديا بمعنى الإدخال فيه وعليه قراءة من قرأ على البناء للمفعول وكلمة قد ههنا لإفادة ثبوت ما كان متوقع الثبوت من قبل لا متوقع الإخبار به ضرورة أن المتوقع من حال المؤمنين ثبوت الفلاح لهم لا الإخبار بذلك فالمعنى قد فازوا بكل خير ونجوا من كل ضير حسبما كان ذلك متوقعا من حالهم فإن إيمانهم وما تفرع عليه من أعمالهم الصالحة من دواعي الفلاح بموجب الوعد الكريم خلا أنه إن أريد بالإفلاح حقيقة الدخول في الفلاح الذي لا يتحقق إلا في الآخرة فالإخبار به على صيغة الماضي الدلالة على تحققه لا محالة بتنزيله منزلة الثابت وإن أريد كونهم بحال تستتبعه البتة فصيغة الماضي في محلها وقرئ أفلحوا على الإبهام والتفسير أو على أكلوني البراغيث وقرئ أفلح بضمة اكتفى بها عن الواو كما في قول من قال [ولو أن الأطبا كان حولى] والمراد بالمؤمنين إما المصدقون بما علم ضرورة أنه من دين نبينا صلى الله عليه وسلم من التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ونظائرها فقوله تعالى «الذين هم في صلاتهم خاشعون» وما عطف عليه صفات مخصصة لهم وإما الآتون بفروعه أيضا كما ينبئ عنه إضافة الصلاة إليهم فهي صفات موضحة أو مادحة لهم حسب اعتبار ما ذكر في حيز الصلة من المعاني مع الإيمان إجمالا أو تفصيلا كما مر في أوائل سورة البقرة والخشوع الخوف والتذلل أي خائفون من الله عز وجل متذللون له ملزمون أبصارهم مساجدهم روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فلما نزلت رمى ببصره نحو مسجده وأنه رأى مصليا يعبث بلحيته فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه «والذين هم عن اللغو» أي عما لا يعنيهم من الأقوال والأفعال
123

«معرضون» أي في عامة أوقاتهم كما ينبئ عنه الاسم الدال على الاستمرار فيدخل في ذلك إعراضهم عنه حال اشتغالهم بالصلاة دخولا أوليا ومدار إعراضهم عنه ما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه لا مجرد الاشتغال بالجد في أمور الدين كما قيل فإن ذلك ربما يوهم أن لا يكون في اللغو نفسه ما يزجرهم عن تعاطيه وهو أبلغ من أن يقال لا يلهون من وجوه جعل الجملة اسمية وبناء الحكم على الضمير والتعبير عنه بالاسم وتقديم الصلة عليه وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض غير عرضه «والذين هم للزكاة فاعلون» وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة والزكاة مصدر لأنه الأمر الصادر عن الفاعل لا المحل الذي هو موقعه ومعنى الفعل قد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ويجوز أن يراد بها العين على تقدير المضاف «والذين هم لفروجهم حافظون» ممسكون لها فالاستثناء في قوله تعالى «إلا على أزواجهم» من نفي الإرسال الذي ينبئ عنه الحفظ أي لا يرسلونها على أحد إلا على أزواجهم وفيه إيذان بأن قوتهم الشهوية داعية لهم إلى ما لا يخفى وأنهم حافظون لها من استيفاء مقتضاها وبذلك يتحقق كما العفة ويجوز أن تكون على بمعنى من وإليه ذهب الفراء كما في قوله تعالى إذا اكتالوا على الناس أي حافظون لها من كل أحد إلا من أزواجهم وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من ضمير حافظون أي حافظون لها في جميع الأحوال إلا حال كونهم والين أو قوامين على أزواجهم وقيل بمحذوف يدل عليه غير ملومين كأنه قيل يلامون على كل مباشر إلا على ما أطلق لهم فإنهم غير ملومين وحمل الحفظ على القصر عليهن ليكون المعنى حافظون فروجهم على الأزواج لا يتعداهن ثم يقال غير حافظين إلا عليهن تأكيدا على تأكيد تكلف على تكلف «أو ما ملكت أيمانهم» أي سراريهم عبر عنهن بما إجراء لهن لمملوكيتهن مجرى غير العقلاء أو لأنوثتهن المنبئة عن المقصود وقوله تعالى «فإنهم غير
ملومين» تعليل لما يفيده الاستثناء من عدم حفظ فروجهم منهن أي فإنهم غير ملومين على عدم حفظها منهن «فمن ابتغى وراء ذلك» الذي ذكر من الحد المتسع وهو أربع من الحرائر وما شاء من الإماء «فأولئك هم العادون» الكاملون في العدوان المتناهون فيه وليس فيه ما يدل حتما على تحريم المتعة حسبما نقل عن القاسم بن محمد فإنه قال إنها ليست زوجة له فوجب أن لا تحمل له أما
124

أنها ليست زوجة له فلأنهما لا يتوارثان بالإجماع ولو كانت زوجة له لحصل التوارث لقوله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم فوجب أن لا تحل لقوله تعالى إلا على أزواجهم لأن لهم أن يقولوا إنها زوجة له في الجملة وأما أن كل زوجة ترث فهم لا يسلمونها وأما ما قيل من أنه إن أريد لو كانت زوجة حال الحياة لم يفد وإن أريد بعد الموت فالملازمة ممنوعة فليس له معنى محصل نعم لو عكس لكان له وجه «والذين هم لأماناتهم وعهدهم» لما يؤتمنون عليه ويعاهدون من جهة الحق أو الخلق «راعون» أي قائمون عليها حافظون لها على وجه الإصلاح وقرئ لأمانتهم «والذين هم على صلواتهم» المفروضة عليهم «يحافظون» يواظبون عليها ويؤدونها في أوقاتها ولفظ الفعل فيه لما في الصلاة من التجدد والتكرر وهو السر في جمعها وليس فيه تكرير لما أن الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها وفصلهما للإيذان بأن كلا منهما فضيلة مستقلة على حيالها ولو قرنا في الذكر لربما توهم أن مجموع الخشوع والمحافظة فضيلة واحدة «أولئك» إشارة إلى المؤمنين باعتبار اتصافهم بما ذكر من الصفات وإيثارها على الإضمار للإشعار بامتيازهم بها عن غيرهم ونزولهم منزلة المشار إليه حسا وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد درجتهم في الفضل والشرف أي أولئك المنعوتون بالنعوت الجليلة المذكورة «هم الوارثون» أي الأحقاء بأن يسموا وراثا دون من عداهم ممن ورث رغائب الأموال والذخائر وكرائمهما «الذين يرثون الفردوس» بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها تفخيما لشأنها ورفعا لمحلها وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعد الكريم للمبالغة فيه وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار «هم فيها» أي في الفردوس والتأنيث لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا وهو البستان الجامع لأصناف الثمر روى أنه تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر وفي رواية ولبنة من مسك مذرى وغرس فيها من جيد الفاكهة وجيد الريحان «خالدون» لا يخرجون منها أبدا والجملة إما مستأنفة مقررة لما قبلها وإما حال مقدرة من فاعل يرثون أو مفعوله إذ فيها ذكر كل منهما ومعنى الكلام لا يموتون ولا يخرجون منها «ولقد خلقنا الإنسان» شروع في بيان مبدأ خلق الإنسان وتقلبه في أطوار الخلقة وأدوار الفطرة بيانا إجماليا
125

إثر بيان حال بعض أفراده السعداء واللام جواب قسم والواو ابتدائية وقيل عاطفة على ما قبلها والمراد بالإنسان الجنس أي وبالله لقد خلقنا جنس الإنسان في ضمن خلق آدم عليه السلام خلقا إجماليا حسبما تحققته في سورة الحج وغيرها وأما كونه مخلوقا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار وأطوار فبعيد «من سلالة» السلالة ما سل من الشيء واستخرج منه فإن فعالة اسم لما يحصل من الفعل فتارة تكون مقصودا منه كالخلاصة وأخرى غير مقصود منه كالقلامة والكناسة والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل ومن ابتدائية متعلقة بالخلق ومن في قوله تعالى «من طين» بيانية متعلقة بمحذوف وقع صفة لسلالة أي خلقناه من سلالة كائنة من طين ويجوز أن تتعلق بسلالة على أنها بمعنى مسلولة فهي ابتدائية كالأولى وقيل المراد بالإنسان آدم عليه السلام فإنه الذي خلق من صفوة سلت من الطين وقد وقفت على التحقيق «ثم جعلناه» أي الجنس باعتبار افراده المغايرة لآدم عليه السلام أو جعلنا نسله على حذف المضاف إن أريد بالإنسان آدم عليه السلام «نطفة» بأن خلقناه منها أو ثم جعلنا السلالة نطفة والتذكير بتأويل الجوهر أو المسلول أو الماء «في قرار» أي مستقر وهو الرحم عبر عنها بالقرار الذي هو مصدر مبالغة وقوله تعالى «مكين» وصف لها بصفة ما استقر فيها مثل طريق سائر أو بمكانتها في نفسها فإنها مكنت بحيث هي وأحرزت «ثم خلقنا النطفة علقة» أي دما جامدا بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء «فخلقنا العلقة مضغة» أي قطعة لحم لا استبانة ولا تمايز فيها «فخلقنا المضغة» أي غالبها ومعظمها أو كلها «عظاما» بأن صلبناها وجعلناها عمودا للبدن على هيئات وأوضاع مخصوصة تقتضيها الحكمة «فكسونا العظام» المعهودة «لحما» من بقية المضغة أو مما أنبتنا عليها بقدرتنا مما يصل إليها أي كسونا كل عظم من تلك العظام ما يليق به من اللحم على مقدار لائق به وهيئة مناسبة له واختلاف العواطف للتنبيه على تفاوت الاستحالات وجمع العظام لاختلافها وقرئ على التوحيد فيهما اكتفاء بالجنس وبتوحيد الأول فقط وبتوحيد الثاني فحسب «ثم أنشأناه خلقا آخر» هي صورة البدن أو الروح أو القوى بنفخه فيه أو المجموع وثم لكمال التفاوت بين الخلقين واحتج به أبو حنيفة رحمه الله على أن من غصب بيضة فأفرخت عنده لزمه ضمان البيضة لا الفرخ لأنه خلق آخر «فتبارك الله» فتعالى شأنه في علمه الشامل وقدرته الباهرة والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وإدخال الروعة والإشعار بأن ما ذكر من الأفاعيل العجيبة من أحكام الألوهية وللإيذان بأن حق كل من سمع ما فصل من آثار قدرته عز وعلا أو لاحظه أن يسارع إلى التكلم به إجلالا وإعظاما لشؤونه تعالى «أحسن الخالقين» بدل من الجلالة وقيل نعت له بناء على أن الإضافة ليست لفظية وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أحسن الخالقين خلقا أي المقدرين تقديرا حذف المميز
126

لدلالة الخالقين عليه كما حذف المأذون فيه في قوله تعالى أذن للذين يقتلون لدلالة الصلة عليه أي أحسن الخالقين خلقا فالحسن للخلق قيل نظيره قوله صلى الله عليه وسلم إن الله جميل يحب الجمال أي جميل فعله فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا فاستكن روى أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى قوله خلقا آخر سارع عبد الله إلى النطق به قبل إملائه صلى الله عليه وسلم فقال اكتبه هكذا نزلت فشك عبد الله فقال إن كان محمد يوحى إليه فأنا كذلك فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح وقيل مات على كفره وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما نزلت هذه الآية قال عمر رضي الله عنه فتبارك الله أحسن الخالقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا نزل يا عمر وكان رضي الله عنه يفتخر بذلك ويقول وافقت ربي في أربع الصلاة خلف المقام وضرب الحجاب على النسوة وقولي لهن أو ليبدله الله خيرا منكن فنزل قوله تعالى عسى ربه عن طلقكن أن يبدله الآية والرابع فتبارك الله أحسن
الخالقين انظر كيف وقعت هذه الواقعة سببا لسعادة عمر رضي الله عنه وشقاوة ابن أبي سرح حسبما قال تعالى يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا لا يقال فقد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن وذلك قادح في إعجازه لما أن الخارج عن قدرة البشر ما كان مقدار أقصر السور على أن إعجاز هذه الآية الكريمة منوط بما قبلها كما نعرب عنه الفاء فإنها اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله «ثم إنكم بعد ذلك» أي بعد ما ذكر من الأمور العجيبة حسبما ينبئ عنه ما في اسم الإشارة من معنى البعد المشعر بعلو رتبة المشار إليه وبعد منزلته في الفضل والكمال وكونه بذلك ممتازا منزلا منزلة الأمور الحسية «لميتون» لصائرون إلى الموت لا محالة كما تؤذن به صيغة النعت الدالة على الثبوت دون الحدوث الذي تفيده صيغة الفاعل وقد قرئ لمائتون «ثم إنكم يوم القيامة» أي عند النفخة الثانية «تبعثون» من قبوركم للحساب والمجازاة بالثواب والعقاب «ولقد خلقنا فوقكم» بيان لخلق ما يحتاج إليه بقاؤهم إثر بيان خلقهم أي خلقنا في جهة العلو من غير اعتبار فوقيتها لهم لأن تلك النسبة إنما تعرض لها بعد خلقهم «سبع طرائق» هي السماوات السبع سميت بها لأنها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل فإن كل ما فوقه مثله فهو طريقة أو لأنها طرائق الملائكة أو الكواكب فيها مسيرها «وما كنا عن الخلق» عن ذلك المخلوق الذي هو السماوات أو عن جميع المخلوقات التي هي من جملتها أو عن الناس «غافلين» مهملين أمرها بل نحفظها عن الزوال والاختلال وندبر أمرها حتى تبلغ منتهى ما قدر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة وتعلقت به المشيئة ويصل إلى ما في الأرض منافعها كما ينبئ عنه قوله تعالى «وأنزلنا من السماء ماء» هو المطر أو الأنهار النازلة من
127

الجنة قيل هي خمسة أنهار سيحون نهر الهند وجيحون نهر بلخ ودجلة والفرات نهر العراق والنيل نهر مصر أنزلها الله تعالى من عين واحدة من عيون الجنة فاستودعها الجبال وأجراها في الأرض وجعل فيها منافع للناس في فنون معايشهم ومن ابتدائية متعلقة بأنزلنا وتقديمها على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر والعدول عن الإضمار لأن الإنزال لا يعتبر فيه عنوان كونها طرائق بل مجرد كونها جهة العلو «بقدر» بتقدير لائق لاستجلاب منافعهم ودفع مضارهم أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم ومصالحهم «فأسكناه في الأرض» أي جعلناه ثابتا قارا فيها «وإنا على ذهاب به» أي إزالته بالإفساد أو التصعيد أو التغوير بحيث يتعذر استنباطه «لقادرون» كما كنا قادرين على إزالة وفي تنكير ذهاب إيماء إلى كثرة طرقه ومبالغة في الإبعاد به ولذلك جعل أبلغ من قوله تعالى قل أرأيتم عن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين «فأنشأنا لكم به» أي بذلك الماء «جنات من نخيل وأعناب لكم فيها» في الجنات «فواكه كثيرة» تتفكهون بها «ومنها» من الجنات «تأكلون» تغذيا أو ترزقون وتحصلون معايشكم من قولهم فلان يأكل من حرفته ويجوز أن يعود الضميران للنخيل والأعناب أي لكم في ثمراتها أنواع من الفواكه الرطب والعنب والتمر والزبيب والعصير والدبس وغير ذلك وطعام يأكلونه «وشجرة» بالنصب عطف على جنات وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل عليه ما قبله أي ومما أنشئ لكم به شجرة وتخصيصها بالذكر من بين الأشجار لاستقلالها بمنافع معروفة قيل هي أول شجرة نبتت بعد الطوفان وقوله تعالى «تخرج من طور سيناء» وهو جبل موسى عليه السلام بين مصر وأيلة وقيل بفلسطين ويقال له طور سنين فإما أن يكون الطور اسم الجبل وسيناء اسم البقعة أضيف إليها أو المركب منهما علم له كامرئ القيس ومنع صرفه على قراءة من كسر السين للتعريف والعجمة أو التأنيث على تأويل البقعة لا للألف لأنه فيعال كديماس من السناء بالمد وهو الرفعة أو بالقصر وهو النور أو ملحق بفعلان كعلباء من السين إذ لا فعلاء بألف التأنيث بخلاف سيناء فإنه فيعال ككيسان أو فعلاء كصحراء إذ لا فعلال في كلامهم وقرئ بالكسر والقصر والجملة صفة لشجرة وتخصيصها بالخروج منه مع خروجها من سائر البقاع أيضا لتعظيمها ولأنه المنشأ الأصلي لها وقوله تعالى «تنبت بالدهن» صفة أخرى لشجرة والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا منها أي تنبت ملتبسة به ويجوز كونها صلة معدية أي تنبته بمعنى تتضمنه وتحصله فإن النبات حقيقة صفة للشجرة لا للدهن وقرئ تنبت من الإفعال وهو إما من الإنبات بمعنى النبات كما في قول زهير [رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل] أو على تقدير تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن وقرئ على البناء للمفعول وهو كالأول وتثمر بالدهن وتخرج بالدهن وتنبت بالدهان «وصبغ للآكلين» معطوف على الدهن جار على إعرابه عطف أحد وصفي الشيء على
128

الآخر أي تنبت بالشيء الجامع بين كونه دهنا يدهن به ويسرج منه وكونه إداما يصبغ فيه الخبز أي يغمس فيه للائتدام وقرئ وصباغ كدباغ في دبغ «وإن لكم في الأنعام لعبرة» بيان للنعم الفائضة عليهم من جهة الحيوان إثر بيان النعم الواصلة إليهم من جهة الماء والنبات وقد بين أنها مع كونها في نفسها نعمة ينتفعون بها على وجوه شتى عبرة لابد من أن يعتبروا بها ويستدلوا بأحوالها على عظيم قدرة الله عز وجل وسابغ رحمته ويشكروه ولا يكفروه وخص هذا بالحيوان لما أن محل العبرة فيه أظهر مما في النبات وقوله تعالى «نسقيكم مما في بطونها» تفصيل لما فيها من مواقع العبرة وما في بطونها عبارة إما عن الألبان فمن تبعيضية والمراد بالبطون الجوف أو عن العلف الذي يتكون منه اللبن فمن ابتدائية والبطون على حقيقتها وقرئ بفتح النون وبالتاء أي تسقيكم الأنعام «ولكم فيها منافع كثيرة» غير ما ذكر من أصوافها واشعارها «ومنها تأكلون» فتنتفعون بأعيانها كما تنتفعون بما يحصل منها «وعليها» أي على الأنعام فإن الحمل عليها لا يقتضي الحمل على جميع أنواعها بل يتحقق بالحمل على البعض كالإبل ونحوها وقيل المراد هي الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها عندهم والمناسب للفلك فإنها سفائن البر قال ذو الرمة [سفينة بر تحت خدي زمامها] فالضمير فيه كما في قوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن «وعلى الفلك تحملون» أي في البر والبحر وفي الجمع بينها وبين الفلك في إيقاع الحمل عليها مبالغة في تحملها للحمل وهو الداعي إلى تأخير ذكر هذه المنفعة مع كونها من المنافع الحاصلة منها عن ذكر منفعة الأكل المتعلقة بعينها «ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه» شروع في بيان إهمال الأمم السابقة وتركهم النظر والاعتبار فيما عدد من النعم الفائتة للحصر وعدم تذكرهم بتذكير رسلهم وما حاق بهم لذلك من فنون العذاب تحذيرا للمخاطبين وتقديم قصة نوح عليه السلام على سائر القصص مما لا يخفي وجهه وفي إيرادها إثر قوله تعالى وعلى الفلك تحملون من حسن الموقع ما لا يوصف والواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وتصدير القصة به لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها أي وبالله لقد أرسلنا نوحا الأخ ونسبه الكريم وكيفية بعثه وكمية لبثه فيما بينهم قد مر تفصيله في
سورة الأعراف وسورة هود «فعال» متعطفا عليهم ومستميلا لهم إلى الحق «يا قوم اعبدوا الله» أي اعبدوه وحده كما يفصح عنه قوله تعالى في سورة هود أن لا تعبدوا إلا الله وترك التقييد به للإيذان بأنها هي العبادة فقط والعبادة بالإشراك فليست من العبادة في شيء رأسا وقوله تعالى «ما لكم من إله غيره» استئناف مسوق لتعليل العبادة المأمور بها أو تعليل الأمر بها وغيره بالرفع صفة
129

لإله باعتبار محله الذي هو الرفع على أنه فاعل أو مبتدأ خبره لكم أو محذوف ولكم للتخصيص والتبيين أي ما لكم في الوجود أو في العالم إله غيره تعالى وقرئ بالجر باعتبار لفظه «أفلا تتقون» أي أفلا تقوت أنفسكم عذابه الذي يستوجبه ما أنتم عليه من ترك عبادته كما يفصح عنه قوله تعالى إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقوله تعالى عذاب يوم أليم وقيل أفلا تخافون أن ترفضوا عبادة الله الذي هو ربكم الخ وليس بذاك وقيل أفلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه الخ وفيه ما فيه والهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أتعرفون ذلك أي مضمون قوله تعالى ما لكم من إله غيره فلا تتقون عذابه بسبب إشراككم به في العبادة ما لا يستحق الوجود لولا إيجاد الله تعالى إياه فضلا عن استحقاق العبادة فالمنكر عدم الاتقاء مع تحقق ما يوجبه أو ألا تلاحظون ذلك فلا تتقونه فالمنكر كلا الأمرين فالممالعة حينئذ في الكمية وفي الأول في الكيفية «فقال الملأ» أي الإشراف «الذين كفروا من قومه» وصف الملأ بما ذكر مع اشتراك الكل فيه للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر وشدة شكيمتهم فيه أي قالوا لعوامهم «ما هذا إلا بشر مثلكم» أي في الجنس والوصف من غير فرق بينكم وبينه وصفوه عليه السلام بذلك مبالغة في وضع رتبته العالية وحطها عن منصب النبوة «يريد أن يتفضل عليكم» أي يريد أن يطلب الفضل عليكم ويتقدمكم بادعاء الرسالة مع كونه مثلكم وصفوه بذلك إغضابا للمخاطبين عليه عليه السلام وإغراء لهم على معاداته عليه السلام وقوله تعالى «ولو شاء الله لأنزل ملائكة») بيان لعدم رسالة البشر على الإطلاق على زعمهم الفاسد بعد تحقيق بشريته عليه السلام أي لو شاء الله تعالى إرسال الرسول لأرسل رسلا من الملائكة وإنما قيل لأنزل لأن إرسال الملائكة لا يكون إلا بطريق الإنزال فمفعول المشيئة مطلق الإرسال المفهوم من الجواب لأنفس مضمونه كما في قوله تعالى ولو شاء لهداكم ونظائره «ما سمعنا بهذا» أي بمثل هذا الكلام الذي هو الأمر بعبادة الله خاصة وترك عبادة ما سواه وقيل بمثل نوح عليه السلام في دعوى النبوة «في آبائنا الأولين» أي الماضين قبل بعثته عليه السلام قالوه إما لكونهم وآبائهم في فترة متطاولة وإما لفرط غلوهم في التكذيب والعناد وأنهما كهم في الغي والفساد وأيا ما كان فقولهم هذا ينبغي أن يكون هو الصادر عنهم في مبادئ دعوته عليه السلام كما تنبئ عنه الفاء في قوله تعالى فقال الملأ الخ وقيل معناه ما سمعنا به عليه السلام أنه نبي فالمراد بآبائهم الأولين الذين مضوا قبلهم في زمن نوح عليه السلام وقولهم المذكور هو الذي صدر عنهم في أواخر أمره عليه السلام وهو المناسب لما بعده من حكاية دعائه عليه السلام وقولهم «إن هو» أي ما هو «إلا رجل به جنة» أي جنون أو جن يخيلونه ولذلك يقول ما يقول «فتربصوا به» أي احتملوه واصبروا عليه وانتظروا «حتى حين» لعله يفيق مما فيه محمول حينئذ
130

على ترامي أحوالهم في المكابرة والعناد وإضرابهم عما وصفوه عليه السلام به من البشرية وإرادة التفضل إلى وصفه عليه السلام بما ترى وهم يعرفون أنه عليه السلام أرجح الناس عقلا وأرزنهم قولا وعلى الأول على تناقض مقالاتهم الفاسدة قاتلهم الله أنى يؤفكون «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية كلام الكفرة كأنه قيل فماذا قال عليه السلام بعد ما سمع منهم هذه الأباطيل فقيل قال لما رآهم قد أصروا على الكفر والتكذيب وتمادوا في الغواية والضلال حتى يئس من إيمانهم بالكلية وقد أوحى الله إليه إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن «رب انصرني» بإهلاكهم بالمرة فإنه حكاية إجمالية لقوله عليه السلام رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا الخ «بما كذبون» أي بسبب تكذيبهم إياي أو بدل تكذيبهم «فأوحينا إليه» عند ذلك «أن اصنع الفلك» أن مفسرة لما في الوحي من معنى القول «بأعيننا» ملتبسا بحفظنا وكلاءتنا كأن معه عليه السلام منه عز وعلا حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدي أو من الزيغ في الصنعة «ووحينا» وأمرنا وتعليمنا لكيفية صنعها والفاء في قوله تعالى «فإذا جاء أمرنا» لترتيب مضمون ما بعدها على تمام صنع الفلك والمراد بالأمر العذاب كما في قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله لا الأمر بالركوب كما قيل وبمجيئه كمال اقترابه أو ابتداء ظهوره أي إذا جاء إثر تمام الفلك عذابنا وقوله تعالى «وفار التنور» عطف بيان لمجيء الأمر روى أنه قيل له عليه السلام إذا فار الماء من التنور اركب أنت ومن معك وكان تنور آدم عليه السلام فصار إلى نوح عليه السلام فلما نبع منه الماء أخبرته امرأته فركبوا واختلف في مكانه فقيل كان في مسجد الكوفة أي في موضعه عن يمين الداخل من باب كندة اليوم وقيل كان في عين وردة من الشام وقد مر تفصيله في تفسير سورة هود عليه السلام «فاسلك فيها» أي ادخل فيها يقال سلك فيه أي دخل فيه وسلكه فيه أدخله فيه ومنه قوله تعالى ما سلككم في سقر «من كل» أي من كل أمة «زوجين» أي فردين مزدوجين كما يعرب عنه قوله تعالى «اثنين» فإنه نص في الفردين دون الجمعين أو الفريقين وقرئ بالإضافة على أن المفعول اثنين أي من كل أمتي زوجين وهما أمة الذكر وأمة الأنثى كالجمال والنوق والحصن والرماك وهذا صريح في ان الأمر كان قبل صنعة الفلك وفي سورة هود حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين فالوجه أن يحمل إما على أنه حكاية لأمر آخر تنجيزي ورد عند فوران التنور الذي نيط به الأمر التعليقي اعتناء بشأن المأمور به أو على أن ذلك هو الأمر السابق بعينه لكن لما كان الأمر التعليقي قبل تحقق المعلق به في حق إيجاب المأمور به بمنزلة العدم جعل كأنه إنما حدث عند تحققه فحكى على صورة التنجيز وقد مر في تفسير قوله
131

تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم «وأهلك» منصوب بفعل معطوف على فاسلك لا بالعطف على زوجين أو اثنين على القراءتين لأدائه إلى اختلال المعنى أي واسلك أهلك والمراد به امرأته وبنوه وتأخير الأمر بإدخالهم عما ذكر من إدخال الأزواج فيها لكونه عريقا فيما أمر به من الإدخال فإن نحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام بل إلى معاونة من أهله وأتباعه وأماهم فإنما يدخلونها باختيارهم بعد ذلك ولأن في المؤخر ضرب تفصيل بذكر الاستثناء وغيره فتقديمه يؤدي إلى الإخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم ي «إلا من سبق عليه القول منهم» أي القول بإهلاك الكفرة وإنما جيء بعلي لكون السابق ضارا كما جيء باللام في قوله تعالى إن الذين سبقت لهم منا الحسنى لكونه نافعا «ولا تخاطبني في الذين ظلموا» بالدعاء لإنجائهم «إنهم مغرقون» تعليل للنهي أو لما ينبئ عنه من عدم قبول الدعاء أي إنهم مقضى عليهم
بالإغراق لا محالة لظلمهم بالإشراك وسائر المعاصي ومن هذا شأنه لا يشفع له ولا يشفع فيه كيف لا وقد أمر بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بقوله تعالى «فإذا استويت أنت ومن معك» أي من أهلك وأشياعك «على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين» على طريقة قوله تعالى فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين «وقل رب أنزلني» في السفينة أو منها «منزلا مباركا» أي إنزالا أو موضع إنزال يستتبع خيرا كثيرا وقرئ منزلا أي موضع نزول «وأنت خير المنزلين» أمر عليه السلام بأن يشفع دعاءه بما يطابقه من ثنائه عز وجل توسلا به إلى الإجابة وإفراده عليه السلام بالأمر مع شركة الكل في الاستواء والنجاة لإظهار فضله عليه السلام والإشعار بأن في دعائه وثنائه مندوحة عما عداه «إن في ذلك» الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه «لآيات» جليلة يستدل بها أولو الأبصار ويعتبر بها ذوو الاعتبار «وإن كنا لمبتلين» إن مخففة من أن واللام فارقة بينها وبين النافية وضمير الشأن محذوف أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد ومختبرين بهذه الآيات عبادنا لننظر من يعتبر ويتذكر كقوله تعالى ولقد تركناها آية فهل من مدكر «ثم أنشأنا من بعدهم» أي من بعد إهلاكهم «قرنا آخرين» هم عاد حسبما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وعليه أكثر المفسرين وهو الأوفق لما هو المعهود في سائر السور الكريمة من إيراد قصتهم إثر قصة قوم نوح وقيل هم ثمود «فأرسلنا فيهم» جعلوا
132

موضعا للإرسال كما في قوله تعالى كذلك أرسلناك في أمة ونحوه لا غاية له كما في مثل قوله تعالى ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه للإيذان من أول الأمر بأن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم كما ينبئ عنه قوله تعالى «رسولا منهم» أي من جملتهم نسبا فإنهما عليهما السلام كانا منهم وأن في قوله تعالى «أن اعبدوا الله» مفسرة لأرسلنا لتضمنه معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله تعالى وقوله تعالى «ما لكم من إله غيره» تعليل للعبادة المأمورة بها أو للأمر بها أو لوجوب الامتثال به «أفلا تتقون» أي عذابه الذي يستدعيه ما أنتم عليه من الشرك والمعاصي والكلام في العطف كالذي مر في قصة نوح عليه السلام «وقال الملأ من قومه» حكاية لقولهم الباطل إثر حكاية القول الحق الذي ينطق به حكاية إرسال الرسول بطريق العطف على ان المراد حكاية مطلق تكذيبهم له عليه السلام إجمالا لا حكاية ما جرى بينه عليه السلام وبينهم من المحاورة والمقاولة تفصيلا حتى يحكى بطريق الاستئناف المبني على السؤال كما ينبئ عنه ما سيأتي من حكاية سائر الأمم أي وقال الإشراف من قومه «الذين كفروا» في محل الرفع على أنه صفة للملأ وصفوا بذلك ذما لهم وتنبيها على غلوهم في الكفر وتأخيره عن من قومه لعطف قوله تعالى «وكذبوا بلقاء الآخرة» وما عطف عليه على الصلة الأولى أي كذبوا بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بمعادهم إلى الحياة الثانية بالبعث «وأترفناهم» ونعمناهم «في الحياة الدنيا» بكثرة الأموال والأولاد أي قالوا لأعقابهم مضلين لهم «ما هذا إلا بشر مثلكم» أي في الصفات والأحوال وإيثار مثلكم على مثلنا للمبالغة في تهوين أمره عليه لاسلام وتوهينه «يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون» تقرير للمماثلة وما خبرية والعائد إلى الثاني منصوب محذوف أو مجرور قد حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه «ولئن أطعتم بشرا مثلكم» أي فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامر «إنكم إذا» أي على تقدير الاتباع «لخاسرون» عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسرانا دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها قاتلهم الله أنى يؤفكون وإذا وقع بين اسم إن وخبرها لتأكيد مضمون الشرط والجملة جواب لقسم محذوف قبل إن الشرطية المصدرة باللام الموطئة أي وبالله لئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون «أيعدكم» استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم إلى الإيمان به واستبعاده «أنكم إذا متم» بكسر الميم من مات يموت وقرئ بضمها من مات
133

يموت «وكنتم ترابا وعظاما» نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب أي كان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره ترابا وبعضها عظاما وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو كان متقدموكم ترابا صرفا ومتأخروكم عظاما وقوله تعالى «إنكم» تأكيد للأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعلى «مخرجون» أي من القبور أحياء كما كنتم وقيل أنكم مخرجون مبتدأ وإذا متم خبره على معنى إخراجكم إذا متم ثم أخبر بالجملة عن أنكم وقيل رفع أنكم مخرجون بفعل هو جزاء الشرط كأنه قيل إذا متم وقع إخراجكم ثم أوقعت الجملة الشرطية خبرا عن أنكم والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو الأول وقرئ أيعدكم إذا متم الخ «هيهات هيهات» تكرير لتأكيد البعد أي بعد الوقوع أو الصحة «لما توعدون» وقيل اللام لبيان المستبعد ما هو كما في هيت لك كأنهم لما صوتوا بكلمة الاستبعاد قيل لماذا هذا الاستبعاد فقيل لما توعدون وقيل هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ خبره لما توعدون وقرئ بالفتح منونا للتنكير وبالضم منونا على أنه جمع هيهة وغير منون تشبها بقبل وبالكسر على الوجهين وبالسكون على لفظ الوقف وإبدال التاء هاء «إن هي إلا حياتنا الدنيا» أصله إن الحياة إلا حياتنا فأقيم الضمير مقام الأولى لدى الثانية عليها حذرا من التكرار وإشعارا بإغنائها عن التصريح كما في هي النفس تتحمل ما حملت وهي العرب تقول ما شاءت وحيث كان الضمير بمعنى الحياة الدالة على الجنس كانت إن النافية بمنزلة لا النافية للجنس وقوله تعالى «نموت ونحيا» جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا أي يموت بعضنا ويولد بعض إلى انقراض العصر «وما نحن بمبعوثين» بعد الموت «إن هو» أي ما هو «إلا رجل افترى على الله كذبا» فيما يدعيه من إرساله وفيما يعدنا من أن الله يبعثنا «وما نحن له بمؤمنين» بمصدقين فيما يقوله «قال» أي هود عليه السلام عند يأسه من إيمانهم بعد ما سلك في دعوتهم كل مسلك متضرعا إلى الله عز وجل «رب انصرني» عليهم وانتقم لي منهم «بما كذبون» أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه «قال» تعالى إجابة لدعائه وعدة بالقبول «عما قليل» أي عن زمان قليل وما مزيدة بين الجار والمجرور لتأكيد معنى القلة كما زيدت في قوله تعالى فبما رحمة من الله أو نكرة موصوفة أي عن شيء قليل «ليصبحن نادمين» على ما فعلوه من التكذيب وذلك عند معاينتهم للعذاب «فأخذتهم الصيحة» لعلهم حين أصابتهم
134

الريح العقيم أصيبوا في تضاعيفها بصيحة هائلة أيضا وقد روى أن شداد بن عاد حين أتم بناء إرم سار إليها بأهله فلما دنا منها بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا
وقيل الصيحة نفس العذاب والموت وقيل هي العذاب المصطلم قال قائلهم
* صاح الزمان بآل برمك صيحة
* خروا لشدتها على الأذقان
* «بالحق» متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا دفاع له أو بالعدل من الله تعالى أو بالوعد الصدق «فجعلناهم غثاء» أي كغثاء السيل وهو حميله «فبعدا للقوم الظالمين» إخبار أو دعاء وبعدا من المصادر التي لا يكاد يستعمل ناصبها والمعنى بعدوا بعدا أي هلكوا واللام لبيان من قيل له بعدا ووضع الظاهر موضع الضمير للتعليل «ثم أنشأنا من بعدهم» أي بعد هلاكهم «قرونا آخرين» هم قوم صالح ولوط وشعيب عليهم السلام وغيرهم «ما تسبق من أمة أجلها» أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم أي ما تهلك أمة قبل مجئ أجلها «وما يستأخرون» ذلك الأجل بساعة وقوله تعالى «ثم أرسلنا رسلنا» عطف على أنشأنا لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعا بل على معنى أن أرسال كل رسول متأخر عن إنشاء قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولا خاصا به والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة الناطقة بعدم تقدم الأمم أجلها المضروب لهلاكهم للمسارعة إلى بيان هلاكهم على وجه إجمالي «تترا» أي متواترين واحدا بعد واحد من الوتر وهو الفرد والتاء بدل من الواو كما في تولج ويتقوا والألف للتأنيث باعتبار أن الرسل جماعة وقرئ بالتنوين على أنه مصدر بمعنى الفاعل وقع حالا وقوله تعالى «كل ما جاء أمة رسولها كذبوه» استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أو الملاقاة وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاءوا كل الأمم والإشعار بكمال شناعتهم وضلالهم حيث كذبت كل واحدة منهم رسولها المعين لها وقيل لان الإرسال لائق بالمرسل والمجيء بالمرسل إليهم «فأتبعنا بعضهم بعضا» في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضا في مباشرة أسبابه التي هي الكفر والتكذيب وسائر المعاصي «وجعلناهم أحاديث» لم يبق منهم إلا حكايات يعتبر بها المعتبرون وهو اسم جمع للحديث أو جمع أحدوثة وهي ما يتحدث به تلهيا كأعاجيب جمع أعجوبة وهي ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها تلهيا وتعجبا «فبعدا لقوم لا يؤمنون» اقتصر ههنا على وصفهم بعدم الإيمان حسبما
135

اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالا وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم «ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا» هي الآيات التسع من اليد والعصا والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والطاعون ولا مساغ لعد فلق البحر منها إذ المراد هي الآيات التي كذبوها واستكبروا عنها «وسلطان مبين» أي حجة واضحة ملزمة للخصم وهي إما العصا وإفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لما أنها أم آياته عليه الصلاة والسلام وأولاها وقد تعلقت بها معجزات شتى من انقلابها ثعبانا وتلقفها لما أفكته السحرة حسبما فصل في تفسير سورة طه وأما التعرض لانقلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها وحراستها وصيرورتها شمة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء وغير ذلك مما ظهر منها من قبل ومن بعد في غير مشهد فرعون وقومه فغير ملائم لمتقضى المقام وإما نفس الآيات كقوله إلى الملك القرم وبان الهمام الخ عبر عنها بذلك على طريقة العطف تنبيها على جمعها لعنوانين جليلين وتنزيلا لتغايرهما منزلة التغاير الذاتي «إلى فرعون وملئه» أي أشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل منوط بآرائهم لا بآراء أعقابهم «فاستكبروا» عن الانقياد وتمردوا «وكانوا قوما عالين» متكبرين متمردين «فقالوا» عطف على استكبروا وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار أي كانوا قوما عادتهم الاستكبار والتمرد أي قالوا فيما بينهم بطريق المناصحة «أنؤمن لبشرين مثلنا» ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى بشرا سويا كما يطلق على الجمع كما في قوله تعالى فإما ترين من البشر أحدا ولم يثن المثل نظرا إلى كونه في حكم المصدر وهذه القصص كما نرى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤون الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المؤيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين الروحاني والجسماني يتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق وبعضها في أسفل سافلين كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أصل سبيلا «وقومهما» يعنون بني إسرائيل «لنا عابدون» أي خادمون منقادون لنا كالعبيد وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأنهما عليهما الصلاة والسلام وخطر تبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية واللام في لنا متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل والجملة حال من فاعل نؤمن مؤكدة لإنكار الإيمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسات الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ
136

الدنية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة ما ذكر من النعوت العلية وإحراز الملكات السنية جبلة واكتسابا «فكذبوهما» أي فتموا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكبارا «فكانوا من المهلكين» بالغرق في بحر قلزم «ولقد آتينا» أي بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من ملكتهم «موسى الكتاب» أي التوراة وحيث كان إيتاؤه عليه الصلاة والسلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل «لعلهم يهتدون» أي إلى طريق الحق بالعمل بما فيها من الشرائع والأحكام وقيل أريد آتينا قوم موسى فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى على خوف من فرعون وملئهم أي من آل فرعون وملئهم ولا سبيل إلى عود الضمير إلى فرعون وقومه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وأما الاستشهاد على ذلك بقوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى فمما لا سبيل إليه ضرورة أن ليس المراد بالقرون الأولى ما يتناول قوم فرعون بل من قبلهم من الأمم المهلكة خاصة كقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط كما سيأتي في سورة القصص «وجعلنا ابن مريم وأمه آية» وأية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشرف الآية أمر واحد نسب إليهما أو جعلنا ابن مريم آية بأن تكلم في
المهد فظهرت منه معجزات جمة وأمه آية بأنها ولدته من غير مسيس فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها والتعبير عنهما بما ذكر من العنوانين وهما كونه عليه الصلاة والسلام ابنها وكونها أمه عليه الصلاة والسلام للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه الصلاة والسلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية وتقديمه عليه الصلاة والسلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما أن تقديم أمه في قوله تعالى وجعلناها وابنها آية للعالمين لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ «وآويناهما إلى ربوة» أي أرض مرتفعة قيل هي أيليا أرض بيت المقدس فإنها مرتفعة وأنها كبد الأرض وأقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا على ما يروى عن كعب وقيل دمشق وغوطتها وقيل فلسطين والرملة وقيل مصر فإن قراها على الربا وقرئ بكسر الراء وضمها ورباوة بالكسر والضم «ذات قرار» مستقر من أرض منبسطة سهلة يستقر عليها ساكنوها وقيل ذات ثمار وزروع لأجلها يستقر فيها ساكنوها «ومعين» أي وماء معين ظاهر جار فعيل من معن الماء إذا جرى وأصله الإبعاد في المشي أو من الماعون
137

وهو النفع لأنه نفاع أو مفعول من عانه إذا أدركه بالعين فإنه لظهوره يدرك بالعيون وصف ماؤها بذلك للإيذان بكونه جامعا لفنون المنافع من الشرب وسقى ما يسقى من الحيوان والنبات بغير كلفة والتنزه بمنظره الموفق «يا أيها الرسل كلوا من الطيبات» حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الإجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى عليه السلام وأمه إلى الربوة إيذانا بأن ترتيب مبادئ التنعم لم يكن من خصائصه عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحا فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالا للإيجاز وفيه من الدلالة على بطلان ما عليه الرهابنة من رفض الطيبات ما لا يخفى وقيل حكاية لما ذكر لعيسى عليه السلام وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا وقيل نداء وخطاب له والجمع للتعظيم وعن الحسن ومجاهد وقتادة والسدي والكلبي رحمهم الله تعالى أنه خطاب لرسول الله صلى لله عليه وسلم وحده على دأب العرب في مخاطبة الواحد بلفظ الجمع وفيه إبانة لفضله وقيامه مقام الكل في حيازة كما لا تهتم والطيبات ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه حسبما ينبئ عنه سياق النظم الكريم فالأمر للترفيه «واعملوا صالحا» أي عملا صالحا فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم «إني بما تعملون» من الأعمال الظاهرة والباطنة «عليم» أجازيكم عليه «وإن هذه» استئناف داخل فيما خوطب به الرسل عليهم السلام على الوجه المذكور مسوق لبيان أن ملة الإسلام والتوحيد مما أمر به كافة الرسل عليهم السلام والأمم وإنما أشير إليها بهذه للتنبيه على كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور المشاهدة «أمتكم» أي ملتكم وشريعتكم أيها الرسل «أمة واحدة» أي ملة وشريعة متحدة في أصول الشرائع التي لا تتبدل بتبدل الأعصار وقيل هذه إشارة إلى الأمم المؤمنة للرسل والمعنى إن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الإيمان والتوحيد في العبادة «وأنا ربكم» من غير أن يكون لي شريك في الربوبية وضمير المخاطب فيه وفي قوله تعالى «فاتقون» أي في شق العصا والمخالفة بالإخلال بمواجب ما ذكر من اختصاص الربوبية بي للرسل والأمم جميعا على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمم للتحذير والإيجاب والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به تعالى واتحاد الأمة فإن كلا منهما موجب للاتقاء حتما وقرئ وأن هذه بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون أي إن تتقون فاتقون كما مر في قوله تعالى وإياي فارهبون وقيل على العطف على ما أي إني عليم بأن أمتكم أمة الخ وقيل على حذف فعل عامل فيه أي واعلموا أن هذه أمتكم الخ وقرئ وإن هذه على أنها مخففة من إن
138

«فتقطعوا أمرهم» حكاية لما ظهر من أمم الرسل بعدهم من مخالفة الأمر وشق العصا والضمير لما دل عليه الأمة من أربابها أولها على التفسير بن والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم أي تقطعوا أمر دينهم مع اتحاده وجعلوه قطعا متفرقة وأديانا مختلفة «بينهم زبرا» أي قطعا جمع زبور بمعنى الفرقة ويؤديه قراءة زبرا بفتح الباء جمع زبرة وهو حال من أمرهم أو من واو تقطعوا أو مفعول ثان له فإنه متضمن لمعنى جعلوا وقبل كتبا فيكون مفعولا ثانيا أو حالا من أمرهم على تقدير المضاف أي مثل زبر وقرئ بتخفيف الباء كرسل في رسل «كل حزب» من أولئك المتحزبين «بما لديهم» من الدين الذي اختاروه «فرحون» معجبون معتقدون أنه الحق «فذرهم في غمرتهم» شبه ما هم فيه من الجهالة بالماء الذي يغمر القامة لأنهم مغمورون فيها لاعبون بها وقرئ غمراتهم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب الأمر بالترك على ما قبله من كونهم فرحين بما لديهم فإن انهماكهم فيما هم فيه وإصرارهم عليه من مخايل كونهم مطبوعا على قلوبهم أي اتركهم على حالهم «حتى حين» هو حين قتلهم أو موتهم على الكفر أو عذابهم فهو وعيد لم بعذاب الدنيا والآخرة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى له عن الاستعجال بعذابهم والجزع من تأخيره وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل «أيحسبون أنما نمدهم به» أي نعطيهم إياه ونجعله مددا لهم فما موصولة وقوله تعالى «من مال وبنين» بيان لها وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه في سورة الكهف لا خبر لأن وإنما الخبر قوله تعالى «نسارع لهم في الخيرات» على حذف الراجع إلى الاسم أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وقوله تعالى «بل لا يشعرون» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل هم لا يشعرون بشيء أصلا كالبهائم لا فطنة لهم ولا شعور ليتأملوا ويعرفوا أن ذلك الإمداد استدراج لهم واستجرار إلى زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات وقرئ بمدهم على الغيبة وكذلك يسارع ويسرع ويحتمل أن يكون فيهما ضمير الممد به وقرئ يسارع مبنيا للمفعول «إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون» استئناف مسوق لبيان من له المسارعة في الخيرات إثر إقناط الكفار عنها وإبطال حسبانهم الكاذب أي من خوف عذابه حذرون
139

«والذين هم بآيات ربهم» المنصوبة والمنزلة «يؤمنون» بتصديق مدلولها «والذين هم بربهم لا يشركون» شركا جليا ولا خفيا ولذلك أخر عن الإيمان بالآيات والتعرض لعنوان الربوبية في المواقع الثلاثة للإشعار بعليتها للإشفاق والإيمان وعدم الإشراك «والذين يؤتون ما آتوا» أي يعطون ما أعطوه من الصدقات وقرئ يأتون ما
أتوا أي يفعلون ما فعلوه من الطاعات وأيا ما كان فصيغة الماضي في الصلة الثانية الدلالة على التحقق كما أن صيغة المضارع في الأولى للدلالة عن الاستمرار «وقلوبهم وجلة» حال من فاعل يؤتون أو يأتون أي يؤتون ما آتوه أو يفعلون من العبادات ما فعلوه والحال أن قلوبهم خائفة أشد الخوف «أنهم إلى ربهم راجعون» أي من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل منهم ذلك وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذ لا مجرد رجوعهم إليه تعالى وقيل لأن مرجعهم إليه تعالى والموصولات الأربعة عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حين صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة كأنه قيل إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون الخ وإنما كرر الموصول إيذانا باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلا لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها «أولئك» إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بها وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبتهم في الفضل أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة خاصة دون غيرهم «يسارعون في الخيرات» أي في نيل الخيرات التي من جملها الخيرات العاجلة الموعودة على الأعمال الصالحة كما في قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وقوله تعالى وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين فقد أثبت لهم ما نفى عن أضدادهم خلا أنه غير الأسلوب حيث لم يقل أولئك نسارع لهم في الخيرات بل أسند المسارعة إليهم إيمان لي كمال استحقاقهم لنيل الخيرات بمحاسن أعمالهم وإيثار كلمة في على كلمة إلى للإيذان بأنهم متقلبون في فنون الخيرات لا أنهم خارجون عنها متوجهون إليها بطريق المسارعة في قوله تعالى كما وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة الآية «وهم لها سابقون» أي إياها سابقون واللام لتقوية العمل كما في قوله تعالى هم لها عاملون أي ينالونها قبل الآخرة حيث عجلت لهم في الدنيا وقيل المراد بالخيرات الطاعات والمعنى يرغبون في الطاعات والعبادات أشد الرغبة وهم لأجلها سابقون فاعلون السبق أو لأجلها الناس
140

والأول هو الأولى «ولا نكلف نفسا إلا وسعها» جملة مستأنفة سيقت للتحريض على ما وصف به السابقون من فعل الطاعات المؤدي إلى نيل الخيرات ببيان سهولته وكونه غير خارج عن حد الوسع والطاقة أي عادتنا جارية على أن لا نكلف نفسا من ا لنفوس إلا ما في وسعها على أن المراد استمرار النفي بمعونة المقام لا نفي الاستمرار كما مر مرارا أو للترخيص فيما هو قاصر عن درجة أعمال أولئك الصالحين ببيان انه تعالى لا يكلف عباده إلا ما في وسعهم فإن لم يبلغوا في فعل الطاعات مراتب السابقين فلا عليهم بعد أن يبذلوا طاقتهم ويستفرغوا وسعهم قال مقاتل من لم يستطع القيام فليصل قاعدا ومن لم يستطع القعود فليوم إيماء وقوله تعالى «ولدينا كتاب» الخ تتمة لما قبله ببيان أحوال ما كلفوه من الأعمال وأحكامها المترتبة عليها من الحساب والثواب والعقاب والمراد بالكتاب صحائف الأعمال التي يقرءونها عند الحساب حسبما يعرب عنه قوله تعالى «ينطق بالحق» كقوله تعالى هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي عندنا كتاب قد أثبت فيه أعمال كل أحد على ما هي عليه أو أعمال السابقين والمقتصدين جميعا لا أنه أثبت فيه أعمال الأولين وأهمل أعمال الآخرين ففيه قطع معذرتهم أيضا وقوله بالحق متعلق بينطق أي يظهر الحق المطابق للواقع على ما هو عليه ذاتا ووصفا ويبينه للناظر كما يبينه النطق ويظهره للسامع فيظهر هنالك جلائل أعمالهم ودقائقها ويرتب عليها أجزيتها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وقوله تعالى «وهم لا يظلمون» بيان لفضله تعالى وعد له في الجزاء إثر بيان لطفه في التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون في الجزاء بنقص ثواب أو بزيادة عذاب بل يجزون بقدر أعمالهم التي كلفوها ونطقت بها صحائفها بالحق وقد جوز أن يكون تقريرا لما قبله من التكليف وكتب الأعمال أي لا يظلمون بتكليف ما ليس في وسعهم ولا بعدم كتب بعض أعمالهم التي من جملتها أعمال المقتصدين بناء على قصورها عن درجة أعمال السابقين بل يكتب كل منها على مقاديرها وطبقاتها والتعبير عما ذكر من الأمور بالظلم مع أن شيئا منها ليس بظلم على ما تقرر من أن الأعمال الصالحة لا توجب أصل الثواب فضلا عن إيجاب مرتبة معينة منه حتى تعد الإنابة بما دونها نقصا وكذلك الأعمال السيئة لا توجب درجة معينة من العذاب حتى يعد التعذيب بما فوقها زيادة وكذا تكليف ما في الوسع وكتب الأعمال ليسا مما يجب عليه سبحانه حتى يعد تركهما ظلما لكمال تنزيه ساحة السبحان عنها بتصويرها بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وتسميتها باسمه وقوله تعالى «بل قلوبهم في غمرة من هذا» إضراب عما قبله والضمير للكفرة لا للكل كما قبله أي بل قلوب الكفرة في غفلة غامرة لها من هذا الذي بين في القرآن من أن لديه تعالى كتابا ينطق بالحلق ويظهر لهم أعمالهم السيئة على رؤوس الأشهاد فيجزون بها كما ينبيء عنه ما سيأتي من قوله تعالى قد كانت آياتي تتلى عليكم الخ وقيل مما عليه أولئك الموصوفون بالأعمال الصالحة «ولهم أعمال» سيئة كثيرة «من دون ذلك»
141

الذي ذكر من كون قلوبهم في غفلة عظيمة مما ذكر وهي فنون كفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما سيأتي من طعنهم في القرآن حسبما ينبئ عنه قوله تعالى مستكبرين به سامرا تهجرون وقيل متخطية لما وصف به المؤمنون من الأعمال الصالحة المذكورة وفيه أنه لا مزية في وصف أعمالهم الخبيثة بالتخطي للأعمال الحسنة للمؤمنين وقيل متخطية عماهم عليه من الشرك ولا يخفى بعده لعدم جريان ذكره «هم لها عاملون» مستمرون عليها معتادون فعلها ضارون بها لا يكادون يبرحونها «حتى إذا أخذنا مترفيهم» أي متنعميهم وهم الذين أمدهم الله تعالى بما ذكر من المال والبنين وحتى مع كونها غاية لأعمالهم المذكورة مبدأ لما بعدها من مضمون الشرطية أي لا يزالون يعملون أعمالهم إلى حيث إذا أخذنا رؤساءهم «بالعذاب» قيل هو القتل والأسر يوم بدر وقيل هو الجوع الذي أصابهم حين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف فقحطوا حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة والأولاد والحق أنه العذاب الأخروى إذ هو الذي يفاجئون عنده الجؤار فيجابون بالرد والإقناط عن النصر وأما عذاب يوم بدر فلم يوجد لهم عنده جؤار حسبما ينبئ عنه قوله تعالى ولقد أخذناهم بالعذات فما استكانوا لربهم وما يتضرعون فإن المراد بهذا العذاب ما جرى عليهم يوم بدر من القتل والأسر حتما وأما عذاب الجوع فإن أبا سفيان وإن تضرع فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لم يرد عليه بالإقناط حيث روى أنه صلى الله عليه وسلم قد دعا بكشفه فكشف عنهم ذلك «إذا هم يجأرون» أي فاجئوا الصراخ بالاستغاثة من الله عز وجل كقوله تعالى فإليه تجأرون وهو جواب الشرط وتخصيص مترفيهم بما ذكر من الأخذ بالعذاب ومفاجأة الجؤار مع عمومه لغيرهم أيضا لغاية ظهور انعكاس حالهم وانتكاس
أمرهم وكون ذلك أشق عليهم ولأنهم مع كونهم متمنعين محميين بحماية غيرهم من المنعة والحشم حين لقوا ما لقوا من الحالة الفظيعة فأن يلقاها من عداهم من الحماة والخدم أولى وأقدم «لا تجأروا اليوم» على إضمار القول مسوقا لردهم وتبكيتهم وإقناطهم مما علقوا به أطماعهم الفارغة من الإغاثة والإعانة من جهته تعالى وتخصيص اليوم بالذكر لتهويله والإيذان بتفويتهم وقت الجؤار وقد جوز كونه جواب الشرط وأنت خبير بأن المقصود الأصلي في الجملة الشرطية هو الجواب فيؤدي ذلك إلى أن يكون مفاجأتهم إلى الجؤار غير مقصود أصلي وقوله تعالى «إنكم منا لا تنصرون» تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم إفادته ونفعه أي لا يلحقكم من جهتنا نصرة تنجيكم مما دهمكم وقيل لا تغاثون ولا تمنعون منا ولا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصور يتهم من قبله ولا سياقه فإن قوله تعالى «قد كانت آياتي تتلى عليكم» الخ صريح في أنه تعليل لما ذكرنا من عدم لحوق النصر من جهته
142

تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه وذله أو بعزة الله تعالى وقوته أي قد كانت آياتي تتلى عليكم في الدنيا «فكنتم على أعقابكم تنكصون» أي تعرضون عن سماعها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها والنكوص الرجوع قهقري «مستكبرين به» أي بالبيت الحرام أو بالحرم والإضمار قيل الذكر لاشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدامه وقوامه أو بكتابي الذي عبر عنه بآياتي على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو لأن استكبارهم على المسلمين قد حدث بسبب استماعه ويجوز أن تتعلق الباء بقوله تعالى «سامرا» أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه حيث كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا والسامر كالحاضر في الإطلاق على الجمع وقيل هو مصدر جاء على لفظ الفاعل وقرئ سمرا وسمارا وأن تتعلق بقوله تعالى «تهجرون» من الهجر بالفتح بمعنى الهذيان أو الترك أي تهذون في شأن القرآن أو تتركونه أو من الهجر بالضم وهو الفحش ويؤيده قراءة تهجرون من أهجر في منطقه إذا فحش فيه وقرئ تهجرون من هجر الذي هو مبالغة في هجر إذا هذى «أفلم يدبروا القول» الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي أفعلوا ما فعلوا من النكوص والاستكبار والهجر فلم يتدبروا القرآن ليعرفوا بما فيه من إعجاز النظم وصحة المدلول والإخبار عن الغيب أنه الحق من ربهم فيؤمنوا به فضلا عما فعلوا في شأنه من القبائح وأم في قوله تعالى «أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين» منقطعة وما فيها من معنى بل للإضراب ولا انتقال عن التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بآخر والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع أي بل أجاءهم من الكتاب ما لم يأت أباءهم الأولين حي استبدعوه واستبعدوه فوقعوا فيما وقعوا فيه من الكفر والضلال يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل عليهم السلام سنة قديمة له تعالى لا يكاد يتسنى إنكاره وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه وقيل أم جاءهم من الأمن من عذابه تعالى ما لم يأت آباءهم الأولين كإسماعيل عليه السلام وأعقابه من عدنان وقحطان ومضر وربيعة وقس والحرث بن كعب وأسد بن خزيمة وتميم بن مرة وتبع وضبة بن أد فآمنوا به تعالى وبكتبه ورسله وأطاعوه «أم لم يعرفوا رسولهم» إضراب وانتقال من التوبيخ بما ذكر إلى التوبيخ بوجه آخر والهمزة لإنكار الوقوع أيضا أي بل ألم يعرفوه صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق وكمال العلم مع عدم التعلم من أحد وغير ذلك مما حازه من الكمالات اللائقة بالأنبياء عليهم السلام «فهم له منكرون» أي جاحدون بنبوته فجحودهم بها مترتب على عدم معرفتهم بشأنه عليه السلام ومن ضرورة انتفاء المبنى بطلان ما بنى عليه أي فهم غير عارفين له عليه السلام فهو تأكيد لما قبله
143

«أم يقولون به جنة» انتقال إلى توبيخ آخر والهمزة لإنكار الواقع كالأولى أي بل أيقولون به جنة أي جنون مع أنه أرجح الناس عقلا وأثقبهم ذهنا وأتقنهم رأيا وأوفرهم رزانة ولقد روعي في هذه التوبيخات الأربعة التي اثنان منها متعلقان بالقرآن والباقيان به صلى الله عليه وسلم الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث وبخوا أو لا بعدم التدبر وذلك يتحقق مع كون القول غير متعرض له بوجه من الوجوه ثم وبخوا بشيء لو اتصف به القول لكان سببا لعدم تصديقهم به ثم وبخوا بما يتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم من عدم معرفتهم به صلى الله عليه وسلم وذلك يتحقق بعدم المعرفة بخير ولا شر ثم بما لو كان فيه صلى الله عليه وسلم ذلك لقدح في رسالته صلى الله عليه وسلم ما سبق أي ليس الأمر كما زعموا في حق القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بل جاءهم صلى الله عليه ولم بالحق أي الصدق الثابت الذي لا محيد عنه أصلا ولا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه «وأكثرهم للحق» من حيث هو حق أي حق كان لا لهذا الحق فقط كما ينبيء عنه الإظهار في موقع الإضمار «كارهون» لما في جبلتهم من الزيغ والانحراف المناسب للباطل ولذلك كرهوا هذا الحق الأبلج وزاغوا عن الطريق الأنهج وتخصيص أكثرهم بهذا الوصف لا يقتضي إلا عدم كراهة الباقين لكل حق من الحقوق وذلك لا ينافي كراهتهم لهذا الحق المبين فنأمل وقيل تقييد الحكم بالأكثر لأن منهم من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه أو لقلة فطنته وعدم تفكره لا لكراهته الحق وأنت خبير بأن التعرض لعدم كراهة بعضهم للحق مع اتفاق الكل على الكفر به مما لا يساعده المقام أصلا «ولو اتبع الحق أهواءهم» استئناف مسوق لبيان أن أهواءهم الزائغة التي ما كرهوا الحق إلا لعدم موافقته إياها مقتضية للطامة أي لو كان ما كرهوه من الحق الذي من جملته ما جاء به صلى الله عليه وسلم موافقا لأهوائهم الباطلة «لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن» وخرجت عن الصلاح والانتظام بالكلية لأن مناط النظام ليس إلا ذلك وفيه من تنويه شأن الحق والتنبيه على سمو مكانه ما لا يخفى وأما ما قيل لو أتبع الحق الذي جاء به صلى الله عليه وسلم أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله تعالى بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر ففيه أنه لا يلائم فرض مجيئه صلى الله عليه وسلم به وكذا ما قيل لو كان في الواقع إلهان لا يناسب المقام وأما ما قيل لو أتبع الحق أهواءهم لخرج عن الإلهية فمالا احتمال له أصلا «بل أتيناهم بذكرهم» انتقال من تشنيعهم بكراهة الحق الذي به يقوم العالم إلى تشنيعهم بالإعراض عما جبل عليه كل نفس من الرغبة فيما فيه خيرها والمراد بالذكر القرآن الذي هو فخرهم وشرفهم حسبما ينطق به قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك أي بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال «فهم» بما فعلوه من النكوص «عن ذكرهم» أي فخرهم وشرفهم خاصة «معرضون» لا عن غير ذلك مما لا يوجب الإقبال عليه والاعتناء به وفي وضع للظاهر موضع الضمير مزيد تشنيع لهم وتقريع والفاء لترتيب ما بعدها من إعراضهم عن ذكرهم
144

على ما قبلها من إيتاء ذكرهم لا لترتيب الإعراض على الإيتاء مطلقا فإن المستتبع لكون إعراضهم إعراضا عن ذكرهم هو إيتاء ذكرهم لا الإتياء مطلقا وفي إسناد الإتيان بالذكر إلى نور العظمة بعد إسناده إلى ضميره صلى الله عليه وسلم تنويه لشأن النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيه على كونه بمثابة عظيمة منه عز وجل وفي إيراد القرآن الكريم عند نسبته إليه صلى الله عليه وسلم بعنوان الحقية وعند نسبته إليه تعالى بعنوان الذكر من لا نكتة السرية والحكمة العبقرية ما لا يخفى فإن التصريح بحقيته المستلزمة لحقية من جاء به هو الذي يقتضيه مقام حكاية ما قاله المبطلون في شأنه وأما التشريف فإنما يليق به تعالى لا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المشرفين وقيل المراد بالذكر ما تمنوه بقولهم لو أن عندنا ذكرا من الأولين وقيل وعظهم وأيد ذلك أنه قرئ بذكراهم والتشنيع على الأولين أشد فإن الإعراض عن وعظهم ليس في مثابة إعراضهم عن شرفهم أو عن ذكرهم الذي يتمنونه في الشناعة والقباحة «أم تسألهم» انتقال من توبيخهم بما ذكر من قوله أم يقولون به جنة إلى التوبيخ بوجه آخر كأنه قيل أم يزعمون أنك تسألهم على أداء الرسالة «خرجا» أي جعلا فلأجل ذلك لا يؤمنون بك وقوله تعالى «فخراج ربك خير» أي رزقه في الدنيا وثوابه في الآخرة تعليل لنفي السؤال المستفاد من الإنكار أي لا تسألهم ذلك فإن ما رزقك الله تعالى في الدنيا والعقبى خير لك من ذلك وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تعليل الحكم وتشريفه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى والخرج بإزاء الدخل يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك والخراج غالب في الضريبة على الأرض وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك وقيل الخرج أخص من الخراج ففي النظم الكريم إشعار بالكثرة واللزوم وقرئ خرجا فخرج وخراجا فخراج «وهو خير الرازقين» تقرير لخيرية خراجه تعالى «وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم» تشهد العقول السليمة باستقامته ليس فيه شائبة اعوجاج توهم اتهامهم لك بوجه من الوجوه ولقد ألزمهم الله عز وعلا وأزاح عللهم في هذه الآيات حيث حصر أقسام ما يؤدي إلى الإنكار والاتهام وبين انتفاء ما عدا كراهتهم للحق وقلة فطنتهم «وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة» وصفوا بذلك تشنيعا لهم بما هم عليه من الانهماك في الدنيا وزعمهم أن لا حياة إلا الحياة الدنيا وإشعارا بعلة الحكم فإن الإيمان بالآخرة وخوف ما فيها من الدواهي من أقوى الدواعي إلى طلب الحق وسلوك سبيله «عن الصراط» أي عن جنس الصراط «لناكبون» لعادلون فضلا عن الصراط المستقيم أو عن الصراط المستقيم الذي تدعوهم إليه والأول أدل على كمال ضلالهم وغاية غوايتهم لما أنه ينبئ عن كون ما ذهبوا إليه مما لا يطلق عليه اسم الصراط ولو كان معوجا «ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر» أي قحط وجدب «للجوا» لتمادوا «في
145

طغيانهم» إفراطهم في الكفر والاستكبار وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين «يعمهون» أي عامهين عن الهدى روى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله تعالى بالسنين حتى أكلوا العلهز جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين قال بلى فقال قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فنزلت والمعنى لو كشفنا عنهم ما أصابهم من القحط والهزال برحمتنا إياهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الإفراط في الكفر والاستكبار ولذهب عنهم هذا التملق والإبلاس وقد كان كذلك وقوله تعالى «ولقد أخذناهم بالعذاب» استئناف مسوق للاستشهاد على مضمون الشرطية والمراد بالعذاب ما نالهم يوم بدر من القتل والأسر وما أصابهم من فنون العذاب التي من جملتها القحط المذكور واللام جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أخذناهم بالعذاب «فما استكانوا لربهم» بذلك أي لم يخضعوا ولم يتذللوا على أنه إما استفعال من الكون لان الخاضع ينتقل من كون إلى كون أو افتعال من السكون قد أشبعت فتحته كمنتزاح في منتزح بل أقاموا على ما كانوا عليه من العتو والاستكبار وقوله تعالى «وما يتضرعون» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي وليس من عادتهم التضرع إليه تعالى «حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد» هو عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل بفتح الباب والوصف بالشدة وقرئ فتحنا بالتشديد «إذا هم فيه مبلسون» أي متحيرون آيسون من كل خير أي محناهم بكل محنة من القتل والأسر والجوع وغير ذلك فما رؤى منهم لين مقادة وتوجه إلى الإسلام قط وأما ما أظهره أبو سفيان فليس من الاستكانة له تعالى والتضرع إليه تعالى في شيء وإنما هو نوع خنوع إلى أن يتم غرضه فحاله كما قيل إذا جاع ضغا وإذا شبع طغا وأكثرهم مستمرون على ذلك إلى ن يروا عذاب الآخرة فحينئذ يبلسون وقيل المراد بالباب الجوع فإنه أشد وأعم من القتل والأسر والمعنى أخذناهم أولا بما جرى عليهم يوم بدر من قتل صناديدهم وأسرهم فما وجد منهم تضرع واستكانة حتى فتحنا عليهم باب الجوع الذي هو أطم وأتم فأبلسوا الساعة وخضعت رقابهم وجاءك أعتاهم وأشدهم شكيمة في العناد يستعطفك والوجه هو الأول «وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار» لتشاهدوا بها الآيات التنزيلية والتكوينية «والأفئدة» لتتفكروا بها ما تشاهدونه وتعتبروا اعتبارا لائقا «قليلا ما تشكرون» أي شكرا قليلا غير معتد به تشكرون تلك النعم الجليلة لما أن العمدة في الشكر صرف تلك القرى التي هي في أنفسها نعم باهرة إلى ما خلقت هي له وأنتم تخون بذلك إخلالا عظيما
146

«وهو الذي ذرأكم في الأرض» أي خلقكم وبثكم فيها بالتناسل «وإليه تحشرون» أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم لا إلى غيره فما لكم لا تؤمنون به ولا تشكرونه «وهو الذي يحيي ويميت» من غير أن يشاركه في ذلك شيء من الأشياء «وله» خاصة «اختلاف الليل والنهار» أي هو المؤثر في اختلافهما أي تعاقبهما أو اختلافهما ازديادا وانتقاصا أو لأمره وقضائه اختلافهما «أفلا تعقلون» أي ألا تتفكرون فلا تعقلون أو ألا تتفكرون فلا تعقلون بالنظر والتأمل أن الكل منا وأن قدرتنا تعم جميع الممكنات التي من جملتها البعث وقرئ يعقلون على أن الالتفات إلى الغيبة لحكاية سوء حال المخاطبين لغيرهم وقيل على أن الخطاب الأول لتغليب المؤمنين وليس بذاك «بل قالوا» عطف على مضمر يقتضيه المقام أي فلم يعقلوا بل قالوا «مثل ما قال الأولون» أي آباؤهم ومن دان بدينهم «قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون» تفسير لما قبله من المبهم وتفصيل لما فيه من الإجمال وقد مر الكلام فيه «لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا» أي البعث «من قبل» متعلق بالفعل من حيث إسناده إلى آبائهم لا إليهم أي ووعد آباؤنا من قبل أو بمحذوف وقع حالا من آباؤنا أي كائنين من قبل «إن هذا» أي ما هذا «إلا أساطير الأولين» أي أكاذيبهم التي سطروها جمع أسطورة كأحدوثة وأعجوبة وقيل جمع أسطار جمع سطر «قل لمن الأرض ومن فيها» من المخلوقات تغليبا للعقلاء على غيرهم «إن كنتم تعلمون» جوابه محذوف ثقة بدلالة
الاستفهام عليه أي إن كنتم تعلمون شيئا ما فأخبروني به فإن ذلك كاف في الجواب وفيه من المبالغة في وضوح الأمر وفي تجهيلهم ما لا يخفى أو إن كنتم تعلمون ذلك فأخبروني وفيه استهانة بهم وتقرير لجهلهم ولذلك أخبر بجوابهم قبل أن يجيبوا حيث قيل «سيقولون لله» لأن بديهة العقل تضطرهم إلى الاعتراف بأنه تعالى خالقها «قل» أي عند اعترافهم بذلك تبكيتا لهم «أفلا تذكرون» أي أتعلمون ذلك أو أتقولون ذلك فلا تتذكرون أن من فطر الأرض وما فيها ابتداء قادر على إعادتها ثانيا فإن البدء ليس بأهون من الإعادة
147

بل الأمر بالعكس في قياس العقول وقرئ تتذكرون على الأصل «قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم» أعيد الرب تنويها لشأن العرش ورفعا لمحله عن أن يكون تبعا للسموات وجودا وذكرا ولقد روعي في الأمر بالسؤال الترقي من الأدنى إلى الأعلى «سيقولون لله» باللام نظرا إلى معنى السؤال فإن قولك من ربه ولمن هو في معنى واحد وقرئ هو وما بعده بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال «قل» إفحاما لهم وتوبيخا «أفلا تتقون» أي أتعلمون ذلك ولا تقون أنفسكم عقابه بعدم العمل بموجب العلم حيث تكفرون به وتنكرون البعث وتثبتون له شريكا في الربوبية «قل من بيده ملكوت كل شيء» مما ذكر وما لم يذكر أي ملكه التام القاهر وقيل خزائنه «وهو يجير» أي يغيث غيره إذا شاء «ولا يجار عليه» أي ولا يغيث أحد عليه أي لا يمنع أحد منه بالنصر عليه «إن كنتم تعلمون» أي شيئا ما أو ذلك فأجيبوني على ما سبق «سيقولون لله» أي لله ملكوت كل شيء وهو الذي يجير ولا يجار عليه «قل فأنى تسحرون» أي فمن أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من الغنى فإن من لا يكون مسحورا مختل العقل لا يكون كذلك «بل أتيناهم بالحق» الذي لا محيد عنه من التوحيد والوعد بالبعث «وإنهم لكاذبون» فيما قالوا من الشرك وإنكار البعث «ما اتخذ الله من ولد» كما يقوله النصارى والقائلون إن الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا «وما كان معه من إله» يشاركه في الألوهية كما يقوله عبدة الأوثان وغيرهم «إذا لذهب كل إله بما خلق» جواب لمحاجتهم وجزاء لشرط قد حذف لدلالة ما قبله عليه أي لو كان معه آلهة كما يزعمون لذهب كل واحد منهم بما خلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخرين ووقع بينهم التغالب والتحارب كما هو الجاري فيما بين الملوك «ولعلا بعضهم على بعض» فلم يكن بيده وحده ملكوت كل شيء وهو باطل لا يقول به عاقل قط مع قيام البرهان على استباد جميع الممكنات إلى واجب الوجود واحد بالذات «سبحان الله عما يصفون» أي يصفونه
148

من أن يكون له أنداد وأولاد «عالم الغيب والشهادة» بالجر على أنه بدل من الجلالة وقيل صفة لها وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وأيا ما كان فهو دليل آخر على انتفاء الشريك بناء على توافقهم في تفرده تعالى بذلك ولذلك رتب عليه بالفاء قوله تعالى «فتعالى عما يشركون» فإن تفرده تعالى بذلك موجب لتعاليه عن أن يكون له شريك «قل رب إما تريني» أي إن كان لابد من أن تريني «ما يوعدون» من العذاب الدنيوي المستأصل وأما العذاب الأخروي فلا يناسبه المقام «رب فلا تجعلني في القوم الظالمين» أي قرينا لهم فيما هم فيه من العذاب وفيه إيذان بكمال فظاعة ما وعدوه من العذاب وكونه بحيث يجب أن يستعيذ منه من لا يكاد يمكن أن يحيق به ورد لإنكارهم إياه واستعجالهم به على طريقة الاستهزاء به وقيل أمر به صلى الله عليه وسلم هضما لنفسه وقيل لأن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى واتقوا فتنة لا تصبن الذين ظلموا منكم خاصة وروى أنه تعالى اخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن له في أمته نقمة ولم يطلعه على وقتها فأمره بهذا الدعاء وتكرير النداء وتصدير كل من الشرط والجزاء به لإبراز كمال الضراعة والابتهال «وإنا على أن نريك ما نعدهم» من العذاب «لقادرون» ولكنا نؤخره لعلمنا بان بعضهم أو بعض أعقابهم سيؤمنون أو لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم وقيل قد أراه ذلك وهو ما أصابهم يوم بدر أو فتح مكة ولا يخفى بعده فإن المتبادر أن يكون ما يستحقونه من العذاب الموعود عذابا هائلا مستأصلا لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الداعية إليه «ادفع بالتي هي أحسن السيئة» وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها لكن لا بحيث يؤدي إلى وهن في الدين وقيل هي كلمة التوحيد والسيئة الشرك وقيل هو الأمر بالمعروف والسيئة المنكر وهو أبلغ من ادفع بالحسنة السيئة لما فيه من التنصيص على التفضيل وتقديم الجار والمجرور على المفعول في الموضعين للاهتمام «نحن أعلم بما يصفون» أي بما يصفونك به أو بوصفهم إياك على خلاف ما أنت عليه وفيه وعيد لهم بالجزاء والعقوبة وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاد له صلى الله عليه وسلم إلى تفويض أمره إليه تعالى «وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين» أي وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت به من المحاسن التي من جملتها
149

دفع السيئة بالحسنة وأصل الهمز النخس ومنه مهماز الرائض شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدواب على الإسراع أو الوثب والجمع للمرات أو لتنوع الوساوس أو لتعدد المضاف إليه «وأعوذ بك رب أن يحضرون» أمر صلى الله عليه وسلم بأن يعوذ به تعالى من حضورهم بعد ما أمر بالعوذ من همزاتهم للمبالغة في التحذير من ملابستهم وإعادة الفعل مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به وعرض نهاية الابتهال في الاستدعاء أي أعوذ بك من أن يحضروني ويحوموا حولي في حال من الأحوال وتخصيص حال الصلاة وقراءة القرآن كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وحال حلول الأجل كما روى عن عكرمة رحمه الله لأنها أحرى الأحوال بالاستعاذة منها «حتى إذا جاء أحدهم الموت» حتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بيصفون وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء بالاستعاذة به تعالى من الشياطين أن يزلوه صلى الله عليه وسلم عن الحلم ويغروه على الانتقام لكن لا بمعنى أنه العامل فيه لفساد المعنى بل بمعنى أنه معمول لمحذوف يدل عليه ذلك وتعلقها بكاذبون في غاية البعد لفظا ومعنى أي يسمرون على الوصف المذكور حتى إذا جاء أحدهم أي أحد كان الموت الذي لأمر دله وظهرت له أحوال الآخرة «قال» تحسرا على ما فرط فيه من الإيمان والطاعة «رب ارجعون» أي ردني إلى الدنيا والواو لتعظيم المخاطب وقيل لتكرير قوله ارجعني كما قيل في قفانيك ونظائره «لعلي أعمل صالحا فيما تركت» أي في الإيمان الذي تركته لم ينظمه في سلك الرجاء كسائر الأعمال الصالحة بأن يقول لعلى أو من فأعمل الخ للإشعار بأنه أمر مقرر الوقوع غنى عن الإخبار بوقوعه قطعا فضلا عن كونه مرجو الوقوع أي لعلي أعمل في الإيمان الذي آتى به البتة عملا صلاحا وقيل فيما تركته من المال أو من الدنيا وعنه صلى الله عليه وسلم إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا أنرجعك إلى الدنيا فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله
تبارك وتعالى وأما الكافر فيقول ارجعوني «كلا» ردع عن طلب الرجعة واستبعاد لها «إنها» أي قوله رب ارجعون الخ «كلمة هو قائلها» لا محالة لتسلط الحسرة عليه «ومن ورائهم» أي أمامهم والضمير لأحدهم والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ «برزخ» حائل بينهم وبين الرجعة «إلى يوم يبعثون» يوم القيامة وهو إقناط كلى عن الرجعة إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا وإنما الرجعة يومئذ إلى الحياة الأخروية «فإذا نفخ في الصور» لقيام الساعة وهي النفخة الثانية التي يقع عندها البعث والنشور وقيل المعنى فإذا نفخ
150

في الأجساد أرواحها على أن الصور جمع الصورة لا القرن ويؤيده القراءة بفتح الواو به مع كسر الصاد «فلا أنساب بينهم» تنفعهم لزوال التراحم والتعاطف من فرط الحيرة واستيلاء الدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه أو لا أنساب يفتخرون بها «يومئذ» كما هي بينهم اليوم «ولا يتساءلون» أي لا يسأل بعضهم بعضا لاشتغال كل منهم بنفسه ولا يناقضه قوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون لأن هذا عند ابتداء النفخة الثانية وذلك بعد ذلك «فمن ثقلت موازينه» موزونات حسناته من العقائد والأعمال أي فمن كانت له عقائد صحيحة وأعمال صالحة يكون لها وزن وقدر عند الله تعالى «فأولئك هم المفلحون» الفائزون بكل مطلوب الناجون من كل مهروب «ومن خفت موازينه» أي ومن لم يكن له من العقائد والأعمال ماله وزن وقدر عنده وهم الكفار لقوله تعالى فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا وقد مر تفصيل ما في هذا المقام من الكلام في تفسير سورة الأعراف «فأولئك الذين خسروا أنفسهم» ضيعوها بتضييع زمان استكمالها وأبطلوا استعدادها لنيل كما لها واسم الإشارة في الموضعين عبارة عن الموصول وجمعه باعتبار معناه كما أن إفراد الضميرين في الصلتين باعتبار لفظه «في جهنم خالدون» بدل من الصلة أو الخبر ثان لأولئك «تلفح وجوههم النار» تحرقها واللفح كالنفخ إلا أنه أشد تأثيرا منه وتخصيص الوجوه بذلك لأنها اشرف الأعضاء فبيان حالها أزجر عن المعاصي المؤدية إلى النار وهو السر في تقديمها على الفاعل «وهم فيها كالحون» من شدة الاحتراق والكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان وقرئ كلحون «ألم تكن آياتي تتلى عليكم» على إضمار القول أي يقال لهم تعنيفا وتوبيخا وتذكيرا لما به استحقوا ما ابتلوا به من العذاب ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا «فكنتم بها تكذبون» حينئذ «قالوا ربنا غلبت علينا» أي ملكتنا «شقوتنا» التي اقترفناها بسوء اختيارنا كما ينبئ عنه إضافتها إلى أنفسهم وقرئ شقوتنا بالفتح وشقاوتنا أيضا بالفتح والكسر «وكنا» بسبب ذلك «قوما ضالين» عن الحق لذلك فعلنا ما فعلنا من التكذيب وهذا كما ترى اعتراف منهم بأن ما أصابهم قد أصابهم بسوء صنيعهم وأما ما قيل من أنه اعتذار منهم بغلبة ما كتب عليهم من الشقاوة الأزلية فمع أنه باطل في نفسه لما أنه لا يكتب عليهم من السعادة والشقاوة إلا ما علم الله تعالى أنهم يفعلونه باختيارهم ضرورة أن العلم تابع للمعلوم يرده قوله تعالى
151

«ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون» أي أخرجنا من النار وارجعنا إلى الدنيا فإن عدنا بعد ذلك إلى ما كنا عليه من الكفر والمعاصي فإنا متجاوزون الحد في الظلم ولو كان اعتقادهم أنهم مجبورون على ما صدر عنهم لما سألوا الرجعة إلى الدنيا ولما وعدوا الإيمان والطاعة بل قولهم فإن عدنا صريح في أنهم حينئذ على الإيمان والطاعة وإنما الموعود على تقدير الرجعة إلى الدنيا إحدائهما «قال اخسؤوا فيها» أي اسكتوا في النار سكوت هوان وذلوا وانزجروا انزجار الكلاب إذا زجرت من خسأت الكلب إذا زجرته فخسأ أي انزجر «ولا تكلمون» أي باستدعاء الإخراج من النار والرجع إلى الدنيا وقيل لا تكلمون في رفع العذاب ويرده التعليل الآتي وقيل لا تكلمون رأسا وهو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلب لا يفهمون ولا يفهمون ويرده الخطابات الآتية قطعا وقوله تعالى «أنه» تعليل لما قبله من الزجر عن الدعاء أي أن الشأن وقرئ بالفتح أي لأن الشأن «كان فريق من عبادي» وهم المؤمنون وقيل أنهم الصحابة وقيل أهل الصفة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين «يقولون» في الدنيا «ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين» «فاتخذتموهم سخريا» أي اسكتوا عن الدعاء بقولكم ربنا الخ لأنكم كنتم تستهزئون بالداعين بقولهم ربنا آمنا الخ وتتشاغلون باستهزائهم «حتى أنسوكم» أي الاستهزاء بهم «ذكرى» من فرط اشتغالكم باستهزائهم «وكنتم منهم تضحكون» وذلك غاية الاستهزاء وقوله تعالى «إني جزيتهم اليوم» استئناف لبيان حسن حالهم وأنهم انتفعوا بما آذوهم «بما صبروا» بسبب صبرهم على أذيتكم وقوله تعالى «أنهم هم الفائزون» ثاني مفعولي الجزاء أي جزيتهم فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به وقرئ بكسر الهمزة على أنه تعليل للجزاء وبيان لكونه في غاية ما يكون من الحسن «قال» أي الله عز وجل أو الملك المأمور بذلك تذكيرا لما لبثوا فيما سألوا الرجوع غليه من الدنيا بعد التنبيه على استحالته بقوله اخسئوا فيها الخ وقرئ قل على الأمر للملك «كم لبثتم في الأرض» التي تدعون إليها «عدد سنين» تمييز لكم
152

«قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم» استقصارا لمدة لبثهم فيها «فاسأل العادين» أي المتمكنين من العد فإنما بما دهمنا من العذاب بمعزل من ذلك أو الملائكة العادين لأعمار العباد وأعمالهم وقرئ العادين بالتخفيف أي المعتدين فأنهم أيضا يقولون ما نقول كأنهم الأتباع يسمون الرؤساء بذلك لظلمهم إياهم إضلالهم وقرئ العاديين أي القدماء المعمرين فإنهم أيضا يستقصرون مدة لبثهم «قال» أي الله تعالى أو الملك وقرئ قل كما سبق «إن لبثتم إلا قليلا» تصديقا لهم في ذلك «لو أنكم كنتم تعلمون» أي تعمون شيئا ولو كنتم من أهل العلم والجواب محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه أي لعلمتم يومئذ قلة لبثكم فيها كما علمتم اليوم ولعملتم بموجبه ولم تخلدوا إليها «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا» أي ألم تعلموا شيئا فحسبتم أنما خلقناكم بغير حكمة بالغة حتى أنكرتم البعث فعبثا حال من نون العظمة أي عابثين أو مفعول له أي أنما خلقناكم للعبث «وأنكم إلينا لا ترجعون» عطف على أنما فإن خلقكم بغير بعث من قبيل العبث وإنما خلقناكم لنعيدكم ونجازيكم على أعمالكم وقرئ ترجعون بفتح التاء من الرجوع «فتعالى الله» استعظام له تعالى لشؤون التي تصرف عليها عباده من البدء والإعادة والإثابة والعقاب بموجب الحكمة البالغة أي ارتفع بذاته وتنزه عن مماثلة المخلوقين في ذاته وصفاته وأحواله وأفعاله وعن خلو أفعاله عن الحكم والمصالح والغايات الحميدة «الملك الحق» الذي يحق له الملك على الإطلاق إيجادا وإعداما بدءا إعادة إحياء وإماتة عقابا وإثابة وكل ما سواه مملوك له مقهور تحت ملكوته «لا إله إلا هو» فإن كل ما عداه عبيده «رب العرش الكريم» فكيف بما تحته ومحاط به من الموجودات كائنا
ما كان ووصفه بالكرم إما لأنه منه ينزل الوحي الذي منه القرآن الكريم أو الخير والبركة والرحمة أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين وقرئ الكريم بالرفع على أنه صفة الرب كما في قوله تعالى ذو العرش المجيد «ومن يدع مع الله إلها آخر» يعبده إفرادا وإشراكا «لا برهان له به» صفة لازمة لإلها كقوله تعالى يطير بجناحيه جيء بها للتأكيد وبناء الحكم عليه تنبيها على أن التدين بما لا دليل عليه باطل فكيف بما شهدت بديهة العقول بخلافه أو اعتراض بين الشرط والجزاء كقولك من
153

أحسن إلى زيد لا أحق منه بالإحسان فالله مثيبه «فإنما حسابه عند ربه» فهو مجاز له على قدر ما يستحقه «إنه لا يفلح الكافرون» أي أن الشأن الخ وقرئ بالفتح على أنه تعليل أو خبر ومعناه حسابه عدم الفلاح والأصل حسابه أنه لا يفلح هو فوضع الكافرون موضع الضمير لأن من يدع في معنى الجمع وكذلك حسابه أنه لا يفلح في معنى حسابهم أنهم لا يفلحون بدئت السورة الكريمة بتقرير فلاح المؤمنين وختمت بنفي الفلاح عن الكافرين ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاستغفار والاسترحام فقيل «وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين» إيذانا بأنهما من أهم الأمور الدينية حيث أمر به من قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكيف بمن عداه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المؤمنين بشرته الملائكة بالروح والريحان وما تقر به عينه عند نزول ملك الموت وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لقد أنزلت على عشر آيات من أقامهن دخل الجنة ثم قرأ قد أفلح المؤمنون حتى ختم العشر وروى أن أولها وآخرها من كنوز الجنة من عمل بثلاث آيات من أولها واتعظ بأربع من آخرها فقد نجا وأفلح
154

سورة النور مدنية وهي اثنتان أو أربع وستون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «سورة» خبر مبتدأ محذوف إي هذه سورة وإنما أشير إليها مع عدم سبق ذكرها لأنها باعتبار كونها في شرف الذكر في حكم الحاضر المشاهد وقوله تعالى «أنزلناها» مع ما عطف عليه صفات لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة من حيث الذات بالفخامة من حيث الصفات وأما كونها مبتدأ محذوف الخبر على أن يكون التقدير فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها فيأباه أن مقتضى المقام بيان شأن السورة الكريمة لا أن في جملة ما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم سورة شأنها كذا وكذا وحملها على السورة الكريمة بمعونة المقام يوهم أن غيرها من السور الكريمة ليست على تلك الصفات وقرئ بالنصب على إضمار فعل يفسره أنزلناها فلا محل له حينئذ من الإعراب أو على تقدير اقرأ ونحوه أو دونك عند من يسوغ حذف أداة الإغراء فمحل أنزلنا النصب على الوصفية «وفرضناها» أي أو أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجابا قطعيا وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفي وقرئ فرضناها بالتشديد لتأكيد الإيجاب أو لتعدد الفرائض أو لكثرة المفروض عليهم من السلف والخلف «وأنزلنا فيها» أي في تضاعيف السورة «آيات بينات» إن أريد بها الآيات التي نيطت بها الأحكام المفروضة وهو الأظهر فكونها في السورة ظاهر ومعنى كونها بينات وضوح دلالاتها على أحكامها لا على معانيها على الإطلاق فإنها أسوة لسائر الآيات في ذلك وتكرير أنزلنا مع استلزام إنزال السورة لإنزالها لإبراز كمال العناية بشأنها وإن أريد جميع الآيات فالظرفية باعتبار اشتمال الكل على كل واحد من أجزائه وتكرير أنزلنا مع أن جميع الآيات عين السورة وإنزالها عين إنزالها لاستقلالها بعنوان رائق داع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها ورفعا لمحلها كقوله تعالى ونجيناه من عذاب غليظ بعد قوله تعالى ونجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا «لعلكم تذكرون» بحذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام الثانية في الذال أي تتذكرونها فتعلمون بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء إحكامها وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على ذكر منهم بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها «الزانية والزاني» شروع في تفصيل ما ذكر من الآيات البينات وبيان أحكامها
155

والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المزنية كرها وتقديمها على الزاني لأنها الأصل في الفعل لكون الداعية فيها أوفر ولولا تمكينها منه لم يقع ورفعهما على الابتداء والخبر قوله تعالى «فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة» والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذا اللام بمعنى الموصول والتقدير التي زنت والذي زنى كما في قوله تعالى واللذان يأتياها منكم فآذوهما وقيل الخبر محذوف أي فيما أنزلنا أو فيما فرضنا الزانية والزاني أي حكمهما وقوله تعالى فاجلدوا الخ بيان لذلك الحكم وكان هذا عاما في حق المحصن وغيره وقد نسخ في حق المحصن قطعا ويكفينا في تعيين الناسخ القطع بأنه صلى الله عليه وسلم قد رجم ماعزا أو غيره فيكون من باب نسخ الكتاب بالسنة المشهورة وفي الإيضاح الرجم حكم ثبت بالسنة المشهورة المتفق عليها فجازت الزيادة بها على الكتاب وروى عن علي رضي الله عنه جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل نسخ بآية منسوخة التلاوة وهي الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ويأباه ما روي عن علي رضي الله عنه «ولا تأخذكم بهما رأفة» وقرئ بفتح الهمزة وبالمد أيضا على فعالة أي رحمة ورقة «في دين الله» في طاعته وإقامة حده فتعطلوه أو تسامحوه فيه وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها «إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر» من باب التهييج والإلهاب فإن الإيمان بهما يقتضي الجد في طاعته تعالى والاجتهاد في إجراء أحكامه وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة والتعطيل «وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين» أي لتحضره زيادة في التنكيل فإن التفضيح قد ينكل أكثر مما ينكل التعذيب والطائفة فرقة يمكن أن تكون حافة حول شيء من الطوف وأقلها ثلاثة كما روي عن قتادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أربعة إلى أربعين وعن الحسن عشرة والمراد جمع يحصل به التشهير والزجر «الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك» حكم مؤسس على الغالب المعتاد جئ به لزجر المؤمنين بهن وقد رغب بعض من ضعفه المهاجرين في نكاح موسرات كانت بالمدينة من بغايا المشركين فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فنفروا عنه ببيان أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين كأنه قيل الزاني لا يرغب إلا في نكاح إحداهما والزانية لا يرغب في نكاحها إلا أحدهما فلا تحوموا حوله كيلا تنتظموا في سلكهما أو تتسموا بسمتهما فإيراد الجملة الأولى مع أن مناط التنفير هي الثانية إما للتعريض بقصرهم الرغبة عليهن حيث استأذنوا في نكاحهن أو لتأكيد العلاقة بين الجانبين مبالغة في الزجر والتنفير وعدم التعرض في الجملة الثانية للمشركة للتنبيه على أن مناط الزجر والتنفير هو الزنا لا مجرد الإشراك وإنما تعرض لها في الأولى إشباعا في التنفير عن الزانية بنظمها في سلك المشركة «وحرم ذلك» أي نكاح الزواني «على
المؤمنين» لما أن فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والتسبب لسوء القالة والطعن في النسب واختلال
156

أمر المعاش وغير ذلك من المفاسد ما لا يكاد يليق بأحد من الأداني والأراذل فضلا عن المؤمنين ولذلك عبر عن التنزيه بالتحريم مبالغة في الزجر وقيل النفي بمعنى النهي وقد قرئ به والتحريم على حقيقته والحكم إما مخصوص بسبب النزول أو منسوخ بقوله تعالى وأنكحوا الأيامي منكم فإنه متناول للمسافحات ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال وما قيل من أن المراد بالنكاح هو الوطء بين البطلان «والذين يرمون المحصنات» بيان لحكم العفائف إذا نسبن إلى الزنا بعد بيان حكم الزواني ويعتبر في الإحصان ههنا مع مدلوله الوضعي الذي هو العفة عن الزنا الحرية والبلوغ والإسلام وفي التعبير عن التفوه بما قالوا في حقهن بالرمي المنبئ عن صلابة الآلة وإيلام المرمى وبعده عن الرامي إيذان بشدة تأثيره فيهن وكونه رجما بالغيب والمراد به رميهن بالزنا لا غير وعدم التصريح به للاكتفاء بإيرادهن عقيب الزواني ووصفهن بالإحصان الدال بالوضع على نزاهتهن عن الزنا خاصة فإن ذلك بمنزلة التصريح بكون رميهن به لا محالة ولا حاجة في ذلك إلى الاستشهاد باعتبار الأربعة من الشهداء على أن فيه مؤنة بيان تأخر نزول الآية عن قوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة ولا بعدم وجوب الحد بالرمي بغير الزنا على أن فيه شبهة المصاردة كأنه قيل والذين يرمون العفائف المنزهات عما رمين به من الزنا «ثم لم يأتوا بأربعة شهداء» يشهدون عليهن بما رموهن به وفي كلمة ثم إشعار بجواز تأخير الإتيان بالشهود كما أن في كلمة لم إشارة إلى تحقيق العجز عن الإتيان بهم وتقرره خلا أن اجتماع الشهود لا بد منه عند الأداء خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فإنه جوز التراخي بين الشهادات كما بين الرمي والشهادة ويجوز ان يكون أحدهم زوج المقذوفة خلافا له أيضا وقرئ بأربعة شهداء «فاجلدوهم ثمانين جلدة» لظهور كذبهم وافترائهم بعجزهم عن الإتيان بالشهداء لقوله تعالى فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر ونصب جلدة على التمييز وتخصيص رميهن بهذا الحكم مع أن حكم رمي المحصنين أيضا كذلك لخصوص الواقعة وشيوع الرمي فيهن «ولا تقبلوا لهم شهادة» عطف على اجلدوا داخل في حكمه تتمة له لما فيه من معنى الزجر لأنه مؤلم للقلب كما أن الجلد مؤلم للبدن وقد آذى المقذوف بلسانه فعوقب باهدار منافعه جزاء وفاقا واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو حال من شهادة قدمت عليها لكونها نكرة ولو تأخرت عنها لكانت صفة لها وفائدتها تخصيص الرد بشهادتهم الناشئة عن أهليتهم الثابتة لهم عند الرمي وهو السر في قبول شهادة الكافر المحدود في القذف بعد التوبة والإسلام لأنها ليست ناشئة عن أهليته السابقة بل عن أهلية حدثت له بعد إسلامه فلا يتناولها الرد فتدبر ودع عنك ما قيل من أن المسلمين لا يعبأون بسبب الكفار فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف المسلم فإن ذلك بدون ما مر من الاعتبار تعليل في مقابلة النص ولا يخفي حاله فالمعنى لا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات حال كونها
157

حاصلة لهم عند الرمي «أبدا» أي مدة حياتهم وإن تابوا وأصلحوا لما عرفت من أنه تتمة للحد كأنه قيل فاجلدوهم وردوا شهادتهم أي فاجمعوا لهم الجلد والرد فيبقى كأصله «وأولئك هم الفاسقون» كلام مستأنف مقرر لما قبله ومبين لسوء حالهم عند الله عز وجل وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الشر والفساد أي أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق والخروج عن الطاعة والتجاوز عن الحدود الكاملون فيه كأنهم هم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم لا غيرهم من الفسقة وقوله تعالى «إلا الذين تابوا» استثناء من الفاسقين كما ينبئ عنه التعليل الآتي ومحل المستثني النصب لأنه من موجب وقوله تعالى «من بعد ذلك» لتهويل المتوب عنه أي من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم الهائل «وأصلحوا» أي أصلحوا أعمالهم التي من جملتها ما فرط منهم بالتلافي والتدارك ومنه الاستسلام للحد والاستحلال من المقذوف «فإن الله غفور رحيم» تعليل لما يفيده الاستثناء من العفو عن المؤاخذة بموجب الفسق كأنه قيل فحينئذ لا يؤاخذهم الله تعالى بما فرط منهم ولا ينظمهم في سلك الفاسقين لأنه تعالى مبالغ في المغفرة والرحمة هذا وقد علق الشافعي رحمه الله الاستثناء بالنهي فمحل المستثني حينئذ الجر على البدلية من الضمير في لهم وجعل الأبد عبارة عن مدة كونه قاذفا فتنتهي بالتوبة فتقبل شهادته بعدها «والذين يرمون أزواجهم» بيان لحكم الرامين لأزواجهم خاصة بعد بيان حكم الرامين لغيرهن لكن لا بأن يكون هذا مخصصا للمحصنات بالأجنبيات ليلزم بقاء الآية السابقة ظنية فلا يثبت بها الحد فإن من شرائط التخصيص أن لا يكون المخصص متراخى النزول بل بكونه ناسخا لعمومها ضرورة تراخي نزولها كما سيأتي فتبقى الآية السابقة قطعية الدلالة فيما بقي بعد النسخ لما بين موضعه أن دليل النسخ غير معلل «ولم يكن لهم شهداء» يشهدون بما رموهن به من الزنا وقرئ بتأنيث الفعل «إلا أنفسهم» بدل من شهداء أو صفة لها على أن إلا بمعنى غير جعلوا من جملة الشهداء إيذانا من أول الأمر بعدم إلغاء قولهم بالمرة ونظمه في سلك الشهادة في الجملة وبذلك ازداد حسن إضافة الشهادة إليهم في قوله تعالى «فشهادة أحدهم» أي شهادة كل واحد منهم وهو مبتدأ وقوله تعالى «أربع شهادات» خبره أي فشهادتهم المشروعة أربع شهادات «بالله» متعلق بشهادات لقربها وقيل بشهادة لتقدمها وقرئ أربع شهادات بالنصب على المصدر والعامل فشهادة على أنه إما خبر لمبتدأ محذوف أي فالواجب شهادة أحدهم وإما مبتدأ محذوف الخبر أي فشهادة أحدهم واجبة «إنه لمن الصادقين» أي فيما رماها به من الزنا وأصله على أنه الخ فحذف الجار وكسرت إن وعلق العامل عنها للتأكيد
158

«والخامسة» أي الشهادة الخامسة للأربع المتقدمة أي الجاعلة لها خمسا بانضمامها إليهن وإفرادها عنهن مع كونها شهادة أيضا لاستقلالها بالفحوى ووكادتها في إفادة ما يقصد بالشهادة من تحقيق الخبر وإظهار الصدق وهي مبتدأ خبره «أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين» فيما رماها به من الزنا فإذا لا عن الزوج حبست الزوجة حتى تعترف فترجم أو تلاعن «ويدرأ عنها العذاب» أي العذاب الدنيوي وهو الحبس المغيا على أحد الوجهين الرجم الذي هو أشد العذاب «أن تشهد أربع شهادات بالله إنه» أي الزوج «لمن الكاذبين» أي فيما رماني به من الزنا «والخامسة» بالنصب على أربع شهادات «أن غضب الله عليها إن كان» أي الزوج «من الصادقين» أي فيما رماني به في الزنا وقرئ والخامسة بالرفع على الابتداء وقرئ أن بالتخفيف في الموضعين ورفع اللعنة والغضب وقرئ أن غضب الله وتخصيص الغضب بجانب المرأة للتغليظ عليها لما أنها مادة الفجور ولأن النساء كثيرا ما يستعملن اللعن فربما يجترئن على التفوه به لسقوط وقعه عن قلوبهن بخلاف غضبه تعالى روي أن آية القذف لما
نزلت قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري رضي الله عنه فقال جعلني الله فداك إن وجد رجل مع امرأته رجلا فأخبر جلد ثمانين وردت شهادته وفسق وإن ضربه بالسيف قتل وإن سكت سكت عل غيظ وإلى أن يجيء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته ومضى اللهم افتح وخرج فاستقبله هلال بن أمية أو عويمر فقال ما وراءك قال شر وجدت على امرأتي خولة وهي بنت عاصم شريك بن سحماء فقال والله هذا سؤالي ما أسرع ما ابتليت به فرجعا فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلم خولة فأنكرت فنزلت فلاعن بينهما والفرقة الواقعة باللعان في حكم التطليقة البائنة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولا يتأبد حكمها حتى إذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحد جاز له أن يتزوجها وعند أبي يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رحمهم الله هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا ليس لهما اجتماع بعد ذلك أبدا «ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم» التفات إلى خطاب الراجين والمرميات بطريق التغليب لتوفية مقام الامتنان حقه وجواب لولا محذوف لتهويله والإشعار بضيق العبارة عن حصره كأنه قيل ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي من جملتها ما شرع لكم من حكم اللعان لكان ما كان مما لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حد القذف مع أن الظاهر صدقه لأنه أعرف بحال زوجته وأنه لا يفتري عليها لاشتراكهما في الفضاحة وبعد ما شرع لهم ذلك لو جعل
159

شهاداته موجبة لحد الزنا عليها لفات النظر لها ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له ولا ريب في خروج الكل عن سنن الحكمة والفضل والرحمة فجعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما حتما دارئة لما توجه إليه من الغائلة الدنيوية وقد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهاداته من العذاب بما هو أتم مما درأته عنه وأطم وفي ذلك من أحكام الحكم البالغة وآثار التفضل والرحمة ما لا يخفي أما على الصادق فظاهر وأما على الكاذب فهو إمهاله والستر عليه في الدنيا ودرء الحد عنه وتعريضه للتوبة حسبما ينبئ عنه التعرض لعنوان توابيته سبحانه ما أعظم شأنه وأوسع رحمته وأدق حكمته «إن الذين جاؤوا بالإفك» أي بأبلغ ما يكون من الكذب والافتراء وقيل هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك وأصله الإفك وهو القلب لأنه مأفوك عن وجهه وسننه والمراد به ما أفك به الصديقة أم المؤمنين رضي الله عنها وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل وذلك أن رسول الله صلى الله علي وسلم كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها قالت عائشة رضي الله عنها فأقرع بيننا في غزوة غزاها قيل غزوة بني المصطلق فخرج سهمي فخرجت معه صلى الله علي وسلم بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير ووجدت عقدي بعد ما استمررت الجيش فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب فتممت منزلي وظننت أني سيفقدونني ويعودون في طلبي فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه فخمرت وجهي بالجلبابي ووالله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه وهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاض الناس في حديثي فهلك من هلك وقوله تعالى «عصبة منكم» خبر إن أي جماعة وهي من العشرة إلى الأربعين وكذا العصابة وهم عبد الله بن أبي وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم وقوله تعالى «لا تحسبوه شرا لكم» استئناف خوطب به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعائشة وصفوان رضي الله عنهم تسلية لهم من أول الأمر والضمير للإفك «بل هو خير لكم» لاكتسابكم به الثواب العظيم وظهور كرامتكم على الله عز وجل بإنزال ثماني عشرة آية في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم والثناء على من ظن بكم خيرا «لكل امرئ
160

منهم» أي من أولئك العصبة «ما اكتسب من الإثم» بقدر ما خاض فيه «والذي تولى كبره» أي معظمه وقرئ بضم الكاف وهي لغة فيه «منهم» من العصبة وهو ابن أبي فإنه بدأ به وأذاعه بين الناس عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هو وحسان ومسطح فإنهما شايعاه بالتصريح به فإفراد الموصول حينئذ باعتبار الفوج أو الفريق أو نحوهما «له عذاب عظيم» أي في الآخرة أو في الدنيا أيضا فأنهم جلدوا وردت شهادتهم وصار ابن أبي مطرودا مشهودا عليه بالنفاق وحسان أعمى وأشل اليدين ومسطح مكفوف البصر وفي التعبير عنه بالذي وتكرير الإسناد وتنكير العذاب ووصفه بالعظم من تهويل الخطب ما لا يخفي «لولا إذ سمعتموه» تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذويه إلى الخائضين بطريق الالتفات لتشديد ما في لولا التحضيضية من التوبيخ ثم العدول عنه إلى الغيبة في قوله تعالى «ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا» لتأكيد التوبيخ والتشنيع لكن لا بطريق الإعراض عنهم وحكاية جناياتهم لغيرهم على وجه المثابة بل بالتوسل بذلك إلى وصفهم بما يوجب الإتيان بالمحضض عليه ويقتضيه اقتضاء تاما ويزجرهم عن ضده زجرا بليغا فإن كون وصف الإيمان مما يحملهم على إحسان الظن ويكفهم عن أسامة بأنفسهم أي بأبناء جنسهم النازلين منزلة أنفسهم كقوله تعالى ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وقوله تعالى ولا تلمزوا أنفسكم مما لا ريب فيه فإخلالهم بموجب ذلك الوصف أقبح وأشنع والتوبيخ عليه أدخل مع ما فيه من التوسل به إلى التصريح بتوبيخ الخائضات ثم ان كان المراد بالإيمان الإيمان الحقيقي فإيجابه لما ذكر واضح والتوبيخ خاص بالمؤمنين وإن كان مطلق الإيمان الشامل لما يظهره المنافقون أيضا فإيجابه له من حيث انهم كانوا يحترزون عن إظهار ما ينافي مدعاهم فالتوبيخ حينئذ متوجه إلى الكل وتوسيط الظرف بين لولا وفعلها لتخصيص التخصيص بأول زمان سماعهم وقصر التوبيخ على تأخير الإنيان بالمحضض عليه عن ذلك الآن والتردد فيه ليفيد أن عدم الإتيان به رأسا في غاية ما يكون من القباحة والشناعة أي كان الواجب أن يظن المؤمنون والمؤمنات أول ما سمعوه ممن اخترعه بالذات أو بالواسطة من غير تلعثم وتردد بمثلهم من آحاد المؤمنين خيرا «وقالوا» في ذلك الآن «هذا إفك مبين» أي ظاهر مكشوف كونه إفكا فكيف بالصديقة ابنة الصديق أم المؤمنين حرمة رسول الله صلى الله عليه
وسلم «لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء» إما من تمام القول المحضض عليه مسوق لحث السامعين على إلزام المسمعين وتكذيبهم إ تكذيب ما سمعوه منهم بقولهم هذا إفك مبين وتوبيخهم على تركه أي هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء يشهدون على ما قالوا «فإذ لم يأتوا» بهم وإنما قيل «بالشهداء» لزيادة التقرير «فأولئك» إشارة إلى الخائضين وما فيه من معنى البعد للإيذان بغلوهم في الفساد وبعد منزلتهم عن الشر أي أولئك المفسدون «عند الله» أي في حكمه وشرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة «هم الكاذبون» الكاملون في الكذب المشهود
161

عليهم بذلك المستحقون لإطلاق الاسم عليهم دون غيرهم ولذلك رتب عليهم الحد خاصة وإما كلام مبتدأ مسوق من جهته تعالى للاحتجاج على كذبهم بكون ما قالوه قولا لا يساعده الدليل أصلا «ولولا فضل الله عليكم» خطاب للسامعين والمسمعين جميعا «ورحمته في الدنيا» من فنون النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة «والآخرة» من الآلاء التي من جملتها العفو بعد التوبة «لمسكم» عاجلا «فيما أفضتم فيه» بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك والإبهام لتهويل أمره والاستهجان بذكره بقال أفاض في الحديث وخاض واندفع وهضب بمعنى «عذاب عظيم» يستحقر دونه التوبيخ والجلد «إذ تلقونه» بحذف إحدى التاءين ظرف للمس أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقت تلقيكم إياه من المخترعين «بألسنتكم» والتقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال وفي الثاني معنى الخطف والأخذ بسرعة وفي الثالث معنى الحذق والمهارة وقرئ تتلقونه تتلقونه على الأصل وتلقونه من لقيه وتلقونه بكسر حرف المضارعة وتلقونه من إلقاء بعضهم على بعض وتلقونه وتألقونه من الولق والإلق وهو الكذب وتثقفونه من ثقفته إذا طلبته فوجدته وتثقفونه أي تتبعونه «وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم» أي تقولون قولا مختصا بالأفواه من غير أن يكون له مصداق ومنشأ في القلوب لأنه ليس بتعبير عن علم به قلوبكم كقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم «وتحسبونه هينا» سهلا لا تبعه له أو ليس له كثير عقوبة «وهو عند الله» والحال أنه عنده عز وجل (عظيم) لا يقادر قدره في الوزر واستجرار العذاب «ولولا إذ سمعتموه» من المخزعين والمشايعين لهم «قلتم» تكذيبا لهم وتهويلا لما ارتكبوه «ما يكون لنا» ما يمكننا «أن نتكلم بهذا» وما يصدر عنا ذلك بوجه من الوجوه وحاصلة نفى وجود التكلم به لا نفى وجوده على وجه الصحة والاستقامة والإنبغاء وهذا إشارة إلى ما سمعوه وتوسيط الظرف بين لولا وقلتم لما مر من تخصيص التحضيض بأول وقت السماع وقصر التوبيخ واللوم على تأخير القول المذكور عن ذلك الآن ليفيد أنه المحتمل للوقوع المفتقر إلى التحضيض على تركه وأما ترك القول نفسه رأسا فيما لا يتوهم وقوعه حتى يحضض على فعله ويلام على تركه وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما قيل إن المعنى إنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم وأماما قيل من أن ظروف الأشياء منزلة منزلة أنفسها لوقوعها فيها وإنها لا تنفك عنها لذلك يتسع فيها مالا
162

يتسع في غيرها فهي ضابطة ربما تستعمل فيما إذا وضع الظرف موضع المظروف بأن ج مفعولا صريحا لفعل مذكور كما في قوله تعالى واذكروا إذا جعلكم خلفاء أو مقدر كعامة الظروف المنصوبة إضمار اذكروا أما ههنا فلا حاجة إليها أصلا لما تحققت أن مناط التقديم توجبه التحضيض إليه وذلك يتحقق في جميع متعلقات الفعل كما في قوله تعالى فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها «سبحانك» تعجب ممن تفوه به وأصله أن يذكر عند معاينة العجيب من صنائعه تعالى تنزيها له سبحانه على أن يصعب عليه أمثاله ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو تنزيه له تعالى عن أن تكون حرمة نبيه فاجرة فإن فجورها تنفير عنه ومخل بمقصود الزواج فيكون تقريرا لما قبله وتمهيدا لقوله تعالى «هذا بهتان عظيم» لعظم المبهوت عليه واستحالة صدقه فإن حقارة الذنوب وعظمها باعتبار متعلقاتها «يعظكم الله» أي ينصحكم «أن تعودوا لمثله» أي كراهة أن تعودوا أو يزجركم من أن تعودوا أو في أن تعودوا من قولك وعظته في كذا فتركه «أبدا» أي مدة حياتكم «إن كنتم مؤمنين» فإن الإيمان وازع عنه لا محالة وفيه تهييج وتقريع «ويبين الله لكم الآيات» الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب دلالة ذلك واضحة لتتعظوا وتتأدبوا بها أي ينزلها كذلك أي مبنية ظاهرة الدلالة على معانيها لا أنه يبينها بعد أن لم تكن كذلك وهذا كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أي خلقهما صغيرا وكبيرا ومنه قولك ضيق فم الركية ووسع أسفلها وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار شأن البيان «والله عليم» بأحوال جميع مخلوقاته جلائلها دقائقها «حكيم» في جميع تدابيره وأفعاله فأنى يمكن صدق ما قيل في حق حرمه من اصطفاه لرسالاته وبعثه إلى كافة الخلق ليرشدهم إلى الحق ويزكيهم ويطهرهم تطهيرا وإظهارا الاسم الجليل ههنا لتأكيد استقلال الاعتراض التذييلي والإشعار بعلة الألوهية للعلم والحكمة «إن الذين يحبون» أي يريدون ويقصدون «أن تشيع الفاحشة» أي تنتشر الخصلة المفرطة في القبح وهي الفرية والرمي بالزنا أو نفس الزنا فالمراد بشيوعها شيوع خبرها أي يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستتبعة له لا محالة «في الذين آمنوا» متعلق بتشيع أن تشيع فيما بين الناس وذكر المؤمنين لأنهم العمدة فيهم أو بمضمر هو حال من الفاحشة فالموصول عبارة عن المؤمنين خاصة أن يحبون أن تشيع الفاحشة كائنة في حق المؤمنين وفي شأنهم «لهم» بسبب ما ذكر «عذاب أليم في الدنيا» من الحد وغيره مما يتفق من البلايا الدنيوية ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا حد القذف وضرب صفوان حسانا ضربة بالسيف وعف بصره
163

«والآخرة» من عذاب النار وغير ذلك مما يعلمه الله عز وجل «والله يعلم» جميع الأمور التي من جملتها ما في الضمائر من المحبة المذكورة «وأنتم تعلمون» ما يعلمه تعالى إنما تعلمون ما ظهر لكم من الأقوال والأفعال المحسوسة فابتلوا أموركم على ما تعملونه وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة والله سبحانه هو المتولي للسرائر فيعاقب في الآخرة على ما تكنه الصدور هذا إذا جعل العذاب الأليم في الدنيا عبارة عن حد القذف أو متنظما له كما أطبق عليه الجمهور أما إذا بقي على إطلاقه يراد بالمحبة نفسها من غير أن يقارنها التصدي للإشاعة وهو الأنسب بسياق النظم الكريم فيكون ترتيب العذاب عليها تنبيها على أن عذاب من يباشر الإشاعة ويتولاها أشد وأعظم ويكون الاعتراض التذييلي أعنى قوله تعالى والله يعلم وأنتم لا تعلمون تقريرا لثبوت العذاب الأليم لهم وتعليلا له «ولولا فضل الله عليكم ورحمته» تكرير للمنة بترك المعالجة بالعقاب للتنبيه على كمال عظم الجزيرة «وأن الله رؤوف رحيم» عطف على فضل الله وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة والإشعار باستتباع
صفة الألوهية للرأفة والرحمة وتغيير سبكه وتصديره بحرف التحقيق لما أن بيان اتصافه تعالى في ذاته بالرأفة التي هي كمال الرحمة والرحيمية التي هي المبالغة فيها على الدوام والاستمرار لا بيان حدوث تعلق رأفته ورحمته بهم كما أن المراد بالمعطوف عليه وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه «يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان» أي لا تسلكوا مسالكه كل ما تأتون وما تذرون من الأفاعيل التي من جملتها إشاعة الفاحشة وحبها وقرئ خطوات بسكون الطاء وبفتحها أيضا «ومن يتبع خطوات الشيطان» وضع الظاهران موضع ضمير يهما حيث لم يقل ومن يتبعها أو ومن يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير والتحذير «فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر» علة للجزاء وضعت موضعه كأنه قيل فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه المستمر أن يأمر بهما فمن اتبع خطواته فقد امتثل بأمره قطعا والفحشاء ما أفرط قبحه كالفاحشة والمنكر ما ينكره الشرع ضمير إنه للشيطان وقيل للشأن على ما رأى من لا يوجب عود الضمير من الجملة الجزائية إلى اسم الشرط أو على أن الأصل يأمره وقيل هو عائد إلى من أي فإن ذلك المتبع يأمر الناس بهما لأن شان الشيطان هو الإضلال فمن اتبعه يترقى من رتبة الضلال والفساد إلى رتبة الإضلال والإفساد «ولولا فضل الله عليكم ورحمته» بما من جملته هاتيك البيانات والتوفيق للتوبة الماحصة للذنوب وشرع الحدود المكفرة لها «ما زكا» أي ما طهر من دنسها وقرىء ما زكى بالتشديد أي ما طهر الله تعالى ومن في قوله تعالى «منكم» بيانية وفي قوله
164

تعالى «من أحد» زائدة وأحد في حيز الرفع على الفاعلية على القراءة الأولى وفي محل النصب على المفعولية على القراءة الثانية «أبدا» لا إلى نهاية «ولكن الله يزكي» يطهر «من يشاء» من عباده بإضافة آثار فضله ورحمته على التوبة ثم قبولها منه كما فعل بكم «والله سميع» مبالغ في سمع الأقوال التي من جملتها ما أظهروه من التوبة «عليم» بجميع المعلومات التي من جملتها نياتهم وفيه حث لهم على الإخلاص في التوبة وإظهار الاسم الجليل للإيذان باستدعاء الألوهية للسمع والعلم مع ما فيه من تأكيد استقلال الاعتراض التذبيلي «ولا يأتل» أي لا يحلف افتعال من الآلية وقيل لا يقصر من الألو والأول هو الأظهر لنزوله في شأن الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح بعد وكان ينفق عليه لكونه ابن خالته وكان من فقراء المهاجرين ويعضده قراءة من قرأ ولا يتأل «أولوا الفضل منكم» في الدين وكفى به دليلا على فضل الصديق رضي الله تعالى عنه «والسعة» في المال «أن يؤتوا» أي على أن لا يؤتوا أو قرئ بناء الخطاب على الالتفات «أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله» صفات لموصوف واحد جئ بها بطريق العطف تنبيها على أن كلا منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء وقيل لموصوفات أقيمت هي مقامها وحذف المفعول الثاني لغاية ظهوره أي على أن لا يؤتوهم شيئا «وليعفوا» ما فرط منهم «وليصفحوا» بالإغضاء عنه وقد قرئ الأمر أن بتاء الخطاب على وفق قوله تعالى «ألا تحبون أن يغفر الله لكم» أي بمقابلة عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم «والله غفور رحيم» مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على المؤاخذة وكثرة ذنوب الداعية إليها وفيه ترغيب عظيم في العفو ووعد الكريم بمقابلته كأنه قيل ألا تحبون أن يغفر الله لكم فهذا من موجباته روى أنه صلى الله عليه وسلم قرأها على أبي بكر رضي الله عنه فقال بلى أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح نفقته وقال الله أعلم لا أنزعها أبدا «إن الذين يرمون المحصنات» أي العفائف مما رمين به من الفاحشة «الغافلات» عنها على الإطلاق بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها أصلا ففيها من الدلالة على كمال النزاهة ما ليس في المحصنات أي السليمات الصدور التقيات القلوب عن كل سوء «المؤمنات» أي المتصفات بالإيمان بكل ما يجب أن يؤمن به من الواجبات والمحظوات وغيرها إيمانا حقيقيا تفصيليا كما ينبئ عنه تأخير المؤمنات عما قبلها مع أصالة وصف الإيمان فإنه للإيذان بأن المراد بها المعنى الوصفي المعرب عما ذكر لا المعنى الاسمي المصحح لإطلاق الاسم في الجملة كما هو المتبادر على تقدير التقديم والمراد بها عائشة الصديقة رضي الله عنها والجمع باعتبار
165

أن رميها رمى لسائر أمهات المؤمنين لاشتراك الكل في العصمة والنزاهة والانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى كذبت قوم نوح لمرسلين ونظائره وقيل أمهات المؤمنين فيدخل فيهن الصديقة دخولا أوليا وأما ما قيل من أن المراد هي الصديقة والجمع باعتبار استتباعها للمتصفات بالصفات المذكورة من نساء الأمة فيأباه أن العقوبات المترتبة على رمي هؤلاء عقوبات مختصة بالكفار والمنافقين ولا ريب في أن رمي غير أمهات المؤمنين ليس بكفر فيجب أن يكون المراد إياهن على أحد الوجهين فإنهن قد خصصن من بين سائر المؤمنات فجعل رميهن كفرا إبرازا لكرامتهن على الله عز وجل وحماية من أن يحوم حوله أحد بسور حتى أن ابن عباس رضي الله عنهما جعله أغلظ من سائر أفراد الكفر حين سئل عن هذه الآيات فقال من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة رضي الله عنها وهل هو منه رضي الله عنه إلا لتهويل أمر الإفك والتنبيه على أن كفر غليظ «لعنوا» بما قالوه في حقهن «في الدنيا والآخرة» حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبدا «ولهم» مع ما ذكر من اللعن الأبدي «عذاب عظيم» هائل لا يقادر قدره لغاية عظم ما اقترفوه من الجناية وقوله تعالى «يوم تشهد عليهم» الخ أما متصل بما قبله مسوق لتقرير العذاب المذكور بتعيين وقت حلوله وتهويله ببيان ظهور جناياتهم الموجبة له مع سائر جناياتهم المستتبعة لعقوباتها على كيفية هائلة وهيئة خارقة للعادات فيوم ظرف لما في الجار والمجرور المتقدم من معنى الاستقرار لا لعذاب وإن أغضبنا عن وصفة لإخلاله بجزالة المعنى وإما منقطع عنه مسوق لتهويل اليوم ما يحويه على أنه ظرف لفعل مؤخر قد ضرب عنه الذكر صفحا للإيذان بقصور العبارة عن تفصيل ما يفع فيه من الطامة التامة والداهية العامة كأنه قي قبل يوم تشهد عليكم «ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون» يكون من الأحوال والأهوال مالا يحيط به حيطة المقال على أن الموصول المذكور عبارة عن جميع أعمالهم السيئة وجناياتهم القبيحة لا عن جناياتهم المعهودة فقط ومعنى شهادة الجوارح المذكورة بها أنه تعالى ينطقها بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر عنها من أفاعيل صاحبها لا أن كلا منها يخبر بجناياتهم المعهودة فحسب والموصول والمحذوف عبارة عنها وعن فنون العقوبات المترتبة عليها كافة لا عن إحداهما خاصة ففيه من ضروب التهويل وبالإجمال والتفصيل ما لا مزيد عليه وجعل الموصول المذكور عبارة عن خصوص جناياتهم المعهودة وحمل شهادة الجوارح على إخبار الكل بها فقط تحجير للواسع وتهوين لأمر الوازع والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم عليها في الدنيا وتقديم عليهم على الفاعل للمسارعة إلى بيان كون الشهادة ضارة لهم مع ما فيه من
التشويق إلى المؤخر كما مر مرارا وقوله تعالى «يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق» أي يوم إذ تشهد جوارحهم بأعمالهم القبيحة يطيعهم الله تعالى جزاءهم الثابت الذي يحقق أن يثبت
166

لهم لا محالة وافيا كاملا كلام مبتدأ مسوق لبيان ترتيب حكم الشهادة عليها متضمن لبيان ذلك لمبهم المحذوف على وجه الإجمال ويجوز أن يكون يوم يشهد ظرفا ليوفيهم ويومئذ بدلا منه وقيل هو منصوب على أنه مفعول لفعل مضمر أي اذكر يوم تشهد بالتذكير للفصل «ويعملون» عند معاينتهم الأهوال والخطوب حسبما نطق به القرآن الكريم «أن الله هو الحق» الثابت الذي يحق أن يثبت لا محالة في ذاته وصفا وأفعاله التي من جملتها كلماتها التامات المنبئة عن الشؤون التي يشاهدونها منطبقة عليها «المبين» المظهر للأشياء كما هي في أنفسها أو الظاهر أنه هو الحق وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب ليس له كثير مناسبة للمقام كما أن تفسير الحق بذي الحق البين أي العادل الظاهر عدله كذلك ولو تتبعت ما في الفرقان المجيد من آيات الوعيد الواردة حق كل كفار مريد وجبار عنيد لا تجد شيئا منها فوق هانيك القوارع المشحونة بفنون التهديد والتشديد وما ذاك إلا لإظهار منزلة النبي صلى الله عليه وسلم في علو الشأن والنباهة وإبراز رتبة الصديقة رضي الله عنها في العفة والنزاهة وقوله تعالى «الخبيثات» الخ كلام مستأنف مسوق على قاعدة السنة الإلهية الجارية فيما بين الخلق على موجب أن لله تعالى ملكا يسوق الأهل إلى الأهل أي الخبيثات من النساء «للخبيثين» من الرجال أي مختصات بهم لا يكدن يتجاوزنهم إلى غيرهم على أن اللام للاختصاص «والخبيثون» أيضا «للخبيثات» لأن المجانسة من دواعي الانضمام «والطيبات» منهن «للطيبين» أيضا منهم «والطيبون» «للطيبات» منهن بحيث لا يكادون يجاوزوهن إلى من عداهن وحيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب الأطيبين وخيرة الأولين والآخرين تبين كون الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات بالضرورة واتضح بطلان ما قيل في حقها من الخرافات حسبما نطق به قوله تعالى «أولئك مبرؤون مما يقولون» عل أن الإشارة إلى أهل البيت المنتظمين للصديقة انتظاما أوليا وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديقة وصفوان وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم وبعد منزلتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بعلو الشأن مبرءون مما نقوله أهل الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة وقيل الخبيثات من القول للخبثين من الرجال والنساء أي مختصة ولائقة بهم لا ينبغي أن تقال في حق غيرهم وكذا الخبيثون من الفريقين أحفاء بأن يقال في حقهم خبائث القول والطيبات من الكلم للطيبين من الفريقين مختصة وحقيقة بهم وهم أحفاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم أولئك الطيبون مبرءون مما يقول الخبيثون في حقهم فمآله تنزيه الصديقة أيضا وقيل خبيثات القول مختصة بالخبيثين من فريقي الرجال والنساء لا تصدر عن غيرهم والخبيثون من الفريقين مختصون بخبائث القول متعرضون لها والطيبات من الكلام للطيبين من الفريقين أي مختصة بهم لا تصدر عن غيرهم والطيبون من الفريقين مختصون بطيبات الكلام لا يصدر عنهم غيرها أولئك الطيبون مبرءون مما يقوله الخبيثون من
167

الخبائث أي لا يصدر عنهم مثل ذلك فمآله تنزيه القائلين سبحانك هذا بهتان عظيم «لهم مغفرة» عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب «ورزق كريم» هو الجنة «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم» إثر ما فصل عن الزنا وعن رمي العفائف عنه شرع في تفصيل الزواجر عما عسى يؤدي إلى أحدهما من مخالطة الرجال والنساء ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات وتعليم الآداب الجميلة والأفاعيل المرضية المستتبعة لسعادة الدارين ووصف البيوت بمغايرة بيوتهم خارج مخرج العادة التي هي سكنى كل أحد في ملكه وإلا فالمآجر والمعير أيضا منهيان عن الدخول بغير إذن وقرئ بيوتا غير بيوتكم بكسر الباء لأجل الياء «حتى تستأنسوا» أي تستأذنوا من يملك الإذن من أصحابها من الاستئناس بمعنى الاستعلام من آنس الشيء إذا أبصره فإن المستأنس مستعلم للحال مستكشف أنه هل يؤذن له أو من الإستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لما أن المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له فإذا أذن له استأنس «وتسلموا على أهلها» عند الاستئذان روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن التسليم أن يقول السلام عليكم أأدخل ثلاث مرات فإن أذن له دخل وإلا رجع «ذلكم» أي الاستئذان مع التسليم «خير لكم» من أن تدخلوا بغتة أو على تحية الجاهلية حيث كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حييتم صباحا حييتم مساء فيدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف وروي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أستأذن على أمي قال له نعم قال ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كما دخلت قال صلى الله عليه وسلم أتحب أن تراها عريانة قال لا قال صلى الله عليه وسلم فاستأذن «لعلكم تذكرون» متعلق بمضمر أي أمرتم به أو قيل لكم هذا كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بموجبه «فإن لم تجدوا فيها أحدا» أي ممن يملك الإذن على أن من لا يملكه من النساء والولدان وجدانه كفقدانه أو أحدا أصلا على أن مدلول النص الكريم عبارة هو النهي عن دخول البيوت الخالية لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه مع أن التصرف في ملك الغير محظور وطلقا وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فثابتة بدلالة النص لأن الدخول حيث حرم مع ما ذكر من العلة فلأن يحرم عند انضمام ما هو أقوى منه إليه أعنى الاطلاع على العورات أولى «فلا تدخلوها» واصبروا «حتى يؤذن لكم» أي من جهة من يملك الإذن عند إتيانه ومن فسره بقوله حتى يأتي من بأذن لكم أو حتى تجدوا من يأذن لكم أو حتى تجدوا من يأذن لكم فقد أبرز القطعي في معرض الاحتمال ولما كان جعل النهي مغيا بالإذن مما يوهم الرخصة في الانتظار على الأبواب مطلقا بل في تكرير الاستئذان ولو بعد الرد ذلك بقوله «وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا» أي إن
168

أمرتم من جهة أهل البيت بالرجوع سواء كان الأمر ممن يملك الإذن أولا فارجعوا ولا تلحوا بتكرير الاستئذان كما في الوجه الأول ولا تلجوا بالإصرار على الانتظار إلى أن يأتي الآذن كما في الثاني فإن ذلك مما يجلب الكراهة في قلوب الناس ويقدح في المروءة أي قدح «هو» أي الرجوع «أزكى لكم» أي أظهر مما لا يخلوا عنه اللج والعناد والوقوف على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة «والله بما تعملون عليم» فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه فيجازيكم عليه «ليس عليكم جناح أن تدخلوا» أي بغير استئذان «بيوتا غير مسكونة» أي غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة فقط بل ليتمتع بها من يضطر إليها كائنا من كان من غير أن يتخذها سكنا كالربط والخانات والحوانيت والحمامات ونحوها فإنها معدة لمصالح الناس كافة كما ينبئ عنه قوله تعالى «فيها متاع لكم» فإنه صفة للبيوت أو استئناف جار مجرى التعليل لعدم
الجناح أي فيها حق تمتع لكم كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الأمتعة والرجال والشراء والبيع والاغتسال وغير ذلك مما يليق بحال البيوت وداخليها فلا بأس بدخولها بغير استئذان من داخليها من قبل ولا ممن بعد يتولى أمرها ويقوم بتدبيرها من قوام الرباطات والخانات وأصحاب الحوانيت ومتصرفي الحمامات ونحوهم ويروى أن أبا بكر رضي الله عنه قال يا رسول الله إن الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت وقيل هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز والظاهر أنها من جملة ما ينتظمه البيوت لا أنها المرادة فقط وقوله تعالى «والله يعلم ما تبدون وما تكتمون» وعيدا لمن يدخل مدخلا من هذه المداخل لفساد أو اطلاع على عورات «قل للمؤمنين» شروع في بيان أحكام كلية شاملة للمؤمنين كافة يندرج فيها حكم المستأذنين عند خولهم البيوت اندراجا أوليا وتلوين الخطاب وتوجيهه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفويض ما في حيزه من الأوامر والنواهي إلى رأيه صلى الله عليه وسلم لأنها تكاليف متعلقة بأمور جزئية كثيرة الوقوع حقيقة بأن يكون الأمر بهار المتصدي لتدبيرها حافظا ومهيمنا عليهم ومفعول الأمر أمر آخر قد حذف تعويلا على دلالة جوابه عليه أي قل لهم غضوا «يغضوا من أبصارهم» عما يحرم ويقتصر به على ما يحل «ويحفظوا فروجهم» إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم وتقييد الغض بمن التبعيضية دون الحفظ لما في أمر النظر من السعة وقيل المراد بالحفظ ههنا خاصة هو الستر «ذلك» أي ما ذكر من الغض والحفظ «أزكى لهم» أي طهر لهم من دنس الريبة «إن الله خبير بما يصنعون» لا يخفى عليه شيء مما يصدر عنهم من الأفاعيل التي من جملتها جالة النظر واستعمال سائر الحواس وتحريك
169

الجوارح وما يقصدون بذلك فليكونوا على حذر منه في كل ما يأتون وما يذرون «وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن» فلا ينظرون إلى ما لا يحل لهن النظر إليه «ويحفظن فروجهن» بالتستر أو التصون عن الزنا وتقديم الغض لأن النظر يريد الزنا ورائد الفساد «ولا يبدين زينتهن» كالحلى وغيرها مما يتزين به وفيه من المبالغة في النهي عن إبداء مواضعها ما لا يخفى «إلا ما ظهر منها» عند مزاولة الأمور التي لا بد منها عادة كالخاتم والكحل والخضاب ونحوها فإن في سترها حرجا بيننا وقيل المراد بالزينة مواضعها على حذف المضاف أو ما يعم المحاسن الخلقية والتزيينية والمستثنى هو الوجه والكفان لأنها ليست بعورة «وليضربن بخمرهن على جيوبهن» إرشاد إلى كيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بعد النهي عن إبدائها وقد كانت النساء على عادة الجاهلية يسدلن خمرهن من خلفهن فتبدو نحو رهن وقلائدهن من جيوبهن لوسعها فأمرن بإرسال خمرهن إلى جيوبهن سترا لما يبدو منها وقد ضمن الضرب معنى الإلقاء فعلى بعدى وقرئ بكسر الجيم كما تقدم «ولا يبدين زينتهن» كرر النهي لاستثناء بعض مواد الرخصة عنه باعتبار الناظر بعدما استثنى عنه بعض مواد الضرورة باعتبار المنظور «إلا لبعولتهن» فإنهم المقصودون بالزينة ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الموضع المعهود «أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن» لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وقلة توقع الفتنة من قبلهم لما في الطباع الفريقين من النفرة عن الماسة القرائب ولهم ان ينظروا منهن ما عند المهنة والخدمة وعدم ذكر وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن عنهم حذرا أن يصفوهن لأبنائهم «أو نسائهن» المختصات بهن بالصحبة والخدمة من حرائر المؤمنات فإن الكوافر لا يتحرجن عن وصفهن للرجال «أو ما ملكت أيمانهم» أي من الإماء فإن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها وقيل من الإماء والعبيد لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة رضي الله عنها بعبد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت رجليها لم يبلغ رأسها فقال صلى الله عليه وسلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك «أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال» أي أولى الحاجة إلى النساء وهم شيوخ الهم والممسوحون في المجبوب والخصي خلاف وقيل هم البلة الذين يتتبعون الناس لفضل طعامهم ولا يعرفون شيئا من أمور النساء وقرئ غير بالنصب على الحالية «أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء»
170

لعدم تمييزهم من الظهور بمعنى الاطلاع أو لعدم بلوغهم حد الشهوة من الظهور بمعنى الغلبة والطفل جنس وضع موضع الجمع اكتفاء بدلالة الوصف «ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين» أي ما يخفينه من الرؤية «من زينتهن» أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض ليتقعقع خلخالهن فيعلم أنهن ذوات خلخال فإن ذلك مما يورث الرجال ميلا إليهن ويوهم أن لهن ميلا إليهم وفي النهى عن إبداء صوت الحلى بعد النهى عن إبداء عينها من المبالغة في الزجر عن إبداء موضعها مالا يخفى «وتوبوا إلى الله جميعا» تلوين للخطاب وصرف له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكل بطريق التغليب لإبراز كمال العناية بما في حيزه من أمر التوبة وأنها من معظمات المهمات الحقيقة بأن يكون سبحانه وتعالى هو الآمر بها لما أنه لا يكاد يخلوا أحد من المكلفين عن نوع تفريط في إقامة مواجب التكاليف كما ينبغي وناهيك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم شيبتني سورة هود لما فيها من قوله عز وجل فاستقم كما أمرت لا سيما إذا كان المأمور به الكف عن الشهوات وقيل توبوا عما كنتم تفعلونه في الجاهلية فإنه إن وجب بالإسلام لكن يجب الندم عليه والعزم على تركه كلما خطر بباله وفي تكرير الخطاب بقوله تعالى «أيها المؤمنون» تأكيد للإيجاب وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال حتما وقرئ أيه المؤمنون «لعلكم تفلحون» تفوزون بذلك بسعادة الدارين «وأنكحوا الأيامى منكم» بعد ما زجر تعالى عن السفاح ومباديه القريبة والبعيدة أمر بالنكاح فإنه مع كونه مقصودا بالذات من حيث كونه مناطا لبقاء النوع خير مزجرة عن ذلك وأيامي مقلوب أيا يم جمع أيم وهو من لا زوج له من الرجال والنساء بكرا كان أو ثيبا كما يفصح من قال
[فإن تنكحى أنكح وإن تتأيمى * وإن كنت أفتى منكم أتأيم]
أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر «والصالحين من عبادكم وإمائكم» على أن الخطاب للأولياء والسادات واعتبار الصلاح في الأرقاء لأن من لا صلاح له منهم بمعزل من أن يكون خليفا بأن يعتني مولاه بشأنه ويشق عليه ويتكلف في نظم مصالحه بما لا بد منه شرعا وعادة من بذل المال والمنافع بل حقه أن يستبقيه عنده وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر فلأن الغالب فيهم الصلاح على أنهم مستبدون في التصرفات المتعلقة بأنفسهم وأموالهم فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم إذ ليس عليهم في ذلك غرامة حتى يعتبر في مقابلتها غنيمة عائدة إليهم عاجلة أو آجلة وقيل المراد هو الصلاح للنكاح والقيام بحقوقه «إن يكونوا فقراء يغنهم
الله من فضله» إزاحة لما عسى يكون وازعا من النكاح من فقر أحد الجانبين أي لا يمنعن فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة فإن في فضل الله عز وجل غنية عن المال فإنه فقر أحد غاد ورائح يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب أو وعد منه سبحانه بالإغناء لقوله صلى الله عليه وسلم اطلبوا الغنى في هذه الآية لكنه مشروط بالمشيئة كما في قوله تعالى وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء الله «والله واسع» غنى ذو سعة لا يرزؤه إغناء الخلائق إذا لا نفاد لنعمته ولا غاية لقدرته مع ذلك «عليم» يبسط
171

الرزق لمن يشاء ويقدر حسبما تقضيه الحكمة والمصلحة «وليستعفف» إرشاد للعاجزين عن مبادى النكاح وأسبابها إلى ما هو أولى لهم وأحرى بهم بعد بيان جواز منا كحة الفقراء أي ليجتهد في العفة وقمع شهوة «الذين لا يجدون نكاحا» أي أسباب نكاح أولا يتمكنون مما ينكح به من المال «حتى يغنيهم الله من فضله» عدة كريمة بالتفضل عليه بالغنى ولطف لهم في استعفافهم وتقوية لقلوبهم وإيذان بأن فضله تعالى أولى بالأعفاء وأدنى من الصلحاء «والذين يبتغون الكتاب» بعد ما أمر بإنكاح صالحي المماليك الأحقاء بالإنكاح أمر بكتابة من ستحقها منهم والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة أي الذين يطلبون المكاتبة «من ما ملكت أيمانكم» عبدا كان أو أمة وهي أن يقول المولى لمملوكه كاتبتك على كذا درهما تؤديه إلى وتعتق ويقول المملوك قبلته أو نحو ذلك فإن أداه إليه عتق قالوا معناه وكتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت بالمال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت على العتق عنده والتحقيق أن المكاتبة اسم للعقد الحاصل من مجموع كلاميهما كسائر العقود الشرعية المنعقدة بالإيجاب والقبول ولا ريب في أن ذلك لا يصدر حقيقة إلا من المتعاقدين وليس وظيفة كل منهما في الحقيقة إلا الإتيان بأحد شطريه معربا عما يتم من قبله ويصدر عنه من الفعل الخاص به من غير تعرض لما يتم من قبل صاحبه ويصدر عنه من فعله الخاص به إلا أن كلا من ذينك الفعلين لما كان بحيث لا يمكن تحققه في نفسه إلا منوطا بتحقق الآخر ضرورة أن التزام العتق بمقابلة البدل من جهة المولى لا يتصور تحققه إلا بالتزام البدل من طرف العبد كما أن عقد البيع الذي هو تمليك المبيع بالثمن من جهة البائع لا يمكن تحققه بتملكه به من جانب المشتري لم يكن بد من تضمين أحدهما الآخر وقت الإنشاء فكما أن قول البائع بعت إنشاء لعقد البيع على معنى أنه إيقاع لما يتم من قبله أصالة ولما يتم من قبل المشتري ضمنا إيقاعا متوقفا على رأيه توقفا شبيها بتوقف عقد الفضولي كذلك قول المولى كاتبتك على كذا إنشاء لعقد الكتابة أي إيقاع لما يتم من قبله من التزام العتق بمقابلة البدل أصالة ولما يتم من قبل العبد من التزام البدل ضمنا إيقاعا متوقفا على قبوله فإذا قبل تم العقد ومحل الموصول الرفع على الابتداء خبره «فكاتبوهم» والفاء لتضمنه معنى الشرط أو النصب على أنه مفعول لمضمر يفسره هذا والأمر فيه للندب لأن الكتابة عقد يتضمن الإرفاق فلا تجب كغيرها ويجوز حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز إلا مؤجلا منهما وقد فصل في موضعه «إن علمتم فيهم خيرا» أي أمانة ورشدا وقدرة على أداء البدل بتحصيله من وجه حلال وصلاحها لا يؤذي الناس بعد العتق وإطلاق العنان «وآتوهم من مال الله الذي آتاكم» أمر للوالي ببذل شيء من أموالهم وفي حكمه حط شيء
172

من مال الكتابة ويكفي في ذلك أقل ما يتمول وعن علي رضي الله عنه حط الربع وعن ابن عباس رضي الله عنهما الثلث وهو للندب عندنا وعند الشافعي للوجوب ويرده قوله صلى الله عليه وسلم المكاتب عبد ما بقي عليه درهم إذا لو وجب الحط لسقط عنه الباقي حتما وأيضا لو وجب الحط لكان وجوبه معلقا بالعقد فيكون العقد موجبا ومسقطا معا وأيضا فهو عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع وقيل معنى آتوهم أقرضوهم وقيل هو أمر لهم بان ينفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا وإضافة المال إليه تعالى ووصفه بإينائه إياهم للحث على الامتثال بالأمر بتحقيق المأمور به كما في قوله تعالى وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فإن ملاحظة وصول المال إليهم من جهته تعالى مع كونه هو المالك الحقيقي له من أقوى الدواعي إلى صرفه إلى الجهة المأمور بها وقيل هو أمر بإعطاء سهمهم من الصدقات فالأمر للوجوب حتما والإضافة والوصف لتعيين المأخذ وقيل هو أمر ندب لعامة المسلمين بإعانة المكاتبين بالتصدق عليهم ويحل ذلك للمولى وإن كان غنيا لتبدل العنوان حسبما ينطق به قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة هو لها صدقة ولنا هدية «ولا تكرهوا فتياتكم» أي إماءكم فإن كلا من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة وعلى ذلك مبنى قوله صلى الله عليه وسلم ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي لهذه العبارة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله تعالى «على البغاء» وهو الزنا من حيث صدوره عن النساء لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبا دون من عداهن من العجائز والصغائر وقوله تعالى «إن أردن تحصنا» ليس لتخصيص النهى بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها من حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل للمحافظة على عادتهم المستمرة حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح فإن عبد الله بن أبى كانت له ست جوار يكرهن على الزنا وضرب عليهن ضرائب فشكت اثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وفيه من زيادة تقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا عليه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه حرمه من إمائه فضلا عن أمرهن به أو إكراهن عليه لا سيما إرادتهن التعفف فتأمل ودع عنك ما قيل من أن ذلك لأن الإكراه لا يتأتي إلا مع إرادة التحصن وما قيل من أنه إن جعل شرطا للنهي لا يلزم من عدمه جواز الإكراه لجواز أن يكون ارتفاع النهى لامتناع المنهى عنه فإنهما بمعزل من التحقيق وإيثار كلمة إن على إذا مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع وتعليله بأن الإرادة المذكورة منهن في حيز الشاذ النادر مع خلوه عن الجدوى بالكلية يأباه اعتبار تحققها إباء ظاهرا تعالى «لتبتغوا عرض الحياة الدنيا» قيد للإكراه لكن لا باعتبار أنه مدار النهى عنه باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم كما قبله لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ
173

هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه «ومن يكرههن» الخ جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهى وتأكيد وجوب العمل به ببيان خلاص المكروهات عن عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرهن على ما ذكر من البغاء «فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم» أي لهن كما وقع في مصحف ابن مسعود عليه قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهم وكما ينبئ عنه قوله تعالى من بعد إكراههن أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر من المبنى للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة وكان الحسن البصري رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول لهن والله لهن والله في تخصيصها بهن وتعيين مدارهما مع سبق ذكر المكرهين أيضا في الشرطية دلالة بينة على كونهم محرومين منهما بالكلية كأنه قيل لا للمكروه ولظهوره هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط فتجويز تعلقها بهم بشرط التوبة استقلالا أو معهن إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهى في مقام التهويل وحاجتهن إلى المغفرة المتنبئة عن سابقة الإثم إما باعتبار أنهن وإن كن مكروهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة ما بحكم الجبلة البشرية وإما باعتبار أن الإكراه قد يكون قاصرا عن حد الالجاء المزيل للاختيار بالمرة وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة لولا أن تداركهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن فما حال من يكرهن في استحقاق العذاب «ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات» كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها وصدر بالقسم الذي تعرب عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وبالله لقد أنزلنا إليكم هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل ما بكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادئ بيانها على أن إسناد التبيين إليها مجازي أو آيات واضحات تصدقها الكتب القديمة والعقول السليمة على أن مبينات من بين بمعنى تبين ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين وقرئ على صيغة التي بينت وأوضحت في هذه السورة من معاني الأحكام والحدود وقد جوز أن يكون الأصل مبينا فيها الأحكام فانسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول «ومثلا من الذين خلوا من قبلكم» عطف على آيات أي وأنزلنا مثلا كائنا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي الله عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي الله عنها وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة انتظاما واضحا وتخصيص الآيات المبينات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات «وموعظة» تتعظون به وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور
174

ومدار العطف هو التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما وعظ به من قوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله وقوله تعالى لولا إذ سمعتموه وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب وإنما قيل «للمتقين» مع شمول الموعظة للكل حسب شمول الإنزال لقوله تعالى أنزلنا إليكم حثا للخاطبين على الاعتناء بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب وقيل المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ فقوله تعالى «الله نور السماوات والأرض» الخ حينئذ استئناف مسوق لتقرير ما فيها من البيان مع الإشعار بكونه في غاية الكمال على الوجه الذي ستعرفه وأما على الأول فلتحقيق أن بيانه تعالى ليس مقصورا على ما ورد في السورة الكريمة بل هو شامل لكل ما يحق بيانه من الأحكام والشرائع ومباديها وغاياتها المترتبة عليها في الدنيا والآخرة وغير ذلك مما له مدخل في البيان وأنه واقع منه تعالى على أتم الوجوه وأكملها حيث عبر عنه بالتنوير الذي هو أقوى مراتب البيان وأجلاها وعبر عن المنور بنفس النور تنبيها على قوة التنوير وشدة التأثير وإيذانا بأنه تعالى ظاهر بذاته وكل ما سواه ظاهر بإظهاره كما أن النور نير بذاته وما عداه مستنير به وأضيف النور إلى السماوات والأرض للدلالة على كمال شيوع البيان المستعار له وغاية شموله لكل ما يليق به من الأمور التي لها مدخل في إرشاد الناس بوساطة بيان شمول المستعار منه لجميع ما يقبله ويستحقه من الأجرام العلوية والسفلية فإنهما قطران للعالم الجسماني الذي لا مظهر للنور الحسى سواه أو على شمول البيان لأحوالهما وأحوال ما فيهما من الموجودات إذ ما من موجود إلا وقد بين من أحواله ما يستحق البيان إما تفصيلا أو إجمالا كيف لا ولا ريب في بيان كونه دليلا على وجود الصانع وصفاته وشاهدا بصحة البعث أو على تعلق البيان بأهلهما كما قال ابن عباس رضي الله عنهما هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة ينجون هذا وأما حمل التنوير على إخراجه تعالى للماهيات من العدم إلى الوجود إذ هو الأصل في الإظهار كما أن الإعدام هو الأصل في الإخفاء أو على تزيين السماوات بالنيرين وسائر الكواكب وما يفيض منها من الأنوار أو بالملائكة عليهم السلام وتزيين الأرض بالأنبياء عليهم السلام والعلماء والمؤمنين أو بالنبات والأشجار أو على تدبيره تعالى لأمورهما وأمور ما فيهما فمما لا يلائم المقام ولا يساعد حسن النظام «مثل نوره» أي نوره الفائض منه تعالى على الأشياء المستنيرة به وهو القرآن المبين كما يعرب عنه ما قبله من وصف آياته بالإنزال والتبيين وقد صرح بكونه نورا أيضا في قوله تعالى وأنزلنا إليكم نورا مبينا وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وزيد
175

ابن أسلم رحمهم الله تعالى وجعله عبارة عن الحق وإن شاع استعارته له كاستعارة الظلمة للباطل يأباه مقام بيان شأن الآيات ووصفها بما ذكر من التبيين مع عدم سبق ذكر الحق ولأن المعتبر في مفهوم النور هو الظهور والإظهار كما هو شأن القرآن الكريم وأما الحق فالمعتبر في مفهومه من حيث هو حق هو الظهور لا الإظهار والمراد بالمثل الصفة العجيبة أي صفة نوره العجيبة «كمشكاة» أي كصفة كوة نافذة في الجدار في الإنارة والتنوير «فيها مصباح» سراج ضخم ثاقب وقيل المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل والمصباح الفتيلة المشتعلة «المصباح في زجاجة» أي قنديل من الزجاج الصافي الأزهر وقرئ بفتح الزاي وكسرها في الموضعين «الزجاجة كأنها كوكب دري» متلألئ وقاد شبيه بالدر في صفائه وزهرته ودرارى الكواكب عظامها المشهورة وقرئ درئ بدال مكسورة وراء مشددة وياء ممدودة بعدها همزة على أنه فعيل من
الدرء وهو الدفع أي مبالغ في دفع الظلام بضوئه أو في دفع بعض أجزاء ضيائه لبعض عند البريق واللمعان وقرئ بضم الدال والباقي على حاله وفي إعادة المصباح والزجاجة معرفين إثر سبقهما منكرين والإخبار عنهما بما بعدهما مع انتظام الكلام بأن يقال كمشكاة فيها مصباح في زجاجة كأنها كوكب درى من تفخيم شأنهما ورفع مكانهما بالتفسير إثر الإبهام والتفصيل بعد الإجمال وبإثبات ما بعدهما لهما بطريق الإخبار المنبئ عن القصد الأصلي دون الوصف المبني على الإشارة إلى الثبوت في الجملة ما لا يخفي ومحل الجملة الأولى الرفع على أنها صفة لمصباح ومحل الثانية الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها لمصباح الجر على أنها صفة لزجاجة واللام مغنية عن الرابط كأنه قيل فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكب درى «يوقد من شجرة» أي يبتدأ إيقاد المصباح من شجرة «مباركة» أي كثيرة المنافع بأن رويت ذبالته بزيتها وقيل إنما وصفت بالبركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله تعالى فيها للعالمين «زيتونة» بدل من شجرة وفي إبهامها ووصفها بالبركة ثم الإبدال منها تفخيم لشأنها وقرئ توقد بالناء على أن الضمير القائم مقام الفاعل للزجاجة دون المصباح وقرئ توقد على صيغة الماضي من التفعل أي ابتداء ثقوب المصباح منها وقرئ توقد بحذف إحدى التاءين من تتوقد على إسناده إلى الزجاجة «لا شرقية ولا غربية» تقع الشمس عليها حينا دون حين بل بحيث تقع عليها طول النهار كالتي على قلة أو صحراء واسعة فتقع الشمس عليها حالتي الطلوع والغروب وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير وقتادة وقال الفراء والزجاج لا شرقية وحدها ولا غربية وحدها لكنها شرقية وغربية أي تصيبها الشمس عند طلوعها وعند غروبها فتكون شرقية وغربية تأخذ حظها من الأمرين فيكون زيتها أضوأ وقيل لا ثابتة في شرق المعمورة ولا في غربها بل في وسطها وهو الشأم فإن زيوتها أجود ما يكون وقيل لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها ولا في مقنأة نغيب عنها دائما فتتركها نيأ وفي الحديث لا خير في شجرة ولا في نبات في مقنأة ولا خير فيهما في مضحى «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار» أي هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مساس نار أصلا وكلمة في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاء شيء في الزمان الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف ثقة بدلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفى كلما
176

كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له إجمالا بإدخالها على أبعدها منه إما لوجود المانع كما في قوله تعالى أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإما لعدم الشرط كما في هذه الآية الكريمة ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيء متى تحقق مع ما ينافيه من وجود المانع أو عدم الشرط فلأن يتحقق بدون ذلك أولى ولذلك لا يذكر معه شيء آخر من سائر الأحوال ويكتفي عنه بذكر الواو العاطفة للجملة عل نظيرتها المقابلة لها المتناولة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وهذا معنى قولهم إنها لاستقصاء الأحوال على سبيل الإجمال وهذا أمر مطرد في الخبر الموجب والمنفي فإنك إذا قلت فلان جواد يعطي ولو كان فقيرا أو بخيل لا يعطي ولو كان غنيا تريد بيان تحقق الإعطاء في الأول وعدم تحققه في الثاني في جميع الأحوال المفروضة والتقدير يعطى لو لم يكن فقيرا ولو كان فقيرا ولا يعطى لو لم يكن غنيا ولو كان غنيا فالجملة مع ما عطفت هي عليه في حيز النصب على الحالية من المستكن في الفعل الموجب أو المنفي أي يعطى أولا يعطى كائنا على جميع الأحوال وتقدير الآية الكريمة يكاد زيتها يضيء لو مسته نار ولو لم تمسه نار أي يضيء كائنا على كل حال من وجود الشرط وعدمه وقد حذفت الجملة الأولى حسبما هو المطرد في الباب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة «نور» خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى «على نور» متعلق بمحذوف هو صفة له مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة والجملة فذلكة للتمثيل وتصريح بما حصل منه وتمهيد لما يعقبه أي ذلك النور الذي عبر به عن القرآن ومثلت صفته العجيبة الشأن بما فصل من صفة المشكاة نور عظيم كائن على نور كذلك لا على أنه عبارة عن نور واجد معين أو غير معين فوق نور آخر مثله ولا عن مجموع نورين اثنين فقط بل عن نور متضاعف من غير تحديد لتضاعفه بحد معين وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة فإن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره بسبب انضمام الشعاع المنعكس منه إلى أصل الشعاع بخلاف المكان المتسع فإن الضوء ينبث فيه وينتشر والقنديل أعون شيء على الزيادة الإنارة وكذلك الزي وصفاؤه وليس وراء هذه المراتب مما يزيد نورها إشراقا ويمده بإضاءة مرتبة أخرى عادة هذا وجعل النور عبارة عن النور المشبه به مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل «يهدي الله لنوره» أي يهدي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب حتما لذلك النور المتضاعف العظيم الشأن وإظهاره في مقام الإضمار لزيادة تقريره وتأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية الناشئة من إضافته إلى ضميره عز وجل «من يشاء» هدايته من عباده بأن يوفقهم لفهم ما فيه من دلائل حقيته وكونه من عند الله تعالى من الإعجاز والاخبار عن الغيب وغير ذلك من موجبات الإيمان به وفيه إيذان بأن ماط هذه الهداية وملاكها ليس إلا مشيئته تعالى وأن تظاهر الأسباب بدونها بمعزل من الإفضاء إلى المطالب «ويضرب الله الأمثال للناس» في تضاعيف الهداية حسبما يقتضي حالهم فإن له دخلا عظيما في باب الإرشاد لأنه إبرار للمعقول في هيئة المحسوس وتصوير لأوابد المعاني بصورة المأنوس ولذلك مثل نوره المعبد به عن القرآن المبين بنور المشكاة وإظهاره الاسم الجليل في مقام الإضمار للإيذان
177

باختلاف حال ما أسند إليه تعالى من الهداية الخاصة وضرب الأمثال الذي هو من قبيل الهداية العامة كما يفصح عنه تعليق الأولى بمن يشاء والثانية بالناس كافة «والله بكل شيء عليم» مفعولا كان أو محسوسا ظاهرا كان أو باطنا ومن قضيته أن تتعلق مشيئته بهداية من يليق بها ويستحقها من الناس دون من عداهم لمخالفته الحكمة التي عليها مبنى التكوين والتشريع وأن تكون هدايته العامة على فنون مختلفة وطرائق شتى حسبما تقتضيه أحوالهم والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وإظهار الاسم الجليل لتأكيد استقلال الجملة والإشعار بعلة الحكم وبما ذكر من اختلاف حال المحكوم به ذاتا وتعلقا «في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه» لما ذكر شأن القرآن الكريم في بيانه للشرائع والأحكام ومباديها وغاياتها المترتبة عليها من الثواب والعقاب وغير ذلك من أحوال الآخرة وأهوالها وأشير إلى كونه في غاية ما يكون من التوضيح والإظهار حيث مثل بما فصل من نور المشكاة وأشير إلى أن ذلك النور مع كونه في أقصى مراتب الظهور إنما يهتدي بهداه من تعلقت مشيئة الله تعالى بهدايته دون من
عداه عقب ذلك بذكر الفريقين وتصوير بعض أعمالهم المعربة عن كيفية حالهم في الاهتداء وعدمه والمراد بالبيوت المساجد كلها حسبما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما وقيل هي المساجد التي بناها نبي من أنبياء الله تعالى الكعبة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وبيت المقدس الذي بناه داود وسليمان عليهما السلام ومسجد المدينة ومسجد قباء اللذان بناهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنكيرها للتفخيم والمراد بالإذن في رفعها الأمر ببنائها رفيعة لا كسائر البيوت وقيل هو الأمر برفع مقدارها بعبادة الله تعالى فيها فيكون عطف الذكر عليه من قبيل العطف التفسيري وأياما كان ففي التعبير عنه بالإذن تلويح بأن اللائق بحال المأمور أن يكون متوجها إلى المأمور به قبل ورود الأمر به ناويا لتحقيقه كأنه مستأذن كأنه مستأذن في ذلك فيقع الأمر به موقع الإذن فيه والمراد بذكر اسمه تعالى ما يعم جميع أذكاره تعالى وكلمة في متعلقة بقوله تعالى «يسبح له» وقوله تعالى «فيها» تكرير لها للتأكيد والتذكير لما بينهما من الفاصلة وللإيذان بأن التقديم للاهتمام لا لقصر التسبيح على الوقوع في البيوت فقط وأصل التسبيح التنزيه والتقديس يستعمل باللام وبدونها أيضا كما في قوله تعالى «سبح اسم ربك الأعلى» به الصلوات المفروضة كما ينبئ عنه تعيين الأوقات بقوله تعالى «بالغدو والآصال» أي بالغدوات والعشايا على أن الغدو إما جمع غداة كقنى في جمع قناة كما قيل أو مصدر أطلق على الوقت حسبما يشعر به اقترانه بالآصال وهو هو جمع أصيل وهو العشى والعشى وهو الشامل الأوقات ما عدا صلاة الفجر المؤداة بالغداة ويجوز أن يراد به نفس التنزيه على أنه عبارة عما يقع منه في أثناء الصلوات وأوقاتها لزيادة شرفه وإنافته على سائر أفراده أو عما يقع في جميع الأوقات وأفراد طرفي النهار بالذكر لقيامهما مقام كلها لكونهما العمدة فيها بكونهما مشهودين وكونهما أشهر ما يقع فيه المباشرة للأعمال والاشتغال بالاشغال وقرئ والإيصال وهو الدخول في الأصيل وقوله تعالى
178

«رجال» فاعل يسبح وتأخيره عن الظروف لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ولأن في وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام وقرئ يسبح على البناء للمفعول بإسناده إلى أحد الظروف ورحال مرفوع بما ينبئ عنه حكاية الفعل من غير تسمية الفاعل على طريقة قوله لبيك يزيد ضارع لخصومة كأنه قيل من يسبح له فقيل يسبح له رجال وقرئ تسبح بتأنيث الفعل مبنيا للفاعل لأن جمع التكسير قد يعامل معاملة المؤنث ومبنيا للمفعول على أن يسند إلى أوقات الغدو والآصال بزيادة الباء وتجعل الأوقات مسبحة مع كونها مسبحا فيها أو يسند إلى ضمير التسبيحة أي تسبيح له التسبيحة على المجاز المسوغ لإسناده إلى الوقتين كما خرجوا قراءة أبي جعفر ليجزي قوما أي ليجزى الجزاء قوما بل هذا أولى من ذل هنا مفعول صريح «لا تلهيهم تجارة» صفة لرجال مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة مفيدة لكمال تبتلهم إلى الله تعالى واستغراقهم فيها حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم كائنا ما كان وتخصيص التجارة بالذكر لكونهما أقوى الصوارف عندهم وأشهرها أي لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة «ولا بيع» أي ولا فرد من أفراد البياعات وإن كان في غاية الربح وإفراده بالذكر مع اندراجه تحت التجارة للإيذان بإنافته على سائر أنواعها لأن ربحه متيقن ناجز وربح ما عداه متوقع في الثاني الحال عند البيع فلم يلزم من نفي إلهاء ما عداه نفي إلهائه ولذلك كررت كلمة لا لتذكير النفي وتأكيده وقد نقل عن الواقدي أن المراد بالتجارة هو الشراء لأنه أصلها ومبدؤها وقيل هو الجلب لأنه الغالب فيها ومنه يقال تجر في كذا أي جلبه «عن ذكر الله» بالتسبيح والتحميد «وأقام الصلاة» أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير وقد أسقطت التاء المعوض عن العين الساقطة بالأعلال وعوض عنها الإضافة كما في قوله [وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا] أي عدة الأمر «وإيتاء الزكاة» أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين وإيراده ههنا وإن لم يكن مما يفعل في البيوت لكونه قرينة لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع مع ما فيه من التنبيه على أن محاسن أعمالهم غير منحصرة فيما يقع في المساجد وكذلك قوله تعالى «يخافون» الخ فإنه صفة ثانية لرجال أو حال من مفعول لا تلهيهم وأيا ما كان فليس خوفهم مقصورا على كونهم في المساجد وقوله تعالى «يوما» مفعول ليخافون لا ظرف له وقوله تعالى «تتقلب فيه القلوب والأبصار» صفة ليوما أي تضطرب وتتغير في أنفسها من الهول والفزع وتشخص كما في قوله تعالى وإذ زاغت والأبصار وبلغت القلوب الحناجر أو تتغير أحوالها وتتقلب فتتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياء أو تتقلب القلوب بين توقع النجارة وخوف الهلاك والأبصار من أي ناحية يؤخذ بهم ويؤتي كتابهم «ليجزيهم الله» متعلق بمحذوف يدل عليه ما حكى من أعمالهم المرضية أي
179

يفعلون ما يفعلون من المداومة على التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة والخوف من غير صارف لهم عن ذلك ليجزيهم الله تعالى «أحسن ما عملوا» أي أحسن جزاء أعمالهم حسبما وعد لهم بمقابلة حسنة واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف «ويزيدهم من فضله» أي يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها ولم تخطر ببالهم كيفياتها ولا كمياتها بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عنه عز وجل أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وغير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله تعالى «والله يرزق من يشاء بغير حساب» فإنه تذييل مقرر للزيادة وعد كريم بأنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب وأما عدم سبق الوعد بالزيادة ولو إجمالا وعدم خطورها ببالهم ولو بوجه ما فيأباه نظمها في سلك الغاية والموصول عبارة عمن ذكرت صفاتهم الجميلة كأنه قيل والله يرزقهم بغير حساب ووضعه موضع ضميرهم للتنبيه بما في حيز الصلة على أن مناط الرزق المذكور في محض مشيئته تعالى لا أعمالهم المحكية كما أنها المناط لما سبق من الهداية لنوره تعالى لا لظاهر الأسباب وللإيذان بأنهم ممن شاء الله تعالى لأن يرزقهم كما أنهم ممن شاء الله تعالى أن يهديهم لنوره حسبما يعرب عنه ما فصل من أعمالهم الحسنة فإن جميع مل ذكر من الذكر والتسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوف اليوم الآخر وأهواله ورجاء الثواب مقتبس من القرآن الكريم العظيم الذي هو المعنى بالنور وبه يتم بيان أحوال من اهتدى بهداه على أوضح وجه وأجلاه وهذا وقد قيل قوله تعالى في بيوت الخ من تتمة التمثيل وكلمة في متعلقة بمحذوف هي صفة لمشكاة أي كائنة في بيوت وقيل لمصباح وقيل لزجاجة وقيل متعلقة بيوقد والكل مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل كيف لا وأن ما بعد قوله تعالى ولو لم تمسسه نار على ما هو الحق أو ما بعد قوله تعالى نور على نور على ما قيل إلى قوله تعالى بكل شيء عليم كلام متعلق بالممثل قطعا فتوسيطه بين أجزاء التمثيل مع كونه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه بالأجنبي يؤدي إلى كون ذكر حال المنتفعين بالتمثيل
المهديين لنور القرآن الكريم بطريق الاستتباع والاستطراد مع كون بيان حال أضدادهم مقصودا بالذات ومثل هذا مما لا عهد به في كلام الناس فضلا أن يحمل عليه الكلام المعجز «والذين كفروا» عطف على ما ينساق إليه ما قبله كأنه قيل الذين آمنوا أعمالهم حالا وما لا كما وصف والذين كفروا «أعمالهم» أي أعمالهم التي هي من أبواب البر كصلة الأرحام وفك العناة وسقاية الحاج وعمارة البيت وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف ونحو ذلك مما لو قارنه الإيمان لاستتبع الثواب كما في قوله تعالى مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد الآية «كسراب» وهو ما يرى في الفلوات من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء يسرب أي يجري «بقيعة» متعلق بمحذوف هو صفة لسراب أي كائن في قاع وهي الأرض المنبسطة
180

المستوية وقيل هي جمع قاع كجيرة جمع جار وقرئ بقيعات بتاء ممدودة كديمات إما على أنها جمع قيعة أو على أن الأصل قيعة قد أشبعت فتحة العين فتولد منها ألف «يحسبه الظمآن ماء» صفة أخرى لسراب وتخصيص الحسبان بالظمآن مع شموله لكل من يراه كائنا من كان من العطشان والريان لتكميل التشبيه بتحقيق شركة طرفيه في وجه الشبه الذي هو المطلع المطمع والمقطع الموئس «حتى إذا جاءه» أي إذا جاء العطشان ما حسبه ماء وقيل موضعه «لم يجده» أي ما حسبه ماء وعلق به رجاءه «شيئا» أصلالا محققا ولا متوهما كما كان يراه من قبل فضلا عن وجدانه ماء وبه تم بيان أحوال الكفرة بطريق التمثيل وقوله تعالى «ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب» بيان لبقية أحوالهم العارضة لهم بعد ذلك بطريق التكملة لئلا يتوهم أن قصارى أمرهم هو الخيبة والقنوط فقط كما هو شأن الظمآن ويظهر أنه يعتريهم بعد ذلك التمثيل من عدم وجدان الكفرة من أعمالهم المذكورة عينا ولا أثرا كما في قوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا كيف لا وأن الحكم بأن أعمال الكفرة كسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده سيئا حكم بأنها بحيث يحسبونها في الدنيا نافعة لهم في الآخرة حتى إذا جاءوها لم يجدوها شيئا كأنه قيل حتى إذا جاء الكفرة يوم القيامة أعمالهم التي كانوا في الدنيا يحسبونها نافعة لهم في الآخرة يجدوها شيئا ووجدوا الله أي حكمه وقضاءه عند المجيء وقيل عند العمل فوفاهم أي أعطاهم وافيا كاملا حسابهم أي حساب أعمالهم المذكورة وجزاءها فإن اعتقادهم لنفعها بغير أيمان وعملهم بموجبه كفر على كفره وجب للعقاب قطا وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا إما لإرادة الجنس كالضمان الواقع في التمثيل وإما للحمل على كل واحد منهم وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم هذا وقد قيل نزل في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد في الجاهلية وليس المسوح والتمس الدين فلما جاء الإسلام كفر «أو كظلمات» عطف على كسراب وكلمة للتنويع 40 إثر ما مثلت أعمالهم التي كانوا يعتمدون عليها أقوى اعتماد ويفتخرون بها في كل واد وناد بما ذكر من حال السراب مع زيادة حساب وعقاب مثلت أعمالهم القبيحة التي ليس فيها شائبة خيرية يغتر بها المغترون بظلمات كائنة «في بحر لجي» أي عميق كثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر وقيل إلى اللجة وهي أيضا معظمه «يغشاه» صفة أخرى للبحر أي يستره ويغطيه بالكلية «موج» وقوله تعالى «من فوقه موج» جملة من مبتدأ أو خبر محلها الرفع على أنها صفة لموج أو الصفة هي الجار والمجرور وموج الثاني فاعل له لاعتماده على الموصوف والكلام فيه كما مر في قوله تعالى نور على نور أي يغشاه أمواج متراكمة متراكبة بعضها على بعض وقوله تعالى «من فوقه سحاب» صفة لموج الثاني على أحد الوجهين المذكورين من فوق ذلك الموج سحاب ظلماني ستر أضواء النجوم وفيه إيماء إلى غاية تراكم الأمواج وتضاعيفها حتى كأنها بلغت
181

السحاب «ظلمات» حبر مبتدأ محذوف أي هي ظلمات «بعضها فوق بعض» أي متكاثفة متراكمة وهذا بيان لكمال شدة الظلمات كما أن قوله تعالى نور بيان لغاية قوة النور خلا أن ذلك متعلق بالمشبه وهذا بالمشبه به كما يعرب عنه ما بعده وقرئ بالجر على الإبدال من الأولى وقرئ بإضافة السحاب إليها «إذا أخرج» أي من ابتلى بها وإضماره من غير ذكره لدلالة المعنى عليه دلالة واضحة «يده» جعلها بمرأى منه قريبة من عينه لينظر إليها «لم يكد يراها» وهي أقرب شيء منه فضلا عن أن يراها «ومن لم يجعل الله له نورا» الخ اعتراض تذييلى جيء به لتقدير ما أفاده التمثيل من كون أعمال الكفرة كما فصل وتحقيق أن ذلك لعدم هدايته تعالى إياهم لنوره وإيراد الموصول للإشارة بما في حيز الصلة إلى علة الحكم وأيهم ممن لم يشأ الله تعالى هدايتهم أي من لم يشأ الله أن يهديه لنوره الذي هو القرآن هداية خاصة مستتبعة للاهتداء حتما ولم يوقفه للإيمان به «فما له من نور» أي فما له هداية ما من أحد أصلا وقوله تعالى «ألم تر» الخ استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم للإيذان بأنه تعالى أفاض عليه صلى الله عليه وسلم أعلى المراتب النور وأجلاها وبين له من أسرار الملك الملكوت وأدقها وأخفاها والهمزة للتقرير أي قد علمت عملا يقينيا شبيها بالمشاهدة في القوة والرصانة بالوحي الصريح والاستدلال الصحيح «أن الله يسبح له» أي ينزهه تعالى على الدوام في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل مالا يليق بشأنه الجليل من نقص أو خلل «من في السماوات والأرض» أي ما فيهما إما بطريف الاستقرار فيهما من العقلاء وغيرهم كائنا ما كان أو بطريق الجزئية منهما تنزيها تفهمه العقول السليمة فإن كل موجود من الموجودات الممكنة مركبا كان أو بسيطا فهو من حيث ماهيته ووجود أحواله يدل على وجود صانع واجب الوجود متصف بصفات الكمال مقدس عن كل مالا يليق بشأن من شؤونه الجليلة وقد نبه على كمال قوة تلك الدلالة وغاية وضوحها حيث عبر عنها بما يخص العقلاء من التسبيح الذي هو أقوى مراتب التنزيه وأظهرها تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال وأكد ذلك بإيثار كلمة من على ما كان كل شيء مما عز وهان وكل فرد من أفراد الأعراض والأعيان عاقل ناطق ومخبر صادق بعلو شأنه تعالى وعزة سلطانه وتخصيص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا لما أن مساق الكلام لتقبيح حال الفكرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له في الألوهية ونسبتهم إياه إلى اتخاذ الولد تعالى عن ذلك علوا كبيرا وحمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات بأن يراد به معنى مجازى شامل لتسبيح العقلاء وغيرهم حسبما هو المتبادر من قوله تعالى كل قد علم صلاته وتسبيحه يرده أن بعضا من العقلاء وهم الكفرة من الثقلين لا يسبحونه بذلك المعنى قطعا وإنما تسبيحهم ما ذكر من الدلالة التي يشاركهم فيها غير العقلاء أيضا وفيه مزيد تخطئة لهم وتعيير ببيان أنهم يسبحونه تعالى باعتبار أخس جهاتهم التي هي الجمادية والجسمية والحيوانية ولا
182

يسبحونه باعتبار أشرفها التي هي الإنسانية «والطير» بالرفع عطفا على من وتخصيصها بالذكر مع اندارجها في جملة ما في الأرض لعدم استقرار قراها واستقلالها بصنع بارع وإنشاء رائع قصد بيان تسبيحها من تلك الجهة لوضوح إنبائها عن كمال قدرة صانعها ولطف تدبير مبدعها حسبما يعرب عنه التقيد بقوله تعالى «صافات» أي تسبيحه تعالى حال كونها صافات أجنحتها فإن إعطاءه تعالى للأجرام الثقيلة ما تتمكن من الوقوف في الجو والحركة كيف تشاء من الأجنحة والأذناب الخفيفة وإرشادها إلى كيفية استعمالهما بالقبض والبسط حجة نيرة واضحة المكنون وآية بينة لقوم يعقلون دالة على كمال قدرة الصانع المجيد وغاية حكمة المبدىء المعيد وقوله تعالى «كل قد علم صلاته وتسبيحه» بيان لكمال عراقة كل واحد مما ذكر في التنزيه ورسوخ قدمه فيه بتمثيل حاله بحال من يعلم ما يصدر عنه من الأفاعيل فيفعلها عن قصد ونية لا عن اتفاق بلا روية وقد أدمج في تضاعيفه الإشارة إلى أن لكل واحد من الأشياء المذكورة مع ما ذكر من التنزيه حاجة ذاتية إليه تعالى واستفاضة منه لما يهمه بلسان استعداده وتحقيقه أن كل واحد من الموجودات الممكنة في حد ذاته بمعزل من استحقاق الوجود لكنه مستعد لأن يفيض عليه منه تعالى ما يلقى بشأنه من الوجود وما يتبعه من الكمالات ابتداء وبقاء فهو مستفيض منه تعالى على الاستمرار ففيض عليه في كل آن من فيوض الفنون المتعلقة بذاته وصفاته مالا يحيط به نطاق البيان بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية والربانية من العلاقة لانعدم بالمدة وقد عبر عن تلك الاستفاضة المعنوية بالصلاة التي هي الدعاء والابتهال لتكميل التمثيل وإفادة المزايا المذكورة فيما مر على التفصيل وتقديمها على التسبيح في الذكر لقدمها عليه في الرتبة وهذا ويجور أن يكون العلم على حقيقته ويراد به مطلق الإدراك وبما ناب عنه التنوين في كل أنواع الطير وأفرادها بالصلاة وبالتسبيح ما ألهمه الله تعالى كل واحد منها من الدعاء والتسبيح المخصوصين به لكن لا على أن يكون الطير معطوفا على كلمة من مرفوعا برافعها فإنه يؤدي إلى أن يراد بالتسبيح معنى مجازى شامل للتسبيح المقالى والحالى من العقلاء وغيرهم وقد عرفت ما فيه بل بفعل مضمر أريد به التسبيح المخصوص بالطير معطوف على المذكور كما مر في قوله تعالى وكثير من الناس أي تسبح الطير تسبيحا خاصا بها حال كونها صافات أجنحتها وقوله تعالى قل قد علم صلاته وتسبيحه أي دعاه وتسبيحه اللذين ألهمهما الله عز وجل إياه لبيان كمال رسوخه فيهما وأن صدورهما عنه ليس بطريق الاتفاق بلا روية بل عن علم وإيقان من غير إخلال بشيء منهما حسبما ألهمه الله تعالى فإن إلهامه تعالى لكل نوع من أنواع المخلوقات علوما دقيقة لا يكاد يهتدي إليه جهابذة العقلاء مما لا سبيل إلى إنكاره أصلا كيف لا وأن القنفذ مع كونه أبعد الأشياء من الإدراك قالوا إنه يحس بالشمال والجنوب قبل هبوبها فيغير المدخل إلى حجرة حتى روى أنه كان بقسطنطينية قبل الفتح الإسلامي رجل قد أثرى بسبب أنه كان ينذر الناس بالرياح قبل هبوبها وينتفعون بإنذاره بتدارك أمور سفائنهم وغيرها وكان السبب في ذلك أنه كان يقتني في داره قنفذا يستدل بأحواله على ما ذكر وتخصيص تسبيح الطير بهذا المعنى بالذكر لما أن أصواتها أظهر وجودا وأقرب حملا على التسبيح وقوله تعالى «والله عليم بما يفعلون» أي ما يفعلونه اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وما على الوجه الأول عبارة عما ذكر من الدلالة الشاملة لجميع الموجودات من العقلاء وغيرهم والتعبير عنها بالفعل مسندا
183

إلى ضمير العقلاء لما مر غير مرة وعلى الثاني إما عبارة عنها عن التسبيح الخاص بالطير معا أو تسبيح الطير فقط فالفعل على حقيقته وإسناده إلى ض لما مر والاعتراض حينئذ مقرر لتسبيح الطير فقط وعلى الأولين لتسبيح الكل هذا وقد قيل إن الضمير في قوله تعالى وقد علم الله عز وجل وفي صلاته وتسبيحه لكل أي قد علم الله تعالى صلاة كل واحد مما في السماوات والأرض وتسبيحه فالاعتراض حينئذ مقرر لمضمونه على الوجهين لكن لأعلى أن تكون ما عبارة عما تعلق به علمه تعالى من صلاته وتسبيحه بل عن جميع أحواله العارضة له وأفعاله الصادرة عنه وهما داخلتان فيها دخولا أولياء «ولله ملك السماوات والأرض» لا لغيره لأنه الخالق لهما ولما فيهما من الذوات والصفات وهو المتصرف في جميعها إيجادا وإعداما بدءا وإعادة وقوله تعالى «وإلى الله» أي إليه تعالى خاصة لا إلى غيره «المصير» أي رجوع الكل بالفناء والبعث بيان لاختصاص الملك به تعالى في المعاد إثر بيان اختصاصه به تعالى في المبدأ وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم «ألم تر أن الله يزجي سحابا» الإزجاء سوق الشيء برفق وسهولة غلب في سوق شيء يسير أو غير معتد به ومنه البضاعة المزجاة ففيه إيماء إلى أن السحاب بالنسبة إلى قدرته تعالى مما لا يعتد به «ثم يؤلف بينه» أي بين أجزائه بضم بعضها إلى بعض وقرئ يولف بغير همزة «ثم يجعله ركاما» أي متراكما بعضه فوق بعض «فترى الودق» أي المطر إثر تراكمه وتكاثفه وقوله تعالى «يخرج من خلاله» أي من فتوقه حال من الودق لأن الرؤية بصرية وفي تعقيب الجعل المذكور برؤيته خارجا لا بخروجه من المبالغة في سرعة الخروج على طريقة قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق ومن الاعتناء بتقرير الرؤية ما لا يخفى والخلال جمع خلل كجبال وجبل وقيل مفرد كحجاب وحجاز ويؤيده أنه قرئ من خلله «وينزل من السماء» من الغمام فإن كل ما علاك سماء «من جبال» أي من قطع عظام تشبه الجبال في العظم كائنة «فيها» وقوله تعالى «من برد» مفعول ينزل على أن من تبعيضية والأوليان لابتداء الغاية على أن الثانية بدل اشتمال من الأولى بإعادة الجار أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها بعض يرد وقيل المفعول محذوف ومن برد بيان للجبال أن ينزل مبتدئا من السماء من جبال فيها من جنس البرد بردا والأول أظهر لخلوه عن ارتكاب الحذف والتصريح ببعضه المنزل وقيل المفعول من مشبهة بالجبال في الكثرة وأياما كان فتقديم الجار والمجرور على المفعول لما غير مرة من الاعتناء بالمقدم
184

والتشريق إلى المؤخر وقيل المراد بالسماء المظلة وفيها جبال من برد أن كما في الأرض جبالا من حجر وليس في العقل وما ينفيه من قاطع والمشهور أن الأبخرة إذا تصاعدت ولم تحللها حرارة فبلغت الطبق الباردة من الهواء وقوى البرد اجتمع هناك وصار سحابا وإن لم يشتد البرد تقاطر مطرا وإن اشتد فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها نزل ثلجا وإلا نزل بردا وقد يبرد الهواء بردا مفرطا فينقبض وينعقد سحابا وينزل منه المطر أو الثلج وكل ذلك مستند إلى إدارة الله تعالى ومشيئته المبنية على الحكم والمصالح «فيصيب به» أي ما ينزله من البرد «من يشاء» أن يصيبه به فيناله ما يناله من ضرر نفسه وماله «ويصرفه عن من يشاء» أن يصرفه عنه فينجو من غائلته «يكاد سنا برقه» أي ضوء برق السحاب الموصوف بما مر من الإزجاء والتأليف وغيرهما وإضافة البرق إليه قبل الأخبار بوجوده فبه للإيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به وقرئ بالمد بمعنى الرفعة والعلو وبإدغام الدال في السين وبرقه يفتح الراء على أنه جمع برقه وهي مقدار على البرق كالغرفة
وبضمها للاتباع لضمة الباء «يذهب بالأبصار» أي يخطفها من فرط الإضاءة وسرعة ورودها وفي إطلاق الأبصار مزيد تهويل لأمره وبيان لشدة تأثيره فيها كأنه يكاد يذهب بها ولو عند الاغماض وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة من حيث إنه توليد للضد من الضد وقرئ يذهب من الإذهاب على زيادة الباء «يقلب الله الليل والنهار» بالمعاقبة بينهما أو ينقص أحدهما وزيادة الآخر أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما مما يقع فيهما من الأمور التي من جملها ما ذكر من إزجاء السحاب وما ترتب عليه «إن في ذلك» إشارة إلى ما فصل آنفا وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإيذان يعلو رتبته بعد منزلته «لعبرة» أي لدلالة واضحة على وجود الصانع القديم ووحدته وكمال قدرته وإحاطة علمه بجميع الأشياء ونفاذ مشيئته وتنزيهه عما لا يليق بشأن العلي «لأولي الأبصار» لكل من له بصير «والله خلق كل دابة» أي كل حيوان يدب على الأرض وقرئ خالق كل دابة بالإضافة «من ماء» وهو جزء مادة أو ماء مخصوص وهو النطفة فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكل لأن من الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة وقيل من ماء متعلق بداية وليس صلة الخلق «فمنهم من يمشي على بطنه» كالحية وتسمية حركها مشيا مع كونها زحفا بطريق الاستعارة أو المشاكلة «ومنهم من يمشي على رجلين» كالإنس والطير «ومنهم من يمشي على أربع» كالنعم والوحش وعدم التعريض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها وتذكير الضمير في منهم لتغليب العقلاء والتعبير عن الأصناف بكلمة من ليوافق التفصيل الإجمال والترتيب لتقديم ما هو أعرف في القدرة «يخلق الله ما يشاء» مما ذكر ومما لم يذكر بسيطا كان أو مركبا على ما يشاء من الصور والأعضاء
185

والهيئات والحركات والطبائع والقوى والأفاعيل مع اتحاد العنصر وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور والإيذان بأنه من أحكام الألوهية «إن الله على كل شيء قدير» فيفعل ما يشاء كما يشاء وإظهار الجلالة كما ذكر مع تأكيد استقلال الاستئناف التعليلي «لقد أنزلنا آيات مبينات» أي لكل مل يليق بيانه من الأحكام الدينية والأسرار التكوينية «والله يهدي من يشاء» أن يهديه بتوفيقه للنظر الصحيح فيما وإرشاد إلى التأمل في مطاويها «إلى صراط مستقيم» موصل إلى حقيقة الحق والفوز بالجنة «ويقولون آمنا بالله وبالرسول» شروع في بيان أحوال بعض من لم يشأ الله هدايته إلى الصراط المستقيم قال الحسن نزلت على المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان ويسرون الكفر وقيل نزلت في بشر المنافق خاصم يهوديا فدعاه إلى كعب بن الأشراف واليهودي يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في المغيرة بن وائل خاصم عليا رضي الله عنه في أرض وماء فإني أن يحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأياما كان فصيغه الجمع للإيذان بأن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم «وأطعنا» أي أطعناهما في الأمر والنهي «ثم يتولى» عن قبول حكمه «فريق منهم من بعد ذلك» أي من بعد ما صدر عنهم ما صدر من ادعاء الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لهما على التفصيل وما في ذلك من معنى البعد للإيذان بكونه أمرا معتدا به واجب المراعاة «وما أولئك» إشارة إلى القائلين لا إلى الفريق المتولي منهم فقط لعدم اقتضاء نفى الإيمان عنهم نفيه عن الأولين بخلاف العكس فإن نفيه عن القائلين مقتض لنفيه عنهم على أبلغ وجه وآكده وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد منزلتهم في الكفر والفساد أي وما أولئك الذين يدعون الإيمان والطاعة ثم يتولى بعضهم الذين يشاركونهم في العقد والعمل «بالمؤمنين» أي المؤمنين حقيقة كما يعرب عنه اللام أي ليسوا بالمؤمنين المعهودين بالإخلاص في الإيمان والثبات عليه «وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم» أي الرسول «بينهم» لأنه المباشر حقيقة للحكم وإن كان ذلك حكم الله حقيقة وذكر الله تعالى لتفخيمه صلى الله عليه وسلم والإيذان بجلالة محله عنده تعالى «إذا فريق منهم معرضون» أي فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم لكون الحق عليهم بأنه صلى الله عليه وسلم يحكم بالحق عليهم وهو شرح للتولي ومبالغة فيه «وإن يكن لهم الحق» لا عليهم «يأتوا إليه مذعنين» منقادين لجزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم يحكم لهم وإلى صلة ليأتوا فإن الإتيان والمجيء يعديان بالى أو لمذعنين
186

على تضمين معنى الإسراع والإقبال كما في قوله تعالى فأقبلوا إليه يزفون والتقديم للاختصاص «أفي قلوبهم مرض» إنكار واستقباح لإعراضهم المذكور وبيان لمنشئه بعد استقصاء عدة من القبائح المحققة فيهم والمتوقعة منهم وترديد المنشئية بينها فمدار الاستفهام ليس نفس ما وليته الهمزة وأم من الأمور الثلاثة بل هو منشئيتها له كأنه قيل أذلك أي إعراضهم المذكور لأنهم مرضى القلوب لكفرهم ونفاقهم «أم» لأنهم «ارتابوا» في أمر نبوته صلى الله عليه وسلم مع ظهور حقيتها «أم» لأنهم «يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله» ثم أضرب عن الكل وأبطلت منشيته وحكم بأن المنشأ شيء آخر من شنائعهم حيث قيل «بل أولئك هم الظالمون» أي ليس ذلك لشيء مما ذكر أما الأولان فلأنه لو كان لشيء منها لأعرضوا عنه صلى الله عليه وسلم عند كون الحق لهم ولما أتوا إليه صلى الله عليه وسلم مذعنين لحكمه لتحقق نفاقهم وارتيابهم حينئذ أيضا واما الثالث فلانتفائه رأسا حيث كانوا لا يخافون الحيف أصلا لمعرفتهم بتفاصيل أحواله صلى الله عليه وسلم في الأمانة والثبات على الحق بل لأنهم هم الظالمون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم ويتم لهم جحوده فيأبون المحاكمة إليه صلى الله عليه وسلم لعلمهم بأنه صلى الله عليه وسلم يقضى عليهم بالحق فمناط النفي المستفاد من الإضراب في الأولين هو وصف منشئيتهما للإعراض فقط مع تحققهما في نفسهما وفي الثالث هو الأصل والوصف جميعا هذا وقد خص الارتياب بماله منشأ مصحح لعروضه لهم في الجملة والمعنى أم ارتابوا بأن رأوا منه صلى الله عليه وسلم تهمة فزالت ثقتهم ويقينهم به صلى الله عليه وسلم فمدار النفي حينئذ نفس الارتياب ومنشئيته معا فتأمل فيما ذكر على التفصيل ودع عنك ما قيل وقيل حسبما
51 يقتضيه النظر الجليل «إنما كان قول المؤمنين» بالنصب على انه خبر كان وأن مع ما في حيزها اسمها وقرئ بالرفع على العكس والأول أقوى صناعة لأن الأولى للاسمية ما هو أوغل في التعريف وذلك هو الفعل المصدر بأن إذ لا سبيل إليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين فإنه يحتمله كما إذا اعتزلت عنه الإضافة لكن قراءة الرفع أقعد بحسب المعنى وأوفى لمقتضى المقام لما أن مصب الفائدة وموقع البيان في الجمل هو الخبر فالأحق بالخبرية ما هو أكثر إفادة وأظهر دلالة على الحدوث وأوفر اشتمالا على نسب خاصة بعيدة من الوقوع في الخارج وفي ذهن السامع ولا ريب في أن ذلك ههنا في أن مع ما في حيزها أتم وأكمل فإذا هو أحق بالخيرية وأما ما تفيده الإضافة
من النسبة المطلقة الإجمالية فحيث كانت قليلة الجدوى سهلة الحصول خارجا وذهنا كان حقها أن تلاحظ ملاحظة مجملة وتجعل عنوانا للموضوع فالمعنى إنما كان مطلق القول الصادر عن المؤمنين «إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم» أي الرسول صلى الله عليه وسلم «بينهم» أي وبين
187

خصومهم سواء كانوا منهم أو من غيرهم «أن يقولوا سمعنا وأطعنا» أي خصوصية هذا القول المحكى عنهم لا قولا آخر أصلا وأما قراءة النصب فمعناها إنما كان قول المؤمنين أي إنما كان قولا لهم عند الدعوة خصوصية قولهم المحكى عنهم ففيه من جعل النسبتين وأبعدهما وقوعا وحضورا في الأذهان وأحقهما بالبيان مفروغا عنها عنوانا للموضوع وإبراز ما هو بخلافها في معرض القصد الأصلي ما لا يخفى وقرئ ليحكم على بناء الفعل للمفعول مسندا إلى مصدره مجاويا لقوله تعالى إذا إذا دعوا أي ليفعل الحكم كما في قوله تعالى لقد تقطع بينكم أي وقع التقطع بينكم «وأولئك» إشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي أولئك المنعوتون
52 بما ذكر من النعت الجميل «هم المفلحون» أي هم الفائزون بكل مطلب والناجون من كل محذور «ومن يطع الله ورسوله» استئناف جئ به لتقرير مضمون ما قبله من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم في الانتظام في سلكهم أي ومن يطعهما كائنا من كان فيما أمرا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية وقيل في الفرائض والسنن والأول هو الأنسب بالمقام «ويخش الله ويتقه» بإسكان القاف المبنى على تشبيهه بكنف وقرئ بكسر القاف والهاء وبإسكان الهاء أي ويخش الله على ما مضى من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل «فأولئك» الموصوفون بما ذكر من الطاعة والخشية والاتقاء «هم الفائزون» بالنعيم المقيم
53 لا من عداهم «وأقسموا بالله» حكاية لبعض آخر من أكاذيبهم مؤكد بالأيمان الفاجرة وقوله تعالى «جهد أيمانهم» نصب على أنه مصدر مؤكد لفعله الذي هو في حيز النصب على أنه حال من فاعل أقسموا أي أقسموا به تعالى يجهدون أيمانهم جهدا ومعنى جهد اليمين بلوغ غايتها بطريق الاستعارة من قولهم جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها أي جاهدين بالغين أقصى مراتب اليمين في الشدة والوكادة وقيل هو مصدر مؤكد لأقسموا أي أقسموا إقسام اجتهاد في اليمين قال مقاتل من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين «لئن أمرتهم» أي بالخروج إلى الغزو لا عن ديارهم وأموالهم كما قيل لأنه حكاية لما كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أينما كنت نكن معك لئن خرجت خرجنا وإن أقمت أقمنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا وقوله تعالى «ليخرجن» جواب لأقسموا بطريق حكاية فعلهم لا حكاية قولهم وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر صلى الله عليه وسلم بردها حيث قيل «قل» أي ردا عليهم وزجرا لهم عن التفوه بها وإظهارا لعدم القبول لكونهم كاذبين فيها «لا تقسموا» أي على ما ينبئ عنه كلامكم من الطاعة وقوله تعالى «طاعة معروفة» خبر مبتدأ محذوف والجملة تعليل للنهي أي لا تقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية واقعة باللسان فقط من غير مواطأة من القلب وإنما عبر عنها بمعروفة للإيذان بأن كونها كذلك
188

مشهور معروف لكل أحد وقرئ بالنصب والمعنى تطيعون طاعة معروفة هذا وحملها على الطاعة الحقيقية بتقدير ما يناسبها من مبتدأ أو خبر أو فعل مثل الذي يطلب منكم طاعة معروفة حقيقتة لا نفاقية أو طاعة معروفة أمثل أو ليكن طاعة معروفة أو أطيعوا طاعة معروفة مما لا يساعده المقام «إن الله خبير بما تعملون» من الأعمال الظاهرة والباطنة التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين وغيرها من فنون الشر والفساد تضمرونه الجملة تعليل للحكم بأن طاعتهم طاعة نفاقية مشعر بأن مدار شهرة أمرها فيما بين المؤمنين إخباره تعالى بذلك
54 ووعيد لهم بأنه تعالى مجازيهم بجميع أعمالهم السيئة التي منها نفاقهم «قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» كرر الامر بالقول لإبراز كمال العناية به والإشعار باختلافهما من حيث أن المقول في الأول نهى بطريق الرد والتقريع كما في قوله تعالى «اخسؤوا فيها ولا تكلمون» وفي الثاني أمر بطريق التكليف والتشريع وإطلاق الطاعة المأمور بها عن وصف الصحة والإخلاص ونحوهما بعد وصف طاعتهم بما ذكر للتنبيه على أنها ليست من الطاعة في شيء أصلا وقوله تعالى «فإن تولوا» خطاب للمأمورين بالطاعة من جهته تعالى وارد لتأكيد الأمر بها والمبالغة في إيجاب الامتثال به والحمل عليه بالترهيب والترغيب لما أن تغيير الكلام المسوق لمعنى من المعاني وصرفه عن سننه المسلوك ينبئ عن اهتمام جديد بشأنه من المتكلم ويستجلب مزيد رغبة فيه من السامع كما أشير إليه في تفسير قوله تعالى «ولو جئنا بمثله مددا» لا سيما إذا كان ذلك بتغيير الخطاب بالواسطة إلى الخطاب بالذات فإن في خطابه تعالى إياهم بالذات بعد أمره تعالى إياهم بوساطته صلى الله عليه وسلم وتصديه لبيان حكم الامتثال بالأمر والتولى عنه إجمالا وتفصيلا من إفادة ما ذكر من التأكيد والمبالغة ما لا غاية وراءه وتوهم أنه داخل تحت القول المأمور بحكايته من جهته تعالى وأنه أبلغ في التبكيت تعكيس للأمر والفاء لترتيب ما بعدها على تبليغه صلى الله عليه وسلم للمأمور به إليهم وعدم التصريح به للإيذان بغاية ظهور مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى تبليغ ما أمر به وعدم الحاجة إلى الذكر أي إن تتولوا عن الطاعة إثر ما أمرتم بها «فإنما عليه» أي فاعلموا أنما عليه صلى الله عليه وسلم «ما حمل» أي ما أمر به من التبليغ وقد شاهدتموه عند قوله أطيعوا الله وأطيعوا الرسول «وعليكم ما حملتم» أي ما أمرتم به من الطاعة ولعل التعبير عنه بالتحميل للإشعار بثقله وكونه مؤنة باقية في عهدتهم بعد كأنه قيل وحيث توليتم عن ذلك فقد بقيتم تحت ذلك الحمل الثقيل وقوله تعالى ما حمل محمول على المشاكلة «وإن تطيعوه» أي فيما امركم به من الطاعة «تهتدوا» إلى الحق الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير والمنجي من كل شر وتأخيره عن بيان حكم التولي لما في تقديم الترهيب من تأكيد الترغيب وتقريبه مما هو من بابه من الوعد الكريم وقوله تعالى «وما على الرسول إلا البلاغ المبين» اعتراض مقرر لما قبله من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم واللام إما للجنس المنتظم له صلى الله عليه وسلم
189

انتظاما أوليا أو للعهد أي ما على جنس الرسول كائنا من كان أو ما عليه صلى الله عليه وسلم إلا التبليغ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح أو الواضح على أن المبين من أبان بمعنى بان وقد علمتم أنه قد فعله بما لا مزيد عليه
55 وإنما بقي ما حملتم وقوله تعالى «وعد الله الذين آمنوا منكم» استئناف مقرر لما في قوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا من الوعد الكريم ومعرب عنه بطريق التصريح ومبين لتفاصيل ما أجمل فيه من فنون السعادات الدينية والدنيوية التي هي من آثار الاهتداء ومتضمن لما هو المراد بالطاعة التي نيط بها الاهتداء والمراد بالذين آمنوا كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر على الإطلاق من أي طائفة كان وفي أي وقت كان لا من آمن من طائفة المنافقين فقط ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة فحسب ضرورة عموم الوعد الكريم للكل كافة فالخطاب في منكم لعامة الكفرة لا للمنافقين خاصة ومن تبعيضيه «وعملوا الصالحات» عطف على آمنوا داخل معه في حيز الصلة وبه يتم تفسير الطاعة التي أمر بها ورتب عليها ما نظم في سلك الوعد الكريم كما أشير إليه وتوسيط الظرف بين المعطوفين لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام وللإيذان بكونه أول ما يطلب منهم وأهم ما يجب عليهم وأما تأخيره عنهما في قوله تعالى وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما فلأن من هناك بيانية والضمير الذين معه صلى الله عليه وسلم من خلص المؤمنين ولا ريب في أنه جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة مثابرون عليهما فلا بد من ورود بيانهم بعد ذكر نعوتهم الجليلة بكمالها هذا ومن جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة عموما على أن من تبعيضية أوله صلى الله عليه وسلم ولمن معه من المؤمنين خصوصا على أنها بيانية فقد نأى عما يقتضيه سباق النظم الكريم وسياقه بمنازل وأبعد عما يليق بشأنه صلى الله عليه وسلم بمراحل «ليستخلفنهم في الأرض» جواب للقسم إما بالإضمار أو بتنزيل وعده تعالى منزلة القسم لتحقق إنجازه لا محالة أي ليجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم أو خلفا من الذين لم يكونوا على حالهم من الإيمان والأعمال الصالحة «كما استخلف الذين من قبلهم» هم بنو إسرائيل استخلفهم الله عز وجل في مصر والشام بعد إهلاك فرعون والجبابرة أو هم ومن قبلهم من الأمم المؤمنة التي أشير إليهم في قوله تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات إلى قوله تعالى فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ومحل الكاف النصب على أنه مصدر تشبيهي مؤكد للفعل بعد تأكيده بالقسم وما مصدرية أي ليستخلفنهم استخلافا كائنا كاستخلافه تعالى للذين من قبلهم وقرئ كما استخلف على البناء للمفعول فليس العامل في الكاف حينئذ الفعل المذكور بل ما يدل هو عليه من فعل مبنى للمفعول جار منه مجرى المطاوع فإن استخلافه تعالى إياهم مستلزم لكونهم مستخلفين
190

لا محالة كأنه قيل ليستخلفنهم في الأرض فيستخلفن فيها استخلافا أي مستخلفية كائنة كمستخفلية من قبله وقد مر تحقيقه في قوله تعالى كما سئل موسى من قبل ومن هذا القبيل قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا على أحد الوجهين أي فنبتت نباتا حسنا وعليه قول من قال وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع
* من المال إلا مسحت أو بحلف أي فلم يبق إلا مسحت الخ «وليمكنن لهم دينهم» عطف على ليستخلفنهم منتظم معه ف سلك الجواب وتأخيره عنه مع كونه أجل الرغائب الموعودة وأعظمها لما أن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل فتصدير المواعيد بها في الاستمالة أدخل والمعنى ليجعلن دينهم ثابتا مقررا بحيث يستمرون على العمل بأحكامه ويرجعون إليه في كل ما يأتون وما يذرون والتعبير عن ذلك بالتمكين الذي هو جعل الشيء مكانا لآخر يقال مكن له في الأرض أي جعلها مقرا له ومنه قوله تعالى إنا مكنا له في الأرض ونظائره وكلمة في للإبذان بأن ما جعل مقرا له قطعة منها لا كلها للدلالة على كمال ثبات الدين ورصانة أحكامه وسلامته من التغيير والتبديل لابتنائه على تشبيهه بالأرض في الثبات والقرار مع ما فيه من مراعاة المناسبة بينه وبين الاستخلاف في الأرض وتقديم صلة التمكين على مفعوله الصريح للمسارعة إلى بيان كون الموعود من منافعهم تشويقها لهم إليه وترغيبا لهم في قبوله عند وروده ولأن في توسيطها بينه وبين وصفه أعنى قوله تعالى «الذي ارتضى لهم» وفي تأخيرها عنه من الإخلال بجزالة النظم الكريم ما لا يخفى وفي إضافة الدين إليهم وهو دين الإسلام ثم وصفه بارتضائه لهم تأليف لقلوبهم ومزيد ترغيب فيه وفضل تثبيت عليه «وليبدلنهم» بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الإبدال «من بعد خوفهم» أي من الأعداء «آمنا» حيث كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين بل أكثر خائفين ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا يصبحون في السلاح ويمسون كذلك حتى قال رجل منهم ما يأتي علينا يوم نأمن فيه فقال صلى الله عليه وسلم لا تعبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة فانزل الله عز وجل هذه الآية وأنجز وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وفتح لهم بلاد الشرق والغرب وصاروا لي حال يخافهم كل من عداهم وفيه من الدلالة على صحة النبوة للإخبار بالغيب على ما هو عليه قبل وقوعه ما لا يخفى وقيل المراد الخوف من العذاب والأمن منه في الآخرة «يعبدونني» حال من الموصول الأول مفيدة لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد أو استئناف ببيان المقتضى للاستخفاف وما انتظم معه في سلك الوعد «لا يشركون بي شيئا» حال من الواو أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئا «ومن كفر» أي اتصف بالكفر بأن ثبت واستمر عليه ولم يتأثر بما مر من الترهيب الترغيب فإن الإصرار عليه بعد مشاهدة دلائل التوحيد كفر مستأنف زائدة على الأصل وقيل كفر بعد الإيمان وقيل كفر هذه النعمة العظيمة والأول هو الأنسب بالمقام «بعد ذلك» أي بعد ذلك الوعد الكريم بما فصل من المطالب العالية المستوجبة لغاية الاهتمام بتحصيلها والسعي الجميل في حيازتها «فأولئك» البعداء عن الحق التائهون في تيه الغواية والضلال «هم الفاسقون» الكاملون في الفسق والخروج عن حدود الكفر والطغيان «وأقيموا الصلاة وآتوا
191

الزكاة» عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام فإن خطابه تعالى للمأمورين بالطاعة على طريق الترهيب من التولي بقوله تعالى فإن تولوا الخ وترغيبه تعالى إياهم في الطاعة بقوله تعالى وإن تطيعوه تهتدوا الخ وعده تعالى إياهم على الإيمان والعمل الصالح بما فصل من الاستخلاف وما يتلوه من الرغائب الموعودة ووعيده على الكفر مما يوجب الأمر بالإيمان والعمل الصالح والنهي عن الكفر فكأنه قيل فآمنوا وعملوا صلاحا وأقيموا أو فلا تكفروا وأقيموا وعطفه على أطيعوا الله مما لا يليق بجزالة النظم الكريم «وأطيعوا الرسول» أمرهم الله سبحانه وتعالى بالذات بما أمرهم به بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم من طاعته التي هي طاعته تعالى في الحقيقة تأكيدا للأمر السابق وتقريرا لمضمونه على ان المراد بالمطاع فيه جميع الأحكام الشرعية المنتظمة للآداب المرضية أيضا أي وأطيعوه في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه أو تكميلا لما قبله من الأمرين الخاصين المتعلقين بالصلاة والزكاة على أن المراد بما ذكر ما عداهما من الشرائع أي وأطيعوه في سائر ما يأمركم به الخ وقوله تعالى
«لعلكم ترحمون» متعلق على الأول بالامر الأخير المشتمل على جميع الأوامر وعلى الثاني بالأوامر الثلاثة أي افعلوا ما ذكر من الإقامة والإيتاء
57 والإطاعة راجين أن ترجموا «لا تحسبن الذين كفروا» لما بين حال من أطاعه صلى الله عليه وسلم وأشير إلى فوزه بالرحمة المطلقة المستتبعة لسعادة الدارين عقب ذلك ببيان حال من عصاه صلى الله عليه وسلم ومآل أمره في الدينا والآخرة بعد بيان تناهيه في الفسق تكميلا لأمر الترغيب والترهيب والخطاب إما لكل أحد ممن يصلح له كائنا من كان وإما للرسول صلى الله عليه وسلم على منهاج قوله تعالى فلا تكونن من المشركين ونظائره للإيذان بأن الحسبان المذكور من القبح والمحذورية بحيث ينهى عنه من يمتنع صدوره عنه فكيف بمن يمكن ذلك منه ومحل الموصول النصب على أنه مفعول أول للحسبان وقوله تعالى «معجزين» ثانيهما وقوله تعالى «في الأرض» ظرف لمعجزين لكن لا لإفادة كون الإعجاز المنفي فيها لا في غيرها فإن ذلك مما لا يحتاج إلى البيان بل لإفادة شمول عدم الإعجاز بجميع أجزائها أي لا تحسبنهم معجزين الله عز وجل عن إدراكهم وإهلاكهم في قطر من أقطار الأرض بما رحبت وإن هربوا منها كل مهرب وقرئ لا يحسبن بياء الغيبة على أن الفاعل كل أحد والمعنى كما ذكر أي لا يحسبن أحد الكافرين معجزين له سبحانه في الأرض أو هو الموصول والمفعول الأول محذوف لكونه عبارة عن أنفسهم كأنه قيل لا تحسبن الكافرين أنفسهم معجزين في الأرض وأما جعل معجزين مفعولا أول وفي الأرض مفعولا ثانيا فبمعزل من المطابقة لمقتضى المقام ضرورة أن مصب الفائدة هو المفعول الثاني ولا فائدة في بيان كون المعجزين في الأرض وقد مر في قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة وقوله تعالى «ومأواهم النار» معطوف على جملة النهى بتأويلها بجملة خبرية لأن المقصود بالنهى عن الحسبان تحقيق نفي الحسبان كأنه قيل ليس الذين كفروا معجزين ومأواهم الخ أو على جملة مقدرة وقعت تعليلا للنهي كأنه قيل لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض فإنهم مدركون ومأواهم الخ وقيل الجملة المقدرة بل هم مقهورون فتدبر «ولبئس المصير»
192

جواب لقسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف أي وبالله لبئس المصير هي أي النار والحملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله وفي إيراد النار بعنوان كونها مأوى ومصير الهم إثر نفي فوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب من الجزالة مالا غاية وراءه فلله در شأن التنزيل «يا أيها الذين آمنوا» رجوع إلى بيان تتمة الأحكام السابقة بعد تمهيد ما يوجب الامتثال بالأوامر والنواهي الواردة فيها وفي الأحكام اللاحقة من التمثيلات والترغيب والترهيب والوعد والوعيد والخطاب إما للرجال خاصة وللنساء داخلات في الحكم بدلالة النص أو للفريقين جميعا بطريق التغليب روى أن غلام الأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كرهته فنزلت وقيل أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدلج بن عمرو الأنصاري وكان غلاما وقت الظهيرة ليدعو عمر رضي الله عنه فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه فقال عمر رضي الله عنه لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن ثم انطلق معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية «ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم» من العبيد والجواري «والذين لم يبلغوا الحلم» أي الصبيان القاصرون عن درجة البلوغ المعهود والتعبير عنه بالحلم لكونه أظهر دلائله منكم أي من الأحرار «ثلاث مرات» أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة والتعبير عنها بالمرات للإيذان بأن مدار وجوب الاستئذان مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا أنفسها «من قبل صلاة الفجر» لظهور أنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة ومحله النصب على أنه بدل من ثلاث مرات أو مرات أو الرع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أحدها من قبل الخ «وحين تضعون ثيابكم» أي ثيابكم التي تلبسونها في النهار وتخلعونها لأجل القيلولة وقوله تعالى «من الظهيرة» وهي شدة الحر عند انتصاف النهار بيان للحين والصريح الأمر أعني وضع الثياب في هذا الحين دون الأول والآخر لما أن التجرد عن الثياب فيه لأجل القيلولة لقلة زمانها كما ينبئ عنها إيراد الحين مضافا إلى فعل حادث متقض ووقوعها في النهار الذي هو مئنة لكثرة الورود والصدور ومظنة لظهور الأحوال وبروز الأمور ليس من التحقق والإطراد بمنزله ما في الوقتين المذكورين فإن تحقق التجرد وإطراده فيهما أمر معروف لا يحتاج إلى التصريح به «ومن بعد صلاة العشاء» ضرورة أنه وقت التجرد عن اللباس والالتحاف باللحاف وليس المراد بالقبلية والبعدية المذكورتين مطلقهما المتحقق في الوقت الممتد المتخلل بين الصلاتين كما في قوله تعالى وإن كنت من قبله لمن الغافلين وقوله تعالى من بعد أن نزع الشيطان بيني وبين أخوتي بل ما يعرض منهما
193

لطرفي ذلك الوقت الممتد المتصلين بالصلاتين المذكورتين اتصالا عاديا وقوله تعالى «ثلاث عورات» خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى «لكم» متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات أي كائنة لكم والجملة استئناف مسوق لبيان علة وجوب الاستئذان أي هن ثلاثة أوقات يختل فيها التستر عادة والعورة في الأصل هو الخلل غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويعتني بستره أطلقت على الأوقات المشتملة عليها مبالغة كأنها نفس العورة وقرئ ثلاث عورات بالنصب بدلا من ثلاث مرات «ليس عليكم ولا عليهم» أي على المماليك والصبيان جناح أي إثم في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع على العورات «بعدهن» أي بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنتين منهن وإيرادها بعنوان البعدية مع أن كل وقت من تلك الأوقات قبل عورة من العورات كما أنها بعد أخرى منهن لتوفية حق التكليف والترخيص الذي هو عبارة عن رفعه إذا لرخصة إنما تتصور في فعل يقع بعد زمان وقوع الفعل المكلف والجملة على القراءتين مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها بالطرد والعكس وقد جوز على القراءة الأولى كونها في محل الرفع على أنها صفة أخرى لثلاث عورات وأما على القراءة الثانية فهي مستأنفة لا غير إذ لو جعلت صفة لثلاث عورات وهي بدل من ثلاث مرات لكان التقدير ليستأذنكم هؤلاء في ثلاث عورات لا إثم في ترك الاستئذان بعدهن وحيث كان انتفاء الإثم حينئذ مما لم يعلمه السامع إلا بهذا الكلام لم يتسن إبرازه في معرض الصفة بخلاف قراءة الرفع فإن انتفاء الإثم حينئذ معلوم من صدر الكلام وقوله تعالى «طوافون عليكم» استئناف ببيان العذر المرخص في ترك الاستئذان وهي المخالطة الضرورية وكثرة المداخلة وفيه دليل على تعليل الأحكام وكذا في الفرق بين الأوقات الثلاثة وبين غيرها بكونها عورات «بعضكم على بعض» أي بعضكم طائف على بعض طوافا كثيرا أو بعضكم يطوف على بعض «كذلك» إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من تفخيم شأن المشار إليه والإيذان ببعد منزلته وكونه من الوضوح بمنزلة المشار إليه حسا أي مثل ذلك التبيين «يبين الله لكم الآيات» الدالة على
الأحكام أي ينزلها بينة واضحة الدلالات عليها لا أنه تعالى يبينها بعد أن لم تكن كذلك والكاف مقحمة وقد مر تفصيله في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا ولكم متعلق يبين وتقديمه على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر وقيل يبين علل الأحكام وليس بواضح مع أنه مؤد إلى تخصيص الآيات بما ذكر ههنا «والله عليم» مبالغ في العلم بجميع المعلومات فيعلم أحوالكم «حكيم» في جميع أفاعيله فيشرع لكم ما فيه صلاح أمركم معاشا ومعادا «وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم» لما بين فيما مر آنفا حكم الأطفال في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة عقب ببيان حالهم بعد البلوغ دفعا لما عسى يتوهم أنهم وإن كانوا
194

أجانب ليسوا كسائر الأجانب بسبب اعتيادهم الدخول أي إذا بلغ الأطفال الأحرار الأجانب «فليستأذنوا» إذا أرادوا الدخول عليكم وقوله تعالى «كما استأذن الذين من قبلهم» في حيز النصب على أنه نعت لمصدر مؤكد للفعل السابق والموصول عبارة عمن قيل لهم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية ووصفهم بكونهم قبل هؤلاء باعتبار ذكرهم قبل ذكرهم لا باعتبار بلوغهم قبل بلوغهم كما قيل لما أن المقصود بالتشبيه بيان كيفية استئذان هؤلاء وزيادة إيضاحه ولا يتسنى ذلك إلا بتشبيهه باستئذان المعهودين عند السامع ولا ريب في أن بلوغهم قبل بولغ هؤلاء مما لا يخطر ببال أحد وإن كان الأمر كذلك في الواقع وإنما المعهود المعروف ذكرهم قبل ذكرهم أي فليستأذنوا استئذانا كائنا مثل استئذان المذكورين قبلهم بأن يستأذنوا في جميع الأوقات ويرجعوا إن قيل لهم ارجعوا حسبما فصل فيما سلف «كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم» الكلام فيه كالذي سبق والتكرير للتأكيد والمبالغة في الأمر بالاستئذان وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لتشريفها «والقواعد من النساء» أي العجائز اللاتي قعدن عن الحيض والحمل «اللاتي لا يرجون نكاحا» أي لا يطمعن فيه لكبرهن «فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن» أي الثياب الظاهرة كالجلباب ونحوه والفاء فيه لأن اللام في القواعد بمعنى اللاتي أو للوصف بها «غير متبرجات بزينة» غير مظهرات لزينة مما أمر بإخفائه في قوله تعالى ولا يبدين زينتهن وأصل التبرج التكلف في إظهار ما يخفى من قولهم سفينة بارجة لا غطاء عليها والبرج سعة العين بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كله إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها ومحاسنها للرجال «وأن يستعففن» بترك الوضع «خير لهن» من الوضع لبعده من التهمة «والله سميع» مبالغ في سمع جميع ما يسمع فيسمع ما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة «عليم» فيعلم مقاصدهن وفيه من الترهيب ما لا يخفى «ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج» كانت هؤلاء الطوائف يتحرجون من المؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فإن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم وأوضاعهم فإن الأعمى ربما سبقت يده إلى ما سبقت إليه عين أكيله وهو لا يشعر به والأعرج بتفسح في مجلسه فيأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه
195

والمريض لا يخلو عن حالة تؤذي قرينه وقيل كانوا يدخلون على الرجل لطلب العلم فإذا لم يكن عنده ما يطعمهم ذهب بهم إلى بيوت آبائهم وأمهاتهم أو إلى بعض من سماهم الله عز وجل في الآية الكريمة فكانوا يتحرجون من ذلك ويقولون ذهب بنا إلى بيت غيره ولعل أهله كارهون لذلك وكذا كانوا يتحرجون من الأكل من أموال الذين كانوا إذا خرجوا إلى الغزو خلفوا هؤلاء في بيوتهم ودفعوا إليهم مفاتيحها وأذنوا لهم أن يأكلوا مما فيها مخافة أن لا يكون إذنهم عن طيب نفس منهم وكان غير هؤلاء أيضا يتحرجون من الأكل في بيوت غيرهم فقيل لهم ليس على الطوائف المعدودة «ولا على أنفسكم» أي عليكم وعلى من يماثلكم في الأحوال من المؤمنين حرج «أن تأكلوا» أي تأكلوا أنتم وهم معكم وتعميم الخطاب للطوائف المذكورة أيضا يأباه ما قبله وما بعده فإن الخطاب فيهما لغير أولئك الطوائف حتما «من بيوتكم» أي البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيتهم كبيته لقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبين وقوله صلى الله عليه وسلم إن أطيب مال الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه «أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم» وقرئ بكسر الهمزة والميم وبكسر الأولى وفتح الثانية «أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه» من البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها على الوجه الذي مر بيانه وقيل هي بيوت المماليك والمفاتح جمع مفتح وجمع المفتاح مفاتيح وقرئ مفتاحه «أو صديقكم» أي أو بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينهم قرابة نسبية فإنهم أرضى بالتبسط وأسر به من كثير من الأقرباء روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الصديق أكبر من الوالدين إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا فما لنا من شافعين ولا صديق حميم والصديق يقع على الواحد والجمع كالخليط والقطين وأضرابهما وهذا فيما إذا علم رضا صاحب البيت بصريح الإذن أو بقرينة دالة عليه ولذلك خصص هؤلاء بالذكر لاعتيادهم التبسط فيما بينهم وقوله تعالى «ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا» كلام مستأنف مسوق لبيان حكم آخر من جنس ما بين قبله حيث كان فريق من المؤمنين كبني ليث ابن عمرو من كنانة يتحرجون أن يأكلوا طعامهم منفردين وكان الرجل منهم لا يأكل ويمكث يومه حتى يجد ضيفا يأكل معه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا وربما قعد الرجل والطعام بين يديه لا يتناوله من الصباح إلى الرواح وربما كانت معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أمسى ولم يجد أحد أكل وقيل كان الغنى منهم يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصدقته فيدعوه إلى طعامه فيقول إني أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير وقيل كان قوم من الأنصار لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم فرخص لهم في أن يأكلوا كيف شاءوا وقيل كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى وأشباهه طعاما على عده فبين الله تعالى أن ذلك ليس بواجب وقوله تعالى جميعا حال من فاعل تأكلوا وأشتاتا عطف عليه داخل في حكمه وهو جمع شت على أنه صفة كالحق يقال أمر شت أي متفرق أو على أنه في الأصل مصدر وصف به مبالغة أي ليس عليكم جناح أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين «فإذا دخلتم» شروع في بيان الآداب التي تجب رعايتها عند مباشرة ما رخص فيه إثر بيان الرخصة فيه «بيوتا» أي من البيوت
196

المذكورة «فسلموا على أنفسكم» أي على أهلها الذين بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية والنسبية الموجبة لذلك «تحية من عند الله» أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه ويجوز أن يكون صلة للتحية فإنها طلب الحياة التي هي من عنده تعالى وانتصابها على المصدرية لأنها بمعنى التسليم «مباركة» مستتبعة لزيادة الخير
والثواب ودوامهما «طيبة» تطيب بها نفس المستمع وعن أنس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال متى لقيت أحدا من أمتي فسلم عليه يطل عمرك وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين «كذلك يبين الله لكم الآيات» تكرير لتأكيد الأحكام المختتمة به وتفخيمها «لعلكم تعقلون» أي ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام وتعملون بموجبها وتحوزون بذلك سعادة الدارين وفي تعليل هذا التبيين بهذه الغاية القصوى بعد تذييل الأولين بما يوجبهما من الجزالة ما لا يخفى «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله» استئناف جئ به في أواخر الأحكام السابقة تقريرا لها وتأكيدا لوجوب مراعاتها وتكميلا لها ببيان بعض آخر من جنسها وإنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبرا للمبتدأ مع تضمنه له قطعا تقرير لما قبله وتمهيدا لما بعده وإيذانا بأنه حقيق بأن يجعل قرينا للإيمان بهما منتظما في سلكه فقوله تعالى «وإذا كانوا معه على أمر جامع» الخ معطوف على أمنوا داخل معه في حيز الصلة أي إنما الكاملون في الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم وأطاعوهما في جميع الأحكام التي من جملتها ما فصل من قبل من الأحكام المتعلقة بعامة أحوالهم المطردة في الوقوع وأحوالهم الواقعة بحسب الاتفاق كما إذا كانوا معه صلى الله عليه وسلم على أمر مهم يجب اجتماعهم في شأنه كالجمعة والأعياد والحروب وغيرها من الأمور الداعية إلى اجتماع أولي الآراء والتجارب ووصف الأمر بالجمع للمبالغة وقرئ أمر جميع «لم يذهبوا» أي من المجمع مع كون ذلك الأمر مما لا يوجب حضورهم لا محالة كما عند إقامة الجمعة ولقاء العدو بل يسوغ التخلف عنه «حتى يستأذنوه» صلى الله عليه وسلم في الذهاب لا على أن نفس الاستئذان غاية لعدم الذهاب بل الغاية هي الإذن المنوط برأيه صلى الله وعليه وسلم والاقتصار على ذكره لأنه الذي يتم من قبلهم وهو المعتبر في كمال الإيمان لا الإذن ولا الذهاب المترتب عليه واعتباره في ذلك لما أنه كالمصداق لصحته والمميز للمخلص فيه عن المنافق فإن ديدنه التسلل للفرار ولتعظيم ما في الذهاب بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الجناية وللتنبيه على ذلك عقب بقوله تعالى «إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله» فقضى بأن المستأذنين هم المؤمنون بالله ورسوله كما حكم في الأول بأن الكاملين في الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان وفي أولئك من تفخيم شأن المستأذنين ما لا يخفى «فإذا استأذنوك» بيان لما هو وظيفته صلى الله عليه وسلم في هذا الباب إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين وأن الإذن عند الاستئذان
197

ليس بأمر محتوم بل هو مفوض إلى رأيه صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذنون فإذا استأذنوك «لبعض شأنهم» أي لبعض أمرهم المهم وخطبهم الملم «فأذن لمن شئت منهم» لما علمت في ذلك من حكمة ومصلحة «واستغفر لهم الله» فإن الاستئذان وإن كان لعذر قوي لا يخلو عن شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة «إن الله غفور» مبالغ في مغفرة فرطات العباد «رحيم» مبالغ في إفاضة آثار الرحمة عليهم والجملة تعليل للمغفرة الموعودة في ضمن الأمر بالاستغفار لهم «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم» استئناف مقرر لمضمون ما قبله والالتفات لإبراز مزيد الاعتناء بشأنه أي لا تجعلوا دعوته صلى الله عليه وسلم إياكم في الاعتقاد والعمل بها «كدعاء بعضكم بعضا» أي لا تقيسوا دعاءه صلى الله عليه وسلم إياكم على دعاء بعضكم بعضا في حال من الأحوال وأمر من الأمور التي من جملتها المساهلة فيه والرجوع عن مجلسه صلى الله عليه وسلم بغير استئذان فإن ذلك من المحرمات وقيل لا تجعلوا دعاءه صلى الله عليه وسلم ربه كدعاء صغيركم كبيركم يجيبه مرة ويرده أخرى فإن دعاءه مستجاب لا مرد له عند الله عز وجل وتقرير الجملة حينئذ لما قبلها إما من حيث إن استجابته تعالى لدعائه صلى الله عليه وسلم مما يوجب امتثالهم بأوامره صلى الله عليه سلم ومتابعتهم له في الورود والصدور أكمل إيجاب وإما من حيث إنها موجبة للاحتراز عن التعرض لسخطه صلى الله عليه وسلم المؤدي إلى ما يوجب هلاكهم من دعائه صلى الله عليه وسلم عليهم وأما ما قيل من أن المعنى لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضا باسمه ورفع الصوت والنداء من رواء الحجرات ولكن بلقيه المعظم مثل يا رسول الله يا نبي الله مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت فلا يناسب المقام فإن قوله تعالى «قد يعلم الله الذين يتسللون منكم» الخ وعيد لمخالفي أمره صلى الله عليه وسلم فيما ذكر من قبل فتوسيط ما ذكر بينهما مما لا وجه له والتسلل الخروج من البيت على التدريج والخفية وقد للتحقيق كما أن رب تجئ للتكثير حسبما بين في مطلع سورة الحجر أي يعلم الله الذين يخرجون من الجماعة قليلا قليلا على خفية «لواذا» أي ملاوذة بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج أو بأن يلوذ بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه وقرئ بفتح اللام وانتصابه على الحالية من ضمير يتسللون أي ملاوذين أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذا والفاء في قوله تعالى «فليحذر الذين يخالفون عن أمره» لترتيب الحذر أو الأمر به على ما قبلها من علمه تعالى بأحوالهم فإنه مما يوجب الحذر البتة أي يخالفون أمره بترك مقتضاه ويذهبون سمتا خلاف سمته وعن إما لتضمنه معنى الإعراض أو حمله على معنى يصدون عن أمره دون المؤمنين من خالفه عن الأمر إذا صد عنه دونه وحذف المفعول لما أن المقصود بيان المخالف والمخالف عنه والضمير لله تعالى لأنه الآمر حقيقة أو للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه المقصود بالذكر «أن تصيبهم فتنة» أي محنة في الدنيا أو «يصيبهم عذاب أليم» أي في الآخرة وكلمة أو لمنع الخلو دون الجمع وإعادة الفعل صريحا
198

للاعتناء بالتهديد والتحذير واستدل به على أن الأمر للإيجاب فإن ترتيب العذابين على مخالفته كما يعرب عنه التحذير عن إصابتهما يوجب وجوب الامتثال به حتما «ألا إن لله ما في السماوات والأرض» من الموجودات بأسرها خلفا وملكا وتصرفا إيجادا وإعداما بدء وإعادة «قد يعلم ما أنتم عليه» أيها المكلفون من الأحوال والأوضاع التي من جملتها الموافقة والمخالفة والإخلاص والنفاق «ويوم يرجعون إليه» عطف على ما أنتم عليه أي يعلم يوم يرجع المنافقون المخالفون للأمر إليه تعالى للجزاء والعقاب وتعليق علمه تعالى بيوم رجوعهم لا يرجعهم لزيادة تحقيق علمه تعالى بذلك وغاية تقريره لما أن العلم بوقت وقوع الشيء مستلزم للعمل بوقوعه على أبلغ وجه وآكده وفيه إشعار بأن علمه تعالى لنفس رجوعهم من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان قطعا ويجوز أن يكون الخطاب أيضا خاصا بالمنافقين على طريقه الالتفات وقرئ يرجعون مبنيا للفاعل «فينبئهم بما عملوا» من الأعمال السيئة التي من جملتها مخالفة الأمر فيترتب عليه ما يليق به من التوبيخ والجزاء وقد مر وجه التعبير عن الجزاء
بالتنبئة في قوله تعالى إنما بغيكم على أنفسكم الآية «والله بكل شيء عليم» «وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء» عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي والله سبحانه وتعالى أعلم
199

سورة الفرقان مكية إلا الآيات 68 و 69 و 70 فمدنية وآياتها 77
«بسم الله الرحمن الرحيم» «تبارك الذي نزل الفرقان» البركة النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية وكثرة الخير ودامه أيضا ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله التي من جملتها تنزيل القرآن الكريم المعجز الناطق بعلو شأنه تعالى وسمو صفاته وابتناء أفعاله على أساس الحكم والمصالح وخلوها عن شائبة الخلل بالكلية وصيغة التفاعل للمبالغة فيما ذكر فإن مالا يتصور نسبته إليه سبحانه حقيقة من الصيغ كالتكبر ونحوه لا تنسب إليه تعالى إلا باعتبار غايتها وعلى المعنى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته لا سيما على الإنسان من فنون الخيرات التي من جملتها تنزيل القرآن المنطوي على جميع الخيرات الدينية والدنيوية والصيغة حينئذ يجوز أن تكون الإفادة نماء تلك الخيرات وتزايدها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وتحققها بالفعل والإشعار بالتعجب المناسب للإنشاء والإنباء عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره تعالى ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تعالى والفرقان مصدر فرق بين الشيئين أي فصل بينهما سمى به القرآن لغاية فرقه بين الحق والباطل بأحكامه أو بين المحق والمبطل بإعجازه أو لكونه مفصولا بعضه من بعض في نفسه أو في إنزاله «على عبده» محمد صلى الله عليه وسلم وإيراده صلى الله عليه وسلم بذلك العنوان لتشريفه والإيذان بكونه صلى الله عليه وسلم في أقصى مراتب العبودية والتنبيه على أن الرسول لا يكون إلا عبدا للمرسل ردا على النصارى «ليكون» غاية التنزيل أي نزله عليه ليكون هو صلى الله عليه وسلم أو الفرقان «للعالمين» من الثقلين «نذيرا» أي منذرا أو إنذارا مبالغة أو ليكون تنزيله إنذارا أو عدم التعرض للتبشير لانسياق الكلام على أحوال الكفرة وتقديم اللام على عاملها لمراعاة الفواصل وإبراز تنزيل الفرقان في معرض الصلة التي حقها أن تكون معلومة الثبوت للموصول عند السامع مع إنكار الكفرة له لإجرائه مجرى المعلوم المسلم تنبيها على كمال قوة دلائله وكونه بحيث لا يكاد يجهله أحد كقوله تعالى لا ريب فيه «الذي له ملك السماوات والأرض» أي له خاصة دون غيره لا استقلالا ولا اشتراكا
200

السلطان القاهر والاستيلاء الباهر عليهما المستلزمان للقدرة التامة والتصرف الكلي فيهما وفيما فيهما إيجادا وإعداما وإحياء وإماتة وأمرا ونهيا حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ومحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها أو على أنه نعت للموصول الأول أو بيان له أو بدل منه وما بينهما ليس بأجنبي لأنه من تمام صلته ومعلومية مضمونة للكفرة مما لا ريب فيه لقوله تعالى قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله ونظائره أو مدح له تعالى بالرفع أو بالنصر «ولم يتخذ ولدا» كما يزعم الذين يقولون في حق المسيح ولملائكة ما يقولون فسبحان الله عما يصفون وهو معطوف على ما قبله من الجملة الظرفية ونظمه في سلك الصلة للإيذان بأن مضمونه من الوضوح والظهور بحيث لا يكاد يجهله جاهل لا سيما بعد تقرير ما قبله «ولم يكن له شريك في الملك» أي ملك السماوات والأرض وهو أيضا عطف على الصلة وإفراده بالذكر مع أن ما ذكر من اختصاص ملكهما به تعالى مستلزم له قطعا للتصريح ببطلان زعم الثنوية القائلين بتعدد الآلهة والدرء في نحورهم وتوسيط نفي اتخاذ الولد بينهما للتنبيه على استقلاله وأصالته والاحتراز عن توهم كونه تتمة للأول «وخلق كل شيء» أي أحدث كل موجود من الموجودات إحداثا جاريا على سنن التقدير حسبما اقتضته إرادته المبنية على الحكم البالغة بأن خلق كلا منها من مواد مخصوصة على صور معينة ورتب فيه قوى وخواص مختلفة الآثار والأحكام «فقدره» أي هيأه لما أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به «تقديرا» بديعا لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه كتهيئة الإنسان للفهم والإدراك والنظر والتدبر في أمور المعاش والمعاد واستنباط الصائع المتنوعة ومزاولة الأعمال المختلفة وهكذا أحوال سائر الأنواع وقيل أريد بالخلق مطلق الإيجاد والإحداث مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر فالمعنى أوجد كل شيء فقدره في ذلك الإيجاد تقديرا وأما ما قيل من أنه أنه سمى إحداثه تعالى خلقا لأنه تعالى لا يحدث شيئا إلا على وجه التقدير من غير تفاوت ففيه أن ارتكاب المجاز بحمل الخلق على مطلق الإحداث لتجريده عن معنى التقدير فاعتباره فيه بوجه من الوجوه مخل بالمرام قطعا وقيل المراد بالتقدير الثاني هو التقدير للبقاء إلى الأجل المسمى وأيا ما كان فالجملة جارية مجرى التعليل لما قبلها من الجمل المنتظمة مثلها في سلك الصلة فإن خلقه تعالى لجميع الأشياء على ذلك النمط البديع كما يقتضي استقلاله تعالى باتصافه بصفات الألوهية يقتضي انتظام كل ما سواه كائنا ما كان تحت ملكوته القاهرة بحيث لا يشذ عنها شيء من ذلك قطعا وما كان كذلك كيف يتوهم كونه ولدا له سبحانه أو شريكا في ملكه «واتخذوا من دونه آلهة» بعدما بين حقيقة الحق في مطلع السورة الكريمة بذكر تنزله تعالى للفرقان العظيم على رسوله صلى الله عليه وسلم ووصفه تعالى بصفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بشأنه الجليل عقب ذلك بحكاية أباطيل المشركين في حق المنزل سبحانه والمنزل والمنزل عليه على الترتيب وإظهار بطلانها
201

والإضمار من غير جريان ذكرهم للثقة بدلالة ما قبله من نفي الشريك عليهم أي اتخذوا لأنفسهم متجاوزين الله تعالى الذي ذكر بعض شؤونه الجليلة من اختصاص ملك السماوات والأرض به تعالى وانتفاء الولد والشريك عنه وخلق جميع الأشياء وتقديرها أبدع تقدير آلهة «لا يخلقون شيئا» أي لا يقدرون على خلق شيء من الأشياء أصلا «وهم يخلقون» كسائر المخلوقات وقيل لا يقدرون على أن يختلقوا شيئا وهم يختلقون حيث تختلقهم عبدتهم بالنحت والتصوير وقوله تعالى «ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا» لبيان ما لم يدل عليه ما قبله من مراتب عجزهم وضعفهم فإن بعض المخلوقين العاجزين عن الخلق ربما يملك دفع الضر وجلب النفع في الجملة كالحيوان وهؤلاء لا يقدرون على التصرف في ضر ما ليدفعوه عن أنفسهم ولا في نفع ما حتى يجلبوه إليهم فكيف يملكون شيئا منهما لغيرهم وتقديم ذكر الضر لأن دفعه مع كونه أهم في نفسه أول مراتب النفع وأقدمها والتنصيص على قوله تعالى «ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا» أي لا يقدرون على التصرف في شيء منها بإماتة الأحياء
وإحياء الموتى وبعثهم بعد بيان عجزهم عما هو أهون من هذه الأمور من دفع الضر وجلب النفع للتصريح بعجزهم عن كل واحد مما ذكر على التفصيل والتنبيه على أن الإله يجب أن يكون قادرا على جميع ذلك وفيه إيذان بغاية جهلهم وسخافة عقولهم كأنهم غير عارفين بانتفاء ما نفي عن آلهتم من الأمور المذكورة مفتقرون إلى التصريح بذلك «وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك» شروع في حكاية أباطليهم المتعلقة بالمنزل والمنزل عليه معا وإبطالها والموصول إما عبارة عن غلاتهم في الكفر والطغيان وهم النضر بن الحرث وعبد الله بن أمية ونوفل بن خويلد ومن ضامهم وروى عن الكلبي ومقاتل أن القائل هو مضر بن الحرث والجمع لمشايعة الباقين له في ذلك وأما عن كلهم ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز الصلة والإيذان بأن ما تفوهوا به كفر عظيم في كلمة هذا حط لرتبة المشار إليه أي ما هذا إلا كذب مصروف عن وجهه «افتراه» يريدون أنه اختلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم «وأعانه عليه» أي على اختلاقه «قوم آخرون» يعنون اليهود بأن يلقوا إليه أخبار الأمم الدارجة وهو يعبر عنها بعبارته وقيل هما جبر ويسار كانا يصنعان السيف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وقيل هو عابس وقد مر تفصيله في سورة النحل «فقد جاؤوا ظلما» منصوب بجاءوا فإن جاءوا أتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته أو بنزع الخافض أي بظلم قاله الزجاج والتنوين للتفخيم أي جاءوا بما قالوا ظلما هائلا عظيما لا يقادر قدره حيث جعلوا الحق البحت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إفكا مفترى من قبل البشر وهو من جهة نظمه الرائق وطرزه الفائق بحيث لو اجتمعت الإنس والجن على مباراته لعجزوا عن الإتيان بمثل آية من آياته ومن جهة اشتماله على الحكم الخفية والأحكام المستتبعة للسعادات الدينية والدنيوية والأمور الغيبية بحيث لا يناله عقول البشر ولا يفي بفهمه القوى والقدر
202

«وزورا» أي كذبا كبيرا لا يبلغ غايته حيث نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم ما هو برئ منه والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها لكن لا على أنهما أمران متغايران حقيقة يقع أحدهما عقيب الآخر أو يحصل بسببه بل على أن الثاني هو عين الأول حقيقة وإنما الترتيب بحسب التغاير الاعتباري وقد لتحقيق ذلك المعنى فإن ما جاءوه من الظلم والزور هو عين ما حكى عنهم لكنه لما كان مغايرا له في المفهوم وأظهر منه بطلانا رتب عليه بالفاء ترتيب اللازم على الملزوم تهويلا لأمره «وقالوا أساطير الأولين» بعد ما جعلوا الحق الذي لا محيد عنه إفكا مختلقا بإعانة البشر بينوا على زعمهم الفاسد كيفية الإعانة والأساطير جمع أسطار أو أسطورة كأحدوثة وهي ما سطره المتقدمون من الخرافات «اكتتبها» أي كتبها لنفسه على الإسناد المجازي أو استكتبها وقرئ على البناء للمفعول لأنه صلى الله عليه وسلم أمي وأصله اكتتبها له كاتب فحذف اللام وأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب ثم حذف الفاعل لعدم تعلق الغرض العلمي بخصوصه وبني الفعل للضمير المنفصل فاستتر فيه «فهي تملى عليه» أي تلقي عليه تلك الأساطير بعد اكتتابها ليحفظها من أفواه من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يتلقاها منه بالقراءة أو تملي على الكاتب على أن معنى اكتتبها أراد اكتتابها أو استكتابها ورجع الضمير المجرور إليه صلى الله عليه وسلم لإسناد الكتابة في ضمن الاكتتاب إليه صلى الله عليه وسلم «بكرة وأصيلا» أي دائما أو خفية قبل انتشار الناس وحين يأوون إلى مساكنهم انظر إلى هذه الرتبة من الجراءة العظيمة قاتلهم الله أنى يؤفكون «قل» لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق «أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض» وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الجلية والخفية للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك مما يفتري ويفتعل بإعانة قوم وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأساطير الأولين بل هو أمر سماوي أنزله الله الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا يحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف عليها إلا بتوفيق العليم الخبير وقد جعلتموه إفكا مفترى من قبيل الأساطير واستوجبتم بذلك أن يصب عليكم سوط العذاب صبا فقوله تعالى «إنه كان غفورا رحيما» تعليل ما هو المشاهد من تأخير العقوبة أي أنه تعالى أزلا وأبدا مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعين للتأخير فلذلك لا يعجل بعقوبتكم على ما تقولن في حقه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته تعالى عليها «وقالوا ما لهذا الرسول» شروع في حكاية
203

جنايتهم المتعلقة بخصوصية المنزل عليه وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه مرفوعة على الابتداء خبرها ما بعدها من الجار والمجرور وفي هذا تصغير لشأنه صلى الله عليه وسلم وتسميته صلى الله عليه وسلم رسولا بطريق الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم كما قال فرعون إن رسولكم الذي أرسل إليكم وقوله تعالى «يأكل الطعام» حال من الرسول والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الذي يدعي الرسالة حال كونه يأكل الطعام كما نأكل «ويمشي في الأسواق» لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية كما في قوله تعالى فما لهم لا يؤمنون وقوله مالكم لا ترجون لله وقارا فكما أن كلا من عدم الإيمان وعدم الرجاء أمر محقق قد أنكروا ستبعد تحققه لانتفاء سببه بل لوجود سبب نقيضه كذلك كل من الأكل والمشي أمر محقق قد استبعد تحققه لانتفاء سببه بل لوجود سبب عدمه خلا أن استبعاد المسبب وإنكار السبب ونفيه في عدم الإيمان وعدم الرجاء بطريق التحقيق وفي الأكل والمشي بطريق التهكم والاستهزاء فإنهم لا يستبعدونهما ولا ينكرون سببهما حقيقة بل هم معترفون بوجودهما وتحقق سببهما وإنما الذي يستبعدونه الرسالة المنافية لهما على زعمهم يعنون أنه إن صح ما يدعيه فما باله لم يخالف حاله حالنا وهل هو إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أنظارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عمن عداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية كما أشير إليه بقوله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد «لولا أنزل إليه ملك» أي على صورته وهيئته «فيكون معه نذيرا» تنزل منهم من اقتراح أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والشرب إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويكون ردءا له في الإنذار وهو يعبر عنه ويفسر ما يقوله للعامة وقوله تعالى «أو يلقى إليه كنز» تنزل من تلك المرتبة إلى اقتراح أن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ولا يحتاج إلى طلب المعاش ويكون دليلا على صدقه وقوله تعالى «أو تكون له جنة يأكل منها» تنزل من ذلك إلى اقتراح ما هو أيسر منه وأقرب من الوقوع وقرئ نأكل بنون الحكاية وفيه مزيد مكابرة وفرط تحكم «وقال الظالمون» هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر وضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد فيما قالوه لكونه إضلالا خارجا عن حد
الضلال مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى المسحورية أي قالوا للمؤمنين «إن تتبعون» أي ما تتبعون «إلا رجلا مسحورا» قد سحر فغلب على عقله وقيل ذا سحر وهي الرئة أي بشرا لا ملكا على أن الوصف لزيادة التقرير والأول هو الأنسب بحالهم «انظر كيف ضربوا لك الأمثال» استعظام للأباطيل التي اجترءوا على التفوه بها وتجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك تلك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع «فضلوا» أي عن طريق المحاجة حيث لم يأتوا بشيء يمكن صدوره
204

عمن له أدنى عقل وتمييز فبقوا متحيرين «فلا يستطيعون سبيلا» إلى القدح في نبوتك بأن يجدوا قولا يستقرون عليه وإن كان باطلا في نفسه أو فضلوا عن الحق ضلالا مبينا فلا يحدون طريقا موصلا إليه فإن من اعتاد استعمال أمثال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة «تبارك الذي» أي تكاثر وتزايد خير الذي «إن شاء جعل لك» في الدنيا عاجلا شيئا «خيرا» لك «من ذلك» الذي اقترحوه من أن يكون لك جنة تأكل منها بأن يعجل لك مثل ما وعدك في الآخرة وقوله تعالى «جنات تجري من تحتها الأنهار» بدل من خيرا ومحقق لخيرته مما قالوا لأن ذلك كان مطلقا عن قيد التعدد وجريان الأنهار «ويجعل لك قصورا» عطف على محل الجزاء الذي هو جعل وقرئ بالرفع عطفا على نفسه لأن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الرفع والجزم كما في قول القائل
* وإن أتاه خليل يوم مسئلة
* يقول لا غائب مالي ولا حرم
* ويجوز أن يكون استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة وقرئ بالنصب على أنه جواب بالواو وتعليق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم جعلها بمشيئته المبنية على الحكم والمصالح وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد أو توافي الدنيا مع النبوة ملكا عظيما «بل كذبوا بالساعة» إضراب عن توبيخهم بحكاية جناياتهم السابقة وانتقال منه إلى توبيخهم بحكاية جناياتهم الأخرى للتخلص إلى بيان ما لهم في الآخرة بسببها من فنون العذاب بقوله تعالى «وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا» الخ أي اعتدنا لهم نارا عظيمة شديدة الاشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضميرهم أو لكل من كذب بها كائنا من كان وهم داخلون في زمرتهم دخولا أوليا ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع ومدار إعناد السعير لهم وإن لم يكن مجرد تكذيبهم بالساعة بل مع تكذيبهم بسائر ما جاء به الشريعة الشريفة لكن الساعة لما كانت هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير إلى سببية تكذيبها لدخولها وقيل هو عطف على وقالوا ما لهذا الخ على معنى بل أتوا بأعجب من ذلك حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد اعتدنا لكل من كذب بها سعيرا فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق وقيل هو متصل بما قبله من الجواب المبني على التحقيق المنبئ عن الوعد بالجنات في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعا ولا يحلي بطائل على طريقة قول من قال
* عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار
* ماذا تحيون من نؤى وأحجار
* والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل
205

مثل ما وعدك في الآخرة وقيل المنى بل كذبوا بها فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا فقرك ذريعة إلى تكذيبك وقوله تعالى «إذا رأتهم» الخ صفة للسعير أي إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد كقوله صلى الله عليه وسلم لا تتراءى ناراهما أي لا تتقاربان بحيث تكون إحداهما بمرأى من الأخرى على المجاز كأن بعضها يرى البعض ونسبة الرؤية إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم حقيقة أو تمثيلا ومن في قوله تعالى «من مكان بعيد» إشعار بأن بعد ما بينها وبينهم من المسافة حين رأتهم خارج عن حدود البعد المعتاد في المسافات المعهودة وفيه مزيد تهويل لأمرها قال الكلبي والسدي من مسيرة عام وقيل من مسيرة مائة سنة «سمعوا لها تغيظا وزفيرا» أي صوت تغيظ على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وهو صوت يسمع من جوفه هذا وإن الحياة لما لم تكن مشروطة عندنا بالبنية أمكن أن يخلق الله تعالى فيها حياة فترى وتتغيظ وتزفر وقيل إن ذلك لزبانيتها فنسب إليها على حذف المضاف «وإذا ألقوا منها مكانا» نصب على الظرفية ومنها حال منه لأنه في الأصل صفة له «ضيقا» صفة لمكانا مفيدة لزيادة شدة فإن الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السماوات والأرض وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم تضيق جهنم عليهم كما يضيق الزج على الرمح وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط قال الكلبي الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون فيها وقرئ ضيقا بسكون الياء «مقرنين» حال من مفعول ألقوا أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع وقيل مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطان وفي أرجلهم الأصفاد «دعوا هنالك» أي في ذلك المكان الهائل والحالة الفظيعة «ثبورا» أي يتمنون هلاكا وينادونه يا ثبوراه تعال فهذا حينك وأوانك «لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا» على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل دعوا أي دعوه مقولا لهم ذلك حقيقة بأن يخاطبهم الملائكة به لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه ولا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجى أو تمثيلا وتصويرا لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول ولا خطاب أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإما مستأنف وقع جوابا عن سؤال ينسحب عليه الكلام كأنه قيل فماذا يكون عند دعائهم المذكور فقيل يقال لهم ذلك إقناطا مما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيها على أن عذابهم الملجئ لهم إلى استدعاء الهلاك بالمرة أبدى لا خلاص لهم منه أي
206

لا تقتصروا على دعاء ثبور واحد (وادعوا ثبورا كثيرا) أي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر منها وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف لا وهم إنما يدعون هلاكا ينهى عذابهم وينجيهم منه فلابد أن يكون الجواب إقناطا لهم من ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد وتقييد النهى والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهود (قل) تقريعا لهم وتهكما بهم وتحسيرا على ما فاتهم (أذلك) إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة أي قل لهم أذلك الذي ذكر من السعير التي أعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت وذيت (خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) أي وعدها المتقون وإضافة الجنة إلى الخلد للمدح وقيل للتمييز عن جنات الدنيا والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية ولا الثالثة منها فقط (كانت) تلك الجنة (لهم) في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو لأن ما وعده الله تعالى فهو كائن لا محالة فحكى تحققه ووقوعه (جزاء) على أعمالهم حسبما مر من الوعد الكريم (ومصيرا) ينقلبون إليه (لهم فيها ما يشاءون) أي ما يشاءونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم كما في قوله تعالى ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولعل كل فريق منهم يقتنع بما أتيح له من درجات النعيم ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان (خالدين) حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور لاعتماده على المبتدأ وقيل من فاعل يشاءون (كان) أي ما يشاءونه وقيل الوعد المدلول عليه بقوله تعالى وعد المتقون (على ربك وعدا مسؤولا) أي موعودا حقيقيا بأن يسأل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو مسؤولا يسأله الناس في دعائهم بقولهم ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك أو الملائكة بقولهم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم وما في على من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز فإن تعلق الإرادة بالموعود متقدم على الوعد الموجب للإنجاز وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بأنه صلى الله عليه وسلم هو الفائز اثر ذي أثير بمغانم الوعد الكريم ما لا يخفى
207

(ويوم يحشرهم) نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى قل أذلك الخ أي واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم الله عز وجل وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث الهائلة قد مر وجهه غير مرة أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هو له وفظاعة ما فيه والإيذان بقصور العبارة عن بيانه أي يوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال وقرئ بنون العظمة بطريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم وبكسر الشين أيضا (وما يعبدون من دون الله) أريد به ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبئ عنه أنك إذا رأيت شبحا من بعيد تقول ما هو أو لأنه أريد به الوصف لا الذات كأنه قيل ومعبوديهم أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيها على أنهم مثلها في السقوط عن رتبة المعبودية أو اعتبارا لغلبة عبدتها أو أريد به الملائكة والمسيح وعزير بقرينة السؤال والجواب أو الأصنام ينطقها الله تعالى أو تكلم بلسان الحال كما قيل في شهادة الأيدي والأرجل (فيقول) أي الله عزل وجل للمعبودين إثر حشر الكل تقريعا للعبدة وتبكيتا لهم وقرئ بالنون كما عطف عليه وقرئ هذا بالياء والأول بالنون على طريق الالتفات إلى الغيبة (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء) بأن دعوتموهم إلى عبادتكم كما في قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله (أم هم ضلوا السبيل) أي عن السبيل بأنفسهم لإخلالهم بالنظر الصحيح وأعراضهم عن المرشد فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى وهو يهدي السبيل والأصل إلى السبيل أو السبيل وتقديم الضميرين على الفعلين لأن المقصود بالسؤال هو المتصدي للفعل لا نفسه (قالوا) استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل فماذا قالوا في الجواب فقيل قالوا (سبحانك) تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة معصومون وجمادات لا قدرة لها على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده أو تنزيها له تعالى عن الأنداد (ما كان ينبغي لها) أي ما صح وما استقام لنا (أن نتخذ من دونك) أي متجاوزين إياك (من أولياء) نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ وليا غيرك فضلا ان يتخذنا وليا أو أن نتخذ من دونك أولياء أي اتباعا فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع كالمولى يطلق على الأعلى والأسفل ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه وقرئ على البناء للمفعول من المتعدي إلى المفعولين كما في قوله تعالى واتخذ الله إبراهيم خليلا ومفعوله الثاني من أولياء على أن من للتبعيض أي أن نتخذ بعض أولياء وهي على الأول مزيدة وتنكير أولياء من حيث أنهم أولياء مخصوصون
208

وهم الجن والأصنام (ولكن متعتهم وآباءهم) استدارك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسبابا للضلالة أي ما أضللناهم ولكنك متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها (حتى نسوا الذكر) أي غفلوا عن ذكرك أو عن التذكر في آلائك والتدبر في آياتك فجعلوا أسباب الهداية بسوء اختيارهم ذريعة إلى الغواية (وكانوا) أي في قضائك المبني على علمك الأزلي المتعلق بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم من الأعمال السيئة (قوما بورا) أي هالكين على أن بورا مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع أو جمع بائر كعوذ في جمع عائذ والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله وقوله تعالى (فقد كذبوكم) حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك فقد كذبوكم المعبودون أيها الكفرة (بما تقولون) أي في قولكم إنهم آلهة وقيل في قولكم هؤلاء أضلونا ويأباه أن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلا
وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وأيا ما كان فالباء بمعنى في أو هي صلة للتكذيب على أن الجار والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب وقرئ بالياء أي كذبوكم بقولهم سبحانك الآية (فما تستطيعون) أي ما تملكون (صرفا) أي دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجه كما يعرف عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة وقيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف في أموره أي يحتال فهيا وقيل توبة (ولا نصرا) أي فردا من أفراد النصر لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على منى أنه لولاء لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم وقرئ يستطيعون على صيغة الغيبة أي ما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب أو يحتالوا لكم ولا ينصروكم وترتب ما بعد الفاء على ما قبلها كما مر بيانه (ومن يظلم منكم) أيها المكلفون كدأب هؤلاء حيث ركبوا متن المكابرة والعناد واستمروا على ما هم عليه من الفساد وتجاوزوا في اللجاج كل حد معتاد (نذقه) في الآخرة (عذابا كبيرا) لا يقادر قدره وهو عذاب النار وقرئ يذقه على أن الضمير لله سبحانه وتعالى وقيل لمصدر الفعل الواقع شرطا وتعميم الظلم لا يستلزم اشتراك الفاسق للكافر في إذاقة العذاب الكبير فإن الشرط في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا وهو التوبة والإحباط بالطاعة إجماعا وبالعفو عندنا
209

(وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) جواب عن قولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق والجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف قد حذف ثقة بدلالة الجار والمجرور عليه وأقيمت هي مقامه كما في قوله تعالى وما منا إلا له مقام معلوم والمعنى ما أرسلنا أحدا قبلك من المرسلين إلا آكلين وماشين وقيل هي حال والتقدير إلا وإنهم ليأكلون الخ وقرئ يمشون على البناء للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس (وجعلنا بعضكم) تلوين للخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم الصلاة والسلام بطريق التغليب والمراد بهذا البعض كفار الأمم فإن اختصاصهم بالرسل وتبعيتهم لهم مصحح لأن يعدوا بعضا منهم وبما في قوله تعالى (لبعض) رسلهم لكن لا على معنى جعلنا مجموع البعض الأول (فتنة) أي ابتلاء ومحنة لمجموع البعض الثاني ولا على معنى جعلنا كل فرد من أفراد البعض الأول فتنة لكل فرد من أفراد البعض الثاني ولا على معنى جعلنا بعضا مبهما من لأولين فتنة لبعض مبهم من الآخرين ضرورة أن مجموع الرسل من حيث هو مجموع غير مفتون بجموع الأمم ولا كل فرد منهم بكل فرد من لأم ولا بعض مبهم من الأولين ببعض منهم من الآخرين على بل معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين المبعوث إليها وإنما لم يصرخ بذلك تعويلا على شهادة الحال هذا وأما تعميم الخطاب لجميع المكلفين وإبقاء البعضين على العموم والإبهام على معنى وجعلنا بعضكم أيها الناس فتنة لبعض آخر منكم فيأباه قوله تعالى (أتصبرون) فإنه غاية للجعل المذكور ومن البين أن ليس ابتلاء كل أحد من آحاد الناس مغيا بالصبر بل بما يناسب حاله على أن الاقتصار على ذكره من غير تعرض لمعادل له مما يدل على أن اللائق بحال المفتونين والمتوقع صدوره عنهم هو الصبر لا غير فلابد أن يكون المراد بهم الرسل فيحصل به تسليته صلى الله عليه وسلم فالمعنى جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم وأقاويلهم الخارجة عن حدود الإنصاف لنعم صبركم وقوله تعالى (وكان ربك بصيرا) وعد كريم للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له صلى الله عليه وسلم بالالتفات إلى اسم الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وسلم (وقال الذين لا يرجون لقاءنا) شروع في حكاية بعض آخر من أقاويلهم الباطلة وبيان بطلانها إثر إبطال أباطيلهم السابقة والجملة معطوفة على قوله تعالى وقالوا ما لهذا الرسول الخ ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما يحكي عنهم من الشناعة بحيث لا يصدر عمن يعتقد المصير إلى الله
210

عز وجل ولقاء الشيء عبارة عن مصادفته من غير أن يمنع مانع من إدراكه بوجه من الوجوه والمراد بلقائه تعالى إما الرجوع إليه تعالى بالبعث والحشر رأو لقاء حسابه تعالى كما في قوله تعالى إن ظننت أني ملاق حسابيه وبعدم رجائهم إياه عدم توقعهم له أصلا لإنكارهم البعث والحساب بالكلية لا عدم أملهم حسن اللقاء ولا عدم خوفهم سوء اللقاء لأن عدمهما غير مستلزم لما هم عليه من العتو والاستكبار وإنكار البعث والحساب رأسا أي وقال الذين لا يتوقعون الرجوع إلينا أو حسابنا المؤدى إلى سوء العذاب الذي تستوجبه مقالتهم (لولا أنزل علينا الملائكة) أي هلا أنزلوا علينا ليخبرونا بصدق محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هلا أنزلوا علينا بطريق الرسالة وهو الأنسب قولهم (أو نرى ربنا) من حيث أن كلا القولين ناشئ عن غاية غلوهم في المكابرة العتو حسبما يعرب عنه قوله تعالى (لقد استكبروا في أنفسهم) أي في شأنها حتى اجترءوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء (وعتوا) أي تجاوزا الحد في الظلم والطغيان (عتوا كبيرا) بالغا أقصى غاياته حيث أملوا نيل مرتبة المفاوضة الإلهية من غير توسط الرسول والملك كما قالوا لولا يكلمنا الله ولم يكتفوا بما عاينوا من المعجزات القاهرة التي تخر لها صم الجبال فذهبوا في الاقتراح كل مذهب حتى منتهم أنفسهم الخبيثة أماني لا تكاد ترنوا إليها أحداق الأمم ولا تمتد إليها أعناق الهمم ولا ينالها إلا أولوا العزائم الماضية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام واللام جواب قسم محذوف أي والله لقد استكبروا الآية وفيه من الدلالة على غاية قبح ما هم عليه والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ما لا يخفى (يوم يرون الملائكة) استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة علهم السلام بعد استعظامه وبيان كون في غاية ما يكون من الشناعة وإنما قيل يوم يرون دون أن يقال يوم ينزل الملائكة إيذانا من أول الأمر بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه بل على وجه آخر غير معهود ويوم منصوب على الظرفية بما يدل عليه قوله تعالى (لا بشرى يومئذ للمجرمين) فإنه في معنى لا يبشر يومئذ المجرمون والعدول إلى نفي الجنس للمبالغة في نفي البشرى وما قيل من أنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها تهوين للخطب في مقام التهويل فإن منع البشرى وفقدانها مشعران بأن هناك بشرى يمنعونها أو يفقدونها وأين هذا من نفيها بالكلية وحيث كان نفيها كناية عن إثبات ضدها كما أن نفي المحبة في مثل قوله تعالى والله لا يحب الكافرين كناية عن البغض والمقت دل على ثبوت النذر لهم على أبلغ وجه وآكده وقيل منصوب بفعل مقدر يؤكده بشرى على أن لا غير نافية للجنس وقيل منصور على المفعولة بمضمر مقدم عليه أي اذكر يوم رؤيتهم الملائكة ويومئذ على كل حال تكرير للتأكيد والتهويل مع ما فيه من الإيذان بان تقديم الظرف للاهتمام لا لقصر نفي البشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مخل بتفظيع حالهم وللمجرمين تبيين على أنه مظهر وضع موضع
الضمير تسجيلا عليه بالإجرام مع ما هم عليه من الكفر وحمله على العموم بحيث يتناولوا فساق المؤمنين ثم الالتجاء في إخراجهم عن الحرمان الكلي إلى أن نفي البشرى حينئذ لا يستلزم نفيه في جميع الأوقات فيجوز أن يبشروا بالعفو والشفاعة في وقت آخر بمعزل عن الحق بعيد
211

(ويقولون) عطف على ما ذكر من الفعل المنفي المنبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر وغاية هول مطلعه ببيان أنهم يقولون عند مشاهدتهم له (حجرا محجورا) وهي كلمة يتكلمون بها عند لقاء عدو موتور وهجوم نازلة هائلة يضعونها موضع الاستعاذة حيث يطلبون من الله تعالى أن يمنع المكروه فلا يلحقهم فكان المعنى نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك منعا ويحجره حجرا وكسر الحاء تصرف فيه لاختصاصه بموضوع واحد كما في قعدك وعمرك وقد قرئ حجرا بالضم والمعنى أنهم يطلبون نزول الملائكة عليهم السلام ويقترحونه وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة وفزعوا منهم فزعا شديدا وقالوا ما كانوا يقولونه عند نزول خطب شنيع وحلول بأس شديد فظيع ومحجورا صفة لحجرا وإرادة للتأكيد كما قالوا ذيل ذائل وليل أليل وقيل يقولها الملائكة إقناطا للكفرة بمعنى حراما محركا عليكم الغفران أو الجنة أو البشرى أي جعل الله تعالى ذلك حراما عليكم وليس بواضح «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» بيان لحال ما كانوا يعملونه في الدنيا من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم ومحاسنهم التي لو كانوا عملوها مع الإيمان لنالوا ثوابها بتمثيل حالهم وحال أعمالهم المذكور بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد ما تحت أيديهم فأنحى عليها بالإفساد والتحريف ومزقها كل تمزيق بحيث لم يدع لها عينا ولا أثرا أي عمدنا إليها وأبطلناها أي أظهرنا بطلانها بالكلية من غير أن يكون هناك قدوم ولا شيء يقصد تشبيهه به والهباء شبه غبار يرى في شعاع الشمس يطلع من الكوة من الهبوة وهي الغبار ومنثورا صفته شبه به أعمالهم المحبطة في الحقارة وعدم الجدوى ثم بالمنثور منه في الانتشار بحيث لا يمكن نظمه أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد لخبر كما في قوله تعالى كونوا قردة خاسئين «أصحاب الجنة» هم المؤمنون المشار إليهم في قوله تعالى قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون الخ «يومئذ» أي يوم إذ يكون ما ذكر رمن عدم التبشير وقولهم حجرا محجورا وجعل أعمالهم هباء منثورا «خير مستقرا» المستقر المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات للتجالس والتحادث «وأحسن مقيلا» المقيل المكان الذي يؤوى إليه للاسترواح إلى الأزواج والتمتع بمغازلتهن سمى بذلك لما أن التمتع به يكون وقت القيلولة غالبا وقيل لأنه يفرغ من الحساب في منتصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار وفي وصفه بزيادة الحسن مع حصول الخيرية بعطفه على المستقر رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف والتفضيل المعتبر فيهما إما لإرادة الزيادة على الإطلاق أي هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل وإما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا أو إلى ما لهم في الآخرة بطريق التهكم بهم كما مر في قوله تعالى قل أذلك خير الآية هذا وقد جوز أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم وزمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة والأزمنة
212

«ويوم تشقق السماء» اي تتفتح واصله تتشقق فحذفت إحدى التاءين كما في تلظى وقرئ بإدغام التاء في الشين «بالغمام» بسبب طلوع الغمام منها وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة قيل هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة لم يكن إلا لبني إسرائيل «ونزل الملائكة تنزيلا» أي تنزيلا عجيبا غير معهود قيل تنشق سماء سماء وينزل الملائكة خلال ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد وقرئ ونزلت الملائكة وننزل على صيغة المتكلم من الإنزال والتنزيل ونزل الملائكة وأنزل الملائكة ونزل الملائكة على حذف النون الذي هو فاء الفعل من تنزل «الملك يومئذ الحق للرحمن» اي السلطنة القاهرة والاستيلاء الكلى العام الثابت صورة ومعنى ظاهرا وباطنا بحيث لا زوال له أصلا ثابت للرحمن يؤمئذ فالملك مبتدأ والحق صفته وللرحمن خبرة ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ وفائدة التقييد أن ثبوت الملك المذكور له تعالى خاصة يومئذ وأما فيما عداه من أيام الدنيا فيكون لغيره أيضا تصرف صوري في الجملة وقيل الملك مبتدأ والحق خبره وللرحمن متعلق بالحق أو بمحذوف على التبيين أو بمحذوف هو صفة للحق ويومئذ معمول للملك وقيل الخبر يومئذ والحق نعت للملك وللرحمن على ما ذكر وأيا ما كان فالجملة بمعناها عاملة في الظرف أي ينفرد الله تعالى بالملك يوم تشقق وقيل الظرف منصوب بما ذكر فالجملة حينئذ استئناف مسوق لبيان أحواله وأهواله وإيراده تعالى بعنوان الرحمانية للإيذان بأن اتصافه تعالى بغاية الرحمة لا يهون الخطب على الكفرة لعدم استحقاقهم للرحمة كما في قوله تعالى يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم والمعنى أن الملك الحقيقي يومئذ للرحمن «وكان» ذلك اليوم مع كون الملك فيه لله تعالى المبالغ في الرحمة لعباده «يوما على الكافرين عسيرا» شديدا لهم وتقديم الجار والمجرور لمراعاة الفواصل وأما للمؤمنين فيكون يسيرا بفضل الله تعالى وقد جاء في الحديث انه يهون يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما قبله «ويوم يعض الظالم على يديه» عض اليدين والأنامل وأكل البنان وحرق الأسنان ونحوها كنايات عن الغيظ والحسرة لأنها من رواد فهما والمراد بالظالم إما عقبة بن أبي معيط على ما قيل من أنه كان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فدعاه صلى الله عليه وسلم يوما إلى ضيافته فأبى صلى الله عليه وسلم أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه فقال صبأت فقال لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له فقال إني لا أرضى منك إلا ان تأتيه فتطأ قفاه وتبزق في وجهه فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال صلى الله عليه وسلم لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر يوم بدر فأمر
213

عليا رضي الله عنه فقتله وقيل قتله عاصم بن ثابت الأنصاري وطعن صلى الله عليه وسلم أبيا يوم أحد في المبارزة فرجع إلى مكة ومات وإما جنس الظالم وهو داخل فيه دخولا أوليا وقوله تعالى «يقول» الخ حال من فاعل بعض وقوله تعالى «يا ليتني» الخ محكي به ويا إما لمجرد التنبيه من غير قصد إلى تعيين المنبه أو المنادى محذوف أي يا هؤلاء ليتني «اتخذت مع الرسول سبيلا» أي طريقا واحدا منجيا من هذه الورطات وهو طريق الحق ولم تتشعب بي طريق الضلالة أو حصلت في صحبته صلى الله عليه وسلم طريقا ولم أكن ضالا لا طريق لي قط «يا ويلنا» بقلب ياء المتكلم ألفا كما في صحارى ومدارى وقرئ على الأصل يا ويلتي أي هلكتي تعالى
واحضري فهذا أوانك «ليتني لم أتخذ فلانا خليلا» يريد من أضله في الدنيا فإن فلانا كناية عن الأعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل وفلانة عن علم إناثهم وفل كناية عن نكرة من يعقل من الذكور وفلة عمن يعقل من الإناث والفلان والفلانة من غير العاقل ويخص فل بالنداء إلا في ضرورة كما في قوله
* في لجة أمسك فلانا عن فل
* وقوله
* خذ حد ثاني عن فلن وفلان
* وليس فل مرخما من فلان خلافا للفراء واختلفوا في لام فل وفلان فقيل واو وقيل ياء هذا فإن أريد بالظالم عقبة ففلان كناية عن أبي وإن أريد بن الجنس فهو كناية عن علم كل من يضله كائنا من كان من شياطين الإنس والجن وهذا التمني منه وإن كان مسوقا لإبراز الندم والحسرة لكنه متضمن لنوع تعلل واعتذار بتوريك جنايته إلى الغير وقوله تعالى «لقد أضلني عن الذكر» تعليل لتمنيه المذكور وتوضيح لتعلله وتصديره باللام القسمية للمبالغة في بيان خطئه وإظهار ندمه وحسرته أي والله لقد أضلني عن ذكر الله تعالى أو عن القرآن أو عن موعظة الرسول صلى الله عليه وسلم أو كلمة الشهادة «بعد إذ جاءني» وتمكنت منه وقوله تعالى «وكان الشيطان للإنسان خذولا» أي مبالغا في الخذلان حيث يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه ولا ينفعه اعتراض مقرر لمضمون ما قبله إما من جهته تعالى أو من تمام كلام الظالم على أنه سمى خليله شيطانا بعد وصفه بالإضلال الذي هو أخص الأوصاف الشيطانية أو على أنه أراد بالشيطان إبليس لأنه الذي حمله على مخالة المضلين ومخالفة الرسول الهادي صلى الله عليه وسلم بوسوسته وإغوائه لكن وصفه بالخذلان يشعر بأنه كان يعده في الدنيا ويمنيه بأن ينفعه في الآخرة وهو أوفق بحال إبليس «وقال الرسول» عطف على قوله تعالى وقال الذين لا يرجون لقاءنا وما بينها اعتراض مسوق لاستعظام ما قالوه وبيان ما يحيق بهم في الآخرة من الأهوال والخطوب وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة لتحقيق الحق والرد على نحورهم حيث كان ما حكى عنهم قدحا في رسالته صلى الله عليه وسلم أي قالوا كيت وكيت وقال الرسول إثر ما شاهد منهم غاية
214

العتو ونهاية الطغيان بطريق البث إلى ربه عز وجل (يا رب إن قومي) يعني الذين حكى عنهم ما حكى من الشنائع («اتخذوا هذا القرآن» الذي من جملته هذه الآيات الناطقة بما يحيق بهم في الآخرة من فنون العقاب كما ينبئ عنه كلمة الإشارة (مهجورا) أي متروكا بالكلية ولم يؤمنوا به ولم يعرفوا إليه رأسا ولم يتأثروا بوعيده وفيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم فإنه روى عنه صلى الله عليه السلام أنه قال من تعلم القرآن وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به العالمين عبدك هذا أتخذل مهجورا اقض بيني وبينه وقيل هو من هجر إذا هذى أي جعلوه مهجورا فيه إما على زعمهم الباطل وإما بأن هجروا فيه إذا سمعوه كما يحكى عنهم من قولهم لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه وقد جوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر كالمجلود والمعقول فالمعنى اتخذوه وهجرا وهذيانا وفيه من التخدير والتخويف مالا يخفى فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا شكوا إلى الله تعالى قولهم عجل لهم العذاب ولم ينظروا وقولة تعالى «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل له على الاقتداء بمن قبله من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي كما جعلنا لك أعداء من المشركين يقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون من الأباطيل جعلنا لكل نبي من الأنبياء الذين هم أصحاب الشريعة والدعوة إليها عدوا من مجرمي قومهم فاصبر كما صبروا وقولة تعالى (وكفى بربك هاديا ونصيرا) وعد كريم له صلى الله عليه وسلم بالهداية إلى كافة مطالبة والنصر على أعدائه أي كفاك مالك أمرك ومبلغك إلى الكمال هاديا لك إلى ما وصلك إلى غاية الغابات التي من جملتها تبليغ الكتاب أجله وإجراء أحكامه في أكتاف الدنيا إلى يوم القيامة ونصيرا لك على جميع من يعاديك «وقال الذين كفروا» حكاية لاقتراحهم الخاص بالقرآن الكريم بعد حكاية اقتراحهم في حقه صلى الله عليه وسلم والقائلون هم القائلون أولا وإيرادهم بعنوان الكفر لذمهم به والأشعار بعلة الحكم «لولا نزل عليه القرآن» التنزيل ههنا مجرد عن معنى التدريج كما في في قوله تعالى أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ويجوز أن يراد به الدلالة على كثرة المنزل في نفسه أي هلا أنزل كله «جملة واحدة» كالكتب الثلاثة وبطلان هذه الكلمة الحمقاء مما لا يكاد يخفي على أحد فإن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها وأما القرآن الكريم فبينة صحته آية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المرقدة بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي ولا ريب في أن ما يدور عليه فلك الإعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الأحوال ومن ضرورة تغيرها وتجددها تغير ما يطابقها حتما على أن فيه فوائد جمه أشير إلى بعض منها بقوله تعالى «كذلك لنثبت به فؤادك» فإنه استئناف وارد من جهته تعلى لرد مقالهم الباطل
215

وبيان الحكمة في التنزيل التدريجي ومحل الكاف النصب على أنها صفه لمصدر مؤكد لمضمر معلل بما يعده وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قد حوا فيه واقترحوا خلافه ونزلناه لا تنزيل مغايرا له لنقوى بذلك التنزيل المفرق فؤادك فإن فيه تيسير الحفظ النظم وفهم المعاني وضبط الأحكام والوقوف على تفاصيل ما روعي فيها من الحكم والمصالح المبينة على المناسبة على أنها منوطة بأسبابها الداعية إلى شرعها ابتداء أو تبديلا بالنسخ من أحوال المكلفين وكذلك عامة ما ورد في القرآن المجيد من الأخبار وغيرها متعلقة بأمور حادثة من الأقاويل والأفاعيل ومن قضية تجددها تجدد ما يتعلق بها كالاقتراحات الواقعة من الكفرة الداعية إلى حكايتها وإبطالها وبيان ما يؤول إليه حالهم في الآخرة على أنهم في هذا الاقتراح كالباحث عن حتفه بظلفه حيث أمروا بالإتيان بمثل نوبة من نوب التنزيل فظهر عجزهم عن المعارضة وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف لو تحدوا بكلمة وقوله تعالى (رتلناه ترتيلا) عطف على ذلك المضمر وتنكير ترتيلا للتفخيم أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا بديعا لا يقادر قدره معنى ترتيله تفريقه آية بعد آية قاله النخعي والحسن وقتادة وقال ابن عباس رضي الله عنهما بيناه بيانا فيه ترتيل وتثيبت وقال السدى
فصلناه تفصيلا وقال مجاهد جعلنا بعضه في إثر بعض وقيل هو الأمر بترتيل قراءته بقوله تعالى ورتل القرآن ترتيلا وقيل قرأناه عليك بلسان جبريل عليه السلام شيئا فشيئا في عشرين أو ثلاث وعشرين سنة على تؤدة وتمهل «ولا يأتونك بمثل» من الأمثال من جملتها ما حكى من اقتراحاتهم القبيحة الخارجة عن دائرة العقول الجارية لذلك مجرى الأمثال أي لا يأتونك بكلام عجيب هو مثل في البطلان يريدون به القدح في حقك وحق القرآن «إلا جئناك» في مقابلته «بالحق» أي بالجواب الحق الثابت الذي ينحي عليه بالإبطال ويحسم مادة القيل والقال كما مر من الأجوبة الحقة القالعة لعروق أسئلتهم الشنيعة الدامغة لها بالكلية وقوله تعالى «وأحسن تفسيرا» عطف على الحق أي جئناك بأحسن الحسن في حد ذاته لا أن ما يأتون به له حسن في الجملة وهذا أحسن منه كما مروا الاستثناء مفرغ محله النصب على الحالية أي لا يأتونك بمثل إلا حال إتياننا إياك الحق الذي لا مجيد عنه وفيه من الدلالة على المسارعة إلى إبطال ما أتوا به وتثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم مالا يخفى وهذا بعبارته ناطق ببطلان جميع الأسئلة وبصحة جميع الأجوبة وبإشارته منبىء عن بطلان السؤال الأخير وصحة جوابه إذ لو لا أن تنزيل القرآن على التدريج لما أمكن إبطال تلك الاقتراحات الشنيعة ولما حصل تثبيت فؤاده صلى الله عليه وسلم من تلك الحيثية هذا وقد جوز أن يكون المثل عبارة عن الصفة العريبة التي كانوا يقترحون كونه صلى الله عليه وسلم عليها من مقارنة الملك والاستغناء عن الأكل والشرب وحيازة الكنز والجنة ونزول القرآن عليه جملة واحده على معنى لا يأتوك بحال عجيبة يقترحون اتصافك بها قائلين هلا كان على هذه الحالة إلا أعطيناك نحن من الأحوال الممكنة ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا أن تعطاه وما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه ودلالة على صحته وهو الذي أنت عليه في الذات
216

والصفات ويأباه الاستثناء المذكور فإن المتبادر منه يكون ما أعطاه الله تعالى من الحق مترتبا على ما أتوا به من الأباطيل دامغا لها ولا ريب في ما آتاه الله تعالى من الملكات السنية اللائقة بالرسالة قد أتاه من أول الأمر لا بمقابلة ما حكى عنهم من الاقتراحات لأجل دمغها وإبطالها «الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم» أي يحشرون كائنين على وجوههم يسبحون عليها ويجرون إلى جهنم وقيل مقلوبين وجوههم على قفاهم وأرجلهم إلى فوق روى عنه صلى الله عليه وسلم يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث ثلث على الدواب وثلث على وجوههم وثلث على وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا وأما ما قيل متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها فبعيد لأن هول ذلك اليوم ليس بحيث يبقى لهم عنده تعلق بالسفليات أو توجه إليها في الجملة ومحل الموصول إما النصب أو الرفع على الذم أو الرفع على الابتداء وقوله تعالى «أولئك» بدل منه أو بيان له وقوله تعالى «شر مكانا وأضل سبيلا» خبر له أو اسم الإشارة مبتدأ ثان وشر خبره والجملة خبر للمصول ووصف السبيل بالضلال من باب الإسناد المجازي للمبالغة والمفضل عليه الرسول صلى الله عليه وسلم على مهاج قوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه كأنه قي إن حاملهم على هذه الاقتراحات تحقير مكانه صلى الله عليه وسلم بتضليل سبيله ولا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا وأضل سبيلا وقيل هو متصل بقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (ولقد آتينا موسى) جملة مستأنفة سيقت لتأكيد ما مر من التسلية والوعد بالهداية والنصر في قوله تعالى وكفى بربك هاديا ونصيرا بحكاية ما جرى بين من ذكر من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وبين قومهم حكاية إجمالية كافية فيما هو المقصود واللام جواب لقسم محذوف أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة أي أنزلناها عليه بالآخرة «وجعلنا معه» الظرف متعلق بجعلنا وقوله تعالى «أخاه» مفعول أول له وقوله تعالى «هارون» بدل منن أخاه أو عطف بيان له على عكس ما وقع في سورة طه وقوله تعالى «وزيرا» مفعول ثان له وقد مر ثمة معنى الوزير أي جعلناه في أول الأمر وزيرا له «فقلنا» لهما حينئذ «اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا» هم فرعون وقومه والآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى عليه السلام ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الأمر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا لعلة استحفافهم لما يحكى بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا «فدمرناهم» التكذيب أثر ذلك التكذيب المستمر «تدميرا» عجيبا هائلا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء
217

بما هو المقصود وحمل قوله تعالى فدمرناهم على معنى فحكمنا بتدميرهم مع كونه تعسفا ظاهرا مما لا وجه له إذ لا فائدة يعتد بها في حكاية الحكم بتدمير قد وقع وانقضى والتعرض في مطلع القصة لإيتاء الكتاب مع أنه كان بعد مهلك القوم ولم يكن له مدخل في هلاكهم كسائر الأيات للإيذان من أول الأمر ببلوغه صلى الله عليه وسلم غاية الكمال ونيله نهاية الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل من ملكه فرعون وإرشادهم إلى الطريق الحق صلى الله عليه وسلم غاية الكمال ونيله نهاية بما في التوراة من الأحكام إذا به يحصل تأكيد الوعد بالهداية على الوجه الذي مر بيانه وقرئ فدمرتهم وفدمراهم وفدمراهم على التأكيد بالنون الثقيلة «وقوم نوح» منصوب بمضمر يدل عليه قوله تعالى فدمرناهم أي ودمرنا قوم نوح وقيل عطف على مفعول فدمرناهم وليس من ضرورة ترتيب تدميرهم على ما قبله ترتب تدمير هؤلاء عليه لا سيما وقد بين سببه بقوله تعالى «لما كذبوا الرسل» أي نوحا ومن قبله من الرسل أو نوحا وحده لأن تكذيبه تكذيب للكل لا تفاقهم على التوحيد والإسلام وقيل هو منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى «أغرقناهم» وإنما يتسنى ذلك على تقدير كون كلمه لما ظرف زمان وأما على تقدير كونها حرف وجود لوجود فلا لأنه حينئذ جواب لها وجواب لما لا يفسر ما قبله مع أنه مخل بعطف المنصوبات الآتية على قوم نوح لما أن إهلاكهم ليس بالإغراق فالوجه ما نقدم وقوله تعالى أغرقناهم استئناف مبين لكيفية تدميرهم (وجعلناهم) أي جعلنا إغراقهم أو قصتهم (للناس آية) أي آية عظيمة يعتبر بها كل من شاهدها أو سمعها وهي مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغو له أو متعلق محذوف وق حالا من آية إذ لو تأخر عنها لكان صفة لها (وأعتدنا للظالمين) أي لهم والإظهار في موقع الإضمار للإبذان بتجاوزهم الحد في الكفر والتكذيب (عذابا أليما) هو عذاب الآخرة لا فائدة في الإخبار بإعتاد العذاب الذي قد أخبر بوقوعه من قبل أو لجميع الظالمين الباقين الذين لم يعتبروا بما جرى عليهم من العذاب فيدخل في زمرتهم قريش دخولا أوليا ويحتمل العذاب الدنيوي الأخروى (وعادا) عطف على قوم نوح وقيل على المفعول الأول لجعلناهم وقيل على الظالمين إذ هو في معنى وعدنا الظالمين وكلاهما بعيد (
وثمود) الكلام فيه وفيما بعده كما فيما قبله وقرئ وثمودا على تأويل الحي أنه الأب الأقصى (وأصحاب الرس) هم قوم يعبدون الأصنام فبعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام فكذبوه فبينما هم حول الرس وهي البئر التي لم تطو بعد إذ انهارت فخسف بهم وبديارهم وقيل الرس قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا أو قيل هو الأخدود وقيل بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي صلى الله عليه وسلم ابتلاهم الله بطير عظيم كان فيها من كل لون وسموها عنقاء لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتخ أو دمخ فتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد
218

ولذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة عليه السلام فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوه عليه السلام فأهلكوا وقيل قوم كذبوا رسولهم فرسوه أي دسوه في بئر «وقرونا» أي أهل قرون قيل القرن أربعون سنة وقيل سبعون وقيل مائة وعشرون «بين ذلك» أي بين ذلك المذكور من الطوائف والأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ويحسب الحاسب أعدادا متكاثرة ثم يقول فذلك كيت وكيت على ذلك المذكور وذلك المحسوب «كثيرا» لا يعلم مقدارها إلا العليم الخبير ولعل الاكتفاء في شؤون تلك القرون بهذا البيان الإجمالي لما أن كل قرن منها لم يكن في الشهرة وغرابة القصة بمثابة الأمم المذكورة «وكلا» منصوب بمضمر يدل عليه ما بعده فإن ضرب المثل في معنى التذكير والتحذير والمحذوف الذي عوض عنه التنوين عبارة إما عن الأمم التي لم يذكر أسباب إهلاكهم وإما عن الكل فإن ما حكى عن قوم نوح وقوم فرعون تكذيبهم للآيات والرسل لا عدم التأثير من الأمثال المضروبة أي ذكرنا وأنذرنا كل واحد من المذكورين «ضربنا له الأمثال» أي بينا له القصص العجينة الزاجرة عما هم عليه من الكفر والمعاصي بواسطة الرسل «وكلا» الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل «تبرنا تتبيرا» عجيبا ها ئلا لما أنهم لم يتأثروا بذلك ولم يرفعوا له رأسا وتمادوا على ما هم عليه عن الكفر والعدوان وأصل التتبير التفتيت قال الزجاج كل شيء كسرته وفتتته فقد تبرته ومنه التبر لفئات الذهب والفضة «ولقد أتوا» جملة مستأنفة مسوقة لبيان مشاهدتهم لآثار هلاك بعض الأمم المتبرة وعدم اتعاظهم بها وتصديرها بالقسم لمزيد تقرير مضمونها أي وبالله لقد أتى قريش في متاجرهم إلى الشام «على القرية التي أمطرت» أي أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط وكانت خمس قرى ما نجت منها إلا واحدة كان أهلها لا يعملون العمل الخبيث وأما البواقي فأهلكها الله تعالى بالحجارة وهي المرادة بقول تعالى «مطر السوء» وانتصابه إما على أنه مصدر مؤكد بحذف الزوائد كما قيل في أنبته الله تعالى نباتا حسنا أي أمطار السوء أو على تركهم بعلة الحكم «لولا نزل عليه القرآن» التنزيل ههنا مجرد عن معنى التدريج كما في قوله تعالى يسألك الآمال التي هي إنجاء بني إسرائيل التذكر عند مشاهدة ما يوجبه والهمزة لإنكار نفي استمرار رؤيتهم لها وتقرير استمرارها حسب استمرار ما يوجبها من إتيانهم عليها لا لإنكار استمرار نفي رؤيتهم وتقرير رؤيتهم لها في الجملة والفاء لعطف مدخولها على مقدر يقتضيه المقام أي ألم يكونوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها أو أكانوا ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها في مرار مرورهم ليتعظوا بما كانوا يشاهدونه من آثار العذاب فالمنكر في الأول ترك النظر وعدم النظر الرؤية معا وفي الثاني عدم الرؤية مع تحقق النظر الموجب لها وقوله تعالى «بل كانوا لا يرجون نشورا» إما إضراب عما قبله من عدم رؤيتهم لآثار ما جرى على أهل القرى من العقوبة وبيان لكون وعدم اتعاظهم بسبب إنكارهم لكون ذلك عقوبة
219

لمعاصيهم لا لعدم رؤيتهم لآثارها خلا أنه اكتفى عن التصريح بإنكارهم ذلك بذكر ما يستلزمه من إنكارهم للجزاء الأخروى الذي هو الغابة من خلق العالم وقد كنى عن ذلك بعدم النشور أي عدم توقعه كأنه قيل بل كانوا ينكرون النشور المستتبع للجزاء الأخروى ولا يرون لنفس من النفوس نشورا أصلا مع تحققه حتما وشموله للناس عموما واطراده وقوعا فكيف يعترفون بالجزاء الدنيوي في حق طائفة خاصة مع عدم الإطراد والملازمة بينه وبين المعاصي حتى يتذكروا ويتعظوا بما شاهدوه من آثار الهلاك وإنما يحملونه على الاتفاق وإما انتقال من التوبيخ بما ذكر من ترك التذكر إلى التوبيخ بما هو أعظم منه من عدم توقع النشور «وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا» أي ما يتخذونك إلا مهزوءا به على معنى قصر معاملتهم معه صلى الله عليه وسلم على اتخاذهم إياه صلى الله عليه وسلم هزؤا لا على معنى قصر اتخاذهم على كونه هزؤا كما هو المتبادر من ظاهر العبارة كأنه قيل ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزؤا وقد مر تحقيقه في قوله تعالى إن أتبع إلا ما يوحى إلى من سورة الأنعام وقوله تعالى «أهذا الذي بعث الله رسولا» محكى بعد قول مضمر هو حال من فاعل يتخذونك أي يستهزؤن بك قائلين أهذا الذي الخ والإشارة للإستحقار وإبراز بعث الله رسولا في معرض التسليم بجعله صلة للموصول الذي هو صفته صلى الله عليه وسلم مع كونهم في غاية النكير لبعثه صلى الله عليه وسلم بطريق التهكم والاستهزاء وإلا لقالوا أبعث الله هذا رسولا أو أهذا الذي يزعم أنه بعثه الله رسولا «إن كاد» إن مخففه من إن وضمير الشأن محذوف أي إنه كاد «ليضلنا عن آلهتنا» أي ليصرفنا عن عبادتها صرفا كليا بحيث يبعدنا عنها لا عن عبادتها فقط والعدول إلى الإضلال لغاية ضلالهم بادعاء أن عبادتها طريق سوى «لولا أن صبرنا عليها» ثبتنا عليها واستمسكنا بعبادتها ولولا في أمثال هذا الكلام تجرى مجرى التقييد للحكم المطلق من حيث المعنى كما أشير إليه في قوله تعالى ولقد همت به الخ وهذا اعتراف منهم بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ من الإجتهاد في الدعوة إلى الحق وإظهار المعجزات وإقامة الحجج والبينات إلى حيث شارفوا أن يتركوا دينهم لولا فرط لجاجهم وغاية عنادهم يروي أنه من قول أبي جهل «وسوف يعلمون» جواب من جهته تعالى لآخر كلامهم ورد لما ينبئ عنه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الضلال في ضمن الإضلال أي سوف يعلمون البتة وإن تراخى «حين يرون العذاب» الذي يستوجبه كفرهم وعنادهم «من أضل سبيلا» وفيه ما لا يخفى من الوعيد والتنبيه على أنه تعالى لا يهملهم وإن أمهلهم «أرأيت من اتخذ إلهه هواه» تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم من شناعة حالهم بعد حكاية قبائحهم من الأقوال
220

والأفعال وبيان ما لهم من المصير والمال وتنبيه على أن ذلك من الغرابة بحيث يجب أن يرى ويتعجب منه وإلهه مفعول ثان لأتخذ قدم على الأول للاعتناء به لأنه الذي يدور عليه أمر التعجب ومن توهم أنهما على الترتيب بناء على تساويهما في التعريف فقد زل منه أن المفعول الثاني في هذا الباب هو المتلبس بالحالة الحادثة أي أرأيت من جعل هواه إلها لنفسه من غير أن يلاحظ وبنى عليه أمر دينه معرضا عن استماع الحجة الباهرة البرهان النير بالكلية على معنى انظر إليه وتعجب منه وقوله تعالى «أفأنت تكون عليه وكيلا» إنكار واستبعاد لكونه صلى الله عليه وسلم حفيظا عليه يزجره عما هو عليه من الضلال ويرشده إلى الحق طوعا أو كرها والفاء لترتيب الإنكار
على ما قبله من الحالة الموجبة له كأنه قيل أبعد ما شاهدت غلوه في طاعة الهوى وعتوه عن اتباع الهدى تقسره على الإيمان شاء أو أبى وقوله تعالى «أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون» إضراب وانتقال عن الإنكار المذكور إلى إنكار حسبانه صلى الله عليه وسلم لهم ممن يسمع أو يعقل حسبما ينبئ عنه جده صلى الله عليه وسلم في الدعوة واهتمامه بالإرشاد والتذكير لكن لا على أنه لا يقع كالأول بل على أنه لا ينبغي أن يقع أي بل أتحسب أن أكثرهم يسمعون ما تتلوا عليهم من الآيات حتى السماع أو يعقلون ما في تضاعيفها من المواعظ الزاجرة عن القبائح الداعية إلى المحاسن فتعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم وضمير أكثرهم لمن وجمعه باعتبار معناها كما أن الإفراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها وضمير الفعلين لأكثر لا لما أضيف هو إليه وقوله تعالى «إن هم إلا كالأنعام» الخ جملة مستأنفة مسوقة لتقرير النكير وتأكيده وحسم مادة الحسبان بالمرة أي ما هم في عدم الانتفاع بما يقرع آذانهم من قوارع الآيات وانتفاء التدبر فيما يشاهدونه من الدلائل والمعجزات إلا كالبهائم التي هي مثل في الغفلة وعلم في الضلالة «بل هم أضل» منها «سبيلا» لما أنها تنقاد لصاحبها الذي يعلفها ويتعهدها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها وتأوى إلى معاطنها وهؤلاء لا ينقادون لربهم وخالقهم ورازقهم ولا يعرفون إحسانهم إليهم من إساءة الشيطان الذي هو أعدى عدوهم ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهنى والمورد العذب الروى ولأنها إن لم تعتقد حقا مستتبعا لاكتساب الخير لم تعتقد باطلا مستوجبا لاقتراف الشر بخلاف هؤلاء حيث مهدوا قواعد الباطل وفرعوا عليها أحكام الشرور ولأن أحكام جهالتها وضلالتها مقصورة على أنفسها لا تتعدى إلى أحد وجهالة هؤلاء مؤدية إلى ثوران الفتني والفساد وصد الناس عن سنين السداد وهيجان الهرج والمرج فيما بين العباد ولأنها غير معطلة لقوة من القوى المودعة بل صارفة لها إلى ما خلقت هي له فلا تقصير من قبلها في طلب الكمال وأما هؤلاء فهم معطلون لقواهم العقلية مضيعون للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها مستحقون بذلك أعظم العقاب وأشد النكال
221

«ألم تر إلى ربك» بيان لبعض دلائل التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالتهم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة للتقرير والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم وللإيذان بأن ما يعقبه من آثار ربوبيته ورحمته تعالى أي ألم تنظر إلى بديع صنعه تعالى «كيف مد الظل» أي كيف أنشأ ظل أي مظل كان من جبل أو بناء أو شجر عند ابتداء طلوع الشمس ممتدا لا أنه تعالى مده بعد أن لم يكن كذلك كما بعد نصف النهار إلى غروبها فإن ذلك مع خلوه عن التصريح بكون نفسه بإنشائه تعالى وإحداثه يأباه سياق النظم الكريم وأم ما قيل من أن المراد بالظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وأنه أطيب الأوقات فإن الظلمة الخالصة تنفر عنها الطباع وشعاع الشمس يسخن الجو ويبهر البصر ولذلك وصف به الجنة في قوله تعالى وظل ممدود فغير سديد إذ لا ريب في أن المراد تنبيه الناس على عظيم قدرة الله عز وجل وبالغ حكمته فيما يشاهدونه فلا بد أن يراد بالظل ما يتعارفونه من حالة مخصوصة يشاهدونها في موضع يحول بينه وبين الشمس جسم كثيف مخالفة لما في جوانبه من مواقع ضح الشمس وما ذكر وإن كان في الحقيقة ظلا للأفق الشرقي لكنهم لا يعدونه ظلا ولا يصفونه بأوصافه المعهودة ولعل توجيه الرؤية إليه سبحانه وتعالى مع ان المراد تقرير رؤيته صلى الله عليه وسلم لكيفية مد الظل للتنبيه على أن نظره صلى الله عليه وسلم غير مقصور على ما يطالعه من الآثار والصنائع بل مطمح أنظاره معرفة شؤون الصانع المجيد وقوله تعالى «ولو شاء لجعله ساكنا» جملة إعترضت بين المعطوفين للتنبيه من أول الأمر على أنه لا مدخل فيما ذكر من المد للأسباب العادية وإنما المؤثر فيه المشيئة والقدرة ومفعول المشيئة محذوف على القاعدة المستمرة من وقوعها وكون مفعولها مضمون الجزاء أي ولو شاء سكونه لجعله ساكنا أي ثابتا على حاله من الطول والإمتداد وإنما عبر عن ذلك بالسكون لما أن مقابله الذي هو تغير حاله حسب تغير الأوضاع بين المضل وبين الشمس يرى رأي العين حركه وانتقالا وحاصله أنه لا يعتريه اختلاف حال بأن لا تنسخه الشمس وأما التعليل بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فمداره الغفول عما سيق له النظم الكريم ونطق به صريحا من بيان كمال قدرته القاهرة وحكمته الباهرة بنسبة جميع الأمور الحادثة إليه تعالى الذات وإسقاط الأسباب العادية عن رتبة السببية والتأثير بالكلية وقصرها على مجرد الدلالة على وجود المسببات لا بذكر قدرته تعالى على بعض الخوارق كإقامة الشمس في مقام واحد على أنها أعظم من إبقاء الظل على حاله في الدلالة على ما ذكر من كمال القدرة والحكمة مكونه من فروعها ومستتبعاتها فهي أولى وأحق بالإيراد في معرض البيان وقوله تعالى «ثم جعلنا الشمس عليه دليلا» عطف على مد داخل في حكمه أي جعلناها علامة يستدل بأحوالها المتغيرة على أحواله من غير أن يكون بينهما سببية وتأثير قطعا حسبما نطق به الشرطية المعترضة والالتفات إلى نون العظمة لما في الجعل المذكور العاري عن التأثير مع ما يشاهد بين الشمس والظل من الدوران المطرد المنبىء عن السببية من مزيد دلالة على عظم القدرة ودقة الحكمة وهو السر في إيراد كلمة التراخي وقوله تعالى «ثم قبضناه»
222

«ثم قبضناه» عطف على مد داخل في حكمه وثم للتراخي الزماني لما أن في بيان كون القبض والمد مر تبين دائرين على قطب مصالح المخلوقات مزيد دلالة على الحكمة الربانية ويجوز أن تكون للتراخي الرتبي أي أزلناه بهد ما أنشأناه ممتدا ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعة من غير أن يكون له تأثير في ذلك أصلا وإنما عبر عنه بالقبض المنبىء عن جميع المنبسط وطيه لما أنه قد عبر عن إحداثه بالمد الذي هو البسط طولا وقوله تعالى «إلينا» للتنصيص على كون مرجعه إليه تعالى كما أن حدوثه منع عز وجل «قبضا يسيرا» أي على مهل قليلا حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقها وقبل إن الله تعالى حين بنى السماء كالقبلة المضروبة ودحا الأرض تحتها ألقت القبة طلها على الأرض لعدم النير وذلك مدة تعالى إياه ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل أي سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ثم نسخه بها فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسيرا وقبضا سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الإجرام التي تلقى الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه كما ذكر إنشاؤه بإنشائها ووصفه باليسر على طريقة قوله تعالى ذلك حشر علينا يسير وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع «وهو الذي جعل لكم الليل لباسا» بيان لبعض بدائع آثار قدرته
تعالى وحكمته وروائع أحكام رحمته ونعمه الفائضة على الخلق وتلوين الخطاب لتوفية مقام الامتنان حقه واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما يعقبه من منافعهم وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي هو الذي جعل لكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس «والنوم سباتا» أي وجعل النوم الذي يقع في الليل غالبا قطعا عن الأفاعيل المختصة بحال اليقظة عبر عنه بالسبات الذي الموت لما بينها من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة وعليه قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل وقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها «وجعل النهار نشورا» أي زمان بعث من ذلك السبات كبعث الموتى على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو نفس البعث على طريق المبالغة وفيه إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذج للموت والنشور وعن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت وتنشر «وهو الذي أرسل الرياح» وقرئ بالتوحيد على أن المراد هو الجنس «بشرا» تخفيف بشر جمع بشور أي مبشرين وقرئ بشرى وقرى نشرا بالنون جمع نشور أي ناشرات للسحاب وقرئ بالتخفيف وبفتح النون أيضا على أنه مصدر
223

وصف به مبالغة وقوله تعالى «بين يدي رحمته» استعارة بديعة أي قدام المطر والالتفات إلى نون العظمة في قوله تعالى «وأنزلنا من السماء ماء طهورا» لإبراز كمال العناية بالإنزال لأنه نتيجة ما ذكر من إرسال الرياح أي أنزلنا بعظمتنا بما رتبنا من إرسال الرياح من جهة الفوق ماء بليغا في الطهارة وما قيل إنه ما يكون طاهرا في نفسه ومطهرا لغيره فهو شرح لبلاغته في الطهارة كما ينبئ عنه قوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم فإن الطهور في العربية إما صفة كما تقول ماء طهورا واسم كما في قوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المؤمن وقد جاء بمعنى الطهارة كما في قولك تطهرت طهورا حسنا كقولك وضوءا حسنا ومنه قوله تعالى صلى الله عليه وسلم لا صلاة إلا بطهور ووصف الماء به إشعار بتمام النعمة فيه وتتميم للنعمة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهورها فبواطنهم أحق بذلك وأولى «لنحيي به» أي بما أنزلنا من الماء الطهور «بلدة ميتا» بإنبات النبات والتذكير لأن البلدة بمعنى البلد ولأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجرى مجرى الجامد والمراد به القطعة من الأرض عامرة كانت أو غامرة «ونسقيه» أي ذلك الماء الطهور عند جريانه في الأودية أو اجتماعه في الحياض والمنافع أو الآبار «مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا» أي أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا ولذلك نكر الأنعام والأناسى وتخصيصهم بالذكر لأن أهل القرى والأمصار يقيمون بقرب الأنهار والمبالغ فيهم وبما لهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء وسائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق الآيات الكريمة كما هو للدلالة على عظم القدرة فهو لتعداد أنواع النعمة والأنعام حيث كانت قنية للإنسان وعامة منافعهم ومعايشهم منوطة بها قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها وتعيشها وقرئ نسقيه وأسقى وسقى لغتان وقيل أسقاه جعل له سقيا وأناسي جمع أنسى أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت نونه ياء وقرئ أناسي بالتخفيف بحذف ياء أفاعيل كأناعم في أناعيم «ولقد صرفناه» أي وبالله لقد كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر لما مر من الغايات الجميلة في القرآن وغيره من الكتب السماوية «بينهم» أي بين الناس من المتقدمين والمتأخرين «ليذكروا» ليتفكروا ويعرفوا بذلك كمال قدرته تعالى وواسع رحمته في ذلك ويقوموا بشكر نعمته حق قيام وقيل الضمير للمطر وتصريفه بينهم إنزاله في بعض البلاد دون غيرها أو في بعض الأوقات دون بعض أو جعله تارة وابلا وأخرى طلا وحينا ديمه ووقتا رهمة والأول هو الأظهر «فأبى أكثر الناس» ممن سلف وخلف «إلا كفورا» أي لم يفعل إلا كفران النعمة وقلة الاكتراث لها أو وإلا جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكر وصنع الله تعالى ورحمته ومن لا يرى الأمطار إلا من الأنواء فهو كافر بخلاف من يرى أن الكل يخلق الله تعالى
224

والأنواء أمارات لجعله تعالى «ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا» نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن لم نشأ ذلك فلم نفعله بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى ليكون للعالمين نذيرا إجلالا لك وتعظيما وتفضيلا لك على سائر الرسل «فلا تطع الكافرين» أي فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد معهم كأنه نهى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن المداراة معهم والتلطف في الدعوة لما أنه صلى الله عليه وسلم كان يود أن يدخلوا في الإسلام ويجتهد في ذلك بتأليف قلوبهم أشد الإجتهاد «وجاهدهم به» أي بالقرآن بتلاوة ما في تضاعيفه من القوارع والزواجر والمواعظ وتذكير أحوال الأمم المكذبة «جهادا كبيرا» فإن دعوة كل العالمين على الوجه المذكور جهاد كبير لا يقادر قدره كما وكيفا وقيل الضمير المجرور لترك الطاعة المفهوم من النهى عن الطاعة وأنت خبير بأن مجرد ترك الطاعة يتحقق بلا دعوة أصلا وليس فيه شائبة الجهاد فضلان عن الجهاد الكبير اللهم إلا أن تجعل الباء للملابسة ليكون المعنى وجاهدهم بما ذكر من أحكام القرآن الكريم ملابسا بترك طاعتهم كأنه قيل فجاهدهم بالشدة والعنف لا بالملاءمة والمداراة كما في قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم وقد جعل الضمير لما دل عليه قوله تعالى ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا من كونه صلى الله عليه وسلم نذير كافة القرى لأنه لو بعث في كل قرية نذير لوجب على كل نذير مجاهدة قريته فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المجاهدات كلها فكبر من أجل ذلك جهاده وعظم فقيل له صلى الله عليه وسلم وجاهدهم بسبب كونك نذير كافة القرى جهادا كبيرا جامعا لكل مجاهدة وأنت خبير بأن بيان سبب كبر المجاهدة بحسب الكمية ليس فيه مزيد فإنه بين بنفسه وإنما اللائق بالمقام بيان سبب كبرها وعظمها في الكيفية «وهو الذي مرج البحرين» أي خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها «هذا عذب فرات» قامع للعطش لغاية عذوبته «وهذا ملح أجاج» بليغ الملوحة وقرئ ملح فلعله تخفيف مالح كبرد في بارد «وجعل بينهما برزخا» حاجزا غير مرئى من قدرته كما في قوله تعالى بغير عمد وترونها «وحجرا محجورا» وتنافرا مفرطا كأن كلامهما يتعوذ من الآخر بتلك المقالة وقيل حدا محدودا وذلك كدجلة تدخل البحر وتشقه وتجرى في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها وقيل المراد بالبحر العذب اله العظيم وبالمالح البحر الكبير وبالبرزخ ما بينهما من الأرض فيكون أثر القدرة في الفصل واختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة كل عنصر التضام والتلاصق والتشابه في الكيفية
225

«وهو الذي خلق من الماء بشرا» هو الماء الذي خمر به طينة آدم علية السلام أو جعله جزءا من مادة البشر ليجتمع ويسلس ويستعد لقبول الأشكال والهيئات بسهولة أو هو النطفة «فجعله نسبا وصهرا» أي قسمة قسمين ذوى نسب أي ذكورا ينتسب إليهم وذوات صهرا أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى فجعل منة الزوجين الذكر والأنثى «وكان ربك قديرا» مبالغا في القدرة حيث قدر على أن يخلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة وطباع متباعدة وجعله قسمين متقابلتين وربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا وأنثى «ويعبدون من دون الله» الذي شأنه ما ذكر «ما لا ينفعهم ولا يضرهم» أي ما ليس من شأنه النفع والضر أصلا وهو الأصنام أو كل ما يعبدون من دونه تعالى إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع والضر «وكان الكافر على ربه» الذي ذكرت آثار ربوبيته «ظهيرا» يظاهر الشيطان بالعداوة والشرك والمراد بالكافر الجنس أو أبو جهل وقيل هينا مهينا لا اعتداد به عنده تعالى من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله تعالى ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم «وما أرسلناك إلا مبشرا» للمؤمنين «ونذيرا» للكافرين «قل» لهم «ما أسألكم عليه» أي على تبليغ الرسالة الذي ينبئ عنه الإرسال من «أجر» من جهتكم «إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا» أي الأفعال من يريد أن يتقرب إليه تعالى ويطلب الزلفى عنده بالإيمان والطاعة حسبما أدعوهم إليهما فصور ذلك بصورة الأجر من حيث أنه مقصود الإتيان به واستثنى منه قلعا كليا لشائبة الطمع وإظهارا لغاية الشفقة عليهم حيث جعل ذلك مع كون نفعه عائدا إليهم عائدا إليه صلى الله عليه وسلم وقيل الاستثناء منقطع أي لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل «وتوكل على الحي الذي لا يموت» في الإستكفاء عن شرورهم والإغناء عن أجورهم فإنه الحقيق بأن يتوكل بأن عليه دون الأحياء الذين من شأنهم الموت فإنهم إذا ماتوا أضاع من توكل عليهم «وسبح بحمده» ونزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بنعوت الكمال طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه «وكفى به بذنوب عباده» ما ظهر منها وما بطن «خبيرا» أي مطلعا عليها بحيث لا يخفى عليه شيء منها فيجزيهم جزاء وافيا «الذي خلق السماوات
226

والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش» قد سلف تفسيره ومحل الموصول الجر على أنه صفة أخرى للحى وصف بالصفة الفعلية بعد وصفه بالأبدية التي هي من الصفات الذاتية والإشارة إلى اتصافه بالعلم الشامل لتقرير وجوب التوكل عليه تعالى وتأكيده فإن من أنشأ هذه الأجرام العظام على هذا النمط الفائق والنسق الرائق بتدبير متين وترتيب رصين في أوقات معينة مع كمال قدرته على إبداعها دفعة لحكم جليلة وغايات جميلة لا تقف على تفاصيلها العقول أحق من يتوكل عليه وأولى من يفوض الأمر إليه «الرحمن» مرفوع على المدح أي هو الرحمن وهو في الحقيقة وصف آخر للحي كما قرىء بالجر مفيد لزيادة تأكيد ما ذكر من وجوب التوكل عليه تعالى وإن لم يتبعه في الإعراب لما تقرر من ان المنصوب والمرفوع مدحا وان خرجا عن التبيعة لما قبلهما صورة حيث لم يتبعاه في الأعراب وبذلك سميا قطعا لكنهما تابعان له حقيقة ألا يرى كيف التزموا حذف الفعل والمبتدأ في النصب والرفع وما لتصوير كل منهما بصورة متعلق من متعلقات ما قبله وتنبيها على شدة الاتصال بينهما وقد مر تمام التحقيق في تفسير قوله عز وجل الذين يؤمنون بالغيب الآية وقيل الموصول مبتدأ والرحمن خبره وقيل الرحمن بدل من المستكن في استوى «فاسأل به» أي بتفاصيل ما ذكر إجمالا من الخلق واستواء لا بنفسهما فقط إذ بعد بيانهما لا يبقى إلى السؤال حاجة ولا في تعديته بالباء فائدة فإنها مبنية على تضمينه معنى الاعتناء المستدعي لكون المسؤول أمرأ خطيرا مهتما بشأنه غير حاصل للسائل وظاهر أن نفس الخلق والاستواء بعد الذكر ليس كذلك وما قيل من أن التقدير إن شككت فيه فأسأل به خبيرا على أن الخطاب له صلى الله عليه وسلم والمراد غيره بمعزل من السداد بل التقدير إن شئت تحقيق ما ذكر أو تفصيل ما ذكر فاسأل معنيا به «خبيرا» عظيم الشأن محيطا بظواهر الأمور وبواطنها وهو الله سبحانه يطلعك على جلية الأمر وقيل فاسأل به من جده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه فلا حاجة حينئذ إلى ما ذكرنا وقيل الضمير للرحمن والمعنى إن أنكروا إطلاقه على الله تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يردافه في كتبهم وعلى هذا يجوز أن يكون الرحمن مبتدأ وما بعده خبرا وقرئ فسل «وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن» قالوا لما أنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى ولذلك قالوا «أنسجد لما تأمرنا» أي للذي تأمرنا بسجوده أو لأمرك إيانا من غير أن نعرف أن المسجود له ماذا وقيل لأنه كان معربا لم يسمعوه وقرئ يأمرنا بياء الغيبة على أنه قول بعضهم لبعض «وزادهم» أي الأمر بسجود الرحمن «نفورا» عن الإيمان «تبارك الذي جعل في السماء بروجا» هي البروج الإثنا عشر سميت به وهي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة لسكانها واشتقاقه من البرج لظهوره «وجعل فيها سراجا» هي الشمس لقوله تعالى وجعل الشمس سراجا وقرئ سرجا وهي
227

الشمس والكواكب الكبار «وقمرا منيرا» مضيئا بالليل وقرئ قمرا أي ذا قمر وهي مع قمراء ولما أن الليالي بالقمر تكون قمرا ضيف إليها ثم حذف وأجرى حكمه على المضاف إليه القائم مقامه كما في قول حسان رضي الله عنه (بردى يضيق بالرحيق السلسل) أي ماء بردى ويحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب «وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة» أي ذوى خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه أو بأن يعتقبا كقوله تعالى واختلاف الليل والنهار وهي اسم للحالة من خلف كالركبة والجلسة من ركب وجلس «لمن أراد أن يذكر» أي يتذكر آلاء الله عز وجل ويتفكر في بدائع صنعه فيعلم أنه لا بد لها من صانع حكيم واجب الذات رحيم للعباد «أو أراد شكورا» أي أن يشكر الله تعالى على ما فيهما من النعم أو ليكونا وقتين للذاكرين من فاته ورده في أحدهما تداركه في الآخر وقرى أن يذكر من ذكر بمعنى تذكر «وعباد الرحمن» كلام مستأنف مسوق لبيان أو صاف خلص عباد الرحمن وأحوالهم الدنيوية والأخروية بعد بيان حال النافرين عن عبادته والسجود له والإضافة للتشريف وهو مبتدأ خبره ما بعده من الموصول وما عطف عليه وقيل هو ما في آخر السورة الكريمة من الجملة المصدرة الإشارة وقرئ عباد الرحمن أي عباده المقبولون «الذين يمشون على الأرض هونا» أي بسكينة وتواضع وهونا مصدر وصف به ونصبه إما على أنه حال من فاعل يمشون أو على أنه نعت لمصدره أي يمشون هينين ليني الجانب من غير فظاظة أو مشيا هينا وقوله تعالى «وإذا خاطبهم الجاهلون» أي السفهاء كما في قول من قال ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلية
* «قالوا سلاما» بيان لحالهم في المعاملة مع غيرهم إثر بيان حالهم في أنفسهم أي إذا خاطبوهم بالسوء قالوا تسليما منكم ومتاركة لا خير بيننا وبينكم شر وقيل سدادا من القول يسلمون به من الأذية والإثم وليس فيه تعرض لمعاملتهم مع الكفرة حتى يقال نسختها آية القتال كما نقل عن أبي العالية وقوله تعالى «والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما» بيان لحالهم في معاملتهم مع ربهم أي يكونون ساجدين لربهم وقائمين أي يحبون الليل كلا أو بعضا بالصلاة وقيل من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما وقيل هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء وتقديم السجود على القيام لرعاية الفواصل «والذين يقولون» أي في أعقاب صلواتهم أو في عامة أو قاتهم «ربنا اصرف عنا عذاب جهنم
228

إن عذابها كان غراما» أي شرا دائما وهلاكا لازما وفيه مزيد مدح لهم ببيان أنهم مع حسن معاملتهم مع الخلق واجتهادهم في عبادة الحق يخافون العذاب ويبتهلون إلى الله تعالى في صرفه عنهم مختلفين بأعمالهم كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون «إنها ساءت مستقرا ومقاما» تعليل لإستدعائهم المذكور بسوء حالها في نفسها إثر تعليله بسوء حال عذابها وقد جوز أن يكون تعليلا للأولى وليس بذاك وساءت في حكم بئست وفيها ضمير مبهم يفسره مستقرا والمخصوص بالذم محذوف معناه ساءت مستقرا ومقاما هي وهذا الضمير هو الذي ربط الجملة بأسم إن وجعلها خبرا لها قيل ويجوز أن يكون ساءت بمعنى أحزنت وفيها ضميرا اسم إن ومستقرا حال أو تمييز وهو بعيد خال عما في الأول من المبالغة في بيان سوء حالها وكذا جعل التعليلين من جهة تعالى «والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا» لم يجاوزوا حد الكرم «ولم يقتروا» ولم يضيقوا تضييق الشحيح وقيل الإسراف هو الاتفاق في المعاصي والقتر منع الواجبات والقرب وقرئ بكسر التاء مع فتح الياء وبكسرها مخففة ومشدة مع ضم الياء «وكان بين ذلك» أي بين ما ذكر من الإسراف والقتر «قواما» وسطا وعدلا سمى به لإستقامة الطرفين كما سمى به سواء لاستوائهما وقرئ بالكسر وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص وهو خبر ثان أو حال مؤكدة أو هو الخبر وبين ذلك لغو وقد جوز أن يكون اسم كان على أنه مبنى لإضافته إلى غير متمكن ولا يخفى ضعفه فإنه بمعنى القوام فيكون كالإخبار بشيء عن نفسه «والذين لا يدعون مع الله إلها آخر» شروع في بيان اجتنابهم عن المعاصي بعد بيان إتيانهم بالطاعات وذكر نفى الإسراف والقتر لتحقيق معنى الإقتصاد والتصريح بوصفهم بنفي الإشراك مع ظهور إيمانهم لإظهار كمال الاعتناء بالتوحيد والإخلاص وتهويل أمر القتل والزنا بنظمهما في سلكه وللتعريض بما كان عليه الكفرة من قريش وغيرهم أي لا يعبدون معه تعالى إلها آخر «ولا يقتلون النفس التي حرم الله» أي حرمها بمعنى حرم قتلها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه مبالغة في التحريم «إلا بالحق» أي لا يقتلونها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق المزيل لحرمتها وعصمتها أو لا يقتلون قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق أو لا يقتلونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم ملتبسين بالحق «ولا يزنون» أي الذين لا يفعلون شيئا من هذه العظائم القبيحة التي جمعهن الكفرة حيث كانوا مع إشراكهم به سبحانه مداومين على قتل النفوس المحرمة التي من جملتها الموءودة مكبين على الزنا لا يرعون عنه أصلا «ومن يفعل ذلك» أي ما ذكر كما هو دأب الكفرة
229

المذكورين «يلق» في الآخرة وقرئ يلق بالتشديد مجزوما «أثاما» وهو جزاء الإثم كالوبال والنكال وزنا ومعنى وقيل هو الإثم أي يلق جزاء الإثم والتنوين على التقديرين للتفخيم وقرئ أياما أي شدائد يقال يوم ذو أيام لليوم الصعب «يضاعف له العذاب يوم القيامة» بدل من يلق لاتحادهما في المعنى كقوله
[متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا * تجد حطبا جزلا ونارا تأججا وقرئ]
بالرفع على الاستئناف أو على الحالية وكذا ما عطف عليه وقرئ يضعف ونضعف له العذاب بالنون ونصب العذاب «ويخلد فيه» أي في ذلك العذاب المضاعف «مهانا» ذليلا مستحقرا جامعا للعذاب الجسماني والروحاني وقرئ يخلد ويخلد مبنيا للمفعول من الإخلاد والتخليد وقرئ تخلد بالتاء على الالتفات المنبىء عن شدة الغضب ومضاعفة العذاب لانضمام المعاصي إلى الكفر كما يفصح عنه قوله تعالى «إلا من تاب وآمن وعمل صالحا» وذكر الموصوف مع جريان الصالح والصالحات مجرى الاسم للاعتناء والتنصيص على مغايرته للأعمال السابقة «فأولئك» إشارة إلى الموصول والجمع باعتبار معناه كما أن الإفراد في الأفعال الثلاثة باعتبار لفظه أي أولئك الموصوفون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح «يبدل الله سيئاتهم حسنات» بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة ويثبت مكانها لواحق طاعتهم أو يبدل بملكة المعصية ودواعيها في النفس ملكة الطاعة بأن يزيل الأولى ويأتي بالثانية وقيل بأن يوفقه لأضداد ما سلف منه أو أن يثبت له بدل كل عقاب ثوابا وقيل يبدلهم بالشرك إيمانا وبقتل المسلمين قتل المشركين وبالزنا عفة وإحصانا «وكان الله غفورا رحيما» اعتراض تذييلى مقرر لما قبله من المحو والإثبات «ومن تاب» أي عن المعاصي بتركها بالكلية والندم عليها «وعمل صالحا» يتلافى به ما فرط منه أو خرج عن المعاصي ودخل في الطاعات «فإنه» بما فعل «يتوب إلى الله» أي يرجع إليه تعالى «متابا» أي متابا عظيم الشأن مرضيا عنده تعالى ما حيا للعقاب محصلا للثواب أو يتوب متابا إلى الله تعالى الذي يحب التوابين ويحسن إليهم أو فإنه يرجع إليه تعالى أو إلى ثوابه مرجعا حسنا وهذا تعميم بعد تخصيص «والذين لا يشهدون الزور» لا يقيمون الشهادة الكاذبة أو لا يحضرون محاضر الكذب فإن مشاهدة الباطل مشاركة فيه «وإذا مروا» على طريق الاتفاق «باللغو» أي ما يجب أن يلغى ويطرح مما لا خير فيه «مروا كراما» معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما يستهجن التصريح به
230

«والذين إذا ذكروا بآيات ربهم» المنطوية على المواعظ والأحكام «لم يخروا عليها صما وعميانا» أي أكبوا عليها سامعين بآذان واعية مجتلين لها بعيون راعية وإنما عبر عن ذلك بنفي الضد تعريضا بما يفعله الكفرة والمنافقون وقيل الضمير للمعاصي المدلول عليها باللغو «والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين» بتوفيقهم للطاعة وحيازة الفضائل فان المؤمن إذا ساعده أهلة في طاعة الله عز وجل وشاركوه فيها يسر بهم قلبه وتقر بهم عينة لما يشاهده من مشايعتهم له في مناهج الدين وتوقع لحوقهم به في الجنة حسبما وعد بقوله تعالي ألحقنا بهم ذريتهم ومن ابتدائية أو بيانية وقرئ وذريتا وتنكير الأعين لإرادة تنكير القرة تعظيما وتقليلها لان المراد أعين
المتقين ولا ريب في قلتها نظرا إلي غيرها «واجعلنا للمتقين إماما» أي أجعلنا بحيث يقتدون بنا في إقامة مواسم الدين بإفاضة العلم والتوفيق للعمل وتوحيده للدلالة على الجنس وعدم الإلباس كقوله تعالى ثم يخرجكم طفلا أو لأن المراد واجعل كل واحد منا إماما أو لأنهم كنفس واحدة لاتحاد طريقتهم واتفاق كلمتهم كذا قالوا وأنت خبير بأن مدار الكل صدور هذا الدعاء إما عن الكل بطريق المعية وأنه محال لاستحالة اجتماعهم في عصر واحد فما ظنك بإجتماعهم في مجلس واحد واتفاقهم على كلمة واحدة وإما عن كل واحد منهم بطريق تشريك غيره في استدعاء الإمامة وأنه ليس بثابت جزما بل الظاهر صوره عنهم بطريق الانفراد وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء واجعلني للمتقين إماما خلا أنه حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير للقصد إلى الإيجاز على طريقة قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وأتقى إماما على حاله وقيل الإمام جمع آم بمعنى قاصد كصيام جمع صائم ومعناه قاصدين لهم مقتدين بهم وإعادة الموصول في المواقع السبعة مع كفاية ذكر الصلات بطريق العطف على صلة الموصول الأول للإبذان بأن كل واحد مما ذكر في حيز صلة الموصولات المذكورة وصف جليل على حياله له شأن خطير حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء من ذلك تتمة لغيره وتوسيط العاطف بين الموصولات لتنزيل الاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي كما في قوله
[إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتائب في المزدحم]
«أولئك» إشارة إلى المتصفين بما فصل في حين صلة الموصولات الثمانية من حيث اتصافهم به وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك أكمل تميز منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ خبرة قوله تعالى «يجزون الغرفة» والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبينة لما لهم في الآخرة من السعادة الأبدية إثر بيان ما لهم في الدنيا من الأعمال السنية والغرفة الدرجة العالية من المنازل وكل بناء
231

مرتفع عال أي يثابون أعلى منازل الجنة وهي اسم جنس أريد به الجمع كقوله تعالى وهم في الغرفات آمنون وقيل هي اسم من أسماء الجنة «بما صبروا» أي بصبرهم على المشاق من مضض الطاعات ورفض الشهوات وتحمل المجاهدات «ويلقون فيها» من جهة الملائكة «تحية وسلاما» أي يحيهم الملائكة ويدعون لهم بطول الحياة والسلامة من الآفات أو يعطون النبقية والتخليد مع السلامة من كل آفة وقيل يحيى بعضهم بعضا ويسلم عليه وقرئ يلقون من لقي «خالدين فيها» لا يموتون ولا يخرجون «حسنت مستقرا ومقاما» الكلام فيه كالذي مر في مقابلة «قل» أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يبين للناس أن الفائزون بتلك النعماء الجليلة التي يتنافس فيها المتنافسون إنما نالوها بما عدد من محاسنهم ولولاها لم يعتد بهم أصلا أي قل لهم كافة مشافها لهم بما صدر عن جنسهم من خير وشر «ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم» أي أي عبء يعبأ بكم وأي اعتداد يعتد بكم لولا عبادتكم له تعالى حسبما مر تفصيله فإن ما خلق له الإنسان معرفته تعالى وطاعته وإلا فهو وسائر البهائم سواء وقال الزجاج معناه أي وزن يكون لكم عنده وقيل معناه ما يصنع بكم ربي لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام وقيل ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ويجوز أن تكون ما نافية وقوله تعالى «فقد كذبتم» بيان لحال الكفرة من المخاطبين كما أن ما قبله بيان لحال المؤمنين منهم أي فقد كذبتم بما أخبرتكم به وخالفتموه أيها الكفرة ولم تعملوا عمل أولئك المذكورين وقيل فقد قصرتم في العبادة من قولهم كذب القتال إذا لم يبالغ فيه وقرئ فقد كذب الكافرون أي الكافرون منكم لعموم الخطاب للفريقين وفائدته الإيذان بأن مناط فوز أحدهما وخسران الآخر مع الاتحاد الجنسي المصحح للاشتراك في الفوز ليس إلا اختلافهما في الأعمال «فسوف يكون لزاما» أي يكون جزاء التكذيب أو أثره لازما يحيق بكم لا محالة حتى يكبكم في النار كما تعرب عنه الفاء الدالة على لزوم ما بعدها لما قبلها وإنما أضمر من غير ذكر للإيذان بغاية ظهوره وتهويل أمره وللتنبيه على أنه مما لا يكتنهه البيان وقيل يكون العذاب لزاما وعن مجاهد رحمه الله هو القتل يوم بدر وأنه لوزم بين القتلى وقرئ لزاما بالفتح بمعنى اللزوم كالثبات والثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الفرقان لقي الله تعالى وهو مؤمن بأن الساعة آنية لا ريب فيها وأدخل الجنة بغير نصب
232

سورة الشعراء مكية إلا الآيات 197 ومن آية 224 إلى آخر السورة فمدنية وآياتها 227
«بسم الله الرحمن الرحيم» «طسم» بتفخيم الألف وبإمالتها وإظهار النون وبإدغامها في الميم وهو إما مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة البقرة فلا محل له من الإعراب وإما اسم للسورة كما عليه الإطباق الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وهو أظهر من الرفع على الابتداء وقد مر وجهه في مطلع سورة يونس عليه السلام أو النصب بتقدير فعل لائق بالمقام نحو اذكر أو اقرأ وتلك في قوله تعالى «تلك آيات الكتاب المبين» إشارة إلى السورة سواء كان طسم مسرودا على نمط التعديد أو اسما للسورة حسبما مر تحقيقه هناك وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلة المشار إليه في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره ما بعده وعلى تقدير كون طسم مبتدأ فهو مبدأ ثان أو بدل من الأول والمراد بالكتاب القرآن وبالمبين الظاهر إعجازه على أنه من أبان بمعنى بان أو المبين للأحكام الشرعية وما يتعلق بها أو الفاصل بين الحق والباطل والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل والمراد ببيان كونها بعضا منه وصفها بما اشتهر به الكل من النعوت الفاضلة «لعلك باخع نفسك» أي قاتل وأصل البخع أن يبلغ بالذبح النخاع وهو عرق مستبطن الفقار وذلك أقصى حد الذبح وقرئ باخع نفسك على الإضافة ولعل للإشفاق أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة على ما فاتك من إسلام قومك «ألا يكونوا مؤمنين» أي لعدم إيمانهم بذلك الكتاب المبين أو خيفة أن لا يؤمنوا به وقوله تعالى «إن نشأ» الخ استئناف مسوق لتعليل ما يفهم من الكلام من النهى عن التحسر المذكور ببيان أن إيمانهم ليس مما تعلقت به مشيئة الله تعالى حتما فلا وجه للطمع فيه والتألم من فواته ومفعول المشيئة محذوف لكونه مضمون الجزاء أعني قوله تعالى «ننزل عليهم من السماء آية» أي ملجئة لهم إلى الإيمان قاسرة عليه وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم
233

والتشويق إلى المؤخر «فظلت أعناقهم لها خاضعين» أي منقادين وأصله فظلوا لها خاضعين فأقتحمت الأعناق لزيادة التقرير ببيان موضع الخضوع وترك الخبر على حاله وقيل لما وصفت الأعناق بصفات العقلاء أجريت مجراهم في الصيغة أيضا كما في قوله تعالى رأيتهم لي ساجدين وقيل أريد بها الرؤساء والجماعات من قولهم جاءنا
عنق من الناس أي فوج منهم وقرئ خاضعة وقوله تعالى فظلت عطف على تنزل باعتبار محله وقوله تعالى «وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين» بيان لشدة شكيمتهم وعدم إرعوائهم عما كانوا عليه من الكفر والتكذيب بغير ما ذكر من الآية الملجئة لصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلامهم وقطع رجائه عنه ومن الأولى مزيدة لتأكيد العموم والثانية لإبتداء الغاية مجازا متعلقة بيأتيهم أو بمحذوف هو صفة الذكر وأياما كان ففيه دلالة على فضله وشرفه وشناعة ما فعلوا به والتعرض لعنوان الرحمة لتغليظ شناعتهم وتهويل جنايتهم فإن الإعراض عما يأتيهم من جنابة عز وجل على الإطلاق شنيع قبيح وعما يأتيهم بموجب رحمته تعالى المحض منفعتهم أشنع وأقبح أي ما يأتيهم من موعظة من المواعظ القرآنية أومن طائفة نازلة من القرآن تذكرهم أكمل تذكير وتنبههم عن الغفلة أتم تنبيه كأنها نفس الذكر من جهته تعالى بمقتضى رحمته الواسعة مجدد تنزيله حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة إلا جددوا إعراضا عنه على وجه التكذيب والاستهزاء وإصرار أعلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال محله النصب على الحالية من مفعول يأتيهم بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور أي ما يأتيهم من ذكر في حال من الأحوال إلا حال كونهم معرضين عنه «فقد كذبوا» أي كذبوا بالذكر الذي يأتيهم تكذيبا صريحا مقارنا للإستهزاء به ولم يكتفوا بالإعراض عنه حيث جعلوه تارة سحرا وأخرى أساطير وأخرى شعرا والفاء في قوله تعالى «فسيأتيهم» لترتيب ما بعدها على ما قبلها والسين لتأكيد مضمون الجملة وتقريره أي فسيأتيهم البتة من غير تخلف أصلا «أنباء ما كانوا به يستهزؤون» عدل عما يقتضيه سائر ما سلف من الإعراض والتكذيب للإيذان بأنهما كانا مقارنين للإستهزاء كما أشير إليه حسبما وقع في قوله تعالى وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن وأنباؤه ما سيحيق بهم من العقوبات العاجلة والآجلة عبر عنها بذاك إما لكونها مما نبأ أبها القرآن الكريم وإما لأنهم بمشاهدتها يقفون على حقيقة حال القرآن كما يقفون على الأحوال الخافية عنهم بإستماع الأنباء وفيه تهويل له لأن النبأ لا يطلق إلا على خبر خطير له وقع عظيم أي فسيأتيهم لا محالة مصداق ما كانوا يستهزءون به قبل من غير أن يتدبروا في أحواله ويقفوا عليها «أو لم يروا» الهمزة للإنكار التوبيخي
234

والواو للعطف على مقدار يقتضيه المقام أي أفعلوا ما فعلوا من الإعراض عن الآيات والتكذيب والاستهزاء بها ولم ينظروا «إلى الأرض» أي عجائبها الزاجرة عما فعلوا الداعية إلى الإقبال على ما أعرضوا عنه وإلى الإيمان به وقوله تعالى «كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم» استئناف مبين لما في الأرض من الآيات الزاجرة عن الكفر الداعية إلى الإيمان وكم خبرية منصوبة بما بعدها على المفعولية والجمع بينها وبين كل لإفادة الإحاطة والكثرة معا ومن كل زوج أي صنف تمييز والكريم من كل شيء مرضية ومحمودة أي كثيرا من كل صنف مرضى كثير المنافع أنبتنا فيها وتخصيص إنباته بالذكر دون ما عداه من الأصناف لاختصاصه بالدلالة على القدرة والنعمة معا ويحتمل أن يراد به جميع أصناف النبات نافعها وضارها ويكون وصف الكل بالكرم للتنبيه على أنه تعالى ما أنبت شيئا إلا وفيه حكمة فائدة كما نطق به قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا فإن الحكيم لا يكاد يفعل فعلا إلا وفيه حكمة بالغة وإن غفل عنها الغافلون ولم يتوصل إلى معرفة كنهها العاقلون «إن في ذلك» إشارة إلى مصدر أنبتنا أو إلى كل واحد من تلك الأزواج وأيا ما كان فما فيه من معنى البعد للإبذان ببعد منزلته في الفضل «الآية» أي آية عظيمة دالة على كمال قدرة منبتها وغاية وفور علمه وحكمته ونهاية سعة رحمته موجبة للإيمان وازعة عن الكفر «وما كان أكثرهم» أي أكثر قومه صلى الله عليه وسلم «مؤمنين» قيل أي في علم الله تعالى وقضائه حيث علم أزلا أنهم سيصرفون فيما لا يزال اختيارهم الذي عليه يدور أمر التكليف إلى جانب الشر ولا يتدبرون في هذه الآيات العظام وقال سيبويه كان صلة والمعنى وما أكثرهم مؤمنين وهو الأنسب بمقام بيان عتوهم وغلوهم في المكابرة والعناد مع تعاضد موجبات الإيمان من جهته تعالى وأما نسبة كفرهم إلى علمه تعالى وقضائه فربما يتوهم منها كونهم معذورين فيه بحسب الظاهر لأن ما أشير إليه من التحقيق مما خفى على مهرة العلماء المتقنين كأنه قيل إن في ذلك لآية باهرة موجبة للإيمان وما أكثرهم مؤمنين مع ذلك لغاية تماديهم في الكفر والضلالة وانهماكهم في المعنى والجهالة ونسبة عدم الإيمان إلى أكثرهم لأن منهم من سيؤمن «وإن ربك لهو العزيز» الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من هؤلاء «الرحيم» المبالغ الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يؤاخذهم بغته بما اجترؤا عليه من العظائم الموجبة لفنون العقوبات وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والعدة الخفية بالانتقام من الكفرة ما لا يخفى «وإذ نادى ربك موسى» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله من إعراضهم عن كل ما يأتيهم من الآيات التنزيلية وتكذيبهم بها إثر بيان إعراضهم عما يشاهدونه من الآيات التكوينية وإذ منصوب
235

على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي واذكر لأولئك المعرضين المكذبين وقت ندائه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام وذكرهم بما جرى على قوم فرعون بسبب تكذيبهم إياه زجرا لهم عما هم عليه من التكذيب وتحذيرا من أن يحيق بهم مثل ما حاق بأضرابهم المكذبين الظالمين حتى يتضح لك أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات لكن لا بقياس حال هؤلاء بحال أولئك فقط بل بمشاهدة إصرارهم على ما هم عليه بعد سماع الوحي الناطق بقصتهم وعدم اتعاظهم بذلك كما يلوح به تكرير قوله تعالى إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين عقيب كل قصة وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره مرارا «أن ائت» بمعنى أي ائت على أن أن مفسرة أو بأن ائت على أنها مصدرية حذف منها الجار «القوم الظالمين» أي بالكفر والمعاصي واستبعاد بني إسرائيل وذبح أبنائهم وليس هذا مطلع ما رود في حيز النداء وإنما هو ما فصل في سورة طه من قوله تعالى إني أنا ربك إلى قوله لنريك من آياتنا الكبرى وإيراد ما جرى في قصة واحدة من المقالات بعبارات شتى وأساليب مختلفة قد مر تحقيقه في أوائل سورة الأعراف عند قوله تعالى أنظرني «قوم فرعون» بدل من الأول أو عطف بيان له جئ به للإيذان بأنهم علم في الظلم كأن معنى القوم الظالمين وترجمته قوم فرعون والاقتصار على ذكر قومه للإيذان بشهرة أن نفسه أول داخل في الحكم «ألا يتقون» استئناف جئ به إثر إرساله عليه الصلاة والسلام إليهم للإنذار تعجيبا من غلوهم في الظلم وإفراطهم في العدوان وقرئ بتاء الخطاب على طريقة الالتفات المنبىء عن زيادة الغضب عليهم
كأن ذكر ظلمهم أدى إلى مشافهتهم بذلك وهم وإن كانوا حينئذ غيبا لكنهم قد أجروا مجرى الحاضرين في كلام المرسل إليهم من حيث إنه مبلغه إليهم وإسماعه مبتدأ إسماعهم مع ما فيه من مزيد الحث على التقوى لمن تدبر وتأمل وقرئ بكسر النون اكتفاء به عن باء المتكلم وقد جوز أن يكون بمعنى ألا يا ناس اتقون نحو أن لا يسجدوا «قال» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية ما مضى كأنه قيل فماذا قال موسى عليه السلام فقيل قال متضرعا إلى الله عز وجل «رب إني أخاف أن يكذبون» من أول الأمر «ويضيق صدري ولا ينطلق لساني» معطوفا على أخاف «فأرسل» أي جبريل عليه السلام «إلى هارون» ليكون معنى وأتعاضد به في تبليغ الرسالة رتب عليه الصلاة والسلام من حبسه اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطبق لأنها إذا اجتمعت تمس الحاجة إلى معين يقوى قلبه وينوب منابه إذا اعتراء حبسه حتى
236

لا تختل دعوته ولا تنقطع حجته وليس هذا من التعلل والتوقف في تلقي الأمر في شيء وإنما هو استدعاء لما يعينه على الامتثال به وتمهيد عذر فيه وقرئ ويضيق ولا ينطق بالنصب عطفا على يكذبون فيكونان من جملة ما يخاف منه «ولهم علي ذنب» أي تبعة ذنب فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو سمى باسمه والمراد به قتل القبطي وتسميته ذنبا بحسب زعمهم كما ينبئ عنه قوله لهم وهذا إشارة إلى قصة مبسوطة في غير موضع «فأخاف» أي أن أتيتهم وحدى «أن يقتلون» بمقابلته قبل أداء الرسالة كما ينبغي وليس هذا أيضا تعللا وإنما هو استدفاع المبلية المتوقعة قبل وقوعها وقوله تعالى «قال كلا فاذهبا بآياتنا» حكاية لإجابته تعالى إلى الطلبتين الدفع المفهوم من الردع عن الخوف وضم أخيه المفهوم من توجيه الخطاب إليهما بطريق التغليب فإنه معطوف على مضمر ينبئ عنه الردع كأنه قيل ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت ومن استدعيته وفي قوله بآياتنا رمز إلى أنها تدفع ما يخافه وقوله تعالى «إنا معكم مستمعون» تعليل للردع عن الخوف ومزيد تسلية لهما بضمان كمال الحفظ والنصرة كقوله تعالى إنني معكما أسمع وأرى حيث كان الموعد بمحضر من فرعون اعتبر ههنا في المعية وقيل أجريا مجرى الجماعة ويأباه ما قبله وما بعده من ضمير التثنية أي سامعون ما يجري بينكما وبينه فنظهر كما عليه مثل حالة تعالى بحال ذي شوكة قد حضر مجادلة قوم يستمع ما يجري بينهم ليمد أولياءه ويظهرهم على أعدائهم مبالغة في الوعد بالإعانة أو استعير الاستماع الذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الذي هو العلم بالحروف والأصوات وهو خبر ثان أو خبر وحده ومعكم ظرف لغو والفاء في قوله تعالى «فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين» لترتيب ما بعدها على ما قبلها من الوعد الكريم وليس هذا مجرد تأكيد للأمر بالذهاب لأن معناه الوصول إلى المأتى لا مجرد التوجه إليه كالذهاب وإفراد الرسول إما باعتبار رسالة كل منهما أو لاتحاد مطلبهما أو لأنه مصدر وصف به وأن في قوله تعالى «أن أرسل معنا بني إسرائيل» مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول ومعنى إرسالهم تخليتهم وشأنهم ليذهبوا معهما إلى الشأم «قال» أي فرعون لموسى عليه السلام بعد ما أتياه وقالا له ما أمر به يروي أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهم سنة حتى قال البواب إن ههنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين فقال أئذن له لعلنا نضحك فأديا إليه الرسالة فعرف
237

موسى عليه السلام فقال عند ذلك «ألم نربك فينا» في حجرنا ومنازلنا «وليدا» أي طفلا عبر عنه بذلك لقرب عهده بالولادة «ولبثت فينا من عمرك سنين» قيل لبث فيهم ثلاثين سنة ثم خرج إلى مدين وأقام بها عشر سنين ثم عاد إليهم يدعوهم إلى الله عز وجل ثلاثين سنة ثم بقي بعد الغرق خمسين سنة وقيل وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة وفر منهم على إثر ذلك والله أعلم «وفعلت فعلتك التي فعلت» يعني قتل القبطي بعد ما عدد عليه نعمته من تربيته وتبليغه مبلغ الرجال وبخه بما جرى عليه من قتل خبازه وعظم ذلك وفظعه وقرئ فعلتك بكسر الفاء لأنها كانت نوعا من القتل «وأنت من الكافرين» أي بنعمتي حيث عمدت إلى قتل رجل من خواصي أو أنت حينئذ ممن تكفرهم الآن وقد افترى عليه عليه الصلاة والسلام أو جهل أمره عليه الصلاة والسلام حيث كان يعايشهم بالتقية وإلا فأين هو عليه الصلاة والسلام من مشاركتهم في الدين فالجملة حينئذ حال من إحدى التأمين ويجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه أنه من الكافرين بالهيته أو ممن يكفرون في دينهم حيث كانت لهم آلهة يعبدونها أو من الكافرين بالنعم المعتادين لغمطها ومن اعتاد ذلك لا يكون مثل هذه الجناية بدعا منه «قال» مجيبا له مصدقا له في القتل ومكذبا فيما نسبه إليه من الكفر «فعلتها إذا وأنا من الضالين» أي من الجاهلين وقد قرىء كذلك لا من الكافرين كما زعمت افتراء أي من الفاعلين فعل الجهلة والسفهاء أو من المخطئين لأنه لم يعتمد قتله بل أراد تأديبه أو الذاهبين عما يؤدي إليه الوكز أو الناسين كقوله تعالى «أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» ففررت منكم إلى ربي «لما خفتكم» أن تصيبوني بمضرة وتؤاخذوني بماء لا استحقه بجنابتي من العقاب «فوهب لي ربي حكما» أي حكمة أو النبوة «وجعلني من المرسلين» ردأ ولا بذلك ما وبخه به قدحا في نبوته ثم كر على ما عده عليه من النعمة ولم يصرح برده حيث كان صدقا غير قادح في دعواه بل نبه على أن ذلك كان في الحقيقة نقمة فقال «وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل» أي تلك التربية نعمة تمن بها على ظاهرا وهي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل وقصدك إياهم بذبح أبنائهم فإنه السبب في وقوعي عندك وحصولي في تربيتك وقيل إنه مقدر بهمزة الإنكار أي أو تلك نعمة تمنها على وهي أن عبدت بني إسرائيل ومحل أن عبدت الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من نعمة أو الجر بإضمار الباء أو النصب بحذفها وقيل تلك إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة وأن عبدت عطف بيان لها والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها على وتوحيد الخطاب في تمنها وجمعه فيما قبله لأن المنة منه خاصة والخوف والفرار منه ومن ملئه
238

«قال فرعون» لما سمع منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالة المتينة وشاهد تصلبه في أمره وعدم تأثره بما قدمه من الإبراق والإرعاد شرع في الاعتراض على دعواه عليه الصلاة والسلام فبدأ بالإستفسار عن المرسل فقال «وما رب العالمين» حكاية لما وقع في عباراته عليه الصلاة والسلام أي أي شيء رب العالمين الذي ادعيت أنك رسوله منكرا لأن يكون للعالمين رب سواه حسبما يعرب عنه قوله أنا ربكم الأعلى وقوله ما علمت لكم من إله غيري وينطق به وعيده عند تمام أجوبته عليه الصلاة والسلام «قال» موسى عليه السلام مجيبا له «رب السماوات والأرض وما بينهما» بتعيين ما أراه بالعالمين وتفصيله لزيادة التحقيق والتقرير وحسم مادة تزوير اللعين
وتشكيكه بحمل العالمين على ما تحت مملكته «إن كنتم موقنين» أي إن كنتم موقنين الأشياء محققين لها علمتم ذلك أو إن كنتم موقنين بشيء من الأشياء فهذا أولى بالإيقان لظهوره وإنارة دليله «قال» أي فرعون عند سماع جوابه عليه الصلاة والسلام خوفا من تأثيره في قلوب قومه وإذعانهم له «لمن حوله» من أشراف قومه قال ابن عباس رضي الله عنهما كانوا خمسائة عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة «ألا تستمعون» مرائيا لهم أن ما سمعوه من جوابه عليه الصلاة والسلام مع كونه مما لا يليق بأن يعتد به أمر حقيق بأن يتعجب منه كأنه قال ألا تستمعون ما يقوله فاستمعوه وتعجبوا منه حيث يدعى خلاف أمر محقق لا اشتباه فيه يريد به ربوبية نفسه «قال» عليه الصلاة والسلام تصريحا بما كان مندرجا تحت جوابية السابقين «ربكم ورب آبائكم الأولين» وحطا له من ادعاء الربوبية إلى مرتبة المربوبية «قال» أي فرعون لما واجهه موسى عليه السلام بما ذكر غاظه ذلك وخاف من تأثر قومه منه فأراهم أن ما قاله عليه الصلاة والسلام مما لا يصدر عن العقلاء صدا لهم عن قبوله فقال مؤكدا لمقالته الشنعاء بحر في التأكيد «إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون» ليفتنهم بذلك ويصرفهم عن قبول الحق وسماه رسولا بطريق الاستهزاء وأضافه إلى مخاطبيه ترفعا من أن يكون مرسلا إلى نفسه «قال» عليه الصلاة والسلام «رب المشرق والمغرب وما بينهما» قاله عليه الصلاة والسلام تكميلا لجوابه الأول وتفسيرا له
239

وتنبيها على جهلهم وعدم فهمهم لمعنى مقالته فإن بيان ربوبيته تعالى للسموات والأرض وما بينهما وإن كان متضمنا لبيان ربوبيته تعالى للخافقين وما بينهما لكن لما لم يكن فيه تصريح باستناد حركات السماوات وما فيها وتغيرات أحوالها وأوضاعها وكون الأرض تارة مظلمة وأخرى منورة إلى الله تعالى أرشدهم إلى طريق معرفة ربوبيته تعالى لما ذكر فإن ذكر المشرق والمغرب منبىء عن شروق الشمس وغروبها المنوطين بحركات السماوات وما فيها على نمط بديع بترتيب عليه هذه الأوضاع الرصينة وكل ذلك أمور حادثة مفتقرة إلى محدث قادر عليم حكيم لا كذوات السماوات والأرض التي ربما يتوهم جهلة المتوهمين باستمرارها استغناءها عن الموجد المتصرف «إن كنتم تعقلون» أي أن كنتم تعقلون شيئا من الأشياء أو إن كنتم من أهل العقل علمتم أن الأمر كما قتله وفيه إيذان بغاية وضوح الأمر بحيث لا يشتبه على من له عقل في الجملة وتلويح بأنهم بمعزل من دائرة العقل وأنهم المتصفون بما رموه عليه الصلاة والسلام به من الجنون «قال» لما سمع اللعين منه عليه الصلاة والسلام تلك المقالات المبنية على أساس الحكم البالغة وشاهد شدة حزمه وقوة عزمه على تمشية أمره وأنه ممن لا يجاري في حلبة المجاورة ضرب صفحا عن عن المقاولة بالإنصاف ونأى بجانبه إلى عدوة الجور والاعتساف فقال مظهرا لما كان يضمره عند السؤال والجواب «لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين» لم يقتنع منه عليه الصلاة والسلام بترك دعوى الرسالة وعدم التعرض له حتى كلفه عليه الصلاة والسلام أن يتخذه إلها لغاية عتوه وغلوه فيما فيه من دعوى الألوهية وهذا صريح في أن تعجبه وتعجيبه من الجواب الأول ونسبته عليه الصلاة والسلام إلى الجنون في الجواب الثاني كان لنسبته عليه الصلاة والسلام الربوبية إلى غيره وأما ما قيل من أن سؤاله كان عن حقيقة المرسل وتعجبه من جوابه كان لعدم مطابقته له لكونه بذكر أحواله فلا يساعده النظم الكريم ولا حال فرعون ولا مقالة واللام في المسجونين للعهد أي لأجعلنك ممن عرفت أحوالهم في سجوني حيث كان يطرحهم في هوة عميقة حتى يموتوا ولذلك لم يقل لأسجننك «قال أولو جئتك بشيء مبين» أي أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي موضح لصدق دعو اى يريد به المعجزة فإنها جامعة بين الدلالة على وجود الصانع وحكمته وبين الدلالة على صدق دعوى من ظهرت على يده والتغيير عنها بالشيء للتهويل قالوا الواو في أولو جئتك للحال دخلت عليها همزة الاستفهام أي جائيا بشيء مبين وقد سلف منا مرار أنها للعطف وأن كلمة لو ليست لإنتفاء الشيء في الزمان الماضي لإنتفاء غيره فيه فلا يلاحظ لها جواب قد حذف تعويلا على دلالة ما قبلها عليه ملاحظة قصدية إلا عند القصد إلى بيان الإعراب على القواعد الصناعية بل هي لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من حكم الموجب أو المنفى على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمالي بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر
240

بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيء متى تحقق مع المنافى القوي فلأن يتحقق مع غيره أولى لذلك لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفي عنه بذكر العاطف للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها ليظهر ما ذكر من تحقق الحكم على جميع الأحوال فإنك إذا قلت فلان جواد يعطى ولو كان فقيرا تريد بيان تحقق الإعطاء منه على كل حال من أحواله المفروضة فتعلق الحكم بأبعدها منه ليظهر بتحققه معه تحققه مع ما عداه من الأحوال التي لا منافاة بينها وبين الحكم بطريق الأولوية المصححة للاكتفاء بذكر العاطف عن تفصيلها كأنك قلت فلان جواد يعطى لو لم يكن فقيرا ولو كان فقيرا أي يعطي حال كونه غنيا وحال كونه فقيرا فالحال في الحقيقة كلنا الجملتين المتعاطفين لا المذكورة على أن الواو للحال وتصدير المجىء بما ذكر من كلمة لو دون إن ليس لبيان استبعاده في نفسه بل بالنسبة إلى فرعون والمعنى أتفعل بي ذلك حال عدم مجييء بشيء مبين وحال مجيىء به «قال فأت به إن كنت من الصادقين» أي فيما يدل عليه كلامك من أنك تأتي بشيء مبين موضح لصدق دعواك أو في دعوى الرسالة وجواب الشرط المحذوف لدلالة ما قبله عليه «فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين» أي ظاهر ثعبانيته لا أنه شيء يشبهه واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء فانثعب أي فجرته فانفجر وقد مر بيان كيفية الحال في سورة الأعراف وسورة طه «ونزع يده» من جيبه «فإذا هي بيضاء للناظرين» قيل لما رأى فرعون الآية الأولى وقال هل لك غيرها فأخرج يده فقال ما هذه قال فرعون يدك فما فيها فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق «قال للملإ حوله» أي مستقرين حوله فهو ظرف وقع موقع الحال «إن هذا لساحر عليم» فائق في فن السحر «يريد أن يخرجكم» قسرا «من أرضكم بسحره فماذا تأمرون» بهره سلطان لمعجزة وحيرة حتى حطه عن ذروة ادعاء الربوبية إلى حضيض الخضوع لعبيده في زعمه والامتثال بأمرهم وإلى مقام مؤامرتهم ومشاورتهم بعد ما كان مستقلا في الرأي والتدبير وأظهر استشعار الخوف من استيلائه على ملكه ونسبة الإخراج والأرض إليهم لتنفيرهم عن موسى عليه السلام
241

«قالوا أرجه وأخاه» أخر أمرهما وقيل احبسهما «وابعث في المدائن حاشرين» أي شرطا يحشرون السحرة «يأتوك» أي الحاشرون «بكل سحار عليم» فائق في فن
السحر وقرئ بكل ساحر «فجمع السحرة لميقات يوم معلوم» هو ما عينه موسى عليه السلام بقوله موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى «وقيل للناس هل أنتم مجتمعون» قيل لهم ذلك استبطاء لهم في الاجتماع وحثا لهم على المبادرة إليه «لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين» أي نتبعهم في دينهم إن كانوا الغالبين لا موسى عليه السلام وليس مرادهم بذلك أن يتبعوا دينهم حقيقة وإنما هو أن لا يتبعوا موسى عليه السلام لكنهم ساقوا كلامهم مساق الكناية حملا لهم على الاهتمام والجد في المغالبة «فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا» أي أجرا عظيما «إن كنا نحن الغالبين» لا موسى عليه السلام «قال نعم» لكم ذلك «وإنكم» مع ذلك «إذا لمن المقربين» عندي قيل قال لهم تكونون أول من يدخل على وآخر من يخرج عنى وقرئ نعم بكسر العين وهما لغتان «قال لهم موسى» أي بعد ما قال له السحرة إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى «ألقوا ما أنتم ملقون» ولم يرد به الأمر بالسحر والتمويه بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه البتة توسلا به إلى إظهار الحق وإبطال الباطل «فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا» أي وقد قالوا عند الإلقاء «بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون» قالوا ذلك لفرط اعتقادهم في أنفسهم وإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر
242

«فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف» أي تبتلع بسرعة وقرئ تلقف بحذق إحدى التأمين من تتلقف «ما يأفكون» أي ما يقلبونه من وجهه وصورته بتمويههم وتزويرهم فيخيلون حبالهم وعصيهم أنها حيات تسعى أو إفكهم تسمية للمأفوك به مبالغة «فألقي السحرة ساجدين» أي إثر ما شاهدوا ذلك من غير تلعثم وتردد غير متمالكين كأن ملقيا ألقاهم لعلمهم بأن مثل ذلك خارج عن حدود السحر وأنه أمر إلهي قد ظهر على يده عليه الصلاة والسلام لتصديقه وفيه دليل على أن قصارى ما ينتهي إليه همم السحرة هو التمويه والتزوير تخييل شيء لا حقيقة له «قالوا آمنا برب العالمين» بدل اشتمال من ألقى أو حال بإضمار قد وقوله تعالى «رب موسى وهارون» بدل من رب العالمين للتوضيح ودفع توهم إرادة فرعون حيث كان قومه الجهلة يسمونه بذلك والإشعار بأن الموجب لإيمانهم به تعالى ما أجراه على أيديهما من المعجزة القاهرة «قال» أي فرعون للسحرة «آمنتم له قبل أن آذن لكم» أي بغير أن آذان لكم كما في قوله تعالى لنقد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي لا أن الإذن منه ممكن أو متوقع «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» فتواطأتم على ما فعلتم أو علمكم شيئا دون شيء ولذلك غلبكم أراد بذلك التلبيس على قومه كيلا يعتقدوا أنهم آمنوا عن بصيرة وظهور حق وقرئ أآمنتم بهمزتين «فلسوف تعلمون» أي وبال ما فعلتم وقوله «لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين» بيان لما أو عدهم به «قالوا» أي السحرة «لا ضير» لا ضرر فيه علينا وقوله تعالى «إنا إلى ربنا منقلبون» تعليل لعدم الضير أي لا ضير في ذلك بل لنا فيه نفع عظيم لما يحصل لنا في الصبر عليه لوجه الله تعالى من تكفير الخطايا والثواب العظيم أو لا ضير علينا فيما تتوعدنا به من القتل أنه لا بد لنا من الانقلاب إلى ربنا بسبب من أسباب الموت والقتل أهونها وأرجاها وقوله تعالى «إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا» أي لأن كنا «أول المؤمنين» أي من أتباع فرعون أو من أهل المشهد تعليل
243

ثان لنفي الضير أي لا ضير علينا في قتلك إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا لكوننا أول المؤمنين وقرئ إن كنا على الشرط لهضم النفس وعدم الثقة بالخاتمة أو على طريقة قول المدل بأمره كقول العامل لمستأجر أخر أجرته إن كنت عملت لك فوفني حقي «وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي» وذلك بعد بضع سنين أقام بين أظهرهم يدعوهم إلى الحق ويظهر لهم الآيات فلم يزيدوا إلا عتوا وعنادا حسبما فصل في سورة الأعراف بقوله تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين الآيات وقرئ بكسر النون ووصل الألف من سرى وقرئ أن سر من السير «إنكم متبعون» تعليل للأمر بالإسراء أي يتبعكم فرعون وجنوده مصبحين فأسر بمن معك حتى لا يدركوكم قبل الوصول إلى البحر فيدخلوا مداخلكم فأطبقه عليهم فأغرقهم «فأرسل فرعون» حين أخبر بمسيرهم «في المدائن حاشرين» جامعين للعساكر ليتبعوهم «إن هؤلاء» يريد بني إسرائيل «لشرذمة قليلون» استقلهم وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا بالنسبة إلى جنوده إذ روي أنه أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمأة ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج فرعون في جمع عظيم وكانت مقدمته سبعمائة ألف رجل على حصان وعلى رأسه بيضة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث «وإنهم لنا لغائظون» أي فاعلون ما يغيظنا «وإنا لجميع حاذرون» يريد أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم وعلوهم ولكنهم يفعلون أفعالا تغيظا وتضيق صدورنا ونحن قوم عادتا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى إطفاء نائرة فساده وهذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن لئلا يظن به ما يكسر من قهره وسلطانه وقرئ حذرون فالأول دال على التجدد والثاني على الثبات وقيل الحاذر المؤدي في السلام وقرئ حادرون بالدال المهملة أي أقوياء وأشداء وقيل مدججون في السلاح قد كسبهم ذلك حدارة في أجسامهم «فأخرجناهم» بأن خلقنا فيهم داعية الخروج بهذا السبب فحملتهم عليه «من جنات وعيون» «وكنوز ومقام كريم»
244

كانت لهم جملة ذلك «كذلك»
إما مصدر تشبيهي لأخرجنا أي مثل ذلك لإخراج العجيب أخرجناهم أو صفة لمقام كريم أي من مقام كريم كائن كذلك أو خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر كذلك «وأورثناها بني إسرائيل» أي ملكناها إياهم على طريقة تمليك مال المورث للوارث كأنهم ملكوها من حين خروج أربابها منها قبل أن يقبضوها ويتسلموها «فأتبعوهم» أي فلحقوهم وقرئ فاتبعوهم «مشرقين» داخلين في وقت شروق الشمس أي طلوعها «فلما تراءى الجمعان» تقاربا بحيث رأى كل واحد منهما الآخرون وقرئ تراءت الفئتان «قال أصحاب موسى إنا لمدركون» جاءوا بالجملة الأسمية مؤكدة بحر في التأكيد للدلالة على تحقق الإدراك واللحاق وتنجزهما وقرئ لمدركون بتشديد الدال من أدرك الشيء إذا تتابع ففنى أي لمتتابعون في الهلاك على أيديهم «قال كلا» ارتدعوا عن ذلك فإنهم لا يدركونكم «إن معي ربي» بالنصرة والهداية «سيهدين» البتة إلى طريق النجاة منهم بالكلية روى أن يوشع عليه السلام قال يا كليم الله أين أمرت فقد غشينا فرعون والبحر أمامنا قال عليه السلام ههنا فخاض يوشع عليه السلام الماء وضرب موسى عليه السلام بعصاه البحر فكان ما كان وروى أن مؤمنا من آل فرعون كان بين يدي موسى عليه السلام فقال أين أمرت فهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال عليه
السلام أمرت بالبحر ولعلى أومر بما أصنع فأمر بما أمر به وذلك قوله تعالى «فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر» القلزم أو النيل «فانفلق» الفاء فصيحة أي فضرب فانفلق فصار اثنى عشر فرقا بعدد الأسباط بينهن مسالك «فكان كل فرق» حاصل بالإنفلاق «كالطود العظيم» كالجبل المنيف الثابت في مقره فدخلوا في شعابها كل سبط في شعب منها «وأزلفنا» أي قربنا «ثم الآخرين» أي فرعون وقومه حتى دخلوا على أثرهم مداخلهم «وأنجينا موسى ومن معه أجمعين» بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا إلى البر
245

ثم أغرقنا الآخرين بإطباقه عليهم «إن في ذلك» أي في جميع ما فصل مما صدر عن موسى عليه السلام وظهر على يديه من المعجزات القاهرة ومما فعل فرعون وقومه من الأقوال والأفعال وما فعل بهم من العذاب والنكال وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتهويل أمر المشار إليه وتفظيعه كتنكير الآية في قوله تعالى «لآية» أي أية آية أو آية عظيمة لا تكاد توصف موجبة لأن يعتبر بها المعتبرون ويقيسوا شأن النبي صلى الله عليه وسلم بشأن موسى عليه السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المهلكين ويجتنبوا تعاطي ما كانوا يتعاطونه من الكفر والمعاصي ومخالفة الرسول ويؤمنوا بالله تعالى ويطيعوا رسوله كيلا يحل بهم مثل ما حل بأولئك أو إن فيما فصل من القصة من حيث حكايته عليه الصلاة والسلام إياها على ما هي عليه من غير أن يسمعها من أحد لآية عظيمة دالة على أن ذلك بطريق الوحي الصادق موجبة للإيمان بالله تعالى وحده وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام «وما كان أكثرهم» أي أكثر هؤلاء الذين سمعوا قصتهم منه عليه الصلاة والسلام «مؤمنين» لا بأن يقيسوا شأنه بشأن موسى عليهما السلام وحال أنفسهم بحال أولئك المكذبين المهلكين ولا بأن يتدبروا في حكايته عليه الصلاة والسلام لقصتهم من غير أن يسمعها من أحد مع كون كل من الطريقين مما يؤدي إلى الإيمان قطعا ومعنى ما كان أكثرهم مؤمنين وما أكثرهم مؤمنين على أن كان زائدة كما هو رأى سيبويه فيكون كقوله تعالى وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهو إخبار منه تعالى بما سيكون من المشركين بعد ما سمعوا الآيات الناطقة بالقصة تقريرا لما مر من قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا الخ وإيثار الجملة الأسمية للدلالة على استقرارهم على عدم الإيمان واستمرارهم عليه ويجوز أن يجعل كان كان بمعنى صار كما فعل ذلك في قوله تعالى وكان من الكافرين فالمعنى وما صار أكثرهم مؤمنين مع ما سمعوا من الآية العظيمة الموجبة له بما ذكر من الطرفين فيكون الإخبار بعدم الصيرورة قبل الحدوث للدلالة على كمال تحققه وتقرره كقوله تعالى أتى أمر الله الآية «وإن ربك لهو العزيز» الغالب على كل ما يريده من الأمور التي من جملتها الانتقام من المكذبين «الرحيم» المبالغ في الرحمة ولذلك يمهلهم ولا يجعل عقوبتهم بعدم إيمانهم بعد مشاهدة هذه الآية العظيمة بطريق الوحي مع كمال استحقاقهم لذلك هذا هو الذي يقتضيه جزالة النظم الكريم من مطلع السورة الكريمة إلى آخر القصص السبع بل إلى آخر السورة الكريمة اقتضاء بينا لا ريب فيه وأما ما قيل من أن ضمير أكثرهم لأهل عصر فرعون من القبط وغيرهم وأن المعنى وما كان أكثر أهل مصر مؤمنين حيث لم يؤمن منهم إلا آسية وحزقيل ومريم ابنة ياموشا التي
246

دلت على تابوت يوسف عليه السلام وبنو إسرائيل بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فبمعزل من التحقيق كيف لا ومساق كل قصة من القصص الواردة في السورة الكريمة سوى قصة إبراهيم عليه السلام إنما هو لبيان حال طائفة معينة قد عتوا عن أمر ربهم وعصوا رسله عليهم الصلاة والسلام كما بفصح عنه تصدير القصص بتكذيبهم المرسلين بعد ما شاهدوا بأيديهم من الآيات العظام ما يوجب عليهم الإيمان ويزجرهم عن الكفر والعصيان وأصروا على ما هم عليه من التكذيب فعاقبهم الله تعالى لذلك بالعقوبة الدنيوية وقطع دابرهم بالكلية فكيف يمكن أن يخبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم لا سيما بعد الإخبار بإهلاكهم وعد المؤمنين من جملتهم أولا وإخراجهم منها آخرا مع عدم مشاركتهم لهم في شيء ما حكى عنهم من الجنايات أصلا مما يوجب تنزيه التنزيل عن أمثاله فتدبر «واتل عليهم» عطف على المضمر المقدر عاملا لإذ نادى الخ أي واتل على المشركين «نبأ إبراهيم» أي خبره العظيم الشأن حسبما أوحى إليك لتقف على ما ذكر م عدم إيمانهم بما يأتيهم من الآيات بأحد الطريقين «إذ قال» منصوب إما على الظرفية للنبأ أي نبأه وقت قوله «لأبيه وقومه» أو على المفعولية لاتل على أنه بدل من نبأ أي واتل عليهم وقت قوله لهم «ما تعبدون» على أن المتلو ما قاله لهم في ذلك الوقت سألهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك ليبني على جوابهم أن ما يعبدونه بمعزل من استحقاق العبادة بالكلية «قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين» لم يقتصروا على الجواب الكافي بأن يقولوا أصناما كما في قوله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو وقوله تعالى ماذا أنزل ربكم قالوا الحق ونظائرهما بل أطنبوا فيه بإظهار الفعل وعطف دوام عكوفهم على أصنامهم قصدا إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بذلك والمراد بالظلول الدوام وقيل كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل وصلة العكوف كلمة على وإيراد اللام لإفادة معنى زائد كأنهم قالوا فنظل لأجلها مقبلين على عبادتها أو مستدبرين حولها وهذا أيضا من جملة إطنابهم «قال» استئناف مبنى على سؤال نشأ من تفصيل جوابهم «هل يسمعونكم» أي هل يسمعون دعاءكم على حذف المضاف أو يسمعونكم تدعون كقولك سمعت زيدا يقول كيت وكيت فخذف لدلالة قوله تعالى «إذ تدعون» عليه وقرئ هل يسمعونكم من الإسماع أي هل يسمعونكم شيئا من الأشياء أو الجواب عن دعائكم وهل يقدرون على ذلك وصيغة المضارع مع إذ على حكاية الحال
247

الماضية لإستحضار صورتها كأنه قيل لهم استحضروا الأحوال الماضية التي كنتم تدعونها فيها وأجيبوا هل سمعوا أو سمعوا قط «أو ينفعونكم» بسبب عبادتكم لها «أو يضرون» أي يضرونكم بترككم لعبادتها إذا لابد للعبادة لا سيما عند كونها على ما وصفتم من المبالغة فيها من جلب نفع أو دفع ضر «قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» اعترفوا بأنها بمعزل مما ذكر من السمع والمنفعة والمضرة بالمرة واضطروا إلى إظهار أن لا سند لهم سوى التقليد أي ما علمنا أو ما رأينا منهم ما ذكر من الأمور بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون أي مثل عبادتنا يعبدون فاقتدينا بهم «قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون» أي أنظرتم فأبصرتم أو أتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدونه «أنتم وآباؤكم الأقدمون» حق الإبصار أو حق العلم وقوله «فإنهم عدو لي» بيان لحال ما يعبدونه بعد التنبيه على عدم علمهم بذلك أي فاعلموا أنهم أداء لعابديهم الذين يجبونهم كحب الله تعالى لما أنهم يتضررون من جهتهم فوق ما يتضرر الرجل من جهة عدوه أو لأن من يغريهم على عبادتهم ويحملهم عليها هو الشيطان الذي هو أعدى عدو الإنسان لكنه عليه الصلاة
والسلام صور الأمر في نفسه تعريضا بهم فإنه أنفع في النصيحة من التصريح وإشعارا بأنها نصيحة بدأ بها نفسه ليكون أدعى إلى القبول والعدو والصديق يجيئان في معنى الواحد والجمع ومنه قوله تعالى وهم لكم عدو شبها بالمصادر للموازنة كالقبول والولوع والحنين والصهيل «إلا رب العالمين» استثناء منقطع أي لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو ولي في الدنيا والآخرة لا يزال يتفضل على بمنافعهما حسبما يعرب عنه ما وصفه تعالى به من أحكام الولاية وقيل متصل وهو قول الزجاج على أن الضمير لكل معبود وكان من آبائهم من عبد الله تعالى وقوله تعالى «الذي خلقني» صفة لرب العالمين وجعله مبتدأ وما بعده خبرا غير حقيق بجزالة التنزيل وإنما وصفه تعالى بذلك وبما عطفه عليه مع اندراج الكل تحت ربوبيته تعالى للعالمين تصريحا بالنعم الخاصة به عليه الصلاة والسلام وتفصيلا لها لكونها أدخل في اقتضاء تخصيص العبادة به تعالى وقصر الالتجاء في جلب المنافع الدينية والدنيوية المضار العاجلة والآجلة عليه تعالى «فهو يهدين»
248

يهديك أي هو يهديني وحده إلى كل ما يهمني ويصلحني من أمور الدين والدنيا هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح متجددة على الاستمرار كما ينبئ عنه الفاء وصيغة المضارع فإنه تعالى يهدي كل ما خلقه لما خلق له من أمور المعاش والمعاد هداية متدرجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله يتمكن بها من جلب منافعه ودفع مضاره إما طبعا وإما اختيارا مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين لإمتصاص دم الطمث ومنتهاها الهداية إلى طريق الجنة والتنعم بنعيمها المقيم «والذي هو يطعمني ويسقين» عطف على الصفة الأولى وتكرير الموصول في المواقع الثلاثة مع كفاية عطف ما وقع في حيز الصلة من الجمل الست على صلة الموصول الأول للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى مستقل في استيجاب الحكم حقيقة بأن تجرى عليه تعالى بحيالها ولا تجعل من روادف غيرها «وإذا مرضت فهو يشفين» عطف على يطعمني ويسقين نظم معهما في سلك الصلة لموصول واحد لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبا ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى مع أنهما منه تعالى لمراعاة حسن الأدب كما قال الخضر عليه السلام فأردت أن أعيبها وقال فأراد ربك أن يبلغا أشدهما وأما الإماتة فحيث كانت من معظم خصائصه تعالى كالإحياء بدءا وإعادة وقد نيطت أمور الآخرة جميعا بها وبما بعدها من البعث نظمهما في سمط واحد في قوله تعالى «والذي يميتني ثم يحيين» على أن الموت لكونه ذريعة إلى نيله عليه الصلاة والسلام للحياة الأبدية بمعزل من أن يكون غير مطبوع عنده عليه الصلاة والسلام «والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين» ذكره عليه الصلاة والسلام هضما لنفسه وتعليما للأمة أن يجتنبوا المعاصي ويكونوا على حذر وطلب مغفرة لما يفرط منهم وتلافيا لما عسى يندر منه عليه الصلاة والسلام من الصغائر وتنبيها لأبيه وقومه على أن يتأملوا في أمرهم فيقفوا على أنهم من سوء الحال في درجة لا يقادر قدرها فإن حاله عليه الصلاة والسلام مع كونه ف طاعة الله تعالى وعبادته في الغاية القاصية حيث كانت بتلك المثابة فما ظنك بحال أولئك المغمورين في الكفر وفنون المعاصي والخطايا وحمل الخطيئة على كلماته الثلاث إني سقيم بل فعله كبيرهم وقوله لسارة حتى أختي مما لا سبيل إليه لأنها مع كونها معاريض لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار إنما صدرت عنه عليه الصلاة والسلام بعد هذه المقاولة الجارية بينه وبين قومه أما الثالثة فظاهرة لوقوعها بعد مهاجرته عليه الصلاة والسلام إلى
249

الشأم وأما الأوليان فلأنهما وقعتا مكتنفتين بكسر الأصنام ومن البين أن جريان هذه المقالات فيما بينهم كان في مبادئ الأمر تعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين مع أنها إنما تغفر الدنيا لأن أثرها يومئذ يتبين ولأن في ذلك تهويلا له وإشارة إلى وقوع الجزاء فيه إن لم تغفر «رب هب لي حكما» بعد ما ذكر عليه الصلاة والسلام لهم فنون الألطاف الفائضة عليه من الله عز وجل من مبدأ خلقه إلى يوم بعثه حملة ذلك على مناجاته تعالى ودعائه لربط العتيد وجلب المزيد والحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل بحيث يتمكن به من خلافة الحق ورياسة الخلق «وألحقني بالصالحين» ووفقني من العلوم والأعمال والملكات لما يرشحني للإنتظام في زمرة الكاملين الراسخين في الصلاح المنزهين عن كبائر الذنوب وصغائرها أو اجمع بيني وبينهم في الجنة ولقد أجابه تعالى حيث قال وإنه في الآخرة لمن الصالحين «واجعل لي لسان صدق في الآخرين» أي جاها وحسن صيت في الدنيا بحيث يبقى أثره إلى يوم الدين ولذلك لا ترى أمة من الأمم إلا وهي محبة له ومثنية عليه أو صادقا من ذريتي يحدد أصل ديني ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد وهو النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا دعوة أبي إبراهيم «واجعلني» في الآخرة «من ورثة جنة النعيم» وقد مر معنى الوراثة في سورة مريم «واغفر لأبي» بالهداية والتوفيق للإيمان كما يلوح به تعليله بقوله «إنه كان من الضالين» أي طريق الحق وقد مر تحقيق المقام في تفسير سورة التوبة وسورة مريم بما لا مزيد عليه «ولا تخزني» بمعاتبتي على ما فرطت أو ينقص رتبتي عن بعض الوراث أو بتعذيبي لخفاء العاقبة وجواز التعذيب عقلا كل ذلك مبني على هضم النفس منه عليه الصلاة والسلام أو بتعذيب ولدي أو يبعثه في عداد الضالين بعدم توفيقه للإيمان وهو من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بمعنى الحياء «يوم يبعثون» أي الناس كافة والإضمار قبل الذكر لما في عموم البعث من الشهرة الفاشية المغنية عنه وتخصيصه بالضالين مما يخل بتهويل اليوم «يوم لا ينفع مال ولا بنون» بدل من يوم يبعثون جيء به تأكيدا للتهويل وتمهيدا لما يعقبه من الاستثناء وهو من أعم المفاعيل أي
250

لا ينفع مال وإن كان مصروفا في الدنيا إلى وجوه البر والخيرات ولا بنون وإن كانوا صلحاء مستأهلين للشفاعة أحدا «إلا من أتى الله بقلب سليم» أي عن مرض الكفر والنفاق ضرورة اشتراط نفع كل منهما بالإيمان وفيه تأييد لكون استغفاره عليه الصلاة والسلام لأبيه طلبا لهدايته إلى الإيمان لاستحالة طلب مغفرته بعد موته كافرا مع علمه عليه الصلاة والسلام بعدم نفعه لأنه من باب الشفاعة وقيل هو استثناء من فاعل ينفع بتقدير المضاف أي إلا مال من أو بنو من أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ليس من جنس المستثنى منه حقيقة بل بضرب من الاعتبار كما في قوله تحية بينهم ضرب وجيع أي إلا حال من أتى الله بقلب سليم على أنها عبارة عن سلامة القلب كأنه قيل إلا سلامة قلب من أتى الله الآية وقيل المضاف المحذوف ما دل عليه المال والبنون من الغنى وهو المستثنى منه كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله الآية لأن غنى المرء في دينه بسلامة قلبه وقيل الاستثناء منقطع والمعنى لكن سلامة قلبه تنفعه «وأزلفت الجنة للمتقين» عطف على لا ينفع وصيغة الماضي فيه وفيما بعده من الجمل المنتظمة معه في سلك العطف للدلالة على تحقق الوقوع وتقرره كما أن صيغة المضارع في المعطوف عليه للدلالة على استمرار انتفاء النفع ودوامه حسبما يقتضيه
مقام التهويل والتفظيع أي قربت الجنة للمتقين عن الكفر والمعاصي بحيث يشاهدونها من الموقف ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن فيبتهجون بأنهم المحشورون إليها «وبرزت الجحيم للغاوين» الضالين عن طريق الحق الذي هو الإيمان والتقوى أي جعلت بارزة لهم بحيث يرونها مع ما فيها من أنواع الأحوال الهائلة ويوقنون بأنهم مواقعوها ولا يجدون عنها مصرفا «قيل لهم أين ما كنتم» في الدنيا «ما تعبدون» «من دون الله» أي أين آلهتكم الذين كنتم تزعمون في الدنيا أنهم شفعاؤكم في هذا الموقف «هل ينصرونكم» بدفع العذاب عنكم «أو ينتصرون» بدفعه عن أنفسهم وهذا سؤال تقريع وتبكيت لا يتوقع له جواب ولذلك قيل «فكبكبوا فيها» أي ألقوا في الجحيم على وجوههم مرة بعد أرى إلى أن يستقروا في قعرها «هم» أي آلهتهم «والغاوون» الذين كانوا يعبدونهم وفي تأخير
251

ذكرهم عن ذكر آلهتم رمز إلى أنهم يؤخرون عنها في الكبكبة ليشاهدوا سوء حالها فيزدادوا غما إلى غمهم «وجنود إبليس» أي شياطينه الذين كانوا يغرونهم ويوسوسون إليهم ويسولون لهم ما هم عليه من عبادة الأصنام وسائر فنون الكفر والمعاصي ليجتمعوا في العذاب حسبما كانوا مجتمعين فيما يوجبه وقيل متبعوه من عصاة الثقلين والأول هو الوجه «أجمعين» تأكيد للضمير وما عطف عليه وقوله تعالى «قالوا» الخ استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية حالهم كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل فقيل قال العبدة «وهم فيها يختصمون» أي قالوا معترفين بخطئهم في أنهما كهم في الضلالة متحسرين معيرين لأنفسهم والحال أنهم في الجحيم بصدد الإختصام مع من معهم من المذكورين مخاطبين لمعبوديهم على أن الله تعالى يجعل الأصنام صالحة للإختصام بأن يعطيها القدرة على الفهم والنطق «تالله إن كنا لفي ضلال مبين» إن مخففة من الثقيلة قد حذف اسمها الذي هو ضمير الشأن واللام فارقة بينها وبن النافية أي أن الشأن كنا في ضلال واضح لإخفاء فيه ووصفهم له بالوضوح للإشباع في إظهار ندمهم وتحسرهم وبيان عظم خطئهم في رأيهم مع وضوح الحق كما ينبيء عنه تصدير قسمهم بحرف التاء المشعرة بالتعجب وقوله تعالى «إذ نسويكم برب العالمين» ظرف لكونهم في ضلال مبين وقيل لما دل عليه الكلام أي ضللنا وقيل للضلال المذكور وإن كان فيه ضعف صناعي من حيث إن المصدر الموصوف لا يعمل بعد الوصف وقيل ظرف لمبين وصيغة المضارع لإستحضار الصورة الماضية أي تالله لقد كنا في غاية الضلال الفاحش وقت تسويتنا إياكم أيها الأصنام في استحقاق العبادة برب العالمين الذي أنتم أدنى مخلوقاته وأدلهم وأعجزهم وقولهم «وما أضلنا إلا المجرمون» بيان لسبب ضلالهم بعد اعترافهم بصدوره عنهم لكن لا على معنى قصر الإضلال على المجرمين دون عداهم بل على معنى قصر ضلالهم على كونه بسبب إضلالهم من غير أن يستقلوا في تحققه أو يكون بسبب إضلال الغير كأنه قيل وما صدر عنا ذلك الضلال الفاحش إلا بسبب إضلالهم والمراد بالمجرمين الذين أضلوهم رؤساؤهم وكبراؤهم كما في قوله تعالى ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وعن السدى رحمة الله الأولون الذين اقتدوا بهم وأياما كان ففيه أوفر نصيب من التعريض الذين قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون وعن ابن جريج
252

إبليس وابن آدم القاتل لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي «فما لنا من شافعين» كما للمؤمنين من الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام «ولا صديق حميم» كما نرى لهم أصدقاء أو فما لنا من شافعين ولا صديق حميم من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء على أن عدمهما كناية عن عداوتهما كما أن عدم المحبة في مثل قوله تعالى والله لا يحب الفساد كناية عن البغض حسبما ينبئ عنه قوله تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين أو وقعنا في مهلكة لا يخلصنا منها شافع ولا صديق على أن المراد بعدمهما عدم أثرهما وجمع الشافع لكثرة الشفعاء عادة كما أن إفراد الصديق لقلته أو لصحة إطلاقه على الجمع كالعدو تشبيها لهما بالمصادر كالحنين والقبول وكلمة لو في قوله تعالى «فلو أن لنا كرة» للتمنى كليت لما أن بين معنييهما تلاقيا في معنى الفرض والتقدير كأنه قيل فليت لنا كرة أي رجعة إلى الدنيا وقيل هي على أصلها من الشرط وجوابه محذوف كأنه قيل فلو أن لنا كرة لفعلنا من الخيرات كيت وكيت ويأباه قوله تعالى «فنكون من المؤمنين» لتحتم كونه جوابا للتمني مفيدا لترتيب إيمانهم على وقوع الكرة البتة بلا تخلف كما هو مقتضى حالهم وعطفه على كرة طريقة للبس عباءة وتقر عيني كما يستدعيه كون لو على أصلها إنما يفيد تحقق مضمون الجواب على تقدير تحقق كرتهم وإيمانهم معا من غير دلالة على استلزام الكرة للإيمان أصلا مع أنه المقصود حتما «إن في ذلك» أي فيما ذكر من نبأ إبراهيم عليه السلام المشتمل على بيان بطلان ما كان عليه أهل مكة من عبادة الأصنام وتفصيل ما يؤول إليه أمر عبدتها يوم القيامة من اعترافهم بخطئهم الفاحش وندمهم وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان وتمنيهم الرجعة إلى الدنيا ليكونوا من المؤمنين عند مشاهدتهم لما أزلفت لهم جنات النعيم وبرزت لأنفسهم الجحيم وغشيهم ما غشيهم من ألوان العذاب وأنواع العقاب «لآية» أي آية عظيمة لا يقادر قدرها موجبة على عبدة الأصنام كافة لا سيما على أهل مكة الذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يجتنبوا كل الإجتناب ما كانوا عليه من عبادتها خوفا أن يحيق بهم مثل ما حاق بأولئك من العذاب بحكم الاشتراك فيما يوجبه أو أن في ذكر نبئه وتلاوته عليهم على ما هو عليه من غير أن تسمعه من أحد لآية عظيمة دالة على أن ما تتلوه عليهم وحي صادق نازل من جهة الله تعالى موجبة للإيمان به قطعا «وما كان أكثرهم مؤمنين» أي أكثر هؤلاء الذين تتلو عليهم النبأ مؤمنين بل هم مصرون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال وأما أن ضمير أكثرهم لقوم إبراهيم عليه السلام كما توهموا فمما لا سبيل إليه أصلا لظهور أنهم ما ازدادوا مما سمعوا منه عليه الصلاة والسلام
253

إلا طغيانا وكفرا حتى اجترؤا على تلك العظيمة التي فعلوها به عليه الصلاة والسلام فكيف يعبر عنهم بعدم إيمان أكثرهم وإنما آمن له لوط فنجاهما الله عز وجل إلى الشأم وقد مر بقية الكلام في آخر قصة موسى عليه السلام «وإن ربك لهو العزيز الرحيم» أي هو القادر على تعجيل العقوبة لقومك ولكنه يمهلهم بحكم الواسعة ليؤمن بعض منهم أو من ذرياتهم «كذبت قوم نوح المرسلين» القوم مؤنث ولذلك يصغر على قويمة وقيل القوم بمعنى الأمة وتكذيبهم للمرسلين إما باعتبار إجماع الكل على التوحيد وأصول الشرائع التي لا تختلف باختلاف الأزمنة والأعصار وإما لأن المراد بالجمع الواحد كما يقال فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله إلا دابة وبردة وإذ في قوله تعالى «إذ قال لهم» ظرف للتكذيب على أنه عبارة عن زمان مديد وقع فيه ما وقع من الجانبين إلى تمام الأمر كما أن تكذيبهم عبارة عما صدر عنهم من ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام إلى انتهائها «أخوهم» أي نسيبهم «نوح ألا تتقون» الله حين تعبدون غيره «إني لكم رسول» من جهته تعالى «آمين» مشهور بالأمانة فيما بينكم «
فاتقوا الله وأطيعون» فيما أمركم به من التوحيد والطاعة لله تعالى «وما أسألكم عليه» أي على ما أنا متصد له من الدعاء والنصح «من أجر» أصلا «إن أجري» فيما أتولاه «إلا على رب العالمين» والفاء في قوله تعالى «فاتقوا الله وأطيعون» لترتيب ما بعدها على ما قبلها من تنزهه عليه الصلاة والسلام عن الطمع كما أن نظيرتها السابقة لترتيب ما بعدها على أمانته والتكرير للتأكيد والتنبيه على أن كلا منهما مستقل في ايجاب التقوى والطاعة فكيف إذا اجتمعا وقرئ إن أجري بسكون الياء «قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون» أي الأقلون جاها ومالا جمع الأرذل على الصحة فإنه بالغلبة صار جاريا مجرى الاسم
254

كالأكبر والأكابر وقيل جمع أرذل جمع رذل كأكالب وأكلب وكلب وقرئ وأتباعك وهو جمع تابع كشاهد وأشهاد أو جمع تبع كبطل وأبطال يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانة عقل ولا إصابة رأي وقد كان ذلك منهم في بادىء الرأي كما ذكر في موضع آخر وهذا من كمال سخافة عقولهم وقصرهم انظارهم على حطام الدنيا وكون الأشراف عندهم من هو أكثر منها حظا والأرذل من حرمها وجهلهم بأنها لا تزن عند الله جناح بعوضه وأن النعيم هو نعيم الآخرة والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه «قال وما علمي بما كانوا يعملون» جواب عما أشير إليه من قولهم إنهم لم يؤمنوا عن نظر وبصيرة أي وما وظيفتي إلا اعتبار الظواهر وبناء الأحكام عليها دون التفتيش عن بواطنهم والشق عن قلوبهم «إن حسابهم» أي ما محاسبة أعمالهم والتنقير عن كفايتها البارزة والكامنة «إلا على ربي» فإنه المضطلع السرائر والضمائر «لو تشعرون» أي بشيء من الأشياء أو لو كنتم من أل الشعور لعلمتم ذلك ولكنكم لستم كذلك فتقولون ما تقولون «وما أنا بطارد المؤمنين» جواب عما أوهمه كلامهم من استدعاء طردهم وتعليق إيمانهم بذلك حيث جعلوا اتباعهم مانعا عنه وقوله «إن أنا إلا نذير مبين» كالعلة أي ما أنا إلا رسول مبعوث لإنذار المكلفين وزجرهم عن الكفر والمعاصي سواء كانوا من الأعزاء أو الأذلاء فكيف يتسنى طرد الفقراء لإستتباع الأغنياء أو ما على إلا إنذاركم بالبرهان الواضح وقد فعلته وما علي استرضاء بعضكم بطرد الآخرين «قالوا لئن لم تنته يا نوح» عما تقول «لتكونن من المرجومين» من المشتومين أو المرميين بالحجارة قالوه قاتلهم الله تعالى في أواخر الأمر ومعنى قوله تعالى «قال رب إن قومي كذبون» تموا على تكذيبي وأصروا على ذلك بعد ما دعوتهم هذه الأزمنة المتطاولة ولم يزدهم دعائي إلا فرارا كما يعرب عنه دعاؤه بقوله «فافتح بيني وبينهم فتحا» أي أحكم بيننا بما يستحقه كل واحد منا وهذه حكاية إجمالية لدعائه المفصل في سورة نوح عليه «ونجني ومن معي من المؤمنين» أي من قصدهم أو من
255

شؤم أعمالهم «فأنجيناه ومن معه» حسب دعائه «في الفلك المشحون» أي المملوء بهم وبما لابد لهم منه «ثم أغرقنا بعد» أي بعد إنجائهم «الباقين» أي من قومه «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» «وإن ربك لهو العزيز الرحيم» الكلام فيه كالذي مر خلا أن حمل أكثرهم على أكثر قوم نوح أبعد من السداد وأبعد «كذبت عاد المرسلين» أنت عاد باعتبار القبيلة وهو اسم أبيهم الأقصى «إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون» الكلام في أن المراد بتكذيبهم وبما وقع فيه من الزمان ماذا كما مر في صدر قصة نوح عليه السلام أي ألا تتقون الله تعالى فتفعلون ما تفعلون «إني لكم رسول أمين» «فاتقوا الله وأطيعون» «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» الكلام فيه كالذي مر وتصدير القصص به للتنبيه على أن مبنى البعثة هو الدعاء إلى معرفة الحق والطاعة فيما يقرب المدعو إلى الثواب ويبعده من العقاب وأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مجمعون على ذلك وإن اختلفوا في بعض فروع الشرائع المختلفة باختلاف الأزمنة والأعصار وأنهم متنزهون عن المطامع الدنية والأغراض الدنيوية بالكلية «أتبنون بكل ريع» أي مكان مرتفع ومنه ريع الأرض لإرتفاعها «آية» علما للمارة «تعبثون» أي ببنائها إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم فلا يحتاجون إليها أو بروج الحمام
256

أو بنيانا يجتمعون إليه ليعبثوا لمن مر عليهم أو قصورا عالية يفتخرون بها «وتتخذون مصانع» أي مآخذ الماء وقيل قصورا مشيدة وحصونا «لعلكم تخلدون» أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أي عاملين عمل من يرجو من ذلك فلذلك تحكمون بنيانها «وإذا بطشتم» بصوت أو سيف «بطشتم جبارين» متسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العافية «فاتقوا الله» واتركوا هذه الأفعال «وأطيعون» فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم «واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون» من أنواع النعماء وأصناف الآلاء أجملها أولا ثم فصلها بقوله «أمدكم بأنعام وبنين» بإعادة الفعل لزيادة التقرير فإن التفصيل بعد الإجمال والتفسير أثر الإبهام أدخل في ذلك «وجنات وعيون» «إني أخاف عليكم» إن لم تقوموا بشكر هذه النعم «عذاب يوم عظيم» في الدنيا والآخرة فإن كفران النعمة مستتبع للعذاب كما أن شكرها مستلزم لزيادتها قال تعالى لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي شديد «قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين» فإنا لن نرعوى عما نحن عليه وتغير الشق الثاني عن مقابلة للمبالغة في بيان قلة اعتدادهم بوعظه كأنهم قالوا ألم تكن من أهل الوعظ ومباشريه أصلا «إن هذا» ما هذا الذي جئتنا به «إلا خلق الأولين» أي عادتهم كانوا يلفقون مثله ويسطرونه أو ما هذا الذي نحن عليه من الدين إلا خلق الأولين وعادتهم ونحن بهم مقتدون أو ما هذا الذي نحن عليه من الموت والحياة إلا عادة قديمة لم يزل الناس عليها وقرئ خلق الأولين بفتح الخاء أي اختلاق الأولين كما قالوا أساطير الأولين أو ما خلقنا هذا إلا خلقهم نحيا
257

كما حيوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا حساب «وما نحن بمعذبين» على ما نحن عليه من الأعمال «فكذبوه» أي أصروا على ذلك «فأهلكناهم» بسببه بريح صرصر «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» «وإن ربك لهو العزيز الرحيم» «كذبت ثمود المرسلين» إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون «الله تعالى» إني لكم رسول أمين «فاتقوا الله وأطيعون» «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» «أتتركون في ما ها هنا آمنين» إنكار ونفي لأن يتركوا فيما هيم فيه من النعمة أو تذكير للنعمة في تخلينه تعالى إياهم وأسباب تنعمهم آمنين وقوله تعالى «في جنات وعيون» «وزروع ونخل طلعها هضيم» تفسير لما قبله من المبهم والهضيم اللطيف اللين للطف الثمر أو لأن النخل أنثى وطلع الإناث ألطف وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو أو متدل متكسر من كثرة الحمل وإفراد النخل لفضله على سائر أشجار الجنات أو لأن المراد بها غيرها من الأشجار «وتنحتون
258

من الجبال بيوتا فارهين» بطرين أو حازقين من الفراهة وهي النشاط فإن الحاذق يعمل بنشاط وطلب قلب وقرئ فرهين وهو أبلغ «فاتقوا الله وأطيعون» «ولا تطيعوا أمر المسرفين» استعير الطاعة التي هي انقياد الأمر لامتثال الأمر وارتسامه أو نسب حكم الأمر إلى أمره مجازا «الذين يفسدون في الأرض» وصف موضح لإسرافهم ولذلك عطف «ولا يصلحون» على يفسدون لبيان خلوص إفسادهم عن مخالطة الإصلاح «قالوا إنما أنت من المسحرين» أي الذين سحروا حتى غلب على عقولهم أو من ذوى السحر أي من الإنس فيكون قوله تعالى «ما أنت إلا بشر مثلنا» تأكيدا له «فأت بآية إن كنت من الصادقين» أي في دعواك «قال هذه ناقة» أي بعد ما أخرجها الله تعالى من الصخرة بدعائه عليه الصلاة والسلام حسبما مر تفصيله في سورة الأعراف وسورة هود «لها شرب» أي نصيب من الماء كالسقي وألقيت للحظ من السقي والقوت وقرئ بالضم «ولكم شرب يوم معلوم» فاقتنعوا بشربكم ولا تزاحموا على شربها «ولا تمسوها بسوء» كضرب وعقر «فيأخذكم عذاب يوم عظيم» وصف اليوم بالعظم لعظم ما يحل فيه وهو أبلغ من تعظيم العذاب «فعقروها» أسند العقر إلى كلهم لما أن عاقرها عقرها برأيهم ولذلك عمهم العذاب «فأصبحوا نادمين» خوفا من حلول العذاب لا توبة أو عند معاينتهم لمباديه ولذلك لم ينفعهم الندم وإن كان بطريق التوبة «فأخذهم العذاب» أي العذاب الموعود «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين»
259

«وإن ربك لهو العزيز الرحيم» قيل في نفي الإيمان عن أكثرهم فلي هذا المعرض إيماء إلى أنه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب وإن قريشا إنما عصموا من مثله ببركة من آمن منهم وأنت خبير بان قريشا هم المشهورون بعدم إيمان أكثرهم «كذبت قوم لوط المرسلين» «إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون» «إني لكم رسول أمين» «فاتقوا الله وأطيعون» «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» «أتأتون الذكران من العالمين» أي أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران لا يشارككم فيه غيركم أو أتأتون الذكران من أولاد آدم مع كثرتهم وغلبة النساء فيهم مع كونهم أليق بالاستمتاع فالمراد بالعالمين على الأول ما ينكح من الحيوان وعلى الثاني الناس «وتذرون ما خلق لكم ربكم» لأجل استمتاعكم وكلمة من في قوله تعالى «من أزواجكم» للبيان إن أريد يما جنس الإناث وهو الظاهر وللتبعيض إن أريد بها العضو المباح منهن تعريضا بأنهم كانوا يفعلون ذلك بنسائهم أيضا «بل أنتم قوم عادون» متعدون متجاوزون الحد في جميع المعاصي وهذا من جملتها وقيل متجاوزون عن حد الشهوة حيث زادوا على سائر الناس بل الحيوانات «قالوا لئن لم تنته يا لوط» أي عن تقبيح أمرنا ونهينا عنه أو عن دعوى النبوة التي من جملة أحكامها التعرض لنا «لتكونن من المخرجين» أي من المنفيين من قريتنا وكأنهم كانوا يخرجون من أخرجوه من بيتهم على عنف وسوء حال «قال إني
260

لعملكم من القالين» أي من المبغضين غاية البغض كأنه يقلى الفؤاد والكبد لشدته وهو أبلغ من أن يقال إني لعملكم قال لدلالته على أنه عليه الصلاة والسلام من زمرة الراسخين في بعضه المشهورين في قلاه ولعله عليه الصلاة والسلام أراد إظهار الكراهة في مساكنتهم والرغبة في الخلاص من سوء جوارهم ولذلك أعرض عن محاورتهم وتوجه إلى الله تعالى قائلا «رب نجني وأهلي مما يعملون» أي من شؤم عملهم وعائلته «فنجيناه وأهله أجمعين» أي أهل بيته ومن اتبعه في الدين بإخراجهم من بينهم عند مشارفة حلول العذاب بهم «إلا عجوزا» هي امرأة لوط استثنيت من أهله فلا يضره كونها كافرة لأن لها شركة في الأهلية بحق الزواج «في الغابرين» أي مقدرا كونها من الباقين في العذاب لأنها كانت مائلة إلى القوم راضية بفعلهم وقد أصابها الحجر في الطريق فأهلكها كما مر في سورة الحجر وسورة هود وقيل كانت فيمن بقي في القرية ولم تخرج مع لوط عليه السلام «ثم دمرنا الآخرين» أهلكناهم أشد إهلاك وأفظعه «وأمطرنا عليهم مطرا» أي مطرا غير معهود قيل أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة فأهلكتهم «فساء مطر المنذرين» اللام فيه للجنس وبه يتسنى وقوع المضاف إليه فاعل ساء والمخصوص بالذم محذوف وهو مطرهم «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» «وإن ربك لهو العزيز الرحيم» «كذب أصحاب الأيكة المرسلين» الأيكة الغيضة التي تنبت ناعم الشجر وهي غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة وكانوا ممن بعث إليهم شعيب عليه السالم وكان أجنبيا منهم ولذلك قيل «إذ قال لهم شعيب ألا تتقون» ولم يقل
261

أخوهم وقيل الأيكة الشجر الملتف وكان شجرهم الدوم وهو المقل وقرئ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وقرئت كذلك مفتوحة على أنها ليكة وهي اسم بلدهم وإنما كتبت ههنا وفي ص بغير ألف اتباعا للفظ اللافظ «إني لكم رسول أمين» «فاتقوا الله وأطيعون» «وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين» «وأوفوا الكيل» أي أتموه «ولا تكونوا من المخسرين» أي حقوق الناس بالتطفيف «وزنوا» أي الموزونات «بالقسطاس المستقيم» بالميزان السوى وهو إن كان عربيا فإن كان من القسط ففعلا س بتكرير العين وإلا ففعلا ل وقرئ بضم القاف «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» أي لا تنقصوا شيئا من حقوقهم أي حق كان وهذا تعميم بعد تخصيص بعض المواد بالذكر لغاية أنهما كهم فيها «ولا تعثوا في الأرض مفسدين» بالقتل والغارة وقطع الطريق «واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين» أي ذوى الجبلة الأولين وهم من تقدمهم من الخلائق وقرئ بضم الجيم والباء وبكسر الجيم وسكون الباء كالخلقة «قالوا إنما أنت من المسحرين» «وما أنت إلا بشر مثلنا» إدخال الواو بين الجملتين للدلالة على أن كلا من التسحير والبشرية مناف للرسالة مبالغة في التكذيب «وإن نظنك لمن الكاذبين» أي فيما تدعيه من النبوة «فأسقط علينا كسفا من السماء» أي قطعا وقرئ بسكون السين وهو أيضا جمع كسفة وقيل الكسف والكسفة كالريع والريعة وهي القطعة والمراد بالسماء إما السحاب أو المظلة ولعله جواب
262

لما أشعر به الأمر بالتقوى من التهديد «إن كنت من الصادقين» في دعواك ولم يكن طلبهم ذلك إلا لتصميمهم على الجحود والتكذيب وإلا لما أخطروه ببالهم فضلا أن يطلبوه «قال ربي أعلم بما تعملون» من الكفر والمعاصي وبما تستحقون بسببه من العذاب فسينزله عليكم في وقته المقدر له لا محالة «فكذبوه» أي فتموا على تكذيبه وأصروا عليه «فأخذهم عذاب يوم الظلة» حسبما اقترحوا أما إن أرادوا بالسماء السحاب فظاهر وأما إن أرادوا المظلة فلأن نزول العذاب من جهتها وفي إضافة العذاب إلى يوم الظلة دون نفسها إيذان بأن لهم يومئذ عذابا آخر غير عذاب الظلة وذلك بأن سلط الله عليهم الحر سبعة أيام ولياليها فأخذ بأنفاسهم لا ينفعه ظل ولا ماء ولا سرب فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا جميعا روى أن شعيبا عليه السلام بعث إلى أمتين
أصحاب مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بالصيحة والرجفة وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة «إنه كان عذاب يوم عظيم» أي في الشدة والهول وفظاعة ما وقع فيه من الطامة والداهية التامة «إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين» «وإن ربك لهو العزيز الرحيم» هذا آخر القصص السبع التي أوحيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصرفه صلى الله عليه وسلم عن الحرص على إسلام قومه وقطع رجائه عنه ودفع تحسره على فواته تحقيقا لمضمون ما مر في مطلع السورة الكريمة من قوله تعالى وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا بالحق الآية فإن كل واحدة من هذه القصص ذكر مستقل متجدد النزول قد أتاهم من جهته تعالى بموجب رحمته الواسعة وما كان أكثرهم مؤمنين بعد ما سمعوها على التفصيل قصة بعد قصة لا بأن يتدبروا فيها ويعتبروا بما في كل واحدة منها من الدواعي إلى الإيمان والزواجر عن الكفر والطغيان ولا بأن يتأملوا في شأن الآيات الكريمة الناطقة بتلك القصص على ما هي عليه مع علمهم بأنه صلى الله عليه وسلم لم يسمع شيئا منها من أحد أصلا واستمروا على ما كانوا عليه من الكفر والضلال كأن لم يسمعوا شيئا يزجرهم عن ذلك قطعا كما حقق في خاتمة قصة موسى عليه السلام «وإنه» أي ما ذكر من الآيات الكريمة الناطقة بالقصص المحكية أو القرآن الذي هي من جملته «لتنزيل رب العالمين» أي منزل من جهته تعالى سمى به مبالغة ووصفه تعالى بربوبية العالمين للإيذان بأن تنزيله من أحكام تربيته تعالى ورأفته للكل كقوله تعالى ومن أرسلناك إلا رحمة
263

العالمين «نزل به» أي أنزله «الروح الأمين» أي جبريل عليه السلام فإنه امين وحيه تعالى وموصله إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام وقرئ بتشديد الزاي ونصب الروح والأمين أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به «على قلبك» أي روحك وإن أريد به العضو فتخصيصه به لأن المعاني الروحانية تنزل أولا على الروح ثم تنتقل منه إلى القلب لما بينهما من التعلق ثم تتصعد إلى الدماغ فينتصف بها لوح المتخيلة «لتكون من المنذرين» متعلق بنزل به أي أنزله لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة وإيثار ما عليه النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلى الله عليه وسلم في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر وقوع العذاب المنذر «بلسان عربي مبين» واضح المعنى ظاهر المدلول لئلا يبقى لهم عذر ما وهو أيضا متعلق بنزل به وتأخيره للاعتناء بأمر الإنذار وللإيماء إلى أن مدار كونه من جملة المنذرين المذكورين عليهم السلام مجرد انزاله عليه صلى الله عليه وسلم لا انزاله باللسان العربي وجعله متعلقا بالمنذرين كما جوزه الجمهور يؤدى إلى أن غاية الإنزال كونه صلى الله عليه وسلم من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليه السلام ولا يخفى فساده كيف لا والطامة الكبرى في باب الإنذار ما أنذره نوح وموسى عليهما السلام وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره إبراهيم عليه السلام لانتمائهم وإدعائهم أنهم على ملته عليه الصلاة والسلام «وإنه لفي زبر الأولين» أي وإن ذكره أو معناه لفي الكتب المتقدمة فإن أحكامه التي لا تحتمل النسخ والتبديل بحسب تبدل الأعصار من التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات مسطورة فيها وكذا ما في تضاعيفه من المواعظ والقصص وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بواضح «أو لم يكن لهم آية» الهمزة للإنكار والنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قيل أغفلوا عن ذلك ولم يكن لهم آية دالة على أنه تنزيل من رب العالمين وأنه في زبر الأولين على أنه لهم متعلق بالكون قدم على اسمه وخبره للاهتمام به أو بمحذوف هو حال من آية قدمت عليها لكونها نكرة وآية خبر للكون قدم على اسمه الذي هو قوله تعالى «أن يعلمه علماء بني إسرائيل» لما مر مرارا من الاعتناء والتشويق إلى المؤخر أي أن يعرفوه بنعوته المذكورة في كتبهم ويعرفوا من أنزل عليه وقرئ تكن بالتأنيث وجعلت آية اسما وأن يعلمه خبرا وفيه ضعف حيث وقع النكرة اسما والمعرفة خبرا وقد قيل في تكن ضمير القصة
264

وآية أن يعلمه جملة واقعة موقع الخبر ويجوز أن يكون لهم آية هي جملة الشأن وأن يعلمه بدلا من آية ويجوز مع نصب آية تأنيث تكن كما في قوله تعالى ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا وقرئ تعلمه بالتاء «ولو نزلناه» كما هو بنظمه الرائق المعجز «على بعض الأعجمين» الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية وهو جمع أعجمي على التخفيف ولذلك جمع جمع السلامة وقرئ الأعجميين وفي لفظ البعض إشارة إلى كون ذلك واحدا من عرض تلك الطائفة كائنا من كان «فقرأه عليهم» قراءه صحيحة خارقة للعادات «ما كانوا به مؤمنين» مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة وقيل المعنى ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين لعدم فهمهم واستنكافهم من اتباع العجم وليس بذاك فإنه بمعزل من المناسبة لمقام بيان تماديهم في المكابرة والعناد «كذلك سلكناه» أي مثل ذلك السلك البديع المذكور سلكناه أي أدخلنا القرآن «في قلوب المجرمين» ففهموا معانيه وعرفوا فصاحته وأنه خارج عن القوى البشرية من حيث النظم المعجز ومن حيث الإخبار عن الغيب وقد انضم إليه اتفاق علماء أهل الكتب المنزلة قبله على تضمها للبشارة إنزاله وبعثة من أنزل عليه بأوصافه فقوله تعالى «لا يؤمنون به» جملة مستأنفة مسوقة لبيان أنهم لا يتأثرون بأمثال تلك الأمور الداعية إلى الإيمان به بل يستمرون على ما هم عليه «حتى يروا العذاب الأليم» الملجئ إلى الإيمان به حين لا ينفعهم الإيمان «فيأتيهم بغتة» أي فجأة في الدنيا والآخرة «وهم لا يشعرون» بإتيانه «فيقولوا هل نحن منظرون» تحسرا على ما فات من الإيمان وتمنيا للإمهال لتلافي ما فرطوه وقيل معنى كذلك سلكناه مثل تلك الحال وتلك الصفة من الكفر به والتكذيب له وضعناه في قلوبهم وقوله تعالى لا يؤمنون به في موقع الإيضاح والتلخيص له أو في موقع الحال أي سلكناه فيها غير مؤمن به والأول هو الأنسب بمقام بيان غاية عنادهم ومكابرتهم مع تعاضد أدلة الإيمان وتأخذ مبادئ الهداية والإرشاد وانقطاع أعذارهم بالكلية وقيل ضمير سلكناه للكفر المدلول عليه بما قبله من قوله تعالى ما كانوا به مؤمنين ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد رحمهما الله تعالى أدخلنا
265

الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين «أفبعذابنا يستعجلون» بقولهم أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم وقولهم فأتنا بما تعدنا ونحوهما وحالهم عند نزول العذاب كما وصف من طلب الإنذار فالفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيكون حالهم كما ذكر من الاستنظار عند نزول العذاب الأليم فيستعجلون بعذابنا وبينهما من التنافي ما لا يخفى على أحد أو أيغفلون عن ذلك مع تحققه وتقرره فيستعجلون الخ وإنما قدم الجار والمجرور للإيذان بأن مصب الإنكار والتوبيخ كون المستعجل به عذابه
تعالى مع ما فيه من رعاية الفواصل «أفرأيت» لما كانت الرؤية من أقوى أسباب الإخبار بالشيء وأشهرها شاع استعمال أرأيت في معنى أخبرني والخطاب لكل من يصلح له كائنا من كان والفاء لترتيب الاستخبار على قولهم هل نحن منظرون وما بينهما اعتراض للتوبيخ والتبكيت وهي متقدمة في المعنى على الهمزة وتأخيرها عنها صورة لاقتضاء الهمزة الصدارة كما هو رأى الجمهور أي فأخبرني «إن متعناهم سنين» متطاولة بطول الأعمار وطيب المعاش «ثم جاءهم ما كانوا يوعدون» من العذاب «ما أغنى عنهم» أي شيء أو أي أعناه أغنى عنهم «ما كانوا يمتعون» أي كونهم ممتعين ذلك التمتيع المديد على أن ما مصدرية أو ما كانوا يمتعون به من متاع الحياة الدنيا على أنها موصولة حذف عائدها وأيا ما كان فالاستفهام الإنكار والنفي وقيل ما نافيه أي لم يغن عنهم تمتعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه والأول هو الأولى لكونه أوفق لصورة الاستخبار وأدل على انتفاء الإغ 2 باء على أبلغ وجه وآكده كأن كل من من شأنه الخطاب قد كلف أن يخبر بأن تمتيعهم ماذا أفادهم وأي شيء أغنى عنهم فلم يقدر أحد على أن يخبر بشيء من ذلك أصلا وقرئ يمتعون من الامتاع «وما أهلكنا من قرية» من القرى المهلكة «إلا لها منذرون» قد أنذروا أهلها إلزاما للحجة «ذكرى» أي تذكره ومحلها النصب على العلة أو المصدر لأنها في معنى الإنذار كأنه قيل مذكرون ذكرى أو على أنه مصدر مؤكد لفعل هو صفة لمنذرون أي إلا لها منذرون يذكرونهم ذكرى أو الرفع على أنها صفة منذرون بإضمار ذوو أو بجعلهم ذكرى لإمعانهم في التذكرة أو خبر مبتدأ محذوف
266

والجملة اعتراضية وضمير لها للقرى المدلول عليها بمفردها الواقع في حيز النفي على أن معنى أن للكل منذرين أعم من أن يكون لكل قرية منها منذر واحد أو أكثر «وما كنا ظالمين» فنهلك غير الظالمين وقيل الإنذار والتعبير عن ذلك بنفي الظالمية مع أنه إهلاكهم قبل الإنذار ليس بظلم أصلا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم وقد مر في سورة آل عمران عند قوله تعالى وأن الله ليس بظلام للعبيد «وما تنزلت به الشياطين» رد لما زعمه الكفرة في حق القرآن الكريم من أنه من قبيل ما يلقيه الشيطان على الكهنة بعد تحقيق الحق بيان أنه نزل به الروح الأمين «وما ينبغي لهم» أي وما يصح وما يستقيم لهم ذلك «وما يستطيعون» ذلك أصلا «إنهم عن السمع» لكلام الملائكة «لمعزولون» لانتفاء المشاركة بينهم وبين الملائكة في صفاء الذوات الاستعداد لقبول فيضان أنوار الحق والانتقاش بصور العلوم الربانية والمعارف النورانية كيف لا ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات غير مستعدة إلا لقبول ما لا خير فيه أصلا من فنون الشرور فمن أين لهم أن يحوموا حول القرآن الكريم المنطوي على الحقائق الرائقة الغيبية التي لا يمكن تلقيها إلا من الملائكة عليهم الصلاة والسلام «فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين» خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم مع ظهور استحالة صدور المنهى عنه عنه صلى الله عليه وسلم تهييجا وحثا على ازدياد الإخلاص ولطفا لسائر المكلفين ببيان أن الإشراك من القبح والسوء بحيث ينهى عنه من لا يمكن صدوره عنه فكيف بمن عداه «وأنذر» العذاب الذي يستتبعه الشرك والمعاصي «عشيرتك الأقربين» الأقرب منهم فالأقرب فإن الاهتمام بشأنهم أهم روى أنه لما نزلت صعد الصفا وناداهم فحذا فخذا حتى اجتمعوا إليه فقال لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي قالوا نعم قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد وروى أنه قال يا بنى عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف افتدوا أنفسكم من النار فإني لا أغنى عنكم شيئا ثم قال يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا فاطمة بنت محمد ويا صفية عمة محمد اشترين أنفسكن من النار فإني لا أغني عنكن شيئا «واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين»
267

أي لين جانبك لهم مستعار من حال الطائر فإنه إذا أراد أن ينحط خفض جناحه ومن للتبيين لأن من اتبع أعم ممن اتبع لدين أو غيره أو للتبعيض على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان أو المصدقون باللسان فحسب «فإن عصوك» ولم يتبعوك «فقل إني بريء مما تعملون» أي مما تعملون أو من أعمالكم «وتوكل على العزيز الرحيم» الذي يقدر على قهر أعدائه ونصر أوليائه يكفك شر من يعصيك منهم ومن غيرهم وقرئ فتوكل على أنه بدل من جواب الشرط «الذي يراك حين تقوم» أي إلى التهجد «وتقلبك في الساجدين» وترددك في تصفح أحوال المتهجدين كما روى أنه لما نسخ فرض قيام الليل طاف صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصا على كثرة طاعتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع منها من دندنتهم بذكر الله تعالى والتلاوة أو تصرفك فيما بين المصلين بالقيام والركوع والسجود والقعود إذا أممتهم وإنما وصف الله تعالى ذاته بعلمه بحاله صلى الله عليه وسلم التي بها يستأهل ولايته بعد أن عبر عنه بما ينبئ عن قهر أعدائه ونصر أوليائه من وصفي العزيز الرحيم تحقيقا للتوكل وتوطينا لقلبه عليه «إنه هو السميع» لما تقوله «العليم» بما تنويه وتعلمه «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين» أي تتنزل بحذف إحدى التامين وهو استئناف مسوق لبيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد بيان امتناع تنزلهم بالقرآن ودخول حرف الجر على من الاستفهامية لما أنها ليست موضوعة للاستفهام بل الأصل أمن فحذف حرف الاستفهام واستمر الاستعمال على حذفه كما حذف من هل والأصل أهل وقوله تعالى «تنزل على كل أفاك أثيم» قصر لتنزلهم على كل من اتصف بالإفك الكثير والإثم الكبير من الكهنة والمتنبئة وتخصيص له بهم بحيث لا يتخطاهم إلى غيرهم وحيث كانت ساحة رسول الله صلى الله عليه وسلم منزهة عن أن يحوم حولها شائبة شيء من تلك الأوصاف اتضح استحالة تنزلهم عليه صلى الله عليه وسلم «يلقون» أي الأفاكون «السمع»
268

إلى الشياطين فيتلقون منهم أوهاما وأمارات لنقصان علمهم فيضمون إليها بحسب تخيلاتهم الباطلة خرافات لا يطابق أكثرها الواقع وذلك قوله تعالى «وأكثرهم كاذبون» أي فيما قالوه من الأقاويل وقدور في الحديث الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة أو يلقون السمع أي المسموع من الشياطين إلى الناس وأكثرهم كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجني وأما في أكثره فهم كاذبون ومآله وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقين على الإطلاق وليس معنى الأفاك من لا ينطق إلا بالإفك حتى يمتنع منه الصدق بل من يكثر الإفك فلا ينافيه أن يصدق نادرا في بعض الأحايين وقيل الضمير للشياطين أي يلقون السمع أي المسموع من الملأ الاعلى قبل أن رجموا من بعض المغيبات إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ لا يسمعونهم على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو
إفهامهم ولا سبيل إلى حمل إلقاء السمع على تسمعهم وإنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل الرجم كما جوزه الجمهور لما أن يلقون كما صرحوا به إما حال من ضمير تنزل مفيدة لمقارنة التنزل للإلقاء أو استئناف مبين للغرض من التنزل مبنى على السؤال عنه ولا ريب في أن إلقاء السمع إلى الملأ الأعلى بمعزل من احتمال أن يقارن التنزل أو يكون غرضا منه لتقدمه عليه قطعا وإنما المحتمل لهما الإلقاء بالمعنى الأول فالمعنى على تقدير كونه حالا تنزل الشياطين على الأفاكين ملقين إليهم ما سمعوه من الملأ الأ على وعلى تقدير كونه فهو وصفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع سواء أريد بإلقاء السمع الإصغاء إلى الشياطين أو إلقاء المسموع إلى الناس ويجوز أن يكون استئناف إخبار بحالهم على كلا التقديرين لما أن كلا من تلقيهم من الشياطين وإلقائهم إلى الناس يكون بعد التنزيل وأن يكون استئنافا مبنيا على السؤال على التقدير الأول فقط كأنه قيل ما يفعلون عند تنزل الشياطين عليهم فقيل يلقون إليهم أسماعهم ليحفظوا ما يوحون به إليهم وقوله تعالى وأكثرهم كاذبون على التقدير الأول استئناف فقط وعلى الثاني يحتمل الحالية من ضمير يلقون أي ما سمعوه من الشياطين إلى الناس والحال أنهم في أكثر أقوالهم كاذبون فتدبر «والشعراء يتبعهم الغاوون» استئناف مسوق لإبطال ما قالوا في حق القرآن العظيم من أنه من قبيل الشعر وان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعراء ببيان حال الشعراء المنافية لحاله صلى الله عليه وسلم بعد ابطال ما قالوا أن من قبيل ما يلقي الشياطين على الكهنة من الأباطيل بما مر من بيان أحوالهم المضادة لأحواله صلى الله عليه وسلم والمعنى أن الشعراء يتبعهم أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون الضالون عن السنن الحائرون فيما يأتون وما يذرون لا يستمرون على وتيرة واحدة الأفعال والأقوال والأحوال لا غيرهم من أهل الرشد المهتدين إلى
269

طريق الحق الثابتين عليه وقوله تعالى «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» استشهاد على ان الشعراء إنما يتبعهم الغاوون وتقرير له والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية للقصد إلى ان حالهم من الجلاء والظهور بحيث لا تختص برؤية راء دون راء أي ألم تر أن الشعراء في كل واد من أودية القيل والقال وفي كل شعب من شعاب الوهم والخيال وفي كل مسلك من مسالك الغي والضلال يهيمون على وجوههم لا يهتدون إلى سبيل معين من السبل بل يتحيرون في فيافي الغواية والسفاهة ويتيهون في تيه المجون والوقاحة دينهم تمزيق الأعراض المحمية والقدح في الأنساب الطاهرة السنية والتسيب بالحرام والغزل والابتهار والتردد بين طرفي الإفراط والتفريط في المدح والهجاء «وأنهم يقولون ما لا يفعلون» من الأفاعيل غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم فيكف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة واتصف بمحاسن الصفات الجليلة وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية وفاز بجملة الملكات الأنسية مستقرا على المنهاج القويم مستمرا على الصراط المستقيم ناطقا بكل أمر رشيد داعيا إلى صراط العزيز الحميد مؤيدا بمعجزات قاهرة وآيات ظاهرة مشحونة بفنون الحكم الباهرة وصنوف المعارف الزاهرة مستقلة بنظم رائق أعجز كل منطيق ماهر وبكت كل مفلق ساحر هذا وقد قيل في تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن أن يكون من الشعراء أن أباع الشعراء الغاوون وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا كذلك ولا ريب في أن تعليل عدم كونه صلى الله عليه وسلم منهم بكون أتباعه صلى الله عليه وسلم غير غاوين مما ليا يليق بشأنه العالي وقيل الغاوون الراوون وقيل الشياطين وقيل هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن أبى وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف وأبو عزة الجمحي ومن ثقيف أمية بن أبى الصلت قالوا نحن نقول مثل قول نحمد صلى الله عليه وسلم وقرئ والشعراء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وقرئ يتبعهم على التخفيف ويتبعهم بسكون العين تشبها لبعه بعضد «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا» استثناء للشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله عز وجل ويكون أكثر أشعارهم في التوحيد والثناء على الله تعالى والحث على طاعته والحكمة والموعظة والزهد في الدنيا والترغيب عن الركون إليها والزجر عن الاغترار بزخارفها والافتتان بملاذها الفانية ولو وقع منهم في بعض الأوقات هجو وقع ذلك منهم بطريق الانتصار ممن هجاهم وقيل المراد بالمستثنين عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن مالك وكعب بن زهير بن أبي
270

سلمى والذين كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكافحون هجاة قريش وعن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل وكان يقول لحسان قل وروح القدس معك «وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» تهديد شديد وعيد أكيد لما في سيعلم من تهويل متعلقه وفي الذين ظلموا من الإطلاق والتعميم وفي أي منقلب ينقلبون من الإبهام والتهويل وقد قاله أبو بكر لعمر رضي الله عنها حين عهد غليه وقرئ أي منفلت ينفلتون من الانفلات بمعنى النجاة والمعنى أن الظالمين يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بنوح وكذب به وهود وصالح وشعيب وإبراهيم وبعدد من كذب بعيسى وصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع وتسعون آية بسم الله الرحمن الرحيم «طس» بالتفخيم وقرئ بالإمالة والكلام فيه كالذي مر في نظائره من الفواتح الشريفة ومحله على تقدير كونه اسما للسورة وهو الأظهر الأشهر الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هذا طس أي مسمى به والإشارة إليه قبل ذكره قد مر وجهها في فاتحة سورة يونس وغيرها ورفعه بالابتداء على أن ما بعده خبره ضعيف لما ذكر هناك «تلك» إشارة إلى نفس السورة لأنها التي نوهت بذكر اسمها لا إلى آياتها لعدم ذكرها صريحا لأن إضافتها إليها تأبى إضافتها إلى القرآن كما سيأتي وما في اسم الإشارة من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره «آيات القرآن» والجملة مستأنفة مقررة لما افاده التسمية من نباهة شأن المسمى والقرآن عبارة عن الكل أو عن الجميع المنزل عند نزول السورة حسبما ذكر في فاتحة فاتحة الكتاب أي تلك السورة آيات القرآن المعروف بعلو الشأن أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص «وكتاب» أي كتاب عظيم الشأن «مبين» مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام وأحوال الآخرة التي من جملتها الثواب والعقاب أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر الإعجاز على أنه من أبان بمعنى بان ولقد فخم شأنه الجليل بما جمع فيه من وصف القرآنية المنبئة عن كونه بديعا في بابه ممتازا عن غيره
بالنظم المعجز كما يعرب عنه قوله تعالى قرآنا عربيا غير ذي عوج ووصف الكتابية المعربة عن اشتماله على صفات كمال الكتب الإلهية فكأنه كلها وقدم الوصف الأول ههنا نظرا إلى تقدم حال القرآنية على
271

حال الكتابية وعكس في سورة الحجر نظرا إلى ما ذكر هناك من الوجه وما قيل من أن الكتاب هو اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه لا يساعده إضافة الآيات إليه إذ لا عهد باشتماله على الآيات ولا وصفه بالهداية والبشارة إذا هما باعتبار إبانته فلا بد من اعتبارها بالنسبة إلى الناس الذين من جملتهم المؤمنون الا إلى الناظرين فيه وقرئ وكتاب بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أي وآيات كتاب مبين «هدى وبشرى للمؤمنين» في حيز النصب على الحالية من الآيات على أنهما مصدران أقيما مقام الفاعل للمبالغة كأنهما نفس الهدى والبشارة والعامل معنى الإشارة أي هادية ومبشرة أو الرفع على أنهما بدلان من الآيات أو خبران آخران لتلك أو لمبتدأ محذوف ومعنى هدايتها لهم وهم مهتدون أنها تزيدهم هدى قال تعالى فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما معنى تبشيرها إياهم فظاهر لأنها تبشرهم برحمة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم وقوله تعالى «الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة» صفة مادحة لهم وتخصيصهما بالذكر لأنهما قرينتا الإيمان وقطر العبادات البدنية والمالية مستتبعان لسائر الأعمال الصالحة وقوله تعالى «وهم بالآخرة هم يوقنون» جملة اعتراضية كأنه قيل وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب أو هو من تتمة الصلة والواو حالية أو عاطفة له على الصلة الأولى وتغيير نظمه الدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم أوحديون فيه «إن الذين لا يؤمنون بالآخرة» بيان لأحوال الكفرة بعد بيان أحوال المؤمنين أي لا يؤمنون بها وبما فيها من الثواب على الأعمال الصالحة والعقاب على السيئات حسبما ينطق به القرآن «زينا لهم أعمالهم» القبيحة حيث جعلناها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم حفت النار بالشهوات أو الأعمال الحسنة ببيان حسنها في أنفسها حالا واستتباعها لفنون المنافع مآلا وإضافتها إليهم باعتبار أمرهم بها وإيجابها عليهم «فهم يعمهون» يتحيرون ويترددون على التجدد والاستمرار فمع الاشتغال بها والانهماك فيها من غير ملاحظة لما يتبعها من نفع وضر أو في الضلال والإعراض عنها والفاء على الأول لترتيب المسبب على السبب وعلى الثاني لترتيب ضد المسبب على السبب كما في قولك وعظته فلم يتعظ وفيه إيذان بكمال عتوهم ومكابرتهم وتعكيسهم في الأمور «أولئك» إشارة إلى المذكورين وهو مبتدأ خبره الموصول بعده أي أولئك الموصوفون بالكفر والعمه «الذين لهم سوء
272

العذاب» أي في الدنيا كالقتل والأسر يوم بدر «وهم في الآخرة هم الأخسرون» أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب «وإنك لتلقى القرآن» كلام مستأنف قد سيق بعد بيان بعض شؤون القرآن الكريم تمهيدا لما يعقبه من الأقاصيص وتصديره بحرفي التأكيد لإبراز كمال العناية بمضمونه أي لتؤتاه بطريق التلقية والتلقين «من لدن حكيم عليم» أي أي حكيم وأي عليم وفي تفخيمهما تفخيم لشأن القرآن وتنصيص على علو طبقته صلى الله عليه وسلم في معرفته والإحاطة بما فيه من الجلائل والدقائق فإن من تلقى العلوم والحكم من مثل ذلك الحكيم العليم يكون علما في رصانة العلم والحكمة والجمع بينهما مع دخول العلم في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على إتقان الفعل وللإشعار بأن ما في القرآن من العلوم منها منا هو حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار الغيبية وقوله تعالى «إذ قال موسى لأهله» منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بتلاوة بعض من القرآن الذي يلقاه صلى الله عليه وسلم من لدنه عز وجل تقريرا لما قبله وتحقيقا له أي اذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لأهله في وادي طوى وقد غشيتهم ظلمة الليل وقدح فأصلد زنده فبدا له من جانب الطور نار «إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر» أي عن حال الطريق وقد كانوا ضلوه والسين الدلالة على نوع بعد في المسافة وتأكيد الوعد والجمع إن صح أنه لم يكن معه عليه الصلاة والسلام إلا امرأته لما كنى عنها بالأهل أو للتعظيم مبالغة في التسلية «أو آتيكم بشهاب قبس» بتنوينهما على أن الثاني بدل من الأول أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس أي بشعلة نار مقبوسة أي مأخوذة من أصلها وقرئ بالإضافة وعلى التقديرين فالمراد تعيين المقصود الذي هو القبس الجامع لمنفعتي الضياء والاصطلاء لأن من النار ما ليس بقبس كالجمر وكلتا العدتين منه عليه الصلاة والسلام بطريق الظن كما يفصح عن ذلك ما في سورة طه من صيغة الترجي والترديد للإيذان بأنه ان لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما بناء على ظاهر الأمر وثقة بسنة الله تعالى فإنه تعالى لا يكاد يجمع على عبده حرمانين «لعلكم تصطلون» رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة «فلما جاءها نودي» من جانب الطور «أن بورك» معناه أي بورك على أن مفسرة لما في النداء من معنى القول أو بأن بروك على أنها مصدرية حذف عنها الحار جريا على القاعدة المستمرة وقيل مخففة من الثقيلة ولا ضير فلي فقدان التعويض بلا أوقد أو السين أو سوف لما ان الدعاء يخالف غيره في كثير من الأحكام «من في النار ومن حولها» أي من في مكان النار وهي البقعة المباركة المذكورة في قوله سبحانه نودي من
273

شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة ومن حول مكانها وقرئ تباركت الأرض ومن حولها والظاهر عمومه لكل من في ذلك الوادي وحواليه من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكفاتهم أحياء وأمواتا ولا سيما تلك البقعة التي كلم الله تعالى فيها موسى وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم ديني تنتشر بركاته في أقطار الشام وهو تكليمه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام واستنباؤه له وإظهار المعجزات على يده عليه الصلاة والسلام «وسبحان الله رب العالمين» تعجيب لموسى عليه الصلاة والسلام من ذلك وإيذان بأن ذلك مر يده ومكونه رب العالمين تنبيها على أن الكائن من جلائل الأمور وعظائم الشؤون ومن أحكام تربيته تعالى للعالمين «يا موسى إنه أنا الله» استئناف مسوق لبيان آثار البركة المذكورة والضمير إما للشأن وأنا الله جملة مفسرة له وإما راجع إلى المتكلم وأنا خبره والله بيان له وقوله تعالى «العزيز الحكيم» صفتان لله تعالى ممهدتان لما أريد إظهاره على يده من المعجزات أي أما القوى القادر على ما لا تناله الأوهام من الأمور العظام التي من جملتها أمر العصا واليد الفاعل كل ما أفعله بحكمة بالغة وتدبير رصين «وألق» عطف على بورك منتظم معه في سلك تفسير النداء أي نودي أن بورك وأن ألق «عصاك» حسبما نطق به قوله تعالى وأن ألق عصاك بتكرير حرف التفسير كما تقول كتبت إليه أن حج وأن
اعتمر وإن شئت أن حج واعتمر والفاء في قوله تعالى «فلما رآها تهتز» فصيحة تفصيح عن جملة قدد حذفت ثقة بظهورها ودلالة على سرعة وقوع مضمونها كما في قوله تعالى فلما رأينه أكبرنه بعد قوله تعالى اخرج عليهن كأنه قيل فألقاها فانقلب حية تسعى فأبصرها فلما أبصرها متحركة بسرعة واضطراب قوله تعالى «كأنها جان» أي حية خفيفة سريعة الحركة جملة حالية إما من مفعول رأى مثل تهتز كما أشير إليه أو من ضمير تهتز على طريقة التداخل وقرئ جان على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين «ولى مدبرا» من الخوف «ولم يعقب» أي لم يرجع على عقبه من عقب المقاتل إذا كر بعد الفر وإنما اعتراه الرعب لظنه أن ذلك لأمر أريد به كما ينبئ عنه قوله تعالى «يا موسى لا تخف» أي من غيري ثقة بي أو مطلقا لقوله تعالى «إني لا يخاف لدي المرسلون» فإنه يدل على نفي الخوف عنهم مطلقا لكن لا في جميع الأوقات بل حين يوحى إليهم كوقت الخطاب فإنهم حينئذ مستغرقون في مطالعة شؤون الله عز وجل لا يخطر ببالهم خوف من أحد أصلا وأما في سائر الأحيان فهم أخوف الناس منه سبحانه أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة ليخافوا منه
274

«إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم» استثناء منقطع استدرك به ما عسى يختلج في الخلد من نفي الخوف عن كلهم مع أن منهم من فرطت منه صغيره ما مما يجوز صدوره عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم وإن صدر عنهم شيء من ذلك فقد فعلوا عقيبه ما يبطله ويستحقون به من الله تعالى مغفرة ورحمة وقد قصد به التعريض بما وقع من موسى عليه الصلاة والسلام من وكزه القبطي والاستغفار وتسميتها ظلما لقوله صلى الله عليه وسلم رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له «وأدخل يدك في جيبك» لأنه كان مدرعة صوف لا كم لها وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع «تخرج بيضاء من غير سوء» أي آفة كبر ص ونحوه «في تسع آيات» في جملتها أو معها على أن التسع هي الفلق والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحدا ولا يعد الفلق منها لأنه لم يبعث به إلى فرعون أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإرسال فيتعلق به «إلى فرعون وقومه» وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثا أو مرسلا «إنهم كانوا قوما فاسقين» تعليل للإرسال أي خارجين عن الحدود في الكفر والعدوان «فلما جاءتهم آياتنا» وظهرت على يد موسى «مبصرة» بينة اسم فاعل أطلق على المفعول إشعارا بأنها لفرط وضوحها وإنارتها كأنها تبصر نفسها لو كانت مما يبصر أو ذات تبصر من حيث إنها تهدى والعمى لا تهتدى فضلا عن الهداية أو مبصرة كل من ينظر إليها ويتأمل فيها وقرئ مبصرة أي مكانا يكثر فيه التبصر «قالوا هذا سحر مبين» واضح سحريته «وجحدوا بها» أي كذبوا بها «واستيقنتها أنفسهم» الواو للحال أي وقد استيقنتها أي علمتها أنفسه علما يقينيا «ظلما» أي للآيات كقوله تعالى بما كانوا بآياتنا يظلمون ولقد ظلموا بها أي ظلم حيث حطوها عن رتبتها العالية وسموها سحرا وقيل ظلما لأنفسهم وليس بذاك «وعلوا» أي استكبارا عن الإيمان بها كقوله تعالى والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها وانتصابهما إما على العلة من جحدوا بها أو على الحالية من فاعله أي جحدوا بها ظالمين لها مستكبرين عنها «فانظر كيف كان عاقبة المفسدين» من الإغراق على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين وإنما لم يذكر تنبيها على أنه عرضة لكل ناظر مشهور فيما بين كل باد وحاضر
275

«ولقد آتينا داود وسليمان علما» كلام مستأنف مسوق لتقرير ما سبق من أنه صلى الله عليه وسلم يلقى القرآن من لدن حكيم عليم فإن قصتهما عليهما الصلاة والسلام من جملة القرآن الكريم لقيه صلى الله عليه وسلم من لدنه تعالى كقصة موسى عليه الصلاة والسلام وتصديره بالقسم لإظهار كمال الاعتناء بتحقيق مضمونه أي آتينا كل واحد منهما طائفة من العلم لائقة به من علم الشرائع والأحكام وغير ذلك مما يختص بكل منهما كصنعة لبوس ومنطق الطير أو علما سنيا عزيزا «وقالا» أي قال كل واحد منهما شكرا لما أوتيه من العلم «الحمد لله الذي فضلنا» بما آتاناه من العلم «على كثير من عباده المؤمنين» على أن عبارة كل منهما فضلني إلا أنه عبر عنهما عند الحكاية بصيغة المتكلم مع الغير إيجازا فإن حكاية الأقوال المتعددة سواء كانت صادرة عن المتكلم أو عن غيره بعبارة جامعة للكل مما ليس بعزيز ومن الأول قوله تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا وقد مر في سورة قد أفلح المؤمنون وبهذا ظهر حسن موقع العطف بالواو إذ المتبادر من العطف بالفاء ترتب حمد كل منهما على إيتاء ما أوتى كل منهما لا على إيتاء ما أوتى نفسه فقط وقيل في العطف بالواو إشعار بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشئ من مواجبه فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد كأنه قيل ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلمناه وعرفا حق النعمة فيه وقالا الحمد لله الآية فتأمل والكثير المفضل عليه من لم يؤت مثل علمهما وقيل من لم يؤت علما ويأباه تبيين الكثير بالمؤمنين فإن خلوهم من العلم بالمرة مما لا يمكن وفي تخصيصها الأكثر بالذكر رمز إلى أن البعض مفضلون عليهما وفيه أوضح دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤته غيرهما وتحريض للعلماء على أن يحمدوا الله تعالى على ما آتاهم من فضله ويتواضعوا ويعتقدوا أنهم وإن فضلوا على كثير فقد فضل عليهم كثيرو فوق كل ذي علم عليم ونعما قال أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كل الناس أفقه من عمر «وورث سليمان داود» أي النبوة والعلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر «وقال» تشهيرا لنعمة الله تعالى وتنويها بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزات الباهرة التي أوتيها «يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء» المنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفردا كان أو مركبا وقد يطلق على كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد يقال نطقت الحمامة وكل صنف من أصناف الطير يتفاهم أصواته والذي علمه سليمان عليه السلام من منطق الطير هو ما يفهم بعضه من بعض من معانيه وأغراضه ويحكى أنه مر على بلبل في شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال لأصحابه أتدرون ما يقول قالوا الله ونبيه أعلم قال
276

يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا وصاح طاوس فقال يقول كما تدين تدان وصاح هدهد فقال يقول استغفروا الله يا مذنبين وصاح طيطوى فقال يقول كل حي ميت وكل جديد بال وصاح خطاف فقال يقول قدموا خيرا تجدوه وصاح قمري فأخبر أنه يقول سبحان ربي الأعلى وصاحت رخمة فقال تقول سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه وقال الحدأة تقول كل شيء هالك إلا الله والقطاة تقول من سكت سلم والببغاء تقول ويل لمن
الدنيا همه والديك يقول اذكروا الله يا غافلين والنسر يقول يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت والعقاب تقول في البعد عن الناس أنس والضفدع يقول سبحان ربي القدوس وأراد عليه الصلاة والسلام بقوله علمنا وأوتينا بالنون التي يقال لها نون الواحد المطاع بيان حاله وصفته من كونه ملكا مطاعا لكن لا تجبرا وتكبرا بل تمهيدا لما أراد منهم من حسن الطاعة والانقياد له في أوامره ونواهيه حيث كان على عزيمة المسير وبقوله من كل شيء كثرة ما أوتيه كما يقال فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء ويراد به كثرة قصاده وغزارة علمه ومثله قوله تعالى وأوتيت من كل شيء وقال ابن عباس رضي الله عنهما كل ما يهمه من أمر الدنيا والآخرة وقال مقاتل يعنى النبوة والملك وتسخير الجن والإنس والشياطين والريح «إن هذا» إشارة إلى ما ذكر من التعليم والإيتاء «لهو الفضل» والإحسان من الله تعالى «المبين» الواضح الذي لا يخفى على أحد أو إن هذا الفضل الذي أوتيه لهو الفضل المبين على أنه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل الشكر والمحمدة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا ولعله عليه الصلاة والسلام رتب على كلامه ذلك دعوة الناس إلى الغزو فإن اخبارهم بإيتاء كل شيء من الأشياء التي من جملتها آلات الحرب وأسباب الغزو مما ينبئ عن ذلك فمعنى قوله تعالى «وحشر لسليمان جنوده» جمع له عساكره «من الجن والإنس والطير» بمباشرة مخاطبيه فإنهم كانوا رؤساء مملكته وعظماء دولته من الثقلين وغيرهم بتعميم الناس للكل تغليبا وتقديم الجن على الإنس في البيان للمسارعة إلى الإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه من أول الأمر لما أن الجن طائفة عانية وقبيلة طاغية ماردة بعيدة من الحشر والتسخير «فهم يوزعون» أي يحبس أوائلهم على أواخرهم أي يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم التوالي فيكونوا مجتمعين لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة ويجوز أن يكون ذلك لترتيب الصفوف كما هو المعتاد في العساكر وفيه إشعار بكمال مسارعتهم إلى السير وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضا لما أن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع وهذا إذا لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو روى أن معسكره عليه الصلاة والسلام كان مائة فرسخ في مائة خمسة وعشرون للجن وخمسة وعشرون للإنس وخمسة وعشرون للطير وخمسة وعشرون للوحش وكان له عليه الصلاة والسلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب
277

فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة فيقعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام على كراسي الذهب والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر ويروى أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء تسيره فأوحى الله تعالى إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك فيحكى أنه مر بحراث فقال لقد أوتى آل داود ملكا عظيما فألقته الريح في أذنه فنزل ومشى إلى الحراث وقال إنما مشيت إليك لئلا تتمنى مالا تقدر عليه ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتى آل داود «حتى إذا أتوا على وادي النمل» حتى هي التي يبتدأ بها الكلام ومع ذلك هي غاية لما قبلها كالتي في قوله تعالى حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل الآية وهي ههنا غاية لما ينبئ عنه قوله تعالى فهم يوزعون من السير كأنه قيل فساروا حتى إذا أتوا الخ ووادي النمل واد بالشام كثير النمل على ما قاله مقاتل رضي الله عنه وبالطائف على ما قاله كعب رضي الله عنه وقيل هو واد تسكنه الجن والنمل مراكبهم وتعدية الفعل إليه بكلمة على اما لأن إتيانهم كان من فوق وإما لأن المراد بالإتيان عليه قطعه من قولهم أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره ولعلهم أرادوا أن ينزلوا عند منتهى الوادي إذ حينئذ يخافهم ما في الأرض لا عند سيرهم في الهواء وقوله تعالى «قالت نملة» جواب إذا كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت منهم فصاحت صيحة تنبهت بها ما بحضرتها من النمل لمرادها فتبعها في الفرار فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم فأجروا مجراهم حيث جعلت هي قائلة وما عداها من النمل مقولا لهم حيث قيل «يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم» مع انه لا يمتنع أن يخلق الله تعالى فيها النطق وفيما عداها العقل والفهم وقرئ نملة يا أيها النمل بضم الميم وهو الأصل كالرجل وتسكين الميم تخفيف منه كالسبع في السبع وقرئ بضم النون والميم قيل كانت نملة عرجاء تمشي وهي تتكاوس فنادت بما قالت فسمع سليمان عليه السلام كلامها من ثلاثة أميال وقيل كان اسمها طاخية وقرئ مسكنكم وقوله تعالى «لا يحطمنكم سليمان وجنوده» نهى في الحقيقة للنمل عن التأخر في دخول مساكنهم وإن كان بحسب الظاهر نهيا له عليه الصلاة والسلام ولجنوده عن الحطم كقولهم لا أرينك ههنا فهو استئناف أو بدل من الأمر كقول من قال فقلت له ارحل لا تقيمن عندنا لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة وقرئ لا يحطمنكم بالنون الخفيفة وقرئ لا يحطمنكم بفتح الحاء وكسرها وأصله لا يحتطمنكم وقوله تعالى «وهم لا يشعرون» حال من فاعل يحطمنكم مفيدة لتقييد الحطم بحال عدم شعورهم بمكانهم حتى لو شعروا بذلك لم يحطموا وأرادت بذلك الإيذان بأنها عارفة بشؤون سليمان وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من عصمتهم عن الظلم والإيذاء وقيل هو استئناف أي فهم سليمان ما قالته وللقوم
278

لا يشعرون بذلك «فتبسم ضاحكا من قولها» تعجبا من حذرها واهتدائها إلى تدبير مصالحها ومصالح بنى نوعها وسرورا بشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أصناف المخلوقات التي هي أبعدها من إدراك أمثال هذه الأمور وابتهاجا بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم مرادها روى أنها أحست بصوت الجنود ولا تعلم أنهم في الهواء فامر سليمان عليه السلام الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن «وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك» أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأكفه وأرتبطه بحيث لا ينفلت عني حتى لا انفك عن شكرك أصلا وقرئ بفتح ياء أوزعني «التي أنعمت علي وعلى والدي» أدرج فيه ذكرهما تكثيرا للنعمة فإن الإنعام عليهما إنعام عليه مستوجب للشكر «وأن أعمل صالحا ترضاه» إتماما للشكر واستدامة للنعمة «وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين» في جملتهم الجنة التي هي دار الصالحين «وتفقد الطير» أي تعرف أحوال الطير فلم يرا الهدهد فيما بينها «فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين» كأنه قال أولا مالي لا أراه لسائر ستره أو لسبب آخر ثم بدا له أنه غائب فأضرب عنه فأخذ يقول أهو غائب «لأعذبنه عذابا شديدا» قيل كان تعذيبه للطير بنتف ريشه وتشميسه وقيل يجعله مع ضده
في قفص وقيل بالتفريق بينه وبين إلفه «أو لأذبحنه» ليعتبر به أبناء جنسه «أو ليأتيني بسلطان مبين» بحجة تبين عذره والحلف في الحقيقة على أحد الأولين على تقدير عدم الثالث وقرئ ليأتينني بنونين أولاهما مفتوحة مشددة قيل إنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره فوافي الحرم وأقام به ما شاء وكان يقرب كل يوم طول مقامه خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحا يؤم سهيلا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل ليتغذى ويصلى فلم يجد الماء وكان الهدهد قناقنه وكان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة فيجئ الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب ويستخرجون الماء فتفقده لذلك وقد كان حين نزل سليمان عليه السلام حلق الهدهد فرأى هدهدا واقعا فانحط إليه فوصف له ملك سليمان عليه السلام وما سخر له من كل شيء وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثنى عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر وذلك قوله تعالى
279

«فمكث غير بعيد» أي زمانا غير مديد وقرئ بضم الكاف وذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان عليه السلام فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه ثم قال لسيد الطير وهو العقاب على به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فناشدها الله وقال بحق الله الذي قواك وأقدرك علي إلا رحمتني فتركته وقالت ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال وما استثنى قالت بلى قال أو ليأتيني بعذر مبين فلما قرب من سليمان عليه السلام أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له فلما دنا منه أخذ عليه السلام برأسه فمده إليه فقال يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى فارتعد سليمان عليه السلام وعفا عنه ثم سأله «فقال أحطت بما لم تحط به» أي علما ومعرفة وحفظته من جميع جهاته وقرئ أحطت بادغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق ولا خفاء في أنه لم يرد بما ادعى الإحاطة به ما هو من حقائق العلوم ودقائق المعارف التي تكون معرفتها والإحاطة بها من وظائف أرباب العلم والحكمة لتوقفها على علم رصين وفضل مبين حتى يكون إثباتها لنفسه بين يدي نبي الله سليمان عليه السلام تعديا عن طوره وتجاوزا عن دائرة قدره ونفيها عنه عليه الصلاة والسلام جناية على جناية فيحتاج إلى الاعتذار عنه بأنه ذلك كان منهلا بطريق الإلهام فكافحه عليه الصلاة والسلام بذلك مع ما أوتى عليه الصلاة والسلام من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له عليه الصلاة والسلام في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه تعالى وأضعفهم من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء بل أراد به ما هو من الأمور المحسوسة التي لا تعد الإحاطة بها فضيلة ولا الغفلة عنها نقيصة لعدم توقف إدراكها إلا على مجرد إحساس يستوي فيه العقلاء وغيرهم وقد علم أنه عليه الصلاة والسلام ولم يشاهده ولم يسمع خبره من غيره قطعا فعبر عنه بما ذكر لترويج كلامه عنده علية الصلاة والسلام وترغيبه في الإصغاء إلى اعتذاره واستمالة قلبه نحو قبوله فإن النفس للاعتذار المنبئ عن أمر بديع أقبل وإلى تلقى ما لا تعلمه أميل ثم أيده بقوله «وجئتك من سبإ بنبأ يقين» حيث فسر إبهامه نوع تفسير وأراد عليه الصلاة والسلام أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة له حيث عبر عما جاء به بالنبأ الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ووصفه بما وصفه وإلا فماذا صدر عنه عليه الصلاة والسلام مع ما حكى عنه ما حكى من الحمد والشكر واستدعاء الإيزاع حتى يليق بالحكمة الإلهية تنبيهه عليه الصلاة والسلام على تركه وسبأ منصرف على أنه اسم لحى سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان قالوا اسمه عبد شمس لقب به لكونه أول من سبى وقرئ بفتح الهمزة غير منصرف على أنه اسم للقبيلة ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث وعلى هذه القراءة يجوز أن يراد به القبيلة والمدينة وأما على القراءة الأولى فالمراد هو الحي لا غير وعدم وقوف سليمان عليه السلام على نبئهم قبل إنباء الهدهد ليس بأمر بديع لا بد له من حكمة داعية إليه البتة وإن استحال خلو أفعاله تعالى من الحكم والمصالح لما أن المسافة بين محطة عليه الصلاة
280

والسلام وبين مأرب وإن كانت قصيرة لكن مدة ما بين نزوله عليه الصلاة والسلام هناك وبين يجئ الهدهد بالخبر أيضا قصيرة نعم اختصاص الهدهد بذلك مع كون الجن أقوى منه مبنى على حكم بالغة يستأثر بها علام الغيوب وقوله تعالى «إني وجدت امرأة تملكهم» استئناف ببيان ما جاء به من النبأ وتفصيل له إثر الإجمال وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ورث الملك من أربعين أبا ولم يكن له ولد غيرها فغلبت بعده على الملك ودانت لها الأمة وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس وإيثار وجدت على رأيت لما أشير إليه من الإيذان بكونه عند غيبته بصدد خدمته عليه الصلاة والسلام بإبراز نفسه في معرض من يتفقد أحوالها ويتعرفها كأنها طلبته وضالته ليعرضها على سليمان عليه السلام وضمير تملكهم لسبأ على أنه اسم لحي أو لأهلها المدلول عليهم بذكر مدينتهم على أنه اسم لها «وأوتيت من كل شيء» أي من الأشياء التي يحتاج إليها الملوك «ولها عرش عظيم» قيل كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين عرضا وسمكا وقيل ثمانين في ثمانين من ذهب وفضه مكالا بالجواهر وكانت قوامه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق واستعظام الهدهد لعرشها مع ما كان يشاهده من ملك سليمان عليه السلام إما بالنسبة إلى حالها أو إلى عروش أمثالها من الملوك وقد جوز أن يكون لسليمان عليه السلام مثله وأيا ما كان فوصفه بذلك بين يديه عليه الصلاة والسلام لما مر من ترغيبه عليه الصلاة والسلام في الإصغاء إلى حديثه وتوجيه عزيمته عليه الصلاة والسلام نحو تسخيرها ولذلك عقبه بما وجب غزوها من كفرها وكفر قومها حيث قال «وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله» أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله تعالى «وزين لهم الشيطان أعمالهم» التي هي عبادة الشمس ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي «فصدهم» بسبب ذلك «عن السبيل» أي سبيل الحق والصواب فإن تزيين أعمالهم لا يتصور بدون تقويم طرق كفرهم وضلالهم ومن ضرورته نسبة طريق الحق إلى العوج «فهم» بسبب ذلك «لا يهتدون» إليه وقوله تعالى «ألا يسجدوا لله» مفعول له إما للصد أو للتزيين على حذف اللام منه أي فصدهم لئلا يسجدوا له تعالى أو زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا أو بدل على حاله من أعمالهم وما بينهما اعتراض أي زين لهم أن لا يسجدوا وقيل هو في موقع المفعول ليهتدون بإسقاط الخافض ولا مزبدة كما في قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب والمعنى فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا له تعالى وقرئ ألا يا اسجدوا على التنبيه والنداء
محذوف أي ألا يا قوم اسجدوا كما
281

في قوله [ألا يا أسلمى يا دار مي على البلى] ونظائره وعلى هذا يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله عز وجل أو من سليمان عليه السلام ويوقف على لا يهتدون ويكون أمرا بالسجود وعلى الوجوه المتقدمة ذما على تركه وأياما كان فالسجود واجب وقرئ هلا وهلا بقلب الهمزتين هاء وقرئ هلا تسجدون بمعنى ألا تسجدون على الخطاب (الذي يخرج الخبء في السموا والأرض) أي يظهر ما هو مخبوء ومخفى فيهما كائنا ما كان وتخصيص هذا الوصف بالذكر بصدد بيان تفرده تعالى باستحقاق السجود له من بين سائر أوصافه الموجبة لذلك لما أنه أرسخ في معرفته والإحاطة بأحكامه بمشاهدة آثاره التي من جملتها ما أودعه الله تعالى في نفسه من القدرة على معرفة الماء تحت الأرض وأشار بعطف قوله «ويعلم ما تخفون وما تعلنون») عل يخرج إلى أنه تعالى يخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا كما يخرج ما في العالم الكبير من الخبايا لما أن المراد يظهر ما تخفونه من الأحوال فيجازيكم بها وذكر ما تعلنون لتوسيع دائرة العلم أو للتنبيه على تساويهما بالنسبة إلى العلم الإلهي وقرئ ما يخفون وما يعلنون على صيغة الغيبة بلا التفات وإخراج الخبء يعم إشراق الكواكب وإظهارها من آفاقها بعد استنارها وراءها وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الانشاء الذي هو إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإبداع الذي هو إخراج ما في الإمكان والعدم إلى الوجود وغير ذلك من غيوبه عز وجل وقرئ الخب بتخفيف الهمزة بالحذف وقرئ الخبا بتخفيفها بالقلب وقرئ ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض ويعلم سركم وما تعلنون (الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) الذي هو أول الاجرام وأعظمها وقرئ العظيم بالرفع على أنه صفة الرب واعلم أن ما حكى من الهدهد من قوله الذي يخرج الخبء إلى هنا ليس داخلا تحت قوله أحطت بما لم تحط به وإنما هو من لعلوم والمعارف التي اقتبسها من سليمان عليه السلام أورده بيانا لما هو عليه وإظهارا لتصلبه في الدين وكل ذلك لتوجيه قلبه عليه الصلاة والسلام نحو قبول كلامه وصرف عنان عزيمته عليه السلام إلى غزوها وتسخير ولايتها «قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من حكاية كلام الهدهد كأنه قيل فماذا فعل سليمان عليه السلام عند ذلك فقيل قال «سننظر» أي فيما ذكرته من النظر بمعنى التأمل والسين للتأكيد أي سنتعرف بالتجربة البتة (أصدقت أم كنت من الكاذبين) كان مقتضى الظاهر أم كذبت وإيثار ما عليه النظم الكريم للايذان بأن كذبه في هذه المادة يستلزمه انتظامه في سلك الموسومين بالكذب الراسخين فيه فإن مساق هذه الأقاويل الملفقة على ترتيب أنيق يستميل قلوب السامعين نحو قبولها من غير أن يكون لها مصداق أصلا لا سيما بين يدي نبي عظيم الشأن لا يكاد يصدر إلا عمن له قدم راسخ في الكذب والإفك وقوله تعالى «اذهب بكتابي هذا فألقه»
282

«إليهم» استئناف مبين لكيفية النظر الذي وعده عليه الصلاة والسلام وقد قاله عليه الصلاة والسلام بعد ما كتب كتابه في ذلك المجلس أو بعده وتخصيصه عليه الصلاة والسلام إياه بالرسالة دون سائر ما تحت ملكه من أمناء الجن الأقوياء على التصرف والتعرف لما عاين فيه من مخايل العلم والحكمة وصحة الفراسة ولئلا يبقى له عذر أصلا «ثم تول عنهم» أي تنح إلى مكان قريب تتوارى فيه «فانظر» أي تأمل وتعرف «ماذا يرجعون» أي ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول وجمع الضمائر لما أن مضمون الكتاب الكريم دعوة الكل إلى الإسلام «قالت» أي بعد ما ذهب الهدهد بالكتاب فألقاه إليهم وتنحى عنهم حسبما أمر به وإنما طوى ذكره إيذانا بكمال مسارعته إلى إقامة ما أمر به من الخدمة وإشعارا باستغنائه عن التصريح به لغاية ظهوره روى أنه عليه الصلاة والسلام كتب كتابه وطبعه بالمسك وختمه بخاتمه ودفعه إلى الهدهد فوجدها الهدهد راقدة في قصرها بمأرب وكانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحوها وهي مستقلية وقيل نقرها فانتبهت فزعة وقيل أتاها والقادة والجنود حواليها فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب على حجرها وكانت قارئة كاتبة عربية من نسل تبع الحميري كما مر فلما رأت الخاتم ارتعدت وخضعت فعند ذلك قالت لأشراف قومها «يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم» وصفته بالكرم لكرم مضمونه أو لكونه من عند ملك كريم أو لكونه مختوما أو لغرابة شأنه ووصوله إليها على منهاج غير معتاد «إنه من سليمان» استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل ممن هو وماذا مضمونه فقالت إنه من سليمان «وإنه» أي مضمونه أو المكتوب فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» وفيه إشارة إلى سبب وصفها إياه بالكرم وقرئ أنه وأنه بالفتح على حذف اللام كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وبكونه مصدرا باسم الله تعالى وقيل على أنه بدل من كتاب وقرئ أن من سليمان وأن بسم الله الرحمن الرحيم على أن المفسرة «ألا تعلوا علي» أن مفسرة ولا ناهية أي لا تتكبروا كما يفعل جبابرة الملوك وقيل مصدرية ناصة للفعل ولا نافية محلها الرفع على أنها من كتاب أو خبر لمبتدأ مضمر يليق بالمقام أي مضمونه أن لا تعلوا أو النصب بإسقاط الخافض أي بأن لا تعلوا علي وقرئ أن لا تغلوا بالغين المعجمة أي لا تجاوزوا حدكم «وأتوني مسلمين» أي مؤمنين وقيل منقادين والأول هو الأليق بشأن النبي صلى الله عليه وسلم على أن الإيمان مستتبع للانقياد حتما روى أن نسخة الكتاب من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ السلام على من اتبع الهدى أما بعد فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين وليس الأمر فيه بالإسلام قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يتوهم كونه استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة معجزة باهرة دالة على رسالة مرسلها دلالة بينة
283

«قالت» كررت حكاية قولها للإيذان بغاية اعتنائها بما في حيزه من قولها «يا أيها الملأ أفتوني في أمري» أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته وعبرت عن الجواب بالفتوى التي هي الجواب في الحوادث المشكلة غالبا تهويلا للأمر ورفعا لمحلهم بالإشعار بأنهم قادرون على حل المشكلات الملمة وقولها «ما كنت قاطعة أمرا» أي من الأمور المتعلقة بالملك «حتى تشهدون» أي إلا بمحضركم وبموجب آرائكم استعطاف لهم واستمالة لقلوبهم لئلا يخالفوها في الرأي والتدبير «قالوا» استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قولها كأنه قيل فماذا قالوا في جوابها فقيل قالوا «نحن أولوا قوة» في الأجساد والآلات والعدد «وأولو بأس شديد» أي نجدة وشجاعة مفرطة وبلاء في الحرب «والأمر إليك» أي هو موكول إليك «فانظري ماذا تأمرين» ونحن مطيعون لك فمرينا بأمرك نمتثل به ونتبع رأيك وأرادوا نحن من أبناء الحرب لا من أبناء الرأي والمشورة وإليك الرأي والتدبير فانظري ماذا ترين نكن في الخدمة فلما أحست منهم الميل إلى الحراب والعدول عن سنن الصواب شرعت
في تزييف مقلتهم المبنية على الغفلة عن شأن سليمان عليه السلام وذلك قوله تعالى «قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية» من القرى على منهاج المقاتلة والحراب «أفسدوها» بتخريب عماراتها وإتلاف ما فيها من الأموال «وجعلوا أعزة أهلها أذلة» بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة والإذلال «وكذلك يفعلون» تأكيد لما وصفت من حالهم بطريق الاعتراض التذييلي وتقرير له بأن ذلك عادتهم المستمرة وقيل تصديق لها من جهة الله تعالى على طريقة قوله تعالى ولو جئنا بمثله مددا إثر قوله تعالى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي «وإني مرسلة إليهم بهدية» تقرير لرأيها بعدما زيفت آراءهم وأتت بالجملة الاسمية الدالة على الثبات المصدرة بحرف التحقيق للإيذان بأنها مزمعة على رأيها لا يلويها عنه صارف ولا يثنيها عاطف أي وإني مرسلة إليهم رسلا بهدية عظيمة «فناظرة بم يرجع المرسلون» حتى أعمل بما يقتضيه الحال روى أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجواهر وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وبعثت رجلا من أشراف قومها المنذر بن عمرو وآخر ذار أي وعقل وقالت إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة نقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك
284

وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي فأقبل الهدهد فأخبر سليمان عليه السلام بذلك فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفاته من الذهب والفضة وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا على اليمين واليسار ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا فراسخ والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب تروث على اللبن فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال ما وراءكم وقال أين الحق وأخبره جبريل عليهما السلام بما فيه فقال لهم إن فيه كذا وكذا ثم أمر بالأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجرة وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت في الجزعة فجعل رزقها في الفواكه ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية وذلك قوله تعالى «فلما جاء سليمان» أي الرسول «قال» أي مخاطبا للرسول والمرسل تغليبا للحاضر على الغائب وقيل للرسول ومن معه ويؤيده أنه قرئ فلما جاءوا والأول أولى لما فيه من تشديد الإنكار والتوبيخ وتعميمهما لبلقيس وقومها ويؤيده الإفراد في قوله تعالى ارجع إليهم «أتمدونن بمال» وهو إنكار لإمدادهم إياه عليه الصلاة والسلام بالمال مع علو شأنه وسعة سلطانه وتوبيخ لهم بذلك وتنكير مال للتحقير وقوله تعالى «فما آتاني الله» أي مما رأيتم آثاره من النبوة والملك الذي لا غاية وراءه «خير مما آتاكم» أي من المال الذي من جملته ما جئتم به فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي تعليل للإنكار ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قال لهم هذه المقالة إلى آخرها بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكى من قصة الحق وغيرها كما أشير إليه لا أنه عليه الصلاة والسلام خاطبهم بها أول ما جاءوه كما يفهم من ظاهر قوله تعالى فلما جاء الخ وقرئ أتمدوني بالإدغام وبنون واحدة وبنونين وحذف الياء وقوله تعالى «بل أنتم بهديتكم تفرحون» إضراب عما ذكر من إنكار الإمداد بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم التي أهدوها إليه عليه الصلاة والسلام فرح افتخار وامتنان واعتداد بها كما ينبئ عنه ما ذكر من حديث الحق والجزعة وتغيير زي الغلمان والجواري وغير ذلك وفائدة الإضراب التنبيه على أن إمداده عليه الصلاة والسلام بالمال منكر قبيح وعد ذلك مع أنه لا قدر له عنده عليه الصلاة والسلام مما يتنافس فيه المتنافسون أقبح والتوبيخ به أدخل وقيل المضاف إليه المهدى إليه والمعنى بل أنتم بما يهدى إليكم تفرحون حبا لزيادة المال لما أنكم لا تعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا «أرجع» أفرد الضمير ههنا بعد جمع الضمائر الخمسة فيما سبق لاختصاص الرجوع بالرسول عموم الإمداد ونحوه
285

للكل أي ارجع أيها الرسول «إليهم» أي إلى بلقيس وقومها فليأتينهم أي فوالله لنأتينهم «بجنود لا قبل لهم بها» أي لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ بهم «ولنخرجنهم» عطف على جواب القسم «منها» من سبأ «أذلة» أي حال كونهم أذلة بعدما كانوا فيه من العز والتمكين وفي جمع القلة تأكيد لذلتهم وقوله تعالى «وهم صاغرون» أي أسارى مهانون حال أخرى مفيدة لكون إخراجهم بطريق الأسر لا بطريق الإجلاء وعدم وقوع جواب القسم لأنه كان معلقا بشرط قد حذف عند الحكاية ثقة بدلالة الحال عليه كأنه قيل ارجع إليهم فليأتوا مسلمين وإلا فلنأتينهم الخ «قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها» قاله عليه الصلاة والسلام لما دنا مجيء بلقيس إليه عليه الصلاة والسلام يروى أنه لما رجعت رسلها إليها بما حكى من خبر سليمان عليه السلام قالت قد علمت والله ما هذا بملك ولا لبابه من طاقة وبعثت إلى سليمان عليه ا لسلام إني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ثم آذنت بالرحيل إلى سليمان عليه السلام فشخصت إليه في إثنى عشر ألف قيل تحت كل قيل ألوف ويروى أنها أمرت فجعل عرشها في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من قصور سبعة لها وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا يحفظونه ولعله أوحى إلى سليمان عليه السلام باستيثاقها من عرشها فأراد أن يريها بعض ما خصه الله عز سلطانه به من إجراء التعاجيب على يده مع إطلاعها على عظيم قدرته تعالى وصحة نبوته عليه الصلاة والسلام ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم لا وتقييد الإتيان به بقوله تعالى «قبل أن يأتوني مسلمين» لما أن ذلك أبدع وأغرب وأبعد من الوقوع عادة وأدل على عظيم قدرة الله تعالى وصحة نبوته عليه الصلاة والسلام وليكون اختبارها وإطلاعها على بدائع المعجزات في أول مجيئها وقيل لأنها إذا أتت مسلمة لم يحل له أخذ ما لها بغير رضاها «قال عفريت» أي مارد خبيث «من الجن» بيان له إذ يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر لأقرانه وكان اسمه ذكوان أو صخرا «أنا آتيك به» أي بعرشها «قبل أن تقوم من مقامك» أي من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف النهار وآتيك إما صيغة المضارع أو الفاعل وهو الأنسب لمقام ادعاء الإتيان به لا محالة وأوفق لما عطف عليه من الجملة الاسمية أي أنا آت به في تلك المدة البتة «وإني عليه» أي على الإتيان به «لقوي» لا يثقل على حمله «آمين» لا أختزل منه شيئا ولا أبدله «قال الذي عنده علم من الكتاب» فصل عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقاليهما
286

وكيفيتي قدرتهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار قيل هو آصف بن برخيا وزير سليمان عليه السلام وقيل رجل كان عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أجاب وقيل الخضر أو جبريل أو ملك أيده الله عز وجل به عليهم السلام وقيل هو سليمان نفسه عليه السلام وفيه بعد لا يخفى والمراد بالكتاب الجنس المنتظم لجميع الكتب المنزلة أو اللوح وتنكير علم للتفخيم والرمز إلى أنه علم غير معهود ومن ابتدائية «أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك» الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر إلى شيء وارتداده انضمامها ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد ولما لم يكن بين هذا الوعد وإنجازه مدة ما كما في وعد العفريت استغنى عن التأكيد وطوى عند الحكاية ذكر الإتيان به للإيذان بأنه أمر متحقق غني عن الإخبار به وجئ بالفاء الفصيحة لا داخلة على جملة معطوفة على جملة مقدرة دالة على تحققه فقط كما في قوله عز وجل فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق ونظائره بل داخلة على الشرطية حيث قيل «فلما رآه مستقرا عنده» أي رأى العرش حاضرا لديه كما في قوله عز وجل فلما رأينه أكبرنه للدلالة على كمال ظهور ما ذكر من تحققه واستغنائه عن الإخبار به ببيان ظهور ما يترتب عليه من رؤية سليمان عليه السلام إياه واستغنائه أيضا عن التصريح به إذ التقدير فأتاه به فرآه فلما رآه الخ فحذف ما حذف لما ذكرو للإيذان بكمال سرعة الإتيان به كأنه لم يقع بين الوعد به وبين رؤيته عليه الصلاة والسلام إياه شيء ما أصلا وفي تقييد رؤيته باستقراره عنده عليه الصلاة والسلام تأكيد لهذا المعنى لإيهامه أنه لم يتوسط بينهما ابتداء الإتيان أيضا كأنه لم يزل موجودا عنده مع ما فيه من الدلالة على دوام قراره عنده منتظما في سلك ملكه «قال» أي سليمان عليه السلام تلقيا للنعمة بالشكر جريا على سنن أبناء جنسه من أنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام وخلص عباده «هذا» أي حضور العرش بين يديه في هذه المدة القصيرة أو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات كما قيل «من فضل ربي» أي تفضله على من غير استحقاق له من قبلي «ليبلوني أأشكر» بأن أراه محض فضله تعالى من غير حول من جهتي ولا قوة وأقوم بحقه «أم أكفر» بأن أجد لنفسي مدخلا في البين أو أقصر في إقامة مواجبه كما هو شأن سائر النعم الفائضة على العباد «ومن شكر فإنما يشكر لنفسه» لأنه يرتبط به عتيدها ويستجلب به مزيدها ويحط به عن ذمته عبء الواجب ويتخلص عن وصمة الكفران «ومن كفر» أي لم يشكر «فإن ربي غني» عن شكره «كريم» بترك تعجيل العقوبة والإنعام مع عدم الشكر أيضا «قال» أي سليمان عليه السلام كررت الحكاية مع كون المحكي سابقا ولاحقا من كلامه عليه الصلاة والسلام تنبيها على ما بين السابق واللاحق من المخالفة لما أن الأول من باب الشكر لله تعالى والثاني أمر لخدمه «نكروا لها عرشها» أي غيروا هيئته بوجه من الوجوه «ننظر» بالجزم على أنه جواب الأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف «أتهتدي» إلى معرفته أو إلى الجواب اللائق بالمقام وقيل إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله عند رؤيتها لتقدم عرشها عرشها من مسافة طويلة في مدة قليلة وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليه الحراس والحجاب
287

ويأباه تعليق النظر المتعلق بالاهتداء بالتنكير فإن ذلك مما لا دخل فيه للتنكير «أم تكون» أي بالنسبة إلى علمنا «من الذين لا يهتدون» أي إلى ما ذكر من معرفة عرشها أو الجواب الصواب فإن كونها في نفس الأمر منهم وإن كان أمرا مستمرا لكن كونها منهم عند سليمان عليه السلام وقومه أمر حادث يظهر بالاختبار «فلما جاءت» شروع في حكاية التجربة التي قصدها سليمان عليه السلام أي فلما جاءت بلقيس سليمان عليه السلام وقد كان العرش بين يديه «قيل» أي من جهة سليمان عليه السلام بالذات أو بالواسطة «أهكذا عرشك» لم يقل أهذا عرشك لئلا يكون تلقينا لها فيفوت ما هو المقصود من الأمر بالتنكير من إبراز العرش في معرض الإشكال والاشتباه حتى يتبين حالها وقد ذكرت عنده عليه الصلاة والسلام بسخافة العقل «قالت كأنه هو» فأنبأت عن كمال رجاحة عقلها حيث لم تقل هو هو مع علمها بحقيقة الحال تلويحا بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه الصلاة والسلام «وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين» من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه عليه الصلاة والسلام أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت أوتينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك وكنا مسلمين من ذلك الوقت وفيه من الدلالة على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها ما لا يخفى وقوله تعالى «وصدها ما كانت تعبد من دون الله» بيان من جهته تعالى لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام إلى الآن أي صدها عن ذلك عبادتها القديمة للشمس وقوله تعالى «إنها كانت من قوم كافرين» تعليل لسببية عبادتها المذكورة للصد أي إنها كانت من قوم راسخين في الكفر ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها وهي بين ظهرانيهم إلى أن دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام وقرئ أنها بالفتح على البدلية من فاعل صد أو على التعليل بحذف اللام هذا وأما ما قيل من أن قوله تعالى وأوتينا العلم إلى قوله تعالى من قوم كافرين من كلام سليمان عليه السلام وملئه كأنهم لما سمعوا قولها كأنه هو تفطنوا لإسلامها فقالوا استحسانا لشأنها أصابت في الجواب وعلمت قدرة الله تعالى وصحة النبوة بما سمعت من المنذر من الآيات المتقدمة وبما عاينت من هذه الآية الباهرة من أمر عرشها ورزقت الإسلام فعطفوا على ذلك قولهم وأوتينا العلم الخ أي وأوتينا نحن العلم بالله تعالى وبقرته وبصحة ما جاء من عنده قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام شكرا لله تعالى على فضلهم عليها وسبقهم إلى العلم بالله تعالى والإسلام قبلها وصدها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس ونشؤها بين ظهراني الكفرة فمما لا يخف ما فيه من البعد والتعسف
288

«قيل لها ادخلي الصرح» الصرح القصر وقيل صحن الدار روي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمه وتحققا لنبوته وثباتا على الدين وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضى إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية وقيل خافوا أن يولد له منها ولد يجتمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان عليه السلام إلى ملك هو أشد وأفظع فقالوا إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش واتخذ الصرح ليتعرف ساقها ورجلها «فلما رأته» وهو حاضر بين يديها كما يعرب عنه الأمر بدخولها وأحاطت بتفاصيل أحواله خبرا «حسبته لجة وكشفت عن ساقيها» وتشمرت لئلا تبتل أذيالها فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما خلا أنها شعراء قيل هي السبب في اتخاذ النورة أمر بها الشياطين فاتخذوها واستنكحها عليه الصلاة والسلام وأمر الجن
فبنوا لها سيلحين وغمدان وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام وقيل بل زوجها ذا تبع ملك همدان وسلطه على اليمن وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع وقرئ سأفيها حملا للمفرد على الجمع في سؤق وأسؤق «قال» عليه الصلاة والسلام حين رأى ما اعتراها من الدهشة والرعب «أنه» أي ما توهمته ماء «صرح ممرد» أي مملس «من قوارير» من الزجاج «قالت» حين عاينت تلك المعجزة أيضا «رب إني ظلمت نفسي» بما كنت عليه إلى الآن من عبادة الشمس وقيل بظنى بسليمان حيث ظنت أنه يريد إغراقها في اللجة وهو بعيد «وأسلمت مع سليمان» تابعة له مقتدية به وما في قوله تعالى «لله رب العالمين» من الالتفات إلى الاسم الجليل ووصفه بربوبية العالمين لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى وتفرده باستحقاق العبادة وربوبيته لجميع الموجودات التي من جملتها ما كانت تعبده قبل ذلك من الشمس «ولقد أرسلنا» عطف على قوله تعالى ولقد آتينا داود وسليمان علما مسوق لما سيق هو له من تقرير أنه عليه الصلاة والسلام يلقى القرآن من لدن حكيم عليم فإن هذه القصة أيضا من جملة القرآن الكريم الذي لقيه عليه الصلاة والسلام واللام جواب قسم محذوف أي وبالله لقد أرسلنا «إلى ثمود أخاهم صالحا» وأن في قوله تعالى «أن اعبدوا الله» مفسرة لما في الإرسال من معنى القول أو مصدرية حذف عنها الباء وقرئ بضم النون اتباعا لها للباء «فإذا هم فريقان يختصمون» ففاجئوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق والواو لمجموع الفريقين «قال» عليه
289

الصلاة والسلام للفريق الكافر منهم بعد ما شاهد منهم ما شاهد من نهاية العتو والعناد حتى بلغوا من المكابرة إلى أن قالوا له عليه الصلاة والسلام يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين «يا قوم لم تستعجلون بالسيئة» أي بالعقوبة السيئة «قبل الحسنة» أي التوبة فتؤخرونها إلى حين نزولها حيث كانوا من جهلهم وغوايتهم يقولون إن وقع إيعاده تبنا حينئذ وإلا فنحن على ما كنا عليه «لولا تستغفرون الله» هلا تسغفرونه تعالى قبل نزولها «لعلكم ترحمون» بقبولها إذ لا إمكان للقبول عند النزول «قالوا اطيرنا» أصله تطيرنا والتطير التشاؤم عبر عنه بذلك لما أنهم كانوا إذا خرجوا مسافرين فيمرون بطائر يزجرونه فإن مر سانحا تيمنوا وإن مر بارحا تشاءموا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببا لهما من قدر الله تعالى وقسمته أو من عمل العبد أي تشاءمنا «بك وبمن معك» في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد وقد كانوا قحطوا أو لم نزل في اختلاف وافتراق مذ اخترعتم دينكم «قال طائركم» أي سببكم الذي منه ينالكم ما ينالكم من الشر «عند الله» وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده وقوله تعالى «بل أنتم قوم تفتنون» أي تختبرون بتعاقب السراء والضراء أو تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم الطيرة إضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه «وكان في المدينة» وهي الحجر «تسعة رهط» أي أشخاص وبهذا الاعتبار وقع تمييزا للتسعة لا باعتبار لفظه والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو من السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة وأسماؤهم حسبما نقل عن وهب الهذيل بن عبد رب وغنم بن غنم ورئاب بن مهرج ومصدع بن مهرج وعمير بن كردبة وعاصم بن مخرمة وسبيط بن صدقة وشمعان بن صفى وقدار بن سالف وهم الذين سعوا في عقر الناقة وكانوا عتاة قوم صالح وكانوا من أبناء أشرافهم «يفسدون في الأرض» لا في المدينة فقط إفسادا بحتا لا يخالطه شيء ما من الإصلاح كما ينطق به قوله تعالى «ولا يصلحون» أي لا يفعلون شيئا من الإصلاح أو لا يصلحون شيئا من الأشياء «قالوا» استئناف ببيان بعض ما فعلوا من الفساد أي قال بعضهم لبعض في أثناء المشاورة في أمر صالح عليه الصلاة والسلام وكان ذلك غب ما أنذرهم بالعذب وقوله تمتعوا في داركم ثلاثة أيام الخ «تقاسموا بالله» إما أمر مقول لقالوا أو ماض وقع بدلا منه أو حالا من فاعله بإضمار قد وقوله تعالى «لنبيتنه وأهله» أي لنباغتن صالحا وأهله ليلا ونقتلنهم وقرئ بالتاء على خطاب بعضهم لبعض وقرئ بياء الغيبة وضم التاء على أن تقاسموا فعل ماض «ثم لنقولن لوليه» أي لولي صالح وقرئ بالتاء والياء كما قبله «ما شهدنا مهلك أهله» أي ما حضرنا هلاكهم أو وقت هلاكهم أو مكان هلاكهم فضلا أن نتولى إهلاكهم وقرئ مهلك بفتح اللام فيكون مصدرا «وإنا لصادقون» من تمام القول أو حال أي نقول
290

ما نقول والحال إنا لصادقون في ذلك لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا أو لأنا ما شاهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم جميعا كقولك ما رأيت ثمة رجلا بل رجلين «ومكروا مكرا» بهذه المواضعة «ومكرنا مكرا» أي أهلكناهم إهلاكا غير معهود «وهم لا يشعرون» أو جازيناهم مكرهم من حيث لا يحتسبون «فانظر كيف كان عاقبة مكرهم» شروع في بيان ما ترتب على ما باشروه من المكر وكيف معلقة لفعل النظر ومحل الجملة النصب بنزع الخافض أي فتفكر في أنه كيف كان عاقبة مكرهم وقوله تعالى «أنا دمرناهم» إما بدل من عاقبة مكرهم على أنه فاعل كان وهي تامة وكيف حال أي فانظر كيف حصل أي على أي وجه حدث تدميرنا إياهم وإما خبر لمبتدأ محذوف والجملة مبينة لما في عاقبة مكرهم من الإبهام أي هي تدميرنا إياهم «وقومهم» الذين لم يكونوا معهم في مباشرة التبييت «أجمعين» بحيث لم يشذ منهم شاذ وإما تعليل لما ينبئ عنه الأمر بالنظر في كيفية عاقبة مكرهم من غاية الهول والفظاعة بحذف الجار أي لأنا دمرناهم الخ وقيل كان ناقصة اسمها عاقبة مكرم وخبرها كيف كان فالأوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى أنا دمرناهم الخ تعليلا لما ذكر وقرئ إنا دمرناهم الخ بالكسر على الاستئناف روى أنه كان لصالح عليه السلام مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث فخرجوا إلى الشعب وقالوا إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقلناهم فبعث الله تعالى صخرة من الهضب حيالهم فبادروا فطبقت الصخرة عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم وعذب الله تعالى كلا منهم في مكانه ونجى صالحا ومن معه وقيل جاءوا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون راميا «فتلك بيوتهم» جملة مقررة لما قبلها وقوله تعالى «خاوية» أي خالية أو ساقطة متهدمة «بما ظلموا» أي بسبب ظلمهم المذكور حال من بيوتهم والعامل معنى الإشارة وقرئ خاوية بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف «إن في ذلك» أي فيما ذكر من التدمير العجيب بظلمهم «لآية» لعبرة عظيمة «لقوم يعلمون» أي ما من شأنه أن يعلم شيئا من الأشياء أو لقوم يتصفون بالعلم «وأنجينا الذين آمنوا» صالحا ومن معه من المؤمنين «وكانوا يتقون» أي الكفر والمعاصي اتقاء مستمرا فلذلك خصوا بالنجاة «ولوطا» منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا
291

في صدر قصة صالح داخل معه في حيز القسم أي وأرسلنا لوطا وقوله تعالى «إذ قال لقومه» ظرف للإرسال على أن المراد به أمر ممتد وقع فيه الإرسال وما جرى بينه وبين قومه من الأقوال والأحوال وقيل انتصاب لوطا بإضمار اذكر وإذ بدل منه وقيل بالعطف على الذين آمنوا أي ونجينا لوطا وهو بعيد «أتأتون الفاحشة» أي الفعلة المتناهية في القبح والسماجة وقوله تعالى «وأنتم تبصرون» جملة حالية من فاعل تأتون مفيدة لتأكيد الإنكار وتشديد التوبيخ فإن تعاطى القبيح من العالم بقبحه أقبح وأشنع وتبصرون من بصر القلب أي أتفعلونها والحال أنكم تعلمون علما يقينيا بكونها كذلك وقيل يبصرها بعضكم من بعض لما كانوا يعلنون بها «أئنكم لتأتون الرجال شهوة» تثنية للإنكار وتكرير للتوبيخ وبيان لما يأتونه من الفاحشة بطريق التصريح وتحلية الجملة بحر في التأكيد للإيذان بأن مضمونها مما لا يصدق وقوعه أحد لكمال بعده من العقول وإيراد المفعول بعنوان الرجولية لتربية التقبيح وتحقيق المباينة بينها وبين الشهوة التي علل بها الإتيان «من دون النساء» متجاوزين النساء اللاتي هن محال الشهوة «بل أنتم قوم تجهلون» تفعلون فعل الجاهلين بقبحه أو تجهلون العاقبة أو الجهل بمعنى السفاهة والمجون أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون والتاء فيه مع كونه صفة لقوم لكونهم في حيز الخطاب «فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون» يتنزهون عن أفعالنا أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذرا وعن أن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه استهزاء وقد مر في سورة الأعراف أن هذا الجواب هو الذي صدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات مواعظ لوط عليه السلام بالأمر والنهي لا أنه لم يصدر عنهم كلام آخر غيره «فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها» أي قدرنا أنها «من الغابرين» أي الباقين في العذاب «وأمطرنا عليهم مطرا» غير معهود «فساء مطر المنذرين» قد مر بيان كيفية ما جرى عليهم من العذاب غير مرة «قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى» إثر ما قص الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء المذكورين عليهم الصلاة والسلام وأخبارهم الناطقة بكمال قدرته تعالى وعظم شأنه وبما خصهم به من الآيات القاهرة والمعجزات الباهرة الدالة على جلالة أقدارهم وصحة أخبارهم وبين على ألسنتهم حقية الإسلام والتوحيد وبطلان الكفر والإشراك وأن من اقتدى بهم فقد اهتدى ومن أعرض عنهم فقد تردى في مهاوي الردى وشرح صدره عليه الصلاة والسلام بما في تضاعيف تلك
292

القصص من فنون المعارف الربانية ونور قلبه بأنوار الملكات السبحانية الفائضة من عالم القدس وقرر بذلك فحوى ما نطق به قوله عز وجل وإنك لتلقي القرآن من لدن حكيم عليم أمره عليه الصلاة والسلام بأن يحمده تعالى على ما أفاض عليه من تلك النعم التي لا مطمع وراءها لطامع ولا مطمح من دونها لطامح ويسلم على كافة الأنبياء الذين من جملتهم الذين قصت عليه أخبارهم التي هي من جملة المعارف التي أوجبت إليه عليه الصلاة والسلام أداء لحق تقدمهم واجتهادهم في الدين وقيل هو أمر للوط عليه السلام بأن يحمده تعالى على إهلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة عن الهلاك ولا يخفى بعده «آلله خير أما يشركون» أي آلله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير أم ما يشركونه به تعالى من الأصنام ومرجع الترديد إلى التعريض بتبكيت الكفرة من جهته تعالى وتسفيه آرائهم الركيكة والتهكم بهم إذ من البين أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير ما حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره ولا إله غيره وقرئ تشركون بالتاء الفوقانية بطريق تلوين الخطاب وتوجيهه إلى الكفرة وهو الأليق بما بعده من سياق النظم الكريم المبني على خطابهم وجعله من جملة القول المأمور به يأباه قوله تعالى فأنبتنا الخ فإنه صريح في أن التبكيت من قبله عز وجل بالذات وحمله على أنه حكاية منه عليه الصلاة والسلام لما أمر به بعبارته كما في قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم تعسف ظاهر من غير داع إليه وأم في قوله تعالى «أم من خلق السماوات والأرض» منقطعة وما فيها من كلمة بل على القراءة الأولى للإضراب والانتقال من التبكيت تعريضا إلى التصريح به خطابا على وجه أظهر منه لمزيد التأكيد والتشديد وأما على القراءة الثانية فلتثنية التبكيت وتكرير الإلزام كنظائرها الآتية والهمزة لتقريرهم أي حملهم على الإقرار بالحق على وجه الاضطرار فإنه لا يتمالك أحد ممن له أدنى تمييز ولا يقدر على أن لا يعترف بخيرية من خلق جميع المخلوقات وأفاض على كل منها ما يليق به من منافعه من أخس تلك المخلوقات وأدناها بل بأن لا خير يرى فيه بوجه ممن الوجوه قطعا ومن مبتدأ خبره محذوف مع أم المعادلة للهمزة تعويلا على ما سبق في الاستفهام الأول خلا أن تشركون ههنا بتاء الخطاب على القراءتين معا وهكذا في المواضع الأربعة الآتية والمعنى بل أمن خلق قطري العالم الجسماني ومبدأي منافع ما بينهما «وأنزل لكم» التفات إلى خطاب الكفرة على القراءة الأولى لتشديد التبكيت والإلزام أي أنزل لأجلكم ومنعتكم «من السماء ماء» أي نوعا منه هو المطر «فأنبتنا به حدائق» أي بساتين محدقة ومحاطة بالحوائط «ذات بهجة» أي ذات حسن ورونق يبتهج به النظار «ما كان لكم» أي ما صح وما أمكن لكم «أن تنبتوا شجرها» فضلا عن ثمرها وسائر صفاتها البديعة خير أم ما تشركون وقرئ أمن بالتخفيف على أنه بدل من الله وتقديم صلتي الإنزال على مفعوله لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر والالتفات إلى التكلم في
293

قوله تعالى فأنبتنا لتأكيد اختصاص الفعل بذاته تعالى والإيذان بأن إنبات تلك الحدائق المختلفة الأصناف والأوصاف والألوان والطعوم والروائح والأشكال مع ما لها من الحسن البارع والبهاء الرائع بماء واحد مما لا يكاد يقدر عليه إلا هو وحده حسبما ينبئ عنه تقييدها بقوله تعالى ما كان لكم الخ سواء كانت صفة لها أو حالا وتوحيد وصفها الأول أعنى ذات بهجة لما أن المعنى جماعة حدائق ذات بهجة على نهج قولهم النساء ذهبت وكذا الحال في ضمير شجرها «أإله مع الله» أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض أفعاله التي لا يكاد يقدر عليها غيره حتى يتوهم جعله شريكا له تعالى في العبادة وهذا تبكيت لهم بنفي الألوهية عما يشركونه به تعالى في ضمن النفي الكلي على الطريقة البرهانية بعد تبكيتهم بنفي الخيرية عنه بما ذكر من الترديد فإن أحدا ممن له تمييز في الجملة كما لا يقدر على إنكار انتفاء الخيرية عنه بالمرة لا يكاد يقدر على إنكار انتفاء الألوهية عنه رأسا لا سيما بعد ملاحظة انتفاء أحكامها عما سواه تعالى وهكذا الحال في المواقع الأربعة الآتية وقيل المراد نفي أن يكون معه تعالى إله آخر فيما ذكر من الخلق وما عطف عليه لكن لا على أن التبكيت بنفس ذلك النفي فقط كيف لا وهم لا ينكرونه حسبما ينطق به قوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله بل بإشراكهم به تعالى في العبادة ما يعترفون بعدم مشاركته له تعالى فيما ذكر من لوازم الألوهية كأنه قيل أإله آخر مع الله في خواص
الألوهية حتى يجعل شريكا له تعالى في العبادة وقيل المعنى أغيره يقرن به ويجعل له شريكا في العبادة مع تفرد تعالى بالخلق والتكوين فالإنكار للتوبيخ والتبكيت مع تحقيق المنكر دون النفي كما في الوجهين السابقين والأول هو الأظهر الموافق لقوله تعالى وما كان معه من إله والأوفى بحق المقام لأفادته نفي وجود إله آخر معه تعالى رأسا لا نفي معيته في الخلق وفروعه فقط وقرئ آإله بتوسيط مدة بين الهمزتين وبإخراج الثانية بين بين وقرئ أإلها بإضمار فعل يناسب المقام مثل أندعون أو أتشركون «بل هم قوم يعدلون» إضراب وانتقال من تبكيتهم بطريق الخطاب إلى بيان سوء حالهم وحكايته لغيرهم أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية والانحراف عن الإستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك وقيل يعدلون به تعالى غيره وهو بعيد خال عن الإفادة «أم من جعل الأرض قرارا» قيل هو بدل من أم من خلق السماوات الخ وكذا ما بعده من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد والأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر أدخل في الإلزام بجهة من الجهات أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإيذاء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما تدور عليه منافعهم «وجعل خلالها» أوساطها «أنهارا» جارية ينتفعون بها
294

«وجعل لها رواسي» أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها ويتكون فيها المعادن وينبع في حضيضها الينابيع ويتعلق بها من المصالح مالا يحصى «وجعل بين البحرين» أي العذب والمالح أو خليجي فارس والروم «حاجزا» برزخا مانعا من الممازجة وقد مر في سورة الفرقان والجعل في المواقع الثلاثة الأخيرة إبداعي وتأخير مفعوله عن الظرف لما مر مرارا من التشويق «أإله مع الله» في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر «بل أكثرهم لا يعلمون» أي شيئا من الأشياء ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره «أم من يجيب المضطر إذا دعاه» وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عز وجل اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من ا لضرورة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو المجهود وعن السدى رحمه الله تعالى من لا حول له ولا قوة وقيل المذنب إذا استغفر واللام للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر «ويكشف السوء» وهو الذي يعترى الإنسان مما يسوؤه «ويجعلكم خلفاء الأرض» أي خلفاء فيها بان ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم من الأمم وقيل المراد بالخلافة الملك والتسلط «أإله مع الله» الذي يفيض على كافة الأنام هذه النعم الجسام «قليلا ما تذكرون» أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون وما مزيدة لتأكيد معنى القلة التي أريد بها العدم أو ما يجري مجراه في الحقارة وعدم الجدوى وفي تذييل الكلام بنفي التذكر عنهم إيذان بأن مضمونه مركوز في ذهن كل ذكي وغبي وأنه من الوضوح بحيث لا يتوقف إلا على التوجه إليه وتذكره وقرئ تتذكرون على الأصل وتذكرون ويذكرون بالتاء والياء مع الإدغام «أم من يهديكم في ظلمات البر والبحر» أي في ظلمات الليالي فيهما على أن الإضافة للملابسة أو في مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها «ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته» وهي المطر ولئن صح أن السبب الأكثري في تكون الريح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لانكسار حرها وتمويجها للهواء فلا ريب في أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك كله من خلق الله عز وجل والفاعل للسبب فاعل للمسبب قطعا «أإله مع الله» نفى لان يكون معه إله آخر وقوله تعالى «تعالى الله عما يشركون» تقرير وتحقيق له وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار للإشعار بعلة الحكم أي تعالى وتنزه بذاته المنفردة بالألوهية المستتبعة لجميع صفات الكمال ونعوت الجمال والجلال المقتضية لكون كل المخلوقات مقهورا تحت قدرته عما يشركون أي عن وجود ما يشركونه به تعالى لا مطلقا فإن وجوده مما لا مرد له بل عن
295

وجوده بعنوان كونه إلها وشريكا له تعالى أو عن إشراكهم «أم من يبدأ الخلق ثم يعيده» أي بل أمن يبدأ الخلق ثم يعيده بعد الموت بالبعث «ومن يرزقكم من السماء والأرض» أي بأسباب سماوية وأرضية قد رتبها على ترتيب بديع تقتضيه الحكمة التي عليها بنى أمر التكوين خير أم ما تشركونه به في العبادة من جماد لا يتوهم قدرته على شيء ما أصلا «أإله» آخر موجود «مع الله» حتى يجعل شريكا له في العبادة وقوله تعالى «قل هاتوا برهانكم» أمر له عليه الصلاة والسلام بتبكيتهم إثر تبكيت أي هاتوا برهانا عقليا أو نقليا يدل على أن معه تعالى إلها لا على أن غيره تعالى يقدر على شيء مما ذكر من أفعاله تعالى كما قيل فإنهم لا يدعونه صريحا ولا يلتزمون كونه من لوازم الألوهية وإن كان منها في الحقيقة فمطالبتهم بالبرهان عليه لا على صريح دعواهم مما لا وجه له وفي إضافة البرهان إلى ضميرهم تهكم بهم لما فيها من إيهام أن لهم برهانا وأني لهم ذلك «إن كنتم صادقين» أي في تلك الدعوى «قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله» بعدما حقق تفرده تعالى بالألوهية ببيان اختصاصه بالقدرة الكاملة التامة والرحمة الشاملة العامة عقبه بذكر ما هو من لوازمه وهو اختصاصه بعلم الغيب تكميلا لما قبله وتمهيدا لما بعده من أمر البعث والاستثناء منقطع ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على استحالة علم الغيب من أهل السماوات والأرض بتعليقه بكونه سبحانه وتعالى منهم كأنه قيل إن كان الله تعالى ممن فيهما ففيهم من يعلم الغيب أو متصل على أن المراد بمن في السماوات والأرض من تعلق علمه بهما واطلع عليهما اطلاع الحاضر فيهما فإن ذلك معنى مجازي عام له تعالى ولأولى العلم من خلقه ومن موصولة أو موصوفة «وما يشعرون أيان يبعثون» أي متى ينشرون من القبور مع كونه مما لا بد لهم منه ومن أهم الأمور عندهم وأيان مركبة من أي وآن وقرئ بكسر الهمزة والضمير للكفرة وإن كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين ما سيأتي من الضمائر الخاصة بهم قطعا وقيل الكل لمن وإسناد خواص الكفرة إلى الجميع من قبيل قولهم بنو فلان فعلوا كذا والفاعل بعض منهم «بل ادارك علمهم في الآخرة» لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بوقت ما هو مصيرهم لا محالة بولغ في تأكيده وتقريره بأن أضرب عنه وبين أنهم في جهل أفحش من جهلهم بوقت بعثهم حيث لا يعلمون أحوال الآخرة مطلقا مع تعاضد أسباب معرفتها على أن معنى أدارك علمهم في الآخرة تدارك وتتابع علمهم في شأن الآخرة التي ما ذكر من البعث حال من أحوالها حتى انقطع ولم يبق لهم علم بسيء مما سيكون فيها قطعا لكن لا على معنى أنه
296

كان لهم علم بذلك على الحقيقة ثم انتفى شيئا فشيئا بل على طريقة المجاز بتنزيل أسباب العلم ومباديه من الدلائل العقلية والسمعية منزلة نفسه وإجراء تساقطها عن درجة
اعتبارهم كلما لاحظوها مجرى تتابعها إلى الانقطاع ثم أضرب وانتقل عن بيان عدم علمهم بها إلى بيان ما هو أسوأ منه وهو حيرتهم في ذلك حيث قيل «بل هم في شك منها» أي في شك مريب من نفس الآخرة وتحققها كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا فضلا عن الأمور التي ستقع فيها ثم أضرب عن ذلك إلى بيان أن ما هم فيه أشد وأفظع من الشك حيث قيل «بل هم منها عمون» بحيث لا يكادون يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم بالكلية وقرئ بل أدرك علمهم بمعنى انتهى وفنى وقد فسره الحسن البصري اضمحل علمهم وقيل كلنا الصيغتين على معناها الظاهر أي تكامل واستحكم أو تم أسباب علمهم بأن القيامة كائنة لا محالة من الآيات القاطعة والحجج الساطعة وتمكنوا من المعرفة فضل تمكن وهم جاهلون في ذلك وقوله تعالى بل هم في شك منها إضراب وانتقال من وصفهم بمطلق الجهل إلى وصفهم بالشك وقوله تعالى بل هم منها عمون إضراب من وصفهم بالشك إلى وصفهم بما هو أشد منه وأفظع من العمى وأنت خبير بأن تنزيل أسباب العلم منزلة العلم سنن مسلوك لكن دلالة النظم الكريم على جهلهم حينئذ ليست بواضحة وقيل المراد بوصفهم باستحكام العلم وتكامله التهكم بهم فيكون وصفا لهم بالجهل مبالغة والإضرابان على ما ذكر واصل ادارك تدارك وبه قرأ أبي فأبدلت التاء دالا وسكنت فتعذر الابتداء فاجتلبت همزة الوصل فصار ادارك وقرئ بل أدرك وأصله افتعل وبل أأدرك بهمزتين وبل آأدرك بألف بينهما وبل أدرك بالتخفيف والنقل وبل أدرك بفتح اللام وتشديد الدال وأصله بل أدرك على الاستفهام وبلى أدرك وبلى أأدرك وأم تدارك وأم أدرك فهذه ثنتا عشرة قراءة فما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فهو إنكار ونفي وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإدراك على وجه التهكم الذي هو أبلغ وجوه النفي والإنكار وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في النفي ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بل أنهم منها عمون أورد إنكار لشعورهم «وقال الذين كفروا» بيان لجهلهم بالآخرة وعمههم منها بحكاية إنكارهم للبعث ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بما في حيز صلته والإشعار بعلة حكمهم الباطل في قولهم «أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون» أي أنخرج من القبور إذا كنا ترابا كما ينبئ عنه مخرجون ولا مساغ لأن يكون هو العامل في إذا لاجتماع موانع لو تفرد واحد منها لكفى في المنع وتقييد الإخراج بوقت كونهم ترابا ليس لتخصيص الإنكار بالإخراج حينئذ فقط فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت مطلقا وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار بتوجيهه إلى الإخراج في حالة منافية له وقوله تعالى وآباؤنا عطف على اسم كان وقام الفصل مع الخبر مقام الفصل بالتأكيد وتكرير الهمزة في اثنا للمبالغة والتشديد في الإنكار وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما يوهمه ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما في قوله تعالى أفلا تعقلون ونظائره على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور
297

وقرئ إذا كنا بهمزة واحدة مكسورة وقرئ إنا لمخرجون على الخبر «لقد وعدنا هذا» أي الإخراج «نحن وآباؤنا من قبل» أي من قبل وعده عليه الصلاة والسلام وتقديم الموعود على نحن لأنه المقصود بالذكر وحيث أخر قصد به المبعوث والجملة استئناف مسوق لتقرير الإنكار وتصديرها بالقسم لمزيد التأكيد وقوله تعالى «إن هذا إلا أساطير الأولين» تقرير إثر تقرير «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين» بسبب تكذيبهم للرسل عليهم الصلاة والسلام فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله عز وجل وحده وباليوم الآخر الذي تنكرونه فإن في مشاهدة عاقبتهم ما فيه كفاية لأولى الأبصار وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم «ولا تحزن عليهم» لإصرارهم على الكفر والتكذيب «ولا تكن في ضيق» في حرج صدر «مما يمكرون» من مكرهم فإن الله تعالى يعصمك من الناس وقرئ بكسر الضاد وهو أيضا مصدر ويجوز أن يكون المفتوح مخففا من ضيق وقد قرئ كذلك أي لا تكن في أمر ضيق «ويقولون متى هذا الوعد» أي العذاب العاجل الموعود «إن كنتم صادقين» في إخباركم بإتيانه والجمع باعتبار شركة المؤمنين في الإخبار بذلك «قل عسى أن يكون ردف لكم» أي تبعكم ولحقكم واللام مزيدة للتأكيد كالباء في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة أو الفعل مضمن معنى فعل يعدى باللام وقرئ بفتح الدال وهي لغة فيه «بعض الذي تستعجلون» وهو عذاب يوم بدر وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها وإنما يطلقونها إظهارا للوقار وإشعارا بأن الرمز من أمثالهم كالتصريح ممن عداهم وعلى ذلك مجرى وعد الله تعالى ووعيده وإيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال عسى أن يردفكم الخ لكونه أدل على تحقق الوعد «وإن ربك لذو فضل على الناس» أي لذو أفضال وإنعام على كافة الناس ومن جملة إنعاماته تأخير عقوبة هؤلاء على ما يرتكبونه من المعاصي التي من جملتها استعجال العذاب «ولكن أكثرهم لا يشكرون» لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه كدأب هؤلاء
298

«وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم» أي ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت الشيء إذا سترته «وما يعلنون» من الأفعال والأقوال التي من جملتها ما حكى عنهم من استعجال العذاب وفيه إيذان بأن لهم قبائح غير ما يظهرونه وأنه تعالى يجازيهم على الكل وتقديم السر على العلن قد مر سره في سورة البقرة عند قوله تعالى أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون «وما من غائبة في السماء والأرض» أي من خافية فيهما وهما من الصفات الغالبة والتاء للمبالغة كما في الرواية أو اسمان لما يغيب ويخفى والتاء للنقل إلى الاسمية «إلا في كتاب مبين» أي بين أو مبين لما فيه لمن يطالعه وهو اللوح المحفوظ وقيل هو القضاء العدل بطريق الاستعارة «إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون» من جملته ما اختلفوا في شأن المسيح وتحزبوا فيه أحزابا وركبوا متن العتو والغلو في الإفراط والتفريط والتشبيه والتنزيه ووقع بينهم التناكد في أشياء حتى بلغ المشاقة إلى حيث لعن بعضهم بعضا وقد نزل القرآن الكريم ببيان كنه الأمر لو كانوا في حيز الإنصاف «وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين» على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا «إن ربك يقضي بينهم» أي بين بني إسرائيل «بحكمه» بما يحكم به وهو الحق أو بحكمته ويؤيده أنه قرئ بحكمه «وهو العزيز» فلا يرد حكمه وقضاؤه «العليم» بجميع الأشياء التي من جملتها ما يقضي به والفاء في قوله تعالى «فتوكل على الله» لترتيب الأمر على ما ذكر من شؤونه عز وجل فإنها موجبة للتوكل عليه وداعية إلى الأمر به أي فتوكل على الله الذي هذا شأنه فإنه موجب على كل أحد أن يتوكل عليه ويفوض جميع أموره إليه وقوله تعالى «إنك على الحق المبين» تعليل صريح للتوكل عليه تعالى بكونه عليه الصلاة والسلام على الحق البين أو الفاصل بينه وبين الباطل أو بين
المحق والمبطل فإن كونه عليه الصلاة والسلام كذلك مما يوجب الوثوق بحفظه تعالى ونصرته وتأييده لا محالة وقوله تعالى «إنك
299

لا تسمع الموتى» الخ تعليل آخر للتوكل الذي هو عبارة عن التبتل إلى الله تعالى وتفويض الأمر إليه والإعراض عن التشبث بما سواه وقد علل أولا بما يوجبه من جهته تعالى أعنى قضاءه بالحق وعزته وعلمه تعالى وثانيا بما يوجبه من جهته عليه الصلاة والسلام على أحد الوجهين أعني كونه عليه الصلاة والسلام على الحق ومن جهته تعالى على الوجه الآخر أعني إعانته تعالى وتأييده للمحق ثم علل ثالثا بما يوجبه لكن لا بالذات بل بواسطة إيجابه للإعراض عن التشبث بما سواه تعالى فإن كونهم كالموتى والصم والعمى موجب لقطع الطمع عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأسا وداع إلى تخصيص الاعتضاد به تعالى وهو المعنى بالتوكل عليه تعالى وإنما شبهوا بالموتى لعدم تأثرهم بما يتلى عليهم من القوارع وإطلاق الإسماع عن المفعول لبيان عدم سماعهم لشيء من المسموعات ولعل المراد تشبيه قلوبهم بالموتى فيما ذكر من عدم الشعور فإن القلب مشعر من المشاعر أشير إلى بطلانه بالمرة ثم بين بطلان مشعري الأذن والعين كما في قوله تعالى لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها وإلا فبعد تشبيه أنفسهم بالموتى لا يظهر لتشبيههم بالصم والعمى مزيد مزية «ولا تسمع الصم الدعاء» أي الدعوة إلى أمر من الأمور وتقييد النفي بقوله تعالى «إذا ولوا مدبرين» لتكميل التشبيه وتأكيد النفي فإنهم مع صممهم عن الدعاء إلى الحق معرضون عن الداعي مولون على أدبارهم ولا ريب في أن الأصم لا يسمع الدعاء مع كون الداعي بمقابلة صماخه قريبا منه فكيف إذا كان خلفه بعيدا منه وقرئ ولا يسمع الصم الدعاء «وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم» هداية موصلة إلى المطلوب كما في قوله تعالى إنك لا تهدي من أحببت فإن الاهتداء منوط بالبصر وعن متعلقة بالهداية باعتبار تضمنه معنى الصرف وقيل بالعمى يقال عمى عن كذا وفيه بعد وإيراد الجملة الاسمية للمبالغة في نفي الهداية وقرئ وما أنت تهدي العمي «إن تسمع» أي ما تسمع سماعا يجدي السامع نفعا «إلا من يؤمن بآياتنا» أي من شأنهم الإيمان بها وإيراد الإسماع في النفي والإثبات دون الهداية مع قربها بأن يقال إن تهدي إلا من يؤمن الخ لما أن طريق الهداية هو إسماع الآيات التنزيلية «فهم مسلمون» تعليل لإيمانهم بها كأنه قيل فإنهم منقادون للحق وقيل مخلصون لله تعالى من قوله تعالى بلى من أسلم وجهه لله «وإذا وقع القول عليهم» بيان لما أشير إليه بقوله تعالى بعض الذي تستعجلون من بقية ما يستعجلونه من الساعة ومباديها والمراد بالقول ما نطق من الآيات الكريمة بمجئ الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها وبوقوعه قيامها وحصولها عبر عن ذلك به للإيذان بشدة وقعها وتأثيرها وإسناده إلى القول لما أن المراد بيان وقوعها من حيث إنها مصداق للقول الناطق بمجيئها وقد أريد بالوقوع دنوه واقترابه كما في قوله تعالى أتى أمر الله أي إذا دنا وقوع مدلول القول
300

المذكور الذي لا يكادون يسمعونه ومصداقه «أخرجنا لهم دابة من الأرض» وهي الجساسة وفي التعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين التفخيمي من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى وقد ورد في الحديث أن طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب وروى أن لها أربع قوائم ولها زغب وريش وجناحان وعن ابن جريج في وصفها رأس صور وعين خنزير وأذن قيل وقرن أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هرة وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام وقال وهب وجهها وجه الرجل وباقي خلقها خلق الطير وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال ليس بدابة لها ذنب ولكن لها لحية كأنه يشير إلى أنه رجل والمشهور أنها دابة وروى لا تخرج إلا رأسها ورأسها يبلغ عنان السماء أو يبلغ السحاب وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فيها كل لون ما بين قرنيها فرسخ للراكب وعن الحسن رضي الله عنه لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام وعن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج كل يوم إلا ثلثها وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل من أين تخرج الدابة فقال من أعظم المساجد حرمة على الله تعالى يعني المسجد الحرام وروى أنها تخرج ثلاث خرجات تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة على الله تعالى وأكرمها فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة وقيل تخرج من الصفا وروى نبينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتضرب المؤمن في مسجده بالعصا فتنكت نكتة بيضاء فتفشو حتى يضئ لها وجهه وتكتب بين عينيه مؤمن وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر ثم تقول لهم أنت يا فلان من أهل الجنة وأنت يا فلان من أهل النار وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرع الصفا بعصاه وهو محرم وقال إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه وروى أبو هريرة عن النبي صلى اله عليه وسلم أنه قال بئس الشعب شعب أجياد مرتين أو ثلاثا قيل ولم ذاك يا رسول الله قال تخرج منه الدابة فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين فتتكلم بالعربية بلسان ذلق وذلك قوله تعالى «تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون» أي تكلمهم بأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجئ الساعة ومباديها أو بجميع آياته التي من جملتها تلك الآيات وقيل بآياته التي من جملتها خروجها بين يدي الساعة والأول هو الحق كما ستحيط به علما وقرئ بأن الناس الآية وإضافة الآيات إلى نون العظمة لأنها حكاية منه تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها وقيل لأنها حكاية منها لقول الله عز وجل وقيل لاختصاصها به تعالى وإثرتها عنده كما يقول بعض خواص الملك خيلنا وبلادنا وإنما الخيل والبلاد لمولاه وقيل هناك مضاف محذوف أي بآيات ربنا ووصفهم بعدم الإيقان بها مع أنهم كانوا جاحدين بها للإيذان بأنه كان من حقهم أن يوقنوا بها ويقطعوا بصحتها وقد اتصفوا بنقيضه وقرئ إن الناس بالكسر على إضمار القول أو إجراء الكلام مجراه والكلام في الإضافة كالذي سبق وقيل هو استئناف مسوق من جهته تعالى لتعليل إخراجها أو تكليمها ويرده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل
301

فإنه صريح في كونه حكاية لعدم إيقانهم السابق في الدنيا والمراد بالناس إما الكفرة على الإطلاق أو مشركو مكة وقد روى عن وهب أنها تخبر كل من تراه أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون وقرئ تكلمهم من الكلم الذي هو الجرح والمراد به ما نقل من الوسم بالعصا والخاتم وقد جوز كون القراءة المشهورة أيضا منه لمعنى التكثير ولا يخفى بعده «ويوم نحشر من كل أمة فوجا» بيان إجمالي لحال المكذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها ويوم منصوب بمضمر خوطب به النبي صلى
الله عليه وسلم والمراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر بيان سره مرارا أي واذكر لهم وقت حشرنا أي جمعنا من كل أمة من أمم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو من أهل كل قرن من القرون جماعة كثيرة فمن تبعيضية لأن كل أمة منقسمة إلى مصدق ومكذب وقوله تعالى «ممن يكذب بآياتنا» بيان للفوج أي فوجا مكذبين بها «فهم يوزعون» أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يتلاحقوا ويجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة وفيه من الدلالة على كثرة عددهم وتباعد أطرافهم ما لا يخفى وعن ابن عباس رضي الله عنهما أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة وهكذا يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار «حتى إذا جاؤوا» إلى موقف السؤال والجواب والمناقشة والحساب «قال» أي الله عز وجل موبخا لهم على التكذيب والالتفات لتربية المهابة «أكذبتم بآياتي» الناطقة بلقاء يومكم هذا وقوله تعالى «ولم تحيطوا بها علما» جملة حالية مفيدة لزيادة شناعة التكذيب وغاية قبحه ومؤكدة للإنكار والتوبيخ أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق حتما وهذا نص في أن المراد بالآيات فيما سلف في الموضعين هي الآيات القرآنية لأنها هي المنطوية على دلائل الصحة وشواهد الصدق التي لم يحيطوا بها علما مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا نفس الساعة وما فيها وقيل هو معطوف على كذبتم أي أجمعتم بين التكذيب وعدم التدبر بها «أم ماذا كنتم تعملون» أي أم أي شيء كنتم تعملون بها أو أم أي شيء كنتم تعملون غير ذلك بمعنى أنه لم يكن لهم عمل غير ذلك كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعاصي مع أنهم ما خلقوا إلا للإيمان والطاعة يخاطبون بذلك تبكيا ثم يكبون في النار وذلك قوله تعالى «ووقع القول عليهم» أي حل بهم العذاب الذي هو مدلول القول الناطق بحلوله ونزوله «بما ظلموا» بسبب ظلمهم الذي هو تكذيبهم بآيات الله «فهم لا ينطقون» لانقطاعهم عن الجواب بالكلية وابتلائهم بشغل شاغل من العذاب الأليم
302

«ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه» الرؤية قلبية لا بصرية لأن نفس الليل والنهار وإن كانا من المبصرات لكن جعلهما كما ذكر من قبيل المعقولات أي ألم يعلموا أنا جعلنا الليل بما فيه من الإظلام ليستريحوا فيه بالنوم والقرار «والنهار مبصرا» أي ليبصروا بما فيه من الإضاءة طرق التقلب في أمور المعاش فبولغ فيه حيث جعل الإبصار الذي هو حال الناس حالا له ووصفا من أوصافه التي جعل عليها بحيث لا ينفك عنها ولم يسلك في الليل هذا المسلك لما أن تأثير ظلام الليل في السكون ليس بمثابة تأثير ضوء النهار في الإبصار «إن في ذلك» أي في جعلهما كما وصفا وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإشعار ببعد درجته في الفضل «لآيات» أي عظيمة كثيرة «لقوم يؤمنون» دالة على صحة البعث وصدق الآيات الناطقة به دلالة واضحة كيف لا وأن من تأمل في تعاقب الليل والنهار واختلافهما على وجوه بديعة مبنية على حكم رائقة تحار في فهمها العقول ولا يحيط بها إلا الله عز وجل وشاهد في الآفاق تبدل ظلمة الليل المحاكية للموت بضياء النهار المضاهي للحية وعاين في نفسه تبدل النوم الذي هو أخو الموت بالانتباه الذي هو مثل الحياة قضى بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور قضاء متقنا وجزم بأنه تعالى قد جعل هذا أنموذجا له ودليلا يستدل به على تحققه وأن الآيات الناطقة به وبكون حال الليل والنهار برهانا عليه وسائر الآيات كلها حق نازل من عند الله تعالى «ويوم ينفخ في الصور» إما معطوف على يوم نحشر منصوب بناصبه أو بمضمر معطوف عليه والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال لما فرغ الله تعالى من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص بصره إلى العرش متى يؤمر قال قلت يا رسول الله ما الصور قال القرن قال قلت كيف هو قال عظيم والذي نفسي بيده إن عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض فيؤمر بالنفخ فيه فينفخ نفخة لا يبقى عندها في الحياة أحد غير من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم يؤمر بأخرى فينفخ نفخة لا يبقى معها ميت إلا بعث وقام وذلك قوله تعالى ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون والذي يستدعيه سباق النظم الكريم وسياقه أن المراد بالنفخ ههنا هي النفخة الثانية وبالفزع في قوله تعالى «ففزع من في السماوات ومن في الأرض» ما يعتري الكل عند البعث والنشور بمشاهدة الأمور الهائلة الخارقة للعادات في الأنفس والآفاق من الرعب والتهيب الضروريين الجبلين وإيراد صيغة الماضي مع كون المعطوف عليه أعني ينفخ مضارعا للدلالة على تحقق وقوعه إثر النفخ ولعل تأخير بيان الأحوال الواقعة عند ابتداء النفخة عن بيان ما يقع بعدها من حشر المكذبين من كل أمة لتثنية التهويل بتكرير التذكير إيذانا بأن كل واحد منهما
303

طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة قد أمر بذكرها كما مر في قصة البقرة «إلا من شاء الله» أي أن لا يفزع قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام وقيل الحور والخزنة وحملة العرش «وكل» أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة «آتوه» حضروا الموقف بين يدي رب العزة جل جلالة للسؤال والجواب والمناقشة والحساب وقرئ أتاه باعتبار لفظ الكل كما أن القراءة الأولى باعتبار معناه وقرئ آتوه أي حاضروه «داخرين» أي صاغرين وقرئ دخرين وقوله تعالى «وترى الجبال» عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير وقوله عز وجل «تحسبها جامدة» أي ثابتة في أماكنها إما بدل منه أو حال من ضمير ترى أو من مفعوله وقوله تعالى «وهي تمر مر السحاب» حال من ضمير الجبال في تحسبها أو في جامدة أي تراها رأي العين ساكنة والحال أنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيرا حثيثا وذلك أن الأجرام العظام إذا تحركت نحو سمت لا تكاد تتبين حركتها وعليه قول من قال
[بأر عن مثل الطود تحسب أنهم * وقوف لحاج والركاب تهملج]
وقد أدمج في هذا التشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما في قوله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش وهذا أيضا مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق يبدل الله عز وجل الأرض غير الأرض ويغير هيآتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار فإن اتباع الداعي الذي هو
إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد النفخة الثانية وقد قالوا في تفسير قوله تعالى ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم أن صيغة الماضي في المعطوف مع كون المعطوف عليه مستقبلا للدلالة على تقدم الحشر على التسيير والرؤية كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك هذا وقد قيل إن المراد هي النفخة الأولى والفزع هو الذي يستتبع الموت لغاية شدة الهول كما في قوله تعالى فصعق من في السماوات ومن في الأرض الآية فيختص أثرها بما كان حيا عند وقوعها دون من مات قبل ذلك من الأمم وجوز أن يراد بالإتيان داخرين رجوعهم إلى أمره تعالى وانقيادهم له ولا ريب في أن ذلك مما ينبغي أن ينزه ساحة التنزيل عن أمثاله وأبعد من هذا ما قبل إن المراد بهذه النفخة نفخة الفزع التي تكون قبل نفخة الصعق وهي التي أريدت بقوله تعالى ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق فيسير الله تعالى عندها الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا وترج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة الموثقة في البحر أو كالقنديل المعلق ترججه الأرواح
304

فإنه مما لا ارتباط له بالمقام قطعا والحق الذي لا محيد عنه ما قدمناه ومما هو نص في الباب ما سيأتي من قوله تعالى وهم من فزع يومئذ آمنون «صنع الله» مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي صنع الله ذلك صنعا على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعا قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يدعو إليها داعية أو يكون لها عاقبة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتبت مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع على الوجه المتين والهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى «الذي أتقن كل شيء» أي أحكم خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة وقوله تعالى «إنه خبير بما تفعلون» تعليل لكون ما ذكر صنعا محكما له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب أجزيتها عليها بعد بعثهم وحشرهم وجعل السماوات والأرض والجبال على وفق ما نطق به التنزيل ليتحققوا بمشاهدة ذلك أن وعد حق لا ريب فيه وقرئ خبير بما يفعلون وقوله تعالى «من جاء بالحسنة فله خير منها» بيان لما أشير إليه بإحاطة علمه تعالى بأفعالهم من ترتيب أجزيتها عليها أي من جاء منكم أو من أولئك الذين أتوه تعالى بالحسنة فله من الجزاء ما هو خير منها إما باعتبار أنه أضعافها وإما باعتبار دوامه وانقضائها وقيل فله خير حاصل من جهتها وهو الجنة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الحسنة كلمة الشهادة «وهم» أي الذين جاءوا بالحسنات «من فزع» أي عظيم هائل لا يقادر قدره وهو الفزع الحاصل من مشاهدة العذاب بعد تمام المحاسبة وظهور الحسنات والسيئات وهو الذي في قوله تعالى لا حزنهم الفزع الأكبر وعن الحسن رحمه الله تعالى حين يؤمر بالعبد إلى النار وقال ابن جريج حين يذبح الموت وينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت «يومئذ» أي يوم إذ ينفخ في الصور «آمنون» لا يعتريهم ذلك الفزع الهائل ولا يلحقهم ضرره أصلا وأما الفزع الذي يعتري كل من في السماوات ومن في الأرض غير من استثناه الله تعالى فإنما هو التهيب والرعب الحاصل في ابتداء النفخة من معاينة فنون الدواهي والأهوال ولا يكاد يخلو منه أحد بحكم الجبلة وإن كان آمنا من لحوق الضرر والأمن يستعمل بالجار وبدونه كما في قوله تعالى أفأمنوا مكر الله وقرئ من فزع يومئذ بالإضافة مع كسر الميم وفتحها أيضا والمراد هو الفزع المذكور في القراءة الأولى لا جميع الأفزاع الحاصلة يومئذ ومدار الإضافة كونه أعظم الأفزاع وأكبرها كأن ما عداه ليس بفزع بالنسبة إليه «ومن جاء بالسيئة» قيل هو الشرك «فكبت وجوههم في النار» أي كبوا فيها على وجوههم منكوسين أو كبت فيها أنفسهم على طريقة ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة «هل تجزون إلا ما كنتم تعملون» على الالتفات للتشديد أو على إضمار القول أي مقولا لهم ذلك
305

«إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها» أمر صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك بعد ما بين لهم أحوال المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة بما لا مزيد عليه ولم يبق له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شأن سوى الاشتغال بعبادة الله عز وجل والاستغراق في مراقبته غير مبال بهم ضلوا أم رشدوا صلحوا أو فسدوا ليحملهم ذلك على أن يهتموا بأمور أنفسهم ولا يتوهموا من شدة اعتنائه صلى الله عليه وسلم بأمر دعوتهم أنه صلى الله عليه وسلم يظهر لهم ما يلجئهم إلى الإيمان لا محالة ويشتغلوا بتدارك أحوالهم ويتوجهوا نحو التدبر فيما شاهدوه من الآيات الباهرة والبلدة هي مكة المعظمة وتخصيصها بالإضافة لتفخيم شأنها واجلال مكانها والتعرف لتحريمه تعالى إياها تشريف لها بعد تشريف وتعظيم إثر تعظيم مع ما فيه من الإشعار بعلة الأمر وموجب الامتثال به كما في قوله تعالى فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ومن الرمز إلى غاية شناعة ما فعلوا فيها ألا يرى أنهم مع كونها محرمة من أن تنتهك حرمتها باختلاء خلاها وعضد شجرها وتنفير صيدها وإرادة الإلحاد فيها بوجه من الوجوه قد استمروا فيها على تعاطي أفجر أفراد الفجور وأشنع آحاد الإلحاد حيث تركوا عبادة ربها ونصبوا فيها الأوثان وعكفوا على عبادتها قاتلهم الله أنى يؤفكون وقرئ حرمها بالتخفيف وقوله تعالى «وله كل شيء» أي خلقا وملكا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك تحقيق للحق وتنبيه على أن إفراد مكة بالإضافة لما ذكر من التفخيم والتشريف مع عموم الربوبية لجميع الموجودات «وأمرت أن أكون من المسلمين» أي أثبت على ما كنت عليه من كوني من جملة الثابتين على ملة الإسلام والتوحيد أي الذين أسلموا وجوههم لله خالصة من قوله تعالى ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله «وأن أتلو القرآن» أي أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه الرائعة المخزونة في تضاعيفه شيئا فشيئا أو على تلاوته على الناس بطريق تكرير الدعوة وتثنية الإرشاد فيكون ذلك تنبيها على كفايته في الهداية والإرشاد من غير حاجة إلى إظهار معجزة أخرى فمعنى قوله تعالى «فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه» حينئذ فمن اهتدى بالإيمان به والعمل بما فيه من الشرائع والأحكام وعلى الأول فمن اهتدى باتباعه إياي فيما ذكر من العبادة والإسلام وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه عائدة إليه لا إلى «ومن ضل» بالكفر به والإعراض عن العمل بما فيه أو بمخالفتي فيما ذكر «فقل» في حقه «إنما أنا من المنذرين» وقد خرجت عن عهدة الإنذار فليس على من وبال ضلاله شيء وإنما هو عليه فقط
306

«وقل الحمد لله» أي على ما أفاض على من نعمائه التي أجلها نعمة النبوة المستتبعة لفنون النعم الدينية والدنيوية ووفقني لتحمل أعبائها وتبليغ أحكامها إلى كافة الورى
بالآيات البينة والبراهين النيرة وقوله تعالى «سيريكم آياته» من جملة الكلام المأمور به أي سيريكم البتة في الدنيا آياته الباهرة التي نطق بها القرآن كخروج الدابة وسائر الأشراط وقد عد منها وقعة بدر ويأباه قوله تعالى «فتعرفونها» أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة لأنهم لا يتعرفون بكون وقعة بدر كذلك وقيل سيريكم في الآخرة وقوله تعالى «وما ربك بغافل عما تعملون» كلام مسوق من جهته تعالى بطريق التذييل مقرر لما قبله متضمن للوعد والوعيد كما ينبئ عنه إضافة الرب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وتخصيص الخطاب أولا به صلى الله عليه وسلم وتعميمه ثانيا للكفرة تغليبا أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت من الحسنات وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازى كلا منكم بعمله لا محالة وقرئ عما يعملون على الغيبة فهو وعيد محض والمعنى وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم البتة فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم الموجبة له والله تعالى أعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بسليمان وهو وصالح وإبراهيم وشعيب عليهم الصلاة والسلام ومن كذب بهم ويخرج من قبره وهو ينادي لا له إلا الله.
(تم بحمد الله الجزء السادس ويليه الجزء السابع وأوله سورة القصص)
307