الكتاب: تفسير أبي السعود
المؤلف: أبي السعود
الجزء: ٩
الوفاة: ٩٥١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
ردمك:
ملاحظات:

تفسير أبي السعود
المسمى ارشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم
لقاضي القضاة الإمام
أبي السعود محمد بن محمد العمادي
المتوفى سنة 951 هجرية
الجزء التاسع
الناشر
دار احياء التراث العربي
بيروت - لبنان
1

(سورة الملك مكية وتسمى الواقية والمنجية لأنها تقي وتنجي قارئها من عذاب القبر وآياتها ثلاثون) (بسم الله الرحمن الرحيم) (تبارك الذي بيده الملك) البركة والنماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه أيضا ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك فان مالا يتصور نسبته اليه تعالى من الصيغ كالتكبر ونحوه انما تنسب اليه سبحانه باعتبار غاياتها وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز ان تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئا فشيئا وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وإنبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى واسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها واليد مجاز عن القدرة التامة والاستيلاء الكامل أي تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الذي بقبضة قدرته التصرف الكلي في كل الأمور «وهو على كل شيء» من الأشياء «قدير» مبالغ في القدرة عليه يتصرف فيه حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة والجملة معطوفة على الصلة مقررة لمضمونها مفيدة لجريان احكام ملكه تعالى في جلائل الأمور ودقائقها وقوله تعالى «الذي خلق الموت والحياة» شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول داخل معه في حكم الشهادة بتعاليه تعالى والموت عند أصحابنا صفة وجودية مضادة للحياة وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء الا حي وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حي فكلام وارد على منهاج التمثيل والتصوير وقيل هو عدم الحياة فمعنى خلقه حينئذ تقديره أو إزالة الحياة وأيا ما كان فالأقرب ان المراد به الموت الطارئ وبالحياة ما قبله وما بعده لظهور مداريتهما لما ينطق به قوله تعالى «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» فان استدعاء ملاحظتهما لإحسان العمل مما لا ريب فيه مع أن نفس العمل لا يتحقق بدون الحياة الدنيوية وتقديم الموت لكونه
2

أدعى إلى احسان العمل واللام متعلقة بخلق اي خلق موتكم وحياتكم على ان الألف واللام عوض عن المضاف اليه ليعاملكم معاملة من يختبركم أيكم أحسن عملا فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت طبقات علومكم وأعمالكم فان العمل غير مختص بعمل الجوارح ولذلك فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله واسرع في طاعة الله فان لكل من القلب والقالب عملا خاصا به فكما ان الأول اشرف من الثاني كذلك الحال في عمله كيف لا ولا عمل بدون معرفة الله عز وجل الواجبة على العباد اثر ذي أثير وانما طريقها النظري التفكر في بدائع صنع الله تعالى والتدبر في آياته المنصوبة في الأنفس والآفاق وقد وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام انه قال لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض قالوا وانما كان ذلك التفكر في أمر الله عز وجل الذي هو عمل القلب ضرورة ان أحدا لا يقدر على ان يعمل بجوارحه كل يوم مثل عمل أهل الأرض وتعليق فعل البلوي اي تعقيبة بحرف الاستفهام لا التعليق المشهور الذي يقتضي عدم ايراد المفعول أصلا مع اختصاصه بأفعال القلوب لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالنظر ونظائره ولذلك أجري مجراه بطريق التمثيل وقيل بطريق الاستعارة التبعية وايراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل لهم باعتبار اعمالهم المنقسمة إلى الحسن والأحسن فقط للايذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال احسان المحسنين مع تحقق أصل الايمان والطاعة في الباقين أيضا لكمال تعاضد الموجبات له وأما الإعراض عن ذلك فبمعزل من الاندراج تحت الوقوع فضلا عن الانتظام في سلك الغاية للأفعال الإلهية وانما هو عمل يصدر عن عامله بسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائضها ما لا يخفي «وهو العزيز» الغالب الذي لا يفوته من أساء العمل «الغفور» لمن تاب منهم «الذي خلق سبع سماوات» قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل والأوجه انه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وان كان منقطعا عنهما اعرابا كما مر تفصيله في قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورة البقرة منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليه اليه سبحانه ومع الموصول الثاني في كونه مدارا للبلوي كما نطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا وقوله تعالى «طباقا» صفة لسبع سماوات اي مطابقة على أنه مصدر طابقت النعل إذا خصفتها وصف به المفعول أو مصدره مؤكد لمحذوف هو صفتها اي طوبقت طباقا وقوله تعالى «ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت» صفة أخرى لسبع سماوات وضع فيها خلق الرحمن موضوع الضمير للتعظيم والاشعار بعلة الحكم وبأنه تعالى خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلا وبأن في ابداعها نعما
3

جليلة أو استئناف والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب ومن لتأكيد النفي أي ما ترى فيه شيئا من تفاوت اي اختلاف وعدم تناسب من
الفوت فان كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر وقرئ من تفوت ومعناهما واحد وقوله تعالى «فارجع البصر هل ترى من فطور» متعلق به على معنى التسبيب حيث اخبر أولا بأنه لا تفاوت في خلقهن ثم قيل فارجع البصر حتى يتضح لك ذلك بالمعاينة ولا يبقى عندك شبهة ما والفطور الشقوق والصدوع جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر «ثم ارجع البصر كرتين» اي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما في لبيك وسعديك اي رجعة بعد رجعة وان كثرت «ينقلب إليك البصر خاسئا» اي بعيدا محروما من إصابة ما التمسه من العيب والخلل كأنه يطرد عن ذلك طردا بالصغار والقماءة «وهو حسير» اي كليل لطول المعاودة وكثرة المراجعة وقوله تعالى «ولقد زينا السماء الدنيا» بيان لكون خلق السماوات في غاية الحسن والبهاء اثر بيان خلوها عن شائبة القصور وتصدير الجملة بالقسم لابراز كمال الاعتناء بمضمونها اي وبالله لقد زينا أقرب السماوات إلى الأرض «بمصابيح» اي بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السرج من السيارات والثوابت تتراءى كأن كلها مركوزة فيها مع أن بعضها في سائر السماوات وما ذاك الا لأن كل واحدة منها مخلوقة على نمط رائق تحار في فهمه الأفكار وطراز فائق تهيم في دركه الأنظار «وجعلناها رجوما للشياطين» وجعلنا لها فائدة أخرى هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب المقتبسة من نار الكواكب وقيل معناه وجعلناها ظنونا ورجوما بالغيب لشياطين الانس وهم المنجمون ولا يساعده المقام والرجوم جمع رجم بالفتح وهو ما يرجم به «وأعتدنا لهم» في الآخرة «عذاب السعير» بعد الاحتراق في الدنيا بالشهب «وللذين كفروا بربهم» من الشياطين وغيرهم «عذاب جهنم» وقرئ بالنصب على أنه عطف على عذاب السعير وللذين على لهم «وبئس المصير» أي جهنم «إذا ألقوا فيها سمعوا لها» اي لجهنم وهو متعلق بمحذوف وقع حالا من قوله تعالى «شهيقا» لأنه في الأصل صفته فلما قدمت صارت حالا أي سمعوا كائنا لها شهيقا أي صوتا كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع قالوا الشهيق في الصدر والزفير في الحلق «وهي تفور» اي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه وجعل الشهيق لأهلها منهم وممن طرح فيها قبلهم كما في قوله تعالى لهم فيها زفير وشهيق يرده قوله تعالى
4

«تكاد تميز» اي تتميز وتتفرق «من الغيظ» اي من شدة الغضب عليهم فإنه صريح في انه من آثار الغضب عليهم كما في قوله تعالى سمعوا لها تغيظا وزفيرا فأين هو من شهيقهم الناشئ من شدة ما يقاسونه من العذاب الأليم والجملة اما حال من فاعل تفور أو خبر آخر وقوله تعالى «كلما ألقي فيها فوج» استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان حال نفسها وقيل حال من ضميرها اي كلما القي فيها جماعة من الكفرة «سألهم خزنتها» بطريق التوبيخ والتقريع ليزدادوا عذابا فوق عذاب وحسرة على حسرة «ألم يأتكم نذير» يتلو عليكم آيات ربكم وينذركم لقاء يومكم هذا كما وقع في سورة الزمر ويعرب عنه جوابهم أيضا «قالوا» اعترافا بأنه تعالى قد أزاح عللهم بالكلية «بلى قد جاءنا نذير» جامعين بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجيء النذير وتحسرا على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم وتمهيدا لبيان ما وقع منهم من التفريط تندما واغتماما على ذلك اي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاءنا نذير اي واحدة حقيقة أو حكما كأنبياء بني إسرائيل فإنهم حكم نذير واحد فأنذرنا وتلا علينا ما نزل الله تعالى عليه من آياته «فكذبنا» ذلك النذير في كونه نذيرا من جهته تعالى «وقلنا» في حق ما تلاه من الآيات افراطا في التكذيب وتماديا في النكير «ما نزل الله» أحد «من شيء» من الأشياء فضلا عن تنزيل الآيات عليكم «إن أنتم» اي ما أنتم في ادعاء انه تعالى نزل عليكم آيات تنذروننا بما فيها «إلا في ضلال كبير» بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع ان مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله مبالغة في التكذيب وتماديا في التضليل كما ينبئ عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتما وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فأمر تحقيقي يصار اليه لتهويل ما ارتكبوه من الجنايات لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لادراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة اجماع النذر على مالا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير اما بمعنى الجمع لأنه فعيل أو مصدر مقدر بمضاف عام اي أهل نذير أو منعوت به فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية ومن اعتبر الجمعية بأحد الوجوه الثلاثة على التقدير الأول ولم يخص اعتبارها بالتقدير الأخير فقد اشتبه عليه الشؤون واختلط به الظنون وقد جوز ان يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وان يكون من كلام الرسل للكفرة وقد حكموه للخزانة فتأمل وكن على الحق المبين «وقالوا» أيضا معترفين بأنهم لم يكونوا
5

ممن يسمع أو يعقل «لو كنا نسمع» كلاما «أو نعقل» شيئا «ما كنا في أصحاب السعير» اي في عدادهم ومن اتباعهم وهم الشياطين لقوله تعالى واعتدنا لهم عذاب السعير كأن الخزنة قالوا لهم في تضاعيف التوبيخ ألم تسمعوا آيات ربكم ولم تعقلوا معانيها حتى لا تكذبوا بها فأجابوا بذلك «فاعترفوا بذنبهم» الذي هو كفرهم وتكذيبهم بآيات الله ورسله «فسحقا» بسكون الحاء وقرئ بضمها مصدر مؤكد اما لفعل متعد من المزيد بحذف الزوائد كما في قعدك الله اي فأسحقهم الله اي ابعدهم من رحمته سحقا أي إسحاقا أو لفعل مترتب على ذلك الفعل أي فأسحقهم الله فسحقوا اي بعدوا سحقا اي بعدا كما في قول من قال أو عضة دهريا ابن مروان لم تدع من المال الا مسحت أو مجلف اي لم تدع فلم يبق الا مسحت الخ وعلى هذين الوجهين قوله تعالى وأنبتها نباتا حسنا واللام في قوله تعالى «لأصحاب السعير» للبيان كما في هيت لك ونحوه والمراد بهم الشياطين والداخلون في عدادهم بطريق التغليب «إن الذين يخشون ربهم بالغيب» اي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس أو بما خفى منهم وهو قلوبهم «لهم مغفرة» عظيمة لذنوبهم «وأجر كبير» لا يقادر قدره «وأسروا قولكم أو اجهروا به» بيان لتساوي السر والجهر بالنسبة إلى علمه تعالى كما في قوله سواء منكم من أسر القول ومن جهر به قال ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي عليه الصلاة والسلام فيوحى اليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فان الله يعلمه وتقديم السر على الجهر للايذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في بيان شمول علمه المحيط لجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدر منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية فان علمه تعالى بمعلوماته ليس بطريق حصول صورها بل وجود كل شيء في نفسه علم بالنسبة اليه تعالى أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما
من شيء يجهر به الا وهو أو مباديه مضمر في القلب يتعلق به الأسرار غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقوله تعالى «إنه عليم بذات الصدور» تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبيتها من الجزالة ما لا غاية وراءه كأنه قيل انه مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف يخفى عليه ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدر والمعنى انه عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى «ألا يعلم من خلق»
6

انكار ونفي لعدم إحاطة علمه تعالى بالمضمر والمظهر اي الا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها وقوله تعالى «وهو اللطيف الخبير» حال من فاعل يعلم مؤكدة للانكار والنفي اي الا يعلم ذلك والحال انه المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن ويجوز ان يكون من خلق منصوبا والمعنى الا يعلم الله من خلقه والحال انه بهذه المثابة من شمول العلم ولا مساغ لإخلاء العلم عن المفعول باجرائه مجرى يعطي ويمنع على معنى الا يكون عالما من خلق لان الخلق لا يتأتى بدون العلم لخلو الحال حينئذ من الإفادة لأن نظم الكلام حينئذ الا يكون عالما وهو مبالغ في العلم «هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا» لينة يسهل عليكم السلوك فيها وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما اخر فان ما حقه التقديم إذا اخر لا سيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن والفاء في قوله تعالى «فامشوا في مناكبها» لترتيب الأمر على الجعل المذكور اي فاسلكوا في جوانبها أو جبالها وهو مثل لفرط التذليل فان منكب البعير ارق أعضائه وأنباها عن ان يطأه الراكب بقدمه فإذا جعل الأرض في الذل بحيث يتأتى المشي في مناكبها لم يبق منها شيء لم يتذلل «وكلوا من رزقه» والتمسوا من نعم الله تعالى «وإليه النشور» اي المرجع بعد البعث لا إلى غيره فبالغوا في شكر نعمه وآلائه «أأمنتم من في السماء» اي الملائكة الموكلين بتدبير هذا العالم أو الله سبحانه على تأويل من في السماء امره وقضاؤه أو على زعم العرب حيث كانوا يزعمون انه تعالى في السماء اي أأمنتم من تزعمون انه في السماء وهو متعال عن المكان «أن يخسف بكم الأرض» بعدما جعلها لكم ذلولا تمشون في مناكبها وتأكلون من رزقه لكفر إنكم تلك النعمة أي يقبلها ملتبسة بكم فيغيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدل اشتمال من من وقيل هو على حذف الجار أي من أن يخسف «فإذا هي تمور» أي تضطرب ذهابا ومجيئا على خلاف ما كانت عليه من الذل والاطمئنان «أم أمنتم من في السماء» إضراب عن التهديد بما ذكر وانتقال التهديد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء «أن يرسل عليكم حاصبا» أي حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل وقيل ريحا فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها وقيل هي سحاب فيها حجارة «فستعلمون» عن قريب البتة «كيف نذير» اي إنذاري عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرئ فسيعلمون بالياء «ولقد كذب الذين من قبلهم» اي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة كقوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لابراز
7

الاعراض عنهم «فكيف كان نكير» اي انكاري عليهم بانزال العذاب اي كان على غاية الهول والفظاعة وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط وفيه من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه مالا يخفى «أو لم يروا» أغفلوا ولم ينظروا «إلى الطير فوقهم صافات» باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها فإنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفا «ويقبضن» ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن حينا فحينا للاستظهار به على التحرك وهو السر في ايثار يقبضن الدال على تجدد القبض تارة بعد تارة على قابضات «ما يمسكهن» في الجو عند الصف والقبض على خلاف مقتضى الطبع «إلا الرحمن» الواسع رحمته كل شيء بأن براهن على أشكال وخصائص وهيأهن للجري في الهواء والجملة مستأنفة أو حال من الضمير في يقبضن «إنه بكل شيء بصير» يعلم كيفية ابداع المبدعات وتدبير المصنوعات وقوله تعالى «أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن» تبكيت لهم بنفي ان يكون لهم ناصر غير الله تعالى كما يلوح به التعرض لعنوان الرحمانية ويعضده قوله تعالى ما يمسكهن الا الرحمن أو ناصر من عذابه تعالى كما هو الأنسب بما سيأتي من قوله تعالى ان امسك رزقه كقوله تعالى أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا في المعنيين معا خلا ان الاستفهام هناك متوجه إلى نفس المانع وتحققه وههنا إلى تعيين الناصر لتبكيتهم باظهار عجزهم عن تعيينه وأم منقطعة مقدرة ببل المفيدة للانتقال من توبيخهم على ترك التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن تعاجيب آثار قدرة الله عز وجل إلى التبكيت بما ذكر والالتفات للتشديد في ذلك ولا سبيل إلى تقدير الهمزة معها لأن ما بعدها من الاستفهامية وهي مبتدأ وهذا خبره والموصول مع صلته صفته كما في قوله تعالى من ذا الذي يشفع عنده وايثار هذا لتحقير المشار اليه وينصركم صفة لجند باعتبار لفظه ومن دون الرحمن على الوجه الأول اما حال من فاعل ينصركم أو نعت لمصدره وعلى الثاني متعلق بينصركم كما في قوله تعالى من ينصرني من الله فالمعنى بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم ينصركم نصرا كائنا من دون نصره تعالى أو ينصركم من عذاب كائن من عند الله عز وجل وتوهم ان أم معادلة لقوله تعالى أو لم يروا الخ مع القول بأن من استفهامية مما لا تقريب له أصلا وقوله تعالى «إن الكافرون إلا في غرور» اعتراض مقرر لما قبله ناع عليهم ما هم فيه من غاية الضلال اي ما هم في زعمهم انهم محفوظون من النوائب بحفظ آلهتهم لا بحفظه تعالى فقط أو ان آلهتهم تحفظهم من بأس الله الا في غرور عظيم وضلال فاحش من جهة الشيطان ليس لهم في ذلك شيء يعتد به في الجملة والالتفات إلى الغيبة للايذان باقتضاء حالهم للاعراض عنهم وبيان قبائحهم لغيرهم والاظهار في موقع الاضمار لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به والكلام في قوله تعالى «أم من
8

هذا الذي يرزقكم إن أمسك» اي الله عزل وجل «رزقه» بامساك المطر وسائر مباديه كالذي مر تفصيله خلا ان قوله تعالى «بل لجوا في عتو ونفور» منبئ عن مقدر يستدعيه المقام كأنه قيل اثر تمام التبكيت والتعجيز لم يتأثروا بذلك ولم يذعنوا للحق بل لجوا وتمادوا في عتو اي عناد واستكبار وطغيان ونفور اي شراد عن الحق وقوله تعالى «أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى» الخ مثل ضرب للمشرك والموحد توضيحا لحالهما وتحقيقا لشأن مذهبهما والفاء لترتيب ذلك على ما ظهر من سوء حالهم وخرورهم في مهاوي الغرور وركوبهم متن عشواء العتو والنفور وعدم اهتدائهم في مسلك المحاجة إلى جهة يتوهم فيها رشد في الجملة فان تقدم الهمزة عليها صورة انما
هو لاقتضائها الصدارة واما بحسب المعنى فالأمر بالعكس كما هو المشهور حتى لو كان مكان الهمزة هل لقيل فهل من يمشي مكبا الخ والمكب الساقط على وجهه يقال أكب خر على وجهه وحقيقته صار ذا كب ودخل في الكب كأقشع الغمام اي صار ذا قشع والمعنى أفمن يمشي وهو يعثر في كل ساعة ويخر على وجهه في كل خطوة لتوعر طريقه واختلال قواه اهدى إلى المقصد الذي يؤمه «أم من يمشي سويا» اي قائما سالما من الخبط والعثار «على صراط مستقيم» مستوى الأجزاء لا عوج فيه ولا انحراف قيل خبر من الثانية محذوف لدلالة خبر الأولى عليه ولا حاجة إلى ذلك فان الثانية معطوفة على الأولى عطف المفرد على المفرد كقولك أزيد أفضل أم عمرو وقيل أريد بالمكب الأعمى وبالسوي البصير وقيل من يمشي مكبا هو الذي يحشر على وجهه إلى النار ومن يمشي سويا الذي يحشر على قدميه إلى الجنة «قل هو الذي أنشأكم» انشاء بديعا «وجعل لكم السمع» لتسمعوا آيات الله وتمتثلوا بما فيها من الأوامر والنواهي وتتعظوا بمواعظها «والأبصار» لتنظروا بها إلى الآيات التكوينية الشاهدة بشؤون الله عز وجل «والأفئدة» لتتفكروا بها فيما تسمعونه وتشاهدونه من الآيات التنزيليه والتكوينية وترتقوا في معارج الايمان والطاعة «قليلا ما تشكرون» اي باستعمالها فيما خلقت لأجله من الأمور المذكورة وقليلا نعت لمحذوف وما مزيدة لتأكيد القلة اي شكرا قليلا أو زمانا قليلا تشكرون وقيل القلة عبارة عن العدم «قل هو الذي ذرأكم في الأرض» اي خلقكم وكثركم فيها لا غيره «وإليه تحشرون» للجزاء لا إلى غيره اشتراكا أو استقلالا فابنوا أموركم على ذلك «ويقولون» من فرط عتوهم وعنادهم «متى هذا الوعد» اي الحشر الموعود كما ينبئ عنه قوله تعالى واليه تحشرون «إن كنتم صادقين» يخاطبون به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حيث كانوا
9

مشاركين له عليه الصلاة والسلام في الوعد وتلاوة الآيات المتضمنة له وجواب الشرط محذوف اي ان كنتم صادقين فيما تخبرونه من مجيء الساعة والحشر فبينوا وقته «قل إنما العلم» اي العلم بوقته «عند الله» عز وجل لا يطلع عليه غيره كقوله تعالى قل انما علمها عند ربي «وإنما أنا نذير مبين» أنذركم وقوع الموعود لا محالة وأما العلم بوقت وقوعه فليس من وظائف الانذار والفاء في قوله تعالى «فلما رأوه» فصيحة معربة عن تقدير جملتين وترتيب الشرطية عليهما كأنه قيل وقد اتاهم الموعود فرأوه فلما رأوه إلى آخر كما مر تحقيقه في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده الا ان المقدر هناك أمر واقع مرتب على ما قبله بالفاء وههنا أمر منزل منزلة الواقع وارد على طريقة الاستئناف وقوله تعالى «زلفة» حال من مفعول رأوا اما بتقدير المضاف اي ذا زلفة وقرب أو على انه مصدر بمعنى الفاعل اي مزدلفا أو على انه مصدر نعت به مبالغة أو ظرف اي رأوه في مكان ذي زلفة «سيئت وجوه الذين كفروا» بأن غشيتها الكآبة ورهقها القتر والذلة ووضع الموصول موضع ضميرهم لذمهم بالكفر وتعليل المساءة به «وقيل» توبيخا لهم وتشديدا لعذابهم «وقيل هذا الذي كنتم به تدعون» اي تطلبونه في الدنيا وتستعجلونه انكارا واستهزاء على أنه تفتعلون من الدعاء وقيل هو من الدعوى اي تدعون ان لا بعث ولا حشر وقرئ تدعون هذا وقد روي عن مجاهد ان الموعود عذاب يوم بدر وهو بعيد «قل أرأيتم» اي أخبروني «إن أهلكني الله» اي أماتني والتعبير عنه بالاهلاك لما كانوا يدعون عليه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك «ومن معي» من المؤمنين «أو رحمنا» بتأخير آجالنا فنحن في جوار رحمته متربصون لإحدى الحسنيين «فمن يجير الكافرين من عذاب أليم» اي لا ينجيكم منه أحد متنا أو بقينا ووضع الكافرين موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالكفر وتعليل نفي الانجاء به «قل هو الرحمن» اي الذي أدعوكم إلى عبادته مولى النعم كلها «آمنا به» وحده لما علمنا أن كل ما سواه اما نعمة أو منعم عليه «وعليه توكلنا» لا على غيره أصلا لعلمنا بأن ما عداه كائنا ما كان بمعزل من النفع والضر «فستعلمون» عن قريب البتة «من هو في ضلال مبين» منا ومنكم وقرئ فسيعلمون بالياء التحتانية «قل أرأيتم» اي أخبروني «إن أصبح ماؤكم غورا» اي غائرا في الأرض بالكلية وقيل بحيث لا تناله الدلاء وهو مصدر
10

وصف به «فمن يأتيكم بماء معين» جار أو ظاهر سهل المأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الملك فكأنه أحيا ليلة القدر
سورة القلم مكية الا من آية 17 إلى آية 33 ومن آية 48 إلى آية 50 فمدنية وآياتها اثنتان وخمسون «بسم الله الرحمن الرحيم» ن بالسكون على الوقف وقرئ بالكسر وبالفتح لالتقاء الساكنين ويجوز ان يكون الفتح باضمار حرف القسم في موضع الجر كقولهم الله لأفعلن بالجر وأن يكون ذلك نصبا اذكر لا فتحا كما سبق في فاتحة سورة البقرة وامتناع الصرف للتعريف والتأنيث على أنه علم للسورة ثم ان جعل اسما للحرف مسرودا على نمط التعديد للتحدي بأحد الطريقين المذكورين في موقعه أو اسما للسورة منصوبا على الوجه المذكور أو مرفوعا على انه خبر لمبتدأ محذوف فالواو في قوله تعالى «والقلم» للقسم وان جعل مقسما به فهي للعطف عليه وأيا ما كان فان أريد به قلم اللوح والكرام الكاتبين فاستحقاقه للإعظام بالإقسام به ظاهر وان أريد به الجنس فاستحقاق ما في أيدي الناس لذلك لكثرة منافعه ولو لم يكن له مزية سوى كونه آلة لتحرير كتب الله عز قائلا لكفى به فضلا موجبا لتعظيمه وقرئ بادغام النون في الواو «وما يسطرون» الضمير لأصحاب القلم المدلول عليهم بذكره وقيل للقلم على أن المراد به أصحابه كأنه قيل وأصحاب القلم ومسطوراتهم على أن ما موصولة أو وسطرهم على أنها مصدرية وقيل للقلم نفسه باسناد الفعل إلى الآلة واجرائه مجرى العقلاء لإقامته مقامهم وقيل المراد بالقلم ما خط اللوح خاصة والجمع للتعظيم وقوله تعالى «ما أنت بنعمة ربك بمجنون» جواب القسم والباء متعلقة بمضمر هو حال من الضمير في خبرها والعامل فيها معنى النفي كأنه قيل أنت برئ من الجنون ملتبسا بنعمة الله التي هي النبوة والرياسة العامة والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى معارج الكمال مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه صلى الله عليه وسلم والايذان بأنه تعالى يتم نعمته عليه ويبلغه من العلو إلى غاية لا غاية وراءها والمراد تنزيهه صلى الله عليه وسلم عما كانوا ينسبونه صلى الله عليه وسلم اليه من الجنون حسدا وعداوة ومكابرة مع جزمهم بأنه صلى الله عليه وسلم في غاية الغايات القاصية ونهاية
11

النهايات النائية من حصانة العقل ورزانة الرأي «وإن لك» بمقابلة مقاساتك ألوان الشدائد من جهتهم وتحملك لأعباء الرسالة «لأجرا» لثوابا عظيما لا يقادر قدره «غير ممنون» مع عظمه كقوله تعالى عطاء غير مجذوذ أو غير ممنون عليك من جهة الناس فإنه عطاؤه تعالى بلا توسط «وإنك لعلى خلق عظيم» لا يدرك شأوه أحد من
الخلق ولذلك تحتمل من جهتهم مالا يكاد يحتمله البشر وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت كان خلقه القرآن الست تقرأ القرآن قد أفلح المؤمنون والجملتان معطوفتان على جواب القسم «فستبصر ويبصرون» قال ابن عباس رضي الله عنهما فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتبين الحق من الباطل وقيل فستبصر ويبصرون في الدنيا بظهور عاقبة امركم بغلبة الاسلام واستيلائك عليهم بالقتل والنهب وصيرورتك مهيبا معظما في قلوب العالمين وكونهم أذلة صاغرين قال مقاتل هذا وعيد بعذاب يوم بدر «بأيكم المفتون» اي أيكم الذي فتن بالجنون والباء مزيدة أو بأيكم الجنون على أن المفتون مصدر كالمعقول والمجلود أو بأي الفريقين منكم المجنون أبفريق المؤمنين أم بفريق الكافرين اي في أيهما يوجد من يستحق هذا الاسم وهو تعريض بأبي جهل بن هشام والوليد ابن المغيرة واضربهما كقوله تعالى سيعلمون غدا من الكذاب الأشر وقوله تعالى «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله» تعليل لما ينبئ عنه ما قبله من ظهور جنونهم بحيث لا يخفى على أحد وتأكيدا لما فيه من الوعد والوعيد اي هو اعلم بمن ضل عن سبيله تعالى المؤدي إلى سعادة الدارين وهام في تيه الضلال متوجها إلى ما يفيضه إلى الشقاوة الأبدية وهذا هو المجنون الذي لا يفرق بين النفع والضرر بل يحسب الضرر نفعا فيؤثره والنفع ضررا فيهجره «وهو أعلم بالمهتدين» إلى سبيله الفائزين بكل مطلوب الناجين عن كل محذور وهم العقلاء المراجيح فيجزي كلا من الفريقين حسبما يستحقه من العقاب والثواب وإعادة هو اعلم لزيادة التقرير والفاء في قوله تعالى «فلا تطع المكذبين» لترتيب النهي على ما ينبئ عنه ما قبله من اهتدائه صلى الله عليه وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة وهذا
12

تهييج والهاب للتصميم على معاصاتهم اي دم على ما أنت عليه من عدم طاعتهم وتصلب في ذلك أو نهى عن مداهنتهم ومداراتهم باظهار خلاف ما في ضميره صلى الله عليه وسلم استجلابا لقلوبهم لا عن طاعتهم كما ينبئ عنه قوله تعالى «ودوا لو تدهن» فإنه تعليل للنهي أو الانتهاء وانما عبر عنها بالطاعة للمبالغة في الزجر والتنفير اي أحبوا لو تلاينهم وتسامحهم في بعض الأمور «فيدهنون» اي فهم يدهنون حينئذ أو فهم الان يدهنون طمعا في إدهانك وقيل هو معطوف على تدهن داخل في حيز لو والمعنى ودوا لو يدهنون عقيب إدهانك ويأباه ما سيأتي من بدئهم بالادهان على إدهانهم امر محقق لا يناسب ادخاله تحت التمني وأيا ما كان فالمعتبر في جانبهم حقيقة الادهان الذي هو اظهار الملاينة واضمار خلافها وأما في جانبه صلى الله عليه وسلم فالمعتبر بالنسبة إلى ودادتهم هو اظهار الملاينة فقط واما اضمار خلافها فليس في حيز الاعتبار بل هم في غاية الكراهة له وانما اعتباره بالنسبة اليه صلى الله عليه وسلم وفي بعض المصاحف فيدهنوا على أنه جواب التمني المفهوم من ودوا أو ان ما بعده حكاية لودادتهم وقيل على انه عطف على تدهن بناء على ان لو بمنزلة ان الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا لو دوا كأنه قيل ودوا ان تدهن فيدهنوا وقيل لو على حقيقتها وجوابها محذوف وكذا مفعول ودوا اي ودوا إدهانك لو تدهن فيدهنون لسروا بذلك «ولا تطع كل حلاف» كثير الحلف في الحق والباطل تقديم هذا الوصف على سائر الأوصاف الزاجرة عن الطاعة لكونه ادخل في الزجر «مهين» حقير الرأي والتدبير «هماز» عياب طعان «مشاء بنميم» مضرب نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والافساد بينهم فان النميم والنميمة السعاية «مناع للخير» اي بخيل أو مناع للناس من الخير الذي هو الايمان والطاعة والانفاق «معتد» متجاوز في الظلم «أثيم» كثير الآثام «عتل» جاف غليظ من عتله إذا قاده بعنف وغلظة «بعد ذلك» بعد ما عد من مثالبه «زنيم» دعي مأخوذ من الزنمة وهي الهنة من جلد الماعزة تقطع فتخلى متدلية في حلقها وفي قوله تعالى بعد ذلك دلالة على ان دعوته أشد معايبة وأقبح قبائحه قيل هو الوليد بن المغيرة فإنه كان دعيا في قريش وليس من سنخهم ادعاه المغيرة بعد ثماني عشرة من مولده وقيل هو الأخنس بن شريق أصله من ثقيف وعداده في زهرة
13

«أن كان ذا مال وبنين» متعلق بقوله تعالى لا تطع اي لا تطع من هذه مثالبه لأن كان متمو لا مستظهرا بالبنين وقوله تعالى «إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين» استئناف جار مجرى التعليل للنهي وقيل متعلق بما دل عليه الجملة الشرطية من معنى الجحود ذو التكذيب لا بجواب الشرط لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله كأنه قيل لكونه مستظهرا بالمال والبنين كذب بآياتنا وفيه انه بدل ان مدار تكذيبه كونه ذا مال وبنين من غير أن يكون لسائر قبائحه دخل في ذلك وقرئ أأن كان على معنى الان كان ذا مال كذب بها أو أتطيعه لأن كان ذا مال وقرئ ان كان بالكسر والشرط للمخاطب اي لا تطع كل حلاف شارطا يساره لأن إطاعة الكافر لغناه بمنزلة اشتراط غناه في الطاعة «سنسمه على الخرطوم» بالكي على أكرم مواضعه لغاية اهانته واذلاله قيل أصاب انف الوليد جراحة يوم بدر فبقيت علامتها وقيل معناه سنعلمه يوم القيامة بعلامة مشوهة يعلم بها عن سائر الكفرة «إنا بلوناهم» اي أهل مكة بالقحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم «كما بلونا أصحاب الجنة» وهم قوم من أهل الصلاة كانت لأبيهم هذه الجنة دون صنعاء بفرسخين فكان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي وكان ينادي الفقراء وقت الصرام ويترك لهم ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات أبوهم قال بنوه ان فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر فحلفوا فيما بينهم وذلك قوله تعالى «إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين» ليقطعنها داخلين في الصباح «ولا يستثنون» اي لا يقولون ان شاء الله وتسميته استثناء مع انه شرط من حيث ان مؤداه مؤدي الاستثناء فان قولك لأخرجن ان شاء الله ولا اخرج الا ان يشاء الله بمعنى واحد أو ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يفعله أبوهم والجملة مستأنفة «فطاف عليها» اي على الجنة «طائف» بلاء طائف وقرئ طيف «من ربك» مبتدأ من جهته تعالى «وهم نائمون» غافلون عما جرت به المقادير
14

«فأصبحت كالصريم» كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق منها شيء فعيل بمعنى مفعول وقيل كالليل اي احترقت فاسودت وقيل كالنهار اي يبست وابيضت سميا بذلك لأن كلا منهما ينصرم عن صاحبه وقيل الصريم الرمال «فتنادوا» اي نادى بعضهم بعضا «مصبحين» داخلين في الصباح «أن اغدوا» اي اغدوا على أن أن مفسرة أو بأن اغدوا على انها مصدرية اي اخرجوا غدوة «على حرثكم» بستانكم وضيعتكم وتعدية الغدو بعلى لتضمينه معنى الاقبال أو الاستيلاء «إن كنتم صارمين» قاصدين للصرم «فانطلقوا وهم يتخافتون» اي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة وخفي وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش «أن لا يدخلنها»
اي الجنة «اليوم عليكم مسكين» ان مفسرة لما في التخافت من معنى القول وقرئ بطرحها على اضمار القول والمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول كقولهم لا أرينك ههنا «وغدوا على حرد قادرين» اي على نكد لا غير من حاردت السنة إذا لم يكن فيها مطر وحاردت الإبل إذا منعت درها والمعنى انهم أرادوا ان يتنكدوا على المساكين ويحرموهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها الا على النكد والحرمان وذلك انهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان والمسكنة أو وغدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها قادرين بدل كونهم قادرين على إصابة خيرها ومنافعها اي غدوا حاصلين على النكد والحرمان مكان كونهم قادرين على الانتفاع وقيل الحرد الحرد وقد قرىء بذلك اي لم يقدروا الا على حنق بعضهم لبعض لقوله تعالى يتلاومون وقيل الحرد القصد والسرعة اي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وقيل هو علم للجنة «فلما رأوها قالوا» في بديهة رؤيتهم «إنا لضالون» اي طريق جنتنا وما هي بها
15

«بل نحن محرومون» قالوه بعد ما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول اي لسنا ضالين بل نحن محرمون حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا «قال أوسطهم» اي رأيا أو سنا «ألم أقل لكم لولا تسبحون» لولا تذكرون الله تعالى وتنوبون اليه من خبث نيتكم وقد كان قال لهم حين عزموا على ذلك اذكروا الله وتوبوا اليه عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم وسارعوا إلى حسم شرها قبل حلول النقمة فعصوه فعيرهم كما ينبئ عنه قوله تعالى «قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين» وقيل المراد بالتسبيح الاستثناء لاشتراكهما في التعظيم أو لأنه تنزيه له تعالى عن ان يجري في ملكه مالا يشاؤه «فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون» اي يلوم بعضهم بعضا فان منهم من أشار بذلك ومنهم من استصوبه ومنهم من سكت راضيا به ومنهم من أنكره «قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين» متجاوزين حدود الله «عسى ربنا أن يبدلنا» وقرئ بالتشديد اي يعطينا بدلا منها ببركة التوبة والاعتراف بالخطيئة «خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون» راجعون العفو طالبون الخير والى لانتهاء الرغبة أو لتضمنها معنى الرجوع عن مجاهد تابوا فأبدلوا خيرا منها وروي أنهم تعاقدوا وقالوا ان أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما صنع أبونا فدعوا الله تعالى وتضرعوا اليه فأبدلهم الله تعالى من ليلتهم ما هو خير منها قالوا ان الله تعالى امر جبريل عليه السلام ان يقتلع تلك الجنة المحترقة فيجعلها بزغر من أرض الشام ويأخذ من الشام جنة فيجعلها مكانها وقال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ان القوم لما أخلصوا وعرف الله منهم الصدق أبدلهم جنة يقال لها الحيوان فيها عنب يحمل البغل منه عنقودا وقال أبو خالد اليماني دخلت تلك الجنة فرأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم وسئل قتادة عن أصحاب الجنة أهم من أهل الجنة أم من أهل النار فقال لقد كلفتني تعبا وعن الحسن رحمه الله تعالى قول أصحاب الجنة انا إلى ربنا راغبون لا أدري ايمانا كان ذلك منهم أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة فتوقف في أمرهم والأكثرون على أنهم تابوا وأخلصوا حكاه القشيري
16

«كذلك العذاب» جملة من مبتدأ وخبر مقدم لإفادة القصر والألف واللام للعهد اي مثل الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا «ولعذاب الآخرة أكبر» أعظم وأشد «لو كانوا يعلمون» انه أكبر لاحترزوا عما يؤديهم اليه «إن للمتقين» اي من الكفر والمعاصي «عند ربهم» اي في الآخرة أو في جوار القدس «جنات النعيم» جنات ليس فيها الا التنعم الخالص عن شائبة ما ينغصه من الكدورات وخوف الزوال كما عليه نعيم الدنيا وقوله تعالى «أفنجعل المسلمين كالمجرمين» تقرير لما قبله من فوز المتقين بجنات النعيم ورد لما يقوله الكفرة عند سماعهم بحديث الآخرة وما وعد الله المسلمين فيها فإنهم كانوا يقولون ان صح أنا نبعث كما يزعم محمد ومن معه لم يكن حالنا وحالهم إلا مثل ما هي في الدنيا وإلا لم يزيدوا علينا ولم يفضلونا وأقصى أمرهم أن يساوونا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنحيف في الحكم فنجعل المسلمين كالكافرين ثم قيل لهم بطريق الالتفات لتأكيد الرد وتشديده «ما لكم كيف تحكمون» تعجيبا من حكمهم واستبعادا له وإيذانا بأنه لا يصدر عن عاقل «أم لكم كتاب» نازل من السماء «فيه تدرسون» أي تقرؤن «إن لكم فيه لما تخيرون» أي ما تتخيرونه وتشتهونه وأصله أن لكم بالفتح لأنه مدروس فلما جيء باللام كسرت ويجوز أن يكون حكاية للمدروس كما هو كقوله تعالى وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين وتخير الشيء واختياره اخذ خيره «أم لكم أيمان علينا» اي عهود مؤكدة بالأيمان «بالغة» متناهية في التوكيد وقرئت بالنصب على الحال والعامل فيها أحد الظرفين «إلى يوم القيامة» متعلق بالمقدر في لكم أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة لا نخرج عن عهدتها حتى نحكمكم يومئذ ونعطيكم ما تحكمون أو ببالغة اي ايمان تبلغ ذلك اليوم وتنتهي اليه وافرة لم تبطل منها يمين «إن لكم لما تحكمون» جواب القسم لان معنى أم لكم علينا ايمان
17

أم أقسمنا لكم «سلهم» تلوين للخطاب وتوجيه له إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسقاطهم عن رتبة الخطاب اي سلهم مبكتا لهم «أيهم بذلك» الحكم الخارج عن العقول «زعيم» اي قائم يتصدى لتصحيحه «أم لهم شركاء» يشاركونهم في هذا القول ويذهبون مذهبهم «فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين» في دعواهم إذ لا أقل من التقليد وقد نبه في هذه الآيات الكريمة على أن ليس لهم شيء يتوهم ان يتشبثوا به حتى التقليد الذي لا يفلح من تشبث بذيله وقيل المعنى أم لهم شركاء يجعلونهم مثل المسلمين في الآخرة «يوم يكشف عن ساق» اي يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب وكشف الساق مثل في ذلك وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن في الهرب قال حاتم:
أخو الحرب ان عضت به الحرب عضها * وان شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقيل ساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر وساق الانسان اي يوم يكشف عن أصل الأمر فتظهر حقائق الأمور وأصولها بحيث تصير عيانا وتنكيره للتهويل أو التعظيم وقرئ تكشف بالتاء على البناء للفاعل والمفعول والفعل للساعة أو الحال وقرئ نكشف بالنون ويكشف بالتاء المضمومة وكسر الشين من أكشف الأمر اي دخل في الكشف وناصب الظرف فليأتوا أو مضمر مقدم اي اذكر يوم الخ أو مؤخر اي يوم يكشف عن ساق الخ يكون من الأهوال وعظائم الأحوال مالا يبلغه الوصف «ويدعون إلى السجود» توبيخا وتعنيفا على تركهم إياه في الدنيا وتحسيرا لهم على تفريطهم في ذلك «فلا يستطيعون» لزوال القدرة عليه وفي دلالة على أنهم يقصدون السجود فلا يتأتى منهم عن ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه تعقم أصلا بهم أي ترد عظاما بلا مفاصل لا تنثني عند الرفع والخفض وفي الحديث وتبقى أصلابهم طبقا واحدا اي
فقارة واحدة «خاشعة أبصارهم» حال من مرفوع يدعون على أن ابصارهم مرتفع به على الفاعلية ونسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها «ترهقهم» تلحقهم وتغشاهم «ذلة» شديدة «وقد كانوا يدعون إلى السجود» في الدنيا والاظهار في موضوع الاضمار لزيادة التقرير أو لأن المراد به الصلاة أو ما فيها من السجود والدعوة دعوة التكليف «وهم سالمون» متمكنون منه أقوى تمكن اي فلا يجيبون اليه ويأبونه وانما ترك ذكره ثقة بظهوره «فذرني ومن يكذب بهذا الحديث» اي كله إلى فاني أكفيك أمره أي حسبك في الايقاع
18

به والانتقام منه أن تكل أمره إلي وتخلي بيني وبينه فاني عالم بما يستحقه من العذاب ومطيق له والفاء لترتيب الأمر على ما قبلها من أحوالهم المحكية اي وإذا كان حالهم في الآخرة كذلك فذرني ومن يكذب بهذا القرآن وتوكل على في الانتقام منه وقوله تعالى «سنستدرجهم» استئناف مسوق لبيان كيفية التعذيب المستفاد من الأمر السابق اجمالا والضمير لمن والجمع باعتبار معناها كما أن الافراد في يكذب باعتبار لفظها اي سنستنزلهم إلى العذاب درجة فدرجة بالاحسان وإدامة الصحة وازدياد النعمة «من حيث لا يعلمون» انه استدراج وهو الانعام عليهم بل يزعمون انه ايثار لهم وتفضيل على المؤمنين مع انه سبب لهلاكهم «وأملي لهم» وأمهلهم ليزدادوا اثما وهم يزعمون أن ذلك لإرادة الخير بهم «إن كيدي متين» لا يوقف عليه ولا يدفع بشيء وتسمية ذلك كيدا لكونه في صورة الكيد «أم تسألهم» على الابلاغ والارشاد «أجرا» دنيويا «فهم» لأجل ذلك «من مغرم» أي غرامة مالية «مثقلون» مكلفون حملا ثقيلا فيعرضون عنك «أم عندهم الغيب» اي اللوح أو المغيبات «فهم يكتبون» منه ما يحكمون ويستغنون به عن علمك «فاصبر لحكم ربك» وهو امهالهم وتأخير نصرتك عليهم «ولا تكن كصاحب الحوت» اي يونس عليه السلام «إذ نادى» في بطن الحوت «وهو مكظوم» مملوء غيظا والجملة حال من ضمير نادى وعليها يدور النهي لا على النداء فإنه امر مستحسن ولذلك لم يذكر المنادى وإذ منصوب بمضاف محذوف اي لا يكن حالك كحاله وقت ندائه اي لا يوجد منك ما وجد منه من المضجر والمغاضبة فتبتلي ببلائه «لولا أن تداركه نعمة من ربه» وقرئ رحمة وهو توفيقه للتوبة وقبولها منه وحسن تذكير الفعل للفصل بالضمير وقرئ تداركته وتداركه أي تتداركه على حكاية الحال الماضية بمعنى لولا أن كان يقال تتداركه «لنبذ بالعراء» بالأرض الخالية من الأشجار «وهو مذموم» مليم مطرود من الرحمة والكرامة وهو حال من مرفوع نبذ عليها يعتمد جواب لولا لأنها هي المنتفية لا النبذ بالعراء كما مر في الحال الأولى والجملة الشرطية استئناف وارد لبيان كون المنهي عنه أمرا محذورا مستتبعا للغائلة وقوله تعالى «فاجتباه ربه» عطف على مقدر اي فتداركته نعمة من ربه فاجتباه بأن رد اليه الوحي وأرسله إلى
19

مائة الف أو يزيدون وقيل استنبأه ان صح أنه لم يكن نبيا قبل هذه الواقعة «فجعله من الصالحين» من الكاملين في الصلاح بأن عصمه من أن يفعل فعلا يكون تركه أولى روي أنها نزلت بأحد حين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المنهزمين من المؤمنين وقيل حين أراد ان يدعو على ثقيف «وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم» وقرئ ليزلقونك بفتح الياء من زلقه بمعنى أزلقه ويزهقونك وان هي المخففة واللام دليلها والمعنى أنهم من شدة عداوتهم لك ينظرون إليك شزرا بحيث يكادون يزلون قدمك فيرمونك من قولهم نظر إلى نظرا يكاد يصر عني اي لو أمكنه بنظره الصرع لفعله أو أنهم يكادون يصيبونك بالعين إذ قد روي أنه كان في بني أسد عيانون فأراد بعضهم أن يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وفي الحديث ان العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ولعله من خصائص بعض النفوس وعن الحسن دواء الإصابة بالعين ان تقرأ هذه الآية «لما سمعوا الذكر» أي وقت سماعهم بالقرآن على أن لما ظرفية منصوبة بيزلقونك وذلك لاشتداد بغضهم وحسدهم عند سماعه «ويقولون» لغاية حيرتهم في أمره عليه الصلاة والسلام ونهاية جهلهم بما في تضاعيف القرآن من تعاجيب الحكم وبدائع العلوم المحجوبة عن العقول المنغمسة بأحكام الطبائع ولتنفير الناس عنه «إنه لمجنون» وحيث كان مدار حكمهم الباطل ما سمعوه منه عليه الصلاة والسلام رد ذلك ببيان علو شأنه وسطوع برهانه فقيل «وما هو إلا ذكر للعالمين» على أنه حال من فاعل يقولون مفيدة لغاية بطلان قولهم وتعجيب السامعين من جرأتهم على تفوه تلك العظيمة أي يقولون ذلك والحال أنه ذكر للعالمين أي تذكير وبيان لجميع ما يحتاجون اليه من أمور دينهم فأين من أنزل عليه ذلك وهو مطلع على أسراره طرأ ومحيط بجميع حقائقه خبرا مما قالوا وقيل معناه شرف وفضل لقوله تعالى وانه لذكر لك ولقومك وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكونه مذكرا وشرفا للعالمين لا ريب فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة القلم أعطاه الله ثواب الذين حسن الله أخلاقهم
20

سورة الحافة مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية
«بسم الله الرحمن الرحيم» «الحاقة» اي الساعة أو الحالة الثابتة الوقوع الواجبة المجيء لا محالة أو التي يحق فيها الأمور الحقة من الحساب والثواب والعقاب أو التي تحق فيها الأمور اي تعرف على الحقيقة من حقه يحقه إذا عرف حقيقة جعل الفعل لها ومجازا وهو لما فيها من الأمور أو لمن فيها من أولى العلم وأيا ما كان فحذف الموصوف للايذان بكمال ظهور اتصافه بهذه الصفة وجريانها مجرى الاسم وارتفاعها على الابتداء خبرها «ما الحاقة» إلى أن ما مبتدأ ثان والحاقة خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول والأصل ما هي اي أي شيء هي في حالها وصفتها فان ما قد يطلب بها الصفة والحال فوضع الظاهر موضع المضمر تأكيدا لهولها هذا ما ذكروه في اعراب هذه الجملة ونظائرها وقد سبق في سورة الواقعة ان مقتضى التحقيق ان تكون ما الاستفهامية خبرا لما بعدها فان مناط الإفادة بيان ان الحاقة امر بديع وخطب فظيع كما يفيده كون ما خبرا لا بيان أن أمرا بديعا الحاقة كما يفيده كونها مبتدأ وكون الحاقة خبرا وقوله تعالى «وما أدراك» اي وأي شيء أعلمك «ما الحاقة» تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم المخلوقات على معنى أن عظم شأنها ومدى هولها وشدتها بحيث لا تكاد تبلغه دراية أحد ولا وهمه وكيفما قدرت حالها فهي أعظم من ذلك وأعظم فلا يتسنى الأعلام وما في حيز الرفع على الابتداء وأدراك خبره ولا مساغ ههنا للعكس وما الحاقة جملة من مبتدأ وخبر على الوجه الذي عرفته محلها النصب على اسقاط الخافض لأن أدري يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم به فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة له كانت في موضع المفعول
الثاني والجملة الكبيرة معطوفة على ما قبلها من الجملة الواقعة خبرا لقوله تعالى الحاقة مؤكدة لهولها كما مر «كذبت ثمود وعاد بالقارعة» اي بالحالة التي تقرع الناس بفنون الافزاع والأهوال والسماء بالانشقاق والانفطار والأرض والجبال بالدك
21

والنسف والنجوم بالطمس والانكدار ووضعها موضع ضمير الحاقة للدلالة على معنى القرع فيها تشديدا لهولها والجملة استئناف مسوق لأعلام بعض أحوال الحاقة له عليه الصلاة والسلام اثر تقرير أنه ما أدراه عليه الصلاة والسلام بها أحد كما في قوله تعالى وما أدراك ما هي نار حامية ونظائره خلا أن المبين هناك نفس المسؤول عنها وههنا حال من أحوالها كما في قوله تعالى وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر فكما أن المبين هناك ليس نفس ليلة القدر بل فضلها وشرفها كذلك المبين ههنا هول الحاقة وعظم شأنها وكونها بحيث يحق اهلاك من يكذب بها كأنه قيل وما أدراك ما الحاقة كذبت بها ثمود وعاد فأهلكوا «فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية» اي بالواقعة المجاوزة للحد وهي الصيحة أو الراجفة «وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر» اي شديدة الصوت لها صرصرة أو شديدة البرد تحرق ببردها «عاتية» شديدة العصف كأنها عتت على خزانها فلم يتمكنوا من ضبطها أو على عاد فلم يقدروا على ردها وقوله تعالى «سخرها عليهم» الخ استئناف جيء به بيانا لكيفية اهلاكهم بالريح اي سلطها الله عليهم بقدرته القاهرة «سبع ليال وثمانية أيام حسوما» اي متتابعات جمع حاسم كشهود جمع شاهد من حسمت الدابة إذا تابعت بين كيها أو نحسات حسمت كل خير واستأصلته أو قاطعات قطعت دابرهم ويجوز ان يكون مصدرا منتصبا على العلة بمعنى قطعا أو على المصدر لفعله المقدر حالا اي تحسمهم حسوما ويؤيده القراءة بالفتح وهي كانت أيام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر وانما سميت عجوزا لأن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن فأهلكتها وقيل هي أيام العجز وهي آخر الشتاء وأسماؤها الصن والصنبر والوبر والآمر والمؤتمر والمعلل ومطفئ الجمر وقيل ومكفئ الظعن «فترى القوم» ان كنت حاضرا حينئذ «فيها» في مهابها أو في تلك الليالي والأيام «صرعى» موتى جمع صريع «كأنهم أعجاز نخل» اي أصول نخل «خاوية» متأكلة الأجواف «فهل ترى لهم من باقية» أي بقية أو نفس باقية أو بقاء على أنها مصدر كالكاذبة والطاغية «وجاء فرعون ومن قبله» اي ومن تقدمه وقرئ ومن قبله اي ومن عنده من أتباعه ويؤيده انه قرىء ومن معه «والمؤتفكات» أي قرى قوم لوط اي أهلها «بالخاطئة» بالخطأ أو بالفعلة أو الأفعال ذات الخطأ التي من جملتها تكذيب
22

البعث والقيامة «فعصوا رسول ربهم» اي فعصى كل أمة رسولها حين نهوهم عما كانوا يتعاطونه من القبائح «فأخذهم» اي الله عزل وجل «أخذة رابية» اي زائدة في الشدة كما زادت قبائحهم في القبح من ربا الشيء إذ زاد «إنا لما طغى الماء» بسبب اصرار قوم نوح على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليه الصلاة والسلام فيما أوحى اليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة «حملناكم» اي في أصلاب آبائكم «في الجارية» في سفينة نوح عليه السلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة في فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله اي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته تعالى انما السفينة سبب صوري «لنجعلها» اي لنجعل الفعلة التي هي عبارة عن انجاء المؤمنين واغراق الكافرين «لكم تذكرة» عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته «وتعيها» اي تحفظها والوعي ان تحفظ الشيء في نفسك والايعاء ان تحفظه في غير نفسك من وعاء وقرئ تعيها بسكون العين تشبيها له بكتف «أذن واعية» اي اذن من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره واشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به والتنكير للدلالة على قلتها وأن من هذا شأنه مع قلته يتسبب لنجاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقرئ اذن بالتخفيف «فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة» شروع في بيان نفس الحاقة وكيفة وقوعها اثر بيان عظم شأنها باهلاك مكذبيها وانما اسند الفعل إلى المصدر لتقييده وحسن تذكيره للفصل وقرئ نفخة واحدة بالنصب على اسناد الفعل إلى الجار والمجرور والمراد بها النفخة الأولى التي عندها خراب العالم «وحملت الأرض والجبال» أي قلعت ورفعت من أماكنها بمجرد القدرة الإلهية أو بتوسط الزلزلة أو الريح العاصفة «فدكتا دكة واحدة» اي فضربت الجملتان اثر رفعهما بعضها ببعض ضربة واحدة حتى تندق وترجع كثيبا مهيلا وهباء منبثا وقيل فبسطتا بسطة واحدة فصارتا قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا من قولهم اندك السنام إذا تفرش وبعير أدك وناقة دكاء ومنه الدكان «فيومئذ» فحينئذ «وقعت
23

الواقعة» اي قامت القيامة «وانشقت السماء» لنزول الملائكة «فهي» اي السماء «يومئذ واهية» ضعيفة مسترخية بعد ما كانت محكمة «والملك» اي الخلق المعروف بالملك «على أرجائها» اي جوانبها جمع رجا بالقصر أي تنشق السماء التي هي مساكنهم فيلجأون إلى أكنافها وحافاتها «ويحمل عرش ربك فوقهم» فوق الملائكة الذين هم الأرجاء أو فوق الثمانية «يومئذ ثمانية» من الملائكة عن النبي صلى الله عليه وسلم هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله تعالى بأربعة آخرين فيكونون ثمانية وروي ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤسهم وهم مطرقون مسبحون وقيل بعضهم على صورة الانسان وبعضهم على صورة الأسد وبعضهم على صورة الثور وبعضهم على صورة النسر وروي ثمانية أملاك في خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين عاما وعن شهر بن حوشب أربعة منهم يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك وأربعة يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك وعن الحسن الله أعلم أثمانية أم ثمانية آلاف وعن الضحاك ثمانية صفوف لا يعلم عددهم الا الله تعالى ويجوز ان يكون الثمانية من الروح أو من خلق آخر وقيل هو تمثيل لعظمته تعالى بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العام لكونها أقصى ما يتصور من العظمة والجلال والا فشأنه سبحانه اجل من كل ما يحيط به فلك العبارة والإشارة «يومئذ تعرضون» اي تسألون وتحاسبون عبر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر لتعرف أحوالهم روي ان في يوم القيامة ثلاث عرضات فأما عرضتان فاعتذار واحتجاج وتوبيخ وأما الثالثة ففيها تنشر الكتب فيأخذ الفائز كتابه بيمينه والهالك بشماله وهذا وان كان بعد النفخة الثانية لكن لما كان اليوم اسما لزمان متسع يقع فيه النفختان والصعقة والنشور والحساب وادخال أهل الجنة وأهل النار النار صح جعله ظرفا للكل «لا تخفى منكم خافية» حال من مرفوع تعرضون اي تعرضون غير
خاف عليه تعالى سر من أسراركم قبل ذلك أيضا وانما العرض لإفشاء الحال والمبالغ في العدل أو غير خاف يومئذ على الناس كقوله تعالى يوم تبلى السرائر وقرئ يخفى بالياء التحتانية «فأما من أوتي كتابه بيمينه» تفصيل لأحكام العرض «فيقول» تبجحا وابتهاجا «هاؤم اقرؤوا كتابيه» ها اسم لخذ وفيه ثلاث لغات أجودهن هاء يا رجل وهاء يا امرأة وهاؤما يا رجلان أو امرأتان وهاؤون يا رجال وهاؤن يا نسوة ومفعولة محذوف وكتابيه مفعول اقرؤا لأنه أقرب العالمين ولأنه
24

لو كان مفعول هاؤم لقيل اقرؤه إذ الأولى اضماره حيث أمكن والهاء فيه وفي حسابيه وماليه وسلطانيه للسكت تثبت في الوقف وتسقط في الوصل واستحب اثباتها لثباتها في الامام «إني ظننت أني ملاق حسابيه» اي علمت ولعل التعبير عنه بالظن للاشعار بأنه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات التي لا ينفك عنها العلوم النظرية غالبا «فهو في عيشة راضية» ذات رضا على النسبة بالصيغة كما يقال دارع في النسبة بالحرف أو جعل الفعل لها مجازا وهو لصاحبها وذلك لكونها صافية عن الشوائب دائمة مقرونة بالتعظيم «في جنة عالية» مرتفعة المكان لأنها في السماء أو الدرجات أو الأبنية والأشجار «قطوفها» جمع قطف وهو ما يجتني بسرعة والقطف بالفتح مصدر «دانية» يتناولها القاعد «كلوا واشربوا» باضمار القول والجمع باعتبار المعنى «هنيئا» أكلا وشربا هنيئا أو هنئتم هنيئا «بما أسلفتم» بمقابلة ما قدمتهم من الأعمال الصالحة «في الأيام الخالية» اي الماضية في الدنيا وعن مجاهد أيام الصيام وروي يقول الله تعالى يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة وغارت أعينكم وخمصت بطونكم فكونوا اليوم في نعيمكم وكلوا واشربوا الآية «وأما من أوتي كتابه بشماله» وأرى ما فيه من قبائح الأعمال «فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه» «ولم أدر ما حسابيه» لما شاهد من سوء العاقبة «يا ليتها» يا ليت الموتة التي متها «كانت القاضية» اي القاطعة لأمري ولم ابعث بعدها ولم الق ما ألقى فضمير ليتها للموتة ويجوز ان يكون لما شاهده من الحالة اي يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت على لما أنه وجدها أمر من الموت فتمناه عندها وقد جوز أن يكون للحياة الدنيا أي
25

يا ليت الحياة الدنيا كانت الموتة ولم أخلق حيا «ما أغنى عني ماليه» مالي من المال والاتباع على ان ما نافية والمفعول محذوف أو استفهامية للانكار أي أي شيء أغنى عني ما كان لي من اليسار «هلك عني سلطانيه» اي ملكي وتسلطي على الناس أو حجتي إلى كنت احتج بها في الدنيا أو تسلطي على القوي والآلات فعجزت عن استعمالها في العبادات «خذوه» حكاية لما يقوله الله تعالى يومئذ لخزنة النار «فغلوه» اي شدوه بالاغلال «ثم الجحيم صلوه» اي لا تصلوه الا الجحيم وهي النار العظيمة ليكون الجزاء على وفق المعصية حيث كان يتعاظم على الناس «ثم في سلسلة ذرعها» اي طولها «سبعون ذراعا فاسلكوه» فأدخلوه فيها بأن تلفوها على جسده فهو فيما بينها مرهق لا يستطع حراكا ما وتقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على الاختصاص والاهتمام بذكر ألوان ما يعذب ألوان ما يعذب به وثم لتفاوت ما بين الغل والتصلية وما بينهما وبين السلك في السلسلة في الشدة «إنه كان لا يؤمن بالله العظيم» تعليل بطريق الاستئناف التحقيقي ووصفه تعالى بالعظم للايذان بأنه المستحق للعظمة فحسب فمن نسبها إلى نفسه استحق أعظم العقوبات «ولا يحض على طعام المسكين» ولا يحث على بذل طعامه أو على اطعامه فضلا ان يبذل ما من ماله وقيل ذكر الحض للتنبيه على أن تارك الحض بهذه المنزلة فما ظنك بتارك الفعل وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة قالوا تخصيص الامرين بالذكر لما أن أقبح العقائد الكفر وأشنع الرذائل البخل وقسوة القلب «فليس له اليوم ها هنا حميم» اي قريب يحميه ويدفع عنه ويحزن عليه لأن أولياءه يتحامونه ويفرون منه «ولا طعام إلا من غسلين» اي من غسالة أهل النار
26

وصديدهم فعلين من الغسل «لا يأكله إلا الخاطئون» أصحاب الخطايا من خطىء الرجل إذا تعمد الذنب لا من الخطأ المقابل للصواب دون المقابل للعمد عن ابن عباس رضي الله عنهما انهم المشركون وقرئ الخاطيون بابدال الهمزة ياء وقرئ بطرحها وقد جوز أن يراد بهم الذين يتخطون الحق إلى الباطل ويتعدون حدود الله «فلا أقسم» اي فأقسم على أن لا مزيدة للتأكيد وأما حمله على معنى نفي الاقسام لظهور الأمر واستغنائه عن التحقيق فيرده تعيين المقسم به بقوله تعالى «بما تبصرون» «وما لا تبصرون» كما مر في سورة الواقعة أي أقسم بالمشاهدات والمغيبات وقيل بالدنيا والآخرة وقيل بالأجسام والأرواح والإنس والجن والخلق والخالق والنعم الظاهرة والباطنة والأول منتظم للكل «أنه» اي القرآن «لقول رسول» يبلغه عن الله تعالى فان الرسول لا يقول عن نفسه «كريم» على الله تعالى وهو النبي أو جبريل عليهما السلام «وما هو بقول شاعر» كما تزعمون تارة «قليلا ما تؤمنون» ايمانا قليلا تؤمنون «ولا بقول كاهن» كما تدعون ذلك تارة أخرى «قليلا ما تذكرون» اي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تتذكرون على أن القلة بمعنى النفي اي لا تؤمنون ولا تتذكرون أصلا قيل ذكر الايمان مع نفي الشاعرية والتذكر مع نفي الكاهنية لما ان عدم مشابهة القرآن الشعر أمر بين لا ينكره الا معاند بخلاف مباينته للكهانة فإنها تتوقف على تذكر أحواله عليه الصلاة والسلام ومعاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة ومعاني أقوالهم وأنت خبير بأن ذلك أيضا مما لا يتوقف على تأمل قطعا وقرئ بالياء فيهما «تنزيل من رب العالمين» نزله على لسان جبريل عليه السلام «ولو تقول علينا بعض الأقاويل» سمي الافتراء تقولا لأنه قول متكلف والأقوال المفتراة أقاويل تحقيرا لها كأنها جمع افعولة من القول كالأضاحيك
27

«لأخذنا منه باليمين» أي بيمينه «ثم لقطعنا منه الوتين» أي نياط قلبه بضرب عنقه وهو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه وهو أن يأخذ القتال بيمينه ويكفحه بالسيف ويضرب عنقه وقيل اليمين بمعنى القوة قال قائلهم إذا ما رأيه رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين «فما منكم» أيها الناس «من أحد عنه» عن القتل أو المقتول «حاجزين» دافعين وصف لأحد فإنه عام «وإنه» أي وإن القرآن «لتذكرة للمتقين» لأنهم المنتفعون به «وإنا لنعلم أن منكم مكذبين» فنجازيهم على تكذيبهم «وإنه لحسرة على الكافرين» عند مشاهدتهم لثواب المؤمنين «وإنه لحق اليقين» الذي لا يحوم حوله ريب ما «فسبح باسم ربك العظيم» اي فسبح بذكر اسمه العظيم تنزيها له عن الرضا بالتقول عليه وشكرا على ما أوحي إليك عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حسابا يسيرا
28

سورة المعارج مكية وآياتها اربع وأربعون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «سأل سائل» اي دعا داع «بعذاب واقع» اي استدعاه وطلبه وهو النضر بن الحرث حيث قال انكارا واستهزاء ان كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب اليم وقيل أبو جهل حيث قال أسقط علينا كسفا من السماء وقيل هو الحرث بن النعمان الفهري وذلك انه لما بلغه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه من كنت مولاه فعلى مولاه قال اللهم ان كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فما لبث حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه مخرج من أسفله فهلك من ساعته وقيل هو الرسول صلى الله عليه وسلم استعجل عذابهم وقرئ سأل وهو اما من السؤال على لغة قريش فالمعنى ما مر أو من السيلان ويؤيده انه قرىء سال سيل اي اندفع واد بعذاب واقع وصيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه اما في الدنيا وهو عذاب يوم بدر فان النضر قتل يومئذ صبرا وقد مر حال الفهري واما في الآخرة فهو عذاب النار والله اعلم «للكافرين» صفة أخرى لعذاب اي كائن للكافرين أو صلة لواقع أو متعلق بسأل اي دعا للكافرين بعذاب واقع وقوله تعالى «ليس له دافع» صفة أخرى لعذاب أو حال منه لتخصصه بالصفة أو بالعمل أو من الضمير في الكافرين على تقدير كونه صفة لعذاب أو استئناف «من الله» متعلق بواقع أو بدافع اي ليس له دافع من جهته تعالى «ذي المعارج» ذي المصاعد التي يصعد فيها الملائكة بالأوامر والنواهي أو هي عبارة عن السماوات المترتبة بعضها فوق بعض «تعرج الملائكة والروح» اي جبريل عليه السلام افرد بالذكر لتميزه وفضله وقيل الروح خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة على الناس «إليه» إلى عرشه تعالى والى حيث تهبط منه أوامره تعالى وقيل هو من قبيل قول إبراهيم
29

عليه السلام اني ذاهب إلى ربي اي إلى حيث امرني به «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» مما يعده الناس وهو بيان لغاية ارتفاع تلك المعارج وبعد مداها على منهاج التمثيل والتخييل والمعنى انها من الارتفاع بحيث لو قدر قطعها في زمان لكان ذلك الزمان مقدار خمسين الف سنة من سنى الدنيا وقيل معناه تعرج الملائكة والروح إلى عرشه تعالى في يوم كان مقداره كمقدار خمسين الف سنة اي يقطعون في يوم ما يقطعه الانسان في خمسين الف سنة لو فرض ذلك وقيل في يوم متعلق بواقع وقيل بسأل على تقدير كونه من السيلان فالمراد به يوم القيامة واستطالته اما لأنه كذلك في الحقيقة أو لشدته على الكفار أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات وأيا ما كان فذلك في حق الكافر وأما في حق المؤمن فلا لما روي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه انه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أطول هذا اليوم فقال عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده انه ليخف على المؤمن حتى أنه يكون أخف من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا وقوله تعالى «فاصبر صبرا جميلا» متعلق بسأل لأن السؤال كان عن استهزاء وتعنت وتكذيب بالوحي وذلك مما يضجره عليه الصلاة والسلام أو كان عن تضجر واستبطاء للنصر أو بسأل سائل أو سال سيل فمعناه جاء العذاب لقرب وقوعه فقد شارفت الانتقام «إنهم يرونه» اي العذاب الواقع أو يوم القيامة على تقدير تعلق في يوم بواقع «بعيدا» اي يستبعدونه بطريق الإحالة فلذلك يسألون به «ونراه قريبا» هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر على أن البعد والقرب معتبران بالنسبة إلى الامكان والجملة تعليل للأمر بالصبر وقوله تعالى «يوم تكون السماء كالمهل» متعلق بقريبا اي يمكن ولا يعتذر في ذلك اليوم أو بمضمر دل عليه واقع أو بمضمر مؤخر اي يوم تكون السماء كالمهل الخ يكون من الأحوال والأهوال ما لا يوصف أو بدل من في يوم على تقدير تعلقه بواقع هذا ما قالوا ولعل الأقرب ان قوله تعالى سأل سائل حكاية لسؤالهم المعهود على طريقة قوله تعالى يسألونك عن الساعة وقوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد ونحوهما إذ هو المعهود بالوقوع على الكافرين لا ما دعا به النضر أو أبو جهل الفهري فالسؤال بمعناه والباء بمعنى عن كما في قوله تعالى فأسال به خبيرا وقوله تعالى ليس له دافع الخ استئناف مسوف لبيان وقوع المسؤول عنه لا محالة وقوله تعالى فاصبر صبرا جميلا مترتب عليه وقوله تعالى انهم يرونه بعيدا ونراه قريبا تعليل للأمر بالصبر كما ذكر وقوله تعالى يوم تكون الخ متعلق بليس له دافع أو بما يدل هو عليه اي يقع يوم تكون السماء
30

كالمهل وهو ما أذيب على مهل من الفلزات وقيل دردي الزيت «وتكون الجبال كالعهن» كالصوف المصبوغ ألوانا لاختلاف ألوان الجبال منها جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود فإذا بست وطيرت في الجو اشبهت العهن المنفوش إذا طيرته الريح «ولا يسأل حميم حميما» اي لا يسأل قريب قريبا عن أحواله ولا يكلمه لابتلاء كل منهم بما يشغله عن ذلك وقرئ على البناء للمفعول اي لا يطلب من حميم حميم أولا يسأل منه حال «يبصرونهم» اي يبصر الأحماء الأحماء فلا يخفون عليهم وما يمنعهم من التساؤل الا تشاغلهم بحال أنفسهم وقيل ما يغني عنه من مشاهدة الحال كبياض الوجه وسواده والأول ادخل في التهويل وجمع الضميرين لعموم الحميم وقرئ يبصرونهم والجملة استئناف «يود المجرم» اي يتمنى الكافر وقيل كل مذنب وقوله تعالى «لو يفتدي من عذاب يومئذ» اي العذاب الذي ابتلوا به يومئذ «ببنيه» «وصاحبته وأخيه» حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وقيل هي بمنزلة ان الناصبة فلا يكون لها جواب وينسبك منها ومما بعدها مصدر يقع مفعولا ليود والتقدير يود افتداءه ببنيه الخ والجملة استئناف لبيان ان اشتغال كل مجرم بنفسه بلغ إلى حيث يتمنى ان يفتدى بأقرب الناس اليه وأعلقهم بقلبه فضلا ان يهتم بحاله ويسأل عنها وقرئ يومئذ بالفتح على البناء للإضافة إلى غير متمكن وبتنوين عذاب ونصب يومئذ وانتصابه بعذاب لأنه في معنى تعذيب «وفصيلته» اي عشيرته التي فصل عنهم «التي تؤويه» اي تضمه في النسب أو عند الشدائد «ومن في الأرض جميعا» من الثقلين والخلائق ومن للتغليب «ثم ينجيه» عطف على يفتدي اي يود لو يفتدي ثم لو ينجيه الافتداء وثم لاستبعاد الانجاء يعني يتمنى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده وبذلهم في فداء نفسه ثم ينجيه ذلك وهيهات «كلا» ردع للمجرم عن الودادة وتصريح بامتناع انجاء الافتداء وضمير «إنها» اما للنار المدلول عليها بذكر العذاب أو مبهم ترجم عند
31

الخبر الذي هو قوله تعالى «لظى» وهي علم للنار منقول من اللظى بمعنى اللهب «نزاعة للشوى» نصب على الاختصاص أو حال مؤكدة والشوى الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس وقرئ نزاعة بالرفع على أنه خبر ثاني لأن أو هو الخبر ولظى بدل من الضمير أو الضمير للقصة ولظى مبتدأ ونزاعة خبره «تدعو» اي تجذب وتحضر وقل تدعو وتقول لهم إلى إلى يا كافر يا منافق وقيل تدعو المنافقين والكافرين بلسان فصيح ثم تلتقطهم التقاط الحب وقيل تدعو تهلك وقيل تدعو زبانيتها «من أدبر» اي عن الحق «وتولى» اعرض عن الطاعة «وجمع فأوعى» اي جمع المال فجعله في وعاء وكنزه ولم يؤد زكاته وحقوقه وتشاغل به عن الدين وزهى باقتنائه
حرصا وتأميلا «إن الإنسان خلق هلوعا» الهلع سرعة الجزع عند مس المكروه وسرعة المنع عند مس الخير وقد فسره أحسن تفسير قوله تعالى «إذا مسه الشر» اي الفقر والمرض ونحوهما «جزوعا» اي مبالغا في الجزع مكثرا منه «وإذا مسه الخير» اي السعة والصحة «منوعا» مبالغا في المنع والامساك والأوصاف الثلاثة أحوال مقدرة أو محققه لأنها طبائع جبل الانسان عليها وإذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية لمنوعا «إلا المصلين» استثناء للمتصفين بالنعوت الجليلة الآتية من المطبوعين على القبائح الماضية لأنباء نعوتهم عن الاستغراق في طاعة الحق والاشفاق على الخلق والايمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وايثار الآجل على العاجل على خلاف القبائح المذكورة الناشئة من الانهماك في حب العاجل وقصر النظر عليه «الذين هم على صلاتهم دائمون» لا يشغلهم عنها شاغل «والذين في أموالهم حق معلوم» اي نصيب معين يستوجبونه
32

على أنفسهم تقربا إلى الله تعالى واشفاقا على الناس من الزكاة المفروضة والصدقات الموظفة «للسائل» الذي يسأله «والمحروم» الذي لا يسأله فيظن انه غني فيحرم «والذين يصدقون بيوم الدين» اي بأعمالهم حيث يتعبون أنفسهم في الطاعات البدنية والمالية طمعا في المثوبة الأخروية بحيث يستدل بذلك على تصديقهم بيوم الجزاء «والذين هم من عذاب ربهم مشفقون» خائفون على أنفسهم مع مالهم من الأعمال الفاضلة استقصارا لها واستعظاما لجنابه عز وجل كقوله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة انهم إلى ربهم راجعون وقوله تعالى «إن عذاب ربهم غير مأمون» اعتراض مؤذن بأنه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذابه تعالى وان بالغ في الطاعة «والذين هم لفروجهم حافظون» «إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين» سلف تفسيره في سورة المؤمنين «فمن ابتغى» اي طلب لنفسه «وراء ذلك» وراء ما ذكر من الأزواج والمملوكات «فأولئك» المبتغون «هم العادون» المتعدون لحدود الله تعالى «والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون» لا يخلون بشيء من حقوقها «والذين هم بشهاداتهم قائمون» اي مقيمون لها بالعدل احياء لحقوق الناس وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الأمانات لإبانة فضلها وقرئ لأمانتهم وبشهادتهم على إرادة الجنس «والذين هم على صلاتهم يحافظون» اي يراعون شرائطها
33

ويكملون فرائضها وسننها ومستحباتها وآدابها وتكرير ذكر الصلاة ووصفهم بها أولا وآخرا باعتبارين للدلالة على فضلها وإنافتها على سائر الطاعات وتكرير الموصولات لتنزيل اختلاف الصفات منزلة اختلاف الذوات كما في قول من قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتائب في المزدحم
ايذانا بأن كل واحد من الأوصاف المذكورة نعت جليل على حياله له شأن خطير مستتبع لأحكام جمة حقيق بأن يفرد له موصوف مستقل ولا يجعل شيء منها تتمة للآخر «أولئك» إشارة إلى الموصوفين بما ذكر من الصفات وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليهم للايذان بعلو شانهم وبعد منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ خبرة «في جنات» اى مستقرون في جنات لا يقادر قدرها ولا يدرك كنهها وقوله تعالى «مكرمون» خبر اخر أو هو الخبر وفى جنات متعلق به قدم عليه لمراعاة الفواصل أو بمضمر هو حال من الضمير في الخبر اى مكرمون كائنين في جنات «فمال الذين كفروا قبلك» حولك «مهطعين» مسرعين نحوك مادي أعناقهم إليك مقبلين بابصارهم عليك «عن اليمين وعن الشمال عزين» اى فرقا شتى جمع عزة واصلها عزوة من العزو كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي اليه الأخرى كان المشركون يحلقون حول رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقا حلقا وفرقا وفرقا ويستهزؤن بكلامه عليه الصلاة والسلام ويقولون ان دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت «أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم» بلا ايمان «كلا» ردع لهم عن ذلك الطمع الفارغ «إنا خلقناهم مما يعلمون» قيل هو تعليل للردع والمعنى انا خلقناهم من أجل ما يعلمون كما في قول الأعشى:
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا * وشطت على ذي هوى ان تزارا
وهو تكميل النفس بالايمان والطاعة فمن لم يستكملها بذلك فهو بمعزل من أن يبوأ مبوأ الكاملين فمن أين لهم أن يطمعوا في دخول الجنة وهم مكبون على الكفر والفسوق وانكار البعث وقيل معناه انا خلقناهم مما يعلمون من نطفة مذرة فمن اين يتشرفون ويدعون التقدم ويقولون لندخلن الجنة قبلهم وقيل انهم مخلوقون من نطفة قدرة لا تناسب عالم القدس فمتى لم تستكمل الايمان والطاعة ولم تتخلق بأخلاق الملكية لم تستعد لدخولها ولا يخفى ما في الكل من التمحل والأقرب أنه كلام مستأنف قد سبق تمهيدا لما بعده من بيان قدرته تعالى على أن يهلكهم لكفرهم بالبعث والجزاء
34

واستهزائه برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما نزل عليه من الوحي وادعائهم دخول الجنة بطريق السخرية وينشئ بدلهم قوما آخرين فان قدرته تعالى على ما يعلمون من النشأة الأولى حجة بينة على قدرته تعالى على ذلك كما يفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله تعالى «فلا أقسم برب المشارق والمغارب» والمعنى إذا كان الأمر كما ذكر من أنا خلقناهم مما يعلمون فأقسم برب المشارق والمغارب «إنا لقادرون» «على أن نبدل خيرا منهم» اي نهلكهم بالمرة حسبما تقتضيه جناياتهم ونأتي بدلهم بخلق آخرين ليسوا على صفتهم «وما نحن بمسبوقين» بمغلوبين ان أردنا ذلك لكن مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة اقتضت تأخير عقوباتهم «فذرهم» فخلهم وشأنهم «يخوضوا» في باطلهم الذي من جملته ما حكى عنهم «ويلعبوا» في دنياهم «حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون» وهو يوم البعث عند النفخة الثانية لا يوم النفخة الأولى كما توهم فان قوله تعالى «يوم يخرجون من الأجداث» بدل من يومهم وقرئ يخرجون على البناء للمفعول من الاخراج «سراعا» حال من مرفوع يخرجون اي مسرعين «كأنهم إلى نصب» وهو كل ما نصب فعبد من دون الله تعالى وقرئ بسكون الصاد وبفتح النون وسكون الصاد أيضا «يوفضون» يسرعون «خاشعة أبصارهم» وصفت ابصارهم بالخشوع مع انه وصف الكل لغاية ظهور آثاره فيها «ترهقهم ذلة» تغشاهم ذلة شديدة «ذلك» الذي ذكر ما سيقع فيه من الأحوال الهائلة «اليوم الذي كانوا يوعدون» في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون
35

سورة نوح عليه السلام مكية وآياتها ثمان وعشرون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك» اي بأن أنذرهم على أن ان مصدرية حذف منها الجار وأوصل إليها الفعل فان حذفه مع أن وان مطرد وجعلت صلتها امرا كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك لأن مدار وصلها بصيغ الأفعال دلالتها على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والانشائية ووجوب كون الصلة خبرية في الموصول الأسمى انما هو للتوصل إلى وصف المعارف بالجمل الخبرية وليس الموصول الحرفي كذلك وحيث استوى الخبر والانشاء في الدلالة على المصدر استويا في صحة الوصل بهما فيتجرد عند ذلك كل منهما عن المعنى الخاص بصيغته فيبقى الحدث المجرد عن معنى الأمر والنهي والمضي والاستقبال كأنه قيل أرسلناه بالانذار وقيل المعنى أرسلناه بأن قلنا له انذر اي أرسلناه بالأمر بالانذار ويجوز ان تكون أن مفسرة لما في الارسال من معنى القول فلا يكون للجملة محل من الاعراب وعلى الأول محلها النصب عند سيبويه والفراء والجر عند الخليل والكسائي كما هو المعروف وقرئ انذر بغير ان على إرادة القول «من قبل أن يأتيهم عذاب أليم» عاجل أو آجل لئلا يبقى لهم عذر ما أصلا «قال» استئناف مبنى على سؤال نشأ من حكاية ارساله عليه الصلاة والسلام بالوجه المذكور كأنه قيل ما فعل عليه الصلاة والسلام فقيل قال لهم «يا قوم إني لكم نذير مبين» منذر موضح لحقيقة الأمر وقوله تعالى «أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون» متعلق بنذير على الوجهين المذكورين «يغفر لكم من ذنوبكم» اي بعض ذنوبكم وهو ما سلف في الجاهلية فان الاسلام يجبه «ويؤخركم إلى أجل مسمى» هو الأمد الأقصى الذي قدره الله تعالى لهم بشرط الايمان والطاعة وراء ما قدره لهم على تقدير بقائهم على الكفر والعصيان فان وصف الأجل بالمسمى وتعليق تأخيرهم اليه
36

بالايمان والطاعة صريح في أن لهم أجلا آخر لا يجاوزونه ان لم يؤمنوا وهو المراد بقوله تعالى «إن أجل الله» اي ما قدر لكم على تقدير بقائكم على الكفر «إذا جاء» وأنتم على ما أنتم عليه من الكفر «لا يؤخر» فبادروا إلى بالايمان والطاعة قبل مجيئه حتى لا يتحقق شرطه الذي هو بقاؤكم على الكفر فلا يجيء ويتحقق شرط التأخير إلى الأجل المسمى فتؤخروا اليه ويجوز أن يراد به وقت اتيان العذاب المذكور في قوله تعالى من قبل أن يأتيهم عذاب اليم فإنه أجل مؤقت له حتما وحمله على الأجل الأطول مما لا يساعده المقام كيف لا والجملة تعليل للأمر بالعبادة المستتبعة للمغفرة والتأخير إلى الأجل المسمى فلا بد أن يكون المنفي عند مجيء الأجل هو التأخير الموعود فكيف يتصور أن يكون ما فرض مجيئه هو الأجل المسمى «لو كنتم تعلمون» اي لو كنتم تعلمون شيئا لسارعتم إلى ما أمرتكم به «قال» اي نوح عليه الصلاة والسلام مناجيا ربه وحاكيا له تعالى وهو أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الطوال بعدما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاوز في الانذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل «رب إني دعوت قومي» إلى الايمان والطاعة «ليلا ونهارا» اي دائما من غير فتور ولا توان «فلم يزدهم دعائي إلا فرارا» مما دعوتهم اليه واسناد الزيادة إلى الدعاء لسببيته كما في قوله تعالى زادتهم ايمانا «وإني كلما دعوتهم» إلى الايمان «لتغفر لهم» بسببه «جعلوا أصابعهم في آذانهم» اي سدوا مسامعهم من استماع الدعوة «واستغشوا ثيابهم» اي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشيهم لئلا يبصروا كراهة النظر اليه أو لئلا يعرفهم فيدعوهم «وأصروا» اي أكبوا على الكفر والمعاصي مستعار من أصر الحمار على العانة إذا أصر أذنيه وأقبل عليها «واستكبروا» عن اتباعي وطاعتي «استكبارا» شديدا «ثم إني دعوتهم جهارا» «ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا» اي دعوتهم تارة بعد تارة ومرة غب مرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وثم لتفاوت الوجوه فان الجهار أشد من الاسرار والجمع بينهما أغلظ من الافراد أو لتراخي بعضها عن بعض وجهارا منصوب بدعوتهم على المصدر لأنه أحد نوعي الدعاء أو أريد بدعوتهم جاهرتهم
37

أو هو صفة لمصدر أي دعوتهم دعاء جهارا اي مجاهرا به أو مصدر في موقع الحال اي مجاهرا «فقلت استغفروا ربكم» بالتوبة عن الكفر والمعاصي «إنه كان غفارا» للتائبين كأنهم تعللوا وقالوا ان كنا على الحق فكيف نتركه وان كنا على الباطل فكيف يقبلنا بعد ما عكفنا عليه دهرا طويلا فأمرهم بما يمحق ما سلف منهم من المعاصي ويجلب إليهم المنافع ولذلك وعدهم بما هو أوقع في قلوبهم وأحب إليهم من الفوائد العاجلة وقيل لما كذبوه بعد تكرير الدعوة حبس الله تعالى عنهم القطر وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة وقيل سبعين سنة فوعدهم انهم ان آمنوا ان يرزقهم الله تعالى الخصب ويدفع عنهم ما كانوا فيه «يرسل السماء عليكم مدرارا» اي كثير الدرور والمراد بالسماء المظلة أو السحاب «ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات» بساتين «ويجعل لكم» فيها «أنهارا» جارية «ما لكم لا ترجون لله وقارا» انكار لأن يكون لهم سبب ما في عدم رجائهم لله تعالى وقارا على أن الرجاء بمعنى الاعتقاد ولا ترجون حال من ضمير المخاطبين والعامل فيها معنى الاستقرار في لكم على أن الانكار متوجه إلى السبب فقط مع تحقق مضمون الجملة الحالية لا اليهما معا كما في قوله تعالى ومالي لا أعبد الذي فطرني ولله متعلق بمضمر وقع حالا من وقارا ولو تأخر لكان صفة له أي أي سبب حصل لكم حال كونكم غير معتقدين لله تعالى عظمة موجبة لتعظيمه بالايمان به والطاعة له «وقد خلقكم أطوارا» اي والحال انكم على حال منافية لما أنتم عليه بالكلية وهي أنكم تعلمون أنه تعالى خلقكم تارات عناصر ثم أغذية ثم أخلاطا ثم نطفا علقا ثم مضغا ثم عظاما ولحوما ثم أنشأكم خلقا آخر فان التقصير في توقير من من هذه شؤونه في القدرة القاهرة والاحسان التام مع العلم بها مما لا يكاد يصدر عن العاقل هذا وقد قيل الرجاء بمعنى الأمل اي مالكم لا تؤملون له تعالى توقيرا اي تعظيما لمن عبده وأطاعه ولا تكونون على حال تؤملون فيها تعظيم الله تعالى إياكم في دار الثواب ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار والأول هو الذي تستدعيه الجزالة التنزيلية فان اللائق بحال الكفرة استبعاد أن لا يعتقدوا وقار الله تعالى وعظمته مع مشاهدتهم لآثارها وأحكامها الموجبة للاعتقاد حتما وأما عدم رجائهم لتعظيم الله إياهم في دار الثواب فليس في حيز الاستبعاد والانكار مع أن في جعل الوقار بمعنى التوقير من التعسف
38

وفي قوله ولله بيان للموقر ولو تأخر لكان صلة للوقار من التناقض مالا يخفي فان كونه بيانا للموقر يقتضي ان يكون التوقير صادرا عنه تعالى والوقار وصفا للمخاطبين وكونه صلة للوقار يوجب كون الوقار وصفا له تعالى وقيل مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على اخذكم بالعقوبة أي أي عذر لكم في ترك الخوف منه تعالى وعن سعيد
بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مالكم لا تخشون لله عقابا ولا ترجون منه ثوابا وعن مجاهد والضحاك ما لكم لا تبالون لله عظمة قال قطرب هي لغة حجازية يقولون لم أرج اي لم أبال وقوله تعالى «ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا» اي متطابقة بعضها فوق بعض «وجعل القمر فيهن نورا» اي منورا لوجه الأرض في ظلمه الليل ونسبته إلى الكل مع انه في السماء الدنيا لما انها محاطة بسائر السماوات فما فيها يكون في الكل أو لأن كل واحدة منها شفافة لا تحجب ما وراءها فيرى الكل كأنها سماء واحدة ومن ضرورة ذلك أن يكون ما في واحدة منها كأنه في الكل «وجعل الشمس سراجا» يزيل ظلمة الليل ويبصر أهل الدنيا في ضوئها وجه الأرض ويشاهدون الآفاق كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره وليس القمر بهذه المثابة انما هو نور في الجملة «والله أنبتكم من الأرض نباتا» اي أنشأكم منها فاستعير الانبات للانشاء لكونه أدل على الحدوث والتكون من الأرض ونباتا إما مصدر مؤكد لأنبتكم بحذف الزوائد ويسمى اسم مصدر أو لما يترتب عليه من فعله أي أنبتكم من الأرض فنبتم نباتا ويجوز أن يكون الأصل أنبتكم من الأرض إنباتا فنبتم نباتا فيحذف من الجملة الأولى المصدر ومن الثانية الفعل اكتفاء في كل منهما بما ذكر في الأخرى كما مر في قوله تعالى أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى وقوله تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله «ثم يعيدكم فيها» بالدفن عند موتكم «ويخرجكم» منها عند البعث والحشر «إخراجا» محققا لا ريب فيه «والله جعل لكم الأرض بساطا» تتقلبون عليها تقلبكم على بسطكم في بيوتكم وتوسيط لكم بين الجعل ومفعوليه مع أن حقه التأخير لما مر مرارا من الاهتمام ببيان كون المجعول من منافعهم والتشويق إلى المؤخر فان النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم ملوحا بكونه من المنافع تبقى مترقبة له فيتمكن
39

عند وروده لها فضل تمكن «لتسلكوا منها سبلا فجاجا» اى طرقا واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع وقيل هو المسلك بين الجبلين ومن متعلقة بما قبلها لما فيه من معنى الاتخاذ أو بمضمر هو حال من سبلا اى كائنة من الأرض ولو تأخر لكان صفة لها «قال نوح» أعيد لفظ الحكاية لطول العهد بحكاية مناجاته لربه اى قال مناجيا له تعالى «رب إنهم عصوني» اى تموا على عصياني فيما امرتهم به مع ما بالغت في ارشادهم بالعظة والتذكير «واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا» اى واستمروا على اتباع رؤسائهم الذين أبطرتهم أموالهم وغرتهم أولادهم وصار ذلك سببا لزيادة خسارهم في الآخرة فصاروا أسوة لهم في الخسار وفى وصفهم بذلك اشعار بأنهم انما اتبعوهم لوجاهتهم الحاصلة لهم بسبب الأموال والأولاد لا لما شاهدوا فيهم من شبهة مصححة للاتباع في الجملة وقرى وولده بالضم والسكون على انه لغة كالحزن أو جمع كالأسد «ومكروا» عطف على صلة من والجمع باعتبار معناها كما ان الافراد في الضمائر الأول باعتبار لفظها «مكرا كبارا» اى كبيرا في الغاية وقرئ بالتخفيف والأول أبلغ منه وهو أبلغ من الكبير وذلك احتيالهم في الدين وصدهم للناس عنه وتحريشهم لهم في أذية نوح عليه السلام «وقالوا لا تذرن آلهتكم» اى لا تتركوا عبادتها على الاطلاق إلى عبادة رب نوح «ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا» أي ولا تذرن عبادة هؤلاء خصوها بالذكر مع اندراجها فيما سبق لأنها كانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم وقد انتقلت هذه الأصنام عنهم إلى العرب ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمذحج ويعوق لمراد ونسر لحمير وقيل هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم ونوح وقيل من أولاد آدم عليه السلام ماتوا فقال إبليس لمن بعدهم لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم وتتبركون بهم ففعلوا فلما مات أولئك قال لمن بعدهم انهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم وقيل كان ود على صورة رجل وسواع على صورة امرأة ويغوث على صورة أسد ويعوق على صورة فرس ونسر على صورة نسر وقرئ ودا بضم الواو ويغوثا ويعوقا للتناسب ومنع صرفهما للعجمة والعلمية «وقد أضلوا» اي الرؤساء «كثيرا» خلقا كثيرا أو الأصنام كقوله تعالى رب انهن أضللن كثيرا من الناس «ولا تزد الظالمين إلا ضلالا» عطف على قوله تعالى رب انهم عصوني على حكاية كلام نوح بعد قال
40

وبعد الواو النائبة عنه أي قال رب انهم عصوني وقال لا تزد الظالمين الا ضلالا ووضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالظلم المفرط وتعليل الدعاء عليهم به والمطلوب هو الضلال في تمشية مكرهم ومصالح دنياهم أو الضياع والهلاك كما في قوله تعالى ان المجرمين في ضلال وسعر و يؤيده ما سيأتي من دعائه عليه الصلاة والسلام «مما خطيئاتهم» اي من أجل خطياتهم وما مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد والتفخيم ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة وجعل خطيئاتهم بدلا منها وقرئ مما خطاياهم ومما خطياتهم اي بسبب خطيئاتهم المعدودة وغيرها من خطاياهم «أغرقوا» بالطوفان لا بسبب آخر «فأدخلوا نارا» المراد اما عذاب القبر فهو عقيب الاغراق وان كانوا في الماء عن الضحاك انهم كانوا يغرقون من جانب ويحرقون من جانب أو عذاب جهنم والتعقيب لتنزيله منزلة المتعقب لإغراقهم لاقترابه وتحققه لا محالة وتنكير النار اما لتعظيمها وتهويلها أو لأنه تعالى أعد لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النار «فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا» اي لم يجد أحد منهم واحدا من الأنصار وفيه تعريض باتخاذهم آلهة من دون الله تعالى وبأنها غير قادرة على نصرهم وتهكم بهم «وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا» عطف على نظيره السابق وقوله تعالى مما خطيئاتهم الخ اعتراض وسط بين دعائه عليه الصلاة والسلام للايذان من أول الأمر بأن ما أصابهم من الاغراق والاحراق لم يصبهم الا لأجل خطيئاتهم التي عددها نوح عليه السلام وأشار إلى استحقاقهم للاهلاك لأجلها لا أنها حكاية لنفس الاغراق والاحراق على طريقة حكاية ما جرى بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من الأحوال والأقوال والا لأخر عن حكاية دعائه هذا وديارا من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال ما بالدار ديار أو ديور كقيام وقيوم اي أحد وهو فيعال من الدور أو من الدار أصله ديوار قد فعل به ما فعل بأصل سيد لأفعال والا لكان دوارا «إنك إن تذرهم» عليها كلا أو بعضا «يضلوا عبادك» عن طريق الحق «ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا» اي الا من سيفجر ويكفر فوصفهم بما يصيرون اليه وكأنه اعتذار مما عسى يرد عليه من أن الدعاء بالاستئصال مع احتمال ان يكون من اخلافهم من يؤمن منكرا وانما قاله لاستحكام علمه بما يكون منهم ومن أعقابهم بعد ما جربهم واستقرأ أحوالهم قريبا من ألف سنة «رب اغفر لي
41

ولوالدي» أبوه لمك بن متوشلخ وأمه شمخا بنت أنوش كانا مؤمنين وقيل هما آدم وحواء وقرئ ولولدي يريد ساما وحاما «ولمن دخل بيتي» اي منزلي وقيل مسجدي وقيل سفينتي «مؤمنا» بهذا القيد خرجت امرأته وابنه كنعان ولكن لم يجزم عليه الصلاة والسلام بخروجه الا بعد ما قيل له انه ليس من أهلك وقد مر تفصيله في سورة
هو «وللمؤمنين والمؤمنات» عمهم بالدعاء اثر ما خص به من يتصل به نسبا ودينا «ولا تزد الظالمين إلا تبارا» اي هلاكا قيل غرق معهم صبيانهم أيضا لكن لا على وجه العقاب لهم بل لتشديد عذاب آبائهم وأمهاتهم بإراءة هلاك أطفالهم الذين كانوا أعز عليهم من أنفسهم قال عليه الصلاة والسلام يهلكون مهلكا واحدا ويصدرون مصادر شتى وعن الحسن انه سئل عن ذلك فقال علم الله براءتهم فأهلكهم بغير عذاب وقيل أعقم الله أرحام نسائهم وأيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة فلم يكن معهم صبي حين غرقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح عليه السلام
سورة الجن مكية وآياتها ثمان وعشرون
«بسم الله الرحمن الرحيم» «قل أوحي إلي» وقرئ أحي إلى أصله وحي وقد قرىء كذلك من وحى اليه فقلبت الواو المضمومة همزة كأعد وأزن في وعد ووزن «أنه» بالفتح لأنه فاعل أوحى والضمير للشأن «استمع» اي القرآن كما ذكر في الأحقاف وقد حذف لدلالة ما بعده عليه «نفر من الجن» النفر ما بين الثلاثة والعشرة والجن أجسام عاقلة خفية يغلب عليهم النارية أو الهوائية وقيل نوع من الأرواح المجردة وقيل هي النفوس البشرية المفارقة عن أبدانها وفيه دلالة على أنه عليه الصلاة والسلام لم يشعر بهم وباستماعهم ولم يقرأ عليهم وانما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوه فأخبر الله تعالى بذلك وقد مر ما فيه من التفصيل في الأحقاف «فقالوا» لقومهم عند رجوعهم إليهم «إنا سمعنا قرآنا» كتابا مقروءا «عجبا» بديعا مباينا لكلام الناس في حسن النظم ودقة المعنى وهو مصدر وصف به للمبالغة «يهدي إلى الرشد» إلى الحق والصواب «فآمنا به» اي بذلك القرآن «ولن نشرك بربنا أحدا» حسبما نطق به ما فيه من دلائل التوحيد
42

«وأنه تعالى جد ربنا» بالفتح قالوا هو وما بعده من الجمل المصدرة بأن في أحد عشر موضعا عطف على محل الجار والمجرور في فآمنا به كأنه قيل فصدقناه وصدقنا انه تعالى جد ربنا اي ارتفع عظمته من جد فلان في عيني اي عظم تمكنه أو سلطانه أو غناء على أنه مستعار من الجد الذي هو البخت والمعنى وصفه بالاستغناء عن الصاحبة والولد لعظمته أو لسلطانه أو لغناه وقرئ بالكسر وكذا الجمل المذكور عطفا على المحكى بعد القول وهو الأظهر لوضوح اندراج كلها تحت القول وأما اندراج الجمل الآتية تحت الايمان والتصديق كما يقتضيه العطف على محل الجار والمجرور ففيه اشكال كما ستحيط به خبرا وقوله تعالى «ما اتخذ صاحبة ولا ولدا» بيان لحكم تعالى جده وقرئ جدا ربنا على التمييز وجد ربنا بالكسر اي صدق ربوبيته وحق إلهيته عن اتخاذ الصاحبة والولد وذلك انهم لما سمعوا القرآن ووفقوا للتوحيد والايمان تنبهوا للخطأ فيما اعتقدوه كفرة الجن من تشبيه الله تعالى بخلقه في اتخاذ الصاحبة والولد فاستعظموه ونزهوه تعالى عنه «وأنه كان يقول سفيهنا» اي إبليس أو مردة الجن «على الله شططا» اي قولا شطط اي بعد عن القصد ومجاوزة للحد أو هو شطط في نفسه لفرط بعده عن الحق وهو نسبة الصاحبة والولد اليه تعالى وتعلق الايمان والتصديق بهذا القول ليس باعتبار نفسه فإنهم كانوا عالمين بقول سفهائهم من قبل أيضا بل باعتبار كونه شططا كأنه قيل وصدقنا ان ما كان يقوله سفيهنا في حقه تعالى كان شططا وأما تعلقهما بقوله تعالى «وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا» فغير ظاهر وهو اعتذار منهم عن تقليدهم لسفيههم اي كنا نظن انه لن يكذب على الله تعالى أحد ابدا ولذلك اتبعنا قوله وكذبا مصدر مؤكد لتقول لأنه نوع من القول أو وصف لمصدره المحذوف اي قولا كذبا اي مكذوبا فيه وقرئ لن تقول بحذف احدى التاءين فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول «وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن» كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه يقول أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الانس والجن وذلك قوله تعالى «فزادوهم» اي زاد الرجال العائذون الجن «رهقا» اي تكبرا وعتوا أو فزاد الجن العائذين غيا بأن أضلوا حتى استعاذوا بهم «وأنهم
43

ظنوا» أي الانس «كما ظننتم» أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض «أن لن يبعث الله أحدا» وقيل المعنى ان الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة الخ فتكون هذه الآية وما قبلها من جملة الكلام الموحى به والأقرب انهما كذلك على كل تقدير عطفا على أنه استمع إذ لا معنى لإدراجهما تحت ما ذكر من الايمان والتصديق وكذا قوله تعالى «وأنا لمسنا السماء» وما بعده من الجمل المصدرة بأنا ينبغي أن تكون معطوفة على ذلك على أن الموحى عين عبارة الجن بطريق الحكاية كأنه قيل قل أوحى إلي كيت وكيت وهذه العبارات اي طلبنا بلوغ السماء أو خبرها واللمس مستعار من المس للطلب كالجس يقال لمسه والتمسه وتلمسه كطلبه وأطلبه وتطلبه «فوجدناها ملئت حرسا» اي حراسا اسم جمع كخدم مفرد اللفظ ولذلك قيل «شديدا» قويا وهم الملائكة يمنعونهم عنها «وشهبا» جمع شهاب وهي الشعلة المقتبسة من نار الكواكب «وأنا كنا نقعد» قبل هذا «منها» من السماء «مقاعد للسمع» خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للترصد والاستماع وللسمع متعلق بنقعد اي لأجل السمع أو بمضمر هو صفة لمقاعد كائنة للسمع «فمن يستمع الآن» في مقعد من المقاعد «يجد له شهابا رصدا» اي شهابا راصدا له ولأجله يصده عن الاستماع بالرجم أو ذوي شهاب راصدين له على أنه اسم مفرد في معنى الجمع كالحرس قيل حدث هذا عند مبعث النبي عليه الصلاة والسلام والصحيح أنه كان قبل البعث أيضا لكنه كثر الرجم بعد البعثة وزاد زيادة حتى تنبه لها الانس والجن ومنع الاستراق أصلا فقالوا ما هذا الا لأمر اراده الله تعالى بأهل الأرض وذلك قولهم «وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» بحراسة السماء «أم أراد بهم ربهم رشدا» اي خيرا ونسبة الخير إلى الله تعالى دون الشر من الآداب الشريفة القرآنية كما في قوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين ونظائره «وأنا منا الصالحون» اي الموصوفون بصلاح الحال في شأن أنفسهم وفي معاملتهم مع غيرهم المائلون إلى الخير والصلاح حسبما تقتضيه الفطرة السليمة لا إلى الشر والفساد كما هو مقتضى النفوس الشريرة «ومنا دون ذلك» اي قوم دون ذلك فحذف الموصوف وهم المقتصدون في صلاح الحال على الوجه المذكور لا في الايمان والتقوى كما توهم فان هذا بيان لحالهم قبل استماع القرآن كما تعرب عنه قوله تعالى «كنا طرائق قددا» وأما حالهم بعد استماعه فسيحكى بقوله تعالى وأنا لما سمعنا الهدى إلى قوله تعالى وأنا منا المسلمون أي كنا قبل هذا ذوي طرائق اي مذاهب أو مثل طرائق في اختلاف الأحوال أو كانت طرائقنا طرائق قدد اي متفرقة مختلفة
44

جمع قدة من قد كالقطعة من قطع «وأنا ظننا» أي علمنا الآن «أن لن نعجز الله» أي الشأن لن نعجز الله كائنين «في الأرض» إن أينما كنا من أقطارها «ولن نعجزه
هربا» هربا هاربين منها إلى السماء أو لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا ولن نعجزه هربا إن طلبنا «وأنا لما سمعنا الهدى» أي القرآن الذي هو الهدى بعينه «آمنا به» من غير تلعثم وتردد «فمن يؤمن بربه» وبما أنزله «فلا يخاف» فهو لا يخاف «بخسا» أي نقصا في الجزاء «ولا رهقا» ولا أن ترهقه ذلة أو جزاء بخس ولا رهق إذا لم يبخس أحدا حقا ولا رهق ظلم أحد فلا يخاف جزائهما وفيه دلالة على أن من حق من آمن بالله تعالى أن يجتنب المظالم وقرئ فلا يخف والأول أدل على تحقيق نجاة المؤمن واختصاصها به «وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون» الجائرون عن طريق الذي الحق هو الإيمان والطاعة «فمن أسلم فأولئك» إشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى «تحروا» توخوا «رشدا» عظيما يبلغهم إلى دار الثواب «وأما القاسطون» الجائرون عن سنن الإسلام «فكانوا لجهنم حطبا» توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس «وأن لو استقاموا» أن مخففة من الثقيلة والجملة معطوفة قطعا على أنه استمع والمعنى وأوحى إلى أن الشأن لو استقام الجن والإنس أو كلاهما على الطريقة التي هي ملة الإسلام «لأسقيناهم ماء غدقا» أي لو سعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق وهو الكثير بالذكر لأنه أصل المعاش والسعة ولعزة وجوده بين العرب وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته ولم يتكبر عن السجود لآدم عليه السلام ولم يكفر وتبعه ولده في الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم «لنفتنهم فيه» لنختبرهم كيف يشكرونه وقيل معناه أنه لو استقام الجن على طريقتهم القديمة ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة «ومن يعرض عن ذكر ربه» عن عبادته أو عن موعظته أو وحيه «يسلكه» يدخله «عذابا صعدا» أي شاقا صعبا يعلو المعذب ويغلبه على أنه مصدر وصف به مبالغة
45

«وأن المساجد لله» عطف على قوله تعالى أنه استمع أي وأوحى إلى أن المساجد مختصة بالله تعالى وقيل معناه ولأن المساجد لله
«فلا تدعوا» أي لا تعبدوا فيها
مع الله أحدا غيره وقيل المراد بالمساجد المسجد الحرام والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه قبلة المساجد وقيل الأرض كلها لأنها جعلت مسجدا للنبي عليه الصلاة والسلام وقيل مواضع السجود على أن المراد نهى السجود لغير الله تعالى وقيل أعضاء السجود السبعة وقيل السجدات على أنه جمع المصدر الميمي
وأنه من جملة الموحى أي وأوحى إلى أن الشأن
لما قام عبد الله أي النبي عليه الصلاة والسلام وإيراده بلفظ العبد للإشعار بما هو المقتضى لقيامه وعبادته وللتواضع لأنه واقع موقع كلامه عن نفسه
«يدعوه» حال من فاعل قام أي يعبده وذلك قيامه لصلاة الفجر بنخلة كما مر تفصيله في سورة الأحقاف
كادوا أي الجن
«يكونون عليه لبدا» متراكمين من ازدحامهم عليه تعجبا مما شاهدوا من عبادته وسمعوا من قراءته واقتداء أصحابه به قياما وركوعا وسجودا لأنهم رأوا ما لم يروا مثله وسمعوا بما لم يسمعوا بنظيره وقيل معناه لما قام عليه الصلاة والسلام يعبد الله وحده مخالفا للمشركين كاد المشركون يزدحمون عليه متراكمين واللبد جمع لبدة وهي تلبد بعضه على بعض ومنها لبدة الأسد وقرئ لبدا جمع لبدة وهي بمعنى اللبدة ولبدا وجمع لابد كساجد وسجد ولبدا بضمتين جمع لبود كصبور وصبر وعن قتادة تلبدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله إلا أن يظهره على من ناوأه
«قل إنما أدعو» أي أعبد
«ربي ولا أشرك به» بربي في العبادة
أحدا فليس ذلك ببدع ولا مستنكر يوجب التعجب أو الإطباق على عداوتي وقرئ قال على أنه حكاية لقوله عليه الصلاة والسلام للمتراكمين عليه والأول هو الأظهر والأوفق لقوله تعالى
«قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا» كأنه أريد لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فترك من كلا المتقابلين ما ذكر في الآخر
«قل إني لن يجيرني من الله أحد» إن أرادني بسوء
«ولن أجد من دونه ملتحدا» ملتجأ ومعدلا وهذا بيان لعجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون نفسه بعد بيان عجزه عليه الصلاة والسلام عن شؤون غيره وقوله تعالى
«إلا بلاغا من الله» استثناء
46

من قوله لا أملك فإن التبليغ إرشاد ونفع وما بينهما اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة أو من ملتحدا أي لن أجد من دونه منجا إلا أن أبلغ عنه ما أرسلني به وقيل إلا مركبة من أن الشرطية ولا النافية ومعناه أن لا أبلغ بلاغا من الله والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه
ورسالاته عطف على بلاغا ومن الله صفته لا صلته أي لا أملك لكم إلا تبليغا كائنا منه تعالى ورسالاته التي أرسلني بها
«ومن يعص الله ورسوله» في الأمر بالتوحيد إذ الكلام فيه
«فأن له نار جهنم» وقرئ بفتح الهمزة على فحقه أو فجزاؤه أن له نار جهنم
«خالدين فيها» في النار أو في جهنم والجمع باعتبار المعنى
أبدا بلا نهاية وقوله تعالى
«حتى إذا رأوا ما يوعدون» غاية لمحذوف يدل عليه الحال من استضعاف الكفار لأنصاره عليه الصلاة والسلام واستقلالهم لعدده كأنه قيل لا يزالون على ما هم عليه
حتى إذا رأوا ما يوعدون من فنون العذاب في الآخرة
فسيعلمون حينئذ
«من أضعف ناصرا وأقل عددا» وحمل ما يوعدون على ما رأوا يوم بدر يأباه قوله تعالى
«قل إن أدري» أي ما أدري
«أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا» فإنه رد لما قاله المشركون عند سماعهم ذلك متى يكون ذلك الموعود إنكارا له واستهزاء به فقيل قل إنه كائن لا محالة وأما وقته فما أدرى متى يكون
«عالم الغيب» بالرفع قيل هو بدل من ربي أو بيان له ويأباه الفاء في قوله تعالى
«فلا يظهر على غيبه أحدا» إذ يكون النظم حينئذ أم يجعل له عالم الغيب أمدا فلا يظهر عليه أحدا وفيه من الاختلال مالا يخفى فهو خبر مبتدأ محذوف أي هو عالم الغيب والجملة استئناف مقرر لما قبله من عدم الدراية والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرده تعالى بعلم الغيب على الإطلاق أي فلا يطلع على غيبه إطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين أحدا من خلقه
«إلا من ارتضى من رسول» أي إلا رسولا ارتضاه لاظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته كما يعرب عنه بيان من ارتضى بالرسول تعلقا تاما إما لكونه من مبادئ رسالته بأن يكون معجزة دالة على صحتها وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية التي أمر بها المكلفون وكيفيات أعمالهم وأجزيتها المترتبة عليها في الآخرة وما تتوقف هي عليه من أحوال الآخرة التي من جملتها قيام الساعة والبعث وغير ذلك من الأمور الغيبية التي بينها من وظائف الرسالة وأما مالا يتعلق بها على أحد الوجهين من الغيوب التي من جملتها وقت قيام الساعة فلا يظهر عليه أحدا على أن بيان وقته مخل بالحكمة التشريعية التي عليها يدور فلك الرسالة وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء
47

المتعلقة بالكشف فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل لا يستلزم عدم الحصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلا ولا يدعى أحد لأحد من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح وقوله تعالى
«فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا» تقرير وتحقيق للإظهار المستفاد من الاستثناء وبيان لكيفيته أي فإنه يسلك من جميع جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم عند إظهاره على غيبة حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين لما أظهره عليه من الغيوب المتعلقة برسالته وقوله تعالى
«ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم» متعلق بيسلك غاية له من حيث أنه مترتب على الإبلاغ المترتب عليه إذ المراد به العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل وأن مخففة من النقيلة واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف والجملة خبرها ورسالات ربهم عبارة عن الغيب الذي أريد إظهار المرتضى عليه والجمع باعتبار تعدد أفراده وضمير أبلغوا إما للرصد فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتضى ليعلم أن الشأن قد أبلغوه رسالات ربهم سالمة عن الاختطاف والتخليط علما مستتبعا للجزاء وهو أن يعلمه موجودا حاصلا بالفعل كما في قوله تعالى حتى نعلم المجاهدين والغاية في الحقيقة هو الإبلاغ والجهاد وإيراد علمه تعالى لإبراز اعتنائه تعالى بأمرهما والإشعار بترتيب الجزاء عليهما والمبالغة في الحث عليهما والتحذير عن التفريط فيهما وأما لمن ارتضى والجمع باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين السابقين باعتبار لفظها فالمعنى ليعلم أنه قد أبلغ الرسل الموحى إليهم رسالات ربهم إلى أممهم كما هي من غير اختطاف ولا تخليط بعد ما أبلغها الرصد إليهم كذلك قوله تعالى
«وأحاط بما لديهم» أي بما عند الرصد أو الرسل عليهم السلام حال من فاعل يسلك بإضمار قد أو بدونه على الخلاف المشهور جئ بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد على الوجه المذكور أي يسلكهم بين يديه ومن خلفه ليترتب عليه علمه تعالى بما ذكر والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال جميعا
«وأحصى كل شيء» مما كان وما سيكون
عددا أي فردا فردا وهو تمييز منقول من المفعول به كقوله تعالى وفجرنا الأرض عيونا والأصل أحصى عدد كل شئ وقيل هو حال أي معدودا محصورا أو مصدر بمعنى إحصاء وأيا ما كان ففائدته بيان أن علمه تعالى بالأشياء ليس على وجه كلي اجمالي بل على وجه جزئي تفصيلي فإن الإحصاء قد يراد به الإحاطة الإجمالية كما في قوله تعالى وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أي لا تقدروا على حصرها إجمالا فضلا عن التفصيل وذلك أصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد كالعشرة والمائة والألف وضع حصاة ليحفظ بها كمية ذلك العقد فيبنى على ذلك حسابه هذا وأما ما قيل من أن قوله تعالى وأحاط بما لديهم الخ معطوف على مقدر يدل عليه قوله تعالى ليعلم كأنه قيل قد علم ذلك وأحاط بما لديهم الخ فبمعزل من السداد عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الجن كان له بعدد كل جنى صدق بمحمدا وكذب به عتق رقبة
48

بسم الله الرحمن الرحيم «يا أيها المزمل» أي المتزمل بثيابه إذا تلفف بها فأدغم التاء في الزاء وقد قرىء على الأصل وقرئ المزمل من زمله مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل قيل خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم تهجينا لما كان عليه من الحالة حيث كان عليه الصلاة والسلام متلففا بقطيفة مستعد للنوم كما يفعله من لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن فأمر بأن يترك التزمل إلى التشمر للعبادة والهجود إلى التهجد وقيل دخل عليه الصلاة والسلام على خديجة وقد جئث فرقا أول ما أتاه جبريل عليهما السلام وبوادره ترعد فقال زملوني زملوني فحسب أنه عرض له فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل فقال يا أيها المزمل فيكون تخصيص وصف التزمل بالخطاب للملاطفة والتأنيس كما في
قوله عليه الصلاة والسلام لعلى رضى الله عنه حين غاضب فاطمة رضي الله عنها فأتاه وهو نائم وقد لصق بجنبه التراب قم يا أبا تراب ملاطفة وإشعارا بأنه غير عاتب عليه وقيل المعنى يا أيها الذي زمل أمرا عظيما هو أمر النبوة أي حمله والزمل الحمل وازدمله أي احتمله فالتعرض للوصف حينئذ للإشعار بعليته للقيام أو للأمر به فإن تحميله عليه الصلاة والسلام لأعباء النبوة مما يوجب الإجتهاد في العبادة
«قم الليل» أي قم إلى الصلاة وانتصاب الليل على الظرفية وقيل القيام مستعار للصلاة ومعنى قم صل وقرئ بضم الميم وفتحها
«إلا قليلا» استثناء من الليل وقوله تعالى
نصفه بدل من الليل الباقي بعد الثنيا بدل الكل أي قم نصفه والتعبير عن النصف المخرج بالقليل لإظهار كمال الاعتداد بشأن الجزء المقارن للقيام والإيذان بفضله وكون القيام فيه بمنزلة القيام في أكثره في كثرة الثواب واعتبار قلته بالنسبة إلى الكل مع عرائه عن الفائدة خلاف الظاهر «أو انقص منه» أي انقص القيام من النصف المقارن له في الصورة الأولى
49

قليلا أي نقصا قليلا أو مقدارا قليلا بحيث لا ينحط إلى نصف النصف
«أو زد عليه» أي زد القيام على النصف المقارن له فالمعنى تخييره عليه الصلاة والسلام بين أن يقوم نصفه أو أقل منه أو أكثر وقيل قوله تعالى نصفه بدل من قليلا والتخيير بحاله وليس بسديد أما أولا فلان الحقيق بالاعتناء الذي ينبئ عنه الإبدال هو الجزاء الباقي بعد الثنيا المقارن للقيام لا الجزء المخرج العاري عنه وأما ثانيا فلان نقص القيام وزيادته إنما يعتبران بالقياس إلى معياره الذي هو النصف المقارن له فلو جعل نصفه بدلا من قليلا لزم اعتبار نقص القيام وزيادته بالقياس إلى ما هو عار عنه بالكلية والاعتذار بتساوي النصفين مع كونه تمحلا ظاهرا اعتراف بأن الحق هو الأول وقيل نصفه بدل من الليل والإ قليلا استثناء من النصف والضمير في منه وعليه للنصف والمعنى التخيير بين أمرين أن يقوم أقل من نصف الليل على البتات وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه وقيل الضميران للأقل من النصف كأنه قيل قم أقل من نصفه أو قم انقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا وقيل وقيل والذي يليق بجزالة التنزيل هو الأول والله أعلم بما في كتابه الجليل
ورتل القرآن وفي أثناء ما ذكر من القيام أي اقرأه على تؤدة وتبيين حروف
ترتيلا بليغا بحيث يتمكن السامع من عدها من قولهم ثغر رتل إذا كان مفلجا
إنا سنلقي عليك أي سنوحي إليك وإيثار الإلقاء عليه لقوله تعالى
قولا ثقيلا وهو القرى ن العظيم المنطوي على تكاليف شاقة ثقيلة على المكلفين لا سيما على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه مأمور بتحملها وتحميلها للأمة والجملة اعتراض بين الأمر وتعليله لتسهيل كا كلفه عليه الصلاة والسلام من القيام وقيل معنى كونه ثقيلا أنه رضين لرزانة لفظه ومتانة معناه أو ثقيل على المتأمل فيه لافتقاره إلى مزيد تصفية للسر وتجريد للنظر أو ثقيل في الميزان أو على الكفار والفجار أو ثقيل تلقيه عن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا نزل عليه الوحي ثقلا عليه وتربد له جلده وعن عائشة رضي الله عنها رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليرفض عرقا
«إن ناشئة الليل» أي إن النفس التي تنشأ من مضجعها إلى العبادة أي تنهض من نشأ من مكانه إذا نهض أو إن قيام الليل على أن الناشئة مصدر من نشأ كالعافية أو إن العبادة التي تنشأ بالليل أي تحدث أو إن ساعات الليل فإنها تحدث واحدة بعد واحدة أو ساعاتها الأول من نشأ إذا ابتدأ
«هي أشد وطأ» أي هي خاصة أشد ثبات قدم أو كلفة فلا بد من الاعتناء بالقيام وقرئ وطاء أي أشد مواطأة يواطئ قلبها لسانها إن أريد بها النفس أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه أن أريد
50

بها القيام أو العبادة أو الساعات أو أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص
وأقوم قيلا وأسد مقالا وأثبت قراءة لحضور القلب وهدو الأصوات
«إن لك في النهار سبحا طويلا» أي تقلبا وتصرفا في مهماتك واشتغالا بشواغلك فلا يستطيع أن تتفرغ للعبادة فعليك بها في الليل وهذا بيان للداعي الخارجي إلى قيام الليل بعد بيان ما في نفسه من الداعي وقرئ سبخا أي تفرق قلب بالشواغل مستعار من سبخ الصوف وهو نفشه ونشر أجزائه
«واذكر اسم ربك» ودم على ذكره تعالى ليلا ونهارا على أي وجه كان من تسبيح وتهليل وتحميد وصلاة وقراءة قرآن ودراسة علم
«وتبتل إليه» أي وانقطع إليه بمجامع الهمة واستغراق العزيمة في مراقبته وحيث لم يكن ذلك إلا بتجريد نفسه عليه الصلاة والسلام عن العوائق الصادة عن مراقبة اله تعالى وقطع العلائق عما سواه قيل
تبتيلا مكان تبتلا مع ما فيه من رعاية الفواصل
«رب المشرق والمغرب» مرفوع على المدح وقيل على الابتداء خبره
لا إله إلا هو وقرئ بالجر على أنه بدل من ربك وقيل على إضمار حرف القسم جوابه لا إله إلا هو والفاء في قوله تعالى
«فاتخذه وكيلا» لترتيب الأمر وموجبه على اختصاص الألوهية والربوبية به تعالى
«واصبر على ما يقولون» مما لا خير فيه من الخرافات
«واهجرهم هجرا جميلا» بأن تجانبهم وتداريهم ولا تكافئهم وتكل أمورهم إلى ربهم كما يعرب عنه قوله تعالى
«وذرني والمكذبين» أي دعني وإياهم وكل أمرهم إلى فإني أكفيكهم «أولي النعمة» أرباب التنعم وهم صناديد قريش
«ومهلهم قليلا» زمنا قليلا
«إن لدينا أنكالا» جمع نكل وهو القيد الثقيل والجملة تعليل للأمر أي أن لدينا أمورا مضادة لتنعمهم
جحيما
وطعاما ذا غصة ينشب في الحلوق ولا يكاد يساغ كالضريع والزقوم
وعذابا أليما ونوعا آخر من العذاب مؤلما لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه كل ذلك معد لهم ومرصد
51

وقوله تعالى يوم ترجف الأرض والجبال أي تضطرب وتتزلزل ظرف للاستقرار الذي تعلق به لدينا وقيل متعلق بمضمر هو صفة لعذابنا أي عذابا واقعا يوم ترجف
«وكانت الجبال» مع صلابتها وارتفاعها
كثيبا رملا مجتمعا من كثب الشيء إذا جمعه كأنه فعيل بمعنى مفعول
مهيلا منثورا من هيل هيلا إذا نثر وأسيل «إنا أرسلنا إليكم» يأهل مكة «رسولا شاهدا عليكم» يشهد يوم القيامة بما صدر عنكم من الكفر والعصيان كما
أرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى عليه السلام وعدم تعيينه لعدم دخله في التشبيه
فعصى فرعون الرسول الذي أرسلناه إليه ومحل الكاف النصب على أنها صفة لمصدر محذوف أي أنا أرسلنا إليكم رسولا فعصيتموه كما يعرب عنه قوله تعالى شاهدا عليكم إرسالا كأننا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصاه وقوله تعالى
«فأخذناه أخذا وبيلا» خارج من التشبيه جئ به للتنبيه على أنه سيحيق بهؤلاء ما حاق بأولئك لا محالة والوبيل الثقيل الغليظ من قولهم كلأ وبيل أي وخيم لا يستمرأ لثقله والوبيل العصا الضخمة
«فكيف تتقون» أي كيف تقون أنفسكم
«إن كفرتم» أي بقيتم على الكفر
«يوما» أي عذاب يو
«يجعل الولدان» من شدة هوله وفظاعة ما فيه من الدواهي شيبا شيوخا جمع أشيب إما حقيقة أو تمثيلا وأصله أن الهموم والأحزان إذا تفاقمت على المرء ضعفت قواه وأسرع فيه الشيب وقد جوز أن يكون ذلك وصفا لليوم بالطول وليس بذاك
«السماء منفطر» أي منشق وقرئ متفطر أي متشقق والتذكير لإجرائه على موصوف مذكر أي شئ منفطر عز عنها بذلك للتنبيه على أنه تبدلت حقيقتها وزال عنها اسمها ورسمها ولم يبق منها إلا ما يعبر عنه بالشئ وقيل لتأويل السماء بالسقف وقيل هو من باب النسب أي ذات انفطار والباء في به
مثلها في فطر ت العود بالقدوم
«كان وعده مفعولا» الضمير لله عز وجل والمصدر مضاف إلى فاعله أو لليوم وهو مضاف إلى مفعوله
«إن هذه» إشارة إلى الآيات المنطوية على القوارع المذكورة
تذكرة موعظة
«فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا» بالتقريب إليه بالإيمان والطاعة فإنها المنهاج
52

الموصل إلى مرضاته
«إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل» أي أقل منهما استعير له الأدنى لما أن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما من الأحياز
ونصفه وثلثه بالنصب وعطفا على أدنى وقرئا بالجر عطفا على ثلثي الليل
«وطائفة من الذين معك» أي يقوم معك طائفة من أصحابك
«والله يقدر الليل والنهار» وحده لا يقدر على تقديرهما أحد أصلا فإن تقديم الاسم الجليل مبتدأ وبناء يقدر عليه موجب للاختصاص قطعا كما يعرب عنه قوله تعالى
«علم أن لن تحصوه» أي علم أن الشأن لن تقدروا على تقدير الأوقات ولن تستطيعوا ضبط الساعات أبدا
فتاب عليكم بالترخيص في ترك القيام المقدر ورفع التبعة عنكم في تركة
فاقرؤا ما تيسر من القرآن فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل عبر عن الصلاة بالقراءة كا عبر عنها بسائر أركانها قيل كان التهجد واجبا على التخيير المذكور فعسر عليهم القيام به فنسخ به ثم نسخ هذا بالصلوات الخمس وقيل هي قراءة القرآن بعينها قالوا من قرأ مائة آية من القرآن في ليلة لم يحاجه وقيل من قرأ مائة آية كتب من القانتين ة وقيل خمسين آية
«علم أن سيكون منكم مرضى» استئناف مبين لحكمة أخرى داعية إلى الترخيص والتخفيف
«وآخرون يضربون في الأرض» يسافرون فيها للتجارة
«يبتغون من فضل الله» وهو الربح وقد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم
وآخرون يضربون في الأرض يسافرون فيها للتجارة (يبتغون من فضل الله وهو الربح قد عمم ابتغاء الفضل لتحصيل العلم
وآخرون يقاتلون في سبيل الله وإذا كان الأمر كما ذكر وتعاضدت الدواعي إلى الترخيص فاقرؤا ما تيسر منه من غير تحمل المشاق
«وأقيموا الصلاة» أي المفروضة
«وآتوا الزكاة» الواجبة وقيل هي هي زكاة الفطر إذا لم يكن بمكة زكاة ومن فسرها بالزكاة المفروضة جعل آخر السورة مدنيا
«وأقرضوا الله قرضا حسنا» أريد به الإنفاقات في سبل الخيرات أو أداء الزكاة على أحسن الوجوه وأنفعها للفقراء
وما تقدموا لأنفسكم من خير أي خير كان مما ذكر وما لم يذكر
«تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا» من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت وخيرا ثاني مفعولي تجدوا وهو تأكيدا أو فصل وإن لم يقع بين معرفتين فإن أفعل من في حكم المعرفة ولذلك يمتنع من حرف التعريف وقرئ هو خير على الابتداء والخبر
واستغفروا الله في كافة أحوالكم فإن الإنسان قلما يخلو من التفريط
«إن الله غفور رحيم» عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن قرأ سورة المزمل دفع الله عنه العسر في الدنيا والآخرة
53

بسم الله الرحمن الرحيم
«يا أيها المدثر» أي المتدثر وهو لابس الدثار وهو ما يلبس فوق الشعار الذي يلي الجسد قيل هي أول سورة نزلت روى عن جابر رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كنت على جبل حراء فنوديت يا محمد إنك رسول الله فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا فنظرت فوقى فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض يعني الملك الذي ناداه فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت دثروني دثروني فنزل جبريل وقال يا أيها المدثر وعن الزهري أن أول ما نزل سورة أقرأ إلى قوله تعالى ما لم يعلم فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يعلو شواهق الجبال فأتاه جبريل عليه السلام وقال إنك نبي الله فرجع إلى خديجة فقال دثروني وصبوا على ماء باردا فنزل جبريل فقال يا أيها المدثر وثيل سمع من قريش ما كرهه فاغتم فتغطى بثوبه متفكرا كما يفعل المغموم فأمر أن لا يدع إنذارهم وأن سمعوه وآذوه وقيل كان نائما متدثرا وقيل المراد المتدثر بلباس النبوة والمعارف الإلهية وقرئ المدثر على صيغة اسم المفعول من دثره أي الذي دثر هذا الأمر العظيم وعصب به وفي حرف
أبي المنذر يا أيها المتدثر على الأصل
قم أي من مضجعك أو قم قيام عزم وتصميم
فأنذر أي أفعل الإنذار وأحدثه وقيل انذر قومك كقوله تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين أو جميع الناس حسبما ينبئ
عنه قوله تعالى وما أرسلناك الإ كافة للناس بشيرا ونذيرا
«وربك فكبر» واختص ربك بالتكبير وهو وصفه تعالى بالكبرياء اعتقادا وقولا ويروى أنه لما نزل قال رسول الله الله أكبر فكبرت خديجة وفرحت وأيقنت أنه الوحي وقد يحمل على تكبير الصلاة والفاء لمعنى الشرط كأنه قيل ما كان أي أي شئ حدث فلا تدع تكبيره أو للدلالة على أن المقصود لأولى من الأمر بالقيام أن يكبر ربه
وينزهه من الشرك فإن أول ما يجب معرفة الصانع جل جلاله ثم تنزيهه عما لا يليق بجنابة
وثيابك
54

«فطهر» مما ليس فإنه واجب الصلاة الأولى وأولى وأحب في غيرها وذلك بصيانتها وحفظها عن النجاسات وغسلها بعد تلطخها وبتقصيرها أيضا فإن طولها يؤدي إلى جر الذيول على القاذورات وهو أول ما أمر به عليه الصلاة والسلام من رفض العادات المذمومة وقيل هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ويستهجن من الأحوال يقال فلان طاهر الذيل والأردان إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ومدانس الأخلاق
«والرجز فاهجر» أي وأهجر العذاب بالثبات على هجر يؤدى إليه من المآثم وقرئ بكسر الراء وهما لغتان كالذكر والذكر «ولا تمنن تستكثر» ولا تعط مستكثرا أي رائيا لما تعطيه كثيرا أو طالبا للكثير على أنه أنهى عن الاستغزار وهو أن يهب شيئا وهو يطمع ان يتعوض من الموهوب له أكثر مما أعطاه وهو جائز ومنه الحديث المستغزر يثاب من هبته فالنهي إما للتحريم وهو خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى اختار له أشرف الأخلاق وأحسن الآداب أو للتنزيه للكل وقرئ تستكثر بالسكون اعتبارا بحال الوقف أو أبدالا من تمنن كأنه قيل ولا تمنن ولا تستكثر على أنه من المن الذي في قوله تعالى منا ولا أذى لأن من يمن بما يعطي يستكثره ويعتد به وقرئ بالنصب باضمار ان مع ابقاء عملها كقول من قال الا أيها الزاجري احضر الوغى وقد قرىء باثباتها ويجوز في قراءة الرفع ان يحذف ان ويبطل عملها كما يروى احضر الوغى بالرفع
ولربك
اي لوجهه تعالى أو لأمره
فاصبر
فاستعمل الصبر وقيل على أذية المشركين وقيل على أداء الفرائض
فإذا نقر في الناقور
اي نفخ في الصور وهو فاعل من النقر بمعنى التصويت وأصله القرع الذي هو سبب الصوت والفاء للسببية كأنه قيل اصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم هائل يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه والعامل في إذا ما دل عليه قوله تعالى
فذلك يومئذ يوم عسير
على الكافرين وذلك إشارة إلى وقت النقر وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد مع قرب العهد بالمشار اليه للايذان ببعد منزلته في الهول والفظاعة ومحله الرفع على الابتداء ويومئذ
55

بدل منه مبنى على الفتح لإضافته إلى غير متمكن والخبر يوم عسير وقيل يومئذ ظرف للخبر إذ التقدير وذلك الوقت وقوع يوم عسير وعلى متعلقة بعسير وقيل بمحذوف هو صفة لعسير أو حال من المستكن فيه وقوله تعالى
غير يسير
تأكيد لعسره عليهم مشعر ييسره على المؤمنين واختلف في أن المراد به يوم النفخة الأولى أو الثانية والحق أنها الثانية إذ هي التي يختص عسرها بالكافرين وأما النفخة الأولى فحكمها الذي هو الإصعاق يعم البر والفاجر على أنها مختصة بمن كان حيا عند وقوعها وقد جاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلها وأنها تجمع في تلك الثقوب في النفخة الثانية فتخرج عند النفخ من كل ثقبه روح إلى الجسد الذي نزعت منه فيعود الجسد حيا باذن الله تعالى
ذرني ومن خلفت وحيدا
حال اما من الياء اي ذرني وحدي معه فاني أكفيكه في الانتقام منه أو من التاء اي خلفته وحدي
لم يشركني في خلقه أحد أو من العائد المحذوف اي ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي وكان يلقب في قومه بالوحيد فهو تهكم به وبلقبه وصرف له عن الغرض الذي يؤمونه من مدحه إلى 12 جهة ذمه بكونه وحيدا من المال والولد أو وحيدا من أبيه لأنه كان زنيما كما مر أو وحيدا في الشرارة
وجعلت له مالا ممدودا
مبسوطا كثيرا أو ممدا بالنماء من مد النهر ومده نهر آخر قيل كان له الضرع والزرع والتجارة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هو ما كان له بين مكة والطائف من صنوف الأموال وقيل كان له بالطائف بستان لا ينقطع ثماره صيفا وشتاء وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير كان له الف دينار وقال قتادة ستة آلاف دينار وقال 3 سفيان الثوري أربعة آلاف دينار وقال الثوري أيضا الف الف دينار
وبنين شهودا
حضورا معه بمكة يتمتع بمشاهدتهم لا يفارقونه للتصرف في عمل أو تجارة لكونهم مكفيين لوفور نعمهم وكثرة خدمهم أو حضورا في الأندية والمحافل لوجاهتهم واعتبارهم قيل كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر وقيل سبعة كلهم رجال الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص والقيس وعبد شمس اسلم منهم ثلاثة خالد 14 وهشام وعمارة
ومهدت له تمهيدا
وبسطت له الرياسة والجاه العريض حتى لقب 15 ريحانه قريش
ثم يطمع ان أزيد
على ما أوتيه وهو استبعاد واستنكار لطمعه وحرصه اما لأنه لا مزيد
56

على ما أوتي سعة وكثرة أو لأنه مناف لما هو عليه من كفران النعم ومعاندة المنعم وقيل انه كان يقول ان كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي
كلا
ردع وزجر له عن طمعه الفارغ وقطع لرجائه الخائب وقوله تعالى
انه كان لآياتنا عنيدا
تعليل 16 لذلك على وجه الاستئناف التحقيقي فان معاندة آيات المنعم مع وضوحها وكفران نعمته مع سبوغها مما يوجب حرمانه بالكلية وانما أوتي ما أوتي استدراجا قيل ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله حتى هلك
سأرهقه صعودا
سأغشيه بدل 17 ما يطمعه من الزيادة أو الجنة عقبة شاقة المصعد وهو مثل لما يلقي من العذاب الصعب الذي لا يطاق وعن النبي صلى الله عليه وسلم يكلف ان يصعد عقبة في النار كلما وضع يده عليها ذابت فإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت فإذا رفعها عادت وعنه عليه الصلاة والسلام الصعود جبل من نار يصعد فيها سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك ابدا
انه فكر وقدر
تعليل للوعيد واستحقاقه له أو بيان لعناده لآياته تعالى 18 أي فكر ماذا يقول في شأن القرآن وقدر في نفسه ما يقوله
فقتل كيف قدر
تعجيب 19 من تقديره واصابته فيه الغرض الذي كان ينتحيه قريش قاتلهم الله أو ثناء عليه بطريق الاستهزاء به أو حكاية لما كرروه من قولهم قتل كيف قدر تهكما بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ومعنى قولهم قتله الله ما اشجعه أو أخزاه الله ما أشعره الاشعار بأنه قد بلغ من الشجاعة والشعر مبلغا حقيقيا بأن يدعو عليه حاسده بذلك روي ان الوليد قال لبني مخزوم والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ان له لحلاوة وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وان أسفله لمغدق وانه يعلو وما يعلي فقالت قريش صبأ والله الوليد والله لتصبأن قريش كلهم فقال ابن أخيه أبو جهل انا أكفيكموه فقعد عنده حزينا وكلمه بما أحماه فقام فأتاهم فقال تزعمون ان محمدا مجنون فهل رأيتموه يخنق وتقولون انه كاهن فهل رأيتموه يتكهن وتزعمون انه شاعر فهل رأيتموه يتعاطى شعرا قط وتزعمون انه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب فقالوا في كل ذلك اللهم لا ثم قالوا فما هو ففكر فقال ما هو الا ساحر اما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه وما الذي يقوله الا سحر يأثره عن أهل بابل فارتج النادي فرحا وتفرقوا معجبين بقوله متعجبين منه
57

ثم قتل كيف قدر
تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى 22 21 وفيما بعد على أصلها من التراخي الزماني
ثم نظر
أي في القرآن مرة بعد مرة
ثم عبس
قطب وجهه لما لم يجد فيها مطعنا ولم يدر ماذا يقول وقيل نظر في وجوه الناس ثم قطب وجهه وقيل نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قطب في وجهه 23
وبسر
اتباع لعبس
ثم أدبر
عن الحق أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 24
واستكبر
عن اتباعه
فقال ان هذا الا سحر يؤثر
اي يروى ويتعلم والفاء للدلالة على أن هذه الكلمة لما خطرت بباله تفوه بها من غير تلعثم وتلبث وقوله تعالى 25
ان هذا الا قول البشر
تأكيد لما قبله ولذلك أخلى عن العاطف
سأصليه سقر
بدل من سأرهقه صعودا
وما ادراك ما سقر
اي اي شيء أعلمك ما سقر على أن ما الأولى مبتدأ وادراك خبره وما الثانية خبر لأنها المفيدة لما قصد افادته من التهويل والتفظيع وسقر مبتدأ اي اي شيء هي في وصفها لما مر مرارا من أن ما قد يطلب بها الوصف وان كان الغالب ان يطلب بها الاسم والحقيقة وقوله تعالى
لا تبقي ولا تذر
بيان لوصفها وحالها وانجاز للوعد الضمني الذي يلوح به وما ادراك ما سقر وقيل حال من سقر وليس بذاك اي لا تبقي شيئا يلقي فها الا أهلكته وإذا هلك لم تذره هالكا حتى يعاد أو لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة
لواحة للبشر
مغيرة لأعالي الجلد مسودة
58

لها قيل تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل وقيل تلوح للناس كقوله تعالى ثم لترونها عين اليقين وقرئ لواحة بالنصب على الاختصاص للتهويل
عليها تسعة عشر
اي ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا من الملائكة يلون امرها ويتسلطون على أهلها وقرئ بسكون عين عشر حذارا من توالي الحركات فيما هو في حكم اسم واحد وقرئ
تسعة أعشر جمع عشير مثل يمين وأيمن
وما جعلنا أصحاب النار
اي المدبرين لأمرها القائمين بتعذيب أهلها
الا ملائكة
ليخالفوا جنس المعذبين فلا يرقوا لهم ولا يستروحوا إليهم لأنهم أقوى الخلق وأقومهم بحق الله عز وجل وبالغضب له تعالى وأشدهم بأسا عن النبي صلى الله عليه وسلم لأحدهم مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمى بهم في النار ويرمى بالجبل عليهم وروي انه لما نزل عليها تسعة عشر قال أبو جهل لقريش أيعجز كل عشرة منكم ان يبطشوا برجل منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش انا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فنزلت اي ما جعلناهم رجالا من جنسكم
وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا
اي ما جعلنا عددهم الا العدد الذي تسبب لافتتانهم وهو التسعة عشر فعبر بالأثر عن المؤثر تنبيها على التلازم بينهما وليس المراد مجرد جعل عددهم ذلك العدد المعين في نفس الأمر بل جعله في القرآن أيضا كذلك وهو الحكم بأن عليها تسعة عشر إذ بذلك يتحقق افتتانهم باستقلالهم له واستبعادهم لتولي هذا العدد القليل لتعذيب أكثر الثقلين واستهزائهم به حسبما ذكر وعليه يدور ما سيأتي من استيقان أهل الكتاب وازدياد المؤمنين ايمانا قالوا المخصص لهذا العدد ان اختلاف النفوس البشرية في النظر والعمل بسبب القوى الحيوانية الاثنتي عشرة والطبيعية السبع أو أن جهنم سبع دركات ست منها لأصناف الكفرة كل صنف يعذب بترك الاعتقاد والاقرار والعمل أنواعا من العذاب يناسبها وعلى كل نوع ملك أو صنف أو صف يتولاه وواحدة لعصاة الأمة يعذبون فيها بترك العمل نوعا يناسبه ويتولاه واحد أو أن الساعات أربع وعشرون خمسة منها مصروفة للصلوات الخمس فيبقى تسعة عشر قد تصرف إلى ما يؤاخذ به بأنواع العذاب يتولاها الزبانية
ليستيقن الذين أوتوا الكتاب
متعلق بالجعل على المعنى المذكور اي ليكتسبوا اليقين بنبوته عليه الصلاة والسلام وصدق القرآن لما شاهدوا ما فيه موافقا لما في كتابهم
ويزداد الذين آمنوا ايمانا
اي يزداد ايمانهم كيفية بما رأوا من تسليم أهل الكتاب
59

وتصديقهم أنه كذلك أو كمية بانضمام ايمانهم بذلك إلى ايمانهم بسائر ما انزل
ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون
تأكيد لما قبله من الاستيقان وازدياد الايمان ونفي لما قد يعتري المستيقن من شبهة ما وانما لم ينظم المؤمنون في سلك أهل الكتاب في نفي الارتياب حيث لم يقل ولا يرتابوا للتنبيه على تباين النفيين حالا فان انتفاء الارتياب من أهل الكتاب مقارن لما ينافيه من الجحود ومن المؤمنين مقارن لما يقتضيه من الايمان وكم بينهما والتعبير عنهم باسم الفاعل بعد ذكرهم بالموصول والصلة الفعلية المنبئة عن الحدوث للايذان بثباتهم على الايمان بعد ازدياده ورسوخهم في ذلك
وليقول الذين في قلوبهم مرض
شك أو نفاق فيكون إخبارا بما سيكون في المدينة بعد الهجرة
والكافرون
المصرون على التكذيب
ماذا أراد الله بهذا مثلا
اي أي شيء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل وقيل لما استبعدوه حسبوا انه مثل مضروب وافراد قولهم هذا بالتعليل مع كونه من باب فتنتهم للاشعار باستقلاله في الشناعة
كذلك يضل الله من يشاء
ذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الاضلال والهداية ومحل الكاف في الأصل النصب على أنها صفة لمصدر محذوف وأصل التقدير يضل الله من يشاء
ويهدي من يشاء
اضلالا وهداية كائنين مثل ما ذكر من الاضلال والهداية فحذف المصدر وأقيم وصفه مقامه ثم قدم على الفعل لإفادة القصر فصار النظم مثل ذلك الاضلال وتلك الهداية يضل الله من يشاء اضلاله لصرف اختياره إلى جانب الضلال عند مشاهدته لآيات إلى جانب الهدى لا اضلالا وهداية أدنى منهما
وما يعلم جنود ربك
اي جموع خلقه التي من جملتها الملائكة المذكورون
الا هو
إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات والوقوف على حقائقها وصفاتها ولو اجمالا فضلا عن الاطلاع على تفاصيل أحوالها من كم وكيف ونسبة
وما هي
اي سقر أو عدة خزنتها أو الآيات الناطقة بأحوالها
الا ذكرى للبشر
الا تذكرة لهم
كلا
ردع لمن أنكرها أو انكار ونفي لأن يكون لهم تذكر
والقمر
والليل إذ ادبر
وقرئ إذا دبر بمعنى أدبر كقبل بمعنى أقبل ومنه قولهم صاروا كأمس الدار وقيل هو من دبر الليل النهار إذا خلفه
والصبح إذا أسفر
اي أضاء وانكشف
إنها لإحدى الكبر
جواب للقسم أو تعليل لكلا والقسم معترض للتوكيد والكبر جمع الكبرى جعلت الف التأنيث كتائها فكما جمعت فعلة على فعل جمعت فعلى عليها ونظيرها القواصع في جمع القاصعاء
60

كأنها جمع قاصعة اي لإحدى البلايا أو لإحدى الدواهي الكبر على معنى أن البلايا الكبر أو الدواهي الكبر كثيرة وهذه واحدة في العظم لا نظيرة لها
نذيرا للبشر
تمييز أي لإحدى الكبر انذارا أو حال مما دلت عليه الجملة اي كبرت منذرة وقرئ نذير بالرفع على أنه خبر بعد خبر لأن أو لمبتدأ محذوف
لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر
بدل من للبشر أي نذيرا لمن شاء منكم أن يسبق إلى الخير فيهديه الله تعالى أو لم يشأ ذلك فيضله وقيل لمن شاء خبر وأن يتقدم أو يتأخر مبتدأ فيكون في معنى قوله تعالى فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
كل نفس بما كسبت رهينة
مرهونة عند الله تعالى بكسبها والرهينة اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم لا صفة والا لقيل رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول لا يدخله التاء
الا أصحاب اليمين
فإنهم فاكون رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم كما يفك الراهن رهنه بأداء الدين وقيل هم الملائكة وقيل الأطفال وقيل هم الذين سبقت لهم من الله تعالى الحسنى وقيل الذين كانوا عن يمين آدم عليه السلام يوم الميثاق وقيل الذين يعطون كتبهم بأيمانهم
في جنات
لا يكتنه كنهها ولا يدرك وصفها وهو خبر لمبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ مما قبله من استثناء أصحاب اليمين كأنه قيل ما بالهم فقيل هم في جنات وقيل حال من أصحاب اليمين وقيل من ضميرهم في قوله تعالى
يتساءلون
وقيل ظرف للتساؤل وليس المراد بتساؤلهم أن يسأل بعضهم بعضا على أن يكون كل واحد منهم سائلا ومسئولا معا بل صدور السؤال عنهم مجردا عن وقوعه عليهم فان صيغة التفاعل وان وضعت في الأصل للدلالة على صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه معا بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا كما في قولك تراءى القوم أي رأي كل واحد منهم الآخر لكنها قد تجرد عن المعنى الثاني ويقصد بها الدلالة على الأول فقط فيذكر للفعل حينئذ مفعول كما في قولك تراءوا الهلال فمعنى يتساءلون
عن المجرمين
يسألونهم عن أحوالهم وقد حذف المسؤول لكونه عين المسؤول عنه
61

وقوله تعالى ما سلككم في سقر
مقدر بقول هو حال من فاعل يتساءلون أي يسألونهم قائلين أي شيء أدخلكم فيها فتأمل ودع عنك ما تكلف فيه المتكلفون
قالوا
اي المجرمون مجيبين للسائلين
لم نك من المصلين
للصلوات الواجبة
ولم نك نطعم المسكين
على معنى استمرار نفي الاطعام لا على نفي استمرار الاطعام كما مر مرارا وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة
وكنا نخوض مع الخائضين
اي نشرع في الباطل مع الشارعين فيه
وكنا نكذب بيوم الدين
اي بيوم الجزاء أضافوه إلى الجزاء مع أن فيه من الدواهي والأهوال مالا غاية له لأنه أدهاها وأهولها وأنهم ملابسوه وقد مضت بقية الدواهي وتأخير جناياتهم هذه مع كونها أعظم من الكل لتفخيمها كأنهم قالوا وكنا بعد ذلك كله مكذبين بيوم الدين ولبيان كون تكذيبهم به مقارنا لسائر جناياتهم المعدودة مستمرا إلى آخر عمرهم حسبما نطق به قولهم
حتى أتانا اليقين
اي الموت ومقدماته
فما تنفعهم شفاعة الشافعين
لو شفعوا لهم جميعا والفاء في قوله تعالى
فما لهم عن التذكرة معرضين
لترتيب انكار اعراضهم عن القرآن بغير سبب على ما قبلها من موجبات الاقبال عليه والاتعاظ به من سوء حال المكذبين ومعرضين حال من الضمير في الجار الواقع خبرا لما الاستفهامية وعن متعلقة به أي فإذا كان حال المكذبين به على ما ذكر فأي شيء حصل لهم معرضين عن القرآن مع تعاضد موجبات الاقبال عليه وتأخذ الدواعي إلى الايمان به وقوله تعالى
كأنهم حمر مستنفرة
حال من المستكن في معرضين
62

بطريق التداخل اي مشبهين بحمر نافرة
فرت من قسورة
اي من أسد فعولة من القسر وهو القهر والغلبة وقيل هي جماعة الرماة الذين يتصيدونها شبهوا في إعراضهم عن القرآن واستماع ما فيه من المواعظ وشرادهم عنه بحمر جدت في نفارها مما أفزعها وفيه من ذمهم وتهجين حالهم مالا يخفى وقوله تعالى
بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة
عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قبل لا يكتفون بتلك التذكرة ولا يرضون بها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى قراطيس تنشر وتقرأ وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى تأتي كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان بن فلان نؤمر فيها باتباعك كما قالوا لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه وقرئ صحفا منشرة بسكون الحاء والنون
كلا
ردع لهم عن تلك الجراءة
بل لا يخافون الآخرة
فلذلك يعرضون عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف
كلا
ردع عن اعراضهم
انه
اي القرى
تذكرة
وأي تذكرة
فمن شاء
أن يذكره
ذكره
وحاز بسببه سعادة الدارين
وما يذكرون
بمجرد مشيئتهم للذكر كما هو المفهوم من ظاهر قوله تعالى فمن شاء ذكره إذ لا تأثير لمشيئة العبد وارادته في أفعاله وقوله تعالى
الا أن يشاء الله
استثناء مفرغ من أعم الأحوال اي وما يذكرون بعلة من العلل أو في حال من الأحوال الا بأن يشاء الله أو حال أن يشاء الله ذلك وهو تصريح بأن افعال العباد بمشيئة الله عزل وجل وقرئ تذكرون على الخطاب التفاتا وقرئ بهما مشددا
هو أهل التقوى
اي حقيق بأن يتقى عقابه ويؤمن به ويطاع
وأهل المغفرة
حقيق بأن يغفر لمن آمن به وأطاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المدثر أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد صلى الله عليه وسلم وكذب به بمكة
63

سورة القيامة مكية وآياتها أربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بيوم القيامة
إدخال لا النافية على فعل القسم شائع وفائدتها توكيد القسم قالوا إنها صلة مثلها في قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب وقيل هي للنفي لكن لا لنفي نفس الأقسام بل النفي ما ينبئ هو عنه من إعظام المقسم به وتفخيمه كأن معنى لا أقسم بكذا لا أعظمه بإقسامي به حق إعظامه فإنه حقيق بأكثر من ذلك وأكثر وأما ما قيل من أن المعنى نفي الإقسام لوضوح الأمر فقد عرفت ما فيه في قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم وقيل إن لا نفي ورد لكلام معهود قبل القسم كأنهم أنكروا البعث فقيل لا أي ليس الأمر كذلك ثم قيل أقسم بيوم القيامة كقولك لا والله أن البعث حق وأيا ما كان ففي الإقسام على تحقق البعث بيوم القيامة من الجزالة ما لا مزيد عليه وقد مر تفصيله في سورة يس وسورة الزخرف
ولا أقسم بالنفس اللومة
أي بالنفس المتقية التي تلوم النفوس يومئذ على تقصيرهن في التقوى ففيه طرف من البراعة التي في القسم السابق أو بالنفس التي تلوم نفسها وإن اجتهدت في الطاعات أو بالنفس المطمئنة اللائمة للنفس الأمارة وقيل بالجنس لما روى أنه عليه الصلاة والسلام قال ليس من نفس برة ولا فاجر إلا وتلوم نفسها يوم القيامة إن عملت خيرا قالت كيف لم أزدد وإن عملت شرا قالت ليتني كنت قصرت ولا يخفى ضعفه فإن هذا القدر من اللوم لا يكون مدارا للإعظام بالإقسام وإن صدر عن النفس المؤمنة المسيئة فكيف من الكافرة المندرجة تحت الجنس وقيل بنفس آدم عليه السلام فإنها لا تزال تتلوم على فعلها الذي خرجت به من الجنة وجواب القسم ما دل عليه قوله تعالى
أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه
وهو ليبعثن والمراد بالإنسان الجنس والهمزة والإنكار الواقع واستقباحه وأن مخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف أي أيحسب أن الشأن لن نجمع عظامه فإن ذلك حسبان باطل فإنا نجمعها بعد تشتتها ورجوعها رميما
64

ورفاتا مختلطا بالتراب وبعد ما سفتها الرياح وطيرته في أقطار الأرض وألقتها في البحار وقيل إن عدي بن أبي ربيعة ختن الأخنس بن شريق وهما اللذان كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول فيهما اللهم أكفني جاري السوء قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون وكيف أمره فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو عاينت ذلك اليوم لم أصدقك أو يجمع الله هذه العظام
بلى أي نجمعها حال كوننا
قادرين على أن نسوي بنانه
أي نجمع سلامياته ونضم بعضها إلى بعض كما كانت مع صغرها ولطافتها فكيف بكبار العظام أو على أن نسوي أصابعه التي هي أطرافه وآخر ما يتم به خلقه وقرئ قادرون
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه
عطف على أيحسب إما على أنه استفهام مثله أضرب عن التوبيخ بذلك إلى التوبيخ بهذا أو على أنه إيجاب انتقل إليه عن الاستفهام أي بل يريد ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات وما يستقبله من الزمان لا يرعوي عنه
يسأل أيان يوم القيامة
أي متى يكون استبعادا أو استهزاء
فإذا برق البصر أي تحير فزعا من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره وقرئ بفتح الراء وهي لغة أو من البريق بمعنى لمع من شدة شخوصه وقرئ بلق أي انفتح وانفرج
وخسف القمر أي ذهب ضوؤه وقرئ على البناء للمفعول
وجمع الشمس والقمر بأن يطلعهما اله تعالى من المغرب وقيل جمعا في ذهاب الضوء وقيل يجمعان أسودين مكورين كأنهما ثوران عقيران في النار وتذكير الفعل لتقدمه وتغليب المعطوف
يقول الإنسان يومئذ أي يوم إذ تقع هذه الأمور
أين المفر أي الفرار يأسا منه وقرئ بالكسر أي موضع الفرار وقد جوز أن يكون هو أيضا مصدرا كالمرجع
65

كلا ردع من طلب المفر و تمنيه
لا وزر لا ملجأ مستعار من الجبل وقيل كل ما التجأت إليه وتخلصت به فهو وزرك
إلى ربك يومئذ المستقر أي إليه وحده استقرار العباد أو إلى حكمه استقرار أمرهم أو إلى مشيئته موضع قرارهم يدخل من يشاء الجنة ومن يشاء النار
ينبأ الإنسان يومئذ أي يخبر كل امرئ برا كان فاجرا عند وزن الأعمال
بما قدم أي عمل من عمل خيرا كان أو شرا فيثاب بالأول ويعاقب بالثاني
وأخر أي لم يعمل خيرا كان أو شرا فيعاقب بالأول ويثاب بالثاني أو بما قدم من حسنة أو سيئة وبما أخر من سنة حسنة أو سيئة فعمل بها بعده أو بما قدم من مال تصدق به في حياته وبما أخر فخلقه أو وقفه أو أوصى به أو بأول عمله وآخره
بل الإنسان على نفسه بصيرة أي حجة و بينة على نفسه شاهدة بما صدر عنه من الأعمال السيئة كما يعرب عنه كلمة على وما سيأتي من الجملة الحالية وصفت بالبصارة ومجانا كما وصفت الآيات بالأبصار في قوله تعالى فلما جاءتهم آياتنا مبصرة أو عين بصيرة أو التاء للمبالغة ومعنى بل الترقي أي ينبأ الإنسان بأعماله بل هو يومئذ عالم بتفاصيل أحواله شاهد على نفسه لأن جوارحه تنطق بذلك وقوله تعالى
ولو ألقى معاذيره أي ولو جاء بكل معذرة يمكن أن يعتذر بها عن نفسه حال من المستكن في بصيرة أو من مرفوع ينبأ أي هو بصيرة على نفسه تشهد عليه جوارحه وتقبل شهادتها ولو أعتذر بكل معذرة أو ينبأ بأعماله ولو اعتذر الخ والمعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير اسم جمع للمنكر وقيل هو جمع معذار وهو الستر أي ولو أرخى ستوره كان رسول الله صلى عليه وسلم إذا لقن الوحي نازع جبريل عليه السلام القراءة ولم يصبر إلى أن يتمها مسارعة إلى الحفظ وخوفا من أن ينفلت فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يستنصت له ملقيا إليه قلبه وسمعه حتى يقضي إليه الوحي ثم يقضي إليه الوحي ثم يقفيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه فقيل
لا تحرك به أي بالقرآن
لسانك عند القاء الوحي
لتعجل به أي لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك
66

إن علينا جمعه في صدرك بحيث لا يذهب عليك شئ من معانيه
وقرآنه أي إثبات قراءته في لسانك
فإذا قرأناه أي أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام وإسناد القراءة إلى نون العظمة للمبالغة في إيجاب التأني
فاتبع قرآنه فكن مقفيا له ولا تراسله
ثم إن علينا بيانه أي بيان ما أشكل عليك من معانيه وأحكامه
كلا ردع له عليه الصلاة والسلام عن عادة العجلة وترغيب له في الأناة وأكد ذلك بقوله تعالى
بل تحبون العاجلة
وتذرون الآخرة على تعميم الخطاب للكل أي بل أنتم يا بني آدم لما خلقتم من عجل وجبلتم عليه تعجلون في كل شئ ولذلك تحبون العاجلة وتذرون الآخرة وقيل كلا ردع للإنسان عن الاغترار بالعاجل فيكون جمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى الجنس ويؤيده قراءة الفعلين على صيغة الغيبة
وجوه يومئذ ناضرة أي وجوه كثيرة وهي وجوه المؤمنين المخلصين يوم إذ تقوم القيامة بهية متهللة يشاهد عليها نضرة النعيم على أن وجوه مبتدأ وناضرة خبره ويومئذ منصوب بناضرة وناظرة في قوله تعالى
إلى ربها ناظرة خبر ثان للمبتدأ أو نعت لناظرة وإلى ربها متعلق بناظرة وصحة وقوع النكرة مبتدأ لأن المقام مقام تفصيل لا على أن ناضرة صفة لوجوه والخبر ناظرة كما قيل لما هو المشهور من أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع وحيث لم يكن ثبوت النضرة للوجوه كذلك فحقه أن يخبر به ومعنى
كونها ناظرة إلى ربها أنها تراه تعالى مستغرقة في مطالعة جماله بحيث تغفل عما سواه وتشاهد تعالى بلا كيف ولا على جهة وليس هذا في جميع الأحوال حتى ينافيه نظرها إلى غيره وقيل منتظرة وإنعامه ورد بأن الانتظار لا يسند إلى الوجه وتفسيره بالجملة خلاف الظاهر وأن المستعمل بمعناه لا يعدى بالي
67

ووجوه يومئذ باسرة شديدة العبوس وهي وجوه الكفرة
تظن يتوقع أربابها
أن يفعل بها فاقرة داهية عظيمة تقصم فقار الظهر
كلا ردع عن إيثار العاجلة على الآخرة أي ارتدعوا عن ذلك وتنبهوا لما بين أيديكم من الموت الذي ينقطع عنده ما بينكم وبين العاجلة من العلاقة
إذا بلغت التراقي أي بلغت النفس أعالي الصدر وهي العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال
وقيل من راق أي قال من حضر صاحبها من يرقيه وينجيه مما هو فيه من الرقية وقيل هو من كلام ملائكة الموت أيكم يرقى بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب من الرقي
وظن أنه الفراق وأيقن المحتضر أن ما نزل به الفراق من الدنيا ونعيمها
والتفت الساق بالساق والتفت ساقه بساقه والتوت عليها عند حلول الموت وقيل هما شدة فراق الدنيا وشدة إقبال الآخرة وقيل هما ساقاه حين تلفان في أكفانه
إلى ربك يومئذ المساق أي إلى الله وإلى حكمه يساق لا إلى غيره
فلا صدق ما يجب تصديقه من الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن الذي نزل عليه أو فلا صدق ماله ولا زكاه
ولا صلى ما فرض عليه والضمير فيهما للإنسان المذكور في قوله تعالى أيحسب الإنسان وفيه دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة كما مر «ولكن كذب» ما ذكر من الرسول والقرآن «وتولى» عن الطاعة
ثم ذهب إلى أهله يتمطى يتبختر افتخارا بذلك من المط فإن المتبختر يمد خطاه فيكون أصله يتمطط
68

أو من المطا وهو الظهر فإنه يلويه
لك فأولى أي ويل لك وأصله أو أولاك الله ما تكرهه واللام مزيدة كما في ردف لكم أو أولى لك الهلاك وقيل هو أفعل من الويل بعد القلب كأدنى من دون أو فعلى من آل يؤول بمعنى عقباك النار
ثم أولى لك فأولى أي يتكرر عليه ذلك مرة بعد أخرى
أيحسب الإنسان أن يترك سدى أي يخلى مهملا فلا يكلف ولا يجزى وقيل أن يترك في قبره ولا يبعث وقوله تعالى
ألم يك نطفة من مني يمنى الخ استئناف وارد لإبطال الحسبان المذكور فإن مداره لما كان استبعادهم للإعادة استدل على تحققها ببدء الخلق
ثم كان علقة أي بقدرة الله تعالى لقوله تعالى ثم خلقنا النطفة علقة «فخلق» أي فقدر بأن جعلها مضغة مخلقة «فسوى» فعدل وكمل نشأته «فجعل منه»
الزوجين أي الصنفين
الذكر والأنثى بدل من الزوجين أليس 3940 ذلك العظيم الشأن الذي أنشأ هذا الإنشاء البديع
بقادر على أن يحيى الموتى وهو أهون من البدء في قياس العقل روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال سبحانك بلى وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة إنه كان مؤمنا بيوم القيامة
69

بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتى استفهام تقرير وتقريب فإن هل بمعنى قد والأصل أهل أتى
على الإنسان قبل زمان قريب
حين الدهر أي طائفة محدودة كائنة من الزمن الممتد
لم يكن شيئا مذكورا بل كان شيئا منسيا غير مذكور بالإنسانية أصلا كالعنصر والنطفة وغير ذلك والجملة المنفية حال من الإنسان أي غير مذكور أو صفة أخرى لحين على حذف العائد إلى الموصوف أي لم يكن فيه شيئا مذكورا والمراد بالإنسان الجنس فالإظهار في قوله تعالى
إنا خلقنا الإنسان من نطفة لزيادة التقرير أو آدم عليه السلام وهو المروى عن ابن عباس وقتادة والثوري وعكرمة والشعبي قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه مرت به أربعون سنة قبل أن ينفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف وفي رواية الضحاك عنه أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون فأقام أربعين سنة ثم من صلصال فأقام أربعين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحين المذكور ههنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره فيكون الأول إشارة إلى خلقه عليه الصلاة والسلام وهذا بيانا لخلق بنية
أمشاج أخلاط جمع مشج أو مشيج من مشجت الشيء إذا خلقته وصف النطفة به لما أن المراد بها مجموع الماءين ولكل منهما أوصاف مختلفة من اللون والرقة والغلظ وخواص متباينة فإن ماء الرجل أبيض غليظ فيه قوة العقد وماء المرأة أصفر رقيق فيه قوة الانعقاد يخلق منهما الولد فما كان م من عصب وعظم وقوة فمن ماء الرجل وما
كان من لحم ودم وشعر فمن ماء المرأة قال القرطبي وقد روى هذا مرفوعا وقيل مفرد كأعشار وأكياس وقيل أمشاج ألوان وأطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة إلى تمام الخلقة وقوله تعالى
نبتليه حال من فاعل خلقنا أي مريدين ابتلاءه بالتكليف فيما سيأتي أو ناقلين له من حال إلى حال على طريقة الاستعارة كما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما نصرفه في بطن أمه نطفة ثم علقة إلى آخره
فجعلناه سميعا بصيرا ليتمكن من استماع الآيات التنزيلية ومشاهدة الآيات التكوينية
70

فهو كالمسبب عن الابتداء فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى
إنا هديناه السبيل بإنزال الآيات ونصب الدلائل
إما شاكرا وإما كفورا حالان من مفعول هدينا اى مكناه وأقدرناه على سلوك الطريق الموصل إلى البغية في حالتيه جميعا وإما للتفصيل أو التقسيم أي هديناه إلى ما يوصل إليها في حاليه جميعا أو مقسوما إليهما بعضهم شاكر بالاهتداء والأخذ فيه وبعضهم كفور بالإعراض عنه وقيل من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا أو كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا وقرئ إما بالفتح على حذف الجواب أي إما شاكرا فبتوفيقنا وأما كفورا فبسوء اختياره لا بمجرد إجبارنا من غير اختيار من قبله وإيراد الكفور لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط
إنا اعتدنا للكافرين من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل
سلاسل بها يقادون
وأغلالا بها يقيدون
وسعيرا بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم الآية ولأن الإنذار أهم وأنفع وتصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن في وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجاوب أطراف النظم الكريم وقرئ سلاسلا للتناسب
إن الأبرار شروع في بيان حسن حال الشاكرين إثر بيان سوء حال الكافرين وإيرادهم بعنوان البر للإشعار بما استحقوا به ما نالوه من الكرامة السنية والأبرار جمع بر أو بار كرب وأرباب وشاهد وأشهاد قيل هو من يبر خالقه أي يطيعه وقيل من يمتثل بأمره تعالى وقيل من يؤدى حق الله تعالى ويوفى بالنذر وعن الحسن البر من لا يؤذي الذر
يشربون من كأس هي الزجاجة إذا كانت فيها خمر وتطلق على نفس الخمر أيضا فمن على الأول ابتدائية وعلى الثاني تبعيضية أو بيانية
كان مزاجها أي ما تمزج به
كافورا اى ماء وهو اسم عين في الجنة ماؤها في بياض الكافور ورائحته وبرده والجملة صفة كأس وقوله تعالى
عينا بدل من كافورا وعن قتادة تمزج لهم بالكافور وتختم لهم بالمسك وقيل تخلق لهم رائحة الكافور وبياضه وبرده فكأنها مزجت بالكافور فعينا على هذين القولين بدل من محل من كأس على تقدير مضاف أي يشربون خمرا خمر عين أو نصب على الاختصاص وقوله تعالى
يشرب بها عباد الله صفة عينا أي يشربون بها الخمر لكونها ممزوجة بها وقيل ضمن يشرب معنى يلتذ وقيل الياء بمعنى من وقيل زائدة ويعضده قراءة ابن أبي عبلة يشربها
71

عباد الله وقيل الضمير للكأس والمعنى يشربون العين بتلك الكأس
يفجرونها تفجيرا أي يجرونها حيثما شاؤوا من منازلهم اجراء سهلا لا يمتنع عليهم بل يجرى جريا بقوة واندفاع والجملة صفة أخرى لعينا وقوله تعالى
يوفون بالنذر استئناف مسوق لبيان ما لأجله رزقوا ما ذكر من النعيم مشتمل على نوع تفصيل لما ينبئ عنه اسم الأبرار إجمالا كأنه قيل ماذا يفعلون حتى ينالوا تلك الرتبة العالية فقيل يوفون بما أوجبوه على أنفسهم فكيف بما أوجبه الله تعالى عليهم
ويخافون يوما كان شره عذابه
مستطيرا فاشيا منتشرا في الأقطار غاية الانتشار من استطار الحريق والفجر وهو أبلغ من طار بمنزلة استنفر من نفر
ويطعمون الطعام على حبه أي كائنين على حب الطعام والحاجة إليه كما في قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون أو على حب الإطعام بأن يكون ذلك بطيب النفس أو كائنين على حب الله تعالى أو إطعاما كائنا على حبه تعالى وهو الأنسب لما سيأتي من قوله تعالى لوجه الله
مسكينا ويتيما وأسيرا أي أسير فإنه كان عليه الصلاة والسلام يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين فيقول أحسن إليه أو أسيرا مؤمنا فيدخل فيه المملوك والمسجون وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغريم أسيرا فقال غريمك أسيرك فأحسن إلى أسيرك
إنما نطعمكم لوجه الله على إرادة قول وهو في موقع الحال من فاعل يطعمون أي قائلين ذلك بلسان الحال أو بلسان المقال إزاحة لتوهم المن المبطل للصدقة وتوقع المكافأة المنقصة للأجر وعن الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت ثم تسأل الرسول ما قالوا فإذا ذكر دعاءهم دعت لهم بمثله ليبقى ثواب الصدقة لها خالصا عند الله تعالى
لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا أي شكرا وهو تقرير وتأكيد لما قبله
إنا نخاف من ربنا يوما أي عذاب يوم عبوسا يعبس فيه الوجوه أو يشبه الأسد العبوس في الشدة والضراوة
قمطريرا شديد العبوس فلذلك نفعل بكم ما نفعل رجاء أن يقينا ربنا بذلك شره وقيل وهو تعليل لعدم إرادة الجزاء والشكور أي إنا نخاف عقاب الله تعالى إن أردناهما
فوقاهم الله شر ذلك اليوم بسبب خوفهم وتحفظهم عنه
ولقاهم نضرة وسرورا أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورا في القلوب
72

وجزاهم بما صبروا بصبرهم على مشاق الطاعات ومهاجرة هوى النفس في اجتناب المحرمات وإيثار الأموال
جنة بستانا يأكلون منه ما شاؤوا
وحريرا يلبسونه ويتزينون به وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الحسن والحسين رضي الله عنهما مرضا فعادهما النبي صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقالوا لعلى رضي الله عنه لو نذرت على ولدك فنذر على وفاطمة رضي الله تعالى عنهما وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا وما معهم شيء فاستقرض على رضي الله عنه من شمعون الخيبري ثلاث أصوع من شعير فطحنت فاطمة رضي الله تعالى عنها صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله تعالى من موائد الجنة فآثروه وباتوا لم يذقوا إلا الماء وأصبحوا صياما فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه ثم وقف عليهم في الثالثة أسير ففعلوا مثل ذلك فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين رضي الله عنهم فأقبلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال عليه الصلاة والسلام ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها فساءه ذلك فنزل جبريل عليه السلام وقال خذها يا محمد هناك الله تعالى في أهل بيتك فأقرأه السورة
متكئين فيها على الأرائك حال من هم في جزاهم والعامل فيها جزى وقيل صفة لجنة من غير إبراز الضمير والأرائك هي السرر في الحجال وقوله تعالى
لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا إما حال ثانية من الضمير أو المستكن في متكئين والمعنى أنه يمر عليهم هواء معتدل لا حار محم ولا بارد مؤذ وقيل الزمهرير القمر في لغة طيئ والمعنى أن هواءها مضى بذاته لا يحتاج إلى شمس ولا قمر
ودانية عليهم ظلالها عطف على ما قبلها حال مثلها أو صفة لمحذوف معطوف على جنة واي جنة أخرى دانية عليهم ظلالها على أنهم وعدوا جنتين كما في قوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقرئ دانية بالرفع على أنه خبر لظلاها والجملة في حين الحال والمعنى لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا أو والحال أن ظلالها دانية قالوا معناه أن ظلال أشجار الجنة قريبة من الأبرار مظلة عليهم زيادة في نعيمهم على معنى أنه لو كان هناك شمس مؤذية لكانت أشجارها مظلة عليهم أنه لا شمس ثمة ولا قمر
وذللت قطوفها تذليلا أي سخرت ثمارها لمتناوليها وسهل أخذها من الذل وهو ضد الصعوبة والجملة حال من دانية أي تدنو ظلالها عليهم مذللة لهم قطوفها أو معطوفة على دانية عليهم ظلالها ومذللة قطوفها وعلى تقدير رفع دانية فهي جملة ى فعلية معطوفة على جملة أسمية
73

ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب الكوب الكوز العظيم لا اذن له ولا عروة
كانت قواريرا
قوارير من فضة أي تكونت جامعة بين صفاء الزجاجة وشفيفها ولين الفضة وبياضها والجملة صفة الأكواب وقرئ بتنوين قوارير الثاني أيضا وقرئا بغير تنوين وقرئ الثاني بالرفع على هي قوارير
قدروها تقديرا صفة لقوارير ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم وأرادوا أن تكون على مقادير وأشكال معينة موافقة لشهواتهم فجاءت حسبما قدروها أو قدروها بأعمالهم الصالحة فجاءت على حسبها وقيل الضمير للطائفين بها المدلول عليهم بقوله تعالى ويطاف عليهم فالمعنى قدروا شرابها على قدر اشتهائهم وقرئ قدروها على البناء للمفعول أي جعلوا قادرين لها كما شاؤوا من قدر منقولا من قدرت الشئ
ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا أي ما يشبه الزنجبيل في الطعم وكان الشراب الممزوج به أطيب ما تستطيبه العرب وألذ ما تستلذ به
عينا بدل من زنجبيلا وقيل تمزج كأسهم بالزنجبيل بعينه أو يخلق الله تعالى طعم فيها فعينا حينئذ بدل من كأسا كأنه قيل ويسقون فيها كأسا كأس عين أو نصب على الاختصاص
فيها تسمى سلسبيلا لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها يقال شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ولذلك حكم بزيادة الباء والمراد بيان أنها في طعم الزنجبيل وليس فيها لذعة بل نقيض اللذع هو السلاسة
ويطوف عليهم ولدان مخلدون أي دائمون على ما هم عليه من الطراوة والبهاء
إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا لحسنهم وصفاء ألوانهم وإشراق وجوههم وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم وانعكاس أشعة بعضهم إلى بعض
و إذا رأيت ثم ليس له مفعول ملفوظ ولا مقدر ولا منوي بل معناه أن بصرك أينما وقع في الجنة
رأيت نعيما وملكا كبيرا أي هنيئا واسعا وفي الحديث أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام يرى وأقصاه كما يرى أدناه وقيل لا زوال وقيل إذا أرادوا شيئا كان وقيل يسلم عليهم الملائكة ويستأذنون عليهم
عاليهم ثياب
74

سندس خضر قيل عاليهم ظرف على أنه خبر مقدم وثياب مبتدأ مؤخر والجملة صفة أخرى لولدان كأنه قيل يطوف عليهم ولدان فوقهم ثياب الخ وقيل حال من ضمير عليهم أو حسبتهم أي يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب ألخ أو حسبتهم لؤلؤا منثورا عاليا لهم ثياب الخ وقرئ عاليهم بالرفع على أنه مبتدأ خبره ثياب أي ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس وقرئ خضر بالجر حملا على سندس بالمعنى لكونه اسم جنس «وإستبرق» بالرفع عطفا على ثياب وقرئ برفع الأول وجر الثاني وقرئ بالعكس وقرئ بجرهما وقرئ وإستبرق يوصل الهمزة والفتح على أنه استفعل من البريق جعل علما لهذا النوع من الثياب
وحلوا أساور من فضة عطف على يطوف عليهم ولا ينافيه قوله تعالى أساور من ذهب لإمكان الجمع والمعاقبة والتبعيض فإن حلى أهل الجنة يختلف حسب اختلاف أعمالهم فلعله تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليا وأنوارا تتفاوت تفاوت الذهب والفضة أو حال من ضمير عاليهم بإضمار قد وعلى هذا يجوز أن يكون هذا للخدم وذاك للمخدومين
وسقاهم ربهم شرابا طهورا هو نوع آخر يفوق النوعين السالفين كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية فإنه يطهر شاربه عن دنس الميل إلى الملاذ الحسية والركون إلى ما سوى الحق فيتجرد لمطالعة جماله ملتذا بلقائه باقيا ببقائه وهي الغاية القاصية من منازل الصديقين ولذلك ختم بها مقالة ثواب الأبرار
إن هذا على إضمار القول أي يقال لهم أن هذا الذي كر من فنون الكرامات
كان لكم جزاء بمقابلة أعمالكم الحسنة
وكان سعيكم مشكورا مرضيا مقبولا مقابلا بالثواب
إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا أي مفرقا منجما لحكم بالغة مقتضية له لا غيرنا كما يعرب عنه تكرير الضمير مع أن
فاصبر لحكم ربك بتأخير نصرك على الكفار فإن له عاقبة حميدة
ولا تطع منهم آثما أو كفورا أي كل واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه ومن الغالي في الكفر الداعي إليه وأو للدلالة على أنهما سيان في استحقاق العصيان والاستقلال به والتقسيم باعتبار ما يدعونه إليه فإن ترتب النهى على الوصفين مشعر بعليتهما له فلا بد أن يكون النهى عن الإطاعة في الإثم والكفر فيما ليس بإثم ولا كفر وقيل الآثم عتبة فإنه كان ركابا للمأثم متعاطيا لأنواع الفسوق والكفور والوليد فإنه كان غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو
واذكر اسم رك بكرة وأصيلا وداوم على ذكره في جميع الأوقات أو دم على صلاة الفجر والظهر والعصر فإن الأصيل ينتظمهما
75

ومن الليل فاسجد له
وبعض الليل فصل له ولعله صلاة المغرب والعشاء وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد كلفة وخلوص
وسبحه ليلا طويلا
وتهجد له قطعا من الليل طويلا
ان هؤلاء
الكفرة
يحبون العاجلة
وينهمكون في لذاتها الفانية
ويذرون وراءهم
اي امامهم لا يستعدون أو ينبذون وراء ظهورهم
يوما ثقيلا
لا يعبأون به ووصفه بالثقل لتشبيه شدته وهوله بثقل شيء فادح باهظ لحامله بطريق الاستعارة وهو كالتعليل لما أمر به ونهى عنه
نحن خلقناهم
لا غيرنا
وشددنا أسرهم
اي أحكمنا ربط مفاصلهم بالأعصاب
وإذا شئنا بدلنا أمثالهم
بعد اهلاكهم
تبديلا
بديعا لا ريب فيه هو البعث كما ينبئ عنه كلمة إذا أو بدلنا غيرهم ممن يطيع كقوله تعالى يستبدل قوما غيركم وإذ للدلالة على تحقق القدرة وقوة الداعية
ان هذه تذكرة
إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة
فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا
اي فمن شاء ان يتخذ اليه تعالى سبيلا اي وسيلة توصله إلى ثوابه اتخذه اي تقرب اليه بالعمل بما في تضاعيفها وقوله تعالى
وما تشاؤن الا أن يشاء الله
تحقيق للحق ببيان أن مجرد مشيئتهم غير كافية في اتخاذ السبيل كما هو المفهوم من ظاهر الشرطية اي وما تشاؤن اتخاذ السبيل ولا تقدرون على تحصيله في وقت من الأوقات الا وقت مشيئته تعالى تحصيله لكم إذ لا دخل لمشيئة العبد الا في الكسب وانما التأثير والخلق لمشيئة الله عز وجل وقرئ يشاؤن بالياء وقرئ الا ما يشاء الله وقوله تعالى
ان الله كان عليما حكيما
بيان لكون مشيئته تعالى مبنية على أساس العلم والحكمة والمعنى أنه تعالى مبالغ في العلم والحكمة فيعلم ما يستأهله كل أحد فلا يشاء لهم الا ما يستدعيه علمه وتقتضيه حكمته وقوله تعالى
يدخل من يشاء في رحمته
بيان لأحكام مشيئته المترتبة على علمه وحكمته أي يدخل في رحمته من يشاء ان يدخله فيها وهو الذي يصرف مشيئته نحو اتخاذ السبيل اليه تعالى حيث يوفقه لما يؤدي إلى دخول الجنة من الايمان والطاعة
والظالمين
وهم الذين صرفوا مشيئتهم إلى خلاف ما ذكر
أعد لهم عذابا أليما
اي متناهيا في الايلام قال الزجاج نصب الظالمين لأن ما قبله منصوب اي يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين ويكون أعد لهم تفسيرا لهذا المضمر وقرئ بالرفع على
76

الابتداء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله تعالى جنة وحريرا
سورة المرسلات مكية الا آية 48 فمدنية وآياتها خمسون
بسم الله الرحمن الرحيم
والمرسلات عرفا
فالعاصفات عصفا
والناشرات نشرا
فالفارقات فرقا
فالملقيات ذكرا
اقسام من الله عز وجل بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيهن عصف الرياح مسارعة في الامتثال بالأمر وبطوائف أخرى نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي أو نشرن الشرائع في الأقطار أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أو حين ففرقن بين الحق والباطل فألقين ذكرا الا الأنبياء
عذرا
للمحقين
أو نذرا
للمبطلين ولعل تقديم نشر الشرائع ونشر النفوس والفرق على الالقاء للايذان بكونها غاية للالقاء حقيقة بالاعتناء بها أو للاشعار بأن كلا من الأوصاف المذكورة مستقل بالدلالة على استحقاق الطوائف الموصوفة بها التفخيم والاجلال بالإقسام بهن ولو جيء بها على ترتيب الوقوع لربما فهم أن مجموع الالقاء والنشر والفرق هو الموجب لما ذكر من الاستحقاق أو اقسام برياح عذاب أرسلهن فعصفن وبرياح رحمة نشرن السحاب في الجو ففرقن بينه كقوله تعالى ويجعله كسفا أو بسحائب نشرن الموات ففرقن كل صنف منها عن سائر الأصناف بالشكل واللون وسائر الخواص أو فرقن بين من يشكر الله تعالى وبين من يكفر به فألقين ذكرا اما عذرا للمعتذرين إلى الله تعالى بتوبتهم واستغفارهم عن مشاهدتهم
77

لآثار رحمته تعالى في الغيث ويشكرونها واما انذارا للذين يكفرونها وينسبونها إلى الأنواء واسناد القاء الذكر إليهن لكونهن سببا في حصوله إذا شكرت النعمة فيهن أو كفرت أو اقسام بآيات القرآن المرسلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصفن سائر الكتب بالنسخ ونشرن آثار الهدى من مشارق الأرض ومغاربها وفرقن بين الحق
والباطل فألقين ذكر الحق في أكناف العالمين والعرف اما نقيض النكر وانتصابه على العلة اي أرسلنا للاحسان والمعروف فان ارسال ملائكة العذاب معروف للأنبياء عليهم السلام والمؤمنين أو بمعنى المتابعة من عرف الفرس وانتصابه على الحالية والعذر والنذر مصدران من عذر إذا محا الإساءة ومن أنذر إذا خوف وانتصابهما على البدلية من ذكرا أو على العلية وقرئا بالتثقيل
ان ما توعدون لواقع
جواب للقسم اي ان الذي توعدونه من مجيء القيامة كائن لا محالة
فإذا النجوم طمست
محيت ومحقت أو ذهب بنورها
وإذا السماء فرجت
صدعت وفتحت فكانت أبوابا
وإذا الجبال نسفت
جعلت كالحب الذي ينسف بالمنسف ونحوه وبست الجبال بسا وقيل اخذت من مقارها بسرعة من انتسفت الشيء إذا اختطفته وقرئ طمست وفرجت ونسفت مشددة
وإذا الرسل اقتت
اي عين لهم الوقت الذي يحضرون فيه للشهادة على أممهم وذلك عند مجيئه وحضوره إذ لا يتعين لهم قبله أو بلغوا الميقات الذي كانوا ينتظرونه وقرئ وقتت على الأصل وبالتخفيف فيهما
لأي يوم أجلت
مقدر بقول هو جواب لاذا في قوله تعالى وإذا الرسل اقتت أو حال من مرفوع اقتت اي يقال لأي يوم أخرت الأمور المتعلقة بالرسل والمراد تعظيم ذلك اليوم والتعجيب من هوله وقوله تعالى
ليوم الفصل
بيان ليوم التأجيل وهو الذي يفصل فيه بين الخلائق
وما أدراك ما يوم الفصل
ما مبتدأ أدراك خبره أي أي شيء جعلك داريا ما هو فوضع موضع الضمير
78

يوم الفصل لزيادة تفظيع وتهويل على أن ما خبر ويوم الفصل مبتدأ لا بالعكس كما اختاره سيبويه لأن محط الفائدة بيان كون يوم الفصل أمرا بديعا هائلا لا يقادر قدره ولا يكتنه كنهه كما يفيده خبرية مالا بيان كون أمر بديع من الأمور يوم الفصل كما يفيده عكسه
ويل يومئذ للمكذبين
اي في ذلك اليوم الهائل وويل في الأصل مصدر منصوب ساد مسد فعله لكن عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليه ويومئذ ظرفه أو صفته
ألم نهلك الأولين
كقوم نوح وعاد وثمود لتكذيبهم به وقرئ نهلك بفتح النون من هلكه بمعنى أهلكه
ثم نتبعهم الآخرين
بالرفع على ثم نحن نتبعهم الآخرين من نظرائهم السالكين لمسلكهم في الكفر والتكذيب وهو وعيد لكفار مكة وقرئ ثم سنتبعهم وقرئ نتبعهم بالجزم عطفا على نهلك فيكون المراد بالآخرين المتأخرين هلاكا من المذكورين كقوم لوط وشعيب وموسى عليهم السلام
كذلك
مثل ذلك الفعل الفظيع
نفعل بالمجرمين
أي سنتنا جارية على ذلك
ويل يومئذ
اي يوم إذ أهلكناهم
للمكذبين
بآيات الله تعالى وأنبيائه وليس فيه تكرير لما أن الويل الأول لعذاب الآخرة وهذا لعذاب الدنيا
ألم نخلقكم
أي ألم نقدركم
من ماء مهين
أي من نطفة قذرة مهينة
فجعلناه في قرار مكين
هو الرحم
إلى قدر معلوم
إلى مقدار معلوم من الوقت قدره الله تعالى للولادة تسعة أشهر أو أقل منها أو أكثر
فقدرنا
اي فقدرناه وقد قرىء مشددا أو فقدرنا على ذلك على أن المراد بالقدر ما يقارن وجود المقدور بالفعل
فنعم القادرون
أي نحن
79

ويل يومئذ للمكذبين
بقدرتنا على ذلك أو على الإعادة
ألم نجعل الأرض كفاتا
الكفات اسم ما يكفت اي يضم ويجمع مع كفت الشيء إذا ضمه وجمعه كالضمام والجماع لما يضم ويجمع اي ألم نجعلها كفاتا تكفت
احياء
كثيرة على ظهرها
وأمواتا غير محصورة في بطنها وقيل هو مصدر نعت به للمبالغة وقيل جمع كافت كصائم وصيام أو كفت وهو الوعاء اجرى على الأرض باعتبار بقاعها وقيل تنكير احياء وأمواتا لأن احياء الانس وأمواتهم بعض الأحياء والأموات وقيل انتصابهما على الحالية من محذوف اي كفاتا تكفتكم احياء وأمواتا
وجعلنا فيها رواسي
أي جبالا ثوابت
شامخات
طوالا شواهق ووصف جمع المذكر بجمع المؤنث في غير العقلاء مطرد كداجن ودواجن وأشهر معلومات وتنكيرها للتفخيم أو للاشعار بأن فيها ما لم يعرف
وأسقيناكم ماء فراتا
بأن خلقنا فيها انهارا ومنابع
ويل يومئذ للمكذبين
بأمثال هذه النعم العظيمة
انطلقوا
اي يقال لهم يومئذ للتوبيخ والتقريع انطلقوا
إلى ما كنتم به تكذبون
في الدنيا من العذاب
انطلقوا
خصوصا
إلى ظل
اي ظل دخان جهنم كقوله تعالى وظل من يحموم وقرئ انطلقوا على لفظ الماضي اخبار بعد الأمر عن عملهم بموجبه لاضطرارهم اليه طوعا أو كرها
ذي ثلاث شعب
يتشعب لعظمه ثلاث شعب كما هو شأن الدخان العظيم تراه يتفرق ذوائب وقيل يخرج لسان من النار فيحيط بالكفار كالسرادق ويتشعب من دخانها ثلاث شعب فتظلهم حتى يفرغ من حسابهم والمؤمنون في ظل العرش قيل خصوصية الثلاث اما لأن حجاب النفس عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم أو لأن المؤدى إلى هذا العذاب هو القوة الوهمية الشيطانية الحالة في الدماغ والقوة الغضبية السبعية التي عن يمين القلب والقوة الشهوية البهيمية التي عن يساره ولذلك قيل تقف شعبة فوق الكافر وشعبة عن يمينه
وشعبة عن يساره
80

لا ظليل
تهكم بهم أورد لما أوهمه لفظ الظل
ولا يغني من اللهب
اي غير مغن لهم من حر اللهب شيئا
انها ترمى بشرر كالقصر
اي كل شررة كالقصر من القصور في عظمها وقيل هو الغليظ من الشجر الواحدة قصرة نحو جمر وجمرة وقرئ كالقصر بفتحتين وهي أعناق الإبل أو أعناق النخل نحو شجرة وشجر وقرئ كالقصر بمعنى القصور كرهن ورهن وقرئ كالقصر جمع قصرة
كأنه جمالة
قيل هو جمع جمل والتاء لتأنيث الجمع يقال جمل وجمال وجمالة وقيل اسم جمع كالحجارة
صفر
فان الشرارة لما فيه من النارية يكون اصفر وقيل أسود لأن سواد الإبل يضرب إلى الصفرة والأول تشبيه في العظم وهذا في اللون والكثرة والتتابع والاختلاط والحركة وقرئ جمالات جمع جمالة وقد قرىء بها وهي الحبل العظيم من حبل السفن وقلوس الجسور والتشبيه في امتداده والتفافه
ويل يومئذ للمكذبين
هذا يوم لا ينطقون
إشارة إلى دخولهم النار أي هذا يوم لا ينطقون فيه بشيء لما أن السؤال والجواب والحساب قد انقضت قبل ذلك ويوم القيامة طويل له مواطن ومواقيت ينطقون في وقت دون وقت فعبر عن كل وقت بيوم أولا ينطقون بشيء ينفعهم فان ذلك كلا نطق وقرئ بنصب اليوم أي هذا الذي فصل واقع يوم لا ينطقون
ولا يؤذن لهم فيعتذرون
عطف على يؤذن منتظم في سلك النفي أي لا يكون لهم اذن واعتذار متعقب له من غير أن يجعل الاعتذار مسببا عن الاذن كما لو نصب
ويل يومئذ للمكذبين
هذا يوم الفصل
بين الحق والباطل والمحق والمبطل
جمعناكم
خطاب لامة محمد عليه الصلاة والسلام
والأولين
من الأمم وهذا تقرير وبيان للفصل
81

فان كان لكم كيد فكيدون
فان جميع من كنتم تقلدونهم وتقتدون بهم حاضرون وهذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا واظهار لعجزهم
ويل يومئذ للمكذبين
حيث ظهر أن لا حيلة لهم في الخلاص من العذاب
ان المتقين
من الكفر والتكذيب
في ظلال وعيون
وفواكه مما يشتهون
اي مستقرون في فنون الترفه وأنواع التنعم
كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون
مقدر بقول هو حال من ضمير المتقين في الخبر اي مقولا لهم كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة
انا كذلك
الجزاء العظيم
نجزي المحسنين
اي في عقائدهم وأعمالهم لا جزاء أدنى منه
ويل يومئذ للمكذبين
حيث نال أعداؤهم هذا الثواب الجزيل وهم بقوا في العذاب المخلد الوبيل
كلوا وتمتعوا قليلا انكم مجرمون
مقدر بقول هو حال من المكذبين اي الويل ثابت لهم مقولا لهم ذلك تذكيرا لهم بحالهم في الدنيا وبما جنوا على أنفسهم من ايثار المتاع الفاني عن قريب على النعيم الخالد وعلل ذلك باجرامهم دلالة على أن كل مجرم مآله هذا وقيل هو كلام مستأنف خوطب به المكذبون في الدنيا بعد بيان مآل حالهم وقرر ذلك بقوله تعالى
ويل يومئذ للمكذبين
لزيادة التوبيخ والتقريع
وإذا قيل لهم اركعوا
اي أطيعوا الله واخشعوا وتواضعوا له بقبول وحيه واتباع دينه وارفضوا هذا الاستكبار والنخوة
لا يركعون
لا يخشعون ولا يقبلون ذلك ويصرون على ما هم
82

عليه من الاستكبار وقيل إذا أمروا بالصلاة أو بالركوع لا يفعلون إذ روي أنه نزل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيفا بالصلاة فقالوا لا نجي فإنها مسبة علينا فقال عليه الصلاة والسلام لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود وقيل هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون
ويل يومئذ للمكذبين
وفيه دلالة على أنه الكفار مخاطبون بالفروع في حق المؤاخذة
فبأي حديث بعده
اي بعد القرآن الناطق بأحاديث الدارين وأخبار النشأتين على نمط بديع معجز مؤسس على حجج قاطعة وبراهين ساطعة
يؤمنون
إذا لم يؤمنوا به وقرئ تؤمنون على الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المرسلات كتب له أنه ليس من المشركين
83

سورة النبأ مكية وآياتها أربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
عم
أصله عما فحذف منه الألف اما فرقا بين ما الاستفهامية وغيرها أو قصدا للخفة لكثرة استعمالها وقد قرىء على الأصل وما فيها من الابهام للايذان بفخامة شأن المسؤول عنه وهوله وخروجه عن حدود الأجناس المعهودة اي عن أي شيء عظيم الشأن
يتساءلون
أي أهل مكة وكانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم ويخوضون فيه انكارا واستهزاء لكن لا على طريقة التساؤل عن حقيقته ومسماه بل عن وقوعه الذي هو حال من أحواله ووصف من أوصافه فان ما وان وضعت لطلب حقائق الأشياء ومسميات أسمائها كما في قولك ما الملك وما الروح لكنها قد يطلب بها الصفة والحال تقول ما زيد فيقال عالم أو طبيب وقيل كانوا يسألون عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استهزاء كقولهم يتداعونهم اي يدعونهم وتحقيقه ان صيغة التفاعل في الأفعال المتعدية موضوعة لإفادة صدور الفعل عن المتعدد ووقوعه عليه بحيث يصير كل واحد من ذلك فاعلا ومفعولا معا لكنه يرفع باسناد الفعل اليه ترجيحا لجانب فاعليته ويحال بمفعوليته على دلالة العقل كما في قولك تراءى القوم أي رأى كل واحد منهم الآخر وقد تجرد عن المعنى الثاني فيراد بها مجرد صدور الفعل عن المتعدد عاريا عن اعتبار وقوعه عليه فيذكر للفعل حينئذ مفعول متعدد كما في المثال المذكور أو واحد كما في قولك تراءوا الهلال وقد يحذف لظهوره كما فيما نحن فيه فالمعنى عن أي شيء يسأل هؤلاء القوم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وربما تجرد عن صدور الفعل عن المتعدد أيضا فيراد بها تعدده باعتبار تعدد متعلقه مع وحدة الفاعل كما في قوله تعالى فبأي آلاء ربك تتمارى وقوله تعالى
عن النبأ العظيم
بيان لشأن المسؤول عنه اثر تفخيمه بابهام امره وتوجيه أذهان السامعين نحوه وتنزيلهم منزلة المستفهمين فان ايراده على طريقة الاستفهام من علام الغيوب للتنبيه على أنه لانقطاع قرينه وانعدام نظيره خارج عن دائرة علوم الخلق خليق بأن يعتنى بمعرفته ويسأل عنه كأنه قيل عن أي شيء يتساءلون هل أخبركم به ثم قيل بطريق الجواب عن النبأ العظيم على منهاج قوله تعالى لمن الملك اليوم
84

لله الواحد القهار فعن متعلقة بما يدل عليه المذكور من مضمر حقه أن يقدر بعدها مسارعة إلى البيان ومراعاة لترتيب السؤال هذا هو الحقيق بالجزالة التنزيلية وقد قيل هي متعلقة بالمذكور وعم متعلق بمضمر مفسر به وأيد ذلك بأنه قرىء عمه والأظهر أنه مبني على اجراء الوصل مجرى الوقف وقيل عن الأولى للتعليل كأنه قيل لم يتساءلون عن النبأ العظيم وقيل قبل عن الثانية استفهام مضمر كأنه قيل عم يتساءلون أعن النبأ العظيم والنبأ الخبر الذي له شأن وخطر وقد وصف بقوله تعالى
الذي هم فيه مختلفون
بعد وصفه بالعظيم تأكيدا لخطره اثر تأكيد واشعارا بمدار التساؤل عنه وفيه متعلق بمختلفون قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل وجعل الصلة جملة اسمية للدلالة على الثبات أي هم راسخون في الاختلاف فيه فمن جازم باستحالته يقول ان هي الا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر وما نحن بمبعوثين وشاك يقول ما ندري ما الساعة ان نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين وقيل منهم من ينكر المعادين معا كهؤلاء ومنهم من ينكر المعاد الجسماني فقط كجمهور النصارى وقد حمل الاختلاف على الاختلاف في كيفية الانكار فمنهم من ينكره لانكاره الصانع المختار ومنهم من ينكره بناء على استحالة إعادة المعدوم بعينه وحمله على الاختلاف بالنفي والاثبات بناء على تعميم التساؤل لفريقي المسلمين والكافرين على أن سؤال الأولين ليزدادوا خشية واستعدادا وسؤال الآخرين ليزدادوا كفرا وعنادا يرده قوله تعالى
كلا سيعلمون
الخ فإنه صريح في أن المراد اختلاف الجاهلين به المنكرين له إذ عليه يدور الردع والوعيد لا على خلاف المؤمنين لهم وتخصيصهما بالكفرة بناء على تخصيص ضمير سيعلمون بهم مع عموم الضميرين السابقين للكل مما ينبغي تنزيه التنزيل عن أمثاله هذا ما أدى اليه جليل النظر والذي يقتضيه التحقيق ويستدعيه النظر الدقيق أن يحمل اختلافهم على مخالفتهم للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يعتبر في الاختلاف محض صدور الفعل عن المتعدد حسبما ذكر في التساؤل فان الافتعال والتفاعل صيغتان متآخيتان كالاستباق والتسابق والانتضال والتناضل إلى غير ذلك يجري في كل منهما ما يجري في الأخرى لا على مخالفة بعضهم لبعض من الجانبين لأن الكل وان استحق الردع والوعيد لكن استحقاق كل جانب لهما ليس لمخالفته للجانب الآخر إذ لا حقية في شيء منها حتى يستحق من يخالفه المؤاخذة بل لمخالفته له عليه الصلاة والسلام فكلا ردع لهم عن التساؤل والاختلاف بالمعنيين المذكورين وسيعلمون وعيد لهم بطريق الاستئناف وتعليل للردع والسين للتقريب والتأكيد وليس مفعوله ما يني عنه المقام من وقوع ما يتساءلون عنه ووقوع ما يختلفون فيه كما في قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت إلى قوله تعالى ليبين لهم الذي يختلفون فيه الآية فان ذلك عار عن صريح الوعيد بل هو عبارة عما يلاقونه من فنون الدواهي والعقوبات والتعبير عن لقائها بالعلم
85

لوقوعه في معرض التساؤل والاختلاف والمعنى ليرتدعوا عما هم عليه فإنهم سيعلمون عما قليل حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال وقوله تعالى
ثم كلا سيعلمون
تكرير للردع والوعيد للمبالغة في التأكيد والتشديد وثم للدلالة على أن الوعيد الثاني أبلغ وأشد وقيل الأول عند النزع والثاني في القيامة وقيل الأول للبعث والثاني للجزاء وقرئ ستعلمون بالتاء على نهج الالتفات إلى الخطاب المواقف لما بعده من الخطابات تشديدا للردع والوعيد لا على تقدير قل لهم كما توهم فان فيه من الاخلال بجزالة النظم الكريم مالا يخفى وقوله تعالى
ألم نجعل الأرض مهادا
والجبال أوتادا
الخ استئناف مسوق لتحقيق النبأ المتسائل عنه بتعداد بعض الشواهد الناطقة بحقيقته اثر ما نبه عليها بما ذكر من الردع والوعيد ومن ههنا اتضح ان المتسائل عنه هو البعث لا القرآن أو نبوة النبي عليه الصلاة والسلام كما قيل والهمزة للتقرير والالتفات إلى الخطاب على القراءة المشهورة للمبالغة في الالزام والتبكيت والمهاد البساط والفراش وقرئ مهدا على تشبيهها بمهد الصبي وهو ما يمهد له فينوم عليه تسمية للممهود بالمصدر وجعل الجبال أوتادا لها إرساؤها بها كما يرسي البيت بالأوتاد
وخلقناكم
عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة أما جعلنا الخ أو على ما يقتضيه الانكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا الخ
أزواجا
أصنافا ذكرا وأنثى ليسكن كل من الصنفين إلى الآخر وينتظم امر المعاشرة والمعاش ويتسنى التناسل
وجعلنا نومكم سباتا
أي موتا لأنه أحد التوفيين لما بينهما من المشاركة التامة في انقطاع احكام الحياة وعليه قوله تعالى وهو الذي يتوفاكم بالليل وقوله تعالى الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها وقيل قطعا عن الاحساس والحركة لإراحة القوى الحيوانية وإزاحة كلاهما والأول هو اللائق بالمقام كما ستعرفه
وجعلنا الليل
الذي فيه يقع النوم غالبا
لباسا
يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ولعل المراد به ما يستر به عند النوم من اللحاف ونحوه فان شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد ادخل فهو جعل الليل محلا
للنوم الذي جعل موتا كما جعل النهار محلا لليقظة
86

المعبر عنها بالحياة في قوله تعالى
وجعلنا النهار معاشا
اي وقت حياة تبعثون فيه من نومكم الذي هو أخو الموت كما في قوله تعالى وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا وجعل كون الليل لباسا عبارة عن تره عن العيون لمن أراد هربا من عدو أو بياتا له أو نحو ذلك مما لا مناسبة له بالمقام وكذا جعل النهار وقت التقلب في تحصيل المعايش والحوايج
وبنينا فوقكم سبعا شدادا
أي سبع سماوات قوية الخلق محكمة البناء لا يؤثر فيها مر الدهور وكر العصور والتعبير عن خلقها بالبناء مبنى على تنزيلها منزلة القباب المضروبة على الخلق وتقديم الظرف على المفعول ليس لمراعاة الفواصل فقط بل للتشويق اليه فان ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة له فإذا ورد عليها تمكن عندها فضل تمكن
وجعلنا سراجا وهاجا
هذا الجعل بمعنى الانشاء والابداع كالخلق خلا انه مختص بالانشاء التكويني وفيه معنى التقدير والتسوية وهذا عام له كما في الآية الكريمة وللتشريعي أيضا كما في قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة الخ وقوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وأياما كان ففيه انباء عن ملابسة مفعوله بشيء آخر بأن يكون فيه أوله أو منه أو نحو ذلك ملابسة مصححة لأن يتوسط بينهما شيء من الظروف لغوا كان أو مستقرا لكن لا على أن يكون عمدة في الكلام بل قيدا فيه كما في قوله تعالى وجعل بينهما برزخا وقوله تعالى وجعل فيها رواسي وقوله تعالى واجعل لنا من لدنك وليا الآية فان كل واحد من هذه الظروف اما متعلق بنفس الجعل أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله تقدمت عليه لكونه نكرة وأيا ما كان فهو قيد في الكلام حتى إذا اقتضى الحال وقوعه عمدة فيه يكون الجمل متعديا إلى اثنين هو ثانيهما كما في قوله تعالى يجعلون أصابعهم في آذانهم وربما يشتبه الأمر فيظن أنه عمدة فيه وهو في الحقيقة قيد بأحد الوجهين كما سلف في قوله تعالى اني جاعل في الأرض خليفة والوهاج الوقاد المتلألئ من وهجت النار إذا أضاءت أو البالغ في الحرارة من الوهج والمراد به الشمس والتعبير عنها بالسراج من روادف التعبير عن خلق السماوات بالبناء
وأنزلنا من المعصرات
هي السحائب إذا أعصرت اي شارفت ان تعصرها الرياح فتمطر كما في احصد الزرع إذا حان له أن يحصد ومنه أعصرت الجارية إذا دنت ان تحيض أو الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب وقرئ بالمعصرات ووجه ذلك أن الانزال حيث كان من المعصرات سواء أريد بها السحائب أو الرياح فقد كان بها كما يقال أعطاه من يده وبيده وقد فسرت المعصرات بالرياح ذوات الأعاصير ووجهه أن الرياح هي التي
87

تنشئ السحاب وتدر أخلافه فصلحت ان تجعل مبتدأ للانزال
ماء ثجاجا
أي منصبا بكثرة يقال ثج الماء اي سال بكثرة وثجه اي أساله ومنه قوله عليه الصلاة والسلام أفضل الحج العج والثج اي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدي وقرئ ثجاجا بالحاء بعد الجيم قالوا مثاجح الماء مصابه
لنخرج به
بذلك الماء
حبا
يقتات كالحنطة والشعير ونحوهما
ونباتا
يعتلف كالتبن والحشيش وتقديم الحب مع تأخره عن النبات في الاخراج لأصالته وشرفه لأن غالبه غذاء الانسان
وجنات
الجنة في الأصل هي المرة من مصدر جنة إذا ستره تطلق على المخل والشجر المتكاثف المظلل بالتفاف أغصانه قال زهير بن أبي سلمى
* كأن عيني في غربي مقتلة
* من النواضح تسقى جنة سحقا
* وعلى الأرض ذات الشجر قال الفراء الجنة ما فيه النخيل والفردوس ما فيه الكرم والأول هو المراد وقوله تعالى
ألفافا
اي ملتفة تداخل بعضها في بعض قالوا لا واحد له كالأوزاع والأخياف وقيل الواحد لف ككن وأكنان أو لفيف كشريف واشراف وقيل هو جمع أف جمع لفاء كخضر وخضراء وقيل جمع ملتفة بحذف الزوائد واعلم أن فيما ذكر من أفعاله عز وجل دلالة على صحة البعث وحقيته من وجوه ثلاثة الأول باعتبار قدرته تعالى فان من قدر على انشاء هذه الأفعال البديعة من غير مثال يحتذيه ولا قانون ينتحيه كان على الإعادة أقدر وأقوى الثاني باعتبار علمه وحكمته فان من أبدع هذه المصنوعات على نمط
رائع مستتبع لغايات جليلة ومنافع جميلة عائدة إلى الخلق يستحيل ان ينفيها بالكلية ولا يجعل لها عاقبة باقية والثالث باعتبار نفس الفعل فان اليقظة بعد النوم أنموذج للبعث بعد الموت يشاهدونها كل يوم وكذا اخراج الحب والنبات من الأرض الميتة يعاينوه كل حين كأنه قيل ألم نفعل هذه الأفعال الآفاقية والأنفسية الدالة بفنون الدلالات على حقية البعث الموجبة للايمان به فما لكم تخوضون فيه انكارا وتتساءلون عنه استهزاء وقوله تعالى
ان يوم الفصل كان ميقاتا
شروع في بيان سر تأخير ما يتساءلون عنه ويستعجلون به قائلين متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ونوع تفصيل لكيفية وقوعه وما سيلقونه عند ذلك من فنون العذاب حسبما جرى به الوعيد اجمالا أي ان يوم فصل الله عز وجل بين الخلائق كان في علمه وتقديره ميقاتا وميعادا لبعث الأولين والآخرين وما يترتب عليه من الجزاء ثوابا وعقابا لا يكاد يتخطاه بالتقدم والتأخر وقيل حدا توقت به الدنيا وتنتهي عنده أو حدا للخلائق ينتهون فيه ولا ريب في أنهما بمعزل من التقريب الذي أشير اليه على أن الدنيا تنتهي عند النفخة الأولى
88

وقوله تعالى
يوم ينفخ في الصور
اي نفخة ثانية بدل من يوم الفصل أو عطف بيان له مفيد لزيادة تفخيمه وتهويله ولا ضير في تأخر الفصل عن النفخ فإنه زمان ممتد يقع في مبدئه النفخة وفي بقيته الفصل ومباديه وآثاره والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما فرغ الله تعالى من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو واضعه على فيه شاخص بصره إلى العرش متى يؤمر به فينفخ فيه نفخة لا يبقى عندها في الحياة غير من شاء الله تعالى وذلك قوله تعالى ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض الا من شاء الله ثم يؤمر بأخرى فينفخ نفخه لا يبقى معها ميت الا بعث وقام وذلك قوله تعالى ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون والفاء في قوله تعالى
فتأتون
فصيحة تفصح عن جملة قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها وإيذانا بغاية سرعة الاتيان كما في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق اي فتبعثون من قبوركم فتأتون إلى الموقف عقيب ذلك من غير لبث أصلا
أفواجا
اي أمما كل أمة مع امامها كما في قوله تعالى يوم ندعو كل أناس بامامهم أو زمرا وجماعات مختلفة الأحوال متباينة الأوضاع حسب اختلاف اعمالهم وتباينها عن معاذ رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور ثم ارسل عينيه وقال تحشر عشرة أصناف من أمتي بعضهم على صورة القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكسون أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها وبعضهم عمي وبعضهم صم بكم وبعضهم يمضغون ألسنتهم فهي مدلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يتقذرهم أهل الجمع وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم وبعضهم مصلبون على جذوع من نار وبعضهم أشد نتنا من الجيف وبعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت وأما المنكسون على وجوههم فأكلة الربا وأما العمي فالذين يجورون في الحكم وأما الصم البكم فالمعجبون بأعمالهم وأما الذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء الذين خالفت أقوالهم اعمالهم وأما الذين قطعت أيديهم وأرجلهم فهم الذين يؤذون جيرانهم وأما المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان وأما الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتبعون الشهوات واللذات ومنعوا حق الله تعالى في أموالهم وأما الذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء
وفتحت السماء
عطف على ينفخ وصيغة الماضي للدلالة على التحقق وقرئ فتحت بالتشديد وهو الأنسب بقوله تعالى
فكانت أبوابا
أي كثرت أبوابها المفتح لنزول الملائكة نزولا غير معتاد حتى صارت كأنها ليست الا أبوابا مفتحة
89

كقوله تعالى وفجرنا الأرض عيونا كأن كلها عيون متفجرة وهو المراد بقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وهو الغمام الذي ذكر في قوله تعالى هل ينظرون الا أن يأتيهم الله أي امره وبأسه في ظلل من الغمام والملائكة وقيل الأبواب الطرق والمسالك أي تكشط فينفتح مكانها وتصير طرقا لا يسدها شيء
وسيرت الجبال
اي في الجو على هيآتها بعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب أي تراها رأى العين ساكنة في أماكنها والحال أنها تمر مر السحاب الذي يسيره الرياح سيرا حثيثا وذلك أن الأجرام العظام إذا تحركت نحوا من الأنحاء لا تكاد يتبين حركتها وان كانت في غاية السرعة لا سيما من بعيد وعليه قول من قال:
بارعن مثل الطود تحسب أنهم * وقوف لحاج والركاب تهملج
وقد أدمج في هذا التشبيه تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى وتكون الجبال كالعهن المنفوش يبدل الله تعالى الأرض
ويغير هيأتها ويسير الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى
فكانت سرابا
اي فصارت بعد تسييرها مثل السراب كقوله تعالى وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا اي غبارا منتشرا وهي وان اندكت وانصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض انما يكونان بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى ويسألونك عن الجبال فقل ينفسها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي وقوله تعالى يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا الله الواحد القهار فان اتباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله تعالى لا يكون الا بعد النفخة الثانية
ان جهنم كانت مرصادا
شروع في تفصيل أحكام الفصل الذي أضيف اليه اليوم اثر بيان هو له ووجه تقديم بيان حال الكفار غنى عن البيان والمرصاد اسم للمكان الذي يرصد فيه كالمضمار الذي هو اسم للمكان الذي يضمر فيه الخيل والمنهاج اسم للمكان الذي ينهج فيه اي انها كانت في حكم الله تعالى وقضائه موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفار ليعذبوهم فيها
للطاغين
متعلق بمضمر هو اما نعت لمرصادا اي كائنا للطاغين وقوله تعالى
مآبا
بدل منه أي مرجعا يرجعون اليه لا محالة واما حال من مآبا قدمت عليه لكونه نكرة ولو تأخرت لكانت صفة له وقد جوز أن يتعلق بنفس مآبا على أنها مرصاد للفريقين مآب للكافرين خاصة ولا يخفى بعده فان المتبادر من كونها مرصادا لطائفة كونهم معذبين بها وقد قيل انها مرصاد لأهل الجنة يرصدهم الملائكة الذين يستقبلونهم عندها لأن مجازهم عليها وهي مآب للطاغين
90

وقيل المرصاد صيغة مبالغة من الرصد والمعنى أنها مجدة في ترصد الكفار لئلا يشذ منهم أحد وقرئ أن بالفتح على تعليل قيام الساعة بأنها مرصاد للطاغين
لابثين فيها حال مقدرة من المستكن في للطاغين وقرئ لبثين وقوله تعالى
أحقابا ظرف للبثهم أي دهورا متتابعة كلما مضى حقب تبعه حقب آخر إلى غير نهاية فإن الحقب لا يكاد يستعمل إلا حيث يراد تتابع الأزمنة وتواليها فليس فيه ما يدل على تناهي تلك الأحقاب ولو أريد بالحقب ثمانون سنة أو سبعون ألف سنة وقوله تعالى
لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميم وغساقا جملة مبتدأة أخبر عنهم بأنهم لا يذوقون فيها شيئا ما من برد وروح ينفس عنهم حر النار ولا شراب يسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا وقيل البرد النوم وقرئ غساقا بالتخفيف وكلاهما ما يسيل من صديدهم
جزاء أي جوزوا بذلك جزاء
وفاقا ذا وفاق لأعمالهم أو نفس الوفاق مبالغة أو وافقها وفاقا وقرئ وفاقا على أنه فعال من وفقه كذا أي لاقه
إنهم كانوا الا يرجون حسابا تعليل لاستحقاقهم الجزاء المذكور أي كانوا لا يخافون أن يحاسبوا بأعمالهم
وكذبوا بآياتنا الناطقة بذلك
كذابا أي تكذيبا مفرطا ولذلك كانوا مصرين على الكفر وفنون المعاصي وفعال من باب فعل شائع فيما بين الفصحاء وقرئ بالتخفيف وهو مصدر كذب قال فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه وانتصابه إما بفعله المدلول عليه بكذبوا أي وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا وإما بنفس كذبوا لتضمينه معنى كذبوا فإن كل من يكذب بالحق فهو كاذب وقرئ كذابا وهو جمع كاذب فانتصابه على الحالية أي كذبوا بآياتنا كاذبين وقد يكون الكذاب بمعنى الواحد البليغ في الكذب فيجعل صفة لمصدر كذبوا أي تكذيبا كذابا مفرطا كذبه
وكل شئ من الأشياء التي من جملتها أعمالهم وانتصابه بمضمر يفسره
أحصيناه أي حفظناه وضبطناه وقرئ
91

بالرفع على الابتداء
كتابا مصدر مؤكد لأحصيناه لما أن الإحصاء والكتبة من واد واحد أو لفعله المقدر أو حال بمعنى مكتوبا في اللوح أو في صحف الحفظة والجملة اعتراض وقوله تعالى
فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وفي الالتفات المنبئ عن التشديد في التهديد وإيراد لن المفيدة لكون ترك الزيادة من قبيل مالا يدخل تحت الصحة من الدلالة على تبالغ الغضب مالا يخفى وقد روى النبي عليه الصلاة والسلام أن هذه الآية أشد ما في القرآن على أهل النار
إن للمتقين مفازا شروع في بيان محاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء أحوال الكفرة أي أن للذين يتقون الكفر وسائر قبائح اعمال الكفرة فوزا وظفرا بمباغيهم أو موضع فوز وقيل نجاة مما فيه أولئك أو موضع نجاة وقوله تعالى
حدائق وأعنابا أي بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة وكروما بدل من مفازا
وكواعب أي نساء فلكت ثديهن وهن النواهد
أترابا أي لدات
وكأسا دهاقا أي مترعة يقال أدهق الحوض أي ملأه
لا يسمعون فيها أي في الجنة وقيل في الكأس
لغوا ولا كذابا أي لا ينطقون بلغو ولا يكذب بعضا وقرئ كذابا بالتخفيف أي لا يكذبه أو لا يكاذبه
جزاء من ربك مصدر مؤكد منصوب بمعنى إن للمتقين مفازا فإنه في قوة أن يقال جازي المتقين بمفاز جزاء كائنا من ربك والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مزيد تشريف له صلى الله عليه وسلم
عطاء أي تفضلا وإحسانا منه تعالى إذ لا يجب عليه شئ وهو بدل من جزاء
حساب صفة لعطاء بمعنى كافيا على مصدر أقيم مقام الوصف أو بولغ فيه من أحسبه الشئ إذا كفاه حتى قال حسبي وقيل على حسب أعمالهم وقرئ حسابا بالتشديد على أنه بمعنى المحتسب كالدراك بمعنى المدرك
92

رب السماوات والأرض وما بينهما بدل من ربك وقوله تعالى
الرحمن صفة له وقيل صفة للأول وأيا ما كان ففي ذكر ربوبيته تعالى للكل ورحمته الواسعة إشعار بمدار الجزاء المذكور وقوله تعالى
لا يملكون منه خطابا استئناف مقرر لما أفاده الربوبية العامة من غاية العظمة والكبرياء واستقلاله تعالى بما ذكر من الجزاء والعطاء من غير أن يكون لأحد قدرة عليه وقرئ برفعهما فقيل على أنهما خبران لمبتدأ مضمر وقيل الثاني نعت للأول وقيل الأول مبتدأ والثاني خبره ولا يملكون خبر آخر أو هو الخبر والرحمن صفة للأول وقيل لا يملكون حال لازمة وقيل الأول مبتدأ والرحمن مبتدأ ثان ولا يملكون خبره والجملة خبر للأول وحصل الربط بتكرير المبتدأ بمعناه على رأي من يقول به والأوجه أن يكون كلاهما مرفوعا على المدح أو يكون الثاني نعتا للأول ولا يملكون استئنافا على حاله ففيه ما ذكر من الإشعار بمدار الجزاء والعطاء كما في البدلية لما أن المرفوع أو المنصوب مدحا تابع لما قبله معنى إن كان منقطعا عنه إعرابا كما فصل في قوله تعالى الذين يؤمنون بالغيب من سورة البقرة وقرئ بجر الأول على البدلية ورفع الثاني على الابتداء والخبر ما بعده أو على أنه خبر لمبتدأ مضمر وما بعده استئناف أو خبر ثان أو حال وضمير لا يملكون لأهل السماوات والأرض أي لا يملكون أن يخاطبوه تعالى من تلقاء أنفسهم كما ينبئ عنه لفظ الملك خطابا ما في شئ ما والمراد نفي قدرتهم على أن يخاطبوه تعالى بشئ من نقص العذاب أو زيادة الثواب من غير إذنه على أبلغ وجه وآكده وقيل ليس في أيديهم مما يخاطب الله به يأمر به في أمر الثواب والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك فيزيدون فيه أو ينقصون منه
يوم يقوم الروح والملائكة صفا قيل الروح خلق أعظم من الملائكة وأشرف منهم وأقرب من رب العالمين وقيل هم ملك ما خلق الله عز وجل بعد العرش خلقا أعظم منه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفا والملائكة كلهم صفا وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الروح جند من جنود الله تعالى ليسوا ملائكة لهم رؤس وأيد وأرجل يأكلون الطعام ثم قرأ يوم يقوم الروح الآية وهذا قول أبي صالح ومجاهد قالوا ما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد منهم نقله البغوي وقيل هم أشراف الملائكة وقيل هم حفظة على الملائكة وقيل جبريل عليه السلام وصفا حال أي مصطفين قيل هما صفان الروح صف واحد أو متعدد والملائكة صف وقيل صفوف وهو الأفق لقوله تعالى والملك صفا صفا وقيل يقوم الكل صفا واحدا ويوم ظرف لقوله تعالى
لا يتكلمون وقوله تعالى
إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بدل من ضمير لا يتكلمون العائد إلى أهل السماوات والأرض الذين من جملتهم الروح والملائكة وذكر قيامهم واصطفافهم لتحقيق عظمة سلطانه وكبرياء ربوبيته وتهويل يوم البعث الذي عليه مدار الكلام من
93

مطلع السورة الكريمة إلى مقطعها والجملة استئناف مقرر لمضمون قوله تعالى لا يملكون الخ ومؤكد له على معنى ان أهل السماوات والأرض إذا لم يقدروا يومئذ على أن يتكلموا بشئ من جنس الكلام إلا من أذن الله تعالى له منهم في التكلم وقال ذلك المأذون له قولا صوابا أي حقا فكيف يملكون خطاب رب العزة مع كونه أخص من مطلق الكلام وأعز منه مراما لا على معنى أن الروح والملائكة مع كونهم أفضل الخلائق وأقربهم من الله تعالى إذا لم يقدروا أن يتكلموا بما هو صواب من الشفاعة لمن ارتضى إلا بإذنه فكيف يكلمه غيرهم كما قيل فإنه مؤسس على قاعدة الاعتزال فمن سلكه مع تجويزه أن يكون يوم ظرفا للا يملكون فقد اشتبه عليه الشؤون واختلط به الظنون وقيل إلا من أذن الخ منصوب على أصل الاستثناء والمعنى لا يتكلمون إلا في حق شخص أذن له الرحمن وقال ذلك الشخص صوابا أي حقا هو التوحيد وإظهار الرحمن في موضع الإضمار للإيذان بأن مناط الإذن هو الرحمة البالغة لا أن أحدا يستحقه عليه سبحانه وتعالى
ذلك إشارة إلى يوم قيامهم على الوجه المذكور وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للايذان بعلو درجته وبعد منزلته في الهول والفخامة ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أي ذلك اليوم العظيم الذي يقوم فيه روح والملائكة مصطفين غير قادرين هم وغيرهم على التكلم من الهيبة والجلال
اليوم الحق أي الثابت المتحقق لا محالة من غير صارف يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء في قوله تعالى
فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا فصيحة تصفح عن شرط محذوف ومفعول المشيئة محذوف لوقوعها شرطا وكون مفعولها مضمون الجزاء وانتفاء الغرابة في تعلقه بها حسب القاعدة المستمرة وإلى ربه متعلق بمآبا قدم عليه اهتماما به ورعاية للفواصل كأنه قيل وإذا كان الأمر كما ذكر من تحقق اليوم المذكور لا محالة فمن شاء أن يتخذ مرجعا إلى ثواب ربه الذي ذكر شأنه العظيم فعل ذلك بالإيمان والطاعة وقال قتادة مآبا أي سبيلا وتعلق الجارية لما فيه من معنى الإفضاء والإيصال كما مر في قوله تعالى من استطاع إليه سبيلا
إنا أنذرناكم أي بما ذكر في السورة من الآيات الناطقة بالبعث وبما بعده من الدواهي أو بها بسائر القوارع الواردة في القرآن
عذابا قريبا هو عذاب الآخرة وقربه لتحقيق إتيانه حتما ولأنه قريب بالنسبة إليه تعالى وإن رأوه بعيدا وسيرونه قريبا لقوله تعالى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها وعن قتادة هو عقوبة الدنيا لأنه أقرب العذابين وعن مقاتل هو قتل قريش يوم بدر وقوله تعالى
يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فإنه إما بدل من عذابا أو ظرف لمضمر هو صفة له أي عذابا كائنا يوم ينظر المرء أي يشاهد
94

ما قدمه من خير أو شر على أن ما موصولة منصوبة بينظر والعائد محذوف أو ينظر أي شئ قدمت يداه على أنها استفهامية منصوبة بقدمت وقيل المرء عبارة عن الكافر وما في قوله تعالى
ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم قيل معنى تمنيه ليتني كنت ترابا في الدنيا فلم أخلق ولم ولم أكلف أو ليتني كنت ترابا في هذا اليوم فلم أبعث وقيل يحشر الله تعالى الحيوان فيقتص للجماء من القرناء ثم يرده ترابا فيود الكافر حاله وقيل الكافر إبليس يرى آدم وولده وثوابهم فيتمنى أن يكون الشئ الذي احتقره حين قال خلقتني من نار وخلقته من طين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة عم يتساءلون سقاه الله تعالى برد الشراب يوم القيامة والحمد لله وحده سورة النازعات مكية آياتها ست وأربعون
«بسم الله الرحمن الرحيم»
«والنازعات غرقا»
«والناشطات نشطا»
«والسابحات سبحا فالسابقات سبقا»
«فالمدبرات أمرا» إقسام من الله عز وجل بطوائف الملائكة الذين ينزعون الأرواح من الأجساد على الإطلاق كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد أو أرواح الكفرة كما قاله على رضي الله عنه وابن مسعود وسعيد بن جبير ومسروق وينشطونها أي يخرجونها من الأجساد من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها ويسبحون في إخراجها سبح الغواص الذي يخرج من البحر ما يخرج فيسبقون بأرواح الكفرة إلى النار وبأرواح المؤمنين إلى الجنة فيدبرون أمر عقابها وثوابها بأن يهيؤها لإدراك ما أعدلها من الآلام واللذات والعطف مع اتحاد الكل بتنزيلي التغاير الذاتي كما في قوله
95

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتائب في المزدحم [للإشعار بأن كل واحد من الأوصاف المعدودة من معظمات الأمور حقيق بأن يكون على حياله مناطا لاستحقاق موصوفه للإجلال والإعظام بالإقسام به من غير انضمام الأوصاف الأخر إليه والفاء في الأخيرين للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهملة كما في قوله:
يا لهف زبابة الصائح * فالغانم فالآئب
وغرقا مصدر مؤكد بحذف الزوائد أي إغراقا في النزع حيث تنزعها من أقاصي الأجساد قال ابن مسعود رضي الله عنه تنزع روح الكافر من جسده من تحت كل شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم تغرقها في جسده ثم تنزعها حتى إذا كادت تخرج تردها في جسده فهذا عملها بالكفار وقيل يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنها تغرق وانتصاب نشطا وسبحا وسبقا أيضا على المصدرية وأما أمرا فمفعول للمدبرات وتنكيره وللتهويل والتفخيم ويجوز أن يراد بالسابحات وما بعدها طوائف من الملائكة يسبحون في مضيهم أي يسرعون فيه فيسبقون إلى ما أمروا به من الأمور الدنيوية والأخروية والمقسم عليه محذوف تعويلا على إشارة ما قبله من المقسم به إليه ودلالة ما بعده من أحوال القيامة عليه وهو لتبعثن فإن الإقسام بمن يتولى نزع الأرواح ويقوم بتدبير أمورها يلوح بكون المقسم عليه من قبيل تلك الأمور لا محالة وفيه من الجزالة مالا يخفي وقد جوز أن يكون إقساما بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب غرقا في النزع بأن تقطع الفلك حتى تنحط في أقصى الغرب وتنشط من برج إلى برج أي تخرج من نشط الثور إذا خرج من بلد إلى بلد وتسبح في الفلك فيسبق بعضها بعضا فتدبر أمرا نيط بها كاختلاف الفصول وتقدير والأزمنة وتبين مواقيت العبادات وحيث كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسرية وحركاتها من برج إلى برج ملائمة عبر عن الأولى بالنزع وعن الثاني بالنشط أو بأنفس الغزاة أو أيديهم التي تنزع القسي بإغراق السهام وينشطون بالسهم للرمي ويسبحون في البر والبحر فيسبقون إلى حرب العدو فيدبرون أمرها أو بخيلهم التي تنزع في أعنتها نزعا تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب وتخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب وتسبح في جريها لتسبق إلى الغابة فتدبر أمر الظفر والغلبة وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه هذا والذي يليق بشأن التنزيل هو الأول قوله تعالى
يوم ترجف الراجفة منصوب بالجواب المضمر والمراد بالراجفة الواقعة التي ترجف عندها الأجرام الساكنة أي تتحرك حركة شديدة وتتزلزل زلزلة عظيمة كالأرض والجبال وهي النفخة الأولى وقيل الرجفة الأرض والجبال لقوله تعالى يوم ترجف الأرض والجبال وقوله تعالى
تتبعها الرادفة أي الواقعة التي تردف الأولى وهي النفخة الثانية تابعة لها لا قبل ذلك فإنه عبارة عن الزمان الممتد الذي يقع فيه النفختان وبينهما أربعون سنة واعتبار امتداده مع أن البعث لا يكون إلا عند النفخة الثانية لتهويل اليوم ببيان كونه موقعا
96

لداهيتين عظيمتين لا يبقى عند وقوع الأولى حي الإ مات ولا عند وقوع الثانية إلا بعث وقام ووجه إضافته إلى الأولى ظاهر وقيل يوم ترجف منصوب باذكر فتكون الجملة استئنافا مقررا لمضمون الجواب المضمر كأنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم اذكر لهم يوم النفختين فإنه وقت بعثهم وقيل هو منصوب بما دل عليه قوله تعالى «قلوب يومئذ واجفة» أي يوم ترجف وجفت القلوب قيل قلوب مبتدأ ويومئذ متعلق بواجفة وهي صفة لقلوب مسوغة لوقوعه مبتدأ وقوله تعالى «أبصارها» أي
أبصار أصحاب «خاشعة» جملة من مبتدأ وخبر وقعت خبرا لقلوب وقد مر أن حق الصفة أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف عند السامع حتى قالوا إن الصفات قبل العلم بها أخبار والأخبار بعد العلم بها صفات فحيث كان ثبوت الوجيف للقلوب وثبوت الخشوع لأبصار أصحابها سواء في المعرفة والجهالة كان جعل الأول عنوانا للموضوع مسلم الثبوت مفروغا عنه وجعل الثاني مخبرا به مقصود الإفادة تحكما بحتا على أن الوجيف الذي هو عبارة عن شدة اضطراب القلب وقلقه من الخوف والوجل أشد من خشوع البصر وأهول فجعل أهون الشرين عمدة وأشدهما فضلة مما لا عهد له في الكلام وأيضا فتخصيص الخشوع بقلوب موصوفة بصفة معينة غير مشعرة بالعموم والشمول تهوين للخطب في موقع التهويل فالوجه أن يقال تنكير قلوب يقوم مقام الوصف المختص سواء على حمل التنويع كما قيل وإن لم يذكر النوع المقابل فإن المعنى منسحب عليه أو على التكثير كما في شر أهر ذا ناب فإن التفخيم كما يكون بالكيفية يكون بالكمية أيضا كأنه قيل قلوب كثيرة يوم إذ يقع النفختان واجفة أي شديدة الاضطراب قال ابن عباس رضى الله عنهما خائفة وجلة وقال السدى زائلة عن أماكنها كما في قوله تعالى إذ القلوب لدى الحناجر وقوله تعالى
يقولون أننا لمردودون في الحافرة حكاية لما يقوله المنكرون للبعث المكذبون بالآيات الناطقة به إثر بيان وقوعه بطريق التوكيد القسمي وذكر مقدماته الهائلة وما يعرض عند وقوعها للقلوب والأبصار أي يقولون إذا قيل لهم إنكم تبعثون منكرين له متعجبين منه أئنا لمردودون بعد موتنا في الحافرة أي في الحالة الأولى يعنون الحياة من قولهم رجع فلان في حافرته أي في طريقته التي جاء فيها فحفرها أي أثر فيها بمشيه وتسميتها حافرة مع أنها محفورة كقوله تعالى في عيشة راضية أي منسوبة إلى الحفر والرضا أو كقولهم نهاره صائم على تشبيه القابل بالفاعل وقرئ في الحفرة وهي بمعنى المحفورة
97

وقوله تعالى
ائذا كنا عظاما نخرة
تأكيد لانكار الرد ونفيه بنسبته إلى حالة منافية له والعامل في إذا مضمر يدل عليه مردودون أي ائذا كنا عظاما بالية نرد ونبعث مع كونها ابعد شيء من الحياة وقرئ إذا كنا على الخبر أو اسقاط حرف الانكار وناخرة من نخر العظم فهو نخر وناخر وهو البالي الأجوف الذي يمر به الريح فيسمع له نخير
قالوا
حكاية لكفر آخرهم متفرع على كفرهم السابق ولعل توسيط قالوا بينهما للايذان بأن صدور هذا الكفر عنهم ليس بطريق الاطراد والاستمرار مثل كفرهم السابق المستمر صدوره عنهم في كافة أوقاتهم حسبما ينبئ عنه حكايته بصيغة المضارع اي قالوا بطريق الاستهزاء مشيرين إلى ما أنكروه من الردة في الحافرة مشعرين بغاية بعدها من الوقوع
تلك إذا كرة خاسرة
أي ذات خسران أو خاسرة أصحابها أي ان صحت فنحن اذن خاسرون لتكذيبنا بها وقوله تعالى
فإنما هي زجرة واحدة
تعليل لمقدر يقتضيه انكارهم لاحياء العظام النخرة التي عبروا عنها بالكرة فان مداره لما كان استصعابهم إياها رد عليهم ذلك فقيل لا تستصعبوها فإنما هي صيحة واحدة أي حاصلة بصيحة واحدة وهي النفخة الثانية عبر عنها بها تنبيها على كمال اتصالها بها كأنها عينها وقيل هي راجع إلى الرادفة فقوله تعلى
فإذا هم بالساهرة
حينئذ بيان لترتب الكرة على الزجرة مفاجأة اي فإذا هم احياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في جوفها وعلى الأول بيان لحضورهم الموقف عقيب الكرة التي عبر عنها بالزجرة والساهرة الأرض البيضاء المستوية سميت بذلك لأن السراب يجري فيها من قولهم عين ساهرة جارية الماء وفي ضدها نائمة وقيل لأن سالكها لا ينام خوف الهلكة وقيل اسم لجهنم وقال الراغب هي وجه الأرض وقيل هي أرض القيامة وروي الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الساهرة أرض من فضة لم يعص الله تعالى عليها قط خلقها حينئذ وقيل هي أرض يجددها الله عز وجل يوم القيامة وقيل هي اسم الأرض السابعة يأتي بها الله تعالى فيحاسب الخلائق عليها وذلك حين تبدل الأرض غير الأرض وقال الثوري الساهرة أرض الشام وقال وهب بن منبه جبل بيت المقدس وقيل الساهرة بمعنى الصحراء على شفير جهنم وقوله تعالى
هل أتاك حديث موسى
كلام مستأنف وارد لتسلية رسولة الله صلى الله عليه وسلم من تكذيب قومه بأنه يصبهم مثل ما أصاب
98

من كان أقوى منهم وأعظم ومعنى هل أتاك ان اعتبر هذا أول ما أتاه عليه الصلاة والسلام من حديثه عليه السلام ترغيب له عليه الصلاة والسلام في استماع حديثه كأنه قيل هل أتاك حديثه أنا أخبرك به وان اعتبر اتيانه قبل هذا وهو المتبادر من الايجاز في الاقتصاص حمله عليه الصلاة والسلام على أن يقر بأمر يعرفه قبل ذلك كأنه قيل أليس قد أتاك حديثه وقوله تعالى
إذ ناداه ربه بالواد المقدس
ظرف للحديث لا للاتيان لاختلاف وقتيهما
طوى
بضم الطاء غير منون وقرئ منونا وقرئ بالكسر منونا وغير منون فمن نونه أوله بالمكان دون البقعة وقيل هو كثنى مصدر لنادي أو المقدس اي ناداه ندائين أو المقدس
مرة بعد أخرى
اذهب إلى فرعون
على إرادة القول وقيل هو تفسير للنداء أي ناداه اذهب وقيل هو على حذف أن المفسرة ويدل عليه قراءة عبد الله ان اذهب لأن في النداء معنى القول
انه طغى
تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به
فقل
بعدما أتيته
هل لك
رغبة وتوجه
إلى أن تزكى
بحذف احدى التاءين من تتزكى اي تتطهر من دنس الكفر والطغيان وقرئ تزكى بالتشديد
وأهديك إلى ربك
وأرشدك إلى معرفته عز وجل فتعرفه
فتخشى
إذ الخشية لا تكون الا بعد معرفته تعالى قال عز وجل انما يخشى الله من عباده العلماء وجعل الخشية غاية للهداية لأنها ملاك الأمر من خشي الله تعالى أتى منه كل خير ومن أمن اجتر على كل شر أمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبه بالاستفهام الذي معناه العرض ليستدعيه بالتلطف في القول ويستنزله بالمداراة من عتوه وهذا ضرب تفصيل لقوله تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى والفاء في قوله تعالى
فأراه الآية الكبرى
فصيحة تفصح عن جمل قد طويت تعويلا على تفصيلها في السور الأخرى فإنه عليه الصلاة والسلام ما أراه إياها عيب هذا الأمر بل بعد ما جرى بينه وبين الله تعالى ما جرى من الاستدعاء والإجابة وغيرهما من المراجعات وبعد ما جرى بينه وبين فرعون ما جرى من المحاورات إلى أن قال ان كنت جئت بآية فأت بها ان كنت من الصادقين والإراءة اما بمعنى التبصير أو التعريف فان اللعين حين أبصرها عرفها وادعاء سحريتها انما كان إراءة منه واظهارا للتجلد ونسبتها اليه عليه الصلاة والسلام بالنظر إلى الظاهر كما أن نسبتها إلى نون العظمة في قوله تعالى ولقد أريناه آياتنا بالنظر
99

إلى الحقيقة والمراد بالآية الكبرى قلب العصا حية وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما فإنها كانت المقدمة والأصل والأخرى كالتبع لها أوهما جميعا وهو قول مجاهد فإنهما كالآية الواحدة وقد عبر عنهما بصيغة الجمع حيث قال اذهب أنت وأخوك بآياتي باعتبار ما في تضاعيفهما من بدائع الأمور التي كل منها آية بينة لقوم يعقلون كما في سورة طه ولا مساغ لحملها على مجموع معجزاته فان ما عدا هاتين الآيتين من الآيات التسع انما ظهرت على يده عليه الصلاة والسلام بعد ما غلب السحرة على مهل في نحو من عشرين سنة كما مر في سورة الأعراف ولا ريب في أن هذا مطلع القصة وأمر السحرة مترقب بعد
فكذب
بموسى عليه السلام وسمي معجزاته سحرا
وعصى
الله عز وجل بالتمرد بعد ما علم صحة الأمر ووجوب الطاعة أشد عصيان وأقبحه حيث اجترأ على انكار وجود رب العالمين رأسا وكان اللعين وقومه مأمورين بعبادته عز وجل وترك العظيمة التي كان يدعيها الطاغية ويقبلها منه فئته الباغية لا بارسال بني إسرائيل من الأسر والقسر فقط
ثم أدبر
أي تولى عن الطاعة أو انصرف عن المجلس
يسعى
اي يجتهد في معارضة الآية أو أريد ثم اقبل أي أنشأ يسعى فوضع موضعه أدبر تحاشيا عن وصفه بالاقبال وقيل أدبر هاربا من الثعبان فإنه روي أنه عليه الصلاة والسلام لما ألقى العصا انقلبت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر فتوجه نحو فرعون فهرب وأحدث وانهزم الناس مزدحمون فمات منهم خمسة وعشرون ألفا من قومه وقيل انها حين انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة نحو فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت ويقول فرعون أنشدك بالذي أرسلك الا اخذته فأخذه فعاد عصا ويأباه أن ذلك كان قبل الاصرار على التكذيب والعصيان والتصدي للمعارضة كما يعرب عنه قوله تعالى
فحشر
أي فجمع السحرة لقوله فأرسل فرعون في المدائن حاشرين وقوله تعالى فتولى فرعون فجمع كيده أي ما يكاد به من السحرة وآلاتهم وقيل جنوده ويجوز أن يراد جميع الناس
فنادى
في المجمع بنفسه أو بواسطة المنادي
فقال أنا ربكم الأعلى
قيل قام فيهم خطيبا فقال تلك العظيمة
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى
النكال بمعنى التنكيل كالسلام بمعنى التسليم وهو التعذيب الذي ينكل من
100

رآه أو سمعه ويمنعه من تعاطي ما يفضي اله ومحله النصب على أنه مصدر مؤكد كوعد الله وصبغة الله كأنه قيل نكل الله به نكال الآخرة والأولى وهو الاحراق في الآخرة والاغراق في الدنيا وقيل مصدر لأخذ أي آخذه الله أخذ نكال الآخرة الخ وقيل مفعول له أي آخذه لأجل نكال الخ وقيل نصب على نزع الخافض أي أخذه بنكال الآخرة والأولى واضافته إلى الداين باعتبار وقوع نفس الأخذ فيهما لا باعتبار أن ما فيه من معنى المنع يكون فيهما فان ذلك لا يتصور في الآخرة بل في الدنيا فان العقوبة الأخروية تنكل من سمعها وتمنعه من تعاطي ما يؤدي إليها لا محالة وقيل المراد بالآخرة والأولى قوله أنا ربكم الأعلى وقوله ما علمت لكم من اله غيري قيل كان بين الكلمتين أربعون سنة فالإضافة إضافة المسبب إلى السبب
ان في ذلك
أي فيما ذكر من قصة فرعون وما فعل وما فعل به
لعبرة
عظيمة
لمن يخشى
أي لمن من شأنه أن يخشى وهو من من شأنه المعرفة وقوله تعالى
أأنتم أشد خلقا
خطاب لأهل مكة المنكرين للبعث بناء على صعوبته في زعمهم بطريق التوبيخ والتبكيت بعد ما بين كمال سهولته بالنسبة إلى قدرة الله تعالى بقوله تعالى فإنما هي زجرة واحدة اي أخلقكم بعد موتكم أشد أي أشق وأصعب في تقديركم
أم السماء
أي أم خلق السماء على عظمها وانطوائها على تعاجيب البدائع التي تحار العقول عن ملاحظة أدناها كقوله تعالى لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس وقوله تعالى أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم وقوله تعالى
بناها
الخ بيان وتفصيل لكيفية خلقها المستفاد من قوله أم السماء وفي عدم ذكر الفاعل فيه وفيما عطف عليه من الأفعال من التنبيه على تعينه وتفخيم شأنه عز وجل ما لا يخفى وقوله تعالى
رفع سمكها
بيان للبناء أي جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى سمت العلو مديدا رفيعا مسيرة خمسمائة عام
فسواها
فعدلها مستوية ملساء ليس فيها تفاوت ولا فطور أو فتممها بما علم أنها تتم به من الكواكب والتداوير وغيرها مما لا يعلمه إلا الخلاق العليم من قولهم سوى أمر فلان إذا صلحه «وأغطش ليلها» أي جعله مظلما يقال غطش الليل وأغطشه الله تعالى كما يقال ظلم وأظلمه وقد مر هذا في قوله تعالى وإذا أظلم عليهم قاموا ويقال أيضا أغطش الليل كما يقال أظلم «وأخرج ضحاها» أي أبرز نهارها عبر عنه بالضحى لأنه أشرف أوقاته وأطيبها فكان أحق بالذكر في مقام الامتنان وهو السر في تأخير ذكره عن ذكر الليل وفي التعبير عن إحداثه بالإخراج فإن إضافة النور بعد الظلمة أتم في الإنعام
101

وأكمل في الاحسان وإضافة الليل والضحى إلى السماء لدوران حدوثهما على حركتهما ويجوز أن تكون إضافة الضحى إليها بواسطة الشمس أي أبرز ضوء شمسها والتعبير عنه بالضحى لأنه وقت قيام سلطانها وكما اشراقها
والأرض بعد ذلك دحاها
أي بسطها ومهدها لسكنى أهلها وتقلبهم في أقطارها وانتصاب الأرض بمضمر يفسره دحاها «أخرج منها ماءها» بأن فجر منها عيونا وأجرى أنهارا
ومرعاها
أي رعيها وهو في الأصل موضع الرعي وقيل هو مصدر ميمي بمعنى مفعول وتجريد الجملة عن العاطف اما لأنها بيان وتفسير لدحاها وتكملة له فان السكنى لا تتأتى بمجرد البسط والتمهيد بل لا بد من تسوية أمر المعاش من المأكل والمشرب حتما واما لأنها حال من فاعله باضمار قد عند الجمهور أو بدونه عن الكوفيين والأخفش كما في قوله تعالى أو جاءوكم حصرت صدورهم
والجبال
منصوب بمضمر يفسره
أرساها
أي أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها وهذا تحقيق للحق وتنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل بالتعبير عنها بالرواسي ليس من مقتضيات ذواتها بل هو بإرسائه عز وجل ولولاه لما ثبتت في أنفسها فضلا عن اثباتها للأرض وقرئ والأرض والجبال بالرفع على الابتداء ولعل تقديم اخراج الماء والمرعى ذكرا مع تقدم الارساء عليه وجودا وشدة تعلقه بالدحو لابراز كمال الاعتناء بأمر المأكل والمشرب مع ما فيه من دفع توهم رجوع ضميري الماء والمرعى إلى الجبال وهذا كما ترى يدل يظاهره على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء وما فيها كما يروى عن الحسن من أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليه دخان ملتزق بها ثم اصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض وذلك قوله تعالى كانتا رتقا ففتقناهما الآية وقد مر في سورة حم السجدة أن قوله تعالى قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين إلى قوله تعالى ثم استوى إلى السماء وهي دخان الآية ان حمل ما فيه من الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة لا على تقديرها فهو وما في سورة البقرة من قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات يدلان على تقدم خلق الأرض وما فيها على خلق السماء وما فيها وعليه اطباق أكثر أهل التفسير وقد روي أن العرش كان قبل خلق السماوات والأرض على الماء ثم انه تعالى أحدث في الماء اضطرابا فأزبد فارتفع منه دخان فاما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها أرضين وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السماوات وروي أنه تعالى خلق جرم الأرض يوم الأحد ويوم
102

الاثنين ودحاها وخلق ما فيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات وما فيهن يوم الخميس ويوم الجمعة وخلق آدم عليه السلام في آخر ساعة منه وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة فالأقرب كما قيل تأويل هذه الآية بأن يجعل ذلك إشارة إلى ذكر ما ذكر من بناء السماء ورفع سمكها وتسويتها وغيرها لا إلى أنفسها ويحمل بعدية في الذكر كما هو المعهود في ألسنة العرب والعجم لا في الوجود لما عرفت من أن انتصاب الأرض بمضمر مقدم قد حذف على شريطة التفسير لا بما ذكر بعده ليفيد القصر وتتعين البعدية في الوجود وفائدة تأخيره في الذكر اما التنبيه على أنه قاصر في الدلالة على القدرة القاهرة بالنسبة إلى أحوال السماء واما الاشعار بأنه ادخل في الالزام لما أن المنافع المنوطة بما في الأرض أكثر وتعلق مصالح الناس بذلك اظهر وإحاطتهم بتفاصيل أحواله أكمل وليس ما روي عن الحسن نصا في تأخر دحو الأرض عن خلق السماء فان بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو هي بمعزل من الدلالة على الترتيب هذا على تقدير حمل ما ذكر في آيات سورة السجدة من الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظاهرة وأما إذا حملت على تقديرها فلا دلالة فيها الا على تقدم تقدير الأرض وما فيها على ايجاد السماء كما لا دلالة على الترتيب أصلا إذا حملت كلمة ثم فيها وفيما في سورة البقرة على التراخي في الرتبة وقد سلف تفصيل الكلام في السورة المذكورة وقوله تعالى
متاعا لكم ولأنعامكم
اما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولأنعامكم لأن فائدة ما ذكر من البسط والتمهيد واخراج الماء والمرعى واصلة إليهم والى أنعامهم فان المراد المرعى ما يعم ما يأكله الانسان وغيره بناء على استعارة الرعي لتناول المأكول على الاطلاق كاستعارة المرسن للأنف وقيل مصدر مؤكد لفعله المضمر أي متعكم بذلك متاعا أو مصدر من غير لفظه فان قوله تعالى أخرج منها ماءها ومرعاها في معنى متع بذلك وقوله تعالى
فإذا جاءت الطامة الكبرى
أي الداهية العظمى التي تطم على سائر الطامات أي تعلوها وتغلبها وهي القيامة أو النفخة الثانية وقيل هي الساعة التي يساق الخلائق إلى محشرهم وقيل التي يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار شروع في بيان أحوال معادهم اثر بيان أحوال معاشهم بقوله تعالى متاعا لكم الخ والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها عما قليل كما يبنى منه لفظ المتاع
يوم يتذكر الانسان ما سعى
قيل هو بدل من إذا جاءت والأظهر انه منصوب بأعني كما قيل تفسيرا للطامة الكبرى فان الابدال منها بالظرف المحض مما يوهن تعلقها بالجواب ويجوز أن يكون بدلا من الطامة الكبرى مفتوحا لإضافته إلى الفعل على رأي الكوفيين أي يتذكر فيه كل
103

أحد ما عمله من خير أو شر بأن يشاهده مدونا في صحيفة أعماله وقد كان نسيه من فرط الغفلة وطول الأمد كقوله تعالى أحصاه الله ونسوه ويجوز أن تكون ما مصدرية
وبرزت الجحيم
عطف على جاءت أي أظهرت اظهارا بينا لا يخفى على أحد
لمن يرى
كائنا من كان يروى أنه يكشف عنها فتتلظى فيرها كل ذي بصر وقرئ وبرزت بالتخفيف ولمن رأى ولمن ترى على فيه ضمير الجحيم كما في قوله تعالى إذا رأتهم من مكان بعيد وعلى أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لم تراه من الكفار وقوله تعالى
فأما من طغى
الخ جواب فإذا جاءت على طريقة قوله تعالى فاما يأتينكم مني هدى الآية وقيل هو تفصيل للجواب المحذوف تقديره انقسم الراؤون قسمين فأما فأما من الخ والذي تستدعيه فخامة التنزيل ويقتضيه مقام التهويل أن الجواب المحذوف كان من عظائم الشؤون ما لم تشاهده العيون كما مر في قوله تعالى يوم يجمع الله الرسل أي فأما من عتا وتمرد عن الطاعة وجاوز الحد في العصيان
آثر الحياة الدنيا
الفانية التي هي على جناح الفوات فانهمك فيما متع به فيها ولم يستعد للحياة الأخروية الأبدية بالايمان والطاعة
فان الجحيم
التي ذكر شأنها
هي المأوى
أي هي مأواه واللام سادة مسد الإضافة للعلم بأن صاحب المأوى هو الطاغي كما في قولك غض الطرف ودخول اللام في المأوى والطرف للتعريف لأنهما معروفان وهي اما ضمير فصل أو مبتدأ قيل نزلت الآية في النضر وأبيه الحرث المشهورين بالغلو في الكفر والطغيان
وأما من خاف مقام ربه
أي مقامه بين يدي مالك أمره يوم الطامة الكبرى يوم يتذكر الانسان ما سعى
ونهى النفس عن الهوى
عن الميل اليه بحكم الجبلة البشرية ولم يعتد بمتاع الحياة الدنيا وزهرتها ولم يغتر بزخارفها وزينتها علما منه بوخامة عاقبتها
فان الجنة هي المأوى
له لا غيرها وقيل نزلت الآيتان في أبي عزيز بن عمير ومصعب بن عمير وقد قتل مصعب أخاه أبا عزيز يوم أحد ووقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد رضي الله عنه هذا وقد قيل جواب إذا ما يدل عليه قوله تعالى يوم يتذكر الخ أي فإذا جاءت الطامة الكبرى يتذكر الانسان ما سعى على طريقة
104

قوله تعالى علمت نفس ما أحضرت وقوله تعالى علمت نفس ما قدمت وأخرت فيكون قوله تعالى وبرزت الجحيم عطفا عليه وصيغة الماضي للدلالة على التحقق أو حالا من الانسان باضمار قد أو بدونه على اختلاف الرأيين ولمن يرى مغن عن العائد وقوله تعالى فأما من طغى الخ تفصيلا لحالي الانسان الذي يتذكر ما سعى وتقسيما له بحسب أعماله إلى القسمين المذكورين
يسألونك عن الساعة أيان مرساها
متى إرساؤها أي اقامتها يردون متى يقيمها الله تعالى ويثبتها ويكونها وقيل أيام منتهاها ومستقرها كما أن مرسى السفينة حيث تنتهي اليه وتستقر فيه وقوله تعالى
فيم أنت من ذكراها
انكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألونك بيانها كقوله تعالى يسألونك كأنك خفي عنها أي ما أنت من ذكرها لهم وتبيين وقتها في شيء لأن ذلك فرع علمك به وأنى لك ذلك وهو مما استأثر بعلمه علام الغيوب ومن قال بصدد التعليل فان ذكرها لا زيدهم الا غيا فقد نأى عن الحق وقيل فيم انكار لسؤالهم وما بعده من الاستئناف تعليل للانكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدىء فقيل أنت من ذكراه أي ارسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسيم الساعة علامة من علاماتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم فمعنى قوله تعالى
إلى ربك منتهاها
على هذا الوجه اليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره وانما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك وأما على الوجه الأول فمعناه اليه تعالى انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء ما كائنا من كان فلأي شيء يسألونك عنها وقوله تعالى
انما أنت منذر من يخشاها
على الوجه الأول تقرير لما قبله من قوله تعالى فيم أنت من ذكراها وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فان انكار كونه عليه الصلاة والسلام في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن ليس له عليه الصلاة والسلام أن يذكرها بوجه من الوجوه فأزيح ذلك ببيان أن المنفي عنه عليه الصلاة والسلام
ذكرها لهم بتعيين وقتها حسبما كانوا يسألونه عليه الصلاة والسلام عنها فالمعنى انما أنت منذر من يخشاها وظيفتك الامتثال بما أمرت به من بيان اقترابها وتفصيل ما فيها من فنون الأهوال كما تحيط به خبرا لا تعيين وقتها الذي لم يفوض إليك فما لهم يسألونك عما ليس من وظائفك بيانه وعلى
105

الوجه الثاني هو تقرير لقوله تعالى أنت من ذكراها ببيان أن ارساله عليه الصلاة والسلام وهو خاتم الأنبياء عليهم السلام منذر بمجيء الساعة كما ينطق به قوله عليه الصلاة والسلام بعثت أنا والساعة كهاتين ان كادت لتسبقني وقرئ منذر بالتنوين وهو الأصل والإضافة تخفيف صالح للحال والاستقبال فإذا أريد الماضي تعينت الإضافة وتخصيص الانذار بمن يخشى مع عموم الدعوة لأنه المنتفع به وقوله تعالى
كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها
أما تقرير وتأكيد لما ينبئ عنه الإنذار من سرعة مجيء المنذر به لا سيما على الوجه الثاني أي كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الإنذار بها إلا عشية يوم واحد أو ضحاه فلما ترك اليوم أضيف ضحاه إلى عشيته وإما رد لما أدمجوه في سؤالهم فإنهم كانوا يسألون عنها بطريق الاستبطاء مستعجلين بها وإن كان على نهج الاستهزاء بها ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين فالمعنى كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا بعد الوعيد تحقيقا للانذار وردا لاستبطائهم والجملة على الأول حال من الموصول فإنه على تقديري الإضافة وعدمها مفعول لمنذر كما أن قوله تعالى كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار حال من ضمير المفعول في يحشرهم أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث في الدنيا الا ساعة خلا أن الشبه هناك في الأحوال الظاهرة من الزي والهيئة وفيما نحن فيه في الاعتقاد كأنه قيل تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الانذار بها الا تلك المدة اليسيرة وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الاعراب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النازعات كان ممن حبسه الله عز وجل في القبر والقيامة حتى يدخل الجنة قدر صلاة مكتوبة والله أعلم
106

سورة عبس مكية وآياتها اثنان وأربعون
بسم الله الرحمن الرحيم
عبس وتولى
أن جاءه الأعمى
روي أن ابن أم مكتوم واسمه عبد الله بن شريح بن مالك بن أبي ربيعة الفهري وأم مكتوم اسم أم أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة يدعوهم إلى الاسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم فقال له يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى وكرر ذلك وهو لا يعلم تشاغله عليه الصلاة والسلام بالقوم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعه لكلامه وعبس اعرض عنه فنزلت فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرمه ويقول إذا رآه مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول له هل لك من حاجة واستخلفه على المدينة مرتين وقرئ عبس بالتشديد للمبالغة وأن جاءه علة لتولي أو عبس على اختلاف الرأيين أي لأن جاءه الأعمى والتعرض لعنوان عماه اما لتمهيد عذره في الاقدام على قطع كلامه عليه الصلاة والسلام بالقوم والايذان باستحقاقه بالرفق والرأفة وما لزيادة الانكار كأنه قيل تولى لكونه أعمى كما أن الالتفات في قوله تعالى
وما يدريك
لذلك فان المشافهة أدخل في تشديد العتاب أي وأي شيء يجعلك داريا بحاله حتى تعرض عنه وقوله تعالى
لعله يزكى
استئناف وارد لبيان ما يلوح به ما قبله فإنه مع اشعاره بأن له شأنا منافيا للاعراض عنه خارجا عن دراية الغير وإدرائه مؤذن بأنه تعالى يدريه ذلك أي لعله يتطهر بما يقتبس منك من أوضار الأوزار بالكلية وكلمة لعل مع تحقق التزكي واردة على سنن الكبرياء أو على اعتبار معنى الترجي بالنسبة اليه عليه الصلاة والسلام للتنبيه على أن الاعراض عنه عند كونه مرجو التزكي مما لا يجوز فكيف إذا كان مقطوعا بالتزكي كما في قولك لعلك ستندم على ما فعلت وفيه إشارة إلى أن من تصدى لتزكيتهم من الكفرة لا يرجى منهم التزكي والتذكر أصلا
107

وقوله تعالى (أو يذكر
عطف على يزكى داخل معه في حكم الترجي وقوله تعالى
فتنفعه الذكرى
بالنصب على جواب لعل وقرئ بالرفع عطفا على يذكر أي أو يتذكر فتنفعه موعظتك ان لم يبلغ درجة التزكي التام وقيل الضمير في لعله للكافر فالمعنى انك طمعت في أن يتزكى أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق ولذلك توليت عن الأعمى وما يدريك أن ذلك مرجو الوقوع
أما من استغنى
أي عن الايمان وعما عندك من العلوم والمعارف التي ينطوي عليها القرآن
فأنت له تصدى
أي تتصدى وتتعرض بالاقبال عليه والاهتمام بارشاده واستصلاحه وفيه مزيد تنفير له عليه الصلاة والسلام عن مصاحبتهم فان الاقبال على المدبر ليس من شيم الكبار
وقرئ تصدى بادغام التاء في الصاد وقرئ تصدى بضم التاء أي تعرض ومعناه يدعوك إلى التصدي له داع من الحرص والتهالك على اسلامه
وما عليك ان لا يزكى
وليس عليك بأس في أن لا يتزكى بالاسلام حتى تهتم بأمره وتعرض عمن اسلم والجملة حال من ضمير تصدى وقيل ما استفهامية للانكار أي أي شيء عليك في أن لا يتزكى ومآله النفي أيضا
وأما من جاءك يسعى
أي حال كونه مسرعا طالبا لما عندك من أحكام الرشد وخصال الخير
وهو يخشى
أي الله تعالى وقيل يخشى أذيه الكفار في اتيانك وقيل يخشى الكبوة إذ لم يكن معه قائد والجملة حال من فاعل يسعى كما أنه حال من فاعل جاءك
فأنت عنه تلهى
تتشاغل يقال لهي عنه والتهى وتلهى وقرئ تتلهى وتلهى أي يلهيك شأن الصناديد في تقديم ضميره عليه الصلاة والسلام على الفعلين تنبيه على أن مناط الانكار خصوصيته عليه الصلاة والسلام أي مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدى للمستغني ويتلهى الفقير الطالب للخير وتقديم له وعنه للتعريض باهتمامه عليه الصلاة والسلام بمضمونهما روي أنه عليه الصلاة والسلام ما عبس بعد ذلك في وجه فقير قط ولا تصدى لغني
كلا
108

ردع له عليه الصلاة والسلام عما عوتب عليه من التصدي لمن استغنى عما دعاه إليه من الإيمان والطاعة وما يوجبهما من القرآن الكريم مبالغا في الاهتمام بأمره متهالكا على إسلامه معرضا بسبب ذلك عن إرشاد من يسترشده وقوله تعالى
إنها تذكرة أي موعظة يجب أن يتعظ بها ويعمل بموجبها تعليل للردع عما ذكر ببيان علو رتبة القرآن العظيم الذي استغنى عنه من تصدى عليه الصلاة والسلام له وتحقيق أن شأنه أن يكون موعظة حقيقة بالإتعاظ بها فمن رغب فيها أتعظ بها كما نطق به قوله تعالى
فمن شاء ذكره أي حفظه واتعظ به ومن رغب عنها كما فعل المستغنى فلا حاجة إلى الاهتمام بأمره فالضمير إن للقرآن تأنيث الأول لتأنيث خبره وقيل الأول للسورة أو للآيات السابقة والثاني للتذكرة والتذكير لأنها في معنى الذكر والوعظ وليس بذاك فإن السورة والآيات وإن كانت متصفة بما سيأتي من الصفات الشريفة لكنها ليست مما ألقى على من استغنى عنه واستحق بسبب ذلك ما سيأتي من الدعاء عليه والتعجب من كفره المفرط لنزولها بعد الحادثة واما من جوز رجوعهما إلى العتاب المذكور فقد أخطأ وأساء الأدب وخبط خبطا يقضي منه العجب فتأمل وكن على الحق المبين وقوله وتعالى
في صحف متعلق بمضمر هو صفة لتذكرة وما بينهما اعتراض جئ به للترغيب فيها والحث على حفظها أي كائنة في صحف منتسخة من اللوح أو خبر ثان لأن
مكرمة عند الله عز وجل
مرفوعة أي في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار والذكر
مطهرة منزهة عن مساس أيدي الشياطين
بأيدي سفرة أي كتبة من الملائكة ينتسخون الكتب من اللوح على أنه جمع سافر من السفر وهو الكتب وقيل بأيدي رسل من الملائكة يسفرون بالوحي بينه تعالى وبين الأنبياء على أنه جمع سفير من السفارة وحملهم على الأنبياء عليهم السلام بعيد فإن وظيفتهم التلقي من الوحي لا الكتب منه وإرشاد الأمة بالأمر والنهي وتعليم الشرائع والأحكام لا مجرد السفارة إليهم وكذا حملهم على القراء لقراءتهم الأسفار أو على أصحابه عليه الصلاة والسلام وقد قالوا هذه اللفظة مختصة بالملائكة لا تكاد تطلق على غيرهم وإن جاز الإطلاق بحسب اللغة والباء متعلقة بمطهرة قال القفال لما لم يمسها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسها وقال القرطبي إن المراد بما في قوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون هؤلاء السفرة الكرام البررة
109

كرام عند الله عز وجل أو متعطفين على المؤمنين يكلمونهم ويستغفرون لهم
بررة أتقياء وقيل مطيعين لله تعالى من قولهم فلان يبر خالقه أي يطيعه وقيل صادقين من بر في يمينه
قتل الإنسان دعاء عليه بأشنع الدعوات وقوله تعالى
ما أكفره تعجب من إفراطه في الكفران وبيان لاستحقاقه للدعاء عليه والمراد به أما من استغنى عن القرآن الكريم الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة للإقبال عليه والإيمان به وأما الجنس باعتبار انتظامه له ولأمثاله من أفراده لا باعتبار جميع أفراده وفيه مع قصر متنه وتقارب قطرية من الأنباء عن سخط عظيم ومذمة بالغة مالا غاية وراءه وقوله تعالى
من أي شئ خلقه شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة بالشكر والطاعة مع إخلاله بذلك وفي الاستفهام عن مبدأ خلقه ثم بيانه بقوله تعالى
من نطفة خلقه تحقير له أي شئ حقير مهين خلقه من نطفة قدرة خلقه
فقدره فهيأه لما يصلح له ويليق به من الأعضاء والأشكال أو فقدره أطوارا إلى أن تم خلقه وقوله تعالى
ثم السبيل يسره منصوب بمضمر يفسره الظاهر أي ثم سهل مخرجه من البطن بأن فتح فتح فم الرحم وألهمه أن ينتكس أو يسر له سبيل الخير والشر ومكنه من السلوك وتعريف السبيل باللام دون الإضافة للإشعار بعمومه
ثم أماته فأقبره أي جعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له ولم يدعه مطروحا على وجه الأرض جرزا للسباع والطير كسائر الحيوان يقال قبر الميت إذا دفنه وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكن منه وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم
ثم إذا شاء أنشره أي إذا شاء أنشره وأنشر على القاعدة المستمرة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيان بأن وقته غير متعين بل هو تابع لها وقرئ نشره
كلا ردع للإنسان
110

عما هو عليه وقوله تعالى
لما يقض ما أمره بيان لسبب الردع أي لم يقض بعد من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده ما أمره الله تعالى بأسره إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما كذا قالوا وهكذا نقل عن مجاهد وقتادة ولا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم جناية الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده كيف لا وقد قال عليه الصلاة والسلام شيبتني سورة هود لما فيها من قوله تعالى فاستقم كما أمرت فالوجه ان يحمل عدم القضاء على عموم النفي لا على نفي العموم إما على أن المحكوم عليه هو المستغني أو هو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله تعالى إن الإنسان لظلوم كفار للإشباع في اللوم بحكم المجانسة على طريقة قولهم بنو فلان قتلوا فلانا والقاتل واحد منهم وإما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الإيجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بعضها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يتخلف عنه أحد أصلا هذا وقد قيل كلا بمعنى حقا فيتعلق بما بعده أي حقا لم يعمل بما أمره به
فلينظر الإنسان إلى طعامه شروع في تعداد النعم المتعلقة ببقائه بعد تفصيل النعم المتعلقة بحدوثه أي فلينظر إلى طعامه الذي عليه يدور أمر معاشه كيف دبرناه وقوله تعالى
أنا صببنا الماء صبا أي الغيث بدل اشتمال من طعامه لأن الماء سبب لحدوث الطعام فهو مشتمل عليه وقرئ أنا على الاستئناف وقرئ أني بالإمالة أي كيف صببنا إلى آخره أي صببناه صبا عجبا
ثم شققنا الأرض أي بالنبات
شقا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة وحمل شقها على ما بالكراب بجعل إسناده إلى نون العظمة من قبيل إسناد الفعل إلى سببه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى
فأنبتنا فيها حبا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابة تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبئ عنه تأكيد الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام
111

وقوله تعالى
وعنبا عطف على حبا وليس من لوازم العطف أن يقيد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه فلا ضير في خلو إنبات العنب عن شق الأرض
وقضبا أي رطبة سميت بمصدر قضبه أي قطعه مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثرة نفس القطع
وزيتونا ونخلا الكلام فيهما وفي أمثلهما كما في العنب
وحدائق غلبا أي عظاما وصف به الحدائق لتكاثفها وكثرة أشجارها أو لأنها ذات أشجارها أو لأنها ذات أشجار غلاظ مستعار من وصف الرقاب
وفاكهة وأبا أي مرعى من أبه إذا أمه أي قصده لأنه يؤم وينتجع أو من أب لكذا إذا تهيأ لأنه متهيئ للرعي أو فاكهة يابسة تؤب للشتاء وعن الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الأب فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله مالا علم لي به وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية فقال كل هذا قد عرفنا فما الأب ثم رفض عصا كانت بيده وقال هذا لعمر الله التكلف وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب ومالا فدعوه
متاعا لكم ولأنعامكم أما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعا لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم والالتفات لتكميل الامتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعا أو لفعل مترتب عليه أي متعكم بذلك فتمتعتم متاعا أي تمتعا كما مر غيره مرة أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع
فإذا جاءت الصاخة شروع في بيان أحوال معادهم إثر بيان مبدأ خلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما قبلها من فنون النعم عن قريب كما يشعر لفظ المتاع بسرعة زوالها وقرب اضمحلالها والصاخة هي الداهية العظيمة التي يصخ لها الخلائق أي يصيخون لها من صخ لحديثه إذا أصاخ له واستمتع وصفت بها النفخة الثانية لأن الناس يصيخون لها وقيل هي الصيحة التي تصخ الآذان أي تصمها لشدة وقعها وقيل هي مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه وقوله تعالى
يوم يفر المرء من
112

أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وإما منصوب بأعني تفسيرا للصاخة أو بدل منها مبني على الفتح بالإضافة إلى الفعل على رأى الكوفيين وقيل بدل من إذا جاءت كما مر في قوله تعالى يوم يتذكر الخ أي يعرض عنهم ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه وأما تعليل ذلك بعلمه بأنهم لا يغنون عنه شيئا أو بالحذر من مطالبتهم بالتبعات فيأباه قوله تعالى
لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به وأما الفرار حذار من مطالبتهم أو بغضا لهم كما يروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ويفر النبي صلى النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ويفر إبراهيم عليه السلام من أبيه ونوح عليه السلام من ابنه ولوط عليه السلام من امرأته فليس من قبيل هذا الفرار وكذا ما يروى أن الرجل يفر من أصحابه وأقربائه لئلا يروه على ما هو عليه من سوء الحال وقرئ يعنيه بالياء المفتوحة والعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه لامن عناه إذا قصده كما قيل وقوله تعالى
وجوه يومئذ مسفرة بيان لما أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ وإن كانت نكرة لكونها في حيز التنويع ومسفرة خبره ويومئذ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك من قيام الليل وفي الحديث من كثر صلاته باليل حسن وجهه بالنهار وعن الضحاك من آثار الوضوء وقيل من طول ما أغبرت في سبيل الله
ضاحكة مستبشرة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة
ووجوه يومئذ عليها غبرة أي غبار وكدورة ترهقها أي تعلوها وتغشاها
قترة أي سواد و ظلمة
113

أولئك إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بسواد الوجوه وغيره
هم الكفرة الفجرة الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى إلى سواد وجوههم الغبرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة وجهه ضاحك مستبشر سورة التكوير مكية وآياتها تسع وعشرون
«بسم الله الرحمن الرحيم»
«إذا الشمس كورت» أي لفت من كورت العمامة إذا لففتها على أن المراد بذلك إما رفعها وإزالتها من مقرها فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفا ويطوي ونحوه قوله تعالى يوم نطوي السماء وأما لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطار على أنه عبارة عن إزالتها والذهاب بها بحكم استلزام زوال اللازم لزوال الملزوم أو ألقيت عن فلكها كما وصفت النجوم بالانكدار من طعنه فكوره إذا ألقاه على الأرض وعن أبي صالح كورت نكست وعن ابن عباس رضي الله عنهما تكويرها إدخالها في العرش ومدار التركيب على الإدارة والجمع وارتفاع الشمس على أنه فاعل لفعل مضمر يفسره المذكور وعند البعض على الابتداء
«وإذا النجوم انكدرت» أي انقضت وقيل تناثرت وتساقطت روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا يبقى يومئذ نجم إلا سقط في الأرض وعنه رضي الله عنه أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السماوات ومن في الأرض تساقطت من أيديهم وقيل انكدارها انطماس نورها ويروى أن الشمس والنجوم تطرح في جهنم ليراها من عبدها كما قال إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
«وإذا الجبال سيرت» أي عن أماكنها بالرجفة الحاصلة لا في الجو فإن ذلك بعد النفخة الثانية
114

وإذا العشار جمع عشراء وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر وهو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعزها عليهم
عطلت تركت مهملة لاشتغال أهلها بأنفسهم وقيل العشار السحائب فإن العرب تشبهها بالحامل ومنه قوله تعالى فالحاملات وقرا وتعطيلها عدم أمطارها وقرئ عطلت بالتخفيف
وإذا الوحوش حشرت أي جمعت من كل جانب وقيل بعثت للقصاص قال قتادة يحشر كل شئ حتى الذباب للقصاص فإذا قضى بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس ونحوه وقرئ حشرت بالتشديد
وإذا البحار سجرت أي أحميت أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى تعود بحرا وأحدا من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه وقيل ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار وعن الحسن يذهب ماؤها حتى لا يبقى فيها قطرة وقرئ سجرت بالتخفيف
إذا النفوس زوجت أي قرنت بأجسادها أو قرنت كل نفس بشكلها أو بكتابها أو بعملها أو نفوس المؤمنين بالحور ونفوس الكافرين بالشياطين
وإذا الموؤودة أي المدفونة حية وكانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم من أجلهن قيل كان رجل منهم إذا ولدت له بنت ألبسها جبة من صوف أو شعر حتى إذا بلغت ست سنين ذهب بها إلى الصحراء وقد حفر لها حفرة فيلقيها فيها ويهيل عليها التراب وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمت بها وإن ولدت ابنا حبسته
سئلت
بأي ذنب قتلت توجيه السؤال إليها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته كما في قوله تعالى أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين وقرئ سألت أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قتلت لما أن الكلام أخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرىء كذلك بالتشديد أيضا وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن أطفال المشركين فقال لا يعذبون
115

وأحتج بهذه الآية
وإذا الصحف نشرت أي صحف الأعمال فإنها تطوى عند الموت وتنشر عند الحساب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يحشر الناس عراة حفاة فقالت أم سلمة فكيف بالنساء فقال شغل الناس يا أم سلمة قالت وما شغلهم قال نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل وقيل نشرت أي فرقت بين أصحابها وعن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال
وإذا السماء كشطت قطعت وأزيلت كما يكشط الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به وقرئ قشطت واعتقاب الكاف والقاف غير عزيز كالكافور والقافور
وإذا الجحيم سعرت أي أوقدت إيقادا شديدا قيل سعرها غضب الله عز وجل وخطايا بنى آدم وقرئ سعرت بالتخفيف
وإذا الجنة أزلفت أي قربت من المتقين كقوله تعالى وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد قيل هذه اثنتا عشرة خصلة ست منها في الدنيا أي فيما بين النفختين وهن من أول السورة إلى قوله تعالى وإذا البحار سجرت على أن المراد بحشر الوحوش جمعها من كل ناحية لا بعثها للقصاص وست في الآخرة أي بعد النفخة الثانية وقوله تعالى
علمت نفس ما أحضرت جواب إذا على أن المراد بها زمان واحد ممتد يسع ما في سباقها وسباق ما عطف عليها من الخصال مبدؤه النفخة الأولى ومنتهاه فصل القضاء بين الخلائق لكن لا بمعنى أنها تعلم ما تعلم في كل جزء من اجزاء ذلك الوقت المديد أو عند وقوع داهية من تلك الدواهي بل عند نشر الصحف الإ أنه لما كان بعض تلك الدواهي من مباديه وبعضها من روادفه نسب علمها بذلك إلى زمان وقع كلها تهويلا للخطب وتفظيعا للحال والمراد بما أحضرت أعمالها من الخير والبشر وبحضورها إما حضور صحائفها كما يعرب عنه نشرها وإما حضور أنفسها على ما قالوا من أن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة له في الحسن والقبح على كيفيات مخصومة وهيئات معينة حتى إن الذنوب والمعاصي تتجسم هناك وتتصور بصورة النار وعلى ذلك حمل قوله تعالى وإن جهنم لمحيطة بالكافرين وقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وكذا قوله
116

آية (15) عليه الصلاة والسلام في حق من يشرب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ولا بعد في ذلك الأ يرى أن العلم يظهر في عالم المثال على صورة البن كما لا يخفى على من له خبرة بأحوال الحضرات الخمس وقد روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع النفوس أو لبعض منها للإيذان بأن ثبوته لجميع أفرادها قاطبة من الظهور والوضوح بحيث لا يكاد يحوم حوله شائبة اشتباه قطعا يعرفه كل أحد ولو جيء بعبارة تدل على خلافه وللرمز إي أن تلك النفوس العالمة بما ذكر مع توفر أفرادها وتكثر اعدادها مما يستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء الذي أشير إلى بعض بدائع شؤونه المنبئة عن عظم سلطانه واما قيل من أن هذا من قبيل عكس كلامهم الذي يقصدون به الإفراط فيما يعكس عنه وتمثيله بقوله تعالى ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وبقول من قال قد أترك القرن مصفرا أنامله وبقول من قال حين سئل عن عدد فرسانه رب فارس عندي وعنده المقانب قاصدا بذلك التمادي في تكثير فرسانه وإظهار براءته من التزيد وأنه ممن يقلل كثير ما عنده فضلا أن يتزيد فمن لوائح النظر الجليل إلا أن الكلام المعكوس عنه فيما ذكر من الأمثلة مما يقبل الإفراط والتمادي فيه فإنه في الأول كثيرا ما يود وفي الثاني كثيرا ما أترك وفي الثالث كثير من الفرسان وكل واحد من ذلك قابل للإفراط والمبالغة فيه لعدم انحصار مراتب الكثرة وقد قصد بعكسه ما ذكر من التمادي في التكثير حسبما فضل أما قيما نحن فيه فالكلام الذي عكس عنه علمت كل نفس ما أحضرت كما صرح به القائل وليس فيه إمكان التكثير حتى يقصد بعكسه المبالغة والتمادي فيه وإنما الذي يمكن فيه من المبالغة ما ذكرناه فتأمل ويجوز ان يكون ذلك للإشعار بأنه إذا علمت حينئذ نفس من النفوس ما أحضرت وجب على كل نفس إصلاح عملها مخافة أن تكون هي تلك التي علمت ما أحضرت فكيف وكل نفس تعلمه على طريقة قولك لمن تنصحه لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإنك لا تقصد بذلك أن ندمه مرجو الوجود لا متيقن به أو نادر الوقوع بل تريد أن العاقل يجب عليه أن يجتنب أمرا يرجى فيه الندم أو قلما يقع فيه فكيف به إذا كان قطعي الوجود كثير الوجود
فلا أقسم بالخنس أي الكواكب الرواجع من خنس إذا تأخر وهي ما عدا النيرين من الدراري الخمسة وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري وصفت بقوله تعالى
117

الجوار الكنس لأنها تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفي تحت ضوء الشمس فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوئها من كنس الوحشي إذا دخل كناسه وهو البيت الذي يتخذه من أغصان الشجر وقيل هي جميع الكواكب تخنس بالنهار فتغيب عن العيون وتكنس بالليل أي تطلع في أماكنها كالوحش في كنسها
والليل إذا عسعس أي أدبر ظلامه أو أقبل فإنه من الأضداد وكذلك سعسع قال الفراء أجمع المفسرون على أن معنى عسعس أدبر عليه قول العجاج] حتى إذا الصبح لها تنفسا وانجاب عنها ليلها وعسعسا وقيل هي لغة قريش خاصة وقيل معنى إقبال ظلامه أوفق لقوله تعالى
والصبح إذا تنفس لأنه أول النهار وقيل إدباره أقرب من تنفس الصبح ومعناه أن الصبح إذا أقبل يقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له مجازا فقيل تنفس الصبح
إنه أي القرآن الكريم الناطق بما ذكر من الدواهي الهائلة
لقوله رسول كريم وهو جبريل عليه السلام قاله من جهة الله عز وجل
ذي قوة شديدة كقوله تعالى شديد القوى وقيل المراد القوة في أداء طاعة الله تعالى وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف
عند ذي العرش مكين ذي مكانة رفيعة عند الله تعالى عندية إكراما وتشريف لا عندية مكان
مطاع فيما بين ملائكته المقربين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه
ثم أمين على الوحي وثم ظرف لما قبله وقيل لما بعده وقرئ ثم تعظيما لوصف الأمانة وتفضيلا لها على سائر الأوصاف
وما صاحبكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمجنون كما تبهته الكفرة والتعرض لعنوان المصاحبة للتلويح بإحاطتهم بتفاصيل أحواله عليه الصلاة والسلام خبرا علمهم بنزاهته عليه السلام عما نسبوه إليه بالكلية وقد استدل به على فضل جبريل عليه عليهما السلام للتباين البين بين وصفيهما وهو ضعيف إذ المقصود رد قول الكفرة في حقه عليه الصلاة والسلام إنما يعلمه بشر أفترى على الله كذبا أم به جنة لا تعداد فضائلها والموازنة
118

ولقد رآه أي وبالله لقد رأى رسول الله جبريل عليهما الصلاة والسلام
بالأفق المبين بمطلع الشمس الأعلى
وما هو أي رسول الله صلى الله عليه وسلم
على الغيب على ما يخبره من الوحي إليه وغيره من الغيوب
بضنين أي ببخيل بالوحي ولا يقصر في التبليغ والتعليم وقرئ بظنين أي بمتهم من الظنة وهي التهمة
وما هو بقول شيطان رجيم أي قول بعض المسترقة للسمع وهو نفي لقولهم أنه كهانة وسحر
فأين تذهبون استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر القرآن والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها من ظهور أنه وحي مبين وليس مما يقولونه في شئ كما تقول لمن ترك الجادة بعد ظهورها هذا الطريق الواضح فأين تذهب
إن هو ما هو
إلا ذكر للعالمين موعظة وتذكير لهم وقوله تعالى
لمن شاء منكم بدل من العالمين بإعادة الجار وقوله تعالى
أن يستقيم مفعول شاء أي لمن شاء منكم الإستقامة يتحرى الحق وملازمة الصواب وإبداله من العالمين لأنهم المنتفعون بالتذكير
وما تشاؤن أي الإستقامة مشيئة مستتبعة لها في وقت من الأوقات
إلا أن يشاء الله أي إلا وقت أن يشاء الله تعالى تلك المشيئة أي المستتبعة للاستقامة فإن مشيئتكم لا تستتبعها بدون مشيئة الله تعالى لها
رب العالمين مالك الخلق ومربيهم أجمعين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التكوير أعاذه الله أن يفضحه حين تنشر صحيفته
119

بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انفطرت أي انشقت لنزول الملائكة كقوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا وقوله تعالى وفتحت السماء فكانت أبوابا والكلام في ارتفاع السماء كما مر في ارتفاع الشمس
وإذا الكواكب انتشرت أي تساقطت متفرقة
وإذا البحار فجرت فتح بعضها إلى بعض فاختلط العذب بالأجاج وزال ما بينهما من البرزخ الحاجز وصارت البحار بحرا واحدا وروى أن الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار فتصير مستوية وهو معنى التسجير عند الحسن رضي الله عنه وقيل إن مياه البحار الان راكدة مجتمعة فإذا فجرت تفرقت وذهبت وقرئ فجرت بالتخفيف مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل أيضا بمعنى بغت من الفجور نظرا إلى قوله تعالى لا يبغيان
وإذا القبور بعثرت أي قلب وأخرج موتاها ونظيره بحثر لفظا ومعنى وهما مركبان من البعث والبحث مع راء ضمت إليهما وقوله تعالى
علمت نفس ما قدمت وأخرت جواب إذا لكن لا على أنها تعلمه عند البعث بل عند نشر الصحف لما عرفت من أن المراد بها زمان واحد مبدؤه النفخة الأولى ومنتهاه الفصل بين الخلائق لا أزمنة متعددة حسب تعدد كلمة إذا وإنما كررت لتهويل ما في حيزها من الدواهي والكلام في كالذي مر تفصيله في نظيره ومعنى ما قدم وآخر ما أسلف من عمل خير أو شر وأخر من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها بعده قاله ابن عباس وابن مسعود وعن ابن عباس أيضا ما قدم من معصية وأخر من طاعة وهو قول قتادة وقيل ما قدم من أمواله لنفسه وما أخر لورثته وقيل ما قدم من فرض وأخر من فرض وقيل أو عملة وآخره ومعنى علمها التفصيلي حسبما ذكر فيما مر مرارا
120

يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم أي أي شيء خدعك وجرأك على عصيانه وقد علمت ما بين يديك من الدواهي التامة والعراقيل الطامة وما سيكون حينئذ من مشاهدة أعمالك كلها والتعرض لعنوان كرمه تعالى للإيذان بأنه ليس مما يصلح أن يكون مدارا لاغتراره يغويه الشيطان ويقول له أفعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك في الدنيا وسيفعل مثله في الآخرة فإنه قياس عقيم وتمنية باطلة بل هو مما يوجب المبالغة في الإقبال على الإيمان والطاعة والاجتناب عن الكفر والعصيان كأنه قيل ما حملك
على عصيان ربك الموصوف بالصفات الزاجرة عنه الداعية إلى خلافه وقوله تعالى
الذي خلقك فسواك فعدلك صفة ثانية مقررة للربوبية مبينة للكرم منبهة على أن من من قدر على ذلك بدءا قدر عليه إعادة والتسوية جعل الأعضاء سليمة سوية معدة لمنافعها وعدلها عدل بعضها ببعض بحيث اعتدلت ولم تتفاوت أو صرفها عن خلقه غير ملائمة لها وقرئ فعدلك بالتشديد أي صيرك معتدلا متناسب الخلق من غير تفاوت فيه في أي صورة ما شاء ركبك أي وركبك في اى صورة شاءها من الصور المختلفة وما مزيده وشاء صفة لصورة أي ركبك في اى صورة شاءها واختارها لك من الصور العجيبة الحسنة كقوله تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وإنما لم يعطف الجملة على ما قبلها لأنها بيان لعدلك
كلا ردع عن الاغترار بكرم الله تعالى وجعله ذريعة إلى الكفر والمعاصي مع كونه موجبا للشكر والطاعة وقوله تعالى
بل تكذبون بالدين إضراب عن جملة مقدر ينساق إليها الكلام كأنه قيل بعد الردع بطريق الاعتراض وأنتم لا ترتدعون عن ذلك بل تجترئون على أعظم من ذلك حيث تكذبون بالجزاء والبعث رأسا أو بدين الإسلام الذي هما من جملة أحكامه فلا تصدقون سؤالا ولا جوابا ولا ثوابا ولا عقاب وقيل كأنه قيل إنكم لا تستقيمون على ما توجيه نعمى عليكم وإرشادي لكم بل تكذبون الخ وقال القفال ليس الأمر كما تقولون من أنه لا بعث ولا نشور ثم قيل أنتم لا تتبينون بهذا البيان بل تكذبون بيوم الدين وقوله تعالى
وإن عليكم لحافظين حال من فاعل تكذبون مفيدة لبطلان تكذيبهم وتحقق ما يكذبون به أي تكذبون بالجزاء والحال أن عليكم من قبلنا لحافظين لأعمالكم
121

كراما لدنيا كاتبين لها
يعملون ما تفعلون من الأفعال قليلا وكثيرا ويضبطونه نقيرا وقطميرا لتجازوا بذلك وفي تعظيم الكاتبين بالثناء عليهم تفخيم لأمر الجزاء وأنه عند الله عز وجل من جلائل الأمور حيث يستعمل فيه هؤلاء الكرام وقوله تعالى
إن الأبرار لفي نعيم
وإن الفجار لفي جحيم استئناف مسوق لبيان نتيجة الحفظ والكتاب من الثواب والعقاب وفي تنكير النعيم والجحيم من التفخيم والتهويل ما لا يخفى وقوله تعالى
يصلونها إما صفة لجحيم أو استئناف مبنى على سؤال نشأ من تهويلها كأنه قيل ما حالهم فيها فقيل يقاسون حرها
يوم الدين يوم الجزاء الذي كانوا يكذبون به
وما هم عنها بغائبين طرفة عين فإن المراد دوام نفى الغيبة لا نفي دوام الغيبة لما مر مرارا من أن الجملة الاسمية المنفية قد يراد بها استمرار النفي لا نفى الاستمرار باعتبار ما تفيده من الدوام والثبات بعد النفي لا قبله وقيل معناه و ما كانوا غائبين عنها قبل ذلك بالكلية بل كانوا يجدون سمومها في قبورهم حسبما قال النبي صلى عليه وسلم القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران وقوله تعالى
وما أدراك ما يوم الدين
ثم أدراك ما يوم الدين تفخيم لشأن يوم الدين الذي يكذبون به إثر تفخيم وتهويل لأمره بعد تهويل ببيان أنه خارج عن دائرة دراية الخلق على أي صورة تصوره فهو فوقها وكيفما تخيلوه فهو أطم من ذلك وأعظم أي وأي شيء جعلك داريا ما يوم الدين على أن ما الاستفهامية خبر ليوم الدين إلا بالعكس كما هو رأى سيبويه لما مر من أن مدار الإفادة هو الخبر لا المبتدأ ولا ريب في أن مناط إفادة الهول والفخامة هنا هو ما لا يوم الدين أي أي شيء عجيب هو في الهول والفظاعة لما مر غير مرة أن كلمة ما قد يطلب بها الوصف وإن كانت موضوعة
122

لطلب الحقيقة وشرح الاسم يقال ما زيد فيقال في الجواب كاتب أو طبيب وفي إظهار يوم الدين في موقع الإضمار تأكيد لهوله وفخامته وقوله تعالى
يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله بيان إجمالى لشأن يوم الدين إثر إبهامه وبيان خروجه عن علوم الخلق بطريق إنجاز الوعد فإن نفي إدرائهم مشعر بالوعد الكريم بالإدراء قال ابن عباس رضي الله عنهما كل ما في القرآن من قوله تعالى ما أدراك فقد أدراه وكل ما فيه من قوله وما يدريك فقد طوى عنه ويوم مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى غير متمكن كأنه قيل هو يوم لا يملك فيه نفس من النفوس لنفس من النفوس شيئا من الأشياء الخ أو منصوب بإضمار اذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر يوم الدين وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفته اذكر يوم لا تملك نفس الخ فإنه يدريك ما هو وقيل بإضمار يدانون وليس بذاك فإنه عار عن إفادة ما يفيده ما قبله كما أن إبداله من يوم الدين على قراءة الرفع كذلك بل الحق حينئذ الرفع على أنه خير لمبتدأ محذوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الانفطار كتب الله تعالى له بعدد كل قطرة من السماء وبعدد كل قبر حسنة والله تعالى أعلم.
123

بسم الله الرحمن الرحيم
ويل للمطففين قبل الويل شدة الشر وقيل العذاب الأليم وقيل هو واد في جهنم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره وقيل وقيل وأيا ما كان فهو مبتدأ وإن كان نكرة لوقوعه في موقع الدعاء والتطفيف البخس في الكيل والوزن لأن ما يبخس شيء طفيف حقير وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وكان أهلها من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل وقيل قدمها عليه الصلاة والسلام وبها رجل يعرف بأبي جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر وقيل كان أهل المدينة تجارا يطففون وكانت بياعاتهم المنابذة والملامسة والمخاطرة فنزلت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها عليهم وقال خمس بخمس ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر وما ظهرت فيهم الموت ولا طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر وقوله تعالى
الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون الخ صفة كاشفة للمطففين شارحة لكيفية تطفيفهم الذين استحقوا به الذم والدعاء بالويل أي إذا اكتالوا من الناس مكيلهم بحكم الشراء ونحوه يأخذونه وافيا وافرا وتبديل كلمة على بمن لتضمين الاكتيال معنى الاستيلاء أو للإشارة إلى أنه اكتيال مضربهم لكن لا على اعتبار الضرر في حيز الشرط الذي يتضمنه كلمة إذا لإخلاله بالمعنى بل في نفس الأمر بموجب الجواب فإن المراد بالاستيفاء ليس أخذ الحق وافيا من غير نقص بل مجرد الأخذ الوافي الوافر حسبما أرادوا بأي وجه تيسر من وجوه الحيل وكانوا يفعلونه بكبس المكيل وتحريك المكيال واحتيال في ملئه وأما ما قيل من أن ذلك للدلالة على أن اكتيالهم لما لهم على الناس فمع اقتضائه لعدم شمول الحكم لاكتيالهم قبل ان يكون لهم على الناس شئ بطريق الشراء ونحوه مع أنه الشائع فيما بينهم يقتضى أن يكون معنى الاستيفاء أخذ ما لهم عليهم وافيا من غير نقص إذ هو المتبادر منه عند الإطلاق في معرض الحق فلا يكون مدارا لذمهم والدعاء عليهم وحمل ما لهم عليهم على معنى ما سيكون
124

لهم عليهم مع كونه بعيدا جدا مما لا يجدي نفعا فان اعتبار كون المكيل لهم حالا كان أو مآلا لا يستدعي كون الاستيفاء بالمعنى المذكور حتما وهكذا حال ما نقل عن الفراء من أن من وعلى تعتقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك فإنه قال أخذت ما عليك وإذا قال اكتلت منك فكقوله استوفيت منك فتأمل وقد جوز أن تكون على متعلقة بيستوفون ويكون تقديمها على الفعل لإفادة الخصوصية أي يستوفون على الناس خاصة فأما أنفسهم فيستوفون لها وأنت خبير بأن القصر بتقديم الجار والمجرور انما يكون فيما يمكن تعلق الفعل بغير المجرور أيضا حسب تعلقه به فيقصد بالتقديم قصره عليه بطريق القلب أو الافراد أو التعيين حسبما يقتضيه المقام ولا ريب في أن الاستيفاء الذي هو عبارة عن الأخذ الوافي مما لا يتصور أن يكون على أنفسهم حتى يقصد بتقديم الجار والمجرور قصره على الناس على أن الحديث واقع في الفعل لا فيما وقع عليه فتدبر والضمير البارز في قوله تعالى
وإذا كالوهم أو وزنوهم
للناس أي إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم للبيع ونحوه
يخسرون
أي ينقصون يقال خسر الميزان وأخسره فحذف الجار وأوصل الفعل كما في قوله
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا
أي جنيت لك وجعل البارز تأكيدا للمستكن مما لا يليق بجزالة التنزيل ولعل ذكر الكيل والوزن في صورة الإخسار والاقتصار على الاكتيال في صورة الاستيفاء لما أنهم لم يكونوا متمكنين من الاحتيال عند الاتزان تمكنهم منه عند الكيل والوزن وعدم التعرض للمكيل والموزون في الصورتين لأن مساق الكلام لبيان سواء معاملتهم في الأخذ والاعطاء لا في خصوصية المأخوذ والمعطى وقوله تعالى
ألا يظن أولئك انهم مبعوثون
استئناف وارد لتهويل ما ارتكبوه من التطفيف والتعجيب من اجترائهم عليه وأولئك إشارة إلى المطففين ووضعه موضع ضميرهم للاشعار بمناط الحكم الذي هو وصفهم فان الإشارة إلى الشيء متعرضة له من حيث اتصافه بوصفه وأما الضمير فلا يتعرض لوصفه وللإيذان بأنهم ممتازون بذلك الوصف القبيح عن سائر الناس أكمل امتياز نازلون منزلة الأمور المشار إليها إشارة حسية وما فيه من معنى البعد للاشعار ببعد درجتهم في الشرارة والفساد أي الا يظن أولئك الموصوفون بذلك الوصف الشنيع الهائل أنهم مبعوثون
ليوم عظيم
لا يقادر قدر عظمه وعظم ما فيه ومحاسبون فيه على مقدار الذرة والخردلة فان من يظن ذلك وان كان ظنا ضعيفا متاخما للشك والوهم لا يكاد يتجاسر على أمثال هاتيك القبائح فكيف بمن تيقنه وقوله تعالى
يوم يقوم الناس لرب العالمين
125

أي لحكمه وقضائه منصوب بإضمار أعني وقيل بمبعوثون أو مرفوع المحل خبرا لمبتدأ مضمر أو مجرور بدلا من يوم عظيم مبني على الفتح لإضافته إلى الفعل وان كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين ويؤيد الأخيرين القراءة بالرفع وبالجر وفي هذا الانكار والتعجيب وايراد الظن ووصف اليوم بالعظم وقيام الناس فيه كافة لله تعالى خاضعين ووصفه تعالى بربوبية العالمين من البيان البليغ لعظم الذنب وتفاقم الاثم في التطفيف وأمثاله مالا يخفى
كلا
ردع عما كانوا عليه من التطفيف والغفلة عن البعث والحساب وقوله تعالى
ان كتاب الفجار لفي سجين
الخ تعليل للردع أو وجوب الارتداع بطريق التحقيق وسجين علم لكتاب جامع هو ديوان الشر دون فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الثقلين منقول من وصف كخاتم وأصله فعيل من السجن وهو الحبس والتضييق لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم أو لأنه مطروح كما قيل تحت الأرض السابعة في مكان مظلم وحش وهو مسكن إبليس وذريته فالمعنى ان كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدون فيه قبائح أعمال المذكورين وقوله تعالى
وما أدراك ما سجين
تهويل لأمره أي هو بحيث لا يبلغه دراية أحد وقوله تعالى
كتاب مرقوم
أي مسطور بين الكتابة أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه وقيل هو اسم المكان والتقدير ما كتاب السجين أو محل كتاب مرقوم وقوله تعالى
ويل يومئذ للمكذبين
متصل بقوله تعالى يوم يقوم الناس لرب العالمين وما بينهما اعتراض بقوله تعالى
الذين يكذبون بيوم الدين
اما مجرور على أنه صفة ذامة للمكذبين أو بدل منه أو مرفوع أو منصوب على الذم
وما يكذب به الا كل معتد
أي متجاوز عن حدود النظر والاعتبار غال في التقليد حتى استقصر قدرة الله تعالى وعلمه عن الإعادة مع مشاهدته للبدء
أثيم
أي منهمك في الشهوات المخدجة الفانية بحيث شغلته عما وراءها من اللذات التامة الباقية وحملته على انكارها
إذا تتلى عليه
126

آياتنا الناطقة بذلك قال من فرط جهله واعراضه عن الحق الذي لا محيد عنه
أساطير الأولين
أي هي حكايات الأولين قال الكلبي المراد بالمعتدي الأثيم هو الوليد بن المغيرة وقيل النضر بن الحرث وقيل عام لكل من اتصف بالأوصاف المذكورة وقرئ إذا يتلى بتذكير الفعل وقرئ أإذا تتلي على الاستفهام الانكاري
كلا
ردع للمعتدي الأثيم عن ذلك القول الباطل وتكذيب له فيه وقوله تعالى
بل ران على قلبوهم ما كانوا يكسبون
بيان لما أدى بهم إلى التفوه بتلك العظيمة أي ليس في آياتنا ما يصح أن يقال في شأنها مثل هذه المقالات الباطلة بل ركب على قلوبهم وغلب عليها ما كانوا يكسبونها من الكفر والمعاصي حتى صارت كالصدأ في المرآة فحال ذاك بينهم وبين معرفة الحق كما قال صلى الله عليه وسلم ان العبد كلما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه ولذلك قالوا ما قالوا والرين الصدأ يقال ران عليه الذنب وغان عليه رينا وغينا ويقال ران فيه النوم أي رسخ فيه وقرئ بادغام اللام في الراء كلا ردع وزجر عن الكسب الرائن
انهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
فلا يكادون يرونه بخلاف المؤمنين وقيل هو تمثيل لإهانتهم بإهانة من يحجب عن الدخول على الملوك وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة محجوبون عن رحمته وعن ابن كيسان عن كرامته
ثم انهم لصالوا الجحيم
أي داخلوا النار وثم لتراخي الرتبة فان صلى الجحيم أشد من الإهانة والحرمان من الرحمة والكرامة
ثم يقال
لهم توبيخا وتقريعا من جهة الزبانية
هذا الذي كنتم به تكذبون
فذوقوا عذابه
كلا
ردع عما كانوا عليه بعد ردع زجر إثر زجر وقوله تعالى
ان كتاب الأبرار لفي عليين
استئناف مسوق لبيان محل كتاب الأبرار بعده بيان سوء حال الفجار متصلا ببيان سوء حال كتابهم وفيه تأكيد للردع ووجوب الارتداع وكتابهم ما كتب من أعمالهم وعليون علم لديوان الخير الذي دون فيه كل ما أعملته الملائكة وصلحاء الثقلين منقول من جمع على فعيل من العلو سمي بذلك اما لأنه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنة واما لأنه مرفوع في السماء السابعة حيث يسكن الكروبيون تكريما له وتعظيما والكلام في قوله تعالى
127

وما أدراك ما عليون
كتاب مرقوم
كما مر في نظيره وقوله تعالى
يشهده المقربون
صفة أخرى لكتاب أي يحضرونه ويحفظونه أو يشهدون بما فيه يوم القيامة
ان الأبرار لفي نعيم
شروع في بيان محاسن أحوالهم اثر بيان حال كتابهم على طريقة ما مر في شأن الفجار
على الأرائك
أي على الأسرة في الحجال ولا يكاد تطلق الأريكة على السرير عندهم كونه في الحجلة
ينظرون
أي الا ما شاؤوا مد أعينهم اليه من رغائب مناظر الجنة والى ما أولاهم الله تعالى من النعمة والكرامة وإلى أعدائهم يعذبون في النار وما تحجب الحجال أبصارهم عن الإدراك «تعرف في وجوههم نضرة النعيم» أي بهجة التنعم وماءه ورونقه والخطاب لكل أحد ممن له حظ من الخطاب للإيذان بأن مالهم النعيم أي بهجة التنعم وماءه ورونقه والخطاب لكل أحد ممن له حظ من الخطاب للإيذان بأن مالهم من آثار النعمة وأحكام البهجة بحيث لا يختص برؤيته راء دون راء «يسقون من رحيق» شراب خالص لا غش فيه مختوم «ختامه مسك» أي مختوم أوانيه وأكوابه بالمسك مكان الطين ولعله تمثيل لكمال نفاسته وقيل ختامه مسك أي مقطعه رائحة مسك وقرئ خاتمه بفتح التاء وكسرها أي ما يختم به ويقطع «وفي ذلك» إشارة إلى الرحيق وهو الأنسب لما بعده أو إلى ما ذكر من أحوالهم وما فيه من معنى البعد اما للاشعار بعلو مرتبته وبعد منزلته أو لكونه في الجنة أي في ذلك خاصة دون غيره
فليتنافس المتنافسون
أي فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى وقيل فليعمل العاملون كقوله تعالى لمثل هذا فليعمل العاملون وقيل فليستبق المستبقون وأصل التنافس التغالب في الشيء النفيس النفس وأصله من النفس لعزتها قال الواحدي نفست الشيء أنفسه نفاسة والتنافس تفاعل منه كأن كل واحد من الشخصين يريد أن يستأثر به وقال البغوي وأصله من الشيء النفس الذي يحرص
128

عليه نفوس الناس ويزيده كل أحد لنفسه وينفس به على غيره أي يضن به
ومزاجه من تسنيم
عطف على ختامه صفة أخرى لرحيق مثله وما بينهما اعتراض مقرر لنفاسته اي ما يمزج به على الرحيق من ما تسنيم على أن من بيانية أو تبعيضية أو من نفسه على أنها ابتدائية والتسنيم علم لعين بعينها سميت به اما لأنها أرفع شراب في الجنة واما لأنها تأتيهم من فوق روي أنها تجري في الهواء متسنمة فتصب في أوانيهم
عينا
نصب على الاختصاص وجواز أن يكون حالا من تسنيم مع كونه جامدا لاتصافه وقوله تعالى
يشرب بها المقربون
فإنهم يشربونها صرفا وتمزج لسائر أهل الجنة فالباء مزيدة أو بمعنى من قوله تعالى
ان الذين أجرموا
الخ حكاية لبعض قبائح مشركي قريش جيء بها تمهيدا لذكر بعض أحوال الأبرار في الجنة
كانوا
في الدنيا
من الذين آمنوا يضحكون
أي يستهزئون بفقرائهم كعمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين وتقديم الجار والمجرور اما للقصر اشعارا بغاية شناعة ما فعلوا أي كانوا من الذين آمنوا يضحكون مع ظهور عدم استحقاقهم لذلك على منهاج قوله تعالى أفي الله شك أو لمراعاة الفواصل
وإذا مروا
أي فقراء المؤمنين
بهم
أي بالمشركين وهم في أنديتهم وهو الأظهر وان جاز العكس أيضا
يتغامزون
أي يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم
وإذا انقلبوا
من مجالسهم
إلى أهلهم انقلبوا فكهين
ملتذين بذكرهم بالسوء والسخرية منهم وفيه إشارة إلى أنهم كانوا لا يفعلون ذلك بمرأى من المارين بهم ويكتفون حينئذ بالتغامز وقرئ فاكهين قيل هما بمعنى وقيل فكهين أشرين وقيل فرحين وفاكهين متفكهين وقيل ناعمين وقيل مازحين
وإذا رأوهم
أينما كانوا
قالوا ان هؤلاء لضالون
أي نسبوا المسلمين ممن رأوهم ومن غيرهم إلى الضلال بطريق التأكيد
وما أرسلوا عليهم
على المسلمين
حافظين
حال من واو
129

قالوا أي قالوا ذلك والحال أنهم ما أرسلوا من جهة الله تعالى موكلين بهم يحفظون عليهم أحوالهم ويهيمنون على أعمالهم ويشهدون برشدهم وضلالهم وهذا تهكم بهم واشعار بأن ما اجترؤا عليه من القول من وظائف من أرسل من جهته تعالى وقد جوز أن يكون ذلك من جملة قول المجرمين كأنهم قالوا ان هؤلاء لضالون وما أرسلوا علينا حافظين انكارا لصدهم عن الشرك ودعائهم إلى الاسلام وانما قيل عليهم نقلا له بالمعنى كما في قولك حلف ليفعلن لا بالعبارة كما في قولك حلف لأفعلن
فاليوم الذين آمنوا
أي المعهودون من الفقراء
من الكفار
أي من المعهودين وهو الأظهر وان أمكن التنعيم من الجانبين
يضحكون
حين يرونهم أذلاء مغلولين قد غشيهم فنون الهوان والصغار بعد العزة والكبر و رهقهم ألوان العذاب بعد التنعم والترفه وتقديم الجار والمجرور للقصر تحقيقا للمقابلة أي فاليوم هم من الكفار يضحكون لا الكفار منهم كما كانوا يفعلون في الدنيا وقوله تعالى
على الأرائك ينظرون
حال من فاعل يضحكون أي يضحكون منهم ناظرين اليه والى ما هم فيه من سوء الحال وقيل يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم اخرجوا إليها فإذا وصولا إليها أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مرارا ويضحك المؤمنون منهم ويأباه قوله تعالى
هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون
فإنه صريح في أن ضحك المؤمنين منهم جزاء لضحكهم منهم في الدنيا فلا بد من المجانسة والمشاكلة حتما والتثويب والإثابة المجازاة وقرئ بادغام اللام في الثاء وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المطففين سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم
130

سورة الانشقاق مكية و آيها خمس وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
إذا السماء انشقت
أي بالغمام كما في قوله تعالى ويوم تشقق السماء بالغمام وعن علي رضي الله عنه تنشق من المجرة
وأذنب لربها
أي واستمعت أي انقادت وأذعنت لتأثير قدرته تعالى حين تعلقت ارادته بانشقاقها انقياد المأمور المطواع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إليها للاشعار بعلة الحكم وهذه الجملة ونظيرتها الآتية بمنزلة قوله تعالى أتينا طائعين في الانباء عن كون ما نسب إلى السماء والأرض من الانشقاق المد وغيرهما جاريا على مقتضى الحكمة كما أشير اليه فيما سلف
وحقت
أي جعلت حقيقة بالاستماع والانقياد لكن لا بعد أن لم تكن كذلك بل في نفسها وحد ذاتها من قولهم هو محقوق بكذا وحقيق به والمعنى انقادت لربها وهي حقيقة بذلك لكن لا على أن المراد خصوصية ذاتها من بين سائر المقدورات بل خصوصية القدرة القاهرة الربانية التي يتأتى لها كل مقدور ولا يتخلف عنها أمر من الأمور فحق الجملة أن تكون اعتراضا مقررا لما قبلها لا معطوفة عليه
وإذا الأرض مدت
أي بسطت بإزالة جبالها وآكامها من مقارها وتسويتها بحيث صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أو زيدت سعة وبسطة من مده بمعنى أمده أي زاده
وألقت ما فيها
أي رمت ما في جوفها من الموتى والكنوز كقوله تعالى وأخرجت الأرض أثقالها
وخلت عما فيها غاية الخلو حتى لم يبق فيها شيء منه كأنها تكلفت في ذلك أقصى جهدها
وأذنت لربها
في الالقاء والتخلي
وحقت
أي وهي حقيقة بذلك أي شأنها ذلك بالنسبة إلى القدرة
131

الربانية وتكرير كلمة إذا ما اتحاد الأفعال المنسوبة إلى السماء والأرض وقوعا في الوقت الممتد الذي هو مدلولها قد مر سره فيما مر
يا أيها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا
أي جاهد ومجد إلى الموت وما بعده من الأحوال التي مثلت باللقاء مبالغ في ذلك فان الكدح جهد النفس في العمل والكد فيه بحيث يؤثر فيها من كدح جله إذا خدشه
فملاقيه
أي فملاق له عقيب ذلك لا محالة من غير صارف يلويك عنه قوله تعالى
فأما من أوتي كتابه بيمينه
فسوف يحاسب حسابا يسيرا
الخ قيل جواب إذا كما في قوله تعالى فاما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون وقوله تعالى يا أيها الانسان الخ اعتراض وقيل هو محذوف للتهويل والايماء إلى قصور العبارة عن بيانه أو للتعويل على ما مر في سورة التكوير والانفطار عليه وقيل هو ما دل عليه قوله تعالى يا أيها الانسان الخ تقديره لا قي الانسان كدحه وقيل هو قوله تعالى فملاقيه وما قبله اعتراض وقيل هو يا أيها الانسان الخ باضمار القول يسير سهلا لا مناقشة فيه ولا اعتراض وعن الصديقة رضي الله عنها هو أن يعرف ذنوبه ثم يتجاوز عنه
وينقلب إلى أهله مسرورا
أي عشيرته المؤمنين أو فريق المؤمنين مبتهجا بحاله قائلا هاؤم اقرؤا كتابيه وقيل إلى أهله في الجنة من الحور والغلمان
وأما من أوتي كتابه وراء ظهره
أي يؤتاه بشماله من وراء ظهره قيل تغل يمناه إلى عنقه ويجعل شماله وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله وقيل تخلع يده اليسرى من وراء ظهره
فسوف يدعو ثبورا
أي يتمنى الثبور وهو الهلاك ويدعوه يا ثبوراه تعالى فإنه أوانك وأني له ذلك
ويصلى سعيرا
أي يدخلها وقرئ يصلى كقوله تعالى وتصلية جحيم وقرئ ويصلى كما في قوله تعالى ونصليه جهنم
انه كان في أهله
فيما بين أهله وعشيرته في الدنيا
مسرورا
132

مترفا بطرا مستبشرا كديدن الفجار الذين لا يهمهم ولا يخطر ببالهم أمور الآخرة ولا يتفكرون في العواقب ولم يكن حزينا متفكرا في حاله ومآله كسنة الصلحاء والمتقين والجملة استئناف لبيان علة ما قبلها وقوله تعالى
انه ظن أن لن يحور
تعليل لسروره في الدنيا أي ظن أن لن يرجع إلى الله تعالى تكذيبا للمعاد وأن مخففة من أن سادة مع ما في حيزها مسد مفعولي الظن أو أحدهما على الخلاف المعروف
بلى
ايجاب لما بعد لن وقوله تعالى
ان ربه كان به بصيرا
تحقيق وتعليل له أي بلى ليحورن البتة ان ربه الذي خلقه كان به وبأعماله الموجبة للجزاء بصيرا بحيث لا يخفى منها خافية فلا بد من رجعه وحسابه وجزائه عليها حتما وقيل نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشد وأخيه الأسود
فلا أقسم بالشفق
هي الحمرة التي تشاهد في أفق المغرب بعد الغروب أو البياض الذي يليها سمي به لرقته ومنه الشفقة التي هي عبارة عن رقة القلب
والليل وما وسق
وما جمع وضم يقال وسقه فاتسق واستوسق أي جمعه فاجتمع وما عبارة عما يجتمع بالليل ويأوي إلى مكانه من الدواب وغيرها
والقمر إذا اتسق
اي اجتمع وتم بدرا ليلة اربع عشر
لتركبن طبقا عن طبق
اي لتلاقن حالا بعد حال كل واحدة منها مطابقة لأختها في الشدة والفظاعة وقيل الطبق جمع طبقة وهي المرتبة وهو الأوفق للركوب المنبئ عن الاعتلاء والمعنى لتركبن أحوالا بعد أحوال هي طبقات في الشدة بعضها أرفع من بعض وهي الموت وما بعده من مواطن القيامة ودواهيها وقرئ لتركبن بالافراد على خطاب الانسان باعتبار اللفظ لا باعتبار شموله لأفراده كالقراءة الأولى وقرئ بكسر الباء على خطاب النفس وليركبن بالياء اي ليركبن الانسان ومحل عن طبق النصب على أنه صفة لطبقا اي طبقا مجاوزا لطبق أو حال من الضمير في لتركبن طبقا مجاوزين أو مجاورا أو مجاوزة على حسب القراءة والفاء في قوله تعالى
فما لهم لا يؤمنون
لترتيب ما بعدها من الانكار والتعجيب على ما قبلها من أحوال القيامة وأهوالها الموجبة
133

للايمان والسجود أي إذا كان حالهم يوم القيامة كما ذكر فأي شيء لهم حال كونهم غير مؤمنين أي أي شيء يمنعهم من الايمان مع تعاضد موجباته وقوله تعالى
وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون
جملة شرطية محلها النصب على الحالية نسقا على ما قبلها أي فأي مانع لهم حال عدم سجودهم وخضوعهم واستكانتهم عند قراءة القرآن وقيل قرأ النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم واسجد واقترب فسجد هو ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق فوق رؤسهم وتصفر فنزلت وبه احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى على وجوب السجدة وعن ابن عباس رضي الله عنهما ليس في المفصل سجدة وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سجد فيها وقال والله ما سجدت الا بعد أن رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يسجد فيها وعن أنس رضي الله عنه صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فسجدوا وعن الحسن هي غير واجبة
بل الذين كفروا يكذبون
بالقرآن الناطق بما ذكر من أحوال القيامة وأهوال مع تحقق موجبات تصديقه ولذلك لا يخضعون عند تلاوته
والله اعلم بما يوعون
بما يضمرون في قلوبهم ويجمعون في صدورهم من الكفر والحسد والبغي والبغضاء أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السواء ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب علما فعليا
فبشرهم بعذاب أليم
لأن علمه تعالى بذلك على الوجه المذكور موجب لتعذيبهم حتما
الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
استثناء منقطع ان جعل الموصول عبارة عن المؤمنين كافة ومتصل ان أريد به من آمن منهم بعد ذلك وقوله تعالى
لهم اجر غير ممنون
اي غير مقطوع أو ممنون به عليم استئناف مقرر لما أفاده الاستثناء من انتفاء العذاب عنهم ومبين لكيفيته ومقارنته للثواب العظيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الانشقاق أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره
134

بسم الله الرحمن الرحيم «والسماء ذات البروج» هي البروج الإثنا عشر شبهت بالقصور لأنها تنزلها السيارات ويكون فيها الثوابت أو منازل القمر أو عظام الكواكب سميت بروجا لظهورها أو أبواب السماء فإن النوازل تخرج منها وأصل التركيب للظهور «واليوم الموعود» أي يوم القيامة «وشاهد ومشهود» أي ومن يشهد في ذلك اليوم من الخلائق وما يحضر فيه من العجائب وتنكيرهما للإبهام في الوصف أي وشاهد ومشهود لا يكتنه وصفهما أو للمبالغة في الكثرة وقيل الشاهد محمد صلى الله عليه
وسلم والمشهود يوم القيامة وقيل عيسى عليه السلام وأمته لقوله تعالى وكنت عليهم شهيدا الخ وقيل أمة محمد وسائر الأمم وقيل يوم التروية ويوم عرفة وقيل يوم عرفة ويوم الجمعة وقيل الحجر الأسود والحجيج وقيل الأيام والليالي وبنو آدم وعن الحسن ما من يوم إلا وينادى إني يوم جديد وإني على ما يعمل في شهيد فاغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة وقيل الحفظة وبنو آدم وقيل الأنبياء ومحمد عليهم الصلاة والسلام «» قيل هو جواب القسم على حذف اللام منه للطول والأصل لقتل كما في قول من قال حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما أن من حديث ولا صال وقيل تقديره لقد قتل وأيا ما كان فالجملة خبرية والأظهر أنها دعائية دالة على الجواب كأنه قيل أقسم بهذه الأشياء أنهم أي كفار مكة ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود لما أن السورة وردت لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الإيمان وصبرهم عليه من الإيمان وتصبيرهم على أذية الكفرة وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان وصبرهم على ذلك حتى يأتسوا بهم ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم ويعلموا أن هؤلاء عند الله عز وجل
135

بمنزلة أولئك المعذبين ملعونون مثلهم أحقاء بأن يقال فيهم ما قد قيل فيهم وقرئ قتل بالتشديد والأخدود الخد في الأرض وهو الشق ونحوهما بناء ومعنى الخق والأخقوق وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لبعض الملوك ساحر فلما كبر ضم إليه غلام ليعلمه السحر وكان في طريق الغلام راهب فسمع منه فرأى في طريقه ذات يوم دابة قد حبست الناس قيل كانت الدابة أسدا فأخذ حجرا فقال اللهم إن كان الراهب أحب إليك من الساحر فاقتلها فقتلها فكان الغلام بعد ذلك يبرئ الأكمه والأبرص ويشفي من الأدواء وعمى جليس للملك فأبره فأبصره الملك فسأله من رد عليك فقال ربى فغضب فعذبه فدل على الغلام فعذبه فدل على الراهب فلم يرجع الراهب عن دينه فقد بالمنشار وأبى الغلام فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا فذهب به إلى قرقور فلججوا به ليغرقوه فدعا فانكفأت بهم السفينة فغرقوا ونجا وقال للملك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد وتصلبني على جذع وتأخذ سهما من كنانتي وتقول باسم الله رب الغلام ثم ترميني به فرماه فوقع في صدغه فوضع يده عليه ومات فقال الناس آمنا برب الغلام فقيل للملك نزل بك ما كنت تحذر فأمر بأخاديد في أفواه السكك وأوقدت فيها النيران فمن لم يرجع منهم طرحه فيها حتى جاءت امرأة معها صبي فتقاسمت فقال الصبي يا أماه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت وقيل قال لها قعي ولا تنافقي ما هي غلا غمضة فصبرت قيل أخرج الغلام من قبره في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل وعن على رضي الله عنه أن بعض ملوك المجوس وقع على أخته وهو سكران فلما صحا ندم وطلب المخرج فقالت له المخرج أن تخطب بالناس فتقول إن الله قد أحل نكاح الأخوات ثم تخطبهم بعد ذلك إن الله قد حرمه فخطب فلم يقبلوا منه فقالت له أبسط فيهم السوط ففعل فلم يقبلوا فقالت له أبسط فيهم السيف ففعل فلم يقبلوا فأمر بالأخاديد وإيقاد النار وطرح من أبى فيها فهم الذين أراد الله تعالى بقوله قتل أصحاب الأخدود وقيل وقع إلى نجران رجل مما كان على دين عيسى عليه السلام فدعاهم فأجابوه فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبو فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد وقيل سبعين ألفا وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنا عشر ذراعا
النار بد اشتمال من الخدود
ذات الوقود وصف لها بغاية العظم وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه من الحطب وأبدان الناس وقرئ الوقود بالضم وقوله تعالى
إذ هم عليها تعود ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان مشرف عليها من حافات الأخدود كما في قوله
وبات على النار الندى والمحلق
136

وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود
أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدا لم يقصر فيما أمر به أو انهم شهود يشهدون بما فعلوا بالمؤمنين يوم القيامة يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وقيل على بمعنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم وتنطق به الروايات المشهورة وقد روي أن الجبابرة لما ألقوا المؤمنين في النار وهم قعود حولها علقت بهم النار فأحرقتهم ونجى الله عز وجل المؤمنين منها سالمين والى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي وعلى ذلك حملا قوله تعالى ولهم عذاب الحريق
وما نقموا منهم
أي ما أنكروا منهم وما عابوا
الا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد
استئناف مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم تلام بنسيان الأحبة والوطن ووصفه تعالى بكونه عزيزا غالبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله تعالى
الذي له ملك السماوات والأرض
للاشعار بمناط ايمانهم وقوله تعالى
والله على كل شيء شهيد
وعد لهم ووعيد شديد لمعذبيهم فان علمه تعالى بجميع الأشياء التي من جملتها اعمال الفريقين يستدعى توفير جزاء كل منهما حتما
ان الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات
اي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بهم اما أصحاب الأخدود خاصة وبالمفتونين المطرحون في الأخدود وأما الذين بلوهم في ذلك بالأذية والتعذيب على الاطلاق وهم داخلون في جملتهم دخولا أوليا
ثم لم يتوبوا
أي عن كفرهم وفتنتهم فان ما ذكر من الفتنة في الدين لا يتصور من غير الكافر قطعا وقوله تعالى
فلهم عذاب جهنم
حملة وقت خبرا لأن أو الخبر لهم وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ولا ضير في نسخه بأن وان خالف الأخفش والمعنى لهم في الآخرة عذاب جهنم بسبب كفرهم
ولهم عذاب الحريق
وهي نار أخرى عظيمة بسبب فتنتهم للمؤمنين
ان لذين آمنوا وعملوا
137

الصالحات
على الاطلاق من المفتونين وغيرهم
لهم
بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح
جنات تجري من تحتها الأنهار
ان أريد بالجنات الأشجار لجريان الأنهار من تحتها ظاهر وان أريد بها الأرض المشتعلة عليها فالتحية باعتبار جزئها الظاهر فان أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وقد مر بيانه مرارا
ذلك
إشارة اما إلى الجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر للاشعار بأن مدار الحكم عنوانها الذي يتنافس فيها المتنافسون فان اسم الإشارة متعرض لذات المشار اليه من حيث اتصافه بأوصافه المذكورة لا لذاته فقط كما هو الشأن الضمير فإذا أشير إلى الجنات من حيث ذكرها فقد اعتبر منها عنوانها المذكور حتما وأما إلى ما يفيده قوله تعالى لهم جنات الخ من حيازتهم لها فان حصولها لهم مستلزم لحيازتهم لها قطعا وأيا ما كان فما فيه من معنى البعد للايذان بعلو درجته وبعد منزلته في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره ما بعده أي ذلك المذكور العظيم الشأن
الفوز الكبير
الذي تصغر عنده الدنيا وما فيها من فنون الرغائب بحذافيرها والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الأول هو مصدر اطلق على المفعول مبالغة وعلى الثاني مصدر على حاله
ان بطش ربك لشديد
استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ايذانا بأن لكفار قومه نصيبا موفورا من مضمونه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الأخذ بعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه بالجبابرة والظلمة وأخذه إياهم بالعذاب والانتقام كقوله تعالى وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة ان أخذه أليم شديد
انه هو يبدئ ويعيد
أي هو يبدئ الخلق وهو يعيده من غير دخل لأحد في شيء منهما ففيه مزيد تقرير لشدته بطشه أو هو يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا ويعيده في الآخرة
وهو الغفور
لمن تاب وآمن
الودود
المحب لمن أطاع
ذو العرش
خالقه وقيل المراد بالعرش الملك أي ذو السلطنة القاهرة وقرئ ذي العرش على أنه صفة ربك
المجيد
العظيم في ذاته وصفاته فإنه واجب الوجود تام القدرة كامل الحكمة وقرئ بالجر على أنه صفة لربك أو للعرش ومجده علوه وعظمته
فعال لما يريد
بحيث لا يتخلف عن ارادته مراد من أفعاله تعالى وافعال غيره وهو خبر مبتدأ محذوف
138

وقوله تعالى
هل أتاك حديث الجنود
استئناف مقرر لشدة بطشه تعالى بالظلمة العصاة والكفرة والعتاة وكونه فعالا لما يريد متضمن لتسليته عليه الصلاة والسلام بالاشعار بأنه سيصيب قومه ما أصاب الجنود
فرعون وثمود
بدل من الجنود لأن المراد بفرعون هو وقومه والمراد بحديثهم ما صدر عنهم من التمادي في الكفر والضلال وما حل بهم من العذاب والنكال والمعنى قد أتاك حديثهم وعرفت ما فعلوا وما فعل بهم فذكر قومك بشؤون الله تعالى وأنذرهم ان يصبهم مثل ما أصاب أمثالهم وقوله تعالى
بل الذين كفروا في تكذيب
اضراب عن مماثلتهم لهم وبيان لكونهم أشد منهم في الكفر والطغيان كأنه قيل ليسوا مثلهم في ذلك بل هم أشد منهم في استحقاق العذاب واستيجاب العقاب فإنهم مستقرون في تكذيب شديد للقرآن الكريم أو قيل ليست جنايتهم مجرد عدم التذكر والاتعاظ بما سمعوا من حديثهم بل هم مع ذلك في تكذيب شديد للقرآن الناطق بذلك لكن لا أنهم يكذبون بوقوع الحادثة بل بكون ما نطق به قرآنا من عند الله تعالى مع وضوح أمره وظهور حاله بالبيانات الباهرة
والله من ورائهم محيط
تمثيل لعدم نجاتهم من بأس الله تعالى بعدم فوت المحاط المحيط وقوله تعالى
بل هو قرآن مجيد
رد لكفرهم وابطال لتكذيبهم وتحقيق للحق أي ليس الأمر كما قالوا بل هو كتاب شريف عالي الطبقة فيما بين الكتب الإلهية في النظم والمعنى وقرئ قرآن مجيد بالإضافة أي قرآن رب مجيد
في لوح محفوظ
أي من التحريف ووصول الشياطين اليه وقرئ محفوظ بالرفع على أنه صفة قرآن وقرئ في لوح وهو الهواء أي ما فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل جمعة وعرفة تكون في الدنيا عشر حسنات
139

سورة الطارق مكية و آيها سبع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
والسماء والطارق
الطارق في الأصل اسم فاعل من طرق طرقا وطرقا إذا جاء ليلا قال الماوردي وأصل الطرق الدق ومنه سميت المطرقة وانما سمي قاصد الليل طارقا لاحتياجه إلى طرق الباب غالبا ثم اتسع في كل ما ظهر بالليل كائنا ما كان ثم أشبع في التوسع حتى اطلق على الصور الخالية البادية بالليل قال طرق الخيال ولا كليلة مدلج سدكا بأرجلنا ولم يتبرج والمراد ههنا الكوكب البادي بالليل اما على أنه اسم جنس أو كوكب معهود وقيل الطارق النجم الذي يقال له كوكب الصبح وقوله تعالى
وما أدراك ما الطارق
تنويه بشأنه اثر تفخيمه بالإقسام به وتنبيه على أن رفعة قدره بحيث لا ينالها ادراك الخلق فلا بد من تلقيها من الخلاق العليم فما الأولى مبتدأ وادراك خبر والثانية خبر والطارق مبتدأ حسبما بين في نظائره اي وأي شيء أعلمك ما الطارق وقوله تعالى
النجم الثاقب
خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف وقع جوابا عن استفهام نشأ مما قبله كأنه قيل ما هو فقيل النجم المضيء في الغاية كأنه يثقب الظلام أو الأفلاك بضوئه وينفذ فيها والمراد به اما الجنس فان لكل كوكب ضوءا ثاقبا لا محالة واما كوكب معهود قيل هو زحل وقيل هو الثريا وقيل هو الجدي وقيل النجم الثاقب نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة وهو زحل فهو طارق حين ينزل وحين يصعد وفي ايراده عند الإقسام به بوصف مشترك بينه وبين غيره ثم الإشارة إلى أن ذلك الوصف غير كنه أمره وأن ذلك مما لا تبلغه أفكار الخلائق ثم تفسيره بالنجم الثاقب من تفخيم شأنه وإجلال محله ما لا يخفي وقوله تعالى «إن كل نفس لما عليها حافظ» جواب للقسم وما بينهما اعتراض جيء به لما
140

ذكر من تأكيد فخامة المقسم به المستتبع لتأكيد مضمون الجملة المقسم عليها وإن نافية ولما بمعنى إلا أي ما كل نفس إلا عليها حافظ مهيمن رقيب وهو الله عز وجل كما في قوله تعالى وكان الله على كل شيء رقيبا وقيل هو من يحفظ عملها ويحصي تعالى «وإن عليكم لحافظين كراما» الآية وقوله تعالى «ويرسل عليكم حفظة» وقوله تعالى «له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه» وقرئ لما مخففه على أن ان مخففة من الثقيلة واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة وما مزيدة أي ان الشأن كل نفس لعليها حافظ والفاء في قوله تعالى
فلينظر الانسان مم خلق
للتنبيه على أن ما بين من أن كل نفس عليها حافظ يحصى عليها كل ما يصدر عنها من قول وفعل مستوجب على الانسان أن يتفكر في مبدأ فطرته حق التفكر حتى يتضح له أن من قدر على انشائه من مواد لم تشم رائحة الحياة قط فهو قادر على اعادته بل أقدر على قياس العقل فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ما ينفعه يومئذ ويجديه ولا يملي على حافظه ما يرد به وقوله تعالى
خلق من ماء دافق
استئناف وقع جوابا عن استفهام مقدر كأنه قيل مم خلق فقيل خلق من ماء ذي دفق وهو صب فيه دفع وسيلان بسرعة والمراد به الممتزج من الماءين في الرحم كما ينبئ عنه قوله تعالى
يخرج من بين الصلب والترائب
اي صلب الرجل وترائب المرأة وهي عظام صدرها قالوا ان النطفة تتولد من فضل الهضم الرابع وتنفصل عن جميع الأعضاء حتى تستعد لأن يتولد منها مثل تلك الأعضاء ومقرها عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين فالدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها ولذلك تشبهه ويورث الافراط في الجماع الضعف فيه وله خليفة هي النخاع وهو في الصلب وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب وهما أقرب إلى أوعية المني فلذلك خصا بالذكر وقرئ الصلب بفتحتين والصلب بضمتين وفيه لغة رابعة هي صالب
انه
الضمير للخالق تعالى فان قوله خلق يدل عليه أي ان ذلك الذي خلقه ابتداء مما ذكر
على رجعه
اي على اعادته بعد موته
لقادر
لبين القدرة
يوم تبلى السرائر
اي يتعرف ويتصفح ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها وما اخفى من الأعمال ويميز بين ما طاب منها وما خبث وهو
141

ظرف لرجعه
فما له
اي للانسان
من قوة
في نفسه يمتنع بها
ولا ناصر
ينتصر به
والسماء ذات الرجع
اي المطر سمي رجعا لما أن العرب كانوا يزعمون ان السحاب يحمل الماء من يحار الأرض ثم يرجعه إلى الأرض أو أرادوا بذلك التفاؤل ليرجع ولذلك سموه أوبا أو لأن الله تعالى يرجعه
والأرض ذات الصدع
هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات أو مصدر من المبني للمفعول وهو تشققها بالنبات لا بالعيون كما قيل فان وصف السماء والأرض عند الاقسام بهما على حقية القرآن الناطق بالبعث بما ذكر من الوصفين للايماء إلى أنهما في أنفسهما من شواهده وهو السر في التعبير بالصدع عنه وعن المطر بالرجع وذلك في تشقق الأرض بالنبات المحاكي للنشور حسبما ذكر في مواقع من التنزيل لا في تشققها بالعيون
انه
أي القرآن الذي من جملته ما تلي من الآيات الناطقة بمبدأ حال الانسان ومعاده
لقول فصل
اي فاصل بين الحق والباطل مبالغ في ذلك كأنه نفس الفصل
وما هو بالهزل
ليس في شيء منه شائبه هزل بل كله جد محض لا هوادة فيه فمن حقه أن يهتدي به الغواة وتخضع له رقاب العتاة
انهم
اي أهل مكة
يكيدون
في ابطال أمره واطفاء نوره
كيدا
حسبما نفي به قدرتهم
وأكيد كيدا
اي أقابلهم بكيد متين لا يمكن رده حيث استدرجهم من حيث لا يعلمون
فمهل الكافرين
أي لا تشتغل بالانتقام منهم ولا تدع عليهم بالهلاك أولا تستعجل به والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها فان الاخبار بتوليه تعالى لكيدهم بالذات مما يوجب امهالهم وترك التصدي لمكايدتهم قطعا وقوله تعالى
أمهلهم
بدل من مهل وقوله تعالى
رويدا
اما مصدر مؤكد لمعنى العامل أو نعت لمصدره المحذوف اي أمهلهم امهالا رويدا أي قريبا كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو قليلا
142

كما قاله قتادة قال أبو عبيدة هو في الأصل تصغير رود بالضم وأنشد كأنها ثمل تمشي على رود أي على مهل وقيل تصغيرا رواد مصدرا رود بالترخيم وله في الاستعمال وجهان آخران كونه اسم فعل نحو رويدا زيد وكونه حالا نحو سار القوم رويدا أي متمهلين وفي ايراد البدل بصيغة لا تحتمل التكثير وتقييده برويدا على أحد الوجهين المذكورين من تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسكين قلبه مالا يخفى وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات والله أعلم
سورة الأعلى مكية و آيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
سبح اسم ربك الأعلى
أي نزه اسمه عز وجل عن الالحاد فيه بالتأويلات الزائغة وعن اطلاقه على غيره بوجه يشعر بتشاركهما فيه وعن ذكره لا على وجه الاعظام والاجلال والأعلى اما صفة للرب وهو الأظهر أو للاسم وقرئ سبحان ربي الأعلى وفي الحديث لما نزلت «فسبح باسم ربك العظيم» قال عليه الصلاة والسلام اجعلوها في ركوعكم فلما نزل «سبح اسم ربك الأعلى» قال اجعلوها في سجودكم وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت
الذي خلق فسوى
صفة أخرى للرب على الوجه الأول ومنصوب على المدح على الثاني لئلا يلزم الفصل بين الموصوف والصفة بصفة غيره أي خلق كل شيء فسوى خلقه بأن جعل له ما به يتأتى كما له ويتسنى معاشه وقوله تعالى
والذي قدر
اما صفة أخرى للرب كالموصول الأول أو معطوف عليه وكذا حال ما بعده قدر أجناس الأشياء وأنواعها وأفرادها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها
فهدى
أي فوجه كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له طبعا أو اختيارا ويسره لما خلق له بخلق الميول والالهامات ونصب الدلائل وانزال الآيات ولو تتبعت أحوال النباتات والحيوانات
143

لرأيت كل منها ما تحار فيه العقول يروى أن الأفعى إذا بلغت ألف سنة عميت وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينها بورق الرازيانج الغض يرد إليها بصرها فربما كانت عند عروض العمي لها في برية بينها وبين الريف مسافة طويلة فتطويها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها فتحك عينها بورقها وترجع باصرة باذن الله عز وجل ويروى أن التمساح لا يكون له دبر وانما يخرج فضلات ما يأكله من فمه حيث قيض الله له طائرا قدر غذاؤه من ذلك فإذا رآه التمساح يفتح فمه فيدخله الطائر فيأكل ما فيه وقد خلق الله تعالى له من فوق منقاره ومن تحته قرنين لئلا يطبق عليه التمساح فمه هذا وأما فنون هداياته سبحانه وتعالى للانسان من حيث الجسمية ومن حيث الحيوانية لا سيما من حيث الانسانية فمما لا يحيط به فلك العبارة والتحرير ولا يعلمه الا العليم الخبر
والذي اخرج المرعى
أي انبت ما يرعاه الدواب غضا طريا يرف
فجعله
بعد ذلك
غثاء أحوى
اي درينا اسود وقيل أحوى حال من المرعى أي أخرجه أحوى من شدة الخضرة والري فجعله غثاء بعد ذلك وقوله تعالى
سنقرئك فلا تنسى
بيان لهداية الله تعالى الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم اثر بيان هدايته تعالى العامة لكافة مخلوقاته وهي هدايته عليه الصلاة والسلام لتلقي الوحي وحفظ القرآن الذي هو هدى للعالمين وتوفيقه عليه الصلاة والسلام لهداية الناس أجمعين والسين اما للتأكيد واما لأن المراد اقراء ما أوحي الله اليه حينئذ وما سيوحى اليه بعد ذلك فهو وعد كريم باستمرار الوحي في ضمن الوعد بالأقراء اي سنقرئك ما نوحي إليك الآن وفيما بعد على لسان جبريل عليه السلام أو سنجعلك قارئا بالهام القراءة فلا تنسى أصلا من قوة الحفظ والاتقان مع أنك أمي لا تدري ما الكتاب وما القراءة ليكون ذلك آية أخرى لك مع ما في تضاعيف ما تقرؤه من الآيات البينات من حيث الاعجاز ومن حيث الاخبار بالمغيبات وقيل فلا تنسى نهي والألف لمراعاة الفاصلة كما في قوله تعالى «فأضلونا السبيلا» وقوله تعالى
الا ما شاء الله
استثناء مفرغ من أعم المفاعيل أي لا تنسى مما تقرؤه شيئا من الأشياء الا ما شاء الله أن تنساه أبدا بأن نسخ تلاوته والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة والايذان بدوران المشيئة على عنوان الألوهية المستتبعة لسائر الصفات وقيل المراد به النسيان في الجملة على القلة والندرة كما روي أنه عليه الصلاة والسلام أسقط آية في قراءته في الصلاة فحسب أبي أنها نسخت فسأله فقال عليه الصلاة
144

والسلام نسيتها وقيل نفي النسيان رأسا فان القلة قد تستعمل في النفي فالمراد بالنسيان حينئذ النسيان بالكلية إذ هو المنفي رأسا لا ما قد ينسى ثم يذكر
انه يعلم الجهر وما يخفى
تعليل لما قبله أي يعلم ما ظهر وما بطن من الأمور التي من جملتها ما أوحي إليك فينسى ما يشاء إنساءه ويبقى محفوظا ما يشاء ابقاءه لما نيط بكل منهما من مصالح دينكم
ونيسرك لليسرى
عطف على نقرئك كما ينبئ عنه الالتفات إلى الحكاية وما بينهما اعتراض وارد لما ذكر من التعليل وتعليق التيسير به عليه الصلاة والسلام مع أن الشائع تعليقه بالأمور المسخرة للفاعل كما في قوله تعالى «ويسر لي أمري» للايذان بقوة تمكينه عليه الصلاة والسلام من اليسرى والتصرف فيها بحيث صار ذلك ملكة راسخة له كأنه عليه الصلاة والسلام جبل عليها كما في قوله عليه الصلاة والسلام اعملوا فكل ميسر لما خلق له أي نوفقك توفيقا مستمرا للطريقة اليسرى في كل باب من أبواب الدين علما وتعليما واهتداء وهداية فيندرج فيه تيسير طريق تلقى الوحي والإحاطة بما فيه من أحكام الشريعة السمحة والنواميس الإلهية مما يتعلق بتكميل نفسه عليه الصلاة والسلام وتكميل غيره كما تفصح عنه الفاء في قوله تعالى
فذكر ان نفعت الذكرى
أي فذكر الناس حسبما يسرناك له بما يوحى إليك واهدهم إلى ما في تضاعيفه من الأحكام الشرعية كما كنت تفعله لا بعد ما استتب لك الأمر كما قيل وتقييد التذكير بنفع الذكرى لما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طالما كان يذكرهم ويستفرغ فيه غاية المجهود ويتجاوز في الجد كل حد معهود حرصا على ايمانهم وما كان يزيد ذلك بعضهم الا كفرا وعنادا فأمر عليه الصلاة والسلام بأن يخص التذكير بمواد النفع في الجملة بأن يكون من يذكره كلا أو بعضا ممن يرجى منه التذكر ولا يتعب نفسه في تذكير من لا يورثه التذكير الا عتوا ونفورا من المطبوع على قلوبهم كما في قوله تعالى «فذكر بالقرآن من يخاف وعيد» وقوله تعالى «فأعرض عن من تولى عن ذكرنا» وقيل هو ذم للمذكرين واخبار عن حالهم واستبعاد لتأثير التذكير فيهم وتسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم كقولك للواعظ عظ المكاسين ان سمعوا منك قصدا إلى أنه مما لا يكون والأول أنسب لقوله تعالى
سيذكر من يخشى
أي سيتذكر بتذكيرك من من شأنه أن يخشى الله تعالى حق خشيته أو من يخشى الله تعالى في الجملة فيزداد ذلك بالتذكير فيتفكر في أمر ما تذكر به فيقف على حقيته فيؤمن به وقيل ان بمعنى إذ كما في قوله تعالى «وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين» أي إذ كنتم وقيل هي بمعنى ما أي فذكر ما نفعت الذكرى فإنها لا تخلو
145

عن نفع بكل حال وقيل هناك محذوف والتقدير ان نفعت الذكرى وان لم تنفع كقوله تعالى «سرابيل تقيكم الحر» قاله الفراء والنحاس والجرجاني والزهراوي
ويتجنبها
أي الذكرى
الأشقى
من الكفرة لتوغله في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة وعتبة بن أبي ربيعة
الذي يصلى النار الكبرى
أي الطبقة السفلى من طبقات النار وقيل الكبرى نار جهنم والصغرى نار الدنيا لقوله عليه الصلاة والسلام ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنم
ثم لا يموت فيها
حتى يستريح
ولا يحيى
حياة تنفعه وثم للتراخي في مراتب الشدة لأن التردد بين الموت والحياة أفظع من الصلي
قد أفلح
أي نجا من المكروه وظفر بما يرجوه
من تزكى
أي تطهر من الكفر والمعاصي بتذكره واتعاظه بالذكرى أو تكثر من التقوى والخشية من الزكاء وهو النماء وقيل تطهر للصلاة وقيل تزكى تفعل من الزكاة وكلمة قد لما أن عند الاخبار بسوء حال المتجنب عن الذكرى في الآخرة يتوقع السامع الاخبار بحسن حال المتذكر فيها وينتظره
وذكر اسم ربه
بقلبه ولسانه
فصلى
أقام الصلوات الخمس كقوله تعالى «وأقم الصلاة لذكري» أو كبر تكبيرة الافتتاح فصلى وقيل تزكى أي تصدق صدقة الفطر وذكر اسم ربه أي كبره يوم العيد فصلى أي صلاته
بل تؤثرون الحياة الدنيا
اضراب عن مقدر ينساق اليه الكلام كأنه قيل اثر بيان ما يؤدي إلى الفلاح لا تفعلون ذلك بل تؤثرون اللذات العاجلة الفانية فتسعون لتحصيلها والخطاب اما للكفرة فالمراد بايثار الحياة الدنيا هو الرضا والاطمئنان بها والاعراض عن الآخرة بالكلية كما في قوله تعالى «إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها» الآية أو للكل فالمراد بايثارها ما هو أعم مما ذكر وما لا يخلو عنه الانسان غالبا من ترجيح جانب الدنيا على الآخرة في السعي وترتيب المبادئ والالتفات على الأول لتشديد التوبيخ وعلى الثاني كذلك في حق الكفرة وتشديد العتاب في حق المسلمين وقرئ يؤثرون بالياء وقوله تعالى
والآخرة
146

خير وأبقى
حال من فاعل تؤثرون مؤكدة للتوبيخ والعتاب أي تؤثرونها على الآخرة والحال أن الآخرة خير في نفسها لما أن نعيمها مع كونه في غاية ما يكون من اللذة خالص عن شائبة الغائلة ابدى لا انصرام له وعدم التعرض لبيان تكدر نعيم الدنيا بالمنغصات وانقطاعه عما قليل لغاية ظهوره
ان هذا
إشارة إلى ما ذكر من قوله تعالى «قد أفلح من تزكى» وقيل إلى ما في السورة جميعا
لفي الصحف الأولى
أي ثابت فيها معناه
صحف إبراهيم وموسى
بدل من الصحف الأولى وفي ابهامها ووصفها بالقدم ثم بيانها وتفسيرها من تفخيم شأنها مالا يخفى روي أن جميع ما أنزل الله عز وجل من كتاب مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عليه السلام عشر صحف وعلى شيث خمسين صحيفة وعلى إدريس ثلاثين صحيفة وعلى إبراهيم عشر صحائف عليهم السلام والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله تعالى على إبراهيم وموسى ومحمد عليهم السلام
147

سورة الغاشية مكية و آيها ست وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
هل أتاك حديث الغاشية
قيل هل بمعنى قد كما في قوله تعالى «هل أتى على الإنسان» الآية قال قطرب أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية وليس بذاك بل هو استفهام أريد به التعجيب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه والاشعار بأنه من الأحاديث البديعة التي حقها أن يتناقلها الرواة ويتنافس في تلقيها الوعاة من كل حاضر وباد والغاشية الداهية الشديدة التي تغشى الناس بشدائدها وتكتنفهم بأهوالها وهي القيامة من قوله تعالى «يوم يغشاهم العذاب» الخ وقيل هي النار من قوله تعالى «وتغشى وجوههم النار» وقوله تعالى «
ومن فوقهم غواش» والأول هو الحق فان ما سيروى من حديثها ليس مختصا بالنار وأهلها بل ناطق بأحوال أهل الجنة أيضا وقوله تعالى
وجوه يومئذ خاشعة
إلى قوله تعالى مبثوثة استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ من الاستفهام التشويقي كأنه قيل من جهته عليه الصلاة والسلام ما أتاني حديثها فما هو فقيل وجوه يومئذ أي يوم إذ غشيت ذليلة قال ابن عباس رضي الله عنهما لم يكن أتاه عليه الصلاة والسلام حديثها فأخبره عليه الصلاة والسلام عنها فقال وجوه الخ فوجوه مبتدأ ولا بأس بتنكيرها لأنها في موقع التنويع وخاشعة خبره وقوله تعالى
عاملة ناصبة
خبران آخران لوجوه إذ المراد بها أصحابها أي تعمل أعمالا شاقة تتعب فيها وهي جر السلاسل والأغلال والخوض في النار خوض الإبل في الوحل والصعود والهبوط في تلال النار ووهادها وقيل عملت في الدنيا أعمال السوء والتذت بها فهي يومئذ في نصب منها وقيل عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة وقوله تعالى
تصلى
أي تدخل
نارا حامية
أي متناهية في الحر خبر آخر لوجوه وقيل هو الخبر وما قبله صفات لوجوه وقد مر غير مرة أن الصفة حقها أن تكون معلومة
148

الانتساب إلى الموصوف عند السامع قبل جعلها صفة له ولا ريب في أن صلى النار وما قبله من الخشوع والعمل والنصب أمور متساوية في الانتساب إلى الوجوه معرفة وجهالة فجعل بعضها عنوانا للموضوع قيدا مفروغا عنه غير مقصود الإفادة وبعضها مناطا للإفادة تحكم بحت ويجوز أن يكون هذا وما بعده من الجملتين استئنافا مبينا لتفاصيل أحوالها
تسقى من عين آنية
أي متناهية في الحر كما في قوله تعالى «وبين حميم آن»
ليس لهم طعام الا من ضريع
بيان لطعامهم اثر بيان شرابهم والضريع ييس الشبرق وهو شوك ترعاه الإبل ما دام رطبا وإذا يبس تحامته وهو سم قاتل وقيل هي شجرة نارية تشبه الضريع وقال ابن كيسان هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله تعالى طلبا للخلاص منه فسمي بذلك وهذا طعام لبعض أهل النار والزقوم والغسلين لآخرين
لا يسمن ولا يغني من جوع
اي ليس من شأنه الاسمان والاشباع كما هو شأن طعام الدنيا وانما هو شيء يضطرون إلى أكله من غير أن يكون له دفع لضرورتهم لكن لا على أن لهم استعدادا للشبع والسمن الا أنه لا يفيدهم شيئا منهما بل على أنه لا استعداد من جهتهم ولا إفادة من جهة طعامهم وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للانسان عند استدعاء الطبيعة لبدل ما يتحلل من البدن مشوقة له إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمنا عند انهضامهما بل جوعهم عبارة عن اضطرام النار في أحشائهم إلى ادخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب واما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما أو التذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير أو استفادة قوة فهيهات وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد يطفئه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة به في الجملة وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرهم إلى أكل الضريع فإذا أكلوه يسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم وتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما وتأخير نفي الاغناء منه لمراعاة الفواصل والتوسل به إلى التصريح بنفي كلا الأمرين إذ لو قدم لما احتيج إلى ذكر نفي الاسمان ضرورة استلزام نفي الاغناء عن الجوع إياه بخلاف العكس ولذلك كرر لا لتأكيد النفي وقوله تعالى
وجوه يومئذ ناعمة
شروع في رواية حديث أهل الجنة وتقديم حكاية حال أهل النار لأنه أدخل
149

في تهويل الغاشية وتفخيم حديثها ولأن حكاية حسن حال أهل الجنة بعد حكاية سوء حال أهل النار مما يزيد المحكي حسنا وبهجة والكلام في اعراب الجملة كالذي مر في نظيرتها وانما لم تعطف عليها ايذانا بكمال تباين مضمونيهما ومعنى ناعمة ذات بهجة وحسن كقوله تعالى «تعرف في وجوههم نضرة النعيم» أو متنعمة
لسعيها راضية
أي لعملها الذي عملته في الدنيا حيث شاهدت ثمرته
في جنة عالية
مرتفعة المحل أو علية المقدار
لا تسمع
أي أنت أو الوجوه
فيها لاغية
لغوا أو كلمة ذات لغو أو نفسا تلغو فان كلام أهل الجنة كله أذكار وحكم وقرئ لا تسمع على البناء للمفعول بالياء والتاء ورفع لاغية
فيها عين جارية
أي عيون كثيرة تجري مياهها كقوله تعالى علمت نفس
فيها سرر مرفوعة
رفيعة السمك أو المقدار
وأكواب
جمع كوب وهو اناء لا عروة له
موضوعة
أي بين أيديهم
ونمارق
وسائد جمع نمرقة بالفتح والضم
مصفوفة
بعضها إلى بعض
وزرابي
أي بسط فاخرة جمع زربية
مبثوثة أي مبسوطة
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون انكاره والهمزة للانكار والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة كيف منصوبة بما يعدها كما في قوله تعالى كيف تكفرون بالله معلقة لفعل النظر والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من الإبل أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين إلى أنها كيف
150

خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيأتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة وفي صبرها على الجو والعطش حتى ان أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا واكتفائها باليسير ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم وفي انقيادها مع ذلك للانسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير
والى السماء
التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار
كيف رفعت
رفعا سحيق المدى بلا عماد ولا مساك بحيث لا يناله الفهم والادراك
والى الجبال
التي ينزلون في أقطارها وينتفعون بمياهها وأشجارها
كيف نصبت
نصبا رصينا فهي راسخة لا تميل ولا تميد
والى الأرض
التي يضربون فيها ويتقلبون عليها
كيف سطحت
سطحا بتوطئة وتمهيد وتسوية وتوطيد حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق وقرئ سطحت مشددا وقرئت الأفعال الأربعة على بناء الفاعل للمتكلم وحذف الراجع المنصوب والمعنى أفلا ينظرون نظر التدبر والاعتبار إلى كيفية خلق هذه المخلوقات الشاهدة بحقية البعث والنشور ليرجعوا عما هم عليه من الانكار والنفور
ويسمعوا انذارك ويستعدوا للقائه بالايمان والطاعة والفاء في قوله تعالى
فذكر
لترتيب الأمر بالتذكير على ما ينبئ عنه الانكار السابق من عدم النظر أي فاقتصر على التذكير ولا تلح عليهم ولا يهمنك أنهم لا ينظرون ولا يتذكرون وقوله تعالى
انما أنت مذكر
تعليل للأمر وقوله تعالى
لست عليهم بمصيطر
تقرير له وتحقيق لمعنى الانذار أي لست بمتسلط عليهم تجبرهم على ما تريد كقوله تعالى وما أنت عليهم بجبار وقرئ بالسين على الأصل وبالإشمام وقرئ بفتح الطاء قيل هي لغة بني تمتم فان سيطر عندهم متعد ومنه قولهم تسيطر وقوله تعالى
الا من تولى وكفر
استثناء منقطع أي لكن من تولى منهم فان لله تعالى الولاية والقهر
151

فيعذبه الله العذاب الأكبر
الذي هو عذاب جهنم وقيل استثناء متصل من قوله تعالى فذكر أي فذكر الا من انقطع طمعك من ايمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض ويعضد الأول أنه قرىء الا على التنبيه وقوله تعالى
ان الينا إيابهم
تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر أي ان الينا رجوعهم بالموت والبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالا ولا اشتراكا وجمع الضمير فيه وفيما بعده باعتبار معنى من كما أن افراده فيما سبق باعتبار لفظها وقرئ إيابهم على أنه فيعال مصدر فيعل من الأياب أو فعال من أوب كفسار من فسر ثم قيل إيوابا كديوان في دوان ثم قلبت الواو ياء فأدغمت الياء الأولى في الثانية
ثم ان علينا حسابهم
في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي في الرتبة لا في الزمان فان الترتب الزماني بين إيابهم وحسابهم لا بين كون إيابهم اليه تعالى وحسابهم عليه تعالى فإنهما أمران مستمران وفي تصدير الجملتين بأن وتقديم خبرها وعطف الثانية على الأولى بكلمة ثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الانباء عن غاية السخط الموجب لتشديد العذاب مالا يخفى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الغاشية يحاسبه الله تعالى حسابا يسيرا
152

سورة الفجر مكية و آيها ثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
والفجر
أقسم سبحانه بالفجر كما أقسم بالصبح حيث قال والصبح إذا تنفس وقيل المراد به صلاته
وليال عشر
هن عشر ذي الحجة ولذلك فسر الفجر بفجر عرفة أو النحر أو العشر الأواخر من رمضان وتنكيرها للتفخيم وقرئ وليال عشر بالإضافة على أن المراد بالعشر الأيام
والشفع والوتر
أي الأشياء كلها شفعها ووترها أو شفع هذه الليالي ووترها وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام فسرهما بيوم النحر ويوم عرفة ولقد كثرت فيهما الأقوال والله تعالى اعلم بحقيقة الحال وقرئ بكسر الواو وهما لغتان كالحبر والحبر وقيل الوتر بالفتح في العدد وبالكسر في الذحل وقرئ والوتر بفتح الواو وكسر التاء
والليل إذا يسر
أي يمضي كقوله تعالى «والليل إذ أدبر» «والليل إذا عسعس» والتقييد لما فيه من وضوح الدلالة على كمال القدرة ووفور النعمة أو يسري فيه من قولهم صلى المقام أي صلى فيه وحذف الياء اكتفاء بالكسر وقرئ باثباتها على الاطلاق وبحذفها في الوقف خاصة وقرئ يسر بالتنوين كما قرىء والفجر والوتر وهو التنوين الذي يقع بدلا من حرف الاطلاق
هل في ذلك قسم
الخ تحقيق وتقرير لفخامة شأن المقسم بها وكونها أمورا جليلة حقيقة بالإعظام والاجلال عند أرباب العقول وتنبيه على أن الاقسام بها أمر معتد به خليق بأن يؤكد به الاخبار على طريقة قوله تعالى وانه لقسم لو تعلمون عظيم وذلك إشارة اما إلى الأمور المقسم
153

بها والتذكير بتأويل ما ذكر كما مر تحقيقه أو إلى الاقسام بها وأيا ما كان فما فيه من معنى البعد للايذان بعلو رتبة المشار اليه وبعد منزلته في الشرف والفضل أي هل فيما ذكر من الأشياء قسم أي مقسم به
لذي حجر
يراه حقيقا بأن يقسم به اجلالا وتعظيما والمراد تحقيق أن الكل كذلك وانما أوثرت هذه الطريقة هضما للخلق وإيذانا بظهور الأمر أو هل في إقسامي بتلك الأشياء اقسام لذي حجر مقبول عنده يعتد به ويفعل مثله ويؤكد به المقسم عليه والحجر العقل لأنه يحجر صاحبه أي يمنعه من التهافت فيما لا ينبغي كما سمي عقلا ونهية لأنه يعقل وينهي وحصاة أيضا من الاحصاء وهو الضبط قال الفراء يقال انه لذو حجر إذا كان قاهرا لنفسه ضابطا لها والمقسم عليه محذوف وهو ليعذبن كما ينبئ عنه قوله تعالى
ألم تر كيف فعل ربك بعاد
الخ فإنه استشهاد بعلمه عليه الصلاة والسلام بما يدل عليه من تعذيب عاد واضرابهم المشاركين لقومه عليه الصلاة والسلام في الطغيان والفساد على طريقة قوله تعالى «ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» الآية وقوله تعالى «ألم تر أنهم في كل واد يهيمون» كأنه قيل ألم تعلم علما يقينيا كيف عذب ربك عادا ونظائرهم فيعذب هؤلاء أيضا لاشتراكهم فيما يوجبه من الكفر والمعاصي والمراد بعاد أولاد عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام قوم هود عليه السلام سموا باسم أبيهم كما سمي بنو هاشم هاشما وقد قيل لأوائلهم عاد الأولى ولأواخرهم عاد الآخرة قال عماد الدين بن كثير كل ما ورد في القرآن خبر عاد الأولى الا ما في سورة الأحقاف وقوله تعالى
ارم
عطف بيان لعاد للايذان بأنهم عاد الأولى بتقدير مضاف أي سبط ارم أو أهل ارم على ما قبل من أن ارم اسم بلدتهم أو ارضهم التي كانوا فيها ويؤيده القراءة بالإضافة وأيا ما كان فامتناع صرفها للتعريف والتأنيث وقرئ ارم باسكان الراء تخفيفا كما قرىء بورقكم
ذات العماد
صفة لإرم أي ذات القدود الطوال على تشبيه قاماتهم بالأعمدة ومنه قولهم رجل عمد و عمدان إذا كان طويلا أو ذات الخيام والأعمدة حيث كانوا بدويين أهل عمد أو ذات البناء الرفيع أو ذات
الأساطين على أن ارم اسم بلدتهم وقرئ ارم ذات العماد بإضافة ارم إلى ذات العماد والإرم العلم أي بعاد أهل اعلام ذات العماد على أنها اسم بلدتهم وقرئ ارم ذات العماد أي جعلها الله تعالى رميما بدل من فعل ربك وقيل هي جملة دعائية اعترضت بين الموصوف والصفة وروي أنه كان لعاد ابنان شديد وشداد فملكا وقهرا ثم مات شديد وخلص الأمر لشداد فملك الدنيا ودانت له ملوكها فسمع بذكر الجنة فقال ابني مثلها فبنى ارم في بعض صحارى عدن في ثلاثمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة وأساطينها من الزبرجد والياقوت وفيها أصناف الأشجار والأنهار المطردة ولما تم بناؤها سار إليها أهل مملكته فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله تعالى عليهم صيحة من السماء فهلكوا و عن عبد الله بن قلابة
154

أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها فحمل ما قدر عليه مما ثمة وبلغ خبره معاوية فاستحضره فقص عليه فبعث إلى كعب فسأله فقال هي ارم ذات العماد وسيد خلها رجل من المسلمين في زمانك احمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عقبه خال يخرج في طلب إبل له ثم التفت إلى ابن قلابة فقال هذا والله ذلك الرجل
التي لم يخلق مثلها في البلاد
صفة أخرى لإرم أي لم يخلق مثلهم في عظم الاجرام والقوة حيث كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع وكان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها ويلقيها على الحي فيهلكهم أو لم يخلق مثل مدينة شداد في جميع بلاد الدنيا وقرئ لم يخلق على اسناده إلى الله تعالى
وثمود عطف على عاد وهي قبيلة مشهورة سميت باسم جدهم ثمود أخي جديس وهما ابنا عامر بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام وكانوا عربا من العاربة يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك وكانوا يعبدون الأصنام كعاد
الذين جابوا الصخر بالواد
أي قطعوا صخر الجبال فاتخذوا فيها بيوتا نحتوها من الصخر كقوله تعالى «وتنحتون من الجبال بيوتا» قيل هم أول من نحت الجبال والصخور والرخام وقد بنوا ألفا وسبعمائة مدينة كلها من الحجارة
وفرعون ذي الأوتاد
وصف بذلك لكثرة جنوده وخيامهم التي يضربونها في منازلهم أو لتعذيبه بالأوتاد
الذين طغوا في البلاد
اما مجرور على أنه صفة للمذكورين أو منصوب أو مرفوع على الذم اي طغى كل طائفة منهم في بلادهم وكذا الكلام في قوله تعالى
فأكثروا فيها الفساد
اي بالكفر وسائر المعاصي
فصب عليهم ربك
اي انزل انزالا شديدا على كل طائفة من أولئك الطوائف عقيب ما فعلته من الطغيان والفساد
سوط عذاب
اي عذاب شديد لا يدرك غايته وهو عبارة عما حل بكل منهم من فنون العذاب التي شرحت في سائر السور الكريمة وتسميته سوطا للإشارة إلى أن ذلك بالنسبة إلى ما أعد لهم في الآخرة بمنزلة السوط عند السيف والتعبير عن انزاله بالصب للايذان بكثرته واستمراره وتتابعه فإنه عبارة عن إراقة شيء مائع أو جار مجراه في السيلان كالرمل والحبوب وافراغه بشدة وكثرة واستمرار ونسبته إلى السوط مع أنه ليس من ذلك القبيل باعتبار تشبيهه في نزوله المتتابع المتدارك على المضروب بقطرات الشيء المصبوب وقيل السوط
155

خلط الشيء بعضه ببعض فالمعنى ما خلط لهم من أنواع العذاب وقد فسر بالنصيب وبالشدة أيضا لأن السوط يطلق على كل منهما لغة فلا حاجة حينئذ في تشبيهه بالمصبوب إلى اعتبار تكرر تعلقه بالمعذب كما في المعنى الأول فان كل واحد من هذه المعاني مما يقبل الاستمرار في نفسه وقوله تعالى
ان ربك لبالمرصاد
تعليل لما قبله وايذان بأن كفار قومه عليه الصلاة والسلام سيصيبهم مثل ما أصاب المذكورين من العذاب كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام وقيل هو جواب القسم وما بينهما اعتراض والمرصاد المكان الذي يترقب فيه الرصد مفعال من رصده كالميقات من وقته وهذا تمثيل لإرصاده تعالى بالعصاة وأنهم لا يفوتونه وقوله تعالى
فأما الانسان
الخ متصل بما قبله كأنه قيل أنه تعالى بصدد مراقبة أحوال عباده ومجازاتهم بأعمالهم خيرا وشرا فأما الانسان فلا يهمه ذلك وانما مطمح انظاره ومرصد أفكاره الدنيا ولذائذها
إذا ما ابتلاه ربه
أي عامله معاملة من يبتليه بالغنى واليسار والفاء في قوله تعالى
فأكرمه ونعمه
تفسيرية فان الاكرام والتنعيم من الابتلاء
فيقول ربي أكرمن
أي فضلني بما أعطاني من المال والجاه حسبما كنت استحقه ولا يخطر بباله أنه فضل تفضل به عليه ليبلوه أيشكر أم يكفر وهو خبر للمبتدأ الذي هو الانسان والفاء لما في أما من معنى الشرط والظرف المتوسط على نية التأخير كأنه قيل فأما الانسان فيقول ربي أكرمن وقت ابتلائه بالانعام وانما تقديمه للايذان من أول الأمر بأن الاكرام والتنعيم بطريق الابتلاء ليتضح اختلال قوله المحكي
وأما إذا ما ابتلاه
أي وأما هو إذا ما ابتلاه ربه
فقدر عليه رزقه
حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم البالغة
فيقول ربي أهانن
ولا يخطر بباله أن ذلك ليبلوه أيصبر أم يجزع مع أنه ليس من الإهانة في شيء بل التقتير قد يؤدي إلى كرامة الدارين والتوسعة قد تفضي إلى خسرانهما وقرئ فقدر بالتشديد وقرئ أكرمني وأهانني باثبات الياء و أكرمن و أهانن بسكون النون في الوقف
كلا
ردع للانسان عن مقالته المحكية وتكذيب له فيها في كلتا الحالتين قال ابن عباس رضي الله عنهما المعنى لم أبتله بالغنى (سقط 156) على ولم أبتله بالفقر لهوانه على بل ذلك لمحض القضاء والقدر وحمل الردع والتكذيب إلى قوله الأخير بعيد وقوله تعالى
بل لا تكرمون اليتيم
انتقال من بيان سوء أقواله إلى بيان سوء أفعاله والالتفات إلى الخطاب للايذان باقتضاء ملاحظة جنايته السابقة لمشافهته بالتوبيخ تشديدا للتقريع وتأكيدا للتشنيع والجمع باعتبار
156

معنى الانسان إذ المراد هو الجنس أي بل لكم أحوال أشد شرا مما ذكر وأدل على تهالككم على المال حيث يكرمكم الله تعالى بكثرة المال فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من اكرام اليتيم بالمبرة به وقرئ لا يكرمون
ولا تحاضون
بحذف احدى التاءين من تتحاضون أي لا يحض بعضكم بعضا
على طعام المسكين
أي على اطعامه وقرئ تحاضون من المحاضة وقرئ يحضون بالياء والتاء
وتأكلون التراث
أي الميراث وأصله وارث
أكلا لما
أي ذا لم أي جمع بين الحلال والحرام فإنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان ويأكلون أنصباءهم أو يأكلون ما جمعه المورث من حلال وحرام عالمين بذلك
وتحبون المال حبا جما
كثيرا مع حرص وشره وقرئ يحبون بالياء
كلا
ردع لهم عن ذلك وقوله تعالى
إذا دكت الأرض دكا دكا
الخ استئناف جيء به بطريق الوعيد تعليلا للردع اي إذا دكت الأرض دكا متتابعا حتى انكسر وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور حين زلزلت وصارت هباء منبثا وقيل الدك حط المرتفع بالبسط والتسوية فالمعنى إذا سويت تسوية بعد تسوية ولم يبق على وجهها شيء حتى صارت كالصخرة الملساء وأيا ما كان فهو عبارة عما عرض لها عند النفخة الثانية
وجاء ربك
أي ظهرت آيات قدرته وآثار قهره مثل ذلك بما يظهر عند حضور السلطان من أحكام هيبته وسياسته وقيل جاء أمره تعالى وقضاؤه على حذف المضاف للتهويل
والملك صفا صفا
أي مصطفين أو ذوي صفوف فإنه ينزل يومئذ ملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم محدقين بالجن والانس
وجئ يومئذ بجهنم
كقوله تعالى وبرزت الجحيم قال ابن مسعود ومقاتل تقاد جهنم بسبعين الف زمام كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها حتى تنصب عن يسار العرش لها تغيظ وزفير وقد رواه مسلم في صحيحه عن ابن مسعود مرفوعا
يومئذ
بدل من إذا دكت والعامل فيهما قوله تعالى
يتذكر الانسان
أي يتذكر ما فرط فيه بتفاصيله بمشاهدة آثاره وأحكامه أو بمعاينة عينه على أن الأعمال تتجسم في النشأة الآخرة فيبرز كل من الحسنات والسيئات بما يناسبها من الصور الحسنة
157

والقبيحة أو يتعظ وقوله تعالى
وأنى له الذكرى
اعتراض جيء به لتحقيق أنه ليس يتذكر حقيقة لعرائه عن الجدوى بعدم وقوعه في أوانه وأنى خبر مقدم والذكرى مبتدأ وله متعلق بما تعلق به الخبر أي ومن أين يكون له الذكرى وقد فات أوانها وقيل هناك مضاف محذوف أي وأنى له منفعة الذكرى والاستدلال به على عدم وجوب قبول التوبة في دار التكليف مما لا وجه له على أن تذكره ليس من التوبة في شيء فإنه عالم بأنها انما تكون في الدنيا كما يعرب عنه قوله تعالى
يقول يا ليتني قدمت لحياتي
وهو بدل اشتمال من يتذكر أو استئناف وقع جوابا عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول يا ليتني عملت لأجل حياتي هذه أو وقت حياتي في الدنيا أعمالا صالحة أنتفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وانما الذي يدل عليه ذلك اعتقاد كونه متمكنا من تقديم الأعمال الصالحة وأما أن ذلك بمحض قدرته أو بخلق الله تعالى عند صرف قدرته الكاسبة اليه فكلا وأما ما قيل من أن المحجور قد يتمنى ان كان ممكنا منه فربما يوهم أن من صرف قدرته إلى أحد طرفي الفعل يعتقد أنه محجور من الطرف الاخر وليس كذلك بل كل أحد جازم بأنه لو صرف قدرته إلى أي طرف كان من أفعاله الاختيارية لحصل وعلى هذا يدور فلك التكليف والزام الحجة
فيومئذ
أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال
لا يعذب عذابه أحد
ولا يوثق وثاقه أحد
الهاء لله تعالى أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقة أحد سواه إذ الأمر كله له أو الانسان أي لا يعذب أحد من الزبانية مثل ما يعذبونه وقرئ الفعلان على البناء للمفعول والضمير للانسان أيضا وقيل المراد به أبي بن خلف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والأغلال مثل وثاقه لتناهيه في الكفر والعناد وقيل لا يحمل عذاب الانسان أحد كقوله تعالى «ولا تزر وازرة وزر أخرى» وقوله تعالى
يا أيتها النفس المطمئنة
حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله عز وجل وطاعته اثر حكاية أحوال من اطمأن بالدنيا وصفت بالاطمئنان لأنها تترقى في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات فتستقر دون معرفته وتستغني به في وجودها وسائر شؤونها عن غيره بالكلية وقيل هي النفس المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين بحيث لا يخالجها شك ما وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن ويؤيده أنه قرىء يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة أي يقول
158

الله تعالى ذلك بالذات كما كلم موسى عليه السلام أو على لسان الملك عند تمام حساب الناس وهو الأظهر وقيل عند البعث وقيل عند الموت
ارجعي إلى ربك
أي إلى موعده أو إلى امره
راضية
بما أوتيت من النعيم المقيم
مرضية
عند الله عز وجل
فادخلي في عبادي
في زمرة عبادي الصالحين المختصين بي
وادخلي جنتي
معهم أو انتظمي في سلك المقربين واستضيئي بأنوارهم فان الجواهر القدسية كالمرايا المتقابلة وقيل المراد بالنفس الروح والمعنى فادخلي أجساد عبادي التي فارقت عنها وادخلي دار ثوابي وهذا يؤيد كون الخطاب عند البعث وقرئ فادخلي في عبدي وقرئ في جسد عبدي وقيل نزلت في حزة بن عبد المطلب وقيل في حبيب بن عدي رضي الله عنهما والظاهر العموم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها في سائر الأيام كانت له نورا يوم القيامة
159

سورة البلد مكية و آيها عشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
لا أقسم بهذا البلد
أقسم سبحانه بالبلد الحرام وبما عطف عليه على أن الانسان خلق ممنوا بمقاساة الشدائد ومعاناة المشاق واعترض بين القسم وجوابه بقوله تعالى
وأنت حل بهذا البلد
اما لتشريفه عليه الصلاة والسلام بجعل حلوله به مناطا لإعظامه بالإقسام به أو للتنبيه من أول الأمر على تحقق مضمون الجواب بذكر بعض مواد المكابدة على نهج براعة الاستهلال وبيان أنه عليه الصلاة والسلام مع جلالة قدره وعظم حرمته قد استحلوه في هذا البلد الحرام وتعرضوا له بما لا خير فيه وهموا بما لم ينالوا عن شرحبيل يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك أو لتسليته عليه الصلاة والسلام بالوعد بفتحه على معنى وأنت حل به في المستقبل كما في قوله تعالى «إنك ميت وإنهم ميتون» تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر وقد كان كذلك حيث أحل له عليه الصلاة والسلام مكة وفتحها عليه وما فتحت على أحد قبله ولا أحلت له فأحل عليه الصلاة والسلام فيها ما شاء وحرم ما شاء قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة ومقيس بن ضبابة وغيرهما وحرم دار أبي سفيان ثم قال ان الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي الا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها الا لمنشد فقال العباس يا رسول الله الا الإذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام إلا الإذخر
ووالد
عطف على هذا البلد والمراد به إبراهيم وبقوله تعالى
وما ولد
إسماعيل والنبي صلوات الله عليهم أجمعين حسبما ينبئ عنه المعطوف عليه فإنه حرم إبراهيم ومنشأ إسماعيل ومسقط رأس رسول الله عليهم الصلاة والسلام والتعبير عنهما بما دون من للتفخيم والتعظيم كتنكير والد وإيرادهم بعنوان الولاد ترشيح لمضمون الجواب ايماء إلى أنه متحقق في حالتي الوالدية والولدية
160

وقيل آدم عليه السلام ونسله وهو أنسب لمضمون الجواب من حيث شموله للكل الا أن التفخيم المستفاد من كلمة ما لا بد فيه من اعتبار التغليب وقيل وكل والد وولده
لقد خلقنا الانسان في كبد
أي تعب ومشقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشدائد من وقت نفخ الروح إلى نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبدا إذا وجعت كبده وأصله كبده إذا أصاب كبده ثم اتسع فيه حتى استمع في كل نصب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة كما قيل كبته بمعنى أهلكه وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من كفار قريش والضمير في قوله تعالى
أيحسب
لبعضهم الذي كان عليه الصلاة والسلام يكابد منهم ما يكابد كالوليد بن المغيرة وأضرابه وقيل هو أبو الأشد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغترا بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة فيتقطع قطعا ولا تزل قدماه اي أيظن هذا القوي المارد المتضعف للمؤمنين
أن لن يقدر عليه أحد
ان مخففة من أن واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف اي أيحسب أنه لن يقدر على الانتقام منه أحد
يقول أهلكت مالا لبدا
يريد كثرة ما أنفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها مكارم ويدعونها معالي ومفاخر
أيحسب أن لم يره أحد
حين كان ينفق وأنه تعالى لا يسأله عنه ولا يجازيه عليه
ألم نجعل له عينين
يبصر بهما
ولسانا
يترجم به عن ضمائره
وشفتين
يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب وغيرها
وهديناه النجدين
أي طريقي الخير والشر أو الثديين وأصل النجد المكان المرتفع
فلا اقتحم العقبة
أي فلم يشكر تلك النعم الجليلة بالأعمال الصالحة وعبر عنها
161

بالعقبة التي هي الطريق في الجبل لصعوبة سلوكها وقوله تعالى
وما أدراك ما العقبة
أي أي شيء أعلمك ما اقتحام العقبة لزيادة تقريرها وكونها عند الله تعالى بمكانة رفيعة
فك رقبة
أي هو اعتاق رقبة
أو اطعام في يوم ذي مسغبة
أي مجاعة
يتيما ذا مقربة
أي قرابة
أو سكينا ذا متربة
أي افتقار وحيث كان المراد باقتحام العقبة هذه الأمور حسن دخول لا على الماضي فإنها لا تكاد تقع الا مكررة إذ المعنى فلا فك رقبة ولا أطعم يتيما أو مسكينا والمسغبة والمقربة والمتربة مفعلات من سغب إذا جاع وقرب من النسب وترب إذا افتقر وقرئ فك رقبة أو أطعم على الابدال من اقتحم
ثم كان من الذين آمنوا
عطف على المنفي بلا وثم للدلالة على تراخي رتبة الايمان ورفعة محله لاشتراط جميع الأعمال الصالحة به
وتواصوا بالصبر
عطف على آمنوا أي أوصي بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله
وتواصوا بالمرحمة
بالرحمة على عباده أو بموجبات رحمته من الخيرات
أولئك
إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار اليه للايذان ببعد درجتهم في الشرف والفضل أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة
أصحاب الميمنة
اي اليمين أو اليمن
والذين كفروا بآياتنا
بما نصبناه دليلا على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن
هم أصحاب المشأمة
أي الشمال أو الشؤم
عليهم نار مؤصدة
مطبقة من آصدت الباب إذا
162

أطبقته وأغلقته وقرئ موصدة بغير همزة من أوصدته عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة البلد أعطاه الله تعالى الأمان من غضبه يوم القيامة
سورة الشمس مكية و آيها خمس عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
والشمس وضحاها
أي ضوئها إذا أشرقت وقام سلطانها وقيل الضحوة ارتفاع النهار والضحى فوق ذلك والضحاء بالفتح والمد إذا امتد النهار وكاد ينتصف
والقمر إذا تلاها
بأن طلع بعد غروبها وقيل إذا تلا طلوعه طلوعها وقيل إذا تلاها في الاستدارة وكمال النور
والنهار إذا جلاها
أي جلى الشمس فإنها تتجلى عند انبساط النهار فكأنه جلاها مع أنها التي تبسطه أو جلى الظلمة أو الدنيا أو الأرض وان لم يجر لها ذكر للعلم بها
والليل إذا يغشاها
اي الشمس فيغطي ضوؤها أو الآفاق أو الأرض وحيث كانت الواوات العاطفة نوائب للواو الأولى القسمية القائمة مقام الفعل والباء سادة مسدهما معا في قولك اقسم بالله حققن أن يعملن عمل الفعل والجار جميعا كما تقول ضرب زيد عمرا وبكر وخالدا
والسماء وما بناها
أي ومن بناها وايثار ما على من لإرادة الوصفية تفخيما كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها وجعلها مصدرية مخل بالنظم الكريم وكذا الكلام في قوله تعالى
والأرض وما طحاها
أي بسطها من كل جانب كدحاها
163

ونفس وما سواها
أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالاتها والتنكير للتفخيم على أن المراد نفس آدم عليه السلام أو للتكثير وهو الأنسب للجواب
فألهمها فجورها وتقواها
أي أفهمها إياهما وعرفها حالهما من الحسن والقبح وما يؤدي اليه كل منهما ومكنها من اختيار أيهما شاءت وتقديم الفجور لمراعاة الفواصل
قد أفلح من زكاها
اي فاز بكل مطلوب ونجا من كل مكروه من أنماها وأعلاها بالتقوى وهو جواب القسم وحذف اللام لطول الكلام وتكرير قد في قوله تعالى
وقد خاب من دساها
لابراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونه والايذان بتعلق القسم به أيضا اصالة أي خسر من نقصها وأخفاها بالفجور وأصل دسى دسس كتقضى وتقضض وقيل هو كلام تابع لقوله تعالى «فألهمها فجورها وتقواها» بطريق الاستطراد وانما الجواب ما حذف تعويلا على دلالة قوله تعالى
كذبت ثمود بطغواها
عليه كأنه قيل ليدمدمن الله تعالى على كفار مكة لتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السلام وهو على الأول استئناف وارد لتقرير مضمون قوله تعالى «وقد خاب من دساها» والطغوى بالفتح الطغيان والباء للسببية أي فعلت التكذيب بسبب طغيانها كما تقول ظلمني بجراءته على الله تعالى أو صلة للتكذيب اي كذبت بما أو عدت به من العذاب ذي الطغوى كقوله تعالى «فأهلكوا بالطاغية» وقرئ بطغواها بضم الطاء وهو أيضا مصدر كالرجعي
إذ انبعث أشقاها
منصوب بكذبت أو بالطغوى اي حين قام أشقى ثمود وهو قدار بن سلف أو هو ومن تصدى معه لعقر الناقة من الأشقياء فان أفعل التفصيل إذا أضيف يصلح للواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وفضل شقاوتهم على من عداهم لمباشرتهم العقر مع اشتراك الكل في الرضا به
فقال لهم
أي لثمود
رسول الله
اي صالح عليه السلام عبر عنه بعنوان الرسالة ايذانا بوجوب طاعته وبيانا لغاية عتوهم وتماديهم في الطغيان وهو السر في إضافة الناقة إلى الله تعالى في قوله تعالى
ناقة الله
164

أي ذروا ناقة الله
وسقياها
ولا تذودوها عنها في نوبتها
فكذبوه
اي في وعيده بقوله تعالى «ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم» وقد جوز ان يكون ضمير لهم للأشقين ولا يلائمه ذكر سقياها
فعقروها
اي الأشقى والجمع على تقدير وحدته لرضا الكل بفعله وقال قتادة بلغنا انه لم يعقرها حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وقال الفراء عقرها اثنان والعرب تقول هذان أفضل الناس
فدمدم عليهم ربهم
فأطبق عليهم العذاب وهو من تكرير قولهم ناقة مدمدمة إذا ألبسها الشحم
بذنبهم
بسبب ذنبهم المحكى والتصريح بذلك مع دلالة الفاء عليه للانذار بعاقبة الذنب ليعتبر به كل مذنب
فسواها
أي الدمدمة بينهم لم يفلت منهم أحد من صغير وكبير أو فسوى ثمود بالأرض أو سواها في الهلاك
ولا يخاف عقباها
اي عاقبتها وتبعتها كما يخاف سائر المعاقبين من الملوك فيبقى بعض الابقاء وذلك انه تعالى لا يفعل فعلا الا بحق وكل من فعل بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله وان كان من شأنه الخوف والواو للحال أو للاستئناف وقرئ فلا يخاف وقرئ لم يخف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الشمس فكأنما تصدق بكل شيء طلعت عليه الشمس والقمر
165

سورة الليل مكية و آيها احدى وعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
والليل إذا يغشى
أي حين يغشى الشمس كقوله تعالى «والليل إذا يغشاها» أو النهار أو كل ما يواريه بظلامه
والنهار إذا تجلى
ظهر بزوال ظلمة الليل أو تبين وتكشف بطلوع الشمس
وما خلق الذكر والأنثى
اي والقادر العظيم القدرة الذي خلق صنفي الذكر والأنثى من كل ماله توالد وقيل هما آدم وحواء وقرئ والذكر والأنثى وقرئ والذي خلق الذكر والأنثى وقيل ما مصدرية
ان سعيكم لشتى
جواب القسم وشتى جمع شتيت اي ان مساعيكم لأشتات مختلفة وقوله تعالى
فأما من أعطى واتقى
وصدق بالحسنى
الخ تفصيل لتلك المساعي المشتتة وتبيين لأحكامها أي فأما من أعطى حقوق ماله واتقى محارم الله تعالى التي نهى عنها وصدق بالخصلة الحسنى وهي الايمان أو بالكلمة الحسنى وهي كلمة التوحيد أو بالملة الحسنى وهي ملة الاسلام أو بالمثوبة الحسنى وهي الجنة
فسنيسره لليسرى
فسنهيئه للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة كدخول الجنة ومباديه من يسر الفرس للركوب إذا أسرجها وألجمها
وأما من بخل
أي بماله فلم يبذله في سبيل الخير
166

واستغنى
أي زهد فيما عنده تعالى كأنه مستغن عنه فلم يتقه أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة
وكذب بالحسنى
أي ما ذكر من المعاني المتلازمة
فسنيسره للعسرى
أي للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة كدخول النار ومقدماته لاختياره لها ولعل تصدير القسمين بالاعطاء والبخل مع أن كلا منهما أدنى رتبة مما بعدهما في استتباع التيسير لليسرى والتيسير للعسرى للايذان بأن كلا منهما أصل فيما ذكر لا تتمة لما بعدهما من التصديق والتقوى والتكذيب والاستغناء وتفسير الأول باعطاء الطاعة والثاني بالبخل بما امر به مع كونه خلاف الظاهر يأباه قوله تعالى
وما يغني عنه
أي ولا يغني أو أي شيء يغني عنه
ماله
الذي يبخل به
إذا تردى
أي هلك تفعل من الردي الذي هو الهلاك أو تردى في الحفرة إذا قبر أو تردى في قعر جهنم
ان علينا للهدى
استئناف مقرر لما قبله اي ان علينا بموجب قضائنا المبني على الحكم البالغة حيث خلقنا الخلق للعبادة ان نبين لهم طريق الهدى وما يؤدي اليه من طريق الضلال وما يؤدي اليه وقد فعلنا ذلك بما لا مزيد عليه حيث بينا حال من سلك كلا الطريقين ترغيبا وترهيبا ومن ههنا تبين أن الهداية هي الدلالة على ما يوصل إلى البغية لا الدلالة الموصلة إليها قطعا
وان لنا للآخرة والأولى
أي التصرف الكلي فيهما كيفما نشاء فنفعل فيهما ما نشاء من الأفعال التي من جملتها ما وعدنا من التيسير لليسرى والتيسير للعسرى وقيل ان لنا كل ما في الدنيا والآخرة فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا
فأنذرتكم نارا تلظى
بحذف احدى التاءين من تتلظى اي تتلهب وقرئ على الأصل
لا يصلاها
صليا لازما
الا الأشقى
الا الكافر فان الفاسق لا يصلاها صليا لازما وقد صرح به قوله تعالى
الذي كذب وتولى
اي كذب بالحق وأعرض عن الطاعة
167

وسيجنبها
أي سيبعد عنها
إلا تقى
المبالغ في اتقاء الكفر والمعاصي فلا يحوم حولها فضلا عن دخولها أو صليها الأبدي وأما من دونه ممن يتقي الكفر دون المعاصي فلا يبعد عنها هذا التبعيد وذلك لا يستلزم صليها بالمعنى المذكور فلا يقدح في الحصر السابق
الذي يؤتي ماله
يعطيه ويصرفه في وجوه البر والحسنات وقوله تعالى
يتزكى
اما بدل من يؤتي داخل في حكم الصلة لا محل له أو في حيز النصب على أنه حال من ضمير يؤتى أي يطلب أن يكون عند الله تعالى زاكيا ناميا لا يريدون به رياء ولا سمعة
وما لأحد عنده من نعمة تجزى
استئناف مقرر لكون إيتائه للتزكي خالصا لوجه الله تعالى أي ليس لأحد عنده نعمة من شأنها ان تجزى وتكافأ فيقصد بايتاء ما يؤتى مجازاتها وقوله تعالى
الا ابتغاء وجه ربه الأعلى
استثناء منقطع من نعمة وقرئ بالرفع على البدل من محل نعمة فإنه الرفع اما على الفاعلية أو على الابتداء ومن مزيدة ويجوز ان يكون مفعولا له لأن المعنى لا يؤتى ماله الا ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة والآيات نزلت في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين اشترى بلالا في جماعة كان يؤذيهم المشركون فأعتقهم ولذلك قالوا المراد بالأشقى أو جهل أو أمية بن خلف وقد روي عطاء والضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عذب المشركون بلالا وبلال يقول أحد أحد فمر به النبي عليه الصلاة والسلام فقال أحد يعني الله تعالى ينجيك ثم قال لأبي بكر رضي الله عنه ان بلالا يعذب في الله فعرف مراده عليه الصلاة والسلام فانصرف إلى منزله فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف فقال له أتبيعني بلالا قال نعم فاشتراه فأعتقه فقال المشركون ما أعتقه أبو بكر الا ليد كانت له عنده فنزلت وقوله تعالى
ولسوف يرضى
جواب قسم مضمر أي وبالله لسوف يرضى وهو وعد كريم بنيل جميع ما يبتغيه على أكمل الوجوه وأجملها إذ به يتحقق الرضا وقرئ يرضى مبنيا للمفعول من الارضاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر
168

سورة الضحى مكية و آيها احدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
والضحى
هو وقت ارتفاع الشمس وصدر النهار قالوا تخصيصه بالإقسام به لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام وألقى فيها السحرة سجدا لقوله تعالى «وأن يحشر الناس ضحى» وقيل أريد به النهار كما في قوله تعالى «أن يأتيهم بأسنا ضحى» في مقابلة بياتا
والليل
أي جنس الليل
إذا سجى
أي سكن أهله أو ركد ظلامه من سجا البحر سجوا إذا سكنت أمواجه ونقل عن قتادة ومقاتل وجعفر الصادق ان المراد بالضحى هو الضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبالليل ليلة المعراج وقوله تعالى
ما ودعك ربك
جواب القسم أي ما قطعك قطع المودع وقرئ بالتخفيف أي ما تركك
وما قلى
أي وما أبغضك وحذف المفعول اما للاستغناء عنه بذكره من قبل أو للقصد إلى نفي صدور الفعل عنه تعالى بالكلية مع أن فيه مراعاة للفواصل روي أن الوحي تأخر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما لتركه الاستثناء كما مر في سورة الكهف أو لزجره سائلا ملحا فقال المشركون ان محمدا ودعه ربه وقلاه فنزلت ردا عليهم وتبشيرا له عليه الصلاة والسلام بالكرامة الحاصلة والمترقبة كما يشعر به ايراد اسم الرب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام وحيث تضمن ما سبق من نفي التوديع والقلي أنه تعالى يواصله بالوحي والكرامة في الدنيا بشره عليه الصلاة والسلام بأن ما سيؤتيه في الآخرة أجل وأعظم من ذلك فقيل
وللآخرة خير لك من الأولى
لما أنها باقية صافية عن الشوائب على الاطلاق وهذه فانية مشوبة بالمضار وما أوتي عليه الصلاة والسلام من شرف النبوة وان كان مما لا يعادله شرف ولا يدانيه فضل
169

لكنه لا يخلو في الدنيا من بعض العوارض الفادحة في تمشية الأحكام مع أنه عندما أعد له عليه الصلاة والسلام في الآخرة من السبق والتقدم على كافة الأنبياء والرسل
يوم الجمع يوم يقوم الناس لرب العالمين وكون أمته شهداء على سائر الأمم ورفع درجات المؤمنين واعلاء مراتبهم بشفاعته وغير ذلك من الكرامات السنية التي لا تحيط بها العبارة بمنزلة بعض المبادئ بالنسبة إلى المطالب وقيل المراد بالآخرة عاقبة أمره عليه الصلاة والسلام أي لنهاية أمرك خير من بدايته لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة وقوله تعالى
ولسوف يعطيك ربك فترضى
عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله تعالى في الدنيا من كمال النفس وعلوم الأولين والآخرين وظهور الأمر واعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره عليه الصلاة والسلام وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الاسلامية وفشو الدعوة والاسلام في مشارق الأرض ومغاربها ولما ادخر له من الكرامات التي لا يعلمها الا الله تعالى وقد أنبأ ابن عباس رضي الله عنهما عن شمة منها حيث قال له عليه الصلاة والسلام في الجنة الف قصر من لؤلؤ ابيض ترابه المسك واللام للابتداء دخلت الخبر لتأكيد مضمون الجملة والمبتدأ محذوف تقديره ولأنت سوف يعطيك الخ لا للقسم لأنها لا تدخل على المضارع الا مع النون المؤكدة وجمعها مع سوف للدلالة على أن الاعطاء كائن لا محالة وان تراخي لحكمة وقيل هي للقسم وقاعدة التلازم بينها وبين نون التأكيد قد استثنى النجاة منها صورتين إحداهما ان يفصل بينها وبين الفعل بحرف التنفيس كهذه الآية وكقوله والله لسأعطيك والثانية أن يفصل بينهما بمعمول الفعل كقوله تعالى «لإلى الله تحشرون» وقال أبو علي الفارسي ليست هذه اللام هي التي في قولك ان زيدا لقائم بل هي التي في قولك لأقومن ونابت سوف عن احدى نوني التأكيد فكأنه قيل وليعطينك وكذلك اللام في قوله تعالى وللآخرة الخ وقوله تعالى
ألم يجدك يتيما فآوى
تعديد لما أفاض عليه عليه الصلاة والسلام من أول أمره إلى ذلك الوقت من فنون النعماء العظام ليستشهد بالحاضر الموجود على المترقب الموعود فيطمئن قلبه وينشرح صدره والهمزة لانكار النفي وتقرير المنفي على أبلغ وجه كأنه قيل قد وجدك الخ والوجود بمعنى العلم ويتيما مفعوله الثاني وقيل بمعنى المصادقة ويتيما حال من مفعوله روي أن أباه مات وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه وهو ابن ثمان سنين فكفله عمه أبو طالب وعطفه الله عليه فأحسن تربيته وذلك إيواؤه وقرئ فأوى وهو اما من أواه بمعنى آواه أو من أوى له إذا رحمه وقوله تعالى
ووجدك ضالا
عطف على ما يقتضيه الانكار السابق كما أشير اليه أو على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه كأنه قيل أما وجدك يتيما فأوى ووجدك غافلا عن الشرائع التي لا تهتدي
170

إليها العقول كما في قوله تعالى «كنت تدري ما الكتاب» وقيل ضل في صباه في بعض شعاب مكة فرده أبو جهل إلى عبد المطلب وقيل ضل مرة أخرى وطلبوه فلم يجدوه فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا وتضرع إلى الله تعالى فسمعوا مناديا ينادي من السماء يا معشر الناس لا تضجوا فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه وإن محمدا بوادي تهامة عند شجر السمر فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق وقيل أضلته مرضعته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب وقيل ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب
يروى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل به عن الطريق فجاء جبريل عليه السلام فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند ورده إلى القافلة «فهدى» فهداك إلى مناهج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما أوحى إليك من الكتاب المبين وعلمك ما لم تكن تعلم أو أزال ضلالك عن جدك أو عمك «ووجدك عائلا» أي فقيرا وقرئ عيلا وقرئ عديما «فأغنى» فأغناك بمال خديجة أو بمال حصل لك من ربح التجارة أو بمال أفاء عليك من الغنائم قال عليه الصلاة والسلام جعل رزقي تحت ظل رمحي وقيل قنعك وأغنى قلبك «فأما اليتيم فلا تقهر» فلا تغلبه على ماله وقال مجاهد لا تحتقر وقرئ فلا تكهر أي فلا تعبس في وجهه «وأما السائل فلا تنهر» فلا تزجر ولا تغلظ له القول بل رده ردا جميلا قال إبراهيم بن أدهم نعم القول السؤال يحملون زادنا إلى الآخرة وقال إبراهيم النخعي السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول أتبعثون إلى أهليكم بشيء وقيل المراد بالسائل ههنا الذي يسأل عن الدين «وأما بنعمة ربك فحدث» بشكرها وإشاعتها وإظهار آثارها وأحكامها أريد بها ما أفاضه الله تعالى عليه الصلاة والسلام من فنون النعم التي من جملتها النعم المعدودة الموجودة منها والموعودة والمعنى إنك كنت يتيما وضالا وعائلا فآواك الله تعالى وهداك وأغناك فمهما يكن من شيء فلا تنس حقوق نعمة الله تعالى عليك في هذه الثلاث واقتد بالله تعالى وأحسن كما أحسن الله إليك فتعطف على اليتيم فآوه وترحم على السائل وتفقده بمعروفك ولا تزجره عن بابك وحدث بنعمة الله كلها وحيث كان معظمها نعمة النبوة فقد اندرج تحت الأمر هدايته عليه الصلاة والسلام للضلال وتعليمه للشرائع والأحكام حسبما هداه الله عز وجل وعلمه من الكتاب والحكمة
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الضحى جعله الله تعالى فيمن يرضى لمحمد أن يشفع له وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم وسائل
171

سورة الشرح مكية وآياتها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم «ألم نشرح لك صدرك» لما كان الصدر محلا لأحوال النفس ومخزنا لسرائرها من العلوم والإدراكات والملكات والإرادات وغيرها عبر بشرحه عن توسيع دائرة تصرفاتها بتأييدها بالقوة القدسية وتحليتها بالكمالات الأنسية أي ألم نفسحه حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق وقيل أريد به ما روى أن جبريل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في صباه أو يوم الميثاق فاستخرج قلبه فغسله ثم ملأه إيمانا وعلما ولعله تمثيل لما ذكر أو أنموذج جسماني مما سيظهر له عليه الصلاة والسلام من الكمال الروحاني والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يجيب عنه بغير بلى وزيادة
الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمر بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه عليه الصلاة والسلام وتشويقا له إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن وقوله تعالى «ووضعنا عنك وزرك» عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قد شرحنا صدرك ووضعنا ألخ وعنك متعلق بوضعنا وتقديمه على المفعول الصريح مع أن حقه التأخر عنه لما مر آنفا من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه لما مر آنفا من القصد إلى تعجيل أي حططنا عنك عبأك الثقيل «الذي أنقض ظهرك» أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك كما يسمع من الرحل المتداعي إلى الانتقاض من ثقل الحمل مثل به حاله عليه الصلاة والسلام مما كان يثقل عليه ويغمه من فرطاته قبل النبوة أو من عدم إحاطته بتفاصيل الأحكام والشرائع أو من تهالكه على إسلام المعاندين
172

من قومه وتلهفه ووضعه عند مغفرته وتعليم الشرائع وتمهيد عذره بعد أن بلغ وبالغ وقرئ وحططنا وحللنا مكان وضعنا وقرئ وحللنا عنك وقرك «ورفعنا لك ذكرك» بعنوان النبوة وأحكامها أي رفع حيث قرن اسمه باسم الله تعالى في كلمة الشهادة والأذان والإقامة وجعل طاعته طاعته تعالى وصلى عليه هو وملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وسمى رسول الله ونبي الله والكلام في العطف وزيادة لك كالذي سلف وقوله تعالى «فإن مع العسر يسرا» تقرير لما قبله ووعده كريم بتيسير كل عسير له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين كأنه قيل خولناك ما خولناك من جلائل النعم فكن على ثقة بفضل الله تعالى ولطفه فإن مع العسر يسرا كثيرا وفي كلمته مع إشعار بغاية سرعة مجيء اليسر كأنه مقارن للعسر «إن مع العسر يسرا» تكرير للتأكيد أو عدة مستأنفة بأن العسر مشفوع بيسر آخر كثواب الآخرة كقولك إن للصائم فرحتان للصائم فرحة أي فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب وعليه قوله صلى الله عليه وسلم لن يغلب عسر يسرين فإن المعرف إذا أعيد يكون الثاني عين الأول سواء كان معهودا أو جنسا وأما المنكر فيحتمل أن يراد بالثاني فرد مغاير لما أريد بالأول «فإذا فرغت» أي من التبليغ وقيل من الغزو «فانصب» فاجتهد في العبادة واتعب شكرا لما أوليناك من النعم السالفة ووعدناك من الآلاء الآنفة وقيل فإذا فرغت من صلاتك فاجتهد في الدعاء وقيل إذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك «وإلى ربك» وحده «فارغب» بالسؤال ولا تسأل غيره فإنه القادر على إسعافك لا غيره وقرئ فرغب أي فرغب الناس إلى طلب ما عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرج عني
173

سورة التين مكية وقيل مدنية و آيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم «والتين والزيتون» هما هذا التين وهذا الزيتون خصهما الله سبحانه من بين الثمار بالإقسام بهما لاختصاصهما بخواص جليلة فإن التين فاكهة طيبة لا فضل له غذاء لطيف سريع الهضم ودواء كثير النفع يلين الطبع ويحلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح سدد الكبد والطحال وروى أبو ذر رضي الله عنه أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم سل من تين فأكل منه وقال لأصحابه كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذا لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس وعن علي بن موسى الرضا التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج وأما الزيتون فهو فاكهة وإدام ودواء ولو لم يكن له سوى اختصاصه بدهن كثير المنافع مع حصوله في بقاع لا دهنية فيها لكفى به فضلا وشجرته هي الشجرة المباركة المشهود لها في التنزيل ومر معاذ بن جبل رضي الله عنه بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيا واستاك به وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة وسمعته يقول هو سواكي وسواك الأنبياء قبلي وقيل هما جبلان من الأرض المقدسة يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا لأنهما منبتا التين والزيتون وقيل التين جبل ما بين حلوان وهمدان والزيتون جبال الشام لأنهما منابتهما كأنه قيل ومنابت التين والزيتون وقال قتادة التين الجبل الذي عليه دمشق والزيتون الجبل الذي عليه بيت المقدس وقال عكرمة وابن زيد التين دمشق والزيتون بيت المقدس وهو اختيار الطبري وقال محمد بن كعب التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا وعن ابن عباس رضي الله عنهما التين مسجد نوح عليه السلام الذي بناه على الجودي والزيتون مسجد بيت المقدس وقال الضحاك التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى والصحيح هو الأول قال ابن عباس رضي الله عنهما هو تينكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت وبه قال مجاهد وعكرمة وإبراهيم النخعي وعطاء وجابر وزيد ومقاتل والكلبي «وطور سينين»
174

هو الجبل الذي ناجى عليه موسى ربه وسينين وسيناء علمان للموضع الذي هو فيه ولذلك أضيف إليهما وسينون كبيرون في جواز الإعراب بالواو والياء والإقرار على الياء وتحريك النون بالحركات الإعرابية «وهذا البلد الأمين» أي الآمن من أمن الرجل أمانة فهو أمين وهو مكة شرفها الله تعالى وأمانتها أنها تحفظ من دخلها كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل كما وصف بالآمن في قوله تعالى «حرما آمنا» بمعنى ذي أمن ووجه الإقسام بهاتيك البقاع المباركة المشحونة ببركات الدنيا والدين غنى عن الشرح والتبيين «لقد خلقنا الإنسان» أي جنس الإنسان «في أحسن تقويم» أي كائنا في أحسن ما يكون من التقويم والتعديل صورة ومعنى حيث برأه الله تعالى مستوى القامة متناسب الأعضاء متصفا بالحياة والعلم والقدرة والإرادة والتكلم والسمع والبصر وغير ذلك من الصفات التي هي من أنموذجات من الصفات السبحانية وآثار لها وقد عبر بعض العلماء عن ذلك بقوله خلق آدم على صورته وفي رواية على صورة الرحمن وبنى عليه تحقيق معنى قوله من عرف نفسه فقد عرف ربه وقال إن النفس الإنسانية مجردة ليست حالة في البدن ولا خارجة عنه متعلقة به تعلق التدبير والتصرف تستعمله كيفما شاءت فإذا أرادت فعلا من الأفاعيل الجسمانية تلقيه إلى ما في القلب من الروح الحيواني الذي هو أعدل الأرواح وأصفاها وأقربها منها وأقواها مناسبة إلى عالم المجردات إلقاء روحانيا وهو يلقيه بواسطة ما في الشرايين من الأرواح إلى الدماغ الذي هو منبت الأعصاب التي فيها القوى المحركة للإنسان فعند ذلك يحرك من الأعضاء ما يليق بذلك الفعل من مباديه البعيدة والقريبة فيصدر عنه ذلك بهذه الطريقة فمن عرف نفسه على هذه الكيفية من صفاتها وأفعالها تسنى له أن يترقى إلى معرفة
رب العزة عز سلطانه ويطلع على أنه سبحانه منزه عن كونه داخلا في العالم أو خارجا عنه يفعل فيه ما يشاء ويحكم ما يريد بواسطة ما رتبه فيه من الملائكة الذين يستدل على شؤونهم بما ذكر من الأرواح والقوى المرتبة في العالم الإنساني الذي هو نسخة للعالم الأكبر وأنموذج منه وقوله تعالى «ثم رددناه أسفل سافلين» أي جعلناه من أهل النار الذين هم أقبح من كل قبيح وأسفل من كل سافل لعدم جريانه على موجب ما خلقناه عليه من الصفات التي لو عمل بمقتضاها لكان في أعلى عليين وقيل رددناه إلى أرذل العمر وهو الهرم بعد الشباب والضعف بعد القوة كقوله تعالى «ومن نعمره ننكسه في الخلق» وأيا ما كان فأسفل سافلين إما حال من المفعول أي رددناه حال كونه أسفل سافلين أو صفة لمكان محذوف أي رددناه مكانا أسفل سافلين والأول أظهر وقرئ
175

أسفل السافلين وقوله تعالى «إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» على الأول استثناء متصل من ضمير رددناه فإنه في معنى الجمع وعلى الثاني منقطع أي لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى «فلهم أجر غير ممنون» غير منقطع على طاعتهم وصبرهم على بلاء الله تعالى بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم أو غير ممنون به عليهم وهذه الجملة على الأول مقررة لما يفيده الاستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد ومبينة لكيفية حالهم والخطاب في قوله تعالى «فما يكذبك بعد بالدين» للرسول صلى الله عليه وسلم أي فأي شيء يكذبك دلالة أو نطقا بالجزاء بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة به وقيل ما بمعنى من وقيل الخطاب للإنسان على طريق الالتفات لتشديد التوبيخ والتبكيت أي فما يجعلك كاذبا بسبب الدين وإنكاره بعد هذه الدلائل والمعنى أن خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا وتحويله من حال إلى حال كمالا ونقصانا من أوضح الدلائل على قدرة الله عز وجل على البعث والجزاء فأي شيء يضطرك بعد هذا الدليل القاطع إلى أن تكون كاذبا بسبب تكذيبه أيها الإنسان «أليس الله بأحكم الحاكمين» أي أليس الذي فعل ما ذكر بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا حتى يتوهم عدم الإعادة والجزاء وحيث استحال عدم كونه أحكم الحاكمين تعين الإعادة والجزاء فالجملة تقرير لما قبلها وقيل الحكم بمعنى القضاء فهي وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما يستحقونه من العذاب
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها يقول بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التين أعطاه الله تعالى الخصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله تعالى من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة
176

سورة العلق مكية وأيها تسع عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم «اقرأ» أي ما يوحى إليك فإن الأمر بالقراءة يقتضي المقروء قطعا وحيث لم يعين وجب أن يكون ذلك ما يتصل بالأمر حتما سواء كانت السورة أول ما نزل أولا والأقرب أن هذا إلى قوله تعالى «ما لم يعلم» أول ما نزل عليه عليه الصلاة والسلام كما ينطق به حديث الزهر المشهور وقوله تعالى «باسم ربك» متعلق بمضمر هو حال من ضمير الفاعل أي إقرأ ملتبسا باسمه تعالى أي مبتدئا به لتتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال اللائق شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام للإشعار بتبليغه عليه السلام إلى الغاية القاصية من الكمالات البشرية بإنزال الوحي المتواتر ووصف الرب بقوله تعالى «الذي خلق» لتذكير أول النعماء الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام منه تعالى والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلا عن سائر الكمالات قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم أي الذي أنشأ الخلق واستأثر به أو خلق كل شيء وقوله تعالى «خلق الإنسان» على الأول تخصيص لخلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير وعلى الثاني إفراد للإنسان من بين سائر المخلوقات بالبيان وتفخيم لشأنه إذ هو أشرفهم وإليه التنزيل وهو المأمور بالقراءة ويجوز أن يراد بالفعل الأول أيضا خلق الإنسان ويقصد بتجريده عن المفعول الإبهام ثم التفسير روما لتفخيم فطرته وقوله تعالى «من علق» أي دم جامد لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالته الأولى والآخرة من التباين البين وإيراده بلفظ الجمع بناء على أن الإنسان في معنى الجمع لمراعاة الفواصل ولعله هو السر في تخصيصه بالذكر من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والتراب أدل منه على كمال القدرة لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه عليه الصلاة والسلام منه تعالى
177

وأقدم الدلائل الدالة على وجوده عز وجل وكمال قدرته وعلمه وحكمته وصف ذاته تعالى بذلك أولا ليستشهد عليه السلام به على تمكينه تعالى له من القراءة ثم كرر الأمر بقوله تعالى «اقرأ» أي افعل ما أمرت به تأكيدا للإيجاب وتمهيدا لما يعقبه من قوله تعالى «وربك الأكرم» الخ فإنه كلام مستأنف وارد لإزاحة ما بينه عليه السلام من العذر بقوله عليه السلام ما أنا بقارئ يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ وأنا أمي فقيل له وربك الذي أمرك بالقراءة مبتدئا باسمه هو الأكرم «الذي علم بالقلم» أي علم ما علم بواسطة القلم لا غيره فكما علم القارئ بواسطة الكتابة والقلم يعلمك بدونهما وقوله تعالى «علم الإنسان ما لم يعلم» بدل اشتمال من علم بالقلم أي علمه به وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله وفي حذف المفعول أولا وإيراده بعنوان عدم المعلومية ثانيا من الدلالة على كمال قدرته تعالى وكمال كرمه والإشعار بأنه تعالى يعلمه من العلوم ما لا تحيط به العقول ما لا يخفى «كلا» ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه وإن لم يسبق ذكره للمبالغة في الزجر وقوله تعالى «إن الإنسان ليطغى» أي ليجاوز الحد ويستكبر على ربه بيان للمردوع والمردوع عنه قيل هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد الزمان وهو الظاهر وقوله تعالى «أن رآه استغنى» مفعول له أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن استغنى مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد كما في علمتني وإن جوزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضا وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبئ عنه قوله تعالى «ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض» للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد
روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة فضة وذهبا لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك فنزل عليه جبريل عليه السلام فقال إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم وقوله تعالى
178

«إن إلى ربك الرجعى» تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان والالتفات للتشديد في التهديد والرجعي مصدر بمعنى الرجوع كالبشرى وتقديم الجار والمجرور عليه لقصره عليه أي إن إلى مالك أمرك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره استقلالا ولا اشتراكا فسترى حينئذ عاقبة طغيانك وقوله تعالى «أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى» تقبيح وتشنيع لحاله وتعجيب منها وإيذان بأنها من الشناعة والغرابة بحيث يجب أن يراها كل من يتأتى منه الرؤية ويقضى منها العجب
روي أن أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش لئن رأيت محمدا يصلي لأطأن عنقه فرآه عليه السلام في الصلاة فجاءه ثم نكص على عقبيه فقالوا مالك قال إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة فنزلت ولفظ العبد وتنكيره لتفخيمه عليه السلام واستعظام النهي وتأكيد التعجب منه والرؤية ههنا بصرية وأما ما في قوله تعالى «أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى» وما في قوله تعالى «أرأيت إن كذب وتولى» فقلبية معناه أخبرني فإن الرؤية لما كانت سببا للإخبار عن المرئي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها والخطاب لكل من صلح للخطاب ونظم الأمر والتكذيب والتولي في سلك الشرط المتردد بين الوقوع وعدمه ليس ليس باعتبار نفس الأفعال المذكورة من حيث صدورها عن الفاعل فإن ذلك ليس في حيز التردد أصلا بل باعتبار أوصافها التي هي كونها أمرا بالتقوى وتكذيبا وتوليا كما في قوله تعالى «قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به» كما مر والمفعول الأول لأرأيت محذوف وهو ضمير يعود إلى الموصول أو اسم إشارة يشار به إليه ومفعوله الثاني سد مسده الجملة الشرطية بجوابها المحذوف فإن المفعول الثاني لأرأيت لا يكون إلا جملة استفهامية أو قسمية والمعنى أخبرني ذلك الناهي إن كان على الهدى فيما ينهى عنه من عبادة الله تعالى أو آمرا بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده أو مكذبا للحق معرضا عن الصوب كما نقول نحن «ألم يعلم بأن الله يرى» أي يطلع على أحواله فيجازيه
179

بها حتى اجترأ على ما فعل وإنما أفرد التكذيب والتولي بشرطية مستقلة مقرونة بالجواب مصدرة باستخبار مستأنف ولم ينظما في سلك الشرط الأول بعطفهما على كان للإيذان باستقلالهما بالوقوع في نفس الأمر واستتباع الوعيد الذي ينطق به الجواب وأما القسم الأول فأمر مستحيل قد ذكر في حيز الشرط لتوسيع الدائرة وهو السر في تجريد الشرطية الأولى عن الجواب والإحالة به على جواب الثانية هذا وقد قيل أرأيت الأول بمعنى أخبرني مفعوله الأول الموصول ومفعوله الثاني الشرطية الأولى بجوابها المحذوف لدلالة جواب الشرطية الثانية عليه وأرأيت في الموضعين تكرير للتأكيد ومعناه أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على طريقة سديدة فيما ينهى عن عبادة الله تعالى أو كان آمرا بالمعروف والتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده وكذلك إن كان على التكذيب للحق والتولي عن الدين الصحيح كما نقول نحن «ألم يعلم بأن الله يرى» ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك فتأمل وقيل المعنى أرأيت الذي ينهى عبدا يصلي والمنهى عن الهدى آمر بالتقوى والناهي مكذب متول فما أعجب من ذا وقيل الخطاب الثاني للكافر فإنه تعالى كالحاكم الذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرة والآخر أخرى وكأنه قال يا كافر أخبرني إن كان صلاته هدى ودعاؤه إلى الله تعالى أمرا بالتقوى أتنهاه وقيل هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة «كلا» ردع للناهي اللعين وخسوء له واللام في قوله تعالى «لئن لم ينته» موطئة للقسم أي والله لئن لم ينته عما هو عليه ولم ينزجر «لنسفعا بالناصية» لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بعنف وشدة وقرئ لنسفعن بالنون المشددة وقرئ لأسفعن وكتبته في المصحف بالألف على حكم الوقف والاكتفاء بلام العهد عن الإضافة لظهور أن المراد ناصية المذكور «ناصية كاذبة خاطئة» بدل من الناصية وإنما جاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة لوصفها وقرئت بالرفع على هي ناصية وبالنصب وكلاهما على الذم والشتم ووصفها بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي وهما لصاحبها وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب المخطىء «فليدع ناديه» أي أهل ناديه ليعينوه وهو المجلس الذي ينتدي فيه القوم أي يجتمعون
روى أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فقال ألم أنهك فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا فنزلت «سندع الزبانية» ليجروه إلى النار والزبانية
180

الشرط الواحد زبنية كعفرية من الزبن وهو الدفع وقيل زبني وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير كأمسى وأصلها زباني فقيل زبانية بتعويض التاء عن الياء والمراد ملائكة العذاب وعن النبي صلى الله عليه وسلم لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عيانا «كلا» ردع بعد ردع وزجر إثر زجر «لا تطعه» أي دم على ما أنت عليه من معاصاته «واسجد» وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث به «واقترب» وتقرب بذلك إلى ربك وفي الحديث أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله
181

سورة مكية مختلف فيها و آيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم «إنا أنزلناه في ليلة القدر» تنويه بشأن القرآن الكريم وإجلال لمحله بإضماره المؤذن بغاية نباهته المغنية عن التصريح به كأنه حاضر في جميع الأذهان وبإسناد إنزاله إلى نون العظمة المنبئ عن كمال العناية به وتفخيم وقت إنزاله بقوله تعالى «وما أدراك ما ليلة القدر» لما فيه من الدلالة على أن علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق لا يدريها ولا يدريها إلا علام الغيوب كما يشعر به قوله تعالى «ليلة القدر خير من ألف شهر» فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه عليه السلام إلى درايتها فإن ذلك معرب عن الوعد بإدرائها وقد مر بيان كيفية إعراب الجملتين وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم مالا يخفى والمراد بإنزاله فيها إما إنزال كله إلى السماء الدنيا كما روي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأملاه جبريل عليه السلام على السفرة ثم كان ينزله على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة وإما ابتداء إنزاله فيها كما نقل عن الشعبي وقيل المعنى أنزلناه في شأن ليلة القدر وفضلها كما في قول عمر رضي الله عنه خشيت أن ينزل في قرآن وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في نفسي من أن ينزل في قرآن فالأنسب أن يجعل الضمير حينئذ للسورة التي هي جزء من القرآن لا للكل واختلفوا في وقتها فأكثرهم على أنها في شهر رمضان في العشر الأواخر في أوتارها وأكثر الأقوال أنها السابعة منها ولعل السر في إخفائها
تعريض من يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي الكثيرة رجاء لموافقتها وتسميتها بذلك إما لتقدير الأمور وقضائها فيها لقوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم أو لخطرها وشرفها على سائر الليالي وتخصيص الألف بالذكر إما للتكثير أو لما روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعجب المؤمنون منه وتقاصرت إليهم أعمالهم فأعطوا ليلة هي خير من مدة ذلك الغازي وقيل إن رجل فيما مضى ما كان يقال له عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر فأعطوا
182

ليلة أن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد وقيل أري النبي صلى الله عليه وسلم أعمار الأمم كافة فاستقصر أعمار أمنه فخاف أن لا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما وقوله تعالى «تنزل الملائكة والروح فيها» استئناف مبين لمناط فضلها على تلك المدة المتطاولة وقد سبق في سورة النبأ ما قيل في شأن الروح على التفصيل وقيل هم خلق من الملائكة لا يراهم الملائكة إلا تلك الليلة أي تتنزل الملائكة والروح في تلك الليلة من كل سماء إلى الأرض أو إلى السماء الدنيا «بإذن ربهم» متعلق بتنزل أو بمحذوف هو حال من فاعله أي ملتبسين بإذن ربهم أي بأمره «من كل أمر» أي من أجل كل أمر قضاه الله عز وجل لتلك السنة إلى قابل كقوله تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم وقرئ من كل امرئ أي من أجل كل إنسان قيل لا يلقون فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه «سلام هي» أي ما هي إلا سلامة أي لا يقدر الله تعالى فيها إلا السلامة والخير وأما في غيرها فيقضي سلامة وبلاء أو ما هي إلا سلام لكثرة ما يسلمون فيها على المؤمنين «حتى مطلع الفجر» أي وقت طلوعه وقرئ بالكسر على أنه مصدر كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق وحتى متعلقة بتنزل على أنها غاية لحكم التنزل أي لمكثهم في محل تنزلهم أو لنفس تنزلهم بأن لا ينقطع تنزلهم فوجا بعد فوج إلى طلوع الفجر وقيل متعلقة بسلام بناء على أن الفصل بين المصدر ومعموله بالمبتدأ مغتفر في الجار عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر
183

سورة البينة مدنية مختلف فيها و آيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم «لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب» أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وإيراد الصلة فعلا لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم «والمشركين» أي عبدة الأصنام وقرئ والمشركون عطفا على الموصول «منفكين» أي عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان والعزم على إنجازه وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ويقولون لأعدائهم من المشركين قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم وأما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم كما يشهد به أنهم كانوا يسألونهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هل هو المذكور في كتابهم وكانوا يغرونهم بتغيير نعوته عليه السلام وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزايله بعد التحامه كالعظم إذا انفك من مفصله وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم أي لم يكونوا مفارقين للوعد المذكور بل كانوا مجمعين عليه عازمين على إنجازه «حتى تأتيهم البينة» التي كانوا قد جعلوا إتيانها ميقاتا لاجتماع الكلمة والاتفاق على الحق فجعلوه ميقاتا للانفكاك والافتراق وإخلاف الوعد والتعبير عن إتيانها بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى «واتبعوا ما تتلوا الشياطين» أي تلت وقوله تعالى «رسول» بدل من البينة عبر عنه عليه السلام بالبينة للإيذان بغاية ظهور أمره وكونه ذلك الموعود في الكتابين وقوله تعالى «من الله» متعلق بمضمر هو صفة لرسول مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي رسول وأي رسول كائن منه تعالى وقوله تعالى «يتلو» صفة أخرى له أو حال من الضمير في متعلق الجار «صحفا مطهرة» أي منزهة عن الباطل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أو من أن يمسه غير المطهرين ونسبة تلاوتها إليه عليه
184

السلام من حيث إن تلاوة ما فيها بمنزلة تلاوتها وقوله تعالى «فيها كتب قيمة» صفة لصحفا أو حال من ضميرها في مطهرة ويجوز أن يكون الصفة أو الحال الجار والمجرور فقط وكتب مرتفعا به على الفاعلية ومعنى قيمة مستقيمة ناطقة بالحق والصواب
وقوله تعالى «وما تفرق الذين أوتوا الكتاب» الخ كلام مسوق لغاية تشنيع أهل الكتاب خاصة وتغليظ جناياتهم ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه ما في الأمر بل كان بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها نعوت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبر عما صدر عنهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبارا لاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم وقوله تعالى «إلا من بعد ما جاءتهم البينة» استثناء مفرغ من أعم الأوقات أي وما تفرقوا في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءتهم الحجة الواضحة الدالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الموعود في كتابهم دلالة جلية لا ريب فيها كقوله تعالى «وما اختلف الذين أوتوا الكتاب» إلا من بعد ما جاءهم العلم وقوله تعالى «وما أمروا إلا ليعبدوا الله» جملة حالية مفيدة لغاية قبح ما فعلوا أي والحال أنهم ما أمروا في كتابهم إلا لأجل أن يعبدوا الله وقيل اللام بمعنى أن أي إلا بأن يعبدوا الله ويعضده قراءة إلا أن يعبدوا الله «مخلصين له الدين» أي جاعلين دينهم خالصا له تعالى أو جاعلين أنفسهم خالصة له تعالى في الدين «حنفاء» مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام «ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة» إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة فالأمر ظاهر وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أن أمرهم باتباع شريعتنا أمر لهم بجميع أحكامها التي هما من جملتها «وذلك» إشارة إلى ما ذكر من عبادة الله تعالى وبالإخلاص وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وما فيه من معنى البعد للإشعار بعلو رتبته وبعد
منزلته «دين القيمة» أي دين الملة القيمة وقرئ الدين القيمة على تأويل الدين بالملة هذا وقد قيل قوله تعالى «لم يكن الذين كفروا» إلى
185

قوله «كتب قيمة» حكاية لما كانوا يقولونه قبل مبعثه عليه السلام من أنهم لا ينفكون عن دينهم إلى مبعثه ويعدون أن ينفكوا عنه حينئذ ويتفقوا على الحق وقوله تعالى «وما تفرق الذين أوتوا الكتاب» الخ بيان لإخلافهم الوعد وتعكيسهم الأمر بجعلهم ما هو سبب لانفكاكهم عن دينهم الباطل حسبما وعدوه سببا لثباتهم عليه وعدم انفكاكهم عنه ومثل ذلك بأن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه لا أنفك عما أنا فيه حتى أستغني فيستغني فيزداد فسقا فيقول له واعظه لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر وما عكفت على الفسق إلا بعد اليسار وأنت خبير بأن هذا إنما يتسنى بعد اللتيا والتي على تقدير أن يراد بالتفرق تفرقهم عن الحق بأن يقال التفرق عن الحق مستلزم للثبات على الباطل فكأنه قيل وما أجمعوا على دينهم إلا من بعد ما جاءتهم البينة وأما على تقدير أن يراد به تفرقهم فرقا فمنهم من آمن ومنهم من أنكر ومنهم من عرف وعاند كما جوزه القائل فلا فتأمل «إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم» بيان لحال الفريقين في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا وذكر المشركين لئلا يتوهم اختصاص الحكم بأهل الكتاب حسب اختصاص مشاهدة شواهد النبوة في الكتاب بهم ومعنى كونهم فيها أنهم يصيرون إليها يوم القيامة وإيراد الجملة الاسمية للإيذان بتحقق مضمونها لا محالة أو أنهم فيها الآن إما على تنزيل ملابستهم لما يوجبها منزلة ملابستهم لها وإما على أن ما هم فيه من الكفر والمعاصي عين النار إلا أنها ظهرت في هذه النشأة بصور عرضية وستخلعها في النشأة الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقة كما مر في قوله تعالى «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» في سورة الأعراف «خالدين فيها» حال من المستكن في الخبر واشتراك الفريقين في دخول دار العذاب بطريق الخلود لا ينافي تفاوت عذابهم في الكيفية فإن جهنم دركات وعذابها ألوان «أولئك» إشارة إليهم باعتبار اتصافهم بما هم فيه من القبائح المذكورة وما فيه من معنى البعد للإشعار بغاية بعد منزلتهم في الشر أي أولئك البعداء المذكورون «هم شر البرية» شر الخليقة أي أعمالا وهو الموافق لما سيأتي في حق المؤمنين فيكون في حيز التعليل لخلودهم في النار أو شرهم مقاما ومصيرا فيكون تأكيدا لفظاعة حالهم وقرئ بالهمزة على الأصل «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات» بيان لمحاسن أحوال المؤمنين إثر بيان سوء حال الكفرة جريا على السنة القرآنية من شفع الترهيب بالترغيب «أولئك» المنعوتون بما هو في القاصية من الشرف والفضيلة من الإيمان والطاعة «هم خير البرية» وقرئ خيار البرية وهو جمع خير نحو جيد وجياد
186

«جزاؤهم» بمقابلة ما لهم من الإيمان والطاعة «عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار» إن أريد بالجنات الأشجار الملتفة الأغصان كما هو الظاهر فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها مجموع الأرض وما عليها فهو باعتبار الجزء الظاهر وأيا ما كان فالمراد جريانها بغير أخدود «خالدين فيها أبدا» متنعمين بفنون النعم الجسمانية والروحانية وفي تقديم مدحهم بخيرية وذكر الجزاء المؤذن بكون ما منحوه في مقابلة ما وصفوا به وبيان كونه من عنده تعالى والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التربية والتبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرهم وجمع الجنات وتقييدها بالإضافة وبما يزيدها نعيما وتأكيد الخلود بالأبود من الدلالة على غاية حسن حالهم مالا يخفى «رضي الله عنهم» استئناف مبين لما يتفضل عليهم زيادة على ما ذكر من أجزية أعمالهم «ورضوا عنه» حيث بلغوا من المطالب قاصيتها وملكوا من المآرب ناصيتها وأتيح لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر «ذلك» أي ما ذكر من الجزاء والرضوان «لمن خشي ربه» فإن الخشية التي هي من خصائص العلماء بشؤون الله عز وجل مناط لجميع الكمالات العلمية والعملية المستتبعة للسعادة الدينية والدنيوية والتعرض لعنوان الربوبية المعربة عن المالكية والتربية للإشعار بعلة الخشية والتحذير من الاغترار بالتربية
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة البينة لم يكن كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا
187

سورة الزلزلة مدنية مختلف فيها و آيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم «إذا زلزلت الأرض» اي حركت تحريكا عنيفا متكررا متداركا أي الزلزال المخصوص بها على مقتضى المشيئة المبنية على الحكم البالغة وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه أو زلزالها العجيب الذي لا يقادر قدره أو زلزالها الداخل في حيز الإمكان وقرئ بفتح بفتح الزاء وهو اسم وليس في الأبنية فعلال بالفتح إلا في المضاعف وقولهم ناقة خزعال نادر وقد قيل الزلزال بالفتح أيضا مصدر كالوسواس والجرجار والقلقال وذلك عند النفخة الثانية لقوله عز وجل «وأخرجت الأرض أثقالها» أي ما في جوفها من الأموات والدفائن جمع ثقل وهو متاع البيت وإظهار الأرض في موقع الإضمار لزيادة التقرير أو للإيماء إلى تبدل الأرض غير الأرض أو لأن إخراج الأثقال حال بعض أجزائها «وقال الإنسان» أي كل فرد من أفراده لما يدهمهم من الطامة التامة ويبهرهم من الداهية العامة «ما لها» زلزلت هذه المرتبة الشديدة من الزلزال وأخرجت ما فيها من الأثقال استعظاما لما شاهدوه من الأمر الهائل وقد سيرت الجبال في الجو وصيرت هباء وقيل هو قول الكافر إذا لم يكن مؤمنا بالبعث والأظهر هو الأول على أن المؤمن يقوله بطريق الاستعظام والكافر بطريق التعجب «يومئذ» بدل من إذا وقوله تعالى «تحدث أخبارها» عامل فيهما ويجوز أن يكون إذا منتصبا بمضمر أي يوم إذ زلزلت الأرض تحدث الخلق أخبارها إما بلسان الحال حيث تدل دلالة ظاهرة على ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها وإما بلسان المقال حيث ينطقها الله تعالى فتخبر بما عمل عليها من خير وشر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها تشهد على كل أحد بما عمل على
188

ظهرها وقرئ تنبي أخبارها وقرئ من الأنباء «بأن ربك أوحى لها» أي تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها وأمره إياها بالتحديث على أحد الوجهين ويجوز أن يكون بدلا من أخبارها كأنه قيل تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لأن التحديث يستعمل بالباء وبدونها وأوحى لها بمعنى أوحى إليها «يومئذ» أي يوم إذ يقع ما ذكر «يصدر الناس» من قبورهم إلى موقف الحساب «أشتاتا» متفرقين بحسب طبقاتهم بيض الوجوه آمنين وسود الوجوه فزعين كما مر في قوله تعالى «فتأتون أفواجا» وقيل يصدرون عن الموقف أشتاتا ذات اليمين إلى الجنة وذات الشمال إلى النار «ليروا أعمالهم» أي أجزية أعمالهم خيرا كان أو شرا وقرئ ليروا بالفتح وقوله تعالى «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره» «ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره» تفصيل ليروا وقرئ يره والذرة النملة الصغيرة وقيل ما يرى في شعاع الشمس من الهباء وأيا ما كان
فمعنى رؤية ما يعادلها من خير وشر إما مشاهدة جزائه فمن الأولى مختصة بالسعداء والثانية بالأشقياء كيف لا وحسنات الكافر محبطة بالكفر وسيئات المؤمن المجتنب عن الكبائر معفوة وما قيل من أن حسنة الكافر تؤثر في نقص العقاب يرده قوله تعالى «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» وأما مشاهدة نفسه من غير أن يعتبر معه الجزاء ولا عدمه بل يفوض كل منهما إلى سائر الدلائل الناطقة بعفو صغائر المؤمن المجتنب عن الكبائر وإثابته بجميع حسناته وبحبوط حسنات الكافر ومعاقبته بجميع معاصيه فالمعنى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله تعالى إياه أما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته وأما الكافر فيرد حسناته تحسرا ويعاقبه بسيئاته
عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الزلزلة أربع مرات كان كمن قرأ القرآن كله والله أعلم
189

سورة العاديات مكية مختلف فيها و آيها إحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
«والعاديات» أقسم سبحانه بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو وقوله تعالى «ضبحا» مصدر منصور إما بفعله المحذوف الواقع حالا منها أي تضبح ضبحا وهو صوت أنفسها عند عدوها أو بالعاديات فإن العدو مستلزم للضبح كأنه قيل والضابحات أو حال على أنه مصدر بمعنى الفاعل أي ضابحات «فالموريات قدحا» الإيراء إخراج النار والقدح الصك يقال قدح فأورى أي توري النار من حوافرها وانتصاب قدحا كانتصاب ضبحا على الوجوه الثلاثة «فالمغيرات» أسند الإغارة التي هي مباغتة العدو للنهب أو للقتل أو للأسر إليها وهي حال أهلها إيذانا بأنها العمدة في إغارتهم «صبحا» أي في وقت الصبح وهو المعتاد في الغارات يعدون ليلا لئلا يشعر بهم العدو ويهجمون عليهم صباحا ليروا ما يأتون وما يذرون وقوله تعالى «فأثرن به» عطف على الفعل الذي دل عليه اسم الفاعل إذ المعنى واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن به أي فهيجن بذلك الوقت «نقعا» أي غبارا وتخصيص إثارته بالصبح لأنه لا يثور أو لا يظهر ثورانه بالليل وبهذا ظهر أن الإيراء الذي لا يظهر في النهار واقع في الليل ولله در شأن التنزيل وقيل النقع الصياح والجلبة وقرئ فأثرن بالتشديد بمعنى فأظهرن به غبارا لأن التأثير فيه معنى الإظهار «فوسطن به» أي توسطن بذلك الوقت أو توسطن ملتبسات بالنقع «جمعا» من جموع الأعداء والفاءات للدلالة على ترتب ما بعد كل منها على ما قبلها كما في قوله
* يا لهف زيابة للحارث الله
* الضابح فالغانم فالآيب
*
فإن توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتبة
190

على الإيراء المترتب على العدو
وقوله تعالى «إن الإنسان لربه لكنود» أي لكفور من كند النعمة كنودا جواب القسم والمراد بالإنسان بعض أفراده روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أناس من بني كنانة سرية واستعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري و كان أحد النقباء فأبطأ عليه الصلاة والسلام خبرها شهرا فقال المنافقون إنهم قتلوا فنزلت السورة إخبارا للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها وبشارة له بإغارتها على القوم ونعيا على المرجفين في حقهم ما هم فيه من الكنود وفي تخصيص خيل الغزاة بالإقسام بها من البراعة ما لا مزيد عليه كأنه قيل وخيل الغزاة التي فعلت كيت وكيت وقد أرجف هؤلاء في حق أربابها ما أرجفوا أنهم مبالغون في الكفران
«وإنه على ذلك» أي وإن الإنسان على كنوده «لشهيد» يشهد على نفسه بالكنود لظهور أثره عليه
«وإنه لحب الخير» أي المال كما في قوله تعالى إن ترك خيرا «لشديد» أي قوي مطيق مجد في طلبه وتحصيله متهالك عليه يقال هو شديد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا وقيل الشديد البخيل أي أنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبخيل ممسك ولعل وصفه بهذا الوصف القبيح بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أن من جملة الأمور الداعية للمنافقين إلى النفاق حب المال لأنهم بما يظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم ويحوزون من الغنائم نصيبا
وقوله تعالى «أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور» الخ تهديد ووعيد والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أيفعل ما يفعل من القبائح أو ألا يلاحظ فلا يعلم حاله إذا بعث من في القبور من الموتى وإيراد ما لكونهم إذ ذاك بمعزل من رتبة العقلاء بحثر وبحث وبحثر وبحث على بنائهم للفاعل
«وحصل» أي جمع محصلا أو ميز خيره من شره وقرئ وحصل مبنيا للفاعل وحصل مخففا «ما في الصدور» من الأسرار الخفية التي من جملتها ما يخفيه المنافقون من الكفر والمعاصي فضلا عن الأعمال الجلية
«إن ربهم» أي المبعوثين كنى عنهم بعد الإحياء الثاني بضمير العقلاء بعدما عبر عنهم قبل ذلك بما بناء على تفاوتهم في الحالين كما فعل نظيره بعد الإحياء الأول
191

حيث التفت إلى الخطاب في قوله تعالى «وجعل لكم السمع والأبصار» الآية بعد قوله ثم سواه ونفخ فيه من روحه إيذانا بصلاحيتهم للخطاب بعد نفخ الروح وبعدمها قبله كما أشير إليه هناك «بهم» بذاوتهم وصفاتهم وأحوالهم بتفاصيلها «يومئذ» يوم إذ يكون ما ذكر من بعث ما في القبور وتحصيل ما في الصدور «لخبير» أي عالم بظواهر ما عملوا وبواطنه علما موجبا للجزاء متصلا به كما ينبئ عنه تقييده بذلك اليوم وإلا فمطلق علمه سبحانه محيط بما كان وما سيكون وقوله تعالى بهم ويومئذ متعلقان بخبير قدما عليه لمراعاة الفواصل واللام غير مانعة من ذلك وقرأ ابن السماك أن ربهم بهم يومئذ لخبير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة العاديات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بمزدلفة وشهد جمعا
سورة القارعة مكية و آيها إحدى عشرة
بسم الله الرحمن الرحيم
«القارعة» القرع هو الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه صوت شديد وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق كما مر في سورة التكوير سميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال السماء بالانشقاق والانفطار والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانتشار والأرض بالزلزال والتبديل والجبال بالدك والنسف وهي مبتدأ خبره قوله تعالى
«ما القارعة» على أن ما الاستفهامية خبر والقارعة مبتدأ لا بالعكس لما مر غير مرة أن محط الفائدة هو الخبر لا المبتدأ ولا ريب في أن مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو كلمة مالا القارعة أي شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة وقد وضع الظاهر موضع الضمير تأكيدا للتهويل
وقوله تعالى «وما أدراك ما القارعة» تأكيد لهولها وفظاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق على معنى أن عظم شأنها بحيث لا تكاد
192

الآيات من 4 6 تناله دراية أحد حتى يدريك بها وما في حيز الرفع على الابتداء وأدراك هو الخبر ولا سبيل إلى العكس هاهنا وما القارعة جملة كما مر محلها النصب على نزع الخافض لأن أدرى يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء كما في قوله تعالى ولا أدراكم به فلما وقعت الجملة الاستفهامية معلقة له كانت في موقع المفعول الثاني له والجملة الكبيرة معطوفة على ما قبلها من الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ الأول أي وأي شيء أعلمك ما شأن القارعة ولما كان هذا منبئا عن الوعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله تعالى
«يوم يكون الناس كالفراش المبثوث» على أن يوم مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف وحركته الفتح لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعا كما هو رأي الكوفيين أي هي يوم يكون الناس فيه كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار أو منصوب بإضمار أذكر كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها اذكر يوم يكون الناس الخ فإنه يدريك ما هي هذا وقد قيل إنه ظرف ناصبه مضمر يدل عليه القارعة أي تقرع يوم يكون الناس الخ وقيل تقديره ستأتيكم القارعة يوم يكون الخ
«وتكون الجبال كالعهن المنفوش» أي كالصوف الملون بالألوان المختلفة المندوف في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو حسبما نطق به قوله تعالى «وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب» وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق يبدل الله عز وجل الأرض من غير الأرض ويغير هيئاتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئات الهائلة ليشاهدها أهل المحشر وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما ينطق به قوله تعالى «ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا يومئذ يتبعون الداعي» وقوله تعالى «يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار» فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل عليه السلام وبروز الخلق لله سبحانه لا يكون إلا بعد البعث قطعا وقد مر تمام الكلام في سورة النمل
وقوله تعالى «فأما من ثقلت موازينه» الخ بيان إجمالي لتحزب الناس إلى حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما إثر بيان الأحوال الشاملة للكل والموازين إما جمع الموزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله كما قاله الفراء أو جمع ميزان قال ابن عباس رضي الله عنهما إنه ميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال قالوا توضع فيه صحائف الأعمال فينظر إليه الخلائق إظهارا
193

القارعة الآيات 7011 للمعدلة وقطعا للمعذرة وقيل الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك واختاره كثير من المتأخرين قالوا إن الميزان لا يتوصل به إلا إلى معرفة مقادير الأجسام فكيف يمكن أن يعرف به مقادير الأعمال التي هي أعراض منقضية وقيل إن الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصورة عرضية تبرز في النشأة الآخرة بصورة جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه يؤتى بالأعمال الصالحة على صور حسنة وبالأعمال السيئة على صور قبيحة فتوضع في الميزان أي فمن ترجحت مقادير حسناته
«فهو في عيشة راضية» أي ذات رضا أو مرضية
«وأما من خفت موازينه» بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ترجحت سيئاته على حسناته «فأمه» أي فمأواه «هاوية» هي من أسماء النار سميت بها لغاية عمقها وبعد مهواها روى أن أهل النار تهوي فيها سبعين خريفا وقيل إنها اسم للباب الأسفل منها وعبر عن المأوى باللام لأن أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه وعن قتادة وعكرمة والكلبي أن المعنى فأم رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوسا والأول هو الأوفق لقوله تعالى
«وما أدراك ما هيه» «نار حامية» فإنه تقرير لها بعد إبهامها والإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل وهي ضمير الهاوية والهاء للسكت وإذا وصل القارئ حذفها وقيل حقه أن لا يدرج لئلا يسقطها الإدراج لأنها ثابتة في المصحف وقد أجيز إثباتها مع الوصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة القارعة ثقل الله تعالى بها ميزانه يوم القيامة
194

سورة التكاثر مكية مختلف فيها و آيها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
«ألهاكم التكاثر» أي شغلكم التغالب في الكثرة والتفاخر بها روي أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا وتعادوا وتكاثروا بالسادة والأشراف في الإسلام فقال كل من
الفريقين نحن أكثر منكم سيدا وأعز عزيزا وأعظم نفرا فكثرهم بنو عبد مناف فقال بنو سهم إن البغي أفنانا في الجاهلية فعادونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم والمعنى أنكم تكاثرتم بالأحياء
«حتى زرتم المقابر» أي حتى إذا استوعبتم عددهم صرتم إلى التفاخم والتكاثر بالأموات فعبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكما بهم وقيل كانوا يزورون المقابر فيقولون هذا قبر فلان وهذا قبر فلان يفتخرون بذلك وقيل المعنى ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم مضيعين أعماركم في طلب الدنيا معرضين عما يهمكم من السعي لأخراكم فتكون زيارة القبور عبارة عن الموت وقرئ أألهاكم على الاستفهام التقريري
«كلا» ردع وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن لا يكون معظم همه مقصورا على الدنيا فإن عاقبة ذلك وخيمة «سوف تعلمون» سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته
«ثم كلا سوف تعلمون» تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأول أو الأول عند الموت أو في القبر والثاني عند النشور
«كلا لو تعلمون علم اليقين» أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين أي كعلمكم ما تستيقنونه لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه فحذف الجواب للتهويل
وقوله تعالى «لترون الجحيم» جواب
195

قسم مضمر أكد به له الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيما «ثم لترونها» المشاهدة والمعاينة «عين اليقين» أي الرؤية التي هي النفس اليقين فإن علم المشاهدة أقصى مراتب اليقين
«ثم لتسألن يومئذ عن النعيم» أي عن النعيم الذي ألهاكم الالتذاذ عن الدين وتكاليفه فإن الخطاب مخصوص بمن عكف همته على استيفاء اللذات ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين ويقطع أوقاته باللهو والطرب لا يعبأ بالعلم والعمل ولا يحمل نفسه مشاقهما فأما من تمتع بنعمة الله تعالى وتقوى بها على طاعته وكان ناهضا بالشكر فهو من ذلك بمعزل بعيد وقيل الآية مخصوصة بالكفار عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة التكاثر لم يحاسبه الله تعالى بالنعيم الذي أنعم به عليه في دار الدنيا وأعطى من الأجر كأنما قرأ ألف آية
196

سورة العصر مكية و آيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
«والعصر» أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها الباهر أو بالعشي الذي هو ما بين الزوال والغروب كما أقسم بالضحى أو بعصر النبوة لظهور فضله على سائر الأعصار أو بالدهر لانطوائه على تعاجيب الأمور القارة والمارة
«إن الإنسان لفي خسر» أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم والتعريف للجنس والتنكير للتعظيم
«إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات» فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صفقة ما أربحها وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم وقوله تعالى «وتواصوا بالحق» الخ بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عز وجل واتباع كتبه ورسله في كل عقد وعمل «وتواصوا بالصبر» أي عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها أو على ما يبلو الله عز وجل به عباده وتخصيص هذا التواصي بالذكر مع اندراجه تحت التواصي بالحق لإبراز كمال الاعتناء به أو لأن الأول عبارة عن رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى به الله تعالى والثاني عن رتبة العبودية التي هي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتشوق إليه من فعل وترك بل هو تلقي ما ورد منه تعالى بالجميل والرضا به ظاهرا وباطنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة العصر غفر الله تعالى له وكان ممن تواصى بالحق وتواصى بالصبر
197

سورة الهمزة مكية و آيها تسع
بسم الله الرحمن الرحيم
«ويل» مبتدأ خبره «لكل همزة لمزة» وساغ الابتداء به مع كونه نكرة لأنه دعاء عليهم بالهلكة أو بشدة الشر والهمز الكسر كالهزم واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من أعراض الناس والطعن فيهم وبناء فعلة للدلالة على أن ذلك منه عادة مستمرة قد ضري بها وكذلك اللعنة والضحكة وقرئ لكل همزة لمزة بسكون الميم وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويستهزأ به وقيل نزلت في الأخنس بن شريق فإنه كان ضاريا بالغيبة والوقيعة وقيل في أمية بن خلف وقيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه من جنابه الرفيع واختصاص السبب لا يستدعي خصوص الوعيد بهم بل كل من اتصف بوصفهم القبيح فله ذنوب منه مثل ذنوبهم
«الذي جمع مالا» بدل من كل أو منصوب أو مرفوع على الذم وقرئ جمع بالتشديد للتكثير وتنكير ما لا للتفخيم والتكثير الموافق لقوله تعالى «وعدده» وقيل معنى عدده جعله عدة لنوائب الدهر وقرئ وعدده أي جمع المال وضبط عدده أو جمع ماله وعدده الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والأعوان وقيل هو فعل ماض بفك الإدغام
«يحسب أن ماله أخلده» أي يعمل عمل من يظن أن ماله يبقيه حيا والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير وقيل طول المال أمله ومناه الأماني البعيدة حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله يحسب أن المال تركه خالدا في الدنيا لا يموت وقيل هو تعريض بالعمل الصالح والزهد في الدنيا وأنه هو الذي أخلد صاحبه في الحياة الأبدية
والنعيم المقيم فأما المال فليس بخالد ولا بمخلد وروي أن الأخنس كان له أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف والجملة مستأنفة أو حال من فاعل جمع
«كلا» ردع له عن
198

ذلك الحسبان الباطل وقوله تعالى «لينبذن» جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب تعاطيه للأفعال المذكورة «في الحطمة» أي في النار التي شأنها أن تحطم وتكسر كل ما يلقى فيها كما أن شأنه كسر أعراض الناس وجمع المال وقوله تعالى «وما أدراك ما الحطمة» لتهويل أمرها ببيان أنها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق
وقوله تعالى «نار الله» خبر مبتدأ محذوف والجملة بيان لشأن المسؤول عنها أي هي نار الله «الموقدة» بأمر الله عز سلطانه وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالإيقاد من تهويل أمرها ما لا مزيد عليه
«التي تطلع على الأفئدة» أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد ألطف ما في الجسد وأشده تألما بأدنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة ومنشأ الأعمال السيئة
«إنها عليهم مؤصدة» أي مطبقة من أوصدت الباب وآصدته أي أطبقته
«في عمد ممددة» إما حال من الضمير المجرور في عليهم أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص أو خبر مبتدأ مضمر أي هم في عمد أو صفة لمؤصدة قاله أبو البقاء أي كائنة في عمد ممددة بأن تؤصد عليهم الأبواب وتمدد على الأبواب العمد استيثاقا في استيثاق اللهم أجرنا منها يا خير مستجار وقرئ عمد بضمتين عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الهمزة أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه
199

سورة الفيل مكية و آيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
«ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل» الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وكيف معلقة لفعل الرؤية منصوبة بما بعدها والرؤية علمية أي ألم تعلم علما رصينا متاخما للمشاهدة والعيان باستماع الأخبار المتواترة ومعاينة الآثار الظاهرة وتعليق الرؤية بكيفية فعله عز وجل لا بنفسه بأن يقال ألم تر ما فعل ربك الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وعزة بيته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك من الإرهاصات لما روى أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم وتفصيلها أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى بصنعاء كنيسة وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلا فأغضبه ذلك وقيل أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهد الكعبة فخرج مع جيشه ومعه فيل له اسمه محمود وكان قويا عظيما واثنا عشر فيلا غيره وقيل ثمانية وقيل ألف وقيل كان معه وحده فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه وقدم الفيل فكان كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول فأرسل الله تعالى طيرا سودا وقيل خضرا وقيل بيضا مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة فكان الحجر يلقى على رأس الرجل فيخرج من دبره وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل وروى أن أبرهة تساقطت أنامله وآرابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتا بين يديه وقيل إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه في شأنها فلما رآه أبرهة عظم في عينه وكان رجلا وسيما جسيما وقيل هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال فنزل أبرهة عن سريره وجلس على بساطه وقيل أجلسه معه على سريره ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فلما ذكر حاجته قال سقطت من عيني حيث جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين
200

آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر لا تكلمني فيه ألهاك عنه ذود أخذت لك فقال عبد المطلب أنا رب الإبل وإن للبيت ربا يحميه ثم رجع وأتى باب الكعبة فأخذ بحلقته ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال والله إنها لطير غريبة ما هي نجدية ولا تهامية فأرسل حلقة الباب ثم انطلق مع أصحابه ينتظرون ماذا يفعل أبرهة فأرسل الله تعالى عليهم الطير فكان ما كان وقيل كان أبرهة جد النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان وقرئ ألم تر بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم وقوله تعالى «ألم يجعل كيدهم في تضليل» الخ بيان إجمالي لما فعله الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير
«وأرسل عليهم طيرا أبابيل» أي طوائف وجماعات جمع إبالة وهي الحزمة الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وقيل أبابيل مثل عبابيد وشماطيط لا واحد لها
«ترميهم بحجارة» صفة لطير وقرئ يرميهم بالتذكير لأن الطير اسم جمع تأنيثه باعتبار المعنى «من سجيل» من طين متحجر معرب سنك كل وقيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار كما أن سجينا علم للديوان الذي يكتب فيه أعمالهم كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون واشتقاقه من الإسجال وهو الإرسال
«فجعلهم كعصف مأكول» كورق زرع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفرا منه أو كتبن أكلته الدواب وراثته أشير إليه بأول أحواله عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الفيل أعفاه الله تعالى أيام حياته من الخسف والمسخ والله أعلم
201

سورة قريش مكية و آيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم
«لإيلاف قريش» متعلق بقوله تعالى فليعبدوا والفاء لما في الكلام من معنى الشرط إذ المعنى أن نعم الله تعالى عليهم غير محصورة فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لهذه النعمة الجليلة وقيل بمضمر تقديره فعلنا ما فعلنا من إهلاك أصحاب الفيل لإيلاف الخ وقيل تقديره أعجبوا لإيلاف الخ وقيل بما قبله من قوله تعالى «فجعلهم كعصف مأكول» ويؤيده أنهما في مصحف أبي سورة واحدة فلا فصل والمعنى أهلك من قصدهم من الحبشة ليتسامع الناس فيتهيبوا لهم زيادة تهيب ويحترمون فضل احترام حتى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم فلا يجترئ عليهم أحد وكانت لقريش رحلتان يرحلون في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام فيمتارون ويتجرون وكانوا في رحلتيهم آمنين لأنهم أهل حرم الله تعالى وولاة بيته العزيز فلا يتعرض لهم والناس بين متخطف ومنهوب والإيلاف من قولك آلفت المكان إيلافا إذا ألفته وقرئ لالإف قريش أي لمؤالفتهم وقيل يقال ألفته ألفا وإلافا وقرئ لإلف قريش وقريش ولد النضر بن كنانة سموا بتصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن ولا تطاق إلا بالنار والتصغير للتعظيم وقيل من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كسابين بتجاراتهم وضربهم في البلاد
وقوله تعالى «إيلافهم رحلة الشتاء والصيف» بدل من الأول ورحلة مفعول لإيلافهم وإفرادها مع أن المراد رحلتي الشتاء والصيف لأمن الإلباس وفي إطلاق الإيلاف عن المفعول أولا وإبدال هذا منه تفخيم لأمره وتذكير لعظيم النعمة فيه وقرئ ليألف قريش إلفهم رحلة الشتاء والصيف وقرئ رحلة بالضم وهي الجهة التي يرحل إليها
«فليعبدوا رب هذا البيت» «الذي أطعمهم» بسبب تينك الرحلتين اللتين تمكنوا فيهما بواسطة كونهم من جيرانه
202

«من جوع» شديد كانوا فيه قبلهما وقيل أريد به القحط الذي أكلوا الجيف والعظام «وآمنهم من خوف» عظيم لا يقادر قدره وهو خوف أصحاب الفيل أو خوف التخطف في بلدهم ومسايرهم وقيل خوف الجذام فلا يصيبهم في بلدهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة قريش أعطاه الله تعالى عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها
سورة الماعون مكية مختلف فيها و آيها سبع
بسم الله الرحمن الرحيم
«أرأيت الذي يكذب بالدين» استفهام أريد به تشويق السامع إلى معرفة من سيق له الكلام والتعجيب منه والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل لكل عاقل والرؤية بمعنى المعرفة وقرئ أرأيتك بزيادة حرف الخطاب والفاء في قوله تعالى
«فذلك الذي يدع اليتيم» جواب شرط محذوف على أن ذلك مبتدأ و الموصول خبره والمعنى هل عرفت الذي يكذب بالجزاء أو بالإسلام إن لم تعرفه أو إن أردت أن تعرفه فهو الذي يدفع اليتيم دفعا عنيفا ويزجره زجرا قبيحا ووضع اسم الإشارة المتعرض لوصف المشار إليه موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم والتنبيه بما فيه من معنى البعد على بعد منزلته في الشر والفساد قيل هو أبو جهل كان وصيا ليتيم فأتاه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه دفعا شنيعا وقيل أبو سفيان نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه وقيل هو الوليد بن المغيرة وقيل هو العاص بن وائل السهمي وقيل هو رجل بخيل من المنافقين وقيل الموصول على عمومه وقرئ يدع اليتيم أي يتركه ويجفوه
«ولا يحض» أي أهله وغيرهم من الموسرين «على طعام المسكين» وإذا كان حال من ترك حث غيره على ما ذكر فما ظنك بحال من ترك مع القدرة عليه
والفاء في قوله تعالى «فويل» الخ إما لربط ما بعدها بشرط محذوف كأنه قيل إذا كان ما ذكر من
203

عدم المبالاة باليتيم والمسكين من دلائل التكذيب بالدين وموجبات الذم والتوبيخ فويل «للمصلين» «الذين هم عن صلاتهم ساهون» غافلون غير مبالين بها «الذين هم يراؤون» أي يرون الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها
«ويمنعون الماعون» أي الزكاة ما يتعاور عادة فإن عدم المبالاة باليتيم والمسكين حيث كان كما ذكر فعدم المبالاة بالصلاة التي هي عماد الدين والرياء الذي هو شعبة من الكفر ومنع الزكاة التي هي قنطرة الإسلام وسوء المعاملة مع الخلق أحق بذلك وإما لترتيب الدعاء عليهم بالويل على ما ذكر من قبائحهم ووضع المصلين موضع ضميرهم ليتوسل بذلك إلى بيان أن لهم قبائح أخر غير ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الدين غفر له إن كان للزكاة مؤديا
204

سورة الكوثر مكية و آيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
«إنا أعطيناك» وقرئ أنطيناك «الكوثر» أي الخير المفرط الكثير من شرف النبوة الجامعة لخيري الدارين والرياسة العامة المستتبعة لسعادة الدنيا والدين فوعل من الكثرة وقيل هو نهر في الجنة وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها فقال أتدرون ما الكوثر إنه نهر في الجنة وعدنيه ربي فيه خير كثير وروي في صفته أنه أحلى من العسل وأشد بياضا من اللبن وأبرد من الثلج وألين من الزبد حافتاه الزبرجد وأوانيه من فضة عدد نجوم السماء وروي لا يظمأ من شرب منه أبدا أول وارديه فقراء المهاجرين الدنسو الثياب الشعث الرؤوس الذين لا يزوجون المنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره لو أقسم على الله لأبره وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسر الكوثر بالخير الكثير فقال له سعيد بن جبير فإن ناسا يقولون هو نهر في الجنة فقال هو من الخير الكثير وقيل هو حوض فيها وقيل هو وأولاده وأتباعه أو علماء أمته أو القرآن الحاوي لخير الدنيا والدين
والفاء في قوله تعالى «فصل لربك» لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه السلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها ولن يعطيها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استيجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك هذه النعمة الجليلة التي لا يضاهيها نعمة خالصا لوجهه خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر «وانحر» البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع عنهم الماعون وعن عطية هي صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى وقيل صلاة العيد والتضحية وقيل هي جنس الصلاة والنحر وضع اليمين على الشمال وقيل هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره هو المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما استقبل القبلة بنحرك وهو قول الفراء والكلبي وأبي الأحوص
«إن شانئك» أي مبغضك كائنا من كان «هو الأبتر» الذي لا عقب له
205

حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة لك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان وقيل نزلت في العاص بن وائل وأيا ما كان فلا ريب وفي عموم الحكم عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الكوثر سقاه الله تعالى من كل نهر في الجنة ويكتب له عشر حسنات بعدد كل قربان قربه العباد في يوم النحر
سورة الكافرون مكية و آيها ست
بسم الله الرحمن الرحيم
«قل يا أيها الكافرون» هم كفرة مخصوصون قد علم الله تعالى أنه لا يتأتى منهم الإيمان أبدا روي أن رهصا من عتاة قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك تعبد آلهتنا ونعبد إلهك سنة فقال معاذ الله أن أشرك بالله غيره فقالوا فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك فنزلت فغدا إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم فأيسوا
«لا أعبد ما تعبدون» أي فيما يستقبل لأن لا لا تدخل غالبا إلا على مضارع في الاستقبال كما أن ما لا تدخل إلا على مضارع في معنى الحال والمعنى لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم
«ولا أنتم عابدون ما أعبد» أي و لا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي
«ولا أنا عابد ما عبدتم» أي وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه أي لم يعهد مني عبادة صنم في الجاهلية فكيف ترجى مني في الإسلام
«ولا أنتم عابدون ما أعبد» أي وما عبدتم في وقت من الأوقات ما أنا على عبادته وقيل هاتان الجملتان لنفي العبادة حالا كما أن الأولين لنفيها استقبالا وإنما لم يقل ما عبدت
206

ليوافق ما عبدتم لأنهم كانوا موسومين قبل البعثة بعبادة الأصنام وهو عليه السلام لم يكن حينئذ موسوما بعبادة الله تعالى وإيثار ما في أعبد على من لأن المراد هو الوصف كأنه قيل ما أعبد من المعبود العظيم الشأن الذي لا يقادر قدر عظمته وقيل إن ما مصدرية أي لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي وقيل الأوليان بمعنى الذي والأخريان مصدريتان وقيل قوله تعالى «ولا أنا عابد ما عبدتم» تأكيد لقوله تعالى «لا أعبد ما تعبدون» وقوله تعالى «ولا أنتم عابدون ما أعبد» ثانيا تأكيد لمثله المذكور أولا
وقوله تعالى «لكم دينكم» تقرير لقوله تعالى لا أعبد ما تعبدون وقوله تعالى ولا أنا عابد ما عبدتم كما أن قوله تعالى «ولي دين» تقرير لقوله تعالى «ولا أنتم عابدون ما أعبد» والمعنى أن دينكم الذي هو الإشراك مقصور على الحصول لكم لا يتجاوزه إلى الحصول لي أيضا كما تطمعون فيه فلا تعلقوا به أمانيكم الفارغة فإن ذلك المحالات وأن ديني الذي هو التوحيد مقصور على الحصول لي لا يتجاوزه إلى الحصول لكم أيضا لأنكم علقتموه بالمحال الذي هو عبادتي لآلهتكم أو استلامي إياها ولأن ما وعدتموه عين الإشراك وحيث كان مبنى قولهم تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة على شركة الفريقين في كلتا العبادتين كان القصر المستفاد من تقديم المسند قصر إفراد حتما ويجوز أن يكون هذا تقريرا لقوله تعالى «ولا أنا عابد ما عبدتم» أي ولي ديني لا دينكم كما هو في قوله تعالى «ولكم ما كسبتم» وقيل المعنى إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعوني إلى الشرك فتأمل عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ من سورة الكافرون فكأنما قرأ ربع القرآن وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرىء من الشرك وتعافى من الفزع الأكبر
207

سورة النصر مدنية و آيها ثلاث
بسم الله الرحمن الرحيم
«إذا جاء نصر الله» أي إعانته تعالى وإظهاره إياك على عدوك «والفتح» أي فتح مكة وقيل جنس نصر الله تعالى ومطلق الفتح فإن فتح مكة لما كان مفتاح الفتوح ومناطها كما أن نفسها أم القرى وإمامها جعل مجيئه بمنزلة مجيء سائر الفتوح وعلق به أمره عليه السلام بالتسبيح والحمد والتعبير عن حصول النصر والفتح بالمجيء للإيذان بأنهما متوجهان نحوه عليه السلام وأنهما على جناح الوصول إليه عليه السلام عن قريب روى أنها نزلت قبل الفتح وعليه الأكثر وقيل في أيام التشريق بمنى في حجة الوداع فكلمة إذا حينئذ باعتبار أن بعض ما في حيزها أعني رؤية دخول الناس الخ غير منقض بعد وكان فتح مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب وأقام بها خمس عشرة ليلة وحين دخلها وقف على باب الكعبة ثم قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال يا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة وكانوا له فياء ولذلك سمي أهل مكة الطلقاء ثم بايعوه على الإسلام ثم خرج إلى هوازن
«ورأيت الناس» أي أبصرتهم أو علمتهم «يدخلون في دين الله» أي ملة الإسلام التي لا دين يضاف إليه تعالى غيرها والجملة على الأول حال من الناس وعلى الثاني مفعول ثان لرأيت وقوله تعالى «أفواجا» حال من فاعل يدخلون أي يدخلون فيه جماعات كثيفة كأهل مكة والطائف واليمن وهوازن وسائر قبائل العرب وكانوا قبل ذلك يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين روي أنه عليه السلام لما فتح مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا إذا ظفر بأهل الحرم فلن يقاومه أحد وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل ومن كل من أرادهم فكانوا يدخلون في دين الإسلام أفواجا من غير قتال وقرئ فتح الله والنصر
208

وقرئ يدخلون على لبناء للمفعول
«فسبح بحمد ربك» فقل سبحان الله حامدا له أو فتعجب لتيسير الله تعالى ما لم يخطر ببال أحد من أن يغلب أحد على أهل حرمه المحترم وأحمده على جميل صنعه هذا على الرواية الأولى ظاهر وأما على الثانية فلعله عليه السلام أمر بأن يداوم على ذلك استعظاما لنعمه لا بإحداث التعجب لما ذكر فإنه إنما يناسب حالة الفتح أو فاذكره مسبحا حامدا زيادة في عبادته والثناء عليه لزيادة إنعامه عليك أو فصل له حامدا على نعمه روي أنه لما فتح باب الكعبة صلى صلاة الضحى ثمان ركعات أو فنزهه عما يقوله الظلمة حامدا له على أن صدق وعده أو فاثن على الله تعالى بصفات الجلال حامدا له على صفات الإكرام «واستغفره» هضما لنفسك واستقصارا لعملك واستعظاما لحقوق الله تعالى واستدراكا لما فرط منك من ترك الأولى عن عائشة رضي الله عنها إنه كان عليه الصلاة والسلام يكثر قبل موته أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك وعنه عليه السلام إني لأستغفر في اليوم والليلة مائة مرة وروي أنه لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه استبشروا وبكى العباس فقال عليه السلام ما يبكيك يا عم فقال نعيت إليك نفسك قال عليه السلام إنها لكما تقول فلم ير عليه السلام بعد ذلك ضاحكا مستبشرا وقيل إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه السلام لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا ولعل ذلك للدلالة على تمام أمر الدعوة وتكامل أمر الدين كقوله تعالى «اليوم أكملت لكم دينكم» وروي أنها لما نزلت خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن عبدا خيره الله تعالى بين الدنيا وبين لقائه فاختار لقاء الله تعالى فعلم أبو بكر رضي الله عنه فقال فديناك بأنفسنا وآبائنا وأولادنا وعنه عليه السلام أنه دعا فاطمة رضي الله عنها فقال يا بنتاه إنه نعيت إلي نفسي فبكت فقال لا تبكي فإنك أول أهلي لحوقا بي وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن هذه السورة تسمى سورة التوديع وقيل هو أمر بالاستغفار لأمته «إنه كان توابا» منذ خلق المكلفين أي مبالغا في قبول توبتهم فليكن كل تائب مستغفر متوقعا للقبول عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النصر أعطي من الأجر كمن شهد مع محمد يوم فتح مكة
209

سورة المسد مكية و آيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
«تبت» أي هلكت «يدا أبي لهب» هو عبد العزى بن عبد المطلب وإيثار التباب على الهلاك وإسناده إلى يديه لما روى لما نزل وأنذر عشيرتك الأقربين رقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفا وجمع أقاربه فأنذرهم فقال أبو لهب تبا لك ألهذا دعوتنا وأخذ حجرا ليرميه عليه السلام به «وتب» أي وهلك كله وقيل المراد بالأول هلاك جملته كقوله تعالى «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» ومعنى وتب وكان ذلك وحصل كقول من قال جزاني جزاه الله شر جزائه جزاء الكلاب العاويات وقد فعل ويؤيده قراءة من قرأ وقد تب وقيل الأول إخبار عن هلاك عمله لأن الأعمال تزاول غالبا بالأيدي والثاني إخبار عن هلاك نفسه وقيل كلاهما دعاء عليه بالهلاك وقيل الأول دعاء والثاني إخبار وذكر كنيته للتعريض بكونه جهنميا ولاشتهاره بها ولكراهة ذكر اسمه القبيح وقرئ أبو لهب كما قيل علي بن أبو طالب وقرئ أبي لهب بسكون الهاء
«ما أغنى عنه ماله وما كسب» أي لم يغن عنه حين حل به التباب على أن ما نافية أو أي شيء أغنى عنه على أنها استفهامية في معنى الإنكار منصوبة بما بعدها أصل ماله وما كسبه من الأرباح والنتائج والمنافع والوجاهة والأتباع أو ماله الموروث من أبيه والذي كسبه بنفسه أو عمله الخبيث الذي هو كيده في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم أو عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله تعالى «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا» وعن ابن عباس رضي الله عنهما ما كسب ولده وروى أنه كان يقول إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فأستخلص منه وقد خاب مرجاه وما حصل ما تمناه فافترس ولده عتبة أسد في طريق الشام بين العير المكتنفة به وقد كان عليه السلام دعا عليه وقال اللهم سلط عليه كلبا من كلابك وهلك نفسه بالعدسة بعد وقعة بدر لسبع ليال فاجتنبه أهله مخافة العدوي وكانت قريش تتقيها كالطاعون فبقي ثلاثا حتى أنتن ثم استأجروا بعض السودان فاحتملوه ودفنوه فكان
210

الأمر كما أخبر به القرآن
«سيصلى» بفتح الياء وقرئ بضمها وفتح اللام بالتخفيف والتشديد والسين لتأكيد الوعيد وتشديده أي سيدخل لا محالة بعد هذا العذاب العاجل في الآخرة «نارا ذات لهب» أي نارا عظيمة ذات اشتعال وتوقد وهي نار جهنم وليس هذا نصا في أنه لا يؤمن أبدا حتى يلزم من تكليفه الإيمان بالقرآن أن يكون مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن أبدا فيكون مأمورا بالجمع بين النقيضين كما هو المشهور فإن صلى النار غير مختص بالكفار فيجوز أن يفهم أبو لهب من هذا أن دخوله النار لفسقه ومعاصيه لا لكفره فلا اضطرار إلى الجواب المشهور من أن ما كلفه هو الإيمان بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا لا الإيمان بتفاصيل ما نطق به القرآن حتى يلزم أن يكلف الإيمان بعدم إيمانه المستمر
«وامرأته» عطف على المستكن في سيصلى لمكان الفصل بالمفعول وهي أم جميل بنت حرب أخب أبي سفيان وكانت تحمل حزمة من الشوك والحسك والسعدان فتنثرها بالليل في طريق النبي صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم يطؤه كما يطأ الحرير وقيل كانت تمشي بالنميمة ويقال لمن يمشي بالنمائم ويفسد بين الناس يحمل الحطب بينهم أي يوقد بينهم النار «حمالة الحطب» بالنصب على الشتم والذم وقيل على الحالية بناء على أن الإضافة غير حقيقية إذ المراد أنها تحمل يوم القيامة حزمة
من حطب جهنم كالزقوم والضريع وعن قتادة أنها مع كثرة مالها كانت تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها فعيرت بالبخل فالنصب حينئذ على الشتم حتما وقرئ بالرفع على أنه خبر وامرأته مبتدأ وقرئ حمالة للحطب بالتنوين نصبا ورفعا وقرئ مريته بالتصغير للتحقير
«في جيدها حبل من مسد» جملة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر والجملة حالية وقيل الظرف خبر لامرأته وحبل مرتفع به على الفاعلية وقيل هو حال من امرأته على تقدير عطفها على ضمير سيصلى وحبل فاعل كما ذكر والمسد ما يفتل من الحبال فتلا شديدا من ليف المقل وقيل من أي ليف كان وقيل من لحاء شجر باليمن وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها والمعنى في عنقها حبل مما مسد من الحبل وأنها تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون تخسيسا بحالها وتصويرا لها بصورة بعض الحطابات من المواهن لتمتعض من ذلك ويتمعض بعلها وهما في بيت العز والشرف قال مرة الهمداني كانت أم جميل تأتي كل يوم بإبالة من حسك فتطرحها على طريق المسلمين فبينا هي ذات ليلة حاملة حزمة أعيت فقعدت على حجر لتستريح فجذبها الملك من خلفها فاختنقت بحبلها عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة المسد ثبت رجوت أن لا يجمع الله بينه وبين أبي لهب في دار واحدة
211

سورة الإخلاص مكية مختلف فيها و آيها أربع
بسم الله الرحمن الرحيم
«قل هو الله أحد» الضمير للشأن ومدار وضعه موضعه مع عدم سبق ذكره الإيذان بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد وإليه يشير كل مشير وإليه يعود كل ضمير كما ينبئ عنه اسمه الذي أصله القصد أطلق على المفعول مبالغة ومحله الرفع على الابتداء خبره الجملة بعده ولا حاجة إلى الربط لأنها عين الشأن الذي عبر عنه بالضمير والسر في تصدير الجملة به التنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها وجلالة حيزها مع ما فيه من زيادة تحقيق وتقرير فإن الضمير لا يفهم منه من أول الأمر إلا شأن مبهم له خطر جليل فيبقى الذهن مترقبا لما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه فيتمكن عند وروده له فضل تمكن وهمزة أحد مبدلة من الواو وأصله وحد لا كهمزة ما يلازم النفي ويراد به العموم كما في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» وما في قوله عليه السلام ما أحلت الغنائم لأحد سود الرؤوس غيركم فإن أصلية وقال مكي أصل أحد واحد فأبدلت الواو همزة فاجتمع ألفان لأن الهمزة تشبه الألف فحذفت إحداهما تخفيفا وقال ثعلب إن أحد إلا يبني عليه العدد ابتداء فلا يقال أحد واثنان كما يقال واحد واثنان ولا يقال رجل أحد كما يقال رجل واحد ولذلك اختص به تعالى أو هو كما سئل عنه أي الذي سألتم عنه هو الله إذ روى أن قريشا قالوا صف لنا ربك الذي تدعونا إليه و انسبه فنزلت فالضمير مبتدأ والله خبره وأحد بدل منه أو خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف وقرئ هو الله أحد بغير قل وقرئ الله أحد بغير قل هو وقرئ قل هو الواحد وقوله تعالى
«الله الصمد» مبتدأ وخبر والصمد فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده أي هو السيد المصمود إليه في الحوائج المستغني بذاته وكل ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته وقيل الصمد الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال وقيل الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وتعريفه لعلمهم بصمديته بخلاف أحديته وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية وتعرية الجملة عن العاطف لأنها كالنتيجة للأولى بين أولا ألوهيته عن
212

وجل المستتبعة لكافة نعوت الكمال ثم أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها تحقيقا للحق وإرشادا لهم إلى سننه الواضح ثم صرح ببعض أحكام جزئية مندرجة تحت الأحكام السابقة فقيل «لم يلد» تنصيصا على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي أي لم يصدر عنه ولد لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا كما نطق به قوله تعالى «ولم تكن له صاحبة» ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه «ولم يولد» أي لم يصدر عن شيء لاستحالة نسبة العدم إليه سابقا ولاحقا والتصريح به مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه بالإشارة إلى أنهما متلازمان إذ المعهود أن ما يلد يولد ومالا فلا ومن قضية الاعتراف بأنه لم يولد الاعتراف بأنه لا يلد فهو قريب من عطف لا يستقدمون على ما يستأخرون كما مر تحقيقه
«ولم يكن له كفوا أحد» أي لم يكافئه أحد ولم يماثله ولم يشاكله من صاحبة وغيرها وله صلة لكفؤا قدمت عليه مع أن حقها التأخر عنه للاهتمام بها لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى وقد جوز أن يكون خبرا لا صلة ويكون كفؤا حالا من أحد وليس بذاك وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل ووجه الوصل بين هذه الجمل غني عن البيان وقرئ بضم الكاف والفاء مع تسهيل الهمزة وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء هذا و لانطواء السورة الكريمة مع تقارب قطريها على أشتات المعارف الإلهية والرد على من الحد فيها ورد في الحديث النبوي أنها تدل ثلث القرآن فإن مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص ومن عدلها بكله اعتبر المقصود بالذات منه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد أي ما خالقت إلا لتكون دلائل على توحيد الله تعالى ومعرفة صفاته التي نطقت بها هذه السورة وعنه عليه السلام أنه سمع رجلا يقرأ قل هو الله أحد فقال وجبت فقيل وما وجبت يا رسول الله قال وجبت له الجنة
213

سورة الفلق مكية مختلف فيها و آيها خمس
بسم الله الرحمن الرحيم
«قل أعوذ برب الفلق» الفلق الصبح كالفرق لأنه يفلق عنه الليل ويفرق فعل بمعنى مفعول فإن كل واحد من المفلوق و المفلوق عنه مفعول وقيل هو ما انفلق من عموده وقيل هو كل ما يفلقه الله تعالى كالأرض عن النبات والجبال عن العيون والسحاب عن الأمطار والحب والنوى عما يخرج منهما وغير ذلك وفي تعليق العياذ باسم الرب
المضاف إلى الفلق المنبئ عن النور عقيب الظلمة والسعة بعد الضيق والفتق بعد الرتق عدة كريمة بإعادة العائذ مما يعوذ منه وإنجائه منه وتقوية لرجائه بتذكير بعض نظائره ومزيد ترغيب له في الجد والاعتناء بقرع باب الالتجاء إليه تعالى وأما الإشعار بأن من قدر أن يزيل ظلمة الليل من هذا العالم قدر أن يزيل عن العائذ ما يخافه كما قيل فلا إذ لا ريب العائذ في قدرته تعالى على ذلك حتى يحتاج إلى التنبيه عليها
«من شر ما خلق» أي من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم كائنا ما كان من ذوات الطبائع والاختيار وهذا كما ترى شامل لجميع الشرور فمن توهم أن الاستعاذة هاهنا من المضار البدنية وأنها تعم الإنسان وغيره بما بصدد الاستعاذة ثم جعل عمومها مدارا لإضافة الرب إلى الفلق فقد نأى عن الحق بمراحل وإضافة الشر إليه لاختصاصه بعالم الخلق المؤسس على امتزاج المواد المتباينة وتفاعل كيفياتها المتضادة المستتبعة للكون والفساد وأما عالم الأمر فهو خير محض منزه عن شوائب الشر بالمرة
وقوله تعالى «ومن شر غاسق» تخصيص لبعض الشرور بالذكر مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة منه لكثرة وقوعه ولأن تعيين المستعاذ منه أدل على الاعتناء بالاستعاذة وادعى إلى الإعاذة أي ومن شر ليل معتكر ظلامه من قوله تعالى «إلى غسق الليل» وأصل الغسق سيلان دمعها وإضافة الشر إلى الليل لملابسته له بحدوثه فيه وتفكيره لعدم شمول الشر لجميع أفراده ولا لكل أجزائه وتقييده بقوله تعالى «إذا وقب»
214

أي دخل ظلامه في كل شيء لأن حدوثه فيه أكثر والتحرز منه أصعب وأعسر ولذلك قيل الليل أخفى للويل وقيل الغاسق هو القمر إذا امتلأ ووقوبه دخوله في الخسوف واسوداده لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأشار إلى القمر فقال تعوذي بالله تعالى من شر هذا الغاسق إذا وقب وقيل التعبير عن القمر بالغاسق لأن جرمه مظلم وإنما يستنير بضوء الشمس ووقوبه المحاق في آخر الشهر والمنجمون يعدونه نحسا ولذلك لا يشتغل السحرة بالسحر المورث للتمريض إلا في ذلك الوقت قيل وهو المناسب لسبب النزول وقيل الغاسق الثريا و وقوبها سقوطها لأنها إذا سقطت كثرت الأمراض والطواعين وقيل هو كل شر يعتري الإنسان ووقوبه هجومه «ومن شر النفاثات في العقد» أي ومن شر النفوس أو النساء السواحر اللاتي يعقد عقدا في خيوط وينفثن عليها والنفث النفخ مع ريق وقيل بدون ريق وقرئ النافثات كما قرىء النفثات بغير ألف وتعريفها إما للعهد أو للإيذان بشمول الشر لجميع أفرادهن وتمحضهن فيه وتخصيصه بالذكر لما روى ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنه كان غلام من اليهود يخدم النبي صلى الله عليه وسلم وكان عنده أسنان من مشطه صلى الله عليه وسلم فأعطاها لليهود فسحروه عليه السلام فيها وتولاه لبيد بن الأعصم اليهودي وبناته وهن النافثات في العقد فدفنها في بئر أريس فمرض النبي صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل عليه السلام بالمعوذتين وأخبره بموضع السحر وبمن سحره وبم سحره فأرسل صلى الله عليه وسلم عليا كرم الله وجهه والزبير وعمارا رضي الله عنهما فنزحوا ماء البئر فكأنه نقاعة الحناء ثم رفعوا راعوثة البئر وهي الصخرة التي توضع في أسفل البئر فأخرجوا من تحتها الأسنان ومعها وتر قد عقد فيه إحدى عشرة عقدة مغرزة بالإبرة فجاؤوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ المعوذتين عليها فكان كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد صلى الله عليه وسلم خفة حتى انحلت العقدة الأخيرة عنه تمام السورتين فقام صلى الله عليه وسلم كأنما أنشط من عقال فقالوا يا رسول الله أفلا نقتل الخبيث فقال صلى الله عليه وسلم أما أنا فقد عافاني الله عز وجل وأكره أن أثير على الناس شرا قالت عائشة رضي الله عنها ما غضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا ينتقم لنفسه قط إلا أن يكون شيئا هو لله تعالى فيغضب لله وينتقم وقيل المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل ومستعار من تليين العقدة بنفث الريق ليسهل حلها
«ومن شر حاسد إذا حسد» أي إذا أظهر ما في نفسه من الحسد وعمل بمقتضاه بترتيب مقدمات الشر ومبادئ الإضرار بالمحسود قولا أو فعلا والتقييد بذلك لما أن ضرر الحسد قبله إنما يحيق بالحسد لا غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى
215

سورة الناس مكية مختلف فيها وآياتها ست
بسم الله الرحمن الرحيم
«قل أعوذ» وقرئ في السورتين بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام «برب الناس» أي مالك أمورهم ومربيهم بإفاضة ما يصلحهم ودفع ما يضرهم
وقوله تعالى «ملك الناس» عطف بيان جيء به لبيان أن تربيته تعالى إياهم ليست بطريق تربية سائرا لملاك لما تحت أيديهم من مماليكهم بل بطريق الملك الكامل والتصرف الكلي والسلطان القاهر
وكذا قوله تعالى «إله الناس» فإنه لبيان أن ملكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم والقيام بتدبير أمورهم وسياستهم والتولي لترتيب مبادئ حفظهم وحمايتهم كما هو قصارى أمر الملوك بل هو بطريق المعبودية المؤسسة على الألوهية المقتضية للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهم إحياء وإماتة وإيجادا وإعداما وتخصيص الإضافة بالناس مع انتظام جميع العالمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوتيته وألوهيته للإرشاد إلى منهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى الحقيقة بالإعاذة فإن توسل العائذ بربه وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والمملوكية والعبودية في ضمن جنس هو فرد من أفراده من دواعي مزيد الرحمة والرأفة وأمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ولأن المستعاذ منه شر الشيطان المعروف بعداوتهم ففي التنصيص على انتظامهم في سلك عبوديته تعالى وملكوته رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلطه عليهم حسبما ينطق به قوله تعالى «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» فمن جعل مدار تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر في توفية المقام حقه وأما جعل المستعاذ منه فيما سبق المضار البدنية فقد عرفت حاله وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف بالإضافة
«من شر الوسواس» هو اسم بمعنى الوسوسة وهي الصوت الخفي كالزلزال بمعنى
216

الزلزلة وأما المصدر فبالكسر والمراد به الشيطان سمي بفعله مبالغة كأنه نفس الوسوسة «الخناس» الذي عادته أن يخنس أي يتأخر إذا ذكر الإنسان ربه «الذي يوسوس
في صدور الناس» إذا غفلوا عن ذكره تعالى ومحل الموصول إما الجر على الوصف وإما الرفع أو النصب على الذم
«من الجنة والناس» بيان للذي يوسوس على أنه ضربان جني وإنسي كما قال عز وجل شياطين الإنس والجن أو متعلق بيوسوس أي يوسوس في صدرهم من جهة الجن ومن جهة الإنس وقد جوز أن يكون بيانا للناس على أنه يطلق على الجن أيضا حسب إطلاق النفر والرجال عليهم ولا تعويل عليه وأقرب منه أن يراد بالناس الناسي ويجعل سقوط الياء كسقوطها في قوله تعالى «يوم يدع الداع» ثم يبين بالجنة والناس فإن كل فرد من أفراد الفريقين مبتلى بنسيان حق الله تعالى إلا من تداركه شوافع عصمته وتناوله واسع رحمته عصمنا الله تعالى من الغفلة عن ذكره ووفقنا لأداء حقوق شكره
تم بحمد الله وعونه هذا التفسير الجليل وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
217

خاتمة المؤلف
قال العبد الذليل متضرعا إلى ربه الجليل اللهم يا ولي العصمة والإرشاد وهادي الغواة إلى سنن الرشاد بارئ البرية مالك الرقاب عليك توكلي وإليك متاب أنت المغيث لكل حائر ملهوف والمجير من كل هائل مخوف ألوذ بحرمك المأمون من غوائل ريب المنون وألتجئ إلى حرزك الحريز وآوى إلى ركنك العزيز وأسألك من خزائن برك المخزون في مكامن سر المكنون خير ما جرى به قلم التكوين من أمور الدنيا والدين وأعوذ بك من فنون الفتن والشرور لا سيما الاطمئنان بدار الغرور والاغترار بنعيمها وزهرتها والافتتان بزخارفها وزينتها فأعذني بحمايتك وأعني بعنايتك وأفض على من شوارق الأنوار الربانية وبوارق الآثار السبحانية ما يخلصني من العوائق الظلمانية و يجردني من العلائق الجسمانية وهذب نفسي الأبية من دنس الطبائع والأخلاق ونور قلبي القاسي بلوامع الإشراق ليستعد للعبور على سرائر الأنس ويتهيأ للحضور في حظائر القدس وثبتني على مناهج الحق والهدى وأرشدني إلى مسالك البر والتقى واجعل أعز مرامي ابتغاء رضاك وأشرف أيامي يوم لقاك يوم يقوم الناس لرب العالمين فريقا فريقا واحشرني مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
(قام بمراجعة وتصحيح هذا التفسير: فضيلة الأستاذ الدكتور (حسن أحمد مرعى) الأستاذ
بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر. وفضيلة الأستاذ الشيخ (محمد الصادق قمحاوي) المفتش العام بالمعاهد الأزهرية، وعضو لجنة مراجعة المصاحف بمشيخة الأزهر الشريف).
218