الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٤
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى إرشاد العقد السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء الرابع
الناشر
دار إحياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

سورة الأنفال مدنية وهي خمس وسبعون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «يسألونك عن الأنفال» النفل الغنيمة سميت به لأنها عطية من الله تعالى زائدة على ما هو أصل الأجر في الجهاد من الثواب الأخروي ويطلق على ما يعطي بطريق التنفيل زيادة على السهم من المغنم وقرئ علنفال بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن في اللام
روى أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا وقيل أن الشباب قد أبلوا يومئذ بلاء حسنا فقتلوا سبعين وأسروا سبعين فقالوا نحن المقاتلون ولنا الغنائم وقال الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردءا لكم وفئة تنحازون إليها حتى قال سعد بن معاذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن من العدو ولكن كرهنا أن نعرى مصافك فيعطف عليك خيل من المشركين فنزلت وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم قد شرط لمن كان له بلاء أن ينفله ولذلك فعل الشبان ما فعلوا من القتل والأسر فسألوه صلى الله عليه وسلم ما شرطه لهم فقال الشيوخ المغنم قليل والناس كثير وإن تعط هؤلاء ما شرطت لهم حرمت أصحابك فنزلت والأول هو الظاهر لما أن السؤال استعلام لحكم الأنفال بقضية كلمة عن لا استعطاء لنفسها كما نطق به الوجه الأخير وادعاء زيادة عن تعسف ظاهر والاستدلال عليه بقراءة ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقي وجعفر الصادق وعكرمة وعطاء يسألونك الأنفال غير منتهض فإن مبناها كما قالوا على الخذف والإيصال كما يعرب عنه الجواب بقوله عز وجل
«قل الأنفال لله والرسول» أي حكمها مختص به تعالى بقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم كيفما أمر به من غير أن يدخل فيه رأي أحد ولو كان السؤال استعطاء لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم من الأنفال بالله والرسول لا ينافي إعطاءها إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونها بموجب شرط الرسول صلى الله عليه وسلم الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليها ونحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بالمعنى المذكور مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان مما لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزام لنكرر النسخ من غير علم بالناسخ
2

الأخير ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى فأن لله خمسه وللرسول لما أن المراد بالأنفال فيها قالوا هو المعنى الأول حتما كما نطق به قوله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شيء الآية على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ أيضا حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بل بين في صدر السورة الكريمة إجمالا أن أمرها مفوض إلى الله تعالى ورسوله ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها على التفصيل وادعاء اقتصار هذا الحكم أعنى الاختصاص برسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر يجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبئ عنه إظهار الأنفال في موقع الإضمار على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له صلى الله عليه وسلم خاصة مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت إن الله تعالى قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال لي صلى الله عليه وسلم ليس هذا لي ولا لك أطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه ووعده صلى الله عليه وسلم لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه وإعطاؤه صلى الله عليه وسلم بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى الأنفال لله والرسول والفرض أنه المانع من إعطاء المسؤول ومما هو نص في الباب قوله عز وجل
«فاتقوا الله» أي إذا كان أمر الغنائم لله تعالى ورسوله فاتقوه تعالى واجتنبوه ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لسخط الله تعالى أو فاتقوه في كل ما تأنون وما تذرون فيدخل فيه ما هم فيه دخولا أوليا ولو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه وإظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتعليل الحكم
«وأصلحوا ذات بينكم» جعل ما بينهم من الحال لملابستها التامة لبينهم صاحبة له كما جعلت الأمور المضمرة في الصدور ذات الصدور أي أصلحوا ما بينكم من الأحوال بالمواساة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتفضل به عليكم وعن عبادة بن الصامت نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلافنا فنزعه الله تعالى من أيدينا فجعله لرسوله فقسمه بين المسلمين على السواء وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين وعن عطاء كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال اقسموا غنائمكم بالعدل فقالوا قد أكلنا وأنفقنا فقال ليرد بعضكم على بعض
«وأطيعوا الله ورسوله» بتسليم أمره ونهيه وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة
«إن كنتم مؤمنين» متعلق بالأوامر الثلاثة والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور وأيا ما كان فالمقصود تحقيق المعلق بناء على تحقق المعلق به وفيه تنشيط للمخاطبين
3

وحث لهم على المسارعة إلى الامتثال والمراد بالإيمان كماله أي إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على هذه الخصال الثلاث طاعة الأوامر واتقاء المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان
«إنما المؤمنون» جملة مستأنفة مسوقة لبيان من أريد بالمؤمنين بذكر أوصافهم الجليلة المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث وفيه مزيد ترغيب لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة أي إنما الكاملون في الإيمان المخلصون فيه
«الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم» أي فزعت لمجرد ذكره من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه وقيل هو الرجل يهم بمعصية فيقال له اتق الله فينزع عنها خوفها من عقابه وقريء وجلت بفتح الجيم وهي لغة وقرئ فرقت أي خافت
«وإذا تليت عليهم آياته» أي آية كانت
«زادتهم إيمانا» أي يقينا وطمأنينة نفس فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج والبراهين موجب لزيادة الاطمئنان وقوة اليقين وقيل إن نفس الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان وإنما زيادته باعتبار زيادة المؤمن به فإنه كلما نزلت آية صدق بها المؤمن فزاد إيمانه عددا وأما نفس الإيمان فهو بحاله وقيل باعتبار أن الأعمال تجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها والأصوب أن نفس التصديق يقبل القوة وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق النير بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات ويقين آحاد الأمة وعليه مبنى ما قال علي رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا وكذا بين ما قام عليه دليل واحد وما قامت عليه أدلة كثيرة
«وعلى ربهم» مالكهم ومدبر أمورهم خاصة
«يتوكلون» يفوضون أمورهم لا إلى أحد سواه والجملة معطوفة على الصلة وقوله تعالى
«الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون» مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبئ عن المدح ذكر أولا من أعمالهم الحسنة أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل ثم عقب بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة
«أولئك» إشارة إلى من ذكرت صفاتهم الحميدة من حيث إنهم متصفون بها وفيه دلالة على أنهم متميزون بذلك عمن عداهم أكمل تميز منتظمون بسببه في سلك الأمور المشاهدة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبعد منزلتهم في الشرف
«هم المؤمنون حقا» لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال القلبية والقالبية وحقا صفة لمصدر محذوف أي أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا أو مصدر مؤكد للجملة أي حق ذلك حقا كقولك هو عبد الله حقا
«لهم درجات» من الكرامة والزلفى وقيل درجات عالية في الجنة وهو إما جملة مبتدأة مبنية على سؤال نشأ من تعداد مناقبهم
4

كأنه قيل ما لهم بمقابلة هذه الخصال فقيل لهم كيت كيت أو خبر ثان لأولئك وقوله تعالى
«عند ربهم» إما متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة عنده تعالى أو بما يتعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار وفي إضافة الظرف إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف ولطف لهم وإيذان بأن ما وعد لهم متيقن الثبوت والحصول مأمون الفوات
«ومغفرة» لما فرط منهم
«ورزق كريم» لا ينقضي أمده ولا ينتهي عدده وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة
«كما أخرجك ربك من بيتك بالحق» الكاف في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهتهم لما رأيت مع كونه حقا كحالهم في كراهتهم لخروجك للحرب وهو حق أو في محل النصب على أنه صفة لمصدر مقدر في قوله تعالى الأنفال لله أي الأنفال ثبتت لله والرسول مع كراهتهم ثباتا مثل ثبات إخراج ربك إياك من بيتك في المدينة أو من المدينة إخراجا ملتبسا بالحق
«وإن فريقا من المؤمنين لكارهون» أي والحال أن فريقا منهم كارهون للخروج إما لنفرة الطبع عن القتال أو لعدم الاستعداد وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة بأهل مكة النجاة النجاة على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد
لم تفلحوا بعدها أبدا وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه رؤيا فقالت لأخيها أني رأيت كان ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثم حلق بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة فحدث بها العباس رضي الله عنه فقال أبو جهل ما يرضى رجالهم أن يتنبئوا حتى تتنبأ نساؤهم فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير فقيل له إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال لا واللات لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير وأنا قد أعضضناه فمضى بهم إلى بدر وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السنة فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير فقالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردد عليهم فقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فقام عندما غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فأحسنا ثم قام سعد بن عبادة فقال انظر أمرك فامض فوالله لو سرت إلى عدن أبين ما تخلف عنك رجل من الأنصار ثم قال المقداد بن عمرو رضي الله عنه يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون
5

ما دامت عين منا تطرف فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أشيروا على أيها الناس وهو يريد الأنصار لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك ما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن تكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدو دهمه بالمدينة فقام سعد بن معاذ فقال لكأنك تريدنا يا رسول لله قال أجل قال قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسطه قول سعد ثم قال سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم
روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس رضي الله عنه وهو في وثاقه لا يصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم لم قال لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك
«يجادلونك في الحق» الذي هو تلقى النفير لإيثارهم عليه تلقى العير والجملة استئناف أو حال ثانية أي أخرجك في حال مجادلتهم إياك ويجوز أن يكون حالا من الضمير في لكارهون وقوله تعالى
«بعد ما تبين» منصوب بيجادلونك وما مصدرية أي بعد تبين الحق لهم بإعلامك أنهم ينصرون أينما توجهوا ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وكان ذلك لكراهتهم القتال
«كأنما يساقون إلى الموت» الكاف في محل نصب على الحالية من الضمير في لكارهون أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل
«وهم ينظرون» حال من ضمير يساقون أي والحال أنهم ينظرون إلى أسباب الموت ويشاهدونها عيانا وما كانت هذه المرتبة من الخوف والجزع إلا لقلة عددهم وعدم تأهبهم وكونهم رجالة روى أنه لم يكن فيهم إلا فارسان
«وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين» كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله عز وجل بالمؤمنين مع ما بهم من قلة الحزم ودناءة الهمة وقصور الرأي والخوف والجزع وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به المؤمنون بطريق التلوين والالتفات وإحدى الطائفتين مفعول ثان ليعدكم أي اذكروا وقت وعد الله إياكم إحدى الطائفتين وتذكير الوقت مع أن المقصود تذكير ما فيه من الحوادث لما مر مرارا من المبالغة في إيجاب ذكرها لما أن إيجاب ذكر الوقت إيجاب لذكر ما وقع فيه بالطريق البرهاني ولأن الوقت مشتمل على ما وقع فيه من الحوادث بتفاصيلها فإذا استحضر كان ما وقع فيه حاضرا مفصلا كأنه مشاهد عيانا وقرئ يعدكم بسكون الدال تخفيفا وصيغة المضارع لحكاية الحال
6

الماضية لاستحضار صورتها وقوله تعالى
«أنها لكم» بدل اشتمال من إحدى الطائفتين مبين لكيفية الوعد أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم مسخرة لكم تتسلطون عليها تسلط الملاك وتتصرفون فيهم كيف شئتم
«وتودون» عطف على يعدكم داخل تحت الأمر بالذكر أي تحبون
«أن غير ذات الشوكة تكون لكم» من الطائفتين لا ذات الشوكة وهي النفير ورئيسهم أبو جهل وهم ألف مقاتل وغير ذات الشوكة هي العير إذ لم يكن فيها إلا أربعون فارسا ورأسهم أبو سفيان والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير والشوكة الحدة مستعارة من واحدة الشوك وشوك القنا شباها
«ويريد الله» عطف على تودون منتظم معه في سلك التذكير ليظهر لهم عظيم لطف الله بهم مع دناءة هممهم وقصور آرائهم أي اذكروا وقت وعده تعالى إياكم إحدى الطائفتين وودادتكم لأدناهما وإرادته تعالى لأعلاهما وذلك قوله تعالى
«أن يحق الحق» أي يثبته ويعليه
«بكلماته» أي بآياته المنزلة في هذا الشأن أو بأوامره للملائكة بالإمداد وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وقرئ بكلمته
«ويقطع دابر الكافرين» أي آخرهم ويستأصلهم بالمرة والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور والله عز وعلا يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين وقوله تعالى
«ليحق الحق ويبطل الباطل» جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها أي لهذه الغاية الجليلة فعل ما فعل لا لشيء آخر وليس فيه تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر ومعنى إحقاق الحق إظهار حقيته لا جعله حقا بعد أن لم يكن كذلك وكذا حال إبطال الباطل
«ولو كره المجرمون» أي المشركين ذلك أي إحقاق الحق وإبطال الباطل
«إذ تستغيثون ربكم» بدل من إذ يعدكم معمول لعامله فالمراد تذكير استمدادهم منه سبحانه والتجائهم إليه تعالى حين ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وإمداده تعالى حينئذ وقيل متعلق بقوله تعالى ليحق الحق على الظرفية وما قيل من أن قوله تعالى ليحق مستقبل لأنه منصوب بأن فلا يمكن عمله في إذ لأنه ظرف لما مضى ليس بشيء لأن كونه مستقبلا إنما هو بالنسبة إلى زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغائة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد إنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمان النزول وصيغة الاستقبال في تستغيثون لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة وقيل متعلق بمضمر مستأنف أي ذكروا وقت استغاثتكم وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال جعلوا يدعون الله تعالى قائلين أي رب انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو
7

اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض فما زال كذلك حتى سقط رداؤه فأخذه أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك
«فاستجاب لكم» عطف على تستغيثون داخل معه في حكم التذكير لما عرفت أنه ماض وصيغة الاستقبال لاستحضار الصورة
«أني ممدكم» أي بأني فحذف الجار وسلط عليه الفعل فنصب محله وقرئ بكسر الهمزة على إرادة القول أو على إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من مقولة القول
«بألف من الملائكة مردفين» أي جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم فالمراد بهم رؤساؤهم المستتبعون لغيرهم وقد اكتفى ههنا بهذا البيان الإجمالي وبين في سورة آل عمران مقدار عددهم وقيل معناه متبعين أنفسهم ملائكة آخرين أو متبعين المؤمنين أو بعضهم بعضا من أردفته إذا جئت بعده أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين أو أنفسهم المؤمنين من أردفته إياه فردفه وقريء مردفين بفتح الدال أي متبعين أو متبعين بمعنى أنهم كانوا مقدمة الجيش أو ساقتهم وقريء مردفين بكسر الراء وضمها وتشديد الدال وأصلهما مرتدفين بمعنى مترادفين فأدغمت التاء في الدال فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل أبو بالضم على الاتباع وقريء بآلاف ليوافق ما في سورة آل عمران ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم وأعيانهم أو من قاتل منهم واختلف في مقاتلتهم وقد روى أخبار تدل على وقوعها
«وما جعله الله» كلام مستأنف سيق لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل من التأثير وإنما التأثير مختص به عز وجل ليثق به المؤمنين ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه والجعل متعد إلى مفعول واحد هو الضمير العائد إلى مصدر فعل مقدر يقتضيه المقام اقتضاء ظاهر مغنيا عن التصريح به كأنه قيل فأمدكم بهم وما جعل إمدادكم بهم
«إلا بشرى» وهو استثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة عيانا لشيء من الأشياء إلا للبشرى لكم بأنكم تنصرون
«ولتطمئن به» أي بالإمداد
«قلوبكم» وتسكن إليه نفوسكم كما كانت السكينة لبني إسرائيل كذلك فكلاهما مفعول له للجعل وقد نصب الأول لاجتماع شرائطه وبقي الثاني على حاله لفقدانها وقيل للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة وفي قصر الإمداد عليهما إشعار بعدم مباشرة الملائكة للقتال وإنما كان إمدادهم بتقوية قلوب المباشرين وتكثير سوادهم ونحوه كما هو رأي بعض السلف وقيل الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما إلا بشرى على أنه استثناء من أعم المفاعيل أي وما جعله الله شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم فاللام في ولتطمئن متعلقة بمحذوف مؤخر تقديره ولتطمئن به قلوبكم فعل ذلك لا لشيء آخر
«وما النصر» أي حقيقة النصر على الإطلاق
«إلا من عند الله» أي إلا كائن من عنده عز وجل من غير أن يكون فيه شركة
8

من جهة الأسباب والعدد وإنما هي مظاهر له بطريق جريان السنة الإلهية
«أن الله عزيز» لا يغالب في حكمه ولا ينازع في أقضيته
«حكيم» يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة والجملة تعليل لما قبلها متضمن للإشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة
«إذ يغشيكم النعاس» أي يجعله غاشيا لكم ومحيطا بكم وهو بدل ثان من إذ يعدكم لإظهار نعمة أخرى وصيغة الاستقبال فيه وفيما عطف عليه لحكاية الحال الماضية كما
في تستغيثون أو منصوب بإضمار اذكروا وقيل هو متعلق بالنصر أو بما في من عند الله من معنى الفعل أو بالجعل وليس بواضح وقريء يغشيكم من الإغشاء بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الباري تعالى وقريء يغشاكم على إسناد الفعل إلى النعاس وقوله تعالى
«أمنة منه» على القراءتين الأوليين منصوب على العلية بفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا كائنا من الله تعالى لا كلالا وإعياء أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا كما في قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا على أحد الوجهين وقيل منصوب بنفس الفعل المذكور والأمنة بمعنى الإيمان وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما مر وقريء أمنة كرحمة «وينزل عليكم من السماء ماء» تقديم الجار والمجرور على المفعول به لما مر مرارا من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا اخر تبقي النفس مترقبة له فعند وروده يتمكن عندها فضل تمكن وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء وقرئ بالتخفيف من الإنزال
«ليطهركم به» أي من الحدث الأصغر والأكبر
«ويذهب عنكم رجز الشيطان» الكلام في تقديم الجار والمجرور كما مر آنفا والمراد برجز الشيطان وسوسته وتخويفه إياهم من العطش
روى أنهم نزلوا في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركين على الماء فتمثل لهم الشيطان فوسوس إليهم وقال أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم ولو كنتم على الحق ما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا فأنزل الله عز وجل المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي فاغتسلوا وتوضئوا وسقوا الركاب وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الإقدام وزالت وسوسة الشيطان وطابت النفوس وقويت القلوب وذلك قوله تعالى
«وليربط على قلوبكم» أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد مشاهدة طلائعه
«ويثبت به الأقدام» فلا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول ويجوز أن يكون المربط فإن القلب إذا قوى
9

وتمكن فبه الصبر والجراءة لا تكاد تزل القدم في معارك الحروب وقوله تعالى
«إذ يوحي ربك إلى الملائكة» منصوب بمضمر مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التجريد حسبما تنطق به الكاف لما أن المأمور به مما لا يستطيعه غيره صلى الله عليه وسلم فإن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المتلو على لسانه صلى الله عليه وسلم ليس من النعم التي يقف عليها عامة الأمة كسائر النعم السابقة التي أمروا بذكر وقتها بطريق الشكر وقيل منصوب بقوله تعالى ويثبت به الأقدام فلا بد حينئذ من عود الضمير المجرور في به إلى الربط على القلوب ليكون المعنى ويثبت أقدامكم بتقوية قلوبكم وقت إيحائه إلى الملائكة وأمره بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال ولا يخفى أن تقييد التثبيت المذكور بوقت مبهم عندهم ليس فيه مزيد فائدة وأما انتصابه على أنه بدل ثالث من إذ يعدكم كما قيل فيأباه تخصيص الخطاب به صلى الله عليه وسلم مع ما عرفت من أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التنويه والتشريف ما لا يخفى والمعنى اذكر وقت إيحائه تعالى إلى الملائكة
«إني معكم» أي بالإمداد والتوفيق في أمر التثبيت فهو مفعول يوحى وقرئ بالكسر على إرادة القول أو إجراء الوحي مجراه وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية الملائكة إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتثبيت صورة فلهم الأصالة من تلك الحيثية كما في أمثال قوله تعالى إن الله مع الصابرين والفاء في قوله تعالى
«فثبتوا الذين آمنوا» لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إمداده تعالى إياهم من أقوى موجبات التثبيت واختلفوا في كيفية التثبيت فقالت جماعة إنما أمروا بتثبيتهم بالبشارة وتكثير السواد ونحوهما مما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم ويتأكد جدهم في القتال وهو الأنسب بمعنى التثبيت وحقيقته التي هي عبارة عن الحمل على الثبات في موطن الحراب والجد في مقاساة شدائد القتال وقد روى أنه كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفونه بوجهه فيأتي ويقول إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ويمشي بين الصفين فيقول أبشروا فإن الله تعالى ناصركم وقال آخرون أمروا بمحاربة أعدائهم وجعلوا قوله تعالى
«سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب» تفسير لقوله تعالى أني معكم وقوله تعالى
«فاضربوا» الخ تفسيرا لقوله تعالى فثبتوا مبينا لكيفية التثبيت وقد روي عن أبي داود المازني رضي الله عنه وكان ممن شهد بدرا أنه قال اتبعت رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه فوقعت رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أنه قال لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فتقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف وأنت خبير بأن قتلهم للكفرة مع عدم ملاءمته لمعنى تثبيت المؤمنين مما لا يتوقف على الإمداد بإلقاء الرعب فلا يتجه ترتيب الأمر به عليه بالفاء وقد اعتذر الأولون بأن قوله تعالى سألقى الخ ليس بنص فيما ذكر بل يجوز أن يكون ذلك إثر قوله تعالى فثبتوا الذين آمنوا تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به
10

كأنه قيل قولوا لهم سألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا الخ فالضاربون هم المؤمنون وأما ما قيل من أن ذلك خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال وأني ذلك والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الوقعة وقوله تعالى
«فوق الأعناق» أي أعاليها التي هي المذابح أو الهامات
«واضربوا منهم كل بنان» قيل البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين وقيل هي الأصابع من اليدين والرجلين وقال أبو الهيثم البنان المفاصل وكل مفصل بنانة وقال ابن عباس وابن جريج والضحاك يعني الأطراف أي اضربوهم في جميع الأعضاء من أعاليها إلى أسافلها وقيل المراد بالبنان الأداني وبفوق الأعناق الأعالي والمعنى فاضربوا الصناديد والسفلة وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومنهم متعلق به أو بمحذوف وقع حالا مما بعده 14) ذلك إشارة إلى ما أصابهم من
العقاب وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في الشدة والفظاعة والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب ومحله الرفع على الابتداء وخبره قوله تعالى
«بأنهم شاقوا الله ورسوله» أي ذلك العقاب الفظيع واقع عليهم بسبب مشاقتهم ومغالبتهم من لا سبيل إلى مغالبته أصلا واشتقاق المشاقة من الشق لما أن كلا من المشاقين في شق خلاف شق الآخر كما أن اشتقاق المعاداة والمخاصمة من العدوة والخصم أي الجانب لأن كلا من المتعاديين والمتخاصمين في عدوة وخصم غير عدوة الآخر وخصمه
«ومن يشاقق الله ورسوله» الإظهار في موضع الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه والإشعار بعلة الحكم وقوله تعالى
«فإن الله شديد العقاب» إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد إلى من عند من يلتزمه أي شديد العقاب له أو تعليل للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله فإن الله شديد العقاب وأيا ما كان فالشرطية تكملة لما قبلها وتقرير لمضمونه وتحقيق للسببية بالطريق البرهاني كأنه قيل ذلك العقاب الشديد بسبب مشاقتهم لله تعالى ورسوله وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فإذن لهم بسبب مشاقتهم لهما عقاب شديد وأما أنه وعيد لهم بما أعد لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا كما قيل فيرده ما بعده من قوله تعالى
«ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار» فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلكم إشارة إلى نفس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوت العقاب لهم أما على الأول فلان الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه قوله تعالى فذوقوه والواو في قوله تعالى وإن للكافرين الخ بمعنى مع فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا فوضع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به وأما على الثاني فلان الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى وأن للكافرين الخ معطوف عليه والمعنى حكم الله ذلكم أي ثبوت هذا
11

العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا وقوله تعالى فذوقوه اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه وقد ذكر في إعراب الآية الكريمة وجوه أخر مدار الكل على أن المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا والله تعالى أعلم وقرئ بكسر أن على الاستئناف
«يا أيها الذين آمنوا» خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء بشأنه ومبالغة في حضهم على المحافظة عليه
«إذا لقيتم الذين كفروا زحفا» الزحف الدبيب يقال زحف الصبي زحفا إذا دب على أسته قليلا قليلا سمى به الجيش الداهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف وذلك لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فيحس حركته بالقياس إليه في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر على غاية السرعة قال قائلهم
[وأرعن مثل الطود تحسب أنهم * وقوف لجاج والركاب تهملج]
* ونصبه إما على حال من مفعول لقيتم أي زاحفين نحوكم وإما على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا وأما كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا كما قيل فيأباه قوله تعالى
«فلا تولوهم الأدبار» إذ لا معنى لتقييد النهي عن الأدبار بتوجههم السابق إلى العدو أو بكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الأدبار عادة والمحوج إلى النهي عنه وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حيث تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا بعيد والمعنى إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم
«ومن يولهم يومئذ» أي يوم اللقاء
«دبره» فضلا عن الفرار وقريء بسكون الباء
«إلا متحرفا لقتال» إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء وإما بالفر للكر بأن يخيل عدوه أنه منهزم ليغره ويخرجه من بين أعوانه ثم يعطف عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه وهو باب من خدع الحرب ومكايدها
«أو متحيزا إلى فئة» أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين لينضم إليهم ثم يقاتل معهم العدو
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن سرية فروا وأنا معهم فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا ودخلوا البيوت فقلت يا رسول الله نحن الفرارون فقال صلى الله عليه وسلم بل أنتم العكارون أي الكرارون من عكر أي رجع وأنا فئتكم
وانهزم رجل من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين هلكت ففررت من الزحف فقال رضي الله عنه أنا فئتك ووزن متحيز متفيعل لا متفعل وإلا لكان متحوزا لأنه من حاز يجوز وانتصابهما إما على الحالية وإلا لغولا عمل لها وإما على الاستثناء من المولين أي ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا
«فقد باء» أي رجع
«بغضب» عظيم لا يقادر قدره ومن في قوله
12

تعالى «من الله» متعلقة بمحذوف هو صفة لغضب مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة والهول بالفخامة الإضافية أي بغضب كائن منه تعالى
«ومأواه جهنم» أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه من مأوى ينجيه من القتل
«وبئس المصير» في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة ما لا مزيد عليه
عن عباس رضي الله عنهما أن الفرار من الزحف من أكبر الكبائر وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى الآن خفف الله عنكم الآية وقيل الآية مخصوصة بأهل بيته والحاضرين معه في الحرب
«فلم تقتلوهم» رجوع إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق منها والفاء جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك كأنه قيل إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم
«ولكن الله قتلهم» بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم ويجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم أي فاعلموا أو فأخبركم أنكم لم تقتلوهم وقيل التقدير إن افتخرتم ثم بقتلهم فلم تقتلوهم على أحد التأويلين لما روى أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غانمين أقبلوا يتفاخرون يقولون قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلعت قريش من العقنقل قال هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتي فأتاه جبريل عليه السلام فقال خذ قبضة من تراب فارمهم بها فلما التقى الجمعان قال لعلي رضي الله عنه أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها في وجوههم وقال شاهت الوجوه فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه فانهزموا وذلك قوله عز وجل بطريق تلوين الخطاب
«وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى» تحقيقا لكون الرمي الظاهر على يده صلى الله عليه وسلم حينئذ من أفعاله عز وجل وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود الأصلي بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الأمة الجمة شيء من ذلك أي وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لهذه الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة وإلا لكان أثرها من جنس آثار الأفاعيل البشرية ولكن الله فعلها أي خلقها حين باشرتها لكن لا على نهج عادته تعالى في خلق أفعال العباد بل على وجه غير معتاد ولذلك أثرت هذا التأثير الخارج عن طوق البشر ودائرة القوى والقدر فمدار إثباتها لله تعالى ونفيها عنه صلى الله عليه وسلم كون أثرها من أفعاله صلى الله عليه وسلم وقريء ولكن الله بالتخفيف والرفع في المحلين واللام في قوله تعالى
«وليبلي المؤمنين منه» أي ليعطيهم من عنده تعالى
«بلاء حسنا» أي عطاء جميلا غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره إما متعلقة بمحذوف متأخر فالواو اعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء غير ذلك مما لا يجديهم نفعا وإما يرمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي الخ وقوله تعالى
«إن
13

الله سميع» أي لدعائهم واستغاثتهم
«عليم» أي بنياتهم وأحوالهم الداعية إلى الإجابة تعليل للحكم
«ذلكم» إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وقوله تعالى
«وأن الله موهن كيد الكافرين» بالإضافة معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم وقيل المشار إليه القتل والرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل فيكون قوله تعالى وأن الله الآية من قبيل عطف البيان وقريء موهن بالتنوين مخففا ومشددا ونصب كيد الكافرين
«إن تستفتحوا» خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم بهم وذلك أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين أي إن تستنصروا لأعلى الجندين
«فقد جاءكم الفتح» حيث نصر أعلاهما وقد زعمتم أنكم الأعلى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهزيمة والقهر فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله
«وإن تنتهوا» عما كنتم عليه من الحراب ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم
«فهو» أي الانتهاء
«خير لكم» أي من الحراب الذي ذقتم غائلته لما فيه من السلامة من القتل والأسر ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم
«وإن تعودوا» إي إلى حرابه صلى الله عليه وسلم
«نعد» لما شاهدتموه من الفتح
«ولن تغني» بالتاء الفوقانية وقرى بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل أي لن تدفع أبدا
«عنكم فئتكم» جماعتكم التي تجمعونهم وتستعينون بهم
«شيئا» أي من الإغناء أو من المضار وقوله تعالى
«ولو كثرت» جملة حالية وقد مر التحقيق
«وأن الله مع المؤمنين» أي ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله مع المؤمنين ويقرب منه بحسب المعنى قراءة الكسر على الاستئناف وقيل الخطاب للمؤمنين والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مناط
لنيل سعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغنى حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر والأمر أن الله مع الكاملين في الإيمان
«يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا» بطرح إحدى التاءين وقريء بإدغامها
«عنه» أي لا تتولوا عن الرسول فإن المراد هو الأمر بطاعته والنهي عن الإعراض عنه وذكر طاعته تعالى للتمهيد والتنبيه على أن طاعته تعالى في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم من يطع الرسول فقد أطاع الله وقيل الضمير للجهاد وقيل للأمر الذي دل عليه الطاعة وقوله تعالى
«وأنتم تسمعون» جملة حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقا كما في قوله تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون لا لتقييد النهي
14

عنه بحال السماع كما في قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع فهم وإذعان
«ولا تكونوا» تقرير للنهي السابق وتحذير عن مخالفته بالتنبيه على أنها مؤدية إلى انتظامهم في سلك الكفرة بكون سماعهم كلا سماع أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي
«كالذين قالوا سمعنا» بمجرد الادعاء من غير فهم وإذعان كالكفرة والمنافقين الذين يدعون السماع
«وهم لا يسمعون» حال من ضمير قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم لا يسمعون حيث لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه فكأنهم لا يسمعونه رأسا
«إن شر الدواب» استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي إثر تقرير أي إن شر ما يدب على الأرض أو شر البهائم
«عند الله» أي في حكمه وقضائه
«الصم» الذين لا يسمعون الحق
«البكم» الذي لا ينطقون به وصفوا بالصمم والبكم لأن ما خلق له الأذن واللسان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون للجارحتين رأسا وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه ثم وصفوا بعدم التعقل فقيل
«الذين لا يعقلون» تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره بالإشارة ويهتدي بذلك إلى بعض مطالبه وأما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فهو الغاية في الشرية وسوء الحال وبذلك يظهر كونهم شرا من البهائم حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وبه يفضلون على كثير من خلق الله عز وجل فصاروا أخس من كل خسيس
«ولو علم الله فيهم خيرا» شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى
«لأسمعهم» سماع تفهم وتدبر ولو قفوا على حقية الرسول صلى الله عليه وسلم وأطاعوه وآمنوا به ولكن لم يعلم فيهم شيئا من ذلك لخلوهم عنه بالمرة فلم يسمعهم كذلك لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة وإليه أشير بقوله تعالى
«ولو أسمعهم لتولوا» أي لو أسمعهم سماع تفهم وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية لتولوا عما سمعوه من الحق ولم ينتفعوا به قط أو ارتدوا بعد ما صدقوه وصاروا كأن لم يسمعوه أصلا وقوله تعالى
«وهم معرضون» إما حال من ضمير تولوا أي لتولوا على أدبارهم والحال أنهم معرضون عما سمعوه بقلوبهم وإما اعتراض تذييلي أي وهم قوم عادتهم الإعراض وقيل كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحي قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصى الخ وقيل هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون نحن صم بكم
15

عمى عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن رضي الله عنه أنهم أهل الكتاب
«يا أيها الذين آمنوا» تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يرد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك 2
«استجيبوا لله وللرسول» بحسن الطاعة
«إذا دعاكم» أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى
«لما يحييكم» من العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي أو هي ماء حياة القلب كما أن الجهل موجب موته وقيل لمجاهدة الكفار لأنهم لو رفضوها لغلبوهم وقتلوهم كما في قوله تعالى ولكم في القصاص حياة
روى أنه صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال صلى الله عليه وسلم ما منعك من إجابتي قال كنت في الصلاة قال ألم تخبر فيما أوحى إلى استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم الخ واختلف فيه فقيل هذا من خصائص دعائه صلى الله عليه وسلم وقيل لأن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة وقيل كان ذلك الدعاء لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلى أن يقطع الصلاة لمثله
«واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه» تمثيل لغاية قربه تعالى من العبد كقوله تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وتنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما عسى يغفل عنه صاحبها أو حث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها قبل إدراك المنية فإنها حائلة بين المرء وقلبه أو تصوير وتخييل لتملكه على العبد قلبه
بحيث يفسخ عزائمه ويغير نياته ومقاصده ويحول بينه وبين الكفر إن أراد سعادته ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا وما أشبه ذلك من الأمور المعترضة المفوتة للفرصة وقريء بين المر بتشديد الراء على حذف الهمزة وإلقاء حركتها على الراء وإجراء الوصل مجرى الوقف وأنه أي الله عز وجل أو الشأن إليه تحشرون لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم فسارعوا إلى طاعته تعالى وطاعة رسوله وبالغوا في الاستجابة لهما
«واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» أي لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم بل يعمه وغيره كإقرار المنكر بين أظهرهم والمداهنة في الأمر والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد على أن قوله لا تصيبن الخ إما جواب الأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيبن الخ وفيه أن جواب الشرط متردد فلا يليق به النون المؤكدة لكنه لما تضمن معنى النهى ساغ فيه كقوله تعالى ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم وإما صفة لفتنة ولا للنفي وفيه شذوذ لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم أو للنهي على إرادة القول كقول من قال
* حتى إذا جن الظلام واختلط
* جاءوا بمذق هل رأيت الذنب قط
* وأما جواب قسم محذوف كقراءة من قرأ لتصيبن وإن اختلف المعنى فيهما وقد جوز أن يكون نهيا عن التعرض للظلم بعد الأمر باتقاء الذنب فإن
16

وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه ومن في منكم على الوجوه الأول للتبعيض وعلى الأخيرين للتبيين وفائدته التنبيه على أن الظالم منكم أقبح منه من غيركم
«واعلموا أن الله شديد العقاب» ولذلك يصيب بالعذاب من لم يباشر سببه
«واذكروا إذ أنتم قليل» أي وقت كونكم قليلا في العدد وإيثار الجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها من الضعف والخوف وقوله تعالى
«مستضعفون» خبر ثان أو صفة لقليل وقوله تعالى
«في الأرض» أي في أرض مكة تحت أيدي قريش والخطاب للمهاجرين أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء تحت أيدي الطائفتين وقوله تعالى
«تخافون أن يتخطفكم الناس» خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بالمفرد أو حال من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر إما كفار قريش وإما كفار العرب لقربهم منهم وشدة عدواتهم لهم وعلى الثاني فارس والروم أي واذكروا وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافهم
«فآواكم» إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم
«وأيدكم بنصره» على الكفار أو بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة
«ورزقكم من الطيبات» من الغنائم
«لعلكم تشكرون» هذه النعم الجليلة
«يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول» أصل الخون النقص كما أن الأصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه أي لا تخونوهما بتعطيل الفرائض والسنن أو بأن تضمروا خلاف ما تظهرون أو في الغلول في الغنائم روى أنه صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء من الشام فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فأبوا وقالوا أرسل إلينا أبا لبابة وكان مناصحا لهم لما أن ماله وعياله كانا في أيديهم فبعثه إليهم فقالوا ما ترى هل ننزل على حكم سعد فأشار إلى حلقه أنه الذبح قال أبو لبابة فما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله فنزلت فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله على فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له قد تيب عليك فحل نفسك قال لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه صلى الله عليه وسلم محله فقال إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي فقال صلى الله عليه وسلم يجزئك الثلث أن تتصدق به
«وتخونوا أماناتكم» فيما بينكم وهو مجزوم معطوف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو
«وأنتم تعلمون»
17

أنكم تخونون أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح
«واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة» لأنها سبب الوقوع في الإثم والعقاب أو محنة من الله عز وجل ليبلوكم في ذلك فلا يحملنكم حبهما على الخيانة كأبي لبابة
«وأن الله عنده أجر عظيم» لمن أثر رضاه تعالى عليهما وراعى حدوده فيهما فنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه
«يا أيها الذين آمنوا» تكرير الخطاب والوصف بالإيمان لإظهار كمال العناية بما بعده والإيذان بأنه مما يقتضي الإيمان مراعاته والمحافظة عليه كما في الخطابين السابقين
«إن تتقوا الله» أي في ما تأتون وما تذرون
«يجعل لكم» بسبب ذلك
«فرقانا» هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين أو مخرجا من الشبهات أو نجاة عما
تحذرون في الدارين أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطح الفرقان أي الصبح
«ويكفر عنكم سيئاتكم» أي يسترها
«ويغفر لكم» ذنوبكم بالعفو والتجاوز عنها وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم وقوله تعالى
«والله ذو الفضل العظيم» تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعده الله تعالى لهم على التقوى تفضل منه وإحسان لا أنه مما يوجبه التقوى كما إذا وعد السيد عبده إنعاما على عمل
«وإذ يمكر بك الذين كفروا» منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم معطوف على قوله تعالى واذكروا إذ أنتم الخ مسوق لتذكير النعمة الخاصة به صلى الله عليه وسلم بعد تذكير النعمة العامة للكل أي واذكر وقت مكرهم بك
«ليثبتوك» بالوثاق ويعضده قراءة من قرأ ليقيدوك أو الاثخان بالجرح من قولهم ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح وقريء ليثبتوك بالتشديد وليبيتوك من البيات
«أو يقتلوك» أي بسيوفهم
«أو يخرجوك» أي من مكة وذلك أنهم لما سمعوا بإسلام الأنصار ومبايعتهم له صلى الله عليه وسلم فرقوا واجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمره صلى الله عليه وسلم فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ وقال أنا من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا فقال أبو البحتري رأيي أن تحبسوه في بيت وتسدوا منافذه غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها حتى يموت فقال الشيخ بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم فقال هشام بن عمرو رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من أرضكم فلا يضركم ما صنع فقال وبئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم فقال أبو جهل أنا أرى أن تأخذوا
18

من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا فيضربوه ضربة واحدة فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم فإذا طلبوا العقل عقلناه فقال صدق هذا الفتى فتفرقوا على رأيه فأتى جبريل النبي عليهما الصلاة والسلام وأخبره بالخبر وأمره بالهجرة فبيت عليا رضي الله تعالى عنه على مضجعه وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار
«ويمكرون ويمكر الله» أي يرد مكرهم عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما لقوا
«والله خير الماكرين» لا يعبأ بمكرهم عند مكره وإسناد أمثال هذا إليه سبحانه مما يحسن للمشاكلة ولا مساغ له ابتداء لما فيه من إيهام ما لا يليق به سبحانه
«وإذا تتلى عليهم آياتنا» التي حقها أن يخر لها صم الجبال
«قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا» قاله اللعين النضر بن الحرث وإسناده إلى الكل لما أنه كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويأخذون برأيه وقيل قاله الذين ائتمروا في أمره صلى الله عليه وسلم في دار الندوة وهذا كما ترى غاية المكابرة ونهاية العناد كيف لا ولو استطاعوا شيئا من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة وقد اتحدوا عشر سنين وقرعوا على العجز وذاقوا من ذلك الأمرين ثم قورعوا بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم وفرط استنكافهم أن يغلبوا لا سيما في باب البيان
«إن هذا إلا أساطير الأولين» أي ما يسطرونه من القصص
«وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» هذا أيضا من أباطيل ذلك اللعين
روى أنه لما قال إن هذا إلا أساطير الأولين قال له النبي صلى الله عليه وسلم ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك والمعنى إن القرآن إن كان حقا منزلا من عندك فأمطر علينا الحجارة عقوبة على إنكارنا أو ائتنا بعذاب أليم سواه والمراد منه التهكم وإظهار اليقين والجزم التام على أنه ليس كذلك وحاشاه وقريء الحق بالرفع على أن هو مبتدأ لأفضل وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن المعلق به كونه حقا على الوجه الذي يدعيه صلى الله عليه وسلم وهو تنزيله لا الحق مطلقا لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل كالأساطير
«وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم» جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان للموجب لإمهالهم والتوقف في إجابة دعائهم واللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه والمراد باستغفارهم في قوله تعالى
«وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» إما استغفار من بقي منهم من المؤمنين أو قولهم اللهم
19

اغفر أو فرضه على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون
«وما لهم ألا يعذبهم الله» بيان لاستحقاقهم العذاب بعد بيان أن المانع ليس من قبلهم أي وما لهم مما يمنع تعذيبهم متى زال ذلك وكيف لا يعذبون
«وهم يصدون عن المسجد الحرام» أي وحالهم ذلك ومن صدهم عند إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة وإحصارهم عام الحديبية
«وما كانوا أولياءه» حال من ضمير يصدون مفيدة لكمال قبح ما صنعوا من الصد فإن مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح وهو رد لما كانوا يقولون نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء
«إن أولياؤه إلا المتقون» من الشرك الذين لا يعبدون فيه غيره تعالى
«ولكن أكثرهم لا يعلمون» أنه لا ولاية لهم عليه وفيه إشعارا بأن منهم من يعلم ذلك ولكنه يعاند وقيل أريد بأكثرهم كلهم كما يراد بالقلة العدم
«وما كان صلاتهم عند البيت» أي دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة أو ما يضعون موضعها
«إلا مكاء» أي صفيرا فعال من مكا يمكو إذا صفر وقرئ بالقصر كالبكي
«وتصدية» أي تصفيقا تفعلة من الصدى أو من الصد على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء وقرئ صلاتهم بالنصب على أنه الخبر لكان مساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب أو عدم ولايتهم للمسجد فإنها لا تليق بمن هذه صلاته
روى أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون وقيل كانوا يفعلون ذلك إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه ويرون أنهم يصلون أيضا
«فذوقوا العذاب» أي القتل والأسر يوم بدر وقيل عذاب الآخرة واللام يحتمل أن تكون للعهد والمعهود ائتنا بعذاب أليم
«بما كنتم تكفرون» اعتقادا وعملا
«إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله» نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا من قريش يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر أو في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين سوى من استجاش من العرب وأنفق فيهم أربعين أوقية أو في أصحاب العير فإنه لما أصيب قريش يوم بدر قيل لهم أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا منه ففعلوا والمراد بسبيل الله دينه واتباع رسوله
«فسينفقونها» بتمامها ولعل الأول إخبار عن إنفاقهم في تلك الحال وهو إنفاق يوم بدر والثاني إخبار عن إنفاقهم فيما يستقبل وهو إنفاق يوم أحد ويحتمل أن يراد بهما واحد على أن مساق الأول لبيان الغرض من الإنفاق ومساق الثاني لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد
«ثم
20

تكون عليهم حسرة» ندما وغما لفواتها من غير حصول المقصود جعل ذاتها حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة
«ثم يغلبون» آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالا قبل ذلك
«والذين كفروا» أي تموا على الكفر وأصروا عليه
«إلى جهنم يحشرون» أي يساقون لا إلى غيرها
«ليميز الله الخبيث من الطيب» أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح واللام متعلقة بيحشرون أو بيغلبون أو ما أنفقه المشركون في عداوته صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نصرته واللام متعلقة بقوله ثم تكون عليهم حسرة وقرئ ليميز بالتشديد للمبالغة
«ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا» أي يضم بعضه إلى بعض حتى يتراكموا لفرط ازدحامهم فيجمعه أو يضم إلى الكافر ما أنفقه ليزيد به عذابه كما للكافرين
«فيجعله في جهنم» كله
«أولئك» إشارة إلى الخبيث إذ هو عبارة عن الفريق أو إلى المنفقين وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في الخبث
«هم الخاسرون» الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم
«قل للذين كفروا» هم أبو سفيان وأصحابه أي قل لأجلهم
«إن ينتهوا» عما هم فيه من معاداة النبي صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام
«يغفر لهم ما قد سلف» من الذنوب وقريء إن تنتهوا يغفر لكم ويغفر لكم على البناء للفاعل وهو الله تعالى
«وإن يعودوا» إلى قتالهم
«فقد مضت سنة الأولين» الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم السلام بالتدبير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك
«وقاتلوهم» عطف على قل وقد عمم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله تعالى فقد مضت سنة الأولين من الوعيد
«حتى لا تكون فتنة» أي لا يوجد منهم شرك
«ويكون الدين كله لله» وتضمحل الأديان الباطلة إما بإهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل
«فإن انتهوا» عن الكفر بقتالكم
«فإن الله بما يعملون بصير» فيجازيهم على انتهائهم عنه وإسلامهم وقرئ بتاء الخطاب أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام وتعليقه بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة
«وإن تولوا» ولم ينتهوا عن ذلك
«فاعلموا أن الله مولاكم» ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم
«نعم المولى» لا يضيع من تولاه
«ونعم النصير» لا يغلب من نصره
21

«واعلموا أنما غنمتم» عن الكلبي أنها نزلت ببدر وقال الواقدي كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة وما موصولة وعائدها محذوف أي الذي أصبتموه من الكفار عنوة وأصل الغنيمة إصابة الغنم من العدو ثم اتسع وأطلق على ما أصيب منهم كائنا ما كان وقوله تعالى
«من شيء» بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائد الموصول قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء أي ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول للقاتل إذا نفله الإمام وأن الأسارى يخير فيها الإمام وكذا الأراضي المغنومة وقوله تعالى
«فأن لله خمسه» مبتدأ خبره محذوف أي فحق أو واجب أن له تعالى خمسه وهذه الجملة خبر لأنما الخ وقرئ بالكسر والأول آكد وأقوى في الإيجاب لما فيه من تكرر الإسناد كأنه قيل فلا بد من ثبات الخمس ولا سبيل إلى الإخلال به وقرئ فلله خمسه وقرئ خمس بسكون الميم والجمهور على أن ذكر الله تعالى للتعظيم كما في قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه بقوله تعالى «وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل» وإعادة اللام في ذي القربى دون غيرهم من الأصناف الثلاثة لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالهم به صلى الله عليه وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل لما روى عن عثمان وجبير بن مطعم رضي الله عنهما أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة فقال صلى الله عليه وسلم إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه وكيفية قسمتها عندنا أنها كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم سهم له صلى الله عليه وسلم وسهم للمذكورين من ذوى قرباه وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية وأما بعده صلى الله عليه وسلم فسهمه ساقط وكذا سهم ذوى القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة لسائر الفقراء ولا يعطى أغنياؤهم فيقسم على الأصناف الثلاثة ويؤيده ما روى عن أبي بكر رضي الله عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال إنما لكم أن يعطى فقيركم وتزوج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم ومن عداهم فهو بمنزلة ابن السبيل الغنى لا يعطى من الصدقة شيئا وعن زيد بن علي مثله قال ليس لنا أن نبني منه قصورا ولا نركب منه البراذين وقيل سهم الرسول صلى الله عليه وسلم لولي الأمر بعده وأما عند الشافعي رحمه الله فيقسم على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف إلى ما كان يصرفه صلى الله عليه وسلم من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الكراع والسلاح ونحو ذلك وسهم لذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين والباقي للفرق الثلاث
22

وعند مالك رحمه الله الأمر فيه مفوض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين هؤلاء وإن رأي أعطاه بعضا منهم دون بعض وإن رأي غيرهم أولى وأهم فغيرهم وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى إلى رتاج الكعبة لما روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم وقيل سهم الله لبيت المال وقيل هو مضموم إلى سهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا شأن الخمس وأما الأخماس الأربعة فتقسم بين الغانمين للراجل سهم وللفارس سهمان عند أبي حنيفة رضي الله عنه وثلاثة أسهم عندهما رحمهما الله
قال القرطبي لما بين الله تعالى حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين وقوله تعالى
«إن كنتم آمنتم بالله» متعلق بمحذوف ينبيء عنه المذكور أي إن كنتم آمنتم به تعالى فاعلموا أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به إلى الله تعالى فاقطعوا أطماعكم منه واقتنعوا بالأخماس الأربعة ليس المراد به مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى
«وما أنزلنا» عطف على الاسم الجليل أي إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلناه
«على عبدنا» وقرئ عبدنا وهو اسم جمع أريد به الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم بالذات كما ستعرفه
«يوم الفرقان» يوم بدر سمى به لفرقه بين الحق والباطل وهو منصوب بأنزلنا أو بآمنتم
«يوم التقى الجمعان» أي الفريقان من المؤمنين والكافرين وهو بدل من يوم الفرقان أو منصوب بالفرقان والمراد ما أنزل عليه صلى الله عليه وسلم يومئذ من الوحي والملائكة والفتح على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فينتظم الكل انتظاما حقيقيا وجعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث إن الوحي ناطق بذلك وإن الملائكة والفتح لما كانا من جهته تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفة إلى الجهات التي عينها الله تعالى
«والله على كل شيء قدير» يقدر على نصر القليل على الكثير والذليل على العزيز كما فعل بكم ذلك اليوم
«إذ أنتم بالعدوة الدنيا» بدل ثان من يوم الفرقان والعدوة بالضم شط الوادي كذا بالفتح والكسر وقد قرئ بهما أيضا
«وهم بالعدوة القصوى» أي البعدي من المدينة وهي تأنيث الأقصى وكان القياس قلب الواو ياء كالدنيا والعليا مع كونهما من بنات الواو لكنها جاءت على الأصل كالقود واستصوب وهو أكثر استعمالا من القصيا
«والركب» أي العير أو قوادها
«أسفل منكم» أي في مكان أسفل من مكانكم يعني الساحل وهو نصب على الظرفية واقع موقع الخبر والجملة حال من الظرف قبله وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة عنها وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم واستبعاد غلبتهم عادة وكذا ذكر مراكز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت
23

رخوة تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن فيها ماء بخلاف العدوة القصوى وكذا قوله تعالى
«ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد» أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال ثم علمتم حالكم وحالهم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم ليتحققوا أن ما اتفق لهم من الفتح ليس إلا صنعا من الله عز وجل خارقا للعادات فيزدادوا إيمانا وشكر وتطمئن نفوسهم بفرض الخمس
«ولكن» جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد
«ليقضي الله أمرا كان مفعولا» حقيقا بأن يفعل من نصر أوليائه وقهر أعدائه أو مقدرا في الأزل وقوله تعالى «ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة» بدل منه أو متعلق بمفعولا أي ليموت من يموت عن بينة عاينها ويعيش من يعيش عن بينة شاهدها لئلا يكون له حجة ومعذرة فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة أو ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة على استعارة الهلاك والحياة للكفر والإيمان والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من حاله في علم الله تعالى الهلاك والحياة وقرئ ليهلك بالفتح وحي بفك الإدغام حملا على المستقبل
«وإن الله لسميع عليم» أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد
«إذ يريكهم الله في منامك قليلا» منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أي يعلم المصالح إذ يقللهم في عينك في رؤياك وهو أن تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم
«ولو أراكهم كثيرا لفشلتم» أي لجبنتم وهبتم الإقدام
«ولتنازعتم في الأمر» أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار
«ولكن الله سلم» أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع
«إنه عليم بذات الصدور» يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر 2
«وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا» منصوب بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على المضمر السابق والضميران مفعولا يرى وقليلا حال من الثاني وإنما قللهم في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله عنه لمن إلى جنبه أتراهم سبعين فقال أراهم مائة تثبيتا لهم وتصديقا لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم
«ويقللكم في أعينهم» حتى قال أبو جهل إنما أصحاب محمد أكلة جزور قللهم في أعينهم قبل التحام القتال ليجترئوا عليهم ولا يستعدوا لهم ثم كثرهم حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا وهذه من عظائم آيات تلك الوقعة فإن البصر قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على هذا الوجه ولا إلى هذا الحد وإنما ذلك بصد الله تعالى الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي
24

في الشرائط «ليقضي الله أمرا كان مفعولا» كرر لاختلاف الفعل المعلل به أو لأن المراد بالأمر ثمة الالتقاء على الوجه المذكور وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الكفر وحزبه
«وإلى الله ترجع الأمور» كلها يصرفها كيفما يريد لأراد لأمره ولا معقب لحكمه وهو الحكيم المجيد
«يا أيها الذين آمنوا» صدر الخطاب بحر في النداء والتنبيه إظهارا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده
«إذا لقيتم فئة» أي حاربتم جماعة من الكفرة وإنما لم يوصفوا بالكفر لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفرة واللقاء مما غلب في القتال
«فاثبتوا» أي للقائهم في مواطن الحرب
«واذكروا الله كثيرا» أي في تضاعيف القتال مستمدين منه مستعينين به مستظهرين بذكره مترقبين لنصره
«لعلكم تفلحون» أي تفوزون بمرامكم وتظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر الله تعالى وأن يلتجيء إليه عند الشدائد ويقبل إليه بكليته فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال
«وأطيعوا الله ورسوله» في كل ما تأتون وما تذرون فيندرج فيه ما أمروا به ههنا اندراجا أوليا
«ولا تنازعوا» باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر أو أحد
«فتفشلوا» جواب للنهي وقيل عطف عليه
«وتذهب ريحكم» بالنصب عطف على جواب النهي وقرئ بالجزم على تقدير عطف فتفشلوا على النهي أي تذهب دولتكم وشوكتكم فإنها مستعارة للدولة من حيث إنها في تمشى أمرها ونفاذه مشبهة بها في هبوبها وجريانها وقيل المراد بها الحقيقة فإن النصرة لا تكون إلا بريح يبعثها الله تعالى وفي الحديث نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور
«واصبروا» على شدائد الحرب
«إن الله مع الصابرين» بالنصرة والكلاءة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم إنما هي من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبعون من تلك الحيثية ومعيته تعالى إنما هي من حيث الإمداد والإعانة
«ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم» بعد ما أمروا بما أمروا به من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها من قبائحها والمراد بهم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير
«بطرا» أي فخرا وأشرا
«ورئاء الناس» ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة وذلك أنهم لما بلغوا جحفة أتاهم رسول أبي سفيان وقال ارجعوا فقد سلمت عيركم فأبوا إلا إظهار آثار الجلادة فلقوا ما لقوا حسبما ذكر في أوائل السورة الكريمة فنهى المؤمنون أن يكونوا أمثالهم مرائين بطرين وأمروا بالتقوى والإخلاص من حيث إن النهي عن الشيء مستلزم للأمر بضده
«ويصدون عن سبيل الله» عطف على
25

بطرا إن جعل مصدرا في موضع الحال وكذا إن جع مفعولا له لكن على تأويل المصدر
«والله بما يعملون محيط» فيجازيهم عليه
«وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم» منصوب بمصر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين أي واذكر وقت تزيين الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم
«وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم» أي ألقى في روعهم وخيل إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم حتى قالوا اللهم انصر إحدى الفئتين وأفضل الدينين ولكم خبر لا غالب أو صفته وليس صلته وإلا لا نتصب كقولك لا ضاربا زيدا عندنا
«فلما تراءت الفئتان» أي تلاقى الفريقان
«نكص على عقبيه» رجع القهقري أي بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سببا لهلاكهم
«وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله» أي تبرأ منهم وخاف عليهم ويئس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى للمسلمين بالملائكة وقيل لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينهم وبين كنانة من الأحنة فكاد ذلك يثنيهم فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك الكناني وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني مجيركم من كنانة فلما رأى الملائكة تنزل نكص وكان يده في يد الحرث بن هشام فقال له إلى أين أتخذ لنا في هذه الحالة فقال إني أرى مالا ترون ودفع في صدر الحرث وانطلق فانهزموا فلما بلغوا مكة قالوا هزم الناس سراقة فبلغه ذلك فقال والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان وعلى هذا يحتمل أن يكون معنى قوله إني أخاف الله أخافه أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم يره قبله والأول ما قاله الحسن واختاره ابن بحر
«والله شديد العقاب» يجوز أن يكون من كلامه أو مستأنفا من جهة الله عز وجل
«إذ يقول المنافقون» منصوب بزين أو بنكص أو بشديد العقاب
«والذين في قلوبهم مرض» أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقى فيها نوع شبهة وقيل هم المشركين وقيل هم المنافقون في المدينة والعطف لتغاير الوصفين كما في قوله
[يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب]
(غر هؤلاء) يعنون المؤمنين
«دينهم» حتى تعرضوا لما لا طاقة لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف
«ومن يتوكل على الله» جواب لهم من جهته تعالى ورد لمقالتهم
«فإن الله عزيز» غالب لا يذل من توكل
26

عليه واستجار به وإن قل
«حكيم» يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول وتحار في فهمه ألباب الفحول وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه
«ولو ترى» أي ولو رأيت فإن لو الامتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن إن ترد الماضي مضارعا والخطاب إما لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب وقد مر تحقيقه في قوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على النار وكلمة إذ في قوله تعالى
«إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة» ظرف لترى والمفعول محذوف أي ولو ترى الكفرة أو حال الكفرة حين يتوفاهم الملائكة ببدر وتقديم المفعول للاهتمام به وقيل الفاعل ضمير عائد إلى الله عز وجل والملائكة مبتدأ وقوله تعالى
«يضربون وجوههم» خبره والجملة حال من الموصول قد استغنى فيها بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منه أو من الملائكة أو منهما لاشتماله على ضميريهما
«وأدبارهم» أي وأستاههم أو ما أقبل منهم وما أدبر من الأعضاء
«وذوقوا عذاب الحريق» على إرادة القول معطوفا على يضربون أو حالا من فاعله أي ويقولون أو قائلين ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة وقيل كانت معهم مقامع من
حديد كلما ضربوا التهبت النار منها وجواب لو محذوف للإيذان بخروجه عن حدود البيان أي لرأيت أمرا فظيعا لا يكاد يوصف
«ذلك» إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونهما في الغاية القاصية من الهول والفظاعة وهو مبتدأ خبره
«بما قدمت أيديكم» أي ذلك الضرب والعذاب واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي ومحل أن في قوله
«وأن الله ليس بظلام للعبيد» الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا قد مر تحقيقه في سورة آل عمران والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها وأما ما قيل من أنها معطوفة على ما للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم فليس بسديد لما أن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة المعينة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه نعم لو كان المدعي كون جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين لاحتيج إلى ذلك
«كدأب آل فرعون» في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر من جهة غيرهم بتشبيه حالهم بحال
27

المعروفين بالإهلاك بسبب جرائمهم لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة أي شأنهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال
«والذين من قبلهم» أي من قبل آل فرعون من الأمم التي فعلوا من المعاصي ما فعلوا ولقوا من العقاب ما لقوا كقوم نوح وعاد وأضرابهم من أهل الكفر والعناد وقوله تعالى
«كفروا بآيات الله» تفسير لدأبهم الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ونحوهم كما قيل فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه وقوله تعالى
«فأخذهم الله» تفسير لدأبهم الذي فعل بهم والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها وقوله تعالى
«بذنوبهم» لتأكيد ما أفاده الفاء من السببية مع الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل في استتباع العقاب ويجوز أن يكون المراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فتكون الباء للملابسة أي فأخذهم ملتبسين بذنوبهم غير تائبين عنها فدأبهم مجموع ما فعلوا وفعل بهم لا ما فعلوه فقط كما قيل قال ابن عباس رضي الله عنهما إن آل فرعون أيقنوا أن موسى عليه السلام نبي الله فكذبوه كذلك هؤلاء جاء محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى بهم عقوبته كما أنزل بآل فرعون وجعل العذاب من جملة وأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي منزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة وقوله تعالى
«إن الله قوي شديد العقاب» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ وقوله تعالى
«ذلك» الخ استئناف مسوق لتعليل ما يفيد النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضيه وهو المشار إليه لا نفس ما حل بهم من العذاب والانتقام كما قيل فإنه مع كونه معللا بما ذكر من كفرهم وذنوبهم لا يتصور تعليله بجريان عادته تعالى على عدم تغيير نعمته على قوم قبل تغييرهم لحالهم وتوهم أن السبب ليس ما ذكر كما هو منطوق النظم الكريم بل ما يستفاد من مفهوم الغاية من جريان عادته تعالى على تغيير نعمتهم عند تغيير حالهم بناء على تخيل أن المعلل ترتب عقابهم على كفرهم من غير تخلف عنه ركوب شطط هائل وإبعاد عن الحق بمراحل وتهوين لأمر الكفر بآيات الله وإسقاط له عن رتبة إيجاب العقاب في مقام تهويله والتحذير منه فالمعنى ذلك أي ترتب العقاب على أعمالهم السيئة دون أن يقع ابتداء مع قدرته تعالى على ذلك
«بأن الله» أي بسبب أنه تعالى
«لم يك» في حد ذاته
«مغيرا نعمة أنعمها» أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أنعم بها
«على قوم» من الأقوام أي نعمة كانت جلت أو هانت
«حتى يغيروا ما بأنفسهم» من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم بالنعمة ويتصفوا بها ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو قريبة من
28

الصلاح بالنسبة إلى الحادثة كدأب هؤلاء الكفرة حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام مستمرين على حالة مصححة لإفاضة نعمة الإمهال وسائر النعم الدنيوية عليهم فلما بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبينات غيروها إلى أسوأ منها وأسخط حيث كذبوه صلى الله عليه وسلم وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم يبغونهم الغوائل فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال وأصل يك يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بالحروف اللينة
«وأن الله سميع عليم» عطف على أن الله الخ داخل معه في حيز التعليل أي وبسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون وما يذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق بها من إبقاء النعمة وتغييرها وقرئ وإن الله بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبلها وقوله تعالى
«كدأب آل فرعون والذين من قبلهم» في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه فقط كما هو الأنسب بمفهوم الدأب وقوله تعالى
«كذبوا بآيات ربهم» تفسير له بتمامه وقوله تعالى
«فأهلكناهم» إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله تعالى وأن الله سميع عليم بينهما كما مر نظيره في سورة آل عمران حيث جوزوا انتصاب محل الكاف بلن تغنى مع ما بينهما من قوله تعالى وأولئك هم وقود النار وهذا على تقدير عطف الجملة على ما قبلها وأما على تقدير كونها اعتراضا فلا غبار في توسطها قطعا وقيل في محل الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف كما قبله فالجملة حينئذ استئناف آخر مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة الآية أي دأب هؤلاء وشأنهم الذي هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقوله تعالى كذبوا بآيات ربهم تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم وقوله تعالى فأهلكناهم تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته وأما دأب قريش فمستفاد منه بحكم التشبيه فلله در شأن التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين وإضافة الآيات إلى الرب المضاف إلى ضميرهم لزيادة تقبيح ما فعلوا بها من التكذيب والالتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب والكلام في الفاء وفي قوله تعالى
«بذنوبهم» كالذي مر وعطف قوله تعالى
«وأغرقنا آل فرعون» على أهلكنا مع اندراجه تحته للإيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته كعطف جبريل عليه السلام على الملائكة
«وكل» أي وكل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك أو كل من غرقي القبط وقتلى قريش
«كانوا ظالمين» أي أنفسهم بالكفر والمعاصي حيث عرضوها للهلاك
29

أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم
«إن شر الدواب» بعد ما شرح أحوال المهلكين من شرار الكفرة شرع في بيان أحوال الباقين منهم وتفصيل أحكامهم وقوله تعالى
«عند الله» أي في حكمه وقضائه
«الذين كفروا» أي أصروا على الكفر ولجوا فيه جعلوا شر الدواب لا شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل من مجانستهم وإنما هم من جنس الدواب ومع ذلك شر من جميع أفرادها حسبما نطق به قوله تعالى إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل وقوله تعالى
«فهم لا يؤمنون» حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أصل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف أصلا جيء به على وجه الاعتراض لا أنه عطف على كفروا داخل معه في حيز الصلة التي لا حكم فيها بالفعل وقوله تعالى
«الذين عاهدت منهم» بدل من الموصول الأول أو عطف بيان له أو نصب على الذم أي عاهدتهم ومن للإيذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة ههنا من حيث أخذه صلى الله عليه وسلم عهدهم إذ هو المناط لقباحة مانعي عليهم من النقض لا إعطاؤه صلى الله عليه وسلم إياهم عهده كأنه قيل الذين أخذت منهم عهدهم وقيل هي للتبعيض لأن المباشر بالذات للعهد بعضهم لا كلهم
«ثم ينقضون عهدهم» عطف على عاهدت داخل معه في حكم الصلة وصيغة الاستقبال للدلالة على تجدد النقض وتعدده وكونهم على نيته في كل حال أي ينقضون عهدهم الذي أخذته منهم
«في كل مرة» أي من مرات المعاهدة إذ هي التي يتوقع فيها عدم النقض ويستقبح وجوده لا من مرات المحاربة كما قيل إذ لا يتوقع فيها عدم النقض بل لا يتصور أصلا حتى يستقبح فيها وجوده لكونها مظنة لعدمه فلا فائدة في تقييد النقض بالوقوع في كل مرة من مراتها بل لا صحة له قطعا لأن النقض لا يتحقق إلا في المرة الواردة على المعاهدة لا في المرات الواقعة بعدها بلا معاهدة ولئن سلم أن المراد هي المرات الواقعة إثر المعاهدة يبقى النقض الواقع بلا محاربة كبيع السلاح ونحوه خارجا من البيان ولئن عد ذلك من المحاربة فلا محيص من لزوم خلو الكلام عن الفائدة بالمرة لأن المحاربة بهذا المعنى عين النقض فيؤول الأمر إلى أن يقال ينقضون عهدهم في كل مرة من مرات النقض وحمل المحاربة على محاربة غيرهم ليكون المعنى ينقضون عهدهم في كل مرة من مرات محاربة الأعداء مع كونه في غاية البعد والركاكة يستلزم خروج بدئهم بالنقض من البيان
«وهم لا يتقون» حال من فاعل ينقضون أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ولا يبالون بما فيه من العار والنار وقوله تعالى
«فإما تثقفنهم» شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرن
30

بهم «في الحرب» أي في تضاعيفها
«فشرد بهم» أي ففرق عن مناصبتك تفريقا عنيفا موجبا للاضطرار والاضطراب ونكل عنها بأن تفعل بهم من النكاية والتعذيب ما يوجب أن تنكل
«من خلفهم» أي من وراءهم من الكفرة وفيه إيماء إلى أنهم بصدد الحرب قريب من هؤلاء وقرئ شرذ بالذال المعجمة ولعله مقلوب شذر بمعنى فرق وقرئ من خلفهم أي افعل التشريد من ورائهم والمعنى واحد لأن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم
«لعلهم يذكرون» يتعظون بما شاهدوا مما نزل بالناقضين فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر وقوله تعالى
«وإما تخافن من قوم خيانة» بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد إثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل والخوف مستعار للعلم أي وإما تعلمن من 2 قوم من المعاهدين
نقض عهد فيما سيأتي بما لاح لك منهم من دلائل الغدر ومخايل الشر
«فانبذ إليهم» أي فاطرح إليهم عهدهم
«على سواء» على طريق مستو قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا فالجار متعلق بمحذوف هو حال من النابذ أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء وقيل على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأدناهم أو تستوي فيه أنت وهم فهو على الأول حال من المنبوذ إليهم وعلى الثاني من الجانبين
«إن الله لا يحب الخائنين» تعليل للأمر بالنبذ إما باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منها وإما باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فيكون حثا له صلى الله عليه وسلم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا كأنه قيل وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت من حالهم
«ولا يحسبن الذين كفروا» أي أنفسهم فحذف للتكرار وقوله تعالى
«سبقوا» أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم مفعول ثان ليحسبن والمراد إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ والاقتصار على دفع هذا التوهم مع أن مقاومة المؤمنين بل الغلبة عليهم أيضا مما تتعلق به أمانيهم الباطلة للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم حوله وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن ان يدور في خلدهم حسبان المناص فقط وقيل الفعل مسند إلى أحد أو إلى من خلفهم والمفعول الأول الموصول المتناول لهم أيضا وقيل هو الفاعل وأن محذوفة من سبقوا وهي مع ما في حيزها سادة مسد المفعولين والتقدير ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ويعضده قراءة من قرأ أنهم سبقوا ونظيره في الحذف قوله تعالى ومن آياته يريكم البرق خوفا وقوله تعالى أغير الله تأمروني أعبد الآية قاله الزجاج وقرئ بالتاء على خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قراءة واضحة وقرئ ولا تحسب الذين بكسر الباء وبفتحها على حذف النون الخفيفة وقوله تعالى
«إنهم لا يعجزون» أي لا يفوتون ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريقة الاستئناف وقرئ بفتح الهمزة على
31

حذف لام التعليل وقيل الفعل واقع عليه ولا زائدة وسبقوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى يحذر من عاقبة النبذ لما أنه إيقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما أشير إليه وقيل نزلت فيمن أفلت من فل المشركين وقرئ لا يعجزون بكسر النون ولا يعجزون بالتشديد
«وأعدوا لهم» توجيه الخطاب إلى كافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل كما أن توجيهه فيما سبق وما لحق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لكون ما في حيزه من وظائفه صلى الله عليه وسلم أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحرابهم أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأنسب بسياق النظم الكريم
«ما استطعتم من قوة» من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه سمعته صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا ولعل تخصيصه صلى الله عليه وسلم إياه بالذكر لإنافته على نظائره من القوى
«ومن رباط الخيل» الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت هي به يقال ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا أو جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب وقرئ ربط الخيل بضم الباء وسكونها جمع رباط وعطفها على القوة مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة
«ترهبون به» أي تخوفون وقرئ ترهبون بالتشديد وقرئ تخزون به والضمير لما استطعتم أو للإعداد وهو الأنسب ومحل الجملة النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به أو من الموصول أو من عائده المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به
«عدو الله وعدوكم» وهم كفار مكة خصوا بذلك من بين الكفار مع كون الكل كذلك لغاية عتوهم ومجاوزتهم الحد في العداوة
«وآخرين من دونهم» من غيرهم من الكفرة وقيل هم اليهود وقيل المنافقون وقيل الفرس
«لا تعلمونهم» أي لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة وهو الأنسب بقوله تعالى
«الله يعلمهم» أي لا غيره فإن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا
«وما تنفقوا من شيء» لإعداد العتاد قل أوجل
«في سبيل الله» الذي أوضحه الجهاد
«يوف إليكم» أي جزاؤه كاملا
«وأنتم لا تظلمون» بترك الإثابة أو بنقض الثواب والتعبير عن تركها بالظلم مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يكون ترك ترتيبه عليها ظلما لبيان كمال نزاهته سبحانه عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه تعالى كما مر في تفسير قوله تعالى فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم
«وإن جنحوا» الجنوح الميل ومنه الجناح ويعدي باللام وبإلى أي إن مالوا
«للسلم» أي للصلح بوقوع الرهبة في قلوبهم بمشاهدة ما بكم من الاستعداد وإعتاد العتاد
«فاجنح لها»
32

أي للسلم والتأنيث لحمله على نقيضه قال
* السلم تأخذ منها أرضيت به
* والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
* وقرئ فاجنح بضم النون
«وتوكل على الله» ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد
«أنه» تعالى
«هو السميع» فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع
«العليم» فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم والآية خاصة باليهود وقيل عامة نسختها آية السيف
«وإن يريدوا أن يخدعوك» بإظهار السلم وإبطال الحراب
«فإن حسبك الله» أي فاعلم بأن محسبك الله من شرورهم وناصرك عليهم
«هو الذي أيدك بنصره» تعليل لكفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم بطريق الاستئناف فإن تأييده تعالى إياه صلى الله عليه وسلم فيما سلف على ما ذكر من الوجه البعيد من الوقوع من دلائل تأييده تعالى فيما سيأتي أي هو الذي أيدك بإمداد من عنده بلا واسطة كقوله تعالى «وما النصر إلا من عند الله» أو بالملائكة مع خرقه للعادات
«وبالمؤمنين» من المهاجرين والأنصار
«وألف بين قلوبهم» مع ما كان بينهم قبل ذلك من العصبية والضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة وهذا من أبهر معجزاته صلى الله عليه وسلم
«لو أنفقت ما في الأرض جميعا» أي لتأليف ما بينهم
«ما ألفت بين قلوبهم» استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ أي تناهي التعادي فيما بينهم إلى حد لو أنفق منفق في إصلاح ذات البين جميع ما في الأرض من الأموال والذخائر لم يقدر على التأليف والإصلاح وذكر القلوب للإشعار بأن التأليف بينها الا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا
«ولكن الله ألف بينهم» قلبا وقالبا بقدرته الباهرة
«إنه عزيز» كامل القدرة والغلبة لا يستعصي عليه شيء مما يريده
«حكيم» يعلم كيفية تسخير ما يريده وقيل الآية في الأوس والخزرج كان بينهم إحن لا أمد لها ووقائع أفنت ساداتهم وأعاظمهم ودقت أعناقهم وجماجمهم فأنسى الله عز وجل جميع ذلك وألف بينهم بالإسلام حتى تصافوا وأصبحوا يرمون عن قوس واحدة وصاروا أنصارا
«يا أيها النبي» شروع في بيان كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في جميع أموره وأمور المؤمنين أو في الأمور الواقعة بينهم وبين الكفرة كافة إثر بيان كفايته تعالى إياه صلى الله عليه وسلم في مادة خاصة وتصدير الجملة بحر في النداء والتنبيه للتنبيه على مزيد الاعتناء بمضمونها وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة للإشعار بعليتها للحكم
«حسبك الله» أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحراب
«ومن اتبعك من المؤمنين» في محل النصب على أنه مفعول معه أي كفاك وكفى أتباعك الله ناصرا كما في
33

قول من قال
* فحسبك والضحاك عضب مهند
* وقيل في موضع الجر عطفا على الضمير كما هو رأي الكوفيين أي كافيك وكافيهم أو في محل الرفع عطفا على اسم الله تعالى أي كفاك الله والمؤمنين والآية نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال وقيل أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر رضي الله عنه فنزلت ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في إسلام عمر رضي الله عنه
«يا أيها النبي» بعدما بين كفايته إياهم بالنصر والإمداد أمر صلى الله عليه وسلم بترتيب مبادي نصره وإمداده وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لإظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به
«حرض المؤمنين على القتال» أي بالغ في حثهم عليه وترغيبهم فيه بكل ما أمكن من الأمور المرغبة التي أعظمها تذكير وعده تعالى بالنصر وحكمه بكفايته تعالى أو بكفايتهم وأصل التحريض الحرض وهو أن ينهكه المرض حتى يشفى على الموت وقال الراغب كأنه في الأصل إزالة الحرض وهو ما لا خير فيه ولا يعتد به قلت فالأوجه حينئذ أن يجعل الحرض عبارة عن ضعف القلب الذي هو من باب نهك المرض وقيل معنى تحريضهم تسميتهم حرضا بأن يقال إني أراك في هذا الأمر حرضا أي
محرضا فيه لتهيجه إلى الإقدام وقرئ حرص بالصاد المهملة وهو واضح
«إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» وعد كريم منه تعالى بتغليب كل جماعة من المؤمنين على عشرة أمثالهم بطريق الاستئناف بعد الأمر بتحريضهم وقوله تعالى
«وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا» مع انفهام مضمونه مما قبله لكون كل منهما عدة بتأييد الواحد على العشرة لزيادة التقرير المفيدة لزيادة الاطمئنان على أنه قد يجري بين الجمعين القليلين ما لا يجري بين الجمعين الكثيرين مع أن التفاوت فيما بين كل من الجمعين القليلين والكثيرين على نسبة واحدة فبين أن ذلك لا يتفاوت في الصورتين وقوله تعالى
«من الذين كفروا» بيان للألف وهذا القيد معتبر في المائتين أيضا وقد ترك ذكره تعويلا على ذكره ههنا كما ترك قيد الصبر ههنا مع كونه معتبرا حتما ثقة بذكره هناك
«بأنهم قوم لا يفقهون» متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتسابا وامتثالا بأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعله المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان وأما ما قيل من أن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر لا يؤمن بالميعاد فالسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيوية فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبال بهذه الحياة الدنيا ولا يقيم لها وزنا فيقدم على الجهاد بقلب قوى وعزم صحيح فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير فكلام حق لكنه لا يلائم المقام
34

«الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا» لما كان الوعد السابق متضمنا لإيجاب مقاومة الواحد للعشرة وثباته لهم كما نقل عن ابن جريج أنه كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة في ثلاثين راكبا فلقى أبا جهل في ثلاثمائة راكب فهزمهم ثقل عليهم ذلك وضجوا منه بعد مدة فنسخ وخفف عنهم بمقاومة الواحد للاثنين وقيل كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا نزل التخفيف والمراد بالضعف ضعف البدن وقيل ضعف البصيرة وكانوا متفاوتين في الاهتداء إلى القتال لا الضعف في الدين كما قيل وقرئ ضعفا بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والفقر والمكث والمكث وقيل الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن وقرئ ضعفاء جمع ضعيف والمراد بعلمه تعالى بضعفهم علمه تعالى به من حيث هو متحقق بالفعل لا علمه تعالى به مطلقا كيف لا وهو ثابت في الأزل وقوله تعالى
«فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» تفسير للتخفيف وبيان لكيفيته وقرئ تكن ههنا وفيما سبق بالتاء الفوقانية
«وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله» أي بتيسيره وتسهيله وهذا القيد معتبر فيما سبق من غلبة المائة المائتين والألف وغلبة العشرين المائتين كما أن قيد الصبر معتبر ههنا وإنما ترك ذكره ثقة بما مر وبقوله تعالى
«والله مع الصابرين» فإنه اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله والمراد بالمعية معية نصره وتأييده ولم يتعرض ههنا لحال الكفرة من الخذلان كما لم يتعرض هناك لحال المؤمنين مع أن مدار الغلبة في الصورتين مجموع الأمرين أعنى نصر المؤمنين وخذلان الكفرة اكتفاء بما ذكر في كل مقام عما ترك في المقام الآخر وما تشعر به كلمة مع من متبوعية مدخولها لأصالتهم من حيث إنهم المباشرون للصبر كما مر مرارا
«ما كان لنبي» وقرئ للنبي على العهد والأول أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم السلام
«أن يكون له أسرى» وقرئ بتأنيث الفعل وأسارى أيضا
«حتى يثخن في الأرض» أي يكثر القتل ويبالغ فيه حتى يذل الكفرة ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله من أثخنه المرض والجرح إذا أثقله وجعله بحيث لا حراك به ولا براح وأصله الثخانة التي هي الغلط والكثافة وقرئ بالتشديد للمبالغة
«تريدون عرض الدنيا» استئناف مسوق للعتاب أي تريدون حطامها بأخذكم الفداء وقرئ يريدون بالياء
«والله يريد الآخرة» أي يريد لكم ثواب الآخرة الذي لا مقدار عنده الدنيا وما فيها أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه وقرئ بجر الآخرة على إضمار المضاف كما في
35

قوله
* أكل امرئ تحسبين امرأ
* ونار توقد بالليل نارا
*
«والله عزيز» يغلب أوليائه على أعدائه
«حكيم» يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين وخير بينه وبين المن بقوله تعالى فإما منا بعد وإما فداء لما تحولت الحال وصارت الغلبة للمؤمنين
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب فاستشار فيهم فقال أبو بكر قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوى أصحابك وقال عمر اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم فقال صلى الله عليه وسلم إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللين وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ومثلك يا عمر مثل نوح قال رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديار فخير أصحابه فأخذوا الفداء فنزلت فدخل عمر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت فقال أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض على عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال لو نزل عذاب من السماء لما نجا غير عمر وسعد بن معاذ وكان هو أيضا ممن أشار بالإثخان
«لولا كتاب من الله سبق» أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعاقب المخطئ في اجتهاده أو أن لا يعذب أهل بدر أو قوما لم يصرح لهم بالنهي وأما أن الفدية التي أخذوها ستحل لهم فلا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة على أنه قادح في تهويل ما نعي عليهم من أخذ الفداء
«لمسكم» أي لأصابكم
«فيما أخذتم» أي لأجل ما أخذتم من الفداء
«عذاب عظيم» لا يقادر قدره
«فكلوا مما غنمتم» روى أنهم أمسكوا عن الغنائم فنزلت قالوا الفاء لترتيب ما بعدها على سبب محذوف أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي دعوه فكلوا مما غنمتم وقيل ما عبارة عن الفدية فإنها من جملة الغنائم ويأباه سباق النظم الكريم وسياقه
«حلالا» حال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وفائدته الترغيب في أكلها وقوله تعالى
«طيبا» صفة لحلالا مفيدة لتأكيد الترغيب
«واتقوا الله» أي في مخالفة أمره ونهيه
«إن الله غفور رحيم» فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن فيه ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه
«يا أيها النبي قل لمن في أيديكم» أي في ملكتكم كأن أيديكم قابضة عليهم
«من الأسرى»
36

وقرئ من الأسارى
«إن يعلم الله في قلوبكم خيرا» خلوص إيمان وصحة نية
«يؤتكم خيرا مما أخذ منكم» من الفداء وقرئ أخذ على البناء للفاعل
روى أنها نزلت في العباس كلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث فقال يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال له صلى الله عليه وسلم فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها ما أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل فقال العباس ما يدريك فقال أخبرني به ربي قال العباس فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب قال العباس بعد حين فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا وإن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي يتأول به ما في قوله تعالى
«ويغفر لكم والله غفور رحيم» فإنه وعد بالمغفر مؤكد بما بعده من الاعتراض التذييلي
«وإن يريدوا خيانتك» أي نكث ما بايعوك عليه من الإسلام وهذا كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته صلى الله عليه وسلم بطريق الوعد له والوعيد لهم
«فقد خانوا الله من قبل» بكفرهم ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه
«فأمكن منهم» أي أقدرك عليهم حسبما رأيت يوم بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك منهم أيضا وقيل المراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء وهو بعيد
«والله عليم» فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب
«حكيم» يفعل كل يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة
«إن الذين آمنوا وهاجروا» هم المهاجرون هاجروا أوطانهم حبا لله تعالى ولرسوله
«وجاهدوا بأموالهم» بأن صرفوها إلى الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج
«وأنفسهم» بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض في المهالك
«في سبيل الله» متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة
بالنفس بلا مجاهدة بالمال
«والذين آووا ونصروا» هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم وآثروهم على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة ونصروهم على أعدائهم
«أولئك» إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من النعوت الفاضلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو طبقتهم وبعد منزلتهم في الفضيلة وهو مبتدأ وقوله تعالى
«بعضهم» إما بدل منه وقوله تعالى
«أولياء بعض» خبره
37

وإما مبتدأ ثان وأولياء بعض خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ بقوله تعالى وأولو الأرحام الآية وقيل في النصرة والمظاهرة ويرده قوله تعالى فعليكم النصر بعد نفي موالاتهم
«والذين آمنوا ولم يهاجروا» كسائر المؤمنين
«ما لكم من ولايتهم من شيء» أي من توليهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربكم
«حتى يهاجروا» وقرئ بكسر الواو تشبيها بالعمل والصناعة كالكتابة والإمارة
«وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر» فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين
«إلا على قوم» منهم
«بينكم وبينهم ميثاق» معاهدة فإنه لا يجوز نقض عهدهم بنصرهم عليهم
«والله بما تعملون بصير» فلا تخالفوا أمره كيلا يحل بكم عقابه
«والذين كفروا بعضهم أولياء بعض» آخر منهم في الميراث أو في الموازرة وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والموازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب المباعدة والمصارمة وإن كانوا أقارب
«إلا تفعلوه» أي ما أمرتم به من التواصل بينكم وتولى بعضكم بعضا حتى التوراث ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار
«تكن فتنة في الأرض» أي تحصل فتنة عظيمة فيها وهي ضعف الإيمان وظهور الكفر
«وفساد كبير» في الدارين وقرئ كثير
«والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا» كلام مسوق للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى
«لهم مغفرة ورزق كريم» لا تبعة له ولا منة فيه فلا تكرار لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم
«والذين آمنوا من بعد وهاجروا» بعد هجرتكم
«وجاهدوا معكم» في بعض مغازيكم
«فأولئك منكم» أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار وهم الذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ألحقهم الله تعالى بالسابقين وجعلهم منهم تفضلا منه وترغيبا في الإيمان والهجرة وفي توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات من تشريفهم ورفع محلهم ما لا يخفى
«وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض» آخر منهم في التوارث من الأجانب
«في كتاب الله» أي في حكمه أو في اللوح أو في القرآن واستدل به على توريث ذوي الأرحام
«أن الله بكل شيء عليم» ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الأنفال وبراءة فأنا شفيع له يوم القيامة وشاهد أنه برئ من
38

النفاق وأعطى عشر حسنات بعدد كل منافق ومنافقة وكان العرش وحملته يستغفرون له أيام حياته والله تعالى أعلم
سورة براءة وهي مدينة وآياتها مائة وتسع وعشرون آية
ولها أسماء أخر سورة التوبة والمقشقشة والبحوث والمنقرة والمبعثرة والمثيرة والحافرة والمخزية والفاضحة والمنكلة والمشردة والمدمدمة وسورة العذاب لما فيها من ذكر التوبة ومن التبرية من النفاق والبحث والتنقير عن حال المنافقين وإثارتها والحفر عنها وما يخزيهم ويشردهم ويدمدم عليهم واشتهارها بهذه الأسماء يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضا من سورة الأنفال وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها خلاف الظاهر فيكون حكمة ترك التسمية عند النزول نزولها في رفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعا بوصف الرحمة كما روى عن ابن عيينة رضي الله عنه لا الاشتباه في استقلالها وعدمه كما يحكى عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا رعاية ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاختلاف في ذلك على أن ذلك ينزع إلى القول بأن التسمية ليست من القرآن وإنما كتبت للفصل بين السور كما نقل عن قدماء الحنفية وأن مناط إثباتها في المصاحف وتركها إنما هو رأي من تصدى لجمع القرآن دون التوقيف ولا ريب في أن الصحيح من المذهب أنها آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وأن لا مدخل لرأي أحد في الإثبات والترك وإنما المتبع في ذلك هو الوحي والتوقيف ولا مرية في عدم نزولها
ههنا وإلا لامتنع أن يقع في الاستقلال اشتباه أو اختلاف فهو إما لاتحاد السورتين أو لما ذكرنا لا سبيل إلى الأول وإلا لبينه صلى الله عليه وسلم لتحقق مزيد الحاجة إلى البيان لتعاضد أدلة الاستقلال من كثرة الآيات وطول المدة فيما بين نزولهما فحيث لم يبينه صلى الله عليه وسلم تعين الثاني لأن عدم البيان من الشارع في موضع البيان بيان للعدم
«براءة» خبر مبتدأ محذوف وتنوينه للتفخيم وقرئ بالنصب أي اسمعوا براءة ومن في قوله تعالى
«من الله ورسوله» ابتدائية متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ليفيدها زيادة تفخيم وتهويل أي هذه براءة مبتدأة من جهة الله تعالى ورسوله وصلة
«إلى الذين عاهدتم من المشركين» وإنما لم يذكر ما تعلق به البراءة حسبما ذكر في قوله تعالى إن الله برئ من المشركين اكتفاء بما في حيز الصلة فإنه منبئ عنه إنباء ظاهرا واحترازا عن تكرير لفظة من قيل هي مبتدأ لتخصصها بالصفة وخبره إلى الذين الخ والذي تقتضيه جزالة النظم هو الأول لأن هذه البراءة أمر حادث لم يعهد عند المخاطبين ذاتها ولا عنوان ابتدائها من الله تعالى ورسوله حتى يخرج ذلك العنوان مخرج الصفة لها ويجعل المقصود بالذات والعمدة في الإخبار شيئا آخر هو وصولها إلى المعاهدين وإنما الحقيق بأن يعتني بإفادته حدوث تلك
39

البراءة من جهته تعالى ووصولها إليهم فإن حق الصفات قبل علم المخاطب بثبوتها لموصوفاتها أن تكون أخيارا وحق الأخبار بعد العلم بثبوتها لما هي له أن تكون صفات كما حقق في موضعه وقرئ من الله بكسر النون على أن الأصل في تحريك الساكن الكسر ولكن الوجه هو الفتح في لام التعريف خاصة لكثرة الوقوع والعهد العقد الموثق باليمين والخطاب في عاهدتم للمسلمين وقد كانوا عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم فنكثوا إلا بني ضمرة وبني كنانة فأمر المسلمون بنبذ العهد إلى الناكثين وأمهلوا أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا وإنما نسبت البراءة إلى الله ورسوله مع شمولها للمسلمين واشتراكهم في حكمها ووجوب العمل بموجبها وعلقت المعاهدة بالمسلمين خاصة مع كونها بإذن الله تعالى واتفاق الرسول صلى الله عليه وسلم للأنباء عن تنجزها وتحتمها من غير توقف على رأي المخاطبين لأنها عبارة عن إنهاء حكم الأمان ورفع الخطر المترتب على العهد السابق عن التعرض للكفرة وذلك منوط بجناب الله عز وجل لأنه أمر كسائر الأوامر الجارية على حسب حكمة تقتضيها وداعية تستدعيها تترتب عليها آثارها من غير توقف على شيء أصلا واشتراك المسلمين في حكمها ووجوب العمل بموجبها إنما هو على طريقة الامتثال بالأمر لا على أن يكون لهم مدخل في إتمامها أو في ترتب أحكامها عليها وأما المعاهدة فحيث كانت عقدا كسائر العقود الشرعية لا تتحصل في نفسها ولا تترتب عليها أحكامها إلا بمباشرة المتعاقدين على وجوه مخصوصة اعتبرها الشرع لم يتصور صدورها عنه سبحانه وإنما الصادر عنه في شأنها هو الإذن فيها وإنما الذي يباشرها ويتولى أمرها المسلمون ولا يخفى أن البراءة إنما تتعلق بالعهد لا بالإذن فيه فنسبت كل واحدة منهما إلى من هو أصل فيها على أن في ذلك تفخيما لشأن البراءة وتهويلا لأمرها وتسجيلا على الكفرة بغاية الذل والهوان ونهاية الخزي والخذلان وتنزيها لساحة السبحان والكبرياء عما يوهم شائبة النقص والنداء تعالى عن ذلك علوا كبيرا وإدراجه صلى الله عليه وسلم في النسبة الأولى وإخراجه عن الثانية لتنويه شأن الرفيع وإجلال قدره المنيع في كلا المقامين صلى الله عليه وسلم وإيثار الجملة الأسمية على الفعلية كأن يقال قد برئ الله ورسوله من الذين أو نحو ذلك للدلالة على دوامها واستمرارها وللتوسل إلى تهويلها بالتنوين التفخيمي كما أشير إليه
«فسيحوا» السياحة والسيح الذهاب في الأرض والسير فيها بسهولة على مقتضى المشيئة كسيح الماء على موجب الطبيعة ففيه من الدلالة على كمال التوسعة والترفيه ما ليس في سيروا ونظائره وزيادة قوله عز وجل
«في الأرض» لقصد التعميم لأقطارها من دار الإسلام وغيرها والمراد إباحة ذلك لهم وتخليتهم وشأنهم من الاستعداد للحرب أو تحصين الأهل والمال وتحصيل المهاب أو غير ذلك لا تكليفهم بالسياحة فيها وتلوين الخطاب بصرفه عن المسلمين وتوجيهه إليهم مع حصول المقصود بصيغة أمر الغائب أيضا للمبالغة في الإعلام بالإمهال حسما لمادة تعللهم بالغفلة وقطعا لشأفة اعتذارهم بعدم الاستعداد وإيثار صيغة الأمر مع تسني إفادة ذلك المعنى بطريق الإخبار أيضا كأن يقال مثلا فلكم أن تسيحوا أو نحو ذلك لإظهار كمال القوة والغلبة وعدم الاكتراث
40

لهم ولاستعدادهم فكأن ذلك أمر مطلوب منهم والفاء لترتيب الأمر بالسياحة وما يعقبه على ما تؤذن به البراءة المذكورة من الحراب على أن الأول مترتب على نفسه والثاني بكلا متعلقيه على عنوان كونه من الله العزيز لا لترتيب الأول عليه والثاني على الأول كما في قوله تعالى قل سيروا في الأرض فانظروا الخ كأنه قيل هذه براءة موجبة لقتالكم فاسعوا في تحصيل العدد والأسباب وبالغوا في إعتاد العتاد من كل باب
«أربعة أشهر واعلموا أنكم» بسياحتكم في أقطار الأرض في العرض والطول وإن ركبتم متن كل صعب وذلول
«غير معجزي الله» أي لا تفوتونه بالهرب والتحصن
«وأن الله» وضع الاسم الجليل موضع المضمر لتربية المهابة وتهويل أمر الإخزاء وهو الإذلال بما فيه فضيحة وعار
«مخزي الكافرين» أي مخزيكم ومذلكم في الدنيا بالقتل والأسر وفي الآخرة بالعذاب وإيثار الإظهار على الإضمار لذمهم بالكفر بعد وصفهم بالإشراك والإشعار بأن علة الإخزاء هي كفرهم ويجوز أن يكون المراد جنس الكافرين فيدخل فيه الخاطبون دخولا أوليا والمراد بالأشهر الأربعة هي الأشهر الحرم التي علق القتال بانسلاخها فقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وقيل هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من شهر ربيع الآخر وجعلت حرما لحرمة قتالهم فيها أو لتغليب ذي الحجة والمحرم على البقية وقيل من عشر ذي القعدة إلى عشر من شهر ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسئ الذي كان فيهم ثم صار في العام القابل في ذي الحجة وذلك قوله صلى الله عليه وسلم إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
روى أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه على موسم سنة تسع ثم أتبعه عليا رضي الله تعالى عنه على العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له صلى الله عليه وسلم لو بعثت بها إلى أبي بكر فقال صلى الله عليه وسلم لا يؤدي عني إلا رجل مني وذلك لأن عادة العرب أن لا يتولى أمر العهد والنقض على القبيلة إلا رجل منها فلما دنا على سمع أبو بكر الرغاء فوقف فقال هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما لحقه قال أمير أو مأمور قال مأمور فمضيا فلما كان قبل يوم التروية خطب أبو بكر رضي الله عنه وحدثهم عن مناسكهم وقام علي رضي الله عنه يوم النحر عند جمرة العقبة فقال يا أيها الناس إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم فقالوا بماذا فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية ثم قال أمرت بأربع أن لا يقرب البيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده
«وأذان من الله ورسوله» أي إعلام منهما فعال بمعنى الإفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء ورفعه كرفع براءة والجملة معطوفة على مثلها وإنما قيل
«إلى الناس» أي كافة لأن الأذان غير مختص بقوم دون آخرين كالبراءة الخاصة
41

بالناكثين بل هو شامل لعامة الكفرة وللمؤمنين أيضا
«يوم الحج الأكبر» هو يوم العيد لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ولأن الإعلام كان فيه ولما روى أنه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال هذا يوم الحج الأكبر وقيل يوم عرفة لقوله صلى الله عليه وسلم الحج عرفة ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر أو لأن المراد بالحج ما يقع في ذلك اليوم من أعماله فإنه أكبر من باقي الأعمال أو لأن ذلك الحج اجتمع فيه المسلمون والمشركون أو لأنه ظهر فيه عز المسلمين وذل المشركين
«إن الله» أي بأن الله وقرئ بالكسر لما أن الأذان فيه معنى القول
«بريء من المشركين» أي المعاهدين الناكثين
«ورسوله» عطف على المستكن في برئ أو على محل إن واسمها على قراءة الكسر وقرئ بالنصب عطفا على اسم أن أو لأن الواو بمعنى مع أي برئ معه منهم وبالجر على الجوار وقيل على القسم
«فإن تبتم» من الشرك والغدر التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التهديد والتشديد والفاء لترتيب مقدم الشرطية على الأذان بالبراءة المذيلة بالوعيد الشديد المؤذن بلين عريكتهم وانكسار شدة شكيمتهم
«فهو» أي فالتوب
«خير لكم» في الدارين
«وإن توليتم» عن التوبة أو ثبتم على التولي عن الإسلام والوفاء
«فاعلموا أنكم غير معجزي الله» غير سابقين ولا فائتين
«وبشر الذين كفروا» تلوين للخطاب وصرف له عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن البشارة
«بعذاب أليم» وإن كانت بطريق التهكم إنما تليق بمن يقف على الأسرار الإلهية
«إلا الذين عاهدتم من المشركين» استدراك من النبذ السابق الذي أخر فيه القتال أربعة أشهر كأنه قيل لا تمهلوا الناكثين فوق أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم ثم لم ينكثوا عهدهم فلا تجروهم مجرى الناكثين في المسارعة إلى قتالهم بل أتموا إليهم عهدهم ولا يضر في ذلك تخلل الفاصل بقوله تعالى وأذان من الله ورسوله الخ لأنه ليس بأجنبي بالكلية بل هو أمر بإعلام تلك البراءة كأنه قيل واعلموها وقيل هو استثناء متصل من المشركين الأول ويرده بقاء الثاني على العموم مع كونهما عبارة عن فريق واحد وجعله استثناء من الثاني يأباه بقاء الأول كذلك وقيل هو استدراك من المقدر في فسيحوا أي قولوا لهم سيحوا أربعة أشهر لكن الذين عاهدتم منهم
«ثم لم ينقصوكم شيئا» من شروط الميثاق ولم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم قط وقرئ بالمعجمة أي لم ينقضوا عهدكم شيئا من النقض وكلمة ثم للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة
«ولم يظاهروا» أي لم يعاونوا
«عليكم أحدا» من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة في غيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فظاهرتهم قريش بالسلاح
«فأتموا إليهم عهدهم» أي أدوه إليهم كملا
«إلى مدتهم» ولا تفاجئوهم بالقتال عند مضي الأجل المضروب للناكثين ولا تعاملوهم معاملتهم قال ابن عباس رضي الله عنهما بقي لحي من بني كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم
«إن الله يحب المتقين» تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة حقوق العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الوفي
42

والغادر منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا
«فإذا انسلخ» أي انقضى استعير له من الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده والأغلب إسناده إلى الجلد والمعنى إذا انقضى
«الأشهر الحرم» وانفصلت عما كانت مشتملة عليه ساترة له انفصال الجلد عن الشاة وانكشفت عنه انكشاف الحجاب عما وراءه كما ذكره أبو الهيثم من أنه يقال أهللنا
شهر كذا أي دخلنا فيه ولبسناه فنحن نزداد كل ليلة لباسا منه إلى مضي نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزءا فجزءا حتى نسلخه عن أنفسنا كله فينسلخ وأنشد
* إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله
* كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
* وتحقيقه أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد للحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة من الأيام والشهور والسنين فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه وفيه مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها والمراد بها إما ما مر من الأشهر الأربعة فقط ووضع المظهر موضع المضمر ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة تأكيدا لما ينبئ عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم مع ما فيه من مزيد الاعتناء بشأنها أو هي مع ما فهم من قوله تعالى فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم من تتمة مدة بقيت لغير الناكثين فعلى الأول يكون المراد بالمشركين في قوله تعالى
«فاقتلوا المشركين» الناكثين خاصة فلا يكون قتال الباقين مفهوما من عبارة النص بل من دلالته وعلى الثاني مفهوما من العبارة إلا أنه يكون الانسلاخ وما نيط به من القتال حينئذ شيئا فشيئا لا دفعة واحدة كأنه قيل فإذا تم ميقات كل طائفة فاقتلوهم وحملها على الأشهر المعهودة والدائرة في كل سنة لا يساعده النظم الكريم وأما أنه يستدع بقاء حرمة القتال فيها إذ ليس فيما نزل بعد ما ينسخها فلا اعتداد به لا لأنها نسخت بقوله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة كما توهم فإنه رجم بالغيب لأنه إن أريد به ما في سورة الأنفال فإنه نزل عقيب غزوة بدر وقد صح أن المراد بالذين كفروا في قوله تعالى قل الذين كفروا الخ أبو سفيان وأصحابه وقد أسلم في أواسط رمضان عام الفتح سنة ثمان وسورة التوبة إنما نزلت في شوال سنة تسع وإن أريد ما في سورة البقرة فإنه أيضا نزل قبل الفتح كما يعرب عنه ما قبله من قوله تعالى وأخرجوهم من حيث أخرجوكم أي من مكة وقد فعل ذلك يوم الفتح فكيف ينسخ به ما ينزل بعده بل لأن انعقاد الإجماع على انتساخها كاف في الباب من غير حاجة إلى كون سنده منقولا إلينا وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف لعشر بقين من المحرم
«حيث وجدتموهم» من حل وحرم
«وخذوهم» أي أيسروهم والأخيذ الأسير
«واحصروهم» أي قيدوهم أو امنعوهم من التقلب في البلاد
قال ابن عباس رضي الله عنهما حيلوا بينهم وبين المسجد الحرام
«واقعدوا لهم كل مرصد» أي كل ممر ومجتاز يجتازون منه في أسفارهم وانتصابه على الظرفية أي ارصدوهم وأرقبوهم حتى لا يمروا به
43

وفائدته على التفسير الثاني دفع احتمال أن يراد بالحصر المحاصرة المعهودة
«فإن تابوا» عن الشرك بالإيمان بعد ما اضطروا بما ذكر من القتل والأسر والحصر
«وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة» تصديقا لتوبتهم وإيمانهم واكتفى بذكرهما عن ذكر بقية العبادات لكونهما رأسي العبادات البدنية والمالية
«فخلوا سبيلهم» فدعوهم وشأنهم ولا تتعرضوا لهم بشيء مما ذكر
«إن الله غفور رحيم» يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر ويثيبهم بإيمانهم وطاعاتهم وهو تعليل للأمر بتخلية السبيل
«وإن أحد» شروع في بيان حكم المتصدين لمبادي التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين إثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه وهو مرتفع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء لأن إن لا تدخل إلا على الفعل
«من المشركين استجارك» بعد انقضاء الأجل المضروب أي سألك أن تؤمنه وتكون له جارا
«فأجره» أي أمنه
«حتى يسمع كلام الله» ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة وحتى سواء كانت للغاية أو للتعليل متعلقة بما بعدها لا بقوله تعالى استجارك لأنه يؤدي إلى أعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورة الشعر كما في قوله
[فلا والله لا يلقى أناس * فتى حتاك يا ابن أبي يزيد]
* كذا قيل إلا أن تعلق الإجارة بسماع كلام الله تعالى بأحد الوجهين يستلزم تعلق الاستجارة أيضا بذلك أو بما في معناه من أمور الدين وما روى عن علي رضي الله عنه أنه أتاه رجل من المشركين فقال إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال لا لأن الله تعالى يقول وإن أحد من المشركين استجارك فأجره الخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله أن يأتي محمدا فإن من يأتيه صلى الله عليه وسلم إنما تأتيه للأمور المتعلقة بالدين
«ثم أبلغه» بعد استماعه له إن لم يؤمن
«مأمنه» أي مسكنه الذي يأمن فيه وهو دار قومه
«ذلك» يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن
«بأنهم» بسبب أنهم
«قوم لا يعلمون» ما الإسلام وما حقيقته أو قوم جهلة فلا بد من إعطاء الأمان حتى يفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة أصلا
«كيف يكون للمشركين عهد» شروع في تحقيق حقية ما سبق من البراءة وأحكامها المتفرعة عليها وتبيين الحكمة الداعية إلى ذلك والمراد بالمشركين الناكثون لأن البراءة إنما هي في شأنهم والاستفهام إنكاري لا بمعنى إنكار الواقع كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله الخ بل بمعنى إنكار الوقوع ويكون من الكون التام وكيف في محل
44

النصب على التشبيه بالحال أو الظرف وقيل من الكون الناقص وكيف خبر يكون قدم على اسمه وهو عهد لاقتضائه الصدارة وللمشركين متعلق بمحذوف وقع حالا من عهد ولو كان مؤخرا لكان صفة له أو بيكون عند من يجوز عمل الأفعال الناقصة في الظروف وعند متعلق بمحذوف وقع صفة لعهد أو بنفسه لأنه مصدر أو بيكون كما مر ويجوز أن يكون الخبر للمشركين وعند كما ذكر أو متعلق بالاستقرار الذي تعلق به للمشركين ويجوز أن يكون الخبر عند الله وللمشركين إما تبيين وإما حال من عهد وإما متعلق بيكون أو بالاستقرار الذي تعلق به الخبر ولا يبالي بتقديم معمول الخبر على الاسم لكونه حرف جر وكيف على الوجهين الأخيرين نصب على التشبيه بالظرف أو الحال كما في صورة الكون التام وهو الأولى لأن في إنكار ثبوت العهد في نفسه من المبالغة ما ليس في إنكار ثبوته للمشركين لأن ثبوته الرابطي فرع ثبوته العيني فانتفاء الأصل يوجب انتفاء الفرع رأسا وفي توجيه الإنكار إلى كيفية ثبوت العهد من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى ثبوته لأن كل موجود يجب أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني أي على أي أو في أي حال يوجد لهم عهد معتد به
«عند الله وعند رسوله» يستحق أن يراعي حقوقه ويحافظ عليه إلى إتمام المدة ولا يتعرض لهم بحسبه قتلا ولا أخذا وأما أن يأمنوا به من عذاب الآخرة كما قيل فلا سبيل إلى اعتباره أصلا إذ لا دخل لعهدهم في ذلك الأمن قطعا وإن كان مرعيا عند الله تعالى وعند رسوله كعهد غير الناكثين وتكرير كلمة عند للإيذان بعدم الاعتداد به عند كل منهما على حدة
«إلا الذين» استدراك من النفي المفهوم من الاستفهام المتبادر شموله لجميع المعاهدين أي لكن الذين
«عاهدتم عند المسجد الحرام» وهم المستثنون فيما سلف والتعرض لكون المعاهدة عند المسجد الحرام لزيادة بيان أصحابها والإشعار بسبب وكادتها ومحله الرفع على الابتداء خبره قوله تعالى
«فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم» والفاء لتضمنه معنى الشرط وما إما مصدرية منصوبة المحل على الظرفية بتقدير المضاف أي فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم وإما شرطية منصوبة المحل على الظرفية الزمانية أي أي زمان استقاموا لكم فاستقيموا لهم أو مرفوعة على الابتداء والعائد محذوف أي أي زمان استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم فيه وقيل الاستثناء متصل محله النصب على الأصل أو الجر على البدل من المشركين والمراد بهم الجنس لا المعهود وأيا ما كان فحكم الأمر بالاستقامة ينتهي بانتهاء مدة العهد لأن استقامتهم التي وقت بوقتها الاستقامة المأمور بها عبارة عن مراعاة حقوق العهد وبعد انقضاء مدته لا عهد ولا استقامة فصار عين الأمر الوارد فيما سلف حيث قيل فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم خلا أنه قد صرح ههنا بما لم يصرح به هناك مع كونه معتبرا قطعا وهو تقييد الإتمام المأمور به ببقائهم على ما كانوا عليه من الوفاء
«إن الله يحب المتقين» تعليل للأمر بالاستقامة وإشعار بأن القيام بموجب العهد من أحكام التقوى كما مر
«كيف» تكرير لاستنكار ما مر من أن
45

يكون للمشركين عهد حقيق بالمراعاة عند الله سبحانه وعند رسوله صلى الله عليه وسلم وأما ما قيل من أنه لاستبعاد ثباتهم على العهد فكما ترى لأن ما يذكر بصدد التعليل للإستبعاد عين عدم ثباتهم على العهد لا أنه شيء يستدعيه وإنما أعيد الاستنكار والاستبعاد تأكيدا لهما وتمهيدا لتعداد العلل الموجبة لهما لإخلال تخلل ما في البين من الارتباط والتقريب حذف الفعل المستنكر للإيذان بأن النفس مستحضرة له مترقبة لورود ما يوجب استنكاره لا لمجرد كونه معلوما كما في قوله
[وخبرتماني أنما الموت بالقرى * فكيف وهاتا هضبة وقليب]
* فإنه علة مصححة لا مرجحة أي كيف يكون لهم عهد معتد به عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وسلم
«وإن يظهروا عليكم» أي وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم أي يظفروا بكم
«لا يرقبوا فيكم» أي لا يراعوا في شأنكم وأصل الرقوب النظر بطريق الحفظ والرعاية ومنه الرقيب ثم استعمل في مطلق الرعاية والمراقبة أبلغ منه كالمراعاة وفي نفي الرقوب من المبالغة ما ليس في نفيها
«إلا ولا ذمة» أي حلفا وقيل قرابة ولا عهدا أو حقا يعاب على إغفاله مع ما سبق لهم من تأكيد الإيمان والمواثيق يعني أن وجوب مراعاة حقوق العهد على كل من المتعاهدين مشروط بمراعاة الآخر لها فإذا لم يراعها المشركون فكيف تراعونها على منوال قول من قال
[علام تقبل منهم فدية وهم * لا فضة قبلوا منا ولا ذهبا]
وقيل الإل من أسماء الله عز وجل أي لا يراعوا حق الله تعالى وقيل الجوار ومآله الحلف لأنهم إذا تماسحوا وتحالفوا رفعوا به أصواتهم لتشهيره ولما كان تعليق عدم رعاية العهد بالظفر موهما للرعاية عند عدمه كشف عن حقيقة شؤونهم الجلية والخفية بطريق الاستئناف وبين أنهم في حالة العجز أيضا ليسوا من الوفاء في شيء وأن ما يظهرونه مداهنة لا مهادنة فقيل
«يرضونكم بأفواههم» حيث يظهرون الوفاء والمصافاة ويعدون لكم بالإيمان والطاعة ويؤكدون ذلك بالإيمان الفاجرة ويتعللون عند ظهور خلافه بالمعاذير الكاذبة ونسبة
الإرضاء إلى الأ فواه للإيذان بأن كلامهم مجرد ألفاظ يتفوهون بها من غير أن يكون لها مصداق في قلوبهم
«وتأبى قلوبهم» ما يفيده كلامهم
«وأكثرهم فاسقون» خارجون عن الطاعة فإن مراعاة حقوق العهد من باب الطاعة متمردون ليست لهم مروءة رادعة ولا عقيدة وزاعة ولا يتسترون كما يتعاطاه بعضهم ممن يتفادى عن الغدر ويتعفف عما يجر أحدوثة السوء
«اشتروا بآيات الله» بآياته الآمرة بالإيفاء بالعهود والاستقامة في كل أمر أو بجميع آياته فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا أي تركوها وأخذوا بدلها
«ثمنا قليلا» أي شيئا حقيرا من حطام الدنيا وهو أهواؤهم وشهواتهم التي اتبعوها أو ما أنفقه أبو سفيان من الطعام وصرفه إلى الأعراب
«فصدوا» أي عدلوا ونكبوا من صد صدودا أو صرفوا غيرهم من صد صدا والفاء للدلالة على سببية الاشتراء لذلك
«عن سبيله» أي الذين الحق الذي لا محيد عنه والإضافة للتشريف أو سبيل بيته الحرام حيث كانوا يصدون الحجاج والعمار عنه
«إنهم ساء ما كانوا يعملون» أي بئس ما كانوا يعلمونه أو عملهم المستمر والمخصوص بالذم محذوف وقد جوز أن تكون كلمة ساء على أصلها من التصرف لازمة بمعنى قبح أو متعدية والمفعول محذوف أي ساءهم الذي
46

يعملونه أو عملهم وقوله عز وعلا
«لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة» ناع عليهم عدم مراعاة حقوق عهد المؤمنين على الإطلاق فلا تكرار وقيل هذا في اليهود أو في الأعراب المذكورين ومن يحذو حذوهم وأما ما قيل من أنه تفسير لقوله تعالى يعملون أو دليل على ما هو مخصوص بالذم فمشعر باختصاص الذم والسوء بعملهم هذا دون غيره
«وأولئك» الموصوفون بما عدد من الصفات السيئة
«هم المعتدون» المجاوزون الغاية القصوى من الظلم والشرارة
«فإن تابوا» أي عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم والفاء للإيذان بأن تقريعهم بما نعى عليهم من مساوى أعمالهم مزجرة عنها ومظنة للتوبة
«وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة» أي التزموهما وعزموا على إقامتهما
«فإخوانكم» أي فهم إخوانكم وقوله تعالى
«في الدين» متعلق بإخوانكم لما فيه من معنى الفعل أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم فعاملوهم معاملة الإخوان وفيه من استمالتهم واستجلاب قلوبهم ما لا مزيد عليه والاختلاف بين جواب هذه الشرطية وجواب التي مرت من قبل مع اتحاد الشرط فيهما لما أن الأولى سيقت إثر الأمر بالقتل ونظائره فوجب أن يكون جوابها أمرا بخلاف ذلك وهذه سيقت بعد الحكم عليهم بالاعتداء وأشباهه فلا بد من كون جوابها حكما بخلافه البتة
«ونفصل الآيات» أي نبينها والمراد بها إما ما مر من الآيات المتعلقة بأحوال المشركين من الناكثين وغيرهم وأحكامهم حالتي الكفر والإيمان وإما جميع الآيات فيندرج فيها تلك الآيات اندارجا أوليا
«لقوم يعلمون» أي ما فيها من الأحكام أو لقوم عالمين وهو اعتراض للحث على التأمل في الأحكام المندرجة في تضاعيفها والمحافظة عليها
«وإن نكثوا» عطف على قوله تعالى فإن تابوا أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا
«أيمانهم من بعد عهدهم» الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل حسبما ينبئ عنه قوله تعالى وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا الآية أو ثبتوا على ما هم عليه من النكث لا أنهم ارتدوا بعد الإيمان كما قيل
«وطعنوا في دينكم» قدحوا فيه بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام
«فقاتلوا أئمة الكفر» أي فقاتلوهم وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم للإيذان بأنهم صاروا بذلك ذوي رياسة وتقدم في الكفر أحقاء بالقتل والقتال وقيل المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم وتخصيصهم بالذكر إما لأهمية قتلهم أو للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالبا يكون بعد قتل من دونهم وقرئ أئمة بتحقيق الهمزتين على الأصل والأفصح إخراج الثانية بين بين
47

وأما التصريح بالياء فلحن ظاهر عند الفراء
«إنهم لا أيمان لهم» أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يعدون نقضها محذورا وإن أجروها على ألسنتهم وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق وجعل الجملة تعليلا للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في أن لا إيمان لهم حقيقة بعد النكث والطعن كحالهم قبل ذلك وحمله على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر ولعل الأولى جعلها تعليلا لمضمون الشرط كأنه قيل وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى لا ينكثوها أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من سياق الكلام كأنه قيل فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عهد آخر وقرئ بكسر الهمزة على أنه مصدر بمعنى إعطاء الأمان أي لا سبيل إلى أن تعطوهم أمانا بعد ذلك أبدا وأما العكس كما قيل فلا وجه له لإشعاره بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وذلك بين البطلان أو بمعنى الإسلام ففي كونه تعليلا للأمر بالقتال إشكال بل استحالة لأنه إن حمل على انتفاء الإسلام مطلقا فهو بمعزل عن العلية للقتال أو للأمر به كما قبل النكث والطعن وإن حمل على انتفائه فيما سيأتي فلا يلائم جعل الانتهاء غاية للقتال فيما سيجئ فالوجه أن
يجعل تعليلا لما ذكر من مضمون الشرط كأنه قيل إن نكثوا وطعنوا وهو الظاهر من حالهم لأنه لا إسلام لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس أيمانهم وعن الطعن في دينكم
«لعلهم ينتهون» متعلق بقوله تعالى فقاتلوا أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا أي ليكن غرضكم من القتال انتهاءهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم التي يرتكبونها لا إيصال الأذية بهم كما هو ديدن المؤذين
«ألا تقاتلون» الهمزة الداخلة على انتفاء مقاتلتهم للإنكار والتوبيخ تدل على تحضيضهم على المقاتلة بطريق حملهم على الإقرار بانتفائها كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعا لكمال شناعته فيلجئون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون المقاتلة
«قوما نكثوا أيمانهم» التي حلفوها عند المعاهدة على أن لا يعاونوا عليهم فعاونوا بني بكر على خزاعة
«وهموا بإخراج الرسول» من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى وإذ يمكر بك الذين كفروا فيكون نعيا عليهم جنايتهم القديمة وقيل هم اليهود نكثوا عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وهموا بإخراجه من المدينة
«وهم بدؤوكم» بالمعاداة والمقاتلة
«أول مرة» لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المحاجة لعجزهم عنها إلى المقاتلة أو بدءوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأن إعانة بني بكر عليهم قتال معهم
«أتخشونهم» أي أتخشون أن ينالكم منهم مكروه حتى تتركوا قتالهم وبخهم أو لا بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الرغبة فيها ويحقق أن من كان على تلك الصفات السيئة حقيق بأن لا تترك مصادمته ويوبخ من فرط فيها
«فالله أحق أن تخشوه»
48

بمخالفة أمره وترك قتال أعدائه
«إن كنتم مؤمنين» فإن قضية الإيمان تخصيص الخشية به تعالى وعدم المبالاة بمن سواه وفيه من التشديد ما لا يخفى
«قاتلوهم» تجريد للأمر بالقتال بعد التوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم وإخزائهم وتشجيع لهم
«يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم» قتلا وأسرا
«وينصركم عليهم» أي يجعلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر عن التعذيب والإجزاء
«ويشف صدور قوم مؤمنين» ممن لم يشهد القتال وهم خزاعة قال ابن عباس رضي الله عنهما هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال صلى الله عليه وسلم أبشروا فإن الفرج قريب
«ويذهب غيظ قلوبهم» بما كابدوا من المكاره والمكايد ولقد أنجز الله سبحانه جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فكان إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك قبل وقوعه معجزة عظيمة
«ويتوب الله على من يشاء» كلام مستأنف ينبئ عما سيكون من بعض أهل مكة من التوبة المقبولة بحسب مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة فكان كذلك حيث أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم وقرئ بالنصب بإضمار أن ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر بحسب المعنى فإن القتال كما هو سبب لفل شوكتهم وإلانة شكيمتهم فهو سبب للتدبر في أمرهم وتوبتهم من الكفر والمعاصي وللاختلاف في وجه السببية غير السبك والله تعالى أعلم
«والله» إيثار إظهار الجلالة على الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة
«عليم» لا يخفى عليه خافية
«حكيم» لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة
«أم حسبتم» أم منقطعة جئ بها للدلالة على الانتقال من التوبيخ السابق إلى آخر وما فيها من همزة الاستفهام الإنكاري توبيخ لهم على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم
«أن تتركوا» على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم والخطاب إما لمن شق عليهم القتال من المؤمنين أو للمنافقين
«ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم» الواو حالية ولما للنفي مع التوقع والمراد من نفي العلم نفي المعلوم بالطريق البرهاني إذ لو شم رائحة الوجود لعلم قطعا فلما لم يعلم لزم عدمه قطعا أي أم حسبتم أن تتركوا والحال أنه لم يتبين الخلص من المجاهدين منكم من غيرهم وما في لما من التوقع منبه على أن ذلك سيكون وفائدة التعبير عما ذكر من عدم التبين بعدم علم الله تعالى أن المقصود هو التبين من حيث كونه متعلقا للعلم ومدارا للثواب وعدم التعرض لحال المقصرين لما أن ذلك بمعزل من الاندراج تحت إرادة أكرم الأكرمين
«ولم يتخذوا» عطف على جاهدوا داخل في حيز
49

الصلة أو حال من فاعله أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين
«من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة» أي بطانة وصاحب سر وهو الذي تطلعه على ما في ضميرك من الأسرار الخفية من الولوج وهو الدخول ومن دون الله متعلق بالاتخاذ إن أبق على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التسيير
«والله خبير بما تعملون» أي بجميع أعمالكم وقرئ على الغيبة وهو تذييل يزيح ما يتوهم من ظاهر قوله تعالى ولما يعلم الخ أو حال متداخلة من فاعله أو من مفعوله والمعنى ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم والحال أنه يعلم جميع أعمالكم لا يخفى عليه شيء منها
«ما كان للمشركين» أي ما صح وما استقام لهم على معنى نفى الوجود والتحقق لا نفي الجواز كما في قوله تعالى أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين أي ما وقع وما تحقق لهم
«أن يعمروا» عمارة معتدا بها
«مساجد الله» أي المسجد الحرام وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها فعامره كعامرها أو لأن كل ناحية من نواحيه المختلفة الجهات مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد إذ ليس في نواحيها اختلاف الجهة ويؤيده القراءة بالتوحيد وقيل ما كان لهم أن يعمروا شيئا من المساجد فضلا عن المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس ويأباه أنهم لا يتصدون لتعمير سائر المساجد ولا يفتخرون بذلك على أنه مبنى على كون النفي بمعنى نفي الجواز واللياقة دون نفي الوجود
«شاهدين على أنفسهم بالكفر» أي بإظهار آثار الشرك من نصب الأوثان حول البيت والعبادة لها فإن ذلك شهادة صريحة على أنفسهم بالكفر وإن أبوا أن يقولوا نحن كفار كما نقل عن الحسن رضي الله عنه وهو حال من الضمير في يعمروا أي محال أن يكون ما سموه عمارة عمارة بيت الله مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره تعالى فإنها ليست من العمارة في شيء وأما ما قيل من أن المعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله تعالى وعبادة غيره تعالى فليس بمعرب عن كنه المرام فإن عدم استقامة الجمع بين المتنافيين إنما يستدعي انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود
روى أن المهاجرين والأنصار أقبلوا على أساري بدر يعيرونهم بالشرك وطفق علي رضي الله تعالى عنه يوبخ العباس بقتال النبي صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم وأغلظ له في القول فقال العباس تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا فقال ولكم محاسن قالوا نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقى الحجيج ونفك العاني فنزلت
«أولئك» الذين يدعون عمارة المسجد وما يضاهيها من أعمال البر مع ما بهم من الكفر
«حبطت أعمالهم» التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت هباء منثورا
«وفي النار هم خالدون» لكفرهم ومعاصيهم وإيراد الجملة الأسمية للمبالغة في الدلالة على الخلود والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاة الفاصلة وكلتا الجملتين مستأنفة لتقرير النفي السابق
الأولى من جهة نفي استتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب
50

«إنما يعمر مساجد الله» الكلام في إيراد صيغة الجمع كما مر فيما مر خلا أن إرادة جميع المساجد وإدراج المسجد الحرام في ذلك غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وقد قرئ بالإفراد أيضا والمراد ههنا أيضا قصر تحقق العمارة ووجودها على المؤمنين لا قصر جوازها ولياقتها أي إنما يصح ويستقيم أن يعمرها عمارة يعتد بها
«من آمن بالله» وحده
«واليوم الآخر» بما فيه من البعث والحساب والجزاء حسبما نطق به الوحي
«وأقام الصلاة وآتى الزكاة» على ما علم من الدين فيندرج فيه الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم حتما وقيل هو مندرج تحت الإيمان بالله خاصة فإن أحد جزأي كلمتي الشهادة علم للكل أي إنما يعمرها من جمع هذه الكمالات العلمية والعملية والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش وتنويرها بالسرج وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم فيها ونحو ذلك وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش وقال صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبي لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره وعنه صلى الله عليه وسلم من ألف المسجد ألفه الله تعالى وقال صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان وعن أنس رضي الله عنه من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه
«ولم يخش» في أمور الدين
«إلا الله» فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله لومة لائم ولا خشية ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال ونحو ذلك وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا مما يدخل تحت التكليف والخطاب وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فأريد نفي تلك الخشية عنهم
«فعسى أولئك» المنعوتون بتلك النعوت الجميلة
«أن يكونوا من المهتدين» إلى مباغيهم من الجنة وما فيها من فنون المطالب العلية وإبراز اهتدائهم مع ما بهم من الصفات السنية في معرض التوقع لقطع أطماع الكفرة عن الوصول إلى مواقف الاهتداء والانتفاع بأعمالهم التي يحسبون أنهم في ذلك محسنون ولتوبيخهم بقطعهم بأنهم مهتدون فإن المؤمنين مع ما بهم من هذه الكمالات إذا كان أمرهم دائرا بين لعل وعسى فما بال الكفرة وهم هم وأعمالهم أعمالهم وفيه لطف للمؤمنين وترغيب لهم في ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء ورفض الاعتذار بالله تعالى
«أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام» أي في الفضيلة وعلو الدرجة
«كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله» السقاية والعمارة مصدران لا يتصور تشبيههما بالأعيان فلا بد من تقدير مضاف في أحد
51

الجانين أي أجعلتم أهلهما كمن آمن بالله الخ ويؤيده قراءة من قرأ سقاة الحاج وعمرة المسجد الحرام أو أجعلتموها كإيمان من آمن الخ وعلى التقديرين فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات وهو المتبادر من تخصيص ذكر الإيمان بجانب المشبه به وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة ونحوهما على الهجرة والجهاد ونظائرهما وهو المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية وجعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة لا يجدى كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان أيضا أما على الأول فهو توبيخ للمشركين ومداره على إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد وأما اعتبار مقارنتهما له كما قيل فيأباه المقام كيف لا وقد بين آنفا حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار بالمرة وكونها بمنزلة العدم فتوبيخهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهاد ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه مما لا يساعده النظم التنزيلي ولو اعتبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلانا من تشبيه المعدوم بالموجود فالمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان بينهما فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل عن صلاحية أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله عز وجل
«لا يستوون عند الله» أي لا يساوي الفريق الأول الثاني من حيث اتصاف كل منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدم التساوي بين الوصفين الأولين وبين الآخرين لأنه المدار في التفاوت بين الموصفين وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم وتوجيه النفي ههنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده أو حال من مفعولي الجعل والرابط هو الضمير كأنه قيل أسويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عنده تعالى وقوله تعالى
«والله لا يهدي القوم الظالمين» حكم عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعل غير مهتدين إلى طريق معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح وظالمون بوضع كل منهما موضع الآخر وفيه زيادة تقرير لعدم التساوي بينهم وقوله تعالى
«الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم» استئناف
52

لبيان مراتب فضلهم إثر بيان عدم الاستواء وضلال المشركين وظلمهم وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف أي هم باعتبار اتصافهم بهذه الأوصاف الجميلة
«أعظم درجة عند الله» أي أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائنا من كان وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة
«وأولئك» أي المنعوتون بتلك النعوت الفاضلة وما في اسم الإشارة من معنى البعد للدلالة على بعد منزلتهم في الرفعة
«هم الفائزون» المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم وأما على الثاني فهو توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد روى أن عليا قال للعباس رضي الله عنهما بعد إسلامه يا عم ألا تهاجرون ألا تلحقون برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألست في أفضل من الهجرة أسقى حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام فلما نزلت قال ما أراني إلا تارك سقايتنا فقال صلى الله عليه وسلم أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا وروى النعمان بن بشير قال كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقى الحاج وقال آخر ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام وقال آخر الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليتم استفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه فدخل فأنزل الله عز وجل هذه الآية والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة من المؤمنين في الفضيلة والرفعة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبرا فيه قطعا تعويلا على ظهور الأمر وإشعارا بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضا تقوية للإنكار وتذكيرا لأسباب الرجحان ومبادي الأفضلية وإيذانا بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى على هذا التقدير ظاهر وكذا أعظمية درجة الفريق الثاني وأما قوله تعالى والله لا يهدي القوم الظالمين فالمراد به عدم هدايته تعالى لهم لي معرفة الراجح من المرجوح وظلمهم بوضع كل منهما موضع الآخر لا عدم الهداية مطلقا ولا الظلم عموما والقصر في قوله تعالى وأولئك هم الفائزون بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق ادعاء كما مر والله أعلم يبشرهم وقرئ بالتخفيف
«ربهم برحمة» عظيمة
«منه ورضوان» كبير
«وجنات» عالية
«لهم فيها» في تلك الجنات
«نعيم مقيم» نعم لا نفاد لها وفي التعرض لعنوان الربوبية تأكيد للمبشر به وتربية له
«خالدين فيها» أي في الجنات
«أبدا» تأكيد للخلود لزيادة توضيح المراد به إذ قد يراد به المكث الطويل
«إن الله عنده أجر عظيم» لا قدر عنده لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلا لما سبق
53

«يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء» نهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين بقضية مقابلة الجمع بالجمع الوجبة لانقسام الآحاد إلى الآحاد كما في قوله عز وجل وما للظالمين من أنصار لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم دلالة لا عبارة والآية نزلت في المهاجرين فإنهم لما أمروا بالهجرة قالوا أن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك وقيل نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة نهيا عن موالاتهم
وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس منه ويبغض في الله أقرب الناس إليه
«إن استحبوا الكفر» أي اختاروه
«على الإيمان» وأصروا عليه إصرارا لا يرجى معه الإقلاع عنه أصلا وتعليق النهي عن الموالاة بذلك لما أنها قبل ذلك ربما تؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين
«ومن يتولهم» أي واحد منهم كما أشير إليه وإفراد الضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللإيذان باستقلال كل واحد منهم في الاتصاف بالظلم لا أن المراد تولى فرد واحد وكلمة من في قوله تعالى
«منكم» للجنس لا للتبعيض
«فأولئك» أي أولئك المتولون
«هم الظالمون» بوضعهم الموالاة في غير موضعها كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم
«قل» تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوى عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجرى مجراهم من الأبناء والأزواج ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا وزينتها على وجه التوبيخ والترهيب
«إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم» لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف لأن موالاة الأبناء والأزواج غير معتاد بخلاف المحبة
«وعشيرتكم» أي أقرباؤهم مأخوذ من العشرة أي الصحبة وقيل من العشرة فإنهم جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة وقرئ عشيراتكم وعشائركم
«وأموال اقترفتموها» أي اكتسبتموها وإنما وصفت بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين
«وتجارة» أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح
«تخشون كسادها» بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام الموسم
«ومساكن ترضونها» أي منازل تعجبكم الإقامة فيها من الدور والبساتين والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر
54

من زينة الحياة الدنيا ليس لتناسي ما فيها من مبادئ المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع ما لها من فنون المحاسن بمعزل عن أن يؤثر حبها على حبه تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم كما في قوله عز وجل ما غرك بربك الكريم
«أحب إليكم من الله ورسوله» بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وعدم المفارقة لا الحب الجبلي الذي لا يخلو عنه البشر فإنه غير داخل تحت التكليف الدائر على الطاقة
«وجهاد في سبيله» نظم حبه في سلك حب الله عز وجل وحب رسوله صلى الله عليه وسلم تنويها لشأنه وتنبيها على أنه مما يجب أن يحب فضلا عن أن يكره وإيذانا بأن محبته راجعة إلى محبتهما فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما
«فتربصوا» أي انتظروا
«حتى يأتي الله بأمره» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فتح مكة وقيل هي عقوبة عاجلة أو آجلة
«والله لا يهدي القوم الفاسقين» الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين أو القوم الفاسقين كافة فيدخل في زمرتهم هؤلاء دخولا أوليا أي لا يرشدهم إلى ما هو خير لهم وفي الآية الكريمة من الوعيد ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه لطف من ربه والله المستعان
«لقد نصركم الله» الخطاب للمؤمنين خاصة
«في مواطن كثيرة» من الحروب وهي مواقعها ومقاماتها والمراد بها وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة
«ويوم حنين» عطف على محل في مواطن بحذف المضاف في أحدهما أي وموطن يوم حنين أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر وقيل المراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين وقيل يوم حنين منصوب بمضمر معطوف على نصركم أي ونصركم يوم حنين
«إذ أعجبتكم كثرتكم» بدل من يوم حنين ولا منع فيه من عطفه على محل الظرف بناء على أنه لم يكن في المعطوف عليه كثرة ولا إعجاب إذ ليس من قضية العطف
مشاركة المعطوفين فيما أضيف إليه المعطوف أو منصوب بإضمار اذكر وحنين واد بين مكة والطائف كانت فيه الوقعة بين المسلمين وهم اثنا عشر ألفا عشرة آلاف منهم من شهد فتح مكة من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وبين هوازن وثقيف وكانوا أربعة آلاف فيمن ضامهم من أمداد سائر العرب وكانوا الجم الغفير فلما التقوا قال رجل من المسلمين اسمه سلمة ابن سلامة الأنصاري لن نغلب اليوم من قلة فساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزم المشركون وخلوا الذراري فأكب المسلمون على الغنائم فتنادى المشركون يا حماة السوء اذكروا الفضائح فتراجعوا فأدركت المسلمين كلمة الإعجاب فانكشفوا وذلك قوله عز وجل
«فلم تغن عنكم شيئا» والإغناء إعطاء ما يدفع به الحاجة أي لم تعطكم تلك الكثرة ما تدفعون به حاجتكم شيئا من الإغناء
«وضاقت عليكم الأرض بما رحبت» أي برحبها وسعتها على أن ما مصدرية والباء بمعنى مع أي لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب ولا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكان
«ثم وليتم مدبرين» روى أنه
55

بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجام بغلته وابن عمه أبو سفيان ابن الحرث آخذا بركابه وهو يركض البغلة نحو المشركين وهو يقول أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يحمل على الكفار فيفرون ثم يحملون عليه فيقف لهم فعل ذلك بضع عشرة مرة قال العباس كنت أكف البغلة لئلا تسرع به نحو المشركين وناهيك بهذه الواحدة شهادة صدق على أنه صلى الله عليه وسلم كان في الشجاعة ورباطة الجأش سباقا للغايات القاصية وما كان ذلك إلا لكونه مؤيدا من عند الله العزيز الحكيم فعند ذلك قال يا رب ائتني بما وعدتني وقال للعباس وكان صيتا صح بالناس فنادى الأنصار فخذا فخذا ثم نادى يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة فكروا عنقا واحدا وهم يقولون لبيك لبيك وذلك قوله تعالى
«ثم أنزل الله سكينته على رسوله» أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن إليها اطمئنانا كليا مستتبعا للنصر القريب وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أيضا
«وعلى المؤمنين» عطف على رسوله وتوسيط الجار بينهما للدلالة على ما بينهما من التفاوت أي المؤمنين الذين انهزموا وقيل على الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو على الكل وهو الأنسب ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل والتعرض لوصف الإيمان للإشعار بعلية الإنزال
«وأنزل جنودا لم تروها» أي بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضا وهم الملائكة عليهم السلام عليهم البياض على خيول بلق فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال هكذا حين حمى الوطيس فأخذ كفا من التراب فرمى به نحو المشركين وقال شاهت الوجوه فلم يبق منهم أحدا إلا امتلأت به عيناه ثم قال صلى الله عليه وسلم انهزموا ورب الكعبة واختلفوا في عدد الملائكة يومئذ فقيل خمسة آلاف وقيل ثمانية آلاف وقيل ستة عشر ألفا وفي قتالهم أيضا فقيل قاتلوا وقيل لم يقاتلوا إلا يوم بدر وإنما كان نزولهم لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين قال سعيد بن المسيب حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا
«وعذب الذين كفروا» بالقتل والأسر والسبي
«وذلك» أي ما فعل بهم مما ذكر
«جزاء الكافرين» لكفرهم في الدنيا
«ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء» أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه أي يوفقه للإسلام
«والله غفور» يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي
«رحيم» يتفضل عليهم ويثيبهم روى أن ناسا منهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال صلى الله عليه وسلم إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا
56

إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا ما كنا نعدل بالأحساب شيئا فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن هؤلاء جاءونا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا فمن كان بيده سبي وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن فرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه قالوا قد رضينا وسلمنا فقال صلى الله عليه وسلم إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا
«يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس» وصفوا بالمصدر مبالغة كأنهم عين النجاسة أو هم ذو نجس لخبث باطنهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وأهل المذاهب على خلاف هذين القولين وقرئ نجس لكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد كأنه قيل إنما المشركون جنس نجس أو ضرب نجس وأكثر ما جاء تابعا لرجس
«فلا يقربوا المسجد الحرام» تقريع على نجاستهم وإنما نهى عن القرب للمبالغة أو للمنع عن دخول الحرم وهو مذهب عطاء وقيل المراد به النهى عن الدخول مطلقا وقيل المراد المنع عن الحج والعمرة وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى ويؤيده قوله عز وجل
«بعد عامهم هذا» فإن تقييد النهى بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبو بكر رضى الله عنه على الموسم ويدل عليه قول علي رضى الله عنه حين نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ولا يمنعون من دخول الحرم والمسجد الحرام وسائر المساجد عنده وعند الشافعي يمنعون من المسجد الحرام خاصة وعند مالك يمنعون من جميع المساجد ونهى المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم من ذلك وقيل المراد أن يمنعوا من تولى المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك
«وإن خفتم عيلة» أي فقرا بسبب منعهم من الحج وانقطاع ما كانوا يجلبونه إليكم من الإرفاق والمكاسب وقرئ عائلة على أنها مصدر كالعافية أو حالا عائلة
«فسوف يغنيكم الله من فضله» من عطائه أو من تفضله بوجه آخر فأرسل الله تعالى السماء عليهم مدرارا أغزر بها خيرهم وأكثر ميرهم وأسلم أهل تبالة وجرش فحملوا إلى مكة الطعام وما يعاش به فكان ذلك أعود عليهم مما خافوا العيلة لفواته ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من أقطار الأرض
«إن شاء» أن يغنيكم مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها وإنما قيد ذلك بها لتنقطع الآمال إلى الله تعالى ولأن الإغناء ليس مطردا بحسب الأفراد والأحوال والأوقات
«إن الله عليم» بمصالحكم
«حكيم» فيما يعطي ويمنع
57

«قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر» أمرهم بقتال أهل الكتابين إثر أمرهم بقتال المشركين وبمنعهم من أن يحوموا حول ما كانوا يفعلونه من الحج والعمرة غير خائفين من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ونبههم في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي وأرشدهم إلى سلوكه ابتغاء لفضله واستنجازا لوعده والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال وبانتظامهم بسبب ذلك في سلك المشركين فإن اليهود مثنية والنصارى مثلثة فهم بمعزل من أن يؤمنوا بالله سبحانه ولا باليوم الآخر فإن عملهم بأحوال الآخرة كلا علم فإيمانهم المبني عليه ليس بإيمان به
«ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله» أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلوا أو غير متلو وقيل المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه أي يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا
«ولا يدينون دين الحق» الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو دين الإسلام وقيل دين الله
«من الذين أوتوا الكتاب» من التوراة والإنجيل فمن بيانية لا تبعيضية حتى يكون بعضهم على خلاف ما نعت
«حتى يعطوا» أي يقبلوا أن يعطوا
«الجزية» أي ما تقرر عليهم أن يعطوه مشتق من جزي دينه أي قضاه أو لأنهم يجزون بها من من عليهم بالإعفاء عن القتل
«عن يد» حال من الضمير في يعطوا أي عن يد مؤاتية مطيعة بمعنى منقادين أو من يدهم بمعنى مسلمين بأيديهم غير باعثين بأيدي غيرهم ولذلك منع من التوكيل فيه أو عن غني ولذلك لم تجب الجزية على الفقير العاجز أو عن يد قاهرة عليهم أي بسبب يد بمعنى عاجزين أذلاء أو عن إنعام عليهم فإن إبقاء مهجتهم بما بذلوا من الجزية نعمة عظيمة عليهم أو من الجزية أي نقدا مسلمة عن يد إلى يد وغاية القتال ليست نفس هذا الإعطاء بل قبوله كما أشير إليه
«وهم صاغرون» أي أذلاء وذلك بأن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ويؤخذ بتلبيبه ويقال له أد الجزية وإن كان يؤديها وهي تؤخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه من أهل الكتاب مطلقا ومن مشركي العجم لا من مشركي العرب عند أبي يوسف رضي الله عنه لا تؤخذ من العربي كتابيا كان أو مشركا وتؤخذ من الأعجمي كتابيا كان أو مشركا وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ من أهل الكتاب عربيا أو عجميا ولا تؤخذ من أهل الأوثان مطلقا وذهب مالك والأوزاعي إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار وأما المجوس فقد اتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم لقوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم واتفقوا على تحريم ذبيحتهم ومناكحتهم لقوله صلى الله عليه وسلم في آخر ما نقل من الحديث غير ناكحي نسائهم وآكلي ذبيحتهم ووقت الأخذ عند أبي حنيفة رضي الله عنه أول السنة وتسقط بالموت والإسلام ومقدارها على الفقير المعتمل اثنا عشر درهما وعلى المتوسط الحال أربعة وعشرون درهما وعلى الغني ثمانية وأربعون درهما ولا جزية على فقير
58

عاجز عن الكسب ولا على شيخ فإن أو زمن أو صبي أو امرأة وعند الشافعي رضي الله عنه تؤخذ في آخر السنة من كل واحد دينار غنيا كان أو فقيرا كان له كسب أو لم يكن
«وقالت اليهود» جملة مبتدأة سيقت لتقرير ما مر من عدم إيمان أهل الكتابين بالله سبحانه وانتظامهم بذلك في سلك المشركين
«عزير ابن الله» مبتدأ وخبر وقرئ بغير تنوين على أنه اسم أعجمي كعازر وعزار غير منصرف للعجمة والتعريف وأما تعليله بالتقاء الساكنين أو بجعل الابن وصفا على أن الخبر محذوف فتعسف مستغنى عنه قيل هو قول قدمائهم ثم انقطع فحكى الله تعالى دلك عنهم ولا عبرة بإنكار اليهود وقيل قول بعض ممن كان بالمدينة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس منهم وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس ابن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك وقيل قاله فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن الله فقير ونحن أغنياء وسبب هذا القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله تعالى عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له أين تذهب قال أطلب العلم فحفظه التوراة فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا فقالوا ما جمع الله التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه قال الإمام الكلبي لما قتل بخت نصر علماءهم جميعا وكان عزير إذ ذاك صغيرا فاستصغره ولم يقتله فلما رجع
بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله تعالى عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون آية بعد ما أماته مائة عام يقال إنه أتاه ملك بإناء فيه ماء فسقاه فمثلت في صدره فلما أتاهم فقال لهم إني عزير كذبوه فقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة ففعل فقالوا إن الله تعالى لم يقذف التوراة في قلب رجل إلا لأنه ابنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله تعالى التوراة ونسخها من صدورهم ورفع التابوت فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به ثم إن التابوت نزل فعرضوا ما تلاه عزير على ما فيه فوجدوه مثله فقالوا ما قالوا
«وقالت النصارى المسيح ابن الله» هو أيضا قول بعضهم وإنما قالوه استحالة لأن يكون ولد بغير أب أو لأن يفعل ما فعله من إبراء الأكمة والأبرص وإحياء الموتى من لم يكن إلها
«ذلك» إشارة إلى ما صدر عنهم من العظيمتين وما فيه من معنى البعد للدلالة على بعد درجة المشار إليه في الشناعة والفظاعة
«قولهم بأفواههم» إما تأكيد لنسبة القول المذكور إليهم ونفى التجوز عنها أو إشعار بأنه قول مجرد عن البرهان وتحقيق مماثل للمهمل الموجود في الأفواه من غير أن يكون له مصداق في الخارج
«يضاهئون» أي في الكفر والشناعة وقرئ بغير همز
«قول الذين كفروا» أي يشابه قولهم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه عند انقلابه مرفوعا قول الذين كفروا
«من قبل» أي من قبلهم وهم المشركون الذين يقولون الملائكة بنات أو اللات والعزى
59

بنات الله لا قدماؤهم كما قيل إذ لا تعدد في القول حتى يتأتى التشبيه وجعله بين قولي الفريقين مع اتحاد المقول ليس فيه مزيد مزية وقيل الضمير للنصارى أي يضاهي قولهم المسيح ابن الله قول اليهود عزير الخ لأنهم أقدم منهم وهو أيضا كما ترى فإنه يستدعي اختصاص الرد والإبطال بقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم بقول النصارى
«قاتلهم الله» دعاء عليهم جميعا بالإهلاك فإن من قاتله الله هلك أو تعجب من شناعة قولهم
«أنى يؤفكون» كيف يصرفون من الحق إلى الباطل والحال أنه لا سبيل إليه أصلا
«اتخذوا» زيادة تقرير لما سلف من كفرهم بالله تعالى
«أحبارهم» وهم علماء اليهود واختلف في واحده قال الأصمعي لا أدري أهو حبر أم حبر وقال أبو الهيثم بالفتح لا غير وكان الليث وابن السكيت يقولان حبر وحبر للعالم ذميا كان أو مسلما بعد أن كان من أهل الكتاب
«ورهبانهم» وهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع أي اتخذ كل واحد من الفريقين علماءهم لا الكل الكل
«أربابا من دون الله» بأن أطاعوهم في تحريم ما أحله الله تعالى وتحليل ما حرمه أو بالسجود لهم ونحوه تسمية أتباع الشيطان عبادة له في قوله تعالى يا أبت لا تعبد الشيطان وقوله تعالى بل كانوا يعبدون الجن قال عدي بن حاتم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب وكان إذ ذاك على دين يسمى الركوسية فريق من النصارى وهو يقرأ سورة براءة فقال يا عدي اطرح هذا الوثن فطرحته فلما انتهى إلى قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قلت يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال صلى الله عليه وسلم أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه فقلت بلى قال ذلك عبادتهم قال الربيع قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل قال إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوال الأحبار فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتاب الله
«والمسيح ابن مريم» عطف على رهبانهم أي اتخذه النصارى ربا معبودا بعد ما قالوا إنه ابنه تعالى عن ذلك علوا كبيرا وتخصيص الاتخاذ به يشير إلى أن اليهود ما فعلوا ذلك بعزير وتأخيره في الذكر مع أن اتخاذهم له صلى الله عليه وسلم ربا معبودا أقوى من مجرد الإطاعة في أمر التحليل والتحريم كما هو المراد باتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا لأنه مختص بالنصارى ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى أمه من حيث دلالتها على مربوبيته المافية للربوبية للإيذان بكمال ركاكة رأيهم والقضاء عليهم بنهاية الجهل والحماقة
«وما أمروا» أي والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابيهم
«إلا ليعبدوا إلها واحدا» عظيم الشأن هو الله سبحانه وتعالى ويطيعوا أمره ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه فإن ذلك مخل بعبادته تعالى فإن جميع الكتب السماوية متفقة على ذلك قاطبة وقد قال المسيح عليه السلام إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وأما إطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر من أمر الله تعالى بطاعته فهي في الحقيقة إطاعة لله عز وجل أو وما أمر الذين اتخذهم الكفرة أربابا من المسيح والأحبار والرهبان إلا ليوحدوا الله
60

تعالى فكيف يصح أن يكونوا أربابا وهم مأمورون مستعبدون مثلهم ولا يقدح في ذلك كون ربوبية الأحبار والرهبان بطريق الإطاعة فإن تخصيص العبادة به تعالى لا يتحقق إلا بتخصيص الطاعة أيضا به تعالى وحيث لم يخصوها به تعالى لم يخصوا العبادة به سبحانه
«لا إله إلا هو» صفة ثانية لإلها أو استئناف مقرر للتوحيد
«سبحانه عما يشركون» عن الإشراك به في العبادة والطاعة
«يريدون أن يطفئوا نور الله» إطفاء النار عبارة عن إزالة لهبا الموجبة لزوال نورها لا عن إزالة نورها كما قيل لكن لما كان الغرض من إطفاء نار لا يراد بها إلا النور
كالمصباح إزالة نورها جعل إطفاؤها عبارة عنها ثم شاع ذلك حتى كان عبارة عن مطلق إزالة النور وإن كان لغير النار والسر في ذلك انحصار إمكان الإزالة في نورها والمراد بنور الله سبحانه إما حجته النيرة الدالة على وحدانيته وتنزهه عن الشركاء والأولاد أو القرآن العظيم الناطق بذلك أي يريد أهل الكتابين أن يردوا القرآن ويكذبوه فيما نطق به من التوحيد والتنزه عن الشركاء والأولاد والشرائع التي من جملتها ما خالفوه من أمر الحل والحرمة
«بأفواههم» بأقاويلهم الباطلة الخارجة منها من غير أن يكون لها مصداق تنطبق عليه أو أصل تستند إليه حسبما حكي عنهم وقيل المراد به نبوة النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقد قيل مثلت حالهم فيما ذكر بحال من يريد طمسن نور عظيم منبث في الآفاق بنفخه
«ويأبى الله» أي لا يريد
«إلا أن يتم نوره» بإعلاء كلمة التوحيد وإعزاز دين الإسلام وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب لكونه بمعنى النفي كما أشير إليه لوقوعه في مقابلة قوله تعالى يريدون وفيه من المبالغة والدلالة على الامتناع ما ليس في نفي الإرادة أي لا يريد شيئا من الأشياء إلا إتمام نوره فيندرج في المستثنى منه بقاؤه على ما كان عليه فضلا عن الإطفاء وفي إظهار النور في مقام الإضمار مضافا إلى ضميره عز وجل زيادة اعتناء بشأنه وتشريف له على تشريف وإشعار بعلة الحكم
«ولو كره الكافرون» جواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة قبلها مقدرة وكلتاهما في موقع الحال أي لا يريد الله إلا إتمام نوره ولو لم يكره الكافرون ذلك ولو كره أي على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة لأن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذا السر يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد وقد مر زيادة تحقيق لهذا مرار
«هو الذي أرسل رسوله» ملتبسا
«بالهدى» أي القرآن الذي هو هدى للمتقين
«ودين الحق» الثابت وهو دين الإسلام
«ليظهره» أي رسوله
«على الدين كله» أي على أهل الأديان كلهم أو ليظهر الدين الحق على سائر الأديان بنسخه إياها حسبما تقتضيه الحكمة والجملة بيان وتقرير لمضمون الجملة السابقة والكلام في قوله عز وجل
«ولو كره المشركون» كما فيما سبق خلا أن وصفهم بالشرك بعد وصفهم
61

بالكفر للدلالة على أنهم ضموا الكفر بالرسول إلى الكفر بالله
«يا أيها الذين آمنوا» شروع في بيان حال الأحبار والرهبان في إغوائهم لأراذلهم إثر بيان سوء حال الأتباع في اتخاذهم لهم أربابا يطيعونهم في الأوامر والنواهي واتباعهم لهم فيما يأتون وما يذرون
«إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل» يأخذونها بطريق الرشوة لتغيير الأحكام والشرائع والتخفيف والمسامحة فيها وإنما عبر عن ذلك بالأكل بناء على أنه معظم الغرض منه وتقبيحا لحالهم وتنفير للسامعين عنهم
«ويصدون» الناس
«عن سبيل الله» عن دين الإسلام أو عن المسلك المقرر في التوراة والإنجيل إلى ما افتروه وحرفوه بأخذ الرشا أو يصدون عنه بأنفسهم بأكلهم الأموال بالباطل
«والذين يكنزون الذهب والفضة» أي يجمعونهما ويحفظونهما سواء كان ذلك بالدفن أو بوجه آخر والموصول عبارة إما عن الكثير من الأحبار والرهبان فيكون مبالغة في الوصف بالحرص والضن بهما بعد وصفهم بما سبق من أخذ الرشا والبراطيل في الأباطيل وإما عن المسلمين الكانزين غير المنفقين وهو الأنسب بقوله عز وجل
«ولا ينفقونها في سبيل الله» فيكون نظمهم في قرن المرتشين من أهل الكتاب تغليظا ودلالة على كونهم أسوة لهم في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم فالمراد بالإنفاق في سبيل الله الزكاة لما روى أنه لما نزل كبر ذلك على المسلمين فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ولقوله صلى الله عليه وسلم ما أدى زكاته فليس بكنز أي بكنز أو عد عليه فإن الوعيد عليه مع عدم الإنفاق فيما أمر الله بالإنفاق فيه وأما قوله صلى الله عليه وسلم من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها ونحوه فالمراد بها ما لم يؤد حقها لقوله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره
«فبشرهم بعذاب أليم» خبر للموصول والفاء لتضمنه معنى الشرط ويجوز أن يكون الموصول منصوبا بفعل يفسره فبشرهم
«يوم» منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون أو باذكر
«يحمى عليها في نار جهنم» أي يوم توقد النار ذات حمى شديد عليها وأصله تحمى النار فجعل الإحماء للنار مبالغة ثم حذفت النار وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول رفعت القصة إلى الأمير فإن طرحت القصة قلت رفع إلى الأمير وإنما قيل عليها والمذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة كما قال علي رضي الله عنه أربعة آلاف
62

وما دونها نفقة وما فوقها كنز وكذا الكلام في قوله تعالى ولا ينفقونها وقيل الضمير للأموال والكنوز فإن الحكم عام وتخصيصهما بالذكر لأنهما قانون التمول أو للفضة
وتخصيصها لقربها ودلالة حكمها على أن الذهب كذلك بل أولى
«فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم» لأن جمعهم لها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية أو لأنهم أزوروا عن السائل وأعرضوا عنه وولوه ظهورهم أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد أو لأنها أصول الجهات الأربعة التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه
«هذا ما كنزتم» على إرادة القول
«لأنفسكم» لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها
«فذوقوا ما كنتم تكنزون» أي وبال كنزكم أو ما تكنزونه وقرئ بضم النون
«إن عدة الشهور» أي عددها
«عند الله» أي في حكمه وهو معمول لها لأنها مصدر
«اثنا عشر» خبر لأن
«شهرا» تمييز مؤكد كما في قولك عندي من الدنانير عشرون دينارا والمراد الشهور القمرية إذ عليها يدور فلك الأحكام الشرعية
«في كتاب الله» في اللوح المحفوظ أو فيما أثبته وأوجبه وهو صفة اثنا عشر أي اثنا عشر شهرا مثبتا في كتاب الله وقوله عز وجل
«يوم خلق السماوات والأرض» متعلق بما في الجار والمجرور من معنى الاستقرار أو بالكتاب على أنه مصدر والمعنى إن هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله تعالى الأجرام والحركات والأزمنة
«منها» أي من تلك الشهور الاثني عشر
«أربعة حرم» هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه من الحل والحرمة وعاد الحج إلى ذي الحجة بعد ما كانوا أزالوه عن محله بالنسيء الذي أحدثوه في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة
«ذلك» أي تحريم الأشهر الأربعة المعينة المعدودة وما في ذلك من معنى البعد لتفخيم المشار إليه هو
«الدين القيم» المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وكانت العرب قد تمسكت به وراثة منهما وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويكرهون القتال فيها حتى أنه لو لقي رجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه وسموا رجبا الأصم ومنصل الأسنة حتى أحدثوا النسيء فغيروا
«فلا تظلموا فيهن أنفسكم» بهتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن والجمهور على أن حرمة القتال فيهن منسوخة وأن الظلم ارتكاب المعاصي فيهن فإنه أعظم وزرا كإرتكابها في الحرم وعن عطاء أنه لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا وما نسخت ويؤيد الأول أنه
63

صلى الله عليه وسلم حصر طائفا وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة
«وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» أي جميعا وهو مصدر كف عن الشيء فإن الجميع مكفوف عن الزيادة وقع موقع الحال
«واعلموا أن الله مع المتقين» أي معكم بالنصر والإمداد فيما تباشرونه من القتال وإنما وضع المظهر موضعه مدحا لهم بالتقوى وحثا للقاصرين عليه وإيذانا بأنه المدار في النصر وقيل هي بشارة وضمان لهم بالنصرة بسبب تقواهم
«إنما النسيء» هو مصدر نسأه إذا أخره نسأ ونساء ونسيئا نحو مس مسا ومساسا ومسيسا وقرئ بهن جميعا وقرئ بقلب الهمزة ياء وتشديد الياء الأولى فيها كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرا آخر حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حرما ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة أي إنما تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر
«زيادة في الكفر» لأنه تحليل ما حرمه الله وتحريم ما حلله فهو كفر آخر مضمون إلى كفرهم
«يضل به الذين كفروا» ضلالا على ضلالهم القديم وقرئ على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفعل لله سبحانه أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على القراءة الأولى أيضا وقيل المضلون حينئذ رؤساؤهم والموصول عبارة عن أتباعهم وقرئ يضل بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل ونضل بنون العظمة
«يحلونه» أي الشهر المؤخر
«عاما» من الأعوام ويحرمون مكانه شهرا آخر مما ليس بحرام
«ويحرمونه» أي يحافظون على حرمته كما كانت والتعبير عن ذك بالتحريم باعتبار إحلالهم له في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء
«عاما» آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم قال الكلبي أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدر من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مرد لما قضيت وأنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرا يغيرون فيه فيقول إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك
حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وشدوا الأزجة وأغاروا وقيل هو جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعا في الجاهلية كان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه وقيل هو رجل من كنانة يقال له القلمس قال قائلهم
* ومنا ناسئ الشهر القلمس
* وعن ابن عباس رضي الله عنهما أول من سن النسيء عمر بن لحي ابن قمعة بن خندف والجملتان تفسير للضلال أو حال من الموصول والعامل عامله
«ليواطئوا» أي ليوافقوا
«عدة ما حرم الله» من الأشهر الأربعة واللام متعلقة بالفعل الثاني أو بما يدل عليه بمجموع الفعلين
«فيحلوا ما حرم الله» بخصوصه من الأشهر المعينة
«زين لهم سوء أعمالهم» وقرئ على البناء
64

للفاعل وهو الله سبحانه والمعنى جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس وقيل خذلهم حتى حسبوا قبيح أعمالهم حسنا فاستمروا على ذلك
«والله لا يهدي القوم الكافرين» هداية موصلة إلى المطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال
«يا أيها الذين آمنوا» رجوع إلى حث المؤمنين وتجريد عزائمهم على قتال الكفرة إثر بيان طرف من قبائحهم الموجبة لذلك
«ما لكم» استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ
«إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم» تباطأتم وتقاعستم أصله تثاقلتم وقد قرئ كذلك أي شيء حصل أو حاصل لكم أو ما تصنعون حين قال لكم النبي صلى الله عليه وسلم انفروا أي أخرجوا إلى الغزو في سبيل الله متثاقلين على أن الفعل ماض لفظا مضارع معنى كأنه قيل تتثاقلون فالعامل في الظرف الاستقرار المقدر في لكم أو معنى الفعل المدلول عليه بذلك ويجوز أن يعمل فيه الحال أي ما لكم متثاقلين حين قيل لكم انفروا وقرئ اثاقلتم على الاستفهام الإنكاري التوبيخي فالعامل في الظرف حينئذ إنما هو الأول
«إلى الأرض» متعلق بإثاقلتم على تضمينه معنى الميل والإخلاد أي اثاقلتم ماثلين إلى الدنيا وشهواتها الفانية عما قليل وكرهتم مشاق الغزو ومتاعبه المستتبعة للراحلة الخالدة كقوله تعالى أخلد إلى الأرض واتبع هواه أو إلى الإقامة بأرضكم ودياركم وكان ذلك في غزوة تبوك في سنة عشر بعد رجوعهم من الطائف استنفروا في وقت عسرة وقحط وقيظ وقد أدركت ثمار المدينة وطابت ظلالها مع بعد الشقة وكثرة العدو فشق عليهم ذلك وقيل ما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا ورى بغيرها إلا في غزوة تبوك فإنه صلى الله عليه وسلم بين لهم المقصد فيها ليستعدوا لها
«أرضيتم بالحياة الدنيا» وغرورها
«من الآخرة» أي بدل الآخرة ونعيمها الدائم
«فما متاع الحياة الدنيا» أظهر في مقام الإضمار لزيادة التقرير أي فما التمتع بها وبلذائذها
«في الآخرة» أي في جنب الآخرة
«إلا قليل» أي مستحقر لا يؤبه له وفي ترشيح الحياة الدنيا بما يؤذن بنفاستها ويستدعى الرغبة فيها وتجريد الآخرة عن مثل ذلك مبالغة في بيان حقارة الدنيا ودناءتها وعظم شأن الآخرة وعلوها
«إلا تنفروا» أي إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه
«يعذبكم» أي الله عز وجل
«عذابا أليما» أي يهلككم بسبب فظيع هائل كقحط ونحوه
«ويستبدل» بكم بعد إهلاككم
«قوما غيركم» وصفهم بالمغايرة لهم لتأكيد الوعيد والتشديد في التهديد بالدلالة على المغايرة الوصفية والذاتية المستلزمة للاستئصال أي قوما مطيعين مؤثرين للآخرة على الدنيا ليسوا من أولادكم ولا أرحامكم كأهل اليمن وأبناء فارس وفيه من الدلالة على
65

شدة السخط ما لا يخفى
«ولا تضروه شيئا» أي لا يقدح تثاقلكم في نصرة دينه أصلا فإنه الغني عن كل شيء في كل شيء وقيل الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله عز وجل وعده بالعصمة والنصرة وكان وعده مفعولا لا محالة
«والله على كل شيء قدير» فيقدر على إهلاككم والإتيان بقوم آخرين
«إلا تنصروه فقد نصره الله» أي أن لم تنصروه فسينصره الله الذي قد نصره في وقت ضرورة أشد من هذه المرة فحذف الجزاء وأقيم سببه مقامه أو إن لم تنصروه فقد أوجب له النصرة حتى نصره في مثل ذلك الوقت فلن يخذله في غيره
«إذ أخرجه الذين كفروا» أي تسببوا لخروجه حيث أذن له صلى الله عليه وسلم في ذلك حين هموا بإخراجه
«ثاني اثنين» حال من ضميره صلى الله عليه وسلم وقرئ بسكون الياء على لغة من يجري الناقص مجرى المقصور في الإعراب أي أحد اثنين من غير اعتبار كونه صلى الله عليه وسلم ثانيا فإن معنى قولهم ثالث ثلاثة ورابع أربعة ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا لا الثالث والرابع خاصة ولذلك منع الجمهور أن ينصب ما بعده بأن يقال ثالث ثلاثة ورابع أربعة وقد مر في قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة من سورة المائدة وجعله صلى الله عليه وسلم ثانيهما لمشي الصديق أمامه ودخوله في الغار أولا لكنسه وتسوية البساط كما ذكر في الأخبار تمحل مستغنى عنه
«إذ هما في الغار» بدل من إذ أخرجه بدل البعض إذ المراد به زمان متسع والغار ثقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة مكثا فيه ثلاثا
«إذ يقول» بدل ثان أو ظرف لثاني
«لصاحبه» أي الصديق
«لا تحزن إن الله معنا» بالعون والعصمة والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيء من الحزن وما هو المشهور من اختصاص مع بالمتبوع فالمراد بما فيه من المتبوعية هو المتبوعية في الأمر المباشر روى أن المشركين طلعوا فوق الغار فاشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن نصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم ما ظنك باثنين الله ثالثهما وقيل لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم أعم أبصارهم فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون قد أخذ الله تعالى أبصارهم عنه وفيه من الدلالة على علو طبقة الصديق رضي الله عنه وسابقة صحبته ما لا يخفى ولذلك قالوا من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه فقد كفر لإنكاره كلام الله سبحانه وتعالى
«فأنزل الله سكينته» أمنته التي تسكن عندها القلوب
«عليه» على النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد بها مالا يحوم حوله شائبة الخوف أصلا أو على صاحبه إذ هو المنزعج وأما النبي صلى الله عليه وسلم فكان على طمأنينة من أمره
«وأيده بجنود لم تروها» عطف على نصره الله والجنود هم الملائكة النازلون يوم بدر والأحزاب وحنين وقيل هم الملائكة أنزلهم الله ليحرسوه في الغار ويأباه وصفهم بعدم رؤية المخاطبين لهم وقوله عز وعلا
«وجعل كلمة الذين كفروا السفلى» يعني الشرك أو دعوة الكفر فإن ذلك الجعل لا يتحقق بمجرد
66

الإنجاء بل بالقتل والأسر ونحو ذلك
«وكلمة الله» أي التوحيد أو دعوة الإسلام
«هي العليا» لا يدانيها شيء وتغيير الأسلوب للدلالة على أنها في نفسها كذلك لا يتبدل شأنها ولا يتغير حالها دون غيرها من الكلم ولذلك وسط ضمير الفعل وقرئ بالنصب عطفا على كلمة الذين
«والله عزيز» لا يغالب
«حكيم» في حكمه وتدبيره
«انفروا» تجريد للأمر بالنفور بعد التوبيخ على تركه والإنكار على المساهلة فيه وقوله تعالى
«خفافا وثقالا» حالان من ضمير المخاطبين أي على أي حال كان من يسر وعسر حاصلين بأي سبب كان من الصحة والمرض أو الغنى والفقر أو قلة العيال وكثرتهم أو غير ذلك مما ينتظمه مساعدة الأسباب وعدمها بعد الإمكان والقدرة في الجملة وما ذكر في تفسيرهما من قولهم خفاقا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتها أو خفاقا من السلاح وثقالا منه أو ركبانا ومشاة أو شبانا وشيوخا أو مهازيل وسمانا أو صحاحا ومراضا ليس لتخصيص الأمرين المتقابلين بالإرادة من غير مقارنة للباقي وعن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى أن أنفر قال صلى الله عليه وسلم نعم حتى نزل ليس على الأعمى حرج وعن ابن عباس رضي الله عنهما نسخت بقوله عز وجل ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية
«وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله» إيجاب للجهاد بهما إن أمكن وبأحدهما عند إمكانه وإعواز الآخر حتى إن من ساعده النفس والمال يجاهد بهما ومن ساعده المال دون النفس يغزى مكانه من حاله على عكس حاله إلى هذا ذهب كثير من العلماء وقيل هو إيجاب للقسم الأول فقط
«ذلكم» أي ما ذكر من النفير والجهاد وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرف
«خير لكم» أي خير عظيم في نفسه أو خير مما يبتغي بتركه من الراحة والدعة وسعة العيش والتمتع بالأموال والأولاد
«إن كنتم تعلمون» أي تعلمون الخير علمتم أنه خير أو إن كنتم تعلمون أنه خير إذ لا احتمال لغير الصدق في أخبار الله تعالى فبادروا إليه
«لو كان» صرف للخطاب عنهم وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تعديدا لما صدر عنهم من الهنات قولا وفعلا على طريق المباثة وبيانا لدناءة هممهم وسائر رذائلهم أي لو كان ما دعوا إليه
«عرضا قريبا» العرض ما عرض لك من منافع الدنيا أي لو كان ذلك غنما سهل المأخذ قريب المال
«وسفرا قاصدا» ذا قصد بين القريب والبعيد
«لاتبعوك» في النفير طمعا في الفوز بالغنيمة وتعليق الاتباع بكلا الأمرين يدل على عدم تحققه عند توسط السفر فقط
«ولكن بعدت عليهم الشقة» أي المسافة الشاطة الشاقة التي تقطع بمشقة وقرئ بكسر العين والشين
«وسيحلفون» أي المتخلفون عن الغزو وقوله تعالى
«بالله» إما متعلق بسيحلفون أو هو من جملة كلامهم والقول مراد على الوجهين أي سيحلفون
67

بالله اعتذارا عند قفولك قائلين
«لو استطعنا» أو سيحلفون قائلين بالله لو استطعنا الخ أي لو كان لنا استطاعة من جهة العدة أو من جهة الصحة أو من جهتهما جميعا حسبما عن لهم من الكذب والتعلل وعلى كلا التقديرين فقوله تعالى
«لخرجنا معكم» ساد مسد جوابي القسم والشرط جميعا أما على الثاني فظاهر وأما على الأول فلأن قولهم لو استطعنا في قوة بالله لو استطعنا لأنه بيان لقوله تعالى سيحلفون بالله وتصديق له والإخبار بما سيكون منهم بعد القفول وقد وقع حسبما أخبر به من جملة المعجزات الباهرة وقرئ لو استطعنا بضم الواو تشبيها لها بواو الجمع كما في قوله عز وجل فتمنوا الموت
«يهلكون أنفسهم» بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إهلاك للنفس ولذلك قال صلى الله عليه وسلم اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع أو حال من فاعله أي مهلكين أنفسهم أو من فاعل خرجنا جئ به على طريقة الإخبار عنهم كأنه قيل نهلك أنفسنا أي لخرجنا معكم مهلكين أنفسنا كما في قولك حلف ليفعلن مكان لأفعلن
«والله يعلم إنهم لكاذبون» أي في مضمون الشرطية وفيما ادعوا ضمنا من انتفاء تحقق المقدم حيث كانوا مستطيعين للخروج ولم يخرجوا
«عفا الله عنك» صريح في أنه سبحانه وتعالى قد عفا عنه صلى الله عليه وسلم ما وقع منه عند استئذان المتخلفين في التخلف معتذرين بعدم الاستطاعة وإذنه اعتمادا على إيمانهم ومواثيقهم لخلوها عن المزاحم من ترك الأولى والأفضل الذي هو التأني والتوقف إلى انجلاء الأمر وانكشاف الحال وقوله عز وجل
«لم أذنت لهم» أي لأي سبب أذنت لهم في التخلف حين اعتلوا بعللهم بيان لما أشير إليه بالعفو من ترك الأولى وإشارة إلى أنه ينبغي أن تكون أموره صلى الله عليه وسلم منوطة بأسباب قوية موجبة لها أو مصححة وأن ما أبرزوه في معرض التعلل والاعتذار مشفوعا بالإيمان كان بمعزل من كونه سببا للإذن قبل ظهور صدقة وكلتا اللامين متعلقة بالإذن لاختلافهما في المعنى فإن الأولى للتعليل والثانية للتبليغ والضمير المجرور لجميع المستأذنين وتوجه الإنكار إلى الأذن باعتبار شموله للكل لا باعتبار تعلقه بكل فرد فرد لتحقق عدم استطاعة بعضهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه
«حتى يتبين لك الذين صدقوا» أي فيما أخبروا به عند الاعتذار من عدم الاستطاعة من جهة المال أو من جهة البدن أو من جهتهما معا حسبما عن لهم هناك
«وتعلم الكاذبين» في ذلك فتعامل كلا من الفريقين بما يستحقه وهو بيان لذلك الأولى الأفضل وتخصيص له صلى الله عليه وسلم عليه فإن كلمة حتى سواء كانت بمعنى اللام أو بمعنى إلى لا يمكن تعلقها بقوله تعالى لم أذنت لاستلزامه أن يكون إذنه صلى الله عليه وسلم لهم معللا أو مغيا بالتبين والعلم ويكون توجه الاستفهام إليه من تلك الحيثية وذلك بين الفساد بل بما يدل عليه ذلك كأنه قيل لم سارعت إلى الإذن لهم وهلا تأنيت حتى ينجلي الأمر كما هو قضية الحزم قال قتادة وعمرو بن ميمون اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى فعاتبه الله تعالى كما تسمعون وتغيير الأسلوب بأن عبر عن الفريق الأول بالموصول الذي صلته فعل دال على الحدوث وعن الفريق الثاني باسم الفاعل المفيد للدوام للإيذان بأن ما ظهر من الأولين صدق حادث في أمر خاص غير مصحح لنظمهم في سلك الصادقين وأن ما صدر من الآخرين
68

وإن كان كاذبا حادثا متعلقا بأمر خاص لكنه أمر جار على عادتهم المستمرة ناشئ عن رسوخهم في الكذب والتعبير عن ظهور الصدق بالتبين وعما يتعلق بالكذب بالعلم لما هو المشهور من أن مدلول الخبر هو الصدق والكذب احتمال عقلي فظهور صدقه إنما هو تبين ذلك المدلول وانقطاع احتمال نقيضه بعد ما كان محتملا له احتمالا عقليا وأما كذبه فأمر حادث لا دلالة للخبر عليه في الجملة حتى يكون ظهوره تبينا له بل هو نقيض لمدلوله فما يتعلق به يكون علما مستأنفا وإسناده إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لا إلى المعلومين ببناء الفعل للمفعول مع إسناد التبين إلى الأولين لما أن المقصود ههنا علمه صلى الله عليه وسلم بهم ومؤاخذتهم بموجبه بخلاف الأولين حيث لا مؤاخذة عليهم ومن لم ينتبه لهذا قال حتى يتبين لك من صدق في عذره ممن كذب فيه وإسناد التبين إلى الأولين وتعليق العلم بالآخرين مع أن مدار الإسناد والتعلق أولا وبالذات هو وصف الصدق والكذب كما أشير إليه لما أن المقصد هو العلم بكلا الفريقين باعتبار اتصافهما بوصفيهما المذكورين ومعاملتهما بحسب استحقاقهما لا العلم بوصفيهما بذاتيهما أو باعتبار قيامهما بموصوفيهما هذا وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العتاب من مراعاة جانبه صلى الله عليه وسلم وتعهده بحسن المفاوضة ولطف المراجعة ما لا يخفي على أولي الألباب قال سفيان بن عيينة انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل ذكر المعفو ولقد أخطأ وأساء الأدب وبئسما فعل فيما قال وكتب من زعم أن الكلام كناية عن الجناية وأن معناه أخطأت وبئسما فعلت هب أنه كناية أليس إيثارها على التصريح بالجناية للتلطيف في الخطاب والتخفيف في العتاب وهب أن العفو مستلزم للخطأ فهل هو مستلزم لكونه من القبح وإستتباع اللائمة بحيث يصحح هذه المرتبة من المشافهة بالسوء أو يسوغ إنشاء الاستقباح بكلمة بئسما المنبئة عن بلوغ القبح إلى رتبة يتعجب منها ولا يخفي أنه لم يكن في خروجهم مصلحة للدين أو منفعة للمسلمين بل كان فيه فساد وخبال حسبما نطق به قوله عز وجل لو خرجوا الخ وقد كرهه سبحانه كما يفصح عنه قوله تعالى ولكن كره الله إنبعاثهم الآية نعم كان الأولى تأخير الإذن حتى يظهر كذبهم آثر ذي أثير ويفتضحوا على رؤوس
الأشهاد ولا يتمكنوا من التمتع بالعيش على الأمن والدعة ولا يتسنى لهم الابتهاج فيما بينهم بأنهم غروه صلى الله عليه وسلم وأرضوه بالأكاذيب على أنه لم يهنأ لهم عيش ولا قرت لهم عين إذ لم يكونوا على أمن واطمئنان بل كانوا على خوف من ظهور أمرهم وقد كان
«لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر» تنبيه على أنه كان ينبغي أن يستدل باستئذانهم على حالهم ولا يؤذن لهم أي ليس من عادة المؤمنين أي يستأذنوك في
«أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم» وأن الخلص منهم يبادرون إليه من غير توقف على الإذن فضلا عن أن يستأذنوك في التخلف وحيث استأذنك هؤلاء في التخلف كان ذلك مئنة للتأني في أمرهم بل دليلا على نفاقهم وقيل المستأذن فيه محذوف ومعنى قوله تعالى أن يجاهدوا كراهة أن يجاهدوا ثم
69

قيل المحذوف هو التخلف والمعنى لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد فيتوجه النفي إلى القيد وبه يمتاز المؤمن من المنافق وهو وإن كان في نفسه أمرا خفيا لا يوقف عليه بادئ الأمر لكن عامة أحوالهم لما كانت منبئة عن ذلك جعل أمرا ظاهرا مقررا وقيل هو الجهاد أي لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد كراهة أن يجاهدوا بناء على أن الاستئذان في الجهاد ربما يكون لكراهته ولا يخفي أن الاستئذان في الشيء لكراهته مما لا يقع بل لا يعقل ولو سلم وقوعه فالاستئذان لعلة الكراهة مما لا يمتاز بحسب الظاهر من الاستئذان لعلة الرغبة ولو سلم فالذي نفى عن المؤمنين يجب أن يثبت للمنافقين وظاهر أنهم لم يستأذنوا في الجهاد لكراهتهم له بل إنما استأذنوا في التخلف
«والله عليم بالمتقين» شهادة لهم بالانتظام في سلك المتقين وعدة لهم بأجزل الثواب وتقرير لمضمون ما سبق كأنه قيل والله عليم بأنهم كذلك وإشعار بأن ما صدر عنهم معلل بالتقوى
«إنما يستأذنك» أي في التخلف مطلقا على الأول أو لكراهة الجهاد على الثاني
«الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر» تخصيص الإيمان بهما في الموضعين للإيذان بأن الباعث على الجهاد ببذل النفس والمال إنما هو الإيمان بهما إذ به يتسنى للمؤمنين استبدال الحياة الأبدية والنعيم المقيم الخالد بالحياة الفانية والمتاع الكاسد
«وارتابت قلوبهم» عطف على الصلة وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقيق الريب وتقرره
«فهم» حال كونهم
«في ريبهم» وشكهم المستقر في قلوبهم
«يترددون» أي يتحيرون فإن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المستبصر والتعبير عنه به مما لا يخفي حسب موقعه
«ولو أرادوا الخروج» يدل على أن بعضهم قالوا عند الاعتذار كنا نريد الخروج لكن لم نتهيأ له وقد قرب الرحيل بحيث لا يمكننا الاستعداد فقيل تكذيبا لهم لو أراده
«لأعدوا له» أي للخروج في وقته
«عدة» أي أهبة من الزاد والراحلة والسلاح وغير ذلك مما لا بد منه للسفر وقرئ عده بحذف التاء والإضافة إلى ضمير الخروج كما فعل بالعدة من قال
* وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
* أي عدته وقرئ عده بكسر العين وعدة بالإضافة
«ولكن كره الله انبعاثهم» أي نهوضهم للخروج قيل هو استدراك عما يفهم من مقدم الشرطية فإن انتفاء إرادتهم للخروج يستلزم انتفاء خروجهم وكراهة الله تعالى انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج فكأنه قيل ما خرجوا ولكن تثبطوا والاتفاق في المعنى لا يمنع الوقوع بين طرفي لكن بعد تحقق الاختلاف نفيا وإثباتا في اللفظ كقولك ما أحسن إلى زيد ولكن أساء والأظهر أن يكون استدراكا من نفس المقدم على نهج ما في الأقيسة الاستثنائية والمعنى
70

لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن ما أرادوه لما أنه تعالى كره انبعاثهم لما فيه من المفاسد التي ستبين
«فثبطهم» أي حبسهم بالجبن والكسل فتثبطوا عنه ولم يستعدوا له
«وقيل اقعدوا مع القاعدين» تمثيل لإلقاء الله تعالى كراهة الخروج في قلوبهم أو لوسوسة الشيطان بالأمر بالقعود أو هو حكاية قول بعضهم لبعض أو هو إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم في القعود والمراد بالقاعدين إما المعذورون أو غيرهم وأيا ما كان فغير خال عن الذم
«لو خرجوا فيكم» بيان لسر كراهته تعالى لانبعاثهم أي لو خرجوا مخالطين لكم
«ما زادوكم» أي ما أورثوكم شيئا من الأشياء
«إلا خبالا» أي فسادا وشرا فالاستثناء مفرغ متصل وقيل منقطع وليس بذلك
«ولأوضعوا خلالكم» أي ولسعوا فيما بينكم بالنمائم والتضريب وإفساد ذات البين من وضع البعير وضعا إذا أسرع وأوضعته أنا أي حملته على الإسراع والمعنى لأوضعوا ركائبهم بينكم والمراد به المبالغة في الإسراع بالنمائم لأن الراكب أسرع من الماشي وقرئ ولأرقصوا من رقصت الناقة أسرعت وأرقصتها أنا وقرئ ولأوفضوا أي أسرعوا
«يبغونكم الفتنة» يحاولون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم وإلقاء الرعب في قلوبكم وإفساد نياتكم والجملة حال من ضمير أوضعوا أو استئناف
«وفيكم سماعون لهم» أي نمامون يسمعون حديثكم لأجل نقله إليهم أو فيكم قوم ضعفة يسمعون للمنافقين أي يطيعونهم والجملة حال من مفعول يبغونكم أو من فاعله
لاشتمالها على ضميريهما أو مستأنفة ولعلهم لم يكونوا في كمية العدد وكيفية الفساد بحيث يخل مكانهم فيما بين المؤمنين بأمر الجهاد إخلالا عظيما ولم يكن فساد خروجهم معادلا لمنفعته ولذلك لم تقتض الحكمة عدم خروجهم فخرجوا مع المؤمنين ولكن حيث كان انضمام المنافقين القاعدين إليهم مستتبعا لخلل كلي كره الله انبعاثهم فلم يتسن اجتماعهم فاندفع فسادهم ووجه العتاب على الإذن في قعودهم مع تقرره لا محالة وتضمن خروجهم لهذه المفاسد أنهم لو قعدوا بغير إذن منه صلى الله عليه وسلم لظهر نفاقهم فيما بين المسلمين من أول الأمر ولم يقدروا على مخالطتهم والسعي فيما بينهم بالأراجيف ولم يتسن لهم التمتع بالعيش إلى أن يظهر حالهم بقوارع الآيات النازلة
«والله عليم بالظالمين» علما محيطا بضمائرهم وظواهرهم وما فعلوا فيما مضى وما يتأتى منهم فيما سيأتي ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والتشديد في الوعيد والإشعار بترتبه على الظلم ولعله شامل للفريقين السماعين والقاعدين
«لقد ابتغوا الفتنة» تشتيت شملك وتفريق أصحابك منك
«من قبل» أي يوم أحد حين انصرف عبد الله بن أبي بن سلول المنافق بمن معه وقد تخلف بمن معه عن تبوك أيضا بعد ما خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي جدة أسفل من ثنية الوداع وعن ابن جريج رضي الله عنه وقفوا لرسول صلى الله عليه وسلم على الثنية ليلة العقبة وهم اثنا عشر رجلا من المنافقين ليفتكوا به صلى الله عليه وسلم فردهم الله تعالى خاسئين
«وقلبوا لك الأمور» تقليب الأمر تصريفه من وجه إلى وجه
71

وترديده لأجل التدبير والاجتهاد في المكر والحيلة يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل حول وقلب أي اجتهدوا ودبروا لك الحيل والمكايد ودوروا الآراء في إبطال أمرك وقرئ بالتخفيف
«حتى جاء الحق» أي النصر والتأييد الإلهي
«وظهر أمر الله» غلب دينه وعلا عرشه
«وهم كارهون» والحال أنهم كارهون لذلك أي على رغم منهم والآيتان لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن تخلف المتخلفين وبيان ما ثبطهم الله تعالى لأجله وهتك أستارهم وكشف أسرارهم وإزاحة أعذارهم تداركا لما عسى يفوت بالمبادرة إلى الإذن وإيذانا بأن ما فات بها ليس مما لا يمكن تلافيه تهوينا للخطب
«ومنهم من يقول ائذن لي» في القعود
«ولا تفتني» أي لا توقعني في الفتنة وهي المعصية والإثم يريد إني متخلف لا محالة أذنت أو لم تأذن فأذن لي حتى لا أقع في المعصية بالمخالفة أو لا تلقني في الهلكة فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي لعدم من يقوم بمصالحهم وقيل قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مشتهر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ولكن أعينك بمالي فاتركني وقرئ ولا تفتني من أفتنة بمعنى فتنة
«ألا في الفتنة» أي في عينها ونفسها وأكمل أفرادها الغنى عن الوصف بالكمال الحقيق باختصاص اسم الجنس به
«سقطوا» لا في شيء مغاير لها فضلا عن أن يكون مهربا ومخلصا عنها وذلك بما فعلوا من العزيمة على التخلف والجراءة على الاستئذان بهذه الطريقة الشنيعة ومن القعود بالإذن المبني عليه وعلى الاعتذارات الكاذبة وقرئ بإفراد الفعل محافظة على لفظ من وفي تصدير بحرف التنبيه مع تقديم الظرف إيذان بأنهم وقعوا فيها وهم يحسبون أنها منجى من الفتنة زعما منهم أن الفتنة إنما هي التخلف بغير إذن وفي التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديهم في دركات الردى أسفل سافلين وقوله عز وجل
«وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» وعيد لهم على ما فعلوا معطوف على الجملة السابقة داخل تحت التنبيه أي جامعة لهم يوم القيامة من كل جانب وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على الثبات والاستمرار أو محيطة بهم الآن تنزيلا لشيء سيقع عن قريب منزلة الواقع أو وضعا لأسباب الشيء موضعه فإن مبادئ إحاطة النار بهم من الكفر والمعاصي محيطة بهم الآن من جميع الجوانب ومن جملتها ما فروا منه وما سقطوا فيه من الفتنة وقيل تلك المبادئ المتشكلة بصور الأعمال والأخلاق هي النار بعينها ولكن لا يظهر ذلك في هذه النشأة وإنما يظهر عند تشكلها بصورها الحقيقية في النشأة الآخرة والمراد بالكافرين إما المنافقون وإيثار وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالكفر والإشعار بأنه معظم أسباب الإحاطة المذكورة وإما جميع الكافرين الشاملين للمنافقين شمولا أوليا
«إن تصبك» في بعض مغازيك
«حسنة» من الظفر والغنيمة
«تسؤهم» تلك الحسنة
72

أي تورثهم مساءة لفرط حسدهم وعداوتهم لك
«وإن تصبك» في بعضها
«مصيبة» من نوع شدة
«يقولوا» متبجحين بما صنعوا حامدين لآرائهم
«قد أخذنا أمرنا» أي تلافينا ما يهمنا من الأمر يعنون به الاعتزال عن المسلمين والقعود عن الحرب والمداراة مع الكفرة وغير ذلك من أمور الكفر والنفاق قولا وفعلا
«من قبل» أي من قبل إصابة المصيبة في وقت تداركه يشيرون بذلك إلى أن المعاملة المذكورة إنما تروج عند الكفرة بوقوعها حال قوة الإسلام لا بعد إصابة المصيبة
«ويتولوا» عن مجلس الاجتماع والتحدث إلى أهاليهم أو يعرضوا عن النبي صلى الله عليه وسلم
«وهم فرحون» بما صنعوا من أخذ الأمر وبما أصابه صلى الله عليه وسلم والجملة حال من الضمير في يقولوا ويتولوا لا في الأخير فقط لمقارنة الفرح لهما معا وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على دوام السرور وإسناد المساءة إلى الحسنة والمسرة إلى أنفسهم دون المصيبة بأن يقال وإن تصبك مصيبة تسررهم للإيذان باختلاف حاليهم حالتي عروض المساءة والمسرة بأنهم في الأولى مضطرون وفي الثانية مختارون
«قل» بيانا لبطلان ما بنوا عليه مسرتهم من الاعتقاد
«لن يصيبنا» أبدا وقرئ هل يصيبنا وهل يصيبنا من فيعل لا من فعل لأنه واوي يقال صاب السهم يصوب واشتقاقه من الصواب
«إلا ما كتب الله لنا» أي أثبته لمصلحتنا الدنيوية أو الأخروية من النصرة عليكم أو الشهادة المؤدية إلى النعيم الدائم
«هو مولانا» ناصرنا ومتولى أمورنا
«وعلى الله» وحده
«فليتوكل المؤمنون» التوكل تفويض الأمر إلى الله والرضا بما فعله وإن كان ذلك بعد ترتيب المبادئ العادية والفاء للدلالة على السببية والأصل ليتوكل المؤمنون على الله قدم الظرف على الفعل لإفادة القصر ثم أدخل الفاء للدلالة على استيجابه تعالى للتوكل عليه كما في قوله تعالى وإياي فارهبون والجملة إن كانت من تمام الكلام المأمور به فإظهار الاسم الجليل في مقام الإضمار لإظهار التبرك والتلذذ به وإن كانت مسوقة من قبله تعالى أمرا للمؤمنين بالتوكل إثر أمره صلى الله عليه وسلم بما ذكر فالأمر ظاهر وكذا إعادة الأمر في قوله عز وجل
«قل هل تربصون بنا» لانقطاع حكم الأمر الأول بالثاني وإن كان أمر الغائب وأما على الوجه الأول فهي لإبراز كمال العناية بشأن المأمور به والإشعار بما بينه وبين ما أمر به أولا من الفرق في السياق والتربص التمكث مع انتظار مجيء شيء خيرا كان أو شرا والباء للتعدية وإحدى التاءين محذوفة أي ما تنتظرون بنا
«إلا إحدى الحسنيين» أي العاقبتين اللتين كل واحدة منهما هي حسنى العواقب وهما النصر والشهادة وهذا نوع بيان لما أبهم في الجواب الأول وكشف لحقيقة الحال بإعلام أن ما يزعمونه مضرة للمسلمين من الشهادة أنفع مما يعدونه منفعة من النصر والغنيمة
«ونحن نتربص بكم» إحدى السوأيين من العواقب إما
«أن يصيبكم الله بعذاب من عنده»
73

كما أصاب من قبلكم من الأمم المهلكة والظرف صفة عذاب ولذلك حذف عامله وجوبا
«أو» بعذاب
«بأيدينا» وهو القتل على الكفر
«فتربصوا» الفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كذلك فتربصوا بنا ما هو عاقبتنا
«إنا معكم متربصون» ما هو عاقبتكم فإذا لقي كل منا ومنكم ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم
«قل أنفقوا» أموالكم في سبيل الله
«طوعا أو كرها» مصدران وقعا موقع الفاعل أي طائعين أو كارهين وهو أمر في معنى الخبر كقوله تعالى استغفر لهم أو لا تستغفر لهم والمعنى أنفقتم طوعا أو كرها
«لن يتقبل منكم» ونظم الكلام في سلك الأمر للمبالغة في بيان تساوى الأمرين في عدم القبول كأنهم أمروا بأن يمتحنوا الحال فينفقوا على الحالين فينظروا هل يتقبل منهم فيشاهدوا عدم القبول وهو جواب قول جد بن قيس ولكن أعينك بمالي ونفي التقبل يحتمل أن يكون بمعنى عدم الأخذ منهم وأن يكون بمعنى عدم الإثابة عليه وقوله عز وجل
«إنكم كنتم قوما فاسقين» أي عاتين متمردين تعليل لرد إنفاقهم
«وما منعهم أن تقبل منهم» وقرئ بالتحتانية
«نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله» استثناء من أعم الأشياء أي ما منعهم قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم وقرئ يقبل على البناء للفاعل وهو الله تعالى
«ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى» أي لا يأتونها في حال من الأحوال إلا حال كونهم متثاقلين
«ولا ينفقون إلا وهم كارهون» لأنهم لا يرجون بهما ثوابا ولا يخافون على تركهما عقابا فقوله تعالى طوعا أي من غير إلزام من جهته صلى الله عليه وسلم لا رغبة أو هو فرضى لتوسيع الدائرة
«فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم» فإن ذلك استدراج لهم ووبال عليهم حسبما ينبئ عنه قوله عز وجل
«إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا» بما يكابدون لجمعها وحفظها من المتاعب وما يقاسون فيها من الشدائد والمصائب
«وتزهق أنفسهم وهم كافرون» فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتع عن النظر في العاقبة فيكون ذلك لهم نقمة لا نعمة وأصل الزهوق الخروج بصعوبة
«ويحلفون بالله إنهم لمنكم» في الدين والإسلام
«وما هم منكم» في ذلك
«ولكنهم قوم يفرقون» يخافون أن يفعل بهم ما يفعل بالمشركين فيظهرون الإسلام تقية ويؤيدونه
74

بالأيمان الفاجرة
«لو يجدون ملجأ» استئناف مقرر لمضمون ما سبق من أنهم ليسوا من المسلمين وأن التجاءهم إلى الانتماء إليهم إنما هو للتقية اضطرارا حتى أنهم لو وجدوا غير ذلك ملجأ أي مكانا حصينا يلجأون إليه من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة وإيثار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم الوجدان فإن المضارع المنفي الواقع موقع الماضي ليس نصا في إفادة انتفاء استمرار الفعل كما هو الظاهر بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا حسبما يقتضيه المقام فإن معنى قولك لو تحسن إلي لشكرتك أن انتفاء الشكر بسبب استمرار انتفاء الإحسان لا أنه بسبب انتفاء استمرار الإحسان فإن الشكر يتوقف على وجود الإحسان لا على استمراره كما حقق في موضعه
«أو مغارات» أي غير انا وكهوفا يخفون فيها أنفسهم وقرئ بضم الميم من أغار الرجل إذا دخل الغور وقيل هو معتد من غار إذا دخل الغور أي أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم وأهليهم ويجوز أن يكون من أغار الثعلب إذا أسرع بمعنى مهارب ومفار
«أو مدخلا» أي نفقا يندسون وينجحرون وهو مفتعل من الدخول وقرئ مدخلا من الدخول ومدخلا من الإدخال أي مكانا يدخلون فيه أنفسهم وقرئ متدخلا ومندخلا من التدخل والإندخال
«لولوا» أي لصرفوا وجوههم وأقبلوا وقرئ لوالوا أي لالتجأوا
«إليه» أي إلى أحد ما ذكر
«وهم يجمحون» أي يسرعون بحيث لا يردهم شيء من الفرس الجموح وهو الذي لا يثنيه اللجام وفيه إشعار بكمال عتوهم وطغيانهم وقرئ يجمزون بمعنى يجمحون ويشتدون ومنه الجمازة
«ومنهم من يلمزك» بكسر الميم وقرئ بضمها أي يعيبك سرا وقرئ يلمزك ويلامزك مبالغة
«في الصدقات» أي في شأنها وقسمتها
«فإن أعطوا منها» بيان لفساد لمزهم وأنه لا منشأ له سوى حرصهم على حطام الدنيا أي إن أعطوا منها قدر ما يريدون
«رضوا» بما وقع من القسمة واستحسنوها
«وإن لم يعطوا منها» ذلك المقدار
«إذا هم يسخطون» أي يفاجئون السخط وإذا نائب مناب فاء الجزاء قيل نزلت الآية في أبي الجواظ المنافق حيث قال ألا ترون إلى صاحبكم يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم ويزعم أنه يعدل وقيل في ابن ذي الخويصرة واسمه حرقوص ابن زهير التميمي رأس الخوارج كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فاستعطف قلوب أهل مكة بتوفير الغنائم عليهم فقال اعدل يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم ويلك إن لم أعدل فمن يعدل وقيل هم المؤلفة قلوبهم والأول هو الأظهر
«ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله» أي ما أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الصدقات طيبي النفوس به وإن قل وذكر الله عز وجل للتعظيم والتنبيه على أن ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم كان بأمره سبحانه
75

«وقالوا حسبنا الله» أي كفانا فضله وصنعه بنا وما قسمه لنا
«سيؤتينا الله من فضله ورسوله» بعد هذا حسبما نرجو ونؤمل
«إنا إلى الله راغبون» في أن يخولنا فضله والآية بأسرها في حيز الشرط والجواب محذوف بناء على ظهوره أي لكان خيرا لهم
«إنما الصدقات» شروع في تحقيق حقية ما صنعه الرسول صلى الله عليه وسلم من القسمة ببيان المصارف ورد لمقالة القالة في ذلك وحسم لأطماعهم الفارغة المبنية على زعمهم الفاسد ببيان أنهم بمعزل من الاستحقاق أي جنس الصدقات المشتملة على الأنواع المختلفة
«للفقراء والمساكين» أي مخصوصة بهؤلاء الأصناف الثمانية الآتية لا تتجاوزهم إلى غيرهم كأنه قيل إنما هي لهم لا لغيرهم فما للذين لا علاقة بينها وبينهم يقولون فيها ما يقولون وما سوغهم أن يتكلموا فيها وفي قاسمها والفقير من له أدنى شيء والمسكين من لا شيء له هو المروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه وقد قيل على العكس ولكل منهما وجه يدل عليه
«والعاملين عليها» الساعين في جمعها وتحصيلها
«والمؤلفة قلوبهم» هم أصناف فمنهم أشراف من العرب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستألفهم ليسلموا فيرضخ لهم ومنهم قوم أسلموا ونياتهم ضعيفة فيؤلف قلوبهم بإجزال العطاء كعيينة بن حصن والأقرع بن حابس والعباس بن مرداس ومنهم من يترقب بإعطائهم إسلام نظرائهم ولعل الصنف الأول كان يعطيهم الرسول صلى الله عليه وسلم من خمس الخمس الذي هو خالص ماله وقد عد منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار وما نعى الزكاة وقد سقط سهم هؤلاء بالإجماع لما أن ذلك كان لتكثير سواد الإسلام فلما أعزه الله عز وعلا وأعلى كلمته استغنى عن ذلك
«وفي الرقاب» أي وللصرف في فك الرقاب بأن يعان المكاتبون بشيء منها على أداء نجومهم وقيل بأن يفدي الأسارى وقيل بأن يبتاع منها الرقاب فتعتق وأيا ما كان فالعدول عن اللام لعدم ذكرهم بعنوان مصحح للمالكية والاختصاص كالذين من قبلهم أو للإيذان بعدم قرار ملكهم فيما أعطوا كما في الوجهين الأولين أو بعدم ثبوته رأسا كما في الوجه الأخير أو للإشعار برسوخهم في استحقاق الصدقة لما أن في للظرفية المنبئة عن إحاطتهم بها وكونهم محلها ومركزها
«والغارمين» أي الذين تداينوا لأنفسهم في غير معصية إذا لم يكن لهم نصاب فاضل عن ديونهم وكذلك عند الشافعي رضي الله عنه من غرم لإصلاح ذات البين وإطفاء الثائرة بين القبيلتين وإن كانوا أغنياء
«وفي سبيل الله» أي فقراء الغزاة والحجيج والمنقطع بهم
«وابن السبيل» أي المسافر المنقطع عن ماله وتكرير الظرف في الأخيرين للإيذان بزيادة فضلهما في الاستحقاق أو لما ذكر من إيرادهما بعنوان غير مصحح للمالكية والاختصاص فهذه مصارف الصدقات فللمتصدق أن يدفع صدقته إلى كل واحد منهم وأن يقتصر على صنف منهم لأن اللام لبيان أنهم مصارف لا تخرج عنهم لا لإثبات الاستحقاق وقد روي ذلك عن عمر وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم وعند الشافعي لا يجوز إلا أن يصرف إلى ثلاثة من تلك الأصناف
«فريضة من الله» مصدر مؤكد
76

لما دل عليه صدر الآية أي فرض لهم الصدقات فريضة ونقل عن سيبويه أنه منصوب بفعله مقدرا أي فرض الله ذلك فريضة أو حال من الضمير المستكن في قوله للفقراء أي إنما الصدقات كائنة لهم حال كونها فريضة أي مفروضة
«والله عليم» بأحوال الناس ومراتب استحقاقهم
«حكيم» لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة من الأمور الحسنة التي من جملتها سوق الحقوق إلى مستحقيها
«ومنهم الذين يؤذون النبي» نزلت في فرقة من المنافقين قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم مالا ينبغي فقال بعضهم لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ذلك فيقع بنا فقال الجلاس بن سويد نقول ما شئنا ثم نأتيه فننكر ما قلنا ونحلف فيصدقنا بما نقول إنما محمد أذن سامعة وذلك قوله عز وجل
«ويقولون هو أذن» أي يسمع كل ما قيل من غير أن يتدبر فيه ويميز بين ما يليق بالقبول لمساعدة أمارات الصدق له وبين مالا يليق به وإنما قالوه لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يواجههم بسوء ما صنعوا ويصفح عنهم حلما وكرما فحملوه على سلامة القلب وقالوا ما قالوا
«قل أذن خير لكم» من قبيل رجل صدق في الدلالة على المبالغة في الجودة والصلاح كأنه قيل نعم هو أذن ولكن نعم الأذن ويجوز أن يكون المراد أذنا في الخير والحق وفيما ينبغي سماعه وقبوله لا في غير ذلك كما يدل عليه قراءة رحمة بالجر عطفا عليه أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع غيرهما ولا يقبله وقرئ أذن بسكون الذال فيهما وقرئ أذن خير على أنه صفة أو خبر ثان وقوله عز وجل
«يؤمن بالله» تفسير لكونه أذن خير لهم أي يصدق بالله تعالى لما قام عنده من الأدلة الموجبة له وكون ذلك خيرا للمخاطبين كما أنه خير للعالمين مما لا يخفي
«ويؤمن للمؤمنين» أي يصدقهم لما علم فيهم من الخلوص واللام مزيدة للتفرقة بين الإيمان المشهور وبين الإيمان بمعنى التسليم والتصديق كما في قوله تعالى أنؤمن لك الخ وقوله تعالى فما آمن لموسى الخ
«ورحمة» عطف على أذن خير أي وهو رحمة بطريق إطلاق المصدر على الفاعل للمبالغة
«للذين آمنوا منكم» أي للذين أظهروا الإيمان منكم حيث يقبله منهم لكن لا تصديقا لهم في ذلك بل رفقا بهم وترحما عليهم ولا يكشف أسرارهم ولا يهتك أستارهم وإسناد الإيمان إليهم بصيغة الفعل بعد نسبته إلى المؤمنين بصيغة الفاعل المنبئة عن الرسوخ والاستمرار للإيذان بأن إيمانهم أمر حادث ما له من قرار وقرئ بالنصب على أنها علة لفعل دل عليه أذن خير أي يأذن لكم رحمة
«والذين يؤذون رسول الله» بما نقل عنهم من قولهم هو أذن ونحوه وفي صيغة الاستقبال المشعرة بترتب الوعيد على الاستمرار على ما هم عليه إشعار بقبول توبتهم كما أفصح عنه قوله تعالى فيما سيأتي فإن يتوبوا يك خيرا لهم
«لهم» بما يجترئون عليه من أذيته صلى الله عليه وسلم كما ينبئ عنه بناء الحكم على الموصول
«عذاب أليم» وهذا اعتراض مسوق من قبله عز وجل على نهج الوعيد غير داخل تحت الخطاب وفي تكرير الإسناد بإثبات العذاب الأليم لهم ثم جعل الجملة خبرا للموصول مالا يخفي من المبالغة وإيراده صلى الله عليه وسلم بعنوان الرسالة مضافا إلى الاسم الجليل لغاية التعظيم والتنبيه على أن أذيته
77

راجعة إلى جنابه عز وجل موجبة لكمال السخط والغضب
«يحلفون بالله لكم» الخطاب للمؤمنين خاصة وكان المنافقون يتكلمون بالمطاعن ثم يأتونهم فيعتذرون إليهم ويؤكدون معاذيرهم بالأيمان ليعذروهم ويرضوا عنهم أي يحلفون لكم أنهم ما قالوا ما نقل إليهم مما يورث أذاة النبي صلى الله عليه وسلم وأما التخلف عن الجهاد فليس بداخل في هذا الاعتذار
«ليرضوكم» بذلك وإفراد إرضائهم بالتعليل مع أن عمدة أغراضهم إرضاء الرسول صلى الله عليه وسلم وقد قبل صلى الله عليه وسلم ذلك منهم ولم يكذبهم للإيذان بأن ذلك بمعزل من أن يكون وسيلة إلى إرضائه صلى الله عليه وسلم وأنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يكذبهم رفقا بهم وسترا لعيوبهم لا عن الرضا بما فعلوا كما أشير إليه
«والله ورسوله أحق أن يرضوه» أي أحق بالإرضاء ولا يتسنى ذلك إلا بالطاعة والمتابعة وإيفاء حقوقه صلى الله عليه وسلم في باب الإجلال والإعظام مشهدا ومغيبا
وأما ما أتوا به من الأيمان الفاجرة فإنما يرضى به من انحصر طريق علمه في الإخبار إلى أن يجئ الحق ويزهق الباطل والجملة نصب على الحالية من ضمير يحلفون أي يحلفون لكم لإرضائكم والحال أنه تعالى ورسوله أحق بالإرضاء منكم أي يعرضون عما يهمهم ويجديهم ويشتغلون بمالا يعنيهم وإفراد الضمير في يرضوه إما للإيذان بأن رضاه صلى الله عليه وسلم مندرج تحت رضاه سبحانه وإرضاؤه صلى الله عليه وسلم إرضاء له تعالى لقوله تعالى من يطع الرسول فقد أطاع الله وإما لأنه مستعار لاسم الإشارة الذي يشار به إلى الواحد والمتعدد بتأويل المذكور كما في قول رؤية
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
* أي كأن ذلك لا يقال أي حاجة إلى الاستعارة بعد التأويل المذكور لأنا نقول لولا الاستعارة لم يتسن التأويل لما أن الضمير لا يتعرض إلا لذات ما يرجع إليه من غير تعرض لوصف من أوصافه التي من جملتها المذكورية وإنما المتعرض لها اسم الإشارة وإما لأنه عائد إلى رسوله والكلام جملتان حذف خبر الأولى لدلالة خبر الثانية عليه كما ذهب إليه سيبويه ومنه قول من قال
* نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض والرأي مختلف أو إلى الله على أن المذكور خبر الجملة الأولى وخبر الثانية محذوف كما هو رأي المبرد
«إن كانوا مؤمنين» جوابه محذوف تعويلا على دلالة ما سبق عليه أي إن كانوا مؤمنين فليرضوا الله ورسوله بما ذكر فإنهما أحق بالإرضاء
«ألم يعلموا» أي أولئك المنافقون والاستفهام للتوبيخ على ما أقدموا عليه من العظيمة مع علمهم بسوء عاقبتها وقرئ بالتاء على الالتفات لزيادة التقريع والتوبيخ أي ألم يعلموا بما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم من فنون القوارع والإنذارات
«أنه» أي الشأن
«من يحادد الله ورسوله» المحادة من الحد كالمشاقة من الشق والمعاداة من العدوة بمعنى الجانب فإن كل واحد من مباشري كل من الأفعال المذكورة في محل غير محل صاحبه ومن شرطية جوابها قوله تعالى
«فأن له نار جهنم» على أن خبره محذوف أي فحق أن له نار جهنم وقرئ بكسر الهمزة والجملة الشرطية في محل الرفع على أنها خبر لأن وهي مع خبرها سادة مسد مفعولي يعلموا وقيل المعنى
78

فله وأن تكرير للأولى تأكيدا لطول العهد لا من باب التأكيد اللفظي المانع للأولى من العمل ودخول الفاء كما في قول من قال
* لقد علم الحي اليمانون أنني
* إذا قلت أما بعد أني خطيبها
* وقد جوز أن يكون فأن له معطوفا على أنه وجواب الشرط محذوف تقديره ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فأن له الخ ورد بأن ذلك إنما يجوز عند كون فعل الشرط ماضيا أو مضارعا مجزوما بلم
«خالدا فيها» حال مقدرة من الضمير المجرور إن اعتبر في الظرف ابتداء الاستقرار وحدوثه وإن اعتبر مطلق الاستقرار فالأمر ظاهر
«ذلك» أشير إلى ما ذكر من العذاب الخالد بذلك إيذانا ببعد درجته في الهول والفظاعة
«الخزي العظيم» الخزي الذل والهو أن المقارن للفضيحة والندامة وهي ثمرات نفاقهم حيث يفتضحون على رؤوس الأشهاد بظهورها ولحوق العذاب الخالد بهم والجملة تذييل لما سبق
«يحذر المنافقون أن تنزل عليهم» في شأنهم فإن ما نزل في حقهم نازل عليهم
«سورة تنبئهم بما في قلوبهم» من الأسرار الخفية فضلا عما كانوا يظهرونه فيما بينهم من أقاويل الكفر والنفاق ومعنى تنبئتها إياهم بما في قلوبهم مع أنه معلوم لهم وأن المحذور عندهم اطلاع المؤمنين على أسرارهم لا اطلاع أنفسهم عليها أنها تذيع ما كانوا يخفونه من أسرارهم فتنتشر فيما بين الناس فيسمعونها من أفواه الرجال مذاعة فكأنها تخبرهم بها أو المراد بالتنبئة المبالغة في كون السورة مشتملة على أسرارهم كأنها تعلم من أحوالهم الباطنة ما لا يعلمونه فتنبئهم بها وتنعى عليهم قبائحهم وقيل معنى يحذر ليحذر وقيل الضمير أن الأولان للمؤمنين والثالث للمنافقين ولا يبالي بالتفكيك عند ظهور الأمر بعود المعنى إليه أي يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة تخبرهم بما في قلوب المنافقين وتهتك عليهم أستارهم قال أبو مسلم كان إظهار الحذر منهم بطريق الاستهزاء فإنهم كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر كل شيء ويقول إنه بطريق الوحي يكذبونه ويستهزئون به ولذلك قيل
«قل استهزؤوا» أي افعلوا الاستهزاء وهو أمر تهديد
«إن الله مخرج» أي من القوة إلى الفعل أو من الكمون إلى البروز
«ما تحذرون» أي ما تحذرونه من إنزال السورة ومن مخازيكم ومثالبكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم على ملأ الناس والتأكيد لرد إنكارهم بذلك لا لدفع ترددهم في وقوع المحذور إذ ليس حذرهم بطريق الحقيقة
«ولئن سألتهم» عما قالوا
«ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب» روى أنه صلى الله عليه وسلم كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ركب من المنافقين يستهزئون بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام وقصورها هيهات هيهات فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فقال احبسوا على الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وكذا فقالوا يا نبي الله لا والله ما كنا في شيء من أمرك ولا من أمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب ليقصر بعضنا على بعض السفر
«قل» غير ملتفت إلى اعتذارهم ناعيا
79

عليهم جناياتهم منزلا لهم منزلة المعترف بوقوع الاستهزاء موبخا لهم على أخطائهم موقع الاستهزاء
«أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون» حيث عقب حرف التقرير بالمستهزأ به ولا يستقيم ذلك إلا بعد تحقق الاستهزاء وثبوته
«لا تعتذروا» لا تشتغلوا بالاعتذار وهو عبارة عن محو أثر الذنب فإنه معلوم الكذب بين البطلان
«قد كفرتم» أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم والطعن فيه
«بعد إيمانكم» بعد إظهاركم له
«إن نعف عن طائفة منكم» لتوبتهم وإخلاصهم أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء وقرئ إن يعف على إسناد الفعل إلى الله سبحانه وقرئ على البناء للمفعول مسندا إلى الظرف بتذكير الفعل وبتأنيثه أيضا ذهابا إلى المعنى كأنه قيل إن ترحم طائفة
«نعذب» بنون العظمة وقرئ بالياء على البناء للفاعل وبالتاء على البناء للمفعول مسندا إلى ما بعده
«طائفة بأنهم كانوا مجرمين» مصرين على الإجرام وهو غير التائبين أو مباشرين له وهم غير المجتنبين قال محمد بن إسحق الذي عفى عنه رجل واحد وهو يحيى بن حمير الأشجعي لم نزلت هذه الآية تاب عن نفاقه وقال اللهم إني لا أزال أسمع آية تقشعر منها الجلود وتجب منها القلوب اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت فأصيب يوم اليمامة فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره
«المنافقون والمنافقات» التعرض لأحوال الإناث للإيذان بكمال عراقتهم في الكفر والنفاق
«بعضهم من بعض» أي متشابهون في النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشئ الواحد بالشخص وقيل أريد به نفى أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في حلفهم بالله إنهم لمنكم وتقرير لقوله تعالى وما هم منكم وقوله تعالى
«يأمرون بالمنكر» أي بالكفر والمعاصي
«وينهون عن المعروف» أي عن الإيمان والطاعة استئناف مقرر لمضمون ما سبق ومفصح عن مضادة حالهم لحال المؤمنين أو خبر ثان
«ويقبضون أيديهم» أي عن المبرات والإنفاق في سبيل الله فإن قبض اليد كناية عن الشح
«نسوا الله» أغفلوا ذكره
«فنسيهم» فتركهم من رحمته وفضله وخذلهم والتعبير والتعبير عنه بالنسيان للمشاكلة
«إن المنافقين هم الفاسقون» الكاملون في التمرد والفسق الذي هو الخروج عن الطاعة والانسلاخ عن كل خير والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير كما في قوله تعالى
«وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار» أي المجاهرين
80

«نار جهنم خالدين فيها» مقدرين الخلود فيها
«هي حسبهم» عقابا وجزاء وفيه دليل على عظم عقابها وعذابها
«ولعنهم الله» أي أبعدهم من رحمته وأهانهم وفي إظهار الاسم الجليل من الإيذان بشدة السخط مالا يخفي
«ولهم عذاب مقيم» أي نوع من العذاب غير عذاب النار دائم لا ينقطع أبدا أو لهم عذاب مقيم معهم في الدنيا لا ينفك عنهم وهو ما يقاسونه من تعب النفاق الذي هم منه في بلية دائمة لا يأمنون ساعة من خوف الفضيحة ونزول العذاب إن اطلع عن أسرارهم
«كالذين من قبلكم» التفات من الغيبة إلى الخطاب للتشديد والكاف في محل الرفع على الخبرية أي أنتم مثل الذين من قبلكم من الأمم المهلكة أو في حيز النصب بفعل مقدر أي فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم
«كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا» تفسير وبيان لشبههم بهم وتمثيل لحالهم بحالهم
«فاستمتعوا» تمتعوا وفي صيغة الاستفعال ما ليس في صيغة التفعل من الاستزادة والاستدامة في التمتع
«بخلاقهم» بنصيبهم من ملاذ الدنيا واشتقاقه من الخلق بمعنى التقدير وهو ما قدر لصاحبه
«فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع» الكاف في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي استمتاعا كاستمتاع
«الذين من قبلكم بخلاقهم» ذم الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسة من الشهوات الفانية والتهائهم بها عن النظر في العواقب الحقة واللذائذ الحقيقية تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائهم أثرهم
«وخضتم» أي دخلتم في الباطل
«كالذي خاضوا» أي كالذين بإسقاط النون أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه
«أولئك» إشارة إلى المتصفين بالأوصاف المعدودة من المشبهين والمشبه بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حبوط أعمال المشبهين وخسرانهم مفهومين ضمنا لا صريحا ويؤدي إلى خلو تلوين الخطاب عن الفائدة إذ الظاهر حينئذ أولئكم والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة
«حبطت أعمالهم» ليس المراد بها أعمالهم المعدودة كما يشعر به التعبير عنهم باسم الإشارة فإن غائلتها غنية عن البيان بل أعمالهم التي كانوا يستحقون بها أجورا حسنة لو قارنت الإيمان أي ضاعت وبطلت بالكلية ولم يترتب عليها أثر
«في الدنيا والآخرة» بطريق المثوبة والكرامة أما في الآخرة فظاهر وأما في الدنيا فلأن ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحة والسعة وغير ذلك حسبما ينبئ عنه قوله عز وجل من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ليس ترتبه عليها على طريقة المثوبة والكرامة بل بطريق الاستدراج
«وأولئك» أي الموصوفون بحبوط الأعمال في الدارين
«هم الخاسرون» الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابه طرا فإنه قد ذهبت رؤوس أموالهم التي هي أعمالهم فيما ضرهم ولم ينفعهم قط ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا
81

ينفعهم لكفى بهم خسرانا وإيراد اسم الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصاف المشار إليها للحبوط والخسران
«ألم يأتهم» أي المنافقين
«نبأ الذين من قبلهم» أي خبرهم الذي له شأن وهو ما فعلوا وما فعل بهم والاستفهام للتقرير والتحذير
«قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين» وهم قوم شعيب
«والمؤتفكات» قريات قوم لوط ائتفكت بهم أي انقلبت بهم فصار عاليها سافلها وأمطروا حجارة من سجيل وقيل قريات المكذبين وائتفاكهن انقلاب أحوالهن من الخير إلى الشر
«أتتهم رسلهم بالبينات» استئناف لبيان نبئهم
«فما كان الله ليظلمهم» الفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام ويستدعيه النظام أي فكذبوهم فأهلكهم الله تعالى فما ظلمهم بذلك وإيثار ما عليه النظم الكريم للمبالغة في تنزيه ساحة السبحان عن الظلم أي ما صح وما استقام له أن يظلمهم ولكنهم ظلموا أنفسهم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقيل في قوله عز وجل
«ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» للدلالة على استمرار ظلمهم حيث لم يزالوا يعرضونها للعقاب بالكفر والتكذيب وتقديم المفعول لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأي من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما في قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم من غير قصر للظلم على الفاعل أو المفعول وسيجئ لهذا مزيد بيان في قوله سبحانه إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون
«والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض» بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا إثر بيان قبح حال أضدادهم عاجلا وآجلا والتعبير عن نسبة هؤلاء بعضهم إلى بعض بالولاية وعن نسبة أولئك بمن الاتصالية للإيذان بأن نسبة هؤلاء بطريق القرابة الدينية المبنية على المعاقدة المستتبعة للآثار من المعونة والنصرة وغير ذلك ونسبة أولئك بمقتضى الطبيعة والعادة
«يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» أي جنس المعروف والمنكر المنتظمين لكل خير وشر
«ويقيمون الصلاة» فلا يزالون يذكرون الله سبحانه فهو في مقابلة ما سبق من قوله تعالى نسوا الله
«ويؤتون الزكاة» بمقابلة قوله تعالى ويقبضون أيديهم
«ويطيعون الله ورسوله» أي في كل أمر ونهي وهو بمقابلة وصف المنافقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة
«أولئك» إشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الفاضلة وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد درجتهم في الفضل أي أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة
«سيرحمهم الله» أي يفيض عليهم آثار رحمته من التأييد والنصرة
82

البتة فإن السين مؤكدة للوقوع كما في قولك سأنتقم منك
«أن الله عزيز» تعليل للوعد أي قوي قادر على إعزاز أوليائه وقهر أعدائه
«حكيم» يبني أحكامه على أساس الحكمة الداعية إلى إيصال الحقوق من النعمة والنقمة إلى مستحقيها من أهل الطاعة وأهل المعصية وهذا وعد للمؤمنين متضمن لوعيد المنافقين كما أن ما سبق في شأن المنافقين من قوله تعالى فنسيهم وعيد لهم متضمن لوعد المؤمنين فإن منع لطفه تعالى عنهم لطف في حق المؤمنين
«وعد الله المؤمنين والمؤمنات» تفصيل لآثار رحمته الأخروية إثر ذكر رحمته الدنيوية والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بعلية وصف الإيمان
لحصول ما تعلق به الوعد وعدم التعرض لذكر ما مر من الأمر بالمعروف وغير ذلك للإيذان بأنه من لوازمه ومستتبعاته أي وعدهم وعدا شاملا لكل أحد منهم على اختلاف طبقاتهم في مراتب الفضل كيفا وكما
«جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» فإن كل أحد منهم فائز بها لا محالة
«ومساكن طيبة» أي وعد بعض الخواص الكمل منهم منازل تستطيبها النفوس أو يطيب فيها العيش في الخبر أنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر
«في جنات عدن» هي أبهى أماكن الجنات وأسناها عن النبي صلى الله عليه وسلم عدن دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر لا يسكنها غير ثلاثة النبيون والصديقون والشهداء يقول الله تعالى طوبى لمن دخلك وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وعن ابن مسعود رضي الله عنه هي بطنان الجنة وسرتها فعدن على هذا علم وقيل هو بمعناه اللغوي أعنى الإقامة والخلود فمرجع العطف إلى اختلاف الوصف وتغايره فكأنه وصفه أولا بأنه من جنس ما هو أشرف الأماكن المعروفة عندهم من الجنات ذات الأنهار الجارية ليميل إليها طباعهم أول ما يقرع أسماعهم ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش معرى عن شوائب الكدورات التي لا تكاد تخلو عنها أماكن الدنيا وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار العليين لا يعتريهم فيها فناء ولا تغير ثم وعدهم بما هو أعلى من ذلك كله فقال
«ورضوان من الله» أي وشئ يسير من رضوانه تعالى
«أكبر» إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة وبه يناط نيل كل شرف وسيادة ولعل عدم نظمه في سلك الوعد مع عزته في نفسه لأنه متحقق في ضمن كل موعود ولأنه مستمر في الدارين روي أنه تعالى يقول لأهل الجنة هل رضيتم فيقولون مالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا
«ذلك» إشارة إلى ما سبق ذكره وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجته في العظم والفخامة
«هو الفوز العظيم» دون ما يعده الناس فوزا من حظوظ الدنيا فإنها مع قطع النظر عن فنائها وتغيرها وتنغصها وتكدرها ليست
83

بالنسبة إلى أدنى شيء من نعيم الآخرة بمثابة جناح البعوض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء ونعما قال من قال
* تالله لو كانت الدنيا بأجمعها
* تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا
* ما كان من حق حر أن يدل بها فكيف وهي متاع يضمحل غدا
«يا أيها النبي جاهد الكفار» أي المجاهرين منهم بالسيف
«والمنافقين» بالحجة وإقامة الحدود
«واغلظ عليهم» في ذلك ولا تأخذك بهم رأفة قال عطاء نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح
«ومأواهم جهنم» جملة مستأنفة لبيان آجل أمرهم إثر بيان عاجله وقيل حالية
«وبئس المصير» تذييل لما قبله والمخصوص بالذم محذوف
«يحلفون بالله ما قالوا» استئناف لبيان ما صدر عنهم من الجرائم الموجبة لما مر من الأمر بالجهاد والغلظة عليهم ودخول جهنم روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمعه من كان منهم معه صلى الله عليه وسلم فقال الجلاس بن سويد منهم لئن كان ما يقول محمد حقا لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا فنحن شر من الحمير فقال عامر بن قيس الأنصاري للجلاس أجل والله إن محمدا لصادق وأنت شر من الحمار فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحضر فحلف بالله ما قال فرفع عامر يده فقال اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق فنزل وإيثار صيغة الاستقبال في يحلفون لاستحضار الصورة أو للدلالة على تكرير الحلف وصيغة الجمع في قالوا مع أن القائل هو الجلاس للإيذان بأن بقيتهم برضاهم بقوله صاروا بمنزلة القائل
«ولقد قالوا كلمة الكفر» هي ما حكى آنفا والجملة مع ما عطف عليها اعتراض
«وكفروا بعد إسلامهم» أي وأظهروا ما في قلوبهم من الكفر بعد إظهارهم الإسلام
«وهموا بما لم ينالوا» هو الفنك برسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أنه توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه صلى الله عليه وسلم عن راحلته إذا تسنم العقبة بالليل وكان عمار بن ياسر آخذا بخطام راحلته يقودها وحذيفة بن اليمان خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا وقيل هم المنافقون هموا بقتل عامر لرده على الجلاس وقيل أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي بن سلول وإن لم يرض به رسول الله صلى الله عليه وسلم
«وما نقموا» أي وما أنكروا وما عابوا أو وما وجدوا ما يورث نقمتهم
«إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله» سبحانه وتعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في غاية ما يكون من ضنك العيش لا يركبون
الخيل ولا يحوزون الغنيمة فأثروا بالغنائم وقتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثنى عشر ألف درهم فاستغنى والاستثناء مفرغ من أعم المفاعيل أو من أعم العلل أي وما
84

أنكروا شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم أو وما أنكروا ما أنكروا لعلة من العلل إلا لإغناء الله إياهم
«فإن يتوبوا» عما هم عليه من الكفر والنفاق
«يك خيرا لهم» في الدارين قيل لما تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الجلاس يا رسول الله لقد عرض الله على التوبة والله لقد قلت وصدق عامر فتاب الجلاس وحسنت توبته
«وإن يتولوا» أي استمروا على ما كانوا عليه من التولي والإعراض عن الدين أو أعرضوا عن التوبة بعد هذا العرض
«يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا» بالقتل والأسر والنهب وغير ذلك من فنون العقوبات
«والآخرة» بالنار وغيرها من أفانين العقاب
«وما لهم في الأرض» مع سعتها وتباعد أقطارها وكثرة أهلها المصححة لوجدان ما نفى بقوله عز وجل
«من ولي ولا نصير» ينقذهم من العذاب بالشفاعة أو المدافعة
«ومنهم» بيان لقبائح بعض آخر منهم
«من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن» لنؤتين الزكاة وغيرها من الصدقات
«ولنكونن من الصالحين» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يريد الحج وقرئ بالنون الخفيفة فيهما قيل نزلت في ثعلبة بن حاطب أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلى الله عليه وسلم يا ثعلبة قليل تؤدي حقه خير من كثير لا تطيقه فراجعه وقال والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمي الدود حتى ضاقت بها المدينة فنزل واديا وانقطع عن الجماعة والجمعة فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل كثر ماله حتى لا يسعه واد فقال يا ويح ثعلبة فبعث مصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا بثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه الفرائض فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية وقال ارجعا حتى أرى رأيي وذلك قوله عز وجل
«فلما آتاهم من فضله بخلوا به» أي منعوا حق الله منه
«وتولوا» أي أعرضوا عن طاعة الله سبحانه فلما رجعا قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يكلماه يا ويح ثعلبة مرتين فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال صلى الله عليه وسلم إن الله منعني أن أقبل منك فجعل يحثو التراب على رأسه فقال صلى الله عليه وسلم هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني فقبض صلى الله عليه وسلم فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فلم يقبلها وجاء بها إلى عمر رضي الله عنه في خلافته فلم يقبلها وهلك في خلافة عثمان رضي الله عنه وقيل نزلت فيه وفي سهل بن الحرث وجد بن قيس ومعتب بن قشير والأول هو الأشهر
«وهم معرضون» جملة معترضة أي وهم قوم عادتهم الإعراض أو حالية أي تولوا بإجرامهم وهم معرضون بقلوبهم
«فأعقبهم» أي جعل الله عاقبة فعلهم ذلك
«نفاقا» راسخا
«في قلوبهم إلى يوم يلقونه» إلى يوم موتهم الذي يلقون الله تعالى عنده أو يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة وقيل فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم ولا يلائمه
85

قوله عز وجل «بما أخلفوا الله ما وعدوه» أي بسبب إخلافهم ما وعدوه تعالى من التصدق والصلاح
«وبما كانوا يكذبون» أي وبكونهم مستمرين على الكذب في جميع المقالات التي من جملتها وعدهم المذكور وتخصيص الكذب به يؤدي إلى تخلية الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل عن المزية فإن تسبب الأعقاب المذكور بالإخلاف والكذب يقضي بإسناده إلى الله عز وجل إذ لا معنى لكونهما سببين لأعقاب البخل النفاق والتحقيق أنه لما كانت الفاء الدالة على الترتيب والتفريع منبئة عن ترتب أعقاب النفاق المخلد على أفعالهم المحكية عنهم من المعاهدة بالتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض وفيها مالا دخل له في الترتب المذكور كالمعاهدة أزيح ما في ذلك من الإبهام بتعيين ما هو المدار في ذلك والله تعالى أعلم وقرئ بتشديد الذال
«ألم يعلموا» أي المنافقون أو من عاهد الله وقرئ بالتاء الفوقانية خطابا للمؤمنين فالهمزة على الأول للإنكار والتوبيخ والتهديد أي ألم يعلموا
«أن الله يعلم سرهم ونجواهم» أي ما أسروا به في أنفسهم وما تناجوا به فيما بينهم من المطاعن وتسمية الصدقة جزية وغير ذلك مما لا خير فيه وسر تقديم السر على النجوى سيظهر في قوله سبحانه وستردون إلى عالم الغيب والشهادة
«وأن الله علام الغيوب» فلا يخفي عليه شيء من الأشياء حتى اجترءوا على ما اجترءوا عليه من العظائم وإظهار اسم الجلالة في الموقعين لإلقاء الروعة وتربية المهابة وفي إيراد العلم المتعلق بسرهم ونجواهم بصيغة الفعل الدال على الحدوث والتجدد والعلم المتعلق بالغيوب الكثيرة الدائمة بصيغة الاسم الدال على الدوام والمبالغة من الفخامة والجزالة مالا يخفي وعلى الثاني لتقرير علم المؤمنين بذلك وتنبيههم على أنه تعالى مؤاخذهم ومجازيهم بما علم من أعمالهم
«الذين يلمزون» نصب أو رفع على الذم ويجوز جره على البدلية من الضمير في سرهم ونجواهم وقرئ بضم الميم وهي لغة أي يعيبون
«المطوعين» أي المتطوعين المتبرعين
«من المؤمنين» حال من المطوعين وقوله تعالى
«في الصدقات» متعلق بيلمزون روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث الناس على الصدقة فأتى عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب وقيل بأربعة آلاف درهم وقال كان لي ثمانية آلاف فأقرضت ربي أربعة وأمسكت لعيالي أربعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك له حتى صولحت تماضر رابعة نسائه عن ربع الثمن على ثمانين ألفا وتصدق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر فقال بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين فتركت صاعا لعيالي وجئت بصاع فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره على الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات فنزلت
«والذين لا يجدون إلا جهدهم» عطف على المطوعين أي ويلمزون
86

الذين لا يجدون إلا طاقتهم وقرئ بفتح الجيم وهو مصدر جهد في الأمر إذا بالغ فيه وقيل هو بالضم الطاقة وبالفتح المشقة
«فيسخرون منهم» عطف على يلمزون أي يهزءون بهم والمراد بهم الفريق الأخير
«سخر الله منهم» إخبار بمجازاته تعالى إياهم على ما فعلوا من السخرية والتعبير عنها بذلك للمشاكلة
«ولهم» أي ثابت لهم
«عذاب أليم» التنوين للتهويل والتفخيم وإيراد الجملة اسمية للدلالة على الاستمرار
«استغفر لهم أو لا تستغفر لهم» إخبار باستواء الأمرين الاستغفار لهم وتركه في استحالة المغفرة وتصويره بصورة الأمر للمبالغة في بيان استوائهما كأنه صلى الله عليه وسلم أمر بامتحان الحال بأن يستغفر تارة ويترك أخرى ليظهر له جلية الأمر كما مر في قوله عز وجل قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم
«إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم» بيان لاستحالة المغفرة بعد المبالغة في الاستغفار إثر بيان الاستواء بينه وبين عدمه روي أن عبد الله بن عبد الله بن أبي وكان من المخلصين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض أبيه أن يستغفر له ففعل صلى الله عليه وسلم فنزلت فقال صلى الله عليه وسلم محافظة على ما هو الأصل من أن مراتب الأعداد حدود معينة يخالف حكم كل منها حكم ما فوقها إن الله قد رخص لي فسأزيد على السبعين فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في مطلق التكثير لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد فكأنها العدد بأسره وقيل هي أكمل الأعداد لجمعها معانيها ولأن الستة أول عدد تام لتعادل أجزائها الصحيحة إذ نصفها ثلاثة وثلثها اثنان وسدسها واحد وجملتها ستة وهي مع الواحد سبعة فكانت كاملة إذ لا مرتبة بعد التمام إلا الكمال ثم السبعون غاية الكمال إذ الآحاد غايتها العشرات والسبعمائة غاية الغايات
«ذلك» إشارة إلى امتناع المغفرة لهم ولو بعد المبالغة في الاستغفار أي ذلك الامتناع ليس لعدم الاعتداد باستغفارك بل
«بأنهم» أي بسبب أنهم
«كفروا بالله ورسوله» كفرا متجاوزا عن الحد كما يلوح به وصفهم بالفسق في قوله عز وجل
«والله لا يهدي القوم الفاسقين» فإن الفسق في كل شيء عبارة عن التمرد والتجاوز عن حدوده أي لا يهديهم هداية موصلة إلى المقصد البتة لمخالفة ذلك للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وأما الهداية بمعنى الدلالة على ما يوصل إليه فهي متحققة لا محالة ولكنهم بسوء اختيارهم لم يقبلوها فوقعوا فيما وقعوا وهو تذييل مؤكد لما قبله من الحكم فإن مغفرة الكافر إنما هي بالإقلاع عن الكفر والإقبال إلى الحق والمتهمك فيه المطبوع عليه بمعزل من ذلك وفيه تنبيه على عذر النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره لهم وهو عدم يأسه من إيمانهم حيث لم يعلم أنهم مطبوعون على الغي والضلال إذ الممنوع هو الاستغفار لهم بعد تبين حالهم كما سيتلى من قوله عز وجل ما كان للنبي الآية
87

«فرح المخلفون» أي الذين خلفهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإذن لهم في القعود عند استئذانهم أو خلفهم الله بتثبيطه إياهم لما علم في ذلك من الحكمة الخفية أو خلفهم كسلهم أو نفاقهم
«بمقعدهم» متعلق بفرح أي بقعودهم وتخلفهم عن الغزو
«خلاف رسول الله» أي خلفه وبعد خروجه حيث خرج ولم يخرجوا يقال أقام خلاف الحي أي بعدهم ظعنوا ولم يظعن ويؤيده قراءة من قرأ خلف رسول الله فانتصابه على أنه ظرف لمقعدهم إذ لا فائدة في تقييد فرحهم بذلك وقيل هو بمعنى المخالفة ويعضده قراءة من قرأ خلف رسول الله بضم الخاء فانتصابه على أنه مفعول له والعامل إما فرح أي فرحوا لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم بالقعود وإما مقعدهم أي فرحوا بقعودهم لأجل مخالفته صلى الله عليه وسلم أو على أنه حال والعامل أحد المذكورين أي فرحوا مخالفين له صلى الله عليه وسلم أو فرحوا بالقعود مخالفين له صلى الله عليه وسلم
«وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله» لا إيثار للدعة والخفض على طاعة الله تعالى فقط بل مع ما في قلوبهم من الكفر والنفاق فإن إيثار أحد الأمرين قد يتحقق بأدنى رجحان منه من غير أن يبلغ الآخر مرتبة الكراهية وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم على أن يقال وكرهوا أن يخرجوا إلى الغزو إيذانا بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب وأشرف المطالب التي يجب أن يتنافس فيها المتنافسون قد كرهوه كما فرحوا بأقبح القبائح الذي هو القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه
وسلم
«وقالوا» أي لإخوانهم تثبيتا لهم على التخلف والقعود وتواصيا فيما بينهم بالشر والفساد أو للمؤمنين تثبيطا لهم عن الجهاد ونهيا عن المعروف وإظهارا لبعض العلل الداعية لهم إلى ما فرحوا به من القعود فقد جمعوا ثلاث خلال من خصال الكفر والضلال الفرح بالقعود وكراهية الجهاد ونهي الغير عن ذلك
«لا تنفروا في الحر» فإنه لا يستطاع شدته
«قل» ردا عليهم وتجهيلا لهم
«نار جهنم» التي ستدخلونها بما فعلتم
«أشد حرا» مما تحذرون من الحر المعهود وتحذرون الناس منه فما لكم لا تحذرونها وتعرضون أنفسكم لها بإيثار القعود على النفير
«لو كانوا يفقهون» اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى غير داخل تحت القول المأمور به مؤكد لمضمونه وجواب لو إما مقدر أي لو كانوا يفقهون أنها كذلك أو كيف هي أو أن مآلهم إليها لما فعلوا ما فعلوا أو لتأثروا بهذا الإلزام وإما غير منوي على أن لو لمجرد التمني المنبئ عن امتناع تحقق مدخولها أي لو كانوا من أهل الفطانة والفقه كما في قوله عز وجل قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون
«فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا» إخبار عن عاجل أمرهم وآجله من الضحك القليل والبكاء الطويل المؤدي إليه أعمالهم السيئة التي من جملتها ما ذكر من الفرح والفاء لسببية ما سبق للإخبار بما ذكر من الضحك والبكاء لا لنفسهما إذ لا يتصور السببية في الأول أصلا وقليلا وكثيرا منصوبان على المصدرية
88

أو الظرفية أي ضحكا قليلا وبكاء كثيرا أو زمانا قليلا زمانا كثيرا وإخراجه في صورة الأمر للدلالة على تحتم وقوع المخبر به فإن أمر الآمر المطاع مما لا يكاد يتخلف عنه المأمور به خلا أن المقصود إفادته في الأول هو وصف القلة فقط وفي الثاني وصف الكثرة مع الموصوف يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرفأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم ويجوز أن يكون الضحك كناية عن الفرح والبكاء عن الغم وأن تكون القلة عبارة عن العدم والكثرة عن الدوام
«جزاء بما كانوا يكسبون» من فنون المعاصي والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي ما داموا في الدنيا وجزاء مفعول له للفعل الثاني أي ليبكوا جزاء أو مصدر حذف ناصبه أي يجزون بما ذكر من البكاء الكثير جزاء بما كسبوا من المعاصي المذكورة
«فإن رجعك الله» الفاء لتفريع الأمر الآتي على ما بين من أمرهم والفعل من الرجع المتعدي دون الرجوع اللازم أي فإن ردك الله تعالى
«إلى طائفة منهم» أي إلى المنافقين من المتخلفين في المدينة فإن تخلف بعضهم إنما كان لعذر عائق مع الإسلام أو إلى من بقي من المنافقين المتخلفين بأن ذهب بعضهم بالموت أو بالغيبة عن البلد أو بأن لم يستأذن البعض عن قتادة أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل
«فاستأذنوك للخروج» معك إلى غزوة أخرى بعد غزوتك هذه
«فقل» إخراجا لهم عن ديوان الغزاة وإبعادا لمحلهم عن محفل صحبتك
«لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا» من الأعداء وهو إخبار في معنى النهي للمبالغة وقد وقع كذلك
«إنكم» تعليل لما سلف أي لأنكم
«رضيتم بالقعود» أي عن الغزو وفرحتم بذلك
«أول مرة» هي غزوة تبوك
«فاقعدوا» الفاء لتفريع الأمر بالقعود بطريق العقوبة على ما صدر عنهم من الرضا بالقعود أي إذ رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا من بعد
«مع الخالفين» أي المتخلفين الذين ديدنهم القعود والتخلف دائما وقرئ الخلفين على القصر فكان محو أساميهم من دفتر المجاهدين ولزهم في قرن الخالفين عقوبة لهم أي عقوبة وتذكير اسم التفضيل المضاف إلى المؤنث هو الأكثر الدائر على الألسنة فإنك لا تكاد تسمع قائلا يقول هي كبرى امرأة أو أولى مرة
«ولا تصل على أحد منهم مات» صفة لأحد وإنما جيء بصيغة الماضي تنبيها على تحقق الوقوع لا محالة
«أبدا» متعلق بالنهي أي لا تدع ولا تستغفر لهم أبدا
«ولا تقم على قبره» أي لا تقف عليه للدفن أو للزيارة والدعاء روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد الله بن أبي بن سلول بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأتيه فلما دخل عليه فقال صلى الله عليه وسلم أهلكك حب اليهود فقال
89

يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبني وسأله أن يكفنه في شعاره الذي بلى جلده ويصلي عليه فلما مات دعاه ابنه وكان مؤمنا صالحا فأجابه صلى الله عليه وسلم تسلية له ومراعاة لجانبه وأرسل إليه قميصه فكفن فيه فلما هم بالصلاة أو صلى نزلت وعن عمر رضي الله عنه أنه قال لما هلك عبد الله بن أبي ووضعناه ليصلي عليه قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أتصلي على عدو الله القائل يوم كذا كذا وكذا والقائل يوم كذا كذا وكذا وعددت أيامه الخبيثة فتبسم صلى الله عليه وسلم وصلى عليه ثم مشى معه وقام على حفرته حتى دفن فو الله ما لبث إلا يسيرا حتى نزل ولا تصل الخ فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على منافق ولا قام على قبره وإنما لم ينه عن التكفين بقميصه صلى الله عليه وسلم لأن الضنة بالقميص كانت مظنة الإخلال بالكرم على أنه كان مكافأة لقميصه الذي كان ألبسه العباس رضي الله تعالى عنه حين أسر ببدر والخبر مشهور
«إنهم كفروا بالله ورسوله» تعليل للنهي على معنى أن الاستغفار للميت والوقوف على قبره إنما يكون لاستصلاحه وذلك مستحيل في حقهم لأنهم استمروا على الكفر بالله ورسوله مدة حياتهم
«وماتوا وهم فاسقون» أي متمردون في الكفر خارجون عن حدوده كما بين من معنى الفسق
«ولا تعجبك أموالهم وأولادهم» تكرير لما سبق وتقرير لمضمونه بالإخبار بوقوعه ويجوز أن يكون هذا في حق فريق غير الفريق الأول وتقديم الأموال في أمثال هذه المواقع على الأولاد مع كونهم أعز منها إما لعموم مساس الحاجة إليها بحسب الذات وبحسب الأفراد والأوقات فإنها مما لا بد منه لكل أحد من الآباء والأمهات والأولاد في كل وقت وحين حتى أن من له أولاد ولا مال له فهو وأولاده في ضيق ونكال وأما الأولاد فإنما يرغب فيهم من بلغ مبلغ الأبوة وإما لأن المال مناط لبقاء النفس والأولاد لبقاء النوع وإما لأنها أقدم في الوجود من الأولاد لأن الأجزاء المنوية إنما تحصل من الأغذية كما سيأتي في سورة الكهف
«أنما يريد الله» بما متعهم به من الأموال والأولاد
«أن يعذبهم بها في الدنيا» بسبب معاناتهم المشاق ومكابدتهم الشدائد في شأنها
«وتزهق أنفسهم وهم كافرون» أي فيموتوا كافرين باشتغالهم بالتمتع بها والالتهاء عن النظر والتدبر في العواقب
«وإذا أنزلت سورة» من القرآن ويجوز أن يراد بها بعضها
«أن آمنوا بالله» أن مفسرة لما في الإنزال من معنى القول والوحي أو مصدرية حذف عنها الجار أي بأن آمنوا
«وجاهدوا مع رسوله» لإعزاز دينه وإعلاء كلمته
«استأذنك أولوا الطول منهم» أي ذوو الفضل والسعة والقدرة على الجهاد بدنا ومالا
«وقالوا» عطف تفسيري لاستأذنك مغن عن ذكر ما استأذنوا فيه يعني القعود
«ذرنا نكن مع القاعدين»
90

أي الذين قعدوا عن الغزو لما بهم من عذر
«رضوا» استئناف لبيان سوء صنيعهم وعدم امتثالهم لكلا الأمرين وإن لم يردوا الأول صريحا
«بأن يكونوا مع الخوالف» مع النساء اللاتي شأنهن القعود ولزوم البيوت جمع خالفة وقيل الخالفة من لا خير فيه
«وطبع على قلوبهم فهم» بسبب ذلك
«لا يفقهون» ما في الإيمان بالله وطاعته في أوامره ونواهيه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم والجهاد من السعادة وما في أضداد ذلك من الشقاوة
«لكن الرسول والذين آمنوا معه» بالله وبما جاء من عنده تعالى وفيه إيذان بأنهم ليسوا من الإيمان بالله في شيء وإن لم يعرضوا عنه صريحا إعراضهم عن الجهاد باستئذانهم في القعود
«جاهدوا بأموالهم وأنفسهم» أي إن تخلف هؤلاء عن الغزو فقد نهد إليه ونهض له من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقدا وأقاموا أمر الجهاد بكلا نوعيه كقوله تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين
«وأولئك» المنعوتون بالنعوت الجليلة
«لهم» بواسطة نعوتهم المزبورة
«الخيرات» أي منافع الدارين النصر والغنيمة في الدنيا والجنة والكرامة في العقبى وقيل الحور كقوله عز قائلا فيهن خيرات حسان وهي جمع خيرة تخفيف خيرة
«وأولئك هم المفلحون» أي الفائزون بالمطلوب لا من حاز بعضا من الحظوظ الفانية عما قليل وتكرير اسم الإشارة تنويه لشأنهم وربء لمكانهم
«أعد الله لهم» استئناف لبيان كونهم مفلحين أي هيأ لهم في الآخرة
«جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» حال مقدرة من الضمير المجرور والعامل أعد
«ذلك» إشارة إلى ما فهم من إعداد الله سبحانه لهم الجنات المذكورة من نيل الكرامة العظمى
«الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه
«وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم» شروع في بيان أحوال منافقي الأعراب إثر بيان منافقي أهل المدينة والمعذرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدو حقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين وهم المعتذرون بالباطل وقرئ المعذرون من الأعذار وهو الاجتهاد في العذر والاحتشاد فيه قيل هم أسد وغطفان قالوا إن لنا عيالا وإن بنا لجهدا فائذن لنا في التخلف وقيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وسلم
91

سيغنيني الله تعالى عنكم وعن مجاهد نفر من غفار اعتذروا فلم يعذرهم الله سبحانه وعن قتادة اعتذروا بالكذب وقرئ المعذرون بتشديد العين والذال من تعذر بمعنى اعتذر وهو لحن إذ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاء والصاد في المطوعين وأزكى وأصدق وقيل أريد بهم المعتذرون بالصحة وبه فسر المعذرون والمعذرون أي
الذين لم يفرطوا في العذر
«وقعد الذين كذبوا الله ورسوله» وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا فظهر أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعاء الإيمان والطاعة
«سيصيب الذين كفروا منهم» أي من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره
«عذاب أليم» بالقتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة ب «ليس على الضعفاء ولا على المرضى» كالهرمى والزمني
«ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون» لفقرهم كمزينة وجهينة وبني عذرة
«حرج» إثم في التخلف
«إذا نصحوا لله ورسوله» وهو عبارة عن الإيمان بهما والطاعة لهما في السر والعلن وتوليهما في السراء والضراء والحب فيهما والبغض فيهما كما يفعل المولى الناصح بصاحبه
«ما على المحسنين من سبيل» استئناف مقرر لمضمون ما سبق أي ليس عليهم جناح ولا إلى معاتبتهم سبيل ومن مزيدة للتأكيد ووضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على انتظامهم بنصحهم لله ورسوله في سلك المحسنين أو تعليل لنفي الحرج عنهم أي ما على جنس المحسنين من سبيل وهم من جملتهم
«والله غفور رحيم» تذييل مؤيد لمضمون ما ذكر مشير إلى أن بهم حاجة إلى المغفرة وإن كان تخلفهم بعذر
«ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم» عطف على المحسنين كما يؤذن به قوله عز وجل فيما سيأتي إنما السبيل الآية وقيل عطف على الضعفاء وهم البكاءون سبعة من الأنصار معقل بن يسار وصخر ابن خنساء وعبد الله بن كعب وسالم بن عمير وثعلبة بن غنمة وعبد الله بن معقل وعلبة بن زيد أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغز معك فقال صلى الله عليه وسلم لا أجد فتولوا وهم يبكون وقيل هم بنو مقر معقل وسويد ونعمان وقيل أبو موسى الأشعري وأصحابه رضي الله تعالى عنهم
«قلت لا أجد ما أحملكم عليه» حال من الكاف في أتوك بإضمار قد وما عامة لما سألوه صلى الله عليه وسلم وغيره مما يحمل عليه عادة وفي إيثار لا أجد على ليس عندي من تلطيف الكلام وتطييب قلوب السائلين ما لا يخفي كأنه صلى الله عليه وسلم يطلب ما يسألونه على الاستمرار فلا يجده
«تولوا» جواب إذا
«وأعينهم تفيض» أي تسيل بشدة
«من الدمع» أي دمعا فإن من البيانية مع مجرورها في حيز النصب على التمييز وهو أبلغ من يفيض دمعها لإفادتها أن العين بعينها صارت دمعا فياضا والجملة حالية وقوله عز اسمه
«حزنا» نصب على العلية أو الحالية أو المصدرية لفعل دل عليه ما قبله أي تفيض للحزن فإن الحزن يسند إلى العين مجازا
92

كالفيض أو تولوا له أو حزنين أو يحزنون حزنا فتكون هذه الجملة حالا من الضمير في تفيض
«ألا يجدوا» على حذف لام متعلقة بحزنا أو تفيض أي لئلا يجدوا
«ما ينفقون» في شراء ما يحتاجون إليه إذ لم يجدوه عندك
«إنما السبيل» بالمعاتبة
«على الذين يستأذنونك» في التخلف
«وهم أغنياء» واجدون لأهبة الغزو مع سلامتهم
«رضوا» استئناف تعليلي لما سبق كأنه قيل ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء فقيل رضوا
«بأن يكونوا مع الخوالف» الذين شأنهم الضعة والدناءة
«وطبع الله على قلوبهم» أي خذلهم فغفلوا عن وخامة العاقبة
«فهم» بسبب ذلك
«لا يعلمون» أبدا غائلة ما رضوا به وما يستتبعه آجلا كما لم يعلموا بخساسة شأنه عاجلا
«يعتذرون إليكم» استئناف لبيان ما يتصدرون له عند القفول إليهم روي أنهم كانوا بضعة وثمانين رجلا فلما رجع صلى الله عليه وسلم إليهم جاءوا يعتذرون إليه بالباطل والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإنهم كانوا يعتذرون إليهم أيضا لا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط أي يعتذرون إليكم في التخلف
«إذا رجعتم» من الغزو منتهين
«إليهم» وإنما لم يقل إلى المدينة إيذانا بأن مدار الاعتذار هو الرجوع إليهم لا الرجوع إلى المدينة فلعل منهم من بادر إلى الاعتذار قبل الرجوع إليها
«قل» تخصيص هذا الخطاب برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تعميمه فيما سبق لأصحابه أيضا لما أن الجواب وظيفته صلى الله عليه وسلم وأما اعتذارهم فكان شاملا للمسلمين شمول الرجوع لهم
«لا تعتذروا» أي لا تفعلوا الاعتذار كقوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون أو لا تعتذروا بما عندكم من المعاذير وأما التعرض لعنوان كذبها فلا يساعده قوله تعالى
«لن نؤمن لكم» أي لن نصدقكم في ذلك أبدا فإنه استئناف تعليلي للنهي مبني على سؤال نشأ من قبلهم متفرع على ادعاء الصدق في الاعتذار كأنهم قالوا لم لا نعتذر فقيل لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون عبثا إذ لا يترتب عليه غرض المعتذر وقوله عز وجل
«قد نبأنا الله من أخباركم» تعليل لانتفاء التصديق أي أعلمنا بالوحي بعض أخباركم المنافية للتصديق مما باشرتموه من الشر والفساد وأضمرتموه في ضمائركم وهيأتموه للإبراز في معرض الاعتذار من الأكاذيب وجمع ضمير المتكلم في الموضعين للمبالغة في حسم أطماعهم من التصديق رأسا ببيان عدم رواج اعتذارهم عند أحد من المؤمنين أصلا فإن تصديق البعض لهم ربما يطمعهم في تصديق الرسول أيضا صلى الله عليه وسلم بواسطة المصدقين وللإيذان بأن افتضاحهم بين المؤمنين كافة
«وسيرى الله عملكم» فيما سيأتي أتنيبون إليه تعالى مما أنتم فيه من النفاق أم تثبتون وكأنه استتابة وإمهال للتوبة وتقديم مفعول الرؤية على ما عطف على فاعله من قوله تعالى
«ورسوله» للإيذان باختلاف حال الرؤيتين وتفاوتهما وللإشعار بأن مدار الوعيد هو علمه عز وجل بأعمالهم
«ثم تردون» يوم القيامة
«إلى عالم الغيب والشهادة»
93

للجزاء بما ظهر منكم من الأعمال ووضع المظهر موضع المضمر لتشديد الوعيد فإن علمه سبحانه وتعالى بجميع أعمالهم الظاهرة والباطنة وإحاطته بأحوالهم البارزة والكامنة مما يوجب الزجر العظيم
«فينبئكم» عند ردكم إليه ووقوفكم بين يديه
«بما كنتم تعملون» أي بما كنتم تعملونه في الدنيا على الاستمرار من الأعمال السيئة السابقة واللاحقة على أن ما موصولة والعائد إليها محذوف أو بعملكم المستمر على أنها مصدرية والمراد بالتنبئة بذلك المجازاة به وإيثارها عليها لمراعاة ما سبق من قوله تعالى قد نبأنا الله الخ فإن المنبأ به الأخبار المتعلقة بأعمالهم وللإيذان بأنهم ما كانوا عالمين في الدنيا بحقيقة أعمالهم وإنما يعلمونها يومئذ
«سيحلفون بالله لكم» تأكيد لمعاذيرهم الكاذبة وتقريرا لها والسين للتأكيد والمحلوف عليه محذوف يدل عليه الكلام وهو ما اعتذروا به من الأكاذيب والجملة بدل من يعتذرون أو بيان له
«إذا انقلبتم» أي انصرفتم من الغزو
«إليهم» ومعنى الانقلاب هو الرجوع والانصراف مع زيادة معنى الوصول والاستيلاء وفائدة تقييد حلفهم به الإيذان بأنه ليس لدفع ما خاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم به من قوله تعالى لا تعتذروا الخ بل هو أمر مبتدأ
«لتعرضوا» وتصفحوا
«عنهم» صفح رضا فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم كما يفصح عنه قوله تعالى لترضوا عنهم
«فأعرضوا عنهم» لكن لا إعراض رضا كما هو طلبتهم بل إعراض اجتناب ومقت كما يعرب عنه قوله عز وجل
«إنهم رجس» فإنه صريح في أن المراد بالإعراض عنهم إما الاجتناب عنهم لما فيهم من الرجس الروحاني وإما ترك استصلاحهم بترك المعاتبة لأن المقصود بها التطهير بالحمل على الإنابة وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فلا يتعرض لهم بها وقوله عز وعلا
«ومأواهم جهنم» إما من تمام التعليل فإن كونهم من أهل النار من دواعي الاجتناب عنهم وموجبات ترك استصلاحهم باللوم والعتاب وإما تعليل مستقل أي وكفتهم النار عتابا وتوبيخا فلا تتكلفوا أنتم في ذلك
«جزاء» نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر من لفظه وقع حالا أي يجزون جزاء أو لمضمون الجملة السابقة فإنها مفيدة لمعنى المجازاة قطعا كأنه قيل مجزيون جزاء
«بما كانوا يكسبون» في الدنيا من فنون السيئات أو على أنه مفعول له
«يحلفون لكم» بدل مما سبق وعدم ذكر المحلوف به لظهوره أي يحلفون به تعالى
«لترضوا عنهم» بحلفهم وتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم
«فإن ترضوا عنهم» حسبما راموا وساعدتموهم في ذلك
«فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين» أي فإن رضاكم عنهم لا يجديهم نفعا لأن الله ساخط عليهم ولا أثر لرضاكم عند سخطه سبحانه ووضع الفاسقين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالخروج عن الطاعة المستوجب لما حل بهم من السخط وللإيذان بشمول الحكم لمن شاركهم في ذلك والمراد به نهي المخاطبين عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم الكاذبة على أبلغ وجه وآكده فإن الرضا عمن لا يرضى
94

عنه الله تعالى مما لا يكاد يصدر عن المؤمن وقيل إنما قيل ذلك لئلا يتوهم متوهم أن رضا المؤمنين من دواعي رضا الله تعالى قيل هم جد بن قيس ومعتب بن قشير
وأصحابهما وكانوا ثمانين منافقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حين قدم المدينة لا تجالسوهم ولا تكلموهم وقيل جاء عبد الله بن أبي يحلف أن لا يتخلف عنه أبدا
«الأعراب» هي صيغة جمع وليست بجمع للعرب قاله سيبويه لئلا يلزم كون الجمع أخص من الواحد فإن العرب هو هذا الجيل الخاص سواء سكن البوادي أم القرى وأما الأعراب فلا يطلق إلا على من يسكن البوادي ولهذا نسب إلى الأعراب على لفظه فقيل أعرابي وقال أهل اللغة رجل عربي وجمعه العرب كما يقال مجوسي ويهودي ثم يحذف ياء النسب في الجمع فيقال المجوس واليهود ورجل أعرابي ويجمع على الأعراب والأعاريب أي أصحاب البدو
«أشد كفرا ونفاقا» من أهل الحضر لجفائهم وقسوة قلوبهم وتوحشهم ونشئهم في معزل من مشاهدة العلماء ومفاوضتهم وهذا من باب وصف الجنس بوصف بعض أفراده كما في قوله تعالى وكان الإنسان كفورا إذ ليس كلهم كما ذكر على ما ستحيط به خبرا
«وأجدر ألا يعلموا» أي أحق وأخلق بأن لا يعلموا
«حدود ما أنزل الله على رسوله» لبعدهم عن مجلسه صلى الله عليه وسلم وحرمانهم من مشاهدة معجزاته ومعاينة ما ينزل عليه من الشرائع في تضاعيف الكتاب والسنة
«والله عليم» بأحوال كل من أهل الوبر والمدر
«حكيم» فيما يصيب به مسيئهم ومحسنهم من العقاب والثواب
«ومن الأعراب» شروع في بيان تشعب جنس الأعراب إلى فريقين وعدم انحصارهم في الفريق المذكور كما يتراءى من ظاهر النظم الكريم وشرح لبعض مثالب هؤلاء المتفرعة على الكفر والنفاق بعد بيان تماديهم فيهما وحمل الأعراب على الفريق المذكور خاصة وإن ساعده كون من يحكي حاله بعضا منهم وهم الذين بصدد الإنفاق من أهل النفاق دون فقرائهم أو أعراب أسد وغطفان وتميم كما قيل لكن لا يساعده ما سيأتي من قوله تعالى ومن الأعراب من يؤمن الخ فإن أولئك ليسوا من هؤلاء قطعا وإنما هم من الجنس أي ومن جنس الأعراب الذي نعت بنعت بعض أفراده
«من يتخذ ما ينفق» من المال أي يعد ما يصرفه في سبيل الله ويتصدق به صورة
«مغرما» أي غرامة وخسرانا لازما إذ لا ينفقه احتسابا ورجاء لثواب الله تعالى ليكون له مغنما وإنما ينفقه رياء وتقية فهي غرامة محضة وما في صيغة الاتخاذ من معنى الاختيار والانتفاع بما يتخذ إنما هو باعتبار غرض المنفق من الرياء والتقية لا باعتبار ذات النفقة أعنى كونها غرامة
«ويتربص بكم الدوائر» أصل الدائرة ما يحيط بالشيء والمراد بها ما لا
95

محيص عنه من مصائب الدهر أي ينتظر بكم دوائر الدهر ونوبه ودوله ليذهب غلبتكم عليه فليتخلص مما ابتلى به
«عليهم دائرة السوء» دعا عليهم بنحو ما أرادوا بالمؤمنين على نهج الاعتراض كقوله سبحانه غلت أيديهم بعد قول اليهود ما قالوا والسوء مصدر ثم أطلق على كل ضر وشر وأضيفت إليه الدائرة ذما كما يقال رجل سوء لأن من دارت عليه يذمها وهي من باب إضافة الموصوف إلى صفته فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغة ثم أضيفت إلى صفتها كقوله عز وجل ما كان أبوك امرأ سوء وقيل معنى الدائرة يقتضي معنى السوء فإنما هي إضافة بيان وتأكيد كما قالوا شمس النهار ولحيا رأسه وقرئ بالضم وهو العذاب كما قيل له سيئة
«والله سميع» لما يقولونه عند الإنفاق مما لا خير فيه
«عليم» بما يضمرونه من الأمور الفاسدة التي من جملتها أن يتربصوا بكم الدوائر وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفي
«ومن الأعراب» أي من جنسهم على الإطلاق
«من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ» أي يأخذ لنفسه على وجه الاصطفاء والادخار
«ما ينفق» أي ينفقه في سبيل الله تعالى
«قربات» أي ذرائع إليها وللإيذان بما بينهما من كمال الاختصاص جعل كأنه نفس القربات والجمع باعتبار أنواع القربات أو أفرادها وهي ثاني مفعولي يتخذ وقوله تعالى
«عند الله» صفتها أو ظرف ليتخذ
«وصلوات الرسول» أي وسائل إليها فإنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم ولذلك سن للمصدق أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما فعله صلى الله عليه وسلم حين قال اللهم صل على آل أبي أو في ذلك منصبه فله أن يتفضل به على من يشاء والتعرض لوصف الإيمان بالله واليوم الآخر في الفريق الأخير مع أن مساق الكلام لبيان الفرق بين الفريقين في شأن اتخاذ ما ينفقانه حالا ومآلا وأن ذكر اتخاذه ذريعة إلى القربات والصلوات مغن عن التصريح بذلك لكمال العناية بإيمانهم وبيان اتصافهم به وزيادة الاعتناء بتحقيق الفرق بين الفريقين من أول الأمر وأما الفريق الأول فاتصافهم بالكفر والنفاق معلوم من سياق النظم الكريم صريحا
«ألا إنها قربة لهم» شهادة لهم من جناب الله تعالى بصحة ما اعتقدوه وتصديق لرجائهم والضمير لما ينفق والتأنيث باعتبار الخبر مع ما مر من تعدده بأحد الوجهين والتنكير للتفخيم المغنى عن الجمع أي قربة عظيمة لا يكتنه كنهها وفي إيراد الجملة اسمية وتصديرها بحرفي التنبيه والتحقيق من الجزالة ما لا يخفي والاقتصار على بيان كونها قربة لهم لأنها الغاية القصوى وصلوات الرسول من ذرائعها وقوله تعالى
«سيدخلهم الله في رحمته» وعد لهم بإحاطة رحمته الواسعة بهم وتفسير للقربة كما أن قوله عز وعلا والله سميع عليم وعيد للأولين عقيب الدعاء عليهم والسين للدلالة
على تحقق ذلك وتقرره البتة وقوله تعالى
«إن الله غفور رحيم» تعليل لتحقق الوعد على نهج الاستئناف التحقيقي قيل هذا في عبد الله ذي البجادين وقومه وقيل في بني مقرن من مزينة وقيل في أسلم وغفار وجهينة وروي أبو هريرة
96

رضي الله عنه أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وغفار وشئ من جهينة ومزينة خير عند الله يوم القيامة من تميم وأسد بن خزيمة وهوازن وغطفان
«والسابقون الأولون من المهاجرين» بيان لفضائل أشراف المسلمين إثر بيان فضيلة طائفة منهم والمراد بهم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين أسلموا قبل الهجرة
«والأنصار» أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين رجلا والذي آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير وقريء بالرفع عطفا على والسابقون
«والذين اتبعوهم بإحسان» أي ملتبسين به والمراد به كل خصلة حسنة وهم اللاحقون بالسابقين من الفريقين على أن من تبعيضية أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة فالمراد بالسابقين جميع المهاجرين والأنصار ومن بيانية
«رضي الله عنهم» خبر للمبتدأ أي رضي الله عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم
«ورضوا عنه» بما نالوه من رضاه المستتبع لجميع المطالب طرا
«وأعد لهم» في الآخرة
«جنات تجري تحتها الأنهار» وقرئ من تحتها كما في سائر المواقع
«خالدين فيها أبدا» من غير انتهاء
«ذلك الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه وما في اسم الإشارة من معنى البعد لبيان بعد منزلتهم في مراتب الفضل وعظم الدرجة من مؤمني الأعراب
«وممن حولكم من الأعراب» شروع في بيان أحوال منافقي أهل المدينة ومن حولها من الأعراب بعد بيان حال أهل البادية منهم أي ممن حول بلدتكم
«منافقون» وهم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها
«ومن أهل المدينة» عطف على ممن حولكم عطف مفرد على مفرد وقوله تعالى
«مردوا على النفاق» إما جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب مسوقة لبيان غلوهم في النفاق إثر بيان اتصافهم به وإما صفة للمبتدأ المذكور فصل بينها وبينه بما عطف على خبره وإن صفة لمحذوف أقيمت هي مقامه وهو مبتدأ خبره من أهل المدينة كما في قوله
* أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
* والجملة عطف على الجملة السابقة أي ومن أهل المدينة قوم مردوا على النفاق أي تمهروا فيه من مرن فلان على عمله ومرد عليه إذا درب به وضري حتى لان عليه ومهر فيه غير أن مرد لا يكاد يستعمل إلا في الشر فالتمرد على الوجهين الأولين شامل للفريقين حسب شمول النفاق وعلى الوجه الأخير خاص بمنافقي أهل المدينة وهو الأظهر والأنسب بذكر منافقي أهل البادية أولا ثم ذكر منافقي الأعراب المجاورين للمدينة ثم ذكر منافقي أهلها والله تعالى أعلم وقوله عز شأنه
«لا تعلمهم» بيان لتمردهم أي لا تعرفهم أنت لكن لا بأعيانهم وأسمائهم وأنسابهم بل بعنوان نفاقهم يعني أنهم بلغوا من المهارة في النفاق والتنوق في مراعاة التقية
97

والتحامي عن مواقع التهم إلى مبلغ يخفي عليك حالهم مع ما أنت عليه من علو الكعب وسمو الطبقة في كمال الفطنة وصدق الفراسة وفي تعليق نفي العلم بهم مع أنه متعلق بحالهم مبالغة في ذلك وإيماء إلى أن ما هم فيه من صفة النفاق لعراقتهم ورسوخهم فيها صارت بمنزلة ذاتياتهم أو مشخصاتهم بحيث لا يعد من لا يعرفهم بتلك الصفة عالما بهم وحمل عدم علمه صلى الله عليه وسلم بأعيانهم على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعد مجيء هذا البيان على أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن فيهم منافقين لكن لا يعلمهم بأعيانهم مع كونه خلاف الظاهر عار عما ذكر من المبالغة وقوله عز وجل
«نحن نعلمهم» تقرير لما سبق من مهارتهم في فن النفاق أي لا يقف على سرائرهم المركوزة في ضمائرهم إلا من لا تخفي عليه خافية لما هم عليه من شدة الاهتمام بإبطان الكفر وإظهار الإخلاص وفي تعليق العلم بهم مع أن المقصود بيان تعلقه بحالهم ما مر في تعليق نفيه بهم وقوله عز شأنه
«سنعذبهم» وعيد لهم وتحقيق لعذابهم حسبما علم الله فيهم من موجباته والسين للتأكيد
«مرتين» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قام خطيبا يوم الجمعة فقال اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق فأخرج ناسا وفضحهم فهذا هو العذاب الأول والثاني إما القتل وإما عذاب القبر أو الأول هو القتل والثاني عذاب القبر أو الأول أخذ الزكاة لما أنهم يعدونها مغرما بحتا والثاني نهك الأبدان وإتعابها بالطاعات الفارغة عن الثواب ولعل تكرير عذابهم لما فيهم من الكفر المشفوع بالنفاق أو النفاق المؤكد بالتمرد فيه ويجوز أن يكون المراد بالمرتين مجرد التكثير كما في قوله تعالى فارجع البصر كرتين أي كرة بعد أخرى
«ثم يردون» يوم القيامة
«إلى عذاب عظيم» هو عذاب النار وفي تغيير السبك بإسناد عذابهم السابق إلى نون العظمة حسب إسناد ما قبله من العلم وإسناد ردهم إلى العذاب اللاحق إلى أنفسهم
إيذان باختلافهما حالا وأن الأول خاص بهم وقوعا وزمانا يتولاه سبحانه وتعالى والثاني شامل لعامة الكفرة وقوعا وزمانا وإن اختلفت طبقات عذابهم
«وآخرون» بيان لحال طائفة من المسلمين ضعيفة الهمم في أمور الدين وهو عطف على منافقون أي ومنهم يعني وممن حولكم ومن أهل المدينة قوم آخرون
«اعترفوا بذنوبهم» التي هي تخلفهم عن الغزو وإيثار الدعة عليه والرضا بسوء جوار المنافقين وندموا على ذلك ولم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة ولم يخفوا ما صدر عنهم من الأعمال السيئة كما فعله من اعتاد إخفاء ما فيه وإبراز ما ينافيه من المنافقين الذين اعتذروا بما لا خير فيه من المعاذير المؤكدة بالأيمان الفاجرة حسب ديدنهم المألوف وهم رهط من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد عند ما بلغهم ما نزل في المتخلفين فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل المسجد فصلى ركعتين حسب عادته الكريمة ورآهم كذلك فسأل عن شأنهم فقيل إنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال صلى الله عليه وسلم وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت
«خلطوا عملا صالحا» هو ما سبق منهم من الأعمال الصالحة والخروج إلى المغازي السابقة وغيرها وما لحق من
98

الاعتراف بذنوبهم في التخلف عن هذه المرة وتذممهم وندامتهم على ذلك وتخصيصه بالاعتراف لا يناسب الخلط لا سيما على وجه يؤذن بتوارد المختلطين وكون كل منهما مخلوطا ومخلوطا به كما يؤذن به تبديل الواو بالباء في قوله تعالى
«وآخر سيئا» فإن قولك خلطت الماء باللبن يقتضي إيراد الماء على اللبن دون العكس وقولك خلطت الماء واللبن معناه إيقاع الخلط بينهما من غير دلالة على اختصاص أحدهما بكونه مخلوطا به وترك تلك الدلالة للدلالة على جعل كل منهما متصفا بالوصفين جميعا وذلك فيما نحن فيه بورود كل من العملين على الآخر مرة بعد أخرى والمراد بالعمل السيء ما صدر عنهم من الأعمال السيئة أولا وآخرا وعن الكلبي التوبة والإثم وقيل الواو بمعنى الباء كما في قولهم بعت الشاء شاة ودهما بمعنى شاة بدرهم
«عسى الله أن يتوب عليهم» أي يقبل توبتهم المفهومة من اعترافهم بذنوبهم
«إن الله غفور رحيم» يتجاوز عن سيئات التائب ويتفضل عليه وهو تعليل لما تفيده كلمة عسى من وجوب القبول فإنها للأطماع الذي هو من أكرم الأكرمين إيجاب وأي إيجاب
«خذ من أموالهم صدقة» روي أنهم لما أطلقوا قالوا يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا فقال صلى الله عليه وسلم ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزلت فليست هي الصدقة المفروضة لكونها مأمورا بها ولما روى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منهم الثلث وترك لهم الثلثين فوقع ذلك بيانا لما في صدقة من الإجمال وإنما هي كفارة لذنوبهم حسبما ينبيء عنه قوله عز وجل
«تطهرهم» أي عما تلطخوا به من أوضار التخلف والتاء للخطاب والفعل مجزوم على أنه جواب للأمر وقريء بالرفع على أنه حال من ضمير المخاطب في خذ أو صفة لصدقة والتاء للخطاب أو للصدقة والعائد على الأول محذوف ثقة بما بعده وقريء تطهرهم من أطهره بمعنى طهره
«وتزكيهم بها» بإثبات الياء وهو خبر لمبتدأ محذوف والجملة حال من الضمير في الأمر أو في جوابه أي وأنت تزكيهم بها أي تنمي بتلك الصدقة حسناتهم إلى مراتب المخلصين أو أموالهم أو تبالغ في تطهيرهم هذا على قراءة الجزم في تطهرهم وأما على قراءة الرفع فسواء جعلت التاء للخطاب أو للصدقة وكذا إذا جعلت الجملة الأولى حالا من ضمير المخاطب أو صفة للصدقة على الوجهين فالثانية عطف على الأولى حالا وصفة من غير حاجة إلى تقدير المبتدأ لتوجيه دخول الواو في الجملة الحالية
«وصل عليهم» أي واعطف عليهم بالدعاء والاستغفار لهم
«إن صلاتك» وقريء صلواتك مراعاة لتعدد المدعو لهم
«سكن لهم» تسكن نفوسهم إليها وتطمئن قلوبهم بها ويثقون بأنه سبحانه قبل توبتهم والجملة تعليل للأمر بالصلاة عليهم
«والله سميع» يسمع ما صدر عنهم من الاعتراف بالذنب والتوبة والدعاء
«عليم» بما في ضمائرهم من الندم والغم لما فرط منهم ومن الإخلاص في التوبة والدعاء أو سميع يجيب دعاءك لهم عليم بما تقتضيه الحكمة والجملة حينئذ تذييل للتعليل مقرر لمضمونه وعلى الأول تذييل لما سبق من الآيتين محقق لما فيهما
99

«ألم يعلموا» وقريء بالتاء والضمير إما للتائبين فهو تحقيق لما سبق من قبول توبتهم وتطهير الصدقة وتزكيتها لهم وتقرير لذلك وتوطين لقلوبهم ببيان أن المتولي لقبول توبتهم وأخذ صدقاتهم هو الله سبحانه وإن أسند الأخذ والتطهير والتزكية إليه صلى الله عليه وسلم أي ألم يعلم أولئك التائبون
«أن الله هو يقبل التوبة» الصحيحة الخالصة
«عن عباده» المخلصين فيها ويتجاوز عن سيئاتهم كما يفصح عنه كلمة عن والمراد بهم إما أولئك التائبون ووضع المظهر في موضع المضمر للإشعار بعلية العبادة لقبولها وإما كافة العباد وهم داخلون في ذلك دخولا أوليا
«ويأخذ الصدقات» أي يقبل صدقاتهم على أن اللام عوض عن المضاف إليه أو جنس الصدقات المندرج تحته صدقاتهم ادراجا أوليا أي هو الذي يتولى قبول التوبة وأخذ الصدقات وما يتعلق بها من التطهير والتزكية وإن كنت أنت المباشر لها ظاهرا وفيه من تقرير ما ذكر ورفع شأن النبي صلى الله عليه وسلم على نهج قوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ما لا يخفي
«وأن الله هو التواب الرحيم» تأكيد لما عطف عليه وزيادة تقرير لما يقرره مع زيادة معنى ليس فيه أي ألم يعلموا أنه المختص المستأثر ببلوغ الغاية القصوى من قبول التوبة والرحمة وأن ذلك سنة مستمرة له وشأن دائم والجملتان في حيز النصب بيعلموا بسد كل واحدة منهما مسد مفعوليه وإما لغير التائبين من المؤمنين فقد روي أنهم
قالوا لما تيب على الأولين هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت أي ألم يعلموا ما للتائبين من الخصال الداعية إلى التكرمة والتقريب والانتظام في سلك المؤمنين والتلقي بحسن القبول والمجالسة فهو ترغيب لهم في التوبة والصدقة وقوله تعالى
«وقل اعملوا» زيادة ترغيب لهم في العمل الصالح الذي من جملته التوبة وللأولين في الثبات على ما هم عليه أي قل لهم بعد ما بان لهم شأن التوبة اعملوا ما تشاءون من الأعمال فظاهره ترخيص وتخيير وباطنه ترغيب وترهيب وقوله عز وجل
«فسيرى الله عملكم» أي خيرا كان أو شرا تعليل لما قبله وتأكيد للترغيب والترهيب والسين للتأكيد
«ورسوله» عطف على الاسم الجليل وتأخيره عن المفعول للإشعار بما بين الرؤيتين من التفاوت
«والمؤمنون» في الخبر لو أن رجلا عمل في صخرة لا باب لها ولا كوة لخرج عمله إلى الناس كائنا ما كان والمعنى إن أعمالكم غير خافية عليهم كما رأيتم وتبين لكم ثم إن كان المراد بالرؤية معناها الحقيقي فالأمر ظاهر وإن أريد بها مآلها من الجزاء خيرا أو شرا فهو خاص بالدنيوي من إظهار المدح والثناء والذكر الجميل والإعزاز ونحو ذلك من الأجزية وأضدادها
«وستردون» أي بعد الموت
«إلى عالم الغيب والشهادة» في وضع الظاهر موضع المضمر من تهويل
100

الأمر وتربية المهابة ما لا يخفي ووجه تقديم الغيب في الذكر لسعة عالمه وزيادة خطره على الشهادة غني عن البيان وقيل إن الموجودات الغائبة عن الحواس علل أو كالعلل للموجودات المحسوسة والعلم بالعلل علة للعلم بالمعلولات فوجب سبق العلم بالغيب على العلم بالشهادة وعن ابن عباس رضي الله عنهما الغيب ما يسرونه من الأعمال والشهادة ما يظهرونه كقوله تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون فالتقديم حينئذ لتحقيق أن نسبة علمه المحيط بالسر والعلن واحدة على أبلغ وجه وآكده لا لإيهام أن علمه سبحانه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه كيف لا وعلمه سبحانه بمعلوماته منزه عن أن يكون بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء وتحققه في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأمور البارزة والكامنة وإما للإيذان بأن رتبة السر متقدمة على رتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه القريبة أو البعيدة مضمر قبل ذلك في القلب فتعلق علمه تعالى به في حالته الأولى متقدم على تعلقه به في حالته الثانية
«فينبئكم» عقيب الرد الذي هو عبارة عن الأمر الممتد إلى يوم القيامة
«بما كنتم تعملون» قبل ذلك في الدنيا والمراد بالتنبئة بذلك الجزاء بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر فهو وعد ووعيد
«وآخرون» عطف على آخرون قبله أي ومن المتخلفين من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب قوم آخرون غير المعترفين المذكورين
«مرجون» وقرئ مرجئون من أرجيته وأرجأته أي أخرته ومنه المرجئة الذين لا يقطعون بقبول التوبة
«لأمر الله» في شأنهم قال ابن عباس رضي الله عنهما هم كعب بن مالك ومرارة ابن الربيع وهلال بن أمية لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الغم والجزع والندم على ما فعلوا فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهى أصحابه عن أن يسلموا عليهم ويكلموهم وكانوا من أصحاب بدر فهجروهم والناس في شأنهم على اختلاف فمن قائل هلكوا وقائل عسى الله أن يغفر لهم فصاروا عندهم مرجئين لأمره تعالى
«إما يعذبهم» إن بقوا على ما هم عليه من الحال وقيل إن أصروا على النفاق وليس بذاك فإن المذكورين ليسوا من المنافقين
«وإما يتوب عليهم» إن خلصت نيتهم وصحت توبتهم والجملة في محل النصب على الحالية أي منهم هؤلاء إما معذبين وإما متوبا عليهم وقيل آخرون مبتدأ ومرجون صفته وهذه الجملة خبره
«والله عليم» بأحوالهم
«حكيم» فيما فعل بهم من الإرجاء وما بعده وقريء والله غفور رحيم
«والذين اتخذوا مسجدا» عطف على ما سبق أي ومنهم الذين أو نصب على الذم وقرئ بغير واو لأنها قصة على حيالها
«ضرارا» أي مضارة للمؤمنين وانتصابه على أنه مفعول له أو مفعول ثان لاتخذوا أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر منصوب على الحالية أي يضارون بذلك ضرارا أو على أنه مصدر بمعنى الفاعل وقع حالا من ضمير اتخذوا أي مضارين
101

للمؤمنين روي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فيصلي بهم في مسجدهم فلما فعله صلى الله عليه وسلم حسدتهم أخواتهم بنوا غنم بن عوف وقالوا نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب أيضا إذا قدم من الشام وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وقد كان قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يفعل ذلك إلى يوم حنين فلما انهزمت هوازن يومئذ ولى هاربا إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة فقال صلى الله عليه وسلم إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله تعالى صلينا فيه فلما قفل صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت عليه فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي فقال لهم انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن
يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف والقمامة وهلك أبو عامر الفاسق بالشام بقنسرين
«وكفرا» تقوية للكفر الذي يضمرونه
«وتفريقا بين المؤمنين» الذين كانوا يصلون في مسجد قباء مجتمعين فيغص بهم فأرادوا أن يتفرقوا وتختلف كلمتهم
«وإرصادا» إعدادا وانتظارا وترقبا
«لمن حارب الله ورسوله» وهو الراهب الفاسق أي لأجله حتى يجيء فيصلي فيه ويظهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم
«من قبل» متعلق باتخذوا أي اتخذوه من قبل أن ينافقوا بالتخلف حيث كانوا بنوه قبل غزوة تبوك أو يحارب أي حاربهما قبل اتخاذ هذا المسجد
«وليحلفن إن أردنا» أي ما أردنا ببناء هذا المسجد
«إلا الحسنى» إلا الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المصلين أو إلا الإرادة الحسنى
«والله يشهد إنهم لكاذبون» في حلفهم ذلك
«لا تقم» للصلاة
«فيه» في ذلك المسجد حسبما دعوك إليه
«أبدا لمسجد أسس» أي بني أصله
«على التقوى» يعني مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة وقيل هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وعن أبي سعيد رضي الله عنه سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسسه على التقوى فأخذ حصباء فضرب بها الأرض وقال مسجدكم هذا مسجد المدينة واللام إما للابتداء أو للقسم المحذوف أي والله لمسجد وعلى التقديرين فمسجد مبتدأ وما بعده صفته وقوله تعالى
«من أول يوم» أي من أيام تأسيسه متعلق بأسس وقوله تعالى
«أحق أن تقوم فيه» أي للصلاة وذكر الله تعالى خبره وقوله تعالى
«فيه رجال» جملة مستأنفة مبينة لأحقيته لقيامه صلى الله عليه وسلم فيه من جهة الحال بعد بيان أحقيته له من حيث المحل أو صفة أخرى للمبتدأ أو حال من الضمير في فيه وعلى كل حال ففيه تحقيق وتقرير لاستحقاقه القيام فيه والمراد بكونه أحق نفس
102

كونه حقيقا به إذ لا استحقاق في مسجد الضرار رأسا وإنما عبر عنه بصيغة التفضيل لفضله وكماله في نفسه أو الأفضلية في الاستحقاق المتناول لما يكون باعتبار زعم الباني ومن يشايعه في الاعتقاد وهو الأنسب بما سيأتي
«يحبون أن يتطهروا» من المعاصي والخصال الذميمة لمرضاة الله سبحانه وقيل من الجنابة فلا ينامون عليها
«والله يحب المطهرين» أي يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه إدناء المحب حبيبه قيل لما نزلت مشي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم فقال صلى الله عليه وسلم أترضون بالقضاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم أتصبرون على البلاء قالوا نعم قال أتشكرون في الرخاء قالوا نعم قال صلى الله عليه وسلم مؤمنون ورب الكعبة فجلس ثم قال يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط فقالوا نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبي صلى الله عليه وسلم فيه رجال يحبون أن يتطهروا وقريء أن يطهروا بالإدغام وقيل هو عام في التطهر عن النجاسات كلها وكانوا يتبعون الماء أثر البول وعن الحسن رضي الله عنه هو التطهر عن الذنوب بالتوبة وقيل يحبون ان يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا عن أخرهم
«أفمن أسس بنيانه» على بناء الفعل للفاعل والنصب وقريء على البناء للمفعول والرفع وقرئ أسس بنيانه على الإضافة جمع أساس وأساس بالفتح والكسر جمع أس وقرئ أساس بنيانه جمع أس أيضا وأس بنيانه وهي جملة مستأنفة مبينة لخيرية الرجال المذكورين من أهل مسجد الضرار والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر أي أبعد ما علم حالهم من أسس بنيان دينه
«على تقوى من الله ورضوان» أي على قاعدة محكمة هي التقوى من الله وابتغاء مرضاته بالطاعة والمراد بالتقوى درجتها الثانية التي هي التوقي عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك وقرئ تقوى بالتنوين على أن الألف للإلحاق دون التأنيث
«خير أم من أسس بنيانه» ترك الإضمار للإيذان باختلاف البنيانين ذاتا مع اختلافهما وصفا وإضافة
«على شفا جرف هار» الشفا الحرف والشفير والجرف ما جرفه السيل أي استأصله وأحتفر ما تحته فبقى واهيا يريد الانهدام والهار الهائر المتصدع المشرف إلى السقوط من هار يهور ويهار أو هار يهير قدمت لامه على عينه فصار كغاز ورام وقيل حذفت عينه اعتباطا أي بغير موجب فجرى وجوه الإعراب على لامه
«فانهار به في نار جهنم» مثل ما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان وسرعة الانطماس بما ذكر ثم رشح بانهياره في النار ووضع بمقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار ويوصله إلى الرضوان ومقتضياته التي أدناها الجنة وتأسيس هذا على ما هو بصدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم مصيرهم إليها لا محالة وقرئ جرف بسكون الراء
«والله لا يهدي القوم الظالمين» أي لأنفسهم أو الواضعين للأشياء في غير مواضعها
103

أي لا يرشدهم إلى ما فيه نجاتهم وصلاحهم إرشادا موجبا له لا محالة وأما الدلالة على ما يرشدهم إليه إن استرشدوا به فهو متحقق بلا اشتباه
«لا يزال بنيانهم الذي بنوا» البنيان مصدر أريد به المفعول ووصفه بالموصول الذي صلته فعله للإيذان بكيفية بنائهم له وتأسيسه على أوهن قاعدة وأوهى أساس وللإشعار بعلة الحكم أي لا يزال مسجدهم ذلك مبنيا ومهدوما
«ريبة في قلوبهم» أي سبب ريبة وشك في الدين كأنه نفس الريبة أما حال بنيانه فظاهر لما أن اعتزالهم من المؤمنين واجتماعهم في مجمع على حياله يظهرون فيه ما في قلوبهم من آثار الكفر والنفاق ويدبرون فيه أمورهم ويتشاورون في ذلك ويلقي بعضهم إلى بعض ما سمعوا من أسرار المؤمنين مما يزيدهم ريبة وشكا في الدين وأما حال هدمه فلما أنه رسخ به ما كان في قلوبهم من الشر وتضاعفت أثاره وأحكامه أو سبب ريبة في أمرهم حيث ضعفت قلوبهم وهى اعتقادهم بخفاء أمرهم على المؤمنين لأنهم أظهروا من أمرهم بعد البناء أكثر مما كانوا يظهرونه قبل ذلك وقت اختلاطهم بالمؤمنين وساءت ظنونهم بأنفسهم فلما هدم بنيانهم تضاعف ذلك الضعف وتقوى وصاروا مرتابين في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يتركهم على ما كانوا عليه من قبل أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم وقال الكلبي معنى ريبة حسرة وندامة وقال السدى وحبيب والمبرد لا يزال هدم بنيانهم حزازة وغيظا في قلوبهم
«إلا أن تقطع» من التفعل بحذف إحدى التاءين أي إلا أن تتقطع
«قلوبهم» قطعا وتتفرق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابلية إدراك وإضمار قطعا وهو استثناء من أعم الأوقات أو أعم الأحوال ومحله النصب على الظرفية أي لا يزال بنيانهم ريبة في كل الأوقات أو كل الأحوال إلا وقت تقطع قلوبهم أو حال تقطع قلوبهم فحينئذ يسلون عنها وأما ما دامت سالمة فالريبة باقية فيها فهو تصوير لامتناع زوال الريبة عن قلوبهم ويجوز أن يكون المراد حقيقة تقطعها عند قتلهم أو في القبور أو في النار وقرئ تقطع على بناء المجهول من التفعيل وعلى البناء للفاعل منه على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم أي إلا أن تقطع أنت قلوبهم بالقتل وقرئ على البناء للمجهول من الثلاثي مذكرا ومؤنثا وقرئ إلى أن تقطع قلوبهم وإلى أن تقطع قلوبهم على الخطاب وقرئ ولو قطعت قلوبهم على إسناد الفعل مجهولا إلى قلوبهم ولو قطعت قلوبهم على الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب وقيل إلا أن يتوبوا توبة تتقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم
«والله عليم» بجميع الأشياء التي من جملتها ما ذكر من أحوالهم
«حكيم» في جميع أفعاله التي من زمرتها أمره الوارد في حقهم
«إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم» ترغيب المؤمنين في الجهاد ببيان
104

فضيلته إثر بيان حال المتخلفين عنه ولقد بولغ في ذلك على وجه لا مزيد عليه حيث عبر عن قبول الله تعالى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم التي بذلوها في سبيله تعالى وإثابته إياهم بمقابلتها الجنة بالشراء على طريقة الاستعارة التبعية ثم جعل المبيع الذي هو العمدة والمقصد في العقد أنفس المؤمنين وأموالهم والثمن الذي هو الوسيلة في الصفقة الجنة ولم يجعل الأمر على العكس بأن يقال إن الله باع الجنة من المؤمنين بأنفسهم وأموالهم ليدل على أن المقصد في العقد هو الجنة وما بذله المؤمنون في مقابلتها من الأنفس والأموال وسيلة إليها إيذانا بتعلق كمال العناية بهم وبأموالهم ثم إنه لم يقل بالجنة بل قيل
«بأن لهم الجنة» مبالغة في تقرير وصول الثمن إليهم واختصاصه بهم كأنه قيل بالجنة الثابتة لهم المختصة بهم وأما ما يقال من أن ذلك لمدح المؤمنين بأنهم وبذلوا أنفسهم وأموالهم بمجرد الوعد لكمال ثقتهم بوعده تعالى وأن تمام الاستعارة موقوف على ذلك إذ لو قيل بالجنة لاحتمل كون الشراء حقيقة لأنها صالحة للعوضية بخلاف الوعد بها فليس بشيء لأن مناط دلالة ما عليه النظم الكريم على الوعد ليس كونه جملة ظرفية مصدرة بأن فإن ذلك بمعزل من الدلالة على الاستقبال بل هو الجنة التي يستحيل وجودها في الدنيا ولو سلم ذلك يكون العوض الجنة الموعود بها لا الوعد بها
«يقاتلون في سبيل الله» استئناف لكن لا لبيان ما لأجله الشراء ولا لبيان نفس الاشتراء لأن قتالهم في سبيل الله تعالى ليس باشتراء الله تعالى منهم أنفسهم وأموالهم بل هو بذل لهما في ذلك بل لبيان البيع الذي يستدعيه الاشتراء المذكور كأنه قيل كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة فقيل يقاتلون في سبيل الله وهو بذل منهم لأنفسهم وأموالهم إلى جهة الله سبحانه وتعريض لهما للهلاك وقوله تعالى
«فيقتلون ويقتلون» بيان لكون القتال في سبيل الله بذلا للنفس وأن المقاتل في سبيله باذل لها وإن كانت سالمة غانمة فإن الإسناد في الفعلين ليس بطريق اشتراط الجمع بينهما ولا اشتراط الاتصاف بأحدهما البتة بل بطريق وصف الكل بحال البعض فإنه يتحقق القتال من الكل سواء وجد الفعلان أو أحدهما منهم أو من بعضهم بل يتحقق ذلك وإن لم يصدر منهم أحدهما أيضا كما إذا وجدت المضاربة ولم يوجد القتل من أحد الجانيين أو لم توجد المضاربة أيضا فإنه يتحقق الجهاد بمجرد العزيمة والنفير وتكثير السواد وتقديم حالة القاتلية على حالة المقتولية للإيذان بعدم الفرق بينهما في كونهما مصداقا لكون القتال بذلا للنفس وقرئ بتقديم المبنى للمفعول رعاية لكون الشهادة عريقة في الباب وإيذانا بعدم مبالاتهم بالموت في سبيل الله تعالى بل بكونه أحب إليهم من السلامة كما قيل في حقهم
[لا يفرحون إذا نالت رماحهم * قوما وليسوا مجازيعا إذا نيلوا]
[لا يقطع الطعن إلا في نحورهم * وما لهم عن حياض الموت تهليل]
* وقيل في يقاتلون الخ معنى الأمر كما في قوله تعالى تجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم
«وعدا عليه» مصدر مؤكد لما يدل عليه كون الثمن مؤجلا
«حقا» نعت لوعدا والظرف حال منه لأنه لو تأخر لكان صفة له وقوله تعالى «في التوراة والإنجيل والقرآن» متعلق بمحذوف وقع كما هو مثبت في القرآن
«ومن أوفى بعهده من الله» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من حقية الوعد على نهج المبالغة في كونه سبحانه أوفى بالعهد من كل واف
105

فإن إخلاف الميعاد مما لا يكاد يصدر عن كرام الخلق مع إمكان صدوره عنهم فكيف بجناب الخلاق الغني عن العالمين جل جلاله وسبك التركيب وإن كان على إنكار أن يكون أحد أوفى بالعهد منه تعالى من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها لكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها قطعا فإذا قيل من أكرم من فلان أو لا أفضل منه فالمراد به حتما أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل
«فاستبشروا» التفات إلى الخطاب تشريفا لهم على تشريف وزيادة لسرورهم على سرور والاستبشار إظهار السرور والسين فيه ليس للطلب كاستوقد وأوقد والفاء لترتيب الاستبشار أو الأمر به على ما قبله أي فإذا كان كذلك فسروا نهاية السرور وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة وإنما قيل
«ببيعكم» مع أن الابتهاج به باعتبار أدائه إلى الجنة لأن المراد ترغيبهم في الجهاد الذي عبر عنه بالبيع وإنما لم يذكر العقد بعنوان الشراء لأن ذلك من قبل الله سبحانه لا من قبلهم والترغيب إنما يكون فيما يتم من قبلهم وقوله تعالى
«الذي بايعتم به» لزيادة تقرير بيعهم وللإشعار بكونه مغايرا لسائر البياعات فإنه بيع للفاني بالباقي ولأن كلا البدلين له سبحانه وتعالى عن الحسن رضي الله عنه أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها روي أن الأنصار لما بايعوه صلى الله عليه وسلم على العقبة قال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه اشترط لربك ولنفسك ما شئت قال صلى الله عليه وسلم أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم قال فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال لكم الجنة قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيله ومر برسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي وهو يقرؤها قال كلام من قال كلام الله عز وجل قال بيع والله مربح لا نقيله ولا نستقيله فخرج إلى الغزو واستشهد
«وذلك» أي الجنة التي جعلت ثمنا بمقابلة ما بذلوا من أنفسهم وأموالهم
«هو الفوز العظيم» الذي لا فوز أعظم منه وما في ذلك من معنى البعد إشارة إلى بعد منزلة المشار إليه وسمو رتبته في الكمال ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى البيع الذي أمروا بالاستبشار به ويجعل ذلك كأنه نفس الفوز العظيم أو يجعل فوزا في نفسه فالجملة على الأول تذييل للآية الكريمة وعلى الثاني لقوله تعالى فاستبشروا مقرر لمضمونه
«التائبون» رفع على المدح أي هم التائبون يعني المؤمنين المذكورين كما يدل عليه القراءة بالياء نصبا على المدح ويجوز أن يكون مجرورا على أنه صفة للمؤمنين وقد جوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف أي التائبون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله تعالى وكلا وعد الله الحسنى ويجوز أن يكون خبره قوله تعالى
«العابدون» وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه النعوت الفاضلة أي المخلصون في عبادة الله تعالى
«الحامدون» لنعمائه أو لما نابهم من السراء والضراء
«السائحون» الصائمون لقوله صلى الله عليه وسلم سياحة أمتي الصوم شبه بها لأنه عائق عن الشهوات أو لأنه رياضة نفسانية يتوسل بها إلى العثور على خفايا الملك والملكوت وقيل هم السائحون في الجهاد وطلب
106

العلم «الراكعون الساجدون» في الصلاة
«الآمرون بالمعروف» بالطاعة والإيمان
«والناهون عن المنكر» عن الشرك والمعاصي والعطف فيه للدلالة على أن المتعاطفين بمنزلة خصلة واحدة وأما قوله تعالى
«والحافظون لحدود الله» أي فيما بينه وعينه من الحقائق والشرائع عملا وحملا للناس عليه فلئلا يتوهم اختصاصه بأحد الوجهين
«وبشر المؤمنين» أي الموصوفين بالنعوت المذكورة ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن ملاك الأمر هو الإيمان وأن المؤمن الكامل من كان كذلك وحذف المبشر به للإيذان بخروجه عن حد البيان وفي تخصيص الخطاب بالأولين إظهار زيادة اعتناء بأمرهم من الترغيب والتسلية
«ما كان للنبي والذين آمنوا» بالله وحده أي ما صح لهم في حكم الله عز وجل وحكمته وما استقام
«أن يستغفروا للمشركين» به سبحانه
«ولو كانوا» أي المشركون
«أولي قربى» أي ذوي قرابة لهم وجواب لو محذوف لدلالة ما قبله عليه والجملة معطوفة على جملة أخرى قبلها محذوفة حذفا مطردا كما بين في قوله تعالى ولو كره الكافرون ونظائره روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لما حضرته الوفاة يا عم قل كلمة أحاج لك بها عند الله فأبى فقال صلى الله عليه وسلم لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه فنزلت وقيل لما افتتح مكة خرج إلى الأبواء فزار قبر أمه ثم قام مستعبرا فقال إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي وأنزل على الآيتين
«من بعد ما تبين لهم» أي للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
«إنهم» أي المشركين
«أصحاب الجحيم» بأن ماتوا على الكفر أو نزل الوحي بأنهم يموتون على ذلك
«وما كان استغفار إبراهيم لأبيه» بقوله واغفر لأبي أي بأن توفقه للإيمان وتهديه إليه كما يلوح به تعليله بقوله إنه كان من الضالين والجملة استئناف مسوق لتقرير ما سبق ودفع ما يتراءى بحسب الظاهر من المخالفة وقرئ وما استغفر إبراهيم لأبيه وقرئ وما يستغفر إبراهيم على حكاية الحال الماضية وقوله تعالى
«إلا عن موعدة» استثناء مفرغ من أعم العلل أي لم يكن استغفاره عليه السلام لأبيه آزر ناشئا عن شيء من الأشياء إلا عن موعدة
«وعدها» إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«إياه» أي أباه وقد قرئ كذلك بقوله لأستغفرن لك وقوله سأستغفر لك ربي بناء على رجاء إيمانه لعدم تبين حقيقة أمره وإلا لما وعدها إياه كأنه قيل وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة مبينة على عدم تبين أمره كما ينبئ عنه قوله تعالى
«فلما تبين له» أي لإبراهيم بأن أوحى إليه أنه مصر على الكفر غير مؤمن أبدا وقيل بأن مات على الكفر والأول هو الأنسب بقوله تعالى
«أنه عدو لله» فإن وصفه بالعداوة مما يأباه حالة الموت
«تبرأ
107

منه» أي تنزه عن الاستغفار له وتجانب كل التجانب وفيه من المبالغة ما ليس في تركه ونظائره
«إن إبراهيم لأواه» لكثير التأوه وهو كناية عن كمال الرأفة ورقة القلب
«حليم» صبور على الأذية والمحنة وهو استئناف لبيان ما كان يدعوه عليه الصلاة والسلام إلى ما صدر عنه من الاستغفار وفيه إيذان بأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أواها حليما فلذلك صدر عنه ما صدر من الاستغفار قبل التبين فليس لغيره أن يأتسي به في ذلك وتأكيد لوجوب الاجتناب عنه بعد التبين بأنه عليه الصلاة والسلام تبرأ منه بعد التبين وهو في كمال رقة القلب والحلم فلا بد أن يكون غيره أكثر منه اجتنابا وتبرؤا وأما أن الاستغفار قبل التبين لو كان غير محظور لما استثنى من الائتساء به في قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك فقد حقق في سورة مريم بإذن الله تعالى
«وما كان الله ليضل قوما» أي ليس من عادته أن يصفهم بالضلال عن طريق الحق ويجري عليهم أحكامه
«بعد إذ هداهم» للإسلام
«حتى يبين لهم» بالوحي صريحا أو دلالة
«ما يتقون» أي ما يجب اتقاؤه من محظورات الدين فلا ينزجروا عما نهوا عنه وأما قبل ذلك فلا يسمى ما صدر عنهم ضلالا ولا يؤاخذون به فكأنه تسلية للذين استغفروا للمشركين قبل ذلك وفيه دليل على أن الغافل غير مكلف بما لا يستبد بمعرفته العقل
«أن الله بكل شيء عليم» تعليل لما سبق أي إنه تعالى عليم بجميع الأشياء التي من جملتها حاجتهم إلى بيان قبح ما لا يستقل العقل في معرفته فيبين لهم ذلك كما فعل هاهنا
«أن الله له ملك السماوات والأرض» من غير شريك له فيه
«يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير» لما منعهم من الاستغفار للمشركين وإن كانوا أولي قربى وضمن ذلك التبرؤ منهم رأسا بين لهم أن الله تعالى مالك كل موجود ومتولي أموره والغالب عليه ولا يتأتى لهم نصر ولا ولاية إلا منه تعالى ليتوجهوا إليه بشرا شرهم متبرئين عما سواه غير قاصدين إلا إياه
«لقد تاب الله على النبي» قال ابن عباس رضي الله عنهما هو العفو عن إذنه للمنافقين في التخلف عنه
«والمهاجرين والأنصار» قيل هو في حق زلات سبقت منهم يوم أحد ويوم حنين وقيل المراد بيان فضل التوبة وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها حتى النبي صلى الله عليه وسلم لما صدر عنه في بعض الأحوال من ترك الأولى
«الذين اتبعوه» ولم يتخلفوا عنه ولم يخلوا بأمر من أوامره
«في ساعة العسرة» أي في وقتها والتعبير عنه بالساعة لزيادة تعيينه وهي حالهم في غزوة تبوك كانوا في عسرة من الظهر يعتقب عشرة على بعير واحد ومن الزاد تزودوا
108

التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة وبلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء المتغير وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حمارة القيظ ومن الجدب والقحط والضيقة الشديدة ووصف المهاجرين والأنصار بما ذكر من اتباعهم له عليه الصلاة والسلام في مثل هاتيك المراتب من الشدة للمبالغة في بيان الحاجة إلى التوبة فإن ذلك حيث لم يغنهم عنها فلأن لا يستغني عنها غيرهم أولى وأحرى
«من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم» بيان لتناهي الشدة وبلوغها إلى ما لا غاية وراءها وهو إشراف بعضهم على أن يميلوا إلى التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي كاد ضمير الشأن أو ضمير القوم الراجع إليه الضمير في منهم وقرئ بتأنيث الفعل وقرئ من بعد ما زاغت قلوب فريق منهم يعني المتخلفين من المؤمنين كأبي لبابة وأضرابه
«ثم تاب عليهم» تكرير للتأكيد وتنبيه على أنه يتاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة والمراد أنه تاب عليهم لكيدودتهم
«إنه بهم رؤوف رحيم» استئناف تعليلي فإن صفة الرأفة والرحمة من دواعي التوبة والعفو ويجوز كون الأول عبارة عن إزالة الضرر والثاني عن إيصال المنفعة وأن يكون أحدهما للسوابق والآخر للواحق
«وعلى الثلاثة الذين خلفوا» أي وتاب الله على الثلاثة الذين أخر أمرهم عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل معذرتهم مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل فيهم الوحي وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وقرئ خلفوا أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم وقرئ على المخلفين والأول هو الأنسب لأن قوله تعالى
«حتى إذا ضاقت عليهم الأرض» غاية للتخليف ولا يناسبه إلا المعنى الأول أي خلفوا وأخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض
«بما رحبت» أي برحبها وسعتها لإعراض الناس عنهم وانقطاعهم عن مفاوضتهم وهو مثل لشدة الحيرة كأنه لا يستقر به قرار ولا تطمئن له دار
«وضاقت عليهم أنفسهم» أي إذا رجعوا إلى أنفسهم لا يطمئنون بشيء لعدم الأنس والسرور واستيلاء الوحشة والحيرة
«وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه» أي علموا أنه لا ملجأ من سخطه تعالى إلا إلى استغفاره
«ثم تاب عليهم» أي وفقهم للتوبة
«ليتوبوا» أو أنزل قبول توبتهم ليصيروا من جملة التوابين ورجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم
«إن الله هو التواب» المبالغ في قبول التوبة كما وكيفا وإن كثرت الجنايات وعظمت
«الرحيم» المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب روي أن ناسا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من بدا له وكره مكانه فلحق به صلى الله عليه وسلم عن الحسن رضي الله عنه أنه قال بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرا من مائة ألف درهم فقال يا حائطاه ما خالفني إلا ظلك وانتظار ثمارك اذهب فأنت في سبيل الله ولم يكن لآخر إلا أهله فقال يا أهلاه ما بطأني ولا خلفني إلا الفتن بك فلا جرم والله لأكابدن الشدائد حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فتأبط زاده ولحق به صلى الله عليه وسلم قال الحسن رضي الله عنه كذلك والله المؤمن يتوب من ذنوبه ولا يصر عليها
109

وعن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به فحمل متاعه على ظهره واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا فقال صلى الله عليه وسلم لما رأى سواده كن أبا ذر فقال الناس هو ذاك فقال صلى الله عليه وسلم رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده وعن أبي خيثمة أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل وبسطت له الحصير وقربت إليه الرطب والماء البارد فنظر فقال ظل ظليل ورطب يانع وماء بارد وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح ما هذا بخير فقام ورحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال كن أبا خيثمة فكأنه ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستغفر له ومنهم من بقي لم يلحق به صلى الله عليه وسلم منهم الثلاثة قال كعب رضي الله عنه لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد على كالمغضب بعد ما ذكرني وقال يا ليت شعري ما خلف كعبا فقيل له ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه فقال صلى الله عليه وسلم ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا أيها الثلاثة فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع أبشر يا كعب بن مالك فخررت لله ساجدا وكنت كما وصفني ربي وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقام طلحة بن عبيد الله يهرول إلى حتى صافحني وقال لتهنك توبة الله عليك فلن أنساها لطلحة رضي الله عنه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية وعن أبي بكر الوراق أنه سئل عن التوبة النصوح فقال أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه
«يا أيها الذين آمنوا» خطاب عام يندرج فيه التائبون اندراجا أوليا وقيل لمن تخلف عليه من الطلقاء عن غزوة تبوك خاصة
«اتقوا الله» في كل ما تأتون وما تذرون فيدخل فيه المعاملة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المغازي دخولا أوليا
«وكونوا مع الصادقين» في أيمانهم وعهودهم أو في دين الله نية وقولا وعملا أو في كل شأن من الشؤون فيدخل ما ذكر أو في توبتهم وإنابتهم فيكون المراد بهم حينئذ هؤلاء الثلاثة وأضرابهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه خطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي كونوا مع المهاجرين والأنصار وانتظموا في سلكهم في الصدق وسائر المحاسن وقرئ من الصادقين
«ما كان لأهل المدينة» ما صح وما
110

استقام لهم «ومن حولهم من الأعراب» كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأضرابهم
«أن يتخلفوا عن رسول الله» عند توجهه صلى الله عليه وسلم إلى الغزو
«ولا يرغبوا» نصب وقد جوز الجزم
«بأنفسهم عن نفسه» أي لا يصرفوها عن نفسه الكريمة ولا يصونوها عما لم يصن عنه نفسه بل يكابده معه ما يكابده من الأهوال والخطوب والكلام في معنى النهي وإن كان على صورة الخبر
«ذلك» إشارة إلى ما دل عليه الكلام من وجوب المشايعة
«بأنهم» بسبب أنهم
«لا يصيبهم ظمأ» أي عطش يسير
«ولا نصب» ولا تعب ما
«ولا مخمصة» أي مجاعة ما لا يستباح عنده المحرمات من مراتبها فإن الظمأ والنصب اليسيرين حين لم يخلوا من الثواب فلأن لا يخلو ذلك منه أولى فلا حاجة إلى تأكيد النفي بتكرير كلمة لا ويجوز أن يراد بها تلك المرتبة ويكون الترتيب بناء على كثرة الوقوع وقلته فإن الظمأ أكثر وقوعا من النصب الذي هو أكثر وقوعا من المخمصة بالمعنى المذكور فتوسيط كلمة لا حينئذ ليس لتأكيد النفي بل للدلالة على استقلال كل واحد منها بالفضيلة والاعتداد به
«في سبيل الله» وإعلاء كلمته
«ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار» أي لا يدوسون بأرجلهم وحوافر خيولهم وأخفاف رواحلهم دوسا أو مكانا يداس
«ولا ينالون من عدو نيلا» مصدر كالقتل والأسر والنهب أو مفعول أي شيئا ينال من قبلهم
«إلا كتب لهم به» أي بكل واحد من الأمور المعدودة
«عمل صالح» وحسنة مقبولة مستوجبة بحكم الوعد الكريم للثواب الجميل ونيل الزلفى والتنوين للتفخيم وكون المكتوب عين ما فعلوه من الأمور لا يمنع دخول الباء فإن اختلاف العنوان كاف في ذلك
«إن الله لا يضيع أجر المحسنين» على إحسانهم تعليل لما سلف من الكتب والمراد بالمحسنين إما المبحوث عنهم ووضع المظهر موضع المضمر لمدحهم والشهادة عليهم بالانتظام في سلك المحسنين وأن أعمالهم من قبيل الإحسان وللإشعار بعلية المأخذ للحكم وإما جنس المحسنين وهم داخلون فيه دخولا أوليا
«ولا ينفقون نفقة صغيرة» ولو تمرة أو علاقة سوط
«ولا كبيرة» كما أنفق عثمان رضي الله عنه والترتيب باعتبار ما ذكر من كثرة الوقوع وقلته وتوسيط لا للتنصيص على استبداد كل منهما بالكتب والجزاء لا لتأكيد النفي كما في قوله عز وجل
«ولا يقطعون» أي لا يجتازون في مسيرهم
«واديا» وهو في الأصل كل منفرج من الجبال والآكام يكون منفذا للسيل اسم فاعل من ودى إذا سال ثم شاع في الأرض على الإطلاق
«إلا كتب لهم» أي أثبت لهم ذلك الذي فعلوه من الإنفاق والقطع
«ليجزيهم الله» بذلك
«أحسن ما كانوا يعملون» أحسن جزاء أعمالهم أو جزاء أحسن أعمالهم
«وما كان المؤمنون
111

لينفروا كافة»
أي ما صح وما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإن ذلك مخل بأمر المعاش
«فلولا نفر» فهلا نفر
«من كل فرقة» أي طائفة كثيرة
«منهم» كأهل بلدة أو قبيلة عظيمة
«طائفة» أي جماعة قليلة
«ليتفقهوا في الدين» أي يتكلفوا الفقاهة فيه ويتجشموا مشاق تحصيلها
«ولينذروا قومهم» أي وليجعلوا غاية سعيهم ومرمى غرضهم من ذلك إرشاد القوم وإنذارهم
«إذا رجعوا إليهم» وتخصيصه بالذكر لأنه أهم وفيه دليل على أن التفقه في الدين من فروض الكفاية وأن يكون غرض المتعلم الاستقامة والإقامة لا الترفع على العباد والتبسط في البلاد كما هو ديدن أبناء الزمان والله المستعان
«لعلهم يحذرون» إرادة أن يحذروا عما ينذرون واستدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا ويحذروا فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك وقد قيل للآية وجه آخر وهو أن المؤمنين لما سمعوا ما نزل في المتخلفين سارعوا إلى النفير رغبة ورهبة وانقطعوا عن التفقه فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد ويبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع الفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجدال بالحجة هو الأصل والمقصود من البعثة فالضمير في ليتفقهوا ولينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو وفي رجعوا للطوائف أي ولينذر البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا في أيام غيبتهم من العلوم
«يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار» أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر صلى الله عليه وسلم أولا بإنذار عشيرته فإن الأقرب أحق بالشفقة
والاستصلاح قيل هم اليهود حوالي المدينة كبني قريظة والنضير وخيبر وقيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشام وهو قريب من المدينة بالنسبة إلى العراق وغيره
«وليجدوا فيكم غلظة» أي شدة وصبرا على القتال وقرئ بفتح الغين كسخطة وبضمها وهما لغتان فيها
«واعلموا أن الله مع المتقين» بالعصمة والنصرة والمراد بهم إما المخاطبون ووضع الظاهر موضع الضمير للتنصيص على أن الإيمان والقتال على الوجه المذكور من باب التقوى والشهادة بكونهم من زمرة المتقين وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليا والمراد بالمعية الولاية الدائمة وقد ذكر وجه دخول مع على المتبوع في قوله تعالى إن الله معنا
«وإذا ما أنزلت سورة» من سور القرآن
«فمنهم» أي من المنافقين
«من يقول» لإخوانهم ليثبتهم على النفاق أو لعوام المؤمنين وضعفتهم ليصدهم عن الإيمان
«أيكم زادته هذه» السورة
«إيمانا» وقرئ بنصب أيكم على تقدير فعل يفسره المذكور
112

أي زادت أيكم زادته هذه الخ وإيراد الزيادة مع أنه لا إيمان فيهم أصلا باعتبار اعتقاد المؤمنين حسبما نطق به قوله تعالى إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا
«فأما الذين آمنوا» جواب من جهته سبحانه وتحقيق للحق وتعيين لحالهم عاجلا وآجلا أي فأما الذين آمنوا بالله تعالى وبما جاء من عنده
«فزادتهم إيمانا» بزيادة العلم اليقيني الحاصل من التدبر فيها والوقوف على ما فيها من الحقائق وانضمام إيمانهم بما فيها بإيمانهم السابق
«وهم يستبشرون» بنزولها وبما فيه من المنافع الدينية والدنيوية
«وأما الذين في قلوبهم مرض» أي كفر وسوء عقيدة
«فزادتهم رجسا إلى رجسهم» أي كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها وعقائد باطلة وأخلاقا ذميمة كذلك
«وماتوا وهم كافرون» واستحكم ذلك إلى أن يموتوا عليه
«أو لا يرون» الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف على مقدر أي ألا ينظرون ولا يرون
«إنهم» أي المنافقين
«يفتنون في كل عام» من الأعوام
«مرة أو مرتين» والمراد مجرد التكثير لا بيان الوقوع حسب العدد المزبور أي يبتلون بأفانين البليات من المرض والشدة وغير ذلك مما يذكر الذنوب والوقوف بين يدي رب العزة فيؤدي إلى الإيمان به تعالى أو الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعانون ما ينزل عليه من الآيات لا سيما القوارع الزائدة للإيمان الناعية عليه ما فيهم من القبائح المخزية لهم
«ثم لا يتوبون» عطف على لا يرون داخل تحت الإنكار والتوبيخ وكذا قوله تعالى
«ولا هم يذكرون» والمعنى أولا يرون افتتانهم الموجب لإيمانهم ثم لا يتوبون عما هم عليه من النفاق ولا هم يتذكرون بتلك الفتن الموجبة للتذكر والتوبة وقرئ بالتاء والخطاب للمؤمنين والهمزة للتعجيب أي ألا تنظرون ولا ترون أحوالهم العجيبة التي هي افتتانهم على وجه التتابع وعدم التنبه لذلك فقوله تعالى ثم لا يتوبون وما عطف عليه معطوف على يفتنون
«وإذا ما أنزلت سورة» بيان لأحوالهم عند نزولها وهم في محفل تبليغ الوحي كما أن الأول بيان لمقالاتهم وهم غائبون عنه
«نظر بعضهم إلى بعض» تغامزوا بالعيون إنكارا لها أو سخرية بها أو غيظا لما فيها من مخازيهم
«هل يراكم من أحد» أي قائلين هل يراكم أحد من المسلمين لننصرف مظهرين أنهم لا يصطبرون على استماعها ويغلب عليهم الضحك فيفتضحون أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لو إذا يقولون هل يراكم من أحد إن قمتم من المجلس وإيراد ضمير الخطاب لبعث المخاطبين على الجد في انتهاز الفرصة فإن المرء بشأنه أكثر اهتماما منه بشأن أصحابه كما في قوله تعالى وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا وقيل المعنى وإذا ما أنزلت سورة في عيوب
113

المنافقين «ثم انصرفوا» عطف على نظر بعضهم والتراخي باعتبار وجدان الفرصة والوقوف على عدم رؤية أحد من المؤمنين أي انصرفوا جميعا عن محفل الوحي خوفا من الافتضاح أو غير ذلك
«صرف الله قلوبهم» أي عن الإيمان حسب انصرافهم عن المجلس والجملة إخبارية أو دعائية
«بأنهم» أي بسبب أنهم
«قوم لا يفقهون» لسوء الفهم أو لعدم التدبر
«لقد جاءكم» الخطاب للعرب
«رسول» أي رسول رسول عظيم الشأن
«من أنفسكم» من جنسكم عربي قرشي مثلكم وقرئ بفتح الفاء أي أشرفكم وأفضلكم
«عزيز عليه ما عنتم» أي شاق شديد عليه عنتكم ولقاؤكم المكروه فهو يخاف عليكم سوء العاقبة والوقوع في العذاب وهذا من نتائج ما سلف من المجانسة
«حريص عليكم» في إيمانكم وصلاح حالكم
«بالمؤمنين» منكم ومن غيركم
«رؤوف رحيم» قدم الأبلغ منهما وهي الرأفة التي هي عبارة عن شدة الرحمة محافظة على الفواصل
«فإن تولوا» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسلية له أي إن أعرضوا عن الإيمان بك
«فقل حسبي الله» فإنه يكفيك ويعينك عليهم
«لا إله إلا هو» استئناف مقرر لمضمون ما قبله
«عليه توكلت» فلا أرجو ولا أخاف إلا منه
«وهو رب العرش العظيم» أي الملك العظيم أو الجسم الأعظم المحيط الذي تنزل منه الأحكام والمقادير وقرئ العظيم بالرفع وعن أبي أن آخر ما نزل هاتان الآيتان وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما نزل القرآن على إلا آية آية وحرفا حرفا ما خلا سورة براءة وسورة قل هو الله أحد فإنهما أنزلتا على ومعهما سبعون ألف صف من الملائكة
114

سورة يونس عليه السلام مكية وهى مائة وتسع آيات
بسم الله الرحمن الرحيم «الر» بتفخيم الراء المفتوحة وقرئ بالإمالة إجراء للأصلية مجرى المنقلبة عن الياء وقرئ بين بين وهو إما مسرود على نمط التعديد بطريق التحدي على أحد الوجهين المذكورين في فاتحة سورة البقرة فلا محل له من الإعراب وإما اسم للسورة كما عليه إطباق الأكثر فمحله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بالر وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب كما مر والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لما أنها باعتبار كونها على جناح الذكر وبصدده صارت في حكم الحاضر كما يقال هذا ما اشترى فلان أو النصب بتقدير فعل لائق بالمقام نحو اذكر أو اقرأ وكلمة
«تلك» إشارة إليها أما على تقدير كون الر مسرودة على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها التي هي الحروف المذكورة منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة الخ وأما على تقدير كونه اسما للسورة فقد نوهت بالإشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى
«آيات الكتاب» وعلى تقدير كون الر مبتدأ فهو مبتدأ ثان أو بدل من الأول والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفها بما اشتهر اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل الكل حينئذ إما باعبتار تعينه وتحققه في علم الله عز وعلا أو في اللوح أو باعتبار أنه أنزل جملة إلى السماء الدنيا كما هو المشهور فإن فاتحة الكتاب كانت مسماة بهذا الاسم وبأم القرآن في عهد النبوة ولما يحصل المجموع الشخصي إذ ذاك فلا بد من ملاحظة كل من الكتاب والقرآن بأحد الاعتبارات المذكورة وإما جميع القرآن النازل وقتئذ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل عصر ألا يرى إلى ما روى عن جابر رضى الله عنه أنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول أيهم أكثر أخذا للقرآن فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد فإن ما يفهمه الناس من القرآن في ذلك الوقت ويحافظون على التفاوت في أخذه إنما هو المجموع النازل حينئذ من غير
115

ملاحظة لتحقق المجموع الشخصي في علم الله سبحانه أو في اللوح ولا لنزوله جملة إلى السماء الدنيا
«الحكيم» ذي الحكمة وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة هذا وقد جعل الكتاب عبارة عن نفس السورة وكلمة تلك إشارة إلى من ضمنها من الآي فإنها في حكم الحاضر لا سيما بعد ذكر ما يتضمنها من السورة عند بيان اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها وينبغي أن يكون المشار إليه حينئذ كل واحدة منها لا جميعها من حيث هو جميع لأنه عين السورة فلا يكون للإضافة وجه ولا لتخصيص الوصف بالمضاف إليه حكمة فلا يتأتى ما قصد من مدح المضاف بما للمضاف إليه من صفات الكمال ولأن في بيان اتصاف كل منها بالكمال من المبالغة ما ليس في بيان اتصاف الكل بذلك والمتبادر من الكتاب عند الإطلاق وإن كان كله بأحد الوجهين المذكورين لكن صحة إطلاقه على بعضه أيضا مما لا ريب فيها والمعهود المشهور وإن كان اتصاف الكل بأحد الاعتبارين بما ذكر من نعوت الكمال إلا أن شهرة اتصاف كل سورة منه بما اتصف به الكل مما لا ينكر وعليه يدور تحقق مدح السورة بكونها بعضا من القرآن الكريم إذ لولا أن بعضه منعوت بنعت كله داخل تحت حكمه لما تسنى ذلك وفيه ما لا يخفى من التكلف والتعسف
«أكان للناس عجبا» الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجب السامعين منه لكونه في غير محله والمراد بالناس كفار مكة وإنما عبر عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم مع أنه المدار لتعجبهم كما تعرض له في قوله عز وجل قال الكافرون الخ لتحقيق ما فيه الشركة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعيين مدار التعجب في زعمهم ثم
تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار والتعجيب واللام متعلقة بمحذوف وقع حالا من عجبا وقيل بعجبا على التوسع المشهور في الظروف وقيل المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل أو اسم المفعول جاز تقديم معموله عليه وقيل متعلقة بكان وهو مبنى على دلالة كان الناقصة على الحدث
«أن أوحينا» اسم كان قدم عليه خبرها اهتماما بشأنه لكونه مدار الإنكار والتعجيب وتشويقا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي مراعاة الأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف الكلام وقرئ برفع عجب على أنه الاسم وهو نكرة والخبر أن أوحينا وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة البتة والمختار حينئذ أن تجعل كان تامة وأن أوحينا متعلقا بعجب على حذف حرف التعليم أي أحدث للناس عجب لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو بدلا من عجب لكن لا على توجيه الإنكار والتعجيب إلى حدوثه بل إلى كونه عجبا فإن كون الإبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة وإنما قيل للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى
«إلى رجل منهم» أي إلى بشر من جنسهم كقولهم أبعث الله بشرا رسولا أو من أفنائهم
116

من حيث المال لا من عظمائهم كقولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وكلا الوجهين من ظهور البطلان بحيث لا مزيد عليه أما الأول فلأن بعض الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال سبحانه قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية كيف لا وهى منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة أن يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب وأما الثاني فلما أن مناط الاصطفاء للنبوة والرسالة هو التقدم في الاتصاف بما ذكر من النعوت الجميلة والصفات الجليلة والسبق في إحراز الفضائل العلية وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابا ولا ريب لأحد منهم في أنه صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن في غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية وأما التقدم في الرياسات الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعا بل له إخلال به غالبا قال صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء
«أن أنذر الناس» أن مصدرية لجواز كون صلتها أمرا كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك وذلك لأن الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر سيان فساغ وقوع الأمر والنهى صلة حسب وقوع الفعل فليجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهى نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضي والاستقبال ووجوب كون الصلة في الموصول الأسمى خبرية إنما هو للتوصل بها إلى وصف المعارف بالجمل لا لقصور في دلالة الإنشاء على المصدر أو مفسرة إذ الإيحاء فيه معنى القول وقد جوز كونها مخففة من المثقلة على حذف ضمير الشأن والقول من الخبر والمعنى أن الشأن قولنا أنذر الناس والمراد به جميع الناس كافة لا ما أريد بالأول وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق
«وبشر الذين آمنوا» بما أوحيناه وصدقوه
«أن لهم» أي بأن لهم
«قدم صدق» أي سابقة ومنزلة رفيعة
«عند ربهم» وإنما عبر عنها بها إذ بها يحصل السبق والوصول إلى المنازل الرفيعة كما يعبر عن النعمة باليد لأنها تعطى بها وقيل مقام صدق والوجه أو الوصول إلى المقام إنما يحصل بالقدم وإضافتها إلى الصدق للدلالة على تحققها وثباتها وللتنبيه على أن مدار نيل ما نالوه من المراتب العلية هو صدقهم فإن التصديق لا ينفك عن الصدق
«قال الكافرون» هم المتعجبون وإيرادهم ههنا بعنوان الكفر مما لا حاجة إلى ذكر سببه وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخلت عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافا مبنيا على السؤال كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشئ فقيل قال الكافرون على طريقة التأكيد
«إن هذا» يعنون به ما أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن الحكيم المنطوى على الإنذار والتبشير
«لسحر مبين» أي ظاهر وقرئ لساحر على أن الإشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ ما هذا إلا سحر مبين وهذا اعتراف من حيث لا يشعرون بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من جناب خلاق القوى والقدر ولكنهم سموه بما قالوا تماديا في العناد كما هو ديدن
117

المكابر اللجوج ودأب المفحم المحجوج
«إن ربكم» كلام مستأنف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما بنوا عليه من المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير لقوله تعالى قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون وقوله تعالى قل من يرزقكم من السماء والأرض إلى قوله تعالى ومن يدبر الأمر فسيقولون الله أي إن ربكم ومالك أمركم الذي تتعجبون من أن يرسل إليكم رجلا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحى إليه من الكتاب الحكيم سحرا هو
«الله الذي خلق السماوات والأرض» وما فيهما من أصول الكائنات
«في ستة أيام» أي في ستة أوقات أو في مقدار ستة أيام معهودة فإن نفس اليوم الذي هو عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء وفى خلقها مدرجا مع القدرة التامة على إبداعها دفعة دليل على الاختيار واعتبار للنظار وحث لهم على التأنى في الأحوال والأطوار وأما تخصيص ذلك بالعدد
المعين فأمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته وإيثار صيغة الجمع في السماوات لما هو المشهور من الإيذان بأنها أجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام
«ثم استوى على العرش» العرش هو الجسم المحيط بسائر الأجسام سمى به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأوامر والتدابير منه تنزل وقيل هو الملك ومعنى استوائه سبحانه عليه استيلاؤه عليه أو استواء أمره وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزها عن التمكن والاستقرار وهذا بيان لجلالة ملكه وسلطانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام
«يدبر الأمر» التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد ههنا التقدير على الوجه الأتم الأكمل والمراد بالأمر أمر ملكوت السماوات والأرض والعرش وغير ذلك من الجزيئات الحادثة شيئا فشيئا على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمباينات في الذوات والصفات والأزمنة والأوقات أي يقدر ما ذكر من أمر الكائنات الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فرد من جملته وشعبة من دوحته ويهيىء أسباب كل منها حدوثا وبقاء في أوقاتها المعينة ويرتب مصالحها على الوجه الفائق والنمط اللائق حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة والجملة في محل النصب على أنها حال من ضمير استوى وقد جوز كونها خبرا ثانيا لأن أو مستأنفة لا محل لها من الإعراب مبنية على سؤال نشأ من ذكر الاستواء على العرش المنبىء عن إجراء أحكام الملك وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره وقوله عز وجل
«ما من شفيع»
118

بيان لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبير ونفى للشفاعة على أبلغ الوجوه فإن نفى جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفى الشفاعة على أتم الوجوه كما في قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله وهذا بعد قوله تعالى يدبر الأمر جار مجرى قوله تعالى وهو يجير ولا يجار عليه عقيب قوله تعالى قل من بيده ملكوت كل شيء وقوله تعالى
«إلا من بعد إذنه» استثناه مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه المبنى على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا وفيه من الدلالة على عظمة جلاله سبحانه ما لا يخفى
«ذلكم» إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة أي ذلكم العظيم الشأن المنعوت بما ذكر من نعوت الكمال التي عليها يدور استحقاق الألوهية
«الله» وقوله تعالى
«ربكم» بيان له أو بدل منه أو خبر ثان لاسم الإشارة وهذا بعد بيان أن ربهم الله الذي خلق السماوات والأرض الخ لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة عليه بقوله تعالى
«فاعبدوه» أي وحدوه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا عن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع وآمنوا بما أنزله إليكم
«أفلا تذكرون» أي أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه سورة يونس الآية (4) «إليه» لا إلى أحد سواه استقلالا أو اشتراكا
«مرجعكم» أي بالبعث كما ينبئ عنه قوله تعالى
«جميعا» فإنه حال من الضمير المجرور لكونه فاعلا في المعنى أي إليه رجوعكم مجتمعين والجملة كالتعليل لوجوب العبادة
«وعد الله» مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله عز وجل إليه مرجعكم وعد منه سبحانه بالبعث أو لفعل مقدر أي وعد الله وأيا ما كان فهو دليل على أن المراد بالمرجع هو الرجوع بالبعث لأن ما بالموت بمعزل من الوعد كما أنه بمعزل من الاجتماع وقرئ بصيغة الفعل
«حقا» مصدر آخر مؤكد لما دل عليه الأول
«إنه يبدأ الخلق» وقرئ يبدىء
«ثم يعيده» وهو استئناف علل به وجوب المرجع إليه سبحانه وتعالى فإن غاية البدء والإعادة هو جزاء المكلفين بأعمالهم حسنة أو سيئة وقرئ بالفتح أي لأنه ويجوز كونه منصوبا بما نصب وعد الله أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته ومرفوعا بما نصب حقا أي حق حقا بدء الخلق الخ
«ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط» أي بالعدل وهو حال من فاعل يجزى أي ملتبسا بالعدل أو متعلق بيجزى أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم وإنما أجمل ذلك إيذانا بأنه لا يفي به الحصر أو بقسطهم وعدلهم عند إيمانهم ومباشرتهم للأعمال الصالحة وهو الأنسب بقوله عز وجل
«والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون» فإن معناه ويجزى الذين كفروا بسبب كفرهم وتكرير الإسناد يجعل الجملة الظرفية خبرا للموصول لتقوية الحكم والجمع بين صيغتى الماضي والمستقبل للدلالة
119

على مواظبتهم على الكفر وتغيير النظم الكريم للإيذان بكمال استحقاقهم للعقاب وأن التعذيب بمعزل عن الانتظام في سلك العلة الغائية للخلق بدءا وإعادة وإنما يحيق ذلك بالكفرة على موجب سوء اختيارهم وأما المقصود الأصلي من ذلك فهو الإثابة
«هو الذي جعل الشمس ضياء» تنبيه على الاستدلال على وجوده تعالى ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته بآثار صنعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض والاستواء على العرش وغير ذلك وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية وإرشاد إلى أنه حيث دبرت أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بالمعاد بإرسال الرسول وإنزال الكتاب وتبيين طرائق الهدى وتعيين مهاوى الردى أولى وأحرى والجعل إن جعل بمعنى الإنشاء والإبداع فضياء حال من مفعوله أي خلقها حال كونها ذات ضياء على حذف المضاف أو ضياء محضا للمابلغة وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعوله الثاني أي جعلها ضياء على أحد الوجهين المذكورين لكن لا بعد أن كانت خالية عن تلك الحالة بل أبدعها كذلك كما في قولهم ضيق فم الركية ووسع أسفلها والضياء مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط وسوط وياؤه منقلبة من الواو لانكسار ما قبلها وقرئ ضئاء بهمزتين بينهما ألف بتقديم اللام على العين
«والقمر نورا» الكلام فيه كالكلام في الشمس والضياء أقوى من النور وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور ففيه إشعار بأن نوره مستفاد من الشمس
«وقدره» أي قدر له وهيأ
«منازل» أو قدر مسيره في منازل أو قدره ذا منازل على تضمين التقدير معنى التصيير وتخصيص القمر بهذا التقدير لسرعة سيره ومعاينة منازله وتعلق أحكام الشريعة به وكونه عمدة في تواريخ العرب وقد جعل الضمير لكل منهما وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا يتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين فإذا كان في آخر منازله دق واستقوس ثم يستسر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ويكون مقام الشمس في كل منزلة منها ثلاثة عشر يوما وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة وهى الشرطان والبطين والثريا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرف الجبهة الزبرة الصرفة العواء السماك الغفر الزبانى الإكليل القلب الشولة النعائم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية فرغ الدلو المقدم فرغ الدلو المؤخر الرشا وهو بطن الحوت
«لتعلموا» إما بتعاقب الليل والنهار المنوطين بطلوع الشمس وغروبها أو باعتبار نزول كل منهما في تلك المنازل
«عدد السنين» التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية
«والحساب» أي حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي وغير ذلك مما نيط به شئ من المصالح المذكورة وتخصيص العدد بالسنين والحساب بالأوقات لما أنه لم يعتبر في السنين المعدودة معنى مغاير لمراتب الأعداد كما اعتبر في
120

الأوقات المحسوبة وتحقيقه أن الحساب إحصاء ما له كمية انفصالية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل كالسنة المتحصلة من اثنى عشر شهرا قد تحصل كل من ذلك من ثلاثين يوما قد تحصل كل من ذلك من أربع وعشرين ساعة مثلا والعد مجرد إحصائه بتكرير أمثاله من غير اعتبار أن يتحصل بذلك شئ كذلك ولما لم يعتبر في السنين المعدودة تحصل حد معين له اسم خاص غير أسامي مراتب الأعداد وحكم مستقل أضيف إليها العدد وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدى في تحصل المعدودة نفعا وحيث اعتبر في الأوقات المحسوبة تحصل ما ذكر من المراتب التي لها أسام خاصة وأحكام مستقلة علق بها الحساب المنبىء عن ذلك والسنة من حيث تحققها في نفسها مما يتعلق به الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة من تلك الطائفة ليس من الحيثية المذكورة أعنى حيثية تحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث إنها فرد من تلك الطائفة المعدودة من غير أن يعتبر معها شئ غير ذلك وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالى بما تعلق به الحساب تفصيلا وإن لم تتحد الجهة أو لأن العدد من حيث إنه لم يعتبر فيه تحصل أمرا آخر حسبما حقق آنفا نازل من الحساب الذي اعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب
«ما خلق الله ذلك» أي ما ذكر من الشمس والقمر على ما حكى من الأحوال وفيه إيذان بأن معنى جعلهما على تلك الأحوال والهيئات ليس إلا خلقهما كذلك كما أشير إليه ولا يقدح في ذلك أن استفادة القمر النور من الشمس أمر حادث فإن المراد بجعله نورا إنما هو جعله بحيث يتصف بالنور عند وجود شرائط الاتصاف به بالفعل
«إلا بالحق» استثناء مفرغ من أعم أحوال الفاعل أو المفعول أي ما خلق ذلك ملتبسا بشئ من الأشياء إلا ملتبسا بالحق مراعيا لمقتضى الحكمة البالغة أو مراعى فيه ذلك وهو ما أشير إليه إجمالا من العلم بأحوال السنين والأوقات المنوط به أمور معاملاتهم وعباداتهم
«يفصل الآيات» أي الآيات التكوينية المذكورة أو جميع الآيات فيدخل فيها الآيات المذكورة دخولا أوليا أو يفصل الآيات التنزيلية المنبهة على ذلك وقرئ بنون العظمة
«لقوم يعلمون» الحكمة في إبداع الكائنات فيستدلون بذلك على شؤون مبدعها جل وعلا أو يعلمون ما في تضاعيف الآيات المنزلة فيؤمنون بها وتخصيص التفصيل بهم لأنهم المنتفعون به
«إن في اختلاف الليل والنهار» تنبيه آخر إجمالى على ما ذكر أي في تعاقبهما وكون كل منهما خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين لحركات السماوات وسكون الأرض أو في تفاوتهما في أنفسهما بازدياد كل منهما بانتقاص الآخر وانتقاصه بازدياده باختلاف حال الشمس بالنسبة إلينا قربا وبعدا بحسب الأزمنة أو في اختلافهما وتفاوتهما بحسب الأمكنة إما في الطول والقصر فإن البلاد القريبة من القطب
121

الشمالي أيامها الصيفية أطول ولياليها الصيفية أقصر من أيام البلاد البعيدة منه ولياليها وأما في أنفسهما فإن كرية الأرض تقتضى أن يكون بعض الأوقات في بعض الأماكن ليلا وفى مقابله نهارا
«وما خلق الله في السماوات والأرض» من أصناف المصنوعات
«لآيات» عظيمة أو كثيرة دالة على وجود الصانع تعالى ووحدته وكمال علمه وقدرته وبالغ حكمته التي من جملة مقتضياتها ما أنكروه من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وإنزال الكتب والبعث والجزاء
«لقوم يتقون» خصهم بذلك لأن الداعي إلى النظر والتدبر إنما هو تقوى الله تعالى والحذر من العاقبة فهم الواقفون على أن جميع المخلوقات آيات دون غيرهم وكأى من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون
«إن الذين لا يرجون لقاءنا» بيان لمآل أمر من كفر بالبعث وأعرض عن البينات الدالة عليه بعد تحقيق أن مرجع الكل إليه تعالى وأنه يعيدهم بعد بدئهم للجزاء ثوابا وعقابا وتفصيل بعض الآيات الشاهدة بذلك والمراد بلقائه إما الرجوع إليه تعالى بالبعث أو لقاء الحساب كما في قوله عز وعلا إني ظننت أنى ملاق حسابيه وأيا ما كان ففيه مع الالتفات إلى ضمير الجلالة من تهويل الأمر ما لا يخفى والمراد بعدم الرجاء عدم التوقع مطلقا المنتظم لعدم الأمل وعدم الخوف فإن عدمهما لا يستدعى عدم اعتقاد وقوع المأمول والمخوف أي لا يتوقعون الرجوع إلينا أو لقاء حسابنا المؤدى إما إلى حسن الثواب أو إلى سوء العذاب فلا يأملون الأول وإليه أشير بقوله عز وجل
«ورضوا بالحياة الدنيا» فإنه منبىء عن إيثار الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس كقوله تعالى أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ولا يخافون الثاني وإليه أشير بقوله تعالى
«واطمأنوا بها» أي سكنوا فيها سكون من لا براح له منها آمنين من اعتراء المزعجات غير مخطرين ببالهم ما يسوؤهم من عذابنا وقيل المراد بالرجاء معناه الحقيقي وباللقاء حسن اللقاء أي لا يأملون حسن لقائنا بالبعث والإحياء بالحياة الأبدية ورضوا بدلا منها ومما فيها من فنون الكرامات السنية بالحياة الدنيا الدنية الفانية واطمأنوا بها أي سكنوا إليها منكبين عليها قاصرين مجامع هممهم على لذائذها وزخارفها من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم وإيثار الباء على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الوصول والانتهاء للإيذان بتمام الملابسة ودوام المصاحبة والمؤانسة وحمل الرجاء على الخوف فقط يأباه كلمة الرضا بالحياة الدنيا فإنها منبئة عما ذكر من ترك الأعلى وأخذ الأدنى واختيار صيغة الماضي في الصلتين الأخيرتين للدلالة على التحقق والتقرر كما أن اختيار صيغة المستقبل في الأولى للإيذان باستمرار عدم الرجاء
«والذين هم عن آياتنا» المفصلة في صحائف الأكوان حسبما أشير إلى بعضها أو آياتنا المنزلة المنبهة على الاستشهاد بها المتفقة معها في الدلالة على حقية ما لا يرجونه من اللقاء المترتب على البعث وعلى بطلان ما رضوا به واطمأنوا إليه من الحياة الدنيا
«غافلون» لا يتفكرون فيها أصلا وإن نبهوا على ذلك وذكروا بأنواع القوارع لانهماكهم فيما يصدهم
122

عنها من الأحوال المعدودة وتكرير الموصول للتوسل به إلى جعل صلته جملة اسمية منبئة عما هم عليه من استمرار الغفلة ودوامها وتنزيل التغاير الوصفي منزلة التغاير الذاتي إيذانا بمغايرة الوصف الأخير للأوصاف الأول واستقلاله باستتباع العذاب هذا وأما ما قيل من أن العطف إما لتغاير الوصفين والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا والانهماك في الشهوات بحيث لا يخطر ببالهم الآخرة أصلا وإما لتغاير الفريقين والمراد بالأولين من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل فكلام ناء عن السداد فتأمل
«أولئك» الموصوفون بما ذكر من صفات السوء
«مأواهم» أي مسكنهم ومقرهم الذي لا براح لهم منه
«النار» لا ما اطمأنوا بها من الحياة الدنيا ونعيمها
«بما كانوا يكسبون» من الأعمال القلبية المعدودة وما يستتبعه من أصناف المعاصي والسيئات أو بكسبهم إياها والجمع بين صيغتى الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار التجددي والباء متعلقة بمضمون الجملة الأخيرة الواقعة خبرا عن اسم الإشارة وهو مع خبره خبر لأن في قوله تعالى إن الذين لا يرجون لقاءنا الخ
«إن الذين آمنوا» أي فعلوا الإيمان أو آمنوا بما يشهد به الآيات التي غفل عنها الغافلون أو بكل ما يجب أن يؤمن به فيندرج فيه ذلك اندراجا أوليا
«وعملوا الصالحات» أي الأعمال الصالحة في أنفسها اللائقة بالإيمان وإنما ترك ذكر الموصوف لجريانها مجرى الأسماء
«يهديهم ربهم» أوثر الالتفات تشريفا لهم بإضافة الرب وإشعارا بعلة الهداية
«بإيمانهم» أي يهديهم بسبب إيمانهم إلى مأواهم ومقصدهم وهى الجنة وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة وما أواهم إليه من أعمالهم السيئة ومشاهدة ما لحق من التلويح والتصريح وفى النظم الكريم إشعار بأن مجرد الإيمان والعمل الصالح لا يكفى في الوصول إلى الجنة بل لا بد بعد ذلك من الهداية الربانية وأن الكفر والمعاصي كافية في دخول النار ثم إنه لا نزاع في أن المراد بالإيمان الذي جعل سببا لتلك الهداية هو إيمانهم الخاص المشفوع بالأعمال الصالحة لا الإيمان المجرد عنها ولا ما هو أعم منهما إلا أن ذلك بمعزل عن الدلالة على خلاف ما عليه أهل السنة والجماعة من أن الإيمان الخالي عن العمل الصالح يفضى إلى الجنة في الجملة ولا يخلد صاحبه في النار فإن منطوق الآية الكريمة أن الإيمان المقرون بالعمل الصالح سبب للهداية إلى الجنة وأما أن كل ما هو سبب لها يجب أن يكون كذلك فلا دلالة لها ولا لغيرها عليه قطعا كيف لا وقوله عز وجل الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون مناد بخلافه فإن المراد بالظلم هو الشرك كما أطبق عليه المفسرون والمعنى لم يخلطوا إيمانهم بشرك ولئن حمل على ظاهره أيضا يدخل في الاهتداء من آمن ولم يعمل صالحا ثم مات قبل أن يظلم
123

بفعل حرام أو بترك واجب
«تجري من تحتهم الأنهار» أي بين أيديهم كقوله سبحانه وهذه الأنهار تجرى من تحتي أو تجرى وهم على سرر مرفوعة وأرائك مصفوفة والجملة مستأنفة أو خبر ثان لأن أو حال من مفعول يهديهم على تقدير كونه المهدى إليه ما يريدونه في الجنة كما قيل وقيل يهديهم ويسددهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدى إلى الثواب والجنة وقوله تجرى من تحتهم الأنهار جار مجرى التفسير والبيان فإن التمسك بحبل السعادة في حكم الموصول إليها وقيل يهديهم إلى إدراك الحقائق البديعة بحسب القوة العملية كما قال صلى الله عليه وسلم من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم
«في جنات النعيم» خبر آخر أو حال أخرى منه أو من الأنهار أو متعلق بتجرى أو بيهدى فالمراد بالمهدى إليه إما منازلهم في الجنة أو ما يريدونه فيها
«دعواهم» أي دعاؤهم وهو مبتدأ وقوله عز وجل فيها متعلق به وقوله تعالى
«سبحانك اللهم» خبره أي دعاؤهم هذا الكلام وهو معمول لمقدر لا يجوز إظهاره والمعنى اللهم إنا نسبحك تسبيحا ولعلهم يقولونه عندما عاينوا فيها من تعاجيب اثار قدرته تعالى ونتائج رحمته ورأفته ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر تقديسا لمقامه تعالى عن شوائب العجز والنقصان وتنزيها لوعده الكريم عن سمات الخلف
«وتحيتهم فيها» التحية التكرمة بالحالة الجليلة أصلها أحياك الله حياة طيبة أي ما يحيى به بعضهم بعضا أو تحية الملائكة إياهم كما في قوله تعالى والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام أو تحية الله عز وجل لهم كما في قوله تعالى سلام قولا من رب رحيم
«سلام» أي سلامة عن كل مكروه
«وآخر دعواهم» أي خاتمة دعائهم
«أن الحمد لله رب العالمين» أي أن يقولوا ذلك نعتا له عز وجل بصفات الإكرام إثر نعته تعالى بصفات الجلال أي دعاؤهم منحصر فيما ذكر إذ ليس لهم مطلب مترقب حتى ينظموه في سلك الدعاء وأن هي المخففة من أن المثقلة أصله أنه الحمد لله فحذف ضمير الشأن كما في قوله أن هالك كل من يحفى وينتعل وقرئ أن الحمد لله بالتشديد ونصل الحمد ولعل توسيط ذكر تحيتهم عند الحكاية بين دعائهم وخاتمته للتوسل إلى ختم الحكاية بالتحميد تركا مع أن التحية ليست بأجنبية على الإطلاق ودعوى كون ترتيب الوقوع أيضا كذلك بأن كانوا حين دخلوا الجنة وعاينوا عظمة الله تعالى وكبرياءه مجدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات والفوز بأصناف الكرامات أو حياهم بذلك رب العزة فحمدوه تعالى وأثنوا عليه يأباها إضافة الآخر إلى دعواهم وقد جوز أن يكون المراد بالدعاء العبادة كما في قوله تعالى وأعتزلكم وما تدعون الخ إيذانا بأن لا تكليف في الجنة أي ما عبادتهم إلا أن يسبحوه ويحمدوه وليس ذلك بعبادة إنما يلهمونه وينطقون به تلذذا ولا يساعده تعيين الخاتمة
«ولو يعجل الله للناس» هم الذين لا يرجون لقاء الله تعالى لإنكارهم البعث وما يترتب عليه
124

من الحساب والجزاء أشير إلى بعض من عظائم معاصيهم المتفرعة على ذلك وهو استعجالهم بما أوعدوا به من العذاب تكذيبا واستهزاء وإيرادهم باسم الجنس لما أن تعجيل الخير لهم ليس دائرا على وصفهم المذكور إذ ليس كل ذلك بطريق الاستدراج أي لو يعجل الله لهم
«الشر» الذي كانوا يستعجلون به فإنهم كانوا يقولون اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ونحو ذلك وقوله تعالى
«استعجالهم بالخير» نصب على أنه مصدر تشبيهى وضع موضع مصدر ناصبه دلالة على اعتبار الاستعجال في جانب المشبه كاعتبار التعجيل في جانب المشبه به وإشعارا بسرعة إجابته تعالى لهم حتى كان استعجالهم بالخير نفس تعجيله لهم والتقدير ولو يعجل الله لهم الشر عند استعجالهم به تعجيلا مثل تعجيله لهم الخير عند استعجالهم به فحذف ما حذف تعويلا على دلالة الباقي عليه
«لقضي إليهم أجلهم» لأدى إليهم الأجل الذي عين لعذابهم وأميتوا وأهلكوا بالمرة وما أمهلوا طرفة عين وفى إيثار صيغة المبنى للمفعول جرى على سنن الكبرياء مع الإيذان بتعين الفاعل وقرئ على البناء للفاعل كما قرىء لقضينا واختيار صيغة الاستقبال في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن عدم قضاء الأجل لاستمرار عدم التعجيل فإن المضارع المنفى الواقع موقع الماضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل بل قد يفيد استمرار انتفائه أيضا بحسب المقام كما حقق في موضعه واعلم أن مدار الإفادة في الشرطية أن يكون التالي أمرا مغايرا للمقدم في نفسه مترتبا عليه في الوجود كما في قوله عز وجل لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم فإن العنت أي الوقوع في المشقة والهلاك أمر مغاير لطاعته صلى الله عليه وسلم لهم مترتب عليها في الوجود أو يكون فردا كاملا من أفراده ممتازا عن البقية بأمر يخصه كما في الأجوبة المحذوفة في مثل قوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وقوله تعالى ولو ترى إذ وقفوا على النار وقوله تعالى ولو ترى إذ المجرمون ونظائرها أي لرأيت أمرا هائلا فظيعا أو نحو ذلك وكما في قوله تعالى ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها ما دابة إذا فسر الجواب بالاستئصال فإنه فرد كامل من أفراد مطلق المؤاخذة قد عبر عنه بما لا مزيد عليه في الدلالة على الشدة والفظاعة فحسن موقعه في معرض التالي للمؤاخذة المطلقة وأما ما نحن فيه من القضاء فليس بأمر مغاير لتعجيل الشر في نفسه وهو ظاهر بل هو إما نفسه أو جزئي منه كسائر جزئياته من غير مزية على البقية إذ لم يعتبر في مفهومه ما ليس في مفهوم تعجيل الشر من الشدة والهول فلا يكون في ترتبه عليه وجودا أو عدها مزيد فائدة مصححة لجعله تاليا له فالحق أن المقدم ليس نفس التعجيل المذكور بل هو إرادته المستتبعة للقضاء المذكور وجودا وعدما كما في قوله تعالى لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب أي لو يريد مؤاخذتهم فإن تعجيل العذاب لهم نفس المؤاخذة أو جزئي من جزئياتها غير ممتاز عن البقية فليس في بيان ترتبه عليها وجودا أو عدما مزيد فائدة وإنما الفائدة في بيان ترتبه على إرادتها حسبما ذكر وأيضا في ترتب التالي على إرادة المقدم ما ليس في ترتبه على نفسه من الدلالة على المبالغة وتهويل الأمر والدلالة على أن الأمور منوطة بإرادته تعالى المبنية على الحكم البالغة
«فنذر الذين لا يرجون لقاءنا» بنون العظمة الدالة على التشديد في الوعيد وهو عطف على مقدر تنبىء عنه الشرطية كأنه قيل لكن لا نفعل ذلك لما تقتضيه
125

الحكمة فنتركهم إمهالا واستدراجا
«في طغيانهم» الذي هو عدم رجاء اللقاء وإنكار البعث والجزاء وما يتفرع على ذلك من أعمالهم السيئة ومقالاتهم الشنيعة
«يعمهون» أي يترددون ويتحيرون ففي وضع الموصول موضع الضمير نوع بيان للطغيان بما في حيز الصلة وإشعار بعليته للترك والاستدراج
«وإذا مس الإنسان الضر» أي أصابه جنس الضر من مرض وفقر وغيرهما من الشدائد إصابة يسيره
«دعانا» لكشفه وإزالته
«لجنبه» حال من فاعل دعا بشهادة ما عطف عليه من الحالين واللام بمعنى على كما في قوله تعالى يخرون للأذقان أي دعانا كائنا على جنبه أي مضطجعا
«أو قاعدا أو قائما» أي في جميع الأحوال مما ذكر وما لم يذكر وتخصيص المعدودات بالذكر لعدم خلو الإنسان عنها عادة أو دعانا في جميع أحوال مرضه على أنه المراد بالضر خاصة مضطجعا عاجزا عن القعود وقاعدا غير قادر على النهوض وقائما لا يستطيع الحراك
«فلما كشفنا عنه ضره» الذي مسه غب ما دعانا حسبما ينبئ عنه الفاء
«مر» أي مضى واستمر على طريقته التي كان ينتحيها قبل مساس الضر ونسي حالة الجهد والبلاء أو مر عن موقف الضراعة والابتهال ونأى بجانبه
«كأن لم يدعنا» أي كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كما في قوله
* كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
* والجملة التشبيهية في محل النصب على الحالية من فاعل مر أي مر مشبها بمن لم يدعنا
«إلى ضر» أي إلى كشف ضر
«مسه» وهذا وصف للجنس باعتبار حال بعض أفراده ممن هو متصف بهذه الصفات
«كذلك» نصب على المصدرية وذلك إشارة إلى مصدر الفعل الآتي وما فيه من معنى البعد للتفخيم والكاف مقحمة للدلالة على زيادة فخامة المشار إليه إقحاما لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم مثلك لا يبخل مكان أنت لا تبخل أي مثل ذلك التزيين العجيب
«زين للمسرفين» أي للموصوفين بما ذكر من الصفات الذميمة وإسرافهم لما أن الله تعالى إنما أعطاهم القوى والمشاعر ليصرفوها إلى مصارفها ويستعملوها فيما خلقت له من العلوم والأعمال الصالحة فلما صرفوها إلى ما لا ينبغي وهى رأس مالهم فقد أتلفوها وأسرفوا إسرافا ظاهرا والتزيين إما من جهة الله سبحانه على طريقة التخلية والخذلان أو من الشيطان بالوسوسة والتسويل
«ما كانوا يعملون» من الإعراض عن الذكر والدعاء والانهماك في الشهوات وتعلق الآية الكريمة بما قبلها من حيث إن في كل منهما إملاء للكفرة على طريقة الاستدراج بعد الإنقاذ من الشر المقدر في الأولى ومن الضر المقرر في الأخرى
«ولقد أهلكنا القرون» أي القرون الخالية مثل قوم نوح وعاد وأضرابهم ومن في قوله تعالى
«من قبلكم» متعلقة بأهلكنا أي أهلكناهم من قبل زمانكم والخطاب لأهل مكة على طريقة الالتفات
126

للمبالغة في تشديد التهديد بعد تأييده بالتوكيد القسمي «لما ظلموا» ظرف للإهلاك أي أهلكناهم حين فعلوا الظلم بالتكذيب والتمادي في الغى والضلال من غير تأخير وقوله تعالى
«وجاءتهم رسلهم» حال من ضمير ظلموا بإضمار قد وقوله تعالى
«بالبينات» متعلق بجاءتهم على أن الباء للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من رسلهم دالة على إفراطهم في الظلم وتناهيهم في المكابرة أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينة الدالة على صدقهم أو ملتبسين بها حين لا مجال للتكذيب وقد جوز أن يكون قوله تعالى وجاءتهم عطفا على ظلموا فلا محل له من الإعراب عند سيبويه وعند غيره محله الجر لأنه معطوف على ما هو مجرور بإضافة الظرف إليه وليس الظلم منحصرا في التكذيب حتى يحتاج إلى الاعتذار بأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي كما في قوله تعالى ورفع أبويه على العرش وخروا له الخ بل هو محمول على سائر أنواع الظلم والتكذيب مستفاد من قوله تعالى
«وما كانوا ليؤمنوا» على أبلغ وجه وآكده فإن اللام لتأكيد النفي أي وما صح وما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم وخذلان الله تعالى إياهم لعلمه بأن الألطاف لا تنجع فيهم والجملة على الأول عطف على ظلموا لأنه إخبار بإحداث التكذيب وهذا بالإصرار عليه وعلى الثاني عطف على ما عطف عليه وقيل اعتراض بين الفعل وما يجرى مجرى مصدره التشبيهى أعنى قوله تعالى
«كذلك» فإن الجزاء المشار إليه عبارة عن مصدره أي مثل ذلك الجزاء الفظيع أي الإهلاك الشديد الذي هو الاستئصال بالمرة
«نجزي القوم المجرمين» أي كل طائفة مجرمة وفيه وعيد شديد وتهديد أكيد لأهل مكة لاشتراكهم لأولئك المهلكين في الجرائم والجرائر التي هي تكذيب الرسول والإصرار عليه وتقرير لمضمون ما سبق من قوله تعالى ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير وقرئ بالياء على الالتفات إلى الغيبة وقد جوز أن يكون المراد بالقوم المجرمين أهل مكة على طريقة وضع الظاهر موضع ضمير الخطاب إيذانا بأنهم أعلام في الإجرام ويأباه كل الإباء قوله عز وجل
«ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم» فإنه صريح في أنه ابتداء تعرض لأمورهم وأن ما بين فيه إنما هو مبادى أحوالهم لاختبار كيفيات أعمالهم على وجه يشعر باستمالتهم نحو الإيمان والطاعة فمحال أن يكون ذلك إثر بيان منتهى أمرهم وخطابهم ببت القول بإهلاكهم لكمال إجرامهم والمعنى ثم استخلفناكم في الأرض من بعد إهلاك أولئك القرون التي تسمعون أخبارها وتشاهدون آثارها استخلاف من يختبر
«لننظر» أي لنعامل معاملة من ينظر
«كيف تعملون» فهي استعارة تمثيلية وكيف منصوب على المصدرية بتعملون لا بننظر فإن ما فيه من معنى الاستفهام مانع من تقدم عامله عليه أي أي عمل أو على الحالية أي على أي حال تعملون الأعمال اللائقة بالاستخلاف من أوصاف الحسن كقوله عز وعلا ليبلوكم أيكم أحسن عملا ففيه إشعار بأن المراد بالذات والمقصود الأصلي من الاستخلاف إنما هو ظهور الكيفيات الحسنة للأعمال الصالحة وأما الأعمال السيئة فبمعزل من أن تصدر عنهم لا سيما بعد ما سمعوا أخبار القرون المهلكة وشاهدوا آثار بعضها فضلا عن أن ينظم ظهورها في سلك العلة الغائبة
127

للاستخلاف وقيل منصوب على أنه مفعول به أي أي عمل تعملون أخيرا أم شرا فنعاملكم بحسبه فلا يكون في كلمة كيف حينئذ دلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأعمال وكيفياتها لا ذواتها كما هو رأى القائل بل تكون حينئذ مستعارة لمعنى أي شئ
«وإذا تتلى عليهم» التفات من خطابهم إلى الغيبة إعراضا عنهم وتوجيها لخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعديد جناياتهم المضادة لما أريد منهم بالاستخلاف من تكذيب الرسول والكفر بالآيات البينات وغير ذلك كدأب من قبلهم من القرون المهلكة وصيغة المضارع للدلالة على تجدد جوابهم الآتي حسب تجدد التلاوة
«آياتنا» الدالة على حقية التوحيد وبطلان الشرك والإضافة لتشريف المضاف والترغيب في الإيمان به والترهيب عن تكذيبه
«بينات» حال كونها واضحات الدلالة على ذلك وإيراد فعل التلاوة مبنيا للمفعول مسندا إلى الآيات دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ببنائه للفاعل للإشعار بعدم الحاجة لتعين التالي وللإيذان بأن كلامهم في نفس المتلو دون التالي
«قال الذين لا يرجون لقاءنا» وضع الموصول موضع الضمير إشعارا بعلية ما في حيز الصلة للعظيمة المحكية عنهم وأنهم إنما اجترءوا عليها لعدم خوفهم من عقابه تعالى يوم اللقاء لإنكارهم له ولما هو من مباديه من البعث وذما لهم بذلك أي قالوا لمن يتلوها عليهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما لم يذكر إيذانا بتعينه
«ائت بقرآن غير هذا» أشاروا بهذا إلى القرآن المشتمل على تلك الآيات لا إلى نفسها فقط قصدا إلى إخراج الكل من البين أي ائت بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب والجزاء وما نكرهه من ذم آلهتنا ومعايبها والوعيد على عبادتها
«أو بدله» بتغيير ترتيبه بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى خالية عنها وإنما قالوه كيدا وطمعا في المساعدة ليتوسلوا به إلى الإلزام والاستهزاء به
«قل» لهم
«ما يكون لي» أي ما يصح وما يستقيم لي ولا يمكنني أصلا
«أن أبدله من تلقاء نفسي» أي من قبل نفسي وهو مصدر استعمل ظرفا وقرئ بفتح التاء وقصر الجواب ببيان امتناع ما اقترحوه على اقتراحهم الثاني للإيذان بأن استحالة ما اقترحوه أو لا من الظهور بحيث لا حاجة إلى بيانها وأن التصدي لذلك مع كونه ضائعا ربما يعد من قبيل المجاراة مع السفهاء إذا لا يصدر مثل ذلك الاقتراح عن العقلاء ولأن ما يدل على استحالة الثاني يدل على استحالة الأول بالطريق الأولى
«إن أتبع» أي ما أتبع في شئ مما آتى وأذر
«إلا ما يوحى إلي» من غير تغيير له في شئ أصلا على معنى قصر حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع ما يوحى إليه لا قصر اتباعه على ما يوحى إليه كما هو المتبادر من ظاهر العبارة كأنه قيل ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلى وقد مر تحقيق المقام في سورة الأنعام وهو تعليل لصدر الكلام فإن من شأنه اتباع الوحي على ما هو عليه لا يستبد بشئ دونه قطعا وفيه جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا به صلى الله عليه وسلم
128

بهذا السؤال من أن القرآن كلامه صلى الله عليه وسلم ولذلك قيد التبديل في الجواب بقوله من تلقاء نفسي وسماه عصيانا عظيما مستتبعا لعذاب عظيم بقوله تعالى
«إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» فإنه تعليل لمضمون ما قبله من امتناع التبديل واقتصار أمره صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي أي أخاف إن عصيته تعالى بتعاطى ما ليس لي من التبديل من تلقاء نفسي والإعراض عن اتباع الوحي عذاب يوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم اللقاء الذي لا يرجونه وفيه إشعار بأنهم استوجبوه بهذا الاقتراح والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتهويل أمر العصيان وإظهار كمال نزاهته صلى الله عليه وسلم عنه وإيراد اليوم بالتنوين التفخيمي ووصفه بالعظم لتهويل ما فيه من العذاب وتفظيعه ولا مساغ لحمل مقترحهم على التبديل والإتيان بقرآن آخر من جهة الوحي بتفسير قوله تعالى ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي بأنه لا يتسهل لي أن أبدله بالاستدعاء من جهة الوحي ما أتبع إلا ما يوحى إلي من غير صنع ما من الاستدعاء وغيره من قبلي لأنه يرده التعليل المذكور لا لأن المقترح حينئذ ليس فيه معصية أصلا كما توهم فإن استدعاء تبديل الآيات النازلة حسبما تقتضيه الحكمة التشعريعية بعضها ببعض لا سيما بموجب اقتراح الكفرة مما لا ريب في كونه معصية بل لأنه ليس فيه معصية الافتراء مع أنها المقصودة بما ذكر في التعليل ألا يرى إلى ما بعده من الآيتين الكريمتين فإنه صريح في أن مقترحهم الإتيان بغير القرآن وتبديله بطريق الافتراء وأن زعمهم في الأصل أيضا كذلك وقوله عز وجل
«قل لو شاء الله ما تلوته عليكم» تحقيق لحقية القرآن وكونه من عند الله تعالى إثر بيان بطلان ما اقترحوا الإتيان به واستحالته عبارة ودلالة وإنما صدر بالأمر المستقل
مع كونه داخلا تحت الأمر السابق إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه وإيذانا باستقلاله مفهوما وأسلوبا فإنه برهان دال على كونه بأمر الله تعالى ومشيئته كما سيأتي وما سبق مجرد أخبار باستحالة ما اقترحوه ومفعول شاء محذوف ينبئ عنه الجزاء لا غير ذلك كما قيل فإن مفعول المشيئة إنما يحذف إذا وقعت شرطا وكان مفعولها مضمون الجزاء ولم يكن في تعلقها به غرابة كما في قوله
* ولو شئت أن أبكى دما لبكيته
* حيث لم يحذف لفقدان الشرط الأخير ولأن المستلزم للجزاء أعنى عدم تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن عليهم إنما هو مشيئته تعالى له لا مشيئته لغير القرآن والمعنى أن الأمر كله منوط بمشيئته تعالى وليس لي منه شئ قط ولو شاء عدم تلاوتى له عليكم لا بأن شاء عدم تلاوتى له من تلقاء نفسي بل بأن لم لنزله على ولم يأمرني بتلاوته كما ينبئ عنه إيثار التلاوة على القراءة ما تلوته عليكم
«ولا أدراكم به» أي ولا أعلمكم به بواسطتى والتالي وهو عدم التلاوة والإدراء منتف فينتفى المقدم أعنى مشيئة عدم التلاوة ولا يخفى أنها مستلزمة لعدم مشيئة التلاوة قطعا فانتفاؤها مستلزم لانتفائه حتما وانتفاء عدم مشيئة التلاوة إنما يكون بتحقق مشيئة التلاوة فثبت أن تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن بمشيئته تعالى وأمره وإنما قيدنا الإدراء بكونه
129

بواسطته صلى الله عليه وسلم لأن عدم الإعلام مطلقا ليس من لوازم الشرط الذي هو مشيئة عدم تلاوته صلى الله عليه وسلم فلا يجوز نظمه في سلك الجزاء وفى إسناد عدم الإدراء إليه تعالى المنبىء عن استناد الإدراء إليه تعالى إيذان بأن لا دخل له صلى الله عليه وسلم في ذلك حسبما يقتضيه المقام وقرئ ولا أدرأتكم ولا أدرأكم بالهمزة فيهما على لغة من يقول أعطأت وأرضأت في أعطيت وأرضيت أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي ولا جعلتكم بتلاوته عليكم خصماء تدرءوننى بالجدال وقرئ ولا أنذرتكم به وقرئ لأدراكم بلام الجواب أي لو شاء الله ما تلوته عليكم أنا ولأعلمكم به على لسان غيرى على معنى إنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به أنا لأرسل به غيرى البتة أو على معنى أنه تعالى يمن على من يشاء فخصنى بهذه الكرامة
«فقد لبثت فيكم عمرا» تعليل للملازمة المستلزمة لكون تلاوته بمشيئة الله تعالى وأمره حسبما بين آنفا لكن لا بطريق الاستدلال عليها بعدم تلاوته صلى الله عليه وسلم فيما سبق بسبب مشيئته تعالى إياه بل بطريق الاستشهاد عليها بما شاهدوا منه صلى الله عليه وسلم في تلك المدة الطويلة من الأمور الدالة على استحالة كون التلاوة من جهته صلى الله عليه وسلم بلا وحى وعمرا نصب على التشبيه بظرف الزمان والمعنى قد أقمت فيما بينكم دهرا مديدا مقدار أربعين سنة تحفظون تفاصيل أحوالي طرا وتحيطون بما لدى خبرا
«من قبله» أي من قبل نزول القرآن لا أتعاطى شيئا مما يتعلق به لا من حيث نظمه المعجز ولا من حيث معناه الكاشف عن أسرار الحقائق وأحكام الشرائع
«أفلا تعقلون» أي ألا تلاحظون ذلك فلا تعقلون امتناع صدوره عن مثلي ووجوب كونه منزلا من عند الله العزيز الحكيم فإنه غير خاف على من له عقل سليم والحق الذي لا محيد عنه أن من له أدنى مسكة من العقل إذا تأمل في أمره صلى الله عليه وسلم وأنه نشأ فيما بينهم هذا الدهر الطويل من غير مصاحبة العلماء في شأن من الشؤون ولا مراجعة إليهم في فن من الفنون ولا مخالطة البلغاء في المفاوضة والحوار ولا خوض معهم في إنشاء الخطب والأشعار ثم أتى بكتاب بهرت فصاحته كل فصيح فائق وبذت بلاغته كل بليغ رائق وعلا نظمه كل منثور ومنظوم وحوى فحواه بدائع أصناف العلوم كاشف عن أسرار الغيب من وراء أستار الكمون ناطق بأخبار ما قد كان وما سيكون مصدق لما بين يديه من الكتب المنزلة مهيمن عليها في أحكامها المجملة والمفصلة لا يبقى عنده شائب اشتباه في أنه وحى منزل من عند الله هذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الجمهور ولكن الأنسب ببناء الجواب فيما سلف على مجرد امتناع صدور التغيير والتبديل عنه صلى الله عليه وسلم لكونه معصية موجبة للعذاب العظيم واقتصار حاله صلى الله عليه وسلم على اتباع الوحي وامتناع الاستبداد بالرأي من غير تعرض هناك ولا ههنا لكون القرآن في نفسه أمرا خارجا عن طوق البشر ولا لكونه صلى الله عليه وسلم غير قادر على الإتيان بمثله أن يستشهد ههنا على المطلب بملا يلائم ذلك من أحواله المستمرة في تلك الكدة المتطاولة من كمال نزاهته صلى الله عليه وسلم عما يوهم شائبة صدور الكذب والافتراء عنه في حق أحد كائنا من كان كما ينبئ عنه تعقيبه بتظليم المفترى على الله تعالى والمعنى قد لبثت فيما بين ظهرانيكم قبل الوحي لا أتعرض لأحد قط بتحكم ولا جدال ولا أحوم حول مقال فيه شائبة شبهة فضلا عما فيه كذب أو افتراء ألا تلاحظون فلا تعقلون أن من هذا شأنه المطرد في هذا العهد البعيد مستحيل أن يفترى على الله عز وجل ويتحكم على كافة الخلق بالأوامر والنواهي الموجبة لسلب الأموال وسفك الدماء ونحو ذلك وأن ما أتى به وحى
130

مبين تنزيل من رب العالمين وقوله عز وجل
«فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» استفهام إنكاري معناه الجحد أي لا أحد أظلم منه على معنى أنه أظلم من كل ظالم وإن كان سبك التركيب مفيدا لإنكار أن يكون أحد أظلم منه من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها فإنه إذا قيل من أفضل من فلان أولا أعلم منه يفهم منه حتما أنه أفضل من كل فاضل وأعلم من كل عالم وزيادة قوله تعالى كذبا مع أن الافتراء لا يكون إلا كذاك للإيذان بأن ما أضافوه إليه ضمنا وحملوه صلى الله عليه وسلم عليه صريحا مع كونه افتراء على الله تعالى كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادى عما ذكر من الافتراء على الله سبحانه
«أو كذب بآياته» فكفر بها وهذا تظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وحملهم على أنه من جهته صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن بمشيئته تعالى وأمره فلا مجال لحمل الافتراء على الافتراء باتخاذ الولد والشريك أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه تعالى بأن يختلق كلاما فيقول هذا من عند الله أو
يبدل بعض آياته تعالى ببعض كما تجوزون ذلك في شأني وكذلك من كذب بآياته تعالى كما تفعلونه أظلم من كل ظالم
«أنه» الضمير للشأن وقع اسما لأن والخبر ما يعقبه من الجملة ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدة تصديرها به الإيذان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده عليه فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن هذا أي
«لا يفلح المجرمون» أي لا ينجون من محذور ولا يظفرون بمطلوب والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفترى والمكذب إندراجا أوليا
«ويعبدون من دون الله» حكاية لجناية أخرى لهم نشأت عنها جنايتهم الأولى معطوفة على قوله تعالى وإذا تتلى عليهم الآية عطف قصة على قصة ومن دون متعلق بيعبدون ومحله النصب على الحالية من فاعله أي متجاوزين الله سبحانه لا بمعنى ترك عبادته بالكلية بل بمعنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قرينا لعبادة الأصنام كما يفصح عنه سياق النطم الكريم «ما لا يضرهم ولا ينفعهم» أي ما ليس من شأنه الضر والنفع من الأصنام التي هي جمادات وما موصولة أو موصوفة وتقديم نفى الضرر لأن أدنى أحكام العبادة دفع الضرر الذي هو أول المنافع والعبادة أمر حادث مسبوق بالعدم الذي هو مظنة الضرر فحيث لم تقدر الأصنام على الضرر لم يوجد لإحداث العبادة سبب وقيل لا يضرهم إن تركوا عبادتها ولا ينفعهم إن عبدوها كان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة عزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة
«ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله» عن النضر بن الحرث إذا كان يوم القيامة يشفع لي اللات قيل إنهم كانوا يعتقدون أن المتولى لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلاك
131

فعينوا لذلك الروح صنما معينا من الأصنام واشتغلوا بعبادته ومقصودهم ذلك الروح ثم اعتقدوا أن ذلك الروح يكون عند الإله الأعظم مشتغلا بعبوديته وقيل إنهم كانوا يعبدون الكواكب فوضعوا لها أصناما معينة واشتغلوا بعبادتها قصدا إلى عبادة الكواكب وقيل إنهم وضعوا طلسمات معينة على تلك الأصنام ثم تقربوا إليها وقيل إنهم وضعوا هذه الأصنام على صور أنبيائهم وأكابرهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر يشفعون لهم عند الله تعالى
«قل» تبكيتا لهم
«أتنبئون الله بما لا يعلم» أي أتخبرونه بما لا وجود له أصلا وهو كون الأصنام شفعاءهم عند الله تعالى إذ لولاه لعلمه علام الغيوب وفيه تقريع لهم وتهكم بهم وبما يدعونه من المحال الذي لا يكاد يدخل تحت الصحة والإمكان وقرئ أتنبيون بالتخفيف وقوله تعالى
«في السماوات ولا في الأرض» حال من العائد المحذوف في يعلم مؤكدة للنفي لأن ما لا يوجد فيهما فهو منتف عادة
«سبحانه وتعالى عما يشركون» عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند الله تعالى وقرئ تشركون بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به وعلى الأول هو اعتراض تذييلى من جهته سبحانه وتعالى
«وما كان الناس إلا أمة واحدة» بيان لأن التوحيد والإسلام ملة قديمة أجمعت عليها الناس قاطبة فطرة وتشريعا وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافا للجمهور وشقا لعصا الجماعة وأما حمل اتخاذهم على الاتفاق على الضلال عند الفترة واختلافهم على ما كان منهم من الاتباع والإصرار فمما لا احتمال له أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل وقيل إلى زمن إدريس عليه السلام وقيل إلى زمن نوح عليه السلام وقيل من حين الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا إلى أن ظهر فيما بينهم الكفر وقيل من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام فالمراد بالناس العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك
«فاختلفوا» بأن كفر بعضهم وثبت آخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر لا أن كلا منهما أحدث ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر فإن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل منهما مبطل حينئذ فلا يتصور أن يقضى بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل والفاء التعقيبية لا تنافى امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوث الاتفاق
«ولولا كلمة سبقت من ربك» بتأخير القضاء بينهم أو بتأخير العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل
«لقضي بينهم» عاجلا
«فيما فيه يختلفون» بتمييز الحق من الباطل بإبقاء المحق وإهلاك المبطل وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية وللدلالة على الاستمرار
132

«ويقولون» حكاية لجناية أخرى لهم معطوفة على قوله تعالى ويعبدون وصيغة المضارع لاستحضار صورة مقالتهم الشنعاء والدلالة على الاستمرار والقائلون أهل مكة
«لولا أنزل عليه آية من ربه» أرادوا آية من الآيات التي اقترحوها كأنهم لفرط العتو والفساد ونهاية التمادي في المكابرة والعناد لم يعدوا البينات النازلة عليه صلى الله عليه وسلم من جنس الآيات واقترحوا غيرها مع أنه قد أنزل عليه من الآيات الباهرة والمعجزات المتكاثرة ما يضطرهم إلى الانقياد والقبول لو كانوا من أرباب العقول
«فقل» لهم في الجواب
«إنما الغيب لله» اللام للاختصاص العلمي دون التكويني فإن الغيب والشهادة في ذلك الاختصاص سيان والمعنى أن ما اقترحتموه وزعمتم أنه من لوازم النبوة وعلقتم إيمانكم بنزوله من الغيوب المختصة بالله تعالى لا وقوف لي عليه
«فانتظروا» نزوله
«إني معكم من المنتظرين» أي لما يفعل الله بكم لاجترائكم على مثل هذه العظيمة من جحود الآيات واقتراح غيرها وجعل الغيب عبارة عن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة يأباه ترتيب الأمر بالانتظار على اختصاص الغيب به تعالى
«وإذا أذقنا الناس رحمة» صحة وسعة
«من بعد ضراء مستهم» أي خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم وإسناد المساس إلى الضراء بعد إسناد الإذاقة إلى ضمير الجلالة من الآداب القرآنية كما في قوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين ونظائره قيل سلط الله تعالى على أهل مكة القحط سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم بالحيا فطفقوا يطعنون في آياته تعالى ويعادون رسوله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه وذلك قوله تعالى
«إذا لهم مكر في آياتنا» أي بالطعن فيها وعدم الاعتداد بها والاحتيال في دفعها وإذا الأولى شرطية والثانية جوابها كأنه قيل فاجؤوا وقع المكر منهم وتنكير مكر للتفخيم وفى متعلقة بالاستقرار الذي يتعلق به اللام
«قل الله أسرع مكرا» أي أعجل عقوبة أي عذابه أسرع وصولا إليكم مما يأتي منكم في دفع الحق وتسمية العقوبة بالمكر لوقوعها في مقابلة مكرهم وجودا أو ذكرا
«إن رسلنا» الذين يحفظون أعمالكم والإضافة للتشريف
«يكتبون ما تمكرون» أي مكركم أو ما تمكرونه وهو تحقيق للانتقام منهم وتنبيه على أن ما دبروا في إخفائه غير خاف على الحفظة فضلا عن العليم الخبير وصيغة الاستقبال في الفعلين للدلالة على الاستمرار التجددي والجملة تعليل من جهته تعالى لأسرعية مكره سبحانه غير داخل في الكلام الملقن كقوله تعالى ولو جئنا بمثله مددا فإن كتابة الرسل لما يمكرون من مبادئ بطلان مكرهم وتخلف أثره عنه بالكلية وفيه من المبالغة ما لا يوصف وتلوين الخطاب بصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم للتشديد في التوبيخ وقرئ على لفظ الغيبة فيكون حينئذ تعليلا لما ذكر أو للأمر
133

«هو الذي يسيركم» كلام مستأنف مسوق لبيان جناية أخرى لهم مبنية على ما مر أنفا من اختلاف حالهم حسب اختلاف ما يعتريهم من السراء والضراء أي يمكنكم من السير تمكينا مستمرا عند الملابسة به وقبلها
«في البر» مشاة وركبانا وقرئ ينشركم من النشر ومنه قوله عز وجل بشر تنتشرون
«والبحر حتى إذا كنتم في الفلك» أي السفن فإنه جمع فلك على زنة أسد جمع أسد لا على وزن قفل وغاية التسيير ليست ابتداء ركوبهم فيها بل مضمون الشرطية بتمامه كما ينبئ عنه إيثار الكون المؤذن بالدوام على الركوب المشعر بالحدوث
«وجرين» أي السفن
«بهم» بالذين فيها والالتفات إلى الغيبة للإيذان بما لهم من سوء الحال الموجب للإعراض عنهم كأنه يذكر لغيرهم مساوى أحوالهم ليعجبهم منها ويستدعى منه الإنكار والتقبيح وقيل ليس فيه التفات بل معنى قوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك إذا كان بعضكم فيها إذ الخطاب للكل ومنهم المسيرون في البر فالضمير الغائب عائد إلى ذلك المضاف المقدر كما في قوله تعالى أو كظلمات في بحر لجي يغشاه أي أو كذى ظلمات يغشاه موج
«بريح طيبة» لينة الهبوب موافقة لمقصدهم
«وفرحوا بها» بتلك الريح لطيبها وموافقتها
«جاءتها» جواب إذا والضمير المنصوب للريح الطيبة أي تلقتها واستولت عليها من طرف مخالف لها فإن الهبوب على وفقها لا يسمى مجيئا لريح أخرى عادة بل هو اشتداد للريح الأولى وقيل للفلك والأول أظهر لاستلزامه للثاني من غير عكس لأن الهبوب على طريقة الريح اللينة يعد مجيئا بالنسبة إلى الفلك دون الريح اللينة مع أنه لا يستتبع تلاطم الأمواج الموجب لمجيئها من كل مكان ولأن التهويل في بيان استيلائها على ما فرحوا به وعلقوا به حبال رجائهم أكثر
«ريح عاصف» أي ذات عصف وقيل العصوف مختص بالريح فلا حاجة إلى الفارق وقيل الريح قد يذكر
«وجاءهم الموج» في الفلك
«من كل مكان» أي من أمكنة مجىء الموج عادة ولا بعد في مجيئه من جميع الجوانب أيضا إذ لا يجب أن يكون مجيئه من جهة هبوب الريح فقط بل قد يكون من غيرها بحسب أسباب تتفق له
«وظنوا أنهم أحيط بهم» أي هلكوا فإن ذلك مثل في الهلاك أصله إحاطة العدو بالحي أو سدت عليهم مسالك الخلاص
«دعوا الله» بدل من ظنوا بدل اشتمال لما بينهما من الملابسة والتلازم أو استئناف مبنى على سؤال ينساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا صنعوا فقيل دعوا الله
«مخلصين له الدين» من غير أن يشركوا به شيئا من آلهتهم لا مخصصين للدعاء به تعالى فقط بل للعبادة أيضا فإنهم بمجرد تخصيص الدعاء به تعالى لا يكونون مخلصين له الدين
«لئن أنجيتنا» اللام موطئة للقسم على إرادة القول أي قائلين والله لئن أنجيتنا
«من هذه» الورطة
«لنكونن» البتة بعد ذلك أبدا
«من الشاكرين» لنعمك التي من جملتها هذه النعمة المسئولة وقيل الجملة مفعول دعوا لأن الدعاء من قبيل القول والأول هو
134

الأولى لاستدعاء الثاني لاقتصار دعائهم على ذلك فقط وفى قوله لنكونن من الشاكرين من المبالغة في الدلالة على كونهم ثابتين في الشكر مثابرين عليه منتظمين في سلك المنعوتين بالشكر الراسخين فيه ما ليس في أن يقال لنشكرن
«فلما أنجاهم» مما غشيهم من الكربة والفاء للدلالة على سرعة الإجابة
«إذا هم يبغون في الأرض» أي فاجئوا الفساد فيها وسارعوا إليه متراقين في ذلك متجاوزين عما كانوا عليه من حدود العيث من قولهم بغى الجرح إذا ترامى في الفساد وزيادة في الأرض للدلالة على شمول بغيهم لأقطارها وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار وقوله تعالى
«بغير الحق» تأكيد لما يفيده البغى أو معناه أنه بغير الحق عندهم أيضا بأن يكون ذلك ظلما ظاهرا لا يخفى قبحه على أحد كما في قوله تعالى ويقتلون النبيين بغير الحق وأما ما قيل من أنه للاحتراز عن البغى بحق كتخريب الغزاة ديار الكفرة وقطع أشجارهم وإحراق زرعهم فلا يساعده النظم الكريم لابتنائه على كون البغى بمعنى إفساد صورة الشيء وإبطال منفعته دون ما ذكر من المعنى اللائق بحال المفسدين
«يا أيها الناس» توجيه للخطاب إلى أولئك الباغين للتشديد في التهديد والمبالغة في الوعيد
«إنما بغيكم» الذي تتعاطونه وهو مبتدأ وقوله تعالى
«على أنفسكم» خبره أي عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم وإن ظن كذلك وقوله تعالى
«متاع الحياة الدنيا» بيان لكون ما فيه من المنفعة العاجلة شيئا غير معتد به سريع الزوال دائم الوبال وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا وقيل على أنه مصدر وقع موقع الحال أي متمتعين بالحياة الدنيا والعامل هو الاستقرار الذي في الخبر لا نفس البغى لأنه يؤدى إلى الفصل بين المصدر ومعموله بالخبر ولا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته وأنت خبير بأنه ليس في تقييد كون بغيهم على أنفسهم بحال تمتعهم بالحياة الدنيا معنى يعتد به وقيل على أنه ظرف زمان نحو مقدم الحاج أي زمن متاع الحياة الدنيا وفيه ما مر بعينه وقيل على أنه مفعول لفعل دل عليه المصدر أي تبغون متاع الحياة الدنيا ولا يخفى أنه لا يدل على البغى بمعنى الطلب وجعل المصدر أيضا بمعناه مما يخل بجزالة النظم الكريم لأن الاستئناف لبيان سوء عاقبة ما حكى عنهم من البغى المفسر بالإفساد المفرط اللائق بحالهم فأي مناسبة بينه وبين البغى بمعنى الطلب وجعل الأول أيضا بمعناه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه وقيل على أنه مفعول له أي لأجل متاع الحياة الدنيا والعامل ما ذكر من الاستقرار وفيه أن المعلل بما ذكر نفس البغى لا كونه على أنفسهم وقيل أنفسهم وقيل العامل فيه فعل مدلول عليه بالمصدر أي تبغون لأجل متاع الحياة الدنيا على أن الجملة مستأنفة وقيل على أنه مفعول صريح للمصدر وعلى أنفسكم ظرف لغو متعلق به والمراد بالأنفس الجنس والخبر محذوف لطول الكلام والتقدير إنما بغيكم على أبناء جنسكم متاع الحياة الدنيا محذورا أو ظاهر الفساد أو نحو ذلك وفيه ما مر من ابتنائه على ما لا يليق بالمقام
135

من كون البغى بمعنى الطلب نعم لو جعل نصبه على العلة أي إنما بغيكم على أبناء جنسكم لأجل متاع الحياة الدنيا محذور كما اختاره بعضهم لكان له وجه في الجملة لكن الحق الذي تقتضيه جزالة التنزيل إنما هو الأول وقرئ متاع بالرفع على أنه الخبر والظرف صلة للمصدر أو خبر ثان أو خبر لمبتدأ محذوف أي هو متاع الخ كما في قوله تعالى إلا ساعة من نهار بلاغ أي هذا بلاغ فالمراد بأنفسهم على الوجه الأول أبناء جنسهم وإنما عبر عنهم بذلك هزا لشفقتهم عليهم وحثا لهم على ترك إيثار التمتع المذكور على حقوقهم ولا مجال للحمل على الحقيقة لأن كون بغيهم وبالا عليهم ليس بثابت عندهم حسبما يقتضيه ما حكى عنهم ولم يخبر به بعد حتى يجعل من تتمة الكلام ويجعل كونه متاعا مقصود الإفادة على أن عنوان كونه وبالا عليهم قادح في كونه متاعا فضلا عن كونه من مبادئ ثبوته للمبتدأ كما هو المتبادر من السوق وأما كون البغى على أبناء الجنس فمعلوم الثبوت عندهم ومتضمن لمبادى التمتع من أخذ المال والاستيلاء على الناس وغير ذلك وأما على الوجهين الأخيرين فلا موجب للعدول عن الحقيقة فإن المبتدأ إما نفس البغى أو الضمير العائد إليه من حيث هو هو لا من حيث كونه وبالا عليهم كما في صورة كون الظرف صلة للمصدر فتدبر وقرئ متاعا الحياة الدنيا أما نصب متاعا فعلى ما مر وأما نصب الحياة فعلى أنه بدل من متاعا بدل اشتمال وقيل على أنه مفعول به لمتاعا إذا لم يكن انتصابه على المصدرية لأن المصدر المؤكد لا يعمل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تمكر ولا تعن ماكرا ولا تبغ ولا تعن باغيا ولا تنكث ولا تعن ناكثا وكان يتلوها وقال محمد بن كعب ثلاث من كن فيه كن عليه البغى والنكث والمكر قال تعالى إنما بغيكم على أنفسكم وما يمكرون إلا بأنفسهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه وعنه صلى الله عليه وسلم أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغى واليمين الفاجرة وروى ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا البغى وعقوق الوالدين وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما لو بغى جبل على جبل لدك الباغي
«ثم إلينا مرجعكم» عطف على ما مر من الجملة المستأنفة المقدرة كأنه قيل تتمتعون متاع الحياة الدنيا ثم ترجعون إلينا وإنما غير السبك إلى الجملة الاسمية مع تقديم الجار والمجرور للدلالة على الثبات والقصر
«فننبئكم بما كنتم تعملون» في الدنيا على الاستمرار من البغى وهو وعيد بالجزاء والعذاب كقول الرجل لمن يتوعده سأخبرك بما فعلت وفيه نكتة خفية مبنية على حكمة أبية وهى أن كل ما يظهر في هذه النشأة من الأعيان والأعراض فإنما يظهر بصورة مغايرة لصورته الحقيقية التي بها يظهر في النشأة الآخرة فإن المعاصي مثلا سموم قاتلة قد برزت في الدنيا بصورة تستحسنها نفوس العصاة وكذا الطاعات مع كونها أحسن الأحاسن قد ظهرت عندهم بصور مكروهة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم حفت الجبة بالمكاره وحفت النار بالشهوات فالبغى في هذه النشأة وإن برز بصورة تشتهيها البغاة وتستحسنها الغواة لتمتعهم به من حيث أخذ المال والتشفى من الأعداء ونحو
ذلك لكن ذلك ليس بتمتع في الحقيقة بل هو تضرر من حيث لا يحتسبون وإنما يظهر لهم ذلك عند إبراز ما كانوا يعملونه من البغى بصورة الحقيقة المضادة لما كانوا يشاهدونه على ذلك من الصورة وهو المراد بالتنبئة المذكورة والله سبحانه وتعالى أعلم
136

«إنما مثل الحياة الدنيا» كلام مستأنف مسوق لبيان شأن الحياة الدنيا وقصر مدة التمتع بها وقرب زمان الرجوع الموعود وقد شبه حالها العجيبة الشأن البديعة المثال المنتظمة لغرابتها في سلك الأمثال في سرعة تقضيها وانصرام نعيمها غب إقبالها واغترار الناس بها بحال ما على الأرض من أنواع النبات في زوال رونقها ونضارتها فجأة وذهابها حطاما لم يبق لها أثر أصلا بعد ما كانت غضة طرية قد التف بعضها ببعض وزينت الأرض بألوانها وتقوت بعد ضعفها بحيث طمع الناس وظنوا أنها سلمت من الجوائح وليس المشبه به ما دخله الكاف في قوله عز وجل
«كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض» بل ما يفهم من الكلام فإنه من التشبيه المركب
«مما يأكل الناس والأنعام» من البقول والزروع والحشيش
«حتى إذا أخذت الأرض زخرفها» جعلت الأرض في تزينها بما عليها من أصناف النباتات وأشكالها وألوانها المختلفة المونقة آخذة زخرفها على طريقة التمثيل بالعروس التي قد أخذت من ألوان الثياب والزين فتزينت بها وازينت أصله تزينت فأدغم وقرئ على الأصل وقرئ وأزينت كأغيلت من غير إعلال والمعنى صارت ذات زينة وازيانت كابياضت
«وظن أهلها أنهم قادرون عليها» متمكنون من حصدها ورفع غلتها
«أتاها أمرنا» جواب إذا أي ضرب زرعها ما يجتاحه من الآفات والعاهات
«ليلا أو نهارا فجعلناها» أي زرعها وساء ما عليها
«حصيدا» أي شبيها بما حصد من أصله
«كأن لم تغن» كأن لم يغن زرعها والمضاف محذوف للمبالغة وقرئ بتذكير الفعل
«بالأمس» أي فيما قبل بزمان قريب فإن الأمس مثل في ذلك كأنه قيل لم تغن آنفا
«كذلك» أي مثل ذلك التفصيل البديع
«نفصل الآيات» أي الآيات القرآنية التي من جملتها هذه الآيات المنبهة على أحوال الحياة الدنيا أي نوضحها ونبينها
«لقوم يتفكرون» في تضاعيفها ويقفون على معانيها وتخصيص تفصيلها بهم لأنهم المنتفعون بها ويجوز أن يراد بالآيات ما ذكر في أثناء التمثيل من الكائنات والفاسدات وبتفصيلها تصريفها على الترتيب المحكى إيجادا وإعداما فإنها آيات وعلامات يستدل بها من يتفكر فيها على أحوال الحياة الدنيا حالا ومآلا
«والله يدعو إلى دار السلام» ترغيب للناس في الحياة الأخروية الباقية إثر ترغيبهم عن الحياة الدنيا الفانية أي يدعو الناس جميعا إلى دار السلامة عن كل مكروه وآفة وهى الجنة وإنما ذكرت
137

بهذا الاسم لذكر الدنيا بما يقابله من كونها معرضا للآفات أو إلى دار الله تعالى وتخصيص الإضافة التشريفية بهذا الاسم الكريم للتنبيه على ذلك أو إلى دار يسلم الله أو الملائكة فيها على من يدخلها أو يسلم بعضهم على بعض
«ويهدي من يشاء» هدايته منهم
«إلى صراط مستقيم» موصل إليها وهو الإسلام والتزود بالتقوى وفى تعميم الدعوة وتخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة وأن من أصر على الضلالة لم يرد الله رشده
«للذين أحسنوا» أي أعمالهم أي عملوها على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك
«الحسنى» أي المثوبة الحسنى
«وزيادة» أي وما يزيد على تلك المثوبة تفضلا لقوله عز اسمه ويزيدهم من فضله وقيل الحسنى مثل حسناتهم والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر وقيل الزيادة مغفرة من الله ورضوان وقيل الحسنى الجنة والزيادة اللقاء
«ولا يرهق وجوههم» أي لا يغشاها
«قتر» غبرة فيها سواد
«ولا ذلة» أي أثر هوان وكسوف بال والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من الحزن وسوء الحال والتنكير للتحقير أي شئ منهما والجملة مستأنفة لبيان أمنهم من المكاره إثر بيان فوزهم بالمطالب والثاني وإن اقتضى الأول إلا أنه ذكر إذكارا بما ينقذهم الله تعالى منه برحمته وتقديم المفعول على الفاعل للاهتمام ببيان أن المصون من الرهق أشرف أعضائهم وللتشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة لوروده فعند وروده عليها يتمكن عندها فضل تمكن ولأن في الفاعل ضرب تفصيل كما في قوله تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان وقوله عز وجل وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين
«أولئك» إشارة إلى المذكورين باعتبار اتصافهم بالصفات المذكورة وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وسمو طبقتهم أي أولئك الموصوفون بما ذكر من النعوت الجميلة الفائزون بالمثوبات الناجون عن المكاره
«أصحاب الجنة هم فيها خالدون» بلا زوال دائمون بلا انتقال
«والذين كسبوا السيئات» أي الشرك والمعاصي وهو مبتدأ بتقدير المضاف خبره قوله تعالى
«جزاء سيئة بمثلها» أي جزاء الذين كسبوا السيئات أن يجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها كما يزاد في الحسنة وتغيير السبك حيث لم يقل وللذين كسبوا السيئات السوأى لمراعاة ما بين الفريقين من كمال التنائى والتباين وإيراد الكسب للإيذان بأن ذلك إنما هو لسوء صنيعهم وبسبب جنايتهم على أنفسهم أو الموصول معطوف على الموصول الأول كأنه
138

قيل وللذين كسبوا السيئات جزاء بسيئة مثلها كقولك في الدار زيد والحجرة عمرو وفيه دلالة على أن المراد بالزيادة الفضل
«وترهقهم ذلة» وأي ذلة كما ينبئ عنه التنوين التفخيمى وفى إسناد الرهق إلى أنفسهم دون وجوههم إيذان بأنها محيطة بهم غاشية لهم جميعا وقرئ يرهقهم بالياء التحتانية
«ما لهم من الله من عاصم» أي لا يعصمهم أحد من سخطه وعذابه تعالى أو ما لهم من عنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين وفى نفى العاصم من المبالغة في نفى العصمة ما لا يخفى والجملة مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم
«كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل» لفرط سوادها وظلمتها
«مظلما» حال من الليل والعامل فيه أغشيت لأنه العامل في قطعا وهو موصوف بالجار والمجرور والعامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في من الليل وقرئ قطعا بسكون الطاء وهو طائفة من الليل قال
[افتحي الباب وانظرى في النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم]
* فيجوز كون مظلما صفة له أو حالا منه وقرئ كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم والجملة كما قبلها مستأنفة أو حال من ضمير ترهقهم
«أولئك» أي الموصوفون بما ذكر من الصفات الذميمة
«أصحاب النار هم فيها خالدون» وحيث كانت الآية الكريمة في حق الكفار بشهادة السياق والسباق لم يكن فيها تمسك للوعيدية
«ويوم نحشرهم» كلام مستأنف مسوق لبيان بعض أخر من أحوالهم الفظيعة وتأخيره في الذكر مع تقدمه في الوجود على بعض أحوالهم المحكية سابقا للإيذان باستقلال كل من السابق واللاحق بالاعتبار ولو روعى الترتيب الخارجي لعد الكل شيئا واحدا كما مر في قصة البقرة ولذلك فصل عما قبله ويوم منصوب على المفعولية بمضمر أي أنذرهم أو ذكرهم وضمير نحشرهم لكلا الفريقين الذي أحسنوا والذين كسبوا السيئات لأنه المتبادر من قوله تعالى
«جميعا» ومن إفراد الفريق الثاني بالذكر في قوله تعالى
«ثم نقول للذين أشركوا» أي نقول للمشركين من بينهم ولأن توبيخهم وتهديدهم على رؤوس الأشهاد أفظع والإخبار بحشر الكل في تهويل اليوم أدخل وتخصيص وصف إشراكهم بالذكر في حيز الصلة من بين سائر ما اكتسبوه من السيئات لابتناء التوبيخ والتقريع عليه مع ما فيه من الإيذان بكونه معظم جناياتهم وعمدة سيئاتهم وقيل للفريق الثاني خاصة فيكون وضع الموصول موضع الضمير لما ذكر آنفا
«مكانكم» نصب على أنه في الأصل ظرف لفعل أقيم مقامه لا على أنه اسم فعل وحركته حركة بناء كما هو رأى الفارسي أي ألزموه حتى تنظروا ما يفعل بكم
«أنتم» تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله لسده مسده
«وشركاؤكم» عطف عليه وقرئ بالنصب على أن الواو بمعنى مع
«فزيلنا» من زلت الشئ عن مكانه أزيله أي أزلته والتضعيف للتكثير لا للتعدية وقرئ فزايلنا بمعناه نحو كلمته وكالمته وهو معطوف على نقول وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق الموروث لزيادة التوبيخ والتحسير والفاء للدلالة على وقوع التزييل ومباديه عقيب الخطاب من غير مهلة إيذانا
139

بكمال رخاوة ما بين الفريقين من العلاقة والوصلة أي ففرقنا بينهم وقطعنا أقرانهم والوصل التي كانت بينهم في الدنيا لكن لا من الجانبين بل من جانب العبدة فقط لعدم احتمال شمول الشركاء للشياطين كما سيجئ فخابت آمالهم وانصرمت عرى أطماعهم وحصل لهم اليأس الكلى من حصول ما كانوا يرجونه من جهتهم والحال وإن كانت معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب لكن هذه المرتبة من اليقين إنما حصلت عند المشاهدة والمشافهة وقيل المراد بالتزييل التفريق الحسى أي فباعدنا بينهم بعد الجمع في الموقف وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم كما في قوله أينما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا فالواو حينئذ في قوله تعالى «وقال شركاؤهم» حالية بتقدير كلمة قد عند من يشترطها وبدونه عند غيره لا عاطفة كما في التفسير الأول لاستدعاء المحاورة المحاضرة الفائتة بالمباعدة وليس في ترتيب التزييل بهذا المعنى على الأمر بلزوم المكان ما في ترتيبه عليه بالمعنى الأول من النكتة المذكورة ليصار لأجل رعايتها إلى تغيير الترتيب الخارجي فإن المباعدة بعد المحاورة حتما وأما قطع الأقران والعلائق فليس كذلك بل ابتداؤه حاصل من حين الحشر بل بعض مراتبه حاصل قبله أيضا وإنما الحاصل عند المحاورة أقصاها كما أشير إليه فلا اعتداد بما في تقديمه من التغيير لا سيما مع رعاية ما ذكر من النكتة ولو سلم تأخر جميع مراتبه عن المحاورة فمراعاة تلك النكتة كافية في استدعاء تقديمه عليها ويجوز أن تكون حالية على هذا التقدير أيضا والمراد بالشركاء قيل الملائكة وعزيز والمسيح وغيرهم ممن عبدوه من أولى العلم ففيه تأييد لرجوع الضمير إلى الكل وقولهم
«ما كنتم إيانا تعبدون» عبارة عن تبرئهم من عبادتهم وأنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم وشياطينهم الذين أغووهم لأنها الآمرة لهم بالإشراك دونهم كقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم الآية وقيل الأصنام ينطقها الله الذي أنطق كل شئ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها
«فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم» فإنه العليم الخبير
«إن كنا عن عبادتكم لغافلين» أي عن عبادتكم لنا وتركه للظهور وللإيذان بكمال الغفلة عنها والغفلة عبارة عن عدم الارتضاء وإلا فعدم شعور الملائكة بعبادتهم لهم غير ظاهر وهذا يقطع احتمال كون المراد بالشركاء الشياطين كما قيل فإن ارتضاءهم بإشراكهم مما لا ريب فيه وإن لم يكونوا مجبرين لهم على ذلك وإن مخففة من إن واللام فارقة هنالك أي في ذلك المقام الدهش أو في ذلك الوقت على استعارة ظرف المكان للزمان تبلو أي تختبر وتذوق
«كل نفس» مؤمنة كانت أو كافرة سعيدة أو شقية
«ما أسلفت» من العمل وتعاينه بكنهه مستتبعا لآثاره من نفع أو ضر وخير أو شر وأما ما علمت من حالها من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ فأمر مجمل وقرئ نبلو بنون العظمة ونصب كل وإبدال ما منه أي نعاملها معاملة من يبلوها ويتعرف أحوالها من السعادة والشقاوة باختبار ما أسلفت من العمل ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء أي العذاب
140

عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فيكون ما منصوبة بنزع الخافض وقرئ تتلو أي تتبع لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار أو تقرأ في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر
«وردوا» الضمير للذين أشركوا على أنه معطوف على زيلنا وما عطف عليه قوله عز وجل «هنالك تبلو» الخ اعتراض في أثناء الحكاية مقرر لمضمونها
«إلى الله» أي إلى جزائه وعقابه
«مولاهم» ربهم
«الحق» أي المتحقق الصادق ربوبيته لا ما اتخذوه ربا باطلا وقرئ الحق بالنصب على المدح كقولهم الحمد لله أهل الحمد لله أهل الحمد أو على المصدر المؤكد
«وضل عنهم» وضاع أي ظهر ضياعه وضلاله لا أنه كان قبل ذلك غير ضال أو ضل في اعتقادهم أيضا
«ما كانوا يفترون» من أن آلهتهم تشفع لهم أو ما كانوا يدعون أنها آلهة هذا وجعل الضمير في ردوا للنفوس المدلول عليها بكل نفس على أنه معطوف على تبلو وأن العدول إلى الماضي للدلالة على التحقق والتقرر وأن إيثار صيغة الجمع للإيذان بأن ردهم إلى الله يكون على طريقة الاجتماع لا يلائمه التعرض لوصف الحقية في قوله تعالى مولاهم الحق فإنه للتعريض بالمردودين حسبما أشير إليه ولئن اكتفى فيه بالتعريض ببعضهم أو حمل الحق على معنى العدل في الثواب والعقاب فقوله عز وجل وضل عنهم ما كانوا يفترون مما لا مجال فيه للتدارك قطعا فإن ما فيه من الضمائر الثلاثة للمشركين فيلزم التفكيك حتما وتخصيص كل نفس بالنفوس المشركة مع عموم البلوى للكل يأباه مقام تهويل المقام والله تعالى أعلم
«قل» أي لأولئك المشركين الذين حكيت أحوالهم وبين ما يؤدى إليه أعمالهم احتجاجا على حقية التوحيد وبطلان ما هم عليه من الإشراك
«من يرزقكم من السماء والأرض» أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية أو من كل واحدة منهما توسعة عليكم وقيل من لبيان كلمة من على حذف المضاف أي من أهل السماء والأرض
«أم من يملك السمع والأبصار» أم منقطعة وما فيها من كلمة بل للإضراب عن الاستفهام الأول لكن لا على طريقة الإبطال بل على وجه الانتقال وصرف الكلام عنه إلى استفهام آخر تنبيها على كفايته فيما هو المقصود أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما على هذه الفطرة العجيبة أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما من أدنى شيء يصيبهما
«ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي» أي ومن يحيى ويميت أو ومن ينشئ الحيوان من النطفة والنطفة من الحيوان
«ومن يدبر الأمر» أي ومن يلي تدبير أمر العالم جميعا وهو تعميم بعد تخصيص بعض ما اندرج تحته من الأمور الظاهرة بالذكر
«فسيقولون» بلا تلعثم ولا تأخير
«الله» إذ لا مجال للمكابرة لغاية وضوحه والخبر محذوف أي الله يفعل ما ذكر من الأفاعيل لا غيره فقل عند ذلك تبكيتا لهم أفلا تتقون الهمزة لإنكار عدم الاتقاء بمعنى إنكار الواقع كما في أتضرب أباك لا بمعنى إنكار الوقوع كما في أأضرب أبى والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أتعلمون ذلك فلا تقون
141

أنفسكم عذابه الذي ذكر لكم بما تتعاطونه من إشراككم به ما لا يشاركه في شئ مما ذكر من خواص الإلهية «فذلكم» فذلكة لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورة وهو مبتدأ وقوله تعالى
«الله» خبره وقوله تعالى
«ربكم» أي مالككم ومتولي أموركم على الإطلاق بدل منه أو بيان له وقوله تعالى الحق صفة له أي ربكم الثابت ربوبيته والمتحقق ألوهيته تحققا لا ريب فيه فماذا يجوز أن يكون الكل اسما واحدا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة وأن يكون ذا موصولا بمعنى الذي أي ما الذي
«بعد الحق» أي غيره بطريق الاستعارة وإظهار الحق إما لأن المراد به غير الأول وإما لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى
إنكار الوقوع ونفيه أي ليس غير الحق
«إلا الضلال» الذي لا يختاره أحد فحيث ثبت أن عبادة من هو منعوت بما ذكر من النعوت الجميلة حق ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنام ضلال محض إذ لا واسطة بينهما وإنما سميت ضلالا مع كونها من أعمال الجوارح باعتبار ابتنائها على ما هو ضلال من الاعتقاد والرأي هذا على تقدير كون الحق عبارة عن التوحيد وأما علي تقدير كونه عبارة عن الأول فالمراد بالضلال هو الأصنام لا عبادتها والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمى بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع وهذا أنسب بقوله تعالى وضل عنهم ما كانوا يفترون على التفسير الثاني
«فأنى تصرفون» استفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجيب منه وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل لأن كل موجود لا بد من أن يكون وجوده على حال من الأحوال قطعا فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده علي الطريق البرهاني كما مر مرارا والفاء لترتيب الإنكار على ما قبله أي كيف تصرفون من الحق الذي لا محيد عنه وهو التوحيد إلى الضلال عن السبيل المستبين وهو الإشراك وعبادة الأصنام أو من عبادة ربكم الحق الثابت ربوبيته إلى عبادة الباطل الذي سمعتم ضلاله وضياعه في الآخرة وفى إيثار صيغة المبنى للمفعول إيذان بأن الانصراف من الحق إلى الضلال مما لا يصدر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعه بالقسر من جهة صارف خارجي
«كذلك» أي كما حقت الربوبية لله تعالى أو كما أنه ليس بعد الحق إلا الضلال أو أنهم مصروفون عن الحق
«حقت كلمة ربك» وحكمه وقضاؤه على الذين فسقوا أي تمردوا في الكفر وخرجوا من أقصى حدوده
«أنهم لا يؤمنون» بدل الكلمة من أو تعليل لحقيتها والمراد بها العدة بالعذاب
«قل
142

هل من شركائكم» احتجاج آخر على حقية التوحيد وبطلان الإشراك بإظهار كون شركائهم بمعزل من استحقاق الإلهية ببيان اختصاص خواصها من بدء الخلق وإعادته به سبحانه وتعالى وإنما لم يعطف على ما قبله إيذانا باستقلاله في إثبات المطلوب والسؤال للتبكيت والإلزام وقد جعلت عليه الإعادة وتحققها لوضوح مكانها وسنوح برهانها بمنزلة بدء الخلق فنظمت في سلكه حيث قيل
«من يبدأ الخلق ثم يعيده» إيذانا بتلازمهما وجودا وعلما يستلزم الاعتراف بها وإن صدهم عن ذلك ما بهم من المكابرة والعناد ثم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك فقيل له
«قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده» أي هو يفعلهما لا غير كائنا ما كان لا بأن ينوب صلى الله عليه وسلم عنهم في ذلك كما قيل لأن القول المأمور به غير ما أريد منهم من الجواب وإن كان مستلزما له إذ ليس المسؤول عنه من يبدأ الخلق ثم يعيده كما في قوله تعالى قل من رب السماوات والأرض قل الله حتى يكون القول المأمور به عين الجواب الذي أريد منهم ويكون صلى الله عليه وسلم نائبا عنهم في ذلك بل إنما هو وجود من يفعل البدء والإعادة من شركائهم فالجواب المطلوب منهم لا لا غير نعم أمر صلى الله عليه وسلم بأن يضمنه مقالته إيذانا بتعينه وتحققه وإشعارا بأنهم لا يجترئون على التصريح به مخافة التبكيت وإلقام الحجر لا مكابرة ولجاجا فتدبر وإعادة الجملة في الجواب بتمامها غير محذوفة الخبر كما في الجواب السابق لمزيد التأكيد والتحقيق
«فأنى تؤفكون» الإفك الصرف والقلب عن الشئ وقد يخص بالقلب عن الرأي وهو الأنسب بالمقام أي كيف تقلبون من الحق إلي الباطل والكلام فيه كما ذكر في تصرفون
«قل هل من شركائكم» احتجاج آخر على ما ذكر جيء به إلزاما لهم غب إلزام وإفحاما إثر إفحام وفصله عما قبله لما ذكر من الدلالة على استقلاله
«من يهدي إلى الحق» أي بوجه من الوجوه فإن أدنى مراتب المعبودية هداية المعبود لعبدته إلى ما فيه صلاح أمرهم وأما تعيين طريق الهداية وتخصيصه بنصب الحجج وإرسال الرسل والتوفيق للنظر والتدبر كما قيل فمخل بما يقتضيه المقام من كمال التبكيت والإلزام فإن العجز عن الهداية على وجه خاص لا يستلزم العجز عن مطلق الهداية وهدى كما يستعمل بكلمة إلى لتضمنه معنى الانتهاء يستعمل باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية وأنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق ولذلك استعمل بها ما أسند إلى الله تعالى حيث قيل
«قل الله يهدي للحق» أي هو يهدى له دون غيره وذلك بما ذكر من نصب الأدلة والحجج وإرسال الرسل وإنزال الكتب والتوفيق للنظر والتدبر وغير ذلك من فنون الهدايات والكلام في الأمر بالسؤال والجواب كما مر فيما مر
«أفمن يهدي إلى الحق» وهو الله عز وجل
«أحق أن يتبع أم من لا يهدي» بكسر الهاء أصله يهتدى فأدغم وكسرت الهاء لالقتاء الساكنين وقرئ بكسر الياء اتباعا لها لحركة الهاء وقرئ بفتح الهاء نقلا لحركة التاء إليها أي لا يهتدى بنفسه فضلا عن هداية غيره وفيه من المبالغة ما لا يخفي وإنما نفى عنه الاهتداء مع أن المفهوم مما سبق نفى الهداية لما أن نفيها مستتبع لنفيه غالبا فإن من اهتدى إلى الحق
143

لا يخلو عن هداية غيره في الجملة وأدناها كونه قدوة له بأن يراه فيسلك مسلكه من حيث لا يدرى والفاء لترتيب الاستفهام على ما سبق من تحقق هدايته تعالى صريحا وعدم هداية شركائهم المفهوم من القصر ومن عدم الجواب المنبىء عن الجواب بالعدم فإن ذلك مما يضطرهم إلى الجواب الحق لا لتوجيه الاستفهام إلى الترتيب كما يقع
في بعض المواقع فإن ذلك مختص بالإنكارى كما في قوله تعالى أفمن أتبع رضوان الله الخ ونحوه والهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما تقديمها في الذكر لإظهار عراقتها في اقتضاء الصدارة كما هو رأى الجمهور حتى لو كان السؤال بكلمة أي لأخرت حتما ألا يرى إلى قوله تعالى فأي الفريقين أحق بالأمن إثر تقدير ما يلجىء المشركين إلى الجواب من حالهم وحال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ لا يهدى بمعنى لا يهتدى لمجيئه لازما أو لا يهدي غيره وصيغة التفضيل إما على حقيقتها والمفضل عليه محذوف كما اختاره مكي والتقدير أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع ممن لا يهدى أم من لا يهدى أحق الخ وإما بمعني حقيق كما اختاره أبو حيان وأيا ما كان فالاستفهام للإلزام وأن يتبع في حيز النصب أو الجر بعد حذف الجار علي الخلاف المعروف أي بأن يتبع
«إلا أن يهدى» استثناء مفرغ من أعمى الأحوال أي لا يهتدى أولا يهدى غيره في حال من الأحوال إلا حال هدايته تعالى له إلي الاهتداء أو إلى هداية الغير وهذا حال إشراف شركائهم من الملائكة والمسيح وعزيز عليهم السلام وقيل المعنى أم من لا يهتدى من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينتقل إليه أو إلا أن ينقله الله تعالى من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا فيهديه وقرئ إلا أن يهدى من التفعيل للمبالغة
«فما لكم» أي أي شيء لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله سبحانه وتعالى والاستفهام للإنكار التوبيخي وفيه تعجيب من حالهم وقوله تعالى
«كيف تحكمون» أي بما يقضى صريح العقل ببطلانه إنكار لحكمهم الباطل وتعجب منه وتشنيع لهم بذلك والفاء لترتيب كلا الإنكارين على ما ظهر من وجوب اتباع الهادي إلى الحق إن قلت التبكيت بالاستفهام السابق إنما يظهر في حق من يعكس جوابه الصحيح فيحكم بأحقية من لا يهدى بالاتباع دون من يهدى وهم ليسوا حاكمين بأحقية شركائهم لذلك دون الله سبحانه وتعالى بل باستحقاقهما جميعا مع رجحان جانبه تعالى حيث يقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قلت حكمهم باستحقاقه تعالى للاتباع بطريق الاشتراك حكم منهم بعدم استحقاقه تعالى لذلك بطريق الاستقلال فصاروا حاكمين باستحقاق شركائهم له دون الله تعالى من حيث لا يحتسبون
«وما يتبع أكثرهم» كلام مبتدأ غير داخل في حيز الأمر مسوق من قبله تعالى لبيان عدم فهمهم لمضمون ما أفحمهم وألقمهم الحجر من البرهان النير الموجب لاتباع الهادي إلى الحق الناعي عليهم بطلان حكمهم وعدم تأثرهم من ذلك لعدم اهتدائهم إلى طريق العلم أصلا أن ما يتبع أكثرهم في معتقداتهم ومحاوراتهم إلا ظنا واهيا من غير التفات إلى فرد من أفراد العلم فضلا عن أن يسلكوا مسالك الأدلة الصحيحة الهادية إلى الحق المبنية على المقدمات اليقينية الحقة فيفهموا مضمونها ويقفوا على صحتها وبطلان ما يخالفها من أحكامهم الباطلة فيحصل التبكيت والإلزام فالمراد بالاتباع مطلق الاعتقاد الشامل لما يقارن القبول والانقياد وما لا
144

يقارنه وبالقصر ما أشير إليه من أن لا يكون لهم في أثنائه اتباع لفرد من أفراد العلم والتفات إليه ووجه تخصيص هذا الاتباع بأكثرهم الإشعار بأن بعضهم قد يتبعون العلم فيقفون على حقية التوحيد وبطلان الشرك لكن لا يقبلونه مكابرة وعنادا فيحصل بالنسبة إليهم التأثر من البرهان المزبور وإن لم يظهروه وكونهم أشد كفرا وأكثر من الفريق الأول لا يقدح فيما يفهم من فحوى الكلام عرفا من كون أولئك أسوأ حالا من غيرهم إذ المعتبر سوء الحال من حيث الفهم والإدراك لا من حيث الكفر والعذاب أو ما يتبع أكثرهم مدة عمرهم إلا ظنا ولا يتركونه أبدا فإن حرف النفي الداخل على المضارع يفيد استمرار النفي بحسب المقام فالمراد بالاتباع حينئذ هو الإذعان والانقياد والقصر باعتبار الزمان ووجه تخصيص هذا الاتباع بأكثرهم مع مشاركة المعاندين لهم في ذلك التلويح بما سيكون من بعضهم من اتباع الحق والتوبة كما سيأتي هذا وقد قيل المعنى وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله تعالى إلا ظنا غير مستند إلى برهان عندهم وقيل وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة إلا ظنا والمراد بالأكثر الجميع فتأمل وقيل الضمير في أكثرهم للناس فلا حاجة إلى التكليف
«إن الظن لا يغني من الحق» من العلم اليقيني والاعتقاد الصحيح المطابق للواقع
«شيئا» من الإغناء ويجوز أن يكون مفعولا به ومن الحق حالا منه والجملة استئناف ببيان شأن الظن وبطلانه وفيه دلالة على وجوب العلم في الأصول وعدم جواز الاكتفاء بالتقليد
«إن الله عليم بما يفعلون» وعيد لهم على أفعالهم القبيحة فيندرج تحتها ما حكى عنهم من الإعراض عن البراهين القاطعة والاتباع للظنون الفاسدة اندراجا أوليا وقرئ تفعلون بالالتفات إلى الخطاب لتشديد الوعيد
«وما كان هذا القرآن» شروع في بيان ردهم للقرآن الكريم إثر بيان ردهم للأدلة العقلية المندرجة في تضاعيفه أي وما صح وما استقام أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الهدايات المستوجبة للاتباع التي من جملتها هاتيك الحجج البينة الناطقة بحقية التوحيد وبطلان الشرك
«أن يفترى من دون الله» أي افتراء من الخلق أي مفترى منهم سمى بالمصدر مبالغة
«ولكن تصديق الذي بين يديه» من الكتب الإلهية المشهود على صدقها أي مصدقا لها كيف لا وهو لكونه معجزا دونها عيار عليها شاهد بصحتها ونصبه بأنه خبر كان مقدرا وقد جوز كونه علة لفعل محذوف تقديره لكن أنزله الله تصديق الخ وقرئ بالرفع على تقدير المبتدأ أي ولكن هو تصديق الخ
«وتفصيل الكتاب» عطف عليه نصبا ورفعا أي وتفصيل ما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع
«لا ريب فيه» خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك أي منتفيا عنه الريب أو حال من الكتاب وإن كان مضافا إليه فإنه مفعول في المعنى أو استئناف لا محل له من الإعراب
«من رب العالمين» خبر آخر أي كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو بتفصيل أو بالفعل المعلل بهما ولا ريب فيه اعتراض كما في قولك زيد لا شك فيه كريم أو حال من الكتاب أو من الضمير في
145

فيه ومساق الآية الكريمة بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه
«أم يقولون افتراه» أي بل أيقولون افتراه محمد صلى الله عليه وسلم والهمزة لإنكار الواقع واستبعاده
«قل» تبكيتا لهم وإظهارا لبطلان مقالتهم الفاسدة إن كان الأمر كما تقولون
«فأتوا بسورة مثله» أي في البلاغة وحسن الصياغة وقوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية والفصاحة وأشد تمرنا منى في في النظم والعبارة وقرئ بسورة مثله على الإضافة أي بسورة كتاب مثله
«وادعوا» للمظاهرة والمعاونة
«من استطعتم» دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في المهمات والملمات ومدارهكم الذين تلجئون إلى آرائهم في كل ما تأتون وما تذرون
«من دون الله» متعلق بادعوا ودون جار مجرى أداة الاستثناء وقد مر تفصيله في قوله تعالى وادعوا شهداءكم من دون الله أي ادعوا سواه تعالى من استطعتم من خلقه فإنه لا يقدر عليه أحد وإخراجه سبحانه من حكم الدعاء للتنصيص على براءتهم منه تعالى وكونهم في عدوة المضادة والمشاقة لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه فإن ذلك مما يوهم أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه
«إن كنتم صادقين» أي في أنى افتريته فإن ذلك مستلزم لإمكان الإتيان بمثله وهو أيضا مستلزم لقدرتكم عليه والجواب محذوف لدلالة المذكور عليه
«بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه» إضراب وانتقال عن إظهار بطلان ما قالوا في حق القرآن العظيم بالتحدى إلى إظهاره ببيان أنه كلام ناشىء عن جهلهم بشأنه الجليل فما عبارة عن كله لا عما فيه من ذكر البعث والجزاء وما يخالف دينهم كما قيل فإنه مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عن مثله أي سارعوا إلى تكذيبه آثر ذي أثير من غير أن يتدبروا فيه ويقفوا على ما في تضاعيفه من الشواهد الدالة على كونه كما وصف آنفا ويعلموا أنه ليس مما يمكن أن يكون له نظير يقدر عليه المخلوق والتعبير عنه بما لم يحيطوا بعلمه دون أن يقال بل كذبوا به من غير أن يحيطوا بعلمه أو نحو ذلك للإيذان بكمال جهلهم به وأنهم لم يعلموه إلا بعنوان عدم العلم به وبأن تكذيبهم به إنما هو بسبب عدم علمهم به لما أن إدارة الحكم على الموصول مشعرة بعلية ما في حيز الصلة له «ولما يأتهم تأويله» عطف على الصلة أو حال من الموصول أي ولم يقفوا بعد على تأويله ولم يبلغ أذهانهم معانيه الرائقة المنبئة عن علو شأنه والتعبير عن ذلك بإتيان التأويل للإشعار بأن تأويله متوجه إلى الأذهان منساق إليها بنفسه أو لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين أنه صدق أم كذب والمعنى أن القرآن معجز من جهة النظم والمعنى ومن جهة الإخبار بالغيب وهم قد فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه ويتفكروا في معناه
146

أو ينتظروا وقوع ما أخبر به من الأمور المستقبلة ونفى إتيان التأويل بكلمة لما الدالة علي التوقع بعد نفى الإحاطة بعلمه بكلمة لم لتأكيد الذم وتشديد التشنيع فإن الشناعة في تكذيب الشيء قبل علمه المتوقع إتيانه أفحش منها في تكذيبه قبل علمه مطلقا والمعنى أنه كان يجب عليهم أن يتوقفوا إلى زمان وقوع المتوقع فلم يفعلوا وأما أن المتوقع قد وقع بعد وأنهم استمروا عند ذلك أيضا على ما هم عليه أولا فلا تعرض له ههنا والاستشهاد عليه بعدم انقطاع الذم أو ادعاء أن قولهم افتراه تكذيب بعد التدبر ناشىء من عدم التدبر فتدبر كيف لا وهم لم يقولوه بعد التحدي بل قبله وادعاء كونه مسبوقا بالتحدى الوارد في سورة البقرة يرده أنها مدنية وهذه مكية وإنما الذي يدل عليه ما سيتلى عليك من قوله تعالى ومنهم من يؤمن به ومنهم الخ وقوله تعالى
«كذلك» الخ وصف لحالهم المحكي وبيان لما يؤدى إليه من العقوبة أي مثل ذلك التكذيب المبنى على بادي الرأي والمجازفة من غير تدبر وتأمل
«كذب الذين من قبلهم» أي فعلوا التكذيب أو كذبوا ما كذبوا من المعجزات التي ظهرت على أيدي أنبيائهم أو كذبوا أنبياءهم
«فانظر كيف كان عاقبة الظالمين» وهم الذين من قبلهم من المكذبين وإنما وضع المظهر موضع المضمر للإيذان بكون التكذيب ظلما أو بعليته لإصابة ما أصابهم من سوء العاقبة وبدخول هؤلاء الظالمين في زمرتهم جرما ووعيدا دخولا أوليا وقوله عز وجل
«ومنهم» الخ وصف لحالهم بعد إتيان التأويل المتوقع إذا حينئذ يمكن تنويعهم إلى المؤمن به وغير المؤمن ضرورة امتناع الإيمان بشئ من غير علم به واشتراك الكل في التكذيب والكفر به قبل ذلك حسبما أفاده قوله تعالى بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه أي ومن هؤلاء المكذبين
«من يؤمن به» عند الإحالة بعلمه وإتيان تأويله وظهور حقيته بعدما سعوا في المعارضة ورازوا قواهم فيها فتضاءلت دونها أو بعد ما شاهدوا وقوع ما أخبر به كما أخبر به مرارا ومعنى الإيمان به إما الاعتقاد بحقيته فقط أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند ويكابر وهؤلاء هم الذين أشير بقصر اتباع الظن على أكثرهم إلى أنهم يعلمون الحق على التفسير الأول كما أشير إليه فيما سلف وإما الإيمان الحقيقي أي سيؤمن به ويتوب عن الكفر وهم الذين أشير بالقصر المذكور على التفسير الثاني إلى أنهم سيتبعون الحق كما مر
«ومنهم من لا يؤمن به» أي لا يصدق به في نفسه كما لا يصدق ظاهرا لفرط غباوته المانعة عن الإحاطة بعلمه كما ينبغي وإن كان فوق مرتبة عدم الإحاطة به أصلا أو لسخافة عقله واختلال تمييزه وعجزه عن تخليص علومه عن مخالطة الظنون والأوهام التي ألفها فيبقى على ما كان عليه من الشك وهذا القدر من الإحاطة وإتيان التأويل كاف في مقابلة ما سبق من عدم الإحاطة بالمرة وهؤلاء هم الذين أريدوا فيما سلف بقوله عز وجل وما يتبع أكثرهم إلا ظنا علي التفسير الأول أولا لا يؤمنوا به فيما سيأتي بل يموت على كفره معاندا كان أو شاكا وهم المستمرون على اتباع الظن على التفسير الثاني من غير إذعان للحق وانقياد له
«وربك أعلم بالمفسدين» أي بكلا الفريقين على الوجه الأول لا بالمعاندين فقط كما قيل لاشتراكهما في أصل الإفساد المستدعى لاشتراكهما في الوعيد أو بالمصرين الباقين
على الكفر علي الوجه الثاني من المعاندين والشاكين
147

«وإن كذبوك» أي إن تموا على تكذيبك وأصروا عليه حسبما أخبر عنهم بعد إلزام الحجة بالتحدي
«فقل لي عملي ولكم عملكم» أي تبرأ منهم فقد أعذرت كقوله تعالي فإن عصوك فقل إني برئ والمعنى لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا وتوحيد العمل المضاف إليهم باعتبار الاتحاد النوعي ولمراعاة كمال المقابلة
«أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون» تأكيد لما أفادته لام الاختصاص من عدم تعدى جزاء العمل إلى غير عامله أي لا تؤاخذون بعملي ولا أؤاخذ بعملكم ولما فيه من إيهام المتاركة وعدم التعرض لهم قيل إنه منسوخ بآية السيف
«ومنهم من يستمعون إليك» بيان لكونهم مطبوعا على قلوبهم بحيث لا سبيل إلى إيمانهم وإنما جمع الضمير الراجع إلى كلمة من رعاية لجانب المعنى كما أفرد فيما سيأتي محافظة على ظاهر اللفظ ولعل ذلك للإيماء إلى كثرة المستمعين بناء على عدم توقف الاستماع على ما يتوقف عليه النظر من المقابلة وانتفاء الحجاب والظلمة أي ومنهم ناس يستمعون إليك عند قراءتك القرآن وتعليمك الشرائع
«أفأنت تسمع الصم» همزة الاستفهام إنكارية والفاء عاطفة وليس الجمع بينهما لترتيب إنكار الإسماع على الاستماع كما هو رأى سيبويه والجمهور على أن يجعل تقديم الهمزة على الفاء لاقتضائها الصدارة كما تقرر في موضعه بل لإنكار ترتبه عليه حسبما هو المعتاد لكن لا بطريق العطف على الفعل المذكور لأدائه إلى اختلال المعنى لأنه إما صلة أو صفة وأياما كان فالعطف عليه يستدعى دخول المعطوف في حيزه وتوجه الإنكار إليه من تلك الحيثية ولا ريب في فساده بل بطريق العطف على مقدر مفهوم من فحوى النظم كأنه قيل أيستمعون إليك فأنت تسمعهم لا إنكار لاستماعهم فإنه أمر محقق بل إنكارا لوقوع الاستماع عقيب ذلك وترتبه عليه حسب العادة الكلية بل نفيا لإمكانه أيضا كما ينبئ عنه وضع الصم موضع ضميرهم ووصفهم بعدم العقل بقوله تعالى
«ولو كانوا لا يعقلون» أي ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم لأن الأصم العاقل ربما تفرس إذا وصل إلى صماخه صوت وأما إذا اجتمع فقدان السمع والعقل جميعا فقد تم الأمر
«ومنهم من ينظر إليك» ويعاين دلائل نبوتك الواضحة
«أفأنت» أي أعقيب ذلك أنت تهديهم وإنما قيل
«تهدي العمي» تربية لإنكار هدايتهم وإبرازا لوقوعها في معرض الاستحالة وقد أكد ذلك حيث قيل
«ولو كانوا لا يبصرون» أي ولو انضم إلي عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار الاعتبار والاستبصار والعمدة في ذلك هي البصيرة ولذلك يحدس الأعمى المستبصر ويتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق فحيث اجتمع فيهم الحمق والعمى فقد انسد عليهم باب الهدى وجواب لو في الجملتين محذوف لدلالة قوله تعالى تسمع الصم وتهدى العمى عليه وكل وكل منهما معطوفة على
148

جملة مقدرة مقابلة لها في الفحوى كلتاهما في موضع الحال من مفعول الفعل السابق أي أفأنت تسمع الصم لو كانوا يعقلون ولو كانوا لا يعقلون أفأنت تهدى العمى لو كانوا يبصرون ولو كانوا لا يبصرون أي على كل حال مفروض وقد حذفت الأولى في الباب حذفا مطردا لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند تحقق المانع أو المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أو عند تحقق المانع الضعيف أولى وعلي هذه النكتة يدور ما في لو وإن الوصليتين من التأكيد وقد مر الكلام في قوله تعالى ولو كره الكافرون ونظائره مرارا
«إن الله لا يظلم الناس» إشارة إلى أن ما حكى عنهم من عدم اهتدائهم إلى طريق الحق وتعطل مشاعرهم من الإدراك ليس لأمر مستند إلى الله عز وجل من خلقهم مؤفى المشاعر ونحو ذلك بل إنما هو من قبلهم أي لا ينقصهم
«شيئا» مما نيط به مصالحهم الدينية والدنيوية وكمالاتهم الأولوية والأخروية من مبادى إدراكاتهم وأسباب علومهم من المشاعر الظاهرة والباطنة والإرشاد إلى الحق بإرسال الرسل وإنزال الكتب بل يوفيهم ذلك من غير إخلال بشئ أصلا
«ولكن الناس» وقرئ بالتخفيف ورفع الناس وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة تعيين وتقرير أي لكنهم بعدم استعمال مشاعرهم فيما خلقت له وإعراضهم عن قبول دعوة الحق وتكذيبهم للرسل والكتب
«أنفسهم يظلمون» أي ينقصون ما ينقصون مما يخلون به من مبادى كما لهم وذرائع اهتدائهم وإنما لم يذكر لما أن مرمى الغرض إنما هو قصر الظلم على أنفسهم لا بيان ما يتعلق به الظلم والتعبير عن فعلهم بالنقص مع كونه تفويتا بالكلية وإبطالا بالمرة لمراعاة جانب قرينته وقوله عز وجل أنفسهم إما تأكيد للناس فيكون بمنزلة ضمير الفصل في قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين في قصر الظالمية عليهم وإما مفعول ليظلمون حسبما وقع في سائر المواقع وتقديمه عليه لمجرد الاهتمام به مع مراعاة الفاصلة من غير قصد إلى قصر المظلومية عليهم على رأى من لا يرى التقديم موجبا للقصر فيكون كما في قوله تعالى وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم من غير قصد للظلم لا على الفاعل ولا على المفعول وأما على على رأى من يراه موجبا له فلعل إيثار قصرها دون قصر الظالمية عليهم للمبالغة في بيان بطلان أفعالهم وسخافة عقولهم لما أن أقبح الأمرين عند اتحاد الفاعل والمفعول وأشدهما إنكارا عند العقل ونفرة لدى الطبع وأوجبهما حذرا منه عند كل أحد هو المظلومية لا الظالمية على أن قصر الأولى عليهم مسلتزم لما يقتضيه ظاهر الحال من قصر الثانية عليهم ضرورة أنه إذا لم يظلم أحد من الناس إلا نفسه يلزم أن لا يظلمه إلا نفسه إذ لو ظلمه غيره
يلزم كون ذلك الغير ظالما لغير نفسه والمفروض أن لا يظلم أحد إلا نفسه فاكتفى بالقصر الأول عن الثاني مع رعاية ما ذكر من الفائدة وصيغة المضارع للاستمرار نفيا وإثباتا فإن حرف النفي إذا دخل على المضارع يفيد بحسب المقام استمرار النفي لا نفى الاستمرار ألا يرى أن قولك ما زيدا ضربت يدل على اختصاص النفي لا على نفى الاختصاص ومساق الآية الكريمة لإلزام الحجة ويجوز أن يكون للوعيد فالمضارع المنفى للاستقبال والمثبت للاستمرار والمعنى أن الله لا يظلمهم بتعذيبهم يوم القيامة شيئا من الظلم ولكنهم أنفسهم يظلمون ظلما مستمرا فإن مباشرتهم
149

المستمرة للسيئات الموجبة للتعذيب عين ظلمهم لأنفسهم وعلى الوجهين فالآية الكريمة تذييل لما سبق
«ويوم يحشرهم» منصوب بمضمر وقرئ بالنون على الالتفات أي اذكر لهم أو أنذرهم يوم يحشرهم
«كأن لم يلبثوا» أي كأنهم لم يلبثوا
«إلا ساعة من النهار» أي شيئا قليلا منه فإنها مثل في غاية القلة وتخصيصها بالنهار لأن ساعاته أعرف حالا من ساعات الليل والجملة في موقع الحال من ضمير المفعول أي يحشرهم مشبهين في أحوالهم الظاهرة للناس بمن لم يلبث في الدنيا ولم يتقلب في نعيمها إلا ذلك القدر اليسير فإن من أقام بها دهرا وتمتع بمتاعها لا يخلو عن بعض آثار نعمة وأحكام بهجة منافية لما بهم من رثاثة الهيئة وسوء الحال أو بمن لم يلبث في البرزخ إلا ذلك المقدار ففائدة التقييد بيان كمال يسر الحشر بالنسبة إلى قدرته تعالى ولو بعد دهر طويل وإظهار بطلان استبعادهم وإنكارهم بقولهم أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ونحو ذلك أو بيان تمام الموافقة بين النشأتين في الأشكال والصور فإن قلة اللبث في البرزخ من موجبات عدم التبدل والتغير فيكون قوله عز وعلا
«يتعارفون بينهم» بيانا وتقريرا له لأن التعارف مع طول العهد ينقلب تناكرا وعلى الأول يكون استئنافا أي يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا وذلك أول ما خرجوا من القبور إذ هم حينئذ على ما كانوا عليه من الهيئة المتعارفة فيما بينهم ثم ينقطع التعارف بشدة الأهوال المذهلة واعتراء الأحوال المعضلة المغيرة للصور والأشكال المبدلة لها من حال إلى حال
«قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله» شهادة من الله سبحانه وتعالى على خسرانهم وتعجب منه وقيل حال من ضمير يتعارفون على إرادة القول والتعبير عنهم بالموصول مع كون المقام مقام إضمار لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لما أصابهم والمراد بلقاء الله إن كان مطلق الحساب والجزاء أو حسن اللقاء فالمراد بالخسران الوضيعة والمعنى وضعوا في تجاراتهم ومعاملاتهم واشترائهم الكفر بالإيمان والضلالة بالهدى ومعنى قوله تعالى
«وما كانوا مهتدين» ما كانوا عارفين بأحوال التجارة مهتدين لطرقها وإن كان سوء اللقاء فالخسار الهلاك والضلال أي قد ضلوا وهلكوا بتكذيبهم وما كانوا مهتدين إلى طريق النجاة
«وإما نرينك» أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة أكد الفعل بالنون أي بنصرتك بأن نظهر لك
«بعض الذي نعدهم» أي وعدناهم من العذاب ونعجله في حياتك فتراه والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار أي نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفى تخصيص البعض بالذكر رمزا إلى العدة بإراءة بعض الموعود وقد أراه يوم بدر
«أو نتوفينك» قبل ذلك «فإلينا مرجعهم» أي كيفما دارات الحال أريناك بعض ما وعدناهم أولا فإلينا مرجعهم في الدنيا والآخرة فنتجز ما وعدناهم البتة
150

وقيل المذكور جواب للشرط الثاني كأنه قيل فإلينا مرجعهم فنريكه في الآخرة وجواب الأول محذوف لظهوره أي فذاك
«ثم الله شهيد على ما يفعلون» من الأفعال السيئة التي حكيت عنهم والمراد بالشهادة إما مقتضاها ونتيجتها وهى معاقبته تعالى إياهم وإما إقامتها وأداؤها بإنطاق الجوارح وإظهار اسم الجلالة لادخال الروعة وتربية المهابة وتأكيد التهديد وقرئ ثمة إي هناك «ولكل أمة» من الأمم الخالية
«رسول» يبعث إليهم بشريعة خاصة مناسبة لأحوالهم ليدعوهم إلى الحق
«فإذا جاء رسولهم» فبلغهم ما أرسل به فكذبوه وخالفوه
«قضي بينهم» أي بين كل أمة ورسولها
«بالقسط» بالعدل وحكم بنجاة الرسول والمؤمنين به وهلاك المكذبين كقوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
«وهم لا يظلمون» في ذلك القضاء المستوجب لتعذيبهم لأنه من نتائج أعمالهم أو ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والايمان كقوله عز وجل وجىء بالنبيين والشهداء وقضى بينهم
«ويقولون متى هذا الوعد» استعجالا لما وعدوا من العذاب على طريقة الاستهزاء به والإنكار حسبما يرشد إليه الجواب لا طلبا لتعيين وقت مجيئه على وجه الإلزام كما في سورة الملك
«إن كنتم صادقين» أي في أنه يأتينا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون عليهم الآيات المتضمنة للوعد المذكور وجواب الشرط محذوف اعتمادا على ما تقدم حسبما حذف في مثل قوله تعالى فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فإن الاستعجال في قوة الأمر بالإتيان عجلة كأنه قيل فليأتنا عجلة إن كنتم صادقين ولما فيه من الإشعار بكون إتيانه بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم قيل
«قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا» أي لا أقدر على شئ منهما بوجه من الوجوه وتقديم الضر لما أن مساق النظم لإظهار العجز عنه وأما ذكر النفع فلتوسيع الدائرة
تكملة للعجز وما وقع في سورة الأعراف من تقديم النفع للإشعار بأهميته والمقام مقامه والمعنى إني لا أملك شيئا من شئونى ردا وإيرادا مع أن ذلك أقرب حصولا فكيف أملك شئونكم حتى أتسبب في إتيان عذابكم الموعود
«إلا ما شاء الله» استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله كائنا وحمله على الاتصال علي معنى إلا ما شاء الله أن أملكه يأباه مقام التبرؤ من أن يكون له عليه السلام دخل في إتيان الوعد فإن ذلك يستدعى بيان كون المتنازع فيه مما لا يشاء الله أن يملكه عليه السلام وجعل ما عبارة عن بعض الأحوال المعهودة المنوطة بالأفعال الاختيارية المفوضة إلى العباد على أن يكون المعنى لا أملك لنفسي شيئا من الضر والنفع إلا ما شاء الله أن أملكه منهما من الضر والنفع المترتبين على أفعالى الاختيارية كالضر
151

والنفع المترتبين على الأكل والشرب عدما ووجودا تعسف ظاهر وقوله تعالى
«لكل أمة أجل» بيان لما أبهم في الاستثناء وتقييد لما في القضاء السابق من الإطلاق المشعر بكون المقضى به أمرا منجزا غير متوقف على شئ غير مجىء الرسول وتكذيب الأمة أي لكل أمة أمة ممن قضى بينهم وبين رسولهم أجل معين خاص بهم لا يتعدى إلى أمة أخرى مضروب لعذابهم يحل بهم عند حلوله
«إذا جاء أجلهم» إن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان فمعنى مجيئه ظاهر وإن أريد به ما امتد إليه من الزمان فمجيئه عبارة عن انقضائه إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه والضمير إن جعل للأمم المدلول عليها بكل أمة فإظهار الأجل مضافا إليه لإفادة المعنى المقصود الذي هو بلوغ كل أمة أجلها الخاص بها ومجيئه إياها بعينها من بين الأمم بواسطة اكتساب الأجل بالإضافة عموما يفيده معنى الجمعية كأنه قيل إذا جاءهم آجالهم بأن يجيء كل واحدة من تلك الأمم أجلها الخاص بها وإن جعل لكل أمة خاصة كما هو الظاهر فالإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإضافة إلى الضمير لإفادة كمال التعيين أي إذا جاءها أجلها الخاص بها
«فلا يستأخرون» عن ذلك الأجل
«ساعة» أي شيئا قليلا من الزمان فإنها مثل في غاية القلة منه أي لا يتأخرون عنه أصلا وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له
«ولا يستقدمون» أي لا يتقدمون عليه وهو عطف على يستأخرون لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلا كما في قوله سبحانه وتعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا قد نظم في عدم قبول التوبة في سلك من سوفها إلى حضور الموت إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة كما مر في سورة الأعراف وقد جوز أن يراد بمجىء الأجل دنوه بحيث يمكن التقدم في الجملة كمجىء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة معينة منه لكن ليس في تقييد عدم الاستئخار بدنوه مزيد فائدة وتقديم بيان انتفاء الاستئخار على بيان انتفاء الاستقدام لأن المقصود الأهم بيان عدم خلاصهم من العذاب ولو ساعة وذلك بالتأخر وأما ما في قوله تعالى ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق السبق في الذكر فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله عز وجل ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم إذ ذاك بيان انتفاء السبق كما ذكر هناك
«قل» لهم غب ما بينت كيفية جريان سنة الله عز وجل فيما بين الأمم على الإطلاق ونبهتهم على أن عذابهم أمر مقرر محتوم ولا يتوقف إلا على مجىء أجله المعلوم إيذانا بكمال دنوه وتنزيلا له منزلة إتيانه حقيقة
«أرأيتم» أي أخبروني
«إن أتاكم عذابه» الذي تستعجلون به
«بياتا» أي وقت بيات واشتغال بالنوم
«أو نهارا» أي عند اشتغالكم بمشاغلكم حسبما عين لكم من الأجل بمقتضى المشيئة التابعة للحكمة كما عين لسائر الأمم المهلكة وقوله عز وجل
«ماذا يستعجل منه المجرمون» جواب للشرط بحذف الفاء كما في قولك إن أتيتك ماذا تطعمنى والمجرمون موضوع موضع المضمر لتأكيد الإنكار ببيان مباينة حالهم
152

للاستعجال فإن حق المجرم أن يهلك فزعا من إتيان العذاب فضلا عن استعجاله والجملة الشرطية متعلقة بأرأيتم والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه تعالى أي شئ تستعجلون منه سبحانه والشىء لا يمكن استعجاله بعد إتيانه والمراد به المبالغة في إنكار استعجاله بإخراجه من حيز الإمكان وتنزيله في الاستحالة منزلة استعجاله بعد إتيانه بناء على تنزيل تقرر إتيانه ودنوه منزلة إتيانه حقيقة كما أشير إليه وهذا الإنكار بمنزلة النهى في قوله عز وعلا أتى أمر الله فلا تستعجلوه خلا أن التنزيل هناك صريح وهنا ضمني كما في قول من قال لغريمه الذي يتقضاه حقه أرأيت إن أعطيتك حقك فماذا تطلب منى يريد المبالغة في إنكار التقاضى بنظمه في سلك التقاضى بعد الإعطاء بناء على تنزيل تقرره منزلة نفسه وقوله عز وجل «أثم إذا ما وقع آمنتم به» إنكار لإيمانهم بنزول العذاب بعد وقوعه حقيقة داخل مع ما قبله من إنكار استعجالهم به بعد إتيانه حكما تحت القول المأمور به أي أبعد ما وقع العذاب وحل بكم حقيقة آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان إنكارا لتأخيره إلى هذا الحد وإيذانا باستتباعه للندم والحسرة ليقلعوا عما هم عليه من العناد ويتوجهوا نحو التدارك قبل فوت الوقت فتقديم الظرف للقصر وقيل ماذا يستعجل منه متعلق بأرأيتم وجواب الشرط محذوف أي تندموا علي الاستعجال أو تعرفوا خطأه والشرطية اعتراض مقرر لمضمون الاستخبار وقيل الجواب قوله تعالى أثم إذا ما وقع الخ والاستفهامية الأولى اعتراض والمعنى أخبروني إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ثم جئ بكلمة التراخي دلالة على الاستبعاد ثم زيد أداة الشرط دلالة على استقلاله بالاستبعاد على أن الأول كالتمهيد له وجىء بإذا مؤكد بما ترشيحا لمعنى الوقوع وزيادة للتجهيل وأنهم لم يؤمنوا إلا بعد أن لم ينفعهم الإيمان البتة وقوله تعالى
«الآن» استئناف من جهته تعالى غير داخل تحت القول الملقن مسوق لتقرير مضمون ما سبق على إرادة القول أي قيل لهم عند إيمانهم بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به
إنكارا للتأخير وتوبيخا عليه ببيان أنه لم يكن ذلك لعدم سبق الإنذار به ولا للتأمل والتدبر في شأنه ولا لشئ آخر مما عسى يعد عذرا في التأخير بل كان ذلك على طريق التكذيب والاستعجال به على وجه الاستهزاء وقرئ آلان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وقوله تعالى
«وقد كنتم به تستعجلون» أي تكذيبا واستهزاء جملة وقعت حالا من فاعل آمنتم المقدر لتشديد التوبيخ والتقريع وزيادة التنديم والتحسير وتقديم الجار والمجرور على الفعل لمراعاة الفواصل دون القصر وقوله تعالي
«ثم قيل» الخ تأكيد للتوبيخ والعتاب بوعيد العذاب والعقاب وهو عطف على ما قدر قبل آلآن
«الذين ظلموا» أي وضعوا الكفر والتكذيب موضع الإيمان والتصديق أو ظلموا أنفسهم بتعريضها للعذاب والهلاك ووضع الموصول موضع الضمير لذمهم بما في حيز الصلة والإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم ذوقوا عذاب الخلد المؤلم على الدوام
«هل تجزون» اليوم
«إلا بما كنتم تكسبون» في الدنيا من أصناف الكفر والمعاصي التي من جملتها ما مر من
153

الاستعجال «ويستنبئونك» أي يستخرونك فيقولون على طريقة الاستهزاء أو الإنكار
«أحق هو» أحق خبر قدم على المبتدأ الذي هو الضمير للاهتمام به ويؤيده قوله تعالى إنه لحق أو مبتدأ والضمير مرتفع به ساد مسد الخبر والجملة في موقع النصب بيستنبئونك وقرئ أحق هو تعريضا بأنه باطل كأنه قيل أهو الحق لا الباطل أو أهو الذي سميتموه الحق
«قل» لهم غير ملتفت إلى استهزائهم مغضيا عما قصدوا وبانيا للأمر على أساس الحكمة
«إي وربي» إي من حروف الإيجاب بمعنى نعم في القسم خاصة كما أن هل بمعنى قد في الاستفهام خاصة ولذلك يوصل بواوه
«أنه» أي العذاب الموعود
«لحق» لثابت البتة أكد الجواب بأتم وجوه التأكيد حسب شدة إنكارهم وقوته وقد زيد تقريرا وتحقيقا بقوله عز اسمه
«وما أنتم بمعجزين» أي بفائتين العذاب بالهرب وهو لاحق بكم لا محالة وهو إما معطوف على جواب القسم أو مستأنف سيق لبيان عجزهم عن الخلاص مع ما فيه من التقرير المذكور
«ولو أن لكل نفس ظلمت» بالشرك أو التعدي على الغير أو غير ذلك من أصناف الظلم ولو مرة حسبما يفيده كون الصفة فعلا
«ما في الأرض» أي ما في الدنيا من خزائنها وأموالها ومنافعها قاطبة بما كثرت
«لافتدت به» أي لجعلته فدية لها من العذاب من افتداه بمعنى فداه
«وأسروا» أي النفوس المدلول عليها بكل نفس والعدول إلى صيغة الجمع مع تحقق العموم في صورة الإفراد أيضا لإفادة تهويل الخطب بكون الاسرار بطريق المعية والاجتماع وإنما لم يراع ذلك فيما سبق لتحقيق ما يتوخى من فرض كون جميع ما في الأرض لكل واحدة من النفوس وإيثار صيغة الجمع المذكر لحمل لفظ النفس على الشخص أو لتغليب ذكور مدلوله على إناثه
«الندامة» على ما فعلوا من الظلم أي أخفوها ولم يظهروها لكن لا للاصطبار والتجلد هيهات ولات حين اصطبار بل لأنهم بهتوا
«لما رأوا العذاب» أي عند معاينتهم من فظاعة الحال وشدة الأهوال ما لم يكونوا يحتسبون فلم يقدروا على أن ينطقوا بشئ فلما بمعنى حين منصوب بأسروا أو حرف شرط حذف جوابه لدلالة ما تقدم عليه وقيل أسرها رؤساؤهم ممن أضلوهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم ولكن الأمر أشد من أن يعتريهم هناك شيء غير خوف العذاب وقيل أسروا الندامة أخلصوها لأن إسرارها إخلاصها أو لأن سر الشيء خالصته حيث تخفى ويضن بها ففيه تهكم بهم وقيل أظهروا الندامة من قولهم أسر الشئ وأشره إذا ظهره حين عيل صبره وفى تجلده
«وقضي بينهم» أي أوقع القضاء بين الظالمين من المشركين وغيرهم من أصناف أهل الظلم بأن أظهر الحق سواء كان من حقوق الله سبحانه أو من حقوق العباد من الباطل وعومل أهل كل منهما بما يليق به
«بالقسط» بالعدل وتخصيص الظلم بالتعدى وحمل القضاء على مجرد الحكومة بين الظالمين والمظلومين من غير أن يتعرض لحال المشركين وهم أظلم الظالمين لا يساعده المقام فإن مقتضاه
154

إما كون الظلم عبارة عن الشرك أو عما يدخل فيه دخولا أوليا
«وهم» أي الظالمون
«لا يظلمون» فيما فعلى بهم من العذاب بل هو من مقتضيات ظلمهم ولوازمه الضرورية
«ألا إن لله ما في السماوات والأرض» أي ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما وكلمة ما لتغليب غير العقلاء علي العقلاء فهو تقرير لكمال قدرته سبحانه على جميع الأشياء وبيان لاندارج الكل تحت ملكوته يتصرف فيه كيفما يشاء إيجادا وإعداما وإثابة وعقابا
«ألا إن وعد الله» إظهار الاسم الجليل لتفخيم شأن الوعد والإشعار بعلة الحكم وهو إما بمعني الموعود أي جميع ما وعد به كائنا ما كان فيندرج فيه العذاب الذي
استعجلوه وما ذكر في أثناء بيان حاله اندراجا أوليا أو بمعناه المصدري أي وعده بجميع ما ذكر فمعنى قوله تعالى
«أحق» على الأول ثابت واقع لا محالة وعلى الثاني مطابق للواقع وتصدير الجملتين بحرفي التنبيه والتحقيق للتسجيل على مضمونهما المقرر لمضمون ما سلف من الآيات الكريمة والتنبيه علي وجوب استحضاره والمحافظة عليه
«ولكن أكثرهم» لقصور عقولهم واستيلاء الغفلة عليهم والفهم بالأحوال المحسوسة المعتادة
«لا يعلمون» ذلك فيقولون ما يقولون ويفعلون ما يفعلون
«هو يحيي ويميت» في الدنيا من غير دخل لأحد في ذلك
«وإليه ترجعون» في الآخرة بالبعث والحشر
«يا أيها الناس» التفات ورجوع إلى استمالتهم نحو الحق واستنزالهم إلى قبوله واتباعه غب تحذيرهم من غوائل الضلال بما تلى عليهم من القوارع الناعية عليهم سوء عاقبتهم وإيذان بأن جميع ذلك مسوق لمصالحهم ومنافعهم
«قد جاءتكم موعظة» هي والوعظ والعظة التذكير بالعواقب سواء كان بالزجر والترهيب أو بالاستمالة والترغيب وكلمة من في قوله تعالى
«من ربكم» ابتدائية متعلقة بجاءتكم أو تبعيضية متعلقة بمحذوف وقع صفة لموعظة أي موعظة كائنة من مواعظ ربكم وفى التعرض لعنوان الربوبية من حسن الموقع ما لا يخفى
«وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين» أي كتاب جامع لهذه الفوائد والمنافع فإنه كاشف عن أحوال الأعمال حسناتها وسيئاتها مرغب في الأولى ورادع عن الأخرى ومبين للمعارف الحقة التي هي شفاء لما في الصدور من الأدواء القلبية كالجهل والشك والشرك والنفاق وغيرها من العقائد الزائغة وهاد إلى طريق الحق واليقين بالإرشاد إلى الاستدلال بالدلائل المنصوبة في الآفاق والأنفس وفى مجيئه رحمه للمؤمنين حيث نجوا به من ظلمات الكفر والضلال إلى نور الإيمان وتخلصوا من دركات النيران وارتقوا إلى درجات الجنان والتنكير في الكل للتفخيم
155

«قل» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمر الناس بأن يغتنموا ما في القرآن العظيم من الفضل والرحمة
«بفضل الله وبرحمته» المراد بهما إما ما في مجيء القرآن من الفضل والرحمة وإما الجنس وهما داخلان فيه دخولا أوليا والباء متعلقة بمحذوف وأصل الكلام ليفرحوا بفضل الله وبرحمته وتكرير الباء في رحمته للإيذان باستقلالها في استيجاب الفرح ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر ثم أدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية فصار بفضل الله وبرحمته فليفرحوا ثم قيل
«فبذلك فليفرحوا» للتأكيد والتقرير ثم حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه والفاء الأولى جزائية والثانية لدلالة على السببية والأصل إن فرحوا بشئ فبذلك ليفرحوا لا بشئ آخر ثم أدخل الفاء لدلالة على السببية ثم حذف الشرط ومعنى البعد في اسم الإشارة لدلالة على بعد درجة فضل الله تعالى ورحمته ويجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا ويجوز أن يتعلق الباء بجاءتكم أي جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي فبمجيئها فليفرحوا وقرئ فلتفرحوا وقرأ أبى فافرحوا وعن ابن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قل بفضل الله وبرحمته فقال بكتاب الله والإسلام وقيل فضله الإسلام ورحمته ما وعد عليه
«هو» أي ما ذكر من فضل الله ورحمته
«خير مما يجمعون» من حطام الدنيا وقرئ تجمعون أي فبذلك فليفرح المؤمنون هو خير مما تجمعون أيها المخاطبون
«قل أرأيتم» أي أخبروني
«ما أنزل الله لكم من رزق» ما منصوبة المحل بما بعدها أو بما قبلها واللام للدلالة علي أن المراد بالرزق ما حل لهم وجعله منزلا لأنه مقدر في السماء محصل هو أو ما يتوقف عليه وجودا أو بقاء بأسباب سماوية من المطر والكواكب في الإنضاج والتلوين
«فجعلتم منه» أي جعلتم بعضه
«حراما» أي حكمتم بأنه حرام
«وحلالا» أي وجعلتم بعضه حلالا أي حكمتم بحله مع كون كله حلالا وذلك قولهم هذه أنعام وحرث حجر الآية وقولهم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا ونحو ذلك وتقديم الحرام لظهور أثر الجعل فيه ودوران التوبيخ عليه
«قل» تكرير لتأكيد الأمر بالاستخبار أي أخبروني
«آلله أذن لكم» في ذلك الجعل فأنتم فيه ممتثلون بأمره تعالى
«أم على الله تفترون» أم متصلة والاستفهام للتقرير والتبكيت لتحقق العلم بالشق الأخير قطعا كأنه قيل أم لم يأذن لكم بل تفترون عليه سبحانه فأظهر الاسم الجليل وقدم على الفعل دلالة على كمال قبح افترائهم وتأكيدا للتبكيت إثر تأكيد مع مراعاة الفواصل ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار وأم منقطعة ومعنى بل فيها الإضراب والانتقال من التوبيخ والزجر بإنكار الإذن إلى ما تفيده همزتها من التوبيخ على الافتراء عليه سبحانه وتقريره وتقديم الجار والمجرور على هذا يجوز أن يكون للقصر كأنه قيل بل أعلى الله تعالى خاصة تفترون
156

«وما ظن الذين يفترون على الله الكذب» كلام مسوق من قبله تعالى لبيان هول ما سيلقونه غير داخل تحت القول المأمور به والتعبير عنهم بالموصول في موقع الإضمار لقطع احتمال الشق الأول من الترديد والتسجيل عليهم بالافتراء وزيادة الكذب مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبا لإظهار كمال قبح ما افتعلوا وكونه كذبا في اعتقادهم أيضا وكلمة ما استفهامية وقعت مبتدأ وظن خبرها ومفعولاه محذوفان وقوله عز وجل
«يوم القيامة» ظرف لنفس الظن أي أي شئ ظنهم في ذلك اليوم يوم عرض الأفعال والأقوال والمجازاة عليها مثقالا بمثقال والمراد تهويله وتفظيعه بهول ما يتعلق به مما يصنع بهم يومئذ وقيل هو ظرف لما يتعلق به ظنهم اليوم من الأمور التي ستقع يوم القيامة تنزيلا له ولما فيه من الأحوال لكمال وضوح أمره في التقرر والتحقق منزلة المسلم عندهم أي أي شئ ظنهم لما سيقع يوم القيامة أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم أو لا يجازون عليه أو يجازون جزاء يسيرا ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون كلا إنهم لفي أشد العذاب لأن معصيتهم أشد المعاصي ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا وقرئ على لفظ الماضي أي ظنوا يوم القيامة وإيراد صيغة الماضي لأنه كائن فكأنه قد كان
«إن الله لذو فضل» أي عظيم لا يكتنه كنهه
«على الناس» أي جميعا حيث أنعم عليهم بالعقل المميز بين الحق والباطل والحسن والقبيح ورحمهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل وبين لهم الأسرار التي لا تستقل العقول في إدراكها وأرشدهم إلى ما يهمهم من أمر المعاش والمعاد
«ولكن أكثرهم لا يشكرون» تلك النعمة الجليلة فلا يصرفون قواهم ومشاعرهم إلى ما خلقت له ولا يتبعون دليل العقل فيما يستبد به ولا دليل الشرع فيما لا يدرك إلا به وقد تفضل عليهم ببيان ما سيلقونه يوم القيامة فلا يلتفتون إليه فيقعون فيما يقعون فهو تذييل لما سبق مقرر لمضمونه
«وما تكون في شأن» أي في أمر من شأنت شأنه أي قصدت قصده مصدر بمعني المفعول
«وما تتلو منه» الضمير للشأن والظرف صفة لمصدر محذوف أي تلاوة كائنة من الشأن إذ هي معظم شؤونه عليه السلام أو للتنزيل والإضمار قبل الذكر لتفخيم شأنه ومن ابتدائية أو تبعيضية أو لله عز وجل ومن ابتدائية والتي في قوله تعالى
«من قرآن» مزيدة لتأكيد النفي أو ابتدائية على الوجه الأول وبيانية أو تبعيضية علي الثاني والثالث
«ولا تعملون من عمل» تعميم للخطاب إثر تخصيصه بمقتدى الكل وقد روعى في كل من المقامين ما يليق به حيث ذكر أولا من الأعمال ما فيه فخامة وجلالة وثانيا ما يتناول الجليل والحقير
«إلا
157

كنا عليكم شهودا» استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أي ما تلابسون بشئ منها في حال من الأحوال إلا حال كوننا رقباء مطلعين عليه حافظين له
«إذ تفيضون فيه» أي تخوضون وتندفعون فيه وأصل الإفاضة الاندفاع بكثرة أو بقوة وحيث أريد بالأفعال السابقة الحالة المستمرة الدائمة المقارنة للزمان الماضي أيضا أوثر في الاستثناء صيغة الماضي وفي الظرف كلمة إذ التي تفيد المضارع معنى الماضي
«وما يعزب عن ربك» أي لا يبعد ولا يغيب على علمه الشامل وفى التعرض لعنوان الربوبية من الإشعار باللطف ما لا يخفى وقرئ بكسر الزاي
«من مثقال ذرة» كلمة من مزيدة لتأكيد النفي أي ما يعزب عنه ما يساوى في الثقل نملة صغيرة أو هباء
«في الأرض ولا في السماء» أي في دائرة الوجود والإمكان فإن العامة لا تعرف سواهما ممكنا ليس في أحدهما أو متعلقا بهما وتقديم الأرض لأن الكلام في حال أهلها والمقصود إقامة البرهان علي إحاطة علمه تعالى بتفاصيلها وقوله تعالى
«ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين» كلام برأسه مقرر لما قبله ولا نافية للجنس وأصغر اسمها وفى كتاب خبرها وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر ومن عطف على لفظ مثقال ذرة وجعل الفتح بدل الكسر لامتناع الصرف أو على محله مع الجار جعل الاستثناء منقطعا كأنه قيل لا يعزب عن ربك شئ ما لكن جميع الأشياء في كتاب مبين فكيف يعزب عنه شئ منها وقيل يجوز أن يكون الاستثناء متصلا ويعزب بمعنى يبين ويصدر والمعنى لا يصدر عنه تعالى شئ إلا وهو في كتاب مبين والمراد بالكتاب المبين اللوح المحفوظ
«ألا إن أولياء الله» بيان على وجه التبشير والوعد لما هو نتيجة لأعمال المؤمنين وغاية لما ذكر قبله من كونه تعالى مهيمنا علي نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته في كل ما يأتون وما يذرون وإحاطة علمه سبحانه بجميع ما في السماء والأرض وكون الكل مثبتا في الكتاب المبين بعد ما أشير إلى فظاعة حال المفترين على الله تعالى يوم القيامة وما سيعتريهم من الهول إشارة إجمالية على طريق التهديد والوعيد وصدرت الجملة بحرفى التنبيه والتحقيق لزيادة تقرير مضمونها والولي لغة القريب والمراد بأولياء الله خلص المؤمنين لقربهم الروحاني منه سبحانه وتعالى كما سيفصح عنه تفسيرهم
«لا خوف عليهم» في الدارين من لحوق مكروه
«ولا هم يحزنون» من فوات مطلوب أي لا يعتريهم ما يوجب ذلك لا أنه يعتريهم لكنهم لا يخافون ولا يحزنون ولا أنه لا يعتريهم خوف وحزن أصلا بل يستمرون على النشاط والسرور كيف لا واستشعار الخوف والخشية استعظاما لجلال الله سبحانه وهيبته واستقصارا للجد والسعي في إقامة حقوق العبودية من خصائص الخواص والمقربين والمراد بيان دوام انتفائهما لا بيان انتفاء دوامهما كما يوهمه كون الخبر في الجملة الثانية مضارعا لما مر مرارا من أن النفي إن دخل على نفس المضارع يفيد
الاستمرار والدوام بحسب المقام وإنما يعتريهم ذلك لأن مقصدهم ليس إلا طاعة الله تعالي ونيل رضوانه المستتبع للكرامة والزلفى وذلك مما لا ريب في حصوله ولا احتمال لفواته بموجب الوعد بالنسبة إليه تعالى وأما ما عدا ذلك من الأمور الدنيوية المترددة بين الحصول والفوات فهي بمعزل من الانتظام في سلك مقصدهم وجودا وعدما حتى يخافوا من حصول
158

ضارها أو يحزنوا بفوات نافعها وقوله عز وجل
«الذين آمنوا» أي بكل ما جاء من عند الله تعالى
«وكانوا يتقون» أي يقون أنفسهم عما يحق وقايتها عنه من الأفعال والتروك وقاية دائمة حسبما يفيده الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بيان وتفسير لهم وإشارة إلى ما به نالوا ما نالوا على طريقة الاستئناف المبنى على السؤال ومحل الموصول الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف كأنه قيل من أولئك وما سبب فوزهم بتلك الكرامة فقيل هم الذين جمعوا بين الإيمان والتقوى المفضيين إلى كل خير المنحيين عن كل شر وقيل محله النصب أو الرفع على المدح أو على أنه وصف مادح للأولياء ولا يقدح في ذلك توسط الخبر والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منها الجامعة لما تحتها من مرتبة النوقى عن الشرك التي يفيدها الإيمان أيضا ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك أعنى تنزه الإنسان عن كل ما يشغل سره عن الحق والتبتل إليه بالكلية وهي التقوى الحقيقي المأمور به في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته وبه يحصل الشهود والحضور والقرب الذي عليه يدور إطلاق الاسم عليه وهكذا كان حال من دخل معه صلى الله عليه وسلم تحت الخطاب بقوله عز وجل ولا تعملون من عمل خلا أن لهم في شأن التبتل والتنزه درجات متفاوتة حسب تفاوت درجات استعداداتهم الفائضة عليهم بموجب المشيئة المبنية علي الحكم الأبية أقصاها ما انتهى إليه هم الأنبياء عليهم السلام حتى جمعوا بذلك بين رياستي النبوة والولاية ولم يعقهم التعلق بعالم الأشباح عن الاستغراق في عالم الأرواح ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن التبتل إلى جناب الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية فملاك أمر الولاية هو التقوى المذكور فأولياء الله هم المؤمنون المتقون ويقرب منه ما قيل من أنهم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبودية الله تعالى والدعوة إليه ولا يخالفه ما قيل من أنهم الذين يذكر الله برؤيتهم لما روى عن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله فقال هم الذين يذكر الله برؤيتهم أي بسمتهم وإخباتهم وسكينتهم ولا ما قيل من أنهم المتحابون في الله لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن من عباد الله عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله قالوا يا رسول الله خبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم قال هم قوم تحابوا في الله علي غير أرحام منهم ولا أموال يتعاطونها فوالله إن وجوهم لنور وإنهم لعلى منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس فإن ما ذكر من حسن السمت والسكينة المذكرة لله تعالى والتحاب في الله سبحانه من الأحكام الدنيوية الأزمة للإيمان والتقوى والآثار الخاصة بهما الحقيقة بالتخصيص بالذكر لظهورها وقربها من أفهام الناس قد أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا من ذلك حسبما يقتضيه مقام الإرشاد والذكير ترغيبا للسائلين أو غيرهم من الحاضرين فيما خصه بالذكر هناك من أحكامهما فلعل الحاضرين أولا كانوا محتاجين إلى إصلاح الحال من جهة الأقوال والأفعال والملابس ونحو ذلك والحاضرين ثانيا مفتقرين إلى تأليف قلوبهم وعطفها نحو المؤمنين الذين لا علاقة بينهم وبينهم من جهة النسب والقرابة وتأكيد ما بينهم من الأخوة
159

الدينية ببيان عظم شأنها ورفعة مكانتها وحسن عاقبتها ليراعوا حقوقها ويهجروا من لا يوافقهم في الدين من أرحامهم وأما ما ذكر من أنه يغبطهم الأنبياء فتصوير لحسن حالهم على طريقة التمثيل قال الكواشى وهذا مبالغة والمعنى لو فرض قوم بهذه الصفة لكانوا هؤلاء وقيل أولياء الله الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة وجعل قوله عز وجل الذين آمنوا وكانوا يتقون تفسير لتوليهم إياه تعالى وقوله عز وجل
«لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة» تفسيرا لتوليه تعالى إياهم ولا ريب في أن اعتبار القيد الأخير في مفهوم الولاية غير مناسب لمقام ترغيب المؤمنين في تحصيلها والثبات عليها وبشارتهم بآثارها ونتائجها بل مخل بذلك إذ التحصيل إنما يتعلق بالمقدور والاستبشار لا يحصل إلا بما علم وجود سببه والقيد المذكور ليس بمقدور لهم حتى يحصلوا الولاية بتحصيله ولا بمعلوم لهم عند حصوله حتى يعرفوا حصول الولاية لهم ويستبشروا بمحاسن آثارها بل التولي بالكرامة عين نتيجة الولاية فاعتباره في عنوان الموضوع ثم الإخبار بعدم الخوف والحزن مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل فالذي يقتضيه نظمه الكريم أن الأول تفسير للأولياء حسبما شرح والثاني بيان لما أولاهم من خيرات الدارين بعد بيان إنجائهم من شرورهما ومكارههما والجملة مستأنفة كما سبق كأنه قيل هل لهم وراء ذلك من نعمة وكرامة فقيل لهم ما يسرهم في الدارين وتقديم الأول لما أن التخلية سابقة على التحلية مع ما فيه من مراعاة حق المقابلة بين حسن حال المؤمنين وسوء حال المفتريين وتعجيل إدخال المسرة بتبشير الخلاص عن الأهوال وتوسيط البيان السابق بين بشار الخلاص عن المحذور وبشارة الفوز بالمطلوب لإظهار كمال العناية بتفسير الأولياء مع الإيذان بأن انتفاء الخوف والحزن لاتقائهم عما يؤدى إليهما من الأسباب والبشرى مصدر أريد به المبشر به من الخيرات العاجلة كالنصر والفتح والغنيمة وغير ذلك والآجلة الغنية عن البيان وإيثار الإبهام والإجمال للإيذان بكونه وراء البيان والتفصيل والظرفان في موقع الحال منه والعامل ما في الخبر من معنى الاستقرار أي لهم البشرى حال كونها في الحياة الدنيا وحال كونها في الآخرة أي عاجلة وآجلة أو من الضمير المجرور أي حال كونهم في الحياة الخ ومن البشرى العاجلة الثناء الحسن والذكر الجميل ومحبة الناس عن أبى ذر رضى الله عنه قلت يا رسول الله الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال صلى الله عليه وسلم تلك عاجل بشرى المؤمن هذا وقيل البشرى مصدر والظرفان متعلقان به أما البشرى في الدنيا فهي البشارات الواقعة للمؤمنين المتقين في غير موضع من الكتاب المبين وعن النبي صلى الله عليه وسلم هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له وعنه صلى الله عليه وسلم ذهبت النبوة وبقيت المبشرات وعن عطاء لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة قال الله تعالى تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة وأما البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوهم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما
يقرءون منها وغير ذلك من البشارات فتكون هذه بشارة بما سيقع من البشارات العاجلة والآجلة المطلوبة لغاياتها لا لذواتها ولا يخفى أن صرف البشارة الناجزة
160

عن المقاصد بالذات إلى وسائلها مما لا يساعده جلالة شأن التنزيل الكريم
«لا تبديل لكلمات الله» لا تغيير لأقواله التي من جملتها مواعيده الواردة بشارة للمؤمنين المتقين فيدخل فيها البشارات الواردة ههنا دخولا أوليا ويثبت امتناع الإخلاف فيها ثبوتا قطعيا وعلى تقدير كون المراد بالبشرى الرؤيا الصالحة فالمراد بعدم تبديل كلماته تعالى ليس عدم الخلف بينها وبين نتائجها الدنيوية والأخروية بل عدم الخلف بينها وبين ما دل على ثبوتها ووقوعها فيما سيأتي بطريق الوعد من قوله تعالى لهم البشرى فتدبر ذلك إشارة إلى ما ذكر من أن لهم البشرى في الدارين
«هو الفوز العظيم» الذي لا فوز وراءه وفيه تفسير لما أبهم فيما سبق وهاتيك الجملة والتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشر به وتعظيم شأنه وليس من شرطه أن يكون بعده كلام متصل بما قبله أو هذه تذييل والسابقة اعتراض
«ولا يحزنك قولهم» تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما كان يلقاه من جهتهم من الأذية الناشئة عن مقالاتهم الموحشة وتبشير له صلى الله عليه وسلم بأنه عز وجل ينصره ويعزه عليهم إثر بيان أن له ولأتباعه أمنا من كل محذور وفوزا بكل مطلوب وقرئ ولا يحزنك من أحزنه وهو في الحقيقة نهى له صلى الله عليه وسلم عن الحزن كأنه قيل لا تحزن بقولهم ولا تبال بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك وسائر ما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه وإنما وجه النهى إلى قولهم للمبالغة في نهيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن لما أن النهي عن التأثر نهي عن التأثر بأصله ونفى له بالمرة وقد يوجه النهى إلى اللازم والمراد هو النهى عن الملزوم كما في قولك لا أرينك ههنا وتخصيص النهى عن الحزن بالإيراد مع شمول النفي السابق للحزن أيضا لما أنه لم يكن فيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات نوع حزن فسلى عن ذلك وقوله تعالى شائبة خوف حتى ينهى عنه وربما كان يعتريه صلى الله عليه وسلم
«إن العزة» تعليل للنهي على طريقة الاستئناف أي الغلبة والقهر
«لله جميعا» أي في ملكته وسلطانه لا يملك أحد شيئا منها أصلا لا هم ولا غيرهم فهو يقهرهم ويعصمك منهم وينصرك عليهم وقد كان كذلك فهي من جملة المبشرات العاجلة وقرئ بفتح أن على صريح التعليل أي لأن العزة لله
«هو السميع العليم» يسمع ما يقولون في حقك ويعلم ما يعزمون عليه وهو مكافئهم بذلك
«ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض» أي العقلاء من الملائكة والثقلين وتخصيصهم بالذكر للإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بغيرهم فإنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم إذا كانوا عبيدا له سبحانه مقهورين تحت قهره وملكته فما عداهم من الموجودات أولى بذلك وهو مع ما فيه من التأكيد لما سبق من اختصاص العزة بالله تعالى الموجب لسلوته صلى الله عليه وسلم وعدم مبالاته بالمشركين وبمقالاتهم تمهيد لما لحق من قوله تعالى
«وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء» وبرهان على بطلان
161

ظنونهم واعمالهم المبنية عليها وما إما نافية وشركاء مفعول يتبع ومفعول يدعون محذوف لظهوره أي ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء في الحقيقة وإن سموها شركاء فاقتصر على أحدهما لظهور دلالته على الآخر ويجوز أن يكون المذكور مفعول يدعون ويكون مفعول يتبع محذوفا لانفهامه من قوله تعالى
«إن يتبعون إلا الظن» أي ما يتبعون يقينا إنما يتبعون ظنهم الباطل وإما موصولة معطوفة على من كأنه قيل ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم وتخصيصهم بالذكر مع دخولهم فيما سبق عبارة أو دلالة للمبالغة في بيان بطلان اتباعهم وفساد ما بنوه عليه من ظنهم شركاءهم معبودين مع كونهم عبيدا له سبحانه وإما استفهامية أي وأي شئ يتبعون أي لا يتبعون شيئا ما يتبعون إلا الظن والحال الباطل كقوله تعالى ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها الخ وقرئ تدعون بالتاء فالاستفهام للتبكيت والتوبيخ كأنه قيل وأي شئ يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين تقريرا لكونهم متبعين لله تعالى مطيعين له وتوبيخا لهم على عدم اقتدائهم بهم في ذلك كقوله تعالى أولئك الذيم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقيل إن يتبع هؤلاء المشركون إلا الظن ولا يتبعون ما يتبعه الملائكة والنبيون من الحق
«وإن هم إلا يخرصون» يكذبون فيما ينسبوبه إليه سبحانه ويحزرون ويقدرون أنهم شركاء تقدير باطلا
«هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا» تنبيه على تفرده تعالى بالقدرة الكاملة والنعمة الشاملة ليدلهم على توحده سبحانه باستحقاق العبادة وتقرير لما سلف من كون جميع الموجودات الممكنة تحت قدرته وملكته المفصح عن اختصاص العزة به سبحانه والجعل إن كان بمعنى الإبداع والخلق فمبصرا حال وإلا فلكم مفعوله الثاني أو هو حال كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لتسكنوا فيه أو هو محذوف بدل عليه المفعول الثاني من الجملة الثانية كما أن العلة الغائية منها محذوفة اعتمادا على ما في الأولى والتقدير هو الذي جعل لكم الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتحركوا فيه لمصالحكم كما سيجئ نظيره في قوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الآية فحذفت في كل واحد من الجانبين ما ذكر في الآخر اكتفاء بالمذكور عن المتروك وإسناد الإبصار إلى النهار مجازى كالذي في نهاره صائم
«إن في ذلك» أي في جعل كل منهما كما وصف أو فيهما وما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان ببعد منزلة المشار إليه وعلو رتبته
«لآيات» عجيبة كثيرة أو آيات أخر غير ما ذكر
«لقوم يسمعون» أي هذه الآيات المتلوة ونظائرها المنبهة على تلك الآيات التكوينية الآمرة بالتأمل فيها سماع تدبرو اعتبار فيعملون بمقتضاها وتخصيص الآيات بهم مع
أنها منصوبة لمصلحة الكل لما أنهم المنتفعون بها
«قالوا» شروع في ذكر ضرب آخر من أباطيلهم وبيان بطلانه
«اتخذ الله ولدا»
«اتخذ الله ولدا»
162

أي تبناه «سبحانه» تنزيه وتقديس له عما نسبوا إليه وتعجيب من كلمتهم الحمقاء
«هو الغني» على الإطلاق عن كل شئ في كل شئ وهو علة لتنزيهه سبحانه وإيذان بأن اتخاذ الولد من أحكام الحاجة وقوله عز وجل
«له ما في السماوات وما في الأرض» أي من العقلاء وغيرهم تقرير لغناه وتحقيق لمالكيته تعالى لكل ما سواه وقوله تعالى
«إن عندكم من سلطان» أي حجة
«بهذا» أي بما ذكر من قولهم الباطل توضيح لبطلانه بتحقيق سلامة ما أقيم من البرهان الساطع عن المعارض فمن في قوله تعالى من سلطان زائدة لتأكيد النفي وهو مبتدأ والظرف المقدم خبره أو مرتفع على أنه فاعل للظرف لاعتماده على النفي وبهذا متعلق إما بسلطان لأنه بمعنى الحجة والبرهان وإما بمحذوف وقع صفة له وإما بما في عندكم من معنى الاستقرار كأنه قيل إن عندكم في هذا القول من سلطان والالتفات إلى الخطاب لمزيد المبالغة في الإلزام والإفحام وتأكيد ما في قوله تعالى
«أتقولون على الله ما لا تعلمون» من التوبيخ والتقريع على جهلهم واختلافهم وفيه تنبيه على أن كل مقالة لا دليل عليها فهي جهالة وأن العقائد لا بد لها من برهان قطعي وأن التقليد بمعزل من الاعتداد به
«قل» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبين لهم سوء مغبتهم ووخامة عاقبتهم
«إن الذين يفترون على الله الكذب» أي في كل أمر فيدخل ما نحن بصدده من الافتراء بنسبة الولد والشريك إليه سبحانه دخولا أوليا
«لا يفلحون» أي لا ينجون من مكروه ولا يفوزون بمطلوب أصلا وتخصيص عدم النجاة والفوز بما يندرج في ذلك من عدم النجاة من النار وعدم الفوز بالجنة لا يناسب مقام المبالغة في الزجر عن الافتراء عليه سبحانه
«متاع في الدنيا» كلام مستأنف سيق لبيان أن ما يتراءى فيهم بحسب الظاهر من نيل المطالب والفوز بالحظوظ الدنيوية على الإطلاق أو في ضمن افترائهم بمعزل من أن يكون من جنس الفلاح كأنه قيل كيف لا يفلحون وهم في غبطة ونعيم فقيل هو متاع يسير في الدنيا وليس بفوز بالمطلوب ثم أشير إلى انتفاء النجاة عن المكروه أيضا بقوله عز وعلا
«ثم إلينا مرجعهم» أي بالموت
«ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون» فيبقون في الشقاء المؤبد بسبب كفرهم المستمر أو بكفرهم في الدنيا فأين هم من الفلاح وقيل المبتدأ المحذوف حياتهم أو تقلبهم وقد قيل إنه افتراؤهم ولا يخفى أن المتاع إنما يطلق على ما يكون مطبوعا عند النفس مرغوبا فيه في نفسه يتمتع وينتفع به وإنما عدم الاعتداد به لسرعة زواله ونفس الافتراء عليه سبحانه أقبح القبائح عند النفس فضلا عن أن يكون مطبوعا عندها وعده كذلك باعتبار إجراء حكم ما يؤدى إليه من رياستهم عليه مما لا وجه له فالوجه ما ذكر أولا وليس ببيعد ما قيل إن المحذوف هو الخبر أي لهم متاع والآية إما مسوقة من جهة الله تعالى لتحقيق عدم إفلاحهم غير داخلة في الكلام المأمور به كما يقتضيه ظاهر قوله تعالى ثم إلينا وقوله تعالى ثم نذيقهم وإما داخلة فيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بنقله وحكايته عنه عز وجل
163

«واتل عليهم» أي على المشركين من أهل مكة وغيرهم لتحقيق ما سبق من أنهم لا يفلحون وأن ما يتمتعون به على جناح الفوات وأنهم مشرفون على العذاب الخالد
«نبأ نوح» أي خبره الذي له شأن وخطر مع قومه الذين هم أضراب قومك في الكفر والعناد ليتدبروا ما فيه من زوال ما تمتعوا به من النعيم وحلول عذاب الغرق الموصول بالعذاب المقيم لينزجروا بذلك عما هم عليه من الكفر أو تنكسر شدة شكيمتهم أو يعترف بعضهم بصحة نبوتك بأن عرفوا أن ما تتلوه موافقا لما ثبت عندهم من غير مخالفة بينهما أصلا مع علمهم بأنك لم تسمع ذلك من أحد ليس إلا بطريق الوحي وفيه من تقرير ما سبق من كون الكل لله سبحانه واختصاص العزة به تعالى وانتفاء الخوف والحزن عن أوليائه عز وعلا قاطبة وتشجيع النبي صلى الله عليه وسلم وحمله على عدم المبالاة بهم وبأقوالهم وأفعالهم ما لا يخفى
«إذ قال» معمول لنبأ أو بدل منه بدل اشتمال وأياما كان فالمراد بعض نبئه صلى الله عليه وسلم لا كل ما جرى بينه وبين قومه واللام في قوله تعالى
«لقومه» للتبليغ
«يا قوم إن كان كبر» أي عظم وشق
«عليكم مقامي» أي نفسي كما يقال فعلته لمكان فلان أي لفلان ومنه قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه أي خاف ربه أو قيامي ومكثى بين ظهرانيكم مدة طويلة أو قيامي
«وتذكيري بآيات الله» فإنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة يقومون على أرجلهم والجماعة قعود ليظهر حالهم ويسمع مقالهم
«فعلى الله توكلت» جواب الشرط أي دمت على تخصيص التوكل به تعالى ويجوز أن يراد به إحداث مرتبة مخصوصة من مراتب التوكل
«فأجمعوا أمركم» عطف على الجواب والفاء لترتيب الأمر بالإجماع على التوكل لا لترتيب نفس الإجماع عليه أو هو الجواب وما سبق جملة معترضة والإجماع العزم قيل هو متعد بنفسه وقيل فيه حذف وإيصال قال السدوسي أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه وقال أبو الهيثم أجمع أمره جعله مجموعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه
يقول مرة أفعل كذا وأخرى أفعل كذا وإذا عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا
«وشركاءكم» بالنصب على أن الواو بمعنى مع كما تدل عليه القراءة بالرفع عطفا على الضمير المتصل تنزيلا للفصل منزلة التأكيد وإسناد الإجماع إلى الشركاء على طريقة التهكم وقيل إنه عطف على أمركم بحذف المضاف أي أمر شركائهم وقيل منصوب بفعل محذوف أي وادعوا شركاءكم وقد قرىء كذلك وقرئ فاجمعوا من الجمع أي فاعزموا على أمركم الذي تريدون بي من السعي في إهلاكى واحتشدوا فيه على أي وجه يمكنكم
«ثم لا يكن أمركم» ذلك
«عليكم غمة» أي مستورا من غمه إذا ستره بل مكشوفا مشهورا تجاهروننى به فإن السر إنما يصار إليه لسد باب تدارك الخلاص بالهرب أو نحوه فحيث استحال ذلك في حقي لم يكن للسروجه وإنما خاطبهم صلى الله عليه وسلم بذلك إظهارا لعدم المبالاة بهم وأنهم لم يجدوا إليه سبيلا وثقة بالله سبحانه وبما وعده من عصمته وكلاءته فكلمة ثم للتراخى في
164

الرتبة وإظهار الأمر في موقع الإضمار لزيادة تقرير يقتضيها مقام الأمر بالإظهار الذي يستلزمه النهى عن التستر والإسرار وقيل المراد بأمرهم ما يعتريهم من جهته صلى الله عليه وسلم من الحال الشديدة عليهم المكروهة لديهم والغمة والغم كالكربة والكرب وثم للتراخى الزماني والمعنى لا يكن حالكم عليكم غمة وتخلصوا بإهلاكى من ثقل مقامي وتذكيري ولا يخفى أنه لا يساعده قوله عز وجل
«ثم اقضوا إلي ولا تنظرون» أي أدوا إلى أي أحكموا ذلك الأمر الذي تريدون بي ولا تمهلونى كقوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أو أدوا إلى ما هو حق عليكم عندكم من إهلاكى كما يقضى الرجل غريمه فإن توسيط ما يحصل بعد الإهلاك بين الأمر بالعزم على مباديه وبين الأمر بقضائه من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه وقرئ أفضوا بالفاء أي انتهوا إلى بشركم أو ابرزوا إلى من أفضى إذا خرج إلى الفضاء
«فإن توليتم» الفاء لترتيب التولي على ما سبق فالمراد به إما الاستمرار عليه وإما إحداث التولي المخصوص أي إن أعرضتم عن نصيحتى وتذكيري إثر ما شاهدتم منى من مخايل صحة ما أقول ودلائلها التي من جملتها دعوتي إياكم جميعا إلى تحقيق ما تريدون بي من السوء غير مبال بكم وبما يأتي منكم وإحجامكم من الإجابة علما منكم بأنى على الحق المبين مؤيد من عند الله العزيز
«فما سألتكم» بمقابلة وعظى وتذكيري
«من أجر» تؤدونه إلى حتى يؤدى ذلك إلى توليكم إما لاتهامكم إياي بالطمع والسؤال وإما لثقل دفع المسؤول عليكم أو حتى يضرني توليكم المؤدى إلى الحرمان فالأول لإظهار بطلان التولي ببيان عدم ما يصححه والثاني لإظهار عدم مبالاته صلى الله عليه وسلم بوجوده وعدمه وعلى التقديرين فالفاء الجزائية لسببية الشرط لإعلام مضمون الجزاء لا لنفسه والمعنى إن توليتم فاعلموا أن ليس في مصحح له ولا تأثر منه وقوله عز وجل
«إن أجري إلا على الله» ينتظم المعنيين جميعا خلا أنه على الأول تأكيد وعلى الثاني تعليل لاستغنائه صلى الله عليه وسلم عنهم أي ما ثوابي على العظة والتذكير إلا عليه تعالى يثيبنى به آمنتم أو توليتم
«وأمرت أن أكون من المسلمين» المنقادين لحكمه لا أخالف أمره ولا أرجو غيره أو المستسلمين لكل ما يصيب من البلاء في طاعة الله تعالى
«فكذبوه» فأصروا على ما هم عليه من التكذيب بعد ما ألزمهم الحجة وبين لهم المحجة وحقق أن توليهم ليس له سبب غير التمرد والعناد فلا جرم حقت عليهم كلمة العذاب
«فنجيناه ومن معه في الفلك» من المسلمين وكانوا ثمانين
«وجعلناهم خلائف» من الهالكين
«وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا» أي بالطوفان وتأخير ذكره عن ذكر الإنجاء والاستخلاف حسبما وقع في قوله عز وعلا ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة وغير ذلك من الآيات الكريمة لإظهار كمال العناية بشأن المقدم ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب الذي هو من مستتبعات
165

جرائم المجرمين
8 «فانظر كيف كان عاقبة المنذرين» تهويل لما جرى عليهم وتحذير لمن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له صلى الله عليه وسلم
«ثم بعثنا» أي أرسلنا
«من بعده» أي من بعد نوح عليه السلام
«رسلا» التنكير للتفخيم ذاتا ووصفا أي رسلا كراما ذوى عدد كثير
«إلى قومهم» أي إلى أقوامهم لكن لا بأن أرسلنا كل رسول منهم إلى أقوام الكل أو إلى قوم ما أي قوم كانوا بل كل رسول إلى قومه خاصة مثل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود وغير ذلك ممن قص منهم ومن لم يقص
«فجاؤوهم» أي جاء كل رسول قومه المخصوصين به
«بالبينات» أي المعجزات الواضحة الدالة على صدق ما قالوا والباء إما متعلقة بالفعل المذكور على أنها للتعدية أو بمحذوف وقع حالا من ضمير جاءوا أي ملتبسين بالبينات لكن لا بأن يأتي كل رسول ببينة واحدة بل ببينات كثيرة خاصة به معينة له حسب اقتضاء الحكمة فإن مراعاة انقسام الآحاد إلى الآحاد إنما هي فيما بين ضميري جاءوهم كما أشير إليه فما كانوا ليؤمنوا بيان لاستمرار عدم إيمانهم في الزمان الماضي لا لعدم استمرار إيمانهم كما مر مثله في هذه السورة الكريمة غير مرة أي فما صح وما استقام لقوم من أولئك الأقوام في وقت من الأوقات أن يؤمنوا بل كان ذلك ممتنعا منهم لشدة شكيمتهم في الكفر والعناد ثم إن كان المحكى آخر حال كل قوم حسبما يدل عليه حكاية قوم نوح فالمراد بعدم إيمانهم المذكور ههنا إصرارهم على ذلك بعد اللتيا والتي وبما أشير إليه في قوله عز وجل بما كذبوا به من قبل تكذيبهم من حين مجيء الرسل إلى زمان الإصرار والعناد وإنما لم يجعل ذلك مقصودا بالذات كالأول حيث جعل صلة للموصول إيذانا بأنه بين بنفسه غنى عن البيان وإنما المحتاج إلى ذلك عدم إيمانهم بعد تواتر البينات الظاهرة وتظاهر المعجزات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أصحاب العقول والموصول الذي تعلق به الإيمان والتكذيب سلبا وإيجابا عبارة عن جميع الشرائع التي جاء بها كل رسول أصولها وفروعها وإن كان المحكى جميع أحوال كل قوم منهم فالمراد بما ذكر أولا كفرهم المستمر من حين مجئ الرسل إلى آخره وبما أشير إليه آخرا تكذيبهم قبل مجيئهم فلابد من كون الموصول المذكور عبارة عن أصول الشرائع التي أجمعت عليها الرسل قاطبة ودعوا أممهم إليها آثر ذي أثير لاستحالة تبدلها وتغيرها مثل ملة التوحيد ولوازمها ومعنى تكذيبهم بها قبل مجئ رسلهم أنهم ما كانوا في زمن الجاهلية بحيث لم يسمعوا بكلمة التوكيد قط بل كان كل قوم من أولئك الأقوام يتسامعون بها من بقايا من قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح عليه السلام فيكذبونها ثم كانت حالتهم بعد مجيء الرسل كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد وتخصيص التكذيب وعدم الإيمان بما ذكر من الأصول لظهور حال الباقي بدلالة النص فإنهم حيث لم يؤمنوا بما أجمعت عليه كافة الرسل فلأن لا يؤمنوا بما تفرد به بعضهم أولى وعدم جعل هذا التكذيب مقصودا بالذات لما أن ما عليه يدور أمر العذاب والعقاب
166

عند اجتماع المكذبين هو التكذيب الواقع بعد الدعوة حسبما يعرب عنه قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وإنما ذكر ما وقع قبلها بيانا لعراقتهم في الكفر والتكذيب وعلى التقديرين فالضمائر الثلاثة متوافقة في المرجع وقيل ضمير كذبوا راجع إلى قوم نوح عليه السلام والمعنى فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب بمثله قوم نوح ولا يخفى ما فيه من التعسف وقيل الباء للسببية أي بسبب تعودهم تكذيب الحق وتمرنهم عليه قبل بعثة الرسل ولا يخفى أن ذلك يؤدى إلى مخالفة الجمهور من جعل ما المصدرية من قبيل الأسماء كما هو رأى الأخفش وابن السراج ليرجع إليها الضمير وفي إرجاعه إلى الحق بادعاء كونه مركوزا في الأذهان مالا يخفي من التعسف
«كذلك» أي مثل ذلك الطبع المحكم
«نطبع» بنون العظمة وقرئ بالياء على أن الضمير لله سبحانه
«على قلوب المعتدين» المتجاوزين عن الحدود المعهودة في الكفر والعناد المتجافين عن قبول الحق وسلوك طريق الرشاد وذلك بخذلانهم وتخليتهم وشأنهم لانهماكهم في الغى والضلال وفي أمثال هذا دلالة على أن الأفعال واقعة بقدرة الله تعالى وكسب العبد
«ثم بعثنا» عطف على قوله تعالى ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم عطف قصة على قصة
«من بعدهم» أي من بعد أولئك الرسل عليهم السلام
«موسى وهارون» خصت بعثتهما عليهما السلام بالذكر ولم يكتف باندراج خبرهما فيما أشير إليه إشارة إجمالية من أخبار الرسل عليهم السلام مع أقوامهم وأوثر في ذلك ضرب تفصيل إيذانا بخطر شأن القصة وعظم وقعها كما في نبأ نوح عليه السلام
«إلى فرعون وملئه» أي أشراف قومه وتخصيصهم بالذكر لأصالتهم في إقامة المصالح والمهمات ومراجعة الكل إليهم في النوازل والملمات
«آياتنا» أي ملتبسين بها وهى الآيات المفصلات في الأعراف فاستكبروا الاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق والفاء فصيحة أي فأتياهم فبلغاهم الرسالة فاستكبروا عن اتباعهما وذلك قول للعين لموسى عليه السلام ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين الخ
«وكانوا قوما مجرمين» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله أي كانوا معتادين لارتكاب الذنوب العظام فإن الإجرام مؤذن بعظم الذنب ومنه الجرم أي الجثة فلذلك اجترءوا على ما اجترءوا عليه من الاستهانة برسالة الله تعالى وحمل الاستكبار على الامتناع عن قبول الآيات لا يساعده قوله عزو علا
«فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين» فإنه صريح في أن المراد باستكبارهم ما وقع منهم قبل مجئ الحق الذي سموه سحرا أغنى العصا واليد البيضاء كما ينبئ عنه سياق النظم الكريم وذلك أول ما أظهره صلى الله عليه وسلم من الآيات العظام والفاء فيه أيضا فصيحة معربة عما صرح به في مواضع أخر كأنه قيل قال موسى قد جئتكم ببينة من ربكم إلى قوله تعالى فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين فلما جاءهم الحق من عندنا وعرفوه قالوا من فرط عتوهم
167

وعنادهم إن هذا السحر مبين أي ظاهر كونه سحرا أو فائق في بابه واضح فيما بين أضرابه وقرئ لساحر
«قال موسى» استئناف مبنى على سؤال تنساق إليه الأذهان كأنه قيل فماذا قال لهم موسى حينئذ فقيل قال على طريقة الاستفهام الإنكارى التوبيخي
«أتقولون للحق» الذي هو أبعد شيء من السحر الذي هو الباطل البحت
«لما جاءكم» أي حين مجيئه إياكم ووقوفكم عليه أو من أول الأمر من غير تأمل وتدبر وكلا الحالين مما ينافي القول المذكور والمقول محذوف ثقة بدلالة ما قبله وما بعده عليه وإيذانا بأنه مما لا ينبغي أن يتفوه به ولو على نهج الحكاية أي أتقولون له ما تقولون من أنه سحر يعنى به أنه مما لا يمكن أن يقوله قائل ويتكلم به متكلم أو القول بمعنى العيب والطعن من قولهم فلان يخاف القالة وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه ونظيره الذكر في قوله تعالى سمعنا فتى يذكرهم الخ فيستغنى عن
المفعول أي أتعيبونه وتطعنون فيه وعلى الوجهين فقوله عز وجل
«أسحر هذا» إنكار مستأنف من جهته عليه السلام لكونه سحرا وتكذيب لقولهم وتوبيخ لهم على ذلك إثر توبيخ وتجهيل بعد تجهيل أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فوجه إيثار إنكار كونه سحرا على إنكار كونه معيبا بأن يقال مثلا أفيه عيب حسبما يقتضيه ظاهر الإنكار السابق التصريح بالرد عليهم في خصوصية ما عابوه به بعد التنبيه بالإنكار السابق على أن ليس فيه شائبة عيب ما وما في هذا من معنى القرب لزيادة تعيين المشار إليه واستحضار ما فيه من الصفات الدالة على كونه آية باهرة من آيات الله المنادية على امتناع كونه سحرا أي أسحر هذا الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف بحيث لا يرتاب فيه أحد ممن له عين مبصرة وتقديم الخبر للإيذان بأنه مصب الإنكار ولما استلزم كونه سحرا كون من اتى به ساحرا أكد الانكار السابق وما فيه من التوبيخ والتجهيل بقوله عز وجل
«ولا يفلح الساحرون» وهو جملة حالية من ضمير المخاطبين والرابط هو الواو بلا ضمير كما في قول من قال
* جاء الشتاء ولست أملك عدة
* وقولك جاء زيد ولم تطلع الشمس أي أتقولون للحق إنه سحر والحال أنه لا يفلح فاعله أي لا يظفر بمطلوب ولا ينجو من مكروه فكيف يمكن صدوره من مثلي من المؤيدين من عند الله العزيز الحكيم الفائزين بكل مطلب الناجين من كل محذور وقوله تعالى أسحر هذا جملة معترضة بين الحال وصاحبها أكد بها الإنكار السابق ببيان استحالة كونه سحرا بالنظر إلى ذاته قبل بيان استحالته بالنظر إلى صدوره عنه عليه السلام هذا وأما تجويز أن يكون الكل مقول القول على أن المعنى أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح الساحرون فمما لا يساعده النظم الكريم أصلا أما أولا فلأن ما قالوا هو الحكم بأنه سحر من غير أن يكون فيه دلالة على ما تعسف فيه من المعنى بوجه من الوجوه فصرف جوابه صلى الله عليه وسلم عن صريح ما خاطبوه به إلى مالا يفهم منه أصلا مما يجب تنزيه النظم التنزيلي عن الحمل على أمثاله وأما ثانيا فلان التعرض لعدم إفلاح السحرة على الإطلاق من وظائف من يتمسك بالحق المبين دون الكفرة المتشبثين بإذيال بعض منهم في معارضته صلى الله عليه وسلم ولو كان ذلك من كلامهم لناسب تخصيص عدم الإفلاح بمن زعموه ساحرا بناء على غلبة من يأتون به من السحرة وأما ثالثا فلأن قوله عز وجل
168

«قالوا أجئتنا» الخ مسوق لبيان أنه صلى الله عليه وسلم ألقمهم الحجر فانقطعوا عن الإتيان بكلام له تعلق بكلامه صلى الله عليه وسلم فضلا عن الجواب الصحيح واضطروا إلى التثبت بذيل التقليد الذي هو دأب كل عاجز محجوج وديدن كل معاند لجوج على أنه استئناف وقع جوابا عما قبله من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريقة قوله تعالى قال موسى الخ حسبما أشير إليه كأنه قيل فماذا قالوا لموسى عليه السلام عندما قال لهم ما قال فقيل قالوا عاجزين عن المحاجة أجئتنا
«لتلفتنا» أي لتصرفنا فإن الفتل واللفت أخوان
«عما وجدنا عليه آباءنا» أي من عبادة الأصنام ولا ريب في أن ذلك إنما يتسنى بكون ما ذكر من تتمة كلامه عليه السلام على الوجه الذي شرح إذ على تقدير كونه محكيا من قبلهم يكون جوابه عليه السلام خاليا عن التبكيت الملجئ لهم إلى العدول عن سنن المحاجة ولا ريب في أنه لا علاقة بين قولهم أجئتنا الخ وبن إنكاره عليه السلام لما حكى عنهم مصصحة لكونه جوابا عنه
«وتكون لكما الكبرياء» أي الملك أو التكبر على الناس باستتباعهم وقرئ ويكون بالياء التحتانية وكلمة في في قوله تعالى
«في الأرض» أي أرض مصر متعلقة بتكون أو بالكبرياء أو بالاستقرار في لكما لوقوعه خبرا أو بمحذوف وقع حالا من الكبرياء أو من الضمير في لكما لتحمله إياه
«وما نحن لكما بمؤمنين» أي بمصدقين فيما جئتما به وتثنية الضمير في هذين الموضعين بعد إفراده فيما تقدم من المقامين باعتبار شمول الكبرياء لهما عليهما السلام واستلزام التصديق لأحدهما التصديق للآخر وأما اللفت والمجئ له فحيث كانا من خصائص صاحب الشريعة اسند إلى موسى عليه السلام خاصة
«وقال فرعون» توحيد الفعل لأن الأمر من وظائف فرعون أي قال لملئه يأمرهم بترتيب مبادئ إلزامهما عليهما السلام بالفعل بعد اليأس من إلزامها بالقول
«ائتوني بكل ساحر عليم» بفنون السحر حاذق ماهر فيه وقرئ سحار
«فلما جاء السحرة» عطف على مقدر يستدعيه المقام قد حذف إيذانا بسرعة امتثالهم لأمر فرعون كما هو شأن الفاء الفصيحة في كل مقام أي فأتوا به فلما جاءوا
«قال لهم موسى» لكن لا في ابتداء مجيئهم بل بعد ما قالوا عليه السلام ما حكى عنهم في السور الأخر من قولهم إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين ونحو ذلك
«ألقوا ما أنتم ملقون» أي ملقون له كائنا ما كان من أصناف السحر
«فلما ألقوا» ما ألقوا من العصى والحبال واسترهبوا الناس وجاءوا بسحر عظيم
«قال» لهم
«موسى» غير مكترث بهم وبما صنعوا
«ما جئتم به السحر» ما موصولة
169

وقعت مبتدأ والسحر خبره أي هو السحر لا ما سماه فرعون وقومه من آيات الله سبحانه أو هو من جنس السحر يريهم أن حاله بين لا يعبأ به كأنه قال ما جئتم به مما لا ينبغي أن يجاء به وقرئ آلسحر على الاستفهام فما استفهامية أي أي شيء جئتم به أهو السحر الذي يعرف حاله كل أحد ولا يتصدى له عاقل وقرئ ما جئتم به سحر وقرئ ما أتيتم به سحر ودلالتهما على المعنى الثاني في القراءة المشهورة أظهر
«إن الله سيبطله» أي سيمحقه بالكلية بما يظهره على يدي من المعجزة فلا يبقى له أثر أصلا أو سيظهر بطلانه للناس والسين للتأكيد
«إن الله لا يصلح عمل المفسدين» أي عمل جنس المفسدين على الإطلاق فيدخل فيه السحر دخولا أوليا أو عملكم فيكون من باب وضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم وليس المراد بعدم إصلاح عملهم عدم جعل فسادهم صلاحا بل عدم إثابته وإتمامه أي لا يثبته ولا يكلمه ولا يديمه بل يمحقه ويهلكه ويسلط عليه الدمار والجملة تعليل لما سبق من قوله إن الله سيبطله والكل اعتراض تذييلى وفيه دليل على أن السحر إفساد وتمويه لا حقيقة له
«ويحق الله الحق» عطف على قوله سيبطله أي يثبته ويقويه وإظهار الاسم الجليل في المقامين الأخيرين لإلقاء الروعة وتربية المهابة
«بكلماته» بأوامره وقضاياه وقرئ بكلمته
«ولو كره المجرمون» ذلك والمراد بهم كل من اتصف بالإجرام من السحرة وغيرهم
«فما آمن لموسى» معطوف على مقدر قد فصل في مواقع أخر أي فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون الخ وإنما لم يذكر تعويلا على ذلك وإيثار للإيجاز وإيذانا بأن قوله تعالى إن الله سيبطله مما لا يحتمل الخلف أصلا وعطفه على ذلك بالفاء مع كونه عدما مستمرا من قبيل ما في قوله عز وجل فاتبعوا أمر فرعون وما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر والسر في ذلك أن الإتيان بالشئ بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرار عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع حادث أي فما آمن له عليه السلام بمشاهدة تلك الآيات القاهرة
«إلا ذرية من قومه» أي إلا أولاد من أولاد قومه بنى إسرائيل حيث دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون وأجابته طائفة من شبانهم وقيل الضمير لفرعون والذرية طائفة من شبابهم أمنوا به عليه السلام أو مؤمن آل فرعون وامرأته آسية وخازنه وامرأته وماشطته وهو بعيد
«على خوف» أي كائنين على خوف عظيم
«من فرعون وملئهم» الضمير لفرعون والجمع لما هو المعتاد في ضمائر العظماء ولا يأباه مقام بيان علوه في الفساد وغلوه في الشر والتسلط على العباد أو لأن المراد به آله كما يقال ربيعة ومضر أو للذرية أو للقوم أي على خوف من فرعون ومن اشراف بنى إسرائيل حيث كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم
«أن يفتنهم»
170

أي يعذبهم وهو بدل اشتمال أو مفعول خوف فإن إعمال المصدر المنكر كثير كما في قوله عز وجل أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما أو مفعول له بعد حذف اللام وإسناد الفعل إلى فرعون خاصة لأنه الآمر بالتعذيب
«وإن فرعون لعال في الأرض» لغالب في أرض مصر
«وإنه لمن المسرفين» في الظلم والفساد بالقتل وسفك الدماء أو في الكبر والعتو حتى ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء والجملتان اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما سبق
«وقال موسى» لما رأى تخوف المؤمنين منه
«يا قوم إن كنتم آمنتم بالله» أي صدقتم به وبآياته
«فعليه توكلوا» وبه ثقوا ولا تخافوا أحدا غيره فإنه كافيكم كل شر وضر
«إن كنتم مسلمين» مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له وليس هذا من تعليل الحكم بشرطين فإن المعلل بالإيمان وجوب التوكل عليه تعالى فإنه المقتضى له والمشروط بالإسلام وجوده فإنه لا يتحقق مع التخليط ونظيره إن أحسن إليك زيد فأحسن إليه إن قدرت عليه
«فقالوا» مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم في ذلك
«على الله توكلنا» لأنهم كانوا مؤمنين مخلصين ثم دعوا ربهم قائلين
«ربنا لا تجعلنا فتنة» أي موقع فتنة
«للقوم الظالمين» أي لا تسلطهم علينا حتى يعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتتنوا بنا ويقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا وقوله تعالى
«ونجنا برحمتك من القوم الكافرين» دعاء منهم بالإنجاء من سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم بعد الإنجاء من ظلمهم ولذلك عبر عنهم بالكفر بعد ما وصفوا بالظلم وفي ترتيب الدعاء على التوكل تلويح بأن الداعي حقه أن يبنى دعاءه على التوكل على الله تعالى
«وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ» أن مفسرة لأن في الوحي معنى القول أي اتخذا مباءة
«لقومكما بمصر بيوتا» تسكنون فيها وترجعون إليها للعبادة
«واجعلوا» أنتما وقومكما
«بيوتكم» تلك
«قبلة» مصلى وقيل مساجد متوجهة نحو القبلة يعنى الكعبة فإن موسى عليه السلام كان يصلى إليها
«وأقيموا الصلاة» أي فيها أمروا بذلك في أول أمرهم لئلا يظهر عليهم الكفرة فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم
«وبشر المؤمنين» بالنصرة في الدنيا إجابة لدعوتهم والجنة في العقبى وإنما ثنى الضمير أولا لأن التبوؤ للقوم واتخاد المعابد مما يتولاه رؤساء القوم بتشاور ثم جمع لأن
جعل البيوت مساجد والصلاة فيها مما يفعله كل أحد ثم وحد لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة ووضع المؤمنين موضع ضمير القوم لمدحهم بالايمان وللإشعار بأنه المدار في التبشير
171

«وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة» أي ما يتزين به من اللباس والمراكب ونحوها
«وأموالا» وأنواعا كثيرة من المال
«في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك» دعاء عليهم بلفظ الأمر بما علم بممارسة أحوالهم أنه لا يكون غيره كقولك لعن الله إبليس وقيل اللام للعاقبة وهى متعلقة بآتيت أو للعلة لأن إيتاء النعم على الكفر استدراج وتثبيت على الضلال ولأنهم لما جعلوها ذريعة إلى الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا فيكون ربنا تكرير للأول تأكيدا أو تنبيها على أن المقصود عرض ضلالهم وكفرانهم تقدمة لقوله تعالى
«ربنا اطمس على أموالهم» الطمس المحو وقرئ بضم الميم أي أهلكها
«واشدد على قلوبهم» أي اجعلها قاسية واطبع عليها حتى لا تنشرح للإيمان كما هو قضية شأنهم
«فلا يؤمنوا» جواب للدعاء أو دعاء بلفظ النهى أو عطف على ليضلوا وما بينهما دعاء معترض
«حتى يروا العذاب الأليم» أي يعاينوه ويوقنوا به بحيث لا ينفعهم ذلك إذ ذاك
«قال قد أجيبت دعوتكما» يعنى موسى وهارون عليهما السلام لأنه كان يؤمن كما يشعر به إضافة الرب إلى ضمير المتكلم مع الغير في المواقع الثلاثة
«فاستقيما» فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوى وإلزام الحجة ولا تستعجلا فإن ما طلبتما كائن في وقته لا محالة روى أنه مكث فيهم بعد الدعاء أربعين سنة
«ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون» أي بعادات الله سبحانه في تعليق الأمور بالحكم والمصالح أو سبيل الجهلة في الاستعجال أو عدم الوثوق بوعد الله تعالى وقرئ بالنون الخفيفة وكسرها لالتقاء الساكنين ولا تتبعان من تبع ولا تتبعان أيضا
«وجاوزنا ببني إسرائيل البحر» هو من جاوز المكان إذا تخطاه وخلفه والباء للتعدية أي جعلناهم مجاوزين البحر بأن جعلناه يبسا وحفظناهم حتى بلغوا الشط وقرئ جوزنا وهو من التجويز المرادف للمجاوزة لا مما هو بمعنى التنفيذ نحو ما وقع في قول الأعشى
* كما جوز السكى في الباب فيتق
* وإلا لقيل وجوزنا نبي إسرائيل في البحر ولخلا النظم الكريم عن الإيذان بانفصالهم عن البحر وبمقارنة العناية الإلهية لهم عند الجواز كما هو المشهور في الفرق بين أذهبه وذهب به
«فأتبعهم» يقال تبعته حتى اتبعته إذا كان سبقك فلحقته أي أدركهم ولحقهم
8 فرعون وجنوده 8 حتى تراءت الفئتان وكاد يجتمع الجمعان
8 بغيا وعدوا 8 ظلما واعتداء
172

أي باغين وعادين أو للبغى والعدوان وقرئ وعدوا وذلك أن موسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل على حين غفلة من فرعون فلما سمع به تبعهم حتى لحقهم ووصل إلى الساحل وهم قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله يبسا فسلكه بجنوده أجمعين فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج غشيهم من اليم ما غشيهم
«حتى إذا أدركه الغرق» أي لحقه وألجمه
«قال آمنت أنه» أي بأنه والضمير للشأن وقرئ إنه على الاستئناف بدلا من آمنت وتفسير له
«لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل» لم يقل كما قاله السحرة آمنا برب العالمين رب موسى وهارون بل عبر عنه تعالى بالموصول وجعل صلته إيمان بنى إسرائيل به تعالى للإشعار برجوعه عن الاستعصاء وباتباعه لمن كان يستتبعهم طمعا في القبول والانتظام معهم في سلك النجاة
«وأنا من المسلمين» أي الذين أسلموا نفوسهم لله أي جعلوها سالمة خاصة له تعالى وأراد بهم إما بنى إسرائيل خاصة وإما الجنس وهم داخلون فيه دخولا أولياء والجملة على الأول عطف على آمنت وإيثار الاسمية لا دعاء الدوام والاستمرار وعلى الثاني يحتمل الحالية أيضا من ضمير المتكلم أي آمنت مخلصا لله منتظما في سلك الراسخين فيه ولقد كرر المعنى الواحد بثلاث عبارات حرصا على القبول المفضى إلى النجاة وهيهات هيهات بعد ما فات ما فات وأتى ما هو آت وقوله عز وجل
8 «الآن» مقول لقول مقدر معطوف على قال أي فقيل آلآن وهو إلى قوله تعالى آية حكاية لما جرى منه سبحانه من الغضب على المخذول ومقابلة ما أظهره بالرد على وجه الإنكار التوبيخى على تأخيره وتقريعه بالعصيان والإفساد وغير ذلك وفي حذف الفعل المذكور وإبراز الخبر المحكى في صورة الإنشاء من الدلالة على عظم السخط وشدة الغضب مالا يخفى كما يفصح عنه ما روى من أن جبريل دس فاه عند ذلك يحال البحر وسده به فإنه تأكيد الرد القولي بالرد الفعلي ولا ينافيه تعليله بمخافة إدراك الرحمة فيما نقل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فلو رأيتني يا محمد وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه الرحمة إذ المراد بها الرحمة الدنيوية أي النجاة التي هي طلبة المخذول وليس من ضرورة إدراكها صحة الإيمان كما في إيمان قوم يونس عليه السلام حتى يلزم من كراهته مالا يتصور في شأن جبريل عليه السلام من الرضا بالكفر إذ لا استحالة في ترتب هذه الرحمة على مجرد التفوه بكلمة الإيمان وإن كان ذلك في حالة البأس واليأس فيحمل دسه صلى الله عليه وسلم على سد باب الاحتمال البعيد لكمال الغيظ وشدة الحرد فتدبر والله الموفق وحق العامل في الظرف أن يقدر مؤخرا ليتوجه الإنكار والتوبيخ إلى تأخير الإيمان إلى حد يمتنع قبوله
فيه أي آلآن تؤمن حين يئست من الحياة وأيقنت بالممات وقوله عز وعلا
«وقد عصيت قبل» حال من فاعل الفعل المقدر جئ به لتشديد التوبيخ والتقريع على تأخير الإيمان إلى هذا الآن ببيان أنه لم يكن تأخيره لعدم بلوغ الدعوة إليه ولا للتأمل والتدبر في دلائله وآياته ولا لشئ آخر مما عسى يعد عذرا في التأخير بل كان ذلك على طريقة الرد والاستعصاء والإفساد فإن قوله تعالى
«وكنت من المفسدين» عطف على عصيت داخل في حيز الحال أي وكنت من الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان كقوله تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم
173

عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون فهذا عبارة عن فساده الراجع إلى نفسه والسارى إلى غيره من الظلم والتعدى وصد بنى إسرائيل عن الإيمان والأول عن عصيانه الخاص به
«فاليوم ننجيك» أي نخرجك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيا وفي التعبير عنه بالتنجية تلويح بأن مراده بالإيمان هو النجاة كما مر وتهكم به أو نلقيك على نجوة من الأرض ليراك بنو إسرائيل وقرئ ننجيك من الإنجاء وننحيك بالحاء من التنحية أي نلقيك بناحية الساحل
«ببدنك» في موضع الحال من ضمير المخاطب أي ننجيك ملابسا ببدنك فقط لا مع روحك كما هو مطلوبك فهو تخييب له وحسم لأطماعه بالمرة أو عاريا عن اللباس أو كاملا سويا أو بدرعك وكانت له درع من الذهب يعرف بها وقرئ بأبدانك أي بأجزاء بدنك كلها كقولهم هوى بأجرامه أو بدروعك كأنه كان مظاهرا بينها
«لتكون لمن خلفك آية» لمن وراءك علامة وهم بنو إسرائيل إذ كان في نفوسهم من عظمته ما خيل إليهم أنه لا يهلك حتى يروى أنهم لم يصدقوا موسى عليه السلام حين أخبرهم بغرقه إلى أن عاينوه مطرحا على ممرهم من الساحل أو تكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا مآل أمرك ممن شاهدك عبرة ونكالا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الربوبية وقرئ لمن خلفك فعلا ماضيا أي لمن خلفك من الجبابرة وقرئ لمن خلقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر الآيات فإن إفراده سبحانه إياك بالإلقاء إلى الساحل دليل على أنه قصد منه لكشف تزويرك وإماطة الشبهة في أمرك وبرهان نير على كمال علمه وقدرته وحكمته وإرادته وهذا الوجه محتمل على القراءة المشهورة أيضا وفي تعليل تنجيته بما ذكر إيذان بأنها ليست لإعزازه أو لفائدة أخرى عائدة إليه بل لكمال الاستهانة به وتفضيحه على رؤوس الأشهاد وزيادة تفظيع حاله كمن يقتل ثم يجر جسده في الأسواق أو يدار برأسه في البلاد واللام الأولى متعلقة بننجيك والثانية بمحذوف وقع حالا من آية أي كائنة لمن خلفك
«وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون» لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها وهو اعتراض تذييلى جيء به عند الحكاية تقريرا لفحوى الكلام المحكى
«ولقد بوأنا بني إسرائيل» كلام مستأنف سيق لبيان النعم الفائضة عليهم إثر نعمة الإنجاء على وجه الإجمال وإخلالهم بشكرها وأداء حقوقها أي أسكناهم وأنزلناهم بعد ما أنجيناهم وأهلكنا أعداءهم
«مبوأ صدق» أي منزلا صالحا مرضيا وهو الشام ومصر ملكوهما بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا
174

في نواحيهما حسبما نطق به قوله تعالى «وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها»
«ورزقناهم من الطيبات» أي اللذائذ
«فما اختلفوا» في أمر دينهم
«حتى جاءهم العلم» أي إلا بعد ما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها أو في أمر محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما علموا صدق نبوته وتظاهر معجزاته فالمراد بالمختلفين أعقابهم الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم
«إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» فيميز بين المحق والمبطل بالإثابة والتعذيب
«فإن كنت في شك» أي في شك ما يسير على الفرض والتقدير فإن مضمون الشرطية إنما هو تعليق شيء بشيء من غير تعرض لإمكان شيء منهما كيف لا وقد يكون كلاهما ممتنعا كقوله عز وجل قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين وقوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك ونظائرهما
«مما أنزلنا إليك» من القصص التي من جملتها قصة فرعون وقومه وأخبار بنى إسرائيل
«فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك» فإن ذلك محقق عندهم ثابت في كتبهم حسبما ألقينا إليك والمراد إظهار نبوته صلى الله عليه وسلم بشهادة الأحبار حسبما هو المسطور في كتبهم وإن لم يكن إليه حاجة أصلا أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم أو تهييجه صلى الله عليه وسلم وزيادة تثبيته على ما هو عليه من اليقين لا تجويز صدور الشك منه صلى الله عليه وسلم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا أشك ولا اسأل وقيل المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وتميم الداري وكعب وأضرابهم وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته أو لكل من يسمع أي إن كنت إيها السامع في شك مما أنزلنا إليك على لسان نبينا وفيه تنبيه على أن من خالجته شبهة في الدين ينبغي ان يسارع إلى حلها بالرجوع إلى أهل العلم وقرئ فاسأل الذين يقرءون الكتب
«لقد جاءك الحق» الذي لا محيد عنه ولا ريب في حقيته
«من ربك» وظهر ذلك بالآيات القاطعة التي لا يحوم حولها شائبة الارتياب وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من التشريف ما لا يخفى
«فلا تكونن من الممترين» بالتزلزل عما أنت عليه من الجزم واليقين ودم على ذلك كما كنت من قبل
«ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله» من باب التهييج والإلهاب والمراد به إعلام أن التكذيب من القبح والمحذورية بحيث ينبغي أن ينهى عنه من لا يتصور إمكان صدوره عنه فكيف بمن يمكن اتصافه به وفيه قطع لأطماع الكفرة
«فتكون» بذلك
«من الخاسرين» أنفسا وأعمالا
8 إن الذين حقت عليهم 8 شروع في بيان سر إصرار الكفرة على ما هم عليه من الكفر والضلال أي ثبتت ووجبت بمقتضى المشيئة المبنية على الحكمة البالغة
«كلمة ربك» حكمة وقضاؤه
175

بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار كقوله تعالى «ولكن حق القول مني لأملأن جهنم» إلى آخره
«لا يؤمنون» ابدا إذ لا كذب لكلامه ولا انتقاض لقضائه أي لا يؤمنون إيمانا نافعا واقعا في أوانه فيندرج فيهم المؤمنون عند معاينة العذاب مثل فرعون باقيا عند الموت فيدخل فيهم المرتدون
«ولو جاءتهم كل آية» واضحة المدلول مقبولة لدى العقول لأن سبب إيمانهم وهو تعلق إرادته تعالى به مفقود لكن فقدانه ليس لمنع منه سبحانه مع استحقاقهم له بل لسوء اختيارهم المتفرع على عدم استعدادهم لذلك
«حتى يروا العذاب الأليم» كدأب آل فرعون وأضرابهم
«فلولا كانت» كلام مستأنف لتقرير ما سبق من استحالة إيمان من حقت عليهم كلمته تعالى لسوء اختيارهم مع تمكنهم من التدارك فيكون الاستثناء الآتي بيانا لكون قوم يونس عليه السلام ممن لم يحق عليه الكلمة لاهتدائهم إلى التدارك في وقته ولولا بمعنى هلا وقرئ كذلك أي فلا كانت
«قرية» من القرى المهلكة
«آمنت» قبل معاينة العذاب ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته كما فعل فرعون وقومه
«فنفعها إيمانها» بأن يقبله الله تعالى منها ويكشف بسببه العذاب عنها
«إلا قوم يونس» استثناء منقطع أي لكن قوم يونس
«لما آمنوا» أول ما رأوا أمارة العذاب ولم يؤخروا إلى حلوله
«كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا» بعد ما أظلهم وكاد يحل بهم ويجوز أن تكون الجملة في معنى النفي كما يفصح عنه حرف التخصيص فيكون الاستثناء متصلا إذ المراد بالقرى أهاليها كأنه قيل ما آمنت طائفة من الأمم العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس عليه السلام فيكون قوله تعالى لما آمنوا استئنافا لبيان نفع إيمانهم ويؤيده قراءة الرفع على البدلية
«ومتعناهم» بمتاع الدنيا بعد كشف العذاب عنهم
«إلى حين» مقدر لهم في علم الله سبحانه روى أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من ارض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة وقيل قال لهم يونس عليه السلام أجلكم أربعون ليلة فقالوا إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسود سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها فحن بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا إلى الله تعالى فرحمهم وكشف عنهم وكان ذلك يوم عاشوراء يوم الجمعة وعن ابن مسعود رضي الله عنه بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى أن الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده إلى صاحبه وقيل خرجوا إلى الشيخ من بقية علمائهم فقالوا قد نزل بنا العذاب فما ترى فقال لهم قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت فقالوها
176

فكشف عنهم وعن الفضيل بن عياض قالوا إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله
«ولو شاء ربك لآمن من في الأرض» تحقيق لدوران إيمان كافة المكلفين وجودا وعدما على قطب مشيئته تعالى مطلقا إثر بيان تبعية كفر الكفرة لكلمته ومفعول المشيئة محذوف لوجود ما يقتضيه من وقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وأن لا يكون في تعلقها به غرابة كما هو المشهور أي لو شاء سبحانه إيمان من في الأرض من الثقلين لآمن
«كلهم» بحيث لا يشد عنهم أحد
«جميعا» مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه لكنه لا يشاؤه لكونه مخالفا للحكمة التي عليها بنى أساس التكوين والتشريع وفيه دلالة على أن من شاء الله تعالى إيمانه يؤمن لا محالة
«أفأنت تكره الناس» على ما لم يشأ الله منهم حسبما ينيء عنه حرف الامتناع في الشرطية والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل أربك لا يشاء ذلك فأنت تكرههم
«حتى يكونوا مؤمنين» فيكون الإنكار متوجها إلى ترتيب الإكراه المذكور على عدم مشيئته تعالى ويجوز أن تكون الفاء لترتيب الإنكار على عدم مشيئته تعالى بناء على أن الهمزة متأخرة في الاعتبار وإنما قدمت لاقتضائها الصدارة كما هو رأى الجمهور وأيا ما كان فالمشيئة على إطلاقها إذ لا فائدة بل لا وجه لاعتبار عدم مشيئة الإلجاء خاصة في إنكار الترتيب عليه أو ترتيب الإنكار عليه وفي إيلاء الاسم حرف الاستفهام إيذان بأن الإكراه أمر ممكن لكن الشأن في المكره من هو وما هو إلا هو وحده لا يشارك فيه لأنه القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرهم إلى الإيمان وذلك غير مستطاع للبشر وفيه إيذان باعتبار الإلجاء في المشيئة كما أشير إليه «وما كان لنفس» بيان لتبعية إيمان النفوس المؤمنة لمشيئته تعالى وجودا بعد بيان الدوران الكلى عليها وجودا وعدما أي ما صح وما استقام لنفس من النفوس التي علم الله تعالى أنها تؤمن
«أن تؤمن إلا بإذن الله» أي بتسهيله ومنحه للألطاف وإنما خصت النفس بمن ذكر ولم يجعل من قبيل قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله لأن الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أي ما كان لنفس أن تؤمن في حال من أحوالها إلا حال كونها ملابسة بإذنه تعالى فلا بد من كون الإيمان مما يؤول إليه حالها كما أن الموت مآل لكل نفس بحيث لا محيص لها عنه فلا بد من تخصيص النفس بمن ذكر فإن النفوس التي علم الله أنها لا تؤمن ليس لها حال تؤمن فيها حتى يستثنى تلك الحال من غيرها
«ويجعل الرجس» أي الكفر بقرينة ما قبله عبر عنه بالرجس الذي هو عبارة عن القبيح المستقذر المستكره لكونه علما في القبح والاستكراه وقيل هو العذاب أو الخذلان المؤدى إليه وقرى بنون العظمة وقرئ بالزاي أي يجعل الكفر ويبقيه
«على الذين لا يعقلون» لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج والآيات أولا يعقلون دلائله وأحكامه لما على قلوبهم من الطبع
177

فلا يحصل لهم الهداية التي عبر عنها بالإذن فيبقون مغمورين بقبائح الكفر والضلال أو مقهورين بالعذاب والنكال والجملة معطوفة على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم كأنه قيل فيأذن لهم بمنح الألطاف ويجعل الخ «قل» مخاطبا لأهل مكة بعثا لهم على التدبر في ملكوت السماوات والأرض وما فيهما من تعاجيب الآيات الأنفسية والآفاقية ليتضح لك أنهم من الذين لا يعقلون وحقت عليهم الكلمة
«انظروا» أي تفكروا وقرئ بنقل حركة الهمزة إلى لام قل
«ماذا في السماوات والأرض» أي أي شيء بديع فيهما من عجائب صنعه الدالة على وحدته وكمال قدرته على أن ماذا جعل بالتركيب اسما واحدا مغلبا فيه الاستفهام على اسم الإشارة فهو مبتدأ خبره الظرف ويجوز أن يكون ما مبتدأ وذا بمعنى الذي والظرف صلته والجملة خبر للمبتدأ وعلى التقديرين فالمبتدأ والخبر في محل النصب بإسقاط الخافض وفعل النظر معلق بالاستفهام
«وما تغني» أي ما تنفع وقرئ بالتذكير
«الآيات» وهي التي عبر عنها بقوله تعالى ماذا في السماوات والأرض
«والنذر» جمع نذير على أنه فاعل بمعنى منذر أو على أنه مصدر أي لا تنفع الآيات والرسل المنذرون أو الإنذارات
«عن قوم لا يؤمنون» في علم الله تعالى وحكمه فما نافية والجملة إما حالية أو اعتراضية ويجوز كون ما استفهامية إنكارية في موضع النصب على المصدرية أي أي إغناء تغنى الخ فالجملة حينئذ اعتراضية
«فهل ينتظرون» أي مشركو مكة وأضرابهم
«إلا مثل أيام الذين خلوا» أي إلا يوما مثل أيام الذين خلوا
«من قبلهم» من مشركي الأمم الماضية أي مثل وقائعهم ونزول بأس الله بهم إذ لا يستحقون غيره من قولهم أيام العرب لوقائعها
«قل» تهديدا لهم
«فانتظروا» ما هو عاقبتكم
«إني معكم من المنتظرين» لذلك
«ثم ننجي رسلنا» بالتشديد وقرئ بالتخفيف وهو عطف على مقدر يدل عليه قوله مثل أيام الذين خلوا وما بينهما اعتراض جيء به مسارعة إلى التهديد ومبالغة في تشديد الوعيد كأنه قيل أهلكنا الأمم ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم
«والذين آمنوا» وصيغة الاستقبال لحكاية الأحوال الماضية لتهويل أمرها باستحضار صورها وتأخير حكاية التنجية عن حكاية الإهلاك على عكس ما في قوله تعالى فنجيناه ومن معه في الفلك الخ ونظائره الواردة في مواقع عديدة ليتصل به قوله عز وجل
«كذلك» أي مثل ذلك الإنجاء
«حقا علينا» اعتراض بين العامل والمعمول أي حق ذلك حقا وقيل بدل من المحذوف الذي ناب عنه كذلك أي إنجاء مثل ذلك حقا والكاف متعلقة بقوله تعالى
«ننجي المؤمنين» أي من كل شدة وعذاب والجملة تذييل لما قبلها مقرر لمضمونه والمراد بالمؤمنين إما الجنس المتناول للرسل عليهم السلام والأتباع وإما الأتباع فقط وإنما لم يذكر إنجاء الرسل إيذانا بعدم الحاجة إليه وأيا ما كان ففيه
178

تنبيه على أن مدار النجاة هو الإيمان
«قل» لجمهور المشركين
«يا أيها الناس» أوثر الخطاب باسم الجنس مصدرا بحرف التنبيه تعميما للتبليغ وإظهارا لكمال العناية بشأن ما بلغ إليهم
«إن كنتم في شك من ديني» الذي أتعبد الله عز وجل به وأدعوكم إليه ولم تعلموا ما هو وما صفته
«فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله» في وقت من الأوقات
«ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم» ثم يفعل بكم ما يفعل من فنون العذاب أي فاعلموا أنه تخصيص العبادة به ورفض عبادة ما سواه من الأصنام وغيرها مما تعبدونه جهلا وتقديم ترك عبادة الغير على عبادته تعالى لتقدم التخلية على التحلية كما في كلمة التوحيد وللإيذان بالمخالفة من أول الأمر أو إن كنتم في شك من صحة ديني وسداده فاعلموا أن خلاصته إخلاص العبادة لمن بيده الإيجاد والإعدام دون ما هو بمعزل منهما من الأصنام فاعرضوها على عقولكم وأجيلوا فيها أفكاركم وانظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا أنه حق لا ريب فيه وفي تخصيص التوفي بالذكر متعلقا بهم ما لا يخفى من التهديد والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب هو الشك في صحته وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه أو إن كنتم في شك من ثباتي على الدين فاعلموا أني لا أتركه أبدأ
«وأمرت أن أكون من المؤمنين» بما دل عليه العقل ونطق به الوحي وهو تصريح بأن ما هو عليه من دين التوحيد ليس بطريق العقل الصرف بل بالإمداد السماوي والتوفيق الإلهي وحذف حرف الجر من أن يجوز أن يكون من باب الحذف المطرد مع أن وأن يكون خاصا بفعل الأمر كما في قوله أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
«وأن أقم وجهك للدين» عطف على أن أكون خلا أن صلة أن محكية بصيغة الأمر ولا ضير في ذلك لأن مناط جواز وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والطلبية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف إلا بالجمل الخبرية وليس الموصول الحرفي كذلك أي وأمرت بالاستقامة في الدين والاستبداد فيه بأداء المأمور به والانتهاء عن المنهى عنه أو باستقبال القبلة في الصلاة وعدم الالتفات إلى اليمين والشمال حنيفا حال من الدين أو الوجه أي مائلا عن الأديان الباطلة
«ولا تكونن من المشركين» عطف على أقم داخل تحت الأمر أي لا تكونن منهم اعتقادا ولا عملا وقوله عز وعلا
«ولا تدع» عطف على قوله تعالى قل يا أيها الناس غير داخل تحت الأمر وقيل على ما قبله من النهى والوجه هو الأول لأن ما بعده من الجمل إلى آخر الآيتين متسقة لا يمكن فصل بعضها عن بعض كما ترى ولا وجه لادراج الكل تحت
179

الأمر وهو تأكيد للنهي المذكور وتفصيل لما أجمل فيه إظهارا لكمال العناية بالأمر وكشفا عن وجه بطلان ما عليه المشركون أي لا تدع من دون الله استقلالا ولا اشتراكا ما لا ينفعك إذا دعوته بدفع مكروه أو جلب محبوب
«ولا يضرك» إذا تركته بسلب المحبوب دفعا أو رفعا أو بإيقاع المكروه وتقديم النفع على الضرر غنى عن بيان السبب
«فإن فعلت» أي ما نهيت عنه من دعاء ما لا ينفع ولا يضر كني به عنه تنويها لشأنه صلى الله عليه وسلم وتنبيها على رفعة مكانه من أن ينسب إليه عبادة غير الله سبحانه ولو في ضمن الجملة الشرطية
«فإنك إذا من الظالمين» جزاء للشرط وجواب لسؤال من يسأل عن تبعة ما نهى عنه
«وإن يمسسك الله بضر» تقرير لما أورد في حيز الصلة من سلب النفع من الأصنام وتصوير لاختصاصه به سبحانه
«فلا كاشف له» عنك كائنا من كان وما كان
«إلا هو» وحده فيثبت عدم كشف الأصنام بالطريق البرهاني وهو بيان لعدم النفع برفع المكروه المستلزم لعدم النفع بجلب المحبوب استلزاما ظاهرا فإن رفع المكروه أدنى مراتب النفع فإذا انتفى انتفى بالكلية
«وإن يردك بخير» تحقيق لسلب الضرر الوارد في حيز الصلة أي إن يرد أن يصيبك بخير
«فلا راد لفضله» الذي من جملته ما أرادك به من الخير فهو دليل على جواب الشرط لا نفس الجواب وفيه إيذان بأن فيضان الخير منه تعالى بطريق التفضل من غير استحقاق عليه سبحانه أي لا أحد يقدر على رده كائنا ما كان فيدخل فيه الأصنام دخولا أوليا وهو بيان لعدم ضرها بدفع المحبوب قبل وقوعه المستلزم لعدم ضرها برفعه أو بإيقاع المكروه استلزاما جليا ولعل ذكر الإرادة مع الخير والمس مع الضر مع تلازم الأمرين للإيذان بأن الخير مراد بالذات وأن الضر إنما يمس من يمسه لما يوجبه من الدواعي الخارجية لا بالقصد الأولى أو أريد معنى الفعلين في كل من الضر والخير وأنه لا راد لما يريد منهما ولا مزيل لما يصيب به منهما فأوجز الكلام بأن ذكر في أحدهما المس وفي الآخر الإرادة ليدل بما ذكر في كل جانب على ما ترك في الجانب الآخر على أنه قد صرح بالإصابة حيث قيل
«يصيب به» إظهارا لكمال العناية بجانب الخير كما ينبيء عنه ترك الاستثناء فيه أي يصيب بفضله الواسع المنتظم لما أرادك به من الخير وجعل الفضل عبارة عن ذلك الخير بعينه على أن يكون من باب وضع المظهر في موضع المضمر لما ذكر من الفائدة يأباه قوله عز وجل
«من يشاء من عباده» فإن ذلك ينادى بعموم الفضل وقوله عز قائلا
«وهو الغفور الرحيم» تذليل لقوله تعالى يصيب به الخ مقرر لمضمونه والكل تذييل للشرطية الأخيرة محقق لمضمونها
«قل» مخاطبا لأولئك
180

الكفرة بعد ما بلغتهم ما أوحى إليك
«يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم» وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام التي من جملتها ما مر آنفا من أصول الدين واطلعتم على ما في تضاعيفه من البينات والهدى ولم يبق لكم عذر
«فمن اهتدى» بالإيمان به والعمل بما في مطلوبه
«فإنما يهتدي لنفسه» أي منفعة اهتدائه لها خاصة
«ومن ضل» بالكفر به والإعراض عنه
«فإنما يضل عليها» أي فوبال الضلال مقصور عليها والمراد تنزيه ساحة الرسالة عن شائبة غرض عائد إليه صلى الله عليه وسلم من جلب نفع أو دفع ضر كما يلوح به إسناد المجيء إلى الحق من غير إشعار بكون ذلك بواسطته
«وما أنا عليكم بوكيل» بحفيظ موكول إلى أمركم وإنما أنا بشير ونذير
«واتبع» اعتقادا وعملا وتبليغا
«ما يوحى إليك» على نهج التجدد والاستمرار من الحق المذكور المتأكد يوما فيوما وفي التعبير عن بلوغه إليهم بالمجيء وإليه صلى الله عليه وسلم بالوحي تنبيه على ما بين المرتبتين من التنائي
«واصبر» على ما يعتريك من مشاق التبليغ
«حتى يحكم الله» بالنصرة عليهم أو بالأمر بالقتال
«وهو خير الحاكمين» إذ لا يمكن الخطأ في حكمه لاطلاعه على السرائر اطلاعه على الظواهر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة يونس أعطى له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بيونس وكذب به وبعدد من غرق مع فرعون والحمد لله وحده
181

سورة هود عليه السلام مكية وهي مائة وثلاث وعشرون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «الر» محله الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وقيل على أنه مبتدأ والأول هو الأظهر كما أشير إليه في سورة يونس أو النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اذكر أو اقرأ على تقدير كونه اسما للسورة على ما عليه إطباق الأكثر أو لا محل له من الإعراب مسرود على نمط التعديد حسبما فصل في أخواته وقوله تعالى
«كتاب» خبر له على الوجه الثاني ولمبتدأ محذوف على الوجوه الباقية
«أحكمت آياته» نظمت نظما متقنا لا يعتريه خلل بوجه من الوجوه أو جعلت حكيمة لانطوائها على جلائل الحكم البالغة ودقائقها أو منعت من النسخ بمعنى التغيير مطلقا أو أيدت بالحجج القاطعة الدالة على كونها من عند الله عز وجل أو على ثبوت مدلولاتها فالمراد بالآيات جميعها أو على حقية ما تشتمل عليه من الأحكام الشرعية فالمراد بها بعضها المشتمل عليها كما إذا فسر الإحكام بالمنع من النسخ بمعنى تبديل الحكم الشرعي خاصة وأما تفسيره بالمنع من الفساد أخذا من قولهم أحكمت الدابة إذا وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح ففيه إيهام ما لا يكاد يليق بشأن الآيات الكريمة من التداعي إلى الفساد لولا المانع وفي اسناد الإحكام على الوجوه المذكورة إلى الآيات الكتاب دون نفسه لا سيما على الوجوه الشاملة لكل آية آية منه من حسن الموقع والدلالة على كونه في أقصى غاية منه ما لا يخفى
«ثم فصلت» أي جعلت فصولا من الأحكام والدلائل والمواعظ والقصص أو فصل فيها مهمات العباد في المعاش والمعاد على الإسناد المجازي والتفسير بجعلها آية آية لا يساعده المقام لأن ذلك من الأوصاف الأولية فلا يناسب عطفه على إحكامها بكلمة التراخي وأما المعنيان الأولان فهما وإن كانا مع الإحكام زمانا حيث لم تزل الآيات محكمة مفصلة لا أنها أحكمت أو فصلت بعد أن لم تكن كذلك إذ الفعلان من قبيل قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل إلا أنهما حيث كانا من صفات الآيات باعتبار نسبة بعضها إلى بعض على وجه يستتبع أحكاما مخصوصة وآثارا معتدا بها وبملاحظة مصالح العباد ناسب أن يشار إلى تراخى رتبتهما عن رتبة الإحكام وإن حمل جعلها آية آية على معنى تفريق بعضها عن بعض يكون من هذا القبيل إلا أنه ليس في مثابته في استتباع ما يستتبعه من الأحكام والآثار أو فرقت في التنزيل منجمة بحسب المصالح فإن أريد تنزيلها المنجم بالفعل فالتراخي زماني وإن أريد جعلها في نفسها بحيث يكون نزولها منجما حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فهو رتبي لأن ذلك وصف لازم لها حقيق بأن يرتب على وصف إحكامها وقرئ أحكمت
182

آياته ثم فصلت على صيغة التكلم وعن عكرمة والضحاك ثم فصلت أي فرقت بين الحق والباطل
«من لدن حكيم خبير» صفة للكتاب وصف بها بعد ما وصف بإحكام آياته وتفصيلها الدالين على علو رتبته من حيث الذات إبانة لجلالة شأنه من حيث الإضافة أو خبر بعد خبر للمبتدأ المذكور أو المحذوف أو صلة للفعلين وفي بنائهما للمفعول ثم إيراد الفاعل بعنوان الحكمة البالغة والإحاطة بجلائلها ودقائقها منكرا بالتنكير التفخيمي وربطهما به لا على النهج المعهود في إسناد الأفاعيل إلى قواعدها مع رعاية حسن الطباق من الجزالة والدلالة على فخامتهما وكونهما على أكمل ما يكون مالا يكتنه كنهه
«ألا تعبدوا إلا الله» مفعول له حذف عنه اللام مع فقدان الشرط أعنى كونه فعلا لفاعل الفعل المعلل جريا على سنن القياس المطرد في حذف حرف الجر مع أن المصدرية كأنه قيل كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله أي لتتركوا عبادة غير الله عز وجل وتتمحضوا في عبادته فإن الإحكام والتفصيل على ما فصل من المعاني مما يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد وما يتفرع عليه من الطاعات قاطبة وقيل أن مفسرة لما في التفصيل من معنى القول أي قيل لا تعبدوا إلا الله
«إنني لكم منه» من جهة الله تعالى
«نذير» أنذركم عذابه إن لم تتركوا ما أنتم عليه من الكفر وعبادة غير الله تعالى
«وبشير» أبشركم بثوابه إن آمنتم به وتمحضتم في عبادته ولما ذكر شؤون الكتاب من إحكام آياته وتفصيلها وكون ذلك من قبل الله تعالى وأورد معظم ما نظم في سلك الغاية والأمر من التوحيد وترك الإشراك وسط بينه وبين قرينيه أعني الاستغفار والتوبة ذكر أن من نزل عليه ذلك الكتاب مرسل من عند الله تعالى لتبليغ أحكامه وترشيحها بالمؤيدات من الوعد والوعيد للإيذان بأن التوحيد في أقصى مراتب الأهمية حتى أفرد بالذكر وأيد إيجابه بالخطاب غب الكتاب مع تلويح بأنه كما لا يتحقق في نفسه إلا مقارنا للحكم برسالته صلى الله عليه وسلم كذلك في الذكر لا ينفك أحدهما عن الآخر وقد روعى في سوق الخطاب بتقديم الإنذار على التبشير ما روعى في الكتاب من تقديم النفي على الإثبات والتخلية على التحلية ليتجاوب أطراف الكلام ويجوز أن يكون قوله تعالى ألا تعبدوا إلا الله كلاما منقطعا عما قبله وارادا على لسانه صلى الله عليه وسلم إغراء لهم على اختصاصه تعالى بالعبادة كأنه صلى الله عليه وسلم قال ترك عبادة غير الله أي الزموه على معنى اتركوا عبادة غير الله تركا مستمرا إنني لكم من جهة الله تعالى نذير وبشير أي نذير أنذركم من عقابه على تقدير استمراركم على الكفر وبشير أبشركم بثوابه على تقدير ترككم له وتوحيدكم ولما سبق إليهم حديث التوحيد وأكد ذلك بخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه الإنذار والتبشير شرع في ذكر ما هو من تتماته على وجه يتضمن تفصيل ما أجمل في وصف البشير والنذير فقيل
«وأن استغفروا ربكم» وهو معطوف على أن لا تعبدوا على ما ذكر من الوجهين فعلى الأول أن
183

مصدرية لجواز كون صلتها أمرا أو نهيا كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك للدين حنيفا لأن مدار جواز كونها فعلا إنما هو دلالته على المصدر وهو موجود فيهما ووجوب كونها خبرية في صلة الموصول الأسمى إنما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل وهي لا توصف بها إلا إذا كانت خبرية وأما الموصول الحرفي فليس كذلك ولما كان الخبر والإنشاء في الدلالة على المصدر سواء ساغ وقوع الأمر والنهي صلة حسبما ساغ وقوع الفعل فيتجرد عند ذلك عن معنى الأمر والنهي نحو تجرد الصلة الفعلية عن معنى المضي والاستقبال
«ثم توبوا إليه» عطف على استغفروا والكلام فيه كالكلام فيه والمعنى فعل ما فعل من الإحكام والتفصيل لتخصوا الله تعالى بالعبادة وتطلبوا منه ستر ما فرط منكم من الشرك ثم ترجعوا إليه بالطاعة أو تستمروا على ما أنتم عليه من التوحيد والاستغفار أو تستغفروا من الشرك وتتوبوا من المعاصي وعلى الثاني أن مفسرة أي قيل في أثناء تفصيل الآيات لا تعبدوا إلا الله واستغفروه ثم توبوا إليه والتعرض لوصف الربوبية تلقين للمخاطبين وإرشاد لهم إلى طريق الابتهال في السؤال وترشيح لما يعقبه من التمتيع وإيتاء الفضل بقوله تعالى
«يمتعكم متاعا حسنا» أي تمتيعا وانتصابه على أنه مصدر حذف منه الزوائد كقوله تعالى أنبتكم من الأرض نباتا أو على أنه مفعول به وهو اسم لما يتمتع به من منافع الدنيا من الأموال والبنين وغير ذلك والمعنى يعشكم عيشا مرضيا لا يفوتكم فيه شيء مما تشتهون ولا ينغصه شيء من المكدرات
«إلى أجل مسمى» مقدر عند الله عز وجل وهو آخر أعماركم ولما كان ذلك غاية لا يطمح وراءها طامح جرى التمتيع إليها مجرى التأبيد عادة أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال
«ويؤت كل ذي فضل» في الطاعة والعمل
«فضله» جزاء فضله إما في الدنيا أو في الآخرة وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العاملين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له وهذا ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة ثم شرع في الإنذار فقيل
«وإن تولوا» أي تتولوا عما القى إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة وإنما أخر عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولى عما ذكر من التوحيد والاستغفار والتوبة وذلك يستدعي سابقة ذكره وقرئ تولوا من ولى
«فإني أخاف عليكم» بموجب الشفقة والرأفة أو أتوقع
«عذاب يوم كبير» هو يوم القيامة وصف بالكبر كما وصف بالعظم في قوله تعالى ألا يظن أولئك أنهم مبعثون ليوم عظيم إما لكونه كذلك في نفسه أو وصف بوصف ما يكون فيه كما وصف بالثقل في قوله تعالى ثقلت في السماوات والأرض وقيل يوم الشدائد وقد ابتلوا بقحط أكلوا فيه الجيف وأيا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له
«إلى الله مرجعكم» رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره
«وهو على كل شيء قدير» فيندرج في تلك الكلية قدرته على أماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين
184

العذاب وهو تقرير لما سلف من كبر اليوم وتعليل للخوف ولما ألقى إليهم فحوى الكتاب على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وسيق إليهم ما ينبغي أن يساق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال هل قابلوه بالإقبال أم تمادوا فيما كانوا عليه من الإعراض والضلال فقيل مصدرا بكلمة التنبيه إشعارا بأن ما يعقبها من هناتهم أمر يجب أن يفهم ويتعجب منه
«ألا إنهم يثنون صدورهم» يزورون عن الحق وينحرفون عنه أي يستمرون على ما كانوا عليه من التولي والإعراض لأن من أعرض عن شيء ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه وهذا معنى جزل مناسب لما سبق وقد نحا نحوه العلامة الزمخشري ولكن حيث لم يصلح التولي سببا للاستخفاء في قوله عز وجل
«ليستخفوا منه» التجأ إلى إضمار الإرادة حيث قال ويريدون ليستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله والمؤمنين على إعراضهم وجعله في قود المعنى إليه من قبيل الإضمار قي قوله تعالى اضرب بعصاك البحر فانفلق أي فضرب فانفلق ولا يخفى أن انسياق الذهن إلى توسيط الإرادة بين ثني الصدور وبين الاستخفاء ليس كانسياقه إلى توسيط الضرب بين الأمر به وبين الانفلاق ولعل الأظهر أن معناه يعطفون صدورهم على ما فيها من الكفر والإعراض عن الحق وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يكون ذلك مخفيا مستورا فيها كما تعطف الثياب على ما فيها من الأشياء المستورة وإنما لم يذكر ذلك استهجانا بذكره أو إيماء إلى أن ظهوره مغن عن ذكره أو ليذهب ذهن السامع إلى كل ما لا خير فيه من الأمور المذكورة فيدخل فيه ما ذكر من توليهم عن الحق الذي ألقى إليهم دخولا أوليا فحينئذ يظهر وجه كون ذلك سببا للاستخفاء ويؤيده ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو المنطق حسن السياق للحديث يظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المحبة ويضمر في قلبه ما يضادها وقال ابن شداد إنها نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه إنما كان يصنع ما يصنع لأنه لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكنه التخلف عن حضور مجلسه والمصاحبة معه وربما يؤدى ذلك إلى ظهور ما في قلبه من الكفر والنفاق وقرئ يثنوني صدورهم بالياء والتاء من اثنوني افعوعل من الثنى كاحلولى من الحلاوة وهو بناء مبالغة وعن ابن عباس رضي الله عنهما لتثنونى وقرئ تثنون وأصله تثنون من تفعوعل من الثن وهو ما هش من الكلأ وضعف يريد مطاوعة صدروهم للثني كما يثني الهش من النبات أو أراد ضعف إيمانهم ورخاوة قلوبهم وقرئ تثنن من اثنان افعال منه ثم همز كما قيل ابيأضت وادهأمت وقرئ تثنوي بوزن ترعوى
«ألا حين يستغشون ثيابهم» أي يتغطون بها للاستخفاء على ما نقل عن ابن شداد أو حين يأوون إلى فراشهم ويتدثرون بثيابهم فإن ما يقع حينئذ حديث النفس عادة وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخى ستره ويحيى ظهره
185

ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي
«يعلم ما يسرون» أي يضمرون في قلوبهم
«وما يعلنون» أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سرهم وعلنهم فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه وإنما قدم السر على العلن نعيا عليهم من أول الأمر ما صنعوا وإيذانا بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه وتحقيقا للمساواة بين العلمين على أبلغ وجه فكأن علمه بما يسرونه أقدم منه بما يعلنونه ونظيره قوله تعالى قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله حيث قدم فيه الإخفاء على الإبداء على عكس ما وقع في قوله تعالى وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله إذ لم يتعلق بإشعار أن المحاسبة بما يخفونه أولى منها بما يبدونه غرض بل الأمر بالعكس وأما ههنا فقد تعلق بإشعار كون تعلق علمه تعالى بما يسرونه أولى منه بما يعلنونه غرض مهم مع كونهما على السوية كيف لا وعلمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول الصورة بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة إليه تعالى وفي هذا المعنى لا يختلف الحال بين الأشياء البارزة والكامنة وأما قوله تعالى وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون فحيث كان واردا بصدد الخطاب مع الملائكة عليهم السلام المنزه مقامهم عن اقتضاء التأكيد والمبالغة في الإخبار بإحاطة علمه تعالى بالظاهر والباطن لم يسلك فيه ذلك المسلك مع أنه وقع الغنية عنه بما قبله من قوله عز وجل إني أعلم غيب السماوات والأرض ويجوز أن يكون ذلك باعتبار أن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شيء يعلن إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية
«إنه عليم بذات الصدور» تعليل لما سبق وتقرير له واقع موقع الكبرى من القياس وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق والتعبير عن الضمائر بعنوان صاحبيتها من البراعة ما لا يصفه الواصفون كأنه قيل إنه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما يسرون وما يعلنون ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب من قوله تعالى ولكن تعمى القلوب التي في الصدور والمعنى أنه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها
«وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها» غذاؤها اللائق بها من حيث الخلق ومن حيث الإيصال إليها بطريق طبيعي أو إرادي لتكفله إياه تفضلا ورحمة وإنما جيء به على طريق الوجوب اعتبارا لسبق الوعد وتحقيقا لوصوله إليها البتة وحملا للمكلفين على الثقة به تعالى والإعراض عن إتعاب النفس في طلبه
«ويعلم مستقرها» محل قرارها في الأصلاب
«ومستودعها» موضعها في الأرحام وما يجرى مجراها من البيض ونحوها وإنما خص كل من الاسمين بما خص به من المحلين لأن النطفة بالنسبة إلى الأصلاب في حيزها الطبيعي ومنشئها الخلقي وأما بالنسبة إلى الأرحام وما يجرى مجراها فهي مودعة فيها إلى وقت معين أو مسكنها من الأرض حين وجدت بالفعل ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة ولعل تقديم محلها
186

باعتبار حالتها الأخيرة لرعاية المناسبة بينها وبين عنوان كونها دابة في الأرض والمعنى وما من دابة في الأرض إلا يرزقها الله تعالى حيث كانت من أماكنها يسوقه إليها ويعلم موادها المتخالفة المندرجة في مراتب الاستعدادات المتفاوتة المتطورة في الأطوار المتباينة ومقارها المتنوعة ويفيض عليها في كل مرتبة ما يليق بها من مبادى وجودها وكمالاتها المتفرعة عليه وقد فسر المستودع بأماكنها في الممات ولا يلائمه مقام التكفل بأرزاقها
«كل» من الدواب ورزقها ومستقرها ومستودعها
«في كتاب مبين» أي مثبت في اللوح المحفوظ البين لمن ينظر فيه من الملائكة عليهم السلام أو المظهر لما أثبت فيه للناظرين ولما انتهى الامر إلى أنه سبحانه محيط بجميع أحوال ما في الأرض من المخلوقات التي لا تكاد تحصى من مبدأ فطرتها إلى منتهاها اقتضى الحال التعرض لمبدأ خلق السماوات والأرض والحكمة الداعية إلى ذلك فقيل
«وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام» السماوات في يومين والأرض في يومين وما عليها من أنواع الحيوانات والنبات وغير ذلك في يومين حسبما فعل في سورة حم السجدة ولم يذكر خلق ما في الأرض لكونه من تتمات خلقها وهو السر في جعل الزمان خلقه تتمة لزمان خلقها في قوله تعالى في أربعة أيام في تتمة أربعة أيام والمراد بالأيام الأوقات كما في قوله تعالى ومن يولهم يومئذ دبره أي في ستة أوقات أو مقدار ستة أيام فإن اليوم في المتعارف زمان كون الشمس فوق الأرض ولا يتصور ذلك حين لا لأرض ولا سماء وفي خلقها مدرجا مع القدرة التامة على خلقها دفعة دليل على أنه قادر مختار وحث على التأني في الأمور وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فأمر استأثر بعلم ما يقتضيه علم الغيوب جلت حكمته وإيثار صيغة الجمع في السماوات لما هو المشهور من الإشارة إلى كونها أجراما مختلفة الطبائع ومتفاوتة الآثار والأحكام
«وكان عرشه» قبل خلقهما
«على الماء» ليس تحته شيء غيره سواء كان بينهما فرجة وكان موضوعا على متنه كما ورد في الأثر فلا دلالة فيه على إمكان الخلاء كيف لا ولو دل لدل على وجوده لا على إمكانه فقط ولا على كون الماء أول ما حدث في العالم بعد العرش وإنما يدل على أن خلقهما أقدم من خلق السماوات والأرض من غير تعرض للنسبة بينهما
«ليبلوكم» متعلق بخلق أي خلق السماوات والأرض وما فيهما من المخلوقات التي من جملتها أنتم ورتب فيهما جميع ما تحتاجون إليه من مبادى وجودكم وأسباب معايشكم وأودع في تضاعيفهما من تعاجيب الصنائع والعبر ما تستدلون به على مطالبكم الدينية ليعاملكم معاملة من يبتليكم
«أيكم أحسن عملا» فيجازيكم بالثواب والعقاب غب ما تبين المحسن من المسئ وامتازت درجات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز طبقات علومهم واعتقاداتهم المترتبة على أنظارهم فيما نصب من الحجج والدلائل والإمارات والمخايل ومراتب أعمالهم المتفرعة على ذلك فإن العمل غير مختص بعلم الجوارح ولذلك فسره صلى الله عليه وسلم بقوله أيكم
187

أحسن عقلا وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله فإن لكل من القلب والقالب عملا مخصوصا به فكما أن الأول أشرف من الثاني فكذا الحال في عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفة الله عز وجل الواجبة على العباد آثر ذي أثير وإنما طريقها النظري التفكر في بدائع صنائع الملك الخلاق والتدبر في آياته البينات المنصوبة في الأنفس والآفاق ولا طاعة بدون فهم ما في مطاوي الكتاب الحكيم من الأوامر والنواهي وغير ذلك مما له مدخل في الباب وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله عز وجل الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل في اليوم بجوارحه مثل علم أهل الأرض وتعليق فعل البلوى أي تعقيبه بحرف الاستفهام لا التعليق المشهور الذي يقتضى عدم إيراد المفعول أصلا مع اختصاصه بأفعال القلوب لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالنظر ونظائره ولذلك أجرى مجراه بطريق التمثيل أو الاستعارة التبعية وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصود الأصلي مما ذكر من إبداع تلك البدائع على ذلك النمط الرائع إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين وأن ذلك لكونه على أتم الوجوه اللائقة وأكمل الأساليب الرائقة يوجب العمل بموجبه بحيث لا يحيد أحد عن سننه المستبين بل يهتدى كل فرد إلى ما يرشد إليه من مطلق الإيمان والطاعة وإنما التفاوت بينهم في مراتبهما بحسب القوة والضعف والكثرة والقلة وأما الإعراض عن ذلك والوقوع في مهاوى الضلال فبمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلا عن أن ينظم ظهوره في سلك العلة الغائبة لذلك الصنع البديع وإنما هو عمل يصدر عن عاملة بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب ولا يخفى ما فيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائضها والله تعالى أعلم
«ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت» على ما يوجبه قضية الابتلاء ليترتب عليه الجزاء المتفرع على ظهور مراتب الأعمال
«ليقولن الذين كفروا» إن وجه الخطاب في قوله تعالى إنكم إلى جميع المكلفين فالموصول مع صلته للتخصيص أي ليقولن الكافرون منهم وإن وجه إلى الكافرين منهم فهو وارد على طريقة الذم
«إن هذا إلا سحر مبين» أي مثله في الخديعة أو البطلان وهذا إشارة إلى القول المذكور أو إلى القرآن فإن الإخبار عن كونهم مبعوثين وإن لم يجب كونه بطريق الوحي المتلو إلا أنهم عند سماعهم ذلك تخلصوا إلى القرآن لانبائه عنه في كل موضع وكونه علما عندهم في ذلك فعمدوا إلى تكذيبه وتسميته سحرا تماديا منهم في العناد وتفاديا عن سنن الرشاد وقيل هو إشارة إلى نفس البعث ولا يلائمه التسمية بالسحر فإنه إنما يطلق على شيء موجود ظاهرا لا أصل له في الحقيقة ونفس البعث عندهم معدوم بحت وتعلق الآية الكريمة بما قبلها إما من حيث أن البعث كما أشير إليه من تتمات الابتلاء المذكور فكأنه قيل الأمر كما ذكر ومع ذلك إن أخبرتهم بمقدمة فذة من مقدماته وقضية فرده من تتماته لا يتلعثمون في الرد ويعدون ذلك من قبيل ما لا صحة له أصلا فضلا عن تصديق ما هذه من تتماته وأما من حيث أن البعث خلق جديد فكأنه قيل وهو الذي خلق جميع المخلوقات ابتداء لهذه الحكمة البالغة ومع ذلك إن أخبرتهم بأنه يعيدهم تارة أخرى وهو
188

أهون عليه يقولون ما يقولون فسبحان الله عما يصفون وقرأ حمزة والكسائي إلا ساحر على ان الإشارة إلى القاتل أو إلى القرآن على أسلوب شعر شاعر وقرئ بالفتح
على تضمين قلت معنى ذكرت أو على أن أنك بمعنى عنك في علك أي ولئن قلت لعلكم مبعوثون على أن الرجاء والتوقع باعتبار حال المخاطبين أي توقعوا ذلك ولا تبتوا القول بإنكاره أو على أنه مجاراة معهم في الكلام على نهج المساعدة لئلا يسارعوا إلى اللجاج والعناد ريثما قرع أسماعهم بت القول بخلاف ما ألفوا وألفوا عليه آباءهم من إنكار البعث ويكون ذلك أدعى لهم إلى التأمل والتدبر وما فعلوه قاتلهم الله أنى يؤفكون
«ولئن أخرنا عنهم العذاب» المترتب على بعثهم أو العذاب الموعود في قوله تعالى فإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير وقيل عذاب يوم بدر وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قتل جبريل عليه السلام للمستهزئين والظاهر أن المراد به العذاب الشامل للكفرة دون ما يخص ببعض منهم على أنه لم يكن موعودا يستعجل منه المجرمون
«إلى أمة معدودة» إلى طائفة من الأيام قليلة لأن ما يحصره العد قليل
«ليقولن ما يحبسه» أي أي شيء يمنعه من المجيء فكأنه يريده فيمنعه مانع وإنما كانوا يقولونه بطريق الاستعجال استهزاء لقوله تعالى ما كانوا به يستهزئون ومرادهم إنكار المجيء والحبس رأسا لا الاعتراف به والاستفسار عن حابسه
«ألا يوم يأتيهم» ذلك
«ليس مصروفا» محبوسا
«عنهم» على معنى أنه لا يرفعه رافع أبدا إن أريد به عذاب الآخرة أو لا يدفعه عنكم دافع بل هو واقع بكم إن أريد به عذاب الدنيا ويوم منصوب بخبر ليس مقدما عليه واستدل به البصريون على جواز تقديمه على ليس إذ المعمول تابع للعامل فلا يقع إلا حيث يقع متبوعه ورد بأن الظرف يجوز فيه ما لا يجوز في غيره توسعا وبأنه قد يقدم المعمول حيث لا مجال لتقدم العامل كما في قوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر فإن اليتيم والسائل مع كونهما منصوبين بالفعلين المجزومين قد تقدما على لا الناهية مع امتناع تقدم الفعلين عليها قال أبو حيان وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها ولا بتقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة وقول الشاعر
* فيأبى فما يزداد إلا لجاجة
* وكنت أبيا في الخنا لست أقدم
*
«وحاق بهم» أي أحاط بهم
«ما كانوا به يستهزؤون» أي العذاب الذي كانوا يستعجلون به استهزاء وفي التعبير عنه بالموصول تهويل لمكانه وإشعار بعلية ما ورد في حيز الصلة من استهزائهم به لنزوله وإحاطته والتعبير عنها بالماضي وارد على عادة الله تعالى في أخباره لأنها في تحققها وتيقنها بمنزلة الكائنة الموجودة وفي ذلك من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر وتقرير وقوع المخبر به ما لا يخفى
«ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة» أي أعطيناه نعمة من صحة وأمن وجدة وغيرها وأوصلناها إليه بحيث يجد لذتها
«ثم نزعناها منه» أي
189

سلبناه وإياها وإيراد النزع للإشعار بشدة تعلقه بها وحرصه عليها
«إنه ليؤوس» شديد القنوط من روح الله قطوع رجاءه من عود أمثالها عاجلا أو آجلا بفضل الله تعالى لقلة صبره وعدم توكله عليه وثقته به
«كفور» عظيم الكفران لما سلف من النعم وفيه إشارة إلى أن النزع إنما كان بسبب كفرانهم بما كانوا يتقلبون فيه من نعم الله عز وجل وتأخيره عن وصف يأسهم مع تقدمه عليه لرعاية الفواصل على أن اليأس من فضل الله سبحانه وقطع الرجاء عن إضافة أمثاله في العاجل وإيصال أجره في الآجل من باب الكفران للنعمة السالفة أيضا
«ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته» كصحة بعد سقم وجدة بعد عدم وفرج بعد شدة وفي التعبير عن ملابسه الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه وعن ملابسه الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما ينطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها وإسناد الأول إلى الله عز وجل دون الثاني ما لا يخفي من الجزالة والدلالة على أن مراده تعالى إنما هو إيصال الخير المرغوب فيه على أحسن ما يكون وأنه إنما يريد بعبادة اليسر دون العسر وإنما ينالهم ذلك بسوء اختيارهم نيلا يسيرا كأنما يلاصق البشرة من غير تأثير وأما نزع الرحمة فإنما صدر عنه بقضية الحكمة الداعية إلى ذلك وهي كفرانهم بها كما سبق وتنكير الرحمة باعتبار لحقوق النزع بها
«ليقولن ذهب السيئات عني» أي المصائب التي تسوؤني ولن يعتريني بعد أمثالها كما هو شأن أولئك الأشرار فإن الترقب لورود أمثالها مما يكدر السرور وينغص العيش
«إنه لفرح» بطر وأشر بالنعم مغتر بها
«فخور» على الناس بما أوتى من النعم مشغول بذلك عن القيام بحقها واللام في لئن في الآيات الأربع موطئة للقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط
«إلا الذين صبروا» على ما أصابهم من الضراء سابقا أو لاحقا إيمانا بالله واستسلاما لقضائه
«وعملوا الصالحات» شكرا على آلائه السالفة والآنفة والام في الإنسان إما لاستغراق الجنس فالاستثناء متصل أو للعهد فمنقطع
«أولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل أي أولئك الموصوفون بتلك
الصفات الحميدة
«لهم مغفرة» عظيمة لذنوبهم وإن جمت
«وأجر» ثواب لأعمالهم الحسنة
«كبير» ووجه تعلق الآيات الثلاث بما قبلهن من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال الواقع في قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا والمعنى أن كلا من إذاقة النعماء ونزعها مع كونه ابتلاء للإنسان أيشكر أم يكفر لا يهتدي إلى حسن الصواب بل يحيد في كلتا الحالتين عنه إلى مهاوي الضلال فلا يظهر منه حسن عمل إلا من الصابرين الصالحين أو من حيث أن إنكارهم بالبعث واستهزائهم بالعذاب بسبب بطرهم وفخرهم كأنه قيل إنما فعلوا ما فعلوا لأن طبيعة الإنسان مجبولة على ذلك
190

«فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك» من البينات الدالة على حقيقة نبوتك المنادية بكونها من عند الله عز وجل لمن له أذن واعية
«وضائق به صدرك» أي عارض لك ضيق صدر بتلاوته عليهم وتبليغه إليهم في أثناء الدعوة والمحاجة
«أن يقولوا» لأن يقولوا تعاميا عن تلك البراهين التي لا تكاد تخفي صحتها على أحد ممن له أدنى بصيرة وتماديا في العناد على وجه الاقتراح
«لولا أنزل عليه كنز» مال خطير مخزون يدل على صدقة
«أو جاء معه ملك» يصدقه قيل قاله عبد الله بن أمية المخزومي وروى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رؤساء مكة قالوا يا محمد اجعل لنا جبال مكة ذهبا إن كنت رسولا وقال آخرون ائتنا بالملائكة يشهدوا بنبوتك فقال لا أقدر على ذلك فنزلت كأنه صلى الله عليه وسلم لما عاين اجتراءهم على اقتراح مثل هذه العظائم غير قانعين بالبينات الباهرة التي كانت تضطرهم إلى القبول لو كانوا من أرباب العقول وشاهد ركوبهم من المكابرة متن كل صعب وذلول مسارعين إلى المقابلة بالتكذيب والاستهزاء وتسميتها سحرا مثل حاله صلى الله عليه وسلم بحال من يتوقع منه أن يضيق صدره بتلاوة تلك الآيات الساطعة عليهم وتبليغها إليهم فحمل على الحذر منه بما في لعل من الإشفاق فقيل
«إنما أنت نذير» ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى إليك غير مبال بما صدر عنهم من الرد والقبول
«والله على كل شيء وكيل» يحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز
«أم يقولون افتراه» إضراب بأم المنقطة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وتهاونهم به وعدم اقتناعهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على كونه من عند الله عز وجل وعلى حقية نبوته صلى الله عليه وسلم وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم وما فيها من معنى الهمزة للتوبيخ والإنكار والتعجيب والضمير المستكن في افتراه للنبي صلى الله عليه وسلم والبارز لما يوحى أي بل أيقولون افتراه وليس من عند الله
«قل» إن كان الأمر كما تقولون
«فأتوا» أنتم أيضا
«بعشر سور مثله» في البلاغة وحسن النظم وهو نعت لسور أي أمثاله وتوحيده إما باعتبار مماثلة كل واحد منها أو لأن المطابقة ليست بشرط حتى يوصف المثنى بالمفرد كما في قوله تعالى أنؤمن لبشرين مثلنا أو للإماء إلى أن وجه الشبه ومدار المماثلة في الجميع شيء واحد هو البلاغة المؤدية إلى مرتبة الإعجاز فكان الجميع واحد
«مفتريات» صفة أخرى لسور أخرت عن وصفها بالمماثلة لما يوحي لأنها الصفة المقصودة بالتكليف إذ بها يظهر عجزهم وقعودهم عن المعارضة وأما وصف الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه
191

لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة في الافتراء والمعنى فأتوا بعشر سور مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أن اختلقته من عندي فإنكم أقدر على ذلك مني لأنكم عرب فصحاء بلغاء قد مارستم مبادى ذلك من الخطب والأشعار وحفظتم الوقائع والأيام وزاولتم أساليب النظم والنثر
«وادعوا» للاستظهار في المعارضة
«من استطعتم» دعاءه والاستعانة به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون والكهنة ومدارهكم الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم فيها
«من دون الله» متعلق بادعوا أي متجاوزين الله تعالى
«إن كنتم صادقين» في إني افتريته فإن ذلك يستلزم إمكان الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه والجواب محذوف يدل عليه المذكور
«فإن لم يستجيبوا لكم» أي فإن لم يفعلوا ما كلفوه من الإتيان بمثله كقوله تعالى فإن لم تفعلوا وإنما عبر عنه بالاستجابة إيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم على كمال أمن من أمره كأن أمره لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه والضمير في لكم للرسول صلى الله عليه وسلم والجمع للتعظيم كما في قول من قال
* وإن شئت حرمت النساء سواكم
* أوله وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ان لا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم ويناصبوا معه لمعارضة
المعارضين كما كان يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان والطمأنينة في الإيقان ولذلك رتب عليه قوله عز وجل فاعلموا أي اعلموا حين ظهر لكم عجزهم عن المعرضة مع تهالكهم عليها علما يقينا متاخما لعين اليقين بحيث لا مجال معه لشائبة ريب بوجه من الوجوه كأن ما عداه من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة وبه يتضح سرا يراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك فيه أو اثبتوا واستمروا على ما كنتم عليه من العلم
«إنما أنزل» ملتبسا
«بعلم الله» المخصوص به بحيث لا تحوم حوله العقول والأفهام مستبدا بخصائص الإعجاز من جهتي النظم الرائق والإخبار بالغيب
«وأن لا إله إلا هو» أي واعلموا أيضا أن لا شريك له في الألوهية وأحكامها ولا يقدر على ما يقدر عليه أحد
«فهل أنتم مسلمون» أي مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه وهذا من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين ويجوز أن يكون الخطاب في الكل للمشركين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلا تحت الأمر بالتحدي والضمير في لم يستجيبوا لمن استطعتم أي فإن لم يستجب لكم آلهتكم وسائر من إليهم تجأرون في مهماتكم وملماتكم إلى المعاونة والمظاهرة فاعلموا أن ذلك خارج عن دائرة قدرة البشر وأنه منزل من خالق القوى والقدر فإيراد كلمة الشك حينئذ مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة آلهتكم تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث أنه مسبوق بالدعاء المسبوق بعجزهم واضطرارهم فكأنه قيل فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وضاقت عليكم الحيل وعيت بكم العلل أو من حيث إن من يستمدون بهم أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور
192

عجز أنفسهم يكون عجزهم أظهر وأوضح واعلموا أيضا أن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة في الألوهية وأحكامها فهل أنتم داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما كنتم فيه من الشرك فيدخل فيه الإذعان لكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون لما كنتم فيه من المكابرة والعناد وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال العذر وإقناط من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه هذا والأول أنسب لما سلف من قوله تعالى وضائق به صدرك ولما سيأتي من قوله تعالى فلا تك في مرية منه وأشد ارتباطا بما يعقبه كما ستحيط به خبرا
«من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها» أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن والسعة في الرزق وكثرة الأولاد والرياسة وغير ذلك والمراد بالإرادة ما يحصل عند مباشرة الأعمال لا مجرد الإدارة القلبية لقوله تعالى
«نوف إليهم أعمالهم فيها» وإدخال كان عليه للدلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخرة أصلا وليس المراد بأعمالهم أعمال كلهم فإنه لا يجد كل متمن ما يتمناه ولا كل أحد ينال كل ما يهواه فإن ذلك منوط بالمشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ولا كل أعمالهم بل بعضها الذي يترتب عليه الأمور المذكورة بطريق الأجر والجزاء من أعمال البر وقد أطلقت وأريد بها ثمراتها فالمعنى نوصل إليهم ثمرات أعمالهم في الحياة الدنيا كاملة وقرئ يوف على الإسناد إلى الله عز وجل وتوف بالفوقانية على البناء للمفعول ورفع أعمالهم وقرئ نوفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضيا كقوله
* وإن أتاه خليل يوم مسغبة
* يقول لا غائب ما لي ولا حرم
*
«وهم فيها» أي في الحياة الدنيا
«لا يبخسون» أي لا ينقصون وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل عن كونها مستوجبة لذلك بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا والمعنى إنهم فيها خاصة لا ينقصون ثمرات أعمالهم وأجورها نقصا كليا مطردا ولا يحرمونها حرمانا كليا وما في الآخرة فهم في الحرمان المطلق واليأس المحقق كما ينطق به قوله تعالى
«أولئك» الخ فإنه إشارة إلى المذكورين باعتبار إرادتهم الحياة الدنيا أو باعتبار توفيتهم أجورهم من غير بخس أو باعتبارهما معا وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال لأي أولئك المريدون للحياة الدنيا وزينتها الموفون فيها ثمرات أعمالهم من غير بخس
«الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار» لأن هممهم كانت مصروفة إلى الدنيا وأعمالهم مقصورة على تحصيلها وقد
193

اجتنبوا ثمرتها ولم يكونوا يريدون بها شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد
«وحبط ما صنعوا فيها» أي ظهر في الآخرة حبوط ما صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب لو كانت معمولة للآخرة أو حبط ما صنعوه في الدنيا من أعمال البر إذ شرط الاعتداد بها الإخلاص
«وباطل» أي في نفسه
«ما كانوا يعملون» في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية ولأجل ان الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبيء عن الحدوث وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه وفي زيادة كان في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي من مقدمات مطالبهم الدنية وقرئ وبطل على الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذلك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا وقرئ وباطلا ما كانوا يعملون على أن ما إبهامية أو في معنى المصدر كقوله ولا خارجا من في زور كلام وعن أنس رضى الله عنه أن المراد بقوله تعالى من كان يريد الخ اليهود والنصارى إن أعطوا سائلا أو وصلوا رحما عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن وقيل هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم في الغنائم وأنت خبير بأن ذلك إنما كان بعد الهجرة والسورة مكية وقيل هم أهل الرياء يقال للقراء منهم أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك وهكذا لغيرة ممن يعمل أعمال البر لا لوجه الله تعالى فعلى هذا لا بد من تقييد قوله تعالى لهم إلا النار بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك والذي تقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد به مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وعلا لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله وبأن لا قدرة لغيره على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستيلائهم على المطالب الدنيوية وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه ولقد بين ذلك أي بيان ثم أعيد الترغيب فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام فقيل
«أفمن كان على بينة من ربه» أي برهان نير عظيم الشأن يدل على حقية ما رغب في الثبات علية من الإسلام وهو القرآن وباعتباره أو بتأويل البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله تعالى
«ويتلوه» أي يتبعه
«شاهد» يشهد بكونه من عند الله تعالى وهو الإعجاز في
194

نظمه المطرد في كل مقدار سورة منه أو ما وقع في بعض آياته من الأخبار بالغيب وكلاهما وصف تابع له شاهد بكونه من عند الله عز وجل غير أنه على التقدير الأول يكون في الكلام إشارة إلى حال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في تمسكهم بالقرآن عند تبين كونه منزلا بعلم الله بشهادة الإعجاز منه أي من القرآن غير خارج عنه أو من جهة الله تعالى فإن كلا منهما وارد من جهته تعالى للشهادة ويجوز على هذا التقدير أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك أيضا من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من جهته تعالى فالمراد بمن في قوله تعالى أفمن كل من اتصف بهذه الصفة الحميدة فيدخل فيه المخاطبون بقوله تعالى فاعلموا فهل أنتم دخولا أوليا وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه وقيل المراد بالبينة دليل العقل وبالشاهد القرآن فالضمير في منه لله تعالى أو البينة القرآن ويتلوه من التلاوة والشاهد جبريل أو لسان النبي صلى الله عليه وسلم على أن الضمير له أو من التلو والشاهد ملك يحفظ والأولى هو الأول ولما كان المراد بتلو الشاهد للبرهان إقامة الشهادة بصحته وكونه من عند الله تابعا له بحيث لا يفارقه في مشهد من المشاهد فإن القرآن بينة باقية على وجه الدهر مع شاهدها الذي يشهد بأمرها إلى يوم القيامة عند كل مؤمن وجاحد عطف كتاب موسى في قوله عز قائلا
«ومن قبله كتاب موسى» على فاعله مع كونه مقدما عليه في النزول فكأنه قيل أفمن كان على بينة من ربه ويشهد به شاهد منه وشاهد آخر من قبله هو كتاب موسى وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو والتنكير في بينة وشاهد للتفخيم
«إماما» أي مؤتما به في الدين ومقتدى وفي التعرض لهذا الوصف بصدد بيان تلو الكتاب ما لا يخفي من تفخيم شأن المتلو
«ورحمة» أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب
«أولئك» الموصوفون بتلك الصف الحميدة وهو الكون على بينة من الله ولما أن ذلك عبارة عن مطلق التمسك بها وقد يكون ذلك بطريق التقليد لمن سلف من عظماء الدين من غير عثور على دقائق الحقائق وصفهم بأنهم
«يؤمنون» أي يصدقونه حق التصديق حسبما تشهد به الشواهد الحقة المعربة عن حقيته
«ومن يكفر به» أي بالقرآن ولم يصدق بتلك الشواهد الحقة
«من الأحزاب» من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
«فالنار موعده» يردها لا محالة حسبما نطق به قوله تعالى ليس لهم في الآخرة إلا النار وفي جعلها موعدا إشعار بأن له فيها ما لا يوصف من أفانين العذاب
«فلا تك في مرية منه» أي في شك من أمر القرآن وكونه من عند الله عز وجل غبما شهدت به الشواهد المذكورة وظهر فضل من تمسك به
«إنه الحق من ربك» الذي يربيك في دينك ودنياك
«ولكن أكثر الناس لا يؤمنون» بذلك إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم وإما لعنادهم واستكبارهم فمن في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره وتقديره أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم يعني أن بينهما تفاوتا عظيما بحيث لا يكاد يتراءى ناراهما
وإيراد الفاء بعد الهمزة لإنكار ترتب توهم المماثلة على ما ذكر من صفاتهم وعدد من هناتهم كأنه قيل أبعد ظهور حالهم في الدنيا والآخرة كما وصف يتوهم المماثلة بينهم وبين من كان على أحسن ما يكون
195

في العاجل والآجل كما في قوله تعالى أفاتخذتم من دونه أولياء أي أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء وقوله تعالى أمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى
«ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا» بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم للملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقولهم لآلهتم هؤلاء شفعاؤنا عند الله يعنى أنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه كذبا وهذا التركيب وإن كان سبكه على إنكار أن يكون أحد أظلم منهم من غير تعرض لإنكار المساواة ونفيها ولكن المقصود به قصدا مطردا إنكار المساواة ونفيها وإفادة أنهم أظلم من كل ظالم كما ينبيء عنه ما سيتلى من قوله عز وجل لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون فإذا قيل من أكرم من فلان أولا أفضل منه فالمراد منه حتما انه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل
«أولئك» الموصوفون بالظلم البالغ الذي هو الافتراء على الله تعالى وبهذه الإشارة حصلت الغنية عن إسناد العرض إلى أعمالهم واكتفى بإسناده إليهم حيث قيل
«يعرضون» لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته
«على ربهم» الحق وفيه إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دون الله عز وجل
«ويقول الأشهاد» عند العرض من الملائكة والنبيين أو من جوارحهم وهو جمع شاهد أو شهيد كأصحاب وأشراف
«هؤلاء الذين كذبوا على ربهم» بالافتراء عليه كأن ذلك أمر واضح غنى عن الشهادة بوقوعه وإنما المحتاج إلى الشهادة تعيين من صدر عنه ذلك فلذلك لا يقولون هؤلاء كذبوا على ربهم ويجوز أن يكون المراد بالأشهاد الحضار وهم جميع أهل الموقف على ما قاله قتادة ومقاتل ويكون قولهم هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ذما لهم بذلك لإشهاده عليهم كما يشعر به قوله تعالى ويقول دون ويشهد الخ وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى
«ألا لعنة الله على الظالمين» بالافتراء المذكور ويجوز أن يكون هذا على الوجه الأول من كلام الله تعالى وفيه تهويل عظيم لما يحيق بهم من عاقبة ظلمهم اللهم إنا نعوذ بك من الخزي على رؤوس الأشهاد
«الذين يصدون» أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد
«عن سبيل الله» عن دينه القويم
«ويبغونها عوجا» انحرافا أي يصفونها بذلك وهي أبعد شيء منه أو يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها يقال بغيتك خيرا أو شرا أي طلبت لك وهذا شامل لتكذيبهم بالقرآن وقولهم إنه ليس من عند الله
«وهم بالآخرة هم كافرون» أي يصفونها بالعوج والحال أنهم كافرون بها لا أنهم يؤمنون بها ويزعمون أن لها سبيلا سويا يهدون الناس إليه وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به كأن كفر غيرهم ليس بشيء عند كفرهم
«أولئك»
196

مع وصف من أحوالهم الموجبة للتدمير
«لم يكونوا معجزين» الله تعالى مفلتين بأنفسهم من أخذه لو أراد ذلك
«في الأرض» مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب
«وما كان لهم من دون الله من أولياء» ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه والجمع إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل وما كان لأحد منهم من ولى أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية
«يضاعف لهم العذاب» استئناف يتضمن حكمة تأخير المؤاخذة وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب بالتشديد
«ما كانوا يستطيعون السمع» لفرط تصامهم عن الحق وبغضهم له كأنهم لا يقدرون على السمع ولما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم لسائر الآيات المنوطة بالأبصار بالغ في نفي الأول عنهم حيث نفى عنهم الاستطاعة واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال تعالى
«وما كانوا يبصرون» لتعاميهم عن آيات الله المبسوطة في الأنفس والآفاق وهو استئناف وقع تعليلا لمضاعفة العذاب وقيل هو بيان لما نفى من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل من الولاية وقوله تعالى يضاعف لهم العذاب اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر سوء العاقبة
«أولئك» المنعوتون بما ذكر من القبائح
«الذين خسروا أنفسهم» باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله عز سلطانه
«وضل عنهم ما كانوا يفترون» من الآلهة وشفاعتها أو خسروا ما بذلوا وضاع عنهم ما حصلوا فلم يبق معهم سوى الحسرة والندامة
«لا جرم» فيه ثلاثة أوجه الأول أن لا نافية لما سبق وجرم فعل بمعنى حق وأن مع ما في حيزه فاعله والمعنى لا ينفعهم ذلك الفعل حق
«أنهم في الآخرة هم الأخسرون» وهذا مذهب سيبويه والثاني جرم بمعنى كسب وما بعده مفعوله وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك خسرانهم فالمعنى ما حصل من
ذلك إلا ظهور خسرانهم والثالث أن لا جرم بمعنى لا بد أي لا بد أنهم في الآخرة هم الأخسرون وأيا ما كان فمعناه أنهم أخسر من كل خاسر فتبين أنهم أظلم من كل ظالم وهذه الآيات الكريمة كما ترى مقررة لما سبق من إنكار المماثلة بين من كان على بينة من ربه وبين من كان يريد الحياة الدنيا أبلغ تقرير فإنهم حيث كانوا أظلم من كل ظالم وأخسر من كل خاسر لم يتصور مماثلة بينهم وبين أحد من الظلمة الأخسرين فما ظنك بالمماثلة بينهم وبين من هو في أعلى مدارج الكمال ولما ذكر فريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم ومآلهم شرع في بيان حال أضدادهم أعنى فريق المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسنهم المذكورة في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقيل
«إن الذين آمنوا» أي بكل ما يجب أن يؤمن
197

به فيندرج تحته ما نحن بصدده من الإيمان بالقرآن الذي عبر عنه بالكون على بينة من الله وإنما يحصل ذلك باستماع الوحي والتدبر فيه ومشاهدة ما يؤدى إلى ذلك في الأنفس والآفاق أو فعلوا الإيمان كما في يعطى ويمنع
(وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم)
أي اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخضوع والتواضع من الخبت وهي الأرض المطمئنة ومعنى أخبت دخل في الخبت كأنهم وأنجد دخل في تهامة ونجد
(أوليك)
المنعوتون بتلك النعوت الجميلة
(أصحاب الجنة هم فيها خالدون)
دائمون وبعد بيان تباين حاليهما عقلا أريد بيان تباينهما حسا فقيل
(مثل الفريقين)
المذكورين أي حالهما العجيب لأن المثل لا يطلق إلا على ما فيه غرابة من الأحوال والصفات
(كالأعمى والأصم والبصير والسميع)
أي كحال هؤلاء فيكون ذواتهم كذواتهم والكلام وإن أمكن أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بالأعمى وبالأصم وتشبيه الفريق الثاني بالبصير وبالسميع لكن الأدخل في المبالغة والأقرب إلى ما يشير إليه لفظ المثل والأنسب بما سبق من وصف الكفرة بعدم استطاعة السمع وبعدم الإبصار أن يحمل على تشبيه الفريق الأول بمن جمع بين العمى والصمم وتشبيه الفريق الثاني بمن جمع بين البصر والسمع على أن تكون الواو في قوله تعالى والأصم وفي قوله والسميع لعطف الصفة على الصفة كما في قول من قال
* إلى الملك القرم وابن الهمام
* وليث الكتيبة في المزدحم
* وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالحال المدلول عليها بلفظ المثل وهى التي يدور عليها أمر التشبيه ما يلائم الأحوال المذكورة المعتبرة في جانب المشبه به من تعامى الفريق الأول عن مشاهدة آيات الله المنصوبة في العالم والنظر إليها بعين الاعتبار وتصامهم عن استماع آيات القرآن الكريم وتلقيها بالقبول حسبما ذكر في قوله تعالى ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون وإنما لم يراع هذا الترتيب ههنا لكون الأعمى أظهر وأشهر في سوء الحال من الأصم ومن استعمال الفريق الثاني لكل من أبصارهم وأسماعهم فيما ذكر كما ينبغي المدلول عليه بما سبق من الإيمان والعمل الصالح والإخبات حسبما فسر به فيما مر فلا يكون التشبيه تمثيليا لا جميع الأحوال المعدودة لكل من الفريقين مما ذكر وما يؤدى إليه من العذاب المضاعف والخسران البالغ في أحدهما ومن النعيم المقيم في الآخر فإن اعتبار ذلك ينزع إلى كون التشبيه تمثيليا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة فتشبه بهيئة منتزعة ممن فقد مشعرى البصر والسمع فتخبط في مسلكه فوقع في مهاوى الردى ولم يجد إلى مقصده سبيلا وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسبما ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة فتشبيه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه يعنى الفريقين المذكورين والاستفهام إنكاري مذكر لما سبق من إنكار المماثلة في قوله عز وجل أفمن كان على بيته الآية مثلا أي حالا وصفة وهو تمييز من فاعل يستويان أفلا تذكرون
أي أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو أتغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ضرب
198

لكم من المثل فيكون الإنكار واردا على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون راجعا إلى عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب كما في قوله تعالى أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم فإن الفاء هناك لإنكار الانقلاب بعد تحقق ما يوجب عدمه من علمهم بخلو الرسل قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أفلا تفعلون التذكر أو أفلا تعقلون ومعنى الهمزة إنكار عدم التذكر واستبعاد صدوره عن المخاطبين وأنه ليس مما يصلح أن يقع لا من قبيل الإنكار في قوله تعالى أفمن كان على بينة من ربه وقوله تعالى هل يستويان فإن ذلك لنفى المماثلة ونفى الاستواء ولما بين من فاتحة السورة الكريمة إلى هذا المقام أنها كتاب محكم الآيات مفصلها نازل في شأن التوحيد وترك عبادة غير الله سبحانه وأن الذي انزل عليه نذير وبشير من جهته تعالى وقرر في تضاعيف ذلك ما له مدخل في تحقيق هذا المرام من الترغيب والترهيب وإلزام المعاندين بما يقارنه من الشواهد الحقه الدالة على كونه من عند الله تعالى وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم مما عراه من ضيق الصدر
العارض له من اقتراحاتهم الشنيعة وتكذيبهم له وتسميتهم للقرآن تارة سحر وأخرى مفترى وتثبيته صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على التمسك به والعمل بموجبه على أبلغ وجه وأبدع أسلوب شرع في تحقيق ما ذكر وتقريره بذكر قصص الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين المشتملة على ما اشتمل عليه فاتحة السورة الكريمة ليتأكد ذلك بطريقين أحدهما أن ما أمر به من التوحيد وفروعه مما أطبق عليه الأنبياء قاطبة والثاني أن ذلك إنما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي فلا يبقى في حقيته كلام أصلا وليتسلى بما يشاهده من معاناة الرسل قبله من أممهم ومقاساتهم الشدائد من جهتهم فقيل
(ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه)
الواو ابتدائية واللام جواب قسم محذوف وحرفه الباء لا الواو كما في سورة الأعراف لئلا يجتمع واوان ولا يكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع وان المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها ونوح هو ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليهما السلام وهو أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما بعث صلى الله عليه وسلم على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة وقال مقاتل بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة
8 إني لكم نذير 8
بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي أرسلناه ملتبسا بذلك الكلام وهو إني لكم نذير بالكسر فلما اتصل به الجار فتح كما فتح في كأن والمعنى على الكسر وهو قولك إن زيدا كالأسد واقتصر على ذكر كونه صلى الله عليه وسلم نذيرا لا لأن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت بطريق الإنذار فقط الا يرى إلى قوله تعالى فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدار الخ بل لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره صلى الله عليه وسلم
8 مبين 8
أبين لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه لأن الإنذار إعلام المحذور لا لمجرد التخويف والازعاج بل للحذر منه فيتعلق بكلا وصفيه
199

«ألا تعبدوا إلا الله» أي بأن لا تعبدوا على أن أن مصدرية والباء متعلقة بأرسلنا ولا ناهية أي أرسلناه متلبسا بنهيهم عن الشرك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه وأحواله صلى الله عليه وسلم وهو كونه نذيرا مبينا ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يفرق بين الكتاب ومضمونه بما ليس من أوصافه وأحواله أو مفسرة متعلقة به أو بنذير أو مفعول لمبين وعلى قراءة الفتح بدل من أني لكم نذير مبين وتعيين لما يوجب وقوع المحذور وتبيين لوجه الخلاص وهو عبادة الله تعالى وقوله تعالى
«إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم» تعليل لموجب النهي وتصريح بالمحذور وتحقيق للإنذار والمراد به يوم القيامة أو يوم الطوفان ووصفه بالأليم على الإسناد المجازي للمبالغة كما في نهاره صائم وهذه المقالة وما في معناها مما قاله صلى الله عليه وسلم في أثناء الدعوة على ما عزى إليه في سائر السور لما لم تصدر عنه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة بل كان يكررها عليهم في تلك المدة المتطاولة على ما نطق به قوله تعالى رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقيل
«فقال الملأ الذين كفروا من قومه» أي الإشراف منهم من قولهم فلان مليء بكذا أي مطيق له لأنهم ملئوا بكفايات الأمور أو لأنهم ملئوا القلوب هيبة والمجالس أبهة أر لأنهم ملئوا بالأحلام والآراء الصائبة ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفره
«ما نراك إلا بشرا مثلنا» مرادهم ما أنت إلا بشرا مثلنا ليس فيك مزية تخصك من دوننا بما تدعيه من النبوة ولو كان كذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل ولكن لا نراه وكذا الحال في قولهم
«وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي» فالفعلان من رؤية العين وقوله تعالى إلا بشرا مثلنا حال من المفعول وكذا قوله اتبعك في موضع الحال منه إما على حاله أو بتقدير قد عند من يشترط ذلك ويجوز أن يكون من رؤية القلب وهو الظاهر فهما المفعول الثاني وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا بالبشرية فقط وإنما لم يبتوا القول بذلك مع جزمهم به وإصرارهم عليه إراءة بأن ذلك لم يصدر عنهم جزافا بل بعد التأمل في الأمر والتدبر فيه ولذلك اقتصروا على ذلك الظن فيما سيأتي وتعريضا من أول الأمر برأي المتبين فكأن قولهم وما نراك جواب عما يرد عليهم من أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثلهم حيث عاين دلائل نبوته واغتنم اتباعه من له عين تبصر وقلب يدرك فزعموا أن هؤلاء أراذلنا أي أخساؤنا وأدانينا جمع أرذل فإنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم كالأكبر والأكابر أو جمع أرذل جمع رذل كأكالب وأكلب وكلب يعنون أنه لا عبرة باتباعهم لك إذ ليس لهم رزانة عقل ولا إصالة رأى وقد كان ذلك منهم في بادي الرأي أي ظاهره من غير تعمق من البدو أو في أوله من البدء والياء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد
200

قرأه أبو عمرو بها وانتصابه على الظرفية على حذف المضاف أي وقت حدوث بادي الرأي والعامل فيه اتبعك وإنما استرذلوهم مع كونهم أولي الألباب الراجحة لفقرهم فإنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن ذلك لا يزن عند الله جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه نعوذ بالله تعالى من ذلك
«وما نرى لكم» أي لك ولمتبعيك فغلب المخاطب على الغائبين
«علينا من فضل» يعنون أن اتباعهم لك لا يدل على نبوتك ولا يجديهم فضيلة تستتبع اتباعنا لكم واقتصارهم ههنا على ذكر عدم رؤية الفضل بعد تصريحهم برذالتهم فيما سبق باعتبار حالهم السابق واللاحق ومرادهم أنهم كانوا أراذل قبل اتباعهم لك ولا نرى فيهم وفيك بعد الاتباع فضيلة علينا
«بل نظنكم كاذبين» جميعا لكون كلامكم واحدا ودعواكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك واقتصارهم على الظن احتراز منهم عن نسبتهم إلى المجازفة ومجاراة معه صلى الله عليه وسلم بطريق الإراءة على نهج الإنصاف
«قال يا قوم أرأيتم» أي أخبروني وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور
«إن كنت على بينة» برهان ظاهر
«من ربي» وشاهد يشهد بصحة دعواي
«وآتاني رحمة من عنده» هي النبوة ويجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة من عنده فوجه إفراد الضمير في قوله تعالى
«فعميت عليكم» حينئذ ظاهر وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالإفراد لإرادة كل واحدة منهما أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفائها خفاء النبوة أو لتقدير فعل آخر بعد البينة ومعنى عميت أخفيت وقريء عميت ومعناه خفيت وحقيقته أن الحجة كما تجعل مبصرة وبصيرة تجعل عمياء لأن الأعمى لا يهتدي ولا يهدى غيره وفي قراءة أبي فعماها عليكم على الإسناد إلى الله عز وجل
«أنلزمكموها» أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط وقرأ أبو عمرو بإخفاء حركة الميم وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما جاز في الثاني الوصل والفصل فوصل كما في قوله تعالى فسيكفيكهم الله
«وأنتم لها كارهون» لا تختارونها ولا تتأملون فيها ومحصول الجواب أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة دعواي إلا أنها خافية عليكم مسلمة عندكم أيمكننا أن نكرهكم على قبولها وأنتم معرضون عنها غير متدبرين فيها أي لا يكون ذلك وظاهره مشعر بصدوره عنه صلى الله عليه وسلم بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله تعالى ولا ينفعكم نصحي الخ لكنه محمول على أن مراده صلى الله عليه وسلم ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار إلى الإلزام حال كراهتهم لها لا إلى الإلزام مطلقا هذا ويجوز أن يكون المراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها من بعض وبه يناط الكرامة عند الله عز وجل والإجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات
201

عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونه صلى الله عليه وسلم عليها وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه صلى الله عليه وسلم بها بين ظهرانيهم والمعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عنكم بزيادة مزية وحيازة فضيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم إني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة وحينئذ يكون كلامه صلى الله عليه وسلم جوابا عن شبههم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه صلى الله عليه وسلم بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة
«ويا قوم لا أسألكم عليه» أي على ما قلته في أثناء دعوتكم
«ما لا» تؤدونه إلى بعد إيمانكم واتباعكم لي فيكون ذلك أجرا لي في مقابلة اهتدائكم
«إن أجري إلا على الله» الذي يثيبني في الآخرة وفي التعبير عنه حين نسب إليهم بالمال ما لا يخفى من المزية
«وما أنا بطارد الذين آمنوا» جواب عما لوحوا به بقولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به صلى الله عليه وسلم بذلك أنفه من الإنتظام معهم في سلك واحد
«إنهم ملاقوا ربهم» تعليل لامتناعه صلى الله عليه وسلم عن طردهم أي إنهم فائزون في الآخرة بلقاء الله عز وجل كأنه قيل لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم مقربون في حضرة القدس والتعرض لوصف الربوبية لتربية وجوب رعايتهم وتحتم الامتناع عن طردهم أو مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم وحمله على معنى أنهم يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر وتفكر وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون يأباه الجزم بترتب غضب الله عز وجل على طردهم كما سيأتي وأيضا فهم إنما قالوا إن اتباعهم لك إنما هو بحسب بادي الرأي بلا تأمل وتفكر وهذا لا يكاد يصلح مدارا للطرد في الدنيا ولا للمؤاخذة في الآخرة غايته أن لا يكونوا في مرتبه الموقنين وادعاء أن بناء الإيمان على ظاهر الرأي يؤدي إلى الرجوع عنه عند التأمل فكأنهم قالوا إنهم اتبعوك بلا تأمل فلا يثبتون على دينك بل يرتدون عنه تعسف لا يخفى
«ولكني أراكم قوما تجهلون» بكل ما ينبغي أن يعلم ويدخل فيه جهلهم بلقاء الله عز وجل وبمنزلتهم عنده وباستيجاب طردهم لغضب الله كما سيأتي وبركاكة رأيهم في
التماس ذلك وتوقيف إيمانهم عليه أنفه عن الإنتظام معهم في سلك واحد وزعما منهم أن الرذالة بالفقر والشرف بالغني وإيثار صيغة الفعل للدلالة
202

على التجدد والاستمرار أو تتسافهون على المؤمنين بنسبتهم إلى الخساسة
«ويا قوم من ينصرني من الله» يدفع حلول سخطه عني
«إن طردتهم» فإن ذلك أمر لا مرد له لكون الطرد ظلما موجبا لحلول السخط قطعا وإنما لم يصرح به إشعارا بأنه غني عن البيان لا سيما عما قدم ما يلوح به من أحوالهم فكأنه قيل من يدفع عني غضب الله تعالى إن طردتهم وهم بتلك المثابة من الكرامة والزلفى كما ينبيء عنه قوله تعالى
«أفلا تذكرون» أي أتستمرون على ما أنتم عليه من الجهل المذكور فلا تتذكرون ما ذكر من حالهم حتى تعرفوا أن ما تأتونه بمعزل عن الصواب ولكون هذه العلة مستقبلة بوجه مخصوص ظاهر الدلالة على وجوب الامتناع عن الطرد أفردت عن التعليل السابق وصدرت بيا قوم
«ولا أقول لكم» حين ادعى النبوة
«عندي خزائن الله» أي رزقه وأمواله حتى تستدلوا بعدمها على كذبي بقولكم وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين فإن النبوة أعز من أن تنال بأسباب دنيوية ودعواها بمعزل عن ادعاء المال والجاه
«ولا أعلم الغيب» أي لا أدعي في قولي إني لكم نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم علم الغيب حتى تسارعوا إلى الإنكار والإستبعاد
«ولا أقول إني ملك» حتى تقولوا ما نراك إلا بشرا مثلنا فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من مباديها يعني إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي أدعيه يتعلق بشيء منها وإنما يتعلق بالفضائل النفسانية التي بها تتفاوت مقادير البشر
«ولا أقول» مساعدة لكم كما تقولون «للذين تزدري أعينكم» أي تقتحمهم وتحتقرهم من زراه إذا عابه وإسناد الازدراء إلى أعينهم بالنظر إلى قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وإما للإشعار بأن ذلك القصور نظرهم ولو تدبروا في شأنهم ما فعلوا ذلك اي لا أقول في شأن الذين استرذلتموهم لفقرهم من المؤمنين «لن يؤتيهم الله خيرا» في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله أن يؤتيهم خيري الدارين إن قلت هذا القول ليس مما تستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه صلى الله عليه وسلم أصالة أو استتباعا كادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازه الخزائن مما نفاه صلى الله عليه وسلم عن نفسه بطريق التبرؤ والتنزه عنه فمن أي وجه عطف نفيه على نفيها قلت من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة وأنها لا تتسنى ممن ليس على تلك الصفات فإن العثور على مكانها واغتنام مغانهما ليس من دأب الأراذل فأجاب صلى الله عليه وسلم بنفي ذلك جميعا فكأنه قال لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير
«الله أعلم بما في أنفسهم» من الإيمان وإنما اقتصر على نفي القول المذكور مع أنه صلى الله عليه وسلم جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الأنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا
203

لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبنى أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجازف فيما ليس فيه على بينة ظاهرة
«إني إذا» أي إذا قلت ذلك
«لمن الظالمين» لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم أو من الظالمين لأنفسهم بذلك فإن وباله راجع إلى أنفسهم وفيه تعريض بأنهم ظالمون في إزدرائهم واسترذالهم وقيل إذا قلت شيئا مما ذكر من ادعاه الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وهو بعيد لأن تبعه تلك الأقوال مغنية عن التعليل بلزوم الإنتظام في زمرة الظالمين
«قالوا يا نوح قد جادلتنا» خاصمتنا «فأكثرت جدالنا» أي أطلته أو اتيته بأنواعه فإن إكثار الجدال يتحقق بعد وقوع أصله فلذلك عطف عليه بالفاء أو أردت ذلك فأكثرته كما في قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله ولما حجهم صلى الله عليه وسلم وأبرز لهم بينات واضحة المدلول وحججا تتلقاها العقول بالقبول وألقمهم الحجر برد شبههم الباطلة ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وقالوا
«فأتنا بما تعدنا» من العذاب الذي أشير إليه في قوله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم على تقدير أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة
«إن كنت من الصادقين» فيما تقول
«قال إنما يأتيكم به الله إن شاء» يعني أن ذلك ليس موكولا إلى ولا هو مما يدخل تحت قدرتي وإنما يتولاه الله الذي كفرتم به وعصيتموه يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلق به مشيئته التابعة للحكمة وفيه ما لا يخفى من تهويل الموعود فكأنه قيل الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله عز وجل
«وما أنتم بمعجزين» بالهرب أو بالمدافعة كما تدافعونني في الكلام
«ولا ينفعكم نصحي» النصح كلمة جامعة لكل ما يدور عليه الخير من قول أو فعل وحقيقته إمحاض إرادة الخير والدلالة عليه ونقيضه الغش وقيل هو إعلام موقع الغي ليتقي وموضع الرشد ليقتفي
«إن أردت أن أنصح لكم» شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه والتقدير إن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي وهذه الجملة دليل على ما حذف من جواب قوله تعالى
«إن كان الله يريد أن يغويكم» والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي هذا على ما ذهب إليه البصريون من عدم تقديم الجزاء على
الشرط وأما على ما ذهب إليه الكوفيون من جوازه فقوله عز وعلا ولا ينفعكم نصحي جزاء للشرط الأول والجملة جزاء للشرط الثاني وعلى التقديرين فالجزاء متعلق بالشرط الأول وتعلقه به معلق بالشرط الثاني وهذا الكلام متعلق بقولهم قد جادلتنا فأكثرت جدالنا صدر عنه صلى الله عليه وسلم إظهار للعجز عن إلزامهم بالحجج والبينات لتماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه ليس بطريق الجدال والخصام بل
204

بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وبأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين وإمحاض النصح لهم ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادة الله تعالى لإغوائهم وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محال للإيذان بأن ذلك النصح منه مقارن للإرادة والاهتمام به ولتحقيق المقابلة بين ذلك وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه عز وعلا حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم عند مجرد إرادة الله سبحانه لإغوائهم فكيف عند تحقيق ذلك وخلقه فيهم وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمها رتبة وللدلالة على تجددها واستمرارها وإنما قدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم فأتنا بما تعدنا من قوله تعالى إنما يأتيكم به الله إن شاء ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال وفيه دليل على ان إرادته تعالى يصح تعلقها بالإغواء وان خلاف مراده غير واقع وقيل معنى أن يغويكم أن يهلككم من غوي الفصيل غوى إذا بشم وهلك
«هو ربكم» خالقكم ومالك أمركم
«وإليه ترجعون» فيجازيكم على أعمالكم لا محالة
«أم يقولون افتراه» قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعني نوحا عليه الصلاة والسلام ومعناه بل أيقول قوم نوح إن نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عز وجل
«قل» يا نوح
«إن افتريته» بالفرض البحث
«فعلي إجرامي» إثمي ووبال إجرامي وهو كسب الذنب وقريء بلفظ الجمع وينصره أن فسره الأولون بآثامي
«وأنا بريء مما تجرمون» من إجرامكم في إسناد الافتراء إلى فلا وجه لإعراضكم عني ومعاداتكم لي وقال مقاتل يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ومعناه بل أيقول مشركو مكة افترى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر نوح فكأنه إنما جيء به في تضاعيف القصة عند سوق طرف منها تحقيقا لحقيتها وتأكيدا لوقوعها وتشويقا للسامعين إلى استماعها لا سيما وقد قص منها طائفة متعلقة بما جرى بينه صلى الله عليه وسلم وبين قومه من المحاجة وبقيت طائفة مستقلة متعلقة بعذابهم
«وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك» أي المصرين على الكفر وهو إقناط له صلى الله عليه وسلم من إيمانهم وإعلام لكونه كالمحال الذي لا يصح توقعه
«إلا من قد آمن» إلا من قد وجد منه ما كان يتوقع من إيمانه وهذا الاستثناء على طريقة قوله تعالى إلا ما قد سلف
«فلا تبتئس بما كانوا يفعلون» أي لا تحزن حزن بائس مستكين ولا تغتم بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد انتهى أفعالهم وحان وقت الانتقام منهم
«واصنع الفلك» ملتبسا
«بأعيننا» أي بحفظنا وكلاءتنا كأن معه من الله عز وجل حفاظا وحراسا يكلئونه بأعينهم من التعدي من الكفرة ومن الزيغ في الصنعة
«ووحينا» إليك كيف تصنعها وتعليمنا وإلهامنا عن ابن عباس رضي
205

الله تعالى عنهما لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر والأمر للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها واللام إما للعهد بأن يحمل على أن هذا مسوق بوحي الله تعالى إليه عليه السلام أنه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء سيصنعه بأمره تعالى ووحيه من شأنه كيت وكيت واسمه كذا وإما للجنس قيل صنعها عليه الصلاة والسلام في سنتين وقيل في أربعمائة سنة وكانت من خشب الساج وجعلت ثلاثة بطون حمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وفي البطن الأعلى جنس البشر هو ومن معه مع ما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم عليه الصلاة والسلام وقيل جعل في الأول الدواب والوحوش وفي الثاني الإنس وفي الأعلى الطير قيل كان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وسمكها ثلاثين ذراعا وقال الحسن كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وقيل إن الحواريين قالوا لعيسى عليه الصلاة والسلام لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك الترب فقال أتدرون من هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا كعب بن حام قال فضرب بعصاه فقال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام أهكذا هلكت قال لا مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثمة شبت فقال حدثنا عن سفينة نوح قال كان طولها ألفا مائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات طبقة للدواب والوحش وطبقة للإنس وطبقة للطير ثم قال عد بإذن الله تعالى كما كنت فعاد ترابا
«ولا تخاطبني في الذين ظلموا» أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل ولا تدعني فيهم وحيث كان فيه ما يلوح بالسببية أكد التعليل فقيل
«إنهم مغرقون» أي محكوم عليهم بالإغراق قد مضى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه ولزمتهم الحجة فلم يبق إلا أن يجعلوا عبرة للمعتبرين ومثلا للآخرين «
ويصنع الفلك» حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة وقيل تقديره وأخذ يصنع الفلك أو أقبل يصنعها فاقتصر على يصنع وأيا ما كان ففيه ملأمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعنى قوله تعالى «وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه» استهزءوا به لعلمه السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها والانتفاع بها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه وإما لأنه كان يصنعها في برية بهماء في أبعد موضع من الماء وفي وقت عزته عزة شديدة وكانوا يتضاحكون ويقولون يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا وقيل لأنه عليه الصلاة والسلام كان ينذرهم الغرق فلما طال مكثه فيهم ولم يشاهدوا منه عينا ولا أثرا عدوه من باب المحال ثم لما رأوا اشتغاله بأسباب الخلاص من ذلك فعلوا ما فعلوا ومدار الجميع إنكار أن يكون لعلمه عليه الصلاة والسلام عاقبة حميدة مع ما فيه من تحمل المشاق
206

العظيمة التي لا تكاد تطاق واستجهاله عليه السلام في ذلك
«قال إن تسخروا منا» مستجهلين لنا فيما نحن فيه
«فإنا نسخر منكم» أي نستجهلكم فيما أنتم عيه وإطلاق السخرية عليه للمشاكلة وجمع الضمير في منا إما لأن سخريتهم منه صلى الله عليه وسلم سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه صلى الله عليه وسلم ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله تعالى فإنا نسخر منكم الخ فتكافأ الكلام من الجانين وتعليق استجهاله صلى الله عليه وسلم إياهم بما فعلوا من السخرية باعتبار إظهاره ومشافهته صلى الله عليه وسلم إياهم جاهلين فيما يأتون ويذرون أمر مطرد لا تعلق له بسخريتهم منهم لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتصدى لإظهاره جريا على نهج الأخلاق الحميدة وإنما أظهره جزاء بما صنعوا بعد اللتيا والتي فإن سخريتهم كانت مستمرة ومتجددة حسب تجدد مرورهم عليه ولم يكن يجيبهم في كل مرة وإلا لقيل ويقول إن تسخروا منا الخ بل إنما أجابهم بعد بلوغ أذاهم الغاية كما يؤذن به الاستئناف فكأن سائلا سأل فقال فما صنع نوح عند بلوغهم منه هذا المبلغ فقيل قال إن تسخروا منا إن تنسبونا فيما نحن بصدده من التأهب المباشرة لأسباب الخلاص من العذاب إلى الجهل وتسخروا منا لأجله فإنا ننسبكم إليه فيما أنتم فيه من الإعراض عند استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها استجهالكم إيانا وسخريتكم منا والتشبيه في قوله تعالى
«كما تسخرون» إما في مجرد التحقق والوقوع أو في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ غب ملأ لا في الكيفيات والأحوال التي تليق بشأن النبي صلى الله عليه وسلم فكلا الأمرين واقع في الحال وقيل نسخر منكم في المستقبل سخرية مثل سخريتكم إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة ولعل مراده نعاملكم معاملة من يفعل ذلك لأن نفس السخرية مما لا يكاد يليق بمنصب النبوة ومع ذلك لا سداد له لأن حالهم إذا ذاك ليس مما لا يلائمه السخرية أو ما يجري مجراها فتأمل
«فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه» وهو عذاب الغرق
«ويحل عليه» حلول الدين المؤجل
«عذاب مقيم» هو عذاب النار الدائم وهو تهديد بليغ ومن عبارة عنهم وهي إما استفهامية في حيز الرفع أو موصولة في محل النصب بتعلمون وما في حيزها سد مسد مفعولين أو مفعول واحد إن جعل العلم بمعنى المعرفة ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه صلى الله عليه وسلم في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في بناء السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل بعد استجهالهم فسوف تعلمون من يأتيه العذاب يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فسوف تعلمون من المعذب ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزة ووصف العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد وتخصيصه بالمؤجل وإيراد الأول بالإتيان في غاية الجزالة
«حتى إذا
207

جاء أمرنا» حتى هي التي يبتدأ بها الكلام دخلت على الجملة الشرطية وهي مع ذلك غاية لقوله ويصنع وما بينهما حال من الضمير فيه وسخروا منه جواب لكلما وقال استئناف على تقدير سؤال سائل كما ذكرناه وقيل هو الجواب وسخروا منه بدل من مر أو صفة لملأ وقد عرفت أن الحق هو الأول لأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه صلى الله عليه وسلم وتحمله لأذيتهم لا مسارعته صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم كلما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام
«وفار التنور» نبع منه الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها والتنور تنور الخبز وهو قول الجمهور روى أنه قيل لنوح عليه الصلاة والسلام إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب ومن معك في السفينة فلما نبع الماء أخبرته امرأته فركب وقيل كان تنور آدم عليه الصلاة والسلام وكان من حجارة فصار إلى نوح وإنما نبع منه وهو أبعد شيء من الماء على خرق العادة وكان في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان عمل السفينة في ذلك الموضع أو في الهند أو في موضع بالشام يقال له عين ورده وعن ابن عباس رضي الله عنه تعالى عنهما وعكرمة والزهري أن التنور وجه الأرض وعن قتادة أشرف موضع في الأرض أي أعلاه وعن علي رضي الله تعالى عنه فار التنور طلح الفجر
«قلنا احمل فيها» أي في السفينة وهو جواب إذا
«من كل» أي من كل نوع لا بد منه في الأرض «زوجين» الزوج ما له مشاكل من نوعه فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له وقد يطلق على مجموعهما فيقابل الفرد ولإزالة ذلك الاحتمال قيل
«اثنين» كل منهما زوج للآخر وقريء على الإضافة وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين لكونه عريقا فيما أمر به من الحمل لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه صلى الله عليه وسلم في تمييز بعضه من بعض وتعيين الأزواج فإنه روى أنه صلى الله عليه وسلم قال يا رب كيف احمل من كل زوجين اثنين فحشر الله تعالى إليه السباع
والطير وغيرهما فجعل يضرب بيديه في كل جنس فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في اليسرى فيجعلهما في السفينة وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل أو لأنها إنما تحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياها
«وأهلك» عطف على زوجين أو على اثنين والمراد امرأته وبنوه ونساؤهم
«إلا من سبق عليه القول» بأنه من المغرقين بسبب ظلمهم في قوله تعالى ولا تخاطبني في الذين ظلموا الآية والمراد به ابنه كنعان وأمه واعلة فإنهما كانا كافرين والاستثناء منقطع إن أريد بالأهل الأهل إيمانا وهو الظاهر كما ستعرفه أو متصل إن أريد به الأهل قرابة ويكتفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم وجئ بعلي لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع لهم من قوله عز وجل ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى
«ومن آمن» من غيرهم وإفراد الأهل منهم للاستثناء المذكور وإيثار صيغة الإفراد في آمن محافظة على لفظ من للإيذان بقلتهم كما أعرب عنه قوله عز قائلا
«وما آمن معه إلا قليل» قيل كانوا ثمانية نوح عليه الصلاة والسلام وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم وعن ابن إسحق كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نسوة وعنه أيضا أنهم كانوا عشرة سوى نسائهم وقيل كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء واعتبار المعية في إيمانهم للإيماء إلى المعية في مقر الأمان والنجاة
208

«وقال» أي نوح عليه الصلاة والسلام لمن معه من المؤمنين كما ينبيء عنه قوله تعالى إن ربي لغفور رحيم ولو رجع الضمير إلى الله تعالى لناسب أن يقال إن ربكم ولعل ذلك بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل فحمل الأزواج أو أدخلها في الفلك وقال للمؤمنين
«اركبوا فيها» كما سيأتي مثله في قوله تعالى وهي تجري بهم والركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله ههنا بكلمة في ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الرويات أنه عليه السلام جعل الوحوش ونظائر في البطن الأسفل والأنعام في الأوسط وركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية السفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول يوفر له حظ الأصل فيقال ركبت الفرس وعليه قوله عز من قائل والخيل والبغال والحمير لتركبوها وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال ركبت في السفينة وعليه الآية الكريمة وقوله عز وجل قائلا فإذا ركبوا في الفلك وقوله تعالى فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها
«بسم الله» متعلق باركبوا حال من فاعله أي اركبوا مسمين الله تعالى أو قائلين بسم الله
«مجراها ومرساها» نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران كالإجراء والإرساء بحذف الوقت كقولك آتيك حقوق النجم أو اسما مكان انتصبا بما في بسم الله من معنى الفعل أو إرادة القول ويجوز أن يكون بسم الله مجريها ومرساها مستقلة من مبتدأ وخبر في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله بمعنى التقدير كقوله تعالى ادخلوها خالدين أو جملة مقتضبة على أن نوحا أمرهم بالركوب فيها ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى فيكونان كلامين له عليه الصلاة والسلام قيل كان عليه السلام إذا أراد أن يجريها يقول بسم الله فتجري وإذا أراد أن يرسيها يقول بسم الله فترسو ويجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قوله وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول ثم أسم السلام عليكما ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها اي بقدرته وأمره وقريء مجريها ومرسيها على صيغة الفاعل مجروري المحل صفتين لله عز وجل ومجراها ومرساها بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين من جرى ورسا
«إن ربي لغفور» للذنوب والخطايا
«رحيم» لعباده ولذلك نجاكم من هذه الطامة والداهية العامة ولولا ذلك لما فعله وفيه دلالة على أن نجاتهم ليست بسبب استحقاقهم لها بل بمحض فضل الله سبحانه وغفرانه ورحمته على ما عليه رأى أهل السنة
«وهي تجري بهم» متعلق بمحذوف دل عليه الأمر بالركوب أي فركبوا فيها مسمين وهي تجري ملتبسة لهم
«في موج
209

كالجبال»
وهو ما ارتفع من الماء عند اضطرابه كل موجة من ذلك كجبل في ارتفاعها وتراكمها وما قيل من أن الماء طبق ما بين السماء والأرض وكانت السفينة تجري في جوفه كالحوت فغير ثابت والمشهور أنه علا شوامخ الجبال خمسة عشر ذراعا أو أربعين ذراعا ولئن صح ذلك فهذا الجريان إنما هو قبل أن يتفاقم الخطب كما يدل عليه قوله تعالى «ونادى نوح ابنه» فإن ذلك إنما يتصور قبل أن تنقطع العلاقة بين السفينة والبر إذ حينئذ يمكن جريان ما جرى بين نوح عليه الصلاة والسلام وبين ابنه من المفاوضة بالاستدعاء إلى السفينة والجواب بالاعتصام بالجبل وقريء ابنها وابنه بحذف الألف على أن الضمير لامرأته وكان ربيبه وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله تعالى فخانتاهما فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن جناب الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم وسلامه أرفع من أن يشار إليه بإصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين وقريء ابناه على الندبة ولكونها حكاية سوغ حذف حرفها وأنت خبير بأنه لا يلائمه الاستدعاء إلى السفينة فإنه صريح في أنه لم يقع في حياته يأس بعد
«وكان في معزل» أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته وقومه بحيث لم يتناوله الخطاب باركبوا واحتاج إلى النداء المذكور وقيل في معزل عن الكفار قد انفرد عنهم وظن نوح أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة وقيل كان ينافق أباه فظن أنه مؤمن وقيل كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه عند
مشاهدة تلك الأهوال ينزجر عما كان عليه ويقبل وقيل الإيمان لم يكن الذي تقدم من قوله تعالى إلا من سبق عليه القول نصا في كونه ابنه داخلا تحته بل كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على ذلك
«يا بني» بفتح الياء اقتصارا عليه من الألف المبدلة من ياء الإضافة في قولك يا بنيا وقريء بكسر الياء اقتصارا عليه من ياء الإضافة أو سقطت الياء والألف لالتقاء الساكنين لأن الراء بعدهما ساكنة
«اركب معنا» قرأ أبو عمرو والكسائي وحفص بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج وإنما أطلق الركوب عن ذكر الفلك لتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع اغناء المعية عن ذلك
«ولا تكن مع الكافرين» أي في المكان وهو وجه الأرض خارج الفلك لا في الدين وإن كان ذلك مما يوجبه كما يوجب ركوبه معه عليه الصلاة والسلام كونه معه في الإيمان لأنه عليه الصلاة والسلام بصدد التحذير عن الهلكة فلا يلائمه النهي عن الكفر
«قال سآوي إلى جبل» من الجبال
«يعصمني» بارتفاعه من «الماء» زعمنا منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى الربا وأنى له ذلك وقد بلغ السيل الزبي وجهلا بأن ذلك إنما كان لإهلال الكفرة وأن لا محيص من ذلك سوى الالتجاء إلى ملجأ المؤمنين فلذلك أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين له حقيقة الحال ويصرفه عن ذلك الفكر المحال وكان مقتضى الظاهر أن يجب بما ينطبق عليه كلامه ويتعرض لنفي ما أثبته للجبل من كونه عاصما له من الماء بأن
210

يقول لا يعصمك منه مفيدا لنفى وصف العصمة عنه فقط من غير تعرض لنفيه عن غيره ولا لنفي الموصوف أصلا لكنه عليه الصلاة والسلام حيث
«قال لا عاصم اليوم من أمر الله» سالك طريقة نفي الجنس المنتظم لنفي جميع أفراد العاصم ذاتا وصفة كما في قولهم ليس فيه داع ولا مجيب أي أحد من الناس للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما بالوجهين المذكورين وزاد اليوم للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص من ذلك بالإلتجاء إلى بعض الأسباب العادية وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه حيث قيل حتى إذا جاء أمرنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء ويوهم أنه كسائر المياه التي يتفصى منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله لا يغالب وعذابه لا يرد وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله عز جاره بالاستثناء كأنه قيل لا عاصم من أمر الله إلا هو وإنما قيل
«إلا من رحم» تفخيما لشأنه الجليل بالإبهام ثم التفسير وبالإجمال ثم التفصيل وإشعارا بعلية رحمته في ذلك بموجب سبقها على غضبه وكل ذلك لكمال عنايته عليه الصلاة والسلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرفه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه وقيل لا مكان يعصم من أمر الله إلا مكان من رحمه الله وهو الفلك وقيل معنى لا عاصم لا ذا عصمة إلا من رحمه الله تعالى
«وحال بينهما الموج» أي بين نوح وبين ابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة لا بين ابنه وبين الجبل لقوله تعالى
«فكان من المغرقين» إذ هو إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه الصلاة والسلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل من كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجىء إليه موج وفيه دلالة على هلاك سائر الكفرة على أبلغ وجه فكان ذلك أمرا مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان وفي إيراد كان دون صار مبالغة في كونه منهم
«وقيل يا أرض ابلعي» أي انشقي استعير له من ازرداد الحيوان ما يأكله الدلالة على أن ذلك ليس كالنشف المعتاد التدريجي
«ماءك» أي ما على وجهك من ماء الطوفان دون المياه المعهودة فيها من العيون والأنهار وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخم والتهويل
«ويا سماء أقلعي» أي أمسكي عن إرسال المطر يقال أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى أي كفت
«وغيض الماء» أي نقص ما بين السماء والأرض من الماء
«وقضي الأمر» أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا من إهلاك قومه وإنجائه بأهله أو أتم الأمر
«واستوت» أي استقرت الفلك
«على الجودي» هو جبل بالموصل أو بالشام أو بآمل روى أنه عليه الصلاة والسلام ركب في الفلك في عاشر رجب ونزل عنها في عاشر المحرم فصام ذلك اليوم شكرا فصار سنة
«وقيل بعدا للقوم الظالمين» أي هلاكا لهم والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكيره ما سبق من قوله تعالى ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم
211

مغرقون ولقد بلغت الآية الكريمة من مراتب الإعجاز قاصيتها وملكت من غرر المزايا ناصيتها وقد تصدى لتفصيلها المهرة المتقنون ولعمري إن ذلك فوق ما يصفه الواصفون فحري بنا أن نوجز الكلام في هذا الباب ونفوض الأمر إلى تأمل أولى الألباب والله عنده علم الكتاب
«ونادى نوح ربه» أي أراد ذلك بدليل الفاء في قوله تعالى
«فقال رب إن ابني من أهلي» وقد وعدتني إنجاءهم في ضمن الأمر بحملهم في الفلك أو النداء على الحقيقة والفاء لتفصيل ما فيه من الإجمال
«وإن وعدك الحق» أي وعدك ذلك أو إن كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا
«وأنت أحكم الحاكمين» لأنك أعلمهم وأعدلهم أو أنت أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكمة كالدارع من الدرع وهذا الدعاء منه عليه الصلاة والسلام على طريقة دعاء أيوب عليه الصلاة والسلام إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين
«قال يا نوح» لما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم بقوله تعالى
«إنه ليس من أهلك» أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية ولا علاقة بين المؤمن والكافر أو ليس من أهلك الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء وعلى التقديرين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله تعالى
«إنه عمل غير صالح» أصله إنه ذو عمل غير صالح فجعل نفس العمل مبالغة كما في قول الخنساء
فإنما هي إقبال وإدبار وإيثار غير صالح على فاسد إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالقتل والمظالم وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هي لصلاحه وقرأ الكسائي ويعقوب إنه عمل غير صالح أي عملا غير صالح ولما كان دعاؤه عليه الصلاة والسلام مبنيا على ما ذكر من اعتقاد كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ذلك اندارجا أوليا فقيل
«فلا تسألني» أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني
«ما ليس لك به علم» أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسؤول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال ويجوز أن يكون المعنى ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى وعلى التقديرين فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرناه وهذا كما ترى صريح في أن نداءه عليه الصلاة والسلام ربه عز وعلا ليس استفسارا عن سبب عدم إنجاء ابنه مع سبق وعده بإنجاء أهله وهو
212

منهم كما قيل فإن النهي عن استفسار ما لم يعلم غير موافق للحكمة إذ عدم العلم بالشيء داع إلى الاستفسار عنه لا إلى تركه بل هو دعاء منه لإنجاء ابنه حين حال الموج بينهما ولم يعلم بهلاكه بعد إما بتقريبه إلى الفلك بتلاطم الأمواج أو بتقريبها إليه وقيل أو بإنجائه في قلة الجبل ويأباه تذكير الوعد في الدعاء فإنه مخصوص بالإنجاء في الفلك وقوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ومجرد حيلولة الموج بينهما لا يستوجب هلاكه فضلا عن العلم به لظهور إمكان عصمة الله تعالى إياه برحمته وقد وعد بإنجاء أهله ولم يكن ابنه مجاهرا بالكفر كما ذكرناه حتى لا يجوز عليه عليه السلام أن يدعوه إلى الفلك أو يدعو ربه لإنجائه واعتزاله عنه عليه الصلاة والسلام وقصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الإحتباس في الفلك بل قوله سآوي إلى جبل يعصمني من الماء بعد ما قال له نوح عليه الصلاة والسلام ولا تكن مع الكافرين ربما يطمعه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفرداه من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه الصلاة والسلام إلا أنه عليه الصلاة والسلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي ويذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه المستثنى من أهله ولذلك قيل
«إني أعظك أن تكون من الجاهلين» فعبر عن ترك الأولى بذلك وقرئ فلا تسألن بغير ياء الإضافة وبالنون الثقيلة بياء وبغير ياء
«قال رب إني أعوذ بك أن أسألك» أي أطلب منك من بعد
«ما ليس لي به علم» أي مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال أولا أعلم أنه صواب أو غير صواب على ما مر وهذه توبة منه عليه السلام مما وقع منه وإنما لم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك
«وإلا تغفر لي» ما صدر عني من السؤال المذكور
«وترحمني» بقبول توبتي
«أكن من الخاسرين» أعمالا بسبب ذلك فإن الذهول عن شكر الله تعالى لا سيما عند وصول مثل هذه النعمة الجليلة التي هي النجاة وهلاك الأعداء والاشتغال بما لا يعني خصوصا بمبادى خلاص من قيل في شأنه إنه عمل غير صالح والتضرع إلى الله تعالى في أمره معاملة غير رابحة وخسران مبين وتأخير ذكر هذا النداء عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه من زوال الطوفان وقضاء الأمر واستواء الفلك على الجودى والدعاء بالهلاك على الظالمين مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله تعالى فكان من المغرقين حسبما وقع في الخارج إذ حينئذ يتصور الدعاء بالإنجاء لا بعد العلم بالهلاك ليس لما
213

قيل من استقلاله بغرض مهم هو جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين قياسا على ما وقع في قصة البقرة من تقديم ذكر الأمر بذبحها على ذكر القتيل الذي هو أول القصة وكان حقها أن يقال وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها كما قرر في موضعه فإن تغيير الترتيب هناك للدلالة على كمال سوء حال اليهود بتعديد جناياتهم المتنوعة وتثنية التقريع عليهم بكل نوع على حدة فقوله تعالى وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن
تذبحوا بقرة الخ لتقريعهم على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك وقوله تعالى وإذ قتلتم نفسا الخ للتقريع على قتل النفس المحرمة وما يتبعه من الأمور العظيمة ولو قصت القصة على ترتيبها لفات الغرض الذي هو تثنية التقريع ولظن أن المجموع تقريع واحد وأما ما نحن فيه فليس مما يمكن أن يراعى فيه مثل تلك النكتة أصلا وما ذكر من جعل القرابة الدينية غامرة للقرابة النسبية الخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا بل لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لذكر ما مر من الجواب المستدعى لذكر ما مر من توبته عليه الصلاة والسلام المؤدي ذكرها إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر الوارد بنزوله عليه الصلاة والسلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما سيجئ مفصلا ولا ريب في أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزه بعض بحيث لا يكاد يفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة ولا ريب أن ذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وذلك إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء الثاني عقيب قوله تعالى فكان من المغرقين لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد قوله إنه ليس من أهلك أنه ينجو بدعائه عليه الصلاة والسلام فنص على هلاكه من أول الأمر ثم ذكر الأمر الوارد على الأرض والسماء الذي هو عبارة عن تعلق الإرادة الربانية الأزلية بما ذكر من الغيض والإقلاع وبين بلوغ أمر الله محله وجريان قضائه ونفوذ حكمه عليهم بهلاك من هلك ونجاة من نجا بتمام ذلك الطوفان واستواء الفلك على الجودى فقصت القصة إلى هذه المرتبة وبين ذلك أي بيان ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام وبين رب العزة جلت حكمته فذكر بعد توبته عليه الصلاة والسلام قبولها بقوله
«قيل يا نوح اهبط» أي انزل من الفلك وقرئ بضم الباء
«بسلام» ملتبسا بسلامة من المكاره كائنة
«منا» أو بسلام وتحية منا عليك كما قال سلام على نوح في العالمين
«وبركات عليك» أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق وقرئ بركة وهذا إعلان وبشارة من الله تعالى بقبول توبته وخلاصه من الخسران بفيضان أنواع الخيرات عليه في كل
214

ما يأتي وما يذر «وعلى أمم» ناشئة
«ممن معك» إلى يوم القيامة متشعبة منهم فمن ابتدائية والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة
«وأمم سنمتعهم» أي ومنهم على أنه خبر حذف لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم يعنى ليس جميع من تشعب منهم مسلما ومباركا عليه بل منهم أمم ممتعون في الدينا معذبون في الآخرة وعلى هذا لا يكون الكائنون مع نوح عليه السلام مسلما ومباركا عليهم صريحا وإنما يفهم ذلك من كونهم مع نوح عليه الصلاة والسلام ومن كون ذرياتهم كذلك بدلالة النص ويجوز أن تكون من بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك وإنما سموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله تعالى وأمم سنمتعهم بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة ويبقى أمر الأمم المؤمنة الناشئة منهم مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه مع ذلك ففي دلالة المذكور على خبره المحذوف خفاء لأن من المذكورة بيانية والمحذوفة تبعيضية أو ابتدائية فتأمل
«ثم يمسهم» إما في الآخرة أو في الدنيا أيضا
«منا عذاب أليم» عن محمد بن كعب القرظي دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة وفيما بعده من المتاع والعذاب كل كافر وعن ابن زيد هبطوا والله عنهم راض ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب وقيل المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام وبالعذاب ما نزل بهم
«تلك» إشارة إلى ما قص من قصة نوح عليه الصلاة والسلام إما لكونها بتقضيها في حكم البعيد أو الدلالة على بعد منزلتها وهي مبتدأ خبره
«من أنباء الغيب» أي من جنسها أي ليست من قبيل سائر الأنباء بل هي نسيج وحدها منفردة عما عداها أو بعضها
«نوحيها إليك» خبر ثان والضمير لها أي موحاة إليك أو هو الخبر ومن أنباء متعلق به فالتعبير بصيغة المضارع لاستحضار الصورة أو حال من أنباء الغيب أي موحاة إليك
«ما كنت تعلمها أنت ولا قومك» خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك
«من قبل هذا» أي من قبل إيحائنا إليك وإخبارك بها أو من قبل هذا العلم الذي كسبته بالوحي أو من قبل هذا الوقت أو حال من الهاء في نوحيها أو الكاف إليك أي جاهلا أنت وقومك بها وفي ذكر جهلهم تنبيه على أنه عليه الصلاة والسلام لم يتعلمه إذ لم يخالط غيرهم وأنهم مع كثرتهم لما لم يعلموه فكيف بواحد منهم «فاصبر» متفرع على الإيحاء أو العلم المستفاد منه المدلول عليه بقوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك الخ
«إن العاقبة» بالظفر في الدنيا وبالفوز في الآخرة
«للمتقين» كما شاهدته في نوح عليه الصلاة والسلام وقومه ولك فيه أسوة حسنة فهي
215

تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليل للأمر بالصبر فإن كون العاقبة الحميدة للمتقين وهو في أقصى درجات التقوى والمؤمنون كلهم متقون مما يسليه صلى الله
عليه وسلم ويهون عليه الخطوب ويذهب عنه ما عسى يعتريه من ضيق صدره وهذا على تقدير أن يراد بالتقوى الدرجة الأولى منه أعنى التوقي من العذاب المخلد بالتبرؤ من الشرك وعليه قوله تعالى وألزمهم كلمة التقوى ويجوز أن يراد الدرجة الثالثة منه وهي أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشرا شره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى اتقوا الله حق تقاته فإن التقوى بهذا المعنى منطو على الصبر المذكور فكأنه قيل فاصبر فإن العاقبة للصابرين
«وإلى عاد» متعلق بمضمر معطوف على قوله تعالى أرسلنا في قصة نوح وهو الناصب لقوله تعالى
«أخاهم» أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم أي واحدا منهم في النسب كقولهم يا أخا العرب وتقديم المجرور على المنصوب ههنا للحذار عن الإضمار قبل الذكر وقيل متعلق بالفعل المذكور فيما سبق وأخاهم معطوف على نوحا وقد مر في سورة الأعراف وقوله تعالى
«هودا» عطف بيان لأخاهم وكان صلى الله عليه وسلم من جملتهم فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود ابن العوص بن إرم بن سام بن نوح عليه الصلاة والسلام وقيل هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن عم أبي عاد وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لكلامه وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه
«قال» لما كان ذكر إرساله صلى الله عليه وسلم إليهم مظنة للسؤال عما قال لهم ودعاهم إليه أجيب عنه بطريق الاستئناف فقيل قال
«يا قوم اعبدوا الله» أي وحدوه كما ينبئ عنه قوله تعالى
«ما لكم من إله غيره» فإنه استئناف يجري مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل للأمر بها كأنه قيل خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئا إذ ليس لكم من إله سواه وغيره بالرفع صفة لإله باعتبار محله وقرئ بالجر حملا له على لفظه
«إن أنتم» ما أنتم باتخاذكم الأصنام شركاء له أو بقولكم إن الله أمرنا بعبادتها
«إلا مفترون» عليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا
«يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني» خاطب به كل نبي قومه إزاحة لما عسى يتوهمونه وإمحاضا للنصيحة فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير وإيراد الموصول للتفخيم وجعل الصلة فعل الفطرة لكونه أقدم النعم الفائضة من جناب الله تعالى المستوجبة للشكر الذي لا يتأتى إلا بالجريان على موجب أمره الغالب معرضا عن المطالب الدنيوية التي من جملتها الأجر
«أفلا تعقلون» أي أتغفلون عن هذه القضية أو ألا تتفكرون فيها فلا تعقلونها أو أتجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئا أصلا فإن هذا مما لا ينبغي أن يخفى على أحد من العقلاء
«ويا قوم استغفروا ربكم» أي اطلبوا مغفرته
216

لما سلف منكم من الذنوب بالإيمان والطاعة
«ثم توبوا إليه» أي توسلوا إليه بالتوبة وأيضا التبرؤ من الغير إنما يكون بعد الإيمان بالله تعالى والرغبة فيما عنده
«يرسل السماء» أي المطر
«عليكم مدرارا» أي كثير الدرور
«ويزدكم قوة» مضافة ومنضمة
«إلى قوتكم» أي يضاعفها لكم وإنما رغبهم بكثرة المطر لأنهم كانوا أصحاب زروع وعمارات وقيل حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين فوعدهم عليه الصلاة والسلام كثرة الأمطار وتضاعف القوة بالتناسل على الإيمان والتوبة
«ولا تتولوا» أي لا تعرضوا عما دعوتكم إليه
«مجرمين» مصرين على ما كنتم عليه من الإجرام
«قالوا يا هود ما جئتنا ببينة» أي بحجة تدل على صحة دعواك وإنما قالوه لفرط عنادهم وعدم اعتدادهم بما جاءهم من البينات الفائتة للحصر
«وما نحن بتاركي آلهتنا» أي بتاركي عبادتها
«عن قولك» أي صادرين عنه أي صادرا تركنا عن ذلك بإسناد حال الوصف إلى الموصوف ومعناه التعليل على أبلغ وجه لدلالته على كونه علة فاعلية ولا يفيده الباء واللام وهذا كقولهم المنقول عنهم في سورة الأعراف أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا
«وما نحن لك بمؤمنين» أي بمصدقين في شيء مما تأتي وتذر فيندرج تحته ما دعاهم إليه من التوحيد وترك عبادة الآلهة وفيه من الدلالة على شدة الشكيمة وتجاوز الحد في العتو ما لا يخفى
«إن نقول إلا اعتراك» أي ما نقول إلا قولنا اعتراك أي أصابك
«بعض آلهتنا بسوء» بجنون لسبك إياها وصدك عن عبادتها وحطك لها عن رتبة الألوهية والمعبودية بما مر من قولك ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون والتنكير في سوء للتقليل كأنهم لم يبالغوا في السوء كما ينبئ عنه نسبة ذلك إلى بعض آلهتهم دون كلها والجملة مقول القول وإلا لغو لأن الاستثناء مفرغ وهذا الكلام مقرر لما مر من قولهم وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين فإن اعتقادهم بكونه عليه الصلاة والسلام كما قالوا وحاشاه عن ذلك يوجب عدم الاعتداد بقوله وعده من قبيل
الخرافات فضلا عن التصديق والعمل بمقتضاه يعنون أنا لا نعد كلامك إلا من قبيل ما لا يحتمل الصدق والكذب من الهذيانات الصادرة عن المجانين فكيف نصدقه ونؤمن به ونعمل بموجبه ولقد سلكوا في طريقة المخالفة والعناد إلى سبيل الترقي من الأدنى إلى الأعلى حيث أخبروا أولا عن عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به عليه الصلاة والسلام حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد وثانيا عن ترك الامتثال بقوله عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك مع إمكان تحقق ذلك بتصديقهم له عليه الصلاة والسلام في كلامه ثم نفوا تصديقهم له عليه الصلاة والسلام بقولهم وما نحن لك بمؤمنين مع كون كلامه عليه الصلاة والسلام مما يقبل التصديق ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضا حيث قالوا ما قالوا قاتلهم الله أنى يؤفكون
«قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون
217

من دونه» أي من إشراككم من دون الله أي من غير أن ينزل به سلطانا كما قال في سورة الأعراف أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان أو مما تشركونه من آلهة غير الله أجاب به عن مقالتهم الحمقاء المبنية على اعتقاد كون آلهتهم مما يضر أو ينفع وأنها بمعزل من ذلك ولما كان ما وقع أولا عنه عليه الصلاة والسلام في حق آلهتهم من كونها بمعزل عن الألوهية إنما وقع في ضمن الأمر بعبادة الله تعالى واختصاصه بها وقد شق عليهم ذلك وعدوه مما يورث شينا حتى زعموا أنها تصيبه عليه الصلاة والسلام بسوء مجازاة لصنيعه معها صرح عليه الصلاة والسلام بالحق وصدع به حيث أخبر ببراءته القديمة عنها بالجملة الاسمية المصدرة بأن وأشهد الله على ذلك وأمرهم بأن يسمعوا ذلك ويشهدوا به استهانة بهم ثم أمرهم بالاجتماع والاحتشاد مع آلهتم جميعا دون بعض منها حسبما يشعر به قولهم بعض آلهتنا والتعاون في إيصال الكيد إليه عليه الصلاة والسلام ونهاهم عن الإنظار والإمهال في ذلك فقال
«فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون» أي إن صح ما لوحتم به من كون آلهتكم مما يقدر على إضرار من ينال منها ويصد عن عبادتها ولو بطريق ضمني فإني برئ منها فكونوا أنتم معها جميعا وباشروا كيدي ثم لا تمهلوني ولا تسامحوني في ذلك فالفاء لتفريع الأمر على زعمهم في قدرة آلهتهم على ما قالوا وعلى البراءة كليهما وهذا من أعظم المعجزات فإنه عليه الصلاة والسلام كان رجلا مفردا بين الجم الغفير والجمع الكثير من عتاة عاد الغلاظ الشداد وقد خاطبهم بما خاطبهم وحقرهم وآلهتهم وهيجهم على مباشرة مبادى المضادة والمضارة وحثهم على التصدي لأسباب المعازة والمعارة فلم يقدروا على مباشرة شيء مما كلفوه وظهر عجزهم عن ذلك ظهورا بينا كيف لا وقد التجأ إلى ركن منيع رفيع واعتصم بحبل متين حيث قال
«إني توكلت على الله ربي وربكم» يعني إنكم وإن بذلتم في مضارتى مجهودكم لا تقدرون على شيء مما تريدون بي فإني متوكل على الله تعالى وإنما جيء بلفظ الماضي لكونه أدل على الإنشاء المناسب للمقام وواثق بكلاءتي وحفظي عن غوائلكم وهو مالكي ومالككم لا يصدر عنكم شيء ولا يصيبني أمر إلا بإرادته ومشيئته ثم برهن عليه بقوله
«ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها» أي إلا هو مالك لها قادر عليها يصرفها كيف يشاء غير مستعصية عليه فإن الأخذ بالناصية تمثيل لذلك
«إن ربي على صراط مستقيم» تعليل لما يدل عليه التوكل من عدم قدرتهم على إضراره أي هو على الحق والعدل فلا يكاد يسلطكم على إذ لا يضيع عنده معتصم ولا يفتات عليه ظالم والاقتصار على إضافة الرب إلى نفسه إما بطريق الاكتفاء لظهور المراد وإما لأن فائدة كونه تعالى مالكا لهم أيضا راجعة إليه عليه الصلاة والسلام
218

«فإن تولوا» أي تتولوا بحذف إحدى التاءين أي إن تستمروا على ما كنتم عليه من التولي والإعراض
«فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم» أي لم أعاتب على تفريط في الإبلاغ وكنتم محجوجين بأن بلغكم الحق فأبيتم إلا التكذيب والجحود
«ويستخلف ربي قوما غيركم» استئناف بالوعيد لهم بأن الله تعالى يهلكهم ويستخلف في ديارهم وأموالهم قوما آخرين أو عطف على الجواب بالفاء ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه بالجزم عطفا على الموضع كأنه قيل فإن تولوا يعذرني ويهلكهم ويستخلف مكانكم آخرين وفي اقتصار إضافة الرب عليه الصلاة والسلام رمز إلى اللطف به والتدمير للمخاطبين
«ولا تضرونه» بتوليكم
«شيئا» من الضرر لاستحالة ذلك عليه ومن جزم ويستخلف أسقط منه النون
«إن ربي على كل شيء حفيظ» أي رقيب مهيمن فلا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم بحسبها أو حافظ مستول على كل شيء فكيف يضره شيء وهو الحافظ للكل
«ولما جاء أمرنا» أي نزل عذابنا وفي التعبير عنه بالأمر مضافا إلى ضميره جل جلاله وعن نزوله بالمجىء ما لا يخفى من التفخيم والتهويل أو ورد أمرنا بالعذاب
«نجينا هودا والذين آمنوا معه» وكانوا أربعة آلاف
«برحمة» عظيمة كائنة لهم
«منا» وهي الايمان الذي أنعمنا به عليهم بالتوفيق له والهداية إليه
«ونجيناهم من عذاب غليظ» أي كانت تلك التنجية تنجية من عذاب غليظ وهي السموم التي كانت تدخل أنوف الكفرة وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا وقيل أريد بالثانية التنجية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه وأشد وهذه التنجية وإن لم تكن مقيدة بمجىء الأمر لكن جيء بها تكملة للنعمة عليهم وتعريضا بأن المهلكين كما عذبوا في الدنيا بالسموم فهم معذبون في الآخرة بالعذاب الغليظ
«وتلك عاد» أنث الاسم الإشارة باعتبار القبيلة أو لأن الإشارة إلى قبورهم وآثارهم
«جحدوا بآيات ربهم» كفروا بها بعدما استيقنوها
«وعصوا رسله» جمع الرسل مع أنه لم يرسل إليهم غير هود عليه الصلاة والسلام تفظيعا لحالهم وإظهارا لكمال كفرهم وعنادهم ببيان أن عصيانهم له عليه الصلاة والسلام عصيان لجميع الرسل السابقين واللاحقين لاتفاق كلمتهم على التوحيد لا نفرق بين أحد من رسله فيجوز أن يراد بالآيات ما أتى به هود وغيره من الأنبياء عليهم السلام وفيه زيادة ملاءمة لما تقدم من جميع الآيات وما تأخر من قوله
«واتبعوا أمر كل جبار عنيد» من كبرائهم ورؤسائهم الدعاة إلى الضلال وإلى تكذيب الرسل فكأنه قيل عصوا كل رسول واتبعوا أمر كل جبار وهذا الوصف ليس كما سبق من جحود الآيات وعصيان الرسل في الشمول لكل فرد منهم فإن الاتباع للأمر من أوصاف الأسافل دون الرؤساء
219

وعنيد فعيل من عند عندا وعندا إذا طغا والمعنى عصوا من دعاهم إلى الهدى وأطاعوا من حداهم إلى الردى
«وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة» إبعادا عن الرحمة وعن كل خير أي جعلت اللعنة لازمة لهم وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حيثما داروا ولوقوعه في صحبة اتباعهم رؤساءهم يعني أنهم لما اتبعوهم أتبعوا ذلك جزاء لصنيعهم جزاء وفاقا
«ويوم القيامة» أي اتبعوا يوم القيامة أيضا لعنة وهي عذاب النار المخلد حذفت لدلالة الأولى عليها وللإيذان بكون كل من اللغتين نوعا برأسه لم تجمعا في قرن واحد بأن يقال وأتبعوا في هذه الدنيا ويوم القيامة لعنة كما في قوله تعالى واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إيذانا باختلاف نوعي الحسنتين فإن المراد بالحسنة الدنيوية نحو الصحة والكفاف والتوفيق للخير وبالحسنة الأخروية الثواب والرحمة
«ألا إن عادا كفروا ربهم» أي بربهم أو نعمة ربهم حملا له على نقيضه الذي هو الشكر أو جحدوه
«ألا بعدا لعاد» دعاء عليهم بالهلاك مع كونهم هالكين أي هلاك تسجيلا عليهم باستحقاق الهلاك واستيجاب الدمار وتكرير حرف التنبيه وإعادة عاد للمبالغة في تفظيع حالهم والحث على الاعتبار بقصتهم
«قوم هود» عطف بيان لعاد فائدته التمييز عن عاد الثانية عاد إرم والإيماء إلى أن استحقاقهم للبعد بسبب ما جرى بينهم وبين هود عليه الصلاة والسلام وهم قومه
«وإلى ثمود أخاهم صالحا» عطف على ما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا وثمود قبيلة من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام وقيل إنما سموا بذلك لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وصالح عليه الصلاة والسلام هو ابن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود ولما كان الإخبار بإرساله إليهم مظنة لأن يسأل ويقال ماذا قال لهم قيل جوابا عنه بطريق الاستئناف
«قال يا قوم اعبدوا الله» أي وحده وعلل ذلك بقوله
«ما لكم من إله غيره» ثم زيد فيما يبعثهم على الإيمان والتوحيد ويحثهم على زيادة الإخلاص فيه بقوله
«هو أنشأكم من الأرض» أين هو كونكم وخلقكم منها لا غيره قصر قلب أو قصر إفراد فإن خلق آدم عليه الصلاة والسلام منها خلق لجميع أفراد البشر منها لما مر مرارا من أن خلقته عليه الصلاة والسلام لم تكن مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على خلق جيمع ذرياته التي ستوجد إلى يوم القيامة انطواء إجماليا وقيل إن خلق آدم عليه الصلاة والسلام وإنشاء مواد النطف التي منها خلق نسله من التراب إنشاء لجميع الخلق من الأرض فتدبر
«واستعمركم» من العمر أي عمركم واستبقاكم
«فيها» أو من العمارة أي
220

أقدركم على عمارتها أو أمركم بها وقيل هو من العمري بمعنى أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام أعماركم أو جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدة عمركم ثم تتركونها لمثلكم
«فاستغفروه ثم توبوا إليه» فإن ما فصل من فنون الإحسان داع إلى الاستغفار عما وقع منهم من التفريط والتوبة عما كانوا يباشرونه من القبائح وقد زيد في بيان ما يوجب ذلك فقيل
«إن ربي قريب» أي قريب الرحمة كقوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين
«مجيب» لمن دعاه وسأله وقد روعي في النظم الكريمة نكتة حيث قدم ذكر العلة الباعثة المتقدمة على الأمر بالاستغفار والتوبة وأخر عنه ذكر الغائبة المتأخرة عنهما في الوجود أعني الإجابة
«قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا» أي كنا نرجو منك لما كنا نرى منك من دلائل السداد ومخايل الرشاد أن تكون لنا سيدا ومستشارا في الأمور وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا وقيل كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه
«قبل هذا» الذي باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة آلهة أو قبل هذا الوقت فكأنهم لم يكونوا إلى الآن على يأس من ذلك ولو بعد الدعوة إلى الحق فالآن قد انصرم عنك رجاؤنا وقرأ طلحة مرجوءا بالمد والهمزة
«أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا» أي عبدوه والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية
«وإننا لفي شك مما تدعونا إليه» من التوحيد وترك عبادة الأوثان وغير ذلك من الاستغفار والتوبة
«مريب» أي موقع في الريبة من أرابه أي أوقعه في الريبة أي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة أو من أراب إذا كان ذا ريبة وأيهما كان فالاسناد مجازي والتنوين فيه وفي شك للتفخيم
«قال يا قوم أرأيتم» أي أخبروني
«إن كنت» في الحقيقة
«على بينة» أي حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة
«من ربي» مالكي ومتولي أمرى
«وآتاني منه» من جهته
«رحمة» نبوة وهذه الأمور وإن كانت محققة الوقوع لكنها صدرت بكلمة الشك اعتبارا لحال المخاطبين ورعاية لحسن المحاورة لاستنزالهم عن المكابرة
«فمن ينصرني من الله» أي ينجيني من عذابه والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصرة على ما سبق من إيتاء النبوة وكونه على بينة من ربه على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله تعالى
«إن عصيته» أي بالمساهلة في تبليغ الرسالة والمجاراة معكم فيما تأتون وتذرون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل
«فما تزيدونني» إذن باستتباعكم إياي كما ينبئ عنه قولهم قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه
«غير تخسير» أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى أو فما
221

تزيدونني بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم لخاسرون فالزيادة على معناه والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليه الصلاة والسلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة
«ويا قوم هذه ناقة الله» الإضافة للتشريف والتنبيه على أنها مفارقة لسائر ما يجانسها من حيث الخلقة ومن حيث الخلق
«لكم آية» معجزة دالة على صدق نبوتي وهي حال من ناقة الله والعامل ما في هذه من معنى الفعل ولكم حال من آية متقدمة عليها لكونها نكرة ولو تأخرت لكانت صفة لها ويجوز أن يكون ناقة الله بدلا من هذه أو عطف بيان ولكم خبرا وعاملا في آية
«فذروها» خلوها وشأنها
«تأكل في أرض الله» ترع نباتها وتشرب ماءها وإضافة الأرض إلى الله تعالى لتربية استحقاقها لذلك وتعليل الأمر بتركها وشأنها
«ولا تمسوها بسوء» بولغ في النهي عن التعرض لها بما يضرها حيث نهى عن المس الذي هو من مبادئ الإصابة ونكر السوء أي لا تضربوها ولا تطردوها ولا تقربوها بشيء من السوء فضلا عن عقرها وقتلها
«فيأخذكم عذاب قريب» أي قريب النزول روي أنهم طلبوا منه أن يخرج من صخرة تسمى الكاثبة ناقة عشراء مخترجة جوفاء وبراء وقالوا إن فعلت ذلك صدقناك فأخذ صالح عليه الصلاة والسلام عليهم مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا نعم فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء كما وصفوا وهم ينظرون ثم أنتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع بن عمرو في جماعة ومنع الباقين من الإيمان دواب ابن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب كاهنهم فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبا فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق عليهم ذلك
«فعقروها» قيل زينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقه بنت المختار فعقروها واقتسموا لحمها فرقي سقيها جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا فقال صالح لهم أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها
«فقال» لهم صالح
«تمتعوا» أي عيشوا
«في داركم» أي في منازلكم أو في الدنيا
«ثلاثة أيام» قيل قال لهم تصبح وجوهكم غدا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب
«ذلك» إشارة إلى ما يدل عليه الأمر بالتمتع ثلاثة أيام من نزول العذاب عقيبها والمراد بما فيه من معنى البعد تفخيمه
«وعد غير مكذوب» أي غير مكذوب فيه فحذف الجار للاتساع المشهور كقوله
* ويوم شهدناه سليما وعامرا
* أو غير مكذوب كأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول
222

«فلما جاء أمرنا» أي عذابنا أو أمرنا بنزوله وفيه مالا يخفى من التهويل
«نجينا صالحا والذين آمنوا معه» متعلق بنجينا أو بآمنوا
«برحمة» بسبب رحمة عظيمة
«منا» وهي بالنسبة إلى صالح النبوة وإلى المؤمنين الإيمان كما مر أو ملتبسين برحمة ورأفة منا
«ومن خزي يومئذ» أي ونجيناهم من خزي يومئذ وهو هلاكهم بالصيحة كقوله تعالى ونجيناهم من عذاب غليظ على معنى أنه كانت تلك التنجية تنجية من خزي يومئذ أي من ذلته ومهانته أو ذلهم وفضيحتهم يوم القيامة كما فسر به العذاب الغليظ فيما سبق فيكون المعنى ونجيناهم من عذاب يوم القيامة بعد تنجيتنا إياهم من عذاب الدنيا وعن نافع بالفتح على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه هنا وفي المعارج في قوله تعالى من عذاب يومئذ وقرئ بالتنوين ونصب يومئذ
«إن ربك» الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
«هو القوي العزيز» القادر على كل شيء والغالب عليه لا غيره ولكون الإخبار بتنجية الأولياء لا سيما عند الأنباء بحلول العذاب أهم ذكرها أولا ثم أخبر بهلاك الأعداء فقال
«وأخذ الذين ظلموا» عدل عن المضمر إلى المظهر تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بعليته لنزول العذاب بهم
«الصيحة» أي صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة ولعلها وقعت عقيب الصيحة المستتبعة لتموج الهواء
«فأصبحوا» أي صاروا
«في ديارهم» أي بلادهم أو مساكنهم
«جاثمين» هامدين موتى لا يتحركون والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب بهم من غير اضطراب وحركة كما يكون ذلك عند الموت المعتاد ولا يخفى ما فيه من الدلالة على شدة الأخذ وسرعته اللهم إنا نعوذ بك من حلول غضبك قيل لما رأوا العلامات التي بينها صالح من اصفرار وجوهم واحمرارها واسودادها عمدوا إلى قتله عليه الصلاة والسلام فنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع وهو يوم السبت تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصيحة فتقطعت قلوبهم فهلكوا
«كأن لم يغنوا» أي كأنهم في بلادهم أو في مساكنهم وهو في موقع الحال أي أصبحوا جاثمين مماثلين لمن لم يوجد ولم يقم في مقام قط
«ألا إن ثمود» وضع موضع الضمير لزيادة البيان ونونه أبو بكر هنا وفي النجم وقرأ حفص هنا وفي الفرقان والعنكبوت بغير تنوين
«كفروا ربهم» صرح بكفرهم مع كونه معلوما مما سبق من أحوالهم تقبيحا لحالهم وتعليلا لاستحقاقهم بالدعاء عليهم بالبعد والهلاك في قوله تعالى
«ألا بعدا لثمود» وقرأ الكسائي بالتنوين
223

«ولقد جاءت رسلنا إبراهيم» وهم الملائكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم جبريل وملكان وقيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن محمد بن كعب جبريل ومعه سبعة وعن السدى أحد عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل كانوا اثنى عشر ملكا وإنما أسند إليهم مطلق المجىء بالبشرى دون الإرسال لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط لقوله تعالى إنا أرسلنا إلى قوم لوط وإنما جاءوه لداعية البشرى ولما كان المقصود في السورة الكريمة ذكر سوء صنيع الأمم السالفة مع الرسل المرسلة إليهم ولحوق العذاب بهم بسبب ذلك ولم يكن جميع قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ممن لحق بهم العذاب بل إنما لحق بقوم لوط منهم خاصة غير الأسلوب المطرد فيما سبق من قوله تعالى وإلى عاد أخاهم هودا وإلى ثمود أخاهم صالحا ثم رجع إليه حيث قيل وإلى مدين أخاهم شعيبا
«بالبشرى» أي ملتبسين بها قيل هي مطلق البشرى المنتظمة للبشارة بالولد من سارة لقوله تعالى فبشرناها بإسحاق الآية وقوله تعالى وبشرناه بغلام حليم وقوله وبشروه بغلام عليم وللبشارة بعدم لحوق الضرر به لقوله تعالى فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى لظهور تفرع المجادلة على مجيئها كما سيأتي وقيل هي البشارة بهلاك قوم لوط ويأباه مجادلته عليه الصلاة والسلام في شأنهم والأظهر أنها البشارة بالولد وستعرف سر تفرع المجادلة على ذلك ولما كان الإخبار بمجيئهم بالبشرى مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا أجيب بأنهم
«قالوا سلاما» أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما ويجوز أن يكون نصبه بقالوا أي قالوا قولا ذا سلام أو ذكروا سلاما
«قال سلام» أي عليكم سلام أو سلام عليكم حياهم بأحسن من تحيتهم وقرئ سلم كحرم في حرام وقرأ ابن أبي عبلة قال سلاما وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما
«فما لبث» أي إبراهيم
«أن جاء بعجل» أي في المجىء به أو ما لبث مجيئه بعجل
«حنيذ» أي مشوي بالرضف في الأخدود وقيل سمين يقطر ودكه لقوله بعجل سمين من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال
«فلما رأى أيديهم لا تصل إليه» لا يمدون إليه أيديهم للأكل
«نكرهم» أي أنكرهم يقال نكره وأنكره واستنكره بمعنى وإنما أنكرهم لأنهم كانوا إذا نزل بهم ضيف ولم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجئ بخير وقد روي أنهم كانوا ينكتون بقداح كانت في أيديهم في اللحم ولا تصل إليه أيديهم وهذا الإنكار منه عليه الصلاة والسلام راجع إلى فعلهم المذكور وأما إنكاره المتعلق بأنفسهم فلا تعلق له برؤية عدم أكلهم وإنما وقع ذلك عند رؤيته لهم لعدم كونهم من جنس ما كان يعهده من الناس ألا يرى إلى قوله تعالى في سورة الذاريات سلام قوم منكرون
«وأوجس منهم» أي أحس أو أضمر من جهتهم
«خيفة» لما ظن أن نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه أو لتعذيب قومه وإنما أخر
224

المفعول الصريح عن الظرف لأن المراد الإخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أوجس من جهتهم شيئا هو الخيفة لا أنه أوجس الخيفة من جهتهم لا من جهة غيرهم وتحقيقه أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن
«قالوا لا تخف» ما قالوه بمجرد ما رأوا منه مخايل الخوف إزالة له منه بل بعد إظهاره عليه الصلاة والسلام له قال تعالى في سورة الحجر قال إنا منكم وجلون ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بذلك
«إنا أرسلنا» ظاهره أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله تعالى إنا نبشرك تعليل لذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنهم من الخوف أي أرسلنا بالعذاب
«إلى قوم لوط» خاصة إلا أنه ليس كذلك فإن قوله تعالى قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين صريح في أنهم قالوه جوابا عن سؤاله عليه الصلاة والسلام وقد أوجز الكلام اكتفاء بذلك «وامرأته قائمة» وراء الستر بحيث تسمع محاورتهم أو على رؤوسهم للخدمة حسبما هو المعتاد والجملة حال من ضمير قالوا أي قالوه وهي قائمة تسمع مقالتهم
«فضحكت» سرورا بزوال الخوف أو بهلاك أهل الفساد أو بهما جميعا وقيل بوقوع الأمر حسبما كانت تقول فيما سلف فإنها كانت تقول لإبراهيم اضمم إليك لوطا فإني أرى أن العذاب نازلا بهؤلاء القوم وقيل ضحكت حاضت ومنه ضحكت الشجرة إذا سال صمغها وهو بعيد وقرئ بفتح الحاء
«فبشرناها بإسحاق» أي عقبنا سرورها بسرور أتم منه على ألسنة رسلنا
«ومن وراء إسحاق يعقوب» بالنصب على أنه مفعول لما دل عليه قوله بشرناها أي ووهبنا لها من وراء إسحق يعقوب وقرئ بالرفع على الابتداء خبره الظرف أي من بعد إسحق يعقوب مولود أو موجود وكلا الاسمين داخل في البشارة كيحيى أو واقع في الحكاية بعد أن ولدا فسميا بذلك وتوجيه البشارة ههنا إليها مع أن الأصل في ذلك إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد وجهت إليه حيث قيل وبشرناه بغلام حليم وبشرناه بغلام عليم للإيذان بأن ما بشر به يكون منهما ولكونها عقيمة حريصة على الولد
«قالت» استئناف ورد جوابا عن سؤال من سأل وقال فما فعلت إذ بشرت بذلك فقيل قالت
«يا ويلتي» أصل الويل الخزي ثم شاع في كل أمر فظيع والألف مبدلة من ياء الإضافة كما في يا لهفا ويا عجبا وقرأ الحسن على الأصل وأمالها أبو عمرو وعاصم في رواية ومعناه يا ويلتي احضري فهذا أو أن حضورك وقيل هي ألف الندبة ويوقف عليها بهاء السكت
«أألد وأنا عجوز» بنت تسعين أو تسع وتسعين سنة
«وهذا» الذي تشاهدونه
«بعلي» أي زوجي وأصل البعل القائم بالأمر
«شيخا» وكان ابن مائة وعشرين سنة ونصبه على الحال والعامل معنى الإشارة وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو شيخ أو خبر بعد خبر أو هو الخبر وبعلي بدل من اسم الإشارة أو بيان له وكلتا الجملتين وقعت حالا من الضمير في أألد لتقرير ما فيه من الاستبعاد وتعليله أي أألد وكلانا على حالة منافية لذلك وإنما قدمت بيان
225

حالها على بيان حاله عليه الصلاة والسلام لأن مباينة حالها لما ذكر من الولادة أكثر إذ ربما يولد للشيوخ من الشواب أما العجائز داؤهن عقام ولأن البشارة متوجهة إليها صريحا ولأن العكس في البيان ربما يوهم من أول الأمر نسبة المانع من الولادة إلى جانب إبراهيم عليه الصلاة والسلام وفيه ما لا يخفى من المحذور واقتصارها الاستبعاد على ولادتها من غير تعرض لحال النافلة لأنها المستبعد وأما ولادة ولدها فلا يتعلق بها استبعاد
«إن هذا» أي ما ذكر من حصول الولد من هرمين مثلنا
«لشيء عجيب» بالنسبة إلى سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده وهذه الجملة لتعليل الاستبعاد بطريق الاستئناف التحقيقي ومقصدها استعظام نعمة الله تعالى عليها في ضمن الاستعجاب العادي لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى
«قالوا أتعجبين من أمر الله» أي قدرته وحكمته أو تكوينه أو شأنه أنكروا عليها تعجبها من ذلك لأنها كانت ناشئة في بيت النبوة ومهبط الوحي والآيات ومظهر المعجزات والأمور الخارقة للعادات فكان حقها أن تتوقر ولا يزدهيها ما يزدهي سائر النساء من أمثال هذه الخوارق من ألطاف الله تعالى الخفية ولطائف صنعه الفائضة على كل أحد مما يتعلق بذلك مشيئته الأزلية لا سيما على أهل بيت النبوة الذين ليست مرتبتهم عند الله سبحانه كمراتب سائر الناس وأن تسبح الله تعالى وتحمده وتمجده وإلى ذلك أشاروا بقوله تعالى
«رحمة الله» التي وسعت كل شيء واستتبعت كل خير وإنما وضع المظهر موضع المضمر لزيادة تشريفها
«وبركاته» أي خيراته النامية المتكاثرة في كل باب التي من جملتها هبة الأولاد وقيل الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«عليكم أهل البيت» نصب على المدح أو الاختصاص لأنهم أهل بيت خليل الرحمن وصرف الخطاب من صيغة الواحدة إلى جمع المذكر لتعميم حكمه لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أيضا ليكون جوابهم لها جوابا له أيضا إن خطر بباله مثل ما خطر ببالها والجملة كلام مستأنف علل به إنكار تعجبها كأنه قيل ليس المقام مقام التعجب فإن الله تعالى على كل شيء قدير ولستم يأهل بيت النبوة والكرامة والزلفى كسائر الطوائف بل رحمته المستتبعة لكل خير الواسعة لكل شيء وبركاته أي خيراته النامية الفائضة منه بواسطة تلك الرحمة الواسعة لازمة لكم لا تفارقكم
«إنه حميد» فاعل ما يستوجب الحمد
«مجيد» كثير الخير والإحسان إلى عباده والجملة لتعليل ما سبق من قوله رحمة الله وبركاته عليكم
«فلما ذهب عن إبراهيم الروع» أي ما أوجس منهم من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم وعرفان سبب مجيئهم والفاء لربط بعض أحوال إبراهيم عليه الصلاة والسلام ببعض غب انفصالها بما ليس بأجنبي من كل وجه بل له مدخل تام في السباق والسياق وتأخير الفاعل عن الظرف لأنه مصب الفائدة فإن بتأخير ما حقه التقديم تبقى النفس منتظرة إلى وروده فيتمكن فيها عند وروده إليها فضل تمكن
«وجاءته البشرى» إن فسرت البشرى بقولهم لا تخف فسببية ذهاب
226

الخوف ومجئ السرور للمجادلة المدلول عليها بقوله تعالى
«يجادلنا في قوم لوط» أي جادل رسلنا في شأنهم وعدل إلى صيغة الاستقبال لاستحضار صورتها أو طفق يجادلنا ظاهرة وأما إن فسرت ببشارة الولد أو بما يعمها فلعل سببيتها لها من حيث إنها تفيد زيادة اطمئنان قلب بسلامته وسلامة أهله كافة ومجادلته إياهم أنه قال لهم حين قالوا له إنا مهلكوا أهل هذه القرية أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها قالوا لا قال فأربعون قالوا لا قال فثلاثون قالوا لا حتى بلغ العشرة قالوا لا قال أرأيتم إن كان فيها رجل مسلم أتهلكونها قالوا لا فعند ذلك قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها الننجينه وأهله إن قيل المتبادر من هذا الكلام أن يكون إبراهيم عليه السلام قد علم أنهم مرسلون لإهلاك قوم لوط قبل ذهاب الروع عن نفسه ولكن لم يقدر على مجادلتهم في شأنهم لاشتغاله بشأن نفسه فلما ذهب عنه الروع فرغ لها مع أن ذهاب الروع إنما هو قبل العلم بذلك لقوله تعالى قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط قلنا كان لوط عليه السلام على شريعة إبراهيم عليه السلام وقومه مكلفين بها فلما رأى من الملائكة ما رأى خاف على نفسه وعلى كافة أمته التي من جملتهم قوم لوط ولا ريب في تقدم هذا الخوف على قولهم لا تخف وأما الذي علمه السلام بعد النهي عن الخوف فهو اختصاص قوم لوط بالهلاك لا دخولهم تحت العموم فتأمل والله الموفق
«إن إبراهيم لحليم» غير عجول على الانتقام ممن أساء إليه
«أواه» كثير التأوه على الذنوب والتأسف على الناس
«منيب» راجع إلى الله تعالى والمقصود بتعداد صفاته الجميلة المذكورة بيان ما حمله عليه السلام على ما صدر عنه من المجادلة
«يا إبراهيم» أي قالت الملائكة يا إبراهيم
«أعرض عن هذا» الجدال
«أنه» أي الشأن
«قد جاء أمر ربك» أي قدره الجاري على وفق قضائه الأزلي الذي هو عبارة عن الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص حسب تعلقها بالأشياء في أوقاتها وهو المعبر عنه بالقدر
«وإنهم آتيهم عذاب غير مردود» لا بجدال ولا بدعاء ولا بغيرهما
«ولما جاءت رسلنا لوطا» قال ابن عباس رضي الله عنهما انطلقوا من عند إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه في صور غلمان مرد حسان الوجوه فلذلك
«سئ بهم» أي ساءه مجيئهم لظنه أنهم أناس فخاف أن يقصدهم قومه ويعجز عن مدافعتهم وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو عمر وسيء وسيئت بإشمام السين الضم روى أن الله تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا وما أمرها قال أشهد إنها لشر قرية في الأرض عملا يقول ذلك أربع مرات فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت به قومها وقالت في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم
227

قط «وضاق بهم ذرعا» أي ضاق بمكانهم صدره أو قلبه أو وسعه وطاقته وهو كناية عن شدة الإنقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه وقيل ضاقت نفسه عن هذا الحادث وذكر الذرع مثل وهو المساحة وكأنه قدر البدن مجازا أي إن بدنه ضاق قدره من احتمال ما وقع وقيل الذراع اسم للجارحة من المرفق إلى الأنامل والذرع مدها ومعنى ضيق الذرع في قوله تعالى ضاق بهم ذرعا قصرها كما أن معنى سعتها وبسطتها طولها ووجه التمثيل بذلك أن القصير الذراع إذا مدها ليتناول ما يتناول الطويل الذراع تقاصر عنه وعجز عن تعاطيه فضرب مثلا للذي قصرت طاقته دون بلوغ الأمر
«وقال هذا يوم عصيب» شديد من عصبه إذا شده
«وجاءه» أي لوطا وهو في بيته مع أضيافه
«قومه يهرعون إليه» أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا لطلب الفاحشة من أضيافه والجملة حال من قومه وكذا قوله تعالى
«ومن قبل» أي من قبل هذا الوقت
«كانوا يعملون السيئات» أي جاءوا مسرعين والحال أنهم كانوا منهمكين في عمل السيئات فضروا بها وتمرنوا فيها حتى لم يبق عندهم قبحتها ولذلك لم يستحيوا مما فعلوا من مجيئهم مهرعين مجاهرين
«قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم» فتزوجوهن وكانوا يطلبونهن من قبل ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعيته فإن تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع قبل الوحي وهما كافران وقيل كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه وأيا ما كان فقد أراد به وقاية ضيفه وذلك غاية الكرم وقيل ما كان ذلك القول منه مجرى على الحقيقة من إرادة النكاح بل كان ذلك مبالغة في التواضع لهم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوا عليه طمعا في أن يستحيوا منه ويرقوا له إذا سمعوا ذلك فينزجروا عما أقدموا عليه مع ظهور الأمر واستقرار العلم عنده وعندهم جميعا بأن لا مناكحة بينهم وهو الأنسب بقولهم لقد علمت ما لنا في بناتك من حق كما ستقف عليه
«فاتقوا الله» بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم
«ولا تخزون في ضيفي» أي لا تفضحوني في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل وجاره إخزاء له أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء
«أليس منكم رجل رشيد» يهتدي إلى الحق الصريح ويرعوي عن الباطل القبيح
«قالوا» معرضين عما نصحهم به من الأمر بتقوى الله والنهي عن إخزائه مجيبين عن أول كلامه
«لقد علمت ما لنا في بناتك من حق» مستشهدين بعلمه بذلك يعنون إنك قد علمت أن لا سبيل إلى المناكحة بيننا وبينك وما عرضك إلا عرض سابرى ولا مطمع لنا في ذلك
«وإنك لتعلم ما نريد» من إتيان الذكران ولما يئس عليه السلام من ارعوائهم عما هم عليه من الغي
«قال لو أن لي
228

بكم قوة»
أي لفعلت بكم ما فعلت وصنعت ما صنعت كقوله تعالى ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى
«أو آوي إلى ركن شديد» عطف على أن لي بكم إلى آخره لما فيه من معنى الفعل أي لو قويت على دفعكم بنفسي أو أويت إلى ناصر عزيز قوي أتمنع به عنكم شبهه بركن الجبل في الشدة والمنعة وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد روى أنه عليه السلام أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب «قالوا» أي الرسل لما شاهدوا عجزه عن مدافعة قومه
«يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك» بضرر ولا مكروه فافتح الباب ودعنا وإياهم ففتح الباب فدخلوا فاستأذن جبريل عليه السلام ربه رب العزة جل جلاله في عقوبتهم فأذن له فقام في الصورة التي يكون فيها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال عز وعلى فطمسنا أعينهم فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوما سحرة
«فأسر بأهلك» بالقطع من الإسراء وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث جاء في القرآن من السرى والفاء لترتيب الأمر بالإسراء على الإخبار برسالتهم المؤذنة بورود الأمر والنهي من جنابه عز وجل إليه عليه السلام
«بقطع من الليل» بطائفة منه
«ولا يلتفت منكم» أي لا يتخلف أولا ينظر إلى ورائه
«أحد» منك ومن أهلك وإنما نهوا عن ذلك ليجدوا في السير فإن من يلتفت إلى ما وراءه لا يخلو عن أدنى وقفة أو لئلا يروا ما ينزل بقومهم من العذاب فيرقوا لهم
«إلا امرأتك» استثناء من قوله تعالى فأسر بأهلك ويؤيده أنه قرى فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك وقرئ بالرفع على البدل من أحد فالإلتفات بمعنى التخلف لا بمعنى النظر إلى الخلف كيلا يلزم التناقض بين القراءتين المتواترتين فإن النصب يقتضي كونه عليه السلام غير مأمور بالإسراء بها والرفع كونه مأمورا بذلك والاعتذار بأن مقتضى الرفع إنما هو مجرد كونها معهم وذلك لا يستدعي الأمر بالإسراء بها حتى يلزم المناقضة لجواز أن تسري هي بنفسها كما يروي أنه عليه السلام لما أسرى بأهله تبعتهم فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها وأن يسري بها عليه السلام من غير أمر بذلك إذ موجب النصب إنما هو عدم الأمر بالإسراء بها لا النهي عن الإسراء بها حتى يكون عليه السلام بالإسراء بها مخالفا للنهي لا يجدي نفعا لأن انصراف الاستثناء إلى الالتفات يستدعي بقاء الأهل على العموم فيكون الإسراء بها مأمورا به قطعا وفي حمل الأهلية في إحدى القراءتين على الأهلية الدينية وفي الأخرى على النسبية مع أن فيه ما لا يخفى من التحكم والاعتساف كر على ما فر منه من المناقضة فالأولى حينئذ جعل الاستثناء على القراءتين من قوله لا يلتفت مثل الذي في قوله تعالى ما فعلوه إلى قليل منهم فإن ابن عامر قرأه بالنصب وإن كان الأفصح الرفع على البدل ولا بعد في كون أكثر القراء
229

على غير الأفصح ولا يلزم من ذلك أمرها بالإلتفات بل عدم نهيها عنه بطريق الاستصلاح ولذلك علله على طريقة الاستئناف بقوله
«إنه مصيبها ما أصابهم» من العذاب وهو أمطار الأحجار وإن لم يصبها الخسف والضمير في إنه للشأن وقوله تعالى مصيبها خبر وقوله ما أصابهم مبتدأ والجملة خبر لأن الذي اسمه ضمير الشأن وفيه ما لا يخفى من تفخيم شأن ما أصابهم ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع
«إن موعدهم الصبح» أي موعد عذابهم وهلاكهم تعليل للأمر بالإسراء والنهي عن الالتفات المشعر بالحث على الإسراع
«أليس الصبح بقريب» تأكيد للتعليل فإن قرب الصبح داع إلى الإسراع في الإسراء للتباعد عن مواقع العذاب وروى أنه قال للملائكة متى موعد هلاكهم قالوا الصبح قال أريد أسرع من ذلك فقالوا ذلك وإنما جعل ميقات هلاكهم الصبح لأنه وقت الدعة والراحة فيكون حلول العذاب حينئذ أفظع ولأنه أنسب بكون ذلك عبرة للناظرين
«فلما جاء أمرنا» أي وقت عذابنا وموعده وهو الصبح
«جعلنا عاليها» أي عالي قرى قوم لوط وهي التي عبر عنها بالمؤتفكات وهي خمس مدائن فيها أربعمائة ألف ألف
«سافلها» أي قلبناها على تلك الهيئة وجعل عاليها مفعولا أول للجعل وسافلها مفعولا ثانيا له وإن تحقق القلب بالعكس أيضا لتهويل الأمر وتفظيع الخطب لأن جعل عاليها الذي هو مقارهم ومساكنهم سافلها أشد عليهم وأشق من جعل سافلها عاليها وإن كان مستلزما له روى أنه جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم وإسناد الجعل والأمطار إلى ضميره سبحانه باعتبار أنه المسبب لتفخيم الأمر وتهويل الخطب
«وأمطرنا عليها» على أهل المدائن أو شذاذهم
«حجارة من سجيل» من طين متحجر كقوله حجارة من طين وأصله سنك كل فعرب وقيل هو من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته والمعنى من مثل الشيء المرسل أو مثل العطية في الإدرار أو من السجل أي مما كتب الله تعالى أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاما
«منضود» نضد في السماء نضدا معدا للعذاب وقيل يرسل بعضه إثر بعض كقطار الأمطار
«مسومة» معلمة للعذاب وقيل معلمة ببياض وحمرة أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض أو باسم من ترمي به
«عند ربك» في خزائنه التي لا يتصرف فيها غيره عز وجل
«وما هي» أي الحجارة الموصوفة
«من الظالمين» من كل ظالم
«ببعيد» فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها وملابسون بها وفيه وعيد شديد لأهل الظلم كافة وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام فقال يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى سعة وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في مسايرهم وأسفارهم إلى الشام وتذكير البعيد على تأويل الحجارة بالحجر أو إجرائه على موصوف مذكر أي بشيء بعيد أو بمكان بعيد فإنها وإن كانت في السماء وهي في غاية البعد من الأرض
230

إلا أنها حين هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بهم فكأنها بمكان قريب منهم أو لأنه على زنة المصدر كالزفير والصهيل والمصادر يستوي في الوصف بها المذكر والمؤنث
«وإلى مدين» أي أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أو جعل اسما للقبيلة بالغلبة أو أهل مدين وهو بلد بناه مدين فسمى باسمه
«أخاهم» أي نسيبهم
«شعيبا» وهو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه والجملة معطوفة على قوله تعالى وإلى ثمود أخاهم صالحا أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا
«قال» استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ عن صدر الكلام فكأنه قيل فماذا قال لهم فقيل قال كما قال من قبله من الرسل عليهم السلام
«يا قوم اعبدوا الله» وحدوه ولا تشركوا به شيئا
«ما لكم من إله غيره» تحقيق للتوحيد وتعليل للأمر به وبعد ما أمرهم بما هو ملاك أمر الدين وأول ما يجب على المكلفين نهاهم عن ترتيب مبادى ما اعتادوه من البخس والتطفيف عادة مستمرة فقال
«ولا تنقصوا المكيال والميزان» كي تتوسلوا بذلك إلى بخس حقوق الناس
«إني أراكم بخير» أي ملتبسين بثروة وسعة تغنيكم عن ذلك أو بنعمة من الله تعالى حقها أن تقابل بغير ما تأتونه من المسامحة والتفضل على الناس شكرا عليها أو أراكم بخير فلا تزيلوه بما أنتم عليه من الشر وهو على كل حال علة للنهي عقبت بعلة أخرى أعني قوله عز وجل
«وإني أخاف عليكم» إن لم تنتهوا عن ذلك
«عذاب يوم محيط» لا يشذ منه شاذمنكم وقيل عذاب يوم مهلك من قوله تعالى وأحيط بثمره وأصله من إحاطة العدو والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال ووصف اليوم بالإحاطة وهي حال العذاب على الإسناد المجازي وفيه من المبالغة ما لا يخفى فإن اليوم زمان يشتمل على ما وقع فيه من الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد
اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه ويجوز أن يكون هذا تعليلا للأمر والنهي جميعا
«ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط» أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان فإن الزيادة في الكيل والوزن وإن كان تفضلا مندوبا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنقص فلعل الزائد للاستعمال عند الإكتيال والناقص للاستعمال وقت الكيل وإنما أمر بتسويتهما وتعديلهما صريحا بعد النهي عن نقصهما مبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع من البخس وتنبيها على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارا لظلمهم وقانونا لعدوانهم
«ولا تبخسوا الناس» بسبب نقصهما وعدم اعتدالهما
«أشياءهم» التي يشترونها بهما وقد صرح بالنهي عن البخس بعد ما علم ذلك في ضمن النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه اهتماما بشأنه وترغيبا في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها ويجوز أن يكون المراد بالأمر بإيفاء المكيال
231

والميزان الأمر بإيفاء المكيلات والمزونات ويكون النهي عن البخس عاما للنقص في المقدار وغيره تعميما بعد التخصيص كما في قوله تعالى
«ولا تعثوا في الأرض مفسدين» فإن العثى يعم نقص الحقوق وغيره من أنواع الفساد وقيل البخس المكس كأخذ العشور في المعاملات قال زهير بن أبي سلمى
* أفي كل أسواق العراق أتاوة
* وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم
* والعثى في الأرض السرقة وقطع الطريق والغارة وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعله الخضر عليه السلام من خرق السفينة وقتل الغلام وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين أمر آخرتكم ومصالح دينكم
«بقية الله» أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عن تعاطي المحرمات
«خير لكم» مما تجمعون بالبخس والتطفيف فإن ذلك هباء منثورا بل شر محض وإن زعمتم أن فيه خيرا كقوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات
«إن كنتم مؤمنين» بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم وقيل البقية الطاعات كقوله عز وجل والباقيات الصالحات خير عند ربك وقرئ تقية الله بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي
«وما أنا عليكم بحفيظ» أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل في ذلك جهدا أو ما أنا بحافظ ومستبق عليكم نعم الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع
«قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا» من الأوثان أجابوا بذلك أمره عليه السلام إياهم بعبادة الله وحده المتضمن لنهيهم عن عبادة الأصنام ولقد بالغوا في ذلك وبلغوا أقصى مراتب الخلاعة والمجون والضلال حيث لم يكتفوا بإنكار الوحي الآمر بذلك حتى ادعوا أن لا آمر به من العقل واللب أصلا وأنه من أحكام الوسوسة والجنون وعلى ذلك بنوا استفهامهم وقالوا بطريق الاستهزاء أصلاتك التي هي من نتائج الوسوسة وأفاعيل المجانين تأمرك بأن نترك عبادة الأوثان التي توارثناها أبا عن جد وإنما جعلوه عليه السلام مأمورا مع أن الصادر عنه إنما هو الأمر بعبادة الله تعالى وغير ذلك من الشرائع لأنه عليه السلام لم يكن يأمرهم بذلك من تلقاء نفسه بل من جهة الوحي وأنه كان يعلمهم بأنه مأمور بتبليغه إليهم وتخصيصهم بإسناد الأمر إلى الصلاة من بين سائر أحكام النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الصلاة معروفا بذلك وكانوا إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكون فكانت هي من بين سائر شعائر الدين ضحكة لهم وقرئ أصلواتك
«أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» جواب عن أمر عليه السلام بإيفاء الحقوق ونهيه عن البخس والنقص معطوف على ما أي أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء من الأخذ والإعطاء والزيادة والنقص وقرئ بالتاء في الفعلين عطفا على مفعول تأمرك أي أصلاتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء وتجويز
232

العطف على ما قيل يستدعى أن يراد بالترك معنيان متخالفان والمراد بفعله عليه السلام إيجاب الإيفاء والعدل في معاملاتهم لا نفس الإيفاء فإن ذلك ليس من أفعاله عليه السلام بل من أفعالهم وإنما لم نقل عطفا على أن نترك لأن الترك ليس مأمورا به على الحقيقة بل المأمور به تكليفه عليه السلام إياهم وأمره بذلك والمعنى أصلاتك تأمرك أن تكلفنا أن نترك ما يعبد آباؤنا وحمله على معنى أصلاتك تأمرك بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك ليكون ذلك تعريضا منهم بركاكة رأيه عليه السلام واستهزاء به من تلك الجهة يأباه دخول الهمزة على الصلاة دون الأمر ويستدعى أن يصدر عنه عليه السلام في أثناء الدعوة ما يدل على ذلك أو يوهمه وأبى ذلك فتأمل وقرئ بالنون في الأول والتاء في الثاني عطفا على أن نترك أي أو أن نفعل نحن في أموالنا عند المعاملة ما تشاء أنت من التسوية والإيفاء
«إنك لأنت الحليم الرشيد» وصفوه عليه السلام بالوصفين على طريقة التهكم وإنما أرادوا بذلك وصفه بضديهما كقول الخزنة ذق إنك أنت العزيز الكريم ويجوز أن يكون تعليلا لما سبق من استبعاد ما ذكروه على معنى إنك لأنت الحليم الرشيد على زعمك وأما وصفه بهما على الحقيقة فيأباه مقام الاستهزاء اللهم إلا أن يراد بالصلاة الدين كما قيل
«قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة» أي حجة واضحة وبرهان نير عبر بها عما آتاه الله تعالى من النبوة والحكمة ردا على مقالتهم الشنعاء في جعلهم أمره ونهيه غير مستند إلى سند
«من ربي» ومالك أموري وإيراد حرف الشرط مع جزمه عليه السلام بكونه على ما هو عليه من البينات والحجج لاعتبار حال المخاطبين ومراعاة حسن المحاورة معهم كما ذكرناه في نظائره
«ورزقني منه» أي من لدنه
«رزقا حسنا» هو النبوة والحكمة أيضا عبر عنهما بذلك تنبيها على أنهما مع كونهما بينة رزق حسن كيف لا وذلك مناط الحياة الأبدية له ولأمته وجواب الشرط محذوف يدل عليه فحوى الكلام أي أتقولون في شأني ما تقولون والمعنى إنكم نظمتموني في سلك السفهاء والغواة وعددتم ما صدر عني من الأوامر والنواهي من قبيل ما لا يصح أن يتفوه به عاقل وجعلتموه من أحكام الوسوسة والجنون واستهزأتم بي وبأفعالي حتى قلتم إن ما أمرتكم به من التوحيد وترك عبادة الأصنام والاجتناب عن البخس والتطفيف ليس مما يأمر به آمر العقل ويقضي به قاضي الفطنة وإنما يأمر به صلاتك التي هي من أحكام الوسوسة والجنون فأخبروني إن كنت من جهة ربي ومالك أموري ثابتا على النبوة والحكمة التي ليس وراءها غاية للكمال ولا مطمح لطامح ورزقني بذلك رزقا حسنا أتقولون في شأني وشأن أفعال ما تقولون مما لا خير فيه ولا شر وراءه هذا هو الجواب الذي يستدعيه السباق والسياق ويساعده النظم الكريم وأما ما قيل من أن المحذوف أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي أو هل يسع لي مع هذا الإنعام الجامع
233

للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه وأخالفه في أمره ونهيه فبمعزل من ذلك وإنما يناسب تقديره إن حمل كلامهم على الحقيقة وأريد بالصلاة الدين على معنى أدينك يأمرك أن تكلفنا بترك عبادة آلهتنا القديمة وترك التصرف المطلق في أموالنا وتخالفنا في ذلك وتشق عصانا وهذا مما لا ينبغي أن يصدر عنك فإنك أنت المشهور بالحلم الفاضل والرشد الكامل فيما بيننا كما كان قول قوم صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا مسرودا على ذلك النمط فأجيبوا بما أجيبوا به وعلى هذا الوجه يكون المراد بالرزق الحسن الحلال الذي أتاه الله تعالى والمعنى حينئذ أخبروني إن كنت نبيا من عند الله تعالى ورزقني مالا حلالا أستغني به عن العالمين أيصح أن أخالف أمره وأوافقكم فيما تأتون وما تذرون
«وما أريد» بنهي إياكم عما أنهاكم عنه من البخس والتطفيف
«أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه» أي أقصده بعد ما وليتم عنه وأستبد به دونكم يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه وخالفته عن كذا إذا كان الأمر على العكس
«إن أريد» أي ما أريد بما أباشره من الأمر والنية
«إلا الإصلاح» إلا أن أصلحكم بالنصيحة والموعظة
«ما استطعت» أي مقدار ما استطعته من الإصلاح والتقييد به للإحتراز عن الاكتفاء بالإصلاح في الجملة لا عن إرادة ما ليس في وسعه منه
«وما توفيقي» أي كوني موفقا لتحقيق ما أنتحيه من إصلاحكم
«إلا بالله» أي بتأييده ومعونته بل الإصلاح من حيث الخلق مستند إليه سبحانه وإنما أنا من مباديه الظاهرة قاله عليه السلام تحقيقا للحق وإزاحة لما عسى يوهمه إسناد الاستطاعة إليه بإرادته من استبداده بذلك
«عليه توكلت» في ذلك معرضا عما عداه فإنه القادر على كل مقدور وما عداه عاجز محض في حد ذاته بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار بمعزل عن مرتبة الإستمداد به والاستظهار
«وإليه أنيب» أي أرجع فيما أنا بصدده ويجوز أن يكون المراد وما كوني موفقا لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي وأذر إلا بهدايته ومعونته عليه توكلت وهو إشارة إلى محض التوحيد الذاتي والفعلي وإليه أنيب أي عليه أقبل بشراشر نفسي في مجامع أموري وإيثار صيغة الاستقبال على الماضي الأنسب للتقرر والتحقق كما في التوكل لاستحضار الصورة والدلالة على الاستمرار ولا يخفى ما في جوابه عليه السلام من مراعاة لطف المراجعة ورفق الإستنزال والمحافظة على قواعد حسن المجاراة والمحاورة وتمهيد معاقد الحق بطلب التوفيق من جناب الله تعالى والاستعانة به في أموره وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وأما تهديدهم بالرجوع إلى الله تعالى للجزاء كما قيل فلا لأن الإنابة إنما هي الرجوع الاختياري بالفعل إلى الله تعالى لا الرجوع الاضطراري للجزاء أو ما يعمه
«ويا قوم لا يجرمنكم» أي لا يكسبنكم من جرمته ذنبا مثل كسبته مالا
«شقاقي» معاداتي وأصلهما أن أحد المتعاديين يكون في عدوة وشق والآخر في آخر
«أن يصيبكم» مفعول ثان ليجرمنكم أي لا يكسبنكم معاداتكم لي أن يصيبكم
234

«مثل ما أصاب قوم نوح» من الغرق
«أو قوم هود» من الريح
«أو قوم صالح» من الصيحة والرجفة وقرأ ابن كثير بضم الياء من أجرمته ذنبا إذا جعلته جارما له أي كاسبا وهو منقول من جرم المعتدي إلى مفعول واحد كما نقل أكسبه المال من كسب المال فكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه لا فرق بين جرمته ذنبا وأجرمته إياه في المعنى إلا أن الأول أصح وأدور على ألسنة الفصحاء وقرا أبو حيوة مثل ما أصاب بالفتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله
* لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت
* حمامة في غصون ذات
* أو قال وهذا وإن كان بحسب الظاهر نهيا للشقاق عن كسب إصابة العذاب لكنه في الحقيقة نهى للكفرة عن مشاقته عليه السلام على ألطف أسلوب وأبدعه كما مر في سورة المائدة عند قوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم الآية
«وما قوم لوط منكم ببعيد» زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم من الأمم المعدودة فاعتبروا بهم فكأنه إنما غير أسلوب التحذير بهم ولم يصرح بما أصابهم بل اكتفى بذكر قربهم إيذانا بأن ذلك مغن عن ذكره لشهرة كونه منظوما في سمط ما ذكر من دواهي الأمم المرقومة أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر والمعاصي فلا يبعد أن يصيبكم مثل ما أصابهم وإفراد البعيد مع تذكيره لأن المراد وما إهلاكهم على نية المضاف أو وما هم بشيء بعيد لأن المقصود إفادة عدم بعدهم على الإطلاق لا من حيث خصوصية كونهم قوما أوما هم في زمان بعيد أو مكان بعيد ولا يبعد أن يكون ذلك لكونه على زنة المصادر كالنهيق والشهيق ولما أنذرهم عليه السلام بسوء عاقبة صنيعهم عقبه طمعا في ارعوائهم عما كانوا فيه يعمهون من طغيانهم بالحمل على الاستغفار والتوبة فقال
«واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه» مر تفسير مثله في أول السورة
«إن ربي رحيم» عظيم الرحمة للتائبين
«ودود» مبالغ في فعل ما يفعل البليغ المودة بمن يوده من اللطف والإحسان وهذا تعليل للأمر بالاستغفار والتوبة وحث عليهما
«قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول» الفقه معرفة غرض المتكلم من كلامه أي ما نفهم مرادك وإنما قالوه بعد ما سمعوا منه دلائل الحق المبين على أحسن وجه وأبلغه وضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل فلم يجدوا إلى محاورته سبيلا سوى الصدود عن منهاج الحق والسلوك إلى سبيل الشقاء كما هو ديدن المفحم المحجوج يقابل البينات بالسب والإبراق والإرعاد فجعلوا كلامه المشتمل على فنون الحكم والمواعظ وأنواع العلوم والمعارف من قبيل ما لا يفهم معناه ولا يدرك فحواه وأدمجوا في ضمن ذلك أن في تضاعيفه ما يستوجب أقصى ما يكون من المؤاخذة والعقاب ولعل ذلك ما فيه من التحذير من عواقب الأمم السالفة ولذلك قالوا
«وإنا لنراك فينا» فيما بيننا
«ضعيفا» لا قوة لك ولا قدرة على شيء من الضر والنفع والإيقاع والدفع
«ولولا رهطك» لولا مراعاة جانبهم لا لولاهم يمانعوننا ويدافعوننا
«لرجمناك» فإن ممانعة الرهط وهو اسم للثلاثة إلى
235

السبعة أو إلى العشرة لهم وهم ألوف مؤلفة مما لا يكاد يتوهم وقد أيد ذلك بقوله عز وجل
«وما أنت علينا بعزيز» مكرم محترم حتى نمتنع من رجمك وإنما نكف عنه للمحافظة على حرمة رهطك الذين ثبتوا على ديننا ولم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا وإيلاء الضمير حرف النفي وإن لم يكن الخبر فعليا غير خال عن الدلالة على رجوع النفي إلى الفاعل دون الفعل لا سيما مع قرينة قوله ولولا رهطك كأنه قيل وما أنت علينا بعزيز بل رهطك هم الأعزة علينا وحيث كان غرضهم من عظيمتهم هذه عائدا إلى نفي ما فيه عليه السلام من القوة والعزة الربانيتين حسبما يوجبه كونه على بينة من ربه مؤيدا من عنده ويقتضيه قضية طلب التوفيق منه والتوكل عليه والإنابة إليه وإلى إسقاط ذلك كله عن درجة الاعتداد به والاعتبار
«قال» عليه السلام في جوابهم
«يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله» فإن الاستهانة بمن لا يتعزز إلا به عز وجل استهانة بجنابه العزيز وإنما أنكر عليهم أعزية رهطه منه تعالى مع أن ما أثبتوه إنما هو مطلق عزة رهطه لا أعزبتهم منه عز وجل مع الاشتراك في أصل العزة لتثنية التقريع وتكرير التوبيخ حيث أنكر عليهم أولا ترجيح جنبة الرهط على جنبة الله تعالى وثانيا بنفي العزة بالمرة والمعنى أرهطي أعز عليكم من الله فإنه مما لا يكاد يصح والحال إنكم لم تجعلوا له تعالى حظا من العزة أصلا
«واتخذتموه» بسبب عدم اعتدادكم بمن لا يرد ولا يصدر إلا بأمره
«وراءكم ظهريا» أي شيئا منبوذا وراء الظهر منسيا لا يبالي به منسوب إلى الظهر والكسر لتغيير النسب كالأمسى في النسبة إلى الأمس
«إن ربي بما تعملون» من الأعمال السيئة التي من جملتها عدم مراعاتكم لجانبه
«محيط» لا يخفى عليه منها خافية وإن جعلتموه منسيا فيجازيكم عليها ويحتمل أن يكون الإنكار للرد والتكذيب فإنهم لما ادعوا أنهم لا يكفون عن رجمه عليه السلام لقوته وعزته بل لمراعاة جانب رهطه رد عليهم ذلك بأنكم ما قدرتم الله حق قدره العزيز ولم تراعوا جنابه القوي فكيف تراعون جانب رهطي الأذلة
«ويا قوم اعملوا» لما رأى عليه السلام إصرارهم على الكفر وأنهم لا يرعوون عما هم عليه من المعاصي حتى اجترءوا على العظيمة التي هي الاستهانة به والعزيمة على رجمه لولا حرمة رهطه قال لهم على طريقة التهديد اعملوا
«على مكانتكم» أي على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانه إذا تمكن أبلغ التمكن وإنما قاله عليه السلام ردا لما ادعوا أنهم أقوياء قادرون على رجمه وأنه ضعيف فيما بينهم لا عزة له أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة والمعنى أثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر والمشاقة لي وسائر ما أنتم عليه مما لا خير
236

فيه وأبدلوا جهدكم في مضارتي وإيقاع ما في نيتكم وإخراج ما في أمنيتكم من القوة إلى الفعل
«إني عامل» على مكانتي حسبما يؤيدني الله ويوفقني بأنواع التأييد والتوفيق
«سوف تعلمون» لما هددهم عليه السلام بقوله اعملوا على مكانتكم إني عامل كان مظنة أن يسأل منهم سائل فيقول فماذا يكون بعد ذلك فقيل سوف تعلمون
«من يأتيه عذاب يخزيه» وصف العذاب بالإخزاء تعريضا بما اوعدوه عليه السلام به من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر حيث لا يكون إلا بجناية عظيمة توجبه
«ومن هو كاذب» عطف على من يأتيه لا على أنه قسيمه بل حيث أوعدوه بالرجم وكذبوه قيل سوف تعلمون من المعذب ومن الكاذب وفيه تعريض بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليه السلام وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط والاختلاف بين المعطوفين بالفعلية والإسمية لأن كذب الكاذب ليس بمرتقب كإتيان العذاب بل إنما المرتقب ظهور الكذب السابق المستمر ومن إما استفهامية معلقة للعلم عن العمل كأنه قيل سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا كاذب وإما موصولة أي سوف تعرفون الذي يأتيه عذاب والذي هو كاذب
«وارتقبوا» وانتظروا مآل ما أقول
«إني معكم رقيب» منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع وفي زيادة معكم إظهار منه عليه السلام لكمال الوثوق بأمره
«ولما جاء أمرنا» أي عذابنا كما ينبئ عنه قوله تعالى سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه أو وقته فإن الإرتقاب مؤذن بذلك
«نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا» وهي الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما ذكر بالواو كما في قصة عاد لما أنه لم يسبقه فيها ذكر وعد يجري مجرى السبب المقتضي لدخول الفاء في معلوله كما في قصتي صالح ولوط فإنه قد سبق هنالك سابقة الوعد بقوله ذلك وعد غير مكذوب وقوله إن موعدهم الصبح
«وأخذت الذين ظلموا» عدل إليه عن الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وإشعارا بأن ما أخذهم إنما أخذهم بسبب ظلمهم الذي فصل فيما سبق فنونه
«الصيحة» قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة وفي سورة العنكبوت فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء المفضي إليها كما مر فيما قبل
«فأصبحوا في ديارهم جاثمين» ميتين لازمين لأماكنهم لا براح لهم منها ولما لم يجعل متعلق العلم في قوله تعالى سوف تعلمون من يأته عذاب الخ نفس مجيء العذاب بل من يجيئه ذلك جعل مجيئه بعد ذلك أمرا مسلم الوقوع غنيا عن الإخبار به حيث جعل شرطا وجعل تنجية شعيب عليه السلام وإهلاك الكفرة جوابا له ومقصود الإفادة وإنما قدم تنجيته اهتماما بشأنها وإيذانا بسبق الرحمة التي هي مقتضى الربوبية على الغضب الذي يظهر أثره بموجب جرائرهم وجرائمهم
«كأن لم يغنوا» أي لم يقيموا
237

«فيها» متصرفين في أطرافها متقلبين في أكنافها
«ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود» العدول عن الإضمار إلى الإظهار ليكون أدل على طغيانهم الذي أداهم إلى هذه المرتبة وليكون أنسب بمن شبه هلاكهم بهلاكهم أعني ثمود وإنما شبه هلاكهم بهلاكهم لأنهما أهلكتا بنوع من العذاب وهو الصيحة غير أن هؤلاء صيح بهم من فوقهم وأولئك من تحتهم وقرئ بعدت بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون سبب الهلاك والبعد مصدر لهما والبعد مصدر للمكسور
«ولقد أرسلنا موسى بآياتنا» وهي الآيات التسع المفصلات التي هي العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونقص الثمرات والأنفس ومنهم من جعلهما آية واحدة وعد منها إظلال الجبل وليس كذلك فإنه لقبول أحكام التوراة حين أباه بنو إسرائيل والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول أرسلنا أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها
«وسلطان مبين» هو المعجزات الباهرة منها أو هو العصا والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها أو المراد بالآيات ما عداها أو هما عبارتان عن شيء واحد أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وبين كونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما ومتعديا أو هو الغلبة والاستيلاء كقوله تعالى ونجعل لكما سلطانا ويجوز أن يكون المراد ما بينه عليه السلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون من ربكما فما بال القرون الأولى من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة وجعله عبارة عن التوراة أو إدراجها في جملة الآيات يرده قوله عز وجل
«إلى فرعون وملئه» فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون وما يذرون وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين عز سلطانه وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر وتخصيص ملئه بالذكر مع عموم رسالته عليه السلام لقومه كافة لأصالتهم في الرأي وتدبير الأمور واتباع غيرهم لهم في الورود والصدور وإنما لم يصرح بكفر فرعون بآيات الله تعالى وانهماكه فيما كان عليه من الضلال والإضلال بل اقتصر على ذكر شأن ملئه فقيل
«فاتبعوا أمر فرعون» أي أمره بالكفر بما جاء به موسى عليه السلام من الحق المبين للإيذان بوضوح حاله فكأن كفره وأمر ملئه بذلك أمر محقق الوجود غير محتاج إلى الذكر صريحا وإنما المحتاج إلى ذلك شأن ملئه المترددين بين هاد إلى الحق وداع إلى الضلال فنعى عليهم سوء اختيارهم وإيراد الفاء في اتباعهم المترتب على أمر فرعون المبني على كفره المسبوق بتبليغ الرسالة للإشعار بمفاجأتهم في الاتباع ومسارعة فرعون إلى الكفر وأمرهم به فكأن ذلك كله لم يتراخ عن الإرسال والتبليغ بل وقع جميع ذلك في وقت واحد فوقع أثر ذلك اتباعهم ويجوز أن يراد بأمر فرعون شأنه المشهور وطريقته الزائغة فيكون معنى فاتبعوا فاستمروا على الاتباع والفاء
238

مثل ما في قولك وعظته فلم يتعظ وصحت به فلم ينزجر فإن الإتيان بالشيء بعد ورود ما يوجب الإقلاع عنه وإن كان استمرارا عليه لكنه بحسب العنوان فعل جديد وصنع
حادث فتأمل وترك الإضمار لدفع توهم الرجوع إلى موسى عليه السلام من أول الأمر ولزيادة تقبيح حال المتبعين فإن فرعون علم في الفساد والإفساد والضلال والإضلال فاتباعه لفرط الجهالة وعدم الإستبصار وكذا الحال في قوله تعالى
«وما أمر فرعون برشيد» الرشد ضد الغي وقد يراد به محمودية العاقبة فهو على الأول بمعنى المرشد أو ذي الرشد حقيقة لغوية والإسناد مجازي وعلى الثاني مجاز والإسناد حقيقي
«يقدم قومه» جميعا من الأشراف وغيرهم
«يوم القيامة» أي يتقدمهم من قدمه بمعنى تقدمه وهو استئناف لبيان حاله في الآخرة أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه أو لتوضيح عدم صلاح مآل أمره وسوء عاقبته
«فأوردهم النار» أي يوردهم وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع لا محالة شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردة إلى الماء وأتباعه بالواردة والنار بالماء الذي يردونه ثم قيل
«وبئس الورد المورود» أي بئس الورد الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار على ضد ذلك
«واتبعوا» أي الملأ الذين اتبعوا أمر فرعون
«في هذه» أي في الدنيا
«لعنة» عظيمة حيث يلعنهم من بعدهم من الأمم إلى يوم القيامة
«ويوم القيامة» أيضا حيث يلعنهم أهل الموقف قاطبة فهي تابعة لهم حينما ساروا دائرة معهم أينما داروا في الموقف فكما اتبعوا فرعون اتبعتهم اللعنة في الدارين جزاء وفاقا واكتفى ببيان حالهم الفظيع وشأنهم الشنيع عن بيان حال فرعون إذ حين كان حالهم هكذا فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد وحيث كان شأن الأتباع أن يكونوا أعوانا للمتبوع جعلت اللعنة رفدا لهم على طريقة التهكم فقيل
«بئس الرفد المرفود» أي بئس العون المعان وقد فسر الرفد بالعطاء ولا يلائمه المقام وأصله ما يضاف إلى غيره ليعمده والمخصوص بالذم محذوف أي رفدهم وهي اللعنة في الدارين وكونه مرفودا من حيث أن كل لعنة منها معينة وممدة لصاحبتها ومؤيدة لها
«ذلك» إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه في الذكر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره
«من أنباء القرى» المهلكة بما جنته أيدي أهلها
«نقصه عليك» خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك
«منها» أي من تلك القرى
«قائم وحصيد» أي ومنها حصيد حذف لدلالة الأول عليه شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب
239

«وما ظلمناهم» بأن أهلكناهم
«ولكن ظلموا أنفسهم» بأن جعلوها عرضة للهلاك باقتراف ما يوجبه
«فما أغنت عنهم» فما نفعتهم ولا دفعت بأس الله تعالى عنهم
«آلهتهم التي يدعون» أي يعبدونها
«من دون الله» أوثر صيغة المضارع حكاية للحال الماضية أو دلالة على استمرار عبادتهم لها
«من شيء» في موضع المصدر أي شيئا من الإغناء
«لما جاء أمر ربك» أي حين مجيء عذابه وهو منصوب بأغنت وقرئ آلهتهم اللاتي ويدعون على البناء للمجهول
«وما زادوهم غير تتبيب» أي إهلاك وتخسير فإنهم إنما هلكوا وخسروا بسبب عبادتهم لها
«وكذلك» أي ومثل ذلك الأخذ الذي مر بيانه وهو رفع على الابتداء وخبره قوله
«أخذ ربك» وقرئ أخذ ربك فمحل الكاف النصب على أنه مصدر مؤكد
«إذا أخذ القرى» أي أهلها وإنما أسند إليها للإشعار بسريان أثره إليها حسبما ذكر وقرئ إذ أخذ
«وهي ظالمة» حال من القرى وهي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامهم في الأخذ أجريت الحال عليها وفائدتها الإشعار بأنهم إنما أخذوا بظلمهم ليكون ذلك عبرة لكل ظالم
«إن أخذه أليم شديد» وجيع صعب على المأخوذ لا يرجى منه الخلاص وفيه ما لا يخفى من التهديد والتحذير
«إن في ذلك» أي في أخذه تعالى للأمم المهلكة أو في قصصهم
«لآية» لعبرة
«لمن خاف عذاب الآخرة» فإنه المعتبر به حيث يستدل بما حاق بهم من العذاب الشديد بسبب ما عملوا من السيئات على أحوال عذاب الآخرة وأما من أنكر الآخرة وأحال فناء العالم وزعم أن ليس هو ولا شيء من أحواله مستندا إلى الفاعل المختار وأن ما يقع فيه من الحوادث فإنما يقع لأسباب تقتضيه من أوضاع فلكية تتفق في بعض الأوقات لا لما ذكر من المعاصي التي يقترفها الأمم الهالكة فهو بمعزل من هذا الاعتبار تبا لهم ولما لهم من الأفكار
«ذلك» إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بذكر الآخرة
«يوم مجموع له الناس» أي يجمع له الناس للمحاسبة والجزاء والتغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع وتحقق وقوعه لا محالة وعدم انفكاك الناس عنه فهو أبلغ من قوله تعالى يوم يجمعكم ليوم الجمع
«وذلك» أي يوم القيامة مع ملاحظة عنوان جمع الناس له
«يوم مشهود» أي مشهود فيه حيث يشهد فيه أهل السماوات والأرضين فاتسع فيه بإجراء الظفر مجرى المفعول به كما في قوله
* في محفل من نواصي الناس مشهود
* أي كثير شاهدوه ولو جعل نفس اليوم مشهودا لفات ما هو الغرض من تعظيم اليوم وتهويله وتمييزه عن غيره فإن سائر الأيام أيضا كذلك
«وما
240

نؤخره»
أي ذلك اليوم الملحوظ بعنواني الجمع والشهود
«إلا لأجل معدود» إلا لانقضاء مدة قليلة مضروبة حسبما تقتضيه الحكمة
«يوم يأت» أي حين يأتي ذلك اليوم المؤخر بانقضاء أجله كقوله تعالى أن تأتيهم الساعة وقيل يوم يأتي الجزاء الواقع فيه وقيل أي الله عز وجل فإن المقام مقام تفخيم شأن اليوم وقرئ بإثبات الياء على الأصل
«لا تكلم نفس» أي لا تتكلم بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة وهو العامل في الظرف أو الانتهاء المحذوف في قوله تعالى إلا لأجل معدود أي ينتهي الأجل يوم يأتي أو المضمر المعهود أعني اذكر «إلا بإذنه» عز سلطانه في التكلم كقوله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وهذا في موطن من مواطن ذلك اليوم وقوله عز وجل هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون في موقف آخر من مواقفه كما أن قوله سبحانه يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها في آخر منها أو المأذون فيه الجوابات الحقة والممنوع عنه الأعذار الباطلة نعم قد يؤذن فيها أيضا لإظهار بطلانها كما في قول الكفرة والله ربنا ما كنا مشركين ونظائره
«فمنهم شقي» وجبت له النار بموجب الوعيد
«وسعيد» أي ومنهم سعيد حذف الخبر لدلالة الأول عليه وهو من وجبت له الجنة بمقتضى الوعد والضمير لأهل الموقف المدلول عليهم بقوله لا تكلم نفس أو للناس وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام التحذير والإنذار
«فأما الذين شقوا» أي سبقت لهم الشقاوة
«ففي النار» أي مستقرون فيها
«لهم فيها زفير وشهيق» الزفير إخراج النفس والشهيق رده واستعمالهما في أول النهيق وآخره قال الشماخ يصف حمار الوحش
* بعيد مدى التطريب أول صوته
* زفير ويتلوه شهيق محشرج
* والمراد بهما وصف شدة كربهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير وقرئ شقوا بالضم والجملة مستأنفة كأن سائلا قال ما شأنهم فيها فقيل لهم فيها كذا وكذا أو منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عز اسمه
«خالدين فيها» خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة
«ما دامت السماوات والأرض» أي مدة دوامهما وهذا التوقيت عبارة عن التأييد ونفى الانقطاع بناء على منهاج قول العرب ما دام تعار وما أقام ثبير وما لاح كوكب وما اختلف الليل والنهار وما طما البحر وغير ذلك من كلمات التأبيد لا تعليق قرارهم فيها بدوام هذه السماوات والأرض فإن النصوص القاطعة دالة على تأبيد قرارهم فيها وانقطاع دوامهما وإن أريد التعليق فالمراد سماوات الآخرة وأرضها كما يدل على ذلك النصوص كقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وقوله تعالى وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء وجزم كل أحد بأن أهل الآخرة
241

لا بد لهم من مظلة ومقلة دائمتين يكفي في تعليقي دوام قرارهم فيها بدوامهما ولا حاجة إلى الوقوف على تفاصيل أحوالهما وكيفياتهما
«إلا ما شاء ربك» استثناء من الخلود على طريقة قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف وقوله تعالى حتى يلج الجمل في سم الخياط غير أن استحالة الأمور المذكورة معلومة بحكم العقل واستحالة تعلق المشيئة بعدم الخلود معلومة بحكم النقل يعني أنهم مستقرون في النار في جميع الأزمنة إلا في زمان مشيئة الله تعالى لعدم قرارهم فيها وإذ لا إمكان لتلك المشيئة ولا لزمانها بحكم النصوص القاطعة الموجبة للخلود فلا إمكان لانتهاء مدة
قرارهم فيها ولدفع ما عسى يتوهم من كون استحالة تعلق مشيئة الله تعالى بعدم الخلود بطريق الوجوب على الله تعالى قال
«إن ربك فعال لما يريد» يعني إنه في تخليد الأشقياء في النار بحيث يستحيل وقوع خلافه فعال بموجب إرادته قاض بمقتضى مشيئته الجارية على سنن حكمته الداعية إلى ترتيب الأجزية على أفعال العباد والعدول من الإضمار إلى الإظهار لتربية المهابة وزيادة التقرير وقيل هو استثناء من الخلود في عذاب النار فإنهم لا يخلدون فيه بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع أخر من العذاب وبما هو أغلظ منها كلها وهو سخط الله تعالى عليهم وخسؤه لهم وإهانته إياهم وأنت تدري أنا وإن سلمنا أن المراد بالنار ليس مطل قدار العذاب المشتملة على أنواع العذاب بل نفس النار فما خلا عذاب الزمهرير من تلك الأنواع مقارن لعذاب النار فلا مصداق في ذلك للاستثناء ولك أن تقول إنهم ليسوا بمخلدين في العذاب الجسماني الذي هو عذاب النار بل لهم من أفانين العذاب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وهي العقوبات والآلام الروحانية التي لا يقف عليها في هذه الحياة الدنيا المنغمسون في أحكام الطبيعة المقصور إدراكهم على ما ألفوا من الأحوال الجسمانية وليس لهم استعداد لتلقي ما رواء ذلك من الأحوال الروحانية إذا ألقى إليهم ولذلك لم يتعرض لبيانه واكتفى بهذه المرتبة الإجمالية المنبئة عن التهويل وهذه العقوبات وإن كان تعتريهم وهم في النار لكنهم ينسون بها عذاب النار ولا يحسون به وهذه المرتبة كافية في تحقيق معنى الاستثناء هذا وقد قيل إلا بمعنى سوى وهو أوفق بما ذكر وقيل ما بمعنى من على إرادة معنى الوصفية فالمعنى إن الذين شقوا في النار مقدرين الخلود فيها إلا الذين شاء الله عدم خلودهم فيها وهم عصاة المؤمنين
«وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض» الكلام فيه كالكلام فيما سبق خلا أنه لم يذكر ههنا أن لهم فيها بهجة وسرورا كما ذكر في أهل النار من أنه لهم فيها زفير وشهيق لأن المقام مقام التحذير والإنذار
«إلا ما شاء ربك» إن حمل على طريقة التعليق بالمحال فقوله سبحانه
«عطاء غير مجذوذ» نصب على المصدرية من معنى الجملة لأن قوله تعالى ففي الجنة خالدين فيها يقتضي إعطاء وإنعاما فكأنه قيل يعطيهم عطاء وهو إما اسم مصدر هو الإعطاء أو مصدر بحذف الزوائد كقوله تعالى أنبتكم
242

من الأرض نباتا وإن حمل على ما أعد الله لعباده الصالحين من النعيم الروحاني الذي عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فهو نصب على الحالية من المفعول المقدر للمشيئة أو تمييز فإن نسبة مشيئة الخروج إلى الله تعالى يحتمل أن تكون على جهة عطاء مجذوذ وعلى جهة عطاء غير مجذوذ فهو رافع للإبهام عن النسبة قال ابن زيد أخبرنا الله تعالى بالذي يشاء لأهل الجنة فقال عطاء غير مجذوذ ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار ويجوز أن يتعلق بكلا النعيمين أو بالأول دفعا لما يتوهم من ظاهر الاستثناء من انقطاعه
«فلا تك في مرية» أي في شك والفاء لترتيب النهي على ما قص من القصص وبين في تضاعيفها من العواقب الدنيوية والأخروية
«مما يعبد هؤلاء» أي من جهة عبادة هؤلاء المشركين وسوء عاقبتها أو من حال ما يعبدونه من الأوثان في عدم نفعه لهم ولما كان مساق النظم الكريم قبيل الشروع في القصص لبيان غاية سوء حال الكفرة وكمال حسن حال المؤمنين وقد ضرب لهم مثل فقيل مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون وقد قص عقيب ذلك من أنباء الأمم السالفة مع رسلهم المبعوثة إليهم ما يتذكر به المتذكر نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كونه في شك من مصير أمر هؤلاء المشركين في العاجل والآجل ثم علل ذلك بطريق الاستئناف فقيل
«ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم» الذين قصت عليك قصصهم
«من قبل» أي هم وآباؤهم سواء في الشرك ما يعبدون عبادة إلا كعبادتهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها أو مثل ما كانوا يعبدونه فحذف كان لدلالة قوله من قبل عليه ولقد بلغك ما لحق بآبائهم فسيلحقهم مثل ذلك فإن تماثل الأسباب يقتضي تماثل المسببات
«وإنا لموفوهم» أي هؤلاء الكفرة
«نصيبهم» أي حظهم المعين لهم حسن جرائمهم وجرائرهم من العذاب عاجلا وآجلا كما وفينا آباءهم أنصباءهم المقدرة لهم أو من الرزق المقسوم لهم فيكون بيانا لوجه تأخر العذاب عنهم مع تحقق ما يوجبه
«غير منقوص» حال مؤكدة من النصيب كقوله تعالى ثم وليتم مدبرين وفائدته دفع توهم التجوز وجعلها مقيدة له لدفع احتمال كونه منقوصا في حد نفسه مبني على الذهول عن كون العامل هو التوفية فتأمل
«ولقد آتينا موسى الكتاب» أي التوراة
«فاختلف فيه» أي في شأنه وكونه من عند الله تعالى فآمن به قوم وكفر به آخرون فلا تبال باختلاف قومك فيما آتيناك من القرآن وقولهم لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك وزعمهم إنك افتريته
«ولولا كلمة سبقت
243

من ربك»
وهي كلمة القضاء بإنظارهم إلى يوم القيامة على حسب الحكمة الداعية إلى ذلك
«لقضي بينهم» أي لأوقع القضاء بين المختلفين من قومك بإنزال العذاب الذي يستحقه المبطلون ليتميزوا به عن المحقين وقيل بين قوم موسى وليس بذاك
«وأنهم» أي وإن كفار قومك أريد به بعض من رجع إليهم ضمير بينهم للأمن من الإلباس
«لفي شك» عظيم
«منه» أي من القرآن وإن لم يجر له ذكر فإن ذكر إيتاء كتاب موسى ووقوع الاختلاف فيه لا سيما بصدد التسلية ينادي به نداء غير خفي
«مريب» موقع في الريبة
«وإن كلا» التنوين عوض عن المضاف إليه أي وإن كل المختلفين فيه المؤمنين منهم والكافرين وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل
«لما ليوفينهم ربك أعمالهم» أي أجزية أعمالهم واللام الأولى موطئة للقسم والثانية جواب للقسم المحذوف ولما مركبة من الجارة وما الموصولة أو الموصوفة وأصلها لمن فقلبت النون ميما للإدغام فاجتمع ثلاث ميمات فحذفت أولاهن والمعنى لمن الذي أو لمن خلق أو لمن فريق والله ليوفينهم ربك وقرئ لما بالتخفيف على أن ما مزيدة للفصل بين اللامين والمعنى وإن جميعهم والله ليوفينهم الآية وقرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله سبحانه أكلا لما وقرأ أبي وإن كل لما ليوفينهم على أن إن نافية ولما بمعنى إلا وقد قرىء به
«إنه بما يعملون» أي بما يعمله كل فرد من المختلفين من الخير والشر
«خبير» بحيث لا يخفى عليه شيء من جلائله ودقائقه وهو تعليل لما سبق من توفية أجزية أعمالهم فإن الإحاطة بتفاصيل أعمال الفريقين وما يستوجبه كل عمل بمقتضى الحكمة من الجزاء المخصوص توجب توفية كل ذي حق حقه إن خيرا فخير وإن شرا فشر
«فاستقم كما أمرت» لما بين في تضاعيف القصص المحكية عن الأمم الماضية سوء عاقبة الكفر وعصيان الرسل وأشير إلى أن حال هؤلاء الكفرة في الكفر والضلال واستحقاق العذاب مثل أولئك المعذبين وأن نصيبهم من العذاب واصل إليهم من غير نقص وأن تكذيبهم للقرآن مثل تكذيب قوم موسى عليه السلام للتوراة وأنه لو لم تسبق كلمة القضاء بتأخير عقوبتهم العامة ومؤاخذتهم التامة إلى يوم القيامة لفعل بهم ما فعل بآبائهم من قبل وأنهم يوفون نصيبهم غير منقوص وأن كل واحد من المؤمنين والكافرين يوفى جزاء عمله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإستقامة كما أمر به في العقائد والأعمال المشتركة بينه وبين سائر المؤمنين ولا سيما الأعمال الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام الشرعية والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة بحيث يدخل تحته ما أمر به فيما سبق من قوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك الآية وبالجملة فهذا الأمر منتظم لجميع محاسن الاحكام الأصلية والفرعية والكمالات النظرية والعملية والخروج من عهدته في غاية ما يكون من الصعوبة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم شيبتني سورة هود
«ومن تاب معك» أي تاب من الشرك والكفر وشاركك في الإيمان وهو المعنى بالمعية وهو معطوف على
244

المستكن في قوله فاستقم وحسن من غير تأكيد لمكان الفاصل القائم مقامه وفي الحقيقة هو من عطف الجملة على الجملة إذ المعنى وليستقم من تاب معك وقيل هو منصوب على أنه مفعول معه كما قاله أبو البقاء والمعنى استقم مصاحبا لمن تاب معك
«ولا تطغوا» ولا تنحرفوا عما حد لكم بإفراط أو تفريط فإن كلا طرف قصد الأمور ذميم وإنما سمى ذلك طغيانا وهو تجاوز الحد تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله عليه السلام
«إنه بما تعملون بصير» فيجازيكم على ذلك وهو تعليل للأمر والنهي وفي الآية دلالة على وجوب اتباع المنصوص عليه من غير انحراف بمجرد الرأي فإنه طغيان وضلال وأما العمل بمقتضى الإجتهاد التابع لعلل النصوص فذلك من باب الإستقامة كما أمر على موجب النصوص الآمرة بالاجتهاد
«ولا تركنوا» أي لا تميلوا أدنى ميل
«إلى الذين ظلموا» أي إلى الذين وجد منهم الظلم في الجملة ومدار النهي هو الظلم والجمع باعتبار جمعية المخاطبين وما قيل من أن ذلك للمبالغة في النهي من حيث إن كونهم جماعة مظنة الرخصة في مداهنتهم إنما يتم أن لو كان المراد النهي عن الركون إليهم من حيث إنهم جماعة وليس كذلك
«فتمسكم» بسبب ذلك
«النار» وإذا كان حال الميل في الجملة إلى من وجد منه ظلم ما في الإفضاء إلى مساس النار هكذا فما ظنك بمن يمل إلى الراسخين في الظلم والعدوان ميلا عظيما ويتهالك على مصاحبتهم ومنادمتهم ويلقى شراشره على مؤانستهم ومعاشرتهم ويبتهج بالتزيي بزيهم ويمد عينيه إلى زهرتهم الفانية ويغبطهم بما أوتوا من القطوف الدانية وهو في الحقيقة من الحبة طفيف ومن جناح البعوض خفيف بمعزل عن أن تميل إليه القلوب ضعف الطالب والمطلوب والآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين للتثبيت على الإستقامة التي هي العدل فإن الميل إلى أحد طرفي الإفراط والتفريط ظلم على نفسه أو على غيره وقرئ تركنوا على لغة تميم وتركنوا على صيغة البناء للمفعول من أركنه
«وما لكم من دون الله من أولياء» أي من أنصار ينقذونكم من النار والجملة نصب على الحالية من قوله فتمسكم النار ونفى الأولياء ليس بطريق نفي أن يكون لكل واحد منهم أولياء حتى يصدق أن يكون له ولي بل لمكان لكم بطريق انقسام الآحاد على الآحاد لكن لا على معنى نفي استقلال كل منهم بنصير بل على معنى نفي أن يكون لواحد منهم نصير بقرينة المقام
«ثم لا تنصرون» من جهة الله سبحانه إذ قد سبق في حكمه أن يعذبكم بركونكم إليهم ولا يبقى عليكم وثم لتراخي رتبة كونهم غير منصورين من جهة الله بعد ما أوعدهم بالعذاب وأوجبه عليهم ويجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء بمعنى الاستبعاد فإنه لما بين أن الله تعالى معذبهم وأن غيره لا ينقذهم أنتج أنهم لا ينصرون أصلا
«وأقم الصلاة طرفي النهار» أي غدوة وعشية وانتصابه على الظرفية لكونه مضافا إلى الوقت
«وزلفا من الليل» أي ساعات منه قريبة من النهار فإنه من أزلفه إذا قربه جمع زلفة عطف على طرفي النهار والمراد بصلاتهما صلاة
245

الغداة والعصر وقيل الظهر موضع العصر لأن ما بعد الزوال عشي وبصلاة الزلف المغرب والعشاء وقرئ زلفا بضمتين وضمة وسكون كبسر وبسر وزلفى بمعنى زلفة كقربي بمعنى قربة
«إن الحسنات» التي من جملتها بل عمدتها ما أمرت به من الصلوات
«يذهبن السيئات» التي قلما يخلو منها البشر أي يكفرنها وفي الحديث إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما اجتنب الكبائر وقيل نزلت في أبي اليسر الأنصاري إذ قبل امرأة ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال صلى الله عليه وسلم أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت قال صلى الله عليه وسلم نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت أو يمنعن من اقترافها كقوله تعالى إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر
«ذلك» إشارة إلى قوله تعالى فاستقم فما بعده وقيل إلى القرآن
«ذكرى للذاكرين» أي عظة للمتعظين
«واصبر» على مشاق ما أمرت به في تضاعيف الأوامر السابقة وأما ما نهى عنه من الطغيان والركون إلى الذين ظلموا فليس في الانتهاء عنه مشقة فلا وجه لتعميم الصبر له اللهم إلا أن يراد به ما لا يمكن عادة خلو البشر عنه من أدنى ميل بحكم الطبيعة عن الإستقامة المأمور بها ومن يسير ميل بحكم البشرية إلى من وجد منه ظلم ما فإن في الاحتراز عن أمثاله من المشقة ما لا يخفى
«فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» أي يوفيهم أجور أعمالهم من غير بخس أصلا وإنما عبر عن ذلك بنفي الإضاعة مع أن عدم إعطاء الأجر ليس بإضاعة حقيقة كيف لا والأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها ضياعها لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يمتنع صدوره عنه سبحانه من القبائح وإبراز الإثابة في معرض الأمور الواجبة عليه وإنما عدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف به وهو تعليل للأمر بالصبر وفيه إيماء إلى أن الصبر على ما ذكر من باب الإحسان
«فلولا كان» فهلا كان
«من القرون» الكائنة
«من قبلكم» على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أو كائنة من قبلكم
«أولوا بقية» من الرأي والعقل أو أولوا فضل وخير وسميا بها لأن الرجل إنما يستبقي مما يخرجه عادة أجوده وأفضله فصار مثلا في الجودة والفضل ويقال فلان من بقية القوم أي من خيارهم ومنه ما قيل في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا ويجوز أن تكون البقية بمعنى البقوى كالتقية من التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله تعالى وعقابه ويؤيده أنه قرىء أولو بقية وهي المرة من مصدر بقاه يبقيه إذا راقبه وانتظره أي أولو مراقبة وخشية من عذاب الله تعالى كأنهم ينتظرون نزوله لإشفاقهم
«ينهون عن الفساد في الأرض» الواقع منهم حسب ما حكى عنه
«إلا قليلا ممن أنجينا منهم» استثناء منقطع أي لكن قليلا منهم أنجيناهم لكونهم على تلك الصفة على ان من للبيان لا للتبعيض لأن جميع الناجين ناهون ولا صحة للاتصال على ظاهر الكلام
246

لأنه يكون تحضيضا لأولى البقية على النهي المذكور إلا للقليل من الناجين منهم كما إذا قلت هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم مريدا لاستثناء الصلحاء من المحضضين على القراءة نعم يصح ذلك إن جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض فكأنه قيل ما كان من القرون أولو بقية إلا قليلا منهم لكن الرفع هو الأفصح حينئذ على البدلية
«واتبع الذين ظلموا» بمباشرة الفساد وترك النهي عنه
«ما أترفوا فيه» أي أنعموا من الشهوات واهتموا بتحصيلها أما المباشرون فظاهر وأما المساهلون فلما لهم في ذلك من نيل حظوظهم الفاسدة وقيل المراد بهم تاركو النهي وأنت خبير بأنه يلزم منه عدم دخول مباشري الفساد في الظلم والإجرام عبارة
«وكانوا مجرمين» أي كافرين فهو بيان لسبب استئصال الأمم المهلكة وهو فشو الظلم واتباع الهوى فيهم وشيوع ترك النهي عن المنكرات مع الكفر وقوله واتبع عطف على مضمر دل عليه الكلام أي لم ينهوا واتبع الخ فيكون العدول إلى المظهر لإدراج المباشرين معهم في الحكم والتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بعلية ذلك لما حاق بهم من العذاب أو على استئناف يترتب على قوله إلا قليلا أي إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد واتبع الذين ظلموا من مباشري الفساد وتاركي النهي عنه فيكون الإظهار مقتضى الظاهر وقوله وكانوا مجرمين عطف على أترفوا أي اتبعوا الإتراف وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر أو
على اتبع أي اتبعوا شهواتهم وكانوا بذلك الاتباع مجرمين ويجوز أن يكون اعتراضا وتسجيلا عليهم بأنهم قوم مجرمون وقرئ وأتبع أي أتبعوا جزاء ما أترفوا فتكون الواو للحال ويجوز أن يفسر به المشهورة ويعضده تقدم الإنجاء
«وما كان ربك ليهلك القرى» أي ما صح وما استقام بل استحال في الحكمة أن يهلك القرى التي أهلكها حسب ما بلغك أنباؤها ويعلم من ذلك حال باقيها من القرى الظالمة واللام لتأكيد النفي وقوله
«بظلم» أي ملتبسا به قيل هو حال من الفاعل أي ظالما لها والتنكير للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم والمراد تنزيه الله تعالى عن ذلك بالكلية بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى وإلا فلا ظلم فيما فعله الله تعالى بعباده كائنا ما كان لما تقرر من قاعدة أهل السنة وقد مر تفصليه في سورة آل عمران عند قوله تعالى وأن الله ليس بظلام للعبيد وقوله تعالى
«وأهلها مصلحون» حال من المفعول والعامل عامله ولكن لا باعتبار تقيده بما وقع حالا من فاعله أعني بظلم لدلالته على تقيد نفي الإهلاك ظلما بحال كون أهلها مصلحين ولا ريب في فساده بل مطلقا عن ذلك وقيل المراد بالظلم الشرك والباء للسببية أي لا يهلك القرى بسبب إشراك أهلها وهم مصلحون يتعاطون الحق فيما بينهم ولا يضمون إلى شركهم فسادا آخر وذلك لفرط رحمته ومسامحته في حقوقه تعالى ومن ذلك قدم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقوق العباد الفقراء على حقوق الله تعالى الغني الحميد وقيل الملك يبقى مع الشرك ولا يبقى مع الظلم وأنت تدري أن مقام النهي عن المنكرات التي أقبحها الإشراك بالله لا يلائمه فإن الشرك داخل في الفساد في الأرض دخولا أوليا ولذلك كان ينهى كل من الرسل الذين قصت أنباؤهم أمته أولا عن الإشراك ثم عن
247

سائر المعاصي التي كانوا يتعاطونها فالوجه حمل الظلم على مطلق الفساد الشامل للشرك وغيره من أصناف المعاصي وحمل الإصلاح على إصلاحه والإقلاع عنه بكون بعضهم متصدين للنهي عنه وبعضهم متوجهين إلى الإتعاظ غير مصرين على ما هم عليه من الشرك وغيره من أنواع الفساد
«ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» مجتمعة على الحق ودين الإسلام بحيث لا يكاد يختلف فيه أحد ولكن لم يشأ ذلك فلم يكونوا متفقين على الحق
«ولا يزالون مختلفين» في الحق أي مخالفين له كقوله تعالى وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم
«إلا من رحم ربك» إلا قوما قد هداهم الله تعالى بفضله إلى الحق فاتفقوا عليه ولم يختلفوا فيه أي لم يخالفوه وحمله على مطلق الاختلاف الشامل لما يصدر من المحق والمبطل يأباه الاستثناء المذكور
«ولذلك» أي ولما ذكر من الاختلاف
«خلقهم» أي الذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون فاللام للعاقبة أو للترحم فالضمير لمن واللام في معناها أولهما معا فالضمير للناس كافة واللام بمعنى مجازي عام لكلا المعنيين
«وتمت كلمة ربك» أي وعيده أو قوله للملائكة
«لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين» أي من عصاتهما أجمعين أو منهما أجمعين لا من أحدهما
«وكلا» أي وكل نبأ فالتنوين عوضا عن المضاف إليه
«نقص عليك» يخبرك به وقوله تعالى
«من أنباء الرسل» بيان لكلا وقوله تعالى
«ما نثبت به فؤادك» بدل منه والأظهر أن يكون المضاف إليه المحذوف في كلا المفعول المطلق لنقص أي كل اقتصاص أي كل أسلوب من أساليبه نقص عليك من أنباء الرسل وقوله تعالى ما نثبت به فؤادك مفعول نقص وفائدته التنبيه على أن المقصود بالإقتصاص زيادة يقينه عليه السلام وطمأنينة قلبه وثبات نفسه على أداء الرسالة واحتمال أذية الكفار بالوقوف على تفاصيل أحوال الأمم السالفة في تماديهم في الضلال وما لقي الرسل من جهتهم من مكابدة المشاق
«وجاءك في هذه» السورة أو الأنباء المقصوصة عليك
«الحق» الذي لا محيد عنه
«وموعظة وذكرى للمؤمنين» أي الجامع بين كونه حقا في نفسه وكونه موعظة وذكرى للمؤمنين ولكون الوصف الأول حالا له في نفسه حلى باللام دون ما هو وصف له بالقياس إلى غيره وتقديم الظرف أعني في هذه على الفاعل لأن المقصود بيان منافع السورة أو الأنباء المقصوصة فيها واشتمالها على ما ذكر من المنافع المفصلة لا بيان كون ذلك فيها لا في غيرها ولأن عند تأخير ما حقه التقديم تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن ولأن
248

في المؤخر نوع طول يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم
«وقل للذين لا يؤمنون» بهذا الحق ولا يتعظون به ولا يتذكرون
«اعملوا على مكانتكم» على حالكم وجهتكم التي هي عدم الإيمان
«إنا عاملون» على حالنا وهو الإيمان به والإتعاظ والتذكر به
«وانتظروا» بنا الدوائر
«إنا منتظرون» أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة
«ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله» فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه وقرئ على البناء للفاعل من رجع رجوعا
«فاعبده وتوكل عليه» فإنه كافيك والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إلى الله تعالى وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة إشعار لأنه لا ينفع دونها
«وما ربك بغافل عما يعملون» فيجازيهم بموجبه وقرئ تعملون على تغليب المخاطب أي أنت وهم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة هود أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق كل واحد من الأنبياء المعدودين فيها عليهم الصلاة والسلام وبعدد من كذبهم وكان يوم القيامة من السعداء بفضل الله سبحانه وتعالى
249

سورة يوسف عليه السلام مكية إلا الآيات 1 و 2 و 3 و 7 فمدنية وآياتها 111
بسم الله الرحمن الرحيم «الر» الكلام فيه وفي محله وفيما أريد بالإشارة والآيات والكتاب في قوله
«تلك آيات الكتاب» عين ما سلف في مطلع سورة يونس
«المبين» من أبان بمعنى بان أي الظاهر أمره في كونه من عند الله تعالى وفي إعجازه بنوعيه لا سيما الإخبار عن الغيب أو الوضاح معانيه للعرب بحيث لا يشتبه عليهم حقائقه ولا يلتبس لديهم دقائقه لنزوله على لغتهم أو بمعنى بين أي المبين لما فيه من الأحكام والشرائع وخفايا الملك والملكوت وأسرار النشأتين في الدارين وغير ذلك من الحكم والمعارف والقصص وعلى تقدير كون الكتاب عبارة عن السورة فإبانته إنباؤه عن قصة يوسف عليه السلام فإنه قد روى أن أحبار اليهود قالوا لرؤساء المشركين سلوا محمدا صلى الله عليه وسلم لماذا انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف عليه السلام ففعلوا ذلك فيكون وصف الكتاب بالإبانة من قبيل براعة الإستهلال لما سيأتي ولما وصف الكتاب بما يدل على الشرف الذاتي عقب ذلك بما يدل على الشرف الإضافي فقيل
«إنا أنزلناه» أي الكتاب المنعوت بما ذكر من النعوت الجليلة فإن كان عبارة عن الكل وهو الأظهر الأنسب بقوله تعالى
«قرآنا عربيا» إذ هو المشهور بهذا الاسم المعروف بهذا النعت المتسارع إلى الفهم عند إطلاقهما فالأمر ظاهر وإن جعل عبارة عن السورة فتسميتها قرآنا لما عرفته فيما سلف والسر في ذلك أنه اسم جنس في الأصل يقع على الكل والبعض كالكتاب أو لأنه مصدر بمعنى المفعول أي أنزلناه حال كونه مقروءا بلغتكم
«لعلكم تعقلون» أي لكي تفهموا معانيه طرا وتحيطوا بما فيه من البدائع خبرا وتطلعوا على أنه خارج عن طوق البشر منزل من عند خلاق القوى والقدر
«نحن نقص عليك» أي نخبرك ونحدثك واشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن من يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا كما يقال تلا القرآن لأنه يتبع ما حفظ منه آية بعد آية
«أحسن القصص» أي أحسن الإقتصاص فنصبه على
250

المصدرية وفيه مع بيان الواقع إيهام لما في اقتصاص أهل الكتاب من القبح والخلل وترك المفعول إما للاعتماد على انفهامه من قوله عز وجل
«بما أوحينا» أي بإيحائنا
«إليك هذا القرآن» أي هذه السورة فإن كونها موحاة منبىء عن كون ما في ضمنها مقصوصا والتعرض لعنوان قرآنيتها لتحقيق أن الإقتصاص ليس بطريق الإلهام أو الوحي غير المتلو وإما لظهوره من سؤال المشركين بتلقين علماء اليهود وأحسنيته لأنه قد اقتص على أبدع الطرائق الرائعة الرائقة وأعجب الأساليب الفائقة اللائقة كما لا يكاد يخفى على من طالع القصة من كتب الأولين والآخرين وإن كان لا يميز الغث من السمين ولا يفرق بين الشمال واليمين وفي كلمة هذا إيماء إلى مغايرة هذا القرآن لما في قوله تعالى قرآنا عربيا بأن يكون المراد بذلك المجموع فتأمل أو نقص عليك أحسن ما نقص من الأنباء وهو قصة آل يعقوب عليه السلام على أن القصص فعل بمعنى المفعول كالنبأ والخبر أو مصدر سمى به المفعول كالخلق والصيد ونصب أحسن على المفعولية وأحسنيتها لتضمنها من الحكم والعبر ما لا يخفى كمال حسنه
«وإن كنت» إن مخففة من الثقيلة وضمير الشأن الواقع اسما لها محذوف واللام فارقة والجملة خبر والمعنى وإن الشان كنت
«من قبله» من قبل إيحائنا إليك هذه السورة
«لمن الغافلين» عن هذه القصة لم تخطر ببالك ولم تقرع سمعك قط وهو تعليل لكونه موحى والتعبير عن عدم العلم بالغفلة لإجلال شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن غفل عنه بعض الغافلين
«إذ قال يوسف» نصب بإضمار اذكر وشروع في القصة إنجازا للوعد بأحسن الإقتصاص أو بدل من أحسن القصص على تقدير كونه مفعولا بدل اشتمال فإن اقتصاص الوقت المشتمل على المقصوص من حيث اشتماله عليه اقتصاص للمقصوص ويوسف اسم عبري لا عربي لخلوه عن سبب آخر غير التعريف وفتح السين وكسرها على بعض القراءات بناء على التلعب به لا على أنه مضارع بني للمفعول أو الفاعل من آسف لشهادة المشهورة بعجمته
«لأبيه» يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم أن الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم
«يا أبت» أصله يا أبي فعوض عن الياء تاء التأنيث لتناسبهما في الزيادة فلذلك قلبت هاء في الوقف على قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب وكسرتها لأنها عوض عن
حرف يناسبها وفتحها ابن عامر في كل القرآن لأنها حركة أصلها أو لأن الأصل يا أبتا فحذف الألف وبقي الفتحة وإنما لم يجز يا أبتي لأنه جمع بين العوض والمعوض وقرئ بالضم إجراء لها مجرى الألفاظ المؤنثة بالتاء من غير اعتبار التعويض وعدم تسكينها كأصلها لأنها حرف صحيح منزل منزلة الاسم فيجب تحريكها ككاف الخطاب
«إني رأيت» من الرؤيا لا من الرؤية لقوله لا تقصص رؤياك هذا تأويل رؤياي ولأن الظاهر أن وقوع مثل هذه الأمور البديعة في عالم الشهادة لا يختص برؤية راء دون راء فيكون طامة كبرى لا يخفى على أحد من الناس
«أحد عشر
251

كوكبا والشمس والقمر»
روى عن جابر رضي الله عنه أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أخبرني يا محمد عن النجوم التي رآهن يوسف عليه السلام فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام فأخبره بذلك فقال صلى الله عليه وسلم إذا أخبرتك بذلك هل تسلم فقال نعم قال صلى الله عليه وسلم جريان والطراق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرع ووثاب وذو الكتفين رآها يوسف عليه السلام والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له فقال اليهودي أي والله إنها لأسماؤها وقيل الشمس والقمر أبواه وقيل أبوه وخالته والكواكب إخوته وإنما أخر الشمس والقمر عن الكواكب لإظهار مزيتهما وشرفهما على سائر الطوالع بعطفهما عليها كما في عطف جبريل وميكائيل على الملائكة عليهم السلام وقد جوز أن تكون الواو بمعنى مع أي رأيت الكواكب مع الشمس والقمر ولا يبعد أن يكون ذلك إشارة إلى تأخر ملاقاته عليه السلام لهما عن ملاقاته لإخوته وعن وهب أن يوسف عليه السلام رأى وهو ابن سبع سنين أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة وإذا عصا صغيرة تثب عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال إياك أن تذكر هذا لإخوتك ثم رأى وهو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل وقيل كان بين رؤيا يوسف ومصير إخوته إليه أربعون سنة وقيل ثمانون
«رأيتهم لي ساجدين» استئناف ببيان حالهم التي رآهم عليها كأن سائلا سأل فقال كيف رأيتهم فأجاب بذلك وإنما أجريت مجرى العقلاء في الضمير لوصفها بوصف العقلاء أعني السجود وتقديم الجار والمجرور لإظهار العناية والاهتمام بما هو الأهم مع ما في ضمنه من رعاية الفاصلة
«قال يا بني» صغره للشفقة أو لها ولصغر السن وهو أيضا استئناف مبني على سؤال من قال فماذا قال يعقوب بعد سماع هذه الرؤيا العجيبة ولما عرف يعقوب عليه السلام من هذه الرؤيا أن يوسف يبلغه الله تعالى مبلغا جليلا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه الكرام خاف عليه حسد الأخوة وبغيهم فقال صيانة لهم من ذلك وله من معاناة المشاق ومقاساة الأحزان وإن كان واثقا بأن الله تعالى سيحقق ذلك لا محالة وطمعا في حصوله بلا مشقة
«لا تقصص رؤياك» هي ما في المنام كما أن الرؤية ما في اليقظة فرق بينهما بحر في التأنيث كما في القربى والقربة وحقيقتها ارتسام الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ فتتصور بما فيها مما يليق من المعاني الحاصلة هناك ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ثم إذا كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجبت إليه
«على إخوتك فيكيدوا» نصب بإضمار أن أي فيفعلوا
252

«لك» أي لأجلك ولإهلاكك
«كيدا» متينا راسخا لا تقدر على التفصي عنه أو خفيا عن فهمك لا تتصدى لمدافعته وهذا أوفق بمقام التحذير وإن كان يعقوب عليه السلام يعلم أنهم ليسوا بقادرين على تحويل ما دلت الرؤيا على وقوعه وهذا الأسلوب آكد من أن يقال فيكيدوك كيدا إذ ليس فيه دلالة على كون نفس الفعل مقصود الإيقاع وقد قيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام ليفيد معنى المضمن والمضمن فيه للتأكيد أي فيحتالوا لك ولإهلاكك حيلة وكيدا والمراد بإخوته ههنا الذين يخشى غوائلهم ومكايدهم بنو علاته الأحد عشر وهم يهوذا وروبيل وشمعون ولاوى وربالون ويشجر ودينة بنو يعقوب من ليا بنت خالته ودان ونفتالي وجاد وآشر بنوه من سريتين زلفة وبلهة وهؤلاء هم المشار إليهم بالكواكب الأحد عشر وأما بنيامين الذي هو شقيق يوسف عليه السلام وأمهما راحيل التي تزوجها يعقوب عليه السلام بعد وفاة أختها ليا أو في حياتها إذ لم يكن جمع الأختين إذ ذاك محرما فليس بداخل تحت هذا النهي إذ لا يتوهم مضرته ولا يخشى معرته ولم يكن معدودا معهم في الرؤيا إذ لم يكن معهم في السجود ليوسف والمراد نهيه عن اقتصاص الرؤيا عليهم كلا أو بعضا
«إن الشيطان للإنسان عدو مبين» ظاهر العداوة فلا يألو جهدا في إغواء إخوتك وإضلالهم وحملهم على ما لا خير فيه وهو استئناف كأن يوسف عليه السلام قال كيف يصدر ذلك عن إخوتي الناشئين في بيت النبوة فقيل إن الشيطان يحملهم على ذلك ولما نبهه عليهما السلام على أن لرؤياه شأنا عظيما يستتبع منافع وحذره إشاعتها المؤدية إلى أن يحول إخوته بينها وبين ظهور آثارها وحصولها أو يوعروا سبيل وصولها شرع في تعبيرها وتأويلها على وجه إجمالي فقال
«وكذلك» أي ومثل ذلك الاجتباء البديع الذي شاهدت آثاره في عالم المثال من سجود تلك الأجرام العلوية النيرة لك وبحسبه وعلى وفقه
«يجتبيك ربك» يختارك لجناب كبريائه ويستنبؤك افتعال من جباه إذا جمعه ويصطفيك على أشراف الخلائق وسراة الناس قاطبة ويبرز مصداق تلك الرؤيا في عالم الشهادة حسب ما عاينته من غير قصور والمراد بالتشبيه بيان المضاهاة المتحققة بين الصور المرئية في عالم المثال وبين ما وقعت هي صورا وأشباحا له من الكائنات الظاهرة بحسبها في عالم الشهادة أي كما سخرت لك تلك الأجرام العظام يسخر لك وجوه الناس ونواصيهم مذعنين لطاعتك خاضعين لك على وجه الإستكانة ومراده بيان
إطاعة أبويه وإخوته له لكنه إنما لم يصرح به حذرا من إذاعته
«ويعلمك» كلام مبتدأ غير داخل تحت التشبيه أراد به عليه السلام تأكيد مقالته وتحقيقها وتوطين نفس يوسف عليه السلام بما أخبر به على طريقة التعبير والتأويل كأنه قال وهو يعلمك
«من تأويل الأحاديث» أي ذلك الجنس من العلوم أو طرفا صالحا منه فتطلع على حقية ما أقول ولا يخفى ما فيه من تأكيد ما سبق والبعث على تلقى ما سيأتي بالقبول والمراد بتأويل الأحاديث تعبير الرؤيا إذ هي أحاديث الملك إن كانت صادقة أو أحاديث
253

النفس أو الشيطان إن لم تكن كذلك والأحاديث اسم جمع للحديث كالأباطيل اسم جمع للباطل لا جمع أحدوثة وقيل كأنهم جمعوا حديثا على أحدثة ثم جمعوا الجمع على أحاديث كقطيع وأقطعة وأقاطيع وقيل هو تأويل غوامض كتب الله تعالى وسنن الأنبياء عليهم السلام والأول هو الأظهر وتسمية التعبير تأويلا لأنه جعل المرئي آيلا إلى ما يذكره المعبر بصدد التعبير ورجعه إليه فكأنه عليه الصلاة والسلام أشار بذلك إلى ما سيقع من يوسف عليه السلام من تعبيره لرؤيا صاحبي السجن ورؤيا الملك وكون ذلك ذريعة إلى ما يبلغه الله تعالى إليه من الرياسة العظمى التي عبر عنها بإتمام النعمة وإنما عرف يعقوب عليه السلام ذلك منه من جهة الوحي أو أراد كون هذه الخصلة سببا لظهور أمره عليه السلام على الإطلاق فيجوز حينئذ أن تكون معرفته عليه السلام لذلك بطريق الفراسة والاستدلال من الشواهد والدلائل والأمارات والمخايل بأن من وفقه الله تعالى لمثل هذه الرؤيا لا بد من توفيقه لتعبيرها وتأويل أمثالها وتمييز ما هو آفاقي منها مما هو أنفسي كيف لا وهي تدل على كمال تمكن نفسه عليه السلام في عالم المثال وقوة تصرفاتها فيه فيكون أقبل لفيضان المعارف المتعلقة بذلك العالم وبما يحاكيه من الأمور الواقعة بحسبها في عالم الشهادة وأقوى وقوفا على النسب الوقاعة بين الصور المعاينة في أحد ذينك العالمين وبين الكائنات الظاهرة على وفقها في العالم الآخر وأن هذا الشأن البديع لا بد أن يكون أنموذجا لظهور أمر من اتصف به ومدارا لجريان أحكامه فإن لكل نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معجزة بها تظهر آثاره وتجري أحكامه
«ويتم نعمته عليك» بأن يضم إلى النبوة المستفادة من الاجتباء الملك ويجعله تتمة لها وتوسيط ذكر التعليم المذكور بينهما لكونه من لوازم النبوة والإجتباء ولرعاية ترتيب الوجود الخارجي ولما أشرنا إليه من كون أثره وسيلة إلى تمام النعمة ويجوز أن يعد نفس الرؤيا من نعم الله تعالى عليه فيكون جميع النعم الواصلة إليه بحسبها مصداقا لها تماما لتلك النعمة
«وعلى آل يعقوب» وهم أهله من بنيه وغيرهم فإن رؤية يوسف عليه السلام إخوته كواكب يهتدي بأنوارها من نعم الله تعالى عليهم لدلالتها على مصير أمرهم إلى النبوة فيقع كل ما يخرج من القوة إلى الفعل من كمالاتهم بحسب ذلك تماما لتلك النعمة لا محالة وأما إذا أريد بتمام تلك النعمة الملك فكونه كذلك بالنسبة إليهم باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال
«كما أتمها على أبويك» نصب على المصدرية أي ويتم نعمته عليك إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك وهي نعمة الرسالة والنبوة وإتمامها على إبراهيم عليه السلام باتخاذه خليلا وإنجائه من النار ومن ذبح الولد وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه وكل ذلك نعم جليلة وقعت تتمة لنعمة النبوة ولا يجب في تحقيق التشبيه كون ذلك في جانب المشبه به مثل ما وقع في جانب المشبه من كل وجه
«من قبل» أي من قبل هذا الوقت أو من قبلك
«إبراهيم وإسحاق» عطف بيان لأبويك والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به في ضمن التعبير الإجمالي لرؤياه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء فإن إتمام النعمة
254

يقتضي سابقة النعمة المستدعية للإجتباء لا محالة
«إن ربك» استئناف لتحقيق مضمون الجمل المذكورة أي يفعل ما ذكر لأنه
«عليم» بكل شيء فيعلم من يستحق الاجتباء وما يتفرع عليه من التعليم المذكور وإتمام النعمة العامة على الوجه المذكور
«حكيم» فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فيفعل ما يفعل كما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته والتعرض لعنوان الربوبية في الموضعين لتربية تحقق وقوع ما ذكر من الأفاعيل هذا وقد قيل في تفسير الآية الكريمة أي وكما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالة على شرف وعز وكمال نفس يجتبيك ربك للنبوة والملك أو لأمور عظام ويتم نعمته عليك بالنبوة أو بأن يصل نعمة الدينا بنعمة الآخرة حيث جعلهم في الدنيا أنبياء وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة كما أتمها على أبويك بالرسالة فتأمل والله الهادي
«لقد كان في يوسف وإخوته» أي في قصتهم والمراد بهم ههنا إما جميعهم فإن لبنيامين أيضا حصة من القصة أو بنو علاته المعدودون فيما سلف إذ عليهم يدور رحاها
«آيات» علامات عظيمة الشأن دالة على قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة
«للسائلين» لكل من يسأل عن قصتهم وعرفها أو الطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها والمنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون فالمراد بالقصة نفس المقصوص أو على نبوته عليه السلام لمن سأله من المشركين أو اليهود عن قصتهم فأخبرهم بذلك على ما هي عليه من غير سماع من أحد ولا ممارسة شيء من الكتب فالمراد بها اقتصاصها وجمع الآيات حينئذ للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة
آية بينة كافية في الدلالة على نبوته عليه السلام على نحو ما ذكر في قوله تعالى مقام إبراهيم على تقدير كونه عطف بيان لقوله تعالى آيات بينات لا لما قيل من أنه لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى وقرأ ابن كثير آية وفي بعض المصاحف عبرة وقيل إنما قص الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خبر يوسف وبغى إخوته عليه لما رأى من بغي قومه عليه ليأتي به
«إذ قالوا ليوسف وأخوه» أي شقيقه بنيامين وإنما لم يذكر باسمه تلويحا بأن مدار المحبة أخوته ليوسف من الطرفين ألا يرى إلى أنهم كيف اكتفوا بإخراج يوسف من البين من غير تعرض له حيث قالوا اقتلوا يوسف
«أحب إلى أبينا منا» وحد الخبر مع تعدد المبتدأ لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر والمؤنث نعم إذا عرف وجب الفرق وإذا أضيف جاز الأمران وفائدة لام الابتداء في يوسف تحقيق مضمون الجملة وتأكيده
«ونحن عصبة» أي والحال أنا جماعة قادرون على الحل والعقد أحقاء بالمحبة والعصبة والعصابة العشرة من الرجال فصاعدا سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم
«إن أبانا» في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل من كفاية الأمور بالصغر والقلة
«لفي ضلال» أي ذهاب عن طريق التعديل اللائق وتنزيل كل منا منزلته
«مبين»
255

ظاهر الحال روى أنه كان أحب إليه لما يرى فيه من مخايل الخير وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا ضاعف له المحبة بحيث لم يصبر عنه فتضاعف حسدهم حتى حملهم على مباشرة ما قص عنهم
«اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا» من جملة ما حكى بعد قوله إذا قالوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين بقضية الصيغة فكأنهم رضوا بذلك كما يروي أن القائل شمعون أو دان والباقون كانوا راضين إلا من قال لا تقتلوا الخ فجعلوا كأنهم القائلون وأدرجوا تحت القول المسند إلى الجميع أو قاله كل واحد منهم مخاطبا للبقية وهو أدل على مسارعتهم إلى ذلك القول وتنكير أرضا وإخلاؤها من الوصف للإبهام أي أرضا منكورة مجهولة بعيدة من العمران ولذلك نصبت نصب الظروف المبهمة
«يخل» بالجزم جواب للأمر أي يخلص
«لكم وجه أبيكم» فيقبل عليكم بكليته ولا يلتفت عنكم إلى غيركم ولا يساهمكم في محبته أحد فذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم
«وتكونوا» بالجزم عطفا على يخل أو بالنصب على إضمار أن أو الواو بمعنى مع مثل قوله وتكتموا الحق وإيثار الخطاب في لكم وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل
«من بعده» من بعد يوسف أي من بعد الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه
«قوما صالحين» تائبين إلى الله تعالى عما جنيتم أو صالحين مع أبيكم بإصلاح ما بينكم وبينه بعذر تمهدونه أو صالحين في أمور دنياكم بانتظامها بعده بخلو وجه أبيكم
«قال قائل منهم» هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وهو الذي قال فلن أبرح الأرض الخ وقيل روبيل وهو استئناف مبني على سؤال من سأل وقال اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الضيع أم خالفهم في ذلك أحد فقيل قال قائل منهم
«لا تقتلوا يوسف» أظهره في مقام الإضمار استجلابا لشفقتهم عليه أو استعظاما لقتله وهو هو فإنه يروي أنه قال لهم القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله
«وألقوه في غيابة الجب» أي في قعره وغوره سمى بها لغيبته عن عين الناظر والجب البئر التي لم تطو بعد لأنها أرض جبت جبا من غير أن يزاد على ذلك شيء وقرأ نافع في غيابات الجب في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب وقرئ غيابات وغيبة
«يلتقطه» يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الإلتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع
«بعض السيارة» أي بعض طائفة تسير في الأرض واللام في السيارة كما في الجب وما فيهما وفي بعض من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائى يوسف عنهم بحيث لا يدري أثره ولا يروي خبره وقرئ تلتقطه على التأنيث لأن بعض السيارة سيارة كقوله
* كما شرقت صدر القناة من الدم
* ومنه قطعت بعض أصابعه
«إن كنتم فاعلين» بمشورتي لم يبت القول عليهم بل إنما عرض
256

عليهم ذلك تأليفا لقلبهم وتوجيها لهم إلى رأيه وحذرا من نسبتهم له إلى التحكم والإفتيات أو إن كنتم فاعلين ما أزمعتم عليه من إزالته من عند أبيه لا محالة ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا ذلك منه أو لا أجيب بطريق الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم لله بما سيجيء من قوله وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب فقيل
«قالوا يا أبانا» خاطبوه بذلك تحريكا لسلسلة النسب بينه وبينهم وتذكيرا لرابطة الأخوة بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام ليتسببوا بذلك إلى استنزاله عليه السلام عن رأيه في حفظه منهم لما أحس منهم بأمارات الحسد والبغي فكأنهم قالوا
«مالك» أي أي شيء لك
«لا تأمنا» أي لا تجعلنا أمناء
«على يوسف» مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا
«وإنا له لناصحون» مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بالنصيحة والمقة قط والقراءة المشهورة بالإدغام والإشمام وعن نافع رضي الله عنه ترك الإشمام ومن الشواذ ترك الإدغام
«أرسله معنا غدا» إلى الصحراء
«يرتع» أي يتسع في أكل الفواكه ونحوهما فإن الرتع هو الإتساع في الملاذ
«ويلعب» بالإستباق والتناضل ونظائرهما مما يعد من باب التأهب للغزو وإنما عبروا عن ذلك باللعب لكونه على هيئته تحقيقا لما راموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام وقرئ نرتع ونلعب بالنون وقرأ ابن كثير نرتع من ارتعى ونافع بالكسر والياء فيه وفي يلعب وقرئ يرتع من أرتع ماشيته ويرتع بكسر العين ويلعب بالرفع على الابتداء
«وإنا له لحافظون» من أن يناله مكروه أكدوا مقالتهم بأصناف التأكيد من إيراد الجملة اسمية وتحليتها بأن واللام وإسناد الحفظ إلى كلهم وتقديم له على الخبر احتيالا في تحصيل مقصدهم
«قال» استئناف مبني على سؤال من يقول فماذا قال يعقوب عليه السلام فقيل قال
«إني ليحزنني» اللام للابتداء كما في قوله عز وجل إن ربك ليحكم بينهم
«أن تذهبوا به» لشدة مفارقته علي وقلة صبري عنه
«و» مع ذلك
«أخاف أن يأكله الذئب» لأن الأرض كانت مذأبة والحزن ألم القلب بفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه ولذلك أسند الأول إلى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب وقيل رأى في المنام أنه قد شد عليه عليه السلام ذئب وكان يحذره فقال ذلك وقد لقنهم العلة
* إن البلاء موكل بالمنطق
* وقرأ ابن كثير ونافع في رواية البزي بالهمزة على الأصل وأبو عمرو به وقفا وعاصم وابن عامر وحمزة درجا وقيل اشتقاقه من تذاءبت الريح إذا هاجت من كل جانب وقال الأصمعي الأمر بالعكس وهو أظهر لفظا ومعنى
«وأنتم عنه غافلون» لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه
257

«قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة» أي والحال أنا جماعة كثيرة جديرة بأن يعصب بنا الأمور العظام وتكفى الخطوب بآرائنا وتدبيراتنا واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم وقوله «إنا إذا لخاسرون» جواب مجزىء عن الجزاء أي لهالكون ضعفا وخورا وعجزا أو مستحقون للهلاك إذ لا غناء عندنا ولا جدوى في حياتنا أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار ويقال خسرهم الله تعالى ودمرهم حيث أكل الذئب بعضهم وهم حضور وقيل إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا إذن وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف يعقوب عليه السلام من أكل الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر مدته بناء على أنهم يأتون به عن قريب
«فلما ذهبوا به وأجمعوا» أي أزمعوا
«أن يجعلوه» مفعول لأجمعوا يقال أجمع الأمر ومنه فأجمعوا أمركم ولا يستعمل ذلك إلا في الأفعال التي قويت الدواعي إلى فعلها
«في غيابة الجب» قيل هي بئر بأرض الأردن وقيل بين مصر ومدين وقيل على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن كما أن مدين كذلك وأما يقال من أنها بئر بيت المقدس فيرده التعليل بالتقاط السيارة ومجيئهم أباهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبين بيت المقدس مراحل وجواب لما محذوف إيذانا بظهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا به من الأذية ما فعلوا يروى أنهم لما برزوا إلى الصحراء أخذوا يؤذونه ويضربونه حتى كادوا يقتلونه فجعل يصيح ويستغيث فقال يهوذا أما عاهدتموني أن لا تقتلوه فأتوا به إلى البئر فتعلق بثيابهم فنزعوها من يديه فدلوه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه لما عزموا عليه من تلطيخه بالدم احتيالا لأبيه فقال يا إخوتاه ردوا على قميصي أتواري به فقالوا ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا تؤنسك فدلوه فيها فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه ظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه فمنعهم يهوذا وكان يأتيه بالطعام كل يوم ويروى أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وجرد عن ثيابه أتاه جبريل عليه السلام بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة وعلقها في عنق يوسف فجاءه جبريل عليه السلام فأخرجه من التميمة فألبسه إياه
«وأوحينا إليه» عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وإيناسا له قيل كان ذلك قبل إدراكه كما أوحى إلى يحيى وعيسى وقيل كان إذ ذاك مدركا قال
الحسن رضي الله عنه كان له سبع عشرة سنة
«لتنبئنهم بأمرهم هذا» أي لتتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتحدثن إخوتك بما فعلوا بك
«وهم لا يشعرون» بأنك يوسف لتباين حاليك
258

حالك هذا وحالك يومئذ لعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك عن أوهامهم وقيل لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية روى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيكم أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس ويجوز أن يتعلق وهم لا يشعرون بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأزلنا عن قلبه الوشحة التي أورثوه وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مرهق ومستوحش لا أنيس له وقرئ لننبئنهم بالنون على أنه وعيد لهم فقوله تعالى وهم لا يشعرون متعلق بأوحينا لا غير
«وجاؤوا أباهم عشاء» آخر النهار وقرئ عشيا وهو تصغير عشى وعشى بالضم والقصر جمع أعشى أي عشوا من البكاء
«يبكون» متباكين روى أنه لما سمع يعقوب عليه السلام بكاءهم فزع وقال ما لكم يا بني وأين يوسف
«قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق» أي متسابقين في العدو والرمي وقد يشترك الافتعال والتفاعل كالإنتضال والتناضل ونظائرهما
«وتركنا يوسف عند متاعنا» أي ما نتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما
«فأكله الذئب» عقيب ذلك من غير مضى زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعهد تركه عليه السلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذا لم يبرحوه ولم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا إنا لم نقصر في محافظته ولم نغفل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا لأن ميدان السباق لا يكون عادة إلا بحيث يتراءى غايتاه وما فارقناه إلا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان
«وما أنت بمؤمن لنا» بمصدق لنا في هذه المقالة الدالة على عدم تقصيرنا في أمره
«ولو كنا» عندك وفي اعتقادك
«صادقين» موصوفين بالصدق والثقة لشدة محبتك ليوسف فكيف وأنت سئ الظن بنا غير واثق بقولنا وكلمة لو في أمثال هذه المواقع لبيان تحقق ما يفيده الكلام السابق من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع غيره من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيء متى تحقق مع المنافي القوي فلأن يتحقق مع غيره أولى ولذلك لا يذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفي عنه بذكر الواو العاطفة للجملة على نظيرتها المقابلة لها الشاملة لجميع الأحوال المغايرة لها عند تعددها وقد مر تفصيله في سورة البقرة عند قوله تعالى أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون وفي سورة الأعراف عند قوله تعالى أولو كنا كارهين
259

«وجاؤوا على قميصه» محله النصب على الظرفية من قوله
«بدم» أي جاءوا فوق قميصه بدم كما تقول جاء على جماله بأحمال أو على الحالية منه والخلاف في تقدم الحال على المجرور فيما إذا لم يكن الحال ظرفا
«كذب» مصدر وصف به الدم مبالغة أو مصدر بمعنى المفعول أي مكذوب فيه أو بمعنى ذي كذب أي ملابس لكذب وقرئ كذبا على أنه حال من الضمير أي جاءوا كاذبين أو مفعول له وقرأت عائشة رضي الله تعالى عنها بغير المعجمة أي كدر وقيل طري قال ابن جني أصله من الكذب وهو الفوف البياض الذي يخرج على أظفار الاحداث كأنه دم قد أثر في قميصه روى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها وزل عنهم أن يمزقوه فلما سمع يعقوب بخبر يوسف عليهما السلام صاح بأعلى صوته وقال أين القميص فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ولم يمزق عليه قميصه وقيل كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على كذبهم وألقاه على وجهه فارتد بصيرا ودليلا على براءة يوسف عليه السلام حين قدمن دبر
«قال» استئناف مبنى على سؤال فكأنه قيل ما قال يعقوب هل صدقهم فيما قالوا أم لا فقيل قال لم يكن ذلك
«بل سولت لكم أنفسكم» أي زينت وسهلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما والتسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه قال الأزهري كأن التسويل تفعيل من سؤال الإنسان وهو أميته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره واصله مهموز وقيل من السول وهو الإسترخاء
«أمرا» من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف فصبر جميل أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل أو أمثل وفي الحديث الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق وإلا فقد قال يعقوب عليه السلام إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وقيل سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل ما هذا قال طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله عز وجل إليه يا يعقوب أتشكوني قال يا رب خطيئة فاغفرها لي وقرأ أبي فصبرا جميلا
«والله المستعان» أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السلام للاستعانة المستمرة
«على ما تصفون» على إظهار حال ما تصفون وبيان كونه كذبا وإظهار سلامته فإنه علم في الكذب قال سبحانه سبحان ربك رب العزة عما يصفون وهو الأليق بما سيجيء من قوله تعالى فصبر جميل عسى الله أني يأتيني بهم جميعا وتفسير المستعان عليه باحتمال ما يصفون من هلاك يوسف والصبر على الرزء فيه يأباه تكذيبه عليه السلام لهم في ذلك ولا تساعده الصيغة فإنها قد غلبت في وصف الشيء بما ليس فيه كما أشير إليه
«وجاءت» شروع في بيان
260

ما جرى على يوسف في الجب بعد الفراغ من ذكر ما وقع بين إخوته وبين أبيه والتعبير بالمجيء ليس بالنسبة إلى مكانهم فإن كنعان ليس بالجانب المصري من مدين بل إلى مكان يوسف وفي إيثاره على المرور أو الإتيان أو نحوهما إيماء إلى كونه عليه السلام في الكرامة والزلفى عند مليك مقتدر والظاهر أن الجب كان في الأمم المئتاء فإن المتبادر من إسناد المجيء إلى السيارة مطلقا في قوله عز وجل وجاءت
«سيارة» أي رفقة تسير من جهة مدين إلى مصر وقوعه باعتبار سيرهم المعتاد وهو الذي يقتضيه قوله تعالى فيما سلف يلتقطه بعض السيارة وقد قيل إنه كان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه وقيل كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقى فيه عليه السلام
«فأرسلوا واردهم» الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي وإنما لم يذكر منتهى الإرسال كما لم يذكر منتهى المجيء أعني الجب للإيذان بأن ذلك معهود لا يضرب عنه الذكر صفحا
«فأدلى دلوه» أي أرسلها إلى الجب والحذف لما عرفته فتدلى بها يوسف فخرج
«قال» استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال
«يا بشرى هذا غلام» كأنه نادى البشرى وقال تعالى فهذا أوانك حيث فاز بنعمة باردة وأي نعمة مكان ما يوجد مباحا من الماء وقيل هو اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه وقرأ غير الكوفيين يا بشراي وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ يا بشرى بالإدغام وهي لغة وبشراي على قصد الوقف
«وأسروه» أي أخفاه الوارد وأصحابه عن بقية الرفقة وقيل أخفوا أمره ووجدانهم له في الجب وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر وقيل الضمير لأخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا هذا غلامنا أبق فاشتروه منهم وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ولا يخفى ما فيه من البعد
«بضاعة» نصب على الحالية أي أخفوه حال كونه بضاعة أي متاعا للتجارة فإنها قطعة من المال بضعت عنه أي قطعت للتجارة
«والله عليم بما يعملون» وعيد لهم على ما صنعوا من جعلهم مثل يوسف وهو هو عرضة للإبتذال بالبيع والشراء وما دبروا في ذلك من الحيل
«وشروه» أي باعوه والضمير للوارد وأصحابه
«بثمن بخس» زيف ناقص العيار
«دراهم» بدل من ثمن أي لا دنانير
«معدودة» أي غير موزونة فهو بيان لقلته ونقصانه مقدارا بعد بيان نقصانه في نفسه إذ المعتاد فيما لا يبلغ أربعين العد دون الوزن فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها كانت عشرين درهما وعن السدي رضي الله عنه أنها كانت اثنين وعشرين درهما
«وكانوا» أي البائعون
«فيه» في يوسف
«من الزاهدين» من الذين لا يرغبون فيما بأيديهم فلذلك باعوه بما ذكر من الثمن البخس وسبب ذلك أنهم التقطوه والملتقط للشيء متهاون به أو غير واثق بأمره يخاف أن يظهر له مستحق فينتزعه منه فيبيعه من أول مساوم بأوكس ثمن ويجوز أن يكون معنى شروه اشتروه من إخوته على ما حكى وهم غير راغبين في شراه خشية ذهاب ما لهم لما طن في آذانهم من الإباق والعدول عن صيغة الافتعال المنبئة عن الإتخاذ لما مر من أن أخذهم إنما كان بطريق البضاعة دوت الاجتباء والإقتناء وفيه متعلق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف
261

وبيان لما زهدوا فيه إن جعلت موصولة كأنه قيل في أي شيء زهدوا فقيل زهدوا فيه لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول
«وقال الذي اشتراه من مصر» وهو العزيز الذي كان على خزائنه وسمه قطفير أو اطفير وبيان كونه من مصر لتربية ما يتفرع عليه من الأمور مع الإشعار بكونه غير من اشتراه من الملتقطين بما ذكر من الثمن البخس وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد العمليقي ومات في حياة يوسف عليه السلام بعد أن آمن به فملك بعده قابوس بن مصعب فدعاه إلى الإسلام فأبى وقيل كان الملك في أيامه فرعون موسى عليه السلام عاش أربعمائة سنة لقوله عز وجل ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات وقيل فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء واختلف في مقدار ما اشتراه به العزيز فقيل بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين وقيل أدخلوه في السوق يعرضونه فترافعوا في ثمن حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا ووزنه ورقا ووزنه حريرا فاشتراه قطفير بذلك المبلغ وكان سنه إذ ذاك سبع عشرة سنة وأقام في منزله مع ما مر عليه من مدة لبثه في السجن ثلاث عشرة سنة واستوزره الريان وهو ابن ثلاثين سنة وآتاه الله العلم والحكمة وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وتوفى وهو ابن مائة وعشرين سنة
«لامرأته» راعيل أو زليخا وقيل اسمها هو الأول والثاني لقبها واللام متعلقة بقال لا باشتراه
«أكرمي مثواه» اجعلي محل إقامته كريما مرضيا والمعنى أحسني تعهده
«عسى أن ينفعنا» في ضياعنا وأموالنا ونستظهر به في مصالحنا
«أو نتخذه ولدا» أي نتبناه وكان ذلك لما تفرس فيه من مخايل الرشد والنجابة ولذلك قيل أفرس الناس ثلاثة عزيز مصر وابنة شعيب التي قالت يا أبت استأجره وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله عنهما
«وكذلك» نصب على المصدرية وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلام العزيز وما فيه من معنى البعد لتفخيمه أي مثل ذلك التمكين البديع
«مكنا ليوسف في الأرض» أي جعلنا له فيها مكانا يقال مكنه فيه أي اثبته فيه ومكن له فيه أي جعل له فيه مكانا ولتقاربهما وتلازمهما يستعمل كل منهما في محل الآخر قال عز وجل وكم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أي ما لم نمكنكم فيها أو مكنا لهم في الأرض الخ والمعنى كما جعلنا له مثوى كريما في منزل العزيز أو مكانا عليا في قلبه حتى أمر امرأته دون سائر حواشيه بإكرام مثواه جعلنا له مكانة رفيعة في أرض مصر ولعله عبارة عن جعله وجيها بين أهلها ومحببا في قلوبهم كافة كما في قلب العزيز لأنه الذي يؤدي إلى الغاية المذكورة في قوله تعالى
«ولنعلمه من تأويل الأحاديث» أي نوفقه لتعبير بعض المنامات التي عمدتها رؤيا الملك وصاحبي السجن لقوله تعالى ذلكما مما علمني ربي سواء جعلناه معطوفا على غاية مقدرة ينساق إليها الكلام ويستدعيها النظام كأنه قيل ومثل ذلك التمكين مكنا ليوسف في الأرض وجعلنا قلوب
262

أهلها كافة محال محبته ليترتب عليه ما ترتب مما جرى بينه وبين امرأة العزيز ولنعلمه تأويل الأحاديث وهو تأويل الرؤيا المذكورة فيؤدي ذلك إلى الرياسة العظمى ولعل ترك المعطوف عليه للإشعار بعدم كونه مرادا بالذات أو جعلناه علة لمعلل محذوف كأنه قيل ولهذا الحكمة البالغة فعلنا ذلك التمكين دون غيرها مما ليس له عاقبة حميدة هذا ولا يخفى عليك أن الذي عليه تدور هذه الأمور إنما هو التمكين في جانب العزيز وأما التمكين في جانب الناس كافة فتأديته إلى ذلك إنما هي باعتبار اشتماله على ذلك التمكين فإذن الحق أن يكون ذلك إشارة إلى مصدر قوله تعالى مكنا ليوسف على أن يكون هو عبارة عن التمكين في قلب العزيز أو في منزله وكون ذلك تمكينا في الأرض بملابسة أنه عزيز فيها لا عن تمكين آخر يشبه به كما مر في قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا من أن ذلك إشارة إلى مصدر الفعل المذكور بعده لا إلى جعل آخر يقصد تشبيه هذا الجعل به فالكاف مقحم للدلالة على فخامة شأن المشار إليه إقحاما لا يكاد يترك في لغة العرب ولا في غيرها ومن ذلك قولهم مثلك لا يبخل وهكذا ينبغي أن يحقق المقام وأما التمكين بمعنى جعله ملكا يتصرف في أرض مصر بالأمر والنهي فهو من آثار ذلك التعليم ونتائجه المتفرعة عليه كما عرفته لا من مباديه المؤدية إليه فلا سبيل إلى جعله غاية له ولم يعهد منه عليه السلام في تضاعيف قضاياه العمل بموجب المنامات المنبهة على الحوادث قبل وقوعها عهدا مصححا لجعله غاية لولايته وما وقع من التدارك في أمر السنين فإنما هو عمل بموجب الرؤيا السابقة المعهودة اللهم إلا أن يراد بتعليم تأويل الأحاديث ما سبق من تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيكون المعنى حينئذ مكنا له في أرض مصر ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه معاني كتب الله تعالى وأحكامها ودقائق سنن الأنبياء عليهم السلام فيقضي بها فيما بين أهلها والتعليم الإجمالي لتلك المعاني والأحكام وإن كان غير متأخر عن تمكينه بذلك المعنى إلا أن تعليم كل معنى شخصي يتفق في ضمن الحوادث والإرشاد إلى الحق في كل نازلة من النوازل متأخر عن ذلك صالح لأن يكون غاية له
«والله غالب على أمره» لا يستعصى عليه أمر ولا يمانعه شيء بل إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فيدخل في ذلك شؤونه المتعلقة بيوسف دخولا أوليا أو متول على أمر يوسف لا يكله إلى غيره وقد أريد به من الفتنة ما أريد مرة غب مرة فلم يكن إلا ما أراد الله له من العاقبة الحميدة
«ولكن أكثر الناس لا يعلمون» أن الأمر كذلك فيأتون ويذرون زعما منهم أن لهم من الأمر شيئا وأني لهم ذلك وإن الأمر كله لله عز وجل أو لا يعلمون لطائف صنعه وخفايا فضله
«ولما بلغ أشده» أي منتهى اشتداد جسمه وقوته وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين إلى الأربعين وقيل سن الشباب ومبدأ بلوغ الحلم والأول هو الأظهر لقوله تعالى
«آتيناه حكما» حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكما بين الناس وفقها أو نبوة
«وعلما» أي تفقها في الدين وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما فهما ما آتاه الله تعالى عند تكامل قواه سواء كانا عبارة عن النبوة والحكم بين الناس أو غيرهما كيف لا وقد جعل إيتاؤهما
263

جزاء لعمله عليه السلام حيث قال
«وكذلك» أي مثل ذلك الجزاء العجيب
«نجزي المحسنين» أي كل من يحسن في عمله فيجب أن يكون ذلك بعد انقضاء أعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد وقد فسر العلم بعلم تأويل الأحاديث ولا صحة له إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاؤه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنا من أعماله متقيا في عنفوان أمره هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
«وراودته التي هو في بيتها» رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه وقوله تعالى وكذلك مكنا ليوسف إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في جميع أعماله لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء ما يخل بنزاهته ولا يخفى أن مدار حسن التخليص إلى هذا الاعتراض قبل تمام الآية الكريمة إنما هو التمكين البالغ المفهوم من كلام العزيز فإدراج الإنجاء السابق تحت الإشارة بذلك في قوله تعالى وكذلك مكنا كما فعله الجمهور ناء من التقريب فتأمل والمراودة المطالبة من راد يرود إذا جاء وذهب
لطلب شيء ومنه الرائد لطلب الماء والكلأ وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب ونظائرها مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقام مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم كما تدين تدان أي كما تجزى تجزى فإن فعل البادي وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام والقراءة عبر عنهما بهما فقيل إذا قمتم إلى الصلاة فإذا قرأت القرآن وهذه قاعدة مطردة مستمرة ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي هي من جانب الدائن وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتهما التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل ويجوز أن يراد بصيغة المغالبة مجرد المبالغة وقيل الصيغة على بابها بمعنى أنها طلبت منه الفعل وهو منها الترك ويجوز أن يكون من الرويد وهو الرفق والتحمل وتعديتها بعن لتضمينها معنى المخادعة فالمعنى خادعته
«عن نفسه» أي فعلت
264

ما يفعل المخادع لصاحبه عن شيء لا يريد إخراجه من يده وهو يحتال أن يأخذه منه وهي عبارة عن التمحل في مواقعته إياها والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على السر أو للإستهجان بذكره وإيراد الموصول لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك قيل لواحدة ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه قالت قرب الوساد وطول السواد ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصاءه عليها مع كونه تحت ملكتها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة والنزاهة
«وغلقت الأبواب» قيل كانت سبعة ولذلك جاء الفعل بصيغة التفعيل دون الإفعال وقيل للمبالغة في الإيثاق والإحكام
«وقالت هيت لك» قرىء بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وبناؤه كبناء أين وعيط وهيت كجير وهيت كحيث اسم فعل معناه أقبل وبادر واللام للبيان أي لك أقول هذا كما في هلم لك وقرئ هئت لك على صيغة الفعل بمعنى تهيأت يقال هاء يهيىء كجاء يجيء إذا تهيأ وهيئت لك واللام صلة للفعل
«قال معاذ الله» أي أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله تعالى للخلاص منه وما ذاك إلا لأنه عليه السلام قد شاهده بما أراه الله تعالى من البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء وقوله عز وجل
«إنه ربي أحسن مثواي» تعليلا للإمتناع ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي الذي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها والضمير للشأن ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن ذكره وفائدة تصدير الجملة به الإيذان بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقريره في الذهن فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن فكأنه قيل إن الشأن الخطير هذا وهو ربي أي سيدي العزيز أحسن مثواي أي أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه وقيل الضمير لله عز وجل وربي خبر إن وأحسن مثواي خبر ثان أو هو الخبر والأول بدل من الضمير والمعنى أن الحال هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة وفيه تحذير لها من عقاب الله عز وجل وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة من غير تعرض لاقتضائها الامتناع عما دعته إليه إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته وكونه مما لا يدخل تحت الوقوع أصلا وقوله تعالى
«إنه لا يفلح الظالمون» تعليل للإمتناع المذكور غب تعليل والفلاح الظفر وقيل البقاء في الخير ومعنى أفلح دخل فيه كأصبح وأخواته والمراد بالظالمين كل من ظلم كائنا من كان فيدخل في ذلك المجازون للإحسان بالإساءة والعصاة لأمر الله تعالى دخولا أوليا وقيل الزناة لأنهم ظالمون لأنفسهم وللمزني بأهله
«ولقد همت به» بمخالطته إذ الهم لا يتعلق
265

بالأعيان أي قصدتها وعزمت عليها عزما جازما لا يلوبها عنه صارف بعد ما باشرت مباديها وفعلت ما فعلت من المراودة وتغليق الأبواب ودعوته عليه السلام إلى نفسها بقولها هيت لك ولعلها قصدت هنالك لأفعال أخر من بسط يدها إليه وقصد المعانقة وغير ذلك مما يضطره عليه السلام إلى الهرب نحو الباب والتأكيد لدفع ما عسى يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه بما في مقالته عليه السلام من الزواجر
«وهم بها» بمخالطتها أي مال إليها بمقتضى الطبيعة البشرية وشهوة الشباب وقرمه ميلا جبليا لا يكاد يدخل تحت التكليف لا أنه قصدها قصدا اختياريا ألا يرى إلى ما سبق من استعصامه المنبىء عن كمال كراهيته له ونفرته عنه وحكمه بعدم إفلاح الظالمين وهل هو إلا تسجيل باستحالة صدور الهم منه عليه السلام تسجيلا محكما وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر بطريق المشاكلة لا لشبهه به كما قيل ولقد أشير إلى تباينهما حيث لم يلزا في قرن واحد من التعبير بأن قيل ولقد هما بالمخالطة أو هم كل منهما بالآخر وصدر الأول بما يقرر وجوده من التوكيد القسمي وعقب الثاني بما يعفو أثره من قوله عز وجل
«لولا أن رأى برهان ربه» أي حجته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنى وسوء سبيله والمراد برؤيته لها كمال إيقانه بها ومشاهدته لها مشاهدة واصلة إلى مرتبة عين اليقين الذي تنجلي هناك حقائق الأشياء بصورها الحقيقة وتنخلع عن صورها المستعارة التي بها تظهر في هذه النشأة على ما نطق به قوله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات وكأنه عليه السلام قد شاهد الزنى بموجب ذلك البرهان النير على ما هو عليه في حد ذاته أقبح ما يكون وأوجب ما يجب أن يحذر منه
ولذلك فعل ما فعل من الإستعصام والحكم بعدم إفلاح من يرتكبه وجواب لولا محذوف يدل عليه الكلام أي لولا مشاهدته برهان ربه في شأن الزنى لجرى على موجب ميله الجبلي ولكنه حيث كان مشاهدا له من قبل استمر على ما هو عليه من قضية البرهان وفائدة هذه الشرطية بيان أن امتناعه عليه السلام لم يكن لعدم مساعدة من جهة الطبيعة بل لمحض العفة والنزاهة مع وفور الدواعي الداخلية وترتب المقدمات الخارجية الموجبة لظهور الأحكام الطبيعية هذا وقد نص أئمة الصناعة على أن لولا في أمثال هذه المواقع جار من حيث المعنى لا من حيث الصيغة مجرى التقييد للحكم المطلق كما في مثل قوله تعالى إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها فلا يتحقق هناك هم أصلا وقد جوز أن يكون وهم بها جواب لولا جريا على قاعدة الكوفيين في جواز التقديم فالهم حينئذ على معناه الحقيقي فالمعنى لولا أنه قد شاهد برهان ربه لهم بها كما همت به ولكن حيث انتفى عدم المشاهدة بدليل استعصامه وما يتفرع عليه انتفى الهم رأسا هذا وقد فسر همه عليه السلام بأنه عليه السلام حل الهيمان وجلس مجلس الختان وبأنه حل تكة سراويله وقعد بين شعبها ورؤيته للبرهان بأنه سمع صوتا إياك وإياها فلم يكتري ثم وثم إلى أن تمثل له يعقوب عليه السلام عاضا على أنملته وقيل ضرب على صدره فخرجت شهوته من أنامله وقيل بدت كف فيما بينهما ليس فيها عضد ولا معصم مكتوب فيها وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين فلم ينصرف ثم رأى فيها ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا فلم ينته ثم رأى فيها واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله فلم ينجع فقال الله عز وجل لجبريل أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل عليه السلام وهو يقول يا يوسف أتعمل عمل
266

السفهاء وأنت مكتوب في ديوان الأنبياء وقيل رأى تمثال العزيز وقيل وقيل إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان وتردها العقول والأذهان ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها
«كذلك» الكاف منصوب المحل وذلك إشارة إلى الإراءة المدلول عليها بقوله تعالى لولا أن رأى برهان ربه أي مثل ذلك التبصير والتعريف عرفناه برهاننا فيما قبل أو إلى التثبيت اللازم له أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه
«لنصرف عنه السوء» على الإطلاق فيدخل فيه خيانة السيد دخولا أوليا
«والفحشاء» والزنى لأنه مفرط في القبح وفيه آية بينة وحجة قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه هم بالمعصية ولا توجه إليها قط وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء وإنما توجه إليه ذلك من خارج فصرفه الله تعالى عنه بما فيه من موجبات العفة والعصمة فتأمل وقرئ ليصرف على إسناد الصرف إلى ضمير الرب
«إنه من عبادنا المخلصين» تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق والمخلصون هم الذين أخلصهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها وقرئ على صيغة الفاعل وهم الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وعلى كلا المعنيين فهو منتظم في سلكهم داخل في زمرتهم من أول أمره بقضية الجملة الإسمية لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك فانحسم مادة احتمال صدور الهم بالسوء منه عليه السلام بالكلية
«واستبقا الباب» متصل بقوله ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه وقوله كذلك إلى آخره اعتراض جيء به بين المعطوفين تقريرا لنزاهته عليه السلام كقوله تعالى وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض والمعنى لقد همت به وأبى هو واستبقا الباب أي تسابقا إلى الباب البراني الذي هو المخلص ولذلك وحد بعد الجمع فيما سلف وحذف حرف الجر وأوصل الفعل إلى المجرور نحو وإذا كالوهم أو ضمن الإستباق معنى الإبتدار وإسناد السبق في ضمن الإستباق إليها مع أن مرادها مجرد منع يوسف وذا لا يوجب الانتهاء إلى الباب لأنها لما رأته يسرع إلى الباب ليتخلص منها أسرعت هي أيضا لتسبقه إليه وتمنعه عن الفتح والخروج أو عبر عن إسراعها أثره بذلك مبالغة
«وقدت قميصه من دبر» اجتذبته من ورائه فانشق طولا وهو القد كما أن الشق عرضا هو القط وقد قيل في وصف على رضى الله عنه إنه كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط وإسناد القد إليها خاصة مع أن لقوة يوسف أيضا دخلا فيه إما لأنها الجزء الأخير للعلة التامة وإما للإيذان بمبالغتها في منعه عن الخروج وبذل مجهودها في ذلك لفوت المحبوب أو لخوف الإفتضاح
«وألفيا سيدها» أي صادفا زوجها وإذ لم يكن ملكه ليوسف عليه السلام صحيحا لم يقل سيدهما قيل ألفياه مقبلا وقيل كان جالسا مع ابن عم للمرأة
«لدى الباب» أي البراني كما مر روى كعب رضي الله عنه أنه لما هرب يوسف عليه السلام جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب
«قالت» استئناف مبنى على سؤال سائل يقول فماذا كان حين ألفيا العزيز عند الباب فقيل قالت
«ما جزاء من أراد بأهلك سوءا» من الزنى ونحوه
267

«إلا أن يسجن أو عذاب أليم» ما نافيه أي ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم قيل المراد به الضرب بالسياط أو استفهامية أي أي شيء جزاؤه غير ذاك أو ذلك ولقد أتت في تلك الحالة التي تدهش فيها الفطن حيث شاهدها العزيز على تلك الهيئة المريبة بحيلة جمعت فيها غرضيها وهما تبرئة ساحتها مما يلوح من ظاهر الحال واستنزال يوسف عن رأيه في استعصائه عليها وعدم مواتاته على مرادها بإلقاء الرعب في قلبه من مكرها طمعا في مواقعته لها كرها عند يأسها عن ذلك اختيارا كما قالت ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين ثم إنها جعلت صدور الإرادة المذكورة عن يوسف عليه السلام أمرا محققا مفروغا عنه غنيا عن الإخبار بوقوعه وأن ما هي عليه من الأفاعيل لأجل تحقيق جزائها فهي تريد إيقاعه حسبما يقتضيه قانون الإيالة وفي إبهام المريد تهويل لشأن الجزاء المذكور بكونه قانونا مطردا في حق كل أحد كائنا من كان وفي ذكر نفسها بعنوان أهلية العزيز إعظام للخطب وإغراء له على تحقيق ما تتوخاه بحكم الغضب والحمية
«قال» استئناف وجواب عما يقال فماذا قال يوسف حينئذ فقيل قال
«هي راودتني عن نفسي» أي طالبتني للمواتاة لا أني أردت بها سوءا كما قالت وإنما قاله عليه السلام لتنزيه نفسه عما أسند إليه من الخيانة وعدم معرفة حق السيد ودفع ما عرضته له من الأمرين الأمرين وفي التعبير عنها بضمير الغيبة دون الخطاب أو اسم الإشارة مراعاة لحسن الأدب مع الإيماء إلى الإعراض عنها
«وشهد شاهد من أهلها» قيل هو ابن عمها وقيل هو الذي كان جالسا مع زوجها لدى الباب وقيل كان حكيما يرجع إليه الملك ويستشيره وقد جوز أن يكون بعض أهلها قد بصر بها من حيث لا تشعر فأغضبه الله تعالى ليوسف عليه السلام بالشهادة له والقيام بالحق وإنما ألقى الله سبحانه الشهادة إلى من هو من أهلها ليكون أدل على نزاهته عليه السلام وأنفى للتهمة وقيل كان الشاهد ابن خال لها صبيا في المهد أنطقه الله تعالى ببراءته وهو الأظهر فإنه روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى عليه السلام رواه الحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه وقال صحيح على شرط الشيخين وذكر كونه من أهلها لبيان الواقع إذ لا يختلف الحال في هذه الصورة بين كون الشاهد من أهلها أو من غيرهم
«إن كان قميصه قد من قبل» أي إن علم أنه قد من قبل من قبل ونظيره إن أحسنت إلي فقد أحسنت إليك فيما قبل فإن معناه إن تعتد بإحسانك إلي فاعتد بإحساني السابق إليك
«فصدقت» بتقدير قد لأنها تقرب الماضي إلى الحال أي فقد صدقت وكذا الحال في قوله فكذبت وهي وإن لم تصرح بأنه عليه السلام أراد بها سوءا إلا أن كلامها حيث كان واضح الدلالة عليه أسند إليها الصدق والكذب بذلك الاعتبار فإنهم كما يعرضان للكلام باعتبار منطوقه يعرضان له باعتبار ما يستلزمه وبذلك الاعتبار يعترضان للإنشاءات
«وهو من الكاذبين» وهذه الشرطية حيث لا ملازمة
268

عقلية ولا عادية بين مقدمها وتاليها ليست من الشهادة في شيء وإنما ذكرت توسيعا للدائرة وإرخاء للعنان إلى جانب المرأة بإجراء ما عسى يحتمله الحال في الجملة بأن يقع القد من قبل بمدافعتها له عليه السلام عن نفسها عند إرادته المخالطة والتكشف مجرى الظاهر الغالب الوقوع تقريبا لما هو المقصود بإقامة للشهادة أعني مضمون الشرطية الثانية التي هي قوله عز وجل
«وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين» إلى التسليم والقبول عند السامع لكونه أقرب إلى الوقوع وأدل على المطلوب وإن لم يكن بين طرفيها أيضا ملازمة وحكاية الشرطية بعد فعل الشهادة لكونها من قبيل الأقوال أو بتقدير القول أي شهد قائلا الخ وتسميتها شهادة مع أنه لا حكم فيها بالفعل بالصدق والكذب لتأديتها مؤداها بل لأنها شهادة على الحقيقة وحكم بصدقه وكذبها أما على تقدير كون الشاهد هو الصبي فظاهر إذ هو إخبار بهما من قبل علام الغيوب والتصوير بصورة الشرطية للإيذان بأن ذلك ظاهر من العلائم أيضا وأما على تقدير كونه غيره فلأن الظاهر أن صورة الحال معلومة له على ما هي عليه إما مشاهدة أو إخبارا فهو متيقن بعدم مقدم الشرطية الأولى وبوجود مقدم الشرطية الثانية ومن ضرورته الجزم بانتفاء تالي الأولى وبوقوع تالي الثانية فإذن هو إخبار بكذبها وصدقه عليه السلام لكنه ساق شهادته مساقا مأمونا من الجرح والطعن حيث صورها بصورة الشرطية المترددة ظاهرا بين نفعها ونفعه وأما حقيقة فلا تردد فيها قطعا لأن الشرطية الأولى تعليق لصدقها بما يستحيل وجوده من قد القميص من قبل فيكون محالا لا محالة ومن ضرورته تقرر كذبها والثانية تعليق لصدقه عليه السلام بأمر محقق الوجود وهو القد من دبر فيكون محقق البتة وهذا كما قيل فيمن قال لامرأة زوجيني نفسك فقالت لي زوج فكذبها في ذلك فقالت إن لم يكن لي زوج فقد زوجتك نفسي فقبل الرجل فإذا لا زوج لها فهو نكاح إذ تعليق الشيء بأمر مقرر تنجيز له وقرئ من قبل ومن دبر بالضم لأنهما قطعا عن الإضافة كقبل وبعد وبالفتح كأنهما جعلا علمين للجهتين فمنعا الصرف للتأنيث والعلمية وقرئ بسكون العين
«فلما رأى قميصه قد من دبر» كأنه لم يكن رأى ذلك بعد أو لم يتدبره فلما تنبه له وعلم حقيقة الحال
«قال إنه» أي الأمر الذي وقع فيه التشاجر وهو عبارة عن إرادة السوء التي أسندت إلى يوسف وتدبير عقوبته بقولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلى آخره لكن لا من حيث صدور تلك الإرادة والإسناد عنها بل مع قطع النظر عن ذلك لئلا يخلو قوله تعالى
«من كيدكن» أي من جنس حيلتكن ومكركن أيتها النساء لا من غيركن عن الإفادة وتدبير العقوبة وإن لم يمكن تجريده عن الإضافة إليها إلا أنها لما صورته بصورة الحق أفاد الحكم بكونه من كيدهن إفادة ظاهرة فتأمل وتعميم الخطاب للتنبيه على أن ذلك خلق لهن عريق
* ولا تحسبا هندا لها الغدر وحدها
* سجية نفس كل غانية هند
* ورجع الضمير إلى قولها ما جزاء من أراد بأهلك سوءا فقط عدول عن البحث عن أصل ما وقع فيه النزاع من أن
269

إرادة السوء ممن هي إلى البحث عن شعبة من شعبه وجعل للسوء أو للأمر المعبر به عن طمعها في يوسف عليه السلام يأباه الخبر فإن الكيد يستدعي أن يعتبر مع ذلك هنات أخر من قبلها كما أشرنا إليه
«إن كيدكن عظيم» فإنه ألطف وأعلق بالقلب وأشد تأثيرا في النفس وعن بعض العلماء إني أخاف من النساء ما لا أخاف من الشيطان فإنه تعالى يقول إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال للنساء إن كيدكن عظيم ولأن الشيطان يوسوس مسارقة وهن يواجهن به الرجال
«يوسف» حذف منه حرف النداء لقربه وكمال تفطنه للحديث وفيه تقريب له وتلطيف لمحله
«أعرض عن هذا» أي عن هذا الأمر وعن التحدث به واكتمه فقد ظهر صدقك ونزاهتك
«واستغفري» أنت يا هذه
«لذنبك» الذي صدر عنك وثبت عليك
«إنك كنت» بسبب ذلك
«من الخاطئين» من جملة القوم المعتمدين للذنب أو من جنسهم يقال خطىء إذا أذنب عمدا وهو تعليل للأمر بالاستغفار والتذكير لتغليب الذكور على الإناث وكان العزيز رجلا حليما فاكتفى بهذا القدر من مؤاخذتها وقيل كان قليل الغيرة
«وقال نسوة» أي جماعة من النساء وكن خمسا امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب والنسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي كتأنيث اللمة وهي اسم لجماعة النساء والثبة وهي اسم لجماعة الرجال ولذلك لم يلحق فعله تاء التأنيث
«في المدينة» ظرف لقال أي أشعن الأمر في مصر أو صفة النسوة
«امرأة العزيز» أي الملك يردن قطفير وإضافتهن لها إليه بذلك العنوان دون أن يصرحن باسمها أو اسمه ليست لقصد المبالغة في إشاعة الخبر بحكم أن النفوس إلى سماع أخبار ذوي الأخطار أميل كما قيل إذ ليس مرادهن تفضيح العزيز بل هي لقصد الإشباع في لومها بقولهن
«تراود فتاها» أي تطالبه بمواقعته لها وتتمحل في ذلك وتخادعه
«عن نفسه» وقيل تطلب منه الفاحشة وإيثارهن لصيغة المضارع للدلالة على دوام المراودة والفتى من الناس الشاب وأصله فتى لقولهم فتيان والفتوة شاذة وجمعه فتية وفتيان ويستعار للمملوك وهو المراد ههنا وفي الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وتعبيرهن عن يوسف عليه السلام بذلك مضافا إليها لا إلى العزيز الذي لا تستلزم الإضافة إليه الهوان بل ربما يشعر بنوع عزة لإبانة ما بينهما من التباين البين الناشئ عن المالكية والمملوكية وكل ذلك لتربية ما مر من المبالغة والإشباع في اللوم فإن من لا زوج لها من النساء أو لها زوج دنيء قد تعذر في مراودة الأخدان لا سيما إذا كان فيهم علو الجناب وأما التي لها زوج وأي زوج عزيز مصر فمراودتها لغيره لا سيما لعبدها الذي لا كفاءة بينها وبينه أصلا وتماديها في ذلك غاية الغي ونهاية الضلال
«قد شغفها حبا» أي شق حبه شغاف قلبها وهو حجابه أو جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب حتى وصل إلى فؤادها وقرئ شعفها بالعين من
270

شعف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران وعن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما الشغف الحب القاتل والشعف حب دون ذلك وكان الشعبي يقول الشغف حب والشعف جنون والجملة خبر ثان أو حال من فاعل تراود أو من مفعوله وأيا ما كان فهو تكرير للوم وتأكيد للعذل ببيان اختلال أحوالها القلبية كأحوالها القالبية وجعلها تعليلا لدوام المراودة من حيث الإنية مصير إلى الإستدلال على الأجلى بالأخفى ومن حيث اللمية ميل إلى تمهيد العذر من قبلها ولسن بذلك المقام وانتصاب حبا على التمييز لنقله عن الفاعلية إذ الأصل قد شغفها حبه كما أشير إليه
«إنا لنراها» أي نعلمها علما متاخما للمشاهدة والعيان فيما صنعت من المراودة والمحبة المفرطة مستقرة
«في ضلال» عن طريق الرشد والصواب أو عن سنن العقل
«مبين» واضح لا يخفى كونه ضلالا على أحد أو مظهر لأمرها بين الناس فالجملة مقررة لمضمون الجملتين السابقتين المسوقتين للوم والتشنيع وتسجيل عليها بأنها في أمرها على خطأ عظيم وإنما لم يقلن إنها لفي ضلال مبين إشعارا بأن ذلك الحكم غير صادر عنهن مجازفة بل عن علم ورأى مع التلويح بأنهن متنزهات عن أمثال ما هي عليه
«فلما سمعت بمكرهن» باغتيابهن وسوء قالهن وقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني وهو مقتها وتسميته مكرا لكونه خفية منها كمكر الماكر وإن كان ظاهرا لغيرها وقيل استكتمتهن سرها فأفشينه عليها وقيل إنما قلن ذلك لتريهن يوسف عليه السلام
«أرسلت إليهن» تدعوهن قيل دعت أربعين امرأة منهن الخمس المذكورات
«وأعتدت» أي أحضرت وهيأت
«لهن متكأ» أي ما يتكئن عليه من النمارق والوسائد أو رتبت لهن مجلس طعام وشراب لأنهم كانوا يتكئون للطعام والشارب والحديث كعادة المترفين ولذلك نهى الرجل أن يأكل متكئا وقيل متكأ طعاما من قولهم اتكأنا عند فلان أي طعمنا قال جميل
* فظللنا بنعمة واتكأنا
* وشربنا الحلال من قلله
* وعن مجاهد متكأ طعاما يحز حزا كأن المعنى يعتمد بالسكين عند القطع لأن القاطع يتكئ على المقطوع بالسكين وقرئ بغير همز وقرئ بالمد بإشباع حركة الكاف كمنتزاح في منتزح وينباع في ينبع وقرأ متكأ وهو الأترج وأنشدوا
* وأهدت متكة لبني أبيها
* تخب بها العثمثمة الوقاح
* أو ما يقطع من متك الشيء إذا بتكه ومتكأ من تكى إذا اتكى
«وآتت كل واحدة منهن سكينا» لنستعمله في قطع ما يعهد قطعه مما قدم بين أيديهن وقرب إليهن من اللحوم والفواكه ونحوها وهن متكئات وغرضها من ذلك ما سيقع من تقطيع أيديهن
«وقالت» ليوسف وهن مشغولات بمعالجة السكاكين وإعمالها فيما بأيديهن من الفواكه وأضرابها والعطف بالواو ربما يشير إلى أن قولها
«اخرج عليهن» أي ابرز لهن لم يكن عقيب ترتيب أمورهن ليتم غرضها من استغفالهن
«فلما رأينه» عطف على مقدر يستدعيه الأمر بالخروج وينسحب عليه الكلام أي فخرج عليهن فرأينه
271

وإنما حذف تحقيقا لمفاجأة رؤيتهن كأنها تفوت عند ذكر خروجه عليهن كما حذف لتحقيق السرعة في قوله عز وجل فلما رآه مستقرا عنده بعد قوله أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك وفيه إيذان بسرعة امتثاله عليه السلام بأمرها فيما لا يشاهد مضرته من الأفاعيل
«أكبرنه» عظمنه وهبن حسنه الفائق وجماله الرائع الرائق فإن فضل جماله على جمال كل جميل كان كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال رأيت يوسف ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر وقيل كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران كما يرى نور الشمس على الماء وقيل معنى أكبرن حضن والهاء للسكت أو ضمير راجع إلى يوسف عليه السلام على حذف اللام أي حضن له من شدة الشبق كما قال المتنبىء
* خف الله واستر ذا الجمال برقع
* فإن لحت حاضت في الخدور العوانق
*
«وقطعن أيديهن» أي جرحتها بما في أيديهن من السكاكين لفرط دهشتهن وخروج حركات جوارحهن عن منهاج الاختيار والإعتياد حتى لم يعلمن ما فعلن وفي التعبير عن الجرح بالقطع ما لا يخفى من الدلالة على كثرة جرحهن ومع ذلك لم يبالين بذلك ولم يشعرن به
«وقلن حاش لله» تنزيها له سبحانه عن صفات النقص والعجز وتعجبا من قدرته على مثل ذلك الصنع البديع وأصله حاشا كما قرأه أبو عمرو في الدرج فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا وهو حرف جر يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء فلا يستثني به إلا ما يكون موجبا للتنزيه فوضع موضعه فمعنى حاشا الله تنزيه الله وبراءة الله وهي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه واللام لبيان المنزه والمبرأ كما في سقيا لك والدليل على وضعه موضع المصدر قراءة أبي السمال حاشا بالتنوين وقراءة أبي عمرو بحذف الألف الأخيرة وقراءة الأعمش بحذف الأولى فإن التصرف من خصائص الاسم فيدل على تنزيله منزلته وعدم التنوين لمراعاة أصله كما في قولك جلست من عن يمينه وقوله غدت من عليه منقلب الألف إلى الياء مع الضمير وقرئ حاش لله بسكون الشين اتباعا للفتحة الألف في الإسقاط وحاش الإله وقيل حاشا فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف أي صار في ناحية من أن يقارف ما رمته به لله أي لطاعته أو لمكانه أو جانب المعصية لأجل الله
«ما هذا بشرا» على إعمال ما بمعنى ليس وهي لغة أهل الحجاز لمشاركتهما في نفي الحال وقرئ بشر على لغة تميم وبشرى أي بعبد مشتري لئيم نفين عنه البشرية لما شاهدن فيه من الجمال العبقري الذي لم يعهد مثاله في البشر وقصرنه على الملكية بقولهن
«إن هذا إلا ملك كريم» بناء على ما ركز في العقول من أن لا حي أحسن من الملك كما ركب فيها أن لا أقبح من الشيطان ولذلك لا يزال يشبه بهما كل متناه في الحسن والقبح وغرضهن وصفه بأقصى مراتب الحسن والجمال
«قالت فذلكن» الفاء فصيحة والخطاب للنسوة والإشارة إلى يوسف بالعنوان الذي وصفنه به الآن من الخروج في الحسن والجمال عن المراتب البشرية والاقتصار على الملكية فاسم الإشارة مبتدأ والموصول
272

خبره والمعنى إن كان الأمر كما قلتن فذلكن الملك الكريم النائي من المراتب البشرية هو
«الذي لمتنني فيه» أي عيرتنني في الافتتان به حيث ربأتن بمحلي بنسبتي إلى العزيز ووضعتن قدره بكونه من المماليك أو بالعنوان الذي وصفنه به فيما سبق بقولهن امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني فهو خبر لمبتدأ محذوف أي فهو ذلك العبد الكنعاني الذي صورتن في أنفسكن وقلتن فيه وفي ما قلتن فالآن قد علمتن من هو وما قولكن فينا وأما ما يقال تعني أنكن لم تصورنه بحق صورته ولو صورتنه بما عاينتن لعذرتنني في الافتتان به فلا يلائم المقام فإن مرادها بدعوتهن وتمهيد ما مهدته لهن تبكيتهن وتنديمهن على ما صدر عنهن من اللوم وقد فعلت ذلك بما لا مزيد عليه وما ذكر من المقال فحق المعتذر قبل ظهور معذرته وقد قيل في تعليل الملكية أن الجمع بين الجمال الرائق والكمال الفائق والعصمة البالغة من الخواص الملكية وهو أيضا لا يلائم قولها فذلكن الذي لمتنني فيه فإن عنوان العصمة مما ينافي تمشية مرامها ثم بعد ما أقامت عليهن الحجة وأوضحت لديهن عذرها وقد أصابهن من قبله عليه السلام ما أصابها باحت لهن ببقية سرها فقالت
«ولقد راودته عن نفسه» حسبما قلتن وسمعتن
«فاستعصم» امتنع طالبا للعصمة وهو بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحفظ الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الإستزاده منها كما في استمسك واستجمع الرأي وفيه برهان نير على أنه لم يصدر عنه عليه السلام شيء مخل باستعصامه بقوله معاذ الله من الهم وغيره اعترفت لهن أولا بما كن يسمعنه من مراودتها له وأكدته إظهارا لابتهاجها بذلك ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون ولم يمل إليها قط ثم زادت عليه أيضا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم
العواذل ولا بإعراض الحبيب فقالت
«ولئن لم يفعل ما آمره» أي آمر به فيما سيأتي كما لم يفعل فيما مضى فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير كما في أمرتك الخير الضمير للموصول أو أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه فما مصدرية فالضمير ليوسف وعبرت عن مراودتها بالأمر إظهارا لجريان حكومتها عليه واقتضاء للإمتثال بأمرها
«ليسجنن» بالنون المثقلة آثرت بناء الفعل للمفعول جريا على رسم الملوك أو إيهاما لسرعة ترتب ذلك على عدم امتثاله لأمرها كأنه لا يدخل بينهما فعل فاعل
«وليكونن» بالمخففة
«من الصاغرين» أي الأذلاء في السجن وقد قرىء الفعلان بالتثقيل ولكن المشهورة أولى لأن النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف واللام الداخلة على حرف الشرط موطئة للقسم وجوابه ساد مسد الجوابين ولقد أتت بهذا الوعيد المنطوى على فنون التأكيد بمحضر منهن ليعلم يوسف عليه السلام أنها ليست في أمرها على خفية ولا خيفة من أحد فتضيق عليه الحيل وتعيا به العلل وينصحن له ويرشدنه إلى موافقتها ولما كان هذا الإبراق والإرعاد منها مظنة لسؤال سائل يقول فما صنع يوسف حينئذ قيل
«قال» مناجيا لربه عز سلطانه
«رب السجن» الذي أوعدتني بالإلقاء فيه وقرأ يعقوب بالفتح على المصدر
«أحب إلى»
273

أي آثر عندي لأنه مشقة قليلة نافذة أثرها راحات جليلة أبدية
«مما يدعونني إليه» من مؤاتانها التي تؤدي إلى الشقاء والعذاب الأليم وهذا الكلام منه عليه السلام مبني على ما مر من انكشاف الحقائق لديه وبروز كل منها بصورتها اللائقة بها فصيغة التفضيل ليست على بابها إذ ليس له شائبة محبة لما دعته إليه وإنما هو والسجن شران أهونهما وأقربهما إلى الإيثار السجن والتعبير علن الإيثار بالمحبة لحسم مادة طمعها عن المساعدة خوفا من الحبس والاقتصار على ذكر السجن من حيث إن الصغار من فروعه ومستتبعاته وإسناد الدعوة إليهن جميعا لأن النسوة رغبته في مطاوعتها وخوفته من مخالفتها وقيل دعونه إلى أنفسهن وقيل إنما ابتلى عليه السلام بالسجن لقوله هذا وكان الأولى به أن يسأل الله تعالى العافية ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على من كان يسأل الصبر
«وإلا تصرف» أي إن لم تصرف
«عني كيدهن» في تحبيب ذلك إلي وتحسينه لدي بأن تثبتني على ما أنا عليه من العصمة والعفة
«أصب إليهن» أي أمل إلى إجابتهن أو إلى أنفسهن على قضية الطبيعة وحكم القوة الشهوية وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف الله تعالى جريا على سنن الأنبياء والصالحين في قصر نيل الخيرات والنجاة عن الشرور على جناب الله عز وجل وسلب القوى والقدر عن أنفسهم ومبالغة في استدعاء لطفه في صرف كيدهن بإظهار أن لا طاقة له بالمدافعة كقول المستغيث أدركني وإلا هلكت لا أنه يطلب الإجبار والإلجاء إلى العصمة والعفة وفي نفسه داعية تدعوه إلى هواهن والصبوة الميل إلى الهوى ومنه الصبا لأن النفوس تصبو إليها لطيب نسيمها وروحها وقرئ أصب إليهن من الصبابة وهي رقة الشوق
«وأكن من الجاهلين» الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو والجاهل سواء أو من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح لأن الحكيم لا يفعل القبيح
«فاستجاب له ربه» دعاءه الذي تضمنه قوله وإلا تصرف عني كيدهن الخ فإن فيه استدعاء لصرف كيدهن على أبلغ وجه وألطفه كما مر وفي إسناد الاستجابة إلى الرب مضافا إليه عليه السلام ما لا يخفى من إظهار اللطف
«فصرف عنه كيدهن» حسب دعائه وثبته على العصمة والعفة
«إنه هو السميع» لدعاء المتضرعين إليه
«العليم» بأحوالهم وما يصلحهم
«ثم بدا لهم» أي ظهر للعزيز وأصحابه المتصدين للحل والعقد ريثما اكتفوا بأمر يوسف بالكتمان والإعراض عن ذلك
«من بعد ما رأوا الآيات» الصارفة لهم عن ذلك البداء وهي الشواهد الدالة على براءته عليه السلام وفاعل بدأ إما مصدره أو الرأي المفهوم من السياق أو المصدر المدلول عليه بقوله
«ليسجننه» والمعنى بذا لهم بداء أو رأى أو سجنه المحتوم قائلين والله ليسجننه فالقسم المحذوف وجوابه معمول للقول المقدر حالا من ضميرهم وما كان ذلك البداء إلا باستنزال المرأة لزوجها ومثلها منه في الذروة والغارب وكان مطواعة لها تقوده حيث شاءت قال السدي إنها قالت للعزيز إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يخبرهم بأني راودته عن نفسه فإما أن تأذن لي
274

فأخرج فأعتذر إلى الناس وإما أن تحبسه فحبسه ولقد أرادت بذلك تحقيق وعيدها لتلين به عريكته وتنقاد لها قرونته لما انصرمت حبال رجائها عن استتباعه بعرض الجمال والترغيب بنفسها وبأعوانها وقرئ لتسجننه على صيغة الخطاب بأن خاطب بعضهم العزيز ومن يليه أو العزيز وحده على وجه التعظيم أو خاطب به العزيز ومن عنده من
أصحاب الرأي المباشرين للسجن والحبس
«حتى حين» إلى حين انقطاع قالة الناس وهذا بادي الرأي عند العزيز وذويه وأما عندها فحتى يذلله السجن ويسخره لها ويحسب الناس أنه المجرم وقرئ عتى حين بلغة هذيل
«ودخل معه» أي في صحبته
«السجن فتيان» من فتيان الملك ومماليكه أحدهما شرابيه والآخر خبازه روى أن جماعة من أهل مصر ضمنوا لهما مالا ليسما الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ثم إن الساقي نكل عن ذلك ومضى عليه الخباز فسم الخبز فلما حضر الطعام قال الساقي لا تأكل أيها الملك فإن الخبز مسموم وقال الخباز لا تشرب أيها الملك فإن الشراب مسموم فقال الملك للساقي اشربه فشربه فلم يضره وقال للخباز كله فأبى فجرب بدابة فهلكت فأمر بحبسهما فاتفق أن أدخلاه معه وتأخير الفاعل عن المفعول لما مر غير مرة من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر ليتمكن عند النفس حين وروده عليها فضل تمكن ونظيره تقديم الظرف على المفعول الصريح في قوله تعالى فأوجس في نفسه خيفة وتأخير السجن عن الظرف لإيهام العكس أن يكون الظرف خبرا مقدما على المبتدأ وتكون الجملة حالا من فاعل دخل فتأمل
«قال أحدهما» استئناف مبنى على سؤال من يقول ما صنعا بعد ما دخلا معه السجن فأجيب بأنه قال أحدهما وهو الشرابي
«إني أراني» أي رأيتني والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الماضية
«أعصر خمرا» أي عنبا سماه بما يؤول إليه لكونه المقصود من العصر وقيل الخمر بلغة عمان اسم للعنب وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أعصر عنبا
«وقال الآخر» وهو الخباز
«إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا» تأخير المفعول عن الظرف لما مر آنفا وقوله
«تأكل الطير منه» أي تنهس منه صفة للخبز أو استئناف مبني على السؤال
«نبئنا بتأويله» بتأويل ما ذكر من الرؤيين أو ما رئى بإجراء الضمير مجرى ذلك بطريق الاستعارة فإن اسم الإشارة يشار به إلى متعدد كما في قوله
* فيها خطوط من سواد وبلق
* كأنه في الجلد توليع البهق
* أي كأن ذلك والسر في المصير إلى إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة مع أنه لا حاجة إليه بعد تأويل المرجع بما ذكر أو بما رئى أن الضمير إنما يتعرض لنفس المرجع من حيث هو من غير تعرض لحال من أحواله فلا يتسنى تأويله بأحد الإعتبارين إلا بإجرائه مجرى اسم الإشارة الذي يدل على المشار إليه بالاعتبار الذي جرى عليه في الكلام فتأمل هذا إذا قالاه معا أو قاله أحدهما من جهتهما معا وأما ما إذا قاله كل منهما إثر ما قص ما رآه فالخطاب المذكور ليس عبارتهما ولا عبارة أحدهما من جهتهما ليتعدد المرجع بل عبارة كل منهما نبئني بتأويله مستفسرا لما رآه وصيغة المتكلم مع الغير واقعة في الحكاية دون المحكي على طريقة قوله عز وجل يا أيها الرسل كلوا من الطيبات فإنهم
275

لم يخاطبوا بذلك دفعة بل خوطب كل منهم في زمانه بصيغة مفردة خاصة به
«إنا نراك» تعليل لعرض رؤياهما عليه واستفسارها منه عليه السلام
«من المحسنين» من الذين يجيدون عبارة الرؤيا لما إياه يقص عليه بعض أهل السجن رؤياه فيؤولها له تأويلا حسنا أو من العلماء لما سمعاه يذكر للناس ما يدل على علمه وفضله أو من المحسنين إلى أهل السجن أي فأحسن إلينا بكشف غمتنا إن كنت قادرا على ذلك روى أنه عليه السلام كان إذا مرض منهم رجل قام عليه وإذا ضاق مكانه أوسع له وإذا احتاج جمع له وعن قتادة رضى الله عنه كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا فقالوا بارك الله عليك ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى فقال أنا يوسف بن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت وعن الشعبي أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي أراني في بستان فإذا بأصل حبلة عليها ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتهما وعصرتها في كأس الملك وسقيته وقال الخباز إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة إذا سباع الطير تنهس منها
«قال لا يأتيكما طعام ترزقانه» في مقامكما هذا حسب عادتكما المطردة
«إلا نبأتكما بتأويله» استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ما هيته وكيفيته وسائر أحواله
«قبل أن يأتيكما» وإطلاق التأويل عليه إما بطريق الاستعارة فإن ذلك بالنسبة إلى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنظر إلى ما رئى في المنام وشبيه له وإما بطريق المشاكلة حسبما وقع في عبارتهما من قولهما نبئنا بتأويله ولا يبعد أن يراد بالتأويل الشيء الآئل لا المآل فإنه في الأصل جعل شيء آئلا إلى شيء آخر فكما يجوز أن يراد به الثاني يجوز أن يراد به الأول فالمعنى إلا نبأتكما بما يؤول إليه من الكلام والخبر المطابق للواقع وكان عليه السلام يقول لهما اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت فيجدنه كذلك ومراده عليه السلام بذلك بيان كل ما يهمهما من الأمور المترقبة قبل وقوعها وإنما تخصيص الطعام بالذكر لكونه عريقا في ذلك بحسب الحال مع ما فيه من مراعاة حسن التخلص إليه مما استعبراه من الرؤييين المتعلقتين بالشراب والطعام وقد جعل الضمير لما قصا من الرؤييين على معنى لا يأتيكما طعام ترزقانه حسب عادتكما إلا أخبرتكما بتأويل ما قصصتما علي قبل أن يأتيكما ذلك الطعام الموقت مرادا به الإخبار بالاستعجال في التنبئة وأنت خبير بأن النظم الكريم ظاهر في تعدد إتيان الطعام
والإخبار بالتأويل وتجددهما وأن المقام مقام إظهار فضله في فنون العلوم بحيث يدخل في ذلك تأويل رؤياهما دخولا أوليا وإنما لم يكتف عليه السلام بمجرد تأويل رؤياهما مع أن فيه دلالة على فضله لأنهما لما نعتاه عليه السلام بالانتظام في سمط المحسنين وإنهما قد علما ذلك حيث قالا إنا نراك
276

من المحسنين توسم عليه السلام فيهما خيرا وتوجها إلى قبول الحق فأراد أن يخرج آثر ذي أثير عما في عهدته من دعوة الخلق إلى الحق فمهد قبل الخوض في ذلك مقدمة تزيدهما علما بعظم شأنه وثقة بأمره ووقوفا على علو طبقته في بدائع العلوم توسلا بذلك إلى تحقيق ما يتوخاه وقد تخلص إليها من كلامهما فكأنه قال تأويل ما قصصتماه علي في طرف التمام حيث رأيتما مثاله في المنام وإني أبين لكما كل جليل ودقيق من الأمور المستقبلة وإن لم يكن هناك مقدمة المنام حتى إن الطعام الموظف الذي يأتيكما كل يوم أبينه لكما قبل إتيانه ثم أخبرهما بأن علمه ذلك ليس من قبيل علوم الكهنة والعرافين بل هو أفضل إلهي يؤتيه من يشاء ممن يصطفيه للنبوة فقال
«ذلكما» أي ذلك التأويل والإخبار بالمغيبات ومعنى البعد في ذلك للإشارة إلى علو درجته وبعد منزلته
«مما علمني ربي» بالوحي والإلهام أي بعض منه أو من ذلك الجنس الذي لا يحوم حول إدراكه العقول ولقد دلهما بذلك على أن له علوما جمة ما سمعاه قطعة من جملتها وشعبة من دوحتها ثم بين أن نيل تلك الكرامة بسبب اتباعه ملة آبائه الأنبياء العظام وامتناعه عن الشرك فقال
«إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله» وهو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من قوله ذلكما مما علمني ربي وتعليلا له لا للتعليم الواقع صلة للموصول لتأديته إلى معنى أنه مما علمني ربي لهذا السبب دون غيره ولا لمضمون الجملة الخبرية لأن ما ذكر بصدد التعليل ليس بعلة لكون التأويل المذكور بعضا مما علمه ربه أو لكونه من جنسه بل لنفس تعليم ما علمه فكأنه قيل لماذا علمك ربك تلك العلوم البديعة فقيل لأني تركت ملة الكفرة أي دينهم الذي اجتمعوا عليه من الشرك وعبادة الأوثان والمراد بتركها الامتناع عنها رأسا كما يفصح عنه قوله ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء لا تركها بعد ملابستها وإنما عبر عنه بذلك لكونه أدخل بحسب الظاهر في إقتدائهما به عليه السلام والتعبير عن كفرهم بالله تعالى بسلب الإيمان به للتنصيص على أن عبادتهم له تعالى مع عبادة الأوثان ليست بإيمان به تعالى كما هو زعمهم الباطل على ما مر في قوله تعالى إنه عمل غير صالح
«وهم بالآخرة» وما فيها من الجزاء
«هم كافرون» على الخصوص دون غيرهم لإفراطهم في الكفر
«واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب» يعنى أنه إنما حاز هذه الكمالات وفاز بتلك الكرامات بسبب أنه اتبع ملة آبائه الكرام ولم يتبع ملة قوم كفروا بالمبدأ والمعاد وإنما قاله عليه السلام ترغيبا لصاحبيه في الإيمان والتوحيد وتنفيرا لهما عما كانا عليه من الشرك والضلال وقدم ذكر تركه لملتهم على ذكر اتباعه لملة آبائه لأن التخلية متقدمة على التحلية
«ما كان» أي ما صح وما استقام فضلا عن الوقوع
«لنا» معاشر الأنبياء لقوة نفوسنا ووفور علومنا
«أن نشرك بالله من شيء» أي شيء كان من ملك أو جنى أو إنسي فضلا عن الجماد البحث
«ذلك» أي التوحيد المدلول عليه بقوله ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء
«من فضل الله علينا» أي ناشىء من تأييده لنا بالنبوة وترشيحه إيانا لقيادة الأمة
277

وهدايتهم إلى الحق وذلك مع كونه من موجبات التوحيد ودواعيه نعمة جليلة وفضل عظيم علينا بالذات
«وعلى الناس» كافة بواسطتنا وحيث عبر عن ذلك بذلك العنوان عبر عن التوحيد الذي يوجبه بالشكر فقيل
«ولكن أكثر الناس لا يشكرون» أي لا يوحدون فإن التوحيد مع كونه من آثار ما ذكر من التأييد شكر لله عز وجل على النعمة وإنما وضع الظاهر موضع الضمير الراجع إلى الناس لزيادة توضيح وبيان ولقطع توهم رجوعه إلى المجموع الموهم لعدم اختصاص غير الشاكر بالناس وقيل ذلك التوحيد من فضل الله علينا حيث نصب لنا أدلة ننظر فيها ونستدل بها على الحق وقد نصب مثل تلك الأدلة لسائر الناس أيضا ولكن أكثرهم لا ينظرون ولا سيتدلون بها اتباعا لأهوائهم فيبقون كافرين غير شاكرين ولك أن تقول ذلك التوحيد من فضل الله علينا حيث أعطانا عقولا ومشاعر نستعملها في دلائل التوحيد التي مهدها في الأنفس والآفاق وقد أعطى سائر الناس أيضا مثلها ولكن أكثرهم لا يشكرون أي لا يصرفون تلك القوى والمشاعر إلى ما خلقت هي له ولا يستعملونها فيما ذكر من أدلة التوحيد الآفاقية والأنفسية والعقلية والنقلية
«يا صاحبي السجن» أي يا صاحبي في السجن كما تقول يا سارق الليلة ناداهما بعنوان الصحبة في مدار الأشجان ودار الأحزان التي تصفو فيها المودة وتخلص النصيحة ليقبلا عليه ويقبلا مقالته وقد ضرب لهما مثلا يتضح به الحق عندهما حق اتضاح فقال
«أأرباب متفرقون» لا ارتباط بينهم ولا اتفاق يستعبد كما كل منهم حسبما أراد غير مراقب للآخرين مع عدم استقلاله
«خير» لكما
«أم الله» المعبود بالحق
«الواحد» المتفرد بالألوهية
«القهار» الغالب الذي لا يغالبه أحد وبعد ما نبه ما على فساد تعدد الأرباب بين لهما سقوط آلهتهما عن درجة الاعتبار رأسا فضلا عن الألوهية فقال معمما للخطاب لهما
ولمن على دينهما
«ما تعبدون من دونه» أي من دون الله شيئا
«إلا أسماء» فارغة لا مطابق لها في الخارج لأن ما ليس فيه مصداق إطلاق الاسم عليه لا وجود له أصلا فكانت عبادتهم لتلك الأسماء فقط
«سميتموها» جعلتموها أسماء وإنما لم يذكر المسميات تربية لما يقتضيه المقام من إسقاطها عن مرتبة الوجود وإيذانا بان تسميتهم في البطلان حيث كانت بلا مسمى كعبادتهم حيث كان بلا معبود
«أنتم وآباؤكم» بمحض جهلكم وضلالتكم
«ما أنزل الله بها» أي بتلك التسمية المستتبعة للعبادة
«من سلطان» من حجة تدل على صحتها
«إن الحكم» في أمر العبادة المتفرعة على تلك التسمية
«إلا الله» عز سلطانه لأنه المستحق لها بالذات إذ هو الواجب بالذات الموجد للكل والمالك لأمره
«أمر» استئناف مبنى على سؤال ناشىء من قوله إن الحكم إلا لله فكأنه قيل فماذا حكم الله في هذا الشأن فقيل أمر على السنة الأنبياء عليهم السلام
«ألا تعبدوا» أي بأن لا تعبدوا
«إلا إياه» حسبما
278

تقضى به قضية العقل أيضا
«ذلك» أي تخصيصه تعالى بالعبادة
«الدين القيم» الثابت المستقيم الذي تعاضدت عليه البراهين عقلا ونقلا
«ولكن أكثر الناس لا يعلمون» أن ذلك هو الدين القيم لجهلهم بتلك البراهين أو لا يعلمون شيئا أصلا فيبعدون أسماء سموها من تلقاء أنفسهم معرضين عن البرهان العقلي والسلطان العقلي وبعد تحقيق الحق ودعوتهما إليه وبيانه لهما مقداره الرفيع ومرتبة علمه الواسع شرع في تفسير ما استفسراه ولكونه بحثا مغايرا لما سبق فصله عنه بتكرير الخطاب فقال
«يا صاحبي السجن أما أحدكما» وهو الشرابي وإنما لم يعينه ثقة بدلالة التعبير وتوسلا بذلك إلى إبهام أمر صاحبه حذار مشافهته بما يسوءه
«فيسقي ربه» أي سيده
«خمرا» روى أنه عليه السلام قال له ما رأيت من الكرمة وحسنها الملك وحسن حالك عنده واما القضبان الثلاثة فثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه وقرأ عكرمة فيسقى ربه على البناء للمفعول أي يسقى ما يروى به
«وأما الآخر» وهو الخباز
«فيصلب فتأكل الطير من رأسه» روى أنه عليه السلام قال له ما رأيت من السلال الثلاث ثلاثة أيام تمر ثم تخرج فتقتل
«قضى» اي أتم وأحكم
«الأمر الذي فيه تستفتيان» وهو ما رأياه من الرؤييين قطعا لا مآله الذي هو عبارة عن نجاة أحدهما وهلاك الآخر كما يوهمه إسناد القضاء إليه إذ الاستفتاء إنما يكون في الحادثة لا في حكمها يقال استفتى الفقيه في الحادثة أي طلب منه بيان حكمها ولا يقال استفتاه في حكمها وكذا الإفتاء فإنه يقال أفتى فلان في الواقعة الفلانية بكذا ولا يقال أفتى في حكمها أو جوابها بكذا ومما هو علم في ذلك قوله تعالى «يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي» ومعنى استفتائهما فيه طلبهما لتأويله بقولهما نبئنا بتأويله وإنما عبر عن ذلك بالأمر وعن طلب تأويله بالاستفتاء تهويلا لأمره وتفخيما لشأنه إذ الاستفتاء إنما يكون في النوازل المشكلة الحكم المبهمة الجواب وإيثاره صيغة الاستقبال مع سبق استفتائهما في ذلك لما أنهما بصدده إلى أن يقضى عليه السلام من الجواب وطره وإسناد القضاء إليه مع أنه من أحوال مآله لأنه في الحقيقة عين ذلك المآل وقد ظهر في عالم المثال بتلك الصورة وأما توحيده مع تعدد رؤياهما فوارد على حسب ما وحده في قولهما نبئنا بتأويله لا لأن الأمر ما اتهما به وسجنا لأجله من سم الملك فإنهما لم يستفيا فيه ولا فيما هو صورته بل فيما هو صورة لمآله وعاقبته فتأمل وإنما أخبرهما عليه السلام بذلك تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له وقيل لما عبر رؤياهما جحدا وقالا ما رأينا شيئا فأخبرهما أن ذلك كائن صدقتما أو كذبتما ولعل الجحود من الخباز إذ لا داعى إلى جحود الشرابى إلا أن يكون ذلك لمراعاة جانبه
«وقال»
279

أي يوسف عليه السلام
«للذي ظن أنه ناج» أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقق النجاة حسبما يفيده قوله تعالى «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان» وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال للذي ظنه ناجيا
«منهما» من صاحبيه وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر عند الملك وعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل في ذلك وأدعى إلى
تحقيق ما وصاه به لكنه ليس بوصف فارق يدور عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك والظان هو يوسف عليه السلام لا صاحبه لأن التوصية المذكورة لا تدور على ظن الناجي بل على ظن يوسف وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى «ظننت أني ملاق حسابيه» فالتعبير بالوحي كما ينبئ عنه قوله تعالى «قضي الأمر» الخ وقيل هو بمعناه والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي
«اذكرني» بما أنا عليه من الحال والصفة
«عند ربك» سيدك وصفني له بصفتي التي شاهدتها
«فأنساه الشيطان» أي أنسى الشرابي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا تعوقه عن الذكر وإلا فالإنساء في الحقيقة لله عز وجل والفاء للسببية فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه كانت باعثة لما ذكر عن الإنساء
«ذكر ربه» اي ذكر الشرابي له عليه السلام عند الملك والإضافة لأدنى ملابسة أو ذكر اخبار ربه
«فلبث» أي يوسف عليه السلام بسبب ذلك الإنساء أو القول
«في السجن بضع سنين» البضع ما بين الثلاث إلى التسع من البضع وهو القطع وأكثر الأقاويل إنه لبث فيه سبع سنين وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك لما لبث في السجن سبعا بعد الخمس والاستعانة بالعباد وإن كانت مرخصة لكن اللائق بمناصب الأنبياء عليهم السلام الأخذ بالعزائم
«وقال الملك» أي الريان
«إني أرى» أي رأيت وإيثار صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية
«سبع بقرات سمان» جمع سمين وسمينة ككرام في جمع كريم وكريمة يقال رجال كرام ونسوة كرام
«يأكلهن» أي أكلهن والعدول إلى المضارع لاستحضار الصورة تعجيبا والجملة حال من البقرات أو صفة لها
«سبع عجاف» أي سبع بقرات عجاف وهي جمع عجفاء والقياس عجف لأن فعلاء وأفعل لا يجمع على فعال ولكن عدل به عن القياس حملا لأحد النقيضين على الآخر وإنما لم يقل سبع عجاف بالإضافة لأن التمييز موضوع لبيان الجنس والصفة ليست بصالحة لذلك فلا يقال ثلاثة ضخام وأربعة غلاظ وأما قولك ثلاثة فرسان وخمسة ركبان فلجريان الفارس والراكب مجرى الأسماء روى أنه رأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وخرج عقيبهن سبع بقرات عجاف في غاية الهزال فابتلعت العجاف السمان
«وسبع سنبلات خضر» قد انعقد حبها
«وأخر يابسات» أي وسبعا أخر يابسات قد أدركت والتوت على الخضر حتى غلبتها على ما روى ولعل عدم التعرض لذكره للاكتفاء بما ذكر من حال البقرات
«يا أيها الملأ» خطاب للأشراف من العلماء والحكماء
«أفتوني في رؤياي» هذه أي عبروها وبينوا حكمها وما تؤول إليه من العاقبة والتعبير عن التعبير بالإفتاء
280

لتشريفهم وتفخيم أمر رؤياه
«إن كنتم للرؤيا تعبرون» أي تعلمون عبارة جنس الرؤيا علما مستمرا وهي الإنتقال من الصور الخيالية المشاهدة في المنام إلى ما هي صور وأمثله لها من الأمور الآفاقية أو الأنفسية الواقعة في الخارج من العبور وهو المجاوزة تقول عبرت النهر إذا قطعته وجاوزته ونحوه أولتها أي ذكرت مآلها وعبرت الرؤيا عبارة أثبت من عبرتها تعبيرا والجمع بين الماضي والمستقبل للدلالة على الاستمرار كما أشير إليه واللام للبيان أو لتقوية العامل المؤخر لرعاية الفواصل أو لتضمين تعبرون معنى فعل متعد باللام كأنه قيل إن كنتم تنتدبون لعبارتها ويجوز أن يكون للرؤيا خبر كان كما يقال فلان لهذا الأمر إذا كان مستقلا به متمكنا منه وتعبرون خبر آخر
«قالوا» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال الملأ للملك فقيل قالوا هي
«أضغاث أحلام» أي تخاليطها جمع ضغث وهو في الأصل ما جمع من أخلاط النبات وحزم ثم استعير لما تجمعه القوة المتخيلة من أحاديث النفس ووساوس الشيطان وتريها في المنام والأحلام جمع حلم وهي الرؤيا الكاذبة التي لا حقيقة لها والإضافة بمعنى من أي هي أضغاث من أحلام أخرجوها من جنس الرؤيا التي لها عاقبة تؤول إليها ويعتنى بأمرها وجمعوها وهي رؤيا واحدة مبالغة في وصفها بالبطلان كما في قولهم فلان يركب الخيل ويلبس العمائم لمن لا يملك إلا فرسا واحدا وعمامة فردة أو لتضمنها أشياء مختلفة من البقرات السبع السمان والسبع العجاف والسنابل السبع الخضر والأخر اليابسات فتأمل حسن موضع الأضغاث مع السنابل فلله در شأن التنزيل
«وما نحن بتأويل الأحلام» أي المنامات الباطلة التي لا أصل لها
«بعالمين» لا لأن لها تأويلا ولكن لا نعلمه بل لأنه لا تأويل لها وإنما التأويل للمنامات الصادقة يجوز أن يكون ذلك اعترافا منهم بقصور علمهم وأنهم ليسوا بنحارير في تأويل الأحلام مع أن لها تأويلا كما يشعر به عدو لهم عما وقع في كلام الملك من العبارة المعربة عن مجرد الإنتقال من الدال إلى المدلول حيث لم يقولوا بتعبير الأحلام أو عبارتها إلى التأويل المنبىء عن التصرف والتكلف في ذلك لما بين الآئل والمآل من البعد ويؤيده قوله عز وجل أنا أنبئكم بتأويله
«وقال الذي نجا منهما» أي من صاحبي يوسف وهو الشرابي
«وادكر» بغير المعجمة وهو الفصيح وعن الحسن بالمعجمة أي تذكر يوسف عليه السلام وشئونه التي شاهدها ووصيته بتقريب رؤيا الملك وإشكال تأويلها على الملأ
«بعد أمة» أي مدة طويلة وقرئ أمة بالكسر وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة وأمه أي نسيان والجملة حال من الموصول أو من ضميره في الصلة وقيل معطوفة على نجا وليس بذاك لأن حق كل من الصفة والصلة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف والموصول عند المخاطب كما عند المتكلم ولذلك قيل إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات وأنت تدري أن تذكره بعد أمة إنما علم بهذه الجملة فلا مجال لنظمه مع نجاته المعلومة قبل في سلك الصلة
«أنا أنبئكم بتأويله» أي أخبركم
281

بالتلقي عمن عنده علمه لا من تلقاء نفسي ولذلك لم يقل أنا أفتيكم فيها وعقبه بقوله
«فأرسلون» أي إلى يوسف وإنما لم يذكره ثقة بما سبق من التذكر وما لحق من قوله
«يوسف أيها الصديق» أي أرسل إليه فأتاه فقال يا يوسف ووصفه بالمبالغة في الصدق حسبما شاهده وذاق أحواله وجربها لكونه بصدد اغتنام آثاره واقتباس أنواره فهو من باب براعة الإستهلال
«أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات» أي في رؤيا ذلك وإنما لم يصرح به لوضوح مرامه بقرينة ما سبق من معاملتهما ولدلالة مضمون الحادثة عليه حيث لا إمكان لوقوعه في عالم الشهادة أي بين لنا مآلها وحكمها وحيث عاين علو رتبته عليه السلام في الفضل عبر عن ذلك بالإفتاء ولم يقل كما قال هو وصاحبه أولا نبئنا بتأويله وفي قوله أفتنا مع أنه المستفتي وحده إشعار بأن الرؤيا ليست له بل لغيره ممن له ملابسة بأمور العامة وأنه في ذلك معبر وسفير كما آذن بذلك حيث قال
«لعلي أرجع إلى الناس» أي إلى الملك ومن عنده أو إلى أهل البلد إن كان السجن في الخارج كما قيل فأنبئهم بذلك
«لعلهم يعلمون» ذلك ويعملون بمقتضاه أو يعلمون فضلك ومكانك مع ما أنت فيه من الحال فتتخلص منه وإنما لم يبت القول في ذلك مجاراة معه على نهج الأدب واحترازا عن المجازفة إذ لم يعلموه على يقين من الرجوع فربما اخترم دونه لعل المنايا دون ما تعداني ولا من علمهم بذلك فربما لم يعلموه
«قال» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال يوسف عليه السلام في التأويل فقيل قال
«تزرعون سبع سنين دأبا» قرىء بفتح الهمزة وسكونها وكلاهما مصدر دأب في العمل إذا جد فيه وتعب وانتصابه على الحالية من فاعل تزرعون أي دائبين أو تدأبون دأبا على أنه مصدر مؤكد لفعل هو الحال أول عليه السلام البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بسنين مجدبة فأخذهم بأنهم يواظبون سبع سنين على الزراع ويبالغون فيها إذ بذلك يتحقق الخصب الذي هو مصداق البقرات السمان وتأويلها ودلهم في تضاعيف ذلك على أمر نافع لهم فقال
«فما حصدتم» أي في كل سنة
«فذروه في سنبله» ولا تذروه كيلا يأكله السوس كما هو شأن غلال مصر ونواحيها ولعله عليه السلام استدل على ذلك بالسنبلات الخضر وإنما أمرهم بذلك إذ لم يكن معتادا فيما بينهم وحيث كانوا معتادين للزراعة لم يأمرهم بها وجعلها أمرا محقق الوقوع وتأويلا للرؤيا مصداقا لما فيها من البقرات السمان
«إلا قليلا مما تأكلون» في تلك السنين وفيه إرشاد منه عليه السلام لهم إلى التقليل في الأكل والاقتصار على استثناء المأكول دون البذر لكون ذلك معلوما من قوله تزرعون سبع سنين وبعد إتمام ما أمرهم به شرع في بيان بقية التأويل التي يظهر منها حكمة الأمر المذكور فقال
282

«ثم يأتي» وهو عطف على تزرعون فلا وجه لجعله بمعنى الأمر حثا لهم على الجد والمبالغة في الزراعة على أنه يحصل بالإخبار بذلك أيضا
«من بعد ذلك» أي من بعد السنين السبع المذكورات وإنما لم يقل من بعدهن قصدا إلى الإشارة إلى وصفهن فإن الضمير ساكت عن أوصاف المرجع بالكلية
«سبع شداد» أي سبع سنين صعاب على الناس
«يأكلن ما قدمتم لهن» من الحبوب المتروكة في سنابلها وفيه تنبيه على أن أمره عليه السلام بذلك كان لوقت الضرورة وإسناد الأكل إليهن مع أنه حال الناس فيهن مجازي كما في نهاره صائم وفيه تلويح بأنه تأويل لأكل العجاف السمان واللام في لهن ترشيح لذلك فكأن ما ادخر في السنابل من الحبوب شيء قد هيىء وقدم لهن كالذي يقدم للنازل وإلا فهو في الحقيقة مقدم للناس فيهن
«إلا قليلا مما تحصنون» تحرزون مبذور الزراعة
«ثم يأتي من بعد ذلك» أي من بعد السنين الموصوفة بما ذكر من الشدة وأكل الغلال المدخر
«عام» لم يعبر عنه بالسنة تحاشيا عن المدلول الأصلي لها من عام القحط وتنبيها من أول الأمر على اختلاف الحال بينه وبين السوابق
«فيه يغاث الناس» من الغيث أي يمطرون يقال غيثت البلاد إذا مطرت في وقت الحاجة أو من الغوث يقال أغاثنا الله تعالى أي أمدنا برفع المكاره حين أظلتنا
«وفيه يعصرون» أي ما من شأنه أن يعصر من العنب والقصب والزيتون والسمسم ونحوها من الفواكه لكثرتها والتعرض لذكر العصر مع جواز الاكتفاء عنه بذكر الغيث المستلزم له عادة كما اكتفى به عن ذكر تصرفهم في الحبوب إما لأن استلزام الغيث له ليس كاستلزامه للحبوب إذ المذكرات يتوقف صلاحها على مباد أخرى غير المطر وإما لمراعاة جانب المستفتي باعتبار حالته الخاصة به بشارة له وهي التي يدور عليها حسن موقع تغليبه على الناس في القراءة بالفوقانية وقيل معنى يعصرون يحلبون الضروع وتكرير فيه إما للإشعار باختلاف أوقات ما يقع فيه من الغيث والعصر زمانا وهو ظاهر وعنوانا فإن الغيث والغوث من فضل الله تعالى والعصر من فعل الناس وإما لأن المقام مقام تعداد منافع ذلك العام ولأجله قدم في الموضعين على الفعلين فإن المقصود الأصلي بيان أنه يقع في ذلك العام هذا النفع وذاك النفع لا بيان أنهما
يقعان في ذلك العام كما يفيده التأخير ويجوز أن يكون التقديم للقصر على معنى أن غيثهم وعصرهم في سائر السنين بمنزلة العدم بالنسبة إلى عامهم ذلك وأن يكون ذلك في الأخير لمراعات الفواصل وفي الأول لرعاية حاله وقرئ يعصرون على البناء للمفعول من عصره إذا أنجاه وهو المناسب للإغاثة ويجوز أن يكون المبنى للفاعل أيضا منه كأنه قيل فيه يغاث الناس وفيه يغيثون أي يغيثهم الله ويغيث بعضهم بعضا وقيل معنى يعصرون يمطرون من أعصرت السحابة إما بتضمين أعصرت معنى مطرت وتعديته وإما بحذف الجار وإيصال الفعل على أن الأصل أعصرت عليهم وأحكام هذا العام المبارك ليست مستنبطة من رؤيا الملك وإنما تلقاها عليه السلام من جهة الوحي فبشرهم بها بعد ما أول
283

الرؤيا بما أول وأمرهم بالتدبير اللائق في شأنه إبانة لعلو كعبه ورسوخ قدمه في الفضل وأنه محيط بما لم يخطر ببال أحد فضلا عما يرى صورته في المنام على نحو قوله لصاحبيه عند استفتائهما في منامهما لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله وإتماما للنعمة عليهم حيث لم يشاركه عليه السلام في العلم بوقوعها أحد ولو برؤية ما يدل عليها في المنام
«وقال الملك» بعدما جاءه السفير بالتعبير وسمع منه ما سمع من نقير وقطمير
«ائتوني به» لما علم من علمه وفضله
«فلما جاءه» أي يوسف
«الرسول» واستدعاه إلى الملك
«قال ارجع إلى ربك» أي سيدك
«فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» أي ففتشه عن شأنهم وإنما لم يقل فاسأله أن يفتش عن ذلك حثا للملك على الجد في التفتيش ليتبين برءاته ويتضح نزاهته إذ السؤال مما يهيج الإنسان على الاهتمام في البحث للتفصي عما توجه إليه وأما الطلب فمما قد يتسامح ويتساهل فيه ولا يبالي به وإنما لم يتعرض لامرأة العزيز مع ما لقي منها ما لقي من مقاساة الأحزان ومعاناة الأشجان والأحزان محافظة على مواجب الحقوق واحترازا عن مكرها حيث اعتقدها مقيمة في عدوة العداوة وأما النسوة فقد كان يطمع في صدعهن بالحق وشهادتهن بإقرارها بأنها راودته عن نفسه فاستعصم ولذلك اقتصر على وصفهن بتقطيع الأيدي ولم يصرح بمراودتهن له وقولهن أطع مولاتك واكتفى بالإيماء إلى ذلك بقوله
«إن ربي بكيدهن عليم» مجاملة معهن واحترازا عن سوء قالتهن عند الملك وانتصابهن للخصومة مدافعة عن أنفسهن متى سمعن بنسبته لهن إلى الفساد
«قال» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال الملك إثر ما بلغه الرسول الخبر وأحضرهن
«ما خطبكن» أي شأنكن وهو الأمر الذي يحق لعظمه أن يخاطب المرء فيه صاحبه
«إذ راودتن يوسف» وخادعتنه
«عن نفسه» ورغبتنه في إطاعة مولاته هل وجدتن فيه شيئا من سوء وريبة
«قلن حاش لله» تنزيها له وتعجبا من نزاهته وعفته
«ما علمنا عليه من سوء» بالغن في نفي جنس السوء عنه بالتنكير وزيادة من
«قالت امرأة العزيز» وكانت حاضرة في المجلس وقيل أقبلت النسوة عليها يقررنها وقيل خافت أن يشهدن عليها بما قالت لهن ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين فأقرت قائلة
«الآن حصحص الحق» أي ثبت واستقر أو تبين وظهر بعد خفاء قاله الخليل وقيل هو مأخوذ من الحصة وهي القطعة من الجملة أي تبين حصة الحق من حصة الباطل كما تتبين حصص الأراضي وغيرها وقيل بان وظهر من حص شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه وقرئ على البناء للمفعول من حصحص البعير مباركة أي ألقاها في
284

الأرض للإناخة قال
* فحصحص في صم الصفا ثفناته
* وناء بسلمى نوأة ثم صمما
* والمعنى أقر الحق في مقره ووضع في موضعه ولم ترد بذلك مجرد ظهور ما ظهر بشهادتهن من مطلق نزاهته عليه السلام فيما أحاط به علمهن من غير تعرض لنزاهته في سائر المواطن خصوصا فيما وقع فيه التشاجر بمحضر العزيز ولا بحث عن حال نفسها وما صنعت في ذلك بل أرادت ظهور ما هو متحقق في نفس الأمر وثبوته من نزاهته عليه السلام في محل النزاع وخيانتها فقالت
«أنا راودته عن نفسه» لا أنه راودني عن نفسي
«وإنه لمن الصادقين» أي في قوله حين افتريت عليه هي راودتني عن نفسي وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام لا زمان شهادتهن فتأمل أيها المنصف هل ترى فوق هذه المرتبة نزاهة حيث لم تتمالك الخصماء من الشهادة بها والفضل ما شهدت به الخصماء وإنما تصدى عليه السلام لتمهيد هذه المقدمة قبل الخروج ليظهر براءة ساحته
مما قذف به لا سيما عند العزيز قبل أن يحل ما عقده كما يعرب عنه قوله عليه السلام لما رجع إليه الرسول وأخبره بكلامهن
«ذلك» أي ذلك التثبيت المؤدي إلى ظهور حقيقة الحال
«ليعلم» أي العزيز
«أني لم أخنه» في حرمته كما زعمه لا علما مطلقا فإن ذلك لا يستدعي تقديم التفتيش على الخروج من السجن بل قبل ما ذكر من نقض ما أبرمه ولعله لمراعاة حقوق السيادة لأن المباشرة للخروج من حبسه قبل ظهور بطلان ما جعله سببا له وإن كان ذلك بأمر الملك مما يوهم الافتيات على رأيه وأما أن يكون ذلك لئلا يتمكن من تقبيح أمره عند الملك تمحلا لإمضاء ما قضاه فلا يليق بشأنه عليه السلام في الوثوق بأمره والتوكل على ربه جل جلاله
«بالغيب» أي بظهر الغيب وهو حال من الفاعل أو المفعول أي لم أخنه وأنا غائب عنه أو وهو غائب عنه أو وهو غائب عني أو ظرف أي بمكان الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة وأيا ما كان فالمقصود بيان كمال نزاهته عن الخيانة وغاية اجتنابه عنها عند تعاضد أسبابها
«وأن الله» أي وليعلم أنه تعالى
«لا يهدي كيد الخائنين» أي لا ينفذه ولا يسدده بل يبطله ويزهقه أو لا يهديهم في كيدهم إيقاعا للفعل على الكيد مبالغة كما في قوله تعالى يضاهئون قول الذين كفروا أي يضاهئونهم في قولهم وفيه تعريض بامرأته في خيانتها أمانته وبه في خيانته أمانة الله تعالى حين ساعدها على حبسه بعد ما رأوا آيات نزاهته عليه السلام ويجوز أن يكون ذلك لتأكيد أمانته وأنه لو كان خائنا لما هدى الله عز وجل أمره وأحسن عاقبته
«وما أبرئ نفسي» أي لا أنزهها عن السوء قاله عليه السلام هضما لنفسه الكريمة البريئة عن كل سوء وربأ بمكانها عن التزكية والإعجاب بحالها عند ظهور كمال نزاهتها على أسلوب قوله عليه السلام أنا سيد ولد آدم ولا فخر أو تحديثا بنعمة الله عز وجل عليه وإبرازا لسره المكنون في شأن أفعال العباد أي لا أنزهها عن السوء من حيث هي هي ولا أسند هذه الفضيلة إليها بمقتضى طبعها من غير توفيق من الله عز وعلا
«أن النفس» البشرية التي من جملتها نفسي في حد ذاتها
«لأمارة بالسوء» مائلة إلى الشهوات
285

مستعملة للقوى والآلات في تحصيلها بل إنما ذلك بتوفيق الله تعالى وعصمته ورحمته كما يفيده قوله
«إلا ما رحم ربي» من النفوس التي يعصمها من الوقوع في المهالك ومن جملتها نفسي أو هي أمارة بالسوء في كل وقت إلا وقت رحمة ربي وعصمته لها وقيل الاستثناء منقطع أي لكن رحمة ربي هي التي تصرف عنها السوء كما في قوله تعالى ولا هم ينقذون إلا رحمة
«إن ربي غفور رحيم» عظيم المغفرة لما يعتري النفوس بموجب طباعها ومبالغ في الرحمة لها بعصمتها من الجريان بمقتضى ذلك وإيثار الإظهار في مقام الإضمار مع التعرض لعنوان الربوبية لتربية مبادى المغفرة والرحمة وقيل إلى هنا من كلام امرأة العزيز والمعنى ذلك الذي قلت ليعلم يوسف عليه السلام أني لم أخنه ولم أكذب عليه في حال الغيبة وجئت بما هو الحق الواقع وما أبرىء نفسي مع ذلك من الخيانة حيث قلت في حقه ما قلت وفعلت به ما فعلت إن كل نفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي أي إلا نفسا رحمها الله بالعصمة كنفس يوسف إن ربي غفور لمن استغفر لذنبه واعترف به رحيم له فعلى هذا يكون تأنيه عليه السلام في الخروج من السجن لعدم رضاه عليه السلام بملاقاة الملك وأمره بين بين ففعل ما فعل حتى يتبين نزاهته وأنه إنما سجن بظلم عظيم مع ما له من الفضل ونباهة الشأن ليتلقاه الملك بما يليق به من الإعظام والإجلال وقد وقع
«وقال الملك ائتوني به أستخلصه» أجعله خالصا
«لنفسي» وخاصا بي
«فلما كلمه» أي فأتوا به فحذف للإيذان بسرعة الإتيان به فكأنه لم يكن بين الأمر بإحضاره والخطاب معه زمان أصلا والضمير المستكن في كلمه ليوسف والبارز للملك أي فلما كلمه يوسف إثر ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد
«قال إنك اليوم لدينا مكين» ذو مكانة ومنزلة رفيعة
«آمين» مؤتمن على كل شيء واليوم ليس بمعيار لمدة المكانة والأمانة بل هو آن التكلم والمراد تحديد مبدئهما احترازا عن احتمال كونهما بعد حين روى أنه عليه السلام لما جاءه الرسول خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبس ثيابا جددا فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره وشر غيره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال ما هذا اللسان قال لسان آبائي وكان الملك يعرف سبعين لسانا فكلمه بها فأجابه بجميعها فتعجب منه فقال أحب أن أسمع منك رؤياي فحكاها ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوض إليه أمره وقيل توفي قطفير في تلك الليالي فنصبه منصبه وزوجه راعيل فوجدها عذراء وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينه عليه السلام لما عين له من أمر الخزائن كما يعرب عنه قوله عز وجل
«قال اجعلني على خزائن الأرض» أي أرض مصر أي ولني أمرها من الإيراد والصرف
«إني حفيظ» لها ممن لا يستحقها
«عليم» بوجوه التصرف فيها وفيه دليل على جواز طلب الولاية إذا كان الطالب ممن يقدر على إقامة العدل وإجراء أحكام الشريعة وإن كان من يد الجائر أو الكافر وعن
مجاهد أنه أسلم الملك على يده
286

عليه السلام ولعل إيثاره عليه السلام لتلك الولاية خاصة إنما كان للقيام بما هو أهم أمور السلطنة إذ ذاك من تدبير أمر السنين حسبما فصل في التأويل لكونه من فروع تلك الولاية لمجرد عموم الفائدة وجموم العائدة كما قيل وإنما لم يذكر إجابة الملك إلى ما سأله عليه السلام من جعله على خزائن الأرض إيذانا بأن ذلك أمر لا مرد له غني عن التصريح به لا سيما بعد تقديم ما يندرج تحته من أحكام السلطنة بحذافيرها من قوله إنك اليوم لدينا مكين أمين وللتنبيه على أن كل ذلك من الله عز وجل وإنما الملك آلة في ذلك قيل
«وكذلك» أي مثل ذلك التمكين البليغ
«مكنا ليوسف» أي جعلنا له مكانا
«في الأرض» أي أرض مصر روى أنها كانت أربعين فرسخا في أربعين وفي التعبير عن الجعل المذكور بالتمكين في الأرض مسندا إلى ضميره عز سلطانه من تشريفه عليه السلام والمبالغة في كمال ولايته والإشارة إلى حصول ذلك من أول الأمر لا أنه حصل بعد السؤال ما لا يخفى
«يتبوأ منها» ينزل من بلادها
«حيث يشاء» ويتخذه مباءة وهو عبارة عن كمال قدرته على التصرف فيها ودخولها تحت ملكته وسلطانه فكأنها منزله يتصرف فيها كما يتصرف الرجل في منزله وقرأ ابن كثير بالنون روى أن الملك توجه وختمه بخاتمه ورداه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال عليه السلام أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي فقال قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض إليه الملك أمره وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء وباع من أهل مصر في سنى القحط الطعام في السنة الأولى بالدنانير والدراهم وفي الثانية بالحلى والجواهر وفي الثالثة بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا ما رأينا كاليوم ملكا أجل وأعظم منه ثم أعتقهم ورد إليهم أموالهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس
«نصيب برحمتنا» بعطائنا في الدنيا من الملك والغنى وغيرهما من النعم
«من نشاء» بمقتضى الحكمة الداعية إلى المشيئة
«ولا نضيع أجر المحسنين» بل نوفيه بكماله وفيه إشعار بأن مدار المشيئة المذكورة إحسان من تصيبه الرحمة المرقومة وأنها أجر له ولدفع توهم انحصار ثمرات الإحسان فيما ذكر من الأجر العاجل قيل على سبيل التوكيد
«ولأجر الآخرة» أي أجرهم في الآخرة فالإضافة للملابسة وهو النعيم المقيم الذي لا نفاد له
«خير» لهم أي للمحسنين المذكورين وإنما وضع موضعه الموصول فقيل
«للذين آمنوا وكانوا يتقون» تنبيها على أن المراد بالإحسان إنما هو الإيمان والثبات على التقوى المستفاد من جمع صيغتي الماضي والمستقبل
«وجاء
287

إخوة يوسف»
ممتارين لما أصاب أرض كنعان وبلاد الشام ما أصاب أرض مصر وقد كان أرسلهم يعقوب عليه السلام جميعا غير بنيامين
«فدخلوا عليه» أي على يوسف وهو في مجلس ولايته
«فعرفهم» لقوة فهمه وعدم مباينة أحوالهم السابقة لحالهم يومئذ لمفارقته إياهم وهم رجال وتشابه هيآتهم وزيهم في الحالين ولكون همته معقودة بهم وبمعرفة أحوالهم لا سيما في زمن القحط وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له
«وهم له منكرون» أي والحال أنهم منكرون له لطول العهد وتباين ما بين حاليه عليه السلام في نفسه ومنزلته وزيه ولاعتقادهم أنه هلك وحيث كان إنكارهم له أمرا مستمرا في حالتي المحضر والمغيب أخبر عنه بالجملة الإسمية بخلاف عرفانه عليه السلام إياهم
«ولما جهزهم بجهازهم» أي أصلحهم بعدتهم من الزاد وما يحتاج إليه المسافر وأوقر ركائبهم بما جاءوا له من الميرة وقرئ بكسر الجيم
«قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم» لم يقل بأخيكم مبالغة في إظهار عدم معرفته لهم ولعله عليه السلام إنما قاله لما قيل من أنهم سألوه عليه السلام حملا زائدا على المعتاد لبنيامين فأعطاهم ذلك وشرطهم أن يأتوا به لا لما قيل من أنه لما رأوه وكلموه بالعبرية قال لهم من أنتم فإني أنكركم فقالوا له نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار فقال لهم لعلكم جئتم عيونا فقالوا معاذ الله نحن أخوة من أبي واحد وهو شيخ كبير صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب قال كم أنتم قالوا كنا اثني عشر فهلك منا واحد فقال كم أنتم قالوا عشرة قال فأين الحادي عشر قالوا هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك قال فمن يشهد لكم أنكم لستم عيونا وأن ما تقولون حق قالوا نحن ببلاد لا يعرفنا فيها أحد فيشهد لنا قال فدعوا بعضكم عندي رهينة وائتوني بأخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم فاقترعوا فأصاب القرعة شمعون فخلفوه عنده إذ لا يساعده ورود الأمر بالإتيان به عند التجهيز ولا الحث عليه بإيفاء الكيل ولا الإحسان في الإنزال ولا الاقتصار على منع الكيل على تقدير عمد الإتيان به ولا جعل بضاعتهم في رحالهم لأجل رجوعهم ولا عدتهم بالإتيان به بطريق المراودة ولا تعليلهم عند أبيهم إرسال أخيهم بمنع الكيل من غير ذكر الرسالة على أن استبقاء شمعون لو وقع لكان
ذلك طامة ينسى عندها كل قيل وقال
«ألا ترون أني أوفي الكيل» أتمه لكم وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة له مستمرة
«وأنا خير المنزلين» جملة حالية أي ألا ترون أني أوفي الكيل لكم إيفاء مستمرا والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وقد كان الأمر كذلك وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمرا فيما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الإسمية ولم يقله عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما شاء
288

«فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي» من بعد فضلا عن إيفائه
«ولا تقربون» بدخول بلادي فضلا عن الإحسان في الإنزال والضيافة وهو إما نهى أو نفى معطوف على محل الجزاء وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الإمتيار مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوما له عليه السلام
«قالوا سنراود عنه أباه» أي سنخادعه عنه ونحتال في انتزاعه من يده ونجتهد في ذلك وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله
«وإنا لفاعلون» ذلك غير مفرطين فيه ولا متوانين أو لقادرون عليه لا نتعانى به
«وقال» يوسف
«لفتيانه» غلمانه الكيالين جمع فتى وقرئ لفتيته وهي جمع قلة له
«اجعلوا بضاعتهم في رحالهم» فإنه وكل بكل رحل رجلا يعبى فيه بضاعتهم التي شروا بها الطعام وكانت نعالا وأدما وإنما فعله عليه السلام تفضلا عليهم وخوفا من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيه كما يؤذن به قوله
«لعلهم يعرفونها» أي يعرفون حق ردها والتكرم في ذلك أو لكي يعرفوها وهو ظاهر التعلق بقوله
«إذا انقلبوا إلى أهلهم» فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعا وأما معرفة حق التكرم في ردها فهي وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به
«لعلهم يرجعون» حسبما أمرتهم به فإن التفضل عليهم بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع وما قيل إنما فعله عليه السلام لما لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمنا فكلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور وأما أن علية الجعل المذكور للرجوع من حيث إن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لأنهم لا يستحلون إمساكهم فمداره حسبانهم أنها بقيت في رحالهم نسيانا وظاهر أن ذلك مما لا يخطر ببال أحد أصلا فإن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل ألا يرى أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلا على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبرا
«فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا» قبل أن يشتغلوا بفتح المتاع
«يا أبانا منع منا الكيل» أي فيما بعد وفيه ما لا يخفى من الدلالة على أن كون الإمتيار مرة بعد مرة معهودا فيما بينهم وبينه عليه السلام
«فأرسل معنا أخانا» بنيامين إلى مصر وفيه إيذان بأن مدار المنع عدم كونه معهم
«نكتل» بسببه من الطعام ما نشاء وقرأ حمزة
289

والكسائي بالياء على إسناده إلى الأخ لكونه سببا للإكتيال أو يكتل لنفسه مع اكتيالنا
«وإنا له لحافظون» من أن يصيبه مكروه
«قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه» يوسف
«من قبل» وقد قلتم في حقه أيضا ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض الأمر إلى الله
«فالله خير حافظا» وقرئ حفظا وانتصابهما على التمييز والحالية على القراءة الأولى توهم تقيد الخيرية بتلك الحالة
«وهو أرحم الراحمين» فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع على مصيبتين وهذا كما ترى ميل منه عليه السلام إلى الإيذان والإرسال لما رأى فيه من المصلحة
«ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم» أي تفضلا وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال وقرئ بنقل حركة الدال المدغمة إلى الراء كما قيل في قيل وكيل
«وقالوا» استئناف مبني على السؤال كأنه قيل ماذا قالوا حينئذ فقيل قالوا لأبيهم ولعله كان حاضرا عند الفتح
«يا أبانا ما نبغي» إذا فسر البغي بالطلب فما إما استفهامية منصوبة به فالمعنى ماذا نبتغي وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوايج وقد كانوا أخبروه بذلك وقالوا له إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته وقوله تعالى
«هذه بضاعتنا ردت إلينا» جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلا من حيث لا ندري بعدما من علينا من المنن العظام هل من مزيد على هذا فنطلبه ولم يريدوا به الاكتفاء بذلك مطلقا أو التقاعد عن طل بنظائره بل أرادوا الاكتفاء به في استيجاب الامتثال لأمره والإلتجاء إليه في استجلاب المزيد كما أشرنا إليه وقوله تعالى ردت إلينا حال من بضاعتنا والعامل معنى الإشارة وإيثار صيغة البناء للمفعول للإيذان بكمال الإحسان
الناشئ عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله وقوله عز وجل
«ونمير أهلنا» أي نجلب إليهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه رد البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا
«ونحفظ أخانا» من المكاره حسبما وعدنا فما يصيبه من مكروه
«ونزداد» أي بواسطته ولذلك وسط الإخبار بحفظه بين الأصل والمزيد
«كيل بعير» أي وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط
«ذلك» أي ما يحمله أباعرنا
«كيل يسير» أي مكيل قليل لا يقوم بأودنا فهو استئناف وقع تعليلا لما سبق كأنه قيل أي حاجة إلى الازدياد فقيل ما قيل أو ذلك الكيل الزائد شيء قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه أو أي مطلب نطلب من مهماتنا والجملة الواقعة بعده توضيح
290

وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا فما يصيبه شيء من المكاره ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبتغي وراء هذه المباغي وقريء ما تبغي على خطاب يعقوب عليه السلام أي أي شيء تبغي وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل بنا الملك من الإحسان داعيا إلى التوجه إليه والجملة الإستئنافية موضحة لذلك أو أي شيء تبغي شاهدا على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار وإما نافية فالمعنى ما نبغي شيئا غير ما رأينا من إحسان الملك في وجوب المراجعة إليه أو ما نبغي غير هذه المباغي وقيل ما نطلب منك بضاعة أخرى والجملة المستأنفة تعليل له وأما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد فما نافية فقط والمعنى ما نبغي في القول وما نتزيد فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي وقوله ونمير أهلنا عطف على ما نبغي أي ما نبغي فيما ذكرنا من إحسانه وتحصيل أمثاله من مير أهلنا وحفظ أخينا فإن ذلك أهون شيء بواسطة إحسانه وقد جوز أن يكون كلاما مبتدأ أي جملة اعتراضية تذييلية على معنى وينبغي أن نمير أهلنا وشبه ذلك بقولك سعيت في حاجة فلان ويجب أن أسعى وأنت خبير بأن شأن الجمل التذييلية أن تكون مؤكدة لمضمون الصدر ومقررة له كما في المثال المذكور وقولك فلان ينطق بالحق فالحق أبلج وإن قوله ونمير الخ وإن ساعدنا في حمله على معنى ينبغي أن نمير أهلنا بمعزل من ذلك أو ما نبغي في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا والجمل إلى آخرها تفصيل وبيان لعدم بغيهم وإصابة رأيهم أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلها ونصنع كيت وذيت فتأمل
«قال لن أرسله معكم» بعدما عاينت منكم ما عاينت
«حتى تؤتون موثقا من الله» أي ما أتوثق به من جهة الله عز وجل وإنما جعله موثقا منه تعالى لأن تأكيد العهود به مأذون فيه من جهته تعالى فهو إذن منه عز وجل
«لتأتنني به» جواب القسم إذ المعنى حتى تحلفوا بالله لتأتنني به
«إلا أن يحاط بكم» أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا به أو إلا أن تهلكوا وأصله من إحاطة العدو فإن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا وهو استثناء من أعم الأحوال أو أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني به ولا تمتنعن منه في حال من الأحوال أو لعله من العلل إلا حال الإحاطة بكم أو لعلة الإحاطة بكم ونظيره قولهم أقسمت عليك لما فعلت وإلا فعلت أي ما أريد منك إلا فعلك وقد جوز الأول بلا تأويل أيضا أي لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان به من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك لألزمنك إلا أن تعطيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت صل إلا أن تكون
291

محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج إلا الإخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه فآل المعنى إلى التأويل المذكور
«فلما آتوه موثقهم» عهدهم من الله حسبما أراد يعقوب عليه السلام
«قال الله على ما نقول» أي على ما قلنا في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار صورته المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته
«وكيل» مطلع رقيب يريد به عرض ثقته بالله تعالى وحثهم على مراعاة ميثاقهم
«وقال» ناصحا لهم لما أزمع على إرسالهم جميعا
«يا بني لا تدخلوا» مصر
«من باب واحد» نهاهم عن ذلك حذارا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد كانوا تجملوا في هذه الكرة أكثر مما في المرة الأولى وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملك بخلاف النوبة الأولى فكانوا مئنة لدنو كل ناظر وطموح كل طامح وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ليست مما ينكر وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم إن العين حق وعنه صلى الله عليه وسلم إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة وكان صلى الله عليه وسلم يقول كان أبوكما يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام رواه البخاري
في صحيحه وقد شهدت بذلك التجارب ولما لم يكن عدم الدخول من باب واحد مستلزما للدخول من أبواب متفرقة وكان في دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور قال
«وادخلوا من أبواب متفرقة» بيانا لما هو المراد بالنهي وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزما له إظهار لكمال العناية وإيذانا بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق لشيء آخر
«وما أغني عنكم» أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري
«من الله من شيء» أي شيئا مما قضى عليكم فإن الحذر لا يمنع القدر ولم يرد به عليه السلام إلغاء الحذر بالمرة كيف لا وقد قال عز قائلا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال خذوا حذركم بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير في الجملة وإنما التأثير وترتب المنفعة عليه من العزيز القدير وأن ذلك ليس بمدافعة للقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه
«إن الحكم» مطلقا
«إلا لله» لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء
«عليه» لا على أحد سواه
«توكلت» في كل ما آتي وأذر وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل
«وعليه» دون غيره
«فليتوكل المتوكلون» جمع بين الحرفين في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص مقيدا بالواو وعطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله عز وجل على فعل نفسه وبإلقاء سببية فعله لكونه نبيا لفعل غيره من المقتدين به فيدخل فيهم بنوه دخولا أوليا وفيه ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله عز وجل غير مغترين
292

بما وصاهم به من التدبير «ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم» من الأبواب المتفرقة من البلد قيل كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها وإنما أكتفي بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه
«ما كان» ذلك الدخول
«يغني» فيما سيأتي عند وقوع ما وقع
«عنهم» عن الداخلين لأن المقصود به استدفاع الضرر عنهم والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقيق المقارنة الواجبة بين جواب لما ومدخوله فإن عدم الإغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكور من عدم كون الدخول المذكور مغنيا فيما سيأتي فتأمل
«من الله» من جهته
«من شيء» أي شيئا مما قضاه عليهم مع كونه مظنة لذلك في بادي الرأي حيث وصاهم به يعقوب عليه السلام وعملوا بموجبه واثقين بجدواه من فضل الله تعالى فليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما في قوله تعالى فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا فإن مجيء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للإغناء مع كونها متوقعة في بادي الرأي كما في قولك حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطني شيئا فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه ويجوز أن يراد ذلك أيضا بناء على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيته من أنه لا يغني عنهم من الله شيئا فكأنه قيل ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفد ذلك شيئا ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع فتأمل
«إلا حاجة» استثناء منقطع أي ولكن حاجة وحرازة كائنة
«في نفس يعقوب قضاها» أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخاطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيرا في تغيير التقدير وقد جعل ضمير الفاعل في قضاها للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئا ولكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب بوقوعه حسب إرادته فالإستثناء منقطع أيضا وعلى التقديرين لم يكن للتدبير فائدة سوى دفع الخاطرة وأما إصابة العين فإنما لم تقع لكونها غير مقدرة عليهم لا لأنها اندفعت بذلك مع كونها مقتضية عليهم
«وإنه لذو علم» جليل
«لما علمناه» لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر وأن التدبير له حظ من التأثير حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغني عنهم من الله شيئا فكان الحال كما قال وفي تأكيد الجملة بأن واللام وتنكير العلم وتعليله بالتعليم المسند إلى ذاته سبحانه من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى
«ولكن أكثر الناس لا يعلمون» أسرار القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر وأما ما يقال من أن المعنى لا يعلمون إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئا من القدر فيأباه مقام
بيان تخلف المطلوب عن المبادي
293

«ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه» بنيامين أي ضمه إليه في الطعام أو في المنزل أو فيهما روى أنهم لما دخلوا عليه قالوا له هذا أخونا قد جئناك به فقال لهم أحسنتم وستجدون ذلك عندي فأكرمهم ثم أضافهم وأجلسهم مثنى مثنى فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف بقي أخوكم فريدا وأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكله ثم أنزل كل اثنين منهم بيتا فقال هذا لا ثاني معه فيكون معي فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لي عشرة بنين أشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وتعرف إليه وعند ذلك
«قال إني أنا أخوك» يوسف
«فلا تبتئس» أي فلا تحزن
«بما كانوا يعملون» بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا بخير ولا تعلمهم بما أعلمتك قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن وهب إنه لم يتعرف إليه بل قال له أنا أخوك بدل أخيك المفقود ومعنى فلا تبتئس لا تحزن بما كنت تلقى منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم وروى أنه قال له فأنا لا أفارقك قال قد علمت باغتمام والدي بي فإذا حبستك يزداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال لا أبالي فأفعل ما بدا لك قال أدس صاعى في رحلك ثم أنادى عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال افعل
«فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية» أي المشربة قيل كانت مشربة جعلت صاعا يكال به وقيل كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب وكانت من فضة وقيل من ذهب وقيل من فضة مموهة بالذهب وقيل كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقى طرفاه يستعمله الأعاجم وقيل كانت مرصعة بالجواهر
«في رحل أخيه» بنيامين وقرئ وجعل على حذف جواب لما تقديره أمهلهم حتى انطلقوا «ثم أذن مؤذن» نادى مناد
«أيتها العير» وهي الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء وقيل هي قافلة الحمير ثم كثر حتى قيل لكل قافلة عير كأنها جمع عير وأصلها فعل مثل سقف وسقف ففعل به ما فعل ببيض وغيد والمراد أصحابها كما في قوله عليه السلام يا خيل الله اركبى روى أنهم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا منزلا وقيل خرجوا من العمارة ثم أمر بهم فأدركوا ونودوا
«إنكم لسارقون» هذا الخطاب إن كان يأمر يوسف فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه والأول هو الأظهر الأوفق للسياق وقرأ اليماني سارقون بلا لام
«قالوا» أي الأخوة
«وأقبلوا
294

عليهم»
جملة حالية من ضمير قالوا جيء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم
«ماذا تفقدون» أي تعدمون تقول فقدت الشيء إذا عدمته بأن ضل عنك لا بفعلك والمآل ماذا أضاع عنكم وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة وقريء تفقدون من أفقدته إذا وجدته فقيدا وعلى التقديرين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم ماذا سرق منكم لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلا أن يكونوا هم السارقين له وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم أنه ماذا وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البرآء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التوكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث
«قالوا» في جوابهم
«نفقد صواع الملك» ولم يقولوا سرقتموه أو سرق وقريء صاع وصوع وصوع بفتح الصاد وضمها وبإهمال العين وإعجامها من الصياغة ثم قالوا تربية لما تلقوه من قبلهم وإراءة لاعتقاد أنه إنما بقي في رحلهم اتفاقا
«ولمن جاء به» من عند نفسه مظهرا له قبل التفتيش
«حمل بعير» من الطعام جعلا له لا على نية تحقيق الوعد لجزمهم بامتناع وجود الشرط وعزمهم على ما لا يخفى من أخذ من وجد في رحله
«وأنا به زعيم» كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن
«قالوا تالله» الجمهور على أن التاء بدل من الواو ولذلك لا تدخل إلا على الجلالة المعظمة أو الرب المضاف إلى الكعبة أو الرحمن في قول ضعيف ولو قلت تا لرحيم لم يجز وقيل من الباء وقيل أصل بنفسها وأيا ما كان ففيه تعجب
«لقد علمتم» علما جازما مطابقا للواقع
«ما جئنا لنفسد في الأرض» أي لنسرق فإنه من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان مما عز أو هان فضلا عما نسبتمونا إليه من السرقة ونفي المجيء للإفساد وإن لم يكن مستلزما لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقا لكنهم جعلوا المجيء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئا لغرض الإفساد مفعولا
لأجله ادعاء إظهار لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم كما قيل في قوله تعالى ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد الدال بظاهره على نفي المبالغة في الظلم دون نفي الظلم في الجملة الذي هو مقتضى المقام من أن المعنى إذا عذبت من لا يستحق التعذيب كنت ظلاما مفرطا في الظلم فكأنهم قالوا إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه يعنون أنه قد شاع بينكم في كرتي مجيئنا ما نحن عليه وقد كانوا على غاية ما يكون من الديانة والصيانة فيما يأتون ويذرون حتى روى أنهم دخلوا مصر وأفواه رواحلهم مكمومة لئلا تتناول زرعا أو طعاما لأحد وكانوا مثابرين على فنون الطاعات وعلمتم بذلك أنه لا يصدر عنا إفساد
«وما كنا سارقين» أي ما كنا نوصف بالسرقة قط وإنما حكموا بعلمهم ذلك لأن العلم بأحوالهم الشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الغائبة وإنما لم يكتفوا بنفي الأمرين المذكورين بل استشهدوا بعلمهم بذلك إلزاما للحجة عليهم وتحقيقا للتعجب المفهوم من تاء القسم
295

«قالوا» أي أصحاب يوسف عليه السلام
«فما جزاؤه» الضمير للصواع على حذف المضاف أي فما جزاء سرقته عندكم وفي شريعتكم
«إن كنتم كاذبين» لا في دعوى البراءة عن السرقة فإنهم صادقون فيها بل فيما يستلزمه ذلك من نفي كون الصواع فيهم كما يؤذن به قوله عز وجل
«قالوا جزاؤه من وجد» أي أخذ من وجد الصواع
«في رحله» حيث ذكر بعنوان الوجدان في الرحل دون عنوان السرقة وإن كان ذلك مستلزما لها في اعتقادهم المبني على قواعد العادة ولذلك أجابوا بما أجابوا فإن الأخذ والإسترقاق سنة إنما هو جزاء السارق دون من وجد في يده مال غيره كيفما كان فتأمل واحمل كلام كل فريق على ما لا يزاحم رأيه فإنه أقرب إلى معنى الكيد وأبعد من الافتراء وقوله تعالى
«فهو جزاؤه» تقرير لذلك الحكم أي فأخذه جزاؤه كقولك حق الضيف أن يكرم فهو حقه ويجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر مقام المضمر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو على أن الأول لمن والثاني للظاهر الذي وضع موضعه
«كذلك» أي مثل ذلك الجزاء الأوفى
«نجزي الظالمين» بالسرقة تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة ولقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهم عما فعل بهم غافلون
«فبدأ» يوسف بعد ما راجعوا إليه للتفتيش «بأوعيتهم» بأوعية الأخوة العشرة أي بتفتيشها قبل تفتيش
«وعاء أخيه» بنيامين لنفي التهمة روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا والله لا نتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا
«ثم استخرجها» أي السقاية أو الصواع فإنه يذكر ويؤنث
«من وعاء أخيه» لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصدا إلى زيادة كشف وبيان وقريء بضم الواو وبقلبها همزة كما في أشاح في وشاح
«كذلك» نصب على المصدرية والكاف مقحمة الدلالة على فخامة المشار إليه وكذا ما في ذلك من معنى البعد أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو عبارة عن إرشاد الأخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وبحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا فمعنى قوله عز وجل
«كدنا ليوسف» صنعنا له ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس الصواع وما يتلوه فاللام ليست كما في قوله فيكيدوا لك كيدا فإنها داخلة على المتضرر على ما هو الاستعمال الشائع وقوله تعالى
«ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك» استئناف وتعليل لذلك الكيد وصنعه لا تفسير وبيان له كما قيل كأنه قيل لماذا فعل ذلك فقيل لأنه لم يكن ليأخذ أخاه بما فعله في دين الملك في أمر السارق أي في سلطانه قاله ابن عباس
296

أو في حكمه وقضائه قاله قتادة إلا به لأن جزاء السارق في دينه إنما كان ضربه وتغريمه ضعف ما أخذ دون الاسترقاق والاستعباد كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بالسرقة التي نسبها إليه في حال من الأحوال
«إلا أن يشاء الله» أي إلا حال مشيئته التي هي عبارة عن إرادته لذلك الكيد أو إلا حال مشيئته للأخذ بذلك الوجه ويجوز أن يكون الكيد عبارة عنه وعن مباديه المؤدية إليه جميعا من إرشاد يوسف وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتبا لكن لا على أن يكون القصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذا بالنسبة إلى غيره مطلقا على معنى مثل ذلك الكيد كدنا لا كيدا آخر إذ لا معنى لتعليله بعجز يوسف عن أخذ أخيه في دين الملك في شأن السارق قطعا إذا لا علاقة بين مطلق الكيد ودين الملك في أمر السارق أصلا بل بالنسبة إلى بعضه على معنى مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا له ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يجري مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور وعلى هذا ينبغي أن يحمل القصر في تفسير من فسر قوله تعالى كدنا ليوسف بقوله علمناه إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح مرتبا علمناه دون بعض من ذلك فقط الخ وعلى كل حال فالإستثناء من أعم الأحوال كما أشير إليه ويجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن يأخذ أخاه لعلة من العلل أو بسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى أو إلا بسبب مشيئته تعالى وأيا ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده دينا لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفا لدين الملك وقد قيل معنى الاستثناء إلا
أن يشاء الله أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وأنت تدري أن المراد بدينه ما عليه حينئذ فتغييره مخل بالاتصال وإرادة مطلق ما يتدين به أعم منه ومما يحدث تفضي إلى كون الاستثناء من قبيل التطبيق بالمحال إذ المقصود بيان عجز يوسف عليه السلام عن أخذ أخيه حينئذ ولم تتعلق المشيئة بالجعل المذكور إذا ذاك وإرادة عجزه مطلقا تؤدي إلى خلاف المراد فإن استثناء حال المشيئة المذكورة من أحوال عجزه عليه السلام مما يشعر بعدم الحاجة إلى الكيد المذكور فتدبر وقد جوز الانقطاع أي لكن أخذه بمشيئة الله تعالى وإذنه في دين غير دين الملك
«نرفع درجات» أي رتبا كثيرة عالية من العلم وانتصابها على المصدرية أو الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات والمفعول قوله تعالى
«من نشاء» أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب
«وفوق كل ذي علم» من أولئك المرفوعين
«عليم» لا ينالون شأوه واعمل أنه إن جعل الكيد عبارة عن المعنيين الأولين فالمراد برفع يوسف عليه السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى دس الصواع في رحل أخيه وما يتفرع عليه من المقدمات المرتبة لاستبقاء أخيه مما يتم من قبله والمعنى أرشدنا أخوته إلى الإفتاء المذكور لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بدونه أو أرشدنا كلا منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف فقط لأنه لم يكن متمكنا من أخذ أخيه بذلك فقوله تعالى نرفع درجات إلى
297

قوله تعالى عليم توضيح لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يعزب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداده وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدر علمه ولا يكتنه كنهه يرفع كلا منهم إلى ما يليق به من معارج العلم ومدارجه وقد رفع يوسف إلى ما يليق به من الدرجات العالية وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدور الإفتاء المذكور عن إخوته وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله عز وجل وجودا وعلما والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز وعلا وجلالة مقدار علمه المحيط ما لا يخفى وأما إن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء المذكور فالرفع عبارة عن ذلك التعليم والإفتاء وإن لم يكن داخلا تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلا تحت عمله بواسطة الوحي والتعليم والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكنا من أخذ أخيه إلا بذلك فقوله نرفع درجات من نشاء توضيح لقوله كدنا وبيان لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدح ليوسف برفعه إليها وقوله وفوق كل ذي علم عليم تذييل له أي نرفع درجات عالية من العلم من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة قال ابن عباس رضي الله عنهما فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى والمعنى أن إخوة يوسف عليه السلام كانوا علماء إلا أن يوسف عليه السلام أفضل منهم وقرئ درجات من نشاء بالإضافة والأول أنسب بالتذييل حيث نسب فيه الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته ويجوز أن يكون العليم في هذا التفسير أيضا عبارة عن الله عز وجل أي وفوق كل من أولئك المرفوعين عليم يرفع كلا منهم إلى درجته اللائقة به والله تعالى أعلم
«قالوا إن يسرق» يعنون بنيامين
«فقد سرق أخ له من قبل» يريدون به يوسف عليه السلام وما جرى عليه من جهة عمته على ما قيل من أنها كانت تحضنه فلما شب أراد يعقوب عليه السلام انتزاعه منها وكانت لا تصبر عنه ساعة وكانت لها منطقة ورثتها من أبيها إسحق عليه السلام فاحتالت لاستبقاء يوسف عليه السلام فعمدت إلى المنطقة فحزمتها عليه من تحت ثيابه ثم قالت فقدت منطقة إسحاق عليه السلام فانظروا من أخذها فوجدوها محزومة على يوسف فقالت إنه لي سلم أفعل به ما أشاء فخلاه يعقوب عليه السلام عندها حتى ماتت وقيل كان أخذ في صباه صنما لأبي أمه فكسره وألقاه في الجيف وقيل دخل كنيسة فأخذ تمثالا صغيرا من ذهب كانوا يعبدونه فدفنه
«فأسرها يوسف» أي أكن الحزازة الحاصلة مما قالوا
«في نفسه» لا أنه أسرها لبعض أصحابه كما في قوله تعالى وأسررت لهم إسرارا
«ولم يبدها لهم» لا قولا ولا فعلا صفحا عنهم وحلما وهو تأكيد لما سبق
«قال» أي في نفسه وهو استئناف
298

مبني على سؤال نشأ من الإخبار بالإسرار المذكور كأنه قيل فماذا قال في نفسه في تضاعيف ذلك الإسرار فقيل قال
«أنتم شر مكانا» أي منزلة حيث سرقتم أخاكم من أبيكم ثم طفقتم تفترون على البريء وقيل بدل من أسرها والضمير للمقالة المفسرة بقوله أنتم شر مكانا
«والله أعلم بما تصفون» أي عالم علما بالغا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا بل إنما هو افتراء علينا فالصيغة لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه عز وجل على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم
«قالوا» عندما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستطفين
«يا أيها العزيز إن له أبا» لم يريدوا بذلك الإخبار بأن له أبا فإن ذلك معلوم مما سبق وإنما أرادوا الإخبار بأن له أبا
«شيخا كبيرا» في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك
«فخذ أحدنا مكانه» فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة
«إنا نراك من المحسنين» إلينا فأتمم إحسانك بهذه التتمة أو المتعودين بالإحسان فلا تغير عادتك
«قال معاذ الله» أي نعوذ بالله معاذا من
«أن نأخذ» فحذف الفعل وأقيم مقامه المصدر مضافا إلى المفعول به بعد حذف الجار
«إلا من وجدنا متاعنا عنده» لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها وإيثار صيغة التكلم مع الغير مع كون الخطاب من جانب إخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك أو للإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أولى الحل والعقد وإيثار من وجدنا متاعنا عنده دون سرق متاعنا لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع في الرحل على محمل غير السرقة
«إنا إذا» أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه
«لظالمون» في مذهبكم وما لنا ذلك وهذا المعنى هو الذي أريد بالكلام في أثناء الحوار وله معنى باطن هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها الله في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما وعاملا بخلاف الوحي
«فلما استيأسوا منه» أي يئسوا من يوسف وإجابته لهم أشد يأس بدلالة صيغة الاستفعال وإنما حصلت لهم هذه المرتبة من اليأس لما شاهدوه من عوذه بالله مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ منه بالله عز وجل ومن تسميته ظلما بقوله إنا إذا لظالمون
«خلصوا» اعتزلوا وانفردوا عن الناس
«نجيا» أي ذوي نجوى على أن يكون بمعنى النجوى والتناجي أو فوجا نجيا على أن يكون بمعنى المناجي كالشعير والسمير بمعنى المعاشر والمسامر
299

ومنه قوله تعالى وقربناه نجيا ويجوز أن يقال هم نجى كما يقال هم صديق لأنه بزنة المصادر من الزفير والزئير
«قال كبيرهم» في السن وهو روبيل أو في العقل وهو يهوذا أو رئيسهم شمعون
«ألم تعلموا» كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم ألم تعلموا
«أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله» عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه من الله لإذنه فيه وكون الحلف باسمه الكريم
«ومن قبل» أي ومن قبل هذا
«ما فرطتم في يوسف» قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم وقد قلتم وإنا له لناصحون وإنا له لحافظون وما مزيدة أو مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول تعلموا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام ولا ضير في الفصل بين العاطف والمعطوف بالظرف وقد جوز النصب عطفا على اسم أن والخبر في يوسف أو من قبل على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل وفيه أن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا بكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف كما هو مفاد الأول ولا بكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني على أن الظرف المقطوع عن الإضافة لا يقع خبرا ولا صفة ولا صلة ولا حالا عند البعض كما تقرر في موضعه وقيل محله الرفع على الابتداء والخبر من قبل وفيه ما فيه وقيل ما موصولة أو موصوفة ومحلها النصب عطفا على مفعول تعلموا أي ما فرطتموه بمعنى قدمتموه في حقه من الخيانة وأما النصب عطفا على اسم أن والرفع على الابتداء فقد عرفت حاله
«فلن أبرح الأرض» متفرع على ما ذكره وذكره إياهم من ميثاق أبيه وقوله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أي فلن أفارق أرض مصر جاريا على قضية الميثاق
«حتى يأذن لي أبي» في البراح بالانصراف إليه وكأن أيمانهم كانت معقودة على عدم الرجوع بغير إذن يعقوب عليه السلام
«أو يحكم الله لي» بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب روى أنهم كلموا العزيز في إطلاقه فقال روبيل أيها الملك لتردن إلينا أخانا أو لأصيحن صيحة لا تبقى بمصر حامل إلا ألقت ولدها ووقفت كل شعرة في جسده فخرجت من ثيابه وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لا يطاقون خلا أنه إذا مس من غضب واحد منهم سكن غضبه فقال يوسف لابنه قم إلى جنبه فمسه فمسه فقال روبيل من هذا إن في هذا البلد بذرا من بذر يعقوب
«وهو خير الحاكمين» إذا لا يحكم إلا بالحق والعدل
«ارجعوا» أنتم
«إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق» على ظاهر الحال وقرئ سرق أي نسب إلى السرقة
«وما شهدنا» عليه
«إلا بما علمنا» وشاهدنا أن الصواع استخرجت من وعائه
«وما كنا للغيب» أي باطن الحال
«حافظين» فما ندري أن حقيقة الأمر كما شاهدنا أم بخلافه أو وما كنا عالمين حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق أو أنا
300

نلاقي هذا الأمر أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف
«واسأل القرية التي كنا فيها» أي مصر أو قرية بقربها لحقهم المنادي عندها أي أرسل إلى أهلها واسألهم عن القصة
«والعير التي أقبلنا فيها» أي أصحابها فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام وقيل من صنعاء
«وإنا لصادقون» تأكيد في محل القسم
«قال» أي يعقوب عليه السلام وهو استئناف مبني على سؤال نشأ مما سبق فكأنه قيل فماذا كان عند قول المتوقف لإخوته ما قال فقيل قال يعقوب عندما رجعوا إليه فقالوا له ما قالوا وإنما حذف للإيذان بأن مسارعتهم إلى قبوله ورجوعهم به إلى أبيهم أمر مسلم غني عن البيان وإنما المحتاج إليه جواب أبيهم
«بل سولت» أي زينت وسهلت وهو إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون في ذلك بل عما يقتضيه من ادعاء البراءة عن التسبب فيما نزل به وأنه لم يصدر عنهم ما يؤدي إلى ذلك من قول أو فعل كأنه قيل لم يكن الأمر كذلك بل زينت
«لكم أنفسكم أمرا» من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته
«فصبر جميل» أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل
«عسى الله أن يأتيني بهم جميعا» بيوسف وأخيه والمتوقف بمصر
«إنه هو العليم» بحالي وحالهم
«الحكيم» الذي لم يبتلني إلا لحكمة بالغة
«وتولى» أي أعرض
«عنهم» كراهة لما سمع منهم
«وقال يا أسفى على يوسف» الأسف أشد الحزن والحسرة أضافه إلى نفسه والألف بدل من الياء فناداه أي يا أسفي تعالى فهذا أوانك وإنما أسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الأرزاء غضا عنده وإن تقادم عهده آخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولأنه كان واثقا بحياتهما عالما بمكانهما طامعا في إيابهما وأما يوسف فلم يكن في شأنه ما يحرك سلسلة رجائه سوى رحمه الله تعالى وفضله وفي الخبر لم تعط أمة من الأمم إنا لله وإنا إليه راجعون إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ألا يرى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع بل قال ما قال والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف مما يزيد النظم الكريم بهجة كما في قوله عز وجل وهم ينهون عنه وينأون عنه وقوله إثاقلتم إلى الأرض أرضيتم وقوله ثم كلي من كل الثمرات وجئتك من سبأ بنبأ يقين ونظائرها
«وابيضت عيناه من الحزن» الموجب للبكاء فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر قيل قد عمي بصره وقيل كان يدرك إدراكا ضعيفا روى أنه ما جفت عينا يعقوب من يوم فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله عز وجل من يعقوب عليه السلام وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل عليه السلام ما بلغ من وجد يعقوب عليه السلام
301

على يوسف قال وجد سبعين ثكلى قال فما كان له من الأجر قال أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط وفيه دليل على جواز التأسف والبكاء عند النوائب فإن الكف عن ذلك مما لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد ولقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون وإنما الذي لا يجوز ما يفعله الجهلة من الصياح والنياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بكى على ولد بعض بناته وهو يجود بنفسه فقيل يا رسول الله تبكى وقد نهيتنا عن البكاء فقال ما نهيتهم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صورتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح
«فهو كظيم» مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره فعيل بمعنى مفعول بدليل قوله تعالى وهو مكظوم من كظم السقاء إذا شده على ملئه أو بمعنى فاعل كقوله والكاظمين الغيظ من كظم الغيظ إذا اجترعه وأصله كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه
«قالوا تالله تفتأ» أي لا تفتأ ولا تزال
«تذكر يوسف» تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله
* فقلت يمين الله أبرح قاعدا
* لعدم الالتباس بالإثبات فإن القسم إذا لم يكن معه علامة الإثبات يكون على النفي البتة
«حتى تكون حرضا» مريضا مشفيا على الهلاك وقيل الحرض من أذابه هم أو مرض وهو في الأصل مصدر ولذلك لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع والنعت منه بالكسر كدنف وقد قريء به وبضمتين كجنب وغرب
«أو تكون من الهالكين» أي الميتين
«قال إنما أشكو بثي» البث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس أي ينشره فكأنهم قالوا له ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء فقال لهم إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو همي
«وحزني إلى الله» تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا لدى بابه في دفعه وقري بفتحتين وضمتين
«وأعلم من الله ما لا تعلمون» من لطفه ورحمته فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي أو أعلم وحيا أو إلهاما من جهته ما لا تعلمون من حياة يوسف قيل رأى ملك الموت في المنام فسأله عنه فقال هو حي وقيل علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنه سيخر له أبواه وإخوته سجدا
«يا بني اذهبوا فتحسسوا» أي تعرفوا وهو تفعل من الحس وقريء بالجيم من الجس وهو الطلب أي تطلبوا
«من يوسف وأخيه» أي من خبرهما ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها
«ولا تيأسوا من روح الله» لا تقنطوا من فرجه وتنفيسه وقريء بضم الراء أي من رحمته التي يحيي بها العباد وهذا إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله وأعلم من الله ما لا
302

تعلمون ثم حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله
«إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال
«فلما دخلوا عليه» أي على يوسف بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم وإنما لم يذكر ذلك إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان
«قالوا يا أيها العزيز» أي الملك القادر المتمنع
«مسنا وأهلنا الضر» الهزال من شدة الجوع
«وجئنا ببضاعة مزجاة» مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا لها من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجى السحاب قيل كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا وقيل الصنوبر وحبة الخضراء وقيل سويق المقل والأقط وقيل دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة وإنما قدموا ذلك ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة المرحمة ثم قالوا «فأوف لنا الكيل» أي أتممه لنا «وتصدق علينا» برد أخينا إلينا قاله الضحاك وابن جريج وهو الأنسب بحالهم نظرا إلى أمر أبيهم أو بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها تفضلا وإنما سموه تصدقا تواضعا أو أرادوا التصدق فوق ما يعطيهم بالثمن بناء على اختصاص حرمة الصدقة بنبينا صلى الله عليه وسلم وإنما لم يبدءوا بما أمروا به استجلابا للرأفة والشفقة ليبعثوا بما قدموا من رقة الحال رقة القلب والحنو على أن ما ساقوه كلام ذو وجهين فإن قولهم وتصدق علينا
«إن الله يجزي المتصدقين» يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على المحمل الأول ولذلك
«قال» مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من طلب رد أخيهم
«هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه» وكان الظاهر أن يتعرض لما فعلوا بأخيه فقط وإنما تعرض لما فعلوا بيوسف لاشتراكهما في قوع الفعل عليهما فإن المراد بذلك إفرادهم له عن يوسف وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة أي هل تبتم عن ذلك بعد علمكم بقبحه فهو سؤال عن الملزوم والمراد لازمه
«إذ أنتم جاهلون» بقبحه فلذلك أقدمتم على ذلك أو جاهلون عاقبته وإنما قاله نصحا لهم وتحريضا على التوبة وشفقة عليهم لما رأى عجزهم وتمسكنهم لا معاتبة وتثريبا ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم على ما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض في طلب بنيامين بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال وقيل أعطوه كتاب يعقوب عليه السلام وقد كتب فيه كتاب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء أما جدى فشدت يده ورجلاه فرمى به في النار فنجاه الله تعالى وجعلت له بردا وسلاما وأما أبي فوضع السكين
303

على قفاه ليقتل ففداه الله تعالى وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم فقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته على وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام فلما قرأه لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ما قال وقيل لما قرأه بكي وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا
«قالوا أئنك لأنت يوسف» استفهام تقرير ولذلك أكدوه بأن واللام قالوه استغرابا وتعجبا وقرئ إنك بالإيجاب قيل عرفوه بروائه وشمائله حين كلمهم به وقيل تبسم فعرفوه بثناياه وقيل رفع التاج عن رأسه فرأوا علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء وكان لسارة ويعقوب مثلها وقرئ أئنك أو أنت يوسف على معنى أئنك يوسف أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وفيه زيادة استغراب
«قال أنا يوسف» جوابا عن مسئلتهم وقد زاد عليه قوله
«وهذا أخي» أي من أبوى مبالغة في تعريف نفسه وتفخيما لشأن أخيه وتكملة لما أفاده قوله هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه حسبما يفيده قوله
«قد من الله علينا» فكأنه قال هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم ثم علل ذلك بطريق الاستئناف التعليلي بقوله
«إنه من يتق» أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه
«ويصبر» على المحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس
«فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» أي أجرهم وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصوفون بالإحسان
«قالوا تالله لقد آثرك الله علينا» اختارك وفضلك علينا بما ذكرت من النعوت الجليلة
«وإن كنا» وإن الشأن كنا
«لخاطئين» لمتعمدين للذنب إذ فعلنا بك ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا وفيه إشعار بالتوبة والاستغفار ولذلك
«قال لا تثريب» أي لا عتب ولا تأنيب
«عليكم» وهو تفعيل من الثرب وهو الشحم الغاشي للكرش ومعناه إزالته كما أن التجليد إزالة الجلد والتقريع إزالة القرع لأنه إذا ذهب كان ذلك غاية الهزال فضرب مثلا للتقريع الذي يذهب بماء الوجوه وقوله عز وعلا
«اليوم» منصوب بالتثريب أو بالمقدر خبرا للاأى لا أثر بكم أو لا تثريب مستقر عليكم اليوم الذي هو مظنة له فما ظنكم بسائر الأيام
304

أو بقوله «يغفر الله لكم» لأنه حينئذ صفح عن جريمتهم وعفا عن جريرتهم بما فعلوا من التوبة
«وهو أرحم الراحمين» يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب بالقبول ومن كرمه عليه الصلاة والسلام أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه الصلاة والسلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث علم الناس إنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
«اذهبوا بقميصي هذا» قيل هو الذي كان عليه حينئذ وقيل هو القميص المتوارث الذي كان في التعويذ أمره جبريل بإرساله إليه وأوحى إليه أن فيح ريح الجنة لا يقع على مبتلى إلا عوفي
«فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا» يكن بصيرا أو يأت إلي بصيرا وينصره قوله
«وأتوني بأهلكم أجمعين» أي بأبي وغيره ممن ينتظمه لفظ الأهل جميعا من النساء والذراري قيل إنما حمل القميص يهوذا وقال أنا أحزنته بحمل القميص ملطخا بالدم إليه فأفرحه كما أحزنته وقيل حمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا
«ولما فصلت العير» خرجت من عريش مصر يقال فصل من البلد فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما انفصل العير
«قال أبوهم» يعقوب عليه الصلاة والسلام لمن عنده
«إني لأجد ريح يوسف» أوجده الله سبحانه ما عبق بالقميص من ريح يوسف من ثمانين فرسخا حين أقبل به يهوذا
«لولا أن تفندون» أي تنسبوني إلى الفند وهو الخرف وإنكار العقل وفساد الرأي من هرم يقال شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة إذ لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفند في كبرها وجواب لولا محذوف أي لصدقتموني
«قالوا» أي الحاضرون عنده
«تالله إنك لفي ضلالك القديم» لفي ذهابك عن الصواب قدما في إفراط محبتك ليوسف ولهجك بذكره ورجائك للقائه وكان عندهم أنه قد مات
«فلما أن جاء البشير» وهو يهوذا
«ألقاه» أي ألقى البشير القميص
«على وجهه» أي وجهه يعقوب أو ألقاه يعقوب على وجه نفسه
«فارتد» عاد
«بصيرا» لما انتعش فيه من القوة
«قال ألم أقل لكم» يعني قوله إني لأجد ريح يوسف فالخطاب لمن كان عنده بكنعان أو قوله ولا تيأسوا من روح الله فالخطاب لبنيه وهو الأنسب بقوله
«إني أعلم من الله ما لا تعلمون»
305

فإن مدار النهي المذكور إنما هو العلم الذي أوتي يعقوب من جهة الله سبحانه وعلى هذا يجوز أن يكون هذا مقول القول أي ألم أقل لكم حين أرسلتكم إلى مصر وأمرتكم بالتحسس ونهيتكم عن اليأس من روح الله تعالى وأعلم من الله ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه الصلاة والسلام روى أنه سأل البشير كيف يوسف فقال هو ملك مصر قال ما أصنع بالملك على أي دين تركته قال على دين الإسلام قال الآن تمت النعمة
«قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين» ومن حق من اعترف بذنبه أن يصفح عنه ويستغفر له فكأنهم كانوا على ثقة من عفوه عليه الصلاة والسلام ولذلك اقتصروا على استدعاء الاستغفار وأدرجوا ذلك في الاستغفار
«قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم» وهذا مشعر بعفوه قيل أخر الاستغفار إلى وقت السحر وقيل إلى ليلة الجمعة ليتحرى به وقت الإجابة وقيل أخره إلى أن يستحل لهم من يوسف عليه الصلاة والسلام أو يعلم أنه قد عفا عنهم فإن عفو المظلوم شرط المغفرة ويعضده أنه روى عنه أنه استقبل القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى بلغ جهدهم وظنوا أنها الهلكة نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد
مواثيقهم بعدك على النبوة فإن صح ثبتت نبوتهم وإن ما صدر عنهم إنما صدر قبل الإستنباء وقيل المراد الاستمرار على الدعاء فقد روى أنه كان يستغفر كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة وقيل قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه فقال اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحى الله إليه إن الله قد غفر لك ولهم أجمعين
«فلما دخلوا على يوسف» روى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه فاستقبله يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب عليه الصلاة والسلام وهو يمشي متوكئا على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعون مصر قال لا بل ولدك فلما لقيه قال عليه الصلاة والسلام السلام عليك يا مذهب الأحزان وقيل قال له يوسف يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا فقال بلى ولكني خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك وقيل إن يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة وكانوا حين خرجوا مع موسى ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعين رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف
«آوى إليه أبويه» أي أباه وخالته وتنزيلها منزلة الأم كتنزيل العم منزلة الأب في قوله عز وجل وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق أو لأن يعقوب عليه الصلاة والسلام تزوجها بعد أمه وقال
306

الحسن وابن إسحق كانت أمه في الحياة فلا حاجة إلى التأويل ومعنى آوى إليه ضمهما إليه واعتناقهما وكأنه عليه الصلاة والسلام ضرب في الملتقى مضربا فنزل فيه فدخلوا عليه فآواهما إليه
«وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» من الشدائد والمكاره قاطبة والمشيئة متعلقة بالدخول على الأمن ورفع أبويه عند نزولهم بمصر
«على العرش» على السرير تكرمة لهما فوق ما فعله لإخوته
«وخروا له» أي أبواه وإخوته
«سجدا» تحية له فإنه كان السجود عندهم جاريا مجرى التحية والتكرمة كالقيامة والمصافحة وتقبيل اليد ونحوها من عادات الناس الفاشية في التعظيم والتوقير وقيل ما كان ذلك إلا انحناء دون تعفير الجباه ويأباه الخرور وقيل خروا لأجله سجدا لله شكرا ويرده قوله تعالى
«وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي» التي رأيتها وقصصتها عليك
«من قبل» في زمن الصبا
«قد جعلها ربي حقا» صدقا واقعا بعينه والاعتذار بجعل يوسف لمنزلة القبلة وجعل اللام كما في قوله
* أليس أول من صلى لقبلتكم
* يخفى وتأخيره عن الرفع على العرش ليس بنص في ذلك لأن الترتيب الذكرى لا يجب كونه على وفق الترتيب الوقوعي فلعل تأخيره عنه ليصل به ذكر كونه تعبيرا لرؤياه وما يتصل به من قوله
«وقد أحسن بي» المشهور استعمال الإحسان بإلى وقد يستعمل بالباء أيضا كما في قوله عز اسمه وبالوالدين إحسانا وقيل هذا بتضمين لطف وهو الإحسان الخفي كما يؤذن به قوله تعالى إن ربي لطيف لما يشاء وفيه فائدة لا تخفى أي لطف بي محسنا إلى غير هذا الإحسان
«إذ أخرجني من السجن» بعدما ابتليت به ولم يصرح بقصة الجب حذارا من تثريب إخوته لأن الظاهر حضورهم لوقوع الكلام عقيب خرورهم سجدا واكتفاء بما يتضمنه قوله تعالى
«وجاء بكم من البدو» أي البادية
«من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي» أي أفسد بيننا بالإغواء وأصله من نخس الرائض الدابة وحملها على الجري يقال نزغه ونسغه إذا نخسه ولقد بالغ عليه الصلاة والسلام في الإحسان حيث أسند ذلك إلى الشيطان
«إن ربي لطيف لما يشاء» أي لطيف التدبير لأجله رفيق حتى يجيء على وجه الحكمة والصواب ما من صعب إلا وهو بالنسبة إلى تدبيره سهل
«إنه هو العليم» بوجوه المصالح
«الحكيم» الذي يفعل كل شيء على قضية الحكمة روى أن يوسف أخذ بيد يعقوب عليهما الصلاة والسلام فطاف به في خزائنه فأدخله في خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي وخزائن الثياب وخزائن السلاح وغير ذلك فلما أدخله خزائن القراطيس قال يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إلى على ثماني مراحل قال أمرني جبريل قال أو ما تسأله قال أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل الله تعالى أمرني بذلك لقولك أخاف أن يأكله الذئب قال فهلا خفتني وروى أن يعقوب عليه الصلاة والسلام أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثمة ثم عاد إلى مصر وعاش بعد
307

أبيه ثلاثا وعشرين سنة فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له تاقت نفسه إلى الملك الدائم الخالد فتمنى الموت فقال
«رب قد آتيتني من الملك» أي بعضا منه عظيما وهو ملك مصر
«وعلمتني من تأويل الأحاديث» أي بعضا من ذلك كذلك إن أريد بتعليم تأويل الأحاديث تفهيم غوامض أسرار الكتب الإلهية ودقائق سنن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
فالترتيب ظاهر وأما إن أريد به تعليم تعبير الرؤيا كما هو الظاهر فلعل تقديم إيتاء الملك عليه في الذكر لأنه بمقام تعداد النعم الفائضة عليه من الله سبحانه والملك أعرق في كونه نعمة من التعليم المذكور وإن كان ذلك أيضا نعمة جليلة في نفسه ولا يمكن تمشية هذا الاعتذار فيما سبق لأن التعليم هناك وارد على نهج العلة الغائية للتمكين فإن حمل على معنى التمليك لزم تأخره عنه وأما الواقع ههنا فمجرد التأخير في الذكر والعطف بحرف الواو لا يستدعى ذلك الترتيب في الوجود
«فاطر السماوات والأرض» مبدعهما وخالقهما نصب على أنه صفة للمنادى أو منادى آخر وصفه تعالى به بعد وصفه بالربوبية مبالغة في ترتيب مبادى ما يعقبه من قوله
«أنت وليي» مالك أموري
«في الدنيا والآخرة» أو الذي يتولاني بالنعمة فيهما وإذ قد أتممت علي نعمة الدنيا
«توفني» اقبضني
«مسلما وألحقني بالصالحين» من آبائي أو بعامة الصالحين في الرتبة والكرامة فإنما تتم النعمة بذلك قيل لما دعا توفاه الله عز وجل طيبا طاهرا فتخاصم أهل مصر في دفنه وتشاحوا في ذلك حتى هموا بالقتال فرأوا أن يصنعوا له تابوتا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل ليمر عليه ثم يصل إلى مصر ليكونوا شرعا واحدا في التبرك به وولد له أفراييم وميشا ولإفراييم نون ولنون يوشع فتى موسى عليه الصلاة والسلام ولقد توارثت الفراعنة من العمالقة بعده مصر ولم يزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف وآبائه إلى أن بعث الله تعالى موسى عليه الصلاة والسلام
«ذلك» إشارة إلى ما سبق من نبأ يوسف وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا من الدلالة على بعد منزلته أو كونه بالإنقضاء في حكم البعيد والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره
«من أنباء الغيب» الذي لا يحوم حوله أحد وقوله
«نوحيه إليك» خبر بعد خبر أو حال من الضمير في الخبر ويجوز أن يكون ذلك اسما موصولا ومن أنباء الغيب صلته ويكون الخبر نوحيه إليك
«وما كنت لديهم» يريد إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام
«إذ أجمعوا أمرهم» وهو جعلهم إياه في غيابة الجب
«وهم يمكرون» به ويبغون له الغوائل حتى تقف على ظواهر أسرارهم وبواطنها وتطلع على سرائرهم طرا وتحيط بما لديهم خبرا وليس المراد مجرد نفي حضوره عليه الصلاة والسلام في مشهد إجماعهم ومكرهم فقط بل في سائر المشاهد أيضا وإنما تخصيصه بالذكر لكونه مطلع القصة وأخفى أحوالها كما ينبئ عنه قوله وهم يمكرون والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكن
308

المراد إلزام المكذبين والمعنى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك إذ لا سبيل إلى معرفتك إياه سوى ذلك إذ عدم سماعك ذلك من الغير وعدم مطالعتك للكتب أمر لا يشك فيه المكذبون أيضا ولم تكن بين ظهرانيهم عند وقوع الأمر حتى تعرفه كما هو فتبلغه إليهم وفيه تهكم بالكفار فكأنهم يشكون في ذلك فيدفع شكهم وفيه أيضا إيذان بأن ما ذكر من النبأ هو الحق المطابق للواقع وما ينقله أهل الكتاب ليس على ما هو عليه يعني أن مثل هذا التحقيق بلا وحي لا يتصور إلا بالحضور والمشاهدة وإذ ليس ذلك بالحضور فهو بالوحي ومثله قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وقوله وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر
«وما أكثر الناس» يريد به العموم أو أهل مكة
«ولو حرصت» أي على إيمانهم وبالغت في إظهار الآيات القاطعة الدالة على صدقك
«بمؤمنين» لتصميمهم على الكفر وإصرارهم على العناد روى أن اليهود وقريشا لما سألوا عن قصة يوسف وعدوا أن يسلموا فلما أخبرهم بها على موافقة التوراة فلم يسلموا حزن النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له ذلك
«وما تسألهم عليه» أي على الأنباء أو القرآن
«من أجر» من جعل كما يفعله حملة الأخبار
«إن هو إلا ذكر» عظة من الله تعالى
«للعالمين» كافة لا أن ذلك مختص بهم
«وكأين من آية» أي كأي عدد شئت من الآيات والعلامات الدالة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته وحكمته غير هذه الآية التي جئت بها
«في السماوات والأرض» أي كائنة فيهما من الأجرام الفلكية وما فيها من النجوم وتغير أحوالها ومن الجبال والبحار وسائر ما في الأرض من العجائب الفائتة للحصر
«يمرون عليها» أي يشاهدونها ولا يعبئون بها وقرئ برفع الأرض على الابتداء ويمرون خبره وقرئ بنصبها على معنى ويطئون الأرض يمرون عليها وفي مصحف عبد الله والأرض يمشون عليها والمراد ما يرون فيها من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من الآيات والعبر
«وهم عنها معرضون» غير ناظرين إليها ولا متفكرين فيها
«وما يؤمن أكثرهم بالله» في إقرارهم بوجوده وخالقيته
«إلا وهم مشركون» بعبادتهم لغيره أو باتخاذهم الأحبار والرهبان أرباب أو بقولهم باتخاذه تعالى ولدا سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا أو بالنور والظلمة وهي جلمة
حالية أي لا يؤمن أكثرهم إلا في حال شركهم قيل نزلت الآية في أهل مكة وقيل في المنافقين وقيل في أهل الكتاب
«أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله» أي عقوبة
309

تغشاهم وتشملهم
«أو تأتيهم الساعة بغتة» فجأة من غير سابقة علامة
«وهم لا يشعرون» بإتيانها غير مستعدين لها
«قل هذه سبيلي» وهي الدعوة إلى التوحيد والإيمان والإخلاص وفسرها بقوله
«أدعو إلى الله على بصيرة» بيان وحجة واضحة غير عمياء أو حال من الضمير في سبيلي والعامل فيها معنى الإشارة
«إنا» تأكيد للمستكن في أدعو أو على بصيرة لأنه حال منه أو مبتدأ خبره على بصيرة
«ومن اتبعني» عطف عليه
«وسبحان الله وما أنا من المشركين» مؤكد لما سبق من الدعوة إلى الله
«وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا» رد لقولهم لو شاء الله لأنزل ملائكة
«نوحي إليهم» كما أوحينا إليك وقرئ بالياء
«من أهل القرى» لأنهم أعلم وأحلم وأهل البوادي فيهم الجهل والجفاء والقسوة
«أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم» من المكذبين بالرسل والآيات فيحذروا تكذيبك
«ولدار الآخرة» أي الساعة أو الحياة الآخرة
«خير للذين اتقوا» الشرك والمعاصي
«أفلا تعقلون» فتستعملوا عقولكم لتعرفوا خيرية دار الآخرة وقرئ بالياء على أنه غير داخل تحت قل
«حتى إذا استيأس الرسل» غاية لمحذوف دل عليه السياق أي لا يغرنهم تماديهم فيما هم فيه من الدعة والرخاء فإن من قبلهم قد أمهلوا حتى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا أو عن إيمانهم لانهماكهم في الكفر وتماديهم في الطغيان من غير وازع
«وظنوا أنهم قد كذبوا» كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليه أو كذبهم رجاؤهم فإنه يوصف بالصدق والكذب والمعنى إن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله تعالى قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط وتوهموا أن لا نصر لهم في الدنيا
«جاءهم نصرنا» فجأة وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وظنوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر فإن صح ذلك عنه فلعله أراد بالظن ما يخطر بالبال من شبه الوسوسة وحديث النفس وإنما عبر عنه بالظن تهويلا للخطب وأما الظن الذي هو ترجح أحد الجانبين على الآخر فلا يتصور ذلك من آحاد الأمة فما ظنك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهم هم ومنزلتهم في معرفة شؤون الله سبحانه منزلتهم وقيل الضميران للمرسل إليهم وقيل الأول لهم والثاني للرسل وقرئ بالتشديد أي ظن الرسل أن القوم كذبوهم فيما أوعدوهم وقرئ بالتخفيف على بناء الفاعل على أن الضمير للرسل أي ظنوا أنهم كذبوا عند قومهم فيما حدثوا به لما تراخى عنهم ولم يروا له أثرا
310

أو على أن الأول لقومهم
«فنجي من نشاء» هم الرسل والمؤمنون بهم وقرئ فننجي على لفظ المستقبل بالتخفيف والتشديد وقرئ فنجا
«ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين» إذا نزل بهم وفيه بيان لمن تعلق بهم المشيئة
«لقد كان في قصصهم» أي قصص الأنبياء وأممهم وينصره قراءة من قرا بكسر القاف أو قصص يوسف وإخوته
«عبرة لأولي الألباب» لذوي العقول المبرأة عن شوائب أحكام الحس
«ما كان» أي القرآن المدلول عليه بما سبق دلالة واضحة
«حديثا يفترى ولكن» كان
«تصديق الذي بين يديه» من الكتب السماوية وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي ولكن هو تصديق الذي بين يديه «وتفصيل كل شيء» مما يحتاج إليه في الدين إذ ما من أمر ديني إلا وهو يستند إلى القرآن بالذات أو بوسط
«وهدى» من الضلالة
«ورحمة» ينال بها خير الدارين
«لقوم يؤمنون» أي يصدقونه لأنهم المنتفعون به وأما من عداهم فلا يهتدون بهداه ولا ينتفعون بجدواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم علموا أرقاءكم سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها وعلمها أهله وما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه القوة أن لا يحسد مسلما
(تم الجزء الرابع ويليه الجزء الخامس وأوله سورة الرعد)
311