الكتاب: تفسير ابن كثير
المؤلف: ابن كثير
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٧٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: تقديم : يوسف عبد الرحمن المرعشلي
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٩٩٢ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنضيد الجديد وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق بدار المعرفة

تفسير القران العظيم
عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير
القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه‍
قدم له
الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي
أستاذ التفسير بالعهد العالي للدراسات الاسلامية
الجزء الثاني
دار المعرفة
بيروت.
لبنان
1

تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنضيد الجديد وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق
بدار المعرفة
طبع فهرس الأحاديث النبوية الشريفة في مجلد
يمكن الحصول عليه مستقل
جميع الا حقوق محفوظة للناشر
1991 م - 1412 ه‍
دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
2

سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية شيبان عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت
إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة وروى ابن
مردويه من حديث صباح بن سهل عن عاصم الأحول قال حدثتني أم عمرو عن عمها أنه كان في مسير مع رسول الله
- صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت عليه سورة المائدة فاندق عنق الراحلة من ثقلها. وقال أحمد أيضا: حدثنا حسن
حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله بن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: أنزلت على
رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم سوره المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها تفرد
به أحمد. وقد روى الترمذي عن قتيبة عن عبد الله بن وهب عن حيي عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو قال
آخر سورة أنزلت سورة المائدة والفتح ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب. وقد روى عن ابن عباس أنه قال:
آخر سورة أنزلت " إذا جاء نصر الله والفتح " وقد روى الحاكم في مستدركه من طريق عبد الله بن وهب بإسناده نحو
رواية الترمذي ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وقال الحاكم أيضا حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب
حدثنا يحيى بن نصر قال قرئ على عبد الله بن وهب أخبرك معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير قال:
حججت فدخلت على عائشة فقالت لي يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت نعم فقالت أما إنها آخر سورة نزلت فما وجدتم
فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ورواه الإمام أحمد
عن عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح وزاد وسألتها عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت القرآن. ورواه
النسائي من حديث ابن مهدي.
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله
يحكم ما يريد (1) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى والا القلائد ولا آمين
البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا أولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم
عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن
الله شديد العقاب (2)
3

قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا مسعر حدثني معن وعوف أو أحدهما أن
رجل أتى عبد الله بن مسعود فقال: أعهد إلي فقال إذا سمعت الله يقول " يا أيها الذين آمنوا " فارعها سمعك فإنه خير
يأمر به أو شر ينهى عنه. وقال: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم حدثنا الوليد حدثنا
الأوزاعي عن الزهري قال: إذا قال الله " يا أيها الذين آمنوا " افعلوا فالنبي - صلى الله عليه وسلم - منهم وحدثنا أحمد بن سنان حدثنا
محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن خيثمة قال: كل شئ في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " فهو في التوراة يا أيها
المساكين. فأما ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي حدثنا معاوية يعني ابن هشام عن عيسى بن راشد عن
علي بن بذيمة عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية " يا أيها الذين آمنوا " إلا أن عليا سيدها وشريفها
وأميرها وما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا عليا بن أبي طالب فإنه لم يعاتب في شئ منه.
فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة وفي إسناده نظر. وقال البخاري عيسى بن راشد هذا مجهول وخبره منكر قلت
وعلي بن بذيمة وإن كان ثقة إلا أنه شيعي غال وخبره في مثل هذا فيه تهمة فلا يقبل قوله فلم يبق أحد من الصحابة
إلا عوتب في القرآن إلا عليا إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوى فإنه قد ذكر غير واحد أنه لم يعمل
بها أحد إلا علي ونزل قوله " أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم " الآية.
وفي كون هذا عتابا نظر فإنه قد قيل إن الامر كان ندبا لا إيجابا ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل فلم يصدر من أحد
منهم خلافه. وقوله عن علي أنه لم يعاتب في شئ من القرآن فيه نظر أيضا فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة
على أخذ الفداء عمت جميع من أشار بأخذه ولم يسلم منها إلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فعلم بهذا وبما تقدم
ضعف هذا الأثر والله أعلم. وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا عبد الله بن صالح حدثنا الليث حدثني يونس قال:
قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وكان الكتاب عند أبي
بكر بن حزم فيه (هذا بيان من الله ورسوله " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " فكتب الآيات منها حتى بلغ " إن الله
سريع الحساب " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن
أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه قال: هذا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه
إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنة ويأخذ صدقاتهم فكتب له كتابا وعهدا أمره فكتب بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب من الله ورسوله " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " عهد من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم حين بعثه
إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قوله تعالى " أوفوا بالعقود "
قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني بالعقود العهود وحكى ابن جرير الاجماع على ذلك قال: والعهود ما كانوا
يتعاقدون عليه من الحلف وغيره وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "
يعني العهود يعني ما أحل الله وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله ولا تغدروا ولا تنكثوا ثم شدد في ذلك فقال
تعالى " والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل " إلى قوله " سوء الدار " وقال
الضحاك: " أوفوا بالعقود " قال: ما أحل الله وحرم وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالايمان بالنبي والكتاب أن يوفوا
بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام. وقال زيد بن أسلم: " أوفوا بالعقود " قال هي ستة: عهد الله
وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين وقال محمد بن كعب: هي خمسة منها: حلف الجاهلية
وشركة المفاوضة وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية " أوفوا بالعقود " قال فهذه
تدل على لزوم العقد وثبوته فيقتضي نفى خيار المجلس وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وخالفهما في ذلك الشافعي
وأحمد والجمهور: والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " البيعان بالخيار
ما لم يتفرقا " وفي لفظ آخر للبخاري " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا " وهذا صريح في إثبات
خيار المجلس المتعقب لعقد البيع وليس هذا منافيا للزوم العقد بل هو من مقتضياته شرعا فالتزامه من تمام الوفاء
بالعقود
4

وقوله تعالى " أحلت لكم بهيمة الأنعام " هي: الإبل والبقر والغنم قاله: أبو الحسن وقتادة وغير واحد قال ابن
جرير: وكذلك هو عند العرب وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا
في بطن أمه إذا ذبحت وقد ورد في ذلك حديث في السنن رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طريق مجالد عن أبي
الوداك جبير بن نوفل عن أبي سعيد قال: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم
نأكله فقال: " كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه " وقال الترمذي: حديث حسن قال أبو داود حدثنا محمد بن يحيى بن
فارس حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عتاب بن بشير حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي عن أبي الزبير عن
جابر بن عبد الله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ذكاة الجنين ذكاة أمه " تفرد به أبو داود وقوله " إلا ما يتلى عليكم " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير وقال قتادة: يعني بذلك الميتة وما لم يذكر
اسم الله عليه والظاهر والله أعلم أن المراد بذلك قوله " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به
والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " فإن هذه وإن كانت من الانعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض
ولهذا قال " إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب " يعني منها فإنه حرام لا يمكن إستدراكه وتلاحقه ولهذا قال تعالى
" أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم " أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال وقوله
تعالى " غير محلي الصيد وأنتم حرم " قال بعضهم هذا منصوب على الحال والمراد بالانعام ما يعم الانسي من الإبل
والبقر والغنم وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر فاستثنى من الانسي ما تقدم واستثنى من الوحشي الصيد في
حال الاحرام وقيل المراد أحللنا لكم الانعام إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام لقوله " فمن اضطر
غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم " أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد وهكذا هنا أي
كما أحللنا الانعام في جميع الأحوال فحرموا الصيد في حال الاحرام فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما
يأمر به وينهى عنه ولهذا قال تعالى " إن الله يحكم ما يريد " ثم قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله "
قال ابن عباس: يعني بذلك مناسك الحج وقال مجاهد: الصفا والمروة والهدى والبدن من شعائر الله وقيل شعائر الله
محارمه: أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ولهذا قال تعالى " ولا الشهر الحرام " يعني بذلك تحريمه
والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من ابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم كما قال تعالى
" يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير " وقال تعالى " إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا " الآية.
وفي صحيح البخاري عن أبي بكرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله
السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم: ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب
مضر الذي بين جمادى وشعبان ". وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من
السلف. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " ولا الشهر الحرام " يعني لا
تستحلوا القتال فيه وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الكريم بن مالك الجزري واختاره ابن جرير أيضا وذهب الجمهور
إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم واحتجوا بقوله تعالى " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم " والمراد أشهر التسيير الأربعة قالوا فلم يستثن شهرا حراما من غيره وقد حكى الإمام أبو
جعفر الاجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة قال وكذلك أجمعوا
على أن المشرك لو قلد عنقه أو ذراعيه بلحاء جميع أشجار الحرم لم يكن ذلك له أمانا من القتل إذا لم يكن تقدم له
عقد ذمة من المسلمين أو أمان ولهذه المسألة بحث آخر له موضع أبسط من هذا وقوله تعالى " ولا الهدى ولا
القلائد " يعني لا تتركوا الاهداء إلى البيت الحرام فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به
عما عداها من الانعام وليعلم أنها هدى إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء وتبعث من يراها على الاتيان بمثلها فإن
من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شئ ولهذا لما حج
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعا ثم اغتسل وتطيب وصلى
5

ركعتين ثم أشعر هديه وقلده وأهل للحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين من أحسن الاشكال والألوان
كما قال تعالى " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " وقال بعض السلف: إعظامها استحسانها
واستسمانها قال علي بن أبي طالب: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرف العين والاذن. رواه أهل السنن وقال مقاتل بن
حيان قوله " ولا القلائد " فلا تستحلوه وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا
أنفسهم بالشعر والوبر وتقلد مشركوا الحرم من لحاء شجره فيأمنون به رواه ابن أبي حاتم ثم قال حدثنا محمد بن
عمار حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال نسخ من هذه السورة آيتان آية القلائد وقوله " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " وحدثنا
المنذر بن شاذان حدثنا زكريا بن عدي حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من
المائدة شئ؟ قال لا وقال عطاء كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال
مطرف بن عبد الله.
وقوله تعالى " ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله
الحرام الذي من دخله كان آمنا. وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا
تهيجوه. قال مجاهد وعطاء وأبو العالية ومطرف بن عبد الله وعبد الله بن عبيد بن عمير والربيع بن أنس ومقاتل بن
حيان وقتادة وغير واحد في قوله " يبتغون فضلا من ربهم ": يعني بذلك التجارة وهذا كما تقدم في قوله " ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وقوله " ورضوانا " قال ابن عباس يترضون الله بحبهم قد ذكر عكرمة والسدي وابن
جرير أن هذه الآية نزلت في الحطم بن هند البكري كان قد أغار على سرح المدينة فلما كان من العام المقبل اعتمر
إلى البيت فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا عليه في طريقه إلى البيت فأنزل الله عز وجل " ولا آمين البيت الحرام
يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا ".
وقد حكى ابن جرير الاجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان وإن أم البيت الحرام أو بيت المقدس وإن
هذا الحكم منسوخ في حقهم والله أعلم. فأما من قصده بالالحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع قال تعالى
" يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " ولهذا بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام
تسع لما أمر الصديق على الحجيج عليا وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببراءة وأن لا يحج بعد
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " ولا آمين البيت الحرام " يعني من
توجه قبل البيت الحرام فكان المؤمنون والمشركون يحجون فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر ثم
أنزل الله بعدها " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " الآية وقال تعالى " ما كان
للمشركين أن يعمروا مساجد الله " وقال " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " فنفى المشركين من
المسجد الحرام وقال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله " ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام " قال منسوخ كان
الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر فلم يعرض له أحد فإذا رجع تقلد قلادة من شعر فلم
يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسخها قوله
" اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله " ولا القلائد " يعني إن تقلدوا قلادة من
الحرم فأمنوهم قال ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا لكم * يمران بالأيدي اللحاء المضفرا
وقوله تعالى " وإذا حللتم فاصطادوا " أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في
حال الاحرام من الصيد وهذا أمر بعد الحظر والصحيح الذي يثبت على السير أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل
النهي فإن كان واجبا رده واجبا وإن كان مستحبا فمستحب أو مباحا فمباح ومن قال إنه على الوجوب ينتقض عليه
6

بآيات كثيرة ومن قال إنه للإباحة يرد عليه آيات أخرى والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض
علماء الأصول والله أعلم. وقوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " من القراء
من قرأ أن صدوكم بفتح الألف من أن ومعناها ظاهر أي لا يحملنكم بعض من قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى
المسجد الحرام وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا
منهم ظلما وعدوانا بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد وهذه الآية كما سيأتي من
قوله " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي لا يحملنكم بعض قوم على ترك العدل
فإن العدل واجب على كل أحد في كل أحد في كل حال وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن
تطيع الله فيه. والعدل به قامت السماوات والأرض. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان حدثنا
عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت وقد
اشتد ذلك عليهم فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة فقال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نصد هؤلاء
كما صدنا أصحابهم فأنزل الله هذه الآية والشنآن هو البغض قاله ابن عباس وغيره وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآنا
بالتحريك مثل قولهم جمزان ودرجان ورقلان من جمز ودرج ورقل وقال ابن جرير: من العرب من يسقط التحريك
في شنآن فيقول شنان ولم أعلم أحدا قرأ بها ومنه قول الشاعر:
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي * وإن لام فيه ذو الشنان وفندا
وقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونه على
فعل الخيرات وهو البر وترك المنكرات وهو التقوى وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم
والمحارم قال ابن جرير: الاثم ترك ما أمر الله بفعله والعدوان مجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفى غيركم
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن جده أنس بن مالك قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال
تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره ". انفرد به البخاري من حديث هشيم به نحوه وأخرجاه من طريق ثابت عن أنس
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " انصر أخاك ظالما أو مظلوما ". قيل يا رسول الله هذا نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما
قال تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه ". وقال أحمد: حدثنا يزيد حدثنا سفيان بن سعيد عن الأعمش عن
يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من
الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ". وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر حدثنا حجاج حدثنا
شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر
على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم ". وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة وابن ماجة من
طريق إسحاق بن يوسف كلاهما عن الأعمش به وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو
شيبة الكوفي حدثنا بكر بن عبد الرحمن حدثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن فضيل بن عمرو عن أبي وائل
عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الدال على الخير كفاعله " ثم قال لا نعلمه يروى إلا بهذا الاسناد قلت وله
شاهد في الصحيح " من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم
شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " وقال
أبو القاسم الطبراني: حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي حدثنا أبي حدثنا عمرو بن الحارث عن
عبد الله بن سالم عن الزبيدي قال عباس بن يونس: إن أبا الحسن ثمران بن صخر حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من
مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الاسلام ".
7

حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما
أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين كفروا من
دينكم فلا تخشوهم واخشون اليون أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا
فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم (3)
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي ما مات من الحيوان حتف أنفه من
غير ذكاة ولا اصطياد وما ذاك إلا لما فيها من المضرة لما فيها من الدم المحتقن فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا
حرمها الله عز وجل ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها لما رواه مالك في موطئه
والشافعي وأحمد في مسنديهما وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم وابن خزيمة وابن حبان في
صحيحيهما عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ماء البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وهكذا الجراد
لما سيأتي من الحديث وقوله " الدم " يعني به المسفوح كقوله " أو دما مسفوحا " قاله ابن عباس وسعيد بن جبير
قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب المذحجي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا عمرو يعني ابن قيس عن
سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال فقال: كلوه فقالوا: إنه دم فقال: إنما حرم عليكم الدم
المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة قالت إنما نهى عن الدم السافح
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحل لنا ميتتان ودمان فأما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال ".
وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف
قال الحافظ البيهقي: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس عن أسامة وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن ابن
عمر مرفوعا قلت وثلاثتهم كلهم ضعفاء ولكن بعضهم أصلح من بعض وقد رواه سليمان بن بلال أحد الاثبات
عن زيد بن أسلم عن ابن عمر فوقفه بعضهم عليه قال الحافظ أبو زرعة الرازي: وهو أصح وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
علي بن الحسن حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا بشير بن شريح عن أبي غالب عن أبي أمامة
وهو صدى بن عجلان قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الاسلام
فأتيتهم فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها فقال هلم يا صدى فكل قال: قلت
ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم فأقبلوا عليه قالوا وما ذاك فتلوت عليهم هذه الآية " حرمت
عليكم الميتة والدم " الآية. ورواه الحافظ أبن بكر بن مردويه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله وزاد بعده
هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الاسلام ويأبون علي فقلت ويحكم أسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش
قال وعلي عباءتي فقالوا: لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا قال فاغتممت وضربت برأسي في العباء ونمت على
الرمضاء في حر شديد قال فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج لم ير الناس أحسن منه وفيه شراب لم ير الناس
ألذ منه فأمكنني منه فشربته فلما فرغت من شرابي استيقظت فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة
ورواه الحاكم في مستدركه عن علي ابن حماد عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش
العامري حدثنا صدقة بن هرم عن أبي غالب عن أبي أمامة وذكر نحوه وزاد بعد قوله بعد تيك الشربة فسمعتهم
يقولون أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة فأتوني بمذقة فقلت لا حاجة لي فيها إن الله أطعمني
وسقاني وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق.
8

وإياك والميتات لا تقربنها * ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئا محددا من عظم ونحوه فيفصد به بعيره أو
حيوانا من أي صنف كان فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة ثم قال
الأعشى:
وذا النصب المنصوب لا تأتينه * ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
" قوله ولحم الخنزير " يعني إنسيه ووحشيه واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية
في جمودهم ههنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله " فإنه رجس أو فسقا " يعنون قوله تعالى " إلا أن يكون ميتة أو دما
مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس " أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه وهذا بعيد من
حيث اللغة فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو
المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه " فإذا كان هذا التنفير لمجرد
اللمس فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الاجزاء من
الشحم وغيره. وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل
يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال: لا هو حرام "
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم نهانا عن الميتة والدم وقوله " وما أهل
لغير الله به " أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام لان الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه
العظيم فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات
فإنها حرام بالاجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية إما عمدا أو نسيانا كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام
. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن السنجاني حدثنا نعيم بن حماد حدثنا ابن فضيل عن الوليد بن
جميع عن أبي الطفيل قال نزل آدم بتحريم أربع " الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " وإن هذه
الأربعة أشياء لم تحل قط ولم تزل حراما منذ خلق الله السماوات والأرض فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم
طيبات أحلت لهم بذنوبهم فلما بعث الله عيسى ابن مريم - عليه السلام - نزل بالامر الأول الذي جاء به آدم وأحل
لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه وهذا أثر غريب وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس حدثنا
ربعي عن عبد الله قال سمعت الجارود بن أبي سبرة قال: هو جدي قال كان رجل من بني رباح يقال له ابن
وائل وكان شاعرا نافر غالبا أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا
وردت الماء فلما وردت الماء قاما إليها بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها قال: فخرج الناس على الحمرات
والبغال يريدون اللحم قال: وعلي بالكوفة قال: فخرج علي على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء وهو ينادي يا أيها
الناس لا تأكلوا من لحومها فإنها أهل بها لغير الله هذا أثر غريب ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود حدثنا
هارون بن عبد الله ثنا ابن حماد ابن مسعدة عن عوف عن أبي ريحانة عن ابن عباس قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
معاقرة الاعراب ثم قال أبو داود محمد بن جعفر هو غندر أوقفه على ابن عباس تفرد به أبو داود وقال أبو داود
أيضا حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جرير بن حازم عن الزبير بن حريث قال سمعت عكرمة
يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل ثم قال أبو داود أكثر من رواه غير ابن جرير لا يذكر
فيه ابن عباس تفرد به أيضا قوله " والمنخنقة " وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا بأن تتخبل في
وثاقتها فتموت به. فهي حرام وأما " الموقوذة " فهي التي تضرب بشئ ثقيل غير محدد حتى تموت كما قال
ابن عباس وغير واحد عن التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت قال قتادة: كان أهل الجاهلية يضربونها
9

بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها. وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض
الصيد فأصيب قال " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله " ففرق بين ما
أصابه بالسهم أو بالمعراض ونحوه بحده فأحله وما أصاب بعرضه فجعله وقيذا لم يحله وهذا مجمع عليه عند
الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله
" أحدهما " لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ " والثاني " أنه يحل لأنه
حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم وقد قررت لهذه
المسألة فصلا فليكتب ههنا.
" فصل " اختلف العلماء رحمهم الله تعالى فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه أو صدمه هل يحل
أم لا؟ على قولين: " أحدهما " أن ذلك حلال لعموم قوله تعالى: " فكلوا مما أمسكن عليكم " وكذا عمومات
حديث عدي بن حاتم وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي رحمه الله وصححه بعض المتأخرين منهم
كالنووي والرافعي " قلت " وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الام والمختصر فإنه قال: في كلا
الموضعين يحتمل معنيين ثم وجه كلا منهما فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه اللهم إلا أنه
في بحثه للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به والقول بذلك أعني الحل نقله ابن الصباغ
عن أبي حنيفة من رواية الحسن بن زياد عنه ولم يذكر غير ذلك. وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن
سلمان الفارسي وأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وهذا غريب جدا وليس يوجد ذلك مصرحا به
عنهم إلا أنه من تصرفه رحمه الله ورضي عنه. " والقول الثاني " أن ذلك لا يحل وهو أحد القولين عن الشافعي
رحمه الله واختاره المزني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن أبي
حنيفة وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهذا القول أشبه بالصواب والله أعلم لأنه أجرى على
القواعد الأصولية وأمس الأصول الشرعية واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خديج قلت: يا رسول الله إنا
لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح بالقصب قال: " ما أنهر الدم تذكر اسم الله عليه فكلوه " الحديث بتمامه
وهو في الصحيحين. وهذا وإن كان واردا على سبب خاص فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في
الأصول والفروع كما سئل - عليه السلام - عن التبع وهو نبيذ العسل فقال: " كل شراب أسكر فهو حرام " أفيقول
فقيه إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل وهكذا هذا كما سألوه عن شئ من الذكاة فقال لهم كلاما عاما
يشمل ذاك المسؤول عنه وغيره لأنه - عليه السلام - كان قد أوتي جوامع الكلم إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو
غمه بثقله ليس مما أنهر دمه فلا يحل لمفهوم هذا الحديث فإن قيل هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشئ لانهم
إنما سألوه عن الأدلة التي يذكى بها ولم يسألوه عن الشئ الذي يذكى ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر
حيث قال: " ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدى الحبشة " والمستثنى يدل
على جنس المستثنى منه وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسؤول عنه هو الآلة فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم
فالجواب عن هذا بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا حيث يقول: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه "
ولم يقل فاذبحوا به فهذا يؤخذ منه الحكمان معا يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها وحكم المذكى وأنه لابد من
انهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرا هذا مسلك.
والمسلك الثاني: طريقة المزني وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعرضه فلا تأكل وإن خزق فكل
والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخزق لأنهما اشتركا في الموجب وهو الصيد فيجب الحمل هنا
وإن اختلف السبب كما وجب حمل مطلق الاعتاق في الظهار على تقييده بالايمان في القتل بل هذا أولى وهذا
يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة فلابد لهم من
10

جواب عن هذا. وله أن يقوله هذا قتله الكلب بثقله فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعرضه والجامع أن كلا
منهما آلة للصيد وقد مات بثقله فيهما ولا يعارض ذلك بعموم الآية لان القياس مقدم على العموم كما هو
مذهب الأئمة الأربعة والجمهور وهذا مسلك حسن أيضا " مسلك آخر " وهو أن قوله تعالى " فكلوا مما
أمسكن عليكم " عام فيما قتلن بجرح أو غيره لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيه لا يخلو إما أن يكون
نطيحا أو في حكمه أو منخنقا أو في حكمه وأياما كان فجيب تقديم هذه الآية على تلك الوجوه " أحدها " أن
الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد حيث يقول لعدي بن حاتم " وإن أصابه بعرضه فإنما هو وقيذ فلا
تأكله " ولم نعلم أحدا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية فقال ابن الوقيذ: معتبر حالة الصيد
والنطيح ليس معتبرا فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للاجماع لا قائل به وهو محظور عند كثير من العلماء
" الثاني " أن تلك الآية " فكلوا مما أمسكن عليكم " ليست على عمومها بالاجماع بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول
وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ " المسلك
الآخر " أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات فلا
محل قياسا على الميتة " المسلك الآخر " أن آية التحريم أعني قوله " حرمت عليكم الميتة " إلى آخرها محكمة لم
يدخلها نسخ ولا تخصيص وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة أعني قوله تعالى " يسألونك ماذا أحل لهم
قل أحل لكم الطيبات " الآية. فينبغي أن لا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك وشاهد
ذلك قصة السهم فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية وهو ما إذا خزقه المعراض فيكون حلالا لأنه من
الطيبات وما دخل في حكم تلك الآية آية التحريم وهو ما إذا أصابه بعض فلا يؤكل لأنه وقيذ فيكون أحد أفراد
آية التحريم. وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل وإن
لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا. " فإن قيل " فلم لا فصل في حكم
الكلب فقال: ما ذكرتم إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام " فالجواب " أن ذلك نادر لان من شأن
الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله فلم يحتج إلى الاحتراز
من ذلك لندوره أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وأما السهم
والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهو أو نحو ذلك بل خطؤه أكثر من إصابته فلهذا ذكر كلا من حكميه
مفصلا والله أعلم. ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال: " إن
أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص
من عموم آية التحليل عند كثيرين فقالوا: لا يحل ما أكل منه الكلب حكى ذلك عن أبي هريرة وابن عباس وبه
قال الحسن والشعبي والنخعي وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه. وروى
ابن جرير في تفسيره عن علي وسعيد وسلمان وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس أن الصيد يؤكل وإن أكل منه
الكب حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم: يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعه وإلى ذلك ذهب مالك
والشافعي في قوله القديم وأما في الجديد إلى قولين قال ذلك الإمام أبو نضر بن الصباغ وغيره من
الأصحاب عنه وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في صيد
الكلب: " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك " ورواه أيضا النسائي
من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله فذكر نحوه وقال
محمد بن جرير في تفسيره: حدثنا عمران بن بكار الكلاعي حدثنا عبد العزيز بن موسى هو اللاجوني حدثنا
محمد بن دينار هو الطاحي عن أبي إياس وهو معاوية بن قرة عن سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فليأكل ما بقي ثم إن ابن جرير
علله بأنه قد رواه أبو قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب عن سلمان موقوفا. وأما الجمهور فقدموا حديث عدي على
11

ذلك وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه فطال
عليه الفصل ولم يجئ فأكل منه لجوعه ونحوه فإنه لا بأس بذلك والحالة هذه لا يخشى أنه إنما أمسك على
نفسه بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه والله أعلم. فأما الجوارح من الطيور فنص
الشافعي على أنها كالكلب فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ولا يحرم عند الآخرين واختار المزني من أصحابنا
أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد قالوا: لأنه لا يمكن تعليمها كما
يعلم الكلب بالضرب ونحوه وأيضا فأنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد فيعفى عن ذلك وأيضا فالنص إنما ورد في
الكلب لا في الطير وقال الشيخ أبو علي في الافصاح: إذا قلنا يحرم ما أكل منه الكلب ففي تحريم ما أكل منه
الطير وجهان وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب لنص الشافعي رحمه الله على التسوية بينهما والله سبحانه
وتعالى أعلم. وأما المتردية فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس: المتردية التي تسقط من جبل وقال قتادة: هي التي تتردى في بئر وقال السدي: هي التي تقع
من جبل أو تتردى في بئر. وأما النطيحة فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام وإن جرحها القرن وخرج
منها الدم ولو من مذبحها والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء
التأنيث فيقولون عين كحيل وكف خضيب ولا يقولون كف خضيبة ولا عين كحيلة وأما هذه فقال بعض النحاة: إنما
استعمل فيها تاء التأنيث لأنها أجريت مجرى الأسماء كما في قولهم طريقة طويلة وقال بعضهم إنما أتى بتاء
التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة بخلاف عين كحيل وكف خضيب لان التأنيث مستفاد من أول الكلام
وقوله تعالى " وما أكل السبع " أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي
حرام وإن كان قد سال منها الدم ولو من مذبحها فلا تحل بالاجماع وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من
الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين وقوله " إلا ما ذكيتم " عائد على ما يمكن عوده عليه
مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة وذلك إنما يعود على قوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية
والنطيحة وما أكل السبع " قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس في قوله " إلا ما ذكيتم " يقول إلا ما ذبحتم من هؤلاء
وفيه روح فكلوه فهو ذكي. وكذا روى عن سعيد بن جبير والحسن البصري والسدي وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن علي في الآية إن مصعت بذنبها أو
ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم وعباد قالا: حدثنا
حجاج عن حصين عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك
يدا أو رجلا فكلها. وهكذا روى عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد أن المذكاة من
تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال وهذا مذهب جمهور الفقهاء وبه قال أبو حنيفة
والشافعي وأحمد بن حنبل. قال ابن وهب سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها فقال:
مالك لا أرى أن تذكى أي شئ يذكى منها؟ وقال أشهب سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى
أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل فقال: إن كان قد بلغ الشحرة فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك
بأسا قيل له وثب عليه فدق ظهره فقال: لا يعجبني هذا لا يعيش منه قيل له فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها
ولا يثقب الأمعاء. فقال: إذا شق بطنها فلا أي أن تؤكل هذا مذهب مالك رحمه الله. وظاهر الآية عام فيما استثناه
مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله
أعلم. وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال: قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدى أفنذبح
بالقصب؟ فقال: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما
الظفر فمدى الحبشة " وفى الحديث الذي رواه الدارقطني مرفوعا وفيه نظر وروى عن عمر موقوفا وهو أصح " ألا
إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق " فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن من رواية
12

حماد بن سلمة عن أبي العسراء الدارمي عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق؟
فقال " لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك ". وهو حديث صحيح ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق
واللبة وقوله " وما ذبح عل على النصب " قال مجاهد وابن جريج: كانت النصب حجارة حول الكعبة قال ابن جريج:
وهي ثلثمائة وستون نصبا كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك
الذبائح ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب وكذا ذكره غير واحد فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم
عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك
الذي حرمه الله ورسوله وينبغي أن يحمل هذا على هذا لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله وقوله تعالى " وأن
تستقسموا بالأزلام " أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام واحدها زلم وقد تفتح الزاي فيقال زلم وقد
كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب أفعل وعلى الآخر لا تفعل
والثالث غفل ليس عليه شئ. ومن الناس من قال مكتوب على الواحد أمرني ربي وعلى الآخر نهاني ربي والثالث
غفل ليس عليه شئ فإذا أجالها فطلع سهم الامر فعله أو النهى تركه وإن طلع الفارغ أعاد والاستقسام مأخوذ من
طلب القسم من هذه الأزلام هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن
الصباح حدثنا الحجاج بن محمد أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس " وأن تستقسموا
بالأزلام " قال والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور وكذا روى عن مجاهد وإبراهيم النخعي والحسن
البصري ومقاتل بن حيان وقال ابن عباس هي قداح كانوا يستقسمون بها الأمور وذكر محمد بن إسحاق وغيره
أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه وكان
عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وثبت
في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها وفي أيديهما الأزلام فقال قاتلهم
الله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا. وفي الصحيح أن سراقة بن مالك بن جعشم لما خرج في طلب النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأبى بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره لا
يضرهم قال فعصيت الأزلام وأتبعتهم ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة كل ذلك يخرج الذي يكره لا يضرهم وكان
كذلك. وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك. وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن يزيد عن رقية عن
عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حياة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لن يلج الدرجات من تكهن أو
استقسم أو رجع من سفر طائرا " وقال مجاهد في قوله وأن تستقسموا بالأزلام قال هي سهام العرب وكعاب فارس
والروم كانوا يتقامرون. وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار فيه نظر اللهم إلا أن يقال إنهم
كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة وفي القمار أخرى والله أعلم. فإن الله سبحانه قد قرن بينها وبين القمار وهو
الميسر فقال في آخر السورة: " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان
فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء - إلى قوله - منتهون ". وهكذا قال
ههنا " وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ". أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك وقد أمر الله المؤمنين إذا
ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الامر الذي يريدونه. كما رواه الإمام أحمد والبخاري
وأهل السنن من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ويقول: " إذا هم أحدكم بالامر فليركع ركعتين
من غير الفريضة ثم ليقل اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا
أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني
ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو - قال عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه اللهم وإن كنت
تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني
13

به " لفظ أحمد وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي وقوله " اليوم
يئس الذين كفروا من دينكم " قال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم. وكذا روى عن
عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - قال: " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " ويحتمل
أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله
ولهذا قال تعالى آمرا لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحدا إلا الله فقال " فلا
تخشوهم واخشون " أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم وأشف
صدوركم منهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة وقوله " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
لكم الاسلام دينا " هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره
ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء وبعثه إلى الإنس والجن فلا
حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ولا دين إلا ما شرعه وكل شئ أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا
خلف كما قال تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي صدقا في الاخبار وعدلا في الأوامر والنواهي فلما أكمل
لهم الدين تمت عليهم النعمة ولهذا قال تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم
الاسلام دينا " أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام وأنزل به
أشرف كتبه. وقال علي بن أبي طليحة عن ابن عباس قوله " اليوم أكملت لكم دينكم " وهو الاسلام أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم -
والمؤمنين أنه أكمل لهم الايمان فلا يحتاجون إلى زيادة ابدا وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا وقد رضيه الله فلا
يسخطه أبدا. وقال أسباط عن السدي: نزلت هذه الآية يوم عرفة ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فمات. قالت أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الحجة فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل فمال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الراحلة فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن فبركت فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي.
وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما رواهما ابن جرير ثم قال: حدثنا
سفيان بن وكيع حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال: لما نزلت " اليوم أكملت لكم دينكم " وذلك يوم
الحج الأكبر بكى عمر فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل
شئ إلا نقص فقال (صدقت) ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت " إن الاسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى
للغرباء " وقال الإمام أحمد: حدثنا جعفر بن عون حدثنا أبو العميس عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال:
جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود
نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا قال وأي آية؟ قال قوله " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فقال عمر:
والله إني لاعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والساعة التي نزلت فيها على رسول الله عشية عرفة في يوم
جمعة. ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي أيضا
من طرق عن قيس بن مسلم به ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس عن طارق
قال: قالت اليهود لعمر: الله إنكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيدا فقال عمر: إني لاعلم حين أنزلت وأين أنزلت
وأين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أنزلت يوم عرفة وأنا والله بعرفة. قال سفيان: وأشك كان يوم الجمعة أم لا " اليوم أكملت
لكم دينكم " الآية وشك سفيان رحمه الله إن كان في الرواية فهو تورع حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا وإن
كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري رحمه الله. فإن هذا أمر
معلوم مقطوع به لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء وقد وردت في ذلك أحاديث
متواترة لا يشك في صحتها والله أعلم. وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عمر. وقال ابن جرير: حدثني يعقوب
ابن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا رجاء بن أبي سلمة أخبرنا عبادة بن نسي أخبرنا أميرنا إسحاق قال أبو جعفر بن
14

جرير - وهو إسحاق بن حرشة - عن قبيصة يعني - ابن أبي ذئب - قال: قال كعب لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية
لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال " اليوم أكملت
لكم دينكم " فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت والمكان الذي أنزلت فيه نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة
وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وقال ابن جرير: حدثنا أبو بكر حدثنا قبيصة حدثنا حماد بن سلمة عن عمار هو مولى
بني هاشم أن ابن عباس قرأ " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال
يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدا فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين يوم عيد ويوم
جمعة. وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل حدثنا موسى بن هارون حدثنا يحيى الحماني حدثنا قيس بن الربيع
عن إسماعيل بن سليمان عن أبي عمر البزار عن أبي الحنيفة عن علي قال: نزلت هذه الآية على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم
عشية عرفة " اليوم أكملت لكم دينكم " وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر - إسماعيل بن عمرو السكوني - حدثنا هشام بن
عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية
" اليوم أكملت لكم دينكم " حتى ختمها فقال نزلت في يوم عرفة في يوم جمعة. وروى ابن مردويه من طريق
محمد بن إسحاق عن عمرو بن موسى بن دحية عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال: نزلت هذه الآية " اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " يوم عرفة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقف على الموقف فأما ما
رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش بن عبد الله الصغاني عن
ابن عباس قال: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وخرج من مكة يوم الاثنين ودخل المدينة يوم الاثنين وفتح بدرا
يوم الاثنين وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين اليوم أكملت لكم دينكم. ورفع الذكر يوم الاثنين فإنه أثر غريب وإسناده
ضعيف. وقد رواه الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن حنش الصغاني
عن ابن عباس قال: ولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين واستنبئ يوم الاثنين وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين
وقدم المدينة يوم الاثنين وتوفي يوم الاثنين ووضع الحجر الأسود يوم الاثنين هذا لفظ أحمد ولم يذكر نزول المائدة
يوم الاثنين فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم فاشتبه على الراوي والله أعلم وقال
ابن جرير: وقد قيل ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ثم روى من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله " اليوم
أكملت لكم دينكم " يقول ليس بيوم معلوم عند الناس قال: وقد قيل إنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيره إلى
حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قلت وقد روى ابن مردويه من طريق أبي
هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم غدير خم حين قال لعلي " من كنت مولاه
فعلي مولاه " ثم رواه عن أبي هريرة وفيه أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة يعني مرجعه - عليه السلام - من حجة
الوداع ولا يصح لا هذا ولا هذا بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية أنها أنزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة كما
روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأول ملوك الاسلام معاوية بن أبي سفيان وترجمان
القرآن عبد الله بن عباس وسمرة بن جندب رضي الله عنه وأرسله الشعبي وقتادة بن دعامة وشهر بن حوشب وغير واحد
من الأئمة والعلماء واختاره ابن جرير الطبري رحمه الله وقوله " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله
غفور رحيم " أي فمن احتاج إلى تناول شئ من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك فله
تناوله والله غفور رحيم له لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له وفي المسند
وصحيح ابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى
معصيته " لفظ ابن حبان وفي لفظ لأحمد " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الاثم مثل جبال عرفة ". ولهذا قال
الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها وقد يكون
مندوبا وقد يكون مباحا بحسب الأحوال واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق أو له أن يشبع أو يشبع
ويتزود؟ على أقوال كما هو مقرر في كتاب الأحكام وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير أو صيدا وهو محرم هل يتناول
15

الميتة أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء أو ذلك الطعام ويضمن بدله؟ على قولين هما قولان للشافعي رحمه الله وليس
من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم بل متى
اضطر إلى ذلك جاز له وقد قال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي حدثنا حسان بن عطية عن
أبي واقد الليثي أنهم قالوا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: " إذا لم
تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفؤا بها بقلا فشأنكم بها " تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو إسناد صحيح على
شرط الصحيحين وكذا رواه ابن جرير عن عبد الاعلى بن واصل عن محمد بن القاسم الأسدي عن الأوزاعي به
لكن رواه بعضهم عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن مسلم بن يزيد عن أبي واقد به ومنهم من رواه عن الأوزاعي
عن حسان عن مرثد أو أبي مرثد عن أبي واقد به. ورواه ابن جرير عن هناد بن السري عن عيسى بن يونس عن
حسان عن رجل قد سمي له فذكره ورواه أيضا عن هناد عن ابن المبارك عن حسان مرسلا وقال ابن جرير: حدثنا
يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة فقرأته عليه فكان فيه:
ويجزي من الاضرار غبوق أو صبوح. حدثنا أبو كريب حدثنا هشيم عن الخصيب بن زيد التميمي حدثنا الحسن أن
رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: متى يحل الحرام؟ قال: فقال: " إلى متى يروي أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم "
حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن إسحاق حدثني عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة بن الزبير عن جدته أن
رجلا من الاعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحل له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " يحل لك الطيبات
ويحرم عليك الخبائث إلا أن تفتقر إلى طعام لك فتأكل منه حتى تستغني عنه " فقال الرجل: وما فقري الذي يحل
لي وما غنائي الذي يغنيني عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا كنت ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما
بدا لك حتى تستغني عنه " فقال الاعرابي ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته فقال: صلى الله عليه وسلم: " إذا رويت كنت أهلك غبوقا من الليل
فأجتنب ما حرم الله عليك من طعام مالك فإنه ميسور كله فليس فيه حرام " ومعنى قوله " ما لم تصطحبوا " يعني به
الغداء " وما لم تغتبقوا " يعني به العشاء " أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها " فكلوا منها. وقال ابن جرير: يروى هذا
الحرف يعني قوله " أو تحتفئوا " على أربعة أوجه: تحفؤا بالهمزة وتحتفيوا بتخفيف الياء والحاء وتحتفوا بتشديد
وتحتفوا بالحاء وبالتخفيف ويحتمل الهمز كذا رواه في التفسير " حديث آخر " قال أبو داود: حدثنا هارون بن
عبد الله حدثنا الفضل بن دكين حدثنا وهب بن عقبة العامري سمعت أبي يحدث عن النجيع العامري أنه أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما يحل لنا من الميتة قال: " ما طعامكم " قلنا نصطبح ونغتبق قال أبو نعيم: فسره لي
عقبة قدح غدوة وقدح عشية قال: ذاك وأبي الجوع وأحل لهم الميتة على هذه الحال. تفرد به أبو داود وكأنهم
كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها
حتى يبلغ حد الشبع ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم " حديث آخر " قال أبو داود حدثنا موسى بن إسماعيل
حدثنا حماد حدثنا سماك عن جابر عن سمرة أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده فقال له رجل إن ناقتي ضلت فإن
وجدتها فأمسكها فوجدها ولم يجد صاحبها فمرضت فقالت له امرأته انحرها فأبى فنفقت فقالت له امرأته: اسلخها
حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله قال: لا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه فسأله فقال: " هل عندك غنى يغنيك " قال: لا
قال: " فكلوها " قال فجاء صاحبها فأخبره الخير فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك. تفرد به وقد يحتج به من
يجوز الاكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم. وقوله " غير متجانف لاثم " أي متعاط
لمعصية الله فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر كما قال في سورة البقرة " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا
إثم عليه إن الله غفور رحيم " وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشئ من رخص السفر لان
الرخص لا تنال بالمعاصي والله أعلم.
16

يسئلونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا
مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (4)
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها إما في بدنه أو في دينه أو فيهما واستثنى ما
استثناه في حالة الضرورة كما قال " وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " قال بعدها: " يسألونك ماذا
أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم
الخبائث قال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبد الله بن أبي بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار
عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا يا رسول الله: قد حرم الله
الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات " قال سعيد: يعني الذبائح
الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل: الطيبات ما أحل لهم من كل شئ أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق وقد سئل
الزهري عن شرب البول للتداوي فقال: ليس هو من الطيبات رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن وهب: سئل مالك
عن بيع الطين الذي يأكله الناس فقال: ليس هو من الطيبات. وقوله تعالى " وما علمتم من الجوارح مكلبين " أي
أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي من الكلاب
والفهود والصقور وأشباهها كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة وممن قال ذلك علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس في قوله " وما علمتم من الجوارح مكلبين " وهن الكلاب المعلمة والبازي وكل طير يعلم للصيد
والجوارح يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها. رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وروى عن خيثمة
وطاوس ومجاهد ومكحول ويحيى بن أبي كثير نحو ذلك وروى عن الحسن أنه قال: الباز والصقر من الجوارح.
وروى عن علي بن الحسين مثله ثم روى عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله وقرأ قوله " وما علمتم من الجوارح
مكلبين " قال: وروى عن سعيد بن جبير نحو ذلك ونقله ابن جرير عن الضحاك والسدي ثم قال: حدثنا هناد
حدثنا ابن أبي زائدة أخبرنا ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير فما
أدركت فهو لك وإلا فلا تطعمه قلت: والمحكي عن الجمهور أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد
بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم واختاره ابن جرير واحتج في ذلك بما
رواه عن هناد: حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
صيد البازي فقال: " ما أمسك عليك فكل " واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل
اقتناؤه لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقطع الصلاة الحمار والمرأة والكلب الأسود "
فقلت: ما بال الكلب الأسود من الحمار فقال: الكلب الأسود شيطان. وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بقتل الكلاب ثم قال: " ما بالهم وبال الكلاب اقتلوا منها كل أسود بهيم " وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد
بهن جوارح من الجرح وهو الكسب كما تقول العرب فلان جرح أهله خيرا أي كسبهم خيرا ويقولون فلان لا جارح
له أي لا كاسب له وقال الله تعالى " ويعلم ما جرحتم بالنهار " أي ما كسبتم من خير وشر وقد ذكر في سبب
نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا زيد بن حباب حدثني
يونس بن عبيدة حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع عن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب فقلت فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت
بقتلها؟ فسكت فأنزل الله " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين "
الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه فيأكل ما لم يأكل " وهكذا رواه ابن جرير عن أبي
كريب عن زيد بن الحباب بإسناده عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن عليه فأذن له فقال: قد أذن
17

لك يا رسول الله قال " أجل ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب " قال أبو رافع فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة حتى
انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني فرجعت إلى
الكلب فقتلته فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأنزل الله عز وجل " يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح
مكلبين " ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح به وقال صحيح ولم يخرجاه.
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع
في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا
رسول الله؟ فنزلت الآية ورواه الحاكم من طريق سماك عن عكرمة وكذا قال محمد بن كعب القرظي في سبب
نزول هذه الآية أنه في قتل الكلاب وقوله تعالى " مكلبين " يحتمل أن يكون حالا من الضمير في علمتم فيكون حالا
من الفاعل ومحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو الجوارح أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات
للصيد وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها فيستدل بذلك والحالة هذه أن الجوارح إذا قتل الصيد بصدمته لا
بمخلابه وظفره أنه لا يحل كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ولهذا قال " تعلمونهن مما علمكم الله "
وهو أنه إذا أرسله استرسل وإذا أشلاه استشلى وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجئ إليه ولا يمسكه لنفسه
ولهذا قال تعالى " فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه " فمتى كان الجارح معلما وأمسك على صاحبه
وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله حل الصيد وإن قتله بالاجماع وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية
الكريمة كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم
الله فقال " إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " قلت وإن قتلن؟ قال وإن قتلن ما لم
يشركها كلب ليس منها فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فأصيب " قلت له فإني أرمي بالمعراض
الصيد؟ فقال: " إذا رميت بالمعراض فخزق فكله وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله " وفي لفظ لهما " إذا
أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ ا
لكلب ذكاته " وفي رواية لهما " فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " فهذا دليل للجمهور وهو
الصحيح من مذهب الشافعي وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث
وحكى عن طائفة من السلف أنهم قالوا لا يحرم مطلقا.
" ذكر الآثار بذلك "
قال ابن جرير: حدثنا هناد حدثنا وكيع عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال قال سلمان الفارسي كل
وإن أكل ثلثيه يعني الصيد إذا أكل منه الكلب وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة وعمر بن عامر عن قتادة وكذا رواه
محمد بن زيد عن سعيد بن المسيب عن سلمان ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن موسى عن يزيد عن حميد عن
بكر بن عبد الله المزني والقاسم بن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل وإن أكل ثلثيه وقال ابن جرير: حدثنا
يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني مخرمة بن بكير عن أبيه عن حميد بن مالك بن خيثم الدؤلي أنه سأل
سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب فقال: كل وإن لم يبق منه إلا حذيه يعني بضعة ورواه شعبة عن
عبد ربه بن سعيد عن بكير بن الأشج عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال: كل وإن أكل ثلثيه وقال
ابن جرير: حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا داود عن عامر عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه
فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكله وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا المعتمر قال سمعت عبد الله.
وحدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت
18

اسم الله فكل ما أمسك عليك أكل أو لم يأكل وكذا رواه عبيد الله بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد عن نافع فهذه
الآثار ثابتة عن سلمان وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وابن عمر وهو محكي عن علي وابن عباس واختلف فيه
عن عطاء والحسن البصري وهو قول الزهري وربيعة ومالك وإليه ذهب الشافعي في القديم وأو ماء إليه في الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا فقال ابن جرير: حدثنا عمر أن ابن بكار الكلاعي حدثنا عبد العزيز بن
موسى اللاجوني حدثنا محمد بن دينار وهو الطاجي عن أبي إياس - معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب عن سلمان
الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه فيأكل ما بقي " ثم قال ابن
جرير: وفي إسناد هذا الحديث نظر وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان والثقات يروونه من كلام سلمان غير
مرفوع وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر فقال أبو داود: حدثنا
محمد بن منهال الضرير حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا
يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن كان لك كلاب مكلبة
فكل مما أمسكن عليك " فقال ذكيا وغير ذكي وإن أكل منه؟ قال " نعم وإن أكل منه " فقال: يا رسول الله أفتني في
قوسي قال: " كل ما ردت عليك قوسك " قال ذكيا وغير ذكي؟ قال وإن تغيب عنك ما لم يصل أو تجد فيه أثرا غير
سهمك قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها قال: " اغسلها وكل فيها " هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه
النسائي وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه وكل ما ردت عليك يدك " وهذان إسنادان جيدان وقد روى
الثوري عن سماك بن حرب عن عدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما كان من كلب ضار أمسك
عليك فكل " قلت: وإن أكل قال: " نعم " وروى عبد الملك بن حبيب حدثنا أسد بن موسى عن ابن أبي زائدة عن
الشعبي عن عدي بمثله فهذه آثار دالة على أنه يغتفر وإن أكل منه الكلب وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل
الكلب وما أشبهه كما تقدم عمن حكيناه عنهم وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث
عدى بن حاتم وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه " وأما إن
أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع فأكل منه لجوعه فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة
الخشني وهذا تفريق حسن وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه النهاية
أن لو فصل مفصل هذا التفصيل وقد حقق الله أمنيته وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم وقال
آخرون قولا رابعا في المسألة وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عدي وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم
لأنه لا يقبل التعليم إلا بالاكل. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا أسباط بن محمد حدثنا أبو إسحق الشيباني
عن حماد عن إبراهيم عن ابن عباس أنه قال في الطير إذا أرسلته فقتل فكل فإن الكلب إذا ضربته لم يعد وإن تعلم
الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل وكذا قال إبراهيم النخعي والشعبي
وحماد بن أبي سليمان وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد حدثنا المحاربي حدثنا مجالد
عن الشعبي عن عدى بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فما يحل لنا منها؟ قال
يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله
عليه ثم قال: ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك " قلت وإن قتل قال: " وإن قتل ما
لم يأكل " قلت: يا رسول الله وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها قال " فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك قال
قلت إنا قوم نرمي فما يحل لنا قال: " ما ذكرت اسم الله عليه وخزقت فكل " فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب
أن لا يأكل ولم يشترط ذلك في البزاة فدل على التفرقة بينهما في الحكم والله أعلم. وقوله تعالى " فكلوا مما
أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه " أي عند إرساله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم " إذا أرسلت كلبك المعلم
19

وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك " وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا " إذا أرسلت كلبك فاذكر
اسم الله وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله " ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كالامام أحمد رحمه الله في المشهور
عنه التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث وهذا القول هو المشهور عن الجمهور أن
المراد بهذه الآية الامر بالتسمية عند الارسال كما قال السدي وغيره وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
" واذكروا اسم الله عليه " يقول إذا أرسلت جارحك فقل بسم الله وإن نسيت فلا حرج. وقال بعض الناس المراد
بهذه الآية الامر بالتسمية عند الاكل كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال
" سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك " وفى صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا
حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: " سموا الله أنتم وكلوا ". " حديث آخر "
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا هشام عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أما إنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم
فإذا أكل أحدكم طعاما فليذكر اسم الله فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره " وهكذا رواه
ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون به وهذا منقطع بين عبد الله بن عبيد بن عمير وعائشة فإنه لم
يسمع منها هذا الحديث بدليل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب أخبرنا هشام يعني ابن أبي عبد الله
الدستوائي عن بديل عن عبد الله بن عبيد بن عمير أن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم حدثته عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يأكل طعاما في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين فقال: " أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم فإذا
أكل أحدكم فليذكر اسم الله فإن نسي اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره " رواه أحمد أيضا وأبو داود
والنسائي من غير وجه عن هشام الدستوائي به وقال الترمذي حسن صحيح. " حديث آخر " وقال أحمد: حدثنا
علي بن عبد الله حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا جابر بن صبح حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي وصحبته إلى
واسط فكان يسمي في أول طعامه وفي آخر لقمة يقول بسم الله أوله وآخره فقلت له إنك تسمي في أول ما تأكل أرأيت
قولك في آخر ما تأكل بسم الله أوله وآخره فقال أخبرك أن جدي أمية بن مخشى وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمعته
يقول إن رجلا كان يأكل والنبي ينظر فلم يسم حتى كان في آخر طعامه لقمة قال بسم الله أوله وآخره فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سمى فلم يبق شئ في بطنه حتى قاءه " وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث
جابر بن صبح الراسبي أبي بشر البصري وثقه ابن معين والنسائي وقال أبو الفتح الأزدي لا تقوم به حجة. " حديث
آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا الأعمش عن خيثمة عن أبي حذيفة - قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد
واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب من أصحاب ابن مسعود عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم
نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده وإنا حضرنا معه طعاما ما فجاءت جارية كأنما تدفع فذهبت تضع يدها في
الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله بيده فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الشيطان مستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها
وجاء بهذا الاعرابي ليستحل به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما " يعني الشيطان وكذا رواه
مسلم وأبو داود والنسائي من حديث الأعمش به. " حديث آخر " روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي من طريق ابن
جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند
دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم
المبيت فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال أدركتم المبيت والعشاء " لفظ أبي داود. " حديث آخر " قال الإمام أحمد
: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم
إنا نأكل وما نشبع قال: " فلعلكم تأكلون متفرقين اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " ورواه أبو
داود وابن ماجة من طريق الوليد بن مسلم.
20

اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من
المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين
ولا متخذي أخدان ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين (5)
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده " اليوم أحل لكم
الطيبات " ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى فقال " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " قال
ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة وعطاء والحسن ومكحول وإبراهيم النخعي والسدي ومقاتل بن
حيان: يعني ذبائحهم وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين لانهم يعتقدون تحريم الذبح لغير
الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس وقد ثبت في
الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال: أدلي بجراب من شحم يوم خيبر فحضنته وقلت لا أعطي اليوم من هذا أحدا
والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناول ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل
القسمة وهذا ظاهر واستدل به الفقهاء: الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل ما يعتقد
اليهود تحريمه من ذبائحهم كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله لقوله تعالى
" وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " قالوا: وهذا ليس من طعامهم واستدل عليهم الجمهور بهذا الحديث وفي
ذلك نظر لأنه قضية عين ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله كشحم الظهر والحوايا ونحوهما والله أعلم وأجود
منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية وقد سموا ذراعها وكان يعجبه
الذراع فتناوله فنهش منه نهشة فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفي أبهره وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات فقتل اليهودية التي سمتها وكان اسمها زينب فقتلت بشر بن
البراء..... ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم
لا وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنخة يعني ودكا زنخا وقال ابن أبي
حاتم قرئ على العباس بن الوليد بن مزيد أخبرنا محمد بن شعيب أخبرني النعمان بن المنذر عن مكحول قال أنزل
الله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ثم نسخه الرب عز وجل ورحم المسلمين فقال " اليوم أحل لكم
الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب " فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله
نظر فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لانهم يذكرون اسم الله على
ذبائحهم وقرا بينهم وهم متعبدون بذلك ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لانهم لا
يذكرون اسم الله على ذبائحهم بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة بل يأكلون الميتة به بخلاف أهل
الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي
العلماء ونصارى العرب: كبني تغلب وتوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن أيوب عن محمد بن عبيدة قال: قال علي: لا
تأكلوا ذبائح بنى تغلب لانهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف.
وقال سعيد بن أبي عروبة: عن قتادة عن سعيد بن المسيب والحسن أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني
تغلب وأما المجوس فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح
نساؤهم خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد بن حنبل ولما قال ذلك
واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه يعني في هذه المسألة وكأنه تمسك بعموم
21

حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " ولكن لم يثبت بهذا اللفظ وإنما الذي في
صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ولو سلم صحة هذا
الحديث فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فدل بمفهومه مفهوم المخالفة
على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل وقوله تعالى " وطعامكم حل لهم " أي ويحل لكم أن تطعموهم
من ذبائحهم وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الاكل من كل طعام ذكر
اسم الله عليه سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما
أكلتم من ذبائحهم وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي بن سلول حين
مات ودفنه فيه قالوا لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فأما الحديث الذي فيه: " لا
تصحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي " فمحمول على الندب والاستحباب والله أعلم.
وقوله " والمحصنات من المؤمنات " أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات وذكر هذا توطئة لما
بعده وهو قوله تعالى " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء
حكاه ابن جرير عن مجاهد وإنما قال مجاهد المحصنات الحرائر فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ويحتمل أن
يكون أراد بالحرة العفيفة كما قال في الرواية الأخرى عنه وهو قول الجمهور ههنا وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون
ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل: " حشفا وسوء كيلة " والظاهر
من الآية أن المراد بالمحصنات العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى " محصنات غير مسافحات ولا
متخذات أخدان " ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله تعالى " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم "
هل يعم كل كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمة حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممن فسر المحصنة بالعفيفة
وقيل المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيليات وهو مذهب الشافعي وقيل المراد بذلك الذميات دون الحربيات لقوله
" قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول لا
أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى وقد قال الله تعالى " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " الآية وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب حدثنا القاسم بن مالك يعني المزني حدثنا
إسماعيل بن سميع عن أبي مالك الغفاري قال نزلت هذه الآية " ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن " قال: فحجز
الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها " والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فنكح الناس نساء أهل
الكتاب وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا أخذا بهذه الآية الكريمة
" والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة " ولا تنكحوا
المشركات حتى يؤمن " إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها وإلا فلا معارضة بينها وبينها لان أصل الكتاب قد
انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع كقوله تعالى " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين
منفكين حتى تأتيهم البينة " وكقوله " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا " الآية
وقوله " إذا آتيتموهن أجورهن " أي مهورهن أي كما هن محصنات عفائف فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس وقد
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها
أنه يفرق بينهما وترد عليه ما بذل لها من المهر رواه ابن جرير عنهم.
وقوله " محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " فكما شرط الاحصان في النساء وهي العفة عن الزنا كذلك
شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل محصنا عفيفا ولهذا قال غير مسافحين وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن
معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ولا متخذي أخدان أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهن كما تقدم في
سورة النساء سواء ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب وما
22

دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب
ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذه الآية وللحديث لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن
بشار حدثنا سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال عن قتادة عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب لقد هممت أن لا أدع
أحدا أصاب فاحشة في الاسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب: يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك
وقد يقبل منه إذا تاب وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة
والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " ولهذا قال تعالى ههنا " ومن يكفر بالايمان فقد حبط
عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ".
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم
إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لمستم
النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن
يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون (6)
قال كثيرون من السلف في قوله " إذا قمتم إلى الصلاة " يعني وأنتم محدثون وقال آخرون إذا قمتم من النوم إلى
الصلاة وكلاهما قريب. وقال آخرون بل المعنى أعم من ذلك فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ولكن هو في
حق المحدث واجب وفي حق المتطهر ندب وقد قيل إن الامر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الاسلام ثم
نسخ. وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن ابن بريدة عن أبيه قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد فقال له
عمر: يا رسول الله إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله قال: " إني عمدا فعلته يا عمر " وهكذا رواه مسلم وأهل السنن
من حديث سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد ووقع في سنن ابن ماجة عن سفيان عن محارب بن دثار بدل علقمة بن
مرثد كلاهما عن سليمان بن بريدة به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عباد بن موسى أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي حدثنا الفضل بن المبشر
قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين
فقلت: أبا عبد الله أشئ تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه
وكذا رواه ابن ماجة عن إسماعيل بن توبة عن زياد البكائي به. وقال أحمد: حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق
حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال: أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل
صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل
حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل
صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك كان يفعله حتى مات وهكذا رواه أبو
داود عن محمد بن عوف الحمصي عن أحمد بن خالد الذهني عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن
عبيد الله بن عبد الله بن عمر ثم قال أبو داود: ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فقال عبيد الله بن عمر
يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد وأيا ما كان فهو إسناد صحيح وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من
محمد بن يحيى بن حبان فزال محذور التدليس لكن قال الحافظ ابن عساكر: رواه سلمة بن الفضل وعلي بن
مجاهد عن ابن إسحاق عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن محمد بن يحيى بن حبان به والله أعلم وفي فعل
23

ابن عمر هذا ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور.
وقال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة حدثنا أزهر عن ابن عون عن ابن سيرين أن الخلفاء كانوا
يتوضؤن لكل صلاة وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت مسعود بن
علي الشيباني سمعت عكرمة يقول كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا
إذا قمتم إلى الصلاة " الآية وحدثنا ابن المثنى حدثني وهب ابن جرير أخبرنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن
النزال بن سبرة قال: رأيت عليا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرحبة ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه ثم مسح برأسه
ورجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث. وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أن عليا اكتال
من حب فتوضأ وضوءا فيه تجوز فقال هذا وضوء من لم يحدث. وهذه طرق جيدة عن علي يقوي بعضها بعضا.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن يسار حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال توضأ عمر بن الخطاب وضوءا
فيه تجوز خفيفا فقال هذا وضوء من لم يحدث وهذا إسناد صحيح. وقال محمد بن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤن
لكل صلاة وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن أبي هلال عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير
حدث اعتداء فهو غريب عن سعيد بن المسيب ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد وأما مشروعيته
استحبابا فقد دلت السنة على ذلك وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عمرو بن عامر
الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال:
كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عمرو بن عامر
به. وقال ابن جرير: حدثنا أبو سعيد البغدادي حدثنا إسحاق بن منصور عن هريم عن عبد الرحمن بن زياد هو
الإفريقي عن عطيف عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات " ورواه أيضا
من حديث عيسى بن يونس عن الإفريقي عن أبي عطيف عن ابن عمر فذكره وفيه قصة وهكذا رواه أبو داود والترمذي
وابن ماجة من حديث الإفريقي به نحوه وقال الترمذي وهو إسناد ضعيف.
وقال ابن جرير: وقد قال قوم إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة دون
غيرها من الأعمال وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ حدثنا أبو كريب حدثنا
معاوية بن هشام عن سفيان عن جابر عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن
أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول لا نكلمه ولا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى نزلت آية الرخصة " يا
أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة " الآية ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم عن أبي كريب به نحوه وهو
حديث غريب جدا وجابر هذا هو ابن زيد الجعفي ضعفوه. وقال أبو داود حدثنا مسدد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب
عن عبد الله بن أبي مليكة عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا ألا نأتيك
بوضوء فقال: " إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة " وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي عن زياد بن
أيوب عن إسماعيل وهو ابن علية به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن سعيد بن الحويرث عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ثم إنه
رجع فأتي بطعام فقيل يا رسول الله ألا تتوضأ فقال " لم أصل فأتوضأ ". وقوله " فاغسلوا وجوهكم " قد استدل
طائفة من العلماء بقوله تعالى " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " على وجوب النية في الوضوء لان تقدير
الكلام إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها كما تقول العرب إذا رأيت الأمير فقم أي له وقد ثبت في
الصحيحين حديث " الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى
على وضوئه لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا وضوء لمن لم
24

يذكر اسم الله عليه " ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الاناء ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ما ثبت في
الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الاناء قبل أن يغسلها
ثلاثا فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس ولا اعتبار بالصلع ولا
بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الاذن إلى الاذن عرضا وفى النزعتين والتحذيف خلاف هل هما الرأس
أو الوجه وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان " أحدهما " أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به
المواجهة. وروي في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته فقال اكشفها فإن اللحية من الوجه. وقال مجاهد
هي من الوجه ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته طلع وجهه ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته
إذا كانت كثيفة. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا إسرائيل عن عامر بن حمزة عن شقيق قال: رأيت
عثمان يتوضأ فذكر الحديث قال وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني
فعلت رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الرزاق وقال الترمذي: حسن صحيح وحسنه البخاري.
وقال أبو داود: حدثنا أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا أبو المليح حدثنا الوليد بن زوران عن أنس بن مالك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته وقال " هكذا أمرني به ربي عز وجل "
تفرد به أبو داود. وقد روي هذا الوجه من غير وجه عن أنس قال البيهقي: وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة
وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن علي وغيره وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي ثم عن النخعي
وجماعة من التابعين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه إذا توضأ تمضمض واستنشق
فاختلف الأئمة في ذلك هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله أو مستحبان
فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خزيمة عن رفاعة بن
رافع الزرقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " للمسئ صلاته " توضأ كما أمرك الله " أو يجبان في الغسل دون الوضوء كما هو مذهب
أبي حنيفة أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ فليستنشق " وفي رواية " إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر "
والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سلمة الخزاعي حدثنا سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن
عباس أنه توضأ فغسل وجهه أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا يعني أضافها إلى
يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمن ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ثم
مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله
اليسرى ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يتوضأ. ورواه البخاري عن محمد بن عبد الرحيم عن أبي سلمة
منصور بن سلمة الخزاعي به وقوله " وأيديكم إلى المرافق " أي مع المرافق كما قال تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى
أموالكم إنه كان حوبا كبيرا " وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي من طريق القاسم بن محمد عبد الله بن
محمد بن عقيل عن جده عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه ولكن القاسم
هذا متروك الحديث وجده ضعيف والله أعلم.
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم من حديث نعيم المجمر عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن
يطيل غرته فليفعل " وفي صحيح مسلم عن قتادة عن خلف بن خليفة عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي
هريرة قال: سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " وقوله تعالى
" وامسحوا برؤسكم " اختلفوا في هذه الباء هل هي للالصاق وهو الاظهر أو للتبعيض وفيه نظر على قولين ومن
25

الأصوليين من قال هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك عن عمرو بن يحيى
وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد نعم فدعا
بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل يديه مرتين إلى
المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان
الذي بدأ منه ثم غسل رجليه. وفي حديث عبد خير عن علي في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو هذا وروى أبو
داود عن معاوية والمقداد بن معديكرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى
وجوب تكميل مسح جميع الرأس كما هو مذهب الامام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت
مخرج البيان لما أجمل في القرآن. وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس وهو مقدار الناصية وذهب
أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يتقدر ذلك بحد لو مسح بعض شعرة من رأسه أجزأه واحتج
الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة قال: تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه فلما قضى حاجته قال هل معك ماء فأتيته
بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على
منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد: إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة. ونحن
نقول بذلك أنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين فهذا أولى
وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة والله
أعلم. ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه على قولين:
فقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن حمران بن أبان قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ
فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم
غسل اليسرى مثل ذلك ثم مسح برأسه ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك ثم قال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال: " من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر
له ما تقدم من ذنبه " أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري نحو هذا. وفي سنن أبي داود من
رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة عن عثمان في صفة الوضوء ومسح برأسه مرة واحدة وكذا من رواية عبد خير
عن علي مثله. واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال أبو داود: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا
عبد الرحمن بن وردان حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثني حمران قال: رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه
ولم يذكر المضمضة والاستنشاق قال فيه ثم مسح رأسه ثلاثا ثم غسل رجليه ثلاثا ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
هكذا وقال: " من توضأ هكذا كفاه " تفرد به أبو داود ثم قال وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح
الرأس مرة واحدة. قوله " وأرجلكم إلى الكعبين " قرئ وأرجلكم بالنصب عطفا على فاغسلوا وجوهكم
وأيديكم قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو سلمة حدثنا وهيب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أنه
قرأها وأرجلكم يقول: رجعت إلى الغسل. وروي عن عبد الله بن مسعود وعروة وعطاء وعكرمة والحسن ومجاهد
وإبراهيم والضحاك والسدي ومقاتل بن حيان والزهري وإبراهيم التيمي نحو ذلك وهذه قراءة ظاهرة في وجوب
الغسل كما قاله السلف. ومن ههنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور خلافا
لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك لان الآية أمرت
بغسل هذه الأعضاء والواو لا تدل على الترتيب وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا فمنهم من قال
الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة لأنه مأمور به بفاء التعقيب وهي مقتضية للترتيب ولم
يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده بل القائل اثنان: أحدهما يوجب الترتيب كما
26

هو واقع في الآية والآخر يقول لا يجب الترتيب مطلقا والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء فوجب الترتيب
فيما بعده لاجماع الا فارق ومنهم من قال لا نسلم أن الواو لا تدل على الترتيب بل هي دالة كما هو مذهب طائفة
من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء ثم نقول بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي هي دالة على
الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت خرج من باب
الصفا وهو يتلو قوله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " ثم قال: " أبدأ بما بدأ الله به " لفظ مسلم ولفظ
النسائي " ابدؤا بما بدأ الله به " وهذا لفظ أمر وإسناده صحيح فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به وهو معنى كونها
تدل على الترتيب شرعا والله أعلم. ومنهم من قال لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب
فقطع النظير عن النظير وأدخل الممسوح بين المغسولين دل ذلك على إرادة الترتيب ومنهم من قال لا شك أنه قد روى
أبو داود وغيره من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة إلا به " قالوا: فلا يخلو إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب
ولا قائل به فوجب ما ذكرناه وأما القراءة الأخرى وهي قراءة من قرأ وأرجلكم بالخفض فقد احتج بها الشيعة في
قولهم بوجوب مسح الرجلين لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس وقد روي عن طائفة من السلف ما يوهم القول
بالمسح فقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية حدثنا حميد قال قال موسى بن أنس لأنس
ونحن عنده يا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز ونحن معه فذكر الطهور فقال اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا
برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شئ من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما.
فقال أنس: وكذب الحجاج قال الله تعالى " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم " قال وكان أنس إذا مسح قدميه
بلهما إسناد صحيح إليه. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن سهل حدثنا مؤمل حدثنا حماد حدثنا عاصم الأحول عن
أنس قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وهذا أيضا إسناد صحيح. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا
محمد بن قيس الخراساني عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان
ومسحتان وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا
عبد الوهاب حدثنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس " وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين "
قال هو المسح ثم قال: وروي عن ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر - محمد بن علي - والحسن في إحدى الروايات
وجابر بن زيد ومجاهد في إحدى الروايات نحوه وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية حدثنا أيوب قال:
رأيت عكرمة يمسح على رجليه قال: وكان يقوله. وقال ابن جرير: حدثني أبو السائب حدثنا ابن إدريس عن
داود بن أبي هند عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح ثم قال الشعبي ألا ترى أن التيمم أن يمسح ما كان غسلا
ويلغي ما كان مسحا. وحدثنا ابن أبي زياد حدثنا يزيد أخبرنا إسماعيل قلت لعامر إن ناسا يقولون إن جبريل نزل
بغسل الرجلين فقال نزل جبريل بالمسح فهذه آثار غريبة جدا وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف
لما سنذكره من السنة الثابتة في وجوب غسل الرجلين وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب
الكلام كما في قول العرب جحر ضب خرب وكقوله تعالى " عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق " وهذا سائغ
ذائع في لغة العرب شائع ومنهم من قال هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان قاله أبو عبد الله
الشافعي رحمه الله ومنهم من قال هي دالة على مسح الرجلين ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به
السنة وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها ومن أحسن ما يستدل
به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي الروزبادي حدثنا أبو
بكر محمد بن أحمد بن محوية العسكري حدثنا جعفر بن محمد القلانسي حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا عبد
الملك بن ميسرة سمعت النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في
رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ثم أتى بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه
27

ورجليه ثم قام فشرب فضلته وهو قائم ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما
صنعت وقال: " هذا وضوء من لم يحدث " رواه البخاري في الصحيح عن آدم ببعض معناه. ومن أوجب من الشيعة
مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ومن نقل عن أبي
جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك فإن كلامه في تفسيره
إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك
فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ولكنه عبر عن الدلك بالمسح فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين
غسل الرجلين ومسحهما فحكاه من حكاه كذلك ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور فإنه لا معنى للجمع
بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه وإنما أراد الرجل ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه
أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله " وأرجلكم " خفضا على المسح وهو الدلك ونصبا على الغسل
فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه.
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لابد منه
قد تقدم في حديث أمير المؤمنين عثمان وعلي وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن
معديكرب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا على اختلاف رواياتهم وفي حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا
به ".
وفي الصحيحين من رواية أبي عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا
فنادى بأعلى صوته " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار " وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة وفي صحيح
مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار " وروى الليث بن سعد عن حياة بن
شريح عن عقبة بن مسلم عن عبد الله بن الحرث بن حرز أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ويل للأعقاب وبطون الاقدام
من النار " رواه البيهقي والحاكم وهذا إسناد صحيح وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي
إسحاق أنه سمع سعيد بن أبي كرب أو شعيب بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله وهو على جبل يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ويل للعراقيب من النار " وحدثنا أسود بن عامر أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن
سعيد بن أبي كرب عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله فقال: " ويل
للأعقاب من النار " ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن شيبة عن أبي الأحوص عن أبي إسحاق عن سعيد به نحوه وكذا
رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد عن أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن أبي
كرب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ثم قال: حدثنا علي بن مسلم حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا حفص عن
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضؤن لم يصب أعقابهم الماء فقال: " ويل للعراقيب
من النار " وقال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا أيوب بن عقبة عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن
معيقيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل للأعقاب من النار " تفرد به أحمد.
وقال ابن جرير: حدثني علي بن عبد الاعلى حدثنا المحاربي عن مطرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن علي بن
يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ويل للأعقاب من النار " قال فما بقي في المسجد شريف
ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما. وحدثنا أبو كريب: حدثنا حسين عن زائدة عن ليث حدثني
عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة أو عن أخي أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قوما يصلون وفي عقب أحدهم أو
28

كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء فقال: " ويل للأعقاب من النار " قال فجعل الرجل إذا
رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعاد وضوءه. ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة وذلك أنه لو كان فرض
الرجلين مسحهما أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه لان المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما
يجري في مسح الخف وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى. وقد روى
مسلم في صحيحه من طريق أبي الزبير عن جابر عن عمر بن الخطاب أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه
فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " ارجع فأحسن وضوءك " وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أبو
العباس محمد بن يعقوب حدثنا محمد بن إسحاق الصنعاني حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب حدثنا جرير بن
حازم أنه سمع قتادة بن دعامة قال: حدثنا أنس بن مالك أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ وترك على قدمه مثل
موضع الظفر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ارجع فأحسن وضوءك " وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف وابن ماجة
عن حرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب به وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات لكن قال أبو داود: ليس هذا
الحديث بمعروف لم يروه إلا ابن وهب وحدثنا موسى حدثنا حماد أخبرنا يونس وحميد عن الحسن أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى حديث قتادة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس حدثنا بقية حدثني يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن بعض
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفى ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد
الوضوء ورواه أبو داود من حديث بقية وزاد والصلاة وهذا إسناد جيد قوي صحيح والله أعلم.
وفي حديث حمران عن عثمان في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل بين أصابعه وروى أهل السنن من حديث
إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء فقال: " أسبغ
الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المقري حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا شداد بن عبد الله
الدمشقي قال: قال أبو أمامة حدثنا عمرو بن عبسة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال: " ما منكم من
أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر إلا خرت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ثم يغسل
وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا
يديه من أطراف أنامله ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل قدميه إلى
الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له
أهل ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه " قال أبو أمامة: يا عمرو انظر ما تقول سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم أيعطي هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة لقد كبرت سني ورق عظمي واقترب
أجلي وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا
لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك. وهذا إسناد صحيح وهو في صحيح مسلم من وجه آخر وفيه ثم يغسل قدميه
كما أمره الله فدل على أن القرآن يأمر بالغسل وهكذا روى أبو إسحق السبيعي عن الحرث عن علي بن أبي طالب
رضي الله عنه أنه قال: " اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم " ومن ههنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير عن
علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين ولا مانع
من إيجاد الغسل والرجل في نعلها ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا الحديث
الذي أورده ابن جرير على نفسه وهو من روايته عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سباطة
قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات
الحفاظ رووه عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه قلت ويحتمل الجمع
29

بينهما بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يحيى عن
شعبة حدثني يعلى عن أبيه عن أوس بن أبي أوس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى
الصلاة. وقد رواه أبو داود عن مسدد وعباد بن موسى كلاهما عن هشيم عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن أوس بن أبي
أوس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه وقد رواه ابن جرير من طريق
شعبة ومن طريق هشيم ثم قال: وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث إذ كان غير جائز أن تكون
فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الامر بعموم غسل القدمين في الوضوء
بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه ولما كان القرآن آمرا بغسل الرجلين كما في قراءة النصب
وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليه توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين
وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ولكن لم يصح إسناده ثم الثابت عنه خلافه وليس كما زعموه فإنه قد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا
زياد بن عبد الله بن علاثة عن عبد الكريم بن مالك الجزري عن مجاهد عن جرير بن عبد الله البجلي قال: أنا
أسلمت بعد نزول المائدة وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت. تفرد به أحمد وفي الصحيحين من
حديث الأعمش عن إبراهيم عن همام قال: بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل تفعل هذا؟ فقال نعم رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش: قال إبراهيم: فكان يعجبهم هذا الحديث لان إسلام
جرير كان بعد نزول المائدة - لفظ مسلم -. وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه
وفعلا كما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير مع ما يحتاج إلى ذكره هناك من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه
كما هو مبسوط في موضعه وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال مع أنه ثابت في صحيح مسلم
من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح
المتعة وهم يستبيحونها وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الامر
ولله الحمد وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم
في كل رجل كعب وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم قال الربيع: قال
الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع مفصل
الساق والقدم هذا لفظه فعند الأئمة رحمهم الله في كل قدم كعبان كما هو المعروف عند الناس وكما دلت عليه
السنة ففي الصحيحين من طريق حمران عن عثمان أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين واليسرى مثل ذلك.
وروى البخاري تعليقا مجزوما به وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه من رواية أبي القاسم الحسيني ابن الحرث
الجدلي عن النعمان بن بشير قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه قال: " أقيموا صفوفكم ثلاثا والله لتقيمن
صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم " قال: فرأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه وركبته بركبة صاحبه ومنكبه بمنكبه.
لفظ ابن خزيمة فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق حتى يحاذي كعب
الآخر فدل ذلك على ما ذكرناه من أنهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة وقد
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن موسى أخبرنا شريك عن يحيى بن الحرث التيمي يعني الخابر
قال: نظرت في قتلى أصحاب زيد فوجدت الكعب فوق ظهر القدم وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم تنكيلا
بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه. وقوله تعالى " وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط
أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه " كل ذلك قد تقدم الكلام عليه
في تفسير آية النساء فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام. وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك لكن البخاري
30

روى ههنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة فقال: حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحرث
أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه عن أبيه عن عائشة قالت: سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقدا فاقبل أبو بكر فلكزني لكزة شديدة وقال: حسبت الناس في قلادة
فتمنيت الموت لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني وقد أوجعني ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم
يوجد فنزلت " يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم " إلى آخر الآية فقال أسيد بن الحضير:
لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم. وقوله تعالى " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج "
أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم وجعله
في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه كما تقدم بيانه وكما هو مقرر في كتاب الأحكام الكبير.
وقوله تعالى " ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه
لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل
فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن
عامر قال: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشى فأدركت رسول الله قائما يحدث الناس فأدركت
من قوله: " ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلا عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت له الجنة "
قال: قلت ما أجود هذه فإذا قائل بين يدي يقول: التي قبلها أجود منها فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال: إني قد
رأيتك جئت آنفا قال: " ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء " لفظ مسلم. وقال مالك: عن نهشل بن أبي صالح عن
أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة
نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر
قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من
الذنوب " رواه مسلم عن أبي الطاهر عن ابن وهب عن مالك به. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا معاوية بن
هشام عن سفيان بن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كعب بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من رجل يتوضأ
فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه منهما فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه فإذا مسح رأسه خرجت
خطاياه من رأسه فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه " هذا لفظه وقد رواه الإمام أحمد عن محمد بن جعفر عن
شعبة عن منصور عن سالم عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة السلمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وإذا توضأ العبد فغسل يديه
خرجت خطاياه من بين يديه وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه وإذا غسل ذراعيه خرت خطاياه من ذراعيه وإذا
غسل رجليه خرت خطاياه من رجليه " قال: شعبة ولم يذكر مسح الرأس وهذا إسناد صحيح.
وروى ابن جرير من طريق شمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من توضأ
فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ورجليه " وروى مسلم في صحيحه من حديث
يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سلام عن جده ممطور عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الطهور شطر
الايمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض والصوم جنة والصبر ضياء
والصدقة برهان والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " وفي صحيح مسلم من
رواية سماك بن حرب عن مصعب بن سعد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يقبل الله صدقة من غلول ولا
صلاة بغير طهور " وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن قتادة سمعت أبي المليح الهذلي يحدث عن أبيه قال:
كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت فسمعته يقول: " إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ولا صدقة من غلول " وكذا رواه
أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث شعبة.
31

واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور (7)
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا أعدلوا هو أقرب للتقوى
واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم (9) والذين
كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (10) يا أيها الذين آمنوا أذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا
إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (11)
يقول تعالى مذكرا عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم
وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه
فقال تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا " وهذه هي البيعة التي كانوا
يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم كما قالوا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا
وأثرة علينا وأن لا ننازع الامر أهله وقال الله تعالى " وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد
أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين " وقيل هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم
والانقياد لشرعه رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقيل هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين
استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا " قاله مجاهد ومقاتل بن حيان والقول
الأول أظهر وهو المحكي عن ابن عباس والسدي واختاره ابن جرير ثم قال تعالى " واتقوا الله " تأكيد وتحريض على
مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر من الاسرار والخواطر فقال " إن الله عليم
بذات الصدور " وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله " أي كونوا قوامين بالحق لله عز وجل لا لأجل
الناس والسمعة وكونوا " شهداء بالقسط " أي بالعدل لا بالجور وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال:
نحلني أبي نحلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه ليشهده على صدقتي
فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال لا قال: " اتقوا الله واعدلوا في أولادكم - وقال - إني لا أشهد على جور " قال: فرجع
أبي فرد تلك الصدقة. وقوله تعالى " ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا " أي لا يحملنكم بغض قوم على
ترك العدل فيهم بل استعملوا العدل في كل أحد صديقا كان أو عدوا ولهذا قال " اعدلوا هو أقرب للتقوى " أي
عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه في نظائره من القرآن وغيره كما في
قوله " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم " وقوله: هو أقرب للتقوى من باب استعمال أفعل التفضيل
في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شئ كما في قوله تعالى " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن
مقيلا " وكقول بعض الصحابيات لعمر: أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال تعالى " واتقوا الله إن الله خبير بما
تعملون " أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيرا فخير وإن شرا فشر ولهذا قال بعده " وعد
الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة " أي لذنوبهم " وأجر عظيم " وهو الجنة التي هي من رحمته على
عباده لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم وهو تعالى الذي جعلها
أسبابا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه فالكل منه وله فله الحمد والمنة ثم قال " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا
أولئك أصحاب الجحيم " وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجور فيه بل هو الحكم العدل الحكيم
القدير وقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم
32

عنكم " قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري ذكره عن أبي سلمة عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس
في العضاه يستظلون تحتها وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة فجاء اعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله ثم أقبل
على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني قال: الله عز وجل قال الاعرابي مرتين أو ثلاثا من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
الله قال فشام الاعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الاعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه. وقال:
معمر كان قتادة يذكر نحو هذا ويذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الاعرابي وتأول
" اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم " الآية. وقصة هذا الاعرابي وهو غورث بن الحرث
ثابتة في الصحيح وقال العوفي: عن ابن عباس في هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن
يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم " وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم
فأوحى الله إليه بشأنهم فلم يأت الطعام وأمر أصحابه فأتوه. رواه ابن أبي حاتم وقال أبو مالك: نزلت في كعب بن
الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف رواه ابن أبي حاتم وذكر
محمد بن إسحاق بن يسار ومجاهد وعكرمة وغير واحد أنها نزلت في شأن بنى النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس
رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ووكلوا عمرو بن جحش بن كعب بذلك وأمروه إن جلس
النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالؤا عليه فرجع
إلى المدينة وتبعه أصحابه فأنزل الله في ذلك هذه الآية وقوله تعالى " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " يعني من توكل
على الله كفاه الله ما أهمه وحفظه من شر الناس وعصمه ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم فحاصرهم حتى أنزلهم
فأجلاهم.
* ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم
الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري
من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل (12) فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا
قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا
قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين (13) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا
مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون (14)
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم
بالقيام بالحق والشهادة بالعدل وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى شرع يبين
لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين: اليهود والنصارى فلما نقضوا عهوده ومواثيقه
أعقبهم ذلك لعنا منه لهم وطردا عن بابه وجنابه وحجاجا لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق وهو
العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى " ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا " يعني
عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه. وقد ذكر ابن عباس عن ابن إسحاق وغير واحد
أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب قال محمد بن
إسحاق فكان من سبط روبيل شامون بن ركون ومن سبط شمعون شافاط بن حرى ومن سبط يهوذا كالب بن يوفنا
33

ومن سبط تين ميخائيل بن يوسف ومن سبط يوسف وهو سبط إفرايم يوشع بن نون ومن سبط بنيامين فلطم بن دفون
ومن سبط زبولون جدي بن شورى ومن سبط منشا بن يوسف جدي بن موسى ومن سبط دان خملائيل بن حمل
ومن سبط أشار ساطور بن ملكيل ومن سبط نفثالي بحر بن وقسى ومن سبط يساخر لايل بن مكيد وقد رأيت في
السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لم ذكره ابن إسحاق والله أعلم قال
فيها فعلى بني روبيل اليصور بن سادون وعلى بني شمعون شموال بن صورشكي وعلى بني يهوذا الحشون بن
عمياذاب وعلى بني يساخر شال بن صاعون وعلى بني زبولون الياب بن حالوب وعلى بني أفرايم منشا بن عمنهور
وعلى بني منشا حمليائيل بن يرصون وعلى بني بنيامين أيبدن بن جد عون وعلى بني دان جعيذر بن عميشذي وعلى
بني أشار نحايل بن عجران وعلى بني كان السيف بن دعواييل وعلى بني نفتالي أجذع بن عمينان وهكذا لما بايع
رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيبا ثلاثة من الأوس وهم أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة
ورفاعة بن عبد المنذر ويقال: بدله أبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنه وتسعة من الخزرج وهم: أبو أمامة أسعد بن
زرارة وسعد بن الربيع وعبد الله بن رواحة ورافع بن مالك بن العجلان والبراء بن معرور وعبادة بن الصامت
وسعد بن عبادة وعبد الله بن عمرو بن حرام والمنذر بن عمر بن حنيش رضي الله عنهم وقد ذكرهم كعب بن مالك
في شعر له كما أورده ابن إسحاق رحمه الله والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم
لهم بذلك وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة قال الإمام أحمد: حدثنا
حسن بن موسى حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال: كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود
وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال
عبد الله ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " اثنا عشر
كعدة نقباء بني إسرائيل " هذا حديث غريب من هذا الوجه وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن
سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة
خفيت علي فسألت أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: " كلهم من قريش " وهذا لفظ مسلم ومعنى هذا الحديث البشارة
بوجود اثني عشر خليفة صالحا يقيم الحق ويعدل فيهم ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم بل قد وجد منهم
أربعة على نسق وهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا
شك عند الأئمة وبعض بني العباس ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة والظاهر أن منهم المهدي
المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره فذكر أنه يواطئ اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه اسم أبيه فيملأ الأرض
عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا
فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخيفة وتوهم الخيالات الضعيفة وليس
المراد بهؤلاء الخلفاء الاثنا عشر الأئمة الاثنا عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشر من الروافض لجهلهم وقلة
عقلهم وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وأن يقيم من صلبه اثني عشر عظيما وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا
عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض
الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلا وسفها لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن
الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى " وقال الله إني معكم " أي بحفظي وكلائتي ونصري " لئن أقمتم الصلاة وآتيتم
الزكاة وآمنتم برسلي " أي صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي " وعزرتموهم " أي نصرتموهم ووازرتموهم
على الحق " وأقرضتم الله قرضا حسنا " وهو الانفاق في سبيله وابتغاء مرضاته " لأكفرن عنكم سيأتكم " أي
ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها " ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار " أي أدفع عنكم المحذور
وأحصل لكم المقصود وقوله " فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل " أي فمن خالف هذا الميثاق بعد
عقده وتوكيده وشده وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال ثم
34

أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال " فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم " أي
فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى " وجعلنا قلوبهم
قاسية " أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها " يحرفون الكلم عن مواضعه " أي فسدت فهو مهم وساء
تصرفهم في آيات الله وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا عليه ما لم يقل عياذا بالله من
ذلك " ونسوا حظا مما ذكروا به " أي وتركوا العمل به رغبة عنه وقال الحسن: تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى
التي لا يقبل العمل إلا بها وقال غيره: تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا
أعمال قويمة " ولا تزال تطلع على خائنة منهم " يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك وقال مجاهد وغيره: يعني
بذلك تمالئوهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم " فاعف عنهم واصفح " وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض
السلف ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه وبهذا يحمل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله
يهديهم ولهذا قال تعالى " إن الله يحب المحسنين " يعني به الصفح عمن أساء إليك. وقال قتادة: هذه الآية
" فاعف عنهم واصفح " منسوخة بقوله " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية. وقوله تعالى " ومن
الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم " أي ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه
السلام وليسوا كذلك أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومناصرته
ومؤازرته واقتفاء آثاره وعلى الايمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ففعلوا كما فعل اليهود خالفوا المواثيق
ونقضوا العهود ولهذا قال تعالى " فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " أي
فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضا ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة ولذلك طوائف النصارى على
اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا فكل فرقة تحرم الأخرى
ولا تدعها تلج معبدها فالملكية تكفر اليعقوبية وكذلك الآخرون وكذلك النسطورية والآريوسية كل طائفة تكفر الأخرى
في هذه الدنيا ويوم يقوم الاشهاد ثم قال " وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون " وهذا تهديد ووعيد أكيد
للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله ورسوله وما نسبوه إلى الرب عز وجل وتعالى وتقدس عن قولهم علوا
كبيرا من جعلهم له صاحبة وولدا تعالى الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عن كثير قد جاءكم
من الله نور وكتاب مبين (15) يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور
بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16)
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض
عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل فقال " يا أهل الكتاب قد جاءكم
رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير " أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على
الله فيه ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه وقد روى الحاكم في مستدركه من حديث الحسين بن واقد
عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا
يحتسب قوله " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " فكان الرجم مما
أخفوه ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال
" قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام " أي طرق النجاة والسلامة
ومناهج الاستقامة " ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " أي ينجيهم من
35

المهالك ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف عنهم المحذور ويحصل لهم أحب الأمور وينفي عنهم الضلالة
ويرشدهم إلى أقوم حالة.
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم
وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شئ قدير (17)
وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن
يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18)
يقول تعالى مخبرا وحاكيا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم وهو عبد من عباد الله وخلق من خلقه أنه
هو الله - تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا - ثم قال مخبرا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه " قل فمن
يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا " أي لو أراد ذلك فمن ذا الذي
كان يمنعه منه أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك ثم قال " ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما
يشاء " أي جميع الموجودات ملكه وخلقه وهو القادر على ما يشاء لا يسئل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته
وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. ثم قال تعالى ردا على اليهود والنصارى في كذبهم
وافترائهم " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو
يحبنا ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل أنت ابني بكري فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه وقد
رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم وقالوا هذا يطلق عندهم على التشريف والاكرام كما نقل النصارى من
كتابهم أن عيسى قال لهم إني ذاهب إلى أبي وأبيكم يعني ربي وربكم ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من النبوة ما
ادعوها في عيسى عليه السلام وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده ولهذا قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه.
قال الله تعالى رادا عليهم " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " أي لو كنتم كما تدعون أبناؤه وأحباؤه فلم أعددت لكم نار
جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب
لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه فتلا عليه الصوفي هذه الآية " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وهذا الذي قاله حسن وله
شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال: حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن أنس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من
أصحابه وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول ابني ابني وسعت
فأخذته فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار قال فحفظهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا والله ما يلقي
حبيبه في النار " تفرد به أحمد " بل أنتم بشر ممن خلق " أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في
جميع عباده " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " أي هو فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب " ولله
ملك السماوات والأرض وما بينهما " أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه " وإليه المصير " أي المرجع والمآب
إليه فيحكم في عباده ما يشاء وهو العادل الذي لا يجور. وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن
عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن آصا وبحري بن عمرو وشاس بن عدي
فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد نحن والله أبناء الله
وأحباؤه. كقول النصارى فأنزل الله فيهم " وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه " إلى آخر الآية. رواه
ابن أبي حاتم وابن جرير ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله " وقالت النصارى نحن أبناء الله
وأحباؤه " أما قولهم " نحن أبناء الله " فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد فيدخلهم النار
36

فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ثم ينادي مناد أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل
فأخرجوهم فذلك قولهم لن تمسنا النار إلا أياما معدودات.
يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم
بشير ونذير والله على كل شئ قدير (19)
يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ولهذا قال " على فترة من الرسل " أي بعد مدة
متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي فقال أبو عثمان النهدي وقتادة في
رواية عنه: كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة خمسمائة وستون سنة وقال معمر
عن بعض أصحابه: خمسمائة وأربعون سنة. وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة وذكر ابن عساكر في ترجمة
عيسى عليه السلام عن الشعبي أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة
والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة ومنهم من يقول ستمائة وعشرون سنة ولا منافاة بينهما فإن القائل
الأول أراد ستمائة سنة شمسية والآخر أراد قمرية وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين
ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا " أي قمرية لتكميل ثلاثمائة
الشمسية التي كانت معلومة لأهل الكتاب وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم
النبيين من بني آدم على الاطلاق كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أولى الناس
بابن مريم لأنا ليس بيني وبينه نبي " وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان كما
حكاه القضاعي وغيره والمقصود أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل وطموس من السبل وتغير
الأديان وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان فكانت النعمة به أتم النعم والحاجة إليه أمر عمم فإن الفساد
كان قد عم جميع البلاد والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء
الأقدمين من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين كما قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا
هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في
خطبته " وإن ربي أمرني أن أعلمكم مما جهلتم مما علمني في يومي هذا كل مال نحلته عبادي حلال وأني خلقت
عبادي حنفاء كلهم وأن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي
ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل
وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا ثم إن الله أمرني أن
أحرق قريشا فقلت: يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة فقال: استخرجهم كما استخرجوك واغزهم نغزك وأنفق
عليهم فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسا أمثاله وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان
مقسط موفق متصدق ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ورجل عفيف فقير ذو عيال متصدق وأهل
النار خمسة: الضيف الذي لا دين له والذين هم فيكم تبع أو تبعا - شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن
الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك وذكر
البخل أو الكذب والشنظير الفاحش ثم رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي من غير وجه عن قتادة عن مطرف بن
عبد الله بن الشخير. وفي رواية شعبة عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف وقد ذكر الإمام أحمد
في مسنده أن قتادة لم يسمعه من مطرف وإنما سمعه من أربعة عنه ثم رواه هو عن روح عن عوف عن حكيم الأثرم
37

عن الحسن قال: حدثني مطرف عن عياض بن حماد فذكره ورواه النسائي من حديث غندر عن عوف الاعرابي
به والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلا بقايا من بني
إسرائيل وفي لفظ مسلم من أهل الكتاب فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم
فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء ولهذا قال تعالى
" أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " أي لئلا تحتجوا وتقولوا يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه ما جاءنا من رسول
يبشر بالخير وينذر من الشر فقد جاءكم بشير ونذير يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " والله على كل شئ قدير " قال ابن جرير
معناه: إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني.
وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحد
من العالمين (20) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا
خاسرين (21) قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا
داخلون (22) قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون
وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين (23) قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا
إنا ههنا قاعدون (24) قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين (25) قال
فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين (26)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام فيما ذكر به قومه نعم الله عليهم وآلائه لديهم
في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة فقال تعالى " وإذ قال موسى لقومه يا قوم
اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء " أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده
وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم عليه السلام ثم
أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الاطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام
وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم " وجعلكم ملوكا " قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور
عن الحكم أو غيره عن ابن عباس في قوله وجعلكم ملوكا قال: الخادم والمرأة والبيت وروى الحاكم في مستدركه
من حديث الثوري أيضا عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: المرأة والخادم " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من
العالمين " قال: الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ ثم قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وروى
ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكا.
وقال ابن جرير: حدثنا يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحنبلي يقول:
سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي
إليها قال نعم قال: ألك مسكن تسكنه، قال نعم قال: فأنت من الأغنياء فقال: إن لي خادما قال: فأنت من
الملوك وقال الحسن البصري: هل الملك إلا مركب من خادم ودار رواه ابن جرير ثم روي عن الحكم
ومجاهد ومنصور وسفيان الثوري نحوا من هذا وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران وقال ابن شوذب كان
الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم واستؤذن عليه فهو ملك وقال قتادة: كانوا أول من اتخذ الخدم
وقال السدي في قوله " وجعلكم ملوكا " قال يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله رواه ابن أبي حاتم وقال ابن
38

أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان بنو
إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا: وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقال ابن جرير: حدثنا
الزبير بن بكار حدثنا أبو ضمرة - أنس بن عياض - سمعت زيد بن أسلم يقول: وجعلكم ملوكا فلا أعلم إلا أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له بيت وخادم فهو ملك " وهذا مرسل غريب وقال مالك: بيت وخادم وزوجة وقد ورد
في الحديث من أصبح منكم معافى في جسده آمنا في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ".
وقوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني عالمي زمانكم فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان
والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات
وفضلناهم على العالمين " وقال تعالى إخبارا عن موسى لما قالوا اجعل لنا إلها كما لهم إله " قال إنكم قوم
تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون * قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين "
والمقصود أنهم كانوا أفضل زمانهم وإلا فهذه الأمة أشرف منهم وأفضل عند الله وأكمل شريعة وأقوم منهاجا وأكرم نبيا
وأعظم ملكا وأغزر أرزاقا وأكثر أموالا وأولادا وأوسع مملكة وأدوم عزا قال الله تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا
لتكونوا شهداء على الناس " وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى
" كنتم خير أمة أخرجت للناس " من سورة آل عمران وروى ابن جرير عن ابن عباس وأبي مالك وسعيد بن جبير
أنهم قالوا في قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم فكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في
قوله " وآتاكم ما لم يؤت أحدا " مع هذه الأمة والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي
زمانهم كما قدمنا وقيل المراد وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن
والسلوى ويظللهم به من الغمام وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات فالله أعلم. ثم قال تعالى
مخبرا عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في
زمان أبيهم يعقوب لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا
مع موسى فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله - موسى
عليه السلام - بالدخول إليها وبقتال أعدائهم وبشرهم بالنصرة والظفر عليهم فنكلوا وعصوا وخالفوا أمره فعوقبوا بالذهاب
في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم
في أمر الله تعالى فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال: " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة " أي المطهرة وقال
سفيان الثوري: عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في قوله: " ادخلوا الأرض المقدسة " قال هي الطور وما حوله
وكذا قال مجاهد وغير واحد. وروى سفيان الثوري عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال: هي
أريحاء وكذا ذكر عن غير واحد من المفسرين وفي هذا نظر لان أريحاء ليست هي المقصودة بالفتح ولا كانت في
طريقهم إلى بيت المقدس وقد قدموا من بلاد مصر حين أهلك الله عدوهم فرعون اللهم إلا أن يكون المراد بأريحاء
أرض بيت المقدس كما قاله السدي فيما رواه ابن جرير عنه: لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الطور
شرقي بيت المقدس وقوله تعالى " التي كتب الله لكم " أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه
وراثة من آمن منكم " ولا ترتدوا على أدباركم " أي ولا تنكلوا عن الجهاد " فتنقلبوا خاسرين * قالوا يا موسى إن
فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " أي اعتذروا بأن في هذه البلدة
التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوما جبارين أي ذوي خلق هائلة وقوى شديدة وإننا لا نقدر على مقاومتهم ولا
مصاولتهم ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها دخلناها وإلا فلا طاقة لنا بهم. وقد قال ابن جرير:
حدثني عبد الكريم بن الهيثم حدثنا إبراهيم بن بشار حدثنا سفيان قال: قال أبو سعيد قال عكرمة عن ابن عباس
قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبارين قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبا من المدينة
وهي أريحاء فبعث إليهم اثنا عشر عينا من كل سبط منهم عين ليأتوه بخبر القوم قال فدخلوا المدينة فرأوا أمرا
39

عظيما من هيئتهم وجسمهم وعظمهم فدخلوا حائطا لبعضهم فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه فجعل
يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم فتبعهم فكلما أصاب واحدا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة حتى التقط الاثني
عشر كلهم فجعلهم في كمه مع الفاكهة وذهب بهم إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال: لهم الملك قد رأيتم شأننا
وأمرنا فاذهبوا فأخبروا صاحبكم قال فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عاينوا من أمرهم. وفي هذا الاسناد نظر. وقال
علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس لما نزل موسى وقومه بعث منهم اثنا عشر رجلا وهم النقباء الذين ذكرهم الله
فبعثهم ليأتوه بخبرهم فساروا فلقيهم رجل من الجبارين فجعلهم في كسائه فحملهم حتى أتى بهم المدينة ونادى في
قومه فاجتمعوا إليه فقالوا من أنتم؟ قالوا: نحن قوم موسى بعثنا نأتيه بخبركم فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل
فقالوا: لهم اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم هذا قدر فاكهتهم فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما رأوا فلما أمرهم
موسى - عليه السلام - بالدخول عليهم وقتالهم قالوا: يا موسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون رواه ابن أبي
حاتم ثم قال: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهادي حدثني يحيى بن عبد
الرحمن قال: رأيت أنس بن مالك أخذ عصا فذرع فيها بشئ لا أدري كم ذرع ثم قاس بها في الأرض خمسين أو
خمسا وخمسين ثم قال: هكذا طول العماليق. وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل في
عظمة خلق هؤلاء الجبارين وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم - عليه السلام - وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة
وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع تحرير الحساب وهذا شئ يستحي من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن " ثم
ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا وأنه كان ولد زنية وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته
وهذا كذب وافتراء فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال " رب لا تذر على الأرض
من الكافرين ديارا " وقال تعالى " فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ثم أغرقنا بعد الباقين " وقال تعالى " لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " وإذا كان ابن نوح الكافر غرق فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟
هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق نظر والله أعلم. وقوله تعالى " قال رجلان
من الذين يخافون أنعم الله عليهما " أي فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى - صلى الله عليه وسلم - حرضهم
رجلان لله عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وقرأ بعضهم " قال رجلان من الذين
يخافون " أي ممن لهما مهابة وموضع من الناس ويقال إنهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا قاله ابن عباس ومجاهد
وعكرمة وعطية والسدي والربيع بن أنس وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله فقالا " ادخلوا عليهم الباب فإذا
دخلتموه فإنكم غالبون * وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله
نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ودخلتم البلد التي كتبها لكم فلم ينفع ذاك فيهم شيئا. " قالوا يا
موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " وهذا نكول منهم عن الجهاد
ومخالفة لرسولهم وتخلف عن مقاتلة الأعداء ويقال إنهم لما نكلوا عن الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع
إلى مصر سجد موسى وهرون - عليهما السلام - قدام ملا من بني إسرائيل إعظاما لما هموا به وشق يوشع بن نون
وكالب بن يوفنا ثيابهما ولاما قومهما على ذلك فيقال إنهم رجموهما وجرى أمر عظيم وخطر جليل وما أحسن ما
أجاب به من الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير
الذي كان مع أبي سفيان فلما فات اقتناص العير واقترب منهم النفير وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في
العدة والبيض واليلب فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أشيروا علي أيها المسلمون " وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار لانهم كانوا جمهور
الناس يومئذ فقال سعد بن معاذ: كأنك تعرضي بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر
40

فخضته لخصناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر في الحرب صدق في
اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو حاتم الرازي حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري حدثنا
حميد عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سار إلى بدر استشار المسلمين فأشار عليه عمر ثم استشارهم فقالت
الأنصار: يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: إذا لا نقول له كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب
أنت وربك فقاتلا إنها ههنا قاعدون " والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبادها برك إلى الغماد لاتبعناك ورواه الإمام أحمد
عن عبيدة بن حميد الطويل عن أنس به ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن خالد بن الحارث عن حميد
به ورواه ابن حبان عن أبي يعلى عن عبد الاعلى بن حماد عن معمر بن سليمان عن حميد به وقال: ابن مردويه أنا
عبد الله بن جعفر أنا إسماعيل بن عبد الله حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم حدثنا محمد بن شعيب عن الحكم بن أيوب
عن عبد الله بن ناسخ عن عتبة بن عبيد السلمي قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ألا تقاتلون؟ قالوا نعم ولا نقول
كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم
مقاتلون وكان ممن أجاب يومئذ المقداد بن عمرو الكندي - رضي الله عنه - كما قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع
حدثني سفيان عن مخارق بن عبد الله الأحمسي عن طارق - هو ابن شهاب - أن المقداد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: يا
رسول الله إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكن اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون هكذا رواه أحمد من هذا الوجه وقد رواه من طريق أخرى فقال: حدثنا
أسود بن عامر حدثنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لقد
شهدت من المقداد مشهدا لان أكون أنا صاحبه أحب إلى مما عدل به أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يدعو على المشركين
فقال: والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكنا
نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك فرأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرق لذلك وسر بذلك.
وهكذا رواه البخاري في المغازي وفي التفسير من طرق عن مخارق به ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله قال:
قال المقداد يوم بدر يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون " ولكن امض ونحن معك. فكأنه سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال البخاري: رواه وكيع عن سفيان عن
مخارق عن طارق أن المقداد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لأصحابه يوم الحديبية حين صد المشركون الهدي وحيل بينهم وبين مناسكهم " إني ذاهب بالهدي
فناحره عند البيت " فقال له المقداد بن الأسود: أما والله لا نكون كالملا من بني إسرائيل إذا قالوا لنبيهم " إذهب
أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فلما سمعها أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تتابعوا على ذلك وهذا إن كان محفوظا يوم الحديبية فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم
بدر. وقوله " قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " يعني لما نكل بنو إسرائيل عن
القتال غضب عليهم موسى عليه السلام وقال داعيا عليهم " رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي " أي ليس أحد
يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " قال
العوفي: عن ابن عباس يعني اقض بيني وبينهم. وكذا قال علي بن طلحة: عن ابن عباس وكذا قال الضحاك: اقض
بيننا وبينهم وافتح بيننا وبينهم. وقال غيره: أفرق افصل بيننا وبينهم كما قال الشاعر:
يا رب فافرق بينه وبيني * أشد ما فرقت بين اثنين.
وقوله تعالى " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " الآية. لما دعا عليهم موسى - عليه السلام - حين
نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة فوقعوا في التيه يسيرون دائما لا يهتدون
41

للخروج منه وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة من تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى عليهم ومن إخراج
الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة
عينا تجري لكل شعب عين وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران وهناك نزلت التوراة
وشرعت لهم الاحكام وعملت قبة العهد ويقال لها قبة الزمان قال يزيد بن هارون: عن أصبغ بن زيد عن القاسم بن
أبي أيوب عن سعيد بن جبير سألت ابن عباس عن قوله " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض "
الآية. قال: فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ثم ظلل عليهم الغمام في التيه
وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث الفتون ثم كانت وفاة هارون - عليه السلام - ثم بعده بمدة ثلاثة
سنين وفاة موسى الكليم - عليه السلام - وأقام الله فيهم يوشع بن نون - عليه السلام - نبيا خليفة عن موسى بن عمران
ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ويقال إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب ومن ههنا قال بعض
المفسرين في قوله " قال فإنها محرمة عليهم " هذا وقف تام وقوله " أربعين سنة " منصوب بقوله " يتيهون في
الأرض " فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل
الثاني فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر فلما تضيفت الشمس للغروب
وخشي دخول السبت عليهم قال: إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علي فحبسها الله تعالى حتى فتحها وأمر الله
يوشع بن نون أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجدا وهم يقولون حطة أي حط عنا
ذنوبنا فبدلوا ما أمروا به ودخلوا يزحفون على أستاههم وهم يقولون حبة في شعرة وقد تقدم هذا كله في سورة
البقرة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا محمد بن أبي عمر العبدي حدثنا سفيان عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن
عباس رضي الله عنه قوله " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض " قال فتاهوا أربعين سنة قال فهلك
موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون وهو الذي قام
بالامر بعد موسى وهو الذي افتتحها وهو الذي قيل له اليوم يوم الجمعة فهموا بافتتاحها ودنت الشمس للغروب فخشي
إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا فنادى الشمس إني مأمور وإنك مأمورة فوقفت حتى افتتحها فوجد فيها من الأموال ما
لم ير مثله قط فقربوه إلى النار فلم تأته فقال فيكم الغلول فدعا رؤس الأسباط وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم والتصقت
يد رجل منهم بيده فقال: الغلول عندك فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب لها عينان من ياقوت وأسنان من لؤلؤ
فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلتها وهذا السياق له شاهد في الصحيح وقد اختار ابن جرير أن قوله " فإنها محرمة
عليهم " هو للعامل في أربعين سنة وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد
قال: ثم خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس ثم احتج على ذلك من قال بإجماع علماء أخبار
الأولين أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام قال: فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق
فدل على أنه كان بعد التيه قال: وأجمعوا على أن بلعام بن باعورا أعان الجبارين بالدعاء على موسى قال وما ذاك إلا
بعد التيه لانهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله ثم قال: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية
حدثنا قيس بن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع ووثبته عشرة
أذرع وطوله عشرة أذرع فوثب فأصاب كعب عوج فقتله فكان جسرا لأهل النيل سنة وروي أيضا عن محمد بن
بشار حدثنا مؤمل حدثنا سفيان عن أبي إسحق عن نوف هو البكالي قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع وكان طول
موسى عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع ووثب في السماء عشرة أذرع فضرب عوجا فأصاب كعبه فسقط ميتا
وكان جسرا للناس يمرون عليه.
وقوله تعالى " فلا تأس على القوم الفاسقين " تسلية لموسى عليه السلام عنهم أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما
42

حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك. وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله
ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم مع أن بين
أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم هذا مع ما
شاهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما
بالعهد من قدم ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها
وعددهم فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل هذا
وهم في جهلهم يعمهون وفي غيهم يترددون وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله
وأحباؤه فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود وألزمهم لعنة تصحبهم إلى الدار ذات الوقود
ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود وقد فعل وله الحمد في جميع الوجود.
* واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما
يتقبل الله من المتقين (27) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب
العالمين (28) إني أريد أن تبوأ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين (29) فطوعت له
نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين (30) فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه
قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين (31)
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصلبه في قول الجمهور وهما قابيل وهابيل
كيف عدا أحدهما على الآخر فقتله بغيا عليه وحسدا له فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله
عز وجل ففاز المقتول بوضع الآثار والدخول إلى الجنة وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين فقال
تعالى " وأتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " أي أقصص على هؤلاء البغاة الحسدة إخوان الخنازير والقردة من اليهود
وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف وقوله " بالحق " أي
على الجلية والامر الذي لا لبس فيه ولا كذب ولا وهم ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان كقوله تعالى " إن هذا لهو
القصص الحق " وقوله تعالى " نحن نقص عليك نبأهم بالحق " وقال " ذلك عيسى ابن مريم قول الحق "
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من
بنيه لضرورة الحال ولكن قالوا كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر
وكانت أخت هابيل دميمة وأخت قابيل وضيئة فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانا فمن
تقبل منه فهي له فتقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه.
[ذكر أقوال المفسرين ههنا]
قال السدي فيما ذكر عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا ولد لآدم مولود إلا ومعه جارية فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا
البطن الآخر ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل وكان قابيل
صاحب زرع وكان هابيل صاحب ضرع وكان قابيل أكبرهما وكان له أخت أحسن من أخت هابيل وان
43

هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل فأبى عليه قال هي أختي ولدت معي وهي أحسن من أختك وأنا أحق أن أتزوج بها
فأمره أبوه أن يزوجها هابيل فأبى وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية وكان آدم عليه السلام قد غاب
عنهما أتى مكة ينظر إليها قال الله عز وجل هل تعلم أن لي بيتا في الأرض قال اللهم لا قال إن لي بيتا في مكة فاته
فقال آدم للسماء احفظي ولدي بالأمانة فأبت وقال للأرض فأبت وقال للجبال فأبت فقال لقابيل فقال نعم تذهب
وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قربا قربانا وكان قابيل يفخر عليه فقال أنا أحق بها منك هي أختي وأنا
أكبر منك وأنا وصي والدي فلما قربا قرب هابيل جذعة سمينة وقرب قابيل حزمة سنبل فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها
وأكلها فنزلت النار فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل فغضب وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي فقال هابيل
إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصياح حدثنا حجاج
عن ابن جريج أخبرني ابن خيثم قال: أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن تنكح المرأة
أخاها توأمها وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها وكان يولد له في كل بطن رجل وامرأة فبينما هم كذلك ولد له امرأة
وضيئة وولد له أخرى قبيحة دميمة فقال أخو الدميمة أنكحني أختك وأنكحك أختي فقال لا أنا أحق بأختي فقربا
قربانا فتقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع فقتله. إسناد جيد وحدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا
حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وقوله " إذ قربا قربانا " فقربا
قربانهما فجاء صاحب الغنم بكبش أعين أقرن أبيض وصاحب الحرث بصبرة من طعامه فقبل الله الكبش فحزنه في
الجنة أربعين خريفا وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم عليه السلام. إسناد جيد وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن أبي المغيرة عن عبد الله بن عمرو قال إن ابني آدم الذين قربا قربانا فتقبل من
أحدهما ولم يتقبل من الآخر كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم وأنهم أمرا أن يقربا قربانا وإن صاحب
الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكودن والزوان غير طيبة
بها نفسه وأن الله عز وجل تقبل قربان صاحب الغنم ولم يتقبل قربان صاحب الحرث وكان من قصتهما ما قص الله
في كتابه قال: وأيم الله إن كان المقتول لاشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه وقال إسماعيل بن
رافع المدني القاص بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان كان أحدهما صاحب غنم وكان أنتج له حمل في غنمه فأحبه
حتى كان يؤثره بالليل وكان يحمله على ظهره من حبه حتى لم يكن له مال أحب إليه منه فلما أمر بالقربان قربه لله عز
وجل فقبله الله منه فما زال يرتع في الجنة حتى فدي به ابن إبراهيم عليه السلام رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الأنصاري حدثنا القاسم بن عبد الرحمن حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال قال آدم
عليه السلام لهابيل وقابيل: إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يقرب القربان فقربا قربانا حتى تقر عيني إذا تقبل
قربانكما فقربا وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكولة غنم خير ماله وكان قابيل صاحب زرع فقرب مشاقة من زرعه
فانطلق آدم معهما ومعهما قربانهما فصعدا الجبل فوضعا قربانهما ثم جلسوا ثلاثتهم آدم وهما ينظران إلى القربان
فبعث الله نارا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل فانصرفوا وعلم آدم أن قابيل
مسخوط عليه فقال: ويلك يا قابيل رد عليك قربانك فقال: أحببته فصليت على قربانه ودعوت له فتقبل قربانه ورد
علي قرباني فقال قابيل لهابيل: لأقتلنك وأستريح منك دعا لك أبوك فصلى على قربانك فتقبل منك وكان يتواعده
بالقتل إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه فقال آدم: يا قابيل أين أخوك قال: وبعثني له راعيا لا أدري فقال
آدم: ويلك يا قابيل انطلق فاطلب أخاك فقال قابيل في نفسه الليلة أقتله وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب
فقال يا هابيل تقبل قربانك ورد علي قرباني لأقتلنك فقال هابيل قربت أطيب مالي وقربت أنت أخبث مالك وإن
الله لا يقبل إلا الطيب إنما يتقبل الله من المتقين فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه بها فقال ويلك يا
قابيل أين أنت من الله كيف يجزيك بعملك فقتله فطرحه في حوبة من الأرض وحثى عليه شيئا من التراب.
44

وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل وأمر
هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل فسلم لذلك هابيل ورضي وأبى ذلك قابيل وكره تكرما عن أخت هابيل ورغب بأخته
عن هابيل وقال نحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول
كانت أخت قابيل من أحسن الناس فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه والله أعلم أي ذلك كان فقال له أبوه: يا بني
إنها لا تحل لك فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه قال له أبوه يا بني قرب قربانا ويقرب أخوك هابيل قربانا
فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها وكان قابيل على بذر الأرض وكان هابيل على رعاية الماشية فقرب قابيل قمحا
وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه وبعضهم يقول قرب بقرة فأرسل الله نارا بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان
قابيل وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله. رواه ابن جرير.
وروى العوفي عن ابن عباس قال: من شأنهما أنه لم يكن مسكين يتصدق عليه وإنما كان القربان يقربه الرجل فبينا
ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه الله أرسل إليه نارا فتأكله وإن لم يكن رضيه الله
خبت النار فقربا قربانا وكان أحدهما راعيا وكان الآخر حراثا وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها وقرب الآخر
بعض زرعه فجاءت النار فنزلت بينهما فأكلت الشاة وتركت الزرع وأن ابن آدم قال لأخيه أتمشي في الناس وقد علموا
أنك قربت قربانا فتقبل منك ورد علي فلا والله لا ينظر الناس إلى وأنت خير مني فقال لأقتلنك فقال له أخوه ما
ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ
في امرأة كما تقدم عن جماعة ممن تقدم ذكرهم وهو ظاهر القرآن " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من
الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين " فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده بقبوله قربانه دونه
ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل وأن الذي قرب الطعام هو قابيل وأنه تقبل من هابيل شاته
حتى قال ابن عباس وغيره: إنها الكبش الذي فدى به الذبيح وهو مناسب والله أعلم ولم يتقبل من قابيل. كذلك نص
عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهود عن مجاهد أيضا ولكن روى ابن جرير عنه أنه قال: الذي قرب
الزرع قابيل وهو المتقبل منه وهذا خلاف المشهور ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم.
ومعنى قوله " إنما يتقبل الله من المتقين " أي ممن اتقى الله في فعله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا
إبراهيم بن العلاء بن زيد حدثنا إسماعيل بن عياش حدثني صفوان بن عمرو عن تميم يعني ابن مالك المقري قال:
سمعت أبا الدرداء يقول: لان أستيقن أن الله قد تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من الدنيا وما فيها إن الله يقول
" إنما يتقبل الله من المتقين " وحدثنا أبي حدثنا عمران حدثنا إسحاق بن سليمان يعني الرازي عن المغيرة بن
مسلم عن ميمون بن أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي وائل فدخل علينا رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ
فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عفيف ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل قال: بلى سمعته يقول: يحبس الناس في بقيع
واحد فينادي مناد أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر قلت من المتقون؟
قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة. وقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا
بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين
تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك " أي لا
أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة " إني أخاف الله رب العالمين " أي من أن
أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب قال عبد الله بن عمرو: وأيم الله إن كان لاشد الرجلين ولكن منعه
التحرج يعني الورع ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا تواجه المسلمان بسيفهما فالقاتل
والمقتول في النار " قالوا: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه كان حريصا على قتل صاحبه ".
45

وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث بن سعد عن عياش بن عباس عن بكير بن عبد الله عن بشر بن
سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من
القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي فبسط يده إلي ليقتلني؟
فقال كن كابن آدم " وكذا رواه الترمذي عن قتيبة بن سعد وقال: هذا الحديث حسن. وفي الباب عن أبي هريرة
وخباب بن الأرت وأبي بكر وابن مسعود وأبي واقد وأبي موسى وخرشة ورواه بعضهم عن الليث بن سعد وزاد في
الاسناد رجلا. قال الحافظ ابن عساكر: الرجل هو حسين الأشجعي قلت وقال رواه أبو داود من طريقه فقال:
حدثنا يزيد بن خالد الرملي حدثنا الفضل عن عياش ابن عباس عن بكير عن بشر بن سعيد عن حسين بن عبد الرحمن
الأشجعي أنه سمع سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال: فقلت يا رسول الله أرأيت إن دخل بيتي
وبسط يده ليقتلني قال فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كن كابن آدم " وتلا " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي
إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " قال أيوب السختياني: إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة " لئن
بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين " لعثمان بن عفان رضي الله
عنه رواه ابن أبي حاتم. وقال الإمام أحمد: حدثنا ابن حرم حدثني أبو عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت
عن أبي ذر قال: ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه وقال: " يا أبا ذر أرأيت إن أصاب الناس جوع شديد لا تستطيع
أن تقوم من فراشك إلى مسجدك كيف تصنع " قال قال: الله ورسوله أعلم قال: " تعفف " قال: " يا أبا ذر أرأيت إن
أصاب الناس موت شديد يكون البيت فيه بالعبد يعني القبر كيف تصنع " قلت: الله ورسوله أعلم قال: " اصبر " قال
" يا أبا ذر أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء كيف تصنع " قال: الله ورسوله
أعلم قال: " اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك " قال: فإن لم أترك قال: " فائت من أنت منهم فكن منهم " قال: فآخذ
سلاحي قال: " فإذا تشاركهم فيما هم فيه ولكن إذا خشيت أن يردعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك
كي يبوء بإثمه وإثمك " ورواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي من طرق عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن
الصامت به ورواه أبو داود وابن ماجة من طريق حماد بن زيد عن أبي عمران عن المشعث بن طريف عن عبد الله بن
الصامت عن أبي ذر بنحوه قال أبو داود ولم يذكر المشعث في هذا الحديث غير حماد بن زيد وقال ابن مردويه
حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن منصور عن ربعي قال:
كنا في جنازة حذيفة فسمعت رجلا يقول سمعت هذا يقول في ناس مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لئن اقتتلتم لأنظرن
إلى أقصى بيت في داري فلألجنه فلئن دخل علي فلان لأقولن ها بؤ بإثمي وإثمك فأكون كخير ابني آدم. وقوله
" إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " قال ابن عباس ومجاهد والضحاك
وقتادة والسدي في قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك قاله ابن
جرير وقال آخرون: يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي وهذا قول وجدته
عن مجاهد وأخشى أن يكون غلطا لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه يعني ما رواه سفيان الثوري عن منصور عن
مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي " قال بقتلك إياي " وإثمك " قال بما كان منك قبل ذلك وكذا رواه عيسى بن
أبي نجيح عن مجاهد بمثله وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " يقول إني
أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمى فتبوء بهما جميعا " قلت " وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في
ذلك حديثا لا أصل له " ما ترك القاتل على المقتول من ذنب " وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديث يشبه هذا ولكن
ليس به فقال حدثنا عمرو بن علي حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني حدثنا يعقوب بن عبد الله حدثنا عتبة بن سعيد
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قتل الصبر لا يمر بذنب إلا محاه " وهذا بهذا لا
يصح ولو صح فمعناه إن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه فأما أن تحمل على القاتل فلا ولكن قد يتفق هذا في
بعض الاشخاص وهو الغالب فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته فإن نفدت
46

ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على
القاتل وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم وأما ابن
جرير فقال والصواب من القول في ذلك أن يقال إن تأويله إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو
معنى قوله " إني أريد أن تبوء بإثمي " وأما معنى وإثمك فهو إثمه يعني قتله وذلك معصية الله عز وجل في إعمال
سواه وإنما قلنا ذلك هو الصواب لاجماع أهل التأويل عليه وأن الله عز وجل أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه
وإذا كان هذا حكمه في خلقه فغير جائز أن تكون آثام المقتول مأخوذا بها القاتل وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل
المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله هذا لفظه ثم أورد على هذا سؤالا حاصله كيف
أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله وإثم نفسه مع أن قتله له محرم؟ وأجاب بما حاصله أن هابيل أخبر عن
نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل يكف عنه يده طالبا إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه قلت وهذا الكلام
متضمن موعظة له لو اتعظ وزجر له لو انزجر ولهذا قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " أي تتحمل إثمي وإثمك
" فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " وقال ابن عباس: خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر. وقوله تعالى
" فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين " أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه
فقتله أي بعد هذه الموعظة وهذا الزجر وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر وهو محمد بن علي بن الحسين
أنه قتله بحديدة في يده وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة بن عبد الله وعن ناس
من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فطوعت له نفسه قتل أخيه فطلبه لقتله فراغ الغلام منه في رؤوس
الجبال فأتاه يوما من الأيام وهو يرعى غنما له وهو نائم فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات فتركه بالعراء رواه ابن
جرير وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقا وعضا كما تقتل السباع. وقال ابن جرير: لما أراد أن يقتله جعل يلوي
عنقه فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجرا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها وابن آدم ينظر ففعل
بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم وقال عبد الله بن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أخذ
برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله فجاءه إبليس فقال أتريد أن تقتله؟ قال
نعم قال: فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه قال فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه ثم جاء إبليس إلى حواء
مسرعا فقال: يا حواء إن قابيل قتل هابيل فقالت له: ويحك وأي شئ يكون القتل قال لا يأكل ولا يشرب ولا
يتحرك قالت ذلك الموت قال فهو الموت فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهى تصيح فقال: مالك فلم
تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه فقال: عليك الصيحة وعلى بناتك وأنا وبني منها برآء رواه ابن أبي حاتم وقوله
" فأصبح من الخاسرين " أي في الدنيا والآخرة وأي خسارة أعظم من هذه وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو
معاوية ووكيع قالا: حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " وقد أخرجه الجماعة سوى
أبي داود من طرق عن الأعمشي به وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج قال: قال ابن
جريج قال مجاهد: علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ ووجهه في الشمس حيثما دارت دار عليه
في الصيف حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج قال: وقال عبد الله بن عمر وإنا لنجد ابن آدم القاتل
يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم. وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة عن ابن
إسحاق عن حكيم بن حكيم أنه حدث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول إن أشقى الناس رجلا لابن آدم الذي قتل
أخاه ما سفك دم في الأرض منذ قتل أخاه إلى يوم القيامة إلا لحق به منه شر وذلك أنه أول من سن القتل. وقال
إبراهيم النخعي: ما من مقتول يقتل ظلما إلا وكان على ابن آدم الأول والشيطان كفل منه. ورواه ابن جرير أيضا وقوله
تعالى " فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا
الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين " قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة رضي الله عنهم: لما مات
47

الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن فبعث الله غرابين أخوين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه فحفر له ثم حثى عليه
فلما رآه قال " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي " وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن
عباس قال: جاء غراب إلى غراب ميت فحث عليه من التراب حتى واراه فقال الذي قتل أخاه " يا ويلتي أعجزت
أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي " وقال الضحاك عن ابن عباس: مكث يحمل أخاه في جراب على
عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرأهما يبحثان فقال " أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب " فدفن أخاه. وقال
ليث بن أبي سليم عن مجاهد: كان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتا لا يدري ما يصنع به يحمله ويضعه إلى الأرض
حتى رأى الغراب يدفن الغراب فقال " يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من
النادمين " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال عطية العوفي لما قتله فضمه إليه حتى أروح وعكفت عليه الطيور
والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول
لما قتله سقط في يده أي ولم يدر كيف يواريه وذلك أنه كان فيما يزعمون أول قتيل في بني آدم وأول ميت " فبعث
الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه (قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة
أخي فأصبح من النادمين) قال: وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله عز وجل يا قابيل أين
أخوك هابيل قال ما أدري ما كنت عليه رقيبا فقال الله إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن أنت ملعون في
الأرض التي فتحت فاها فتلقت دم أخيك من يدك فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون
فزعا تائها في الأرض وقوله " فأصبح من النادمين " قال الحسن البصري: علاه الله بندامة بعد خسران فهذه أقوال
المفسرين في هذه القصة وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن وكما نطق به الحديث في
قوله " إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " وهذا ظاهر وجلي ولكن قال ابن جرير: حدثنا
ابن وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن هو البصري قال: كان الرجلان اللذان في القرآن اللذان قال
الله " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " من بني إسرائيل ولم يكونا ابني آدم لصلبه وإنما كان القربان من بني إسرائيل
وكان آدم أول من مات وهذا غريب جدا وفي إسناده نظر وقد قال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن ابني آدم - عليه السلام - ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما " ورواه المبارك عن عاصم
الأحول عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم " وكذا
أرسل هذا الحديث بكير بن عبد الله المزني روى ذلك كله ابن جرير وقال سالم بن أبي الجعد: لما قتل ابن آدم أخاه
مكث آدم مائة سنة حزينا لا يضحك ثم أتى فقيل له: حياك الله وبياك أي أضحكك رواه ابن جرير ثم قال: حدثنا
ابن حميد حدثنا سلمة عن غياث بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمداني قال: قال علي بن أبي طالب لما قتل ابن آدم
أخاه بكاه آدم فقال:
تغيرت البلاد ومن عليها * فلون الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم * وقل بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:
أبا هابيل قد قتلا جميعا * وصار الحي بالميت الذبيح
وجاء بشره قد كان منه * على خوف فجاء بها يصيح
والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة كما ذكره مجاهد وابن جبير أنه علقت ساقه بفخذه يوم القيامة وجعل الله وجهه إلى
الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله
48

عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا فإنا لله
وإنا إليه راجعون.
من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا
ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض
لمسرفون (32) إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم
وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (33) إلا الذين تابوا
من قبل أن تقدروا عليهم فأعلموا أن الله غفور رحيم (34)
يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانا " كتبنا على بني إسرائيل " أي شرعنا لهم وأعلمناهم " أنه من
قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " أي من
قتل نفسا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية فكأنما قتل الناس جميعا لأنه
لا فرق عنده بين نفس ونفس ومن أحياها أي حرم قتلها وأعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ولهذا
قال " فكأنما أحيا الناس جميعا " وقال الأعمش وغيره عن أبي صالح عن أبي هريرة قال دخلت على عثمان يوم
الدار فقلت جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين فقال: يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعا
وإياي معهم قلت لا قال فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا فانصرف مأذونا لك مأجورا غير
مأزور قال: فانصرفت ولم أقاتل وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس هو كما قال الله تعالى " من قتل نفسا بغير
نفس فكانما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " وإحياؤها ألا يقتل نفسا حرمها الله فذلك
الذي أحيا الناس جميعا يعني أنه من حرم قتلها إلا بحق حيي الناس منه. وهكذا قال مجاهد ومن أحياها أي كف
عن قتلها. وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله " فكأنما قتل الناس جميعا " يقول من قتل نفسا واحدة حرمها الله فهو
مثل من قتل الناس جميعا. وقال سعيد بن جبير: من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ومن حرم
دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا رواه ابن
جرير وقال مجاهد في رواية أخرى عنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا وذلك لان من قتل
النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم قال ابن جريج عن الأعرج عن مجاهد في قوله " فكأنما قتل الناس
جميعا " من قتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما يقول لو قتل
الناس جميعا لم يزد على مثل ذلك العذاب قال ابن جريج قال مجاهد " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال
من لم يقتل أحدا فقد حيي الناس منه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم من قتل نفسا فكأنما قتل الناس يعني فقد
وجب عليه القصاص فلا فرق بين الواحد والجماعة ومن أحياها أي عفا عن قاتل وليه فكأنما أحيا الناس جميعا
وحكى ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير وقال مجاهد في رواية: ومن أحياها أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة.
وقال الحسن وقتادة في قوله " أنه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا " هذا تعظيم لتعاطي القتل قال
قتادة: عظيم والله وزرها وعظيم والله أجرها وقال ابن المبارك عن سلام بن مسكي عن سليمان بن علي الربعي
قال: قلت للحسن هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال: أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني
إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وقال الحسن البصري " فكأنما قتل الناس جميعا " قال:
وزرا " ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال: أجرا وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا
حسن بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: جاء حمزة بن عبد المطلب إلى
49

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله اجعلني على شئ أعيش به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا حمزة نفس تحييها أحب
إليك أم نفس تميتها " قال: بل نفس أحييها قال: " عليك بنفسك "
قوله تعالى " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات " أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة " ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك
في الأرض لمسرفون ". وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها كما كانت بنو قريظة
والنضير وغيرهم من بني قينقاع ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت
بينهم الحروب في الجاهلية ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله عليهم
ذلك في سورة البقرة حيث يقول " وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم
أقررتم وأنتم تشهدون * ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالاثم
والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما
جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما
تعملون " وقوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع
أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض " الآية المحاربة هي المضادة والمخالفة وهي صادقة على الكفر
وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل وكذا الافساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر حتى قال كثير من السلف منهم
سعيد بن المسيب: أن قبض الدراهم والدنانير من الافساد في الأرض وقد قال الله تعالى " وإذا تولى سعى في
الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " ثم قال بعضهم نزلت هذه الآية الكريمة في
المشركين كما قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا الحسين بن واقد عن يزيد عن عكرمة
والحسن البصري قالا " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " - إلى - " إن الله غفور رحيم " نزلت هذه الآية في
المشركين فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من
الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام
عليه الحد الذي أصاب. ورواه أبو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس " إنما جزاء الذين يحاربون الله
ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " نزلت في المشركين فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه
الحد الذي أصابه. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون
في الأرض فسادا " الآية قال كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا
في الأرض فخير الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف رواه ابن جرير.
وروى شعبة عن منصور عن هلال بن يساف عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في الحرورية " إنما جزاء
الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " رواه ابن مردويه والصحيح أن هذه الآية عامة في
المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي قلابة واسمه عبد الله بن
زيد الجرمي البصري عن أنس بن مالك أن نفرا من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الاسلام
فاستوخموا المدينة وسقمت أجسامهم فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فقال: " ألا تخرجون مع راعينا في إبله
فتصيبون من أبو الها وألبانها فقالوا: بلى فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها فصحوا فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم ثم
نبذوا في الشمس حتى ماتوا لفظ مسلم وفي لفظ لهما: من عكل أو عرينة وفي لفظ: وألقوا في الحرة فجعلوا
يستسقون فلا يسقون وفي لفظ لمسلم: ولم يحسمهم وعند البخاري قال أبو قلابة فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا
بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله ورواه مسلم من طريق هشيم عن عبد العزيز بن صهيب وحميد عن أنس فذكر
نحوه وعنده فارتدوا وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس بنحوه وقال سعيد عن قتادة من عكل وعرينة ورواه
50

مسلم من طريق سليمان التيمي عن أنس قال إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لانهم سملوا أعين الرعاء. ورواه
مسلم من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من عرينة فأسلموا وبايعوه وقد وقع بالمدينة
الدم وهو البرسام ثم ذكر نحو حديثهم وزاد: عنده شباب من الأنصار قريب من عشرين فارسا فأرسلهم وبعث
معهم قائفا يقفو أثرهم وهذه كلها ألفاظ مسلم رحمه الله.
وقال حماد بن سلمة حدثنا قتادة وثابت البناني وحميد الطويل عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة
فاجتووها فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا فارتدوا عن
الاسلام وقتلوا الراعي وساقوا الإبل فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فجئ بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف
وسمر أعينهم وألقاهم في الحرة قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا ونزلت " إنما
جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه وهذا لفظه وقال
الترمذي: حسن صحيح وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة عن أنس بن مالك منها ما رواه من طريقين عن
سلام بن أبي الصهباء عن ثابت عن أنس بن مالك قال: ما ندمت على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه
الحجاج قال: أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة
من البحرين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم وقد اصفرت ألوانهم وضمرت بطونهم فأمرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم
عمدوا إلى الراعي فقتلوه واستاقوا الإبل فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم
ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم
ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا بحال ذود من الإبل فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقال ابن جرير حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد يعني ابن مسلم حدثني سعيد عن قتادة عن أنس قال كانوا أربعة
نفر من عرينة وثلاثة نفر من عكل فلما أتى بهم قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم ولم يحسمهم وتركهم يلتقمون
الحجارة بالحرة فأنزل الله في ذلك " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا أبن مسعود يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج حدثنا أبو
سعيد يعني البقال عن أنس بن مالك قال كان رهط من عرينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جهد مصفرة ألوانهم عظيمة
بطونهم فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم وسمنوا فقتلوا
الراعي واستاقوا الإبل فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأتى بهم فقتل بعضهم وسمر أعين بعضهم وقطع أيدي بعضهم
وأرجلهم ونزلت " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلي آخر الآية وقال أبو جعفر ابن جرير حدثنا أبو
علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا يزيد بن لهيعة عن ابن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى
أنس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أوائل النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس
فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام. وقال حدثني
يونس أخبرنا ابن وهب اخبرني عمرو بن الحرث عن سعيد بن أبي هلال عن أبي الزناد عن عبد الله بن عبيد الله
عن عبد الله بن عمر أو عمرو شك يونس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك يعني بقصة العرنيين ونزلت فيهم آية المحاربة
ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد وفيه عن ابن عمر من غير شك.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن خلف حدثنا الحسن بن حماد عن عمرو بن هاشم عن موسى بن عبيدة عن
محمد بن إبراهيم عن جرير قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة حفاة مضرورين فأمر بهم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعاء اللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم قال
جرير: فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم فقدمنا بهم على
51

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم فجعلوا يقولون: الماء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: النار
حتى هلكوا قال وكره الله عز وجل سمل الأعين فأنزل هذه الآية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " إلى
آخر الآية هذا حديث غريب وفي إسناده الربذي وهو ضعيف وفي إسناده فائدة وهو ذكر أمير هذه السرية وهو
جرير بن عبد الله البجلي وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار وأما قوله:
فكره الله سمل الأعين فأنزل الله هذه الآية فإنه منكر وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء فكان ما
فعل بهم قصاصا والله أعلم وقال عبد الرزاق عن إبراهيم بن محمد الأسلمي عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة
قال قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فزارة قد ماتوا هزلا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه فشربوا منها حتى صحوا
ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها فطلبوا فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم قال أبو هريرة:
ففيهم نزلت هذه الآية " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " فترك النبي صلى الله عليه وسلم سمر الأعين بعد. وروى من وجه
آخر عن أبي هريرة وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا أبو
القاسم محمد بن الوليد بن عمرو بن محمد المديني حدثنا محمد بن طلحة عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي
عن أبيه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن سلمة بن الأكوع قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له يسار فنظر إليه يحسن
الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له بالحرة فكان بها قال: فأظهر قوم الاسلام من عرينة وجاءوا وهم مرضى موعوكون
كانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم ثم عدوا على يسار فذبحوه وجعلوا الشوك في عينيه ثم أطردوا الإبل
فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين كبيرهم كرز بن جابر الفهري فلحقهم فجاء بهم إليه فقطع أيديهم
وأرجلهم وسمل أعينهم. غريب جدا وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة منهم: جابر وعائشة وغير
واحد وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جدا فرحمه الله وأثابه. وقال
ابن جرير حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق سمعت أبي يقول سمعت أبا حمزة عن عبد الكريم وسئل عن
أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الاسلام
فبايعوه وهم كذبة وليس الاسلام يريدون ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح
فاشربوا من أبوالها وألبانها قال: فبينما هم كذلك إذ جاءهم الصريخ فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قتلوا الراعي واستاقوا
النعم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس أن يا خيل الله اركبي قال: فركبوا لا ينتظر فارس فارسا قال وركب
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم
فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " الآية. قال فكان نفيهم أن نفوهم حتى
أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين وقتل نبي الله منهم وصلب وقطع وسمر الأعين قال فما مثل
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد قال: ونهى عن المثلة وقال: " ولا تمثلوا بشئ " قال وكان أنس يقول ذلك غير أنه قال:
أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم قال: وبعضهم يقول هم ناس من بني سليم ومنهم عرينة ناس من بجيلة وقد اختلف
الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم فقال: بعضهم هو منسوخ بهذه الآية وزعموا أن فيها عتابا
للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله " عفا الله عنك لم أذنت لهم " ومنهم من قال: هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وهذا
القول فيه نظر ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ وقال بعضهم: كان هذا قبل أن تنزل
الحدود قاله: محمد بن سيرين وفيه نظر فإن قصته متأخرة وفي رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها
قاله أسلم بعد نزول المائدة ومنهم من قال لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين
حكم المحاربين وهذا القول أيضا فيه نظر فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل وفي رواية سمر أعينهم.
وقال ابن جرير حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سمل النبي صلى الله عليه وسلم
أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا فقال: سمعت محمد بن عجلان يقول أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في
ذلك وعلمه عقوبة مثلهم من القتل والقطع والنفي ولم يسمل بعدهم غيرهم قال: وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو يعني
52

الأوزاعي فأنكر أن يكون نزلت معاتبة وقال بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ثم نزلت هذه الآية في عقوبة
غيرهم من حارب بعدهم. ورفع عنهم السمل ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم
المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله " ويسعون في الأرض فسادا " وهذا مذهب مالك والأوزاعي
والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن حنبل حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله
ويأخذ ما معه: أن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل وقال أبو
حنيفة وأصحابه: لا تكون المحاربة إلا في الطرقات فأما في الأمصار فلا لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث بخلاف الطريق
لبعده ممن يغيثه ويعينه وقوله تعالى " أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من
الأرض " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: من شهر السلاح في فئة الاسلام وأخاف السبيل ثم ظفر به
وقدر عليه فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه وإن شاء قطع يده ورجله وكذا قال سعيد بن
المسيب ومجاهد وعطاء والحسن البصري وإبراهيم النخغي والضحاك وروى ذلك كله أبو جعفر ابن جرير وحكى مثله عن
مالك بن أنس رحمه الله ومستند هذا القول أن ظاهر أو للتخيير كما في نظائر ذلك من القرآن كقوله في جزاء الصيد
" فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما "
وكقوله في كفارة الفدية " فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك " وكقوله في
كفارة اليمين " فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " هذه كلها على التخيير
فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي
أنبأنا إبراهيم بن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس في قطاع الطريق إذا
قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا
قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض وقد رواه ابن أبي شيبة عن
عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن عطية عن ابن عباس بنحوه وعن أبي مخلد وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي
والحسن وقتادة والسدي وعطاء الخراساني نحو ذلك وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة واختلفوا هل يصلب حيا
ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب أو بقتله برمح أو نحوه أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من
المفسدين وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل أو يترك حتى يسيل صديده في ذلك كله خلاف محرر في موضعه وبالله الثقة
وعليه التكلان ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسير إن صح سنده فقال: حدثنا علي بن سهل
حدثنا الوليد بن مسلم عن يزيد بن أبي حبيب أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس بن مالك يسأله عن هذه الآية
فكتب إليه يخبره أنها نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة قال أنس فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعي
واستاقوا الإبل وأخافوا السبيل وأصابوا الفرج الحرام قال أنس: فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرائيل عليه السلام عن القضاء
فيمن حارب فقال: من سرق مالا وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ورجله بإخافته ومن قتل فاقتله ومن قتل وأخاف
السبيل واستحل الفرج الحرام فأصلبه وأما قوله تعالى " أو ينفوا من الأرض " قال بعضهم هو أن يطلب حتى يقدر
عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الاسلام رواه ابن جرير عن ابن عباس وأنس بن مالك وسعيد بن جبير
والضحاك والربيع بن أنس والزهري والليث بن سعد ومالك بن أنس. وقال آخرون: هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر
أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية وقال الشعبي ينفيه كما قال ابن هبيرة: من عمله كله وقال عطاء
الخراساني ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الاسلام وكذا قال سعيد بن جبير وأبو الشعثاء والحسن
والزهري والضحاك ومقاتل بن حيان أنه ينفى ولا يخرج من أرض الاسلام. وقال آخرون المراد بالنفي ههنا
السجن وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأختار ابن جرير أن المراد بالنفي هنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر
فيسجن فيه.
53

وقوله تعالى " ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم
وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم خزى لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا مع ما ادخر الله لهم من العذاب
العظيم يوم القيامة وهذا يؤيد قول من قال إنها نزلت في المشركين فأما أهل الاسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن
الصامت رضي الله عنه قال: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا
نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو
كفارة له ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه. وعن علي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " من أذنب
ذنبا في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ومن أذنب ذنبا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه
فالله أكرم من أن يعود عليه في شئ قد عفا عنه ". رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب
وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث فقال: روى مرفوعا وموقوفا قال ورفعه صحيح، وقال ابن جرير في قوله
" ذلك لهم خزي في الدنيا " يعني شر وعار ونكار وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة " ولهم في الآخرة عذاب
عظيم " أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي
عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم وقوله تعالى " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا
أن الله غفور رحيم " أما على قول من قال إنها في أهل الشرك فظاهر وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة
عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل وهل يسقط قطع اليد أم لا فيه قولان للعلماء وظاهر الآية
يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا بو أسامة عن مجالد
عن الشعبي قال كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة وكان قد أفسد في الأرض وحارب فكلم رجالا من قريش
منهم الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر فكلموا عليا فيه فلم يؤمنه فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه
في داره ثم أتى عليا فقال يا أمير المؤمنين أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا فقرأ حتى بلغ " إلا
الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " قال: فكتب له أمانا قال سعيد بن قيس فإنه جارية بن بدر وكذا رواه ابن جرير
من غير وجه عن مجالد عن الشعبي به وزاد فقال جارية بن بدر.
ألا بلغن همدان أما لقيتها * على النأي لا يسلم عدو يعيبها
لعمر أبيها إن همذان تتقي الا * له ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري عن السدي ومن طريق أشعث كلاهما عن عامر الشعبي قال جاء رجل من
مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى هذا مقام
العائذ بك أنا فلان بن فلان المرادي وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادا وإني تبت من قبل
أن تقدروا علي فقال: أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا وإنه
تاب من قبل أن نقدر عليه فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير فإن يك صادقا فسبيل من صدق وإن يك كاذبا تدركه
ذنوبه فأقام الرجل ما شاء الله ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير حدثني علي حدثنا
الوليد بن مسلم قال: قال الليث كذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني وهو الأمير عندنا أن عليا الأسدي حارب
وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبه الأئمة والعامة فامتنع ولم يقدروا عليه حتى جاء تائبا وذلك أنه سمع رجلا
يقرأ هذه الآية " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور
الرحيم " فوقف عليه فقال: يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السحر
فاغتسل ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه فلما أسفروا عرفه الناس
فقاموا إليه فقال لا سبيل لكم علي جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي فقال أبو هريرة صدق وأخذ بيده حتى أتى
مروان بن الحكم وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل فترك من
54

ذلك كله قال وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر فلقوا الروم فقرنوا سفينة إلى سفينة من سفنهم فاقتحم
على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر فمالت به وبهم فغرقوا جميعا.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون (35) إن الذين كفروا
لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل ولهم عذاب أليم (36)
يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم (37)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات
وقد قال بعدها " وابتغوا إليه الوسيلة " قال سفيان الثوري: عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي القربة وكذا قال
مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وعبد الله بن كثير والسدي وابن زيد وغير واحد وقال قتادة أي تقربوا إليه بطاعته
والعمل بما يرضيه وقرأ ابن زيد " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة " وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة
لا خلاف بين المفسرين فيه وأنشد عليه ابن جرير قول الشاعر:
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا * وعاد التصافي بيننا والوسائل
والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود والوسيلة أيضا علم على أعلى منزلة في الجنة وهي منزلة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وداره في الجنة وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش وقد ثبت في صحيح البخاري من طريق
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة
التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته إلا حلت له الشفاعة يوم
القيامة ".
" حديث آخر " في صحيح مسلم من حديث كعب عن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن
العاص أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة
صلى الله عليه عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وارجو أن أكون أنا هو فمن
سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة "
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: " إذا صليتم علي فسلوا لي الوسيلة " قيل: يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال: " أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل
واحد وأرجو أن أكون أنا هو " ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن
كعب قال حدثني أبو هريرة به ثم قال: غريب وكعب ليس بمعروف لا نعرف أحدا روى عنه غير ليث بن أبي
سليم. " حديث آخر " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا محمد بن
نصر الترمذي حدثنا عبد الحميد بن صالح حدثنا ابن شهاب عن ليث عن المعلى عن محمد بن كعب عن أبي هريرة
رفعه قال: " صلوا علي صلاتكم وسلوا الله لي الوسيلة فسألوه أو أخبرهم أن الوسيلة درجة في الجنة ليس ينالها
إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا ". " حديث آخر " قال الحافظ أبو القاسم الطبراني: أنا أحمد بن علي الأبار حدثنا
الوليد بن عبد الملك الحراني حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن ابن عباس
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم
القيامة " ثم قال الطبراني: لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين كذا قال. وقد رواه ابن مردويه حدثنا محمد بن
علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا موسى ابن عبيدة عن محمد بن عمرو بن عطاء
55

فذكر بإسناده نحوه. " حديث آخر " روى ابن مردويه بإسناديه عن عمارة بن غزيه عن موسى بن وردان أنه سمع أبا
سعيد الخدري يقول قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الوسيلة درجة عند الله ليس فوقها درجة فسلوا الله أن يؤتيني الوسيلة على
خلقه. " حديث أخر " روى ابن مردويه أيضا من طريقين عن عبد الحميد بن بحر حدثنا شريك عن أبي إسحاق
عن الحارث عن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " في الجنة درجة تدعى الوسيلة فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة قالوا: يا
رسول الله من يسكن معك قال: علي وفاطمة والحسن والحسين " هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه وقال: ابن
أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا الحسن الدشتكي حدثنا أبو زهير حدثنا سعيد بن طريف عن علي بن الحسين
الأزدي مولى سالم بن ثوبان قال: سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة: يا أيها الناس إن في الجنة
لؤلؤتين إحداهما بيضاء والاخرى صفراء أما الصفراء فإنها إلى بطنان العرش والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء
سبعون ألف غرفة كل بيت منها ثلاثة أميال وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق واحد واسمها الوسيلة هي
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته والصفراء فيها مثل ذلك هي لإبراهيم - عليه السلام - وأهل بيته. وهذا أثر غريب أيضا.
وقوله " وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون " لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء من
الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم والتاركين للدين القويم ورغبهم في ذلك بالذي أعده
للمجاهدين في سبيله يوم القيامة: من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في
الغرف العالية الرفيعة الآمنة الحسنة مناظرها الطيبة مساكنها التي من سكنها ينعم لا ييأس ويحيى لا يموت
لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه. ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال " إن الذين
كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب أليم " أي
لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء ء الأرض ذهبا وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به وتيقن وصوله
إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص ولهذا قال " ولهم عذاب أليم " أي موجع " يريدون
أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم " كما قال تعالى " كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم -
أعيدوا فيها " الآية فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك وكلما رفعهم
اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها " ولهم عذاب مقيم " أي دائم
مستمر لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها وقد قال حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يؤتى بالرجل من أهل النار فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول: شر مضجع فيقال
هل تفتدي بقراب الأرض ذهبا؟ قال فيقول نعم يا رب فيقول الله تعالى كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل
فيؤمر به إلى النار " رواه مسلم والنسائي من طريق حماد بن سلمة بنحوه وكذا رواه البخاري ومسلم من طريق
معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة عن أنس به وكذا أخرجاه من طريق أبي عمران الجوني واسمه
عبد الملك بن حبيب عن أنس بن مالك به ورواه مطر الوراق عن أنس بن مالك ورواه ابن مردويه من طريقه
عنه ثم روى ابن مردويه من طريق المسعودي عن يزيد بن صهيب الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة " قال فقلت لجابر بن عبد الله يقول الله " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم
بخارجين منها " قال: أتل أول الآية " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا به " الآية ألا
أنهم الذين كفروا وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر عن يزيد الفقير عن جابر وهذا أبسط
سياقا وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن أبي شيبة الواسطي حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا مبارك بن فضالة
حدثني يزيد الفقير قال جلست إلى جابر بن عبد الله وهو يحدث فحدث أن ناسا يخرجوا من النار قال: وأنا يومئذ أنكر
ذلك فغضبت وقلت ما أعجب من الناس ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد تزعمون أن الله يخرج ناسا من النار
والله يقول " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها " الآية فانتهرني أصحابه وكان أحلمهم فقال: دعوا
الرجل إنما ذلك للكفار فقرأ " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه ليفتدوا من عذاب يوم
56

القيامة " حتى بلغ " ولهم عذاب مقيم " أما تقرأ القرآن؟ قلت بلى قد جمعته قال أليس الله يقول " ومن الليل فتهجد
به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " فهو ذلك المقام فإن الله تعالى يحتبس أقواما بخطاياهم في النار ما
شاء لا يكلمهم فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم قال فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به ثم قال ابن مردويه حدثنا
علج بن أحمد حدثنا عمرو بن حفص السدوسي حدثنا عاصم بن علي أخبرنا العباس بن الفضل حدثنا سعيد بن
المهلب حدثني طلق بن حبيب قال كنت من أشد الناس تكذيبا بالشفاعة حتى لقيت جابر بن عبد الله فقرأت عليه كل
آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال: يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله مني؟ إن
الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبا فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه
فقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " يخرجون من النار بعد ما دخلوا " ونحن نقرأ كما قرأت.
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم (38) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح
فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (39) ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر
لمن يشاء والله على كل شئ قدير (40)
يقول تعالى حاكما وآمرا بقطع يد السارق والسارقة. وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن عامر بن شراحيل
الشعبي أن ابن مسعود كان يقرؤها " والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما " وهذه قراءة شاذة وإن كان الحكم عند
جميع العلماء موافقا لها لا بها بل هو مستفاد من دليل آخر. وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الاسلام
وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد
الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية
قريش قطعوا رجلا يقال له دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة كان قد سرق كنز الكعبة ويقال: سرقه قوم
فوضعوه عنده وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به سواء كان قليلا أو
كثيرا لعموم هذه الآية " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا بل أخذوا بمجرد السرقة وقد
روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله " والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما " أخاص أم عام؟ فقال: بل عام وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه
هؤلاء ويحتمل غير ذلك فالله أعلم وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
" لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده " وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة وإن
كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة فعند الامام مالك بن أنس - رحمه
الله - النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة - فمتى سرقها - أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه
عن نافع عن ابن عمر " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم أخرجاه في الصحيحين قال مالك - رحمه
الله -: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قومت بثلاثة دراهم وهو أحب ما سمعت في ذلك وهذا الأثر عن عثمان -
رضي الله عنه - قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقا سرق في زمن
عثمان أترجة فأمر بها عثمان أن تقوم فقومت بثلاثة دراهم - صرف اثني عشر درهما - فقطع عثمان يده قال: أصحاب مالك
ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر فمن مثله يحكى الاجماع السكوتي وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافا للحنفية
وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم وللشافعية في اعتبار ربع دينار والله أعلم وذهب
الشافعي - رحمه الله - إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا و
الحجة في ذلك ما أخرجه الشيخان: البخاري ومسلم من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - أن
57

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا: ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن عمرة عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا " قال
أصحابنا: فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه قالوا: وحديث ثمن المجن وأنه كان
ثلاثة دراهم لا ينافي هذا لأنه إذ ذاك فإن الدينار باثني عشر درهما فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق.
وروى هذا المذهب عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم وبه يقول: عمر بن
عبد العزيز والليث بن سعد والأزواعي والشافعي وأصحابه وإسحاق بن راهويه في رواية عنه وأبو ثور وداود بن علي
الظاهري رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية عنه إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد
شرعي فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة - رضي الله عنها - ووقع في لفظ
عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك " وكان ربع
الدينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار اثني عشر درهما وفي لفظ للنسائي " لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن " قيل
لعائشة ما ثمن المجن قالت: ربع دينار فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه: أبو يوسف ومحمد وزفر وكذا سفيان الثوري - رحمهم الله - فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب
عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ثمنه
عشرة دراهم وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ابن نمير وعبد الاعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن أيوب بن موسى
عن عطاء عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة دراهم ثم قال: حدثنا عبد الاعلى عن
محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقطع يد السارق في دون ثمن
المجن " وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن
فالاحتياط الاخذ بالأكثر لان الحدود تدرأ بالشبهات. وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم
أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحدا منهما يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر رحمهم الله
تعالى وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلا في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما وينقل هذا عن
سعيد بن جبير رحمه الله وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة " يسرق البيضة فتقطع يده
ويسرق الحبل فتقطع يده " بأجوبة أحدها: أنه منسوخ بحديث عائشة وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ.
" والثاني " أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه. " والثالث " أن هذه
وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الاخبار عما
كان الامر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء
المهينة وقد ذكروا أن أبا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكال على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة
ربع دينار ونظم في ذلك شعرا دل على جهله وقلة عقله فقال:
يد بخمس مئين عجسد وديت * ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له * وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم وقد أجابه الناس في ذلك فكان جواب القاضي عبد الوهاب
المالكي - رحمه الله - أن قال: لما كانت أمينة كانت ثمينة ولما خانت هانت. ومنهم من قال هذا من تمام الحكمة
والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجني
عليها وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال فهذا هو
عين الحكمة عند ذوي الألباب. ولهذا قال " جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم " أي مجازاة على
58

صنيعهما السئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك نكالا من الله أي تنكيلا من
الله بهما على ارتكاب ذلك " والله عزيز " أي في انتقامه " حكيم " أي في أمره ونهيه وشرعه وقدره. ثم قال تعالى
" فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم " أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله فإن الله
يتوب عليه فيما بينه وبينه فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور وقال أبو حنيفة: متى قطع وقد
تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أتي بسارق قد سرق شملة فقال: ما أخاله سرق فقال السارق: بلى يا رسول الله قال: " اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم
ائتوني به " فقطع فأتى به فقال: " تب إلى الله " فقال: تبت إلى الله فقال: " تاب الله عليك " وقد روى من وجه آخر
مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني وابن خزيمة رحمهما الله. وروى ابن ماجة من حديث ابن لهيعة عن يزيد بن
أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمر بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا فأمر به
فقطعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منه أردت أن تدخلي جسدي النار. وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب
حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة عن حيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحلي عن عبد الله بن عمرو قال:
سرقت امرأة حليا فجاء الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " اقطعوا يدها اليمنى "
فقالت: المرأة هل من توبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " قال فأنزل الله عز وجل
" فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم " وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا فقال
حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثني يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو أن امرأة
سرقت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا قال قومها: فنحن
نفديها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقطعوا يدها " فقالوا: نحن نفديها بخمسمائة دينار فقال: " اقطعوا يدها " فقطعت يدها
اليمنى فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله قال: " نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك " فأنزل الله في
سورة المائدة " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم " وهذه المرأة هي المخزومية
التي سرقت. وحديثها ثابت في الصحيحين من رواية الزهري عن عروة عن عائشة أن قريشا أهمهم شأن المرأة التي
سرقت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الفتح فقالوا: من يكلم فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن
زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فيها أسامة بن زيد فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أتشفع في
حد من حدود الله عز وجل " فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله فلما كان العشي قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاختطب فأثنى
على الله بما هو أهله ثم قال: " أما بعد فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق
فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " ثم أمر بتلك
المرأة التي سرقت فقطعت يدها قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد وتزوجت وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لفظ مسلم وفي لفظ له عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها وعن ابن عمر قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده فأمر
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وهذا لفظه وفي لفظ له: أن امرأة كانت تستعير الحلي
للناس ثم تمسكه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لتتب هذه المرأة إلى الله وإلى رسوله وترد ما تأخذ على القوم ثم قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها " وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام
ولله الحمد والمنة ثم قال تعالى " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " أي هو المالك لجميع ذلك
الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ
قدير ".
59

* يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا
سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن
لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم
في الدنيا خزى ولهم في الآخرة عذاب عظيم (41) سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم
أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب
المقسطين (42) وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (43)
إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من
كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون (44)
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر الخارجين عن طاعة الله ورسوله المقدمين آراءهم وأهواءهم
على شرائع الله عز وجل " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " أي أظهروا الايمان بألسنتهم وقلوبهم
خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون " من الذين هادوا " أعداء الاسلام وأهله وهؤلاء كلهم " سماعون
للكذب " أي مستجيبون له منفعلون عنه " سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " أي يستجيبون لاقوام آخرين لا يأتون
مجلسك يا محمد وقيل المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك
" يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون " يقولون إن
أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا " قيل نزلت في أقوام من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا: تعالوا حتى نتحاكم إلى
محمد فإن حكم بالدية فاقبلوه وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه. والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا
وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الامر برجم من أحصن منهم فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد
مائة جلدة والتحميم والركاب على حمارين مقلوبين فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم تعالوا
حتى نتحاكم إليه فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد
حكم بينكم بذلك وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك وقد وردت الأحاديث بذلك فقال مالك عن نافع عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا فقال لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا نفضحهم ويجلدون قال عبد الله بن سلام كذبتم إن
فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن
سلام إرفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما فرأيت الرجل
يحني على المرأة يقيها الحجارة ". أخرجاه وهذا لفظ البخاري وفي لفظ له قال لليهود ما تصنعون بهما؟ قالوا نسخم
وجوههما ونخزيهما قال " فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " فجاؤوا فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعور: اقرأ
فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه فقال ارفع يدك فرفع فإذا آية الرجم تلوح قال يا محمد إن فيها آية
الرجم ولكنا نتكاتمه بيننا فأمر بهما فرجما وعند مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا فانطلق
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال " ما تجدون في التوراة على من زنى؟ قالوا نسود وجوههما ونحممها ونحملهما
60

ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال " فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين " قال فجاؤوا بها فقرؤوها حتى إذا مر
بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال له عبد الله بن سلام وهو مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم مره فليرفع يده فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. قال عبد الله بن عمر
كنت فيمن رجمهما فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. وقال أبو داود حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني حدثنا ابن
وهب حدثنا هشام بن سعد أن زيد بن أسلم حدثه عن ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم قال ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وسادة فجلس عليها ثم قال " ائتوني بالتوراة " فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك
وبمن أنزلك ثم قال " ائتوني بأعلمكم " فأتى بفتى شاب ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع وقال
الزهري: سمعت رجلا من مزينة ممن يتبع العلم ويعيه ونحن عند ابن المسيب عن أبي هريرة قال زنى رجل من
اليهود بامرأة فقال بعضهم لبعض اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيف فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلنا
واحتججنا بها عند الله قلنا فتيا نبي من أنبيائك قال فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا يا أبا
القاسم ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا؟ فلم يكلهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال
" أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن " قالوا يحمم ويجبه
ويجلد والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما قال وسكت شاب منهم فلما رآه
رسول الله صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النشدة فقال اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" فما أول ما ارتخصتم أمر الله " فقال زنى ذو قرابة من ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم ثم زنى رجل في إثره من
الناس فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا نرجم صاحبنا حتى تجئ بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة
بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فإني أحكم بما في التوراة " فأمر بهما فرجما قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا " فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم رواه أحمد وأبو داود وهذا
لفظه وابن جرير وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال مر
على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم مجلود فدعاهم فقال " أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم " فقالوا نعم فدعا رجلا
من علمائهم فقال: " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ". فقال لا والله ولولا
أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف
تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا
على التحميم والجلد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه " قال فأمر به فرجم قال فأنزل الله
عز وجل " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر
إلى قوله " يقولون إن أؤتيتم هذا فخذوه " أي
يقولون ائتوا محمدا فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا إلى قوله " من لم يحكم بما
أنزل الله فأولئك هم الكافرون " قال في اليهود إلى قول " من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " قال
في اليهود " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " قال في الكفار كلها انفرد بإخراجه مسلم دون
البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من غير وجه عن الأعمش به وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي
في مسنده حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مجالد بن سعيد الهمداني عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال زنى رجل
من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدا عن ذلك فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه
وإن أمركم بالرجم فلا تأخذوه عنه فسألوه عن ذلك فقال " أرسلوا إلى أعلم رجلين فيكم " فجاؤوا برجل أعور يقال
له ابن صوريا وآخر فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم " أنتما أعلم من قبلكما " فقالا قد دعانا قومنا لذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما
" أليس عندكما التوراة فيها حكم الله " قالا بلى فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل
61

عليكم الغمام وأنجاكم من آل فرعون وأنزل المن والسلوى على بني إسرائيل ما تجدون في التوراة في شأن
الرجم " فقال أحدهما للآخر ما نشدت بمثله قط ثم قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية والتقبيل زنية فإذا شهد
أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد كما يدخل الميل في المكحلة فقد وجب الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو ذاك " فأمر به
فرجم فنزلت " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم
بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ". ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث مجالد به نحوه ولفظ أبي داود عن
جابر قال جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال ائتوني بأعلم رجلين منكم " فأتوا بابني صوريا فنشدهما " كيف
تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا نجد إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما
قال فما يمنعكم أن ترجموهما قالا ذهب سلطاننا فكرهنا القتل فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود فجاء أربعة فشهدوا أنهم
رأوا ذكره مثل الميل في المكحلة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما. ثم رواه أبو داود عن الشعبي وإبراهيم النخعي
مرسلا ولم يذكر فيه فدعا بالشهود فشهدوا فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة
وليس هذا من باب الاكرام لهم بما يعتقدون صحته لانهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ولكن هذا
بوحي خاص من الله عز وجل إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطؤا على كتمانه
وجحده وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع علمهم على خلافه بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم
لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم وعدو لهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة
آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ولهذا قالوا " إن أوتيتم هذا " أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه " وإن
لم تؤتوه فاحذروا " أي من قبوله واتباعه. قال الله تعالى " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك
الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب " أي الباطل
" أكالون للسحت " أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله
قلبه وأنى يستجيب له ثم قال لنبيه " فإن جاؤوك " أي يتحاكمون إليك " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن
تعرض عنهم فلن يضروك شيئا " أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم لانهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق
بل ما يوافق أهواءهم قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني
والحسن وغير واحد هي منسوخة بقوله " وأن احكم بينهم بما أنزل الله "، " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط "
أي بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل " إن الله يحب المقسطين " ثم قال تعالى منكرا
عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم الذي
يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدا ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الامر بطلانه
وعدم لزومه لهم فقال " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك
بالمؤمنين " ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها " والربانيون
والاحبار " أي وكذلك الربانيون وهم العلماء العباد والاحبار وهم العلماء " بما استحفظوا من كتاب الله " أي بما
استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به " وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشوني " أي لا
تخافوا منهم وخافوا مني " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " فيه قولان
سيأتي بيانهما.
سبب آخر في نزول الآيات الكريمات
وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن العباس حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله عن ابن
عباس قال إن الله أنزل " من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وأولئك هم الظالمون وأولئك هم
62

الفاسقون قال: قال ابن عباس أنزلها الله في الطائفتين من اليهود وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية
حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قاتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا وكل قتيل قتلته الذليلة من
العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى
الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة وهل كان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد دية بعضهم
نصف دية بعض إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم فأما إذا قدم محمد فلا نعطيكم فكادت الحرب تهيج
بينهما ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ثم ذكرت العزيزة فقالت والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما
يعطيهم منكم ولقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه إن أعطاكم ما
تريدون حكمتموه وأن لم يعطيكم حذرتم فلم تحكموه فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا من المنافقين
ليخيروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله وما
أرادوا فأنزل الله تعالى " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " إلى قوله " الفاسقون " ففيهم والله أنزل
وإياهم عنى الله عز وجل. ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه بنحوه. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا
هناد بن السري وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن
ابن عباس أن الآيات التي في المائدة قوله " فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إلى المقسطين " إنما أنزلت في الدية
في بني النضير وبني قريظة وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدى الدية كاملة وأن قريظة كان يؤدى لهم
نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك
فجعل الدية في ذلك سواء والله أعلم أي ذلك كان ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن إسحاق بنحوه ثم
قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال
كانت فريظة والنضير وكانت النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل القرظي رجلا من النضير قتل به وإن قتل النضيري
رجلا من قريظة ودي بمائة وسق من تمر فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجلا من النضير رجلا من قريظة فقالوا ادفعوه
إليه فقالوا بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان
والحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن موسى بنحوه وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حبان وابن زيد وغيره
واحد وروى العوفي وعلي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا
كما تقدمت الأحاديث بذلك وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد فنزلت هذه الآيات في ذلك كله والله
أعلم ولهذا قال بعد ذلك " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين " إلى آخرها وهذا يقوي أن سبب
النزول قضية القصاص والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون "
قال البراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وابن عباس وأبو مجلز وأبو رجاء العطاردي وعكرمة وعبيد الله بن عبد الله
والحسن البصري وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب زاد الحسن البصري وهي علينا واجبة وقال عبد الرزاق عن سفيان
الثوري عن منصور عن إبراهيم قال نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها رواه ابن جرير
وقال ابن جرير أيضا حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبر عبد الملك بن أبي سليمان عن سلمة بن كهيل عن علقمة
ومسروق أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال من السحت قال: فقالا وفي الحكم قال ذاك الكفر ثم تلا " ومن لم
يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقال السدي " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " يقول ومن
لم يحكم بما أنزلت فتركه عمدا أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " ومن
لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " قال من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقر به فهو ظالم فاسق رواه ابن
جرير ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب وقال عبد الرزاق عن
الثوري عن زكريا عن الشعبي ومن لم يحكم بما أنزل الله قال للمسلمين.
63

وقال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا عبد الصمد حدثنا شعبة بن أبي السفر عن الشعبي " ومن لم يحكم بما أنزل
الله فأولئك هم الكافرون " قال هذا في المسلمين " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون قال هذا في
اليهود " ومن لم يحكم بما أنزل الله أولئك هم الفاسقون " قال هذا في النصارى وكذا رواه هشيم والثوري عن
زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي وقال عبد الرزاق أيضا أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال سئل ابن عباس عن
قوله " ومن لم يحكم " الآية قال هي به كفر قال ابن طاوس وليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله وقال الثوري
عن ابن جريج عن عطاء أنه قال كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق رواه ابن جرير وقال وكيع عن سعيد
المكي عن طاوس " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " قال ليس بكفر ينقل عن الملة وقال ابن أبي
حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاوس عن ابن عباس
في قوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " قال ليس بالكفر الذي تذهبون إليه ورواه الحاكم في
مستدركه من حديث سفيان بن عيينة وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح
قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (45)
وهذا أيضا مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس وهم يخالفون ذلك عمدا
وعنادا ويقيدون النضري من القرظي ولا يقيدون القرظي من النضري بل يعدلون إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة
المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والاشهار ولهذا قال
هناك " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " لانهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا وقال
ههنا " فأولئك هم الظالمون " لانهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الامر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين
الجميع فيه فخالفوا وظلموا وتعدوا على بعضهم بعضا وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أدم حدثنا ابن المبارك عن
يونس بن يزيد عن أبي علي بن يزيد عن الزهري عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأها " وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس والعين بالعين " نصب النفس ورفع العين وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من
حديث عبد الله بن المبارك وقال الترمذي: حسن غريب وقال البخاري: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث وقد استدل كثير
ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عن
الجمهور وكما حكاه الشيخ أبو إسحق الأسفرايني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب هذه الآية حيث كان الحكم
عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة رواه ابن أبي
حاتم وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها أن شرع إبراهيم حجة دون غيره وصحح
منها عدم الحجية ونقلها الشيخ أبو إسحاق الأسفرايني أقوالا عن الشافعي وأكثر الأصحاب ورجح أنه حجة عند
الجمهور من أصحابنا فالله أعلم. وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ - رحمه الله - في كتابه الشامل إجماع العلماء على
الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة
وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كتب في كتاب عمرو بن حزم
" أن الرجل يقتل بالمرأة " وفي الحديث الآخر " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وهذا قول جمهور العلماء وعن أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية لان ديتها
على النصف من دية الرجل وإليه ذهب أحمد في رواية وحكى عن الحسن وعثمان البستي ورواية عن أحمد أن
الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها بل تجب ديتها وكذا احتج أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - بعموم هذه الآية على أنه يقتل
المسلم بالكافر وعلى قتل الحر بالعبد وقد خالفه الجمهور فيهما ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي - رضي الله
64

عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقتل مسلم بكافر " وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة أنهم لم يكونوا يقيدون
العبد من الحر ولا يقتلون حرا بعبد وجاء في ذلك أحاديث لا تصح وحكى الشافعي الاجماع على خلاف قول الحنفية
في ذلك ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.
ويؤيد ما قاله ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك كما قال الإمام أحمد: حدثنا
محمد بن أبي عدي حدثنا حميد عن أنس بن مالك أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية فطلبوا إلى القوم العفو فأبوا
فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال القصاص فقال أخوها - أنس بن النضر - يا رسول الله تكسر ثنية فلانة
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا أنس كتاب الله القصاص قال فقال: لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة. قال فرضي
القوم فعفوا وتركوا القصاص فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إن من عباد الله من لو أقسم على الله لابره "
أخرجاه في الصحيحين وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثني الأنصاري في الجزء المشهور من حديثه عن حميد عن
أنس بن مالك أن الربيع بنت النضر عمته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش فأبوا فطلبوا الأرش والعفو
فأبوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع والذي
بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فقال النبي: صلى الله عليه وسلم: " يا أنس كتاب الله القصاص " فعفا القوم فقال رسول الله لله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من عباد
الله من لو أقسم على الله لابره " رواه البخاري عن الأنصاري بنحوه وروى أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا
معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن حصين أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس
أغنياء فأتى أهله النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله إنا أناسا فقراء فلم يجعل عليه شيئا وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن
راهويه عن معاذ بن هشام الدستوائي عن أبيه عن قتادة به وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات وهو حديث مشكل اللهم
إلا أن يقال إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو
استعفاهم عنه وقوله تعالى " والجروح قصاص " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: تقتل النفس بالنفس وتفقأ
العين بالعين وتقطع الانف بالأنف وتنزع السن بالسن وتقتص الجراح بالجراح فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما
بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان عمدا في النفس وما دون النفس ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا
كان عمدا في النفس وما دون النفس رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
(قاعدة مهمة)
الجراح تارة تكون في مفصل فيجب فيه القصاص بالاجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك وأما إذا لم
تكن الجراح في مفصل بل في عظم فقال مالك: - رحمه الله - فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يجب القصاص في شئ من العظام إلا في السن وقال الشافعي: لا يجب القصاص في
شئ من العظام مطلقا وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس وبه يقول: عطاء والشعبي والحسن البصري
والزهري لإبراهيم النخعي وعمر بن عبد العزيز وإليه ذهب سفيان الثوري والليث بن سعد وهو المشهور من مذهب
الإمام أحمد وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله - بحديث الربيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في
السن وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب
القصاص والحالة هذه بالاجماع وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة من طريق أبي بكر بن عياش عن دهشم بن قران عن
نمران بن جارية عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل فقطعها
فاستعدى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بالدية فقال: يا رسول الله أريد القصاص فقال: " خذ الدية بارك الله لك فيها ولم يقض له
بالقصاص " وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: ليس لهذا الحديث غير هذا الاسناد ودهشم بن قران الكعلي ضعيف
أعرابي ليس حديثه مما يحتج به ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضا وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة ثم
65

قالوا: لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجني عليه فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه فلا
شئ له والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا طعن رجلا بقرن في
ركبته فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني فقال: " حتى تبرأ " ثم جاء إليه فقال أقدني فأقاده فقال: يا رسول الله عرجت فقال:
" قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك " ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. تفرد به
أحمد " مسألة " فلو اقتص المجني عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شئ عليه عند مالك والشافعي وأحمد
بن حنبل وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة: تجب الدية في مال المقتص وقال عامر
الشعبي وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار والحارث العكلي وابن أبي ليلى وحماد بن أبي سليمان والزهري والثوري:
تجب الدية على عاقلة المقتص له وقال ابن مسعود وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وعثمان البستي يسقط عن
المقتص له قدر تلك الجراحة ويجب الباقي في ماله. وقوله تعالى " فمن تصدق به فهو كفارة له " قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس " فمن تصدق به " يقول فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب وقال
سفيان الثوري: عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: فمن تصدق به فهو كفارة للجارح وأجر
المجروح على الله عز وجل رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وروى عن خيثمة بن عبد الرحمن ومجاهد وإبراهيم في أحد
قوليه وعامر الشعبي وجابر بن زيد نحو ذلك (الوجه الثاني) ثم قال: ابن أبي حاتم حدثنا حماد بن زاذان حدثنا
حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة عن عثمان - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل عن جابر بن عبد الله في قول الله
عز وجل " فمن تصدق به فهو كفارة " له قال: المجروح وروى عن الحسن البصري وإبراهيم النخعي في أحد قوليه
وأبي إسحاق الهمداني نحو ذلك وروى ابن جرير عن عامر الشعبي وقتادة مثله وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن
حبيب حدثنا أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن قيس يعني ابن مسلم قال: سمعت طارق ابن شهاب يحدث عن
الهيثم بن العريان النخعي قال: رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية - أحمر شبيها بالموالي - فسألته عن قول الله " فمن
تصدق به فهو كفارة له " قال: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به. وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم
وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة وقال ابن مردويه: حدثني محمد بن علي حدثنا عبد الرحيم بن محمد
المجاشعي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي حدثنا معلى - يعني ابن
هلال - أنه سمع أبان بن ثعلب عن العريان بن الهيثم بن الأسود عن عبد الله بن عمرو عن أبان بن ثعلب عن الشعبي عن
رجل من الأنصار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله " فمن تصدق به فهو كفارة له " قال " هو الذي تكسر سنه أو تقطع يده أو
يقطع الشئ منه أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك " (قال) فيحط عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه وإن
كان الثلث فثلث خطاياه وإن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك " ثم قال ابن جرير: حدثنا زكريا بن يحيى بن
أبي زائدة حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا
من الأنصار فاندقت ثنيته فرفعه الأنصاري إلى معاوية فلما ألح عليه الرجل قال: شأنك وصاحبك قال: وأبو
الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من مسلم يصاب بشئ من جسده فيهبه إلا رفعه
الله به درجة وحط عنه به خطيئة " فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمعته أذناي ووعاه قلبي.
فخلى سبيل القرشي فقال معاوية: مروا له بمال هكذا رواه ابن جرير ورواه الإمام أحمد فقال حدثنا وكيع حدثنا
يونس بن أبي إسحاق عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية:
إنا سنرضيه فألح الأنصاري فقال معاوية: شأنك بصاحبك وأبو الدرداء جالس فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: " ما من مسلم يصاب بشئ من جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه به خطيئة " فقال
الأنصاري: فإني قد عفوت وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك وابن ماجة من حديث وكيع كلاهما عن
يونس بن أبي إسحاق به ثم قال الترمذي: غريب من هذا الوجه ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء وقال
ابن مردويه: حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا محمد بن علي بن زيد حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمران بن
66

ظبيان عن عدي بن ثابت أن رجلا هتم فمه رجل على عهد معاوية - رضي الله عنه - فأعطى دية فأبى إلا أن يقتص فأعطى
ديتين فأبى فأعطى ثلاثا فأبى فحدث رجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من
تصدق بدم فما دونه فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت " وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح ابن النعمان حدثنا هشيم
عن المغيرة عن الشعبي أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما من رجل يجرح من جسده
جراحة فيتصدق بها إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به " ورواه النسائي عن علي بن حجر عن جرير بن عبد الحميد.
ورواه ابن جرير عن محمود بن خداش عن هشيم كلاهما عن مغيرة به وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد
القطان عن مجالد عن عامر عن المحرر بن أبي هريرة عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أصيب بشئ من
جسده فتركه لله كان كفارة له ".
وقوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كفر دون كفر وظلم
دون ظلم وفسق دون فسق.
وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا
لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين (46) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم
بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (47)
يقول تعالى " وقفينا " أي اتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل " بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من
التوراة " أي مؤمنا بها حاكما بما فيها " وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور " أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة
الشبهات وحل المشكلات " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " أي متبعا لها غير مخالف لما فيها إلا في القليل مما
بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه كما قال تعالى إخبارا عن المسيح أنه قال: لبني إسرائيل " ولاحل لكم
بعض الذي حرم عليكم " ولهذا كان المشهور من قول العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة وقوله تعالى
" وهدى وموعظة للمتقين " أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به وموعظة أي زاجرا عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين أي لمن
اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وقوله تعالى " وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه " قرئ وليحكم أهل الإنجيل
بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم وقرئ وليحكم بالجزم على أن اللام
لام الامر أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه ومما فيه البشارة ببعثة محمد والامر باتباعه وتصديقه إذا وجد
كما قال تعالى " قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم " الآية.
وقال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة " إلى قوله " المفلحون "
ولهذا قال ههنا " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " أي الخارجون عن طاعة ربهم الماثلون إلى
الباطل التاركون للحق وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق.
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا
تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة
ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (48) وأن
أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا
67

فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون (49) أفحكم الجاهلية يبغون
ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون (50)
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمة ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع وذكر
الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله
الكريم فقال تعالى: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق " أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله " مصدقا لما بين
يديه من الكتاب " أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله
محمد - صلى الله عليه وسلم - فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقا عند حامليها من ذوي البصائر الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا
شرائع الله وصدقوا رسل الله كما قال تعالى " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا
ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدم من مجئ محمد
- عليه السلام - لمفعولا أي لكائنا لا محالة حسن. وقوله تعالى " ومهيمنا عليه " قال: سفيان الثوري وغيره عن أبي
إسحق عن التميمي عن ابن عباس أي مؤتمنا عليه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس المهيمن الأمين قال:
القرآن أمين على كل كتاب قبله ورواه عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة
وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك وقال ابن جرير: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله فما وافقه منها
فهو حق وما خالفه منها فهو باطل وعن الوالبي عن ابن عباس " ومهيمنا " أي شهيدا وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي
وقال العوفي عن ابن عباس " ومهيمنا " أي حاكما على ما قبله من الكتب وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن
اسم المهيمن يتضمن هذا كله فهو: أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله
آخر الكتب وخاتمها وأشملها وأعظمها وأكملها حيث جمع فيه محاسن ما قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره
فلهذا جعله شاهدا وأمينا وحاكما عليها كلها وتكفل تعالى حفظه بنفسه الكريمة فقال تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحافظون " فأما ما حكاه ابن أبي حاتم عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء الخراساني وابن أبي نجيح عن مجاهد
أنهم قالوا في قوله " ومهيمنا عليه ": يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - أمين على القرآن فإنه صحيح في المعنى ولكن في تفسير هذا
بهذا نظر وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضا نظر وبالجملة فالصحيح الأول وقال أبو جعفر بن جرير بعد حكايته له
عن مجاهد وهذا التأويل بعيد عن المفهوم في كلام العرب بل هو خطأ وذلك أن المهيمن عطف على المصدق فلا
يكون إلا صفة لما كان المصدق صفة له ولو كان الامر كما قال مجاهد لقال " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما
بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " يعني من غير عطف وقوله تعالى " فاحكم بينهم بما أنزل الله " أي فاحكم يا
محمد بين الناس عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم بما أنزل الله إليك من هذا الكتاب العظيم وبما قرره لك من حكم
من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك هكذا وجهه ابن جرير بمعناه قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عمار
حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان
النبي - صلى الله عليه وسلم - مخيرا إن شاء حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم فنزلت " وأن احكم بينهم بما أنزل الله
ولا تتبع أهواءهم " فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بما في كتابنا وقوله " ولا تتبع أهواءهم " أي آراءهم التي
اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ولهذا قال تعالى " ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " أي لا
تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء وقوله تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة
ومنهاجا " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن يوسف بن أبي إسحق عن أبيه عن
التميمي عن ابن عباس " لكل جعلنا منكم شرعة " قال سبيلا وحدثنا أبو سعيد حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي إسحق
عن التميمي عن ابن عباس " ومنهاجا " قال سنة. وكذا روى العوفي عن ابن عباس " شرعة ومنهاجا " سبيلا وسنة
68

وكذا روى عن مجاهد وعكرمة والحسن البصري وقتادة والضحاك والسدي وأبي إسحق السبيعي أنهم قالوا في قوله
" شرعة ومنهاجا " أي سبيلا وسنة وعن ابن عباس أيضا ومجاهد أي وعطاء الخراساني عكسه شرعة ومنهاجا أي سنة
وسبيلا والأول أنسب فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا هي ما يبتدأ فيه إلى الشئ ومنه يقال شرع في كذا أي ابتدأ
فيه وكذا الشريعة وهى ما يشرع فيها إلى الماء. أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل والسنن الطرائق
فتفسير قوله " شرعة ومنهاجا " بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم ثم هو إخبار عن الأمم
المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الاحكام المتفقة في التوحيد كما ثبت في
صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحدا " يعني بذلك
التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا
نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "
الآية وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي فقد يكون الشئ في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة
الأخرى وبالعكس وخفيفا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة
الدامغة قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قوله " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " يقول سبيلا وسنة والسنن
مختلفة هي في التوراة شريعة وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم
من يطيعه ممن يعصيه والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والاخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم
الصلاة والسلام وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة ومعناه لكل جعلنا القرآن منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا أي
هو لكم كلكم تقتدون به وحذف الضمير المنصوب في قوله " لكل جعلنا منكم " أي جعلناه يعني القرآن شرعة
ومنهاجا أي سبيلا إلى المقاصد الصحيحة وسنة أي طريقا ومسلكا واضحا بينا هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن
مجاهد رحمه الله والصحيح القول الأول ويدل على ذلك قوله تعالى بعده " ولو يشاء الله لجعلكم أمة واحدة " فلو
كان هذا خطابا لهذه الأمة لما صح أن يقول " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة " وهم أمة واحدة ولكن هذا خطاب
لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ
شئ منها ولكنه تعالى شرع لكل رسول شريعة على حدة ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده حتى نسخ
الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ولهذا قال
تعالى " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم " يعني أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده
فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله وقال عبد الله بن كثير
" فيما آتاكم " يعني من الكتاب ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال " فاستبقوا
الخيرات " وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخا لما قبله والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله
ثم قال تعالى " إلى الله مرجعكم " أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة " فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون "
أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق
العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان بل هم معاندون للبراهين القاطعة والحجج البالغة والأدلة الدامغة وقال
الضحاك: " فاستبقوا الخيرات " يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والأول أظهر وقوله " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع
أهواءهم " تأكيد لما تقدم من الامر بذلك النهي عن خلافه ثم قال " واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "
أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة " فإن
تولوا " أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله " فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم " أي
فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت
إضلالهم ونكالهم " وإن كثيرا من الناس لفاسقون " أي إن أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق
ناكبون عنه كما قال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " وإن تطع أكثر من في الأرض
69

يضلوك عن سبيل الله " الآية وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت حدثني
سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد وابن صلوبا وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس
بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا: يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم
وساداتهم وأنا إن أتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم
ونؤمن ونصدقك فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله عز وجل فيهم " وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك " إلى قوله " لقوم يوقنون " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقوله تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله
المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم
وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق وهو
عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الاسلامية وغيرها. وفيها
كثير من الاحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا
كثير قال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون " أي يبتغون ويريدون وعن حكم الله يعدلون " من أحسن من الله حكما لقوم
يوقنون " أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم
بخلقه من الوالدة بولدها فإنه تعالى هو العالم بكل شئ القادر على كل شئ العادل في كل شئ. وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا هلال بن فياض حدثنا أبو عبيدة الناجي قال: سمعت الحكم يقول: من حكم بغير حكم الله
فحكم الجاهلية. وأخبرنا يونس بن عبد الاعلى قراءة حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح قال: كان طاوس
إذا سأله رجل: أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ " أفحكم الجاهلية يبغون " الآية. وقال الحافظ أبو القاسم
الطبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع أنا شعيب بن أبي حمزة عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين عن نافع بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أبغض الناس إلى
الله عز وجل من يبتغي في الاسلام سنة الجاهلية وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه " وروى البخاري عن أبي
اليمان بإسناده نحوه بزيادة.
* يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله
لا يهدى القوم الظالمين (51) فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى
الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين (52) ويقول الذين آمنوا أهؤلاء
الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين (53)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الاسلام وأهله - قاتلهم الله - ثم أخبر
أن بعضهم أولياء بعض ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " الآية قال ابن أبي
حاتم: حدثنا كثير بن شهاب حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب
عن عياض: أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد وكان له كاتب نصراني
فرفع إليه ذلك فعجب عمر وقال: إن هذا لحفيظ هل أنت قارئ لنا كتابا في المسجد جاء من الشام فقال: إنه لا
70

يستطيع فقال عمر: أجنب هو قال لا بل نصراني قال: فانتهرني وضرب فخذي ثم قال: أخرجوه ثم قرأ " يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " الآية. ثم قال: حدثنا محمد بن الحسن عن محمد بن الصباح حدثنا
عثمان بن عمر أنبأنا ابن عون عن محمد بن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة ليتق أحدكم أن يكون يهوديا أو
نصرانيا وهو لا يشعر قال: فظنناه يريد هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " الآية.
وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن فضيل عن عاصم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب
فقال كل. قال الله تعالى " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " وروى عن أبي الزناد نحو ذلك وقوله تعالى " فترى الذين في
قلوبهم مرض " أي شك وريب ونفاق يسارعون فيهم أي يبادرون إلى مولاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر " يقولون
نخشى أن تصيبنا دائرة " أي يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين
فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك قال الله تعالى " فعسى الله أن يأتي بالفتح " قال
السدي يعني فتح مكة وقال غيره يعني القضاء والفصل " أو أمر من عنده " قال السدي يعني ضرب الجزية على
اليهود والنصارى " فيصبحوا " يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين " على ما أسروا في أنفسهم " من
الموالاة " نادمين " أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئا ولا دفع عنهم محذورا بل كان عين المفسدة فإنهم
فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين بعد أن كانوا مستورين لا يدري كيف حالهم فلما انعقدت
الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم بعباد الله المؤمنين فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين
ويحلفون على ذلك ويتأولون فبأن كذبهم وافتراؤهم. ولهذا قال تعالى " ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا
بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " وقد اختلف القراء في هذا الحرف فقرأه
الجمهور بإثبات الواو في قوله " ويقول " ثم منهم من رفع ويقول على الابتداء ومنهم من نصب عطفا على قوله
" فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده " فتقديره أن يأتي وأن يقول وقرأ أهل المدينة " يقول الذين آمنوا " بغير
واو وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير قال: ابن جريج عن مجاهد " فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر
من عنده " تقديره حينئذ " يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم
فأصبحوا خاسرين " واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات فذكر السدي أنها نزلت في رجلين
قال أحدهما: لصاحبه بعد وقعة أحد أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهود معه لعله ينفعني إذا
وقع أمر أو حدث حادث وقال الآخر أما أنا فاني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه فأنزل الله
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " الآيات وقال عكرمة نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر
حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة فسألوه ماذا هو صانع بنا فأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح رواه ابن
جرير. وقيل نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كما قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا ابن إدريس قال سمعت
أبي عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا
رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود وأتولى الله ورسوله فقال
عبد الله بن أبي: إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعبد الله
ابن أبي " يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه " قال قد قبلت فأنزل
الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " الآيتين ثم قال ابن جرير: حدثنا هناد حدثنا
يونس بن بكير حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري قال لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود
أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر فقال مالك بن الصيف أغركم إن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم
بالقتال أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا فقال عبادة بن الصامت يا رسول الله إن
أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم. كثيرا سلاحهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود
71

ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله بن أبي لكني لا أبرأ من ولاية يهود إني رجل لا بد لي منهم فقال:
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت
فهو لك دونه " فقال: إذا أقبل قال فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء " إلى قوله
تعالى " والله يعصمك من الناس " وقال محمد بن إسحاق فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنو قينقاع فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال فحاصرهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -
حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبد الله بن أبي ابن سلول حين أمكنه الله منهم فقال: يا محمد أحسن في موالي
وكانوا حلفاء الخزرج قال فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال يا محمد أحسن في موالي قال
فأعرض عنه قال فأدخل يده في جيب درع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلني وغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال: " ويحك أرسلني " قال لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربعمائة حاسر
وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدني في غداة واحدة إني امرؤ أخشى الدوائر قال: فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هم لك " قال محمد بن إسحاق فحدثي أبو إسحاق بن يسار عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن
الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي وقام دونهم ومشى عبادة بن
الصامت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم. مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم
إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم وقال: يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم وأتولى
الله ورسوله والمؤمنين وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة " يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم - إلى قوله - ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله
هم الغالبون " وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زيادة عن محمد بن
إسحاق عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي نعوده فقال له
النبي - صلى الله عليه وسلم - " قد كنت أنهاك عن حب يهود ". فقال عبد الله فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. وكذا رواه أبو داود
من حديث محمد بن إسحاق.
يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على
الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (54)
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (55) ومن يتول الله
ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون (56)
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته فإن الله يستبدل به من هو خيرا لها منه
وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " وقال تعالى " إن يشأ
يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " أي بممتنع ولا صعب وقال تعالى ههنا " يا أيها الذين آمنوا
من يرتد منكم عن دينه " أي يرجع عن الحق إلى الباطل. قال محمد بن كعب نزلت في الولاة من قريش. وقال
الحسن البصري نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر. " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قال الحسن هو والله أبو
بكر وأصحابه رواه ابن أبي حاتم وقال أبو بكر بن أبي شيبة سمعت أبا بكر بن عياش يقول: في قوله " فسوف يأتي
الله بقوم يحبهم ويحبونه " هم أهل القادسية وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد هم قوم من سبأ وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبن سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن الأجلح عن محمد بن عمرو عن سالم عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قوله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قال ناس من أهل اليمن ثم من كندة من السكون. وحدثنا
72

أبي حدثنا محمد بن المصفى حدثنا معاوية يعني ابن حفص عن أبي زياد الحلفاني عن محمد بن المنكدر عن جابر بن
عبد الله قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قال " هؤلاء قوم من أهل اليمن
ثم من كندة ثم من السكون ثم من تجيب ". وهذا حديث غريب جدا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمر بن شبة حدثنا
عبد الصمد يعني ابن عبد الوارث حدثنا شعبة عن سماك سمعت عياضا يحدث عن أبي موسى الأشعري قال لما نزلت
" فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هم قوم هذا " ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه.
وقوله تعالى " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " هذه صفات المؤمنين الكمل أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه
ووليه متعززا على خصمه وعدوه كما قال تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " وفي
صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه الضحوك القتال فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه. وقوله " عز وجل يجاهدون في سبيل الله
ولا يخافون لومة لائم " أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله وإقامة الحدود وقتال أعدائه والامر بالمعروف والنهي
عن المنكر لا يردهم عن ذلك راد ولا يصدهم عنه صاد ولا يحيك فيهم لوم لائم ولا عذل عاذل قال الإمام أحمد
حدثنا عفان حدثنا سلام أبو المنذر عن محمد بن واسع عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال أمرني
خليلي - صلى الله عليه وسلم - بسبع: أمرني بحب المساكين والدنو منهم وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو
فوقي وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرا
وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم وأمرني أن أكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنهن من كنز تحت العرش
وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان عن أبي المثنى أن أبا ذر - رضي الله عنه - قال بايعني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسا وواثقني سبعا وأشهد الله على سبعا أني لا أخاف في الله لومة لائم قال أبو ذر فدعاني
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال هل لك إلى بيعة ولك الجنة. قلت نعم وبسطت يدي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يشترط علي " أن لا
تسأل الناس شيئا " قلت نعم قال ولا سوطك وإن سقط منك " يعني تنزل إليه فتأخذه وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا
محمد بن الحسن حدثنا جعفر عن المعلي الفردوسي عن الحسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى
الله تعالى عليه وآله وسلم " ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده فإنه لا يقرب منه أجل ولا
يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم " تفرد به أحمد. وقال أحمد حدثنا عبد الرزاق أنا سفيان عن زبيد عن
عمرو بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر
الله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول مخافة الناس فيقول
إياي أحق أن تخاف ". ورواه ابن ماجة من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به وروى أحمد وابن ماجة من
حديث عبد الله بن عبد الرحمن أبي طوالة عن بهار بن عبد الله العبدي المدني عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال ": إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى إنه ليسأله يقول له أي عبدي أرأيت منكرا فلم تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا
حجته قال أي رب وثقت بك وخفت الناس " وثبت في الصحيح " ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه قالوا وكيف يذل
نفسه يا رسول الله قال: " يتحمل من البلاء ما لا يطيق " " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " أي من اتصف بهذه
الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له " والله واسع عليم " أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه
إياه وقوله تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا " أي ليس اليهود بأوليائكم بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله
والمؤمنين وقوله " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي
هي أكبر أركان الاسلام وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين
من الضعفاء والمساكين. وأما قوله " وهم راكعون ". فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من
قوله " ويؤتون الزكاة " أي في حال ركوعهم ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه
ممدوح وليس الامر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن
علي بن أبي طالب أن هذه الآية نزلت فيه وذلك أنه مر به سائل في حال ركوعه فأعطاه خاتمه وقال ابن أبي حاتم
73

حدثنا الربيع بن سليمان المرادي حدثنا أيوب بن سويد عن عتبة بن أبي حكيم في قوله " إنما وليكم الله ورسوله
والذين آمنوا " قال هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب. وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا الفضل بن دكين أبو نعيم
الأحول حدثنا موسى بن قيس الحضرمي عن سلمة بن كهيل قال تصدق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت " إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثنا
عبد العزيز حدثنا غالب بن عبد الله سمعت مجاهدا يقول في قوله " إنما وليكم الله ورسوله " الآية نزلت في
علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع. وقال عبد الرزاق حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس في قوله
" إنما وليكم الله ورسوله " الآية. نزلت في علي بن أبي طالب. عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به. ورواه ابن
مردويه عن طريق سفيان الثوري عن أبي سنان عن الضحاك عن ابن عباس قال كان علي بن أبي طالب قائما يصلي
فمر سائل وهو راكع فأعطاه خاتمه فنزلت " إنما وليكم الله ورسوله " الآية. الضحاك لم يلقى ابن عباس وروى ابن
مردويه أيضا من طريق محمد بن السائب الكلبي وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس قال خرج رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم - إلى المسجد والناس يصلون بين راكع وساجد وقائم وقاعد وإذا مسكين يسأل فدخل
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال أعطاك أحد شيئا؟ قال نعم قال من؟ قال ذلك الرجل القائم قال " على
أي حال أعطاكه؟ قال وهو راكع قال وذلك علي بن أبي طالب قال فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وهو يقول " من
يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون " وهذا إسناد لا يقدح به ثم رواه ابن مردويه من حديث
علي بن أبي طالب رضي الله عنه نفسه وعمار بن ياسر وأبي رافع وليس يصح شئ منها بالكلية لضعف أسانيدها
وجهالة رجالها ثم روى بإسناده عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله " إنما وليكم الله ورسوله " نزلت في
المؤمنين وعلي بن أبي طالب أولهم وقال ابن جرير حدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبد الملك عن أبي جعفر قال سألته
عن هذه الآية " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " قلنا من الذين
آمنوا؟ قال الذين آمنوا. قلنا بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب قال علي من الذين آمنوا وقال أسباط عن
السدي نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه
خاتمه وقال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس عن أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا رواه ابن جرير
وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - حين تبرأ من
حلف اليهود ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ولهذا قال تعالى بعد هذا كله " ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا
فإن حزب الله هم الغالبون " كما قال تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز * لا تجد قوما يؤمنون بالله
واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم
الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك
حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون ". فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة
ومنصور في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله
هم الغالبون).
يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا
الله إن كنتم مؤمنين (57) وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون (58)
وهذا تنفير من مولاة أعداء الاسلام وأهله من الكتابيين والمشركين الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون وهي
شرائع الاسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي يتخذونها هزوا يستهزئون بها ولعبا
يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد وفكرهم البارد كما قال القائل
74

كم من عائب قولا صحيحا * وآفته من الفهم السقيم
وقوله تعالى " من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار " من ههنا لبيان الجنس كقوله " فاجتنبوا الرجس من الأوثان "
وقرأ بعضهم والكفار بالخفض عطفا وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا
من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم " تقديره ولا " الكفار أولياء " أي لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء والمراد بالكفار
ههنا المشركون وكذا وقع في قراءة ابن مسعود فيها رواه ابن جرير " لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا
من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا " وقوله " واتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أي اتقوا الله أن تتخذوا
هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء إن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوا ولعبا كما قال تعالى " لا يتخذ
المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم
الله نفسه وإلى الله المصير " وقوله " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا " أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى
الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب " اتخذوها " أيضا " هزوا ولعبا ذلك بأنهم قوم لا
يعقلون " معاني عبادة الله وشرائعه وهذه صفات أتباع الشيطان الذي " إذا سمع الاذان أدبر وله حصاص أي ضراط
حتى لا يسمع التأذين فإذا قضي التأذين أقبل فإذا ثوب للصلاة أدبر فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه
فيقول أذكر كذا أذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين
قبل السلام " متفق عليه وقال الزهري قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال " وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا
ولعبا وذلك بأنهم قوم لا يعقلون " رواه ابن أبي حاتم وقال أسباط عن السدي في قوله " وإذا ناديتم إلى الصلاة
اتخذوها هزوا ولعبا " قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أن محمدا رسول الله قال
حرق الكذاب فدخلت خادمة ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شارة فأحرقت البيت فاحترق هو
وأهله رواه ابن جرير وابن بي حاتم وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة عام
الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة فقال
عتاب بن أسيد لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه وقال الحارث بن هشام أما والله لو
أعلم أنه محق لاتبعته فقال أبو سفيان لا أقول شيئا لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصي فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -
فقال " قد علمت الذي قلتم " ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله ما اطلع على هذا أحد
كان معنا فنقول أخبرك وقال الإمام أحمد حدثنا روح بن عبادة حدثنا ابن جريج أخبرنا عبد العزيز بن عبد الملك بن
أبي محذورة أن عبد الله بن محيريز أخبره وكان يتيما في حجر أبي محذورة قال: قلت لأبي محذورة يا عم إني خارج
إلى الشام وأخشى أن أسأل عن تأذينك فأخبرني أن أبا محذورة قال له نعم خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين
مقفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حنين فلقينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض الطريق فأذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عند
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسمعت صوت المؤذن ونحن متنكبون فصرخنا نحكيه ونستهزئ به فسمع رسول الله فأرسل إلينا إلى أن
وقفنا بين يديه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع "؟ فأشار القوم كلهم إلي وصدقوا فأرسل
كلهم وحبسني وقال " قم فأذن " فقمت ولا شئ أكره إلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي
رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فألقى علي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - التأذين هو بنفسه قال " قل الله أكبر
الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله اشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله
حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله " ثم دعاني
حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شئ من فضة ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ثم أمرها على وجهه
ثم بين ثدييه ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " بارك الله فيك
وبارك عليك " فقلت يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة فقال " قد أمرتك به " وذهب كل شئ كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
75

من كراهة وعاد ذلك كله محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأذنت معه
بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة على نحو ما أخبرني
عبد الله بن محيريز هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة من طريق عن
عبد الله بن محيريز عن أبي محذورة واسمه سمرة بن معير بن لوذان أحد مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأربعة وهو مؤذن
أهل مكة وامتدت أيامه - رضي الله عنه - وأرضاه.
قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم
فاسقون (59) قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل (60) وإذا جاءوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر
وهم قد خرجوا به والله أعلم بما كانوا يكتمون (61) وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم والعدوان
وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون (62) لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت
لبئس ما كانوا يصنعون (63)
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب: " هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما
أنزل إلينا وما أنزل من قبل " أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة. فيكون الاستثناء
منقطعا كما في قوله تعالى " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " وكقوله " وما نقموا إلا أن أغناهم الله
ورسوله من فضله " وفي الحديث المتفق عليه " ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله " وقوله " وأن أكثركم
فاسقون " معطوف على " أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل " أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون أي خارجون عن
الطريق المستقيم.
ثم قال " قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله " أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟
وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله " من لعنه الله " أي أبعده من رحمته " وغضب عليه " أي
غضبا لا يرضى بعده أبدا " وجعل منهم القردة والخنازير " كما تقدم بيانه في سوره البقرة وكما سيأتي إيضاحه في
سورة الأعراف وقد قال سفيان الثوري عن علقمة بن يزيد عن المغيرة بن عبد الله عن المعرور بن سويد عن ابن
مسعود قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله فقال " إن الله لم يهلك قوما أو قال لم
يمسخ قوما فيجعل لهم نسلا ولا عقبا وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك " وقد رواه مسلم من حديث سفيان
الثوري ومسعر كلاهما عن مغيرة بن عبد الله اليشكري به وقال أبو داود الطيالسي حدثنا داود بن أبي الفرات عن
محمد بن زيد عن أبي الأعين المعبدي عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير
أهي من نسل اليهود فقال " لا إن الله لم يلعن قوما قط فيمسخهم فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان فلما غضب
الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم " ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات به وقال ابن مردويه حدثنا
عبد الباقي حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح حدثنا الحسن بن محبوب حدثنا عبد العزيز بن المختار عن داود بن أبي
هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الحيات مسخ الجن كما مسخت القردة والخنازير " هذا
حديث غريب جدا وقوله تعالى " وعبد الطاغوت " قرئ وعبد الطاغوت على أنه فعل ماض والطاغوت منصوب
به أي وجعل منهم عبد الطاغوت وقرئ وعبد الطاغوت بالإضافة على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت أي
خدامه وعبيده وقرئ وعبد الطاغوت على أنه جمع الجمع عبد وعبيد وعبد مثل ثمار وثمر حكاها ابن جرير عن
76

الأعمش وحكى عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرؤها وعابد الطاغوت وعن أبي وابن مسعود عبدوا وحكى ابن جرير عن
أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها وعبد الطاغوت على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ثم استبعد معناها والظاهر أنه لا
بعد في ذلك لان هذا من باب التعريض بهم أي وقد عبدت الطاغوت فيكم وأنتم الذين فعلتموه وكل هذه القراءات
يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه كيف
يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر ولهذا قال " أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل " وهذا
من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس الطرف الآخر مشاركة كقوله عز وجل " أصحاب الجنة يومئذ خير
مستقرا وأحسن مقيلا ". وقوله تعالى " وإذا جاؤكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به " وهذه صفة المنافقين
منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ولهذا قال وقد دخلوا أي عندك يا محمد بالكفر
أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ولا نجعت فيهم
المواعظ ولا الزواجر ولهذا قال " وهم قد خرجوا به " فخصهم به دون غيرهم وقوله تعالى " والله أعلم بما كانوا
يكتمون " أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك وتزينوا بما ليس فيهم فإن
عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء، وقوله " وترى كثيرا منهم يسارعون في الاثم
والعدوان وأكلهم السحت " أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم
بالباطل " لبئس ما كانوا يعملون " أي لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم.
وقوله تعالى " لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون " يعني هلا كان
ينهاهم الربانيون والاحبار منهم عن تعاطي ذلك والربانيون هم العلماء العمال أرباب الولايات عليهم والاحبار هم
العلماء فقط " لبئس ما كانوا يصنعون " يعني من تركهم ذلك قاله علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال لهؤلاء حين لم ينهوا ولهؤلاء حين علموا قال وذلك الأركان قال ويعلمون ويصنعون
واحد رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن عطية حدثنا قيس عن العلاء بن المسيب عن
خالد بن دينار عن ابن عباس قال ما في القرآن آية أشد توبيخا من هذه الآية " لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم
الاثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون " قال كذا قرأ وكذا قال الضحاك ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا
لا ننتهي رواه ابن جرير وقال ابن أبي حاتم ذكره يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن مسلم بن أبي
الوضاح حدثنا ثابت أبو سعيد الهمذاني قال لقيته بالري فحدث عن يحيى بن يعمر قال خطب علي بن أبي طالب
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والاحبار
فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل
بهم واعلموا أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن
هارون أنبأنا شريك عن أبي إسحق عن المنذر بن جرير عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من قوم يكون بين
أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ولم يغيروا إلا أصابهم الله منه بعذاب " تفرد به أحمد من هذا الوجه
ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحق عن المنذر بن جرير عن جرير قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يقول: " ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل
أن يموتوا " وقد رواه ابن ماجة عن علي بن محمد عن وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحق عن عبيد الله بن جرير عن
أبيه به قال الحافظ المزي وهكذا رواه شعبة عن إسحاق به.
وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرا منهم
ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب
77

أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين (64) ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا
عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم (65) ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون (66)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة بأنهم وصفوه تعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه بخيل
كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا " يد الله مغلولة " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله
الطهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال: قال ابن عباس: " مغلولة " أي بخيلة
وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس قوله " وقالت اليهود يد الله مغلولة " قال لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة
ولكن يقولون بخيل يعني أمسك ما عنده بخلا تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا وكذا روى عن مجاهد وعكرمة
وقتادة والسدي والضحاك وقرأ " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا "
يعني أنه ينهى عن البخل وعن التبذير وهو زيادة الانفاق في غير محله وعبر عن البخل بقوله " ولا تجعل يدك
مغلولة إلى عنقك " وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله وقد قال عكرمة أنها نزلت في فنحاص
اليهودي عليه لعنة الله وقد تقدم أنه الذي قال " إن الله فقير ونحن أغنياء " فضربه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -
وقال محمد بن إسحاق حدثنا محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود يقال:
له شاس بن قيس إن ربك بخيل لا ينفق فأنزل الله " وقالت اليهود: يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه
مبسوطتان ينفق كيف يشاء " وقد رد الله عز وجل عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه فقال " غلت
أيديهم ولعنوا بما قالوا " وهكذا وقع لهم فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم كما قال تعالى
" أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله " الآية وقال
تعالى " ضربت عليهم الذلة " الآية ثم قال تعالى " بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء " أي بل هو الواسع
الفضل الجزيل العطاء الذي ما من شئ إلا عنده خزائنه وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له الذي
خلق لنا كل شئ مما نحتاج إليه في ليلنا ونهارنا وحضرنا وسفرنا وفي جميع أحوالنا كما قال " وآتاكم من
كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " والآيات في هذا كثيرة وقد قال الإمام أحمد
بن حنبل حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن يمين الله ملاى لا يفيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض
فإنه لم يغض ما في يمينه قال وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض يرفع ويخفض وقال يقول الله تعالى أنفق
أنفق عليك " أخرجاه في الصحيحين البخاري في التوحيد عن علي بن المديني ومسلم فيه عن محمد بن رافع
كلاهما عن عبد الرزاق به وقوله تعالى " وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " أي يكون ما
أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا
صالحا وعلما نافعا يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولامتك طغيانا وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء
وكفرا أي تكذيبا كما قال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى
أولئك ينادون من مكان بعيد " وقال تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا
خسارا " وقوله تعالى " وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة " يعني أنه لا تجتمع قلوبهم بل العداوة واقعة
بين فرقهم بعضهم في بعض دائما لانهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك وقال إبراهيم النخعي " وألقينا
بينهم العداوة والبغضاء " قال الخصومات والجدال في الدين رواه ابن أبي حاتم وقوله " كلما أوقدوا نارا للحرب
78

أطفأها الله " أي كلما عقدوا أسبابا يكيدونك بها وكلما أبرموا أمورا يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم
وحاق مكرهم السئ بهم " ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين " أي من سجيتهم أنهم دائما
يسعون في الافساد في الأرض والله لا يحب من هذه صفته. ثم قال جل وعلا " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا "
أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم " لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم
جنات النعيم " أي لازلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من
ربهم " قال ابن عباس وغيره هو القرآن " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " أي لو أنهم عملوا بما في الكتب
التي بأيديهم عن الأنبياء على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعلم
بمقتضى ما بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والامر باتباعه حتما لا محالة وقوله تعالى " لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرجلهم " يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس " لأكلوا من فوقهم " يعنى لأرسل السماء عليهم مدرارا " ومن تحت أرجلهم " يعني
يخرج من الأرض بركاتها وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبر وقتادة والسدي كما قال تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا
واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " الآية. وقال تعالى " ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي
الناس " الآية. وقال بعضهم معناه " لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم " يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا
عناء وقال ابن جرير: قال بعضهم معناه لكانوا في الخير كما يقول القائل: هو في الخير من فرقه إلى قدمه ثم رد
هذا القول لمخالفته أقوال السلف.
وقد ذكر ابن أبي حاتم عند قوله " ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل " فقال حدثنا علقمة عن صفوان بن عمرو عن
عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " يوشك أن يرفع العلم " فقال زياد بن لبيد يا رسول الله
وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال " ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة
أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله " ثم قرأ " ولو أنهم أقاموا التوراة
والإنجيل ". هكذا أورده ابن أبي حاتم معلقا من أول إسناده مرسلا في آخره وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل
متصلا موصولا فقال: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئا
فقال " وذاك عند ذهاب العلم " قال قلنا يا رسول الله وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا وأبناؤنا يقرؤونه
أبناءهم إلى يوم القيامة فقال " ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة أوليس هذه اليهود
والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون بما فيهما بشئ ". هكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن
وكيع به نحوه وهذا إسناد صحيح. وقوله تعالى " منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " كقوله " ومن قوم
موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وكقوله عن أتباع عيسى " فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم " الآية فجعل أعلى
مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة وفوق ذلك رتبة السابقين كما في قوله عز وجل " ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير جنات
عدن يدخلونها " الآية. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة وقد قال أبو بكر بن مردويه
حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا أحمد بن يونس الضبي حدثنا عاصم بن علي حدثنا أبو معشر عن يعقوب بن يزيد بن
طلحة عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك قال كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين
ملة سبعون منها في النار وواحدة في الجنة وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة واحدة منها في الجنة وإحدى
وسبعون منها في النار وتعلو أمتي على الفرقتين جميعا واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قالوا من هم يا
رسول الله قال " الجماعات الجماعات " قال يعقوب بن زيد كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا فيه قرآنا قال " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم " إلى
79

قوله " منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون " وتلا أيضا قوله تعالى " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه
يعدلون " يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه وبهذا السياق وحديث افتراق الأمم إلى بضع
وسبعين مروي من طرق عديدة وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.
* يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله
لا يهدى القوم الكافرين (67)
يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - باسم الرسالة وآمرا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به وقد امتثل عليه أفضل
الصلاة والسلام ذلك وقام به أتم القيام قال البخاري عند تفسير هذه الآية حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن
إسماعيل عن الشعبي عن مسروق عن عائشة - رضي الله عنها - قالت " من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه
فقد كذب " وهو يقول " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " الآية هكذا رواه هاهنا مختصرا وقد أخرجه
في مواضع من صحيحه مطولا وكذا رواه مسلم في كتاب الايمان والترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننهما من
طرق عن عامر الشعبي عن مسروق بن الأجدع عنها - رضي الله عنها - وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو كان
محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية " وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن
تخشاه " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الرمادي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد عن هارون بن عنترة
عن أبيه قال كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله - صلى الله عليه وسلم
للناس فقال ابن عباس ألم تعلم أن الله تعالى قال " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " والله ما ورثنا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سوداء في بيضاء. وهذا إسناد جيد وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جحيفة وهب بن عبد الله
السوداني قال: قلت لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - هل عندكم شئ من الوحي مما ليس في القرآن فقال لا
والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت وما في هذه الصحيفة قال
العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاري - رضي الله عنه - قال الزهري من الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم وقد شهدت له أمته بإبلاغ
الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع وقد كان هناك من أصحابه نحو
من أربعين ألفا كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يومئذ: " يا أيها الناس إنكم
مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها
إليهم ويقول " اللهم هل بلغت " قال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا فضيل يعني ابن غزوان عن عكرمة عن ابن
عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع: " يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا: يوم حرام قال أي بلد هذا قالوا: بلد
حرام قال فأي شهر هذا قالوا: شهر حرام قال فإن أموالكم ودماءكم وأعرضاكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في
بلدكم هذا في شهركم هذا " ثم أعادها مرارا ثم رفع أصبعه إلى السماء قال " اللهم هل بلغت " مرارا قال يقول ابن
عباس والله لوصية إلى ربه عز وجل ثم قال: " ألا فليبلغ الشاهد الغائب لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض " وقد روى البخاري عن علي بن المديني عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان به نحوه وقوله تعالى
" وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته أي وقد علم ما يترتب
على ذلك لو وقع وقال علي بن أبي طلحة: عن ابن عباس " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " يعني إن كتمت آية مما
أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا قبيصة بن عقبة حدثنا سفيان عن رجل عن
مجاهد قال لما نزلت " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك " قال يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون
علي فنزلت " وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " ورواه ابن جرير من طريق سفيان وهو الثوري به وقوله تعالى
80

" والله يعصمك من الناس " أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم فلا تخف
ولا تحزن فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل نزول هذه الآية يحرس كما قال الإمام أحمد
حدثنا يزيد حدثنا يحيى قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تحدث أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت: فقلت ما شأنك يا رسول الله قال " ليت رجلا صالحا من أصحابي
يحرسني الليلة " قالت فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال " من هذا فقال أنا سعد بن مالك فقال
" ما جاء بك " قال جئت لأحرسك يا رسول الله قالت فسمعت غطيط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نومه أخرجاه في الصحيحين
من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري به وفي لفظ سهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة مقدمه المدينة يعني على أثر هجرته
بعد دخوله بعائشة - رضي الله عنها - وكان ذلك في سنة ثنتين منها وقال ابن أبي حاتم حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري
نزيل مصر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الحرث بن عبيد - يعني أبا قدامة - عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن
عائشة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية " والله يعصمك من الناس - قالت فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من
القبة وقال: " يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي عن عبد بن حميد وعن نصر بن
علي الجهضمي كلاهما عن مسلم بن إبراهيم به ثم قال وهذا حديث غريب وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في
مستدركه من طرق مسلم بن إبراهيم ثم قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه وكذا رواه سعيد ابن منصور عن
الحارث بن عبيد أن قدامة الأيادي عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن عائشة به ثم قال الترمذي وقد روى
بعضهم هذا عن الجريري عن ابن شقيق قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية ولم يذكر عائشة قلت هكذا
رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن علية وابن مردويه من طريق وهيب كلاهما عن الجريري عن عبد الله بن
شقيق مرسلا وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي رواهما ابن جرير والربيع بن
أنس. رواه ابن مردويه ثم قال حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن رشدين المصري حدثنا خالد بن عبد السلام
الصدفي حدثنا الفضل بن المختار عن عبد الله بن موهب عن عصمة بن مالك الخطمي قال كنا نحرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بالليل حتى نزلت " والله يعصمك من الناس " فترك الحرس حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا حمد بن محمد بن حمد
أبو نصر الكاتب البغدادي حدثنا كردوس بن محمد الواسطي حدثنا يعلى بن عبد الرحمن عن فضيل بن مرزوق عن
عطية عن أبي سعيد الخدري قال: كان العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيمن يحرسه فلما نزلت هذه الآية " والله يعصمك
من الناس " ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحرس حدثنا علي بن أبي حامد المديني حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد حدثنا
محمد بن مفضل بن إبراهيم الأشعري حدثنا أبي حدثنا محمد بن معاوية بن عمار حدثنا أبي قال سمعت أبا الزبير
المكي يحدث عن جابر بن عبد الله قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه حتى نزلت " والله
يعصمك من الناس " فذهب ليبعث معه فقال " يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من تبعث " وهذا حديث
غريب وفيه نكارة فإن هذه الآية مدنية وهذا الحديث يقتضي أنها مكية ثم قال حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الحميد الجماني عن النضر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرس فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية " يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " قال فأراد عمه أن
يرسل معه من يحرسه فقال: " إن الله قد عصمني من الجن والإنس " ورواه الطبراني عن يعقوب بن غيلان العماني عن
أبي كريب به.
هذا أيضا حديث غريب والصحيح أن هذه الآية مدنية بل هي من أواخر ما نزل بها والله أعلم ومن عصمة الله
لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له
ليلا ونهارا بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب إذ
81

كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا شرعية ولو كان أسلم لاجترأ عليه
كفارها وكبارها ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه فلما مات عمه أبو طالب نال منه
المشركون أذي يسيرا ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الاسلام وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة فلما صار
إليها منعوه من الأحمر والأسود وكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه كما كاده
اليهود بالسحر فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ولما سمه اليهود في ذراع تلك الشاة
بخيبر أعلمه الله به وحماه منه ولهذا أشباه كثيرة جدا يطول ذكرها فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية
الكريمة.
قال أبو جعفر بن جرير حدثنا الحرث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال من
يمنعك مني فقال " الله عز وجل " فرعدت يد الاعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه
فأنزل الله عز وجل " والله يعصمك من الناس " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن
سعيد القطان حدثنا زيد بن الحباب حدثنا موسى بن عبيدة حدثني زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري
قال لما غزا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه فقال
الحارث من بني النجار: لأقتلن محمدا فقال أصحابه كيف تقتله قال أقول له أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به قال
فأتاه فقال يا محمد أعطني سيفك أشيمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
" حال الله بينك وبين ما تريد " فأنزل الله عز وجل " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة غورث بن الحرث مشهورة
في الصحيح وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا أبو عمرو بن أحمد بن محمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الوهاب حدثنا آدم
حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كنا إذا صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر تركنا له
أعظم شجرة وأظلها فينزل تحتها فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال يا محمد من
يمنعك مني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " الله يمنعني منك ضع السيف " فوضعه فأنزل الله عز وجل " والله يعصمك من
الناس " وكذا رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه عن عبد الله بن محمد عن إسحاق بن إبراهيم عن المؤمل بن
إسماعيل عن حماد بن سلمة به وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسرائيل يعني
الجشمي سمعت جعدة هو ابن خالد بن الصمة الجشمي - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - ورأى رجلا
سمينا فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئ إلى بطنه بيده ويقول " لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك " قال وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -
برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لم ترع ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي " وقوله " إن الله لا
يهدي القوم الكافرين " أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء قال تعالى " ليس عليك هداهم
ولكن الله يهدى من يشاء " وقال " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ".
قل يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم
ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون
والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (69)
يقول تعالى قل يا محمد " يا أهل الكتاب لستم على شئ " أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل أي حتى
تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء وتعملوا بما فيها ومما فيها الايمان بمحمد والامر
82

باتباعه - صلى الله عليه وسلم - والايمان بمبعثه والاقتداء بشريعته. ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله " وما أنزل إليكم
من ربكم " يعني القرآن العظيم وقوله " ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا " تقدم تفسيره
" فلا تأس على القوم الكافرين " أي فلا تحزن عليهم ولا يهيبنك ذلك منهم ثم قال " إن الذين آمنوا " وهم المسلمون
" والذين هادوا " وهم حملة التوراة " والصابئون " لما طال الفصل حسن العطف بالرفع والصابئون طائفة من
النصارى والمجوس ليس لهم دين قاله مجاهد وعنه من اليهود والمجوس وقال سعيد بن جبير من اليهود
والنصارى وعن الحسن والحكم إنهم كالمجوس وقال قتادة هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى غير القبلة
ويقرؤون الزبور وقال وهب بن منبه هم قوم يعرفون الله وحده وليست لهم شريعة يعملون بها ولم يحدثوا كفرا
وقال ابن وهب أخبرني ابن أبي الزناد عن أبيه قال هم قوم مما يلي العراق وهم بكوثي وهم يؤمنون
بالنبيين كلهم ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ويصلون كل يوم خمس صلوات وقيل غير ذلك وأما النصارى
فمعروفون وهم حملة الإنجيل والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر وهو الميعاد والجزاء يوم الدين
وعملت عملا صالحا ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى
جميع الثقلين فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم
يحزنون وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا.
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا
يقتلون (70) وحسبوا ألا تكون فتنة فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا وصموا كثير منهم والله بصير بما
يعملون (71)
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسله فنقضوا تلك العهود والمواثيق
واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموا على الشرائع فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى " كلما
جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وحسبوا أن لا تكون فتنة " أي وحسبوا أن لا يترتب لهم
شر على ما صنعوا فترتب وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقا ولا يهتدون إليه ثم تاب الله عليهم أي مما
كانوا فيه ثم عموا وصموا " أي بعد ذلك " كثير منهم والله بصير بما يعملون " أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق
الهداية ممن يستحق الغواية منهم.
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه
من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار (72) لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم (73) أفلا يتوبون
إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم (74) ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا
يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم أنظر أنى يؤفكون (75)
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى: من الملكية واليعقوبية والنسطورية ممن قال منهم بأن المسيح هو الله تعالى
الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوا كبيرا هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله وكان أول كلمة نطق بها وهو
83

صغير في المهد أن قال إني عبد الله ولم يقل إني أنا الله ولا ابن الله بل قال " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا "
إلى أن قال " وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم ". وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته آمرا لهم
بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له ولهذا قال تعالى " وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه
من يشرك بالله " أي فيعبد معه غيره " فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار " أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة كما
قال تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وقال تعالى " ونادى أصحاب النار أصحاب
الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين " وفى الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
بعث مناديا ينادي في الناس إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وفى لفظ مؤمنة وتقدم في أول سورة النساء عند قوله
" إن الله لا يغفر أن يشرك به " حديث يزيد بن بابنوس عن عائشة: الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانا لا يغفره الله وهو
الشرك بالله قال الله تعالى " من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة " والحديث في مسند أحمد ولهذا قال تعالى
إخبارا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من
أنصار " أي وماله عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه. وقوله " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " قال ابن
أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن الهسنجاني حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم حدثنا الفضل حدثني أبو صخر في
قول الله تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " قال هو قول اليهود " عزير ابن الله " وقول النصارى " المسيح ابن
الله " فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا قول غريب في تفسير الآية أن المراد بذلك طائفتي اليهود والنصارى والصحيح أنها
أنزلت في النصارى خاصة قاله مجاهد وغير واحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم
الثلاثة وهو: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن تعالى الله عن قولهم علوا
كبيرا قال ابن جرير وغيره والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم
وهم مختلفون فيها اختلافا متباينا ليس هذا موضع بسطه وكل فرقة منهم تكفر الأخرى والحق أن الثلاثة
كافرة وقال السدي وغيره: نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا
الاعتبار قال السدي وهي كقوله تعالى في آخر السورة " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني
وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك " الآية. وهذا القول هو الاظهر والله أعلم قال الله تعالى " وما من إله إلا إله
واحد " أي ليس متعددا بل هو وحده لا شريك له إنه جميع الكائنات وسائر الموجودات ثم قال تعالى متوعدا لهم
ومتهددا " وإن لم ينتهوا عما يقولون " أي من هذا الافتراء والكذب " ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم " أي في
الآخرة من الأغلال والنكال ثم قال " أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ". وهذا من كرمه تعالى وجوده
ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة فكل من تاب
إليه تاب عليه وقوله تعالى " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " أي له أسوة أمثاله من سائر
المرسلين المتقدمين عليه وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام كما قال " إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا
لبني إسرائيل " قوله " وأمه صديقة " أي مؤمنة به مصدقة له وهذا أعلى مقاماتها فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن
حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحق ونبوة أم موسى ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة
ومريم وبقوله " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " وهذا معنى النبوة والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من
الرجال قال الله تعالى " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري
رحمه الله الاجماع على ذلك وقوله تعالى " كانا يأكلان الطعام " أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما فهما
عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ثم قال
تعالى " انظر كيف نبين لهم الآيات " أي نوضحها ونظهرها " ثم انظر أني يؤفكون " أي ثم انظر بعد هذا البيان
والوضوح والجلاء أين يذهبون وبأي قول يتمسكون وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون.
84

قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم (76) قل يا أهل الكتاب لا تغلوا
في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77)
يقول تعالى منكرا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ومبينا له أنها لا تستحق شيئا من الإلهية فقال تعالى
" قل " أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم " أتعبدون من
دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا " أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم " والله هو السميع
العليم " أي السميع لأقوال عباده العليم بكل شئ فلم عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئا
ولا يملك ضرا ولا نفعا لغيره ولا لنفسه ثم قال " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " أي لا تجاوزوا الحد
في اتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في
المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم
سلفكم ممن ضل قديما " وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل " أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق
الغواية والضلال وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه عن
الربيع بن أنس قال: وقد كان قائم قام عليهم فأخذ بالكتاب والسنة زمانا فأتاه الشيطان فقال إنما تركب أثرا أو أمرا قد عمل
قبلك فلا تحمد عليه ولكن ابتدع أمرا من قبل نفسك وادع إليه واجبر الناس عليه ففعل ثم أذكر بعد فعله زمانا فأراد أن
يتوب منه فخلع سلطانه وملكه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أياما فأتي فقيل له لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما
بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سبيلك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة
فكيف لك بهداهم فلا توبة لك أبدا ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق
ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا
لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون (79) ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم
أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون (80) ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم
أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون (81)
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه - عليه السلام - وعلى لسان
عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه قال العوفي: عن ابن عباس لعنوا في التوراة والإنجيل
وفي الزبور وفي الفرقان ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم فقال تعالى " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه
لبئس ما كانوا يفعلون " أي كان لا ينهى أحد منهم أحدا عن ارتكاب المآثم والمحارم ثم ذمهم على ذلك ليحذر
أن يرتكب مثل الذي ارتكبوه فقال " لبئس ما كانوا يفعلون " وقال الإمام أحمد - رحمه الله - حدثنا يزيد حدثنا شريك بن
عبد الله عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما وقعت بنو إسرائيل في
المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم قال يزيد وأحسبه قال في أسواقهم وواكلوهم
وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم " ذلك بما عصوا وكانوا
يعتدون " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فقال: " لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا " وقال أبو
داود حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن
85

مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا
اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا
ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن
مريم " إلى قوله " فاسقون " ثم قال " كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم
ولتأطرنه على الحق أطرا أو تقصرنه على الحق قصرا ". وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق علي بن بذيمة
به وقال الترمذي حسن غريب ثم رواه هو وابن ماجة عن بندار عن ابن مهدي عن سفيان عن علي بن بذيمة
عن أبي عبيدة مرسلا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا
عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن ابن
أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على
الذنب نهاه عنه تعذيرا فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريكه " وفي حديث
هارون " وشريبه " ثم اتفقا في المتن " فلما رأى الله ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان
نبيهم داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لتأمرن
بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد المسئ ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم
على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم " والسياق لأبي سعيد كذا قال في رواية هذا الحديث وقد رواه أبو داود أيضا
عن خلف بن هشام عن أبي شهاب الخياط عن العلاء بن المسيب عن ابن مرة عن سالم وهو ابن عجلان الأفطس
عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ثم قال أبو داود كذا رواه خالد عن العلاء عن
عمرو بن مرة به ورواه المحاربي عن العلاء بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن مرة عن سالم الأفطس عن أبي
عبيدة عن عبد الله قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي عن العلاء بن
المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى والأحاديث في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة
جدا ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام قد تقدم حديث جابر عند قوله " لولا ينهاهم الربانيون والاحبار " وسيأتي
عند قوله " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " حديث أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة
الخشني. فقال الإمام أحمد حدثنا سليمان الهاشمي أنبانا إسماعيل بن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمرو عن
عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف
ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ". ورواه الترمذي
عن علي بن حجر عن إسماعيل بن جعفر به وقال هذا حديث حسن وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن عمرو بن عثمان عن عاصم بن عمر بن
عثمان عن عروة عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا
يستجاب لكم " تفرد به وعاصم هذا مجهول وفي الصحيح من طريق الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن
أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى
منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ". رواه مسلم وقال
الإمام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا سيف هو ابن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد
قال حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن عميرة رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لا
يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا
ذلك عذب الله الخاصة والعامة " ثم رواه أحمد عن أحمد بن الحجاج عن عبد الله بن المبارك عن سيف بن أبي
سليمان عن عيسى بن عدي الكندي حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكره.
هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين قال أبو داود حدثنا أبو العلاء حدثنا أبو بكر حدثنا المغيرة بن زياد
86

المصلي عن عدي بن عدي عن العرس - يعنى ابن عميرة - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا عملت الخطيئة في الأرض كان
من شهدها فكرهها وقال مرة فأنكرها كان كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها " تفرد به
أبو داود ثم رواه عن أحمد بن يونس عن ابن شهاب عن مغيرة بن زياد عن عدي بن عدي مرسلا وقال أبو داود
حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا: حدثنا شعبة وهذا لفظه عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري قال
أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم وقال سليمان حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لن يهلك الناس
حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم " وقال ابن ماجة حدثنا عمران بن موسى حدثنا حماد بن زيد حدثنا علي بن
زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبا فكان فيما قال: " ألا لا يمنعن
رجل هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه " قال فبكى أبو سعيد وقال قد والله رأينا أشياء فهبناه. وفي حديث
إسرائيل عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " رواه أبو
داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي حسن غريب من هذا الوجه وقال ابن ماجة: حدثنا راشد بن سعيد
الرملي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن أبي غالب عن أبي أمامة قال عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجل
عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله أي الجهاد أفضل فسكت عنه فلما رمى العقبة الثانية سأله فسكت عنه فلما
رمى جمرة العقبة ووضع رجله في الغرز ليركب فقال أين السائل؟ قال أنا يا رسول الله قال: " كلمة حق تقال عند ذي
سلطان جائر " تفرد به وقال ابن ماجة حدثنا أبو كريب حدثنا عبد الله بن نمير وأبو معاوية عن الأعمش عن
عمرو بن مرة عن أبي البحتري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحقر أحدكم نفسه " قالوا يا رسول الله
كيف يحقر أحدنا نفسه قال " يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقول فيه فيقول الله يوم القيامة ما منعك أن تقول في كذا
كذا وكذا فيقول خشية الناس فيقول فإياي كنت أحق أن تخشى " تفرد به وقال أيضا حدثنا علي بن محمد حدثنا
محمد بن فضيل حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طوالة حدثنا نهار العبدي أنه سمع أبا
سعيد الخدري يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول ما منعك إذا رأيت
المنكر أن تنكره فإذا لقن الله عبدا حجته قال يا رب رجوتك وفرقت الناس " تفرد به أيضا ابن ماجة وإسناده لا
بأس به وقال الإمام أحمد حدثنا عمرو بن عاصم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن جندب عن
حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه " قيل وكيف يذل نفسه قال يتعرض من البلاء لما لا
يطيق. وكذا رواه الترمذي وابن ماجة جميعا عن محمد بن يسار عن عمرو بن عاصم به وقال الترمذي هذا
حديث حسن غريب وقال ابن ماجة حدثنا العباس بن الوليد الدمشقي حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي
حدثنا الهيثم بن حميد حدثنا أبو معبد حفص بن غيلان الرعيني عن مكحول عن أنس بن مالك قال: قيل يا
رسول الله متى يترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: " إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم " قلنا يا
رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا قال " الملك في صغاركم والفاحشة في كباركم والعلم في رذالكم " قال زيد
تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والعلم في رذالكم إذا كان العلم في الفساق. تفرد به ابن ماجة وسيأتي في حديث أبي
ثعلبة عند قوله " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " شاهد لهذا إن شاء الله تعالى وبه الثقة وقوله تعالى " ترى كثيرا
منهم يتولون الذين كفروا " قال مجاهد يعني بذلك المنافقين وقوله " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم " يعني بذلك
موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقا في قلوبهم وأسخطت الله عليهم سخطا مستمرا إلى
يوم معادهم ولهذا قال " أن سخط الله عليهم " وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم " في العذاب
خالدون " يعني يوم القيامة قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا مسلم بن علي عن الأعمش
بإسناد ذكره قال: " يا معشر المسلمين إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاثة في الدنيا وثلاثا في الآخرة فأما التي في
الدنيا: فإنه يذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر وأما التي في الآخرة: فإنه يوجب سخط الرب وسوء الحساب
والخلود في النار " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم
87

خالدون " هكذا ذكره ابن أبي حاتم وقد رواه ابن مردويه عن طريق هشام بن عمار عن مسلم عن الأعمش عن
شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وساقه أيضا من طريق سعيد بن عفير عن مسلم عن أبي عبد الرحمن
الكوفي عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله وهذا حديث ضعيف على كل حال والله أعلم.
وقوله تعالى " ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء " أي لو آمنوا حق الايمان بالله والرسول
والقرآن لما ارتكبوا ما ارتكبوه من مولاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل الله " ولكن كثيرا
منهم فاسقون " أي خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.
* لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا
نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون (82) وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من
الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين (83) وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق
ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين (84) فأثابهم الله بما قالوا جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين
فيها وذلك جزاء المحسنين (85) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم (86)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم جعفر بن
أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم وهذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع
النجاشي قبل الهجرة وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ليسمعوا كلامه ويروا صفاته فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه قال
السدي فهاجر النجاشي فمات بالطريق وهذا من أفراد السدي فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة وصلى عليه
النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات وأخبر به أصحابه وأخبر أنه مات بأرض الحبشة ثم اختلف في عدة هذا الوفد فقيل اثنا عشر:
سبعة قساوسة وخمسة رهابين وقيل بالعكس وقيل خمسون وقيل بضع وستون وقيل سبعون رجلا فالله أعلم. وقال
عطاء بن أبي رباح هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين وقال قتادة: هم
قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا واختار ابن جرير أن
هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله تعالى " لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا " وما ذاك إلا لان كفر اليهود كفر عناد
وجحود ومباهتة للحق وغمط للناس وتنقص بحملة العلم ولهذا قتلوا كثيرا من الأنبياء حتى هموا بقتل
رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسموه وسحروه وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم
القيامة. قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عند تفسير هذه الآية حدثنا أحمد بن محمد بن السري حدثنا محمد بن
علي بن حبيب الرقي حدثنا علي بن سعيد العلاف حدثنا أبو النضر عن الأشجعي عن سفيان عن يحيى بن عبد الله
عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما خلا يهودي بمسلم قط إلا هم بقتله " ثم رواه عن محمد بن
أحمد بن إسحاق العسكري حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي حدثنا فرج بن عبيد حدثنا عباد بن العوام عن
يحيى بن عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما خلا يهودي بمسلم إلا حدث نفسه بقتله "
وهذا حديث غريب جدا وقوله تعالى " ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى " أي الذين زعموا
أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للاسلام وأهله في الجملة وما ذاك إلا لما في قلوبهم
إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة كما قال تعالى " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية "
88

وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر وليس القتال مشروعا في ملتهم ولهذا قال تعالى
" ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " أي يوجد فيهم القسيسون وهم خطباؤهم وعلماؤهم
واحدهم قسيس وقس أيضا وقد يجمع على قسوس والرهبان جمع راهب وهو العابد مشتق من الرهبة وهي الخوف
كراكب وركبان وفارس وفرسان قال ابن جرير وقد يكون الرهبان واحدا وجمعه رهابين مثل قربان وقرابين وجرذان
وجراذين. وقد يجمع على رهابنة ومن الدليل على أن يكون عند العرب واحدا قول الشاعر:
لو عاينت رهبان دير في القلل * لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا بشر بن آدم حدثنا نصير ابن أبي الأشعث حدثني الصلت الدهان عن جاثمة بن رئاب
قال سألت سلمان عن قول الله تعالى " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " فقال دع القسيسين في البيع والخرب أقرأني
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا ". وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الخاني عن
نضير بن زياد الطائي عن صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب عن سلمان به وقال ابن أبي حاتم ذكره أبي حدثنا
يحيى بن عبد الحميد الخاني حدثنا نضير بن زياد الطائي حدثنا صلت الدهان عن جاثمة بن رئاب قال سمعت
سلمان وسئل عن قوله " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " فقال هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب فدعوهم
فيها قال سلمان: وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم " ذلك بأن منهم قسيسين فأقرأني ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا "
فقوله: " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون " تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ثم
وصفهم بالانقياد للحق وأتباعه والانصاف فقال " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما
عرفوا من الحق " أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون " ربنا آمنا فاكتبا مع الشاهدين " أي مع من
يشهد بصحة هذا ويؤمن به. وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن عمر بن علي بن مقدم عن هشام بن
عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه " وإذا سمعوا ما أنزل إلى
الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ". وروى ابن أبي
حاتم وابن مردويه والحاكم في مستدركه عن طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " فاكتبنا مع الشاهدين "
أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا ثم قال الحاكم صحيح
الاسناد ولم يخرجاه وقال الطبراني حدثنا أبو شبيل عبد الله بن عبد الرحمن بن واقد حدثنا أبي حدثنا العباس بن
الفضل عن عبد الجبار بن نافع الضبي عن قتادة وجعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله تعالى
" وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع " قال إنهم كانوا كرابين يعنى فلاحين قدموا مع
جعفر بن أبي طالب من الحبشة فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم إلى دينكم " فقالوا: لن ننتقل عن ديننا فأنزل الله ذلك من قولهم " وما لنا لا
نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين " وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون
في قوله تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله " الآية وهم الذين
قال الله فيهم " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا
من قبله مسلمين " إلى قوله " لا نبتغي الجاهلين ". ولهذا قال تعالى ههنا " فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من
تحتها الأنهار " أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق " جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها "
أي ماكثين فيها أبدا لا يحولون ولا يزولون " وذلك جزاء المحسنين " أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان
وأين كان ومع من كان ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال: " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا " أي جحدوا بها وخالفوها
أولئك أصحاب الجحيم " أي هم أهلها والداخلون فيها.
89

يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (87) وكلوا مما رزقكم
الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون (88)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا
نقطع مذاكيرنا وترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهم فذكر لهم
ذلك فقالوا نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأنكح النساء فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ
بسنتي فليس مني " رواه ابن أبي حاتم وروى ابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس نحو ذلك وفي
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر
فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: " ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأنام وأقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن
عثمان يعني أبا سعد أخبرني عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا
اللحم انتشرت إلى النساء وإني حرمت علي اللحم فنزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله
لكم ". وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعا عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم النبيل به وقال حسن
غريب وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفا على ابن عباس فالله أعلم وقال سفيان الثوري ووكيع عن
إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود قال: كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم وليس معنا نساء
فقلنا ألا نستخصي فنهانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله عن ذلك ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم
قرأ عبد الله " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية أخرجاه من حديث إسماعيل وهذا كان
قبل تحريم نكاح المتعة والله أعلم. وقال الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل قال جاء
معقل بن مقرن إلى عبد الله بن مسعود فقال إني حرمت فراشي فتلا هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما
أحل الله لكم " الآية وقال الثوري عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق قال كنا عند عبد الله بن مسعود فجئ
بضرع فتنحى رجل فقال له عبد الملك ادن فقال إني حرمت أن آكله فقال عبد الله ادن فأطعم وكفر عن يمينك وتلا
هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " الآية رواهن ابن أبي حاتم وروى الحاكم هذا
الأثر الأخير في مستدركه من طريق إسحاق بن راهويه عن جرير عن منصور به ثم قال على شرط الشيخين ولم
يخرجاه ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني هشام بن سعد أن زيد بن أسلم
حدثه أن عبد الله بن رواحة أضافه ضيف من أهله وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم
انتظارا له فقال لامرأته حبست ضيفي من أجلي هو علي حرام فقالت امرأته هو علي حرام وقال الضيف هو علي حرام
فلما رأى ذلك وضع يده وقال كلوا بسم الله ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ثم أنزل الله " يا أيها الذين
آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " وهذا أثر منقطع.
وفي صحيح البخاري في قصة الصديق مع أضيافه شبيه بهذا وفيه وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء
كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسا أو شيئا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضا ولقوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " ولان الذي حرم اللحم على نفسه كما في الحديث
المتقدم لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل إلى أن من حرم مأكلا أو مشربا أو ملبسا
أو شيئا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على
نفسه إلزاما له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس وكما في قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي
90

مرضات أزواجك والله غفور رحيم " ثم قال " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " الآية وكذلك هاهنا لما ذكر هذا
الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير والله أعلم وقال ابن
جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: أراد رجال منهم عثمان بن مظعون
وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح فنزلت هذه الآية إلى قوله " واتقوا الله الذي أنتم به
مؤمنون " قال ابن جريج عن عكرمة أن عثمان بن مظعون وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والمقداد بن الأسود وسالما
مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا فجلسوا في البيوت واعتزلوا النساء ولبسوا المسوح وحرموا طيبات الطعام واللباس
إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل وهموا بالاختصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار فنزلت هذه الآية
" يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " يقول لا تسيروا بغير سنة
المسلمين يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من
الاختصاء فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن لأنفسكم حقا وإن لأعينكم حقا صوموا وأفطروا وصلوا
وناموا فليس منا من ترك سنتنا " فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت. وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة
ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين كما تقدم ذلك ولله الحمد والمنة وقال أسباط عن السدي
في قوله " يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ثم قام ولم يزدهم على التخفيف فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا
عشرة منهم: علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون ما حقنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم
فنحن نحرم فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والودك وأن يأكل بالنهار وحرم بعضهم النوم وحرم بعضهم النساء فكان
عثمان بن مظعون ممن حرم النساء فكان لا يدنو من أهله ولا يدنون منه فأتت امرأته عائشة رضي الله عنها وكان يقال
لها الحولاء فقالت لها عائشة ومن عندها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما بالك يا حولاء متغيرة اللون لا تمتشطين ولا تتطيبين
فقالت: وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع علي زوجي وما رفع عني ثوبا منذ كذا وكذا قال فجعلن يضحكن من كلامها
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن فقال " ما يضحكن " قالت: يا رسول الله إن الحولاء سألتها عن أمرها فقالت ما
رفع عني زوجي ثوبا منذ كذا وكذا فأرسل إليه فدعاه فقال: " مالك يا عثمان " قال إني تركته لله لكي أتخلى للعبادة وقص
عليه أمره وكان عثمان قد أراد أن يجب نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أقسمت عليك ألا رجعت فواقعت أهلك " فقال
يا رسول الله إني صائم فقال: " أفطر " قال فأفطر وأتى أهله فرجعت الحولاء إلى عائشة وقد امتشطت واكتحلت
وتطيبت فضحكت عائشة وقالت: مالك يا حولاء فقالت إنه آتاها أمس وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما بال أقوام حرموا النساء
والطعام والنوم ألا إني أنام وأقوم وأفطر وأصوم وأنكح النساء فمن رغب عني فليس مني " فنزلت " يا أيها الذين آمنوا
لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا " يقول لعثمان لا تجب نفسك فإن هذا هو الاعتداء وأمرهم أن يكفروا
عن أيمانهم فقال " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " رواه ابن جرير.
وقوله تعالى " ولا تعتدوا " يحتمل أن يكون المراد منه ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم
كما قاله من قاله من السلف ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال بل خذوا منه
بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه كما قال تعالى " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " الآية وقال " والذين إذا
أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما " فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه لا إفراط ولا تفريط
ولهذا قال " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين " ثم قال " وكلوا مما رزقكم الله
حلالا طيبا " أي في حال كونه حلالا طيبا (واتقوا الله) أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته
وعصيانه (واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون).
91

لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته أطعام عشرة مساكين من أوسط
ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا
أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون (89)
وقد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا ولله الحمد والمنة وإنه قول الرجل في
الكلام من غير قصد: لا والله بلى والله وهذا مذهب الشافعي وقيل هو في الهزل وقيل في المعصية وقيل على غلبة
الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد وقيل اليمين في الغضب وقيل في النسيان وقيل هو الحلف على ترك المأكل
والمشرب والملبس ونحو ذلك واستدلوا بقوله (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) والصحيح أنه اليمين من غير قصد
بدليل قوله " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها (فكفارته إطعام عشرة
مساكين) يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه وقوله " من أوسط ما تطعمون أهليكم " قال ابن عباس
وسعيد بن جبير وعكرمة أي من أعدل ما تطعمون أهليكم وقال عطاء الخراساني من أمثل ما تطعمون أهليكم قال ابن
حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي قال
خبز ولبن وخبز وسمن وقال ابن أبي حاتم أنبأنا يونس بن عبد الاعلى قراءة حدثنا سفيان بن عيينة عن سليمان يعني
ابن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتا فيه سعة
فقال الله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم " أي من الخبز والزيت وحدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع حدثنا
إسرائيل عن جابر عن عامر عن ابن عباس " من أوسط ما تطعمون أهليكم " قال من عسرهم ويسرهم وحدثنا
عبد الرحمن بن خلف الحمصي حدثنا محمد بن شعيب - يعني ابن شابور - حدثنا شيبان بن عبد الرحمن التميمي عن
ليث بن أبي سليم عن عاصم الأحول عن رجل يقال له عبد الرحمن التميمي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال " من
أوسط ما تطعمون أهليكم " قال الخبز واللحم والخبز والسمن والخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والخل وحدثنا
علي بن حرب الموصلي حدثنا أبو معاوية عن عاصم عن ابن سيرين عن ابن عمر في قوله " من أوسط ما تطعمون
أهليكم " قال: الخبز والسمن والخبز واللبن والخبز والزيت والخبز والتمر ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز
واللحم. ورواه ابن جرير عن هناد وابن وكيع كلاهما عن أبي معاوية ثم روى ابن جرير عن عبيدة والأسود وشريح
القاضي ومحمد بن سيرين والحسن والضحاك وأبي رزين أنهم قالوا نحو ذلك وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول
أيضا.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله " من أوسط ما تطعمون أهليكم " أي في القلة والكثرة ثم اختلف العلماء في مقدار
ما يطعمهم فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر عن حجاج عن حصين الحارثي عن الشعبي عن الحارث عن
علي رضي الله عنه في قوله " من أوسط ما تطعمون أهليكم " قال يغديهم ويعشيهم وقال الحسن ومحمد بن سيرين
يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزا ولحما زاد الحسن فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا فإن لم يجد فخبزا
وزيتا وخلا حتى يشبعوا وقال آخرون يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما فهذا قول عمر
وعلي وعائشة ومجاهد والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وميمون بن مهران وأبي مالك والضحاك والحكم
ومكحول وأبي قلابة ومقاتل بن حيان وقال أبو حنيفة نصف صاع بر وصاع مما عداه وقد قال أبو بكر بن مردويه
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف حدثنا محمد بن معاوية حدثنا زياد بن
عبد الله بن الطفيل بن سخبرة بن أخي عائشة لامه حدثنا عمر بن يعلي عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال: كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس به ولمن لم يجد فنصف صاع من بر. ورواه ابن
92

ماجة عن العباس بن يزيد عن زياد بن عبد الله البكاء عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن المنهال بن عمرو به.
لا يصح هذا الحديث لحال عمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه وذكروا أنه كان يشرب الخمر وقال الدارقطني
متروك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن داود يعني ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس أنه قال مد من بر يعني لكل مسكين ومعه إدامه ثم قال: وروي عن ابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب
ومجاهد وعطاء وعكرمة وأبي الشعثاء والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والحسن
ومحمد بن سيرين والزهري نحو ذلك.
وقال الشافعي الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للادم واحتج بأمر
النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينا من مكتل يسع خمسة عشر صاعا لكل واحد منهم مد وقد
ورد حديث آخر صريح في ذلك فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري حدثنا محمد بن إسحاق
السراج حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا النضر بن زرارة الكوفي عن عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدا من حنطة بالمد الأول إسناده ضعيف لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم
الذهلي الكوفي نزيل بلخ قال فيه أبو حاتم الرازي هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد وذكره ابن حبان في
الثقات وقال روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة فالله أعلم ثم إن شيخه العمري ضعيف أيضا وقال أحمد بن
حنبل الواجب مد من بر أو مدان من غيره والله أعلم.
وقوله تعالى " أو كسوتهم " قال الشافعي - رحمه الله - لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من
قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك واختلف أصحابه في القلنسوة هل تجزئ أم لا على وجهين
فمنهم من ذهب إلى الجواز احتجاجا بما رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج عمار بن خالد الواسطي قالا
حدثنا القاسم بن مالك عن محمد بن الزبير عن أبيه قال: سألت عمران بن الحصين عن قوله " أو كسوتهم " قال لو
أن وفدا قدموا على أميركم فكساهم قلنسوة قلنسوة قلتم قد كسوا ولكن هذا إسناد ضعيف لحال محمد بن الزبير هذا
والله أعلم وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الأسفرايني في الخف وجهين أيضا والصحيح عدم الاجزاء وقال مالك
وأحمد بن حنبل لابد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلا أو امرأة كل بحسبه
والله أعلم. وقال العوفي عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة وقال مجاهد أدناه ثوب وأعلاه ما شئت وقال
ليث عن مجاهد يجزئ في كفارة اليمين كل شئ إلا التبان. وقال الحسن وأبو جعفر الباقر وعطاء وطاوس وإبراهيم
النخعي وحماد بن أبي سليمان وأبو مالك: ثوب ثوب وعن إبراهيم النخعي أيضا ثوب جامع كالملحفة والرداء ولا يرى
الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعا وقال الأنصاري عن أشعث عن ابن سيرين والحسن: ثوبان ثوبان وقال
الثوري عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها. وقال ابن جرير حدثنا
هناد حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن ابن سيرين عن أبي موسى أنه حلف على يمين فكسا ثوبين من معقدة
البحرين وقال ابن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن المعلى حدثنا هشام بن عمار حدثنا إسماعيل بن
عياش عن مقاتل بن سليمان عن أبي عثمان عن أبي عياض عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (أو كسوتهم) قال:
" عباءة لكل مسكين " حديث غريب وقوله " أو تحرير رقبة " أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال تجزئ الكافرة كما تجزئ
المؤمنة وقال الشافعي وآخرون لا بد أن تكون مؤمنة وأخذ تقييدها بالايمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب وإن
اختلف السبب ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم أنه ذكر
أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أين الله " قالت: في السماء قال: " من أنا " قالت:
رسول الله قال: " أعتقها فإنها مؤمنة " الحديث بطوله فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين أيها فعل الحانث أجزأ عنه
بالاجماع وقد بدأ بالأسهل فالأسهل فالاطعام أسهل وأيسر من الكسوة كما أن الكسوة أيسر من العتق فترقى فيها من
93

الأدنى إلى الاعلى فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام كما قال تعالى
" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " وروى ابن جرير حاكيا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه جائز لمن لم يكن له
فضل عن رأس مال يتصرف فيه لمعاشه ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه ثم اختار ابن جرير أنه الذي لا
يفضل عن قوته وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو
يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق؟ قولان: أحدهما لا يجب وهذا منصوص الشافعي في كتاب الايمان وهو قول
مالك لاطلاق قوله " فصيام ثلاثة أيام " وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله " فعدة من
أيام أخر " ونص الشافعي في موضع آخر في الام على وجوب التتابع كما هو قول الحنفية والحنابلة لأنه قد روي عن
أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرؤونها " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي
العالية عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وحكاها مجاهد والشعبي وأبو إسحق عن
عبد الله بن مسعود وقال إبراهيم في قراءة أصحاب عبد الله بن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " وقال الأعمش
كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك وهذه إذ لم يثبت كونها قرآنا متواترا فلا أقل أن يكون خبرا واحدا أو
تفسيرا من الصحابة وهو في حكم المرفوع وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن علي حدثنا محمد بن جعفر
الأشعري حدثنا الهيثم بن خالد القرشي حدثنا يزيد بن قيس عن إسماعيل بن يحيى عن ابن جريج عن ابن
عباس قال لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة يا رسول الله نحن بالخيار قال: " أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن
شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات ". وهذا حديث غريب جدا وقوله
" ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم " أي هذه كفارة اليمين الشرعية " واحفظوا أيمانكم " قال ابن جرير معناه لا تتركوها
بغير تكفير " كذلك يبين الله لكم آياته " أي يوضحها ويفسرها (لعلكم تشكرون).
يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون (90)
إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل
أنتم منتهون (91) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين (92)
ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا
ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين (93)
يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب رضي الله عنه أنه قال الشطرنج من الميسر رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عيسى بن مرحوم عن حاتم عن
جعفر بن محمد عن أبيه عن علي به وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن
سفيان عن ليث عن عطاء ومجاهد وطاوس قال سفيان أو اثنين منهم قالوا: كل شئ من القمار فهو من الميسر
حتى لعب الصبيان بالجوز وروى عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله وقالا: حتى الكعاب والجوز والبيض
التي تلعب بها الصبيان وقال موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال الميسر هو القمار وقال الضحاك عن
ابن عباس قال: الميسر هو القمار كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجئ الاسلام فنهاهم الله عن هذه الأخلاق
القبيحة وقال مالك عن داود بن الحصين: أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان ميسر أهل الجاهلية يبيع اللحم
بالشاة والشاتين.
وقال الزهري عن الأعرج قال الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار وقال القاسم بن محمد ما ألهى عن
94

ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر رواهن ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الزيادي
حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن أبي
موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا هذه الكعاب الموسومة التي يزجر بها زجرا فإنها من الميسر " حديث
غريب وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم عن بريدة عن الحصيب الأسلمي قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه " وفي موطأ مالك ومسند أحمد وسنني
أبي داود وابن ماجة عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ".
وروى موقوفا على أبي موسى من قوله فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن إبراهيم حدثنا الجعيد عن
موسى بن عبد الرحمن الخطمي أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول أخبرني ما سمعت أباك
يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الرحمن سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مثل الذي يلعب بالنرد
ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي " وأما الشطرنج لقد قال عبد الله بن عمر أنه
شر من النرد وتقدم عن علي أنه قال هو من الميسر ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد وكرهه الشافعي
رحمهم الله تعالى وأما الأنصاب فقال ابن عباس ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وغير واحد هي
حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها وأما الأزلام فقالوا أيضا هي قداح كانوا يستقسمون بها رواه ابن أبي حاتم
وقوله تعالى " رجس من عمل الشيطان " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي سخط من عمل الشيطان
وقال سعيد بن جبير: إثم وقال زيد بن أسلم أي شر من عمل الشيطان " فاجتنبوه " الضمير عائد على الرجس أي
اتركوه " لعلكم تفلحون " وهذا أثر غريب. ثم قال تعالى " إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في
الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون " وهذا تهديد وترهيب.
" ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر "
قال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا أبو معشر عن أبي وهب مولى أبي هريرة عن أبي هريرة قال حرمت الخمر ثلاث
مرات قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله
" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس " إلى آخر الآية. فقال الناس ما حرما علينا إنما قال
" فيهما إثم كبير ومنافع للناس " وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين أمام أصحابه
في المغرب فخلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا
ما تقولون " فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك " يا أيها الذين
آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " قالوا انتهينا ربنا.
وقال الناس يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرسهم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر وقد جعله
الله رجسا من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر
الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم " انفرد به أحمد.
وقال الإمام أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عمر بن الخطاب أنه قال:
لما نزل تحريم الخمر قال اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة البقرة " يسألونك عن الخمر والميسر
قل فيها إثم كبير " فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في سورة النساء " يا أيها الذين
آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال حي على الصلاة نادى: لا يقربن الصلاة
سكران فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة فدعي عمر
فقرئت عليه فلما بلغ قول الله تعالى " فهل أنتم منتهون " قال عمر انتهينا وهكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي
95

من طرق عن إسرائيل عن أبي إسحاق - عمرو بن عبد الله السبيعي - وعن أبي ميسرة واسمه عمرو بن شرحبيل الهمداني
عن عمر به وليس له عنه سواه قال أبو زرعة ولم يسمع منه وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي وقد
ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر
وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وقال البخاري حدثنا إسحاق بن
إبراهيم حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز حدثني نافع عن ابن عمر قال نزل تحريم
الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. " حديث آخر " قال أبو داود الطيالسي حدثنا
محمد بن أبي حميد عن المصري يعني أبا طعمة قارئ مصر - قال سمعت ابن عمر يقول نزلت في الخمر ثلاث
آيات فأول شئ نزل " يسألونك عن الخمر والميسر " الآية فقيل حرمت الخمر فقالوا يا رسول الله دعنا ننتفع بها
كما قال الله تعالى قال فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى " فقيل حرمت الخمر فقالوا
يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " الآيتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حرمت الخمر " " حديث آخر " قال
الإمام أحمد حدثنا يعلى حدثنا محمد بن إسحاق عن القعقاع بن حكيم أن عبد الرحمن بن وعلة قال سألت ابن
عباس عن بيع الخمر فقال " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو من دوس فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه
فقال رسول الله " يا فلان أما علمت أن الله حرمها " فأقبل الرجل على غلامه فقال اذهب فبعها فقال رسول الله " يا
فلان بماذا أمرته ". فقال أمرته أن يبيعها قال " إن الذي حرم شربها حرم بيعها " فأمر بها فأفرغت في البطحاء. رواه
مسلم من طريق ابن وهب عن مالك عن زيد بن أسلم ومن طريق ابن وهب أيضا عن سليمان بن بلال عن يحيى بن
سعيد كلاهما عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس به ورواه النسائي عن قتيبة عن مالك به.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا عبد
الحميد بن جعفر عن شهر بن حوشب عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر فلما
أنزل الله تحريم الخمر جاء بها فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال " إنها قد حرمت بعدك " قال يا رسول الله فأبيعها
وأنتفع بثمنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعن الله اليهود حرمت عليهم شحوم البقر والغنم فأذابوه وباعوه والله حرم الخمر
وثمنها " وقد رواه أيضا الإمام أحمد فقال حدثنا روح حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال سمعت شهر بن حوشب قال
حدثني عبد الرحمن بن غنم أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر فلما كان عام حرمت جاء
براوية فلما نظر إليه ضحك فقال " أشعرت أنها قد حرمت بعدك " فقال يا رسول الله ألا أبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لعن الله اليهود انطلقوا إلى ما حرم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه فباعوه
إنه ما يأكلون وإن الخمر حرام وثمنها حرام وإن الخمر حرام وثمنها حرام وإن الخمر حرام وثمنها حرام " " حديث
آخر " قال الإمام أحمد حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن نافع بن كيسان أن أباه
أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق يريد بها التجارة فأتى
بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني جئتك بشراب طيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا كيسان إنها قد حرمت بعدك "
قال فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها قد حرمت وحرم ثمنها " فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها
ثم هراقها.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن حميد عن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح
وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفرا من أصحابه عند أبي طلحة حتى كاد الشراب يأخذ منهم فأتى آت من المسلمين
فقال أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا حتى ننظر ونسأل فقالوا يا أنس أسكب ما بقى في إنائك فوالله ما عادوا
فيها وما هي إلا التمر والبسر. وهي خمرهم يومئذ أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن أنس وفي رواية حماد بن
96

زيد عن ثابت عن أنس قال كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ البسر
والتمر فإذا مناد ينادي قال اخرج فانظر فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فجرت في سكك المدينة قال: فقال
لي أبو طلحة اخرج فأهرقها فهرقتها فقالوا أو قال بعضهم قل فلان وفلان وهي في بطونهم قال فأنزل الله ليس على
الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثني عبد الكبير بن
عبد المجيد حدثنا عباد بن راشد عن قتادة عن أنس بن مالك قال بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن
الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل بن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر فسمعت مناديا ينادي ألا
إن الخمر قد حرمت قال فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب وكسرنا القلال وتوضأ بعضنا
واغتسل بعضنا وأصبنا من طيب أم سليم ثم خرجنا إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ " يا أيها
الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه " إلى قوله " فهل أنتم
منتهون " فقال رجل يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها فأنزل الله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جناح فيما طعموا " الآية. فقال رجل لقتادة أنت سمعته من أنس بن مالك؟ قال نعم وقال رجل لأنس بن
مالك أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم أو حدثني من لم يكذب ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق أخبرني يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن بكر بن
سوادة عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن ربي تبارك وتعالى حرم الخمر والكوبة والقنين وإياكم
والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا فرج بن فضالة عن إبراهيم بن
عبد الرحمن بن رافع عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر
والمزر والكوبة والقنين وزادني صلاة الوتر " قال يزيد القنين البرابط تفرد به أحمد وقال أحمد أيضا حدثنا أبو عاصم
وهو النبيل أخبرنا عبد الحميد بن جعفر حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عمرو بن الوليد عن عبد الله بن عمرو أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم " قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله حرم
الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام " تفرد به أحمد أيضا " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا وكيع
حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبي طعمة مولاهم وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن
عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعنت الخمر على عشرة وجوه لعنت الخمر بعينها وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها
وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها " ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث وكيع به وقال
أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو طعمة سمعت ابن عمر يقول خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد فخرجت
معه فكنت عن يمينه وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه فكان عن يمينه وكنت عن يساره ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن
يساره فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر قال ابن عمر فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية قال ابن
عمر وما عرفت المدية إلا يومئذ فأمر بالزقاق فشقت ثم قال: " لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها
والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها " وقال أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن
ضمرة بن حبيب قال: قال عبد الله بن عمر أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأتيته بها فأرسل بها
فأرهفت ثم أعطانيها وقال " اغد علي بها " ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من
الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي
وأن يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا إلا
شققته. " حديث آخر " قال عبد الله بن وهب أخبرني عبد الرحمن بن شريح وابن لهيعة والليث بن سعد عن خالد بن
زيد عن ثابت أن يزيد الخولاني أخبره أنه كان له عم يبيع الخمر وكان يتصدق قال فنهيته عنها فلم ينته فقدمت المدينة
فلقيت ابن عباس فسألته عن الخمر وثمنها فقال: هي حرام وثمنها حرام ثم قال ابن عباس رضي الله عنه يا معشر أمة
محمد إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ونبي بعد نبيكم لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم ولكن أخر ذلك من أمركم إلى
97

يوم القيامة ولعمري لهو أشد عليكم قال ثابت فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر فقال سأخبرك عن
الخمر إني كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فبينما هو محتب على حبوته ثم قال: " من كان عنده من هذه الخمر
فليأتنا بها " فجعلوا يأتونه فيقول أحدهم عندي راوية ويقول الآخر عندي زق أو ما شاء الله أن يكون عنده فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني " ففعلوا ثم آذنوه فقام وقمت معه ومشيت عن يمينه وهو متكئ
علي فلحقنا أبو بكر رضي الله عنه فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلني عن شماله وجعل أبا بكر في مكاني ثم لحقنا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخرني وجعله عن يساره فمشى بينهما حتى إذا وقف على الخمر قال للناس " أتعرفون
هذه؟ " قالوا: نعم يا رسول الله هذه الخمر قال " صدقتم " ثم قال " فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها
وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها " ثم دعا بسكين فقال " اشحذوها " ففعلوا ثم أخذها
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق قال: فقال الناس في هذه الزقاق منفعة فقال " أجل ولكني إنما أفعل ذلك غضبا لله
عز وجل لما فيها من سخطه " فقال عمر أنا أكفيك يا رسول الله قال لا قال ابن وهب وبعضهم يزيد على بعض
في قصة الحديث رواه البيهقي.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو الحسين بن بشر أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار حدثنا
محمد بن عبيد الله المنادي حدثنا وهب بن جرير حدثنا شعبة عن سماك عن مصعب بن سعد عن سعد قال أنزلت في
الخمر أربع آيات فذكر الحديث قال وضع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا
فتفاخرنا فقالت الأنصار نحن أفضل وقالت قريش نحن أفضل فأخذ رجل من الأنصار لحى جزور فضرب به أنف سعد
ففزره وكانت أنف سعد مفزورة فنزلت " إنما الخمر والميسر " إلى قوله تعالى " فهل أنتم منتهون " أخرجه مسلم من
حديث شعبة. " حديث آخر " قال البيهقي وأخبرنا أبو نصر بن قتادة أنبأنا أبو علي الرفا حدثنا علي بن عبد العزيز
حدثنا حجاج بن منهال حدثنا ربيعة بن كلثوم حدثني أبي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إنما نزل تحريم الخمر
في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه
ورأسه ولحيته فيقول صنع بي هذا أخي فلان وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن فيقول والله لو كان بي
رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله تعالى هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان " إلى قوله تعالى " فهل أنتم منتهون " فقال أناس من
المتكلفين هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد فأنزل الله تعالى " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جناح فيما طعموا " إلى آخر الآية ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة عن حجاج بن
منهال.
" حديث آخر " قال ابن جرير حدثني محمد بن خلف حدثنا سعيد بن محمد الحرمي عن أبي نميلة عن سلام مولى
حفص أبي القاسم عن أبي بريدة عن أبيه قال بينا نحن قعود على شراب لنا ونحن على رملة ونحن ثلاثة أو أربعة
وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه إذ نزل تحريم الخمر " يا أيها
الذين آمنوا إنما الخمر والميسر " إلى آخر الآيتين " فهل أنتم منتهون " فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم إلى قوله
" فهل أنتم منتهون " قال وبعض القوم شربته في يده قد ضرب بعضها وبقي بعض في الاناء فقال بالاناء تحت شفته
العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم فقالوا انتهينا ربنا.
" حديث آخر " قال البخاري حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة عن عمرو عن جابر قال صبح أناس غداة أحد
الخمر فقتلوا من يومهم جميعا شهداء وذلك قبل تحريمها هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه وقد رواه الحافظ أبو
بكر البزار في مسنده حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول اصطبح ناس
الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد فقالت اليهود فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم فأنزل
98

الله " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " ثم قال هذا إسناد صحيح وهو كما قال ولكن في
سياقه غرابة.
" حديث آخر " قال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحق عن البراء بن عازب قال لما نزل تحريم الخمر قالوا:
كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنزلت " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية.
ورواه الترمذي عن بندار عن غندر عن شعبة به نحوه وقال حسن صحيح " حديث آخر " قال الحافظ أبو يعلي الموصلي حدثنا
جعفر بن حميد الكوفي حدثنا يعقوب القمي عن عيسى بن جارية عن جابر بن عبد الله قال كان رجل يحمل الخمر من
خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين فحمل منها بمال فقدم بها المدينة فلقيه رجل من المسلمين فقال يا فلان إن
الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تل وسجى عليها بأكسية ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله بلغني أن
الخمر قد حرمت قال " أجل " قال لي أن أردها على من ابتعتها منه قال " لا يصح ردها " فقال لي أن أهديها إلى من
يكافئني منها؟ قال " لا " قال فإن فيها مالا ليتامى في حجري قال " إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوض أيتامك من
مالهم " ثم نادى بالمدينة فقال رجل يا رسول الله الأوعية ننتفع بها قال " فحلوا أوكيتها " فانصبت حتى استقرت في
بطن الوادي هذا حديث غريب. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن السدي عن أبي هبيرة
وهو يحيى بن عباد الأنصاري عن أنس بن مالك أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال
" أهرقها " قال أفلا نجعلها خلا؟ قال " لا " ورواه مسلم وأبو داود والترمذي من حديث الثوري به نحوه.
" حديث آخر " قال إن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا عبد العزيز بن سلمة حدثنا هلال بن أبي
هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو قال إن هذه الآية التي في القرآن " يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر
والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " قال هي في التوراة: إن الله أنزل
الحق ليذهب به الباطل ويبطل به اللعب والمزامير والزفن والكبارات يعني البرابط والزمارات يعني به الدف والطنابير
والشعر والخمر مرة لمن طعمها أقسم الله بيمينه وعزته من شربها بعدما حرمتها لأعطشنه يوم القيامة ومن تركها
بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس وهذا إسناد صحيح.
" حديث آخر " قال عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحرث أن عمرو بن شعيب حدثهم عن أبيه عن عبد الله بن
عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من ترك الصلاة سكرا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها
ومن ترك الصلاة سكرا أربع مرات كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " قيل وما طينة الخبال؟ قال " عصارة
جهنم ". ورواه أحمد من طريق عمرو بن شعيب " حديث آخر " قال أبو داود حدثنا محمد بن رافع حدثنا
إبراهيم بن عمر الصنعاني قال سمعت النعمان هو ابن أبي شيبة الجندي يقول عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " كل مخمر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا فان تاب تاب الله عليه فان عاد
الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " قيل وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال " صديد أهل النار ومن
سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال " تفرد أبو داود.
" حديث آخر " قال الشافعي رحمه الله أنبأنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من شرب الخمر في
الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ". أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك به وروى مسلم عن أبي الربيع
عن حماد بن زيد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن
شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " حديث آخر " قال ابن وهب اخبرني عمر بن
محمد عن عبد الله بن يسار أنه سمع سالم بن عبد الله يقول قال عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا ينظر الله
إليهم يوم القيامة العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنان بما أعطى ". ورواه النسائي عن عمرو بن علي عن يزيد بن
99

زريع عن عمر بن محمد العمري به وروى أحمد عن غندر عن شعبة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولا مدمن خمر ".
ورواه أحمد أيضا عن عبد الصمد عن عبد العزيز بن أسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد به وعن مروان بن شجاع
عن خصيف عن مجاهد به. ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا عن حصين الجعفي عن زائدة عن يزيد بن أبي زياد
عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد كلاهما عن أبي سعيد به " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا
سفيان عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن جابان عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة عاق
ولا مدمن خمر ولا منان ولا ولد زانية " وكذا رواه عن يزيد عن همام عن منصور عن سالم عن جابان عن عبد الله بن
عمرو به وقد رواه أيضا عن غندر وغيره عن شعبة عن منصور عن سالم عن نبيط بن شريط عن جابان عن
عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يدخل الجنة منان ولا عاق والديه ولا مدمن خمر ". ورواه النسائي من
حديث شعبة كذلك ثم قال ولا نعلم أحدا تابع شعبة عن نبيط بن شريط وقال البخاري لا يعرف لجابان سماع من
عبد الله ولا لسالم من جابان ولا نبيط وقد روى هذا الحديث من طريق مجاهد عن ابن عباس وعن طريقه أيضا عن
أبي هريرة فالله أعلم.
وقال الزهري حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه قال سمعت عثمان بن عفان يقول اجتنبوا
الخمر فإنها أم الخبائث إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية فأرسلت إليه جاريتها أن
تدعوه لشهادة فدخل معها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر.
فقالت إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع علي أو تقتل هذا الغلام أو تشرب هذا الخمر فسقته كأسا فقال
زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والايمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن
يخرج صاحبه. رواه البيهقي وهذا إسناد صحيح وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه ذم المسكر عن محمد بن
عبد الله بن بزيع عن الفضيل ابن سليمان النميري عن عمر بن سعيد عن الزهري به مرفوعا والموقوف أصح والله أعلم
وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق سرقة حين
يسرقها وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن " وقال أحمد بن حنبل حدثنا أسود بن عامر حدثنا إسرائيل
عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال لما حرمت الخمر قال ناس يا رسول الله أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها
فأنزل الله " ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " إلى آخر الآية ولما حولت القبلة قال ناس:
يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس فأنزل الله " وما كان الله ليضيع إيمانكم " وقال الإمام أحمد
حدثنا داود بن مهران الدباغ حدثنا داود يعني العطار عن أبي خيثم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد أنها
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة إن مات مات كافرا وإن تاب تاب الله عليه وإن عاد
كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال قالت: قلت يا رسول الله وما طينة الخبال؟ قال " صديد أهل النار ".
وقال الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت " ليس على الذين آمنوا
وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا " فقال النبي صلى الله عليه وسلم قيل لي أنت منهم ". وهكذا رواه مسلم
والترمذي والنسائي من طريقه. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد قرأت على أبي حدثنا علي بن عاصم حدثنا إبراهيم
الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إياكم وهاتان الكعبتان الموسومتان
اللتان تزجران زجرا فإنهما ميسر العجم ".
يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن
اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم (94) يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا
100

فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفرة طعام مساكين أو عدل ذلك
صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام (95)
قال الوالبي عن ابن عباس قوله " ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم " قال هو الضعيف من
الصيد وصغيره يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه وقال مجاهد
" تناله أيديكم " يعني صغار الصيد وفراخه " ورماحكم " يعني كباره وقال مقاتل بن حيان أنزلت هذه الآية في
عمرة الحديبية فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله
وهم محرمون " ليعلم الله من يخافه بالغيب " يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من
أخذه بالأيدي والرماح سرا وجهرا لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره كما قال تعالى " إن الذين يخشون
ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " وقوله ههنا " فمن اعتدى بعد ذلك " قال السدي وغيره يعني بعد هذا الاعلام
والانذار والتقدم " فله عذاب أليم " أي لمخالفته أمر الله وشرعه ثم قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد
وأنتم حرم " وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الاحرام ونهى عن تعاطيه فيه وهذا إنما يتناول من حيث
المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره فأما غير المأكول من حيوانات البر فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها
والجمهور على تحريم قتلها أيضا ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري عن عروة عن
عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب
والفأرة والكلب العقور ". وقال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " خمس من الدواب ليس على
المحرم في قتلهن جناح: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور " أخرجاه ورواه أيوب عن نافع عن ابن
عمر مثله قال أيوب فقلت لنافع فالحية قال الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها ومن العلماء كمالك وأحمد من
ألحق بالكلب العقور الذئب والسبع والنمر والفهد لأنها أشد ضررا منه فالله أعلم. وقال زيد بن أسلم وسفيان بن
عيينة الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على
عتبة بن أبي لهب قال " اللهم سلط عليه كلبك بالشام " فأكله السبع بالزرقاء قالوا فان قتل ما عداهن فداه
كالضبع والثعلب والوبر ونحو ذلك قال مالك وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها وصغار
الملحق بها من السباع العوادي وقال الشافعي: يجوز للمحرم قتل ما لا يؤكل لحمه ولا فرق بين صغاره وكباره
وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل وقال أبو حنيفة: يقتل المحرم الكلب العقور والذئب لأنه كلب بري فإن قتل
غيرهما فداه إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه وهذا قول الأوزاعي والحسن بن صالح بن حيي
وقال زفر بن الهذيل يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه. وقال بعض الناس المراد بالغراب ههنا الأبقع وهو الذي
في بطنه وظهره بياض دون الأدرع وهو الأسود والأعصم وهو الأبيض لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس
عن يحيي القطان عن شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" خمس يقتلهن المحرم: الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور " والجمهور على أن المراد به أعم
من ذلك لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه وقال مالك - رحمه الله - لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه
وآذاه وقال مجاهد بن جبير وطائفة لا يقتله بل يرميه ويروي مثله عن علي وقد روى هشيم حدثنا يزيد بن أبي زياد
عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما يقتل المحرم فقال " الحية والعقرب
والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي ". رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل
والترمذي عن أحمد بن منيع كلاهما عن هشيم وابن ماجة عن أبي كريب وعن محمد بن فضيل كلاهما عن يزيد بن
أبي زياد وهو ضعيف وقال الترمذي هذا حديث حسن.
101

وقوله تعالي " ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا
ابن علية عن أيوب قال نبئت عن طاوس أنه قال لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ إنما يحكم على من أصابه
متعمدا وهذا مذهب غريب عن طاوس وهو متمسك بظاهر الآية. وقال مجاهد بن جبير المراد بالمعتمد هنا القاصد
إلى قتل الصيد الناسي لاحرامه فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لاحرامه فذاك أمره أعظم من أن يكفر وقد بطل
إحرامه رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نجيح وليث بن أبي سليم وغيرهما عنه وهو قول غريب أيضا
والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه وقال الزهري دل الكتاب على العامد
وجرت السنة على الناسي ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المعتمد وعلي تأثيمه بقوله " ليذوق
وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه " وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب
الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد وأيضا فإن قتل الصيد إتلاف والاتلاف مضمون في العمد وفي
النسيان لكن المتعمد مأثوم والمخطئ غير ملوم وقوله تعالى " فجزاء مثل ما قتل من النعم " قرأ بعضهم بالإضافة
وقرأ آخرون بعطفها " فجزاء مثل ما قتل من النعم " وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ " فجزاؤه مثل ما قتل من
النعم " وفي قوله " فجزاء مثل ما قتل من النعم " على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد
والجمهور من وجب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الانسي خلافا لأبي حنيفة - رحمه الله -
حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلي قال وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه وإن شاء اشترى
به هديا والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع فإنهم حكموا في النعامة ببدنة وفي بقرة الوحش ببقرة وفي
الغزال بعنز وذكر قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب الأحكام وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن
عباس فيه بثمنه يحمل إلى مكة رواه البيهقي.
وقوله تعالى " يحكم به ذوا عدل منكم " يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة في غير المثل عدلان من
المسلمين واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين على قولين: " أحدهما " لا لأنه قد يتهم
في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك " والثاني " نعم لعموم الآية وهو مذهب الشافعي وأحمد واحتج
الأولون بأن الحاكم لا يكون محكوما عليه في صورة واحدة قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم - الفضل بن
دكين - حدثنا جعفر - هو ابن برقان - عن ميمون بن مهران أن أعرابيا أتى أبا بكر فقال: قتلت صيدا وأنا محرم فما ترى
علي من الجزاء. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لأبي بن كعب وهو جالس عنده: ما ترى فيها قال: فقال الاعرابي
أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك فإذا أنت تسأل غيرك فقال أبو بكر وما تنكر؟ يقول الله تعالى " فجزاء مثل
ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم " فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به وهذا إسناد جيد
لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ومثله يحتمل ههنا فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابيا جاهلا
وإنما دواء الجهل التعليم فأما إذا كان المعترض منسوبا إلى العلم فقد قال ابن جرير حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي
قالا حدثنا وكيع بن الجراح عن المسعودي عن عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال خرجنا حجاجا فكنا إذا
صلينا الغداة إقتدنا رواحلنا فتماشى نتحدث قال فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي أو برح فرماه رجل كان معنا
بحجر فما أخطأ حشاه فركب وودعه ميتا قال فعظمنا عليه فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فقص عليه القصة قال وإذا إلى جنبه رجل كأن وجهه قلب فضة يعني عبد الرحمن بن عوف فالتفت
عمر إلى صاحبه فكلمه قال ثم أقبل على الرجل فقال أعمدا قتلته أم خطأ فقال الرجل لقد تعمدت رميه وما أردت
قتله فقال عمر ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها قال
فقمنا من عنده فقلت لصاحبي أيها الرجل عظم شعائر الله فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه اعمد
إلى ناقتك فانحرها فلعل ذلك يعني أن يجزئ عنك قال قبيصة ولا أذكر الآية من سورة المائدة " يحكم به ذوا
102

عدل منكم " فبلغ مقالتي فلم يفجئنا منه إلا ومعه الدرة قال فعلا صاحبي ضربا بالدرة أقتلت في الحرم
وسفهت في الحكم قال ثم أقبل علي فقلت يا أمير المؤمنين لا أحل لك اليوم شيئا يحرم عليك مني فقال يا قبيصة
ابن جابر إني أراك شاب السن فسيح الصدر بين اللسان وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سئ
فيفسد الخلق السئ الأخلاق الحسنة فإياك وعثرات الشباب. وروى هشيم هذه القصة عن عبد الملك بن عمير
عن قبيصة بنحوه. ورواه أيضا عن حصين عن الشعبي عن قبيصة بنحوه وذكرها مرسلة عن عمر بن بكر بن
عبد الله المزني ومحمد بن سيرين وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا شعبة عن منصور عن
أبي وائل أخبرني ابن جرير البجلي قال أصبت ظبيا وأنا محرم فذكرت ذلك لعمر فقال ائت رجلين من إخوانك
فليحكما عليك فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما علي بتيس أعفر وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا ابن عيينة
من مخارق عن طارق قال أوطأ أربد ظبيا فقتله وهو محرم فأتى عمر ليحكم عليه فقال له عمر احكم معي فحكما
فيه جديا قد جمع الماء والشجر ثم قال عمر " يحكم به ذوا عدل منكم " وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل
أحد الحكمين كما قاله الشافعي وأحمد رحمهما الله.
واختلفوا هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل وإن كان قد حكم في مثله
الصحابة أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين فقال الشافعي وأحمد يتبع في ذلك ما حكمت به
الصحابة وجعلاه شرعا مقررا لا يعدل عنه وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين وقال مالك وأبو حنيفة
بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا لقوله تعالى " يحكم به ذوا عدل منكم "
وقوله تعالى " هديا بالغ الكعبة " أي واصلا إلى الكعبة والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على
مساكين الحرم وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة وقوله " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك " صياما أي إذا
لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال أو قلنا بالتخيير في هذا المقام
بين الجزاء والاطعام والصيام كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وأحد قولي الشافعي
والمشهور عن أحمد - رحمهم الله - لظاهر " أو " بأنها للتخيير والقول الآخر أنها على الترتيب فصورة ذلك أن يعدل إلى
القيمة فيقوم الصيد المقتول عند مالك وأبي حنيفة وأصحابه وحماد وإبراهيم وقال الشافعي: يقوم مثله من النعم لو
كان موجودا ثم يشتري به طعاما فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز
واختاره ابن جرير وقال أبو حنيفة وأصحابه: يطعم كل مسكين مدين وهو قول مجاهد. وقال أحمد مد من حنطة أو
مدان من غيره فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوما. وقال ابن جرير وقال آخرون يصوم
مكان كل صاع يوما كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه فإن الشارع أمر كعب بن عجرة أن يقسم فرقا بين ستة أو
يصوم ثلاثة أيام والفرق ثلاثة آصع واختلفوا في مكان هذا الاطعام فقال الشافعي مكانه الحرم وهو قول عطاء
وقال مالك يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه وقال أبو حنيفة إن شاء أطعم في الحرم
وإن شاء أطعم في غيره.
ذكر أقوال السلف في هذا المقام
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في
قول الله تعالى " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل
ذلك صياما " قال إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم فإن لم يجد نظركم ثمنه ثم قوم ثمنه طعاما
فصام مكان كل نصف صاع يوما قال الله تعالى " أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " قال إنما أريد بالطعام
الصيام أنه إذا وجد الطعام وجد جزاؤه ورواه ابن جرير من طريق جرير. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما " فإذا قتل المحرم شيئا من الصيد حكم عليه فيه فإن
103

قتل ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فإن قتل إيلا أو
نحوه فعليه بقرة فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا فإن لم يجد صام عشرين يوما وإن قتل نعامة أو حمار وحش أو
نحوه فعليه بدنة من الإبل فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يجد صام ثلاثين يوما. رواه ابن أبي حاتم وابن
جرير وزاد: الطعام مد مد يشبعهم وقال جابر الجعفي عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد " أو عدل ذلك صياما "
قالوا إنما الطعام مد مد لمن لا يبلغ الهدى. رواه ابن جرير وكذا روى ابن جريج عن مجاهد وأسباط عن السدي أنها على
الترتيب. وقال عطاء وعكرمة ومجاهد في رواية الضحاك وإبراهيم النخعي هي على الخيار وهي رواية الليث عن
مجاهد عن ابن عباس واختار ذلك ابن جرير - رحمه الله - وقوله " ليذوق وبال أمره " أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة
فعله الذي ارتكب فيه المخالفة " عفا الله عما سلف " أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الاسلام واتبع شرع الله
ولم يرتكب المعصية ثم قال " ومن عاد فينتقم الله منه " أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الاسلام وبلوغ الحكم
الشرعي إليه " فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام ".
قال ابن جريج قلت لعطاء ما " عفا الله عما سلف "؟ قال عما كان في الجاهلية قال: قلت وما " ومن عاد فينتقم الله
منه " قال: ومن عاد في الاسلام فينتقم الله منه وعليه مع ذلك الكفارة قال: قلت فهل في العود من حد تعلمه قال
لا قال: قلت فترى حقا على الامام أن يعاقبه؟ قال لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عز وجل ولكن يفتدي
ورواه ابن جرير وقيل معناه فينتقم الله منه بالكفارة قاله سعيد بن جبير وعطاء ثم الجمهور من السلف والخلف على
أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك
والعمد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله
فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة فإن عاد يقال له: ينتقم الله منك كما قال الله عز وجل وقال ابن جرير حدثنا
عمرو بن علي حدثنا يحيي بن سعيد وابن أبي عدي جميعا عن هشام هو ابن حسان عن عكرمة عن ابن عباس فيمن
أصاب صيدا يحكم عليه ثم عاد قال لا يحكم عليه ينتقم الله منه وهكذا قال شريح ومجاهد وسعيد بن جبير
والحسن البصري وإبراهيم النخعي رواهن ابن جرير ثم اختار القول الأول وقال ابن أبي حاتم حدثنا العباس بن يزيد
العبدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن زيد أبي المعلى عن الحسن البصري أن رجلا أصاب صيدا فتجوز عنه ثم عاد
فأصاب صيدا آخر فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله " من عاد فينتقم الله منه " وقال ابن جرير في قوله " والله
عزيز ذو انتقام " يقول عز ذكره والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ولا من عقوبة
من أراد عقوبته مانع لان الخلق خلقه والامر أمره له العزة والمنعة وقوله " ذو انتقام " يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه
على معصيته إياه.
أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه
تحشرون (96) * جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدى والقلائد ذلك لتعلموا
أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شئ عليم (97) اعلموا أن الله شديد العقاب وأن
الله غفور رحيم (98) ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون (99)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في رواية عنه وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم في قوله تعالى " أحل لكم
صيد البحر " يعني ما يصطاد منه طريا " وطعامه " ما يتزود منه مليحا يابسا وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه
صيده ما أخذ منه حيا " وطعامه " ما لفظه ميتا وكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي
104

أيوب الأنصاري - رضي الله عنهم - وعكرمة وأبي سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي والحسن البصري. قال سفيان بن عيينة
عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي بكر الصديق أنه قال " طعامه " كل ما فيه رواه ابن جرير وابن أبي
حاتم وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن مغيرة عن سماك قال: حدثت عن ابن عباس قال خطب أبو
بكر الناس فقال (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم) وطعامه ما قذف. قال وحدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن
سليمان التيمي عن أبي مجلز عن ابن عباس في قوله " أحل لكم صيد البحر وطعامه " قال " طعامه " ما قذف وقال
عكرمة عن ابن عباس قال طعامه ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضا وقال سعيد بن المسيب طعامه ما لفظه حيا أو
حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا أيوب عن نافع أن
عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال: إن البحر قد قذف حيتانا كثيرة ميتة أفنأكلها؟ فقال لا تأكلوها فلما
رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة فأتى هذه الآية " وطعامه متاعا لكم وللسيارة " فقال اذهب
فقل له فليأكله فإنه طعامه وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه. قال وقد روى في ذلك خبر وإن
بعضهم يرويه موقوفا حدثنا هناد بن السري قال حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو حدثنا أبو سلمة عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم " قال: " طعامه ما لفظه ميتا " ثم قال وقد وقف
بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة. حدثنا هناد حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي
هريرة في قوله " أحل لكم صيد البحر وطعامه " قال طعامه ما لفظه ميتا. وقوله " متاعا لكم وللسيارة " أي منفعة
وقوتا لكم أيها المخاطبون وللسيارة وهم جمع سيار قال عكرمة لمن كان بحضرة البحر والسفر وقال غيره الطري
منه لمن يصطاده من حاضرة البحر وطعامه ما مات فيه أو اصطيد منه وملح وقد يكون زادا للمسافرين والنائين عن
البحر وقد روي نحوه عن ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم. وقد استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية
الكريمة وبما رواه الامام مالك بن أنس عن ابن وهب وابن كيسان عن جابر بن عبد الله قال بعث رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بعثا قبل الساحل فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلثمائة وأنا فيهم قال فخرجنا حتى إذا كنا
ببعض الطريق فني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كله فكان مزودي تمر قال فكان يقوتنا كل يوم
قليلا قليلا حتى فني فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة فقال فقد وجدنا فقدها حين فنيت قال ثم انتهينا إلى البحر فإذا
حوت مثل الظرب فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ثم أمر براحلة
فرحلت ومرت تحتهما فلم تصبهما وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله طرق عن جابر وفي صحيح مسلم من
رواية أبي الزبير عن جابر فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم فأتيناه فإذا بدابة يقال لها العنبر قال: قال أبو
عبيدة ميتة ثم قال لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد اضطررتم فكلوا قال فأقمنا عليه شهرا
ونحن ثلثمائة حتى سمنا ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ومقتطع منه القدر كالثور قال ولقد أخذ منا أبو
عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحته
وتزودنا من لحمه وشائق فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فذكرنا ذلك له فقال " هو رزق
أخرجه الله لكم هل معكم من لحمه شئ فتطعمونا؟ " قال فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله وفي بعض روايات
مسلم أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة فقال بعضهم هي واقعة أخرى وقال بعضهم بل هي قضية
واحدة لكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة والله
أعلم وقال مالك عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة من آل ابن الأزرق أن المغيرة بن أبي بردة وهو من بني
عبد الدار أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نركب البحر نحمل معنا القليل
من الماء فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". وقد روى هذا
الحديث الإمامان الشافعي وأحمد بن حنبل وأهل السنن الأربع وصححه البخاري والترمذي وابن خزيمة وابن حبان
وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن
105

ماجة من طرق عن حماد بن سلمة حدثنا أبو المهزم - هو يزيد بن سفيان - سمعت أبا هريرة يقول: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في حج أو عمرة فاستقبلنا جراد فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن فسقط في أيدينا فقلنا ما نصنع ونحن
محرمون فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا بأس بصيد البحر " أبو المهزم ضعيف والله أعلم. وقال ابن ماجة حدثنا
هارون بن عبد الله الجمال حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا زياد بن عبد الله عن علام عن موسى بن محمد بن إبراهيم
عن أبيه عن جابر وأنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال " اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد
بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء " فقال خالد يا رسول الله كيف تدعو على
جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال " إن الجراد نثرة الحوت في البحر " قال هاشم قال زياد فحدثني من رأى الحوت
ينثره تفرد به ابن ماجة. وقد روى الشافعي عن سعيد عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أنه أنكر على من يصيد
الجراد في الحرم وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ولم يستثن من
ذلك شيئا وقد تقدم عن الصديق أنه قال طعامه كل ما فيه. وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها لما رواه
الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن أبي
عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع. وقال: نقيقها تسبيح وقال آخرون يؤكل من صيد البحر السمك ولا يؤكل الضفدع
واختلفوا فيما سواهما فقيل يؤكل سائر ذلك وقيل لا يؤكل وقيل ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر وما لا يؤكل
شبهه لا يؤكل وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى وقال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - لا يؤكل ما مات
في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر لعموم قوله تعالى " حرمت عليكم الميتة " وقد ورد حديث بنحو ذلك فقال ابن
مردويه حدثنا عبد الباقي هو ابن قانع حدثنا الحسين بن إسحاق التستري وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا
الحسين بن يزيد الطحان حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتا طافيا فلا تأكلوه ". ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية
ويحيي بن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر به وهو منكر وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك والشافعي
وأحمد بن حنبل بحديث العنبر المتقدم ذكره وبحديث " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ". وقد تقدم أيضا وروى الإمام أبو
عبد الله الشافعي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أحلت لنا
ميتتان ودمان فأما الميتتان: فالحوت والجراد وأما الدمان: فالكبد والطحال ". ورواه أحمد وابن ماجة والدارقطني
والبيهقي وله شواهد روي موقوفا والله أعلم. وقوله " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما " أي في حال إحرامكم
يحرم عليكم الاصطياد ففيه دلالة على تحريم ذلك فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدا أثم وغرم أو مخطئا غرم وحرم
عليه أكله لأنه في حقه كالميتة وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي في أحد قوليه وبه
يقول عطاء والقاسم وسالم وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم. فإن أكله أو شيئا منه فهل يلزمه جزاء ثان؟ فيه
قولان للعلماء: " أحدهما " نعم قال عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال إن ذبحه ثم أكله فكفارتان وإليه ذهب
طائفة. " والثاني " لا جزاء عليه في أكله نص عليه مالك بن أنس قال أبو عمر بن عبد البر وعلى هذا مذاهب فقهاء
الأمصار وجمهور العلماء ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد فإنما عليه حد واحد وقال
أبو حنيفة عليه قيمة ما أكل. وقال أبو ثور إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه وحلال أكل ذلك الصيد إلا أنني أكرهه
للذي قتله للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " صيد البر لكم حلال وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم " وهذا الحديث
سيأتي بيانه وقوله بإباحته للقاتل غريب وأما لغيره ففيه خلاف قد ذكرنا المنع عمن تقدم وقال آخرون بإباحته لغير
القاتل سواء المحرمون والمحلون لهذا الحديث والله أعلم.
وأما إذا صاد حلال صيدا فأهداه إلى محرم فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقا ولم يستفصلوا بين أن يكون قد
صاده من أجله أم لا حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر عن عمر بن الخطاب وأبي هريرة والزبير بن العوام وكعب
106

الأحبار ومجاهد وعطاء في رواية وسعيد بن جبير وبه قال الكوفيون. قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن
بزيع حدثنا بشر بن الفضل حدثنا سعيد عن قتادة أن سعيد بن المسيب حدثه عن أبي هريرة أنه
سئل عن لحم صيد صاده حلال أيأكله المحرم؟ قال فأفتاهم بأكله ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من
أمره فقال لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك وقال آخرون لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ومنعوا من
ذلك مطلقا لعموم هذه الآية الكريمة. قال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس وعبد الكريم عن ابن أبي آسية
عن طاوس عن ابن عباس أنه كره أكل الصيد للمحرم. وقال هي مبهمة يعني قوله " وحرم عليكم صيد البر ما
دمتم حرما " قال وأخبرني معمر عن الزهري عن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل
حال قال معمر: وأخبرني أيوب عن نافع عن ابن عمر مثله قال ابن عبد البر وبه قال طاوس وجابر بن زيد وإليه
ذهب الثوري وإسحاق بن راهويه في رواية وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب رواه ابن جرير من طريق
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن عليا كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال وقال
مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه في رواية والجمهور إن كان الحلال قد قصد المحرم
بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو بالابواء
أو بودان فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال " إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم " وهذا الحديث مخرج في الصحيحين
وله ألفاظ كثيرة قالوا فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك فأما إذا لم يقصده بالاصطياد
فإنه يجوز له الاكل منه لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش وكان حلالا لم يحرم وكان أصحابه محرمين
فتوقفوا في أكله ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها؟ " قالوا لا قال
" فكلوا " وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه القصة ثابتة أيضا في الصحيحين بألفاظ كثيرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي
عمرو عن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قتيبة في حديثه سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: صيد البر لكم حلال قال سعيد - وأنتم حرم - ما لم تصيدوه أو يصد لكم وكذا رواه أبو داود
والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة وقال الترمذي لا نعرف للمطلب سماعا من جابر ورواه الإمام محمد بن
إدريس الشافعي - رضي الله عنه - من طريق عمرو بن أبي عمرو عن مولاه المطلب عن جابر ثم قال: وهذا أحسن
حديث روي في هذا الباب وأقيس. وقال مالك - رضي الله عنه - عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن
ربيعة قال: رأيت عثمان بن عفان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ثم أتي بلحم
صيد فقال لأصحابه كلوا فقالوا: أولا تأكل أنت فقال إني لست كهيئتكم إنما صيد من أجلي.
قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولى الألباب لعلكم تفلحون (100)
يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله
عنها والله غفور حليم (101) قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين (102)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (قل) يا محمد " لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك " أي يا أيها الانسان " كثرة
الخبيث " يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث " ما قل وكفى خير مما
كثر وألهى " وقال أبو القاسم البغوي في معجمه: حدثنا أحمد بن زهير حدثنا الحوطي حدثنا محمد بن شعيب
حدثنا معان بن رفاعة عن أبي عبد الملك - علي بن يزيد - عن القاسم أبي أمامة أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال:
يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " (فاتقوا الله يا أولي
107

الألباب " أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به " لعلكم تفلحون "
أي في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " هذا تأديب
من الله تعالى لعباده المؤمنين ونهى لهم عن أن يسألوا عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها لأنها
إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما سائتهم وشق عليهم سماعها كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا
يبلغني أحد عن أحد شيئا إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " وقال البخاري: حدثنا منذر بن الوليد بن
عبد الرحمن الجارودي حدثنا أبي حدثنا شعبة عن موسى بن أنس عن أنس بن مالك قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم
خطبة ما سمعت مثلها قط وقال فيها " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " قال فغطى أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين فقال رجل من أبي قال فلان فنزلت هذه الآية " لا تسألوا عن أشياء " رواه النضر
وروح بن عبادة عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من طرق عن
شعبة بن الحجاج به. وقال ابن جرير: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة في قوله " يا أيها الذين آمنوا
لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " الآية قال فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى
أحفوه بالمسألة فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر فقال " لا تسألوني اليوم عن شئ إلا بينته لكم " فأشفق
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حضر فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه
في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان يلاحي فيدعي إلى غير أبيه فقال يا نبي الله من أبي؟ قال " أبو ك حذافة " قال ثم
قام عمر أو قال فأنشأ عمر فقال رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا عائذا بالله أو قال أعوذ بالله من شر
الفتن قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم أر في الخير والشر كاليوم قط صورت الجنة والنار حتى رأيتهما دون
الحائط " أخرجاه من طريق سعيد ورواه معمر عن الزهري عن أنس بنحو ذلك أو قريبا منه. قال الزهري:
فقالت أم عبد الله بن حذافة ما رأيت ولدا أعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية
فتفضحها على رؤوس الناس فقال والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا الحارث
حدثنا عبد العزيز حدثنا قيس عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان
محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال: أين أنا قال " في النار " فقام آخر فقال من أبي فقال
" أبو ك حذافة " فقام عمر بن الخطاب فقال: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن إماما إنا يا
رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك والله أعلم من آباؤنا قال فسكن غضبه ونزلت هذه الآية " يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " الآية إسناده جيد وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف
منهم أسباط عن السدي أنه قال في قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " قال
غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الأيام فقام خطيبا فقال " سلوني فإنكم لا تسألوني عن شئ إلا أنبأتكم به " فقام إليه
رجل من قريش من بني سهم يقال له عبد الله بن حذافة وكان يطعن فيه فقال يا رسول الله من أبي؟ فقال
" أبو ك فلان " فدعاه لأبيه. فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا وبك
نبيا وبالاسلام دينا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضي فيومئذ قال " الولد
للفراش وللعاهر الحجر " ثم قال البخاري حدثنا الفضل بن سهل حدثنا أبو النضر حدثنا أبو خيثمة
حدثنا أبو الجويرية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء فيقول
الرجل من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء
إن تبد لكم تسؤكم " حتى فرغ من الآية كلها تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد: حدثنا منصور بن وردان
الأسدي حدثنا علي بن عبد الاعلى عن أبيه عن أبي البختري وهو سعيد بن فيروز عن علي قال: لما نزلت هذه
الآية " ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا " قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفي كل عام؟ فسكت قال:
108

ثم قالوا أفي كل عام؟ فقال " لا ولو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لما استطعتم " فأنزل الله " يا أيها الذين آمنوا لا
تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " الآية وكذا رواه الترمذي وابن ماجة من طريق منصور بن وردان به وقال
الترمذي: غريب من هذا الوجه وسمعت البخاري يقول أبو البختري لم يدرك عليا وقال ابن جرير: حدثنا أبو
كريب حدثنا عبد الرحيم بن سليمان عن إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله كتب عليكم الحج " فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو
ثلاثا فقال " من السائل؟ " فقال فلان فقال " والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت عليكم ما أطقتموه
ولو تركتموه لكفرتم " فأنزل الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " حتى ختم
الآية. ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة وقال فقام محصن الأسدي
وفي رواية من هذه الطريق عكاشة بن محصن وهو أشبه وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف. وقال ابن جرير أيضا:
حدثني زكريا بن يحيي بن أبان المصري حدثنا أبو زيد عبد العزيز أبي الغمر حدثنا ابن مطيع - معاوية بن يحيى - عن
صفوان بن عمرو حدثني سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال
" كتب عليكم الحج " فقام رجل من الاعراب فقال: أفي كل عام؟ قال فعلا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسكت وأغضب
واستغضب ومكث طويلا ثم تكلم فقال " من السائل؟ " فقال الاعرابي أنا ذا فقال " ويحك ماذا يؤمنك أن أقول
نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لكفرتم ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج والله لو أني أحللت
لكم جميع ما في الأرض وحرمت عليكم منها موضع خف لوقعتم فيه " قال فأنزل الله عند ذلك " يا أيها الذين
آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الآية في إسناده ضعف وظاهر الآية النهي عن السؤال
عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته فالأولى الاعراض عنها وتركها وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد
حيث قال: حدثنا حجاج قال: سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي هاشم مولى الهمداني عن
زيد بن زائد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا فإني أحب أن
أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " الحديث وقد رواه أبو داود والترمذي من حديث إسرائيل قال أبو داود عن
الوليد وقال الترمذي عن إسرائيل عن السدي عن الوليد بن أبي هاشم به ثم قال الترمذي غريب من هذا
الوجه وقوله تعالى " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن
السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبين لكم (وذلك على الله يسير) ثم
قال " عفا الله عنها " أي عما كان منكم قبل ذلك " والله غفور حليم " وقيل المراد بقوله " وإن تسألوا عنها حين
ينزل القرآن تبد لكم " أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو
تضييق وقد ورد في الحديث " أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم من أجل مسألته " ولكن
إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذ لاحتياجكم إليها " عفا الله عنها " أي ما لم يذكره في
كتابه فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ذروني ما
تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم " وفي الحديث الصحيح أيضا " إن الله
تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم
غير نسيان فلا تسألوا عنها " ثم قال تعالى " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " أي قد سأل هذه
المسائل المنهي عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها فأصبحوا بها كافرين أي بسببها أن بينت لهم
فلم ينتفعوا بها لانهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل علي وجه الاستهزاء والعناد وقال العوفي عن ابن عباس
في الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في الناس فقال " يا قوم كتب عليكم الحج " فقام رجل من بني أسد فقال: يا
رسول الله أفي كل عام فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا فقال " والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو
وجبت ما استطعتم وإذا لكفرتم فاتركوني ما تركتكم وإذا أمرتكم بشئ فافعلوا وإذا نهيتكم عن شئ فانتهوا عنه "
109

فأنزل الله هذه الآية نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة " فأصبحوا بها كافرين " فنهى الله
عن ذلك وقال لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ولكن انتظروا فإذا نزل القرآن فإنكم لا
تسألون عن شئ إلا وجدتم بيانه رواه ابن جرير وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يا أيها الذين آمنوا
لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " قال: لما نزلت آية الحج
نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال " يا أيها الناس إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا " فقالوا يا رسول الله أعاما
واحدا أم كل عام؟ فقال " لا بل عاما واحدا ولو قلت كل عام لوجبت ولو وجبت لكفرتم " ثم قال الله تعالى " يا
أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء " إلى قوله " ثم أصبحوا بها كافرين " رواه ابن جرير وقال خطيف عن
مجاهد عن ابن عباس " لا تسألوا عن أشياء " قال هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ألا ترى أنه قال بعدها
" ما جعل الله من بحيرة " ولا كذا ولا كذا قال وأما عكرمة فقال: إنهم كانوا يسألونه عن الآيات فنهوا عن ذلك
ثم قال " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " رواه ابن جرير يعني عكرمة رحمه الله أن المراد بهذا
النهي عن سؤال وقوع الآيات كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارا وأن يجعل لهم الصفا ذهبا وغير ذلك وكما
سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء وقد قال الله تعالى " وما منعنا أن " نرسل بالآيات إلا أن كذب بها
الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " وقال تعالى " وأقسموا بالله جهد
أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون * ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى
وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله لكن أكثرهم يجهلون ".
ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم
لا يعقلون (103) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليها اباءنا أولو
كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون (104)
قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سعيد بن
المسيب قال: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا
يحمل عليها شئ قال: وقال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار
كان أول من سيب السوائب " والوصيلة الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى وكانوا يسيبونها
لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى
ضرابه ودعوه للطواغيت واعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شئ وسموه الحامي وكذا رواه مسلم والنسائي من
حديث إبراهيم بن سعد به ثم قال البخاري: وقال لي أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال: سمعت سعيدا
يخبر بهذا قال: وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه ورواه ابن الهاد عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة
رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال الحاكم: أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن
عبد الوهاب بن بخت عن الزهري كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في الأطراف وسكت ولم ينبه عليه
وفيما قاله الحاكم نظر فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد عن ابن الهاد عن
الزهري نفسه والله أعلم ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكرماني حدثنا حسان بن
إبراهيم حدثنا يونس عن الزهري عن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت جهنم
يحطم بعضها بعضا ورأيت عمرا يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب " تفرد به البخاري وقال ابن جرير:
حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبي صالح عن
110

أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون " يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر
قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك " فقال أكثم تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إبراهيم وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى
الحامي " ثم رواه عن هناد عن عبدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو
مثله ليس هذان الطريقان في الكتب. وقال الإمام أحمد: حدثنا عمرو بن مجمع حدثنا إبراهيم الهجري عن
أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة
عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار " تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن
زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لأعرف أول من سيب السوائب وأول من غير دين إبراهيم عليه
السلام " قالوا ومن هو يا رسول الله؟ قال " عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار تؤذي
رائحته أهل النار وإني لأعرف أول من بحر البحائر " قالوا ومن هو يا رسول الله؟ قال " رجل من بني مدلج كانت
له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما ثم شرب ألبانهما بعد ذلك فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما ويطآنه
بأخفافهما " فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم وكان أول من غير
دين إبراهيم الخليل فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها وشرع لهم هذه
الشرائع الجاهلية في الانعام وغيرها كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والانعام نصيبا " إلى آخر الآيات في ذلك فأما البحيرة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله
عنهما هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فإن كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال دون النساء وإن كان
أنثى جدعوا آذانها فقالوا هذه بحيرة. وذكر السدي وغيره قريبا من هذا وأما السائبة فقال مجاهد هي من الغنم
نحو ما فسر من البحيرة إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها فإذا ولدت السابع ذكرا
أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم وقال محمد بن إسحاق السائبة هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد
ليس بينهن ذكر سيبت فلم تركب ولم يجز وبرها ولم يحلب لبنها إلا الضيف وقال أبو روق السائبة كان الرجل إذا
خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت فما ولدت من شئ كان لها. وقال السدي:
كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرض أو كثر ماله سيب شيئا من ماله للأوثان فمن عرض له من
الناس عوقب بعقوبة في الدنيا.
وأما الوصيلة فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع فإن كان
ذكرا وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء وإن كان أنثى استحيوها وإن كان ذكرا وأنثى في بطن واحد
استحيوهما وقالوا: وصلته أخته فحرمته علينا رواه ابن أبي حاتم. وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري عن
سعيد بن المسيب (ولا وصيلة) قال: فالوصيلة من الإبل كانت الناقة تبتكر من الأنثى ثم ثنت بأنثى فسموها
الوصيلة ويقولون وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر فكانوا يجدعونها لطواغيتهم. وكذا روي عن الامام مالك بن
أنس رحمه الله تعالى وقال محمد بن إسحاق الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين
في كل بطن سميت الوصيلة وتركت فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث وإن كانت
ميتة اشتركوا فيها وأما الحامي فقال العوفي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا لقح فحله عشرا قيل حام
فاتركوه. وكذا قال أبو روق وقتادة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وأما الحام فالفحل من الإبل إذا ولد
لولده قالوا حمي هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئا ولا يجزون له وبرا ولا يمنعونه من حمى رعى ومن حوض يشرب
منه وإن كان الحوض لغير صاحبه. وقال ابن وهب: سمعت مالكا يقول: أما الحام فمن الإبل كان يضرب في
الإبل فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد
111

في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص الجشمي عن أبيه مالك بن
نضلة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لي " هل لك من مال؟ " فقلت نعم قال " من أي
المال؟ " قال: فقلت من كل المال من الإبل والغنم والخيل والرقيق قال " فإذا آتاك الله مالا فكثر عليك " ثم
قال " تنتج إبلك وافية آذانها؟ " قال قلت نعم قال " وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ " قال " فلعلك تأخذ الموسى
فتقطع آذان طائفة منها وتقول هذه بحير وتشق آذان طائفة منها وتقول هذه حرم " قلت نعم قال " فلا تفعل إن كل
ما آتاك الله لك حل " ثم قال " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " أما البحيرة فهي التي
يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها فإذا
ماتت اشتركوا فيها.
وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن فإذا
ولدت السابع جدعت وقطع قرنها فيقولون قد وصلت فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض
هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث.
وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك من قوله وهو أشبه وقد روي هذا
الحديث الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن
نضلة عن أبيه به وليس فيه تفسير هذه الآية والله أعلم.
وقوله تعالى " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون " أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا
هي عنده قربة ولكن المشركين افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها إليه وليس ذلك بحاصل لهم بل
هو وبال عليهم " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " أي إذا دعوا
إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وترك ما حرمه قالوا يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك قال
الله تعالى " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " أي لا يفهمون حقا ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه فكيف يتبعونهم والحالة
هذه لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم وأضل سبيلا.
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم
تعملون (105)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ومخبرا لهم أنه من أصلح أمره
لا يضره فساد من فسد من الناس سواء كان قريبا منه أو بعيدا. قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية:
يقول تعالى إذا ما العبد أطاعني فما أمرته به من الحلال ونهيته عنه من الحرام فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما
أمرته به وكذا روى الوالي عنه وهكذا قال مقاتل بن حيان فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم "
نصب على الاغراء " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " أي
فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر وليس فيها دليل على ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
إذا كان فعل ذلك ممكنا. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا زهير يعني ابن معاوية
حدثنا إسماعيل بن أبي خالد حدثنا قيس قال: قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " وإنكم
تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز
وجل أن يعمهم بعقابه " قال وسمعت أبا بكر يقول: يا أيها الناس إياكم والكذب فإن الكذب مجانب للايمان.
112

وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه وغيرهم من طرق كثيرة عن جماعة
كثيرة عن إسماعيل بن أبي خالد به متصلا مرفوعا ومنهم من رواه عنه به موقوفا على الصديق وقد رجح رفعه
الدارقطني وغيره وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في مسند الصديق رضي الله عنه وقال أبو عيسى الترمذي
حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا عتبة بن أبي حكيم حدثنا عمرو بن حارثة اللخمي
عن أبي أمية الشعياني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له كيف تصنع في هذه الآية؟ قال أية آية؟ قلت قول
الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " قال أما والله لقد سألت عنها خبيرا
سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوي متبعا
ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع العوام فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل
القابض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " قال عب د ا لله بن المبارك: وزاد غير
عتبة قيل يا رسول الله أجر خمسين رجلا منا أو منهم قال " بل أجر خمسين منكم " ثم قال الترمذي: هذا
حديث حسن غريب صحيح وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجة وابن جرير وابن أبي حاتم
عن عتبة بن أبي حكيم.
وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قول الله " عليكم أنفسكم
لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال إن هذا ليس بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها تأمرون
فيصنع بكم كذا وكذا أو قال: فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل ورواه أبو جعفر
الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من
ضل " الآية قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس حتى قام كل
واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله ألا أقوم فأمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر فقال آخر
إلى جنبه عليك بنفسك فإن الله يقول " عليكم أنفسكم " الآية قال فسمعها ابن مسعود فقال مه لم يجئ تأويل
هذه بعد إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي تأويلهن عند
الساعة ما ذكر من الساعة ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم
واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا وإذا اختلفت القلوب والأهواء
وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا الربيع بن صبيح عن سفيان بن عقال قال:
قيل لابن عمر لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله قال " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم " فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " ألا فليبلغ
الشاهد الغائب " فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لاقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا: حدثنا عوف عن سوار بن شبيب قال:
كنت عند ابن عمر إذ أتاه رجل جليد في العين شديد اللسان فقال يا أبا عبد الرحمن نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن
فأسرع فيه وكلهم مجتهد لا يألو وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة إلا الخير وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض
بالشرك فقال رجل من القوم وأي دناءة تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك؟ فقال الرجل إني
لست إياك أسأل إنما أسأل الشيخ فأعاد على عبد الله الحديث فقال عبد الله لعلك ترى لا أبالك أني سآمرك أن
تذهب فتقتلهم عظهم وانههم وإن عصوك فعليك بنفسك فإن الله عز وجل يقول " يا أيها الذين آمنوا عليكم
أنفسكم " الآية. وقال أيضا: حدثني أحمد بن المقدام حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا قتادة عن
113

أبي مازن قال: انطلقت على عهد عثمان إلي المدينة فإذا قوم من المسلمين جلوس فقرأ أحدهم هذه الآية
" عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل " فقال أكثرهم لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم. وقال: حدثنا القاسم
حدثنا الحسن حدثنا أبو فضالة عن معاوية بن صالح عن جبير بن نفير قال: كنت في حلقة فيها أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإني لاصغر القوم فتذاكروا الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فقلت أنا: أليس الله يقول في كتابه
" يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم "؟ فأقبلوا علي بلسان واحد وقالوا: تنزع آية
من القرآن لا تعرفها ولا تدري ما تأويلها فتمنيت أني لم أكن تكلمت وأقبلوا يتحدثون فلما حضر قيامهم قالوا إنك
غلام حديث السن وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي وعسى أن تدرك ذلك الزمان إذا رأيت شحا مطاعا وهوى
متبعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت. وقال ابن جرير: حدثنا علي بن
سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة قال: تلا الحسن هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل
إذا اهتديتم " فقال الحسن الحمد لله بها والحمد لله عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى
جنبه منافق يكره عمله. وقال سعيد بن المسيب: إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فلا يضرك من ضل إذا
اهتديت. رواه ابن جرير. وكذا روي من طريق سفيان الثوري عن أبي العميس عن أبي البختري عن حذيفة
مثله وكذا قال غير واحد من السلف. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد الدمشقي حدثنا
الوليد حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن كعب في قوله " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا
اهتديتم " قال إذا هدمت كنيسة دمشق فجعلت مسجدا وظهر لبس العصب فحينئذ تأويل هذه الآية.
يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من
غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم
لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين (106) فإن عثر على أنهما استحقا إثما
فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأولين فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما
اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين (107) ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا
الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسقين (108)
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز قيل إنه منسوخ رواه العوفي من ابن عباس وقاله حماد بن أبي سليمان
عن إبراهيم أنها منسوخة وقال آخرون وهم الأكثرون فيما قاله ابن جرير بل هو محكم ومن ادعى نسخه فعليه
البيان فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان " هذا هو الخبر
لقوله شهادة بينكم فقيل تقديره شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وقيل دل الكلام على تقدير
أن يشهد اثنان وقوله تعالى " ذوا عدل " وصف الاثنين بأن يكونا عدلين وقوله " منكم " أي من المسلمين
قاله الجمهور. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله (ذوا عدل منكم) قال من
المسلمين رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن عبيدة وسعيد بن المسيب والحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر
والسدي وقتادة ومقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك قال ابن جرير وقال آخرون غير
ذلك " ذوا عدل منكم " أي من أهل الموصي وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدة غيرهما وقوله " أو
آخران من غيركم " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سعيد بن عوف حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا
حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله " أو آخران من غيركم " قال من غير
114

المسلمين يعني أهل الكتاب ثم قال: وروي عن عبيدة وشريح وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين ويحيى بن
يعمر وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وإبراهيم النخعي وقتادة وأبي مجلز والسدي ومقاتل بن حيان
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم نحو ذلك وعلى ما حكاه ابن جرير عن كرمة وعبيدة في قوله منكم أن
المراد من قبيلة الموصي يكون المراد ههنا " أو آخران من غيركم " أي من غير قبيلة الموصي وروى ابن أبي
حاتم مثله عن الحسن البصري والزهري رحمهما الله وقوله تعالى " إن أنتم ضربتم في الأرض " أي سافرتم
" فأصابتكم مصيبة الموت " وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر وأن
يكون في وصية كما صرح بذلك شريح القاضي، وقال ابن جرير: حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو معاوية ووكيع
قالا: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن شريح قال: لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ولا تجوز في سفر
إلا في الوصية ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق السبيعي قال: قال شريح فذكر
مثله وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وهذه المسألة من أفراده وخالفه الثلاثة فقالوا لا
تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضا وقال ابن جرير: حدثنا
عمرو بن علي حدثنا أبو داود حدثنا صالح بن أبي الأخضر عن الزهري قال: مضت السنة أن لا تجوز شهادة
الكافر في حضر ولا سفر إنما هي في المسلمين. وقال ابن زيد: نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد
من أهل الاسلام وذلك في أول الاسلام والأرض حرب والناس كفار وكان الناس يتوارثون بالوصية ثم نسخت
الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها. رواه ابن جرير وفي هذا نظر والله أعلم. وقال ابن جرير: اختلف
في قوله " شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " هل
المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما على قولين. " أحدهما " أن يوصي إليهما كما قال محمد بن إسحاق عن
يزيد بن عبد الله بن قسيط قال: سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية قال هذا رجل سافر ومعه مال
فأدركه قدره فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين رواه ابن أبي حاتم
وفيه انقطاع.
" والقول الثاني " أنهما يكونان شاهدين وهو ظاهر سياق الآية الكريمة فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما
الوصفان الوصاية والشهادة كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرهما آنفا إن شاء الله وبه
التوفيق وقد استشكل ابن جرير كونهما شاهدين قال لأنا لا نعلم حكما يحلف فيه الشاهد وهذا لا يمنع الحكم
الذي تضمنته هذه الآية الكريمة وهو حكم مستقل بنفسه لا يلزم أن يكون جاريا على قياس جميع الأحكام على أن
هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره فإذا قامت قرينة
الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة وقوله تعالى " تحبسونهما من بعد الصلاة " قال
العوفي عن ابن عباس: يعني صلاة العصر وكذا قال سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وعكرمة ومحمد بن
سيرين. وقال الزهري يعني صلاة المسلمين وقال السدي عن ابن عباس يعني صلاة أهل دينهما وروي عن
عبد الرزاق عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة وكذا قال إبراهيم وقتادة وغير واحد والمقصود أن يقام
هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم " فيقسمان بالله " أي فيحلفان بالله " إن ارتبتم " أي إن
ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله " لا نشتري به " أي بأيماننا قاله مقاتل بن حيان
(ثمنا) أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة (ولو كان ذا قربى) أي ولو كان المشهود عليه
قريبا لنا لا نحابيه " ولا نكتم شهادة الله " أضافها إلى الله تشريفا لها وتعظيما لأمرها وقرأ بعضهم " ولا نكتم
شهادة الله " مجرورا على القسم رواها ابن جرير عن عامر الشعبي وحكى عن بعضهم أنه قرأها (ولا نكتم
شهادة الله) والقراءة الأولى هي المشهورة " إنا إذا لمن الآثمين " أي إن فعلنا شيئا من ذلك من تحريف الشهادة
أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية. ثم قال تعالى " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " أي فإن اشتهر وظهر
115

وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئا من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك " فآخران
يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان " هذه قراءة الجمهور " استحق عليهم الأوليان " وروي عن
علي وأبي الحسن البصري أنهم قرؤوها " استحق عليهم الأولان " وروى الحاكم في المستدرك من طريق
إسحاق بن محمد الفروي عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن
أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " من الذين استحق عليهم الأوليان " ثم قال صحيح على شرط مسلم
ولم يخرجاه وقرأ بعضهم ومنهم ابن عباس " من الذين استحق عليهم الأوليين " وقرأ الحسن " من الذين
استحق عليهم الأولان " حكاه ابن جرير فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك أي متى تحقق ذلك بالخبر
الصحيح على خيانتهما فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال (فيقسمان بالله
لشهادتنا أحق من شهادتهما) أي لقولنا أنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة (وما اعتدينا) أي
فيما قلنا فيهما من الخيانة (إنا إذا لمن الظالمين) أي إن كنا قد كذبنا عليهما وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى
قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع
برمته إليهم كما هو مقرر في باب القسامة من الاحكام وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
فقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسين بن زياد حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن أبي
النضر عن بادام - يعني أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب - عن ابن عباس عن تميم الداري في هذه الآية " يا
أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " قال برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بداء وكانا
نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل بن أبي
مريم بتجارة معه جام من فضة يريد به الملك وهو أعظم تجارته فمرض فأوصي إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك
أهله قال تميم فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدي فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم
ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم فلما أسلمت بعد قدوم
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ودفعت إليهم خمسمائة
درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا عليه فأمرهم النبي أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف
فنزلت " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " إلى قوله " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما " فقام عمرو بن
العاص ورجل آخر منهم فحلفا فنزعت الخمسمائة من عدي بن بداء وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير
كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحرابي عن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق به فذكره وعنده
فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله هذه
الآية إلى قوله " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة
من عدي بن بداء ثم قال هذا حديث غريب وليس إسناده بصحيح وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق
هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر وقد تركه أهل العلم بالحديث وهو صاحب
التفسير سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد بن السائب الكلبي يكنى أبا النضر ثم قال ولا نعرف لأبي النضر
رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ وقد روي عن ابن عباس شئ من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه
حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا يحيى بن آدم عن ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن
جبير عن أبيه عن أبن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي
بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدوا الجام
بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن
الجام لصاحبهم وفيهم نزلت " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم " الآية وكذا رواه أبو داود عن الحسن بن علي
عن يحيى بن آدم به. ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وهو حديث ابن أبي زائدة ومحمد بن أبي القاسم
116

الكوفي قيل إنه صالح الحديث وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين منهم عكرمة ومحمد بن سيرين
وقتادة وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر رواه ابن جرير. وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك
وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا ما رواه أبو جعفر بن جرير
حدثني يعقوب حدثنا هشيم قال: أخبرنا زكريا عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه قال
فحضرته الوفاة ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب قال فقدما الكوفة
فأتيا الأشعري يعني أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر
لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما
ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته قال فأمضى شهادتهما ثم رواه عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي داود
الطيالسي عن شعبة عن مغيرة الأزرق عن الشعبي أن أبا موسى قضى به وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي عن
أبي موسى الأشعري فقوله هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهر والله أعلم أنه إنما
أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء قد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من
الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرا يحتاج مدعى نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام والله أعلم وقال
أسباط عن السدي في الآية " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل
منكم " قال هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه قال هذا في
الحضر (أو آخرون من غيركم) في السفر (إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت) هذا الرجل
يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس فيوصي
إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما وإن ارتابوا
رفعوهما إلى السلطان فذلك قوله تعالى " تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم ' قال عبد الله بن
عباس رضي الله عنه كأني أنظر إلى العلجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ففتح الصحيفة
فأنكر أهل الميت وخوفوهما فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر فقلت إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن
استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمنا قليلا
ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين أن صاحبهم لبهذا أوصي وإن هذه لتركته فيقول لهما الامام
بل أن يحلفا إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك
" فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " رواه ابن جرير وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين
حدثنا هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم وسعيد بن جبير أنهما قالا في هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم "
الآية قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر فليشهد رجلين من المسلمين فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين
من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته فإن صدقهما الورثة قبل قولهما وإن اتهموهما حلفا بعد صلاة العصر بالله ما كتمنا
ولا كذبنا ولا خنا ولا غيرنا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية فإن ارتبت في شهادتهما
استحلفا بعد العصر بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمنا قليلا فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما قام
رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة وإنا لم نعتد فذلك قوله " فإن عثر على أنهما استحقا
إثما " يقول إن اطلع على أن الكافرين كذبا " فآخران يقومان مقامهما " يقول من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة
الكافرين باطلة وإنا لم نعتد فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء وهكذا روى العوفي عن ابن عباس رواهما
ابن جرير وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم
وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله. وقوله " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها " أي شرعية هذا الحكم
على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين واستريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه
المرضي وقوله " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " أي يكون الحامل لهم على الاتيان بها على وجهها هو
117

تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله والخوف من الفضيحة بين الناس إن ردت اليمين على الورثة فيحلفون
ويستحقون ما يدعون ولهذا قال " أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم " ثم قال " واتقوا الله " أي في جميع
أموركم " واسمعوا " أي وأطيعوا " والله لا يهدي القوم الفاسقين " أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.
* يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب (109)
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم كما قال تعالى
" فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " وقال تعالى " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون "
وقول الرسل " لا علم لنا " قال مجاهد والحسن البصري والسدي إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم قال
عبد الرزاق عن الثوري عن الأعمش عن مجاهد " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم " فيفزعون فيقولون
" لا علم لنا " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا حكام حدثنا عنبسة قال:
سمعت شيخا يقول سمعت الحسن يقول في قوله " يوم يجمع الله الرسل " الآية قال من هول ذلك اليوم.
وقال أسباط عن السدي " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا " ذلك أنهم نزلوا منزلا ذهلت
فيه العقول فلما سئلوا قالوا " لا علم لنا " ثم نزلوا منزلا آخر فشهدوا على قومهم رواه ابن جرير ثم قال ابن
جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا الحجاج عن ابن جريج قوله " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا
أجبتم " أي ماذا عملوا بعدكم وماذا أحدثوا بعدكم قالوا " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " يقولون
للرب عز وجل لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا. رواه ابن جرير ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة ولا شك أنه
قول حسن وهو من باب التأدب مع الرب جل جلاله. أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شئ فنحن
وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه وأنت العليم بكل شئ
المطلع على كل شئ فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا علم فإنك " أنت علام الغيوب ".
إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد
وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ
فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل
عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110) وإذ أوحيت إلى الحواريين
أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون (111)
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات
الباهرات وخوارق العادات فقال (أذكر نعمتي عليك) أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر وجعلي إياك آية ودلالة
قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء (وعلى والدتك) حيث جعلتك لها برهانا على براءتها مما نسبه الظالمون
والجاهلون إليها من الفاحشة (إذ أيدتك بروح القدس) وهو جبريل عليه السلام وجعلتك نبيا داعيا إلى الله في
صغرك وكبرك فأنطقتك في المهد صغيرا فشهدت ببراءة أمك من كل عيب واعترفت لي بالعبودية وأخبرت عن
رسالتي إياك ودعوت إلى عبادتي ولهذا قال " تكلم الناس في المهد وكهلا " أي تدعو إلى الله الناس في صغرك
118

وكبرك وضمن تكلم تدعو لان كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب وقوله " وإذ علمتك الكتاب والحكمة "
أي الخط والفهم (والتوراة) وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم وقد يرد لفظ التوراة في الحديث ويراد به
ما هو أعم من ذلك وقوله " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني " أي تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني
لك في ذلك (فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني " أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك فتكون
طيرا ذا روح تطير بإذن الله وخلقه.
وقوله تعالى " وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني " قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.
وقوله " وإذ تخرج الموتى بإذني " أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وأرادته ومشيئته وقد قال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مالك بن إسماعيل حدثنا محمد بن طلحة يعني ابن مصرف عن أبي بشر عن أبي
الهذيل قال: كان عيسى ابن مريم عليه السلام إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين يقرأ في الأولى (تبارك
الذي بيده الملك) وفي الثانية (ألم تنزيل) السجدة فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ثم دعا بسبعة أسماء:
يا قديم يا خفي يا دائم يا فرد يا وتر يا أحد يا صمد وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر: يا حي يا قيوم يا الله
يا رحمن يا ذا الجلال والاكرام يا نور السماوات والأرض وما بينهما ورب العرش العظيم يا رب وهذا أثر عظيم
جدا. وقوله تعالى " وإذا كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر
مبين " أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك
من الله إليهم فكذبوك واتهموك بأنك ساحر وسعوا في قتلك وصلبك فنجيتك منهم ورفعتك إلي وطهرتك من
دنسهم وكفيتك شرهم وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا أو يكون هذا
الامتنان واقعا يوم القيامة وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله
عليها نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله " وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي " وهذا أيضا من الامتنان عليه عليه السلام بأن جعل له
أصحابا وأنصارا ثم قيل إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى " وأوحينا إلي أم موسى أن أرضعيه "
الآية وهو وحي إلهام بلا خلاف وكما قال تعالى " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن
الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا " الآية وهكذا قال بعض السلف في هذه
الآية " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " أي ألهموا ذلك فامتثلوا
ما ألهموا قال الحسن البصري ألهمهم الله عز وجل ذلك وقال السدي قذف في قلوبهم ذلك ويحتمل أن يكون
المراد وإذ أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الايمان بالله وبرسوله واستجابوا لك وانقادوا وتابعوك فقالوا " آمنا
بالله واشهد بأننا مسلمون ".
إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم
مؤمنين (112) قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين (113) قال
عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا
وأنت خير الرازقين (114) قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من
العالمين (115)
119

هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال سورة المائدة وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب
دعاءه بنزولها فأنزلها الله آية باهرة وحجة قاطعة وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكورة في الإنجيل ولا
يعرفها النصارى إلا من المسلمين فالله أعلم فقوله تعالى " إذ قال الحواريون " وهم أتباع عيسى عليه السلام
" يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك " هذه قراءة كثيرين وقرأ آخرون " هل تستطيع ربك " أي هل تستطيع أن
تسأل ربك " أن ينزل علينا مائدة من السماء " والمائدة هي الخوان عليه الطعام وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا
ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ويتقوون بها على العبادة " قال اتقوا الله
إن كنتم مؤمنين " أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلا لهم اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنة لكم
وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين " قالوا نريد أن نأكل منها " أي نحن محتاجون إلى الاكل منها
(وتطمئن قلوبنا) إذا شاهدنا نزولها رزقا لنا من السماء (ونعلم أن قد صدقتنا) أي ونزداد إيمانا بك وعلما
برسالتك (ونكون عليها من الشاهدين) أي ونشهد أنها آية من عند الله ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت
به (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) قال السدي أي
نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا نعظمه نحن ومن بعدنا وقال سفيان الثوري: يعني يوما نصلي فيه. وقال
قتادة: أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم وعن سلمان الفارسي عظة لنا ولمن يعدنا وقيل كافية لأولنا وآخرنا (وآية
منك) أي دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك (وارزقنا)
أي من عندك رزقا هنيئا بلا كلفة ولا تعب (وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم) أي
فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها (فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين) أي من عالمي
زمانكم كقوله تعالى (ويوم القيامة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) وكقوله (إن المنافقين في الدرك الأسفل من
النار) وقد روى ابن جرير من طريق عوف الاعرابي عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمرو قال: إن أشد
الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون.
" ذكر أخبار رويت عن السلف في نزول المائدة على الحواريين "
قال أبو جعفر بن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن ليث عن عقيل عن ابن عباس أنه كان
يحدث عن عيسى أنه قال لبني إسرائيل هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم فإن أجر
العامل على من عمل له ففعلوا ثم قالوا يا معلم الخير قلت لنا إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين
يوما ففعلنا ولم نكن نعمل لاحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من
السماء؟ قال عيسى (اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون
عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية
منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من
العالمين) قال فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعه أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم
فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم كذا رواه ابن جرير. ورواه ابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الاعلى عن
ابن وهب عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه. وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا سعيد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد حدثنا عقيل بن خالد أن ابن شهاب أخبره عن ابن
عباس أن عيسى ابن مريم قالوا له ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء قال فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها عليها
سبعة أحوات وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم وقال ابن أبي حاتم:
حدثنا أبي حدثنا الحسن بن قزعة الباهلي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جلاس عن
120

عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد فخانوا
وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير " وكذا رواه ابن جرير عن الحسن بن قزعة. ثم رواه ابن جرير عن ابن بشار
عن ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن جلاس عن عمار قال: نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة فأمروا أن لا
يخونوا ولا يخبأوا ولا يدخروا قال فخان القوم وخبأوا وادخروا فمسخهم الله قردة وخنازير وقال ابن جرير: حدثنا
ابن المثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا داود عن سماك بن حرب عن رجل من بني عجل قال: صليت إلى جانب
عمار بن ياسر فلما فرغ قال هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل؟ قال قلت لا قال: إنهم سألوا عيسى ابن
مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد قال فقيل لهم فإنها مقيمة لكم ما لم تخبأوا أو تخونوا أو ترفعوا فإن
فعلتم فإني معذبكم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا فعذبوا عذابا
لم يعذبه أحد من العالمين وإنكم يا معشر العرب كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاة فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم
تعرفون حسبه ونسبه وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ونهاكم أن تكنزوا الذهب والفضة وأيم الله لا يذهب الليل
والنهار حتى تكنزوهما ويعذبكم الله عذابا أليما. وقال: حدثنا القاسم حدثنا حسين حدثني حجاج عن أبي معشر عن
إسحاق بن عبد الله أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات يأكلون منها ما شاءوا
قال: فسرق بعضهم منها وقال لعلها لا تنزل غدا فرفعت وقال العوفي عن ابن عباس: نزل على عيسى ابن مريم
والحواريين خوان عليه خبز وسمك يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاءوا. وقال خصيف عن عكرمة ومقسم عن ابن عباس
كانت المائدة سمكة وأرغفة وقال مجاهد هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي:
نزلت المائدة خبزا وسمكا. قال عطية العوفي: المائدة سمك فيه طعم كل شئ. وقال وهب بن منبه أنزلها الله من
السماء على بني إسرائيل فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى
فكان يقعد عليها أربعة آلاف وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل. وقال
وهب بن منبه: نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات وحشا الله بين أضعافهن البركة فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ثم
يجئ آخرون فيأكلون ثم يخرجون حتى أكل جميعهم وأفضلوا. وقال الأعمش عن مسلم عن سعيد بن جبير: أنزل
عليها كل شئ إلا اللحم. وقال سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة وجرير عن عطاء عن ميسرة
قال: كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم. وعن عكرمة كان خبز
المائدة من الأرز رواه ابن أبي حاتم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن علي فيما كتب إلي حدثنا إسماعيل بن
أبي أويس حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن أبي عبيد الله بن مرداس العبدري مولى عبد الدار عن
إبراهيم بن عمر عن وهب بن منبه عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الخير أنه قال: لما سأل الحواريون عيسى ابن
مريم المائدة كره ذلك جدا فقال اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ولا تسألوا المائدة من السماء فإنها إن نزلت عليكم
كانت آية من ربكم وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية فابتلوا بها حتى كان بوارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها
فلذلك قالوا " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا " الآية فلما رأى عيسى أن قد أبو ا إلا أن يدعو لهم فألقي عنه
الصوف ولبس الشعر الأسود وجبة من شعر وعباءة من شعر ثم توضأ واغتسل ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله فلما
قضى صلاته قام قائما مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ووضع يده
اليمنى على اليسرى فوق صدره وغض بصره وطأطأ رأسه خشوعا ثم أرسل عينيه بالبكاء فما زالت دموعه تسيل على
خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال وجهه من خشوعه فلما رأى ذلك دعا الله فقال (اللهم ربنا أنزل
علينا مائدة من السماء) فأنزل الله عليهم سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وغمامة تحتها وهم ينظرون إليها في
الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم وعيسى يبكي خوف من أجل الشروط التي أخذها الله عليهم فيها أنه يعذب
من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين وهو يدعو الله في مكانه ويقول اللهم اجعلها
121

رحمة لهم ولا تجعلها عذابا إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني إلهي اجعلنا لك شاكرين اللهم إني أعوذ بك
أن تكون أنزلتها غضبا ورجزا إلهي اجعلها سلامة وعافية ولا تجعلها فتنة ومثلة. فما زال يدعو حتى استقرت السفرة
بين يدي عيسى والحواريين وأصحابه حوله يجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط وخر عيسى
والحواريون لله سجدا شكرا له لما رزقهم من حيث لم يحتسبوا وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة وأقبلت
اليهود ينظرون فرأوا أمرا عجيبا أورثهم كمدا وغما ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى والحواريون وأصحابه
حتى جلسوا حول السفرة فإذا عليها منديل مغطى فقال عيسى من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة وأوثقنا
بنفسه وأحسننا بلاء عند ربه فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ونحمد ربنا ونذكر باسمه ونأكل من رزقه الذي رزقنا
فقال الحواريون: يا روح الله وكلمته أنت أولانا بذلك وأحقنا بالكشف عنها. فقام عيسى عليه السلام واستأنف
وضوءا جديدا ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ويجعل
له ولقومه فيها بركة ورزقا ثم انصرف وجلس إلى السفرة وتناول المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين وكشف عن
السفرة فإذا هو عليها بسمكة ضخمة مشوية ليس عليها بواسير وليس في جوفها شوك يسيل السمن منها سيلا قد تحدق
بها بقول من كل صنف غير الكراث وعند رأسها خل وعند ذنبها ملح وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون
وعلى الآخر تمرات وعلى الآخر خمس رمانات فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته أمن
طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات وتنتهوا عن تنقير
المسائل؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية. فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بها
سؤالا يا ابن الصديقة فقال عيسى عليه السلام: ليس شئ مما ترون من طعام الدنيا ولا من طعام الجنة إنما هو
شئ ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة فقال له كن فكان أسرع من طرفة عين فكلوا مما سألتم بسم الله
واحمدوا عليه ربكم يمدكم منه ويزدكم فإنه بديع قادر شاكر فقالوا يا روح الله وكلمته إنا نحب أن يرينا الله آية في
هذه الآية فقال عيسى: سبحان الله أما اكتفيتم بما رأيتم من هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى؟ ثم أقبل عيسى
عليه السلام على السمكة فقال يا سمكة عودي بإذن الله حية كما كنت فأحياها الله بقدرته فاضطربت وعادت بإذن الله
حية طرية تلمظ كما يتلمظ الأسد تدور عيناها لها بصيص وعادت عليها بواسيرها ففزع القوم منها وانحاسوا فلما رأى
عيسى منهم ذلك قال: ما لكم تسألون الآية فإذا أراكموها ربكم كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما
تصنعون يا سمكة عودي بإذن الله كما كنت فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول فقالوا يا عيسى
كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالاكل منها ثم نحن بعد فقال عيسى: معاذ الله من ذلك. يبدأ بالاكل من طلبها
فلما رأى الحواريون وأصحابه امتناع عيسى منها خافوا أن يكون نزولها سخطة وفي أكلها مثله فتحاموها فلما رأى ذلك
عيسى منهم دعا لها الفقراء والزمني وقال: كلوا من رزق ربكم ودعوة نبيكم واحمدوا الله الذي أنزلها لكم فيكون
مهنؤها لكم وعقوبتها على غيركم وافتتحوا أكلكم باسم الله واختموه بحمد الله: ففعلوا فأكل منها ألف وثلثمائة إنسان
بين رجل وامرأة يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ نزلت
من السماء لم ينقص منها شئ ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون فاستغنى كل فقير أكل منها وبرئ كل
زمن أكل منها فلم يزالوا أغنياء أصحاء حتى خرجوا من الدنيا وندم الحواريون وأصحابهم
الذين أبو ا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم وبقيت حسرتها في قلوبهم
إلى يوم الممات قال: وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبل بنو إسرائيل إليها يسعون من كل مكان يزاحم بعضهم
بعضا الأغنياء والفقراء والصغار والكبار والأصحاء والمرضى يركب بعضهم بعضا فلما رأى ذلك جعلها نوبا بينهم تنزل
يوما ولا تنزل يوما فلبثوا على ذلك أربعين يوما تنزل عليهم غبا عند ارتفاع النهار فلا تزال موضوعة يؤكل منها حتى إذا
قالوا ارتفعت عنهم إلى جو السماء بإذن الله وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم قال فأوحى الله
122

إلى نبيه عيسى عليه السلام أن اجعل رزقي في المائدة للفقراء واليتامى والزمني دون الأغنياء من الناس فلما فعل
ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس وغمطوا ذلك حتى شكوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس وأذاعوا في أمرها
القبيح والمنكر وأدرك الشيطان منهم حاجته وقذف وسواسه في قلوب الربانيين حتى قالوا لعيسى أخبرنا عن المائدة
ونزولها من السماء أحق فإنه قد ارتاب بها منا بشر كثير؟ فقال عيسى عليه السلام هلكتم وإله المسيح طلبتم المائدة
إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقا وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها
وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله. فأوحى الله إلى عيسى إني آخذ المكذبين بشرطي
فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا
مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير فأصبحوا يتبعون الاقذار في
الكناسات هذا أثر غريب جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم وأكمل
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على
ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم " قال الله إني منزلها عليكم " الآية.
وقال قائلون إنها لم تنزل فروى ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله " أنزل علينا مائدة من السماء " قال هو مثل
ضربه الله ولم ينزل شئ رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ثم قال ابن جرير: حدثنا الحارث حدثنا القاسم هو ابن
سلام حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: مائدة عليها طعام أبو ها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا فأبوا
أن تنزل عليهم وقال أيضا: حدثنا أبو المثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور بن زاذان عن الحسن
أنه قال في المائدة أنها لم تنزل. وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول لما قيل لهم
" فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذاب لا أعذبه أحدا من العالمين " قالوا لا حاجة لنا فيها فلم تنزل وهذه أسانيد
صحيحة إلى مجاهد والحسن وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا يعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ولو كانت قد
نزلت لكان ذلك مما توفر الدواعي على نقله وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا ولا أقل من الآحاد والله أعلم
ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت وهو الذي اختاره ابن جرير قال: لان الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى
" إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " قال ووعد الله ووعيده حق
وصدق وهذا القول هو والله أعلم الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم وقد ذكر أهل التاريخ
أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر فبعث
بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بأني جامع دمشق فمات وهي في الطريق فحملت إلى أخيه سليمان بن
عبد الملك الخليفة بعده فرآها الناس فتعجبوا منها كثيرا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة ويقال إن هذه
المائدة كانت لسليمان بن داود عليهما السلام فالله أعلم. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان
عن سلمة بن كهيل عن عمران بن الحكم عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا
ذهبا ونؤمن بك قال " وتفعلون؟ " قالوا نعم قال: فدعا فأتاه جبريل فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك:
إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت
لهم باب التوبة والرحمة. قال " بل باب التوبة والرحمة " ثم رواه أحمد وابن مردويه والحاكم في مستدركه من
حديث سفيان الثوري به.
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن
أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116)
123

ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبد وا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت
أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد (117) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم (118)
هذا أيضا مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه
إلهين من دون الله (يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وهذا تهديد للنصارى
وتوبيخ وتقريع على رؤوس الاشهاد هكذا قاله قتادة وغيره واستدل على ذلك بقوله تعالى " هذا يوم ينفع الصادقين
صدقهم " وقال السدي: هذا الخطاب والجواب في الدنيا وقال ابن جرير: هذا هو الصواب وكان ذلك حين رفعه
إلى السماء الدنيا: واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين " أحدهما " أن الكلام بلفظ المضي " والثاني " قوله. " إن
تعذبهم " " وإن تغفر لهم " وهذان الدليلان فيهما نظر لان كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع
والثبوت ومعنى قوله " إن تعذبهم فإنهم عبادك " الآية التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله وتعليق ذلك على
الشرط لا يقتضي وقوعه كما في نظائر ذلك من الآيات والذي قاله قتادة هو غيره هو الاظهر والله أعلم أن ذلك كائن يوم
القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الاشهاد يوم القيامة وقد روي بذلك حديث
مرفوع رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز وكان ثقة قال: سمعت أبا بردة
يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء
وأممهم ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها فيقول يا عيسى ابن مريم " أذكر نعمتي عليك وعلى
والدتك الآية ثم يقول " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " فينكر أن يكون قال " ذلك فيؤتى
بالنصارى فيسئلون فيقولون نعم هو أمرنا بذلك قال فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة
بشعرة من رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب
وينطلق بهم إلى النار " وهذا حديث غريب عزيز.
وقوله " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل كما قال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن أبي هريرة قال: يلقي عيسى حجته
ولقاء الله تعالى في قوله " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " قال
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله " سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق " إلى آخر الآية وقد رواه الثوري
عن معمر عن ابن طاوس عن طاوس بنحوه وقوله " إن كنت قلته فقد علمته " أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا
رب فإنه لا يخفى عليك شئ فما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ولهذا قال " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في
نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " بإبلاغه " أن أعبد وا الله ربي وربكم " أي ما دعوتهم
إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه " أن أعبد وا الله ربي وربكم " أي هذا هو الذي قلت لهم وقوله " وكنت
عليهم شهيدا ما دمت فيهم " أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم " فلما توفيتني كنت أنت الرقيب
عليهم وأنت على كل شئ شهيد " قال أبو داود الطيالسي: حدثنا شعبة قال انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى
المغيرة بن النعمان فأملى على سفيان وأنا معه فلما قام انتسخت من سفيان فحدثنا قال: سمعت سعيد بن جبير
يحدث عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال " يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عز وجل
حفاة عراة غرلا " كما بدأنا أول خلق نعيده " وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ألا وإنه يجاء برجال من
أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول " أصحابي " فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح
124

" وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت علي كل شئ شهيد * إن تعذبهم
فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فيقال إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم "
ورواه البخاري عند هذه الآية عن أبي الوليد وعن شعبة وعن محمد بن كثير عن سفيان الثوري كلاهما عن المغيرة بن
النعمان به.
وقوله " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله
عز وجل فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على
الله وعلى رسوله وجعلوا لله ندا وصاحبة وولدا تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ
عجيب وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن فضيل حدثني فليت العامري عن جسرة العامرية عن أبي ذر رضي الله عنه
قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم
فإنك أنت العزيز الحكيم " فلما أصبح قلت يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد
بها؟ قال " إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لامتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئا ".
" طريق أخرى وسياق آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيي حدثنا قدامة بن عبد الله حدثتني جسرة بنت دجاجة
أنها انطلقت معتمرة فانتهت إلى الربذة فسمعت أبا ذر يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء
فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله فلما رأى القوم قد أخلوا
المكان رجع إلى مكانه يصلي فجئت فقمت خلفه فأومأ إلي بيمينه فقمت عن يمينه ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي
وخلفه فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ونتلوا من القرآن ما شاء الله أن نتلو
وقام بآية من القرآن رددها حتى صلى الغداة فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن سله ما أراد إلى ما صنع
البارحة فقال ابن مسعود بيده لا أسأله عن شئ حتى يحدث إلي فقلت بأبي وأمي قمت بآية من القرآن ومعك
القرآن لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه قال " دعوت لامتي " قلت فماذا أجبت أو ماذا رد عليك؟ قال " أجبت
بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة " قلت أفلا أبشر الناس؟ قال " بلى " فانطلقت معنفا قريبا من
قذفه بحجر فقال عمر: يا رسول الله إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نكلوا عن العبادات فناداه أن " ارجع " فرجع
وتلك الآية " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا
يونس بن عبد الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير
عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى " إن تعذبهم فإنها عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم " فرفع يديه فقال " اللهم أمتي " وبكى فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم -
فاسأله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال الله يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين قال: حدثنا ابن لهيعة حدثنا ابن هبيرة
أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: حدثني سعيد بن المسيب سمعت حذيفة بن اليمان يقول: غاب عنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قد قبضت فيها فلما
رفع رأسه قال " إن ربي عز وجل استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك
فاستشارني الثانية فقلت له كذلك فقال لا أخزيك في أمتك يا محمد وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي
معي سبعون ألفا مع كل ألف سبعون ألفا ليس عليهم حساب ثم أرسل إلي فقال ادع تجب وسل تعط فقلت
لرسوله أن يعطني ربي سؤلي؟ فقال ما أرسلني إليك إلا ليعطيك ولقد أعطاني ربي ولا فخر وغفر لي ما تقدم
من ذنبي وما تأخر وأنا أمشي حيا صحيحا وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب وأعطاني الكوثر وهو نهر في
125

الجنة يسيل في حوضي وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرا وأعطاني أني أول الأنبياء
يدخل الجنة وطيب لي ولامتي الغنيمة وأحل لنا كثيرا مما شدد على من قبلنا ولم يجعل علينا في الدين من
حرج ".
قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا
عنه ذلك الفوز العظيم (119) لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شئ قدير (120)
يقول تعالى مجيبا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين
الكاذبين على الله وعلى رسوله ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عز وجل فعند ذلك يقول تعالى " هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم " قال الضحاك عن ابن عباس: يقول يوم ينفع الموحدين توحيدهم " لهم جنات تجري من
تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا " أي ماكثين فيها لا يحولون ولا يزولون رضي الله عنهم ورضوا عنه كما قال تعالى
" ورضوان من الله أكبر " وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث وروى ابن أبي حاتم ههنا حديثا عن أنس
فقال: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا المحاربي عن ليث عن عثمان يعني ابن عمير أخبرنا اليقظان عن أنس مرفوعا
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فيقول سلوني سلوني أعطكم قال فيسألونه الرضا فيقول
رضاي أحلكم داري وأنا لكم كرامتي فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا قال فيشهدهم أنه قد رضي عنهم سبحانه
وتعالى " وقوله " ذلك الفوز العظيم " أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه كما قال تعالى لمثل هذا فليعمل
العاملون " وكما قال " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " وقوله " لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو
على كل شئ قدير " أي هو الخالق للأشياء المالك لها المتصرف فيها القادر عليها فالجميع ملكه وتحت قهره
وقدرته وفي مشيئته فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ولا إله غيره ولا رب سواه. قال ابن
وهب: سمعت حيي بن عبد الله يحدث عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر قال آخر سورة نزلت
سورة المائدة.
" تم تفسير سورة المائدة ولله الحمد والمنة ".
سورة الأنعام
قال العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس أنزلت سورة الأنعام بمكة. وقال الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز
حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: نزلت الانعام
بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح وقال سفيان الثوري عن ليث عن
شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم
إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة. وقال شريك عن ليث عن شهر عن أسماء قالت: نزلت سورة الأنعام على
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد طبقوا ما بين السماء والأرض. وقال السدي عن مرة عن
عبد الله قال: نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفا من الملائكة وروي نحوه من وجه آخر عن ابن مسعود. وقال
الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا: حدثنا
محمد بن عبد الوهاب العبدي أخبرنا جعفر بن عون حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السدي حدثنا محمد بن المنكدر
عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق "
126

ثم قال صحيح على شرط مسلم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم بن دستوريه
الفارسي حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة الرقاشي عن نافع بن
مالك بن أبي سهيل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين
الخافقين لهم زجل بالتسبيح والأرض بهم ترتج " ورسول الله يقول " سبحان الله العظيم سبحان الله العظيم " ثم روى
ابن مردويه عن الطبراني عن إبراهيم بن نائلة عن إسماعيل بن عمر عن يوسف بن عطية عن ابن عون عن نافع عن ابن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل
بالتسبيح والتحميد ".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) هو
الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون (2) وهو الله في السماوات وفي الأرض
يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3)
يقول الله تعالى مادحا نفسه الكريمة وحامدا لها على خلقه السماوات والأرض قرار لعباده. وجعل الظلمات والنور
منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم فجمع لفظ الظلمات ووحد لفظ النور لكونه أشرف كقوله تعالى " عن اليمين
والشمائل " وكما قال في آخر هذه السورة " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله " ثم قال تعالى " ثم الذين كفروا بربهم يعدلون " أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده وجعلوا له شريكا
وعدلا واتخذوا له صاحبة وولدا تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيرا. وقوله تعالى " هو الذي خلقكم من طين "
يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب وقوله " ثم قضى أجلا وأجل مسمى
عنده " قال سعيد بن جبير عن ابن عباس " ثم قضى أجلا " يعني الموت " وأجل مسمى
عنده " يعني الآخرة وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك وزيد بن أسلم
وعطية والسدي ومقاتل بن حيان وغيرهم وقول الحسن في رواية عنه " ثم قضى أجلا " وهو ما بين أن يخلق إلى أن
يموت " وأجل مسمى عنده " وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث هو يرجع إلى ما تقدم وهو تقدير الاجل الخاص وهو
عمر كل إنسان وتقدير الاجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها وانتقالها والمصير إلى الدار
الآخرة وعن ابن عباس ومجاهد " ثم قضى أجلا " يعني مدة الدنيا " وأجل مسمى عنده " يعني عمر الانسان إلى
حين موته وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " الآية وقال
عطية عن ابن عباس " ثم قضى أجلا " يعني النوم يقبض فيه الروح ثم يرجع إلى صاحبه عند اليقظة " وأجل مسمى
عنده " يعني أجل موت الانسان وهذا قول غريب ومعنى قوله " عنده " أي لا يعلمه إلا هو كقوله " إنما علمها
عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " وكقوله " يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك
منتهاها " وقوله تعالى " ثم أنتم تمترون " قال السدي وغيره: يعني تشكون في أمر الساعة وقوله تعالى " وهو الله
في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم " اختلف مفسرو هذه الآية على أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول
الجهمية الأول قائلين تعالى عن قولهم علوا كبيرا بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك فالأصح من الأقوال
أنه المدعو الله في السماوات وفى الأرض أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض ويسمونه
الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر من الجن والإنس وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى " وهو الذي في السماء
127

إله وفي الأرض إله " أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله " يعلم سركم وجهركم "
خبرا أو حالا. " والقول الثاني " أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر فيكون
قوله يعلم متعلقا بقوله " في السماوات وفي الأرض " تقديره وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض
ويعلم ما تكسبون والقول الثالث أن قوله " وهو الله في السماوات " وقف تام ثم استأنف الخبر فقال " وفي الأرض
يعلم سركم وجهركم " وهذا اختبار ابن جرير وقوله " ويعلم ما تكسبون " أي جميع أعمالكم خيرها وشرها.
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (4) فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم
أنباء ما كانوا به يستهزءون (5) ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا
السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (6)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين المكذبين المعاندين أنهم كلما أتتهم آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات على
وحدانية الله وصدق رسله الكرام فإنهم يعرضون عنها فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها. قال الله تعالى (فقد كذبوا
بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق بأنه لا
بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب وليجدن غبه وليذوقن وباله. ثم قال تعالى واعظا لهم أن يصيبهم من العذاب
والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا وأكثر أموالا
وأولادا واستعلاء في الأرض وعمارة لها، فقال " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم
نمكن لكم " أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود ولهذا قال " وأرسلنا السماء عليهم
مدرارا " أي شيئا بعد شئ " وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم " أي كثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي
استدراجا وإملاء لهم " فأهلكناهم بذنوبهم " أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها " وأنشأنا من بعدهم قرنا
آخرين " أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث " وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " أي جيلا آخر
لنختبرهم فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم فما أنتم بأعز
على الله منهم والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا
لطفه وإحسانه.
ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) وقالوا لولا أنزل عليه
ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون (8) ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون (9)
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (10) قل سيروا في الأرض ثم انظروا
كيف كان عاقبة المكذبين (11)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه " ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس
فلمسوه بأيديهم " أي عاينوه ورأوا نزوله وباشروا ذلك لقال " الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " وهذا كما قال
تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات " ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت
أبصارنا بل نحن قوم مسحورون " وكقوله تعالى " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم " " وقالوا
لولا أنزل عليه ملك " أي ليكون معه نذيرا قال الله تعالى " ولو أنزلنا ملكا لقضي الامر ثم لا ينظرون " أي لو
128

نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب كما قال الله تعالى " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا
منظرين " وقوله " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " الآية وقوله تعالى (ولو جعلناه ملكا لجعلناه
رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) أي لو أنزلنا مع الرسول البشري ملكا أي لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيا لكان على
هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ولو كان كذلك لالتبس عليهم الامر كما هم يلبسون على أنفسهم
في قبول رسالة البشرى كقوله تعالى " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا
رسولا " فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلا منهم ليدعو بعضهم بعضا وليمكن
بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال كما قال تعالى " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من
أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم " الآية قال الضحاك عن ابن عباس في الآية: يقول لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا
في صورة رجل لانهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور " وللبسنا عليهم ما يلبسون " أي ولخلطنا عليهم ما
يخلطون وقال الوالبي عنه: ولشبهنا عليهم وقوله (ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما
كانوا به يستهزءون) هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ووعد له للمؤمنين به بالنصرة والعاقبة
الحسنة في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى (قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين) أي فكروا في
أنفسكم وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال والعقوبة في الدنيا مع
ما ادخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة وكيف نجى رسله وعباده المؤمنين.
قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب
فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (12) * وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم (13) قل
أغير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم
ولا تكونن من المشركين (14) قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) من يصرف عنه يومئذ
فقد رحمه وذلك الفوز المبين (16)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ومن فيهما وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة كما ثبت في الصحيحين
من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله لما خلق الخلق كتب
كتابا عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي وقوله " ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " هذه اللام هي
الموطئة للقسم فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده " إلى ميقات يوم معلوم " وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أي
لا شك فيه عند عباده المؤمنين فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون وقال ابن مردويه عن تفسير هذه
الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عقبة حدثنا عباس بن محمد حدثنا حسين بن
محمد حدثنا محصن بن عتبة اليماني عن الزبير بن شبيب عن عثمان بن حاضر عن ابن عباس قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء قال " والذي نفسي بيده إن فيه لماء إن أولياء الله
ليردون حياض الأنبياء ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض
الأنبياء " هذا حديث غريب. وفي الترمذي " إن لكل نبي حوضا وأرجو أن أكون أكثرهم واردا " وقوله " الذين
خسروا أنفسهم " أي يوم القيامة " فهم لا يؤمنون " أي لا يصدقون بالمعاد ولا يخافون شر ذلك اليوم، ثم قال
تعالى " وله ما سكن في الليل والنهار " أي كل دابة في السماوات والأرض الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه
وتدبيره لا إله إلا هو " وهو السميع العليم " أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم ثم
129

قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله
المستقيم. " قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض " كقوله " قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها
الجاهلون " والمعنى: لا أتخذ وليا إلا الله وحده لا شريك له فإنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما
على غير مثال سبق " وهو يطعم ولا يطعم " أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم كما قال تعالى " وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون " الآية وأقر بعضهم ههنا " وهو يطعم ولا يطعم " أي لا يأكل وفي حديث سهيل بن
أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم على طعام فانطلقنا
معه فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال " الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم ومن علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من
الشراب وكسانا من العري وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافئ ولا مكفور ولا مستغنى عنه
الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب وكسانا من العري وهدانا من الضلال وبصرنا من العمى وفضلنا
على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين " " قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم " أي من هذه الأمة
(ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) يعني يوم القيامة " من يصرف عنه "
أي العذاب " يومئذ فقد رحمه " يعني فقد رحمه الله " وذلك هو الفوز المبين " كقوله " فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز " والفوز حصول الربح ونفي الخسارة.
وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير (17) وهو القاهر فوق
عباده وهو الحكيم الخبير (18) قل أي شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحى إلى هذا القرآن
لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني برئ
مما تشركون (19) الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون (20)
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون (21)
يقول تعالى مخبرا أنه مالك الضر والنفع وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه " وإن
يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير " كقوله تعالى " ما يفتح الله
للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده " وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " لا
مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ولهذا قال تعالى " وهو القاهر فوق عباده " أي
هو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة وعنت له الوجوه وقهر كل شئ ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمة
جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه " وهو
الحكيم " أي في جميع أفعاله " الخبير " بمواضع الأشياء ومحالها فلا يعطي إلا من يستحق ولا يمنع إلا من
يستحق، ثم قال " قل أي شئ أكبر شهادة " أي من أعظم الأشياء شهادة " قل الله شهيد بيني وبينكم " أي هو
العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي " وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ " أي هو نذير لكل من بلغه
كقوله تعالى " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وأبو
أسامة وأبو خالد عن موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب في قوله " ومن بلغ " من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم
زاد أبو خالد وكلمه. ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فقد أبلغه
محمد صلى الله عليه وسلم وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى " لأنذركم به ومن بلغ " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله " وقال الربيع بن أنس حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
130

يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينذر بالذي أنذر وقوله " أئنكم لتشهدون " أيها المشركون أي " أن مع الله آلهة
أخرى قل لا أشهد " كقوله " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " " قل إنما هو إله واحد وإنني برئ مما تشركون " ثم قال
تعالى مخبرا عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الاخبار والأنباء عن
المرسلين المتقدمين والأنبياء فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته
ولهذا قال بعده " الذين خسروا أنفسهم " أي خسروا كل الخسارة " فهم لا يؤمنون " بهذا الأمر الجلي الظاهر
الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه ثم قال " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب
بآياته " أي لا أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله
وحججه وبراهينه ودلالاته " إنه لا يفلح الظالمون " أي لا يفلح هذا ولا هذا لا المفتري ولا المكذب.
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون (22) ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله
ربنا ما كنا مشركين (23) انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (24) ومنهم من يستمع إليك
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول
الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين (25) وهم ينهون عنه وينئون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما
يشعرون (26)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين " يوم نحشرهم جميعا " يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا
يعبدونها قائلا لم " أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون " كقوله تعالى في سورة القصص " ويوم يناديهم فيقول أين
شركائي الذين كنتم تزعمون ". وقوله تعالى " ثم لم تكن فتنتهم " أي حجتهم إلا أن قالوا " والله ربنا ما كنا
مشركين " قال الضحاك عن ابن عباس " ثم لم تكن فتنتهم " أي حجتهم. وقال عطاء الخراساني عنه أي
معذرتهم. وكذا قال قتادة وقال ابن جريج عن ابن عباس أي قيلهم وكذا قال الضحاك وقال عطاء الخراساني " ثم
لم تكن فتنتهم " بليتهم حين ابتلوا " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " وقال ابن جرير: والصواب ثم لم
يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا عما سلف منهم الشرك بالله " إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو يحيى الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن مطرف عن المنهال عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال يا ابن عباس سمعت الله يقول " والله ربنا ما كنا مشركين "
قال: أما قوله " والله ربنا ما كنا مشركين " فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة فقالوا تعالوا فلنجحد
فيجحدون فيختم الله على أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا فهل في قلبك الآن شئ؟ إنه ليس من
القرآن شئ إلا ونزل فيه شئ ولكن لا تعلمون وجهه. وقال الضحاك عن ابن عباس: هذه في المنافقين وفيه
نظر فإن هذه الآية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة " يوم يبعثهم الله
جميعا فيحلفون له " الآية، وكذا قال في حق هؤلاء " انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا
يفترون " كقوله " ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا " الآية. وقوله " ومنهم من يستمع
إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " أي يجيئون ليستمعوا
قراءتك ولا تجزي عنهم شيئا لان الله " جعل على قلوبهم أكنة " أي أغطية لئلا يفقهوا القرآن " وفي آذانهم
وقرا " أي صما عن السماع النافع لهم كما قال تعالى (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
ونداء) الآية. وقوله " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات
131

والبراهين لا يؤمنوا بها فلا فهم عندهم ولا إنصاف كقوله تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " الآية وقوله
تعالى " حتى إذا جاءوك يجادلونك " أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل " يقول الذين كفروا إن هذا إلا
أساطير الأولين " أي ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم، وقوله " وهم ينهون عنه
وينأون عنه " في معنى ينهون عنه قولان " أحدهما " أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول
والانقياد للقرآن " وينأون عنه " أي ويبعدونهم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحدا
ينتفع قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وهم ينهون عنه " يردون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه وكذا قال قتادة ومجاهد والضحاك وغير
واحد وهذا القول أظهر والله أعلم وهو اختيار ابن جرير. " والقول الثاني " رواه سفيان الثوري عن حبيب بن
أبي ثابت عمن سمع ابن عباس يقول في قوله " وهم ينهون عنه " قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس
عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى. وكذا قال القاسم بن مخيمرة وحبيب بن أبي ثابت وعطاء بن دينار وغيره أنها نزلت في أبي
طالب. وقال سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة فكانوا أشد الناس معه في العلانية
وأشد الناس عليه في السر رواه ابن أبي حاتم وقال محمد بن كعب القرظي " وهم ينهون " عنه أي ينهون
الناس عن قتله وقوله " وينأون عنه " أي يتباعدون منه " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " أي وما يهلكون
بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلا عليهم وهم لا يشعرون.
ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27) بل بدا لهم
ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون (28) وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن
بمبعوثين (29) ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما
كنتم تكفرون (30)
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك
الأمور العظام والأهوال فعند ذلك قالوا " يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " يتمنون أن يردوا
إلى الدار الدنيا ليعملوا عملا صالحا ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين. قال الله تعالى " بل بدا لهم
ما كانوا يخفون من قبل " أي بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن
أنكروها في الدنيا أو في الآخرة كما قال قبله بيسير " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر
كيف كذبوا على أنفسهم " ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في
الدنيا وإن كانوا يظهرون لاتباعهم خلافه كقوله مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا
رب السماوات والأرض بصائر " الآية وقوله تعالى مخبرا عن فرعون وقومه " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلما وعلوا " ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الايمان للناس ويبطنون الكفر ويكون
هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية والنفاق إنما كان
من بعض أهل المدينة ومن حولها من الاعراب فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال
" وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين " وعلى هذا فيكون إخبارا عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين
يعاينون العذاب فظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق والله أعلم وأما معنى الاضراب
في قوله " بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل " فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الايمان بل خوفا
132

من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار
ولهذا قال " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الايمان ثم قال
مخبرا عنهم أنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة " وإنهم لكاذبون " أي في
قولهم يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين
أي لعادوا لما نهوا عنه ولقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا أي ما هي هذه الحياة الدنيا لا معاد بعدها ولهذا
قال " وما نحن بمبعوثين ". ثم قال " ولو ترى إذ وقفوا على ربهم " أي أوقفوا بين يديه قال " أليس هذا
بالحق " أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون " قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم
تكفرون " أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه " أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ".
قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم
على ظهورهم ألا ساء ما يزرون (31) وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا
تعقلون (32)
يقول تعالى مخبرا عن خسارة من كذب بلقائه وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة وعن ندامته على ما فرط من العمل
وما أسلف من قبح الفعل ولهذا قال " حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها " وهذا
الضمير يحتمل عوده على الحياة وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة أي في أمرها وقوله " وهم يحملون أوزارهم
على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " أي يحملون وقال قتادة يعملون وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد
الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن أبي مرزوق قال: يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من
قبره كأقبح صورة رأيتها وأنتنه ريحا فيقول من أنت فيقول أو ما تعرفني فيقول لا والله إلا إن الله قبح وجهك وأنتن
ريحك فيقول أنا عملك الخبيث هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنة فطالما ركبتني في الدنيا هلم أركبك
فهو قوله " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم " الآية وقال أسباط عن السدي أنه قال: ليس من رجل ظالم
يدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح وعليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال:
ما أقبح وجهك قال كذلك كان عملك قبيحا قال ما أنتن ريحك قال كذلك كان عملك منتنا قال ما أدنس
ثيابك قال فيقول إن عملك كان دنسا قال له من أنت؟ قال عملك قال فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم
القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات وأنت اليوم تحملني قال فيركب على ظهره
فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله " وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون " وقوله " وما
الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " أي إنما غالبها كذلك " وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون ".
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون (33) ولقد كذبت رسل
من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ
المرسلين (34) وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم
بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين (35) * إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى
يبعثهم الله ثم إليه يرجعون (36)
133

يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " أي قد أحطنا
علما بتكذيبهم ولك وحزنك وتأسفك عليهم كقوله " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " كما قال تعالى في الآية
الأخرى " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث
أسفا " وقوله " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الامر
" ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم كما قال سفيان الثوري
عن أبي إسحاق عن ناجية بن كعب عن علي قال: قال أبو جهل للنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: إنا لا
نكذبك ولكن نكذب ما جئت به فأنزل الله " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " رواه
الحاكم من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة حدثنا بشر بن المبشر الواسطي عن سلام بن مسكين عن أبي يزيد
المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه قال له رجل ألا أراك تصافح هذا الصابئ؟ فقال والله إني لاعلم إنه
لنبي ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا؟ وتلا أبو يزيد " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون "
وقال أبو صالح وقتادة: يعلمون أنك رسول الله ويجحدون، وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي
جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هو وأبو سفيان صخر بن حرب والأخنس بن شريق ولا يشعر أحد
منهم بالآخر فاستمعوها إلى الصباح فلما هجم الصبح تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للآخر ما جاء
بك؟ فذكر له ما جاء به ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم لئلا يفتتنوا بمجيئهم فلما
كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظنا أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود فلما أصبحوا جمعتهم الطريق
فتلاوموا ثم تعاهدوا أن لا يعودوا فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضا فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ثم
تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال: أخبرني يا
أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد قال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها
وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به ثم خرج من عنده حتى أتى
أبا جهل فدخل عليه في بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال ماذا سمعت؟ قال تنازعنا
نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا
كفرسي رهان قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه قال
فقام عنه الأخنس وتركه.
وروى ابن جرير من طريق أسباط عن السدي في قوله " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك
ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة: يا بني زهرة إن محمدا
ابن أختكم فأنتم أحق من ذب عن ابن أخته فإنه إن كان نبيا لم تقاتلوه اليوم وإن كان كاذبا كنتم أحق من كف عن
ابن أخته قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين وإن غلب محمد فإن قومكم لم يصنعوا
بكم شيئا - فيومئذ سمى الأخنس وكان اسمه أبي - فالتقى الأخنس بأبي جهل فخلا به فقال يا أبا الحكم أخبرني
عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل ويحك
والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا
يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " فآيات الله
محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا " هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية
له فيمن كذبه من قومه وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ووعد له بالنصر كما نصروا وبالظفر
134

حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم
النصر في الآخرة ولهذا قال " ولا مبدل لكلمات الله " أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين
كما قال " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون " وقال تعالى
" كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " وقوله " ولقد جاءك من نبأ المرسلين " أي من خبرهم كيف
نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة. ثم قال تعالى " وإن كان كبر عليك
إعراضهم " أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك " فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في
السماء " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: النفق السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية أو تجعل لك سلما في
السماء فتصعد فيه فتأتيهم بآية أفضل مما أتيتهم به فافعل وكذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وقوله " ولو شاء الله
لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين " كقوله تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا "
الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " قال إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من
الله السعادة في الذكر الأول، وقوله تعالى " إنما يستجيب الذين يسمعون " أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد
من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه كقوله " لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين " وقوله " والموتى يبعثهم
الله ثم إليه يرجعون " يعني بذلك الكفار لانهم موتى القلوب فشبههم الله بأموات الأجساد فقال " والموتى يبعثهم
الله ثم إليه يرجعون " وهذا من باب التهكم بهم والازدراء عليهم.
وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون (37) وما
من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم
يحشرون (38) والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط
مستقيم (39)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا
يريدون ومما يتعنتون كقولهم " لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " الآيات " قل إن الله قادر على أن
ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي هو تعالى قادر على ذلك ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك لأنه لو
أنزل وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة كما قال تعالى " وما منعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " وقال تعالى
" إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " وقوله " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير
بجناحيه إلا أمم أمثالكم " قال مجاهد: أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها. وقال قتادة الطير أمة والانس أمة
والجن أمة وقال السدي " إلا أمم أمثالكم " أي خلق أمثالكم.
وقوله " ما فرطنا في الكتاب من شئ " أي الجميع علمهم عند الله ولا ينسى واحدا من جميعها من رزقه وتدبيره
سواء كان بريا أو بحريا كقوله " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في
كتاب مبين " أي مفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها وحاصر لحركاتها وسكناتها وقال تعالى " وكأين من دابة لا
تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا
عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله
135

قال: قل الجراد في سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشئ فاغتم لذلك فأرسل
راكبا إلى كذا وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شئ أم لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من
قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثلاثا ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خلق الله عز
وجل ألف أمة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وأول شئ يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت
مثل النظام إذا قطع سلكه ". وقوله " ثم إلى ربهم يحشرون " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا
أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " ثم إلى ربهم يحشرون " قال حشرها الموت
وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن سعيد بن مسروق عن عكرمة عن ابن عباس قال: موت البهائم
حشرها وكذا رواه العوفي عنه. قال ابن أبي حاتم: وروي عن مجاهد والضحاك مثله. " والقول الثاني " أن
حشرها بعثها يوم القيامة لقوله " وإذا الوحوش حشرت " وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة
عن سليمان عن منذر الثوري عن أشياخ لهم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال " يا أبا ذر هل
تدري فيم تنتطحان؟ " قال لا قال " لكن الله يدري وسيقضي بينهما " ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش
عمن ذكره عن أبي ذر قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عنزان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدرون فيم
انتطحتا؟ " قالوا لا ندري قال " لكن الله يدري وسيقضي بينهما " رواه ابن جرير ثم رواه من طريق منذر
الثوري عن أبي ذر فذكره وزاد قال أبو ذر ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا
منه علما وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا: حدثنا
حجاج بن نصير حدثنا شعبة عن العوام بن مزاحم من بني قيس بن ثعلبة عن أبي عثمان النهدي عن عثمان رضي
الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن جعفر بن
برقان عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة في قوله " إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم
يحشرون " قال: يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شئ فيبلغ من عدل الله يومئذ أن
يأخذ للجماء من القرناء ثم يقول: كوني ترابا فلذلك يقول الكافر " يا ليتني كنت ترابا " وقد روي هذا مرفوعا
في حديث الصور.
وقوله " والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات " أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم
وهو الذي لا يسمع أبكم وهو الذي لا يتكلم وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق
أو يخرج مما هو فيه كقوله " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في
ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون " وكما قال تعالى " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج
من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما
له من نور " ولهذا قال " من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم " أي هو المتصرف في خلقه بما
يشاء.
قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين (40) بل إياه تدعون فيكشف
ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون (41) ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء
لعلهم يتضرعون (42) فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشياطين ما كانوا
يعملون (43) فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبو أب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم
مبلسون (44) فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين (45)
136

يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد المتصرف في خلقه بما يشاء وأنه لا معقب لحكمه ولا يقدر أحد على صرف
حكمه عن خلقه بل هو وحده لا شريك له الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء ولهذا قال " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب
الله أو أتتكم الساعة " أي أتاكم هذا أو هذا " أغير الله تدعون إن كنتم صادقين " أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه
لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه ولهذا قال " إن كنتم صادقين " أي في اتخاذكم آلهة معه " بل إياه تدعون
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون " أي في وقت الضرورة لا تدعون أحدا سواه وتذهب عنكم
أصنامكم وأندادكم كقوله " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " الآية، وقوله " ولقد أرسلنا إلى
أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء " يعني الفقر والضيق في العيش " والضراء " وهي الأمراض والأسقام والآلام
" لعلهم يتضرعون " أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون، قال الله تعالى " فلولا إذ جاءهم بأسنا
تضرعوا " أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا لدينا " ولكن قست قلوبهم " أي ما رقت ولا
خشعت " وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون " أي من الشرك والمعاندة والمعاصي " فلما نسوا ما ذكروا به "
أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم " فتحنا عليهم أبواب كل شئ " أي فتحنا عليهم أبو أب الرزق من
كل ما يختارون وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم عياذا بالله من مكروه ولهذا قال " حتى إذا فرحوا بما
أوتوا " من الأموال والأولاد والأرزاق " أخذناهم بغتة " أي على غفلة " فإذا هم مبلسون " أي آيسون من كل
خير قال الوالبي عن ابن عباس المبلس الآيس. وقال الحسن البصري من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به
فلا رأى له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأى له، ثم قرأ " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبو أب كل
شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " قال مكر بالقوم ورب الكعبة أعطوا حاجتهم ثم
أخذوا رواه ابن أبي حاتم وقال قتادة: بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم
ونعمتهم فلا تغتروا بالله فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون رواه ابن أبي حاتم أيضا.
وقال مالك عن الزهري " فتحنا عليهم أبو أب كل شئ " قال أرجاء الدنيا وسترها. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا
يحيى بن غيلان حدثنا رشدين - يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري - عن حرملة بن عمران التجيبي عن عقبة بن
مسلم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما
هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبو أب كل شئ حتى إذا فرحوا بما
أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حرملة وابن لهيعة عن عقبة بن
مسلم عن عقبة بن عامر به. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هشام بن عمار حدثنا عراك بن خالد بن يزيد حدثني أبي
عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم
القصد والعفاف وإذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم أو فتح عليهم باب خيانة " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم
بغتة فإذا هم مبلسون " كما قال " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " ورواه أحمد وغيره.
قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به أنظر كيف نصرف الآيات
ثم هم يصدفون (46) قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون (47) وما نرسل
المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (48) والذين كذبوا بآياتنا
يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون (49)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المكذبين المعاندين " أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم " أي سلبكم
137

إياها كما أعطاكموها كما قال تعالى " هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار " الآية ويحتمل أن يكون
هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ولهذا قال " وختم على قلوبكم " كما قال " أمن يملك
السمع والابصار " وقال " واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " وقوله " من إله غير الله يأتيكم به " أي هل
أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم لا يقدر على ذلك أحد سواه ولهذا قال " انظر كيف
نصرف الآيات " أي نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال
" ثم هم يصدفون " أي ثم هم مع هذا البيان يصدفون أي يعرضون عن الحق ويصدون الناس عن اتباعه.
قال العوفي عن ابن عباس: يصدفون أي يعدلون. وقال مجاهد وقتادة: يعرضون. وقال السدي: يصدون.
وقوله تعالى " قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة " أي وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم " أو جهرة "
أي ظاهرا عيانا " هل يهلك إلا القوم الظالمون " أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله وينجو الذين
كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون كقوله " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم
بظلم " الآية، وقوله " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات
ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات ولهذا قال " فمن آمن وأصلح " أي فمن آمن قلبه بما جاؤوا به وصلح
عمله باتباعه إياهم " فلا خوف عليهم " أي بالنسبة لما يستقبلونه " ولا هم يحزنون " أي بالنسبة إلى ما فاتهم
وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها الله وليهم فيما خلفوه وحافظهم فيما تركوه، ثم قال " والذين
كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون " أي ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل وخرجوا عن
أوامر الله وطاعته وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته.
قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل
يستوى الأعمى والبصير أفلا تتفكرون (50) وأنذر به الذين يخافون أو يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه
ولي ولا شفيع لعلهم يتقون (51) ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ما عليك من
حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ فتطردهم فتكون من الظالمين (52) وكذلك فتنا بعضهم
ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين (53) وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا
فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه
غفور رحيم (54)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " قل لا أقول لكم عندي خزائن الله " أي لست أملكها ولا أتصرف فيها " ولا أعلم
الغيب " أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله عز وجل ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه
" ولا أقول لكم إني ملك " أي ولا أدعي أني ملك إنما أنا بشر من البشر يوحى إلي من الله عز وجل شرفني
بذلك وأنعم علي به ولهذا قال " إن أتبع إلا ما يوحى إلي " أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه " قل
هل يستوي الأعمى والبصير " أي هل يستوي من اتبع الحق وهدى إليه ومن ضل عنه فلم ينقد له " أفلا
تتفكرون " وهذه كقوله تعالى " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب ".
وقوله " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع " أي وأنذر بهذا القرآن يا
138

محمد " الذين هم من خشية ربهم مشفقون * الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " " الذين يخافون
أن يحشروا إلى ربهم " أي يوم القيامة " ليس لهم " أي يومئذ " من دونه ولي ولا شفيع " أي لا قريب لهم ولا
شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم " لعلهم يتقون " أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله عز وجل
" لعلهم يتقون " فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ويضاعف لهم به الجزيل
من ثوابه. وقوله تعالى " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " أي لا تبعد هؤلاء
المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصائك كقوله " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه
وكان أمره فرطا " وقوله " يدعون ربهم " أي يعبدونه ويسألونه " بالغداة والعشي " قال سعيد بن المسيب ومجاهد
والحسن وقتادة المراد به الصلاة المكتوبة وهذا كقوله " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم " أي أتقبل منكم
وقوله " يريدون وجهه " أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات
والطاعات وقوله " ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ " كقول نوح عليه السلام في
جواب الذين " قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو
تشعرون " أي إنما حسابهم على الله عز وجل وليس علي من حسابهم من شئ كما أنه ليس
عليهم من حسابي من شئ وقوله " فتطردهم فتكون من الظالمين " أي إن فعلت هذا والحالة هذه
قال الإمام أحمد: حدثنا أسباط هو ابن محمد حدثني أشعث عن كردوس عن
ابن مسعود قال: مر الملا من قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده خباب وصهيب
وبلال وعمار فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى
ربهم " إلى قوله " أليس الله بأعلم بالشاكرين " ورواه ابن جرير من طريق أشعث عن كردوس عن ابن مسعود
قال: مر الملا من قريش برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من
ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بينا؟ أنحن نصير
تبعا لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك فنزلت هذه الآية " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي يريدون وجهه - وكذلك فتنا بعضهم ببعض " إلى آخر الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن سعيد بن
يحيى بن سعيد القطان حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط بن نصر عن السدي عن أبي سعيد الأزدي
- وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود عن خباب في قول الله عز وجل " لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي " قال جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال
وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم في نفر في أصحابه
فأتوه فخلوا به وقالوا إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا فإن وفود العرب تأتيك فنستحي
أن ترانا العرب مع هذه الا عبد فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت قال " نعم " قالوا
فاكتب لنا عليك كتابا قال فدعا بصحيفة ودعا عليا ليكتب ونحن قعود في ناحية فنزل جبريل فقال " ولا تطرد
الذين يدعون ربهم " الآية فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده ثم دعانا فأتيناه ورواه ابن جرير من حديث
أسباط به وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر وقال
سفيان الثوري عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: قال سعد نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم
ابن مسعود قال كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنوا منه ونسمع منه فقالت قريش: تدني هؤلاء دوننا فنزلت " ولا
تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان وقال على شرط الشيخين
وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح به.
وقوله " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " أي ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم
139

من بيننا " وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد
والإماء ولم يتبعه من الاشراف إلا قليل كما قال قوم نوح لنوح " وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي
الرأي " الآية وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل فقال له: فأشراف الناس
يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم. فقال هم أتباع الرسل. والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون
بمن آمن من ضعفائهم ويعذبون من يقدرون عليه منهم وكانوا يقولون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أي ما كان
الله ليهدي هؤلاء إلى الخير لو كان ما صاروا إليه خيرا ويدعنا كقولهم " لو كان خيرا ما سبقونا إليه " وكقوله تعالى
" وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " قال الله تعالى
في جواب ذلك " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا " وقال في جوابهم حين قالوا " أهؤلاء من الله
عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " أي أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم
فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى
والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " وفي الحديث الصحيح " إن الله لا ينظر إلى
صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وقال ابن جرير: حدثنا القاسم حدثنا الحسين عن
حجاج عن ابن جريج عن عكرمة في قوله " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " الآية قال: جاء
عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل في أشراف من بني
عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفائنا
فإنما هم عبيدنا وعتقاؤنا كان أعظم في صدورنا وأطوع له عندنا وأدنى لاتباعنا إياه وتصديقنا له قال فأتى أبو
طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بذلك فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو فعلت ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون
وإلى ما يصيرون من قولهم فأنزل الله عز وجل هذه الآية " وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم " إلى
قوله " أليس الله بأعلم بالشاكرين " قال: وكانوا بلالا وعمار بن ياسر وسالما مولى أبي حذيفة وصبيحا مولى
أسيد ومن الحلفاء ابن مسعود والمقداد بن عمرو ومسعود بن القارئ وواقد بن عبد الله الحنظلي وعمرو بن
عبد عمرو وذو الشمالين ومرثد بن أبي مرثد وأبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب وأشباههم من الحلفاء
فنزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من
بيننا " الآية فلما نزلت أقبل عمر رضي الله عنه فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فاعتذر من مقالته فأنزل الله عز وجل " وإذا جاءك
الذين يؤمنون بآياتنا " الآية وقوله " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم " أي فأكرمهم برد السلام
عليهم وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ولهذا قال " كتب ربكم على نفسه الرحمة " أي أوجبها على
نفسه الكريمة تفضلا منه وإحسانا وامتنانا " أنه من عمل منكم سوءا بجهالة " قال بعض السلف كل من عصى
الله فهو جاهل وقال معتمر بن سليمان عن الحكم عن أبان عن عكرمة في قوله " من عمل منكم سوءا بجهالة "
قال الدنيا كلها جهالة رواه ابن أبي حاتم " ثم تاب من بعده وأصلح " أي رجع عما كان عليه من المعاصي
وأقلع وعزم على أن لا يعود وأصلح العمل في المستقبل " فأنه غفور رحيم " قال الإمام أحمد: حدثنا
عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا به أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قضى الله
على الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي " أخرجاه في الصحيحين وهكذا رواه
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ورواه موسى عن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة وكذا رواه الليث وغيره
عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وقد روى ابن مردويه من طريق الحكم بن أبان
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق أخرج كتابا من تحت
العرش إن رحمتي سبقت غضبي وأنا أرحم الراحمين فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقا لم يعملوا
خيرا مكتوب بين أعينهم عتقاء الله " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عاصم بن سليمان عن أبي عثمان النهدي
140

عن سليمان في قوله " كتب ربكم على نفسه الرحمة " قال: إنا نجد في التوراة عطفتين إن الله خلق السماوات
والأرض وخلق مائة رحمة أو جعل مائة رحمة قبل أن يخلق الخلق ثم خلق الخلق فوضع بينهم رحمة واحدة
وأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة قال فيها يتراحمون وبها يتعاطفون وبها يتباذلون وبها يتزاورون وبها تحن الناقة
وبها تبح البقرة وبها تثغو الشاة وبها تتتابع الطير وبها تتتابع الحيتان في البحر فإذا كان يوم القيامة جمع الله تلك
الرحمة إلى ما عنده ورحمته أفضل وأوسع وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة
لهذه عند قوله " ورحمتي وسعت كل شئ " ومما يناسب هذه الآية من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم
لمعاذ بن جبل " أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " ثم قال " أتدري ما حق العباد على
الله إذا هم فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم " وقد رواه الإمام أحمد من طريق كميل بن زياد عن أبي هريرة رضي الله
عنه.
وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين (55) قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون
الله قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين (56) قل إني على بينة من ربي وكذبتم به
ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين (57) قل لو أن عندي
ما تستعجلون به لقضى الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين (58) وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو
ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا
في كتاب مبين (59)
يقول تعالى وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد " كذلك
نفصل الآيات " أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها " ولتستبين سبيل المجرمين " أي ولتظهر طريق المجرمين
المخالفين للرسل وقرئ " ولتستبين سبيل المجرمين " أي ولتستبين يا محمد أو يا مخاطب سبيل المجرمين وقوله
" قل إني على بينة من ربي " أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إلي " وكذبتم به " أي بالحق الذي
جاءني من الله " ما عندي ما تستعجلون به " أي من العذاب " إن الحكم إلا لله " أي إنما يرجع أمر ذلك إلى
الله إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك وإن شاء أنظركم وأجلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ولهذا
قال " يقص الحق وهو خير الفاصلين " أي وهو خير من فصل القضايا وخير الفاتحين في الحكم بين عباده
وقوله " قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الامر بيني وبينكم " أي لو كان مرجع ذلك إلي لأوقعت لكم ما
تستحقونه من ذلك " والله أعلم بالظالمين " فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من
طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هل أتى عليك
يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال " لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على
ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب
فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال إن الله قد سمع قول
قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال: فناداني ملك الجبال وسلم
علي ثم قال يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت إن شئت
أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به
141

شيئا " وهذا لفظ مسلم فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من
أصلابهم من لا يشرك به شيئا فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية " قل لو أن عندي ما تستعجلون
به لقضي الامر بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين " فالجواب والله أعلم أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه
وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم وأما الحديث فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم بل
عرض عليه ملك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا وشمالا فلهذا
استأنى بهم وسأل الرفق لهم. وقوله تعالى " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو " قال البخاري: حدثنا
عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله " إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " وفي حديث عمر أن
جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي فسأل عن الايمان والاسلام والاحسان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال له " خمس
لا يعلمهن إلا الله " ثم قرأ " إن الله عنده علم الساعة " الآية. وقوله " ويعلم ما في البر والبحر " أي يحيط
علمه الكريم بجميع الموجودات بريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شئ ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في
السماء وما أحسن ما قال الصرصري:
فلا بخفى عليه الذر إما * تراءى للنواظر أو توارى
وقوله " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات فما ظنك بالحيوانات ولا سيما
المكلفون منهم من جنهم وإنسهم كما قال تعالى " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ". وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن سعيد بن مسروق حدثنا حسان النمري عن ابن
عباس في قوله " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " قال ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها يكتب ما
يسقط منها رواه ابن أبي حاتم وقوله " ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين "
قال ابن أبي حاتم: حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري حدثنا مالك بن سعير حدثنا
الأعمش عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث قال: ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة إلا وعليها
ملك موكل يأتي الله بعلمها رطوبتها إذا رطبت ويبوستها إذا يبست وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن
عبد الله الحساني عن مالك بن سعير به. ثم قال ابن أبي حاتم ذكر عن أبي حذيفة حدثنا سفيان عن عمرو بن
قيس عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خلق الله النون وهي الدواة وخلق الألواح فكتب فيها أمر
الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق أو رزق حلال أو حرام أو عمل بر أو فجور وقرأ هذه الآية " وما
تسقط من ورقة إلا يعلمها " إلى آخر الآية قال محمد بن إسحاق عن يحيى بن النضر عن أبيه سمعت
عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا يعني لكم لم
تروا معهم نورا على كل زاوية من زوايا الأرض خاتم من خواتيم الله عز وجل على كل خاتم ملك من الملائكة
يبعث الله عز وجل إليه في كل يوم ملكا من عنده أن احتفظ بما عندك.
وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم
ينبئكم بما كنتم تعملون (60) وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته
رسلنا وهم لا يفرطون (61) ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين (62)
يقول تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل وهذا هو التوفي الأصغر كما قال تعالى " إذ قال الله يا عيسى إني
142

متوفيك ورافعك إلي " وقال تعالى " الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى
عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى " فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى وهكذا ذكر في
هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى فقال " وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " أي
ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم
في حال سكونهم وحال حركتهم كما قال " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب
بالنهار " وكما قال تعالى " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه " أي في الليل " ولتبتغوا من فضله "
أي في النهار كما قال " وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا " ولهذا قال تعالى ههنا " وهو الذي يتوفاكم
بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار " أي ما كسبتم من الأعمال فيه " ثم يبعثكم فيه " أي في النهار قاله مجاهد
وقتادة والسدي وقال ابن جريج عن عبد الله بن كثير أي في المنام والأول أظهر وقد روى ابن مردويه بسنده
عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرده إليه فإن أذن الله في
قبض روحه قبضه وإلا رد إليه " فذلك قوله " وهو الذي يتوفاكم بالليل ".
وقوله " ليقضى أجل مسمى " يعني به أجل كل واحد من الناس " ثم إليه مرجعكم " أي يوم القيامة " ثم
ينبئكم " أي فيخبركم " بما كنتم تعملون " أي ويجزيكم على ذلك إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا وقوله " وهو
القاهر فوق عباده " أي وهو الذي قهر كل شئ وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شئ " ويرسل عليكم
حفظة " أي من الملائكة يحفظون بدن الانسان كقوله " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله "
وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله " وإن عليكم لحافظين " الآية وكقوله " عن اليمين وعن الشمال قعيد *
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " وقوله " إذ يتلقى المتلقيان " الآية وقوله " حتى إذا جاء أحدكم
الموت " أي احتضر وحان أجله " توفته رسلنا " أي ملائكة موكلون بذلك قال ابن عباس وغير واحد: لملك
الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم وسيأتي عند
قوله تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس
وغيره بالصحة وقوله " وهم لا يفرطون " أي في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عز
وجل إن كان من الأبرار ففي عليين وإن كان من الفجار ففي سجين عياذا بالله من ذلك وقوله " ثم ردوا إلى الله
مولاهم الحق " قال ابن جرير " ثم ردوا " يعني الملائكة " إلى الله مولاهم الحق " ونذكر ههنا الحديث الذي
رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا حسين بن محمد حدثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن
سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل
الصالح قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب
غير غضبان فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان فيقال
مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فلا تزال
يقال لها ذلك حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل وإذا كان الرجل السوء قالوا اخرجي أيتها النفس
الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فلا تزال يقال لها
ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقال فلان فيقال لا مرحبا بالنفس الخبيثة
كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبو أب السماء فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر
فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في
الحديث الثاني " وهذا حديث غريب ويحتمل أن يكون المراد بقوله " ثم ردوا " يعني الخلائق كلهم إلى الله يوم
القيامة فيحكم فيهم بعدله كما قال " قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " وقال
143

" وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " إلى قوله " ولا يظلم ربك أحدا " ولهذا قال " مولاهم الحق ألا له الحكم
وهو أسرع الحاسبين ".
قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63)
قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64) قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو
من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون (65)
يقول تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر أي الحائرين الواقعين في المهامة
البرية وفي اللجج البحرية إذا هاجت الرياح العاصفة فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له كقوله " وإذا
مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " الآية. وقوله " هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في
الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم
دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين " الآية. وقوله " أمن يهديكم في ظلمات
البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون " وقال في هذه الآية
الكريمة " قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية " أي جهرا وسرا " لئن أنجانا " أي من هذه
الضائقة " لنكونن من الشاكرين " أي بعدها قال الله " قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم " أي بعد ذلك
" تشركون " أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى وقوله " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من
تحت أرجلكم " لما قال ثم أنتم تشركون عقبه بقوله " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا " أي بعد إنجائه إياكم
كقوله في سورة سبحان " ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما * وإذا
مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه * فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا * أفأمنتم أن
يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا * أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل
عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " قال ابن أبي حاتم ذكر عن مسلم بن
إبراهيم حدثنا هارون الأعور عن جعفر بن سليمان عن الحسن في قوله " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا
من فوقكم أو من تحت أرجلكم " قال هذه للمشركين. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " قل هو القادر
على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم " لامة محمد صلى الله عليه وسلم وعفى عنهم ونذكر هنا الأحاديث
الواردة في ذلك والآثار وبالله المستعان وعليه التكلان وبه الثقة.
قال البخاري رحمه الله تعالى في قوله " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم
أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون " يلبسكم يخلطكم من
الالتباس يلبسوا يخلطوا شيعا فرقا حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله
قال لما نزلت هذه الآية " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بوجهك "
" أو من تحت أرجلكم " قال " أعوذ بوجهك " " أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه أهون - أو - أيسر. وهكذا رواه أيضا في كتاب التوحيد عن قتيبة عن حماد به ورواه النسائي أيضا في
التفسير عن قتيبة ومحمد بن النضر بن مساور ويحيى بن حبيب بن عدي أربعتهم عن حماد بن زيد به وقد رواه
الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابرا عن النبي صلى الله عليه وسلم به. ورواه ابن حبان في
صحيحه عن أبي يعلى الموصلي عن أبي خيثمة عن سفيان بن عيينة به ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن
144

الوليد القرشي وسعيد بن الربيع وسفيان بن وكيع كلهم عن سفيان بن عيينة به ورواه أبو بكر بن مردويه من حديث
آدم بن أبي إياس ويحيى بن عبد الحميد وعاصم بن علي عن سفيان بن عيينة به ورواه سعيد بن منصور عن
حماد بن زيد وسفيان بن عيينة كلاهما عن عمرو بن دينار به.
" طريق آخر " قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا مقدام بن داود حدثنا
عبد الله بن يوسف حدثنا عبد الله بن لهيعة عن خالد بن يزيد عن أبي الزبير عن جابر قال لما نزلت " قل هو القادر
على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بالله من ذلك " " أو من تحت أرجلكم " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعوذ بالله من ذلك " " أو يلبسكم شيعا " قال " هذا أيسر " وإن استعاذه لاعاذه. ويتعلق بهذه الآية.
أحاديث كثيرة.
" أحدها " قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده حدثنا أبو اليمان حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي مريم عن راشد هو
ابن سعد المقرائي عن سعد بن أبي وقاص قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " قل هو القادر على أن يبعث
عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم " فقال " أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد ". وأخرجه الترمذي عن
الحسن بن عرفة عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم به ثم قال هذا حديث غريب.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يعلى هو ابن عبيد حدثنا عثمان بن حكيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه قال: أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية فدخل فصلى ركعتين فصلينا معه فناجى
ربه عز وجل طويلا ثم قال " سألت ربي ثلاثا سألته أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يهلك أمتي
بالسنة فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " انفرد بإخراجه مسلم فرواه في كتاب الفتن عن أبي
بكر بن أبي شيبة عن محمد بن عبد الله بن نمير كلاهما عن عبد الله بن نمير وعن محمد بن يحيى بن أبي عمرو
عن مروان بن معاوية كلاهما عن عثمان بن حكيم به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد قرأت على عبد الرحمن بن
مهدي عن مالك عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك أنه قال جاءنا عبد الله بن عمر في
حرة بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت
نعم فأشرت إلى ناحية منه فقال هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه؟ فقلت نعم فقال أخبرني بهن فقلت دعا أن
لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها قال
صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة. ليس هو في شئ من الكتب الستة وإسناده جيد قوي ولله الحمد
والمنة.
" حديث آخر " قال محمد بن إسحاق عن حكيم بن حكيم بن عباد عن خصيف عن عبادة بن حنيف عن علي بن
عبد الرحمن أخبرني حذيفة بن اليمان قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية قال فصلى ثماني ركعات
فأطال فيهن ثم التفت إلي فقال " حبستك يا حذيفة " قلت الله ورسوله أعلم قال " إني سألت الله ثلاثا فأعطاني
اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فأعطاني وسألته أن لا يهلكهم بغرق
فأعطاني وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني ". رواه ابن مردويه من حديث محمد بن إسحاق " حديث
آخر " قال الإمام أحمد حدثنا عبيدة بن حميد حدثني سليمان بن الأعمش عن رجاء الأنصاري عن عبد الله بن شداد
عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لي خرج قبل قال فجعلت لا أمر بأحد إلا قال مر
قبل حتى مررت فوجدته قائما يصلي قال فجئت حتى قمت خلفه فأطال الصلاة فلما قضى صلاته قلت يا
رسول الله قد صليت صلاة طويلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني صليت صلاة رغبة ورهبة إني سألت الله عز وجل ثلاثا
فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يهلك أمتي غرقا فأعطاني وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا ليس منهم
فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها علي ". ورواه ابن ماجة في الفتن عن محمد بن عبد الله بن نمير
145

وعلي بن محمد كلاهما عن أبي معاوية عن الأعمش به. ورواه ابن مردويه من حديث أبي عوانة عن عبد الله بن
عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله أو نحوه.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا هارون بن معروف حدثنا عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن
بكير بن الأشج أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه عن أنس بن مالك أنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى
سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال " إني صليت صلاة رغبة ورهبة وسألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين
ومنعني واحدة سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل وسألته
أن لا يلبسهم شيعا فأبى علي ". ورواه النسائي في الصلاة عن محمد بن سلمة عن ابن وهب به.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب بن أبي حمزة قال: قال الزهري
حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن خباب عن أبيه خباب بن الأرت مولى بني
زهرة وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال وافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها حتى كان مع
الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته فقلت يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أجل إنها صلاة رغب ورهب سألت ربي عز وجل فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة
سألت ربي عز وجل أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل أن لا يظهر علينا عدوا من
غيرنا فأعطانيها وسألت ربي عز وجل أن لا يلبسنا شيعا فمنعنيها ". ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة
به. ومن وجه آخر وابن حبان في صحيحه بإسناديهما عن صالح بن كيسان والترمذي في الفتن من حديث النعمان بن
راشد كلاهما عن الزهري به وقال حسن صحيح. " حديث آخر " قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره حدثني زياد بن
عبد الله المزني حدثنا مروان بن معاوية الفزاري حدثنا أبو مالك حدثني نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود فقال " قد كانت صلاة رغبة ورهبة سألت الله عز وجل فيها ثلاثا أعطاني اثنتين ومنعني
واحدة سألت الله أن لا يصيبكم بعذاب أصاب به من كان قبلكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يسلط عليكم عدوا يستبيح
بيضتكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها " قال أبو مالك فقلت له أبو ك
سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال نعم سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم " حديث
آخر " قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق قال: قال معمر أخبرني أيوب عن أبي قلابة عن الأشعث الصنعاني عن أبي
أسماء الرحبي عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها وأن
ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر وإني سألت ربي عز وجل أن لا يهلك أمتي
بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا فيهلكهم بعامة وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فقال يا محمد
إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لامتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا ممن
سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضا وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا " قال: وقال
النبي صلى الله عليه وسلم " إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة "
ليس في شئ من الكتب الستة وإسناده جيد قوي وقد رواه ابن مردويه من حديث حماد بن زيد وعباد بن منصور
وقتادة ثلاثتهم عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه والله أعلم.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي وميمون بن إسحاق بن
الحسن الحنفي قالا حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا محمد بن فضيل عن أبي مالك الأشجعي عن نافع بن خالد
الخزاعي عن أبيه قال وكان أبوه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أصحاب الشجرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
صلى والناس حوله صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود قال فجلس يوما فأطال الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض
أن اسكتوا إنه ينزل عليه فلما فرغ قال له بعض القوم يا رسول الله لقد أطلت الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض إنه
146

ينزل عليك قال " لا ولكنها كانت صلاة رغبة ورهبة سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألت الله أن لا يعذبكم
بعذاب عذب به من كان قبلكم فأعطانيها وسألت الله أن لا يسلط على أمتي عدوا يستبيحها فأعطانيها وسألته أن لا
يلبسكم شيعا وأن لا يذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها " قال: قلت له أبو ك سمعها من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم؟ قال نعم سمعته يقول إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدد أصابعي هذه عشر أصابع.
" حديث أخر " قال الإمام أحمد حدثنا يونس هو ابن محمد المؤدب حدثنا ليث هو ابن سعد عن أبي وهب الخولاني
عن رجل قد سماه عن أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سألت
ربي عز وجل أربعا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله أن لا
يظهر عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألت الله أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها وسألت
الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها " لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب
الستة.
" حديث آخر " قال الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا أبو حذيفة الثعلبي
عن زياد بن علاقة عن جابر بن سمرة السوائي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " سألت ربي ثلاث
خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة فقلت يا رب لا تهلك أمتي جوعا فقال هذه لك قلت يا رب لا تسلط عليهم
عدوا من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال ذلك لك قلت يا رب لا تجعل بأسهم بينهم فمنعني هذه.
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم عن أحمد بن محمد بن عاصم حدثنا أبو
الدرداء المروزي حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان حدثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " دعوت ربي عز وجل أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع الله عنهم اثنتين وأبى على أن يرفع عنهم
اثنتين دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس
بعض فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع اثنتين القتل والهرج. " طريق
أخرى " عن ابن عباس أيضا قال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن محمد بن يزيد حدثني الوليد بن أبان حدثنا جعفر بن
منير حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد حدثنا عمرو بن قيس عن رجل عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية " قل هو
القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " قال
فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثم قال " اللهم لا ترسل على أمتي عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعا ولا
تذق بعضهم بأس بعض " قال فأتاه جبريل فقال يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم أو من
تحت أرجلهم. " حديث آخر " قال ابن مردويه حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزار حدثنا عبد الله بن أحمد بن
موسى حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد حدثنا عمرو بن محمد العنقزي حدثنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سألت ربي لامتي أربع خصال فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألته أن لا تكفر أمتي صفقة
واحدة فأعطانيها وسألته أن لا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها وسألته أن لا يظهر عليهم عدوا من غيرهم
فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها " ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطان
عن عمرو بن محمد العنقزي به نحوه.
" طريق آخر " وقال ابن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو كريب حدثنا
زيد بن الحباب حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذئاب سمع أبا هريرة يقول:
قال النبي صلى الله عليه وسلم " سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة سألته أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم
فأعطاني وسألته أن لا يهلكهم بالسنين فأعطاني وسألته أن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض
فمنعني ". ثم رواه ابن مردويه بإسناده عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي
147

صلى الله عليه وآله وسلم بنحوه ورواه البزار من طريق عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
بنحوه. ورواه البزار من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
" أثر آخر " قال سفيان الثوري عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال أربع في هذه الأمة قد مضت
اثنتان وبقيت اثنتان " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " قال الرجم " أو من تحت أرجلكم " قال
الخسف " أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " قال سفيان يعني الرجم والخسف وقال أبو جعفر الرازي
عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من
تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " قال فهي أربع خلال منها اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخمس وعشرين سنة ألبسوا شيعا وذاق بعضهم بأس بعض وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان الرجم والخسف
ورواه أحمد عن وكيع عن أبي جعفر. ورواه ابن أبي حاتم وقال ابن أبي حاتم حدثنا المنذر بن شاذان حدثنا
أحمد بن إسحاق حدثنا أبو الأشهب عن الحسن في قوله " قل هو القادر على أن يبعث " الآية. قال حبست عقوبتها
حتى عمل ذنبها فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو مالك والسدي وابن زيد وغير
واحد في قوله " عذابا من فوقكم " يعني الرجم " أو من تحت أرجلكم " يعني الخسف. وهذا هو اختيار ابن جرير
ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " قل هو القادر على أن يبعث
عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم " قال كان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر يقول
ألا أيها الناس إنه قد نزل بكم أن الله يقول " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " لو جاءكم عذاب
من السماء لم يبق منكم أحدا " أو من تحت أرجلكم " لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق منكم أحدا " أو
يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض " ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث. " قول ثان " قال ابن جرير وابن أبي حاتم
حدثنا يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب سمعت خلاد بن سليمان يقول سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول إن ابن
عباس كان يقول في هذه الآية " قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " فأئمة السوء " أو من تحت
أرجلكم " فخدم السوء وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " عذابا من فوقكم " يعني أمراءكم " أو من تحت
أرجلكم " يعني عبيدكم وسفلتكم وحكى ابن أبي حاتم عن أبي سنان وعمرو بن هانئ نحو ذلك. قال ابن
جرير: وهذا القول وإن كان له وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى وهو كما قال ابن جرير رحمه الله ويشهد له
بالصحة قوله تعالى " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل
عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وفي الحديث " ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ ". وذلك مذكور مع
نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى وقوله " أو
يلبسكم شيعا " يعني يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين. قال الوالبي عن ابن عباس يعني الأهواء. وكذا قال
مجاهد وغير واحد وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين
فرقة كلها في النار إلا واحدة ". وقوله تعالى " ويذيق بعضكم بأس بعض " قال ابن عباس وغير واحد يعني يسلط
بعضكم على بعض بالعذاب والقتل. وقوله تعالى " انظر كيف نصرف الآيات " أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها
" لعلهم يفقهون " أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه. قال زيد بن أسلم لما نزلت " قل هو القادر
على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم " الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب
بعض بالسيف " قالوا ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال " نعم " فقال بعضهم لا يكون هذا أبدا أن
يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فنزلت " انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق قل
لست عليكم بوكيل لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل (66) لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون (67) وإذا
148

رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد
بعد الذكرى مع القوم الظالمين (68) وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ ولكن ذكرى لعلهم يتقون (69)
يقول تعالى " وكذب به " أي بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان " قومك " يعني قريشا " وهو الحق " أي الذي
ليس وراءه حق " قل لست عليكم بوكيل " أي لست عليكم بحفيظ ولست بموكل بكم كقوله " وقل الحق من ربكم
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " أي إنما علي البلاغ وعليكم السمع والطاعة فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة
ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة ولهذا قال " لكل نبأ مستقر " قال ابن عباس وغير واحد أي لكل نبأ حقيقة أي
لكل خبر وقوع ولو بعد حين كما قال " ولتعلمن نبأه بعد حين " وقال " لكل أجل كتاب " وهذا تهديد ووعيد أكيد
ولهذا قال بعده " وسوف تعلمون " وقوله " وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا " أي بالتكذيب والاستهزاء " فأعرض
عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره " أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب " وإما ينسينك
الشيطان " والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على
غير مواضعها فإن جلس أحد معهم ناسيا " فلا تقعد بعد الذكرى " بعد التذكر " مع القوم الظالمين " ولهذا ورد في
الحديث " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ". وقال السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في قوله
" وإما ينسينك الشيطان " قال إن نسيت فذكرت " فلا تقعد " معهم. وكذا قال مقاتل بن حيان وهذه الآية هي المشار
إليها في قوله " وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى
يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم " الآية. أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم
فيما هم فيه وقوله " وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ " أي إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد
برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن موسى عن
إسرائيل عن السدي عن أبي مالك عن سعيد بن جبير قوله " وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ " قال ما
عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك أي إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم وقال آخرون بل معناه وإن جلسوا
معهم فليس عليهم من حسابهم من شئ وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله " إنكم إذا مثلهم " قاله
مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم. وعلى قولهم يكون قوله " ولكن ذكرى لهم لعلهم يتقون " أي ولكن أمرناكم
بالاعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه.
وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون
الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم
وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (70)
يقول تعالى " وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا " أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم
صائرون إلى عذاب عظيم ولهذا قال وذكر به أي ذكر الناس بهذا القرآن وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة
وقوله تعالى " أن تبسل نفس بما كسبت " أي لئلا تبسل قال الضحاك عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن
والسدي تبسل تسلم وقال الوالبي عن ابن عباس تفتضح. وقال قتادة تحبس وقال مرة وابن زيد تؤاخذ. وقال
الكلبي تجزى وكل هذه الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى وحاصلها الاسلام للهلكة والحبس عن الخير والارتهان
عن درك المطلوب كقوله " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " وقوله " ليس لها من دون الله ولي ولا
149

شفيع " أي لا قريب ولا أحد يشفع فيها كقوله " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم
الظالمون " وقوله " وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها " أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها كقوله " إن الذين كفروا
وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " الآية. وكذا قال ههنا " أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم
شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون ".
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين
في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب
العالمين (71) وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون (72) وهو الذي خلق السماوات والأرض
بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم
الخبير (73)
قال السدي قال المشركون للمسلمين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله عز وجل " قل أندعوا من دون الله
ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا " أي في الكفر " بعد إذ هدانا الله " فيكون مثلنا مثل الذي استهوته
الشياطين في الأرض يقول مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق فضل الطريق
فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق فجعلوا يدعونه إليهم يقولون ائتنا فإنا على الطريق
فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومحمد هو الذي يدعو
إلى الطريق والطريق هو الاسلام. رواه ابن جرير وقال قتادة " استهوته الشياطين في الأرض " أضلته في الأرض
يعني استهوته سيرته كقوله " تهوي إليهم " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " قل أندعوا من دون الله ما
لا ينفعنا ولا يضرنا " الآية. هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عز وجل
كمثل رجل ضل عن طريق تائها إذ ناداه مناد يا فلان ابن فلان هلم إلى الطريق وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم
إلى الطريق فان اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى
الطريق وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان يقول مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله فإنه يرى أنه في
شئ حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة وقوله " كالذي استهوته الشياطين في الأرض " هم الغيلان
" يدعونه " باسمه واسم أبيه وجده فيتبعها وهو يرى أنه في شئ فيصبح وقد رمته في هلكة وربما أكلته أو تلقيه
في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشا فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل رواه ابن جرير
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران "
قال رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق وذلك مثل من يضل بعد أن هدي. وقال العوفي
عن ابن عباس قوله " كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب " هو الذي لا يستجيب لهدى الله
وهو رجل أطاع الشيطان وعمل في الأرض بالمعصية وحاد عن الحق وضل عنه وله أصحاب يدعونه إلى الهدى
ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى يقول الله ذلك لأوليائهم من الانس " إن الهدى هدى الله " والضلال
ما يدعو إليه الجن. رواه ابن جرير ثم قال وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى
قال: وهذا خلاف ظاهر الآية فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه
هدى وهو كما قال ابن جرير فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران وهو منصوب
على الحال أي في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة وله أصحاب على المحجة سائرون فجعلوا يدعونه
150

إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى وتقدير الكلام فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ولو شاء الله لهداه ولرد
به إلى الطريق ولهذا قال " قل إن هدى الله هو الهدى " كما قال " ومن يهد الله فما له من مضل " وقال " إن
تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين " وقوله " وأمرنا لنسلم لرب العالمين " أي
نخلص له العبادة وحده لا شريك له " وأن أقيموا الصلاة واتقوه " أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع
الأحوال " وهو الذي إليه تحشرون " أي يوم القيامة " وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق " أي بالعدل فهو
خالقهما ومالكهما والمدبر لهما ولمن فيهما وقوله " ويوم يقول كن فيكون " يعني يوم القيامة الذي يقول الله كن
فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب ويوم منصوب إما على العطف على قوله واتقوه وتقديره واتقوا يوم يقول
كن فيكون وإما على قوله " خلق السماوات والأرض " أي وخلق يوم يقول كن فيكون فذكر بدء الخلق وإعادته وهذا
مناسب. وإما على إضمار فعل تقديره واذكر يوم يقول كن فيكون وقوله " قوله الحق وله الملك " جملتان محلهما
الجر على أنهما صفتان لرب العالمين وقوله " ويوم ينفخ في الصور " يحتمل أن يكون بدلا من قوله " ويوم يقول
كن فيكون يوم ينفخ في الصور " ويحتمل أن يكون ظرفا لقوله " وله الملك يوم ينفخ في الصور " كقوله " لمن
الملك اليوم لله الواحد القهار " وكقوله " الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " وما أشبه
ذلك واختلف المفسرون في قوله " يوم ينفخ في الصور " فقال بعضهم المراد بالصور هنا جمع صورة أي يوم
ينفخ فيها فتحيا. قال ابن جرير كما يقال سور لسور البلد وهو جمع سورة والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي
ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام قال ابن جرير والصواب عندنا ما تظاهرت به الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم أنه قال " إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ". رواه مسلم في صحيحه
وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا سليمان التيمي عن أسلم العجلي عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن عمرو
قال: قال أعرابي يا رسول الله ما الصور؟ قال " قرن ينفخ فيه ".
وقد روينا حديث الصور بطوله من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني في كتابه المطولات قال حدثنا أحمد بن الحسن
المقري الأيلي حدثنا أبو عاصم النبيل حدثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو في طائفة من أصحابه فقال
إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخصا بصره إلى
العرش ينتظر متى يؤمر " قلت يا رسول الله وما الصور؟ قال " القرن " قلت كيف هو؟ قال " عظيم والذي بعثني
بالحق إن عظم دارة فيه كعرض السماوات والأرض ينفخ فيه ثلاث نفخات النفخة الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة
الصعق والثالثة نفخة القيام لرب العالمين يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ فينفخ نفخة الفزع فيفزع
أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ويأمره فيطيلها ويديمها ولا يفتر وهى كقول الله " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة
واحدة مالها من فواق " فيسير الله الجبال فتمر مر السحاب فتكون سرابا ثم ترتج الأرض بأهلها رجا فتكون كالسفينة
المرمية في البحر تضربها الأمواج تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق في العرش ترجرجه الرياح وهو الذي يقول " يوم ترجف
الراجفة * تتبعها الرادفة * قلوب يومئذ واجفة " فيميد الناس على ظهرها وتذهل المراضع وتضع الحوامل وتشيب
الولدان وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى تأتي الأقطار فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس
مدبرين ما لهم من أمر الله من عاصم ينادي بعضهم بعضا وهو الذي يقول الله تعالى " يوم التناد " فبينما هم على ذلك
إذ تصدعت الأرض من قطر إلى قطر فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ثم
نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ثم انشقت السماء فانتشرت نجومها وانخسفت شمسها وقمرها " قال
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " الأموات لا يعلمون بشئ من ذلك " قال أبو هريرة يا رسول الله من استثنى
الله عز وجل حين يقول " ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله "؟ قال " أولئك الشهداء " وإنما
يصل الفزع إلى الاحياء وهم أحياء عند ربهم يرزقون وقاهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم منه وهو عذاب الله يبعثه على
151

شرار خلقه - قال - وهو الذي يقول الله عز وجل " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم * يوم ترونها
تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله
شديد " فيقومون في ذلك العذاب ما شاء الله إلا أنه يطول ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق فينفخ نفخة الصعق
فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله فإذا هم قد خمدوا وجاء ملك الموت إلى الجبار عز وجل فيقول يا رب
قد مات أهل السماوات والأرض إلا من شئت فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول يا رب بقيت أنت
الحي الذي لا تموت وبقيت حملة العرش وبقي جبريل وميكائيل وبقيت أنا فيقول الله عز وجل: ليمت جبريل
وميكائيل فينطق الله العرش فيقول يا رب يموت جبريل وميكائيل فيقول اسكت فإني كتبت الموت على كل من
كان تحت عرشي فيموتان ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار فيقول يا رب قد مات جبريل وميكائيل فيقول الله وهو اعلم
بمن بقى: فمن بقي؟ فيقول بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت حملة عرشك وبقيت أنا فيقول الله لتمت حملة
العرش فتموت ويأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل ثم يأتي ملك الموت فيقول يا رب قد مات حملة عرشك
فيقول الله وهو أعلم بمن بقي: فمن بقي؟ فيقول يا رب بقيت أنت الحي الذي لا تموت وبقيت أنا فيقول الله أنت
خلق من خلقي خلقتك لما رأيت فمت فيموت فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد
كان آخرا كما كان أولا طوى السماوات والأرض طي السجل للكتب ثم دحاهما ثم يلقفهما ثلاث مرات يقول أنا
الجبار أنا الجبار أنا الجبار ثلاثا ثم هتف بصوته " لمن الملك اليوم " ثلاث مرات فلا يجيبه أحد ثم يقول لنفسه
" لله الواحد القهار " يقول الله " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " فيبسطهما ويسطحهما ثم يمدهما مد الأديم
العكاظي " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " ثم يزجر الله الخلق زجرة واحدة فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا
فيها من الأولى من كان في بطنها كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ثم ينزل الله عليهم ماء من تحت
العرش ثم يأمر الله السماء أن تمطر فتمطر أربعين يوما حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ثم يأمر الله الأجساد أن
تنبت فتنبت كنبات الطراثيث أو كنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت قال الله عز وجل ليحي
حملة عرشي فيحيون ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور فيضعه على فيه ثم يقول ليحي جبريل وميكائيل فيحييان ثم
يدعو الله بالأرواح فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا وأرواح الكافرين ظلمة فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور
ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث فينفخ نفخة البعث فتخرج الأرواح كأنها النحل قد ملأت ما بين السماء
والأرض فيقول وعزتي وجلالي ليرجعن كل روح إلى جسده فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد فتدخل في
الخياشيم ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ ثم تنشق الأرض عنهم وأنا أول من تنشق الأرض عنه
فتخرجون سراعا إلى ربكم تنسلون " مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر " حفاة عراة غلفا غرلا فتقفون
موقفا واحدا مقداره سبعون عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم فتبكون حتى تنقطع الدموع ثم تدمعون دما وتعرقون
حتى يلجمكم العرق أو يبلغ الأذقان وتقولون من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا فتقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم
خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه فيأبى ويقول ما أنا بصاحب ذلك فيستقرؤون
الأنبياء نبيا نبيا كلما جاءوا نبيا أبى عليهم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى يأتوني فأنطلق إلى الفحص فأخر ساجدا - قال أبو
هريرة يا رسول الله وما الفحص؟ قال - قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي ويرفعني فيقول لي يا
محمد فأقول نعم يا رب فيقول الله عز وجل ما شأنك وهو أعلم - فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك
فاقض بينهم قال الله قد شفعتك أنا آتيكم أقضي بينكم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فأرجع فأقف مع الناس فبينما نحن وقوف
إذ سمعنا من السماء حسا شديدا فهالنا فينزل أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا
من الأرض أشرقت الأرض بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم أفيكم ربنا؟ قالوا لا وهو آت " ثم ينزل أهل السماء
الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثلي من فيها من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض
بنورهم وأخذوا مصافهم وقلنا لهم أفيكم ربنا؟ فيقولون لا وهو آت ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف حتى
152

ينزل الجبار عز وجل في ظلل من الغمام والملائكة فيحمل عرشه يومئذ ثمانية - وهم اليوم أربعة - أقدامهم في تخوم
الأرض السفلى والأرض والسماوات إلى حجزهم والعرش على مناكبهم لهم زجل في تسبيحهم يقولون سبحان ذي
العرش والجبروت سبحان ذي الملك والملكوت سبحان الحي الذي لا يموت سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت
سبوح قدوس قدوس قدوس سبحان ربنا الاعلى رب الملائكة والروح سبحان ربنا الاعلى الذي يميت الخلائق ولا
يموت فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ثم يهتف بصوته فيقول يا معشر الجن والإنس إني قد أنصت لكم منذ
خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع قولكم وأبصر أعمالكم فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد
خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ثم يأمر الله جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم ثم يقول
" ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن أعبد وني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل
منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون * هذه جهنم التي كنتم توعدون " أو - بها تكذبون - شك أب وعاصم " وامتازوا
اليوم أيها المجرمون " فيميز الله الناس وتجثو الأمم. يقول الله تعالى " وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها
اليوم تجزون ما كنتم تعملون " فيقضي الله عز وجل بين خلقه إلا الثقلين الجن والإنس فيقضي بين الوحوش والبهائم
حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن فإذا فرغ من ذلك فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله لها كوني ترابا
فعند ذلك يقول الكافر " يا ليتني كنت ترابا " ثم يقضي الله بين العباد فكان أول ما يقضي فيه الدماء ويأتي كل قتيل
في سبيل الله ويأمر الله عز وجل كل من قتل فيحمل رأسه تشخب أوداجه فيقول يا رب فيم قتلني هذا؟ فيقول - وهو
أعلم - فيم قتلتهم؟ فيقول قتلتهم لتكون العزة لك فيقول الله له صدقت فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس ثم تمر به
الملائكة إلى الجنة ثم يأتي كل من قتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه فيقول يا رب فيم قتلني هذا؟
فيقول - وهو أعلم - لم قتلتهم؟ فيقول يا رب قتلتهم لتكون العزة لي فيقول تعست ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل
بها ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء رحمه ثم يقضي الله تعالى بين من
بقي من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لاحد عند أحد إلا أخذها الله للمظلوم من الظالم حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء
ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء فإذا فرغ الله من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم: ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم
وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ويجعل يومئذ ملك من
الملائكة على صورة عزير ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى
ثم قادتهم آلهتهم إلى النار وهو الذي يقول " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون " فإذا لم يبق إلا
المؤمنون فيهم المنافقون جاءهم الله فيما شاء من هيئته فقال: يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم
تعبدون. فيقولون والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره فينصرف عنهم وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن
يمكث ثم يأتيهم فيقول: يا أيها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون والله ما لنا إله إلا الله
وما كنا نعبد غيره فيكشف لهم عن ساقه ويتجلي لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم فيخرون للأذقان سجدا على
وجوههم ويخر كل منافق على قفاه ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ثم يأذن الله لهم فيرفعون ويضرب الله
الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة أو كحد السيف عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان دونه جسر
دحض مزلة فيمرون كطرف العين أو كلمح البرق أو كمر الريح أو كجياد الخيل أو كجياد الركاب أو كجياد الرجال
فناج سالم وناج مخدوش ومكردس على وجهه في جهنم فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا من يشفع لنا إلى ربنا
فندخل الجنة؟ فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم عليه السلام خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا
فيأتون آدم فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول ما أنا بصاحب ذلك ولكن عليكم بنوح فإنه أول رسل الله فيؤتى نوح
فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول ما أنا بصاحب ذلك ويقول عليكم بإبراهيم فإن الله اتخذه خليلا فيؤتى إبراهيم
فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنب ويقول ما أنا بصاحب ذلك ويقول عليكم بموسى فإن الله قربه نجيبا وكلمه وأنزل عليه
التوراة فيؤتى موسى فيطلب ذلك إليه فيذكر ذنبا ويقول لست بصاحب ذلك ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى
153

ابن مريم فيؤتى عيسى ابن مريم فيطلب ذلك إليه فيقول ما أنا بصاحبكم ولكن عليكم بمحمد " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فيأتوني ولي عند ربي ثلاث شفاعات وعدنيهن فأنطلق فأتي الجنة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح فيفتح لي فأحيا
ويرحب بي فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا فيأذن الله لي من تحميده وتمجيده بشئ ما أذن به لاحد
من خلقه ثم يقول ارفع رأسك يا محمد واشفع تشفع وسل تعطه فإذا رفعت رأسي يقول الله - وهو أعلم - ما شأنك؟
فأقول يا رب وعدتني الشفاعة فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة فيقول الله قد شفعتك وقد أذنت لهم في دخول
الجنة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والذي نفسي بيده ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة
بأزواجهم ومساكنهم فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة سبعين مما ينشئ الله عز وجل واثنتين آدميتين
من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ الله لعبادتهما الله في الدنيا فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة على سرير من
ذهب مكلل باللؤلؤ عليها سبعون زوجا من سندس واستبرق ثم إنه يضع يده بين كتفيها ثم ينظر إلى يده من صدرها
ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها وإنه لينظر إلى مخ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت كبدها له مرآة
وكبده لها مرآة فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ما يفتر ذكره وما تشتكي قبلها
فبينا هو كذلك إذ نودي إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل إلا أنه لا مني ولا منية إلا أن لك أزواجا غيرها فيخرج
فيأتيهن واحدة واحدة كلما أتى واحدة قالت له والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ولا في الجنة شئ أحب إلي
منك. وإذا وقع أهل النار في النار وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم فمنهم من تأخذ النار قدميه لا تجاوز
ذلك ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حقويه ومنهم من تأخذ
جسده كله إلا وجهه حرم الله صورته عليها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأقول يا رب شفعني فيمن وقع في النار من أمتي
فيقول أخرجوا من عرفتم فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يأذن الله في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا
شفع فيقول الله أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة دينار إيمانا فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ثم يشفع الله فيقول
أخرجوا من وجدتم في قلبه إيمانا ثلثي دينار ثم يقول ثلث دينار ثم يقول ربع دينار ثم يقول قيراطا ثم يقول حبة من
خردل فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ولا يبقى أحد له شفاعة إلا
شفع حتى إن إبليس يتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له. ثم يقول بقيت وأنا أرحم الراحمين فيدخل يده
في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره كأنهم حمم فيلقون على نهر يقال له نهر الحيوان فينبتون كما تنبت الحبة في
حميل السيل فما يلي الشمس منها أخيضر وما يلي الظل منها أصيفر فينبتون كنبات الطراثيث حتى يكونوا أمثال الذر
مكتوب في رقابهم الجهنميون عتقاء الرحمن يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب ما عملوا خيرا لله قط فيمكثون في
الجنة ما شاء الله وذلك الكتاب في رقابهم ثم يقولون ربنا امح عنا هذا الكتاب فيمحوه الله عز وجل عنهم ".
ثم ذكر بطوله ثم قال هذا حديث مشهور وهو غريب جدا ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض ألفاظه
نكارة تفرد به إسماعيل بن رافع قاضي أهل المدينة وقد اختلف فيه فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه ونص على
نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه هو
متروك وقال ابن عدي أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت وقد اختلف عليه في إسناد
هذا الحديث على وجوه كثيرة قد أفردتها في جزء على حدة وأما سياقه فغريب جدا ويقال إنه جمعه من أحاديث كثيرة
وجعله سياقا واحدا فأنكر عليه بسبب ذلك وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول إنه رأى للوليد بن مسلم
مصنفا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث فالله أعلم.
* وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين (74) وكذلك نرى
إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين (75) فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا
154

ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين (76) فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي
لأكونن من القوم الضالين (77) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ
مما يشركون (78) إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين (79)
قال الضحاك عن ابن عباس إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما كان اسمه تارخ رواه ابن أبي حاتم وقال أيضا حدثنا
أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل حدثنا أبي حدثنا أبو عاصم شبيب حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قوله " وإذ قال
إبراهيم لأبيه آزر " يعني بآزر الصنم وأبو إبراهيم اسمه تارخ وأمه اسمها شاني وامرأته اسمها سارة وأم إسماعيل
اسمها هاجر وهي سرية إبراهيم. وهكذا قال غير واحد من علماء النسب أن اسمه تارخ وقال مجاهد والسدي آزر
اسم صنم قلت كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم وقال ابن جرير وقال آخرون هو سب وعيب
بكلامهم ومعناه معوج ولم يسنده ولا حكاه عن أحد. وقد قال أبن أبي حاتم ذكر عن معتمر بن سليمان سمعت أبي
يقرأ " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر " قال بلغني أنها أعوج وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام ثم قال ابن جرير
والصواب أن اسم أبيه آزر ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارخ ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان كما لكثير
من الناس أو يكون أحدهما لقبا. وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم واختلف القراء في أداء قوله تعالى " وإذ قال
إبراهيم لأبيه آزر " فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن " وإذ قال إبراهيم لأبيه
آزر أتتخذ أصناما آلهة " معناه يا آزر أتتخذ أصناما آلهة وقرأ الجمهور بالفتح إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف
وهو بدل من قوله لأبيه أو عطف بيان وهو أشبه وعلى قول من جعله نعتا لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود فأما من زعم أنه
منصوب لكونه معمولا لقوله " أتتخذ أصناما " تقديره يا أبت أتتخذ آزر أصناما آلهة فإنه قول بعيد في اللغة فإن ما بعد
حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله لان له صدر الكلام. كذا قرره ابن جرير وغيره وهو مشهور في قواعد العربية
والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها ونهاه فلم ينته كما قال " وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ
أصناما آلهة " أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله " إني أراك وقومك " أي السالكين مسلكك " في ضلال مبين " أي
تائهين لا يهتدون أين يسلكون بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم. وقال
تعالى " واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني
عنك شيئا * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا * يا أبت لا تعبد الشيطان إن
الشيطان كان للرحمن عصيا * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا * قال أراغب أنت
عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا *
وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر
لأبيه مدة حياته فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه كما قال تعالى " وما كان
استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبرهيم لاواه حليم " وثبت في
الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له آزر يا بني اليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني
أنك لا تخزني يوم يبعثون وأي خزي أخزى من أبي الابعد؟ فيقال يا إبراهيم انظر ما وراءك فإذا هو بذبح متلطخ
فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار وقوله " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض " أي نبين له وجه الدلالة في
نظره إلى خلقهما على وحدانية الله عز وجل في ملكه وخلقه وأنه لا إله غيره ولا رب سواه كقوله " قل انظروا ماذا في
السماوات والأرض " وقوله " أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض " وقال " أفلم يروا ما بين أيديهم وما خلفهم
من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب "
155

وأما ما حكاه ابن جرير وغيره عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي وغيرهم. قالوا واللفظ لمجاهد فرجت له
السماوات فنظر إلى ما فيهن حتى انتهى بصره إلى العرش وفرجت له الأرضون السبع فنظر إلى ما فيهن وزاد غيره
فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي ويدعو عليهم فقال الله له إني أرحم بعبادي منك لعلهم أن يتوبوا أو يرجعوا.
وروى ابن مردويه في ذلك حديثين مرفوعين عن معاذ وعلي ولكن لا يصح إسنادهما والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم
من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين " فإنه
تعالى جلى له الامر سره وعلانيته فلم يخف عليه شئ من أعمال الخلائق فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله
إنك لا تسطيع هذا فرده الله كما كان قبل ذلك فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره حتى رأى ذلك عيانا ويحتمل أن
يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة كما رواه
الإمام أحمد والترمذي وصححه عن معاذ بن جبل في حديث المنام " أتاني ربي في أحسن صورة فقال يا محمد فيم
يختصم الملا الاعلى؟ فقلت لا أدري يا رب فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل
شئ وعرفت ذلك ". وذكر الحديث. وقوله " وليكون من الموقنين " قيل الواو زائدة تقديره وكذلك نري إبراهيم
ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين كقوله " وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين " وقيل: بل هي
على بابها أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا وقوله تعالى " فلما جن عليه الليل " أي تغشاه وستره " رأى كوكبا " أي
نجما " قال هذا ربي فلما أفل " أي غاب قال محمد بن إسحاق بن يسار الأفول الذهاب وقال ابن جرير يقال أفل
النجم يأفل ويأفل أفولا وأفلا إذا غاب ومنه قول ذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها * دياج ولا بالآفلات الزوائل
ويقال أين أفلت عنا بمعنى أين غبت عنا: قال " لا أحب الآفلين " قال قتادة علم أن ربه دائم لا يزول " فلما رأى القمر
بازغا " أي طالعا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة
قال هذا ربي " أي هذا المنير الطالع ربي " هذا أكبر " أي جرما من النجم ومن القمر وأكثر إضاءة " فلما أفلت " أي
غابت " قال يا قوم إني برئ مما تشركون * أني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من
المشركين) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي " للذي فطر السماوات والأرض " أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال
سبق " حنيفا " أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال " وما أنا من المشركين " وقد
اختلف المفسرون في هذا المقام هل هو مقام نظر أو مناظرة فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس ما يقتضي أنه مقام نظر واختاره ابن جرير مستدلا بقوله " لئن لم يهدني ربي " الآية. وقال محمد بن إسحاق
قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان لما كان قد أخبر بوجود
مولود يكون ذهاب ملكه على يديه فأمر بقتل الغلمان عامئذ فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى
سرب ظاهر البلد فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك وذكر أشياء من خوارق العادات كما ذكرها غيره من المفسرين من
السلف والخلف والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرا لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه
من عبادة الهياكل والأصنام فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور
الملائكة السماوية ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه وإنما يتوسلون إليه
بعبادة ملائكته ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم
وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة وهي القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ
والمشترى وزحل وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ثم الزهرة فبين أولا صلوات الله وسلامه عليه أن
هذه الزهرة لا تصلح للإلهية فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيغ عنه يمينا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا بل
هي جرم من الاجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة وهي تطلع من المشرق ثم تسير فيما بينه
156

وبين المغرب حتى تغيب عن الابصار فيه ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ومثل هذه لا تصلح للإلهية ثم
انتقل إلى القمر فبين فيه مثل ما بين في النجم ثم انتقل إلى الشمس كذلك فلما انتفت الإلهية عن هذه الاجرام الثلاثة
التي هي أنور ما تقع عليه الابصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع " قال يا قوم إني برئ مما تشركون " أي أنا برئ من
عبادتهن وموالاتهن فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين " أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي
بيده ملكوت كل شئ وخالق كل شئ وربه ومليكه وإلهه كما قال تعالى " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض
في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له
الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظرا في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه
" ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين * إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " الآيات
وقال تعالى " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط
مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان
من المشركين " وقال تعالى " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من
المشركين " وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل مولود يولد على الفطرة " وفي
صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله إني خلقت عبادي حنفاء ". وقال الله في كتابه
العزيز " فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله " وقال تعالى " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم
ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " ومعناه على أحد القولين كقوله " فطرت الله التي فطر
الناس عليها " كما سيأتي بيانه فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة
قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين ناظرا في هذا المقام بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا
قوله تعالى.
وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي
كل شئ علما أفلا تتذكرون (80) وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم
سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون (81) الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم
الامن وهم مهتدون (82) وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من تشاء إن ربك حكيم
عليم (83)
يقول تعالى مخبرا عن خليله إبراهيم حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد وناظروه بشبه من القول أنه قال
" أتحاجوني في الله وقد هدان " أي تجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا هو وقد بصرني وهداني إلى الحق وأنا على
بينة منه فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة وقوله " ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربى شيئا "
أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا وأنا لا أخافها ولا أباليها
فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك. وقوله تعالى " إلا أن يشاء ربي شيئا " استثناء منقطع
أي لا يضر ولا ينفع إلا الله عز وجل " وسع ربي كل شئ علما " أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا يخفى عليه خافية
" أفلا تتذكرون " أي فيما بينته لكم أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها وهذه الحجة نظير ما احتج
157

بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول " قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن
بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني
برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ
بناصيتها " الآية. وقوله " وكيف أخاف ما أشركتم " أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله " ولا
تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا " قال ابن عباس وغير واحد من السلف أي حجة وهذا كقوله
تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " وقوله تعالى " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان " وقوله " فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون " أي فأي الطائفتين أصوب
الذي عبد من بيده الضر والنفع أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة
لا شريك له قال الله تعالى " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون " أي هؤلاء الذين
أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال
لما نزلت " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " قال أصحابه وأينا لم يظلم نفسه؟ فنزلت " إن الشرك لظلم عظيم " وقال الإمام أحمد
حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لما نزلت هذه الآية " الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال " إنه ليس الذي تعنون ألم
تسمعوا ما قال العبد الصالح " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " إنما هو الشرك ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع وابن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله
قال لما نزلت " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس كما تظنون إنما قال لابنه " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم " " وحدثنا عمر بن تغلب
النمري حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت هذه
الآية شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت " إن الشرك لظلم عظيم ". رواه البخاري وفي لفظ قالوا أينا لم
يظلم نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس بالذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح " إن الشرك لظلم عظيم " إنما هو
الشرك " ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعا قال " ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " قال بشرك قال وروي عن أبي بكر
الصديق وعمر وأبي بن كعب وسلمان وحذيفة وابن عباس وابن عمر وعمرو بن شرحبيل وأبي عبد الرحمن السلمي
ومجاهد وعكرمة والنخعي والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد نحو ذلك وقال ابن مردويه حدثنا الشافعي حدثنا
محمد بن شداد المسمعي حدثنا أبو عاصم حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال
لما نزلت " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قيل لي أنت منهم ". وقال الإمام أحمد حدثنا
إسحاق بن يوسف حدثنا أبو جناب عن زاذان عن جرير بن عبد الله قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما برزنا من
المدينة إذا راكب يوضع نحونا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كأن هذا الراكب إياكم يريد " فانتهى إلينا الرجل فسلم فرددنا
عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " من أين أقبلت؟ " قال من أهلي وولدي وعشيرتي قال " فأين تريد؟ قال أريد
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فقد أصبته " قال يا رسول الله علمني ما الايمان قال " أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ". قال قد أقررت. قال ثم إن بعيره دخلت يده في
جحر جرذان فهوى بعيره وهوى الرجل فوقع على هامته فمات فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " علي بالرجل " فوثب إليه
عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه فقالا: يا رسول الله قبض الرجل قال فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال
لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما رأيتما إعراضي عن الرجل فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة فعلمت أنه مات
جائعا ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا من الذين قال الله عز وجل فيهم " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم "
الآية ثم قال " دونكم أخاكم " فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
158

حتى جلس على شفير القبر فقال " ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا ". ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر
عن عبد الحميد بن جعفر الفراء عن ثابت عن زاذان عن جرير بن عبد الله فذكر نحوه وقال فيه هذا ممن عمل قليلا
وأجر كثيرا، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يوسف بن موسى القطان حدثنا مهران بن أبي عمر حدثنا علي بن
عبد الله عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير ساره إذ عرض له أعرابي فقال يا
رسول الله والذي بعثك بالحق لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لاهتدى بهداك وآخذ من قولك وما بلغتك حتى
مالي طعام إلا من خضر الأرض فاعرض علي فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل فازدحمنا حوله فدخل خف بكره في
بيت جرذان فتردى الاعرابي فانكسرت عنقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صدق والذي بعثني بالحق لقد خرج من بلاده وتلاده
وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي وما بلغني حتى ماله طعام إلا من خضر الأرض أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر
كثيرا؟ هذا منهم أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم مهتدون؟ فإن هذا منهم ".
وفي لفظ قال " هذا عمل قليلا وأجر كثيرا ". وروى ابن مردويه من حديث محمد بن يعلى الكوفي وكان نزل الري
حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن سخبرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من أعطي
فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر ". وسكت قال: فقالوا يا رسول الله ماله؟ قال " أولئك لهم الامن وهم
مهتدون " وقوله " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " أي وجهنا حجته عليهم قال مجاهد وغيره يعني بذلك قوله
" وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن "
الآية. وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الامن وهم
مهتدون " ثم قال بعد ذلك كله " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء " قرئ بالإضافة وبلا
إضافة كما في سورة يوسف وكلاهما قريب في المعنى وقوله " إن ربك حكيم عليم " أي حكيم في أقواله وأفعاله
عليم أي بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين كما قال " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا
يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " ولهذا قال ههنا " إن ربك حكيم عليم ".
ووهبنا له إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف
وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين (85) وإسماعيل
واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم
إلى صراط مستقيم (87) ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون (88)
أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها
بكافرين (89) أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا أسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى
للعالمين (90)
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحق بعد أن طعن في السن وأيس هو وامرأته سارة من الولد فجاءته الملائكة وهم
ذاهبون إلى قوم لوط فبشروهما بإسحق فتعجبت المرأة من ذلك وقالت " يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن
هذا لشئ عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد " فبشروهما مع
وجوده بنبوته وبأن له نسلا وعقبا كما قال تعالى " وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين " وهذا أكمل في البشارة وأعظم
159

في النعمة. وقال " فبشرناه بإسحاق ومن وراء إسحق يعقوب " أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما
به كما قرت بوالده فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب
لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام
حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض فعوضه الله عز وجل عن قومه
وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقربهم عينه كما قال تعالى " فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا
له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا " وقال ههنا " ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا " وقوله " ونوحا هدينا من قبل "
أي من قبله هديناه كما هديناه ووهبنا له ذرية صالحة وكل منهما له خصوصية عظيمة أما نوح عليه السلام فإن الله
تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به وهم الذين صحبوه في السفينة جعل الله ذريته هم الباقين فالناس كلهم من
ذريته وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عز وجل بعده نبيا إلا من ذريته كما قال تعالى " وجعلنا في
ذريتهما النبوة والكتاب " الآية. وقال تعالى " ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب " وقال
تعالى " أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن
هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا " وقوله في هذه الآية الكريمة " ومن ذريته " أي
وهدينا من ذريته " داود وسليمان " الآية وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه وهو اختيار ابن
جرير. وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن لكن يشكل عليه لوط فإنه ليس من ذرية إبراهيم بل
هو ابن أخيه هاران بن آزر اللهم إلا أن يقال إنه دخل في الذرية تغليبا كما في قوله " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب
الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له
مسلمون " فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا وكما قال في قوله " فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس "
فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة لأنه كان في تشبه بهم فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليبا
وإلا فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على
القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل لان عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام
بأمه مريم عليها السلام فإنه لا أب له. قال ابن أبي حاتم حدثنا سهل بن يحيى العسكري حدثنا عبد الرحمن بن
صالح حدثنا علي بن عابس عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي حرب بن أبي الأسود قال أرسل الحجاج إلى
يحيى بن يعمر فقال بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم تجده في كتاب
الله - وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال أليس تقرأ سورة الأنعام " ومن ذريته داود وسليمان " حتى بلغ
" ويحيى وعيسى " قال بلى. قال أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال صدقت. فلهذا إذا أوصى الرجل
لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص
بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيهم أيضا لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله وسلم قال للحسن بن علي " إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " فسماه ابنا
فدل على دخوله في الأبناء. وقال آخرون: هذا تجوز. وقوله " ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم " ذكر أصولهم
وفروعهم وذوي طبقتهم وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم ولهذا قال " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط
مستقيم " ثم قال تعالى " ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده " أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته
إياهم " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى
" ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك " الآية وهذا شرط والشرط لا يقتضي جواز
160

الوقوع كقوله " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " وكقوله " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا
فاعلين " وكقوله " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار ". وقوله تعالى
" أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " أي أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم ولطفا منه بالخليقة " فإن
يكفر بها " أي بالنبوة ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة الكتاب والحكم والنبوة وقوله
" هؤلاء " يعني أهل مكة قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد " فقد وكلنا بها قوما
ليسوا بها بكافرين " أي إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم
ومليين وكتابيين فقد وكلنا بها قوما آخرين أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة " ليسوا بها بكافرين "
أي لا يجحدون منها شيئا ولا يردون منها حرفا واحدا بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها جعلنا الله منهم بمنه
وكرمه وإحسانه ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " أولئك " يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف
إليهم من الآباء والذرية والاخوان وهم الأشباه " الذين هدى الله " أي هم أهل الهدى لا غيرهم " فبهداهم اقتده " أي
اقتد واتبع وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا
إبراهيم بن موسى أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني سليمان الأحول أن مجاهدا أخبره أنه سأل ابن عباس
أفي " ص " سجدة فقال نعم ثم تلا " ووهبنا له إسحق ويعقوب " إلى قوله " فبهداهم اقتده " ثم قال هو منهم زاد
يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهيل بن يوسف عن العوام عن مجاهد قلت لابن عباس فقال نبيكم صلى الله عليه
وعلى آله وسلم ممن أمر أن يقتدي بهم وقوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا " أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم
هذا القرآن أجرا أي أجرة ولا أريد منكم شيئا " إن هو إلا ذكرى للعالمين " أي يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى
الهدى ومن الغي إلى الرشاد ومن الكفر إلى الايمان.
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا
وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم
في خوضهم يلعبون (91) وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين
يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون (92)
يقول تعالى وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم: قال ابن عباس ومجاهد وعبد الله بن كثير نزلت في
قريش واختاره ابن جرير وقيل نزلت في طائفة من اليهود. وقيل في فنحاص رجل منهم. وقيل في مالك بن الصيف
" قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " والأول أصح لان الآية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء
وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر كما قال " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل
منهم أن أنذر الناس " وكقوله تعالى " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل
لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " وقال ههنا " وما قدروا الله حق قدره
إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شئ " قال الله تعالى " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس "
أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لانزال شئ من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية
موجبة " من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى " وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن
عمران نورا وهدى للناس أي ليستضاء بها في كشف المشكلات ويهتدى بها من ظلم الشبهات وقوله " تجعلونه
قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " أي تجعلون جملتها قراطيس أي قطعا تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم
161

وتحرفون منها ما تحرفون وتبدلون وتتأولون وتقولون هذا من عند الله أي في كتابه المنزل وما هو من عند الله
ولهذا قال " تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " وقوله تعالى " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم " أي ومن
أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم وقد قال
قتادة: هؤلاء مشركو العرب وقال مجاهد هذه للمسلمين وقوله تعالى " قل الله " قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس أي قل الله أنزله وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة لا ما قاله بعض المتأخرين
من أن معنى " قل الله " أي لا يكون خطابك لهم إلا هذه الكلمة كلمة " الله " وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرا
بكلمة مفردة من غير تركيب والاتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها وقوله " ثم
ذرهم في خوضهم يلعبون " أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم
العاقبة أم لعباد الله المتقين؟ وقوله " وهذا كتاب " يعني القرآن " أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم
القرى " يعني مكة " ومن حولها " من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم كما قال في الآية
الأخرى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وقال " لأنذركم به ومن بلغ " وقال " ومن يكفر به من
الأحزاب فالنار موعده " وقال " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " وقال " وقل للذين أوتوا
الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " وثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " وذكر منهن " وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " ولهذا قال " والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به " أي كل من آمن بالله
واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن " وهم على صلاتهم يحافظون " أي
يقومون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها.
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله ولو ترى
إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما
كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون (93) ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة
وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم
وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94)
يقول تعالى " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا " أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولدا
أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله ولهذا قال تعالى " أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ " قال
عكرمة وقتادة نزلت في مسيلمة الكذاب " ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله " أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من
عند الله من الوحي مما يفتريه من القول كقوله تعالى " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل
هذا " الآية قال الله تعالى " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت " أي في سكراته وغمراته وكرباته
" والملائكة باسطوا أيديهم " أي بالضرب كقوله " لئن بسطت إلي يدك لتقتلني " الآية. وقوله " يبسطوا إليكم
أيديهم وألسنتهم بالسوء " الآية. وقال الضحاك وأبو صالح باسطوا أيديهم أي بالعذاب كقوله " ولو ترى إذ يتوفى
الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " ولهذا قال " والملائكة باسطوا أيديهم " أي بالضرب لهم حتى
تخرج أنفسهم من أجسادهم ولهذا يقولون لهم " أخرجوا أنفسكم " وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة
162

بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم فتتفرق روحه في جسده وتعصي
وتأبى الخروج فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون
عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق " الآية. أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله
وتستكبرون عن اتباع آياته والانقياد لرسله وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر عند
الموت وهي مقررة عند قوله تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وقد ذكر ابن
مردويه ههنا حديثا مطولا جدا من طريق غريب عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا فالله أعلم. وقوله " ولقد
جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " أي يقال لهم يوم معادهم هذا كما قال " وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا
كما خلقناكم أول مرة " أي كما بدأناكم أعدناكم وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث وقوله
" وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم " أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وراء ظهوركم. وثبت
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست
فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " وقال الحسن البصري " يؤتى بابن آدم يوم
القيامة كأنه بذخ فيقول الله عز وجل أين ما جمعت؟ فيقول يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان فيقول له يا ابن آدم
أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا " وتلا هذه الآية " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما
خولناكم وراء ظهوركم " الآية. رواه ابن أبي حاتم وقوله " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم
شركاء " تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا أخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ظانين أنها تنفعهم في
معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد فإذا كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال وضل عنهم ما كانوا
يفترون ويناديهم الرب جل جلاله على رؤوس الخلائق. " أين شركائي الذين كنتم تزعمون " وقيل لهم " أين ما
كنتم تعبدون من دون الله هل ينصروكم أو ينتصرون " ولهذا قال ههنا " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتهم
أنهم فيكم شركاء " أي في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم ثم قال تعالى " لقد تقطع بينكم "
قرئ بالرفع أي شملكم وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل " وضل عنكم " أي
ذهب عنكم " ما كنتم تزعمون " من رجاء الأصنام والأنداد كقوله تعالى " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا
ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله
أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار " وقال تعالى " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا
يتساءلون " وقال تعالى " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم
ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " وقال " وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا
لهم " الآية. وقال " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا " إلى قوله " وضل عنهم ما كانوا يفترون "
والآيات في هذا كثيرة جدا.
* إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي ذلكم الله فأنى تؤفكون (95) فالق
الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم (96) وهو الذي جعل لكم
النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون (97)
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى أي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على
اختلاف ألوانها وأشكالها وطعومها من النوى ولهذا فسر قوله " فالق الحب والنوى " بقوله " يخرج الحي من الميت
163

ويخرج الميت من الحي " أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت كقوله " وآية لهم
الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون " إلى قوله " ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " وقوله " ومخرج
الميت من الحي " معطوف على " فالق الحب والنوى " ثم فسره ثم عطف عليه قوله " ومخرج الميت من الحي " وقد
عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه ومن قائل
يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.
ثم قال تعالى " ذلكم الله " أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له " فأنى تؤفكون " أي كيف تصرفون عن الحق
وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره وقوله " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا " أي خالق الضياء والظلام كما
قال في أول السورة " وجعل الظلمات والنور " أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضئ الوجود
ويستنير الأفق ويضمحل الظلام ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه ويجيئ النهار بضيائه وإشراقه كقوله
" يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته
وعظيم سلطانه فذكر أنه فالق الاصباح وقابل ذلك بقوله " وجعل الليل سكنا " أي ساجيا مظلما لتسكن فيه الأشياء
كما قال " والضحى والليل إذا سجى " وقال " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " وقال " والنهار إذا جلاها والليل إذا
يغشاها " وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره: إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب
إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه وإذا ذكر النار طار نومه. رواه ابن أبي حاتم. وقوله " والشمس والقمر حسبانا "
أي يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير ولا يضطرب بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء فيترتب على ذلك
اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا كما قال " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل " الآية. وكما قال
" لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وقال " والشمس والقمر والنجوم
مسخرات بأمره " وقوله " ذلك تقدير العزيز العليم " أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم
بكل شئ فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء وكثيرا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار
والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الآية وكما في قوله " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار
فإذا هم مظلمون * والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم " ولما ذكر خلق السماوات والأرض وما فيهن
في أول سورة حم السجدة قال " وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم " وقوله تعالى " وهو
الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر " قال بعض السلف من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث
فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه. أن الله جعلها زينة للسماء ورجوما للشياطين ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر
وقوله " قد فصلنا الآيات " أي قد بيناها ووضحناها " لقوم يعلمون " أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل.
وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون (98) وهو الذي أنزل من
السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ فأخرجنا منه خضرا تخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية
وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات
لقوم يؤمنون (99)
يقول تعالى " وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة " يعني آدم عليه السلام قال " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم
من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " وقوله " فمستقر ومستودع " اختلفوا في معنى ذلك
فعن ابن مسعود وابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي وقيس بن أبي حازم ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي
164

والضحاك وقتادة والسدي وعطاء الخراساني وغيرهم " فمستقر " أي في الأرحام قالوا أو أكثرهم " ومستودع " أي في
الأصلاب وعن ابن مسعود وطائفة عكسه وعن ابن مسعود أيضا وطائفة فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت وقال
سعيد بن جبير فمستقر في الأرحام وعلى ظهر الأرض وحيث يموت وقال الحسن البصري المستقر الذي قد مات
فاستقر به عمله وعن ابن مسعود ومستودع في الدار الآخرة والقول الأول أظهر والله أعلم وقوله تعالى " قد فصلنا
الآيات لقوم يفقهون " أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه وقوله تعالى " وهو الذي أنزل من السماء ماء " أي بقدر
مباركا ورزقا للعباد وإحياء وغياثا للخلائق رحمة من الله بخلقه " فأخرجنا به نبات كل شئ " كقوله " وجعلنا من الماء
كل شئ " " فأخرجنا منه خضرا " أي زرعا وشجرا أخضر ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر ولهذا قال تعالى
" نخرج منه حبا متراكبا " أي يركب بعضه بعضا كالسنابل ونحوها " ومن النخل من طلعها قنوان " أي جمع قنو وهي عذوق
الرطب دانية أي قريبة من المتناول كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس " قنوان دانية " يعني بالقنوان
الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض. رواه ابن جرير. قال ابن جرير وأهل الحجاز يقولون قنوان وقيس
يقول قنوان قال امرؤ القيس:
فآتت أعاليه وآدت أصوله * ومال بقنوان من البسر أحمرا
قال وتميم يقولون قنيان بالياء قال وهي جمع قنو كما أن صنوان جمع صنو وقوله تعالى " وجنات من أعناب " أي
ونخرج منه جنات من أعناب وهذا النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز وربما كانا خيار الثمار في الدنيا كما
امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " وكان ذلك
قبل تحريم الخمر وقال " وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب " وقوله تعالى " والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه "
قال قتادة وغيره متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض ومتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا وقوله تعالى
" انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " أي نضجه قاله البراء بن عازب وابن عباس والضحاك وعطاء الخراساني والسدي
وقتادة وغيرهم أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود بعد أن كان حطبا صار عنبا ورطبا وغير ذلك مما خلق
سبحانه وتعالى من الألوان والاشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى " وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب
وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل " الآية. ولهذا قال ههنا " إن
في ذلكم " أيها الناس " لآيات " أي دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته " لقوم يؤمنون " أي
يصدقون به ويتبعون رسله.
وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون (100)
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة
تعالى الله عن شركهم وكفرهم. فإن قيل فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب أنهم ما
عبد وها إلا عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك كقوله " إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا *
لعنه الله وقال لاتخذن من عبادك نصيبا مفروضا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الانعام ولآمرنهم
فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا * يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا
غرورا " وكقوله تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " الآية. وقال إبراهيم لأبيه " يا أبت لا تعبد الشيطان إن
الشيطان كان للرحمن عصيا " وكقوله " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن
أعبد وني هذا صراط مستقيم " وتقول الملائكة يوم القيامة " سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن
أكثرهم بهم مؤمنون " ولهذا قال تعالى " وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم " أي وقد خلقهم فهو الخالق وحده لا
شريك له فكيف يعبد معه غيره كقول إبراهيم " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " ومعنى الآية. أنه
165

سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له وقوله تعالى " وخرقوا له بنين
وبنات بغير علم " ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا كما يزعم من قاله من اليهود في عزير
ومن قال من النصارى في عيسى ومن قال من مشركي العرب في الملائكة أنها بنات الله " تعالى الله عما يقول
الظالمون علوا كبيرا " ومعنى خرقوا أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا كما قاله علماء السلف قال علي بن أبي
طلحة وابن عباس وخرقوا يعني تخرصوا وقال العوفي عنه " وخرقوا له بنين وبنات بغير علم "
قال جعلوا له بنين وبنات وقال مجاهد " وخرقوا له بنين وبنات " فال كذبوا. وكذا قال
الحسن وقال الضحاك وضعوا وقال السدي قطعوا قال ابن جرير وتأويله إذا وجعلوا لله الجن شركاء في عبادته إياهم
وهو المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير " وخرقوا له بنين وبنات بغير علم " بحقيقة ما يقولون ولكن جهلا
بالله وبعظمته فإنه لا ينبغي لمن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ولا أن يشركه في خلقه شريك ولهذا قال
" سبحانه وتعالى عما يصفون " أي تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد
والنظراء والشركاء.
بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم (101)
بديع السماوات والأرض " أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق كما قال مجاهد والسدي
ومنه سميت البدعة بدعة لأنه لا نظير لها فيما سلف " أنى يكون له ولد " أي كيف يكون له ولد " ولم تكن له
صاحبة " أي والولد إنما يكون متولدا بين شيئين متناسبين والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شئ من خلقه لأنه خالق
كل شئ فلا صاحبة له ولا ولد كما قال تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا " إلى قوله " وكلهم آتيه
يوم القيامة فردا " " وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم " فبين تعالى أنه الذي خلق كل شئ وأنه بكل شئ عليم
فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير له فأنى يكون له ولد " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ".
ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل (102) لا تدركه الابصار
وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير (103)
يقول تعالى " ذلكم الله ربكم " أي الذي خلق كل شئ ولا ولد له ولا صاحبة " لا إله إلا هو خالق كل شئ
فاعبدوه " أي فاعبدوه وحده لا شريك له وأقروا له بالوحدانية وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له ولا
نظير ولا عديل " وهو على كل شئ وكيل " أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار وقوله
" لا تدركه الابصار " فيه أقوال للأئمة من السلف. " أحدها " لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة كما
تواترت به الاخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن. كما قال مسروق عن
عائشة أنها قالت من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب وفي رواية - على الله - فإن الله تعالى قال " لا تدركه الابصار وهو
يدرك الابصار ". رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود عن أبي الضحى عن
مسروق ورواه غير واحد عن مسروق وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة غير وجه وخالفها ابن عباس فعنه
إطلاق الرؤية وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله وقال ابن أبي حاتم ذكر
محمد بن مسلم حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا يحيى بن معين قال: سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول
الله " لا تدركه الابصار " قال هذا في الدنيا وذكر أبي عن هشام بن عبد الله أنه قال نحو ذلك. وقال آخرون " لا
166

تدركه الابصار " أي جميعها وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة وقال آخرون من
المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك مع ما
ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب فقوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة "
وقال تعالى عن الكافرين " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " قال الإمام الشافعي فدل هذا على أن المؤمنين لا
يحجبون عنه تبارك وتعالى. وأما السنة فقد تواترت الاخبار عن أبي سعيد وأبي هريرة وأنس وجريج وصهيب وبلال
وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات وفي روضات الجنات
جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين. وقيل المراد بقوله " لا تدركه الابصار " أي العقول رواه ابن أبي حاتم عن
علي بن الحسين عن الفلاس عن ابن مهدي عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك
وهذا غريب جدا وخلاف ظاهر الآية وكأنه اعتقد أن الادراك في معنى الرؤية والله أعلم.
وقال آخرون لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الادراك فإن الادراك أخص من الرؤية ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء
الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الادراك المنفي ما هو فقيل معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون
كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته فالعظيم أولى بذلك وله المثل الاعلى. قال ابن عليه في
الآية. هذا في الدنيا رواه ابن أبي حاتم.
وقال آخرون الادراك أخص من الرؤية وهو الإحاطة قالوا ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من إحاطة
العلم عدم العلم قال تعالى " ولا يحيطون به علما " وفي صحيح مسلم " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على
نفسك " ولا يلزم منه عدم الثناء فكذلك هذا. قال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " لا تدركه الابصار وهو يدرك
الابصار " قال لا يحيط بصر أحد بالملك وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد
حدثنا أسباط عن سماك عن عكرمة أنه قيل له " لا تدركه الابصار " قال ألست ترى السماء؟ قال بلى قال فكلها
ترى؟ وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في الآية " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " وهو أعظم من أن تدركه
الابصار.
وقال ابن جرير حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا خالد بن عبد الرحمن حدثنا أبو عرفجة عن عطية العوفي
في قوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " قال هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره
محيط بهم فذلك قوله " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " وورد في تفسير هذه الآية حديث رواه ابن أبي حاتم
ههنا فقال حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث السهمي حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن عطية العوفي عن
أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " قال " لو
أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فنوا صفوا صفا واحدا ما أحاطوا بالله أبدا " غريب لا يعرف
إلا من هذا الوجه ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم.
وقال آخرون في الآية بما رواه الترمذي في جامعه وابن أبي عاصم في كتاب السنة له وابن أبي حاتم في تفسيره وابن
مردويه أيضا والحاكم في مستدركه من حديث الحكم بن أبان قال سمعت عكرمة يقول سمعت ابن عباس يقول رأى
محمد ربه تبارك وتعالى فقلت أليس الله يقول " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " الآية فقال لي لا أم لك ذلك
نوره الذي هو نوره إذا تجلى بنوره لا يدركه شئ وفي رواية لا يقوم له شئ قال الحاكم صحيح على شرط
الشيخين ولم يخرجاه وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
مرفوعا " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل الليل وعمل الليل قبل
النهار حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وفي الكتب المتقدمة إن
الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية: يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده. أي تدعثر وقال
167

تعالى " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين "
ونفي هذا الأثر الادراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء فأما جلاله وعظمته على
ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه فلا تدركه الابصار ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار
الآخرة وتنفيها في الدنيا وتحتج بهذه الآية " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " فالذي نفته الادراك الذي هو
بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشئ وقوله " وهو يدرك
الابصار " أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها كما قال تعالى " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "
وقد يكون عبر بالابصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار " لا يراه شئ
وهو يرى الخلائق وقال أبو العالية في قوله تعالى " وهو اللطيف الخبير " قال اللطيف لاستخراجها الخبير بمكانها والله
أعلم وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة
أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ".
قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها وما أنا عليكم بحفيظ (104) وكذلك نصرف
الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون (105)
البصائر هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم " فمن أبصر فلنفسه " كقوله " فمن
اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " ولهذا قال " ومن عمي فعليها " لما ذكر البصائر قال " ومن
عمي فعليها " أي إنما يعود وباله عليه كقوله " فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " " وما
أنا عليكم بحفيظ " أي بحافظ ولا رقيب بل إنما أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء وقوله " وكذلك
نصرف الآيات " أي وكما فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو هكذا نوضح الآيات
ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين وليقول المشركون والكافرون المكذبون دارست يا محمد من قبلك
من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم هكذا قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم. وقال
الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا أبي حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عمرو بن كيسان قال
سمعت ابن عباس يقول دارست تلوت خاصمت جادلت وهذا كقوله تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم " وقال الذين
كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها " الآية وقال
تعالى إخبارا عن زعيمهم وكاذبهم " إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر
واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر * إن هذا إلا قول البشر " وقوله " ولنبينه لقوم يعلمون " أي ولنوضحه لقوم
يعلمون الحق فيتبعونه والباطل فيجتنبونه فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء كقوله
تعالى " يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا " الآية. وكقوله " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض
والقاسية قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم " وقال تعالى " وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة
وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا
الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا * كذلك يضل الله من يشاء
ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو " وقال " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد
الظالمين إلا خسارا " وقال تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم
عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه
يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء ولهذا قال ههنا " وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون " وقرأ
168

بعضهم " وليقولوا درست " قال التميمي عن ابن عباس درست أي قرأت وتعلمت وكذا قال مجاهد والسدي والضحاك
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد وقال عبد الرزاق عن معمر قال الحسن " وليقولوا درست " يقول
تقادمت وانمحت وقال عبد الرزاق أيضا أنبأنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمعت ابن الزبير يقول إن صبيانا يقرأون
ههنا دارست وإنما هي درست وقال شعبة حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال هي في قراءة ابن مسعود درست يعني
بغير ألف بنصب السين ووقف على التاء قال ابن جرير ومعناه انمحت وتقادمت أي أن هذا الذي تتلوه علينا قد مر
بنا قديما وتطاولت مدته وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أنه قرأها درست أي قرئت وتعلمت وقال معمر عن قتادة
درست قرئت وفي حرف ابن مسعود درس وقال أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا حجاج عن هارون قال هي في
حرف أبي بن كعب وابن مسعود وليقولوا درس قال يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ وهذا غريب فقد روي عن أبي بن كعب
خلاف هذا قال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن ليث حدثنا أبو سلمة حدثنا
أحمد بن أبي بزة المكي حدثنا وهب بن زمعة عن أبيه عن حميد الأعرج عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن
كعب قال: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم " وليقولوا درست ". ورواه الحاكم في مستدركه من حديث وهب بن زمعة وقال
يعني بجزم السين ونصب التاء ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه.
اتبع ما أوحى إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين (106) ولو شاء الله ما أشركوا وما
جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل (107)
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته " اتبع ما أوحي إليك من ربك " أي اقتد به واقتف أثره واعمل به فإن ما
أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه لأنه لا إله إلا هو " وأعرض عن المشركين " أي أعف عنهم
واصفح واحتمل أذاهم حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم واعلم أن لله حكمة في إضلالهم فإنه لو شاء
لهدى الناس جميعا ولو شاء لجمعهم على الهدى " ولو شاء الله ما أشركوا " أي بل له المشيئة والحكمة فيما
يشاؤه ويختاره لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وقوله تعالى " وما جعلناك عليهم حفيظا " أي حافظا تحفظ أقوالهم
وأعمالهم " وما أنت عليهم بوكيل " أي موكل على أرزاقهم وأمورهم إن عليك إلا البلاغ كما قال تعالى " فذكر
إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر " وقال " إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ".
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم
فينبئهم بما كانوا يعملون (108)
يقول الله تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين وإن كان فيه مصلحة إلا أنه يترتب عليه مفسدة
أعظم منها وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين وهو " الله لا إله إلا هو " كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في هذه الآية قالوا يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم " فيسبوا الله
عدوا بغير علم " وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة كان المسلمون يسبون أصنام الكفار فيسب الكفار الله عدوا بغير
علم فأنزل الله " ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله " وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال في تفسير
هذه الآية: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا
نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعهم فلما مات قتلوه فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث
169

وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة بن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري وبعثوا رجلا منهم يقال له المطلب
قالوا استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه
فدخلوا عليه فقالوا يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا
ولندعه وإلهه فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب هؤلاء قومك وبنو عمك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تريدون؟ "
قالوا نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم
بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم وأدت لكم الخراج " قال أبو جهل وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا
فما هي؟ قال: " قولوا لا إله إلا الله " فأبوا واشمأزوا قال أبو طالب يا ابن أخي قل غيرها. فإن قومك قد فزعوا منها
قال " يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما
قلت غيرها " إرادة أن يؤيسهم فغضبوا وقالوا لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتمن من يأمرك فذلك قوله " فيسبوا
الله عدوا بغير علم " ومن هذا القبيل وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ملعون من سب والديه " قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال " يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه
فيسب أمه " أو كما قال صلى الله عليه وسلم وقوله " كذلك زينا لكل أمة عملهم " أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة
لها والانتصار كذلك زينا لكل أمة أي من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ولله الحجة البالغة
والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره " ثم إلى ربهم مرجعهم " أي معادهم ومصيرهم " فينبئهم بما كانوا يعملون "
أي يجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
واقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا
يؤمنون (109) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون (110)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم أي حلفوا أيمانا مؤكدة " لئن جاءتهم آية " أي
معجزة وخارق " ليؤمنن بها " أي ليصدقنها " قل إنما الآيات عند الله " أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات
تعنتا وكفرا وعنادا لا على سبيل الهدى والاسترشاد إنما مرجع هذه الآيات إلى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم
قال ابن جرير حدثنا هناد حدثنا يونس بن بكير حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قريش فقالوا يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا وتخبرنا أن
عيسى كان يحيي الموتى وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي
شئ تحبون أن آتيكم به؟ " قالوا تجعل لنا الصفا ذهبا فقال لهم " فإن فعلت تصدقوني؟ " قالوا نعم والله لئن فعلت
لنتبعك أجمعون فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له ما شئت إن شئت أصبح من الصفا ذهبا ولئن
أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بل يتوب
تائبهم " فأنزل الله تعالى " وأقسموا بالله جهد أيمانهم " إلى قوله تعالى " ولكن أكثرهم يجهلون " وهذا مرسل وله
شواهد من وجوه أخر. وقال الله تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " الآية وقوله تعالى " وما
يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون " قيل المخاطب بما يشعركم المشركون وإليه ذهب مجاهد كأنه يقول لهم وما
يدريكم بصدقهم في هذه الايمان التي تقسمون بها وعلى هذا فالقراءة " إنها إذا جاءت لا يؤمنون " بكسر
أنها على استئناف الخبر عنهم بنفي الايمان عند مجئ الآيات التي طلبوها وقرأ بعضهم " أنها إذا جاءت لا
تؤمنون " بالتاء المثناة من فوق وقيل المخاطب بقوله وما يشعركم المؤمنون يقول وما يدريكم أيها المؤمنون وعلى هذا
فيجوز في قوله " أنها " الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم وعلى هذا فتكون لا في قوله " أنها إذا جاءت
لا يؤمنون " صلة كقوله " ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك " وقوله " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " أي ما
170

منعك أن تسجد إذ أمرتك وحرام أنهم يرجعون وتقديره في هذه الآية وما يدريكم أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك
حرصا على إيمانهم أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون قال بعضهم " أنها " بمعنى لعلها قال ابن جرير وذكروا أن ذلك
كذلك في قراءة أبي بن كعب. قال وقد ذكر عن العرب سماعا اذهب إلى السوق أنك تشتري لنا شيئا بمعنى لعلك
تشتري. قال وقد قيل إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يدريك أن منيتي * إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه شواهد من أشعار العرب والله أعلم. وقوله تعالى " ونقلب أفئدتهم
وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لما جحد المشركون ما أنزل الله لم
تثبت قلوبهم على شئ وردت عن كل أمر وقال مجاهد في قوله " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " ونحول بينهم وبين
الايمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الايمان أول مرة. وكذا قال عكرمة وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه
وعملهم قبل أن يعملوه وقال " ولا ينبئك مثل خبير " جل وعلا وقال " أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في
جنب الله - إلى قوله لو أن لي كرة فأكون من المحسنين " فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى وقال:
" ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة "
وقال ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا وقوله " ونذرهم " أي
نتركهم " في طغيانهم " قال ابن عباس والسدي في كفرهم وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة في ضلالهم
" يعمهون " قال الأعمش يلعبون وقال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والربيع وأبو مالك وغيره في كفرهم يترددون.
* ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن
أكثرهم يجهلون (111)
يقول تعالى ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم
الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل كما سألوا فقالوا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " وقالوا لن نؤمن
لك حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا نزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد
استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا " " وكلمهم الموتى " أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل " وحشرنا
عليهم كل شئ قبلا " قرأ بعضهم قبلا بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة وقرأ آخرون بضمهما قيل معناه
من المقابلة والمعاينة أيضا كما رواه علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم. وقال مجاهد قبلا أي أفواجا قبيلا قبيلا أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فيخبرونهم بصدق الرسل فيما
جاءوهم به " ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " أي إن الهداية إليه لا إليهم بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء وهو
الفعال لما يريد " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته وهذه الآية كقوله تعالى " إن
الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ".
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك
ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113)
يقول تعالى وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا
171

يحزنك ذلك كما قال تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا " الآية. وقال تعالى " ما يقال
لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم " وقال تعالى " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من
المجرمين " الآية. وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي وقوله " شياطين
الإنس والجن " بدل من " عدوا " أي لهم أعداء من شياطين الإنس والجن والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر
ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم. قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله
" شياطين الإنس والجن " قال من الجن شياطين ومن الانس شياطين يوحي بعضهم إلى بعض قال قتادة وبلغني أن
أبا ذر كان يوما يصلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن " فقال أو إن من الانس شياطين فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر. وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر رضي الله عنه قال ابن
جرير حدثنا المثنى حدثنا أبو صالح حدثني معاوية بن صالح أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة عن
ابن عائذ عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس قال: فقال " يا أبا ذر هل صليت " قلت
لا يا رسول الله قال " قم فاركع ركعتين " قال ثم جئت فجلست إليه فقال " يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس
" قال: قلت لا يا رسول الله وهل للانس من شياطين؟ قال: " نعم هم شر من شياطين الجن ". وهذا أيضا
فيه انقطاع وروى متصلا كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا المسعودي أنبأنا أبو عمر الدمشقي عن
عبيد بن الحسيحاس عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: " يا أبا ذر هل صليت؟ ".
قلت لا قال " قم فصل " قال فقمت فصليت ثم جلست فقال " يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن.
قال: قلت يا رسول الله وللانس شياطين؟ قال " نعم " وذكر تمام الحديث بطوله. وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن
مردويه في تفسيره من حديث جعفر بن عون ويعلى بن عبيد وعبيد الله بن موسى ثلاثتهم عن المسعودي به. " طريق
أخرى عن أبي ذر " قال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا الحجاج حدثنا حماد عن حميد بن هلال حدثني رجل من
أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن
؟ " قال: قلت يا رسول الله هل للانس من شياطين؟ قال: " نعم ".
" طريق أخرى للحديث " قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة حدثنا معاذ بن رفاعة
عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس؟ "
قال يا رسول الله وهل للانس شياطين؟ قال " نعم " شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول
غرورا " وقوله " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته
وصحته والله أعلم قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو نعيم عن شريك عن سعيد بن مسروق عن عكرمة
" شياطين الإنس والجن " قال ليس من الانس شياطين ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الانس وشياطين
الانس يوحون إلى شياطين الجن قال وحدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل عن السدي عن عكرمة في قوله
" يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " قال للانس شياطين وللجن شياطين فيلقى شيطان الانس شيطان
الجن فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقال أسباط عن السدي عن عكرمة في قوله " يوحي بعضهم
إلى بعض " أما شياطين الانس فالشياطين التي تضل الانس وشياطين الجن التي تضل الجن يلتقيان فيقول كل واحد
منهما لصاحبه إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا فيعلم بعضهم بعضا ففهم ابن جرير من
هذا أن المراد بشياطين الانس عند عكرمة والسدي الشياطين من الجن الذين يضلون الناس لا أن المراد منه شياطين
الانس منهم ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عكرمة وأما كلام السدي فليس مثله في هذا المعنى وهو محتمل. وقد
روى ابن أبي حاتم نحو هذا عن ابن عباس من رواية الضحاك عنه قال إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الانس
يضلونهم قال فيلتقي شياطين الانس وشياطين الجن فيقول هذا لهذا أضلله بكذا فهو قوله " يوحي بعضهم إلى بعض
172

زخرف القول غرورا " وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر إن للانس شياطين منهم وشيطان كل شئ
ما رده ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الكلب الأسود شيطان " ومعناه والله أعلم
شيطان في الكلاب وقال ابن جريج قال مجاهد في تفسير هذه الآية: كفار الجن شياطين يوحون إلى شياطين
الانس كفار الانس زخرف القول غرورا وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني
حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل قال: فقال لي اخرج إلى الناس فحدثهم قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول
في الوحي فقلت الوحي وحيان قال الله تعالى " بما أوحينا إليك هذا القرآن " وقال تعالى " شياطين الإنس والجن
يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " قال فهموا بي أن يأخذوني فقلت لهم: مالكم ذاك إني مفتيكم
وضيفكم فتركوني وإنما عرض عكرمة بالمختار وهو ابن أبي عبيد قبحه الله وكان يزعم أنه يأتيه الوحي وقد
كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه
يوحى إليه فقال صدق قال الله تعالى " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " وقوله تعالى " يوحى بعضهم إلى بعض
زخرف القول غرورا " أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة
بأمره " ولو شاء ربك ما فعلوه " أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء
" فذرهم " أي فدعهم " وما يفترون " أي يكذبون أي دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم فإن الله كافيك
وناصرك عليهم، وقوله تعالى " ولتصغى إليه " ولتميل إليه. قاله ابن عباس " أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة " أي
قلوبهم وعقولهم وأسماعهم وقال السدي: قلوب الكافرين " وليرضوه " أي يحبوه ويريدوه وإنما يستجيب لذلك
من لا يؤمن بالآخرة كما قال تعالى " فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم " وقال
تعالى " إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك " وقوله " وليقترفوا ما هم مقترفون " قال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس وليكتسبوا ما هم مكتسبون وقال السدي وابن زيد وليعملوا ما هم عاملون.
أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من
ربك بالحق فلا تكونن من الممترين (114) وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع
العليم (115)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره " أفغير الله أبتغي حكما " أي بيني
وبينكم " وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " أي مبينا " والذين آتيناهم الكتاب " أي من اليهود والنصارى
يعلمون أنه منزل من ربك بالحق أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين " فلا تكونن من
الممترين " كقوله " فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من
ربك فلا تكونن من الممترين " وهذا شرط والشرط لا يقتضي وقوعه ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا
أشك ولا أسأل " وقوله تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " قال قتادة: صدقا فيما قال وعدلا فيما حكم
يقول صدقا في الاخبار وعدلا في الطلب فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ولا شك وكل ما أمر به فهو العدل الذي
لا عدل سواه وكل ما نهى عنه فباطل فإنه لا ينهى إلا عن مفسدة كما قال تعالى " يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر " إلى آخر الآية " لا مبدل لكلماته " أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة " وهو
السميع " لأقوال عباده " العليم " بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله.
وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (116) إن
173

ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (117)
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى " ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين "
وقال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في
ظنون كاذبة وحسبان باطل " إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون " فإن الخرص هو الحزر ومنه خرص
النخل وهو حزر ما عليها من التمر وذلك كله عن قدر الله ومشيئته " هو أعلم من يضل عن سبيله " فييسره لذلك
" وهو أعلم بالمهتدين " فييسرهم لذلك وكل ميسر لما خلق له.
فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين (118) وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل
لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين (119)
هذا إباحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله
عليه كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها ثم ندب إلى الاكل مما ذكر
اسم الله عليه فقال " وما لكم أن لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم " أي قد بين لكم
ما حرم عليكم ووضحه وقرأ بعضهم فصل بالتشديد وقرأ آخرون بالتخفيف والكل بمعنى البيان والوضوح " إلا ما
اضطررتم إليه " أي إلا في حال الاضطرار فإنه يباح لكم ما وجدتم ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم
الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى فقال " وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن
ربك هو أعلم بالمعتدين " أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
وذروا ظهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون (120)
قال مجاهد " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " معصيته في السر والعلانية وفي رواية عنه هو ما ينوى مما هو عامل
وقال قتادة " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " أي سره وعلانيته قليله وكثيره وقال السدي: ظاهره الزنا مع البغايا
ذوات الرايات وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان وقال عكرمة ظاهره نكاح ذوات المحارم والصحيح أن
الآية عامة في ذلك كله وهي كقوله تعالى " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " الآية ولهذا قال
تعالى " إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون " أي سواء كان ظاهرا أو خفيا فإن الله سيجزيهم
عليه قال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن
عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاثم فقال " الاثم ما
حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ".
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن
أطعتموهم إنكم لمشركون (121)
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلما
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة
174

وسواء متروك التسمية عمدا أو سهوا وهو مروي عن ابن عمر ونافع مولاه وعامر الشعبي ومحمد بن سيرين وهو
رواية عن الامام مالك ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين وهو اختيار
أبي ثور وداود الظاهري واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي من متأخري الشافعية في كتابه
الأربعين واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية وبقوله في آية الصيد " فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله
عليه " ثم قد أكد في هذه الآية قوله " وإنه لفسق " والضمير قيل عائد على الاكل وقيل عائد على الذبح لغير الله
وبالأحاديث الواردة في الامر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة " إذا أرسلت كلبك
المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك " وهما في الصحيحين وحديث رافع بن خديج " ما أنهر الدم
وذكر اسم الله عليه فكلوه " وهو في الصحيحين أيضا وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال للجن " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه " رواه مسلم وحديث جندب بن سفيان البجلي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله "
أخرجاه. وعن عائشة رضي الله عنها أن ناسا قالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله
عليه أم لا؟ قال " سموا عليه أنتم وكلوا " قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري. ووجه الدلالة
أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم فأمرهم بالاحتياط بالتسمية
عند الاكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على
السداد والله أعلم. والمذهب الثاني في المسألة أنه لا يشترط التسمية بل هي مستحبة فإن تركت عمدا أو نسيانا
لا يضر وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وجميع أصحابه ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل وهو رواية
عن الامام مالك ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه وحكي عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء بن
أبي رباح والله أعلم. وحمل الشافعي الآية الكريمة " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق " على ما
ذبح لغير الله كقوله تعالى " أو فسقا أهل لغير الله به " وقال ابن جريج عن عطاء " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم
الله عليه " قال: ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس وهذا المسلك الذي
طرقه الإمام الشافعي قوي وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل الواو في قوله " وإنه لفسق " حالية
أي: لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقا ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم
ادعى أن هذا متعين ولا يجوز أن تكون الواو عاطفة لأنه يلزم منه عطف جملة اسمية خبرية على جمله فعليه طلبية
وهذا ينتقض عليه بقوله " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " فإنها عاطفة لا محاولة فإن كانت الواو التي ادعى
أنها حالية صحيحة على ما قال امتنع عطف هذه عليها فإن عطفت على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره وإن لم
تكن الواو حالية بطل ما قال من أصله والله أعلم وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يحيى بن المغيرة أنبأنا
جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " قال هي
الميتة. ثم رواه عن أبي زرعة عن يحيى بن أبي كثير عن ابن لهيعة عن عطاء وهو ابن السائب به وقد استدل
لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل من حديث ثور بن يزيد عن الصلت السدوسي مولى سويد بن ميمون
أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر
اسم الله أو لم يذكر إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله " وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال
" إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله " واحتج البيهقي أيضا بحديث
عائشة رضي الله عنها المتقدم أن ناسا قالوا يا رسول الله إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا
اسم الله عليه أم لا؟ فقال " سموا أنتم وكلوا " قالوا فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها
والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة أن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدا لم تحل هذا هو
175

المشهور من مذهب الامام مالك وأحمد بن حنبل وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه وإسحق بن راهويه وهو محكي عن
علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري وأبي مالك و عبد الرحمن بن أبي ليلى
وجعفر بن محمد وربيعة بن أبي عبد الرحمن ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه الهداية الاجماع قبل
الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ
لمخالفة الاجماع وهذا الذي قاله غريب جدا وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي والله أعلم. وقال الإمام أبو
جعفر بن جرير رحمه الله من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول جميع الحجة وخالف الخبر الثابت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس الأصم
حدثنا أبو أمية الطرسوسي حدثنا محمد بن يزيد حدثنا معقل بن عبيد الله عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن
عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله " وهذا
الحديث رفعه خطأ أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزري فإنه وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور
وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي الشعثاء عن عكرمة عن ابن عباس من
قوله فزادا في إسناده أبا الشعثاء ووثقاه وهذا أصح نص عليه البيهقي وغيره من الحفاظ ثم نقل ابن جرير وغيره عن
الشعبي ومحمد بن سيرين أنهما كرها متروك التسمية نسيانا والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا والله
أعلم إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور فيعده إجماعا
فليعلم هذا والله الموفق قال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو أسامة عن جبير بن يزيد قال: سئل الحسن
سأله رجل أتيت بطير كذا فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه واختلط الطير
فقال الحسن كله كله قال وسألت محمد بن سيرين فقال: قال الله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه "
واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجة عن ابن عباس وأبي هريرة وأبي ذر وعقبة بن عامر
وعبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وفيه نظر والله
أعلم وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي من حديث مروان بن سالم القرقساني عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي
كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح
وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اسم الله على كل مسلم " ولكن هذا إسناده ضعيف فإن مروان بن سالم
القرقساني أبا عبد الله الشامي ضعيف تكلم فيه غير واحد من الأئمة والله أعلم وقد أفردت هذه المسألة على
حدة وذكرت مذهب الأئمة ومأخذهم وأدلتهم ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات والله أعلم.
قال ابن جرير: وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل نسخ من حكمها شئ أم لا؟ فقال بعضهم لم ينسخ
منها شئ وهي محكمة فيما عنيت به وعلى هذا قول مجاهد وعامة أهل العلم وروي عن الحسن البصري
وعكرمة ما حدثنا به ابن حميد: حدثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن عكرمة والحسن البصري قالا:
قال الله " فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين " وقال " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه
لفسق " فنسخ واستثنى من ذلك فقال " وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم " وقال ابن أبي
حاتم: قرأ علي العباس بن الوليد بن يزيد حدثنا محمد بن شعيب أخبرني النعمان يعني ابن المنذر عن مكحول
قال: أنزل الله في القرآن " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال
" اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم " فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب ثم قال
ابن جرير: والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه وهذا
الذي قاله صحيح ومن أطلق من السلف النسخ ههنا فإنما أراد التخصيص والله سبحانه وتعالى أعلم وقوله
تعالى " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو
بكر بن عياش عن أبي إسحاق قال: قال رجل لابن عمر إن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال صدق وتلا هذه
176

الآية " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم " وحدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل
قال: كنت قاعدا عند ابن عباس وحج المختار ابن أبي عبيد فجاءه رجل فقال يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه
أوحي إليه الليلة فقال ابن عباس صدق فنفرت وقلت يقول ابن عباس صدق فقال ابن عباس هما وحيان
وحي الله ووحي الشيطان فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ووحي الشيطان إلى أوليائه ثم قرأ " وإن الشياطين ليوحون
إلى أوليائهم " وقد تقدم عن عكرمة في قوله " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " نحو هذا وقوله
" ليجادلوكم " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن
سعيد بن جبير قال: خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله " ولا تأكلوا
مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق " هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال حدثنا عثمان بن أبي شيبة
حدثنا عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاءت اليهود إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فقالوا نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله
عليه " الآية وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن عبد الاعلى وسفيان بن وكيع كلاهما عن عمران بن عيينة به.
ورواه البزار عن محمد بن موسى الجرسي عن عمران بن عيينة به وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة " أحدها " أن
اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا " الثاني " أن الآية من الانعام وهي مكية. " الثالث " أن هذا الحديث
رواه الترمذي عن محمد بن موسى الجرسي عن زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس ورواه الترمذي بلفظ: أتى ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال حسن غريب. وروي عن سعيد بن جبير
مرسلا وقال الطبراني: حدثنا علي بن المبارك حدثنا زيد بن المبارك حدثنا موسى بن عبد العزيز حدثنا
الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " أرسلت فارس
إلى قريش أن خاصموا محمدا وقولوا له فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عز
وجل بشمشير من
ذهب يعني الميتة فهو حرام فنزلت هذه الآية " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم
إنكم لمشركون " أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش وقال أبو داود: حدثنا محمد بن
كثير أخبرنا إسرائيل حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم "
يقولون ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه فأنزل الله " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه " ورواه ابن
ماجة وابن أبي حاتم عن عمرو بن عبد الله عن وكيع عن إسرائيل به وهذا إسناد صحيح. ورواه ابن جرير من
طرق متعددة عن ابن عباس وليس فيه ذكر اليهود فهذا هو المحفوظ لان الآية مكية واليهود لا يحبون الميتة.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ولا تأكلوا مما لم يذكر
اسم الله عليه " إلى قوله " ليجادلوكم " قال: يوحي الشياطين إلى أوليائهم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل
الله؟ وفي بعض ألفاظه عن ابن عباس أن الذي قتلتم ذكر اسم الله عليه وأن الذي قد مات لم يذكر اسم الله
عليه وقال ابن جريج: قال عمرو بن دينار عن عكرمة إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم وكاتبتهم فارس
فكتب فارس إليهم إن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكلونه وما
ذبحوه هم يأكلونه فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في أنفس ناس من المسلمين من
ذلك شئ فأنزل الله " وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون " ونزلت " يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا " وقال السدي في تفسير هذه الآية إن
المشركين قالوا للمسلمين كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضات الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟
فقال الله تعالى " وإن أطعتموهم " في أكل الميتة " إنكم لمشركون " وهكذا قاله مجاهد والضحاك وغير واحد
من علماء السلف.
وقوله تعالى " وإن أطعتموهم إنكم لمشركون " أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم
177

عليه غيره فهذا هو الشرك كقوله تعالى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " الآية. وقد روى الترمذي
في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله ما عبدوهم فقال " بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم
الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم ".
أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك
زين للكافرين ما كانوا يعملون (122)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا أي في الضلالة هالكا حائرا فأحياه الله أي أحيا قلبه بالايمان
وهداه له ووفقه لاتباع رسله " وجعلنا له نورا يمشي به في الناس " أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به
والنور هو القرآن كما رواه العوفي وابن أبي طلحة عن ابن عباس وقال السدي: الاسلام والكل صحيح " كمن
مثله في الظلمات " أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة " ليس بخارج منها " أي لا يهتدي إلى منفذ ولا
مخلص مما هو فيه وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش
عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " كما قال تعالى " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم
فيها خالدون " وقال تعالى " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " وقال
تعالى " مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون " وقال تعالى " وما
يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الاحياء ولا الأموات إن الله يسمع
من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير " والآيات في هذا كثيرة ووجه المناسبة في ضرب
المثلين ههنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة " وجعل الظلمات والنور " وزعم بعضهم أن المراد بهذا
المثل رجلان معينان فقيل عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتا فأحياه الله وجعل له نورا يمشي به في الناس وقيل
عمار بن ياسر. وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل عمرو بن هشام لعنه الله. والصحيح أن الآية
عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر.
وقوله تعالى " كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون " أي حسنا لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدرا من الله
وحكمة بالغة لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
وكذلك جعلنا في كل قرية أكبر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون (123) وإذا جاءتهم
آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار
عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون (124)
يقول تعالى: وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل
الله وإلى مخالفتك وعداوتك كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة كما قال تعالى
" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين " الآية وقال تعالى " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها " الآية قيل معناه أمرناهم بالطاعة فخالفوا فدمرناهم وقيل أمرناهم أمرا قدريا كما قال ههنا
" ليمكروا فيها " وقوله تعالى " أكابر مجرميها ليمكروا فيها " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس " أكابر مجرميها
178

ليمكروا فيها " قال سلطنا شرارهم فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب. وقال مجاهد وقتادة " أكابر
مجرميها " عظماؤها قلت: وهكذا قوله تعالى " وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به
كافرون * وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " وقال تعالى " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية
من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " والمراد بالمكر ههنا دعاؤهم إلى
الضلالة بزخرف من المقال والفعال كقوله تعالى إخبارا عن قوم نوح " ومكروا مكرا كبارا " وكقوله تعالى " ولو
ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا
أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم
مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا "
الآية وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان قال: كل مكر في القرآن فهو عمل وقوله
تعالى " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " أي وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على
أنفسهم كما قال تعالى " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " وقال " ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا
ساء ما يزرون ". وقوله تعالى " وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " أي إذا
جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة قالوا " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله " أي حتى تأتينا الملائكة من
الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جل وعلا " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى
ربنا " الآية وقوله " الله أعلم حيث يجعل رسالته " أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه
كقوله تعالى " وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم * أهم يقسمون رحمة ربك " الآية
يعنون لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم " من القريتين " أي من مكة والطائف
وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغيا وحسدا وعنادا واستكبارا كقوله تعالى
مخبرا عنه " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا " وقال تعالى " وإذا رأوك
إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون " وقال تعالى " ولقد استهزئ
برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه وطهارة
بيته ومرباه ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه
الأمين " وقد اعترف بذلك رئيس الكفار أبو سفيان حين سأله هرقل ملك الروم وكيف نسبه فيكم؟ قال هو فينا ذو
نسب قال هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال لا - الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم
بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن مصعب حدثنا
الأوزاعي عن شداد أبي عمار عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن
الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة واصطفى من بنى كنانة قريشا واصطفى
من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاثسم " انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي وهو عبد الرحمن بن
عمرو إمام أهل الشام به نحوه. وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه " وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو نعيم
عن سفيان عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال: قال العباس
بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقو الناس فصعد المنبر فقال " من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله فقال
" أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فريقين فجعلني في
خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا، فأنا خيركم بيتا وخيركم
نفسا " صدق صلوات الله وسلامه عليه وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد وقلبت الأرض
179

مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم " رواه الحاكم والبيهقي. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو
بكر حدثنا عاصم عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: إن الله نظر في قلوب
العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فبعثه برسالته ثم نظر في قلوب
العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه
يقاتلون على دينه فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سئ. وقال
أحمد: حدثنا شجاع بن الوليد قال: ذكر قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
" يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك " قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله؟ قال " تبغض العرب
فتبغضني " وذكر ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية ذكر عن محمد بن منصور الجواز حدثنا سفيان عن أبي
حسين قال: أبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه فقال من هذا قالوا ابن عباس
ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " الله أعلم حيث يجعل رسالته "، وقوله تعالى " سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله
وعذاب شديد " الآية هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به
فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله صغار وهو الذلة الدائمة كما أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذلا يوم القيامة لما
استكبروا في الدنيا كقوله تعالى " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " أي صاغرين ذليلين
حقيرين وقوله تعالى " وعذاب شديد بما كانوا يمكرون " لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا وهو التلطف في
التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقا " ولا يظلم ربك أحدا " كما قال تعالى
" يوم تبلى السرائر " أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" ينصب لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان " والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر
خفيا لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علما منشورا على صاحبه بما فعل.
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد
في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون (125)
يقول تعالى: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك فهذه علامات على
الخير كقوله تعالى " أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه " الآية وقال تعالى " ولكن الله حبب
إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون " وقال ابن عباس
رضي الله عنهما في قوله " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " يقول تعالى يوسع قلبه للتوحيد والايمان
به وكذا قال أبو مالك وغير واحد وهو ظاهر. وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة
عن أبي جعفر قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المؤمنين أكيس؟ قال " أكثرهم ذكرا للموت وأكثرهم لما بعده
استعدادا " قال: وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " قالوا: كيف
يشرح صدره يا رسول الله؟ قال " نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح " قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال
" الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " وقال ابن جرير: حدثنا هناد
حدثنا قبيصة عن سفيان يعني الثوري عن عمرو بن مرة عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن قال: سئل
النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " فذكر نحو ما تقدم. وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن إدريس عن الحسن بن الفرات القزاز عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل الايمان
180

القلب انفسح له القلب وانشرح " قالوا: يا رسول الله هل لذلك من أمارة؟ قال " نعم الإنابة إلى دار الخلود
والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت " وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري حدثنا
المعتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة عن أبي جعفر فذكره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو
سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن مسعود قال: تلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " قالوا: يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال
" نور يقذف في القلب " قالوا: يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قال " نعم " قالوا: وما هي؟ قال:
الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت ".
وقال ابن جرير أيضا: حدثني هلال بن العلاء حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد حدثنا محمد بن مسلم عن أبي
عبد الرحمن عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح " قالوا: فهل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال " الإنابة إلى دار الخلود
والتنحي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل لقاء الموت " وقد رواه من وجه آخر عن ابن مسعود متصلا مرفوعا
فقال: حدثني ابن سنان القزاز حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي عن يونس عن عبد الرحمن بن عبيد بن عتبة عن
عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام " قالوا: يا رسول الله
وكيف يشرح صدره؟ قال " يدخل فيه النور فينفسح " قالوا: وهل لذلك علامة يا رسول الله؟ قال " التجافي عن
دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت " فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة
ومتصلة يشد بعضها بعضا والله أعلم.
وقوله تعالى " ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا " قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء والأكثرون ضيقا
بتشديد الياء وكسرها وهما لغتان كهين وهين وقرأ بعضهم حرجا بفتح الحاء وكسر الراء قيل بمعنى أثم قاله
السدي. وقيل بمعنى القراءة الأخرى حرجا بفتح الحاء والراء وهو الذي لا يتسع لشئ من الهدى ولا يخلص إليه
شئ ما ينفعه من الايمان ولا ينفذ فيه. وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا من الاعراب من أهل
البادية من مدلج عن الحرجة فقال هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شئ فقال
عمر رضي الله عنه: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شئ من الخير. وقال العوفي عن ابن عباس: يجعل الله
عليه الاسلام ضيقا والاسلام واسع وذلك حين يقول " ما جعل عليكم في الدين من حرج " يقول ما جعل عليكم
في الاسلام من ضيق وقال مجاهد والسدي: ضيقا حرجا شاكا. وقال عطاء الخراساني ضيقا حرجا أي ليس
للخير فيه منفذ وقال ابن المبارك عن ابن جريج ضيقا حرجا بلا إله إلا الله حتى يستطيع أن تدخل قلبه كأنما
يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جبير يجعل صدره ضيقا حرجا قال: لا يجد فيه مسلكا
إلا صعدا وقال السدي " كأنما يصعد في السماء " من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني " كأنما يصعد في السماء " يقول مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء. وقال
الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس " كأنما يصعد في السماء " يقول فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ
السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والايمان قلبه حتى يدخله الله في قلبه وقال الأوزاعي " كأنما يصعد
في السماء " كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: وهذا مثل
ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الايمان إليه يقول فمثله في امتناعه من قبول الايمان
وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه لأنه ليس في وسعه وطاقته وقال في قوله
" كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " يقول كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا كذلك
يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الايمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله وقال ابن أبي طلحة
181

عن ابن عباس: الرجس الشيطان وقال مجاهد: الرجس كل ما لا خير فيه وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:
الرجس العذاب.
وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون (126) * لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم
بما كانوا يعملون (127) لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها نبه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق
فقال تعالى " وهذا صراط ربك مستقيما " منصوب على الحال أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما
أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم كما تقدم في حديث الحارث عن علي في نعت القرآن: هو
صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم رواه أحمد والترمذي بطوله " قد فصلنا الآيات " أي
وضحناها وبيناها وفسرناها " لقوم يذكرون " أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله " لهم دار السلام "
وهى الجنة " عند ربهم " أي يوم القيامة وإنما وصف الله الجنة ههنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من
الصراط المستقيم المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفضوا إلى دار السلام " وهو
وليهم " أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم " بما كانوا يعملون " أي جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم
الجنة بمنه وكرمه.
ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس وقال أولياءهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض
وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم (128)
يقول تعالى: واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به " ويوم يحشرهم جميعا " يعني الجن وأولياءهم من
الانس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا
" يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس " أي يقول يا معشر الجن وسياق الكلام يدل على المحذوف ومعنى
قوله " قد استكثرتم من الانس " أي من إغوائهم وإضلالهم كقوله تعالى " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا
تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن أعبد وني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا
تعقلون " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس " يعني أضللتم
منهم كثيرا وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة " وقال أولياؤهم من الانس ربنا استمتع بعضنا ببعض " يعني أن
أولياء الجن من الانس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو الأشهب هوذة بن
خليفة حدثنا عوف عن الحسن في هذه الآية قال: استكثرتم من أهل النار يوم القيامة فقال أولياؤهم من الانس ربنا
استمتع بعضنا ببعض قال الحسن: وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الانس. وقال
محمد بن كعب في قوله " ربنا استمتع بعضنا ببعض " قال الصحابة في الدنيا. وقال ابن جريج: كان الرجل
في الجاهلية ينزل الأرض فيقول أعوذ بكبير هذا الوادي فذلك استمتاعهما فاعتذروا به يوم القيامة وأما استمتاع
الجن بالانس فإنه كان فيما ذكر ما ينال الجن من الانس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم فيقولون قد سدنا
الإنس والجن " وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا " قال السدي يعني الموت " قال النار مثواكم " أي مأواكم ومنزلكم
أنتم وإياهم وأولياؤكم " خالدين فيها " أي ماكثين فيها مكثا مخلدا إلا ما شاء الله قال بعضهم يرجع معنى
الاستثناء إلى البرزخ وقال بعضهم: هذا رد إلى مدة الدنيا وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها عند
182

قوله تعالى في سورة هود " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " وقد
روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث: حدثني معاوية بن
صالح عن علي بن أبي حاتم بن أبي طلحة عن ابن عباس قال " النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك
حكيم عليم " قال إن هذه الآية آية لا ينبغي لاحد أن يحكم على الله في خلقه ولا ينزلهم جنة ولا نارا.
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (129)
قال سعيد عن قتادة في تفسيرها إنما يولى الله الناس أعمالهم فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان والكافر
ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ليس الايمان بالتمني ولا بالتحلي واختاره ابن جرير وقال معمر عن قتادة في
تفسير الآية يولي الله بعض الظالمين بعضا في النار يتبع بعضهم بعضا وقال: مالك بن دينار قرأت في الزبور
إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ثم أنتقم من المنافقين جميعا وذلك في كتاب الله قول الله تعالى " وكذلك نولي
بعض الظالمين بعضا " وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا " قال
ظالمي الجن وظالمي الانس وقرأ " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " قال ونسلط ظلمة
الجن على ظلمة الانس. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد من طريق سعيد بن
عبد الجبار الكرابيسي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن ذر عن ابن مسعود مرفوعا " من أعان ظالما سلطه الله
عليه " وهذا حديث غريب وقال بعض الشعراء:
وما من يد إلا يد الله فوقها * ولا ظالم إلا سيبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الانس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن كذلك نفعل
بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم.
يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على
أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين (130)
وهذا أيضا مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة حيث يسألهم وهو أعلم هل بلغتهم الرسل رسالاته
وهذا استفهام تقرير " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم " أي من جملتكم والرسل من الانس فقط
وليس من الجن رسل كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف وقال ابن
عباس الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زعم أن في الجن رسلا
واحتج بهذه الآية الكريمة وفيه نظر لأنها محتملة وليست بصريحة وهي والله أعلم كقوله " مرج البحرين يلتقيان *
بينهما برزخ لا يبغيان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " إلى أن قال " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " ومعلوم أن
اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو وهذا واضح ولله الحمد وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن
جرير والدليل على أن الرسل إنما هم من الانس قوله تعالى " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من
بعده - إلى قوله - رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقوله تعالى عن إبراهيم
" وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب " فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ولم يقل أحد من الناس أن النبوة
كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته وقال تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا
أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " وقال " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى "
183

ومعلوم أن الجن تبع للانس في هذا الباب ولهذا قال تعالى إخبارا عنهم " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن
يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل
من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر
لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم * ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه
أولياء أولئك في ضلال مبين " وقد جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة
الرحمن وفيها قوله تعالى " سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقال تعالى في هذه الآية
الكريمة " يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا
شهدنا على أنفسنا " أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك وأن هذا اليوم كائن لا محالة وقال
تعالى " وغرتهم الحياة الدنيا " أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات
لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها " وشهدوا على أنفسهم " أي يوم القيامة " أنهم كانوا
كافرين " أي في الدنيا بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون (131 ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل
عما يعملون (132)
يقول تعالى " ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون " أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال
الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحدا بظلمه وهو لم تبلغه دعوة ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحدا إلا بعد
إرسال الرسل إليهم كما قال تعالى " وإن من قرية إلا خلا فيها نذير " وقال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا
أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " كقوله " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى " كلما ألقي فيها فوج
سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا " والآيات في هذا كثيرة قال الإمام أبو جعفر بن
جرير ويحتمل قوله تعالى " بظلم " وجهين: " أحدهما " " ذلك " من أجل " أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم "
أهلها بالشرك ونحوه " وهم غافلون " يقول إن لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولا ينبههم على
حجج الله عليهم وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير
" والوجه الثاني " " ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم " يقول لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير
بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك والله غير ظلام لعبيده ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله
أعلم.
قال: وقوله تعالى " ولكل درجات مما عملوا " أي ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله
يبلغه الله إياها ويثيبه بها إن خيرا فخير وإن شرا فشر قلت: ويحتمل أن يعود قوله " ولكل درجات مما عملوا "
أي من كافري الجن والإنس أي ولكل درجة في النار بحسبه كقوله " قال لكل ضعف " وقوله " الذين كفروا
وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون " " وما ربك بغافل عما يعملون " قال ابن
جرير: أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه
ومعادهم إليه.
وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين (133) إن
184

ما توعدون لات وما أنتم بمعجزين (134) قل يا قوم أعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون
له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (135)
يقول تعالى " وربك " يا محمد " الغني " أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه وهم الفقراء إليه في جميع
أحوالهم " ذو الرحمة " أي وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى " إن الله بالناس لرؤوف رحيم " " إن يشأ
يذهبكم " أي إذا خالفتم أمره " ويستخلف من بعدكم ما يشاء " أي قوما آخرين أي يعملون بطاعته " كما
أنشأكم من ذرية قوم آخرين " أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي
بعدها كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والاتيان بآخرين كما قال تعالى " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت
بآخرين وكان الله على ذلك قديرا " وقال تعالى " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن
يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ".
وقال تعالى " والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " وقال محمد بن
إسحاق عن يعقوب بن عتبة قال: سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين "
الذرية الأصل والذرية النسل وقوله تعالى " إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين " أي أخبرهم يا محمد أن الذي
يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة " وما أنتم بمعجزين " أي ولا تعجزون الله بل هو قادر على إعادتكم وإن
صرتم ترابا رفاتا وعظاما هو قادر لا يعجزه شئ وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها: حدثنا أبي حدثنا محمد بن المصفى
حدثنا محمد بن حسين عن أبي بكر بن أبي مريم عن عطاء بن أبي رباح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال " يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى والذي نفسي
بيده إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ".
وقوله تعالى " قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون " هذا تهديد شديد ووعيد أكيد أي
استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي كقوله " وقل
للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" على مكانتكم " ناحيتكم " فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " أي أتكون لي أو
لكم وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه أي فإنه تعالى مكنه في البلاد وحكمه في نواصي مخالفيه من
العباد وفتح له مكة وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوئه واستقر أمره على سائر جزيرة العرب وكذلك
اليمن والبحرين وكل ذلك في حياته ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله
عنهم أجمعين كما قال الله تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوى عزيز " وقال " إنا لننصر رسلنا
والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار " وقال
تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " وقال تعالى إخبارا عن رسله
" فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " وقال
تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا " الآية وقد
فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.
وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا
185

يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون (136)
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعا وكفرا وشركا وجعلوا لله شركاء وجزءا من خلقه وهو خالق كل
شئ سبحانه وتعالى ولهذا قال تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ " أي مما خلق وبرأ " من الحرث " أي من الزرع
والثمار " والانعام نصيبا " أي جزءا وقسما " فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " وقوله " فما كان لشركائهم
فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم " قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في
تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا فما كان من
حرث أو ثمرة أو شئ من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شئ فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه
للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شئ من الحرث
والثمر الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا: هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله وإن سبقهم الماء
الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام
فيجعلوه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله فقال الله تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا "
الآية وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية: كل شئ
يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه
وقرأ الآية حتى بلغ " ساء ما يحكمون " أي ساء ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولا القسم لان الله تعالى هو رب كل
شئ ومليكه وخالقه وله الملك وكل شئ له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه ثم لما
قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها كقوله جل وعلا " ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم
ما يشتهون " وقال تعالى " وجعلوا له من عباده جزأ إن الانسان لكفور مبين " وقال تعالى " ألكم الذكر وله
الأنثى " وقوله " تلك إذا قسمة ضيزى ".
وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه
فذرهم وما يفترون (137)
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا كذلك زينوا لهم قتل
أولادهم خشية الاملاق ووأد البنات خشية العار قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من
المشركين قتل أولادهم شركاؤهم زينوا لهم قتل أولادهم. وقال مجاهد: شركاؤهم شياطينهم يأمرونهم أن يئدوا
أولادهم خشية العيلة. وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات وأما ليردوهم فيهلكوهم وأما ليلبسوا
عليهم دينهم أي فيخلطون عليهم دينهم ونحو ذلك قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقتادة وهذا كقوله تعالى
" وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به " الآية وكقوله
" وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت " وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الاملاق وهو الفقر أو خشية الاملاق أن
يحصل لهم في تلف المال وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم
ذلك قوله تعالى " ولو شاء الله ما فعلوه " أي كان هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونا وله
الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسئلون " فذرهم وما يفترون " أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه
فسيحكم الله بينك وبينهم.
وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا ما نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله
186

عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون (138)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الحجر الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا. وكذلك قال
مجاهد والضحاك والسدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال قتادة " وقالوا هذه أنعام وحرث
حجر " تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ولم يكن من الله تعالى وقال ابن زيد بن
أسلم " حجر " إنما احتجروها لآلهتهم، وقال السدي " لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم " يقولون حرام أن
يطعم إلا من شئنا وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما
وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " وكقوله تعالى " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام
ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون " وقال السدي: أما الانعام التي حرمت ظهورها
فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وأما الانعام التي لا يذكرون اسم الله عليها لا إذا ولدوها ولا إن نحروها.
وقال أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال لي أبو وائل: أتدري ما في قوله " وأنعام حرمت ظهورها
وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها " قلت لا قال: هي البحيرة كانوا لا يحجون عليها. وقال مجاهد: كان من
إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شئ من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا
ولا إن عملوا شيئا " افتراء عليه " أي على الله وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه فإنه لم يأذن لهم
في ذلك ولا رضيه منهم " سيجزيهم بما كانوا يفترون " أي عليه ويسندون إليه.
وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم
إنه حكيم عليم (139)
قال أبو إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي الهذيل عن ابن عباس " وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا " فهو
اللبن كانوا يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم وكانت الشاة إذا ولدت ذكرا ذبحوه وكان للرجال دون النساء وإن
كانت أنثى تركت فلم تذبح وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء فنهى الله عن ذلك. وكذا قال السدي وقال
الشعبي: البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال وإن مات منها شئ أكله الرجال والنساء. وكذا قال عكرمة وقتادة
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال مجاهد في قوله " وقالوا ما في بطون هذه الانعام خالصة لذكورنا ومحرم
على أزواجنا " قال هي السائبة والبحيرة وقال أبو العالية ومجاهد وقتادة في قول الله " سيجزيهم وصفهم " أي
قولهم الكذب في ذلك يعني كقوله تعالى " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب. هذا حلال وهذا حرام
لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع " الآية " إنه حكيم " أي في أفعاله
وأقواله وشرعه وقدره " عليم " بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين (140)
يقول تعالى: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم وضيقوا
عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم
على الله وافترائهم كقوله " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم
187

نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن
أحمد بن إبراهيم حدثنا محمد بن أيوب حدثنا عبد الرحمن بن المبارك حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام
" قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا
مهتدين " وهكذا رواه البخاري منفردا في كتاب مناقب قريش من صحيحه عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم
عن أبي عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله اليشكري عن أبي بشر واسمه جعفر بن أبي وحشية عن إياس به.
* وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير
متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (141) ومن الانعام
حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين (142)
يقول تعالى مبينا أنه الخالق لكل شئ من الزروع والثمار والانعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم
الفاسدة وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراما وحلالا فقال " وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات "
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: معروشات مسموكات وفي رواية فالمعروشات ما عرش الناس وغير
معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات وقال عطاء الخراساني عن ابن عباس معروشات ما عرش من
الكرم وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم وكذا قال السدي وقال ابن جريج: متشابها وغير متشابه قال
متشابها في المنظر وغير متشابه في المطعم وقال محمد بن كعب " كلوا من ثمره إذا أثمر " قال من رطبه
وعنبه وقوله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " قال ابن جرير: قال بعضهم هي الزكاة المفروضة. حدثنا عمرو
حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن درهم قال: سمعت أنس بن مالك يقول " وآتوا حقه يوم حصاده " قال الزكاة
المفروضة. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وآتوا حقه يوم حصاده " يعني الزكاة المفروضة يوم يكال
ويعلم كيله وكذا قال سعيد بن المسيب وقال العوفي عن ابن عباس " وآتوا حقه يوم حصاده " وذلك أن
الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئا فقال الله تعالى " وآتوا حقه يوم حصاده " وذلك
أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه
من حديث محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن جابر بن عبد الله أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاذ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المسجد للمساكين وهذا إسناده جيد قوي وقال
طاوس وأبو الشعثاء وقتادة والحسن والضحاك وابن جريج هي الزكاة وقال الحسن البصري هي الصدقة من
الحب والثمار وكذا فال زيد بن أسلم وقال آخرون هو حق آخر سوى الزكاة وقال أشعث عن محمد بن
سيرين ونافع عن ابن عمر في قوله " وآتوا حقه يوم حصاده " قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة رواه ابن
مردويه. وروى عبد الله بن المبارك وغيره عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في قوله " وآتوا
حقه يوم حصاده " قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر وليس بالزكاة. وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين
طرحت لهم منه وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد " وآتوا حقه يوم حصاده " قال
عند الزرع يعطي القبضة وعند الصرام يعطي القبضة ويتركهم فيتبعون آثار الصرام وقال الثوري عن حماد عن
إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث وقال ابن المبارك عن شريك عن سالم عن سعيد بن جبير " وآتوا حقه
يوم حصاده " قال: كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته وفي حديث ابن لهيعة عن دراج
عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا " وآتوا حقه يوم حصاده " قال: ما سقط من السنبل رواه ابن مردويه
188

وقال آخرون: هذا شئ كان واجبا ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر حكاه ابن جرير عن ابن عباس
ومحمد بن الحنفية وإبراهيم النخعي والحسن والسدي وعطية العوفي وغيرهم واختاره ابن جرير رحمه الله
قلت: وفي تسمية هذا نسخا نظر لأنه فد كان شيئا واجبا في الأصل ثم إن فصل بيانه وبين مقدار المخرج
وكميته قالوا وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة فالله أعلم وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون
كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة " ن " " إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من
ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم " أي كالليل المدلهم سوداء محترقة " فتنادوا مصبحين * أن اغدوا على
حرثكم إن كنتم صارمين * فانطلقوا وهم يتخافتون * أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين * وغدوا على حرد " أي
قوة وجلد وهمة " قادرين * فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون * قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا
تسبحون * قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين * فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين *
عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون * كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ".
وقوله تعالى " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " قيل معناه لا تسرفوا في الاعطاء فتعطوا فوق المعروف وقال
أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئا ثم تباروا فيه وأسرفوا فأنزل الله " ولا تسرفوا " وقال ابن جريج نزلت
في ثابت بن قيس بن شماس جذ نخلا له فقال لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة
فأنزل الله تعالى " ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " رواه ابن جرير عنه وقال ابن جريج عن عطاء نهوا عن
السرف في كل شئ وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وقال السدي في قوله " ولا
تسرفوا " قال لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء. وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب في قوله " ولا تسرفوا "
قال لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم ثم اختار ابن جرير قول عطاء أنه نهى عن الاسراف في كل شئ ولا شك
أنه صحيح لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية حيث قال تعالى " كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده
ولا تسرفوا " أن يكون عائدا على الاكل أي لا تسرفوا في الاكل لما فيه من مضرة العقل والبدن كقوله تعالى
" كلوا واشربوا ولا تسرفوا " الآية وفي صحيح البخاري تعليقا " كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا
مخيلة " وهذا من هذا والله أعلم وقوله عز وجل " ومن الانعام حمولة وفرشا " أي وأنشأ لكم من الانعام ما هو
حمولة وما هو فرش قيل المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل والفرش الصغار منها كما قال الثوري عن
أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله حمولة ما حمل عليه من الإبل وفرشا الصغار من الإبل رواه
الحاكم وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه. وقال ابن عباس: الحمولة هي الكبار والفرش الصغار من الإبل
وكذا قال مجاهد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ومن الانعام حمولة وفرشا " أما الحمولة فالإبل
والخيل والبغال والحمير وكل شئ يحمل عليه وأما الفرش فالغنم واختاره ابن جرير قال: وأحسبه إنما
سمي فرشا لدنوه من الأرض وقال الربيع بن أنس والحسن والضحاك وقتادة وغيره: الحمولة الإبل والبقر
والفرش الغنم. وقال السدي: أما الحمولة فالإبل وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم وما حمل عليه
حمولة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون والفرش ما تأكلون وتحلبون: شاة لا تحمل
تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافا وفرشا. وهذا الذي قال عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن
يشهد له قوله تعالى " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم فمنها
ركوبهم ومنها يأكلون " وقال تعالى " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا
خالصا سائغا للشاربين " إلى أن قال " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين " وقال تعالى " الله
الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها
وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون " وقوله تعالى " كلوا مما رزقكم الله " أي من الثمار
189

والزروع والانعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقا لكم " ولا تتبعوا خطوات الشيطان " أي طريقه وأوامره كما اتبعها
المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار والزروع افتراء على الله " إنه لكم " أي إن الشيطان أيها
الناس لكم " عدو مبين " أي مبين ظاهر العداوة كما قال " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه
ليكونوا من أصحاب السعير " وقال تعالى " يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع
عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما " الآية وقال تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس
للظالمين بدلا " والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين
نبئوني بعلم إن كنتم صادقين (143) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه
أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن أفترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم
إن الله لا يهدى القوم الظالمين (144)
هذا بيان لجهل العرب قبل الاسلام فيما كانوا حرموا من الانعام وجعلوها أجزاء وأنواعا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاما
وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الانعام والزروع والثمار فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير
معروشات وأنه أنشأ من الانعام حمولة وفرشا. ثم بين أصناف الانعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن وسواد وهو
المعز ذكره وأنثاه وإلى إبل ذكورها وإناثها وبقر كذلك وأنه تعالى لم يحرم شيئا من ذلك ولا شيئا من أولادها بل
كلها مخلوقة لبني آدم أكلا وركوبا وحمولة وحلبا وغير ذلك من وجوه المنافع كما قال " وأنزل لكم من الانعام
ثمانية أزواج " الآية وقوله تعالى " أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " رد عليهم في قولهم " ما في بطون هذه
الانعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " الآية وقوله تعالى " نبئوني بعلم إن كنتم صادقين " أي أخبروني
عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك وقال العوفي
عن ابن عباس قوله " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين " فهذه أربعة أزواج " قل آلذكرين حرم أم
الأنثيين " يقول لم أحرم شيئا من ذلك " أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين " يعني هل يشتمل الرحم إلا على
ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعض وتحلون بعضا؟ " نبئوني بعلم إن كنتم صادقين " يقول تعالى: كله حلال.
وقوله تعالى " أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا " تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه
من ذلك " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم " أي لا أجد أظلم منه " إن الله لا يهدي
القوم الظالمين " وأول من دخل في هذه الآية عمرو بن لحي بن قمعة لأنه أول من غير دين الأنبياء وأول من سيب
السوائب ووصل الوصيلة وحمى الحامي كما ثبت ذلك في الصحيح.
قل لا أجد في ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو
فسقا أهل لغير الله به فمن أضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم (145)
يقول تعالى آمرا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " قل " يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله " لا
أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " أي آكل يأكله قيل معناه لا أجد شيئا مما حرمتم حراما سوى
هذه وقيل معناه لا أجد من الحيوانات شيئا حراما سوى هذه فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في
190

سورة المائدة وفي الأحاديث الواردة رافعا لمفهوم هذه الآية ومن الناس من يسمي هذا نسخا والأكثرون من
المتأخرين لا يسمونه نسخا لأنه من باب رفع مباح الأصل والله أعلم وقال العوفي عن ابن عباس " أو دما
مسفوحا " يعني المهراق وقال عكرمة في قوله " أو دما مسفوحا " لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما
تتبعه اليهود وقال حماد عن عمران بن جرير قال: سألت أبا مجلز عن الدم وما يتلطخ من الذبيح من الرأس وعن
القدر يرى فيها الحمرة فقال إنما نهى الله عن الدم المسفوح وقال قتادة: حرم من الدماء ما كان مسفوحا
فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به وقال ابن جرير: حدثنا المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن
يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسا والحمرة والدم يكونان
على القدر وقرأت هذه الآية صحيح غريب.
وقال الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن عبد الله إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر فقال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك
الحبر يعني ابن عباس وقرأ " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " الآية وكذا رواه البخاري
عن علي بن المديني عن سفيان به وأخرجه أبو داود من حديث ابن جريج عن عمرو بن دينار ورواه الحاكم
في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري كما رأيت وقال أبو بكر بن مردويه والحاكم في مستدركه: حدثنا
محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين حدثنا محمد بن شريك عن
عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا فبعث
الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو وقرأ
هذه الآية " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " الآية وهذا لفظ ابن مردويه ورواه أبو داود
منفردا به عن محمد بن داود بن صبيح عن أبي نعيم به وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم
يخرجاه وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال:
ماتت شاة لسودة بنت زمعة فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة قال " فلم لا أخذتم مسكها " قالت نأخذ
مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما قال الله " قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه
إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه فتنتفعوا به " فأرسلت فسلخت
مسكها فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها " رواه أحمد ورواه البخاري والنسائي من حديث الشعبي عن عكرمة
عن ابن عباس عن سودة بنت زمعة بذلك أو نحوه وقال سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن
عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه " قل لا أجد فيما
أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه " الآية فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال
" خبيث من الخبائث " فقال ابن عمر: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال ورواه أبو داود عن أبي ثور عن
سعيد بن منصور به.
وقوله تعالى " فمن اضطر غير باغ ولا عاد " أي فمن اضطر إلى أكل شئ مما حرم الله في هذه الآية الكريمة
وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان " فإن ربك غفور رحيم " أي غفور له رحيم به وقد تقدم تفسير هذه الآية في
سورة البقرة بما فيه كفاية والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من
تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك فأمر رسوله أن
يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم وإنما حرم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح
ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وما عدا ذلك فلم يحرم وإنما هو عفو مسكوت عنه فكيف تزعمون أنتم أنه حرام
ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا كما جاء النهي عن لحوم
191

الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء.
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو
ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون (146)
قال ابن جرير: يقول تعالى وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع
كالإبل والنعام والإوز والبط قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر "
وهو البعير والنعامة وكذا قال مجاهد والسدي في رواية وقال سعيد بن جبير: هو الذي ليس منفرج الأصابع.
وفي رواية عنه كل متفرق الأصابع ومنه الديك وقال قتادة في قوله " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر "
وكان يقال للبعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان. وفي رواية البعير والنعامة وحرم عليهم من الطير البط وشبهه
وكل شئ ليس بمشقوق الأصابع وقال ابن جريج عن مجاهد كل ذي ظفر قال النعامة والبعير شقاشقا قلت
للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاشقا؟ قال: كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم قال: وما انفرج أكلته. قال:
انفرجت قوائم البهائم والعصافير. قال فيهود تأكله قال ولم تنفرج قائمة البعير - خفه - ولا خف النعامة ولا قائمة
الوز فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ولا كل شئ لم تنفرج قائمته ولا تأكل حمار الوحش وقوله تعالى
" ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما " قال السدي: يعني الثرب وشحم الكليتين وكانت اليهود تقول إنه
حرمه إسرائيل فنحن نحرمه. وكذا قال ابن زيد وقال قتادة: الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إلا ما حملت ظهورهما " يعني ما علق بالظهر من الشحوم وقال السدي
وأبو صالح: الالية مما حملت ظهورهما. وقوله تعالى " أو الحوايا " قال الإمام أبو جعفر بن جرير: الحوايا
جمع واحدها حاوياء. وحاوية وحوية وهو ما تحوي من البطن فاجتمع واستدار وهي بنات اللبن وهي المباعر
وتسمى المرابض وفيها الأمعاء. قال ومعنى الكلام: ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت
ظهورهما وما حملت الحوايا. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أو الحوايا وهي المبعر. وقال مجاهد:
الحوايا المبعر والمربض وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وأبو مالك والسدي. وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم وغير واحد: الحوايا المرابض التي تكون فيها الأمعاء تكون وسطها وهي بنات اللبن وهي في كلام
العرب تدعى المرابض وقوله تعالى " أو ما اختلط بعظم " يعني إلا ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه
لهم وقال ابن جريج: شحم الالية ما اختلط بالعصعص فهو حلال وكل شئ في القوائم والجنب والرأس
والعين وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه قاله السدي وقوله تعالى " ذلك جزيناهم ببغيهم " أي هذا التضييق
إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا كما قال تعالى " فبظلم من الذي هادوا حرمنا
عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " وقوله " إنا لصادقون " أي وإنا لعادلون فيما جزيناهم
به وقال ابن جرير: وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم لا كما زعموا من أن
إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه والله أعلم. وقال عبد الله بن عباس: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
سمرة باع خمرا فقال: قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " لعن الله اليهود
حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن
ابن عباس عن عمر به. وقال الليث: حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: قال عطاء بن أبي رباح سمعت جابر بن
عبد الله يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول عام الفتح " إن الله ورسوله حرم بيع الخمر
والميتة والخنزير والأصنام " فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح
192

بها الناس فقال " لا هو حرام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند ذلك " قاتل الله اليهود إن
الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه " ورواه الجماعة من طرق عن يزيد بن أبي حميد به وقال
الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " قاتل الله اليهود
حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها " ورواه البخاري ومسلم جميعا عن عبد ان عن ابن المبارك عن يونس
عن الزهري به. وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن إسحاق حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا وهب حدثنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم كان قاعدا خلف المقام فرفع بصره إلى السماء فقال " لعن الله اليهود - ثلاثا - إن الله حرم عليهم
الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شئ إلا حرم عليهم ثمنه " وقال الإمام أحمد: حدثنا
علي بن عاصم أنبأنا خالد الحذاء عن بركة أبي الوليد أنبأنا ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى
آله وسلم قاعدا في المسجد مستقبلا الحجر فنظر إلى السماء فضحك فقال " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم
فباعوها وأكلوا أثمانها وإن الله إذا حرم على قوم أكل شئ حرم عليهم ثمنه " ورواه أبو داود من حديث خالد
الحذاء وقال الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم عن أسامة بن زيد قال: دخلنا على رسول الله صلى الله
عليه وعلى آله وسلم وهو مريض نعوده فوجدناه نائما قد غطى وجهه ببرد عدني فكشف عن وجهه وقال " لعن الله
اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها " وفي رواية " حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها " وفي لفظ
لأبي داود عن ابن عباس مرفوعا " إن الله إذا حرم أكل شئ حرم عليهم ثمنه ".
فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين (147)
يقول تعالى: فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم فقل " ربكم ذو رحمة واسعة "
وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله " ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين " ترهيب لهم في
مخالفتهم الرسول خاتم النبيين وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن كما قال تعالى في آخر
هذه السورة " وإن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم " وقال " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن
ربك لشديد العقاب " وقال تعالى " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم " وقال
تعالى " غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب " وقال " إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو
الغفور الودود " والآيات في هذا كثيرة جدا.
سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى
ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون (148) قل فلله الحجة
البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين (149) قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد
معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون (150)
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا فإن الله مطلع على ما هم
فيه من الشرك والتحريم لما حرموه وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الايمان ويحول بيننا وبين الكفر فلم يغيره فدل
على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك ولهذا قالوا " لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شئ " كما
في قوله تعالى " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم " الآية وكذلك الآية التي في النحل مثل هذه سواء قال
193

الله تعالى " كذلك كذب الذين من قبلهم " أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة
لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام وأذاق المشركين من أليم الانتقام
" قل هل عندكم من علم " أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه " فتخرجوه لنا " أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه
" إن تتبعون إلا الظن " أي الوهم والخيال والمراد بالظن ههنا الاعتقاد الفاسد " وإن أنتم إلا تخرصون "
تكذبون على الله فيما ادعيتموه قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ولو شاء الله ما أشركنا " وقال " كذلك
كذب الذين من قبلهم " ثم قال " ولو شاء الله ما أشركوا " فإنهم قالوا عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زلفى فأخبرهم
الله أنها لا تقربهم فقوله " ولو شاء الله ما أشركوا " يقول تعالى لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين وقوله
تعالى " قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين " يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " قل " لهم يا محمد " فلله
الحجة البالغة " أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل " فلو شاء لهداكم
أجمعين " فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره وهو مع ذلك يرضي عن المؤمنين ويبغض الكافرين كما قال تعالى
" ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وقال تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض " وقوله " ولو شاء ربك
لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من
الجنة والناس أجمعين " قال الضحاك: لا حجة لاحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده وقوله تعالى
" قل هلم شهداءكم " أي أحضروا شهداءكم " الذين يشهدون أن الله حرم هذا " أي هذا الذي حرمتموه
وكذبتم وافتريتم على الله فيه " فإن شهدوا فلا تشهد معهم " أي لانهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبا وزورا
" ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون " أي يشركون به ويجعلون له
عديلا.
* قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن
نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم
وصاكم به لعلكم تعقلون (151)
قال داود الأودي عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: من أراد أن ينظر إلى وصية
رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا - إلى
قوله - لعلكم تتقون " وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا بكر بن محمد الصيرفي عن عروة حدثنا عبد الصمد بن
الفضل حدثنا مالك بن إسماعيل المهدي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة قال: سمعت ابن
عباس يقول في الانعام آيات محكمات هن أم الكتاب ثم قرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " الآيات
ثم قال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه. قلت ورواه زهير وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق عن
عبد الله بن قيس عن ابن عباس به والله أعلم. وروى الحاكم أيضا في مسنده من حديث يزيد بن هارون عن
سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكم يبايعني على
ثلاث " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " حتى فرغ من الآيات " فمن وفى فأجره على
الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه
وإن شاء عفا عنه " ثم قال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وإنما اتفقا على حديث الزهري عن أبي إدريس عن أبي
عبادة " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا " الحديث وقد روى سفيان بن حسين كلا الحديثين فلا ينبغي أن
ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما والله أعلم. وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله
194

محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك
فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم " قل " لهم " تعالوا " أي هلموا واقبلوا " أتل ما حرم ربكم عليكم " أي
أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحيا منه وأمرا من عنده " ألا تشركوا به
شيئا " وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق وتقديره وأوصاكم " ألا تشركوا شيئا " ولهذا قال في آخر الآية
" ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " وكما قال الشاعر:
حج وأوصى بسليمى الا عبدا * أن لا ترى ولا تكلم أحدا
ولا يزل شرابها مبردا
وتقول العرب أمرتك أن لا تقوم وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئا من أمتك دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن
زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق؟ قال وإن زنى وإن سرق قلت وإن زنى وإن سرق؟
قال وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر " وفي بعض الروايات أن قائل ذلك إنا هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه
عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة وإن رغم أنف أبي ذر " فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث " وإن رغم أنف
أبي ذر " وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى " يا ابن آدم إنك ما
دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة
ما لم تشرك بي شيئا وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك " ولهذا شاهد في
القرآن قال الله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " وفي صحيح مسلم عن ابن
مسعود " من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا وروى ابن مردويه من
حديث عبادة وأبي الدرداء " لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو صلبتم أو حرقتم " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
محمد بن عوف الحمصي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن عن يزيد بن قوذر
عن سلمة بن شريح عن عبادة بن الصامت قال: أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال " ألا تشركوا بالله شيئا وإن
حرقتم وقطعتم وصلبتم " رواه ابن أبي حاتم. وقوله تعالى " وبالوالدين إحسانا " أي وأوصاكم وأمركم بالوالدين
إحسانا أي أن تحسنوا إليهم كما قال تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقرأ بعضهم
" ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " أي أحسنوا إليهم والله تعالى كثيرا ما يقرن بين طاعته وبر
الوالدين كما قال " أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " فأمر
بالاحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما وقال تعالى " وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله
وبالوالدين إحسانا " الآية والآيات في هذا كثيرة وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال " الصلاة على وقتها " قلت ثم أي؟ قال " بر الوالدين " قلت ثم أي؟
قال " الجهاد في سبيل الله " قال ابن مسعود: حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني وروى الحافظ أبو
بكر بن مردويه بسنده عن أبي الدرداء وعن عبادة بن الصامت كل منهما يقول أوصاني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطع
والديك وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا فافعل " ولكن في إسناديهما ضعف والله أعلم. وقوله تعالى " ولا
تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم " لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد عطف على ذلك الاحسان
إلى الأبناء والأحفاد فقال تعالى " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم
الشياطين ذلك فكانوا يئدون البنات خشية العار وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار ولهذا ورد في
الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي الذنب
195

أعظم؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت ثم
أي؟ قال " أن تزاني حليلة جارك " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس
التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون " الآية وقوله تعالى " من إملاق " قال ابن عباس وقتادة والسدي وغيره: هو
الفقر أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل. وقال في سورة الإسراء " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " أي لا
تقتلوهم خوفا من الفقر في الآجل ولهذا قال هناك " نحن نرزقهم وإياكم " فبدأ برزقهم للاهتمام بهم أي لا
تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما هنا فلما كان الفقر حاصلا قال " نحن نرزقكم وإياهم " لأنه
الأهم ههنا والله أعلم وقوله تعالى " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " كقوله تعالى " قل إنما حرم
ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على
الله ما لا تعلمون " وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " وفي الصحيحين عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما
بطن " وقال عبد الملك بن عمير عن وراد عن مولاه المغيرة قال: قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلا
لضربته بالسيف غير مصفح فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد والله
أغير مني من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن " أخرجاه وقال كامل أبو العلاء عن أبي صالح عن
أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله إنا نغار قال " والله إني لاغار والله أغير مني ومن غيرته نهى عن الفواحش " رواه
ابن مردويه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ومر على شرط الترمذي فقد روي بهذا السند " أعمار
أمتي ما بين الستين إلى السبعين " وقوله تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " وهذا مما نص تبارك
وتعالى عن النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن فقد جاء في الصحيحين
عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله
وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة " وفي لفظ لمسلم
" والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم " وذكره قال الأعمش فحدثت به إبراهيم فحدثني عن الأسود عن
عائشة بمثله وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم إلا
بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم ورجل قتل متعمدا فيقتل ورجل يخرج من الاسلام وحارب الله ورسوله
فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " وهذا لفظ النسائي. وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه
قال وهو محصور: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد
إسلامه أو زنى بعد إحصانه أو قتل نفسا بغير نفس " فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ولا تمنيت أن لي
بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ولا قتلت نفسا فبم تقتلوني؟. رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن
ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل
الحرب فروى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا " من قتل معاهدا لم يرح
رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما " وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قتل
معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا "
رواه ابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح وقوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " أي هذا مما وصاكم به
لعلكم تعقلون عن الله أمره ونهيه.
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا
إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون (154)
196

قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي
أحسن " و " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما " الآية فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه
من شرابه فجعل يفضل الشئ فيحبس له حتى يأكله ويفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل
الله " ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم " قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم
وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود وقوله تعالى " حتى يبلغ أشده " قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف
يعني حتى يحتلم. وقال السدي: حتى يبلغ ثلاثين سنة وقيل أربعون سنة وقيل ستون سنة قال وهذا كله
بعيد ههنا والله أعلم. وقوله تعالى " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " يأمر تعالى بإقامة العدل في الاخذ والاعطاء
كما توعد على تركه في قوله تعالى " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم
يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين " وقد أهلك الله أمة من الأمم
كانوا يبخسون المكيال والميزان وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي من حديث الحسين بن قيس أبي علي
الرحبي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان " إنكم وليتم
أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم " ثم قال لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث.
وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن
الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنكم معشر الموالي قد بشركم الله
بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة المكيال والميزان " وقوله تبارك وتعالى " لا نكلف نفسا إلا وسعها " أي من
اجتهد في أداء الحق وأخذه فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه. وقد روى ابن مردويه من
حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها " فقال من أوفى على يده في
الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها هذا مرسل غريب وقوله " وإذا
قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى " كقوله " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط " الآية وكذا التي
تشبهها في سورة النساء يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في
كل وقت وفي كل حال وقوله " وبعهد الله أوفوا " قال ابن جرير: يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا
وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله وذلك هو الوفاء بعهد الله " ذلكم وصاكم به
لعلكم تذكرون " يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه " لعلكم تذكرون " أي تتعظون
وتنتهون مما كنتم فيه قبل هذا وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها.
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون (153)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وفي قوله " أن أقيموا
الدين ولا تتفرقوا فيه " ونحو هذا في القرآن قال أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة
وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا قاله مجاهد وغير واحد وقال
الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر شاذان حدثنا أبو بكر هو ابن عياش عن عاصم هو ابن أبي النجود
عن أبي وائل عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا بيده ثم قال " هذا سبيل الله
مستقيما " وخط عن يمينه وشماله ثم قال " هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه " ثم قرأ " وأن
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وكذا رواه الحاكم عن الأصم عن أحمد بن
عبد الجبار عن أبي بكر بن عياش به وقال صحيح ولم يخرجاه وهكذا رواه أبو جعفر الرازي وورقاء وعمرو بن
197

أبي قيس عن عاصم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود مرفوعا به نحوه وكذا رواه يزيد بن هارون
ومسدد والنسائي عن يحيى بن حبيب بن عربي وابن حبان من حديث ابن وهب أربعتهم عن حماد بن زيد عن
عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به وكذا رواه ابن جرير عن المثنى عن الحماني عن حماد بن زيد به
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق عن إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد به
كذلك وقال صحيح ولم يخرجاه وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم من حديث أحمد بن عبد الله بن
يونس عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود به مرفوعا وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن
مردويه من حديث يحيى الحماني عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر به فقد صححه الحاكم كما رأيت في
الطريقين ولعل هذا الحديث عن عاصم بن أبي النجود عن زر وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن
مسعود به والله أعلم وقال الحاكم: وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر من غير وجه معتمد. يشير
إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد وعبد بن حميد جميعا واللفظ لأحمد حدثنا عبد الله بن محمد وهو أبو بكر بن أبي
شيبة أنبأنا أبو خالد الأحمر عن مجاهد عن الشعبي عن جابر قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطا هكذا أمامه
فقال " هذا سبيل الله " وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال " هذه سبل الشيطان " ثم وضع يده في الخط
الأوسط ثم تلا هذه الآية " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم
به لعلكم تتقون " ورواه أحمد وابن ماجة في كتاب السنة من سننه والبزار عن أبي سعيد عبد الله بن سعيد عن أبي
خالد الأحمر به قلت ورواه الحافظ ابن مردويه من طريقين عن أبي سعيد الكندي حدثنا أبو خالد عن مجاهد عن
الشعبي عن جابر قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا وخط عن يمينه خطا وخط عن يساره خطا ووضع يده على الخط
الأوسط وتلا هذه الآية " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " ولكن العمدة على حديث ابن مسعود مع ما فيه من
الاختلاف إن كان مؤثرا وقد روي موقوفا عليه قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا محمد بن
ثور عن معمر عن أبان بن عثمان أن رجلا قال لابن مسعود ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه
وطرفه في الجنة وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ثم رجال يدعون من مر بهم فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به
إلى النار ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " الآية وقال ابن مردويه: حدثنا محمد بن عبد الوهاب حدثنا آدم حدثنا
إسماعيل بن عياش حدثنا أبان بن عياش عن مسلم بن أبي عمران عن عبد الله بن عمر سأل عبد الله عن الصراط
المستقيم فقال ابن مسعود تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة وذكر تمام الحديث كما تقدم والله أعلم.
وقد روى من حديث النواس بن سمعان نحوه قال الإمام أحمد حدثني الحسن بن سوار أبو العلاء حدثنا ليث
يعني ابن سعد عن معاوية بن صالح أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه عن أبيه عن النواس بن سمعان عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعن جنبي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب
ستور مرخاة وعلى باب الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ولا تفرقوا وداع يدعو من
فوق الصراط فإذا أراد الانسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط
الاسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من
فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم ". ورواه الترمذي والنسائي عن علي بن حجر زاد النسائي وعمرو بن
عثمان كلاهما عن بقية بن الوليد عن يحيى بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان
به وقال الترمذي حسن غريب وقوله تعالى " فاتبعوه ولا تتبعوا السبل " إنما وحد سبيله لان الحق واحد ولهذا
جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا
أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وقال ابن أبي حاتم
198

حدثنا أحمد بن سنان الواسطي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس
الخولاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث " ثم تلا " قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال " ومن وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص
منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا
عنه ".
ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون (154)
وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون (155)
قال ابن جرير " ثم آتينا موسى الكتاب " تقديره ثم قل يا محمد مخبرا عنا أنا آتينا موسى الكتاب بدلالة قوله " قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " قلت وفي هذا نظر و " ثم " ههنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب ههنا كما
قال الشاعر:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه * ثم قد ساد قبل ذلك جده
وههنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " عطف بمدح التوراة ورسولها فقال
" ثم آتينا موسى الكتاب " وكثيرا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة كقوله تعالى " ومن قبله كتاب موسى إماما
ورحمة وهذا كتاب مصدق لسان عربيا " وقوله أول هذه السورة " قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا
وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا " الآية. وبعدها " وهذا كتاب أنزلناه مبارك " الآية. وقال
تعالى مخبرا عن المشركين " فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى " قال تعالى " أو لم
يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون " وقال تعالى مخبرا عن الجن أنهم قالوا
" يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق " الآية وقوله تعالى " تماما
على الذي أحسن وتفصيلا " أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمام كاملا جامعا لما يحتاج إليه في شريعته كقوله
" وكتبنا له في الألواح من كل شئ " الآية. وقوله تعالى " على الذي أحسن " أي جزاء على إحسانه في العمل
وقيامه بأوامرنا وطاعتنا كقوله " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " وكقوله " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن
قال إني جاعلك للناس إماما " وكقوله " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " وقال أبو
جعفر الرازي عن الربيع بن أنس " ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن " يقول أحسن فيما أعطاه الله
وقال قتادة من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة واختار ابن جرير أن تقديره " ثم آتينا موسى الكتاب تماما "
على إحسانه فكأنه جعل الذي مصدرية كما قيل في قوله تعالى " وخضتم كالذي خاضوا " أي كخوضهم وقال ابن
رواحة.
وثبت الله ما آتاك من حسن * في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين قال ابن جرير وذكر عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها تماما على الذين
أحسنوا وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد تماما على الذي أحسن قال على المؤمنين والمحسنين وكذا قال أبو
عبيدة وقال البغوي المحسنون الأنبياء والمؤمنون. يعني أظهرنا فضله عليهم قلت كقوله تعالى " قال يا موسى إني
اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي " ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام
لأدلة أخرى. قال ابن جرير: وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرؤها تماما على الذي أحسن
رفعا بتأويل على الذي هو أحسن ثم قال وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها وإن كان لها في العربية وجه صحيح وقيل
199

معناه تماما على إحسان الله زيادة على ما أحسن إليه حكاه ابن جرير والبغوي ولا منافاة بينه وبين القول الأول وبه
جمع ابن جرير كما بيناه ولله الحمد وقوله تعالى " وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة " فيه مدح لكتابه الذي أنزله
الله عليه " لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون " فيه الدعوة إلى اتباع
القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في
الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين.
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين (156) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا
الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله
وصدف عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون (57)
قال ابن جرير معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا " إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا " يعني لينقطع عذركم
كقوله تعالى " ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك " الآية.
وقوله تعالى " على طائفتين من قبلنا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم اليهود والنصارى وكذا قال
مجاهد والسدي وقتادة وغير واحد وقوله " وإن كنا عن دراستهم لغافلين " أي وما كنا نفهم ما يقولون لانهم ليسوا
بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه وقوله " أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم " أي
وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه كقوله " وأقسموا بالله جهد
أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم " الآية. وهكذا قال ههنا " فقد جاءكم بينة من ربكم
وهدى ورحمة " يقول فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم النبي العربي قرآن عظيم فيه
بيان للحلال والحرام وهدى لما في القلوب ورحمة من الله بعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه وقوله تعالى
" فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها " أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره
بل صدف عن اتباع آيات الله أي صرف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة
وصدف عنها أعرض عنها وقول السدي ههنا فيه قوة لأنه قال " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها "
كما تقدم في أول السورة " وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم " وقال تعالى " الذين كفروا وصدوا
عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب " وقال في هذه الآمة الكريمة " سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء
العذاب بما كانوا يصدفون " وقد يكون المراد فيما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله
وصدف عنها " أي لا آمن بها ولا عمل بها كقوله تعالى " فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى " وغير ذلك من
الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ولكن كلام السدي أقوى وأظهر والله
أعلم لان الله قال " فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها " كقوله تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل
الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ".
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع
نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون (158)
يقول تعالى متوعدا للكافرين به والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله " هل ينظرون إلا أن تأتيهم
الملائكة أو يأتي ربك " وذلك كائن يوم القيامة " أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا
200

إيمانها " وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها كما قال البخاري في تفسير هذه الآية حدثنا
موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد حدثنا عمارة حدثنا أبو زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها " فذلك حين " لا
ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل " حدثنا إسحاق حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها " وفي
لفظ " فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل " ثم قرأ هذه
الآية. هكذا روى هذا الحديث من هذين الوجهين ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي
من طرق عن عمارة بن القعقاع بن شبرمة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة به.
وأما الطريق الثاني فرواه عن إسحاق غير منسوب وقيل هو ابن منصور الكوسج وقيل إسحاق بن نصر والله أعلم
وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع الجنديسابوري كلاهما عن عبد الرزاق به. وقد ورد هذا الحديث من طرق
أخر عن أبي هريرة كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن
أبي هريرة به وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن فضيل عن أبيه عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله تعالى عليه وآله وسلم " ثلاث إذا خرجن " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في
إيمانها خيرا " طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض " ورواه أحمد عن وكيع عن فضيل بن غزوان عن
أبي حازم سلمان عن أبي هريرة به وعنده والدخان. ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب عن
وكيع ورواه هو أيضا والترمذي من غير وجه عن فضيل بن غزوان به. ورواه إسحاق بن عبد الله القروي عن
مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه لضعف
القروي والله أعلم وقال ابن جرير حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا شعيب بن الليث عن أبيه عن جعفر بن ربيعه عن
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " لا تقوم
الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت
من قبل " الآية ورواه ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة به. ورواه وكيع عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم
عن أبي هريرة به أخرج هذه الطرق كلها الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره وقال ابن جرير حدثنا
الحسن بن يحيى أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها قبل منه " لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
" حديث آخر " عن أبي ذر الغفاري في الصحيحين وغيرهما من طرق عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي عن
أبيه عن أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " أتدري أين
تذهب الشمس إذا غربت؟ قلت لا أدري! قال " إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها
ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت وذلك حين " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من
قبل " ".
" حديث آخر " عن حذيفة بن أسيد بن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا سفيان
عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسد الغفاري قال: أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر
الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها والدخان
والدابة وخروج يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم وخروج الدجال وثلاثة خسوف: خسف
بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت
معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا ". وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة من حديث فرات القزاز عن
201

أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد به. وقال الترمذي حسن صحيح. " حديث آخر " عن حذيفة بن
اليمان رضي الله عنه قال الثوري عن منصور عن ربعي عن حذيفة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله ما
آية طلوع الشمس من مغربها؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " تطول تلك الليلة حتى تكون قدر ليلتين فينتبه
الذين كانوا يصلون فيها فيعملون كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا ترى قد غابت مكانها ثم يرقدون ثم يقومون
فيصلون ثم يرقدون ثم يقومون تبطل عليهم جنوبهم حتى يتطاول عليهم الليل فيفزع الناس ولا يصبحون فبينما هم
ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها فإذا رآها الناس آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم ". رواه ابن
مردويه وليس هو في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه والله أعلم.
" حديث آخر " عن أبي سعيد الخدري واسمه سعد بن مالك بن سنان رضي الله عنه وأرضاه قال الإمام أحمد
حدثنا وكيع حدثنا ابن أبي ليلى عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " يوم يأتي
بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها " قال طلوع الشمس من مغربها ". ورواه الترمذي عن سفيان بن وكيع عن أبيه
به وقال غريب. ورواه بعضهم ولم يرفعه وفي حديث طالوت بن عباد عن فضال بن جبير عن أبي أمامة صدي بن
عجلان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها ". وفي حديث عاصم بن أبي النجود
عن زر بن حبيش عن صفوان بن عسال قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله فتح بابا قبل المغرب عرضه
سبعون عاما للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ". رواه الترمذي وصححه النسائي وابن ماجة من حديث طويل.
" حديث آخر " عن عبد الله بن أبي أوفى قال ابن مردويه حدثنا محمد بن علي بن دحيم حدثنا أحمد بن حازم
حدثنا ضرار بن صرد حدثنا ابن فضيل عن سليمان بن زيد عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليالي من لياليكم هذه فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون يقوم أحدهم فيقرأ
حزبه ثم ينام ثم يقوم فيقرأ حزبه ثم ينام فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم من بعض فقالوا ما هذا فيفزعون
إلى المساجد فإذا هم بالشمس قد طلعت حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها قال حينئذ
" لا ينفع نفسا إيمانها ". هذا حديث غريب من هذا الوجه وليس هو في شئ من الكتب الستة. " حديث آخر "
عن عبد الله بن عمرو قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا أبو حيان عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير
قال جلس ثلاثة من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه وهو يحدث عن الآيات يقول إن أولها خروج الدجال
قال فانصرفوا إلى عبد الله بن عمرو فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات فقال لم يقل مروان شيئا حفظت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحى فأيتهما كانت قبل
صاحبتها فالاخرى على أثرها " ثم قال عبد الله وكان يقرأ الكتب وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها
وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش وسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع حتى إذا بدا الله أن
تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فلم يرد عليها شئ ثم
استأذنت في الرجوع فلا يرد عليها شئ حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب وعرفت أنه إذا أذن لها في
الرجوع لم تدرك المشرق قالت رب ما أبعد المشرق من لي بالناس حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في
الرجوع فيقال لها من مكانك فاطلعي فطلعت على الناس من مغربها ثم تلا عبد الله هذه الآية " لا ينفع نفسا
إيمانها لم تكن آمنت من قبل " الآية وأخرجه مسلم في صحيحه وأبو داود وابن ماجة في سننيهما من حديث أبي
حيان التيمي واسمه يحيى بن سعيد بن حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير به. " حديث آخر عنه " قال
الطبراني حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان الرقي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زريق الحمصي حدثنا
عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار حدثنا ابن لهيعة عن يحيى بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن
عمرو بن العاص قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدا ينادي ويجهر إلهي مرني
202

أن أسجد لمن شئت قال فيجتمع إليه زبانيته فيقولون كلهم ما هذا التضرع فيقول إنما سألت ربي أن ينظرني إلى
الوقت المعلوم وهذا الوقت المعلوم قال ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا قال: فأول خطوة تضعها
بأنطاكيا فتأتي إبليس فتلطمه " هذا حديث غريب جدا وسنده ضعيف ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما عبد الله بن
عمرو يوم اليرموك فأما رفعه فمنكر والله أعلم " حديث آخر " عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية
ابن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين قال الإمام أحمد حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن
ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تنقطع
الهجرة ما دام العدو يقاتل " فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات والاخرى تهاجر إلى الله ورسوله ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ولا تزال
التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل ". هذا
الحديث حسن الاسناد ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة والله أعلم. " حديث آخر " عن ابن مسعود
رضي الله عنه قال عوف الاعرابي عن محمد بن سيرين حدثني أبو عبيدة عن ابن مسعود أنه كان يقول ما ذكر من
الآيات فقد مضى غير أربع طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض وخروج يأجوج ومأجوج. قال
وكان يقول الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ألم تر أن الله يقول " يوم يأتي بعض آيات ربك "
الآية كلها يعني طلوع الشمس من مغربها. حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه
في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه عن ابن عباس مرفوعا فذكر حديثا طويلا
غريبا منكرا رفعه وفيه أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ من المغرب مقرونين وإذا انتصفا السماء رجعا ثم عادا
إلى ما كانا عليه. وهو حديث غريب جدا بل منكر بل موضوع إن ادعي أنه مرفوع فأما وقفه على ابن عباس أو
وهب بن منبه وهو الأشبه فغير مرفوع والله أعلم وقال سفيان عن منصور عن عامر عن عائشة رضي الله عنها
قالت: إذا خرج أول الآيات طرحت وحبست الحفظة وشهدت الأجساد على الأعمال رواه ابن جرير رحمه الله
تعالى فقوله تعالى " لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل " أي إذا أنشأ الكافر إيمانا يومئذ لا يقبل منه فأما
من كان مؤمنا قبل ذلك فإن كان مصلحا في عمله فهو بخير عظيم وإن لم يكن مصلحا فأحدث توبة حينئذ لم تقبل
منه توبته كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة وعليه يحمل قوله تعالى " أو كسبت في إيمانها خيرا " أي ولا يقبل منها
كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك وقوله تعالى " قل انتظروا إنا منتظرون " تهديد شديد للكافرين
ووعيد أكيد لمن سوف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها
لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال " فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا
جاءتهم ذكراهم " وقوله تعالى " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم
إيمانهم لما رأوا بأسنا " الآية.
إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون (159)
قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى وقال العوفي عن ابن عباس قوله " إن
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " وذلك أن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا فلما بعث
محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ " الآية وقال ابن جرير حدثني
سعيد بن عمر السكوني حدثنا بقية بن الوليد كتب إلى عباد بن كثير حدثني ليث عن طاوس عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ) وليسوا منك
هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة ". لكن هذا إسناد لا يصح فإن عباد بن كثير متروك
203

الحديث ولم يختلق هذا الحديث ولكنه وهم في رفعه فإنه رواه سفيان الثوري عن ليث وهو ابن أبي سليم عن
طاوس عن أبي هريرة في الآية أنه قال نزلت في هذه الأمة وقال أبو غالب عن أبي أمامة في قوله " وكانوا
شيعا " قال هم الخوارج وروى عنه مرفوعا ولا يصح وقال شعبة عن مجالد عن الشعبي عن شريح عن عمر
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها " إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " قال: هم أصحاب
البدع ". وهذا رواه ابن مردويه وهو غريب أيضا ولا يصح رفعه والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله
وكان مخالفا له فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا
افتراق فمن اختلف فيه " وكانوا شيعا " أي فرقا كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات فإن الله تعالى قد برأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه وهذه الآية كقوله تعالى " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك "
الآية. وفي الحديث نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به
الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له والتسمك بشريعة الرسول المتأخر وما خالف ذلك فضلالات وجهالات
وآراء وأهواء والرسل براء منها كما قال الله تعالى " لست منهم في شئ " وقوله تعالى " إنما أمرهم إلى الله ثم
ينبئهم بما كانوا يفعلون " كقوله تعالى " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا
إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " الآية. ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى.
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا مثلها وهم لا يظلمون (160)
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى وهي قوله " من جاء بالحسنة فله خير منها " وقد وردت
الأحاديث مطابقة لهذه الآية كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا
الجعد أبو عثمان عن أبي رجاء العطاردي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه
تبارك وتعالى " إن ربكم عز وجل رحيم من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا إلى
سبعمائة إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله
عز وجل ولا يهلك على الله إلا هالك ". ورواه البخاري ومسلم والنسائي من حديث الجعد أبي عثمان به. وقال
أحمد أيضا حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يقول الله عز وجل من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ومن عمل سيئة
فجزاؤها مثلها أو أغفر ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة ومن اقترب
إلى شبرا اقتربت إليه ذراعا ومن اقترب إلي ذراعا اقتربت إليه باعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ". ورواه مسلم
عن أبي كريب عن أبي معاوية به وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش به. ورواه ابن ماجة عن
علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا شيبان حدثنا حماد حدثنا ثابت عن
أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فان عملها كتبت له
عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شئ فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة " واعلم أن تارك السيئة
الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام تارة يتركها لله فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية ولهذا
جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح فإنما تركها من جرائي أي من أجلي وتارة يتركها نسيانا
وذهولا عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيرا ولا فعل شرا وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في
أسبابها والتلبس بما يقرب منها فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا التقى
المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ". قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " إنه كان
حريصا على قتل صاحبه ". وقال الإمام أبو يعلى الموصلي حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا علي وحدثنا الحسن بن
204

الصباح وأبو خيثمة قالا حدثنا إسحاق بن سليمان كلاهما عن موسى بن عبيدة عن أبي بكر بن عبيد الله بن أنس عن
جده أنس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من هم بحسنة كتب الله له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة
لم تكتب عليه حتى يعملها فإن عملها كتبت عليه سيئة فإن تركها كتبت له حسنة يقول الله تعالى إنما تركها من
مخافتي " هذا لفظ حديث مجاهد يعني ابن موسى وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا
شيبان بن عبد الرحمن عن الركين بن الربيع عن أبيه عن عمه فلان بن عميلة عن خريم بن فاتك الأسدي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الناس أربعة والأعمال ستة فالناس موسع له في الدنيا والآخرة وموسع له في الدنيا مقتور عليه
في الآخرة ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة وشقي في الدنيا والآخرة والأعمال موجبتان ومثل بمثل
وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف فالموجبتان من مات مسلما مؤمنا لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ومن مات
كافرا وجبت له النار ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ومن هم
بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها ومن أنفق
نفقة في سبيل الله عز وجل كانت بسبعمائة ضعف ". ورواه الترمذي والنسائي من حديث الركين بن الربيع عن
أبيه عن بشير بن عميلة عن خريم بن فاتك به ببعضه والله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا
عبيد الله بن عمر القواريري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا حبيب بن المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " يحضر الجمعة ثلاثة نفر رجل حضرها بلغو فهو حظه منها ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله
فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ورجل حضرها بإنصات وسكون ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى
الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام " وذلك لان الله عز وجل يقول " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " " وقال
الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن مرثد حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي حدثني ضمضم بن زرعة
عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي
تليها وزيادة ثلاثة أيام. وذلك لان الله تعالى قال " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " وعن أبي ذر رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدهر كله ". رواه الإمام أحمد وهذا لفظه
والنسائي وابن ماجة والترمذي وزاد: " فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " اليوم
بعشرة أيام ". ثم قال هذا حديث حسن. وقال ابن مسعود " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " من جاء بلا إله إلا
الله ومن جاء بالسيئة يقول بالشرك. وهكذا جاء عن جماعة من السلف رضي الله عنهم أجمعين وقد ورد فيه
حديث مرفوع الله أعلم بصحته لكني لم أروه من وجه يثبت والأحاديث والآثار في هذا كثير جدا وفيما ذكر كفاية
إن شاء الله وبه الثقة.
قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (161) قل إن صلاتي
ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين (163)
يقول تعالى آمرا نبيه صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا
اعوجاج فيه ولا انحراف " دينا قيما " أي قائما ثابتا " ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " كقوله " ومن
يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه " وقوله " وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في
الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم " وقوله " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا
لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك
أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وليس يلزم من كونه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون
205

إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياما عظيما وأكملت له إكمالا تاما لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال
ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الاطلاق وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى
الخليل عليه السلام. وقد قال ابن مردويه حدثنا محمد بن عبد الله بن حفص حدثنا أحمد بن عصام حدثنا أبو داود
الطيالسي حدثنا شعبة أنبأنا سلمة بن كهيل سمعت ذر بن عبد الله الهمداني يحدث عن ابن أبزى عن أبيه قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال " أصبحنا على ملة الاسلام وكلمة الاخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا
وما كان من المشركين ". وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال " الحنيفية
السمحة ". وقال أحمد أيضا حدثنا سليمان بن داود حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة رضي الله عنها قالت: وضع رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ذقني على منكبه لأنظر إلى زفن
الحبشة حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه. قال عبد الرحمن عن أبيه قال: قال لي عروة إن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ " لتعلم يهود أن في ديننا فسحة إني أرسلت بحنيفية سمحة " أصل الحديث مخرج في
الصحيحين والزيادة لها شواهد من طرق عدة وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري ولله الحمد والمنة وقوله
تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون
غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له وهذا
كقوله تعالى " فصل لربك وانحر " أي أخلص له صلاتك وذبحك فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون
لها فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والاقبال بالقصد والنية والعزم على الاخلاص لله تعالى.
قال مجاهد في قوله " إن صلاتي ونسكي " النسك الذبح في الحج والعمرة. وقال الثوري عن السدي عن
سعيد بن جبير " ونسكي " قال ذبحي. وكذا قال السدي والضحاك وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف
حدثنا أحمد بن خالد الذهبي حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله
قال: ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد النحر بكبشين وقال حين ذبحهما " وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك
أمرت وأنا أول المسلمين وقوله عز وجل " وأنا أول المسلمين " قال قتادة أي من هذه الأمة وهو كما قال فإن جميع الأنبياء
قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الاسلام وأصله عبادة الله وحده لا شريك له كما قال " وما أرسلنا من قبلك من رسول
إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه " فإن توليتم فما سألتكم من أجر
إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين " وقال تعالى " ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه
نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين *
ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وقال يوسف عليه
السلام " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا
والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين " وقال موسى " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين *
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين * ونجنا برحمتك من القوم الكافرين " وقال تعالى " إنا
أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار " الآية. وقال تعالى
" وإذا أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " فأخبر تعالى أنه بعث رسله
بالاسلام ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضا إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم
التي لا تنسخ أبد الآبدين ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة. ولهذا قال عليه السلام " نحن
معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " فإن أولاد العلات هم الاخوة من أب واحد وأمهات شتى فالدين واحد وهو
عبادة الله وحده لا شريك له وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات كما أن إخوة الأخياف عكس هذا بنو الام
206

الواحدة من آباء شتى والاخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة والله أعلم وقد قال الإمام أحمد حدثنا أبو
سعيد حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون حدثنا عبد الله بن الفضل الهاشمي عن الأعرج عن عبيد الله بن أبي
رافع عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أذا كبر استفتح ثم قال " وجهت وجهي للذي فطر السماوات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي الله رب العالمين إلى آخر الآية - " اللهم
أنت الملك لا إله إلا أنت أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا لا يغفر
الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق ولا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها
إلا أنت. تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك " ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود
والتشهد وقد رواه مسلم في صحيحه.
قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شئ ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم
مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)
يقول تعالى " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه " أغير الله أبغي ربا " أي
أطلب ربا سواه " وهو رب كل شئ " يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري أي لا أتوكل إلا عليه ولا أنيب إلا
إليه لأنه رب كل شئ ومليكه وله الخلق والامر. ففي هذه الآية الامر بإخلاص التوكيل تضمنت التي قبلها
إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرا في القرآن كقوله تعالى مرشدا لعبادة أن
يقولوا له " إياك نعبد وإياك نستعين " وقوله " فاعبده وتوكل عليه " وقوله " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " وقوله
" رب المشرق والمغرب لا إله هو فاتخذه وكيلا " وأشباه ذلك من الآيات وقوله تعالى " ولا تكسب كل نفس
إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى " إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس
إنما تجازى بأعمالها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد وهذا من عدله
تعالى كما قال " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى " وقوله تعالي " فلا يخاف ظلما
ولا هضما " قال علماء التفسير: أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا تهضم بأن ينقص من حسناته
وقال تعالى " كل نفس بما كسبت رهينه إلا أصحاب اليمين " معناه كل نفس مرتهنة بعملها السئ إلا أصحاب
اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة علي ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور " والذين آمنوا واتبعتهم
ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ " أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في
الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال بل في أصل الايمان وما ألتناهم أي أنقصنا أولئك السادة
الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء
ببركة أعمالهم بفضله ومنته ثم قال " كل امرئ بما كسب رهين " أي من شر وقوله " ثم إلى ربكم مرجعكم
فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون " أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه فستعرضون ونعرض عليه
وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا كقوله " قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما
تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم ".
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب
وإنه لغفور رحيم (165)
207

يقول تعالى " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " أي جعلكم تعمرونها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن وخلفا
بعد سلف. قاله ابن زيد وغيره كقوله تعالى " ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون " وقوله تعالى
" ويجعلكم خلفاء الأرض " وقوله " إني جاعل في الأرض خليفة " وقوله " عسى ربكم أن يهلك عدوكم
ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " وقوله " ورفع بعضكم فوق بعض درجات " أي فاوت بينكم في
الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي والمناظر والاشكال والألوان وله الحكمة في ذلك كقوله تعالى " نحن
قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا " وقوله
" انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ".
وقوله تعالى " ليبلوكم فيما آتاكم " أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه
ويسأله عن شكره والفقير في فقره ويسأله عن صبره وفي صحيح مسلم من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون فاتقوا
الدنيا واتقوا النساء فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " وقوله تعالى " إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور
رحيم " ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله " وإنه لغفور رحيم " لمن والاه واتبع
رسله فيما جاؤوا به من خبر وطلب. وقال محمد بن إسحاق ليرحم العباد على ما فيهم. رواه ابن أبي حاتم وكثيرا
ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين كقوله " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم * وإن ربك
لشديد العقاب " وقوله " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم " إلى غير ذلك من
الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه وتارة
يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها وتارة بهما لينجع في كل بحسبه جعلنا الله ممن
أطاعه فيما أمر وترك ما عنه نهى وزجر وصدقه فيما أخبر إنه قريب مجيب سميع الدعاء جواد كريم وهاب.
وقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا زهير عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من
الجنة خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون " ورواه الترمذي عن
قتيبة عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء به. وقال حسن ورواه مسلم عن يحيي بن يحيى وقتيبة وعلي بن
حجر ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله الخلق كتب في
كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي ". وعنه أيضا قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " جعل الله
الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءا وأنزل في الأرض جزءا واحدا فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق
حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية من أن تصيبه ". رواه مسلم. آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة.
سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
المص (1) كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتبعوا ما أنزل
إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون (3)
قد تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه قال ابن جرير حدثنا
208

سفيان بن وكيع حدثنا أبي عن شريك عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى عن ابن عباس " المص " أنا الله
أفصل. وكذا قال سعيد بن جبير " كتاب أنزل إليك " أي هذا كتاب أنزل إليك أي من ربك " فلا يكن في صدرك
حرج منه " قال مجاهد وقتادة والسدي شك منه وقيل لا تتحرج به في إبلاغه والانذار به " فاصبر كما صبرا أولوا
العزم من الرسل " ولهذا قال " لتنذر به " أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين " وذكرى للمؤمنين " قال تعالى
مخاطبا للعالم " اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من
رب كل شئ ومليكه " ولا تتبعوا من دونه أولياء " أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم
عن حكم الله إلى حكم غيره " قليلا ما تذكرون " كقوله " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقوله " وإن تطع
أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الآية. وقوله " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ".
وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون (4) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن
قالوا إنا كنا ظالمين (5) فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين (6) فلنقصن عليهم بعلم وما كنا
غائبين (7)
يقول الله تعالى " وكم من قرية أهلكناها " أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي في الدنيا موصولا بذل الآخرة
كما قال تعالى " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وكقوله " فكأين
من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد " وقال تعالى " وكم أهلكنا من قرية
بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين " وقوله " فجاءها بأسنا بياتا أو هم
قائلون " أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته بياتا أي ليلا أو هم قائلون من القيلولة وهي الاستراحة وسط
النهار وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو كما قال " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل
القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " وقال " أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو
يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوف فإن
ربكم لرءوف رحيم " وقوله " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين " أي فما كان قولهم عند
مجئ العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا كقوله تعالى " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة - إلى
قوله - خامدين " قال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من قوله " ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم " حدثنا بذلك ابن حميد حدثنا جرير عن أبي سنان عن
عبد الملك بن ميسرة الزراد قال: قال عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هلك قوم حتى يعذروا من
أنفسهم " قال: قلت لعبد الملك كيف يكون ذاك قال فقرأ هذه الآية " فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن
قالوا إنا كنا ظالمين " وقوله " فلنسألن الذين أرسل إليهم " الآية. كقوله " ويوم يناديهم فيقول ماذا
أجبتم المرسلين " وقوله " يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب " فيسأل الله
الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته ولهذا قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " قال عما بلغوا وقال
ابن مردويه حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن حدثنا أبو سعيد الكندي حدثنا
المحاربي عن ليث عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالامام
يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده ". قال الليث
وحدثني ابن طاوس مثله ثم قرأ " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " وهذا الحديث مخرج في
209

الصحيحين بدون هذه الزيادة وقال ابن عباس في قوله " فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين " يوضع الكتاب يوم
القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون " وما كنا غائبين " يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من
قليل وكثير وجليل وحقير لأنه تعالى الشهيد على كل شئ لا يغيب عنه شئ ولا يغفل عن شئ بل هو العالم
بخائنة الأعين وما تخفي الصدور " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس
إلا في كتاب مبين ".
والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا
أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)
يقول تعالى " والوزن " أي للأعمال يوم القيامة " الحق " أي لا يظلم تعالى أحدا كقوله " ونضع الموازين القسط
ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " وقال تعالى " إن الله لا
يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " وقال تعالى " فأما من ثقلت موازينه فهو في
عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية * وما أدراك ما هيه * نار حامية ". وقال تعالي " فإذا نفخ في الصور
فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون * فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك
الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون ".
" فصل " والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل الأعمال وأن كانت أعراضا إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة
أجساما قال البغوي يروى نحو هذا عن ابن عباس كما جاء في الصحيح من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة
كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف. ومن ذلك في الصحيح قصة القرآن وإنه يأتي صاحبه في
صورة شاب شاحب اللون فيقول من أنت فيقول أنا القرآن الذي أسهرت ليلك وأظمأت نهارك. وفي حديث البراء
في قصة سؤال القبر " فيأتي المؤمن شاب حسن اللون طيب الريح فيقول من أنت؟ فيقول أنا عملك الصالح ".
وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق وقيل يوزن كتاب الأعمال كما جاء في حديث البطاقة في الرجل الذي يؤتى به
ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها لا إله إلا الله فيقول يا رب
وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى إنك لا تظلم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي بنحو من هذا وصححه وقيل يوزن صاحب
العمل كما في الحديث " يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة " ثم قرأ " فلا نقيم لهم
يوم القيامة وزنا " وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أتعجبون من دقة ساقيه والذي نفسي بيده لهما
في الميزان أثقل من أحد " وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا فتارة توزن الأعمال وتارة
توزن محالها وتارة يوزن فاعلها والله أعلم.
ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون (10)
يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما مكن لهم من أنه جعل الأرض قرارا وجعل فيها رواسي وأنهارا وجعل لهم فيها
منازل وبيوتا وأباح لهم منافعها وسخر لهم السحاب لاخراج أرزاقهم منها وجعل لهم فيها معايش أي مكاسب وأسبابا
يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك كقوله " وإن تعدوا نعمة
الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار " وقد قرأ الجميع معايش بلا همز إلا عبد الرحمن بن هرمز الأعرج فإنه
210

همزها والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز لان معايش جمع معيشة من عاش يعيش عيشا ومعيشة أصلها معيشة
فاستثقلت الكسرة على الياء فنقلت إلى العين فصارت معيشة فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال
فقيل معايش ووزنه مفاعل لان الياء أصلية في الكلمة بخلاف مدائن وصحائف وبصائر جمع مدينة وصحيفة
وبصيرة من مدن وصحف وأبصر فإن الياء فيها زائدة ولهذا تجمع على فعائل وتهمز لذلك والله أعلم.
ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين (11)
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس وما هو منطو عليه من
الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه فقال تعالى " ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا " وهذا كقوله تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون *
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب
وصوره بشرا سويا ونفخ فيه من روحه أمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الله تعالى وجلاله فسمعوا كلهم
وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين وقد تقدم الكلام على إبليس في أول سورة البقرة. وهذا الذين قررناه هو
اختيار ابن جرير أن المراد بذلك كله آدم عليه السلام. وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن منهال بن عمرو عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " قال خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام
النساء. رواه الحاكم. وقال صحيح على شرطهما ولم يخرجاه ونقل ابن جرير عن بعض السلف أيضا أن المراد
بخلقناكم ثم صورناكم الذرية.
وقال الربيع بن أنس والسدي وقتادة والضحاك في هذه الآية " ولقد خلقناكم ثم صورناكم " أي خلقنا آدم ثم صورنا
الذرية وهذا فيه نظر لأنه قال بعده " ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " فدل على أن المراد بذلك آدم وإنما قيل ذلك
بالجمع لأنه أبو البشر كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم " وظللنا عليكم الغمام
وأنزلنا عليكم المن والسلوى " والمراد بالآباء آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ولكن لما كان ذلك منة على الآباء
الذين هم أصل صار كأنه واقع على الأبناء وهذا بخلاف قوله " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " الآية.
فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة وصح هذا لان المراد من خلقنا الانسان الجنس
لا معينا والله أعلم.
قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين (12)
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " لا هنا زائدة وقال بعضهم زيدت لتأكيد
الجحد كقول الشاعر: ما إن رأيت ولا سمعت بمثله. فأدخل " إن " وهي للنفي على ما النافية لتأكيد النفي قالوا
وكذا هنا " ما منعك أن لا تسجد " مع تقدم قوله " لم يكن من الساجدين " حكاهما ابن جرير وردهما واختار أن
منعك مضمن معنى فعل آخر تقديره ما أحرجك وألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا. وهذا القول
قوي حسن والله أعلم. وقول إبليس لعنه الله " أنا خير منه " من العذر الذي هو أكبر من الذنب كأنه امتنع من الطاعة
لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه
بأنه خلق من نار والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف
العظيم وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص قوله تعالى " فقعوا له
ساجدين " فشذ من بين الملائكة لترك السجود فلهذا أبلس من الرحمة أي أويس من الرحمة فأخطأ قبحه الله في
211

قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضا فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت والطين محل النبات
والنمو والزيادة والاصلاح والنار من شأنها الاحراق والطيش والسرعة ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره
بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة وفي صحيح مسلم عن
عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم
مما وصف لكم ". هكذا رواه مسلم وقال ابن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن
مسعود حدثنا نعيم بن حماد حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله الملائكة من نور العرش وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ".
قلت لنعيم بن حماد أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير
الصحيح " وخلقت الحور العين من الزعفران " وقال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن كثير
عن ابن شوذب عن مطر الوراق عن الحسن في قوله " خلقتني من نار وخلقته من طين ". قال قاس إبليس وهو
أول من قاس إسناده صحيح وقال حدثني عمر بن مالك حدثنا يحيي بن سليم الطائفي عن هشام عن ابن سيرين
قال أول من قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقايس إسناد صحيح أيضا.
قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فأخرج إنك من الصاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم
يبعثون (14) قال إنك من المنظرين (15)
يقول تعالى مخاطبا لإبليس بأمر قدري كوني " فاهبط منها " أي بسبب عصيانك لامري وخروجك عن طاعتي فما
يكون لك أن تتكبر فيها قال كثير من المفسرين الضمير عائد إلى الجنة ويحتمل أن يكون عائدا إلى المنزلة التي هو
فيها في الملكوت الاعلى " فأخرج إنك من الصاغرين " أي الذليلين الحقيرين معاملة له بنقيض قصده ومكافأة
لمراده بضده فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين قال " أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من
المنظرين " أجابه تعالى إلى ما سأل لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا
معقب لحكمه " وهو سريع الحساب ".
قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم (16) ثم لاتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن
شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17)
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس " إلى يوم يبعثون " واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد فقال " فبما
أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم " أي كما أغويتني قال ابن عباس كما أضللتني وقال غيره كما أهلكتني
لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على " صراطك المستقيم " أي طريق الحق وسبيل
النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي وقال بعض النحاة الباء هنا قسمية كأنه يقول
فبأغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم. قال مجاهد صراطك المستقيم يعني الحق. وقال محمد بن سوقة
عن عون بن عبد الله يعني طريق مكة قال ابن جرير الصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك. " قلت " لما
روى الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا أبو عقيل يعني الثقفي عبد الله بن عقيل حدثنا موسى بن المسيب
أخبرني سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي الفاكه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الشيطان قعد لابن آدم
بطرقه فقعد له بطريق الاسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك قال فعصاه وأسلم " قال " قعد له بطريق
الهجرة فقال أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق
212

الجهاد وهو جهاد النفس والمال فقال: تقاتل فتقل فتنكح المرأة ويقسم المال قال فعصاه وجاهد ". وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة وإن قتل كان حقا على الله أن يدخله
الجنة وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة " وقوله " ثم
لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم " الآية. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ثم لآتينهم من بين أيديهم "
أشككهم في آخرتهم " ومن خلفهم " أرغبهم في دنياهم " وعن أيمانهم " أشبه عليهم أمر دينهم " وعن شمائلهم "
أشهى لهم المعاصي. وقال ابن أبي طلحة في رواية العوفي كلاهما عن ابن عباس أما من بين أيديهم فمن قبل
دنياهم وأما من خلفهم فأمر آخرتهم وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ومن خلفهم من أمر
الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها وعن شمائلهم زين لهم السيئات
والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها آتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول
بينك وبين رحمة الله. وكذا روى عن إبراهيم النخعي والحكم بن عيينة والسدي وابن جريج إلا أنهم قالوا من بين
أيديهم الدنيا ومن خلفهم الآخرة وقال مجاهد من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون ومن خلفهم وعن
شمائلهم حيث لا يبصرون واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر فالخير يصدهم عنه والشر يحسنه
لهم وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن
إيمانهم وعن شمائلهم " ولم يقل من فوقهم لان الرحمة تنزل من فوقهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
" ولا تجد أكثرهم شاكرين " قال موحدين وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم وقد وافق في هذا الواقع كما
قال تعالى " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم
من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ حفيظ ". ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من
تسلط الشيطان على الانسان من جهاته كلها كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا نصر بن علي حدثنا
عمرو بن مجمع عن يونس بن خباب عن ابن جبير بن مطعم يعني نافع بن جبير عن ابن عباس وحدثنا عمر بن
الخطاب يعني السجستاني حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن يونس بن
خباب عن ابن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو " اللهم إني أسألك العفو والعافية في
ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن
شمالي ومن فوقي وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي " تفرد به البزار وحسنه وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع
حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري حدثني جرير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم سمعت عبد الله بن عمر يقول لم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة
اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي اللهم احفظني من
بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي ". قال وكيع من
تحتي يعني الخسف. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث عبادة بن مسلم به وقال
الحاكم صحيح الاسناد.
قال اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين (18)
أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والابعاد والنفي عن محل الملا الاعلى بقوله " اخرج منها مذموما مدحورا " قال ابن
جرير أما المذموم فهو المعيب والذأم غير مشدد العيب يقال ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم ويتركون الهمز فيقول ذمته
أذيمه ذيما وذاما والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم. قال والمدحور المقصي وهو المبعد المطرود وقال
213

عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ما نعرف المذءوم والمذموم إلا واحدا وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس " اخرج منها مذموما مدحورا " قال مقيتا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن باس صغيرا مقيتا
وقال السدي مقيتا مطرودا وقال قتادة لعينا مقيتا وقال مجاهد منفيا مطرودا وقال الربيع بن أنس مذموما منفيا
والمدحور المصغر. وقوله تعالى " لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين " كقوله " قال اذهب فمن تبعك
منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك
وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى
بربك وكيلا ".
يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (19) فوسوس
لهما الشيطان ليبدي لهما ما ورى عنهما من سوأتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين
أو تكونا من الخالدين (20) وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين (21)
يذكر تعالى أنه أباح لآدم عليه السلام ولزوجته حواء الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة وقد
تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة فعند ذلك حسدهما الشيطان وسعى في المكر والوسوسة والخديعة ليسلبهما
ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن " وقال " كذبا وافتراء " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا
ملكين " أي لئلا تكونا ملكين أو خالدين ههنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما كقوله " قال يا آدم هل
أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " أي لئلا تكونا ملكين كقوله " يبين الله لكم أن تضلوا " أي لئلا تضلوا
" وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " أي لئلا تميد بكم. وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن " إلا إن
تكونا ملكين " بكسر اللام وقرأه الجمهور بفتحها " وقاسمهما " أي حلف لهما بالله " إني لكما لمن الناصحين "
فإني من قبلكما ههنا وأعلم بهذا المكان وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين كما قال خالد بن زهير بن عم
أبي ذؤيب.
وقاسمهم بالله جهدا لأنتم * ألذ من السلوى إذ ما نشوزها
أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقال قتادة في الآية حلف بالله إني خلقت
قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعان أرشدكما وكان بعض أهل العلم يقول من خدعنا بالله انخدعنا له.
فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما
ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين (22) قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا
وترحمنا لنكونن من الخاسرين (23)
قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة
سحوق كثير شعر الرأس فلما وقع فيما وقع فيه من الخطيئة بدت له عورته عند ذلك وكان لا يراها فانطلق هاربا في
الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة فقال لها أرسليني فقالت: إني غير مرسلتك فناداه ربه عز وجل يا
آدم أمني تفر قال يا رب إني استحيتك. وقد رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عن الحسن عن أبي بن كعب
عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والموقوف أصح إسنادا وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك أنبأنا
214

الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت الشجرة التي نهى الله عنها
آدم وزوجته السنبلة فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما " وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة " ورق التين يلزقان بعضه إلى بعض فانطلق آدم عليه السلام موليا في الجنة فعلقت
برأسه شجرة من الجنة فناداه الله يا آدم أمني تفر؟ قال لا ولكني استحيتك يا رب قال: أما كان لك فيما منحتك من
الجنة وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك قال: بلى رب ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدا يحلف بك كاذبا
قال وهو قول الله عز وجل " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ". قال فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال
العيش إلا كدا قال فأهبط من الجنة وكانا يأكلان منها رغدا فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب فعلم صنعة
الحديد وأمر بالحرث فحرث وزرع ثم سقى حتى إذا بلغ حصد ثم داسه ثم ذراه ثم طحنه ثم عجنه ثم خبزه ثم
أكله فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ. وقال الثوري عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس " وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " قال ورق التين صحيح إليه وقال مجاهد
جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال كهيئة الثوب وقال وهب بن منبه في قوله ينزع عنهما لباسهما قال
كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما لا يرى هذا عورة هذه ولا هذه عورة هذا فلما أكلا من الشجرة بدت لهما
سوآتهما. رواه ابن جرير بسند صحيح إليه وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال: قال آدم أي رب أرأيت
إن تبت واستغفرت قال: إذا أدخلك الجنة وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله النظرة فأعطى كل واحد منهما الذي
سأله وقال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أكل آدم من الشجرة قيل له لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها
قال: حواء أمرتني قال: فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرها ولا تضع إلا كرها قال فرنت عند ذلك حواء فقيل
لها الرنة عليك وعلى ولدك وقال الضحاك بن مزاحم في قوله " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن
من الخاسرين " هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه.
قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين (24) قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها
تخرجون (25)
قيل المراد بالخطاب في " اهبطوا " آدم وحواء وإبليس والحية ومنهم من لم يذكر الحية والله أعلم. والعمدة في
العداوة آدم وإبليس ولهذا قال تعالى في سورة طه قال " اهبطا منها جميعا " الآية. وحواء تبع لآدم والحية إن
كان ذكرها صحيحا فهي تبع لإبليس وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ويرجع حاصل تلك الأخبار
إلى الإسرائيليات والله أعلم بصحتها ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر
دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم وقوله " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " أي قرار
وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة قد جرى بها القلم وأحصاها القدر وسطرت في الكتاب الأول وقال ابن عباس
" مستقر " القبور وعنه قال " مستقر " فوق الأرض وتحتها رواهما ابن أبي حاتم وقوله " قال فيها تحيون وفيها
تموتون ومنها تخرجون " كقوله تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " يخبر تعالى أنه
جعل الأرض دارا لبني آدم مدة الحياة الدنيا فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي
يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله.
يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم
يذكرون (26)
215

يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس ستر العورات وهي السوآت والرياش والريش ما
يتجمل به ظاهرا فالأول من الضروريات والريش من التكملات والزيادات قال ابن جرير الرياش في كلام العرب
الأثاث وما ظهر من الثياب وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وحكاه البخاري عنه الرياش المال. وهكذا
قال مجاهد وعروة بن الزبير والسدي والضحاك وغير واحد وقال العوفي عن ابن عباس الريش اللباس والعيش
والنعيم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم الرياش الجمال وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا
أصبغ عن أبي العلاء الشامي قال لبس أبو أمامة ثوبا جديدا فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذي كساني ما أواري
به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم قال سمعت عمر بن الخطاب يقول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من استجد ثوبا
فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في حياتي ثم عمد إلى الثوب
الخلق فتصدق به كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حيا وميتا ". رواه الترمذي وابن ماجة من رواية
يزيد بن هارون عن أصبغ هو ابن زيد الجهني وقد وثقه يحيى بن معين وغيره وشيخه أبو العلاء الشامي لا يعرف
إلا بهذا الحديث ولكن لم يخرجه أحد والله أعلم وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا محمد بن عبيد حدثنا مختار بن
نافع التمار عن أبي مطر أنه رأى عليا رضي الله عنه أتى غلاما حدثا فاشترى منه قميصا بثلاثة دراهم ولبسه ما بين
الرسغين إلى الكعبين يقول حين لبسه الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي
فقيل هذا شئ ترويه عن نفسك أو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا شئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة
" الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي ". رواه الإمام أحمد وقوله تعالى
" ولباس التقوى ذلك خير " قرأ بعضهم ولباس التقوى بالنصب وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وذلك خير خبره
واختلف المفسرون في معناه فقال عكرمة يقال هو ما يلبسه المتقوم يوم القيامة رواه ابن أبي حاتم وقال زيد بن
علي والسدي وقتادة وابن جريج ولباس التقوى الايمان وقال العوفي عن ابن عباس العمل الصالح قال الديال بن
عمرو عن ابن عباس هو السمت الحسن في الوجه وعن عروة بن الزبير لباس التقوى خشية الله وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته فذاك لباس التقوى وكلها متقاربة ويؤيد ذلك
الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال حدثني المثنى حدثنا إسحاق بن الحجاج حدثني إسحاق بن إسماعيل عن
سليمان بن أرقم عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص فوهي
محلول الزر وسمعته يأمر بقتل الكلاب وينهى عن اللعب بالحمام ثم قال يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيرا
فخير وإن شرا فشر ". ثم قرأ هذه الآية " وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله " قال السمت
الحسن. هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم وفيه ضعف وقد روى الأئمة الشافعي وأحمد والبخاري
في كتاب الأدب من طرق صحيحة عن الحسن البصري أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب
وذبح الحمام يوم الجمعة على المنبر وأما المرفوع منه فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له
شاهدا من وجه آخر حيث قال حدثنا (1).
يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو
وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون (27)
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبينا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام في سعيه في إخراجه

(1) هكذا بالأصل.
216

من الجنة التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء والتسبب في هتك عورته بعد ما كانت مستورة عنه وما هذا إلا
عن عداوة أكيدة وهذا كقوله تعالى " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ".
وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا
تعلمون (28) قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون (29)
فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون (30)
قال مجاهد كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يقولون نطوف كما ولدتنا أمهاتنا فتضع المرأة على قبلها النسعة أو
الشئ وتقول.
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله
فأنزل الله " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها " الآية. قلت كانت العرب ما عدا قريشا لا
يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها وكانت
قريش وهم الحمس يطوفون في ثيابهم ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا
يتملكه أحد ومن لم يجد ثوبا جديدا ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل
على فرجها شيئا ليستره بعض الستر فتقول.
اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل وكان هذا شيئا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن
فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها
آباءنا والله أمرنا بها " فقال تعالى ردا عليهم " قل " أي يا محمد لمن ادعى ذلك " إن الله لا يأمر بالفحشاء " أي
هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك " أتقولون على الله ما لا تعلمون " أي أتسندون إلى الله
من الأقوال ما لا تعلمون صحته وقوله تعالى " قل أمر ربي بالقسط " أي بالعدل والاستقامة " وأقيموا وجوهكم عند
كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين " أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها وهي متابعة المرسلين المؤيدين
بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله وما جاءوا به من الشرائع وبالاخلاص له في عبادته فإنه تعالى لا يتقبل العمل
حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صوابا موافقا للشريعة وأن يكون خالصا من الشرك. وقوله تعالى " كما بدأكم
تعودون " إلى قوله " الضلالة " اختلف في معنى قوله " كما بدأكم تعودون " فقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " كما
بدأكم تعودون " يحييكم بعد موتكم. وقال الحسن البصري كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء
وقال قتادة " كما بدأكم تعودون " قال بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئا ثم ذهبوا ثم يعيدهم وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرا واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير وأيده بما رواه من حديث
سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج كلاهما عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال " يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا
علينا إنا كنا فاعلين ". وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث شعبة وفي حديث البخاري أيضا من
حديث الثوري به. وقال ورقاء بن إياس أبو يزيد عن مجاهد " كما بدأكم تعودون " قال يبعث المسلم مسلما
والكافر كافرا وقال أبو العالية " كما بدأكم تعودون " ردوا إلى علمه فيهم وقال سعيد بن جبير كما بدأكم تعودون
كما كتب عليكم تكونون وفي رواية كما كنتم عليه تكونون وقال محمد بن كعب القرظي في قوله تعالى " كما
217

بدأكم تعودون " من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ومن
ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كما أن السحرة عملوا بأعمال
أهل الشقاء ثم ثاروا إلى ما ابتدؤا عليه وقال السدي " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم
الضلالة " يقول " كما بدأكم تعودون " كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال كذلك تعودون وتخرجون من بطون
أمهاتكم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم
الضلالة " قال إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنا وكافرا كما قال " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن "
ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمنا وكافرا قلت ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري
" فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه
الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع
فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة ". وقال أبو القاسم البغوي حدثنا علي بن الجعد حدثنا
أبو غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل
الجنة وإنه من أهل النار وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة وإنما الأعمال بالخواتيم "
هذا قطعة من حديث البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مطرف المدني في قصة قزمان يوم أحد وقال ابن
جرير حدثني ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" تبعث كل نفس على ما كانت عليه ". وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجة من غير وجه عن الأعمش به ولفظه
" يبعث كل عبد على ما مات عليه " وعن ابن عباس مثله قلت ويتأيد بحديث ابن مسعود قلت ولابد من الجمع
بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية وبين قوله تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر
الناس عليها " وما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم " الحديث
ووجه الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال وإن كان قد فطر الخلق كلهم
على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره كما أخذ عليهم الميثاق بذلك وجعله في غرائزهم وفطرهم ومع هذا
قدر أن منهم شقيا ومنهم سعيدا " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " وفي الحديث " كل الناس يغدو
فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها ". وقدر الله نافذ في بريته فإنه هو " الذي قدر فهدى " و " الذي أعطى كل شئ
خلقه ثم هدى " وفي الصحيحين " فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة وأما من كان من
أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة " ولهذا قال تعالى " فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة " ثم علل ذلك
فقال " إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله " قال ابن جرير وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا
يعذب أحدا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها فيركبها عنادا منه لربه
فيها لأنه لو كان كذلك لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه مهتد وفريق الهدى فرق وقد فرق الله
تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية.
* يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31)
هذه الآية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة كما رواه مسلم والنسائي وابن
جرير واللفظ له من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانوا
يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء الرجال بالنهار والنساء بالليل وكانت المرأة تقول:
218

اليوم يبدو بعضه أو كله * وما بدا منه فلا أحله
فقال الله تعالى " خذوا زينتكم عند كل مسجد " وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " خذوا زينتكم عند كل
مسجد " الآية. قال كان رجال يطوفون بالبيت عراة فأمرهم الله بالزينة والزينة اللباس وهو ما يواري السوأة وما
سوى ذلك من جيد البز والمتاع فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد وهكذا قال مجاهد وعطاء وإبراهيم
النخعي وسعيد بن جبير وقتادة والسدي والضحاك ومالك عن الزهري وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها أنها
نزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة وقد روى الحافظ ابن مردويه من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي عن
قتادة عن أنس مرفوعا أنها نزلت في الصلاة في النعال ولكن في صحته نظر والله أعلم ولهذه الآية وما ورد في
معناها من السنة يستحب التجمل عند الصلاة ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد والطيب لأنه من الزينة والسواك لأنه
من تمام ذلك ومن أفضل اللباس البياض كما قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم حدثنا عبد الله بن عثمان بن
خيثم عن سعيد بن جبير وصححه عن ابن عباس مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البسوا من ثيابكم البياض فإنها
من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم وإن خير أكحالكم الاثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر ". هذا حديث جيد
الاسناد رجاله على شرط مسلم ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم به
وقال الترمذي حسن صحيح والإمام أحمد أيضا وأهل السنن بإسناد جيد عن سمرة بن جندب قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم "
وروى الطبراني بسند صحيح عن قتادة عن محمد بن سيرين أن تميما الداري اشترى رداء بألف وكان
يصلي فيه وقوله تعالى " وكلوا واشربوا " الآية. قال بعض السلف جمع الله الطب كله في نصف آية " وكلوا
واشربوا ولا تسرفوا " وقال البخاري قال ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف
ومخيلة وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن
عباس قال " أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة " إسناده صحيح وقال الإمام أحمد حدثنا بهز
حدثنا همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا
من غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده ". ورواه النسائي وابن ماجة من حديث قتادة عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مخيلة " وقال
الإمام أحمد حدثنا أبو المغيرة حدثنا سليمان بن سليم الكلبي حدثنا يحيى بن جابر الطائي سمعت المقدام بن معد
يكرب الكندي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما ملا ابن آدم وعاء شرا من بطنه حسب ابن آدم أكلات يقمن
صلبه فإن كان فاعلا لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه " ورواه النسائي والترمذي من طرق عن
يحيى بن جابر به وقال الترمذي حسن وفي نسخة حسن صحيح وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده
حدثنا سويد بن عبد العزيز حدثنا بقية عن يوسف بن أبي كثير عن نوح بن ذكوان عن الحسن عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ". ورواه الدارقطني في الافراد وقال هذا حديث
غريب تفرد به بقية وقال السدي كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ما أقاموا في الموسم فقال
الله تعالى لهم " كلوا واشربوا " الآية. يقول لا تسرفوا في التحريم وقال مجاهد أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما
رزقهم الله وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " ولا تسرفوا " يقول ولا تأكلوا حراما ذلك الاسراف وقال عطاء
الخراساني عن ابن عباس قوله " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " ففي الطعام والشراب وقال
ابن جرير وقوله " إنه لا يحب المسرفين " يقول الله تعالى " إن الله لا يحب المعتدين " حده في حلال أو حرام
الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم وذلك العدل الذي
أمر به.
219

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة
يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون (32)
يقول تعالى ردا على من حرم شيئا من المآكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله " قل " يا
محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم " من حرم زينة الله التي أخرج
لعباده " الآية أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا وإن شركهم فيها الكفار حبا في الدنيا فهي لهم
خاصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد من الكفار فإن الجنة محرمة على الكافرين قال أبو القاسم الطبراني حدثنا
أبو حصين محمد بن الحسين القاضي حدثنا يحيى الحماني حدثنا يعقوب القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله " قل من
حرم زينة الله التي أخرج لعباده " فأمروا بالثياب.
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون (33)
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أغير من
الله فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا أحد أحب إليه المدح من الله " أخرجاه في الصحيحين من
حديث سليمان بن مهران الأعمش عن شقيق عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود وتقدم الكلام على ما يتعلق
بالفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأنعام وقوله " والاثم والبغي بغير الحق " قال السدي أما الاثم فالمعصية
والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق وقال مجاهد الاثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه وحاصل ما
فسر به الاثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا وقوله تعالى " وأن
تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " أي تجعلوا له شركاء في عبادته " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " من
الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدا ونحو ذلك مما لا علم لكم به كقوله " فاجتنبوا الرجس من الأوثان " الآية.
ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (34) يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون
عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك
أصحاب النار هم فيها خالدون (36)
يقول تعالى " ولكل أمة " أي قرن وجيل " أجل فإذا جاء أجلهم " أي ميقاتهم المقدر لهم " لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون " ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته وبشر وحذر فقال " فمن اتقى
وأصلح " أي ترك المحرمات وفعل الطاعات " فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا
عنها " أي كذبت بها قلوبهم واستكبروا عن العمل بها " أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي ماكثون فيها
مكثا مخلدا.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم
220

رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا
كافرين (37)
يقول " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته " أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو
كذب بآياته المنزلة " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " اختلف المفسرون في معناه فقال العوفي
عن ابن عباس ينالهم ما كتب عليهم وكتب لمن كذب على الله أن
وجهه مسود وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول نصيبهم من الأعمال من عمل
خيرا جزى به ومن عمل شرا جزى به وقال مجاهد ما وعدوا به من خير وشر وكذا قال قتادة والضحاك وغير
واحد واختاره ابن جرير وقال محمد بن كعب القرظي " أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب " قال عمله ورزقه
وعمره وكذا قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا القول قوي في المعنى والسياق يدل عليه
وهو قوله " حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " ونظير المعنى في هذه الآية. كقوله " إن الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقوله " ومن كفر
فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا " الآية. وقوله " حتى
إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم " الآية. يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض
أرواحهم إلى النار يقولون لهم أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله
ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه قالوا " ضلوا عنا " أي ذهبوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا خيرهم " وشهدوا على
أنفسهم " أي أقروا واعترفوا على أنفسهم " أنهم كانوا كافرين ".
قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها
جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون (38)
وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون (39)
يقول تعالى مخبرا عما يقوله لهؤلاء المشركين به المفترين عليه المكذبين بآياته " ادخلوا في أمم " أي من أمثالكم
وعلى صفاتكم " قد خلت من قبلكم " أي من الأمم السالفة الكافرة " من الجن والإنس في النار " يحتمل أن
يكون بدلا من قوله في أمم ويحتمل أن يكون في أمم أي مع أمم وقوله " كلما دخلت أمة لعنت أختها " كما قال
الخليل عليه السلام " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض " الآية وقوله تعالى " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين
اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم
الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار " وقوله " حتى إذا اداركوا فيها جميعا " أي اجتمعوا فيها
كلهم " قالت أخراهم لأولاهم " أي أخراهم دخولا وهم الاتباع لأولادهم وهم المتبوعون لانهم أشد جرما من أتباعهم
فدخلوا قبلهم فيشكوهم الاتباع إلى الله يوم القيامة لانهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل فيقولون " ربنا هؤلاء
أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار " أي أضعف عليهم العقوبة كما قال تعالى " يوم تقلب وجوههم في النار يقولون
يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا * وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من
العذاب " الآية. وقوله " قال لكل ضعف " أي قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه كقوله " الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله زدناهم عذابا " الآية. وقوله " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " وقوله " ومن أوزار الذين يضلونهم
221

بغير علم " الآية " وقالت أولاهم لأخراهم " أي قال المتبوعون للاتباع " فما كان لكم علينا من فضل " قال السدي
فقد ضللتم كما ضللنا " فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال
محشرهم في قوله " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا
للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ
جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله
ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا
يعملون ".
إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط
وكذلك نجزي المجرمين (40) لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين (41)
قوله " لا تفتح لهم أبواب السماء " قيل المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء قاله مجاهد وسعيد بن جبير
ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس وكذا رواه الثوري عن ليث عن عطاء عن ابن عباس وقيل
المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء رواه الضحاك عن ابن عباس وقاله السدي وغير واحد ويؤيده ما قال
ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن المنهال هو ابن عمرو عن زاذان عن البراء أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر وأنه يصعد بها إلى السماء فيصعدون بها فلا تمر على ملا من الملائكة إلا قالوا ما
هذه الروح الخبيثة فيقولون فلان بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون
بابها له فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تفتح لهم أبواب السماء " الآية. هكذا رواه وهو قطعة من حديث
طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طرق عن المنهال بن عمرو به وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال
حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير
وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال " استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثا - ثم قال: إن
العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن
وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ ملك
الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان " قال " فتخرج
تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها
في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا
يمرون بها على ملا من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة فيقولون فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا
يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى
السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى
الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له
من ربك فيقول ربي الله فيقولان له ما دينك فيقول ديني الاسلام فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم فيقول
هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولان له وما عملك فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق
عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة فيأتيه من روحها " طيبها " ويفسح له في قبره
مد البصر قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت
توعد فيقول له من أنت فوجهك الوجه يجئ بالخير فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم
222

الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. " قال " وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل
إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند
رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط الله وغضب قال فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من
الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها
كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملا من الملائكة إلا قالوا ما هذه
الروح الخبيثة فيقولون فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا
فيستفتح فلا يفتح له ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم
الخياط " فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فتطرح روحه طرحا ثم قرأ " ومن
يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق " فتعاد روحه في جسده ويأتيه
ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما دينك فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان ما هذا
الرجل الذي بعث فيكم فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له
بابا إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح
الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر
فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة ". وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن
يونس بن خباب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة فذكر
نحوه وفيه حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك من السماء والأرض وكل ملك في السماء وفتحت له أبواب
السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج بروحه من قبلهم وفي آخره ثم يقيض له أعمى
أصم أبكم في يده مرزبة لو ضرب بها جبل كان ترابا فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز وجل كما كان
فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شئ إلا الثقلين قال البراء ثم يفتح له باب من النار ويمهد له فرش
من النار وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وابن جرير واللفظ له من حديث محمد بن
عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل
الصالح قالوا اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب أخرجي حميدة وابشري بروح وريحان ورب
غير غضبان فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقولان فلان فيقال فلان مرحبا بالنفس
الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان فيقال لها ذلك حتى
ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل وإذا كان الرجل السوء قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في
الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج فيقولون ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها
إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا فيقولون فلان فيقولون لا مرحبا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث
ارجعي ذميمة فإنه لم يفتح لك أبواب السماء فترسل بين السماء والأرض فتصير إلى القبر " وقد قال ابن جريج في
قوله " لا تفتح لهم أبواب السماء " لا تفتح لاعمالهم ولا لأرواحهم وهذا فيه جمع بين القولين والله أعلم وقوله
تعالى " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ". هكذا قرأه الجمهور وفسروه بأنه البعير قال ابن
مسعود هو الجمل ابن الناقة وفي رواية زوج الناقة وقال الحسن البصري حتى يدخل البعير في خرق الإبرة وكذا
قال أبو العالية والضحاك وكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس وقال مجاهد وعكرمة عن ابن
عباس أنه كان يقرؤها " يلج الجمل في سم الخياط " بضم الجيم وتشديد الميم يعني الحبل الغليظ في خرق الإبرة
وهذا اختيار سعيد بن جبير وفي رواية أنه قرأ حتى يلج الجمل يعني قلوس السفن وهي الحبال الغلاظ وقوله
" لهم من جهنم مهاد " قال محمد بن كعب القرظي " لهم من جهنم مهاد " قال الفرش " ومن فوقهم غواش " قال
اللحف وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي " وكذلك نجزي الظالمين ".
223

والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (42) ونزعنا
ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا
الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون (43)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال " والذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنت قلوبهم
وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد " أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها " نبه تعالى على أن الايمان
والعمل به سهل لأنه تعالى قال " لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون * ونزعنا ما في
صدورهم من غل " أي من حسد وبغض كما جاء في صحيح البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار
فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفسي بيده إن
أحدهم بمنزله في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا ". وقال السدي في قوله " ونزعنا ما في صدورهم من غل
تجري من تحتهم الأنهار " الآية إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها
عينان فشربوا من إحداهما فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم
نضرة النعيم فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدا وقد روى أبو إسحاق عن عاصم عن أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب نحوا من هذا كما سيأتي في قوله تعالى " وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا " إن شاء الله وبه الثقة
وعليه التكلان وقال قتادة قال علي رضي الله عنه إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله
تعالى فيهم " ونزعنا ما في صدورهم من غل " رواه ابن جرير وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن عيينة عن إسرائيل قال
سمعت الحسن يقول قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت " ونزعنا ما في صدورهم من غل ". وروى النسائي وابن
مردويه واللفظ له من حديث أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول لولا أن الله هداني فيكون له شكرا وكل أهل النار يرى
مقعده من الجنة فيقول لو أن الله هداني فيكون له حسرة ". ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا " أن
تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون " أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب
أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " واعلموا أن أحدكم لن يدخله
عمله الجنة " قالوا ولا أنت يا رسول الله قال " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ".
ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم
فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (44) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة
كافرون (45)
يخبر تعالى بما يخاطب به أهل النار على وجه التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم " أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا
حقا " " أن " ههنا مفسرة للقول المحذوف و " قد " للتحقيق أي قالوا لهم " قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما
وعد ربكم حقا قالوا نعم " كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار " فاطلع فرآه في
سواء الجحيم * قال تالله إن كدت لتردين * ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين * أفما نحن بميتين إلا موتتنا
224

الأولى وما نحن بمعذبين " أي ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال
وكذلك تقرعهم الملائكة يقولون لهم " هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون *
اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون " وكذلك قرع رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قتلى القليب يوم بدر فنادى " يا أبا جهل بن هشام ويا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة - وسمى
رؤوسهم - هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا " وقال عمر يا رسول الله تخاطب قوما قد
جيفوا فقال " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا ".
وقوله تعالى " فأذن مؤذن بينهم " أي أعلم معلم ونادى مناد " أن لعنة الله على الظالمين " أي مستقرة عليهم ثم
وصفهم بقوله " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا " أي يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما
جاءت به الأنبياء ويبغون أن يكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد " وهم بالآخرة كافرون " أي وهم
بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون أي جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به فلهذا لا يبالون بما يأتون
من منكر من القول والعمل لانهم لا يخافون حسابا عليه ولا عقابا فهم شر الناس أقوالا وأعمالا.
وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها
وهم يطمعون (46) * وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين (47)
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار نبه أن بين الجنة والنار حجابا وهو الحاجز المانع من وصول أهل
النار إلى الجنة قال ابن جرير وهو السور الذي قال الله تعالى " فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة
وظاهره من قبله العذاب " وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه " وعلى الأعراف رجال " ثم روى بإسناده عن السدي
أنه قال في قوله تعالى " وبينهما حجاب " هو السور وهو الأعراف وقال مجاهد الأعراف حجاب بين الجنة والنار
سور له باب قال ابن جرير والأعراف جمع عرف وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفا وإنما قيل
لعرف الديك عرفا لارتفاعه. حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن عيينة عن عبد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول
الأعراف هو الشئ المشرف. وقال الثوري عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال الأعراف سور كعرف الديك
وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه الأعراف جمع: تل بين الجنة والنار حبس عليه من أهل الذنوب
بين الجنة والنار وفي رواية عنه هو سور بين الجنة والنار وكذا قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير
وقال السدي إنما سمي الأعراف أعرافا لان أصحابه يعرفون الناس واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب
الأعراف من هم وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم نص عليه حذيفة وابن
عباس وابن مسعود وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو
بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا عبد بن الحسن حدثنا سليمان بن داود حدثنا النعمان بن
عبد السلام حدثنا شيخ لنا يقال له أبو عباد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم استوت حسناته وسيئاته فقال " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ". وهذا
حديث غريب من هذا الوجه ورواه من وجه آخر عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام عن محمد بن المنكدر عن
رجل من مزينة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته وعن أصحاب الأعراف فقال " إنهم قوم خرجوا
عصاة بغير إذن آبائهم فقتلوا في سبيل الله ". وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معشر حدثنا يحيي بن شبل عن
يحيى بن عبد الرحمن المزني عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال " هم ناس قتلوا في سبيل
الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ". ورواه ابن
225

مردويه وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن أبي معشر به وكذا رواه ابن ماجة مرفوعا من حديث أبي سعيد
الخدري وابن عباس والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.
وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن الشعبي عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف
قال: فقال " هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة وخلفت بهم حسناتهم عن النار
قال فوقفوا هنالك على السور حتى يقضي الله فيهم " وقد رواه من وجه آخر أبسط من هذا فقال حدثنا ابن حميد
حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال: قال الشعبي أرسل إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن
وعنده أ بو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى قريش فإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرا ليس كما ذكرا فقلت
لهما إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة فقالا هات فقلت إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال هم قوم تجاوزت
بهم حسناتهم النار وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة " فإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا
مع القوم الظالمين " فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم ربك فقال لهم اذهبوا فأدخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم.
وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال
يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته
بواحدة دخل النار ثم قرأ قول الله " فمن ثقلت موازينه " الآيتين ثم قال الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح قال ومن
استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا
إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أهل النار " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم
الظالمين " تعوذوا بالله من منازلهم قال فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم
ويعطى كل عبد يومئذ نورا وكل أمة نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة فلما رأى أهل الجنة
ما لقي المنافقون قالوا " ربنا أتمم لنا نورنا " وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع فهنالك يقول
الله تعالى " لم يدخلوها وهم يطمعون " فكان الطمع دخولا قال: فقال ابن مسعود إن العبد إذا عمل حسنة كتب
له بها عشر وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ثم يقول هلك من غلبت آحاده عشراته رواه ابن جرير وقال
أيضا حدثني ابن وكيع حدثنا ابن حميد قالا حدثنا جرير عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت عن عبد الله بن
الحارث عن ابن عباس قال: الأعراف السور الذي بين الجنة والنار وأصحاب الأعراف بذلك المكان حتى إذا بدأ
الله أن يعافيهم انطلق بهم إلى نهر يقال له نهر الحياة حافتاه قصب الذهب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك فألقوا فيه حتى
تصلح ألوانهم وتبدو في نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى
فقال " تمنوا ما شئتم " فيتمنون حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم " لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا "
فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها يسمون مساكين أهل الجنة. وكذا رواه ابن أبي حاتم عن
أبيه عن يحيى بن المغيرة عن جرير به وقد رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن مجاهد وعن
عبد الله بن الحارث من قوله وهذا أصح والله أعلم وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد وقال سعيد بن
داود حدثني جرير عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب
الأعراف قال " هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم
أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم ". وهذا مرسل حسن
وقيل هم أولاد الزنا حكاه القرطبي وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الوليد بن موسى عن شيبة بن عثمان عن
عروة بن رويم عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب فسألناه عن
ثوابهم وعن مؤمنيهم فقال على الأعراف وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم فسألناه وما الأعراف فقال حائط الجنة
تجري فيها الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار رواه البيهقي عن ابن بشران عن علي بن محمد المصري عن
يوسف بن يزيد عن الوليد بن موسى به وقال سفيان الثوري عن خصيف عن مجاهد قال أصحاب الأعراف قوم
226

صالحون فقهاء علماء. وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن سليمان التيمي عن أبي مجلز
في قوله تعالى " وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " قال هم رجال من الملائكة يعرفون
أهل الجنة وأهل النار قال " ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون * وإذا صرفت
أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين * ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم
بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون * أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " قال فيقال
حين يدخل أهل الجنة الجنة " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ". وهذا صحيح إلى أبي مجلز
لاحق بن حميد أحد التابعين وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق وقول الجمهور مقدم على قوله بدلالة
الآية على ما ذهبوا إليه وكذا قول مجاهد إنهم قوم صالحون علماء فقهاء فيه غرابة أيضا والله أعلم وقد حكى
القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها أنهم شهدوا أنهم صلحاء تهرعوا من فزع الآخرة وخلق يطلعون على أخبار
الناس وقيل هم أنبياء وقيل ملائكة وقوله تعالى " يعرفون كلا بسيماهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال
يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه وأهل النار بسواد الوجوه وكذا روى الضحاك عنه وقال العوفي عن ابن عباس
أنزلهم الله تلك المنزلة ليعرفوا في الجنة والنار وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم
الظالمين وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها وهم داخلوها إن شاء
الله وكذا قال مجاهد والضحاك والسدي والحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم وقال معمر عن
الحسن إنه تلا هذه الآية " لم يدخلوها وهم يطمعون " قال والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها
بهم وقال قتادة قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع وقوله " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا
تجعلنا مع القوم الظالمين " قال الضحاك عن ابن عباس إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم
قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. وقال السدي وإذا مروا بهم يعني بأصحاب الأعراف بزمرة يذهب بها إلى
النار قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين. وقال عكرمة تجدد وجوههم للنار فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب
ذلك عنهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار " فرأوا وجوههم
مسودة وأعينهم مزرقة " قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ".
ونادي أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون (48) أهؤلاء
الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (49)
يقول الله تعالى إخبارا عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم
" ما أغنى عنكم جمعكم " أي كثرتكم " وما كنتم تستكبرون " أي لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله
بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس يعني أصحاب الأعراف " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " وقال ابن جرير حدثني
محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم "
الآية. قال فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار قال الله لأهل
التكبر والأموال " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون "
وقال حذيفة إن أصحاب الأعراف قوم تكاثفت أعمالهم فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة وقصرت بهم سيئاتهم عن
النار فجعلوا على الأعراف يعرفون الناس بسيماهم فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة فأتوا آدم
فقالوا يا آدم أنت أبونا فاشفع لنا عند ربك فقال هل تعلمون أن أحدا خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وسبقت
رحمته إليه غضبه وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن
227

ائتوا ابني إبراهيم فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم فيقول تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا هل
تعلمون أن أحدا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون لا فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن
ائتوا ابني موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقول هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليما وقربه نجيا غيري فيقولون لا
فيقول ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم ولكن ائتوا عيسى فيأتونه عليه السلام فيقولون له اشفع لنا عند ربك
فيقول هل تعلمون أحدا خلقه الله من غير أب فيقولون لا فيقول هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص
ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال فيقولون لا فيقول أنا حجيج نفسي ما علمت كنهه ما أستطيع أن أشفع لكم
ولكن ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأضرب بيدي على صدري ثم أقول أنا لها ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش
فآتي ربي عز وجل فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ثم أسجد فيقال لي يا محمد ارفع رأسك
وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي ثم أثني على ربي عز وجل ثم أخر ساجدا فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه
واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول ربي أمتي فيقول هم لك فلا يبقى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا غبطني بذلك
المقام وهو المقام المحمود فآتي بهم الجنة فأستفتح فيفتح لي ولهم فيذهب بهم إلى نهر يقال له نهر الحيوان حافتاه
قصب مكلل باللؤلؤ ترابه المسك وحصباؤه الياقوت فيغتسلون منه فتعود إليهم ألوان أهل الجنة وريح أهل الجنة
فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ويبقي في صدورهم شامات بيض يعرفون بها يقال مساكين أهل الجنة.
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على
الكافرين (50) الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا
وما كانوا بآياتنا يجحدون (51)
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك قال السدي
" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " يعني الطعام وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يستطعمونهم ويستسقونهم وقال الثوري عن عثمان الثقفي عن سعيد بن جبير في
هذه الآية قال ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له قد احترقت فأفض علي من الماء فيقال لهم أجيبوهم فيقولون
" إن الله حرمهما على الكافرين ". وروى من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس مثله سواء وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم " إن الله حرمهما على الكافرين " يعني طعام الجنة وشرابها قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا نصر بن علي أخبرنا موسى بن المغيرة حدثنا أبو موسى الصفار في دار عمرو بن مسلم قال سألت ابن عباس أو
سئل أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الصدقة الماء ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا
بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ". وقال أيضا حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال لما مرض أبو طالب قالوا له لو أرسلت إلى ابن أخيك هذا فيرسل إليك بعنقود من
الجنة لعله أن يشفيك به فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر إن الله حرمهما على الكافرين ثم
وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهوا ولعبا واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها
عما أمروا به من العمل للآخرة وقوله " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " أي يعاملهم معاملة من نسيهم
لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شئ ولا ينساه كما قال تعالى " في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " وإنما قال تعالى
هذا من باب المقابلة كقوله " نسوا الله فنسيهم " وقال " كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " وقال تعالى
" وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا " وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " فاليوم ننساهم كما نسوا
لقاء يومهم هذا " قال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال
نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا وقال مجاهد نتركهم في النار وقال السدي نتركهم من الرحمة كما تركوا أن
228

يعملوا للقاء يومهم هذا وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر
لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول بلى فيقول أظننت أنك ملاقي؟ فيقول لا فيقول الله تعالى فاليوم
أنساك كما نسيتني.
ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون (52) هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله
يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير
الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (53)
يقول تعالى مخبرا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول وأنه كتاب مفصل
مبين كقوله " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " الآية وقوله " فصلناه على علم " للعالمين أي " على علم " منا بما
فصلناه به كقوله " أنزله بعلمه " قال ابن جرير وهذه الآية مردودة على قوله " كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك
حرج منه " الآية. " ولقد جئناهم بكتاب " الآية. وهذا الذي قاله فيه نظر فإنه قد طال الفصل ولا دليل عليه وإنما
الامر أنه لما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الآخرة ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال
الكتب كقوله " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " ولهذا قال " هل ينظرون إلا تأويله " أي ما وعدوا به من
العذاب والنكال والجنة والنار قاله مجاهد وغير واحد وقال مالك: ثوابه وقال الربيع لا يزال يجئ من تأويله أمر حتى
يتم يوم الحساب حتى يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ وقوله " يوم يأتي تأويله " أي يوم
القيامة قاله ابن عباس " يقول الذين نسوه من قبل " أي تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا " قد جاءت رسل
ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " أي في خلاصنا مما صرنا إليه مما نحن فيه " أو نرد " إلى الدار الدنيا " فنعمل
غير الذي كنا نعمل " كقوله " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " كما قال ههنا " قد
خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها " وضل عنهم ما
كانوا يفترون " أي ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم
فيه.
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا
والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين (54)
يخبر تعالى أنه خالق العالم سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن
والستة أيام هي الاحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة وفيه اجتمع الخلق كله وفيه خلق آدم عليه
السلام واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان أو كل يوم كألف سنة كما
نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس فأما يوم السبت
فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع ومنه سمي السبت وهو القطع فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده
حيث قال حدثنا حجاج حدثنا بن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم
سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال " خلق الله التربة يوم السبت وخلق الجبال فيها يوم الأحد
وخلق الشجر فيها يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس
229

وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ". فقد
رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه عن حجاج وهو ابن محمد الأعور عن ابن جريج به وفيه
استيعاب الأيام السبعة والله تعالى قد قال في ستة أيام ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا
الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعا والله أعلم.
وأما قوله تعالى " ثم استوى على العرش " فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هذا موضع بسطها وإنما
نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد
وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا
تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله فإن الله لا يشبهه شئ من خلقه و " ليس كمثله شئ
وهو السميع البصير " بل الامر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال من شبه الله بخلقه
كفر ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشيبه فمن أثبت لله تعالى ما
وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفى عن الله تعالى النقائص فقد
سلك سبيل الهدى وقوله تعالى " يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا وضياء هذا
بظلام هذا وكل منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا أي سريعا لا يتأخر عنه بل إذا ذهب هذا جاء وهذا وعكسه كقوله
" وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر
قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك
يسبحون " فقوله " ولا الليل سابق النهار " أي لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة بينهما ولهذا قال
" يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره " منهم من نصب ومنهم من رفع وكلاهما قريب المعنى أي
الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبها " ألا له الخلق والامر " أي له الملك والتصرف " تبارك الله
رب العالمين " كقوله " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " الآية. قال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق
حدثنا هشام أبو عبد الرحمن حدثنا بقية بن الوليد حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي
عن أبيه وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه
فقد كفر وحبط عمله ومن زعم أن الله جعل للعباد من الامر شيئا فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه " لقوله " ألا له
الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروى مرفوعا " اللهم لك الملك كله
ولك الحمد كله وإليك يرجع الامر كله أسألك من الخير كله وأعوذ بك من الشر كله ".
ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين (55) ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا
إن رحمت الله قريب من المحسنين (56)
رشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم فقال " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " قيل
معناه تذللا واستكانة كقوله " واذكر ربك في نفسك " الآية. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: رفع
الناس أصواتهم بالدعاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن
الذي تدعون سميع قريب " الحديث وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله " تضرعا
وخفية " قال السر وقال ابن جرير تضرعا تذللا واستكانة لطاعته وخفية يقول بخشوع قلوبكم وصحة اليقين
وحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه لا جهارا مراءاة وقال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال
إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان
230

الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به ولقد أدركنا أقواما ما كان على الأرض من عمل
يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدا لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن
كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى يقول " ادعوا ربكم تضرعا وخفية " وذلك أن الله ذكر عبدا
صالحا رضي فعله فقال " إذ نادى ربه نداء خفيا " وقال ابن جريج يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء
ويؤمر بالتضرع والاستكانة ثم روي عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله " إنه لا يحب المعتدين " في الدعاء
ولا في غيره وقال أبو مجلز " إنه لا يحب المعتدين " لا يسأل منازل الأنبياء وقال أحمد حدثنا عبد الرحمن بن
مهدي حدثنا شعبة عن زياد بن مخراق سمعت أبا نعامة عن مولى لسعد أن سعدا سمع ابنا له يدعو وهو يقول اللهم
إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ونحوا من هذا وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرا
كثيرا وتعوذت به من شر كثير وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء " - وفي لفظ -
" يعتدون في الطهور والدعاء " - وقرأ هذه الآية " ادعوا ربكم تضرعا " الآية - وإن بحسبك أن تقول اللهم إني
أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل " ورواه أبو داود من
حديث شعبة عن زياد بن مخراق عن أبي نعامة عن مولى لسعد عن سعد فذكره والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا
عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا الحريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك
القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله الجنة وعذ به من النار فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور ". وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفان به
وأخرجه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سعيد بن إياس الحريري عن أبي نعامة واسمه
قيس بن عباية الحنفي البصري وهو إسناد حسن لا بأس به والله أعلم وقوله تعالي " ولا تفسدوا في الأرض بعد
إصلاحها " ينهى تعالى عن الافساد في الأرض وما أضره بعد الاصلاح فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ثم
وقع الافساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل
لديه فقال " وادعوه خوفا وطعما " أي خوفا مما عنده من وبيل العقاب وطمعا فيما عنده من جزيل الثواب ثم قال
" إن رحمة الله قريب من المحسنين " أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره كما
قال تعالى " ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون " الآية. وقال قريب ولم يقل قريبة لأنه ضمن الرحمة
معنى الثواب أو لأنها مضافة إلى الله فلهذا قال قريب من المحسنين وقال مطر الوراق استنجزوا موعود الله بطاعته
فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين رواه ابن أبي حاتم.
وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به
الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون (57) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن
ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون (58)
لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر وأرشد إلى دعائه لأنه على ما
يشاء قادر نبه تعالى على أنه الرزاق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال " وهو الذي يرسل الرياح بشرا " أي منتشرة
بين يدي السحاب الحامل للمطر ومنهم من قرأ بشرا كقوله " ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات " وقوله " بين
يدي رحمته " أي بين يدي المطر كما قال " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي
الحميد " وقال " فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شئ
231

قدير " وقوله " حتى إذا أقلت سحابا ثقالا " أي حملت الرياح سحابا ثقالا أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة
قريبة من الأرض مدلهمة كما قال زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله.
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمت * له الأرض تحمل صخرا ثقالا
وقوله " سقناه لبلد ميت " أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها كقوله " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها " الآية.
ولهذا قال " فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى " أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها كذلك نحيي
الأجساد بعد صيرورتها رميما يوم القيامة ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوما فتنبت
منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض وهذا المعنى كثير في القرآن يضرب الله مثلا ليوم القيامة بإحياء
الأرض بعد موتها ولهذا قال " لعلكم تذكرون " وقوله " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " أي والأرض الطيبة
يخرج نباتها سريعا حسنا كقوله " وأنبتها نباتا حسنا " " والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " قال مجاهد وغيره كالسباخ
ونحوها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر وقال البخاري
حدثنا محمد بن العلاء حدثنا حماد بن أسامة عن ابن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها نقية قبلت الماء
فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب
منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به
فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ". رواه مسلم والنسائي من طرق عن
أبي أسامة حماد بن أسامة به.
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (59)
قال الملا من قومه إنا لنراك في ضلال مبين (60) قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين (61)
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون (62)
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء
عليهم السلام الأول فالأول فابتدأ بذكر نوح عليه السلام فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه
السلام وهو نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي عليه السلام فيما يزعمون وهو أول من خط
بالقلم ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم عليه السلام. هكذا نسبه محمد بن إسحاق وغير واحد
من أئمة النسب قال محمد بن إسحاق ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل. وقال يزيد الرقاشي
إنما سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على
الاسلام قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا
فبنى قومهم عليهم مساجد وصوروا صور أولئك فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم فلما طال الزمان جعلوا
أجسادا على تلك الصور فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين ودا وسواعا
ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الامر بعث الله سبحانه وتعالى وله الحمد والمنة رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله
وحده لا شريك له فقال " يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " أي من
عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به " قال الملا من قومه " أي الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم
" إنا لنراك في ضلال مبين " أي في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا آباءنا عليها. وهكذا حال
232

الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله " وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " " وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو
كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم " إلى غير ذلك من الآيات " قال يا قوم ليس بي
ضلالة ولكني رسول من رب العالمين " أي ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب العالمين رب كل شئ ومليكه
" أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون " وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا فصيحا ناصحا
عالما بالله لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات كما جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا " أيها الناس إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ " قالوا نشهد
أنك قد بلغت وأديت ونصحت فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول " اللهم اشهد اللهم
اشهد ".
أوعجبتم أو جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون (63) فكذبوه فأنجيناه والذين
معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين (64)
يقول تعالى إخبارا عن نوح أنه قال لقومه " أو عجبتم " الآية. أي لا تعجبوا من هذا فإن هذا ليس يعجب أن
يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم لينذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به " ولعلكم
ترحمون " قال الله تعالى " فكذبوه " أي تمادوا على تكذيبه ومخالفته وما آمن معه منهم إلا قليل كما نص عليه في
موضع آخر " فأنجيناه والذين معه في الفلك " أي السفينة كما قال: فأنجيناه وأصحاب السفينة " وأغرقنا الذين
كذبوا بآياتنا " كما قال " مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا " وقوله " إنهم كانوا
قوما عمين " أي عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه وأنجى
رسوله والمؤمنين وأهلك أعداءهم من الكافرين كقوله " إنا لننصر رسلنا " الآية. وهذه سنة الله في عباده في
الدنيا والآخرة أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجى نوحا وأصحابه
المؤمنين وقال مالك عن زيد بن أسلم كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل وقال عبد الرحمن بن زيد بن
أسلم ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملاى بهم وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز وقال ابن وهب
بلغني عن ابن عباس إنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلا أحدهم جرهم وكان لسانه عربيا. رواه ابن أبي
حاتم وروى متصلا من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما.
* وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (65) قال الملا الذين كفروا من قومه
إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين (66) قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب
العالمين (67) أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين (68) أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم
لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم
تفلحون (69)
يقول تعالى وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحا كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا قال محمد بن إسحاق هم ولد عاد بن
إرم بن عوص بن سام بن نوح. " قلت " هؤلاء هم عاد الأولى الذين ذكرهم الله وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا
يأوون إلى العمد في البر كما قال تعالى " ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في
233

البلاد " وذلك لشدة بأسهم وقوتهم كما قال تعالى " فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا
قوة أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون ". وقد كانت مساكنهم باليمن
بالأحقاف وهو جبال الرمل قال محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل
عامر بن واثلة سمعت عليا يقول لرجل من حضرموت: هل رأيت كثيبا أحمر يخالطه مدرة حمراء ذا أراك وسدر
كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت؟ هل رأيته؟ قال نعم يا أمير المؤمنين والله إنك لتنعته نعت رجل قد
رآه قال لا ولكني قد حدثت عنه فقال الحضرمي وما شأنه يا أمير المؤمنين قال فيه قبر هود عليه السلام رواه
ابن جرير وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن فإن هودا عليه السلام دفن هناك وقد كان من أشرف قومه نسبا
لان الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ولكن كان قومه كما شدد خلقهم شدد على قلوبهم وكانوا
من أشد الأمم تكذيبا للحق ولهذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعته وتقواه
" قال الملا الذين كفروا من قومه " والملا هم الجمهور والسادة والقادة منهم " إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من
الكاذبين " أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والاقبال على عبادة الله وحده كما تعجب الملا من
قريش من الدعوة إلى إله واحد فقالوا " أجعل الآلهة إلها واحدا " الآية. " قال يا قوم ليس بي سفاهة ولكني
رسول من رب العالمين " أي ليست كما تزعمون بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شئ فهو رب كل
شئ ومليكه " أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين " وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح
والأمانة " أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم " أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا
من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه بل احمدوا الله على ذاكم " واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح " أي
واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه " وزادكم
في الخلق بسطة " أي زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم كقوله في قصة طالوت
" وزاده بسطة في العلم والجسم " " واذكروا آلاء الله " أي نعمه ومنته عليكم " لعلكم تفلحون " والآلاء جمع أل
وقيل إلى.
قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (70) قال قد
وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان
فانتظروا إني معكم من المنتظرين (71) فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا
مؤمنين (72)
يخبر تعالى عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود عليه السلام " قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده " الآية.
كقول الكفار من قريش " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم " وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره أنهم كانوا يعبدون أصناما فصنم يقال له صمد وآخر يقال له صمود
وآخر يقال له الهنا ولهذا قال هود عليه السلام " قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب " أي قد وجب عليكم
بمقالتكم هذه من ربكم رجس قيل هو مقلوب من رجز وعن ابن عباس معناه سخط وغضب " أتجادلونني في
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " أي أتحاجوني في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة وهي لا تضر ولا
تنفع ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ولهذا قال " ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من
المنتظرين ". وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ولهذا عقبه بقوله " فأنجيناه والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر
الذين كذبوا بآياتنا وما كانوا مؤمنين " وقد ذكر الله سبحانه صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن بأنه أرسل عليهم
234

الريح العقيم ما تذر من شئ أتت عليه إلا جعلته كالرميم كما قال في الآية الأخرى " وأما عاد فأهلكوا بريح
صرصر عاتية * سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية *
فهل ترى لهم من باقية " لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم
تنكسه على أم رأسه فتثلغ رأسه حتى تبينه من بين جثته ولهذا قال " كأنهم أعجاز نخل خاوية " وقال محمد بن
إسحاق كانوا يسكنون باليمن بين عمان وحضرموت وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها بفضل قوتهم
التي آتاهم الله وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله فبعث الله إليهم هودا عليه السلام وهو من أوسطهم نسبا
وأفضلهم موضعا فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره وأن يكفوا عن ظلم الناس فأبوا عليه وكذبوه وقالوا
من أشد منا قوة واتبعه منهم ناس وهم يسير يكتمون إيمانهم فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه وأكثروا في الأرض
الفساد وتجبروا وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع كلمهم هود فقال " أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع
لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي
آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين * إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء " أي بجنون " قال إني أشهد الله
واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من
دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " قال محمد بن إسحاق فلما أبوا إلا الكفر به أمسك الله عنهم
القطر ثلاث سنين فيما يزعمون حتى جهدهم ذلك قال وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان وطلبوا من الله
الفرج فيه إنما يطلبونه بحرم ومكان بيته وكان معروفا عند أهل ذلك الزمان وبه العماليق مقيمون وهم من سلالة
عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له معاوية بن بكر وكانت له أم من قوم عاد واسمها
جلهذة ابنة الخبيري قال فبعثت عاد وفدا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ليستسقوا لهم عند الحرم فمروا
بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان: قينتان لمعاوية وكانوا قد
وصلوا إليه في شهر فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف عمل شعرا
يعرض لهم بالانصراف وأمر القينتين أن تغنياهم به فقال:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم * لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إن عادا * قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد وليس نرجو * به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير * فقد أمست نساؤهم غيامى
وإن الوحش تأتيهم جهارا * ولا تخشى لعادي سهاما
وأنتم ههنا فيما اشتهيتم * نهاركم وليلكم التماما
فقبح وفدكم من وفد قوم * ولا لقوا التحية والسلاما
قال فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له فنهضوا إلى الحرم ودعوا لقومهم فدعا داعيهم وهو قيل بن عنز فأنشأه الله
سحابات ثلاثا بيضاء وسوداء وحمراء ثم ناداه مناد من السماء اختر لنفسك أو لقومك من هذا السحاب فقال:
اخترت هذه السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماء فناداه مناد اخترت رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا لا
والدا يترك ولا ولدا إلا جعلته همدا إلا بني الوذية المهندا قال وبنو الوذية بطن من عاد مقيمون بمكة فلم
يصبهم ما أصاب قومهم قال وهم من بقي من أنسالهم وذراريهم عاد الآخرة قال وساق الله السحابة السوداء فيما
يذكرون التي اختارها قيل بن عنز بما فيها من النقمة إلى عاد حتى تخرج عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها
استبشروا وقالوا هذا عارض ممطرنا يقول " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم * ندمر كل شئ " أي
تهلك كل شئ مرت به فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح فيما يذكرون امرأة من عاد يقال لها مميد فلما
235

تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا ما رأيت يا مميد؟ قالت ريحا فيها شبه النار أمامها رجال يقودونها
فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما كما قال الله تعالى والحسوم الدائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا
هلك واعتزل هود عليه السلام فيما ذكر لي ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه
الجلود وتلذ الأنفس وإنها لتمر على عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة وذكر تمام القصة بطولها
وهو سياق غريب فيه فوائد كثيرة وقد قال الله تعالى " ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا
ونجيناهم من عذاب غليظ ".
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله
وقال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي حدثنا عاصم بن أبي النجود
عن أبي وائل عن الحارث البكري قال خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررت بالربذة فإذا
بعجوز من بني تميم منقطع بها فقالت لي يا عبد الله إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة هل أنت مبلغي إليه قال
فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وإذا بلال متقلد سيفا بين يدي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما شأن الناس؟ قالوا يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها قال فجلست قال فدخل منزله أو
قال رحله فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت وسلمت فقال هل بينكم وبين تميم شئ قلت نعم وكانت لنا الدائرة
عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب فأذن لها فدخلت
فقلت يا رسول الله إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدهناء فحميت العجوز واستوفزت وقالت يا
رسول الله فإلى أين يضطر مضطرك قال قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: " معزى حملت حتفها " حملت هذه ولا
أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ بالله وبرسوله أن أكون كوافد عاد قال لي " وما وافد عاد "؟ وهو أعلم بالحديث
منه ولكن يستطعمه قلت إن عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم يقال له قيل فمر بمعاوية بن بكر فأقام عنده شهرا يسقيه
الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال اللهم إنك تعلم أني لم
أجئ إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه فمرت به سحابات سود فنودي
منها اختر فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها خذها رمادا رمددا لا تبقي من عاد أحدا قال فما بلغني أنه
بعث الله عليهم من الريح إلا قدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا قال أبو وائل وصدق قال وكانت المرأة
والرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا لا تكن كوافد عاد هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ورواه الترمذي عن
عبد بن حميد عن زيد بن الحباب به نحوه ورواه النسائي حديث سلام بن أبي المنذر عن عاصم وهو ابن
بهدلة ومن طريقه رواه ابن ماجة أيضا عن أبي وائل عن الحارث بن حسان البكري به. ورواه ابن جرير عن أبي
كريب عن زيد بن حباب به ووقع عنده عن الحارث بن يزيد البكري فذكره ورواه أيضا عن أبي كريب عن أبي
بكر بن عياش عن عاصم عن الحارث بن حسان البكري فذكره ولم أر في النسخة أبا وائل والله أعلم.
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة
الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم (73) واذكروا إذ جعلكم
خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا فاذكروا آلاء الله
ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74) قال الملا الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون
أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76)
236

فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وقالوا يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرجفة
فأصبحوا في دارهم جاثمين (78)
قال علماء التفسير والنسب ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح وهو أخو جديس بن عاثر وكذلك قبيلة طسم كل
هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل عليه السلام وكانت ثمود بعد عاد ومساكنهم مشهورة فيما
بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في
سنة تسع قال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا صخر بن جويرية عن نافع عن ابن عمر قال لما نزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها
ثمود فعجنوا منها ونصبوا لها القدور فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور وعلفوا العجين الإبل ثم ارتحل بهم حتى
نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ونهاهم أن يدخلوا علي القوم الذين عذبوا وقال " إني أخشى أن
يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم " وقال أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا
عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر " لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا
أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم " وأصل هذا الحديث مخرج
في الصحيحين من غير وجه وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا يزيد بن هارون المسعودي عن إسماعيل بن أوسط عن
محمد بن أبي كبشة الأنماري عن أبيه قال لما كان في غزوة تبوك تسارع الناس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى في الناس " الصلاة جامعة " قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعنزة وهو يقول " ما
تدخلون على قوم غضب الله عليهم " فناداه رجل منهم نعجب منهم يا رسول الله؟ قال " أفلا أنبئكم بأعجب من
ذلك: رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم وبما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا فإن الله لا يعبأ بعذابكم
شيئا وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا " لم يخرجه أحد من أصحاب السنن وأبو كبشة اسمه عمر بن سعد
ويقال عامر بن سعد والله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن عبد الله بن عثمان بن خيثم
عن أبي الزبير عن جابر قال لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال " لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فكانت -
يعني الناقة - ترد من هذا الفج وتصدر من هذا الفج فعتوا عن أمر ربهم فعقروها وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون
لبنها يوما فعقروها فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم إلا رجلا واحدا كان في حرم الله " فقالوا
من هو يا رسول الله قال: أبو رغال فلما خرج من الحرم أصاب ما أصاب قومه " وهذا الحديث ليس في شئ من
الكتب الستة وهو على شرط مسلم. قوله تعالى " وإلى ثمود " أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا " قال
يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى " وما
أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا
الله واجتنبوا الطاغوت " وقوله " قد جاءتكم بينة من ربكم هذه ناقة الله لكم آية " أي قد جاءتكم حجة من الله على
صدق ما جئتكم به وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء
عينوها بأنفسهم وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة فطلبوا منه أن تخرج لهم منها ناقة عشراء
تمخض فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه
فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عز وجل فتحركت تلك
الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن
عمرو ومن كان معه على أمره وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب
أوثانهم ورباب بن صعر بن جلهس وكان جندع بن عمرو بن عم له شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس
237

وكان من أشراف ثمود وأفاضلها فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط فأطاعهم فقال في ذلك رجل من مؤمني
ثمود يقال له مهوش بن عثمة بن الدميل رحمه الله.
وكانت عصبة من آل عمرو * إلى دين النبي دعوا شهابا
عزيز ثمود كلهم جميعا * فهم بأن يجيب فلو أجابا
لأصبح صالح فينا عزيزا * وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكن الغواة من آل حجر * تولوا بعد رشدهم ذيابا
وأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوما وتدعه لهم يوما وكانوا يشربون لبنها يوم
شربها يحتلبونها فيملأون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم كما قال في الآية الأخرى " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل
شرب محتضر " وقال تعالى " هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم " وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد
من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء وكانت على ما ذكر خلقا هائلا ومنظرا رائعا إذا مرت
بأنعامهم نفرت منها فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل
يوم فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها قال قتادة بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها حتى
على النساء في خدورهن وعلى الصبيان قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى " فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم
بذنبهم فسواها " وقال " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " وقال " فعقروا الناقة " فأسند ذلك على مجموع
القبيلة فدل على رضى جميعهم بذلك والله أعلم وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير وغيره من علماء التفسير أن
سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها عنيزة ابنة غنم بن مجلز وتكنى أم عثمان كانت عجوزا كافرة وكانت من أشد
الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانت لها بنات حسان ومال جزيل وكان زوجها ذؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود
وامرأة أخرى يقال لها صدقة بنت المحيا بن زهير بن المختار ذات حسب ومال وجمال وكانت تحت رجل مسلم من
ثمود ففارقته فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلا يقال له الحباب فعرضت عليه نفسها إن
هو عقر الناقة فأبى عليها فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج بن المحيا فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة
بنت غنم قدار بن سالف بن جذع وكان رجلا أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه كان ولد زنية وأنه لم يكن من أبيه
الذي ينسب إليه وهو سالف وإنما هو من رجل يقال له صهياد ولكن ولد على فراش سالف وقالت له أعطيك أي
بناتي شئت على أن تعقر الناقة فعند ذلك انطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج فاستغويا غواة من ثمود فاتبعهما
سبعة نفر فصاروا تسعة رهط وهم الذين قال الله تعالى " وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا
يصلحون " وكانوا رؤساء في قومهم فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها فطاوعتهم على ذلك فانطلقوا فرصدوا الناقة
حين صدرت من الماء وقد كمن لها قدار بن سالف في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل
أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت بنت غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من
أحسن الناس وجها فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرجت ساقطة
إلى الأرض ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ثم طعن في لبتها فنحرها وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلا
منيعا فصعد أعلى صخرة فيه ورغا فروى عبد الرزاق عن معمر عمن سمع الحسن البصري أنه قال يا رب أين أمي
ويقال أنه رغا ثلاث مرات وأنه دخل في صخرة فغاب فيها ويقال إنهم اتبعوه فعقروه مع أمه فالله أعلم. فلما فعلوا
ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحا عليه السلام فجاءهم وهم مجتمعون فلما رأى الناقة بكى وقال
" تمتعوا في داركم ثلاثة أيام " الآية. وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على
قتل صالح وقالوا إن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا ألحقناه بناقته " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن
لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم "
238

الآية. فلما عزموا على ذلك وتواطأوا عليه وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله فأرسل الله سبحانه وتعالى وله العزة
ولرسوله عليهم حجارة فرضختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم وأصبح ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام
النظرة ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة
ووجوههم محمرة وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة فلما أصبحوا من يوم الأحد
وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه عياذا بالله من ذلك لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم
العذاب وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت الأرواح وزهقت
النفوس في ساعة واحدة " فأصبحوا في دارهم جاثمين " أي صرعى لا أرواح فيهم ولم يفلت منهم أحد لا صغير
ولا كبير لا ذكر ولا أنثى قالوا إلا جارية كانت مقعدة واسمها كلبة ابنة السلق. ويقال لها الذريعة وكانت كافرة
شديدة العداوة لصالح عليه السلام فلما رأت ما رأت من العذاب أطلقت رجلاها فقامت تسعى كأسرع شئ
فأتت حيا من الاحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ثم استسقتهم من الماء فلما شربت ماتت قال علماء التفسير
ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم إلا أن رجلا يقال له أبو رغال كان
لما وقعت النقمة بقومه مقيما إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شئ فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من
السماء فقتله وقد تقدم في أول القصة حديث جابر بن عبد الله في ذلك وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف
الذين كانوا يسكنون الطائف قال عبد الرزاق عن معمر أخبرني إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مر بقبر أبي رغال فقال " أتدرون من هذا؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " هذا قبر أبي رغال رجل من ثمود كان في
حرم الله فمنعه حرم الله عذاب الله فلما خرج أصابه ما أصاب قومه فدفن ههنا ودفن معه غصن من ذهب فنزل
القوم فابتدروه بأسيافهم فبحثوا عنه فاستخرجوا الغصن ". وقال عبد الرزاق قال معمر قال الزهري أبو رغال أبو
ثقيف هذا مرسل من هذا الوجه وقد روى متصلا من وجه آخر كما قال محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية
عن بجير بن أبي بجير قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله يقول حين خرجنا معه إلى
الطائف فمررنا بقبر فقال " هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم فدفع عنه فلما خرج
أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه
أصبتموه فابتدره الناس فاستخرجوا منه الغصن ". وهكذا رواه أبو داود عن يحيى بن معين عن وهب بن
جرير بن حازم عن أبيه عن ابن إسحاق به قال شيخنا أبو الحجاج المزي وهو حديث حسن عزيز. " قلت " تفرد
بوصله بجير بن أبي بجير هذا وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث قال يحيى بن معين ولم أسمع أحدا روى عنه
غير إسماعيل بن أمية. " قلت " وعلى هذا فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث. وإنما يكون من كلام
عبد الله بن عمرو مما أخذه من الزاملتين قال شيخنا أبو الحجاج بعد أن عرضت عليه ذلك وهذا محتمل والله
أعلم.
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين (79)
هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله وإبائهم عن قبول الحق
وإعراضهم عن الهدى إلى العمى قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك كما ثبت في
الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر أقام هناك ثلاثا ثم أمر براحلته فشدت بعد ثلاث من آخر الليل
فركبها ثم سار حتى وقف على القليب قليب بدر فجعل يقول " يا أبا جهل بن هشام يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة
ويا فلان بن فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ". فقال له عمر يا رسول الله ما
تكلم من أقوام قد جيفوا فقال " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا يجيبون ". وفي السيرة
239

أنه عليه السلام قال لهم " بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس
وقاتلتموني ونصرني الناس فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ". وهكذا صالح عليه السلام قال لقومه " لقد أبلغتكم
رسالة ربي ونصحت لكم " أي فلم تنتفعوا بذلك لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحا ولهذا قال " ولكن لا
تحبون الناصحين " وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته كان يذهب فيقيم في الحرم حرم مكة والله
أعلم وقد قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال
لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال " يا أبا بكر أي واد هذا؟ " قال هذا وادي عسفان قال " لقد مر
به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمهن الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت
العتيق " هذا حديث غريب من هذا الوجه لم يخرجه أحد منهم.
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين (80) إنكم لتأتون الرجال شهوة من
دون النساء بل أنتم قوم مسرفون (81)
يقول تعالى " و " لقد أرسلنا " لوطا " أو تقديره " و " أذكر " لوطا إذ قال لقومه " ولوط هو ابن هارون بن آزر وهو
ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليه السلام وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه
الله إلى أهل سدوم وما حولها من القرى يدعوهم إلى الله عز وجل ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه
من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم وهو إتيان الذكور دون
الإناث وهذا شئ لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ولا يخطر ببالهم حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله
قال عمرو بن دينار في قوله " ما سبقكم بها من أحد من العالمين " قال ما نزا ذكر على ذكر حتى كان قوم لوط وقال
الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي باني جامع دمشق لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ما ظننت أن
ذكرا يعلو ذكرا ولهذا قال لهم لوط عليه السلام " أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * إنكم
لتأتون الرجال شهوة من دون النساء " أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال وهذا إسراف
منكم وجهل لأنه وضع الشئ في غير محله ولهذا قال لهم في الآية الأخرى قال " هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين "
فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن " قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما
نريد " أي لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك وذكر المفسرون أن الرجال
كانوا قد استغنى بعضهم ببعض وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضا.
وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (82)
أي ما أجابوا لوطا لا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم فأخرجه الله تعالى سالما وأهلكهم في أرضهم
صاغرين مهانين وقوله تعالى " إنهم أناس يتطهرون " قال قتادة: عابوهم بغير عيب. وقال مجاهد: إنهم أناس
يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروى مثله عن ابن عباس أيضا.
فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (83) وأمطرنا عليهم مطرا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين (84)
يقول تعالى فأنجينا لوطا وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط كما قال تعالى " فأخرجنا من كان فيها
من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " إلا امرأته فإنها لم تؤمن به بل كانت على دين قومها
240

تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ليسري
بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ومنهم من يقول بل اتبعتهم فلما جاء العذاب التفتت هي فأصابها ما
أصابهم والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ولهذا قال ههنا " إلا امرأته كانت من
الغابرين " أي الباقين وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم، وقوله " وأمطرنا عليهم مطرا " مفسر بقوله " وأمطرنا
عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد " ولهذا قال " فانظر كيف كان عاقبة
المجرمين " أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترئ على معاصي الله عز وجل ويكذب رسله. وقد ذهب
الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى أن اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط وذهب آخرون من
العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنا أو غير محصن وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله والحجة ما رواه الإمام أحمد
وأبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث الدراوردي عن عمرو بن أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ". وقال آخرون هو كالزاني فإن
كان محصنا رجم وإن لم يكن محصنا جلد مائة جلدة وهو القول الآخر للشافعي وأما إتيان النساء في الادبار
فهو اللوطية الصغرى وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولا شاذا لبعض السلف. وقد ورد في النهي عنه أحاديث
كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة.
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا
الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم
مؤمنين (85)
قال محمد بن إسحاق: هم من سلالة مدين بن إبراهيم وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال واسمه بالسريانية
يثرون. " قلت " مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة وهي التي بقرب معان من طريق الحجاز قال الله تعالى
" ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون " وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة
" قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " هذه دعوة الرسل كلهم " قد جاءتكم بينة من ربكم " أي قد أقام الله
الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا
الناس أشياءهم أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان خفية
وتدليسا كما قال تعالى " ويل للمطففين - إلى قوله - لرب العالمين " وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد نسأل الله
العافية منه ثم قال تعالى إخبارا عن شعيب الذي يقال له خطيب الأنبياء لفصاحة عبارته وجزالة موعظته.
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم
وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (86) وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا
فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين (87)
ينهاهم شعيب عليه السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " أي تتوعدون
الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. قال السدي وغيره: كانوا عشارين وعن ابن عباس ومجاهد وغير واحد
" ولا تقعدوا بكل صراط توعدون " أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه والأول أظهر لأنه قال " بكل
241

صراط " وهو الطريق وهذا الثاني هو قوله " وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجا " أي وتودون أن
تكون سبيل الله عوجا مائلة " واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم " أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة
عددكم فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك " وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين " أي من الأمم الخالية والقرون
الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله وقوله " وإن كان طائفة
منكم آمنوا بالذين أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا " أي قد اختلفتم علي " فاصبروا " أي انتظروا " حتى يحكم الله
بيننا " وبينكم أي يفصل " وهو خير الحاكمين " فإنه سيجعل العاقبة للمتقين والدمار على الكافرين.
* قال الملا الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا
قال أو لو كنا كارهين (88) قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا
أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين
قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين (89)
هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيبا ومن معه من المؤمنين في توعدهم إياه ومن معه بالنفي
عن القرية أو الاكراه على الرجوع في ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه
الذين كانوا معه على الملة وقوله " أو لو كنا كارهين " يقول أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه
فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه فقد أعظمنا الفرية على الله في جعل الشركاء معه أندادا وهذا
تنفير منه من اتباعهم " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " وهذا رد إلى الله مستقيم فإنه يعلم كل
شئ وقد أحاط بكل شئ علما " على الله توكلنا " أي في أمورنا ما نأتي منها وما نذر " ربنا افتح بيننا وبين قومنا
بالحق " أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم " وأنت خير الفاتحين " أي خير الحاكمين فإنك العادل الذي
لا يجور أبدا.
وقال الملا الذين كفروا من قومه لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون (90) فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في
دارهم جاثمين (91) الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين (92)
يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق
ولهذا أقسموا وقالوا " لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون " فلهذا عقبه بقوله " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في
دارهم جاثمين " أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة وذلك كما أرجفوا شعيبا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر
عنهم في سورة هود فقال " ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة
فأصبحوا في ديارهم جاثمين " والمناسبة هناك والله أعلم أنهم لما تهكموا به في قولهم " أصلاتك تأمرك "
الآية. فجاءت الصيحة فأسكتتهم وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة
إنه كان عذاب يوم عظيم " وما ذاك إلا لانهم قالوا له في سياق القصة " فأسقط علينا كسفا من السماء " الآية "
فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة وقد اجتمع عليهم ذلك كله " أصابهم عذاب يوم الظلة " وهي سحابة أظلتهم
فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم
فزهقت الأرواح وفاضت النفوس وخمدت الأجسام " فأصبحوا في دارهم جاثمين " ثم قال تعالى " كأن لم يغنوا
242

فيها " أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها ثم قال تعالى مقابلا
لقيلهم " الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين ".
فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين (93)
أي فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال وقال مقرعا لهم وموبخا " يا قوم
لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم " أي قد أديت إليكم ما أرسلت به فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتم به فلهذا قال
" فكيف آسى على قوم كافرين ".
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون (94) ثم بدلنا مكان السيئة
الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون (95)
يقول تعالى مخبرا عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء يعني بالبأساء ما يصيبهم في
أبدانهم من أمراض وأسقام والضراء ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك " لعلهم يضرعون " أي يدعون ويخشعون
ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم. وتقدير الكلام أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئا من الذي أراد
منهم فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه ولهذا قال " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة " أي حولنا الحال من شدة
إلى رخاء ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ومن فقر إلى غنى ليشكروا على ذلك فما فعلوا وقوله " حتى عفوا " أي
كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم يقال عفا الشئ إذا كثر " وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا
يشعرون " يقول تعالى ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ولا انتهوا بهذا ولا بهذا
قالوا قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر وإنما هو الدهر تارات
وتارات بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون
الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في الصحيحين " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن
أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له " فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء
والسراء ولهذا جاء في الحديث " لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقيا من ذنوبه والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري
فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه " أو كما قال ولهذا عقب هذه الصفة بقوله " فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " أي أخذناهم
بالعقوبة بغتة أي على بغتة وعدم شعور منهم أي أخذناهم فجأة كما في الحديث " موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف
للكافر ".
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما
كانوا يكسبون (96) أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون (97) أو أمن أهل القرى أن
يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون (98) فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (99)
يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل كقوله تعالى " فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم
يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم
آمنوا وذلك بعد ما عاينوا العذاب كما قال تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين " وقال تعالى
243

" وما أرسلنا في قرية من نذير " الآية وقوله تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا " أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل
وصدقت به واتبعوه واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات " لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " أي قطر السماء
ونبات الأرض قال تعالى " ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما
كسبوا من المآثم والمحارم ثم قال تعالى مخوفا ومحذرا من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره " أفأمن أهل القرى "
أي الكافرة " أن يأتيهم بأسنا " أي عذابنا ونكالنا " بياتا " أي ليلا " وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا
ضحى وهم يلعبون " أي في حال شغلهم وغفلتهم " أفأمنوا مكر الله " أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال
سهوهم وغفلتهم " فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون " ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات
وهو مشفق وجل خائف والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا
يسمعون (100)
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله " أو لم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها " أو لم يتبين لهم أن لو نشاء أصبناهم
بذنوبهم ". وكذا قال مجاهد وغيره وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها يقول تعالى أو لم يتبين للذين يستخلفون في
الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا سيرتهم وعملوا أعمالهم وعتوا على ربهم " أن لو نشاء أصبناهم
بذنوبهم " يقول أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم " ونطبع على قلوبهم " يقول ونختم على قلوبهم " فهم لا
يسمعون " موعظة ولا تذكيرا " قلت " وهكذا قال تعالى " أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن
في ذلك لآيات لاولي النهي " وقال تعالى " أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك
لآيات أفلا يسمعون " وقال " أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال * وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم "
الآية وقال تعالى " وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " أي هل ترى لهم شخصا أو
تسمع لهم صوتا وقال تعالى " أو لم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء
عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " وقال تعالى بعد ذكره
إهلاك عاد " فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم
سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما
كانوا به يستهزئون * ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " وقال تعالى " وكذب الذين من
قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم فكذبوا رسلي فكيف كان نكير " وقال تعالى " ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان
نكير " وقال تعالى " فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد * أفلم يسيروا
في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "
وقال تعالى " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " إلى غير ذلك من الآيات الدالة
على حلول نقمه بأعدائه وحصول نعمه لأوليائه ولهذا عقب ذلك بقوله وهو أصدق القائلين ورب العالمين.
تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك
يطبع الله على قلوب الكافرين (101) وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (102)
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين وأنه
تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين قال تعالى " تلك القرى نقص
244

عليك " أي يا محمد " من أنبائها " أي من أخبارها " ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات " أي الحجج على صدقهم فيما
أخبروهم به كما قال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى " ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم
وحصيد * وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " وقوله تعالى " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " الباء سببية أي فما كانوا
ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم حكاه ابن عطية رحمه الله وهو متجه حسن كقوله " وما
يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون * ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " الآية ولهذا قال هنا " كذلك
يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم " أي لأكثر الأمم الماضية " من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين " أي
ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه وأخذ عليهم في
الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا مع
الله غيره بلا دليل ولا حجة لا من عقل ولا شرع وفي الفطر السليمة خلاف ذلك وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم
بالنهي عن ذلك كما جاء في صحيح مسلم " يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم
وحرمت عليهم ما أحللت لهم " وفي الصحيحين " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "
الحديث وقال تعالى في كتابه العزيز " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقوله تعالى
" واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن
اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " إلى غير ذلك من الآيات وقد قيل في تفسير قوله تعالى " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من
قبل " ما روى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من
قبل " قال كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق أي فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك وكذا قال الربيع بن أنس عن
أبي العالية عن أبي بن كعب عن أنس واختاره ابن جرير وقال السدي " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " قال ذلك يوم
أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها وقال مجاهد في قوله " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل " هذا كقوله " ولو ردوا لعادوا "
الآية.
ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (103)
يقول تعالى " ثم بعثنا من بعدهم " أي الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب صلوات الله وسلامه عليهم
وعلى سائر أنبياء الله أجمعين " موسى بآياتنا " أي بحججنا ودلائلنا البينة إلى فرعون وهو ملك مصر في زمن موسى
" وملئه " أي قومه " فظلموا بها " أي جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا كقوله تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم
وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه وأشفي لقلوب أولياء الله موسى وقومه من
المؤمنين به.
وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين (104) حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة
من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل (105) قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين (106)
يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر فقال
تعالى " وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين " أي أرسلني الذي هو خالق كل شئ وربه ومليكه " حقيق على
أن لا أقول على الله إلا الحق " فقال بعضهم معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق أي جدير بذلك وحري به قالوا
والباء وعلى يتعاقبان يقال رميت بالقوس وعلى القوس وجاء على حال حسنة وبحال حسنة وقال بعض المفسرين معناه
245

حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق وقرأ آخرون من أهل المدينة حقيق على بمعنى واجب وحق على ذلك أن لا أخبر عنه
إلا بما هو حق وصدق لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه " قد جئتكم ببينة من ربكم " أي بحجة قاطعة من الله أعطانيها
دليلا على صدقي فيما جئتكم به " فأرسل معي بني إسرائيل " أي أطلقهم من أسرك وقهرك ودعهم وعبادة ربك وربهم
فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن " قال إن كنت جئت بآية فأت بها إن
كنت من الصادقين " أي قال فرعون لست بمصدقك فيما قلت ولا بمطيعك فيما طلبت فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها
إن كنت صادقا فيما ادعيت.
فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (107) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (108)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ثعبان مبين " الحية الذكر وكذا قال السدي والضحاك وفي حديث
الفتون من رواية يزيد بن هارون بن الأصبغ بن زيد عن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " فألقى
عصاه " فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره واستغاث
بموسى أن يكفها عنه ففعل وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة. وقال السدي في قوله " فإذا هي ثعبان مبين "
الثعبان الذكر من الحيات فاتحة فاها واضعة لحيها الأسفل في الأرض والآخر على سور القصر ثم توجهت نحو فرعون
لتأخذه فلما رآها ذعر منها ووثب وأحدث ولم يكن يحدث قبل ذلك وصاح يا موسى خذها وأنا أو من بك وأرسل معك بني
إسرائيل فأخذها موسى عليه السلام فعادت عصا وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا وقال وهب بن منبه لما
دخل موسى على فرعون قال له فرعون أعرفك قال نعم قال " ألم نربك فينا وليدا " قال فرد إليه موسى الذي رد فقال
فرعون خذوه فبادر موسى " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " فحملت على الناس فانهزموا منها فمات منهم خمسة
وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت. رواه ابن جرير والإمام أحمد في كتابه الزهد وابن
أبي حاتم وفيه غرابة في سياقه والله أعلم وقوله " ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " أي أخرج يده من درعه بعد ما
أدخلها فيه فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض كما قال تعالى " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء "
الآية وقال ابن عباس في حديث الفتون من غير سوء يعني من غير برص ثم أعادها إلى كمه فعادت إلى لونها الأول وكذا
قال مجاهد وغير واحد.
قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم (109) يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون (110)
أي قال الملا وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه بعد ما رجع إليه روعه واستقر على سرير مملكته
بعد ذلك قال للملا حوله " إن هذا لساحر عليم " فوافقوه وقالوا كمقالته وتشاوروا في أمره كيف يصنعون في أمره وكيف
تكون حيلتهم في إطفاء نوره وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك
سببا لظهوره عليهم إخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه كما قال تعالى " ونري فرعون وهامان وجنودهما
منهم ما كانوا يحذرون " فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى.
قالوا أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (111) يأتوك بكل ساحر عليم (112)
قال ابن عباس " أرجه " أخره وقال قتادة احبسه " وأرسل " أي ابعث " في المدائن " أي في الأقاليم ومدائن ملكك
" حاشرين " أي من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا وأعتقد من
اعتقد منهم وأوهم من أوهم منهم أن ما جاء موسى به عليه السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم فلهذا جمعوا له السحرة
ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال " أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى
246

فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى * قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس
ضحى * فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى " وقال تعالى ههنا.
وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين (113) قال نعم وإنكم لمن المقربين (114)
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى عليه السلام إن غلبوا موسى ليثيبنهم
وليعطينهم عطاء جزيلا فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده فلما توثقوا من فرعون لعنه
الله.
قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين (115) قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم
وجاءوا بسحر عظيم (116)
وهذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام في قولهم " إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين " أي قبلك كما قال الآية
الأخرى " وإما أن نكون أول من ألقى " فقال لهم موسى عليه السلام ألقوا أي أنتم أولا قيل الحكمة في هذا والله أعلم ليرى الناس
صنيعهم ويتأملوه فإذا فرغوا من بهرجهم ومحالهم جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلب له والانتظار منهم لمجيئه فيكون
أوقع في النفوس وكذا كان ولهذا قال تعالى " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم " أي خيلوا إلى الابصار أن ما
فعلوه له حقيقة في الخارج ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال كما قال تعالى " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها
تسعى * فأوجس في نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا
كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " قال سفيان بن عيينة: حدثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: ألقوا حبالا غلاظا
وخشبا طوالا قال فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى وقال محمد بن إسحاق صف خمسة عشر ألف ساحر مع كل ساحر
حباله وعصيه وخرج موسى عليه السلام معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل
مملكته ثم قال السحرة " يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا فإذا جبالهم وعصيهم " فكان أول
ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ثم أبصار الناس بعد ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي فإذا
حياة كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وقال السدي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ليس رجل منهم
إلا ومعه حبل وعصا " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم " يقول فرقوهم أي من الفرق وقال ابن جرير: حدثنا
يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن هشام الدستوائي حدثنا القاسم بن أبي برة قال جمع فرعون سبعين ألف ساحر فألقوا
سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ولهذا قال تعالى " وجاءوا بسحر عظيم ".
* وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون (117) فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون (118)
فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين (119) وألقى السحرة ساجدين (120) قالوا آمنا برب العالمين (121) رب موسى وهارون (122)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق
والباطل يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه " فإذا هي تلقف " أي تأكل " ما يأفكون " أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق
وهو باطل قال ابن عباس فجعلت لا تمر بشئ من حبالهم ولا من خشبهم إلا إلتقمته فعرفت السحرة أن هذا شئ من السماء
ليس هذا بسحر فخروا سجدا وقالوا " آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " وقال محمد بن إسحاق جعلت تتبع تلك
الحبال والعصي واحدة واحدة حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت
ووقع السحرة سجدا " قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " لو كان هذا ساحرا ما غلبنا وقال القاسم بن أبي برة:
247

أوحى الله إليه أن ألق عصاك فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغر فاه يبتلع حبالهم وعصيهم فألقى السحرة عند ذلك سجدا
فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون (123)
لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين (124) قالوا إنا إلى ربنا منقلبون (125) وما تنقم
منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين (126)
يخبر تعالي عما توعد به فرعون لعنه الله السحرة لما آمنوا بموسى عليه السلام وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله " إن
هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها " أي إن غلبته لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم
لذلك كقوله في الآية الأخرى " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وهو يعلم وكل من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل
الباطل فإن موسى عليه السلام بمجرد ما جاء من مدين دعا فرعون إلى الله وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على
صدق ما جاء به فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر
ممن اختار هو والملا من قومه وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل ولهذا قد كانوا من أحرص الناس على ذلك وعلى
الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون. وموسى عليه السلام لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به وفرعون يعلم
ذلك وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجهلتهم كما قال تعالى " فاستخف قومه فأطاعوه " فإن قوما صدقوه في
قوله " أنا ربكم الاعلى " من أجهل خلق الله وأضلهم وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن
عباس وغيرهما من الصحابة في قوله تعالى " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة " قال التقى موسى عليه السلام وأمير
السحرة فقال له موسى أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق قال الساحر لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر
فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهما قالوا فلهذا قال ما قال وقوله " لتخرجوا منها
أهلها " أي تجتمعوا أنتم وهو وتكون لكم دولة وصولة وتخرجوا منها الأكابر والرؤساء وتكون الدولة والتصرف لكم
" فسوف تعلمون " أي ما أصنع بكم ثم فسر هذا الوعيد بقوله " لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " يعني يقطع يد
الرجل اليمنى ورجله اليسرى أو بالعكس " ولأصلبنكم أجمعين " وقال في الآية الأخرى " في جذوع النخل " أي على
الجذوع قال ابن عباس: وكان أول من صلب وأول من قطع الأيدي والأرجل من خلاف فرعون وقول السحرة " إنا إلى
ربنا منقلبون " أي قد تحققنا أنا إليه راجعون وعذابه أشد من عذابك ونكاله على ما تدعونا إليه اليوم وما أكرهتنا عليه من
السحر أعظم من نكالك فلنصبر اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله ولهذا قالوا " ربنا أفرغ علينا صبرا " أي عمنا
بالصبر على دينك والثبات عليه " وتوفنا مسلمين " أي متابعين لنبيك موسى عليه السلام وقالوا لفرعون " فاقض ما أنت
قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت
ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى " فكانوا
في أول النهار سحرة فصاروا في آخره شهداء بررة قال ابن عباس وعبيد بن عمير وقتادة وابن جريج كانوا في أول النهار
سحرة وفي آخره شهداء.
وقال الملا من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم
ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون (127) قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من
يشاء من عباده والعاقبة للمتقين (128) قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن
248

يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون (139)
يخبر تعالي عما تمالا عليه فرعون وملاه وما أضمروه لموسى عليه السلام وقومه من الأذى والبغضة " وقال الملا
من قوم فرعون " أي لفرعون " أتذر موسى وقومه " أي أتدعهم ليفسدوا في الأرض أي يفسدوا أهل رعيتك
ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك. يا لله العجب صار هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه
هم المفسدون ولكن لا يشعرون ولهذا قالوا " ويذرك وآلهتك " قال بعضهم الواو هاهنا حالية أي أتذره وقومه
يفسدون في الأرض وقد ترك عبادتك؟ وقرأ ذلك أبي بن كعب وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك حكاه ابن جرير
وقال آخرون هي عاطفة أي أتدعهم يصنعون في الفساد ما قد أقررتهم عليه وعلى ترك آلهتك وقرأ بعضهم
إلاهتك أي عبادتك وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد وغيره وعلى القراءة الأولى قال بعضهم: كان لفرعون
إله يعبده قال الحسن البصري كان لفرعون إله يعبده في السر. وقال في رواية أخرى كان له حنانة في عنقه
معلقة يسجد لها. وقال السدي في قوله تعالى " ويذرك وآلهتك " وآلهته فيما زعم ابن عباس كانوا إذا رأوا بقرة
حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها فلذلك أخرج لهم السامري عجلا جسدا له خوار. فأجابهم فرعون فيما سألوه
بقوله سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وهذا أمر ثان بهذا الصنيع وقد كان نكل بهم قبل ولادة موسى عليه
السلام حذرا من وجوده فكان خلاف ما رامه وضد ما قصده فرعون. وهكذا عومل في صنيعه أيضا لما أراد إذلال
بني إسرائيل وقهرهم فجاء الامر على خلاف ما أراد. أعزهم الله وأذله وأرغم أنفه وأغرقه وجنوده ولما صمم
فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا " ووعدهم بالعاقبة وأن
الدار ستصير لهم في قوله " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين * قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا
ومن بعد ما جئتنا " أي قد فعلوا بنا مثل ما رأيت من الهوان والاذلال من قبل ما جئت يا موسى ومن بعد ذلك فقال
منبها لهم على حالهم الحاضر وما يصيرون إليه في ثاني الحال " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " الآية وهذا
تحضيض لهم على العزم على الشكر عند حلول النعم وزوال النقم.
ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون (130) فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون (131)
يقول تعالى " ولقد أخذنا آل فرعون " أي اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم " بالسنين " وهي سني الجوع بسبب
قلة الزروع " ونقص من الثمرات " قال مجاهد وهو دون ذلك وقال أبو إسحاق عن رجاء بن حياة كانت النخلة
لا تحمل إلا ثمرة واحدة " لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة " أي من الخصب والرزق " قالوا لنا هذه " أي
هذا لنا بما نستحقه " وإن تصبهم سيئة " أي جدب وقحط " يطيروا بموسى ومن معه " أي هذا بسببهم وما جاءوا
به " ألا إنما طائرهم عند الله " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ألا إنما طائرهم عند الله " يقول
مصائبهم عند الله " ولكن أكثرهم لا يعلمون " وقال ابن جريج عن ابن عباس قال " ألا إنما طائرهم عند الله "
أي من قبل الله.
وقالوا مهما تأتينا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين (132) فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل
والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (133) ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا
ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل (134) فلما كشفنا عنهم الرجز
249

إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون (135)
هذا إخبار من الله عز وجل عن تمرد قوم فرعون وعتوهم وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم " مهما
تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين " يقولون أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها رددناها فلا نقبلها
منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به، قال الله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان " اختلفوا في معناه فعن ابن
عباس في رواية كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار وبه قال الضحاك بن مزاحم وعن ابن عباس في
رواية أخرى هو كثرة الموت وكذا قال عطاء وقال مجاهد الطوفان الماء والطاعون على كل حال وقال ابن
جرير: حدثنا ابن هشام الرفاعي حدثنا يحيى بن يمان حدثنا المنهال بن خليفة عن الحجاج عن الحكم بن ميناء
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطوفان الموت " وكذا رواه ابن مردويه من حديث يحيى بن
يمان به وهو حديث غريب. وقال ابن عباس في رواية أخرى هو أمر من الله طاف بهم ثم قرأ " فطاف عليها
طائف من ربك وهم نائمون " وأما الجراد فمعروف مشهور وهو مأكول لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفور
قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الجراد فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد وروى
الشافعي وأحمد بن حنبل وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أحلت لنا ميتتان ودمان. الحوت والجراد والكبد والطحال " ورواه أبو القاسم البغوي عن داود بن رشيد عن
سويد بن عبد العزيز عن أبي تمام الأيلي عن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله وروى أبو داود عن
محمد بن الفرج عن محمد بن زبرقان الأهوازي عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قال: سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال " أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرمه " وإنما تركه عليه السلام لأنه كان يعافه كما
عافت نفسه الشريفة أكل الضب وأذن فيه وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد من حديث أبي
سعيد الحسن بن علي العدوي حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد حدثنا يحيى بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن
ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد ولا الكلوتين ولا الضب من غير أن يحرمها أما الجراد فرجز
وعذاب. وأما الكلوتان فلقربهما من البول وأما الضب فقال " أتخوف أن يكون مسخا " ثم قال غريب لم أكتبه
إلا من هذا الوجه وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشتهيه ويحبه فروى عبد الله بن دينار
عن ابن عمر أن عمر سئل عن الجراد فقال ليت أن عندنا منه قفعة أو قفعتين نأكله وروى ابن ماجة: حدثنا
أحمد بن منيع عن سفيان بن عيينة عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال سمع أنس بن مالك يقول: كان أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم يتهادين الجراد على الاطباق وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا داود بن رشيد حدثنا بقية بن الوليد عن
يحيى بن يزيد القعنبي حدثني أبي عن صدي بن عجلان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مريم بنت
عمران عليها السلام سألت ربها عز وجل أن يطعمها لحما لا دم له فأطعمها الجراد فقالت اللهم أعشه بغير رضاع
وتابع بينه بغير شياع " وقال نمير الشياع الصوت. وقال أبو بكر بن أبي داود: حدثنا أبو بقي هشام بن عبد الملك
المزني حدثنا بقية بن الوليد حدثنا إسماعيل بن عيا ش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي زهير
النميري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقاتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم " غريب جدا. وقال ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله تعالى " فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد " قال كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب وروى
ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي عن محمد بن كثير: سمعت الأوزاعي يقول: خرجت إلى الصحراء
فإذا أنا برجل من جراد في السماء فإذا برجل راكب على جرادة منها وهو شاك في الحديد وكلما قال بيده هكذا مال
الجراد مع يده وهو يقول الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها الدنيا باطل باطل ما فيها. وروى
الحافظ أبو الفرج المعافي بن زكريا الحريري: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد حدثنا أحمد بن عبد الرحيم أخبرنا
وكيع عن الأعمش أنبأنا عامر قال: سئل شريح القاضي عن الجراد فقال قبح الله فيها خلقة سبعة جبابرة رأسها
250

رأس فرس وعنقها عنق ثور وصدرها صدر أسد وجناحها جناح نسر. ورجلاها رجل جمل. وذنبها ذنب
حية. وبطنها بطن عقرب. وقدمنا عند قوله تعالى " أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة " حديث
حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل جراد
فجعلنا نضربه بالعصي ونحن محرمون فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لا بأس بصيد البحر " وروى ابن ماجة عن
هارون الحماني عن هشام بن القاسم عن زياد بن عبد الله بن علاثة وعن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن
أبيه عن أنس وجابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دعا على الجراد قال " اللهم أهلك كباره واقتل صغاره وأفسد
بيضه واقطع دابره وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء " فقال جابر: يا رسول الله أتدعو على جند
من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال " إنما هو نثرة حوت في البحر " قال هشام: أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره
الحوت قال من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس أنه يفقس كله
جرادا طيارا. وقدمنا عند قوله " إلا أمم أمثالكم " حديث عمر رضي الله عنه أن الله خلق ألف أمة من ستمائة في
البحر وأربعمائة في البر وأن أولها هلاكا الجراد وقال أبو بكر بن أبي داود حدثنا يزيد بن المبارك حدثنا
عبد الرحمن بن قيس حدثنا سلم بن سالم حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك عن البراء بن عازب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا وباء مع السيف ولا لحاء مع الجراد " حديث غريب وأما القمل فعن ابن عباس هو
السوس الذي يخرج من الحنطة وعنه أنه الدبا وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له وبه قال مجاهد وعكرمة وقتادة
وعن الحسن وسعيد بن جبير: القمل دواب سود صغار. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم القمل البراغيث.
وقال ابن جرير القمل جمع واحدتها قملة وهي دابة تشبه القمل تأكلها الإبل فيما بلغني وهي التي عناها الأعشى
بقوله:
قوم يعالج قملا أبناؤهم * وسلاسلا أجدا وبابا موصدا
قال وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب الحمنان واحدتها حمنانة وهي
صغار القردان فوق القمقامة وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن حميد الرازي حدثنا يعقوب القمي عن
جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى فرعون عليه السلام قال له: أرسل معي بني إسرائيل
فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا فقالوا لموسى ادع لنا ربك
يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل فأنبت لهم
في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلا فقالوا هذا ما كنا نتمنى فأرسل الله عليهم الجراد
فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا
الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني
إسرائيل فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه فكان
الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة فقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل
فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل فبينما هو جالس
عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون ما تلقى أنت وقومك من هذا فقال وما عسى أن يكون كيد هذا فما
أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه فقالوا لموسى ادع لنا
ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فلم يؤمنوا وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما
استقوا من الأنهار والآبار وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا فشكوا إلى فرعون فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا
شراب فقال: إنه قد سحركم فقالوا من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما
عبيطا فأتوه وقالوا يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه
251

فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. وقد روي نحو هذا عن ابن عباس والسدي وقتادة وغير
واحد من علماء السلف أنه أخبر بذلك وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: فرجع عدو الله فرعون حين
آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر فتابع الله عليه الآيات فأخذه بالسنين
وأرسل عليه الطوفان ثم الجراد ثم القمل ثم الضفادع ثم الدم آيات مفصلات. فأرسل الطوفان وهو
الماء ففاض على وجه الأرض ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئا حتى جهدوا جوعا فلما
بلغهم ذلك " قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني
إسرائيل " فدعا موسى ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ مما قالوا فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما
بلغني حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم فقالوا مثل ما قالوا فدعا ربه
فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ مما قالوا فأرسل الله عليهم القمل فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي
إلى كثيب حتى يضربه بعصاه فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت
والأطعمة ومنعهم النوم والقرار فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ
مما قالوا فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والآنية فلا يكشف أحد ثوبا ولا طعاما إلا وجد فيه
الضفادع قد غلبت عليه فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فسأل ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشئ مما
قالوا فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دما لا يستقون من بئر ولا نهر ولا يغترفون من إناء إلا عاد
دما عبيطا. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن منصور المروزي أنا النضر أنا إسرائيل أنا جابر بن يزيد عن
عكرمة عن عبيد الله بن عمرو قال: لا تقتلوا الضفادع فإنها لما أرسلت على قوم فرعون انطلق ضفدع منها فوقع
في تنور فيه نار يطلب بذلك مرضات الله فأبدلهن الله من هذا أبرد شئ يعلمه من الماء وجعل نقيقهن التسبيح
وروي من طريق عكرمة عن ابن عباس نحوه: وقال زيد بن أسلم: يعني بالدم الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.
فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (136) وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
مشارق الأرض ومغاربها الذي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان
يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون (137)
يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في
اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم فلما استكملوا
فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها وأخبر تعالى أنه أورث القوم
الذين كانوا يستضعفون وهم بنو إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى " ونريد أن نمن على الذين
استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما
منهم ما كانوا يحذرون " وقال تعالى " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها
فاكهين * كذلك وأورثناها قوما آخرين " وعن الحسن البصري وقتادة في قوله " مشارق الأرض ومغاربها التي
باركنا فيها " يعني الشام وقوله " وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا " قال مجاهد وابن
جرير وهي قوله تعالى " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين *
ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " وقوله " ودمرنا ما كان يصنع
فرعون وقومه " أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع " وما كانوا يعرشون " قال ابن
عباس ومجاهد " يعرشون " يبنون.
252

وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم
آلهة قال إنكم قوم تجهلون (138) إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون (139)
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم
سلطانه ما رأوا فأتوا أي فمروا على قوم يعكفون على أصنام لهم. قال بعض المفسرين كانوا من الكنعانيين وقيل
كانوا من لخم. قال ابن جرير: وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر فلهذا أثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم
العجل بعد ذلك فقالوا " يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " أي تجهلون عظمة الله
وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل " إن هؤلاء متبر ما هم فيه " أي هالك " وباطل ما كانوا
يعملون " وروى الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعقيل ومعمر كلهم
عن الزهري عن سنان بن أبي سنان عن أبي واقد الليثي أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلى حنين قال: وكان للكفار سدرة يعكفون عندها ويعلقون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط قال فمررنا
بسدرة خضراء عظيمة قال فقلنا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال " قلتم والذي
نفسي بيده كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال: إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما
هم فيه وباطل ما كانوا يعملون ". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن سنان بن
أبي سنان الديلي عن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة فقلت يا نبي الله:
اجعل لنا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة إنكم تركبون سنن من قبلكم " أورده ابن
جرير ورواه ابن أبي حاتم من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده مرفوعا.
قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين (140) وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب
يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (141)
يذكرهم موسى عليه السلام نعم الله عليهم من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره وما كانوا فيه من الهوان والذلة وما
صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره وقد تقدم تفسيرها في
البقرة.
* وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في
قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين (142)
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل بما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة وفيها
أحكامهم وتفاصيل شرعهم فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة قال المفسرون فصامها موسى عليه السلام
وطواها فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة فأمره الله تعالى أن يكمل العشرة أربعين وقد اختلف المفسرون في
هذه العشر ما هي فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة والعشر عشر ذي الحجة قاله مجاهد ومسروق وابن
جريج. وروي عن ابن عباس وغيره فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر وحصل فيه التكليم لموسى عليه
253

السلام وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت
لكم الاسلام دينا " فلما تم الميقات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور كما قال تعالى " يا بني إسرائيل قد
أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن " الآية فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه
هارون ووصاه الاصلاح وعدم الافساد. هذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله له
وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء.
ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن أنظر إلى الجبل فإن أستقر
مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك
وأنا أول المؤمنين (143)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التسليم من الله سأل الله تعالى أن ينظر
إليه فقال " رب أرني أنظر إليك قال لن تراني " وقد أشكل حرف لن ههنا على كثير من العلماء لأنها موضوعة
لنفي التأبيد فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا أضعف الأقوال لأنه قد تواترت الأحاديث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة كما سنوردها عند قوله تعالى " وجوه يومئذ ناضرة إلى
ربها ناظرة " وقوله تعالى إخبارا عن الكفار " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " وقيل إنها لنفي التأبيد في
الدنيا جمعا بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة وقيل إن هذا الكلام في هذا
المقام كالكلام في قوله تعالى " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير " وقد تقدم ذلك في
الانعام وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام " يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس
إلا تدهده " ولهذا قال تعالى " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا " قال أبو جعفر بن جرير
الطبري في تفسير هذه الآية: حدثنا أحمد بن سهيل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا الأعمش عن رجل عن
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكا " وأرانا أبو إسماعيل بأصبعه السبابة هذا
الاسناد فيه رجل مبهم لم يسم ثم قال حدثني المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد عن ليث عن أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال " هكذا بأصبعه " ووضع النبي صلى الله عليه وسلم أصبعه الابهام
على المفصل الاعلى من الخنصر " فساخ الجبل " هكذا وقع في هذه الرواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ليث
عن أنس كما قال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا هدبة بن خالد حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال:
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " قال " ووضع الابهام قريبا من طرف خنصره " قال " فساخ
الجبل " قال حميد لثابت يقول هكذا فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد وقال: يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوله أنس
وأنا أكتمه؟ وهذا رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو المثنى معاذ بن معاذ العنبري حدثنا حماد بن سلمة
حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " فلما تجلى ربه للجبل " قال: قال " هكذا " يعني
أنه أخرج طرف الخنصر. قال أحمد أرانا معاذ فقال له حميد الطويل ما تريد إلى هذا يا أبا محمد قال: فضرب
صدره ضربة شديدة وقال من أنت يا حميد وما أنت يا حميد يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما تريد
إليه؟ وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق عن معاذ بن معاذ به وعن
عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به ثم قال: هذا حديث حسن
صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق عن حماد بن سلمة به
وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ورواه أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال عن
محمد بن علي بن سويد عن أبي القاسم البغوي عن هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة فذكره وقال هذا إسناد
254

صحيح لا علة فيه وقد رواه داود بن المحبر عن شعبة عن ثابت عن أنس مرفوعا وهذا ليس بشئ لان داود بن
المحبر كذاب رواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر بن مردويه من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن
قتادة عن أنس مرفوعا بنحوه وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا ولا يصح
أيضا رواه الترمذي وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم وقال السدي عن عكرمة عن ابن عباس في قول
الله تعالى " فلما تجلى ربه للجبل " قال ما تجلى منه إلا قدر الخنصر " جعله دكا " قال ترابا " وخر موسى
صعقا " قال مغشيا عليه رواه ابن جرير. وقال قتادة: وخر موسى صعقا قال ميتا. وقال سفيان الثوري: ساخ
الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه. وقال سنيد عن حجاج بن محمد الأعور عن أبي بكر الهذلي
" فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " انقعر فدخل تحت الأرض فلا يظهر إلى يوم القيامة وجاء في بعض الأخبار
أنه ساخ في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة رواه ابن مردويه. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شيبة
حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني حدثنا عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله عن الجلد بن أيوب
عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لما تجلى الله للجبال طارت لعظمته ستة أجبل فوقعت
ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة بالمدينة أحد وورقان ورضوي ووقع بمكة حراء وثبير وثور " وهذا حديث غريب بل
منكر وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي البلح حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا عثمان بن
حصين بن العلاف عن عروة بن رويم قال: كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء فلما
تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف. وقال الربيع بن أنس " فلما تجلى
ربه للجبل جعله دكا وخر مومس صعقا " وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور صار مثل دك من
الدكاك وقال بعضهم جعله دكا أي فتنة وقال مجاهد في قوله " ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف
تراني " فإنه أكبر منك وأشد خلقا " فلما تجلى ربه للجبل " فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على
أوله ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقا. وقال عكرمة: جعله دكا قال نظر الله إلى الجبل فصار صحرا ترابا
وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء واختارها ابن جرير وقد ورد فيها حديث مرفوع رواه بن مردويه والمعروف أن
الصعق هو الغشي ههنا كما فسره ابن عباس وغيره لا كما فسره قتادة بالموت وإن كان ذلك صحيحا في اللغة
كقوله تعالى " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم
قيام ينظرون " فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي وهي قوله " فلما أفاق "
والإقامة لا تكون إلا عن غشي " قال سبحانك " تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات وقوله
" تبت إليك " قال مجاهد أن أسألك الرؤية " وأنا أول المؤمنين " قال ابن عباس ومجاهد من بني إسرائيل
واختاره ابن جرير وفي رواية أخرى عن ابن عباس " وأنا أول المؤمنين " أنه لا يراك أحد وكذا قال أبو العالية قد
كان قبله مؤمنون ولكن يقول أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة وهذا قول حسن له
اتجاه وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره ههنا أثرا طويلا فيه غرائب وعجائب عن محمد بن إسحاق بن يسار
وكأنه تلقاه من الإسرائيليات والله أعلم وقوله " وخر موسى صعقا " فيه أبو سعيد وأبن هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما
حديث أبي سعيد فأسنده البخاري في صحيحه ههنا فقال حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عمرو بن
يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم
وجهه وقال: يا محمد إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال " ادعوه " فدعوه قال " لم لطمت
وجهه؟ " قال: يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول والذي اصطفى موسى على البشر قال وعلى محمد؟
قال فقلت وعلى محمد وأخذتني غضبة فلطمته قال " لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة
فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " وقد
رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه وأبو داود في كتاب السنة من
255

سننه من طرق عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني عن أبيه عن أبي سعيد
سعد بن مالك بن سنان الخدري به. وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو كامل حدثنا
إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال والذي اصطفى محمد على العالمين
فقال اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين فغضب المسلم على اليهودي فلطمه فأتى اليهودي
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تخيروني على موسى
فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى ممسك بجانب العرش فلا أدري أكان ممن صعق
فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل " أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به وقد روى الحافظ
أبو بكر بن أبي الدنيا رحمه الله أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن
تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار وهذا هو أصح وأصرح والله أعلم. والكلام في قوله عليه السلام " لا
تخيروني على موسى " كالكلام على قوله " لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى " قيل من باب
التواضع وقيل قبل أن يعلم بذلك وقيل نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب وقيل على وجه القول
بمجرد الرأي والتشهي والله أعلم وقوله " فإن الناس يصعقون يوم القيامة " الظاهر أن هذا الصعق يكون في
عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه والله أعلم به وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء
وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ولهذا قال عليه السلام: " فلا
أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور " وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه الشفاء بسنده عن محمد بن
محمد بن مرزوق: حدثنا قتادة حدثنا الحسن عن قتادة عن يحيى بن وثاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما
تجلى الله لموسى عليه السلام كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء مسيرة عشرة فراسخ ثم قال ولا يبعد
على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب بعد الاسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى انتهى ما قاله
وكأنه صحح هذا الحديث وفي صحته نظر ولا تخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ومثل هذا إنما يقبل من
رواية العدل الضابط عن مثله حتى ينتهي إلى منتهاه والله أعلم.
قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين (144) وكتبنا له في
الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأوريكم دار
الفاسقين (145)
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وكلامه ولا شك أن محمدا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم
من الأولين والآخرين ولهذا اختصه الله بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تستمر شريعته إلى قيام الساعة
وأتباعه أكثر من أتباع الأنبياء كلهم وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل ثم موسى بن عمران كليم الرحمن
عليه السلام ولهذا قال الله تعالى له " فخذ ما آتيتك " أي من الكلام والمناجاة " وكن من الشاكرين " أي
على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل
شئ قيل كانت الألواح من جوهر وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام
وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون
الأولى بصائر للناس " وقيل الألواح أعطيها موسى قبل التوراة فالله أعلم وعلى كل تقدير فكانت كالتعويض له
عما سأل من الرؤية ومنع منها والله أعلم " وقوله فخذها بقوة " أي بعزم على الطاعة " وأمر قومك يأخذوا
256

بأحسنها " قال سفيان بن عيينة ثنا أبو سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد
ما أمر قومه وقوله " سأوريكم دار الفاسقين " أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى
الهلاك والدمار والتباب قال ابن جرير: وإنما قال " سأوريكم دار الفاسقين " كما يقول القائل لمن يخاطبه
سأريك غدا إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره نقل معنى
ذلك عن مجاهد والحسن البصري وقيل معناه " سأوريكم دار الفاسقين " أي من أهل الشام وأعطيكم إياها وقيل
منازل قوم فرعون والأول أولى والله أعلم لان هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر وهو خطاب لبني
إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم.
سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد
لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين (146) والذين كذبوا
بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (147)
يقول تعالى " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق " أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة
على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ويتكبرون على الناس بغير حق أي كما استكبروا
بغير حق أذلهم الله بالجهل كما قال تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " وقال تعالى
" فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " وقال بعض السلف لا ينال العلم حيي ولا مستكبر وقال آخر: من لم يصبر
على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال سفيان بن عيينة في قوله " سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون
في الأرض بغير الحق " قال أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي قال ابن جرير: وهذا يدل على أن هذا
خطاب لهذه الأمة. قلت: ليس هذا بلازم لان ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ولا فرق بين أحد
وأحد في هذا والله أعلم وقوله " وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها " كما قال تعالى " إن الذين حقت عليه كلمة
ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " وقوله " وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا "
أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله " ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا " أي كذبت بها قلوبهم " وكانوا عنها غافلين "
أي لا يعلمون شيئا مما فيها وقوله " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " أي من فعل منهم ذلك
واستمر عليه إلى الممات حبط عمله وقوله " هل يجزون إلا ما كانوا يعملون " أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم
التي أسلفوها إن خيرا فخير وإن شرا فشر وكما تدين تدان.
واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا
ظالمين (148) ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين (149)
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط
الذي كانوا استعاروه منهم فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل
عليه السلام فصام فصار عجلا جسدا له خوار والخوار صوت البقر وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات الله تعالى
فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة قال " فإنا قد فتنا قومك من
بعدك وأضلهم السامري " وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه
257

من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر على قولين والله أعلم ويقال إنهم لما صوت لهم العجل رقصوا
حوله وافتتنوا به وقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي قال الله تعالى " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك
لهم ضرا ولا نفعا " وقال في هذه الآية الكريمة " ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا " ينكر تعالى عليهم
في ضلالهم بالعجل وذهولهم عن خالق السماوات والأرض ورب كل شئ ومليكه أن عبدوا معه عجلا جسدا له
خوار لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ولكن غطى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال كما تقدم من رواية
الإمام أحمد وأبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حبك الشئ يعمي ويصم " وقوله " ولما سقط
في أيديهم " أي ندموا على ما فعلوا " ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا " وقرأ بعضهم لئن
لم ترحمنا بالتاء المثناة من فوق " ربنا " منادى " ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين " أي من الهالكين وهذا
اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ
برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع
القوم الظالمين (150) قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين (151)
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف قال أبو الدرداء أشد
الغضب " قال بئسما خلفتموني من بعدي " يقول بئس ما صنعتم في عبادة العجل بعد أن ذهبت وتركتكم وقوله
" أعجلتم أمر ربكم " يقول استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى وقوله " وألقى الألواح وأخذ برأس
أخيه يجره إليه " قيل: كانت الألواح من زمرد. وقيل من ياقوت وقيل من برد. وفي هذا دلالة على ما جاء في
الحديث " ليس الخبر كالمعاينة " ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبا على قومه وهذا قول جمهور
العلماء سلفا وخلفا وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبا لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة وقد رده ابن
عطية وغير واحد من العلماء وهو جدير بالرد وكأنه تلقاه قتادة عن بعض أهل الكتاب وفيهم كذابون ووضاعون
وأفاكون وزنادقة وقوله " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم قال في الآية الأخرى
" قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعن أفعصيت أمري * قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي *
إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " وقال ها هنا " ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " أي لا تسوقني سياقهم وتجعلني معهم وإنما
قال " ابن أم ليكون أرق وأنجع عنده وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هارون
عليه السلام كما قال تعالى " ولقد قال لهم هارون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا
أمري " فعند ذلك " قال " موسى " رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " وقال ابن
أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ثنا عفان ثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر أخبره ربه عز وجل أن قومه فتنوا بعده فلم
يلق الألواح فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح ".
إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين (152) والذين
عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (153)
258

أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضا كما
تقدم في سورة البقرة " فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب
الرحيم " وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلة وصغارا في الحياة الدنيا وقوله " وكذلك نجزي المفترين " نائلة لكل من
افترى بدعة فإن ذل البدعة ومخالفة الرشاد متصلة من قلبه على كتفيه كما قال الحسن البصري: إن ذل البدعة
على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين. وهكذا روى أيوب السختياني عن أبي قلابة
الجرمي أنه قرأ هذه الآية " وكذلك نجزي المفترين " فقال هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة. وقال سفيان بن
عيينة كل صاحب بدعة ذليل ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان
من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ولهذا عقب هذه القصة بقوله " والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا
إن ربك " أي يا محمد يا رسول التوبة ونبي الرحمة " من بعدها " أي من بعد تلك الفعلة " لغفور رحيم ".
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم ثنا أبان ثنا قتادة عن عزرة عن الحسن العرني عن علقمة
عن عبد الله بن مسعود أنه سئل عن ذلك يعني عن الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها فتلا هذه الآية " والذين عملوا
السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " فتلاها عبد الله عشر مرات فلم يأمرهم بها ولم
ينههم عنها.
ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون (154)
يقول تعالى " ولما سكت عن موسى الغضب " أي غضبه على قومه " أخذ الألواح " أي التي كان ألقاها من شدة
الغضب على عبادتهم العجل غيرة لله وغضبا له " وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " يقول
كثير من المفسرين إنها لما ألقاها تكسرت ثم جمعها بعد ذلك ولهذا قال بعض السلف فوجد فيها هدى ورحمة
وأما التفصيل فذهب وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الاسلامية والله
أعلم بصحة هذا. وأما الدليل الواضح على أنها تكسرت حين ألقاها وهي من جوهر الجنة فقد أخبر تعالى أنه لما
أخذها بعدما ألقاها وجد فيها " هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " ضمن الرهبة معنى الخضوع ولهذا عداها باللام.
وقال قتادة في قوله تعالى " أخذ الألواح " قال رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد: قال رب إني أجد في الألواح أمة هم
الآخرون أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال رب إني أجد
في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرأونها وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا حتى إذا رفعوها لم يحفظوا
شيئا ولم يعرفوه وإن الله أعطاهم من الحفظ شيئا لم يعطه أحدا من الأمم قال رب اجعلهم أمتي قال تلك أمة
أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ويقاتلون فصول الضلالة حتى
يقاتلون الأعور الكذاب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد قال رب إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في
بطونهم ويؤجرون عليها وكان من قبلهم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه بعث الله نارا فأكلتها وإن ردت عليه تركت
فتأكلها السباع والطير وإن الله أخذ صدقاتهم من غنيهم لفقيرهم قال رب فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال
رب إني أجد في الألواح أمة إذا هم أحدهم بحسنة ثم لم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشر أمثالها
إلى سبعمائة رب اجعلهم أمتي قال تلك أما أحمد. قال رب إني أجد في الألواح أمة هم المشفوعون والمشفوع
لهم فاجعلهم أمتي قال تلك أمة أحمد. قال قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى نبذ الألواح وقال اللهم اجعلني من
أمة أحمد.
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي
259

أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا
وارحمنا وأنت خير الغافرين (155) * واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية كان الله أمره أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار
سبعين رجلا فبرزهم ليدعوا ربهم وكان فيما دعوا الله قالوا: اللهم أعطنا ما لم تعط أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا
فكره الله ذلك من دعائهم فأخذتهم الرجفة " قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " الآية. وقال السدي إن
الله أمر موسى أن يأتيه في ثلاثين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعدا " واختار موسى
قومه سبعين رجلا " على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا فلما أتوا ذلك المكان قالوا " لن نؤمن لك " يا موسى " حتى
نرى الله جهرة " فإنك قد كلمته فأرناه " فأخذتهم الصاعقة " فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول رب ماذا أقول لبني
إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " وقال محمد بن إسحاق اختار
موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخير فالخير وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم وسلوه التوبة على من
تركتم وراءكم من قومكم صوموا وطهروا ثيابكم فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه وكان لا يأتيه إلا
بإذن منه وعلم فقال السبعون - فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه - لموسى اطلب لنا
نسمع كلام ربنا فقال أفعل فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ودنا موسى
فدخل فيه وقال للقوم ادنوا وكان موسى إذا كلم الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم
أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ودنا القوم حتى إذا دخلوا وقعوا سجودا سمعوه وهو يكلم يأمره وينهاه افعل ولا
تفعل فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم فقالوا يا موسى " لن نؤمن لك حتى نرى الله
جهرة فأخذتهم الرجفة " وهي الصاعقة فالتقت أرواحهم فماتوا جميعا فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه
ويقول " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي " قد سفهوا أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل.
وقال سفيان الثوري حدثني أبو إسحق عن عمارة بن عبيد السلولي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال انطلق
موسى وهارون وشبر وشبير فانطلقوا إلى سفح جبل فقام هارون على سرير فتوفاه الله عز وجل فلما رجع موسى إلى
بني إسرائيل قالوا له أين هارون قال توفاه الله عز وجل قالوا أنت قتلته حسدتنا على خلقه ولينه أو كلمة نحوها قال
فاختاروا من شئتم قال فاختاروا سبعين رجلا قال فذلك قوله تعالى " واختار موسى قومه سبعين رجلا " فلما انتهوا
إليه قالوا يا هارون من قتلك قال ما قتلني أحد ولكن توفاني الله قالوا يا موسى لن تعصى بعد اليوم فأخذتهم الرجفة
قال فجعل موسى عليه السلام يرجع يمينا وشمالا وقال يا رب " لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل
السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء " قال فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم هذا أثر
غريب جدا وعمارة بن عبيد هذا لا أعرفه وقد رواه شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي فذكره
وقال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جرير أنهم أخذتهم الرجفة لانهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا
نهوهم ويتوجه هذا القول بقول موسى " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا " وقوله " إن هي إلا فتنتك " أي ابتلاؤك
واختبارك وامتحانك قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وأبو العالية وربيع بن أنس وغير واحد من علماء السلف
والخلف ولا معنى له غير ذلك يقول إن الامر إلا أمرك وإن الحكم إلا لك فما شئت كان تضل من تشاء
وتهدي من تشاء ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت فالملك
كله لك والحكم كله لك لك الخلق والامر وقوله " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " الغفر هو
الستر وترك المؤاخذة بالذنب والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل " وأنت خير
260

الغافرين " أن لا يغفر الذنوب إلا أنت " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة " الفصل الأول من الدعاء
دفع لمحذور وهذا لتحصيل المقصود " واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة " أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما
حسنة وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة " إنا هدنا إليك " أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك قاله ابن عباس
وسعيد بن جبير ومجاهد وأبو العالية والضحاك وإبراهيم التيمي والسدي وقتادة وغير واحد وهو كذلك لغة وقال
ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن شريك عن جابر عن عبد الله بن يحيى عن علي قال إنما سميت اليهود
لانهم قالوا " إنا هدنا إليك " جابر بن يزيد الجعفي ضعيف.
قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا
يؤمنون (159)
يقول تعالى مجيبا لنفسه في قوله " إن هي إلا فتنتك " الآية. قال " عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل
شئ " أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إلا هو وقوله تعالى
" ورحمتي وسعت كل شئ " الآية عظيمة الشمول والعموم كقوله تعالى إخبارا عن حملة العرش ومن حوله أنهم
يقولون " ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما ". وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا الجريري
عن أبي عبد الله الجشمي حدثنا جندب هو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم
علقها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ثم ركبها ثم نادى اللهم
ارحمني ومحمدا ولا تشرك في رحمتنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتقولون هذا أضل أم بعيره ألم تسمعوا ما
قال؟ " قالوا بلى قال " لقد حظرت رحمة واسعة إن الله عز وجل خلق مائة رحمة فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق
جنها وإنسها وبهائمها وأخر عنده تسعا وتسعين رحمة أتقولون هو أضل أم بعيره؟ ". رواه أحمد وأبو داود عن
علي بن نصر عن عبد الصمد بن عبد الوارث به وقال أحمد أيضا حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان عن أبي
عثمان عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن لله عز وجل مائة رحمة فمنها رحمة يتراحم بها الخلق وبها تعطف
الوحوش على أولادها وأخر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة ". تفرد بإخراجه مسلم فرواه من حديث سليمان هو ابن
طرخان وداود بن أبي هند كلاهما عن أبي عثمان واسمه عبد الرحمن بن مل عن سلمان هو الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم
به وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إن لله مائة رحمة عنده تسعة وتسعون وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين الجن والإنس وبين الخلق فإذا
كان يوم القيامة ضمها إليه " تفرد به أحمد من هذا الوجه وقال أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد حدثنا الأعمش
عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله مائة رحمة فقسم منها جزءا واحدا بين الخلق به
يتراحم الناس والوحش والطير ". ورواه ابن ماجة من حديث أبي معاوية عن الأعمش به وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا أحمد بن يونس حدثنا سعد أبو غيلان الشيباني عن
حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم عن صلة بن زفر عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الفاجر في دينه الأحمق في معيشته والذي نفسي بيده ليدخلن الجنة الذي قد
محشته النار بذنبه والذي نفسي بيده ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه ". هذا حديث
غريب جدا وسعد هذا لا أعرفه وقوله " فسأكتبها للذين يتقون " الآية. يعني فسأوجب حصول رحمتي منة مني
وإحسانا إليهم كما قال تعالى " كتب ربكم على نفسه الرحمة " وقوله " للذين يتقون " أي سأجعلها للمتصفين
بهذه الصفات وهم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم " الذين يتقون " أي الشرك والعظائم من الذنوب قوله
" ويؤتون الزكاة " قيل زكاة النفوس وقيل الأموال ويحتمل أن تكون عامة لهما فإن الآية مكية " والذين هم بآياتنا
يؤمنون " أي يصدقون.
261

الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوارة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن
المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين
آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون (157)
" الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " وهذه صفة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها
علماؤهم وأحبارهم. كما روى الإمام أحمد حدثنا إسماعيل عن الجريري عن أبي صخر العقيلي حدثني رجل من
الاعراب قال جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغت من بيعي قلت لألقين هذا الرجل
فلأسمعن منه قال فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشر التوراة يقرؤها
يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنشدك بالذي أنزل التوراة هل
تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ " فقال برأسه هكذا أي لا فقال ابنه إي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا
صفتك ومخرجك وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله فقال " أقيموا اليهودي عن أخيكم " ثم تولى
كفنه والصلاة عليه هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح عن أنس وقال الحاكم صاحب المستدرك أخبرنا
محمد بن عبد الله بن إسحاق البغوي حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس حدثنا
عبد الله بن إدريس عن شرحبيل بن مسلم عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال بعثت أنا ورجل
آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الاسلام فخرجنا حتى قدمنا الغوطة يعني غوطة دمشق فنزلنا على جبلة بن
الأيهم الغساني فدخلنا عليه فإذا هو على سرير له فأرسل إلينا برسوله نكلمه فقلنا والله لا نكلم رسولا وإنما بعثنا
إلى الملك فإن أذن لنا كلمناه وإلا لم نكلم الرسول فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك قال فأذن لنا فقال تكلموا
فكلمه هشام بن العاص ودعاه إلى الاسلام فإذا عليه ثياب سود فقال له هشام وما هذه التي عليك؟ فقال لبستها
وحلفت أن لا أنزعها حتى أخرجكم من الشام قلنا ومجلسك هذا والله لنأخذنه منك ولنأخذن ملك الملك الأعظم إن
شاء الله أخبرنا بذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قال " لستم بهم بل هم قوم يصومون بالنهار ويقومون بالليل فكيف صومكم؟
فأخبرناه فملئ وجهه سوادا فقال قوموا وبعث معنا رسولا إلى الملك فخرجنا حتى إذا كنا قريبا من المدينة قال لنا
الذي معنا إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال قلنا والله لا ندخل إلا عليها
فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك فأمرهم أن ندخل على رواحلنا فدخلنا عليها متقلدين سيوفنا حتى انتهينا إلى
غرفة له فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا فقلنا لا إله إلا الله والله أكبر فالله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى صارت
كأنها عذق تصفقه الرياح. قال فأرسل إلينا ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم وأرسل إلينا أن ادخلوا فدخلنا عليه
وهو على فراش له وعنده بطارقة من الروم وكل شئ في مجلسه أحمر وما حوله حمرة وعليه ثياب من الحمرة
فدنونا منه فضحك فقال ما عليكم لو جئتموني بتحيتكم فيما بينكم؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية كثير الكلام
فقلنا إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك وتحيتك التي تحيا بها لا يحل لنا أن نحييك بها قال كيف تحيتكم فيما
بينكم؟ قلنا السلام عليك قال فكيف تحيون ملككم؟ قلنا بها قال فكيف يرد عليكم؟ قلنا بها قال فما أعظم
كلامكم؟ قلنا لا إله إلا الله والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها قال فهذه
الكلمة التي قلتموها حيث انتفضت الغرفة أكلما قلتموها في بيوتكم انتفضت عليكم غرفكم قلنا لا ما رأيناها فعلت
هذا قط إلا عندك قال لوددت أنكم كلما قلتم انتفض كل شئ عليكم وإني قد خرجت من نصف ملكي قلنا لم؟
قال لأنه كان أيسر لشأنها وأجدر أن لا تكون من أمر النبوة وأنها تكون من حيل الناس ثم سألنا عما أراد فأخبرناه ثم
قال كيف صلاتكم وصومكم؟ فأخبرناه فقال قوموا فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كثير فأقمنا ثلاثا فأرسل إلينا ليلا
262

فدخلنا عليه فاستعاد قولنا فأعدناه ثم دعا بشئ كهيئة الربعة العظيمة مذهبة فيها بيوت صغار عليها أبواب ففتح بيتا
وقفلا فاستخرج حريرة سوداء فنشرناها فإذا فيها صورة حمراء وإذا فيها رجل ضخم العينين عظيم الأليتين لم أر مثل
طول عنقه وإذا ليست له لحية وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله فقال أتعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا آدم عليه
السلام وإذا هو أكثر الناس شعرا ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء وإذا فيها صورة بيضاء وإذا له شعر
كشعر القطط أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا نوح عليه السلام ثم
فتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء وإذا فيها رجل شديد البياض حسن العينين صلت الجبين طويل الخد أبيض
اللحية كأنه يبتسم فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا إبراهيم عليه السلام ثم فتح بابا آخر فإذا فيه صورة بيضاء
وإذا والله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعرفون هذا؟ قلنا نعم هذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وبكينا قال والله يعلم أنه قام
قائما ثم جلس وقال والله إنه لهو قلنا نعم إنه لهو كأنك تنظر إليه فأمسك ساعة ينظر إليها ثم قال أما إنه كان آخر
البيوت ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة أدماء سحماء
وإذا رجل جعد قطط غائر العينين حديد النظر عابس متراكب الأسنان متقلص الشفة كأنه غضبان فقال هل تعرفون
هذا؟ قلنا لا قال هذا موسى عليه السلام وإلى جنبه صورة تشبهه إلا أنه مدهان الرأس عريض الجبين في عينيه
قبل فقال هل تعرقون هذا؟ قلنا لا قال هذا هارون بن عمران عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة
بيضاء فإذا فيها صورة رجل آدم سبط ربعة كأنه غضبان فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا لوط عليه السلام
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أبيض مشرب حمرة أقنى خفيف العارضين حسن
الوجه فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا إسحق عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا
فيها صورة تشبه إسحق إلا أنه على شفته خال فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا يعقوب عليه السلام ثم فتح
بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها صورة رجل أبيض حسن الوجه أقنى الانف حسن القامة يعلو وجهه نور
يعرف في وجهه الخشوع يضرب إلى الحمرة قال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا إسماعيل جد نبيكم صلى الله عليه وسلم ثم
فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة كصورة آدم كأن وجهه الشمس فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا
لا قال هذا يوسف عليه السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فإذا فيها صورة رجل أحمر حمش
الساقين أخفش العينين ضخم البطن ربعة متقلد سيفا فقال: هل تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا داود عليه السلام
ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة بيضاء فيها صورة رجل ضخم الأليتين طويل الرجلين راكب فرسا فقال هل
تعرفون هذا؟ قلنا لا قال هذا سليمان بن داود عليهما السلام ثم فتح بابا آخر فاستخرج منه حريرة سوداء فيها
صورة بيضاء وإذا شاب شديد سواد اللحية كثير الشعر حسن العينين حسن الوجه فقال هل تعرفون هذا؟ قلنا لا
قال هذا عيسى بن مريم عليه السلام قلنا من أين لك هذه الصور لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء
عليهم السلام لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله فقال إن آدم عليه السلام سأل ربه أن يريه الأنبياء
من ولده فأنزل عليه صورهم فكانت في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس فاستخرجها ذو القرنين من
مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال ثم قال أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي وإني كنت عبدا لاشركم
ملكه حتى أموت ثم أجازنا فأحسن جائزتنا وسرحنا فلما أتينا أبا بكر الصديق رضي الله عنه فحدثناه بما أرانا وبما
قال لنا وما أجازنا قال فبكى أبو بكر وقال مسكين لو أراد الله به خيرا لفعل ثم قال أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم
واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم وهكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتاب دلائل
النبوة عن الحاكم إجازة فذكره وإسناده لا بأس به. وقال ابن جرير حدثنا المثنى حدثنا عثمان بن عمر حدثنا فليح
عن هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة
قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " وحرزا
للأميين أنت عبدي ورسولي اسمك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن
263

يقولوا لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا. قال عطاء ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك فما
اختلف حرفا إلا أن كعبا قال بلغته قال قلوبا غلوفيا وآذانا صموميا وأعينا عموميا. وقد رواه البخاري في صحيحه
عن محمد بن سنان عن فليح عن هلال بن علي فذكر بإسناده نحوه وزاد بعد قوله ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب
في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وذكر حديث عبد الله بن عمرو ثم قال ويقع في كلام كثير
من السلف إطلاق التوراة على كتب أهل الكتاب وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا والله أعلم وقال
الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي حدثنا محمد بن
عمر بن إبراهيم من ولد جبير بن مطعم قال حدثتني أم عثمان بنت سعيد وهي جدتي عن أبيها سعيد بن
محمد بن جبير عن أبيه محمد بن جبير عن أبيه جبير بن مطعم قال: خرجت تاجرا إلى
الشام فلما كنت بأدنى الشام لقيني رجل من أهل الكتاب فقال هل عندكم رجل نبيا قلت
نعم قال هل تعرف صورته إذا رأيتها قلت نعم فأدخلني بيتا فيه صور فلم أر صورة
النبي صلى الله عليه وسلم فبينا أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا فقال فيم أنتم فأخبرناه فذهب بنا إلى منزله فساعة ما دخلت
نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم قلت من هذا الرجل القابض على عقبه قال إنه لم يكن
نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي فإنه لا نبي بعده وهذا الخليفة بعده وإذا صفة أبي بكر رضي الله عنه وقال أبو
داود حدثنا عمر بن حفص أبو عمرو الضرير حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم عن
عبد الله بن شقيق العقيلي عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال بعثني عمر إلى الأسقف فدعوته فقال له عمر هل
تجدني في الكتاب قال نعم قال كيف تجدني قال أجدك قرنا فرفع عمر الدرة وقال قرن مه قال قرن حديد أمير
شديد قال فكيف تجد الذي بعدي قال أجد خليفة صالحا غير أنه يؤثر قرابته قال عمر يرحم الله عثمان ثلاثا قال
كيف تجد الذي بعده قال أجده صدا حديد قال فوضع عمر يده على رأسه وقال يا دفراه يا دفراه قال يا أمير
المؤمنين إنه خليفة صالح ولكنه يستخلف حين يستخلف والسيف مسلول والدم مهراق وقوله تعالى " يأمرهم
بالمعروف وينهاهم عن المنكر " هذه صفة الرسول صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم في الكتب المتقدمة.
وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت
الله يقول " يا أيها الذين آمنوا " فأزعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه
الله به من الامر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه كما أرسل به جميع الرسل قبله كما قال تعالى
" ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر هو العقدي
عبد الملك بن عمرو حدثنا سليمان هو ابن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الملك بن سعيد عن
أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له
أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه
أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه ". رواه الإمام أحمد رضي الله عنه بإسناد جيد ولم
يخرجه أحد من أصحاب الكتب وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي
البختري عن علي رضي الله عنه قال: إذا سمعتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا به الذي هو أهدى والذي هو أهني
والذي هو أتقى ثم رواه عن يحيى عن ابن سعيد عن مسعر عن عمرو بن مرة عن أبي البحتري عن أبي
عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه
وأتقاه وقوله " ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " أي يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر
والسوائب والوصائل والحام ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ويحرم عليهم الخبائث قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.
قال بعض العلماء فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين وكل ما حرمه فهو خبيث ضار
264

في البدن والدين وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين وأجيب عن ذلك بما لا يتسع
هذا الموضع له وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلا أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها
ولا تحريمها إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته وفيه كلام طويل
أيضا وقوله " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " أي أنه جاء بالتيسير والسماحة كما ورد الحديث
من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " بعثت بالحنيفية السمحة " وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما
بعثهما إلى اليمن " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا ". وقال صاحب أبو بزرة الأسلمي إني
صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره وقد كانت الأمم التي قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم فوسع الله على هذه
الأمة أمورها وسهلها لهم ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لامتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل "
وقال " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولهذا قال أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا " ربنا لا تؤاخذنا
إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به
واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ". وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال
بعد كل سؤال من هذه قد فعلت قد فعلت وقوله " فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه " أي عظموه ووقروه وقوله
" واتبعوا النور الذي أنزل معه " أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغا إلى الناس " أولئك هم المفلحون " أي في
الدنيا والآخرة.
قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيى ويميت
فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون (158)
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم " قل " يا محمد " يا أيها الناس " وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي
والعجمي " إني رسول الله إليكم جميعا " أي جميعكم وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى
الناس كافة كما قال الله تعالى " قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ " وقال
تعالى " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " وقال تعالى " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن
أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " والآيات في هذا كثيرة كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر
وهو معلوم من دين الاسلام ضرورة أنه صلوات الله وسلامه عليه رسول الله إلى الناس كلهم قال البخاري رحمه الله
في تفسير هذه الآية حدثنا عبد الله حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم
حدثنا عبد الله بن العلاء بن زيد حدثني بشر بن عبيد الله حدثني أبو إدريس الخولاني قال سمعت أبا الدرداء رضي الله عنه
يقول: كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر فانصرف عنه عمر مغضبا
فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو
الدرداء ونحن عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما صاحبكم هذا فقد غامر " أي غاضب وحاقد قال وندم عمر على ما
كان منه فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر قال أبو الدرداء فغضب
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل أنتم تاركوا لي
صاحبي؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت " انفرد به
البخاري.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس
مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخرا: بعثت إلى الناس كافة الأحمر
والأسود ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
265

وأعطيت الشفاعة فأخرتها لامتي يوم القيامة فهي لمن لا يشرك بالله شيئا " إسناد جيد ولم يخرجوه وقال الإمام أحمد
أيضا حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا بكر بن مضر عن أبي الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال
لهم " لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة وكان من قبلي إنما
يرسل إلى قومه ونصرت على العدو بالرعب ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا وأحلت لي الغنائم
أكلها وكان من قبلي يعظمون أكلها كانوا يحرقونها وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أينما أدركتني الصلاة
تمسحت وصليت وكان من قبلي يعظمون ذلك إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم والخامسة هي ما هي قيل لي
سل فإن كل نبي قد سأل فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله ". إسناد جيد قوي
أيضا ولم يخرجوه وقال أيضا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه عن صلى الله عليه وسلم قال: " من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني فلم يؤمن بي لم
يدخل الجنة ". وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي موسى قال: قال رسول الله " والذي نفسي
بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ". وقال الإمام أحمد حدثنا
حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس وهو سليم بن جبير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي
نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من
أصحاب النار ". تفرد به أحمد وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد حدثنا إسرائيل عن أبي إسحق عن أبي
بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأعطيت الشفاعة
وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا "
وهذا أيضا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه والله أعلم وله مثله من حديث ابن عمر بسند جيد أيضا وهذا الحديث
ثابت في الصحيحين أيضا من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد
من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل
وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس
عامة " وقوله " الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت " صفة الله تعالى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الذي أرسلني هو خالق كل شئ وربه ومليكه الذي بيده الملك والاحياء والإماتة وله الحكم " وقوله " فآمنوا
بالله ورسوله النبي الأمي " أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والايمان به " النبي الأمي " أي الذي
وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة فإنه مبعوث بذلك في كتبهم ولهذا قال " النبي الأمي " وقوله " الذي
يؤمن بالله وكلماته " أي يصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه " واتبعوه " أي اسلكوا طريقه واقتفوا أثره
" لعلكم تهتدون " أي الصراط المستقيم.
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (159)
يقول تعالى مخبرا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به كما قال تعالى " من أهل الكتاب أمة
قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون " وقال تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم
وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب "
وقال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا
كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " الآية. وقال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه
حق تلاوته أولئك يؤمنون به " الآية. وقال تعالى " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان
266

سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا * ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا ". وقد ذكر ابن
جرير في تفسيرها خبرا عجيبا فقال حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا حجاج عن ابن جريج قوله " ومن قوم موسى
أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ
سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله عز وجل أن يفرق بينهم وبينهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه
حتى خرجوا من وراء الصين فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا قال ابن جريج قال ابن عباس فذلك قوله
" وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " ووعد الآخرة عيسى ابن مريم
قال ابن جريج قال ابن عباس ساروا في السرب سنة ونصفا وقال ابن عيينة عن صدقة أبي الهذيل عن السدي
" ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال قوم بينكم وبينهم نهر من شهد.
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن أضرب بعصاك الحجر فانبجست
منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم وظللنا عليهم الغمام وأنزلنا عليهم المن والسلوى كلوا من
طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (160) وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث
شئتم وقولا حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين (161) فبدل الذين ظلموا منهم
قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون (162)
تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة وهي مدنية وهذا السياق مكي ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما
أغنى عن إعادته هنا ولله الحمد والمنة.
وسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا
يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون (163)
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت " الآية. يقول تعالى لنبيه صلوات
الله وسلامه عليه " واسألهم " أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله
ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في
كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم وهذه القرية هي أيلة وهي على شاطئ بحر القلزم قال محمد بن
إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة
البحر " قال هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور وكذا قال عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وقال عبد الله بن كثير
القارئ سمعنا أنها أيلة وقيل هي مدين وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد هي قرية يقال لها معتا بين مدين
وعينونا وقوله " إذ يعدون في السبت " أي يعتدون فيه ومخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك " إذ تأتيهم
حيتانهم يوم سبتهم شرعا " قال الضحاك عن ابن عباس أي ظاهرة على الماء وقال العوفي عن ابن عباس ظاهرة من
كل مكان قال ابن جرير وقوله " ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم " أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على
ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لهم صيده " كذلك نبلوهم " نختبرهم
" بما كانوا يفسقون " يقول بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما
267

تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة رحمه
الله حدثنا أحمد بن محمد بن سلم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني حدثنا يزيد بن هارون حدثنا
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم
الله بأدنى الحيل " وهذا إسناد جيد فإن أحمد بن محمد بن سلم هذا ذكره الخطيب في تاريخه ووثقه وباقي رجاله
مشهورون ثقات ويصحح الترمذي بمثل هذا الاسناد كثيرا.
وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم
يتقون (164) فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا
يفسقون (165) فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين (166)
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك
يوم السبت كما تقدم بيانه في سورة البقرة وفرقة نهت عن ذلك واعتزلتهم وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها
قالت للمنكرة " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " أي لم تنهون هؤلاء وقد علمتم أنهم قد
هلكوا واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم؟ قالت لهم المنكرة " معذرة إلى ربكم " قرأ بعضهم
بالرفع كأنه على تقدير هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب أي نفعل ذلك " معذرة إلى ربكم " أي فيما أخذ علينا من
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر " ولعلهم يتقون " يقولون ولعل لهذا الانكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ويرجعون
إلى الله تائبين فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم قال تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به " أي فلما أبى الفاعلون قبول
النصيحة " أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا " أي ارتكبوا المعصية " بعذاب بئيس " فنص على
نجاة الناهين وهلاك الظالمين وسكت عن الساكتين لان الجزاء من جنس العمل فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا
ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم هل كانوا من الهالكين أو من الناجين على قولين وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " هي
قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم وكانت الحيتان تأتيهم
يوم سبتهم شرعا في ساحل البحر فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها فمضى على ذلك ما شاء الله ثم إن طائفة
منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة وقالوا تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا
غيا وعتوا وجعلت طائفة أخرى تنهاهم فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق
عليهم العذاب " لم تعظون قوما الله مهلكهم " وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى فقالوا " معذرة إلى ربكم ولعلهم
يتقون " وكل قد كانوا ينهون فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم
والذين قالوا معذرة إلى ربكم وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة وروى العوفي عن ابن
عباس عنه قريبا من هذا وقال حماد بن زيد عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال ما
أدري أنجا الذين قالوا " لم تعظون قوما الله مهلكهم " أم لا؟ قال فلم أزل به حتى عرفته أنهم قد نجوا فكساني
حلة وقال عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج حدثني رجل عن عكرمة قال جئت ابن عباس يوما وهو يبكي وإذا
المصحف في حجره فأعظمت أن أدنو منه ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست فقلت ما يبكيك يا ابن
عباس جعلني الله فداك؟ قال فقال هؤلاء الورقات قال وإذا هو في سورة الأعراف قال تعرف أيلة؟ قلت نعم قال
فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد
ومؤنة شديدة كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأنها الماخض تنتطح ظهورها لبطونها بأفنيتهم فكانوا
268

كذلك برهة من الدهر ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه وكلوها في
غيره من الأيام فقالت ذلك طائفة منهم وقالت طائقة بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت فكانوا كذلك
حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها واعتزلت طائفة ذات اليمين وتنحت واعتزلت
طائفة ذات اليسار وسكتت وقال الأيمنون ويلكم الله ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله وقال الأيسرون " لم تعظون
قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا " قال الأيمنون " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " أي ينتهون إن ينتهوا
فهو أحب إلينا أن لا يصابوا ولا يهلكوا وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم فمضوا على الخطيئة وقال الأيمنون فقد فعلتم يا
أعداء الله والله لنأتينكم الليلة في مدينتكم والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما
عنده من العذاب فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا فلم يجابوا فوضعوا سلما وأعلوا سور المدينة رجلا
فالتفت إليهم فقال أي عباد الله قردة والله تعادى تعاوى لها أذناب قال ففتحوا فدخلوا عليهم فعرفت القرود أنسابها
من الانس ولا تعرف نس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الانس فتشم ثيابه وتبكي فيقول ألم
ننهكم عن كذا فتقول برأسها أي نعم ثم قرأ ابن عباس " فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء
وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس " قال فأرى الذين نهوا قد نجوا ولا أرى الآخرين ذكروا ونحن نرى أشياء
ننكرها ولا نقول فيها قال: قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا " لم
تعظون قوما الله مهلكهم " قال فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين وكذا روى مجاهد عنه وقال ابن جرير حدثنا
يونس أخبرنا أشهب بن عبد العزيز عن مالك قال زعم ابن رومان أن قوله تعالى " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا
ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " قال كانت تأتيهم يوم السبت فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شئ إلى يوم السبت
الآخر فاتخذ لذلك رجل خيطا ووتدا فربط حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه
فوجد الناس ريحه فأتوه فسألوه عن ذلك فجحدهم فلم يزالوا به حتى قال لهم فإنه جلد حوت وجدناه فلما كان
السبت الآخر فعل مثل ذلك ولا أدري لعله قال ربط حوتين فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه فوجدوا رائحة
فجاءوا فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع فقالوا له وما صنعت؟ فأخبرهم ففعلوا مثل ما فعل حتى كثر
ذلك وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم فأصابهم من المسخ ما أصابهم فغدا عليهم جيرانهم ممن كانوا
حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس فوجدوا المدينة مغلقة عليهم فنادوا فلم يجيبوهم فتسوروا عليهم فإذا هم قردة
فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ويدنو منه ويتمسح به وقد قدمنا في سورة البقرة من الآثار في
خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ولله الحمد والمنة. " القول الثاني " أن الساكتين كانوا من الهالكين قال محمد
ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال ابتدعوا السبت فابتلوا فيه فحرمت عليهم فيه
الحيتان فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر
حتى السبت المقبل فإذا جاء السبت جاءت شرعا فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا
فخزم أنفه ثم ضرب له وتدا في الساحل وربطه وتركه في الماء فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ففعل ذلك وهم
ينظرون ولا ينكرون ولا ينهاه منهم أحد إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية قال: فقالت
طائفة للذين ينهونهم " لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم " فقالوا نسخط
أعمالهم " ولعلهم يتقون * فلما نسوا ما ذكروا - إلى قوله - قردة خاسئين " قال ابن عباس كانوا أثلاثا ثلث نهوا
وثلث قالوا " لم تعظون قوما الله مهلكهم " وثلث أصحاب الخطيئة فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم وهذا
إسناد جيد عن ابن عباس ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين أولى من القول بهذا لأنه تبين حالهم
بعد ذلك والله أعلم وقوله تعالى " وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس " فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا
نجوا وبئيس فيه قراءات كثيرة ومعناه في قول مجاهد الشديد وفي رواية أليم وقال قتادة موجع والكل متقارب والله
أعلم وقوله " خاسئين " أي ذليلين حقيرين مهانين.
269

وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه
لغفور رحيم (167)
" تأذن " تفعل من الاذان أي أعلم قاله مجاهد وقال غيره أمر وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه
اللفظة ولهذا أتبعت باللام في قوله " ليبعثن عليهم " أي على اليهود " إلى يوم القيامة من يسومهم سوء
العذاب " أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم ويقال إن موسى عليه السلام
ضرب عليهم الخراج سبع سنين وقيل ثلاث عشرة سنة وكان أول من ضرب الخراج ثم كانوا في قهر الملوك من
اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج ثم
جاء الاسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية. قال العوفي عن ابن عباس في تفسير
هذه الآية قال هي المسكنة وأخذ الجزية منهم وقال علي بن أبي طلحة عنه هي الجزية والذي يسومهم سوء
العذاب محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمته إلى يوم القيامة وكذا قال سعيد بن جبير وابن جريج
والسدي وقتادة وقال عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن المسيب قال يستحب أن تبعث
الأنباط في الجزية قلت: ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم عليه
السلام وذلك آخر الزمان وقوله " إن ربك لسريع العقاب " أي لمن عصاه وخالف شرعه " وإنه لغفور رحيم " أي
لمن تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب
كثيرا لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون (168)
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض
مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين
يتقون أفلا تعقلون (169) والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين (170)
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما أي طوائف وفرقا كما قال " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا
جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا " " منهم الصالحون ومنهم دون ذلك " أي فيهم الصالح وغير ذلك كقول الجن
" وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا " " وبلوناهم " أي اختبرناهم " بالحسنات والسيئات " أي بالرخاء
والشدة والرغبة والرهبة والعافية والبلاء " لعلهم يرجعون " ثم قال تعالى " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب
يأخذون عرض هذا الأدنى " الآية. يقول تعالى فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف
آخر لا خير فيهم وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة وقال مجاهد هم النصارى وقد يكون أعم من ذلك
" يأخذون عرض هذا الأدنى " أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ويسرفون أنفسهم ويعدونها
بالتوبة وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ولهذا قال " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " وكما قال سعيد بن جبير
يعملون الذنب ثم يستغفرون الله منه ويعترفون لله فإن عرض ذلك الذنب أخذوه وقال مجاهد في قوله تعالى
" يأخذون عرض هذا الأدنى " قال لا يشرف لهم شئ من الدنيا إلا أخذوه حلالا كان أو حراما ويتمنون المغفرة
" ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه " وقال قتادة في الآية إي والله لخلف سوء " ورثوا الكتاب " بعد
270

أنبيائهم ورسلهم أورثهم الله وعهد إليهم وقال الله تعالى في آية أخرى " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا
الصلاة " الآية. قال " يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " تمنوا على الله أماني وغرة يغترون بها " وإن
يأتهم عرض مثله يأخذوه " لا يشغلهم شئ عن شئ ولا ينهاهم شئ عن ذلك كلما هف لهم شئ من الدنيا
أكلوه لا يبالون حلالا كان أو حراما وقال السدي قوله " فخلف من بعدهم خلف " إلى قوله " ودرسوا ما فيه " قال
كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود
أن لا يفعلوا ولا يرتشوا فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى فيقال له ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول
سيغفر لي فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان
يطعن عليه فيرتشي يقول وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه قال الله تعالى " ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب
أن لا يقولوا على الله إلا الحق " الآية. يقول تعالى منكرا عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم الميثاق ليبينن
الحق للناس ولا يكتمونه كقوله " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء
ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون " الآية وقال ابن جريج قال ابن عباس " ألم يؤخذ عليهم ميثاق
الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق " قال فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها
ولا يتوبون منها وقوله تعالى " والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " يرغبهم في جزيل ثوابه ويحذرهم
من وبيل عقابه أي وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم وترك هوى نفسه وأقبل على طاعة ربه " أفلا تعقلون "
يقول أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ثم أثنى
تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما هو مكتوب فيه فقال تعالى " والذين
يمسكون بالكتاب " أي اعتصموا به واقتدوا بأوامره وتركوا زواجره " وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر
المصلحين ".
* وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم
تتقون (171)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " وإذ نتقنا الجبل فوقهم " يقول رفعناه وهو قوله " ورفعنا فوقهم الطور
بميثاقهم " وقال سفيان الثوري عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رفعته الملائكة فوق رؤوسهم وهو
قوله " ورفعنا فوقهم الطور " وقال القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ثم سار بهم موسى
عليه السلام إلى الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من
الوظائف فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم " كأنه ظلة " قال رفعته الملائكة فوق
رؤوسهم رواه النسائي بطوله وقال سنيد بن داود في تفسيره عن حجاج بن محمد عن أبي بكر بن عبد الله قال
هذا كتاب أتقبلونه بما فيه فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم وما أمركم وما نهاكم؟ قالوا أنشر علينا ما فيها
فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها قال اقبلوها بما فيها قالوا لا حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها
فراجعوه مرارا فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء قال لهم
موسى ألا ترون ما يقول ربي عز وجل لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل. قال فحدثني الحسن
البصري قال لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من أن
يسقط عليه فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر يقولون هذه السجدة التي رفعت بها
العقوبة قال أبو بكر فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا
اهتز فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه أي حول كما
قال تعالى " فسينغضون إليك رؤوسهم " والله أعلم.
271

وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن
تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (172) أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم
أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون (174)
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو
كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه قال تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس
عليها لا تبديل لخلق الله " وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد
على الفطرة " وفي رواية " على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تولد بهيمة جمعاء هل تحسون
فيها من جدعاء " وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله إني خلقت عبادي
حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " وقال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه
الله: حدثنا يونس بن الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني السري بن يحيى أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم عن
الأسود بن سريع من بني سعد قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات قال فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا
المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ثم قال " ما بال أقوام يتناولون الذرية " فقال رجل يا رسول الله أليسوا
أبناء المشركين؟ فقال " إن خياركم أبناء المشركين ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها
حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها " قال الحسن: والله لقد قال الله في كتابه " وإذ أخذ ربك من بني
آدم من ظهورهم ذريتهم " الآية وقد رواه الإمام أحمد عن إسماعيل بن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن
البصري به وأخرجه النسائي في سننه من حديث هشيم بن يونس بن عبيد عن الحسن قال: حدثني الأسود بن
سريع فذكره ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من
صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله
ربهم قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شئ أكنت مفتديا به
قال: فيقول نعم فيقول قد أردت منك أهون من ذلك قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت
إلا أن تشرك بي " أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا
حسين بن محمد حدثنا جرير يعني ابن حازم عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين
يديه ثم كلمهم قبلا قال " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا
- إلى قوله " المبطلون " وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه عن محمد بن عبد الرحيم
صاعقة عن حسين بن محمد المروزي به ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد به إلا أن
ابن أبي حاتم جعله موقوفا وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره عن جرير بن حازم
عن كلثوم بن جبير به وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير هكذا قال. وقد
رواه عبد الوارث عن كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فوقفه وكذا رواه إسماعيل بن علية ووكيع
عن ربيعة بن كلثوم عن جبير عن أبيه به وكذا رواه عطاء بن السائب وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن بذيمة عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس وكذا رواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس فهذا أكثر وأثبت والله أعلم
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع حدثنا أبي عن أبي هلال عن أبي حمزة الضبعي عن ابن عباس قال أخرج الله
272

ذرية آدم من ظهره كهيئة الذر وهو في أذى من الماء وقال أيضا: حدثنا علي بن سهل حدثنا ضمرة بن ربيعة
حدثنا أبو مسعود عن جرير قال: مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام قال: فقال يا جابر إذا أنت وضعت
ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده فإن ابني مجلس ومسئول ففعلت به الذي أمر فلما فرغت قلت يرحمك
الله عما يسئل ابنك من يسأله إياه قال يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم قلت يا أبا القاسم وما هذا
الميثاق الذي أقربه في صلب آدم. قال: حدثني ابن عباس إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة من
خالقها إلى يوم القيامة فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وتكفل لهم بالأرزاق ثم أعادهم في صلبه
فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به نفعه الميثاق
الأول ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقر به لم ينفعه الميثاق الأول ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات
على الميثاق الأول على الفطرة فهذه الطرق كلها مما تقوي وقف هذا على ابن عباس والله أعلم.
" حديث آخر " قال ابن جرير: حدثنا عبد الرحمن بن الوليد حدثنا أحمد بن أبي طيبة عن سفيان بن سعد عن
الأجلح عن الضحاك عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وإذ أخذ ربك من
بني آدم من ظهورهم ذريتهم " قال أخذ من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس فقال لهم " ألست بربكم قالوا
بلى " قالت الملائكة " شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " أحمد بن أبي طيبة هذا هو أبو محمد
الجرجاني قاضي قومس كان أحد الزهاد أخرج له النسائي في سننه وقال أبو حاتم الرازي: يكتب حديثه
وقال ابن عدي: حدث بأحاديث كثيرة غرائب وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن حمزة بن مهدي عن
سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو. وكذا رواه ابن جرير عن منصور به وهذا
أصح والله أعلم. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا روح هو ابن عبادة حدثنا مالك وحدثنا إسحق حدثنا
مالك عن زيد بن أبي أنيسة أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني
أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم
ألست بربكم قالوا بلى " الآية فقال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال " إن الله خلق آدم
عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح
ظهره فاستخرج منه ذرية قال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون " فقال رجل يا رسول الله ففيم
العمل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من
أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من
أعمال أهل النار فيدخله به النار " وهكذا رواه أبو داود عن القعنبي والنسائي عن قتيبة والترمذي في تفسيرهما عن إسحاق
بن موسى عن معن وابن أبي حاتم عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب وابن جرير عن روح بن عبادة
وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر وأخرجه ابن حبان في صحيحه من رواية أبي مصعب الزبيري كلهم عن الامام
مالك بن أنس به. قال الترمذي: وهذا حديث حسن ومسلم بن يسار لم يسمع عمر كذا قاله أبو حاتم وأبو
زرعة زاد أبو حاتم وبينهما نعيم بن ربيعة وهذا الذي قاله أبو حاتم رواه أبو داود في سننه عن محمد بن مصفى
عن بقية عن عمر بن جعثم القرشي عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن
مسلم بن يسار الجهني عن نعيم بن ربيعة قال: كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية " وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " فذكره. وقال الحافظ الدارقطني وقد تابع عمر بن جعثم بن زيد بن سنان
أبو فروة الرهاوي وقولهما أولى بالصواب من قول مالك والله أعلم قلت الظاهر أن الامام مالكا إنما أسقط ذكر
نعيم بن ربيعة عمدا لما جهل حال نعيم ولم يعرفه فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ولذلك يسقط ذكر جماعة
ممن لا يرتضيهم ولهذا يرسل كثيرا من المرفوعات ويقطع كثيرا من الموصولات والله أعلم. " حديث آخر " قال
273

الترمذي عند تفسيره هذه الآية: حدثنا عبد بن حميد حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن
أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو
خالقها من ذريته إلى يوم القيامة وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصا من نور ثم عرضهم على آدم فقال أي رب
من هؤلاء قال هؤلاء ذريتك فرأى رجلا منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه قال أي رب من هذا؟ قال هذا رجل من
آخر الأمم من ذريتك يقال له داود قال رب وكم جعلت عمره قال ستين سنة قال أي رب قد وهبت له من
عمري أربعين سنة فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أو
لم تعطها ابنك داود قال فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فنسيت ذريته وخطئ آدم فخطئت ذريته " ثم قال
الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الحاكم في
مستدركه من حديث أبي نعيم الفضل بن دكين به وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواه ابن أبي
حاتم في تفسيره من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحو ما تقدم إلى أن قال " ثم عرضهم على آدم فقال يا آدم هؤلاء ذريتك
وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم يا رب لم فعلت هذا بذريتي قال كي تشكر نعمتي
وقال آدم يا رب من هؤلاء الذين أراهم أظهر الناس نورا قال هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك " ثم ذكر قصة داود
كنحو ما تقدم.
" حديث آخر " قال عبد الرحمن بن قتادة النضري عن أبيه عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلا سأل
النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قد أخذ ذرية
آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ثم أفاض بهم في كفيه ثم قال هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار فأهل
الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار " رواه ابن جرير وابن مردويه من طرق عنه.
" حديث أخر " روى جعفر بن الزبير وهو ضعيف عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله
الخلق وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله فقال يا أصحاب اليمين فقالوا لبيك وسعديك
قال ألست بربكم؟ قالوا بلى قال يا أصحاب الشمال قالوا لبيك وسعديك قال ألست بربكم؟ قالوا بلى
ثم خلط بينهم فقال قائل له يا رب لم خلطت بينهم قال لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون أن يقولوا يوم
القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ثم ردهم في صلب آدم " رواه ابن مردويه.
" أثر آخر " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى " وإذ أخذ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم " الآيات قال فجمعهم له يومئذ جميعا ما هو كائن منه إلى يوم القيامة
فجعلهم في صورهم ثم استنطقهم فتكلموا وأخذ عليهم العهد والميثاق " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم
قالوا بلى " الآية قال فإني أشهد عليكم السماوات السبع والأرضين السبع وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم
القيامة لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ولا رب غيري ولا تشركوا بي شيئا وإني سأرسل إليكم رسلا
لينذروكم عهدي وميثاقي وأنزل عليكم كتبي قالوا نشهد أنك ربنا وإلهنا لا رب لنا غيرك ولا إله لنا غيرك
فأقروا له يومئذ بالطاعة ورفع أباهم آدم فنظر إليهم فرأى فيهم الغني والفقير وحسن الصورة ودون ذلك فقال: يا
رب لو سويت بين عبادك؟ قال إني أحببت أن أشكر ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق
آخر من الرسالة والنبوة فهو الذي يقول تعالى " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم " الآية وهو الذي يقول " فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرت الله " الآية ومن ذلك قال " هذا نذير من النذر الأولى " ومن ذلك قال " وما وجدنا
لأكثرهم من عهد " الآية رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن
مردويه في تفاسيرهم من رواية ابن جعفر الرازي به وروي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة
274

والسدي وغير واحد من علماء السلف سياقات توافق هذه الأحاديث اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها
وبالله المستعان. فهذه الأحاديث دالة على أن الله عز وجل استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل
النار وأما الاشهاد عليهم هناك بأنه ربهم فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
وفي حديث عبد الله بن عمرو وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف
إن المراد بهذا الاشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار
المجاشعي ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع وقد فسر الحسن الآية بذلك قالوا ولهذا قال " وإذ
أخذ ربك من بني آدم " ولم يقل من آدم " من ظهورهم " ولم يقل من ظهره " ذرياتهم " أي جعل نسلهم جيلا
بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى " وهو الذي جعلكم خلائف الأرض " وقال " ويجعلكم خلفاء الأرض "
وقال " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " ثم قال " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى " أي
أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا وقالا والشهادة تارة تكون بالقول كقوله " قالوا شهدنا على أنفسنا " الآية
وتارة تكون حالا كقوله تعالى " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر " أي حالهم
شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك وكذا قوله تعالى " وإنه على ذلك لشهيد " كما أن السؤال تارة يكون
بالقال وتارة يكون بالحال كقوله " وآتاكم من كل ما سألتموه " قالوا ومما يدل على أن المراد بهذا هذا أن جعل
هذا الاشهاد حجة عليهم في الاشراك فلو كان قد وقع هذا كما قال من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه
فإن قيل إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به
الرسل من هذا وغيره وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الاقرار بالتوحيد
ولهذا قال " أن تقولوا " أي لئلا تقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا " أي التوحيد " غافلين أو تقولوا إنما أشرك
آباؤنا " الآية.
واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين (175) ولو شئنا لرفعناه بها
ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل
القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون (176) ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم
كانوا يظلمون (177)
قال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش ومنصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه في قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الآية قال هو رجل من بني إسرائيل يقال
له بلعم بن باعوراء وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به. وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس
هو صيفي بن الراهب. قال قتادة وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر وكان مقيما ببيت
المقدس مع الجبارين وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو رجل من أهل اليمن يقال له بلعم آتاه الله
آياته فتركها وقال مالك بن دينار كان من علماء بني إسرائيل وكان مجاب الدعوة يقدمونه في الشدائد بعثه نبي الله
موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام. وقال
سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس هو بلعم بن باعوراء وكذا قال مجاهد وعكرمة
وقال ابن جرير: حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا إسرائيل عن مغيرة عن مجاهد عن ابن عباس قال هو
بلعام وقالت ثقيف هو أمية بن أبي الصلت وقال شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع بن عاصم عن عبد الله بن
عمرو في قوله " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " الآية. قال هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت وقد روي من غير
275

وجه عنه وهو صحيح إليه وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم
الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل
من له بصيرة ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى أهل بدر من
المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله. وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه فإن له أشعارا
ربانية وحكما وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للاسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا ابن أبي نمر حدثنا سفيان
عن أبي سعيد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " واتل عليهم نبا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قال هو
رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن وكانت له امرأة له منها ولد فقالت اجعل لي منها واحدة قال فلك
واحدة فما الذي تريدين؟ قالت ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا الله فجعلها أجمل امرأة
في بني إسرائيل فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله أن يجعلها كلبة فصارت كلبة
فذهبت دعوتان فجاء بنوها فقالوا ليس بنا على هذا قرار قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها فادع الله أن يردها إلى
الحال التي كانت عليها فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وتسمى البسوس غريب وأما
المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود
وغيره من السلف وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو رجل من مدينة الجبارين يقال له بلعام وكان يعلم
اسم الله الأكبر وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره من علماء السلف كان مجاب الدعوة ولا يسأل الله شيئا
إلا أعطاه إياه وأغرب بل أبعد بل أخطأ من قال كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها حكاه ابن جرير عن بعضهم
ولا يصح وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس لما نزل موسى بهم يعني بالجبارين ومن معه أتاه - يعني بلعم -
بنو عمه وقومه فقالوا إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد عنا موسى
ومن معه قال إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم
فسلخه الله ما كان عليه فذلك قوله تعالى " فانسلخ منها فأتبعه الشيطان " الآية وقال السدي لما انقضت
الأربعون سنة التي قال الله " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " بعث يوشع بن نون نبيا فدعا بني إسرائيل
فأخبرهم أنه نبي وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه وصدقوه وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام فكان
عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا
خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون وكان عندهم فيما شاء من الدنيا غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء
لعظمهن فكان ينكح أتانا له وهو الذي قال الله تعالى " فانسلخ منها " وقوله تعالى " فأتبعه الشيطان " أي
استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه ولهذا قال " فكان من الغاوين " أي من الهالكين الحائرين
البائرين وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال: حدثنا
محمد بن مرزوق حدثنا محمد بن بكر عن الصلت بن بهرام حدثنا الحسن حدثنا جندب البجلي في هذا المسجد
أن حذيفة يعني بن اليمان رضي الله عنه حدثه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن
حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الاسلام اعتراه إلى ما شاء الله انسلخ منه ونبذه وراء ظهره وسعى على جاره
بالسيف ورماه بالشرك " قال: قلت يا نبي الله أيهما أولى بالشرك المرمي أو الرامي؟ قال " بل الرامي " هذا إسناد
جيد والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ولم يرم بشئ سوى الارجاء وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل
ويحيى بن معين وغيرهما.
وقوله تعالى " ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه " يقول تعالى " ولو شئنا لرفعناه بها " أي
لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها " ولكنه أخلد إلى الأرض " أي مال إلى زينة
الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من أولي البصائر والنهى. وقال أبو الراهويه
276

في قوله تعالى " ولكنه أخلد إلى الأرض " قال تراءى له الشيطان على علوة من قنطرة بانياس فسجدت الحمارة
لله وسجد بلعام للشيطان وكذا قال عبد الرحمن بن جبير بن نفير وغير واحد وقال الإمام أبو جعفر بن جرير
رحمه الله وكان من قصة هذا الرجل ما حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا المعتمر عن أبيه أنه سئل عن هذه الآية
" واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام وكان مجاب الدعوة قال وإن
موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشام قال فرعب الناس منه رعبا شديدا فأتوا بلعام
فقالوا ادع الله على هذا الرجل وجيشه قال حتى أؤامر ربي أو حتى أؤامر قال فأمر في الدعاء عليهم فقيل له لا تدع عليهم فإنهم عبادي وفيهم نبيهم قال فقال لقومه إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم وإني قد نهيت فأهدوا
له هدية فقبلها ثم راجعوه فقالوا ادع عليهم فقال حتى أؤامر ربي فأمر فلم يأمره بشئ فقال قد وأمرت فلم يأمرني
بشئ فقالوا لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى قال فأخذ يدعو عليهم فإذا دعا عليهم
جرى على لسانه الدعاء على قومه وإذا أراد أن يدعو أن يفتح لقومه دعا أن يفتح لموسى وجيشه أو نحوا من ذلك
إن شاء الله قال فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا قال ما يجري على لساني إلا هكذا ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب
لي ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم إن الله يبغض الزنا وإنهم إن وقعوا في الزنا هلكوا
ورجوت أن يهلكهم الله فأخرجوا النساء تستقبلهم فإنهم قوم مسافرون فعسى أن يزنوا فيهلكوا قال ففعلوا
فأخرجوا النساء تستقبلهم قال وكان للملك ابنة فذكر من عظمها ما الله أعلم به قال فقال أبوها أو بلعام لا تمكني
نفسك إلا من موسى قال ووقعوا في الزنا قال فأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل فأرادها على نفسها فقالت
ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى فقال إن منزلتي كذا وكذا وإن من حالي كذا وكذا فأرسلت إلى أبيها تستأمره
قال فقال لها مكنيه قال ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال وأيده الله بقوة فانتظمهما جميعا
ورفعهما على رمحه فرأهما الناس - أو كما حدث - قال وسلط الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا. قال
أبو المعتمر فحدثني سيار أن بلعاما ركب حمارة له حتى أتى المعلولي أو قال طريقا من المعلولي جعل يضربها ولا
تتقدم وقامت عليه فقالت علام تضربني؟ أما ترى هذا الذي بين يديك؟ فإذا الشيطان بين يديه قال فنزل وسجد له
قال الله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " إلى قوله - لعلهم يتفكرون " قال فحدثني بهذا
سيار ولا أدري لعله قد دخل فيه شئ من حديث غيره " قلت " هو بلعام ويقال بلعم بن باعوراء ويقال ابن أبر
ويقال ابن باعور بن شهتوم بن قوشتم بن مآب بن لوط بن هاران ويقال ابن حران بن آزر وكان يسكن قرية من قرى
البلقاء. قال ابن عساكر: وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم فانسلخ من دينه له ذكر في القرآن. ثم أورد
من قصته نحوا مما ذكرنا ههنا أورده عن وهب وغيره والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق بن سيار عن سالم أبي
النضر أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه فقالوا له
هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل وإنا قومك وليس لنا منزل
وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم قال ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون كيف أذهب أدعو
عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا له ما لنا من منزل فلم يزالوا به يرفقونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن
فركب حمارة له متوجها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان فلما سار عليها غير كثير
ربضت به فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها فلم تسر به كثيرا حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها
أذن لها فكلمته حجة عليه فقالت ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟
تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت
به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر
إلا صرف الله لسانه إلى قومه ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل فقال له قومه أتدري يا بلعم ما
تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا قال فهذا ما لا أملك هذا شئ قد غلب الله عليه قال: واندلع لسانه
277

فوقع على صدره فقال لهم قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ولم يبق إلا المكر والحيلة فسأمكر لكم وأحتال
جملوا النساء واعطوهن السلع ثم أرسلوهن إلى المعسكر يبعنها فيه ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها
فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم ففعلوا فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين اسمها كسبتي
- ابنة صور رأس أمته - برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم رأس سبط بني شمعون بن يعقوب بن إسحاق
بن إبراهيم عليه السلام فلما رآها أعجبته فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال إني أظنك ستقول هذا حرام
عليك لا تقربها قال أجل هي حرام عليك قال فوالله لا أطيعك في هذا فدخل بها قبته فوقع عليها وأرسل الله
عز وجل الطاعون في بني إسرائيل وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائبا حين صنع
زمري بن شلوم ما صنع فجاء والطاعون يحوس فيهم فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديد كلها ثم دخل القبة
وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه
على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته وكان بكر العيزار وجعل يقول اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ورفع الطاعون
فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد
هلك منهم سبعون ألفا والمقلل لهم يقول عشرون ألفا في ساعة من النهار فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد
فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى والبكر من كل أموالهم وأنفسها لأنه كان بكر أبيه العيزار
ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " - إلى قوله - لعلهم يتفكرون " وقوله
تعالى " فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " اختلف المفسرون في معناه فعلى سياق ابن إسحاق
عن سالم عن أبي النضر أن بلعاما اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهيثه في كلتا حالتيه إن
زجر وإن ترك ظاهر وقيل معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الايمان وعدم
الدعاء كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة
والدعوة إلى الايمان ولا عدمه كما قال تعالى " سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " " استغفر لهم أو لا
تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " ونحو ذلك. وقيل معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ
من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره وقوله تعالى " فاقصص
القصص لعلهم يتفكرون " يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " فاقصص القصص لعلهم " أي لعل بني إسرائيل
العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه
الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب في غير طاعة ربه بل دعا به على حزب الرحمن
وشعب الايمان أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان كليم الله موسى بن عمران عليه السلام ولهذا قال
" لعلهم يتفكرون " أي فيحذروا أن يكونوا مثله فإن الله قد أعطاهم علما وميزهم على من عداهم من الاعراب
وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته وموازرته
كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد أحل الله به
ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة وقوله " ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا " يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم
الذين كذبوا بآياتنا أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة فمن خرج عن
حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيها بالكلب وبئس المثل مثله وهذا ثبت في
الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه " وقوله " وأنفسهم
كانوا يظلمون " أي ما ظلمهم الله ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى إلى
الركون إلى دار البلى والاقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون (178)
278

يقول تعالى من هداه الله فإنه لا مضل له ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة فإنه تعالى ما شاء كان وما
لم يشأ لم يكن ولهذا جاء في حديث ابن مسعود: " إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله
من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم.
ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون
بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون (179)
يقول تعالى " ولقد ذرأنا لجهنم " أي خلقنا وجعلنا لجهنم " كثيرا من الجن والإنس " أي هيأناهم لها وبعمل
أهلها يعملون فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم فكتب ذلك عنده في كتاب قبل
أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة كما ورد في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء ".
وفي صحيح مسلم أيضا من حديث عائشة بنت طلحة عن خالتها عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت:
دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء
ولم يدركه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب
آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم " وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود " ثم يبعث
الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد " وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم
من صلبه وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال " هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا
أبالي " والأحاديث في هذا كثيرة ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها وقوله تعالى " لهم قلوب لا يفقهون
بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها " يعني ليس ينتفعون بشئ من هذه الجوارح التي
جعلها الله سببا للهداية كما قال تعالى " وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا
أفئدتهم من شئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله " الآية وقال تعالى " صم بكم عمي فهم لا يرجعون " هذا في
حق المنافقين وقال في حق الكافرين " صم بكم عمي فهم لا يعقلون " ولم يكونوا صما ولا بكما ولا عميا إلا
عن الهدى كما قال تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " وقال " فإنها
لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " وقال " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو
له قرين * وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون " وقوله تعالى " أولئك كالانعام " أي هؤلاء
الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى كالانعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في
الذي يقيتها من ظاهر الحياة الدنيا كقوله تعالى " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
ونداء " أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الايمان كمثل الانعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ولا تفقه ما
يقول ولهذا قال في هؤلاء " بل هم أضل " أي من الدواب لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها
وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر فإنه إنما
خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في
معاده ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه ولهذا قال تعالى " أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم
الغافلون ".
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون (180)
279

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل
الجنة وهو وتر يحب الوتر " أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عنه
ورواه البخاري عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي حمزة عن أبي الزناد به وأخرجه الترمذي في جامعه عن
الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب فذكر بسنه مثله وزاد بعد قوله " يحب الوتر ":
هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق
البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع
البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل
الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد
المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الاحد الفرد الصمد القادر المقتدر
المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك ذو
الجلال والاكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور " ثم
قال الترمذي هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء
إلا في هذا الحديث ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به وقد رواه ابن ماجة في سننه من طريق
آخر عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا فسرد الأسماء كنحو مما تقدم بزيادة ونقصان والذي
عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم
وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك أي
أنهم جمعوها من القرآن كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي والله أعلم ثم ليعلم أن
الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن يزيد بن هارون عن
فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي
بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته
أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء
حزني وذهاب همي إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا " فقيل يا رسول الله أفلا نتعلمها؟ فقال " بلى
ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها " وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله وذكر الفقيه
الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي أن بعضهم جمع من الكتاب
والسنة من أسماء الله ألف اسم فالله أعلم وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " وذروا الذين يلحدون في
أسمائه " قال إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله وقال ابن جريج عن مجاهد " وذروا الذين يلحدون
في أسمائه " قال اشتقوا اللات من الله والعزى من العزيز وقال قتادة: يلحدون: يشركون في أسمائه. وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الالحاد التكذيب وأصل الالحاد في كلام العرب العدول عن القصد
والميل والجور والانحراف ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.
وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون (181)
يقول تعالى " وممن خلقنا " أي بعض الأمم " أمة " قائمة بالحق قولا وعملا " يهدون بالحق " يقولونه ويدعون
إليه " وبه يعدلون " يعملون ويقضون وقد جاء في الآثار أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية هي هذه الأمة
المحمدية قال سعيد عن قتادة في تفسير هذه الآية بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية " هذه لكم وقد
أعطي القوم بين أيديكم مثلها " " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وقال أبو جعفر الرازي عن
280

الربيع بن أنس في قوله تعالى " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من
أمتي قوما على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل " وفي الصحيحين عن معاوية بن أبي سفيان قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم
الساعة " وفي رواية " حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " وفي رواية " وهم بالشام ".
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حجيث لا يعلمون (182) وأملي لهم إن كيدي متين (183)
يقول تعالى " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه
المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شئ. كما قال تعالى " فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا
عليهم أبواب كل شئ حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا
والحمد لله رب العالمين " ولهذا قال تعالى " وأملي لهم " أي وسأملي لهم أي أطول لهم ما هم فيه " إن كيدي
متين " أي قوي شديد.
أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين (184)
يقول تعالى " أو لم يتفكروا " هؤلاء المكذبون بآياتنا " ما بصاحبهم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " من جنة " أي ليس
به جنون بل هو رسول الله حقا دعا إلى حق " إن هو إلا نذير مبين " أي ظاهر لمن كان له لب وقلب يعقل به
ويعي به كما قال تعالى " وما صاحبكم بمجنون " وقال تعالى " قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى
وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد " يقول إنما أطلب منكم أن
تقوموا قياما خالصا لله ليس فيه تعصب ولا عناد مثنى وفرادى أي مجتمعين ومتفرقين ثم تتفكروا في هذا الذي
جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله حقا وصدقا وقال
قتادة بن دعامة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا فدعا قريشا فجعل يفخذهم فخذا فخذا يا بني فلان يا بني
فلان فحذرهم بأس الله ووقائع الله فقال قائلهم إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح
فأنزل الله تعالى " أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ".
أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شئ وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي
حديث بعده يؤمنون (185)
يقول تعالى: أو لم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض وفيما خلق من شئ
فيهما فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه ومن فعل من لا ينبغي أن تكون العبادة
والدين الخالص إلا له فيؤمنوا به ويصدقوا رسوله وينيبوا إلى طاعته ويخلعوا الأنداد والأوثان ويحذروا أن تكون
آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه وقوله " فبأي حديث بعده يؤمنون "
يقول فبأي تخويف وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه يصدقون
إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عز وجل؟ وقد روى الإمام أحمد عن حسن بن
موسى وعثمان بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث كلهم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن
أبي الصلت عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي كذا فلما انتهينا إلى السماء السابعة
281

فنظرت فوقي فإذا أنا برعد وبرق وصواعق " وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم
قلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء أكلة الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني فإذا أنا برهج
ودخان وأصوات فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في
ملكوت السماوات والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب " علي بن زيد بن جدعان له منكرات. ثم قال تعالى:
من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون (186)
يقول تعالى من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ولو نظر لنفسه فيما نظر قاله لا يجزي عنه شيئا " ومن يرد الله
فتنته فلن تملك له من الله شيئا " وكما قال تعالى " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر
عن قوم لا يؤمنون ".
يسئلونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض
لا تأتيكم إلا بغتة يسئلونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون (187)
يقول تعالى " يسألونك عن الساعة " كما قال تعالى " يسألك الناس عن الساعة " قيل نزلت في قريش وقيل في
نفر من اليهود والأول أشبه لان الآية مكية وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعادا لوقوعها وتكذيبا بوجودها كما قال
تعالى " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " وقال تعالى " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا
مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد " وقوله " أيان مرساها " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس منتهاها أي متى محطها وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة " قل
إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو " أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله
تعالى فإنه هو الذي يجليها لوقتها أي يعلم جلية أمرها ومتى يكون على التحديد لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ولهذا
قال " ثقلت في السماوات والأرض " قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله " ثقلت في السماوات
والأرض " قال ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون. قال معمر قال الحسن: إذا جاءت
ثقلت على أهل السماوات والأرض يقول كبرت عليهم وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله " ثقلت في
السماوات والأرض " قال ليس شئ من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة وقال ابن جريج " ثقلت في
السماوات والأرض " قال إذا جاء انشقت السماء. وانتثرت النجوم وكورت الشمس وسيرت الجبال وكان ما
قاله الله عز وجل فذلك ثقلها واختار ابن جرير رحمه الله أن المراد ثقل علم وقتها على أهل السماوات والأرض
كما قال قتادة وهو كما قالاه كقوله " لا تأتيكم إلا بغتة " ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض
والله أعلم. وقال السدي " ثقلت في السماوات والأرض " يقول خفيت في السماوات والأرض فلا يعلم قيامها
حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل " لا تأتيكم إلا بغتة " يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة. وقال قتادة في قوله
تعالى " لا تأتيكم إلا بغتة " قضى الله أنها " لا تأتيكم إلا بغتة " قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إن
الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه
ويرفعه " وقال البخاري: حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعيب أنبأنا أبو الزناد عن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون فذلك
حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان
ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ولتقومن الساعة
وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها " وقال مسلم في
282

صحيحه حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به قال تقوم
الساعة والرجل يحلب لقحته فما يصل الاناء إلى فيه حتى تقوم الساعة والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه
حتى تقوم الساعة والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم.
وقوله " يسألونك كأنك حفي عنها " اختلف المفسرون في معناه فقيل معناه كما قال العوفي عن ابن عباس
" يسألونك كأنك حفي عنها " يقول كأن بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم قال ابن عباس لما سأل الناس
النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم فأوحى الله إليه إنما علمها عنده استأثر به
فلم يطلع الله عليها ملكا مقربا ولا رسولا وقال قتادة: قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم إن بيننا وبينك قرابة فأسر إلينا
متى الساعة فقال الله عز وجل " يسألونك كأنك حفي عنها " وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وأبي مالك والسدي
وهذا قول والصحيح عن مجاهد من رواية ابن أبي نجيح وغيره " يسألونك كأنك حفي عنها " قال استحفيت عنها
السؤال حتى علمت وقتها وكذا قال الضحاك عن ابن عباس " يسألونك كأنك حفي عنها " يقول كأنك عالم بها
لست تعلمها " قل إنما علمها عند الله " وقال معمر عن بعضهم " كأنك حفي عنها " كأنك عالم بها وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم " كأنك حفي عنها " كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه وقرأ " إن الله عنده
علم الساعة " الآية وهذا القول أرجح في المقام من الأول والله أعلم ولهذا قال " قل إنما علمها عند الله ولكن
أكثر الناس لا يعلمون " ولهذا لما جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم فجلس من
رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد وسأله صلى الله عليه وسلم عن الاسلام ثم عن الايمان. ثم عن
الاحسان. ثم قال فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل " أي لست أعلم بها
منك ولا أحد أعلم بها من أحد ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله عنده علم الساعة " الآية وفي رواية فسأله عن أشراط
الساعة فبين له أشراط الساعة ثم قال " في خمس لا يعلمهن إلا الله " وقرأ هذه الآية وفي هذا كله يقول له بعد كل
جواب صدقت ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله يصدقه ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا
جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " وفي رواية قال " وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها إلا صورته هذه " وقد ذكرت هذا
الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولما سأله
ذلك الاعرابي وناداه بصوت جهوري فقال يا محمد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هاؤم " على نحو من صوته قال يا محمد
متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها " قال ما أعددت لها كبير صلاة ولا
صيام ولكن أحب الله ورسوله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " المرء مع من أحب " فما فرح المسلمون بشئ فرحهم بهذا
الحديث وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" المرء مع من أحب " وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين ففيه أنه عليه السلام كان إذا سئل عن هذا الذي
لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم وهو الاستعداد لوقوع ذلك والتهيؤ له قبل نزوله وإن
لم يعرفوا تعيين وقته ولهذا قال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أسامة عن
هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت الاعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن الساعة
متى الساعة فينظر إلى أحدث إنسان منهم فيقول " إن يعش هذا لم يدركه الهرم قامت عليكم ساعتكم " يعني بذلك
موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة ثم قال مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يونس بن
محمد عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
يعش هذا الغلام فعسى أن لا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " انفرد به مسلم وحدثني حجاج بن الشاعر حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا سعيد بن أبي هلال المصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا
سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال متى الساعة؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هنيهة ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزدشنوءة فقال " إن عمر
283

هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " قال أنس: ذلك الغلام من أترابي وقال حدثنا هارون بن عبد الله حدثنا
عفان بن مسلم حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس قال: مر غلام للمغيرة بن شعبة وكان من أترابي فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة " ورواه البخاري في كتاب الأدب من صحيحه عن عمرو بن
عاصم عن همام بن يحيى عن قتادة عن أنس أن رجلا من أهل البادية قال يا رسول الله متى الساعة؟ فذكر
الحديث وفي آخره فمر غلام للمغيرة بن شعبة وذكره وهذا الاطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد بساعتكم
في حديث عائشة رضي الله عنها. وقال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يموت بشهر " تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله وأقسم بالله ما على ظهر الأرض
اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة " رواه مسلم. وفي الصحيحين عن ابن عمر مثله قال ابن عمر:
وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم أنبأنا العوام عن جبلة بن سحيم عن
موثر بن عفارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى
فتذاكروا أمر الساعة - قال - فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال
لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال عيسى: أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله عز وجل وفيما عهد إلى
ربي عز وجل أن الدجال خارج - قال - ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال فيهلكه الله عز
وجل إذا رآني حتى إن الشجر والحجر يقول يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال فيهلكهم الله عز وجل ثم لا
يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون
بلادهم لا يأتون على شئ إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال: ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو
الله عز وجل عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال فينزل الله عز وجل المطر
فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر. قال الإمام أحمد: قال يزيد بن هارون ثم تنسف الجبال وتمد الأرض
مد الأديم ثم رجع إلى حديث هشيم قال: ففيما عهد إلي ربي عز وجل أن ذلك إذا كان كذلك فإن الساعة
كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادتها ليلا أو نهارا " ورواه ابن ماجة عن بندار عن يزيد بن هارون
عن العوام بن حوشب بسنده نحوه فهؤلاء أكابر أولى العزم من المرسلين ليس عندهم علم بوقت الساعة على
التعيين وإنما ردوا الامر إلى عيسى عليه السلام فتكلم على أشراطها لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذا لاحكام
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتل المسيح الدجال ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه فأخبر بما أعلمه الله تعالى
به. وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا عبد الله بن زياد بن لقيط قال: سمعت أبي يذكر عن
حذيفة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال " علمها عند ربي عز وجل لا يجليها لوقتها إلا هو ولكن
سأخبركم بمشاريطها وما يكون بين يديها إن بين يديها فتنة وهرجا " قالوا يا رسول الله الفتنة قد عرفناها فما
الهرج؟ قال " بلسان الحبشة القتل " قال " ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحدا " لم يروه أحد من
أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه وقال وكيع: حدثنا ابن أبي خالد عن طارق بن شهاب قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة حتى نزلت " يسألونك عن الساعة أيان مرساها " الآية ورواه النسائي
من حديث عيسى بن يونس عن إسماعيل بن أبي خالد به وهذا إسناد جيد قوي فهذا النبي الأمي سيد الرسل
وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة والعاقب والمقفى والحاشر الذي
تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما
" بعثت أنا والساعة كهاتين " وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت
الساعة إليه إذا سئل عنها فقال " قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء
284

إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون (188)
أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شئ من
ذلك إلا بما أطلعه الله عليه كما قال تعالى " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " الآية وقوله " ولو كنت
أعلم الغيب لاستكثرت من الخير " قال عبد الرزاق عن الثوري عن منصور عن مجاهد " ولو كنت أعلم الغيب
لاستكثرت من الخير " قال لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملا صالحا وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد
وقال مثله ابن جريج وفيه نظر لان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ديمة وفي رواية كان إذا عمل عملا أثبته فجميع عمله
كان على منوال واحد كأنه ينظر إلى الله عز وجل في جميع أحواله اللهم إلا أن يكون المراد أن يرشد غيره إلى
الاستعداد لذلك والله أعلم. والأحسن في هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس " ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت
من الخير " أي من المال وفي رواية لعلمت إذا اشتريت شيئا ما أربح فيه شيئا إلا ربحت فيه ولا يصيبني
الفقر. وقال ابن جرير وقال آخرون: معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة
ولوقت الغلاء من الرخص فاستعددت له من الرخص. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " وما مسني السوء "
قال لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون واتقيته ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير أي نذير من العذاب وبشير
للمؤمنين بالجنات كما قال تعالى " فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا ".
* هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به
فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (189) فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما
آتاهما فتعالى الله عما يشركون (190)
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حواء ثم انتشر الناس منهما. كما
قال تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
وقال تعالى " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها " الآية وقال في هذه
الآية الكريمة " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " أي ليألفها ويسكن بها كقوله تعالى " ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فلا ألفة بين روحين أعظم مما بين الزوجين ولهذا ذكر
تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه " فلما تغشاها " أي وطئها " حملت حملا خفيفا "
وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألما إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة وقوله " فمرت به " قال مجاهد
استمرت بحمله وروي عن الحسن وإبراهيم النخعي والسدي نحوه وقال ميمون بن مهران عن أبيه استخفته
وقال أيوب: سألت الحسن عن قوله " فمرت به " قال: لو كنت رجلا عربيا لعرفت ما هي إنما هي فاستمرت
به وقال قتادة " فمرت به " استبان حملها وقال ابن جرير: معناه استمرت بالماء قامت به وقعدت وقال
العوفي عن ابن عباس: استمرت به فشكت أحملت أم لا " فلما أثقلت " أي صارت ذات ثقل بحملها وقال
السدي: كبر الولد في بطنها " دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا " أي بشرا سويا. كما قال الضحاك عن ابن
عباس أشفقا أن يكون بهيمة وكذلك قال أبو البختري وأبو مالك: أشفقا أن لا يكون إنسانا. وقال الحسن
البصري لئن آتيتنا غلاما " لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما
يشركون " يذكر المفسرون ههنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ثم نتبع ذلك ببيان الصحيح في ذلك إن شاء
الله وبه الثقة. قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن
سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبد الحارث فإنه
285

يعيش فسمته عبد الحارث فعاش وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره " وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار
عن بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به ورواه الترمذي في تفسيره هذه الآية عن محمد بن المثنى عن
عبد الصمد به وقال هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ورواه بعضهم عن
عبد الصمد ولم يرفعه ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا ثم قال هذا حديث صحيح
الاسناد ولم يخرجاه ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض
عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن
عمر بن إبراهيم مرفوعا: قلت وشاذ هو هلال وشاذ لقبه والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه " أحدها "
أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري وقد وثقه ابن معين ولكن قال أبو حاتم الرازي لا يحتج به ولكن رواه ابن
مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا فالله أعلم. " الثاني " أنه قد روي من قول سمرة
نفسه ليس مرفوعا كما قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا المعتمر عن أبيه حدثنا بكر بن عبد الله بن
سليمان التيمي عن أبي العلاء بن الشخير عن سمرة بن جندب قال: سمى آدم ابنه عبد الحارث. " الثالث " أن
الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه. قال ابن جرير: حدثنا ابن
وكيع حدثنا سهل بن يوسف عن عمرو عن الحسن " جعلا له شركاء فيما آتاهما " قال كان هذا في بعض أهل
الملل ولم يكن بآدم وحدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر قال: قال الحسن عنى بها ذرية
آدم ومن أشرك منهم بعده يعني " جعلا له شركاء فيما آتاهما " وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة
قال: كان الحسن يقول هم اليهود والنصارى رزقهم الله أولادا فهودوا ونصروا وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن
رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية ولو كان هذا الحديث عنده
محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره ولا سيما مع تقواه لله وورعه فهذا يدلك على أنه موقوف على
الصحابي ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب أو وهب بن منبه وغيرهما كما سيأتي
بيانه إن شاء الله إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع والله أعلم. فأما الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولادا فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله
وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس فقال إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش قال
فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث ففيه أنزل الله يقول " هو الذي خلقكم من نفس واحدة - إلى قوله - جعلا له
شركاء فيما آتاهما " إلى آخر الآية وقال العوفي عن ابن عباس قوله في آدم " هو الذي خلقكم من نفس واحدة
- إلى قوله - فمرت به " شكت حملت أم لا؟ " فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من
الشاكرين " فأتاهما الشيطان فقال هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما
الباطل إنه غوي مبين وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا فقال لهما الشيطان إنكما إن لم تسمياه بي لم
يخرج سويا ومات كما مات الأول فسميا ولدهما عبد الحارث فذلك قول الله تعالى " فلما آتاهما صالحا جعلا له
شركاء فيما آتاهما " الآية وقال عبد الله بن المبارك عن شرك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في
قوله " فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما " قال: قال الله تعالى " هو الذي خلقكم من نفس واحدة
وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها " آدم " حملت " اتاهما إبليس لعنه الله فقال إني صاحبكما الذي
أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني إبل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما فسمياه
عبد الحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت يعني الثاني فأتاهما أيضا فقال أنا صاحبكما الذي فعلت ما
فعلت لتفعلن أو لأفعلن - يخوفهما - فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا فذكر لهما فأدركهما
حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى " جعلا له شركاء فيما آتاهما " رواه ابن أبي حاتم.
وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي
286

وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة وكأنه والله
أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد يعني ابن بشير عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب
قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها أتطيعيني ويسلم لك ولدك: سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت
فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت الثالثة فجاءها فقال إن تطيعيني يسلم وإلا فإنه يكون
بهيمة فهيبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا
حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه
الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضا ومنها ما هو
مسكوت عنه فهو المأذون في روايته بقوله عليه السلام " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " وهو الذي لا يصدق
ولا يكذب لقوله " فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم " وهذا الأثر هو القسم الثاني أو الثالث فيه نظر فأما من حدث به
من صحابي أو تابعي فإنه يراه من القسم الثالث وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا وأنه
ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ولهذا قال الله " فتعالى الله عما
يشركون " ثم قال فذكر آدم وحواء أولا كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين وهو كالإستطراد من ذكر الشخص إلى
الجنس كقوله " ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح " الآية ومعلوم أن المصابيح وهى النجوم التي زينت بها
السماء ليست هي التي يرمي بها وإنما هذا استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ولهذا نظائر في القرآن والله
أعلم.
أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون (191) ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون (192) وإن تدعوهم إلى
الهدى لا يتبعوكم سواء عليكم أدعوتموهم أو أنتم صامتون (193) إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم
فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين (194) ألهم رجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين
يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون (195) إن ولي الله الذي
نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين (196) والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون (197)
وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون (198)
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان وهي مخلوقة لله مربوبة
مصنوعة لا تملك شيئا من الامر ولا تضر ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر
وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ولهذا قال " أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون " أي
أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئا ولا يستطيع ذلك كقوله تعالى " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له
إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف
الطالب والمطلوب * ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز " أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما
استطاعوا خلق ذبابة بل لو سلبتهم الذبابة شيئا من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذه منها فمن هذه صفته
وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى " لا يخلق شيئا وهم يخلقون " أي بل هم مخلوقون
مصنوعون كما قال الخليل " أتعبدون ما تنحتون " الآية ثم قال تعالى " ولا يستطيعون لهم نصرا " أي
287

لعابديهم " ولا أنفسهم ينصرون " يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء كما كان الخليل عليه الصلاة
والسلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله " فراغ عليهم ضربا باليمين " وقال
تعالى " فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون " وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل
رضي الله عنهما وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين
يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ليعتبر قومهما بذلك ويرتؤا لأنفسهم فكان لعمرو بن الجموح وكان سيدا
في قومه صنم يعبده ويطيبه فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ويلطخانه بالعذرة فيجئ عمرو بن الجموح
فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ويقول له انتصر ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضا
حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر
فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال:
تالله لو كنت إلها مستدن * لم تك والكلب جميعا في قرن
ثم أسلم فحسن إسلامه وقتل يوم أحد شهيدا رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الفردوس مأواه وقوله " وإن
تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم " الآية يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها وسواء لديها من دعاها
ومن دحاها كما قال إبراهيم يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل
عابديها أي مخلوقات مثلهم بل الاناس أكمل منها لأنها تسمع وتبصر وتبطش وتلك لا تفعل شيئا من ذلك وقوله
" قل أدعوا شركاءكم " الآية أي استنصروا بها علي فلا تؤخروني طرفة عين واجهدوا جهدكم " إن وليي الله
الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين " أي الله حسبي وكافيني وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ وهو وليي
في الدنيا والآخرة وهو ولي كل صالح بعدي وهذا كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه " إن نقول إلا
اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا
تنظرون * إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وكقول
الخليل " أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو
يهدين " الآيات وكقوله لأبيه وقومه " إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية
في عقبه لعلهم يرجعون " وقوله " والذين تدعون من دونه " إلى آخر الآية مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب
وذاك بصيغة الغيبة ولهذا قال " لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون " وقوله " وإن تدعوهم إلى الهدى لا
يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " كقوله تعالى " إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم " الآية وقوله
" وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون " إنما قال " ينظرون إليك " أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة
وهى جماد ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صور مصورة كالانسان وتراهم ينظرون إليك فعبر عنها بضمير
من يعقل وقال السدي: المراد بهذا المشركون وروي عن مجاهد نحوه والأول أولى وهو اختيار ابن جرير
وقاله قتادة.
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين (199) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم (200)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " خذ العفو " يعني خذ ما عفي لك من أموالهم وما أتوك به من شئ
فخذه وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات قاله السدي وقال
الضحاك عن ابن عباس " خذ العفو " أنفق الفضل وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس " خذ العفو " قال
الفضل وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " خذ العفو " أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر
سنين ثم أمره بالغلظة عليهم واختار هذا القول ابن جرير وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى " خذ
288

العفو " قال من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس وقال هشام بن عروة عن أبيه أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ
العفو من أخلاق الناس وفي رواية قال خذ ما عفي لك من أخلاقهم وفي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه
عروة عن أخيه عبد الله بن الزبير قال: إنما أنزل خذ العفو من أخلاق الناس وفي رواية لغيره عن هشام عن أبيه
عن ابن عمر وفي رواية عن هشام عن أبيه عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك والله أعلم وفي رواية سعيد بن
منصور عن أبي معاوية عن هشام عن وهب بن كيسان عن أبي الزبير: خذ العفو قال من أخلاق الناس والله
لآخذنه منهم ما صحبتهم وهذا أشهر الأقوال ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا حدثنا يونس
حدثنا سفيان هو ابن عيينة عن أبي قال: لما أنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض
عن الجاهلين " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذا يا جبريل؟ قال إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك
وتصل من قطعك " وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا عن أبي يزيد القراطيسي كتابة عن أصبغ بن الفرج عن سفيان عن
أبي عن الشعبي نحوه وهذا مرسل على كل حال وقد روي له شواهد من وجوه أخر وقد روي مرفوعا عن
جابر وقيس بن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أسندهما ابن مردويه وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا
شعبة حدثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر رضي الله عنه
قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال فقال " يا عقبة صل
من قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمن ظلمك " وروى الترمذي نحوه من طريق عبيد الله بن زخر
عن علي بن يزيد به وقال حسن قلت ولكن علي بن يزيد وشيخه القاسم أبو عبد الرحمن فيهما ضعف
وقال البخاري قوله " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " العرف المعروف حدثنا أبو اليمان
حدثنا شعيب عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم عيينة بن
حصن بن حذيفة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان من النفر الذين يدنيهم عمر وكان القراء أصحاب
مجالس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبابا فقال عيينة لابن أخيه يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي
عليه قال: سأستأذن لك عليه قال ابن عباس فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر فدخل عليه قال هي يا ابن
الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر: يا أمير
المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " وإن هذا من الجاهلين والله
ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل انفرد بإخراجه البخاري وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا يونس بن عبد الاعلى قراءة أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن عبد الله بن نافع أن سالم بن
عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال: إن هذا منهى عنه فقالوا: نحن أعلم بهذا منك إنما
يكره الجلجل الكبير فأما مثل هذا فلا بأس به فسكت سالم وقال " وأعرض عن الجاهلين " وقول البخاري
العرف المعروف نص عليه عروة بن الزبير والسدي وقتادة وابن جرير وغير واحد وحكى ابن جرير أنه يقال أوليته
معروفا وعارفا كل ذلك بمعنى المعروف قال وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف ويدخل في ذلك جميع
الطاعات وبالاعراض عن الجاهلين وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى
عليهم لا بالاعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو
للمسلمين حرب وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين "
قال هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس
فقال:
خذ العفو وأمر بعرف كما * أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام * فمستحسن من ذوي الجاه لين
289

وقال بعض العلماء: الناس رجلان فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه
وإما مسئ فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن
يرد كيده كما قال تعالى " ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما تصفون * وقل رب أعوذ بك من همزات
الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون " وقال تعالى " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " أي هذه
الوصية " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم " وقال في هذه السورة الكريمة أيضا
وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم فهذه الآيات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم
السجدة لا رابع لهن فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الانس بالمعروف بالتي هي أحسن فإن ذلك
يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ولهذا قال " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " ثم يرشد
تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان فإنه لا يكفه عنك الاحسان وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية فإنه عدو
مبين لك ولابيك من قبلك قال ابن جرير في تفسير قوله " وإما ينزغنك من الشيطان نزع " وإما يغضبنك من
الشيطان غضب يصدك عن الاعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته " فاستعذ بالله " يقول فاستجر بالله
من نزغه " إنه سميع عليم " سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا
يخفى عليه منه شئ عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما نزلت " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال " يا رب كيف
بالغضب؟ فأنزل الله " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم " قلت وقد تقدم في أول
الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمرغ غضبا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لاعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " فقيل له فقال ما بي
من جنون وأصل النزغ الفساد إما بالغضب أو غيره قال الله تعالى " وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن
الشيطان ينزغ بينهم " والعياذ الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر وأما الملاذ ففي طلب الخير كما قال
الحسن بن هانئ في شعره:
يا من ألوذ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته ههنا.
إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون (201) وإخوانهم يمدونهم في
الغي ثم لا يقصرون (202)
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر وتركوا ما عنه زجر أنهم إذا مسهم أي أصابهم طيف وقرأ
الآخرون طائف وقد جاء فيه حديث وهما قراءتان مشهورتان فقيل بمعنى واحد وقيل بينهما فرق ومنهم من فسر
ذلك بالغضب ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ومنهم من فسره بالهم بالذنب ومنهم من فسره
بإصابة الذنب وقوله تذكروا أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من
قريب " فإذا هم مبصرون " أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه وقد أورد الحافظ أبو بكر بن مردويه ههنا حديث
محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت يا
رسول الله ادع الله أن يشفيني فقال " إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك " فقالت:
290

بل أصبر ولا حساب علي ورواه غير واحد من أهل السنن وعندهم قالت: يا رسول الله إني أصرع وأتكشف
فادع الله أن يشفيني فقال " إن شئت دعوت الله أن يشفيك وإن شئت صبرت ولك الجنة " فقالت: بل أصبر ولي
الجنة ولكن ادع الله أن لا أتكشف فدعا لها فكانت لا تتكشف وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال صحيح
على شرط مسلم ولم يخرجاه وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه أن شابا كان
يتعبد في المسجد فهويته امرأة فدعته إلى نفسها فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل فذكر هذه الآية " إن
الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون " فخر مغشيا عليه ثم أفاق فأعادها فمات
فجاء عمر فعزى فيه أباه وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ثم ناداه عمر فقال يا فتى " ولمن
خاف مقام ربه جنتان " فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر قد أعطانيهما ربي عز وجل في الجنة مرتين. وقوله
تعالى " وإخوانهم يمدونهم " أي وإخوان الشياطين من الانس كقوله " إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين "
وهم أتباعهم والمستمعون لهم القابلون لأوامرهم يمدونهم في الغي أي تساعدهم الشياطين على المعاصي
وتسهلها عليهم وتحسنها لهم. وقال ابن كثير: المد الزيادة يعني يزيدونهم في الغي يعني الجهل والسفه " ثم لا
يقصرون " قيل معناه إن الشياطين تمد الانس لا تقصر في أعمالهم بذلك كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في قوله " وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون " الآية قال لا الانس يقصرون عما يعملون ولا
الشياطين تمسك عنهم وقيل معناه كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله " يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون "
قال هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الانس ثم لا يقصرون يقول لا يسأمون وكذا قال السدي وغيره إن
الشياطين يمدون أولياءهم من الانس ولا تسأم من إمدادهم في الشر لان ذلك طبيعة لهم وسجية " لا يقصرون "
لا تفتر فيه ولا تبطل عنه كما قال تعالى " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " قال ابن عباس
وغيره تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
وإذا لم تأتيهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة
لقوم يؤمنون (203)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى " قالوا لولا اجتبيتها " يقول لولا تلقيتها وقال مرة أخرى:
لولا أحدثتها فأنشأتها. وقال ابن جرير عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في قوله " وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا
اجتبيتها " قال لولا اقتضيتها قالوا تخرجها عن نفسك وكذا قال قتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
واختاره ابن جرير وقال العوفي عن ابن عباس " لولا اجتبيتها " يقول تلقيتها من الله تعالى وقال الضحاك
" لولا اجتبيتها " يقول لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء ومعنى قوله تعالى " وإذا لم تأتهم بآية " أي
معجزة وخارق كقوله تعالى " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم
ألا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله حتى تراها وتؤمن بها قال الله تعالى له " قل إنما أتبع ما يوحى إلي
من ربي " أي أنا لا أتقدم إليه تعالى في شئ وإنما أتبع ما أمرني به فامتثل ما يوحيه إلي فإن بعث آية قبلتها وإن
منعها لم أسأله ابتداء إياها إلا أن يأذن لي في ذلك فإنه حكيم عليم ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم
المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات فقال " هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ".
وإذ قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون (204)
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة أمر تعالى بالانصات عند تلاوته إعظاما له واحتراما لا كما كان
291

يتعمده كفار قريش المشركون في قولهم " لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه " الآية ولكن يتأكد ذلك في الصلاة
المكتوبة إذا جهر الامام بالقراءة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما جعل الامام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا " وكذا رواه أهل السنن من حديث
أبي هريرة أيضا وصححه مسلم بن الحجاج أيضا ولم يخرجه في كتابه وقال إبراهيم بن مسلم الهجري عن
أبي عياض عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الآية " فإذا قرئ القرآن فاستمعوا له "
والآية الأخرى أمروا بالانصات قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن
المسيب بن رافع قال ابن مسعود: كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فجاء القرآن " وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون " وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند عن
بشير بن جابر قال: صلى ابن مسعود فسمع ناسا يقرؤن مع الامام فلما أنصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا أما آن
لكم أن تعقلوا " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " كما أمركم الله قال وحدثني أبو السائب حدثنا حفص
عن أشعث عن الزهري قال: نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه فنزلت
" وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن من حديث الزهري عن أبي أكتمة
الليثي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال " أهل قرأ أحد منكم معي آنفا؟ "
قال رجل نعم يا رسول الله قال " إني أقول ما لي أنازع القرآن " قال فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الترمذي هذا حديث حسن وصححه أبو
حاتم الرازي وقال عبد الله بن المبارك عن يونس عن الزهري قال: لا يقرأ من وراء الامام فيما يجهر به الامام
تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته ولكنهم يقرؤن فيما لا يجهر به سرا في أنفسهم ولا يصلح لاحد خلفه
أن يقرأ معه فيما يجهر به سرا ولا علانية فإن الله تعالى قال " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا وأنصتوا له لعلكم
ترحمون " قلت: هذا مذهب طائفة من العلماء أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه
الامام لا الفاتحة ولا غيرها وهو أحد قولي الشافعية وهو القديم كمذهب مالك ورواية عن أحمد بن حنبل لما
ذكرناه من الأدلة المتقدمة وقال في الجديد يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الامام وهو قول طائفة من الصحابة
والتابعين فمن بعدهم وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا
الجهرية بما ورد في الحديث " من كان له إمام فقراءته قراءة له " وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن
جابر مرفوعا وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان عن جابر موقوفا وهذا أصح وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا
الموضع وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفا على حدة واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية
والجهرية أيضا والله أعلم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قوله " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا " يعني في الصلاة المفروضة وكذا روي عن عبد الله بن المغفل. وقال ابن جرير: حدثنا حميد بن
مسعدة حدثنا بشر بن المفضل حدثنا الجريري عن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن
أبي رباح يتحدثان والقاص يقص فقلت ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود؟ قال فنظرا إلي ثم أقبلا
على حديثهما قال فأعدت فنظرا إلي وأقبلا على حديثهما قال فأعدت الثالثة قال فنظرا إلي فقالا: إنما
ذلك في الصلاة " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " وكذا قال سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن
كثير عن مجاهد في قوله " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " قال في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن
مجاهد وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن
يتكلم وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وإبراهيم النخعي وقتادة والشعبي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم أن المراد بذلك في الصلاة وقال شعبة عن منصور سمعت إبراهيم بن أبي حمزة يحدث أنه سمع مجاهدا
يقول في هذه الآية " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " قال في الصلاة والخطبة يوم الجمعة وكذا روى
292

ابن جريج عن عطاء مثله وقال هشيم عن الربيع بن صبيح عن الحسن قال في الصلاة وعند الذكر وقال ابن
المبارك عن بقية سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله " وإذا قرئ القرآن
فاستمعوا له وأنصتوا " قال الانصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة وفيما يجهر به الامام من الصلاة
وهذا اختيار ابن جرير أن المراد من ذلك الانصات في الصلاة وفي الخطبة كما جاء في الأحاديث من الامر
بالانصات خلف الامام وحال الخطبة وقال عبد الرزاق عن الثوري عن ليث عن مجاهد أنه كره إذا مر الامام بآية
خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا قال السكوت وقال مبارك بن فضالة عن الحسن إذا جلست إلى
القرآن فأنصت له. وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عباد بن ميسرة عن الحسن عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ومن تلاها
كانت له نورا يوم القيامة " تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
وأذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين (205) إن
الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون (206)
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيرا كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله " فسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس وقبل الغروب " وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الاسراء وهذه الآية مكية وقال
ههنا بالغدو وهو أول النهار والآصال جمع أصيل كما أن الايمان جمع يمين وأما قوله " تضرعا وخيفة " أي أذكر
ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهرا ولهذا قال " ودون الجهر من القول " وهكذا يستحب أن يكون الذكر
لا يكون نداء وجهرا بليغا ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله
عز وجل " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ".
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الاسفار فقال
لهم النبي صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعونه سميع قريب
أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته " وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى " ولا تجهر بصلاتك ولا
تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من أنزله وسبوا من جاء به
فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم وليتخذ سبيلا بين
الجهر والاسرار وكذا قال في هذه الآية الكريمة " ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من
الغافلين " وقد زعم ابن جرير وقبله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أمر السامع للقرآن في حال
استماعه بالذكر على هذه الصفة وهذا بعيد مناف للانصات المأمور به ثم إن المراد بذلك في الصلاة كما تقدم
أو في الصلاة والخطبة ومعلوم أن الانصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان سواء كان سرا أو جهرا فهذا الذي
قالاه لم يتابعا عليه بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال لئلا يكونوا من الغافلين ولهذا
مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فقال " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته " الآية
وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ولهذا شرع لنا السجود ههنا لما ذكر سجودهم لله عز
وجل كما جاء في الحديث " ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمون الصفوف الأول فالأول ويتراصون في
الصف " وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالاجماع وقد ورد في حديث رواه ابن
ماجة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن آخر تفسير سورة الأعراف ولله الحمد والمنة.
293

سورة الأنفال
وهي مدنية آياتها سبعون وست آيات كلماتها ألف كلمة وستمائة كلمة وإحدى وثلاثون كلمة حروفها خمسة
آلاف ومائتان وأربعة وتسعون حرفا والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن
كنتم مؤمنين (1)
قال البخاري: قال ابن عباس الأنفال المغانم حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم
أخبرنا أبو بشر عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الأنفال قال نزلت في بدر أما ما
علقه عن ابن عباس فكذلك رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: الأنفال الغنائم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
خالصة ليس لأحد منها شئ. وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد أنها المغانم وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال:
الأنفال الغنائم قال فيها لبيد:
إن تقوى ربنا خير نفل * وبإذن الله ريثي وعجل
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني مالك بن أنس عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد قال:
سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن الأنفال فقال ابن عباس رضي الله عنهما: الفرس من النفل والسلب من النفل.
ثم عاد لمسألته فقال ابن عباس ذلك أيضا. ثم قال الرجل: الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم:
فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب.
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: قال ابن عباس: كان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إذا سئل عن شئ قال لا آمرك ولا أنهاك ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا
آمرا محللا محرما. قال القاسم: فسلط على ابن عباس رجل فسأله عن الأنفال فقال ابن عباس: كان الرجل
ينفل فرس الرجل وسلاحه فأعاد عليه الرجل فقال له مثل ذلك ثم عاد عليه حتى أغضبه فقال ابن عباس: أتدرون
ما مثل هذا؟ مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب حتى سالت الدماء على عقبيه أو على رجليه فقال
الرجل: أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الامام
لبعض الاشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل
والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس فنزل
" يسألونك عن الأنفال " وقال ابن مسعود ومسروق لا نفل يوم الزحف إنما النفل قبل التقاء الصفوف رواه ابن
أبي حاتم عنهما وقال ابن المبارك وغير واحد عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح في الآية
" يسألونك عن الأنفال " قال يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد أو أمة أو
متاع فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفئ وهو ما أخذ من الكفار من غير
قتال. قال ابن جرير وقال آخرون: هي أنفال السرايا. حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا علي بن
294

صالح بن حيي قال: بلغني في قوله تعالى " يسألونك عن الأنفال " قال السرايا ومعنى هذا ما ينفله الامام لبعض
السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش. وقد صرح بذلك الشعبي. واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم.
ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أبو معاوية حدثنا أبو إسحق
الشيباني عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير قتلت
سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال " اذهب فاطرحه في القبض " قال
فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي قال فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال
فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذهب فخذ سلبك ".
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أسود بن عامر أخبرنا أبو بكر عن عاصم بن أبي النجود عن مصعب بن سعد عن
سعد بن مالك قال: قلت يا رسول الله قد شفاني الله اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف فقال " إن هذا
السيف لا لك ولا لي ضعه " قال فوضعته ثم رجعت فقلت عسى أن يعطي هذا السيف من لا يبلي بلائي قال
فإذا رجل يدعوني من ورائي قال قلت قد أنزل الله في شيئا؟ قال كنت سألتني السيف وليس هو لي وإنه قد وهب
لي فهو لك قال وأنزل الله هذه الآية " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " ورواه أبو داود الترمذي
والنسائي من طرق عن أبي بكر بن عياش به وقال الترمذي حسن صحيح وهكذا رواه أبو داود الطيالسي أخبرنا
شعبة أخبرنا سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن سعد قال: نزلت في أربع آيات أصبت
سيفا يوم بدر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت نفلنيه فقال " ضعه من حيث أخذته " مرتين ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" ضعه من حيث أخذته " فنزلت هذه الآية " يسألونك عن الأنفال " الآية وتمام الحديث في نزول " ووصينا
الانسان بوالديه حسنا " وقوله تعالى " إنما الخمر والميسر " وآية الوصية وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث
شعبة به وقال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد
مالك بن ربيعة يقول: أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر وكان السيف يدعى بالمرزبان فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس
أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت به فألقيته في النفل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله فرآه الأرقم بن
أبي الأرقم المخزومي فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه ورواه ابن جرير من وجه آخر.
" سبب آخر في نزول الآية "
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الرحمن عن سليمان بن موسى عن مكحول
عن أبي أمامة قال: سألت عبادة عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه
أخلاقنا فانتزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء يقول عن
سواء. وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو معاوية بن عمر أخبرنا أبو إسحاق عن عبد الرحمن بن الحارث بن
عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان بن موسى عن أبي سلامة عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت قال:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون
ويقتلون وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة
حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض قال الذين جمعوا الغنائم نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب
وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق به منا نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم وقال الذين أحدقوا
برسول الله صلى الله عليه وسلم خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول
فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض
العدو نفل الربع فإذا أقبل راجعا نفل الثلث وكان يكره الأنفال ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث سفيان
الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه قال الترمذي هذا حديث صحيح ورواه ابن حبان في صحيحه
295

والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث وقال الحاكم: صحيح الاسناد على شرط مسلم ولم
يخرجاه. وروى أبو داود والنسائي وابن جرير وابن مردويه واللفظ له وابن حبان والحاكم من طرق عن داود بن أبي
هند عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا "
فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم فقال
الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءا لكم لو انكشفتم لفئتم إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى " يسألونك عن الأنفال "
- إلى قوله - " وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " وقال الثوري عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أتى بأسير فله كذا وكذا " فجاء أبو اليسر
بأسيرين فقال يا رسول الله صلى الله عليك أنت وعدتنا فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك لو أعطيت هؤلاء لم
يبق لأصحابك شئ وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الاجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة
عليك مخافة أن يأتوك من ورائك فتشاجروا ونزل القرآن " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول " قال:
ونزل القرآن " وأعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه " إلى آخر الآية. وقال الإمام أبو عبيد الله القاسم بن
سلام رحمه الله في كتاب الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها: أما الأنفال فهي الغنائم وكل نيل ناله
المسلمون من أموال أهل الحرب فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى " يسألونك عن الأنفال
قل الأنفال لله والرسول " فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد
ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى قلت هكذا روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس سواء وبه
قال مجاهد وعكرمة والسدي وقال ابن زيد ليست منسوخة بل هي محكمة قال أبو عبيد وفي ذلك آثار
والانفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنة ومعنى
الأنفال في كلام العرب كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه فذلك النفل الذي أحله الله
للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شئ خصهم الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم
قبلهم فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل قلت شاهد هذا ما في الصحيحين عن جابر رضي الله عنه " أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي - فذكر الحديث إلى أن قال - وأحلت لي الغنائم ولم تحل
لاحد قبلي " وذكر تمام الحديث ثم قال أبو عبيد: ولهذا سمي ما جعل الامام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض
الجيش على بعض بشئ سوى سهامهم يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الاسلام والنكاية في العدو وفي
النفل الذي ينفله الامام سنن أربع لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى " فاحداهن " في النفل لا خمس فيه
وذلك السلب. " والثانية " النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس وهو أن يوجه الامام السرايا في أرض
الحرب فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس " والثالثة " في النفل من الخمس
نفسه وهو أن تحاز الغنيمة كلها ثم تخمس فإذا صار الخمس في يدي الامام نفل منه على قدر ما يرى.
" والرابعة " في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شئ وهو أن يعطي الأدلاء ورعاة الماشية والسواق
لها وفي كل ذلك اختلاف.
قال الربيع: قال الشافعي الأنفال أن لا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شئ غير السلب. قال أبو عبيد:
والوجه الثاني من النقل هو شئ زيدوه غير الذي كان لهم وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم فإن له خمس الخمس من
كل غنيمة فينبغي للامام أن يجتهد فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم وقل من بإزائه من المسلمين نفل منه أتباعا
لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا لم يكن ذلك لم ينفل. " والوجه الثالث " من النفل إذا بعث الامام سرية أو جيشا فقال
لهم قبل اللقاء من غنم شيئا فهو له بعد الخمس فهو لهم على شرط الامام لانهم على ذلك غزوا وبه رضوا.
انتهى كلامه. وفيما تقدم من كلامه وهو قوله: إن غنائم بدر لم تخمس نظر ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب
296

في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانا شافيا ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم " أي واتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا
تخاصموا ولا تشاجروا فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه " وأطيعوا الله ورسوله " أي في
قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والانصاف وقال ابن عباس هذا تحريج من
الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم وكذا قال مجاهد وقال السدي " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم "
أي لا تستبوا. ولنذكر ههنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي رحمه الله في مسنده
فإنه قال: حدثنا مجاهد بن موسى حدثنا عبد الله بن بكير حدثنا عباد بن شيبة الحبطي عن سعيد بن أنس عن أنس
رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر: ما أضحكك يا
رسول. الله بأبي أنت وأمي؟ فقال: " رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى فقال أحدهما: يا رب
خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى أعط أخاك مظلمته قال: يا رب لم يبق من حسناتي شئ قال: رب
فليحمل عني أوزاري " قال: ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال " إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس
إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم فقال الله تعالى للطالب ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا
رب أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ. لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟
قال هذا لمن أعطى ثمنه قال يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال أنت تملكه قال ماذا يا رب؟ قال تعفو عن أخيك
قال يا رب فإني قد عفوت عنه قال الله تعالى خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الله
وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة ".
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون (2)
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة
ورزق كريم (4)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال: المنافقون
لا يدخل قلوبهم شئ من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشئ من آيات الله ولا يتوكلون ولا يصلون إذا
غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف الله المؤمنين فقال " إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " فأدوا فرائضه " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " يقول زادتهم تصديقا
" وعلى ربهم يتوكلون " يقول لا يرجون غيره وقال مجاهد " وجلت قلوبهم " فرقت أي فزعت وخافت وكذا قال
السدي وغير واحد وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف منه ففعل أوامره
وترك زواجره كقوله تعالى " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر
الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون " وكقوله تعالى " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن
الهوى * فإن الجنة هي المأوى " ولهذا قال سفيان الثوري: سمعت السدي يقول في قوله تعالى " إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال: هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه
وقال الثوري أيضا عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء في قوله " إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " قال الوجل في القلب كاحتراق السعفة أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى قالت: إذا
وجدت ذلك فادع الله عند ذلك فإن الدعاء يذهب ذلك وقوله " وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا " كقوله
" وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم
297

يستبشرون " وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الايمان وتفاضله في القلوب كما
هو مذهب جمهور الأمة بل قد حكى الاجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما
بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة " وعلى ربهم يتوكلون " أي لا يرجون سواه ولا
يقصدون إلا إياه ولا يلوذون إلا بجنابه ولا يطلبون الحوائج إلا منه ولا يرغبون إلا إليه ويعلمون أنه ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ولهذا
قال سعيد بن جبير التوكل على الله جماع الايمان. وقوله " الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون " ينبه تعالى
بذلك على أعمالهم بعد ما ذكر اعتقادهم وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها وهو إقامة الصلاة وهو حق الله
تعالى وقال قتادة: إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها وقال مقاتل بن حيان إقامتها
المحافظة على مواقيتها وإسباغ الطهور فيها وتمام ركوعها وسجودها وتلاوة القرآن فيها والتشهد والصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم هذا إقامتها والانفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعبادة من واجب ومستحب.
والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه. قال قتادة في قوله " ومما رزقناهم ينفقون " فأنفقوا مما
رزقكم الله فإنما هذه الأموال عوارى وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها.
وقوله " أولئك هم المؤمنون حقا " أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الايمان. وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا أبو كريب حدثنا زيد بن الحباب حدثنا ابن لهيعة عن
خالد بن يزيد السكسكي عن سعيد بن أبي هلال عن محمد بن أبي الجهم عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر
برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " كيف أصبحت يا حارث؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا قال " انظر ما تقول فإن لكل شئ
حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ " فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش
ربي بارزا وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها فقال: " يا حارث
عرفت فالزم " ثلاثا. وقال عمرو بن مرة في قوله تعالى " أولئك هم المؤمنون حقا " إنما أنزل القرآن بلسان العرب
كقولك فلان سيد حقا وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقا وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقا وفي القوم شعراء.
وقوله " لهم درجات عند ربهم " أي منازل ومقامات ودرجات في الجنات كما قال تعالى " هم درجات عند الله
والله بصير بما يعملون ". " ومغفرة " أي يغفر لهم السيئات ويشكر لهم الحسنات. وقال الضحاك في قوله " لهم
درجات عند ربهم " أهل الجنة بعضهم فوق بعض فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ولا يرى
الذي هو أسفل منه أنه فضل عليه أحد ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أهل عليين ليراهم
من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء ". قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا ينالها
غيرهم فقال " بلى والذي نفسي بيده لرجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد
وأهل السنن من حديث ابن أبي عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة ليتراءون أهل
الدرجات العلى كما تراءون الكوكب الغابر في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ".
كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون (5) يجادلونك في الحق بعد ما تبين
كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (6) وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات
الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين (7) ليحق الحق ويبطل الباطل
ولو كره المجرمون (8)
قال الإمام أبو جعفر الطبري اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله " كما أخرجك ربك "
298

فقال بعضهم شبه به في الصلاح للمؤمنين اتقاؤهم ربهم وإصلاحهم ذات بينهم طاعتهم لله ورسوله ثم روى عن
عكرمة نحو هذا ومعنى هذا أن الله تعالى يقول كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله
منكم وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمها على العدل والتسوية فكان هذا هو المصلحة التامة لكم وكذلك
لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم وإحراز عيرهم
فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم وجمع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد رشدا وهدى ونصرا
وفتحا كما قال تعالى " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ". قال ابن جرير وقال آخرون معنى ذلك " كما أخرجك ربك من
بيتك بالحق " على كره من فريق من المؤمنين كذلك هم كارهون للقتال فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم. ثم
روى عن مجاهد نحوه أنه قال " كما أخرجك ربك " قال كذلك يجادلونك في الحق. وقال السدي أنزل الله في
خروجه إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون "
لطلب المشركين " يجادلونك في الحق بعدما تبين " وقال بعضهم يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر
فقالوا أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالا فنستعد له. قلت رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان
التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خف منهم
فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر وعلم أبو سفيان بخروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه فبعث ضمضم بن عمرو نذيرا إلى أهل مكة فنهضوا في قريب من ألف مقنع ما بين
التسعمائة إلى الألف وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا وجاء النفير فوردوا ماء بدر وجمع الله بين
المسلمين والكافرين على غير ميعاد لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة
بين الحق والباطل كما سيأتي بيانه والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه يعده إحدى
الطائفتين إما العير وإما النفير ورغب كثير من المسلمين إلى العير لأنه كسب بلا قتال كما قال تعالى " وتودون أن
غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين " قال الحافظ أبو بكر بن مردويه
في تفسيره حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا ابن لهيعة عن
يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن
بالمدينة: " وإني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ "
فقلنا نعم فخرج وخرجنا فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في قتال القوم إنهم قد أخبروا بخروجكم؟ "
فقلنا لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ولكنا أردنا العير ثم قال: " ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا مثل ذلك فقال
المقداد بن عمرو إذا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون " قال فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم قال فأنزل
الله على رسوله صلى الله عليه وسلم " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " وذكر تمام الحديث.
ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة بنحوه. وروى ابن مردويه أيضا من حديث محمد بن عمرو بن علقمة بن
أبي وقاص الليثي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم إلى
بدر حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال: " كيف ترون؟ " فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله بلغنا
أنهم بمكان كذا وكذا قال: ثم خطب الناس فقال: " كيف ترون؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر ثم خطب الناس
فقال: " كيف ترون؟ " فقال سعد بن معاذ يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها
قط ولا لي بها علم ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ولا نكون كالذين قالوا لموسى
" اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ولعلك أن تكون
خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له فصل حبال من شئت واقطع حبال
299

من شئت وعاد من شئت وسالم من شئت وخذ من أموالنا ما شئت فنزل القرآن على قول سعد: " كما
أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون " الآيات وقال العوفي عن ابن عباس لما شاور
النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو وقال له سعد بن عبادة ما قال وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيئوا للقتال وأمرهم بالشوكة
فكره ذلك أهل الايمان فأنزل الله " كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون *
يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " وقال مجاهد يجادلونك في الحق: في
القتال وقال محمد بن إسحاق: " يجادلونك في الحق " أي كراهية للقاء المشركين وإنكارا لمسير قريش حين
ذكروا له وقال السدي: " يجادلونك في الحق بعد ما تبين " أي بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به.
قال ابن جرير وقال آخرون عنى بذلك المشركين حدثنا يونس أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله تعالى
" يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون " قال هؤلاء المشركين جادلوه في الحق
كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الاسلام وهم ينظرون. قال وليس هذا من صفة الآخرين هذه صفة مبتدأة
لأهل الكفر. ثم قال ابن جرير ولا معنى لما قاله لان الذي قبل قوله " يجادلونك في الحق " خبر عن أهل الايمان
والذي يتلوه خبر عنهم. والصواب قول ابن عباس وابن إسحق أنه خبر عن المؤمنين وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق
وهو الذي يدل عليه سياق الكلام والله أعلم. وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن بكير وعبد الرزاق قالا: حدثنا
إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر عليك بالعير ليس دونها
شئ فناداه العباس بن عبد المطلب قال عبد الرزاق وهو أسير في وثاقه إنه لا يصلح لك. قال ولم؟ قال لان الله
عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك إسناد جيد ولم يخرجه ومعنى قوله تعالى " وتودون
أن غير ذات الشوكة تكون لكم " أي يحبون أن الطائفة التي لا حد لها ولا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير
" ويريد الله أن يحق الحق بكلماته " أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم
بهم وينصركم عليهم. ويظهر دينه ويرفع كلمة الاسلام ويجعله غالبا على الأديان وهو أعلم بعواقب الأمور وهو
الذي يدبركم بحسن تدبيره وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم كقوله تعالى " كتب عليكم القتال
وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم " وقال محمد بن إسحاق
رحمه الله حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم
فيما سقت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم. وقال
هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك
أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا وكان أبو سفيان قد أستنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الاخبار.
ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه
لك ولعيرك فحذر عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم
إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش
بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال
فأحسن. ثم قام عمر رضي الله عنه فقال فأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله أمض لما أمرك الله
به فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون " ولكن
اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة -
لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خيرا ودعا له بخير ثم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أشيروا علي أيها الناس " وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وذلك أنهم حين بايعوه
300

بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع
منه أبناءنا ونساءنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من
عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك قال له سعد بن معاذ والله
لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: " أجل " فقال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على
ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أمرك الله فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا
هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا إنا لصبر عند
الحرب صدق عند اللقاء ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول
سعد ونشطه ذلك ثم قال: " سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر
إلى مصارع القوم، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن
أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين (9) وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن
به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم (10)
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو نوح قراد حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا سماك الحنفي أبو زميل حدثني ابن عباس
حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ونظر
إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثم قال " اللهم أنجز لي ما
وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الاسلام فلا تعبد في الأرض أبدا " قال فما زال يستغيث ربه
ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه ثم قال: يا نبي الله كفاك
مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فأنزل الله عز وجل " إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف
من الملائكة مردفين " فلما كان يومئذ التقوا فهزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا.
واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا فقال أبو بكر: يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان وإني أرى
أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ترى يا ابن الخطاب؟ " قال: قلت والله ما أرى ما رأى أبو بكر ولكني أرى أن تمكني من فلان
قريب لعمر فأضرب عنقه وتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه حتى
يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم. فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو
بكر ولم يهو ما قلت وأخذ منهم الفداء فلما كان من الغد قال عمر: فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان
فقلت: ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. قال النبي صلى الله عليه وسلم
" للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة " لشجرة قريبة
من النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عز وجل " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " - إلى قوله - فكلوا مما
غنمتم حلالا طيبا " فأحل لهم الغنائم. فلما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم
الفداء فقتل منهم سبعون وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه وسال
الدم على وجهه فأنزل الله " أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله
على كل شئ قدير " بأخذكم الفداء. ورواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وابن مردويه من طرق عن
عكرمة بن عمار به وصححه علي بن المديني والترمذي وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني
301

وهكذا روى علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أن هذه الآية الكريمة قوله " إذ تستغيثون ربكم " في دعاء
النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد بن تبيع والسدي وابن جريج وقال أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح قال:
لما كان يوم بدر جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد المناشدة يدعو فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا
رسول الله: بعض مناشدتك فوالله ليفين الله لك بما وعدك قال البخاري في كتاب المغازي باب قول الله تعالى
" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم " - إلى قوله - " فإن الله شديد العقاب " حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن مخارق
عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لان أكون صاحبه أحب
إلي مما عدل به أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى " اذهب أنت وربك
فقاتلا " ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره يعني قوله.
حدثني محمد بن عبد الله بن حوشب حدثنا عبد الوهاب حدثنا خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر " اللهم أنشدك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد " فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك فخرج
وهو يقول " سيهزم الجمع ويولون الدبر ". ورواه النسائي عن بندار عن عبد الوهاب عن عبد المجيد الثقفي وقوله
تعالى " بألف من الملائكة مردفين " أي يردف بعضهم بعضا كما قال هارون بن هبيرة عن ابن عباس " مردفين "
متتابعين ويحتمل أن المراد " مردفين " لكم أي نجدة لكم كما قال العوفي عن ابن عباس " مردفين " يقول المدد
كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا. وهكذا قال مجاهد وابن كثير القارئ وابن زيد " مردفين " ممدين وقال
أبو كدينة عن قابوس عن أبيه عن ابن عباس " يمددكم ربكم بألف من الملائكة مردفين " قال وراء كل ملك ملك.
وفي رواية بهذا الاسناد " مردفين " قال بعضهم على أثر بعض وكذا قال أبو ظبيان والضحاك وقتادة وقال ابن جرير
حدثني المثنى حدثنا إسحاق حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثني عبد العزيز بن عمران عن الربعي عن أبي
الحويرث عن محمد بن جبير عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم
وفيها أبو بكر ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الميسرة. وهذا يقتضي إن صح
إسناده أن الألف مردفة بمثلها ولهذا قرأ بعضهم " مردفين " بفتح الدال والله أعلم. والمشهور ما رواه علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس قال: وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة
مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبه. وروى الإمام أبو جعفر ابن جرير ومسلم من حديث عكرمة بن عمار عن
أبي زميل سماك بن وليد الحنفي عن ابن عباس عن عمر الحديث المتقدم ثم قال أبو زميل: حدثني ابن عباس
قال: بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس
يقول أقدم حيزوم إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقيا قال فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط
فاخضر ذلك أجمع فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة فقتلوا يومئذ
سبعين وأسروا سبعين وقال البخاري: " باب شهود الملائكة بدرا ". حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن
يحيى بن سعيد عن معاذ بن رفاعة بن رافع الزرقي عن أبيه وكان أبوه من أهل بدر قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: " من أفضل المسلمين " أو كلمة نحوها قال: " وكذلك من شهد بدرا من
الملائكة " انفرد بإخراجه البخاري. وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خديج وهو خطأ
والصواب رواية البخاري والله أعلم. وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن
أبي بلتعة " إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم "
وقوله تعالى " وما جعله الله إلا بشرى " الآية. أي وما جعل الله بعث الملائكة واعلامه إياكم بهم إلا بشرى
" ولتطمئن به قلوبكم " وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند
الله أي بدون ذلك ولهذا قال " وما النصر إلا من عند الله " كما قال تعالى " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب
حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداءا حتى تضع الحرب أوزارها * ذلك ولو يشاء الله لانتصر
302

منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم *
ويدخلهم الجنة عرفها لهم " وقال تعالى " وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم
شهداء والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين " فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار
بأيدي المؤمنين لأجلها وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم
المكذبة كما أهلك قوم نوح بالطوفان وعادا الأولى بالدبور وثمود بالصيحة وقوم لوط بالخسف والقلب
وحجارة السجيل وقوم شعيب بيوم الظلة فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليم
ثم أنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك كما
قال تعالى " ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر " وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة
للكافرين وأشفى لصدور المؤمنين كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم
ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين
ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الايمان فقتل أبي جهل في معركة القتال وحومة
الوغى أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك كما مات أبو لهب لعنه الله بالعدسة بحيث
لم يقربه أحد من أقاربه وإنما غسلوه بالماء قذفا من بعيد ورجموه حتى دفنوه ولهذا قال تعالى " إن الله
عزيز " أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة كقوله تعالى " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة
الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " " حكيم " فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته
سبحانه وتعالى.
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط
على قلوبكم ويثبت به الاقدام (11) إذ يوحى ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقى في قلوب
الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان (12) ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق
الله ورسوله فإن الله شديد العقاب (13) ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار (14)
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أمانا أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة
عدوهم وقلة عددهم وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا
يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " الآية. قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ولقد
سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف. وقال
الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله
عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة
ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة من الشيطان وقال قتادة: النعاس في الرأس والنوم في القلب
قلت أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جدا وأما الآية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر
وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله
وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى " فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا " ولهذا جاء
في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت
رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسما فقال " أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع "
303

ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى " سيهزم الجمع ويولون الدبر " وقوله " وينزل عليكم من السماء ماء " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة
وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى
وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطرا شديدا فشرب
المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب
فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة وميكائيل
في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا
العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا
يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون
وملؤا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهورا وثبت به الاقدام وذلك أنه كانت بينهم
وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حثى اشتدت وثبتت عليها الاقدام. ونحو ذلك روى عن قتادة
والضحاك والسدي وقد روى عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه طش
أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم
إليه الحباب بن المنذر فقال: يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزلة أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل
نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة " فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا
حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار
رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن
المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال " هل تعرف هذا؟ " فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم وإنه
ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله
حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد:
أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم وقال
ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحق عن جارية عن علي
رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت
الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله " ليطهركم به " أي من
حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر " ويذهب عنكم رجز الشيطان " أي من وسوسة أو خاطر سئ وهو تطهير
الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة " فهذا زينة
الظاهر " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " أي مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته
" وليربط على قلوبكم " أي بالصبر والاقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن " ويثبت به الاقدام " وهو
شجاعة الظاهر والله أعلم.
وقوله " إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه
عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي
إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق: وآزروهم وقال غيره: قاتلوا معهم وقيل كثروا
سوادهم وقيل كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيقول سمعت
304

هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك فتقوى
أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه وقوله " سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب " أي ثبتوا أنتم
المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري
وكذب رسولي " فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان " أي اضربوا الهام ففلقوها واحتزوا الرقاب
فقطعوها وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى " فوق الأعناق " فقيل
معناه اضربوا الرؤوس قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا
المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا
أثخنتموهم فشدوا الوثاق " وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لم أبعث لأعذب
بعذاب الله إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق " واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام
قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول " يفلق هاما " فيقول أبو بكر:
من رجال أعزة علينا * وهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما
قال تعالى " وما علمناه الشعر وما ينبغي له " وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن
قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به وقوله " واضربوا منهم كل بنان " قال ابن
جرير معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم والبنان جمع بنانة
كما قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة * ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " واضربوا منهم كل بنان " يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن
جرير وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل
مفصل وقال الأوزاعي في قوله تعالى " واضربوا منهم كل بنان " قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار
فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل لا تقتلوهم
قتلا ولكن خذوهم أخذا حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله
إلى الملائكة " أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل
بنان " الآية. فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبرا فوفى ذلك
سبعين يعني قتيلا ولهذا قال تعالى " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله " أي خالفوهما فساروا في شق وتركوا الشرع
والايمان به واتباعه في شق ومأخوذ أيضا من شق العصا وهو جعلها فرقتين " ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله
شديد العقاب " أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شئ ولا يقوم لغضبه شئ تبارك وتعالى لا إله
غيره ولا رب سواه " ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار " هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال
في الدنيا واعلموا أيضا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار (15) ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال
أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير (16)
يقول تعالى متوعدا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا "
أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم " فلا تولوهم الادبار " أي تفروا وتتركوا أصحابكم (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا
305

لقتال) أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أنه قد خاف منه فيتبعه ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك نص
عليه سعيد بن جبير والسدي وقال الضحاك أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها " أو متحيزا إلى فئة "
أي فر من ههنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونونه فيجوز له ذلك حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره
أو إلى الامام الأعظم دخل في هذه الرخصة قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا زهير حدثنا يزيد بن أبي زياد
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا لو دخلنا
المدينة ثم بتنا ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا فأتيناه قبل صلاة الغداة
فخرج فقال " من القوم؟ " فقلنا: نحن الفرارون فقال " لا بل أنتم العكارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين " قال
فأتيناه حتى قبلنا يده وهكذا رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من طرق عن يزيد بن أبي زياد وقال الترمذي
حسن لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زياد. ورواه ابن أبي حاتم من حديث يزيد بن أبي زياد به وزاد في آخره
وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية " أو متحيزا إلى فئة " قال أهل العلم معنى قوله " العكارون " أي العرافون وكذلك
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيدة لما قتل على الجسر بأرض فارس لكثرة الجيش من ناحية
المجوس فقال عمر لو تحيز إلي لكنت له فئة هكذا رواه محمد بن سيرين عن عمر وفي رواية أبي عثمان النهدي
عن عمر قال لما قتل أبو عبيدة قال عمر أيها الناس أنا فئتكم وقال مجاهد قال عمر أنا فئة كل مسلم وقال
عبد الملك بن عمير عن عمر أيها الناس لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله المصري حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي حدثنا نافع أنه سأل ابن
عمر قلت إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة إمامنا أو عسكرنا فقال إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت
إن الله يقول " إذا لقيتم الذين كفروا زحفا " الآية فقال إنما أنزلت هذه الآية في يوم بدر لا قبلها ولا بعدها
وقال الضحاك في قوله " أو متحيزا إلى فئة " المتحيز: الفار إلى النبي وأصحابه وكذلك من فر اليوم إلى أميره
أو أصحابه فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر لما رواه البخاري ومسلم
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل يا رسول الله
وما هن؟ قال " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم
الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " وله شواهد من وجوه أخر ولهذا قال تعالى " فقد باء " أي رجع
" بغضب من الله ومأواه " أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده " جهنم وبئس المصير ". وقال الإمام أحمد حدثنا
زكريا بن عدي حدثنا عبد الله بن عمر الرقي عن زيد بن أبي أنيسة حدثنا جبلة بن سحيم عن أبي المثنى العبدي
سمعت السدوسي يعني ابن الخصاصية وهو بشير بن معبد قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لابايعه فاشترط علي شهادة أن لا إله
إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن أقيم الصلاة وأن أؤدي الزكاة وأن أحج حجة الاسلام وأن أصوم
شهر رمضان وأن أجاهد في سبيل الله. فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله لا أطيقهما: الجهاد فإنهم زعموا
أن من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت والصدقة فوالله
مالي إلا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولتهم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال " فلا جهاد ولا صدقة فبم
تدخل الجنة إذا؟ " قلت يا رسول الله أنا أبايعك فبايعته عليهن كلهن هذا حديث غريب من هذا الوجه ولم
يخرجوه في الكتب الستة. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة حدثنا إسحاق
بن إبراهيم أبو النضر حدثنا يزيد بن ربيعة حدثنا أبو الأشعث عن ثوبان مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة لا
ينفع معهن عمل: الشرك بالله وعقوق الوالدين والفرار من الزحف " وهذا أيضا حديث غريب جدا وقال
الطبراني أيضا حدثنا العباس بن مقاتل الأسفاطي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حفص بن عمر السني حدثني عمرو بن
مرة قال سمعت بلال بن يسار بن زيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سمعت أبي يحدث عن جدي قال: قال
306

رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه غفر له وإن كان قد فر من الزحف ". وهكذا
رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل به وأخرجه الترمذي عن البخاري عن موسى بن إسماعيل به وقال غريب لا
نعرفه إلا من هذا الوجه قلت ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم عنه سواه وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما
كان حراما على الصحابة لأنه كان فرض عين عليهم وقيل على الأنصار خاصة لانهم بايعوا على السمع والطاعة
في المنشط والمكره وقيل المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة يروى هذا عن عمر وابن عمر وابن عباس وأبي
هريرة وأبي سعيد وأبي نضرة ونافع مولى ابن عمر وسعيد بن جبير والحسن البصري وعكرمة وقتادة والضحاك
وغيرهم وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم
إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " ولهذا قال عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن في قوله
" ومن يولهم يومئذ دبره " قال ذلك يوم بدر فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر أحسبه قال فلا بأس عليه وقال
ابن المبارك أيضا عن ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب قال أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار قال " ومن يولهم
يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله " فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال " إن الذين
تولوا منكم يوم التقى الجمعان " - إلى قوله - ولقد عفا الله عنهم " ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين قال " ثم وليتم
مدبرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء " وفي سنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم وتفسير ابن
جرير وابن مردويه من حديث داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية " ومن يولهم
يومئذ دبره " إنما أنزلت في أهل بدر وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر
وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما
هو مذهب الجماهير والله أعلم.
فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله
سميع عليم (17) ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين (18)
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك
وأعانهم ولهذا قال " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم " أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة
عددكم أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال " ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة " الآية وقال تعالى " لقد
نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت
ثم وليتم مدبرين " يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللامة والعدد وإنما النصر من
عنده تعالى كما قال تعالى " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين " ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
أيضا في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه
واستكانته فرماهم بها وقال " شاهت الوجوه " ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك
الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى " وما رميت إذ
رميت ولكن الله رمى " أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال " يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدأ " فقال له
جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين
أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين وقال السدي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي
رضي الله عنه يوم بدر " أعطني حصبا من الأرض " فناوله حصبا عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك
إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شئ ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم وأنزل الله " فلم تقتلوهم ولكن
307

الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب
القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال
" شاهت الوجوه " فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في
رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " وما رميت
إذ رميت ولكن الله رمى " قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصبات فرمى بحصبات ميمنة القوم
وحصبات في ميسرة القوم وحصبات بين أظهرهم وقال " شاهت الوجوه " فانهزموا وقد روى في هذه القصة عن
عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك
يوم حنين أيضا وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد العزيز بن
عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن ربيعة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي خيثمة عن
حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى
رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. غريب من هذا الوجه وههنا قولان آخران غريبان جدا. " أحدهما " قال ابن
جرير حدثنا محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبد الرحمن بن جبير أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة وقال " جيئوني بقوس غيرها " فجاءوه بقوس
كبداء فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عز وجل " وما
رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه
أراد أن الآية تعم هذا كله وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على
أئمة العلم والله أعلم. " والثاني " روى ابن جرير أيضا والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن
المسيب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لامته فخدشه في
ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليم موصولا بعذاب البرزخ
المتصل بعذاب الآخرة وهذا القول عن هذين الامامين غريب أيضا جدا ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها لا
أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن
الزبير في قوله " وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا " أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع
كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته وهكذا فسره ابن جرير أيضا وفي الحديث
" وكل بلاء حسن أبلانا " وقوله " إن الله سميع عليم " أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب، وقوله
" ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين " هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد
الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار ولله الحمد والمنة.
إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت
وأن الله مع المؤمنين (19)
يقول تعالى للكفار " إن تستفتحوا " أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم
المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم كما قال محمد بن إسحاق وغيره عن الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير أن أبا
جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة. وكان استفتاحا منه فنزلت " إن
تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " إلى آخر الآية. وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد يعني ابن هارون أخبرنا محمد بن إسحاق
حدثني الزهري عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال حين التقى القوم اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا
308

نعرفه فأحنه الغداة. فكان المستفتح وأخرجه النسائي في التفسير من حديث صالح بن كيسان عن الزهري به
وكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق الزهري به وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وروى نحو
هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة ويزيد بن رومان وغير واحد وقال السدي كان المشركون حين
خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير
القبيلتين فقال الله " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح " يقول قد نصرت ما قلتم وهو محمد صلى الله عليه وسلم وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو قوله تعالى إخبارا عنهم " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك "
الآية وقوله " وإن تنتهوا " أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله " فهو خير لكم " أي في الدنيا
والآخرة وقوله تعالى " وإن تعودوا نعد " كقوله " وإن عدتم عدنا " معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر
والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة. وقال السدي " وإن تعودوا " أي إلى الاستفتاح " نعد " أي إلى الفتح
لمحمد صلى الله عليه وسلم والنصر له وتظفيره على أعدائه والأول أقوى " ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت " أي ولو جمعتم
من الجموع ما عسى أن تجمعوا فإن من كان الله معه فلا غالب له " إن الله مع المؤمنين " وهم الحزب النبوي
والجناب المصطفوي.
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم
لا يسمعون (21) * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم
ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون (23)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ولهذا قال
" ولا تولوا عنه " أي تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره " وأنتم تسمعون " أي بعد ما علمتم ما دعاكم إليه
" ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون " قيل المراد المشركون واختاره ابن جرير وقال ابن إسحاق هم
المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم
شر الخلق والخليقة فقال " إن شر الدواب عند الله الصم " أي عن سماع الحق " البكم " عن فهمه ولهذا قال
" الذين لا يعقلون " فهؤلاء شر البرية لان كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له وهؤلاء خلقوا للعبادة
فكفروا ولهذا شبههم بالانعام في قوله " ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء " الآية
وقال في الآية الأخرى " أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون " وقيل المراد بهؤلاء المذكورين نفر من
بني عبد الدار من قريش. روي عن ابن عباس ومجاهد واختاره ابن جرير. وقال محمد بن إسحاق هم
المنافقون. قلت ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا لان كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح والقصد إلى
العمل الصالح ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح لو فرض أن لهم فهما فقال " ولو
علم الله فيهم خيرا لأسمعهم " أي لأفهمهم وتقدير الكلام " و " لكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه " لو
أسمعهم " أي أفهمهم " لتولوا " عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك " وهم معرضون " عنه.
يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه
تحشرون (24)
قال البخاري " استجيبوا " أجيبوا " لما يحييكم " لما يصلحكم. حدثني إسحق حدثنا روح حدثنا شعبة عن
309

خبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعد بن المعلى رضي الله عنه قال كنت
أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته فقال " ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله " يا أيها
الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " - ثم قال - لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن
أخرج " فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له. وقال معاذ: حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن سمع
حفص بن عاصم سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقال " الحمد لله رب العالمين " هي السبع
المثاني. هذا لفظه بحروفه وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة. وقال مجاهد
في قوله " لما يحييكم " قال للحق وقال قتادة " لما يحييكم " قال هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة وقال
السدي " لما يحييكم " ففي الاسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن
الزبير عن عروة بن الزبير " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا الله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " أي للحرب التي
أعزكم الله تعالى بها بعد الذل وقواكم بها بعد الضعف ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم. وقوله تعالى
" واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه " قال ابن عباس يحول بين المؤمن وبين الكفر وبين الكافر وبين الايمان
رواه الحاكم في مستدركه موقوفا وقال صحيح ولم يخرجاه ورواه ابن مردويه من وجه آخر مرفوعا ولا يصح
لضعف إسناده والموقوف أصح وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية ومقاتل بن حيان
والسدي وفي رواية عن مجاهد في قوله " يحول بين المرء وقلبه " أي حتى يتركه لا يعقل وقال السدي يحول
بين الانسان وقلبه فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه. وقال قتادة هو كقوله " ونحن أقرب إليه من حبل
الوريد ". وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية عن
الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول " يا مقلب القلوب ثبت
قلبي على دينك " قال فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال " نعم إن القلوب بين
إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها ". وهكذا رواه الترمذي في كتاب القدر من جامعه عن هناد بن السري عن
أبي معاوية محمد بن حازم الضرير عن الأعمش واسمه سليمان بن مهران عن أبي سفيان واسمه طلحة بن نافع عن
أنس ثم قال حسن. وهكذا روى عن غير واحد عن الأعمش ورواه بعضهم عنه عن أبي سفيان عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم وحديث أبي سفيان عن أنس أصح. " حديث آخر " وقال الإمام أحمد في مسنده حدثنا عبد بن حميد
حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يدعو " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " هذا حديث جيد الاسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو مع ذلك على
شرط أهل السنن ولم يخرجوه. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا الوليد بن مسلم قال: سمعت ابن جابر
يقول: حدثني بشر بن عبيد الله الحضرمي أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت النواس بن سمعان الكلابي
رضي الله عنه يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا
شاء أن يقيمه أقامه وإذا شاء أن يزيغه أزاغه " وكان يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قال " والميزان
بيد الرحمن يخفضه ويرفعه ". وهكذا رواه النسائي وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر فذكر
مثله. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا حماد ابن زيد عن المعلى بن زياد عن الحسن أن عائشة
قالت: دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت فقلت يا رسول الله
إنك تكثر أن تدعو بهذا الدعاء فقال " إن قلب الآدمي بين إصبعين من أصابع الله فإذا شاء أزاغه وإذا شاء أقامه ".
" حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا هاشم حدثنا عبد الحميد حدثني شهر سمعت أم سلمة تحدث أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول " اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالت: فقلت يا رسول الله أو
إن القلوب لتقلب؟ قال " نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله عز وجل فإن
شاء أقامه وإن شاء أزاغه فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو
310

الوهاب " قالت: فقلت يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال " بلى قولي اللهم رب النبي محمد
اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني ". " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا
أبو عبد الرحمن حدثنا حياة أخبرني أبو هانئ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي أنه سمع عبد الله بن عمرو أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف شاء ".
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري فرواه
مع النسائي من حديث حياة بن شريح المصري به.
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25)
يحذر تعالى عباده المؤمنين فتنة أي اختبارا ومحنة يعم بها المسئ وغيره لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر
الذنب بل يعمها لم تدفع وترفع كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا شداد بن سعيد
حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال: قلنا للزبير يا أبا عبد الله ما جاء بكم! ضيعتم الخليفة الذي قتل ثم جئتم
تطلبون دمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله
عنهم " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت
وقد رواه البزار من حديث مطرف عن الزبير وقال: لا نعرف مطرفا روي عن الزبير غير هذا الحديث وقد روى
النسائي من حديث جرير بن حازم عن الحسن عن الزبير نحو هذا وقد روى ابن جرير حدثني الحارث حدثنا
عبد العزيز حدثنا مبارك بن فضالة عن الحسن. قال: قال الزبير لقد خوفنا يعني قوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن
الذين ظلموا منكم خاصة " ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة وكذا رواه حميد عن الحسن
عن الزبير رضي الله عنه وقال داود بن أبي هند عن الحسن في هذه الآية قال نزلت في علي وعمار وطلحة
والزبير رضي الله عنهم وقال سفيان الثوري عن الصلت بن دينار عن عقبة بن صهبان سمعت الزبير يقول: لقد
قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة
واعلموا أن الله شديد العقاب ". وقد روى من غير وجه عن الزبير بن العوام وقال السدي: نزلت في أهل بدر
خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى " واتقوا فتنة لا
تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير
هذه الآية: أمر الله المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب وهذا تفسير حسن جدا
ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة " هي أيضا لكم وكذا قال
الضحاك ويزيد بن أبي حبيب وغير واحد وقال ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة إن الله
تعالى يقول " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن رواه ابن جرير والقول
بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ويدل عليه الأحاديث الواردة في
التحذير من الفتن ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن
أخص ما يذكر ههنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا أحمد بن الحجاج أخبرنا عبد الله يعني ابن المبارك
أنبأنا سيف بن أبي سليمان سمعت عدي بن عدي الكندي يقول: حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يعني عدي بن
عميرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين
ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " فيه رجل متهم ولم
يخرجوه في الكتب الستة ولا واحد منهم والله أعلم. " حديث أخر " قال الإمام أحمد حدثنا سليمان الهاشمي
حدثنا إسماعيل يعني ابن جعفر أخبرني عمرو بن أبي عمر عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل عن حذيفة بن
311

اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث
عليكم عقابا من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم ". ورواه عن أبي سعيد عن إسماعيل بن جعفر وقال " أو ليبعثن
الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم ". وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير قال حدثنا زر بن
حبيب الجهني حدثني أبو الرقاد قال: خرجت مع مولاي فدفعت إلى حذيفة وهو يقول: إن كان الرجل ليتكلم
بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات لتأمرن
بالمعروف ولتنهن عن المنكر ولتحاضن على الخير أو ليسحتكم الله جميعا بعذاب أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم
يدعو خياركم فلا يستجاب لهم. " حديث آخر " قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا يحيى بن سعيد عن زكريا حدثنا
عامر رضي الله عنه قال: سمعت النعمان بن بشير رضي الله عنه يخطب يقول - وأومأ بأصبعيه إلى أذنه يقول:
مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمداهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها
وأصاب بعضهم أعلاها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم فقالوا لو خرقنا في
نصيبنا خرقا فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا: فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا
جميعا. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم فرواه في الشركة والشهادات والترمذي في الفتن من غير وجه عن
سليمان بن مهران الأعمش عن عامر بن شراحيل الشعبي به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا حسين حدثنا
خلف بن خليفة عن ليث عن علقمة بن مرثد عن المعرور بن سويد عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده " فقلت يا رسول الله أما فيهم أناس
صالحون؟ قال " بلى " قالت فكيف يصنع أولئك؟ قال " يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله
ورضوان ". " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا حجاج بن محمد حدثنا شريك عن أبي إسحق عن المنذر بن
جرير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيره إلا عمهم
الله بعقاب أو أصابهم العقاب ". ورواه أبو داود عن مسدد عن أبي الأحوص عن أبي إسحق به. وقال الإمام أحمد
أيضا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسحق يحدث عن عبيد الله بن جرير عن أبيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروه إلا عمهم الله
بعقاب ". ثم رواه أيضا عن وكيع عن إسرائيل وعن عبد الرزاق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم
عن أبي إسحق السبيعي به وأخرجه ابن ماجة عن علي بن محمد عن وكيع به وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان
حدثنا جامع بن أبي راشد عن منذر عن الحسن بن محمد عن امرأته عن عائشة تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم " إذا ظهر السوء
في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه " فقلت وفيهم أهل طاعة الله؟ قال " نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله ".
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من
الطيبات لعلكم تشكرون (26)
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم حيث كانوا قليلين فكثرهم ومستضعفين خائفين
فقواهم ونصرهم وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات واستشكرهم فأطاعوه وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا كان حال
المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطهدين يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله من مشرك
ومجوسي ورومي كلهم أعداء لهم لقلتهم وعدم قوتهم فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى
المدينة فآواهم إليها وقيض لهم أهلها آووا ونصروا يوم بدر وغيره وواسوا بأموالهم وبذلوا مهجهم في طاعة الله
وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم قال قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في قوله تعالى " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في
الأرض " قال كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا وأوجه بطونا وأعراه جلودا وأبينه
312

ضلالا من عاش منهم عاش شقيا ومن مات منهم ردى في النار يؤكلون ولا يأكلون والله ما نعلم قبيلا من حاضر
أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم حتى جاء الله بالاسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به
ملوكا على رقاب الناس وبالاسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا الله على نعمه فإن ربكم منعم يحب الشكر وأهل
الشكر في مزيد من الله.
يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون (27) واعلموا أنما أموالكم وأولادكم
فتنة وأن الله عنده أجر عظيم (28)
قال عبد الرزاق بن أبي قتادة والزهري أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة
لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروه في ذلك فأشار عليهم بذلك وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ثم
فطن أبو لبابة ورأى أنه قد خان الله ورسوله فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه وانطلق إلى مسجد
المدينة فربط نفسه في سارية منه فمكث كذلك تسعة أيام حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد حتى أنزل الله توبته
على رسوله فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه وأرادوا أن يحلوه من السارية فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده فحله فقال يا رسول الله: إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة فقال " يجزيك الثلث أن تصدق به ".
وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا يونس بن الحارث الطائفي حدثنا محمد بن عبد الله بن عون
الثقفي عن المغيرة بن شعبة قال نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله
والرسول " الآية.
وقال ابن جرير أيضا حدثنا القاسم بن بشر بن معروف حدثنا شبابة بن سوار حدثنا محمد بن المحرم قال لقيت
عطاء بن أبي رباح فحدثني قال حدثني جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أبا سفيان في موضع كذا وكذا فاخرجوا إليه
واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إليه إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله عز وجل " لا تخونوا الله
والرسول وتخونوا أماناتكم " الآية هذا حديث غريب جدا وفي سنده وسياقه نظر. وفي الصحيحين قصة
حاطب بن أبي بلتعة أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح فأطلع الله رسوله على ذلك
فبعث في أثر الكتاب فاسترجعه واستحضر حاطبا فأقر بما صنع وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله: ألا
أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال " دعه فإنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على
أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " قلت والصحيح أن الآية عامة وإن صح أنها وردت على سبب
خاص فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار
اللازمة والمتعدية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وتخونوا أماناتكم " الأمانة الأعمال التي ائتمن الله
عليها العباد يعني الفريضة يقول " لا تخونوا " لا تنقضوها وقال في رواية " لا تخونوا الله والرسول " يقول بترك
سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في هذه الآية أي لا تظهروا له من
الحق ما يرضى به منكم ثم تخالفوه في السر إلى غيره فإن ذلك هلاك لأماناتكم وخيانة لأنفسكم. وقال
السدي: إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم. وقال أيضا كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى
يبلغ المشركين وقال عبد الرحمن بن زيد نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون وقوله " واعلموا
أنما أموالكم وأولادكم فتنة " أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو
313

تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " وقال
" ونبلوكم بالشر والخير فتنة " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل
ذلك فأولئك هم الخاسرون " وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم "
الآية وقوله " وأن الله عنده أجر عظيم " أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد فإنه قد يوجد منهم
عدو وأكثرهم لا يغني عنك شيئا والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ولديه الثواب الجزيل يوم
القيامة. وفي الأثر يقول الله تعالى " يا ابن آدم اطلبني تجدني فإن وجدتني وجدت كل شئ وإن فتك فاتك كل
شئ وأنا أحب إليك من كل شئ " وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة
الايمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان أن يلقى
في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ". بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد
والأموال والنفوس كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من
نفسه وأهله وماله والناس أجمعين ".
يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم (29)
قال ابن عباس والسدي ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد " فرقانا " مخرجا
زاد مجاهد في الدنيا والآخرة وفي رواية عن ابن عباس " فرقانا " نجاة وفي رواية عنه نصرا وقال محمد بن إسحاق
" فرقانا " أي فصلا بين الحق والباطل وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وهو يستلزم ذلك كله فان
من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره وفق لمعرفة الحق من الباطل فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من
أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها وغفرها سترها عن الناس وسببا لنيل ثواب الله الجزيل
كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به
ويغفر لكم والله غفور رحيم ".
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين (30)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة " ليثبتوك " ليقيدوك وقال عطاء وابن زيد: ليحبسوك وقال السدي الاثبات هو
الحبس والوثاق وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء وهو مجمع الأقوال وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء
وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج قال عطاء سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه
أو يخرجوه قال له عمه أبو طالب هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: " يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو
يخرجوني ". فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: " ربي " قال: نعم الرب ربك استوص به خيرا قال " أنا أستوصي به؟ بل
هو يستوصي بي "
وقال أبو جعفر ابن جرير حدثني محمد بن إسماعيل المصري المعروف بالوساوسي أخبرنا عبد الحميد بن أبي داود
عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن المطلب بن أبي وداعة أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يأتمر
بك قومك؟ قال " يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني " فقال من أخبرك بهذا؟ قال " ربي " قال نعم الرب
ربك فاستوص به خيرا قال " أنا أستوصي به؟ بل هو يستوصي بي " قال فنزلت " وإذ يمكر بك الذين كفروا
ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك " الآية. وذكر أبي طالب في هذا غريب جدا بل منكر لأن هذه الآية مدنية ثم
إن هذه القصة واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الاثبات أو النفي أو القتل إنما كان ليلة الهجرة
سواء وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي
314

طالب الذي كان يحوطه وينصره ويقوم باعبائه والدليل على صحة ما قلنا ما روى الإمام محمد بن إسحاق بن
يسار صاحب المغازي عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: وحدثني الكلبي عن باذان مولى
أم هانئ عن ابن عباس أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة فاعترضهم إبليس في
صورة شيخ جليل فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم
ولن يعدمكم رأيي ونصحي: قالوا أجل ادخل فدخل معهم فقال انظروا في شأن هذا الرجل والله ليوشكن أن
يواثبكم في أمركم بأمره فقال قائل منهم أحبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من
كان قبله من الشعراء زهير والنابغة إنما هو كأحدهم قال فصرخ عدو الله الشيخ النجدي فقال والله ما هذا لكم
برأي والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم فما
آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم. قالوا صدق الشيخ فانظروا في غير هذا. قال قائل منهم أخرجوه من بين
أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم وكان أمره في
غيركم. فقال الشيخ النجدي والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذ القلوب ما تسمع
من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل
أشرافكم. قالوا صدق والله فانظروا رأيا غير هذا قال: فقال أبو جهل لعنه الله: والله لأشيرن عليكم برأي ما
أراكم أبصرتموه بعد لا أرى غيره قالوا وما هو؟ قال تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهدا ثم يعطى كل
غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها فما أظن هذا الحي من
بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا وقطعنا عنا أذاه قال: فقال
الشيخ النجدي هذا والله الرأي القول ما قال الفتى لا أرى غيره قال فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له فأتى
جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه وأخبره بمكر القوم فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في
بيته تلك الليلة وأذن الله له عند ذلك بالخروج وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه
عنده " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " وأنزل
في قولهم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء " أم يقولون شاعر نتربص به ريب
المنون " فكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة للذي اجتمعوا عليه من الرأي وعن السدي نحو هذا السياق وأنزل
الله في إرادتهم اخراجه قوله تعالى " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا
قليلا " وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروى عن مجاهد وعروة بن الزبير وموسى بن عقبة وقتادة ومقسم وغير
واحد نحو ذلك وقال يونس بن بكير عن ابن إسحاق فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر أمر الله حتى إذا اجتمعت قريش
فمكرت به وأرادوا به ما أرادوا أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت
فيه فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب فأمره أن يبيت على فراشه ويستجي ببرد له أخضر ففعل ثم
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم وهم على بابه وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذرها على رؤوسهم وأخذ الله
بأبصارهم عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ " يس والقرآن الحكيم " - إلى قوله - " فأغشيناهم فهم لا يبصرون " وقال
الحافظ أبو بكر البيهقي: روي عن عكرمة ما يؤكد هذا وقد روى ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه
من حديث عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهي تبكي فقال " ما يبكيك يا بنية؟ " قالت يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملا من قريش في الحجر يتعاهدون
باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك
فقال " يا بنية ائتني بوضوء " فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى المسجد فلما رأوه قالوا ها هو ذا فطأطأوا رؤوسهم
وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها وقال " شاهت
الوجوه ". فما أصاب رجلا منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافرا ثم قال الحاكم صحيح على شرط
315

مسلم ولم يخرجاه ولا أعرف له علة. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني عثمان الجريري
عن مقسم مولى ابن عباس أخبره ابن عباس في قوله " وإذ يمكر بك " الآية قال تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم
إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم بل اقتلوه وقال بعضهم بل أخرجوه فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم
على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار وبات المشركون
يحرسون عليا يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فلما رأوا عليا رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك
هذا؟ قال لا أدري فاقتصوا أثره فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه
نسج العنكبوت فقالوا لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه فمكث فيه ثلاث ليال وقال محمد بن إسحاق
عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " أي فمكرت
بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم.
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين (31) وإذ قالوا اللهم إن
كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (32) وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم
وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون (33)
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته إذا تتلى عليهم أنهم يقولون
" قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا " وهذا منهم قول بلا فعل وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا
يجدون إلى ذلك سبيلا وإنما هذا القول منهم يغرون به أنفسهم ومن تبعهم على باطلهم وقد قيل إن القائل
لذلك هو النضر بن الحارث لعنه الله كما قد نص على ذلك سعيد بن جبير والسدي وابن جريج وغيرهم. فإنه لعنه
الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس وتعلم من أخبار ملوكهم رستم واسفنديار ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه
الله وهو يتلو على الناس القرآن فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار
أولئك ثم يقول بالله أينا أحسن قصصا أنا أو محمد؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبرا بين يديه ففعل ذلك ولله الحمد وكان الذي أسره المقداد بن الأسود رضي
الله عنه كما قال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
قال: قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر
فلما أمر بقتله قال المقداد يا رسول الله أسيري فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه كان يقول في كتاب الله عز وجل ما يقول "
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فقال المقداد هذا الذي أردت قال وفيه أنزلت هذه الآية " وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد
سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ". وكذا رواه هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي دحية عن
سعيد بن جبير أنه قال المطعم بن عدي بدل طعيمة وهو غلط لان المطعم بن عدي لم يكن حيا يوم بدر ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ لو كان المطعم بن عدي حيا ثم سألني في هؤلاء النتنى لوهبتهم له يعني الأسارى لأنه
كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف ومعنى " أساطير الأولين " وهو جمع أسطورة أي كتبهم اقتبسها
فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس وهذا هو الكذب البحت كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى " وقالوا أساطير
الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا
رحيما " أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه، وقوله " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم
وهذا مما عيبوا به وكان الأولى لهم أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ولكن
316

استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة كقوله تعالى " ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى
لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون " " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " وقوله " سأل سائل
بعذاب واقع * للكافرين ليس له دافع * من الله ذي المعارج " وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم
شعيب له " فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين " وقال هؤلاء " اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " قال شعبة عن عبد الحميد صاحب الزيادي عن أنس بن
مالك قال أبو جهل بن هشام قال " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم " فنزلت " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " رواه البخاري عن
أحمد ومحمد بن النضر كلاهما عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه عن شعبة به وأحمد هذا هو أحمد بن النضر بن
عبد الوهاب قاله الحاكم أبو أحمد والحاكم أبو عبد الله النيسابوري والله أعلم. وقال الأعمش عن رجل عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم " قال هو النضر بن الحارث بن كلدة قال: فأنزل الله " سأل سائل بعذاب واقع *
للكافرين ليس له دافع " وكذا قال مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والسدي إنه النضر بن الحارث زاد عطاء فقال الله
تعالى " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " وقال " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة " وقال
" سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين " قال عطاء ولقد أنزل الله فيه بضع عشرة آية من كتاب الله عز وجل وقال ابن
مردويه: حدثنا محمد بن إبراهيم حدثنا الحسن بن أحمد بن الليث حدثنا أبو غسان حدثنا أبو نميلة حدثنا الحسين
عن ابن بريدة عن أبيه قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول
محمد حقا فاخسف بي وبفرسي. وقال قتادة في قوله " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية.
قال: قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة وجهلتها وقوله تعالى " وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو حذيفة
موسى بن مسعود حدثنا عكرمة بن عمار عن أبي زميل سماك الحنفي عن ابن عباس قال كان المشركون يطوفون
بالبيت ويقولون لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم " قد قد " ويقولون: لبيك اللهم لبيك لبيك
لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. ويقولون غفرانك غفرانك فأنزل الله " وما كان الله ليعذبهم
وأنت فيهم " الآية. قال ابن عباس كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار. وقال
ابن جرير حدثني الحارث حدثني عبد العزيز حدثنا أبو معشر عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: قالت
قريش بعضها لبعض محمد أكرمه الله من بيننا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك " الآية. فلما أمسوا ندموا
على ما قالوا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله " وما كان الله معذبهم " - إلى قوله - ولكن أكثرهم لا يعلمون " وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " يقول ما كان الله ليعذب قوما وأنبياؤهم بين
أظهرهم حتى يخرجهم ثم قال " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يقول وفيهم من قد سبق له من الله الدخول
في الايمان وهو الاستغفار يستغفرون يعني يصلون يعني بهذا أهل مكة وروى عن مجاهد وعكرمة وعطية العوفي
وسعيد بن جبير والسدي نحو ذلك وقال الضحاك وأبو مالك " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني
المؤمنين الذين كانوا بمكة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الغفار بن داود حدثنا النضر بن عدي قال:
قال ابن عباس إن الله جعل في هذه الأمة أمانين لا يزالون معصومين مجارين من قوارع العذاب ما داما بين
أظهرهم فأمان قبضه الله إليه وأمان بقي فيكم قوله " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم
يستغفرون " وقال أبو صالح عبد الغفار حدثني بعض أصحابنا أن النضر بن عدي حدثه هذا الحديث عن مجاهد عن
ابن عباس وروى ابن مردويه وابن جرير عن أبي موسى الأشعري نحوا من هذا وكذا روى عن قتادة وأبي العلاء
النحوي المقرئ وقال الترمذي حدثنا سفيان بن وكيع حدثنا ابن نمير عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر عن
317

عباد بن يوسف عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزل الله علي أمانين لامتي " وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم
القيامة ". ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب
أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان قال وعزتك
يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم فقال الرب وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما
استغفروني ". ثم قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا راشد
هو ابن سعد حدثني معاوية بن سعد التجيبي عمن حدثه عن فضالة بن عبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " العبد آمن من
عذاب الله ما استغفر الله عز وجل ".
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن
أكثرهم لا يعلمون (34) وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون (35)
يخبر تعالى أنهم أهل لان يعذبهم ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ولهذا لما خرج من
بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم وأسر سراتهم وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي
هم متلبسون بها من الشرك والفساد وقال قتادة والسدي وغيرهما لم يكن القوم يستغفرون ولو كانوا يستغفرون لما
عذبوا واختاره ابن جرير فلولا ما كان بين أظهرهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين لوقع بهم البأس
الذي لا يرد ولكن دفع عنهم بسبب أولئك كما قال تعالى في يوم الحديبية " الذين كفروا وصدوكم عن المسجد
الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤوهم فتصيبكم منهم معرة
بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ". قال ابن جرير: حدثنا
ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر بن أبي المغيرة عن ابن أبزى قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فأنزل الله " وما كان الله
ليعذبهم وأنت فيهم " قال فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فأنزل الله " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " قال وكان
أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها مستضعفين يعني بمكة " يستغفرون " فلما خرجوا أنزل الله " وما لهم
أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه " قال فأذن الله في فتح مكة فهو العذاب الذي
وعدهم وروى عن ابن عباس وأبي مالك والضحاك وغير واحد نحو هذا وقد قيل إن هذه الآية ناسخة لقوله
تعالى " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " على أن يكون المراد صدور الاستغفار منهم أنفسهم قال ابن جرير:
حدثنا ابن حميد ثنا يحيى بن واضح عن الحسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة والحسن البصري قالا: قال في
الأنفال " وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " فنسختها الآية التي تليها " وما لهم
ألا يعذبهم الله " - إلى قوله - " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر وكذا
رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي نميلة يحيى بن واضح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح
حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء عن ابن عباس " وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "
ثم استثنى أهل الشرك فقال " وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام " وقوله " وما لهم ألا يعذبهم
الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي وكيف
لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه
والطواف به ولهذا قال " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما
أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال تعالى " ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر
أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى
318

الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " وقال تعالى " وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد
الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله " الآية. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسير هذه الآية: حدثنا
سليمان بن أحمد هو الطبراني حدثنا جعفر بن الياس بن صدقة المصري حدثنا نعيم بن حماد حدثنا نوح بن أبي
مريم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك؟ قال
" كل تقي " وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أولياؤه إلا المتقون ". وقال الحاكم في مستدركه: حدثنا أبو بكر الشافعي
حدثنا إسحاق بن الحسن حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان عن عبد الله بن خيثم عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة عن
أبيه عن جده قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فقال " هل فيكم من غيركم؟ " فقالوا فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا
مولانا فقال " حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا منا إن أوليائي منكم المتقون " ثم قال هذا صحيح ولم يخرجاه وقال
عروة والسدي ومحمد بن إسحاق في قوله تعالى " إن أولياؤه إلا المتقون " قال هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله
عنهم. وقال مجاهد هم المجاهدون من كانوا وحيث كانوا ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام
وما كانوا يعاملونه به فقال " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " قال عبد الله بن عمرو وابن عباس
ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو رجاء العطاردي ومحمد بن كعب القرظي وحجر بن عنبس ونبيط بن شريط
وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو الصفير وزاد مجاهد وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم وقال السدي
المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز " وتصدية " قال ابن أبي حاتم: حدثنا
أبو خلاد سليمان بن خلاد حدثنا يونس بن محمد المؤدب حدثنا يعقوب يعني ابن عبد الله الأشعري حدثنا جعفر بن
المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية " قال كانت
قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق والمكاء الصفير والتصدية التصفيق. وهكذا روى علي بن أبي طلحة
والعوفي عن ابن عباس وكذا روى عن ابن عمر ومجاهد ومحمد بن كعب وأبي سلمة بن عبد الرحمن والضحاك
وقتادة وعطية العوفي وحجر بن عنبس وابن أبزى نحو هذا وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عامر حدثنا
قرة عن عطية عن ابن عمر في قوله " وما كان صلاتهم عند البيت إلى مكاء وتصدية " قال المكاء التصفير والتصدية
التصفيق قال قرة وحكى لنا عطية فعل ابن عمر فصفر ابن عمر وأمال خده وصفق بيديه وعن ابن عمر أيضا أنه قال
إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون رواه ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عنه وقال
عكرمة: كانوا يطوفون بالبيت على الشمال قال مجاهد وإنما كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم
صلاته وقال الزهري يستهزئون بالمؤمنين وعن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد " وتصدية " قال صدهم
الناس عن سبيل الله عز وجل. قوله " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " قال الضحاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق
هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي واختاره ابن جرير ولم يحك غيره وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال عذاب أهل الاقرار بالسيف وعذاب أهل
التكذيب بالصيحة والزلزلة.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا
إلى جهنم يحشرون (36) ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله
في جهنم أولئك هم الخاسرون (37)
قال محمد بن إسحاق حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن
عمرو بن سعيد بن معاذ قالوا لما أصيبت قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن
319

أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا
سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل
خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا ففعلوا قال ففيهم كما ذكر عن ابن
عباس أنزل الله عز وجل " إن الذين كفروا ينفقون أموالهم " - إلى قوله - " هم الخاسرون " وكذا روى عن مجاهد
وسعيد بن جبير والحكم بن عيينة وقتادة والسدي وابن أبزى أنها نزلت في أبي سفيان ونفقته الأموال في أحد لقتال
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الضحاك: نزلت في أهل بدر وعلى كل تقدير فهي عامة وإن كان سبب نزولها خاصا فقد
أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق فسيفعلون ذلك ثم تذهب أموالهم ثم تكون
عليهم حسرة أي ندامة حيث لم تجد شيئا لانهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق والله متم نوره
ولو كره الكافرون وناصر دينه ومعلن كلمته ومظهر دينه على كل دين فهذا الخزي لهم في الدنيا ولهم في الآخرة
عذاب النار فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب
السرمدي ولهذا قال " فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون " وقوله
تعالى " ليميز الله الخبيث من الطيب " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ليميز الله الخبيث من
الطيب " فيميز أهل السعادة من أهل الشقاء وقال السدي يميز المؤمن من الكافر وهذا يحتمل أن يكون هذا
التمييز في الآخرة كقوله " ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم " الآية وقوله " ويوم تقوم
الساعة يومئذ يتفرقون " وقال في الآية الأخرى " يومئذ يصدعون " وقال تعالى " وامتازوا اليوم أيها المجرمون "
ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين وتكون اللام معللة لما جعل الله للكافرين
من مال ينفقونه في الصد عن سبيل الله أي إنما أقدرناهم على ذلك " ليميز الله الخبيث من الطيب " أي من يطيعه
بقتال أعدائه الكافرين أو يعصيه بالنكول عن ذلك كقوله " وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم
المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم " الآية.
وقال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على
الغيب " الآية. وقال تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين "
ونظيرتها في براءة أيضا فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال
وبذلها في ذلك " ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه " أي يجمعه كله وهو جمع
الشئ بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب " ثم يجعله ركاما " أي متراكما متراكبا " فيجعله في جهنم
أولئك هم الخاسرون " أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين (38) وقاتلوهم حتى لا تكون
فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير (39) وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم
المولى ونعم النصير (40)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم " قل للذين كفروا إن ينتهوا " أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة
والعناد ويدخلوا في الاسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف أي من كفرهم وذنوبهم. وخطاياهم كما جاء
في الصحيح من حديث أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من أحسن في الاسلام
لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الاسلام أخذ بالأول والآخر ". وفي الصحيح أيضا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الاسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما كان قبلها " وقوله " وإن يعودوا " أي يستمروا على ما هم
فيه " فقد مضت سنة الأولين " أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم
320

بالعذاب والعقوبة. قال مجاهد في قوله " فقد مضت سنة الأولين " أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم. وقال
السدي ومحمد بن إسحاق أي يوم بدر وقوله تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " قال
البخاري حدثنا الحسن بن عبد العزيز حدثنا عبد الله بن يحيى حدثنا حياة بن شريح عن بكر بن عمر عن بكير عن
نافع عن ابن عمر أن رجلا جاء فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا تصنع ما ذكر الله في كتابه " وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا " الآية. فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال: يا ابن أخي أعير بهذه الآية ولا أقاتل
أحب إلي من أن أعير بالآية التي يقول الله عز وجل " ومن يقتل مؤمنا متعمدا " إلى آخر الآية قال: فإن الله
تعالى يقول " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " قال ابن عمر قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الاسلام قليلا
وكان الرجل يفتن في دينه إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه ومتى كثر الاسلام فلم تكن فتنة فلما رأى أنه لا يوافقه فيما
يريد قال: فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر أما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه
وكرهتم أن يعفو الله عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده وهذه ابنته أو بنته حيث ترون
وحدثنا أحمد بن يونس حدثنا زهير حدثنا بيان أن ابن وبرة حدثه قال حدثني سعيد بن جبير قال: خرج علينا أو
إلينا ابن عمر رضي الله عنهما فقال: كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: وهل تدري ما الفتنة؟ كان محمد صلى الله عليه وسلم
يقاتل المشركين وكان الدخول عليهم فتنة وليس بقتالكم على الملك. هذا كله سياق البخاري رحمه الله
تعالى وقال عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى
وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعني أن الله حرم علي دم
أخي المسلم. قالوا أولم يقل الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " قال قد قاتلنا حتى لم
تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وكذا روى حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن أيوب بن عبد الله اللخمي قال كنت عند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأتاه رجل
فقال إن الله يقول " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وأنتم
تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. وكذا رواه حماد بن سلمة فقال ابن عمر قاتلت أنا
وأصحابي حتى كان الدين كله لله وذهب الشرك ولم تكن فتنة ولكنك وأصحابك تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون
الدين لغير الله رواهما ابن مردويه. وقال أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال ذو البطين
يعني أسامة بن زيد لا أقاتل رجلا يقول لا إله إلا الله أبدا. فقال سعد بن مالك وأنا والله لا أقاتل رجلا يقول لا إله
إلا الله أبدا فقال رجل ألم يقل الله " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " فقالا قد قاتلنا حتى لم
تكن فتنة وكان الدين كله لله. رواه ابن مردويه وقال الضحاك عن ابن عباس " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة "
يعني لا يكون شرك وكذا قال أبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع عن أنس والسدي ومقاتل بن حيان
وزيد بن أسلم. وقال محمد بن إسحاق بلغني عن الزهري عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا حتى لا تكون فتنة
حتى لا يفتن مسلم عن دينه. وقوله " ويكون الدين كله لله " قال الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال
يخلص التوحيد لله وقال الحسن وقتادة وابن جريج " ويكون الدين كله لله " أن يقال لا إله إلا الله وقال محمد بن إسحاق
ويكون التوحيد خالصا لله ليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " ويكون الدين كله لله " لا يكون مع دينكم كفر ويشهد لهذا ما ثبت في
الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني
دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل ". وفيهما عن أبي موسى الأشعري قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله عز وجل؟ فقال " من قاتل لتكون كلمة
الله هي العليا فهو في سبيل الله عز وجل ".
321

وقوله " فإن انتهوا " أي بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم " فإن الله بما يعملون
بصير " كقوله " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " الآية. وفي الآية الأخرى " فإخوانكم في
الدين " وقال " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين " وفي
الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله فذكر ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأسامة " أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ "
فقال يا رسول الله إنما قالها تعوذا قال " هلا شققت عن قلبه؟ " وجعل يقول ويكرر عليه " من لك بلا إله إلا الله
يوم القيامة؟ " قال أسامة حتى تمنيت أن لم أكن أسلمت إلا يومئذ وقوله " وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم
المولى ونعم النصير " أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم فاعلموا أن مولاكم وسيدكم وناصركم على
أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير. وقال محمد بن جرير حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا أبان
العطار حدثنا هشام بن عروة عن عروة أن عبد الملك بن مروان كتب إليه يسأله عن أشياء فكتب إليه عروة: سلام
عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنك كتبت إلي تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
وسأخبرك به ولا حول ولا قوة إلا بالله كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أن الله أعطاه النبوة فنعم النبي
ونعم السيد ونعم العشيرة فجزاه الله خيرا وعرفنا وجهه في الجنة وأحيانا على ملته وأماتنا وبعثنا عليها وأنه لما دعا
قومه لما بعثه الله به من الهدى والنور الذي أنزل عليه لم يبعدوا منه أول ما دعاهم إليه وكانوا يسمعون له حتى إذا
ذكر طواغيتهم وقدم ناس من الطائف من قريش لهم أموال أنكر ذلك عليه ناس واشتدوا عليه وكرهوا ما قال وأغروا
به من أطاعهم فانعطف عنه عامة الناس فتركوه إلا من حفظه الله منهم وهم قليل فمكث بذلك ما قدر الله أن يمكث ثم
ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم فكانت فتنة شديدة الزلزال فافتتن
من افتتن وعصم الله من شاء منهم فلما فعل ذلك بالمسلمين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة
وكان بالحبشة ملك صالح يقال له النجاشي لا يظلم أحد بأرضه وكان يثنى عليه مع ذلك وكانت أرض الحبشة
متجرا لقريش يتجرون فيها وكانت مساكن لتجارهم يجدون فيها رفاغا من الرزق وأمنا ومتجرا حسنا فأمرهم بها
النبي صلى الله عليه وسلم فذهب إليها عامتهم لما قهروا بمكة وخافوا عليهم الفتن ومكث هو فلم يبرح فمكث بذلك سنوات
يشتدون على من أسلم منهم ثم إنه فشا الاسلام فيها ودخل فيه رجال من أشرافهم ومنعتهم فلما رأوا ذلك استرخوا
استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وكانت الفتنة الأولى هي التي أخرجت من خرج من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أرض الحبشة مخافتها وفرارا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال فلما استرخى عنهم ودخل في
الاسلام من دخل منهم تحدث باسترخائهم عنهم فبلغ من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد
استرخى عمن كان منهم بمكة وأنهم لا يفتنون فرجعوا إلى مكة وكادوا يأمنون بها وجعلوا يزدادون ويكثرون وأنه
أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير وفشا الاسلام بالمدينة وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فلما رأت
قريش ذلك توامروا على أن يفتنوهم ويشتدوا فأخذوهم فحرصوا على أن يفتنوهم فأصابهم جهد شديد فكانت
الفتنة الآخرة فكانت فتنتان فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها وأذن لهم في
الخروج إليها وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة ثم إنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبا
رؤوس الذين أسلموا فوافوه بالحج فبايعوه بالعقبة وأعطوه عهودهم ومواثيقهم على أنا منك وأنت منا وعلى أن من
جاء من أصحابك أو جئتنا فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا فاشتدت عليهم قريش عند ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وخرج هو. وهي التي
أنزل الله عز وجل فيها " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " ثم رواه عن يونس بن عبد الاعلى عن
ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير أنه كتب إلى الوليد يعني ابن عبد الملك بن
مروان بهذا فذكر مثله وهذا صحيح إلى عروة رحمه الله.
322

* واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن
كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبد نا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير (41)
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم. والغنيمة هي
المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب والفئ ما أخذ منهم بغير ذلك كالأموال التي يصالحون عليها
أو يتوفون عنها ولا وارث لهم والجزية والخراج ونحو ذلك هذا مذهب الإمام الشافعي في طائفة من علماء
السلف والخلف ومن العلماء من يطلق الفئ على ما تطلق عليه الغنيمة وبالعكس أيضا ولهذا ذهب قتادة إلى
أن هذه الآية ناسخة لآية الحشر " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى " الآية. قال
فنسخت آية الأنفال تلك وجعلت الغنائم أربعة أخماس للمجاهدين وخمسا منها لهؤلاء المذكورين وهذا الذي
قاله بعيد لأن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر وتلك نزلت في بني النضير ولا خلاف بين علماء السير والمغازي قاطبة
أن بني النضير بعد بدر وهذا أمر لا يشك فيه ولا يرتاب فمن يفرق بين معنى الفئ والغنيمة يقول تلك نزلت في
أموال الفئ وهذه في الغنائم ومن يجعل أمر الغنائم والفئ راجعا إلى رأى الامام يقول لا منافاة بين آية الحشر
وبين التخميس إذا رآه الامام والله أعلم. فقوله تعالى " واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه " توكيد
لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط قال الله تعالى " ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل
نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " وقوله " فإن لله خمسه وللرسول " اختلف المفسرون ههنا فقال بعضهم لله نصيب
من الخمس يجعل في الكعبة قال أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية الرياحي: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى
بالغنيمة فيخمسها على خمسة تكون أربعة أخماس لمن شهدها ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي
قبض كفه فيجعله للكعبة وهو سهم الله ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول وسهم لذوي
القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. وقال آخرون ذكر الله ههنا استفتاح كلام للتبرك وسهم
لرسوله عليه السلام قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمس
الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " " فأن لله
خمسه " مفتاح كلام " لله ما في السماوات وما في الأرض " فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا وهكذا قال
إبراهيم النخعي والحسن بن محمد بن الحنفية والحسن البصري والشعبي وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن
بريدة وقتادة ومغيرة وغير واحد أن سهم الله ورسوله واحد ويؤيد هذا ما رواه الامام الحافظ أبو بكر البيهقي بإسناد
صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى وهو يعرض فرسا فقلت: يا
رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال " لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش " قلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال
" لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم ".
وقال ابن جرير: حدثنا عمران بن موسى حدثنا عبد الوارث حدثنا أبان عن الحسن قال أوصى الحسن بالخمس من
ماله وقال ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه ثم اختلف قائلوا هذا القول فروى علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس قال: كانت الغنيمة تخمس على خمسة أخماس فأربعة منها بين من قاتل عليها وخمس واحد يقسم على
أربعة أخماس فربع لله وللرسول صلى الله عليه وسلم فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس
شيئا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر المنقري حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن حسين المعلم عن عبد الله بن
بريدة في قوله " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " قال الذي لله فلنبيه والذي للرسول لازواجه
وقال عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح قال خمس الله والرسول واحد يحمل منه ويصنع فيه ما شاء
يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أعم وأشمل وهو أنه صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله بما شاء ويرده في أمته كيف
323

شاء ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد حيث قال: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا إسماعيل بن عياش عن أبي
بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن أبي سلام الأعرج عن المقدام بن معديكرب الكندي أنه جلس مع عبادة بن
الصامت وأبي الدرداء والحارث بن معاوية الكندي رضي الله عنهم فتذاكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو الدرداء
لعبادة يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس فقال عبادة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم
في غزوة إلى بعير من المغنم فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال " إن هذه من غنائمكم وإنه
ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر ولا
تغلوا فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد ولا تبالوا في الله
لومة لائم وأقيموا حدود الله في السفر والحضر وجاهدوا في الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من
الهم والغم ". هذا حديث حسن عظيم ولم أره في شئ من الكتب الستة من هذا الوجه ولكن روى الإمام أحمد
أيضا وأبو داود والنسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه في
قصة الخمس والنهي عن الغلول. وعن عمرو بن عنبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم إلى بعير من المغنم فلما سلم
أخذ وبرة من هذا البعير ثم قال " ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم ". رواه
أبو داود والنسائي وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم شئ يصطفيه لنفسه عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك
كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي وتبعهما على ذلك أكثر العلماء. وروى الإمام أحمد والترمذي
وحسنه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد وعن
عائشة رضي الله عنها قالت: كانت صفية من الصفي رواه أبو داود في سننه وروى أيضا بإسناده والنسائي أيضا
عن يزيد بن عبد الله قال: كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها " من محمد رسول الله إلى
بني زهير بن قيس إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم
الخمس من المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله " فقلنا من كتب هذا؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه أحاديث جيدة تدل على تقرير هذا وثبوته ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات
الله وسلامه عليه وقال آخرون: إن الخمس يتصرف فيه الامام بالمصلحة للمسلمين كما يتصرف في مال الفئ
وقال شيخنا الامام العلامة ابن تيمية رحمه الله وهذا قول مالك وأكثر السلف وهو أصح الأقوال. فإذا ثبت هذا
وعلم فقد اختلف أيضا في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس ماذا يصنع به من بعده فقال قائلون يكون لمن
يلي الامر من بعده روي هذا عن أبي بكر وعلي وقتادة وجماعة. وجاء فيه حديث مرفوع وقال آخرون يصرف
في مصالح المسلمين وقال آخرون بل هو مردود على بقية الأصناف ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل
اختاره ابن جرير وقال آخرون بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن
السبيل قال ابن جرير وذلك قول جماعة من أهل العراق وقيل إن الخمس جميعه لذوي القربى كما رواه ابن
جرير حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا عبد الغفار حدثنا المنهال بن عمرو سألت عبد الله بن محمد بن علي
وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا: هو لنا فقلت لعلي فإن الله يقول " واليتامى والمساكين وابن السبيل " فقالا
يتامانا ومساكيننا وقال سفيان الثوري وأبو نعيم وأبو أسامة عن قيس بن مسلم سألت الحسن بن محمد بن الحنفية
رحمه الله تعالى عن قول الله تعالى " واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " فقال هذا مفتاح كلام
الله الدنيا والآخرة ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فقال
قائلون سهم النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم تسليما للخليفة من بعده وقال آخرون لقرابة النبي صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم وقال آخرون سهم القرابة لقرابة الخليفة واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في
الخيل والعدة في سبيل الله فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قال الأعمش عن إبراهيم
كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح فقلت لإبراهيم ما كان علي فيه؟ قال: كان أشدهم
324

فيه. وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى بني هاشم وبني
المطلب لان بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الاسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له مسلمهم طاعة لله ولرسوله وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك بل حاربوهم ونابذوهم
ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول ولهذا كان ذم أبي طالب لهم في قصيدته اللامية أشد من غيرهم لشدة
قربهم ولهذا يقول في أثناء قصيدته:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا * عقوبة شر عاجل غير آجل
بميزان قسط لا يخيس شعيرة * له شاهد من نفسه غير عائل
لقد سفهت أحلام قوم تبدلوا * بني خلف قيضا بنا والعياطل
ونحن الصميم من ذؤابة هاشم * وآل قصي في الخطوب الأوائل
وقال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل مشيت أنا وعثمان بن عفان يعني ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ونحن وهم منك بمنزلة واحدة فقال
" إنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ". رواه مسلم وفي بعض روايات هذا الحديث " إنهم لم يفارقونا في
جاهلية ولا إسلام ". وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب قال ابن جرير وقال آخرون هم
بنو هاشم ثم روى عن خصيف عن مجاهد قال: علم الله أن في بني هاشم فقراء فجعل لهم الخمس مكان
الصدقة وفي رواية عنه قال هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة ثم روى عن علي بن الحسن نحو
ذلك قال ابن جرير وقال آخرون بل هم قريش كلها حدثني يونس بن عبد الاعلى حدثني عبد الله بن نافع عن أبي
معشر عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى عبد الله بن عباس يسأله عن ذوي القربى فكتب إليه ابن عباس كنا
نقول: إنا هم فأبى علينا ذلك قومنا وقالوا قريش كلها ذوو قربى وهذا الحديث صحيح رواه مسلم وأبو داود
والترمذي والنسائي من حديث سعيد المقبري عن يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن ذوي
القربى فذكره إلى قوله فأبى ذلك علينا قومنا والزيادة من أفراد أبي معشر نجيح بن عبد الرحمن المدني وفيه
ضعف وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن مهدي المصيصي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رغبت لكم عن غسالة الأيدي لان لكم من خمس الخمس ما
يغنيكم أو يكفيكم ". هذا حديث حسن الاسناد وإبراهيم بن مهدي هذا وثقه أبو حاتم وقال يحيى بن معين يأتي
بمناكير والله أعلم وقوله " واليتامى " أي أيتام المسلمين واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء أو يعم
الأغنياء والفقراء؟ على قولين والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم " وابن
السبيل " هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وليس له ما ينفقه في سفره ذلك وسيأتي تفسير
ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان.
وقوله " إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا " أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر وما أنزلنا على رسوله. ولهذا جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس في حديث وفد
عبد القيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم " وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع. آمركم بالايمان بالله - ثم قال - هل تدرون
ما الايمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن تؤدوا الخمس
من المغنم ". الحديث بطوله فجعل أداء الخمس من جملة الايمان وقد بوب البخاري على ذلك في كتاب
الايمان من صحيحه فقال " باب أداء الخمس من الايمان " ثم أورد حديث ابن عباس هذا وقد بسطنا الكلام
عليه في شرح البخاري ولله الحمد والمنة وقال مقاتل بن حيان " وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان " أي في
325

القسمة وقوله " يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير " ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه
بما فرق به بين الحق والباطل ببدر ويسمى الفرقان لان الله أعلى فيه كلمة الايمان على كلمة الباطل وأظهر دينه
ونصر نبيه وحزبه قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: يوم الفرقان يوم بدر فرق الله فيه بين الحق
والباطل رواه الحاكم. وكذا قال مجاهد ومقسم وعبيد الله بن عبد الله والضحاك وقتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد
أنه يوم بدر وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير في قوله " يوم الفرقان " يوم فرق الله بين
الحق والباطل وهو يوم بدر وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رأس المشركين عتبة بن ربيعة فالتقوا
يوم الجمعة لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلا
والمشركون بين الألف والتسعمائة فهزم الله المشركين وقتل منهم زيادة على السبعين وأسر منهم مثل ذلك وقد
روى الحاكم في مستدركه من حديث الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن ابن مسعود قال في ليلة القدر: تحروها
لاحدى عشرة يبقين فإن في صبيحتها يوم بدر. وقال على شرطهما وروى مثله عن عبد الله بن الزبير أيضا من
حديث جعفر بن برقان عن رجل عنه وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا يحيى بن واضح حدثنا يحيى بن يعقوب
أبو طالب عن ابن عون عن محمد بن عبد الله الثقفي عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال الحسن بن علي
كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشرة من رمضان إسناد جيد قوى ورواه ابن مردويه عن أبي
عبد الرحمن عبد الله بن حبيب عن علي قال: كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة
لسبع عشر مضت من شهر رمضان وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير وقال يزيد بن أبي حبيب إمام أهل
الديار المصرية في زمانه: كان يوم بدر يوم الاثنين ولم يتابع على هذا وقول الجمهور مقدم عليه والله أعلم.
إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن
ليقضى الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم (42)
يقول تعالى مخبرا عن يوم الفرقان " إذ أنتم بالعدوة الدنيا " أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة
" وهم " أي المشركون نزول " بالعدوة القصوى " أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة " والركب أي العير
الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة " أسفل منكم " أي مما يلي سيف البحر " ولو تواعدتم أي أنتم
والمشركون إلى مكان " لاختلفتم في الميعاد " قال محمد بن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير
عن أبيه في هذه الآية قال ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم
" ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا " أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من إعزاز الاسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله
من غير ملا منكم ففعل ما أراد من ذلك بلطفه وفي حديث كعب بن مالك قال إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد وقال ابن جرير حدثني يعقوب
حدثني بن علية عن ابن عون عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام وخرج أبو جهل
ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فالتقوا ببدر ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء حتى التقى السقاة ونهد
الناس بعضهم لبعض وقال محمد بن إسحاق في السيرة ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه ذلك حتى إذا كان قريبا
من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهنيين يلتمسان الخبر عن أبي سفيان فانطلقا حتى إذا
وردا بدرا فأناخا بعيريهما إلى تل من البطحاء فاستقيا في شن لهما من الماء فسمعا جاريتين يختصمان تقول
إحداهما لصاحبتها اقضيني حقي وتقول الأخرى إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأقضيك حقك فخلص بينهما
مجدي بن عمرو وقال صدقت فسمع بذلك بسبس وعدي فجلسا على بعيريهما حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه
الخبر وأقبل أبو سفيان حين وليا وقد حذر فتقدم أمام عيره وقال لمجدي بن عمرو هل أحسست على هذا الماء من
326

أحد تنكره؟ فقال لا والله إلا أني قد رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل فاستقيا من شن لهما ثم انطلقا فجاء أبو
سفيان إلى مناخ بعيريهما فأخذ من أبعارهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب ثم رجع سريعا
فضرب وجه عيره فانطلق بها فساحل حتى إذا رأى أنه قد أحرز عيره إلى قريش فقال: إن الله قد نجى عيركم
وأموالكم ورجالكم فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نأتي بدرا. وكانت بدر سوقا من أسواق
العرب. فنقيم بها ثلاثا فنطعم بها الطعام وننحر بها الجزر ونسقي بها الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب
وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا بعدها أبدا. فقال الأخنس بن شريق: يا معشر بني زهرة إن الله قد أنجى أموالكم
ونجى صاحبكم فارجعوا فرجعت بنو زهرة فلم يشهدوها ولا بنو عدي. قال محمد بن إسحاق وحدثني يزيد بن
رومان عن عروة بن الزبير قال: وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص
والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يتجسسون له الخبر فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص وغلاما
لبني الحجاج فأتوا بهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدوه يصلي فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسألونهما لمن أنتما؟ فيقولان نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا
لأبي سفيان فضربوهما فلما أزلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتين ثم سلم
وقال " إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش " قالا هم وراء
هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم " كم القوم؟ " قالا كثير قال " ما
عدتهم؟ " قالا ما ندري قال " كم ينحرون كل يوم؟ " قالا يوما تسعا ويوما عشرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القوم ما بين
التسعمائة إلى الألف " ثم قال لهما " فمن فيهم من أشراف قريش؟ " قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن
هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي بن نوفل والنضر بن الحارث وزمعة بن
الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود فأقبل رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم على الناس فقال " هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها " قال محمد بن إسحاق رحمه
الله تعالى وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم لما
التقى الناس يوم بدر يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه وننيخ إليك ركائبك ونلقى عدونا فإن أظفرنا الله
عليهم وأعزنا فذاك ما نحن وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا فقد والله تخلف
عنك أقوام ما نحن بأشد لك حبا منهم لو علموا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ويؤازرونك وينصرونك. فأثنى
عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له به فبنى له عريش فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما. قال ابن إسحاق
وارتحلت قريش حين أصبحت فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاءوا
منه إلى الوادي فقال " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم أحنهم الغداة "
وقوله " ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة " قال محمد بن إسحاق أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما
رأى من الآية والعبرة ويؤمن من آمن على مثل ذلك وهذا تفسير جيد. وبسط ذلك أنه تعالى يقول إنما جمعكم
مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ويرفع كلمة الحق على الباطل ليصير الامر ظاهرا
والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ولا يبقى لاحد حجة ولا شبهة فحينئذ يهلك من هلك أي يستمر في الكفر من
استمر فيه على بصيرة من أمره إنه مبطل لقيام الحجة عليه " ويحيى من حي " أي يؤمن من آمن " عن بينة " أي
حجة وبصيرة والايمان هو حياة القلوب قال الله تعالى " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في
الناس " وقالت عائشة في قصة الإفك فهلك في من هلك أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك وقوله " وإن الله
لسميع " أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به " عليم " أي بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة
المعاندين.
327

إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الامر ولكن الله سلم إنه عليم بذات
الصدور (43) وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضى الله أمرا كان مفعولا
وإلى الله ترجع الأمور (44)
قال مجاهد أراهم الله إياه في منامه قليلا وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتا لهم وكذا قال ابن إسحاق
وغير واحد وحكى ابن جرير عن بعضهم أنه رآهم بعينه التي ينام بها وقد روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
يوسف بن موسى حدثنا أبو قتيبة عن سهل السراج عن الحسن في قوله " إذ يريكهم الله في منامك قليلا " قال
بعينك وهذا القول غريب وقد صرح بالمنام ههنا فلا حاجة إلى التأويل الذي لا دليل عليه وقوله " ولو أراكهم
كثيرا لفشلتم " أي لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم " ولكن الله سلم " أي من ذلك بأن أراكهم قليلا " إنه عليم
بذات الصدور " أي بما تجنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " وقوله " وإذ
يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا " وهذا أيضا من لطفه تعالى بهم إذ أراهم إياهم قليلا في رأي العين
فيجرؤهم عليهم ويطمعهم فيهم قال أبو إسحق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال
لقد قللوا في أعيينا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال لا بل هم مائة حتى أخذنا رجلا منهم
فسألناه فقال كنا ألفا. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقوله " ويقللكم في أعينهم " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن الزبير بن الحارث عن عكرمة " وإذ يريكموهم إذ التقيتم " الآية.
قال حضض بعضهم على بعض إسناد صحيح وقال محمد بن إسحاق حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير
عن أبيه في قوله تعالى " ليقضي الله أمرا كان مفعولا " أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه
والانعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته ومعنى هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر وقلله
في عينه ليطمع فيه وذلك عند المواجهة فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين بقي حزب
الكفار يرى حزب الايمان ضعفيه كما قال تعالى " قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى
كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار " وهذا هو الجمع بين
هاتين الآيتين فإن كلا منهما حق وصدق ولله الحمد والمنة.
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون (45) وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا
فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (46)
هذا تعليم من الله لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال " يا أيها الذين آمنوا إذا
لقيتم فئة فاثبتوا " ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقى
فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا
لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال " اللهم منزل الكتاب
ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد
عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذ
لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت ". وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا
إبراهيم بن هاشم البغوي حدثنا أمية بن بسطام حدثنا معتمر بن سليمان حدثنا ثابت بن زيد عن رجل عن زيد بن
أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا قال " إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند
328

الجنازة ". وفي الحديث الآخر المرفوع " يقول الله تعالى " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه " أي
لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في هذه الآية قال افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون عند الضرب
بالسيوف. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان حدثنا ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء: قال
وجب الانصات وذكر الله عند الزحف ثم تلا هذه الآية قلت يجهرون بالذكر؟ قال نعم وقال أيضا قرأ على
يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن يزيد بن فوذر عن كعب الأحبار قال
ما من شئ أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة في القتال ألا ترون أنه أمر
الناس بالذكر عند القتال فقال " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " قال
الشاعر:
ذكرتك والخطى يخطر بيننا * وقد نهلت فينا المثقفة السمر
وقال عنترة:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل * مني وبيض الهند تقطر من دمي
فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا وأن يذكروا الله في تلك
الحال ولا ينسوه بل يستعينوا به ويتوكلوا عليه ويسألوه النصر على أعدائهم وأن يطيعوا الله ورسوله في حالهم ذلك
فما أمرهم الله تعالى به ائتمروا. وما نهاهم عنه انزجروا ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضا فيختلفوا فيكون سببا
لتخاذلهم وفشلهم " وتذهب ريحكم " أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الاقبال " واصبروا إن الله مع
الصابرين " وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به وامتثال ما
أرشدهم إليه ما لم يكن لاحد من الأمم والقرون قبلهم ولا يكون لاحد ممن بعدهم فإنهم ببركة الرسول
صلى الله عليه وآله وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة مع قلة عددهم
بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم من الروم والفرس والترك والصقالية والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط
وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان وامتدت الممالك الاسلامية
في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وحشرنا في زمرتهم إنه
كريم وهاب.
ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط (47)
وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان
نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب (48) إذ يقول
المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم (49)
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالاخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ناهيا لهم عن التشبه بالمشركين في
خروجهم من ديارهم بطرا أي دفعا للحق " ورئاء الناس " وهو المفاخرة والتكبر عليهم كما قال أبو جهل لما قيل له
إن العير قد نجا فارجعوا فقال لا والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان
وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا فانعكس ذلك عليه أجمع لانهم لما وردوا ماء بدر وردوا به الحمام وركموا
في أطواء بدر مهانين أذلاء صغرة أشقياء في عذاب سرمدي أبدي ولهذا قال " والله بما يعملون محيط " أي عالم
329

بما جاءوا به وله ولهذا جازاهم عليه شر الجزاء لهم. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي في قوله
تعالى " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس " قالوا هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم بدر. وقال محمد بن كعب لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف فأنزل الله " ولا تكونوا
كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " وقوله تعالى " وإذ
زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم " الآية حسن لهم لعنه الله ما جاءوا
له وما هموا به وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم من عدوهم
بني بكر فقال إني جار لكم وذلك أنه تبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك
الناحية وكل ذلك منه كما قال تعالى عنه " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " قال ابن جريج قال ابن
عباس في هذه الآية لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن
يغلبكم وإني جار لكم فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة " نكص على عقبيه " قال رجع مدبرا وقال
" إني أرى ما لا ترون " الآية. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال جاء إبليس يوم بدر في جند من
الشياطين معه رايته في صورة رجل من مدلج في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال الشيطان للمشركين لا
غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في
وجوه المشركين فولوا مدبرين وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من
المشركين انتزع يده ثم ولى مدبرا وشيعته فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار فقال: إني أرى ما لا ترون إني
أخاف الله والله شديد العقاب وذلك حين رأى الملائكة وقال محمد بن إسحاق حدثني الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس أن إبليس خرج مع قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما حضر القتال ورأى الملائكة نكص
على عقبيه وقال إني برئ منكم فتشبث به الحارث بن هشام فنخر في وجهه فخر صعقا فقيل له ويلك يا سراقة
على هذه الحال تخذلنا وتبرأ منا فقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.
وقال محمد بن عمر الواقدي أخبر عمر بن عقبة عن شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال لما تواقف الناس
أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم كشف عنه فبشر الناس بجبريل في جند من الملائكة ميمنة الناس وميكائيل
في جند آخر ميسرة الناس وإسرافيل في جند آخر ألف وإبليس قد تصور في صورة سراقة بن مالك بن جعشم
المدلجي يدبر المشركين ويخبرهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس فلما أبصر عدو الله الملائكة نكص على عقبيه
وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون فتشبث به الحارث بن هشام وهو يرى أنه سراقة لما سمع من كلامه
فضرب في صدر الحارث فسقط الحارث وانطلق إبليس لا يرى حتى سقط في البحر ورفع ثوبه وقال يا رب موعدك
الذي وعدتني. وفي الطبراني عن رفاعة بن رافع قريب من هذا السياق وأبسط منه ذكرناه في السيرة وقال
محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها
وبين بني بكر من الحرب فكاد ذلك أن يثنيهم فتبدى لهم إبليس في صوة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي
وكان من أشراف بني كنانة فقال أنا جار لكم أن تأتيكم كنانة بشئ تكرهونه فخرجوا سراعا قال محمد بن إسحاق
فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك لا ينكرونه حتى إذا كان يوم بدر والتقى
الجمعان كان الذي رآه حين نكص الحارث بن هشام أو عمير بن وهب فقال أين سراقة؟ أين وميل عدو الله فذهب
قال فأوردهم ثم أسلمهم قال ونظر عدو الله إلى جنود الله قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين فنكص على عقبيه
وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون وصدق عدو الله. وقال إني أخاف الله والله شديد العقاب وهكذا روى
عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم رحمهم الله وقال قتادة وذكر لنا أنه رأى
جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال إني أرى ما لا ترون إني أخاف
الله وكذب عدو الله. والله ما به مخافة الله ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد
330

له حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم عند ذلك قلت يعني بعادته لمن أطاعه قوله تعالى
" كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين " وقوله تعالى
" وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن
دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون
من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " وقال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن
عمرو بن حزم عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعدما كف بصره يقول: لو كنت معكم
الآن ببدر ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى فلما نزلت الملائكة
ورآها إبليس وأوحى الله إليهم أني معكم فثبتوا الذين آمنوا وتثبيتهم أن الملائكة كانت تأتي الرجل في صورة
الرجل يعرفه فيقول له أبشر فإنهم ليسوا بشئ والله معكم فكروا عليهم فلما رأى إبليس الملائكة نكص على عقبيه
وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون وهو في صورة سراقة وأقبل أبو جهل يحضض أصحابه ويقول لا يهولنكم
خذلان سراقة إياكم فإنه كان على موعد من محمد وأصحابه. ثم قال واللات والعزى لا نرجع حتى نقرن محمدا
وأصحابه في الحبال فلا تقتلوهم وخذوهم أخذا وهذا من أبي جهل لعنه الله كقول فرعون للسحرة لما أسلموا " إن
هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها " وكقوله " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وهو من باب
البهت والافتراء ولهذا كان أبو جهل فرعون هذه الأمة.
وقال مالك بن أنس عن إبراهيم بن أبي علية عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما رأى إبليس
يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة وذلك مما يرى من نزول الرحمة والعفو عن الذنوب إلا
ما رأى يوم بدر ". قالوا يا رسول الله وما رأى يوم بدر؟ قال " أما إنه رأى جبريل عليه السلام يزغ الملائكة ".
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقوله " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في
هذه الآية لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين وقلل المشركين في أعين
المسلمين فقال المشركون غر هؤلاء دينهم وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون
في ذلك فقال الله " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم " وقال قتادة: رأوا عصابة من المؤمنين تشددت لأمر
الله وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: والله لا يعبد الله بعد اليوم - قسوة
وعتوا. وقال ابن جريج في قوله " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض " هم قوم كانوا من المنافقين بمكة
قالوه يوم بدر وقال عامر الشعبي كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالاسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر فلما
رأوا قلة المسلمين قالوا غر هؤلاء دينهم. وقال مجاهد في قوله عز وجل " إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم
مرض غر هؤلاء دينهم " قال فئة من قريش قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة والحارث بن
زمعة بن الأسود بن المطلب وعلي بن أمية بن خلف والعاص بن منبه بن الحجاج خرجوا مع قريش من مكة وهم
على الارتياب فحبسهم ارتيابهم فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا غر هؤلاء دينهم حتى قدموا على ما
قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم وكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء. وقال ابن جرير حدثنا
محمد بن عبد الاعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن الحسن في هذه الآية. قال هم قوم لم يشهدوا القتال يوم
بدر فسموا منافقين قال معمر وقال بعضهم هم قوم كانوا أقروا بالاسلام وهم بمكة فخرجوا مع المشركين يوم بدر
فلما رأوا قلة المسلمين قالوا غر هؤلاء دينهم وقوله " ومن يتوكل على الله " أي يعتمد على جنابه " فإن الله
عزيز " أي لا يضام من التجأ إليه فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان " حكيم " في أفعاله لا يضعها إلا في
مواضعها فينصر من يستحق النصر ويخذل من هو أهل لذلك.
331

ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق (50) ذلك بما قدمت
أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد (51)
يقول تعالى ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرا عظيما هائلا فظيعا منكرا " إذ يضربون
وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم ذوقوا عذاب الحريق " قال ابن جريج عن مجاهد " أدبارهم " أستاههم قال يوم
بدر قال ابن جريج قال ابن عباس إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف وإذا ولوا
أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة
يضربون وجوههم وأدبارهم " يوم بدر وقال وكيع عن سفيان الثوري عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير عن
مجاهد وعن شعبة عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير يضربون وجوههم وأدبارهم قال وأستاههم ولكن الله
يكنى وكذا قال عمر مولى عفرة. وعن الحسن البصري قال: قال رجل يا رسول الله: إني رأيت بظهر أبي جهل
مثل الشوك قال " ذاك ضرب الملائكة ". رواه ابن جرير وهو مرسل وهذا السياق وإن كان سببه وقعة بدر
ولكنه عام في حق كل كافر ولهذا لم يخصصه تعالى بأهل بدر بل قال تعالى " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا
الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " وفي سورة القتال مثلها وتقدم في سورة الأنعام قوله تعالى " ولو ترى إذ
المجرمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم " أي باسطوا أيديهم بالضرب فيهم بأمر
ربهم إذ استصعبت أنفسهم وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهرا وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب
من الله كما في حديث البراء أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول: اخرجي
أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم فتفرق في بدنه فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود
من الصوف المبلول فتخرج معها العروق والعصب ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم ذوقوا عذاب
الحريق، وقوله تعالى " ذلك بما قدمت أيديكم " أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم
الدنيا جازاكم الله بها هذا الجزاء " وأن الله ليس بظلام للعبيد " أي لا يظلم أحدا من خلقه بل هو الحكم
العدل الذي لا يجور تبارك وتعالى وتقدس وتنزه الغني الحميد ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن مسلم رحمه
الله من رواية أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى يقول: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي
وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد
غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ". ولهذا قال تعالى.
كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب (52)
يقول تعالى فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ففعلنا بهم
ما هو دأبنا أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل
الكافرين بآيات الله " فأخذهم الله بذنوبهم " أي بسبب ذنوبهم أهلكهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر " إن الله قوي
شديد العقاب " أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب.
ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم (53) كدأب
آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا
ظالمين (54)
332

يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه كقوله
تعالى " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من
وال " وقوله " كدأب آل فرعون " أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته أهلكهم بسبب ذنوبهم وسلبهم
تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون وزروع وكنوز ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين وما ظلمهم
الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين.
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون (55) الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة
وهم لا يتقون (56) فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون (57)
أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون، الذين كلما عاهدوا عهدا نقضوه
وكلما أكدوه بالايمان نكثوه " وهم لا يتقون " أي لا يخافون من الله في شئ ارتكبوه من الآثام " فإما تثقفنهم
في الحرب " أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب " فشرد بهم من خلفهم " أي نكل بهم. قاله ابن عباس والحسن
البصري والضحاك والسدي وعطاء الخراساني وابن عيينة ومعناه غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلا ليخاف من سواهم من
الأعداء من العرب وغيرهم ويصيروا لهم عبرة " لعلهم يذكرون " وقال السدي يقول لعلهم يحذرون أن ينكثوا
فيصنع بهم مثل ذلك.
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين (58)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " وإما تخافن من قوم " قد عاهدتهم " خيانة " أي نقضا لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود
" فانبذ إليهم " أي عهدهم " على سواء " أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك
حرب لهم وهم حرب لك وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء أي تستوي أنت وهم في ذلك قال الراجز.
فاضرب وجوه الغدر للأعداء * حتى يجيبوك إلى السواء
وعن الوليد بن مسلم أنه قال في قوله تعالى " فانبذ إليهم على سواء " أي على مهل " إن الله لا يحب الخائنين "
أي حتى ولو في حق الكفار لا يحبها أيضا. قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي الفيض
عن سليم بن عامر قال: كان معاوية يسير في أرض الروم وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى
الأمد غزاهم فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدرا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ومن كان بينه وبين
قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء " قال فبلغ ذلك معاوية فرجع فإذا
بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه وهذا الحديث رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة وأخرجه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من طرق عن شعبة به. وقال الترمذي حسن صحيح. وقال الإمام أحمد
أيضا حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري حدثنا إسرائيل عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن سلمان
يعني الفارسي رضي الله عنه أنه انتهى إلى حصن أو مدينة فقال لأصحابه دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدعوهم فقال إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عز وجل للاسلام فان أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا وإن
أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون وإن أبيتم نابذناكم على سواء " إن الله لا يحب الخائنين " يفعل ذلك بهم
ثلاثة أيام فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله.
ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون (59) وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
333

عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا
تظلمون (60)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ولا تحسبن " يا محمد " الذين كفروا سبقوا " أي فاتونا فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر
قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا كقوله تعالى " أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما
يحكمون " أي يظنون. وقوله " ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير " وقوله
تعالى " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " ثم أمر تعالى بإعداد
آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والامكان والاستطاعة فقال " وأعدوا لهم ما استطعتم " أي مهما أمكنكم
" من قوة ومن رباط الخيل " قال الإمام أحمد: حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن
الحارث عن أبي علي ثمامة بن شفي أخي عقبة بن عامر أنه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على
المنبر " " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي " رواه مسلم عن هارون بن معروف وأبو
داود عن سعيد بن منصور وابن ماجة عن يونس بن عبد الاعلى ثلاثتهم عن عبد الله بن وهب به. ولهذا الحديث
طرق أخر عن عقبة بن عامر منها ما رواه الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن رجل عنه وروى الإمام أحمد
وأهل السنن عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا " وقال الامام مالك عن
زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الخيل لثلاثة: لرجل
أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال بها في مرج أو روضة فما
أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت
آثارها وأرواثها حسنات له ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقي به كان ذلك حسنات له فهي لذلك
الرجل أجر ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ورجل ربطها فخرا
ورياء ونواء فهي على ذلك وزر " وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال " ما أنزل الله على فيها شيئا إلا هذه الآية
الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " رواه البخاري وهذا لفظه ومسلم
كلاهما من حديث مالك وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج أخبرنا شريك عن الركين بن الربيع عن القاسم بن
حسان عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الخيل ثلاثة: ففرس للرحمن وفرس للشيطان وفرس
للانسان فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله - وذكر ما شاء الله - وأما فرس الشيطان
فالذي يقامر أو يراهن عليها وأما فرس الانسان فالفرس يربطها الانسان يلتمس بطنها فهي له ستر من الفقر " وقد
ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل وذهب الامام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي
وقول الجمهور أقوى للحديث والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج وهشام قالا حدثنا ليث حدثني
يزيد بن أبي حبيب عن ابن شماسة أن معاوية بن خديج مر على أبي ذر وهو قائم عند فرس له فسأله ما تعاني من
فرسك هذا؟ فقال إني أظن أن هذا الفرس قد استجيب له دعوته. قال وما دعاء بهيمة من البهائم؟ قال والذي
نفسي بيده ما من فرس إلا وهو يدعو كل سحر فيقول: اللهم أنت خولتني عبدا من عبادك وجعلت رزقي بيده
فاجعلني أحب إليه من أهله وماله وولده. قال وحدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الحميد بن أبي جعفر حدثني يزيد بن
أبي حبيب عن سويد بن قيس عن معاوية بن خديج عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه ليس
من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني
من أحب أهله وماله إليه - أو - أحب أهله وماله إليه ". رواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان
به. وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا هشام بن عمار حدثنا يحيى بن حمزة
334

حدثنا المطعم بن المقدام الصنعاني عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال لابن الحنظلية يعني سهلا حدثنا حديثا
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " الخيل
معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة وأهلها معانون عليها ومن ربط فرسا في سبيل الله كانت النفقة عليها
كالماد يده بالصدقة لا يقبضها " والأحاديث الواردة في فضل ارتباط الخيل كثيرة. وفي صحيح البخاري عن عروة
ابن أبي الجعد البارقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الاجر والمغنم ".
وقوله " ترهبون " أي تخوفون " به عدو الله وعدوكم " أي من الكفار " وآخرين من دونهم " قال مجاهد يعني بني
قريظة وقال السدي: فارس وقال سفيان الثوري قال ابن يمان هم الشياطين التي في الدور وقد ورد حديث
بمثل ذلك. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي حدثنا أبو حياة يعني شريح بن يزيد
المقري حدثنا سعيد بن سنان عن ابن غريب يعني يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقول في قول الله تعالى " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم " قال هم الجن. ورواه الطبراني عن إبراهيم بن
دحيم عن أبيه عن محمد بن شعيب عن سنان بن سعيد بن سنان عن يزيد بن عبد الله بن غريب به وزاد: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يخبل بيت فيه عتيق من الخيل ". وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه وقال مقاتل بن
حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم المنافقون وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى " وممن حولكم من
الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " وقوله " وما تنفقوا من شئ في
سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " أي مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوفى إليكم على التمام والكمال ولهذا
جاء في الحديث الذي رواه أبو داود أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله
تعالى " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف
لمن يشاء والله واسع عليم " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن
الدشتكي حدثنا أبي عن أبيه حدثنا الأشعث بن إسحاق عن جعفر بن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه كان يأمر أن لا يتصدق إلا على أهل الاسلام حتى نزلت " وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف إليكم " فأمر
بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين وهذا أيضا غريب.
* وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم (61) وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك
الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين (62) وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم
ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم (63)
يقول تعالى إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم
" وإن جنحوا " أي مالوا " للسلم " أي المسالمة والمصالحة والمهادنة " فاجنح لها " أي فمل إليها واقبل منهم
ذلك ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا
محمد بن أبي بكر المقدمي حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري حدثنا محمد بن أبي يحيى عن إياس بن عمرو
الأسلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت
أن يكون السلم فافعل " وقال لمجاهد نزلت في بني قريظة وهذا فيه نظر لان السياق كله في وقعة بدر وذكرها
مكتنف لهذا كله وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة: إن هذه الآية
منسوخة بآية السيف في براءة " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " الآية. وفيه نظر أيضا لان آية براءة
335

فيها الامر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة
وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم. وقوله " وتوكل على الله " أي
صالحهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا " فإن حسبك
الله " أي كافيك وحده ثم ذكر نعمته عليه مما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار فقال " هو الذي أيدك
بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم " أي جمعها على الايمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك ومؤازرتك " لو أنفقت
ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم " أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب
كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج وأمور يلزم منها التسلسل في الشر حتى قطع الله ذلك بنور الايمان كما قال
تعالى " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة
من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون " وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب
الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم " يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي
وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن، ولهذا قال تعالى " ولكن الله ألف بينهم إنه
عزيز حكيم " أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه حكيم في أفعاله وأحكامه وقال الحافظ أبو بكر
البيهقي أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا أنبأنا أبو عبد الله محمد بن
الحسين القنديلي الاستراباذي حدثنا أبو إسحق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار حدثنا ميمون بن الحكم
حدثنا بكر بن الشرود عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال قرابة
الرحم تقطع ومنه النعمة تكفر ولم ير مثل تقارب القلوب يقول الله تعالى " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت
بين قلوبهم " وذلك موجود في الشعر:
إذا بت ذو قربى إليك بزلة * فغشك واستغنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوته * أجاب وإن يرمي العدو الذي ترمي
قال ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم * وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا * وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس أو هو من قول من دونه من الرواة وقال أبو إسحق السبيعي
عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سمعه يقول " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين
قلوبهم " الآية. قال هم المتحابون في الله. وفي رواية نزلت في المتحابين في الله. رواه النسائي والحاكم في
مستدركه وقال صحيح وقال عبد الرازق أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: إن الرحم
لتقطع وإن النعمة لتكفر وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ ثم قرأ " لو أنفقت ما في الأرض
جميعا ما ألفت بين قلوبهم ". رواه الحاكم أيضا وقال أبو عمرو الأوزاعي حدثني عبدة بن أبي لبابة عن مجاهد
ولقيته فأخذ بيدي فقال: إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه تحاتت خطاياهما كما
تحات ورق الشجر. قال عبدة فقلت له إن هذا ليسير فقال: لا تقل ذلك فإن الله يقول " لو أنفقت ما في الأرض
جميعا ما ألفت بين قلوبهم " قال عبدة فعرفت أنه أفقه مني وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن
إبراهيم الجزري عن الوليد بن أبي مغيث عن مجاهد قال إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما قال: قلت
لمجاهد بمصافحة يغفر لهما؟ قال مجاهد أما سمعته يقول " لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم
ولكن الله ألف بينهم " فقال الوليد لمجاهد أنت أعلم مني وكذا روى طلحة بن مصرف عن مجاهد وقال ابن
عون عن عمير بن إسحاق قال: كنا نتحدث أن أول ما يرفع من الناس الألفة وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن
336

أحمد الطبراني رحمه الله حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا عبد الله بن عمر القواريري حدثنا سالم بن
غيلان سمعت جعدا أبا عثمان حدثني أبو عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة
اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار ".
يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين (64) يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم
عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون (65) الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا
ألفين بإذن الله والله مع الصابرين (66)
يحرض تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على القتال ومناجزة الأعداء ومبارزة الاقران ويخبرهم أنه حسبهم أي كافيهم
وناصرهم ومؤيدهم على عدوهم وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ولو قل عدد المؤمنين. قال ابن أبي
حاتم حدثنا أحمد بن عثمان بن حكيم حدثنا عبيد الله بن موسى أنبأنا سفيان عن ابن شوذب عن الشعبي في قوله
" يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين " قال حسبك الله وحسب من شهد معك قال وروي عن عطاء
الخراساني وعبد الرحمن بن زيد مثله، ولهذا قال " يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال " أي حثهم أو مرهم
عليه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو كما قال لأصحابه يوم بدر حين
أقبل المشركون في عددهم وعددهم " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض ". فقال عمير بن الحمام عرضها
السماوات والأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فقال بخ بخ فقال " ما يحملك على قولك بخ بخ؟ " قال رجاء أن
أكون من أهلها قال " فإنك من أهلها " فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ثم ألقى
بقيتهن من يده وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه وقد
روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت حين أسلم عمر بن الخطاب وكمل به الأربعون
وفي هذا نظر لأن هذه الآية مدنية وإسلام عمر كان بمكة بعد الهجرة إلى أرض الحبشة وقبل الهجرة إلى المدينة
والله أعلم. ثم قال تعالى مبشرا للمؤمنين وآمرا " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة
يغلبوا ألفا من الذين كفروا " كل واحد بعشرة ثم نسخ هذا الامر وبقيت البشارة. قال عبد الله بن المبارك حدثنا
جرير بن حازم حدثني الزبير بن الحريث عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت " إن يكن منكم عشرون
صابرون يغلبوا مائتين " شق ذلك على المسلمين حتى فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ثم جاء التخفيف
فقال " الآن خفف الله عنكم " إلى قوله " يغلبوا مائتين " قال خفف الله عنهم من العدة ونقص من الصبر بقدر ما
خفف عنهم. وروى البخاري من حديث ابن المبارك نحوه. وقال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن
دينار عن ابن عباس في هذه الآية قال: كتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين ثم خفف الله عنهم فقال " الآن
خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا " فلا ينبغي لمائة أن يفروا من مائتين وروى البخاري عن علي بن عبد الله
عن سفيان به نحوه وقال محمد بن إسحاق حدثني ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس قال لما نزلت هذه
الآية ثقلت على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ومائة ألف فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى
فقال " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا " الآية. فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن
يفروا من عدوهم وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحوزوا عنهم وروى علي بن أبي
طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو ذلك قال ابن أبي حاتم وروى عن مجاهد وعطاء وعكرمة والحسن وزيد بن
337

أسلم وعطاء الخراساني والضحاك وغيرهم نحو ذلك وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث المسيب بن
شريك عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله " إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا
مائتين " قال نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي عمرو بن العلاء عن نافع
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا " رفع ثم قال صحيح الاسناد ولم
يخرجاه.
ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز
حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68) فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا
الله إن الله غفور رحيم (69)
قال الإمام أحمد حدثنا علي بن هاشم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال استشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى
يوم بدر فقال " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه
النبي صلى الله عليه وسلم ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيها الناس إن الله قد أمكنكم منهم وإنما هم إخوانكم بالأمس " فقام عمر
فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك فقام أبو بكر الصديق رضي الله
عنه فقال يا رسول الله نرى أن تعفو عنهم وأن تقبل منهم الفداء قال فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من
الغم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء قال وأنزل الله عز وجل " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب
عظيم " وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك وقال الأعمش عن عمر بن مرة
عن أبي عبيدة عن عبد الله قال لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما تقولون في هؤلاء الأسارى؟ " فقال أبو
بكر يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم وقال عمر يا رسول الله كذبوك
وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي
عليهم نارا ثم ألقهم فيه قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا ثم قام فدخل فقال: ناس يأخذ بقول أبي بكر
وقال ناس يأخذ بقول عمر وقال ناس: يأخذ بقول عبد ا لله بن رواحة ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله
ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة وإن
مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال " فمن تبعني فأنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " وإن مثلك يا
أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وإن
مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا
العذاب الأليم " وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " أنتم
عالة فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " قال ابن مسعود قلت: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإنه
يذكر الاسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي حجارة من السماء مني في ذلك
اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إلا سهيل بن بيضاء " فأنزل الله عز وجل " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " إلى آخر
الآية. رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي معاوية عن الأعمش به والحاكم في مستدركه وقال صحيح
الاسناد ولم يخرجاه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما عن
النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري وروى ابن مردويه أيضا واللفظ له والحاكم في مستدركه
من حديث عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر قال لما أسر
الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر أسره رجل من الأنصار قال وقد أوعدته الأنصار أن يقاتلوه فبلغ ذلك
النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه ". فقال له
338

عمر أفآتهم فقال " نعم " فأتى عمر الأنصار فقال لهم أرسلوا العباس فقالوا لا والله لا نرسله فقال لهم عمر فإن كان
لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى قالوا فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه فأخذه عمر فلما صار في يده قال له يا عباس أسلم
فوالله لئن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك قال واستشار
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فيهم فقال أبو بكر عشيرتك فأرسلهم فاستشار عمر فقال اقتلهم ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل
الله " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " الآية. قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه وقال سفيان الثوري عن
هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عبيدة عن علي رضي الله عنه قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال
خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا الفداء وإن شاءوا القتل على أن يقتل عاما مقبلا منهم مثلهم قالوا الفداء
ويقتل منا رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري به وهذا حديث غريب جدا وقال
ابن عون عن عبيدة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر " إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموه
واستمتعتم بالفداء واستشهد منكم بعدتهم " قال فكان آخر السبعين ثابت بن قيس قتل يوم اليمامة رضي الله عنه
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا فالله أعلم. وقال محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء
عن ابن عباس " ما كان لنبي أن يكون له أسرى " فقرأ حتى بلغ عذاب عظيم. قال غنائم بدر قبل أن يحلها لهم يقول
لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم. وكذا روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد وقال الأعمش سبق منه أن لا يعذب أحدا شهد بدرا وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص وسعيد بن
جبير وعطاء وقال شعبة عن أبي هاشم عن مجاهد " لولا كتاب من الله سبق " أي لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان
الثوري رحمه الله وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " لولا كتاب من الله سبق " يعني في أم
الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم " لمسكم فيما أخذتم " من الأسارى " عذاب عظيم " قال الله تعالى
" فكلوا ما غنمتم حلالا طيبا " الآية. وكذا روى العوفي عن ابن عباس وروى مثله عن أبي هريرة وابن مسعود
وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وقتادة والأعمش أيضا أن المراد " لولا كتاب من الله سبق " لهذه الأمة
بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير رحمه الله ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين عن جابر بن
عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي نصرت بالرعب
مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وأعطيت الشفاعة
وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " وقال الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا " ولهذا قال تعالى " فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا "
الآية. فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء وقد روى الإمام أبو داود في سننه حدثنا عبد الرحمن بن المبارك
العبسي حدثنا سفيان بن حبيب حدثنا شعبة عن أبي العنبس عن أبي الشعثاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل
فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة وقد استمر الحكم في الاسرى عند جمهور العلماء أن الامام مخير فيهم إن
شاء قتل كما فعل ببني قريظة وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر أو بمن أسر من المسلمين كما فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من
المسلمين الذين كانوا عند المشركين وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء
وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه.
يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم
والله غفور رحيم (70) وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم (71)
قال محمد بن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن مغفل عن بعض أهله عن عبد الله بن عباس رضي الله
339

عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر " إني عرفت أن أناسا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم
بقتالنا فمن لقى منكم أحدا منهم - أي من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي
العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها " فقال أبو حذيفة بن عتبة أنقتل آباءنا وأبناءنا
وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب " يا
أبا حفص - قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبا حفص " - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالسيف؟ " فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك والله
ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفا إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة فقتل يوم اليمامة
شهيدا رضي الله عنه. وبه عن ابن عباس قال: لما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر والأسارى محبوسون بالوثاق بات
رسول الله صلى الله عليه وسلم ساهرا أول الليل فقال له أصحابه يا رسول الله مالك لا تنام؟ وقد أسر العباس رجل من الأنصار
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سمعت أنين عمي العباس في وثاقه فأطلقوه " فسكت فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال محمد بن إسحاق
وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب وذلك أنه كان رجلا موسرا فافتدى نفسه بمائة
أوقية ذهبا وفي صحيح البخاري من حديث موسى بن عقبة قال ابن شهاب: حدثنا أنس بن مالك أن رجالا من
الأنصار قالوا يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال " لا والله لا تذرون منه درهما " وقال
يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن عروة عن الزهري عن جماعة سماهم قالوا: بعثت
قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا وقال العباس: يا رسول الله قد كنت
مسلما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أعلم بإسلامك فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك وأما ظاهرك فقد كان علينا
فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد الله وحليفك عتبة بن
عمرو أخي بني الحارث بن فهر " قال ما ذاك عندي يا رسول الله قال " فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟
فقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم " قال والله يا رسول الله إني
لاعلم أنك رسول الله إن هذا لشئ ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني
عشرين أوقية من مال كان معي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا: ذاك شئ أعطانا الله تعالى منك " ففدى نفسه وابني
أخويه وحليفه فأنزل الله عز وجل " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى أن يعلم الله في قلوبكم خيرا
يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم " قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في
الاسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجوا من مغفرة الله عز وجل وقد روى ابن إسحاق أيضا
عن ابن أبي نجيح عن عطاء عن ابن عباس في هذه الآية بنحو مما تقدم. وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا ابن
وكيع حدثنا ابن إدريس عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال العباس في نزلت " ما كان لنبي
أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي
أخذت مني فأبى فأبدلني الله بها عشرين عبدا كلهم تاجر مالي في يده وقال ابن إسحاق أيضا حدثني الكلبي عن
أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول
في نزلت والله حين ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي ثم ذكر نحو الحديث كالذي قبله. وقال ابن جريج عن عطاء
الخراساني عن ابن عباس " يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى " عباس وأصحابه قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم
آمنا بما جئت ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا. فأنزل الله " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم
خيرا مما أخذ منكم " إيمانا وتصديقا يخلف لكم خيرا مما أخذ منكم " ويغفر لكم " الشرك الذي كنتم عليه.
قال فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا لقد قال " يؤتكم خيرا مما أخذ
منكم " فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف وقال " ويغفر لكم " وأرجو أن يكون قد غفر لي وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: كان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب
340

فقال العباس حين قرئت هذه الآية لقد أعطاني الله عز وجل خصلتين ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم
بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فأتاني أربعين عبدا وإني لأرجو المغفرة التي وعدنا الله عز وجل. فقال قتادة في
تفسير هذه الآية: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا وقد توضأ لصلاة الظهر فما
أعطى يومئذ شاكيا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرقه فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي فكان العباس
يقول: هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا سليمان بن
المغيرة عن حميد بن هلال قال: بعث ابن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من البحرين ثمانين ألفا ما أتاه مال أكثر
منه لا قبل ولا بعد. قال فنثرت على حصير ونودي بالصلاة. قال وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فمثل قائما على المال وجاء
أهل المسجد فما كان يومئذ عدد ولا وزن ما كان إلا فيضا وجاء العباس بن عبد المطلب فحثا في خميصة عليه
وذهب يقوم فلم يستطع قال فرفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ارفع علي. قال فتبسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحكه أو نابه وقال له " أعد من المال طائفة وقم بما تطيق " قال ففعل وجعل العباس
يقول: وهو منطلق أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد أنجزنا وما ندري ما يصنع في الأخرى " يا أيها النبي قل لمن
في أيديكم من الاسرى " الآية ثم قال هذا خير مما أخذ منا وما أدري ما يصنع الله في الأخرى فما زال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ماثلا على ذلك المال حتى ما بقي منه درهم وما بعث إلى أهله بدرهم ثم أتى الصلاة فصلى.
" حديث آخر في ذلك " قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو الطيب محمد بن
محمد بن عبد الله السعيدي حدثنا محمد بن عصام حدثنا حفص بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن طهمان عن
عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال " انثروه في مسجدي " قال
وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه فما كان
يرى أحدا إلا أعطاه إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذ " فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع فقال مر بعضهم يرفعه إلي قال " لا " قال فارفعه أنت
علي قال " لا " فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجبا
من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثم منها درهم وقد رواه البخاري في مواضع من صحيحه تعليقا بصيغة
الجزم يقول: وقال إبراهيم بن طهمان ويسوقه وفي بعض السياقات أتم من هذا.
وقوله " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل " أي " وإن يريدوا خيانتك " فيما أظهروا لك من الأقوال
" فقد خانوا الله من قبل " أي من قبل بدر بالكفر به " فأمكن منهم " أي بالأسارى يوم بدر " والله عليم
حكيم " أي عليم بفعله حكيم فيه قال قتادة: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح الكاتب حين ارتد ولحق
بالمشركين وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس: نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا لننصحن
لك على قومنا وفسرها السدي على العموم وهو أشمل وأظهر والله أعلم.
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا وأولئك بعضهم أولياء
بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم
النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير (72)
ذكر تعالى أصناف المؤمنين وقسمهم إلى مهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة
دينه وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك وإلى أنصار وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم
المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء " بعضهم أولياء بعض "
341

أي كل منهم أحق بالآخر من كل وأحد ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار كل اثنين أخوان
فكانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث. ثبت ذلك في صحيح البخاري
عن ابن عباس ورواه العوفي وعلي بن أبي طلحة عنه وقال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد. قال
الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير وهو ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف
بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " تفرد به أحمد. وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سفيان حدثنا عكرمة يعني
ابن إبراهيم الأزدي حدثنا عاصم عن شقيق عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " المهاجرون
والأنصار والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة " هكذا رواه في مسند
عبد الله بن مسعود. وقد أثنى الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال " والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها
الأنهار " الآية وقال " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " الآية
وقال تعالى " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله
ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في
صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " الآية وأحسن ما قيل في قوله " ولا
يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم فإن ظاهر
الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ولهذا قال الإمام أبو
بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا محمد بن معمر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال: خيرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة
فاخترت الهجرة ثم قال لا نعرفه إلا من هذا الوجه وقوله تعالى " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من
ولايتهم " قرأ حمزة ولايتهم بالكسر والباقون بالفتح وهما واحد كالدلالة والدلالة " من شئ حتى يهاجروا " هذا
هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم فهؤلاء ليس لهم في المغانم
نصيب ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال، كما قال أحمد: حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد
عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا
على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال " اغزوا باسم الله في
سبيل الله قاتلوا من كفر بالله إذا لقيت عدوكم من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما
أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ادعهم إلى الاسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى
التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على
المهاجرين فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي
يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فادعهم
إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " انفرد به مسلم وعنده زيادات
أخر وقوله " وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر " الآية يقول تعالى وإن استنصركم هؤلاء الاعراب
الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لانهم إخوانكم في الدين إلا
أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم
مع الذين عاهدتم وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه.
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (73)
342

لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض قطع الموالاة بينهم وبين الكفار كما قال الحاكم في مستدركه:
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي حدثنا محمد بن أبان حدثنا محمد بن
يزيد وسفيان بن حسين عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا
يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما ثم - قرأ - " والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه
تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ثم قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه. قلت الحديث في الصحيحين من
رواية أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " وفي المسند والسنن من
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يتوارث أهل ملتين شتى " وقال الترمذي
حسن صحيح وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا محمد عن معمر عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل
في الاسلام فقال " تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتصوم رمضان وإنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له
حرب " وهذا مرسل من هذا الوجه وقد روي متصلا من وجه آخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنا برئ من كل مسلم
بين ظهراني المشركين " ثم قال " لا يتراءى ناراهما " وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد حدثنا محمد بن داود بن
سفيان أخبرني يحيى بن حسان أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود حدثنا جعفر بن سعيد بن سمرة بن جندب
عن سمرة بن جندب: أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله "
وذكر الحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حاتم بن إسماعيل عن عبد الله بن هرمز عن محمد وسعيد ابني عبيد عن
أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في
الأرض وفساد عريض " قالوا يا رسول الله وإن كان فيه قال " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث
مرات وأخرجه أبو داود والترمذي من حديث حاتم بن إسماعيل به بنحوه ثم روى من حديث عبد الحميد بن
سليمان عن ابن عجلان عن أبي وثيمة النضري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتاكم
من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " ومعنى قوله " إلا تفعلوه تكن فتنة
في الأرض وفساد كبير " أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس وهو التباس
الامر واختلاط المؤمنين بالكافرين فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل.
والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق
كريم (74) والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم (75)
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا عطف بذكر مالهم في الآخرة فأخبر عنهم بحقيقة الايمان كما تقدم في
أول السورة وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير
الطيب الشريف دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه. ثم ذكر أن الاتباع لهم في
الدنيا على ما كانوا عليه من الايمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال " والسابقون الأولون " الآية
وقال " والذين جاءوا من بعدهم " الآية. وفي الحديث المتفق عليه بل المتواتر من طرق صحيحة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " المرء مع من أحب " وفي الحديث الآخر " من أحب قوما فهو منهم " وفي رواية " حشر
معهم ". وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن شريك عن عاصم عن أبي وائل عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء لبعض والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم
القيامة " قال شريك فحدثنا الأعمش عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
تفرد به أحمد من هذين الوجهين. وأما قوله تعالى " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " أي في حكم الله
343

وليس المراد بقوله " وأولوا الأرحام " خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة
بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم كما قد يزعمه بعضهم ويحتج
بالآية ويعتقد ذلك صريحا في المسألة بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس
ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما
أولا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث " إن الله قد
أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " قالوا فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى فلما لم يكن
كذلك لم يكن وارثا والله أعلم. آخر تفسير سورة الأنفال ولله الحمد والمنة وعليه التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سورة التوبة
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم
غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين (2)
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال البخاري حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن أبي
إسحق قال: سمعت البراء يقول آخر آية نزلت " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " وآخر سورة نزلت
براءة وإنما لم يبسمل في أولها لان الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الامام بل اقتدوا في ذلك
بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. كما قال الترمذي: حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن
سعيد ومحمد بن أبي جعفر وابن عدي وسهيل بن يوسف قالوا: حدثنا عوف عن أبي جميلة أخبرني يزيد الفارسي
أخبرني ابن عباس قال: قلت لعثمان ابن عفان ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي
من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطول ما حملكم
على ذلك فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا
نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا وكانت
الأنفال من أول ما نزل بالمدينة وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها
منها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله
الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطول. وكذا رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه
والحاكم في مستدركه من طرق أخر عن عوف الاعرابي به وقال الحاكم: صحيح الاسناد ولم يخرجاه وأول
هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهم بالحج ثم ذكر أن المشركين يحضرون
عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك وأنهم يطوفون بالبيت عراة فكره مخالطتهم وبعث أبا بكر الصديق رضي
الله عنه أميرا على الحج تلك السنة ليقيم للناس مناسكهم ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا وأن
ينادي في الناس " براءة من الله ورسوله " فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه
عصبة له كما سيأتي بيانه فقوله تعالى " براءة من الله ورسوله " أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله " إلى
الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر " اختلف المفسرون ههنا اختلافا كثيرا فقال
قائلون هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من
كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان لقوله تعالى " فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم " الآية ولما سيأتي
في الحديث ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته وهذا أحسن الأقوال وأقواها وقد اختاره
344

ابن جرير رحمه الله وروي عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في قوله " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر "
الآية قال حد الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر يسيحون في الأرض حيث شاءوا وأجل أجل من ليس له عهد
انسلاخ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى سلخ المحرم فذلك خمسون ليلة فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع
السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد يقتلهم حتى يدخلوا في الاسلام وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر
من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضا حتى يدخلوا في الاسلام وقال أبو معشر
المدني: حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرا على الموسم سنة تسع
وبعث علي بن أبي طالب بثلاثين آية أو أربعين آية من براءة فقرأها على الناس يؤجل المشركين أربعة أشهر
يسيحون في الأرض فقرأها عليهم يوم عرفة أجلهم عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشرا
من ربيع الآخر وقرأها عليهم في منازلهم وقال " لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان " وقال ابن
أبي نجيح عن مجاهد " براءة من الله ورسوله " إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم فقفل
رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ثم قال " إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب
أن أحج حتى لا يكون ذلك " فأرسل أبا بكر وعليا رضي الله عنهما فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي
كانوا يتابعون بها وبالمواسم كلها فأذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر فهي الأشهر المتواليات عشرون من
ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر ثم لا عهد لهم وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا وهكذا روي
عن السدي وقتادة وقال الزهري: كان ابتداء التأجيل من شوال وآخره سلخ المحرم وهذا القول غريب
وكيف يحاسبون بمدة لم يبلغهم حكمها وإنما ظهر لهم أمرها يوم النحر حين نادى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك
ولهذا قال تعالى:
وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير
لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم (3)
يقول تعالى وإعلام " من الله ورسوله " وتقدم وإنذار إلى الناس " يوم الحج الأكبر " وهو يوم النحر الذي هو
أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعا " أن الله برئ من المشركين ورسوله " أي برئ منهم أيضا ثم
دعاهم إلى التوبة إليه فقال " فإن تبتم " أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال " فهو خير لكم وإن توليتم " أي
استمررتم على ما أنتم عليه " فاعلموا أنكم غير معجزي الله " بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره
ومشيئته " وبشر الذين كفروا بعذاب أليم " أي في الدنيا بالخزي والنكال وفي الآخرة بالمقامع والأغلال. قال
البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني حميد بن
عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر
يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان. قال حميد: ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن
أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة. قال أبو هريرة: فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة وأن لا يحج بعد
هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ورواه البخاري أيضا: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري
أخبرني حميد بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام
مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. ويوم الحج الأكبر يوم النحر وإنما قيل الأكبر من أجل قول الناس الحج الأصغر
فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك. هذا لفظ
البخاري في كتاب الجهاد. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه
345

في قوله " براءة من الله ورسوله " قال لما كان النبي صلى الله عليه وسلم زمن حنين اعتمر من الجعرانة ثم أمر أبا بكر على تلك
الحجة قال معمر: قال الزهري: وكان أبو هريرة يحدث أن أبا بكر أمر أبا هريرة أن يؤذن ببراءة في حجة أبي
بكر. قال أبو هريرة ثم أتبعنا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وأمره أن يؤذن ببراءة وأبو بكر على الموسم كما هو أو قال على
هيئته وهذا السياق فيه غرابة من جهة أن أمير الحج كان سنة عمرة الجعرانة إنما هو عتاب بن أسيد فأما أبو بكر
إنما كان أميرا سنة تسع.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن مغيرة عن الشعبي عن محرز بن أبي هريرة عن أبيه
قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال " ما كنتم تنادون؟ " قال كنا
ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن
أجله أو مدته إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله برئ من المشركون ورسوله ولا يحج هذا البيت
بعد عامنا هذا مشرك قال: فكنت أنادي حتى صحل صوتي. وقال الشعبي: حدثني محرز بن أبي هريرة عن
أبيه قال: كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي فكان إذا صحل ناديت فقلت بأي
شئ كنتم تنادون؟ قال بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته
ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. رواه ابن جرير من غير وجه عن الشعبي
ورواه شعبة عن مغيرة عن الشعبي به إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى أربعة أشهر
وذكر تمام الحديث قال ابن جرير: وأخشى أن يكون وهما من بعض نقلته لان الاخبار متضافرة في الاجل
بخلافه. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد عن سماك عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال " لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي " فبعث بها مع
علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورواه الترمذي في التفسير عن بندار عن عفان وعبد الصمد كلاهما عن
حماد بن سلمة به ثم قال: حسن غريب من حديث أنس رضي الله عنه وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل:
حدثنا محمد بن سليمان حدثنا لوين حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله عنه قال:
لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صلى الله عليه وسلم دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر فبعثه بها ليقرأها على أهل
مكة ثم دعاني فقال " أدرك أبا بكر فحيثما لحقته فخذ الكتاب منه فاذهب إلى أهل مكة فاقرأه عليهم " فلحقته
بالجحفة فأخذت الكتاب منه ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نزل في شئ؟ فقال " لا ولكن
جبريل جاءني فقال لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " هذا إسناد فيه ضعف وليس المراد أن أبا بكر رضي
الله عنه رجع من فوره بل بعد قضائه للمناسك التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء مبينا في الرواية الأخرى.
وقال عبد الله أيضا حدثني أبو بكر حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط بن نصر عن سماك عن حنش عن علي رضي الله
عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب قال: لابد لي أن أذهب
بها أنا أو تذهب بها أنت " قال فإن كان ولابد فسأذهب أنا قال: " انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك " قال
ثم وضع يده على فيه. وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن أبي إسحق عن زيد بن يثيغ رجل من همدان: سألنا
عليا بأي شئ بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة قال: بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا
نفس مؤمنة ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته ولا يحج المشركون
بعد عامهم هذا ورواه الترمذي عن قلابة عن سفيان بن عيينة وقال حسن صحيح كذا قال. ورواه شعبة عن
أبي إسحق فقال زيد بن أثيل وهم فيه ورواه الثوري عن أبي إسحق عن بعض أصحابه عن علي رضي الله
عنه. وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو أسامة عن زكريا عن أبي إسحق عن يزيد بن يثيغ عن علي
قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت براءة بأربع: أن لا يطوف بالبيت عريان ولا يقرب المسجد الحرام مشرك
346

بعد عامهم هذا ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ثم رواه
ابن جرير عن محمد بن عبد الاعلى عن ابن ثور عن معمر عن أبي إسحق عن الحارث عن علي قال: أمرت
بأربع فذكره وقال إسرائيل عن أبي إسحق عن زيد بن يثيغ قال: نزلت براءة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ثم
أرسل عليا فأخذها فلما رجع أبو بكر قال: نزل في شئ؟ قال " لا ولكن أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل
بيتي " فانطلق إلى أهل مكة فقام فيهم بأربع: لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا ولا يطوف بالبيت عريان ولا
يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته وقال محمد بن إسحاق
عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي قال: لما نزلت براءة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله: لو بعثت إلى أبي بكر فقال " لا
يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي " ثم دعا عليا فقال " اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر
إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له
عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته " فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك أبا
بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال: أمير أو مأمور؟ فقال بل مأمور ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك
في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب
فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر " ولا يحج بعد العام
مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته ". فلم يحج بعد ذلك العام
مشرك ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من
أهل العهد العام وأهل المدة إلى الاجل المسمى.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أخبرنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد أخبرنا حياة بن
شريح أخبرنا ابن صخر أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول:
سألت عليا عن يوم الحج الأكبر فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس الحج وبعثني معه
بأربعين أية من براءة حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة فلما قضى خطبته التفت إلي فقال: قم يا علي فأد
رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من براءة ثم صدرنا فأتينا منى فرميت الجمرة ونحرت البدنة ثم
حلقت رأسي وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة فطفت أتتبع بها الفساطيط
أقرأها عليهم فمن ثم أخال حسبتم أنه يوم النحر ألا وهو يوم عرفة وقال عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحق:
سألت أبا جحيفة عن يوم الحج الأكبر قال: يوم عرفة فقلت أمن عندك أم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال كل في
ذلك. وقال عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر يوم عرفة. وقال عمرو بن الوليد
السهمي حدثنا شهاب بن عباد البصري عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: هذا يوم عرفة هذا يوم الحج
الأكبر فلا يصومنه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة فسألت عن أفضل أهلها فقالوا سعيد بن المسيب
فأتيته فقلت إني سألت عن أفضل المدينة فقالوا سعيد بن المسيب فأخبرني عن صوم يوم عرفة فقال: أخبرك
عمن هو أفضل مني مائة ضعف عمر أو ابن عمر كان ينهى عن صومه ويقول يوم الحج الأكبر رواه ابن جرير
وابن أبي حاتم وهكذا روي عن ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومجاهد وعكرمة وطاوس أنهم قالوا: يوم عرفة
هو يوم الحج الأكبر وقد ورد فيه حديث مرسل رواه ابن جريج أخبرت عن محمد بن قيس عن ابن مخرمة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة. فقال " هذا يوم الحج الأكبر " وروي من وجه آخر عن ابن جريج عن محمد بن
قيس عن المسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطبهم بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال " أما بعد فإن هذا
يوم الحج الأكبر ". والقول الثاني: أنه يوم النحر. قال هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن علي
347

رضي الله عنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر وقال أبو إسحق السبيعي عن الحارث الأعور سألت عليا رضي الله
عنه عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر وقال شعبة عن الحكم سمعت يحيى بن الجزار يحدث عن علي
رضي الله عنه أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبانة فجاء رجل فأخذ بلجام دابته فسأله عن الحج الأكبر
فقال: هو يومك هذا خل سبيلها وقال عبد الرازق عن سفيان عن شعبة عن عبد الملك بن عمير عن عبد الله بن
أبي أوفى أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر وروى شعبة وغيره عن عبد الملك بن عمير به نحوه وهكذا رواه
هشيم وغيره عن الشيباني عن عبد الله ابن أبي أوفى وقال الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن
شعبة يوم الأضحى على بعير فقال: هذا يوم الأضحى وهذا يوم النحر وهذا يوم الحج الأكبر وقال حماد بن
سلمة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: الحج الأكبر يوم النحر وكذا روي عن أبي جحيفة
وسعيد بن جبير وعبد الله بن شداد بن الهاد ونافع بن جبير بن مطعم والشعبي وإبراهيم النخعي ومجاهد وعكرمة
وأبي جعفر الباقر والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا: يوم الحج الأكبر هو يوم النحر واختاره ابن
جرير وقد تقدم الحديث عن أبي هريرة في صحيح البخاري أن أبا بكر بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى وقد ورد
في ذلك أحاديث أخر كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني سهل بن محمد الحساني حدثنا أبو جابر الحرثي
حدثنا هشام بن الغازي الجرشي عن نفاع عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في
حجة الوداع فقال " هذا يوم الحج الأكبر " وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه من حديث أبي جابر واسمه
محمد بن عبد الملك به ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم عن هشام بن الغازي به ثم رواه
من حديث سعيد بن عبد العزيز عن نافع به. وقال شعبة عن عمرو بن مرة الهمداني عن رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة فقال: " أتدرون أي يوم يومكم هذا؟ قالوا يوم
النحر قال: " صدقتم يوم الحج الأكبر ".
وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن المقدام حدثنا يزيد بن زريع حدثنا ابن عون عن محمد بن سيرين عن
عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو
زمامه فقال " أي يوم هذا؟ " قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه فقال: " أليس هذا يوم الحج الأكبر؟ "
وهذا إسناد صحيح وأصله مخرج في الصحيح. وقال أبو الأحوص عن شبيب عن عروة عن سليمان بن عمرو بن
الأحوص عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: " أي يوم هذا؟ " فقالوا اليوم الحج الأكبر
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: يوم الحج الأكبر اليوم الثاني من يوم النحر رواه ابن أبي حاتم وقال مجاهد
أيضا يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها وكذا قال أبو عبيدة قال سفيان: يوم الحج ويوم الجمل ويوم صفين أي
أيامه كلها. وقال سهل السراج سئل الحسن البصري عن يوم الحج الأكبر فقال: ما لكم وللحج الأكبر؟ ذاك عام
حج فيه أبو بكر الذي استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج بالناس رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير: حدثنا ابن
وكيع حدثنا أبو أسامة عن ابن عون سألت محمدا يعني ابن سيرين عن يوم الحج الأكبر فقال كان يوما وافق فيه
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوبر.
إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى
مدتهم إن الله يحب المتقين (4)
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت فأجله أربعة أشهر يسيح في
الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها وقد
تقدمت الأحاديث ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده
348

ولم يظاهر على المسلمين أحدا أي يمالئ عليهم من سواهم فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته. ولهذا
حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال " إن الله يحب المتقين " أي الموفين بعهدهم.
فإذا انسلخ الأشهر الحرام فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم (5)
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم ههنا ما هي فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى
" منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " الآية قاله أبو جعفر الباقر ولكن قال ابن جرير:
آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وإليه ذهب
الضحاك أيضا وفيه نظر والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه وبه قال
مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها أشهر
التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر " ثم قال " فإذا انسلخ الأشهر الحرم "
أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم لان عود
العهد على مذكور أولى من مقدر ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه
السورة الكريمة وقوله " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " أي من الأرض وهذا عام والمشهور تخصيصه
بتحريم القتال في الحرم بقوله " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم "
وقوله " وخذوهم " أي وأسروهم إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا وقوله " واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد "
أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم. بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم والرصد في طرقهم ومسالكهم
حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الاسلام ولهذا قال " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة
فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم " ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية
الكريمة وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهي الدخول في الاسلام والقيام بأداء واجباته ونبه
بأعلاها على أدناها فإن أشرف أركان الاسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عز وجل وبعدها أداء الزكاة
التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج وهي أشرف الافعال المتعلقة بالمخلوقين ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين
الصلاة والزكاة وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أمرت أن أقاتل
الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " الحديث وقال
أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك
فلا صلاة له. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال يرحم الله أبا بكر ما
كان أفقهه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله بن المبارك أنبأنا حميد الطويل عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله
وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا
بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم " ورواه البخاري في صحيحه وأهل السنن إلا ابن ماجة من حديث
عبد الله بن المبارك به. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا عبد الاعلى بن واصل الأسدي حدثنا عبيد الله بن
موسى أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من فارق الدنيا على الاخلاص لله
وحده وعبادته لا يشرك به شيئا فارقها والله عنه راض " قال وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل
وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل قال الله تعالى
349

" فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " قال: توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء
الزكاة ثم قال في آية أخرى " فإن تابوا أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " ورواه ابن مردويه ورواه
محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له. حدثنا إسحاق بن إبراهيم أنبأنا حكام بن سلمة حدثنا أبو جعفر
الرازي به سواء وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم انها نسخت كل عهد بين
النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: لم يبق لاحد
من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن
تنزل براءة أربعة أشهر من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس في هذه الآية قال: أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الاسلام ونقض ما كان
سمي لهم من العهد والميثاق وأذهب الشرط الأول وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إسحاق بن موسى
الأنصاري قال: قال سفيان بن عيينة قال علي بن أبي طالب: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف سيف في المشركين
من العرب قال الله تعالى " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " هكذا رواه مختصرا وأظن أن السيف الثاني هو
قتال أهل الكتاب لقوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا
يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " " والسيف الثالث " قتال
المنافقين في قوله " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " الآية. " والرابع " قتال الباغين في قوله " وإن
طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
الله " ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه فقال الضحاك والسدي هي منسوخة بقوله تعالى " فإما منا بعد
وإما فداء " وقال قتادة بالعكس.
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون (6)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه " وإن أحد من المشركين " الذين أمرتك بقتالهم وأحللت لك استباحة
نفوسهم وأموالهم " استجارك " أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله أي القرآن تقرؤه عليه وتذكر له
شيئا من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله " ثم أبلغه مأمنه " أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى
بلاده وداره ومأمنه " ذلك بأنهم قوم لا يعلمون " أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر
دعوة الله في عباده وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال: إنسان يأتيك ليسمع ما تقول
وما أنزل عليك فهو آمن حتى يأتيك فتسمعه كلام الله وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء ومن هذا كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو في رسالة كما جاء يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش
منهم عروة بن مسعود ومكرز بن حفص وسهيل بن عمرو وغيرهم واحدا بعد واحد يترددون في القضية بينه وبين
المشركين فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر فرجعوا إلى
قومهم وأخبروهم بذلك وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم ولهذا أيضا لما قدم رسول مسيلمة
الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا أن الرسل
لا تقتل لضربت عنقك " وقد قيض الله له ضرب العنق في إمارة ابن مسعود على الكوفة وكان يقال له ابن
النواحة ظهر عنه في زمان ابن مسعود أنه يشهد لمسيلمة بالرسالة فأرسل إليه ابن مسعود فقال له إنك الآن لست في
رسالة وأمر به فضربت عنقه لا رحمه الله ولعنه والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الاسلام في أداء
رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الامام أو نائبه أمانا
أعطي أمانا ما دام مترددا في دار الاسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه لكن قال العلماء لا يجوز أن يمكن من
الإقامة في دار الاسلام سنة، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة أشهر
ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله.
350

كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم
فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين (7)
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال
تعالى " كيف يكون للمشركين عهد " أي أمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله " إلا
الذين عاهدتم عند المسجد الحرام " يعني يوم الحديبية كما قال تعالى " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد
الحرام والهدى معكوفا أن يبلغ محله " الآية " فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم " أي مهما تمسكوا بما
عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم عشر سنين " فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين "
وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون. استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن
نقضت قريش العهد ومالئوا حلفاءهم وهم بنو بكر على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوهم معهم في الحرام
أيضا فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله
الحمد والمنة فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء وكانوا قريبا من ألفين ومن
استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء ومنهم
صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما ثم هداهم الله بعد ذلك إلى الاسلام التام والله المحمود على
جميع ما يقدره ويفعله.
كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون (8)
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله
تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا
ولا ذمة قال علي بن أبي طلحة وعكرمة والعوفي عن ابن عباس: الآل القرابة والذمة العهد وكذا قال الضحاك
والسدي كما قال تميم بن مقبل:
أفسد الناس خلوف خلفوا * قطعوا الال وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهم كاذبا إلهم * وذو الال والعهد لا يكذب
وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد لا يرقبون في مؤمن إلا: قال إلال الله، وفي رواية لا يرقبون الله ولا غيره وقال
ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سليمان عن أبي مجلز في قوله تعالى " لا يرقبون في مؤمن إلا ولا
ذمة " مثل قوله جبريل ميكائيل إسرافيل كأنه يقول لا يرقبون الله والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر. وعن
مجاهد أيضا الال العهد. وقال قتادة الال الحلف.
اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون (9) لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة
وأولئك هم المعتدون (10) فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم
يعملون (11)
يقول تعالى ذما للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم " اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا " يعني أنهم اعتاضوا عن
351

اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة " فصدوا عن سبيله " أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق.
" إنهم ساء ما كانوا يعلمون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة " تقدم تفسيره وكذا الآية التي بعدها " فإن تابوا
وأقاموا الصلاة " إلى آخرها تقدمت وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى بن أبي
بكر حدثنا أبو جعفر الرازي حدثنا الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
فارق الدنيا على الاخلاص لله وعبادته لا يشرك به وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض " وهو دين الله
الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء وتصديق ذلك في كتاب الله " فإن
تابوا " يقول فإن خلعوا الأوثان وعبادتها " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم " وقال في آية أخرى " فإن
تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " ثم قال البزار: آخر الحديث عندي والله أعلم فارقها وهو
عنه راض وباقيه عندي من كلام الربيع بن أنس.
وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (12)
يقول تعالى " وإن نكث " هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم على مدة معينة أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم
" وطعنوا في دينكم " أي عابوه وانتقصوه ومن ههنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أو من
طعن في دين الاسلام أو ذكره بنقص ولهذا قال: " فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا إيمان لهم لعلهم ينتهون " أي
يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال وقد قال قتادة وغيره: أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة
وأمية بن خلف وعدد رجالا وعن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: مر سعيد بن أبي وقاص برجل من الخوارج
فقال الخارجي: هذا من أئمة الكفر فقال سعد: كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر رواه ابن مردويه. وقال الأعمش
عن زيد بن وهب عن حذيفة أنه قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. وروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه
مثله والصحيح أن الآية عامة وإن كان سبب نزولها مشركي قريش فهي عامة لهم ولغيرهم والله أعلم وقال
الوليد بن مسلم: حدثنا صفوان بن عمرو عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير أنه كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه
إلى الناس حين وجههم إلى الشام قال إنكم ستجدون قوما مجوفة رؤوسهم فاضربوا معاقد الشيطان منهم
بالسيوف فوالله لان أقتل رجلا منهم أحب إلي من أن أقتل سبعين من غيرهم وذلك بأن الله يقول " فقاتلوا أئمة
الكفر " رواه ابن أبي حاتم.
ألا تقاتلوا قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم
مؤمنين (13) قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين (14) ويذهب غيظ
قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم (15)
وهذا أيضا تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة كما
قال تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين "
وقال تعالى " يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم " الآية وقال تعالى وإن كادوا ليستفزونك من
الأرض ليخرجوك منها " الآية وقوله " وهم بدأوكم أول مرة " قيل المراد بذلك يوم بدر حين خرجوا لنصر
عيرهم فلما نجت وعلموا بذلك استمروا على وجههم طلبا للقتال بغيا وتكبرا كما تقدم بسط ذلك وقيل المراد
نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح
وكان ما كان ولله الحمد والمنة. وقوله " أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين " يقول تعالى لا
352

تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي فبيدي الامر وما شئت كان وما لم أشأ لم يكن
ثم قال تعالى عزيمة على المؤمنين وبيانا لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد مع قدرته على إهلاك الأعداء بأمر من
عنده " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين " وهذا عام في المؤمنين
كلهم وقال مجاهد وعكرمة والسدي في هذه الآية " ويشف صدور قوم مؤمنين " يعني خزاعة وأعاد الضمير
في قوله " ويذهب غيظ قلوبهم " عليهم أيضا. وقد ذكر ابن عساكر في ترجمة مؤذن لعمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه عن مسلم بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا غضبت أخذ بأنفها وقال " يا عويش
قولي اللهم رب النبي محمد اغفر ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن " ساقه من طريق أبي أحمد
الحاكم عن الباغندي عن هشام بن عمار حدثنا عبد الرحمن بن أبي الجوزاء عنه " ويتوب الله على من يشاء " أي
من عباده " والله عليم " أي بما يصلح عباده " حكيم " في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم
ما يريد وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبدا ولا يضيع مثقال ذرة من خير وشر بل يجازي عليه في الدنيا
والآخرة.
أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين
وليجة والله خبير بما تعملون (16)
يقول تعالى: " أم حسبتم " أيها المؤمنين أن نترككم مهملين لا نختبركم بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من
الكاذب ولهذا قال " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين
وليجة " أي بطانة ودخيلة بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر كما قال الشاعر:
وما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
وقد قال الله تعالى في الآية الأخرى " ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون؟ ولقد فتنا الذين
من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين " وقال تعالى " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة؟ الآية
وقال تعالى " ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه " الآية والحاصل أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بين
أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه وهو تعالى العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان
كيف كان يكون فيعلم الشئ قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه لا إله إلا هو ولا رب سواه ولا راد لما قدره
وأمضاه.
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم
خالدون (17) إنما يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا
الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين (18)
يقول تعالى: ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له ومن قرأ
مسجد الله فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض الذي بني من أول يوم على عبادة الله وحده لا
شريك له وأسسه خليل الرحمن هذا وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم. وقال لهم كما قال
السدي: لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال نصراني ولو سألت اليهودي ما دينك لقال يهودي والصابئي لقال
صابئ والمشرك لقال مشرك " أولئك حبطت أعمالهم " أي بشركهم " وفي النار هم خالدون " وقال تعالى
353

" ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياؤه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم
لا يعلمون " ولهذا قال تعالى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " فشهد تعالى بالايمان لعمار
المساجد كما قال الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه
عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له
بالايمان. قال تعالى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " ورواه الترمذي وابن مردويه والحاكم
في مستدركه من حديث عبد الله بن وهب به. وقال عبد الرحمن بن حميد في مسنده حدثنا يونس بن محمد حدثنا
صالح المري عن ثابت البناني عن ميمون بن سيارة وجعفر بن زيد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما
عمار المساجد هم أهل الله " ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الواحد بن غياث عن صالح بن بشير المري عن
ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما عمار المساجد هم أهل الله " ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير
صالح وقد روى الدارقطني في الافراد من طريق حكامة بنت عثمان بن دينار عن أبيها عن أخيه مالك بن دينار
عن أنس مرفوعا " إذا أراد الله بقوم عاهة نظر إلى أهل المساجد فصرف عنهم " ثم قال غريب وروى الحافظ
البهائي في المستقصى عن أبيه بسنده إلى أبي أمية الطرسوسي حدثنا منصور بن صفير حدثنا صالح المري عن
ثابت عن أنس مرفوعا يقول الله: وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي وإلى
المتحابين في وإلى المستغفرين بالاسحار صرفت ذلك عنهم. ثم قال ابن عساكر: حديث غريب وقال الإمام أحمد
: حدثنا روح حدثنا سعيد عن قتادة حدثنا العلاء بن زياد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان
ذئب الانسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد " وقال
عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي قال: أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون
إن المساجد بيوت الله في الأرض وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها. وقال المسعودي عن حبيب بن أبي
ثابت وعدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من سمع النداء بالصلاة ثم لم
يجب ولم يأت المسجد ويصلي فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله. قال الله تعالى " إنما يعمر مساجد الله من
آمن بالله واليوم الآخر " الآية رواه ابن مردويه. وقد روى مرفوعا من وجه آخر وله شواهد من وجوه آخر ليس
هذا موضع بسطها. وقوله " وأقام الصلاة " أي التي هي أكبر عبادات البدن " وآتى الزكاة " أي التي هي أفضل الأعمال
المتعدية إلى بر الخلائق وقوله " ولم يخش إلا الله " أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه
" فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إنما يعمر مساجد الله من
آمن بالله واليوم الآخر " يقول من وحد الله وآمن باليوم الآخر يقول من آمن بما أنزل الله " وأقام الصلاة " يعني
الصلوات الخمس " ولم يخش إلا الله " يقول لم يعبد إلا الله ثم قال " فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين "
يقول تعالى إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " وهي الشفاعة وكل
عسى في القرآن فهي واجبة وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله: وعسى من الله حق.
* أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا
يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين (19) الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم
وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون (20) يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم
فيها نعيم مقيم (21) خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم (22)
قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس في تفسيره هذه الآية قال: إن المشركين قالوا عمارة بيت الله وقيام على
354

السقاية خير ممن آمن وجاهد وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون به من أجل أنهم أهله وعماره فذكر الله
استكبارهم وإعراضهم فقال لأهل الحرم من المشركين " قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم
تنكصون * مستكبرين به سامرا تهجرون " يعني أنهم كانوا يستكبرون بالحرم قال " به سامرا " كانوا يسمرون
به ويهجرون القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم فخير الله الايمان والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلم على عمارة المشركين البيت وقيامهم على
السقاية ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به وإن كانوا يعمرون بيته ويحرمون به. قال الله تعالى " لا يستوون
عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني الذين زعموا أنهم أهل العمارة فسماهم الله ظالمين بشركهم فلم تغن
عنهم العمارة شيئا.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: قد نزلت في العباس بن عبد المطلب حين
أسر ببدر قال لئن كنتم سبقتمونا بالاسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام نسقي ونفك العاني
قال الله عز وجل " أجعلتم سقاية الحاج " - إلى قوله - " والله لا يهدي القوم الظالمين " يعني أن ذلك كله كان في الشرك
ولا أقبل ما كان في الشرك وقال الضحاك بن مزاحم أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر
يعيرونهم بالشرك فقال العباس أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج
فأنزل الله " أجعلتم سقاية الحاج " الآية. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن إسماعيل عن الشعبي قال:
نزلت في علي والعباس رضي الله عنهما بما تكلما في ذلك. وقال ابن جرير: حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب
أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني
عبد الدار وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب فقال طلحة أنا صاحب البيت معي مفتاحه ولو أشاء بت
فيه وقال العباس أنا صاحب السقاية والقائم عليها ولو أشاء بت في المسجد فقال علي رضي الله عنه: ما
أدري ما تقولان لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله عز وجل " أجعلتم
سقاية الحاج " الآية كلها وهكذا قال السدي إلا أنه قال: افتخر علي والعباس وشيبة بن عثمان وذكر
نحوه وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن عمرو عن الحسن قال: نزلت في علي وعباس وشيبة تكلموا في ذلك
فقال العباس ما أراني إلا أني تارك سقايتنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا "
ورواه محمد بن ثور عن معمر عن الحسن فذكر نحوه وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث مرفوع فلابد من ذكره
هنا قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن رجلا قال: ما
أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الاسلام إلا
أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال:
لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صلينا الجمعة دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم
فسألناه. فنزلت " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام " - إلى قوله - " لا يستوون عند الله ".
" طريق أخرى " قال الوليد بن مسلم: حدثني معاوية بن سلام عن جده أبي سلام الأسود عن النعمان بن بشير
الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا
بعد الاسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام. وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله
خير مما قلتم فزجره عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم
الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال ففعل فأنزل الله عز
وجل " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام - إلى قوله - والله لا يهدي القوم الظالمين " ورواه مسلم في
صحيحه وأبو داود وابن جرير وهذا لفظه وابن مردويه وابن أبي حاتم في تفاسيرهم وابن حبان في صحيحه.
355

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الايمان ومن يتولهم منكم
فأولئك هم الظالمون (23) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال
اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا
حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)
أمر الله تعالى بمباينة الكفار وإن كانوا آباء أو أبناء ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على
الايمان وتوعد على ذلك كقوله تعالى " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا
آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري
من تحتها الأنهار " الآية. وروى الحافظ البيهقي من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبي عبيدة بن
الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه فلما أكثر الجراح قصده ابنه أبو عبيدة فقتله فأنزل الله فيه
هذه الآية " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله " الآية ثم أمر تعالى رسوله أن
يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها) أي اكتسبتموها وحصلتموها (وتجارة تخشون كسادها ومساكن
ترضونها " أي تحبونها لطيبها وحسنها أي إن كانت هذه الأشياء " أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله
فتربصوا " أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم. ولهذا قال " حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم
الفاسقين ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن لهيعة عن زهرة بن معبد عن جده قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله يا رسول الله لانت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلى من
نفسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الآن يا عمر " انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن يحيى بن سليمان عن ابن وهب عن
حياة بن شريح عن أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا وقد ثبت في
الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده
وولده والناس أجمعين " وروى الإمام أحمد وأبو داود واللفظ له من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء
الخراساني عن نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر
ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلالا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " وروى الإمام أحمد أيضا عن
يزيد بن هارون عن أبي حباب عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك وهذا
شاهد للذي قبله والله أعلم.
لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض
بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب
الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27)
قال ابن جريج عن مجاهد: هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في
نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا
356

بعددهم ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى
ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين
الذين معه كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع
فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير حدثنا
أبي سمعت يونس يحدث عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الصحابة
أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة " وهكذا رواه أبو داود
والترمذي ثم قال: هذا حديث حسن غريب جدا لا يسنده أحد غير جرير بن حازم وإنما روي عن الزهري
عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقد رواه ابن ماجة والبيهقي وغيره عن أكثم بن الجون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه والله أعلم.
وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة. وذلك لما فرغ صلى
الله عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها وأسلم عامة أهلها وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن هوازن جمعوا له
ليقاتلوه وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ومعه ثقيف بكمالها وبنو جشم وبنو سعد بن بكر وأوزاع من بني
هلال وهم قليل وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم
وجاءوا بقضهم وقضيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من
المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين فسار بهم إلى العدو
فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح انحدروا في الوادي
وقد كمنت فيه هوازن فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ورشقوا بالنبال وأصلتوا السيوف
وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل وثبت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن وأبو
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر يثقلانها لئلا تسرع السير وهو ينوه باسمه عليه الصلاة
والسلام ويدعو المسلمين إلى الرجعة ويقول " إلي عباد الله إلي أنا رسول الله " ويقول في تلك الحال " أنا النبي
لا كذب أنا ابن عبد المطلب " وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ومنهم من قال ثمانون فمنهم أبو بكر وعمر
رضي الله عنهما والعباس وعلي والفضل بن عباس وأبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن وأسامة بن زيد
وغيرهم رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته: يا
أصحاب الشجرة يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على أن لا يفروا
عنه فجعل ينادي بهم يا أصحاب السمرة ويقول تارة: يا أصحاب سورة البقرة فجعلوا يقولون يا لبيك يا
لبيك وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس
درعه ثم انحدر عنه وأرسله ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم
عليه السلام أن يصدقوا الحملة وأخذ قبضة من التراب بعد ما دعا ربه واستنصره وقال " اللهم أنجز لي ما
وعدتني " ثم رمى القوم بها فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ثم انهزموا فاتبع
المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون وما تراجع بقية الناس إلا والاسرى مجندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا يعلى بن عطاء عن عبيد الله بن سيار عن
أبي همام عن أبي عبد الرحمن الفهري واسمه يزيد بن أسيد ويقال يزيد بن أنيس ويقال كرز قال: كنت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فسرنا في يوم قائظ شديد الحر فنزلنا تحت ظلال الشجر فلما زالت الشمس لبست
لامتي وركبت فرسي فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله
وبركاته حان الرواح؟ فقال " أجل " فقال " يا بلال " فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر فقال: لبيك وسعديك
وأنا فداؤك فقال " أسرج لي فرسي " فأخرج سرجا دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر قال فأسرع فركب
357

وركبنا فصاففناهم عشيتنا وليلتنا فتشامت الخيلان فولى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى " ثم وليتم مدبرين "
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله " ثم قال " يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله " قال: ثم
اقتحم عن فرسه فأخذ كفا من تراب فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم وقال " شاهدت
الوجوه " فهزمهم الله تعالى. قال يعلي بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا لم يبق منا أحد إلا
امتلأت عيناه وفمه ترابا وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الجديد وهكذا رواه
الحافظ البيهقي في دلائل النبوة من حديث أبي داود الطيالسي عن حماد بن سلمة به وقال محمد بن إسحاق
حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن عبد الرحمن بن جابر عن أبيه جابر بن عبد الله قال: فخرج مالك بن عوف بمن
معه إلى حنين فسبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه وأقبل رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح فلما انحط الناس ثارت في وجوههم
الخيل فشدت عليهم وانكفأ الناس منهزمين لا يقبل أحد على أحد وانحاز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات
اليمين يقول " أيها الناس هلموا إلي أنا رسول الله أنا رسول الله أنا محمد بن عبد الله " فلا شئ وركبت الإبل
بعضها بعضا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناس قال " يا عباس أصرخ يا معشر الأنصار "
يا أصحاب السمرة " فأجابوه لبيك لبيك فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره فلا يقدر على ذلك فيقذف درعه في
عنقه ويأخذ سيفه وقوسه ثم يؤم الصوت حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة فاستعرض
الناس فاقتتلوا وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ثم جعلت آخرا بالخزرج وكانوا صبراء عند الحرب وأشرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركابه فنظر إلى مجتلد القوم فقال " الآن حمي الوطيس " قال فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقون فقتل الله منهم من قتل وانهزم منهم من انهزم وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم
وفي الصحيحين من حديث شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلا قال له: يا أبا
عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر إن هوازن كانوا قوما رماة فلما
لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا فأقبل الناس على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانهزم الناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته البيضاء وهو يقول " أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب " قلت:
وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة أنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغى وقد انكشف عنه جيشه وهو مع
هذا على بغلة وليست سريعة الجري ولا تصلح لفر ولا لكر ولا لهرب وهو مع هذا أيضا يركضها إلى وجوههم
وينوه باسمه ليعرفه من لم يعرفه صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وما هذا كله إلا ثقة بالله وتوكلا عليه
وعلما منه بأنه سينصره ويتم ما أرسله به ويظهر دينه على سائر الأديان، ولهذا قال تعالى " ثم أنزل الله سكينته
على رسوله " أي طمأنينته وثباته على رسوله " وعلى المؤمنين " أي الذين معه " وأنزل جنودا لم تروها " وهم
الملائكة كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني الحسن بن عرفة قال: حدثني المعتمر بن سليمان عن عوف
هو ابن أبي جميلة الاعرابي قال: سمعت عبد الرحمن مولى ابن برثن حدثني رجل كان مع المشركين يوم حنين
قال: لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة قال فلما
كشفناهم جعلنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى أصحاب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فتلقانا عنده
رجال بيض حسان الوجوه فقال لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. قال فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها وقال
الحافظ أبو بكر البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ حدثني محمد بن أحمد بن بالويه حدثنا إسحاق بن الحسن
الحرمي حدثنا عفان بن مسلم حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا ابن حصيرة حدثنا القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه
قال: قال ابن مسعود رضي الله عنه كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين
رجلا من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم
على بغلته البيضاء يمضي قدما فحادت بغلته فمال عن السرج فقلت: ارتفع رفعك الله قال " ناولني كفا من
358

التراب " فناولته قال فضرب به وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا قال " أين المهاجرون والأنصار؟ " قلت: هم
هناك قال " اهتف بهم " فهتفت فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب وولى المشركون أدبارهم ورواه الإمام أحمد
في مسنده عن عفان به نحوه وقال الوليد بن مسلم: حدثني عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهزلي عن
عكرمة مولى ابن عباس عن شيبة بن عثمان قال: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري ذكرت أبي وعمي وقتل
علي وحمزة إياهما فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال فذهبت لأجيئه عن يمينه فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب
قائما عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج فقلت: عمه ولن يخذله قال فجئته عن يساره فإذا أنا بأبي
سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فقلت: ابن عمه ولن يخذله فجئته من خلفه فلم يبق إلا أن أسوره سورة
بالسيف إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني فوضعت يدي على بصري ومشيت
القهقرى فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " يا شيبة يا شيبة ادن مني اللهم أذهب عنه الشيطان " قال: فرفعت إليه
بصري ولهو أحب إلي من سمعي وبصري فقال " يا شيبة قاتل الكفار " رواه البيهقي من حديث الوليد فذكره
ثم روي من حديث أيوب بن جابر عن صدقة بن سعيد عن مصعب بن شيبة عن أبيه قال: خرجت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين والله ما أخرجني إسلام ولا معرفة به ولكنني أبيت أن تظهر هوازن على قريش فقلت وأنا
واقف معه: يا رسول الله إني أرى خيلا بلقاء فقال " يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر " فضرب بيده على صدري ثم
قال " اللهم اهد شيبة " ثم ضربها الثانية ثم قال " اللهم اهد شيبة " ثم ضربها الثالثة ثم قال " اللهم اهد شيبة " قال
فوالله ما رفع يده عن صدري في الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله أحب إلي منه وذكر تمام الحديث في التقاء
الناس وانهزام المسلمين ونداء العباس واستنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى هزم الله تعالى المشركين قال محمد بن إسحاق:
حدثني أبي إسحاق بن يسار عمن حدثه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين
والناس يقتتلون إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهوي من السماء حتى وقع بيننا وبين القوم فإذا نمل منثور قد ملا
الوادي فلم يكن إلا هزيمة قوم فما كنا نشك أنها الملائكة وقال سعيد بن السائب بن يسار عن أبيه قال: سمعت
يزيد بن عامر السوائي وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم بعد فكنا نسأله عن الرعب الذي ألقى الله في
قلوب المشركين يوم حنين فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطست فيطن فيقول كنا نجد في أجوافنا مثل هذا
وقد تقدم له شاهد من حديث الفهري يزيد بن أسيد فالله أعلم وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن
عبد الرزاق أنبأنا معمر عن همام قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نصرت بالرعب وأوتيت
جوامع الكلم " ولهذا قال تعالى " ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تراها وعذب
الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين " وقوله " ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم " قد تاب
الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة وذلك بعد الوقعة بقريب من
عشرين يوما فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم فاختاروا سبيهم وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة
فرده عليهم وقسم الأموال بين الغانمين ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الاسلام فأعطاهم مائة من
الإبل وكان من جملة من أعطى مائة مالك بن عوف النضري واستعمله على قومه كما كان فامتدحه بقصيدته التي
يقول فيها:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله * في الناس كلهم بمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى * ومتى يشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة عردت أنيابها * بالسمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله * وسط المباءة خادر في مرصد
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم
359

الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم (28) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون
ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون (29)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين دينا وذاتا بنفي المشركين الذين هم نجس دينا عن المسجد الحرام وأن لا
يقربوه بعد نزول هذه الآية وكان نزولها في سنة تسع ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا صحبة أبي بكر رضي الله
عنهما عامئذ وأمره أن ينادي من المشركين: أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فأتم الله
ذلك وحكم به شرعا وقدرا. وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول
في قوله تعالى " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " إلا أن يكون عبدا أو أحدا من
أهل الذمة. وقد روي مرفوعا من وجه آخر فقال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا شريك عن الأشعث يعني ابن
سوار عن الحسن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يدخل مسجدنا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد
وخدمهم " تفرد به الإمام أحمد مرفوعا والموقوف أصح إسنادا. وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: كتب عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين واتبع نهيه قول الله تعالى " إنما
المشركون نجس " وقال عطاء: الحرم كله مسجد لقوله تعالى " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا "
ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك كما ورد في الصحيح " المؤمن لا ينجس " وأما نجاسة بدنه
فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات لان الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى
نجاسة أبدانهم وقال أشعث عن الحسن: من صافحهم فليتوضأ رواه ابن جرير وقوله " إن خفتم عيلة
فسوف يغنيكم الله من فضله " قال محمد بن إسحاق: وذلك أن الناس قالوا: لتقطعن عنا الأسواق ولتهلكن
التجارة وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق فأنزل الله " وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله " من
وجه غير ذلك " إن شاء " إلى قوله " وهم صاغرون " أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق فعوضهم
الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد
وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك وغيرهم " إن الله عليم " أي بما يصلحكم " حكيم " أي فيما يأمر به
وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب
بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة. وقوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا
يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون " فهم في نفس الامر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد الرسل ولا بما جاءوا به وإنما
يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه لا لأنه شرع الله ودينه لانهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا
صحيحا لقادهم ذلك إلى الايمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لان جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه فلما جاء كفروا به وهو
أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من الله. بل لحظوظهم وأهوائهم فلهذا لا
ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم. ولهذا قال " قاتلوا الذين لا يؤمنون
بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب " وهذه الآية
الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا واستقامت
جزيرة العرب أمر الله رسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى وكان ذلك في سنة تسع ولهذا تجهز
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم فأوعبوا
معه واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين
360

وغيرهم وكان ذلك في عام جدب ووقت قيظ وحر وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل
بها وأقام بها قريبا من عشرين يوما ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس كما
سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الآية الكريمة من يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل
الكتاب أو من أشبههم كالمجوس كما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب
الشافعي وأحمد في المشهور عنه وقال أبو حنيفة رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم سواء كانوا من أهل
الكتاب أو من المشركين ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب. وقال الامام مالك: بل يجوز أن تضرب
الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا
والله أعلم. وقوله " حتى يعطوا الجزية " أي إن لم يسلموا " عن يد " أي عن قهر لهم وغلبة " وهم
صاغرون " أي ذليلون حقيرون مهانون فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء
صغرة أشقياء كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تبدءوا اليهود والنصارى
بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه " ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية
عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام بسم
الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا إنكم لما قدمتم علينا
سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها
ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي منها ما كان خططا للمسلمين وأن لا
نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل وأن ننزل من رأينا
من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا
القرآن ولا نظهر شركا ولا ندعو إليه أحدا ولا نمنع أحدا من ذوي قرابتنا الدخول في الاسلام إن أرادوه وأن نوقر
المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شئ من ملابسهم في قلنسوة ولا عمامة
ولا نعلين ولا فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا
من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقاديم رؤوسنا وأن نلزم زينا حيثما
كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شئ من طرق
المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في
شئ في حضرة المسلمين ولا نخرج شعانين ولا بعوثا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شئ
من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نجاورهم بموتانا ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين وأن نرشد
المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم. قال فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه ولا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا
لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان فإن نحن خالفنا في شئ مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا
فلا ذمة لنا وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق.
وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين
كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون (30) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم
وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون (31)
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من اليهود والنصارى لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على
361

الله تعالى فأما اليهود فقالوا في العزير إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وذكر السدي وغيره أن
الشبهة التي حصلت لهم في ذلك أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي
العزير يبكي على بني إسرائيل وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه فبينما هو ذات يوم إذ مر على جبانة
وإذا امرأة تبكي عند قبر وهي تقول وا مطعماه وا كاسياه فقال لها: ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت الله
قال: فإن الله حي لا يموت قالت: يا عزير فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله قالت: فلم
تبكي عليهم؟ فعرف أنه شئ قد وعظ به ثم قيل له اذهب إلى نهر كذا فاغتسل منه وصل هناك ركعتين فإنك
ستلقى هناك شيخا فما أطعمك فكله فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ فقال له: افتح فمك ففتح فمه
فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة ثلاث مرات فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة فقال يا بني إسرائيل
قد جئتكم بالتوراة فقال يا عزير ما كنت كذابا فعمد فربط على أصبع من أصابعه قلما وكتب التوراة بأصبعه كلها
فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء أخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال
وقابلوه بها فوجدوا ما جاء به صحيحا فقال بعض جهلتهم إنما صنع هذا لأنه ابن الله وأما ضلال النصارى في
المسيح فظاهر، ولهذا كذب الله سبحانه الطائفتين فقال " ذلك قولهم بأفواههم " أي لا مستند لهم فيما ادعوه
سوى افترائهم واختلافهم " يضاهئون " أي يشابهون " قول الذين كفروا من قبل " أي من قبلهم من الأمم ضلوا
كما ضل هؤلاء " قاتلهم الله " قال ابن عباس: لعنهم الله " أني يؤفكون " أي كيف يضلون عن الحق وهو
ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟ وقوله " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " روى
الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر
إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها
فرجعت إلى أخيها فرغبته في الاسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه
طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وفي عنق عدي صليب من فضة وهو يقرأ هذه الآية " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " قال: فقلت
إنهم لم يعبدوهم فقال " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم " وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرك أيضرك أن
يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله؟ ثم دعاه إلى الاسلام فأسلم وشهد شهادة الحق قال: فلقد رأيت
وجهه استبشر ثم قال " إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون " وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن
عباس وغيرهما في تفسير " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا
وقال السدي استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ولهذا قال تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا إلها
واحدا " أي الذي إذا حرم الشئ فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع وما حكم به نفذ " لا إله إلا هو
ولا رب سواه.
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون (32) هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون (33)
يقول تعالى يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب " أن يطفئوا نور الله " أي ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور
القمر بنفخه وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يتم ويظهر ولهذا قال تعالى مقابلا لهم
362

فيما راموه وأرادوه " ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون " والكافر هو الذي يستر الشئ ويغطيه ومنه سمى
الليل كافرا لأنه يستر الأشياء والزارع كافرا لأنه يغطى الحب في الأرض كما قال " يعجب الكفار نباته " ثم قال
تعالى " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق " فالهدى هو ما جاء به من الاخبارات الصادقة والايمان
الصحيح والعلم النافع ودين الحق هو الأعمال الصالحة الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة " ليظهره على الدين
كله " أي على سائر الأديان كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنه قال " إن الله
زوى لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ". وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن
جعفر حدثنا شعبة عن محمد بن أبي يعقوب سمعت شقيق بن حيان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن
مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله صلى الله تعالى
عليه وآله وسلم يقول " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى
الأمانة ". وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا سليم بن عامر عن تميم الداري رضي الله
عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ليبلغن هذا الامر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا
أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا عزا يعز الله به الاسلام وذلا يذل الله به الكفر " فكان تميم الداري
يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ولقد أصاب من كان كافرا
منهم الذل والصغار والجزية.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم حدثني ابن جابر سمعت سليم بن عامر قال:
سمعت المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا
دخلته كلمة الاسلام يعز عزيزا ويذل ذليلا إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها وإما يذلهم فيدينون لها " وفي
المسند أيضا حدثنا محمد بن أبي عدي عن ابن عون عن ابن سيرين عن أبي حذيفة عن عدي بن حاتم سمعه
يقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا عدي أسلم تسلم " فقلت إني من أهل دين قال " أنا أعلم بدينك
منك " فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال " نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مرباع قومك؟ " قلت بلى! قال
" فإن هذا لا يحل لك في دينك " قال فلم يعد أن قالها فتواضعت لها قال " أما إني أعلم ما الذي يمنعك من
الاسلام تقول إنما اتبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له وقد رمتهم العرب أتعرف الحيرة؟ " قلت لم أرها وقد
سمعت بها قال " فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من
غير جوار أحد ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " قلت كسرى بن هرمز؟ قال " نعم كسرى بن هرمز وليبذلن المال
حتى لا يقبله أحد " قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ولقد كنت
فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. وقال مسلم:
حدثنا أبو معن زيد بن يزيد الرقاشي حدثنا خالد بن الحارث حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن الأسود بن العلاء عن
أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات
والعزى " فقلت يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عز وجل " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق "
الآية أن ذلك تام قال " إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ثم يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى كل من كان
في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه فيرجعون إلى دين آبائهم ".
* يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل
الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (34) يوم يحمى عليها في نار
جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون (35)
363

قال السدي الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى وهو كما قال فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى
" لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الاثم وأكلهم السحت " والرهبان عباد النصارى والقسيسون علماؤهم
كما قال تعالى " ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا " والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال
سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى
وفي الحديث الصحيح " لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " قالوا اليهود والنصارى؟ قال فمن؟
وفي رواية فارس والروم؟ قال " فمن الناس إلا هؤلاء؟ " والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم
وأحوالهم ولهذا قال تعالى " ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله " وذلك أنهم يأكلون الدنيا
بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ولهم
عندهم خرج وهدايا وضرائب تجئ إليهم فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا
منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة وسلبهم إياها وعوضهم والذل الصغار وباؤا بغضب من الله
تعالى. وقوله تعالى " ويصدون عن سبيل الله " أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق
ويلبسون الحق بالباطل ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعونه إلى الخير وليسوا كما يزعمون بل هم دعاة
إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون. وقوله " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله " الآية
هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال فإذا
فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك.
وهل أفسد الدين إلا الملوك * وأحبار سوء ورهبانها
وأما الكنز فقال مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: هو المال الذي لا تؤدى زكاته وروى الثوري وغيره
عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا
تؤدى زكاته فهو كنز وقد روي هذا عن ابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وقال عمر بن الخطاب
نحوه أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به
صاحبه وإن كان على وجه الأرض. وروى البخاري من حديث الزهري عن خالد بن أسلم قال: خرجنا مع
عبد الله بن عمر قال: هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال وكذا قال عمر بن عبد العزيز
وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى " خذ من أموالهم صدقة " الآية. وقال سعيد بن محمد بن زياد عن أبي أمامة
أنه قال: حلية السيوف من الكنز. ما أحدثكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الثوري عن أبي حصين عن
أبي الضحى عن جعدة بن هبيرة عن علي رضي الله عنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك
فهو كنز وهذا غريب. وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منها أحاديث كثيرة ولنورد منها
هنا طرفا يدل على الباقي قال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري أخبرني أبو حصين عن أبي الضحى عن جعدة بن
هبيرة عن علي رضي الله عنه في قوله " والذين يكنزون الذهب والفضة " الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم " تبا للذهب تبا
للفضة " يقولها ثلاثا قال فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا فأي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله
عنه: أنا أعلم لكم ذلك فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا فأي المال نتخذ قال " لسانا
ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه ".
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبي محمد بن جعفر حدثنا شعبة
حدثني سالم بن عبد الله أخبرنا عبد الله بن أبي الهذيل حدثني صاحب لي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال " تبا للذهب والفضة " قال وحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله قولك " تبا
للذهب والفضة " ماذا ندخر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وزوجة تعين على الآخرة ". "
364

حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد
عن ثوبان قال: لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا فأي المال نتخذ؟ قال عمر فأنا أعلم لكم ذلك. فأوضع
على بعير فأدركه وأنا في أثره فقال: يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال " قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين
أحدكم على أمر الآخرة " ورواه الترمذي وابن ماجة من غير وجه عن سالم بن أبي الجعد. وقال الترمذي حسن
وحكى عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان قلت: ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم.
" حديث آخر " قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا حميد بن مالك حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي حدثنا أبي
حدثنا غيلان بن جامع المحاربي عن عثمان بن أبي اليقظان عن جعفر بن أبي إياس عن مجاهد عن ابن عباس
قال: لما نزلت هذه الآية " والذين يكنزون الذهب والفضة " الآية كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع
أحد منا يدع لولده ما لا يبقى بعده فقال عمر: أنا أفرج عنكم فانطلق عمر واتبعه ثوبان فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله لم يفرض
الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم " قال فكبر عمر ثم قال له
النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب
عنها حفظته " ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى به وقال الحاكم
صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي
الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه ائتنا بالسفرة نعبث بها فأنكرت عليه فقال ما تكلمت بكلمة منذ
أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات اللهم إني أسألك الثبات في الامر والعزيمة على
الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من
خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب ".
وقوله تعالى " يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا
ما كنتم تكنزون " أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتا وتقريعا وتهكما كما في قوله " ثم صبوا فوق رأسه من عذاب
الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم " أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ولهذا يقال من أحب
شيئا وقدمه على طاعة الله عذب به وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عندهم عذبوا بها كما
كان أبو لهب لعنه الله جاهدا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأته تعينه في ذلك كانت يوم القيامة عونا على عذابه أيضا
في جيدها أي عنقها حبل من مسد أي تجمع من الحطب في النار وتلقي عليه ليكون ذلك أبلغ في عذابه ممن هو
أشفق عليه في الدنيا كما أن هذه الأموال لما كانت أعز الأموال على أربابها كانت أضر الأشياء عليهم في الدار
الآخرة فيحمى عليها في نار جهنم وناهيك بحرها فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. قال سفيان عن
الأعمش عن عبد الله بن عمر بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود: والذي لا إله غيره لا يكوى عبد يكنز
فيمس دينار دينارا ولا درهم درهما ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته وقد رواه ابن مردويه
عن أبي هريرة مرفوعا ولا يصح رفعه والله أعلم.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعا يتبع
صاحبه وهو يفر منه ويقول: أنا كنزك لا يدرك منه شيئا إلا أخذه. وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا بشر
حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يقول " من ترك بعده كنزا مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يتبعه ويقول ويلك ما أنت؟ فيقول أنا
365

كنزك الذي تركته بعدك ولا يزال يتبعه حتى يلقمه يده فيقضمها ثم يتبعها سائر جسده " ورواه ابن حبان في
صحيحه من حديث يزيد عن سعيد به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين من رواية أبي الزناد عن الأعرج عن
أبي هريرة رضي الله وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته
وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "
وذكر تمام الحديث وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن حصين عن زيد بن
وهب قال: مررت على أبي ذر بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت " والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا في أهل
الكتاب قال: قلت إنها لفينا وفيهم. ورواه ابن جرير من حديث عبيد بن القاسم عن حصين عن زيد بن وهب
عن أبي ذر رضي الله عنه فذكره وزاد فارتفع في ذلك بيني وبينه القول فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي
عثمان أن أقبل إليه قال فأقبلت إليه فلما قدمت المدينة ركبني الناس كأنهم لم يروني قبل يومئذ فشكوت ذلك
إلى عثمان فقال لي: تنح قريبا قلت والله ما أدع ما كنت أقول " قلت " كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه
تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال وكان يفتي بذلك ويحثهم عليه ويأمرهم به ويغلظ في خلافه فنهاه معاوية فلم
ينته فخشى أن يضر بالناس في هذا فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان وأن يأخذه إليه فاستقدمه عثمان إلى
المدينة وأنزله بالربذة وحده وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده
هل يوافق عمله قوله فبعث إليه بألف دينار ففرقها من يومه ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال أن معاوية إنما بعثني
إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب فقال ويحك إنها خرجت ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به وهكذا روى
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها عامة وقال السدي هي في أهل القبلة وقال الأحنف بن قيس قدمت
المدينة فبينما أنا في حلقة فيها ملا من قريش إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه فقام عليهم
فقال: بشر الكنازين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض
كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه يتزلزل قال فوضع القوم رؤوسهم فما رأيت أحدا منهم
رجع إليه شيئا قال وأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال إن
هؤلاء لا يعلمون شيئا. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا يمر علي
ثلاثة أيام وعندي منه شئ إلا دينار أرصده لدين " فهذا والله أعلم هو الذي حدا بأبي ذر على القول بهذا.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت رضي
الله عنه أنه كان مع أبي ذر فخرج عطاؤه ومعه جارية فجعلت تقضي حوائجه ففضلت معها سبعة فأمرها أن تشتري
به فلوسا. قال قلت لو ادخرته لحاجة بيوتك وللضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد إلي أن أيما ذهب أو فضة
أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله عز وجل. ورواه عن يزيد عن همام به وزاد إفراغا.
وقال الحافظ ابن عساكر بسنده إلى أبي بكر الشبلي في ترجمته عن محمد بن مهدي: حدثنا عمر بن أبي سلمة
عن صدقة بن عبد الله عن طلحة بن زيد عن أبي فروة الرهاوي عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا " قال: يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال " ما سألت فلا تمنع وما
رزقت فلا تخبئ " قال: يا رسول الله كيف لي بذلك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو ذاك وإلا فالنار " إسناده ضعيف.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا عيينة عن يزيد بن الصرم قال: سمعت عليا رضي
الله عنه يقول: مات رجل من أهل الصفة وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" كيتان صلوا على صاحبكم " وقد روي هذا من طرق أخر وقال قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة
366

صدى بن عجلان قال مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كية " ثم توفي رجل
آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كيتان " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو النضر
إسحاق بن إبراهيم الفراديسي حدثنا معاوية بن يحيى الأطرابلسي حدثني أرطاة حدثنا أبو عامر الهوزني سمعت
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلا جعل الله بكل قيراط صفحة من نار
يكوى بها من قدمه إلى ذقنه " وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سيف بن محمد الثوري
حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يوضع الدينار على
الدينار، ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع جلده فيكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم
لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " سيف هذا كذاب متروك.
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين
القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين (36)
قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل أخبرنا أيوب أخبرنا محمد بن سيرين عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في
حجته فقال " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة
حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان " ثم قال " أي يوم
هذا؟ " قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال " أليس يوم النحر؟ " قلنا بلى
ثم قال " أي شهر هذا؟ " قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال " أليس ذا
الحجة؟ " قلنا بلى ثم قال " أي بلد هذا؟ " قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه
قال " أليست البلدة؟ " قلنا بلى قال " فإن دماءكم وأموالكم - وأحسبه قال - وأعراضكم عليكم حرام كحرمة
يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلالا
يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب فلعل من يبلغه يكون أوعى له من
بعض من سمعه " رواه البخاري في التفسير وغيره. ومسلم من حديث أيوب عن محمد وهو ابن سيرين عن
عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه به وقد قال ابن جرير: حدثنا معمر حدثنا روح حدثنا أشعث عن محمد بن
سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن
عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات - ذو
القعدة وذو الحجة والمحرم - ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " ورواه البزار عن محمد بن معمر به. ثم قال
لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه وقد رواه ابن عون وقرة عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة
عن أبيه وقال ابن جرير أيضا: حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي حدثنا زيد بن حباب حدثنا موسى بن
عبيدة الربذي حدثني صدقة بن يسار عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط
أيام التشريق فقال " أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة
والمحرم " وروى ابن مردويه من حديث موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مثله أو نحوه وقال
حماد بن سلمة حدثني علي بن زيد عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه وكانت له صحبة قال: كنت آخذا بزمام ناقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق أذود الناس عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن الزمان قد استدار كهيئه يوم خلق
الله السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها
أربعة حرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم " وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن
367

عباس في قوله " منها أربعة حرم " قال محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة وقوله صلى الله عليه وسلم في
الحديث " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه
وتثبيت للامر على ما جعله الله في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص ولا نسئ ولا تبديل
كما قال في تحريم مكة " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم
القيامة " وهكذا قال ههنا " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أي الامر
اليوم شرعا كما ابتدع الله ذلك في كتابه يوم خلق السماوات والأرض وقد قال بعض المفسرين
والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله " قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أنه اتفق أن
حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة وأن العرب قد كانت نسأت النسئ يحجون في كثير من السنين
بل أكثرها في غير ذي الحجة وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة وفي هذا نظر كما سنبينه
إذا تكلمنا على النسئ وأغرب منه ما رواه الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق حج المسلمين
واليهود والنصارى في يوم واحد وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم. " فصل " ذكر الشيخ علم الدين
السخاوي في جزء جمعه سماه " المشهور في أسماء الأيام والشهور " أن المحرم سمي بذلك لكونه شهرا محرما
وعندي أنه سمي بذلك تأكيدا لتحريمه لان العرب كانت تتقلب به فتحله عاما وتحرمه عاما قال ويجمع على
محرمات ومحارم ومحاريم وصفر سمي بذلك لخلو بيوتهم منهم حين يخرجون للقتال والاسفار يقال صفر
المكان إذا خلا ويجمع على أصفار كجمل وأجمال وشهر ربيع الأول سمي بذلك لارتباعهم فيه والارتباع
الإقامة في عمارة الربع ويجمع على أربعاء كنصيب وأنصباء وعلى أربعة كرغيف وأرغفة وربيع الآخر كالأول
وجمادي سمي بذلك لجمود الماء فيه قال: وكانت الشهور في حسابهم لا تدور وفي هذا نظر إذ كانت
شهورهم منوطة بالأهلة فلابد من دورانها فلعلهم سموه بذلك أول ما سمي عند جمود الماء في البرد كما قال
الشاعر:
وليلة من جمادي ذات أندية * لا يبصر العبد في ظلمائها الطنبا
لا ينبح الكلب فيها غير واحدة * حتى يلف على خرطومه الذنبا
ويجمع على جماديات كحبارى وحباريات وقد يذكر ويؤنث فيقال جمادي الأولى والأول وجمادي الآخر والآخرة
رجب من الترجيب وهو التعظيم ويجمع على أرجاب ورجاب ورجبات، شعبان من تشعب القبائل وتفرقها للغارة
ويجمع على شعابين وشعابات، رمضان من شدة الرمضاء وهو الحر يقال رمضت الفصال إذا عطشت ويجمع على
رمضانات ورماضين وأرمضة قال: وقول من قال أنه اسم من أسماء الله خطأ لا يعرج عليه ولا يلتفت إليه
قلت: قد ورد في حديث ولكنه ضعيف وبينته في أول كتاب الصيام وشوال من شالت الإبل بأذنابها للطراق
قال، ويجمع على شواول وشواويل وشوالات القعدة بفتح القاف - قلت وكسرها - لقعودهم فيه عن القتال
والترحال ويجمع على ذوات القعدة الحجة بكسر الحاء - قلت وفتحها - سمي بذلك لايقاعهم الحج فيه ويجمع
على ذوات الحجة أسماء الأيام أولها الاحد ويجمع على آحاد وأوحاد ووحود ثم يوم الاثنين ويجمع على
أثانين الثلاثاء يمد ويذكر ويؤنث ويجمع على ثلاثاوات وأثالث ثم الأربعاء بالمد ويجمع على أربعاوات
وأرابيع والخميس يجمع على أخمسة وأخامس ثم الجمعة بضم الميم وإسكانها وفتحها أيضا ويجمع على
جمع وجماعات السبت مأخوذ من السبت وهو القطع لانتهاء العدد عنده وكانت العرب تسمى الأيام أول ثم أهون
ثم جبار ثم دبار ثم مؤنس ثم العروبة ثم شيار قال الشاعر: من العرب العرباء العاربة المتقدمين:
أرجى أن أعيش وإن يومي * بأول أو بأهون أو جبار
أو التالي دبار فإن أفته * فمؤنس أو عروبة أو شيار
368

وقوله تعالى " منها أربعة حرم " فهذا مما كانت العرب أيضا في الجاهلية تحرمه وهو الذي كان عليه جمهورهم
إلا طائفة منهم يقال لهم البسل كانوا يحرمون من السنة ثمانية أشهر تعمقا وتشديدا وأما قوله " ثلاثة متواليات ذو
القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في
رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان
وشوال وهو رمضان اليوم فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة وإنما كانت الأشهر المحرمة
أربعة ثلاثة سرد وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل أشهر الحج شهرا وهو ذو القعدة لانهم
يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذي الحجة لانهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك وحرم بعده شهرا
آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار
به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنا وقوله " ذلك الدين القيم " أي هذا
هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذو بها على ما سبق من كتاب الله الأول
قال تعالى " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الاثم من غيرها كما أن
المعاصي في البلد الحرام تضاعف لقوله تعالى " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " وكذلك الشهر
الحرام تغلظ فيه الآثام ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء وكذا في حق من
قتل في الحرم أو قتل ذا محرم وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس في
قوله " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " قال في الشهور كلها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " إن عدة
الشهور عند الله " الآية فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظم
حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والاجر أعظم وقال قتادة في قوله " فلا تظلموا فيهن
أنفسكم " إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال
عظيما ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء وقال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه اصطفى من الملائكة رسلا ومن
الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكره واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر
الحرم واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله. فإنما تعظيم الأمور بما
عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل وقال الثوري عن قيس بن مسلم عن الحسن عن محمد بن الحنفية
بأن لا تحرموهن كحرمتهن وقال محمد بن إسحاق " فلا تظلموا فيهن أنفسكم " أي لا تجعلوا حرامها حلالا
ولا حلالها حراما كما فعل أهل الشرك فإنما النسئ الذي كانوا يصنعون من ذلك زيادة في الكفر " يضل به الذين
كفروا " الآية وهذا القول اختيار ابن جرير. وقوله " وقاتلوا المشركين كافة " أي جميعكم " كما يقاتلونكم
كافة " أي جميعهم " واعلموا أن الله مع المتقين " وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام
هل هو منسوخ أو محكم على قولين " أحدهما " وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال ههنا " فلا تظلموا فيهن
أنفسكم " وأمر بقتال المشركين وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمرا عاما ولو كان محرما في الشهر الحرام
لاوشك أن يقيده بانسلاخها ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة كما ثبت في
الصحيحين أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ورجع فلهم لجؤا إلى الطائف فعمد إلى
الطائف فحاصرهم أربعين يوما وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام والقول الآخر أن ابتداء
القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر
الله ولا الشهر الحرام " وقال " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم " الآية وقال " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين " الآية وقد تقدم أنها الأربعة
المقررة في كل سنة لا أشهر التسيير على أحد القولين. وأما قوله تعالى " وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم
كافة " فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض أي كما يجتمعون
369

لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ويحتمل أنه أذن
للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم كما قال تعالى " الشهر الحرام بالشهر الحرام
والحرمات قصاص " وقال تعالى " ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فان قاتلوكم فاقتلوهم "
الآية. وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام فإنه
من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال
فعندما قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من
المسلمين وقتلوا جماعة واستمر الحصار بالمجانيق وغيرها قريبا من أربعين يوما وكان ابتداؤه في شهر حلال
ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء وهذا أمر مقرر
وله نظائر كثيرة والله أعلم ولنذكر الأحاديث الواردة في ذلك (1). وقد حررنا ذلك في السيرة والله أعلم.
إنما النسئ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا
ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين (37)
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم
الباردة وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامية والحمية ما
استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم فكانوا قد أحدثوا قبل
الاسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر فيحلون الشهر الحرام ويحرمون الشهر الحلال ليواطئوا عدة ما حرم
الله الأشهر الأربعة كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان:
لقد علمت معد بأن قومي * كرام الناس أن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد * شهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر * وأي الناس لم نعلك لجاما
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إنما النسئ زيادة في الكفر " قال النسئ: أن جنادة بن
عوف بن أمية الكناني كان يوافي الموسم في كل عام وكان يكنى أبا ثمامة فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يجاب ولا
يعاب ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس فيحرم صفرا عاما ويحرم المحرم عاما فذلك قول الله
" إنما النسئ زيادة في الكفر " يقول يتركون المحرم عاما وعاما يحرمونه وروى العوفي عن ابن عباس نحوه
وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول أيها
الناس: إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجئ العام المقبل
بعده فيقول مثل مقالته ويقول إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم فهو قوله " ليواطئوا عدة ما حرم الله " قال: يعني
الأربعة فيحلوا ما حرم الله بتأخير هذا الشهر الحرام وروى عن أبي وائل والضحاك وقتادة نحو هذا وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " إنما النسئ زيادة في الكفر " الآية. قال هذا رجل من بني كنانة يقال له
القلمس وكان في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام يلقى الرجل قاتل أبيه
ولا يمد إليه يده فلما كان هو قال اخرجوا بنا قالوا له هذا المحرم قال ننسأه العام هما العام صفران فإذا كان
العام القابل قضينا جعلناهما محرمين قال ففعل ذلك فلما كان عام قابل قال لا تغزوا في صفر حرموه مع المحرم

(1) لم يذكر المصنف رحمه الله الأحاديث التي وعد بها فتدبر.
370

هما محرمان فهذه صفة غريبة في النسئ وفيها نظر لانهم في عام إنما يحرمون على هذا ثلاثة أشهر فقط وفي
العام الذي يليه يحرمون خمسة أشهر فأين هذا من قوله تعالى " يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم
الله " وقد روي عن مجاهد صفة أخرى غريبة أيضا فقال عبد الرزاق: أنا معمر عن أبي نجيح عن مجاهد في
قوله تعالى " إنما النسئ زيادة في الكفر " الآية قال فرض الله عز وجل الحج في ذي الحجة قال: وكان
المشركون يسمون ذا الحجة المحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوالا
وذا القعدة وذا الحجة يحجون فيه مرة أخرى ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفرا ثم
يسمون رجب جمادى الآخر ثم يسمون شعبان رمضان ثم يسمون شوالا رمضان ثم يسمون ذا القعدة
شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة فيحجون فيه واسمه عندهم ذو الحجة ثم
عادوا بمثل هذه الصفة فكانوا يحجون في كل شهر عامين حتى إذا وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي
القعدة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجته التي حج فوافق ذا الحجة فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته " إن الزمان قد
استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " وهذا الذي قاله مجاهد فيه نظر أيضا وكيف تصح حجة أبي بكر
وقد وقعت في ذي القعدة وأنى هذا؟ وقد قال الله تعالى " وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن
الله برئ من المشركين ورسوله " الآية وإنما نودي به في حجة أبي بكر فلو لم تكن في ذي الحجة لما قال
تعالى " يوم الحج الأكبر " ولا يلزم من فعلهم النسئ هذا الذي ذكره من دوران السنة عليهم وحجهم في كل
شهر عامين فإن النسئ حاصل بدون هذا فإنهم لما كانوا يحلون شهر المحرم عاما يحرمون عوضه صفرا وبعده
ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ثم في السنة الثانية يحرمون المحرم ويتركونه
على تحريمه وبعده صفر وربيع وربيع إلى آخرها " فيحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما
حرم الله " أي في تحريم أربعة أشهر من السنة إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو
المحرم وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم " إن الزمان قد
استدار " الحديث أي إن الامر في عدة الشهور وتحريم ما هو محرم منها على ما سبق في كتاب الله من العدد
والتوالي لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسئ عن بعض والله أعلم وقال ابن أبي
حاتم: حدثنا صالح بن بشر بن سلمة الطبراني حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار
عن ابن عمر أنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة اجتمع إليه من شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما
هو له أهل ثم قال " وإنما النسئ من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما "
فكانوا يحرمون المحرم عاما ويستحلون صفر ويستحلون المحرم وهو النسئ " وقد تكلم الإمام محمد بن إسحاق
على هذا في كتاب السيرة كلاما جيدا مفيدا حسنا فقال: كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم
الله وحرم منها ما أحل الله عز وجل القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن
مالك بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد
ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ثم ابنه أمية بن قلع ثم ابنه عوف بن أمية ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف وكان
آخرهم وعليه قام الاسلام فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه فقام فيهم خطيبا فحرم رجبا وذا القعدة
وذا الحجة ويحل المحرم عاما ويجعل مكانه صفر ويحرمه عاما ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله يعني
ويحرم ما أحل الله. والله أعلم.
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من
الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل (38) إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم
371

ولا تضروه شيئا والله على كل شئ قدير (39)
هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة
القيظ فقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله " أي إذا دعيتم إلى الجهاد في
سبيل الله " اثاقلتم في الأرض " أي تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار " أرضيتم
بالحياة الدنيا من الآخرة " أي ما لكم فعلتم هكذا رضا منكم بالدنيا بدلا من الآخرة ثم زهد تبارك وتعالى في
الدنيا. ورغب في الآخرة فقال " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " كما قال الإمام أحمد: حدثنا
وكيع ويحيى بن سعيد قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بما ترجع؟ " وأشار
بالسبابة انفرد بإخراجه مسلم. وروى ابن أبي حاتم حدثنا بشر بن مسلم بن عبد الحميد الحمصي بحمص
حدثنا الربيع بن روح حدثنا محمد بن خالد الوهبي حدثنا زياد يعني الجصاص عن أبي عثمان قال: قلت يا أبا
هريرة سمعت من إخواني بالبصرة أنك تقول سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة "
قال أبو هريرة: بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة " ثم تلا هذه الآية " فما
متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " فالدنيا ما مضى منها وما بقى منها عند الله قليل. وقال الثوري عن
الأعمش في الآية " فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل " قال كزاد الراكب وقال عبد العزيز بن أبي حازم
عن أبيه لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه فلما وضع بين
يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول أف لك من دار
إن كان كثير لقليل وإن كان قليلك لقصير وإن كنا منك لفي غرور. ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال
" إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله
عنهم القطر فكان عذابهم " ويستبدل قوما غيركم " أي لنصرة نبيه وإقامة دينه كما قال تعالى " وإن تتولوا يستبدل
قوما غيركم * ثم لا يكونوا أمثالكم " " ولا تضروه شيئا " أي ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد
ونكولكم وتثاقلكم عنه " والله على كل شئ قدير " أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم وقد قيل إن هذه
الآية وقوله " انفروا خفافا وثقالا " وقوله " وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن
رسول الله " أنهن منسوخات بقوله تعالى " وما كانوا المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة "
روى هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن وزيد بن أسلم ورده ابن جرير وقال إنما هذا فيمن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى الجهاد فتعين عليهم ذلك فلو تركوه لعوقبوا عليه وهذا له اتجاه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله
معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا
والله عزيز حكيم (40)
يقول تعالى " إلا تنصروه " أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه كما تولى نصره " إذ أخرجه
الذين كفروا ثاني اثنين " أي عام الهجرة لما هم المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه فخرج منهم هاربا صحبة صديقه
وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم
يسيروا نحو المدينة فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام
منهم أذى فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " كما قال الإمام أحمد:
372

حدثنا عفان حدثنا همام أنبأنا ثابت عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أن أحدهم
نظر إلى قدميه لابصرنا تحت قدميه قال: فقال " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " أخرجاه في الصحيحين
ولهذا قال تعالى " فأنزل الله سكينته عليه " أي تأييده ونصره عليه أي على الرسول صلى الله عليه وسلم في أشهر القولين
وقيل على أبي بكر وروي عن ابن عباس وغيره قالوا: لان الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة وهذا لا ينافي تجدد
سكينة خاصة بتلك الحال ولهذا قال " وأيده بجنود لم تروها " أي الملائكة " وجعل كلمة الذين كفروا السفلى
وكلمة الله هي العليا " قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا الشرك وكلمة الله هي لا إله إلا الله. وفي
الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل
حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " وقوله
" والله عزيز " أي في انتقامه وانتصاره منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه واحتمى بالتمسك بخطابه
" حكيم " في أقواله وأفعاله.
انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (41)
قال سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى مسلم بن صبيح: هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا " أول ما نزل من
سورة براءة وقال معتمر بن سليمان عن أبيه قال: زعم حضرمي أنه ذكر له أن ناسا كانوا عسى أن يكون أحدهم
عليا وكبيرا فيقول إني لا آثم فأنزل الله " انفروا خفافا وثقالا " الآية أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب وحتم على المؤمنين
في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر فقال " انفروا خفافا وثقالا " وقال علي بن زيد
عن أنس عن أبي طلحة: كهولا وشبانا ما سمع الله عذر أحد ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل وفي رواية قرأ
أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية " انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله "
فقال: أرى ربنا استنفرنا شيوخا وشبانا جهزوني يا بني فقال بنوه: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم حتى مات ومع أبي بكر حتى مات ومع عمر حتى مات فنحن نغزو عنك فأبى فركب البحر
فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام فلم يتغير فدفنوه فيها وهكذا روي عن ابن عباس وعكرمة
وأبي صالح والحسن البصري وسهيل بن عطية ومقاتل بن حيان والشعبي وزيد بن أسلم أنهم قالوا في تفسير هذه
الآية " انفروا خفافا وثقالا " كهولا وشبانا. وكذا قال عكرمة والضحاك ومقاتل بن حيان وغير واحد وقال
مجاهد: شبانا وشيوخا وأغنياء ومساكين وكذا قال أبو صالح وغيره قال الحكم بن عتيبة: مشاغيل وغير
مشاغيل وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى " انفروا خفافا وثقالا " يقول انفروا نشاطا وغير نشاط
وكذا قال قتادة وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " انفروا خفافا وثقالا " قالوا: فإن فينا الثقيل وذو الحاجة والضيعة
والشغل والمتيسر به أمره فأنزل الله وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا " خفافا وثقالا " أي على ما كان منهم. وقال
الحسن بن أبي الحسن البصري أيضا في العسر واليسر وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية وهذا اختيار ابن
جرير.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافا وركبانا وإذا كان النفير إلى
هذه السواحل نفروا إليها خفافا وثقالا وركبانا ومشاة وهذا تفصيل في المسألة وقد روي عن ابن عباس
ومحمد بن كعب وعطاء الخراساني وغيرهم أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى " فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة " وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله وقال السدي قوله " انفروا خفافا وثقالا " يقول غنيا وفقيرا وقويا
وضعيفا فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيما سمينا فشكى إليه وسأله أن يأذن له فأبى فنزلت يومئذ
" انفروا خفافا وثقالا " فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس فنسخها الله تعالى " ليس على الضعفاء ولا على
373

المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله " وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا
ابن علية حدثنا أيوب عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا ثم لم يتخلف عن غزاة للمسلمين إلا
عاما واحدا قال وكان أبو أيوب يقول: قال الله تعالى " انفروا خفافا وثقالا " فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا.
وقال ابن جرير: حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة حدثني أبو
راشد الحراني قال: وافيت المقدام بن الأسود فارس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا على تابوت من
توابيت الصيارفة بحمص وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو فقلت له قد أعذر الله إليك فقال أتت علينا سورة
البعوث " انفروا خفافا وثقالا " وقال ابن جرير: حدثني حيان بن زيد الشرعبي قال: نفرنا مع صفوان بن عمرو
وكان واليا على حمص قبل الافسوس إلى الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هما قد سقط حاجباه على عينيه من أهل
دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت يا عم لقد أعذر الله إليك قال: فرفع حاجبيه فقال يا بن أخي
استنفرنا الله خفافا وثقالا ألا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه وإنما يبتلي الله من عبادة من شكر وصبر
وذكر ولم يعبد إلا الله عز وجل. ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله فقال
" وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة
لأنكم تغرمون في النفقة قليلا فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم " تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة "
ولهذا قال الله تعالى " كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي عدي
عن حميد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل " أسلم " قال أجدني كارها قال " أسلم
ولو كنت كارها ".
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم
يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42)
يقول تعالى موبخا للذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقعدوا بعد ما استأذنوه في ذلك مظهرين أنهم ذوو
أعذار ولم يكونوا كذلك فقال " لو كان عرضا قريبا " قال ابن عباس: غنيمة قريبة " وسفرا قاصدا " أي قريبا
أيضا " لاتبعوك " أي لكانوا جاءوا معك لذلك " ولكن بعدت عليهم الشقة " أي المسافة إلى الشام
" وسيحلفون بالله " أي لكم إذا رجعتم إليهم " لو استطعنا لخرجنا معكم " أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا
معكم. قال الله تعالى " يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ".
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43) لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله
واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44) إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله
واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون (45)
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو حصين بن سليمان الرازي حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن عون
قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ نداء بالعفو قبل المعاتبة فقال " عفا الله عنك لم أذنت لهم " وكذا
قال مورق العجلي وغيره. وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور فرخص له في أن يأذن
374

لهم إن شاء فقال " فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فائذن لمن شئت منهم " الآية. وكذا روي عن عطاء
الخراساني وقال مجاهد نزلت هذه الآية في أناس قالوا استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن
لكم فاقعدوا ولهذا قال تعالى " حتى يتبين لك الذين صدقوا " أي في إبداء الاعذار " وتعلم الكاذبين " يقول
تعالى هلا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لاحد منهم في القعود لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب
فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه. ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن
الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال " لا يستأذنك " أي في القعود عن الغزو ". الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر
أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم " لانهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا " والله عليم بالمتقين *
إنما يستأذنك " أي في القعود ممن لا عذر له " الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر " أي لا يرجون ثواب الله في
الدار الآخرة على أعمالهم " وارتابت قلوبهم " أي شكت في صحة ما جئتهم به " فهم في ريبهم يترددون " أي
يتحيرون يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شئ فهم قوم حيارى هلكى لا إلى هؤلاء ولا
إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
* ولو أرادوا الخروج لاعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين (46) لو
خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم
بالظالمين (47)
يقول تعالى " ولو أرادوا الخروج " أي معك إلى الغزو " لاعدوا له عدة " أي لكانوا تأهبوا له " ولكن كره الله
انبعاثهم " أي أبغض أن يخرجوا معكم قدرا " فثبطهم " أي أخرهم " وقيل اقعدوا مع القاعدين " أي قدرا ثم
بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " أي لانهم جبناء
مخذولون " ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة " أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة
" وفيكم سماعون لهم " أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون
حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير. وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير " وفيكم سماعون
لهم " أي عيون يسمعون لهم الاخبار وينقلونها إليهم. وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم بل هذا عام
في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين. وقال محمد بن
إسحاق كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس وكانوا أشرافا
في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما
يدعونهم إليه لشرفهم فيهم فقال " وفيكم سماعون لهم " ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال " والله عليم
بالظالمين " فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ولهذا قال تعالى " لو خرجوا
فيكم ما زادوكم إلا خبالا " فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا كما قال تعالى " ولو ردوا
لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " وقال تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم
معرضون " وقال تعالى " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو
أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا * وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما * ولهديناهم صراطا
مستقيما " والآيات في هذا كثيرة.
لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون (48)
يقول تعالى محرضا لنبيه عليه السلام على المنافقين " لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور " أي لقد أعملوا
375

فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم
المدينة رمته العرب عن قوس واحدة وحاربته يهود المدينة ومنافقوها فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته قال
عبد الله بن أبي وأصحابه هذا أمر قد توجه فدخلوا في الاسلام ظاهرا ثم كلما أعز الله الاسلام وأهله غاظهم ذلك
وساءهم ولهذا قال تعالى " حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ".
ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (49)
يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد " ائذن لي " في القعود " ولا تفتني " بالخروج معك بسبب
الجواري من نساء الروم. قال الله تعالى " ألا في الفتنة سقطوا " أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا كما قال
محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة هل لك يا جد العام
في جلاد بني الأصفر؟ فقال يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرفت قومي ما رجل أشد عجبا
بالنساء مني وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " قد
أذنت لك " ففي الجد بن قيس نزلت هذه " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني " الآية أي إن كان إنما يخشى
من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه
أعظم وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وغير واحد أنها نزلت في الجد بن قيس وقد كان الجد بن قيس هذا
من أشراف بني سلمة. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم " من سيدكم يا بني سلمة؟ " قالوا الجد بن قيس
على أنا نبخله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأي دواء أدوأ من البخل! ولكن سيدكم الفتى الجعد الأبيض بشر بن
البراء بن معرور " وقوله تعالى " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب.
إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون (50) قل لن يصيبنا
إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون (51)
يعلم تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره
ويسر أصحابه ساءهم ذلك " وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل " أي قد احترزنا من متابعته من قبل
هذا " ويتولوا وهم فرحون " فأرشد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة فقال " قل "
أي لهم " لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " أي نحن تحت مشيئته وقدره " وهو مولانا " أي سيدنا وملجؤنا
" وعلى الله فليتوكل المؤمنون " أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا
إنا معكم متربصون (52) قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين (53) وما منعهم أن
تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون (54)
يقول تعالى " قل " لهم يا محمد " قل هل تربصون بنا " أي تنتظرون بنا " إلا إحدى الحسنيين " شهادة أو ظفر
بكم قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم " ونحن نتربص بكم " أي ننتظر بكم " أن يصيبكم الله بعذاب من
عنده أو بأيدينا " أي ننتظر بكم هذا أو هذا إما " أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا " بسبي أو قتل
376

" فتربصوا إنا معكم متربصون " وقوله تعالى " قل أنفقوا طوعا أو كرها " أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو
مكرهين " لن يتقبل منكم إنكم كنتم قوما فاسقين " ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم
لانهم كفروا بالله وبرسوله أي والأعمال إنما تصح بالايمان " ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى " أي ليس
لهم قدم صحيح ولا همة في العمل " ولا ينفقون " نفقة " إلا وهم كارهون " وقد أخبر الصادق المصدوق صلى
الله عليه وسلم " أن الله لا يمل حتى تملوا وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا " فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا
عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين.
فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (55)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم " كما قال تعالى " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به
أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى " وقال " أيحسبون أن ما نمدهم به من مال
وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " وقوله " إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " قال الحسن
البصري بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله وقال قتادة هذا من المقدم والمؤخر تقديره: فلا تعجبك أموالهم ولا
أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. واختار ابن جرير قول الحسن وهو القول القوي
الحسن وقوله " وتزهق أنفسهم وهم كافرون " أي ويريد أن يميتهم حين يميتهم على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم
وأشد لعذابهم. عياذا بالله من ذلك وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه.
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون (56) لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا
إليه وهم يجمحون (57)
يخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم " يحلفون بالله إنهم لمنكم " يمينا مؤكدة
" وما هم منكم " أي في نفس الامر " ولكنهم قوم يفرقون " أي فهو الذي حملهم على الحلف " لو يجدون
ملجأ " أي حصنا يتحصنون به وحرزا يتحرزون به " أو مغارات " وهي التي في الجبال " أو مدخلا " وهو
السرب في الأرض والنفق قال ذلك في الثلاثة ابن عباس ومجاهد وقتادة " لولوا إليه وهم يجمحون " أي يسرعون
في ذهابهم عنكم لانهم إنما يخالطونكم كرها لا محبة وودوا أنهم لا يخالطونكم ولكن للضرورة أحكام ولهذا لا
يزالون في هم وحزن وغم لان الاسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة فلهذا كلما سر المسلمون ساءهم ذلك
فهم يودون أن لا يخالطوا المؤمنين ولهذا قال " لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ".
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون (58) ولو أنهم رضوا
ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون (59)
يقول تعالى " ومنهم " أي ومن المنافقين " من يلمزك " أي يعيب عليك " في " قسم " الصدقات " إذا فرقتها
ويتهمك في ذلك وهم المتهمون المأبونون وهم مع هذا لا ينكرون للدين وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ولهذا " إن
أعطوا " من الزكاة " رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " أي يغضبون لأنفسهم. قال ابن جريج: أخبرني
داود بن أبي عاصم قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت قال ووراءه رجل من الأنصار
فقال ما هذا بالعدل فنزلت هذه الآية وقال قتادة في قوله " ومنهم من يلمزك في الصدقات " يقول ومنهم من
يطعن عليك في الصدقات وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديث عهد بأعرابية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبا
وفضة فقال يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي؟ " ثم
377

قال نبي الله احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم
إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم " وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا
أمنعكموه إنما أنا خازن " وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان من حديث الزهري عن أبي سلمة عن أبي
سعيد في قصة ذي الخويصرة واسمه حرقوص لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين فقال له اعدل
فإنك لم تعدل فقال " لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم
وقد رآه مقفيا " إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من
الدين مروق السهم من الرمية فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء " وذكر بقية الحديث ثم
قال تعالى منبها لهم على ما هو خير لهم من ذلك فقال " ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله
سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون " فتضمنت هذه الآية الكريمة أدبا عظيما وسرا شريفا حيث جعل
الرضا بما آتاه الله ورسوله والتوكل على الله وحده وهو قوله " وقالوا حسبنا الله " وكذلك الرغبة إلى الله وحده في
التوفيق لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال أوامره وترك زواجره وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره.
* إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن
السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم (60)
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ولمزهم إياه في قسم الصدقات بين تعالى أنه هو الذي
قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ولم يكل قسمها إلى أحد غيره فجزأها لهؤلاء المذكورين كما رواه الإمام أبو
داود في سننه من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وفيه ضعف عن زياد بن نعيم عن زياد بن الحارث
الصدائي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال أعطني من الصدقة فقال له " إن الله لم
يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء
أعطيتك " وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها؟
على قولين " أحدهما " أنه يجب ذلك وهو قول الشافعي وجماعة. " والثاني " أنه لا يجب استيعابها بل يجوز
الدفع إلى واحد منها ويعطي جميع الصدقة مع وجود الباقين وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف منهم عمر
وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم
وعلى هذا فإنما ذكرت الانصاف ههنا لبيان المصرف لا لوجوب استيعابها ولوجوه الحجاج والماخذ مكان
غير هذا والله أعلم. وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لانهم أحوج من غيرهم على المشهور ولشدة فاقتهم
وحاجتهم وعن أبي حنيفة أن المسكين أسوأ حالا من الفقير وهو كما قال أحمد وقال ابن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن
علية أنبأنا ابن عون عن محمد قال: قال عمر رضي الله عنه الفقير ليس بالذي لا مال له ولكن الفقير الأخلق
الكسب قال ابن عليه الأخلق المحارف عندنا والجمهور على خلافه وروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن
البصري وابن زيد واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا والمسكين هو
الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس وقال قتادة الفقير من به زمانة والمسكين الصحيح الجسم وقال الثوري عن
منصور عن إبراهيم هم فقراء المهاجرين قال سفيان الثوري يعني ولا يعطي الاعراب منها شيئا وكذا روي عن
سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي وقال عكرمة لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين إنما المساكين
أهل الكتاب ولنذكر أحاديث تتعلق بكل الأصناف الثمانية فأما الفقراء فعن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوى " رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولأحمد أيضا والنسائي
وابن ماجة عن أبي هريرة مثله وعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من
378

الصدقة فقلب فيهما البصر فرأهما جلدين فقال " إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " رواه
أحمد وأبو داود والنسائي بإسناد جيد قوي وقال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: أبو بكر العبسي
قال: قرأ عمر رضي الله عنه " إنما الصدقات للفقراء " قال هم أهل الكتاب روى عنه عمر بن نافع سمعت أبي
يقول ذلك " قلت " وهذا قول غريب جدا بتقدير صحة الاسناد فإن أبا بكر هذا وإن لم ينص أبو حاتم على جهالته
لكنه في حكم المجهول وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس المسكين بهذا
الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان " قالوا فما المسكين يا رسول الله؟ قال
" الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا " رواه الشيخان. وأما العاملون
عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطا على ذلك ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم
عليهم الصدقة لما ثبت في صحيح مسلم عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس
يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ
الناس ". وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام: منهم من يعطى ليسلم كما أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
صفوان بن أمية من غنائم حنين وقد كان شهدها مشركا قال فلم يزل يعطيني حتى صار أحب الناس إلي بعد أن
كان أبغض الناس إلي كما قال الإمام أحمد: حدثنا زكريا بن عدي أنا ابن المبارك عن يونس عن الزهري عن
سعيد بن المسيب عن صفوان بن أمية قال: أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلي فما زال
يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي ورواه مسلم والترمذي من حديث يونس عن الزهري به ومنهم من يعطى
ليحسن إسلامه ويثبت قلبه كما أعطى يوم حنين أيضا جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل مائة من
الإبل وقال " إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم ". وفي
الصحيحين عن أبي سعيد أن عليا بعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذهبية في تربتها من اليمين فقسمها
بين أربعة نفر: الأقرع بن حابس وعينة بن بدر وعلقمة بن علاثة وزيد الخير وقال " أتألفهم " ومنهم من
يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه ومنها من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه أو ليدفع عن حوزة المسلمين
الضرر من أطراف البلاد ومحل تفصيل هذا في كتب الفروع والله أعلم.
وهل تعطى المؤلفة على الاسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيه خلاف فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا
يعطون بعده لان الله قد أعز الاسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد. وقال آخرون بل يعطون
لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن وهذا أمر قد يحتاج إليه فصرف إليهم. وأما
الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن
زيد أنهم المكاتبون وروي عن أبي موسى الأشعري نحوه وهو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما. وقال ابن
عباس والحسن لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة وهو مذهب أحمد ومالك وإسحاق أي أن الرقاب أعم من أن
يعطي المكاتب أو يشتري رقبة فيعتقها استقلالا وقد ورد في ثواب الاعتاق وفك الرقبة أحاديث كثيرة وأن الله
يعتق بكل عضو منها عضوا من معتقها حتى الفرج بالفرج وما ذاك إلا لان الجزاء من جنس العمل " وما تجزون
إلا ما كنتم تعملون " وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة حق على الله عونهم: الغازي في
سبيل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف " رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا أبا داود
وفي المسند عن البراء بن عازب قال: جاء رجل فقال يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من
النار فقال " أعتق النسمة وفك الرقبة " فقال: يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال " لا عتق النسمة أن تفرد
بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها " وأما الغارمون فهم أقسام فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن دينا فلزمه
فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم والأصل في هذا الباب حديث
379

قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال " أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر
لك بها " قال ثم قال يا قبيصة " إن المسألة لا تحل إلا لاحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى
يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال
سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قرابة قومه فيقولون لقد أصابت فلانا فاقة
فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن من المسألة سحت يأكلها
صاحبها سحتا " رواه مسلم وعن أبي سعيد قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال النبي " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لغرمائه " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " رواه مسلم وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الصمد أنبأنا صدقة بن
موسى عن أبي عمران الجوني عن قيس بن يزيد عن قاضي المصرين عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدعو الله بصاحب الدين يوم القيامة حتى يوقف بين يديه فيقول: يا بن آدم فيم أخذت هذا الدين
وفيم ضيعت حقوق الناس؟ فيقول يا رب أنت أعلم أني أخذته فلم آكل ولم أشرب ولم أضيع ولكن أتى على
يدي إما حرق وإما سرق وإما وضيعة فيقول الله. صدق عبدي أنا أحق من قضى عنك اليوم فيدعو الله بشئ
فيضعه في كفة ميزانه فترجح حسناته على سيئاته فيدخل الجنة بفضل الله ورحمته " وأما في سبيل الله فمنهم الغزاة
الذين لاحق لهم في الديوان وعند الإمام أحمد والحسن وإسحاق والحج في سبيل الله للحديث وكذلك ابن
السبيل وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شئ يستعين به على سفره فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده
وإن كان له مال وهكذا الحكم فيمن أراد إنشاء سفر من بلده وليس معه شئ فيعطى من مال الزكاة كفايته في ذهابه
وإيابه. والدليل على ذلك الآية وما رواه الإمام أبو داود وابن ماجة من حديث معمر عن زيد بن أسلم عن
عطاء بن يسار عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: العامل
عليها أو رجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني " وقد رواه
السفيانان عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا ولأبي داود عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك " وقوله
" فريضة من الله " أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه " والله عليم حكيم أي عليم بظواهر الأمور
وبواطنها وبمصالح عباده " حكيم " فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه.
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم
والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم (61)
يقول تعالى ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه ويقولون " هو أذن " أي من قال له شيئا صدقه فينا
ومن حدثه صدقه فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. روي معناه عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قال الله تعالى " قل أذن
خير لكم " أي هو أذن خير يعرف الصادق من الكاذب " يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين " أي ويصدق المؤمنين " ورحمة
للذين آمنوا منكم " وهو حجة على الكافرين ولهذا قال: " والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم ".
يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين (62) ألم يعلموا أنه من يحادد الله
ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم (63)
قال قتادة في قوله تعالى " يحلفون بالله لكم ليرضوكم " الآية. قال ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال والله إن
380

هؤلاء لخيارنا وأشرافنا وإن كان ما يقول محمد حقا لهم شر من الحمير. قال: فسمعها رجل من المسلمين
فقال: والله إن ما يقول محمد لحق ولانت أشر من الحمار. قال فسعى بها الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسل
إلى الرجل فدعاه فقال " ما حملك على الذي قلت؟ " فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك وجعل الرجل
المسلم يقول: اللهم صدق الصادق وكذب الكاذب فأنزل الله الآية. وقوله تعالى " ألم يعلموا أنه من يحادد
الله ورسوله " الآية أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حاد الله عز وجل أي شاقه وحاربه وخالفه وكان في حد والله
ورسوله في حد " فأن له نار جهنم خالدا فيها " أي مهانا معذبا و " ذلك الخزي العظيم " أي وهذا هو الذل
العظيم والشقاء الكبير.
يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون (64)
قال مجاهد: يقولون القول بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى
" وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس
المصير " وقال في هذه الآية " قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون " أي إن الله سينزل على رسوله ما
يفضحكم به ويبين له أمركم كقوله تعالى " أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم " - إلى
قوله - " ولتعرفنهم في لحن القول " الآية ولهذا قال قتادة كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فاضحة المنافقين.
ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون (65) لا تعتذروا قد كفرتم
به إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين (66)
قال أبو معشر المديني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين ما أرى قراءنا هؤلاء إلا
أرغبنا بطونا وأكذبنا ألسنة وأجبننا عند اللقاء. فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال " أبالله وآياته ورسوله
كنتم تستهزؤون " - إلى قوله - كانوا مجرمين " وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق
بسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن
عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا لا أكذب
ألسنا ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المسجد: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن فقال عبد الله بن عمر أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو
يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " أبالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزؤون " الآية. وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو من هذا. وقال ابن إسحاق وقد كان جماعة من
المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له
مخشي بن حمير يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر
كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين فقال مخشي بن حمير
والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة وإننا نغلب أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا فإن أنكروا فقل بلى قلتم
كذا وكذا " فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم
واقف على راحلته فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب فقال مخشي بن حمير يا
رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي فكان الذي عفا عنه في هذه الآية مخشي بن حمير فتسمى عبد الرحمن
381

وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة ولم يوجد له أثر وقال قتادة " ولئن سألتهم ليقولن إنما
كنا نخوض ونلعب " قال فبينما النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين
يديه فقالوا يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على
ما قالوا فقال " علي بهؤلاء النفر " فدعاهم فقال " قلتم كذا وكذا " فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب وقال عكرمة
في تفسير هذه الآية كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول اللهم إني أسمع آية أنا أعنى بها تقشعر الجلود وتجب
منها القلوب اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت قال فأصيب يوم
اليمامة فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره. وقوله " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم " أي بهذا
المقال الذي استهزأتم به إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب
بعضكم " بأنهم كانوا مجرمين " أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا
الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون (67) وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين
فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم (68)
يقول تعالى منكرا على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر كان هؤلاء " يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم " أي على الانفاق في
سبيل الله " نسوا الله " أي نسوا ذكر الله " فنسيهم " أي عاملهم معاملة من نسيهم كقوله تعالى " فاليوم ننساكم
كما نسيتم لقاء يومكم هذا " " إن المنافقين هم الفاسقون " أي الخارجون من طريق الحق الداخلون في طريق
الضلالة وقوله " وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم " أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم
" خالدين فيها " أي ماكثين فيها مخلدين هم الكفار " هي حسبهم " أي كفايتهم في العذاب " ولعنهم الله "
أي طردهم وأبعدهم " ولهم عذاب مقيم ".
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع
الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم
الخاسرون (69)
يقول تعالى أصاب هؤلاء من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم وقوله " بخلاقهم " قال
الحسن بدينهم وقوله " وخضتم كالذي خاضوا " أي في الكذب والباطل " أولئك حبطت أعمالهم " أي بطلت
مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة " في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون " لانهم لم يحصل لهم عليها
ثواب. قال ابن جرير عن عمرو بن عطاء عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " كالذين من قبلكم " الآية قال
ابن عباس ما أشبه الليلة بالبارحة " كالذين من قبلكم " هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم لا أعلم إلا أنه قال والذي
نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جحر ضب لدخلتموه قال ابن جريج وأخبرني زياد بن سعد عن
محمد بن زياد بن مهاجر عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع وباعا بباع حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه " قالوا ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب قال " فمن؟ " وهكذا رواه أبو معشر عن أبي سعيد المقبري
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وزاد قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم القرآن " كالذين من قبلكم " الآية، قال أبو
382

هريرة: الخلاق: الدين " وخضتم كالذي خاضوا " قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال فهل الناس إلا
هم؟ وهذا الحديث له شاهد في الصحيح.
ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم بالبينات
فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (70)
يقول تعالى واعظا لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل " ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم " أي ألم تخبروا خبر من
كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل " قوم نوح " وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن
بعبده ورسوله نوح عليه السلام " وعاد " كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هودا عليه السلام " وثمود " كيف
أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحا عليه السلام وعقروا الناقة " وقوم إبراهيم " كيف نصره الله عليهم وأيده
بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهلك ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني لعنه الله " وأصحاب مدين " وهم
قوم شعيب عليه السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة " والمؤتفكات " قوم لوط وقد كانوا
يسكنون في مدائن وقال في الآية الأخرى " والمؤتفكة أهوى " أي الأمة المؤتفكة وقيل أم قراهم وهي سدوم
والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السلام وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم
بها أحد من العالمين " أتتهم رسلهم بالبينات " أي بالحجج والدلائل القاطعات " فما كان الله ليظلمهم " أي
بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي بتكذيبهم
الرسل ومخالفتهم الحق فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار.
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم (71)
لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة فقال " والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض " أي يتناصرون ويتعاضدون كما جاء في الصحيح " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه
بعضا " وشبك بين أصابعه وفي الصحيح أيضا " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر " وقوله " يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " كقوله
تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " الآية. وقوله " ويقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة " أي يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه " ويطيعون الله ورسوله " أي فيما أمر وترك ما عنه زجر
" أولئك سيرحمهم الله " من اتصف بهذه الصفات " إن الله عزيز " أي يعز من أطاعه فإن العزة لله ولرسوله
وللمؤمنين " حكيم " في قسمته هذه الصفات لهؤلاء وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة فإن له الحكمة في
جميع ما يفعله تبارك وتعالى.
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان
من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم (72)
يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم المقيم في " جنات تجري من تحتها الأنهار
خالدين فيها " أي ماكثين فيها أبدا " ومساكن طيبة " أي حسنة البناء طيبة القرار كما جاء في الصحيحين من
حديث أبي عمران الجوني عن أبي بكر بن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
383

" جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما وجنتان من فضة وآنيتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم
إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " وبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة
واحدة مجوفة طولها ستون ميلا في السماء للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم لا يرى بعضهم بعضا " أخرجاه في
الصحيحين وفيهما أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان فإن حقا
على الله أن يدخله الجنة هاجر في سبيل الله أو حبس في أرضه التي ولد فيها " قالوا يا رسول الله أفلا نخبر
الناس؟ قال " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض
فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن "
وعند الطبراني والترمذي وابن ماجة من رواية زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن معاذ بن جبل رضي الله عنه
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فذكر مثله وللترمذي عن عبادة بن الصامت مثله وعن أبي حازم عن سهل بن سعد
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما ترون الكوكب في السماء " أخرجاه في
الصحيحين ثم ليعلم أن أعلى منزلة في الجنة مكان يقال له الوسيلة لقربه من العرش وهو مسكن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الجنة كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن ليث عن كعب عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا صليتم علي فسلوا الله لي الوسيلة " قيل يا رسول الله ما الوسيلة؟ فقال: " أعلى درجة في
الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجو أن أكون أنا هو ".
وفي صحيح مسلم من حديث كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله
عليه بها عشرا ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة من الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون هو
فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة يوم القيامة " وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن علي
الأبار حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني حدثنا موسى بن أعين عن ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا
أو شفيعا يوم القيامة ". رواه الطبراني وفي مسند الإمام أحمد من حديث سعد بن مجاهد الطائي عن أبي المدله
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله حدثنا عن الحنة ما بناؤها؟ قال " لبنة ذهب ولبنة فضة
وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران من يدخلها ينعم لا ييأس ويخلد لا يموت لا
تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه " وروى عن ابن عمر مرفوعا نحوه وعند الترمذي من حديث عبد الرحمن بن إسحاق
عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن في الجنة لغرفا يرى ظاهرها من باطنها
وباطنها من ظاهرها ". فقام أعرابي فقال يا رسول الله لمن هي؟ فقال لمن طيب الكلام وأطعم الطعام
وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام " ثم قال حديث غريب ورواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو
الأشعري فالله أعلم وعن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا حظر
لها هي ورب الكعبة نورا يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء
جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة وفاكهة وخضرة وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم
يا رسول الله نحن المشمرون لها قال " قولوا إن شاء الله " فقال القوم إن شاء الله رواه ابن ماجة وقوله تعالى
" ورضوان من الله أكبر " أي رضا الله عنهم أكبر وأجل وأعظم مما هم فيه من النعيم كما قال الامام مالك رحمه
الله عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله عز
وجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك والخير في يدك فيقول هل رضيتم؟ فيقولون
384

وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون يا
رب وأي شئ أفضل من ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجاه من حديث
مالك وقال أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي حدثنا الفضل الرجائي حدثنا الفريابي عن سفيان عن
محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله عز وجل هل
تشتهون شيئا فأزيدكم؟ قالوا يا ربنا ما خير مما أعطيتنا؟ قال رضواني أكبر ". ورواه البزار في مسنده من حديث
الثوري وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة هذا عندي على شرط الصحيح والله أعلم.
يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير (73) يحلفون بالله ما قالوا
ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله
فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا
نصير (74)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم كما أمره بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين
وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين " وسيف
لكفار أهل الكتاب " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين
الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون " وسيف للمنافقين " جاهد الكفار
والمنافقين " وسيف للبغاة " فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله " وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا
أظهروا النفاق وهو اختيار ابن جرير وقال ابن مسعود في قوله " جاهد الكفار والمنافقين " قال بيده فإن لم يستطع
فليكفهر في وجهه. وقال ابن عباس أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم،
وقال الضحاك جاهد الكفار بالسيف وأغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم، وعن مقاتل والربيع مثله:
وقال الحسن وقتادة ومجاهد: مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم وقد يقال إنه لا منافاة بين هذه الأقوال لأنه تارة
يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم. وقوله " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا
بعد إسلامهم " قال قتادة نزلت في عبد الله بن أبي وذلك أنه اقتتل رجلان جهني وأنصاري فعلا الجهني على
الأنصاري فقال عبد الله للأنصار ألا تنصروا أخاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك
يأكلك وقال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأرسل إليه فسأله فجعل يحلف بالله ما قاله فأنزل الله فيه هذه الآية وروى إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه
موسى بن عقبة قال فحدثني عبد الله بن الفضل أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول حزنت على من أصيب
بالحرة من قومي فكتب إلي زيد بن أرقم وبلغه شدة حزني يذكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " اللهم اغفر للأنصار
ولابناء الأنصار " وشك ابن الفضل في أبناء أبناء الأنصار قال ابن الفضل فسأل أنس بعض من كان عنده عن
زيد بن أرقم فقال هو الذي يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوفى الله له بإذنه ". قال وذلك حين سمع رجلا من المنافقين
يقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب لئن كان صادقا فنحن شر من الحمير فقال زيد بن أرقم فهو والله صادق ولانت شر
من الحمار. ثم رفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجحده القائل فأنزل الله هذه الآية تصديقا لزيد يعني قوله
" يحلفون بالله ما قالوا " الآية. رواه البخاري في صحيحه عن إسماعيل بن أبي أويس عن إسماعيل بن
إبراهيم بن عقبة - إلى قوله - هذا الذي أوفى الله له بإذنه ولعل ما بعده من قول موسى بن عقبة. وقد رواه
385

محمد بن فليح عن موسى بن عقبة بإسناده ثم قال: قال ابن شهاب فذكر ما بعده عن موسى عن ابن شهاب
والمشهور في هذه القصة أنها كانت في غزوة بني المصطلق فلعل الراوي وهم في ذكر الآية وأراد أن يذكر غيرها
فذكرها والله أعلم قال الأموي في مغازيه: حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن
كعب بن مالك عن أبيه عن جده قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذني قومي فقالوا إنك امرؤ شاعر فإن شئت أن تعتذر
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض العلة ثم يكون ذنبا تستغفر الله منه وذكر الحديث بطوله إلى أن قال وكان ممن تخلف من
المنافقين ونزل فيه القرآن منهم ممن كان مع النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس بن سويد بن الصامت وكان على أم عمير بن سعد
وكان عمير في حجره فلما نزل القرآن وذكرهم الله بما ذكر مما أنزل في المنافقين قال الجلاس والله لئن كان هذا
الرجل صادقا فيما يقول لنحن شر من الحمير فسمعها عمير بن سعد فقال والله يا جلاس إنك لأحب الناس إلي
وأحسنهم عندي بلاء وأعزهم علي أن يصله شئ يكرهه ولقد قلت مقالة لان ذكرتها لتفضحني ولئن كتمتها
لتهلكني ولإحداهما أهون علي من الأخرى فمشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ما قال الجلاس فلما بلغ ذلك
الجلاس خرج حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فحلف بالله ما قال ما قال عمير بن سعد ولقد كذب علي: فأنزل الله عز وجل
فيه " يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم " إلى آخر الآية. فوقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها
فزعموا أن الجلاس تاب فحسنت توبته ونزع فأحسن النزوع. هكذا جاء هذا مدرجا في الحديث متصلا به وكأنه
والله أعلم من كلام ابن إسحاق نفسه لا من كلام كعب بن مالك وقال عروة بن الزبير نزلت هذه الآية في
الجلاس بن سويد بن الصامت أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء فقال الجلاس إن كان ما جاء به محمد حقا
فنحن أشر من حمرنا هذه التي نحن عليها فقال مصعب أما والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت
فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وخفت أن ينزل في القرآن أو تصيبني قارعة أو أن أخلط بخطيئة فقلت يا رسول الله أقبلت أنا
والجلاس من قباء فقال كذا وكذا ولولا مخافة أن أخلط بخطيئة أو تصيبني قارعة ما أخبرتك. قال فدعا الجلاس
فقال " يا جلاس أقلت الذي قاله مصعب؟ " فحلف فأنزل الله " يحلفون بالله ما قالوا " الآية. وقال محمد بن إسحاق
كان الذي قال تلك المقالة فيما بلغني الجلاس بن سويد بن الصامت فرفعها عليه رجل كان في حجره يقال
له عمير بن سعد فأنكرها فحلف بالله ما قالها فلما نزل فيه القرآن تاب ونزع وحسنت توبته فيما بلغني وقال الإمام أبو
جعفر بن جرير حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن سماك عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل شجرة فقال " إنه سيأتيكم إنسان فينظر
إليكم - بعيني الشيطان - فإذا جاء فلا تكلموه ". فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " علام
تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فأنزل الله عز وجل
" يحلفون بالله ما قالوا " الآية. وقوله " وهموا بما لم ينالوا " قيل أنزلت في الجلاس بن سويد وذلك أنه هم بقتل
ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل في عبد الله بن أبي هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال السدي نزلت
في أناس أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ورد أن نفرا من المنافقين هموا
بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير وكانوا بضعة عشر رجلا قال الضحاك
ففيهم نزلت هذه الآية وذلك بين فيما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث محمد بن
إسحاق عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال كنت آخذا بخطام
ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به وعمار يسوق الناقة أو أنا أسوقه وعمار يقوده حتى إذا كنا بالعقبة فإذا أنا باثني عشر راكبا
قد اعترضوه فيها قال فأنبهت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل عرفتم
القوم؟ " قلنا لا يا رسول الله قد كانوا متلثمين ولكنا قد عرفنا الركاب قال " هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل
تدرون ما أرادوا؟ " قلنا لا قال " أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها " قلنا يا رسول الله أفلا
نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال " لا أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمدا
386

قاتل بقوم حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم - ثم قال - اللهم ارمهم بالدبيلة " قلنا يا رسول الله وما
الدبيلة؟ قال " شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك ". وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يزيد
أخبرنا الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل قال لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أمر مناديا فنادى: إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ العقبة فلا يأخذها أحد فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوده حذيفة ويسوقه عمار إذ أقبل رهط متلثمون
على الرواحل فغشوا عمارا وهو يسوق برسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عمار رضي الله عنه يضرب وجوه الرواحل فقال
رسول الله لحذيفة " قد قد " حتى هبط رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما هبط نزل ورجع عمار فقال يا عمار " هل عرفت القوم؟ " فقال
لقد عرفت عامة الرواحل والقوم متلثمون قال " هل تدري ما أرادوا؟ " قال الله ورسوله أعلم قال " أرادوا أن ينفروا
برسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فيطرحوه ". قال فسأل عمار رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال نشدتك بالله كم تعلم
كان أصحاب العقبة؟ قال أربعة عشر رجلا فقال إن كنت منهم فقد كانوا خمسة عشر قال فعد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم
ثلاثة قالوا والله ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما علمنا ما أراد القوم فقال عمار أشهد أن الاثني عشر الباقين حرب
لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد وهكذا روى ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير نحو
هذا وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يمشي الناس في بطن الوادي وصعد هو وحذيفة وعمار العقبة فتبعهم هؤلاء النفر
الأرذلون وهم متلثمون فأرادوا سلوك العقبة فأطلع الله على مرادهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر حذيفة فرجع إليهم فضرب
وجوه رواحلهم ففزعوا ورجعوا مقبوحين وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة وعمارا بأسمائهم وما كانوا هموا به من الفتك
به صلوات الله وسلامه عليه وأمرهما أن يكتما عليهم وكذا روى يونس بن بكير عن ابن إسحاق إلا أنه سمى
جماعة منهم فالله أعلم. وكذا قد حكى في معجم الطبراني قاله البيهقي ويشهد لهذه القصة بالصحة ما رواه مسلم
حدثنا زهير بن حرب حدثنا أبو أحمد الكوفي حدثنا الوليد بن جميع حدثنا أبو الطفيل قال: كان بين رجل من أهل
العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس فقال أنشدكم بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال: فقال له القوم
أخبره إذ سألك فقال كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر وأشهد بالله أن اثني عشر
منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد وعذر ثلاثة قالوا ما سمعنا منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا
علمنا بما أراد القوم وقد كان في حرة يمشي فقال " إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد " فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم
يومئذ وما رواه مسلم أيضا من حديث قتادة عن أبي نضرة عن قيس بن عباد عن عمار بن ياسر قال: أخبرني حذيفة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " في أصحابي اثنا عشر منافقا لا يدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم
الخياط: ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة سراج من نار تظهر بين أكتافهم حتى ينجم في صدورهم ". ولهذا كان
حذيفة يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من تعيين جماعة من المنافقين وهم هؤلاء قد أطلعه عليهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره والله أعلم. وقد ترجم الطبراني في مسند حذيفة تسمية أصحاب العقبة ثم روى عن علي بن
عبد العزيز عن الزبير بن بكار أنه قال: هم معتب بن قشير ووديعة بن ثابت وجد بن عبد الله بن نبتل بن الحارث من
بني عمرو بن عوف والحارث بن يزيد الطائي وأوس بن قيظي والحارث بن سويد وسعد بن زرارة وقيس بن فهد
وسويد بن داعس من بني الحبلي وقيس بن عمرو بن سهل وزيد بن اللصيت وسلالة بن الحمام وهما من بني قينقاع
أظهروا الاسلام. وقوله تعالى " وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله " أي وما للرسول عندهم ذنب إلا
أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله لما جاء به كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار " ألم
أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا الله
ورسوله أمن. وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب كقوله " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله " الآية وقوله عليه
السلام " ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله " ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال " فإن يتوبوا
يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة " أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله
عذابا أليما في الدنيا أي بالقتل والهم والغم والآخرة أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار " وما لهم في الأرض
387

من ولي ولا نصير " أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم لا يحصل لهم خيرا ولا يدفع عنهم شرا.
* ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين (75) فلما آتاهم من فضله بخلوا
به وتولوا وهم معرضون (76) فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا
يكذبون (77) ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب (78)
يقول تعالى ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين
فما وفى بما قال ولا صدق فيما ادعى فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقوا الله عز وجل يوم
القيامة. عياذا بالله من ذلك. وقد ذكر كثير من المفسرين منهم ابن عباس والحسن البصري أن سبب نزول هذه
الآية الكريمة في ثعلبة بن حاطب والأنصاري وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير ههنا وابن أبي حاتم من حديث
معان بن رفاعة عن علي بن يزيد عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية
عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا قال:
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " قال ثم قال مرة أخرى فقال " أما
ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت " قال والذي
بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم ارزق ثعلبة مالا "
قال فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي
الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة وهي تنمي كما
ينمى الدود حتى ترك الجمعة فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الاخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما فعل
ثعلبة؟ " فقالوا يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره فقال: " يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح
ثعلبة " وأنزل الله جل ثناؤه " خذ من أموالهم صدقة " الآية. ونزلت فرائض الصدقة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين
على الصدقة من المسلمين رجلا من جهينة ورجلا من سليم وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين وقال
لهما " مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما " فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرأه
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا
إلي فانطلقا وسمع بهما السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا ما
يجب عليك هذا وما نريد أن نأخذ هذا منك فقال بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له فأخذاها منه
ومرا على الناس فأخذا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة فقال: أروني كتابكما فقرأه فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا
أخت الجزية انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما
ودعا للسلمي بالبركة فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمى فأنزل الله عز وجل " ومنهم من عاهد الله
لئن آتانا من فضله لنصدقن " الآية. قال وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة فسمع ذلك فخرج حتى أتاه
فقال: ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال
" إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك " فجعل يحثو على رأسه التراب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا عملك قد
أمرتك فلم تطعني " فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقبض صدقته رجع إلى منزله فقبض
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقبل منه شيئا ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال قد
علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي فقال أبو بكر لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى
أن يقبلها فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولى عمر رضي الله عنه أتاه فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال
لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها فلما ولي عثمان رضي الله عنه أتاه
388

فقال: اقبل صدقتي فقال لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه فهلك ثعلبة
في خلافة عثمان وقوله تعالى " بما أخلفوا الله ما وعدوه " الآية. أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم
الوعد وكذبهم كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد
أخلف وإذا اؤتمن خان " وله شواهد كثيرة والله أعلم. وقوله " ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم " الآية.
يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا
عليها فإن الله أعلم بهم من أنفسهم لأنه تعالى علام الغيوب أي يعلم كل غيب وشهادة وكل سر ونجوى ويعلم ما
ظهر وما بطن.
الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم
عذاب أليم (79)
وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمن هم في جميع الأحوال حتى ولا المتصدقون يسلمون
منهم إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا هذا مراء وإن جاء بشئ يسير قالوا إن الله لغني عن صدقة هذا. كما
روى البخاري حدثنا عبيد الله بن سعيد حدثنا أبو النعمان البصري حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي
مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشئ كثير فقالوا
مرائي وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغني عن صدقة هذا. فنزلت " الذين يلمزون المطوعين " الآية.
وقد رواه مسلم أيضا في صحيحه من حديث شعبة به وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد الجريري عن أبي السليل
قال: وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع فقال: حدثني أبي أو عمي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبقيع وهو يقول
" من يتصدق بصدقة أشهد له بها يوم القيامة " قال فحللت من عمامتي لوثا أو لوثين وأنا أريد أن أتصدق بهما
فأدركني ما يدرك ابن آدم فعقدت على عمامتي. فجاء رجل لم أر بالبقيع رجلا أشد منه سوادا ولا أصغر منه ولا
أذم ببعير ساقه لم أر بالبقيع ناقة أحسن منها. فقال يا رسول الله أصدقة؟ قال " نعم " قال دونك هذه الناقة قال
فلمزه رجل فقال هذا يتصدق بهذه فوالله لهي خير منه. قال فسمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " كذبت بل هو خير منك
ومنها " ثلاث مرات ثم قال " ويل لأصحاب المئين من الإبل " ثلاثا قالوا إلا من يا رسول الله؟ قال " إلا من قال
بالمال هكذا وهكذا " وجمع بين كفيه عن يمينه وعن شماله ثم قال " قد أفلح المزهد المجهد " ثلاثا. المزهد في
العيش المجهد في العبادة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية قال جاء عبد الرحمن بن عوف
بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام فقال بعض المنافقين والله ما
جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء وقالوا إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع. وقال العوفي عن ابن عباس
إن رسول الله خرج إلى الناس يوما فنادى فيهم أن اجمعوا صدقاتكم فجمع الناس صدقاتهم ثم جاء رجل من
آخرهم بصاع من تمر فقال يا رسول الله هذا صاع من تمر بت ليلتي أجر بالجرير الماء حتى نلت صاعين من تمر
فأمسكت أحدهما وأتيتك بالآخر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات فسخر منه رجال وقالوا إن الله ورسوله
لغنيان عن هذا وما يصنعون بصاعك من شئ ثم إن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل بقي أحد من
أهل الصدقات؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يبق أحد غيرك " فقال له عبد الرحمن بن عوف فإن عندي مائة أوقية
من الذهب في الصدقات فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمجنون أنت؟ قال ليس بي جنون قال أفعلت ما
فعلت؟ قال نعم مالي ثمانية آلاف أما أربعة آلاف فأقرضها ربي وأما أربعة آلاف فلي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " بارك
الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " ولمزه المنافقون فقالوا والله ما أعطى عبد الرحمن عطيته إلا رياء وهم
كاذبون إنما كان به متطوعا فأنزل الله عز وجل عذره وعذر صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر فقال تعالى
389

في كتابه " الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات " الآية. وهكذا روى عن مجاهد وغير واحد وقال
ابن إسحاق كان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم
وعاصم بن عدي أخو بني العجلان وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها فقال عبد الرحمن بن
عوف فتصدق بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدي وتصدق بمائة وسق من تمر فلمزوهما وقالوا ما هذا إلا رياء وكان
الذي تصدق بجهده أبو عقيل أخو بني أنيف الأراشي حليف بني عمرو بن عوف أتى بصاع من تمر فأفرغه في
الصدقة فتضاحكوا به وقالوا إن الله لغني عن صاع أبي عقيل وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا طالوت بن عباد
حدثنا أبو عونة عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تصدقوا فإني أريد أن أبعث
بعثا " قال فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال يا رسول الله عندي أربعة آلاف ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت " وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من
تمر فقال يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي قال فلمزه المنافقون وقالوا ما أعطى
الذي أعطى ابن عوف إلا رياء وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله " الذين يلمزون
المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم " الآية. ثم رواه عن أبي
كامل عن أبي عوانة عن عمرو بن أبي سلمة عن أبيه مرسلا قال قال ولم يسنده أحد إلا طالوت وقال الإمام أبو
جعفر بن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا زيد بن الحباب عن موسى عن عبيدة حدثني خالد بن يسار عن ابن أبي عقيل
عن أبيه قال بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به وجئت بالآخر
أتقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته فأخبرته فقال " انثره في الصدقة " قال فسخر القوم وقالوا لقد
كان الله غنيا عن صدقة هذا المسكين فأنزل الله " الذين يلمزون المطوعين " الآيتين. وكذا رواه الطبراني من
حديث زيد بن الحباب به وقال اسم أبي عقيل حباب ويقال عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة وقوله فيسخرون منهم
سخر الله منهم هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين لان الجزاء من جنس العمل
فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصارا للمؤمنين في الدنيا وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا أليما لان الجزاء من
جنس العمل.
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله
لا يهدي القوم الفاسقين (80)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم وقد
قيل إن السبعين إنما ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم لان العرب في أساليب كلاهما تذكر السبعين في مبالغة
كلامها ولا تريد التحديد بها ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها وقيل بل لها مفهوم كما روى العوفي عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما نزلت هذه الآية " أسمع ربي قد رخص لي فيهم فوالله لأستغفرن لهم أكثر من
سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم " فقال الله من شدة غضبه عليهم " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم "
الآية وقال الشعبي لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي قد احتضر فأحب أن تشهده
وتصلي عليه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما اسمك " قال الحباب بن عبد الله قال " بل أنت عبد الله بن عبد الله إن الحباب
اسم شيطان " فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق وصلى عليه فقيل له أتصلي عليه؟ فقال: إن الله
قال " إن تستغفر لهم سبعين مرة " ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين " وكذا روي عن عروة بن الزبير
ومجاهد بن جبير وقتادة بن دعامة ورواه ابن جرير بأسانيده.
فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا
390

في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون (81) فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا
يكسبون (82)
يقول تعالى ذاما للمنافقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وفرحوا بقعودهم بعد خروجه
" وكرهوا أن يجاهدوا " معه " بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا " أي بعضهم لبعض " لا تنفروا في الحر "
وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر عند طيب الظلال والثمار فلهذا قالوا " لا تنفروا في الحر " قال
الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " قل " لهم " نار جهنم " التي تصيرون إليها بمخالفتكم " أشد حرا " مما فررتم منه من الحر
بل أشد حرا من النار كما قال الامام مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " نار بني
آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " فقالوا يا رسول الله إن كانت لكافية فقال " فضلت عليها
بتسعة وستين جزءا " أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك به وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن أبي الزناد
عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم وضربت في البحر
مرتين ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لاحد ". وهذا أيضا إسناده صحيح وقد روى الإمام أبو عيسى الترمذي
وابن ماجة عن ابن عباس الدوري وعن يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم عن أبي صالح عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى
ابيضت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء كالليل المظلم " ثم قال الترمذي لا أعلم أحدا رفعه
غير يحيى. كذا قال وقد رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه عن إبراهيم بن محمد عن محمد بن الحسين بن مكرم
عن عبيد الله بن سعيد عن عمه عن شريك وهو ابن عبد الله النخعي به وروى أيضا ابن مردويه من رواية
مبارك بن فضالة عن ثابت عن أنس قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " نارا وقودها الناس والحجارة " قال " أوقد عليها ألف
عام حتى ابيضت وألف عام حتى احمرت وألف عام حتى اسودت فهي سوداء كالليل لا يضئ لهبها ". وروى
الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث تمام بن نجيح وقد اختلف فيه عن الحسن عن أنس رفعه " لو أن شرارة
بالمشرق - أي من نار جهنم - لوجد حرها من بالمغرب ". وروى الحافظ أبو يعلي عن إسحاق بن أبي إسرائيل
عن أبي عبيدة الحداد عن هشام بن حسان عن محمد بن شبيب عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد بن جبير عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كان في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم رجل من أهل النار فتنفس
فأصابهم نفسه لاحترق المسجد ومن فيه " غريب. وقال الأعمش عن أبي إسحاق عن النعمان بن بشير قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم يغلي منهما دماغه كما
يغلي المرجل لا يرى أن أحدا من أهل النار أشد عذابا منه وإنه أهونهم عذابا ". أخرجاه في الصحيحين من
حديث الأعمش وقال مسلم أيضا حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي كثير حدثنا زهير بن محمد عن
سهيل بن أبي صالح عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار
عذابا يوم القيامة ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه " وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن ابن
عجلان سمعت أبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن أدنى أهل النار عذابا رجل يجعل له نعلان يغلي منهما
دماغه " وهذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط مسلم والله أعلم والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة
وقال الله تعالى في كتابه العزيز " كلا إنها لظى نزاعة للشوى " وقال تعالى " يصب من فوق رؤوسهم الحميم
يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب
الحريق " وقال تعالى " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا
العذاب " وقال تعالى في هذه الآية الكريمة " قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون " أي لو أنهم يفقهون
391

ويفقهون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف هذا ولكنهم
كما قال الآخر: كالمستجير من الرمضاء بالنار
وقال الآخر:
عمرك بالحمية أفنيته * خوفا من البارد والحار
كان أولى لك أن تتقي * من المعاصي حذر النار
ثم قال تعالى جل جلاله متوعدا هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا " فليضحكوا قليلا " الآية. قال ابن أبي طلحة
عن ابن عباس الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عز وجل استأنفوا بكاء لا
ينقطع أبدا وكذا قال أبو رزين والحسن وقتادة والربيع بن خثيم وعون العقيلي وزيد بن أسلم وقال الحافظ أبو
يعلي الموصلي حدثنا عبد الله بن عبد الصمد بن أبي خداش حدثنا محمد بن جبير عن ابن المبارك عن عمران بن
زيد حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا
فتباكوا فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح
العيون فلو أن سفنا أزجيت فيها لجرت ". ورواه ابن ماجة من حديث الأعمش عن يزيد الرقاشي به وقال
الحافظ أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا حدثنا محمد بن العباس حدثنا حماد الجزري عن زيد بن رفيع
رفعه قال " إن أهل النار إذا دخلوا النار بكوا الدموع زمانا ثم بكوا القيح زمانا قال فتقول لهم الخزنة يا معشر الأشقياء
تركتم البكاء في الدار المرحوم فيها أهلها في الدنيا هل تجدون اليوم من تستغيثون به؟ قال فيرفعون أصواتهم يا
أهل الجنة يا معشر الآباء والأمهات والأولاد خرجنا من القبور عطاشا وكنا طول الموقف عطاشا ونحن اليوم عطاش
فأفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فيدعون أربعين سنة لا يجيبهم ثم يجيبهم " إنكم ماكثون " فييأسون
من كل خير.
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم
بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين (83)
يقول تعالى آمرا لرسوله عليه الصلاة والسلام " فإن رجعك الله " أي ردك الله من غزوتك هذه " إلى طائفة منهم "
قال قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلا " فاستأذنوك للخروج " أي معك إلى غزوة أخرى " فقل لن تخرجوا
معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا " أي تعزيزا لهم وعقوبة ثم علل ذلك بقوله " إنكم رضيتم بالقعود أول مرة " وهذا
كقوله تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة " الآية. فإن جزاء السيئة السيئة بعدها كما أن
ثواب الحسنة الحسنة بعدها كقوله في عمرة الحديبية " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها " الآية
وقوله تعالى " فاقعدوا مع الخالفين " قال ابن عباس أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة وقال قتادة " فاقعدوا مع
الخالفين " أي مع النساء قال ابن جرير وهذا لا يستقيم لان جمع النساء لا يكون بالياء والنون ولو أريد النساء
لقال فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما.
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84)
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين وأن لا يصلي على أحد منهم إذا مات وأن لا يقوم على قبره ليستغفر
له أو يدعو له لانهم كفروا بالله ورسوله وماتوا عليه وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه وإن كان سبب نزول
الآية في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين كما قال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ
392

بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما
خيرني الله فقال " استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم " وسأزيده على
السبعين " قال إنه منافق. قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل آية " ولا تصل على أحد منهم مات
أبدا ولا تقم على قبره " وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة حماد بن أسامة به. ثم رواه
البخاري عن إبراهيم بن المنذر عن أنس بن عياض عن عبيد الله وهو ابن عمر العمري به. وقال فصلى عليه
وصلينا معه وأنزل الله " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية. وهكذا رواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد
القطان عن عبيد الله به وقد روى من حديث عمر بن الخطاب نفسه أيضا بنحو من هذا فقال الإمام أحمد:
حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال سمعت
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبي دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه فلما
وقف عليه يريد الصلاة تحولت حتى قمت في صدره فقلت يا رسول الله أعلى عدو الله عبد الله بن أبي القائل يوم
كذا وكذا وكذا - يعدد أيامه -؟ قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم حتى إذا أكثرت عليه قال " أخر عني يا عمر إني خيرت
فاخترت قد قيل لي " استغفر لهم " الآية. لو أعلم أنى لو زدت على السبعين غفر له لزدت " قال ثم صلى عليه
ومشى معه وقام على قبره حتى فرغ منه قال فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال فوالله
ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله عز وجل وهكذا رواه الترمذي في التفسير من حديث محمد بن
إسحاق عن الزهري به وقال حسن صحيح ورواه البخاري عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن الزهري
به فذكر مثله وقال " أخر عني يا عمر " فلما أكثرت عليه قال " إني خيرت فاخترت ولو أعلم أنى إن زدت على
السبعين غفر له لزدت عليها " قال فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انصرف لم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة
" ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " الآية. فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا عبد الملك عن أبي الزبير عن جابر قال:
لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعير بهذا فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم
فوجده قد أدخل في حفرته فقال " أفلا قبل أن تدخلوه؟ " فأخرج من حفرته وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه
وألبسه قميصه، ورواه النسائي عن أبي داود الحراني عن يعلى بن عبيد عن عبد الملك وهو ابن أبي سليمان به
وقال البخاري حدثنا عبد الله بن عثمان أخبرنا ابن عيينة عن عمرو سمع جابر بن عبد الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم
عبد الله بن أبي بعد ما أدخل في قبره فأمر به فأخر ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه والله
أعلم.
وقد رواه أيضا في غير موضع مسلم والنسائي من غير وجه عن سفيان بن عيينة به وقال الإمام أبو بكر أحمد بن
عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده حدثنا عمرو بن علي حدثنا يحيى حدثنا مجالد حدثنا عامر حدثنا جابر ح
وحدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبد الرحمن بن مغراء الدوسي حدثنا مجالد عن الشعبي عن جابر قال لما مات
رأس المنافقين - قال يحيى بن سعيد بالمدينة - فأوصى أن يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي
أوصى أن يكفن بقميصك - وهذا الكلام في حديث عبد الرحمن بن مغراء قال يحيى في حديثه - فصلى عليه وألبسه
قميصه فأنزل الله تعالى " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " - وزاد عبد الرحمن -: وخلع
النبي صلى الله عليه وسلم قميصه فأعطاه إياه ومشى فصلى عليه وقام على قبره فأتاه جبريل عليه السلام لما ولى قال " ولا تصل
على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره " وإسناده لا بأس به وما قبله شاهد له.
وقال الإمام أبو جعفر الطبري حدثنا أحمد بن إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا حماد بن سلمة عن يزيد الرقاشي
393

عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي فأخذ جبريل بثوبه وقال " ولا تصل على أحد منهم
مات أبدا ولا تقم على قبره ". ورواه الحافظ أبو يعلي في مسنده من حديث يزيد الرقاشي وهو ضعيف وقال
قتادة أرسل عبد الله ابن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم " أهلكك حب يهود "
قال يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه
أباه فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره فأنزل الله عز وجل " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا " الآية. وقد
ذكر بعض السلف أنما كساه قميصه لان عبد الله ابن أبي لما قدم العباس طلب له قميص فلم يوجد على تفصيله إلا
ثوب عبد الله بن أبي لأنه كان ضخما طويلا ففعل ذلك به رسول الله صلى الله عليه وسلم مكافأة له فالله أعلم ولهذا كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ولا يقوم على قبره كما قال الإمام أحمد
حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن أبيه حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى
جنازة سأل عنها فإن اثني عليها خيرا قام فصلى عليها وإن كان غير ذلك قال لأهلها " شأنكم بها " ولم يصل
عليها وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلى عليها حذيفة بن اليمان لأنه كان
يعلم أعيان المنافقين قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا كان يقال له صاحب السر الذي لا يعلمه غيره أي من
الصحابة وقال أبو عبيد في كتاب الغريب في حديث عمر أنه أراد أن يصلى على جنازة رجل فمرزه حذيفة كأنه
أراد أن يصده عن الصلاة عليها. ثم حكى عن بعضهم أن المرزبلغة أهل اليمامة هو القرص بأطراف الأصابع
ولما نهى الله عز وجل عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذا الصنيع من أكبر
القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك وفي فعله الاجر الجزيل كما ثبت في الصحاح وغيرها من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ومن شهدها حتى
تدفن فله قيراطان " قيل وما القيراطان؟ قال " أصغرهما مثل أحد " وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو
داود حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي أخبرنا هشام عن عبد الله بن بحير عن هانئ وهو أبو سعيد البريري مولى
عثمان بن عفان عن عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال
" استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " انفرد بإخراجه أبو داود رحمه الله.
ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)
تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ولله الحمد والمنة.
وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله أستأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين (86)
رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون (87)
يقول تعالى منكرا وذاما للمتخلفين عن الجهاد الناكلين عنه مع القدرة عليه ووجود السعة والطول واستأذنوا الرسول
في القعود وقالوا " ذرنا نكن مع القاعدين " ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء وهن الخوالف بعد
خروج الجيش فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاما كما قال تعالى عنهم في
الآية الأخرى " فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب
الخوف سلقوكم بألسنة حداد ". أي علت ألسنتهم بالكلام الحد القوي في الامن وفي الحرب أجبن شئ وكما
قال الشاعر:
أفي السلم أعيار أجفا وغلظة * وفي الحرب أشباه النساء الفوارك؟
394

وقال تعالى في الآية الأخرى " ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال
رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم
الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم " الآية، وقوله " وطبع على قلوبهم " أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج
مع الرسول في سبيل الله " فهم لا يفقهون " أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ولا ما فيه مضرة لهم
فيجتنبوه.
لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون (88)
أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم (89)
لما ذكر تعالى ذنب المنافقين وبين ثناءه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم فقال " لكن الرسول والذين آمنوا معه
جاهدوا " إلى آخر الآيتين من بيان حالهم ومآلهم وقول " وأولئك لهم الخيرات " أي في الدار الآخرة في جنات
الفردوس والدرجات العلى.
وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم (90)
ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من
الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة. قال الضحاك عن ابن عباس إنه كان
يقرأ " وجاء المعذرون " بالتخفيف ويقول هم أهل العذر وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء قال
ابن إسحاق وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رخصة وهذا القول هو الاظهر في معنى الآية لأنه
قال بعد هذا " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " أي لم يأتوا فيعتذروا وقال ابن جريج عن مجاهد " وجاء
المعذرون من الاعراب " قال نفر من بني غفار جاؤوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله وكذا قال الحسن وقتادة
ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم لما قدمنا من قوله بعده " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " أي
وقعد آخرون من الاعراب عن المجئ للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال " سيصيب الذين كفروا منهم
عذاب أليم ".
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين
من سبيل والله غفور رحيم (91) ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم
تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون (92) * إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا
بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون (93)
ثم بين تعالى الاعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه وهو
الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ومنه العمى والعرج ونحوهما ولهذا بدأ به، ومنها
ما هو عارض بسبب مرض عن له في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله أو بسبب فقره لا يقدر على التجهيز
للحرب فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ولم يرجفوا بالناس ولم يثبطوهم وهم محسنون
في حالهم هذا ولهذا قال " ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ". وقال سفيان الثوري عن
عبد العزيز بن رفيع عن أبي ثمامة رضي الله عنه قال: قال الحواريون يا روح الله أخبرنا عن الناصح لله؟ قال:
395

الذي يؤثر حق الله على حق الناس وإذا حدث له أمران أو بدا له أمر الدنيا وأمر الآخرة بدأ بالذي للآخرة ثم
تفرغ للذي للدنيا وقال الأوزاعي خرج الناس إلى الاستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: يا معشر من حضر: ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا اللهم نعم فقال اللهم إنا نسمعك تقول " ما على
المحسنين من سبيل " اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا وقال
قتادة نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني حدثنا ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي
حدثنا ابن جابر عن ابن فروة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فكنت أكتب براءة فإني لواضع القلم على أذني إذ أمرنا بالقتال فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه إذ جاء
أعمى فقال كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت " ليس على الضعفاء " الآية. وقال العوفي عن ابن عباس
في هذه الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه فجاءته عصابة من أصحابه فيهم
عبد الله ابن مغفل بن مقرن المزني فقالوا يا رسول الله احملنا فقال لهم " والله لا أجد ما أحملكم عليه " فتولوا
وهم يبكون وعز عليهم أن يجلسوا عند الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملا. فلما رأى الله حرصهم على محبته
ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه وقال " ليس على الضعفاء " إلى قوله " فهم لا يعلمون " وقال مجاهد في قوله
" ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم " نزلت في بني مقرن من مزينة وقال محمد بن كعب كانوا سبعة نفر من
بني عمرو بن عوف سالم بن عوف ومن بني واقف حرمي بن عمرو ومن بني مازن بن النجار عبد الرحمن بن كعب
ويكنى أبا ليلى ومن بنى المعلى فضل الله ومن بني سلمة عمرو بن عتبة وعبد الله ابن عمرو المزني وقال
محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم البكاءون وهم سبعة نفر
من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف سالم بن عمير وعلية بن زيد أخو بني حارثة وأبو ليلى عبد الرحمن بن
كعب أخو بني مازن بن النجار وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن المغفل المزني وبعض
الناس يقول بل هو عبد الله ابن عمرو المزني وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف وعياض بن سارية الفزاري
فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة فقال " لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا إلا
يجدوا ما ينفقون " وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن الأودي حدثنا وكيع عن الربيع عن الحسن قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شركوكم
في الاجر " ثم قرأ " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه " الآية، وأصل الحديث
في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا ولا سرتم سيرا إلا وهم
معكم " قالوا وهم بالمدينة؟ قال " نعم حسبهم العذر " وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن أبي
سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم
في الاجر حبسهم المرض ". ورواه مسلم وابن ماجة من طرق عن الأعمش به، ثم رد تعالى الملامة على الذين
يستأذنون في القعود وهم أغنياء وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرحال " وطبع الله على
قلوبهم فهم لا يعلمون.
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله
ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (94) سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا
عنهم فاعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون (95) يحلفون لكم لترضوا عنهم
فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين (96)
396

أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم " قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم " أي لن
نصدقكم " قد نبأنا الله من أخباركم " أي قد أعلمنا الله أحوالكم " وسيرى الله عملكم ورسوله " أي سيظهر
أعمالكم للناس في الدنيا " ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " أي فيخبركم بأعمالكم
خيرها وشرها ويجزيكم عليها. ثم أخبر عنهم أنهم يحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم فلا تؤنبوهم فأعرضوا
عنهم احتقارا لهم إنهم رجس أي خبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم ومأواهم في آخرتهم جهنم جزاء بما كانوا
يكسبون أي من الآثام والخطايا، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم " فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين "
أي الخارجين عن طاعة الله وطاعة رسوله فإن الفسق هو الخروج ومنه سميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها
للافساد ويقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها.
الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) ومن
الاعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم (98) ومن الاعراب
من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في
رحمته إن الله غفور رحيم (99)
أخبر تعالى أن في الاعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد وأجدر أي أحرى
أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله كما قال الأعمش عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان
وهو يحدث أصحابه وكانت يده قد أصيبت يوم " نهاوند " فقال الاعرابي والله إن حديثك ليعجبني وإن يدك
لتريبني فقال زيد ما يريبك من يدي إنها الشمال؟ فقال الاعرابي والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال فقال
زيد بن صوحان صدق الله " الاعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على
رسوله ". وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن أبي موسى عن وهب بن منبه عن ابن
عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن ". ورواه أبو
داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث
الثوري ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا وإنما كانت البعثة من أهل القرى
كما قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " ولما أهدى ذلك الاعرابي تلك الهدية
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه أضعافها حتى رضي قال " لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو ثقفي أو
أنصاري أو دوسي ". لان هؤلاء كانوا يسكنون المدن مكة والطائف والمدينة واليمن فهم ألطف أخلاقا من
الاعراب لما في طباع الاعراب من الجفاء. " حديث الاعرابي في تقبيل الولد " قال حديث مسلم حدثنا أبو
بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة وابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: قدم ناس من
الاعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا نعم قالوا لكنا والله ما نقبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة " وقال ابن نمير " من قلبك الرحمة ". وقوله " والله عليم حكيم " أي
عليم بمن يستحق أن يعلمه الايمان والعلم حكيم فيما قسم بين عباده من العلم والجهل والايمان والكفر والنفاق
لا يسئل عما يفعل لعلمه وحكمته، وأخبر تعالى أن منهم " من يتخذ ما ينفق " أي في سبيل الله " مغرما " أي
غرامة وخسارة " ويتربص بكم الدوائر " أي ينتظر بكم الحوادث والآفات " عليهم دائرة السوء " أي هي منعكسة
عليهم والسوء دائر عليهم " والله سميع عليم " أي سميع لدعاء عباده عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق
الخذلان، وقوله " ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول " هذا
397

هو القسم الممدوح من الاعراب وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك
دعاء الرسول لهم " ألا أنها قربة لهم " أي ألا إن ذلك حاصل لهم " سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور
رحيم ".
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم
جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم (100)
يخبر تعالى عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من
جنات النعيم والنعيم المقيم، قال الشعبي: السابقون الأولون من المهاجرون والأنصار من أدرك بيعة الرضوان عام
الحديبية وقال أبو موسى الأشعري وسعيد بن المسيب ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة هم الذين صلوا إلى
القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال محمد بن كعب القرظي. مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ هذه الآية " والسابقون
الأولون من المهاجرين والأنصار " فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ فقال أبي بن كعب. فقال لا تفارقني
حتى أذهب بك إليه فلما جاءه قال عمر أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال نعم. قال: وسمعتها
من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. قال لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا. فقال أبي تصديق هذه الآية
في أول سورة الجمعة " وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم " وفي سورة الحشر " والذين جاءوا من
بعدهم " الآية وفي الأنفال " والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا معكم " الآية. ورواه ابن جرير قال وذكر عن الحسن
البصري أنه كان يقرؤها برفع الأنصار عطفا على والسابقون الأولون فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن
السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب
بعضهم ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن
أبي قحافة رضي الله عنه فان الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم. عياذا
بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة وقلوبهم منكوسة فأين هؤلاء من الايمان بالقرآن إذ يسبون
من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ويسبون من سبه الله ورسوله ويوالون من
يوالي الله ويعادون من يعادي الله وهم متبعون لا مبتدعون ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون
وعباده المؤمنون.
وممن حولكم من الاعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين
ثم يردون إلى عذاب عظيم (101)
يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون وفي أهل المدينة
أيضا منافقون " مردوا على النفاق " أي مرنوا واستمروا عليه ومنه يقال شيطان مريد ومارد ويقال تمرد فلان على
الله أي عتا وتجبر وقوله " لا تعلمهم نحن نعلمهم " لا ينافي قوله تعالى " ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتم بسيماهم
ولتعرفنهم في لحن القول " لان هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها لا أنه يعرف جميع من عنده من أهل
النفاق والريب على التعيين وقد كان يعلم أن في بعض من يخالطه من أهل المدينة نفاقا وإن كان يراه صباحا
ومساء وشاهد هذا بالصحة ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن
النعمان بن سالم عن رجل عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله انهم يزعمون أنه ليس لنا أجر
بمكة فقال " لتأتينكم أجوركم ولو كنتم في جحر ثعلب " وأصغى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه فقال " إن في
398

أصحابي منافقين " ومعناه أنه قد يبوح بعض المنافقين والمرجفين من الكلام بما لا صحة له ومن مثلهم صدر
هذا الكلام الذي سمعه جبير بن مطعم وتقدم في تفسير قوله " وهموا بما لم ينالوا " أنه صلى الله عليه وسلم أعلم حذيفة بأعيان أربعة
عشر أو خمسة عشر منافقا وهذا تخصيص لا يقتضي أنه اطلع على أسمائهم وأعيانهم كلهم والله أعلم وروى
الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عمر البيروتي من طريق هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا ابن جابر
حدثني شيخ ببيروت يكنى أبا عمر أظنه حدثني عن أبي الدرداء أن رجلا يقال له حرملة أتى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: الايمان ههنا وأشار بيده إلى لسانه. والنفاق ههنا وأشار بيده إلى قلبه ولم يذكر الله إلا قليلا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اجعل له لسانا ذاكرا وقلبا شاكرا وارزقه حبي وحب من يحبني وصير أمره إلى
خير ". فقال يا رسول الله: إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأسا فيهم أفلا آتيك بهم؟ قال " من أتانا
استغفرنا له ومن أصر فالله أولى به ولا تخرقن على أحد سترا ". قال وكذا رواه أبو أحمد الحاكم عن أبي بكر
الباغندي عن هشام ابن عمار به وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في هذه الآية أنه قال ما بال أقوام
يتكلفون علم الناس فلان في الجنة وفلان في النار فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال لا أدري لعمري أنت بنصيبك
أعلم منك بأحوال الناس ولقد تكلفت شيئا ما تكلفه الأنبياء قبلك قال نبي الله نوح عليه السلام " وما علمي بما
كانوا يعملون " وقال نبي الله شعيب عليه السلام " بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ " وقال
الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم " لا تعلمهم نحن نعلمهم " وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس
في هذه الآية قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال " اخرج يا فلان إنك
منافق واخرج يا فلان فإنك منافق " فأخرج من المسجد ناسا منهم فضحهم فجاء عمر وهم يخرجون من
المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة وظن أن الناس قد انصرفوا واختبؤاهم من عمر ظنوا أنه قد علم
بأمرهم فجاء عمر فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا فقال له رجل من المسلمين أبشر يا عمر قد فضح الله
المنافقين اليوم، قال ابن عباس فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد والعذاب الثاني عذاب القبر
وكذا قال الثوري عن السدي عن أبي مالك نحو هذا وقال مجاهد في قوله " سنعذبهم مرتين " " يعني القتل
والسبي وقال في رواية بالجوع وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم وقال ابن جريج عذاب الدنيا
وعذاب القبر ثم يردون إلى عذاب عظيم النار وقال الحسن البصري عذاب في الدنيا وعذاب في القبر وقال
عبد الرحمن بن زيد: أما عذاب في الدنيا فالأموال والأولاد وقرأ قوله تعالى " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما
يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر وعذاب في الآخرة في
النار " ثم يردون إلى عذاب عظيم " قال النار وقال محمد بن إسحاق " سنعذبهم مرتين " قال هو فيما بلغني
ما هم فيه من أمر الاسلام وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حسبة ثم عذابهم في القبور إذا صاروا
إليها ثم العذاب العظيم الذي يردون إليه عذاب الآخرة والخلد فيه وقال سعيد عن قتادة في قوله " سنعذبهم
مرتين " عذاب الدنيا وعذاب القبر " ثم يردون إلى عذاب عظيم " وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أسر إلى حذيفة باثني
عشر رجلا من المنافقين فقال ستة منهم تكفيهم الدبيلة سراج من نار جهنم يأخذ في كتف أحدهم حتى يفضي إلى
صدره وستة يموتون موتا. وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات رجل ممن يرى أنه منهم نظر
إلى حذيفة فإن صلى عليه وإلا تركه، وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة أنشدك الله أمنهم أنا؟ قال لا ولا أو من منها
أحدا بعدك.
وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم (102)
لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزاة رغبة عنها وتكذيبا وشكا شرع في بيان حال المذنبين الذين
تأخروا عن الجهاد كسلا وميلا إلى الراحة مع إيمانهم وتصديقهم بالحق فقال " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " أي
399

أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه
وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين، وقد
قال مجاهد إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة إنه الذبح وأشار بيه إلى حلقه وقال ابن عباس
" وآخرون " نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال بعضهم أبو لبابة
وخمسة معه وقيل وسبعة معه وقيل وتسعة معه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ربطوا أنفسهم بسواري
المسجد وحلفوا لا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أنزل الله هذه الآية " وآخرون اعترفوا بذنوبهم " أطلقهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم وقال البخاري حدثنا مؤمل بن هشام حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عوف حدثنا أبو
رجاء حدثنا سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا " أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى مدينة مبنية بلبن
ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء قالا لهم اذهبوا فقعوا
في ذلك النهر فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قالا لي هذه جنة
عدن وهذا منزلك قالا وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا تجاوز الله عنهم ". هكذا رواه البخاري مختصرا في تفسير هذه الآية.
خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم والله سميع عليم (103) ألم
يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم (104)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في
أموالهم إلى الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة من أحياء
العرب أن دفع الزكاة إلى الامام لا يكون وإنما كان هذا خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا احتجوا بقوله تعالى " خذ من
أموالهم صدقة " الآية وقد رد عليهم هذا التأويل والفهم الفاسد أبو بكر الصديق وسائر الصحابة وقاتلوهم حتى
أدوا الزكاة إلى الخليفة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال الصديق: والله لو منعوني عناقا - وفي رواية
عقالا - كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه، وقوله " وصل عليهم " أي ادع لهم واستغفر لهم
كما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه
أبي بصدقته فقال " اللهم صل على آل أبي أوفى ". وفي الحديث الآخر أن امرأة قالت يا رسول الله صل علي
وعلى زوجي فقال " صلى الله عليك وعلى زوجك " وقوله " إن صلاتك سكن لهم " قرأ بعضهم صلواتك على
الجمع وآخرون قرؤا إن صلاتك على الافراد " سكن لهم " قال ابن عباس رحمة لهم وقال قتادة وقار وقوله
" والله سميع " أي لدعائك " عليم " أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له قال الإمام أحمد حدثنا وكيع
حدثنا أبو العميس عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا لرجل أصابته
وأصابت ولده وولد ولده ثم رواه عن أبي نعيم عن مسعر عن أبي بكر بن عمرو بن عتبة عن ابن لحذيفة قال
مسعر وقد ذكره مرة عن حذيفة إن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لتدرك الرجل وولده وولد ولده. وقوله " ألم يعلموا أن الله هو
يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منهما يحط الذنوب ويمحصها
ويمحقها وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله تعالى يتقبلها
بيمينه فيربيها لصابحها حتى تصير التمرة مثل أحد كما جاء بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الثوري
ووكيع كلاهما عن عباد بن منصور عن القاسم بن محمد أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله
يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره حتى أن اللقمة لتكون مثل أحد "
وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات " وقوله
400

" يمحق الله الربا ويربي الصدقات " وقال الثوري والأعمش كلاهما عن عبد الله بن السائب عن عبد الله بن أبي قتادة
قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن الصدقة تقع في يد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل ثم قرأ
هذه الآية " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات ". وقد روى ابن عساكر في تاريخه في
ترجمة عبد الله بن الشاعر السكسكي الدمشقي وأصله حمصي وكان أحد الفقهاء روى عن معاوية وغيره وحكى
عنه حوشب بن سيف السكسكي الحمصي قال غزا الناس في زمان معاوية رضي الله عنه وعليهم عبد الرحمن بن
خالد بن الوليد فغل رجل من المسلمين مائة دينار رومية. فلما قفل الجيش ندم وأتى الأمير فأبى أن يقبلها منه
وقال: قد تفرق الناس ولن أقبلها منك حتى تأتي الله بها يوم القيامة فجعل الرجل يأتي الصحابة فيقولون له مثل
ذلك فلما قدم دمشق ذهب إلى معاوية ليقبلها منه فأبى عليه فخرج من عنده وهو يبكي ويسترجع فمر بعبد الله
ابن الشاعر السكسكي فقال له ما يبكيك؟ فذكر له أمره فقال له أو مطيعي أنت؟ فقال نعم فقال اذهب إلى
معاوية فقل له اقبل مني خمسك فادفع إليه عشرين دينارا وانظر إلى الثمانين الباقية فتصدق بها عن ذلك الجيش
فإن الله يقبل التوبة عن عباده وهو أعلم بأسمائهم ومكانهم ففعل الرجل فقال معاوية رضي الله عنه لان أكون
أفتيته بها أحب إلي من كل شئ أملكه أحسن الرجل.
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم
تعملون (105)
قال مجاهد: هذا وعيد يعني من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى
الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين وهذا كائن لا محالة يوم القيامة كما قال " يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية "
وقال تعالى " يوم تبلى السرائر " وقال " وحصل ما في الصدور " وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا كما
قال الإمام أحمد، حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال " لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج
الله عمله للناس كائنا ما كان " وقد ورد: أن أعمال الاحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ
كما قال أبو داود الطيالسي: حدثنا الصلت بن دينار عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم فإن كان خيرا استبشروا به وإن كان
غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك " وقال الإمام أحمد أنبانا عبد الرزاق عن سفيان عمن سمع أنسا يقول:
قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرا استبشروا به وأن كان غير
ذلك قالوا " اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا " وقال البخاري: قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أعجبك
حسن عمل امرئ مسلم فقل " اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وقد ورد في الحديث شيبة بهذا
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد حدثنا حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا عليكم أن
تعجبوا بأحد حتى تنظروا بم يختم له فإن العامل يعمل زمانا من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه
دخل الجنة ثم يتحول فيعمل عملا سيئا وإن العبد ليعمل البرهة من دهره بعمل سئ لو مات عليه دخل النار ثم
يتحول فيعمل عملا صالحا وإذا أراد الله بعبده خيرا استعمله قبل موته " قالوا يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال
" يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه " تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه.
وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم (106)
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وغير واحد: هم الثلاثة الذين خلفوا أي عن التوبة وهم مرارة بن
401

الربيع وكعب بن مالك وهلال بن أمية قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب
الثمار والظلال لا شكا ونفاقا فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه وطائفة لم
يفعلوا ذلك وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء وأرجى هؤلاء عن التوبة حتى نزلت الآية الآتية وهي
قوله " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " الآية " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم
الأرض بما رحبت " الآية كما سيأتي في حديث كعب بن مالك وقوله " إما يعذبهم وإما يتوب عليهم " أي
هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا وإن شاء فعل بهم ذاك ولكن رحمته تغلب غضبه " والله عليم حكيم "
أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو حكيم في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه.
والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن
إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون (107) لا تقم فيه أبدا لمسجد أسس على التقوى من أول يوم
أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (108)
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر
الراهب وكان قد تنصر في الجاهلية وقرأ علم أهل الكتاب وكان فيه عبادة في الجاهلية وله شرف في الخزرج
كبير فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للاسلام كلمة عالية وأظهرهم
الله يوم بدر شرق اللعين أبو عامر بريقه وبارز بالعداوة وظاهر بها وخرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش
يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان من أمر المسلمين
ما كان وامتحنهم الله عز وجل وكانت العاقبة للمتقين وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع
في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى وشج رأسه صلوات الله
وسلامه عليه وتقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته
فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله ونالوا منه وسبوه فرجع وهو يقول: والله لقد
أصاب قومي بعدي شر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبى أن يسلم
وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا فنالته هذه الدعوة، وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد
ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده
وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به
رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه
ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء فبنوه وأحكموه وفرغوا منه
قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا
بصلاته فيه على تقريره وإثباته وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من
الصلاة فيه فقال " إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله " فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم
يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض اليوم نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين
جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس في أول يوم على التقوى. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك
المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية هم أناس من الأنصار
بنوا مسجدا فقال لهم أبو عامر ابنوا مسجدا واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك
الروم فأتي بجند من الروم وأخرج محمدا وأصحابه فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له قد فرغنا من
بناء مسجدنا فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة فأنزل الله عز وجل " لا تقم فيه أبدا " إلى قوله
402

" الظالمين " وكذا روي عن سعيد بن جبير ومجاهد وعروة بن الزبير وقتادة وغير واحد من العلماء وقال
محمد بن إسحاق بن يسار عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمرو بن قتادة وغيرهم
قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من تبوك حتى نزل بذي أوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب
مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة
المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه فقال " إني على جناح سفر وحال شغل " أو كما قال
رسول الله صلى الله عليه " ولو قد قدمنا إن شاء الله تعالى أتيناكم فصلينا لكم فيه " فلما نزل بذي أوان أتاه خبر المسجد فدعا
رسول الله صلى الله عليه مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخاه عامر بن عدي أخا بلعجلان فقال
" انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرقاه " فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف وهم رهط
مالك بن الدخشم. فقال مالك لمعن انظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل
فأشعل فيه نارا ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا عنه ونزل فيهم من القرآن
ما نزل " والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا " إلى آخر القصة وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن
خالد من بني عبد بن زيد أحد بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق وثعلبة بن حاطب من بني
عبيد وموالي بني أمية بن زيد ومعتب بن قشير من بني ضيعة بن زيد وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد
وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف وحارثة بن عامر وابناه مجمع بن حارثة وزيد بن حارثة
ونبتل الحارث وهم من بني ضبيعة ومخرج وهم من بني ضبيعة وبجاد بن عمران وهو من بني ضبيعة ووديعة بن
ثابت وموالي بني أمية رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. وقوله " وليحلفن " أي الذين بنوه " إن أردنا إلا الحسنى "
أي ما أردنا ببنيانه إلا خيرا ورفقا بالناس قال الله تعالى " والله يشهد إنهم لكاذبون " أي فيما قصدوا وفيما نووا
وإنما بنوه ضرارا لمسجد قباء وكفرا بالله وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وهو أبو
عامر الفاسق الذي يقال له الراهب لعنه الله، وقوله " لا تقم فيه أبدا " نهي له صلى الله عليه وآله وسلم والأمة
تبع له في ذلك عن أن يقوم فيه أي يصلي أبدا. ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من أول يوم بنائه
على التقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا وموئلا للاسلام وأهله ولهذا قال تعالى
" لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه " والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ولهذا جاء
في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " صلاة في مسجد قباء كعمرة " وفي الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور مسجد قباء راكبا وماشيا وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه
وعلى آله وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة
فالله أعلم.
وقال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن يونس بن الحارث عن إبراهيم بن أبي ميمونة
عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " نزلت هذه الآية في أهل
قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " قال كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية. رواه الترمذي وابن ماجة
من حديث يونس بن الحارث وهو ضعيف وقال الترمذي غريب من هذا الوجه وقال الطبراني: حدثنا
الحسن بن علي العمري حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن الأعمش
عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية " فيه رجال يحبون أن يتطهروا " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
عويم بن ساعدة فقال " ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم "؟ فقال يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من
الغائط إلا وغسل فرجه أو قال مقعدته فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو هذا " وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن محمد
حدثنا أبو أويس حدثنا شرحبيل عن عويم بن ساعدة الأنصاري أنه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال
" إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ " فقالوا
403

والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما
غسلوا ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال هشيم عن عبد الحميد المدني عن إبراهيم بن المعلي الأنصاري أن
رسول الله صلى الله عليه قال لعويم بن ساعدة " ما هذا الذي أثنى الله عليكم: " فيه رجال يحبون أن يتطهروا "؟ " الآية قالوا يا
رسول الله إنا نغسل الادبار بالماء وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عمارة الأسدي حدثنا محمد بن سعد عن
إبراهيم بن محمد عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت يقول: نزلت هذه الآية " فيه رجال يحبون
أن يتطهروا والله يحب المطهرين " قال كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مالك يعني ابن مغول سمعت سيارا أبا
الحكم عن شهر بن حوشب عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لقد قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يعني قباء فقال " إن الله عز وجل قد أثنى عليكم في الطهور خيرا أفلا تخبروني؟ " يعني قوله " فيه رجال يحبون
أن يتطهروا " فقالوا يا رسول الله إنا نجده مكتوبا علينا في التوراة الاستنجاء بالماء.
وقد صرح جماعة من السلف بأنه مسجد قباء رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير وقاله عطية العوفي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم والشعبي والحسن
البصري ونقله البغوي عن سعيد بن جبير وقتادة وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي
في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان
مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى ولهذا قال الإمام أحمد
بن حنبل في مسنده: حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن
سعد عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المسجد الذي أسس على التقوى مسجدي هذا " تفرد به أحمد.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا ربيعة بن عثمان التيمي عن عمران بن أبي أنس عن سهل بن
سعد الساعدي قال: اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى فقال أحدهما
هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر هو مسجد قباء فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال " هو مسجدي هذا " تفرد به
أحمد أيضا.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود حدثنا ليث عن عمران بن أبي أنس عن سعيد بن أبي
سعيد الخدري قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال أحدهما هو مسجد
قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو مسجدي هذا " تفرد به أحمد.
" طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن أبي
سعيد عن أبيه أنه قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال أحدهما هو مسجد
قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هو مسجدي " وكذا رواه الترمذي والنسائي عن
قتيبة عن الليث وصححه الترمذي ورواه مسلم كما سيأتي.
" طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن أنيس بن أبي يحيى حدثني أبي قال سمعت أبا سعيد
الخدري قال: اختلف رجلان رجل من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على
التقوى فقال الخدري هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال العمري هو مسجد قباء فأتيا رسول الله
صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فسألاه عن ذلك فقال " هو هذا المسجد " لمسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه
وآله وسلم وقال في ذلك يعني مسجد قباء. " طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن أنيس قال أبو
جعفر بن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا حميد الخراط المدني سألت أبا سلمة بن
عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال إني أتيت
404

رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه في بيت لبعض نسائه فقلت: يا رسول الله أين المسجد الذي أسس على التقوى؟
قال فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال " هو مسجدكم هذا " ثم قال سمعت أباك يذكره رواه مسلم
منفردا به عن محمد بن حاتم عن يحيى بن سعيد به ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن حاتم بن إسماعيل
عن حميد الخراط به وقد قال بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف وهو مروي عن عمر بن الخطاب
وابنه عبد الله وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب واختاره ابن جرير وقوله " لمسجد أسس على التقوى من أول
يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين " دليل على استحباب الصلاة في
المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة
الصالحين والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير سمعت شبيبا أبا روح يحدث عن
رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ الروم فيها فأوهم فلما انصرف قال " إنه
يلبس علينا القرآن إن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء " ثم
رواه من طريقين آخرين عن عبد الملك بن عمير عن شبيب أبي روح من ذي الكلاع أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فذكره
فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها وقال أبو
العالية في قوله تعالى " والله يحب المطهرين " إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب وقال
الأعمش التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك وقد ورد في الحديث المروي من طرق في السنن وغيرها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء " قد أثنى الله عليكم في الطهور فماذا تصنعون؟ " فقالوا نستنجي بالماء وقد قال
الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز قال: وجدته في كتاب أبي عن
الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء " فيه رجال يحبون أن يتطهروا
والله يحب المطهرين " فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا نتبع الحجارة بالماء. رواه البزار ثم قال تفرد به
محمد بن عبد العزيز عن الزهري ولم يرو عنه سوى ابنه " قلت " وإنما ذكرته بهذا اللفظ لأنه مشهور بين الفقهاء
ولم يعرفه كثير من المحدثين المتأخرين أوكلهم والله أعلم.
أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار
جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين (109) لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله
عليم حكيم (110)
يقول تعالى لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ومن بني مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين
المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار أي
طرف حفيرة مثالة " في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين " أي لا يصلح عمل المفسدين قال جابر بن
عبد الله رأيت المسجد الذي بنى ضرارا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن جريج ذكر لنا أن
رجالا حقروا فوجدوا الدخان الذي يخرج منه وكذا قال قتادة وقال خلف بن ياسين الكوفي رأيت مسجد المنافقين
الذي ذكره الله تعالى في القرآن وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة رواه ابن جرير رحمه الله. وقوله
تعالى " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع
أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه وقوله " إلا أن تقطع قلوبهم " أي بموتهم. قال ابن
عباس ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم والسدي وحبيب بن أبي ثابت والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير
واحد من علماء السلف " والله عليم " أي بأعمال خلقه " حكيم " في مجازاتهم عنها من خير وشر.
405

* إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا
عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك
هو الفوز العظيم (111)
يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم إذ بذلوها في سبيله بالجنة وهذا من فضله وكرمه
وإحسانه فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. ولهذا قال الحسن البصري وقتادة:
بايعهم والله فأغلى ثمنهم. وقال شمر بن عطية ما من مسلم إلا ولله عز وجل في عنقه بيعة وفي بها أو مات عليها
ثم تلا هذه الآية. ولهذا يقال من حمل في سبيل الله بايع الله أي قبل هذا العقد ووفى به. وقال محمد بن كعب
القرظي وغيره قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة اشترط لربك ولنفسك ما
شئت فقال " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم
وأموالكم " قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال " الجنة " قالوا ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت " إن الله
اشترى من المؤمنين أنفسهم " الآية وقوله " يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون " أي سواء قتلوا أو قتلوا
أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة. ولهذا جاء في الصحيحين " وتكفل الله لمن خرج في سبيله لا
يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلا ما
نال من أجر أو غنيمة " وقوله " وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن " تأكيد لهذا الوعد وإخبار بأنه قد كتبه
على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه الكبار وهي التوراة المنزلة على موسى والإنجيل المنزل على
عيسى والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقوله " ومن أوفى بعده من الله " فإنه
لا يخلف الميعاد. هذا كقوله " ومن أصدق من الله حديثا " ومن أصدق من الله قليلا " ولهذا قال " فاستبشروا
ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ووفى بهذا العهد بالفوز
العظيم والنعيم المقيم.
التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر
والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين (112)
هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة " التائبون "
من الذنوب كلها التاركون للفواحش " العابدون " أي القائمون بعبادة ربهم محافظين عليها وهي الأقوال
والافعال. فمن أخص الأقوال الحمد فلهذا قال " الحامدون " ومن أفضل الأعمال الصيام وهو ترك الملاذ من
الطعام والشراب والجماع وهو المراد بالسياحة ههنا ولهذا قال " السائحون " كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
في قوله تعالى " سائحات " أي صائمات وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة ولهذا قال
" الراكعون الساجدون " وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن
المنكر مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علما وعملا فقاموا بعبادة
الحق ونصح الخلق ولهذا قال " وبشر المؤمنين " لان الايمان يشمل هذا كله والسعادة كل السعادة لمن اتصف به.
" بيان أن المراد بالسياحة الصيام " قال سفيان الثوري عن عاصم عن ذر عن عبد الله بن مسعود قال " السائحون "
الصائمون وكذا روي عن سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كل ما
406

ذكر الله في القرآن السياحة هم الصائمون وكذا قال الضحاك رحمه الله وقال ابن جرير: حدثنا أحمد بن
إسحاق حدثنا أبو أحمد حدثنا إبراهيم بن يزيد عن الوليد بن عبد الله عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سياحة هذه
الأمة الصيام وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن السلمي والضحاك بن مزاحم وسفيان بن
عيينة وغيرهم أن المراد بالسائحين الصائمون وقال الحسن البصري " السائحون " الصائمون شهر رمضان
وقال أبو عمرو العبدي " السائحون " الذين يديمون الصيام من المؤمنين وقد ورد في حديث مرفوع نحو هذا
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع حدثنا حكيم بن حزام حدثنا سليمان عن أبي صالح عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السائحون هم الصائمون " وهذا الموقوف أصح وقال أيضا: حدثني يونس عن
ابن وهب عن عمر بن الحارث عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين فقال " هم
الصائمون " وهذا مرسل جيد وهذا أصح الأقوال وأشهرها، وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد وهو ما روى أبو
داود في سننه من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله ائذن لي في السياحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " سياحة
أمتي الجهاد في سبيل الله " وقال ابن المبارك عن ابن لهيعة. أخبرني عمارة بن غزية إن السياحة ذكرت عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبدلنا الله بذلك الجهاد في سبيل الله والتكبير على كل شرف " وعن عكرمة أنه
قال: هم طلبة العلم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المهاجرون. رواهما ابن أبي حاتم وليس المراد
من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض والتفرد في شواهق الجبال والكهوف والبراري
فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من
الفتن " وقال العوفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " والحافظون لحدود الله " قال القائمون بطاعة
الله وكذا قال الحسن البصري وعنه رواية " الحافظون لحدود الله " قال لفرائض الله وفي رواية القائمون على
أمر الله.
ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم (113)
وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم (114)
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب
الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال " أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك
بها عند الله عز وجل ". فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أنا
على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فنزلت " ما كان للنبي والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم " قال ونزلت فيه " إنك لا
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " أخرجاه. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم أخبرنا سفيان عن
أبي إسحاق عن أبي الخليل عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه وهما مشركان فقلت أيستغفر
الرجل لأبويه وهما مشركان؟ فقال أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه؟. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت " ما كان للنبي
والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية. قال لما مات فلا أدري قاله سفيان أو قاله إسرائيل أو هو في الحديث
لما مات " قلت " هذا ثابت عن مجاهد أنه قال: لما مات. وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى حدثنا
زهير حدثنا زبيد بن الحارث اليامي عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر
فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب فصلى ركعتين ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان فقام إليه عمر بن الخطاب
وفداه بالأب والام وقال: يا رسول الله مالك؟ قال " إني سألت ربي عز وجل في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي
407

فدمعت عيناي رحمة لها من النار وإني كنت نهيتكم عن ثلاث: نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها لتذكركم زيارتها
خيرا ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث فكلوا وأمسكوا ما شئتم ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا
في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا ". وروى ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أتى رسم قبر فجلس إليه فجعل يخاطب ثم قام مستعبرا فقلنا يا رسول الله إنا رأينا ما
صنعت. قال " إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي " فما رئي
باكيا أكثر من يومئذ. وقال ابن أبي حاتم في تفسيره حدثنا أبي حدثنا خالد بن خداش حدثنا عبد الله بن وهب عن
ابن جريج عن أيوب بن هانئ عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى المقابر
فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها فناجاه طويلا ثم بكى فبكينا لبكائه ثم قام فقام إليه عمر بن الخطاب فدعاه
ثم دعانا فقال " ما أبكاكم؟ " فقلنا بكينا لبكائك. قال " إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة وإني استأذنت ربي
في زيارتها فأذن لي " ثم أورده من وجه آخر ثم ذكر من حديث ابن مسعود قريبا. وفيه " وإني استأذنت ربي في
الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل علي " ما كان للنبي والذين آمنوا " الآية. فأخذني ما يأخذ الولد للوالد. وكنت
نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة ".
" حديث أخر " في معناه قال الطبراني: حدثنا محمد بن علي المروزي حدثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب
حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة تبوك
واعتمر فلما هبط من ثنية عسفان أمر أصحابه أن " استندوا إلى العقبة حتى أرجع إليكم " فذهب فنزل على قبر أمه
فناجى ربه طويلا ثم إنه بكى فاشتد بكاؤه وبكى هؤلاء لبكائه وقالوا ما بكى نبي الله بهذا المكان إلا وقد أحدث الله في
أمته شيئا لا تطيقه فلما بكى هؤلاء قام فرجع إليهم فقال " ما يبكيكم؟ " قالوا يا نبي الله بكينا لبكائك فقلنا لعله
أحدث في أمتك شئ لا تطيقه قال " لا وقد كان بعضه ولكن نزلت على قبر أمي فسألت الله أن يأذن لي في
شفاعتها يوم القيامة فأبى الله أن يأذن لي فرحمتها وهي أمي فبكيت ثم جاءني جبريل فقال " وما كان استغفار
إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه " فتبرأ أنت من أمك كما تبرأ إبراهيم من
أبيه فرحمتها وهي أمي ودعوت ربي أن يرفع عن أمتي أربعا فرفع عنهم اثنتين وأبى أن يرفع عنهم اثنتين: دعوت
ربي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأن لا يلبسهم شيعا وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض فرفع
الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض وأبى الله أن يرفع عنهم القتل والهرج " وإنما عدل إلى قبر أمه لأنها
كانت مدفونة تحت كداء وكانت عسفان لهم وهذا حديث غريب وسياق عجيب وأغرب منه وأشد نكارة ما رواه
الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللاحق بسند مجهول عن عائشة في حديث فيه قصة أن الله أحيا أمه فآمنت
ثم عادت وكذلك ما رواه السهيلي في الروض بسند فيه جماعة مجهولون: أن الله أحيا له أباه وأمه فآمنا به. وقد
قال الحافظ ابن دحية في هذا الاستدلال بما حاصله أن هذه حياة جديدة كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها وصلى
علي العصر قال الطحاوي وهو حديث ثابت يعني حديث الشمس قال القرطبي فليس إحياؤهما يمتنع عقلا ولا
شرعا قال وقد سمعت أن الله أحيا عمه أبا طالب فآمن به " قلت " وهذا كله متوقف على صحة الحديث فإذا صح
فلا مانع منه والله أعلم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين "
الآية. أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لامه فنهاه الله عز وجل عن ذلك فقال " إن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه وسلم قد استغفر
لأبيه " فأنزل الله " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه " الآية وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن
يستغفروا للاحياء حتى يموتوا ثم أنزل الله " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " الآية. وقال قتادة في الآية ذكر لنا أن
رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل
408

الأرحام ويفك العاني ويوفي بالذمم أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بلى والله إني لأستغفر لأبي كما
استغفر إبراهيم لأبيه ". فأنزل الله " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " حتى بلغ قوله " الجحيم "
ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام فقال " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " الآية. قال وذكر لنا أن نبي الله صلى
الله عليه وآله وسلم قال " قد أوحى الله إلي كلمات فدخلن في أذني ووقرن في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن
مات مشركا ومن أعطى فضل ماله فهو خير له ومن أمسك فهو شر له ولا يلوم الله على كفاف ". وقال الثوري عن
الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه فذكر ذلك لابن
عباس فقال فكان ينبغي له أن يمشي منه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حيا فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال " وما
كان استغفار إبراهيم لأبيه - إلى قوله - تبرأ منه " لم يدع. وشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي
الله عنه لما مات أبو طالب قلت يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات قال " اذهب فواره ولا تحدثن شيئا
حتى تأتيني " فذكر تمام الحديث وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما مرت به جنازة عمه أبي طالب قال " وصلتك رحم يا عم "
وقال عطاء بن أبي رباح: ما كنت لأدع الصلاة على أحد من أهل القبلة ولو كانت حبشية حبلى من الزنا لاني لم
أسمع الله حجب الصلاة إلا عن المشركين يقول الله عز وجل " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين "
الآية.
وروى ابن جرير عن ابن وكيع عن أبيه عن عصمة بن وأمل عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول رحم الله رجلا
استغفر لأبي هريرة ولامه قلت ولأبيه قال لا. قال إن أبي مات مشركا وقوله " فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه "
قال ابن عباس ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. وفي رواية لما مات تبين
له أنه عدو لله وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم رحمهم الله وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير أنه يتبرأ
منه يوم القيامة حين يلقى أباه وعلى وجه أبيه القترة والغبرة فيقول يا إبراهيم إني كنت أعصيك وإني اليوم لا
أعصيك فيقول أي رب ألم تعدني أن لا تخزني يوم يبعثون؟ فأي خزي أخزي من أبي الابعد؟ فيقال انظر إلى ما
وراءك فإذا هو بذيخ متلطخ أي: قد مسخ ضبعا ثم يسحب بقوائمه ويلقى في النار. وقوله " إن إبراهيم لاواه
حليم " قال سفيان الثوري وغير واحد عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود أنه قال الأواه
الدعاء. وكذا روى من غير وجه عن ابن مسعود وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا الحجاج بن منهال حدثني
عبد الحميد بن بهرام حدثنا شهر بن حوشب عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل يا
رسول الله ما الأواه؟ قال " المتضرع " قال " إن إبراهيم لاواه حليم ". ورواه ابن أبي حاتم من حديث ابن
المبارك عن عبد الحميد بن بهرام به ولفظه قال الأواه المتضرع الدعاء وقال الثوري عن سلمة بن كهيل عن
مسلم البطين عن أبي الغدير أنه سأل ابن مسعود عن الأواه فقال هو الرحيم وبه قال مجاهد وأبو ميسرة عمر بن
شرحبيل والحسن البصري وقتادة وغيرهما إنه أي الرحيم أي بعباد الله وقال ابن المبارك عن خالد عن عكرمة عن
ابن عباس قال الأواه الموقن بلسان الحبشة وكذا قال العوفي عن ابن عباس أنه الموقن وكذا قال مجاهد
والضحاك وقال علي بن أبي طلحة ومجاهد عن ابن عباس الأواه المؤمن زاد علي بن أبي طلحة عنه هو المؤمن
التواب وقال العوفي عنه هو المؤمن بلسان الحبشة وكذا قال ابن جريج هو المؤمن بلسان الحبشة.
وقال الإمام أحمد حدثنا موسى حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل يقال له ذو النجادين " إنه أواه " وذلك أنه رجل كان إذا ذكر الله في القرآن رفع صوته
بالدعاء ورواه ابن جرير وقال سعيد بن جبير والشعبي الأواه المسبح وقال ابن وهب عن معاوية بن صالح عن أبي
الزاهرية عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: المحافظ على سبحة الضحى الأواه وقال شفي
ابن ماتع عن أبي أيوب الأواه الذي إذا ذكر خطاياه استغفر منها وعن مجاهد الأواه الحفيظ الوجل يذنب الذنب
409

سرا ثم يتوب منه سرا ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه الله. وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا المحاربي عن
حجاج عن الحكيم عن الحسن بن مسلم بن بيان أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إنه
أواه " وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا ابن هانئ حدثنا المنهال بن خليفة عن حجاج بن أرطاة عن عطاء عن ابن
عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتا فقال " رحمك الله إن كنت لاواها " يعني تلاء للقرآن وقال شعبة عن أبي يونس
الباهلي قال سمعت رجلا بمكة وكان أصله روميا وكان قاصا يحدث عن أبي ذر قال: كان رجل يطوف بالبيت
الحرام ويقول في دعائه أوه أوه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " إنه أواه " قال فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن
ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. هذا حديث غريب رواه ابن جريج. وروى عن كعب الأحبار أنه قال: سمعت
" إن إبراهيم لاواه " قال كان إذا ذكر النار قال أوه من النار وقال ابن جرير عن ابن عباس " إن إبراهيم لاواه "
قال فقيه. قال الإمام أبو جعفر بن جرير وأولى الأقوال قول من قال إنه الدعاء وهو المناسب للسياق وذلك أن الله
تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه عن موعدة وعدها إياها وقد كان إبراهيم كثير الدعاء حليما عمن ظلمه
وأناله مكروها ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله " أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته
لأرجمنك واهجرني مليا * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان ربي حفيا " فحلم عنه مع أذاه له ودعا له
واستغفر ولهذا قال تعالى " إن إبراهيم لاواه حليم ".
وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شئ عليم (115) إن الله له ملك
السماوات والأرض يحيى ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير (116)
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل إنه لا يضل قوما إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم حتى يكونوا قد
قامت عليهم الحجة كما قال تعالى " فأما ثمود فهديناهم " الآية وقال مجاهد في قوله تعالى " وما كان الله ليضل
قوما بعد إذ هداهم " الآية. قال بيان الله عز وجل للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة وفي بيانه لهم في
معصيته وطاعته عامة فافعلوا أو ذروا: وقال ابن جرير يقول الله تعالى وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم
لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للايمان به وبرسوله حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا
فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك بالنهي عنه فلم تضيعوا نهيه إلى ما نهاكم عنه فإنه لا يحكم عليكم بالضلال فإن
الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعا أو عاصيا فيما لم
يؤمر به ولم ينه عنه، وقوله تعالى " إن الله له ملك السماوات والأرض يحيي ويميت وما لكم من دون الله من ولي
ولا نصير " قال ابن جرير هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر وأنهم يثقوا
بنصر الله مالك السماوات والأرض ولم يرهبوا من أعدائه فإنه لا ولي لهم من دون الله ولا نصير لهم سواه وقال
ابن أبي حاتم حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن
محرز عن حكيم بن حزام قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم " هل تسمعون ما أسمع؟ " قالوا ما نسمع
من شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لاسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط ما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك
ساجد أو قائم " وقال كعب الأحبار ما من موضع خرمة إبرة من الأرض إلا وملك موكل بها يرفع علم ذلك إلى
الله وإن ملائكة السماء لأكثر من عدد التراب وإن حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى مخه مسيرة مائة عام.
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق
منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم (117)
410

قال مجاهد وغير واحد نزلت هذه الآية في غزوة تبوك وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الامر في سنة مجدبة
وحر شديد وعسر من الزاد والماء، قال قتادة خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من
الجهد ما أصابهم فيها جهد شديد حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما وكان النفر يتداولون التمرة
بينهم يمصها هذا ثم يشرب عليها ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوتهم، وقال ابن
جرير حدثني يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عتبة بن
أبي عتبة عن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر بن
الخطاب خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا
ستنقطع وحتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع وحتى إن الرجل لينحر
بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده فقال أبو بكر الصديق يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في
الدعاء خيرا فادع لنا فقال " تحب ذلك؟ " قال نعم فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم
سكنت فملؤا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر وقال ابن جرير في قوله " لقد تاب الله على
النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة " أي من النفقة والطهر والزاد والماء " من بعد ما كان
يزيغ قلوب فريق منهم " أي عن الحق ويشك في دين الرسول صلى الله عليه وسلم ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في
سفرهم وغزوهم " ثم تاب عليهم " يقول ثم رزقهم الإنابة " إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه " إنه بهم رؤوف
رحيم ".
وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من
الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم (118) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين (119)
قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله عن عمه محمد بن مسلم
الزهري أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبيد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه
حين عمي قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال كعب بن
مالك لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزاة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم
يعاتب أحدا تخلف عنها وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير
ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الاسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت
بدر أذكر في الناس منها وأشهر وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط
أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك
الغزاة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كثيرا فخلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم فأخبرهم وجهه
الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - قال كعب: فقل رجل يريد
أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين
طابت الثمار والظلال وأنا إليها أصغر فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم
فأرجع ولم أقض من جهازي شيئا فأقول لنفسي أنا قادر على ذلك إذا أردت فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر
بالناس الجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا وقلت أتجهز بعد يوم أو يومين
ثم ألحقه فغدوت بعدما صلوا لاتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئا ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا فلم
يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو فهممت أن ارتحل فألحقهم وليتني أني فعلت ثم لم يقدر ذلك
411

لي فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أنى لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا
ممن عذره الله عز وجل ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك فقال وهو جالس في القوم بتبوك " ما فعل
كعب بن مالك؟ " فقال رجل من بني سلمة حبسه يا رسول الله برده والنظر في عطفيه فقال معاذ بن جبل: بئسما
قلت والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال كعب بن مالك فلما بلغني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك حضر بثي وطفقت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطه غدا وأستعين
على ذلك بكل ذي رأي من أهلي فلما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لم أنج
منه بشئ أبدا فأجمعت صدقه فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى ركعتين ثم جلس
للناس فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا فيقبل منهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم
المغضب ثم قال لي " تعال " فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال لي " ما خلفك ألم تكن قد اشتريت
ظهرا؟ " فقلت يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر لقد
أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك
علي ولئن حدثتك بصدق تجد علي فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عز وجل والله ما كان لي عذر والله ما كنت
قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما هذا فقد صدق فقم حتى يقضي الله
فيك " فقمت وقام إلي رجال من بني سلمة واتبعوني فقالوا لي والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا ولقد
عجزت إلا أن تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون فقد كان كافيك من ذنبك استغفار
رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال فوالله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي قال ثم قلت لهم هل لقي معي
هذا أحد؟ قالوا نعم لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك فقلت فمن هما؟ قالوا
مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة قال
فمضيت حين ذكروهما لي فقال ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه
فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك
خمسين ليلة فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم فكنت أشهد
الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مجلسه بعد الصلاة فأسلم
وأقول في نفسي أحرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي
نظر إلي فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط
أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام فقلت له يا أبا قتادة أنشدك الله هل
تعلم أني أحب الله ورسوله قال فسكت قال فعدت له فنشدته فسكت فعدت له فنشدته فسكت فقال الله ورسوله
أعلم. قال ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي من أنباط الشام
ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك قال فطفق الناس يشيرون له إلي حتى جاء فدفع
إلي كتابا من ملك غسان وكنت كاتبا فإذا فيه: أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وأن الله لم يجعلك في دار
هوان ولا مضيعة فالحزق بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأته وهذا أيضا من البلاء قال فتيممت به التنور فسجرته به
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني يقول يأمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتزل
امرأتك قال: فقلت أطلقها أم ماذا أفعل؟ فقال: بل اعتزلها ولا تقربها قال وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك
قال: فقلت لامرأتي الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الامر ما يشاء قال فجاءت امرأة
هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال
" لا ولكن لا يقربك " قالت وإنه والله ما به من حركة إلى شئ وإنه والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى
412

يومه هذا قال: فقال لي بعض أهلي لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن
تخدمه قال: فقلت والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أدري ما يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته وأنا رجل
شاب قال فلبثنا عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال ثم صليت صلاة الصبح صباح
خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي
وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك
قال فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين
صلى الفجر ذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم وأوفى
على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي فكسوتهما إياه
ببشارته له والله ما أملك يومئذ غيرهما واستعرت ثوبين فلبستهما وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاني الناس فوجا
فوجا يهنوني بتوبة الله يقولون ليهنك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد
والناس حوله فقام إلي طلحة بن عبد الله يهرول حتى صافحني وهنأني والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال
فكان كعب لا ينساها لطلحة قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور " أبشر
بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك " قال: قلت أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال " لا بل من عند
الله " قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر حتى يعرف ذلك منه فلما جلست بين يديه
قلت يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال " أمسك عليك بعض مالك فهو
خير لك ". قال فقلت فإني أمسك سهمي الذي بخيبر وقلت يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق وإن من توبتي
أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت قال فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت
ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي
هذا وإني لأرجو أن يحفظني الله عز وجل فيما بقي.
" قال " وأنزل الله تعالى " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما
كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم
الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب
الرحيم * يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " إلى آخر الآيات. قال كعب فوالله ما أنعم الله علي
من نعمة قط بعد أن هداني للاسلام أعظم من نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون كذبته فأهلك كما
هلك الذين كذبوه فإن الله تعالى قال للذين كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لاحد فقال الله تعالى " سيحلفون
بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون *
يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " قال وكنا أيها الثلاثة الذين
خلفنا عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلفوا فبايعهم واستغفر لهم وأرجأ
رسول الله أمرنا حتى قضى الله فيه فلذلك قال الله عز وجل " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " وليس تخليفه إيانا
وإرجاؤه أمرنا الذي ذكر مما خلفنا بتخليفنا عن الغزو وإنما هو عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. هذا حديث
صحيح ثابت متفق على صحته رواه صاحبا الصحيح البخاري ومسلم من حديث الزهري بنحوه فقد تضمن هذا
الحديث تفسير هذه الآية الكريمة بأحسن الوجوه وأبسطها وكذا روي عن غير واحد من السلف في تفسيرها كما
رواه الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله في قوله تعالى " وعلى الثلاثة الذين خلفوا " قال هم كعب بن
مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد
وكلهم قال مرارة بن ربيعة وكذا في مسلم بن ربيعة في بعض نسخه وفي بعضها مرارة بن الربيع وفي رواية عن
الضحاك مرارة بن الربيع كما وقع في الصحيحين وهو الصواب وقوله فسموا رجلين شهدا بدرا قيل إنه خطأ من
413

الزهري فإنه لا يعرف شهود واحد من هؤلاء الثلاثة بدرا والله أعلم. ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة
من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحوا من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم
الأرض بما رحبت أي مع سعتها فسددت عليهم المسالك والمذاهب فلا يهتدون ما يصنعون فصبروا لأمر الله
واستكانوا لأمر الله وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تخلفهم وأنه
كان عن غير عذر فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم فكان عاقبة صدقهم خيرا لهم وتوبة عليهم.
ولهذا قال " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهله وتنجوا
من المهالك ويجعل لكم فرجا من أموركم ومخرجا وقد قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن
شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى
البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم
والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى
يكتب عند الله كذابا " أخرجاه في الصحيحين وقال شعبة عن عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدث عن عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أنه قال: الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل اقرأوا إن شئتم " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله
وكونوا مع الصادقين " هكذا قرأها ثم قال: فهل تجدون لاحد فيه رخصة؟ وعن عبد الله بن عمر في قوله " اتقوا
الله وكونوا مع الصادقين " قال مع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال الضحاك مع أبي بكر وعمر وأصحابهما وقال
الحسن البصري إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة.
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك
بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو
نيلا إلا كتب لهم به عمل صالحا إن الله لا يضيع أجر المحسنين (120)
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب
ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة فإنهم نقصوا أنفسهم من الاجر لانهم " لا يصيبهم ظمأ "
وهو العطش " ولا نصب " وهو التعب " ولا مخمصة " وهي المجاعة " ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار " أي
ينزلون منزلا يرهب عدوهم " ولا ينالون " منه ظفرا وغلبة عليه " إلا كتب لهم " بهذه الأعمال التي ليست داخلة
تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالا صالحة وثوابا جزيلا " إن الله لا يضيع أجر المحسنين كقوله
" إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ".
ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون (121)
يقول تعالى: ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله " نفقة صغيرة ولا كبيرة " أي قليلا ولا كثيرا " ولا يقطعون
واديا " أي في السير إلى الأعداء " إلا كتب لهم " ولم يقل ههنا به لأن هذه أفعال صادرة عنهم ولهذا قال
" ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون " وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الآية
الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم وذلك أنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة كما قال
عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا أبو موسى الغنوي حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثني سليمان بن المغيرة
حدثني الوليد بن أبي هاشم عن فرقد بن أبي طلحة عن عبد الرحمن بن حباب السلمي قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحث على جيش العسرة فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها قال: ثم حث
فقال عثمان علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها قال ثم نزل مرقاة من المنبر ثم حث فقال عثمان بن عفان
414

علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها. قال فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها. وأخرج عبد الصمد يده
كالمتعجب " ما على عثمان ما عمل بعد هذا " وقال عبد الله أيضا حدثنا هارون بن معروف حدثنا ضمرة حدثنا
عبد الله بن شوذب عن عبد الله بن القاسم عن كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة عن عبد الرحمن بن سمرة قال:
جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة قال فصبها في حجر
النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقلبها بيده ويقول " ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم " يرددها
مرارا وقال قتادة في قوله تعالى " ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم " الآية ما ازداد قوم في سبيل الله بعدا من
أهليهم إلا ازدادوا قربا من الله.
* وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا
إليهم لعلهم يحذرون (122)
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الاحياء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فإنه قد ذهبت طائفة من السلف إلى
أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى " انفروا خفافا وثقالا " وقال " ما
كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب " الآية قال فنسخ ذلك بهذه الآية وقد يقال إن هذا بيان لمراده
تعالى من نفير الاحياء كلها وشر ذمة من كل قبيلة إن لم يخرجوا كلهم ليتفقه الخارجون مع الرسول بما ينزل من
الوحي عليه وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم بما كان من أمر العدو فيجتمع لهم الأمران في هذا النفير المعين وبعده
صلى الله عليه وسلم تكون الطائفة النافرة من الحي إما للتفقه وإما للجهاد فإنه فرض كفاية على الاحياء وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " يقول ما كان المؤمنون لينفروا
جميعا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة " يعني عصبة يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه
فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون مع النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد
تعلمناه فتمكث السرايا ليتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ويبعث سرايا أخرى فذلك قوله " ليتفقهوا في
الدين " يقول ليتعلموا ما أنزل الله على نبيهم وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم " لعلهم يحذرون " وقال مجاهد
نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما
ينتفعون به ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى فقال الناس لهم ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا
لوجدوا في أنفسهم من ذلك تحرجا وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله عز وجل " فلولا
نفر من كل فرقة منهم طائفة " يبغون الخير " ليتفقهوا في الدين " وليستمعوا ما في الناس وما أنزل الله فعذرهم
" ولينذروا قومهم " الناس كلهم إذا رجعوا إليهم " لعلهم يحذرون " وقال قتادة في الآية هذا إذا بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيوش أمرهم الله أن يغزو بنبيه صلى الله عليه وسلم وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين وتنطلق طائفة تدعو
قومها وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم وقال الضحاك: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لاحد من
المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الاعذار وكان إذا قام وأسرى السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه وكان
الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه فإذا رجعت السرية قال لهم الذين
أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرأونهم ويفقهونهم في الدين وهو قوله " وما كان
المؤمنون لينفروا كافة " يقول إذا قام رسول الله " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة " يعني بذلك أنه لا ينبغي
للمسلمين أن ينفروا جميعا ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس.
وقال علي بن أبي طلحة أيضا عن ابن عباس في الآية قوله " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " إنها ليست في
الجهاد ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين أجدبت بلادهم وكانت القبيلة منهم تقبل بأسرها حتى يحلوا
415

بالمدينة من الجهد ويعتلوا بالاسلام وهم كاذبون فضيقوا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم فأنزل الله تعالى
يخبر رسوله أنهم ليسوا مؤمنين فردهم رسول الله إلى عشائرهم وحذر قومهم أن يفعلوا فعلهم فذلك قوله
" ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم " الآية وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: كان ينطلق من كل حي
من العرب عصابة فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عما يريدون من أمر دينهم ويتفقهون في دينهم ويقولون للنبي صلى الله عليه وسلم ما
تأمرنا أن نفعله؟ وأخبرنا بما نأمر به عشائرنا إذا قدمنا عليهم قال: فيأمرهم نبي الله صلى الله عليه وسلم بطاعة الله وطاعة رسوله
ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة وكانوا إذا أتوا قومهم قالوا إن من أسلم فهو منا وينذرونهم حتى إن الرجل
ليفارق أباه وأمه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرهم قومهم فإذا رجعوا إليهم يدعونهم إلى الاسلام وينذرونهم النار
ويبشرونهم بالجنة، وقال عكرمة لما نزلت هذه الآية " إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما " " وما كان لأهل المدينة "
الآية قال المنافقون هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه وقد كان ناس من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم فأنزل الله عز وجل " وما كان المؤمنون لينفروا كافة " الآية
ونزلت " والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب
شديد " وقال الحسن البصري في الآية: ليتفقه الذين خرجوا بما يريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة
وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين (123)
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار أولا فأولا الأقرب فالأقرب إلى حوزة الاسلام ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقتال المشركين في جزيرة العرب فلما فرغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن واليمامة وهجر
وخيبر وحضرموت وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجا شرع
في قتال أهل الكتاب فتجهز لغزو الروم الذين هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب وأولى الناس بالدعوة إلى الاسلام
لانهم أهل الكتاب فبلغ تبوك ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال وذلك سنة تسع من هجرته
عليه السلام. ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته
بأحد وثمانين يوما فاختاره الله لما عنده وقام بالامر بعده وزيره وصديقه وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد
مال الدين ميلة كاد أن ينجفل فثبته الله تعالى به فوطد القواعد وثبت الدعائم ورد شارد الدين وهو راغم ورد
أهل الردة إلى الاسلام وأخذ الزكاة ممن منعها من الطغاة وبين الحق لمن جهله. وأدى عن الرسول ما
حمله ثم شرع في تجهيز الجيوش الاسلامية إلى الروم عبدة الصلبان وإلى الفرس عبدة النيران ففتح الله
ببركة سفارته البلاد وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد وأنفق كنوزهما في سبيل الله كما أخبر
بذلك رسول الله وكان تمام الامر على يدي وصيه من بعده وولى عهده الفاروق الأواب شهيد المحراب
أبي حفص عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأرغم الله به أنوف الكفرة الملحدين وقمع الطغاة والمنافقين
واستولى على الممالك شرقا وغربا. وحملت إليه خزائن الأموال من سائر الأقاليم بعدا وقربا. ففرقها على الوجه
الشرعي والسبيل المرضي. ثم لما مات شهيدا. وقد عاش حميدا أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار
على خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار فكسى الاسلام رياسة حلة سابغة وامتدت
الدعوة في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة. فظهر الاسلام في مشارق الأرض ومغاربها وعلت
كلمة الله وظهر دينه وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مأربها وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم
الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالا لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " وقوله
تعالى " وليجدوا فيكم غلظة " أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم فإن المؤمن الكامل هو الذي
يكون رفيقا لأخيه المؤمن غليظا على عدوه الكافر كقوله تعالى " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
416

المؤمنين أعزة على الكافرين " وقوله تعالى " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم "
وقال تعالى " يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم " وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنا
الضحوك القتال " يعني أنه ضحوك في وجه وليه قتال لهامة عدوه وقوله " واعلموا أن الله مع المتقين " أي قاتلوا
الكفار وتوكلوا على الله واعلموا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه وهكذا الامر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم
خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم. ولم تزل الفتوحات كثيرة
ولم تزل الأعداء في سفال وخسار ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في أطراف
البلاد وتقدموا إليها فلم يمانعوا لشغل الملوك بعضهم ببعض ثم تقدموا إلى حوزة الاسلام فأخذوا من الأطراف
بلدانا كثيرة ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الاسلام ولله الامر من قبل ومن بعد، فكلما قام ملك
من ملوك الاسلام وأطاع أوامر الله وتوكل على الله فتح الله عليه من البلاد واسترجع من الأعداء بحسبه وبقدر ما فيه
من ولاية الله والله المسؤول المأمول أن يمكن المسلمين من نواصي أعدائه الكافرين وأن يعلي كلمتهم في سائر
الأقاليم إنه جواد كريم.
وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم
يستبشرون (124) وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون (125)
يقول تعالى " وإذا ما أنزلت سورة " فمن المنافقين " من يقول أيكم زادته هذه إيمانا " أي يقول بعضهم
لبعض أيكم زادته هذه السورة إيمانا قال الله تعالى " فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون " وهذه الآية
من أكبر الدلائل على أن الايمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء. بل قد حكى
غير واحد الاجماع على ذلك. وقد بسطت الكلام على هذه المسألة في أول شرح البخاري رحمه الله " وأما الذين
في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم " أي زادتهم شكا إلى شكهم وريبا إلى ريبهم كما قال تعالى
" وننزل من القرآن ما هو شفاء " الآية وقوله " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر
وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " وهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم
ودمارهم كما أن سئ المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالا ونقصا.
أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون (126) وإذا ما أنزلت سورة نظر
بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون (127)
يقول تعالى أو لا يرى هؤلاء المنافقون " أنهم يفتنون " أي يختبرون " في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا
هم يذكرون " أي لا يتوبون من ذنوبهم السالفة ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم قال مجاهد:
يختبرون بالسنة والجوع. وقال قتادة: بالغزو في السنة مرة أو مرتين. وقال شريك عن جابر عن الجعفي عن أبي
الضحى عن حذيفة في قوله " أو لا يرون أنكم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين " قال كنا نسمع في كل عام كذبة
أو كذبتين فيضل بها فئام من الناس كثير رواه ابن جرير. وفي الحديث عن أنس: لا يزداد الامر إلا شدة ولا
يزداد الناس إلا شحا وما من عام إلا والذي بعده شر منه. سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم وقوله " وإذا ما
أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون "
هذا أيضا إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم " نظر بعضهم إلى بعض " أي تلفتوا " هل يراكم
من أحد ثم انصرفوا " أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا
417

يفهمونه كقوله تعالى " فما لهم عن التذكرة معرضين * كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة " وقوله تعالى " فما
للذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين " أي ما لهؤلاء القوم يتفللون عنك يمينا وشمالا
هروبا من الحق وذهابا إلى الباطل وقوله " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " كقوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
بأنهم قوم لا يفقهون " أي لا يفهمون عن الله خطابه ولا يقصدون لفهمه ولا يريدونه بل هم في شغل عنه ونفور
منه فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه.
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم (128) فإن تولوا فقل حسبي
الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)
يقول تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم كما قال إبراهيم
عليه السلام " ربنا وابعث فيهم رسولا منهم " وقال تعالى " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من
أنفسهم " وقال تعالى " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " أي منكم وبلغتكم كما قال جعفر بن أبي طالب رضي
الله عنه للنجاشي والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته ومدخله
ومخرجه وصدقه وأمانته وذكر الحديث. وقال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى " لقد
جاءكم رسول من أنفسكم " قال لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلم " خرجت من
نكاح ولم أخرج من سفاح " وقد وصل هذا من وجه آخر كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن
الرامهرمزي في كتابه الفاصل بين الراوي والواعي. حدثنا ابن أحمد يوسف بن هارون بن زياد حدثنا ابن أبي
عمر حدثنا محمد بن جعفر بن محمد قال: أشهد على أبي لحدثني عن أبيه عن جده عن علي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي لم يمسني من سفاح
الجاهلية شئ " وقوله تعالى " عزيز عليه ما عنتم " أي يعز عليه الشئ الذي يعنت أمته ويشق عليها ولهذا جاء
في الحديث المروي من طرق عنه أنه قال " بعثت بالحنيفية السمحة " وفي الصحيح " إن الدين يسر " وشريعته
كلها سهلة سمحة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه " حريص عليكم " أي على هدايتكم ووصول
النفع الدنيوي والأخروي إليكم وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عبد الله بن
يزيد المقري حدثنا سفيان بن عيينة عن قطن عن أبي الطفيل عن أبي ذر قال: تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب
جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بقي شئ يقرب من الجنة ويباعد من
النار إلا وقد بين لكم " وقال الإمام أحمد: حدثنا قطن حدثنا المسعودي عن الحسن بن سعد عن عبدة الهذلي عن
عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ألا وإني
آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش أو الذباب " وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى حدثنا
حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان فيما
يرى النائم فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه اضرب مثل هذا
ومثل أمته فقال: إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به
المفازة ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة
وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا نعم قال فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا
فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ فقالوا
بلى فقال: فإن بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني فقالت طائفة
بلى صدق والله لنتبعنه وقالت طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه. وقال البزار حدثنا سلمة بن شبيب وأحمد بن منصور
418

قالا: حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان حدثنا أبي عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا جاء إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شئ قال عكرمة: أراه قال في دم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ثم قال " أحسنت
إليك؟ " قال الاعرابي لا ولا أجملت فغضب بعض المسلمين وهموا أن يقوموا إليه فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم
أن كفوا فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغ إلى منزله دعا الاعرابي إلى البيت فقال " إنما جئتنا تسألنا فأعطيناك فقلت ما
قلت " فزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا وقال " أحسنت إليك؟ " فقال الاعرابي نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم " إنك جئتنا فسألتنا فأعطيناك فقلت ما قلت وفي أنفس أصحابي عليك من ذلك شئ فإذا جئت
فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب عن صدورهم " فقال نعم. فلما جاء الاعرابي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن صاحبكم كان جاءنا فسألنا فأعطيناه فقال ما قال وإنا قد دعوناه فأعطيناه فزعم أنه قد رضي كذلك يا
أعرابي؟ " فقال الاعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن مثلي ومثل هذا الاعرابي
كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا. فقال لهم صاحب الناقة خلوا بيني
وبين ناقتي فأنا أرفق بها وأنا أعلم بها فتوجه إليها وأخذ لها من قشام الأرض ودعاها حتى جاءت واستجابت وشد
عليها رحلها وإني لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل النار " رواه البزار ثم قال لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه
" قلت " وهو ضعيف بحال إبراهيم بن الحكم بن أبان والله أعلم وقوله " بالمؤمنين رؤوف رحيم " كقوله
" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون * وتوكل على العزيز
الرحيم " وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة وهي قوله تعالى " فإن تولوا " أي تولوا عما جئتهم به من
الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة " فقل حسبي الله لا إله إلا هو " أي الله كافي لا إله إلا هو عليه توكلت
كما قال تعالى " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " " وهو رب العرش العظيم " أي هو مالك
كل شئ وخالقه لأنه رب العرش العظيم الذي هو سقف المخلوقات وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما
فيهما وما بينهما تحت العرش مقهورون بقدرة الله تعالى وعلمه محيط بكل شئ وقدره نافذ في كل شئ وهو
على كل شئ وكيل قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن أبي حدثنا بشر بن عمر حدثنا شعبة عن علي بن زيد
عن يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن هذه الآية
" لقد جاءكم رسول من أنفسكم " إلى آخر السورة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا
عبد المؤمن حدثنا عمر بن شقيق حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب
رضي الله عنهم أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رجال يكتبون ويملي
عليهم أبي بن كعب فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة " ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم " الآية فظنوا أن
هذا آخر ما نزل من القرآن فقال لهم أبي بن كعب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين " لقد جاءكم رسول من
أنفسكم " إلى آخر السورة قال هذا آخر ما نزل من القرآن فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو وهو قول الله
تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وهذا غريب أيضا وقال أحمد:
حدثنا علي بن بحر حدثنا علي بن محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن
الزبير رضي الله عنه قال أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " إلى
عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال من معك على هذا؟ قال لا أدري والله إني لأشهد لسمعتها من رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم ووعيتها وحفظتها فقال عمر: وأنا أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لو كانت
ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها فوضعوها في آخر براءة وقد تقدم
الكلام أن عمر بن الخطاب هو الذي أشار على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن فأمر زيد بن ثابت
فجمعه وكان عمر يحضرهم وهم يكتبون ذلك. وفي الصحيح أن زيدا قال فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة بن
ثابت أو أبي خزيمة وقد قدمنا أن جماعة من الصحابة تذكروا ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال خزيمة بن ثابت
419

حين ابتدأهم بها والله أعلم. وقد روى أبو داود عن يزيد بن محمد عن عبد الرزاق بن عمر - وقال كان من ثقات
المسلمين من المتعبدين - عن مدرك بن سعد قال يزيد شيخ ثقة عن يونس بن ميسرة عن أم الدرداء عن أبي
الدرداء قال: " من قال إذا أصبح وإذا أمسى حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع
مرات إلا كفاه الله ما أهمه "، وقد رواه ابن عساكر في ترجمة عبد الرزاق عن عمر هذا من رواية أبى زرعة
الدمشقي عنه عن أبي سعد مدرك بن أبي سعد الفزاري عن يونس بن ميسرة بن حلبس عن أم الدرداء سمعت أبا
الدرداء يقول " ما من عبد يقول حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات صادقا كان
بها أو كاذبا إلا كفاه الله ما أهمه " وهذه زيادة غريبة ثم رواه في ترجمة عبد الرزاق أبي محمد عن أحمد بن
عبد الله بن عبد الرزاق عن جده عبد الرزاق بن عمر بسنده فرفعه فذكر مثله بالزيادة وهذا منكر والله أعلم. آخر
تفسير سورة براءة ولله الحمد والمنة.
سورة يونس
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب الحكيم (1) أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس
وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين (2)
أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة وقال أبو الضحى عن ابن
عباس في قوله تعالى " الر " أي أنا الله أرى. وكذلك قال الضحاك وغيره " تلك آيات الكتاب الحكيم " أي
هذه آيات القرآن المحكم المبين وقال مجاهد " الر تلك آيات الكتاب الحكيم " (1) وقال الحسن التوراة
والزبور وقال قتادة " تلك آيات الكتاب " قال الكتب التي كانت قبل القرآن. وهذا القول لا أعرف وجهه ولا
معناه. وقوله " أكان للناس عجبا " الآية. يقول تعالى منكرا على من تعجب من الكفار من إرسال المرسلين من
البشر كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم " أبشر يهدوننا " وقال هود وصالح لقومهما " أوعجبتم أن
جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم " وقال تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا " أجعل الآلهة إلها واحدا
إن هذا لشئ عجاب " وقال الضحاك عن ابن عباس لما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو
من أنكر منهم فقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد قال فأنزل الله عز وجل " أكان للناس
عجبا " الآية. وقوله " أن لهم قدم صدق عند ربهم " اختلفوا فيه فقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله
" وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق " يقول سبقت لهم السعادة في الذكر الأول وقال العوفي عن ابن عباس
" أن لهم قدم صدق عند ربهم " يقول أجرا حسنا بما قدموا وكذا قال الضحاك والربيع بن أنس
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كقوله تعالى " لينذر بأسا شديدا " الآية. وقال مجاهد " أن لهم قدم صدق
عند ربهم " قال الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم قال: ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم وكذا
قال زيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقال قتادة سلف صدق عند ربهم واختار ابن جرير قول مجاهد أن الأعمال الصالحة
التي قدموها كما يقال له قدم في الاسلام كقول حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا * لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس إنها * مع الحسب العادي طمت على البحر

(1) بياض بالأصل.
420

وقوله تعالى " قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " أي مع أنا بعثنا إليهم رسولا منهم رجلا من جنسهم بشيرا
ونذيرا " قال الكافرون إن هذا لساحر مبين " أي ظاهروهم الكاذبون في ذلك.
إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الامر ما من شفيع إلا من
بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون (3)
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام قيل كهذه الأيام وقيل كل يوم
كألف سنة مما تعدون كما سيأتي بيانه ثم استوى على العرش والعرش أعظم المخلوقات وسقفها قال ابن أبي
حاتم: حدثنا حجاج بن حمزة حدثنا أبو أسامة حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت سعدا الطائي يقول:
العرش ياقوتة حمراء وقال وهب بن منبه خلقه الله من نوره وهذا غريب وقوله " يدبر الامر " أي يدبر أمر
الخلائق " لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض " ولا يشغله شأن عن شأن ولا تغلطه المسائل ولا
يتبرم بإلحاح الملحين ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير في الجبال والبحار والعمران والقفار " وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها " الآية " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس
إلا في كتاب مبين " وقال الدراوردي عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة أنه قال حين نزلت هذه الآية " إن
ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض " الآية لقيهم ركب عظيم لا يرون إلا أنهم من العرب فقالوا لهم من
أنتم؟ قالوا من الجن خرجنا من المدينة أخرجتنا هذه الآية رواه أبن أبي حاتم وقوله " ما من شفيع إلا من بعد
إذنه " كقوله تعالى " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقوله تعالى " وكم من ملك في السماوات لا تغني
شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وقوله " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " وقوله
" ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون " أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له " أفلا تذكرون " أي أيها
المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلها غيره وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق كقوله تعالى " ولئن سألتهم من
خلقهم ليقولن الله " وقوله " قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم * سيقولون الله قل أفلا تتقون "
وكذا الآية التي قبلها والتي بعدها.
إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدؤا الخلق ثم يعيده ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط
والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون (4)
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحدا حتى يعيده كما بدأه ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ
الخلق كذلك يعيده " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " " ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات
بالقسط " أي بالعدل والجزاء الأوفى " والذين كفروا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون " أي
بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم " هذا فليذوقوه حميم وغساق
وآخر من شكله أزواج " " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن ".
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق
يفصل الآيات لقوم يعلمون (5) إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السماوات والأرض لآيات لقوم
يتقون (6)
421

يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس
ضياء وجعل شعاع القمر نورا هذا فن وهذا فن آخر ففاوت بينهما لئلا يشتبها وجعل سلطان الشمس بالنهار
وسلطان القمر بالليل وقدر القمر منازل فأول ما يبدو صغيرا ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل
إبداره ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر كقوله تعالى " والقمر قدرناه منازل حتى
عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " وقوله
تعالى " والشمس والقمر حسبانا " الآية وقوله في هذه الآية الكريمة " وقدره " أي القمر " منازل لتعلموا عدد
السنين والحساب " فبالشمس تعرف الأيام وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام " ما خلق الله ذلك إلا بالحق "
أي لم يخلقه عبثا بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة كقوله تعالى " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " وقال تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا
ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " وقوله " نفصل الآيات " أي نبين الحجج
والأدلة " لقوم يعلمون " وقوله " إن في اختلاف الليل والنهار " أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا وإذا ذهب
هذا جاء هذا لا يتأخر عنه شيئا كقوله تعالى " يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا " وقال " لا الشمس ينبغي لها أن
تدرك القمر " الآية. وقال تعالى " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا " الآية وقوله " وما خلق الله في السماوات
والأرض " أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى كما قال " وكأين من آية في السماوات والأرض " الآية
وقوله " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " وقال " أفلم يروا إلى
ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض " وقال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار
لآيات لاولي الألباب " أي العقول: وقال ههنا " لآيات لقوم يتقون " أي عقاب الله وسخطه وعذابه.
إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون (7) أولئك مأواهم
النار بما كانوا يكسبون (8)
يقول تعالى مخبرا عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئا ورضوا بهذه الحياة
الدنيا واطمأنت إليها نفوسهم. قال الحسن: والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها وهم غافلون عن آيات الله
الكونية فلا يتفكرون فيها والشرعية فلا يأتمرون بها فإن مأواهم يوم معادهم النار جزاء على ما كانوا يكسبون في
دنياهم من الآثام والخطايا والاجرام مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم (9) دعواهم فيها
سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (10)
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وامتثلوا ما أمروا به فعملوا الصالحات بأنه سيهديهم
بإيمانهم يحتمل أن تكون الباء ههنا سببية فتقديره أي بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على
الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة. ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد في قوله
" يهديهم ربهم بإيمانهم " قال يكون لهم نورا يمشون به، وقال ابن جريج في الآية يمثل له عمله في صورة
حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك فيجعل له
نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة فذلك قوله تعالى " يهديهم ربهم بإيمانهم " والكافر يمثل له عمله في صورة
422

سيئة وريح منتنة فيلزم صاحبه ويلاده حتى يقذفه في النار وروي نحوه عن قتادة مرسلا فالله أعلم وقوله
" دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " أي هذا حال أهل
الجنة. قال ابن جريج أخبر أن قوله " دعواهم فيها سبحانك اللهم " قال إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا
سبحانك اللهم وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه فيسلم عليهم فيردون عليه فذلك قوله " وتحيتهم فيها
سلام " قال فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم فذلك قوله " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " وقال مقاتل بن
حيان: إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم " سبحانك اللهم " قال فيقوم على أحدهم عشرة
آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى قال فيأكل منهن كلهن وقال سفيان
الثوري: إذا أراد أحدهم أن يدعو بشئ قال " سبحانك اللهم " وهذه الآية فيها شبه من قوله " تحيتهم يوم
يلقونه سلام " الآية. وقوله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " وقوله " سلام قولا من رب
رحيم " وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم " الآية وقوله " وآخر دعواهم أن الحمد لله
رب العالمين " هذا فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبدا المعبود على طول المدى ولهذا حمد نفسه عند
ابتداء خلقه واستمراره وفي ابتداء كتابه وعند ابتداء تنزيله حيث يقول تعالى " الحمد لله الذي أنزل على عبده
الكتاب " " الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض " إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه
المحمود في الأولى والآخرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة في جميع الأحوال ولهذا جاء في الحديث " إن أهل
الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم
فتكرر وتعاد وتزداد فليس لها انقضاء ولا أمد فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
* ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم
يعمهون (11)
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أموالهم أو أولادهم في حال
ضجرهم وغضبهم وأنه يعلم منهم عدم القصد بالشر إلى إرادة ذلك فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا
ورحمة كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والنماء ولهذا قال " ولو
يجعل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم " الآية أي لو استجاب لهم كل ما دعوه به في ذلك
لأهلكهم ولكن لا ينبغي الاكثار من ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا محمد بن معمر حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا حاتم بن إسماعيل حدثنا يعقوب بن مجاهد أبو جزرة عن
عبادة بن الوليد حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم لا تدعوا
على أموالكم لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم " ورواه أبو داود من حديث حاتم بن إسماعيل
به. وقال البزار وتفرد به عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري لم يشاركه أحد فيه وهذا كقوله تعالى
" ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير " الآية. وقال مجاهد في تفسير هذه الآية " ولو يعجل الله للناس الشر
استعجالهم بالخير " الآية هو قول الانسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه. فلو يعجل
لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم.
وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه
كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون (12)
يخبر تعالى عن الانسان وضجره وقلقه إذا مسه الشر " وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض " أي كثير وهما في معنى
423

واحد وذلك لأنه إذا أصابته شدة قلق لها وجزع منها وأكثر الدعاء عند ذلك فدعا الله في كشفها ورفعها عنه في حال
اضطجاعه وقعوده وقيامه وفي جميع أحواله فإذا فرج الله شدته وكشف كربته أعرض ونأى بجانبه وذهب كأنه ما
كان به من ذلك شئ " مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " ثم ذم تعالى من هذه صفته وطريقته فقال " كذلك زين
للمسرفين ما كانوا يعملون " فأما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك كقوله
تعالى " إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات " وكقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " عجبا لأمر المؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا
كان خيرا له: إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لاحد إلا
للمؤمن ".
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم
المجرمين (13) ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون (14)
أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات والحجج الواضحات ثم
استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم وأرسل إليهم رسولا لينظر طاعتهم له واتباعهم رسوله وفي صحيح مسلم
من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها
فناظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء " وقال ابن جرير:
حدثني المثنى حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة بهذا أنبأنا حماد عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن
عوف بن مالك قال لأبي بكر: رأيت فيما يرى النائم كأن سببا دلي من السماء فانتشط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعيد
فانتشط أبو بكر ثم ذرع الناس حول المنبر ففضل عمر بثلاثة أذرع حول المنبر فقال عمر: دعنا من رؤياك لا أرب
لنا فيها فلما استخلف عمر قال: يا عوف رؤياك؟ قال وهل لك في رؤياي من حاجة أو لم تنتهرني؟ قال ويحك
إني كرهت أن تنعى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه فقص عليه الرؤيا حتى إذا بلغ ذرع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث
الأذرع قال: أما إحداهن فإنه كان خليفة وأما الثانية فإنه لا يخاف في الله لومة لائم وأما الثالثة فإنه شهيد.
قال: فقال يقول الله تعالى " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " فقد استخلفت يا
ابن أم عمر فانظر كيف تعمل؟ وأما قوله فإني لا أخاف في الله لومة لائم فيما شاء الله وأما قوله شهيد فأنى
لعمر الشهادة والناس مطيفون به؟
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله
من تلقائ نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم (15) قل لو شاء
الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون (16)
يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله
وحجته الواضحة قالوا له ائت بقرآن غير هذا أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر قال الله
تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم " قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي " أي ليس هذا إلي إنما أنا عبد
مأمور ورسول مبلغ عن الله " إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم " ثم قال
محتجا عليهم في صحة ما جاءهم به " قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به " أي هذا إنما جئتكم به عن
إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته والدليل على أني لست أتقوله من عندي ولا افتريته أنكم عاجزون عن
معارضته وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل لا تنتقدون علي شيئا
424

تغمصوني به ولهذا قال: " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق
من الباطل ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ومن معه فيما سأله من صفة النبي صلى الله عليه وسلم قال هرقل لأبي
سفيان هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان فقلت لا وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس
الكفرة وزعيم المشركين ومع هذا اعترف بالحق " والفضل ما شهدت به الأعداء " فقال له هرقل: فقد أعرف أنه
لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة:
بعث الله فينا رسولا نعرف صدقه ونسبه وأمانته وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين
سنة وعن سعيد بن المسيب ثلاثا وأربعين سنة والصحيح المشهور الأول.
فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون (17)
يقول تعالى لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما " ممن افترى على الله كذبا " وتقول على الله وزعم أن الله
أرسله ولم يكن كذلك فليس أحد أكبر جرما ولا أعظم ظلما من هذا ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف
يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإنه من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا فلا بد أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو
فجوره ما هو أظهر من الشمس، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق
بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة
على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي قال عبد الله بن سلام لما قدم
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب قال
فكان أول ما سمعته يقول " يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس
نيام تدخلون الجنة بسلام " ولما قدم وفد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال
لرسول الله فيما قال له: من رفع هذه السماء؟ قال " الله " قال ومن نصب هذه الجبال؟ قال " الله " قال ومن
سطح هذه الأرض؟ قال " الله " قال: فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض آلله أرسلك
إلى الناس كلهم؟ قال " اللهم نعم " ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه
اليمين ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: صدقت والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص فاكتفى
هذا الرجل بمجرد هذا وقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه وقال
حسان بن ثابت:
لو لم تكن فيه آيات مبينة * كانت بديهته تأتيك بالخبر
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذوي البصائر علم أمره لا محالة بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة وأفعاله غير
الحسنة بل القبيحة وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة والفضيحة وكم من فرق بين قوله تعالى " الله لا
إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم " إلى آخرها وبين قول مسيلمة قبحه الله ولعنه: يا ضفدع بنت
ضفدعين نقي كم تنقين لا الماء تكدرين ولا الشارب تمنعين. وقوله قبحه الله: لقد أنعم الله على
الحبلى إذ أخرج منها نسمة تسعى من بين صفاق وحشا. وقوله خلده الله في نار جهنم وقد فعل: الفيل
وما أدراك ما الفيل له خرطوم طويل وقوله أبعده الله عن رحمته: والعاجنات عجنا والخابزات خبزا
واللاقمات لقما إهالة وسمنا إن قريشا قوم يعتدون. إلى غير ذلك من الخرافات والهذيانات التي يأنف
الصبيان أن يلفظوا بها إلا على وجه السخرية والاستهزاء ولهذا أرغم الله أنفه وشرب يوم الحديقة حتفه
ومزق شمله ولعنه صحبه وأهله. وقدموا على الصديق تائبين وجاءوا في دين الله راغبين فسألهم الصديق
خليفة الرسول صلوات الله وسلامه عليه ورضي عنه أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله فسألوه أن يعفيهم
425

من ذلك فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس فيعرفوا فضل ما هم عليه من الهدى
والعلم فقرأوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه فلما فرغوا قال لهم الصديق رضي الله عنه: ويحكم أين كان
يذهب بعقولكم؟ والله إن هذا لم يخرج من إل وذكروا أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة وكان صديقا له في
الجاهلية وكان عمرو لم يسلم بعد فقال له مسيلمة ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في هذه المدة؟ فقال: لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال: وما هي فقال " والعصر إن
الانسان لفي خسر " إلى آخر السورة ففكر مسيلمة ساعة ثم قال وأنا قد أنزل علي مثله فقال وما هو؟ فقال:
يا وبر يا وبر إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر. كيف ترى يا عمرو؟ فقال له عمرو: والله إنك لتعلم
أني أعلم أنك تكذب. فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه وحال
مسيلمة لعنه الله وكذبه فكيف بأولي البصائر والنهى وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجا ولهذا قال
الله تعالى " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ ومن قال سأنزل مثل ما
أنزل الله " وقال في هذه الآية الكريمة " ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح
المجرمون " وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل وقامت عليه الحجج لا أحد أظلم منه كما جاء
في الحديث " أعتى الناس على الله رجل قتل نبيا أو قتله نبي ".
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء وشفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم
في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون (18) وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا
كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون (19)
ينكر تعالى على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله فأخبر تعالى
أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئا ولا يقع شئ مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبدا ولهذا قال تعالى " قل
أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض " وقال ابن جرير: معناه أتخبرون الله بما لا يكون في
السماوات ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال " سبحانه وتعالى عما يشركون " ثم
أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو
الاسلام. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الاسلام ثم وقع الاختلاف بين الناس
وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان فبعث الله الرسل بآياته وبيناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة " ليهلك من هلك
عن بينة ويحيى من حي عن بينة " وقوله " ولولا كلمة سبقت من ربك " الآية أي لولا ما تقدم من الله تعالى
أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه وأنه قد أجل الخلق إلى أجل معدود لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه
فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين.
ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب لله فانتظروا إني معكم من المنتظرين (20)
أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون: لولا أنزل على محمد آية من ربه يعنون كما أعطى الله ثمود الناقة
أو أن يحول لهم الصفا ذهبا أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهارا أو نحو ذلك مما الله عليه
قادر ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله كما قال تعالى: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري
من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " وكقوله " وما منعنا
أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " الآية. يقول تعالى: إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا فإن
426

آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة. ولهذا لما خير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا
وإلا عذبوا وبين إنظارهم اختار إنظارهم كما حلم عنهم غير مرة رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم
ولهذا قال تعالى إرشادا لنبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى الجواب عما سألوا " فقل إنما الغيب لله " أي
الامر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور " فانتظروا إني معكم من المنتظرين " أي إن كنتم لا تؤمنون حتى
تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله في وفيكم. هذا مع أنهم قد شاهدوا من آياته صلى الله عليه وسلم أعظم مما
سألوا حين أشار بحضرتهم إلى القمر ليلة إبداره فانشق اثنتين فرقة من وراء الجبل وفرقة من دونه. وهذا أعظم من
سائر الآيات الأرضية مما سألوا وما لم يسألوا ولو علم الله منهم أنهم سألوا ذلك استرشادا وتثبيتا لأجابهم ولكن
علم أنهم إنما يسألون عنادا وتعنتا فتركهم فيما رابهم وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد كقوله تعالى " إن الذين حقت
عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية " الآية وقوله تعالى " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم
الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله " الآية ولما فيهم من المكابرة كقوله تعالى
" ولو فتحنا عليهم بابا من السماء " الآية وقوله تعالى " وإن يروا كسفا من السماء ساقطا " الآية وقال تعالى
" ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " فمثل هؤلاء أقل من
أن يجابوا إلى ما سألوه لأنه لا فائده في جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ولهذا
قال " فانتظروا إني معكم من المنتظرين ".
وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا إن رسلنا يكتبون ما
تمكرون (21) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها
جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا
من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم
على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة والخصب بعد الجدب والمطر
بعد القحط ونحو ذلك " إذا لهم مكر في آياتنا " قال مجاهد استهزاء وتكذيب كقوله " وإذا مس الانسان الضر
دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " الآية وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح على أثر سماء كانت من
الليل أي مطر ثم قال " هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " قال أصبح من عبادي
مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء
كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب " وقوله " قل الله أسرع مكرا " أي أشد استدراجا وإمهالا حتى يظن
الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه والكاتبون الكرام يكتبون عليه
جميع ما يفعله ويحصونه عليه ثم يعرضون على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على الجليل والحقير والنقير
والقطمير، ثم أخبر تعالى أنه " هو الذي يسيركم في البر والبحر " أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته " حتى إذا
كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها " أي بسرعة سيرهم رافقين فبينما هم كذلك إذ " جاءتها "
أي تلك السفن " ريح عاصف " أي شديدة " وجاءهم الموج من كل مكان " أي اغتلم البحر عليهم " وظنوا
أنهم أحيط بهم " أي هلكوا " دعوا الله مخلصين له الدين " أي لا يدعون معه صنما ولا وثنا بل يفردونه بالدعاء
والابتهال كقوله تعالى " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان
427

الانسان كفورا " وقال ههنا " دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه " أي هذه الحال " لنكونن من
الشاكرين " أي لا نشرك بك أحدا ولنفردنك بالعبادة هناك كما أفردناك بالدعاء ههنا قال تعالى " فلما أنجاهم "
أي من تلك الورطة " إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق " أي كأن لم يكن من ذلك شئ " كأن لم يدعنا إلى
ضر مسه " ثم قال تعالى " يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم " أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم
ولا تضرون به أحدا غيركم كما جاء في الحديث " ما من ذنب أجدر من أن يجعل الله عقوبته في الدنيا مع ما
يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " وقوله " متاع الحياة الدنيا " أي إنما لكم متاع في الحياة
الدنيا الدنيئة الحقيرة " ثم إلينا مرجعكم " أي مصيركم ومآلكم " فننبئكم " أي فنخبركم بجميع أعمالكم
ونوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام حتى
إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا
كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (24) والله يدعوا إلى دار السلام ويهدى من
يشاء إلى صراط مستقيم (25)
ضرب تبارك وتعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض
بماء أنزل من السماء مما يأكل الناس من زروع وثمار على اختلاف أنواعها وأصنافها وما تأكل الانعام من أب
وقضب وغير ذلك " حتى إذا أخذت الأرض زخرفها " أي زينتها الفانية " وازينت " أي حسنت بما خرج في
رباها من زهور نضرة مختلفة الاشكال والألوان " وظن أهلها " الذين زرعوها وغرسوها " أنهم قادرون عليها "
أي على جذاذها وحصادها فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة فأيبست أوراقها وأتلفت
ثمارها ولهذا قال تعالى " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا " أي يابسا بعد الخضرة والنضارة " كأن لم
تغن بالأمس " أي كأنها ما كانت حينا قبل ذلك وقال قتادة: كأن لم تغن كأن لم تنعم وهكذا الأمور بعد
زوالها كأنها لم تكن. ولهذا جاء في الحديث " يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له هل رأيت
خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال
له هل رأيت بؤسا قط؟ فيقول لا " وقال تعالى إخبارا عن المهلكين " فأصبحوا في دارهم جاثمين كأن لم يغنوا
فيها " ثم قال تعالى " كذلك نفصل الآيات " أي نبين الحجج والأدلة " لقوم يتفكرون " فيعتبرون بهذا المثل
في زوال الدنيا من أهلها سريعا مع اغترارهم بها وتمكنهم وثقتهم بمواعيدها وتفلتها عنهم فإن من طبعها الهرب
ممن طلبها والطلب لمن هرب منها وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض في غير ما آية من كتابه
العزيز فقال في سورة الكهف " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض
فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا " وكذا في سورة الزمر والحديد يضرب الله بذلك مثل
الحياة الدنيا. وقال ابن جرير: حدثني الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن
عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: سمعت مروان يعني ابن الحكم يقرأ على
المنبر: " وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها وما كان الله ليهلكهم إلا بذنوب أهلها " قال: قد قرأتها وليست في
المصحف فقال عباس بن عبد الله بن عباس: هكذا يقرؤها ابن عباس فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا
أقرأني أبي بن كعب وهذه قراءة غريبة وكأنها زيدت للتفسير.
وقوله تعالى (والله يدعو إلى دار السلام) الآية. لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها
428

وسماها دار السلام أي من الآفات والنقائص والنكبات فقال " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم " قال أيوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قيل لي لتنم عينك وليعقل قلبك ولتسمع أذنك
فنامت عيني وعقل قلبي وسمعت أذني ثم قيل لي مثلي ومثل ما جئت كمثل سيد بني دارا ثم صنع مأدبة وأرسل
داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ورضي عنه السيد ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار
ولم يأكل من المأدبة ولم يرض عنه السيد والله السيد والدار الاسلام والمأدبة لجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم " وهذا
حديث مرسل وقد جاء متصلا من حديث الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال " إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند
رجلي يقول أحدهما لصاحبه اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك إنما مثلك ومثل
أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بيتا ثم جعل فيها مأدبة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من
أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله الملك والدار الاسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد الرسول فمن أجابك
دخل الاسلام ومن دخل الاسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل منها " رواه ابن جرير وقال قتادة: حدثني
خليد العصري عن أبي الدرداء مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم طلعت فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان
يناديان يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين: يا أيها الناس هلموا إلى ربكم إن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى " قال
وأنزل في قوله يا أيها الناس هلموا إلى ربكم " والله يدعو إلى دار السلام " الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن
جرير.
* للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (26)
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالايمان والعمل الصالح: الحسنى في الدار الآخرة كقوله تعالى
" هل جزاء الاحسان إلا الاحسان " وقوله " وزيادة " هي تضعيف ثواب الأعمال بالحسنة عشر أمثالها إلى
سبعمائة ضعف وزيادة على ذلك أيضا ويشمل ما يعطيهم الله في الجنان من القصور والحور والرضا عنهم وما أخفاه
لهم من قرة أعين وأفضل من ذلك وأعلاه النظر إلى وجهه الكريم فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها
بعملهم بل بفضله ورحمته وقد روي تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم عن أبي بكر الصديق وحذيفة بن
اليمان وعبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وعبد الرحمن بن سابط ومجاهد وعكرمة
وعامر بن سعد وعطاء والضحاك والحسن وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم من السلف والخلف وقد
وردت فيه أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد: حدثنا عفان أخبرنا حماد بن سلمة عن
ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية " للذين
أحسنوا الحسنى وزيادة " وقال " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله
موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من
النار؟ - قال - فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر
لأعينهم " وهكذا رواه مسلم وجماعة من الأئمة من حديث حماد بن سلمة به وقال ابن جرير: حدثني يونس
قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني شبيب عن أبان بن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله يبعث يوم القيامة مناديا ينادي يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن الله
وعدكم الحسنى وزيادة فالحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عز وجل " رواه أيضا ابن أبي حاتم من
حديث أبي بكر الهذلي عن أبي تميمة الهجيمي به وقال ابن جرير أيضا: حدثنا ابن حميد حدثنا إبراهيم بن
المختار عن ابن جريج عن عطاء عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " قال
429

" النظر إلى وجه الرحمن عز وجل " وقال أيضا: حدثنا ابن عبد الرحيم حدثنا عمر بن أبي سلمة سمعت زهيرا
عمن سمع أبا العالية حدثنا أبي بن كعب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل " للذين أحسنوا الحسنى
وزيادة " قال " الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل " ورواه ابن أبي حاتم أيضا من حديث زهير
به. وقوله تعالى " ولا يرهق وجوههم قتر " أي قتام وسواد في عرصات المحشر كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة
من القترة والغبرة " ولا ذلة " أي هوان وصغار أي لا يحصل لهم إهانة في الباطن ولا في الظاهر بل هم كما قال
تعالى في حقهم " فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا " أي نضرة في وجوههم وسرورا في قلوبهم
جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين.
والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا
من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (27)
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات ويزدادون على ذلك عطف بذكر حال الأشقياء فذكر
تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك " وترهقهم " أي تعتريهم وتعلوهم ذلة من
معاصيهم وخوفهم منها كما قال " وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل " الآية وقال تعالى " ولا تحسبن
الله غافلا عما يعمل الظالمون * إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار مهطعين مقنعي رؤوسهم " الآيات. وقوله
" ما لهم من الله من عاصم " أي مانع ولا واق يقيهم العذاب كقوله تعالى " يقول الانسان يومئذ أين المفر * كلا
لا وزر * إلى ربك يومئذ المستقر " وقوله " كأنما أغشيت وجوههم " الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار
الآخرة كقوله تعالى " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا
العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون " وقوله تعالى " وجوه
يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة " الآية.
ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا
تعبدون (28) فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين (29) هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت
وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون (30)
يقول تعالى " ويوم نحشرهم " أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر كقوله " وحشرناهم فلم نغادر
منهم أحدا " " ثم نقول للذين أشركوا " الآية أي الزموا أنتم وهم مكانا معينا امتازوا فيه عن مقام المؤمنين
كقوله تعالى " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " وقوله " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " وفي الآية الأخرى
" يومئذ يصدعون " أي يصيرون صدعين وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ولهذا قيل
ذلك (1) يستشفع المؤمنون إلى الله تعالى أن يأتي لفصل القضاء ويريحنا من مقامنا هذا وفي الحديث
الآخر " نحن يوم القيامة على كوم فوق الناس " وقال الله تعالى في الآية الكريمة إخبارا عما يأمر به المشركين
وأوثانهم يوم القيامة " مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم " الآية أنهم أنكروا عبادتهم وتبرأوا منهم كقوله
" كلا سيكفرون بعبادتهم " الآية وقوله " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا " وقوله " ومن أضل ممن يدعو

(1) بياض بالأصل.
430

من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء "
الآية وقوله في هذه الآية إخبارا عن قول الشركاء فيما راجعوا فيه عابديهم عند ادعائهم عبادتهم (فكفى بالله
شهيدا بيننا وبينكم) الآية: أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله
شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك وفي هذا تبكيت عظيم
للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره ممن لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به
ولا أراده بل تبرأ منهم وقت أحوج ما يكونون إليه وقد تركوا عبادة الحي القيوم السميع البصير القادر على كل شئ
العليم بكل شئ وقد أرسل رسله وأنزل كتبه آمرا بعبادته وحده لا شريك له ناهيا عن عبادة ما سواه كما قال تعالى " ولقد
بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " وقال
تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال " واسأل من أرسلنا قبلك
من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " والمشركون أنواع وأقسام قد ذكرهم الله في كتابه وبين أحوالهم
وأقوالهم ورد عليهم فيما هم فيه أتم رد قوله تعالى (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) أي في موقف
الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر كقوله تعالى " يوم تبلى السرائر "
وقال تعالى " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر " وقال تعالى " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا * اقرأ
كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " وقد قرأ بعضهم " هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت " وفسرها بعضهم
بالقراءة وفسرها بعضهم بمعنى تتبع ما قدمت من خير وشر وفسرها بعضهم بحديث " لتتبع كل أمة ما كانت
تعبد فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس ويتبع من كان يعبد القمر القمر ويتبع من كان يعبد الطواغيت
الطواغيت " الحديث وقوله " وردوا إلى الله مولاهم الحق " أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل
ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار " وضل عنهم " أي ذهب عن المشركين " ما كانوا يفترون "
أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه.
قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت
من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون (31) فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا
الضلال فأنى تصرفون (32) كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون (33)
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية وإلاهيته فقال تعالى " قل من يرزقكم من
السماء والأرض " أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر فيشق الأرض شقا بقدرته ومشيئته فيخرج منها " حبا
وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا " أإله مع الله؟ فسيقولون الله " أمن هذا الذي يرزقكم إن
أمسك رزقه " وقوله " أمن يملك السمع والابصار " أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة ولو
شاء لذهب بها ولسلبكم إياها كقوله تعالى " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار " الآية وقال
" قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم " الآية وقوله " ومن يخرج الحي من الميت من ويخرج الميت من
الحي " أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك وأن الآية عامة لذلك كله وقوله
" ومن يدبر الامر " أي من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب
لحكمه ولا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن " فالملك كله
العلوي والسفلي وما فيهما من ملائكة وإنس وجان فقيرون إليه عبيد له خاضعون لديه " فسيقولون الله " أي وهم
يعلمون ذلك ويعترفون به " فقل أفلا تتقون " أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم. وقوله
431

(فذلكم الله ربكم الحق) الآية أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي
يستحق أن يفرد بالعبادة " فماذا بعد الحق إلا الضلال " أي فكل معبود سواه باطل لا إله إلا هو واحد لا شريك
له " فأنى تصرفون " أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل
شئ والمتصرف في كل شئ وقوله " كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا " الآية أي كما كفر هؤلاء
المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك
وحده الذي بعث رسله بتوحيده فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار كقوله " قالوا بلى
ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ".
قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده قل الله يبدؤا الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون (34)
قل هل من شركائكم من يهدى إلى الحق قل الله يهدى للحق أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدى
إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (35) وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغنى من الحق شيئا إن الله
عليم بما يفعلون (36)
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره وعبدوا من الأصنام والأنداد " قل هل من شركائكم من يبدؤ الخلق
ثم يعيده " أي من بدأ خلق هذه السماوات والأرض ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق ويفرق أجرام السماوات
والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقا جديدا " قل الله " هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا
شريك له " فأني تؤفكون " أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل " قل هل من شركائكم من يهدي
إلى الحق قل الله يهدي للحق " أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال وإنما يهدي الحيارى
والضلال ويقلب القلوب من الغي إلى الرشد الله الذي لا إله إلا هو " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا
يهدي إلا أن يهدى " أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى أم الذي لا يهدي إلى شئ إلا أن
يهدى لعماه وبكمه كما قال تعالى إخبارا عن إبراهيم أنه قال " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك
شيئا " وقال لقومه " أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " إلى غير ذلك من الآيات وقوله " فما لكم
كيف تحكمون " أي ما بالكم أن يذهب بعقولكم كيف سويتم بين الله وبين خلقه وعدلتم هذا بهذا وعبد تم هذا
وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جل جلاله المالك الحاكم الهادي من الضلالة بالعبادة وحده وأخلصتم إليه الدعوة
والإنابة؟ ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلا ولا برهانا وإنما هو ظن منهم أي توهم وتخيل وذلك
لا يغني عنهم شيئا " إن الله عليم بما يفعلون " تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك
أتم الجزاء.
وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من
رب العالمين (37) أم يقولون أفتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين (38) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان
عاقبة الظالمين (39) ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين (40)
هذا بيان لاعجاز القرآن وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ولا بعشر سور ولا بسورة من مثله لأنه بفصاحته
432

وبلاغته ووجازته وحلاوته واشتماله على المعاني العزيزة الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة لا يكون إلا من عند الله
الذي لا يشبهه شئ في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولهذا قال تعالى
" وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله " أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام
البشر " ولكن تصديق الذي بين يديه " أي من الكتب المتقدمة ومهيمنا عليه ومبينا لما وقع فيها من التحريف
والتأويل والتبديل وقوله " وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين " أي وبيان الاحكام والحلال والحرام بيانا
شافيا كافيا حقا لا مرية فيه من الله رب العالمين كما تقدم في حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب فيه
خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم أي خبر عما سلف وعما سيأتي وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي
يحبه الله ويرضاه. وقوله " أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وأدعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين " أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله وقلتم كذبا ومينا إن هذا من عند محمد فمحمد
بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك
بكل من قدرتم عليه من إنس وجان، وهذا هو المقام الثالث في التحدي فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا
صادقين في دعواهم أنه من عند محمد فليعارضوه بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا وأخبر أنهم لا
يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال تعالى " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود " أم
يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " ثم تنازل إلى
سورة فقال في هذه السورة " أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم
صادقين " وكذا في سورة البقرة وهي مدنية تحداهم بسورة منه وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبدا فقال " فإن لم
تفعلوا فاتقوا النار " الآية هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا
الباب ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لاحد به ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام وحلاوته
وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأتبعهم له وأشهرهم له انقيادا كما عرف السحرة
لعلمهم بفنون السحر أن هذا الذي فعله موسى عليه السلام لا يصدر إلا عن مؤيد مسدد مرسل من الله وأن هذا
لا يستطاع لبشر إلا بإذن الله وكذلك عيسى عليه السلام بعث في زمان علماء الطب ومعالجة المرضى فكان
يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ومثل هذا لا مدخل للعلاج والدواء فيه فعرف من عرف منهم أنه
عبد الله ورسوله. ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من
الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا " وقوله
" بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولم يأتهم تأويله " يقول بل كذب هؤلاء بالقرآن ولم يفهموه ولا عرفوه " ولما
يأتهم تأويله " أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا وسفها " كذلك كذب
الذين من قبلهم " أي من الأمم السالفة " فانظر كيف كان عاقبة الظالمين " أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم
رسلنا ظلما وعلوا وكفرا وعنادا وجهلا فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم. وقوله " ومنهم من يؤمن
به " الآية أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به
" ومنهم من لا يؤمن به " بل يموت على ذلك ويبعث عليه " وربك أعلم بالمفسدين " أي وهو أعلم بمن
يستحق الهداية فيهديه، ومن يستحق الضلالة فيضله وهو العادل الذي لا يجور بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك
وتعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو.
وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون (41) ومنهم من
يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون (42) ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدى العمى ولو
433

كانوا لا يبصرون (43) إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (44)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم " فقل لي عملي ولكم عملكم " كقوله
تعالى " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون " إلى آخرها، وقال إبراهيم الخليل وأتباعه لقومهم المشركين
" إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله " الآية وقوله " ومنهم من يستمعون إليك " أي يسمعون كلامك
الحسن والقرآن العظيم والأحاديث الصحيحة الفصيحة النافعة في القلوب والأديان والابدان وفي هذا كفاية
عظيمة، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم فإنك لا تقدر على إسماع الأصم وهو الأطرش فكذلك لا تقدر على
هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله " ومنهم من ينظر إليك " أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التؤدة والسمت الحسن
والخلق العظيم والدلالة الظاهرة على نبوتك لاولي البصائر والنهى وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ولا يحصل لهم من
الهداية شئ كما يحصل لغيرهم بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين
الاحتقار " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا " الآية ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحدا شيئا وإن كان قد هدى به
من هدى وبصر به من العمى وفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا وأضل به عن الايمان آخرين فهو
الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء الذي لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون لعلمه وحكمته وعدله. ولهذا قال
تعالى " إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون " وفي الحديث عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يرويه عن ربه عز وجل " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا - إلى أن قال في
آخره - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك
فلا يلومن إلا نفسه " رواه مسلم بطوله.
ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا
مهتدين (45)
يقول تعالى مذكرا للناس قيام الساعة وحصرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة " ويوم يحشرهم " الآية كقوله
" كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار " وكقوله " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو
ضحاها " وقال تعالى " يوم ينفخ في الصور * ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا
عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما " وقال تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم
المجرمون ما لبثوا غير ساعة " الآيتين وهذا كله دليل على استقصار الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله " قال كم
لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم
تعلمون " وقوله " يتعارفون بينهم " أي يعرف الأبناء والآباء والقرابات بعضهم لبعض كما كانوا في الدنيا ولكن
كل مشغول بنفسه " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم " الآية وقال تعالى " ولا يسأل حميم حميما "
الآيات، وقوله " قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين " كقوله تعالى " ويل للمكذبين " لانهم
خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين
أحبته يوم الحسرة والندامة.
وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون (46) ولكل أمة
رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (47)
يقول تعالى مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم " وإما نرينك بعض الذي نعدهم " أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم
434

" أو نتوفينك فإلينا مرجعهم " أي مصيرهم ومنقلبهم والله شهيد على أفعالهم بعدك وقد قال الطبراني: حدثنا
عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا داود بن الجارود عن أبي السليل عن حذيفة بن
أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عرضت علي أمتي البارحة لدى هذه الحجرة أولها وآخرها " فقال رجل: يا رسول الله
عرض عليك من خلق فكيف من لم يخلق؟ فقال " صوروا لي في الطين حتى أني لأعرف بالانسان منهم من
أحدكم بصاحبه " ورواه عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن عقبة بن مكرم عن يونس بن بكير عن زياد بن المنذر
عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد به نحوه. وقوله " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم " قال مجاهد يعني يوم
القيامة " قضي بينهم بالقسط " الآية كقوله تعالى " وأشرقت الأرض بنور ربها " الآية، فكل أمة تعرض على
الله بحضرة رسولها وكتاب أعمالها من خير وشر موضوع شاهد عليهم وحفظتهم من الملائكة شهود أيضا أمة بعد
أمة وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق إلا أنها أول الأمم يوم القيامة يفصل بينهم ويقضي لهم كما
جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق "
فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين.
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة
أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (49) قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ماذا
يستعجل منه المجرمون (50) أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون (51) ثم قيل للذين
ظلموا ذوقوا عذاب الخلد هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون (52)
يقول تعالى مخبرا عن كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب وسؤالهم عن وقته قبل التعين مما لا فائدة لهم
فيه كقوله " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق " أي كائنة لا محالة
وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عينا ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال " قل لا أملك لنفسي ضرا ولا
نفعا " الآية أي لا أقول إلا ما علمني ولا أقدر على شئ مما استأثر به إلا أن يطلعني الله عليه فأنا عبده ورسوله
إليكم وقد أخبرتكم بمجئ الساعة وأنها كائنة ولم يطلعني على وقتها ولكن " لكل أمة أجل " أي لكل قرن مدة
من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم " فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " كقوله " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء
أجلها " الآية ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة فقال " قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا " أي ليلا أو
نهارا " ماذا يستعجل منه المجرمون * أثم إذا ما وقع آمنتم به الآن وقد كنتم به تستعجلون " يعني أنهم إذا
جاءهم العذاب قالوا " ربنا أبصرنا وسمعنا " الآية وقال تعالى " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما
كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك
الكافرون "، " ثم قيل للذين ظلموا ذوقوا عذاب الخلد " أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتا وتقريعا كقوله
" يوم يدعون إلى نار جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * إصلوها
فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون "
* ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين (53) ولو أن لكل نفس ظلمت ما في
الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (54)
يقول تعالى ويستخبرونك " أحق هو " أي الميعاد والقيامة من الأجداث بعد صيرورة الأجسام ترابا " قل إي وربي إنه
435

لحق وما أنتم بمعجزين " أي ليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم ف‍ " إنما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان يأمر الله تعالى رسوله أن
يقسم به على من أنكر المعاد في سورة سبأ " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم " وفي
التغابن " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبأن بما عملتم وذلك على الله يسير " ثم أخبر
تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء ء الأرض ذهبا " وأسروا الندامة لما رأوا العذاب
وقضي بينهم بالقسط " أي بالحق " وهم لا يظلمون ".
ألا إن الله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (55) هو يحيى ويميت وإليه
ترجعون (56)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وأن وعده حق كائن لا محالة وأنه يحيي ويميت وإليه مرجعهم، وأنه
القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار.
يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين (57) قل بفضل الله
وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون (58)
يقول تعالى ممتنا على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة
من ربكم " أي زاجر عن الفواحش " وشفاء لما في الصدور " أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس
ودنس وهدى ورحمة أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين
بما فيه كقوله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " وقوله " قل هو
للذين آمنوا هدى وشفاء " الآية، وقوله تعالى " قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا " أي بهذا الذي جاءهم
من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به " هو خير مما يجمعون " أي من حطام الدنيا وما
فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة كما قال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية وذكر بسنده عن بقية بن الوليد
عن صفوان بن عمرو: سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول لما قدم خراج العراق إلى عمر رضي الله عنه
خرج عمر ومولى له فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك فجعل عمر يقول: الحمد لله تعالى ويقول
مولاه هذا والله من فضل الله ورحمته فقال عمر: كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى " قل بفضل الله
وبرحمته " الآية وهذا مما يجمعون وقد أسنده الحافظ أبو القاسم الطبراني فرواه عن أبي زرعة الدمشقي عن
حياة بن شريح عن بقية فذكره.
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آالله أذن لكم أم على الله تفترون (59) وما
ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (60)
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكارا على المشركين فيما
كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل كقوله تعالى " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام
نصيبا " الآيات وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحق سمعت أبا الأحوص
وهو عوف بن مالك بن نضلة يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رث الهيئة فقال " هل لك مال؟ " قلت
نعم. قال " من أي المال "؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم فقال " إذا آتاك الله مالا فلير
436

عليك - وقال - هل تنتج إبلك صحاحا آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر وتشق جلودها وتقول
هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك " قال نعم قال " فإن ما آتاك الله لك حل ساعد الله أشد من ساعدك
وموسى الله أحد من موساك " وذكر تمام الحديث ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو
عن عمه أبي الأحوص وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص به
وهذا حديث جيد قوي الاسناد وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الآراء
والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال " وما ظن الذين يفترون على
الله الكذب يوم القيامة " أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة وقوله " إن الله لذو فضل على
الناس " قال ابن جرير في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا " قلت " ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على
الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم
" ولكن أكثرهم لا يشكرون " بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضا حلالا
وبعضا حراما. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم. وقال
ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا رباح حدثنا عبد الله بن سليمان
حدثنا موسى بن الصباح في قوله عز وجل " إن الله لذو فضل على الناس " قال إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل
ولاية الله عز وجل فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول: عبدي لماذا
عملت؟ فيقول يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها
فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقا إليها - قال - فيقول الله تعالى عبدي إنما عملت للجنة هذه الجنة فأدخلها ومن
فضلي عليك قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل ومن معه الجنة - قال - ثم يؤتي برجل
من الصنف الثاني فيقول عبدي لماذا عملت؟ فيقول يا رب خلقت نارا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها
ويحمومها وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفا منها فيقول عبدي إنما
عملت ذلك خوفا من ناري فإني قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل ومن معه الجنة.
ثم يؤتي برجل من الصنف الثالث فيقول عبدي لماذا عملت؟ فيقول رب حبا لك وشوقا إليك وعزتك لقد أسهرت
ليلى وأظمأت نهاري شوقا إليك وحبا لك فيقول تبارك وتعالى: عبدي إنما عملت حبا لي وشوقا إلي فيتجلى له
الرب جل جلاله ويقول ها أنا ذا فانظر إلي ثم يقول من فضلي عليك أن أعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك
ملائكتي وأسلم عليك بنفسي فيدخل هو ومن معه الجنة.
وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب
عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين (61)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب
عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب
مبين كقوله " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا
حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من
الجمادات وكذلك الدواب السارحة في قوله " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم "
الآية وقال تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " الآية وإذا كان هذا علمه بحركات هذه
الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة كما قال تعالى " وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك
حين تقوم وتقلبك في الساجدين " ولهذا قال تعالى " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من
عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه " أي إذ تأخذون في ذلك الشئ نحن مشاهدون لكم راؤون سامعون
437

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الاحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (62) الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة
الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)
يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون كما فسرهم ربهم فكل من كان تقيا كان لله وليا ف‍ " لا خوف
عليهم " أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة " ولا هم يحزنون " على ما وراءهم في الدنيا وقال عبد الله بن
مسعود وابن عباس وغير واحد من السلف أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله وقد ورد هذا في حديث مرفوع كما
قال البزار حدثنا علي بن حرب الرازي حدثنا محمد بن سعيد بن سابق حدثنا يعقوب بن عبد الله الأشعري وهو
القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رجل يا رسول الله من أولياء الله؟ قال
" الذين رؤوا ذكر الله " ثم قال البزار وقد روى عن سعيد مرسلا وقال ابن جرير حدثنا أبو هشام الرفاعي حدثنا
أبو فضيل حدثنا أبي عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن عمرو بن جرير البجلي عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من عباد الله عبادا يغبطهم الأنبياء والشهداء " قيل من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم؟
قال " هم قوم تحابوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم نور على منابر من نور لا يخافون إذا خاف الناس
ولا يحزنون إذا حزن الناس " ثم قرأ " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " ثم رواه أيضا أبو داود من
حديث جرير عن عمارة ابن القعقاع عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا أيضا إسناد جيد إلا أنه منقطع بين أبي زرعة وعمر بن الخطاب والله أعلم وفي حديث
الإمام أحمد عن أبي النضر عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك
الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأتي من أفناء الناس ونوازع القبائل قوم لم تتصل بينهم أرحام متقاربة تحابوا
في الله وتصافوا في الله يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها يفزع الناس ولا يفزعون وهم أولياء
الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " والحديث مطول وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان
عن الأعمش عن ذكوان بن أبي صالح عن رجل عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " لهم
البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال " الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له " وقال ابن جرير حدثني أبو
السائب حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر عن أبي الدرداء
في قوله " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال سأل رجل أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألت عن
شئ ما سمعت أحدا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم
أو ترى له بشراه في الحياة الدنيا وبشراه في الآخرة الجنة ". ثم رواه ابن جرير عن سفيان عن ابن المنكدر عن
عطاء بن يسار عن رجل من أهل مصر أنه سأل أبا الدرداء عن هذه الآية فذكر نحو ما تقدم ثم قال ابن جرير حدثني
المثنى حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح قال: سمعت أبا الدرداء
سئل عن هذه الآية " الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى " فذكر نحوه سواء وقال الإمام أحمد حدثنا عفان
حدثنا أبان حدثنا يحيى عن أبي سلمة عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت قول
الله تعالى " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " فقال " لقد سألتني عن شئ ما سألني عنه أحد من أمتي - أو
قال أحد قبلك - تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له " وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن عمران القطان
عن يحيى بن أبي كثير به ورواه الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير فذكره ورواه علي بن المبارك عن يحيى عن أبي
سلمة قال: نبئنا عن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فذكره وقال ابن جرير حدثني أبو حميد
الحمصي حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأخموشي عن حميد بن عبد الله المزني قال: أتى
438

رجل عبادة بن الصامت فقال آية في كتاب الله أسألك عنها قول الله تعالى " لهم البشرى في الحياة الدنيا " فقال
عبادة ما سألني عنها أحد قبلك سألت عنها نبي الله فقال مثل ذلك " ما سألني عنها أحد قبلك الرؤيا الصالحة يراها
العبد المؤمن في المنام أو ترى له " ثم رواه من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد بن
صفوان عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم " لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة " فقد عرفنا بشرى الآخرة الجنة فما بشرى الدنيا؟ قال " الرؤيا الصالحة يراها
العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءا أو سبعين جزءا من النبوة " وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا بهز
حدثنا حماد حدثنا أبو عمران عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر أنه قال يا رسول الله الرجل يعمل العمل ويحمده
الناس عليه ويثنون عليه به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك عاجل بشرى المؤمن " رواه مسلم وقال أحمد أيضا
حدثنا حسن يعني الأشيب حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لهم البشرى في الحياة الدنيا " - قال - الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من
تسعة وأربعين جزءا من النبوة فمن رأى ذلك فليخبر بها ومن رأى سوى ذلك فإنما هو من الشيطان ليحزنه فلينفث
عن يساره ثلاثا وليكبر ولا يخبر بها أحدا ". لم يخرجوه وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب حدثني
عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن عبد الرحمن بن جبر عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال " " لهم البشرى في الحياة الدنيا " الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " وقال
أيضا ابن جرير حدثني محمد بن أبي حاتم المؤدب حدثنا عمار بن محمد حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " - قال - " في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو
ترى له وهي في الآخرة الجنة " ثم رواه عن أبي كريب عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح
عن أبي هريرة أنه قال: الرؤيا الحسنة بشرى من الله وهي من المبشرات هكذا رواه من هذه الطريق موقوفا
وقال أيضا حدثنا أبو كريب حدثنا أبو بكر حدثنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الرؤيا الحسنة هي البشرى يراها المسلم أو ترى له " وقال ابن جرير حدثني أحمد بن حماد الدولابي حدثنا
سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن أبيه عن سباع بن ثابت عن أم كريز الكعبية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" ذهبت النبوة وبقيت المبشرات " وهكذا روى عن ابن مسعود وأبي هريرة وابن عباس ومجاهد وعروة بن الزبير
ويحيى بن أبي كثير وإبراهيم النخعي وعطاء بن أبي رباح وغيرهم أنهم فسروا ذلك بالرؤيا الصالحة وقيل المراد
بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة كقوله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا
وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " وفي حديث البراء رضي الله
عنه أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا أخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح
وريحان ورب غير غضبان فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء وأما بشراهم في الآخرة فكما قال
تعالى " لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " - وقال تعالى " يوم ترى
المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها
ذلك هو الفوز العظيم " وقوله " لا تبديل لكلمات الله " أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر
مثبت كائن لا محالة ذلك هو الفوز العظيم ".
ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا هو السميع العليم (65) ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض
وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون (66) هو الذي
439

جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (67)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم " ولا يحزنك " قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن العزة لله جميعا
أي جميعها له ولرسوله وللمؤمنين " هو السميع العليم " أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم ثم أخبر تعالى
أن له ملك السماوات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئا لا ضرا ولا نفعا ولا دليل لهم
على عبادتها بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل
ليسكنوا فيه أي يستريحون من نصبهم وكلهم وحركاتهم " والنهار مبصرا " أي مضيئا لمعاشهم وسعيهم
وأسفارهم ومصالحهم " إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون " أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها
ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها.
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني له ما في السماوات وما في الأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون
على الله ما لا تعلمون (68) قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (69) متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم
ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون (70)
يقول تعالى منكرا على من ادعى أن له " ولدا سبحانه هو الغني " أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه
وكل شئ فقير إليه " له في السماوات وما في الأرض " أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شئ مملوك له عبد
له " إن عندكم من سلطان بهذا " أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان أتقولون على الله ما لا
تعلمون " إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد كقوله تعالى " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا * تكاد
السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ
ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آت الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة
فردا " ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولدا بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة فأما
في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلا " ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ " كما قال تعالى ههنا
" متاع في الدنيا " أي مدة قريبة " ثم إلينا مرجعهم " أي يوم القيامة " ثم نذيقهم العذاب الشديد " أي الموجع
المؤلم " بما كانوا يكفرون " أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوه من الإفك والزور.
* واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت
فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى ولا تنظرون (71) فإن توليتم فما سألتكم
من أجر إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين (72) فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك
وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين (73)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه " واتل عليهم " أي أخبرهم واقصص عليهم أي على كفار مكة الذين
يكذبونك ويخالفونك " نبأ نوح " أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن
آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك " إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم " أي
عظم عليكم " مقامي " أي فيكم بين أظهركم " وتذكيري " إياكم " بآيات الله " أي بحججه وبراهينه " فعلى الله
440

توكلت " أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم أولا " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " أي فاجتمعوا أنتم
وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " أي ولا تجعلوا أمركم
عليكم ملتبسا بل افصلوا حالكم معي فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إلي " ولا تنظرون " أي ولا تؤخروني
ساعة واحدة أي مهما قدرتم فافعلوا فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شئ كما قال هود لقومه
" إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون * إني توكلت على الله
ربي وربكم " الآية. وقوله " فإن توليتم " أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة " فما سألتكم من أجر " أي لم أطلب
منكم على نصحي إياكم شيئا " إن أجرى إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين " أي وأنا ممتثل ما أمرت به
من الاسلام لله عز وجل والاسلام هو دين الأنبياء جميعا من أولهم إلى آخرهم وإن تنوعت شرائعهم وتعددت
مناهلهم كما قال تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال ابن عباس سبيلا وسنة فهذا نوح يقول " وأمرت أن
أكون من المسلمين " وقال تعالى عن إبراهيم الخليل " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصي بها
إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " وقال يوسف " رب قد آتيتني
من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني
بالصالحين " وقال موسى " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " وقال السحرة " ربنا أفرغ علينا
صبرا وتوفنا مسلمين " وقالت بلقيس " رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ". وقال تعالى
" إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا " وقال تعالى " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن
آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون " وقال خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم " إن صلاتي ونسكي ومحياي
ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " أي من هذه الأمة ولهذا قال في
الحديث الثابت عنه " نحن معاشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد ". أي وهو عبادة الله وحده لا شريك له وإن
تنوعت شرائعنا وذلك معنى قوله أولاد علات وهم الاخوة من أمهات شتى والأب واحد وقوله تعالى " فكذبوه
فنجيناه ومن معه " أي على دينه " في الفلك " وهي السفينة " وجعلناهم خلائف " أي في الأرض " وأغرقنا الذين
كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين " أي يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين.
ثم بعثنا من بعده رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب
المعتدين (74)
يقول تعالى ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما
جاءوهم به " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب
تكذيبهم إياهم أو ما أرسلوا إليهم كقوله تعالى " ونقلب أفئدتهم وأبصارهم " الآية. وقوله " كذلك نطبع على قلوب
المعتدين " أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم هكذا يطبع الله على قلوب من
أشبههم ممن بعدهم ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم
المكذبة للرسل وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه
السلام على الاسلام إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السلام ولهذا يقول له
المؤمنون يوم القيامة أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون
كلهم على الاسلام وقال تعالى " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " الآية وفي هذا إنذار عظيم لمشركي
العرب الذين كذبوا سيد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله
تعالى من العذاب والنكال فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟.
441

ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين (75) فلما
جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين (76) قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح
الساحرون (77) قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين (78)
يقول تعالى " ثم بعثنا " من بعد تلك الرسل " موسى وهارون إلى فرعون وملئه " أي قومه " بآياتنا " أي حججنا
وبراهيننا " فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " أي استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له وكانوا قوما مجرمين " فلما
جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين " كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه
كذب وبهتان كما قال تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " الآية " قال " لهم " موسى " منكرا
عليهم " أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا لتلفتنا " أي تثنينا " عما وجدنا
عليهم آباءنا " أي الدين الذي كانوا عليه " وتكون لكما " أي لك ولهارون " الكبرياء " أي العظمة والرياسة " في
الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ".
وكثيرا ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز لأنها من أعجب القصص فإن فرعون
حذر من موسى كل الحذر فسخره القدر أن ربى هذا الذي يحذر منه على فراشه ومائدته بمنزلة الولد ثم ترعرع
وعقد الله له سببا أخرجه من بين أظهرهم ورزقه النبوة والرسالة والتكليم وبعثه إليه ليدعوه إلى الله تعالى ليعبده
ويرجع إليه هذا ما كان عليه فرعون من عظمة المملكة والسلطان فجاءه برسالة الله تعالى وليس له وزير سوى
أخيه هارون عليه السلام فتمرد فرعون واستكبر وأخذته الحمية والنفس الخبيثة الأبية وقوى رأسه وتولى
بركنه وادعى ما ليس له وتجهرم على الله وعتا وبغى وأهان حزب الايمان من بني إسرائيل والله تعالى يحفظ
رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون ويحوطهما بعنايته ويحرسهما بعينه التي لا تنام ولم تزل المحاجة
والمجادلة والآيات تقوم على يد موسى شيئا بعد شئ ومرة بعد مرة مما يبهر العقول ويدهش الألباب مما لا يقوم
له شئ ولا يأتي به إلا من هو مؤيد من الله " وما تأتيهم من آية إلا هي أكبر من أختها " وصمم فرعون وملؤه
قبحهم الله على التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة حتى أحل الله بهم بأسه الذي لا يرد وأغرقهم في
صبيحة واحدة أجمعين " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ".
وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم (79) فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون (80) فلما ألقوا
قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين (81) ويحق الله الحق بكلماته
ولو كره المجرمون (82)
ذكر الله سبحانه قصة السحرة مع موسى عليه السلام في سورة الأعراف وقد تقدم الكلام عليها هناك وفي هذه
السورة وفي سورة طه وفي الشعراء وذلك أن فرعون لعنه الله أراد أن يبهرج على الناس ويعارض ما جاء به موسى
عليه السلام من الحق المبين بزخارف السحرة والمشعبدين فانعكس عليه النظام ولم يحصل له من ذلك
المرام وظهرت البراهين الإلهية في ذلك المحفل العام " وألقي السحرة ساجدين * قالوا آمنا برب العالمين *
رب موسى وهارون " فظن فرعون أنه يستنصر بالسحار على رسول الله عالم الاسرار فخاب وخسر الجنة
واستوجب النار " وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم * فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون)
وإنما قال لهم ذلك لانهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل " قالوا يا موسى إما أن تلقي
442

وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا " فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ثم يأتي
بالحق بعده فيدمغ باطلهم. ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " فأوجس في
نفسه خيفة موسى * قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى * وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر
ولا يفلح الساحر حيث أتى " فعند ذلك قال موسى لما ألقوا " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح
عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون " وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن
الحارث حدثنا عبد الرحمن يعني الدشتكي أخبرنا أبو جعفر الرازي عن ليث وهو ابن أبي سليم قال: بلغني أن
هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى تقرأ فيه إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي من
سورة يونس " فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله
الحق بكلماته ولو كره المجرمون " والآية الأخرى " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون " إلى آخر أربع آيات وقوله
" إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ".
فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملأهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه
لمن المسرفين (83)
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات والحجج القاطعات والبراهين
الساطعات إلا قليل من قوم فرعون من الذرية وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه أن يردوهم إلى ما
كانوا عليه من الكفر لان فرعون لعنه الله كان جبارا عنيدا مسرفا في التمرد والعتو وكانت له سطوة ومهابة تخاف
رعيته منه خوفا شديدا. قال العوفي عن ابن عباس " فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون
وملئهم أن يفتنهم " قال فإن الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير منهم امرأة
فرعون ومؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأة خازنه وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " فما آمن
لموسى إلا ذرية من قومه " يقول بني إسرائيل وعن ابن عباس والضحاك وقتادة الذرية القليل وقال مجاهد في
قوله إلا ذرية من قومه قال هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم، واختار ابن جرير
قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين وفي هذا
نظر لأنه أراد بالذرية الاحداث والشباب وأنهم من بني إسرائيل فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه
السلام واستبشروا به وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة وأن الله تعالى سينقذهم به من
أسر فرعون ويظهرهم عليه ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر فلم يجد عنه شيئا ولما جاء موسى آذاهم
فرعون أشد الأذى و " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم
في الأرض فينظر كيف تعملون " وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل " على
خوف من فرعون وملئهم " أي وأشراف قومهم أن يفتنهم ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن
الايمان سوى قارون فإنه كان من قوم موسى فبغى عليهم لكنه كان طاويا إلى فرعون متصلا به متعلقا بحباله، ومن
قال إن الضمير في قوله وملئهم عائد إلى فرعون وعظم الملك من أجل اتباعه أو بحذف آل فرعون وإقامة المضاف
إليه مقامه فقد أبعد وإن كان ابن جرير قد حكاه عن بعض النحاة. ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل
إلا مؤمن قوله تعالى.
وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين (84) فقالوا على الله توكلنا ربنا لا
تجعلنا فتنة للقوم الظالمين (85) ونجنا برحمتك من القوم الكافرين (86)
443

يقول تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لبني إسرائيل " يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين " أي
فإن الله كاف من توكل عليه " أليس الله بكاف عبده " " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وكثيرا ما يقرن الله تعالى
بين العبادة والتوكل كقوله تعالى " فاعبده وتوكل عليه " " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " " رب المشرق
والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " وأمر الله تعالى المؤمنين أن يقولوا في كل صلواتهم مرات متعددة " إياك
نعبد وإياك نستعين " وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا (على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) أي لا
تظفرهم بنا وتسلطهم علينا فيظنوا إنهم إنما سلطوا لانهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك هكذا روى
عن أبي مجلز وأبي الضحى وقال ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك
فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا وقال عبد الرزاق أنبأنا ابن عيينة عن ابن
أبي نجيح عن مجاهد " ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين " لا تسلطهم علينا فيفتنونا وقوله " ونجنا برحمتك " أي
خلصنا برحمة منك وإحسان " من القوم الكافرين " أي الذين كفروا الحق وستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا
عليك.
وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين (87)
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم وذلك أن الله تعالى أمر موسى
وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوءا أي يتخذا لقومها بمصر بيوتا واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى
" واجعلوا بيوتكم قبلة " فقال الثوري وغيره عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس " واجعلوا بيوتكم قبلة " قال
أمروا أن يتخذوها مساجد وقال الثوري أيضا عن ابن منصور عن إبراهيم " واجعلوا بيوتكم قبلة " قال كانوا
خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم وكذا قال مجاهد وأبو مالك والربيع بن أنس والضحاك وعبد الرحمن بن
زيد بن أسلم وأبوه زيد بن أسلم وكأن هذا والله أعلم لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه وضيقوا عليهم
أمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
حزبه أمر صلى أخرجه أبو داود، ولهذا قال تعالى في هذه الآية " واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر
المؤمنين " أي بالثواب والنصر القريب وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال: قالت بنو إسرائيل
لموسى عليه السلام لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم وأمروا أن
يجعلوا بيوتهم قبل القبلة وقال مجاهد " واجعلوا بيوتكم قبلة " لما خاف بنو إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في
الكنائس الجامعة أمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرا وكذا قال قتادة والضحاك وقال
سعيد بن جبير " واجعلوا بيوتكم قبلة " أي يقابل بعضها بعضا.
وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس
على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم (88) قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا
تتبعان سبيل الذين لا يعلمون (89)
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه لما أبوا قبول الحق واستمروا على
ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلما وعلوا وتكبرا وعتوا قال " ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة " أي من أثاث
الدنيا ومتاعها " وأموالا " أي جزيلة كثيرة " في " هذه " الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " بفتح الياء أي
أعطيتهم ذلك وأنت تعلم أنهم لا يؤمنون بما أرسلتني به إليهم استدراجا منك لهم كقوله تعالى " لنفتنهم فيه " وقرأ
444

آخرون ليضلوا بضم الياء أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذا
لحبك إياهم واعتنائك بهم " ربنا اطمس على أموالهم " قال ابن عباس ومجاهد أي أهلكها وقال الضحاك وأبو
العالية والربيع بن أنس جعلها الله حجارة منقوشة كهيئة ما كانت وقال قتادة بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة
وقال محمد بن كعب القرظي جعل سكرهم حجارة وقال ابن أبي حاتم حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا
يحيى بن أبي بكير عن أبي معشر حدثني محمد بن قيس أن محمد بن كعب قرأ سورة يونس على عمر بن
عبد العزيز حتى بلغ " وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا " إلى قوله " ربنا
اطمس على أموالهم " الآية. فقال عمر يا أبا حمزة أي شئ الطمس؟ قال: عادت أموالهم كلها حجارة فقال
عمر بن عبد العزيز لغلام له ائتني بكيس فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة وقوله " واشدد على
قلوبهم " قال ابن عباس أي أطبع عليها " فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " وهذه الدعوة كانت من موسى عليه
السلام غضبا لله ولدينه على فرعون وملاه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجئ منهم شئ كما دعا نوح عليه
السلام فقال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا " ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمن عليها أخوه هارون فقال تعالى
" قد أجيبت دعوتكما " قال أبو العالية وأبو صالح وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والربيع بن أنس دعا موسى
وأمن هارون أي قد أجبنا كما فيما سألتما من تدمير آل فرعون. وقد يحتج بهذه الآية من يقول إن تأمين المأموم
على قراءة الفاتحة ينزل منزلة قراءتها لان موسى دعا وهارون أمن وقال تعالى " قد أجيبت دعوتكما فاستقيما "
الآية. أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري قال ابن جريج عن ابن عباس فاستقيما فامضيا لامري وهي
الاستقامة، قال ابن جريج يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة وقال محمد بن كعب وعلي بن
الحسين أربعين يوما.
* وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله
إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين (90) الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (91) فاليوم
ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون (92)
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر صحبة موسى عليه السلام وهم فيما
قيل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية وقد كانوا استعاروا من القبط حليا كثيرا فخرجوا به معهم فاشتد حنق فرعون
عليهم فأرسل في المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما
يريده الله تعالى بهم ولم يتخلف عنه أحد ممن له دولة وسلطان في سائر مملكته فلحقوهم وقت شروق الشمس
" فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون " وذلك أنهم لما انتهوا إلى ساحل البحر وفرعون وراءهم
ولم يبق إلا أن يتقاتل الجمعان وألح أصحاب موسى عليه السلام عليه في السؤال كيف المخلص مما نحن فيه؟
فيقول إني أمرت أن أسلك ههنا " كلا إن معي ربي سيهدين " فعند ما ضاق الامر اتسع فأمره الله تعالى أن يضرب
البحر بعصاه فضربه فانفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم أي كالجبل العظيم وصار اثني عشر طريقا لكل سبط
واحد وأمر الله الريح فنشفت أرضه " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى " وتخرق الماء
بين الطرق كهيئة الشبابيك ليرى كل قوم الآخرين لئلا يظنوا أنهم هلكوا وجاوزت بنو إسرائيل البحر فلما خرج
آخرهم منه انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى وهو في مائة ألف أدهم سوى بقية الألوان فلما
رأى ذلك هاله وأحجم وهاب وهم بالرجوع وهيهات ولات حين مناص نفذ القدر واستجيبت الدعوة. وجاء
445

جبريل عليه السلام على فرس وديق حائل فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل البحر فاقتحم
الحصان وراءه ولم يبق فرعون يملك من نفسه شيئا فتجلد لأمرائه وقال لهم ليس بنو إسرائيل بأحق بالبحر منا فاقتحموا
كلهم عن آخرهم وميكائيل في ساقتهم لا يترك منهم أحدا إلا ألحقه بهم فلما استوسقوا فيه وتكاملوا وهم أولهم
بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم فارتطم عليهم فلم ينج منهم أحد وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم
وتراكمت الأمواج فوق فرعون وغشيته سكرات الموت فقال وهو كذلك " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو
إسرائيل وأنا من المسلمين " فآمن حيث لا ينفعه الايمان " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به
مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ".
ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال " الآن وقد عصيت قبل " أي أهذا الوقت تقول وقد
عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه " وكنت من المفسدين " أي في الأرض الذين أضلوا الناس " وجعلناهم أئمة
يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ذلك من
أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا سليمان بن حرب حدثنا
حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما قال فرعون آمنت
أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل - قال - قال لي جبريل لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه
مخافة أن تناله الرحمة ". رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم من حديث حماد بن سلمة به
وقال الترمذي حديث حسن وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي جبريل لو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه
في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة " وقد رواه أبو عيسى الترمذي أيضا وابن جرير أيضا من غير وجه عن شعبة
به فذكر مثله وقال الترمذي حسن غريب صحيح، ووقع في رواية عند ابن جرير عن محمد بن المثنى عن غندر
عن شعبة عن عطاء وعدي عن سعيد عن ابن عباس رفعه أحدهما فكأنه الآخر لم يرفع فالله أعلم وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن عمر بن عبد الله بن يعلى السقفي عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس رفعه أحدهما فكأن الآخر لم يرفع فالله أعلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو
خالد الأحمر عن عمر بن عبد الله بن يعلى الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أغرق الله فرعون
أشار بأصبعه ورفع صوته " آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل " قال فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله
فيه غضبه فجعل يأخذ الحال بجناحيه فيضرب به وجهه فيرمسه وكذا رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبي
خالد به موقوفا وقد روى من حديث أبي هريرة أيضا فقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا حكام عن عنبسة هو
ابن أبي سعيد عن كثير بن زاذان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال لي
جبريل يا محمد لو رأيتني وأنا أغطه وأدس من الحال في فيه مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له " يعني فرعون.
كثير بن زاذان هذا قال ابن معين لا أعرفه وقال أبو زرعة وأبو حاتم مجهول وباقي رجاله ثقات وقد أرسل هذا
الحديث جماعة من السلف قتادة وإبراهيم التيمي وميمون بن مهران ونقل عن الضحاك بن قيس أنه خطب بهذا
للناس فالله أعلم وقوله " فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية " قال ابن عباس وغيره من السلف إن بعض
بني إسرائيل شكوا في موت فرعون فأمر الله تعالى البحر أن يلقيه بجسده سويا بلا روح وعليه درعه المعروفة على
نجوة من الأرض وهو المكان المرتفع ليتحققوا موته وهلاكه ولهذا قال تعالى " فاليوم ننجيك " أي نرفعك على نشز
من الأرض " ببدنك " قال مجاهد بجسدك وقال الحسن بجسم لا روح فيه وقال عبد الله بن شداد سويا
صحيحا أي لم يتمزق ليتحققوه ويعرفوه وقال أبو صخر بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها كما تقدم والله
أعلم وقوله " لتكون لمن خلفك آية " أي لتكون لبني إسرائيل دليلا على موتك وهلاكك وأن الله هو القادر الذي
ناصية كل دابة بيده وأنه لا يقوم لغضبه شئ ولهذا قرأ بعضهم " لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن
446

آياتنا لغافلون " أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال البخاري حدثنا
محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال " ما هذا اليوم الذي تصومونه " فقالوا هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه " أنتم أحق بموسى منهم فصوموه ".
ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضى بينهم
يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (93)
يخبر تعالى عما أنعم به على بني إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية وقوله " مبوأ صدق " قيل هو بلاد مصر والشام
مما يلي بيت المقدس ونواحيه فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر
بكمالها كما قال الله تعالى " وأورثنا القوم الذي كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت
كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " وقال في
الآية الأخرى " فأخرجناهم من جنات وعيون * وكنوز ومقام كريم * كذلك وأورثناها بني إسرائيل " وقال " كم
تركوا من جنات وعيون " الآيات ولكن استمروا مع موسى عليه السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس وهي بلاد
الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالبا بيت المقدس وكان فيه قوم من العمالقة فنكل بنو إسرائيل عن
قتالهم فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ومات فيه هارون ثم موسى عليهما السلام وخرجوا بعدهما مع
يوشع بن نون ففتح الله عليهم بيت المقدس واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حينا من الدهر ثم
عادت إليهم ثم أخذها ملوك اليونان فكانت تحت أحكامهم مدة طويلة وبعث الله عيسى ابن مريم عليه السلام في
تلك المدة فاستعانت اليهود قبحهم الله على معاداة عيسى عليه السلام بملوك اليونان وكانت تحت أحكامهم
ووشوا عندهم وأوحوا إليهم أن هذا يفسد عليكم الرعايا فبعثوا من يقبض عليه فرفعه الله إليه وشبه لهم بعض
الحواريين بمشيئة الله وقدره فأخذوه فصلبوه واعتقدوا أنه هو " وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا
حكيما " ثم بعد المسيح عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة دخل قسطنطين أحد ملوك اليونان في دين النصرانية وكان
فيلسوفا قبل ذلك فدخل في دين النصارى قيل تقية وقيل حيلة ليفسده فوضعت له الأساقفة منهم قوانين وشريعة
بدعوها وأحدثوها فبنى لهم الكنائس والبيع الكبار والصغار والصوامع والهياكل والمعابد والقلايات وانتشر دين
النصرانية في ذلك الزمان واشتهر على ما فيه من تبديل وتغيير وتحريف ووضع وكذب ومخالفة لدين المسيح ولم
يبق على دين المسيح على الحقيقة منهم إلا القليل من الرهبان فاتخذوا لهم الصوامع في البراري والمهامه
والقفار واستحوذت يد النصارى على مملكة الشام والجزيرة وبلاد الروم وبنى هذا الملك المذكور مدينة
قسطنطينية والقمامة وبيت لحم وكنائس ببلاد بيت المقدس ومدن حوران كبصري وغيرها من البلدان بناءات هائلة
محكمة وعبدوا الصليب من حينئذ وصلوا إلى الشرق وصوروا الكنائس وأحلوا لحم الخنزير وغير ذلك مما أحدثوه
من الفروع في دينهم والأصول ووضعوا له الأمانة الحقيرة التي يسمونها الكبيرة وصنفوا له القوانين وبسط هذا يطول.
والغرض أن يدهم لم تزل على هذه البلاد إلى أن انتزعها منهم الصحابة رضي الله عنهم وكان فتح بيت المقدس
على يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولله الحمد والمنة وقوله " ورزقناهم من الطيبات " أي
الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعا وشرعا وقوله " فما اختلفوا حتى جاءهم العلم " أي ما اختلفوا في
شئ من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم أي ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بين الله لهم وأزال عنهم اللبس
وقد ورد في الحديث " إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة
وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة منها واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار ". قيل من هم يا
447

رسول الله؟ قال " ما أنا عليه وأصحابي ". رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ وهو في السنن والمسانيد ولهذا
قال الله تعالى " إن ربك يقضي بينهم " أي يفصل بينهم " يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ".
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا
تكونن من الممترين (94) ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين (95) إن الذين حقت
عليهم كلمت ربك لا يؤمنون (96) ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم (97)
قال قتادة بن دعامة بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا أشك ولا أسأل ". وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن
البصري وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب
كما قال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " الآية. ثم
مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به مع قيام
الحجة عليهم ولهذا قال تعالى " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب
الأليم " أي لا يؤمنون إيمانا ينفعهم بل حين لا ينفع نفسا إيمانها ولهذا لما دعا موسى عليه السلام على فرعون
وملئه قال " ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم " كما قال تعالى " ولو
أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن
أكثرهم يجهلون " ثم قال تعالى.
فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا
ومتعناهم إلى حين (98)
يقول تعالى فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة الذين بعثنا إليهم الرسل بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد
من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم كقوله تعالى " يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون "
" كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون " " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير
إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وفي الحديث الصحيح " عرض علي الأنبياء
فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس والنبي يمر معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي ليس معه أحد " ثم ذكر
كثرة أتباع موسى عليه السلام ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرة سدت الخافقين الشرقي والغربي
والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلا قوم يونس وهم أهل نينوى وما كان
إيمانهم إلا خوفا من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم بعد ما عاينوا أسبابه وخرج رسولهم من بين أظهرهم
فعندها جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له واستكانوا وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم وسألوا الله تعالى أن
يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم فعندها رحمهم الله وكشف عنهم العذاب وأخروا كما قال تعالى " إلا
قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين " واختلف المفسرون هل
كشف عنهم العذاب الأخروي مع الدنيوي أو إنما كشف عنهم في الدنيا فقط؟ على قولين: " أحدهما " إنما كان
ذلك في الحياة الدنيا كما هو مقيد في هذه الآية. " والثاني " فيهما لقوله تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو
يزيدون * فآمنوا فمتعناهم إلى حين " فأطلق عليهم الايمان والايمان منقذ من العذاب الأخروي وهذا هو
الظاهر والله أعلم. وقال قتادة في تفسير هذه الآية لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب فتركت إلا
قوم يونس لما فقدوا نبيهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ولبسوا المسوح وفرقوا بين كل
448

بهيمة وولدها ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة فلما عرف الله منه الصدق من قلوبهم والتوبة والندامة على ما مضى
منهم كشف عنهم العذاب بعد أن تدلى عليهم قال قتادة وذكر أن قوم يونس بنينوى الموصل وكذا روى عن ابن
مسعود ومجاهد وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف وكان ابن مسعود يقرؤها " فهلا كانت قرية آمنت " وقال أبو
عمران عن أبي الجلد قال لما نزل بهم العذاب جعل يدور على رؤوسهم كقطع الليل المظلم فمشوا إلى رجل من
علمائهم فقالوا علمنا دعاء ندعوا به لعل الله أن يكشف عنا العذاب فقال قولوا يا حي حين لا حي يا حي محيي
الموتى يا حي لا إله إلا أنت قال فكشف عنهم العذاب. وتمام القصة سيأتي مفصلا في سورة الصافات إن
شاء الله.
ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين (99) وما كان لنفس أن
تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون (100)
يقول تعالى " ولو شاء ربك " يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الايمان بما جئتهم به فآمنوا كلهم ولكن له
حكمة فيما يفعله تعالى كقوله تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك
ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " وقال تعالى " أفلم ييأس الذين آمنوا أن
لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " ولهذا قال تعالى " أفانت تكره الناس " أي تلزمهم وتلجأهم " حتى يكونوا
مؤمنين " أي ليس ذلك عليك ولا إليك بل الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " فلا تذهب نفسك عليهم
حسرات " " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء " " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين " " إنك لا
تهدي من أحببت " " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر " إلى
غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد الهادي من يشاء المضل لمن يشاء لعلمه وحكمته
وعدله ولهذا قال تعالى " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس " وهو الخبال والضلال " على الذين
لا يعقلون " أي حجج الله وأدلته وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل.
قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغنى الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون (101) فهل ينتظرون إلا مثل
أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين (102) ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا
علينا ننج المؤمنين (103)
يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق الله في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب مما
في السماوات من كواكب نيرات ثوابت وسيارات، والشمس والقمر والليل والنهار واختلافهما وإيلاج أحدهما في
الآخر حتى يطول هذا ويقصر هذا ثم يقصر هذا ويطول هذا وارتفاع السماء واتساعها وحسنها وزينتها وما
أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف
النبات وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الاشكال والألوان والمنافع وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران
وخراب، وما في البحر من العجائب والأمواج وهو مع هذا مسخر مذلل للسالكين يحمل سفنهم ويجري بها برفق
بتسخير القدير لا إله إلا هو ولا رب سواه. وقوله " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون " أي وأي شئ
تغني الآيات السماوية والأرضية والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها عن قوم لا يؤمنون كقوله
" إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون " الآية. وقوله (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم)
أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من
449

الأمم الماضية المكذبة لرسلهم " قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين * ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا " أي
ونهلك المكذبين بالرسل " كذلك حقا علينا ننجي المؤمنين " أي حقا أوجبه الله على نفسه الكريمة كقوله " كتب
ربكم على نفسه الرحمة " وكما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق
العرش: إن رحمتي سبقت غضبي ".
قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذي يتوفاكم
وأمرت أن أكون من المؤمنين (104) وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين (105) ولا تدع من
دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين (106) وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له
إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم (107)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي
أوحاه الله إلي فأنا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله وحده لا شريك له وهو الذي يتوفاكم كما
أحياكم ثم إليه مرجعكم فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقا فأنا لا أعبدها فادعوها فلتضرني فإنها لا
تضر ولا تنفع وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له وأمرت أن أكون من المؤمنين وقوله " وأن أقم
وجهك للدين حنيفا " الآية، أي أخلص العبادة لله وحده حنيفا أي منحرفا عن الشرك ولهذا قال " ولا تكونن من
المشركين " وهو معطوف على قوله " وأمرت أن أكون من المؤمنين " وقوله " وإن يمسسك الله بضر " الآية فيه
بيان لان الخير والشر والنفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده لا يشاركه في ذلك أحد فهو الذي يستحق
العبادة وحده لا شريك له روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة صفوان بن سليم من طريق عبد الله بن وهب
أخبرني يحيى بن أيوب عن عيسى بن موسى عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اطلبوا
الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات ربكم فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوه أن
يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم " ثم رواه من طريق الليث عن عيسى بن موسى عن صفوان عن رجل من أشجع
عن أبي هريرة مرفوعا بمثله سواء وقوله " وهو الغفور الرحيم " أي لمن تاب إليه وتوكل عليه ولو من أي ذنب كان
حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه.
قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما
أنا عليكم بوكيل (108) واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين (109)
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فيه
فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفع ذلك الاتباع على نفسه ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه " وما أنا
عليكم بوكيل " أي وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين وإنما أنا نذير لكم والهداية على الله تعالى وقوله
" واتبع ما يوحى إليك واصبر " أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك واصبر على مخالفة من خالفك من
الناس " حتى يحكم الله " أي يفتح بينك وبينهم " وهو خير الحاكمين " أي خير الفاتحين بعدله وحكمته.
سورة هود
قال الحافظ أبو يعلى حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عكرمة قال: قال أبو بكر
450

سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شيبك؟ قال " شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت " وقال أبو عيسى
الترمذي حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن أبي إسحاق عن عكرمة عن ابن
عباس قال: قال أبو بكر يا رسول الله قد شبت قال " شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس
كورت ". وفي رواية " هود وأخواتها ". وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا حجاج بن الحسن حدثنا
سعيد بن سلام حدثنا عمر بن محمد عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شيبتني هود
وأخواتها: الواقعة والحاقة وإذا الشمس كورت " وفي رواية " هود وأخواتها " وقد روى من حديث ابن مسعود نحوه
فقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني في معجمه الكبير حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا
أحمد بن طارق الرابشي حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أبا بكر قال
يا رسول الله ما شيبك؟ قال " هود والواقعة ". عمرو بن ثابت متروك وأبو إسحاق لم يدرك ابن مسعود والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير (1) ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير
وبشير (2) وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله
وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير (3) إلى الله مرجعكم وهو على كل شئ قدير (4)
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق، وأما قوله
" أحكمت آياته ثم فصلت " أي هي محكمة في لفظها مفصلة في معناها فهو كامل صورة ومعنى، هذا معنى ما
روى عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ومعنى قوله " من لدن حكيم خبير " أي من عند الله الحكيم في أقواله
وأحكامه خبير بعواقب الأمور " ألا تعبدوا إلا الله " أي نزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك
له كقوله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقال " ولقد بعثنا في كل
أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقوله " إنني لكم منه نذير وبشير " أي إني لكم نذير من العذاب إن
خالفتموه وبشير بالثواب إن أطعتموه كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا فدعا بطون
قريش الأقرب ثم الأقرب فاجتمعوا فقال " يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تصبحكم ألستم مصدقي؟ "
فقالوا ما جربنا عليك كذبا قال " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " وقوله " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه
يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله " أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة
منها إلى الله عز وجل فيما تستقبلونه وأن تستمروا على ذلك " يمتعكم متاعا حسنا " أي في الدنيا " إلى أجل مسمى
ويؤت كل ذي فضل فضله " أي في الدار الآخرة قاله قتادة كقوله " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن
فلنحيينه حياة طيبة " الآية. وقد جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد " وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه
الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في في امرأتك " وقال ابن جرير حدثني المسيب بن شريك عن أبي بكر عن
سعيد بن جبير عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله " ويؤت كل ذي فضل فضله " قال من عمل سيئة كتبت عليه
سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات
وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول هلك من غلب
آحاده على أعشاره وقوله " وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير " هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر
الله تعالى وكذب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة " إلى الله مرجعكم " أي معادكم يوم
القيامة " وهو على كل شئ قدير " أي وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه وإعادة
الخلائق يوم القيامة وهذا مقام الترهيب كما أن الأول مقام ترغيب.
451

ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات
الصدور (5)
قال ابن عباس كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم فأنزل الله هذه الآية روى البخاري من
طريق ابن جريج عن محمد بن عباد بن جعفر أن ابن عباس قرأ ألا إنهم تثنوني صدورهم الآية فقلت يا أبا
العباس ما تثنوني صدورهم؟ قال الرجل كان يجامع امرأته فيستحي أو يتخلى فيستحي فنزلت " ألا إنهم تثنوني
صدورهم " وفي لفظ آخر له قال ابن عباس أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا
نساءهم فيفضوا إلى السماء فنزل ذلك فيهم ثم قال: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال قرأ ابن عباس
" ألا إنهم تثنوني صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم " قال البخاري: وقال غيره عن ابن عباس
" يستغشون " يغطون رؤوسهم وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية يعني به الشك في الله وعمل
السيئات وكذا روى عن مجاهد والحسن وغيرهم أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئا أو عملوه فيظنون
أنهم يستخفون من الله بذلك فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل " يعلم ما
يسرون " من القول " وما يعلنون * إنه عليم بذات الصدور " أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر
والسرائر وما أحسن ما قال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:
فلا تكتمن الله ما في قلوبكم * ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر * ليوم حساب أو يعجل فينقم
فقد اعترف هذا الشاعر الجاهلي بوجود الصانع وعلمه بالجزئيات وبالمعاد وبالجزاء وبكتابة الأعمال في الصحف
ليوم القيامة وقال عبد الله بن شداد: كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله
ذلك وعود الضمير إلى الله أولى لقوله " ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون " وقرأ ابن عباس
ألا إنهم تثنوني صدورهم يرفع الصدور على الفاعلية وهو قريب المعنى.
* وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين (6)
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها وأنه يعلم مستقرها
ومستودعها أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوى إليه من وكرها وهو مستودعها. وقال علي بن أبي
طلحة وغيره عن ابن عباس " ويعلم مستقرها " أي حيث تأوى " ومستودعها " حيث تموت وعن مجاهد
" مستقرها " في الرحم " ومستودعها " في الصلب كالتي في الانعام وكذا روى عن ابن عباس والضحاك
وجماعة وذكر ابن أبي حاتم أقوال المفسرين ههنا كما ذكره عند تلك الآية فالله أعلم وأن جميع ذلك مكتوب
في كتاب عند الله مبين عن جميع ذلك كقوله " وما من دابه في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما
فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون " وقوله " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في
البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ".
وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ولئن قلت
إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين (7) ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة
معدودة ليقولن ما يحبسه ألا يوم يأتيهم ليس مصروفا عنهم وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (8)
452

يخبر تعالى عن قدرته على كل شئ وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وأن عرشه كان على الماء قيل ذلك
كما قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن
حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقبلوا البشرى يا بني تميم " قالوا قد بشرتنا فأعطنا قال " اقبلوا البشري يا أهل
اليمن " قالوا قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال " كان الله قبل كل شئ وكان عرشه على
الماء وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شئ ". قال: فأتاني آت فقال يا عمران انحلت ناقتك من عقالها
قال فخرجت في إثرها فلا أدري ما كان بعدي، وهذا الحديث مخرج في صحيحي البخاري ومسلم بألفاظ كثيرة
فمنها قالوا جئناك نسألك عن أول هذا الامر فقال " كان الله ولم يكن شئ قبله وفي رواية - غيره - وفي رواية -
معه - وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شئ ثم خلق السماوات والأرض " وفي صحيح مسلم عن
عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض
بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وقال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب
أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال الله عز وجل أنفق أنفق
عليك ". وقال " يد الله ملاى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار " وقال " أفرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات
والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه وكان عرشه على الماء وبيده الميزان يخفض ويرفع ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه
أبي رزين واسمه لقيط بن عامر بن المنتفق العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال
" كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق العرش بعد ذلك ". وقد رواه الترمذي في التفسير وابن
ماجة في السنن من حديث يزيد بن هارون به وقال الترمذي هذا حديث حسن وقال مجاهد " وكان عرشه على
الماء " قبل أن يخلق شيئا وكذا قال وهب بن منبه وضمرة وقتادة وابن جرير وغير واحد وقال قتادة في قوله
" وكان عرشه على الماء " ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض وقال الربيع بن أنس
" وكان عرشه على الماء " فلما خلق السماوات والأرض قسم ذلك الماء قسمين فجعل نصفا تحت العرش وهو
البحر المسجور. وقال ابن عباس إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه وقال إسماعيل بن أبي خالد سمعت سعدا
الطائي يقول: العرش ياقوتة حمراء وقال محمد بن إسحاق في قوله تعالى " هو الذي خلق السماوات والأرض
في ستة أيام وكان عرشه على الماء " فكان كما وصف نفسه تعالى إذ ليس إلا الماء وعليه العرش وعلى العرش ذو
الجلال والاكرام والعزة والسلطان والملك والقدرة والحلم والعلم والرحمة والنعمة الفعال لما يريد، وقال
الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله " وكان عرشه على الماء "
على أي شئ كان الماء؟ قال على متن الريح وقوله تعالى " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " أي خلق السماوات
والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا ولم يخلق ذلك عبثا كقوله " وما خلقنا السماء والأرض
وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " وقال تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا
وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم " وقال تعالى " ما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون " الآية، وقوله " ليبلوكم " أي ليختبركم " أيكم أحسن عملا " ولم يقل أكثر عملا بل
أحسن عملا ولا يكون العمل حسنا حتى يكون خالصا لله عز وجل على شريعة رسول الله فمتى فقد العمل واحدا
من هذين الشرطين حبط وبطل. وقوله " ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت " الآية. يقول تعالى ولئن
أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعملون أن الله تعالى هو الذي
خلق السماوات والأرض كما قال تعالى " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " " ولئن سألتهم من خلق السماوات
والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله " وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة الذي هو
بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة كما قال تعالى " وهو الذي يبدأ الخلق
453

ثم يعيده وهو أهون عليه " وقال تعالى " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وقولهم " إن هذا
إلا سحر مبين " أي يقولون كفرا وعنادا ما نصدقك على وقوع البعث وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك
على ما تقول، وقوله " ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة " الآية. يقول تعالى ولئن أخرنا العذاب
والمؤاخذة عن هؤلاء المشركين إلى أجل معدود وأمد محصور وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيبا
واستعجالا: ما يحبسه أي يؤخر هذا العذاب عنا فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك فلم يبق لهم محيص
عنه ولا محيد. والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معان متعددة فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية " إلى أمة
معدودة " وقوله في يوسف " وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة " وتستعمل في الامام المقتدى به كقوله " إن
إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " وتستعمل في الملة والدين كقوله أخبارا عن المشركين إنهم
قالوا " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وتستعمل في الجماعة كقوله " ولما ورد ماء مدين وجد
عليه أمة من الناس يسقون " وقوله " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " وقال تعالى
" ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " والمراد من الأمة ههنا الذين يبعث فيهم
الرسول مؤمنهم وكافرهم كما في صحيح مسلم " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا
نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " وأما أمة الاتباع فهم المصدقون للرسل كما قال تعالى " كنتم خير أمة
أخرجت للناس " وفي الصحيح " فأقول أمتي أمتي " وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله تعالى " ومن قوم
موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " وكقوله " من أهل الكتاب أمة قائمة " الآية.
ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤس كفور (9) ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته
ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور (10) إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير (11)
يخبر تعالى عن الانسان وما فيه من الصفات الذميمة إلا من رحم الله من عباده المؤمنين أنه إذا أصابته شدة بعد
نعمة حصل له يأس وقنوط من الخير بالنسبة إلى المستقبل وكفر وجحود لماضي الحال كأنه لم ير خيرا ولم يرج
بعد ذلك فرجا وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة " ليقولن ذهب السيئات عني " أي يقول ما ينالني بعد هذا ضيم
ولا سوء " إنه لفرح فخور " أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره قال الله تعالى " إلا الذين صبروا " أي
على الشدائد والمكاره " وعملوا الصالحات " أي في الرخاء والعافية " أولئك لهم مغفرة " أي بما يصيبهم من
الضراء " وأجر كبير " بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث " والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم
ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه " وفي الصحيحين
" والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وإن أصابته
ضراء فصبر كان خيرا له وليس ذلك لاحد غير المؤمن " ولهذا قال الله تعالى " والعصر * إن الانسان لفي خسر *
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " وقال تعالى " إن الانسان خلق هلوعا " الآيات.
فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت
نذير والله على كل شئ وكيل (12) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم
من دون الله إن كنتم صادقين (13) فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل
أنتم مسلمون (14)
454

يقول تعالى مسليا لرسوله الله صلى الله عليه وسلم عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في
قوله " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى
إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ". فأمر الله تعالى رسوله صلوات
الله تعالى وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ولا يصدنه ذلك ولا يثنينه عن دعائهم إلى الله عز وجل
آناء الليل وأطراف النهار كما قال تعالى " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون " الآية وقال ههنا " فلعلك
تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا " أي لقولهم ذلك فإنما أنت نذير ولك أسوة بإخوانك من
الرسل قبلك فإنهم كذبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، ثم بين تعالى إعجاز القرآن وأنه لا يستطيع
أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله ولا بسورة من مثله لان كلام الرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن
صفاته لا تشبه صفات المحدثات. وذاته لا يشبهها شئ تعالى وتقدس وتنزه لا إله إلا هو ولا رب سواه ثم قال
تعالى " فإن لم يستجيبوا لكم " أي فإن لم يأتوا بمعارضة ما دعوتموهم إليه فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك وأن
هذا الكلام منزل من عند الله متضمن علمه وأمره ونهيه " وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون ".
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون (15) أولئك الذين ليس لهم في الآخرة
إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون (16)
قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا
يقول من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا التماس الدنيا يقول الله تعالى: أوفيه
الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا وهو في الآخرة من الخاسرين.
وهكذا روى عن مجاهد والضحاك وغير واحد وقال أنس بن مالك والحسن: نزلت في اليهود والنصارى وقال
مجاهد وغيره: نزلت في أهل الرياء وقال قتادة من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا ثم
يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في
الآخرة وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا، وقال تعالى " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء
لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان
سعيهم مشكورا * كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا * انظر كيف فضلنا بعضهم
على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ". وقال تعالى " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه * ومن
كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب ".
أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة أولئك يؤمنون به ومن
يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (17)
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده من الاعتراف له بأنه لا إله إلا
هو كما قال تعالى " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها " الآية وفي الصحيحين عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة
بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " الحديث وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت
لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا " وفي المسند والسنن " كل مولود يولد على هذه الملة حتى
455

يعرب عنه لسانه " الحديث فالمؤمن باق على هذه الفطرة وقوله " ويتلوه شاهد منه " أي وجاءه شاهد من الله
وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليه
وعليهم أجمعين. ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبو العالية والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وغير
واحد في قوله تعالى " ويتلوه شاهد منه " أنه جبريل عليه السلام وعن علي رضي الله عنه والحسن وقتادة هو
محمد صلى الله عليه وسلم وكلاهما قريب في المعنى لان كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى فجبريل
إلى محمد ومحمد إلى الأمة وقيل هو علي وهو ضعيف لا يثبت له قائل والأول والثاني هو الحق وذلك أن
المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة والتفاصيل تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدقها وتؤمن
بها لهذا قال تعالى " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " وهو القرآن بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبلغه
النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى أمته ثم قال تعالى " ومن قبله كتاب موسى " أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو
التوراة " إماما ورحمة " أي أنزل الله تعالى إلى تلك الأمة إماما لهم وقدوة يقتدون بها ورحمة من الله بهم فمن آمن
بها حق الايمان قادة ذلك إلى الايمان بالقرآن ولهذا قال تعالى " أولئك يؤمنون به " ثم قال تعالى متوعدا لمن كذب
بالقرآن أو بشئ منه " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " أي ومن كفر بالقرآن
من سائر أهل الأرض مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم ومن سائر طوائف بني آدم علي اختلاف ألوانهم
وأشكالهم وأجناسهم ممن بلغه القرآن كما قال تعالى " لأنذركم به ومن بلغ " وقال تعالى " قل يا أيها الناس إني
رسول الله إليكم جميعا " وقال تعالى " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " وفي صحيح مسلم من حديث
شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " والذي نفسي
بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار " وقال أيوب السختياني عن
سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه أو قال تصديقه في القرآن
فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار " فجعلت
أقول أين مصداقه في كتاب الله؟ وقال وقلما سمعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وجدت له تصديقا في القرآن حتى وجدت
هذه الآية " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " قال من الملل كلها وقوله " فلا تك في مرية منه إنه الحق من
ربك " الآية أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه كما قال تعالى " ألم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من
رب العالمين " وقال تعالى " ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه " وقوله " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " كقوله تعالى
" وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وقال
تعالى " ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين.
ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أولئك يعرضون على ربهم ويقول الاشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا
لعنة الله على الظالمين (18) الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة هم كافرون (19) أولئك
لم يكونوا معجزين في الأرض وما كان لهم من دون الله من أولياء يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون
السمع وما كانوا يبصرون (20) أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون (21) لا جرم أنهم في
الآخرة هم الأخسرون (22)
يبين تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق من الملائكة والرسل والأنبياء
وسائر البشر والجان كما قال الإمام أحمد حدثنا بهز وعفان قالا أخبرنا همام حدثنا قتادة عن صفوان بن محرز قال:
كنت آخذا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل قال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال
456

سمعته يقول " إن الله عز وجل يدنى المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له أتعرف
ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال فإني قد
سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته وأما الكفار والمنافقون فيقول " الاشهاد
هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين " الآية. أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من
حديث قتادة وقوله " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا " أي يردون الناس عن اتباع الحق وسلوك طريق
الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم الجنة " ويبغونها عوجا " أي ويريدون أن يكون طريقهم عوجا غير معتدلة
" وهم بالآخرة هم كافرون " أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها " أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض وما
كان لهم من دون الله من أولياء " أي بل كانوا تحت قهره وغلبته وفي قبضته وسلطانه وهو قادر على الانتقام منهم
في الدار الدنيا قبل الآخرة " ولكن يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار وفي الصحيحين " إن الله ليملي للظالم حتى
إذا أخذه لم يفلته " ولهذا قال تعالى " يضاعف لهم العذاب " الآية. أي يضاعف عليهم العذاب وذلك أن الله
تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم بل كانوا صما عن سماع
الحق عميا عن اتباعه كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار كقوله " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في
أصحاب السعير " وقال تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب " الآية ولهذا
يعذبون على كل أمر تركوه وعلى كل نهي ارتكبوه ولهذا كان أصح الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها
ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة وقوله (أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي خسروا
أنفسهم لانهم أدخلوا نارا حامية فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها طرفة عين كما قال تعالى " كلما خبت
زدناهم سعيرا " " وضل عنهم " أي ذهب عنهم " ما كانوا يفترون " من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد
عنهم شيئا بل ضرتهم كل الضرر كما قال تعالى " إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " وقال
تعالى " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقال الخليل
لقومه " إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن
بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " وقوله " إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب
وتقطعت بهم الأسباب " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم ولهذا قال " لا جرم أنهم في
الآخرة هم الأخسرون " يخبر تعالى عن مآلهم أنهم أخسر الناس صفقة في الدار الآخرة لانهم استبدلوا الدركات
عن الدرجات واعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن وعن شرب الرحيق المختوم بسموم وحميم وظل من
يحموم وعن الحور العين بطعام من غسلين وعن القصور العالية بالهاوية وعن قرب الرحمن ورؤيته بغضب
الديان وعقوبته فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون (23) * مثل الفريقين
كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلا أفلا تذكرون (24)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات فآمنت قلوبهم وعملت
جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الاتيان بالطاعات وترك المنكرات وبهذا ورثوا الجنات المشتملة على
الغرف العاليات والسرر المصفوفات والقطوف الدانيات والفرش المرتفعات والحسان الخيرات والفواكه
المتنوعات والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات والنظر إلى خالق الأرض والسماوات وهم في ذلك
خالدون لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ولا ينامون ولا يتغوطون ولا يبصقون ولا يتمخطون إن هو إلا رشح
مسك يعرقون ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال " مثل الفريقين " أي الذين وصفهم أولا بالشقاء
457

والمؤمنين بالسعادة فأولئك كالأعمى والأصم وهؤلاء كالبصير والسميع فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا
والآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به " ولو علم الله فيهم
خيرا لأسمعهم " الآية وأما المؤمن ففطن ذكي لبيب بصير بالحق يميز بينه وبين الباطل فيتبع الخير ويترك الشر
سميع للحجة يفرق بينها وبين الشبهة فلا يروج عليه باطل فهل يستوي هذا وهذا؟ " أفلا تذكرون " أفلا تعتبرون
فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال في الآية الأخرى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة
هم الفائزون " وكقوله " وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحور وما يستوي الاحياء
ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور * إن أنت إلا نذير إنا أرسلناك بالحق بشيرا
ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ".
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين (25) أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم
أليم (26) فقال الملا الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي
الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين (27)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال
لقومه " إني لكم نذير مبين " أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ولهذا قال " أن لا
تعبدوا إلا الله " وقوله " إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم " أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذابا
أليما موجعا شاقا في الدار الآخرة " فقال الملا الذين كفروا من قومه " والملا هم السادة والكبراء من الكافرين
منهم " ما نراك إلا بشرا مثلنا " أي لست بملك ولكنك بشر فكيف أوحي إليك من دوننا ثم ما نراك اتبعك إلا
الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الاشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن
عن ترو منهم ولا فكر ولا نظر بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك ولهذا قالوا " وما نراك اتبعك إلا الذين هم
أراذلنا بادي الرأي " أي في أول بادئ " وما نرى لكم علينا من فضل " يقولون ما رأينا لكم علينا فضيلة في
خلق ولا خلق ولا رزق ولا حال لما دخلتم في دينكم هذا " بل نظنكم كاذبين " أي فيما تدعونه لكم من البر
والصلاح والعبادة والسعادة في الدار الآخرة إذ صرتم إليها هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه
وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه فإن الحق في نفسه صحيح
سواء اتبعه الاشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن اتباع الحق هم الاشراف ولو كانوا فقراء والذين يأبونه
هم الأراذل ولو كانوا أغنياء ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس. والغالب على الاشراف والكبراء
مخالفته كما قال تعالى " وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا
على آثارهم مقتدون " ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم قال له فيما
قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال بل ضعفاؤهم. فقال هرقل هم أتباع الرسل وقولهم " بادي الرأي "
ليس بمذمة ولا عيب لان الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال بل لا بد من اتباع الحق والحالة هذه
لكل ذي زكاء وذكاء بل لا يفكر ههنا إلا غبي أو عيي والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر
جلي واضح. وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما دعوت أحدا إلى الاسلام إلا كانت له كبوة غير أبي
بكر فإنه لم يتلعثم " أي ما تردد ولا تروى لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا فبادر إليه وسارع. وقوله " وما نرى
لكم علينا من فضل " هم لا يرون ذلك لانهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون بل هم في ريبهم يترددون
في ظلمات الجهل يعمهون وهم الأفاكون الكاذبون الأقلون الأرذلون وهم في الآخرة هم الأخسرون.
458

قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (28)
يقول تعالى مخبرا عما رد به نوح على قومه في ذلك " أرأيتم إن كنت على بينة من ربي " أي على يقين وأمر جلي
ونبوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم " فعميت عليكم " أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم
قدرها بل بادرتم إلى تكذيبها وردها " أنلزمكموها " أي نغصبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.
ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجرى إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم
قوما تجهلون (29) ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون (30)
يقول لقومه لا أسألكم على نصحي لكم ما لا أجرة آخذها منكم إنما أبتغي الاجر من الله عز وجل " وما أنا بطارد
الذين آمنوا " كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم كما سأل أمثالهم خاتم
الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا فأنزل الله تعالى " ولا تطرد الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي " الآية. وقال تعالى " وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من
بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " الآية.
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم
الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين (31)
يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له بإذن الله له في ذلك ولا يسألهم على ذلك أجرا
بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع فمن استجاب له فقد نجا ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن
الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه وليس هو بملك من الملائكة بل هو بشر مرسل مؤيد بالمعجزات ولا
أقول عن هؤلاء الذين تحقرونهم وتزدرونهم إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم الله أعلم بما في أنفسهم
فإن كانوا مؤمنين باطنا كما هو الظاهر من حالهم فلهم جزاء الحسنى ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا لكان
ظالما قائلا ما لا علم له به.
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين (32) قال إنما يأتيكم به الله
إن شاء وما أنتم بمعجزين (33) ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم
وإليه ترجعون (34)
يقول تعالى مخبرا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه والبلاء موكل بالمنطق. " قالوا يا نوح قد
جادلتنا فأكثرت جدالنا " أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك " فأتنا بما تعدنا " أي من النقمة والعذاب
ادع علينا بما شئت فليأتنا ما تدعو به " إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين "
أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شئ " ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن
كان الله يريد أن يغويكم " أي أي شئ يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي " إن كان الله يريد أن
يغويكم " أي إغواءكم ودماركم " هو ربكم وإليه ترجعون " أي هو مالك أزمة الأمور المتصرف الحاكم العادل
الذي لا يجور له الخلق وله الامر وهو المبدئ المعيد مالك الدنيا والآخرة.
459

أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا برئ مما تجرمون (35)
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة مؤكد لها مقرر لها يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم أم يقول هؤلاء الكافرون
الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده " قل إن افتريته فعلي إجرامي " أي فإثم ذلك علي " وأنا برئ مما
تجرمون " أي ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى لاني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.
وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (36) واصنع الفلك بأعيننا
ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (37) ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا
منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون (38) فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه
عذاب مقيم (39)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم فدعا عليهم نوح دعوته التي قال الله
تعالى مخبرا عنه أنه قال " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " فعند ذلك
أوحى الله إليه " أنه لا يؤمن من قومك إلا من قد آمن " فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم " واصنع الفلك " يعني
السفينة " بأعيننا " أي بمرأى منا " ووحينا " أي تعليمنا لك ما تصنعه " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم
مغرقون " فقال بعض السلف أمره الله تعالى أن يغرز الخشب ويقطعه وييبسه فكان ذلك في مائة سنة ونجرها في
مائة سنة أخرى وقيل في أربعين سنة والله أعلم. وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة أن الله أمره أن يصنعها من
خشب الساج وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار وأن يجعل لها
جؤجؤا أزورا يشق الماء وقال قتادة كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين وعن الحسن طولها ستمائة ذراع
وعرضها ثلثمائة وعنه مع ابن عباس طولها ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة وقيل طولها ألفا ذراع وعرضها مائة
ذراع فالله أعلم قالوا كلهم وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع فالسفلى
للدواب والوحوش والوسطى للانس والعليا للطيور وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها وقد
ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا من حديث علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن عبد الله بن
عباس أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها قال فانطلق بهم حتى
انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه فقال أتدرون ما هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال هذا
كعب حام بن نوح قال فضرب الكثيب بعصاه قال قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب قال
له عيسى عليه السلام أهكذا هلكت؟ قال لا. ولكني مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت
قال حدثنا عن سفينة نوح؟ قال كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وكانت ثلاث طبقات فطبقة
فيها الدواب والوحوش وطبقة فيها الانس وطبقة فيها الطير فلما كثر روث الدواب أوحى الله عز وجل إلى نوح عليه
السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث فلما وقع الفأر بجوف السفينة يقرضها
وحبالها أوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر، فقال
له عيسى عليه السلام كيف علم نوح أن البلاد قد غرفت؟ قال بعث الغراب يأتيه بالخبر فوجد جيفة فوقع عليها
فدعا عليه بالخوف فلذلك لا يألف البيوت قال ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها
فعلم أن البلاد قد غرقت قال فطوقها الخصرة التي في عنقها ودعا لها أن تكون في أنس وأمان فمن ثم تألف
البيوت قال: فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال كيف يتبعكم من لا رزق له؟
460

قال: فقال له عد بإذن الله فعاد ترابا وقوله " ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملا من قومه سخروا منه " أي يهزءون
به ومكذبون بما يتوعدهم به من الغرق " قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم " الآية. وعيد شديد وتهديد أكيد
" من يأتيه عذاب يخزيه " أي يهينه في الدنيا " ويحل عليه عذاب مقيم " أي دائم مستمر أبدا.
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القوم ومن آمن وما آمن
معه إلا قليل (40)
هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام إذا جاء أمر الله من الأمطار المتتابعة والهتان الذي لا يقلع ولا يفتر
بل هو كما قال تعالى " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر *
وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر " وأما قوله " وفار التنور " فعن ابن عباس التنور
وجه الأرض أي صارت الأرض عيونا تفور حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء وهذا
قول جمهور السلف وعلماء الخلف وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه التنور فلق الصبح وتنوير الفجر وهو
ضياؤه وإشراقه والأول أظهر وقال مجاهد والشعبي كان هذا التنور بالكوفة وعن ابن عباس عين بالهند وعن
قتادة عين بالجزيرة يقال لها عين الوردة وهذه أقوال غريبة فحينئذ أمر الله نوحا عليه السلام أن يحمل معه في
السفينة من كل زوجين اثنين من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح قيل وغيرها من النباتات اثنين ذكرا وأنثى فقيل
كان أول من أدخل من الطيور الدرة وآخر من أدخل من الحيوانات الحمار فتعلق إبليس بذنبه وجعل يريد أن ينهض
فيثقله إبليس وهو متعلق بذنبه فجعل يقول له نوح عليه السلام: مالك ويحك ادخل فينهض ولا يقدر فقال
ادخل وإن كان إبليس معك فدخلا في السفينة، وذكر بعض السلف أنهم لم يستطيعوا أن يحملوا معهم الأسد
حتى ألقيت عليه الحمى.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن صالح كاتب الليث حدثني الليث حدثني هشام بن سعد عن
زيد بن أسلم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين قال أصحابه وكيف
تطمئن المواشي ومعها الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى فكانت أول حمى نزلت في الأرض ثم شكوا الفأرة فقالوا
الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا فأوحى الله إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها ". وقوله
" وأهلك إلا من سبق عليه القول " أي واحمل فيها أهلك وهم أهل بيته وقرابته إلا من سبق عليه القول منهم ممن
لم يؤمن بالله فكان منهم ابنه يام الذي انعزل وحده وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله وقوله " ومن آمن " أي
من قومك " وما آمن معه إلا قليل " أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاما
فعن ابن عباس كانوا ثمانين نفسا منهم نساؤهم وعن كعب الأحبار كانوا اثنين وسبعين نفسا وقيل كانوا عشرة
وقيل إنما كان نوح وبنوه الثلاثة سام وحام ويافث وكنائنه الأربع نساء هؤلاء الثلاثة وامرأة يام وقيل بل امرأة نوح
كانت معهم في السفينة وهذا فيه نظر بل الظاهر أنها هلكت لأنها كانت على دين قومها فأصابها ما أصابهم كما
أصاب امرأة لوط ما أصاب قومها والله أعلم وأحكم.
* وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم (41) وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح
ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا
عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)
461

يقول تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام أنه قال للذين أمر بحملهم معه في السفينة " اركبوا فيها بسم الله مجريها
ومرساها " أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها وقرأ أبو رجاء
العطاردي " بسم الله مجريها ومرسيها " وقال الله تعالى " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله
الذي نجانا من القوم الظالمين * وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " ولهذا تستحب التسمية في
ابتداء الأمور عند الركوب على السفينة وعلى الدابة كما قال تعالى " والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من
الفلك والانعام ما تركبون لتستووا على ظهوره " الآية وجاءت السنة بالحث على ذلك والندب إليه كما سيأتي في
سورة الزخرف إن شاء الله وبه الثقة وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا إبراهيم بن هشام البغوي حدثنا محمد بن أبي
بكر المقدمي وحدثنا زكريا بن يحيى الساجي حدثنا محمد بن موسى الجرثي قالا حدثنا عبد الحميد بن الحسن
الهلالي عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في
السفن أن يقولوا بسم الله الملك " وما قدروا الله حق قدره " الآية. " بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور
رحيم " وقوله " إن ربي لغفور رحيم " مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم
كقوله " إن ربك لسريع العقاب * وإنه لغفور رحيم " وقال " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك
لشديد العقاب " إلى غير ذلك من الآيات التي يقرن فيها بين رحمته وانتقامه وقوله " وهي تجري بهم في موج
كالجبال " أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء الذي قد طبق جميع الأرض حتى طفت على رؤوس الجبال
وارتفع عليها بخمسة عشر ذراعا وقيل بثمانين ميلا وهذه السفينة جارية على وجه الماء سائرة بإذن الله وتحت
كنفه وعنايته وحراسته وامتنانه كما قال تعالى " إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها
أذن واعية " وقال تعالى " وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية
فهل من مدكر " وقوله " ونادى نوح ابنه " الآية هذا هو الابن الرابع واسمه يام وكان كافرا دعاه أبوه عند ركوب
السفينة أن يؤمن ويركب معهم ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون " قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء " وقيل
إنه اتخذ له مركبا من زجاج وهذا من الإسرائيليات والله أعلم بصحته والذي نص عليه القرآن أنه قال " سآوي
إلى جبل يعصمني من الماء " اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال وأنه لو تعلق في رأس جبل
لنجاه ذلك من الغرق فقال لها أبوه نوح عليه السلام " لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم " أي ليس شئ
يعصم اليوم من أمر الله وقيل إن عاصما بمعنى معصوم كما يقال طاعم وكاس بمعني مطعوم ومكسو " وحال
بينهما الموج فكان من المغرقين ".
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء وقضى الامر واستوت على الجودى وقيل بعدا للقوم
الظالمين (44)
يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض كلهم إلا أصحاب السفينة أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع
عليها وأمر السماء أن تقلع عن المطر " وغيض الماء " أي شرع في النقص " وقضي الامر " أي فرغ من أهل
الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار " واستوت " السفينة بمن فيها " على الجودي " قال مجاهد وهو جبل
بالجزيرة تشامخت الجبال يومئذ من الغرق وتطاولت وتواضع هو لله عز وجل فلم يغرق وأرست عليه سفينة نوح
عليه السلام وقال قتادة استوت عليه شهرا حتى نزلوا منها، قال قتادة: قد أبقى الله سفينة نوح عليه السلام على
الجودي من أرض الجزيرة عبرة وآية حتى رآها أوائل هذه الأمة وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت
رمادا.
وقال الضحاك: الجودي جبل بالموصل وقال بعضهم هو الطور وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عمرو بن
462

رافع حدثنا محمد بن عبيد عن توبة بن سالم قال رأيت زر بن حبيش يصلي في الزاوية حين يدخل من أبواب كندة
على يمينك فسألته إنك لكثير الصلاة ههنا يوم الجمعة قال بلغني أن سفينة نوح أرست من ههنا. وقال علباء بن
أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مع نوح في السفينة ثمانون رجلا معهم أهلوهم وأنهم كانوا فيها مائة
وخمسين يوما وإن الله وجه السفينة إلى مكة فطافت بالبيت أربعين يوما ثم وجهها الله إلى الجودي فاستقرت عليه
فبعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فذهب فوقع على الجيف فأبطأ عليه فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون
فلطخت رجليها بالطين فعرف نوح عليه السلام أن الماء قد نضب فهبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها
ثمانين فأصبحوا ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها اللسان العربي فكان بعضهم لا يفقه كلام
بعض فكان نوح عليه السلام يعبر عنهم. وقال كعب الأحبار: إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن
تستقر على الجودي وقال قتادة وغيره ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائه وخمسين يوما واستقرت بهم على
الجودي شهرا وكان خروجهم من السفينة في عاشوراء من المحرم وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن
جرير وأنهم صاموا يومهم ذلك والله أعلم.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو جعفر حدثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي عن أبيه حبيب بن عبد الله عن شبل عن أبي
هريرة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال " ما هذا الصوم؟ " قالوا هذا اليوم الذي
نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصام نوح
وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل: فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أنا أحق بموسى وأحق بصوم هذا اليوم ". فصام وقال
لأصحابه " من كان أصبح منكم صائما فليتم صومه ومن كان أصاب من غذاء أهله فليتم بقية يومه " وهذا
حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شاهد في الصحيح وقوله " وقيل بعدا للقوم الظالمين " أي هلاكا وخسارا
لهم وبعدا من رحمة الله فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير والحبر
أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث يعقوب بن موسى الزمعي عن قائد مولى عبيد الله بن أبي رافع بن
إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" لو رحم الله من قوم نوح أحدا لرحم أم الصبي " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان نوح عليه السلام مكث في قومه ألف
سنة إلا خمسين عاما يعني وغرس مائة سنة الشجر فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعلها سفينة ويمرون
عليه ويسخرون منه ويقولون تعمل سفينة في البر فكيف تجري؟ قال سوف تعلمون فلما فرغ ونبع الماء وصار في
السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حبا شديدا فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلما بلغها الماء
ارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بيديها
فغرقا فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي ". وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقد روى عن كعب
الأحبار ومجاهد بن جبير قصة هذا الصبي وأمه بنحو من هذا.
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس
من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46) قال رب إني
أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)
هذا سؤال استعلام وكشف من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق " قال رب إن ابني من أهلي " أي وقد
وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟ " قال يا نوح إنه ليس من
أهلك " أي الذين وعدت إنجاءهم لاني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ولهذا قال " وأهلك إلا من سبق
463

عليه القول منهم " فكان هذا الولد ممن سبق عليه القول بالغرق لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوح عليه السلام
وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس بابنه وإنما كان ابن زنية ويحكى
القول بأنه ليس بابنه وإنما كان ابن امرأته عن مجاهد والحسن وعبيد بن عمير وأبي جعفر الباقر وابن جريج واحتج
بعضهم بقوله " إنه عمل غير صالح " وبقوله " فخانتاهما " فممن قاله الحسن البصري احتج بهاتين الآيتين وبعضهم
يقول ابن امرأته وهذا يحتمل أن يكون أراد ما أراد الحسن أو أراد أنه نسب إليه مجازا لكونه كان ربيبا عنده فالله
أعلم. وقال ابن عباس وغير واحد من السلف ما زنت امرأة نبي قط قال: وقوله " إنه ليس من أهلك " أي الذين
وعدتك نجاتهم وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه فإن الله سبحانه أغير من أن يمكن امرأة
نبي من الفاحشة ولهذا غضب الله على الذين رموا أم المؤمنين عائشة بنت الصديق زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر على
المؤمنين الذين تكلموا بهذا وأشاعوه ولهذا قال تعالى " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل
هو خير لكم * لكل امرئ منهم ما اكتسب من الاثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم - إلى قوله - إذ تلقونه
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ". وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن قتادة وغيره عن عكرمة عن ابن عباس قال: هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية قال عكرمة في بعض
الحروف إنه عمل عملا غير صالح والخيانة تكون على غير باب وقد ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قرأ بذلك فقال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن شهر بن حوشب
عن أسماء بنت يزيد قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ " إنه عمل غير صالح " وسمعته
يقول " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا " ولا يبالي " إنه
هو الغفور الرحيم " وقال أحمد أيضا حدثنا وكيع حدثنا هارون النحوي عن ثابت البناني عن شهر بن حوشب عن أم
سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها " إنه عمل غير صالح " أعاده أحمد أيضا في مسنده أم سلمة هي أم المؤمنين
والظاهر والله أعلم أنها أسماء بنت يزيد فإنها تكنى بذلك أيضا. وقال عبد الرزاق أيضا أنا الثوري عن ابن عيينة
عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قبة قال سمعت ابن عباس سئل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله
" فخانتاهما " قال أما إنه لم يكن بالزنا ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون وكانت هذه تدل على الأضياف
ثم قرأ " إنه عمل غير صالح " قال ابن عيينة وأخبرني عمار الذهبي أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كان
ابن نوح إن الله لا يكذب. قال تعالى " ونادى نوح ابنه " قال: وقال بعض العلماء ما فجرت امرأة نبي قط.
وكذا روى عن مجاهد أيضا وعكرمة والضحاك وميمون بن مهران وثابت بن الحجاج وهو اختيار أبي جعفر بن جرير
وهو الصواب الذي لا شك فيه.
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم (48)
يخبر تعالى عما قيل لنوح عليه السلام حين أرست السفينة على الجودي من السلام عليه وعلى من معه من
المؤمنين وعلى كل مؤمن من ذريته إلى يوم القيامة كما قال محمد بن كعب دخل في هذا السلام كل مؤمن ومؤمنة
إلى يوم القيامة وكذلك في العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة وقال محمد بن إسحاق لما أراد الله
أن يكف الطوفان أرسل ريحا على وجه الأرض فسكن الماء وانسدت ينابيع الأرض الغمر الأكبر وأبواب السماء
يقول الله تعالى " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " الآية. فجعل الماء ينقص ويغيض ويدير وكان استواء الفلك على
الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه في أول يوم من الشهر العاشر رأى
رؤوس الجبال فلما مضى بعد ذلك أربعون يوما فتح نوح كوة الفلك التي ركب فيها ثم أرسل الغراب لينظر له ما
صنع الماء فلم يرجع إليه فأرسل الحمامة فرجعت إليه لم تجد لرجليها موضعا فبسط يده للحمامة فأخذها فأدخلها
ثم مضى سبعة أيام ثم أرسلها لتنظر له فرجعت حين أمست وفي فيها ورق زيتون فعلم نوح أن الماء قد قل عن
464

وجه الأرض ثم مكث سبعة أيام ثم أرسلها فلم ترجع فعلم نوح أن الأرض قد برزت فلما كملت السنة فيما بين أن
أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة ودخل يوم واحد من الشهر الأول من سنة اثنتين برز وجه الأرض
وظهر البر وكشف نوح غطاء الفلك وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في ست وعشرين ليلة منه " قيل يا نوح اهبط
بسلام منا " الآية.
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة
للمتقين (49)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم هذه القصة وأشباهها " من أنباء الغيب " يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على
وجهها كأنك شاهدها نوحيها إليك أي نعلمك بها وحيا منا إليك " ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا " أي
لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تعلمتها منه بل أخبرك الله بها مطابقة لما
كان عليه الامر الصحيح كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا
سننصرك ونحوطك بعنايتنا ونجعل العاقبة لك ولاتبعاك في الدنيا والآخرة كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على
أعدائهم " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا " الآية. وقال تعالى " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم
المنصورون " الآية. وقال تعالى " فاصبر إن العاقبة للمتقين ".
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون (50) يا قوم لا أسئلكم
عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون (51) ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء
عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم ولا تتولوا مجرمين (52)
يقول تعالى " و " لقد أرسلنا " إلى عاد أخاهم هودا " آمرا لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهيا لهم عن الأوثان
التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي
ثوابه من الله الذي فطره أفلا تعقلون من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة ثم أمرهم
بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه
وسهل عليه أمره وحفظ شأنه ولهذا قال " يرسل السماء عليكم مدرارا " وفي الحديث " من لزم الاستغفار جعل الله
له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب ".
قالوا يا يهود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين (53) إن تقول إلا اعتراك بعض
آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون (54) من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون (55)
إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (56)
يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم " ما جئتنا ببينة " أي بحجة وبرهان على ما تدعيه " وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك "
أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم " وما نحن لك بمؤمنين " بمصدقين " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء "
يقولون ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها " قال إني
أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه " يقول إني برئ من جميع الأنداد والأصنام " فكيدوني
جميعا " أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقا " ثم لا تنظرون " أي طرفة عين وقوله " إني توكلت على الله ربي وربكم
465

ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " أي تحت قهره وسلطانه وهو الحاكم العادل الذي لا يجور في حكمه فإنه على
صراط مستقيم. قال الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أيفع بن عبد الكلاعي أنه قال في قوله تعالى " ما
من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " قال فيأخذ بنواصي عباده فيلقن المؤمن حتى يكون له
أشفق من الوالد لولده ويقول " ما غرك بربك الكريم " وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ودلالة قاطعة على
صدق ما جاءهم به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ولا
توالي ولا تعادي وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده لا شريك له الذي بيده الملك وله التصرف وما من شئ
إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل
شئ حفيظ (57) ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ (58) وتلك
عاد جحدوا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا أمر كل جبار عنيد (59) وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة
ألا إن عادا كفروا ربهم إلا بعد لعاد قوم هود (60)
يقول لهم هود فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي
إياكم رسالة الله التي بعثني بها " ويستخلف ربي قوما غيركم " يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبالي بكم فإنكم لا
تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم " إن ربي على كل شئ حفيظ " أي شاهد وحافظ لأقوال عباده
وأفعالهم ويجزيهم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر " ولما جاء أمرنا " وهو الريح العقيم فأهلكهم الله عن آخرهم
ونجى هودا وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه " وتلك عاد جحدوا بآيات ربهم " كفروا بها وعصوا رسل
الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء لأنه لا فرق بين أحد منهم في وجوب الايمان به، فعاد كفروا
بهود فنزل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل " واتبعوا أمر كل جبار عنيد " تركوا اتباع رسولهم الرشيد واتبعوا
أمر كل جبار عنيد فلهذا أتبعوا في هذه الدنيا لعنة من الله ومن عباده المؤمنين كلما ذكروا وينادى عليهم يوم
القيامة على رؤوس الاشهاد " ألا إن عادا كفروا ربهم " الآية قال السدي ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على
لسانه.
* وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم
فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب (61)
يقول تعالى " و " لقد أرسلنا " إلى ثمود " وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث
الله منهم أخاهم صالحا فأمرهم بعبادة الله وحده ولهذا قال " هو أنشأكم من الأرض " أي ابتدأ خلقكم منها خلق
منها أباكم آدم " واستعمركم فيها " أي جعلكم عمارا تعمرونها وتستغلونها " فاستغفروه " لسالف ذنوبكم " ثم توبوا
إليه " فيما تستقبلونه " إن ربي قريب مجيب " كما قال تعالى " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة
الداع إذا دعان " الآية.
قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب (62)
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته فما تزيدونني غير
466

تخسير (63)
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه السلام وبين قومه وما كان عليه قومه من الجهل والعناد في قولهم
" قد كنت فينا مرجوا قبل هذا " أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت " أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا "
وما كان عليه أسلافنا " وإننا لفي شك مما تدعوك إليه مريب " أي شك كثير " قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من
ربي " فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان " وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته " وتركت
دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني " غير تخسير " أي خسارة.
ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب (64) فعقروها
فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (65) فلما جاء أمرنا نجينا صالحا والذين آمنوا معه
برحمة منا ومن خزي يومئذ إن ربك هو القوي العزيز (66) وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم
جاثمين (67) كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمودا كفروا ربهم ألا بعدا لثمود (68)
تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته هاهنا وبالله التوفيق.
ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رأى أيديهم
لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها
بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب (71) قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب
قالوا أتعجبين من أمر الله رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد (73)
يقول تعالى " ولقد جاءت رسلنا " وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى قيل تبشره بإسحاق وقيل بهلاك قوم لوط
ويشهد للأول قوله تعالى " ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط " " قالوا سلاما قال
سلام " أي عليكم قال علماء البيان: هذا أحسن مما حيوه به لان الرفع يدل على الثبوت والدوام " فما لبث
أن جاء بعجل حنيذ " أي ذهب سريعا فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر حنيذ: مشوي على الرضف وهي
الحجارة المحماة. هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد كما قال في الآية الأخرى " فراغ إلى أهله
فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون " وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة وقوله " فلما
رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم " تنكرهم " وأوجس منهم خيفة " وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام
ولا يشتهونه ولا يأكلونه فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاءهم به فارغين عنه بالكلية فعند ذلك نكرهم " وأوجس
منهم خيفة " قال السدي: لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صور رجال شبان حتى نزلوا على
إبراهيم فتضيفوه فلما رآهم أجلهم " فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين " فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به
فقعد معهم وقامت سارة تخدمهم فذلك حين يقول - وامرأته قائمة وهو جالس - في قراءة ابن مسعود " فلما قربه
إليهم قال ألا تأكلون " قالوا يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاما إلا بثمن قال فإن لهذا ثمنا قالوا وما ثمنه؟ قال
تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا
" فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم " يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة فلما نظرت
سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم ضحكت وقالت: عجبا لأضيافنا هؤلاء نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم
467

لا يأكلون طعامنا! وقال ابن حاتم: حدثنا علي بن الحسين حدثنا نصر بن علي حدثنا نوح بن قيس عن عثمان بن
محيصن في ضيف إبراهيم قال: كانوا أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل ورفائيل قال نوح بن قيس فزعم
نوح بن أبي شداد أنهم لما دخلوا على إبراهيم فقرب إليهم العجل مسحه جبريل بجناحه فقام يدرج حتى لحق
بأمه وأم العجل في الدار وقوله تعالى إخبارا عن الملائكة " قالوا لا تخف " أي قالوا لا تخف منا إنا ملائكة
أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم فضحكت سارة استبشارا بهلاكهم لكثرة فسادهم وغلظ كفرهم وعنادهم فلهذا
جوزيت بالبشارة بالولد بعد الأياس وقال قتادة ضحكت وعجبت أن قوما يأتيهم العذاب وهم في غفلة وقوله
" ومن وراء إسحاق يعقوب " قال العوفي عن ابن عباس: فضحكت أي حاضت وقول محمد بن قيس إنها إنما
ضحكت من أنها ظنت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط وقول الكلبي: إنها إنما
ضحكت لما رأت من الروع بإبراهيم ضعفا ووجدا وإن كان ابن جرير قد رواهما بسنده إليهما فلا يلتفت إلى
ذلك والله أعلم. وقال وهب بن منبه: إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق وهذا مخالف لهذا السياق فإن البشارة
صريحة مرتبة على ضحكها " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب " أي بولد لها يكون له ولد وعقب
ونسل فإن يعقوب ولد إسحاق كما قال في آية البقرة " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون " ومن ههنا استدل
من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو إسماعيل وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به وأنه
سيولد له يعقوب فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ووعد الله حق
لا خلف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه فتعين أن يكون هو إسماعيل وهذا من أحسن الاستدلال
وأصحه وأبينه ولله الحمد " قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا " الآية حكى قولها في هذه الآية
كما حكي فعلها في الآية الأخرى فإنها " قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز " وفي الذاريات " فأقبلت امرأته في صرة
فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم " كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب " قالوا أتعجبين
من أمر الله " أي قالت الملائكة لها لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون. فلا تعجبي
من هذا وإن كنت عجوزا عقيما وبعلك شيخا كبيرا فإن الله على ما يشاء قدير " رحمة الله وبركاته عليكم أهل
البيت إنه حميد مجيد " أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله محمود ممجد في صفاته وذاته ولهذا ثبت في
الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال " قولوا اللهم صل على
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
آل إبراهيم إنك حميد مجيد ".
فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط (74) إن إبراهيم لحليم أواه منيب (75) يا إبراهيم
أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود (76)
يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه
بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الآية: قال لما جاءه جبريل ومن معه
قالوا له " إنا مهلكوا أهل هذه القرية " قال لهم أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن؟ قالوا لا قال أفتهلكون قرية
فيها مائتا مؤمن؟ قالوا لا قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا؟ قالوا لا قال ثلاثون؟ قالوا لا حتى بلغ
خمسة قالوا لا. قال أرأيتكم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا لا فقال إبراهيم عليه السلام عند
ذلك " إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته " الآية فسكت عنهم واطمأنت نفسه
وقال قتادة وغيره قريبا من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد؟ قالوا لا قال: فإن كان فيها لوط
468

يدفع به عنهم العذاب قالوا " نحن أعلم بمن فيها " الآية وقوله " إن إبراهيم لحليم أواه منيب " مدح
لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة وقد تقدم تفسيرها وقوله تعالى " يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر
ربك " الآية أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم
المجرمين.
ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب (77) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن
قبل كانوا يعملون السيئات قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس
منكم رجل رشيد (78) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد (79)
يخبر تعالى عن قدوم رسله من الملائكة بعد ما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه وأخبروه بإهلاك الله قوم لوط هذه
الليلة فانطلقوا من عنده فأتوا لوطا عليه السلام وهو على ما قيل في أرض له وقيل في منزله ووردوا عليه وهم في
أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه ابتلاء من الله وله الحكمة والحجة البالغة فساءه شأنهم وضاقت
نفسه بسببهم وخشي إن لم يضفهم أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء " وقال هذا يوم عصيب " قال ابن
عباس وغير واحد: شديد بلاؤه وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في
أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه أنه والله
يا هؤلاء ما أعلم على وجه الأرض أهل بلد أخبث من هؤلاء ثم مشى قليلا ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع
مرات قال قتادة: وقد كانوا أمروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك. وقال السدي: خرجت
الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار ولقوا بنت لوط تستقي فقالوا يا جارية هل
من منزل؟ فقالت مكانكم حتى آتيكم وفرقت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتيانا على باب
المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضيف رجلا فقالوا خل عنا فلنضيف
الرجال فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاءوا يهرعون إليه، وقوله
" يهرعون إليه " أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك وقوله " ومن قبل كانوا يعملون السيئات " أي لم
يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال وقوله " قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " يرشدهم
إلى نسائهم فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة كما قال لهم في الآية
الأخرى " أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون " وقوله في
الآية الأخرى " قالوا أو لم ننهك عن العالمين " أي ألم ننهك عن ضيافة الرجال " قال هؤلاء بناتي إن كنتم
فاعلين * لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " وقال في هذه الآية الكريمة " هؤلاء بناتي هن أطهر لكم " قال
مجاهد: لم يكن بناته لكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته. وكذا روي عن قتادة وغير واحد وقال ابن جريج:
أمرهم أن يتزوجوا النساء ولم يعرض عليهم سفاحا وقال سعيد بن جبير: يعني نساءهم هن بناته وهو أب لهم ويقال
في بعض القراءات " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم " وهو أب لهم وكذا روي عن الربيع بن
أنس وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم وقوله " فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي " أي اقبلوا ما آمركم به
من الاقتصار على نسائكم " أليس منكم رجل رشيد " أي فيه خير يقبل ما آمره به ويترك ما أنهاه عنه؟ " قالوا
لقد علمت ما لنا في بناتك من حق " أي إنك لتعلم أن نساءك لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن " وإنك لتعلم ما
نريد " أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟ قال السدي
" وإنك لتعلم ما نريد " إنما نريد الرجال.
469

قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (80) قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع
من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب (81)
يقول تعالى مخبرا نبيه لوط عليه السلام إن لوطا توعدهم بقوله " لو أن لي بكم قوة " الآية أي لكنت نكلت
بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة بن أبي
سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعنى الله عز
وجل - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه " فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليهم وأنهم لا
وصول لهم إليه " قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك " وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع
أدبارهم أي يكون ساقة لأهله " ولا يلتفت منكم أحد " أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات
المزعجة ولكن استمروا ذاهبين " إلا امرأتك " قال الأكثرون هو استثناء من المثبت وهو قوله " فأسر بأهلك "
تقديره " إلا امرأتك " وكذلك قرأها ابن مسعود ونصب هؤلاء امرأتك لأنه من مثبت فوجب نصبه عندهم وقال
آخرون من القراء والنحاة هو استثناء من قوله " ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك " فجوزوا الرفع والنصب وذكر
هؤلاء أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة التفتت وقالت: وا قوماه فجاءها حجر من السماء فقتلها ثم قربوا
له هلاك قومه تبشيرا له لأنه قال لهم أهلكوهم الساعة فقالوا " إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب ". هذا
وقوم لوط وقوف على الباب عكوف قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم
وينهاهم عما هم فيه وهم لا يقبلون منه بل يتوعدونه ويتهددونه فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه السلام
فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق كما قال تعالى " ولقد راودوه عن ضيفه
فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر " الآية وقال معمر عن قتادة عن حذيفة بن اليمان قال: كان إبراهيم عليه
السلام يأتي قوم لوط فيقول أنهاكم الله أن تعرضوا لعقوبته فلم يطيعوه حتى إذا بلغ الكتاب أجله انتهت الملائكة
إلى لوط وهو يعمل في أرض له فدعاهم إلى الضيافة فقالوا إنا ضيوفك الليلة وكان الله قد عهد إلى جبريل ألا
يعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة ذكر ما يعمل قومه من الشر فمشى
معهم ساعة ثم التفت إليهم فقال أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض شرا منهم أين
أذهب بكم؟ إلى قومي وهم أشر خلق الله؟ فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال احفظوها هذه واحدة ثم مشى
معهم ساعة فلما توسط القرية وأشفق عليهم واستحيا منهم قال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم
على وجه الأرض أشر منهم إن قومي أشر خلق الله فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوها هاتان اثنتان
فلما انتهى إلى باب الدار بكى حياء منهم وشفقة عليهم فقال: إن قومي أشر خلق الله؟ أما تعلمون ما يعمل أهل
هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم فقال جبريل للملائكة احفظوا هذه ثلاث قد حق
العذاب فلما دخلوا ذهبت عجوزه عجوز السوء فصعدت فلوحت بثوبها فأتاها الفساق يهرعون سراعا قالوا ما
عندك؟ قالت ضيف لوط قوما ما رأيت قط أحسن وجوها منهم ولا أطيب ريحا منهم فهرعوا يسارعون إلى الباب
فعالجهم لوط على الباب فدافعوه طويلا وهو داخل وهم خارج يناشدهم الله ويقول " هؤلاء بناتي هن أطهر
لكم " فقام الملك فلز بالباب - يقول فشده - واستأذن جبريل في عقوبتهم فأذن الله له فقام في الصورة التي يكون
فيها في السماء فنشر جناحه - ولجبريل جناحان - وعليه وشاح من در منظوم وهو براق الثنايا أجلى الجبين ورأسه
حبك حبك مثل المرجان وهو اللؤلؤ كأنه الثلج ورجلاه إلى الخضرة فقال يا لوط " إنا رسل ربك لن يصلوا
إليك " امض يا لوط عن الباب ودعني وإياهم فتنحى لوط عن الباب فخرج إليهم فنشر جناحه فضرب به
وجوههم ضربة شدخ أعينهم فصاروا عميا لا يعرفون الطريق ثم أمر لوط فاحتمل بأهله في ليلته قال " فأسر
بأهلك بقطع من الليل " وروي عن محمد بن كعب وقتادة والسدي نحو هذا.
470

فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود (82) مسومة عند ربك وما هي من
الظالمين ببعيد (83)
يقول تعالى " فلما جاء أمرنا " وكان ذلك عند طلوع الشمس " جعلنا عاليها " وهي سدوم " سافلها " كقوله
" فغشاها ما غشى " أي أمطرنا عليها حجارة من سجيل وهي بالفارسية حجارة من طين قاله ابن عباس وغيره
وقال بعضهم: أي من سنك وهو الحجر وكل وهو الطين وقد قال في الآية الأخرى حجارة من طين أي
مستحجرة قوية شديدة وقال بعضهم مشوية وقال البخاري سجيل: الشديد الكبير سجيل وسجين اللام والنون
أختان وقال تميم بن مقبل:
ورحله يضربون البيض صاحبة * ضربا تواصت به الابطال سجينا
وقوله " منضود " قال بعضهم: منضودة في السماء أي معدة لذلك وقال آخرون " منضود " أي يتبع بعضها
بعضا في نزولها عليهم وقوله " مسومة " أي معلمة مختومة عليها أسماء أصحابها كل حجر مكتوب عليه اسم
الذي ينزل عليه وقال قتادة وعكرمة " مسومة " مطوقة بها نضح من حمرة وذكروا أنها نزلت على أهل البلد
وعلى المتفرقين في القرى مما حولها فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه
من بين الناس فدمره فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد وقال
مجاهد: أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء
نباح كلابهم ثم كفأها وكان حملهم على حوافي جناحه الأيمن قال: ولما قلبها كان أول ما سقط منها
شرفاتها. وقال قتادة: بلغنا أن جبريل أخذ بعروة القرية الوسطى ثم ألوى بها إلى جو السماء حتى سمع أهل
السماء ضواغي كلابهم ثم دمر بعضها على بعض ثم أتبع شذاذ القوم صخرا قال: وذكر لنا أنهم كانوا أربع
قرى في كل قرية مائة ألف وفي رواية ثلاث قرى الكبرى منها سدوم قال وبلغنا أن إبراهيم عليه السلام كان
يشرف على سدوم ويقول سدوم يوم هالك. وفي رواية عن قتادة وغيره: بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح
نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجميع ما فيها فضمها في جناحه
فحواها وطواها في جوف جناحه ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب
وكانوا أربعة آلاف ألف ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسة ودمدم بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها ثم
أتبعها حجارة من سجيل. وقال محمد بن كعب القرظي: كانت قرى قوم لوط خمس قريات: سدوم وهي
العظمى وصعبة وصعود وغمرة ودوحاء احتملها جبريل بجناحه ثم صعد بها حتى أن أهل السماء الدنيا ليسمعون
نابحة كلابها وأصوات دجاجها ثم كفأها على وجهها ثم أتبعها الله بالحجارة يقول الله تعالى " جعلنا عاليها سافلها
وأمطرنا عليها حجارة من سجيل " فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات. وقال السدي: لما أصبح قوم لوط نزل
جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم
وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله " والمؤتفكة أهوى " ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمطر الله عليه
وهو تحت الأرض الحجارة ومن كان منهم شاذا في الأرض يتبعهم في القرى فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر
فيقتله فذلك قوله عز وجل " وأمطرنا عليهم " أي في القرى حجارة من سجيل هكذا قال السدي (1)] وقوله
" وما هي من الظالمين ببعيد " أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه وقد ورد في الحديث
المروى في السنن عن ابن عباس مرفوعا " من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به " وذهب
الإمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى أن اللائط يقتل سواء كان محصنا أو غير محصن عملا بهذا

(1) هذه الفقرة زيادة على النسخة الأميرية التي بأيدينا ونحن نثبتها هنا وإن كانتا من أراجيف الإسرائيليين.
471

الحديث وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل الله بقوم لوط والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب.
* وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم
بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط (84)
يقول تعالى ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريبا من معان. بلادا
تعرف بهم يقال لها مدين فأرسل الله إليهم شعيبا وكان من أشرفهم نسبا ولهذا قال " أخاهم شعيبا " يأمرهم
بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان " إني أراكم بخير " أي في
معيشتكم ورزقكم وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله " وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط "
أي في الدار الآخرة.
ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين (85) بقيت
الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ (86)
ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين
ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق، وقوله " بقية الله خير لكم " قال ابن عباس:
رزق الله خير لكم وقال الحسن رزق الله خير من بخسكم الناس وقال الربيع بن أنس وصية الله خير لكم
وقال مجاهد طاعة الله وقال قتادة حظكم من الله خير لكم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الهلاك في
العذاب والبقية في الرحمة وقال أبو جعفر بن جرير " بقية الله خير لكم " أي ما يفضل لكم من الربح بعد وفاء
الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس قال وقد روي هذا عن ابن عباس قلت ويشبه قوله تعالى " قل
لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " الآية وقوله " وما أنا عليكم بحفيظ " أي برقيب ولا
حفيظ أي افعلوا ذلك لله عز وجل لا تفعلوه ليراكم الناس بل لله عز وجل.
قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم
الرشيد (87)
يقولون له على سبيل التهكم قبحهم الله " أصلاتك " قال الأعمش أي قراءتك " تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا "
أي الأوثان والأصنام " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " فنترك التطفيف عن قولك وهي أموالنا نفعل فيها ما نريد
قال الحسن في قوله " أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا " أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد
آباؤهم وقال الثوري في قوله " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " يعنون الزكاة " إنك لانت الحليم الرشيد " قال
ابن عباس وميمون بن مهران وابن جريج وأسلم وابن جرير: يقولون ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم
الله ولعنهم عن رحمته وقد فعل.
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد إن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد
إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب (88)
472

يقول لهم أرأيتم يا قوم إن كنت " على بينة من ربي " أي على بصيرة فيما أدعوا إليه " ورزقني منه رزقا حسنا "
قيل أراد النبوة وقيل أراد الرزق الحلال ويحتمل الامرين وقال الثوري " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم
عنه " أي لا أنهاكم عن الشئ وأخالف أنا في السر فافعله خفية عنكم كما قال قتادة في قوله " وما أريد أن أخالفكم
إلى ما أنهاكم عنه " يقول لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه " إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت " أي فيما آمركم
وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي " وما توفيقي " أي في إصابة الحق فيما أريده " إلا بالله عليه
توكلت " في جميع أموري " وإليه أنيب " أي أرجع قاله مجاهد قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا
حماد بن سلمة حدثنا أبو قزعة سويد بن حجير الباهلي عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن أخاه مالكا قال: يا معاوية
إن محمدا أخذ جيراني فانطلق إليه فإنه قد كلمك وعرفك فانطلقت معه فقال: دع لي جيراني فقد كانوا
أسلموا فأعرض عنه فقام مغضبا فقال: أما والله لئن فعلت إن الناس يزعمون أنك لتأمرنا بالامر وتخالف إلى
غيره وجعلت أجره وهو يتكلم فقال رسول الله " ما تقول؟ " فقال إنك والله لئن فعلت ذلك إن الناس ليزعمون
أنك لتأمر بالامر وتخالف إلى غيره. قال فقال " أو قد قالوها: - أي قائلهم - ولئن فعلت ما ذاك إلا علي وما عليهم
من ذلك من شئ أرسلوا له جيرانه " وقال أيضا: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن
جده قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسا من قومي في تهمة فحبسهم فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب
فقال يا محمد علام تحبس جيراني؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن ناسا ليقولون إنك تنهى عن الشئ
وتستخلي به فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ما تقول " قال: فجعلت أعرض بينهما كلاما مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي
دعوة لا يفلحون بعدها أبدا فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فهمها فقال " قد قالوها أو قائلها منهم والله لو فعلت لكان
علي وما كان عليهم خلوا عن جيرانه " من هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر حدثنا
سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال: سمعت أبا
حميد وأبا أسيد يقولان عنه صلى الله عليه وسلم إنه قال " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له
أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه
أشعارهم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه " إسناده صحيح وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث
" إذا دخل أحدكم المسجد فليقل اللهم أفتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسالك من
فضللك " ومعناه والله أعلم مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه " وما
أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " وقال قتادة عن عروة عن الحسن العرني عن يحيى بن البزار عن مسروق
قال: جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت تنهي عن الواصلة؟ قال نعم قالت: فعله بعض نسائك فقال: ما
حفظت وصية العبد الصالح إذا " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " وقال عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير
عن أبي سليمان الضبي قال: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي فيكتب في آخرها وما كنت
من ذلك إلا كما قال العبد الصالح " وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ".
ويا قوم لا يجر منكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم
ببعيد (89) واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود (90)
يقول لهم " ويا قوم لا يجر منكم شقاقي " أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الاصرار على ما أنتم عليه من
الكفر والفساد فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب وقال قتادة
" ويا قوم لا يجر منكم شقاقي " يقول لا يحملنكم فراقي وقال السدي: عداوتي على أن تمادوا في الضلال
والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا ابن عوف الحمصي حدثنا أبو المغيرة
473

عبد القدوس بن الحجاج حدثنا ابن أبي عيينة حدثني عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي ليلى الكندي قال:
كنت مع مولاي أمسك دابته وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان إذ أشرف علينا من داره فقال " يا قوم لا يجر منكم
شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح " يا قوم لا تقتلوني إنكم إن قتلتموني كنتم
هكذا وشبك بين أصابعه وقوله " وما قوم لوط منكم ببعيد " قيل المراد في الزمان قال قتادة: يعني إنما
هلكوا بين أيديكم بالأمس وقيل في المكان ويحتمل الأمران " واستغفروا ربكم " من سالف الذنوب " ثم توبوا
إليه " فما تستقبلونه من الأعمال السيئة وقوله " إن ربي رحيم ودود " أي لمن تاب.
قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز (91)
قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط (92)
يقولون " يا شعيب ما نفقه " ما نفهم " كثيرا " من قولك " وإنا لنراك فينا ضعيفا " قال سعيد بن جبير
والثوري: وكان ضرير البصر. وقال الثوري: كان يقال له خطيب الأنبياء. قال السدي " وإنا لنراك فينا
ضعيفا " قال أنت واحد. وقال أبو روق يعنون ذليلا لان عشيرتك ليسوا على دينك " ولولا رهطك لرجمناك " أي
قومك لولا معزتهم علينا لرجمناك قيل بالحجارة وقيل لسببناك " وما أنت علينا بعزيز " أي ليس عندنا لك معزة
" قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله " يقول أتتركوني لأجل قومي ولا تتركوني إعظاما لجناب الرب تبارك
وتعالى أن تنالوا نبيه بمساءة وقد أتخذتم كتاب الله " وراءكم ظهريا " أي نبذتموه خلفكم ولا تطيعونه ولا تعظمونه
" وإن ربي بما تعلمون محيط " أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم.
ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم
رقيب (93) ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في
ديارهم جاثمين (94) كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود (95)
لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال يا قوم " أعملوا على مكانتكم " أي طريقتكم وهذا تهديد شديد
" إني عامل " على طريقتي " سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب " أي مني ومنكم
" وارتقبوا " أي انتظروا " إني معكم رقيب " قال الله تعالى " ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة
منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين " وقوله جاثمين أي هامدين لا حراك بهم وذكر
ههنا أنه أتتهم صيحة وفي الأعراف رجفة وفي الشعراء عذاب يوم الظلة وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم
عذابهم هذه النقم كلهم وأنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ففي الأعراف لما قالوا " لنخرجنك يا شعيب والذين
آمنوا معك من قريتنا " ناسب أن يذكر هناك الرجفة فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها وأرادوا إخراج نبيهم
منها وههنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ذكر الصيحة التي استلبثتهم وأخمدتهم وفي الشعراء لما
قالو " فاسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين " قال " فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم
عظيم " وهذا من الاسرار الدقيقة ولله الحمد والمنة كثيرا دائما وقوله " كأن لم يغنوا فيها " أي يعيشوا في
دارهم قبل ذلك " ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود " وكانوا جيرانهم قريبا منهم في الدار وشبيها بهم في الكفر
وقطع الطريق وكانوا عربا مثلهم.
474

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين (96) إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون
برشيد (97) يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (98) وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة
بئس الرفد المرفود (99)
يقول تعالى مخبرا عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملاه " فاتبعوا أمر فرعون " أي
منهجه ومسلكه وطريقته في الغي " وما أمر فرعون برشيد " أي ليس فيه رشد ولا هدى وإنما هو جهل وضلال
وكفر وعناد وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم
فأوردهم إياها وشربوا من حياض رداها وله في ذلك الحظ الأوفر من العذاب الأكبر كما قال تعالى
" فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا " وقال تعالى " فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى
فقال أنا ربكم الاعلى * فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى " وقال تعالى " يقدم قومه
يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود " وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفورين في العذاب يوم القيامة
كما قال تعالى " لكل ضعف ولكن لا تعلمون " وقال تعالى إخبارا عن الكفرة أنهم يقولون في النار " ربنا إنا
أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب " الآية وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم
حدثنا أبو الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " امرؤ القيس حامل لواء
شعراء الجاهلية إلى النار " وقوله " وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة " الآية أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار
لعنة في الدنيا " ويوم القيامة بئس الرفد المرفود " قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة فتلك لعنتان وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس " بئس الرفد المرفود " قال لعنة الدنيا والآخرة وكذا قال الضحاك وقتادة وهو كقوله
" وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون * وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من
المقبوحين " وقال تعالى " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد (100) وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت
عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شئ لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب (101)
لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين قال " ذلك من أنباء
القرى " أي أخبارهم " نقصه عليك منها قائم " أي عامر " وحصيد " أي هالك " وما ظلمناهم " أي إذ
أهلكناهم " ولكن ظلموا أنفسهم " بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم " فما أغنت عنهم آلهتهم " أوثانهم التي
يعبدونها ويدعونها " من دون الله من شئ " ما نفعوهم ولا أنقذوهم لما جاء أمر الله بإهلاكهم " وما زادوهم غير
تتبيب " قال مجاهد وقتادة وغيرهما أي غير تخسير وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك
الآلهة فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة.
وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد (102)
يقول تعالى وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم " إن أخذه أليم شديد " وفي
الصحيحين عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته "
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة " الآية.
إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود (103) وما نؤخره إلا لأجل
475

معدود (104) يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد (105)
يقول تعالى إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين " لآية " أي عظة واعتبارا على صدق موعودنا في الآخرة
" إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا وفي الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " وقال تعالى " فأوحى إليهم ربهم لنهلكن
الظالمين " الآية وقوله " ذلك يوم مجموع له الناس " أي أولهم وآخرهم كقوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم
أحدا " " وذلك يوم مشهود " أي عظيم تحضره الملائكة ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم من الإنس والجن
والطير والوحوش والدواب ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها وقوله
" وما نؤخره إلا لأجل معدود " أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من
ذرية آدم وضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ولهذا قال " وما
نؤخره إلا لأجل معدود " أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " أي
يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله كقوله " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " وقال
" وخشعت الأصوات للرحمن " الآية. وفي الصحيحين من حديث الشفاعة " ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل ودعوى
الرسل يومئذ اللهم سلم سلم " وقوله " فمنهم شقي وسعيد " أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد كما
قال " فريق في الجنة وفريق في السعير " وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده: ثنا موسى بن حسان ثنا
عبد الملك بن عمرو ثنا سليمان أبو سفيان ثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن عمر قال: لما نزلت " فمنهم
شقي وسعيد " سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله علام نعمل؟ على شئ قد فرغ منه أم على شئ لم يفرغ
منه؟ فقال " على شئ قد فرغ منه يا عمر وجرت به الأقلام ولكن كل ميسر لما خلق له " ثم بين تعالى حال
الأشقياء وحال السعداء فقال:
فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (106) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن
ربك فعال لما يريد (107)
يقول تعالى " لهم فيها زفير وشهيق " قال ابن عباس: الزفير في الحلق والشهيق في الصدر أي تنفسهم زفير
وأخذهم النفس شهيق لما هم فيه من العذاب عياذا بالله من ذلك " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض "
قال الإمام أبو جعفر بن جرير: من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشئ بالدوام أبدا قالت هذا دائم دوام
السماوات والأرض وكذلك يقولون هو باق ما اختلف الليل والنهار وما سمر أبناء سمير وما لألأت العير
بأذنابها. يعنون بذلك كله أبدا فخاطبهم جل ثناؤه وبما يتعارفونه بينهم فقال " خالدين فيها ما دامت السماوات
والأرض " قلت: ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات والأرض الجنس لأنه لا بد في عالم الآخرة من سماوات
وأرض كما قال تعالى " يوم تبدل الأرض غير والأرض والسماوات " ولهذا قال الحسن البصري في قوله " ما
دامت السماوات والأرض " قال: يقول سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه فما دامت تلك السماء وتلك
الأرض. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قوله " ما دامت
السماوات والأرض " قال: لكل جنة سماء وأرض وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما دامت الأرض أرضا
والسماء سماء. وقوله " إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد " كقوله " النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء
الله إن ربك حكيم عليم " وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة حكاها الشيخ أبو
الفرج بن الجوزي في كتابة زاد المسير وغيره من علماء التفسير ونقل كثيرا منها الإمام أبو جعفر بن جرير
رحمه الله في كتابه واختار هو ما نقله عن خالد بن معدان والضحاك وقتادة وابن سنان ورواه ابن أبي حاتم عن
ابن عباس والحسن أيضا أن الاستثناء عائد على العصاة من أهل التوحيد ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة
476

الشافعين من الملائكة والنبيين والمؤمنين حتى يشفعون في أصحاب الكبائر ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين
فتخرج من النار من لم يعمل خيرا قط وقال يوما من الدهر لا إله إلا الله كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة
المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمضمون ذلك من حديث أنس وجابر وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة
ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ولا محيد له عنها وهذا الذي عليه كثير من العلماء
قديما وحديثا في تفسير هذه الآية الكريمة. وقد روي في تفسيرها عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود
وابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو وجابر وأبي سعيد من الصحابة وعن أبي مجلز والشعبي وغيرهما من
التابعين وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وإسحاق بن راهويه وغيرهما من الأئمة في أقوال غريبة وورد
حديث غريب في معجم الطبراني الكبير عن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي ولكن سنده ضعيف والله أعلم.
وقال قتادة: الله أعلم بثنياه، وقال السدي هي منسوخة بقوله " خالدين فيها أبدا ".
* وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (108)
يقول تعالى " وأما الذين سعدوا " وهم أتباع الرسل " ففي الجنة " أي فمأواهم الجنة " خالدين فيها " أي
ماكثين فيها أبدا " ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك " معنى الاسثتناء ههنا أن دوامهم فيما هم فيه من
النعيم ليس أمرا واجبا بذاته بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى فله المنة عليهم دائما ولهذا يلهمون التسبيح
والتحميد كما يلهمون النفس. وقال الضحاك والحسن البصري: هي في حق عصاة الموحدين الذين كانوا في
النار ثم أخرجوا منها وعقب ذلك بقوله " عطاء غير مجذوذ " أي مقطوع قاله مجاهد وابن عباس وأبو العالية
وغير واحد لئلا يتوهم بعد ذكره المشيئة أن ثم انقطاع أو لبس أو شئ بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع كما بين
هناك أن عذاب أهل النار في النار دائما مردود إلى مشيئته وأنه بعدله وحكمته عذبهم ولهذا قال " إن ربك فعال
لما يريد " كما قال " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " وهنا طيب القلوب وثبت المقصود بقوله " عطاء غير
مجذوذ " وقد جاء في الصحيحين " يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل
الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت " وفي الصحيح أيضا " فيقال يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا
فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا
تبأسوا أبدا ".
فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص (109)
ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم وإنهم لفي شك منه مريب (110)
وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير (111)
يقول تعالى " فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء " المشركون إنه باطل وجهل وضلال فإنهم إنما يعبدون ما يعبد
آباؤهم من قبل أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء
فيعذبهم عذابا لا يعذبه أحدا وإن كان لهم حسنات فقد وفاهم الله إياها في الدنيا قبل الآخرة قال
سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن مجاهد عن ابن عباس " وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص " قال ما وعدوا
من خير أو شر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص ثم ذكر تعالى
أنه آتي موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد
أسوة فلا يغيظنك تكذيبهم لك ولا يهمنك ذلك " ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم " قال ابن جرير: لولا
477

ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله بينهم ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحدا
إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " فإنه قد قال في الآية
الأخرى " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى * فاصبر على ما يقولون " ثم أخبر تعالى أنه سيجمع
الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا فشر فقال " وإن كلا لما ليوفينهم ربك
أعمالهم إنه بما يعملون خبير " أي عليم بأعمالهم جميعا جليلها وحقيرها صغيرها وكبيرها وفي هذه الآية
قراءات كثيرة يرجع معناها إلى هذا الذي ذكرناه كما في قوله تعالى " وإن كل لما جميع لدينا محضرون ".
فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير (112) ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم
النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون (113)
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء
ومخالفة الأضداد ونهى عن الطغيان وهو البغي إنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك وأعلم تعالى أنه بصير
بأعمال العباد فلا يغفل عن شئ ولا يخفي عليه شئ.
وقوله " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تداهنوا وقال العوفي عن ابن
عباس: هو الركون إلى الشرك. وقال أبو العالية لا ترضوا بأعمالهم وقال ابن جرير عن ابن عباس: ولا تميلوا
إلى الذين ظلموا وهذا القول حسن أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم " فتمسكم النار
وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون " أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ولا ناصر يخلصكم من
عذابه.
وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين (114) واصبر فإن الله لا يضيع
أجر المحسنين (115)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وأقم الصلاة طرفي النهار " قال يعني الصبح والمغرب وكذا قال
الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال الحسن في رواية وقتادة والضحاك وغيرهم هي الصبح والعصر
وقال مجاهد: هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى " وزلفا من الليل " قال ابن عباس ومجاهد
والحسن وغيرهم: يعني صلاة العشاء وقال الحسن في رواية ابن المبارك عن مبارك بن فضالة عنه " وزلفا من
الليل " يعني المغرب والعشاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هما زلفا الليل المغرب والعشاء " وكذا قال مجاهد
ومحمد بن كعب وقتادة والضحاك إنها صلاة المغرب والعشاء وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض
الصلوات الخمس ليلة الاسراء فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان. صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل
غروبها وفي أثناء الليل قام عليه وعلى الأمة ثم نسخ في حق الأمة وثبت وجوبه عليه ثم نسخ عنه أيضا في قول
والله أعلم.
وقوله " إن الحسنات يذهبن السيئات " يقول إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة كما جاء في الحديث الذي
رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال: كنت إذا سمعت من رسول الله حديثا
نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته وحدثني أبو بكر وصدق
أبو بكر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من مسلم يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له " وفي الصحيحين
عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
478

وقال " من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه " وروى الإمام أحمد
وأبو جعفر بن جرير من حديث أبي عقيل زهرة بن معبد أنه سمع الحارث مولى عثمان يقول: جلس عثمان يوما
وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا عثمان بماء في إناء أظنه سيكون فيه قدر مد فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتوضأ وضوئي هذا ثم قال " من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما بينه وبين صلاة الصبح ثم
صلى العصر غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينه وبين صلاة العصر ثم صلى العشاء
غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين
صلاة العشاء وهن الحسنات يذهبن السيئات " وفي الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أرأيتم لو
أن بباب أحدكم نهرا غمرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيئا؟ " قالوا: لا يا رسول الله
قال " كذلك الصلوات الخمس يمحو الله بهن الذنوب والخطايا " وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو الطاهر وهو
ابن سعيد قالا حدثنا ابن وهب عن أبي صخر أن عمر بن إسحاق مولى زائدة حدثنه عن أبيه عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما
اجتنبت الكبائر " وقال الإمام أحمد: حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عباس عن ضمضم بن زرعة عن " شريح بن
عبيد أن أبا رهم السمعي كان يحدث أن أبا أيوب الأنصاري حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " إن كل صلاة تحط
ما بين يديها من خطيئة " وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا أبي عن ضمضم بن زرعة عن
شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " جعلت الصلوات كفارات لما بينهن " فإن الله
قال " إن الحسنات يذهبن السيئات ".
وقال البخاري: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يزيد بن زريع عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود
أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن
الحسنات يذهبن السيئات " فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال " لجميع أمتي كلهم " هكذا رواه في كتاب
الصلاة وأخرجه في التفسير عن مسدد عن يزيد بن زريع بنحوه ورواه مسلم وأحمد وأهل السنن إلا أبا داود من
طرق عن أبي عثمان النهدي واسمه عبد الرحمن بن مل به. ورواه الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن
جرير وهذا لفظه من طرق عن سماك بن حرب أنه سمع إبراهيم بن يزيد يحدث عن علقمة والأسود عن ابن مسعود
قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ففعلت بها كل شئ غير أني
لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فذهب الرجل.
فقال عمر لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه فأتبعه رسول الله بصره ثم قال " ردوه علي " فردوه عليه فقرأ عليه
" أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " فقال معاذ: وفي
رواية عمر: يا رسول الله أله وحده أم للناس كافة؟ قال " بل للناس كافة " وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن
عبيد حدثنا أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمد عن مرة الهمذاني عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ولا يحب ولا يعطي
الدين إلا من أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ولا
يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه " قال قلنا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال " غشه وظلمه ولا يكسب عبد مالا حراما فينفق
منه فيبارك له فيه ولا يتصدق فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحو السئ
بالسئ ولكن يمحو السئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث " وقال ابن جرير: حدثنا أبو السائب حدثنا أبو
معاوية عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان فلان ابن معتب رجلا من الأنصار فقال: يا رسول الله دخلت علي
امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من أهله إلا أني لم أواقعها فلم يدر رسول الله ما يجيبه حتى نزلت هذه الآية
" وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " فدعاه رسول الله
479

فقرأها عليه. وعن ابن عباس أنه عمرو بن غزية الأنصاري التمار وقال مقاتل هو أبو نفيل عامر بن قيس
الأنصاري وذكر الخطيب البغدادي أنه أبو اليسر كعب بن عمرو وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس وعفان قالا:
حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن علي بن زيد قال عفان: أنبأنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن
رجلا أتى عمر فقال: إن امرأة جاءت تبايعه فأدخلتها الدولج فأصبت منها ما دون الجماع فقال ويحك لعلها مغيبة
في سبيل الله؟ قال أجل قال فائت أبا بكر فسله. قال فأتاه فسأله فقال لعلها مغيبة في سبيل الله؟ فقال مثل
قول عمر. ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له مثل ذلك قال " فلعلها مغيبة في سبيل الله " ونزل القرآن " وأقم الصلاة طرفي
النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات " إلى آخر الآية: فقال يا رسول الله لي خاصة أم للناس
عامة؟ فضرب يعني عمر صدره بيده وقال لا ولا نعمة عين بل للناس عامة فقال رسول الله " صدق عمر " وروى
الإمام أبو جعفر بن جرير من حديث قيس بن الربيع عن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة عن أبي اليسر
كعب بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرا فقلت إن في البيت تمرا أجود من هذا فدخلت
فأهويت إليها فقبلتها فأتيت عمر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا فلم أصبر حتى أتيت
أبا بكر فسألته فقال اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدا قال فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال
" أخلفت رجلا غازيا في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ " حتى ظننت أني من أهل النار حتى تمنيت اني أسلمت
ساعتئذ فأطرق رسول الله ساعة فنزل جبريل فقال أبو اليسر فجئت فقرأ علي رسول الله " وأقم الصلاة طرفي
النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " فقال إنسان: يا رسول الله له خاصة أم
للناس عامة؟ قال " للناس عامة " وقال الحافظ أبو الحسن الدارقطني: حدثنا الحسين بن سهل المحاملي حدثنا
يوسف بن موسى حدثنا جرير عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل انه كان قاعدا
عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يصيبه الرجل من
امرأته إلا قد أصابه منها غير أنه لم يجامعها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل " فأنزل الله عز
وجل هذه الآية يعنى قوله " وأقم الصلاة طرفي النهار " فقال معاذ أهي له خاصة أم للمسلمين عامة؟ قال " بل
للمسلمين عامة " ورواه ابن جرير من طرق عن عبد الملك بن عمير به. وقال عبد الرزاق: حدثنا محمد بن مسلم
عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالس مع رسول الله فاستأذنه
لحاجة فأذن له فذهب يطلبها فلم يجدها فأقبل الرجل يريد أن يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر فوجد المرأة جالسة على غدير
فدفع في صدرها وجلس بين رجليها فصار ذكره مثل الهدبة فقام نادما حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع فقال له
" استغفر ربك وصل أربع ركعات " قال وتلا عليه " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " الآية وقال ابن
جرير: حدثني عبد الله بن أحمد بن سيبويه حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثني عمرو بن الحارث حدثني عبد الله بن
سالم عن الزبيدي عن سليم بن عامر انه سمع أبا أمامة يقول إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أقم في
حد الله - مرة أو اثنتين - فأعرض عنه رسول الله ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال " أين هذا الرجل
القائل أقم في حد الله؟ " قال أنا ذا قال " أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ " قال نعم. قال " فإنك من
خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد " وأنزل الله على رسول الله " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن
الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا
علي بن زيد عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ منها غصنا يابسا فهزه حتى تحات
ورقة ثم قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت ولم تفعله؟ قال هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن المسلم
إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى الصلوات الخمس تحاتت خطاياه كما يتحات هذا الورق " وقال " وأقم الصلاة طرفي
النهار وزلفا من الليل ان الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان
عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " يا معاذ أتبع السيئة الحسنة تمحها
480

وخالق الناس بخلق حسن " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان عن حبيب عن ميمون بن أبي شبيب عن
أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " وقال
أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شمر بن عطية عن أشياخه عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله أوصني،
قال " إذا عملت سيئة فأتبعها بحسنة تمحها " قال قلت يا رسول الله أمن الحسنات لا إله إلا الله؟ قال " هي
أفضل الحسنات " وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا هذيل بن إبراهيم الجماني حدثنا عثمان بن عبد الرحمن
الزهري عن ولد سعد بن أبي وقاص عن الزهري عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما قال عبد لا إله
إلا الله في ساعة من ليل أو نهار إلا طلست ما في الصحيفة من السيئات حتى تسكن إلى مثلها من الحسنات "
عثمان بن عبد الرحمن يقال له الوقاصي فيه ضعف. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا بشر بن آدم وزيد بن
أخرم قالا: حدثنا الضحاك بن مخلد حدثنا مستور بن عباد عن ثابت عن أنس ان رجلا قال: يا رسول الله ما
تركت من حاجة ولا داجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ " قال بلى قال " فإن
هذا يأتي على ذلك " تفرد به من هذا الوجه مستور.
فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا
ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين (116) وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون (117)
يقول تعالى فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات
والفساد في الأرض وقوله " إلا قليلا " أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيرا وهم الذين
أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر كما قال تعالى " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
وأولئك هم المفلحون " وفي الحديث " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب " ولهذا
قال تعالى " فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم "
وقوله " واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه " أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ولم يلتفتوا إلى
إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب " وكانوا مجرمين " ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم
يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين كما قال تعالى " وما ظلمناهم ولكن ظلموا
أنفسهم " وقال " وما ربك بظلام العبيد ".
ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين (118) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك
لا ملان جهنم من الجنة والناس أجمعين (119)
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان أو كفر كما قال تعالى " ولو شاء ربك لآمن من
في الأرض كلهم جميعا " وقوله " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك " أي ولا يزال الخلف بين الناس في
أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم وقال عكرمة: مختلفين في الهدى. وقال الحسن
البصري: مختلفين في الرزق يسخر بعضهم بعضا. والمشهور الصحيح الأول وقوله " إلا من رحم ربك " أي
إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الذين أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك
دأبهم حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة لانهم الفرقة
481

الناجية كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضا " إن اليهود افترقت على
إحدى وسبعين فرقة وأن النصارى افترقت على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها
في النار إلا فرقة واحدة " قالوا: ومن هم يا رسول لله؟ قال " ما أنا عليه وأصحابي " رواه الحاكم في مستدركه
بهذه الزيادة وقال عطاء " ولا يزالون مختلفين " يعني اليهود والنصارى والمجوس " إلا من رحم ربك " يعني
الحنيفية وقال قتادة: أهل رحمة الله أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم وأهل معصيته أهل فرقة وإن
اجتمعت ديارهم وأبدانهم وقوله " ولذلك خلقهم " قال الحسن البصري في رواية عنه وللاختلاف خلقهم
وقال مكي بن أبي طلحة عن ابن عباس: خلقهم فريقين كقوله " فمنهم شقي وسعيد وقيل للرحمة خلقهم
قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن خالد عن ابن أبي نجيح عن طاوس أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس
اختلفتما وأكثرتما فقال أحد الرجلين لذلك خلقنا فقال طاوس كذبت فقال أليس الله يقول " ولا يزالون
مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال لم يخلقهم ليختلفوا ولكن خلقهم للجماعة والرحمة كما قال
الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب وكذا قال مجاهد والضحاك
وقتادة ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " وقيل بل المراد
وللرحمة والاختلاف خلقهم كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم
ربك ولذلك خلقهم " قال الناس مختلفون على أديان شتى " إلا من رحم ربك " فمن رحم ربك غير مختلف
فقيل له لذلك خلقهم قال خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره وخلق هؤلاء لعذابه وكذا قال عطاء بن أبي
رباح والأعمش وقال ابن وهب سألت مالكا عن قوله تعالى " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك
خلقهم " قال فريق في الجنة وفريق في السعير وقد اختار هذا القول ابن جرير وأبو عبيد الفراء وعن مالك فيما
روينا عنه من التفسير " ولذلك خلقهم " قال للرحمة وقال قوم للاختلاف وقوله " وتمت كلمة ربك لا ملان
جهنم من الجنة والناس أجمعين " يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن
خلقه من يستحق الجنة ومنهم من يستحق النار وأنه لا بد أن يملا جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس وله الحجة
البالغة والحكمة التامة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اختصمت الجنة والنار فقالت
الجنة ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين فقال الله عز
وجل للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء وقال للنار أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها
فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة وأما النار فلا تزال تقول هل من مزيد
حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول قط قط وعزتك ".
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين (120)
يقول تعالى وكل اخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم وكيف جرى لهم من
المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه
الكافرين كل هذا مما نثبت به فؤادك أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك المرسلين أسوة
وقوله " وجاءك في هذه الحق " أي هذه السورة قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة من بالسلف وعن الحسن في
رواية عنه وقتادة في هذه الدنيا والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف أنجاهم الله
والمؤمنين بهم وأهلك الكافرين جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون وذكرى يتذكر بها
المؤمنون.
وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون (121) وانتظروا إنا منتظرون (122)
482

يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد " اعملوا على مكانتكم " أي
على طريقتكم ومنهجكم " إنا عاملون " أي على طريقتنا ومنهجنا " وانتظروا إنا منتظرون " أي فستعلمون من
تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون " وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده وجعل كلمته هي العليا وكلمة
الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم.
ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الامر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون (123)
يخبر تعالى أنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب
فله الخلق والامر، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه وقوله " وما ربك
بغافل عما تعملون " أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم وسيجزيهم
على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين وقال ابن جرير حدثنا ابن وكيع
حدثنا زيد بن الحباب عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن رباح عن كعب قال خاتمة
التوراة خاتمة هود.
آخر تفسير سورة هود عليه السلام ولله الحمد والمنة.
سورة يوسف
روى الثعلبي وغيره من طريق سلام بن سليم ويقال سليم المدائني وهو متروك عن هارون بن كثير وقد نص على
جهالته أبو حاتم عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " علموا أرقاكم
سورة يوسف فإنه أيما مسلم تلاها أو علمها أهله أو ما ملكت يمينه هون الله عليه سكرات الموت وأعطاه من القوة
أن لا يحسد مسلما " وهذا من هذا الوجه لا يصح لضعف إسناده بالكلية وقد ساقه الحافظ ابن عساكر متابعا
من طريق القاسم بن الحكم عن هارون بن كثير به ومن طريق شبابة عن محمد بن عبد الواحد النضري عن
علي بن زيد بن جدعان وعن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه
وهو منكر سائر طرقه وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة
أسلموا لموافقتها ما عندهم وهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب المبين (1) إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) نحن نقص عليك أحسن
القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين (3)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة وقوله " تلك آيات الكتاب " أي هذه آيات
الكتاب وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها (إنا أنزلناه قرآنا
عربيا لعلكم تعقلون) وذلك لان لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم
بالنفوس فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة وكان ذلك في
أشرف بقاع الأرض، وابتدئ انزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان فكمل من كل الوجوه ولهذا قال
" نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن " بسبب ايحائنا إليك هذا القرآن وقد ورد في
سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي: حدثنا حكام الرازي عن أيوب عن
483

عمرو هو ابن قيس الملائي عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فنزلت " نحن نقص عليك
أحسن القصص " ورواه من وجه آخر عن عمرو بن قيس مرسلا. وقال أيضا حدثنا محمد بن سعيد القطان حدثنا
عمرو بن محمد أنبأنا خالد الصفار عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: أنزل
على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن قال فتلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو قصصت علينا؟ فأنزل الله عز وجل " الر تلك
آيات الكتاب المبين " إلى قوله " لعلكم تعقلون " ثم تلاه عليهم زمانا فقالوا يا رسول الله لو حدثتنا فأنزل الله
عز وجل " الله نزل أحسن الحديث " الآية وذكر الحديث ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن راهويه عن
عمرو بن محمد القرشي المنقري به وروى ابن جرير بسنده عن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: مل
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة فقالوا: يا رسول الله حدثنا فأنزل الله " الله نزل أحسن الحديث " ثم ملوا ملة
أخرى فقالوا يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن - يعنون القصص - فأنزل الله عز وجل " الر تلك آيات
الكتاب المبين * إنا أنزلنا قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص " الآية فأرادوا
الحديث فدلهم علي أحسن الحديث وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص. ومما يناسب ذكره عند هذه
الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد: حدثنا
شريح بن النعمان أنبأنا هشيم أنبأنا مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله ان عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب
أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم قال فغضب وقال " أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي
نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شئ فيخبروكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه
والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق أنا سفيان
عن جابر عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بأخ
لي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن
ثابت فقلت له ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد رسولا قال
فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال " والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم إنكم
حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين " وقال الحافظ أبو يعلي الموصلي: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير
حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن خليفة بن قيس عن خالد بن عرفطة قال: كنت جالسا عند
عمر إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال نعم قال وأنت
النازل بالسوس؟ قال نعم فضربه بقناة معه قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر
اجلس فجلس فقرأ عليه " بسم الله الرحمن الرحيم * الر * تلك آيات الكتاب المبين * إنا أنزلنا قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون * نحن نقص عليك أحسن القصص - إلى - لمن الغافلين " فقرأها عليه ثلاثا وضربه ثلاثا فقال له
الرجل ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال قال مرني بأمرك أتبعه قال: انطلق
فامحه بالحميم والصوف الأبيض ثم لا تقرأه ولا تقرئه أحدا من الناس فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا
من الناس لأنهكنك عقوبة ثم قال: اجلس فجلس بين يديه فقال انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب
ثم جئت به في أديم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما هذا في يدك يا عمر؟ " قال قلت يا رسول الله كتاب نسخته
لنزداد به علما إلى علمنا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه ثم نودي بالصلاة جامعة فقالت الأنصار
أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم؟ السلاح السلاح فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا أيها
الناس إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه واختصر لي اختصارا ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تهوكوا ولا
يغرنكم المتهوكون " قال عمر: فقمت فقلت رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا وبك رسولا ثم نزل
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق به وهذا حديث
غريب من هذا الوجه وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي وقد ضعفوه وشيخه قال البخاري: لا
484

يصح حديثه قلت وقد روي له شاهد من وجه آخر فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرني
الحسن بن سفيان حدثنا يعقوب بن سفيان حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي حدثني عمرو بن الحارث
حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري عن الزبيدي حدثنا سليم بن عامر أن جبير بن نفير حدثهم أن رجلين كانا بحمص
في خلافة عمر رضي الله عنه فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة فأخذاها
معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين يقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة وإن نهانا عنها
رفضناها فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتاب وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا أفنأخذ منه أو نترك؟
فقال لعلكما كتبتما منه شيئا؟ فقالا: لا قال سأحدثكما: انطلقت في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى
أتيت خيبر فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني فقلت: هل أنت مكتبي مما تقول؟ قال نعم فأتيت بأديم فأخذ يملي
علي حتى كتبت في الأكراع فلما رجعت قلت يا نبي الله وأخبرته قال " ائتني به " فانطلقت أرغب عن الشئ
رجاء أن أكون جئت رسول الله ببعض ما يحب فلما أتيت به قال " اجلس اقرأ علي " فقرأت ساعة ثم نظرت إلى
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يتلون فتحيرت من الفرق فما استطعت أن أجيز منه حرفا فلما رأى الذي بي رفعه ثم
جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه وهو يقول " لا تتبعوا هؤلاء فإنهم قد هوكوا وتهوكوا " حتى محا آخره حرفا
حرفا قال عمر رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئا جعلتكما نكالا لهذه الأمة قالا: والله ما نكتب
منه شيئا أبدا فخرجا بصلاصفتهما فحفرا لها فلم يألوا أن يعمقا ودفناها فكان آخر العهد منها. وهكذا روى
الثوري عن جابر بن يزيد الجعفي عن الشعبي عن عبد الله بن ثابت الأنصاري عن عمر بن الخطاب بنحوه وروى
أبو داود في المراسيل من حديث أبي قلابة عن عمر نحوه والله أعلم.
إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (4)
يقول تعالى أذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف إذ قال لأبيه أبوه هو يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم عليهم الصلاة والسلام كما قال الإمام أحمد: ثنا عبد الصمد ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن أبيه
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم " انفرد بإخراجه البخاري فرواه عن عبد الله بن محمد عن عبد الصمد به وقال البخاري
أيضا: ثنا محمد أنا عبدة عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس
أكرم؟ قال " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا ليس عن هذا نسألك قال " فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي
الله ابن نبي الله ابن خليل الله " قالوا: ليس عن هذا نسألك قال " فعن معادن العرب تسألوني؟ " قالوا نعم قال
" فخياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا " ثم قال تابعه أبو أسامة عن عبيد الله. وقال ابن عباس رؤيا
الأنبياء وحي، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكبا عبارة عن إخوته وكانوا أحد عشر
رجلا سواه والشمس والقمر عبارة عن أمه وأبيه. روي هذا عن ابن عباس والضحاك وقتادة وسفيان الثوري
وعبد الرحمن ابن زيد ابن أسلم وقد وقع تفسيرها بعد أربعين سنة وقيل ثمانين سنة وذلك حين رفع أبويه على
العرش وهو سريره وإخوته بين يديه " وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي
حقا " وقد جاء في حديث تسمية هذه الأحد عشر كوكبا فقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثني علي بن سعيد
الكندي ثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن عبد الرحمن بن سابط عن جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من يهود
يقال له بستانة اليهودي فقال له يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف أنها ساجدة له ما أسماؤها؟ قال
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة فلم يجبه بشئ ونزل عليه جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها قال فبعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال " هل أنت مؤمن إذا أخبرتك بأسمائها؟ " قال نعم قال " جريان والطارق والديال
وذو الكنفات وقابس ووثاب وعموذان والفيلق والمصبح والضروح ذو الفرع والضياء والنور "
485

فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها. ورواه البيهقي في الدلائل من حديث سعيد بن منصور عن الحكم بن
ظهير وقد روى هذا الحديث الحافظان أبو يعلى الموصلي وأبو بكر البزار في مسنديهما وابن أبي حاتم في
تفسيره أما أبو يعلى فرواه عن أربعة من شيوخه عن الحكم بن ظهير به وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما رآها
يوسف قصها على أبيه يعقوب فقال له أبوه هذا أمر متشتت يجمعه الله من بعد - قال - والشمس أبوه والقمر أمه "
تفرد به الحكم بن ظهير الفزاري وقد ضعفه الأئمة وتركه الأكثرون وقال الجورجاني ساقط وهو صاحب حديث
حسن ثم ذكر الحديث المروي عن جابر أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكواكب التي رآها يوسف ما أسماؤها وأنه
أجابه ثم قال تفرد به الحكم بن ظهير وقد ضعفه الأربعة.
قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للانسان عدو مبين (5)
يقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له
وتعظيمهم إياه تعظيما زائدا بحيث يخرون له ساجدين إجلالا واحتراما وإكراما فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا
المنام أحدا من إخوته فيحسدونه على ذلك فيبغون له الغوائل حسدا منهم له ولهذا قال له " لا تقصص رؤياك
على إخوتك فيكيدوا لك كيدا " أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر وليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ
بالله من شرها ولا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره ". وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل
السنن من رواية معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا
عبرت وقعت " ومن هذا يؤخذ الامر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر كما ورد في حديث " استعينوا على قضاء
الحوائج بكتمانها فإن كل ذي نعمة محسود ".
وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من
قبل إبراهيم وإسحق إن ربك عليم حكيم (6)
ويقول تعالى مخبرا عن قول يعقوب لولده يوسف إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر
ساجدة لك " كذلك يجتبيك ربك " أي يختارك ويصطفيك لنبوته " ويعلمك من تأويل الأحاديث " قال مجاهد
وغير واحد يعني تعبير الرؤيا " ويتم نعمته عليك " أي بإرسالك والايحاء إليك. ولهذا قال " كما أتمها على
أبويك من قبل إبراهيم " وهو الخليل " وإسحاق " ولده وهو الذبيح في قول وليس بالرجيح " إن ربك عليم
حكيم " أي هو أعلم حيث يجعل رسالته كما قال في الآية الأخرى.
* ولقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين (7) إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن
عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين (8) اقتلوا يوسف أو أطرحوه أرضا يحل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما
صالحين (9) قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم
فاعلين (10)
يقول تعالى لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته آيات أي عبرة ومواعظ للسائلين عن ذلك المستخبرين عنه
فإنه خبر عجيب يستحق أن يخر عنه " إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا " أي حلفوا فيما يظنون والله
486

ليوسف وأخوه يعنون بنيامين وكان شقيقه لامه " أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة " أي جماعة فكيف أحب ذينك
الاثنين أكثر من الجماعة " إن أبانا لفي ضلال مبين " يعنون في تقديمها علينا ومحبته إياهما أكثر منا.
واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة أخوة يوسف وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ومن الناس من يزعم
أنه أوحي إليهم بعد ذلك وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ولم يذكروا سوى قوله تعالى " قولوا آمنا
بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط " وهذا فيه احتمال لان بطون بني
إسرائيل يقال لهم الأسباط كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط
بني إسرائيل فذكرهم إجمالا لانهم كثيرون ولكن كل سبط من نسل رجل من اخوة يوسف ولم يقم دليل على أعيان
هؤلاء أنهم أوحى إليهم والله أعلم. " اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم " يقولون هذا الذي
يزحمكم في محبة أبيكم لكم اعدموه من وجه أبيكم ليخلو لكم وحدكم إما بأن تقتلوه أو تلقوه في أرض من
الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم " وتكونوا من بعده قوما صالحين " فأضمروا التوبة قبل الذنب " قال
قائل منهم " قال قتادة ومحمد بن إسحاق: وكان أكبرهم واسمه روبيل. وقال السدي الذي قال ذلك يهوذا وقال
مجاهد هو شمعون " لا تقتلوا يوسف " أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله ولم يكن لهم سبيل إلى قتله
لان الله تعالى كان يريد منه أمرأ لا بد من إمضائه وإتمامه من الايحاء إليه بالنبوة ومن التمكين له ببلاد مصر
والحكم بها فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه وإشارته عليهم بأن يلقوه في غيابة الجب وهو أسفله. قال قتادة:
وهي بئر بيت المقدس " يلتقطه بعض السيارة " أي المارة من المسافرين فتستريحوا منه بهذا ولا حاجة إلى قتله
" إن كنتم فاعلين " أي إن كنتم عازمين على ما تقولون. قال محمد بن إسحاق بن يسار: لقد اجتمعوا على أمر
عظيم من قطيعة الرحم وعقوق الوالد وقلة الرأفة بالصغير الضرع الذي لا ذنب له وبالكبير الفاني ذي الحق
والحرمة والفضل وخطره عند الله مع حق الوالد على ولده ليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه مع
مكانه من الله فيمن أحبه طفلا صغيرا وبين ابنه على ضعف قوته وصغر سنه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه
يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين فقد احتملوا أمرا عظيما. رواه ابن أبي حاتم من طريق سلمة بن الفضل عنه.
قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون (11) أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له
لحافظون (12)
لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير روبيل جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام فقالوا ما
بالك " لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون " وهذه توطئة ودعوى وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم
من الحسد لحب أبيه له " أرسله معنا " أي ابعثه معنا " غدا نرتع ونلعب " وقرأ بعضهم بالياء " يرتع ويلعب "
قال ابن عباس: يسعى وينشط. وكذا قال قتادة والضحاك والسدي وغيرهم " وإنا له لحافظون " يقولون ونحن
نحفظه ونحوطه من أجلك.
قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون (13) قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا
إذا لخاسرون (14)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء
" إني ليحزنني أن تذهبوا به " أي يشق علي مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع وذلك لفرط محبته له لما يتسوم
فيه من الخير العظيم وشمائل النبوة والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه. وقوله " وأخاف أن
يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون " يقول وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا
487

تشعرون فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة " لئن
أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون " يقولون لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا. ونحن جماعة وأنا إذا
لهالكون عاجزون.
فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون (15)
يقول تعالى فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك " وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب "
هذا فيه تعظيم لما فعلوه أنهم اتفقوا كلهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب وقد أخذوه من عند أبيه فيه يظهرونه
له إكراما له وبسطا وشرحا لصدره وإدخالا للسرور عليه فيقال إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقبله
ودعا له. وذكر السدي وغيره أنه لم لكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا إن غابوا عن عين أبيه وتواروا
عنه ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه والفعل من ضرب ونحوه ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على
رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه فكان إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه وإذا تشبث بحافات البئر ضربوا على
يديه ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها
الراغوفة فقام فوقها وقوله " وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون " يقول تعالى ذاكرا لطفه ورحمته
وعائدته لم وإنزاله اليسر في حال العسر أنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطيبا لقلبه وتثبيتا له إنك لا
تحزن مما أنت فيه فإن لك من ذلك فرجا ومخرجا حسنا وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك وستخبرهم
بما فعلوا معك من هذا الصنيع. وقوله " وهم لا يشعرون " قال مجاهد وقتادة " وهم لا يشعرون " بإيحاء الله
إليه، وقال ابن عباس ستنبأهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يستشعرون بك كما قال ابن جرير:
حدثني الحارث ثنا عبد العزيز ثنا صدقة بن عبادة الأسدي عن أبيه سمعت ابن عباس يقول: لما دخل إخوة يوسف
عليه فعرفهم وهم له منكرون قال جئ بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه
كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب قال ثم نقره
فطن قال فأتيتم أباكم فقلتم إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب قال فقال بعضهم لبعض إن هذا
الجام ليخبره بخبركم قال ابن عباس فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم " لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا
يشعرون ".
وجاءوا أباهم عشاء يبكون (16) قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن
لنا ولو كنا صادقين (17) وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل
والله المستعان على ما تصفون (18)
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب ثم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل
يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا " إنا ذهبنا
نستبق " أي نترامى " وتركنا يوسف عند متاعنا " أي ثيابنا وأمتعتنا " فأكله الذئب " وهو الذي كان قد جزع منه
وحذر عليه وقوله " وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه يقولون ونحن
نعلم أنك لا تصدقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين فكيف وأنت تتهمنا في ذلك لأنك خشيت أن يأكله الذئب
فأكله الذئب فأنت معذور في تكذيبك لنا لغرابة ما وقع وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا " وجاءوا على قميصه بدم
كذب " أي مكذوب مفترى وهذا من الافعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة وهو أنهم عمدوا إلى
سخلة فيما ذكره مجاهد والسدي وغير واحد فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها موهمين أن هذا قميصه الذي أكله
488

فيه الذئب وقد أصابه من دمه ولكنه نسوا أن يخرقوه فلهذا لم يرجع هذا الصنيع على نبي الله يعقوب. بل قال
لهم معرضا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " أي
فسأصبر صبرا جميلا على هذا الامر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه " والله المستعان على ما
تصفون " أي على ما تذكرون من الكذب والمحال. وقال الثوري عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
" وجاءوا على قميصه بدم كذب " قال لو أكله السبع لخرق القميص وكذا قال الشعبي والحسن وقتادة وغير
واحد وقال مجاهد: الصبر الجميل الذي لا جزع فيه. وروى هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن
أبي حبلة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله " فصبر جميل " فقال " صبر لا شكوى فيه " وهذا مرسل. وقال
عبد الرزاق قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال: ثلاث من الصبر: أن لا تحدث بوجعك ولا بمصيبتك
ولا تزكي نفسك. وذكر البخاري ههنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما
قال أبو يوسف " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ".
وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون (19)
وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين (20)
يقول تعالى مخبرا عما جرى ليوسف حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيدا فريدا فمكث عليه السلام في البئر ثلاثة
أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش وقال محمد بن إسحاق لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا
يصنع وما يصنع به فساق الله له سيارة فنزلوا قريبا من تلك البئر وأرسلوا واردهم هو الذي يتطلب لهم الماء فلما
جاء ذلك البئر وأدلى بدلوه فيها تشبث يوسف عليه السلام فيها فأخرجه واستبشر به وقال " يا بشرى هذا غلام " وقرأ
بعض القراء يا بشراي فزعم السدي أنه اسم رجل ناداه ذلك الرجل الذي أدلى بدلوه معلما له أنه أصاب
غلاما وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس والله
أعلم. وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف
ياء الإضافة وهو يريدها كما تقول العرب يا نفس اصبري يا غلام أقبل بحذف حرف الإضافة ويجوز الكسر
حينئذ والرفع وهذا منه وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي والله أعلم. وقوله " وأسروه بضاعة " أي وأسره
الواردون من بقية السيارة وقالوا اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره.
قاله مجاهد والسدي وابن جرير هذا قول وقال العوفي عن بن عباس قوله " وأسروه بضاعة " يعني إخوة يوسف
أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم
فنادى أصحابه " يا بشرى هذا غلام " يباع فباعه إخوته وقوله " والله عليم بما يعملون " أي عليم بما يفعله إخوة
يوسف ومشتروه وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ولكن له حكمة وقدر سابق فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه " ألا
له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك
وأنا قادر على الانكار عليهم ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم كما جعلت ليوسف الحكم
والعاقبة على إخوته. وقوله (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) يقول تعالى: وباعه إخوته بثمن قليل. قال
مجاهد وعكرمة: والبخس هو النقص كما قال تعالى " فلا يخاف بخسا ولا رهقا " أي اعتاض عنه إخوته بثمن
دون قليل ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه بل لو سئلوه بلا شئ لأجابوا. قال ابن عباس
ومجاهد والضحاك إن الضمير في قوله " وشروه " عائد على إخوة يوسف، وقال قتادة: بل هو عائد على
السيارة والأول أقوى لان قوله " وكانوا فيه من الزاهدين " إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة لان السيارة استبشروا
به وأسروه بضاعة ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه فترجح من هذا أن الضمير في " شروه " إنما هو لاخوته وقيل
489

المراد بقوله " بخس " الحرام وقيل الظلم وهذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا لان هذا معلوم يعرفه
كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن
الكريم ابن الكريم ابن الكريم وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما أي إنهم إخوته وقد باعوه
ومع هذا بأنقص الأثمان ولهذا قال " دراهم معدودة " فعن ابن مسعود رضي الله عنه باعوه بعشرين درهما وكذا
قال ابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي وزاد اقتسموها درهمين درهمين وقال مجاهد: اثنان
وعشرون درهما وقال محمد بن إسحاق وعكرمة أربعون درهما وقال الضحاك في قوله " وكانوا فيه من
الزاهدين " وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عز وجل وقال مجاهد لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون
لهم استوثقوا منه لا يأبق حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني وليبشر؟ فاشتراه الملك وكان مسلما.
وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في
الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون (21) ولما بلغ أشده
آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين (22)
يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام أنه قيض له الذي اشتراه من مصر حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به
وتوسم فيه الخير والصلاح فقال لامرأته " أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا " وكان الذي اشتراه من مصر
عزيزها وهو الوزير، حدثنا العوفي عن ابن عباس وكان اسمه قطفير وقال محمد بن إسحاق: اسمه أطفير بن
روحيب وهو العزيز وكان على خزائن مصر وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق قال: واسم
امرأته راعيل بنت رعابيل وقال غيره اسمها زليخا وقال محمد بن إسحاق أيضا عن محمد بن السائب عن أبي
صالح عن ابن عباس: كان الذي باعه بمصر مالك بن ذعر بن قريب بن عنقا بن مديان بن إبراهيم فالله أعلم.
وقال أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفر أأسجد الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته
" أكرمي مثواه " والمرأة التي قالت لأبيها " يا أبت استأجره " الآية وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن
الخطاب رضي الله عنهما. يقول تعالى: كما أنقذنا يوسف من إخوته " كذلك مكنا ليوسف في الأرض " يعني
بلاد مصر " ولنعلمه من تأويل الأحاديث " قال مجاهد والسدي: هو تعبير الرؤيا " والله غالب على أمره " إي
إذا أراد شيئا فلا رد ولا يمانع ولا يخالف بل هو الغالب لما سواه. قال سعيد بن جبير في قوله " والله غالب على
أمره " أي فعال لما يشاء وقوله " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " يقول لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله
لما يريد، وقوله " ولما بلغ " أي يوسف عليه السلام " أشده " أي استكمل عقله وتم خلقه " آتيناه حكما
وعلما " يعني النبوة أنه حباه بها بين أولئك الأقوام " وكذلك نجزي المحسنين " أي إنه كان محسنا في عمله
عاملا بطاعة الله تعالى وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة: ثلاث
وثلاثون سنة وعن ابن عباس بضع وثلاثون وقال الضحاك عشرون وقال الحسن أربعون سنة وقال عكرمة
خمس وعشرون سنة وقال السدي ثلاثون سنة وقال سعيد بن جبير ثمانية عشر سنة وقال الامام مالك
وربيعة بن زيد بن أسلم والشعبي الأشد الحلم وقيل غير دلك والله أعلم.
وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي
إنه لا يفلح الظالمون (23)
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر وقد أوصاها زوجها به وبإكرامه فراودته عن نفسه أي
490

حاولته على نفسه ودعته إليها وذلك أنها أحبته حبا شديدا لجماله وحسنه وبهائه فحملها ذلك على أن تجملت له
وغلقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها " وقالت هيت لك " فامتنع من ذلك أشد الامتناع و " قال معاذ الله إنه
ربي أحسن مثواي " وكانوا يطلقون الرب على السيد الكبير أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي وأحسن
إلي فلا أقابله بالفاحشة في أهله " إنه لا يفلح الظالمون " قال ذلك مجاهد والسدي ومحمد بن إسحاق وغيرهم
وقد اختلف القراء في قوله " هيت لك " فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء قال ابن عباس ومجاهد وغير
واحد: معناه أنها تدعوه إلى نفسها وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس: هيت لك تقول هلم
لك. وكذا قال زر بن حبيش وعكرمة والحسن وقتادة قال عمرو بن عبيد عن الحسن وهى كلمة بالسريانية أي
عليك. وقال السدي: هيت لك أي هلم لك وهي بالقبطية وقال مجاهد: في لغة عربية تدعوه بها وقال
البخاري وقال عكرمة: هيت لك أي هلم لك بالحورانية وهكذا ذكره معلقا وقد أسنده الإمام أبو جعفر بن جرير
حدثني أحمد بن سهل الواسطي حدثنا قرة بن عيسى حدثنا النضر بن علي الجزري عن عكرمة مولى ابن عباس
في قوله " هيت لك " قال هلم لك قال: هي بالحورانية وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وكان الكسائي يحب
هذه القراءة يعني هيت لك ويقول لغة لأهل حوران وقعت إلى أهل الحجاز ومعناها تعال وقال أبو عبيدة:
سألت شيخا عالما من أهل حوران فذكر أنها لغتهم يعرفها واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر
لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أبلغ أمير المؤمنين * - أذى العراق إذا أتينا
إن العراق وأهله * عنق إليك فهيت هيتا
يقول فتعال واقترب وقرأ ذلك آخرون هئت لك بكسر الهاء والهز وضم التاء بمعنى تهيأت لك من قول القائل هئت
بالامر اهئ هئة وممن روي عنه هذه القراءة ابن عباس وأبو عبد الرحمن السلمى وأبو وائل وعكرمة وقتادة
وكلهم يفسرها بمعنى تهيأت لك قال ابن جرير: وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة وقرأ عبد الله بن
إسحاق هيت بفتح الهاء وكسر التاء وهي غريبة وقرأ آخرون منهم عامة أهل المدينة هيت بفتح الهاء وضم التاء
وأنشد قول الشاعر:
ليس قومي بالأبعدين إذا ما * قال داع من العشيرة هيت
قال عبد الرزاق: أنبأنا الثوري عن الأعمش عن أبي وائل قال: قال ابن مسعود وقد سمع القراء متقاربين فاقرءوا
كما علمتم وإياكم والتنطع والاختلاف وإنما هو كقول أحدكم هلم وتعال. ثم قرأ عبد الله هيت لك فقال يا أبا
عبد الرحمن ناسا يقرؤونها هيت قال عبد الله: أن أقرأها كما علمت أحب إلي وقال ابن جرير: حدثني ابن
وكيع حدثنا ابن عيينة عن منصور عن أبي وائل قال: قال عبد الله هيت لك فقال له مسروق إن ناسا يقرؤنها هيت
لك فقال دعوني فإني أقرأ كما أقرئت أحب إلي وقال أيضا: حدثني المثنى حدثنا آدم بن إياس حدثنا شعبة عن
شقيق عن ابن مسعود قال: هيت لك بنصب الهاء والتاء ولا تهمز وقال آخرون هيت لك بكسر الهاء واسكان
الياء وضم التاء قال أبو عبيد معمر بن المثنى هيت لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث بل يخاطب الجميع بلفظ واحد
فيقال هيت لك وهيت لكم وهيت لكما وهيت لكن وهيت لهن.
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا
المخلصين (24)
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وطائفة من
491

السلف في ذلك ما رواه ابن جرير وغيره والله أعلم وقيل المراد بهمه بها خطرات حديث النفس حكاه البغوي
عن بعض أهل التحقيق ثم أورد البغوي ههنا حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى: إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة فان عملها فاكتبوها له بعشر
أمثالها وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإنما تركها من جرائي فإن عملها فاكتبوها بمثلها " وهذا الحديث
مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة هذا منها وقيل هم بضربها وقيل تمناها زوجة وقيل هم بها لولا أن
رأى برهان ربه أي فلم يهم بها وفي هذا القول نظر من حيث العربية حكاه ابن جرير وغيره وأما البرهان
الذي رآه ففيه أقوال أيضا فعن ابن عباس وسعيد ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة وأبي
صالح والضحاك ومحمد بن إسحاق وغيرهم رأى صورة أبيه يعقوب عاضا على أصبعه بفمه وقيل عنه في رواية
فضرب في صدر يوسف وقال العوفي عن ابن عباس: رأى خيال الملك يعني سيده وكذا قال محمد بن
إسحاق فيما حكاه عن بعضهم إنما هو خيال قطفير سيده حين دنا من الباب.
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن أبي مودود سمعت من محمد بن كعب القرظي قال رفع يوسف
رأسه إلى سقف البيت فإذا كتاب في حائط البيت " لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا " وكذا رواه أبو
معشر المدني عن محمد بن كعب وقال عبد الله بن وهب: أخبرني نافع بن يزيد عن أبي صخر قال: سمعت
القرظي يقول في البرهان الذي رآه يوسف ثلاث آيات من كتاب الله " إن عليكم لحافظين " الآية وقوله " وما
تكون في شأن " الآية وقوله " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " قال نافع: سمعت أبا هلال يقول مثل
قول القرظي وزاد آية رابعة " ولا تقربوا الزنا " وقال الأوزاعي: رأى آية من كتاب الله في الجدار تنهاه عن
ذلك قال ابن جرير: والصواب أن يقال إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به. وجائز أن يكون صورة
يعقوب وجائز أن يكون صورة الملك وجائز أن يكون ما رآه مكتوبا من الزجر عن ذلك ولا حجة قاطعة على تعيين
شئ من ذلك فالصواب أن يطلق كما قال الله تعالى وقوله " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " أي كما
أريناه برهانا صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره " إنه من عبادنا المخلصين " أي
من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار صلوات الله وسلامه عليه.
واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدا الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو
عذاب أليم (25) قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من
الكاذبين (26) وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين (27) فلما رأى قميصه قد من دبر قال
إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم (28) يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من
الخاطئين (29)
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب يوسف هارب والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت فلحقته في
أثناء ذلك فأمسكت بقميصه من ورائه فقدته قدا فظيعا يقال إنه سقط عنه واستمر يوسف هاربا ذاهبا وهي في إثره
فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة
يوسف بدائها " ما جزاء من أراد بأهلك سوءا " أي فاحشة " إلا أن يسجن " أي يحبس " أو عذاب أليم " أي
يضرب ضربا شديدا موجعا فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق وتبرأ مما رمته به من الخيانة،
و " قال " بارا صادقا " هي راودتني عن نفسي " وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه " وشهد شاهد
492

من أهلها إن كان قميصه قد من قبل " أي من قدامه " فصدقت " أي في قولها إنه راودها عن نفسها لأنه يكون
لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره فقدت قميصه فيصح ما قالت " وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من
الصادقين " وذلك يكون كما وقع لما هرب منها وتطلبته أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من
ورائه، وقد اختلفوا في هذا الشاهد هل هو صغير أو كبير؟ على قولين لعلماء السلف فقال عبد الرزاق: أخبرنا
إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس " وشهد شاهد من أهلها " قال ذو لحية وقال الثوري عن جابر
عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس: كان من خاصة الملك. وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والسدي
ومحمد بن إسحاق وغيرهم: إنه كان رجلا. وقال زيد بن أسلم والسدي: كان ابن عمها وقال ابن عباس
كان من خاصة الملك. وقد ذكر ابن إسحاق أن زليخا كانت بنت أخت الملك الريان بن الوليد وقال العوفي عن
ابن عباس في قوله " وشهد شاهد من أهلها " قال كان صبيا في المهد وكذا روي عن أبي هريرة وهلال بن
يساف والحسن وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم أنه كان صبيا في الدار واختاره ابن جرير وقد ورد فيه
حديث مرفوع فقال ابن جرير: حدثنا الحسن بن محمد حدثنا عفان حدثنا حماد هو ابن سلمة أخبرني عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تكلم أربعة وهم صغار " فذكر فيهم شاهد يوسف
ورواه غيره عن حماد بن سلمة عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: تكلم أربعة وهم صغار: ابن
ماشطة بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم " وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد:
كان من أمر الله تعالى ولم يكن إنسيا وهذا قول غريب وقوله " فلما رأى قميصه قد من دبر " أي لما تحقق زوجها
صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به " قال إنه من كيدكن " أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض
هذا الشاب به من جملة كيدكن " إن كيدكن عظيم " ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع " يوسف
أعرض عن هذا " أي اضرب عن هذا صفحا أي فلا تذكره لاحد " واستغفري لذنبك " يقول لامرأته وقد كان
لين العريكة سهلا أو أنه عذرها لأنها رأت مالا صبر لها عنه فقال لها: استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من
إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو برئ منه " إنك كنت من الخاطئين ".
* وقال نسوة في المدينة امرأت العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين (30) فلما
سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئا وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما
رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم (31) قالت فذلكن الذي
لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين (32)
قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين (33) فاستجاب
له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم (34)
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس " وقال نسوة في
المدينة " مثل نساء الكبراء والامراء ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها " امرأة العزيز تراود
فتاها عن نفسه " أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها " قد شغفها حبا " أي قد وصل حبه إلى شغاف
قلبها وهو غلافه قال الضحاك عن ابن عباس: الشغف الحب القاتل والشغف دون ذلك والشغاف حجاب القلب
" إنا لنراها في ضلال مبين " أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه " فلما سمعت
بمكرهن " قال بعضهم بقولهن ذهب الحب بها وقال محمد بن إسحاق بل بلغهن حسن يوسف فأحببن أن يرينه
493

فقلن ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته فعند ذلك " أرسلت إليهن " أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن " وأعتدت لهن
" متكأ " قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد
وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه ولهذا قال تعالى " وآتت كل واحدة منهن سكينا " وكان هذا مكيدة
منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته " وقالت اخرج عليهن " وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر
" فلما " خرج " و " رأينه أكبرنه " أي أعظمنه أي أعظمن شأنه وأجللن قدره وجعلن يقطعن أيديهن دهشة برؤيته وهن يظنن
أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين والمراد أنهن حززن أيديهن بها قاله غير واحد وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن
حتى ألقينها فالله أعلم. وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن ثم وضعت بين أيديهن
أترجا وآتت كل واحدة منهن سكينا هل لكن في النظر إلى يوسف؟ قلن نعم فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن
فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ثم أمرته آن يرجع ليرينه مقبلا ومدبرا فرجع وهن يحززن في أيديهن فلما أحسسن
بالألم جعلن يولولن فقالت أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا فكيف ألام أنا؟ " فقلن حاش لله ما هذا بشرا إن
هذا إلا ملك كريم " ثم قلن لها: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا لأنهن لم يرين في البشر شبيهه
ولا قريبا منه فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الاسراء
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة قال " فإذا هو قد أعطي شطر الحسن " وقال حماد بن
سلمة عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطي يوسف وأمه شطر الحسن " وقال سفيان الثوري عن أبي
إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن وقال أبو إسحاق أيضا
عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كان وجه يوسف مثل البرق وقالت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن
تفتتن به ورواه الحسن البصري مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا وأعطي
الناس الثلثين " أو قال " أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث " وقال سفيان عن منصور عن مجاهد عن ربيعة
الجرشي قال: قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن والنصف الآخر بين سائر الخلق
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام فإن الله
خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله وكان يوسف قد أعطي شطر
حسنه فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته " حاش لله " قال مجاهد وغير واحد معاذ الله " ما هذا بشرا " وقرأ
بعضهم ما هذا بشرى أي بمشترى بشراء " إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه " تقول هذا
معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " أي فامتنع قال بعضهم لما
رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال ثم قالت تتوعده " ولئن
لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن " وقال
رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه " أي من الفاحشة وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن " أي إن
وكلتي إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضرا ولا نفعا إلا بحولك وقوتك أنت المستعان وعليك التكلان
فلا تكلني إلى نفسي " أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاستجاب له ربه " الآية وذلك أن يوسف عليه السلام
عصمه الله عصمة عظيمة وحماه فامتنع منها أشد الامتناع واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال
أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهى امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة
ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفا من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ
في عبادة الله ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا
عليه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال
فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ".
494

ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين (35)
يقول تعالى: ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى " حين " أي إلى مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته
وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته وكأنهم والله أعلم إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاما أنه
راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج حتى
تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة فلما تقرر ذلك خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه وذكر
السدي أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها.
ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا
تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين (36)
قال قتادة: كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه قال محمد بن إسحاق: كان اسم الذي على الشراب نبوا
والآخر مجلث قال السدي: كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالا على سمه في طعامه وشرابه
وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة وصدق الحديث وحسن السمت وكثرة العبادة
صلوات الله عليه وسلامه ومعرفة التعبير والاحسان إلى أهل السجن وعيادة مرضاهم والقيام بحقوقهم ولما
دخل هذان الفتيان إلى السجن تألفا به وأحباه حبا شديدا وقالا له: والله لقد أحببناك حبا زائدا قال بارك الله
فيكما إنه ما أحبني أحد إلا دخل علي من محبته ضرر أحبتني عمتي فدخل علي الضرر بسببها وأحبني أبي
فأوذيت بسببه وأحبتني امرأة العزيز فكذلك فقالا والله ما نستطيع إلا ذلك ثم إنهما رأيا مناما فرأى الساقي أنه
يعصر خمرا يعني عنبا وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود إني أراني أعصر عنبا ورواه ابن أبي حاتم عن
أحمد بن سنان عن يزيد بن هارون عن شريك عن الأعمش عن زيد بن وهب عن ابن مسعود أنه قرأها أعصر
عنبا. وقال الضحاك في قوله " إني أراني أعصر خمرا " يعني عنبا قال وأهل عمان يسمون العنب خمرا. وقال
عكرمة: قال له إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبلة من عنب فنبتت فخرج فيها عناقيد فعصرتهن ثم
سقيتهن الملك فقال: تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمرا وقال الآخر وهو الخباز: " إني
أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله " الآية والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناما
وطلبا تعبيره وقال ابن جرير: حدثنا وكيع وابن حميد قالا: حدثنا جرير عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم عن
عبد الله بن مسعود قال: ما رأى صاحبا يوسف شيئا إنما كانا تحالما ليجربا عليه.
قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة
قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون (37) واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ما كان لنا أن
نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون (38)
يخبرهما يوسف عليه أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم فإنه عارف بتفسيره ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه ولهذا قال
" لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله " قال مجاهد يقول " لا يأتيكما طعام ترزقانه " في يومكما " إلا
نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما " وكذا قال السدي. وقال ابن أبي حاتم رحمه الله: حدثنا علي بن الحسين حدثنا
محمد بن العلاء حدثنا محمد بن يزيد شيخ له ثنا رشدين عن الحسن بن ثوبان عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما
أدري لعل يوسف عليه السلام كان يعتاف وهو كذلك لاني أجد في كتاب الله حين قال للرجلين " لا يأتيكما طعام
495

ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله " قال إذا جاء الطعام حلوا أو مرا اعتاف عند ذلك ثم قال ابن عباس: إنما علم فعلم
وهذا أثر غريب ثم قال وهذا إنما هو من تعليم الله إياي لاني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر فلا يرجون
ثوابا ولا عقابا في المعاد " واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب " الآية يقول هجرت طريق الكفر
والشرك وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهكذا يكون حال من سلك طريق
الهدى واتبع طريق المرسلين وأعرض عن طريق الضالين فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم ويجعله إماما
يقتدى به في الخير وداعيا إلى سبيل الرشاد " ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى
الناس " هذا التوحيد وهو الاقرار بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له " من فضل الله علينا " أي أوحاه إلينا
وأمرنا به " وعلى الناس " إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك " ولكن أكثر الناس لا يشكرون " أي لا يعرفون نعمة الله
عليهم بإرسال الرسل إليهم بل " بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " وقال ابن أبي حاتم: حدثنا
أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا حجاج عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يجعل الجد أبا ويقول والله لمن
شاء لاعنته عند الحجر ما ذكر الله جدا ولا جدة قال الله تعالى يعني إخبارا عن يوسف " واتبعت ملة آبائي إبراهيم
وإسحاق ويعقوب).
يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار (39) ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم
وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس
لا يعلمون (40)
ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه
من الأوثان التي يعبدها قومهما فقال " أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " أي الذي ذل كل شئ لعز
جلاله وعظمة سلطانه ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هي جعل منهم وتسمية من تلقاء أنفسهم
تلقاها خلفهم عن سلفهم وليس لذلك مستند من عند الله ولهذا قال " ما أنزل الله بها من سلطان " أي حجة ولا
برهان ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله وقد أمر عباده قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه ثم قال
تعالى " ذلك الدين القيم " أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له هو الدين المستقيم الذي
أمر الله به وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون " أي فلهذا كان أكثرهم
مشركين " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقد قال ابن جريج: إنما عدل بهم يوسف عن تعبير الرؤيا إلى
هذا لأنه عرف أنها ضارة لأحدهما فأحب أن يشغلهما بغير ذلك لئلا يعاودوه فيها فعاودوه فأعاد عليهم الموعظة
وفي هذا الذي قاله نظر لأنه قد وعدهما أولا بتعبيرها ولكن جعل سؤالهما له على وجه التعظيم والاحترام وصلة
وسببا إلى دعائهما إلى التوحيد والاسلام لما رأى في سجيتهما من قبول الخير والاقبال عليه والانصات إليه ولهذا
لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال:
يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقى ربه خمرا وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضى الامر الذي
فيه تستفتيان (41)
" يقول لهما " يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا " وهو الذي رأى أنه يعصر خمرا ولكنه لم يعينه لئلا
يحزن ذاك ولهذا أبهمه في قوله " وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه " وهو في نفس الامر الذي رأى أنه
يحمل فوق رأسه خبزا ثم أعلمهما أن هذا قد فرغ منه وهو واقع لا محالة لان الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا
496

عبرت وقعت وقال الثوري عن عمارة بن القعقاع عن إبراهيم بن عبد الله قال: لما قالا ما قالا وأخبرهما قالا ما
رأينا شيئا فقال " قضي الامر الذي فيه تستفتيان " ورواه محمد بن فضيل عن عبارة عن إبراهيم عن علقمة عن
ابن مسعود به وكذا فسره مجاهد وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم وحاصله أن من تحلم بباطل وفسره فإنه
يلزم بتأويله والله تعالى أعلم وقد ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام أحمد عن معاوية بن حيدة عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت " وفي مسند أبي يعلى من طريق يزيد الرقاشي
عن أنس مرفوعا " الرؤيا لأول عابر ".
وقال الذي ظن أنه ناج منهما أذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين (42)
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج قال له يوسف خفية عن الآخر والله أعلم لئلا يشعره أنه
المصلوب قال له " اذكرني عند ربك " يقول أذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه
الملك بذلك وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن هذا هو الصواب أن الضمير في قوله
" فأنساه الشيطان ذكر ربه " عائد على الناجي كما قاله مجاهد ومحمد بن إسحاق وغير واحد. ويقال إن الضمير
عائد على يوسف عليه السلام رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضا وعكرمة وغيرهم وأسند ابن جرير ههنا
حديثا فقال: حدثنا ابن وكيع حدثنا عمرو بن محمد عن إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن
عباس مرفوعا قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " لو لم يقل يعني يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث
حيث يبتغي الفرج من عند غير الله " وهذا الحديث ضعيف جدا لان سفيان بن وكيع ضعيف وإبراهيم بن يزيد
هو الجوزي أضعف منه أيضا وقد روي عن الحسن وقتادة مرسلا عن كل منهما وهذه المرسلات ههنا لا تقبل لو
قبل المرسل من حيث هو في غير هذا الموطن والله أعلم. وأما البضع فقال مجاهد وقتادة هو ما بين الثلاث إلى
التسع وقال وهب بن منبه مكث أيوب في البلاء سبعا ويوسف في السجن سبعا وعذب بختنصر سبعا وقال
الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما " فلبث في السجن بضع سنين " قال ثنتا عشرة سنة وقال الضحاك
أربعة عشرة سنة.
وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملا أفتوني
في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون (43) قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين (44) وقال الذي
نجا منهما وادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون (45) يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن
سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون (46) قال تزرعون سبع
سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون (47) ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما
قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون (48) ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون (49)
هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سببا لخروج يوسف عليه السلام من السجن معززا مكرما
وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا فهالته وتعجب من أمرها وما يكون تفسيرها فجمع الكهنة والحادة وكبار دولته
وأمراءه فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها فلم يعرفوا ذلك واعتذروا إليه بأنها " أضغاث أحلام " أي أخلاط
أحلام اقتضته رؤياك هذه " وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين " أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا
معرفة بتأويلها وهو تعبيرها فعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف وكان
497

الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك فعند ذلك تذكر بعد أمة أي مدة وقرأ بعضهم بعد أمة أي
بعد نسيان فقال لهم أي للملك والذين جمعهم لذلك " أنا أنبئكم بتأويله " أي بويل هذا المنام " فأرسلون "
أي فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال " يوسف أيها الصديق أفتنا " وذكر
المنام الذي رآه الملك فعند ذلك ذكر له يوسف عليه السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما وصاه به
ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك بل قال " تزرعون سبع سنين دأبا " أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين
متواليات ففسر البقر بالسنين لأنها تثير الأرض التي تشتغل منها الثمرات والزروع وهن السنبلات الخضر ثم
أرشدهم إلى ما يعتدونه في تلك السنين فقال " فما حصدتم فذروه في سنبلة إلا قليلا مما تأكلون " أي مهما
استغللتم في هذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار
الذي تأكلونه وليكن قليلا قليلا لا تسرفوا فيه لتنتفعوا في السبع الشداد وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه
السبع المتواليات وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان لان سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني
الخصب وهن السنبلات اليابسات وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئا وما بذروه فلا يرجعون منه إلى شئ ولهذا قال
" يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون " ثم بشرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك عام
فيه يغاث الناس أي يأتيهم الغيث وهو المطر وتغل البلاد ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت
ونحوه وسكر ونحوه حتى قال بعضهم: يدخل فيه حلب اللبن أيضا. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وفيه
يعصرون " يحلبون.
وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي
بكيدهن عليم (50) قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأت
العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (51) ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب
وأن الله لا يهدي كيد الخائنين (52) * وما أبرئ نفسي إن النفس لامارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي
غفور رحيم (53)
يقول تعالى إخبارا عن الملك لما رجعوا إليه بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه فعرف فضل يوسف عليه
السلام وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه وحسن أخلافه على من ببلده من رعاياه فقال " ائتوني به " أي أخرجوه
من السجن وأحضروه فلما جاءه الرسول بذلك امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ونزاهة
عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز وأن هذا السجن لم يكن على أمر يقتضيه بل كان ظلما وعدوانا فقال
" ارجع إلى ربك " الآية وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره وصبره
صلوات الله وسلامه عليه ففي المسند والصحيحين من حديث الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال " رب أرنى كيف تحي الموتى " الآية
ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي " وفي لفظ
لأحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في
قوله " فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو كنت لأسرعت
الإجابة وما ابتغيت العذر " وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عكرمة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو
498

كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه
الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ولكنه أراد أن يكون له العذر " هذا حديث مرسل وقوله تعالى " قال ما
خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه " إخبار عن الملك حين جمع النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز
فقال مخاطبا لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز قال الملك للنسوة اللاتي قطعن أيديهن " ما خطبكن "
أي شأنكن وخبرنكن " إذ راودتن يوسف عن نفسه " يعني يوم الضيافة " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء "
أي قالت النسوة جوابا للملك حاش لله أن يكون يوسف متهما والله ما علمنا علية من سوء فعند ذلك " قالت
امرأة العزيز الآن حصحص الحق " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: تقول الآن تبين الحق وظهر وبرز " أنا
راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين " أي في قوله " هي راودتني عن نفسي " " ذلك ليعلم أني لم أخنه
بالغيب " تقول إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الامر ولا وقع المحذور
الأكبر وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة " وأن الله لا يهدي كيد الخائنين * وما
أبرئ نفسي " تقول المرأة ولست أبرئ نفسي فإن النفس تتحدث وتتمنى ولهذا راودته لان " النفس لامارة
بالسوء إلا ما رحم ربي " أي إلا من عصمه الله تعالى " إن ربي غفور رحيم " وهذا القول هو الأشهر والأليق
والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام وقد حكاه الماوردي في تفسيره وانتدب لنصره الإمام أبو العباس ابن تيمية
رحمه الله فأفرده بتصنيف على حدة وقد قيل إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول " قال ليعلم أني لم أخنه "
في زوجته " بالغيب " الآيتين أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي وليعلم العزيز " أني لم أخنه " في
زوجته " بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين " الآية وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي
حاتم سواه قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال:
لما جمع الملك النسوة فسألهن هل راودتن يوسف عن نفسه؟ " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت
امرأة العزيز الآن حصحص الحق " الآية قال يوسف " ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب " فقال له جبريل عليه
السلام: ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال " وما أبرئ نفسي " الآية وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير
وعكرمة وابن أبي الهذيل والضحاك والحسن وقتادة والسدي والقول الأول أقوى وأظهر لان سياق الكلام كله من
كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك.
وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين (54) قال اجعلني على خزائن
الأرض إني حفيظ عليم (55)
يقول تعالى إخبارا عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال " ائتوني به
أستخلصه لنفسي " أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي " فلما كلمه " أي خاطبه الملك وعرفه رأى فضله
وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك " إنك اليوم لدينا مكين أمين " أي إنك عندنا قد
بقيت ذا مكانة وأمانة فقال يوسف عليه السلام " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " مدح نفسه
ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمر للحاجة وذكر أنه " حفيظ " أي خازن أمين " عليم " ذو علم وبصيرة بما يتولاه
وقال شيبة بن نعامة: حفيظ لما استودعتني عليم بسني الجدب رواه ابن أبي حاتم وسأل العمل لعلمه بقدرته
عليه ولما فيه من المصالح للناس وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض وهي الاهرام التي يجمع فيها الغلات
لما يستقبلونه من السنين التي أخبرهم بشأنها فيصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد فأجيب إلى ذلك
رغبة فيه وتكرمة له ولهذا قال تعالى:
499

وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين (56)
ولاجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون (57)
يقول تعالى " وكذلك مكنا ليوسف في الأرض " أي أرض مصر " يتبوأ منها حيث يشاء " قال السدي
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يتصرف فيها كيف يشاء وقال ابن جرير: يتخذ منها منزلا حيث يشاء بعد
الضيق والحبس والأسئار " نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " أي وما أضعنا صبر يوسف على
أذى إخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز فلهذا أعقبه الله عز وجل السلام النصر والتأييد " ولا نضيع أجر
المحسنين * ولاجر الآخرة خير للذين أمنوا وكانوا يتقون " يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيه يوسف عليه
السلام في الدار الآخرة أعظم وأكثر وأجل مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا كقوله في حق سليمان عليه
السلام " هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " والغرض أن يوسف عليه
السلام ولاه ملك مصر الريان بن الوليد الوزارة في بلاد مصر مكان الذي اشتراه من مصر زوج التي راودته وأسلم
الملك على يدي يوسف عليه السلام. قال مجاهد.
وقال محمد بن إسحاق: لما قال يوسف للملك " اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " قال الملك قد
فعلت فولاه فيما ذكروا عمل اطفير وعزل اطفير عما كان عليه يقول الله عز وجل " وكذلك مكنا ليوسف في
الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " قال فذكر لي والله أعلم أن
اطفير هلك في تلك الليالي وأن الملك الريان بن الوليد زوج يوسف امرأة اطفير راعيل وأنها حين دخلت عليه قال
لها: أليس هذا خيرا مما كنت تردين؟ قال فيزعمون أنها قالت أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة كما ترى
حسناء جميلة ناعمة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك على ما
رأيت فيزعمون أنه وجدها عذراء فأصابها فولدت له رجلين أفرايثيم بن يوسف وميشا بن يوسف وولد لافرايثيم
نون والد يوشع بن نون ورحمة امرأة أيوب عليه السلام وقال الفضيل بن عياض وقفت امرأة العزيز على ظهر
الطريق حتى مر يوسف فقالت: الحمد لله الذي جعل العبيد ملوكا بطاعته والملوك عبيدا بمعصيته.
وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون (58) ولما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم
ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين (59) فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون (60) قالوا سنراود
عنه أباه وإنا لفاعلون (61) وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم
يرجعون (62)
ذكر السدى ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر أن يوسف عليه
السلام لما باشر الوزارة بمصر ومضت السبع سنين المخصبة ثم تلتها السبع السنين المجدبة وعم القحط بلاد مصر
بكمالها ووصل إلى بلاد كنعان وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده وحينئذ احتاط يوسف عليه السلام
للناس في غلاتهم وجمعها أحسن جمع فحصل من ذلك مبلغ عظيم وهدايا متعددة هائلة وورد عليه الناس من سائر
الأقاليم والمعاملات يمتارون لأنفسهم وعيالهم فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة وكان عليه
السلام لا يشبع نفسه ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار حتى يتكفأ الناس بما في
أيديهم مدة السبع سنين وكان رحمة من الله على أهل مصر وما ذكره بعض المفسرين من أنه باعهم في السنة
500

الأولى بالأموال وفي الثانية بالمتاع وفي الثالثة بكذا وفي الرابعة بكذا حتى باعهم بأنفسهم وأولادهم بعد ما
تملك عليهم جميع ما يملكون ثم أعتقهم ورد عليهم أموالهم كلها الله أعلم بصحة ذلك وهو من الإسرائيليات
التي لا تصدق ولا تكذب والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف عن أمر أبيهم لهم في ذلك فإنه
بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه فأخذوا معهم بضاعة يعتاضون بها طعاما وركبوا عشرة نفر واحتبس
يعقوب عليه السلام عنده ابنه بنيامين شقيق يوسف عليه السلام وكان أحب ولده إليه بعد يوسف فلما دخلوا على
يوسف وهو جالس في أبهته ورياسته وسيادته عرفهم حين نظر إليهم وهم له منكرون أي لا يعرفونه لانهم فارقوه وهو
صغير حدث وباعوه للسيارة ولم يدروا أين يذهبون به ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه
فلهذا لم يعرفوه وأما هو فعرفهم فذكر السدي وغيره أنه شرع يخاطبهم فقال لهم كالمنكر عليهم ما أقدمكم
بلادي؟ فقالوا أيها العزيز إنا قدمنا للميرة قال فلعلكم عيون؟ قالوا معاذ الله قال فمن أين أنتم؟ قالوا من بلاد
كنعان وأبونا يعقوب نبي الله قال وله أولاد غيركم؟ قالوا نعم كنا اثني عشر فذهب أصغرنا هلك في البرية وكان
أحبنا إلى أبيه وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه فأمر بإنزالهم وإكرامهم " ولما جهزهم بجهازهم " أي
أوفى لهم كيلهم وحمل لهم أحمالهم قال ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لاعلم صدقكم فيما ذكرتم " ألا ترون
أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين " يرغبهم في الرجوع إليه ثم رهبهم فقال " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم
عندي " الآية أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة " ولا تقربون * قالوا سنراود عنه
أباه وإنا لفاعلون " أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهودا لتعلم صدقنا فيما قلناه وذكر
السدي أنه أخذ منهم رهائن حتى يقدموا به معهم وفي هذا نظر لأنه أحسن إليهم ورغبهم كثيرا وهذا لحرصه
على رجوعهم " وقال لفتيانه " أي غلمانه " اجعلوا بضاعتهم " أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضا عنها " في رحالهم "
أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون " لعلهم يرجعون " بها قيل خشي يوسف عليه السلام أن لا يكون عندهم
بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها وقيل تذمم أن يأخذ من أبيه وإخوته عوضا عن الطعام وقيل أراد أن يردهم إذا
وجدوها في متاعهم تحرجا وتورعا لأنه يعلم ذلك منهم والله أعلم.
فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون (63) قال هل آمنكم عليه
إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين (64)
يقول تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم " قالوا يا أبانا منع منا الكيل " يعنون بعد هذه المرة إن لم ترسل معنا أخانا
بنيامين فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون قرأ بعضهم بالياء أي يكتل هو " وإنا له لحافظون " أي لا تخف عليه
فإنه سيرجع إليك وهذا كما قالوا له في يوسف " أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون " ولهذا قال لهم
" هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل " أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل
تغيبونه عني وتحولون بيني وبينه؟ " فالله خير حافظا " وقرأ بعضهم حفظا " وهو أرحم الراحمين " أي هو أرحم
الراحمين بي وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي وأرجو من الله أن يرده علي ويجمع شملي به إنه أرحم
الراحمين.
ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ
أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير (65) قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط
بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل (66)
501

يقول تعالى ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم وهي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها
في رحالهم فلما وجدوها في متاعهم " قالوا يا أبانا ما نبغي " أي ماذا نريد " هذه بضاعتنا ردت إلينا " كما قال
قتادة: ما نبغي وراء هذا إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفى لنا الكيل " ونمير أهلنا " أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي
بالميرة إلى أهلنا " ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير " وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطى كل رجل حمل بعير
وقال مجاهد حمل حمار وقد يسمى في بعض اللغات بعيرا: كذا قال " ذلك كيل يسير " هذا من تمام الكلام
وتحسينه أي أن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا (قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله) أي
تحلفون بالعهود والمواثيق " لتأتنني به إلا أن يحاط بكم " إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه " فلما آتوه
موثقهم " أكده عليهم فقال " الله على ما نقول وكيل " قال ابن إسحاق وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بدا من بعثهم
لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم.
وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شئ إن الحكم إلا لله
عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون (67) ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغنى عنهم من الله من
شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها وإنه لذو علم لما علمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون (68)
يقول تعالى إخبارا عن يعقوب عليه السلام إنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم بنيامين إلى مصر أن لا يدخلوا كلهم
من باب واحد وليدخلوا من أبواب متفرقة فإنه كما قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة
والسدي وغير واحد إنه خشي عليهم العين وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء فخشى عليهم أن
يصيبهم الناس بعيونهم فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه وروى ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في الآية
في قوله " وادخلوا من أبواب متفرقة " قال علم أنه سيلقى إخوته في بعض تلك الأبواب وقوله " وما أغني عنكم
من الله من شئ " أي أن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه فإن الله إذا أراد شيئا لا يخالف ولا يمانع " إن
الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون * ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله
من شئ إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها " قالوا هي دفع إصابة العين لهم " وإنا لذو علم لما علمناه " قال
قتادة والثوري لذو علم بعلمه وقال ابن جرير لذو علم لتعليمنا إياه " ولكن أكثر الناس لا يعلمون ".
ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (69)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه شقيقه بنيامين وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته
وأفاض عليهم الصلة والالطاف والاحسان واختلى بأخيه فأطلعه على شأنه وما جرى له وعرفه أنه أخوه وقال له لا
تبتئس أي لا تأسف على ما صنعوا بي وأمره بكتمان ذلك عنهم وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه
وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززا مكرما معظما.
فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون (70) قالوا وأقبلوا عليهم
ماذا تفقدون (71) قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم (72)
لما جهزهم وحمل لهم أبعرتهم طعاما أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية وهي إناء من فضة في قول الأكثرين وقيل
من ذهب قال ابن زيد كان يشرب فيه ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة
502

والضحاك وعبد الرحمن بن زيد وقال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس صواع الملك قال:
كان من فضة يشربون فيه وكان مثل المكوك وكان للعباس مثله في الجاهلية فوضعها في متاع بنيامين من حيث
لا يشعر أحد ثم نادى مناد بينهم " أيتها العير إنكم لسارقون " فالتفتوا إلى المنادي وقالوا " ماذا تفقدون * قالوا
نفقد صواع الملك " أي صاعه الذي يكيل به " ولمن جاء به حمل بعير " وهذا من باب الجعالة " وأنا به زعيم "
وهذا من باب الضمان والكفالة.
قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين (73) قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين (74) قالوا جزاؤه
من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين (75) فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء
أخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي
علم عليم (76)
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة قال لهم إخوة يوسف " تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين "
أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا لانهم شاهدوا منهم سيرة حسنة أنا " ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين "
أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة فقال لهم الفتيان " فما جزاؤه " أي السارق إن كان فيكم " إن كنتم كاذبين "
أي أي شئ يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ " وقالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي
الظالمين " وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه وهذا هو الذي أراد
يوسف عليه السلام ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه أي فتشها قبله تورية " ثم استخرجها من وعاء أخيه " فأخذه
منهم بحكم اعترافهم والتزامهم الزاما لهم بما يعتقدونه ولهذا قال تعالى " كذلك كدنا ليوسف " وهذا من الكيد
المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة وقوله " ما كان ليأخذ أخاه في
دين الملك " أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر قاله الضحاك وغيره وإنما قيض الله له أن التزم له إخوته بما
التزموه وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم ولهذا مدحهم الله تعالى فقال " نرفع درجات من نشاء " كما قال تعالى
" يرفع الله الذين امنوا منكم " الآية " وفوق كل ذي علم عليم " قال الحسن البصري ليس عالم إلا فوقه عالم حتى
ينتهي إلى الله عز وجل وكذا روى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عبد الاعلى الثعلبي عن سعيد بن جبير قال
كنا عند ابن عباس فحدث بحديث عجيب فتعجب رجل فقال: الحمد لله فوق كل ذي علم عليم فقال ابن عباس
بئس ما قلت الله العلم فوق كل عالم وكذا روى سماك عن عكرمة عن ابن عباس " وفوق كل ذي علم عليم "
قال يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا والله فوق كل عالم وهكذا قال عكرمة وقال قتادة: وفوق كل ذي علم
عليم حتى ينتهي العلم إلى الله منه بدئ وتعلمت العلماء وإليه يعود وفي قراءة عبد الله وفوق كل عالم
عليم.
* قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شر مكانا والله
أعلم بما تصفون (77)
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أخرج من متاع بنيامين " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " يتنصلون إلى
العزيز من التشبه به ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل يعنون به يوسف عليه السلام قال سعيد بن جبير
عن قتادة كان يوسف عليه السلام قد سرق صنما لجده أبي أمه فكسره وقال محمد بن إسحاق عن عبه الله بن
503

أبي نجيح عن مجاهد قال كان أول ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أن عمته ابنة إسحاق وكانت أكبر ولد
إسحاق وكانت عندها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر وكان من اختبأها ممن وليها كان له سلما لا ينازع فيه
يصنع فيه ما يشاء وكان يعقوب حين ولد له يوسف قد حضنته عمته وكان لها به وله فلم تحب أحدا حبها إياه
حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات تاقت إليه نفس يعقوب عليه السلام فأتاها فقال يا أخية سلمي إلي يوسف فوالله ما
أقدر على أن يغيب عني ساعة قالت فوالله ما أنا بتاركته ثم قالت: فدعه عندي أياما أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك
يسليني عنه أو كما قالت فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت
ثيابه ثم قالت فقدت منطقة إسحاق عليه السلام فانظروا من أخذها ومن أصابها؟ فالتمست ثم قالت اكشفوا أهل
البيت فكشفوهم فوجدوها مع يوسف فقالت والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال
لها أنت وذاك إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ما أستطيع غير ذلك فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت
قال فهو الذي يقول إخوة يوسف حين صنع بأخيه ما صنع حين أخذه " إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل " وقوله
فأسرها يوسف في نفسه " يعني الكلمة التي بعدها وهي قوله " أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون " أي
تذكرون قال هذا في نفسه ولم يبده لهم وهذا من باب الاضمار قبل الذكر وهو كثير كقول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر * وحسن فعل كما يجزي سنمار
وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة في منثورها وأخبارها وأشعارها قال العوفي عن ابن عباس " فأسرها
يوسف في نفسه " قال أسر في نفسه " أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون ".
قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبير فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين (78) قال معاذ الله أن نأخذ
إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون (79)
لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم " فقالوا يا أيها
العزيز إن له أبا شيخا كبيرا " يعنون وهو يحبه حبا شديدا ويتسلى به عن ولده الذي فقده " فخذ أحدنا مكانه " أي
بدله يكون عندك عوضا عنه " إنا نراك من المحسنين " أي العادلين المنصفين القابلين للخير " قال معاذ الله أن
نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده " أي كما قلتم واعترفتم " أنا إذا لظالمون " أي إن أخذنا بريئا بسقيم.
فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في
يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين (80) ارجعوا إلى أبيكم
فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين (81) وسئل القرية التي كنا فيها والعير
التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون (82)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه وعاهدوه
على ذلك فامتنع عليهم ذلك " خلصوا " أي انفردوا عن الناس " نجيا " يتناجون فيما بينهم " قال كبيرهم " وهو
روبيل وقيل يهوذا وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما هموا بقتله قال لهم " ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ
عليكم موثقا من الله " لتردنه إليه فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه " فلن
أبرح الأرض " أي لن أفارق هذه البلدة " حتى يأذن لي أبي " في الرجوع إليه راضيا عني " أو يحكم الله لي " قيل
504

بالسيف وقيل بأن يمكنني من أخذ أخي " وهو خير الحاكمين " ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع حتى
يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ويبرؤا مما وقع بقولهم وقوله (وما كنا للغيب حافظين) قال قتادة وعكرمة: ما
علمنا أن ابنك يسرق. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما علمنا في الغيب أنه سرق له شيئا إنما سألنا ما
جزاء السارق " واسأل القرية التي كنا فيها " قيل المراد مصر قاله قتادة وقيل غيرها " والعير التي أقبلنا فيها " أي
التي رافقناها عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا " وإنا لصادقون " فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته.
قال بل سولت لكن أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم (83) وتولى
عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم (84) قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون
حرضا أو تكون من الهالكين (85) قال إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون (86)
قال لهم كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " قال
محمد بن إسحاق لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما يجرى اتهمهم فظن أنها كفعلتهم بيوسف قال " بل سولت لكم
أنفسكم أمرا فصبر جميل " وقال بعض الناس لما كان صنيعهم هذا مرتبا على فعلهم الأول سحب حكم الأول
عليه وصح قوله " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل " ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة يوسف
وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه إما أن يرضى عنه أبوه فيأمره بالرجوع إليه وإما أن
يأخذ أخاه خفية ولهذا قال " عسى الله أن يأتيني بهم جميعا انه هو العليم " أي العليم بحالي " الحكيم " في
أفعاله وقضائه وقدره " وتولى عنهم وقال يا أسفا على يوسف " أي أعرض عن بنيه وقال متذكرا حزن يوسف الأول
" يا أسفا على يوسف " جدد له حزن الابنين الحزن الدفين، قال عبد الرزاق أنا الثوري عن سفيان العصفري عن
سعيد بن جبير أنه قال لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام " يا
أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " أي ساكت يشكو أمره إلى مخلوق قاله قتادة وغيره.
وقال الضحاك فهو كظيم كئيب حزين.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن داود عليه السلام قال: يا رب إن بني إسرائيل يسألونك بإبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني
لهم رابعا فأوحى الله تعالى إليه أن يا داود إن إبراهيم ألقي في النار بسببي فصبر وتلك بلية لم تنلك وإن إسحاق
بذل مهجة دمه بسببي فصبر وتلك بلية لم تنلك وإن يعقوب أخذت منه حبيبه فابيضت عيناه من الحزن فصبر
وتلك بلية لم تنلك " وهذا مرسل وفيه نكارة فإن الصحيح أن إسماعيل هو الذبيح ولكن علي بن زيد بن
جدعان له مناكير وغرائب كثيرة والله أعلم وأقرب ما في هذا أن الأحنف بن قيس رحمه الله حكاه عن بعض بني
إسرائيل ككعب ووهب ونحوهما والله أعلم. فإن بني إسرائيل ينقلون أن يعقوب كتب إلى يوسف لما احتبس أخاه
بسبب السرقة يتلطف له في رد ابنه ويذكر له أنهم أهل بيت مصابون بالبلاء فإبراهيم ابتلي بالنار وإسحاق بالذبح
ويعقوب بفراق يوسف في حديث طويل لا يصح والله أعلم فعند ذلك رق له بنوه وقالوا له على سبيل الرفق به
والشفقة عليه " تالله تفتؤا تذكر يوسف " أي لا تفارق تذكر يوسف " حتى تكون حرضا " أي ضعيف القوة " أو
تكون من الهالكين " يقولون إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف " قال إنما أشكو بثي وحزني
إلى الله " أي أجابهم عما قالوا بقوله " إنما أشكو بثي وحزني " أي همي وما أنا فيه " إلى الله " وحده " وأعلم من
الله ما لا تعلمون " أي أرجو منه كل خير وعن ابن عباس " وأعلم من الله ما لا تعلمون " يعني رؤيا يوسف أنها
صدق وأن الله لا بد أن يظهرها وقال العوفي عنه في الآية: أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له
505

وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي بحينة عن حفص بن عمر بن أبي
الزبير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان ليعقوب النبي عليه السلام أخ مؤاخ له فقال
له ذات يوم ما الذي أذهب بصرك وقوس ظهرك؟ قال أما الذي أذهب بصري فالبكاء على يوسف وأما الذي
قوس ظهري فالحزن على بنيامين فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا يعقوب إن الله يقرئك السلام ويقول لك أما
تستحي أن تشكوني إلى غيري؟ فقال يعقوب إنما أشكو بثي وحزني إلى الله فقال جبريل عليه السلام الله أعلم
" بما تشكو " وهذا حديث غريب في نكارة.
يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون (87) فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل
وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين (88)
يقول تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه
بنيامين والتحسس يكون في الخير والتجسس يكون في الشر ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا من روح
الله أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا
القوم الكافرون. وقوله " فلما دخلوا عليه " تقدير الكلام: فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف " قالوا يا أيها
العزيز مسنا وأهلنا الضر " يعنون من الجدب والقحط وقلة الطعام " وجئنا ببضاعة مزجاة " أي ومعنا ثمن الطعام
الذي نمتاره وهو ثمن قليل قاله مجاهد والحسن وغير واحد وقال ابن عباس الردئ لا ينفق مثل خلق الغرارة
والحبل والشئ وفى رواية عنه الدراهم الرديئة التي لا تجوز إلا بنقصان وكذا قال قتادة والسدي وقال
سعيد بن جبير: هي الدراهم الفسول وقال أبن صالح هو الصنوبر وحبة الخضراء وقال الضحاك كاسده لا تنفق
وقال أبو صالح جاءوا بحب البطم الأخضر والصنوبر وأصل الازجاء الدفع لضعف الشئ كما قال حاتم طئ
ليبك على ملحان ضيف مدافع * وأرملة تزجى مع الليل أرملا
وقال أعشى بني ثعلبة
الواهب المائة الهجان وعبدها * عوذا تزجي خلفها أطفالها
وقوله إخبارا عنهم " فأوف لنا الكيل " أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك وقرأ ابن مسعود: فأوقر
ركابنا وتصدق علينا وقال ابن جريج وتصدق علينا برد أخينا إلينا وقال سعيد بن جبير والسدي " وتصدق علينا "
يقولون تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها وسئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على
أحد من الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال ألم تسمع قوله " فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين "؟
رواه ابن جرير عن الحارث عن القاسم عنه وقال ابن جرير حدثنا الحارث حدثنا القاسم حدثنا مروان بن معاوية
عن عثمان بن الأسود سمعت مجاهدا وسئل هل يكره أن يقول الرجل في دعائه: اللهم تصدق علي؟ قال نعم
إنما الصدقة لمن يبتغي الثواب.
قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون (89) قالوا أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد
من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين (90) قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا
لخاطئين (91) قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين (92)
506

يقول تعالى مخبرا عن يوسف عليه السلام أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم
الجدب وتذكر أباه وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة فعند ذلك أخذته رقة
ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وإخوته وبدره البكاء فتعرف إليهم فيقال إنه رفع التاج عن جبهته وكان فيها شامة وقال
" هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون " أعني كيف فرقوا بينه وبين أخيه " إذ أنتم جاهلون " أي إنما
حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه كما قال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل وقرأ " ثم
إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " الآية والظاهر والله أعلم أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن
الله تعالى له في ذلك كما أنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك والله أعلم
ولكن لما ضاق الحال واشتد الامر فرج الله تعالى من ذلك الضيق كما قال تعالى " فإن مع العسر يسر إن مع
العسر يسرا " فعند ذلك قالوا " أئنك لانت يوسف " وقرأ أبي بن كعب " إنك لانت يوسف " وقرأ ابن محيصن
" أنت يوسف " والقراءة المشهورة هي الأولى لان الاستفهام يدل على الاستعظام أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم
يترددون إليه من سنتين وأكثر وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام
" أئنك لانت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي " وقوله " قد من الله علينا " أي يجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد
المدة " إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين * قالوا تالله لقد آثرك الله علينا " الآية. يقولون معترفين
له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك والتصرف والنبوة أيضا على قول من لم يجعلهم أنبياء
وأقروا بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه " قال لا تثريب عليكم اليوم " يقول أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم
اليوم ولا أعيد عليكم ذنبكم في حقي بعد اليوم ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال " يغفر الله لكم وهو أرحم
الراحمين " قال السدي اعتذروا إلى يوسف فقال " لا تثريب عليكم اليوم " يقول لا أذكر لكم ذنبكم وقال ابن
إسحاق والثوري " لا تثريب عليكم " أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم " يغفر الله لكم " أي يستر الله
عليكم فيما فعلتم " وهو أرحم الراحمين ".
اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين (93) ولما فصلت العير قال أبوهم
إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون (94) قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم (95)
يقول اذهبوا بهذا القميص " فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا " وكان قد عمي من كثرة البكاء " وأتوني بأهلكم
أجمعين " أي بجميع بني يعقوب " ولما فصلت العير " أي خرجت من مصر " قال أبوهم " يعني يعقوب عليه
السلام لمن بقي عنده من بنيه " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " تنسبوني إلى الفند والكبر قال عبد الرزاق
أنبأنا إسرائيل عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل قال سمعت ابن عباس يقول: ولما فصلت العير قال لما
خرجت العير هاجت ريح فجاءت يعقوب بريح قميص يوسف فقال " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " قال
فوجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام وكذا رواه سفيان الثوري وشعبة وغيرهما عن ابن سنان به وقال الحسن وابن
جريج كان بينهما ثمانون فرسخا وكان بينه وبينه منذ افترقا ثمانون سنة وقوله " لولا أن تفندون " قال ابن عباس
ومجاهد وعطاء وقتادة وسعيد بن جبير تسفهون وقال مجاهد أيضا والحسن تهرمون وقولهم (إنك لفي ضلالك
القديم " قال ابن عباس لفي خطئك القديم وقال قتادة أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه قالوا لوالدهم
كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم وكنا لنبي الله صلى الله عليه وسلم وكذا قال السدي وغيره.
فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون (96) قالوا
يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين (97) قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم (99)
507

قال ابن عباس والضحاك " البشير " البريد وقال مجاهد والسدي كان يهوذا بن يعقوب قال السدي إنما جاء به
لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب فأحب أن يغسل ذلك بهذا فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه
فرجع بصيرا وقال لبنيه عند ذلك " ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون " أي أعلم أن الله سيرده إلي وقلت
لكم " إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون " فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له " يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا
خاطئين * قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم " أي من تاب إليه تاب عليه قال ابن مسعود
وإبراهيم التيمي وعمرو بن قيس وابن جريج وغيرهم أرجأهم إلى وقت السحر وقال ابن جرير حدثني أبو السائب
حدثنا ابن إدريس سمعت عبد الرحمن بن إسحاق يذكر عن محارب بن دثار قال كان عمر رضي الله عنه يأتي
المسجد فيسمع إنسانا يقول: اللهم دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت وهذا السحر فاغفر لي قال فاستمع الصوت
فإذا هو من دار عبد الله بن مسعود فسأل عبد الله عن ذلك فقال إن يعقوب أخر بنيه إلى السحر بقوله " سوف
أستغفر لكم ربي " وقد ورد في الحديث إن ذلك كان ليلة الجمعة كما قال ابن جرير أيضا حدثني المثنى حدثنا
سليمان بن عبد الرحمن أبو أيوب الدمشقي حدثنا أبو الوليد أنبأنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة عن ابن عباس عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم " سوف أستغفر لكم ربي " يقول حتى تأتي ليلة الجمعة وهو قول أخي يعقوب لبنيه " وهذا غريب
من هذا الوجه وفي رفعه نظر والله أعلم.
فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين (99) ورفع أبويه على العرش وخروا
له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن
وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم
الحكيم (100)
يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام على يوسف عليه السلام وقدومه بلاد مصر لما كان يوسف قد تقدم
لاخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين فتحملوا عن آخرهم وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر فلما أخبر يوسف
عليه السلام باقترابهم خرج لتلقيهم وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله يعقوب عليه
السلام ويقال إن الملك خرج أيضا لتلقيه وهو الأشبه وقد أشكل قوله " آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر " على كثير
من المفسرين فقال بعضهم هذا من المقدم والمؤخر ومعنى الكلام " وقال ادخلوا مصر إن شاء الله أمنين " وأوى
إليه أبويه ورفعهما على العرش ورد ابن جرير هذا وأجاد في ذلك ثم اختار ما حكاه عن السدي أن يوسف آوى إليه أبويه
لما تلقاهما ثم لما وصلوا باب البلد قال " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " وفى هذا نظر أيضا لان الايواء إنما
يكون في المنزل كقوله " آوى إليه أخاه " وفي الحديث " من أوى محدثا " وما المانع أن يكون قال لهم بعد ما
دخلوا عليه وآواهم إليه ادخلوا مصر وضمنه اسكنوا مصر إن شاء الله آمنين أي مما كنتم فيه من الجهد والقحط؟
ويقال والله أعلم إن الله تعالى رفع عن أهل مصر بقية السنين المجدبة ببركة قدوم يعقوب عليهم كما رفع بقية
السنين التي دعا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل مكة حين قال " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف " ثم لما
تضرعوا إليه واستشفعوا لديه وأرسلوا أبا سفيان في ذلك فدعا لهم فرفع عنهم بقية ذلك ببركة دعائه عليه السلام
وقوله " آوى إليه أبويه " قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم إنما كان أبوه وخالته وكانت أمه قد ماتت
قديما. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير كان أبوه وأمه يعيشان قال ابن جرير ولم يقم دليل على موت أمه
وظاهر القرآن يدل على حياتها وهذا الذي نصره هو المنصور الذي يدل عليه السياق وقوله " ورفع أبويه على
العرش " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد يعنى السرير أي أجلسهما معه على سريره " وخروا له سجدا " أي
508

سجد له أبواه وإخوته الباقون وكانوا أحد عشر رجلا " وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل " أي التي كان قصها
على أبيه من قبل " إني رأيت أحد عشر كوكبا " الآية وقد كان هذا سائغا في شرائعهم إذا سلموا على الكبير
يسجدون له ولم يزل هذا جائزا من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام فحرم هذا في هذه الملة وجعل السجود
مختص بجناب الرب سبحانه وتعالى هذا مضمون قول قتادة وغيره وفي الحديث أن معاذا قدم الشام فوجدهم
يسجدون لأساقفتهم فلما رجع سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما هذا يا معاذ؟ " فقال إني رأيتهم يسجدون لأساقفتهم
وأنت أحق أن يسجد لك يا رسول الله فقال " لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
لعظم حقه عليها " وفي حديث آخر: أن سلمان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرق المدينة وكان سلمان حديث عهد
بالاسلام فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت " والغرض أن هذا كان
جائزا في شريعتهم ولهذا خروا له سجدا فعندها قال يوسف " يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي
حقا " أي هذا ما آل إليه الامر فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الامر كما قال تعالى " هل ينظرون إلا تأويله يوم
يأتي تأويله " أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر وقوله " قد جعلها ربي حقا " أي صحيحة صدقا يذكر
نعم الله عليه " وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو " أي البادية قال ابن جريج وغيره كانوا
أهل بادية وماشية وقال كانوا يسكنون بالعربات من أرض فلسطين من غور الشام قال وبعض يقول كانوا
بالأولاج من ناحية شعب أسفل من حسمي وكانوا أصحاب بادية وشاء وإبل " من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين
إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء " أي إذا أراد أمرا قيض له أسبابا وقدره ويسره " إنه هو العليم " بمصالح عباده
" الحكيم " في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده قال أبو عثمان النهدي عن سليمان كان بين رؤيا
يوسف وتأويلها أربعون سنة قال عبد الله بن شداد وإليها ينتهي أقص الرؤيا رواه ابن جرير وقال أيضا حدثنا عمر بن
علي حدثنا عبد الوهاب الثقفي حدثنا هشام عن الحسن قال كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة
لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه وما على وجه الأرض عبد أحب إلى الله من يعقوب وقال هشيم
عن يونس عن الحسن ثلاث وثمانون سنة وقال مبارك بن فضالة عن الحسن ألقي يوسف في الجب وهو ابن
سبع عشرة سنة فغاب عن أبيه ثمانين سنة وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة فمات وله عشرون ومائة سنة وقال
قتادة كان بينهما خمس وثلاثون سنة وقال محمد بن إسحاق: ذكر والله أعلم أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني
عشرة سنة قال وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة أو نحوها وأن يعقوب عليه السلام بقي مع يوسف
بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ثم قبضه الله إليه وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن
مسعود قال: دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانا وخرجوا منها وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا وقال
أبو إسحاق عن مسروق دخلوا وهم ثلثمائة وتسعون بين رجل وامرأة فالله أعلم وقال موسى بن عبيدة عن محمد بن
كعب القرظي عن عبد الله بن سداد اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنسانا صغيرهم
وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف.
* رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت ولي في الدنيا والآخرة
توفني مسلما وألحقني بالصالحين (101)
هذا دعاء من يوسف الصديق دعا به ربه عز وجل لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وأخويه وما من الله به
عليه من النبوة والملك سأل ربه عز وجل كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة وأن يتوفاه
مسلما حين يتوفاه قاله الضحاك وأن يلحقه بالصالحين وهم أخواته من النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين. وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام قاله عند احتضاره كما ثبت في الصحيحين عن عائشة
509

رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول " اللهم في الرفيق الاعلى " ثلاثا ويحتمل أن
سأل الوفاة على الاسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره لا أنه سأله ذلك منجزا كما يقول
الداعي لغيره أماتك الله على الاسلام ويقول الداعي اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين
ويحتمل أنه سأل ذلك منجزا وكان ذلك سائغا في ملتهم كما قال قتادة قوله " توفني مسلما وألحقني بالصالحين "
لما جمع الله شمله وأقر عينه وهو يومئذ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها اشتاق إلى الصالحين قبله وكان ابن
عباس يقول ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام وكذا ذكر ابن جرير والسدي عن ابن عباس أنه أول
نبي دعا بذلك وهذا يحتمل أنه أول من سأل الوفاة على الاسلام كما أن نوحا أو من قال " رب اغفر لي ولوالدي
ولمن دخل بيتي مؤمنا " ويحتمل أنه أول من سأل إنجاز ذلك وهو ظاهر سياق قول قتادة ولكن هذا لا يجوز في
شريعتنا قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن
أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به فإن كان ولابد متمنيا الموت
فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " وأخرجاه في الصحيحين
وعندهما " لا يتمنين أحدكم الموت بضر نزل به إن كان محسنا فيزداد وإن كان مسيئا فلعله يستعتب ولكن
ليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي " وقال الإمام أحمد حدثنا أبو
المغيرة حدثنا معاذ بن رفاعة حدثني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا
ورققنا فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء وقال يا ليتني مت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا سعد أعندي تتمنى الموت؟ "
فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال " يا سعد إن كنت خلقت للجنة فما طال من عمرك وحسن من عملك فهو خير
لك ".
وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا أبو يونس هو مسلم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إذا مات
أحدكم انقطع عنه عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمله إلا خيرا ". تفرد به أحمد وهذا فيما إذا كان الضر خاصا
به وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت كما قال الله تعالى إخبارا عن السحرة لما أرادهم فرعون عن
دينهم وتهددهم بالقتل " قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين " وقالت مريم لما جاءها المخاض وهو الطلق
إلى جذع النخلة " يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة لأنها لم
تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت وقد قالوا " يا مريم لقد جئت شيئا فريا * يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ
سوء وما كانت أمك بغيا " فجعل الله لها من ذلك الحال فرجا ومخرجا وأنطق الصبي في المهد بأنه عبد الله
ورسوله فكان آية عظيمة ومعجزة باهرة صلوات الله وسلامه عليه وفى حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد
والترمذي في قصة المنام والدماء الذي فيه " وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون ".
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سلمة أنا عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن عاصم عن كثير بن قتادة عن محمود بن
لبيد مرفوعا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اثنتان يكرههما ابن آدم: يكره الموت والموت خير للمؤمن من الفتن ويكره قلة
المال وقلة المال أقل للحساب " فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ولهذا قال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى أن الأمور لا تجتمع له ولا يزداد الامر إلا شدة فقال: اللهم خذني إليك فقد
سئمتهم وسئموني وقال البخاري رحمه الله لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى قال:
اللهم توفني إليك وفي الحديث " إن الرجل ليمر بالقبر أي في زمان الدجال فيقول يا ليتني مكانك " لما يرى
من الفتن والزلازل والبلابل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون قال أبو جعفر بن جرير: وذكر أن بني يعقوب
الذين فعلوا بيوسف ما فعلوا استغفر لهم أبوهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم وغفر لهم ذنوبهم.
510

" ذكر من قال ذلك "
حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثني حجاج عن صالح المري عن يزيد الرقاع عن أنس بن مالك قال إن الله
تعالى لما جمع ليعقوب شمله بعينيه خلا ولده نجيا فقال بعضهم لبعض ألستم قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم
الشيخ وما لقى منكم يوسف؟ قالوا بلى قال فيغركم عفوهما عنكم فكيف لكم بربكم؟ فاستقام أمرهم على أن
أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد قالوا يا أبانا إنا أتيناك لأمر لم نأتك لأمر مثله قط ونزل بنا
أمر لم ينزل بنا مثله قط حتى حركوه والأنبياء عليهم السلام أرحم البرية فقال ما لكم يا بنى؟ قالوا ألست قد علمت
ما كان منا إليك وما كان منا إلى أخينا يوسف؟ قال بلى قالوا أو لستما قد غفرتما لنا؟ قالا بلى قالوا فإن
عفوكما لا يغني عنا شيئا إن كان الله لم يعف عنا قال فما تريدون يا بني؟ قالوا نريد أن تدعو الله لنا فإذا
جاءك الوحي من الله بأنه قد عفا عنا قرت أعيننا واطمأنت قلوبنا وإلا فلا قرة عين في الدنيا لنا أبدا قال فقام
الشيخ فاستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه وقاموا خلفهما أذلة خاشعين قال فدعا وأمن يوسف فلم يجب فيهم
عشرين سنة قال صالح المري يخيفهم قال حتى إذا كان على رأس العشرين نزل جبريل عليه السلام على
يعقوب عليه السلام فقال إن الله تعالى قد بعثني إليك أبشرك بأنه قد أجاب دعوتك في ولدك وأن الله تعالى قد عفا
عما صنعوا وأنه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوة هذا الأثر موقوف عن أنس ويزيد الرقاشي وصالح المري
ضعيفان جدا وذكر السدي أن يعقوب عليه السلام لما حضره الموت أوصى إلى يوسف بأن يدفن عند إبراهيم
وإسحاق فما مات صبره وأرسله إلى الشام دفن عندهما عليه السلام.
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون (102) وما أكثر الناس ولو حرصت
بمؤمنين (103) وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين (104)
يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قص عليه نبأ إخوة يوسف وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك
والحكم مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والاعدام هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة " نوحيه إليك "
ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك " وما كنت لديهم " حاضرا عندهم ولا مشاهدا
لهم " إذ أجمعوا أمرهم " أي على إلقائه في الجب " وهم يمكرون " به ولكنا أعلمناك به وحيا إليك وإنزالا
عليك كقوله " وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم " الآية. وقال تعالى " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى
موسى الامر " الآية إلى قوله " وما كنت بجانب الطور إذ نادينا " الآية وقال " وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو
عليهم آياتنا " الآية وقال " ما كان لي من علم بالملأ الاعلى إذ يختصمون * إن يوحى إلي أنما أنا نذير مبين "
يقول تعالى إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ومع
هذا ما آمن أكثر الناس ولهذا قال " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال " وإن تطع أكثر من في الأرض
يضلوك عن سبيل الله " كقوله " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين " إلى غير ذلك من الآيات وقوله " وما
تسألهم عليه من أجر " أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والدعاء إلى الخير والرشد من أجر أي من جعالة
ولا أجرة بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحا لخلقه " إن هو إلا ذكر للعالمين " أي يتذكرون به ويهتدون وينجون به
في الدنيا والآخرة.
وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون (105) وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون (106)
أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله أو تأتيهم الساعة بغتة وهم لا يشعرون (107)
511

يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ودلائل توحيده بما خلقه الله في السماوات والأرض من
كواكب زاهرات ثوابت وسيارات وأفلاك دائرات والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات
وحدائق وجنات وجبال راسيات وبحار زاخرات وأمواج متلاطمات وقفار شاسعات وكم من أحياء
وأموات وحيوان ونبات وثمرات متشابهة ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات فسبحان الواحد
الاحد خالق أنواع المخلوقات المتفرد بالدوام والبقاء والصمدية للأسماء والصفات وغير ذلك.
وقوله " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " قال ابن عباس: من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم: من خلق
السماوات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا الله وهم مشركون به وكذا قال مجاهد وعطاء وعكرمة
والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وفي الصحيحين: أن المشركين كانوا يقولون في
تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك وفي صحيح مسلم أنهم كانوا إذا قالوا لبيك
لا شريك لك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد قد " أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا، وقال الله تعالى " إن الشرك
لظلم عظيم " وهذا هو الشرك الأعظم يعبد مع الله غيره كما في الصحيحين عن ابن مسعود قلت يا رسول الله: أي
الذنب أعظم؟ قال أن تجعل لله ندا وهو خلقك وقال الحسن البصري في قوله " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم
مشركون " قال ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس وهو مشرك بعمله ذلك يعني قوله تعالى " إن المنافقين
يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا " وثم شرك
آخر خفي لا يشعر به غالبا فاعله كما روى حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة
على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " وفي
الحديث " من حلف بغير الله فقد أشرك ". رواه الترمذي وحسنه من رواية ابن عمر وفى الحديث الذي رواه
أحمد وأبو داود وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الرقي
والتمائم والتولة شرك " وفي لفظ لهما " الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل " ورواه الإمام أحمد
بأبسط من هذا فقال حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى الجزار عن ابن أخي زينب عن زينب
امرأة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا
على أمر يكرهه قالت لأنه جاء ذات يوم فتنحنح وعندي عجوز ترقيني من الحمرة فأدخلتها تحت السرير قالت
فدخل فجلس إلى جانبي فرأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا الخيط؟ قالت: قلت خيط رقي لي فيه فأخذه
فقطعه ثم قال إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الرقي والتمائم والتولية شرك "
قالت: قلت له لم تقول هذا وقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيها فكان إذا رقاها
سكنت؟ فقال إنما ذاك من الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقاها كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم " أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشاف لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " وفي
حديث آخر رواه الإمام أحمد عن وكيع عن ابن أبي ليلى عن عيسى بن عبد الرحمن قال دخلت على عبد الله بن عكيم
وهو مريض نعوده فقيل له لو تعلقت شيئا فقال أتعلق شيئا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من تعلق شيئا وكل إليه " ورواه
النسائي عن أبي هريرة وفي مسند الإمام أحمد من حديث عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من علق
تميمة فقد أشرك " وفي رواية " من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودعة الله له " وعن العلاء عن أبيه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه " رواه مسلم وعن أبي سعيد بن أبي فضاله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من
عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ". رواه الإمام أحمد وقال أحمد حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد
512

يعني ابن الهادي عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر "
قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال " الرياء يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم اذهبوا
إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ " وقد رواه إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن
أبي عمرو مولى المطلب عن عاصم بن عمرو عن قتادة عن محمود بن لبيد به وقال الإمام أحمد حدثنا حسن
أنبأنا ابن لهيعة أنبأنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك " قالوا يا رسول الله ما كفارة ذلك؟ قال " أن يقول أحدهم اللهم لا خير إلا خيرك
ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك " وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان
العرزمي عن أبي علي رجل من بني كاهل قال: خطبنا أبو موسى الأشعري فقال: يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك
فإنه أخفى من دبيب النمل فقام عبد الله بن حرب وقيس بن المضارب فقالا والله لتخرجن مما قلت أو لنأتين عمر
مأذونا لنا أو غير مأذون قال بل أخرج مما قلت خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال " يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك
فإنه أخفى من دبيب النمل " فقال له من شاء الله أو يقول فكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟
قال قالوا " اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه ". وقد روى من وجه آخر وفيه
أن السائل في ذلك هو الصديق كما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي من حديث عبد العزيز بن مسلم عن ليث بن
أبي سليم عن أبي محمد عن معقل بن يسار قال شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أو قال حدثني أبو بكر الصديق عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " الشرك أخفى فيكم من دبيب النمل " فقال أبو بكر وهل الشرك إلا من دعا مع الله
إله آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " ثم قال " ألا أدلك على ما يذهب عنك صغير ذلك
وكبيره؟ قل اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك مما لا أعلم " وقد رواه الحافظ أبو القاسم
البغوي عن شيبان بن فروخ عن يحيى بن أبي كثير عن الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن
أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا " قال: فقال أبو بكر
يا رسول الله فكيف النجاة والمخرج من ذلك؟ فقال " ألا أخبرك بشئ إذا قلته برئت من قليله وكثيره وصغيره
وكبيره؟ " قال بلى يا رسول الله قال: قل " اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم "
قال الدارقطني يحيي بن أبي كثير هذا يقال له أبو النضر متروك الحديث وقد روى الإمام أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه والنسائي من حديث يعلى بن عطاء سمعت عمرو بن عاصم سمعت أبا هريرة قال: قال
أبو بكر الصديق يا رسول الله علمني شيئا أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي قال: قل " اللهم
فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شئ ومليكه أشهد أن لا إله ألا أنت أعوذ بك من شر نفسي
ومن شر الشيطان وشركه ". رواه أبو داود والنسائي وصححه وزاد الإمام أحمد في رواية له من حديث ليث بن
أبي سليم عن مجاهد عن أبي بكر الصديق قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقول - فذكر هذا الدعاء وزاد في آخره
" وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم ". وقوله " أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله " الآية: أي
أفأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون كقوله تعالى " أفأمن الذين مكروا السيئات
أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو
يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم " وقوله " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أو
أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ".
قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين (108)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته ومسلكه وسنته
وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يدعو إلى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو
513

وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة ويقين وبرهان عقلي وشرعي، وقوله " وسبحان الله "
أي وأنزه الله وأحله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبة أو
وزير أو مشير تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علوا كبيرا " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن
وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ".
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان
عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون (109)
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء وهذا قول جمهور العلماء كما دل عليه سياق هذه الآية
الكريمة إن الله تعالى لم يوح إلى امرأة من بنات بني أدم وحى تشريع وزعم بعضهم أن سارة امرأة الخليل وأم
موسى ومريم بنت عمران أم عيسى نبيات واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب
وبقوله " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه " الآية. وبأن الملك جاء إلى مريم وبشرها بعيسى عليه السلام وبقوله
تعالى " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك
واسجدي واركعي مع الراكعين ". وهذا القدر حاصل لهن ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك فإن أراد
القائل بنبوتهن هذا القدر من التشريف فهذا لا شك فيه ويبقى الكلام معه في أن هذا هل يكفي في الانتظام في
سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل
الأشعري عنهم أنه ليس في النساء نبية وإنما فيهن صديقات كما قال تعالى مخبرا عن أشرفهن مريم بنت عمران
حيث قال تعالى " ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام "
فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والاعظام فهي صديقة بنص
القرآن وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله " وما أرسلنا من قبلك إلا رجال " الآية. أي ليسوا من أهل
السماء كما قلتم وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون
الطعام ويمشون في الأسواق " الآية وقوله تعالى " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين * ثم
صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نساء وأهلكنا المسرفين " وقوله تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " الآية وقوله
" من أهل القرى " المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعا وأخلاقا وهذا
هو المعهود المعروف أن أهل المدن أرق طباعا وألطف من أهل بواديهم وأهل الريف والسواد أقرب حالا من الذين
يسكنون في البوادي ولهذا قال تعالى " الاعراب أشد كفرا ونفاقا " الآية وقال قتادة في قوله " من أهل القرى "
لانهم أعلم وأحلم من أهل العمور وفي الحديث الآخر أن رجلا من الاعراب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة فلم يزل
يعطيه ويزيده حتى رضي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن لا أتهب هبة إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو
دوسي ".
وقال الإمام أحمد حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وثاب عن شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الأعمش هو عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا
يخالطهم ولا يصبر على أذاهم " وقوله " أفلم يسيروا في الأرض " يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض
" فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم " أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها
" أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها " الآية فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك
الكافرين ونجى المؤمنين وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ولهذا قال تعالى " ولدار الآخرة خير للذين اتقوا " أي
وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة وهي خير لهم من الدنيا بكثير كقوله " إنا
514

لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء
الدار " وأضاف الدار إلى الآخرة فقال " ولدار الآخرة " كما يقال صلاة الأولى ومسجد الجامع وعام أول وبارحة
الأولى ويوم الخميس، قال الشاعر
أتمدح فقعسا وتذم عبسا * ألا الله أمك من هجين
ولو أقوت عليك ديار عبس * عرفت الذل عرفان اليقين
حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين (110)
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله
في أحوج الأوقات إلى ذلك كقوله تعالى " زلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله " الآية وفي
قوله " كذبوا " قراءتان إحداهما بالتشديد قد كذبوا وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها قال البخاري
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد بن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن
عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى " حتى إذا استيأس الرسل " قال: قلت أكذبوا أم كذبوا؟ قالت
عائشة كذبوا قلت فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن؟ قالت أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك فقلت
لها " وظنوا أنهم قد كذبوا " قالت معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها قلت فما هذه الآية؟ قالت هم
أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر " حتى إذا استيأس الرسل " ممن
كذبهم من قومهم وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك. حدثنا أبو اليمان أنبأنا شعبة
عن الزهري قال أخبرنا عروة فقلت لها لعلها قد كذبوا مخففة؟ قالت معاذ الله انتهى ما ذكره وقال ابن جريج
أخبرني ابن أبي مليكة أن ابن عباس قرأها " وظنوا أنهم قد كذبوا " خفيفة قال عبد الله هو ابن أبي مليكة ثم قال
لي ابن عباس كانوا بشرا ثم تلا " حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب " قال
ابن جريج وقال ابن أبي مليكة وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت ما وعد الله محمدا صلى الله عليه وسلم
من شئ إلا قد علم أنه سيكون حتى مات ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد
كذبوهم قال ابن أبي مليكة في حديث عروة كانت عائشة تقرؤها " وظنوا أنهم قد كذبوا " مثقلة من التكذيب
وقال ابن أبي حاتم أنا يونس بن عبد الاعلى قراءة أنا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال:
جاء إنسان إلى القاسم بن محمد فقال إن محمد بن كعب القرظي قرأ هذه الآية " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا
أنهم قد كذبوا " فقال القاسم أخبره عني أني سمعت عائشة زوح النبي صلى الله عليه وسلم تقوله " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا
أنهم قد كذبوا " تقول كذبتهم أتباعهم إسناد صحيح أيضا والقراءة الثانية بالخفيف، واختلفوا في تفسيرها
فقال ابن عباس ما تقدم وعن ابن مسعود فيما رواه سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن
عبد الله أنه قرأ " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " مخففة قال عبد الله هو الذي تكره وهذا عن ابن
عباس وابن مسعود رضي الله عنهما مخالف لما رواه آخرون عنهما أما ابن عباس فروى الأعمش عن
مسلم عن ابن عباس في قوله " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " قال لما أيست الرسل أن يستجيب
لهم قومهم وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك " فنجي من نشاء " وكذا روى عن سعيد بن
جبير وعمران بن الحارث السلمي وعبد الرحمن بن معاوية وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس بمثله.
وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا عارم أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد حدثنا شعيب حدثنا إبراهيم بن أبي
حمزة الجزري قال: سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال أخبرنا أبا عبد الله كف هذا الحرف فإني إذا أتيت
عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة " حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا " قال نعم حتى إذا استيأس
515

الرسل من قومهم أن يصدقوهم وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فقال الضحاك بن مزاحم ما رأيت كاليوم
قط رجل يدعى إلى علم فيتلكأ لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلا ثم روى ابن جرير أيضا من وجه آخر أن
مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب فقام إلى سعيد فاعتنقه وقال فرج الله عنك كما
فرجت عني وهكذا روى من غير وجه عن سعيد بن جبير أنه فسرها كذلك وكذا فسرها مجاهد بن جبر وغير واحد
من السلف حتى أن مجاهدا قرأها " وظنوا أنهم قد كذبوا " بفتح الذال رواه ابن جرير إلا أن بعض من فسرها
كذلك يعيد الضمير في قوله " وظنوا أنهم قد كذبوا " إلى أتباع الرسل من المؤمنين ومنهم من يعيده إلى الكافرين
منهم أي وظن الكفار أن الرسل قد كذبوا مخففة فيما وعدوا به من النصر وأما ابن مسعود فقال ابن جرير حدثنا
القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن فضيل عن محمش بن زياد الضبي عن تميم بن حزم قال سمعت عبد الله بن
مسعود يقول في هذه الآية " حتى إذا استيأس الرسل " من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم وظن قومهم حين أبطأ الامر
أنهم قد كذبوا بالتخفيف فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس وقد أنكرت ذلك عائشة على من
فسرها بذلك وانتصر لها ابن جرير ووجه المشهور عن الجمهور وزيف القول الآخر بالكلية ورده وأباه ولم يقبله ولا
ارتضاه والله أعلم.
لقد كان في قصصهم عبرة لاولى الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل
كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (111)
يقول تعالى لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين " عبرة لاولي الألباب "
وهي العقول " ما كان حديثا يفترى " أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله أي يكذب ويخلق " ولكن
تصديق الذي بين يديه " أي من الكتب المنزلة من السماء هو يصدق ما فيها من الصحيح وينفي ما وقع فيها من
تحريف وتبديل وتغير ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير " وتفصيل كل شئ " من تحليل وتحريم ومحبوب ومكروه
وغير ذلك من الامر بالطاعات والواجبات والمستحبات والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات والاخبار
عن الأمور الجلية وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية والاخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات
وتنزهه عن مماثلة المخلوقات فلهذا كانت " هدى ورحمة لقوم يؤمنون " تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد
ومن الضلال إلى السداد ويبتغون بها الرحمة من رب العباد في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد فنسأل الله
العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة يوم يفوز بالربح المبيضة وجوههم الناضرة ويرجع المسودة وجوههم
بالصفقة الخاسرة. آخر تفسير سورة يوسف عليه السلام ولله الحمد والمنة وبه المستعان.
سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (1)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السورة فقد تقدم في أول سورة البقرة وقدمنا أن كل سورة ابتدئت بهذه
الحروف ففيها الانتصار للقرآن وتبيان أن نزوله من عند الحق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ولهذا قال " تلك
آيات الكتاب " أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن وقيل التوراة والإنجيل قاله مجاهد وقتادة وفيه نظر بل هو بعيد ثم
516

عطف على ذلك عطف صفات فقال " والذي أنزل إليك " أي يا محمد " من ربك الحق " خبر تقدم مبتدؤه وهو
قوله " والذي أنزل إليك من ربك " هذا هو الصحيح المطابق لتفسير مجاهد وقتادة واختار ابن جرير أن تكون الواو
زائدة أو عاطفة صفة على صفة كما قدمنا واستشهد بقول الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
وقوله " ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " كقوله " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " أي مع هذا البيان والجلاء
والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق والعناد والنفاق.
الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى
يدبر الامر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون (2)
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد بل بإذنه وأمره
وتسخيره رفعها عن الأرض بعدا لا تنال ولا يدرك مداها فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء
والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها مرتفعة عليها من كل جانب على السواء وبعد ما بينها وبين الأرض من
كل ناحية مسيرة خمسمائة عام وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا
وما حوت وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام وسمكها خمسمائة عام. وهكذا الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة
والسابعة كما قال تعالى " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " الآية وفي الحديث " ما السماوات
السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في
تلك الفلاة " وفي رواية " والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش
إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة وهو من ياقوتة حمراء. وقوله
" بغير عمد ترونها " روى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا لها عمد ولكن لا ترى
وقال إياس بن معاوية السماء على الأرض مثل القبة يعني بلا عمد وكذا روى عن قتادة وهذا هو اللائق بالسياق
والظاهر من قوله تعالى " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " فعلى هذا يكون قوله " ترونها " تأكيدا
لنفي ذلك أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها وهذا هو الأكمل في القدرة وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي
آمن شعره وكفر قلبه كما ورد في الحديث ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه
وأنت الذي من فضل من ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له فاذهب وهارون فادعوا * إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقولا له هل أنت سويت هذه * بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له أنت رفعت هذه * بلا عمد أو فوق ذلك بانيا؟
وقولا له هل أنت سويت وسطها * منيرا إذا ما جنك الليل هاديا
وقولا له من يرسل الشمس غدوة * فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
قولا له من أنبت الحب في الثرى * فيصبح منه العشب يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه * ففي ذاك آيات لهن كان واعيا
وقوله تعالى " ثم استوى على العرش " تقدم تفسيره في سورة الأعراف وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا
تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل تعالى الله علوا كبيرا. وقوله " وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى "
قيل المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة كقوله تعالى " والشمس تجري لمستقر لها " وقيل المراد إلى
517

مستقرهما وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك
يكونون أبعد ما يكون عن العرش لأنه على الصحيح الذي تقوم عليه الأدلة قبة مما يلي العالم من هذا الوجه وليس
بمحيط كسائر الأفلاك لان له قوائم وحملة يحملونه ولا يتصور هذا في الفلك المستدير وهذا واضح لمن تدبر ما
وردت به الآيات والأحاديث الصحيحة ولله الحمد والمنة. وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة
السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت فإذا كان قد سخر هذه فلان يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق
الأولى والأحرى كما نبه بقوله تعالى " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه
تعبدون " مع أنه قد صرح بذلك بقوله " والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب
العالمين " وقوله " يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون " أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله
إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشى الليل النهار
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (3) وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان
وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (4)
لما ذكر تعالى العالم العلوي شرع في ذكر قدرته وحكمته وأحكامه للعالم السفلي فقال " وهو الذي مد الأرض "
أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض وأرساها بجبال راسيات شامخات وأجرى فيها الأنهار والجداول
والعيون ليسقي ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والاشكال والطعوم والروائح " من كل زوجين اثنين " أي
من كل شكل صنفان " يغشي الليل النهار " أي جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا فإذا ذهب هذا غشيه هذا
وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضا في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان " إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون " أي في آلاء الله وحكمه ودلائله. وقوله " وفي الأرض قطع متجاورات " أي أراض يجاور بعضها
بعضا مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئا هكذا روى عن ابن عباس ومجاهد
وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد ومدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض فهذه تربة حمراء وهذه
بيضاء وهذه صفراء وهذه سوداء وهذه محجرة وهذه سهلة وهذه مرملة وهذه سميكة وهذه رقيقة والكل متجاورات
فهذه بصفتها وهذه بصفتها الأخرى فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله " وجنات
من أعناب وزرع ونخيل " يحتمل أن تكون عاطفة على جنات فيكون " وزرع ونخيل " مرفوعين ويحتمل أن
يكون معطوفا على أعناب فيكون مجرورا ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة. وقوله " صنوان وغير صنوان "
الصنوان هو الأصول المجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو لك وغير الصنوان ما كان
على أصل واحد كسائر الأشجار ومنه سمي عم الرجل صنو أبيه كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر
" أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه " وقال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء رضي الله عنه:
الصنوان هي النخلات في أصل واحد وغير الصنوان المتفرقات. وقاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد. وقوله " تسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل " قال
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " ونفضل بعضها على بعض في الاكل " قال " الدقل
والفارسي والحلو والحامض " رواه الترمذي وقال حسن غريب أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في
أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها فهذا في غاية الحلاوة وهذا في غاية الحموضة وذا في غاية
المرارة وذا عفص وهذا عذب وهذا جمع هذا وهذا ثم يستحيل إلى طعم آخر بإذن الله تعالى وهذا أصفر وهذا
أحمر وهذا أبيض وهذا أسود وهذا أزرق وكذلك الزهورات مع أنها كلها تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء مع
518

هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ففي ذلك آيات لمن كان واعيا وهذا من أعظم الدلالات
على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما يريد ولهذا قال تعالى " إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون ".
* وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في
أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (5)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " وإن تعجب " من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد مع ما يشاهدونه من آيات الله
سبحانه ودلائله في خلقه على أنه القادر على ما يشاء ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء فكونها بعد أن
لم تكن شيئا مذكورا ثم هم بعد هذا يكذبون خبره في أنه سيعيد العالم خلقا جديدا وقد اعترفوا وشاهدوا ما هو
أعجب مما كذبوا به فالعجب من قولهم " أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد " وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق
السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل كما قال تعالى " أو لم يروا أن
الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شئ قدير " ثم
نعت المكذبين بهذا فقال " أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم " أي يسحبون بها في النار
" وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي ماكثون فيها أبدا لا يحولون عنها ولا يزولون.
ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم
وإن ربك لشديد العقاب (6)
يقول تعالى " ويستعجلونك " أي هؤلاء المكذبون " بالسيئة قبل الحسنة " أي بالعقوبة كما أخبر عنهم في قوله
" وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين * ما ننزل
الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " وقال تعالي " ويستعجلونك بالعذاب " الآيتين. وقال تعالى " سأل
سائل بعذاب واقع " وقال " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق " " وقالوا
ربنا عجل لنا قطنا " الآية أي عقابنا وحسابنا كما قال مخبرا عنهم " وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك " الآية فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله قال الله تعالى " وقد خلت
من قبلهم المثلات " أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم ثم أخبر تعالى أنه
لولا حلمه وعفوه لعالجهم بالعقوبة كما قال " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " وقال
تعالى في هذه الآية الكريمة " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " أي أنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس
مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف كما قال
تعالى " فان كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين " وقال " إن ربك لسريع العقاب
وإنه لغفور رحيم " وقال " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم " إلى أمثال ذلك من
الآيات التي تجمع الرجاء والخوف وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن
علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " الآية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم " لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه
لاتكل كل واحد ". وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة الحسن بن عثمان أبي حسان الرمادي أنه رأى رب العزة
في النوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بين يديه يشفع في رجل من أمته فقال له ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد
" وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " قال ثم انتبهت.
519

ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد (7)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين أنهم يقولون كفرا وعنادا لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون كما تعنتوا عليه
أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجا وأنهارا قال تعالى " وما منعنا أن نرسل
بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " الآية قال الله تعالى " إنما أنت منذر " أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي
أمرك بها و " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقوله " ولكل قوم هاد " قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس: أي ولكل قوم داع وقال العوفي عن ابن عباس في الآية يقول الله تعالى أنت يا محمد منذر وأنا
هادي كل قوم وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغير واحد وعن مجاهد " ولكل قوم هاد " أي نبي
كقوله " وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " وبه قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد وقال أبو صالح ويحيى بن رافع " ولكل
قوم هاد " أي قائد وقال أبو العالية الهادي القائد والقائد الامام والامام العمل وعن عكرمة وأبي الضحى " ولكل
قوم هاد " قالا هو محمد صلى الله عليه وسلم وقال مالك " ولكل قوم هاد " يدعوهم إلى الله عز وجل وقال أبو جعفر بن جرير
حدثني أحمد بن يحيى الصوفي حدثنا الحسن بن الحسين الأنصاري حدثنا معاذ بن مسلم حدثنا الهروي عن
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما نزلت " إنما أنت منذر ولكل قوم هاد "
قال وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره وقال " أنا المنذر ولكل قوم هاد " وأومأ بيده إلى
منكب علي فقال " أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي ". وهذا الحديث فيه نكارة شديدة،
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا المطلب بن زياد عن السدي عن
عبد خير عن علي " ولكل قوم هاد " قال الهادي رجل من بني هاشم قال الجنيد هو علي بن أبي طالب رضي الله
عنه قال ابن أبي حاتم وروى عن ابن عباس في إحدى الروايات وعن أبي جعفر محمد بن علي نحو ذلك.
الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير
المتعال (9)
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شئ وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل إناث الحيوانات كما
قال تعالى " ويعلم ما في الأرحام " أي ما حملت من ذكر أو أنثى أو حسن أو قبيح أو شقي أو سعيد أو طويل
العمر أو قصيره كقوله تعالى " هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة " الآية وقال تعالى " يخلقكم
في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث " أي خلقكم طورا من بعد طور كما قال تعالى " ولقد
خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة
فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما أم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين " وفى الصحيحين عن
ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما
ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وعمره
وعمله وشقي أو سعيد ". وفي الحديث الآخر " فيقول الملك أي رب أذكر أم أنثى؟ أي رب أشقي أم سعيد؟
فما الرزق؟ فما الاجل؟ فيقول الله ويكتب الملك " وقوله " وما تغيض الأرحام وما تزداد " قال البخاري حدثنا
إبراهيم بن المنذر حدثنا معن حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مفاتيح الغيب
خمس لا يعلمهن إلا الله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأتي
المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " وقال العوفي عن
ابن عباس " وما تغيض الأرحام " يعني السقط " وما تزداد " يقول ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى
520

ولدته تماما وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ومن تحمل تسعة أشهر ومنهن من تزيد في الحمل
ومنهن من تنقص فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى. وقال الضحاك عن ابن عباس
في قوله " وما تغيض الأرحام وما تزداد " قال ما نقصت عن تسعة وما زاد عليها وقال الضحاك وضعتني أمي وقد
حملتني في بطنها سنتين وولدتني وقد نبتت ثنيتي وقال ابن جريج عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت: لا
يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل وقال مجاهد " وما تغيض الأرحام وما تزداد " قال ما ترى
من الدم في حملها وما تزداد على تسعة أشهر وبه قال عطية العوفي والحسن البصري وقتادة والضحاك وقال
مجاهد أيضا إذا رأت المرأة الدم دون التسعة زاد على التسعة مثل أيام الحيض وقاله عكرمة وسعيد بن جبير وابن
زيد وقال مجاهد أيضا " وما تغيض الأرحام " إراقة الدم حتى يخس الولد " وما تزداد " إن لم تهرق الدم تم
الولد وعظم وقال مكحول: الجنين في بطن أمه لا يطلب ولا يحزن ولا يغتم وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من
دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل فإذا وقع إلى الأرض استهل واستهلاله استنكاره لمكانه، فإذا قطعت
سرته حول الله رزقه إلى ثديي أمه حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم ثم يصير طفلا يتناول الشئ بكفه فيأكله فإذا
هو بلغ قال هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول يا ويحك! غذاك وأنت في بطن أمك وأنت طفل
صغير حتى إذا اشتددت وعقلت قلت هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول " الله يعلم ما تحمل كل
أنثى " الآية وقال قتادة " وكل شئ عنده بمقدار " أي بأجل حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلا
معلوما. وفي الحديث الصحيح أن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه أن ابنا لها في الموت وأنها تحب أن يحضره
فبعث إليها يقول " إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شئ عنده بأجل مسمى فمروها فلتصبر ولتحتسب ".
الحديث بتمامه، وقوله " عالم الغيب والشهادة " أي يعلم كل شئ مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى
عليه منه شئ " الكبير " الذي هو أكبر من كل شئ " المتعال " أي على كل شئ " قد أحاط بكل شئ علما "
وقهر كل شئ فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها.
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (10) له معقبات من بين يديه
ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا
مرد له وما لهم من دونه من وال (11)
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه وانه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به فإنه يسمعه لا يخفى عليه شئ
كقوله " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " وقال " ويعلم ما تخفون وما تعلنون " وقالت عائشة رضي الله
عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات والله لقد جاءت المجادلة تشتكى زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في
جنب البيت وإنه ليخفى علي بعض كلامها فأنزل الله " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله
والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير " وقوله " ومن هو مستخف بالليل " أي مختف في قعر بيته في ظلام
الليل " وسارب بالنهار " أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه فإن كلاهما في علم الله على السواء كقوله تعالى
" ألا حين يستغشون ثيابهم " الآية وقوله تعالى " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا
كنا عليكم شهودا أتفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا
أكبر إلا في كتاب مبين ". وقوله (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله) أي للعبد ملائكة
يتعاقبون عليه حرس بالليل وحرس بالنهار يحفظونه من الأسواء والحادثات كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ
الأعمال من خير أو شر ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الأعمال صاحب اليمين
يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وآخر من
521

قدامه فهو بين أربعة أملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلا حافظان وكاتبان كما جاء في الصحيح " يتعاقبون فيكم
ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم وهو
أعلم بكم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون " وفي الحديث الآخر " إن
معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
في قوله " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله " والمعقبات من الله هي الملائكة وقال عكرمة
عن ابن عباس " يحفظونه من أمر الله " قال ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء قدر الله خلوا عنه
وقال مجاهد ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما منها شئ يأتيه
يريده إلا قال له الملك: وراءك إلا شئ أذن الله فيه فيصيبه.
وقال الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " له معقبات من بين يديه ومن
خلفه " قال ذلك ملك من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس وقال العوفي عن ابن عباس " له معقبات من بين
يديه ومن خلفه " يعني ولي السلطان يكون عليه الحرس وقال عكرمة في تفسيرها هؤلاء الامراء المواكب من بين
يديه ومن خلفه، وقال الضحاك في الآية هو السلطان المحروس من أمر الله وهم أهل الشرك والظاهر والله أعلم
أن مراد ابن عباس وعكرمة والضحاك بهذا أن حرس الملائكة للعبد يشبه حرس هؤلاء لملوكهم وأمرائهم وقد
روى الإمام أبو جعفر ابن جرير ههنا حديثا غريبا جدا فقال حدثني المثنى حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح
القشيري حدثنا علي بن جرير عن حماد بن سلمة عن عبد الحميد بن جعفر عن كنانة العدوي
قال: دخل عثمان بن عفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال
" ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشرا وإذا عملت
سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين أكتبها؟ قال لا لعله يستغفر ويتوب فيستأذنه ثلاث مرات فإذا قال
ثلاثا قال اكتبها أراحنا الله منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله وأقل استحياءه منا يقول الله " ما يلفظ من قول
إلا لديه رقيب عتيد " وملكان من بين يديك ومن خلفك يقول الله تعالى " له معقبات من بين يديه ومن خلفه "
الآية، وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك، وملكان على شفتيك
ليس يحفظان عليك إلا الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية في فيك وملكان
على عينيك فهؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي ينزلون ملائكة الليل على ملائكة النهار لان ملائكة الليل سوى
ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكا على كل آدمي وإبليس بالنهار وولده بالليل " وقال الإمام أحمد رحمه الله
حدثنا أسود بن عامر حدثنا سفيان حدثني منصور عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة " قالوا وإياك يا رسول الله؟
قال " وإياي ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير " انفرد بإخراجه مسلم وقوله " يحفظونه من أمر الله " قيل
المراد حفظهم له من أمر الله. رواه علي بن أبي طلحة وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير
وإبراهيم النخعي وغيرهم وقال قتادة " يحفظونه من أمر الله " قال وفي بعض القراءات يحفظونه بأمر الله وقال
كعب الأحبار: لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شئ من ذلك شيئا يقينا لولا أن الله
وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتخطفتم وقال أبو أمامة ما من آدمي
إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له وقال أبو مجلز جاء
رجل من مراد إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي فقال احترس فإن ناسا من مراد يريدون قتلك، فقال إن
مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه إن الاجل جنة حصينة وقال بعضهم
" يحفظونه من أمر الله " بأمر الله كما جاء في الحديث أنهم قالوا يا رسول الله أرأيت رقيا نسترقي بها هل ترد من
قدر الله شيئا؟ فقال " هي من قدر الله " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا حفص بن غياث عن
522

أشعث عن جهم عن إبراهيم قال أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية ولا
أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون ثم قال
إن تصديق ذلك في كتاب الله " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وقد ورد هذا في حديث مرفوع
فقال الحافظ محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه صفة العرش حدثنا الحسن بن علي حدثنا الهيثم بن الأشعث
السلمي حدثنا أبو حنيفة اليماني الأنصاري عن عمير بن عبد الملك قال: خطبنا علي بن أبي طالب على منبر
الكوفة قال: كنت إذا أمسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدأني وإذا سألته عن الخبر أنبأني وإنه حدثني عن ربه عز وجل
قال " قال الرب وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهت من معصيتي
ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي " وهذا
غريب وفي إسناده من لا أعرفه.
هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال (12) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته
ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال (13)
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحاب، وروى ابن جرير أن
ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن البرق فقال البرق الماء. وقوله " خوفا وطمعا " قال قتادة خوفا للمسافر
يخاف أذاه ومشقته وطمعا للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطيع في رزق الله " وينشئ السحاب الثقال " أي يخلقها
منشأة جديدة وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض قال مجاهد: السحاب الثقال الذي فيه الماء قال " ويسبح
الرعد بحمده " كقوله " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا إبراهيم بن سعد
أخبرني أبي قال كنت جالسا إلى جنب حميد بن عبد الرحمن في المسجد فمر شيخ من بني غفار فأرسل إليه حميد
فلما أقبل قال يا ابن أخي وسع الله فيما بيني وبينك فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه
فقال له حميد ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له الشيخ سمعت عن شيخ من بني غفار أنه سمع
النبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله ينشئ السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك " والمراد والله أعلم أن
نطقها الرعد وضحكها البرق، وقال موسى بن عبيدة عن سعد بن إبراهيم قال يبعث الله الغيث فلا أحسن منه
مضحكا ولا آنس منه منطقا فضحكه البرق ومنطقه الرعد، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبيد الله
الرازي عن محمد بن مسلم قال بلغنا أن البرق ملك له أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه ثور ووجه نسر ووجه
أسد فإذا مصع بذنبه فذاك البرق وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا الحجاج حدثنا
أبو مطر عن سالم عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال " اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا
تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ". ورواه الترمذي والبخاري في كتاب الأدب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم
في مستدركه من حديث الحجاج بن أرطاة عن أبي مطر ولم أبو أحمد حدثنا إسرائيل عن أبيه عن رجل عن أبي هريرة رفعه أنه كان إذا سمع الرعد قال
" سبحان من يسبح الرعد بحمده ". وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول: سبحان
من سبحت له. وكذا روى عن ابن عباس وطاوس والأسود بن يزيد أنهم كانوا يقولون كذلك وقال الأوزاعي كان
ابن أبي زكريا يقول: من قال حين يسمع الرعد سبحان الله وبحمده لم تصبه صاعقة وعن عبد الله بن الزبير أنه
كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول إن هذا
لوعيد شديد لأهل الأرض رواه مالك في موطئه والبخاري في كتاب الأدب.
وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثنا صدقة بن موسى حدثنا محمد بن واسع عن معمر بن نهار
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال ربكم عز وجل لو أن عبيدي أطاعوني لاسقيتهم المطر بالليل وأطلعت
523

عليهم الشمس بالنهار ولما أسمعتهم صوت الرعد " وقال الطبراني حدثنا زكريا بن يحيى ساجي حدثنا أبو
كامل الجحدري حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر حدثنا عبد الكريم حدثنا عطاء عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرا " وقوله تعالى " ويرسل الصواعق فيصيب بها من
يشاء " أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء ولهذا تكثر في آخر الزمان كما قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن
مصعب حدثنا عمارة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " تكثر الصواعق عند
اقتراب الساعة حتى يأتي الرجل القوم فيقول من صعق قبلكم الغداة فيقولون صعق فلان وفلان وفلان " وقد
روى في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا إسحاق حدثنا علي بن أبي سارة الشيباني حدثنا
ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال " اذهب فادعه لي " قال فذهب
إليه فقال يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو أم من فضة هو أم من نحاس
هو؟ قال فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال يا رسول الله قد خبرتك أنه أعتى من ذلك قال لي كذا وكذا فقال
لي " ارجع إليه الثانية " فذهب فقال له مثلها فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى
من ذلك. فقال " ارجع إليه فادعه " فرجع إليه الثالثة قال فأعاد عليه ذلك الكلام فبينما هو يكلمه إذ بعث الله
عز وجل سحابة حيال رأت فرعدت فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله عز وجل " ويرسل
الصواعق " الآية ورواه ابن جرير من حديث علي بن أبي سارة به ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبدة بن
عبد الله عن يزيد بن هارون عن ديلم بن غزوان عن ثابت عن أنس فذكر نحوه وقال: حدثنا الحسن بن محمد
حدثنا عفان حدثنا أبان بن يزيد حدثنا أبو عمران الجوني عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعثه إلى جبار يدعوه فقال أرأيتكم ربكم أذهب هو؟ أم فضة هو؟ أم لؤلؤ هو؟ قال فبينما هو يجادلهم إذ بعث الله
سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه ونزلت هذه الآية. وقال أبو بكر بن عياش عن ليث بن
أبي سليم عن مجاهد قال جاء يهودي فقال يا محمد أخبرني عن ربك من أي شئ هو؟ من نحاس هو أم من
لؤلؤ أو ياقوت؟ قال فجاءت صاعقة فأخذته وأنزل الله " ويرسل الصواعق " الآية.
وقال قتادة ذكر لنا أن رجل أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل الله " ويرسل الصواعق "
الآية. وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فسألاه أن
يجعل لهما نصف الامر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له عامر بن الطفيل لعنه الله أما والله لأملأنها عليك خيلا
جردا ورجالا مردا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة " يعني الأنصار ثم إنهما هما بالفتك
برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه فحماه الله تعالى منهما وعصمه فخرجا
من المدينة فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام فأرسل الله على أربد سحابة فيها
صاعقة فأحرقته وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون فخرجت فيه غدة عظيمة فجعل يقول يا آل عامر
غدة كغدة البكر وموت في بيت سلولية حتى ماتا لعنهما الله وأنزل الله في مثل ذلك " ويرسل الصواعق فيصيب
بها من يشاء وهم يجادلون في الله " وفى ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخو أربد يرثيه.
أخشى على أربد الحتوف ولا * أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بالفارس * - يوم الكريهة النجد
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا مسعدة بن سعيد العطار حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي حدثني
عبد العزيز بن عمران حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابن زيد بن أسلم عن أبيهما عن عطاء بن يسار عن ابن عباس
أن أربد بن قيس بن حزم بن جليد بن جعفر بن كلاب وعامر بن الطفيل بن مالك قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فانتهيا إليه وهو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر بن الطفيل: يا محمد ما تجعل لي إن أسلمت؟ فقال
524

رسول الله صلى الله عليه وسلم " لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم " قال عامر بن الطفيل أتجعل لي الامر إن أسلمت من بعدك؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل " قال أنا الآن في أعنة خيل نجد اجعل لي
الوبر ولك المدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا " فلما قفلا من عنده قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " يمنعك الله " فلما خرج أربد وعامر قال عامر: يا أربد أنا أشغل عنك محمدا بالحديث
فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فنعطيهم الدية قال
أربد: أفعل فأقبلا راجعين إليه فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلسا إلى
الجدار ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف
فلم يستطع سل السيف فأبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما
فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالحرة - حرة راقم - نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ
وأسيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوي الله لعنكما الله فقال عامر من هذا يا سعد؟ قال هذا أسيد بن حضير
العاتب فخرجا حتى إذا كانا بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم أرسل الله
فرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول غدة كغدة الجمل في
بيت سلولية يرغب أن يموت في بيتها ثم ركب فرت فأحضره حتى مات عليه راجعا فأنزل الله فيهما " الله يعلم
ما تحمل كل أنثى - إلى قوله - وما لهم من دونه من وال " قال المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه وسلم ثم ذكر
أربد وما قتله به فقال " ويرسل الصواعق " الآية وقوله " وهم يجادلون في الله " أي يشكون في عظمته وأنه لا
إله إلا هو " وهو شديد المحال " قال ابن جرير: شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في
كفره وهذه الآية شبيهة بقوله " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا
دمرناهم وقومهم أجمعين " وعن علي رضي الله عنه " وهو شديد المحال " أي شديد الاخذ وقال مجاهد
شديد القوة.
له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه
وما دعاء الكافرين إلا في ضلال (14)
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه " له دعوة الحق " قال التوحيد رواه ابن جرير وقال ابن عباس وقتادة
ومالك عن محمد بن المنكدر " له دعوة الحق " لا إله إلا الله " والذين يدعون من دونه " الآية أي ومثل
الذين يعبدون آلهة غير الله " كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه " قال علي بن أبي طالب كمثل الذي يتناول الماء
من طرف البئر بيده وهو لا يناله أبدا بيده فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد " كباسط كفيه " يدعو الماء بلسانه ويشير
إليه فلا يأتيه أبدا. وقيل المراد كقابض يده على الماء فإنه لا يحكم منه على شئ كما قال الشاعر:
فإني وإياكم وشوقا إليكم * كقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الآخر:
فأصبحت مما كان بيني وبينها * من الود مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضا وإما متناولا له من بعد كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل
إلى فيه الذي جعله محلا للشرب فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلها غيره لا ينتفعون بهم أبدا في
الدنيا ولا في الآخرة ولهذا قال " وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ".
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال (15)
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شئ ودان له كل شئ ولهذا يسجد له كل شئ طوعا من المؤمنين
525

وكرها على الكافرين " وظلالهم بالغدو " أي البكر " والآصال " وهو جمع أصيل وهو آخر النهار كقوله تعالى
" أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله " الآية.
* قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا
قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه
الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار (16)
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لانهم معترفون بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها وهم مع هذا قد
اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم وأولئك الآلهة لا تملك لا نفسها ولا لعابديها بطريق الأولى نفعا ولا ضرا أي لا
تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك له
فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال " قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله
شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم " أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق
فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره أي ليس الامر كذلك فإنه لا يشابهه
شئ ولا يماثله ولا ند له ولا عدل له ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة " تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا " وإنما
عبد هؤلاء المشركون معه آلهة هم معترفون أنها مخلوقة له عبيد له كما كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك
إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وكما أخبر تعالى عنهم في قوله " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى "
فأنكر تعالى عليهم ذلك حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه " ولا تنفع الشفاعة عنده إلا
لمن أذن له " " وكم من ملك في السماوات " الآية وقال " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن
عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " فإذا كان الجميع عبيدا فلم يعبد بعضهم بعضا
بلا دليل ولا برهان بل مجرد الرأي والاختراع والابتداع ثم قد أرسل رسله من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن
ذلك وتنهاهم عن عبادة من سوى الله فكذبوهم وخالفوهم فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة " ولا يظلم ربك
أحدا ".
أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد
مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض
كذلك يضرب الله الأمثال (17)
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه والباطل في اضمحلاله وفنائه فقال تعالى
" أنزل من السماء ماء " أي مطرا " فسالت أودية بقدرها " أي أخذ كل واحد بحسبه فهذا كبير وسع كثيرا من
الماء وهذا صغير فوسع بقدره وهو إشارة إلى القلوب وتفاوتها فمنها ما يسع علما كثيرا ومنها ما لا يتسع لكثير من
العلوم بل يضيق عنها " فاحتمل السيل زبدا رابيا " أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عال عليه
هذا مثل وقوله " ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع " الآية هذا هو المثل الثاني هو ما يسبك في
النار من ذهب أو فضة ابتغاء حلية أي ليجعل حلية أو نحاسا أو حديدا فيجعل متاعا فإنه يعلوه زبد منه كما يعلو
ذلك زبد منه " كذلك يضرب الله الحق والباطل " أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام له كما أن الزبد لا
يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما مما يسبك في النار بل يذهب ويضمحل ولهذا قال " فأما الزبد
526

فيذهب جفاء " أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح وكذلك
خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شئ ولا يبقى إلا الماء وذلك الذهب ونحوه ينتفع
به ولهذا قال " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " كقوله تعالى " وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " وقال بعض السلف كنت إذا قرأت مثلا من القرآن فلم أفهمه بكيت على
نفسي لان الله تعالى يقول " وما يعقلها إلا العالمون " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى
" أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " الآية هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها
وشكها فأما الشك فلا ينفع معه العمل وأما اليقين فينفع الله به أهله وهو قوله " فأما الزبد " وهو الشك
" فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " وهو اليقين وكما يجعل الحلى في النار فيؤخذ خالصه
ويترك خبثه في النار فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك وقال العوفي عن ابن عباس قوله " أنزل من السماء
ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا " يقول احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة " ومما
يوقدون عليه في النار " فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد فللنحاس والحديد خبث فجعل الله
مثل خبثه كزبد الماء فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل
ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله والعمل السئ يضمحل عن أهله كما يذهب هذا الزبد وكذلك الهدى
والحق جاءا من عند الله فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض وكذلك الحديد لا
يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به فكذلك يضمحل
الباطل فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك وينتفع أهل الحق بالحق. وهكذا
روي في تفسيرها عن مجاهد والحسن البصري وعطاء وقتادة وغير واحد من السلف والخلف وقد ضرب سبحانه
وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين ناريا ومائيا وهما قوله " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما
حوله " الآية ثم قال " أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق " الآية وهكذا ضرب للكافرين في سورة
النور مثلين " أحدهما " قوله " والذين كفروا أعمالهم كسراب " الآية والسراب إنما يكون في شدة الحر ولهذا
جاء في الصحيحين فيقال لليهود يوم القيامة فما تريدون؟ فيقولون أي ربنا عطشنا فاسقنا فيقال ألا تردون؟ فيردون النار
فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا ثم قال تعالى في المثل الآخر " أو كظلمات في بحر لجي " الآية وفي
الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن مثل ما بعثني الله به من الهدى
والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب
أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك
ماء ولا تنبت كلا فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك
رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به " فهذا مثل مائي. وقال في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " مثلي
ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها
وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها - قال - فذلكم مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار
فتغلبوني فتقتحمون فيها " وأخرجاه في الصحيحين أيضا فهذا مثل ناري.
للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به
أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد (18)
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء فقال " للذين استجابوا لربهم " أي أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره
527

وصدقوا أخباره الماضية والآتية فلهم " الحسنى " وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى مخبرا عن ذي القرنين أنه قال
" أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا * وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى
وسنقول له من أمرنا يسرا " وقال تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وقوله " والذين لم يستجيبوا له " أي
لم يطيعوا الله " لو أن لهم ما في الأرض جميعا " أي في الدار الآخرة لو أن يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله
بملء ء الأرض ذهبا ومثله معه لافتدوا به ولكن لا يقبل منهم لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفا ولا عدلا
" أولئك لهم سوء الحساب " أي في الدار الآخرة أي يناقشون على النقير والقطمير والجليل والحقير ومن
نوقش الحساب عذب ولهذا قال " ومأواهم جهنم وبئس المهاد ".
* أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب (19)
يقول تعالى: لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي " أنزل إليك " يا محمد " من ربك " هو الحق الذي لا
شك فيه ولا مرية ولا لبس فيه ولا اختلاف فيه بل هو كله حق يصدق بعضه بعضا لا يضاد شئ منه شيئا آخر
فأخباره كلها حق وأوامره ونواهيه عدل كما قال تعالى " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " أي صدقا في الاخبار
وعدلا في الطلب فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ولو
فهمه ما انقاد له ولا صدقه ولا اتبعه كقوله تعالى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم
الفائزون " وقال في هذه الآية الكريمة " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى " أي أفهذا
كهذا؟ لا استواء وقوله " إنما يتذكر أولو الألباب " أي إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة
جعلنا الله منهم.
الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (20) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون
سوء الحساب (21) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون
بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار (22) جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب (23) سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار (24)
يقول تعالى مخبرا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة
" الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر وإذا خاصم
فجز وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل " من صلة الأرحام والاحسان
إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف " ويخشون ربهم " أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال يراقبون
الله في ذلك ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم
وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية " والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم " أي عن المحارم والمآثم ففطموا
أنفسهم عنها لله عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه " وأقاموا الصلاة " بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها
وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي " وأنفقوا مما رزقناهم " أي على الذين يجب عليهم الانفاق لهم من
زوجات وقرابات وأجانب من فقراء ومحاويج ومساكين " سرا وعلانية " أي في السر والجهر لم يمنعهم من ذلك
حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار " ويدرءون بالحسنة السيئة " أي يدفعون القبيح بالحسن فإذا آذاهم
أحد قابلوه بالجميل صبرا واحتمالا وصفحا وعفوا كقوله تعالى " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة
كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " ولهذا قال مخبرا عن هؤلاء السعداء
528

المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ثم فسر ذلك بقوله " جنات عدن " والعدن الإقامة أي
جنات إقامة يخلدون فيها وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: إن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج والمروج
فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد وقال الضحاك في
قوله " جنات عدن " مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم بعد والجنات حولها
رواهما ابن جرير. وقوله " ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من
الآباء والاهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم حتى أنه ترفع درجة الأدنى إلى
درجة الاعلى امتنانا من الله وإحسانا من غير تنقيص للأعلى عن درجته كما قال تعالى " والذين آمنوا واتبعتهم
ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " الآية وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم
فنعم عقبى الدار " أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة فعند دخولهم إياها تفد
عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والانعام والإقامة في دار السلام في جوار
الصديقين والأنبياء والرسل الكرام، وقال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا أبو عبد الرحمن حدثني سعيد بن أبي
أيوب حدثنا معروف بن سويد الحراني عن أبي عشانة المعافري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ " قالوا الله ورسوله أعلم. قال " أول
من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته
في صدره لا يستطيع لها قضاء فيقول الله تعالى لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيوهم فتقول الملائكة نحن
سكان سمائك وخيرتك من خلقك أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء ونسلم عليهم؟ فيقول إنهم كانوا عبادا يعبدونني لا
يشركون بي شيئا وتسد بهم الثغور وتتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء
- قال - فتأتيهم الملائكة عند ذلك فيدخلون عليهم من كل باب " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار "
ورواه أبو القاسم الطبراني عن أحمد بن رشدين عن أحمد بن صالح عن عبد الله بن وهب عن عمر بن الحارث عن
أبي عشانة سمع عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ثلة يدخلون الجنة فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم
المكاره وإذا أمروا سمعوا وأطاعوا وإن كانت لرجل منهم حاجة إلى سلطان لم تقض حتى يموت وهي في صدره
وإن الله يدعو يوم القيامة الجنة فتأتى بزخرفها وزينتها فيقول أين عبادي الذين قاتلوا في سبيلي وأوذوا في سبيلي
وجاهدوا في سبيلي؟ ادخلوا الجنة بغير عذاب ولا حساب وتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون ربنا نحن نسبح
بحمدك الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا؟ فيقول الرب عز وجل هؤلاء عبادي الذين جاهدوا
في سبيلي وأوذوا في سبيلي فتدخل عليهم الملائكة من كل باب: " سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " وقال
عبد الله بن المبارك عن بقية بن الوليد حدثنا أرطاة بن المنذر سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج
يقول: جلست إلى أبى أمامة فقال: إن المؤمن ليكون متكئا على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم
وعند طرف السماطين باب مبوب فيقبل الملك فيستأذن فيقول للذي يليه ملك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه
ملك يستأذن حتى يبلغ المؤمن فيقول ائذنوا فيقول أقربهم للمؤمن ائذنوا له ويقول الذي يليه للذي يليه ائذنوا له
حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف. رواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم من
حديث إسماعيل بن عياش عن أرطاة بن المنذر عن أبي الحجاج يوسف الالهاني قال: سمعت أبا أمامة فذكر نحوه
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور قبور الشهداء في رأس كل حول فيقول لهم: " سلام عليكم بما
صبرتم فنعم عقبى الدار " وكذلك أبو بكر وعمر وعثمان.
والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم
اللعنة ولهم سوء الدار (25)
529

هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر ما لهم في الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون كما أنهم اتصفوا
بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل وهؤلاء " ينقضون عهد
الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض " كما ثبت في الحديث " آية المنافق
ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان " وفي رواية " وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر " ولهذا
قال " أولئك لهم اللعنة " وهي الابعاد عن الرحمة " ولهم سوء الدار " وهي سوء العاقبة والمال " ومأواهم
جهنم وبئس المهاد " وقال أبو العالية في قوله تعالى " والذين ينقضون عهد الله " الآية قال هي ست خصال
في المنافقين إذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا ائتمنوا
خانوا ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وأفسدوا في الأرض وإذا كانت الظهرة
عليهم أظهروا الثلاث الخصال: إذا حدثوا كذبوا وإذا وعدوا أخلفوا وإذا ائتمنوا خانوا.
الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع (26) ويقول
الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب (27)
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء لما له في ذلك من الحكمة والعدل وفرح
هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجا لهم وإمهالا كما قال " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين
نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخره تعالى لعباده المؤمنين في
الدار الآخرة فقال " وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " كما قال " قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى
ولا تظلمون فتيلا " وقال " بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى " وقال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن
يحيى بن سعيد قالا: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع " وأشار بالسبابة رواه مسلم في
صحيحه. وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت والأسك الصغير الاذنين فقال " والله للدنيا
أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه ".
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب (28) الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى
لهم وحسن مآب (29)
يخبر تعالى عن قيل المشركين " لولا " أي هلا " أنزل عليه آية من ربه " كقولهم " فليأتنا بآية كما أرسل
الأولون " وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة وإن الله قادر على إجابة ما سألوا وفي الحديث إن الله أوحى إلى
رسوله لما سألوه أن يحول لهم الصفا ذهبا وأن يجري لهم ينبوعا وأن يزيح الجبال من حول مكة فيصير مكانها
مروج وبساتين: إن شئت يا محمد أعطيتهم ذلك فإن كفروا أعذبهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت
فتحت عليهم باب التوبة والرحمة فقال " بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة " ولهذا قال لرسوله " قل إن الله يضل
من يشاء ويهدي إليه من أناب " أي هو المضل والهادي سواء بعث الرسل بآية على وفق ما اقترحوا أو لم يجبهم
إلى سؤالهم فان الهداية والاضلال ليس منوطا بذلك ولا عدمه كما قال " وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا
يؤمنون " وقال " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " وقال
" ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن
أكثرهم يجهلون " ولهذا قال " قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب " أي ويهدي إليه من أناب إلى الله
ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " أي تطيب وتركن إلى جانب الله
530

وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيرا ولهذا قال " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " أي هو حقيق بذلك وقوله
" الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس فرح وقرة عين.
وقال عكرمة نعم مالهم وقال الضحاك غبطة لهم وقال إبراهيم النخعي خير لهم، وقال قتادة هي كلمة عربية
يقول الرجل طوبى لك أي أصبت خيرا وقال في رواية: طوبى لهم حسنى لهم " وحسن مآب " أي مرجع
وهذه الأقوال شئ واحد لا مناقاة بينها وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس " طوبى لهم " قال هي أرض الجنة
بالحبشية وقال سعيد بن مسجوع طوبى اسم الجنة بالهندية وكذا روى السدي عن عكرمة طوبى لهم أي
الجنة وبه قال مجاهد وقال العوفي عن ابن عباس لما خلق الله الجنة وفرغ منها قال " الذين آمنوا وعملوا
الصالحات طوبى لهم وحسن مآب " وذلك حين أعجبته.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد حدثنا يعقوب عن جعفر عن شهر بن حوشب قال: طوبى شجرة في الجنة كل
شجر الجنة منها أغصانها من وراء سور الجنة وهكذا روي عن أبي هريرة وأبن عباس ومغيث بن سليمان وأبي
إسحق السبيعي وغير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها وذكر بعضهم أن
الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من حبة لؤلؤة وأمرها أن تمتد فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى
وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن وقد قال عبد الله بن وهب: حدثنا عمرو بن
الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا " طوبى شجرة في الجنة مسيرة
مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها ". وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن
لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال: يا
رسول الله طوبى لمن رآك وآمن بك قال " طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي
ولم يرني " قال له رجل: وما طوبى؟ قال " شجرة في الجنة مسيرتها مائة عام ثياب أهل الجنة تخرج من
أكمامها " وروى البخاري ومسلم جميعا عن إسحاق بن راهويه عن مغيرة المخزومي عن وهيب عن أبي حازم عن
سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب
في ظلها مائة عام لا يقطعها " قال فحدثت به النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال: حدثني أبو سعيد الخدري عن
النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما
يقطعها " وفي صحيح البخاري من حديث يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " وظل ممدود " قال " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا
يقطعها " وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا فليح عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة اقرؤوا إن شئتم " وظل ممدود "
أخرجاه في الصحيحين وفى لفظ لأحمد أيضا حدثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: حدثنا شعبة سمعت أبا
الضحاك يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين - أو مائة
سنة - هي شجرة الخلد " وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن أسماء بنت أبي
بكر رضي الله عنه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سدرة المنتهى فقال " يسير في ظل الغصن منها الراكب مائة
سنة - أو قال - يستظل في الفنن منها مائة راكب فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال " رواه الترمذي. وقال
إسماعيل بن عياش عن سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلام الأسود قال: سمعت أبا أمامة
الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا انطلق به إلى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ
من أي ذلك شاء إن شاء أبيض وإن شاء أحمر وإن شاء أصفر وإن شاء أسود مثل شقائق النعمان وأرق
وأحسن " وقال الإمام أبو جعفر بن جرير: حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن
أشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: طوبى شجرة في الجنة يقول الله لها
531

تفتقي لعبدي عما شاء فتفتق له عن الخيل بسروجها ولجمها وعن الإبل بأزمتها وعما شاء من الكسوة وقد
روى ابن جرير عن وهب بن منبه ههنا أثرا غريبا عجيبا قال وهب رحمه الله: إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى
يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها زهرها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها ياقوت وترابها
كافور ووحلها مسك يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم
إذ أتتهم ملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسنا ووبرها كخز المرعزي
من لينه عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس واستبرق فيفتحونها يقولون إن ربنا
أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه قال فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجبا من غير مهنة يسير
الرجل إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أذن راحلة منها أذن الأخرى ولا برك راحلة برك الأخرى حتى إن
الشجرة لتتنحى عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه قال فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه
الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام وحق لك الجلال والاكرام قال فيقول
تعالى عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحبا بعبادي الذين خشوني بغيب وأطاعوا
أمري قال فيقولون ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدرك حق قدرك فائذن لنا في السجود قدامك قال فيقول
الله إنها ليست بدار نصب ولا عبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم
فإن لكل رجل منكم أمنيته فيسألونه حتى أن أقصرهم أمنية ليقول ربي تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها
رب فأتني مثل كل شئ كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا فيقول الله تعالى لقد قصرت بك أمنيتك
ولقد سألت دون منزلتك هذا لك مني لأنه ليس في عطائي نكد ولا قصر يد قال ثم يقول أعرضوا على عبادي
ما لم يبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال قال فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم التي في أنفسهم فيكون
فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب
مفرغة في كل قبة منها فرش من فرش الجنة متظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين على كل جارية
منهن ثوبان من ثياب الجنة وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما ولا ريح ولا طيب إلا قد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ
القبة حتى يظن من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سوقهما كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء يريان له
من الفضل على صاحبه كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ويدخل إليهما فيحييانه
ويقبلانه ويتعلقان به ويقولان له والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في
الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن
منبه وزاد فانظروا إلى موهوب ربكم الذي وهب لكم فإذا هو بقباب في الرفيق الاعلى وغرف مبنية من الدر
والمرجان أبوابها من ذهب وسررها من ياقوت وفرشها من سندس واستبرق ومنابرها من نور يفور من أبوابها
وعراصها نور مثل شعاع الشمس عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضئ وإذا بقصور شامخة في أعلى
عليين من الياقوت يزهو نورها فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الابصار فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض
فهو مفروش بالحرير الأبيض وما كان فيها من الياقوت الأحمر فهو مفروش بالعبقري الأحمر وما كان فيها من
الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر وما كان فيها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر
مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء قوائمها وأركانها من الجوهر وشرفها قباب من لؤلؤ
وبروجها غرف من المرجان فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها
الروح تجنبها الولدان المخلدون بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء
منظومة بالدر والياقوت سروجها سرر موضونة مفروشة بالسندس والاستبرق فانطلق بهم تلك البراذين تزف بهم ببطن
رياض الجنة فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم
ويهنئوهم كرامة ربهم فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وتمنوا وإذا على
532

باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان وجنتان مدهامتان وفيهما عينان نضاختان وفيهما
من كل فاكهة زوجان وحور مقصورات في الخيام فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم هل
وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم وربنا قال هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا ربنا رضينا فارض عنا قال
برضاي عنكم حللتم داري ونظرتم إلى وجهي وصافحتكم ملائكتي فهنيئا هنيئا لكم " عطاء غير مجذوذ " ليس
فيه تنغيص ولا قصر يد فعند ذلك قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأدخلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا
فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب. إن ربنا لغفور شكور. وهذا سياق غريب وأثر عجيب ولبعضه شواهد ففي
الصحيحين أن الله تعالى يقول لذلك الرجل الذي يكون آخر أهل الجنة دخولا الجنة: تمن فيتمنى حتى إذا
انتهت به الأماني يقول الله تعالى: تمن من كذا وتمن من كذا يذكره ثم يقول ذلك لك وعشرة أمثاله.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص
المخيط إذا أدخل في البحر " الحديث بطوله وقال خالد بن معدان إن في الجنة شجرة يقال لها طوبى لها ضروع
كلها ترضع صبيان أهل الجنة وإن سقط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة فيبعث
ابن أربعين سنة رواه ابن أبي حاتم.
كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي
لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب (30)
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة " لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك " أي تبلغهم رسالة الله إليهم
كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله وقد كذب الرسل من قبلك فلك بهو أسوة وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا
بأولئك فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم فإن تكذيبهم لك أشد من تكذيب غيرك من المرسلين قال الله تعالى
" تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك " الآية وقال تعالى " ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا
وأوذوا حتى أتاهم نصرك ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين " أي كيف نصرناهم وجعلنا العاقبة
لهم ولاتباعهم في الدنيا والآخرة وقوله " وهم يكفرون بالرحمن " أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون
بالرحمن لا يقرون به لانهم كانوا يأنفون من وصف الله بالرحمن الرحيم ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم
الله الرحمن الرحيم وقالوا ما ندري ما الرحمن الرحيم قاله قتادة والحديث في صحيح البخاري وقد قال الله
تعالى " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن " " قل هو ربي لا إله إلا هو "
أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والإلاهية هو ربي لا إله إلا هو " عليه توكلت " أي
في جميع أموري " وإليه متاب " أي إليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه.
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا
أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى
يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد (31)
يقول تعالى مادحا للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلا له على سائر الكتب المنزلة قبله " ولو أن قرآنا
سيرت به الجبال " أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها أو تقطع به الأرض وتنشق أو
533

تكلم به الموتى في قبورهم لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما
فيه من الاعجاز الذي لا يستطيع الانسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من مثله ومع هذا
فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له " بل لله الامر جميعا " أي مرجع الأمور كلها إلى الله عز وجل ما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن ومن يضلل الله فلا هادي له ومن يهد الله فما له من مضل وقد يطلق اسم القرآن
على كل من الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن
منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خفف على داود القرآن فكان يأمر بدابته أن تسرج
فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته وكان لا يأكل إلا من عمل يديه " انفرد بإخراجه البخاري والمراد
بالقرآن هو الزبور وقوله " أفلم ييأس الذين آمنوا " أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا أو يتبينوا " أن لو يشاء
لهدى الناس جميعا " فإنه ليس ثم حجة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس من هذا القرآن الذي لو
أنزله الله على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من نبي إلا
وقد أوتي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم
القيامة " معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه ولا يخلق
عن كثرة الرد ولا يشبع منه العلماء هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره
أضله الله وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث أنبأنا بشر بن عمارة حدثنا
عمر بن حسان عن عطية العوفي قال: قلت له " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " الآية قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لو
سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت بنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا
الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه فأنزل الله هذه الآية قال: قلت هل تروون هذا الحديث عن أحد من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذا روي عن ابن عباس والشعبي وقتادة والثوري
وغير واحد في سبب نزول هذه الآية والله أعلم وقال قتادة: لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم وقوله
" بل لله الامر جميعا " قال ابن عباس: أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل رواه ابن إسحاق
بسنده عنه وقاله ابن جرير أيضا وقال غير واحد من السلف في قوله " أفلم ييأس الذين آمنوا " أفلم يعلم الذين
آمنوا وقرأ آخرون أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقال أبو العالية: قد يئس الذين
آمنوا أن يهدوا ولو يشاء الله لهدى الناس جميعا وقوله " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل
قريبا من دارهم " أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا كما
قال تعالى " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " وقال " أفلا يرون أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون " قال قتادة عن الحسن " أو تحل قريبا من دارهم " أي القارعة وهذا هو الظاهر
من السياق وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا المسعودي عن قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " ولا
يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة " قال سرية " أو تحل قريبا من دارهم " قال محمد صلى الله عليه وسلم " حتى يأتي
وعد الله " قال " فتح مكة " وهكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد في رواية وقال العوفي عن ابن عباس
" تصيبهم بما صنعوا قارعة " قال عذاب من السماء منزل عليهم " أو تحل قريبا من دارهم " يعني نزول
رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم وكذا قال مجاهد وقتادة وقال عكرمة في رواية عن ابن عباس " قارعة " أي
نكبة وكلهم قال " حتى يأتي وعد الله " يعني فتح مكة وقال الحسن البصري يوم القيامة وقوله " إن الله لا يخلف
الميعاد " أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولاتباعهم في الدنيا والآخرة " فلا تحبسن الله مخلف وعده رسله
إن الله عزيز ذو انتقام ".
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب (32)
534

يقول تعالى مسليا لرسوله في تكذيب من كذبه من قومه " ولقد استهزئ برسل من قبلك " أي فلك فيهم أسوة
" فأمليت للذين كفروا " أي أنظرتهم وأجلتهم " ثم أخذتهم " أخذة رابية فكيف بلغك ما صنعت بهم وعاقبتهم
وأمليت لهم كما قال تعالى " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير " وفي الصحيحين
" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي
ظالمة إن أخذه أليم شديد ".
أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر
من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد (33)
يقول تعالى " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما
يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى عليه خافية " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل
إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه " وقال تعالى " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها " وقال " وما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " وقال " سواء منكم من أسر القول ومن
جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " وقال " يعلم السر وأخفى " وقال " وهو معكم أين ما كنتم والله
بما تعملون بصير " أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تملك نفعا لانفسها
ولا لعابديها ولا كشف ضر عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله
" وجعلوا لله شركاء " أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان " قل سموهم " أي أعلمونا بهم واكشفوا عنهم
حتى يعرفوا فإنهم لا حقيقة لهم ولهذا قال " أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض " أي لا وجود له لأنه لو كان لها
وجود في الأرض لعلمها لأنه لا تخفى عليه خافية " أم بظاهر من القول " قال مجاهد: بظن من القول. وقال
الضحاك وقتادة بباطل من القول أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة " إن
هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان * إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد
جاءهم من ربهم الهدى " " بل زين للذين كفروا مكرهم " قال مجاهد قولهم أي ما هم عليه من الضلال
والدعوة إليه آناء الليل وأطراف النهار كقوله تعالى " وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم " الآية " وصدوا عن السبيل "
من قرأها بفتح الصاد معناه أنه لما زين لهم ما هم فيه وأنه حق دعوا إليه وصدوا الناس عن اتباع طريق الرسل
ومن قرأها بالضم أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه صدوا به عن سبيل الله ولهذا قال " ومن يضلل الله فما له
من هاد " كما قال " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " وقال " إن تحرص على هداهم فإن الله لا
يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ".
لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق (34) * مثل الجنة التي وعد المتقون
تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار (35)
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك " لهم
عذاب في الحياة الدنيا " أي بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا " ولعذاب الآخرة " أي المدخر مع هذا الخزي في
الدنيا " أشق " أي من هذا بكثير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين " إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة "
وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه فإن عذاب الدنيا له انقضاء وذاك دائم أبدا في نار هي بالنسبة إلى هذه
سبعون ضعفا ووثاق لا يتصور كثافته وشدته كما قال تعالى " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد "
535

وقال تعالى " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا * إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا له تغيظا وزفيرا * وإذا ألقوا منها
مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا * لا تدعو اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا * قل أذلك خير أم جنة الخلد
التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا " ولهذا قرن هذا بقوله " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي صفتها
ونعتها " تجري من تحتها الأنهار " أي سارحة في أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا أي
يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا كقوله " مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن
لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة " الآية
وقوله " أكلها دائم وظلها " أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء وفي الصحيحين من حديث
ابن عباس في صلاة الكسوف وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت
فقال " إني رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " وقال الحافظ أبو
يعلى: حدثنا أبو خيثمة حدثنا عبد الله بن جعفر حدثنا عبيد الله حدثنا أبو عقيل عن جابر قال: بينما نحن في
صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا ثم تناول شيئا ليأخذه ثم تأخر فلما قضى الصلاة قال له أبي بن
كعب يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئا ما رأيناك كنت تصنعه فقال " إني عرضت علي الجنة وما فيها
من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفا من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لاكل منه من بين السماء
والأرض لا ينقصونه ". وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر شاهدا لبعضه وعن عتبة بن عبد السلمى أن
أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجنة فقال فيها عنب؟ قال " نعم " قال فما عظم العنقود؟ قال " مسيرة شهر للغراب
الأبقع ولا يفتر " رواه الإمام أحمد وقال الطبراني: حدثنا معاذ بن المثنى حدثنا علي بن المديني حدثنا
ريحان بن سعيد عن عبادة بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن الرجل إذا نزع ثمرة من الجنة عادت مكانها أخرى " وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يأكل
أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون طعامهم ذلك جشاء كريح المسك ويلهمون التسبيح
والتقديس كما يلهمون النفس " رواه مسلم وروى الإمام أحمد والنسائي من حديث الأعمش عن تمام بن عقبة
سمعت زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون
ويشربون؟ قال " نعم والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع
والشهوة " قال إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى قال " تكون حاجة أحدهم رشحا
يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه " رواه الإمام أحمد والنسائي وقال الحسن بن عرفة: حدثنا
خلف بن خليفة عن حميد بن الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشويا " وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه
عاد طائرا كما كان بإذن الله تعالى وقد قال الله تعالى " وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة " وقال " ودانية
عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا " وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال تعالى " والذين آمنوا وعملوا
الصالحات سندخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا
ظليلا ".
وقد تقدم في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد
المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها " ثم قرأ " وظل ممدود " وكثيرا ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة
وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده " ملك عقبى الذين
اتقوا وعقبى الكافرين النار " كما قال تعالى " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم
الفائزون " وقال بلال بن سعد خطيب دمشق في بعض خطبه: عباد الله هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا من
عبادتكم تقبلت منكم أو أن شيئا من خطاكم غفرت لكم؟ " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون "
536

والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم أو ترغبون في طاعة الله لتعجيل دنياكم
ولا تنافسون في جنة " أكلها دائم " رواه ابن أبي حاتم.
والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أ عبد الله ولا
أشرك به إليه أدعوا وإليه مآب (36) وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من
العلم مالك من الله من ولي ولا واق (37)
يقول تعالى " والذين آتيناهم الكتاب " وهم قائمون بمقتضاه " يفرحون بما أنزل إليك " أي من القرآن لما في
كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به كما قال تعالى " الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته " الآية وقال
تعالى " قل آمنوا به أولا تؤمنوا - إلى قوله - إن كان وعد ربنا لمفعولا " أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من
إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقا وصدقا مفعولا لا محالة وكائنا فسبحانه ما أصدق وعده فله الحمد وحده " ويخرون
للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " وقوله " ومن الأحزاب من ينكر بعضه " أي ومن الطوائف من يكذب ببعض ما
أنزل إليك وقال مجاهد " ومن الأحزاب " أي اليهود والنصارى " من ينكر بعضه " أي بعض ما جاءك من
الحق وكذا قال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا كما قال تعالى " وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن
بالله " الآية " قل إنما أمرت أن أ عبد الله ولا أشرك به " أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له كما أرسل
الأنبياء من قبلي " إليه أدعو " أي إلى سبيله أدعو الناس " وإليه مآب " أي مرجعي ومصيري. وقوله " وكذلك
أنزلناه حكما عربيا " أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء كذلك أنزلنا عليك القرآن
محكما معربا شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي الذي " لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وقوله " ولئن اتبعت أهواءهم " أي آراءهم " بعد ما جاءك من
العلم " أي من الله سبحانه وتعالى " مالك من الله من ولي ولا واق " وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل
الضلالة بعد ما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام.
ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل
كتاب (38) يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39)
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشريا كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا يأكلون الطعام ويمشون في
الأسواق ويأتون الزوجات ويولد لهم وجعلنا لهم أزواجا وذرية وقد قال تعالى لاشرف الرسل وخاتمهم " قل إنما
أنا بشر مثلكم يوحى إلي " وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " أما أنا فأصوم وأفطر
وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أنبأنا
الحجاج بن أرطاة عن مكحول قال: قال أبو أيوب قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أربع من سنن
المرسلين: التعطر والنكاح والسواك والحناء " وقد رواه أبو عيسى الترمذي عن سفيان بن وكيع عن حفص بن
غيلان عن الحجاج عن مكحول عن أبي السماك عن أبي أيوب فذكره ثم قال وهذا أصح من الحديث الذي لم
يذكر فيه أبو السماك.
وقوله " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " أي لم يكن يأتي قومه بخارق إلا إذا أذن له فيه ليس ذلك إليه
بل إلى الله عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد " لكل أجل كتاب " أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها
537

وكل شئ عنده بمقدار " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير "
وكان الضحاك بن مزاحم يقول في قوله " لكل أجل كتاب " أي لكل كتاب أجل يعني لكل كتاب أنزله من
السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين فلهذا " يمحو الله ما يشاء " منها " ويثبت " يعني حتى نسخت كلها
بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه وقوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت " اختلف
المفسرون في ذلك فقال الثوري ووكيع وهشيم عن ابن أبي ليلى عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس: يدبر أمر السنة فيمحو الله ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت وفي رواية " يمحو الله ما يشاء
ويثبت " قال كل شئ إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما وقال مجاهد " يمحو الله ما يشاء
ويثبت " قال كل شئ إلا الحياة والموت والشقاء والسعادة فإنهما لا يتغيران وقال منصور سألت مجاهدا فقلت أرأيت
دعاء أحدنا يقول: اللهم إن كان اسمي في السعداء فأثبته فيهم وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم واجعله في
السعداء فقال حسن: ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك فقال " إنا أنزلناه في ليلة مباركة "
الآيتين قال يقضي في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء فأما
كتاب السعادة والشقاء فهو ثابت لا يغير وقال الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة إنه كان كثيرا ما يدعو بهذا
الدعاء: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت
وعندك أم الكتاب رواه ابن جرير أيضا حدثنا عمرو بن علي حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن أبي حكيمة
عصمة عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت وهو يبكي: اللهم إن
كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة.
وقال حماد عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يدعو بهذا الدعماء أيضا ورواه
شريك عن هلال بن حميد عن عبد الله بن علم عن ابن مسعود بمثله وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثنا
حجاج حدثنا خصاف عن أبي حمزة عن إبراهيم أن كعبا قال لعمر بن الخطاب: يا أمير المؤمنين لولا آية في
كتاب الله لأنبأتك بما هو كائن إلى يوم القيامة. قال وما هي؟ قال قول الله تعالى " يمحو الله ما يشاء " الآية
ومعنى هذه الأقوال أن الاقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد
حدثنا وكيع حدثنا سفيان هو الثوري عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن أبي الجعد عن ثوبان قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر " ورواه
النسائي وابن ماجة من حديث سفيان الثوري به وثبت في الصحيح أن صلة الرحم تزيد في العمر وفي حديث
آخر " إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض " وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سهل بن عسكر حدثنا
عبد الرزاق أنا ابن جرير عن عطاء عن ابن عباس قال: إن لله لوحا محفوظا مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء لها
دفتان من ياقوت - والدفتان لوحان - لله عز وجل كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم
الكتاب. وقال الليث بن سعد عن زياد بن محمد عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل في الساعة الأولى منها ينظر في الذكر
الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت " وذكر تمام الحديث رواه ابن جرير وقال الكلبي " يمحو الله ما
يشاء ويثبت " قال يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الاجل ويزيد فيه فقيل له من حدثك بهذا؟ فقال أبو
صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم سئل بعد ذلك عن هذه الآية فقال يكتب القول كله حتى إذا
كان يوم الخميس طرح منه كل شئ ليس فيه ثواب ولا عقاب مثل قولك أكلت وشربت دخلت وخرجت ونحو ذلك
من الكلام وهو صادق ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب وقال عكرمة عن ابن عباس: الكتاب كتابان
فكتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " يمحو الله ما يشاء
ويثبت وعنده أم الكتاب " يقول هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو
538

الذي يمحو والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي
يثبت وروي عن سعيد بن جبير أنها بمعنى " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شئ قدير " وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يمحو الله ما يشاء ويثبت " يقول يبدل ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا
يبدله " وعنده أم الكتاب " وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب وقال
قتادة في قوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت " كقوله " ما ننسخ من آية أو ننسها " الآية وقال ابن أبي نجيح عن
مجاهد في قوله " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قال: قالت كفار قريش لما نزلت " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا
بإذن الله " ما نرى محمدا يملك شيئا وقد فرغ من الامر فأنزلت هذه الآية تخويفا ووعيدا لهم إنا إن شئنا أحدثنا له
من أمرنا ما شئنا ونحدث في كل رمضان فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما
يقسم لهم وقال الحسن البصري " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قال من جاء أجله يذهب ويثبت الذي هو حي
يجري إلى أجله وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله وقوله " وعنده أم الكتاب " قال الحلال
والحرام وقال قتادة أي جملة الكتاب وأصله وقال الضحاك " وعنده أم الكتاب " قال كتاب عند رب
العالمين وقال سنيد بن داود حدثني معتمر عن أبيه عن يسار عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أم الكتاب فقال:
علم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون ثم قال لعلمه: كن كتابا فكان كتابا وقال ابن جريج عن ابن عباس " وعنده
أم الكتاب " قال الذكر.
وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب (40) أو لم يروا أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب (41)
يقول تعالى لرسوله " وإما نرينك " يا محمد بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا " أو
نتوفينك " أي قبل ذلك " فإنما عليك البلاغ " أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد فعلت ما أمرت به
" وعلينا الحساب " أي حسابهم وجزاؤهم كقوله تعالى " فذكر إنما أنت مذكر * لست عليهم بمصيطر * إلا من
تولى وكفر * فيعذبه الله العذاب الأكبر * إن إلينا إيابهم * ثم إن علينا حسابهم " وقوله " أو لم يروا أنا نأتي
الأرض ننقصها من أطرافها " قال ابن عباس: أو لم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض وقال في
رواية: أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية وقال مجاهد وعكرمة ننقصها من أطرافها قال
خرابها وقال الحسن والضحاك: هو ظهور المسلمين على المشركين وقال العوفي عن ابن عباس نقصان أهلها
وبركتها وقال مجاهد: نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض وقال الشعبي: لو كانت الأرض تنقص لضاق
عليك حشك ولكن تنقص الأنفس والثمرات وكذا قال عكرمة: لو كانت الأرض تنقص لم تجد مكانا تقعد فيه
ولكن هو الموت وقال ابن عباس في رواية خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها وكذا قال مجاهد
أيضا هو موت العلماء، وفي هذا المعنى روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أحمد بن عبد العزيز أبي القاسم
المصري الواعظ سكن أصبهان حدثنا أبو محمد طلحة بن أسد المري بدمشق أنشدنا أبو بكر الآجري بمكة قال
أنشدنا أحمد بن نمزال لنفسه:
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها * متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيث حل بها * وإن أبى عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى وهو ظهور الاسلام على الشرك قرية بعد قرية كقوله " ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى " الآية وهذا اختيار ابن جرير.
539

وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار (42)
يقول تعالى " وقد مكر الذين من قبلهم " برسلهم وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة
للمتقين كقوله " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير
الماكرين " وقوله تعالى " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم
وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " الآيتين وقوله " يعلم ما تكسب كل نفس " أي أنه تعالى
عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله " وسيعلم الكافر " والقراءة الأخرى الكفار " لمن عقبى
الدار " لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لاتباع الرسل؟ كلا: بل هي لاتباع الرسل في الدنيا والآخرة ولله الحمد
والمنة.
ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب (43)
يقول تعالى يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون " لست مرسلا " أي ما أرسلك الله " قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم " أي حسبي الله هو الشاهد علي وعليكم شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة وشاهد عليكم أيها
المكذبون فيما تفترونه من البهتان وقوله " ومن عنده علم الكتاب " قيل نزلت في عبد الله بن سلام قاله
مجاهد وهذا القول غريب لأن هذه الآية مكية وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
والأظهر في هذا ما قاله العوفي عن ابن عباس قال: هم من اليهود والنصارى. وقال قتادة: منهم ابن سلام
وسلمان وتميم الداري وقال مجاهد في رواية عنه هو الله تعالى وكان سعيد بن جبير ينكر أن يكون المراد بها
عبد الله بن سلام ويقول هي مكية وكان يقرؤها " ومن عنده علم الكتاب " ويقول من عند الله وكذا قرأها
مجاهد والحسن البصري. وقد روى ابن جرير من حديث هارون الأعور عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها " ومن عنده علم الكتاب " ثم قال لا أصل له من حديث الزهري عند الثقات قلت: وقد
رواه الحافظ أبو يعلى في مسنده من طريق هارون بن موسى هذا عن سليمان بن أرقم وهو ضعيف عن الزهري عن
سالم عن أبيه مرفوعا كذلك ولا يثبت والله أعلم. والصحيح في هذا أن " ومن عنده " اسم جنس يشمل علماء
أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به كما قال تعالى
" ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول
النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " الآية وقال تعالى " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه
علماء بني إسرائيل " الآية وأمثال ذلك مما فيه من الاخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم
المنزلة. وقد ورد في حديث الأحبار عن عبد الله بن سلام بأنه أسلم بمكة قبل الهجرة. قال الحافظ أبو نعيم
الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة وهو كتاب جليل حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد حدثنا
محمد بن مصفى حدثنا الوليد بن مسلم عن محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه عن جده
عبد الله بن سلام أنه قال لأحبار اليهود إني أردت أن أحدث بمسجد أبينا إبراهيم وإسماعيل عيدا فانطلق إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فوافاهم وقد انصرفوا من الحج فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى والناس حوله فقام مع الناس
فلما نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أنت عبد الله بن سلام؟ " قال قلت نعم قال " أدن " قال فدنوت منه قال
" أنشدك بالله يا عبد الله بن سلام أما تجدني في التوراة رسول الله؟ " فقلت له أنعت ربنا قال فجاء جبريل حتى
وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له " قل هو الله أحد الله الصمد " إلى آخرها فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال ابن سلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ثم انصرف ابن سلام إلى المدينة فكتم إسلامه فلما
هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأنا فوق نخلة لي أجذها فألقيت نفسي فقالت أمي لله أنت لو كان موسى بن
540

عمران ما كان لك أن تلقي نفسك من رأس النخلة فقلت والله لأنا أسر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من موسى بن عمران
إذ بعث وهذا حديث غريب جدا. آخر تفسير سورة الرعد ولله الحمد والمنة.
سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد (1) الله
الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد (2) الذين يستحبون الحياة
الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور " كتاب أنزلناه إليك " أي هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد
وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع
أهلها عربهم وعجمهم " لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج
الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد كما قال تعالى " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من
الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " الآية وقال تعالى
" هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور " الآية وقوله " بإذن ربهم " أي هو
الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره يهديهم " إلى صراط العزيز " أي العزيز
الذي لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه " الحميد " أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه
وأمره ونهيه الصادق في خبره وقوله " الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض " قرأ بعضهم مستأنفا مرفوعا
وقرأ آخرون على الاتباع صفة للجلالة كقوله تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك
السماوات والأرض " الآية وقوله " وويل للكافرين من عذاب شديد " أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا
محمد وكذبوك، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا
ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم " ويصدون عن سبيل الله " وهي اتباع الرسل " ويبغونها عوجا " أي
ويحبون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة عائلة وهي مستقيمة في نفسها لا يضرها من خالفها ولا من خذلها فهم في
ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح.
وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم (4)
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلا منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم كما
روى الإمام أحمد حدثنا وكيع عن عمر بن ذر قال: قال مجاهد عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يبعث
الله عز وجل نبيا إلا بلغة قومه " وقوله " فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء " أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم
يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ويهدي من يشاء إلى الحق " وهو العزيز " الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن
" الحكيم " في أفعاله فيضل من يستحق الاضلال ويهدي من هو أهل لذلك وقد كانت هذه سنته في خلقه أنه
ما بعث نبيا في أمة إلا أن يكون بلغتهم فاختص كل نبي بإبلاغ رسالته إلى أمته دون غيرهم واختص محمد بن
541

عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم الرسالة إلى سائر الناس كما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي
الأرض مسجدا وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه
خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وله شواهد من وجوه كثيرة وقال تعالى
" قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ".
ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات
لكل صبار شكور (5)
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب لتخرج الناس كلهم تدعوهم إلى الخروج من الظلمات
إلى النور كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا. قال مجاهد وهي التسع الآيات " أن أخرج قومك " أي
أمرناه قائلين له " أخرج قومك من الظلمات إلى النور " أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من
الجهل والضلال إلى نور الهدى وبصيرة الايمان " وذكرهم بأيام الله " أي بأياديه ونعمه عليهم في إخراجه إياهم
من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه وإنجائه إياهم من عدوهم وفلقه لهم البحر وتظليله إياهم بالغمام وإنزاله عليهم
المن والسلوى إلى غير ذلك من النعم. قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد وقد ورد فيه الحديث المرفوع الذي
رواه عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل في مسند أبيه حيث قال: حدثني يحيى بن عبد الله مولى بني هاشم حدثنا
محمد بن أبان الجعفي عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
تعالى " وذكرهم بأيام الله " قال " بنعم الله " ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث محمد بن أبان به ورواه
عبد الله ابنه أيضا موقوفا وهو شبه، وقوله " إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " أي أن فيما صنعنا بأوليائنا بني
إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين لعبرة لكل صبار أي في الضراء
شكور أي في السراء كما قال قتادة: نعم العبد عبد إذا ابتلي صبر وإذا أعطي شكر وكذا جاء في الصحيح
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن أمر المؤمن كله عجب لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء
صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ".
وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم
ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (6) وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم
إن عذابي لشديد (7) وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد (8)
يقول تعالى مخبرا عن موسى حين ذكر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم إذ أنجاهم من آل فرعون وما كانوا
يسومونهم به من العذاب والاذلال حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ويتركون إناثهم فأنقذهم الله من ذلك
وهذه نعمة عظيمة ولهذا قال " وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم
عاجزون عن القيام بشكرها. وقيل: وفيما كان يصنعه بكم قوم فرعون من تلك الأفاعيل " بلاء " أي اختبار
عظيم ويحتمل أن يكون المراد هذا وهذا والله أعلم كقوله تعالى " وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم
يرجعون " وقوله " وإذ تأذن ربكم " أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ويحتمل أن يكون المعنى: وإذ أقسم
بكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه كقوله تعالى " وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة " وقوله " لئن شكرتم
لأزيدنكم " أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها " ولئن كفرتم " أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها
542

" إن عذابي لشديد " وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها وقد جاء في الحديث " إن العبد ليحرم الرزق
بالذنب يصيبه " وفي المسند أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به سائل فأعطاه تمرة فسخطها ولم يقبلها ثم مر به آخر فأعطاه
إياها فقبلها وقال تمرة من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأمر له بأربعين درهما أو كما قال قال
الإمام أحمد: حدثنا أسود حدثنا عمارة الصيدلاني عن ثابت عن أنس قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم سائل فأمر له بتمرة فلم
يأخذها أو وحش بها - قال - وأتاه آخر فأمر له بتمرة فقال سبحان الله تمرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للجارية " اذهبي
إلى أم سلمة فأعطيه الأربعين درهما التي عندها " تفرد به الإمام أحمد وعمارة بن زاذان وثقه ابن حبان وأحمد
ويعقوب بن سفيان وقال ابن معين: صالح وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم يكتب حديثه ولا يحتج
به ليس بالمتين وقال البخاري ربما يضطرب في حديثه وعن أحمد أيضا أنه قال: روي عنه أحاديث
منكرة. وقال أبو داود ليس بذلك وضعفه الدارقطني وقال ابن عدي لا بأس به ممن يكتب حديثه.
وقوله تعالى " وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " أي هو غني عن شكر
عباده وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفر كقوله " إن تكفروا فإن الله غني عنكم " الآية وقوله " فكفروا
وتولوا واستغنى الله والله غني حميد " وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز
وجل أنه قال " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك
في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص
ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل
إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذ دخل البحر " فسبحانه وتعالى الغني الحميد.
ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات
فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب (9)
قال ابن جرير: هذا من تمام قول موسى لقومه يعني وتذكيره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة
بالرسل وفيما قال ابن جرير نظر والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة فإنه قد قيل إن قصة عاد
وثمود ليست من التوراة فلو كان هذا من كلام موسى لقومه وقصصه عليهم لا شك أن تكون هاتان القصتان في
التوراة والله أعلم وبالجملة فالله تعالى قد قص علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل
مما لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل " جاءتهم رسلهم بالبينات " أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات
القاطعات وقال ابن إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله أنه قال في قوله " لا يعلمهم إلا الله " كذب
النسابون. وقال عروة بن الزبير وما وجدنا أحدا يعرف ما بعد معد بن عدنان وقوله " فردوا أيديهم في
أفواههم " اختلف المفسرون في معناه قيل معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم لما
دعوهم إلى الله عز وجل وقيل بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيبا لهم وقيل بل هو عبارة عن سكوتهم عن
جواب الرسل. وقال مجاهد ومحمد بن كعب وقتادة معناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم قال ابن
جرير: وتوجيهه أن في هنا بمعنى الباء قال وقد سمع من العرب أدخلك الله بالجنة يعنون في الجنة وقال
الشاعر:
وأرغب فيها عن لقيط ورهطه * ولكنني عن سنبس لست أرغب
يريد أرغب بها قلت ويؤيد قول مجاهد تفسير ذلك بتمام الكلام " وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما
تدعوننا إليه مريب " فكان هذا والله أعلم تفسير لمعنى " فردوا أيديهم في أفواههم " وقال سفيان الثوري
وإسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله في قوله " فردوا أيديهم في أفواههم " قال عضوا عليها
543

غيظا وقال شعبة عن أبي إسحاق أبي هبيرة ابن مريم عن عبد الله أنه قال ذلك أيضا. وقد اختاره عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم ووجهه ابن جرير مختارا له بقوله تعالى عن المنافقين " وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ "
وقال العوفي عن ابن عباس لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم
به الآية يقولون لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكا قويا.
* قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى
قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين (10) قالت لهم رسلهم إن
نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله
فليتوكل المؤمنون (11) وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله
فليتوكل المتوكلون (12)
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاءوهم به من
عبادة الله وحده لا شريك له قالت الرسل " أفي الله شك " وهذا يحتمل شيئين " أحدهما " أفي وجوده شك فإن
الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الاقرار به فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ولكن قد يعرض لبعضها
شك واضطراب فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق
معرفته بأنه " فاطر السماوات والأرض " الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق فإن شواهد الحدوث والخلق
والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شئ وإلهه ومليكه، والمعنى الثاني
في قولهم " أفي الله شك " أي أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك وهو الخالق لجميع الموجودات ولا
يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي
يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى، وقالت لهم رسلهم " يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم " أي في الدار
الآخرة " ويؤخركم إلى أجل مسمى " أي في الدنيا كما قال تعالى " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم
متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله " الآية فقالت لهم الأمم محاجين في مقام الرسالة بعد
تقدير تسليمهم المقام الأول وحاصل ما قالوه " إن أنتم إلا بشر مثلنا " أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر
منكم معجزة " فأتونا بسلطان مبين " أي خارق نقترحه عليكم " قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم " أي
صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية " ولكن الله يمن على من يشاء من عباده " أي بالرسالة والنبوة " وما كان لنا أن
نأتيكم بسلطان " على وفق ما سألتم " إلا بإذن الله " أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك " وعلى الله فليتوكل
المؤمنون " أي في جميع أمورهم، ثم قالت الرسل " وما لنا أن لا نتوكل على الله " أي وما يمنعنا من التوكل
عليه وقد هدانا لاقوم الطرق وأوضحها وأبينها " ولنصبرن على ما آذيتمونا " أي من الكلام السئ والافعال
السخيفة " وعلى الله فليتوكل المتوكلون ".
وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (13)
ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (14) واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد (15)
من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد (16) يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن
ورائه عذاب غليظ (17)
544

يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الاخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم كما قال قوم
شعيب له ولمن آمن به " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا " الآية وكما قال قوم لوط " أخرجوا
آل لوط من قريتكم " الآية، وقال تعالى إخبارا عن مشركي قريش " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك
منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا " وقال تعالى " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره وجعل له بسبب خروجه
من مكة أنصارا وأعوانا وجندا يقاتلون في سبيل الله تعالى ولم يزل يرقيه تعالى من شئ إلى شئ حتى فتح له
مكة التي أخرجته ومكن له فيها وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله
أفواجا وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان ولهذا قال تعالى
" فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم " وكما قال " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا
المرسلين * إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " وقال تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله
قوي عزيز " وقال تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " الآية " وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " وقال تعالى " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان
يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " وقوله " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " أي وعيدي هذا لمن خاف
مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى " فأما من طغى وآثر الحياة
الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " وقال " ولمن خاف مقام ربه جنتان " وقوله " واستفتحوا " أي استنصرت
الرسل ربها على قومها قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم استفتحت الأمم على
أنفسها كما قالوا " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم "
ويحتمل أن يكون هذا مرادا وهذا مرادا كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم
واستنصر وقال الله تعالى للمشركين " إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم " الآية والله أعلم
" وخاب كل جبار عنيد " أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق كقوله تعالى " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد *
مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد " وفي الحديث " إنه يؤتى
بجهنم يوم القيامة فتنادي الخلائق فتقول إني وكلت بكل جبار عنيد " الحديث. خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء
في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر وقوله " من ورائه جهنم " وراء هنا بمعنى أمام كقوله تعالى " وكان
وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " وكان ابن عباس يقرؤها وكان أمامهم ملك أي من وراء الجبار العنيد جهنم
أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلدا يوم المعاد ويعرض عليها غدوا وعشيا إلى يوم التناد " ويسقى من ماء صديد "
أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق فهذا حار في غاية الحرارة وهذا بارد في غاية البرد والنتن كما قال
" هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم وقال
قتادة هو ما يسيل من لحمه وجلده وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم
ومن حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت يا رسول الله ما طينة الخبال؟ قال
" صديد أهل النار " وفي رواية " عصارة أهل النار " وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أنا
صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بشر عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ويسقى من ماء صديد
يتجرعه " قال " يقرب إليه فيتكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج
من دبره " يقول الله تعالى " وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم " ويقول " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي
الوجوه " الآية وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث
بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به وقوله " يتجرعه " أي يتغصصه ويتكرهه أي يشربه قهرا وقسرا لا يضعه
545

في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد كما قال تعالى " ولهم مقامع من حديد " " ولا يكاد يسيغه " أي
يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع " ويأتيه الموت من كل مكان " أي يألم له جميع
بدنه وجوارحه وأعضائه قال عمرو بن ميمون بن مهران من كل عظم وعصب وعرق وقال عكرمة حتى من أطراف
شعره وقال إبراهيم التيمي من موضع كل شعرة أي من جسده حتى من أطراف شعره وقال ابن جرير " ويأتيه
الموت من كل مكان " أي من أمامه وخلفه وفي رواية وعن يمينه وشماله ومن فوقه ومن تحت أرجله ومن سائر
أعضاء جسده وقال الضحاك عن ابن عباس " ويأتيه الموت من كل مكان " قال أنواع العذاب الذي يعذبه الله
بها يوم القيامة في نار جهنم ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت ولكن لا يموت لان الله تعالى قال
" لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه: أنه ما من نوع
من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت ولكنه لا يموت ليخلد في دوام
العذاب والنكال ولهذا قال تعالى " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت " وقوله " ومن ورائه عذاب
غليظ " أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله وأدهى وأمر وهذا
كما قال تعالى عن شجرة الزقوم " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم
لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " فأخبر
أنهم تارة يكونون في أكل زقوم وتارة في شرب حميم وتارة يردون إلى جحيم عياذا بالله من ذلك وهكذا قال
تعالى " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن " وقال تعالى " إن شجرة الزقوم طعام
الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من
عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون " وقال " وأصحاب الشمال ما
أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم " وقال تعالى " هذا وإن للطاغين لشر
مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق وآخر من شكله أزواج " إلى غير ذلك من الآيات
الدالة على تنوع العذاب عليهم وتكراره وأنواعه وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاء وفاقا " وما ربك
بظلام للعبيد ".
مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شئ ذلك هو
الضلال البعيد (18)
هذا مثل ضربه الله تعالى لأعمال الكفار الذين عبدوا معه غيره وكذبوا رسله وبنوا أعمالهم على غير أساس صحيح
فانهارت وعدموها أحوج ما كانوا إليها فقال تعالى " مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم " أي مثل أعمالهم يوم
القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى لانهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شئ فلم يجدوا شيئا ولا ألفوا حاصلا إلا
كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة " في يوم عاصف " أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية فلم
يقدروا على شئ من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا إلا كما يقدرون على جمع هذا الرماد في هذا اليوم كقوله
تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " وقوله تعالى " مثل ما ينفقون في هذا الحياة الدنيا
كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون " وقوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم
الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا والله لا يهدي القوم
الكافرين " وقوله في هذه الآية " ذلك هو الضلال البعيد " أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة حتى
فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه " ذلك هو الضلال البعيد ".
546

ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض بالحق إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (19) وما ذلك على الله بعزيز (20)
يقول تعالى مخبرا عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق
الناس أفليس الذي قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها وما فيها من الكواكب الثوابت
والسيارات والحركات المختلفات والآيات الباهرات وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد وأوتاد وبراري وصحارى
وقفار وبحار وأشجار ونبات وحيوان على اختلاف أصنافها ومنافعها وأشكالها وألوانها " أو لم يروا أن الله الذي
خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى بلى إنه على كل شئ قدير " وقال تعالى
" أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام
وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا
فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم *
إنها أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون " وقوله " إن
يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز " أي بعظيم ولا ممتنع بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره
أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم كما قال " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد *
إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز " وقال " وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا
أمثالكم " وقال " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه " وقال " إن
يشأ يذهبكم ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا ".
وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شئ
قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا مالنا من محيص (21)
يقول تعالى " وبرزوا " أي برزت الخلائق كلها برها فاجرها لله الواحد القهار اي اجتمعوا له في براز من
الأرض وهو المكان الذي ليس فيه شئ يستر أحدا " فقال الضعفاء " وهم الاتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم
" للذين استكبروا " عن عبادة الله وحده لا شريك له وعن موافقة الرسل قالوا لهم " إنا كنا لكم تبعا " أي مهما
أمرتمونا إئتمرنا وفعلنا " فهل أنتم مغنون عنا عذاب الله من شئ " أي فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله كما
كنتم تعدوننا وتمنوننا فقالت القادة لهم " لو هدانا الله لهديناكم " ولكن حق علينا قول ربنا وسبق فينا وفيكم قدر
الله وحقت كلمة العذاب على الكافرين " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " أي ليس لنا خلاص مما
نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إن أهل النار قال بعضهم لبعض تعالوا
فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عز وجل تعالوا نبك ونتضرع إلى الله فبكوا وتضرعوا فلما
رأوا أنه لا ينفعهم قالوا إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر تعالوا حتى نصبر فصبروا صبرا لم ير مثله فلم ينفعهم
ذلك فعند ذلك قالوا " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا " الآية قلت والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم
إليها كما قال تعالى " وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا
نصيبا من النار قال الذين استكبروا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد " وقال تعالى " قال ادخلوا في أمم قد
خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم
لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون * وقالت أولاهم
لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون " وقال تعالى " ربنا إنا أطعنا سادتنا
وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا " وأما تخاصمهم في المحشر فقال
تعالى " ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين
547

استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين * قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم
بل كنتم مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له
أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ".
وقال الشيطان لما قضى الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن
دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من
قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم (22) وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين
فيها بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام (23)
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعدما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات وأسكن الكافرين
الدركات فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيبا ليزيدهم حزنا إلى حزنهم وغبنا إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم
فقال " إن الله وعدكم وعد الحق " أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة وكان وعدا حقا
وخبرا صدقا وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم كما قال تعالى " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " ثم قال
" وما كان لي عليكم من سلطان " أي ما كان لي دليل فيما دعوتكم إليه ولا حجة فيما وعدتكم به " إلا أن
دعوتكم فاستجبتم لي " بمجرد ذلك هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما
جاؤكم به فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه " فلا تلوموني " اليوم " ولوموا أنفسكم " فإن الذنب لكم لكونكم
خالفتم الحجج واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل " ما أنا بمصرخكم " أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم
مما أنتم فيه " وما أنتم بمصرخي " أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال " إني كفرت بما
أشركتمون من قبل " قال قتادة أي بسبب ما أشركتمون من قبل وقال ابن جرير: يقول إني جحدت أن أكون
شريكا لله عز وجل وهذا الذي قال هو الراجح كما قال تعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب
له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " وقال
" كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقوله " إن الظالمين " أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم
الباطل لهم عذاب أليم والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا ولكن
قد ورد في حديث رواه ابن أبي حازم وهذا لفظه وابن جرير من رواية عبد الرحمن بن زياد: حدثني دخين
الحجري عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا جمع الله الأولين والآخرين فقضى بينهم ففرغ من
القضاء قال المؤمنون قد قضى بيننا ربنا فمن يشفع لنا؟ فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم وذكر نوحا وإبراهيم وموسى
وعيسى فيقول عيسى أدلكم على النبي الأمي فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور من مجلسي من أطيب ريح
شمها أحد قط حتى آتي ربي فيشفعني ويجعل لي نورا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي ثم يقول الكافرون هذا قد
وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس هو الذي أضلنا فيأتون إبليس فيقولون قد وجد
المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط
ثم يعظم نحيبهم " وقال الشيطان لما قضي الامر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم
من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم " وهذا سياق ابن أبي حاتم ورواه المبارك
عن رشدين بن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن نعيم عن دخين عن عقبة به مرفوعا وقال محمد بن كعب
القرظي رحمه الله لما قال أهل النار " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " قال لهم إبليس " إن الله
وعدكم وعد الحق " الآية فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودوا " لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون
548

إلى الايمان فتكفرون " وقال عامر الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس يقول الله تعالى
لعيسى ابن مريم " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " - إلى قوله - " قال الله هذا يوم ينفع
الصادقين صدقهم " قال ويقوم إبليس لعنه الله فيقول " ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم
لي " الآية. ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال وأن خطيبهم إبليس عطف بمال
السعداء فقال " وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار " سارحة فيها حيث ساروا
وأين ساروا " خالدين فيها " ماكثين أبدا لا يحولون ولا يزولون " بإذن ربهم تحيتهم فيها سلام " كما قال تعالى
" حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم " وقال تعالى " والملائكة يدخلون عليهم من كل
باب سلام عليكم " وقال تعالى " ويلقون فيها تحية وسلاما " وقال تعالى " دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم
فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ".
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء (24) تؤتي أكلها كل حين بإذن
ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون (25) ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض
ما لها من قرار (26)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " مثلا كلمة طيبة " شهادة أن لا إله إلا الله " كشجرة طيبة " وهو
المؤمن " أصلها ثابت " يقول لا إله إلا الله في قلب المؤمن " وفرعها في السماء " يقول يرفع بها عمل المؤمن
إلى السماء وهكذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وغير واحد إن ذلك عبارة عن عمل المؤمن
وقوله الطيب وعمله الصالح وإن المؤمن كشجرة من النخل لا يزال يرفع له عمل صالح في كل حين ووقت وصباح
ومساء وهكذا رواه السدي عن مرة عن ابن مسعود قال هي النخلة وشعبة عن معاوية بن قرة عن أنس هي
النخلة. وحماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقناع بسر فقرأ " مثلا كلمة طيبة
كشجرة طيبة " قال هي النخلة وروي من هذا الوجه ومن غيره عن أنس موقوفا وكذا نص عليه مسروق ومجاهد
وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم وقال البخاري: حدثنا عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة عن
عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " أخبروني عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم
لا يتحات ورقها صيفا ولا شتاء وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة
ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان فكرهت أن أتكلم فلما لم يقولوا شيئا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي النخلة " فلما قمنا
قلت لعمر: يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة قال ما منعك أن تتكلم؟ قلت لم أركم تتكلمون
فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئا قال عمر: لان تكون قلتها أحب إلي من كذا وكذا وقال أحمد: حدثنا سفيان
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حديثا
واحدا قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بجمار فقال " من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم " فأردت أن
أقول هي النخلة فنظرت فإذا أنا أصغر القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي النخلة " أخرجاه وقال مالك وعبد العزيز
عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه " إن من الشجر شجرة لا يطرح ورقها
مثل المؤمن " قال فوقع الناس في شجر الوادي ووقع في قلبي أنها النخلة فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي
النخلة " أخرجاه أيضا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان يعني ابن زيد العطار
حدثنا قتادة أن رجلا قال يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور فقال " أرأيت لو عمد إلى متاع الدنيا فركب
بعضه على بعض أكان يبلغ السماء؟ أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء؟ قال ما هو يا
رسول الله؟ قال " تقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله عشر مرات في دبر كل صلاة فذاك أصله
549

في الأرض وفرعه في السماء " وعن ابن عباس كشجرة طيبة قال هي شجرة في الجنة وقوله " تؤتي أكلها كل
حين " قيل غدوة وعشيا وقيل كل شهر وقيل كل شهرين وقيل كل ستة أشهر وقيل كل سبعة أشهر وقيل كل سنة
والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة لا يزال يوجد منها ثمر في كل وقت من صيف أو شتاء أو ليل أو
نهار كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين " بإذن ربها " أي
كاملا كثيرا طيبا مباركا " ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون " وقوله تعالى " ومثل كلمة خبيثة كشجرة
خبيثة " هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات مشبه بشجرة الحنظل ويقال لها الشريان رواه شعبة عن معاوية بن
أبي قرة عن أنس بن مالك أنها شجرة الحنظل وقال أبو بكر البزار الحافظ حدثنا يحيى بن محمد السكن حدثنا أبو زيد سعيد
بن الربيع حدثنا شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه قال " مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة " قال هي النخلة
" ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " قال هي الشريان ثم رواه عن محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن معاوية عن أنس
موقوفا وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد هو ابن سلمة عن شعيب بن
الحبحاب عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " " ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة " هي الحنظلة " فأخبرت بذلك
أبا العالية فقال: هكذا كنا نسمع ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به ورواه أبو يعلى في مسنده بأبسط
من هذا فقال: حدثنا غسان عن حماد عن شعيب عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بقناع عليه بسر فقال " مثلا
كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " فقال " هي النخلة "
" ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار " قال هي الحنظل " قال شعيب فأخبرت
بذلك أبا العالية فقال: كذلك كنا نسمع وقوله " اجتثت " أي استؤصلت " من فوق الأرض ما لها من قرار "
أي لا أصل لها ولا ثبات كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شئ.
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء (27)
قال البخاري حدثنا ابن الوليد حدثنا شعبة أخبرني علقمة بن مرثد قال سمعت سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فذلك
قوله " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " ورواه مسلم أيضا وبقية الجماعة كلهم
من حديث شعبة به وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن
البراء بن عازب قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد فجلس
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال
" استعيذوا بالله من عذاب القبر " مرتين أو ثلاثا ثم قال " إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من
الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كان وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط
الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الطيبة اخرجي
إلى مغفرة من الله ورضوان - قال - فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في
يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت
على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون بها يعني على ملا من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون
فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح
له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله اكتبوا كتاب
عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى قال فتعاد روحه
في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول ربي الله فيقولان له ما دينك؟ فيقول ديني الاسلام
فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله فيقولان له وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله
550

فآمنت به وصدقت فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى
الجنة - قال - فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح
فيقول أبشر بالذي كنت يسرك هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير فيقول أنا
عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي - قال - وإن العبد الكافر إذا كان
في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر
ثم يجئ ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب - قال -
فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين
حتى يجعلوها في تلك المسوح فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون
بها على ملا من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها
في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تفتح لهم أبواب
السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " فيقول الله اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى
فتطرح روحه طرحا - ثم قرأ " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان
سحيق " فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما دينك؟
فيقول هاه هاه لا أدري فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري فينادي مناد من
السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار فيتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى
تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي
كنت توعد فيقول ومن أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر فيقول أنا عملك الخبيث فيقول رب لا تقم الساعة ".
ورواه أبو داود من حديث الأعمش والنسائي وابن ماجة من حديث المنهال بن عمرو به وقال الإمام أحمد حدثنا
عبد الرزاق حدثنا معمر عن يونس بن حبيب عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء بن عازب رضي الله عنه
قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة فذكر نحوه وفيه " فإذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء
والأرض وكل ملك في السماء وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله عز وجل أن يعرج
بروحه من قبلهم ". وفي آخره " ثم يقيض له أعمى أصم أبكم وفي يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان ترابا
فيضربه ضربة فيصير ترابا ثم يعيده الله عز وجل كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شئ إلا
الثقلين " قال البراء ثم يفتح له باب إلى النار ويمهد له من فرش النار وقال سفيان الثوري عن أبيه عن خيثمة عن
البراء في قوله تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال عذاب القبر وقال
المسعودي عن عبد الله بن مخارق عن أبيه عن عبد الله قال: إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له ما
ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الاسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ عبد الله " يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وقال الامام عبد بن حميد رحمه الله في مسنده حدثنا
يونس بن محمد حدثنا شيبان بن عبد الرحمن عن قتادة حدثنا أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن العبد إذا
وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له ما كنت تقول في هذا
الرجل؟ قال فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله قال: فيقال له انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله
به مقعدا من الجنة " قال النبي صلى الله عليه وسلم " فيراهما جميعا " قال قتادة وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملا
عليه خضرا إلى يوم القيامة. رواه مسلم عن عبد بن حميد به وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب
به وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سأل جابر بن عبد الله عن فتاني
القبر فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا أدخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه
جاءه ملك شديد الانتهار فيقول له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فأما المؤمن فيقول إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبده
551

فيقول له الملك انظر إلى مقعدك الذي كان لك في النار قد أنجاك الله منه وأبدلك بمقعدك الذي ترى من النار
مقعدك الذي ترى من الجنة فيراهما كليهما فيقول المؤمن دعوني أبشر أهلي فيقال له أسكن، وأما المنافق
فيقعد إذا تولى عنه فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري أقول كما يقول الناس فيقال له
لا دريت هذا مقعدك الذي كان لك في الجنة أبدلت مكانه مقعدك من النار " قال جابر فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول
" يبعث كل عبد في القبر على ما مات المؤمن على إيمانه والمنافق على نفاقه " إسناده صحيح على شرط
مسلم ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا عباد بن راشد عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري
قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فإذا الانسان
دفن وتفرق عنه أصحابه جاءه ملك في يده مطراق من حديد فأقعده فقال ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنا
قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول له صدقت ثم يفتح له بابا إلى النار فيقول كان
هذا منزلك لو كفرت بربك فأما إذ آمنت فهذا منزلك فيفتح له بابا إلى الجنة فيريد أن ينهض إليه فيقول له أسكن
ويفسح له في قبره وإن كان كافرا أو منافقا فيقول له ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول لا أدري سمعت الناس
يقولون شيئا فيقول لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له بابا إلى الجنة فيقول هذا منزلك لو آمنت بربك فأما إذ
كفرت به فإن الله عز وجل أبدلك به هذا فيفتح له بابا إلى النار ثم يقمعه قمعة بالمطراق فيصيح صيحة يسمعها
خلق الله عز وجل كلهم غير الثقلين فقال بعض القوم يا رسول الله ما أحد يقوم عليه ملك في يده مطراق إلا هيل
عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت " " وهذا أيضا إسناد لا بأس به فإن عباد بن راشد
التميمي روى له البخاري مقرونا ولكن ضعفه بعضهم وقال الإمام أحمد حدثنا حسين بن محمد عن ابن أبي ذئب
عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الميت تحضره الملائكة فإذا
كان الرجل الصالح قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح
وريحان ورب غير غضبان قال فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من
هذا؟ فيقال فلان فيقولون مرحبا بالروح الطيبة كانت في الجسد الطيب ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب
غير غضبان - قال - فلا يزال يقال لها حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عز وجل وإذا كان الرجل السوء
قالوا اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله
أزواج فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال من هذا؟ فيقال فلان فيقال لا
مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء فيرسل من السماء ثم
يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح فيقال له - مثل ما قيل في الحديث الأول - ويجلس الرجل السوء فيقال له - مثل
ما قيل له في الحديث الأول - " ورواه النسائي وابن ماجة من طريق ابن أبي ذئب بنحوه وفي صحيح مسلم عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد فذكر من طيب
ريحها وذكر المسك - قال - ويقول أهل السماء روح طيبة جاءت من قبل الأرض صلى الله عليك وعلى جسد كنت
تعمرينه فينطلق به إلى ربه عز وجل فيقال انطلقوا به إلى آخر الاجل وإن الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد -
وذكر من نتنها وذكر مقتا ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض فيقال انطلقوا به إلى آخر الاجل -
قال أبو هريرة - فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا.
وقال ابن حبان في صحيحه حدثنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا زيد بن أحزم حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي
عن قتادة عن قسام بن زهير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة
بيضاء فيقولون اخرجي إلى روح الله فتخرج كأطيب ريح مسك حتى إنه ليناوله بعضهم بعضا يشمونه حتى يأتوا به
552

باب السماء فيقولون ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به
أرواح المؤمنين فلهم أشد فرحا به من أهل الغائب بغائبهم فيقولون ما فعل فلان فيقولون دعوه حتى يستريح فإنه
كان في غم فيقول قد مات أما أتاكم فيقولون ذهب به إلى أمه الهاوية وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح
فيقولون اخرجي إلى غضب الله فتخرج كأنتن ريح جيفة فيذهب به إلى باب الأرض ".
وقد روي أيضا من طريق همام بن يحيى عن أبي الجوزاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه قال " فيسأل ما فعل
فلان ما فعل فلان ما فعلت فلانة قال أما الكافر فإذا قبضت نفسه وذهب بها إلى باب الأرض تقول خزنة الأرض
ما وجدنا ريحا أنتن من هذه فيبلغ بها الأرض السفلى " قال قتادة وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن
عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابيين وأرواح الكفار تجتمع ببرهوت سبخة بحضرموت ثم
يضيق عليه قبره. وقال الحافظ أبو عيسى الترمذي رحمه الله حدثنا يحيى بن خلف حدثنا بشر بن المفضل عن
عبد الرحمن عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قبر الميت أو قال
أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما منكر والآخر نكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما
كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول
هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين وينور له فيه ثم يقال له نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم
فيقولان نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك وإن كان منافقا قال
سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم
عليه حتى تختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك " ثم قال الترمذي هذا حديث حسن
غريب. وقال حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " قال " ذلك إذا قيل له في القبر من ربك وما دينك ومن
نبيك؟ فيقول ربي الله وديني الاسلام ونبيي محمد جاءنا بالبينات من عند الله فآمنت به وصدقت فيقال له
صدقت على هذا عشت وعليه مت وعليه تبعث " وقال ابن جرير حدثنا مجاهد بن موسى والحسن بن
محمد قالا حدثنا يزيد أنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " والذي
نفسي بيده إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه والزكاة
عن يمينه والصوم عن يساره وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والاحسان إلى الناس عند رجليه
فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة ما قبلي مدخل فيؤتى عن يساره
فيقول الصيام ما قبلي مدخل فيؤتى عند رجليه فيقول فعل الخيرات ما قبلي مدخل فيقال اجلس فيجلس قد مثلت
له الشمس قد دنت للغروب فيقال له أخبرنا عما نسألك فيقول دعني دعني حتى أصلي فيقال له إنك ستفعل
فأخبرنا عما نسألك فيقول عم تسألوني؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول فيه وماذا تشهد به
عليه؟ فيقول أمحمد؟ فيقال له نعم فيقول أشهد أنه رسول الله وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه
فيقال له على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعليه تبعث إن شاء الله ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور
له فيه ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له انظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسرورا ثم تجعل نسمته في
النسم الطيب وهي طير أخضر يعلق بشجر الجنة ويعاد الجسد إلى ما بدئ من التراب " وذلك قول الله عز وجل
" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ". رواه ابن حبان من طريق المعتمر بن سليمان
عن محمد بن عمر وذكر جواب الكافر وعذابه. وقال البزار حدثنا سعيد بن بحر القراطيسي حدثنا الوليد بن القاسم
حدثنا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة أحسبه رفعه قال " إن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين
فيود لو خرجت يعني نفسه والله يحب لقاءه وإن المؤمن يصعد بروحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فتستخبره
553

عن معارفهم من أهل الأرض فإذا قال تركت فلانا في الأرض أعجبهم ذلك وإذا قال إن فلانا قد مات قالوا ما
جئ به إلينا وإن المؤمن يجلس في قبره فيسأل من ربك فيقول ربي الله ويسأل من نبيك فيقول محمد نبيي
فيقال ماذا دينك؟ قال ديني الاسلام فيفتح له باب في قبره فيقول - أو يقال - انظر إلى مجلسك ثم يرى القبر فكأنما
كانت رقدة وإذا كان عدو الله نزل به الموت وعاين ما عاين فإنه لا يحب أن تخرج روحه أبدا والله يبغض لقاءه
فإذا جلس في قبره أو أجلس فيقال له من ربك؟ فيقول لا أدري فيقال لا دريت فيفتح له باب إلى جهنم ثم
يضرب ضربة تسمعها كل دابة إلا الثقلين ثم يقال له نم كما ينام المنهوش " قلت لأبي هريرة ما المنهوش؟ قال
الذي تنهشه الدواب والحيات ثم ضيق عليه قبره ثم قال لا نعلم. رواه إلا الوليد بن مسلم. وقال الإمام أحمد
رحمه الله حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال: كانت
أسماء يعني بنت الصديق رضي الله عنها تحدت عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قال " إذا دخل الانسان قبره فإن كان مؤمنا
أحف به عمله الصلاة والصيام قال فيأتيه الملك من نحو الصلاة فترده ومن نحو الصيام فيرده قال فيناديه اجلس
فيجلس فيقول له ماذا تقول في هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه وسلم قال من؟ قال محمد قال أشهد أنه رسول الله قال
وما يدريك أدركته قال أشهد أنه رسول الله قال: يقول على ذلك عشت وعليه مت وعليه تبعث وإن كان
فاجرا أو كافرا جاءه الملك ليس بينه وبينه شئ يرده فأجلسه فيقول له ماذا تقول في هذا الرجل؟ قال أي رجل؟
قال محمد قال: يقول والله ما أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته قال له الملك على ذلك عشت وعليه
مت وعليه تبعث قال ويسلط عليه دابة في قبره معها سوط ثمرته جمرة مثل عرف البعير تضربه ما شاء الله صماء
لا تسمع صوته فترحمه " وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال: إن المؤمن إذا حضره
الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإن مات مشوا مع جنازته ثم صلوا عليه مع الناس فإذا
دفن أجلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول ربي الله، فيقال له من رسولك؟ فيقول محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له ما
شهادتك؟ فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيوسع له في قبره مد بصره، وأما الكافر
فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم والبسط هو الضرب " يضربون وجوههم وأدبارهم " عند الموت فإذا أدخل
قبره أقعد فقيل له من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئا وأنساه الله ذكر ذلك وإذا قيل من الرسول الذي بعث إليك؟
لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا " كذلك يضل الله الظالمين ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عثمان بن
حكيم الأزدي حدثنا شريح بن مسلمة حدثنا إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي
عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " الآية
قال إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له من ربك؟ فيقول الله، فيقال له من نبيك؟ فيقول محمد بن
عبد الله، فيقال له ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له انظر إلى منزلك من النار لو زغت، ثم يفتح له
باب إلى الجنة فيقال له انظر إلى منزلك من الجنة إذ ثبت وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له من ربك؟
من نبيك؟ فيقول لا أدري كنت أسمع الناس يقولون فقال له لا دريت ثم يفتح له باب إلى الجنة فقال له انظر
إلى منزلك لو ثبت، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له انظر إلى منزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى " يثبت الله
الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة " وقال عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه " يثبت
الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا " قال لا إله إلا الله " وفي الآخرة " المسألة في القبر وقال قتادة أما
الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح " وفي الآخرة " في القبر وكذا روى عن غير واحد من السلف وقال
أبو عبد الله الحكيم الترمذي في كتابه نوادر الأصول حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن نافع عن ابن أبي فديك عن
عبد الرحمن بن عبد الله عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم
ونحن في مسجد المدينة فقال " إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي جاء ملك الموت ليقبض روحه
فجاءه بره بوالديه فرد عنه ورأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك
554

ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه من بينهم ورأيت رجلا من أمتي قد احتوشته
ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلا من أمتي يلهث عطشا كلما ورد حوضا منع منه
فجاءه صيامه فسقاه وأرواه ورأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا لحلقة طردوه فجاءه اغتساله
من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي ورأيت رجلا من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة
وعن شماله ظلمة ومن فوقه ظلمة ومن تحته ظلمة وهو متحير فيها فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظلمة
وأدخلاه النور ورأيت رجلا من أمتي يكلم المؤمنين فلا يكلمونه فجاءه صلة الرحم فقالت يا معشر المؤمنين
كلموه فكلموه ورأيت رجلا من أمتي يتقي وهج النار وشررها بيده عن وجهه فجاءته صدقته فصارت له سترا على
وجهه وظلا على رأسه ورأيت رجلا من أمتي قد أخذته الزبانية من كل مكان فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن
المنكر فاستنقذاه من أيديهم وأدخلاه مع ملائكة الرحمة ورأيت رجلا من أمتي جاثيا على ركبتيه بينه وبين الله
حجاب فجاءه حسن خلقه فأخذ بيده فأدخله على الله عز وجل ورأيت رجلا من أمتي قد هوت صحيفته من قبل
شماله فجاءه خوفه من الله فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه ورأيت رجلا من أمتي قد خف ميزانه فجاءته أفراطه
فثقلوا ميزانه ورأيت رجلا من أمتي قائما على شفير جهنم فجاءه وجله من الله فاستنقذه من ذلك ومضى ورأيت
رجلا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه التي بكى من خشية الله في الدنيا فاستخرجته من النار ورأيت رجلا
من أمتي قائما على الصراط يرعد كما ترعد السعفة فجاء حسن ظنه بالله فسكن رعدته ومضى ورأيت رجلا من أمتي
على الصراط يزحف أحيانا ويحبو أحيانا فجاءته صلاته علي فأخذت بيده فأقامته ومضى على الصراط ورأيت
رجلا من أمتي انتهى إلى باب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته
الجنة ". قال القرطبي بعد إيراده هذا الحديث من هذا الوجه هذا حديث عظيم ذكر فيه أعمالا خاصة تنجي من
أهوال خاصة أورده هكذا في كتابه التذكرة وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي في هذا حديثا غريبا مطولا
فقال: حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن إبراهيم البكري حدثنا محمد بن بكر البرساني أبو عثمان حدثنا أبو عاصم
الحبطي وكان من أخيار أهل البصرة وكان من أصحاب حزم وسلام بن أبي مطيع حدثنا بكر بن حبيش عن
ضرار بن عمرو عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن تميم الدارمي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عز وجل
لملك الموت انطلق - إلى وليي فأتني به فإني قد ضربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب ائتني به فلأريحنه
فينطلق إليه ملك الموت ومعه خمسمائة من الملائكة معهم أكفان وحنوط من الجنة ومعهم ضبائر الريحان أصل
الريحانة واحد وفى رأسها عشرون لونا لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك
الاذفر فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحف به الملائكة ويضع كل ملك منهم يده على عضو من أعضائه ويبسط
ذلك الحرير الأبيض والمسك الاذفر تحت ذقنه ويفتح له باب إلى الجنة فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة
تارة بأزواجها وتارة بكسوتها ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى قال وإن أزواجه ليبتهشن عند ذلك ابتهاشا
قال وتبرز الروح - قال البرساني يريد أن تخرج من العجل إلى ما تحب - قال: ويقول ملك الموت اخرجي يا أيتها
الروح الطيبة إلى سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب قال ولملك الموت أشد به لطفا من الوالدة
بولدها يعرف أن ذلك الروح حبيب لربه فهو يلتمس بلطفه تحببا لديه رضاء للرب عنه فتسل روحه كما تسل الشعرة
من العجين، قال: وقال الله عز وجل " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين " وقال " فأما إن كان من المقربين فروح
وريحان وجنة نعيم " قال روح من جهة الموت وريحان يتلقى به وجنة نعيم تقابله قال فإذا قبض ملك الموت
روحه قالت الروح للجسد جزاك الله عني خيرا فقد كنت سريعا بي إلى طاعة الله بطيئا بي عن معصية الله فقد
نجبت وأنجبت قال: ويقول الجسد للروح مثل ذلك قال وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها وكل باب
من السماء يصعد منه عمله وينزل منه رزقه أربعين ليلة قال فإذا قبض ملك الموت روحه أقامت الخمسمائة من
الملائكة عند جسده فلا يقلبه بنو آدم لشق إلا قلبته الملائكة قبلهم وغسلته وكفنته بأكفان قبل أكفان بني آدم وحنوط قبل
555

حنوط بني آدم ويقوم من باب بيته إلى قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار فيصيح عند ذلك إبليس صيحة
تتصدع منها عظام جسده قال ويقول لجنوده الويل لكم كيف خلص هذا العبد منكم؟ فيقولون إن هذا كان عبدا
معصوما، قال فإذا صعد ملك الموت بروحه يستقبله جبريل في سبعين ألفا من الملائكة كل يأتيه ببشارة من ربه.
سوى بشارة صاحبه قال فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش خر الروح ساجدا قال: يقول الله عز وجل
لملك الموت: انطلق بروح عبدي فضعه في سدر مخضود وطلح منضود وظل ممدود وماء مسكوب قال فإذا وضع
في قبره جاءته الصلاة فكانت عن يمينه وجاءه الصيام فكان عن يساره وجاءه القرآن فكان عند رأسه وجاءه مشيه إلى
الصلاة فكان عند رجليه وجاءه الصبر فكان ناحية القبر قال فيبعث الله عز وجل عنقا من العذاب قال فيأتيه عن يمينه
قال: فتقول الصلاة وراءك والله ما زال دائبا عمره كله وإنما استراح الآن حين وضع في قبره قال فيأتيه عن يساره
فيقول الصيام مثل ذلك قال ثم يأتيه من عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك قال ثم يأتيه من عند رجليه فيقول
مشيه إلى الصلاة مثل ذلك فلا يأتيه العذاب من ناحية يلتمس هل يجد إليه مساغا إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته
قال فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج قال: ويقول الصبر لسائر الأعمال أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا
أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه فأما إذا أجزتم عنه فأنا له ذخر عند الصراط والميزان قال ويبعث
الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب يطآن في
أشعارهما بين منكب كل واحد مسيرة كذا وكذا وقد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما منكر ونكير في يد كل
واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها قال فيقولان له اجلس قال فجلس فيستوى جالسا قال
وتقع أكفانه في حقويه قال: فيقولان له من ربك وما دينك ومن نبيك؟ قال: قالوا يا رسول الله ومن يطيق الكلام
عند ذلك وأنت تصف من الملكين ما تصف؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في
الحياة الدنيا وفي الآخرة * ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " قال: فيقول ربي الله وحده لا شريك له
وديني الاسلام الذي دانت به الملائكة ونبيي محمد خاتم النبيين قال: فيقولان له صدقت قال فيدفعان القبر
فيوسعان من بين يديه أربعين ذراعا وعن يمينه أربعين ذراعا وعن شماله أربعين ذراعا ومن خلفه أربعين ذراعا ومن
عند رأسه أربعين ذراعا ومن عند رجليه أربعين ذراعا قال فيوسعان له مائتي ذراع قال البرساني فأحسبه وأربعين
ذراعا تحاط به - قال ثم يقولان له انظر فوقك فإذا باب مفتوح إلى الجنة قال فيقولان له: ولي الله هذا منزلك إذ
أطعت الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده إنه يصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا ثم يقال له
انظر تحتك قال فينظر تحته فإذا باب مفتوح إلى النار قال فيقولان: ولي الله نجوت آخر ما عليك قال فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبدا " قال فقالت عائشة يفتح له سبعة وسبعون بابا إلى
الجنة يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله عز وجل.
وبالاسناد المتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال " ويقول الله تعالى لملك الموت انطلق إلى عدوي فائتني به فإني قد بسطت له
رزقي ويسرت له نعمتي فأبى إلا معصيتي فأتني به لانتقم منه قال فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورة
رآها أحد من الناس قط له اثنتا عشرة عينا ومعه سفود من النار كثير الشوك ومعه خمسمائة من الملائكة معهم نحاس
وجمر من جمر جهنم ومعهم سياط من نار لينها لين السياط وهي نار تأجج قال فيضربه ملك الموت بذلك السفود
ضربة يغيب كل أصل شوكة من ذلك السفود في أصل كل شعرة وعرق وظفر قال ثم يلويه ليا شديدا قال فينزع
روحه من أظفار قدميه قال فيلقيها في عقبيه. قال فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه قال
وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال فيشده ملك الموت شدة فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه
ثم يسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه قال فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال فينتره
556

ملك الموت نترة فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة فيرفه ملك الموت عنه
قال فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط قال كذلك إلى صدره ثم كذلك إلى حلقه قال ثم تبسط الملائكة
ذلك النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه قال: ويقول ملك الموت اخرجي أيتها الروح اللعينة إلى سموم وحميم وظل
من يحموم لا بارد ولا كريم - قال - فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد: جزاك الله عني شرا فقد كنت
سريعا بي إلى معصية الله بطيئا بي عن طاعة الله فقد هلكت وأهلكت - قال - ويقول الجسد للروح مثل ذلك وتلعنه
بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها وتنطلق جنود إبليس إليه فيبشرونه بأنهم قد أوردوا عبدا من ولد آدم النار
قال فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى
قال ويبعث الله إليه أفاعي دهما كأعناق الإبل يأخذن بأذنيه وإبهامي قدميه فيقرضنه حتى يلتقين في
وسطه قال ويبعث الله ملكين أبصارهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما
كاللهب يطآن في أشعارهما بين منكبي كل واحد منهما مسيرة كذا وكذا قد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما
منكر ونكير في يد كل واحد منهما مطرقة لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها، قال فيقولان له اجلس فيستوي
جالسا وتقع أكفانه في حقويه قال فيقولان له من ربك وما دينك. ومن نبيك؟ فيقول لا أدري فيقولان له
لا دريت ولا تليت فيضربانه ضربة يتطاير شررها في قبره ثم يعودان قال: فيقولان انظر فوقك فينظر فإذا باب
مفتوح من الجنة فيقولان: عدو الله هذا منزلك لو أطعت الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليصل
إلى قلبه عند ذلك حسرة لا ترتد أبدا قال ويقولان له: انظر تحتك فينظر تحت فإذا باب مفتوح إلى النار فيقولان
عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك
حسرة لا ترتد أبدا " قال: وقالت عائشة ويفتح له سبعة وسبعون بابا إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله
إليها. هذا حديث غريب جدا وسياق عجيب ويزيد الرقاشي راويه عن أنس له غرائب ومنكرات وهو ضعيف
الرواية عند الأئمة والله أعلم، ولهذا قال أبو داود حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا هشام هو ابن يوسف عن
عبد الله بن بجير عن هانئ مولى عثمان عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل
وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبت فإنه الآن يسأل " تفرد به أبو داود وقد أورد الحافظ أبو
بكر بن مردويه عند قوله تعالى " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم " الآية حديثا
مطولا جدا من طرق غريبة عن الضحاك عن ابن عباس مرفوعا وفيه غرائب أيضا.
* ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار (28) جهنم يصلونها وبئس القرار (29) وجعلوا
لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار (30)
قال البخاري قوله " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " ألم تعلم كقوله " ألم تر كيف " " ألم تر إلى الذين
خرجوا " البوار الهلاك بار يبور بورا " وقوما بورا " هالكين. حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء
سمع ابن عباس " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال هم كفار أهل مكة وقال العوفي عن ابن عباس في
هذه الآية هو جبلة بن الأيهم والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم والمشهور الصحيح عن ابن عباس هو القول
الأول وإن كان المعنى يعم جميع الكفار فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس فمن قبلها
وقام بشكرها دخل الجنة ومن ردها وكفرها دخل النار وقد روى عن علي نحو قول ابن عباس الأول وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل أن ابن الكواء سأل
عليا عن " الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " قال هم كفار قريش يوم بدر حدثنا المنذر بن شاذان
حدثنا يعلى بن عبيد حدثنا بسام هو الصيرفي عن أبي الطفيل قال: جاء رجل إلى علي فقال يا أمير المؤمنين من
557

الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؟ قال منافقو قريش وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن
نفيل قال قرأت على معقل عن ابن أبي حسين قال قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: ألا أحد يسألني
عن القرآن فوالله لو أعلم اليوم أحدا أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته، فقام عبد الله بن الكواء فقال من
الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار؟ قال مشركو قريش أتتهم نعمة الله الايمان فبدلوا نعمة الله كفرا
وأحلوا قومهم دار البوار.
وقال السدي في قوله " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " الآية ذكر مسلم المستوفي عن علي أنه قال هم
الافجران من قريش بنو أمية وبنو المغيرة فأما بنو المغيرة فأحلوا قومهم دار البوار يوم بدر وأما بنو أمية فأحلوا
قومهم دار البوار يوم أحد وكان أبو جهل يوم بدر وأبو سفيان يوم أحد وأما دار البوار فهي جهنم.
وقال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحارث أبو منصور عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن
عمرو بن مرة قال سمعت عليا قرأ هذه الآية " وأحلوا قومهم دار البوار " قال هم الافجران من قريش بنو أمية وبنو
المغيرة، فأما بنو المغيرة فأهلكوا يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين ورواه أبو إسحاق عن عمرو بن مرة عن
علي نحوه وروى من غير وجه عنه وقال سفيان الثوري عن علي بن زيد عن يوسف بن سعد عن عمر بن
الخطاب في قوله " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا " قال هم الافجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية، فأما
بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال:
قال ابن عباس لعمر بن الخطاب يا أمير المؤمنين هذه الآية " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم
دار البوار " قال هم الافجران من قريش أخوالي وأعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر وأما أعمامك
فأملى الله لهم إلى حين وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد هم كفار قريش الذين قتلوا يوم
بدر وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر وقوله " وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله " أي جعلوا له
شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك ثم قال تعالى مهددا لهم ومتوعدا لهم على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم " قل تمتعوا
فإن مصيركم إلى النار " أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا فمهما يكن من شئ " فإن مصيركم إلى النار " أي
مرجعكم وموئلكم إليها كما قال تعالى: " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال تعالى " متاع في
الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ".
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال (31)
يقول تعالى آمرا عباده بطاعته والقيام بحقه والاحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له
وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والاحسان إلى الأجانب والمراد بإقامتها هو
المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها وأمر تعالى بالانفاق مما رزق في السر أي في الخفية
والعلانية وهي الجهر وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم " من قبل أن يأتي يوم " وهو يوم القيامة " لا بيع فيه
ولا خلال " أي ولا يقبل من أحد فدية أن تباع نفسه كما قال تعالى " فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين
كفروا " وقوله " ولا خلال " قال ابن جرير يقول ليس هناك مخالة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة عن العقاب
لمخالفته بل هناك العدل والقسط والخلال مصدر من قول القائل خاللت فلانا فأنا أخاله مخالة وخلالا ومنه قول
امرئ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى * ولست بمقل للخلال ولا قالي
وقال قتادة إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعا وخلالا يتخالون بها في الدنيا فينظر الرجل من يخالل وعلام
يصاحب فإن كان لله فليداوم وإن كان لغير الله فسيقطع عنه قلت والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع
558

أحدا بيع ولا فدية، ولو افتدى بماء الأرض ذهبا لو وجده ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافرا
قال الله تعالى " واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون "
وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون
هم الظالمون ".
الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري
في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار (32) وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار (33) وآتاكم من كل
ما سألتموه وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار (34)
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السماوات سقفا محفوظا والأرض فراشا " وأنزل من السماء ماء فأخرج به
أزواجا من نبات شتى " ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والاشكال والطعوم والروائح والمنافع وسخر الفلك بأن
جعلها طافية على تيار ماء البحر تجري عليه بأمر الله تعالى وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم
آخر لجلب ما هنا إلى هناك وما هناك إلى هنا وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر رزقا للعباد
من شرب وسقي وغير ذلك من أنواع المنافع " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " أي يسيران لا يفتران ليلا ولا
نهارا " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون " " يغشي الليل النهار يطلبه
حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " فالشمس والقمر
يتعاقبان والليل والنهار يتعارضان فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر " يولج الليل
في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار ". وقوله
" وآتاكم من كل ما سألتموه " يقول هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقال
بعض السلف من كل ما سألتموه وما لم تسألوه وقرأ بعضهم " وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه " وقوله
" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلا عن القيام بشكرها كما قال
طلق بن حبيب رحمه الله: إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ولكن
أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين. وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم لك الحمد غير مكفى ولا
مودع ولا مستغنى عنه ربنا " وقال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا داود بن
المجبر حدثنا صالح المري عن جعفر بن زيد العبدي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يخرج لابن آدم يوم القيامة
ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى عليه فيقول الله تعالى
لاصغر نعمه - أحسبه قال - في ديوان النعم خذي ثمنك من عمله الصالح فتستوعب عمله الصالح كله ثم تنحى
وتقول: وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم فإذا أراد الله أن يرحمه قال يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك
وتجاوزت لك عن سيئاتك - أحسبه قال - ووهبت لك نعمي " غريب وسنده ضعيف وقد روي في الأثر أن داود
عليه السلام قال يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك علي؟ فقال الله تعالى الآن شكرتني يا داود أي
حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: الحمد لله الذي لا تؤدى شكر نعمة
من نعمه إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها وقال القائل في ذلك:
لو كل جارحة مني لها لغة * تثني عليك بما أوليت من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به * إليك أبلغ في الاحسان والمنن
559

وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبني أن نعبد الأصنام (35) رب إنهن أضللن كثيرا من الناس
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم (36)
يذكر تعالى في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على
عبادة الله وحده لا شريك له وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه أهله تبرأ ممن عبد غير الله وأنه دعا لمكة بالأمن
فقال " رب اجعل هذا البلد آمنا " وقد استجاب الله له فقال تعالى " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا " الآية وقال
تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان
آمنا " وقال في هذه القصة " رب اجعل هذا البلد آمنا " فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها ولهذا قال " الحمد لله الذي
وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق " ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة فأما حين ذهب
بإسماعيل وأمه وهو رضيع إلى مكان مكة فإنه دعا أيضا فقال " رب اجعل هذا بلدا آمنا " كما ذكرناه هنالك في
سورة البقرة مستقصى مطولا. وقوله " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه
ولذريته، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن
شاء غفر لهم كقول عيسى عليه السلام " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " وليس
فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك. قال عبد الله بن وهب حدثنا عمرو بن الحارث أن
بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جرير عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام
" رب إنهن أضللن كثيرا من الناس " الآية وقول عيسى عليه السلام " إن تعذبهم فإنهم عبادك " الآية ثم رفع
يديه ثم قال " اللهم أمتي اللهم أمتي اللهم أمتي " وبكى فقال الله اذهب يا جبريل إلى محمد وربك أعلم وسله ما
يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: فقال الله اذهب إلى محمد فقل له إنا
سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس
تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون (37)
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها وذلك قبل بناء البيت
وهذا كان بعد بنائه تأكيدا ورغبة إلى الله عز وجل ولهذا قال " عند بيتك المحرم " وقوله " ربنا ليقيموا الصلاة " قال
ابن جرير هو متعلق بقوله " المحرم " أي إنما جعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده " فاجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيره لو قال أفئدة الناس لإزدحم عليه فارس والروم
واليهود والنصارى والناس كلهم ولكن قال " من الناس " فاختص به المسلمون وقوله " وارزقهم من الثمرات "
أي ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك وكما أنه واد غير ذي زرع فاجعل لهم ثمارا يأكلونها وقد استجاب الله
ذلك كما قال " أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا " وهذا من لطفه تعالى وكرمه
ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام مكة شجرة مثمرة وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل
عليه السلام.
ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شئ في الأرض ولا في السماء (38) الحمد لله الذي
وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء (39) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا
560

وتقبل دعاء (40) (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب (41)
قال ابن جرير: يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم خليله أنه قال " ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " أي أنت تعلم
قصدي في دعائي وما أردت بدعائي لأهل هذا البلد وإنما هو القصد إلى رضاك والاخلاص لك فإنك تعلم الأشياء
كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك منها شئ في الأرض ولا في السماء، ثم حمد ربه عز وجل على ما رزقه من
الولد بعد الكبر فقال " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء " أي أنه
يستجيب لمن دعاه وقد استجاب لي فيما سألته من الولد ثم قال " رب اجعلني مقيم الصلاة " أي محافظا عليها
مقيما لحدودها " ومن ذريتي " أي واجعلهم كذلك مقيمين لها " ربنا وتقبل دعاء " أي فيما سألتك فيه كله " ربنا
اغفر لي ولوالدي " قرأ بعضهم ولوالدي بالافراد وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عز وجل
" وللمؤمنين " أي كلهم " يوم يقوم الحساب " أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيرا فخير وإن شرا
فشر.
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار (42) مهطعين مقنعي رؤوسهم
لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء (43)
يقول تعالى ولا تحسبن الله يا محمد غافلا عما يعمل الظالمون أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم
مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عدا " إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه
الابصار " أي من شدة الأهوال يوم القيامة، ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر
فقال " مهطعين " أي مسرعين كما قال تعالى " مهطعين إلى الداع " الآية وقال تعالى " يومئذ يتبعون الداعي لا
عوج له - إلى قوله - وعنت الوجوه للحي القيوم " وقال تعالى " يوم يخرجون من الأجداث سراعا " الآية وقوله
" مقنعي رؤوسهم " قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد رافعي رؤوسهم " لا يرتد إليهم طرفهم " أي أبصارهم
ظاهرة شاخصة مديمون النظر لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة المخافة لما يحل بهم عياذا بالله
العظيم من ذلك ولهذا قال " وأفئدتهم هواء " أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شئ لكثرة الوجل والخوف
ولهذا قال قتادة وجماعة إن أمكنة أفئدتهم خالية لان القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة
الخوف وقال بعضهم هي خراب لا تعي شيئا لشدة ما أخبر به تعالى عنهم ثم قال تعالى لرسوله صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم.
وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو
لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال (44) وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف
فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (45) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه
الجبال (46)
يقول تعالى مخبرا عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب " ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك
ونتبع الرسل " كقوله " حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون " الآية وقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا
تلهكم أموالكم " الآيتين وقال تعالى مخبرا عنهم في حال محشرهم " ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم "
الآية. وقال " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا " الآية وقال تعالى " وهم
561

يصطرخون فيها " الآية قال تعالى ردا عليهم في قولهم هذا " أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال "
أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا
بذلك قال مجاهد وغيره " ما لكم من زوال " أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة كقوله " وأقسموا بالله
جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " الآية " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم
وضربنا لكم الأمثال " أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم
يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر " حكمة بالغة فما تغني النذر ". وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن
عبد الرحمن بن رباب أن عليا رضي الله عنه قال في هذه الآية " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال أخذ ذاك
الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما حتى استغلظا واستفحلا وشبا قال فأوثق رجل كل واحد منهما
بوتد إلى تابوت وجوعهما وقعد هو ورجل آخر في التابوت قال ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم فطارا
وجعل يقول لصاحبه انظر ما ترى قال أرى كذا وكذا حتى قال أرى الدنيا كلها كأنها ذباب. قال فصوب العصا
فصوبها فهبطا جميعا قال فهو قوله عز وجل " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " قال أبو إسحاق وكذلك هي في
قراءة عبد الله " وإن كاد مكرهم " قلت وكذا روى عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهما قرآ
" وإن كاد " كما قرأ علي وكذا رواه سفيان الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن رباب عن علي
فذكر نحوه وكذا روي عن عكرمة أن سياق هذه القصة لنمروذ ملك كنعان أنه رام أسباب السماء بهذه الحيلة
والمكر كما رام ذلك بعده فرعون ملك القبط في بناء الصرح فعجزا وضعفا وهما أقل وأحقر وأصغر وأدحر، وذكر
مجاهد هذه القصة عن بختنصر وأنه لما انقطع بصره عن الأرض وأهلها نودي أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق ثم
سمع الصوت فوقه فصوب الرماح فصوبت النسور ففزعت الجبال من هدتها وكادت الجبال أن تزول من حس ذلك
فذلك قوله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ونقل ابن جريج عن مجاهد أنه قرأها " لتزول منه الجبال " بفتح
اللام الأولى وضم الثانية وروى العوفي عن ابن عباس في قوله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " يقول ما
كان مكرهم لتزول منه الجبال وكذا قال الحسن البصري ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من
شركهم بالله وكفرهم به ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها وإنما عاد وبال ذلك عليهم قلت ويشبه هذا قول
الله تعالى " ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " والقول الثاني في تفسيرها ما
رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " يقول شركهم كقوله " تكاد
السماوات يتفطرن منه " الآية. وهكذا قال الضحاك وقتادة.
فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام (47) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات
وبرزوا لله الواحد القهار (48)
يقول تعالى مقررا لوعده ومؤكدا " فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله " أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم
الاشهاد ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شئ أراده ولا يغالب وذو انتقام ممن كفر به وجحده " فويل
يومئذ للمكذبين " ولهذا قال " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض
وهي هذه على غير الصفة المألوفة المعروفة كما جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لاحد " وقال
الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة أنها قالت أنا أول الناس سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " قالت: قلت أين الناس يومئذ يا
رسول الله؟ قال " على الصراط ". رواه مسلم منفردا به دون البخاري والترمذي وابن ماجة من حديث داود
562

بن أبي هند به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه أحمد أيضا عن عفان عن وهيب عن داود عن الشعبي عنها ولم
يذكر مسروقا وقال قتادة عن حسان بن بلال المزني عن عائشة رضي الله عنها أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول
الله " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " قال: قالت يا رسول الله فأين الناس يومئذ؟ قال " لقد سألتني عن
شئ ما سألني عنه أحد من أمتي ذاك أن الناس على جسرهم ". وروى الإمام أحمد من حديث حبيب بن أبي
عمرة عن مجاهد عن ابن عباس حدثتني عائشة أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى " والأرض جميعا قبضته
يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه " فأين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال " هم على متن جهنم " وقال ابن جرير
حدثنا الحسن حدثنا علي بن الجعد أخبرنا القاسم سمعت الحسن قال: قالت عائشة يا رسول الله " يوم تبدل الأرض غير
الأرض " فأين الناس يومئذ؟ قال " إن هذا شئ ما سألني عنه أحد " قال " على الصراط يا عائشة ". ورواه
أحمد عن عفان عن القاسم بن الفضل عن الحسن به وقال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه حدثني
الحسن بن علي الحلواني حدثني أبو توبة الربيع بن نافع حدثنا معاوية بن سلام عن زيد يعني أخاه أنه سمع أبا
سلام حدثني أبو أسماء الرحبي أن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه قال: كنت قائم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر
من أحبار اليهود فقال السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لم تدفعني؟ فقلت ألا تقول يا
رسول الله فقال اليهودي إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن اسمي محمد الذي سماني
به أهلي " فقال اليهودي جئت أسألك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أينفعك شيئا إن حدثتك " قال أسمع بأذني فنكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه فقال " سل " فقال اليهودي أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم في الظلمة دون الجسر " قال فمن أول الناس إجازة؟ فقال " فقراء المهاجرين " فقال
اليهودي فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: " زيادة كبد النون " قال فما غذاؤهم في أثرها؟ قال " ينحر
لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " قال فما شرابهم عليه؟ قال: من عين فيما تسمى سلسبيلا " قال
صدقت " قال وجئت أسألك عن شئ لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان قال أينفعك إن
حدثتك؟ قال " أسمع بأذني " قال جئت أسألك عن الولد قال " ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا
اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله تعالى وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله " قال
اليهودي لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم
بشئ منه حتى أتاني الله به " قال أبو جعفر بن جرير الطبري حدثنا ابن عوف حدثنا أبو المغيرة حدثنا ابن أبي مريم
حدثنا سعيد بن ثوبان الكلاعي عن أبي أيوب الأنصاري أن حبرا من اليهود سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت إذ يقول الله
تعالى في كتابه " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " فأين الخلق عند ذلك؟ فقال " أضياف الله فلن يعجزهم
ما لديه " ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم به وقال جعبة أخبرنا أبو إسحاق
سمعت عمرو بن ميمون وربما قال: قال عبد الله وربما لم يقل فقلت له عن عبد الله فقال سمعت عمرو بن
ميمون يقول " يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال أرض كالفضة البيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها
خطيئة ينفذهم البصر ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا قال أراه قال قياما حتى يلجمهم العرق وروي من
وجه آخر عن شعبة عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن ابن مسعود بنحوه وكذا رواه عاصم
عن زر عن ابن مسعود به وقال سفيان عن أبي إسحق عن عمرو بن ميمون لم يخبر به أورد ذلك كله ابن
جرير وقد قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل حدثنا سهل بن حماد أبو غياث
حدثنا جرير بن أيوب عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل " يوم تبدل
الأرض غير الأرض " قال " أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة ". ثم قال لا نعلم رفعه إلا
جرير بن أيوب ليس بالقوي ثم قال ابن جرير حدثنا أبو كريب ثنا معاوية بن هشام عن سنان عن جابر الجعفي
عن أبي جبيرة عن زيد قال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهود فقال " هل تدرون لم أرسلت إليهم؟ " قالوا الله ورسوله
563

أعلم قال " فإني أرسلت إليهم أسألهم عن قول الله " يوم تبدل الأرض غير الأرض " إنها تكون يومئذ بيضاء مثل
الفضة " فلما جاءوا سألهم فقالوا تكون بيضاء مثل النقي وهكذا روي عن علي وابن عباس وأنس بن مالك
ومجاهد بن جبر أنها تبدل يوم القيامة بأرض من فضة وعن علي رضي الله عنه أنه قال تصير الأرض فضة
والسماوات ذهبا وقال الربيع عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: تصير السماوات جنانا وقال أبو معشر عن
محمد بن كعب القرظي عن محمد بن قيس في قوله " يوم تبدل الأرض غير الأرض " قال خبزة يأكل منها المؤمنون
من تحت أقدامهم وكذا روى وكيع عن عمر بن بشر الهمداني عن سعيد بن جبير في قوله " يوم تبدل الأرض غير
الأرض " قال تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه وقال الأعمش عن خثيم قال: قال
عبد الله بن مسعود: الأرض يوم القيامة كلها نار والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها ويلجم الناس العرق ويبلغ
منهم العرق ولم يبلغوا الحساب. وقال الأعمش أيضا عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن قال: قال
عبد الله الأرض كلها نار يوم القيامة والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل
ليفيض عرقا حتى ترشح في الأرض قدمه ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه وما مسه الحساب قالوا مم ذلك يا أبا
عبد الرحمن؟ قال مما يرى الناس ويلقون وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن كعب في قوله " يوم
تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " قال تصير السماوات جنانا فيصير مكان البحر نارا وتبدل الأرض غيرها وفي
الحديث الذي رواه أبو داود " لا يركب البحر إلا غاز أو حاج أو معتمر فإن تحت البحر نارا - أو - تحت النار
بحرا " وفي حديث الصور المشهور المروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يبدل الله الأرض غير الأرض
والسماوات فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذا هم في
هذه المبدلة " وقوله " وبرزوا لله " أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله " الواحد القهار " أي الذي قهر
كل شئ وغلبه ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب.
وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (49) سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار (50) ليجزي الله كل نفس
ما كسبت إن الله سريع الحساب (51)
يقول تعالى " يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات " وتبرز الخلائق لديانها ترى يا محمد يومئذ المجرمين وهم
الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم " مقرنين " أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الاشكال منهم كل صنف
إلى صنف كما قال تعالى " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم " وقال " وإذا النفوس زوجت " وقال " وإذا ألقوا منها
مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " وقال " والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد " والاصفاد
هي القيود قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش وعبد الرحمن بن زيد وهو مشهور في اللغة قال عمرو بن
كلثوم.
فآبوا بالثياب وبالسبايا * وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله " سرابيلهم من قطران " أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران وهو الذي تهنأ به الإبل أي تطلى قال قتادة وهو
ألصق شئ بالنار، ويقال فيه قطران بفتح القاف وكسر الطاء وتسكينها وبكسر القاف وتسكين الطاء ومنه قول أبي
النجم.
كأن قطرانا إذا تلاها * ترمي به الريح إلى مجراها
وكان ابن عباس يقول القطران هو النحاس المذاب وربما قرأها " سرابيلهم من قطران " أي من نحاس حار قد
انتهى حره وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وقوله " وتغشى وجوههم النار " كقوله
564

" تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون " وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا يحيى بن إسحاق أنبأنا أبان بن يزيد
عن يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع في أمتي من
أمر الجاهلية لا يتركوهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة على الميت، والنائحة
إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ". انفرد بإخراجه مسلم. وفي
حديث القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رفعه " النائحة إذا لم تتب توقف في طريق بين
الجنة والنار وسرابيلها من قطران وتغشى وجهها النار ".
وقوله " ليجزي الله كل نفس ما كسبت " أي يوم القيامة " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا " الآية " إن الله سريع
الحساب " يحتمل أن يكون كقوله تعالى " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " ويحتمل أنه في حال
محاسبته لعبده سريع النجاز لأنه يعلم كل شئ ولا يخفى عليه خافية وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد
منهم كقوله تعالى " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحده " وهذا معنى قول مجاهد " سريع الحساب " إحصاء
ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين والله أعلم.
هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب (52)
يقول تعالى هذا القرآن بلاغ للناس كقوله " لأنذركم به ومن بلغ " أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما
قال في أول السورة " الر * كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور " الآية " ولينذروا به " أي
ليتعظوا به " وليعلموا أنما هو إله واحد " أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو " وليذكر
أولوا الألباب " أي ذوي العقول. آخر تفسير سورة إبراهيم عليه السلام ولله الحمد والمنة.
سورة الحجر
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين (1) ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين (2) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا
ويلههم الأمل فسوف يعلمون (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور، وقوله تعالى " ربما يود الذين كفروا " الآية إخبار عنهم
أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ويتمنون لو كانوا في الدنيا مع المسلمين ونقل السدي في تفسيره
بسنده المشهور عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو
كانوا مسلمين وقيل إن المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمنا وقيل هذا إخبار عن يوم القيامة
كقوله تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين " وقال سفيان
الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي الزاهرية عن عبد الله في قوله " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " قال
هذا في الجهنميين إذا رأوهم يخرجون من النار وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا مسلم حدثنا القاسم حدثنا
ابن أبي فروة العبدي أن ابن عباس وأنس بن مالك كانا يتأولان هذه الآية " ربما يود الذين كفروا لو كانوا
مسلمين " يتأولانها يوم يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار قال فيقول لهم المشركون ما
أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا؟ قال فيغضب الله لهم بفضل رحمته فيخرجهم فذلك حين يقول " ربما يود
565

الذين كفروا لو كانوا مسلمين " وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن حماد عن إبراهيم وعن خصيف عن مجاهد
قالا: يقول أهل النار للموحدين ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك قال الله أخرجوا من كان في قلبه مثقال
ذرة من إيمان قال فعند ذلك قوله " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " وهكذا روى عن الضحاك وقتادة
وأبي العالية وغيرهم وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن العباس
هو الأخرم حدثنا محمد بن منصور الطوسي حدثنا صالح بن إسحاق الجهبذي وابن علية يحيى بن موسى حدثنا
معروف بن واصل عن يعقوب بن نباتة عن عبد الرحمن الأغر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " إن ناسا من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم فيقول لهم أهل اللات والعزى ما
أغنى عنكم قولكم لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة فيبرأون من
حرقهم كما يبرأ القمر من خسوفه ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميون " فقال رجل يا أنس أنت سمعت هذا
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " من كذب
علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " نعم أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول هذا ثم قال
الطبراني تفرد به الجهبذ.
" الحديث الثاني " قال الطبراني أيضا حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبو الشعثاء علي بن حسن الواسطي
حدثنا خالد بن نافع الأشعري عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة قال الكفار للمسلمين ألم تكونوا
مسلمين؟ قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم الاسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها
فسمع الله ما قالوا فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا يا ليتنا
كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا قال ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " الر تلك آيات الكتاب
وقرآن مبين * ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين " ". ورواه ابن أبي حاتم من حديث خالد بن نافع به وزاد فيه
بسم الله الرحمن الرحيم عوض الاستعاذة " الحديث الثالث " قال الطبراني أيضا حدثنا موسى بن هارون حدثنا
إسحاق بن راهويه قال: قلت لأبي أسامة أحدثكم أبو روق واسمه عطية بن الحارث حدثني صالح بن أبي شريف
قال سألت أبا سعيد الخدري فقلت له هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذه الآية " ربما يود الذين كفروا لو
كانوا مسلمين "؟ قال نعم سمعته يقول " يخرج الله ناسا من المؤمنين من النار بعد ما يأخذ نقمته منهم " وقال " لما
أدخلهم الله النار مع المشركين قال لهم المشركون تزعمون أنكم أولياء الله في الدنيا فما بالكم معنا في النار؟ فإذا
سمع الله ذلك منهم أذن في الشفاعة لهم فتشفع لهم الملائكة والنبيون ويشفع المؤمنون حتى يخرجوا بإذن الله
فإذا رأى المشركون ذلك قالوا يا ليتنا كنا مثلهم فتدركنا الشفاعة فنخرج معهم، قال فذلك قول الله " ربما يود
الذين كفروا لو كانوا مسلمين " فيسمون في الجنة الجهنميين من أجل سواد في وجوههم فيقولون يا رب أذهب عنا
هذا الاسم فيأمرهم فيغتسلون في نهر الجنة فيذهب ذلك الاسم عنهم " فأقر به أبو أسامة وقال نعم " الحديث
الرابع " قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا العباس بن الوليد البرسي حدثنا مسكين أبو فاطمة حدثني
اليمان بن يزيد عن محمد بن جبير عن محمد بن علي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " منهم من تأخذه
النار إلى ركبتيه ومنهم من تأخذه إلى حجزته ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم وأعمالهم ومنهم
من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا
منذ يوم خلقت إلى أن تفنى فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان
والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد آمنتم بالله وكتبه ورسله فنحن وأنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم
غضبا لم يغضبه لشئ فيما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله " ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ".
وقوله " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا " تهديد شديد لهم ووعيد أكيد كقوله تعالى " قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار "
566

وقوله " كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون " ولهذا قال " ويلههم الأمل " أي عن التوبة والإنابة " فسوف يعلمون "
أي عاقبة أمرهم.
وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم (4) ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون (5)
يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم
ولا يتقدمون عن مدتهم وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم إلى الاقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والالحاد
الذي يستحقون به الهلاك.
وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون (6) لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين (7) ما ننزل
الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين (8) إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (9)
يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم " يا أيها الذي نزل عليه الذكر " أي الذي تدعي ذلك " إنك لمجنون "
أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا " لوما " أي هلا " تأتينا بالملائكة " أي يشهدون لك
بصحة ما جئت به كما قال فرعون " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين " " وقال
الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبير * يوم يرون
الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " وكذا قال في هذه الآية " ما ننزل الملائكة إلا بالحق
وما كانوا إذا منظرين " وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ومنهم من أعاد الضمير في قوله تعالى " له
لحافظون " على النبي صلى الله عليه وسلم كقوله " والله يعصمك من الناس " والمعنى الأول أولى وهو ظاهر السياق.
ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين (10) وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون (11) كذلك نسلكه
في قلوب المجرمين (12) لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين (13)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش إنه أرسل من قبله من الأمم الماضية وإنه ما أتى
أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا
عن اتباع الهدى قال أنس والحسن البصري " كذلك نسلكه في قلوب المجرمين " يعني الشرك وقوله " قد خلت
سنة الأولين " أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في
الدنيا والآخرة.
ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون (14) لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون (15)
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم بابا من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما
صدقوا بذلك بل قالوا " إنما سكرت أبصارنا " قال مجاهد وابن كثير والضحاك سدت أبصارنا وقال قتادة عن ابن
عباس أخذت أبصارنا وقال العوفي عن ابن عباس شبه علينا وإنما سحرنا وقال الكلبي عميت أبصارنا وقال ابن
زيد " سكرت أبصارنا " السكران الذي لا يعقل.
ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين (16) وحفظناها من كل شيطان رجيم (17) إلا من استرق السمع
فأتبعه شهاب مبين (18) والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شئ موزون (19) وجعلنا لكم
567

فيها معايش ومن لستم له برازقين (20)
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات لمن تأمل وكرر النظر فيما
يرى من العجائب والآيات الباهرات ما يحار نظره فيه وبهذا قال مجاهد وقتادة البروج ههنا هي الكواكب.
" قلت " وهذا كقوله تبارك وتعالى " تبارك الذي جعل في السماء بروجا " الآية. ومنهم من قال البروج هي منازل
الشمس والقمر وقال عطية العوفي البروج ههنا هي قصور فيها الحرس وجعل الشهب حرسا لها من مردة
الشياطين لئلا يسمعوا إلى الملا الاعلى فمن تمرد وتقدم منهم لاستراق السمع جاءه شهاب مبين فأتلفه فربما يكون
قد ألقى الكلمة التي سمعها أن يدركه الشهاب إلى الذي هو دونه فيأخذها الآخر ويأتي بها إلى وليه كما جاء
مصرحا به في الصحيح كما قال البخاري في تفسير هذه الآية: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن
عكرمة عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قضى الله الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا
لقوله كأنه سلسلة على صفوان " قال علي وقال غيره صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال
ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا واحد فوق آخر
ووصف سفيان بيده وفرج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن
يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه إلى الذي هو أسفل منه حتى يلقوها إلى
الأرض وربما قال سفيان حتى تنتهي إلى الأرض فتلقى على فم الساحر أو الكاهن فيكذب معها مائة كذبة فيصدق
فيقولون ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء ثم ذكر تعالى خلقه
الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال وما أنبت فيها
من الزروع والثمار المتناسبة وقال ابن عباس " من كل شئ موزون " أي معلوم وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة
وأبو مالك ومجاهد والحكم بن عيينة والحسن بن محمد وأبو صالح وقتادة ومنهم من يقول مقدر بقدر وقال ابن
زيد من كل شئ يوزن ويقدر بقدر وقال ابن زيد ما يزنه أهل الأسواق، وقوله " وجعلنا لكم فيها معايش " يذكر
تعالى أنه صرفهم في الأرض في صنوف الأسباب والمعايش وهي جمع معيشة وقوله " ومن لستم له برازقين " قال
مجاهد هي الدواب والانعام وقال ابن جرير هم العبيد والإماء والدواب والانعام والقصد أنه تعالى يمتن عليهم
بما يسر لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها
والانعام التي يأكلونها والعبيد والإماء التي يستخدمونها ورزقهم على خالقهم لا عليهم فلهم هم المنفعة
والرزق على الله تعالى.
وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم (21) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء
فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين (22) وإنا لنحن نحيى ونميت ونحن الوارثون (23) ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد
علمنا المستأخرين (24) وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم (25)
يخبر تعالى أنه مالك كل شئ وأن كل شئ سهل عليه يسير لديه وأن عنده خزائن الأشياء من جميع الصنوف
" وما ننزله إلا بقدر معلوم " كما يشاء كما يريد ولما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده لا على جهة
الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة. قال يزيد بن أبي زياد عن أبي جحيفة عن عبد الله ما من عام بأمطر من
عام ولكن الله يقسمه بينهم حيث شاء عاما ههنا وعاما ههنا ثم قرأ " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه " الآية. رواه
ابن جرير وقال أيضا حدثنا القاسم حدثنا هشيم أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في قوله " وما ننزله
إلا بقدر معلوم " قال ما عام بأكثر مطرا من عام ولا أقل ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون بما كان في البحر قال
وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت
568

وقال البزار حدثنا داود هو ابن بكير حدثنا حيان بن أغلب بن تميم حدثني أبي عن هشام عن محمد بن سيرين عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له كن فكان " ثم قال لا
يرويه إلا أغلب وليس بالقوى وقد حدث عنه غير واحد من المتقدمين ولم يروه عنه إلا ابنه وقوله تعالى " وأرسلنا
الرياح لواقح " أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر فتفتح عن أوراقها وأكمامها وذكرها بصيغة الجمع ليكون
منها الانتاج بخلاف الريح العقيم فإنه أفردها ووصفها بالعقيم وهو عدم الانتاج لأنه لا يكون إلا بين شيئين
فصاعدا وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن عن عبد الله بن مسعود في قوله " وأرسلنا
الرياح لواقح " قال ترسل الريح فتحمل الماء من السماء ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة. وكذا قال
ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة وقال الضحاك يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء وقال عبيد بن
عمير الليثي يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قما ثم بعث الله المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف
السحاب ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ثم تلا " وأرسلنا الرياح لواقح ". وقد روى ابن جرير من حديث
عبيس بن ميمون عن أبي المهزم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الريح الجنوب من الجنة وهي التي ذكر الله في
كتابه وفيها منافع للناس " وهذا إسناد ضعيف وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده حدثنا
سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني يزيد بن جعدية الليثي أنه سمع عبد الرحمن بن مخراق يحدث عن أبي ذر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح سبع سنين وإن من دونها بابا مغلقا وإنما يأتيكم
الريح من ذلك الباب ولو فتح لاذرت ما بين السماء والأرض من شئ وهي عند الله الا ذيب وهي فيكم الجنوب "
وقوله " فأسقيناكموه " أي أنزلناه لكم عذبا يمكنكم أن تشربوا منه لو نشاء جعلناه أجاجا كما نبه على ذلك في الآية
الأخرى في سورة الواقعة وهو قوله تعالى " أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن
المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون " وفي قوله " هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه
شجر فيه تسيمون " وقوله " وما أنتم له بخازنين " فال سفيان الثوري بمانعين ويحتمل أن المراد وما أنتم له
بحافظين بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ولكن من
رحمته أنزله وجعله عذبا وحفظه في العيون والآبار والأنهار وغير ذلك ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون
أنعامهم وزروعهم وثمارهم وقوله " وإنا لنحن نحيي ونميت " إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته وأنه هو
الذي أحيا الخلق من العدم ثم يميتهم ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع وأخبر أنه تعالى يرث الأرض ومن عليها وإليه
يرجعون، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال " ولقد علمنا المستقدمين منكم " الآية. قال
ابن عباس رضي الله عنهما المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام والمستأخرون من هو حي ومن
سيأتي إلى يوم القيامة وروي نحوه عن عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب والشعبي وغيرهم وهو
اختيار ابن جرير رحمه الله وقال ابن جرير حدثنا محمد بن عبد الاعلى حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن
رجل عن مروان بن الحكم أنه قال كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله " ولقد علمنا
المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " وقد ورد فيه حديث غريب جدا فقال ابن جرير حدثني محمد بن
موسى الجرشي حدثنا نوح بن قيس حدثنا عمرو بن قيس حدثنا عمر بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال كانت تصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم امرأة حسناء قال ابن عباس لا والله ما رأيت مثلها قط وكان بعض
المسلمين إذا صلوا استقدموا يعني لئلا يروها وبعض يستأخرون، فإذا سجدوا نظروا إليها من تحت أيديهم فأنزل
الله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " وكذا رواه أحمد وابن أبي حاتم في تفسيره
ورواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما وابن ماجة من طرق عن نوح بن قيس الحداني وقد وثقه
أحمد وأبو داود وغيرهما وحكي عن ابن معين تضعيفه وأخرجه مسلم وأهل السنن وهذا الحديث فيه نكارة
شديدة وقد رواه عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك وهو البكري أنه سمع أبا الجوزاء يقول في
569

قوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم " في الصفوف في الصلاة " والمستأخرين " فالظاهر أنه من كلام أبي الجوزاء
فقط ليس فيه لابن عباس ذكر وقد قال الترمذي هذا أشبه من رواية نوح بن قيس والله أعلم وهكذا روى ابن
جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله " ولقد علمنا
المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " أنها في صفوف الصلاة فقال محمد بن عبد الله يذكر محمد بن كعب
في قوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " أنها في صفوف الصلاة فقال محمد بن كعب
ليس هكذا " ولقد علمنا المستقدمين منكم " الميت والمقتول " والمستأخرين " من يخلق بعد " وإن ربك هو
يحشرهم إنه حكيم عليم " فقال عون بن عبد الله وفقك الله وجزاك خيرا.
ولقد خلقنا الانسان من صلصال من حمإ مسنون (26) والجان خلقناه من قبل من نار السموم (27)
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس والظاهر أنه كقوله تعالى " خلق الانسان من
صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار " وعن مجاهد أيضا " الصلصال " المنتن وتفسير الآية بالآية
أولى وقوله " من حمأ مسنون " أي الصلصال من حمأ وهو الطين والمسنون الأملس كما قال الشاعر:
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء * - تمشي في مرمر مسنون
أي أملس صقيل ولهذا روى عن ابن عباس أنه قال هو التراب الرطب وعن ابن عباس ومجاهد أيضا والضحاك
إن الحمأ المسنون هو المنتن وقيل المراد بالمسنون ههنا المصبوب، وقوله " والجان خلقناه من قبل " أي من قبل
الانسان " من نار السموم " قال ابن عباس هي السموم التي تقتل وقال بعضهم السموم بالليل والنهار ومنهم من
يقول السموم بالليل والحرور بالنهار، وقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي إسحق قال دخلت على عمر
الأعصم أعوده فقال ألا أحدثك حديثا سمعته من عبد الله بن مسعود يقول هذه السموم جزء من سبعين جزءا من
السموم التي خلق منها الجان ثم قرأ " والجان خلقناه من قبل من نار السموم " وعن ابن عباس إن الجان خلق من
لهب النار وفي رواية من أحسن النار وعن عمرو بن دينار من نار الشمس وقد ورد في الصحيح " خلقت
الملائكة من نور وخلقت الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم " والمقصود من الآية التنبيه على
شرف آدم عليه السلام وطيب عنصره وطهارة محتده.
وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون (28) فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا
له ساجدين (29) فسجد الملائكة كلهم أجمعون (30) إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين (31) قال
يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين (32) قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون (33)
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته قبل خلقه له وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له ويذكر تخلف إبليس
عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة حسدا وكفرا وعنادا واستكبارا وافتخارا بالباطل ولهذا قال " لم أكن
لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون " كقوله " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " وقوله
" أرأيتك هذا الذي كرمت علي " الآية. وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا من حديث شبيب بن بشر عن
عكرمة عن ابن عباس قال لما خلق الله الملائكة قال " إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
فقعوا له ساجدين " قالوا لا نفعل فأرسل عليهم نارا فأحرقتهم، ثم خلق ملائكة أخرى فقال لهم مثل ذلك
فقالوا سمعنا وأطعنا إلا إبليس كان من الكافرين الأولين وفي ثبوت هذا عنه بعد والظاهر أنه إسرائيلي والله
أعلم.
570

قال فأخرج منها فإنك رجيم (34) وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين (35) قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون (36) قال
فإنك من المنظرين (37) إلى يوم الوقت المعلوم (38)
يذكر تعالى أنه أمر إبليس أمرا كونيا لا يخالف ولا يمانع بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملا الاعلى وأنه
رجيم أي مرجوم وأنه قد اتبعته لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير
أنه قال: لما لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة ورن رنة فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها.
رواه ابن أبي حاتم وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى يوم القيامة
وهو يوم البعث وأنه أجيب إلى ذلك استدراجا له وإمهالا فلما تحقق النظرة قبحه الله.
قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40) قال هذا
صراط على مستقيم (41) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين (42) وإن جهنم لموعدهم
أجمعين (43) لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم (44)
يقول تعالى مخبرا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب " بما أغويتني " قال بعضهم أقسم بإغواء الله له " قلت "
ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني " لأزينن لهم " أي لذرية آدم عليه السلام " في الأرض " أي أحبب إليهم
المعاصي وأرغبهم فيها وأأزهم إليها وأزعجهم إزعاجا " ولأغوينهم أجمعين " أي كما أغويتني وقدرت على ذلك
" إلا عبادك منهم المخلصين " كقوله " أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا
قليلا " " قال " الله تعالى له متهددا ومتوعدا " هذا صراط علي مستقيم " أي مرجعكم كلكم إلي فأجازيكم
بأعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كقوله تعالى " إن ربك لبالمرصاد " وقيل طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى
وإليه تنتهي قاله مجاهد والحسن وقتادة كقوله " وعلى الله قصد السبيل " وقرأ قيس بن عبادة ومحمد بن سيرين
وقتادة " هذا صراط على مستقيم " كقوله " وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " أي رفيع والمشهور القراءة
الأولى. وقوله " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان " أي الذين قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ولا وصول
لك إليهم " إلا من اتبعك من الغاوين " استثناء منقطع. وقد أورد ابن جرير ههنا من حديث عبد الله بن المبارك
عن عبد الله بن موهب حدثنا يزيد بن قسيط قال: كانت الأنبياء يكون لهم مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد النبي
أن يستنبئ ربه عن شئ خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله ثم سأله ما بدا له فبينا نبي في مسجده إذ جاء
عدو الله - يعني إبليس - حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال فرده ذلك ثلاث
مرات فقال عدو الله أخبرني بأي شئ تنجو مني فقال النبي بل أخبرني بأي شئ تغلب ابن آدم مرتين فأخذ كل
واحد منهما على صاحبه فقال النبي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال عدو الله أرأيت الذي تعوذ منه
فهو هو فقال النبي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال فرده ذلك ثلاث مرات فقال عدو الله
أخبرني بأي شئ تنجو مني فقال النبي بل أخبرني بأي شئ تغلب ابن آدم مرتين فأخذ كل
واحد منهما على صاحبه فقال النبي إن الله تعالى يقول " إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من
الغاوين " قال عدو الله قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي ويقول الله " وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ
بالله إنه سميع عليم " وإني والله ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله منك قال عدو الله صدقت بهذا تنجو مني
فقال النبي أخبرني بأي شئ تغلب ابن آدم؟ قال آخذه عند الغضب والهوى وقوله " وإن جهنم لموعدهم
أجمعين أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس كما قال عن القرآن " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده ثم
571

أخبر أن لجهنم سبعة أبواب " لكل باب منهم جزء مقسوم " أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس
يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا الله منه وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله قال
إسماعيل بن علية وشعبة كلاهما عن أبي هارون الغنوي عن حطان بن عبد الله أنه قال سمعت علي بن أبي طالب
وهو يخطب قال: إن أبواب جهنم هكذا - قال أبو هارون - أطباقا بعضها فوق بعض وقال إسرائيل عن أبي
إسحاق عن هبيرة بن أبي مريم عن علي رضي الله عنه قال أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيمتلئ الأول ثم
الثاني ثم الثالث حتى تمتلئ كلها وقال عكرمة سبعة أبواب سبعة أطباق وقال ابن جريج سبعة أبواب أولها
جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية. وروي الضحاك عن ابن عباس نحوه وكذا
روى عن الأعمش بنحوه أيضا وقال قتادة " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " هي والله منازل
بأعمالهم رواهن ابن جرير وقال جويبر عن الضحاك " لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم " قال باب
لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للذين أشركوا وهم كفار العرب وباب للمنافقين وباب
لأهل التوحيد فأهل التوحيد يرجى لهم ولا يرجى لأولئك أبدا.
وقال الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن حميد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي - أو قال - على أمة محمد " ثم قال لا نعرفه إلا من
حديث مالك بن مغول. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عباس بن الوليد الخلال حدثنا زيد - يعني ابن
يحيى - حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " لكل باب منهم
جزء مقسوم " قال " إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبه وإن منهم من تأخذه النار إلى حجزته ومنهم من
تأخذه النار إلى تراقيه منازلهم بأعمالهم فذلك قوله " لكل باب منهم جزء مقسوم ".
إن المتقين في جنات وعيون (45) ادخلوها بسلام آمنين (46) ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر
متقابلين (47) لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين (48) * نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم (49) وأن
عذابي هو العذاب الأليم (50)
لما ذكر تعالى حال أهل النار عطف على ذكر أصل الجنة وأنهم في جنات وعيون وقوله " ادخلوها بسلام " أي
سالمين من الآفات مسلم عليكم " آمنين " أي من كل خوف وفزع ولا تخشوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء وقوله
" ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ". روى القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة
الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا توافوا وتقابلوا نزع الله ما في صدورهم في
الدنيا من غل ثم قرأ " ونزعنا ما في صدورهم من غل " هكذا في هذه الرواية والقاسم بن عبد الرحمن في
روايته عن أبي أمامة ضعيف وقد روى سعيد في تفسيره حدثنا ابن فضالة عن لقمان عن أبي أمامة قال: لا
يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري. وهذا موافق لما في
الصحيح من رواية قتادة حدثنا أبو المتوكل الناجي أن أبا سعيد الخدري حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يخلص
المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار يقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا
حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة " وقال ابن جرير حدثنا الحسن حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا هشام
عن محمد هو ابن سيرين قال استأذن الأشتر على علي رضي الله عنه وعنده ابن لطلحة فحبسه ثم أذن له فلما
دخل قال إني لأراك إنما حبستني لهذا؟ قال أجل قال إني لأراه لو كان عندك ابن لعثمان لحبستني قال أجل إني
لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله تعالى " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " وقال
572

ابن جرير أيضا حدثنا الحسن بن محمد حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا أبو مالك الأشجعي حدثنا أبو حبيبة مولى
لطلحة قال: دخل عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال:
إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال الله " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين "
وحدثنا الحسن حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا أبو مالك الأشجعي عن أبي حبيبه مولى لطلحة قال: دخل
عمران بن طلحة على علي رضي الله عنه بعد ما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال: إني لأرجو أن يجعلني
الله وأباك من الذين قال الله " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " قال ورجلان جالسان إلى
ناحية البساط فقالا الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخوانا فقال علي رضي الله عنه أبعد أرض
وأسحقها فمن هم إذا إن لم أكن أنا وطلحة؟ وذكر أبو معاوية الحديث بطوله. وروى وكيع عن أبان بن عبد الله
البجلي عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن خراش عن علي نحوه وقال فيه فقام رجل من همدان فقال الله أعدل من
ذلك يا أمير المؤمنين قال فصاح به علي صيحة فظننت أن القصر قد تدهده لها ثم قال إذا لم نكن نحن فمن
هم؟ وقال سعيد بن مسروق عن أبي طلحة وذكره وفيه فقال الحارث الأعور ذلك فقام إليه علي رضي الله عنه
فضربه بشئ كان في يده في رأسه وقال فمن هم يا أعور إذا لم نكن نحن؟ وقال سفيان الثوري عن منصور عن
إبراهيم قال: جاء ابن جرموز قاتل الزبير يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلا ثم أذن له فقال له أما أهل
البلاء فتجفوهم فقال علي بفيك التراب إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله " ونزعنا ما في
صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " وكذا روى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بنحوه
وقال سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن أبي موسى سمع الحسن البصري يقول: قال علي فينا والله أهل بدر نزلت
هذه الآية " ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين " وقال كثير النوا: دخلت على أبي جعفر
محمد بن علي فقلت وليي وليكم وسلمي سلمكم وعدوي عدوكم وحربي حربكم أنا أسألك بالله أتبرأ من
أبي بكر وعمر فقال " قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين " تولهما يا كثير فما أدركك فهو في رقبتي هذه ثم تلا
هذه الآية " إخوانا على سرر متقابلين " قال أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم أجمعين وقال الثوري عن رجل
عن أبي صالح في قوله " إخوانا على سرر متقابلين " قال هم عشرة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير
وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين وقوله
" متقابلين " قال مجاهد لا ينظر بعضهم في قفا بعض وفيه حديث مرفوع.
قال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن عبد الله ثنا حسان بن حسان ثنا إبراهيم بن بشر ثنا يحيى بن معين عن إبراهيم
القومسي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية " إخوانا على
سرر متقابلين " في الله ينظر بعضهم إلى بعض، وقوله لا يمسهم فيها نصب " يعني المشقة والأذى كما جاء في
الصحيحين " إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ". وقوله
" وما هم منها بمخرجين " كما جاء في الحديث " يقال يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تمرضوا أبدا وإن
لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا ". وقال
الله تعالى " خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ".
وقوله " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم " أي أخبر يا محمد عبادي أنى ذو رحمة
وذو عذاب أليم وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف وذكر في سبب
نزولها ما رواه موسى بن عبيدة عن مصعب بن ثابت قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناس من أصحابه يضحكون فقال
" اذكروا الجنة واذكروا النار " فنزلت " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم ". رواه
ابن أبي حاتم وهو مرسل وقال ابن جرير حدثني المثنى حدثنا إسحاق أخبرنا ابن المكي أخبرنا ابن المبارك
573

أخبرنا مصعب بن ثابت حدثنا عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلع
علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال " ألا أراكم تضحكون " ثم أدبر حتى إذا كان عند
الحجر رجع إلينا القهقري فقال " إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله يقول لك لم تقنط
عبادي " نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم " " وقال شعبة عن قتادة في قوله
" نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم " قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من
حرام ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه ".
ونبئهم عن ضيف إبراهيم (51) إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون (52) قالوا لا توجل إنا نبشرك
بغلام عليم (53) قال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون (54) قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من
القانطين (55) قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون (56)
يقول تعالى وأخبرهم يا محمد عن قصة ضيف إبراهيم والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر،
وكيف دخلوا عليه فقالوا سلاما " قال إنا منكم وجلون " أي خائفون وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا
تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وهو العجل السمين الحنيذ " قالوا لا توجل " أي لا تخف وبشروه " بغلام
عليم " أي إسحاق " كما تقدم في سورة هود ثم " قال " متعجبا من كبره وكبر زوجته ومتحققا للوعد
" أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون " فأجابوه مؤكدين لما بشروه به تحقيقا وبشارة بعد بشارة " قالوا
بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين " وقرأ بعضهم القنطين فأجابهم بأنه ليس يقنط ولكن يرجو من الله الولد وإن
كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك.
قال فما خطبكم أيها المرسلون (57) قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين (58) إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين (59)
إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين (60)
يقول تعالى إخبارا عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى أنه شرع يسألهم عما جاءوا له
فقالوا " إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين " يعنون قوم لوط وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من
الهالكين ولهذا قالوا " إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين " أي الباقين المهلكين.
فلما جاء آل لوط المرسلون (61) قال إنكم قوم منكرون (62) قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون (63) وأتيناك
بالحق وإنا لصادقون (64)
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فدخلوا عليه داره قال " إنكم قوم
منكرون * قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون " يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكون في وقوعه
بهم وحلوله بساحتهم " وأتيناك بالحق " كقوله تعالى " ما ننزل الملائكة إلا بالحق " وقوله " وإنا لصادقون " تأكيد
لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه.
فأسر بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون (65) وقضينا إليه
ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين (66)
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل وأن يكون لوط عليه السلام يمشي
574

وراءهم ليكون أحفظ لهم وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى في الغزو إنما يكون ساقة يزجي الضعيف ويحمل
المنقطع وقوله " ولا يلتفت منكم أحد " أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من
العذاب والنكال " وامضوا حيث تؤمرون " كأنه كان معهم من يهديهم السبيل " وقضينا إليه ذلك الامر " أي تقدمنا
إليه في هذا " أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " أي وقت الصباح كقوله في الآية الأخرى " إن موعدهم الصبح
أليس الصبح بقريب ".
وجاء أهل المدينة يستبشرون (67) قال إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون (68) واتقوا الله ولا تخزون (69) قالوا
أو لم ننهك عن العالمين (70) قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين (71) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون (72)
يخبر تعالى عن مجئ قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحة وجوههم وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين " قال إن
هؤلاء ضيفي فلا تفضحون * واتقوا الله ولا تخزون " وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم بأنهم رسل الله كما قال في
سورة هود وأما ههنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجئ قومه ومحاجته لهم ولكن الواو لا تقتضي الترتيب
ولا سيما إذا دل دليل على خلافه فقالوا له مجيبين " أو لم ننهك عن العالمين " أي أو ما نهيناك أن تضيف أحدا؟
فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهم من الفروج المباحة. وقد تقدم إيضاح القول في ذلك بما أغنى
عن إعادته هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء وما يصبحون من العذاب المنتظر
ولهذا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أقسم تعالى بحياة نبيه صلوات الله وسلامه عليه
وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض قال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس أنه
قال: ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال الله
تعالى " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " يقول وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفى سكرتهم
يعمهون ". رواه ابن جرير وقال قتادة في سكرتهم أي في ضلالتهم " يعمهون " أي يلعبون وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس " لعمرك " لعيشك " إنهم لفي سكرتهم يعمهون " قال يترددون.
فأخذتهم الصيحة مشرقين (73) فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل (74) إن في ذلك لآيات
للمتوسمين (75) وإنها لبسبيل مقيم (76) إن في ذلك لآية للمؤمنين (77)
يقول تعالى " فأخذتهم الصيحة " وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها وذلك
مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها وأرسال حجارة السجيل عليهم وقد تقدم الكلام
على السجيل في هود بما فيه كفاية، وقوله " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " أي أن آثار هذه النقم الظاهرة على
تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته كما قال مجاهد في قوله " للمتوسمين " قال المتفرسين
وعن ابن عباس والضحاك للناظرين وقال قتادة للمعتبرين وقال مالك عن بعض أهل المدينة " للمتوسمين "
للمتأملين. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن كثير العبدي عن عمرو بن قيس عن عطية
عن أبي سعيد مرفوعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم " إن في
ذلك لآيات للمتوسمين ". رواه الترمذي وابن جرير من حديث عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد
وقال الترمذي لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال ابن جرير أيضا حدثني أحمد بن محمد الطوسي حدثنا الحسن بن
محمد حدثنا الفرات بن السائب حدثنا ميمون بن مهران عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتقوا فراسة
المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله ". وقال ابن جرير حدثني أبو شرحبيل الحمصي حدثنا سليمان بن سلمة حدثنا
المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي حدثنا وهب بن منبه عن طاوس بن
575

كيسان عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله ". وقال أيضا
حدثنا عبد الاعلى بن واصل حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا عبد الواحد بن واصل حدثنا أبو بشر المزلق عن
ثابت عن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم ". ورواه الحافظ أبو بكر
البزار حدثنا سهل بن بحر حدثنا سعيد بن محمد الجرمي حدثنا أبو بشر يقال له ابن المزلق قال وكان ثقة عن
ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله عبادا يعرفون الناس بالتوسم " وقوله " وإنها لبسبيل مقيم " أي وإن
قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب الصوري والمعنوي والقذف بالحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة
بطريق مهيع مسالكه مستمرة إلى اليوم كقوله " وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون * وإن يونس
لمن المرسلين " وقال مجاهد والضحاك " وإنها لبسبيل مقيم " قال معلم وقال قتادة بطريق واضح وقال قتادة
أيضا بصقع من الأرض واحد وقال السدي بكتاب مبين يعني كقوله " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " ولكن
ليس المعنى على ما قال ههنا والله أعلم وقوله " إن في ذلك لآية للمؤمنين " أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من
الهلاك والدمار وإنجائنا لوطا وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله.
وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين (78) فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين (79)
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب قال الضحاك وقتادة وغيرهما الأيكة الشجر الملتف وكان ظلمهم بشركهم بالله
وقطعهم الطريق ونقصهم المكيال والميزان فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلة وقد كانوا قريبا من
قوم لوط بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان ولهذا قال تعالى " وإنهما لبإمام مبين " أي طريق مبين قال
ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيره طريق ظاهر ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في نذارته إياهم " وما قوم لوط
منكم ببعيد ".
ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين (80) وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين (81) وكانوا ينحتون من
الجبال بيوتا آمنين (82) فأخذتهم الصيحة مصبحين (83) فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (84)
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحا نبيهم عليه السلام ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين
ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين وذكر تعالى أنه آتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح
كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء وكانت تسرج في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم
معلوم فلما عتوا وعقروها قال لهم " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " وقال تعالى " وأما ثمود
فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى " وذكر تعالى أنهم " كانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين " أي من غير خوف
ولا احتياج إليها بل أشرا وبطرا وعبثا كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مر به
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه وأسرع دابته وقال لأصحابه " لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن
تكونوا باكين فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم ". وقوله " فأخذتهم الصيحة مصبحين " أي وقت الصباح
من اليوم الرابع " فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون " أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها
عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك.
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة الآتية فاصفح الصفح الجميل (85) إن
ربك هو الخلاق العليم (86)
يقول تعالى " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية " أي بالعدل " ليجزي الذين أساءوا
576

بما عملوا " الآية وقال تعالى " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين
كفروا من النار " وقال تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله
إلا هو رب العرش الكريم " ثم أخبر نبيه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين
في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به كقوله " فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون " وقال مجاهد وقتادة وغيرهما
كان هذا قبل القتال وهو كما قالا فإن هذه مكية والقتال إنما شرع بعد الهجرة وقوله " إن ربك هو الخلاق
العليم " تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة إنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شئ العليم بما تمزق من
الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم *
بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ
وإليه ترجعون ".
ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم (87) لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا
تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين (89)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية
لنفتنهم فيه فلا تغبطهم بما هم فيه ولا تذهب نفسك عليم حسرات حزنا عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك
" واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " أي ألن لهم جانبك كقوله " ولقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز
عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " وقد اختلف في السبع المثاني ما هي فقال ابن مسعود
وابن عمر وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وغيرهم: هي السبع الطوال يعنون البقرة وآل عمران
والنساء والمائدة والانعام والأعراف ويونس نص عليه ابن عباس وسعيد بن جبير وقال سعيد بين فيهن الفرائض
والحدود والقصص والاحكام وقال ابن عباس بين الأمثال والخبر والعبر وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا
ابن أبي عمر قال: قال سفيان: المثاني البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانعام والأعراف والانفال وبراءة
سورة واحدة قال ابن عباس: ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم وأعطي موسى منهن ثنتين. رواه هشيم عن
الحجاج عن الوليد بن العيذار عن سعيد بن جبير عنه. وقال الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: أوتي النبي صلى الله عليه وسلم سبعا من المثاني الطول وأوتي موسى عليه السلام ستا فلما ألقى الألواح ارتفع اثنتان
وبقيت أربع. وقال مجاهد: هي السبع الطوال ويقال هي القرآن العظيم. وقال خصيف عن زياد بن أبي مريم في
قوله تعالى " سبعا من المثاني " قال أعطيتك سبعة أجزاء مر وانه وبشر وأنذر واضرب الأمثال واعدد النعم
وأنبئك بنبأ القرآن. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم " والقول الثاني " انها الفاتحة وهي سبع آيات. وروي ذلك عن
علي وعمر وابن مسعود وابن عباس قال ابن عباس: والبسملة هي الآية السابعة وقد خصكم الله بها. وبه قال
إبراهيم النخعي وعبد الله بن عبيد بن عمير وابن أبي ملكية وشهر بن حوشب والحسن البصري ومجاهد. وقال
قتادة: ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع واختاره ابن جرير واحتج بالأحاديث
الواردة في ذلك وقد قدمناها في فضائل سورة الفاتحة في أول التفسير ولله الحمد. وقد أورد البخاري رحمه الله
تعالى ههنا حديثين أحدهما قال: حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن حبيب بن عبد الرحمن عن
حفص بن عاصم عن أبي سعيد بن المعلى قال: مر بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني فلم آته حتى صليت فأتيته
فقال " ما منعك أن تأتيني؟ " فقلت كنت أصلي فقال " ألم يقل الله " يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول
إذا دعاكم " ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد " فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال
" " الحمد لله رب العالمين " هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " " الثاني " قال: حدثنا آدم حدثنا
577

ابن أبي ذئب حدثنا المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أم القرآن هي السبع المثاني
والقرآن العظيم " فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع
الطول بذلك لما فيها من هذه الصفة كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضا كما قال تعالى " الله نزل
أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني " فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه وهو القرآن العظيم أيضا كما أنه عليه
الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فأشار إلى مسجده والآية نزلت في مسجد قباء فلا
تنافي فإن ذكر الشئ لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة والله أعلم، وقوله " لا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم " أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية ومن
ههنا ذهب ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " إلى أنه يستغني به عما عداه وهو
تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير. وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن
وكيع بن الجراح حدثنا موسى بن عبيدة عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال ضاف
النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شئ يصلحه فأرسل إلى رجل من اليهود " يقول لك محمد رسول الله
أسلفني دقيقا إلى هلال رجب " قال لا إلا برهن فأتيت النبي صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فأخبرته فقال
" أما والله إني لأمين من في السماء وأمين من في الأرض ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه " فلما خرجت من
عنده نزلت هذه الآية " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " إلى آخر الآية كأنه يعزيه
عن الدنيا. قال العوفي عن ابن عباس " لا تمدن عينيك " قال نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه. وقال مجاهد
" إلى ما متعنا به أزواجا منهم " هم الأغنياء.
وقل إني أنا النذير المبين (89) كما أنزلنا على المقتسمين (90) الذين جعلوا القرآن عضين (91) فوربك لنسئلنهم
أجمعين (92) عما كانوا يعملون (93)
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس " إني أنا النذير المبين " البين النذارة نذير للناس من عذاب أليم أن يحل بهم
على تكذيبه كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام وقوله
" المقتسمين " أي المتحالفين أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم كقوله تعالى إخبارا عن قوم
صالح أنهم " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله " الآية أي نقتلهم ليلا. قال مجاهد: تقاسموا وتحالفوا
" وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت " " أولم تكونوا أقسمتم من قبل " الآية " أهؤلاء الذين
أقسمتم لا ينالهم الله برحمة " فكأنهم كانوا لا يكذبون بشئ من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين. قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. وفي الصحيحين عن
أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال يا قوم إني رأيت الجيش
بعيني وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذبه
طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ومثل
من عصاني وكذب ما جئت به من الحق " وقوله " الذين جعلوا القرآن عضين " أي جزؤوا كتبهم المنزلة عليهم
فآمنوا ببعض وكفروا ببعض قال البخاري: حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا هشيم أنبانا أبو بشر سعيد بن
جبير عن ابن عباس " جعلوا القرآن عضين " قال هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه.
حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس " جعلوا القرآن عضين " قال هم أهل
الكتاب جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه. حدثنا عبيد الله بن موسى عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن
عباس قال " كما أنزلنا على المقتسمين " قال: آمنوا ببعض وكفروا ببعض اليهود والنصارى. قال ابن أبي حاتم
وروي عن مجاهد والحسن والضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم نحو ذلك. وقال الحكم بن أبان عن عكرمة
578

عن ابن عباس " جعلوا القرآن عضين " قال السحر. وقال عكرمة: العضه السحر بلسان قريش يقول للساحرة
إنها العاضهة. وقال مجاهد: عضوه أعضاء قالوا سحر وقالوا كهانة وقالوا أساطير الأولين وقال عطاء قال بعضهم
ساحر وقالوا مجنون وقالوا كاهن فذلك العضين. وكذا روي عن الضحاك وغيره وقال محمد بن إسحاق عن
محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش
وكان ذا شرف فيهم وقد حضر الموسم فقال لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم وإن وفود العرب ستقدم
عليكم فيه وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم
بعضه بعضا فقالوا وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به قال: بل أنتم قولوا لاسمع قالوا: نقول
كاهن قال ما هو بكاهن قالوا فنقول مجنون قال ما هو بمجنون قالوا فنقول شاعر قال ما هو بشاعر قالوا
فنقول ساحر قال ما هو بساحر قالوا فماذا نقول؟ قال والله إن لقوله لحلاوة فما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا
عرف أنه باطل وإن أقرب القول أن تقولوا هو ساحر، فتفرقوا عنه بذلك وأنزل الله فيهم " الذين جعلوا القرآن
عضين " أصنافا " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " أولئك النفر الذين قالوا لرسول الله وقال عطية العوفي عن
ابن عمر في قوله " لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون ". قال عن لا إله إلا الله وقال عبد الرزاق أنبأنا
الثوري عن ليث هو ابن أبي سليم عن مجاهد في قوله تعالى " لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " قال: عن
لا إله إلا الله. وقد روى الترمذي وأبو يعلى الموصلي ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث شريك القاضي عن
ليث بن أبي سليم عن بشير بن أبي نهيك عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " فوربك لنسألنهم أجمعين " قال: عن لا إله
إلا الله ورواه ابن إدريس عن ليث عن بشير عن أنس موقوفا وقال ابن جرير: حدثنا أحمد حدثنا أبو أحمد
حدثنا شريك عن هلال عن عبد الله بن حكيم قال: ورواه الترمذي وغيره من حديث أنس مرفوعا. وقال عبد الله
هو ابن مسعود والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر
فيقول: ابن آدم ماذا غرك منى بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال أبو
جعفر عن الربيع عن أبي العالية في قوله " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " قال يسأل العباد كلهم
عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وعماذا أجابوا المرسلين وقال ابن عيينة عن عملك وعن مالك وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحوارى حدثنا يونس الحذاء عن أبي حمزة الشيباني عن
معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه
وعن فتات الطينة بإصبعه فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما أتاك الله منك " وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في قوله " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " ثم قال " فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا
جان " قال لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا؟.
فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين (95) الذين يجعلون مع الله إلها
آخر فسوف يعلمون (96) ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون (97) فسبح بحمد ربك وكن من
الساجدين (98) وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين (99)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بابلاغ ما بعثه به وبإنفاذه والصدع به وهو مواجهة المشركين به كما قال ابن عباس في
قوله " فاصدع بما تؤمر " أي أمضه وفي رواية " افعل ما تؤمر " وقال مجاهد هو الجهر بالقرآن في الصلاة.
وقال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيا حتى نزلت " فاصدع بما تؤمر " فخرج هو
وأصحابه وقوله " وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك المستهزئين " أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ولا تلتفت إلى
المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله " ودوا لو تدهن فيدهنون " ولا تخفهم فإن الله كافيك إياهم
579

وحافظك منهم كقوله تعالى " يا أيها الرسول بلغ ما أنزله إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله
يعصمك من الناس " قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا يحيى بن محمد بن السكن حدثنا إسحاق بن إدريس
حدثنا عون بن كهمس عن يزيد بن درهم عن أنس قال: سمعت أنسا يقول في هذه الآية " إنا كفيناك المستهزئين
الذين يجعلون مع الله إلها آخر " قال مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم فجاء جبريل قال أحسبه قال فغمزهم فوقع
في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا. وقال محمد بن إسحاق: كان عظماء المستهزئين كما حدثني يزيد بن رومان
عن عروة بن الزبير خمسة نفر وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم من بني أسد بن عبد العزى بن قصي الأسود بن المطلب
أبي زمعة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه فقال " اللهم أعم بصره
وأثكله ولده " ومن بني زهرة الأسود بن عبد يغوثب بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ومن بني مخزوم الوليد بن
المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ومن بني سهم ابن عمر بن هصيص بن كعب بن لؤي العاص بن
وائل بن هشام بن سعيد بن سعد ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة بن عمرو بن الحارث بن عبد بن عمر بن ملكان.
فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن
المشركين * إنا كفيناك المستهزئين إلى قوله - " فسوف يعلمون " قال ابن إسحاق فحدث يزيد بن رومان عن
عروة بن الزبير أو غيره من العلماء أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت
فقام وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه فمر به الأسود بن عبد يغوث فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات
منه ومر به الوليد بن المغيرة فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله وكان أصابه قبل ذلك
بسنين وهو يجز إزاره وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له فتعلق سهم من نبله بإزاره فخدش رجله ذلك
الخدش وليس بشئ فانتفض به فقتله ومر به العاص بن وائل فأشار إلى أخمص قدمه فخرج على حمار له يريد
الطائف فربض على شبرقة فدخلت في أخمص قدمه فقتلته ومر به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه فامتخط
قيحا فقتله قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد عن رجل عن ابن عباس قال: كان رأسهم
الوليد بن المغيرة وهو الذي جمعهم وهكذا روي عن سعيد بن جبير وعكرمة نحو سياق محمد بن إسحاق به عن
يزيد عن عروة بطوله إلا أن سعيدا يقول الحارث ابن غيطلة وعكرمة يقول الحارث بن قيس قال الزهري وصدقا
هو الحارث بن قيس وأمه غيطلة وكذا روي عن مجاهد ومقسم وقتادة وغير واحد أنهم كانوا خمسة وقال
الشعبي: كانوا سبعة والمشهور الأول، وقوله " الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون " تهديد شديد
ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبودا آخر، وقوله " ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك
وكن من الساجدين " أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض فلا يهيدنك
ذلك ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله وتوكل عليه فإنه كافيك وناصرك عليهم فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه
وعبادته التي هي الصلاة ولهذا قال " فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " كما جاء في الحديث الذي رواه
الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية عن كثير بن مرة عن نعيم بن
عمار أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله تعالى يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك
آخره " ورواه أبو داود والنسائي من حديث مكحول عن كثير بن مرة بنحوه ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر
صلى. وقوله " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " قال البخاري قال سالم الموت وسالم هذا هو سالم بن
عبد الله بن عمر كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار حدثنا سعيد عن سفيان حدثنا طارق بن
عبد الرحمن عن سالم بن عبد الله " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " قال الموت وهكذا قال مجاهد والحسن
وقتادة و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره والدليل على ذلك قوله تعالى إخبارا عن أهل النار أنهم قالوا " لم نك
من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين * حتى أتانا
اليقين " وفي الصحيح من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء امرأة من الأنصار أن
580

رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على عثمان بن مظعون وقد مات قالت أم العلاء رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي
عليك لقد أكرمك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " وما يدريك أن الله أكرمه؟ " فقلت بأبي وأمي يا رسول الله فمن؟
فقال " أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير " ويستدل بهذه الآية الكريمة وهى قوله " وأعبد ربك حتى
يأتيك اليقين " على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الانسان ما دام عقله ثابتا فيصلي بحسب حاله كما ثبت
في صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صل قائما فإن لم تستطع
فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب " ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة
فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم وهذا كفر وضلال وجهل فإن الأنبياء عليهم السلام
كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم وكانوا مع هذا أعبد وأكثر
الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة وإنما المراد باليقين ههنا الموت كما قدمناه ولله الحمد
والمنة والحمد لله على الهداية وعليه الاستعانة والتوكل وهو المسؤول أن يتوفانا على أكمل الأحوال وأحسنها فإنه
جواد كريم. آخر تفسير سورة الحجر والحمد لله رب العالمين.
سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم
أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون (1)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبرا بصيغة الماضي الدال على التحقيق والوقوع لا محالة كقوله " اقترب
للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " وقال " اقتربت الساعة وانشق القمر " وقوله " فلا تستعجلوه " أي
قرب ما تباعد " فلا تستعجلوه " يحتمل أن يعود الضمير على الله ويحتمل أن يعود على العذاب وكلاهما
متلازم كما قال تعالى " ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا
يشعرون * يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول
عجيب فقال في قوله " أتى أمر الله " أي فرائضه وحدوده وقد رده ابن جرير فقال: لا نعلم أحدا استعجل
بالفرائض وبالشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا قلت كما قال تعالى
" يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في
الساعة لفي ضلال بعيد ".
وقال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن محمد بن عبد الله مولى المغيرة بن شعبة
عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن حجيرة عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي مناد فيها:
أيها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم؟ فمنهم من يقول نعم ومنهم من يشك ثم ينادي
الثانية يا أيها الناس فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم؟ فيقولون نعم ثم ينادي الثالثة أيها الناس أتى أمر
الله فلا تستعجلوه " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فوالذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبدا وإن
الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئا أبدا وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبدا - قال - ويشتغل الناس " ثم
إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد تعالى وتقدس علوا كبيرا
وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال " سبحانه وتعالى عما يشركون ".
581

ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون (2)
يقول تعالى " ينزل الملائكة بالروح " أي الوحي كقوله " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما
الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا " وقوله " على من يشاء من عباده " وهم
الأنبياء كما قال تعالى " الله أعلم حيث يجعل رسالته " وقال " الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس "
وقال " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق * يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم
شئ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " وقوله " أن أنذروا " أي لينذروا " أنه لا إله إلا أنا فاتقون " أي
فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري.
خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون (3) خلق الانسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين (4)
يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي وهو السماوات والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت وأن ذلك مخلوق
بالحق لا للعبث بل " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " ثم نزه نفسه عن شرك من
عبد معه غيره وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، ثم نبه على
خلق جنس الانسان من نطفة أي مهينة ضعيفة فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب
رسله وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا كقوله تعالى " وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان
ربك قديرا * ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا " وقوله " أولم ير الانسان
أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل
يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن ماجة عن بشر بن
جحاش قال: بصق رسول الله في كفه ثم قال " يقول الله تعالى: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه
حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت
أتصدق؟ وأنى أوان الصدقة؟ ".
والانعام خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون (5) ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون (6) وتحمل
أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرءوف رحيم (7)
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الانعام وهي الإبل والبقر والغنم كما فصلها في سورة الأنعام إلى ثمانية
أزواج وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ومن ألبانها
يشربون ويأكلون من أولادها وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ولهذا قال " ولكم فيها جمال حين تريحون "
وهو وقت رجوعها عشيا من المرعى فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعا وأعلاه أسنمة " وحين تسرحون " أي
غدوة حين تبعثونها إلى المرعى " وتحمل أثقالكم " وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها " إلى
بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس " وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى مجرى ذلك تستعملونها
في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل كقوله " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع
كثيرة ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون " وقال تعالى " الله الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها
تأكلون * ولكم فيها منافع ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته فأي
آيات الله تنكرون " ولهذا قال ههنا بعد تعداد هذه النعم " إن ربكم لرؤوف رحيم " أي ربكم الذي قيض لكم
هذه الانعام وسخرها لكم كقوله " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون * وذللناها لهم
582

فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " وقال " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره ثم تذكروا
نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون " قال
ابن عباس: " لكم فيها دف ء " أي ثياب و " ومنافع " ما ينتفعون به من الأطعمة والأشربة وقال عبد الرزاق: أخبرنا
إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: دف ء ومنافع نسل كل دابة وقال مجاهد لكم فيها دف ء أي لباس
ينسج ومنافع مركب ولحم ولبن قال قتادة: دف ء ومنافع يقول لكم فيها لباس ومنفعة وبلغة. وكذا قال غير
واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة.
والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون (8)
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده يمتن به عليهم وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب
والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها ولما فصلها من الانعام وأفردها بالذكر استدل من استدل من العلماء ممن
ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذلك على ما ذهب إليه فيها كالامام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه
تعالى قرنها بالبغال والحمير وهى حرام كما ثبتت به السنة النبوية وذهب إليه أكثر العلماء وقد روى الإمام أبو
جعفر بن جرير: حدثني يعقوب حدثنا ابن علية أنبأنا هشام الدستوائي حدثنا يحيى بن أبي كثير عن مولى نافع بن
علقمة عن ابن عباس أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير وكان يقول: قال الله تعالى " والانعام خلقها لكم
فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون " فهذه للاكل " والخيل والبغال والحمير لتركبوها " فهذه للركوب وكذا روي من
طريق سعيد بن جبير وغيره عن ابن عباس بمثله. وقال مثل ذلك الحكم بن عيينة أيضا رضي الله عنه واستأنسوا
بحديث رواه الإمام أحمد في مسنده: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثنا ثور بن يزيد عن
صالح بن يحيى بن المقدام بن معديكرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير. وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث صالح بن
يحيى بن المقدام وفيه كلام ورواه أحمد أيضا من وجه آخر بأبسط من هذا وأدل منه فقال: حدثنا أحمد بن
عبد الملك حدثنا محمد بن حرب حدثنا سليمان بن سليم عن صالح بن يحيى بن المقدام عن جده المقدام بن
معديكرب قال: غزونا مع خالد بن الوليد الصائفة فقدم أصحابنا إلى اللحم فسألوني رمكة فدفعتها إليهم فحبلوها
وقلت مكانكم حتى آتي خالدا فأسأله فأتيته فسألته فقال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة خيبر فأسرع الناس في
حظائر يهود فأمرني أن أنادي الصلاة جامعة ولا يدخل الجنة إلا مسلم ثم قال " أيها الناس: إنكم قد أسرعتم في
حظائر يهود ألا لا يحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي
ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير " والرمكة هي الحجرة وقوله حبلوها أي أوثقوها في الحبل ليذبحوها
والحظائر البساتين القريبة من العمران وكأن هذا الصنيع وقع بعد اعطائهم العهد ومعاملتهم على الشطر والله
أعلم. فلو صح هذا الحديث لكان نصا في تحريم لحوم الخيل ولكن لا يقاوم ما ثبت في الصحيحين عن
جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل. ورواه الإمام أحمد وأبو
داود بإسنادين كل منهما على شرط مسلم عن جابر قال: ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير فنهانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل. وفي صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنهما قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا فأكلناه ونحن بالمدينة فهذه أدل وأقوى وأثبت وإلى ذلك
صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف والله أعلم. وقال عبد الرزاق أنبأنا
ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال: كانت الخيل وحشية فذللها الله لإسماعيل بن إبراهيم عليهما
السلام وذكر وهب بن منبه في إسرائيلياته أن الله خلق الخيل من ريح الجنوب والله أعلم. فقد دل النص على
جواز ركوب هذه الدواب ومنها البغال. وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فكان يركبها مع أنه قد نهى عن إنزاء
583

الحمر على الخيل لئلا ينقطع النسل. قال الإمام أحمد: حدثني محمد بن عبيد حدثنا عمر من آل حذيفة عنه عن
الشعبي عن دحية الكلبي قال: قلت يا رسول الله ألا أحمل لك حمارا على فرس فتنتج لك بغلا فتركبها؟ قال
" إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون ".
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين (9)
لما ذكر تعالى من الحيوانات ما يسار عليه في السبل الحسية نبه على الطرق المعنوية الدينية وكثيرا ما يقع في
القرآن العبور من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية النافعة الدينية كقوله تعالى " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى "
وقال تعالى " يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير " ولما ذكر تعالى في
هذه السورة الحيوانات من الانعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم وتحمل أثقالهم إلى
البلاد والأماكن البعيدة والاسفار الشاقة شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه فبين أن الحق منها ما هي
موصلة إليه فقال " وعلى الله قصد السبيل " كقوله " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق
بكم عن سبيله " وقال " قال هذا صراط علي مستقيم " فال مجاهد في قوله " وعلى الله قصد السبيل " قال
طريق الحق على الله وقال السدي " وعلى الله قصد السبيل " الاسلام وقال العوفي عن ابن عباس في قوله
" وعلى الله قصد السبيل " يقول وعلى الله البيان أي يبين الهدى والضلالة وكذا روى علي بن أبي طلحة عنه
وكذا قال قتادة والضحاك وقول مجاهد ههنا أقوى من حيث السياق لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقا تسلك إليه فليس
يصل إليه منها إلا طريق الحق وهي الطريق التي شرعها ورضيها وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة
ولهذا قال تعالى " ومنها جائر " أي حائد مائل زائغ عن الحق قال ابن عباس وغيره: هي الطرق المختلفة
والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية وقرأ ابن مسعود " ومنكم جائر " ثم أخبر تعالى أن
ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال " ولو شاء لهداكم أجمعين " كما قال تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في
الأرض كلهم جميعا " وقال " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك
خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ".
هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون (10) ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل
والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (11)
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الانعام والدواب شرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء وهو
العلو مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولانعامهم فقال " لكم منه شراب " أي جعله عذبا زلالا يسوغ لكم شرابه ولم
يجعله ملحا أجاجا " ومنه شجر فيه تسيمون " أي وأخرج لكم منه شجرا ترعون فيه أنعامكم. وقال ابن عباس
وعكرمة والضحاك وقتادة وابن زيد في قوله فيه تسيمون أي ترعون ومنه الإبل السائمة والسوم: الرعي وروى ابن
ماجة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس وقوله " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب
ومن كل الثمرات " أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها
وأشكالها ولهذا قال " إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون " أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى
" أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا
شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " ثم قال تعالى.
وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون (12) وما
584

ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون (13)
ينبه تعالى عباده على آياته العظام ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان والشمس والقمر يدوران والنجوم
الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات نورا وضياء ليهتدى بها في الظلمات وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله
تعالى فيه يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره
وتسهيله كقوله " إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل
النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين " ولهذا قال
" إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون " أي لدلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم لقوم يعقلون عن الله
ويفهمون حججه. وقوله " وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه " لما نبه تعالى على معالم السماوات نبه على ما
خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات على اختلاف
ألوانها وأشكالها وما فيها من المنافع والخواص " إن في ذلك لآية لقوم يذكرون " أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها.
وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا
من فضله ولعلكم تشكرون (14) وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون (15)
وعلامات وبالنجم هم يهتدون (16) أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (17) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن
الله لغفور رحيم (18)
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه وجعله
السمك والحيتان فيه وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها في الحل والاحرام وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر
النفيسة وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه
وقيل تمخر الرياح وكلاهما صحيح وقيل تمخره بجؤجئها وهو صدرها المسنم الذي أرشد العباد إلى صنعتها
وهداهم إلى ذلك إرثا عن أبيهم نوح عليه السلام فإنه أول من ركب السفن وله كان تعليم صنعتها ثم أخذها الناس
عنه قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل يسيرون من قطر إلى قطر ومن بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم لجلب ما هناك
إلى هنا وما هنا إلى هناك ولهذا قال تعالى " ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " أي نعمه وإحسانه. وقد قال
الحافظ أبو بكر البزار في مسنده وجدت في كتابي عن محمد بن معاوية البغدادي حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن
عمرو عن سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: كلم الله البحر الغربي وكلم البحر الشرقي فقال للبحر
الغربي إني حامل فيك عبادا من عبادي فكيف أنت صانع فيهم؟ قال أغرقهم فقال بأسك في نواحيك واحملهم
على يدي وحرمت الحلية والصيد وكلم البحر الشرقي فقال: إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع
بهم؟ فقال: أحملهم على يدي وأكون لهم كالوالدة لولدها فأثابه الحلية والصيد ثم قال البزار لا نعلم من رواه
عن سهل غير عبد الرحمن بن عبد الله بن عمرو وهو منكر الحديث. وقد رواه سهل عن النعمان بن أبي عياش عن
عبد الله بن عمرو موقوفا. ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات لتقر
الأرض ولا تميد أي تضطرب بما عليها من الحيوانات فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ولهذا قال " والجبال
أرساها " وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة سمعت الحسن يقول: لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا ما
هذه بمقرة على ظهرها أحدا فأصبحوا وقد خلقت الجبال فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال " وقال سعيد عن
قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة أن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة: ما هذه بمقرة على
585

ظهرها أحدا فأصبحت صبحا وفيها رواسيها. وقال ابن جرير: حدثني المثنى حدثني حجاج بن منهال حدثنا حماد
عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما خلق الله الأرض فمضت
وقالت أي رب تجعل علي بني آدم يعملون الخطايا ويجعلون علي الخبث؟ قال فأرسى الله فيها من الجبال ما
ترون وما لا ترون فكان إقرارها كاللحم يترجرج. وقوله " وأنهارا وسبلا " أي جعل فيها أنهارا تجري من مكان
إلى مكان آخر رزقا للعباد ينبع في موضع وهو رزق لأهل موضع آخر فيقطع البقاع والبراري والقفار ويخترق الجبال
والآكام فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة وجنوبا وشمالا وشرقا وغربا ما بين
صغار وكبار وأودية تجري حينا وتنقطع في وقت وما بين نبع وجميع وقوي السير وبطئه بحسب ما أراد وقدر وسخر
ويسر فلا إله إلا هو ولا رب سواه. وكذلك جعل فيها سبلا أي طرقا يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى أنه تعالى
ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممرا ومسلكا كما قال تعالى " وجعلنا فيها فجاجا سبلا " الآية وقوله
" وعلامات " أي دلائل من جبال كبار وآكام صغار ونحو ذلك يستدل بها المسافرون برا وبحرا إذا ضلوا الطرق.
وقوله " وبالنجم هم يهتدون " أي في ظلام الليل قاله ابن عباس. وعن مالك في قوله " وعلامات وبالنجم هم
يهتدون " يقول النجوم وهي الجبال ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من
الأوثان التي لا تخلق شيئا بل هم يخلقون ولهذا قال " أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون " ثم نبههم
على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم فقال " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم " أي يتجاوز
عنكم ولو طالبكم بشكر نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ولو عذبكم لعذبكم وهو غير
ظالم لكم ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير، وقال ابن جرير: يقول إن الله لغفور لما كان منكم
من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
والله يعلم ما تسرون وما تعلنون (19) والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون (20) أموات غير
أحياء وما يشعرون أيان يبعثون (21)
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة إن خيرا فخير وإن
شرا فشر ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون كما قال الخليل " أتعبدون
ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون " وقوله " أموات غير أحياء " أي هي جمادات لا أرواح فيها فلا تسمع ولا
تبصر ولا تعقل " وما يشعرون أيان يبعثون " أي لا يدرون متى تكون الساعة فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب
أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شئ وهو خالق كل شئ.
إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون (22) لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما
يعلنون إنه لا يحب المستكبرين (23)
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الاحد الفرد الصمد وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك كما أخبر عنهم
متعجبين من ذلك " أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشئ عجاب " وقال تعالى " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت
قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون " وقوله " وهم مستكبرون " أي عن
عبادة الله مع إنكار قلوبهم لتوحيده كما قال " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " ولهذا
قال ههنا " لا جرم " أي حقا " أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون " أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء " إنه
لا يحب المستكبرين ".
586

وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين (24) ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين
يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون (25)
يقول تعالى وإذا قيل لهؤلاء المكذبين " ماذا أنزل ربكم قالوا " معرضين عن الجواب " أساطير الأولين " أي لم
ينزل شيئا إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين أي مأخوذ من كتب المتقدمين كما قال تعالى " وقالوا أساطير
الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالا متضادة مختلفة كلها باطلة
كما قال تعالى " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " وذلك أن كل من خرج عن الحق
فمهما قال أخطأ وكانوا يقولون ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم الوحيد
المسمى بالوليد بن المغيرة المخزومي لما " فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس
وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحر يؤثر " أي ينقل ويحكى فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله، قال
الله تعالى " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم " أي إنما قدرنا عليهم أن
يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم
وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم كما جاء في الحديث " من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور
من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من اتبعه لا ينقص
ذلك من آثامهم شيئا " وقال تعالى " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون "
وهكذا روى العوفي عن ابن عباس في الآية " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير
علم " أنها كقوله " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " وقال مجاهد: يحملون أثقالهم ذنوبهم وذنوب
من أطاعهم ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئا.
قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا
يشعرون (26) ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين أوتوا العلم إن
الخزي اليوم والسوء على الكافرين (27)
قال العوفي عن ابن عباس في قوله " قد مكر الذين من قبلهم " قال هو النمرود الذي بني الصرح قال ابن أبي
حاتم وروي عن مجاهد نحوه وقال عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم أول جبار كان في الأرض النمرود
فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق وأرحم الناس به من جمع
يديه فضرب بهما رأسه وكان جبارا أربعمائة سنة فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ثم أماته وهو الذي بنى الصرح
إلى السماء الذي قال الله تعالى " فأتى الله بنيانهم من القواعد " وقال آخرون بل هو بختنصر وذكروا من المكر
الذي حكاه الله ههنا كما قال في سورة إبراهيم " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " وقال آخرون هذا من باب
المثل لابطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره كما قال نوح عليه السلام " ومكروا
مكرا كبارا " أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة كما يقول لهم أتباعهم يوم
القيامة " بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا " الآية وقوله " فأتى الله بنيانهم من
القواعد " أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم كقوله تعالى " كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله " وقوله " فأتاهم
الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي
الابصار " وقال الله ههنا " فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا
587

يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم " إي يظهر فضائحهم وما كانت تجنه ضمائرهم فجعله علانية كقوله تعالى " يوم
تبلى السرائر " أي تظهر وتشتهر كما في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينصب لكل غادر لواء
يوم القيامة عند استه بقدر غدرته فيقال هذه غدرة فلان بن فلان " وهكذا هؤلاء يظهر للناس ما كانوا يسرونه من
المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا " أين شركائي الذين
كنتم تشاقون فيهم " تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم ههنا؟ " هل ينصرونكم أو
ينتصرون " " فما له من قوة ولا ناصر " فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة وحقت عليهم الكلمة
وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار " قال الذين أوتوا العلم " وهم السادة في الدنيا والآخرة والمخبرون عن الحق
في الدنيا والآخرة فيقولون حينئذ " إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين " أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم
بمن كفر بالله وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه.
الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28)
فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين (29)
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجئ الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة
" فألقوا السلم " أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين " ما كنا نعمل من سوء " كما يقولون يوم المعاد
" والله ربنا ما كنا مشركين " " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم " قال الله مكذبا لهم في
قيلهم ذلك " بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون * فأدخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " أي
بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله وهم يدخلون جهنم من يوم
مماتهم بأرواحهم وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم
وخلدت في نار جهنم " لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها " كما قال الله تعالى " النار
يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ".
* وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم
دار المتقين (30) جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين (31)
الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون (32)
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء فإن أولئك قيل لهم " ماذا أنزل ربكم " قالوا معرضين عن
الجواب لم ينزل شيئا إنما هذا أساطير الأولين وهؤلاء قالوا خيرا أي أنزل خيرا أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن
به ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله فقال " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة " الآية كقوله
تعالى " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون " أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة ثم أخبر بأن دار الآخرة خير أي من
الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا كقوله " وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير " الآية
وقال تعالى " وما عند الله خير للأبرار " وقال تعالى " والآخرة خير وأبقى " وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم " وللآخرة خير لك
من الأولى " ثم وصف الدار الآخرة فقال " ولنعم دار المتقين " وقوله " جنات عدن " بدل من دار المتقين أي
لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يدخلونها " تجري من تحتها الأنهار " أي بين أشجارها وقصورها " لهم
فيها ما يشاءون " كقوله تعالى " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون " وفي الحديث " إن
588

السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم فلا يشتهي أحد منهم شيئا إلا أمطرته عليه حتى إن
منهم لمن يقول أمطرينا كواعب أترابا فيكون ذلك " " كذلك يجزي الله المتقين " أي كذلك يجزي الله كل من
آمن به واتقاه وأحسن عمله ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون أي مخلصون من الشرك
والدنس وكل سوء وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة كقوله تعالى " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا
تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا
وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم " وقد قدمنا الأحاديث الواردة
في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي
الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ".
هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن
كانوا أنفسهم يظلمون (33) فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون (34)
يقول تعالى مهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم
لقبض أرواحهم قاله قتادة " أو يأتي أمر ربك " أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال وقوله " كذلك فعل
الذين من قبلهم " أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله
وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال " وما ظلمهم الله " لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال
رسله وإنزال كتبه " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به، فلهذا أصابتهم
عقوبة الله على ذلك " وحاق بهم " أي أحاط بهم من العذاب الأليم " ما كانوا به يستهزئون " أي يسخرون من
الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله فلهذا يقال لهم يوم القيامة " هذه النار التي كنتم بها تكذبون ".
وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ
كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين (35) ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف
كان عاقبة المكذبين (36) إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين (37)
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الاشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم " لو شاء الله ما عبدنا
من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما
كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطانا ومضمون كلامهم أنا لو كان تعالى كارها لما فعلنا
لا نكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه قال الله تعالى رادا عليهم شبهتهم " فهل على الرسل إلا البلاغ المبين " أي
ليس الامر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم بل قد أنكره عليكم أشد الانكار ونهاكم عنه آكد النهي وبعث في كل
أمة أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولا وكلهم يدعون إلى عبادة الله وينهون عن عبادة ما سواه " أن اعبدوا
الله واجتنبوا الطاغوت " فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح
الذين أرسل إليهم نوح وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته
الإنس والجن في المشارق والمغارب وكلهم كما قال الله تعالى " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه
أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " وقوله تعالى " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة
589

يعبدون " وقال تعالى في هذه الآية الكريمة " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت "
فكيف يسوغ لاحد من المشركين بعد هذا أن يقول " لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ " فمشيئته تعالى
الشرعية عنهم منتفية لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدرا فلا
حجة لهم فيها لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر وله في ذلك حجة بالغة
وحكمة قاطعة ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل فلهذا قال " فمنهم من
هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " أي اسألوا عما
كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف " دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها " فقال " ولقد كذب الذين من
قبلهم فكيف كان نكير " ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم إذا كان الله قد أراد
إضلالهم كقوله تعالى " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " وقال نوح لقومه " ولا ينفعكم نصحي إن
أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " وقال في هذه الآية الكريمة " إن تحرص على هداهم فإن الله
لا يهدي من يضل " كما قال الله " ومن يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون " وقال تعالى " إن
الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم " وقوله " فإن الله " أي
شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلهذا قال " لا يهدي من يضل " أي من أضله فمن ذا الذي
يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد " وما لهم من ناصرين " أي ينقذونهم من عذابه ووثاقه " ألا له الخلق والامر
تبارك الله رب العالمين ".
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38)
ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا إنهم كانوا كاذبين (39) إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول
له كن فيكون (40)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله جهد أيمانهم أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الايمان
على أنه لا يبعث الله من يموت أي استبعدوا ذلك وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك وحلفوا على نقيضه فقال
تعالى مكذبا لهم وردا عليهم " بلى " أي بلى سيكون ذلك " وعدا عليه حقا " أي لا بد منه " ولكن أكثر الناس
لا يعلمون " أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجسام يوم
التناد فقال " ليبين لهم " أي للناس " الذي يختلفون فيه " أي من كل شئ " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا
ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى " " وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين " أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث
الله من يموت ولهذا يدعون يوم القيامة إلى نار جهنم دعا وتقول لهم الزبانية " هذه النار التي كنتم بها تكذبون *
أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون " ثم
أخبر تعالى عن قدرته على ما يشاء وأنه لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول
له كن فيكون والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة فيكون كما يشاء كقوله " وما أمرنا إلا واحدة
كلمح بالبصر " وقال " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " وقال في هذه الآية الكريمة " إنما قولنا لشئ
إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " أي أن نأمر به مرة واحدة فإذا هو كائن كما قال الشاعر:
إذا ما أراد الله أمرا فإنما * يقول له كن فيكون
أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف لأنه الواحد القهار العظيم الذي قهر
سلطانه وجبروته وعزته كل شئ فلا إله إلا هو ولا رب سواه وقال ابن أبي حاتم: ذكر الحسن بن محمد بن
590

الصباح حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة يقول: " قال الله تعالى شتمني ابن آدم ولم
يكن ينبغي له ذلك وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك فأما تكذيبه إياي فقال " وأقسموا بالله جهد أيمانهم
لا يبعث الله من يموت " قال وقلت " بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون " وأما شتمه إياي فقال
" إن الله ثالث ثلاثة " وقلت " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " هكذا ذكره
موقوفا وهو في الصحيحين مرفوعا بلفظ آخر.
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الآخرة أكبر لو كانوا يعملون (41) الذين
صبروا وعلى ربهم يتوكلون (43)
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته الذين فارقوا الدار والاخوان والخلان رجاء ثواب الله
وجزائه. ويحتمل أن يكون سبب نزولها في مهاجرة الحبشة الذي اشتد أذى قومهم لهم بمكة حتى خرجوا من بين
أظهرهم إلى بلاد الحبشة ليتمكنوا من عبادة ربهم ومن أشرافهم عثمان بن عفان ومعه زوجته رقية بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعفر بن أبي طالب ابن عم الرسول وأبو سلمة بن عبد الأسود في جماعة قريب من ثمانين ما بين
رجل وامرأة صديق وصديقة رضي الله عنهم وأرضاهم وقد فعل فوعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا
والآخرة فقال " لنبوئنهم في الدنيا حسنة " قال ابن عباس والشعبي وقتادة: المدينة، وقيل الرزق الطيب قاله
مجاهد. ولا منافاة بين القولين فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيرا منها في الدنيا فإن من ترك شيئا
لله عوضه الله بما هو خير له منه وكذلك وقع فإنهم مكن الله لهم في البلاد وحكمهم على رقاب العباد وصاروا
أمراء حكاما وكل منهم للمتقين إماما وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا
فقال " ولاجر الآخرة أكبر " أي مما أعطيناهم في الدنيا " لو كانوا يعلمون " أي لو كان المتخلفون عن الهجرة
معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ولهذا قال هشيم عن العوام عمن حدثه أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا
وما ادخر لك في الآخرة أفضل ثم قرأ هذه الآية " لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا
يعلمون " ثم وصفهم تعالى فقال " الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون " أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين
على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (43) بالبينات والزبر
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون (44)
قال الضحاك عن ابن عباس لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا الله أعظم من
أن يكون رسوله بشرا فأنزل الله " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس " الآية وقال
" وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " يعني أهل الكتب الماضية
أبشرا كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم وإن كانوا بشرا فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم
رسولا. قال تعالى " وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " ليسوا من أهل السماء كما
قلتم وكذا روي عن مجاهد عن ابن عباس أن المراد بأهل الذكر أهل الكتاب وقاله مجاهد والأعمش وقول
عبد الرحمن بن زيد الذكر القرآن واستشهد بقوله " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " صحيح لكن ليس هو
المراد ههنا لان المخالف لا يرجع في إثباته بعد إنكاره إليه وكذا قول أبي جعفر الباقر نحن أهل الذكر ومراده أن
هذه الأمة أهل الذكر صحيح فإن هذه الأمة أعلم من جميع الأمم السالفة. وعلماء أهل بيت رسول الله عليهم
591

السلام والرحمة من خير العلماء إذا كانوا على السنة المستقيمة كعلي وابن عباس وابني علي الحسن والحسين
ومحمد بن الحنفية وعلي بن الحسين زين العابدين وعلي بن عبد الله بن عباس وأبي جعفر الباقر وهو محمد بن
علي بن الحسين وجعفر ابنه وأمثالهم وأضرابهم وأشكالهم ممن هو متمسك بحبل الله المتين وصراطه المستقيم
وعرف لكل ذي حق حقه ونزل كل المنزل الذي أعطاه الله ورسوله واجتمعت عليه قلوب عباده المؤمنين
والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كانوا بشرا
كما هو بشر كما قال تعالى " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى
إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " وقال تعالى " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام
ويمشون في الأسواق " وقال تعالى " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين " وقال " قل ما كنت
بدعا من الرسل " وقال تعالى " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي " ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل
كانوا بشرا إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذين سلفوا هل كان أنبياؤهم بشرا أو ملائكة ثم ذكر
تعالى أنه أرسلهم " بالبينات " أي بالحجج والدلائل " والزبر " وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد
والضحاك وغيرهم والزبر جمع زبور تقول العرب زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى " وكل شئ فعلوه في
الزبر " وقال " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ثم قال تعالى " وأنزلنا
إليك الذكر " يعني القرآن " لتبين للناس ما نزل إليهم " أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك
عليه واتباعك له ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل " ولعلهم
يتفكرون " أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.
أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون (45) أو
يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين (46) أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم (47)
يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم
وحملهم عليها مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض أو يأتيهم العذاب " من حيث لا يشعرون " أي من حيث لا
يعلمون مجيئه إليهم كقوله تعالى " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور *
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " وقوله " أو يأخذهم في تقلبهم " أي في
تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفار ونحوها من الاشغال الملهية، قال قتادة والسدي تقلبهم أي
أسفارهم وقال مجاهد والضحاك وقتادة " في تقلبهم " في الليل والنهار كقوله " أفأمن أهل القرى أن يأتيهم
بأسنا بياتا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون " وقوله " فما هم بمعجزين " أي
لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه وقوله " أو يأخذهم على تخوف " أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من
أخذه لهم فإنه يكون أبلغ وأشد فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ولهذا قال العوفي عن ابن عباس " أو
يأخذهم على تخوف " يقول إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك وكذا روي عن مجاهد والضحاك
وقتادة وغيرهم ثم قال تعالى " فإن ربكم لرءوف رحيم " أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة كما ثبت في
الصحيحين " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " وفيهما " إن الله
ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن
أخذه أليم شديد " وقال تعالى " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ".
أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون (48) ولله يسجد
592

ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون (49) يخافون ربهم من فوقهم
ويفعلون ما يؤمرون (50)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شئ ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها جماداتها
وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال أي بكرة
وعشيا فإنه ساجد بظله لله تعالى. قال مجاهد إذا زالت الشمس سجد كل شئ لله عز وجل وكذا قال قتادة
والضحاك وغيرهم وقوله " وهم داخرون " أي صاغرون وقال مجاهد أيضا سجود كل شئ فيؤه وذكر الجبال
قال سجودها فيؤها وقال أبو غالب الشيباني أمواج البحر صلاته ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم فقال
" ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة " كما قال " ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا
وكرها وظلالهم بالغدو والآصال " وقوله " والملائكة وهم لا يستكبرون " أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن
عبادته " يخافون ربهم من فوقهم " أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله " ويفعلون ما يؤمرون "
أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره وترك زواجره.
* وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون (51) وله ما في السماوات والأرض وله
الدين واصبا أفغير الله تتقون (52) وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ثم إذا
كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما أتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55)
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو وأنه لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له فإنه مالك كل شئ وخالقه وربه " وله
الدين واصبا " قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وميمون بن مهران والسدي وقتادة وغير واحد أي دائم وعن ابن
عباس أيضا أي واجبا وقال مجاهد أي خالصا أي له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض كقوله " أفغير دين
الله يبغون * وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون " هذا على قول ابن عباس وعكرمة
فيكون من باب الخبر وأما على قول مجاهد فإنه يكون من باب الطلب أي ارهبوا أن تشركوا بي شيئا وأخلصوا
لي الطاعة كقوله تعالى " ألا لله الدين الخالص " ثم أخبر أنه مالك النفع والضر وأن ما بالعباد من رزق ونعمة
وعافية ونصر فمن فضله عليهم وإحسانه إليهم " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " أي لعلمكم أنه لا يقدر
على إزالته إلا هو فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به كقوله تعالى
" وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا " وقال
ههنا " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم " قيل اللام ههنا لام العاقبة
وقيل لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم وأنه المسدي إليهم النعم
الكاشف عنهم النقم ثم توعدهم قائلا " فتمتعوا " أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلا " فسوف
تعلمون " أي عاقبة ذلك.
ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسئلن عما كنتم تفترون (56) ويجعلون لله البنات سبحانه
ولهم ما يشتهون (57) وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم (58) يتوارى من القوم من سوء
ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون (59) للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء
593

ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم (60)
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان
نصيبا مما رزقهم الله فقالوا " هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو
يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " أي جعلوا لآلهتهم نصيبا مع الله وفضلوها على جانبه فأقسم الله تعالى
بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال
" تالله لتسئلن عما كنتم تفترون " ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وجعلوها
بنات الله فعبدوها معه فأخطأوا خطأ كبيرا في كل مقام من هذه المقامات الثلاث فنسبوا إليه تعالى أن له ولدا ولا
ولد له ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم كما قال " ألكم الذكر وله
الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى " وقوله ههنا " ويجعلون لله البنات سبحانه " أي عن قولهم وإفكهم " ألا إنهم
من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون * أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون " وقوله " ولهم
ما يشتهون " أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله تعالى الله عن قولهم
علوا كبيرا. فإنه " إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا " أي كئيبا من الهم " وهو كظيم " ساكت من شدة
ما هو فيه من الحزن " يتوارى من القوم " أي يكره أن يراه الناس " من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم
يدسه في التراب " أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ويفضل أولاده الذكور عليها " أم يدسه في
التراب " أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون
لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ " ألا ساء ما يحكمون " أي بئس ما قالوا وبئس ما قسموا وبئس ما نسبوه إليه كقوله
تعالى " وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ضل وجهه مسودا وهو كظيم " وقوله ههنا " للذين لا يؤمنون
بالآخرة مثل السوء " أي النقص إنما ينسب إليهم " ولله المثل الاعلى " أي الكمال المطلق من كل وجه وهو
منسوب إليه " وهو العزيز الحكيم ".
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون
ساعة ولا يستقدمون (61) ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب إن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار
وأنهم مفرطون (62)
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة أي لأهلك جميع
دواب الأرض تبعا لاهلاك بني آدم ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم
بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحدا قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص أنه قال:
كاد الجعل أن يعذب بذنب بني آدم وقرأ الآية " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " وكذا روى
الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة قال: قال عبد الله كاد الجعل أن يهلك في جحره بخطيئة بني آدم وقال
ابن جرير: حدثني محمد بن المثنى حدثنا إسماعيل بن حكيم الخزاعي حدثنا محمد بن جابر الحنفي عن
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة رجلا وهو يقول: إن الظالم لا يضر إلا نفسه قال فالتفت
إليه فقال: بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن
الحسين أنبأنا الوليد بن عبد الملك حدثنا عبيد الله بن شرحبيل حدثنا سليمان بن عطاء عن سلمة بن عبد الله عن
عمه أبي مشجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فقال " إن الله لا يؤخر شيئا إذا جاء أجله وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده
594

فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر ". وقوله " ويجعلون لله ما يكرهون " أي من البنات ومن الشركاء الذين
هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله وقوله " وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى "
إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضا لهم الحسنى وإخبار عن
قيل من قال منهم كقوله " ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد
ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور " وقوله " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا
لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من
عذاب غليظ " وقوله " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " وقال إخبارا عن أحد الرجلين إنه " دخل
جنته وهو ظالم لنفسه فقال ما أظن أن تبيد هذه أبدا * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها
منقلبا " فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسنا وهذا مستحيل كما ذكر ابن
إسحاق أنه وجد حجر في أساس الكعبة حين نقضوها ليجددوها مكتوب عليه حكم ومواعظ، فمن ذلك: تعملون
السيئات وتجزون الحسنات؟ أجل كما يجتنى من الشوك العنب. وقال مجاهد وقتادة " وتصف ألسنتهم الكذب
أن لهم الحسنى " أي الغلمان وقال ابن جرير " أن لهم الحسنى " أي يوم القيامة كما قدمنا بيانه وهو الصواب
ولله الحمد ولهذا قال تعالى رادا عليهم في تمنيهم ذلك " لا جرم " أي حقا لابد منه " أن لهم النار " أي يوم
القيامة " وأنهم مفرطون " قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم منسيون فيها مضيعون وهذا كقوله تعالى
" فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " وعن قتادة أيضا مفرطون أي معجلون إلى النار من الفرط وهو السابق
إلى الورد ولا منافاة لانهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون.
تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم (63) وما أنزلنا عليك
الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون (64) والله أنزل من السماء ماء فأحيا به
الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون (65)
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلا فكذبت الرسل فلك يا محمد في إخوانك من المرسلين أسوة فلا
يهيدنك تكذيب قومك لك وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما
فعلوه " فهو وليهم اليوم " أي هم تحت العقوبة والنكال والشيطان وليهم ولا يملك لهم خلاصا ولا صريخ لهم
ولهم عذاب أليم ثم قال تعالى لرسوله أنه إنما أنزل عليك الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه فالقرآن فاصل
بين الناس في كل ما يتنازعون فيه " هدى " أي للقلوب " ورحمة " أي لمن تمسك به " لقوم يؤمنون " وكما جعل سبحانه
القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها كذلك يحيى الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء " إن في ذلك
لآية لقوم يسمعون " أي يفهمون الكلام ومعناه.
وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين (66) ومن
ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون (67)
يقول تعالى " وإن لكم " أيها الناس " في الانعام " وهى الإبل والبقر والغنم " لعبرة " أي لآية ودلالة على
حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه " نسقيكم مما في بطونه " أفرد ههنا عودا على معنى النعم أو الضمير عائد
على الحيوان فإن الانعام حيوانات أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان وفي الآية الأخرى مما في بطونها
ويجوز هذا وهذا كما في قوله تعالى " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره " وفي قوله تعالى " وإني مرسلة إليهم بهدية
595

فناظرة بم يرجع المرسلون * فلما جاء سليمان " أي المال وقوله " من بين فرث ودم لبنا خالصا " أي يتخلص
الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته
فيصرف منه دم إلى العروق ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة وروث إلى المخرج وكل منها لا يشوب الآخر ولا
يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به وقوله " لبنا خالصا سائغا للشاربين " أي لا يغص به أحد. ولما ذكر اللبن
وأنه تعالى جعله شرابا للناس سائغا ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب وما كانوا
يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ولهذا امتن به عليهم فقال " ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه
سكرا " دل على إباحته شرعا قبل تحريمه ودل على التسوية بين المسكر المتخذ من النخل والمتخذ من العنب
كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء وكذا حكم سائر الأشربة المتخذة من الحنطة والشعير
والذرة والعسل كما جاءت السنة بتفصيل ذلك وليس هذا موضع بسط ذلك كما قال ابن عباس في قوله " سكرا
ورزقا حسنا " قال السكر ما حرم من ثمرتيهما والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما وفي رواية السكر حرامه
والرزق الحسن حلاله يعني ما يبس منهما من تمر وزبيب وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال
يشرب قبل أن يشتد كما وردت السنة بذلك " إن في ذلك لآية لقوم يعقلون " ناسب ذكر العقل ههنا فإنه أشرف
ما في الانسان ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها قال الله تعالى " وجعلنا فيها جنات
من نخيل وأعناب وفجرنا فيها العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج
كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ".
وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون (68) ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي
سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون (69)
المراد بالوحي هنا الالهام والهداية والارشاد للنحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون
ثم هي محكمة في غاية الاتقان في تسديسها ورصها بحيث لا يكون في بيتها خلل ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا
تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث
شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد
عنه يمنة ولا يسرة بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل فتبني الشمع من أجنحتها وتقئ العسل من فيها وتبيض
الفراخ من دبرها ثم تصبح إلى مراعيها وقال قتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم " فاسلكي سبل ربك ذللا " أي
مطيعة فجعلاه حالا من السالكة قال ابن زيد وهو كقول الله تعالى " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون "
قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل ببيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم؟ والقول الأول هو الاظهر وهو أنه حال من
الطريق أي فاسلكيها مذللة لك نص عليه مجاهد وقال ابن جرير كلا القولين صحيح وقد قال أبو يعلى
الموصلي حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا مكين بن عبد العزيز عن أبيه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عمر
الذباب أربعون يوما والذباب كله في النار إلا النحل " وقوله تعالى " يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه
شفاء للناس " ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها. وقوله
" فيه شفاء للناس " أي في العسل شفاء للناس أي من أدواء تعرض لهم قال بعض من تكلم على الطب النبوي
لو قال فيه الشفاء للناس لكان دواء لكل داء ولكن قال فيه شفاء للناس أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة فإنه حار
والشئ يداوى بضده وقال مجاهد وابن جرير في قوله " فيه شفاء للناس " يعني القرآن وهذا قول صحيح في
نفسه ولكن ليس هو الظاهر ههنا من سياق الآية فإن الآية إنما ذكر فيها العسل ولم يتابع مجاهد على قوله ههنا
وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " وقوله تعالى " يا أيها الناس
596

قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين " والدليل على أن المراد بقوله تعالى
" فيه شفاء للناس " هو العسل الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة عن أبي المتوكل
علي بن داود الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق
بطنه فقال " اسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال
" اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال يا رسول الله ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" صدق الله وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا " فذهب فسقاه عسلا فبرئ. قال بعض العلماء بالطب كان
هذا الرجل عنده فضلات فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهالا فاعتقد الاعرابي أن
هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسدة
المضرة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه من ربه أفضل الصلاة
والسلام، وفي الصحيحين من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يعجبه الحلواء والعسل هذا لفظ البخاري. وفي صحيح البخاري من حديث سالم الأفطس عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم أو شربة عسل أو كية بنار وأنهى
أمتي عن الكي ". وقال البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل عن عاصم بن عمر بن قتادة
سمعت جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن كان في شئ من أدويتكم أو يكون في شئ من
أدويتكم خير: ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار توافق الداء وما أحب أن أكتوي ". ورواه مسلم
من حديث عاصم بن عمر بن قتادة عن جابر به. وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا عبد الله أنبأنا
سعيد بن أبي أيوب حدثنا عبد الله بن الوليد عن أبي الخير عن عقبة بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ثلاث إن كان في شئ شفاء: فشرطة محجم أو شربة عسل أو كية تصيب ألما وأنا أكره الكي ولا أحبه ".
ورواه الطبراني عن هارون بن سلول المصري عن أبي عبد الرحمن المقري عن عبد الله بن الوليد به. ولفظه " إن
كان في شئ شفاء: فشرطة محجم ". وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه. وقال الإمام أبو عبد الله
محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه حدثنا علي بن سلمة هو التغلبي حدثنا زيد بن حباب، حدثنا سفيان
عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص بن عبد الله هو ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليكم بالشفاءين العسل
والقرآن " وهذا إسناد جيد تفرد بإخراجه ابن ماجة مرفوعا. وقد رواه ابن جرير عن سفيان بن وكيع عن أبيه عن
سفيان هو الثوري به موقوفا وله شبه. وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إذا أراد
أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس
منها فليشتر به عسلا فليشربه كذلك فإنه شفاء: أي من وجوه قال الله تعالى " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة
للمؤمنين " وقال " وأنزلنا من السماء ماء مباركا " وقال " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " وقال
في العسل " فيه شفاء للناس " وقال ابن ماجة أيضا: حدثنا محمود بن خداش حدثنا سعيد بن زكريا القرشي حدثنا
الزبير بن سعيد الهاشمي عن عبد الحميد بن سالم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لعق العسل ثلاث
غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء " الزبير بن سعيد متروك وقال ابن ماجة أيضا حدثنا إبراهيم بن
محمد بن يوسف بن سرح الفريابي حدثنا عمرو بن بكير السكسكي حدثنا إبراهيم بن أبي عبلة سمعت أبا أبي ابن
أم حرام وكان قد صلى القبلتين يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " عليكم بالسنا والسنوت فإن فيهما شفاء من كل
داء إلا السام ". قيل يا رسول الله وما السام؟ قال " الموت " قال عمرو قال ابن أبي عبلة السنوت الشبت وقال
آخرون بل هو العسل الذي في زقاق السمن وهو قول الشاعر:
هم السمن بالسنوت لا لبس فيهم * وهم يمنعون الجار أن يقردا
597

كذا رواه ابن ماجة، وقوله لا لبس فيهم أي لا خلط وقوله يمنعون الجار أن يقردا أي يضطهد ويظلم وقوله " إن
في ذلك لآية لقوم يتفكرون " أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه
والاجتناء من سائر الثمار ثم جمعها للشمع والعسل وهو من أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها
ومقدرها ومسخرها وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم.
والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا إن الله عليم قدير (70)
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم ومنهم من يتركه حتى يدركه
الهرم وهو الضعف في الخلقة كما قال تعالى " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة " الآية.
وقد روي عن علي رضي الله عنه أرذل العمر خمس وسبعون سنة وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف
وسوء الحفظ وقلة العلم ولهذا قال " لكيلا يعلم بعد علم شيئا " أي بعد ما كان عالما أصبح لا يدري شيئا من
الفند والخرف ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا هارون بن موسى
أبو عبد الله الأعور عن شعيب عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو " أعوذ بك من البخل والكسل والهرم
وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات " وقال زهير بن أبي سلمة في معلقته المشهورة.
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين عاما لا أبالك يسأم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب * تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم.
والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء
أفبنعمة الله يجحدون (71)
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء وهم يعترفون أنها عبيد له كما كانوا يقولون في
تلبيتهم في حجهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فقال تعالى منكرا عليهم أنتم لا
ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم كما قال في
الآية الأخرى " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء
تخافونهم كخيفتكم أنفسكم " الآية قال العوفي عن ابن عباس في هده الآية يقول لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في
أموالهم ونسائهم فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني فذلك قوله " أفبنعمة الله يجحدون " وقال في الرواية
الأخرى عنه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم وقال مجاهد في هذه الآية هذا مثل الآلهة الباطلة وقال
قتادة هذا مثل ضربه الله فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن
لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه منك، وقوله " أفبنعمة الله يجحدون " أي أنهم جعلوا لله مما ذرأ من
الحرث والانعام نصيبا فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره وعن الحسن البصري قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله
عنه هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: وأقنع برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في
الرزق بلاء يبتلي به كلا فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله. رواه
ابن أبي حاتم.
والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون
وبنعمة الله هم يكفرون (72)
598

يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا من جنسهم وشكلهم ولو جعل الأزواج من نوع
آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكورا وإناثا وجعل الإناث أزواجا
للذكور ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين قاله ابن عباس وعكرمة والحسن
والضحاك وابن زيد قال شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بنين وحفدة: وهم الولد وولد الولد.
وقال سنيد حدثنا حجاج عن أبن بكر عن عكرمة عن ابن عباس قال: بنوك حيث يحفدونك ويرفدونك
ويعينونك ويخدمونك. قال جميل:
حفد الولائد حولهن وأسلمت * بأكفهن أزمة الاجمال
وقال مجاهد: بنين وحفدة ابنه وخادمه. وقال في رواية: الحفدة الأنصار والأعوان والخدام وقال طاوس وغير
واحد: الحفدة الخدم. وكذا قال قتادة وأبو مالك والحسن البصري. وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر عن
الحكم بن أبان عن عكرمة أنه قال: الحفدة من خدمك من ولدك وولد ولدك قال الضحاك:
إنما كانت العرب تخدمها بنوها. وقال العوفي عن ابن عباس قوله " وجعل لكم من
أزواجكم بنين وحفدة " يقول بنو امرأة الرجل ليسوا منه. ويقال الحفدة الرجل يعمل بين يدي الرجل. يقال فلان
يحفد لنا أي يعمل لنا قال وزعم رجال أن الحفدة أختان الرجل وهذا الأخير الذي ذكره ابن عباس قاله ابن
مسعود ومسروق وأبو الضحى وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد والقرظي ورواه عكرمة عن ابن عباس.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم الاصهار. قال ابن جرير: وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة
وهو الخدمة الذي منه قوله في القنوت: وإليك نسعى ونحفد ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم
والأصهار فالنعمة حاصلة بهذا كله ولهذا قال " وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة " قلت فمن جعل " وحفدة "
متعلقا بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد أو الاصهار لانهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة:
وكذا قال الشعبي والضحاك فإنهم يكونون غالبا تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته وقد يكون هذا هو
المراد من قوله عليه الصلاة والسلام في حديث نضرة بن أكثم " والولد عبد لك " رواه أبو داود. وأما من جعل
الحفدة الخدم فعنده أنه معطوف على قوله " والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا " أي جعل لكم الأزواج والأولاد
خدما. وقوله " ورزقكم من الطيبات " أي من المطاعم والمشارب. ثم قال تعالى منكرا على من أشرك في عبادة
المنعم غيره " أفبالباطل يؤمنون " وهم الأنداد والأصنام " وبنعمة الله هم يكفرون " يسترون نعم الله عليهم
ويضيفونها إلى غيره، وفي الحديث الصحيح " إن الله يقول للعبد يوم القيامة ممتنا عليه ألم أزوجك؟ ألم
أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع ".
ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون (73) فلا تضربوا لله الأمثال
إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون (74)
يقول تعالى إخبارا عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك
له ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا أي لا
يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ولا يملكون ذلك لأنفسهم أي ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو
أرادوه ولهذا قال تعالى " فلا تضربوا لله الأمثال " أي لا تجعلوا له أندادا وأشباها وأمثالا " إن الله يعلم وأنتم لا
تعلمون " أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو وأنتم بجهلكم تشركون به غيره.
599

* ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون
الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون (75)
قال العوفي عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير فالعبد المملوك
الذي لا يقدر على شئ مثل الكافر والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سرا وجهرا هو المؤمن. وقال ابن
أبي نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما
ظاهرا واضحا بينا لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى " الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ".
وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو
ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم (76)
قال مجاهد وهذا أيضا المراد به الوثن والحق تعالى يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشئ ولا
يقدر على شئ بالكلية فلا مقال ولا فعال وهو مع هذا " كل " أي عيال وكلفة على مولاه " أينما يوجهه " أي يبعثه " لا
يأت بخير " ولا ينجح مسعاه " هل يستوي " من هذه صفاته " ومن يأمر بالعدل " أي بالقسط فمقاله حق وفعاله
مستقيمة " وهو على صراط مستقيم " وقيل الأبكم مولى لعثمان وبهذا قال السدي وقتادة وعطاء الخراساني واختار
هذا القول ابن جرير.
وقال العوفي عن ابن عباس هو مثل للكافر والمؤمن أيضا كما تقدم وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن الصباح البزار
حدثنا يحيى بن إسحاق السالحيني حدثنا حماد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن إبراهيم عن عكرمة عن
يعلى بن أمية عن ابن عباس في قوله " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " قال نزلت في رجل من
قريش وعبده يعني قوله " عبدا مملوكا " الآية. وفي قوله " وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم - إلى قوله - وهو
على صراط مستقيم " قال هو عثمان بن عفان قال والأبكم الذي أينما يوجهه لا يأت بخير قال هو مولى
لعثمان بن عفان كان عثمان ينفق عليه ويكلفه ويكفيه المؤونة وكان الآخر يكره الاسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة
والمعروف فنزلت فيهما.
ولله غيب السماوات والأرض وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير (77) والله
أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم تشكرون (78) ألم
يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (79)
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض واختصاصه بعلم الغيب فلا
اطلاع لاحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع وأنه إذا أراد
شيئا فإنما يقول له كن فيكون كما قال " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " أي فيكون ما يريد كطرف العين وهكذا
قال ههنا " وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شئ قدير " كما قال " ما خلقكم ولا
بعثكم إلا كنفس واحدة " ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا ثم بعد
هذا يرزقهم السمع الذي يدركون الأصوات والابصار التي بها يحسون المرئيات والأفئدة وهي العقول التي مركزها
القلب على الصحيح وقيل الدماغ والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها وهذه القوى والحواس تحصل للانسان
600

على التدريج قليلا قليلا كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده. وإنما جعل تعالى هذه في
الانسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه كما جاء في صحيح
البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب، وما
تقرب إلى عبدي بشئ أفضل من أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا
أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني
لأعطينه ولئن دعاني لأجيبنه ولئن استعاذ بي لأعيذنه وما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي
المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه ". فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها
لله عز وجل فلا يسمع إلا لله ولا يبصر إلا لله أي ما شرعه الله له ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله عز وجل
مستعينا بالله في ذلك كله ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله ورجله التي يمشي بها
" فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ". ولهذا قال تعالى " وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة لعلكم
تشكرون " كقوله تعالى في الآية الأخرى " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة قليلا ما
تشكرون * قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون " ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين
السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى
التي جعل فيها قوى تفعل ذلك وسخر الهواء يحملها وبسير الطير ذلك كما قال تعالى في سورة الملك " أو لم يروا
إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير " وقال ههنا " إن في ذلك لآيات
لقوم يؤمنون ".
والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم
ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (80) والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال
أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون (81) فإن
تولوا فإنما عليك البلاغ المبين (82) يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون (83)
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لم يأوون إليها ويستترون بها
وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع وجعل لهم أيضا من جلود الانعام بيوتا أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم
ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال " تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها "
أي الغنم " وأوبارها " أي الإبل " وأشعارها " أي المعز والضمير عائد على الانعام " أثاثا " أي تتخذون منه أثاثا
وهو المال وقيل المتاع وقيل الثياب والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك
ويتخذ مالا وتجارة وقال ابن عباس الأثاث المتاع وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية
العوفي وعطاء الخراساني والضحاك وقتادة وقوله " إلى حين " أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم وقوله " والله
جعل لكم مما خلق ظلالا " قال قتادة يعني الشجر " وجعل لكم من الجبال أكنانا " أي حصونا ومعاقل كما " جعل
لكم سرابيل تقيكم الحر " وهي الثياب من القطن والكتان والصوف " وسرابيل تقيكم بأسكم " كالدروع من
الحديد المصفح والزرد وغير ذلك " كذلك يتم نعمته عليكم " أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما
تحتاجون إليه ليكون عونا لكم على طاعته وعبادته " لعلكم تسلمون " هكذا فسره الجمهور وقرأوه بكسر اللام من
" تسلمون " من الاسلام وقال قتادة في قوله " كذلك يتم نعمته عليكم " هذه السورة تسمى سورة النعم وقال
عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام بن حنظلة السدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه كان يقرؤها
601

" تسلمون " بفتح اللام يعني من الجراح. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن عباد وأخرجه ابن جرير من الوجهين
ورد هذه القراءة وقال عطاء الخراساني إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب ألا ترى إلى قوله تعالى " والله
جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا " وما جعل من السهل أعظم وأكثر ولكنهم كانوا
أصحاب جبال؟ ألا ترى إلى قوله " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين " وما جعل لهم من غير ذلك
أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر؟ ألا ترى قوله " وينزل من السماء من جبال فيها من برد " لعجبهم
من ذلك وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى " سرابيل تقيكم الحر "
وما تقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر وقوله " فإن تولوا " أي بعد هذا البيان وهذا الامتنان فلا
عليك منهم " فإنما عليك البلاغ المبين " وقد أديته إليهم " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " أي يعرفون أن الله تعالى
هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق
إلى غيره " وأكثرهم الكافرون " كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا
عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مجاهد أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " والله جعل لكم
من بيوتكم سكنا " فقال الاعرابي نعم قال " وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا " الآية. قال الاعرابي نعم ثم
قرأ عليه كل ذلك يقول الاعرابي نعم حتى بلغ " كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون " فولى الاعرابي فأنزل
الله " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها " الآية.
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون (84) وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا
يخفف عنهم ولا هم ينظرون (85) وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا
ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون (86) وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا
يفترون (87) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون (88)
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة وأنه يبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما
أجابته فيما بلغها عن الله تعالى " ثم لا يؤذن للذين كفروا " أي في الاعتذار لانهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله
" هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " فلهذا قال " ولا هم يستعتبون * وإذا رأى الذين ظلموا " أي الذين
أشركوا " العذاب فلا يخفف عنهم " أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة " ولا هم ينظرون " أي لا يؤخر عنهم بل
يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب فإنه إذا جئ بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك
فيشرق عنق منها على الخلائق وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه فتقول إني وكلت بكل جبار عنيد الذي جعل
مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا وتذكر أصنافا من الناس كما جاء في الحديث ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من
الموقف كما يلتقط الطائر الحب قال الله تعالى " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها
مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " وقال تعالى " ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " وقال تعالى " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن
وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون * بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون "
ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال " وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم " أي الذين كانوا
يعبدونهم في الدنيا " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك * فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون " أي
قالت لهم الآلهة كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كما قال تعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب
له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " وقال تعالى
602

" واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقال الخليل عليه
الصلاة والسلام " ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض " الآية. وقال تعالى " وقيل ادعوا شركاءكم " الآية
والآيات في هذا كثيرة.
وقوله " وألقوا إلى الله يومئذ السلم " قال قتادة وعكرمة ذلوا واستسلموا يومئذ أي استسلموا لله جميعهم فلا أحد إلا
سامع مطيع وكقوله تعالى " أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا " أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ وقال " ولو ترى إذ
المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " الآية. وقال " وعنت الوجوه للحي القيوم " أي
خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت وقوله " وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون "
أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجيز. ثم قال تعالى " الذين
كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا " الآية أي عذابا على كفرهم وعذابا على صدهم الناس عن اتباع الحق
كقوله تعالى " وهم ينهون عنه وينأون عنه " أي ينهون الناس عن اتباعه ويبتعدون هم منه أيضا " وإن يهلكون إلا
أنفسهم وما يشعرون " وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة
ودرجاتهم كما قال تعالى " قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون " وقد قال الحافظ أبو يعلى حدثنا شريح بن يونس
حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله في قول الله " زدناهم عذابا فوق
العذاب " قال زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال. وحدثنا شريح بن يونس حدثنا إبراهيم بن سليمان حدثنا
الأعمش عن الحسن عن ابن عباس في الآية أنه قال " زدناهم عذابا فوق العذاب " قال هي خمسة أنهار تحت
العرش يعذبون ببعضها في الليل وببعضها في النهار.
ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا
لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين (89)
يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم " ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا
على هؤلاء " يعني أمتك. أي أذكر ذلك اليوم وهو له وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع وهذه
الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء فلما وصل إلى
قوله " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " حسبك " فقال ابن
مسعود رضي الله عنه فالتفت فإذا عيناه تذرفان وقوله " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " قال ابن مسعود قد
بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شئ وقال مجاهد كل حلال وكل حرام وقول ابن مسعود أعم وأشمل فإن
القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام وما الناس إليه محتاجون في
أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم " وهدى " أي للقلوب " ورحمة وبشرى للمسلمين " وقال الأوزاعي " ونزلنا
عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " أي بالسنة ووجه اقتران قوله " ونزلنا عليك الكتاب " مع قوله " وجئنا بك شهيدا
على هؤلاء " أن المراد والله أعلم. إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك سائلك عن ذلك يوم
القيامة " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون " " يوم
يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". وقال تعالى " إن الذي فرض
عليك القرآن لرادك إلى معاد " أي إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن
أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال وهو متجه حسن.
* إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)
603

يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط والموازنة ويندب إلى الاحسان كقوله تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل
ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله "
وقال " والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب
إلى الفضل. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: " إن الله يأمر بالعدل " قال شهادة أن لا إله إلا الله وقال
سفيان بن عيينة العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا والاحسان أن تكون
سريرته أحسن من علانيته والفحشاء والمنكر أن تكون علانيته أحسن من سريرته، وقوله " وإيتاء ذي القربى "
أي يأمر بصلة الأرحام كما قال " وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا " وقوله " وينهى عن
الفحشاء والمنكر " فالفواحش المحرمات والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها ولهذا قيل في الموضع الآخر " قل إنما
حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وأما البغي فهو العدوان على الناس وقد جاء في الحديث
" ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " وقوله
" يعظكم " أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر " لعلكم تذكرون " وقال الشعبي
عن بشير بن نهيك سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل " إن الله يأمر بالعدل
والاحسان " الآية رواه ابن جرير وقال سعيد عن قتادة قوله " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية ليس من خلق
حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به وليس من خلق سئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا
نهى الله عنه وقدم فيه وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها [قلت] ولهذا جاء في الحديث " إن الله يحب
معالي الا خلاق ويكره سفسافها ". وقال الحافظ أبو يعلى في كتاب معرفة الصحابة حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح
الحنبلي حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم حدثنا الحسن بن داود المنكدري حدثنا عمر بن علي المقدمي عن
علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه
وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه قال فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا
نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله وأما
ما أنا فأنا عبد الله ورسوله ". قال ثم تلا عليهم هذه الآية " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية. قالوا ردد علينا
هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب
وسطا في مضر - أي شريفا - وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها فلما سمعهن أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم
الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الامر رؤوسا ولا تكونوا فيه أذنابا وقد ورد في نزولها حديث حسن
رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثنا شهر حدثني عبد الله بن عباس قال بينما
رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا
تجلس؟ " فقال بلى قال فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى
السماء فنظر ساعة إلى السماء فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض فتحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته
واستفقه ما يقال له شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتى توارى إلى
السماء فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال: يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة فقال
" وما رأيتني فعلت؟ " قال رأيت شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك فتحرفت إليه
وتركتني فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال " وفطنت لذلك؟ " فقال عثمان نعم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس " قال رسول الله؟ قال " نعم " قال فما قال لك؟ قال " إن الله
يأمر بالعدل والاحسان " الآية. قال عثمان فذلك حين استقر الايمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم إسناد جيد
متصل حسن قد بين في السماع المتصل ورواه ابن أبي حاتم من حديث عبد الحميد بن بهرام مختصرا حديث
604

آخر عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا هريم عن ليث عن
شهر بن حوشب عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا إذ شخص بصره فقال " أتاني
جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " الآية. وهذا
إسناد لا بأس به ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين والله أعلم.
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما
تفعلون (91) ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون
أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون (92)
هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الايمان المؤكدة ولهذا قال " ولا تنقضوا
الايمان بعد توكيدها " ولا تعارض بين هذا وبين قوله " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " الآية. وبين قوله تعالى
" ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم " أي لا تتركوها بلا كفارة وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه
في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام قال " إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا
أتيت الذي هو خير وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني " لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا
وهي قوله " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " لأن هذه الايمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الايمان
التي هي واردة على حث أو منع ولهذا قال مجاهد في قوله " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " يعني الحلف أي
حلف الجاهلية ويؤيده ما رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن محمد - هو ابن أبي شيبة - حدثنا ابن نمير وأبو
أسامة عن زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا
حلف في الاسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الاسلام إلا شدة ". وكذا رواه مسلم عن ابن أبي
شيبة به. ومعناه أن الاسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه فإن في التمسك بالاسلام
كفاية عما كانوا فيه. وأما ما ورد في الصحيحين عن عاصم الأحول عن أنس رضي الله عنه أنه قال: حالف
رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دورنا. فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك
والله أعلم. وقال ابن جرير حدثني محمد بن عمارة الأسدي حدثنا عبد الله بن موسى أخبرنا أبو ليلى عن بريدة في
قوله " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " قال نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم كان من أسلم بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الاسلام فقال
" وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " هذه البيعة التي بايعتم على الاسلام " ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها " لا
يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الاسلام. وقال الإمام أحمد حدثنا
إسماعيل حدثنا صخر بن جويرية عن نافع قال لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله ثم تشهد
ثم قال: أما بعد فإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الغادر
ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان وإن من أعظم الغدر - إلا أن يكون الاشراك بالله - أن يبايع رجل
رجلا على بيعة الله ورسوله ثم ينكث بيعته فلا يخلعن أحد منكم يدا ولا يسرفن أحد منكم في هذا الامر فيكون
فصل بيني وبينه " المرفوع منه في الصحيحين، وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حجاج عن عبد الرحمن بن
عابس عن أبيه عن حذيفة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من شرط لأخيه شرطا لا يريد أن يفي له به فهو
كالمدلي جاره إلى غير منفعة " قوله " إن الله يعلم ما تفعلون " تهديد ووعيد لمن نقض الايمان بعد توكيدها.
وقوله " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا " قال عبد الله بن كثير السدي: هذه امرأة خرقاء كانت
بمكة كلما غزلت شيئا نقضته بعد انبرامه وقال مجاهد وقتادة وابن زيد هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده
وهذا القول أرجح وأظهر وسواء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا. وقوله " أنكاثا " يحتمل أن يكون اسم
605

مصدر " نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا " أي أنقاضا ويحتمل أن يكون بدلا عن خبر كان أي لا تكونوا أنكاثا
جمع نكث من ناكث ولهذا قال بعده " تتخذون أيمانكم دخلا بينكم " أي خديعة ومكرا " أن تكون أمة هي أربى
من أمة " أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم فنهى الله عن ذلك
لينبه بالأدنى على الاعلى إذا كان قد نهى عن الغدر والحالة هذه فلان ينهى عنه مع التمكن والقدرة بطريق
الأولى. وقد قدمنا ولله الحمد في سورة الأنفال قصة معاوية لما كان بينه وبين ملك الروم أمد فسار معاوية إليهم
في آخر الاجل حتى إذا انقضى وهو قريب من بلادهم أغار عليهم وهم غارون لا يشعرون فقال له عمرو بن عتبة
الله أكبر يا معاوية وفاء لا غدر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كان بينه وبين قوم أجل فلا يحلن عقده حتى
ينقضي أمدها " فرجع معاوية رضي الله عنه بالجيش قال ابن عباس " أن تكون أمة هي أربى من أمة " أي أكثر
وقال مجاهد كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر
وأعز فنهوا عن ذلك وقال الضحاك وقتادة وابن زيد نحوه وقوله " إنما يبلوكم الله به " قال سعيد بن جبير يعني
بالكثرة رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد " وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه
تختلفون " فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر.
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدى من يشاء ولتسئلن عما كنتم تعملون (93) ولا تتخذوا
أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم (94) ولا
تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله خير لكم إن كنتم تعلمون (95) ما عندكم ينفد وما عند الله باق
ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (96)
يقول الله تعالى " ولو شاء الله لجعلكم " أيها الناس " أمة واحدة " كقوله تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض
كلهم جميعا " أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافا ولا تباغض ولا شحناء " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا
يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم " وهكذا قال ههنا " ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء " ثم
يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير ثم حذر تعالى عباده عن
اتخاذ الايمان دخلا أي خديعة ومكرا لئلا تزل قدم بعد ثبوتها مثل لمن كان على الاستقامة فحاد عنها وزل عن
طريق الهدى بسبب الايمان الحانثة المشتملة على الصد عن سبيل الله لان الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم
غدر به لم يبق له وثوق بالدين فانصد بسببه عن الدخول في الاسلام ولهذا قال " وتذوقوا السوء بما صددتم عن
سبيل الله ولكم عذاب عظيم " ثم قال " ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا " أي لا تعتاضوا عن الايمان بالله عرض
الحياة الدنيا وزينتها فإنها قليلة لو حيزت لابن آدم الدنيا بحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له، أي جزاء الله
وثوابه خير لمن رجاه وآمن به وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده ولهذا قال " إن كنتم تعلمون * ما عندكم ينفد " أي
يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه " وما عند الله باق " أي وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع
ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول " ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " قسم من الرب
تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها.
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (97)
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني
606

آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن
يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة والحياة الطيبة تشتمل وجوه الراحة من أي جهة كانت وقد روى عن
ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسرها
بالقناعة وكذا قال ابن عباس وعكرمة ووهب بن منبه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنها هي
السعادة وقال الحسن ومجاهد وقتادة لا يطيب لاحد حياة إلا في الجنة وقال الضحاك هي الرزق الحلال
والعبادة في الدنيا وقال الضحاك أيضا هي العمل بالطاعة والانشراح بها والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا
كله كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني
شرحبيل بن أبي شريك عن عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قد أفلح من أسلم
ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ". ورواه مسلم من حديث عبد الله بن يزيد المقري به. وروى الترمذي والنسائي
من حديث أبي هانئ عن ابن علي الجهني عن فضالة بن عبيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قد أفلح من هدي
للاسلام وكان عيشه كفافا وقنع به " وقال الترمذي هذا حديث صحيح وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا همام
عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا
ويثاب عليها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى
بها خيرا " انفرد بإخراجه مسلم.
فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (98) إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (99)
إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون (100)
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم وهذا
أمر ندب ليس بواجب حكى الاجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة وقد قدمنا الأحاديث الواردة
في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ولله الحمد والمنة، والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على
القارئ قراءته ويخلط عليه ويمنعه من التدبر والتفكر. ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل
التلاوة وحكى عن حمزة وأبي حاتم السجستاني أنها تكون بعد التلاوة واحتجا بهذه الآية ونقل النووي في
شرح المهذب مثل ذلك عن أبي هريرة أيضا ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والصحيح الأول لما تقدم من
الأحاديث الدالة على تقدمها على التلاوة والله أعلم. وقوله " إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون " قال الثوري ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه وقال آخرون معناه لا حجة له
عليهم وقال آخرون كقوله " إلا عبادك منهم المخلصين " " إنما سلطانه على الذين يتولونه " قال مجاهد
يطيعونه وقال آخرون اتخذوه وليا من دون الله " وهم به مشركون " أي أشركوا في عبادة الله ويحتمل أن تكون
الباء سببية أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى وقال آخرون معناه أنه شركهم في الأموال
والأولاد.
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101) قل نزله
روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين (102)
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وإنه لا يتصور منهم الايمان وقد كتب عليهم الشقاوة
وذلك أنهم إذا رأوا تغيير الاحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما أنت مفتر " أي كذاب وإنما هو
الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقال مجاهد " بدلنا آية مكان آية " أي رفعناها وأثبتنا غيرها وقال
607

قتادة هو كقوله تعالى " ما ننسخ من آية أو ننسها " الآية. فقال تعالى مجيبا لهم " قل نزله روح القدس " أي جبريل
" من ربك بالحق " أي بالصدق والعدل " ليثبت الذين آمنوا " فيصدقوا بما أنزل أولا وثانيا وتخبت له قلوبهم
" وهدى وبشرى للمسلمين " أي وجعله هاديا وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله.
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين (103)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمدا إنما يعلمه هذا الذي يتلوه
علينا من القرآن بشر ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم غلام لبعض بطون قريش وكان بياعا يبيع عند
الصفا وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشئ وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية أو أنه
كان يعرف الشئ اليسير بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه فلهذا قال الله تعالى رادا عليهم في افترائهم
ذلك " لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " أي القرآن أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن
في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل كيف يتعلم
من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني كثيرا ما يجلس عند المروة إلى سبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبعض بني
الحضرمي فأنزل الله " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي
مبين " وكذا قال عبد الله بن كثير وعن عكرمة وقتادة كان اسمه يعيش. وقال ابن جرير حدثني أحمد بن محمد
الطوسي حدثنا أبو عامر حدثنا إبراهيم بن طهمان عن مسلم بن عبد الله الملائي عن مجاهد عن ابن عباس قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قينا بمكة وكان اسمه بلعام وكان أعجمي اللسان وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم
يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا إنما يعلمه بلعام فأنزل الله هذه الآية " ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر
لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين " وقال الضحاك بن مزاحم هو سلمان الفارسي وهذا القول
ضعيف لأن هذه الآية مكية وسلمان إنما أسلم بالمدينة وقال عبيد الله بن مسلم كان لنا غلامان روميان يقرآن كتابا
لهما بلسانهما فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بهما فيقوم فيسمع منهما فقال المشركون يتعلم منهما فأنزل الله هذه الآية وقال
الزهري عن سعيد بن المسيب: الذي قال ذلك من المشركين رجل كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فارتد بعد
ذلك عن الاسلام وافترى هذه المقالة قبحه الله.
إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم (104) إنما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون بآيات
الله وأولئك هم الكاذبون (105)
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره وتغافل عما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الايمان بما
جاء من عند الله بهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الايمان بآياته وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم
عذاب أليم موجع في الآخرة ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على الله
وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شرار الخلق " الذين لا يؤمنون بآيات الله " من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند
الناس والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان أصدق الناس وأبرهم وأكملهم علما وعملا وإيمانا وإيقانا معروفا بالصدق في
قومه لا يشك في ذلك أحد منهم بحيث لا يدعى بينهم إلا بالأمين محمد ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا
سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيما قال له: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن
يقول ما قال؟ قال لا فقال هرقل: فهل كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل.
608

من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم
غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106) ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم
الكافرين (107) أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون (108) لا جرم
أنهم في الآخرة هم الخاسرون (109)
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الايمان والتبصر وشرح صدره بالكفر واطمأن به أنه قد غضب عليه لعلمهم بالايمان ثم
عدولهم عنه وأن لهم عذابا عظيما في الدار الآخرة لانهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة فأقدموا على ما أقدموا
عليه من الردة لأجل الدنيا ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق فطبع على قلوبهم فهم لا يعقلون بها شيئا
ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ولا أغنت عنهم شيئا فهم غافلون عما يراد بهم (لا جرم
أي لابد ولا عجب أن من هذه صفته (أنهم في الآخرة هم الخاسرون) أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم
القيامة. وأما قوله " إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان " فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها
لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول وهو مطمئن بالايمان بالله ورسوله. وقد روى العوفي عن ابن عباس أن
هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فوافقهم على ذلك مكرها وجاء
معتذرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية وهكذا قال الشعبي وقتادة وأبو مالك. وقال ابن جرير حدثنا ابن
عبد الاعلى حدثنا محمد بن ثور عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة محمد بن عمار بن ياسر قال
أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه حتى قاربهم في بعض ما أرادوا فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" كيف تجد قلبك؟ " قال مطمئنا بالايمان قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن عادوا فعد ". ورواه البيهقي بأبسط من ذلك وفيه أنه
سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما تركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم
بخير قال " كيف تجد قلبك؟ " قال مطمئنا بالايمان فقال " إن عادوا فعد " وفي ذلك أنزل الله " إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالايمان " ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ويجوز له أن يأبى
كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل حتى أنهم ليضعوا الصخرة العظمة على
صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد أحد ويقول: والله لو أعلم كلمة هي
أغيظ لكم منها لقلتها. رضي الله عنه وأرضاه. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب:
أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول نعم فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول لا أسمع فلم يزل يقطعه إربا
إربا وهو ثابت على ذلك. وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق
ناسا ارتدوا عن الاسلام فبلغ ذلك ابن عباس فقال لم أكن لأحرقهم بالنار إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تعذبوا
بعذاب الله " وكنت أقاتلهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بدل دينه فاقتلوه " فبلغ ذلك عليا فقال ويح أم ابن عباس.
رواه البخاري.
وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن حميد بن هلال العدوي عن أبي بردة قال: قدم
على أبي موسى معاذ بن جبل باليمن فإذا رجل عنده قال ما هذا؟ قال رجل كان يهوديا فأسلم ثم تهود ونحن نريده
على الاسلام منذ قال أحسبه شهرين فقال والله لا أقعد حتى تضربوا عنقه فضربت عنقه فقال قضى الله ورسوله أن
من رجع عن دينه فاقتلوه أو قال " من بدل دينه فاقتلوه ". وهذه القصة في الصحيحين بلفظ آخر. والأفضل
والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حذافة
السهمي أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي
609

فقال له لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت
فقال إذا أقتلك فقال أنت وذاك قال فأمر به فصلب وأمر الرماة فرموه قريبا من يديه ورجليه وهو يعرض عليه دين
النصرانية فيأبى ثم أمر به فأنزل ثم أمر بقدر وفي رواية ببقرة من نحاس فأحميت وجاء بأسير من المسلمين فألقاه
وهو ينظر فإذا هو عظام تلوح وعرض عليه فأبى فأمر به أن يلقى فيها فرفع في البكرة ليلقى فيها فبكى فطمع فيه
ودعاه فقال إني إنما بكيت لان نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله فأحببت أن يكون
لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله. وفي بعض الروايات أنه سجنه ومنع منه الطعام
والشراب أياما ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير فلم يقربه ثم استدعاه فقال ما منعك أن تأكل؟ فقال أما إنه قد حل
لي ولكن لم أكن لأشمتك بي فقال له الملك فقبل رأسي وأنا أطلقك فقال وتطلق معي جميع أسارى
المسلمين؟ قال نعم فقبل رأسه فأطلقه وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده فلما رجع قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ فقام فقبل رأسه رضي الله
عنهما.
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (110
يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون (111)
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة ثم إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة
فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه وانتظموا في سلك المؤمنين وجاهدوا معهم الكافرين
وصبروا فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم " يوم تأتي كل
نفس تجادل " أي تحاج " عن نفسها " ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة " وتوفى كل نفس ما
عملت " أي من خير وشر " وهم لا يظلمون " أي لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون
نقيرا.
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها
لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (112) ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب
وهم ظالمون (113)
هذا مثل أريد به أهل مكة فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقره يتخطف الناس من حولها ومن دخلها كان آمنا لا يخاف
كما قال تعالى " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل
شئ رزقا من لدنا " وهكذا قال ههنا " يأتيها رزقها رغدا " أي هنيئا سهلا " من كل مكان فكفرت بأنعم الله " أي
جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم كما قال تعالى " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا
قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال " فأذاقها الله لباس
الجوع والخوف " أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليهم ثمرات كل شئ ويأتيها رزقها رغدا من كل
مكان وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا خلافه فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف فأصابتهم سنة أذهبت
كل شئ لهم فأكلوا العلهز وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه وقوله والخوف وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفا
من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه وجعل كل ما لهم في دمار وسفال
حتى فتحها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم
610

وامتن به عليهم في قوله " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم " الآية. وقوله تعالى " فاتقوا
الله يا أولى الألباب * الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا " الآية وقوله " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم
يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة - إلى قوله - ولا تكفرون " وكما أنه انعكس على الكافرين
حالهم فخافوا بعد الامن وجاعوا بعد الرغد فبدل الله المؤمنين من بعد خوفهم أمنا ورزقهم بعد العيلة وجعلهم
أمراء الناس وحكامهم وسادتهم وقادتهم وأئمتهم. وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله العوفي
عن ابن عباس وإليه ذهب مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وحكاه مالك عن الزهري رحمهم الله
وقال ابن جرير حدثني ابن عبد الرحيم البرقي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد حدثنا عبد الرحمن بن شريح
أن عبد الكريم بن الحارث الحضرمي حدثه أنه سمع مشرح بن هاعان يقول سمعت سليم بن نمير يقول صدرنا من
الحج مع حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعثمان رضي الله عنه محصور بالمدينة فكانت تسأل عنه ما فعل؟ حتى رأت
راكبين فأرسلت إليهما تسألهما فقالا قتل. فقالت حفصة والذي نفسي بيده إنها القرية - تعني المدينة - التي قال
الله تعالى " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله " قال ابن
شريح وأخبرني عبيد الله بن المغيرة عمن حدثه أنه كان يقول إنها المدينة.
فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون (114) إنما حرم عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم (115) ولا تقولوا لما تصف
ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون (116)
متاع قليل ولهم عذاب أليم (117)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك فإنه المنعم المتفضل به ابتداء الذي
يستحق العبادة وحده لا شريك له ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة
والدم ولحم الخنزير " وما أهل لغير الله به " أي ذبح على غير اسم الله ومع هذا " فمن اضطر " إليه أي احتاج من غير
بغي ولا عدوان " فإن الله غفور رحيم " وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته
ولله الحمد ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه من
الأسماء بآرائهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وغير ذلك مما كان شرعا لهم ابتدعوه في جاهليتهم فقال
" ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب " ويدخل في هذا كل من
ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي أو حلل شيئا مما حرم الله أو حرم شيئا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه وما
في قوله " لما تصف " مصدرية أي ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ثم توعد على ذلك فقال " إن الذين
يفترون على الله الكذب لا يفلحون " أي في الدنيا ولا في الآخرة أما في الدنيا فمتاع قليل وأما في الآخرة فلهم
عذاب أليم كما قال " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقال " إن الذين يفترون على الله الكذب لا
يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون ".
وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (118) ثم إن
ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم (119)
لما ذكر تعالى أنه حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به وإنما أرخص فيه عند الضرورة - وفي
611

ذلك توسعة لهذه الأمة التي يريد الله بها اليسرى ولا يريد بها العسرى - ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود
في شريعتهم قبل أن ينسخها وما كانوا فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج فقال " وعلى الذين هادوا حرمنا
ما قصصنا عليك من قبل " أي في سورة الأنعام في قوله " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم
حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما - إلى قوله - لصادقون " ولهذا قال ههنا " وما ظلمناهم " أي فيما
ضيقنا عليهم " ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " أي فاستحقوا ذلك كقوله " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم
طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا " ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من
تاب منهم إليه تاب عليه فقال " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة " قال بعض السلف كل من عصى الله فهو
جاهل " ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات " إن
ربك من بعدها " أي تلك الفعلة والزلة " لغفور رحيم ".
إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين (120) شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط
مستقيم (121) وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122) ثم أوحينا إليك أن أتبع ملة
إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين (123)
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية
فقال " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا " فأما الأمة فهو الامام الذي يقتدى به والقانت هو الخاشع المطيع
والحنيف المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد ولهذا قال " ولم يك من المشركين " قال سفيان الثوري عن
سلمة بن كهيل عن مسلم البطين عن أبي العبيدين أنه سأل عبد الله بن مسعود عن الأمة القانت فقال الأمة معلم
الخير والقانت المطيع لله ورسوله وعن مالك قال: قال ابن عمر: الأمة الذي يعلم الناس دينهم وقال الأعمش
عن يحيى بن الجزار عن أبي العبيدين أنه جاء إلى عبد الله فقال من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رق له
فقال أخبرني عن الأمة فقال الذي يعلم الناس الخير وقال الشعبي حدثني فروة بن نوفل الأشجعي قال: قال
ابن مسعود إن معاذا كان أمة قانتا لله حنيفا فقلت في نفسي غلط أبو عبد الرحمن وقال إنما قال الله " إن إبراهيم
كان أمة " فقال تدري ما الأمة وما القانت؟ قلت الله أعلم. فقال الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله
ورسوله وكذلك كان معاذ. وقد روي من غير وجه عن ابن مسعود أخرجه ابن جرير وقال مجاهد أمة أي أمة
وحده والقانت المطيع وقال مجاهد أيضا كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار وقال قتادة
كان إمام هدى والقانت المطيع لله وقوله " شاكرا لأنعمه " أي قائما بشكر نعم الله عليه كقوله تعالى " وإبراهيم
الذي وفي " أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به وقوله " اجتباه " أي اختاره واصطفاه كقوله " ولقد آتينا إبراهيم
رشده من قبل وكنا به عالمين " ثم قال " وهداه إلى صراط مستقيم " وهو عبادة الله وحده لا شريك له على شرع
مرضي وقوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته
الطيبة " وإنه في الآخرة لمن الصالحين ". وقال مجاهد في قوله " وآتيناه في الدنيا حسنة " أي لسان صدق.
وقوله " ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا " أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا
خاتم الرسل وسيد الأنبياء " أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " كقوله في الانعام " قل إنني هداني
ربي إلى صراط مستقيم * دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " ثم قال تعالى منكرا على اليهود.
إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون (124)
612

لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوما من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم
الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده ويقال إن الله تعالى
شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئا من
المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا
عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه وأخذ مواثيقهم وعهودهم على ذلك ولهذا قال تعالى " إنما جعل
السبت على الذين اختلفوا فيه " قال مجاهد اتبعوه وتركوا الجمعة ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله
عيسى ابن مريم فيقال إنه حولهم إلى يوم الأحد ويقال إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها
وإنه لم يزل محافظا على السبت حتى رفع وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد
مخالفة لليهود وتحولوا إلى الصلاة شرقا عن الصخرة والله أعلم.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم
فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد " لفظ البخاري. وعن أبي هريرة
وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت
وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والاحد وكذلك هم تبع لنا
يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة والمقضي بينهم قبل الخلائق " رواه مسلم.
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل
عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (125)
يقول تعالى آمرا رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير وهو ما أنزله عليه من الكتاب
والسنة والموعظة الحسنة أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى وقوله
" وجادلهم بالتي هي أحسن " أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن
خطاب كقوله تعالى " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم " الآية فأمره تعالى
بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله " فقولا له قولا لينا لعله
يتذكر أو يخشى " وقوله " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله " الآية. أي قدم علم الشقي منهم والسعيد وكتب
ذلك عنده وفرغ منه فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات فإنه ليس عليك هداهم إنما
أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب " إنك لا تهدي من أحببت " " ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من
يشاء ".
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين (126) واصبر وما صبرك إلا بالله ولا
تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون (128)
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد عن ابن
سيرين أنه قال في قوله تعالى " فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إن أخذ منكم رجل شيئا فخذوا مثله وكذا قال مجاهد
وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم
613

رجال ذوو منعة فقالوا يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب فنزلت هذه الآية ثم نسخ ذلك
بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال نزلت سورة النحل كلها بمكة وهي مكية إلا
ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لئن
أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلا منهم " فلما سمع المسلمون ذلك قالوا والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم
مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل الله " إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر السورة وهذا
مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم وقد روي هذا من وجه آخر متصل فقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا الحسن بن
يحيى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر
أوجع للقلب منه أو قال لقلبه فنظر إليه وقد مثل به فقال " رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولا للرحم
فعولا للخيرات والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة
نحوها - أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك " فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ
" وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر الآية فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك
وهذا إسناد فيه ضعف لان صالحا هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة وقال البخاري هو منكر الحديث
وقال الشعبي وابن جريج نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك وقال
عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه حدثنا هدبة بن عبد الوهاب المروزي حدثنا الفضل بن موسى حدثنا
عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون
رجلا ومن المهاجرين ستة فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم. فلما
كان يوم الفتح قال رجل لا تعرف قريش بعد اليوم فنادى مناد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلانا
وفلانا - ناسا سماهم - فأنزل الله تبارك وتعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر السورة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " نصبر ولا نعاقب " وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القران فإنها مشتملة على مشروعية العدل
والندب إلى الفضل كما في قوله " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ثم قال " فمن عفا وأصلح فأجره على الله " الآية.
وقال " والجروح قصاص " ثم قال " فمن تصدق به فهو كفارة له " وقال في هذه الآية " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما
عوقبتم به " ثم قال " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقوله تعالى " واصبر وما صبرك إلا بالله " تأكيد للامر
بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته وحوله وقوته، ثم قال تعالى " ولا تحزن عليهم " أي على
من خالفك فإن الله قدر ذلك " ولا تك في ضيق " أي غم " مما يمكرون " أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك
وإيصال الشر إليك فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم وقوله " إن الله مع الذين اتقوا والذين
هم محسنون " أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله " إذ يوحي ربك إلى الملائكة
أني معكم فثبتوا الذين آمنوا " وقوله لموسى وهرون " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق
وهما في الغار " لا تحزن إن الله معنا " وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم كقوله تعالى " وهو معكم أينما
كنتم والله بما تعملون بصير " وكقوله تعالى " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من
نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " وكما قال
تعالى " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " الآية، ومعنى
" الذين اتقوا " أي تركوا المحرمات " الذين هم محسنون " أي فعلوا الطاعات فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم
وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم وقال ابن أبي حاتم ثنا أبي ثنا محمد بن بشار ثنا أبو
614

أحمد الزبير ثنا مسعر عن ابن عون عن محمد بن حاطب قال كان عثمان رضي الله عنه من الذين آمنوا والذين اتقوا
والذين هم محسنون. آخر تفسير سورة النحل ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تسليما.
615