الكتاب: تفسير ابن عربي
المؤلف: ابن العربي
الجزء: ١
الوفاة: ٦٣٨
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: ضبطه وصححه وقدم له الشيخ عبد الوارث محمد علي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

بسم الله الرحمن الرحيم
فاتحة الكتاب
[تفسيرآية الفاتحة (1)]
اسم الشيء ما يعرف به، فأسماء الله تعالى هي الصور النوعية التي تدل
بخصائصها وهوياتها على صفات الله وذاته، وبوجودها على وجهه، وبتعينها على
وحدته، إذ هي ظواهره التي بها يعرف. و * (الله) * اسم للذات الإلهية من حيث هي هي
على الإطلاق، لا باعتبار اتصافها بالصفات، ولا باعتبار لا اتصافها.
و * (الرحمن) * هو المفيض للوجود والكمال على الكل بحسب ما تقتضي
الحكمة وتحتمل القوابل على وجه البداية. و * (الرحيم) * هو المفيض للكمال المعنوي
المخصوص بالنوع الإنساني بحسب النهاية، ولهذا قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة،
ورحيم الآخرة. فمعناه بالصورة الإنسانية الكاملة الجامعة الرحمة العامة والخاصة،
التي هي مظهر الذات الإلهي والحق الأعظمي مع جميع الصفات ابدأ واقرأ، وهي
الاسم الأعظم وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أوتيت جوامع الكلم، وبعثت
لأتمم مكارم الأخلاق))، إذ الكلمات حقائق الموجودات وأعيانها. كما سمي عيسى
عليه السلام كلمة من الله، ومكارم الأخلاق كمالاتها وخواصها التي هي مصادر أفعالها
جميعها محصورة في الكون الجامع الإنساني. وههنا لطيفة وهي أن الأنبياء عليهم
السلام وضعوا حروف التهجي بإزاء مراتب الموجودات. وقد وجدت في كلام عيسى
عليه الصلاة والسلام وأمير المؤمنين علي عليه السلام وبعض الصحابة ما يشير إلى
ذلك. ولهذا قيل: ظهرت الموجودات من باء بسم الله إذ هي الحرف الذي يلي الألف
الموضوعة بإزاء ذات الله. فهي إشارة إلى العقل الأول الذي هو أول ما خلق الله
المخاطب بقوله تعالى: ((ما خلقت خلقا أحب إلي ولا أكرم علي منك، بك أعطي،
وبك آخذ، وبك أثيب، وبك أعاقب...)) الحديث.
والحروف الملفوظة لهذه الكلمة ثمانية عشر، والمكتوبة تسعة عشر. وإذا انفصلت
الكلمات انفصلت الحروف إلى اثنين وعشرين، فالثمانية عشر إشارة إلى العوالم المعبر عنها
بثمانية عشر ألف عالم، إذ الألف هو العدد التام المشتمل على باقي مراتب الأعداد فهو أم
27

المراتب الذي لا عدد فوقه، فعبر بها عن أمهات العوالم التي هي عالم الجبروت، وعالم
الملكوت، والعرش، والكرسي، والسماوات السبع، والعناصر الأربعة، والمواليد الثلاثة
التي ينفصل كل واحد منها إلى جزئياته.
والتسعة عشر إشارة إليها مع العالم الإنساني، فإنه وإن كان داخلا في عالم
الحيوان إلا أنه باعتبار شرفه وجامعيته للكل وحصره للوجود عالم آخر له شأن وجنس
برأسه له برهان، كجبريل من بين الملائكة في قوله تعالى: * (وملائكته ورسله وجبريل) * [البقرة، الآية: 98].
والألفات الثلاثة المحتجبة التي هي تتمة الاثنين والعشرين عند الانفصال إشارة
إلى العالم الإلهي الحق، باعتبار الذات، والصفات، والأفعال. فهي ثلاثة عوالم عند
التفصيل، وعالم واحد عند التحقيق، والثلاثة المكتوبة إشارة إلى ظهور تلك العوالم
على المظهر الأعظمي الإنساني، والاحتجاب العالم الإلهي.
حين سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ألف الباء من أين ذهبت؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((سرقها
الشيطان)). وأمر بتطويل باء بسم الله تعويضا عن ألفها إشارة إلى احتجاب ألوهية
الإلهية في صورة الرحمة الانتشارية وظهورها في الصورة الإنسانية بحيث لا يعرفها إلا
أهلها، ولهذا نكرت في الوضع.
وقد ورد في الحديث: ((إن الله تعالى خلق آدم على صورته))، فالذات محجوبة
بالصفات، والصفات بالأفعال، والأفعال بالأكوان والآثار، فمن تجلت عليه الأفعال
بارتفاع حجب الأكوان توكل، ومن تجلت عليه الصفات بارتفاع حجب الأفعال رضي
وسلم. ومن تجلت عليه الذات بانكشاف حجب الصفات فني في الوحدة فصار موحدا
مطلقا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ بسم الله الرحمن الرحيم، فتوحيد الأفعال مقدم على
توحيد الصفات وهو على توحيد الذات وإلى الثلاثة أشار صلى الله عليه وسلم في سجوده
بقوله: ((أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك)).
[آية 2 - 5]
* (الحمد لله رب العالمين) * إلى آخر السورة، الحمد بالفعل ولسان الحال هو ظهور
الكمالات وحصول الغايات من الأشياء إذ هي أثنية فاتحة ومدح رائعة لموليها بما يستحقه.
فالموجودات كلها بخصوصياتها وخواصها، وتوجهها إلى غاياتها، وإخراج كمالاتها
من حيز القوة إلى الفعل، مسبحة، حامدة، كما قال تعالى: * (وإن من شيء إلا يسبح
28

بحمده) * [الإسراء، الآية: 44]، فتسبيحها إياه تنزيهه عن الشريك وصفات النقص والعجز
باستنادها إليه وحده، ودلالتها على وحدانيته وقدرته، وتحميدها إظهار كمالاتها
المترتبة، ومظهريتها لتلك الصفات الجلالية والجمالية.
وخص بذاته بحسب مبدئيته للكل، وحافظيته ومدبريته له التي هي معنى الربوبية
للعالمين، أي لكل ما هو علم لله يعلم به كالخاتم لما يختم به، والقالب لما يقلب
فيه، وجمع جمع السلامة لاشتماله على معنى العلم أو للتغليب، وبإزاء إفاضة الخير
العام والخاص، أي النعمة الظاهرة كالصحة والرزق. والباطنة كالمعرفة والعلم.
وباعتبار منتهائيته التي هي معنى مالكية الأشياء في يوم الدين إذ لا يجزي في الحقيقة
إلا المعبود الذي ينتهي إليه الملك وقت الجزاء بإثابة النعمة الباقية عن الفانية عند
التجرد عنها بالزهد وتجليات الأفعال عند انسلاخ العبد عن أفعاله، وتعويض صفاته
عند المحو عن صفاته وإبقائه بذاته، وهبته له الوجود الحقاني عند فنائه فله تعالى
مطلق الحمد وماهيته أزلا وأبدا على حسب استحقاقه إياه بذاته باعتبار البداية والنهاية
وما بينهما في مقام الجمع على ألسنة التفاصيل، فهو الحامد والمحمود تفصيلا
وجمعا، والعابد والمعبود مبدأ ومنتهى.
ولما تجلى في كلامه لعباده بصفاته شاهدوه بعظمته وبهائه، وكمال قدرته
وجلاله، فخاطبوه قولا وفعلا بتخصيص العبادة به، وطلب المعونة منه، إذ ما رأوا
معبودا غيره، ولا حول ولا قوة لأحد إلا به. فلو حضروا لكانت حركاتهم وسكناتهم
كلها عبادة له وبه، فكانوا على صلاتهم دائمين داعين بلسان المحبة لمشاهدتهم جماله
من كل وجه على كل وجه.
[آية 6 - 7]
* (اهدنا الصراط المستقيم) * أي: ثبتنا على الهداية ومكنا بالاستقامة في طريق
الوحدة التي هي طريق المنعم عليهم بالنعمة الخاصة الرحيمية التي هي المعرفة
والمحبة والهداية الحقانية الذاتية من النبيين والشهداء والصديقين والأولياء، الذين
شاهدوه أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، فغابوا في شهودهم طلعة وجهه الباقي عن وجود
الظل الفاني.
* (غير المغضوب عليهم) * الذين وقفوا مع الظواهر، واحتجبوا بالنعمة الرحمانية،
والنعيم الجسماني، والذوق الحسي عن الحقائق الروحانية، والنعيم القلبي، والذوق
العقلي كاليهود إذ كانت دعوتهم إلى الظواهر والجنان والحور والقصور، فغضب
29

عليهم لأن الغضب يستلزم الطرد والبعد والوقوف مع الظواهر التي هي الحجب
الظلمانية غاية البعد. * (ولا الضالين) * الذين وقفوا مع البواطن التي هي الحجب
النورانية واحتجبوا بالنعمة الرحيمية عن الرحمانية، وغفلوا عن ظاهرية الحق، وضلوا
عن سواء السبيل، فحرموا شهود جمال المحبوب في الكل كالنصارى إذ كانت
دعوتهم إلى البواطن وأنوار عالم القدوس ودعوة المحمديين الموحدين إلى الكل،
والجمع بين محبة جمال الذات، وحسن الصفات، كما ورد في القرآن الكريم:
* (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * [آل عمران، الآية: 133]، * (اتقوا الله وآمنوا
برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به) * [الحديد، الآية: 28]،
* (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا) * [النساء: الآية: 36]. فأجابوا الدعوات الثلاث. كما
جاء في حقهم: * (ويرجون رحمته ويخافون عذابه) * [الإسراء، الآية: 57]، * (يقولون ربنا أتمم لنا نورنا) * [التحريم، الآية: 8]، * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقموا) * [فصلت،
الآية: 30]. فأثيبوا بالجميع على ما أخبر الله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن) *
[البينة، الآية: 8]، * (لهم أجرهم ونورهم) * [الحديد، الآية: 19]، * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة، الآية: 115]، * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * [يونس، الآية: 26].
30

سورة البقرة
بسم الله الرحمن الرحيم
[تفسير آية البقرة 1]
* (ألم ذلك الكتاب) * أشار بهذه الحروف الثلاثة إلى كل الوجود من حيث هو
كل لأن (أ) إشارة إلى ذات الذي هو أول الوجود على ما مر. و (ل) إلى العقل
الفعال المسمى جبريل، وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى
المنتهى. و (م) إلى محمد الذي هو آخر الوجود تتم به دائرته وتتصل بأولها، ولهذا
ختم وقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض)). وعن
بعض السلف أن (ل) ركبت من ألفين، أي: وضعت بإزاء الذات مع صفة العلم
اللذين هما عالمان من العوالم الثلاثة الإلهية التي أشرنا إليها، فهو اسم من الأسماء الله
تعالى، إذ كل اسم هو عبارة عن الذات مع صفة ما. وأما (م) فهي إشارة إلى الذات
مع جميع الصفات والأفعال التي احتجبت بها في الصورة المحمدية التي هي اسم الله
الأعظم، بحيث لا يعرفها إلا من يعرفها. ألا تدري أن (م) التي هي صورة الذات
كيف احتجب فيها، فإن الميم فيها الياء، وفي الياء ألف. والسر في وضع حروف
التهجي هو أن لا حرف إلا وفيه ألف، ويقرب من هذا قول من قال: معناه القسم بالله
العليم الحكيم، إذ جبريل مظهر العلم، فهو اسمه العليم. ومحمد مظهرالحكمة، فهو
اسمه الحكيم. ومن هذا ظهر معنى قول من قال: تحت كل اسم من أسماءه تعالى
أسماء بغير نهاية. والعلم لا يتم ولا يكمل إلا إذا قرن بالفعل في عالم الحكمة الذي
هو عالم الأسباب والمسببات، فيصير حكمة. ومن ثم لا يحصل الإسلام بمجرد
قول: لا إله إلا الله، إلا إذا قرن: بمحمد رسول الله.
فمعنى الآية * (ألم ذلك الكتاب) * الموعود، أي: صورة الكل المومى إليها
بكتاب الجفر والجامعة المشتملة على كل شيء، الموعود بأنه يكون مع المهدي في
آخر الزمان لا يقرأه كما هو بالحقيقة إلا هو، والجفر لوح القضاء الذي هو عقل الكل
والجامعة لوح القدر الذي هو نفس الكل، فمعنى كتاب الجفر والجامعة: المحتويان
31

على كل ما كان ويكون، كقولك سورة (البقرة) وسورة (النمل).
[آية 2]
* (لا ريب فيه) * عند التحقيق بأنه الحق، وعلى تقدير القول معناه بالحق الذي
هو الكل من حيث هو كل لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي
كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليه السلام: ((نحن نأتيكم بالتنزيل، وأما التأويل
فسيأتي به المهدي في آخر الزمان)). وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه،
كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنا
منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة
قوله: * (ذلك الكتاب) * عليه أي: ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق، الموعود في
التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. * (هدى للمتقين) * أي هدى في نفسه
للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم: إما سعداء، وإما أشقياء.
قال الله تعالى: * (فمنهم شقي وسعيد) * [هود، الآية: 105]، والأشقياء أصحاب الشمال،
والسعداء إما أصحاب اليمين، وإما السابقون المقربون، قال الله تعالى * (وكنتم أزواجا) *:
[آية 7] [ثلاثة الواقعة، الآية: 7] الآية. وأصحاب الشمال إما المطرودون الذين حق
عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا، كما قال
تعالى: * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس) * [الأعراف، الآية، 179] إلى آخر
الآية. وفي الحديث الرباني: ((هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي)). وأما المنافقون الذين
كانوا مستعدين في الأصل، قابلين للتنور بحسب الفطرة والنشأة، ولكن احتجبت
قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي، ومباشرة الأعمال
البهيمية، والسبعية، ومزاولة المكايد الشيطانية، حتى رسخت الهيئات الفاسفة
والملكات المظلمة في نفوسهم، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين،
قد حبطت أعمالهم، وانتكست رؤوسهم فهم أشد عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول
لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.
أما أهل الفضل والثواب، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها،
راضين بها، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم، ولكل درجات مما
عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم، وصفاء قلوبهم، المتبوئون
درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم، لا على حسب كمالاتهم من
ميراث عملهم.
32

وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، وهم قسمان: المعفو
عنهم رأسا لقوة اعتقادهم، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلة مزاولتهم إياها، أو لمكان توبتهم
عنها. فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من
المعاصي حتى خلصوا عن دون ما كسبوا، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب، والذين
ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل
الآخرة.
والسابقون إما محبون وإما محبوبون، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حق
جهاده، وأنابوا إليه حق إنابته، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية -
الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله، فالقرآن ليس
هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم، ولا للثاني
لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم، فهم أهل الخلود في
النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون، والمحبوب
يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه:
* (كذلك لنثبت به فؤادك) * [الفرقان، الآية: 32]، وقوله: * (وكلا نقص عليك من أنباء
الرسل ما نثبت به فوادك) * [هود، الآية: 120] والمحب يحتاج إليه قبل الوصول
والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.
فعلى هذا، المتقون في هذا الموضع هم المستعدون الذين بقوا على فطرتهم
الأصلية، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم، وبقاء نورهم
الفطري، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدمة على الإيمان، ولها مراتب أخرى
متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) *
* (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) * أي: بما غاب عنهم الإيمان
التقليدي، أو التحقيقي العلمي، فإن الإيمان قسمان: تقليدي وتحقيقي. والتحقيقي
قسمان: استدلالي وكشفي، وكلاهما إما واقف على حد العلم والغيب، وإما غير
واقف. والأول هو الإيقان المسمى علم اليقين. والثاني: إما عيني، وهو المشاهدة
المسمى عين اليقين، وإما حقي، وهو الشهود الذاتي المسمى حق اليقين. والقسمان
الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية
التي هي التزكية، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية،
الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث: قلبية، وبدنية، وما حول
33

البدن. فالقلبية هي المعارف، والحكم، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية
هي الصحة والقوة واللذات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن هي
الأموال والأسباب، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((ألا وإن من النعم سعة
المال، وأفضل من سعة المال صحة الجسد، وتقوى القلب)). ويجب الاحتراز عن
الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة.
فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية، وهي أم العبادات
التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * [العنكبوت، الآية: 45] إذ هي تحامل على البدن والنفس، ومشقة فادحة عليهما، والاتفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمى
بالزهد، فإن الإنفاق ربما كان أشد عليها من بذل الروح للزوم الشح إياها، ولم يكتف
بالقدر الواجب فقال:
[آية 3 - 5]
* (ومما رزقناهم ينفقون) * ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل
المال، في وجوه المروات، والهبات، والصدقات الغير الواجبة، فيوقي شح نفسه،
وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر
الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.
* (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) * أي: الإيمان التحقيقي
الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية، وهي تفرس القلب
بالحكم والمعارف المنزلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد، وأمور
الآخرة، وحقائق علم القدس. ولهذا قال: * (وبالآخرة هم يوقنون) * وأهل الآخرة
الذين ما جاوزوا حد التزكية، ولم يصلوا إلى التحليلة التي هي ميراثها، لقوله عليه
صلى الله عليه وسلم: ((من عمل بما علم ورثة الله علم ما لم يعلم)). وأهل الله الموقنون الجامعون
لها كلهم على هدى من ربهم إما إليه وإما إلى داره، دار السلامة والفضل والثواب
واللطف، وهم أهل الفلاح لا غير إما من العقاب وإما من الحجاب ولهذا قال:
* (أولئك) * أي: الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. * (على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) * لأجلها، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ، والذين
يؤمنون الثاني معطوف عليه، وأولئك خبره، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم
الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.
34

[آية 6 - 9]
* (إن الذين كفروا) * - إلى قوله - * (عظيم) * هم الفريق الأول من الأشقياء الذين
هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار، أولئك
حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون، وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا
أنهم أصحاب النار، سدت عليهم الطرق، وأغلقت عليهم الأبواب، إذ القلب هو
المشعر الإلهي الذي هو محل الإلهام، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما
المشعران الأنسيان، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار، فحرموا عن
جداوهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم
الذوقي الكشفي ولا في الظاهر إلى العلم التعلمي والكسبي، فحسبوا في سجون
الظلمات، فما أعظم عذابهم.
* (ومن الناس من يقول آمنا) * هم الفريق الثاني من الأشقياء، سلب عنهم الإيمان
مع ادعائهم له بقولهم * (آمنا بالله) * لأن محل الإيمان هو القلب لا اللسان. * (قالت
الأعراب إمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمن في قلوبكم) * [الحجرات،
. الآية: 14]. ومعنى قولهم: * (آمنا بالله وباليوم الآخر) * ادعاء علمي التوحيد والمعاد
اللذين هما أصل الدين وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من
أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد
ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب، والحجاب إما عن الحق كما
للمشركين وإما عن الدين كما لأهل الكتاب، والمحجوب عن الحق محجوب عن
الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب
عن الحق، فهؤلاء ادعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم، أي
ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين، وهو
إظهار الخير واستبطان الشر. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * [النساء، الآية: 180]، وقوله تعالى: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * [الأنفال: الآية: 17] ولأنه حبيبه.
وقد ورد في الحديث: ((لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا
أحببته كنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ولسانه الذي به يتكلم،
35

ويده التي بها يبطش، ورجله التي بها يمشي)) فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان
والمحبة، واستبطان الكفر والعداوة، وخداع الله والمؤمنين إياهم مسالمتهم وإجراء
أحكام الإسلام عليهم بحقن الدماء وحصن الأموال وغير ذلك، وادخار العذاب الأليم
والمآل الوخيم، وسوء المغبة لهم وخزيهم في الدنيا لافتضاحهم بإخباره تعالى
وبالوحي عن حالهم لكن الفرق بين الخداعين أن خداعهم لا ينجح إلا في أنفسهم
بإهلاكها وتحسيرها وإيراثها الوبال والنكال بازدياد الظلمة والكفر والنفاق واجتماع
أسباب الهلكة والبعد والشقاء عليها، وخداع الله يؤثر فيهم أبلغ تأثير ويوبقهم أشد
إيباق، كقوله تعالى * (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين: [آية 54] [آل عمران، الآية:
54] وهم من غاية تعمقهم في جهلهم لا يحسون بذلك الأمر الظاهر.
[آية 10 - 11]
* (في قلوبهم مرض) * أي شك ونفاق تنكير المرض. وإيراد الجملة الظرفية
إشارة إلى عروض المرض واستقراره ورسوخه فيها كما أشرنا إليه في التقسيم، وإلا
لقال قلوبهم مرضى أو موتى. * (فزادهم الله مرضا) * أي: آخر حقدا وحسدا وغلا
بإعلاء كلمة الدين، ونصرة الرسول والمؤمنين، والرذائل كلها أمراض القلوب لأنها
أسباب ضعفها وآفتها في أفعالها الخاصة، وهلاكها في العاقبة. وفرق بين العذابين
بالألم للمنافقين، والعظم للكافرين، لأن عذاب المطرودين في الأزل أعظم فلا
يجدون شدة ألمه لعدم صفاء إدراك قلوبهم، كحال العضو الميت، أو المفلوج
والخدل بالنسبة إلى ما يجري عليه من القطع والكي وغير ذلك من الآلام. وأما
المنافقون فلثبوت استعدادهم في الأصل وبقاء إدراكهم يجدون شدة الألم فلا جرم كان
عذابهم مؤلما مسببا عن المرض العارض المزمن الذي هو الكذب ولواحقه.
وإذا نهوا عن الإفساد في الأرض، أي في الجهة السفلية التي هي النفوس وما
يتعلق بها من المصالح بتكدير النفوس، وتهييج الفتن والحروب، والعداوة والبغضاء
بين الناس، أنكروا وبالغوا في إثبات الإصلاح لأنفسهم، إذ يرون الصلاح في تحصيل
المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا لأنفسهم خاصة، لتوغلهم في محبة الدنيا
وانهماكم في اللذات البدنية، واحتجابهم بالمنافع الجزئية، والملاذ الحسية عن
المصالح العامة الكلية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم
وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.
وإذا دعوا إلى الإيمان الحقيقي، كإيمان فقراء المسلمين والصعاليك المجردين،
36

سفهوهم لمكان تركهم لحطام الدنيا وإعراضهم عن متاعها ولذاتها وطيباتها، لزهدهم
الحقيقي. إذ قصارى همومهم، وقصوى مقاصد عقولهم الأسيرة في قيد الهوى
المشوبة بالوهم، المؤدية لهم إلى الردى هي تلك اللذات يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، ولا يعلمون أن غاية السفه هو اختيار الفاني
الأخس على الباقي الأشرف. وفرق بين الفاضلتين بالشعور والعلم، لأن تأثير خداعهم في أنفسهم وإفسادهم في الأرض أمر بين كالمحسوس. وأما ترجيح نعيم الآخرة على
نعيم الدنيا المستلزم للفرق بين السفه والحكمة فأمر فأمر استدلالي عقلي صرف.
[آية 12 - 14]
، * (وإذا لقوا الذين آمنوا) * حكاية لنفاقهم اللازم لحصول استعدادين فيهم الفطري
النوري، الضعيف المغلوب، القريب من الانطفاء، الذي ناسبوا به المؤمنين، والكسبي
الظلماني القوي الغالب الذي تألفوا به الكفار، إذ لو لم يكن فيهم أدنى نور لم يقدروا
على مخالطة المؤمنين ومصاحبتهم أصلا كغيرهم من الكفار لتنافي الضروري بين النور
والظلمة من جميع الوجوه.
والشيطان فيعال من الشطون، الذي هو البعد، وشياطينهم المتعمقون في البعد
وهم المطرودون، ورؤساهم البالغون في النقاق واستهزاؤهم بالمؤمنين يدل على
ضعف جهة النور وقوة جهة الظلمة فيهم، إذ المستخف بالشيء هو الذي يجد ذلك
الشيء في نفسه خفيفا، قليل الوزن والقدر. فهم يستخفون النورانيين لخفة النور
عندهم، إذ بالنور يعرف قدر النور، وبرجحان الظلمة فيهم أووا إلى الكفار وألفوهم.
[آية 15 - 16]
* (الله يستهزئ بهم) * أي: يستخفهم، لأن الجهة التي هم بها ناسبوا الحضرة
الإلهية فيهم خفيفة، ضعيفة. فبقرر ما فنيت فيهم الجهة الإلهية ثبتوا عند أنفسهم، كما
أن المؤمنين بقدر ما فنيت فيهم أينيتهم النفسانية وجدوا عند الله شتان بين المرتبتين.
* (ويمدهم) * في ظلماتهم البهيمية والسبعية التي هي الصفات الشيطانية والنفسانية بتهيئة
موادها وأسبابها التي هي مشتهياتهم ومستلذاهم وأموالهم ومعايشهم من الدنيا التي
اختاروها بهواهم في حالة كونهم متحيرين. * (في طغيانهم يعمهون) * والعمه: عمى
37

القلب. وطغيانهم: التعدي عن حدهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه، وذلك الحد
هو الصدر، أي وجه القلب الذي يلي النفس كما أن الفؤاد وجهه الذي يلي الروح،
فإنه متوسط بينهما ذو وجهين إليهما. والوقوف على ذلك الحد هو التعبد بأوامر الله
تعالى ونواهيه، مع التوجه إليه طلبا للتنور ليستنير ذلك الوجه فتننور به النفس. كما
أن الوقوف على الحد الآخر هو تلقي المعارف والعلوم والحقائق والحكم والشرائع
الإلهية لينتقش بها الصدر، فتنزين به النفس. فالطغيان هو الانهماك في الصفات
النفسانية البهيمية والسبعية والشيطانية واستيلاؤها على القلب ليسود ويعمى، فتتكدر
الروح.
* (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) * أي: الظلمة، والاحتجاب عن طريق
الحق الذي هو الدين، أو عن الحق. فإن الضلالة تنقسم بإزاء الهداية بالنور
الاستعدادي الأصلي: * (فما ربحت تجارتهم) * إذ كان رأس مالهم من عالم النور
والبقاء ليكتسبوا به ما يجانسه من النور الفيضي الكمالي، بالعلوم والأعمال والحكم
والمعارف والأخلاق والملكات الفاضلة، فيصيرون أغنياء في الحقيقة، مستحقين
للقرب والكرامة والتعظيم والوجاهة عند الله، فما ربحوا بكسبها وضاعت الهداية
الأصلية التي كانت بضاعتهم ورأس مالهم بإزالة استعدادهم وتكدير قلوبهم بالرين
الموجب للحجاب والحرمان الأبدي، فخسروا بالخسران السرمدي، أعاذنا الله من
ذلك.
[آية 17 - 18]
* (مثلهم) * أي: صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما
حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيرا، لأن نور استعدادهم بمنزلة
النار الموقدة، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم
دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر
وخمودها سريعا انطفاء نورهم الاستعدادي وسرعة زوال ما تمتعوا به من دنياهم
ووشك انقضائه. * (ذهب الله بنورهم) * الاستعدادي بإمدادهم في الطغيان، وخلاهم
محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس * (لا يبصرون) * ببصر القلب، ووجه
المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال
وأسباب.
* (صم بكم عمي) * بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع
38

الحق وتنطق به، وتراه في الظاهر لعدم فوائدها، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى
القلب لمكان الحجاب، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها
على القلب ليفهموا ويعتبروا. * (فهم لا يرجعون) * إلى الله لوجود السدين المضروبين
على قلوبهم المذكورين في قوله: * (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * [يس،
الآية: 9]. وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس، ليتمثل في نفوس العامة.
ثم شبههم ثانيا بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فالمطر هو نزول الوحي
الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين، وبقية استعدادهم مما يفيد
قلوبهم أدنى لين، وحصول النعم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر.
[آية 19 - 20]
والظلمات هي الصفات النفسانية، والشكوك الخيالية والوهمية، والوساوس
الشيطانية مما تحيرهم وتوحشهم. والرعد هو التهديد الإلهي والوعيد القهري الوارد
في القرآن والآيات والآثار المسموعة والمشاهدة مما يخوفهم فيفيد أدنى انكسار
لقلوبهم الطاغية وانهزام لنفوسهم الآبية. والبرق هو اللوامع النورية والتنبهات الروحية
عند سماع الوعد وتذكير الآلاء والنعماء مما يطمعهم ويرجيهم، فيفيدهم أدنى شوق
وميل إلى الإجابة.
ومعنى * (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) * يتشاغلون عن
الفهم بالملاهي والملاعب عن سماع آيات الوعيد، ولكي لا ينجع فيهم فيقطعهم عن
اللذات الطبيعية بهم الآخرة، إذ الانقطاع عن اللذات الحسية هو موتهم، والله قادر
عليهم، قاطع إياهم عن تلك اللذات المألوفة بالموت الطبيعي، قدرة المحيط بالشيء
الذي لا يفوته منه، فلا فائدة لحذرهم.
* (يكاد البرق) * أي: اللامع النوري * (يخطف أبصارهم) * أي: عقولهم المحجوبة
بالنعاس عن نور الهداية والكشف، إذ العقل بصر القلب * (كلما أضاء لهم مشوا فيه) *
أي: ترقوا وقربوا من قبول الحق والهدى، * (وإذا أظلم عليهم قاموا) * أي: ثبتوا على
حيرتهم في ظلمتهم * (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم) * لطمس أفهامهم
وعقولهم، ومحا نور استعدادهم، كما للفريق الأول فلم يتأثروا بسماع الوحي أصلا
* (إن الله على كل شيء قدير) * الشيء الموجود الخارجي الواجب والممكن، والموجود
الذهني الممكن والممتنع، إذ اللاشيء هو المعدوم الصرف الذي ليس في الذهن ولا
39

في الخارج، لكن تعلق القدرة به خصصه بالممكن وأخرج عنه الواجب والممتنع
بدليل العقل.
هذا آخر الكلام في الأصناف السبعة على سبيل الإجمال، وفصل بين فريقي
الأشقياء وأوجز ذكر الفريق الأول وأعرض عنهم، إذ الكلام فيهم لا يجدي. وبالغ في
ذكر الفريق الثاني، وذمهم، وتعييرهم، وتقبيح صورة حالهم، وتهديدهم، وإبعادهم،
وتهجين سيرهم، وعاداتهم لإمكان قبولهم للهداية وزوال مرضهم العارض، واشتعال
نور قرائحهم بمدد التوفيق الإلهي عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم، والتوبيخ يقلع
أصول رذائلهم، فتتزكى بواطنهم وتتنور قلوبهم بنور الإرادة، فيسلكوا طريق الحق.
ولعل موادعة المؤمنين وملاطفتهم إياهم ومجالستهم معهم، تستميل طباعهم فتهيج
فيهم محبة ما، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر الله، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله،
فيتوبوا ويصلحوا كما قال الله تعالى: [إن المتافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فإولئك المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما) * [النساء، الآيات: 145 - 146].
[آية 21 - 22]
* (يا أيها الناس) * ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء، دعاهم إلى التوحيد.
وأول مراتب التوحيد: توحيد الأفعال، فلهذا علق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية
النعمة، فيحبوه، كما قال: ((خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم)). فيشكروه بإزائها، إذ
العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم
به، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات
والذات، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون
مطلقا، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب
والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرهم
ومسكنهم، وجعل السماء بناء لتظلهم، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من
الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره، فيتنزهون عن
الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدمات بالفاء
فقال: * (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) *، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال: هو
الذي فعل هذه الأفعال، فلا تحق العبادة إلا له، ولا تنبغي أن تجعل لغيره، فلا
40

تجعلوا له ندا بنسبة الفعل إليه، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا.
فعبادتهم إنما هي للصانع، وربهم هو المتجلي في صورة الصنع، إذ كل عابد لا يعبد
إلا ما يعرفه، ولا يعرف الله إلا بقدر ما وجد من الألوهية في نفسه، وهم ما وجدوا
إلا الفاعل المختار فعبدوه. وغاية هذه العبادة الوصول إلى الجنة التي هي كمال عالم
الأفعال، فالله مهد لهم أراضي نفوسهم، وبنى عليها سماوات أرواحهم، وأنزل من
تلك السماوات ماء علم توحيد الأفعال، فأخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام
والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة ليرزق قلوبهم منها ثمرات الإيقان والأحوال
والمقامات، كالصبر والشكر والتوكل.
ولما أثبت التوحيد، استدل على إثبات النبوة ليصح بهما الإسلام، فإنه لا يصح
إلا بشهادتين لأن مجرد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل وهو محض الجبر
المؤدي إلى الزندقة والإباحة، ومجرد إسناد الفعل والقول إلى الرسول، احتجاب
بالتفضيل عن الجمع الذي هو صرف القدر المؤدي إلى المجوسية والثنوية، والإسلام
طريق بينهما بالجمع بين قولنا: لا إله إلا الله، وبين قولنا: محمد رسول الله، واعتقاد
مظهريته لأفعاله تعالى. فإن أفعال الخلق بالنسبة إلى أفعال الحق كالجسد بالنسبة إلى
الروح، فكما أن مصدر الفعل هو الروح ولا يتم إلا بالجسد، فكذلك مبدىء الفعل
هو الحق ولا يظهر إلا بالخلق. ولا بد من الرسالة لأن الخلق بسبب احتجابهم
وبعدهم عن الحق لا يمكنهم تلقي المعارف من ربهم، فيجب وجود واسطة يجانس
بروحه الشاهدة للحق الحضرة الإلهية، وبنفسه المخالطة للخلق الرتبة البشرية، ليتلقى
قلبه من روحه الكلمات الربانية، ويلقي إلى نفسه القدسية، ويقبل منه الخلق برابطة
الجنسية فقال:
[آية 23]
* (وإن كنتم في ريب مما نزلنا) * أي: في تنزيلنا على محمد فتشكوا في حقية
نبوته، فروزوا قواكم البشرية، وأحرزوا عقولكم المحتنكة بالقياس، المحجوبة عن نور
الهداية، وأفكاركم الدرية بتركيب الكلام ونظم المعاني، وأنتم ومن حضركم من أبناء
جنسكم، هل تقدرون على الإتيان بسورة أي: طائفة من الكلام مثله * (إن كنتم صادقين) * في نسبته إلى محمد.
[آية 24]
41

* (فإن لم تفعلوا) * فأذعنوا وأسلموا وآمنوا، واتركوا العناد المفضي بكم إلى
النار. فحذف الملزوم الذي هو الإيمان أو الإسلام، وأقام لازمه الذي هو اتقاء النار
مقامه ليكون أدل على أن الإنكار موجب لدخول النار وحصول العذاب لهم. وقوله:
* (ولن تفعلوا) * اعتراض على طريق الإخبار بالغيب للعلم بامتناع عقول المحجوبين وعن
مثله. والمراد بالنار احتراقهم بثورة نفوسهم، وشرر طباعهم المصروفة عن الروح
القدسي الروحاني، والنسيم الذوقي الرحماني، المحرومة عن لذة برد اليقين، وسلامة
دار القرار المقطوعة بالمألوفات الحسية، واللذات البدنية الممنوعة، بما خبريت به
وألفته مع بقاء حنينها إليه وولهها، ورسوخ هيئات التعلق بالأمور السفلية، ومحبة
الأجساد الأرضية فيها التي هي سبب استيقاد نيرانها، ولهذا قال: * (وقودها الناس والحجارة) * أي: الأمور الجاسية، السفلية، الصامتة، التي تعلقوا بها بالمحبة فرسخت
صورها في أنفسهم، وسجنت نفوسهم بميلهم إليها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المرء
يحشر مع من أحب حتى لو أحب أحدكم حجرا حشر معه))، وكيف لا، وقد ركزت
صورته في نفسه بالمحبة بحيث صار صورة قلبه صورته.
وأعلم أن حرارة النار تابعة لصورتها النوعية التي هي روحانيتها وملكوتها، وإلا
ساوت سائر الأجسام في خواصها، وتلك الروحانية شر من نار، قهر الله المعنوية
بعد تنزلها في مراتب كثيرة كتنزلها في مرتبة النفس بثورة الغضب، إذ ربما تؤثر ثورة
الغضب في إحراق الأخلاق ما لا تؤثر النار في الحطب. ومن هذا يعلم أن كل
مسخن لا يجب أن يكون حارا. وإذا كانت النار الجسمانية أثرا للنار الروحانية، فلا
جرم أن إيلامها أشد وأدوم من إيلام هذه النار، كيف وكل قوة جسمانية متناهية دون
القوى الروحانية؟ ولهذا المعنى يقال: إن نار جهنم غسلت بالماء سبعين مرة، ثم
أنزلت إلى الدنيا ليمكن الانتفاع بها * (أعدت للكافرين) * المحجوبين عن الدين
لانقطاعهم دون مرادهم.
[آية 25 - 26]
* (وبشر الذين آمنوا) * بالصانع وعملوا ما يصلحهم للجنة بمقتضى علمهم بتوحيد
42

الأفعال أن لهم مراداتهم ومشتهياتهم فوق ما تصوروا وتمنوا، التنكير الجنات،
والجنات الجارية من تحتها الأنهار أبهى وأطيب ما يكون من مقام، وألذ وأحلى ما
يكون من مرام لأهل الدنيا، فهي لنفوسهم من جنس جنات الدنيا، وأصفى منها
بحسب المعاد الجسماني، فإنه حق كما ستعلم. * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل) * في الدنيا، فإنها مألوفهم * (وأتوا) * بالرزق * (متشابها) *
ولقلوبهم هي مقاماتهم، كالتوكل مثلا، وروضات عالم القدوس التي تنشأ من كل
مرتبة منها أنهار علوم تنفع السالكين، وتنفع علة المتعطشين المشتاقين. والثمرات هي
الحكم والمعارف، وقولهم: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * إشارة إلى أن تلك العلوم
والحكم كانت ثابتة للقلب حالة التجرد، فاحتجبت عنها بالتوغل في الأمور الطبيعية
عند التعليق فنسيتها، ثم تذكرت حين تجردت عن ملابسها لقوله عليه الصلاة والسلام:
((الحكمة ضالة المؤمن)). والأزواج لنفوسهم الحور العين المطهرة عن الطمث
والفواحش، ولقلوبهم النفوس القدسية المطهرة عن دنس الطبائع وكدر العناصر، ولا
جنة لأرواحهم لاحتجابهم عن المشاهدة.
* (إن الله لا يستحي) * لا يمتنه المستحيي * (أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) * إذ الكافر عنده أحقر من بعوضة، والدنيا من جناحها، كما نطلق به الحديث.
* (أنه الحق من ربهم) * لمناسبة الممثل به الممثل له * (وما يضل به إلا الفاسقين) * الذين
خرجوا من مقام القلب إلى مقام النفس، ومن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان. وهم
الفريق الثاني من الأشقياء لا الفريق الأول، فإنهم ضالون في نفس الأمر على أي حال
كان لا به ولا بسبب آخر. وإضلالهم به مسبب عن فسقهم في الحقيقة، إذ ترتيب
الحكم على الوصف يشعر بالعلية وهي زيادة عنادهم وإنكارهم وحقدهم وغلبة صفات
نفوسهم على قلوبهم بورود القرآن فيزيدهم بعدا وظلمة على ظلمة.
[آية 27]
* (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) * هو الذي أشار إليه في قوله: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) * [الأعراف،
الآية: 172]. وقد ورد في الحديث: ((أن الله تعالى مسح ظهر آدم بيده وأخرج ذريته
منه كهيئة الذر))... الحديث. فيد الله هو العقل الأقداس، والروح الأول الذي هو
43

روح العالم المسمى يمين الرحمن، وآدم هو النفس الناطقة الكلية التي هي قلب
العالم. ومسحه ظهره تأثير العقل فيها وتنويره إياها بنوره بالاتصال الروحاني، وإخراج
ذريته منه إيجاد النفوس الشخصية الجزئية التي كانت فيها بالقوة، وإخراجها إلى
الفعل. وعهد الله إليهم بقوله: * (ألست بربكم) * إيداع علم التوحيد في ذواتهم وميثاق
ذلك العهد ركز أدلة التوحيد في عقولهم وإلزام ذلك العلم إياهم وجعله من اللوازم
الذاتية لهم، بحيث إذا تجردوا عن الصفات النفسانية والغواشي الجسمانية تبين لهم
ذلك، وانكشف عليهم أظهر شيء وأبينه وهو إشهادهم على أنفسهم لكون ذلك العلم
ضروريا حينئذ، وإجابتهم لذلك بقولهم: * (بلي) * قبولهم الذاتي له، ونقض ذلك العهد
انهماكهم في اللذات البدنية والغواشي الطبيعية وتعبدهم لهواهم وشهواتهم، بحيث
احتجبوا بها عن وحدة الله وتعبده، وقطعهم ما أمر الله بوصله إعراضهم عن اتصال
روح القدس والمبادئ العالية والأرواح السماوية التي هي الملأ الأعلى، وسكان
الحضرة الإلهية من أهل الجبروت والملكوت الذين يجانسونهم بذواتهم وصفاتهم،
وهم أهل قرابتهم الحقيقية، ورحمهم الظاهر المأمور بوصله حقيقة بتوجههم إلى العالم
السفلي ومحبتهم للجواهر الفاسقة المظلمة، وعشقهم وشغفهم بالأمور الخسيسة
الفانية. ولهذا قال عليه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها،
ويبغض سفاسفها)) *، إذ كلما كان مطلوب النفس أخس كانت عن العالم الشريف أبعد.
* ضروب الناس عشاق ضروبا
* فأغدرهم أشقهم جيوبا
*
وقد مر تفسير الإفساد في الأرض، والخسران الذي هو تضييع الجوهر النوري
الباقي لأجل الظلماني الفاني.
[آية 28 - 29]
* (كيف تكفرون بالله) * أي: على أي حال تحجبون عنه * (و) * الحال أنكم * (كنتم
أمواتا) * نطفا في أصلاب آبائكم * (فأحياكم) * أي: لم لا تستدلون بالخلق على الخالق
* (ثم يميتكم) * بالموت الطبيعي * (ثم يحييكم) * بالبعث، إذ الأول معلوم بالمشاهدة،
والثاني بالاستدلال عليه بالإنشاء الأول * (ثم إليه ترجعون) * للمجازاة، أو ثم يميتكم
عن أنفسكم بالموت الإرادي الذي هو الفناء في الوحدة ثم يحييكم بالحياة الحقيقية
التي هي البقاء بعد الفناء بالوجود الموهوب الحقاني. ثم إليه ترجعون للمشاهدة إن
كانت الوحدة وحدة الصفات، أو الشهود إن كانت وحدة الذات.
44

* (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * أي: الجهة السفلية التي هي العالم
العنصري جميعا لكونها مبادئ خلقكم ومواد وجودكم وبقائكم * (ثم استوى) * أي:
قصد قصدا مستويا إلى الجهة العلوية، وثم للتفاوت بين الجهتين والإيجادين الإبداعي
والتكويني لا للتراخي بين الزمانين ليلزم تقدم خلق الأرض على السماء.
فعدلهن سبع سماوات بحسب ما تراه العامة، إذ الثامن والتاسع هو الكرسي
والعرش الظاهران. والحقيقة أن الجهة السفلية هي العالم الجسماني كالبدن وأعضائه
لدنو رتبته بالنسبة إلى العالم الروحاني الذي هو الجهة العلوية المعبر عنها بالسماء.
وثم للتفاوت بين الخلق والأمر. وسواهن سبع سماوات إشارة إلى مراتب عالم
الروحانيات، فالأول: هو عالم الملكوت الأرضية والقوى النفسانية والجن. والثاني:
عالم النفس. والثالث: عالم القلب. والرابع: عالم العقل. والخامس: عالم السر.
والسادس: عالم الروح. والسابع: عالم الخفاء الذي هو السر الروحي غير السر
القلبي. وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ((سلوني عن طرق السماء،
فإني أعلم بها من طرق الأرض))، وطرقها: الأحوال والمقامات كالزهد، والتوكل،
والرضا، وأمثالها.
واعلم أن العقل باصطلاح الحكمة هو الروح باصطلاح أهل التصوف، والذي
سميناه ههنا بالعقل على اصطلاح المتصوفة هو القوة العاقلة التي للنفس الناطقة عند
الحكماء. ولهذا قالت المتصوفة: العقل هو موضع صقيل من القلب، متنور بنور
الروح. والقلب هو النفس الناطقة، فاحفظه لئلا يتشوش الفهم باختلاف الاصطلاح.
[آية 30]
* (وإذ قال ربك للملائكة) * إذ: إشارة إلى السرمد الذي هو من الأزل إلى الأبد،
والقول هو إلقاء معنى تعلق مشيئة الله تعالى بإيجاد آدم في الذوات القدسية الجبروتية
التي هي الملائكة المقربون والأرواح المجردة والملكوتية التي هي النفوس السماوية إذ
كل ما يحدث في عالم الكون له صورة قبل التكوين في عالم الروح الذي هو عالم
القضاء السابق، ثم في عالم القلب الذي هو قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ،
ثم في عالم النفس أي: نفس العالم الذي هو لوح المحو والإثبات المعبر عنه بالسماء
الدنيا في التنزيل كما قال تعالى: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) *
[أية 21] [الحجر، الآية: 21]، فذلك قوله تعالى للملائكة: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * واعتبر بحالك في نفسك، فإن كل ما يظهر على جوارحك التي هي عالم
45

كونك وشهادتك من القول والفعل، له وجود في روحك التي هي ما وراء غيب
غيبك، ثم في غيب، ثم في نفسك التي هي غيبك الأدنى وسماؤك الدنيا، ثم
يظهر على جوارحك. والجعل أعم من الإبداع والتكوين، فلم يقل (خالق) لأن
الإنسان مركب من العالمين: خليفة يتخلق بأخلاقي، ويتصف بأوصافي، وينفذ أمري،
ويسوس خلقي، ويدبر أمرهم، ويضبط نظامهم، ويدعوهم إلى طاعتي.
وإنكار الملائكة بقولهم:
* (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) * وتعريضهم بأولويتهم لذلك
بقولهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * هو احتجابهم عن ظهور معنى الإلهية
والأوصاف الربانية فيه التي هي من خواص الهيئة الاجتماعية والتركيب الجامع
للعالمين الحاصر لما في الكونين. وعلمهم بصدور الأفعال البهيمية التي هي الإفساد
في الأرض، والسبعية المعبر عنها بسفك الدماء اللتين هما من خواص قوة الشهوة
والغضب الضروري وجودهما في تعلق الروح البدن، وبنزاهة ذواتهم وتقدس نفوسهم
عن ذلك، إذ كل طبقة من الملائكة المقدسة تطلع على ما تحتها وما في أنفسها ولا
تطلع على ما فوقها، فهي تعلم أنه لا بد في تعلق الروح العلوي النوراني بالبدن
السفلي الظلماني من واسطة تناسب الروح من وجه، وتناسب الجسم من وجه، هي
النفس، وهي مأوى كل شر، ومنبع كل فساد. ولا تعلم أن الجمعية الإنسانية جالبة
للنور الإلهي الذي هو سر * (إني أعلم ما لا تعلمون) * والفرق بين التسبيح والتقديس،
أن التسبيح: هو التنزية عن الشريك والعجز والنقص. والتقديس: هو التنزية عن
التعلق بالمحل وقبول الانفعال وشوائب الإمكان والتعدد في ذاته وصفاته وكون شيء
من كمالاته بالقوة. فالتقديس أخص، إذ كل مقدس مسبح وليس كل مسبح مقدسا،
فالملائكة المقربون الذين هم الأرواح المجردة بتجردهم وعدم احتجابهم عن نور ربهم
وقهرهم ما تحتهم بإفاضة النور عليهم، وتأثيرهم في غيرهم، وكون جميع كمالاتهم
بالفعل مقدسون وغيرهم من الملائكة السماوية والأرضية مسبحون ببساطة ذواتهم
وخواص أفعالهم وكمالاتهم.
[آية 31 - 33]
* (وعلم آدم الأسماء كلها) * أي: ألقى في قلبه خواص الأشياء التي تعرف بها
46

هي ومنافعها ومضارها * (ثم عرضهم) * أي: عرض مسمياتها * (على الملائكة) *
بشهودهم البنية الإنسانية ومرافقتهم لآدم في التنزيل. ومعنى قوله: * (فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * إرادته لانتعاشهم ببعض معلومات الإنسان باقتضاء
التركيب الإنساني، وتأذي محسوساته ومعلوماته المتنوعة منها والحادثة فيه بخاصية
التركيب والهيئة الاجتماعية إلى ذواتهم بعد ما لم تكن، إذ علومهم تابعة لعلمه وهو
معنى إفحامهم وتعلق إرادته بذلك أمر آدم باللإنباء إذ جميع القوى الإنسانية والملائكة
التي بحضرته تنتعش بما لا تنتعش هي في غير ذلك المحل، وهو معنى إنباء آدم
إياهم.
ومعنى قوله: * (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم) *
شهادة وجوداتهم بالدلالة وألسنة الحال على قصورهم عن الكمالات الإنسانية وتخلفهم
عن شأوها، وبتنزيه الله عن فعل ما فيه مفسدة بالإجمال، وعلمهم بامتناع ترقيهم إلى
مراتبهم بكسب العلوم، إذ كمالاتهم مقارنة لوجوداتهم، وبأن علمه تعالى فوق علمهم
فهو العليم المطلق، والحكيم الذي لا يفعل إلا ما ينبغي. ولهذا قال:
* (يا آدم أنبئهم) * ولم يقل علمهم، لأن العلم المكتسب الموجب للترقي هو من
خاصية الجمعية الإنسانية فلا يقبل كل منها إلا ما في طباعه من جنس مدركاته لا
غير، وكما أن البصر مثلا من كثرة مبصراته لا يزيد علما ورتبة ولا يقبل إلا ما هو من
جنس المبصرات فقط، وإن تكثرت عنده فكذلك حال كل قوة باطنة. ومعنى: * (ألم أقل) * تقريره في طباع الملائكة أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من غيب السماوات
والأرض الذي هو سر المعرفة والمحبة المودع في الإنسان الذي استأثر الله بعلمه
* (وأعلم ما تبدون) * من علمكم بمفاسد الإنسان * (وما كنتم تكتمون) * من ترجيحكم
ذواتكم عليه لنزاهتها وتقدسها.
[آية 34]
* (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * سجودهم لآدم انقيادهم وتذللم له.
ومطاوعتهم وتسخرهم له * (فسجدوا إلا إيلبس أبى واستكبر) * وإبليس هو القوة الوهمية
لأنها ليست من الملائكة الأرضية الصرفة المحجوبة عن إدراك المعاني بإدراك الصور،
فيذعن بالقهر مطاوعة لأمر الله، ولا من السماوية العقلية فتدرك شرف آدم وتوافق عقله
فيذعن بالمحبة طالبا لرضا الله. وكان جنيا: أي من جملة الملكوت السفلية والقوى
الأرضية، نشأ وتربى بين ظهور الملائكة السماوية لإدراكه المعاني الجزئية وترقيه إلى
الأفق العقلي ولهذا كان في الحيوانات العجم بمنزلة العقل في الإنسان وإباؤه عدم
47

انقياده للعقل، وامتناعه لقبول حكمه، واستكباره تفوقه على الخلقة الطينية والملائكة
السماوية والأرضية بعدم وقوفه على حده من إدراك المعاني الجزئية المتعلقة
بالمحسوسات وتعديه عن طوره بخوضه في المعاني العقلية والأحكام الكلية. * (وكان من الكافرين) * المحجوبين في الأزل عن الأنوار العقلية والزوجية فضلا عن نور
الوحدة.
[آية 35]
* (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) * زوجته: هي النفس، وسميت حواء
لملازمتها الجسم الظلماني إذ الحياة هي اللون الذي يغلب عليه السواد كما أن القلب
سمي آدم لتعلقه بالجسم دون الملازمة بالانطباع إذ الأدمة هي السمرة أي: اللون الذي
يضرب إلى السواد ولولا تعلقه لما سمي آدم. والجنة المأمور بملازمتهما إياها هي
سماء عالم الروح التي هي روضة القدس أي ألزما سماء الروح.
* (وكلا منها رغدا حيث شئتما) * أي: توسعا وتفسحا في تلقي معانيها ومعارفها
وحكمها التي هي الأقوات القلبية والفواكه الروحية توسعا بالغا على أي وجه ومن
أي مرتبة وحال ومقام شئتما إذ هي دائمة غير منقطعة ولا محجورة * (فتكونا من الظالمين) * الواضعين النور في محل الظلمة الذي ليس موضعه والناقصين من نور
استعدادكما وحظكما من عالم النور، فإن الظلم في العرف هو وضع الشيء في غير
موضعه وفي اللغة نقص الحق والحظ الواجب.
[آية 36 - 37]
* (فأزلهما الشيطان عنها) * أي: حملهما على الزلة من مقامهما إلى مهوى الطبيعة
عن الجنة بتسويل الملاذ الجسمانية ودوامها عليهما * (فأخرجهما مما كان فيه) * من
النعيم والروح الدائم. وقيل: بينما هما يتفرجان في الجنة إذ راعهما طاووس تجلى
لهما على سور الجنة، فدنت حواء منه وتبعها آدم فوسوس لهما الشيطان من وراء
الجدار. وقيل: توسل بحية تتسور الجنة فأخذ بذنبها وصعد الجنة. والأول إشارة إلى
توسله من قبل الشهوة خارج الجنة. والثاني: إلى توسله بالغضب. وتسوره جدار
الجنة: إشارة إلى أن الغضب أقرب إلى الأفق الروحاني والحيز القلبي من الشهوة.
* (وقلنا اهبطوا) * أي: ألزمناهم الهبوط إلى الجهة السفلية التي هي العالم الجسماني
48

* (بعضكم لبعض عدو) * حال من الهبوط مقيد له إذ الهبوط إلى الدنيا التي هي الجهة
السفلية يستلزم كون مطالبها جزئية في ضيق المادة محصورة لا تحتمل الشركة. وكلما
حظي بها أحد حرم منها غيره فمنعه، فيقع بينهما العداوة والبغضاء بخلاف المطالب
الكلية وجمع الخطاب لأن خطابهما خطاب النوع إذ الأصل يتناول الفرع * (ولكم في الأرض) * أي: في هذه الجهة * (مستقر) * استقرار * (ومتاع) * تمتع * (إلى حين) * أي:
حين تجردهما بالموت الإرادي وانقطاع حظوظهما بالموت الطبيعي وقيام أحد القيامتين
الكبرى أو الصغرى.
* (فتلقى آدم من ربه كلمات) * أي: استقبل من جهة ربه أنوارا وأطوارا، أي:
مراتب من الملكوت والجبروت وأرواحا مجردة، إذ كل مجرد كلمة لأنه من عالم
الأمر كما سمي عيسى كلمة أو تلقن منه معارف وعلوما وحقائق. * (فتاب عليه) * تقبل
رجوعه إليه بالتجرد عن الملابس الطبيعية والانخراط في سلك الأنوار الملكوتية،
والاتصاف بالكمالات القدسية، والتجلي بالعلوم الحقيقية. وأصل تاب عليه: ألقى
الرجوع عليه وجعله راجعا. ولعمري إنها هي التوبة المقبولة لا الرجوع الناشئ من
قبله. * (إنه هو التواب) * الكثير القبول لتوبة عبادة * (الرحيم) * الذي سبقت رحمته
غضبه، فيرحم عبده في حين غضبه، كما جعل غضبه على آدم سبب كماله ورجوعه
إليه وبعده ليتقرب منه.
[آية 38 - 40]
* (قلنا اهبطوا منها جميعا) * كرر ذلك الأمر بالهبوط ليفيد أنه هو الذي أراد ذلك
ولولا إرادته لما قدر إبليس على إغوائهم، لهذا أسند الإهباط إلى نفسه مجردا عن
التعليق بالسبب بعد إسناد إخراجهما إلى الشيطان، فهو قريب مما قال لنبيه: * (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * [الأنفال، الآية: 17] فتفطن منه سر قضائه وقدره
وبين وجه حكمة الإهباط بتعقيبه بقوله: * (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * وإيراده بالفاء إذ لولا الهبوط لما أمكنهم من متابعة
الهدى، ولما تميز السعيد والشقي، ولا حصل استحقاق الثواب والعقاب، ولبطل دار
الجزاء من الجنة والنار، بل ما وجدت. والهدى هو الشرع فمن تبعه أمن سوء العاقبة
فلم يخف مما يأتي من العقاب والفناء، وتسلى عن الشهوات واللذات، فلم يحزن
على ما فاته من حطام الدنيا ونعيمها لاكتحال بصيرته بنور المتابعة واهتدائه إلى ما لا
49

يقاس بلذات الدنيا من الأذواق الروحانية، والفتوحات السرية، والمشاهدات القلبية،
والعلوم العقلية، والمواجيد النفسية.
* (والذين كفروا) * أي: حجبوا عن الدين لكونه في مقابلة اتباع الهدى، وإردافه
بقوله: * (وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار) * أي: نار الحرمان * (هم فيها خالدون يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) * بنو إسرائيل هم أهل اللطف الإلهي، وأرباب نعمة الهداية والنبوة، دعاهم
باللطف وتذكير النعمة السابقة، والعهد السالف المأخوذ منهم في التوراة بتوحيد
الأفعال بعد العهد الأزلي كما هو عادة الأحباب عند الجفاء.
* ألم يك بيننا رحم ووصل
* وكان بنا المودة والإخاء
*
وهذه الدعوة مخصوصة بتوحيد الصفات الذي هو رفع الحجاب الثاني، فهي
أخص من الدعوة الأولى العامة لتذكير النعمة الدينية والعهد والتجلي بصفة المنعم
والولي، والتهديد على عدم إجابتها بالرهبة التي هي أخص من الخوف، فإن الخوف
إنما يكون من العقاب، والرهبة من السخط والقهر، والإعراض والاحتجاب والخشية
أخص منها لكونها مخصوصة باحتجاب الذات. قال الله تعالى:
* (ويخشون ربهم ويخافون
سوء الحساب) * [الرعد، الآية: 21]. وكذا الهيبة لأنها قرنت بعظمة الذات.
[آية 41 - 43]
* (وآمنوا بما أنزلت) * من القرآن على حبيبي من توحيد الصفات * (مصدقا لما معكم) * في التوراة من توحيد الأفعال * (ولا تكونوا أول كافر به) * أي: أول محجوب
عنه لاحتجابكم باعتقادكم * (ولا تشتروا) * أي: لا تستبدلوا * (بآياتي) * الدالة على
تجليات ذاتي وصفاتي كسورة (الإخلاص) * وآية (الكرسي) * وأمثالهما، * (ثمنا قليلا) *
أي: جنتكم النفسية لتألفكم بالملاذ الحسية وثواب الأعمال بتوحيد الأفعال. وإن اتقيتم عن
الشرك فاتقوا سطوة قهري وجلالي وحجابي بابتغاء رضاي فلا تثبتوا صفة لغيري.
* (ولا تلبسوا الحق بالباطل): أي: ولا تخلطوا صفاته تعالى الثابتة كعلمه وقدرته
وإرادته بالباطل الذي هو صفات نفوسكم بظهورها بصفاتها وعدم تمييزكم بين دواعيها
وخواطرها ودواعي الحق وخواطره، ولا تكتموها بحجاب صفات النفس وسترها إياها
عند ظهورها * (وأنتم تعلمون) * من علم توحيد الأفعال أن مصدر الفعل هو الصفة،
50

فكما لم تسندوا الفعل إلى غيره لا تثبتوا صفة لغيره.
* (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) * طلبا لمرضاتي لا رجاء لثوابي، ومصداقه قوله:
* (واركعوا مع الراكعين) * إذ الركوع هو الخضوع والإذعان لما يفعل به فهو علامة
الرضا الذي هو ميراث تجلي الصفات وغايته، أي: ارضوا بقضائي عند مطالعة صفاتي
والتوجه عند القيام بالفعل علامة طلب الثواب والأجر لاستقلال النفس بصورتها،
والسجود الذي هو غاية الخضوع علامة الفناء في الوحدة عند تجلي الذات.
[آية 44 - 48]
* (أتأمرون الناس بالبر) * الذي هو الفعل الجميل الموجب لصفاء القلب، وزكاء
النفس الزائد منها بالتنور * (وتنسون أنفسكم) * أفلا تفعلون ما ترتقون به من مقام تجلي
الأفعال إلى تجلي الصفات * (وأنتم تتلون) * كتاب فطرتكم الذي يأمركم باتباع محمد في
دينه السالك بكم سبيل التوحيد * (أفلا تعقلون) * تعيير بالغ، وتهييج لحميتهم.
* (واستعينوا) * واطلبوا العون والمدد ممن له القدرة، إذ لا قدرة لكم على
أفعالكم * (بالصبر) * على ما تكرهون مما يفعل بكم وتكلفكم ونيتكم به لكي تصلوا إلى
مقام الرضا * (والصلاة) * التي هي حضور القلب لتلقي تجليات الصفات * (وإنها) * وإن
المراقبة أي الحضور القلبي * (لكبيرة) * لشاقة ثقيلة * (إلا على الخاشعين) * المنكسرة،
اللينة قلوبهم لقبول أنوار التجليات اللطيفة واستيلاء سطوات التجليات القهرية، الذين
يتيقنون أنهم بحضرة ربهم، أي: حضرة الصفات لدلالة الرب عليها في حال لقائه،
* (وأنهم إليه راجعون) * بفناء صفاتهم ومحوها في صفاته.
كرر الخطاب ليفيد أن الذي هداهم أولا ولطف بهم وفضلهم على عالمي
زمانهم المحجوبين بالهداية إلى رفع الحجاب الأول هو الذي يهديهم ثانيا، فكما لم
يرد بهم شرا في الهداية الأولى فكذلك في الثانية لا يريد بهم إلا خيرا.
* (واتقوا يوما لا تجزي) * أي: حال تجلي صفة القهر حين لا تغني * (نفس عن نفس شيئا) * من الإغناء لعدم القدرة لأحد * (ولا يقبل منها شفاعة) * لعدم الشفاعة
والمدد إذ كلهم مسلوبر الصفات والأفعال، كقوله:
* ولا ترى الضب بها ينجحر
*
51

* (ولا يؤخذ منها عدل) * أي: فدية لعدم الملك لأحد * (ولا هم ينصرون) *
لامتناع القوة والنصرة لغيره تعالى:
[آية 49 - 50]
* (وإذ نجيناكم من آل فرعون) * ظاهره وتفسيره على ما يفهم من تذكير النعمة
لتهييج المحبة وباطنه وتأويله * (وإذ نجيناكم من آل فرعون) * النفس الأمارة المحجوبة
بأنانيتها المستعلية على ملك الوجود ومصر مدينة البدن التي استعبدت هي وقواها التي
هي الوهم والخيال والتخلية والغضب والشهوة والقوى الروحانية التي هي أبناء صفوة
الله يعقوب الروح والقوى الطبيعية البدنية من الحواس الظاهرة والقوى النباتية.
* (يسومونكم سوء العذاب) * يكلفولكم المتاعب الصعبة والكد والأعمال الشاقة
في جمع المال وادخاره بالحرص والأمل وترتيب الأقوات والملابس وغيرها مما
يكدح فيه الحراص من أبناء الدنيا ويستعبدونكم في التفكر فيها والاهتمام بها وضبطها
وتحصيل لذاتهم التي هي عذاب لمنعها إياكم عن لذاتكم. * (يذبحون أبناءكم) * التي
هي تلك القوى الروحانية عن العاقلة النظرية، والعاقلة العملية اللتين هما عينا القلب
النظرية اليمنى والعملية اليسرى، والفهم الذي هو سمع القلب، والسر الذي هو قلب
القلب، والفكر والذكر * (ويستحيون نساءكم) * القوى الطبيعية المذكورة بمنع الطائفة
الأولى عن أفعالها الخاصة بالقهر والاستيلاء وحجبها عن حياة نور الروح ومددها
وإقدار الطائفة الثانية عن أفعالها وتمكينها.
* (وفي ذلكم) * الإنجاء نعمة عظيمة * (من ربكم) * هي نعمة مطالعة صفات جلاله
وجماله، أو في ذلكم التعذيب نقمة عظيمة من ربكم هي نقمة الاحتجاب والحرمان
والبعد، إذ البلاء الذي هو الامتحان يحصل بهما. قال الله تعالى: * (وبلونهم بالحسنات
والسيئات) * [الأعراف، [آية 168].
* (وإذ فرقنا) * بوجودكم * (البحر) * أي البحر الأسود الزعاق الذي هو المادة
الجسمانية لانفلاقها بوجودكم انفلاق الأرض من النبات * (فأنجيناكم) * بالتجرد منها
* (وأغرقنا آل فرعون) * أي: القوى النفسانية فيها بملازمتها إياها وهلاكها بفسادها،
* (وأنتم) * تشاهدون ذلك. وعلى هذا يمكن أن يؤول بنو إسرائيل في أول الخطاب
بتلك القوى الروحانية والنعمة التي أنعم بها عليهم هي التهدي إلى قبول الأنوار
52

الفائضة عليها من عالم الروح وتلقي المعارف والحكم، وإيفاؤهم بالعهد، وإبرازهم ما
ركز فيها بحسب الاستعداد الأول من الأدلة التوحيدية والمعاني الكلية الكامنة فيها
بالتصفية ومزاولة ما يختص بها من الأفعال، وإيفاؤه بعهدهم إفاضة النور الكمالي
عليها عند قيامها بحق النور الاستعدادي بالتصفية واستعمال ما عندهم من المعاني.
وإن كنتم رهبتم شيئا فارهبوا احتجاب أنواري بزوال استعدادكم، وآمنوا أي: واقبلوا ما
أفيض عليكم من الإشراقات النورية والسواغ الغيبية مصدقا لما في استعدادكم من
النور الفطري، ولا تكونوا في أول رتبة المحتجبين عن قبولها بالتوجه إلى الجهة
السفلية ولا تستبدلوا بها لذات النفس ومقاصدها، ولا تخلطوا حق المعارف الروحية
والأنوار القدسية بباطل المطالب الحسية والصفات النفسية، وتكتموا تلك الأنوار
والمعارف بظهور هذه عليكم. وأقيموا وأديموا التوجه إلى حضرة الروح وامتثال أمره،
وآتوا زكاة معلوماتكم التي هي أموالكم بتصفحها وتركيبها لتحرزوا بها ثواب النتائج
واللوازم. وأنفقوها على فقرائكم الذين بحضرتكم من القوى البدنية الطبيعية ليعيشوا
بها، ويكتسبوا بها الأخلاق الفاضلة والملكات الجميلة، وعلموها أبناء جنسكم
ليكملوا بها، واركعوا واخضعوا لقبول الأوامر العقلية والأنوار الروحية والأعمال
القلبية. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟ أتسوسون ما تحتكم من القوى بالعبادات
الجميلة والآداب الحسنة والترقي إلى مقامكم والتأدب بآدابكم وتنسون أنفسكم في
التأدب بين يدي الله بآداب الروحانيين والتمرن في المراقبة، والتنور بأنوار الروح في
مقام المشاهدة والترقي إلى مقامه عند الفناء في الوحدة، وأنتم تتلون كتاب المعقولات
النازلة من رب الروح بواسطة ملك العقل إلى نبي القلب. أفلا تعقلون بالعقل المجرد
عن شوب الهوى والوهم؟ واستعينوا بالصبر على ما يظهر عليكم ويرد من سلطنة أنوار
سلطان الروح وأحكامه وقهر تجليات العظموت والحضور مع الحق، وأن هذه
الاستعانة لشاقة إلا على الخاشعين، المرتاضين، المذعنين لانقياد أمر القلب والروح،
المتيقنين بأنهم بحضرته وفي لقائه، وأنهم يرجعون إليه في قبول أنواره. وتفضيلهم
على العالمين هو شرفهم على جميع ما في الإنسان من القوى.
[آية 51 - 54]
* (وإذ واعدنا موسى) * بعد فراغه من مقاومة آل فرعون وإهلاكهم * (أربعين ليلة) *
53

يخلص لنا فيها لترفع بها الغشاوات الطبيعية التي حجبت قلبه عن معدن النور في
الأربعين التي خلق فيها بدنه عند تكونه جنينا واواحتجابه بالنشأة عن الفطرة كما ورد في
الحديث: ((خمر طينة آدم بيده أربعين صباحا)). وعن وجه قلبه، وتظهر حكمة التوراة
من قلبه على لسانه " * (ثم اتخذتم) * عجل النفس الحيوانية الناقصة إلها من بعد اعتزاله وغيبته عنكم) * (وأنتم ظالمون) * واضعون العبادة في غير موضعها.
* (ثم عفونا عنكم من بعد ذلك) * الفعل الشنيع، والظلم القبيح، بتوبتكم عند
رجوع موسى إليكم لكي تشكروا نعمة عفوي بتصور تلك النعمة عن المنعم فتستعدوا
لقبول تجلي صفة المنعم. وعلى التأويل الثاني: * (واعدنا موسى) * القلب عند تعلقه
بالبدن واحتجابه عن قومه القوى الروحانية الأربعين التي خلقت فيها بنية بدنه ثم
تعبدتم عجل النفس الحيوانية الطفل من بعد غيبته واحتجابه في حال الصبا * (ثم عفونا
عنكم من بعد ذلك) * التعبد بالبلوغ الحقيقي، وظهور نور القلب بتجردكم لكي تشكروا
نعمة توفيقي إياكم لذلك التجرد وتهيئتي لأسباب كمالكم بسلوك سبيل صفاتي.
* (وإذ آتينا موسى) * القلب كتاب المعقولات والحكم والمعارف والتمييز الفارق
بين الحق والباطل، لكي تهتدوا بنور هداه. وعلى الوجه الأول غني عن التأويل.
* (ظلمتم أنفسكم) * نقصتم حقوقها وحظوطها من الثواب والتجليات المذكورة * (فتوبوا) *
إلى خالقكم برفع الحجاب الأول لدلالة ذكر البارئ عليه * (فاقتلوا أنفسكم) * بسيف
الرياضة ومنعها عن حظوظها وأفعالها الخاصة بها على سبيل الاستقلال وقمع هواها
التي هي روجها التي تحيا هي بها، وعلى الثاني ألهم القلب قواه أنكم نقصتم حقوقكم
بتعبد النفس فارجعوا إلى بارئكم بنور هداه فامنعوا أنفسكم بالرياضة عما ضربتم
فاقتلوها عن حياتها العارضة لها بغلبة الهوى لتحيوا بحياتكم الأصلية فتقبل توبتكم.
[آية 55 - 57]
* (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن) * لأجل هدايتك الإيمان الحقيقي حتى تصل إلى
مقام المشاهدة والعيان * (فأخذتكم) * صاعقة الموت الذي هو الفناء في التجلي الذاتي
* (وأنتم) * تراقبون أو تشاهدون. * (ثم بعثناكم) * بالحياة الحقيقية والبقاء بعد الفناء لكي
تشكروا نعمة التوحيد والوصول بالسلوك في الله * (وظللنا عليكم) * غمام تجلي الصفات
لكونها حجب شمس الذات المحرقة بالكلية، * (وأنزلنا عليكم) * من الأحوال
والمقامات الذوقية الجامعة بين الحلاوة وإسهال رذائل أخلاق النفس كالتوكل والرضا،
54

وسلوى الحكم، والمعارف والعلوم الحقيقية التي تحشرها عليكم رياح الرحمة،
والنفحات الإلهية في تيه الصفات عند سلوككم فيها. * (كلوا) * أي: تناولوا وتلقوا هذه
الطيبات * (وما ظلمونا) * ما نقصوا حقوقنا وصفاتنا باحتجابهم بصفات نفوسهم * (ولكن كانوا) * ناقصين حقوق أنفسهم بحرمانها وخسرانها. هذا على التأويلين، والخطاب وإن
كان عاما لكنه مخصوص بالسبعين المختارين.
[آية 58]
* (وإذا قلنا أدخلوا هذه القرية) * أي: روضة الروح المقدسة التي هي مقام
المشاهدة * (وادخلوا الباب) * الذي هو الرضا كما ورد في الحديث: ((الرضا بالقضاء
باب الله الأعظم))، * (سجدا) * منحنين، خاضعين، لما يرد عليكم من التجليات
الوصفية والفعلية والحملية. وقوله: * (وقولوا حطة) * أي: اطلبوا أن يحط الله عنكم
ذنوب صفاتكم وأخلاقكم وأفعالكم * (نغفر لكم خطاياكم) * تلويناتكم وذنوب أحوالكم
* (وسنزيد المحسنين) * أي: المشاهدين لقوله عليه صلى الله عليه وسلم: ((الإحسان أن تعبد
الله كأنك تراه)). ثواب إحسانهم الذي هو كشف الذات أو إحسانهم بالسلوك في الله.
[آية 59]
* (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) * أي: طلبوا الاتصاف بصفات
النفس ابتغاء حظوظها سوى طلب الاتصاف بصفات الله ابتغاء الحظوظ الروحية. كما
روي عنهم حنطا سمقاثا أي: نطلب غذاء النفس. * (فأنزلنا) * على الظالمين خاصة
* (رجزا) * عذابا وضنكا وضيقا وظلمة في حبس النفس وأسرا في وثاق التمني واحتجابا
في قيد الهوى، وحرمانا وذلا بمحبة المادة السفلية وتغيرها وزوالها من جهة قهر سماء
الروح، ومنع اللطف والروح عنهم بسبب فسقهم أي خروجهم عن طاعة القلب إلى
طاعة النفس، وتركنا التأويل الثاني لقربه منه جدا.
[آية 60]
* (وإذ استسقى موسى) * طلب نزول أمطار العلوم والحكم والمعاني من سماء
الروح، فأمرناه بضرب عصا النفس التي يتوكأ عليها في تعلقه بالبدن وثباته على أرضه
55

بالفكر على حجر الدماغ الذي هو منشأ العقل * (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * من
مياه العلوم على عدد المشاعر الإنسانية التي هي الحواس الخمس الظاهرة، والخمس
الباطنة، والعاقلة النظرية والعملية. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم والسلام: ((من فقد حسا فقد
فقد علما)). * (قد علم كل أناس مشربهم) * أي: أهل كل علم مشربهم من ذلك العلم،
كأهل الصناعات، والعلماء العاملين من مشرب العقل العملي، والحكماء والعارفين من
النظري والصباغين من علم الألوان المبصرة، وأهل صناعة الموسيقى من علم
الأصوات وغير ذلك. وعلى التأويل الثاني: أمرنا موسى القلب، بضرب عصا النفس
على حجر الدماغ، * (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) * هي المشاعر المذكورة التي
تختص كل واحدة منها بقوة من القوى الاثنتي عشرة المذكورة التي هي أسباط يعقوب
الروح، قد علم كل منها مشربه * (كلوا واشربوا من رزق الله) * أي: انتفعوا بما رزقكم
الله من العلم والعمل والأحوال والمقامات. * (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) * ولا
تبالغوا في الفساد بالجهل.
[آية 61]
* (لن نصبر على طعام واحد) * أي: الغذاء الروحاني من العلم والمعرفة والحكمة
* (فادع لنا ربك) * أي: اسأل لنا ربك يوسع علينا، ويرخص لنا فيما تنبته أرض نفوسنا
من الشهوات الخبيثة واللذات الخسيسة والتفكهات الباردة وكل ما فيه لاحظ
النفس
وعذابها. * (اهبطوا مصرا) * أي: مدينة البدن * (فإن لكم) * فيها * (ما سألتم وضربت عليهم الذلة) * اللازمة لاتباع الشهوات والحرص في المقتنيات * (والمسكنة) * أي: دوام
الاحتياج ودوام سكنى الجهة السفلية * (وباؤوا) * واستحقوا * (بغضب) * البعد والطرد
* (من الله ذلك) * باحتجابهم عن آيات الله وتجلياته، والباقي ظاهر. وعلى الوجه
الثاني: وبقتلهم أنبياء القلوب بغير أمر ثابت لهم عليهم يتوجه به ذلك بل بصرف
باطلهم ذلك بعصيانهم أوامر القلوب والعقول واعتدائهم عن ظهورهم.
[آية 62]
* (إن الذين آمنوا) * الإيمان التقليدي، والظاهريين والباطنيين والذين تعبدوا ملائكة
56

العقول، لاحتجابهم بالمعقولات وكواكب القوى النفسانية لاحتجابهم بالوهميات
والخياليات * (من آمن) * منهم الإيمان الحقيقي * (بالله) * والمعاد وأيقنوا علم التوحيد
والقيامة، وعملوا ما يصلحهم للقاء الله ونيل السعادة في المعاد، فلهم الثواب الباقي
الروحاني عند ربهم من جنات الأفعال والصفات * (ولا خوف عليهم) * من عقوبة
أفعالهم * (ولا هم يحزنون) * بفوات تجليات الصفات. والجملة اعتراض بين خطاب
بني إسرائيل.
[آية 63 - 64]
* (وإذ أخذنا ميثاقكم) * أي: عهدكم السابق أو اللاحق المأخوذ منهم في التوراة
أو بدلائل العقل بتوحيد الأفعال والصفات * (ورفعنا فوقكم) * طور الدماغ للتمكن من
فهم المعاني وقبولها. وقلنا * (خذوا) * أي: اقبلوا * (ما آتيناكم) * من التوراة أو كتاب
العقل الفرقاني بجد * (واذكروا) * وعوا ما فيه من الحكم والمعارف والعلوم والشرائع،
لكي تتقوا الشرك والجهل والفسق * (ثم) * أعرضتم * (من بعد ذلك) * بإقبالكم إلى الجهة
السفلية * (فلولا فضل الله عليكم) * بهدايته العقل * (ورحمته) * بنور البصيرة والشرع
* (لكنتم من الخاسرين) *
[آية 65 - 66]
* (ولقد علمتم الذين اعتدوا) * اعلم: أن الناس لو أهملوا وتركوا وخلي بينهم
وبين طباعهم لتوغلوا وانهمكوا في اللذات الجمسانية، والغواشي الظلمانية لضراوتهم
بها واعتيادهم من الطفولية والصبا حتى زالت استعداداتهم وانحطوا عن رتبة الإنسانية،
فمسخوا كما قال تعالى: * (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير) * [المائدة،
الآية: 60]، وإن حفظوا وروعوا بالسياسات الشرعية والعقلية والحكم والآداب
والمواعظ الوعدية والوعيدية ترقوا وتنوروا، كما قال الشاعر:
* هي النفس إن تهمل تلازم خساسة
* وإن تبتعث نحو الفضائل تبهج
*
فلهذا وضعت العبادات، وفرض عليهم تكرارها في الأوقات المعينة لتزول عنهم
بها درن الطباع المتراكم في أوقات الغفلات وظلمة الشواغل العارضة في أزمنة اتخاذ
اللذات، وارتكاب الشهوات. فتتنور بواطنهم بنور الحضور، وتنتعش قلوبهم بالتوجه
إلى الحق عن السقوط في هاوية النفس والعثور، وتستريح بروح الروح، وحب
57

الوحدة عن وحشة الهوى، وتعلق الكثرة، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة بعد الصلاة
كفارة ما بينهما من الصغائر إذا اجتنبت الكبائر)). ألا ترى كيف أمرهم عند الحدث
الأكبر ومباشرة الشهوة بتطهير الغسل، وعند الأصغر بالوضوء، وعند الاشتغال
بالأشغال الدنيوية في ساعات اليوم والليل بالصلوات الخمس المزيلة لكدورات
الحواس الخمس الحاصلة في النفس بسببها، كل بما يناسبه، فلذلك وضعوا بإزاء
وحشة تفرقة الأسبوع وظلمة انفرادهم بدؤوب الأشغال والمكاسب، والملابس البدنية،
والملاذ النفسانية، اجتماع يوم وادد على العبادة والتوجه لتزول وحشة التفرقة بأنس
الاجتماع وتحصل بينهم المحبة والأنس وتزول ظلمة الاشتغال بالأمور الدنيوية
والإعراض عن الحق بنور العبادة والتوجه، ويحصل لهم التنور فوضع لليهود أول أيام
الأسابيع لكونهم أهل المبدأ والظاهر، وللنصارى بعده لأنهم أهل المعاد والروحاني
والباطن المتأخرين عن المبدأ والظاهر بالنسبة إلينا، وللمسلمين آخرها الذي هو يوم
الجمعة لكونهم في آخر الزمان أهل النبوة الخاتمة وأهل الوحدة الجامعة للكل، وإن
جعل السبت آخر الأيام - على ما نقل أنه السابع - فبالنسبة إلى الحق تعالى لأن عالم
الحس الذي إليه دعوة اليهود هو آخر العوالم، وعالم العقل الذي إليه دعوة النصارى
أولها، والجمعة هي يوم الجمع والختم، فمن لم يراع هذه الأوضاع والمراقبات أصلا
زال نور استعداده، فمسخ كما مسخت أصحاب السبت. نهوا عن الصيد، أي: إحراز
الحظوظ النفسانية واقتنائها في يوم السبت، فاحتالوا فيه فاتخذوا حياضا على ساحل
البحر ليحبسوا فيها الحيتان ويصطادوها يوم الأحد. أي: ادخروا في سائر أيام الأسبوع
من ماء بحر الهيولى الجرمية والجرمانيات المادية في حياض بيوتهم فجمعوا بها أنواع
المطاعم والمشارب والملاذ والملاهي، فاجتمع لهم كل الحظوظ النفسانية في يوم
السبت ما اكتفوا به سائر أيام الأسبوع ليفرغوا فيها إلى الاشتغال بالمكاسب والصناعات
والمهن، كما هو عادة اليهود اليوم وشطار المسلمين في الجماعات فإن أكثر فسقهم
فيها، فذلك اعتيادهم في السبت وهو يدل على أن جميع أوقات حضورهم مصروفة
في هموم الدنيا وطلب حظوظ النفس والهوى. كما ترى اليوم واحدا من المسلمين
قالبه في المسجد في الصلاة وقلبه في السوق في المعاملة، حتى قال أحدهم: جريدة
حسابي هي الصلاة: أي: إذا فرغت من أشغال الدنيا إلى الصلاة أخذ قلبي في تصفح
تجاراتي وما لي على الناس وما للناس علي، وذلك موجب للانحطاط عن العالم
العلوي الإنساني إلى الأفق السفلي الحيواني. وهو معنى قوله:
* (فقلنا لهم كونوا قردة) * أي: مشابهين الناس في الصورة وليسوا بهم
58

* (خاسئين) * بعيدين، طريدين. والمسخ بالحقيقة حق غير منكر في الدنيا والآخرة،
ووردت به الآيات والأحاديث كقوله تعالى: * (وجعل منهم القردة والخنازير) * [المائدة، الآية:
60]، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة
والخنازير: وقد روي عنه عليه صلى الله عليه وسلم: ((المسوخ ثلاثة عشر))، ثم عدهم
وبين أعمالهم ومعاصيهم وموجبات مسخهم، والحاصل أن من غلب عليه وصف من
أوصاف الحيوانات ورسخ فيه بحيث أزال استعداده وتمكن في طباعه وصار صورة ذاتية له كالماء الذي منبعه معدن الكبريت مثلا صار طباعه طباع ذلك الحيوان ونفسه
نفسه، فاتصلت روحه عند المفارقة ببدن بناسب صفته فصارت صفته صورته والله أعلم
بذلك.
[آية 67 - 71]
* (وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * هي النفس الحيوانية،
وذبحها قمع هواها الذي هو حياتها ومنعها عن أفعالها الخاصة بها بشفرة سكين
الرياضة * (قالوا أتتخذنا) * مهزوا بنا، وتستخفنا لنطيعك ونتسخر لك كما جاء في حق
فرعون: فاستخف قومه فأطاعوه. * (قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) * الاستخفاف
والاستهزاء وطلب الترؤس هو فعل الجهال.
* (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) * أي: سل لنا ربك ما هي * (إنها بقرة لا فارض) * أي: غير مسنة لزوال استعدادها ورسوخ اعتقادها وضراوتها بعاداتها كما قيل:
الصوفي بعد الأربعين بارد. * (ولا بكر) * أي: فتية، لقصور استعدادها عما يراد منها
وعسر احتمالها للرياضة لغلبة القوى الطبيعية وقوتها فيها * (عوان) * نصفة * (بين) * ما
ذكر * (صفراء) * لأن لوح الجسم أسود لعدم النورية فيه أصلا، ولون النفس النباتية
أحضر لظهور النورية فيها، وغلبة السواد عليها لعدم إدراكها، ولون القلب أبيض
لتجرده عن الجسم، وقوة إدراكه، وكمال نوريته. فلزم أن يكون لون النفس الحيوانية
في الحيوانات العجم أحمر لتركب نورية إدراكها وسواد تعلقها بالجسم، إذ الحمرة
لون بين البياض والسواد ومركب منهما، لكن السواد فيه أكثر. وفي الإنسان أصفر
59

لغلبة نورية إدراكها بمجاورة القلب، إذ الصفرة حمرة عليها البياض * (فاقع لونها) *
لصفاء استعدادها وشعشعان شعاع نور القلب عليها * (تسر الناظرين) * لقوة نور
استعدادها وتشعشعها والناظرون هم الكاملون المطلعون على الاستعدادات لوجوب
محبتهم للمستعدين المستبصرين وذوقهم بحضورهم. * (إن البقر تشابه علينا) * لكثرة
البقر الموصوف بهذه الصفة، أي: كثرة أصناف المستعدين وما كل مستعد طالبا. كما
قيل: ما كل طبع قابلا ولا كل قابل طالبا، ولا كل طالب صابرا، ولا كل صابر
واجدا. * (وإنا إن شاء الله لمهتدون) * إلى ذبح هذه البقرة. وقولهم: إن شاء الله، دليل
على استعدادهم لعلمهم بأن الأمور متعلقة بمشيئة الله، ميسرة بتوفيقه. ولهذا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ((لو لم يستثنوا لما ظفروا بها أبدالدهر)).
* (لا ذلول) * غير مذللة، منقادة لأمر الشرع * (تثير) * أرض الاستعداد بالأعمال
الصالحة والعبادات * (ولا تسقي) * حرث المعارف والحكم التي فيها بالقوة باستقاء ماء
العلوم الكسبية والأفكار الثاقبة، لعدم احتياج مثل هذه البقرة إلى الذبح * (مسلمة) *
سلمها أهلها لترعى، غير مسوسة برسوم وعادات وشرائع وآداب * (لا شية فيها) * أي:
لم يرسخ فيها اعتقاد ومذهب لعدم صلاحيتها للذبح.
* (جئت بالحق) * الثابت في بيان المستعد المشتاق، الطالب للكمال * (فذبحوها وما كادوا يفعلون) * لكثرة سؤالاتهم ومبالغاتهم وتعمقهم في البحث والتفتيش عن
حالها، وفضول كلامهم في بيانها التي تدل على عدم انقياد النفس بالسرعة، وإبائها
للرياضة، وغلبة الفضول عليها، وتعذر مطلوبهم، وتأخرهم عنه بسبب ذلك. ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم، ولكن شددوا فشدد الله
عليهم))، أي: لو لم يكن منهم كثرة فضول البحث والسؤال لما عز عليهم مطلوبهم
لقوة قبولهم وإرادتهم، فكان سلس القياد، سهل الانقياد، ونهى صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال،
وقال: ((إنما هلك من كان قبلكم بكثرة السؤال)). قال الله تعالى: * (لا تسئلوا عن أشياء
إن تبد لكم تسؤكم) * [المائدة، الآية: 101].
وقيل في قصتها: إن شيخا من بني إسرائيل نتجت له عجلة على هذه الصفة،
وكان له ابن طفل، فجاء بها إلى عجوز وقال: إنها لهذا الطفل، سلميهما في مرعاها
عساها تنفعه إذا بلغ. فلما وقعت هذه الواقعة وسعى بنو إسرائيل في طلب البقرة
أربعين سنة سمعت العجوز بها، فأخبرت ابنها بما فعل أبوه وقد ترعرع، فجاء إلى
المرعى فوجدها، فأتى بها فساوموه في شرائها ومنعته العجوز عن بيعها حتى اشتروها
بملء مسكها ذهبا. فالشيخ هو الروح، والعجوز الطبيعة الجمسانية، وابنه الطفل هو
60

العقل الذي هو نتيجة الروح، والشاب المقتول هو القلب.
سلم شيخ الروح عجل النفس إلى عجوز الطبع ليرعى في مرعى اللذات الطبيعية
حتى يكبر عسى طفل العقل أن ينتفع بها وقت البلوغ في انتزاع المعقولات من
محسوساتها واستعمال الفكر الذي هو من قواها في اكتساب العلوم العقلية. وهو الذي
جاء بها من المرعى وسعي بني إسرائيل أربعين سنة إشارة إلى السير إلى الله بالأعمال
والآداب والتخلق بالأخلاق، إلى أوان البلوغ الحقيقي، وتجرد القلب، كما قال الله
تعالى: * (بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) * [الأخفاق الآية: 15]. ومساومتهم إياها في شرائها
إشارة إلى طلب القوى الروحانية المنورة بنور الهداية الشرعية والإرادة، وانتزاعها من
العقل المشوب بالوهم، واستعباد العقل إياها بالمقعولات القياسية، وتسخيرها
بالفكريات، وحجبها عن نور الهداية الشرعية بالقياسات العقلية، وعدم تحليتها
بالشرعيات. وهذا هو الموجب لتشددهم في السؤال وتأخرهم وتباطئهم في الامتثال.
ومنع العجوز إياه هو ممانعة الطبع في الانقياد للشرع، وموافقة العقل إياه في ذلك
لرعاية العقل جانب الطبع في مصالح المعاش وترفيهه إياه، وترخيصه والتوسيع عليه
أكثر من الشرع. وبيعها بملء مسكها ذهبا إشارة إلى تحليها بعد الذبح والسلخ بالعلوم
النافعة الشرعية والعقلية الخلقية والأحكام الفرعية الدينية، واشتمال صورتها عليها التي
توافق العقل والطبع وتنفعهما باستعمالهما إياها في تحصيل مصالح المعاش والمباغي
الطبيعية والمطالب العقلية العملية بإذن الشرع من الوجه الحلال والتصرف المباح
وأنواع الرخص في جميع التمتعات بعد حصول الكمال وتمام السلوك.
[آية 72]
* (إذا قتلتم نفسا فادراءتم فيها) * إشارة إلى بيان سبب الأمر بذبح البقرة، وهو
أنه كان شيخ موسر من بني إسرائيل وله ابن شاب فقتله ابنا عمه، أو بنو عمه، طمعا
في ميراث أبيه وطرحوه بين أسباط بني إسرائيل على الطريق، فتدافعوا في قتله، فورد
الأمر بذبح البقرة وضربه ببعضها ليحيا فيخبر بالقاتل. فالشاب هو القلب الذي هو ابن
الروح الموسر بأموال المعارف والحكم، وقتله منعه عن حياته الحقيقية وإزالة العشق
الحقيقي الذي هو حياته عنه باستيلاء قوتي الشهوة والغضب اللذين هما ابنا عمه النفس
الحيوانية أو جميع قواها عليه، إذ الروح والنفس أخوان باعتبار فيضانهما وولادتهما
من أب هو العقل الفعال المسمى ((روح القدس)) على قياس ما ورد في الحديث:
((أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من بقية طين آدم)). فإن النفس النباتية الكاملة التي
إذا كانت عمة النفس الإنسانية، كانت النفس الحيوانية عمتها. قتلاه طمعا في استعمال
61

المعاني العقلية والحكم التي هي ميراث أبيه في تحصيل مطالبهما وكمالاتهما ولذاتهما
بأنواع الحيل والمكر وصناعة الفكر. وطرحاه على طرق القوى الروحانية والطبيعية بين
محالها وتدافعهم في قتله هو إحاله كل قوة منها الفساد والإثم إلى الأخرى، والصلاح
والبراءة إلى نفسها لتنازعها وتجاذبها في أفعالها ولذاتها واحتجاب كل منها بما يلائمها
عما يلائم الأخرى ورؤيتها الصلاح فيه والفساد في ضده. * (والله مخرج ما كنتم تكتمون) * من نور القلب وحياته، بالاستيلاء عليه.
[آية 73]
* (فقلنا اضربوه ببعضها) * بذنبها أو لسانها، على ما ورد في القصة، ليحيا،
فيخبركم بالقاتل. وضرب الذنب إشارة إلى إماتة النفس وتبقية أضعف قواها وآخرها،
وجهتها التي تلي النفس النباتية ورابطتها بها كالحس اللمسي مثلا وسائر الحواس
الظاهرة فإنها ذنبها. وضرب اللسان إشارة إلى تعديل أخلاقها وقواها وتبقية فكرها
الذي هو لسانها، وهما طريقان: طريق الرياضة وإماتة الغضب والشهوة، كما هو
طريق التصوف وهو بالنفوس القوية الجانية المستولية الطاغية أولى، وطريق التحصيل
وتعديل الأخلاق كما هو سبيل العلماء والحكماء، وهو بالنفوس الضعيفة والصافية
المنقادة اللينة أولى. فضربوه، فقام وأوداجه تشخب دما، وأخبر بقاتليه، أي: صار
حيا قائما بالحياة الحقيقية وعليه أثر القتل لتعلقه بالبدن وتلوثه بمطالبه بحسب
الضرورة، وعرف حال القوى البدنية في منعها إياه عن إدراكه وحجبها له عن نوره.
* (كذلك يحيي الله الموتى) * أي: مثل ذلك الإحياء العظيم، يحيى الله موتى الجهل
بالحياة الحقيقة العملية * (ويريكم) * دلائله وآيات صفاته لكي تعقلون.
[آية 74]
* (ثم قست قلوبكم) * أي: بعد تطاول الأمد، وتراخي مدة الفترة، وتتابع
التلوينات، وتوالي النزغات، قست قلوبكم بكثرة مباشرة الأمور واللذات البدنية،
وملابسة الصفات النفسانية * (فهي كالحجارة) * من عدم تأثرها بالنفش العلمي * (أو) *
شيء * (أشد قسوة) * منها، كالحديد مثلا. ثم بين أن الحجارة ألين منها بأن حالها
منحصر في الوجوه الثلاثة المذكورة، فأفاد أن القلوب أربعة: قلب تنور بالنور الإلهي
منطمسا فيه، واستغرق في البحر العلمي منغمسا فيه، فانفجرت منه أنهار العلم، فمن
62

شرب منها يحيا أبدا كقلوب أهل الله السابقين وهو المشار إليه بقوله تعالى: * (وإن من
الحجارة لما ينفجر منه الأنهار) * وقلب ارتوى من العلم، فحفظ ووعى، فانتفع به
الناس، كقلوب العلماء الراسخين وهو المشار إليه بقوله: * (وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء) * وقلب خشعو وانقاد واستسلم وأطاع، كقلوب العباد والزهاد من
المسلمين، وهو المشار إليه بقوله: * (وإن منها لما يهبط من خشية الله) * وأدنى أحوال
حاله هو الهبوط من خشية الله، أي: الانقياد لما أمر الله من الميل إلى المركز
بالسلاسة. وبقي قلب لم يتأثر قط بالعلم ولم يتلين بالخوف آبيا للهدى، متكبرا،
ممتلئا بالهوى، متمردا، فلا يوجد من الجواهر ما يشبهه لقبول جميعها ما أمر الله به،
فكيف بالحديد الذي يلين لما يراد منه؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مثل ما بعثني الله به
من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير، أصاب أرضا فكانت طائفة منها طيبة قبلت الماء
وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أخاذات أمسكت الماء، فنفع الله بها
الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في الدين فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك
رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)). فبين صلى الله عليه وسلم القلوب الثلاثة الأخيرة،
والأول من الأربعة هو القلب المحمدي. * (وما الله بغافل عما تعملون) * تهديد للقاسية
قلوبهم، أي: الله مطلع فيحجبهم عن نوره ويتركهم في ظلماتهم، والآيات التي تتلوها
ظاهرة.
وتأويل الأولى:
[آية 75 - 78]
* (أفتطمعون) * أن يوحدوا بتوحيد الصفات لأجل هدايتكم * (وقد كان فريق منهم) * يقبلون صفات الله ثم يحرفونها بنسبتها إلى أنفسهم * (من بعد ما عقلوه) * أي:
علموا توحيد الصفات وما وجدوه بالعيان * (وهم يعلمون) * أن تلك الصفات لله، لكن
نفوسهم ينتحلونها بالإشراك حالة ذهول العقل عن استيلائها على القلب لعدم كون
توحيدهم ملكة وحالا، بل علما.
63

[آية 79]
* (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) *، أي: ويل لمن بقيت منه بقايا صفات
النفس وهو لا يشعر بها أو يشعر فيحتال أو لا يحتفل بها فيفعل ويقول بنفسه
وصفاتها، ويدعي أنه من عند الله ليكتسب به حظا من حظوظ النفس، بل عين ذلك
القول والفعل ونسبته إلى الله لاحظ
تام لها وذنب لا ذنب أقوى منه. ويمكن أن تؤول
الآيات الثلاث الأول على الوجه الثاني المبني على التطبيق فيقال: أفتطمعون، أيتها
القوى الروحانية، أن تؤمن هذه القوى النفسانية لأجل هدايتكم منقادة. وقد كان فريق
منهم كالوهم والخيال يسمعون كلام الله، أي: يتلقفون المعاني الواردة من عند الله
على القلب ثم يحرفونه بالمحاكاة وكثرة الانتقالات وجعلها جزئية، وإعطائها أحكام
الجزئيات كما في المنامات والواقعات. من بعد ما عقلوه، أي: أدركوه على حاله
وهم يعلمون تحريفها وانتقالاتها إلى اللوازم والأشباه والأضداد.
وإذا لقوكم بالتوجه نحوكم، وتلقن مدركاتكم عند حضوركم، ومشايعتها إياكم،
وعروجها، أذعنوا وصدقوا. * (وإذا خلا بعضهم إلى بعض) * في أوقات الغفلات، منع
بعضهم بعضا عن إلقاء ما فتح الله عليهم من مدركاتهم المحسوسة والمخيلة والموهومة
ليركبوا منها الحجج ويحاجوهم بها في الحضرة الروحانية عند ربهم.
* (أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون) * عنكم من مدركاتهم * (وما يعلنون) *
فيطلعكم عليها وينصركم عليهم * (ومنهم) * أي: القوى الطبيعية الغير المدركة والحواس
الظاهرة * (لا يعلمون) * كتاب المعاني المعقولة * (إلا أماني) * لذاتهم وشهواتهم وما
يتيقنون خاتمة عاقبتها ومضرتها في طريق الكمال، بل يظنون نفعها وخيريتها.
[آية 80 - 82]
* (وقالوا لن تمسنا النار) * إلى آخر الآية. اعتقدوا أن زمان العقاب يساوي زمان
مباشرة الذنب، ولم يعلموا أن الذنب إذا كان معتقدا فاسدا، ثابتا في النفس، وهيئة
راسخة فيها، وصار ملكة كصورة ذاتية لها، كان سببا لتخليد العذاب. وهو معنى قوله
تعالى: * (وأحاطت به خطيئته) * أي: استولت عليه واستوعبت كالسواد المستوعب
64

للثوب. ولو لم يكن كذلك لما كانت الطاعة أيضا سبب خلود الثواب.
[آية 83]
* (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) * عاهدناهم بالتوحيد. ومقتضى التوحيد ملاحظة
الحضرة الربوبية ومشاهدة تجلياتها في مظاهرها، والقيام بحقها على حسب ظهور
أوصافها. وأول من يظهر عليه صفات الربوبية وآثارها في الظاهر وعالم الشهادة هما
الأبوان لمكان النسبة والتربية والعطوفية، التي هي آثار الموجد الرب الرحيم فيهما له.
فالإحسان إليهما يجب أن يلي عبادة الله بحسب ظهوره في مظهريهما، ثم ذوي القربى
لظهور المواصلة والمرحمة الإلهية فيهم بالنسبة إليه، ثم اليتامى لاختصاص ولايته
وحفظه تعالى بهم فوق من عداهم إذ هو ولي من لا ولي له، ثم المساكين لتوليته
رعايتهم ورزقهم بنفسه بلا واسطة غيره، ثم سائر الناس للرحمة العامة بينهم التي هي
ظل الرحمانية، فالإحسان المأمور به في الآية على درجاته وتفاضله في مراتبه هو تخصيص
العبادة بالله مع مشاهدة صفاته في مظاهرها ورعاية حقوق تجلياتها وأحكامها.
[آية 84]
* (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) * بهواكم إلى مقار النفس وصفاتها
وميلكم إلى هواها وطباعها، ومتاركتكم حياتكم الحقيقية، وخواص أفعالكم لأجل
تحصيل مآربها ولذاتها * (ولا تخرجون أنفسكم) * أي: ذواتكم. إذ يعبر بالنفس عن
الذات * (من دياركم) * أي: مقاركم الروحانية والروضات القدسية * (ثم أقررتم) *
بقبولكم لذلك * (وأنتم تشهدون) * عليه باستعداداتكم الأولية وعقولكم الفطرية.
[آية 85 - 86]
* (ثم أنتم هؤلاء) * الساقطون عن الفطرة، المحتجبون عن نور الاستعداد الأصلي
* (تقتلون أنفسكم) * بغوايتكم ومتابعتكم للهوى * (وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) *
65

أوطانهم القديمة الأصلية، بإغوائهم وإضلالهم وتحريضهم على ارتكاب المعاصي
واتباع الهوى * (تظاهرون عليهم) * تتعاونون عليهم * (بالإثم) * بارتكاب الفواحش
والمعاصي ليروكم فيتبعوكم فيها * (والعدوان) * والاستطالة على الناس ليتعدى إليهم
ظلمكم، وإلزامكم إياهم رذائل القوتين البهيمية والسبعية وتحريضكم لهم عليها،
وتزيينكم لهم إياها كما هو عادة ملاحدة المسلمين من أهل الإباحة المدعين للتوحيد.
* (وإن يأتوكم أسارى) * في قيد تبعات ارتكبوها وشين أفعالهم القبيحة، أخذتكم الندامة
وعيرتهم عقولهم وعقول أبناء جنسهم بما لحقهم من العار والشنار * (تفادوهم) *
بكلمات الحكمة والموعظة والنصيحة الدالة على أن اللذات المستعلية هي: العقلية
والروحية وعاقبة اتباع الهوى والنفس والشيطان وخيمة، ومشاركة البهائم والهوام في
أفعالها مذمومة رديئة، فيتيقظوا بها ويتخلصوا من قيد الهوى سويعة كما نشاهد من
حال علوج مدعي التوحيد والمعرفة والحكمة وأتباعهم في زماننا هذا.
* (أفتؤمنون ببعض الكتاب) * أي: كتاب العقل والشرع قولا وإقرارا، فتقرون به
وتصدقونه وهو أن اتباع الهوى والنفس مذموم، موجب للوبال والهلاك والخسران
* (وتكفرون ببعض) * فعلا وعملا فلا تنتهون عما نهاكم عنه، وهو إباحتهم واستحلالهم
للمحرمات والمنهيات * (فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي) * افتضاح وذلة * (في الحياة الدنيا ويوم القيامة) * أي: حال المفارقة التي هي القيامة الصغرى * (يردون إلى أشد العذاب) * الذي هو تعذيبهم بالهيئات المظلمة الراسخة في نفوسهم واحتراقهم
بنيرانها أو مسخهم عن صورهم بالكلية، وتضاعف البلية * (وما الله بغافل) * عن
أعمالكم، أحصاها وضبطها في أنفسكم وكتبها عليكم، كما قال تعالى: * (يوم يبعثهم
الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصه الله ونسوه) * [المجادلة، الآية: 6]
[آية 87 - 91]
66

[92 - 101]
* (ولقد آتينا موسى الكتاب) * إلى قوله: * (لا يعلمون) * ظاهر ومعلوم مما مر.
والظاهر أن جبرائيل هو العقل الفعال. وميكائيل هو روح الفلك السادس، وعقله
المفيض للنفس النباتية الكلية الموكلة بأرزاق العباد. وإسرافيل هو روح الفلك الرابع،
وعقله المفيض للنفس الحيوانية الكلية، والموكلة بالحيوانات. وعزرائيل هو روح الفلك
السابع الموكل بالأرواح الإنسانية كلها، يقبضها بنفسه أو بالوسايط التي هي أعوانه
ويسلمها إلى الله تعالى.
[آية 102]
* (واتبعوا) * أي: اتبع اليهود والقوى الروحانية * (ما تتلوا) * شياطين الإنس الذين
هم المتمردة العصاة الأشرار، الأقوياء، وشياطين الجن وهم الأوهام والخيالات
والمتخيلات المحجوبة عن نور الروح، العاصية لأمر العقل المتمردة عن طاعة القلب
* (علي) * عهد * (ملك سليمان) * النبي أو سليمان الروح من كتب السحر وعلومه،
يزعمون أنه علم سليمان وبه استولى على الملك وسخر ما سخر من الجن والإنس
67

والطير وعلم الحيل والشعبذة والموهومات والمتخيلات والسفسطة. * (وما كفر سليمان) * بإسناد التأثير إلى غير الله، إذ السحر كفر واحتجاب عن مؤثرية الله، بإسناد
التأثير إلى غيره * (ولكن الشياطين كفروا) * احتجبوا ولم يعلموا أن لا مؤثر إلا الله
* (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين) * أي: العقل النظري والعملي المائلين
إلى النفس المنكوسين من بئر الطبيعة لتوجههما إليها باستجذاب النفس إياهما إليها
* (ببابل) * الصدر المعذبين بضيق المكان بين أبخرة المواد وأدخنة نيران الشهوات من
العلوم والأعمال من باب الحيل والنيرنجات والطلسمات على التأويلين * (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) * امتحان وبلاء من الله لقوة النورية وبقية الملكوتية
فيهما، فينبهان على حالهما بالنور العقلي * (فلا تكفر) * باستعمال هذا العلم في المفاسد
والمناهي وإسناد التأثير إليه * (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين) * القلب والنفس، وبين
الروح والنفس، وتكدير القلب * (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله) * أي: إلا إذا
أراد الله أن يضره عند ذلك الفعل، فيفعل ما يريد ويكون زيادة ابتلاء للساحر وإمهالا
له في كفره واحتجابه لرؤيته ذلك من تأثير سحره. * (ويتعلمون ما يضرهم) * بزيادة
الاحتجاب وشدة الميل والهوى * (ولا ينفعهم) * في رفع الحجاب برؤيتهم ذلك ابتلاء
من الله واستعاذاتهم بالله ليقيهم من شره. * (ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق) * أي: نصيب، لإقباله على النفس والهوى بالكلية واستعمال ذلك في
اكتساب حطام الدنيا وتمتعاتها.
[آية 103 - 105]
* (ولو أنهم آمنوا) * برؤية الأفعال من الله * (واتقوا) * الشرك بنسبة التأثير إلى غيره
* (لمثوبة) * دائمة كائنة * (من عند الله) * من الأنوار الروحية، والمواهب الفتوحية،
والأحوال القلبية، والمعارف الإلهية * (خير لو كانوا يعلمون) *.
[آية 106 - 107]
* (ما ننسخ من آية) * بإبطال حكمها وإبقاء لفظها ومعناها، أو لفظها دون معناها،
68

كآية الرجم * (نأت بخير منها) * أي: بما هو أصلح في بابه منها في بابها أو يساويها في
الخير والصلاح. واعلم أن الأحكام المثبتة في اللوح المحفوظ إما مخصوصة وإما
عامة، والمخصوصة إما أن تختص بحسب الأشخاص وإما أن تختص بحسب الأزمنة،
فإذا نزلت بقلب الرسول فالتي تختص بالأشخاص تبقى بقاء الأشخاص، والتي تختص
بالأزمنة تنسخ وتزال بانقراض تلك الأزمنة، قصيرة كانت كمنسوخات القرآن، أو
طويلة كأحكام الشرائع المتقدمة. ولا ينافي ذلك ثبوتها في اللوح إذ كانت فيه كذلك،
والعامة تبقى ما بقي الدهر كتكلم الإنسان واستواء قامته مثلا.
* (ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) * أي: له ملك سماوات عالم الأرواح
وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل كله ظاهره وباطنه فلم يبق شيء غيره
ينصركم ويليكم.
[آية 108 - 112]
* (أم تريدون أن تسألوا رسولكم) * من قبل اللذات الدينية الحسية والشهوات
الخسيسة النفسية * (كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل) * الظلمة بالنور * (فقد ضل) *
الطريق المستقيم.
* (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * أي: قالت اليهود: لن
يدخل الجنة المعهودة عندهم، أي: جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال
وجنة النفس إلا من كان هودا. وقالت النصارى: لن يدخل الجنة المعهودة عندهم،
أي: جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات، وجنة القلب إلا من كان
نصرانيا. ولهذا قال عيسى عليه السلام في دعوتهم إلى جنتهم: ((لن يلج ملكوت
السماوات من لم يولد مرتين))، وكانت دعوته إلى السماء، أي: السماء الروحانية
* (تلك أمانيهم) * أي: غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها
* (قل هاتوا برهانكم) * أي: دليلكم الدال على نفي دخول غيركم جنتكم * (إن كنتم
69

صادقين) * في دعواكم، بل الدليل دل على نقيض مدعاكم.
فإن * (من أسلم وجهه) * أي: ذاته الموجودة مع جميع لوازمها وعوارضها * (لله) *
بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي والفناء في ذات الله * (وهو محسن) * أي: مستقيم في
أحواله بالبقاء بعد الفناء، مشاهد ربه في أعماله، راجع من الشهود الذاتي إلى مقام
الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة بالوجود الحقاني لمكان الاستقامة والعبادة، لا
بالوجود النفساني * (فله أجره عند ربه) * أي: ما ذكرتم من الجنة وأصفى وألذ
لاختصاصها بمقام العندية أي المشاهدة التي احتجبتهم عنها * (ولا خوف عليهم ولا هم
يحزنون) * أي: وزيادة على ما لكم من الجنة وهو عدم خوفهم من احتجاب الذات
وبقاء النفس اللازم لوجود بقيتهم وعدم حزنهم على ما فاتهم بسبب الوقوف بحجاب
جنة الأفعال والصفات والتلذذ بها والاستراحة فيها والاستدامة إليها من شهود جمال
الذات. فإنهم وإن تركوها بالشوق إلى تجلي الذات فإنها حاصلة لهم وأدنى مقامهم
تحت جنة الذات.
[آية 113 - 114]
* (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء) * لاحتجابهم بدينهم عن دينهم، وكذا
قالت النصارى لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر كما احتجب اليهود بالظاهر عن الباطن
على ما هو حال أهل المذاهب اليوم في الإسلام.
* (وهم يتلون الكتاب) * وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب، ورؤية حق كل دين
ومذهب، وليس أهل ذلك الدين والمذهب حقهم بباطل لتقيدهم بمعتقدهم، فما
الفرق بينهم وبين الذين لا علم لهم ولا كتاب، كالمشركين، فإنهم يقولون مثل قولهم
بل هم أعذر، إذ ليس عليهم إلا حجة العقل وهم بحجة العقل والشرع * (فالله يحكم
بينهم) * بالحق في اختلافاتهم * (يوم) * (قيام) * (القيامة) * الكبرى وظهور الوحدة الذاتية
عند خروج المهدي عليه السلام. وفي الحديث ما معناه: ((إن الله يتجلى لعباده في
صورة معتقداتهم فيعرفونه، ثم يتحول عن صورته إلى صورة أخرى فينكرونه))، وحينئذ
يكونون كلهم ضالين محجوبين إلا ما شاء الله وهو الموحد الذي لم يتقيد بصورة
معتقده.
70

* (ومن أظلم) * أي: أنقص حقا وأبخس حظا * (ممن منع مساجد الله) * أي:
مواضع سجود الله التي هي القلوب التي يعرف فيها فيسجد بالفناء الذاتي * (أن يذكر فيها اسمه) * الخاص الذي هو الاسم الأعظم، إذ لا يتجلى بهذا الاسم إلا في القلب،
وهو التجلي بالذات مع جميع الصفات أو اسمه المخصوص بكل واحد منها، أي
الكمال اللائق باستعداده المقتضي له. * (وسعى في خرابها) * بتكديرها بالتعصبات
الباردة وغلبة واستيلاء التمنيات عليها، ومنع أهلها المستعدين عنها بالهرج والمرج
وتهييج الفتن اللازمة لتجاذب قوى النفس ودواعي الشيطان والوهم * (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) * ويصلوا إليها، أي: منكسرين لظهور تجلي الحق فيها
* (لهم في الدنيا خزي) * أي: افتضاح وذلة بظهور بطلان دينهم ومعتقدهم، وفسخه
بدين الحق وانقهارهم وتحسرهم ومغلوبيتهم. * (ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * هو
الاحتجاب عن الحق بدينهم.
[آية 115]
* (والله المشرق) * أي: عالم النور والظهور الذي هو جنة النصارى وقبلتهم
بالحقيقة هو باطنه * (والمغرب) * أي: عالم الظلمة والاختفاء الذي هو جنة اليهود
وقبلتهم بالحقيقة هو ظاهره * (فأينما تولوا) * أي: أي جهة تتوجهوا من الظاهر والباطن
* (فثم وجه الله) * أي: ذات الله المتجلية بجميع صفاته، أو ولله الإشراق على قلوبكم
بالظهور فيها والتجلي لها بصفة جماله حالة شهودكم وفنائكم، والغروب فيها بتستره
واحتجابه بصورها وذواتها، واختفائه بصفة جلاله حالة بقائكم بعد الفناء. فأي جهة
تتوجهوا حينئذ فثم وجهه لم يكن شيء إلا إياه وحده * (إن الله واسع) * جميع الوجود شامل
لجميع الجهات والوجودات * (عليم) * بكل العلوم والمعلومات.
[آية 116 - 117]
* (وقالوا اتخذ الله ولدا) * أي: أوجد موجودا مستقلا بذاته مخصوصا دونه
* (سبحانه) * ننزهه عن أن يكون غيره شيء فضلا عما يجانسه * (بل له ما في السماوات والأرض) * أي: له عالم الأرواح والأجساد وهي باطنه وظاهره، كما تقول: له الذات
والوجه والصفات وأمثال ذلك. * (كل له قانتون) * موجودون بوجوده، فاعلون بفعله،
معدومون بذواتهم، وهو غاية الطاعة والقيام بحقه إذ هو الوجود المطلق، فلا يوجد
بدونه شيء. والوجودات المعينة صفاته وأسماؤه لامتيازها بتعيناتها التي هي أمور
71

إمكانية عدمية ليست عينه بالاعتبار العقلي الذي يقسمها إلى الوجود والماهية التي هي
بدون الوجود ليست شيئا في الخارج، لكن في العقل. والعقليات باطنه، فهي في
الحقيقة ليست غيره فلا يكون غيره موجودا حتى يكون ولدا، أي: معلولا أو مخلوقا
أو ما شئت فسمه.
* (بديع السماوات والأرض) * أي: مبدع سماواته وأرضه غير مسبوقة بمادة ومدة،
بل هي ظلال ذاته ومنشأ عالميته منورة باسمه النوراني، موجودة بوجوده الخارجي ولو
لم يكن جهات الإمكان واعتبارات العقل بحسب اليقينيات لما اعتبرت وجوداتها أصلا
إذ هي بلا هو غير شيء فلا تكون معه موجودة بالمقارنة بل بالتحقيق بوجوده، ولا
تكون غيره بالمفارقة بل بالاعتبار العقلي. فهي باعتبار تعيناتها خلق، وباعتبار حقيقتها
حق. * (وإذا قضى أمرا) * أي حكم به * (فإنما يقول له كن فيكون) * أي: فلا يكون إلا
تعلق إرادته به فيوجد بلا تخلل زمان ولا توسط شيء، بل معا. وذلك التعلق هو قوله
وإلا لم يكن ثم قول ولا صوت.
[آية 118 - 124]
* (وقال الذين لا يعلمون) * علم التوحيد من المشركين * (لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية) * إلى قوله: * (تشابهت قلوبهم) * في الجهل بعلم التوحيد وبكلام الله وآياته، إذ
العلم بهما فرع علم التوحيد * (قد بينا) * دلائل التوحيد وكيفية المكالمة لأهل الإيقان
* (ولا تسئل عن أصحاب الجحيم) * أي: ولا تؤخذ باحتجابهم وما عليك أن تنقذهم
من ظلمات حجبهم، إنما عليك أن تدعوهم بالبشارة والإنذار. * (قل إن هدى الله هو الهدى) * أي: طريق الوحدة المخصوصة بالحق هو الطريق لا غير. كما قال علي عليه
السلام: ((اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة)). * (ولئن اتبعت
72

أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم) * أي: من علم التوحيد والمعرفة * (ما لك من الله
من ولي ولا نصير) * لامتناع وجود غيره.
* (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * أي: بمراتب الروحانيات، كالقلب والسر
والروح والخفاء والوحدة والأحوال والمقامات، التي يعبر بها على تلك المراتب
كالتسليم والتوكل والرضا وعلومها * (فأتمهن) * بالسلوك إلى الله وفي الله حتى الفناء
* (قال إني جاعلك للناس إماما) * بالبقاء بعد الفناء، والرجوع إلى الخلق من الحق
تؤمهم وتهديهم سلوك سبيلي ويقتدون بك فيهتدون. * (قال ومن ذريتي) * أي: واجعل
بعض ذريتي أيضا إماما * (قال) * قد يكون منهم ظالمون * (ولا ينال عهدي) * إياهم،
أي: لا يكونون خلفائي ولا أعهد إلى الظالمين بالإمامة.
[آية 125]
* (وإذ جعلنا البيت) * (القلب) * (مثابة) * أي: مرجعا ومبوأ * (للناس وأمنا) * ومحل
أمن أو سبب أمن وسلامة لهم يأمنون بالوصول إليه والسكون فيه شر غوائل صفات
النفس وفتك فتاك القوى الطبيعية وإفسادها، وتخييل شياطين الوهم والخيال، وإغوائهم
ومكائدهم * (واتخذوا من مقام إبراهيم) * الذي هو ومقام الروح مقام الخلة * (مصلى) *
موطنا للصلاة الحقيقية التي هي المشاهدة والمواصلة الإلهية والخلة الذوقية * (وعهدنا
إلى إبراهيم وإسماعيل) * أمرناهما بتطهير بيت القلب من قاذورات أحاديث النفس،
ونجاسات وساوس الشيطان، وأرجاس دواعي الهوى، وأدناس صفات القوى
* (للطائفين) * أي: للسالكين المشتاقين الذين يدورون حول القلب في سيرهم
* (والعاكفين) * الواصلين إلى مقام القلب بالتوكل الذي هو توحيد الأفعال المقيمين فيه
بلا تلوينات النفس وإزعاجها منه * (والركع) * أي: الخاضعين الذين بلغوا إلى مقام
تجلي الصفات، وكمال مرتبة الرضا والسجود الفانين في الوحدة.
[آية 126]
* (وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا) * الصدر الذي هو حرم القلب * (بلدا آمنا) * من
استيلاء صفات النفس واغتيال العدو اللعين، وتخطف جن القوى البدنية أهله * (وارزق
أهله) * من ثمرات معارف الروح أو حكمه وأنواره * (من آمن منهم بالله واليوم الآخر) *
من وحد الله منهم وعلم المعاد (قال ومن كفر) * أي: ومن احتجب أيضا من الذين
73

سكنوا الصدر ولا يجاوزون حده بالترقي إلى مقام العين لاحتجابهم بالعلم الذي وعاؤه
الصدر * (فأمتعه) * تمتيعا * (قليلا) * من المعاني العقلية، والمعلومات الكلية النازلة إليهم
من عالم الروح على قدر ما تعيشوا به * (ثم أضطره إلى عذاب) * نار الحرمان
والحجاب * (وبئس المصير) * مصيرهم، لتعذبهم بنقصانهم وتألمهم بحرمانهم.
[آية 127 - 133]
* (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) * قيل: إن الكعبة أنزلت من السماء في
زمان آدم ولها بابان إلى المشرق والمغرب، فحج آدم عليه السلام من أرض الهند
واستقبله الملائكة أربعين فرسخا فطاف بالبيت ودخله. ثم رفعت في زمان طوفان نوح
عليه السلام، ثم أنزلت مرة أخرى في زمان إبراهيم صلوات الله عليه، فزارها ورفع
قواعدها وجعل بابيها بابا واحدا. وقيل: ثم تمخض أبو قبيس فانشق عن الحجر
الأسود وكان ياقوته بيضاء من يواقيت الجنة نزل بها جبرائيل فخبئت فيه في زمان
الطوفان إلى زمن إبراهيم عليه السلام، فوضعه إبراهيم مكانه، ثم اسود بملامسة النساء
الحيض.
فنزولها في زمان آدم إشارة إلى ظهور القلب في زمانه بوجوده عليه. وكونه ذا
بابين شرقي وغربي إشارة إلى ظهور علم المبدأ والمعاد، ومعرفة عالم النور، وعالم
الظلمة في زمانه دون علم التوحيد. وقصده زيارتها من أرض الهند إشارة إلى توجهه
بالتكوين والاعتدال من عالم الطبيعية الجسمانية المظلمة إلى مقام القلب، واستقبال
الملائكة إشارة إلى تعلق القوى الحيوانية والنباتية بالبدن وظهور آثارها فيه قبل أثار
القلب في الأربعين التي تكونت فيها بنيته وتخمرت طينته أو توجهه بالسير واللسلوك من عالم النفس الظلماني إلى مقام القلب. واستقبال الملائكة تلقي القوى النفسانية
والبدنية إياه بقبول الإذعان والأخلاق الجميلة والملكات الفاضلة والتمرن فيها والتنقل
74

في المقامات قبل وصوله إلى مقام القلب. وطوافه بالبيت إشارة إلى وصوله إلى مقام
القلب وسلوكه فيه مع التلوين، ودخوله إشارة إلى تمكنه واستقامته فيه. ورفعه في
زمان الطوفان إلى السماء إشارة إلى احتجاب الناس بغلبة الهوى وطوفان الجهل في
زمان نوح عليه السلام عن مقام القلب. وبقاؤه في السماء الرابعة، أي: البيت
المعمور الذي هو قلب العالم ونزوله مرة أخرى في زمان إبراهيم عليه السلام إشارة
إلى اهتداء الناس في زمانه إلى مقام القلب بهدايته. ورفع إبراهيم قواعده وجعله ذا
باب واحد إشارة إلى تلقي القلب بسلوكه عليه السلام من مقامه إلى مقام الروح الذي
هو السر وارتفاع مراتبه ووصوله إلى مقام التوحيد، إذ هو أول من ظهر عليه التوحيد الذاتي
كما قال عليه السلام: * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض خينفا وما أما من المشركين [آية 79] [الأنعام، الآية: 79]. والحجر الأسود إشارة إلى الروح. وتمخض أبي
قبيس وانشقافه عنه إشارة إلى ظهوره بالرياضة وتحرك آلات البدن باستعمالها بالتفكر
والتبعد في طلب ظهوره، ولهذا قيل: خبئت فيه، يعني: احتجبت بالبدن. واسوداده
بملامسة النساء الحيض إشارة إلى اختفائه وتكدره بغلبة القوى النفسانية على القلب
واستيلائها عليه وتسويدها الوجه النوراني الذي يلي الروح منه. وكذا إسماعيل أيضا
كان من الموحدين لعطفه عليه في رفع قواعد البيت.
* (ربنا واجعلنا مسلمين لك) * أي: لا تكلنا إلى أنفسنا فنسلم بأنفسنا بل بك
وبجعلك * (ربنا وابعث فيهم رسولا) * هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا
دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي)) وقد رأت في المنام أن نورا خرج منها
فأضاءت لها قصور الشام.
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) * أي: ملة التوحيد * (إلا من سفه نفسه) * إلا من
احتجب عن نور العقل بالكلية وبقي في مقام ظلمة نفسه. أي: سفه نفسا على التمييز
أو في نفسه على انتزاع الخافض * (ولقد اصطفيناه) * أي: من كان من المحبوبين
المرادين بالسابقة الأزلية فاخترناه حالة الفناء في التوحيد * (وهو في الآخرة) * أي: حالة
البقاء بعد الفناء من أهل الاستقامة الصالحين لتدبير النظام وتكميل النوع * (إذ قال له
ربه أسلم) * أي: وحد وأسلم ذاتك إلى الله، يعني: جعله في الأزل من أهل الصف
الأول مسلما موحدا مذعنا لرب العالمين، فانيا فيه * (ووصى بها) * أي: بكلمة التوحيد
* (إبراهيم بنيه ويعقوب) * بنيه تأسيا * (يا بني إن الله اصطفى لكم الدين) * أي: دينه الذي
يدين به الموحد، لا دين له غيره، ولا ذات، فدينه دين الله وذاته ذات الله * (فلا
تموتن) * إلا على هذا الدين، أي: لا تموتن بالموت الطبيعي موت الجهل، بل كونوا
75

ميتين بأنفسكم، أحياء بالله أبدا، فيدرككم موت البدن على هذه الحالة.
[آية 134]
* (تلك أمة قد خلت) * أي: لا تكونوا مقلدين ولا تكتفوا بالتقليد الصرف في
الدين إذ لا اعتماد على النقل، فليس لأحد إلا ما كسب من العلم والعمل والاعتقاد
والسيرة، لا يجازى أحد بمعتقد غيره ولا بعمله، فكونوا على بصائركم واطلبوا اليقين
واعملوا عليه.
[آية 135 - 141]
* (وقالوا كونوا هودا أو نصارى) * كل محجوب بدينه يزعم أن الحق دينه لا غير
* (قل بل ملة إبراهيم) * فإن الهدى المطلق هو التوحيد الذي يشمل كل دين، ويرفع كل
حجاب كما ذكر بعده في قوله * (قولوا آمنا بالله) * إلى آخره * (لا نفرق بين أحد منهم) *
ينفي دين البعض وإبطال ملته وإثبات الآخر وحقيته، بل نقول باجتماعهم على الحق
واتفاقهم على التوحيد، ونقبل جميع أديانهم بالتوحيد الشامل لكلها * (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به) * من التوحيد الجامع من كل دين ومذهب * (فقد اهتدوا) * الاهتداء المطلق،
أي: كل الاهتداء * (وإن تولوا فإنما هم) * في طرف من الدين وشق من الهداية
يشاقونكم فيه.
* (صبغة الله) * أي: آمنا بالله وصبغنا الله صبغة، فإن كل ذي اعتقاد ومذهب باطنه
مصبوغ بصبغ اعتقاده ودينه ومذهبه. فالمتعبدون بالملل المتفرقة مصبوغون بصبغ
نيتهم، والمتمذهبون بصبغ إمامهم وقائدهم، والحكماء بصبغ عقولهم، وأهل الأهواء
والبدع المتفرقة بصبغ أهوائهم ونفوسهم، والموحدون بصبغة الله خاصة التي لا صبغ
أحسن منها ولا صبغ بعدها. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى خلق الخلق في
76

ظلمة ثم رش عليهم من نوره، فمن أصاب من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأ ضل)).
فذلك النور هو صبغته.
[آية 142]
* (سيقول السفهاء من الناس) * سماهم سفهاء خفاف العقول، لعدم وفاء عقولهم
بإدراك حقيقة دين الإسلام وقضائها على ما عرفت بحق مذهبها ووقوفها به، ولذلك
كانت محاجتهم في الله مع اتفاقهم في التوحيد واختصاص المسلمين بالإخلاص، إذ
لو أدركوا الحق لأدركوا إخلاصهم فلم تبق محاجتهم معهم. ولو كانت عقولهم رزينة
لاستدلت بالآيات وأدركت في كل دين ومذهب حقه، وفرقت بين ذلك الدين الحق
الذي هو كالروح لذلك، وبين باطل أهله الذي اختلط به ولبسه خاصة دين الإسلام،
فإن كله حق، بل هو حق الحقوق ولذلك جعلوا أمة وسطا أي: عدلا بين الأمم،
فضلاء شهداء عليهم. * (ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) * لأنهم كانوا مقيدين
بالجهة فلم يقبلوا إلا مقيدا ولم يعرفوا التوحيد الوافي بالجهات كلها * (قل لله المشرق والمغرب) * على ما مر من التأويلين * (يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * أي: طريق
الوحدة التي تتساوى الجهات بالنسبة إليها لكون الحق المتوجه إليه لا في جهة، وكون
الجهات كلها فيه وبه وله، كما قال تعالى: * (فأينما تولوا فثم وجه الله) * [البقرة، الآية:
115].
[آية 143]
ومعنى شهادتهم على الناس وشهادة الرسول عليهم، اطلاعهم بنور التوحيد على
حقوق الأديان ومعرفتهم بحق أهل كل دين وحق، كل ذي دين من دينه وباطلهم الذي
ليس حقهم الذي هو مخترعات نفوسهم وتمنياتهم وأكاذيب أخبارهم وملفقاتهم،
ووقوفهم على حد دينهم، وإبطالهم لما عداه من الأديان، واحتجابهم وتقيدهم بظاهره
دون التعمق إلى باطنه وأصله وإلا عرفوا حقية دين الإسلام لأن طريق الحق واحد فلا
يستخفون بحق سائر الأديان وخاصة دين الإسلام الذي هو الحق الأعظم الأظهر،
والرسول مطلع على رتبة كل متدين بدينه في دينه، وحقيقته التي هو عليها من دينه،
وحجابه الذي هو به محجوب عن كمال دينه، فهو يعرف ذنوبهم وحدود إيمانهم
77

وأعمالهم وحسناتهم وسيئاتهم وإخلاصهم ونفاقهم وغير ذلك بنور الحق، وأمته
يعرفون ذلك من سائر الأمم بنوره.
* (وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم) * بالعلم التفصيلي التابع لوقوع
المعلوم لا العلم السابق في عين جميع أول الوجود فإنه معلوم له بذلك العلم قبل
وجوده، لأن العلم كله له لا علم لأحد غيره. فعلومنا التي نعلم بها الأشياء تظهر
على مظاهرنا من علمه وذلك علمه التفصيلي أي: علمه في تفاصيل الموجودات. فهو
يعلم بذلك العلم التفصيلي الظاهر في مظاهرنا الأشياء بعد وجودها، كما يعلمها بالعلم
الأول الذي هو في عين الجمع قبل وجودها.
* (من يتبع الرسول) * في توحيده * (ممن ينقلب على عقبيه) * لاحتجابه بالتقييد
بالدين * (وإن كانت لكبيرة) * أي: أنه كانت التحويلة لكبيرة لشاقة ثقيلة * (إلا على الذين) * هداهم الله إلى التوحيد ونجاهم عن الاحتجاب بالتقييد * (وما كان الله
ليضيع إيمانكم) * أي: صلاتكم إلى بيت المقدس لكونها لله، وإذا كانت له فحيثما توجهتم
قبلها. ولعمري إنها إنما شقت على طائفتين: المحجوبين بالحق عن الخلق،
والمحجوبين بالخلق عن الحق. فإن الأولى عرفت أن التحويلة الأولى التي كانت من
الكعبة إلى بيت المقدس هي صورة العروج من مقام القلب والسر، أي: المكاشفة
والمكالمة إلى مقام الروح والخفاء، أي: المشاهدة والمعاينة فحسبوا التحويلة الثانية
التي كانت صورة الرجوع إلى مقام القلب حالة الاستقامة والتمكين للدعوة والنبوة
ومشاهدة الجمع في عين التفصيل، والتفصيل في عين الجمع، حيث لا احتجاب عن
الخلق بالحق، ولا عن الحق بالخلق، هو النزول بعد العروج، والبعد بعد القرب.
وظنوا ضياع السعي إلى المقام الأشرف وحصول الهجر بعد الوصول، والسقوط عن
الرتبة، فشق عليهم ذلك. وأما الطائفة الثانية فتقيدوا بصورة نسكهم وعملهم وما عرفوا
حكمة التحويلة، فظنوا صحة العبادة الثانية دون الأولى، فشق عليهم ضياعها وبطلانها
الذي توهموه فهدينا إلى خلاف ما توهموه بما فهم من الآية. * (إن الله بالناس لرؤوف) * يرؤف بهم بشرح الصدر، ورفع الحجاب حال البقاء بعد الفناء للأولى،
وبقبول ما عملت الثانية بصدقهم، وإن لم يعلموا ما يفعلون * (رحيم) * يرحمهم
بالوجود الحقاني للأولى وثواب الأعمال والهداية إلى الحقيقة للثانية، وتوفيقهم للترقي
من حالهم ومقامهم إلى مقام اليقين.
78

[آية 144]
* (قد نرى نقلب وجهك) * في جهة سماء الروح في مقام الجمع عند الاستغراق
في الوحدة والاحتجاب بالحق عن الخلق يؤدك وزر النبوة ومقام الدعوة، لعدم التفاتك
إلى الكثرة، ويعسر عليك الرجوع إلى الحق في أول حال البقاء بعد الفناء قبل التمكن
لقوة توجهك إلى الحق * (فلنولينك قبلة ترضاها) * فلنجعلن وجهك يلي قبلة القلب
بانشراح الصدر، كما قال تعالى: * (ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) * [الشرح، الآيات: 1 - 3] فإنها قبلة ترضاها لوجود الجمع هناك
في صورة التفصيل وعدم احتجاب الوحدة بالكثرة، فترضى تلك القبلة بدعوة الخلق
إلى الحق مع بقاء شهود الوحدة * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * جانب الصدر
المشروح المحرم من وصول صفات النفس، ودواعي الهوى والشيطان * (وحيث ما كنتم) * أيها المؤمنون والمحققون، سواء كنتم في جهة مشرق الروح ومغرب النفس
* (فولوا وجوهكم) * جانبه ليتيسر عليكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأولى،
أي: الجهة الشرقية. والترقي عن حالكم ومقامكم، والتوقي عن احتجابكم بدواعي
الهوى والشيطان في الثانية. * (وإن الذين أوتوا الكتاب) * أي: التوراة والإنجيل وكتاب
العقل الفرقاني، أي: العقل المستفاد * (ليعلمون أنه الحق من ربهم) * لاهتدائهم بما في
الكتاب من توحيد الأفعال، والصفات، والدلالة على التوحيد المحمدي الذاتي إليه،
أو بنور العقل المنور بالنور الشرعي لا المحجوب بالقياس الفكري.
[آية 145]
* (ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية) * دالة على صحة نبوتك وحقية قبلتك
ولو من كتابهم، أو ما كانت عقلية قطعية * (ما تبعوا قبلتك) * لاحتجابهم بدينهم
ومعقولهم وتقيدهم به * (وما أنت بتابع قبلتهم) * لعلوك عن رتبة دينهم وترقيك عن
مقامهم * (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) * لاحتجاب كل بدينه وتضاد وجههم الناشئ من
التضاد المركوز في طباعهم * (ولئن اتبعت أهواءهم) * المتفرقة * (من بعد ما جاءك من) *
علم التوحيد الجامع إياك * (إنك إذا لمن) * الناقصين حقك وحق مقامك.
[آية 146 - 148]
79

* (الذين آتيناهم الكتاب) * إيتاء فهم ودراية * (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * أي:
كالمحسوس المشاهد، القريب الدائم الإحساس لقربهم منه بالحقيقة، وتوسمهم إياه
بالدلائل الواضحة * (ولكل وجهة هو موليها) * أي: ولكل أحد منكم غاية وكمال
بحسب استعداده الأول، الله موجه وجهه إليها أو هو نفسه موجه نفسه إليها ويتوجه
نحوها بمقتضى هويته واستعداده بإذن الله * (فاستبقوا الخيرات) * الأمور المقربة إياكم
من كمالكم وغايتكم التي خلقتم لأجلها وندبتم إليها * (أينما تكونوا) * من مقام وحال
دونها أو تخالفها لكونها في مقابلها * (يأت بكم الله جميعا) * إلى تلك الغاية قريبا أو
بعيدا بحسب اقتضاء المقربات واستباقها * (إن الله على كل شيء قدير) *
[آية 149 - 150]
* (ومن حيث خرجت) * من طرق حواسك وميلك إلى حظوظك والاهتمام
بمصالحك ومصالح المؤمنين * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * أي: فكن حاضرا
للحق في قلبك، مواجها صدرك، تشاهد مشاهد فيه، مراعيا جانبه لتكون في الأشياء
بالله لا بالنفس * (وحيث ما كنتم) * أيها المؤمنون * (فولوا وجوهكم) * جانب الصدر،
تشاهدون مشاهدكم فيه، مراعين له غير معرضين عنه في حال * (لئلا يكون للناس عليكم حجة) * سلطنة بوقوعهم في أعينكم واعتباركم إياهم عند غيبتكم عن الحق،
وترفعهم عليكم، أو غلبة بالقول أو الفعل في مقاصدكم ومطالبكم لكونكم بالحق فيها حينئذ، بل يخضعون) * وينقادون لكم، فإن حزب الله هم الغالبون * (إلا الذين ظلموا
منهم) * أي: الكفار المردودين الذين احتجبوا عن الحق مطلقا، فإنهم يرتفعون عليكم
ولا يخضعون، ولا ينقادون لعدم انفعالهم عن الحق مطلقا. وسمى شبهتهم التي
يسوقونها مساق الحجة، واعتراضهم على المسلمين قولا وفعلا، وترفهم عليهم في
أنفسهم حجة مجازا. وقرئ إلا للتنبيه واستؤنف الذين ظلموا * (فلا تخشوهم) * لأنهم
لا يغلبونكم ولا يضرونكم * (واخشوني) * كونوا على هيبة من تجلي عظمتي لئلا يقعوا
في قلوبكم وأعينكم ولا يميلوا صدوركم فتميلوا إلى موافقتهم إجلالا لهم وتعظيما
لكونكم في الغيبة وبالنفس، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ((عظم الخالق عندك
80

يصغر المخلوق في عينك)). ولإتمامي نعمة الكمال عليكم ولإرادتي اهتداؤكم أمرتكم
بدوام الحضور والمراقبة.
[آية 151 - 154]
* (كما أرسلنا) * أي: كما ذكرتم بإرسال رسول * (فيكم) * من جنسكم ليمكنكم
التلقي والتعلم، وقبول الهداية منه لجنسية النفس ورابطة البشرية * (فاذكروني) * بالإجابة
والطاعة والإرادة * (أذكركم) * بالمزيد والتوالي للسلوك وإفاضة نور اليقين * (واشكروا لي) * على نعمة الإرسال والهداية بسلوك صراطي على قدم المحبة أزدكم عرفاني
ومحبتي * (ولا تكفرون) * بالفترة والاحتجاب بنعمة الدين عن المنعم، فإنه كفران بل
كفر.
* (يا أيها الذين آمنوا) * الإيمان العياني * (استعينوا بالصبر) * معي عند سطوات
تجليات عظمتي وكبريائي * (والصلاة) * أي: الشهود الحقيقي بي * (إن الله مع الصابرين) * المطيقين لتجليات أنواره.
* (ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله) * أي: يجعل فانيا مقتولة نفسه في سلوك
سبيل التوحيد ميتا عن هواه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موتوا قبل أن تموتوا)). هم
* (أموات) * أي: عجزة مساكين * (بل) * هم * (أحياء) * عند ربهم بالحياة الحقيقية، وحياة
الله الدائمة السرمدية، شهداء الله بالحضور الذاتي، قادرون به * (ولكن لا تشعرون) *
لعمى بصيرتكم وحرمانكم عن النور الذي تبصر به القلوب أعيان عالم القدوس
وحقائق الأرواح.
[آية 155]
* (ولنبلونكم بشيء من الخوف) * أي: خوفي الموجب لانكسار النفس وانهزامها
* (والجوع) * الموجب لنهك البدن، وضعف قواه، ورفع حجاب الهوى، وسد طريق
الشيطان إلى القلب * (ونقص من الأموال) * التي هي مواد الشهوات المقوية للنفس
الزائدة في طغيانها * (والأنفس) * المستولية على القلب بصفاتها، والمستغنية بذاتها،
ليزيد بنقصها القلب ويقوى، أو أنفس الأقرباء والأصدقاء الذين تأوون إليهم
81

وتستظهرون بهم لتنقطعوا إلي وتبتلوا * (والثمرات) * أي: الملاذ والمتمتعات النفسانية
لتلتذوا بالمكاشفات والمعارف القلبية، والمشاهدات الروحية عند صفاء بواطنكم
بالانقطاع منها وخلوص بصائر قلوبكم بنار الرياضة والبلاء والعزلة من غش صفات
نفوسكم.
* (وبشر الصابرين) * يعني: الصابرين عن مألوفاتهم بلذة محبتي وقوة إرادتي.
[آية 156 - 158]
* (الذين إذا أصابتهم مصيبة) * من تصرفاتي فيهم دائما شاهدوا آثار قدرتي، بل
أنوار تجليات صفتي و * (قالوا إنا لله) * أي: سلموا وأيقنوا أنهم ملكي، أتصرف فيه
* (وإنا إليه راجعون) * أي: تفانوا في، وشاهدوا تهلكهم في بي * (أولئك عليهم صلوات من ربهم) * بالوجود الموهوب لهم بعد الفناء الموصوف بصفاتي المنور بأنواري
* (ورحمة) * ونور وهداية يهدون بها الخلق إلي * (وأولئك هم المهتدون) * بهداي كما
ورد في الدعاء: ((واجعلنا هادين مهديين غير ضالين ولا مضلين)).
* (إن الصفا والمروة) * أي: إن صفاء وجود القلب ومروة وجود النفس * (من شعائر الله) * من أعلام دينه ومناسكه القلبية كاليقين، والرضا، والإخلاص، والتوكل،
والقالبية، كالصلاة والصيام وسائر العبادات البدنية * (فمن حج البيت) * أي: بلغ مقام
الوحدة الذاتية ودخل الحضرة الإلهية بالفناء الذاتي الكلي * (أو اعتمر) * نار الحضرة
بتوحيد الصفات والفناء في أنوار تجليات الجمال والجلال * (فلا جناح عليه) * حينئذ في
* (أن يطوف بهما) * أي: يرجع إلى مقامهما، ويتردد بينهما، لا بوجودهما التكويني،
فإنه جناح، وذنب، بل بالوجود الموهوب بعد الفناء عند التمكين ولهذا نفي الحرج،
فإن في هذا الوجود سعة بخلاف الأول * (ومن تطوع خيرا) * أي: ومن تبرع خيرا من
باب التعاليم وشفقة الخلق والنصيحة ومحبة أهل الخير والصلاح بوجود القلب، ومن
باب الأخلاق، وطرق البر والتقوى، ومعاونة الضعفاء والمساكين، وتحصيل الرفق لهم
ولعياله بوجود النفس بعد كمال السلوك والبقاء بعد الفناء * (فإن الله شاكر) * يشكر عمله
بثواب المزيد * (عليم) * بأنه من باب التصرف في الأشياء بالله لا من باب التكوين
والابتلاء والفترة.
[آية 159 - 160]
82

* (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى) * أي: يكتمون ما أفضنا عليهم
من بينات أنوار المعارف وعلوم تجليات الأفعال والصفات، وهدى الأحوال والمقامات
أو الهداية إلى التوحيد الذاتي بطريق علم اليقين، فإن العياني لا ينكتم بالتلوينات
النفسية أو القلبية الحاجبة للمكاشفات القلبية والمسامرات السرية والمشاهدات الروحية
* (من بعد ما بيناه للناس) * في كتاب عقولهم المنورة بنور المتابعة المدركة لآثار أنوار
القلوب والأرواح ببركة الصحبة * (أولئك يلعنهم الله) * يردهم ويطردهم * (ويلعنهم اللاعنون) * من الملأ الأعلى بخذلانهم وترك إمدادهم من عالم الأبد والنور، ومن
المستعدين المشتاقين الذين كانوا قد استأنوا بنور قلوبهم واستفاضوا منهم النور بقوة
صدقهم، واستراحوا إلى صحبتهم وملازمتهم يتبركون بهم وبأنفاسهم عند استشراق
لمعان أحوالهم بالهجران والانقطاع عن صحبتهم والصد والإعراض عنهم لفقدانهم
ذلك واستشعارهم بتكدر صفائهم * (إلا الذين تابوا) * أي: رجعوا عن ذنوب أحوالهم
وعلموا أن ذلك كان ابتلاء من الله * (وأصلحوا) * أحوالهم بالإنابة والرياضة * (وبينوا) *
أي: كشفوا وأظهروا بصدق المعاملة مع الله والإخلاص ما احتجب عنهم * (فأولئك) *
أتقبل توبتهم وألقي التوبة عليهم * (وأنا التواب الرحيم).
[آية 161]
* (إن الذين كفروا) * حجبوا عن الدين أو الحق * (وماتوا وهم كفار) * أي: بقوا
على احتجابهم حتى زال استعدادهم وانطفأ نور فطرتهم بدين الحجاب، وانقطعوا عن
الأسباب التي يمكن بها رفع حجاب الموت * (أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين) * أي: استحقوا البعد والحرمان والطرد الكلي عن الحق وعن عالم الملكوت
وعن الفطرة الإنسانية المعبر عنه بالطمس.
[آية 162 - 164]
* (خالدين فيها) * لطموس استعدادهم وانطفاء نور فطرتهم * (لا يخفف عنهم
العذاب) * لرسوخ هيئاتهم المعذبة في جواهر نفوسهم * (ولا هم ينظرون) * للزوم تلك
83

الهيئات المظلمة إياهم * (وإلهكم إله واحد) * ومعبودكم الذي خصصتموه بالعبادة أيها
الموحدون معبود واحد بالذات، واحد مطلق لا شيء في الوجود غيره، ولا موجود
سواه فيعبد، فكيف يمكنكم الشرك به وغيره لعدم البحث فلا شرك إلا للجهل به.
* (الرحمن) * الشامل الرحمة لكل موجود * (الرحيم) * الذي يخص رحمة هدايته
بالمؤمنين الموحدين وهي أول آية نزلت في التوحيد بحسب الرتبة، أي: أقدم توحيد
من جهة الحق لا من جهتنا. فإن أول التوحيد من طرفنا توحيد الأفعال وهذا هو، توحيد الذات ولما بعد هذا التوحيد عن مبالغ أفهام الناس تنزل إلى مقام توحيد
الأفعال ليستدل به عليه فقال:
* (إن في خلق السماوات والأرض) * إلى آخره، أي: أن في إيجاد سماوات
الأرواح والقلوب والعقول وأرض النفوس * (واختلاف) * النور والظلمة بينهما وفلك
البدن التي تجري في بحر الجسم المطلق * (بما ينفع الناس) * في كسب كمالاتهم * (وما أنزل الله من السماء) * أي: الروح من ماء العلم * (فأحيا به) * أرض النفس بعد موتها
بالجهل * (وبث فيها من كل دابة) * القوى الحيوانية الحية بحياة القلب * (وتصريف) *
عصوف زيادة الأفعال الحقانية، وسحاب تجلي الصفات الربانية المسخر المهيأ بين
سماء الروح وأرض النفس * (لآيات) * لدلائل * (لقوم يعقلون) * بالعقل المنور بنور
الشرع، المجرد عن شوب الوهم.
[آية 165]
* (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) * أي: من يعبد من
دون الله أشياء إما أناسي من جنسهم كالأزواج، والأولاد، والآباء، والأجداد،
والإخوان، والأحباب، والرؤساء، والملوك، وغيرهم. وإما غير أناسي كالحيوانات،
والجمادات، وسائر أموالهم، بالإقبال عليهم والتوجه نحوهم، ومراعاتهم، وحفظهم،
والاهتمام بهم وبحالهم، والتفكر في بابهم، يحبونهم كحب الله، أي: كما يجب أن
يحب الله، فتكون تلك الأشياء عندهم مساوية في المحبة مع الله فتكون أندادا أو
شركاء لله بالنسبة إليهم، أو تكون هي محبوباتهم ومعبوداتهم لا غير، فهي آلهتهم كما
أن الله إله الخلق فهم جعلوا لأنفسهم آلهة أندادا لإله سائر الخلق، إله العالمين.
* (والذين آمنوا أشد حبا لله) * من غيره لأنهم لا يحبون إلا الله، لا يختلط حبهم
له بحب غيره ولا يتغير، ويحبون الأشياء بمحبة الله ولله، وبقدر ما يجدون فيها من
الجهة الإلهية كما قال بعضهم: ((الحق حبيبنا، والخلق حبيبنا وإذا اختلفا فالحق أحب
84

إلينا)) أي: إذا لم تبق جهة الإلهية فيهم بمخالفتهم إياه لم تبق محبئنا لهم، أو أشد حبا
من محبتهم لآلهتهم لأنهم يحبون الأشياء بأنفسهم لأنفسهم، فلا جرم تتغير مجبتهم
بتغيير إعراض النفوس أنفسهم عند خوف الهلاك ومضرة النفس عليهم والمؤمنون
يحبون الله بأرواحهم وقلوبهم، بل بالله لله، لا تتغير محبتهم لكونها لا لغرض،
ويبذلون أرواحهم وأنفسهم لوجهه ورضاه، ويتركون جميع مراداتهم لمراده ويحبون
أفعاله وإن كانت بخلاف هواهم، كما قال أحدهم.
* أريد وصاله ويريد هجري
* فأترك ما أريد لما يريد
*
* (ولو يرى الذين ظلموا) * أي: أشركوا بمحبة الإنذار في وقت رؤيتهم عذاب
الاحتجاب بآلهتهم * (أن القوة الله) * أي: القدرة كلها لله ليس لآلهتهم شيء منها، وشدة
عذاب الله بقرنهم بآلهتهم في نار الحرمان بالسلاسل النارية المستفاد من محبتهم إياها،
لكان ما لا يدخل تحت الوصف ولهذا المعنى حذف جواب لو.
[166 - 168]
* (إذ تبرأ) * بدل من: إذ يرون العذاب، أي: وقت رؤيتهم العذاب هو وقت
تبرئ المتبوعين من التابعين مع لزوم كل منهما الآخر بمقتضى المحبة التي كانت
بينهم لتعذب كل منهم بالآخر وتقيده واحتجابه به عن كمالاته ولذاته وانقطاع الأسباب
والوصل الموجبة للفوائد والتمتعات التي كانت بينهم في الدنيا من القرابة، والرحم، والإلفة، والعهد، وسائر المواصلات الدنيوية الجالبة للنفع واللذة، فإنها تنقطع كلها
بانقطاع لوازمها وموجباتها دون المواصلات الخيرية والمحبات الإلهية المبنية على
المناسبة الروحية والتعارف الأزلي، فإنها تبقى ببقاء الروح أبدا وتزيد في الآخرة بعد
رفع الحجب البدنية لاقتضائها محبة الله المفيدة في الآخرة، كما قال تعالى: ((وجبت
محبتي للمتحابين في)). والواو في * (ورأوا العذاب) * واو الحال، أي: تبرؤوا عنهم في
حال رؤيتهم العذاب وتقطع الوصل بينهم، يعني: حال ظهور شر المقارنة وتبعتها،
ونفاد خيرها وفائدتها، كحال سفاح الكلاب مثلا * (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة) *
أي: ليت لنا كرة * (كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم) * أي: تنقلب محباتهم
وما يبنى عليها من الأعمال حسرات عليهم، وكذا يكون حال القوى الروحانية
85

المصادقة للقوى النفسانية التابعة لها، المسخرة إياها في تحصيل لذاتها.
* (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض) * أي: تناولوا من اللذات والتمتعات التي
في الجهة السفلية من عالم النفس والبدن على وجه يحل ويطيب، أي: على قانون
العدالة بإذن الشرع واستصواب العقل بقدر الاحتياج والضرورة، ولا تخطو حد
الاعتدال الذي به تطيب وتنفع إلى حدود الإسراف، فإنها خطوات الشيطان. ولهذا
قال تعالى: * (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) * [الإسراء، الآية: 27] فإنه عدو لكم.
بين العداوة يريد أن يهلككم ويبغضكم إلى ربكم بارتكاب الإسرافات المذمومة فإنه لا
يحب المسرفين. واعلم أن العداوة في عالم النفس هي ظل الإلفة في عالم القلب،
والاعتدال ظلها في عالم البدن، والإلفة ظل المحبة في عالم الروح وهي ظل الوحدة
الحقيقية. فالاعتدال هو الظل الرابع للوحدة والشيطان يفر من ظل الحق ولا يطيقه
فيخطوا أبدا في مجال تلك الظلال إلى جوانب الإسرافات وحيث يعجز فإلى جوانب
التفريطات كما في المحبة والإلفة، ولهذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: ((لا
ترى الجاهل إلا مفرطا أو مفرطا))، فإن الجاهل سخرة الشيطان.
[آية 169 - 172]
* (إنما يأمركم بالسوء) * الإضرار والأذى الذي هو إفراط القوى الغضبية
* (والفحشاء) * أي: القبائح التي هي إفراط القوة الشهوانية * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * الذي هو إفراط القوة النطقية لشوب العقل بالوهم الذي هو الشيطان المسخر
له * (إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) * من مراعاة حد الاعتدال والعدالة في كل شيء
على الوجه المأمور به في الشرع * (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) * من الإسرافات
المذمومة في الجاهلية تقليدا لهم أتتبعونهم * (ولو أن آباؤهم لا يعقلون شيئا) * من
الدين والعلم * (ولا يهتدون) * إلى الصواب في العلم لجهلهم.
* (ومثل الذين كفروا) * أي: مثل داعي الكفار المردودين * (كمثل) * الناعق بالبهائم
فإنها لا تسمع إلا صوتا ولا تفهم ما معناه فكذا حالهم * (يا أيها الذين آمنوا) * إن كنتم
موحدين تخصون العبادة بالله فلا تتناولوا إلا من طيبات ما رزقناكم، أي: ما ينبغي في
86

العدالة أن يستعمل من المرزوقات * (واشكروا لله) * باستعمالها فيما يجب أن تستعمل
على الوجه الذي ينبغي أن تستعمل بالقدر الذي ينبغي، فإن التوحيد يقتضي مراعاة
الاعتدال والعدالة في كل شيء اقتضاء الذات ظلها ولازمها عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله
تعالى: ((إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر
غيري)).
[آية 173 - 177]
* (إنما حرم عليكم الميتة) * لجمود الدم فيها، وبعدها عن الاعتدال بانحراف
المزاج * (والدم) * لاختلاطه بالفضلات النجسة البعيدة عن قبول الحياة والعدالة والنورية
وعدم صلاحيته لذلك بعد لقصور النضج * (ولحم الخنزير) * لغلبة السبعية والشره
ومباشرة القاذورات والدياثة على طبعه فيولد في أكله مثل ذلك * (وما أهل به لغير الله) *
أي: رفع الصوت بذبحه لغير الله يعني ما قصد بذبحه وأكله الشرك لمنافاته التوحيد
سفيرا عن الشرك. ويفهم منه ما يقوى آكله به على الكلام ورفع الصوت لغير الله أي:
كل ما يؤكل لا على التوحيد فهو محرم على آكله * (فمن اضطر) * أي: من الجماعة
* (غير باغ) * على مضطر آخر باستئثاره * (ولا عاد) * سد الرمق * (فلا إثم عليه) *. * (ما يأكلون في بطونهم) * أي: ملء بطونهم إلا ما هو وقود نار الحرمان وسبب اشتعال
نيران الطبيعة الحاجبة عن نور الحق المعذبة بهيئات السوء المظلمة الموقعة صاحبها في
جحيم الهيولى الجسمانية * (ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم) * عبارة عن شدة غضبه
عليهم وبعدهم عنه.
* (ليس البر أن تولوا وجوهكم) * مشرق عالم الأرواح ومغرب عالم الأجساد،
فإنه تقيد واحتجاب * (ولكن البر) * بر الموحدين الذين آمنوا بالله والمعاد في مقام
87

الجمع، إذ التوحيد في مقام الجمع يلزمه البقاء الأبدي الذي هو المعاد الحقيقي،
وشاهدوا الجمع في تفاصيل الكثرة ولم يحتجبوا بالجمع عن التفصيل الذي هو باطن
عالم الملائكة وظاهر عالم النبيين. * (والكتاب) * الذي جمع بين الظاهر بالأحكام
والمعارف، وأفاد علم الاستقامة ثم استقاموا بعد تمام التوحيد جمعا وتفصيلا بالأعمال
المذكورة، فإن الاستقامة عبارة عن وقوف جميع القوى على حدودها بالأمر الإلهي
لتنورها بنور الروح عند تحقق صاحبها بالله في مقام البقاء بعد الفناء وذلك مقام
العدالة، فتكون هي في ظل الحق منخرطة في سلك الوحدة بكليتها. * (على حبه) *
أي: في حال الاحتياج إليه والشح به، كما قال ابن مسعود: أن تؤتيه وأنت صحيح
شحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت
لفلان: كذا، ولفلان: كذا. قال الله تعالى * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * [الحشر، الآية: 59] أو على حب الله لئلا يشغل قلبه عنه ولأنه تعالى يرضى
بإيتائه أو على حب الإيتاء، يعني: بطيب النفس، فإن الكريم هو الفرح وطيب النفس
بالإعطاء. ومن قوله: * (وآتى المال) * إلى قوله: * (وآتى الزكاة) * من باب العفة التي
هي كمال القوة الشهوانية ووقوفها على حدها فيما يتعلق بها، وقوله: * (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) * من باب العدالة المستلزمة للحكمة التي هي كمال القوة النطقية
فإنها ما لم تعلم تبعه الغدر والخيانة وفائدة الفضيلة المقابلة لهما، لم تف بالعهد.
وقوله: * (والصابرين في البأساء) * أي: الشدة والفقر * (والضراء) * أي: المرض والزمانة
* (وحين البأس) * أي: الحرب من باب الشجاعة التي هي كمال القوة الغضبية
* (أولئك) * الموصوفون بهذه الفضائل كلها، الثابتون في مقام الاستقامة * (الذين صدقوا) * الله في مواطن التجريد بأفعالهم التي هي البر كله * (وأولئك هو المتقون) * عن
محبة غير الله حتى النفس، المجردون عن غواشي النشأة والطبيعة.
ويمكن أن يؤول المال بالعلم الذي هو مال القلب، لأنه يقوى به ويستغنى،
أي: أعطي العلم مع كونه محبوبا ذوي قربى القوى الروحانية لقربها منه، ويتامى
القوى النفسانية لانقطاعها عن نور الروح الذي هو الأب الحقيقي ومساكين القوى
الطبيعية لكونها دائمة السكون لثواب البدن وعلمها علم الأخلاق والسياسات الفاضلة.
ثم إذا ارتوى من العلم، علم المعارف والأخلاق والآداب والمعايش جملة وتفصيلا
وفرغ من نفسه، أفاض على أبناء السبيل، أي: السالكين والسائلين، أي: طلبة العلم
وفي فك رقاب عبدة الدنيا والشهوات من أسرهم بالوعظ والخطابة وأقام صلاة
الحضور، أي: أدامها بالمشاهدة، وآتى ما يزكي نفسه عن النظر إلى الغير، والتفاتات
88

الخواطر بالنفي، ومحو الصفات، والموفون بعهد الأزل بملازمة التوحيد وإفناء الذات
والآتية، والصابرين في بأساء الافتقار إلى الله دائما، وضراء كسر النفس وقمع الهوى،
وحين بأس محاربة الشيطان، أولئك الذين صدقوا الله في الوفاء بعهده وعزيمة السلوك
وعقده، وأولئك هم المتقون عن الشرك، المنزهون عن البقية.
[آية 178 - 184]
القصاص قانون من قوانين العدالة، فرض لإزالة عدوان القوة السبعية، وهو ظل
من ظلال عدله تعالى فإنه إذا تصرف في عبده بإفنائه فيه عوضه عن حر روحه روحا
موهوما خيرا منه، وعن عبد قلبه قلبا موهوبا. وعن أنثى نفسه نفسا موهوبة كاملة.
* (ولكم) * في مقاصة الله إياكم بما ذكر * (حياة) * عظمية، أي: حياة لا يوصف كنهها
* (يا أولي الألباب) * أي: العقول الخالصة عن قشر الأوهام وغواشي العينيات
والأجرام. فكذا في هذا القصاص - لكي تتقوا تركه وتحافظوا عليه - الوصية
والمحافظة عليها قانون آخر فرض لإزالة نقصان القوة الملكية، أي: القوى النطقية
وقصورها عما يقتضي الحكمة من التصرف في الأموال، والسلطنة على القوتين
الأخريين بنور الحق وحكم الشرع، ومنعها عن عدوانها أيضا بتبديل الوصية الذي هو
نوع من الجريمة والخيانة، وتحريضها على التحقيق والتدقيق في باب الحكمة التي هي
كمالها بالإصلاح بين الموصى لهم على مقتضى الحكمة، إذا توقع وعلم من الموصي
إضرارا بالسهو والعمد - الصيام قانون آخر مما فرض لإزالة عدوان القوة البهيمية
وتسلطها - وأعلم أن قصاص أهل الحقيقة ما ذكر، ووصيتهم هي بالمحافظة على عهد
الأزل بترك ما سوى الحق، كما قال تعالى: * (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب) * [البقرة، الآية:
132]. وصيامهم هو الإمساك عن كل قول وفعل وحركة وسكون ليس بالحق للحق.
89

[آية 185 - 187]
* (شهر رمضان) * أي: احتراق النفس بنور الحق * (الذي أنزل فيه) * في ذلك
الوقت * (القرآن) * أي: العلم الجامع الإجمالي، المسمى بالعقل القرآني الموصل إلى
مقام الجمع - هداية للناس إلى الوحدة باعتبار الجمع * (وبينات من الهدى) * ودلائل
متصلة من الجمع والفرق، أي: العلم التفصيلي المسمى بالعقل الفرقاني - فمن حضر
منكم في ذلك الوقت، أي: بلغ مقام شهود الذات * (فليصمه) * أي: فليمسك عن قول
وفعل وحركة ليس بالحق فيه * (ومن كان مريضا) * أي: مبتلى بأمراض قلبه من
الحجب النفسانية المانعة من ذلك الشهود * (أو على سفر) * أي: في سلوك بعد ولم
يصل إلى الشهود الذاتي، فعليه مراتب أخر يقطعها حتى يصل إلى ذلك المقام * (يريد الله بكم اليسر) * بالوصول إلى مقام التوحيد والامتداد بقدرة الله * (ولا يريد بكم العسر) * أي: تكلف الأفعال بالنفس الضعيفة العاجزة * (ولتكملوا العدة) * ولتتمموا تلك
المراتب والأحوال والمقامات الموصلة. ولتعظموا الله وتعرفوا عظمته وكبرياءه على
هدايته إياكم إلى مقام الجمع * (ولعلكم تشكرون) * بالاستقامة أمركم بذلك.
* (وإذا سألك عبادي) * السالكون الطالبون المتوجهون إلي، عن معرفتي * (فإني قريب) * ظاهر * (أجيب دعوة) * من يدعوني بلسان الحال والاستعداد بإعطائه ما اقتضى
حاله واستعداده * (فليستجيبوا لي) * بتصفية الاستعداد بالزهد والعبادة، فإني أدعوهم إلى
نفسي وأعلمهم كيفية السلوك إلي، وليشاهدوني عند التصفية، فإني أتجلى عليهم في
مرائي قلوبهم لكي يرشدوا بالاستقامة، أي: لكي يستقيموا ويصلحوا.
* (أحل لكم) * أي: أبيح لكم * (ليلة الصيام) * أي: في وقت الغفلة الذي يتخلل
ذلك الإمساك المذكور في زمان حضوركم * (الرفث إلى نسائكم) * التنزل إلى مقارفة
90

نفوسكم بحظوظها إذ لا مصابرة لكم عنها لكونها تلابسكم وكونكم تلابسونها بالتعلق
الضروري * (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) * باستراق الحظوظ في أزمنة تلك
السلوك والرياضة والحضور * (فتاب عليكم وعفا عنكم) * * (فالآن) * أي: في وقت
الاستقامة والتمكين حال البقاء بعد الفناء * (باشروهن) * في أوقات الغفلات * (وأبتقوا ما
كتب الله لكم) * من التقوى والتكمن بتلك الحظوظ على توفير حقوق الاستقامة والقيام
بما أمر الله به من العبودية والدعوة إليه * (وكلوا واشربوا) * أي: كونوا مع رفقها * (حتى
يتبين لكم الحبط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) * حتى تظهر عليكم بوادي
الحضور ولوامعه وتغلب آثاره وأنواره على سواد الغفلة وظلمتها، ثم كونوا على
الإمساك المذكور بالحضور مع الحق حتى يأتي زمان الغفلة، لولا ذلك لما أمكنه
القيام بمصالح معاشه ومهماته. ولا تقاربوهن في حال كونكم معتكفين مقيمين
حاضرين في مساجد قلوبكم وإلا لتشوش وقتكم بظهورها.
[آية 188 - 189]
* (ولا تأكلوا أموالكم) * معارفكم ومعلوماتكم * (بينكم) * بباطل شهوات النفس
ولذاتها بتحصيل مآربها واكتساب مقاصدها الحسية والخيالية باستعمالها * (وتدلوا بها) *
وترسلوا إلى حكام النفوس الأمارة بالسوء * (لتأكلوا فريقا من أموال) * القوى الروحانية
* (بالإثم) * أي: بالظلم لصرفكم إياها في ملاذ القوى النفسانية * (وأنتم تعلمون) * أن
ذلك إثم ووضع للشيء في غير موضعه.
* (يسئلونك عن الأهلة) * أي: عن الطوالع القلبية عند إشراق نور الروح عليها
* (قل هي مواقيت للناس) * أي: أوقات وجوب المعاملة في سبيل الله وعزيمة السلوك،
وطواف بيت القلب، والوقوف في مقام المعرفة * (وليس البر بأن تأتوا) * بيوت قلوبكم
* (من ظهورها) * من طرق حواسكم ومعلوماتكم المأخوذة من المشاعر البدنية فإن ظهر
القلب هو الجهة التي تلي البدن * (ولكن البر) * بر * (من اتقى) * شواغل الحواس
وهواجس الخيال ووساوس النفس * (وأتوا البيوت من أبوابها) * الباطنة التي تلي الروح
والحق، فإن باب القلب هو الطريق الذي انفتح منه إلى الحق * (واتقوا الله) * في
الاشتغال بما يشغلكم عنه * (لعلكم تفلحون) *.
91

[آية 190 - 194]
* (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * من الشيطان وقوى النفس الأمارة * (ولا تعتدوا) * في قتالها بأن تميتوها عن قيامها بحقوقها والوقوف على حدودها حتى تقع في
التفريط والقصور والفتور * (إن الله لا يحب المعتدين) * لكونهم خارجين عن ظل
المحبة والوحدة الذي هو العدالة.
* (واقتلوهم حيث) * وجدتموهم أزيلوا حياتهم وامنعوهم عن أفعالها بقمع هواها
الذي هو روحها حيث كانوا * (وأخرجوهم) * من مكة الصدر عند استيلائها عليها كما
أخرجوكم عنها باستنزالكم إلى بقعة النفس وإخراجكم عن مقر القلب. وفتنتهم التي
هي عبادة هواها وأصنام لذاتها أشد من قمع هواها وإماتتها الكلية، أو محنتكم
وابتلاؤكم بها عند استيلائها أشد عليكم من القتل الذي هو طمس غرائزكم ومحو
استعدادكم بالكلية لزيادة الألم هناك * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * الذي هو
مقام القلب، أي: عند الحضور القلبي إذا وافقوكم في توجهكم فإنها أعوانكم على
السلوك حينئذ * (حتى يقاتلوكم فيه) * وينازعوكم في مطالبهم ويجروكم عن جناب
القلب ودين الحق إلى مقام النفس ودينهم الذي هو عبادة العجل * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * من تنازعهم ودواعيهم وتعبدهم * (ويكون الدين لله) * بتوجه جميعها إلى
جناب القدس ومشايعتها للسر في التوجه إلى الحق، ليس للشيطان والهوى فيه نصيب
* (فإن انتهوا فلا عدوان) * عليهم إلا العادين المجاوزين عن حدودهم.
* (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * أي: وقت منعها إياكم عن مقصدكم ودينكم
وهو بعينها وقت منعكم إياها عن عقوقها حتى ترضى بالوقوف على حدودها، وشهرها
الحرام هو وقت قيامها بحقوقها، وشهركم الحرام هو وقت الحضور والمراقبة.
[آية 195 - 196]
92

[آية 196]
* (وأنفقوا في سبيل الله) * ما معكم من العلوم بالعمل بها ولا تدخروها لوقت آخر
عسى لا تدركونه فلا شيء أضر من التسويف * (ولا تلقوا بأيديكم إلى) * تهلكة التفريط
وتأخير العمل بالعلم وإنفاقه في مصالح النفس فإنه موجب للحرمان * (وأحسنوا) * أي:
وكونوا في عملكم مشاهدين * (إن الله يحب المحسنين) * المشاهدين في أعمالهم ربهم،
مخلصين له فيها.
* (وأتموا) * حج توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات بإتمام جميع المقامات
والأحوال، بالسلوك إلى الله وفي الله، * (فإن أحصرتم) * بمنع كفار النفس الأمارة إياكم
عنهما * (فما استيسر من الهدي) * فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء
كعبة القلب أو عرضة ما تمنى منها القلب من المقام. وما استيسر إشارة إلى أن
النفوس مختلفة في استعداداتها وصفاتها، فبعضها موصوف بصفات حيوان ضعيف،
وبعضها بصفات حيوان قوي. ولكل ما تيسر أو بعضها بصفات حيوان ذلول سهل
الانقياد، وبعضها بصفات حيوان صعب عسر الانقياد، وربما كان لبعضها صفة لم
يتيسر قمعها وإن تيسر قمع سائر صفاتها. ومثل هذا الحاج محصر أبدا.
* (ولا تحلقوا رؤوسكم) * ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا طيب القلب وفراغ
الخاطر من الهموم والتعلقات كلها، والعادات والعبادات وتقتصروا على صفاء الوقت
كما هو مذهب القلندرية * (حتى يبلغ) * هدي النفس * (محله) * أي: مكانه، وهو مذبحه
أو منحره الذي يقتضي أن تكون أفعالها التي كانت محرمة عند حياتها بهواها تصير
حلا عند قتلها لكونها بالقلب فتأمنوا من بقاياها، وإلا لتشوش وقتكم وتكدر صفاؤكم
بظهورها ونشاطها بالدعوى عند بسط القلب كما هو حال أكثر القلندرية اليوم.
* (فمن كان منكم مريضا) * أي: ضعيف الاستعداد مملوء القلب بعوارض لازمة
في جبلتها أو مكتسبة من العادات * (أو به أذى من رأسه) * أو ممنوعا مبتلى بهموم
وتعلقات ورذائل وهيئات، ولم يتيسر له السلوك والمجاهدة على ما ينبغي وأراد أن
يقتصر على طيب القلب وصفاء الوقت ليبقى على الفطرة ولا ينتكس وينحط عن
درجته وإن لم يترق. فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله النفسانية. أو فعل
بر أو رياضة ومجاهدة تقمع بعض القوى المزاحمة، فليحفظ وقته وليراع صفاءه بزهد
ما أو عبادة أو مخالفة نفس * (فإذا أمنتم) * من العدو المحصر * (فمن تمتع) * بذوق
تجلي الصفات متوسلا به إلى حج تجلي الذات * (فما استيسر من الهدي) * بحسب
93

حاله * (فمن لم يجد) * لضعف نفسه وخمودها وانقهارها * (فصيام ثلاثة أيام) * فعليه
الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في
الجمع والفناء في الوحدة فإنها لا بد من أن تحجب وتجر إلى حضيض النفس
والصدر، وهي العقل والوهم والمتخيلة * (وسبعة إذا رجعتم) * إلى مقام التفصيل
والكثرة وهي الحواس الخمس الظاهرة والغضب والشهوة ليكون عند الاستقامة في
الأشياء بالله * (تلك عشرة كاملة) * فذلكة، أي: تلك الإمساكات المذكورة عن أفعال
هذه القوى والمشاعر جميع التفاصيل الكاملة الموجبة لأفاعيل قوى وجوده الموهوب
بالحق عند حصول الكمال، كما قال: ((كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي
يبصر به)) إلى آخر الحديث. * (ذلك) * الحكم * (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) * من المحبوبين الكاملين الحاضري مقام القلب في الوحدة، فإنه لا هدى له
ولا مجاهدة ولا رياضة في وصوله وسلوكه إلى الله، بل هو للمحبين.
[آية 197 - 199]
* (الحج أشهر معلومات) * أي: وقت الحج أزمنة معلومة، وهو من وقت بلوغ
الحلم إلى الأربعين، كما قال تعالى في وصف البقرة: * (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) * [البقرة، الآية: 68]، * (فمن فرض فيهن الحج) * على نفسه بالعزيمة والتزم * (فلا رفث) * أي: فاحشة ظهور القوة الشهوانية * (ولا فسوق) * أي لأسباب يعني خروج القوة
الغضبية عن طاعة القلب * (ولا جدال) * أي: تعدي القوى النطقية بالشيطنة * (في الحج) *
أي: في قصد بيت القلب * (وما تفعلوا من خير) * من فضيلة من أفعال هذه القوى
الثلاث بأمر الشرع والعقل دون رذائلها * (يعلمه الله) * ويثبكم عليه * (وتزودوا) * من
فضائلها التي يلزمها الاجتناب عن رذائلها * (فإن خير الزاد التقوى) * منها * (واتقون) * في
أعمالكم ونياتكم * (يا أولي الألباب) * فإن قضية اللب أي: العقل الخالص من شوب
الوهم وقشر المادة اتقائي.
* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * أي: لا حرج عليكم عند
الرجوع إلى الكثرة في أن تطلبوا رفقا لأنفسكم وتمتعوها بحظوظها على مقتضى الشرع
94

بإذن الحق، فإن حظها حينئذ يقويها على موافقة القلب في مقاصده ولأنها غير طاغية
لتنورها بنور الحق * (فإذا أقضتم) * أي: دفعتم أنفسكم من مقام المعرفة التامة الذي هو
نهاية مناسك الحج وأمها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)). * (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * أي: شاهدوا جمال الله عند السر الروحي المسمى بالخفي، فإن الذكر في
هذا المقام هو المشاهدة، والمشعر هو محل الشعور بالجمال المحرم من أن يصل إليه
الغير * (واذكروه كما هداكم) * إلى ذكره في المراتب فإنه تعالى هدى أولا إلى الذكر
باللسان وهو ذكر النفس ثم إلى الذكر بالقلب وهو ذكر الأفعال الذي تصدر نعماء الله
آلاؤه منه. ثم ذكر السر وهو معاينة الأفعال ومكاشفة علوم تجليات الصفات. ثم ذكر
الروح وهو مشاهدة أنوار تجليات الصفات مع ملاحظة نور الذات. ثم ذكر الخفي
وهو مشاهدة جمال الذات مع بقاء الإثنينية. ثم ذكر الذات وهو الشهود الذاتي بارتفاع
البقية * (وإن كنتم من قبله) * أي: من قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها
* (لمن الضالين) * عن هذه الأذكار.
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * ثم أفيضوا إلى ظواهر العبادات والطاعات
وسائر وظائف الشرعيات والمعاملات من حيث، أي: من مقام إفاضة سائر الناس
فيها، وكونوا كأحدهم. قيل لجنيد رحمة الله عليه: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى
البداية. * (واستغفروا الله) * من ظهور النفس وتبرمها بالحال وطغيانها. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة)). وقال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم
ثبتني على دينك))، فقيل له في ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: ((أو ما يؤمنني، إن مثل القلب كمثل
ريشة في فلاة، تقلبها الرياح كيف شاءت)). ولما تورمت قدماه فقالت له عائشة رضي
الله عنها: أما غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا أكون عبدا
شكورا)). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ((أعوذ بالله من الضلال بعد الهدى)).
[آية 200 - 205]
* (فإذا قضيتم مناسككم) * وفرغتم من الحج * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو
95

أشد ذكرا) * أي: فلا تكونوا كأهل العادة مشغولين بذكر الأنساب والمفاخرات وسائر
أحوال الدنيا، فإن ذلك يكدر وقتكم ويقسي قلوبكم بل كونوا مشتغلين بأنواع الذكر
والمذاكرة مع الإخوان مثل ما كنتم تذكرون أحوال الأنساب وسائر أحوال الدنيا قبل
السلوك أو كما يذكر الناس هذه الأحوال بالعادة وأبلغ أو أقوى وأكثر ذكرا منها ليبقى
صفاؤكم ويهتدي بكم الناس * (فمن الناس من يقول ربنا) * أي: لا يطلب إلا متاع
الدنيا ولا يشتغل إلا بذكرها ولا يعبد الله إلا لأجلها * (وما له في الآخرة من خلاق) *
فإن توجهه إلى الأخس يمنعه عن قبول الأشرف لعدم نهوض همته إليه واكتساب
الظلمة المنافية للنور.
* (ومنهم من يقول ربنا آتنا) * أي: يطلب خير كل من الدارين ويحترز عن
الاحتجاب بالظلمة والتعذب بنيران الطبيعة والحرمان عن أنوار الرحمة * (أولئك لهم
نصيب مما كسبوا) * من حظوظ الآخرة وأنوار دار القرار واللذات الباقية بالأعمال
الصالحة بعد المحاسبة وحط بعض الحسنات بالسيئات والتعذيب بحسبها أو العفو.
* (واذكروا الله في أيام معدودات) * أي: مراتب معدودة بعد الفراغ من الحج،
وهو مرتبة الروح والقلب والنفس، لأن الواصل إذا رجع، رجع إلى هذه المراتب
وعليه في المراتب الثلاث أن يكون بالله فذلك ذكره * (فمن تعجل في يومين فلا إثم
عليه) * أي: فمن تجعل إلى حظوظه في مرتبة الروح والقلب فلا إثم عليه إذ الروح
والقلب وحظوظهما لا يحجبان ولا يضران. ومعنى التعجل هو أن الحركة إذا كانت
بالله كانت أسرع ولا يكون معها لبث ولا وقوف ريثما يظهر القلب أو الروح ويصير
حجابا نوريا كما يكون لأصحاب التلوين * (ومن تأخر) * إلى الثالث الذي هو مرتبة
النفس * (فلا إثم عليه لمن اتقى) * أي: ذلك الحكم لمن اتقى أن يكون مع حظوظ
النفس بالنفس، فإن النفس ألزم لحظها من صاحبيها وحظها أغلظ وأبعد من النور من
حظوظهما وسريعا ما تظهر للزوم الطيش والحركة إياها بخلاف صاحبيها وحظها أيضا
كثيرا ما يحجب، وإذا حجب كان حجابه غليظا ظلمانيا فالاحتراز هناك والاحتياط
واجب وأولى من الباقيين لأنهما إن ظهرا رق حجابهما وسهل زواله، أو ذلك التخيير
لمن اتقى في المراتب الثلاث. * (واتقوا الله) * في المواطن الثلاثة من ظهور الأنانية
والآنية حتى تكونوا في الحظوظ به لا بالنفس ولا بالقلب ولا بالروح * (واعلموا أنكم
إليه تحشرون) * أي: أنكم محشورون معه تحشرون من اسم إلى اسم حاضرون
بحضرته فأنتم على خطر عظيم بخلاف سائر الناس كما ورد في الحديث:
((المخلصون على خطر عظيم)). وعن النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى: ((بشر المذنبين بأني
96

غفور وأنذر الصديقين بأني غفور)).
* (ومن الناس من يعجبك) * أي: يدعي المحبة وهو ألد الخصام لكونه في مقام
النفس زنديقا، ولهذا قال، * (قوله في الحياة الدنيا) * إذ ليس له قول في الآخرة بالقلب
* (وإذا تولى سعى في الأرض) * لإباحته وتزندقه كما ترى عليه أكثر مدعي المحبة
والتوحيد * (والله لا يحب الفساد) * أي: هو مفسد ويدعي محبة الله. وكيف تتأتى له
والمحب لا يفعل إلا ما يحب محبوبه، والله لا يحب ما يفعله فلا يكون صادقا في
دعواه، كما قال الشاعر:
* تعصي الإله وأنت تظهر حبه
* هذا قبيح بالفعال بديع
*
* لو كان حبك صادقا لأطعته
* إن المحب لمن يحب مطيع
*
[آية 206 - 212]
* (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * أي: حملته الحمية النفسانية حمية
الجاهلية على الإثم لجاجا وأشرا لظهور نفسه حينئذ وزعمه أنه أعلم بما يفعل من
ناصحه * (فحسبه جهنم) * أي: غايته عمق حضيض رتبته التي هو فيها وظلمتها، فإن
جهنم معناه: مهوى بعيد العمق مظلمة * (يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) * يبذل نفسه في
سلوك سبيل الله طلبا لرضاه * (ادخلوا في السلم) * أي: في الاستسلام وتسليم الوجوه
لله، إذ معاداة القوى بعضها بعضا، وعدم موافقتها في التسليم لأمر الله دليل تتبع
الشيطان، وهو يريد أن تستحقوا قهر الله بارتكاب الإسرافات المذمومة لعداوته الغريزية
لكم لاختلاف جبلته وجبلتكم، وقصوره عن نور فطرتكم، لكونه ناري الخلقة لا
يطلب منكم إلا أن تكونوا ناريين مثله لا نورانيين، فهو عدو في الحقيقة في صورة
المحب.
* (فإن زللتم) * عن مقام التسليم لأمر الله * (من بعد ما جاءتكم) * دلائل تجليات
97

الأفعال والصفات * (فاعلموا أن الله عزيز) * غالب يقهركم * (حكيم) * لا يقهر إلا على
مقتضى الحكمة، والحكمة تقتضي قهر المخالف المنازع، ليعتبر المطيع الموافق ويزيد
في الطاعة. * (هل ينظرون) * أي: هل ينتظرون * (إلا أن يأتيهم) * يتجلى * (الله في ظلل) * صفات الهوية من جملة تجليات الصفات وصور ملائكة القوى السماوية.
وقضى في اللوح أمر إهلاكهم * (وإلى الله ترجع الأمور) * فيقابل كل امرئ بجزانة أو
تزهق إليه بالفناء.
[آية 213 - 215]
* (كان الناس أمة واحدة) * أي: على الفطرة ودين الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((كل
مولود يولد على الفطرة))، وهو في عهد الفطرة الأولى على الحقيقة، أو في زمن
الطفولة، أو في عهد آدم عليه السلام * (كان الناس أمة واحدة) * ثم اختلفوا في النشأة
بحسب اختلاف طبائعهم وغلبة صفات نفوسهم، وتفرق أهوائهم. فإن تضاد أصول
بنيتهم ومراكز أبدانهم باختلاف البقاع والأهوية، اقتضى ذلك وكذا ما في طباعهم من
جذب النفع الخاص ودفع الضر الخاص لاحتجاب كل بمادة بدنه واقتضاء الحكمة
الإلهية ذلك لمصلحة النشوء والنماء يقتضي التعادي والتخالف * (فبعث الله النبيين) *
ليدعوهم من الخلاف إلى الوفاق، ومن الكثرة إلى الوحدة، ومن العداوة إلى المحبة،
فتفرقوا وتحزبوا عليهم وتميزوا، فأما السفليون الذين رسخت في طباعهم محبة الباطل
وغلب على قلوبهم الرين وطبع عليها وعميت وزال استعدادهم بغلبة هواهم، فازدادوا
خلافا وعنادا، فكأنهم ما اختلفوا إلا عند بعثهم وإتيانهم بالكتاب الذي هو سبب ظهور
الحق والوفاق حسدا بينهم، ناشئا من عند أنفسهم، وغلبة هواهم واحتجابهم، وأما
العلويون الذين بقوا على الصفاء الأصلي والاستعداد الأول فهداهم الله إلى الحق الذي
اختلفوا فيه وزال خلافهم وسلكوا الصراط المستقيم.
* (أم حسبتم أن تدخلوا) * جنة تجلي الجمال * (ولما يأتكم) * حال * (الذين) * مضوا
98

* (من قبلكم مستهم) * بأساء الترك والتجريد والفقر والافتقار، وضراء المجاهدة والرياضة وكسر النفس بالعبادة * (وزلزلوا) * بدواعي الشوق والمحبة عن مقار نفوسهم ليظهروا ما في استعدادهم بالقوة * (حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) * أي: حتى تضجروا من طول مدة الحجاب، وكثرة الجهاد من الفراق، وعيل صبرهم عن مشاهدة الجمال، وذوق الوصال، وطلبوا نصر الله بالتجلي على قمع صفات النفوس مع قوة مصابرتهم، وحسن تحملهم، لما يفعل المحبوب ويريد بهم من ابتلائهم بالهجران، وإذاقتهم الفرقة لاشتداد قوة المحبة، فكيف بغيرهم؟ فأجبيوا إذا بلغ جهدهم ونفذت طاقتهم وقيل لهم * (ألا إن نصر الله قريب) * أي: رفع الحجاب وظهرت آثار الجمال.
* (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
(كتب عليكم) قتال النفس والشيطان وهو مكروه لكم أمر من طعم العلقم، وأشد من ضغم الضيغم * (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) * لاحتجابكم بهوى النفس وحب اللذة العاجلة عما في ضمنه من الخير الكثير، واللذة العظيمة الروحانية التي تستحقر تلك الشدة السريعة، الانقضاء بالقياس إلى ذلك الخير الباقي، واللذة السرمدية وكذا عكسه * (والله يعلم) * ما في الأمور من الخير والشر * (وأنتم لا تعلمون) * ذلك لاحتجابكم بالعاجل عن الآجل، وبالظاهر عن الباطن.
تفسير سورة البقرة من آية 217 إلى آية 245
99

((الصفحة فارغة))
100

* (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه) * يسألونك عن جهاد النفس وأعوانها،
والشيطان وجنوده في وقت التوجه والسلوك إلى الحق وجمعية الباطن الحرام فيه حركة
السر * (قل) * الجهاد في ذلك الوقت أمر عظيم شاق، وصرف وجوهكم عن سبيل الله،
ومقام السر، ومحل الحضور احتجاب عن الحق، وإخراج أهل القلب الذين هم
القوى الروحانية عن مقارهم أعظم وأكبر عند الله، وفتنة الشرك والكفر وبلاؤهما
عليكم أشد من قتلكم إياهم بسيف الرياضة. ولا تزال تلك القوى النفسانية والأهواء
الشيطانية يقاتلونكم بذبكم عن دينكم ومقصدكم، ودعوتكم إلى دين الهوى والشيطان
* (حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه) * باتباعهم * (فأولئك حبطت أعمالهم) * التي عملوها في الاستسلام والانقياد * (وأولئك أصحاب) * نار
الحجاب والتعذيب * (هم فيها خالدون) *.
* (إن الذين آمنوا) * يقينا * (وهاجروا) * أوطان النفس ومألوفات الهوى * (وجاهدوا في سبيل الله) * وجنود الشيطان والنفس الأمارة * (أولئك يرجون رحمة الله) * تجليات
الصفات وأنوار المشاهدة. * (يسئلونك عن) * خمر الهوى وحب الدنيا وميسر احتيال
النفس في جدب الحظ * (قل فيهما إثم) * الحجاب والبعد * (ومنافع للناس) * في باب
المعاش وتحصيل اللذة النفسانية، والفرح بالذهول عن الهيئات الرديئة المشوشة
والهموم المكدرة. * (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم) * أي: أوطانهم المألوفة
ومقار نفوسهم المعهودة ومقاماتهم ومراتبهم من الدنيا وما ركنوا إليها بدواعي الهوى،
101

وهم قوم كثير * (حذر الموت) * الجهل والانقطاع عن الحياة الحقيقية والوقوع في
المهاوي الطبيعية * (فقال لهم الله موتوا) * أي: أمرهم بالموت الإرادي، أو أماتهم عن
ذواتهم بالتجلي الذاتي، حتى فنوا في الوحدة * (ثم أحياهم) * بالحياة الحقيقية العلمية،
أو به بالوجود الموهوب الحقاني، والبقاء بعد الفناء. ولا يبعد أن يريد به ما أراد من
قصة عزير، أي: خرجوا هاربين من الموت الطبيعي فأماتهم الله * (ثم أحياهم) * بتعلق
أرواحهم بأبدان من جنس أبدانهم ليحصلوا بها كمالهم.
* (وقاتلوا في سبيل الله) * النفس والشيطان على الأول والثاني. وعلى الثالث لا
تخافوا من الموت في مقاتلة الأعداء، فإن الهرب منه لا ينفع كما لم ينفع أولئك.
والله يحييكم كما أحياهم * (قرضا حسنا) * هو بذل النفس بالجهاد، أو بذل المال
بالإيثار * (والله يقبض ويبسط) * أي: هو مع معاملتكم في القبض والبسط، فإنكم
بأوصافكم تستنزلون أوصافه. إن تبخلوا بما في أيديكم يضيق عليكم ويقتر، وإن تجودوا
يوسع عليكم بحسب جودكم كما ورد في الحديث: ' تنزل المعونة على قدر المؤونة '.
للتفسير سورة البقرة من آية 246 إلى آية] 248]
* (طالوت) * كان رجلا فقيرا، لا نسب له، ولا مال، فما قبلوه للملك. لأن
استحقاق الملك والرياسة عند العامة إنما هو بالسعادة الخارجية التي هي المال
والنسب، فنبه نبيهم على أن الاستحقاق إنما يكون بالسعادتين الأخريين: الروحانية
التي هي العلم. والبدنية: التي هي زيادة القوى وشدة البنية والبسطة، بقوله: * (وزاده بسطة في العلم والجسم) * والله أعلم بمن يستحق الملك فيؤتيه * (من يشاء والله واسع) *
كثير العطاء، يؤتي المال كما يؤتي الملك * (عليم) * بمن له الاستحقاق وما يحتاج إليه
من المال الذي يعتضد به، فيعطيه. ثم بين أن استحقاق الملك له علامة أخرى وهي:
102

إذعان الخلق له، ووقوع هيبته ووقاره في القلوب، وسكون قلوبهم إليه، ومحبتهم له،
وقبولهم لأمره على الطاعة والانقياد. وهو الذي كان يسميه الأعاجم من قدماء الفرس
' خوره '. وما يختص بالملوك كيان خوره، ثم من بعدهم سموه ' فر ' فقالوا: كان فر
للملك في أفريدون، وذهب عن كيكاؤوس فر الملك، فطلبوا من له الفر، فوجدوا
للملك المبارك كيخسرو وسماه ' التابوت ' أي: ما يرجع إليه من الأمور. لأن التابوت
فعلوت من التوب، أي: يأتيكم من جهته ما يرجع في ثبوت ملكه من الإذعان
والطاعة والانقياد والمحبة له بإلقاء الله له ذلك في قلوبكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
' نصرت بالرعب مسيرة شهر '. أو ما يرجع إليه من الحالة النفسانية، والهيئة الشاهدة
له على صحة ملكه * (فيه سكينة من ربكم) * أي: ما تسكن قلوبكم إليه * (وبقية مما
تراك آل موسى وآل هارون) * في أولادهم من المعنى المسمى ' فر ' وهو نور ملكوتي
تستضيء به النفس باتصالها بالملكوت السماوية، واستفاضتها ذلك من عالم القدرة
مستلزم لحصول علم السياسة وتدبير الملك والحكمة المزينة لها * (تحمله الملائكة) *
أي: ينزل إليكم بتوسط الملائكة السماوية. ويمكن أنه كان صندوقا فيه طلسم من
باب نصرة الجيش وغيره من الطلسمات التي تذكر أنها للملك على ما يرى من أنه
كان فيه صورة لها رأس كرأس الآدمي والهر، وذنب كذنبه كالذي كان في عهد
أفريدون المسمى ' درفش كاويان '.
تفسير سورة البقرة من آية 249 إلى آية 254
103

* (إن الله مبتليكم بنهر) * هو منهل الطبيعة الجسمانية * (فمن شرب منه فليس مني) * أي: من كرع فيه مفرطا في الري منه. لأن أهل الطبيعة وعبدة الشهوات أذل
وأعجز خلق الله، لا قوة لهم بقتال جالوت النفس الأمارة، ولا بجالوت عدو الدين،
إذ لا حمية لهم ولا تشدد * (إلا من اغترف غرفة بيده) * أي: إلا من اقتنع منه بقدر
الضرورة والاحتياج من غير حرص وانهماك فيه * (فشربوا منه) * أي: كرعوا فيه
وانهمكوا * (إلا قليلا منهم) * إذ المتنزهون عن الأقذار الطبيعية، المتقدسون عن
ملابسها، المتجردون عن غواشيها قليلون بالنسبة إلى من عداهم. قال الله تعالى:
* (وقليل ما هم) * [ص، الآية: 24]، * (وقليل من عبادي الشكور) * [سبأ، الآية: 13] وهم الذين
آمنوا معه من أهل اليقين الذين كانوا يعلمون بنور يقينهم أن الغلبة ليست بالكثرة، بل
بالنصرة الإلهية، فصبروا على ما عاينوا بقوة يقينهم، فظفروا.
* وقل من جد في أمر يطالبه
* واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
*
[تفسير سورة البقرة آية 255]
* (الله لا إله إلا هو) * في الوجود، فكل ما عبد دونه لم تقع العبادة إلا له، علم
أو لم يعلم، إذ لا معبود ولا موجود سواه * (الحي) * الذي حياته عين ذاته، وكل ما
هو حي لم يحيى إلا بحياته * (القيوم) * الذي يقوم بنفسه ويقوم كل ما يقوم به. فلولا
قيامه ما قام شيء في الوجود * (لا تأخذه) * غفوة ونعاس، كما يعتري الأحياء من غير
قصدهم. فإن ذلك لا يكون إلا لمن حياته عارضة، فتغلبه الطبيعة بالحالة الذاتية طلبا
للهدوء والراحة والإبدال عن تحليل اليقظة. فأما من حياته عين ذاته، فلا يمكن له
ذلك. وبين كون حياته غير عارضة بقوله * (ولا نوم) * فإن النوم ينافي كون الحياة
ذاتية، لأنه أشبه شيء بالموت. ولهذا قيل: النوم أخو الموت. ومن لا نوم له لذاته،
لمنافاته كون الحياة غير ذاته، فلا سنة له، إذ السنة من مقدماته وآثاره كما تقول: ليس
له ضحك ولا تعجب، وقوله: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * بيان لقيوميته * (له ما في السماوات وما في الأرض) * نواصيهم بيده، يفعل بهم ما يشاء. * (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) * إذ كلهم له وبه يتكلم من يتكلم به وبكلامه، فكيف يتكلم بغير إذنه
وإرادته * (يعلم) * ما قبلهم وما بعدهم، فكيف بهم وبحالهم. أي: علمه شامل للأزمنة
104

والأشخاص والأحوال كلها، فيعلم المستحق للشفاعة، وغير المستحق لها * (ولا
يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء) * أي: بما اقتضت مشيئته أن يعلمهم، فعلم كل
ذي علم شيء من علمه ظهر على ذلك المظهر، كما قالت الملائكة: * (لا علم لنا إلا ما علمتنا) * [البقرة، الآية: 32].
* (وسع كرسيه السماوات والأرض) * أي: علمه، إذ الكرسي مكان العلم الذي
هو القلب. كما قال أبو يزيد البسطامي رحمة الله عليه: لو وقع العالم وما فيه ألف
ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحس به لغاية سعته. ولهذا قال الحسن:
كرسيه: عرشه، مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم: ' قلب المؤمن من عرش الله '. والكرسي
في اللغة: عرش صغير لا يفضل عن مقعد القاعد، شبه القلب به تصويرا وتخييلا
لعظمته وسعته. وأما العرش المجيد الأكبر فهو الروح الأول وصورتهما ومثالهما في
الشاهد الفلك الأعظم، والثامن المحيط بالسماوات السبع وما فيهن * (ولا يؤده) * أي:
ولا يثقله * (حفظهما) * لأنهما غير موجودين بدونه ليثقله حملهما، بل العالم المعنوي
كله باطنه والصوري ظاهره، فلا وجود لهما إلا به وليسا غيره. * (وهو العلي) * الشأن
الذي لا يعلوه شيء وهو يعلو كل شيء، ويقهره بالفناء * (العظيم) * الذي لا يتصور كنه
عظمته، وكل عظمة تتصور لشيء فهي رشحة من عظمته، وكل عظيم فبنصيب من
عظمته وحصة منها عظيمة. فالعظمة مطلقا له دون غيره، بل كلها له، ليس لغيره فيها
نصيب. وهي أعظم آية في القرآن لعظم مدلولها.
تفسير سورة البقرة من آية 256 إلى آية 258
* (لا إكراه في الدين) * لأن الدين في الحقيقة هو الهدى المستفاد من النور
القلبي، اللازم للفطرة الإنسانية، المستلزم للإيمان اليقيني. كما قال تعالى: * (فأقم
وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم) * [الروم، الآية: 30]، والإسلام الذي هو ظاهر الدين مبتن عليه وهو أمر لا مدخل
105

للإكراه فيه. والدليل على أن باطن الدين وحقيقته الإيمان كما أن ظاهره وصورته
الإسلام ما بعده * (قد تبين) * أي تميز * (الرشد من الغي) * بالدلائل الواضحة لمن له
بصيرة وعقل، كما قيل: قد أضاء الصبح لذي عينين.
* (فمن يكفر بالطاغوت) * أي: ما سوى الله وينفي وجوده وتأثيره * (ويؤمن بالله) *
إيمانا شهوديا حقيقيا * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * أي: تمسك بالوحدة الذاتية التي
وثوقها بنفسها، فلا شيء أوثق منها، إذ كل وثيق بها موثوق، بل كل وجود
بها موجود وبنفسه معدوم، فإذا اعتبر وجوده فله انفصام في نفسه لأن الممكن وثاقته
ووجوده بالواجب، فإذا قطع النظر عنه فقد انقطع وجود ذلك الممكن ولم يكن في
نفسه شيئا. ولا يمكن انفصامه عن وجود عين ذاته، إذ ليس فيه تجزووإثنينية، وفي
الانفصام لطيفة وهو أنه انكسار بلا انفصال. ولما لم ينفصل شيء من الممكنات من
ذاته تعالى، ولم يخرج منه، لأنه إما فعله وإما صفته، فلا انفصال قطعا، بل إذا اعتبره
العقل بانفراده كان منفصما، أي: منقطع الوجود متعلقا وجوده بوجوده تعالى * (والله سميع) * يسمع قول كل ذوي دين * (عليم) * بنياتهم وإيمانهم.
* (الله ولي الذين آمنوا) * متولي أمورهم ومحبتهم * (يخرجهم) * من ظلمات صفات
النفس وشبه الخيال والوهم، إلى نور اليقين والهدى وقصناء عالم الروح * (والذين كفروا أولياؤهم) * ما يعبدون من دون الله * (يخرجونهم) * من نور الاستعداد والهداية
الفطرية إلى ظلمات صفات النفس والشكوك والشبهات.
[تفسير سورة البقرة آية 259]
* (أو كالذي مر على قرية) * أي: أرأيت مثل الذي مر على قرية باد أهلها،
وسقطت سقوفها، وحزت جدرانها عليها، فتعجب من إحيائها لكونه طالبا سالكا لم
يصل إلى مقام اليقين بعد، ولم يستعد لقبول نور تجلي اسم المحيي والمشهور أنه
كان عزير * (فأماته الله) * أي: فأبقاه على موت الجهل. كما قال: * (أمتنا اثنتين) * [غافر،
الآية: 11] على قول، وقال تعالى: * (وكنتم أمواتا فأحيكم) * [البقرة، الآية: 28].
* (مائة عام) * يمكن أن يكون العام في عهدهم كان مبنيا على دور القمر، فيكون ثمانية
أعوام وأربعة أشهر، وأن يكون مبنيا على فصول السنة فيكون خمسة وعشرين سنة،
106

وأن تكون أعمارهم في ذلك الزمان كانت طويلة * (ثم بعثه) * بالحياة الحقيقية وطلب
منه الوقوف على مدة اللبث فما ظنها إلا يوما أو بعض يوم، استصغارا لمدة اللبث في
موت الجهل المنقضية بالنسبة إلى الحياة الأبدية ولعدم شعوره بمرور المدة كالنائم
الغافل عن الزمان ومروره. ثم لما تفكر نبهه الله تعالى على طول مدة الجهل وموت
الغفلة، بأنه مائة عام، أو أماته بالموت الإرادي في إحدى المدد المذكورة، فتكون
المدة زمان رياضته وسلوكه ومجاهدته في سبيل الله، أو أماته حتف أنفه بالموت
الطبيعي فتعلق روحه ببدن آخر من جنسه لاكتساب الكمال إما بعد زمان وإما في
الحال حتى مر عليه إحدى المدد الثلاث المذكورة، وهو لا يطلع على حاله فيها،
ولم يشعر بمبدئه ومعاده وكان ميتا ثم بالحياة الحقيقية فاطلع بنور العلم على حاله
وعرف مبدأه ومعاده.
وقوله: * (لبثت يوما أو بعض يوم) * كقوله تعالى: * (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) * [يونس، الآية: 45]، وقوله تعالى: * (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو
ضحاها 46) * [النازعات، الآية: 46]، وقوله: * (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) * [الروم، الآية: 55] كل ذلك لغفلتهم عن مرور الزمان وكذا مفارق أخا أو
مصاحبا أو شيئا آخر إذا أدرك الوصال بعد طول مدة الفراق كأن تلك المدة حينئذ لم
تكن، إذ لا يحس بها بعد مضيها وإن قاساها قبل الوصال * (وانظر إلى طعامك
وشرابك لم يتسنه) * قيل: طعامه التين والعنب، وشرابه الخمر واللبن، فالتين إشارة
إلى المدركات الكلية لكونه لبا كله، وكون الجزئيات فيها بالقوة، كالحبات التي في
التين، والعنب إشارة إلى الجزئيات لبقاء اللواحق المادية معها في الإدراك كالثجير
والعجم. واللبن إشارة إلى العلم النافع كالشرائع. والخمر إشارة إلى العشق والإرادة
وعلوم المعارف والحقائق. لم يتسنه أي: لم يتغير عما كان في الأزل بحسب الفطرة
مودعا فيك، فإن العلوم مخزونة في كل نفس بحسب استعدادها، كما قال
صلى الله عليه وسلم: ' الناس معادن كمعادن الذهب والفضة '. فإن حجبت بالمواد وخفيت مدة
بالتقلب في البرازخ وظلماتها، لم تبطل ولم تتغير عن حالها. حتى إذا رفع الحجاب
بصفاء القلب ظهرت كما كانت، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ' الحكمة ضالة المؤمن '.
* (وانظر إلى حمارك) * أي: بدنك بحاله على الوجه الأول والثاني، وكيف
نخرت عظامه وبليت على الوجه الثالث * (ولنجعلك آية للناس) * أي: ولنجعلك دليلا
للناس على البعث، بعثناك * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * أي: نرفعها * (ثم نكسوها لحما) * على كلا الوجهين ظاهر، فإنه إذا بعث وعلم حاله وتجرده عن البدن
107

علم تركيب بدنه برفع العظام وجمعها وكسوتها لحما * (فلما تبين له) * ذلك البعث
والنشور * (قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) *.
[تفسير سورة البقرة آية 260]
* (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) * أي: بلغني إلى مقام العيان
من مقام العلم الإيقاني. ولهذا قرر إيمانه بهمزة الاستفهام التقريرية.
ف * (قال أو لم تؤمن) * أي: أو لم تعلم ذلك يقينا؟، وأجاب إبراهيم عليه السلام
بقوله: * (بلى ولكن ليطمئن قلبي) * أي: ليسكن وتحصل طمأنينته بالمعاينة، فإن عين
اليقين إنما يوجب الطمأنينة لا علمه * (قال فخذ أربعة من الطير) * أي: القوى الأربعة
التي تمنعه عن مقام العيان وشهود الحياة الحقيقية. وقيل: كانت طاووسا وديكا وغرابا
وحمامة. وفي رواية بطة، فالطاووس هو العجب، والديك الشهوة، والغراب
الحرص، والحمامة حب الدنيا لتألفها وكرها وبرجها. والظاهر أنها بطة فتكون إشارة
إلى الغالب عليها * (فصرهن إليك) * أي: أملهن واضممهن إليك بضبطها ومنعها عن
الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها. وقيل: أمر بأن يذبحها وينتف ريشها
ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده، أي: يمنعها عن أفعالها ويزيل
هيئاتها عن النفس، ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة، ويبقي أصولها فيه.
* (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * أي: من الجبال التي بحضرتك، وهي
العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه، أي: اقمعها وأمتها حتى لا يبقى إلا أصولها
المركوزة في وجودك وموادها المعدة في طبائع العناصر التي فيك. كانت الجبال
سبعة، فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن * (ثم أدعهن) *
أي: أنها إذا أنت حييت بحياتها كانت غير طيعة مستولية عليك، وحشية ممتنعة عن
قبول أمرك، فإذا قتلتها كنت حيا بالحياة الحقيقية الموهوبة بعد الفناء والمحو. فتصير
هي حية بحياتك لا بحياتها، حياة النفس مطيعة لك منقادة لأمرك فإذا دعوتها * (يأتينك سعيا) * * (واعلم أن الله عزيز) * غالب على قهر النفوس * (حكيم) * لا يقهرها إلا
بحكمة. ويمكن حمله على حشر الوحوش والطيور، وعلى هذا فيكون جعل أجزائها
على الجبال تغذية الجسم بها ودعاؤه وإتيانه إليه ساعية توجهها إلى الإنسان بعد
النشور.
108

[تفسير سورة البقرة من آية 261 إلى آية 262]
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * ذكر سبحانه ثلاث إنفاقات وفاضل
بينها في الجزاء، أولها: الإنفاق في سبيل الله وهو إنفاق في عالم الملك عن تجلي
الأفعال يعطيه صاحبه ليثيبه الله تعالى، فأثابه سبعمائة أضعاف ما أعطى ثم زاد في
الأضعاف إلى ما لا يتناهى بحسب المشيئة لأن يده تعالى أبسط وأطول من يده بما لا
يتناهى. * (والله واسع) * كثير العطاء، لا يتقدر بأعطيتنا عطاؤه * (عليم) * بنيات المعطين
واعتقاداتهم أنه من فضل الله تعالى، فيثيبهم على حسب ذلك. وثانيها: الإنفاق عن
مقام مشاهدة الصفات على ما سيأتي، وهو الإنفاق لطلب رضاء الله كما أن الأولى هو
الإنفاق لطلب عطاء الله. وثالثها: الإنفاق بالله، وهو عن مقام شهود الذات * (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) * نبه على أن الإنفاق يبطله المن والأذى، لأن الإنفاق
إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه: كونه موافقا للأمر بالنسبة إلى الله تعالى، وكونه مزيلا
لرذيلة البخل بالنسبة إلى نفس المنفق، وكونه نافعا مريحا بالنسبة إلى المستحق. فإذا
من صاحبه فقد خالف أمر الله لأنه منهي وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد بالنعمة
والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله، وكلها رذائل أردأ من
البخل، لازمة له، ولو لم يكن له إلا رؤية نفسه بالفضيلة لكفاه مبطلا. وأما الوجه
الثالث الذي هو بالنسبة إلى المستحق، فيبطله الأذى المنافي للراحة والنفع والمن أيضا
مبطل له لاقتضائه الترفع وإظهار الاصطناع وإثبات حق عليه.
[تفسير سورة البقرة من آية 263] إلى آية 265
ثم قال: * (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) * إذ القول الجميل،
وإن كان بالرد، يفرح قلبه، ويروح روحه، والصدقة إنما تنفع جسده ولا تفرح القلب
إلا بالتبعية وتصور النفع، فإذا قارن ما ينفع الجسد ما يؤذي الروح تكدر النفع
109

وتنغص، ولم يقع في مقابلة الفرح الحاصل من القول الجميل، ولو لم يكن مع
التنغيص أيضا لأن الروحانيات أشرف وأحسن وأوقع في النفوس * (والله غني) * عن
الصدقة المقرونة بالأذى، فيعطي المستحق من خزائن غيبه * (حليم) * لا يعاجل
بالعقوبة.
* (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) * هذا هو القسم الثاني من الإنفاق.
فضله على الأول بتشبيهه بالجنة، فإن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة،
فأشار بها أنه ملك لهم كأنه صفة ذاتية ولهذا قال: * (وتثبيتا من أنفسهم) * أي: توطينا
لها على الجود الذي هو صفة ربانية، وقوله: * (بربوة) * إشارة إلى ارتفاع رتبة هذا
الإنفاق وارتقائه عن درجة الأول * (أصابها وابل) * أي: لاحظ
كثير من صفة الرحمة
الرحمانية ومدد وافر من فيض جوده لأنها ملكة الاتصال بالله تعالى بمناسبة الوصف
واستعداد قبوله والاتصاف به * (فإن لم يصبها وابل) * أي: لاحظ
كثير، فحظ قليل * (والله بما تعملون بصير) * بأعمالكم يرى أنها من أي القبيل.
[تفسير سورة البقرة من آية 266 إلى آية 268
* (أيود أحدكم) * تمثيل لحال من عمل صالحا إنفاقا كان أو غيره متقربا به إلى
الله مبتغيا رضاه، كما في هذا القسم من الإنفاق، ثم ظهرت نفسه فيه، وتحركت،
فكانت حركاتها المتخالفة بحركة الروح ودواعيها المتفاوتة المضادة لداعية القلب
إعصارا، فافترض الشيطان حركتها واتخذها مجالا له بالوسوسة، فنفث فيها رؤية
عملها أو رياء فكان ذلك النفث نارا أحرقت عملها أحوج ما يكون إليه، كما قال أمير
المؤمنين علي عليه السلام: ' اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي '.
* (انققوا من طيبات ما كسبتم) * أمر بالقسم الثالث من الإنفاق من طيبات ما
كسبتم، إذ المختار بالله يختار الأشرف من كل شيء للمناسبة كما قال أمير المؤمنين
علي عليه السلام: ' إن الله جميل يحب الجمال ' ومن كان في إنفاقه بالنفس لا يقدر
على إنفاق الأشرف لضن النفس ومحبتها إياه، واستئثارها به عن تخصيصه بالله، فما
110

كان بالنفس ليس ببر أصلا لقوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * [آل
عمران، الآية: 92]، * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * تخصونه بالإنفاق كعادة المنفقين
بالنفس والطبيعة * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * لمحبتكم الأطيب من المال
لأنفسكم لاختصاص محبتكم بالذات إياها، ولهذا لا تؤثرون الله بالمال عليها فتنفقوا
أطيبه له * (واعلموا أن الله غني) * فاتصفوا بغناه فتستفيضوا به عن المال ومحبته
* (حميد) * لا يفعل إلا الفعل المحمود، فاقتدوا به.
* (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) * أي: الخصلة القبيحة التي هي
البخل، فتعوذوا منه بالله، فإنه * (يعدكم مغفرة منه) * أي: سترا لصفات نفوسكم بنوره
* (وفضلا) * وموهبة من مواهب صفاته لكم وتجلياتها كالغنى المطلق فلا يبقى فيكم
خوف الفقر * (والله واسع) * يسع ذواتكم وصفاتكم وعطاؤكم لا يضيق وعاء جوده
بالعطاء ولا ينفد عطاياه * (عليم) * بمواقع تجلياته واستعدادها واستحقاقها.
[تفسير سورة البقرة من آية 269 إلى آية 272]
* (يؤتي الحكمة من يشاء) * لإخلاصه في الإنفاق وكونه فيه بالله، فيعطيه حكمة
الإنفاق لينفق من الحكمة الإلهية لكونه متصفا بصفاته * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * لأنها أخص صفات الله * (وما يذكر) * أن الحكمة أشرف الأشياء وأخص
الصفات * (إلا أولو الألباب) * الذين نور الله عقولهم بنور الهداية فصفاها عن شوائب
الوهم وقشور الرسوم والعادات وهو النفس. فجزاء الإنفاق الأول هو الإضعاف،
وجزاء الثاني هو الجنة الصفاتية المثمرة للإضعاف، وجزاء الثالث هو الحكمة اللازمة
للوجود والموهوب. فانظر كم بينها من التفاوت.
* (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * من أي القبول هو،
فيجازيكم بحسبه * (وما للظالمين) * أي: المنفقين رئاء الناس، الواضعين الإنفاق في
غير موضعه، أو الناقصين حقوقهم برؤية إنفاقهم أو ضم المن والأذى إليه أو بالإنفاق
من الخبيث * (من أنصار) * يحفظوا لهم من بأس الله * (فهو خير لكم) * لبعدها عن الرياء
111

وكونها أقرب إلى الإخلاص * (ليس عليك هداهم) * إلى الإنفاقات الثلاثة المذكورة
المبرأة عن المن والأذى والرياء ورؤية الإنفاق وكونه من الخبيث أي: لا يجب عليك
أن تجعلهم مهديين إنما عليك تبليغ الهداية * (ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم) * فلم تمنون به على الناس وتؤذونهم * (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) *
فما لكم تستطيلون به على الناس؟ وكيف تراؤون فيه؟ * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * ليس لغيركم فيه نصيب، فلا تنفقوا إلا على أنفسكم في الحقيقة، لا على
غيركم فلا ينقص به شيء منكم، فما لكم تقصدون الخبيث بالإنفاق منه فثلاثتها
مصروفة إلى الأقسام الثلاثة المذكورة من الإنفاق للتحذير عن آفاتها بتصوير غاياتها.
[تفسير سورة البقرة من آية 273 إلى آية 275]
* (للفقراء) * أي: اقصدوا بصدقاتكم الفقراء * (الذين) * أحصرهم المجاهدة * (في سبيل الله) * * (لا يستطيعون ضربا في الأرض) * للتجارة والكسب لاشتغالهم بالله
واستغراقهم في الأحوال وصرف أوقاتهم في العبادات. * (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) * عن السؤال والاستغناء عن الناس * (تعرفهم بسيماهم) * من صفرة وجوههم،
ونور جباههم، وهيئة سحناتهم، أنهم عرفاء فقراء، أهل الله، لا يعرفهم إلا الله ومن
هو منهم * (لا يسألون الناس إلحافا) * أي: إلحاحا. والمراد نفي مسئلة الناس بالكلية
كقوله:
* على لاحب لا يهتدى بمناره
*
والمراد نفي المنار والاهتداء جميعا، أو نفي الإلحاف وإثبات التعطف في
المسألة. * (وما تنفقوا من خير) * على أي من أنفقتم، غنيا كان أو فقيرا * (فإن الله به عليم) * أي: بأن ذلك الإنفاق له أو لغيره، فيجازي بحسبه.
* (الذين ينفقون) * عمم الإنفاق أولا وثانيا بحسب الأوقات والأحوال ليعلم أنه لا
يتفاوت بها، بل بالقصد والنية * (الذين يأكلون الربا لا يقومون) * إلى آخره، آكل الربا
112

أسوأ حالا من جميع مرتكبي الكبائر، فإن كل مكتسب له توكل ما في كسبه قليلا كان
أو كثيرا، كالتاجر والزارع والمحترف، إذ لم يعينوا أرزاقهم بعقولهم ولم تتعين لهم
قبل الاكتساب فهم على غير معلوم في الحقيقة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' أبى الله أن
يرزق المؤمن إلا من حيث لا يعلم '. وأما آكل الربا فقد عين على آخذه مكسبه ورزقه
سواء ريح الآخذ أو خسر، فهو محجوب عن ربه بنفسه وعن رزقه بتعيينه، لا توكل
له أصلا، فوكله الله تعالى إلى نفسه وعقله، وأخرجه من حفظه وكلاءته، فاختطفه
الجن وخبلته، فيقوم يوم القيامة ولا رابطة بينه وبين الله كسائر الناس المرتبطين به
بالتوكل، فيكون كالمصروع الذي مسه الشيطان فتخبطه لا يهتدي إلى مقصد * (ذلك بأنهم قالوا) * أي: ذلك بسبب احتجابهم بقياسهم وأول من قاس إبليس فيكونون من
أصحابه مطرودين مثله.
تفسير سورة البقرة من آية 276 إلى آية 283]
* (يمحق الله الربا) * وإن كان زيادة في الظاهر * (ويربي الصدقات) * وإن كان
113

نقصانا في الشاهد، لأن الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في
الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له، لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون
عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كل طعام يولد في أكله دواعي وأفعالا
من جنسه، فإن كان حراما يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروها فإلى أفعال
مكروهة، وإن كان مباحا فإلى مباحة، وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات، وكان
في أفعاله متبرعا متفضلا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة
ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار
أفعاله المحرمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث: ' الذنب بعد الذنب عقوبة
للذنب الأول '، فتزداد عقوباته وآثامه أبدا، ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه
وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكلي. وأما المتصدق،
فلكون ماله مزكى، يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعا في
أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعا به وذلك هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم
تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة، وأي زيادة أفضل مما تبقى عند
الله، ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به
نقصا، وأي نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند
الله. * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * أي: آكل الربا كفار أثيم بفعله والله لا يحب من
كان كذلك.
[تفسير سورة البقرة آية 284]
* (لله ما في السماوات) * أي: في العالم الروحاني كله، بواطنه وصفاته وأستار
غيوبه ودفائن وجوده * (وما في الأرض) * أي: في العالم الجسماني كله ظواهره
وأسماؤه وأفعاله، تشهد العالمين، وهو على كل شيء شهيد * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * يشهده بأسمائه وظواهره، فيعلمه ويحاسبكم به، وإن تخفوه يشهده بصفاته
وبواطنه فيعلمه ويحاسبكم به * (فيغفر لمن يشاء) * لتوحيده وقوة يقينه، وعروض
سيئاته، وعدم رسوخها في ذاته، فإن مشيئته مبنية على حكمته * (ويعذب من يشاء) *
لفساد اعتقاده، ووجود شكه، أو رسوخ سيئاته في نفسه * (والله على كل شيء قدير) *
فيقدر على المغفرة والتعذيب جميعا.
[تفسير سورة البقرة من آية 285 إلى آية 286]
114

* (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه) * صدقه بقبوله والتخلق به، كما قالت
عائشة: ' كان خلقه القرآن والترقي بمعانيه والتحقق '. * (والمؤمنون كل آمن بالله) *
وحده جميعا * (وملائكته وكتبه ورسله) * أي: وحده تفصيلا عند الاستقامة مشاهدا
لوحدته في صورة تلك الكثرة معطيا لكل تجل من تجلياته في مظهر من مظاهره
وحكمه * (لا نفرق) * أي: يقولون: لا نفرق بينهم برد بعض وقبول بعض، ولا نشك
في كونهم على الحق وبالحق لشهود التوحيد ومشاهدة الحق فيهم بالحق * (وقالوا سمعنا) * أي: أجبنا ربنا في كتبه ورسله ونزول ملائكته واستقمنا في سيرنا * (غفرانك ربنا) * أي: اغفر لنا وجوداتنا وصفاتنا وامحها بوجودك ووجود صفاتك * (وإليك المصير) * بالفناء فيك.
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * لا يحملها إلا ما يسعها، ولا يضيق به طوقها
واستعدادها من التجليات، فإن لاحظ
كل أحد من الكشوف والتجليات ما يطيق به وعاء
استعداده الموهوب له في الأزل من الفيض الأقدس، ولا يضيق عليه * (لها ما كسبت) *
من الخيرات والعلوم والكمالات والكشوف على أي وجد، سواء كانت بقصدها أو لا
بقصدها، فإنها من عالم النور فالخيرات كلها ذاتية لها، ترجع فائدتها إليها دون
الشرور من الجهالات والرذائل والمعاصي والنقائص، فإنها أمور ظلمانية غريبة عن
جوهرها فلا تضرها ولا تلحق تبعتها بها إلا إذا كانت منجذبة إليها متوجهة بالقصد
والاعتمال لتكسبها ولهذا ورد في الحديث: ' إن صاحب اليمين يكتب كل حسنة تصدر
عن صاحبها في الحال، وصاحب الشمال لا يكتب حتى تمضي عليه ست ساعات،
فإن استغفر فيها وتاب أو ندم، فلم يكتب، وإن أصر كتب '. والمراد بالنفس ها هنا
الذات وإلا لكان الأمر بالعكس، فيكون حينئذ معناه لا يكلفها إلا ما يسعها ويتيسر لها
من الأعمال دون مدى الجهد والطاقة وذكر الكسب في موضع الخير لكونها غير معتنية
به معتملة له، والاكتساب في موضع الشر لكونها منجذبة إليه، معتملة له بالقصد،
لكونها مأوى الشر.
* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا) * عهدك * (أو أخطأنا) * في العمل لما سواك، والقران
على فراقك محتجبين عنك، فإنا غرباء، بعداء، طال العهد بنا مسافرين عنك،
115

ممتحنين في الظلمات بأنواع البلاء، ولا قدر ولا مقدار لنا في حضرتك، حتى
تؤاخذنا بذنوبنا * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا) * في ذاتنا وصفاتنا وأفعالنا، فتأصرنا
وتحبسنا في مكاننا مهجورين عنك، فإنه لا ثقل أثقل منها * (كما حملته على الذين من قبلنا) * من المحتجبين بظواهر الأفعال أو بواطن الصفات * (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * من ثقل الهجران والحرمان عن وصالك، ومشاهدة جمالك، بحجب جلالك
* (واعف عنا) * سيئات أفعالنا وصفاتنا فإنها كلها سيئات حجبتنا عنك، وحرمتنا برد
عفوك ولذة رضوانك * (واغفر لنا) * ذنوب وجوداتنا فإنها أكبر الكبائر كما قيل.
* إذا قلت ما أذنبت قالت مجيبة
* وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
*
* (وارحمنا) * بالوجود الموهوب بعد الفناء * (أنت مولانا) * ناصرنا ومتولي أمورنا
* (فانصرنا) * فإن من حق الولي أن ينصر من يتولاه، أو سيدنا، ومن حق السيد أن
ينصر عبيده * (على القوم الكافرين) * من قوى نفوسنا الأمارة وصفاتها، وجنود شياطين
أوهامنا وخيالاتنا، المحجوبين عنك، الحاجبين إيانا بكفرها وظلمتها.
116

((سورة آل عمران))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة آل عمران من آية 1 إلى آية 6]
* (ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم) * مر تأويله * (نزل عليك الكتاب بالحق) *
أي: رقاك رتبة فرتبة، ودرجة فدرجة، بتنزيل الكتاب عليك منجما إلى العلم
التوحيدي الذي هو الحق باعتبار الجمع المسمى بالعقل القرآني * (مصدقا لما بين يديه) * من التوحيد الأزلي السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب
الاستعداد * (وأنزل التوراة والإنجيل من قبل) * هكذا ثم * (أنزل الفرقان) * أي: التوحيد
التفصيلي الذي هو الحق باعتبار الفرق المسمى بالعقل الفرقاني، وهو منشأ الاستقامة
ومبدأ الدعوة * (إن الذين كفروا) * أي: احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان
التي هي آيات التوحيد في الحقيقة * (لهم عذاب شديد) * في البعد والحرمان * (والله عزيز) * أي: قاهر * (ذو انتقام) * لا يقدر وصفه ولا يبلغ كنهه ولا يقدر على مثله،
منتقم * (لا يخفى عليه شيء) * في العالمين، فيعلم مواقع الانتقام * (منه آيات محكمات) *.
[تفسير سورة آل عمران من آية 7 إلى آية 12]
سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحدا * (هن
117

أم) * أي: أصل * (الكتاب وأخر متشابهات) * تحتمل معنيين فصاعدا ويشتبه فيها الحق
والباطل، وذلك أن الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا
يحتمل التكثر والتعدد، وله وجوه متكثرة إضافية متعددة بحسب مرائي المظاهر. وهي
ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد، يلتبس فيها الحق
بالباطل، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل
بما يناسبه، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأما العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه
الباقي في أية صورة وأي شكل كان، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها
المتشابهات فيردونها إلى المحكمات متمثلين بمثل قول الشاعر:
* وما الوجه إلا واحد غير أنه
* إذا أنت أعددت المزايا تعددا
*
وأما المحجوبون * (الذين في قلوبهم زيغ) * عن الحق * (فيتبعون ما تشابه) *
لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم، ويتبعونه المتشابه،
فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم * (ابتغاء الفتنة) * أي: طلب
الضلال والإضلال الذي هم بسبيله * (وابتغاء تأويله) * بما يناسب حالهم وطريقتهم.
* إذا اعوج سكين فعوج قرابه
*
فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من
المعاني، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب * (وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم) * العالمون، يعلمون بعلمه، أي: إنما يعلمه الله جميعا وتفصيلا
* (يقولون آمنا به) * يصدقون علم الله به، فهم يعلمون بالنور الإيماني * (كل من عند
ربنا) * لأن الكل عندهم معنى واحد غير مختلف * (وما يذكر) * بذلك العلم الواحد
المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجردت
عن قشر الهوى والعادة.
* (ربنا لا تزغ قلوبنا) * عن التوجه إلى جنابك، والسعي في طلب لقائك،
والوقوف ببابك، بالافتتان بحب الدنيا وغلبة الهوى، والميل إلى النفس وصفاتها،
والوقوف مع حظوظها ولذاتها * (بعد إذ هديتنا) * بنورك إلى صراطك المستقيم، والدين
القويم، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم * (وهب لنا من لدنك رحمة) * رحيمية
تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك * (إنك أنت الوهاب) * * (ربنا إنك جامع الناس
ليوم لا ريب فيه) * أي: يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة
الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك
* (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * بل هي سبب حجابهم وبعدهم من
118

الله وتعذيبهم بعذابه لشدة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 13 إلى آية 14
* (قد كان لكم آية) * يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد
* (في فئتين التقتا فئة) * القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده * (تقاتل في سبيل الله وأخرى) * هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحق. ترى الفئة الأولى،
مع قلة عددهم، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأييد الفئة الأولى بنور الله
وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد
والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره، وصرفوا أموالهم التي هي
مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده * (والله يؤيد بنصره من يشاء) * من
أهل عنايته المستعدين للقائه * (إن في ذلك لعبرة) * أي: اعتبارا أو أمرا يعتبر به في
الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان
العلمي من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.
* (زين للناس حب الشهوات) * لأن الإنسان مركب من العالم العلوي والسفلي،
ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات
الطبيعية والغواشي البدنية، والماء الأجاج من اللذات الحسية، والرياح العواصف من
الشهوات الحيوانية، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به،
مبلوا بأنواع النصب والتعب، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم
العقل، وداع ينادينه من الهوى والشيطان، فتبعه فصادف منزلا نزها، وروضة أنيقة،
فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا وقال:
* عند الصباح يحمد القوم السري
* والداعي قد هيئ له القرى
*
فذلك حب الشهوات، أي: المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له
بحسب ما فيه من العالم السفلي، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى
وكمالها، بحسب ما فيه من العالم العلوي، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذ وأصفى مع
ذلك وأبقى، وهو معنى قوله: * (والله عنده حسن المآب) *.
119

[تفسير سورة آل عمران آية 15]
فإن أدركه التوفيق الإلهي والتنبيه السري، وقارنه الإنباء النبوي كما قال: * (قل أؤنبئكم بخير من ذلكم) * انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلوي إلى مركزه،
واشتعلت ناره التي قد خمدت، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات
القدسية، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ، ورقت الحجب التي منعت فطرته عن
طلب المقر والمأوى، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدر ما هو عليه، واستظلم ما كان
قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحاني على
الجسماني، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر
قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين، فعلم أنه كان أكمن في سرب
من الأرض، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا، فخرج فإذا هو ببرية فيها ماء
زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها، فظنها رياحين وثمارا،
فجلس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه، فعزم على رحيل الأوبة
وغشيته وحشة الغربة، فانتقى ما استطاب واستحلى، ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور
صبح عين اليقين، وحان وقت طلوع شمس الوحدة، رأى جنة تحير فيها بصره ودهش
في وصفها عقله، وكان ما كان مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على
قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له
مثوى ومآبا، ورجع إليه الأنس، ونزل محلة القدس، بدار القرار في جوار الملك
الغفار، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم، وحل بقلبه روح الرضا العميم، وذلك
معنى قوله: * (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار) * إلى قوله: * (والله بصير بالعباد) *، فالجنات جنات الأفعال، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس،
والرضوان جنات الصفات.
[تفسير سورة آل عمران من آية 16 إلى آية 25
120

* (الذين يقولون ربنا إننا آمنا) * بأنوار أفعالك وصفاتك * (فاغفر لنا ذنوبنا) * أي:
ذنوب وجوداتنا بذاتك * (وقنا عذاب النار) * أي: نار الهجران ووجود البقية
* (الصابرين) * على غصص المجاهدة والرياضة * (والصادقين) * في المحبة والإرادة
* (والقانتين) * في السلوك إليه وفيه * (والمنفقين) * ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم
ونفوسهم وذواتهم * (والمستغفرين) * عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام
التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى
بالأفق الأعلى، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم، فلم يبق مغربا
بقوله * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * طلع الوجه الباقي، فشهد بذاته في مقام الجمع
على وحدانيته، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد
بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال: * (والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) * أي: مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره، وصور كثرتها الذي هو ظل الوحدة
في غير الجمع بإعطاء كل ذي حق بحسب استعداده واستحقاقه حقه من جوده وكماله
وتجليه فيه على قدر سعة وعائه * (لا إله إلا هو) * في المشهدين * (العزيز) * القاهر الذي
يقهر كل شيء باعتبار الجمع فلا يصل إليه أحد * (الحكيم) * الذي يدبر بحكمته كل
شيء، فيعطيه ما يليق به باعتبار التفصيل.
* (إن الدين عند الله) * هو هذا التوحيد الذي قرره بنفسه. فإن دينه دين إسلام
الوجوه كما قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ' أسلمت وجهي لله ' أي: نفسي وجملتي، وانخلعت عن
أنانيتي، ففنيت فيه. وأمر الله تعالى حبيبه عليه صلى الله عليه وسلم فيما بعد بقوله: * (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن) *.
* (إن الذين يكفرون بآيات الله) * أي: المحجوبين عن الدين * (ويقتلون النبيين بغير حق) * لكونهم محجوبين بدينهم لا يقبلون إلا ما هم عليه من التقيد والتقليد،
والأنبياء دعوهم إلى التوحيد ومنعوهم عن التقيد فقتلوهم * (ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس) * من أتباعهم، إذ العدل ظل التوحيد، فمن لم يكمل له لا يمكنه
121

العدل، وهم قد حجبوا بتقييدهم بدينهم، فقد حجبوا بظلمهم عن العدل فخالفوهم
وقتلوهم.
* (أولئك الذين حبطت أعمالهم) * التي عملوها على دين نبيهم، لأنهم كانوا
بتقليد نبيهم ناجين بالمتابعة، وأنبياؤهم كانوا شفعاءهم بتوسطهم بينهم وبين الله في
وصول الفيض إليهم، فإذا أنكروا النبيين وأتباعهم العادلين فقد خالفوا نبيهم لأن
الأنبياء كلهم على ملة واحدة في الحقيقة هي ملة التوحيد، لا نفرق بين أحد منهم في
كونهم على الحق فمن خالف واحدا فقد خالف الكل، وكذا من خالف أهل العدل
من أتباع النبيين فقد ظلم، ومن ظلم فقد خرج بظلمة عن المتابعة وأيضا فمنكر الاتباع
منكر المتبوعين، ومنكر الظل منكر الذات خارج عن نورها. وإذا خالفوا نبيهم لم يبق
بينهم وبينه من الوصلة والمناسبة ما تمكن به الاستفاضة من نوره، فحجبوا عن نوره
وكانت أعمالهم منورة بنوره لأجل المتابعة، لا نور ذاتي لها، إذ لم تكن صادرة عن
يقين، فإذا زال نورها العارضي باحتجابهم عن نبيهم فقد أظلمت وصارت كسائر
السيئات من صفات النفس الأمارة، وفيه ما سمعت غير مرة من قتل كفار قوي النفس
الأمارة أنبياء القلوب والآمرين بالقسط من القوى الروحانية.
[تفسير سورة آل عمران آية 26]
* (قل اللهم مالك الملك) * تملك ملك عالم الأجسام مطلقا، تتصرف فيه لا
مالك ولا متصرف ولا مؤثر فيه غيرك * (تؤتي الملك من تشاء) * تجعله متصرفا في
بعضه * (وتنزع الملك ممن تشاء) * بجعل التصرف في يد غيره ولا غير ثمة بل تقلبه
من يد إلى يد، فأنت المتصرف فيه على كل حال بحسب اختلاف المظاهر * (وتعز من تشاء) * بإلقاء نور من أنوار عزتك عليه فإن العزة لله جميعا * (وتذل من تشاء) * بسلب
لباس عزتك عنه فيبقى ذليلا * (بيدك الخير) * كله، وأنت القادر مطلقا، تعطي على
حسب مشيئتك، تتجلى تارة على بعض المظاهر بصفة العز والكبرياء، فتكسوه لباس
العز والبهاء، وتارة بصفة القهر والإذلال فتكسوه لباس الهوان والصغار، وتارة بصفة المعز
فتكون مذلا، وتارة بصفة المذل فتكون معزا، وتارة بصفة الغني فتعطي المال، وتارة بصفة
المغني فتفقره، أي: تجعله مستغنيا عن المال، فقيرا لا يحتاج إلي شيء.
تفسير سورة آل عمران من آية 27
122

إلى آية 29] * (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) * تدخل ظلمة النفس في نور
القلب فيظلم، وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير بخلطهما معا مع بعد
المناسبة بينهما * (وتخرج الحي) * أي: حي القلب * (من الميت) * أي: من ميت النفس،
وميت النفس من حي القلب، بل تخرج حي العلم والمعرفة من ميت الجهل، وتخرج
ميت الجهل من حي العلم تحجبه عن النور، كحال بلعم بن باعورا * (وترزق من تشاء) * من النعمة الظاهرة والباطنة جميعا، أو من إحداهما * (بغير حساب) * * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * إذ لا مناسبة بينهم في الحقيقة، والولاية
لا تكون إلا بالجنسية والمناسبة، فحينئذ لا يمكن أن تكون المحبة بينهم ذاتية، بل
مجعولة مصنوعة بالتصنع والرياء والنفاق وهي خصال مبعدة عن الحق إذ كلها حجب
ظلمانية ولو لم يكن فيهم ظلمة تناسب حال الكفرة ما قدروا على مخالطتهم
ومصاحبتهم * (ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء) * أي: من ولاية الله في شيء،
معتد به، إذ ليس فيهم نورية صافية يناسبون بها الحضرة الإلهية * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * أي: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب أن يتقى، فتوالوهم ظاهرا ليس في
قلوبكم شيء من محبتهم، وذلك أيضا لا يكون إلا لضعف اليقين. إذ لو باشر قلوبهم
اليقين لما خافوا إلا الله تعالى وشاهدوا معنى قوله تعالى: * (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) * [يونس، الآية: 107] فما خافوا
غيره ولم يرجوا غيره، ولذلك عقبه بقوله: * (ويحذركم الله نفسه) * أي: يدعوكم إلى
التوحيد العياني كي لا يكون حذركم من غيره بل من نفسه * (وإلى الله المصير) * فلا
تحذروا إلا إياه فإنه المطلع على أسراركم وعلانياتكم، القادر على مجازاتكم إن توالوا
أعداءه أو تخافوهم سرا أو جهرا.
تفسير سورة آل عمران آية 30]
* (يوم تجد كل نفس) * الآية، كل ما يعمله الإنسان أو يقوله يحصل منه أثر في
نفسه وتنتقش نفسه به وإذا تكرر صار النقش ملكة راسخة، وكذا ينتقش في صحائف
النفوس السماوية، لكنه مشغول عن هيئات نفسه ونقوشها بالشواغل الحسية
123

والإدراكات الوهمية والخيالية، لا يفرغ إليها، فإذا فارقت نفسه جسدها ولم يبق ما
يشغلها عن هيئاتها ونقوشها وجدت ما عملت من خير أو شر محضرا، فإذا كان شرا
تتمنى بعد ما بينها وبين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذيبها به، فتصير تلك الهيئات
والنقوش صورتها إن كانت راسخة وإلا وجدت جزاءها بحسبها وتكرر * (ويحذركم الله نفسه) * تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه * (والله رؤوف بالعباد) * فلذا يحذرهم
عن السيئات تحذير الوالد المشفق لولده عما يوبقه.
[تفسير سورة آل عمران آية] 31]
* (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * لما كان عليه صلى الله عليه وسلم
حبيبه فكل من يدعي المحبة لزمه اتباعه لأن محبوب المحبوب محبوب، فتجب محبة
النبي، ومحبته إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة
وعقيدة، ولا تمشي دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهره وطريقته طلسم
المحبة، فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب، وإذا تابعه
حق المتابعة ناسب باطنه وسره وقلبه ونفسه باطن النبي صلى الله عليه وسلم وسره وقلبه ونفسه وهو
مظهر المحبة. فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا المتابع قسط من محبة الله تعالى بقدر
نصيبه من المتابعة، فيلقي الله تعالى محبته عليه ويسري من باطن روح النبي صلى الله عليه وسلم نور
تلك المحبة إليه، فيكون محبوبا لله، محبا له، ولو لم يتابعه لخالف باطنه باطن
النبي صلى الله عليه وسلم، فبعد عن وصف المحبوبية وزالت المحبية عن قلبه أسرع ما يكون، إذ لو
لم يحبه الله تعالى لم يكن محبا له * (ويغفر لكم ذنوبكم) * كما غفر لحبيبه. قال
تعالى: * (ليغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح، الآية: 2] وذنبه المتقدم ذاته،
والمتأخر صفاته، فكذا ذنوب المتابعين كما قال تعالى: ' لا يزال العبد يتقرب
إلي.... ' إلى آخر الحديث. * (والله غفور) * يمحو ذنوب صفاتكم وذواتكم * (رحيم) *
يهب لكم وجودا وصفات حقانية خيرا منها. ثم نزل عن هذا المقام لأنه أعز من
الكبريت الأحمر.
ودعاهم إلى ما هو أعم من مقام المحبة، وهو مقام الإرادة.
[تفسير سورة آل عمران من آية 32 إلى آية 34]
فقال: * (قل أطيعوا الله والرسول) * أي: إن لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا
متابعة حبيبي فلا أقل من أن تكونوا مريدين، مطيعين لما أمرتم به، فإن المريد يلزمه
124

متابعة الأمر وامتثال المأمور به * (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * أي: إن
أعرضوا عن ذلك أيضا، فهم كفار منكرون محجوبون، والله لا يحب من كان كافرا.
فبترك الطاعة يلزم الكفر، وبترك المتابعة لا يلزم، لأن تارك المتابعة يمكن أن يكون
مطيعا بمتابعة الأمر. ومعنى * (أطيعوا الله والرسول) *: أطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله
تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * [النساء، الآية: 80].
* (إن الله اصطفى آدم ونوحا) * الاصطفاء أعم من المحبة والخلة، فيشمل الأنبياء
كلهم لأنهم خيرة الله وصفوته، وتتفاضل فيه مراتبهم، كما قال تعالى: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * [البقرة، الآية: 253]، فأخص المراتب هو المحبة، وأشار إليه
بقوله تعالى: * (ورفع بعضهم درجات) * [البقرة، الآية: 253] فلذلك كان أفضلهم حبيب الله
محمدا صلى الله عليه وسلم ثم الخلة التي هي صفة إبراهيم عليه السلام، وأعمها الاصطفاء، أي:
صفة آدم عليه السلام * (ذرية بعضها من بعض) * في الدين والحقيقة، إذ الولاية
قسمان: صورية ومعنوية، وكل نبي يتبع نبيا آخر في التوحيد والمعرفة، وما يتعلق
بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ في زماننا هذا. وكما قيل: الآباء
ثلاثة: أب ولدك، وأب رباك، وأب علمك. فكما أن وجود البدن في الولادة
الصورية يتولد في رحم أمه من نطفة أبيه، فكذلك وجود القلب في الولادة الحقيقية
يظهر في رحم استعداد النفس من نفحة الشيخ والمعلم. وإلى هذه الولادة أشار عيسى
عليه السلام بقوله: ' لن يلج ملكوت السماوات من لم يولد مرتين '.
واعلم أن الولادة المعنوية أكثرها يتبع الصورية في التناسل، ولذلك كان الأنبياء
في الظاهر أيضا نسلا، ثم ثمر شجرة واحدة، فإن عمران بن يصهر أبا موسى وهارون
كان من أسباط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وعمران بن ماثان أبا مريم أم
عيسى عليه السلام كان من أسباط يهود بن يعقوب، وكون محمد عليه صلى الله عليه وسلم
من أسباط إسماعيل بن إبراهيم مشهور وكذا كون إبراهيم من نوح عليه السلام. وسببه
أن الروح في الصفاء والكدورة يناسب المزاج في الاعتدال وعدمه وقت التكون، فلكل
مزاج يناسبه ويخصه، إذ الفيض يصل بحسب المناسبة وتفاوت الأرواح في الأزل
بحسب صنوفها ومراتبها في القرب والبعد، فتتفاوت الأمزجة بحسبها في الأبد لتتصل
بها. والأبدان المتناسلة بعضها من بعض متشابهة في الأمزجة على الأكثر، اللهم إلا
لأمور عارضة اتفاقية، فكذلك الأرواح المتصلة بها متقاربة في الرتبة، متناسبة في
الصفة. وهذا مما يقوي أن المهدي عليه السلام من نسل محمد صلى الله عليه وسلم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 35 إلى
125

37
* (والله سميع) * حين قالت امرأة عمران: * (رب إني نذرت) * إلى قولها:
* (عليم) * بنيتها كما شهدت بقولها * (إنك أنت السميع العليم) *. واعلم أن النيات
وهيئات النفس مؤثرة في نفس الولد، كما أن الأغذية مؤثرة في بدنه. فمن كان غذاؤه
حلالا طيبا وهيئات نفسه نورية ونياته صادقة حقانية، جاء ولده مؤمنا صديقا أو وليا أو
نبيا. ومن كان غذاؤه حراما وهيئات نفسه ظلمانية خبيثة ونياته فاسدة رديئة جاء ولده
فاسقا أو كافرا خبيثا. إذ النطفة التي يتكون الولد منها متولدة من ذلك الغذاء، مرباة
بتلك النفس، فتناسبها. ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' الولد سر أبيه '، فكان صدق مريم
وبنوة عيسى عليهما السلام بركة صدق أبيها * (وجد عندها رزقا) * يجوز أن يراد به
الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله، إذ
الاختصاص بالعندية يدل على كونها من الأرزاق اللدنية.
[تفسير سورة آل عمران من آية 38 إلى آية 42]
* (هنالك دعا زكريا ربه) * كان زكريا شيخا هرما، وكان مقدما للناس، إماما،
طلب من ربه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم كما أشار إليه في سورة
(كهيعص) فوهب له يحيى من صلبه بالقدرة، بعدما أمر باعتكاف ثلاثة أيام ولك
التأويل بالتطبيق على أحوالك وتفاصيل وجودك كما علمت، وهو أن الطبيعة
الجسمانية، أي: القوة البدنية. امرأة عمران الروح نذرت ما في قوتها من النفس
المطمئنة لله تعالى بانقيادها لأمر الحق ومطاوعتها له، فوضعت أنثى النفس فكفلها
الله، زكريا الفكر، بعدما تقبلها لكونها زكية، قدسية، فكلما دخل عليها زكريا الفكر
محراب الدماغ وجد عندها رزقا من المعاني الحدسية التي انكشفت عليها بصفائها من
غير امتياز الفكر إياها. فهنالك دعا زكريا الفكر، تركيب تلك المعاني واستوهب من
126

الله ولدا طيبا مقدسا عن لوث الطبيعية، فسمع الله دعاءه، أي: أجاب، فنادته ملائكة
القوى الروحانية وهو قائم بأمره في تركيب المعلومات، يناجي ربه باستنزال الأنوار،
ويتقرب إليه بالتوجه إلى عالم القدس في محراب الدماغ.
* (أن الله يبشرك بيحيى) * العقل بالفعل * (مصدقا) * بعيسى القلب، مؤمنا به، وهو
كلمة من الله لتقدسه عن عالم الأجرام والتولد عن المواد * (وسيدا) * لجميع أصناف
القوى * (وحصورا) * مانعا نفسه عن مباشرة الطبيعة الجسمانية وملابسة طبائع القوى
البدنية * (ونبيا) * بالإخبار عن المعارف والحقائق الكلية، وتعليم الأخلاق الجميلة،
والتدابير السديدة بأمر الحق * (من الصالحين) *. ومن جملة المفارقات والمجردات التي
تصلح بأفعالها أن تكون من مقربي حضرة الله تعالى بعد أن بلغ الفكر كبر منتهى طوره
ولم يكن منتهيا إلى إدراك الحقائق القدسية، والمعارف الكلية. وكانت امرأته التي هي
طبيعة الروح النفسانية لأنها محل تصرف الفكر عاقرا بالنور المجرد.
وعلامة ذلك، أي: علامة حصول النور المجرد وظهوره من النفس الزكية،
إمساكه عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول
لذاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام، كل يوم عقد تام من أطوار عمره عشر سنين، إلا أن
يرمز إليهم بإشارة خفية، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن
يدنو منهم في مقاصدهم، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من
ابتداء سن التمييز، الذي هو العشر الأول، بذكر ربه في محراب الدماغ والتسبيح
المخصوص به دائما.
[تفسير سورة آل عمران من آية 42 إلى آية 46]
وكذا قالت ملائكة القوى الروحانية لمريم النفس الزكية الطاهرة. * (إن الله اصطفاك) * لتنزهك عن الشهوات * (وطهرك) * عن رذائل الأخلاق والصفات المذمومة
* (واصطفاك على نساء) * نفوس الشهوانية الملونة بالأفعال الذميمة والملكات الرديئة * (يا مريم) * أطيعي لربك بوظائف الطاعات والعبادات * (واسجدي) * في مقام الانكسار والذل
والافتقار والعجز والاستغفار * (واركعي) * في مقام الخضوع والخشوع مع الخاضعين.
127

* (ذلك من أنباء الغيب) * أي: أحوال غيب وجودك * (نوحيه إليك) * يا نبي الروح
* (وما كنت لديهم) * لدى القوى الروحانية والنفسانية، أي: في رتبتهم ومقامهم * (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * أي: يتسابقون في سهامهم ويتبادرون في حظوظهم
أيهم يدبر مريم النفس ويكفلها بحسب رأيه ومقتضى طبعه يترأس عليها ويأمرها بما
يراه من مصلحة أمره * (وما كنت لديهم) * في مقام الصدور الذي هو محل نزاع القوى
الروحانية والنفسانية ومحل نزاعهم الذي هو الصدر * (إذ يختصمون) * يتنازعون
ويتجاذبون في طلب الرياسة عند ظهوره قبل الرياضة وفي حالها، إذ غلبت ملائكة
القوى الروحانية بتوفيق الحق بعد الرياضة. وقالت لمريم النفس: * (إن الله يبشرك بكلمة) * القلب موهوبا * (منه اسمه المسيح) * لأنه يمسحك بالنور * (وجيها في الدنيا) *
لإدراكه الجزئيات وتدبير مصالح المعاش أجود وأصفى وأصوب ما يكون، فيطيعه
ويذعن له، ويحتشمه ويعظمه، أنس القوى الظاهرة وجن القوى الباطنة * (و) * في
* (الآخرة) * لإدراكه المعاني الكلية والمعارف القدسية وقيامه بتدبير المعاد والهداية إلى
الحق، فنعطيه ملكوت سماء الروح، ونكرمه. ومن جملة مقربي حضرة الحق قابلا
لتجلياته ومكاشفاته * (ويكلم الناس) * في مهد البدن * (وكهلا) * بالغا إلى قرب طور شيخ
الروح، غالبا عليه بياض نوره * (ومن الصالحين) * لمقام المعرفة.
[تفسير سورة آل عمران من آية 47 إلى آية 51 ي
* (قالت رب أنى يكون لي ولد) * تعجب النفس من حملها وولادتها من غير أن
يمسها بشر، أي من غير تربية شيخ وتعليم معلم بشري، وهو معنى بكارتها * (قال كذلك الله يخلق ما يشاء) * أي: يصطفي من شاء بالجذب والكشف ويهب له مقام
القلب من غير تربية وتعليم كما هو حال المحبوبين وبعض المحبين.
* (ويعلمه) * بالتعليم الرباني، كتاب العلوم المعقولة، وحكم الشرائع، ومعارف
الكتب الإلهية من التوراة والإنجيل، أي معارف الظاهر والباطن * (ورسولا) * إلى
128

المستعدين الروحانيين من أسباط يعقوب الروح * (أني قد جئتكم بآية من ربكم) * تدل
على أني آتيكم من عنده * (أني أخلق لكم) * بالتربية والتزكية والحكمة العملية من طين
نفوس المستعدين الناقصين * (كهيئة الطير) * الطائر إلى جناب القدس من شدة الشوق
* (فأنفخ فيه) * من نفث العلم الإلهي ونفس الحياة الحقيقية بتأثير الصحبة والتربية
* (فيكون طيرا) * أي: نفسا حية طائرة بجناح الشوق والهمة إلى جناب الحق * (وأبرئ الأكمه) * المحجوب عن نور الحق الذي لم تنفتح عين بصيرته قط ولم تبصر شمس
وجه الحق ولا نوره ولم يعرف أهله بكحل نور الهداية * (والأبرص) * المعيوب نفسه
بمرض الرذائل والعقائد الفاسدة ومحبة الدنيا ولوث الشهوات بطب النفوس * (وأحيي) *
موتى الجهل بحياة العلم * (بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون) * تتناولون من مباشرة الشهوات
واللذات * (وما تدخرون في بيوتكم) * أي: في بيوت غيوبكم من الدواعي والنيات * (إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * أي: من توراة
علم الظاهر * (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * من أنوار الباطن * (وجئتكم بآية) *
بدليل * (من ربكم) * هو التوحيد الذي لم يخالفني فيه نبي قط * (فاتقوا الله) * في
مخالفتي، فإني على الحق * (وأطيعون) * في دعوتكم إلى التوحيد.
[تفسير سورة آل عمران من آية 52 إلى آية 55]
* (فلما أحس عيسى) * القلب من القوى النفسانية * (الكفر) * الاحتجاب والإنكار
والمخالفة * (قال من أنصاري إلى الله) * أي: اقتضى من القوة الروحانية نصرته عليهم
في التوجه إلى الله * (قال الحواريون) * أي: صفوته وخالصته من الروحانيات المذكورة
* (نحن أنصار الله آمنا بالله) * بالاستدلال وبالتنور بنور الروح * (واشهد بأنا مسلمون) *
مذعنون منقادون * (ربنا آمنا بما أنزلت) * من علم التوحيد وفيض النور * (واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين) * الحاضرين لك، المراقبين لأمرك، أو من الشاهدين على
وحدانيتك.
* (ومكروا) * أي: الأوهام والخيالات في اغتيال القلب وإهلاكه بأنواع التسويلات
* (ومكر الله) * بتغليب الحجج العقلية، والبراهين القاطعة عن تخيلاتها وتشكيكاتها ورفع
عيسى القلب إلى سماء الروح، وألقى شبهه على النفس ليقع اغتيالهم * (والله خير
129

الماكرين) * إذا غلب مكره. وقال لعيسى: * (إني متوفيك) * أي: قابضك إلي من بينهم
* (ورافعك إلي) * أي: إلى سماء الروح في جواري * (ومطهرك من) * رجز جوار * (الذين
كفروا) * من القوى الخبيثة ومكرهم وخبث صحبتهم * (وجاعل الذين اتبعوك) * من
الروحانيين * (فوق الذين كفروا) * من النفسانيات إلى يوم القيامة الكبرى والوصول إلى
مقام الوحدة * (ثم) * (يومئذ) * (إلي مرجعكم فأحكم بينكم) * (بالحق) * (فيما كنتم فيه
تختلفون) * قبل الوحدة من التجاذب والتنازع الواقع من القوى. فأقر كلا في مقره هناك
وأعطيه ما يليق به من عندي فيرتفع التخالف والتنازع.
[تفسير سورة آل عمران من آية 56 إلى آية 58]
* (فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا) * بالحرمان عن مقام القلب،
والاحتجاب بهيئات أعمالهم * (وأما الذين آمنوا) * من الروحانيات * (وعملوا الصالحات) *
من أنواع التزكية والتحلية والتصفية في إعانة القلب على النفس ومتابعته في التوجه إلى
الحق * (فيوفيهم أجورهم) * من الأنوار القدسية والإشراقات الروحية عليهم * (والله لا
يحب) * الذين ينقصون الأجور من الحقوق.
وأما التأويل بغير التطبيق، فهو أنهم مكروا ببعث من يغتال عيسى عليه السلام،
فشبه لهم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله عليه السلام بصورة حقيقة عيسى،
فظنوها عيسى فقتلوها وصلبوها، والله رفع عيسى عليه السلام إلى السماء الرابعة لكون
روحه عليه السلام فائضا من روحانية الشمس، ولم يعلموا لجهالتهم أن روح الله لا
يمكن قتله. ولما تيقن حاله قبل الرفع قال لأصحابه: ' إني ذاهب إلى أبي وأبيكم
السماوي '، أي: أتطهر من عالم الرجس، وأتصل بروح القدس الواهب الصور،
المفيض للأرواح والكمالات، المربي للناس بالنفث في الروح، فأمدكم من فيضه.
وكان إذ ذاك لا تقبل دعوته ولا يتبع مثله، فأمر الحواريين بالتفرق بعده في البلاد
والدعوة إلى الحق، فقالوا: كيف ذاك إذا لم تكن معنا؟ والآن أنت بين أظهرنا ولا
تجاب دعوتنا؟ قال: ' علامة إمدادي إياكم قبول الخلق دعوتكم بعدي '. فلما رفع لم
يدع أصحابه أحدا إلا أجابهم، وظهر لهم القبول في الخلق، وعلت كلمتهم، وانتشر
دينهم في أقطار الأرض. ولما لم يصل إلى السماء السابعة التي عرج بمحمد صلى الله عليه وسلم
130

إليها، المعبر عنها ب ' سدرة المنتهى ' أعني: مقام النهاية في الكمال، ولم ينل درجة
المحبة، لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسمانية، يتبع الملة المحمدية
لنيل درجتها، والله أعلم بحقائق الأمور.
[تفسير سورة آل عمران من آية 59 إلى آية 60]
* (إن مثل عيسى) * أي: إن صفته عند الله في إنشائه بالقدرة من غير أب * (كمثل آدم) * في إنشائه من غير أبوين. واعلم أن عجائب القدرة لا تنقضي ولا قياس ثمة
على أن لتكون الإنسان من غير الأبوين نظيرا من عالم الحكمة، فإن كثيرا من
الحيوانات الناقصة الغريبة الخلقة تتولد خلقا في ساعة، ثم تتناسل وتتوالد، فكذا
الإنسان، يمكن حدوثه بالتولد في دور من الأدوار، ثم بالتولد، وكذا التكون من غير
أب، فإن مني الرجل أحر كثيرا من مني المرأة، وفيه القوة العاقدة أقوى كما في
الإنفحة بالنسبة إلى الجبن، والمنعقدة في مني المرأة أقوى، كما في اللبن فإذا اجتمعا
تم العقد وانعقد، ويتكون الجنين. فيمكن وجود مزاج إناثي قوي يناسب المزاج
الذكوري كما يشاهد في كثير من النسوان، فيكون المتولد في كليتها اليمنى بمثابة مني
الذكر لفرط حرارته بمجاورة الكبد لمن مزاج كبدها صحيح قوي الحرارة، والمتولد
في كليتها اليسرى بمثابة مني الأنثى فإذا احتملت المرأة لاستيلاء صورة ذكورية على
خيالها في النوم واليقظة بسبب اتصال روحها بروح القدس وبملك آخر، ومحاكاة
الخيال، ذلك كما قال تعالى: * (فتمثل لها بشرا سويا) * [مريم، الآية: 17] سبق المنيان
من الجانبين إلى الرحم فتكون في المنصب من الجانب الأيمن قوة العقد أقوى، وفي
المنصب من الجانب الأيسر قوة الانعقاد، فيتكون الجنين ويتعلق به الروح. وقوله:
* (كن فيكون) * إشارة إلى نفخ الروح وكونه من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة،
كخلق الجسد، فيتناسب آدم وعيسى بما ذكر في اشتراكهما في خرق العادة وبكون
جسديهما مخلوقين من تراب العناصر، مسبوقين بمادة ومدة وكون روحهما مبدعا من
عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة.
[تفسير سورة آل عمران من آية 61 إلى آية 63]
* (فمن حاجك فيه) * أي: في عيسى، الآية. إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه
131

اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به، وهو المؤثر بإذن الله في العالم
العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة
عليه كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك من تحرك الأعضاء عند
حدوث الإرادات والعزائم وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من
هيئات أرواحنا. فإذا اتصل نفس قدسي به أو ببعض أرواح أجرام السماوية والنفوس
الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فتنفعل أجرام
العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى
من نفسه صلى الله عليه وسلم بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية.
* (وما من إله إلا الله) * أي: ليس عيسى من الإلهية في شيء، فلا يستحق العبادة
بمجرد تجرد ذاته، فإن عالم الملكوت والجبروت كله كذلك.
تفسير سورة آل عمران من آية 64
132

إلى آية] * (سواء بيننا وبينكم) * أي: لم يختلف في كلمة التوحيد نبي ولا كتاب قط * (وما
كان لبشر أن يؤتيه الله) * الآية: الاستنباء لا يكون إلا بعد مرتبة الولاية والفناء في
التوحيد. ما ينبغي لبشر محا الله بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقانيا
قابلا للكتاب والحكمة الإلهية، ثم يدعو الخلق إلى نفسه، إذ الداعي إلى نفسه يكون
محجوبا بالنفس كفرعون وأضرابه من الذين علموا التوحيد وما وجدوه حالا وذوقا،
ولم يصلوا إلى العيان ونفوسهم باقية ما ذاقت طعم الفناء، فاحتجبوا بها، فدعوا
الخلق إلى نفوسهم وهم ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' شر الناس من قامت القيامة
عليه وهو حي '. * (ولكن) * يقول * (كونوا ربانيين) * منسوبين إلى الرب لاستيلاء الربوبية
عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله، أي:
كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات حتى تصيروا ربانيين
بغلبة النور على الظلمة * (ولا يأمركم) * بتعبد معين والتقيد بصورة، فإنه حجاب وكفر
ولا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب بعد إسلامكم الوجود لله.
تفسير سورة آل عمران آية 81]
* (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) * إلى آخره، إن بين النبيين تعارفا أزليا بسبب كونهم
أهل الصف الأول، عرفاء بالله، وكل عارف يعرف مقام سائر العرفاء ومتعهدهم من
الله بعهد التوحيد عام لبني آدم، كما ذكر، وعهد النبيين خاص بهم وبمن يعرفهم بحق
المتابعة، فقد أخذ الله من النبيين عهدين أحدهما ما ذكر في قوله: * (وإذ أخذ ربك من بني آدم) * [الأعراف، الآية: 172] إلى آخره. وثانيهما ما ذكر في قوله تعالى: * (وإذ أخذنا
من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا
غليظا 7) * [الأحزاب، الآية: 7] وهو عهد التعارف بينهم، وإقامة الدين، وعدم التفرق
به بتصديق بعضهم بعضا ودعوة الحق إلى التوحيد، وتخصيص العبادة بالله تعالى،
وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريف بعضهم بعضا إلى أممهم وخصوصه بسبب أن معرفة الله
133

تعالى في صورة التفاصيل، وحجب الصفات، وتكثر المظاهر أدق وأخفى من معرفته
في عين الجمع وهم من رزق حق المتابعة عارفون بذلك وبأحكام تجليات الصفات
التي هي الشرائع خاصة دون من عداهم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 82 إلى آية 84]
* (فمن تولى بعد ذلك) * أي: بعدما علم عهد الله مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما
عهد الله إليهم * (فأولئك هم الفاسقون) * الخارجون عن دين الله ولا دين غيره معتد به
في الحقيقة إلا توهما * (أفغير دين الله يبغون) * وكل من في السماوات والأرض يدين
بدينه * (طوعا) * كما عدا الإنسان والشيطان * (وكرها) * كالإنسان والشيطان إذ الكفر لا
يسع موجودا سواهما، فكلهم ممتثلون لما أمرهم الله، طائعون. والإنسان لاحتجابه
بإرادته ونسيانه عهد الله وقبوله لدعوة الشيطان لمناسبته إياه بالظلمة النفسانية لا يؤمن
ولا ينقاد إلا كرها، اللهم إلا من عصمه الله واجتباه، والشيطان لاحتجابه بعجبه وأنيته
في قوله * (أنا خير منه) * [الأعراف، الآية: 12] وإبائه، واستكباره كفر، وهو مع ذلك
يعلم عصيانه ويؤمن كرها، ويتحقق أن كفره بإرادته تعالى وذلك عين الإيمان، كما
قال تعالى: * (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني
أخاف الله رب العالمين 16) * [الحشر، الآية: 16]، وقال تعالى: * (وإذ زين لهم الشيطان
أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما ترآءت الفئتان
نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد
العقاب 48) * [الأنفال، الآية: 48]، وفي موضع آخر: * (وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل) * [إبراهيم، الآية: 22]، فهذه الآيات دالة على إيمانه ولكن حين لا
ينفعه * (وإليه ترجعون) * في العاقبة، فلا يبقى دين غير دين الله بل الكل عند الرجوع
يدين بدينه.
* كل يدين بدين الحق لو فطنوا
* وليس دين لغير الحق مشروع) *
تفسير سورة آل عمران من آية 85
134

إلى آية 90]
* (ومن يبتغ غير الإسلام دينا) * المراد من الإسلام ههنا: التوحيد الذي هو دين
الله في قوله: * (أسلمت وجهي لله) * وهو المذكور في الآية التي قبلها، وما وصف
شموله لجميع الأديان ويلزمه الانقياد التام الطوعي المذكور في فاصلة الآية بقوله:
* (ونحن له مسلمون) * [البقرة، الآية: 133]، * (فلن يقبل منه) * لعدم وصول دينه إلى الحق
تعالى لمكان الحجاب * (وهو في الآخرة من الخاسرين) * الذين خسروا باشترائهم
أنفسهم وما حجبوا به بالحق.
* (كيف يهدي الله قوما) * إلى آخره، أنكر هدايته تعالى لقوم قد هداهم أولا
بالنور الاستعدادي إلى الإيمان، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقية الرسول صلى الله عليه وسلم
وأيقنوا بحيث لم يبق لهم شك، وانضم إليه الاستدلال العقلي بالبينات ثم ظهرت
نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم
وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق لشؤم ظلمهم وقوة استيلاء نفوسهم الأمارة
عليهم الذي هو غاية الظلم، فقال: * (والله لا يهدي القوم الظالمين) * لغلظ حجابهم
وتعمقهم في البعد عن الحق، وقبول النور وهم قسمان: قسم رسخت هيئة استيلاء
النفوس الأمارة على قلوبهم فيهم وتمكنت وتناهوا في الغي والاستشراء، وتمادوا في
البعد والعناد، حتى صار ذلك ملكة لا تزول، وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ولم
يصر على قلوبهم رينا، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم عسى
أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق، فيندموا ويستحيوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى
القسم الأول بقوله: * (إن الذين كفروا بعد إيمانهم) * إلى آخره. وإلى الثاني بقوله:
* (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) * بالمواظبة على الأعمال والرياضات ما
أفسدوا.
[تفسير سورة آل عمران من آية 91 إلى آية 95
135

* (فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا) * إذ لا تقبل هناك إلا الأمور النورانية
الباقية لأن الآخرة هي عالم النور والبقاء، فلا وقع ولا خطر للأمور الظلمانية فيها
الفانية. وهل كان سبب كفرهم واحتجابهم إلا محبة هذه الفواسق الفانية؟، فكيف
تكون سبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وندبتهم وهي بعينها سبب هلاكهم وبعدهم
وخسرانهم وحرمانهم.
* (لن تنالوا البر) * كل فعل يقرب صاحبه من الله فهو بر، ولا يمكن التقرب إليه
إلا بالتبري عما سواه، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به وأشرك شركا خفيا
لتعلق محبته بغير الله، كما قال تعالى: * (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله) * [البقرة، الآية: 156] وآثر نفسه به على الله، فقد بعد من الله بثلاثة
أوجه وهي: محبة غير الحق، والشرك، وإيثار النفس على الحق. فإن آثر الله به على
نفسه وتصدق به وأخرجه من يده، فقد زال البعد وحصل القرب، وإلا بقي محجوبا
وإن أنفق من غيره أضعافه فما نال برا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
* (كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل) * أي: العقلاء بحكم الأصل، إذ العقل
يحكم بأن الأشياء خلقت لمنافع العباد مطلقا فما يكون من جملة المطعومات خلقت
لتناولها * (إلا ما حرم إسرائيل) * الروح * (على نفسه) * بالنظر العقلي عند التجربة
والقياس ومعرفة مضارها ومنافعها على التفصيل بعد الحكم الإجمالي بحلها، فإن
العقل يحكم بحرمة ما يضر أو يهلك.
* (من قبل أن تنزل التوراة) * أي: من قبل نزول الحكم الشرعي بالتوراة وسائر
الكتب الإلهية وذلك أن الناس اختلفوا بعدما كانوا أمة واحدة على دين الحق، كما
ذكر، فبعث الله النبيين لهدايتهم وإصلاح أحوال معاشهم ومعادهم، وردهم إلى الحق
والاتفاق، فما اقتضت الحكمة الإلهية بحسب أحوالهم المختلة وطباع قلوبهم المخرفة
ونفوسهم المريضة، حرمته من المألوفات والأشياء الصارفة عن الحق الحاجبة بينهم
وبين الله، والمهيجة للهوى والشهوات وسائر المفاسد والفتن المانعة إياهم عن كمالهم
واهتدائهم حرم عليهم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 96 إلى آية 97]
136

* (إن أول بيت وضع للناس) * قيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق
السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء،
فدحيت الأرض تحته. فالبيت إشارة إلى القلب الحقيقي، وظهوره على وجه الماء
تعلقه بالنطفة عند سماء الروح الحيواني، وأرض البدن وخلقه قبل الأرض إشارة إلى
قدمه، وحدوث البدن وتعيينه بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين: طور
النفس، وطور القلب. تقدما بالرتبة، إذ الألف رتبة تامة كما سبقت الإشارة إليه،
وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن
من تأثير، وكون أشكاله وتخطيطاته وصور أعضائه تابعة لهيئاته فهذا تأويل الحكاية.
واعلم أن محل تعلق الروح بالبدن، واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب
الصوري، وهو أول ما يتكون من الأعضاء، وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن
فيكون أول بيت وضع للناس * (للذي ببكة) * الصدر صورة أو أول متعبد ومسجد
وضع للناس للقلب الحقيقي الذي ببكة الصدر المعنوي، وذلك الصدر أشرف مقام من
النفس وموضع ازدحامات القوى المتوجهة إليه * (مباركا) * ذا بركة إلهية من الفيض
المتصل منه بجميع الوجود والقوة والحياة، فإن جميع القوى التي في الأعضاء تسري
منه أولا إليها * (وهدى للعالمين) * سبب هداية ونور يهتدى به إلى الله * (فيه آيات بينات) * من العلوم والمعارف والحكم والحقائق * (مقام إبراهيم) * أي: العقل الذي هو
موضع قدم إبراهيم الروح، يعني محل اتصال نوره من القلب * (ومن دخله) * من
السالكين والمتحيرين في بيداء الجهالات * (كان آمنا) * من إغواء سعالى المتحيلة،
وعفاريت أحاديث النفس، واختطاف شياطين الوهم، وجن الخيالات، واغتيال سباع
القوى النفسانية وصفاتها.
* (ولله على الناس حج) * هذا * (البيت) * والطواف به * (من استطاع إليه سبيلا) *
من السالكين، المستعدين الصادقين في الإرادة، القادرين على زاد التقوى، وراحلة
قوة العزم دون من عداهم من الضعاف في الاستعداد، القاعدين من الضعف والمرض
وسائر الموانع الخلقية أو العارضة النفسانية أو البدنية * (ومن كفر) * أي: حجب
استعداده مع القدرة وأعرض عنه بهوى النفس * (فإن الله غني) * عنه و * (عن العالمين) *
كلهم، أي: لا يلتفت إليه لبعده وكونه غير قابل لرحمته في ذل الحجاب، وهو أن
الحرمان مخذولا مردودا.
137

[تفسير سورة آل عمران من آية 98 إلى آية 102]
* (ومن يعتصم بالله) * بالانقطاع عما سواه، والتمسك بالتوحيد الحقيقي * (فقد هدي إلى صراط مستقيم) * إذ الصراط المستقيم هو طريق الحق تعالى، كما قال: * (إن ربي على صراط مستقيم) * [هود، الآية: 56]، فمن انقطع إليه بالفناء في الوحدة كان صراطه
صراط الله * (اتقوا الله حق تقاته) * في بقايا وجودكم، فإن حق اتقائه هو أن يتقى كما
يجب، ويحق وهو الفناء فيه، أي: اجعلوه وقاية لكم في الحذر عن بقايا ذواتكم
وصفاتكم، فإن في الله خلفا عن كل ما فات * (ولا تموتن) * إلا على حال إسلام
الوجوه له، أي: ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد.
[تفسير سورة آل عمران من آية 103 إلى آية 105]
* (واعتصموا بحبل الله جميعا) * أي: بعهده في قوله: * (ألست بربكم) * [الأعراف،
الآية: 172] مجتمعين على التوحيد * (ولا تفرقوا) * باختلاف الأهواء، فإن التفرق عن
الحق إنما يكون باختلاف الطبائع واتباع الهوى وتجاذب القوى، والموحد عنها
بمعزل، إذ تنور قلبه بنور الحق واستنارت نفسه من فيض القلب فتسالمت القوى
وتصادقت. * (واذكروا نعمة الله عليكم) * بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب
* (إذ كنتم أعداء) * لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية، بعداء عن النور
والمقاصد الكلية التي تقبل الشركة وتزال بالاتفاق في مهوى الظلمة * (فألف بين قلوبكم) * بالتحاب في الله لتتنور بنوره * (فأصبحتم بنعمته إخوانا) * في الدين، أصدقاء
في الله * (وكنتم على شفا حفرة من النار) * هي مهوى الطبيعة الفاسقة ومحل الحرمان
والتعذيب * (فأنقذكم منها) * بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح، وروح جنة
الذات * (كذلك يبين الله لكم آياته) * بتجليات الصفات اللطيفة والإشراقات النورية
138

* (لعلكم تهتدون) * إلى جماله وتجلي ذاته.
* (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير) * أي: ليكن من جملتكم جماعة عالمون،
عاملون، عارفون، أولو استقامة في الدين كشيوخ الطريقة * (يدعون إلى الخير) * فإن
من لم يعرف الله لم يعرف الخير، إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يمكن
للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق تعالى، والوصول إليه، والإضافي ما يتوصل به
إلى المطلق أو الكمال المخصوص بكل أحد على حسب اقتضاء استعداده الخاص.
فالخير المدعو إليه، إما الحق تعالى، وإما طريق الوصول.
والمعروف كل أمر واجب أو مندوب في الدين، يتقرب به إلى الله تعالى،
والمنكر كل محرم أو مكروه يبعد عن الله تعالى ويجعل فاعله عاصيا أو مقصرا
مذموما. فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة، لم يكن له مقام الدعوة ولا مقام الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن غير الموحد ربما يدعو إلى طاعة غير الله وغير
المستقيم في الدين وإن كان موحدا ربما أمر بما هو معروف عنده، منكر في نفس
الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده، معروف في نفس الأمر، كمن بلغ مقام الجمع
واحتجب بالحق عن الخلق، فكثيرا ما يستحل محرما كبعض المسكرات والتصرف في
أموال الناس، ويحرم حلالا بل مندوبا كتواضع الخلق ومكافأة الإحسان وأمثال ذلك
* (وأولئك هم) * الأخصاء بالفلاح، الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في
أرضه.
* (ولا تكونوا) * ناشئين بمقتضى طباعكم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة
واحدة باتباع مقدم يجمعكم على طريقة واحدة * (كالذين تفرقوا) * واتبعوا الأهواء
والبدع * (واختلفوا من بعد ما جاءهم) * الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد
الوجهة، واتفاق الكلمة. فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة وأهواء متفرقة، وعادات
وسيرا متفاوتة، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم، ويترتب على ذلك فهوم متباينة،
وأخلاق متعادية، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم
بمتابعته، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرقين
فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب، ولهذا قال أمير المؤمنين علي عليه
السلام: ' لا بد للناس من إمام بر أو فاجر '. ولم يرسل نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين فصاعدا
لشأن إلا وأمر أحدهما على الآخر وأمر الآخر بطاعته ومتابعته ليتحد الأمر وينتظم،
وإلا وقع الهرج والمرج، واضطرب أمر الدين والدنيا، واختل نظام المعاش والمعاد.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنة '. وقال
139

صلى الله عليه وسلم: ' الله مع الجماعة '. ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برياسة القلب
وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت إلى الفساد والتفرق الموجب لخسارة الدنيا
والآخرة، ولما نزل قوله تعالى: * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) * [الأنعام، الآية: 153]. خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا فقال: ' هذا
سبيل الرشد '، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال: ' هذه سبل كل سبيل شيطان
يدعوه إليه '.
[تفسير سورة آل عمران من آية 106 إلى آية 109
* (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب
بنور الحق للتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة، وذاك لا يكون
إلا بالتوحيد والاستقامة فيه بتنور النفس أيضا بنور القلب. فتكون الجملة متنورة بنور
الله واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة حظوظها والإعراض عن
الجهة النورية الحقية لمصادقة النفس ومتابعة الهوى في تحصيل لذاتها، وذلك إنما
يكون باتباع السبل المتفرقة الشيطانية. * (فأما الذين اسودت وجوههم) * فيقال لهم:
* (أكفرتم بعد إيمانكم) * أي: احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية، وسكنتم
في ظلماتها بعد هدايتكم وتنوركم بنور الاستعداد، وصفاء الفطرة وهداية العقل
* (فذوقوا) * عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق * (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله) * التي هي روح الوصال ونور القدس وشهود الجمال * (هم فيها خالدون) *.
[تفسير سورة آل عمران من آية 110 إلى آية 111]
* (كنتم خير أمة) * لكونكم موحدين، قائمين بالعدل الذي هو ظله * (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * إذ لا يقدر على ذلك إلا الموحد العادل لعلمه
بالمعروف والمنكر، كما مر في تأويل قوله: * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) * [البقرة، الآية:
143]. قال أمير المؤمنين عليه السلام: ' نحن النمرقة الوسطى، بنا يلحق التأويل،
وإلينا يرجع الغالي '. فيأمرون المقصر بالمعروف الذي يوصله إلى مقام التوحيد،
140

وينهون الغالي المحجوب بالجمع عن التفصيل وبالوحدة عن الكثرة. * (وتؤمنون بالله) *
أي: تثبتون في مقام التوحيد الذي هو الوسط، وكذا في كل تفريط وإفراط واعتدال
في باب الأخلاق * (ولو آمن أهل الكتاب) * لكانوا مثلكم.
* (لن يضروكم إلا أذى) * لكونهم منقطعين عن أصل القوى والقدر، كائنين في
الأشياء بالنفس التي هي محل العجز والشر، وأنتم معتصمون بالله، معتضدون به،
كائنون في الأشياء بالحق الذي هو منبع القهر. فقدرتهم لا تبلغ إلا حد الطعن باللسان
والخبث والإيذاء الذي هو حد قدرة النفس ونهايتها، وقدرتكم تفوق كل قدرة بالقهر
والاستئصال لاتصافكم بصفات الله تعالى، فلا جرم ينهزمون منكم عند المقاتلة ولا
ينصرون.
[تفسير سورة آل عمران آية 112]
* (ضربت عليهم الذلة) * لأن العزة لله جميعا، فلا نصيب فيها لأحد إلا لمن
تخلق بصفاته بمحو صفات البشرية، كالرسول والمؤمنين الذين هم مظاهر عزته، كما
قال الله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * [المنافقون، الآية: 8]، فمن خالفهم
فهو مضاد لصفة العزة، مباين للأعزاء، فتلزمه الذلة وتشمله على أي حال يكون، إلا
برابطة ما بينه وبين أهل العزة كقوله: * (إلا بحبل من الله وحبل من الناس) * أي: ذمة
وعهد، وذلك يكون أمرا عارضيا لا أصل له مرتبطا برابطة مجعولة فلا تقابل صفتهم
الذاتية اللازمة لهم التي هي الذلة الناشئة من أصل نفوسهم. واستحقوا غضبا شديدا
من عند الله لبعدهم وإعراضهم عن الحق، ولزمتهم المسكنة لانقطاعهم عن الله إلى
نفوسهم فوكلهم إلى أنفسهم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 113 إلى 117]
* (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة) * أي: بالله، ثم وصفهم بأحوال أهل
141

الاستقامة، أي منهم أهل التوحيد والاستقامة * (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) * أي:
كل ما يصدر منكم مما يقربكم عند الله يتصل به جزاؤه ومنه لن تحرموا شيئا منه. قال
الله تعالى: ' من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا، ومن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه
باعا، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة '.... الحديث. وقال تعالى: ' أنا جليس من ذكرني،
وأنيس من شكرني، ومطيع من أطاعني ' أي: كما أطعتموه بتصفية الاستعداد والتوجه
نحوه، أطاعكم بإفاضة الفيض على حسبه والإقبال إليكم * (والله عليم) * بالذين اتقوا ما
يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
* (مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا) * الفانية ولذاتها السريعة الزوال، طلبا
للشهوات أو رياء وسمعة في المفاخر، وطلب محمدة الناس، لا يطلبون به وجه الله،
وما تهلكه وتفنيه بالكلية من ريح هوى النفس التي فيها برد دنياتكم الفاسدة وأغراضكم
الباطلة كالرياء ونحوه * (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم) * بالشرك
والكفر * (فأهلكته) * عقوبة من الله لظلمهم * (وما ظلمهم الله) * بإهلاك حرثهم * (ولكن) *
كانوا أنفسهم يظلمون لأنه مسبب عن ظلمهم، كما قيل: مهلا فيداك، وكتا وفوك
نفخ.
[تفسير سورة آل عمران آية 118]
* (لا تتخذوا بطانة من دونكم) * بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع
عليه أسراره، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في
الدين والصفة، متحابين في الله لا لغرض كما قيل في الأصدقاء: نفس واحدة في
أبدان متفرقة، فإذا كان من غير أهل الإيمان فبأن يكون كاشحا أحرى. ثم بين نفاقه
واستبطانه العداوة بقوله: * (لا يألونكم خبالا) * إلى آخره، إذ المحبة الحقيقية الخالصة
لا تكون إلا بين الموحدين، لكونها ظل الوحدة فلا تكون بين المحجوبين لكونهم في
عالم التضاد والظلمة. فأين الصفاء والوفاق في عالمهم؟ بل ربما تتآلفهم الجنسية
العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها، فإذا
لم تتحصل أغراضهم من النفع واللذة تهارشوا وتباغضوا وبطلت الإلفة التي كانت
بينهم، لكونها مسببة عن أمر قد تغير إذ النفس منشأ التغير والمنافع الدنيوية لا تبقى
بحالها، واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها بخلاف المحبة
الأولى، فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا، هذا إذا كانت فيما بينهم، فكيف إذا
كانت بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف؟ وأنى يتجانس النور والظلمة؟
142

ومن أين يتوافق العلو والسفل؟ فبينهما عداوة حقيقية وتخالف ذاتي لا تخفى آثاره كما
بين الله تعالى بقوله: * (قد بدت البغضاء من أفواههم) * لامتناع اختفاء الوصف الذاتي.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات
وجهه '. * (وما تخفي صدورهم أكبر) * لأنه نار وهذا شرار، ذاك أصل، وهذا فرعه
* (قد بينا لكم الآيات) * دلائل المحبة والعداوة وأسبابهما * (إن كنتم تعقلون) * أي:
تفهمون من فحوى الكلام.
[تفسير سورة آل عمران آية 119]
* (ها أنتم أولاء تحبونهم) * بمقتضى التوحيد، إذ الموحد يحب الناس كلهم
بالحق للحق، ويراهم متصلين بنفسه اتصال الأحماء والأقرباء بل اتصال الأجزاء،
فينظر إليهم بنظر الرحمة الإلهية والرأفة الربانية، ويعطف عليهم مترحما إذ يراهم أهل
الرحمة شغلوا بالباطل، وابتلوا بالقدر ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والبقاء في ظلمة
النفس وتضاد الطبع.
* (وتؤمنون بالكتاب) * أي بجنس الكتاب * (كله) * لشمول علمكم التوحيدي، ولا
يؤمنون للتقيد بدينهم والاحتجاب بما هم عليه * (وإذا لقوكم قالوا آمنا) * لنفاقهم
المستجلب لأغراضهم العاجلة * (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ) * نحقدهم
الذاتي وبغضهم الكامن والباقي ظاهر.
[تفسير سورة آل عمران من آية 120 إلى آية 125]
* (وإن تصبروا) * على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب، وتثبتوا
على مقتضى التوحيد والطاعة * (وتتقوا) * الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى
ولايتهم * (ولا يضركم كيدهم شيئا) * لأن المتوكل على الله، الصابر على بلائه،
المستعين به لا بغيره، ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه،
والمستعين بغيره مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه. كما قال الشاعر:
143

* من استعان بغير الله في طلب
* فإن ناصره عجز وخذلان
*
* (إن الله بما يعملون) * من المكايد * (محيط) * فيبطلها ويهلكها، وقد قيل: إذا
أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. فالصبر والتقوى من أجمل
الفضائل إن لزمتموهما تظفروا على عدوكم.
* (بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم) * الآية.... الصبر على مضض الجهاد وبذل
النفس في طاعة الله، وتحمل المكروه طلبا لرضا الله لا يكون إلا عند التقوى بتأييد
الحق وتنوره بنور اليقين، وثباته بنزول السكينة والطمأنينة عليه، والتقوى في مخالفة
أمر الحق والميل إلى النفع والغنيمة، وخوف تلف النفس لا تكون إلا عند انكسار
النفس تحت قهر سلطان القلب والروح، إذ الثبات والوقار صفة الروح والطيش،
والاضطراب صفة النفس، فإذا استولى سلطان الروح على القلب وأخذ مملكته عصمه
من استيلاء صفات النفس وجنودها عليه، فيعشقه القلب ويسكن إليه لنورانيته المحبوبة
لذاتها ويتقوى به على النفس وقواها فيهزمها ويكسرها ويدفع غلبتها وظلمتها عن
نفسه، ويجعلها ذلولا مطيعة مطمئنة إليه فيزول عنها الاضطراب وتتنور بنوره وعند
ذلك تنزل الرحمة، ويناسب القلب ملكوت السماء في نورانيتها وقهرها لما تحتها،
ومحبتها وشوقها لما فوقها. وبذلك التناسب يصل بها ويستنزل قواها وأوصافها في
أفعاله خصوصا عند اهتياجه وانقلاعه عن الجهة السفلية، وانقطاعه بقوة اليقين والتوكل
إلى الجهة العلوية. ويستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه فذلك نزول
الملائكة، وإذا جزع وهلع وتغير وخاف أو مال إلى الدنيا غلبته النفس وقهرته
واستولت عليه وحجبته بظلمة صفاتها عن النور، فلم تبق تلك المناسبة، فانقطع المدد
ولم تنزل الملائكة.
تفسير سورة آل عمران من آية 126 إلى آية 132]
* (وما جعله الله إلا بشرى لكم) * أي: ما جعل الإمداد بالملائكة إلى لتستبشروا به
فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم في التوجه إلى الحق والتجريد
144

للسلوك * (ولتطمئن به قلوبكم) * فتتحقق الفيض بقدر التصفية والخلف بقدر الترك.
* (وما النصر إلا من عند الله) * لا من الملائكة ولا من غيرهم، فلا تحتجبوا
بالكثرة عن الوحدة، ولا بالخلق عن الحق، فإنها مظاهر لا حقيقة لها ولا تأثير،
* (العزيز) * القوي الغالب بقهره * (الحكيم) * الذي ستر قهره ونصرته بصور الملائكة
بحكمته.
* (ليقطع طرفا من الذين كفروا) * يقتل بعضهم تقوية للمؤمنين * (أو يكبتهم) *
يخزيهم ويذلهم بالهزيمة إعزازا للمؤمنين * (أو يتوب عليهم) * بالإسلام تكثيرا لسواد
المؤمنين * (أو يعذبهم) * بسبب ظلمهم وإصرارهم على الكفر تفريحا للمؤمنين. وأوقع
بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله: * (ليس لك من الأمر شيء) *
اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور، فيحتجب
عن التوحيد ولا يزول، وتتغير شهوده في الأقسام كلها، أي: ليس لك من أمرهم
شيء كيفما كان، ما أنت إلا بشر مأمور بالإنذار، إن عليك إلا البلاغ، إنما أمرهم إلى
الله.
* (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا) * أي: توكلوا على الله في طلب الرزق فلا
تكسبوه بالربا، فإنه واجب عليكم كما يجب عليكم التوكل عليه في طلب الفتح وجهاد
العدو لئلا تجبنوا بكلاءة الله وحفظه. واعلموا أن جزاء المرابي هو جزاء الكافر،
فاحذروه لكونه محجوبا عن أفعاله تعالى كما أن الكافر محجوب عن صفاته وذاته،
والمحجوب غير قابل للرحمة وإن اتسعت، فارفعوا الحجاب بالطاعة وترك المخالفة
كي تدرككم رحمة الله.
[تفسير سورة آل عمران من آية 133 إلى آية 134]
* (وسارعوا إلى) * ستر أفعالكم التي هي حجابكم عن مشاهدة أفعال الحق بأفعاله
تعالى، فإنما حرمتم عن التوكل وجنة عالم الملك التي هي تجلي الأفعال برؤية
أفعالكم، أي: إلى ما يوجب ستر أفعالكم بأفعاله، وجنة الأفعال من الطاعات بعد كما
ورد: ' أعوذ بعفوك من عقابك '. ولأن المراد بالجنة هنا جنة الأفعال، وصف عرضها
بمساواة عرض السماوات والأرض، إذ توحيد الأفعال هو توحيد عالم الملك وإنما
قدر طولها لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية، وهي توقف كل فعل على فعل آخر
145

تنحصر في عالم الملك الذي يتقدره الناس. وأما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا
يقدرها، إذ الفعل مظهر الوصف، والوصف مظهر الذات، فلا نهاية له ولا حد.
فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا عرض هذه الجنة، وأما البارزون لله الواحد
القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حد لطولها فلا يقدر قدرها طولا ولا عرضا.
* (أعدت للمتقين) * الذين يتقون حجب أفعالهم وشرك نسبة الأفعال إلى غير
الحق. * (الذين ينفقون في السراء والضراء) * لا تمنعهم الأحوال المضادة عن الإنفاق
لصحة توكلهم على الله برؤية جميع الأفعال منه * (والكاظمين الغيظ) * لذلك أيضا، إذ
يرون الجناية عليهم فعل الله فلا يعترضون، ولو لم يغيظوا كانوا في مقام الرضا وجنة
الصفات * (والعافين عن الناس) * لما ذكرنا، ولتعوذهم بعفوه تعالى عن عقابه * (والله يحب المحسنين) * الذين يشاهدون تجليات أفعاله تعالى.
[تفسير سورة آل عمران من آية 135 إلى آية 136]
* (والذين إذا فعلوا فاحشة) * كبيرة من الكبائر، برؤية أفعالهم صادرة عن قدرتهم
* (أو ظلموا أنفسهم) * نقصوا حقوقها بارتكاب الصغائر وظهور أنفسهم فيها * (ذكروا الله) * في صدور أفعالهم برؤيتها واقعة بقدرة الله وتبرأ عنها إليه لرؤيتهم ابتلاءه إياهم
بها * (فاستغفروا) * طلبوا ستر أفعالهم التي هي ذنوبهم بأفعاله بالتبري عن الحول والقوة
إليه * (ومن يغفر الذنوب) * أي وجودات الأفعال * (إلا الله) * أي علموا أن لا غافر إلا
هو * (ولم يصروا على ما فعلوا) * في غفلتهم وحالة ظهور أنفسهم، بل تابوا ورجعوا
إليه في أفعالهم * (وهم يعلمون) * أن لا فعل إلا الله * (ونعم أجر العاملين) * بمقتضى
توحيد الأفعال.
[تفسير سورة آل عمران من آية 137 إلى آية 142]
* (قد خلت من قبلكم) * بطشات ووقائع مما سنه الله في أفعاله بالذين كذبوا
146

بالأنبياء في توحيد الأفعال * (فسيروا في الأرض فانظروا) * في آثارها فتعلموا كيف كان
عاقبتهم * (هذا) * الذي ذكر * (بيان للناس) * من علم توحيد الأفعال وتفصيل المتقين
الذين هم أهل التمكين في ذلك، والتائبين الذين هم أهل التلوين، والمصرين
المحجوبين عنه المكذبين به، وزيادة هدى وكشف عيان وتثبت واتعاظ للذين اتقوا
روية أفعالهم أو هدى لهم إلى توحيد الصفات والذات. * (ولا تهنوا) * في الجهاد عند
استيلاء الكفار * (ولا تحزنوا) * على ما فاتكم من الفتح وما جرح واستشهد من إخوانكم
* (وأنتم الأعلون) * في الرتبة لقربكم من الله وعلو درجتكم بكونكم أهل الله * (إن كنتم) *
موحدين، لأن الموحد يرى ما يجري عليه من البلاء من الله فأقل درجاته الصبر إن لم
يكن رضا يتقوى به فلا يحزن ولا يهن * (الأيام) * الوقائع وكل ما يحدث من الأمور
العظيمة يسمى يوما وأياما، كما قال تعالى: * (وذكرهم بأيام الله) * [إبراهيم، الآية: 14]،
وقد مر تفسير * (وليعلم الله) * من ظهور العلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم.
* (ويتخذ منكم شهداء) * الذين يشهدون للحق فيذهلون عن أنفسهم، أي: نداول
الوقائع بين الناس لأمور شتى وحكم كثيرة، غير مذكورة، من خروج ما في
استعدادهم إلى الفعل من الصبر والجلد وقوة اليقين، وقلة المبالاة بالنفس، واستيلاء
القلب عليها، وقمعها وغير ذلك. ولهذين العلتين المذكورتين ولتخليص المؤمنين من
الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله بالعقوبة والبلية إذا كانت عليهم، ومحق
الكافرين وقهرهم وتدميرهم إذا كانت لهم. وقد اعترض بين العلل قوله: * (والله لا يحب الظالمين) * ليعلم أن من ليس على صفة الإيمان والشهادة وتمحيص الذنوب
وقوة الثبات لكمال اليقين، بل حضر القتال لطلب الغنيمة أو لغرض آخر فهو ظالم
والله لا يحبه.
[تفسير سورة آل عمران من آية 143 إلى آية 144]
* (ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه) * الآية، كل موقن إذا لم يكن يقينه
ملكة بل كان خطرات، فهو في بعض أحواله يتمنى أمورا ويدعي أحوالا بحسب نفسه
دائما، وكذلك حال غير اليقين وعند إقبال القلب هو صادق ما دام موصوفا بحاله. أما
في غير تلك الحالة، وعند الإدبار، فلا يبقى من ذلك أثر وكذا كل من لم يشاهد
حالا ولم يمارسه، ربما يتمناه لتصوره في نفسه وعدم تضرره به حال التصور. أما في
حال وقوعه وابتلائه فلا يطيق تحمل شدائده كما حكي عن سمنون المحب رحمه الله
147

لما قال في أبياته:
* فكيفما شئت فاختبرني
*
فابتلي بالأسر، فلم يطق، فكان يتردد في الطرق ويرضخ إلى الصبيان ما يلعبون
به كالجوز، ويقول: ادعوا على عمكم الكذاب. وفي هذا المعنى قال الشاعر:
* وإذا ما خلا الجبان بأرض
* طلب الطعن وحده والنزالا
*
فلا يلتفت بحال إلا إذا صار مقاما، ولا يعتبر مقاما إلا إذا امتحن في مواطنه،
فإذا خلص من الامتحان فقد صح وهذا أحد فوائد مداولة الأيام بينهم ليتمرنوا بالموت
ويتقوى يقينهم ويتوفر صبرهم ويتحقق مقامهم بالمشاهدة كما قال: * (فقد رأيتموه) * من
قتل إخوانكم بين أيديكم * (وأنتم) * تشاهدون ذلك. وفيه توبيخ لهم على أن يقينهم
كان حالا لا مقاما، ففشلوا في الموطن.
* (وما محمد إلا رسول) * أي: إنه رسول بشر، سيموت أو يقتل كحال الأنبياء
قبله، فمن كان على يقين من دينه فبصيرة من ربه لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا
يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول كأصحاب الأنبياء السالفين. وكما قال
أنس عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاع الخبر،
وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تقاول بعضهم: ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.
وقول المنافقين: لو كان نبيا ما قتل!، يا قوم، إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد
حي لا يموت!، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه،
وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ
إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل. * (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) * إنما ضر نفسه بنفاقه وضعف يقينه * (وسيجزي الله الشاكرين
) * لنعمة
الإسلام، كأنس بن النضر وأضرابه من الموقنين.
[تفسير سور آل عمران من آية 145 إلى آية 151]
148

* (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا) * فمن كان موقنا شاهد هذا
المعنى، فكان من أشجع الناس كما حكى حاتم بن الأصم عن نفسه أنه شهد مع
الشقيق البلخي رحمهما الله، بعض غزوات خراسان. قال: فلقيني شقيق وقد حمى
الحرب، فقال: كيف تجد قلبك يا حاتم؟ قلت: كما كان ليلة الزفاف، بين الحالين.
فوضع سلاحه وقال: أما أنا فهكذا. ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى
سمعت غطيطه. وهذا غاية في سكون القلب إلى الله ووثوقه به لقوة اليقين * (سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * الآية، جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن
شركهم، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس من وقوع ظل الوحدة
عليها عند تنورها بنور القلب المنور بنور الوحدة، فلا تكون تامة حقيقة إلا للموحد
الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القوة والقدرة بما أشرك بالله
من الموجود المشوب بالعدم لإمكانه الخفي الوجود، الضعيف، الذي لم يكن له
بحسب نفسه قوة ولا وجود ولا ذات في الحقيقة، ولم ينزل الله بوجوده حجة لوجوده
أصلا لتحقق عدمه بحسب ذاته، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل، إذ لا
يكون أقوى من معبوده وإن اتفقت له دولة أو صولة أو شوكة فشئ لا أصل له ولا
ثبات ولا بقاء كنار العرفج مثلما كانت دولة المشركين.
[تفسير سورة آل عمران من آية 152 إلى آية 153]
* (ولقد صدقكم الله وعده) * أي: وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا، فما دمتم
على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة
بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا
والإعراض عن الحق، مجاهدين لله لا للدنيا، كان الله معكم بالنصر، وإنجاز الوعد،
وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم * (حتى إذا فشلتم) * أي: جبنتم بدخول الضعف في
يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة * (وتنازعتم) * في أمر
149

الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن لاحظ
الدنيا، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من
ملازمة المركز، وملتم إلى زخرف الدنيا * (من بعد ما أراكم ما تحبون) * من الفتح
والغنيمة وحان زمان شكركم لله، وشدة إقبالكم عليه، فذهلتم عنه، فكان أشرفكم
يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره * (ثم صرفكم عنهم ليبتليكم) * بما فعلتم فكان الابتلاء لطفا بكم وفضلا * (والله ذو فضل على المؤمنين) * في الأحوال كلها، إما بالنصرة وإما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف
خفي ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدوا له نفوسهم
موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله: ' مطيع من أطاعني '. كما يكونون مع الله
يكون الله معهم، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات، وليتمرنوا بالصبر على
الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكا لهم، ومقاما،
ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا
وزخرفها، ولا يذهلوا عن الحق، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة، وليكون عقوبة عاجلة
للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب، خصوصا حجاب
محبة النفس، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى: * (ولقد عفا عنكم) * [آل
عمران، الآية: 152]، إذ الابتلاء كان سبب العفو.
* (فأثابكم غما بغم) * أي: صرفكم عنهم فجازاكم غما بسبب غم لحق رسول الله
من جهتكم، بعصيانكم إياه، وفشلكم وتنازعكم، أو غما بعد بغم أي: غما مضاعفا
لتتمرنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة
وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا * (تحزنوا على ما فاتكم) * من الحظوظ
والمنافع * (ولا ما أصابكم) * من الغموم والمضار.
[تفسير سورة آل عمران آية 154]
* (ثم) * خلى عنكم الغم بالأمن وإلقاء النعاس على الطائفة الصادقين دون
المنافقين الذين * (أهمتهم أنفسهم) * لا نفس الرسول ولا الذين وافقوا علامة للعفو
* (لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) * لقوله تعالى: * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) * [الحديد، الآية: 22].
150

* (وليبتلي الله ما في صدوركم) * أي: وليمتحن ما في استعدادكم من الصدق
والإخلاص واليقين والصبر والتوكل والتجرد وجميع الأخلاق والمقامات، ويخرجها
من القوة إلى الفعل * (وليمحص ما في قلوبكم) * أي: وليخلص ما برز منها من مكمن
الصدر إلى مخزون القلب من عثرات وساوس الشيطان ودناءة الأحوال وخواطر
النفس، فعل ذلك فإن البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه بتصفيتهم عن
صفات نفوسهم وإظهار ما فيهم من الكمالات، وانقطاعهم عنده من الخلق ومن النفس
إلى الحق. ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانا
لفضله: ' ما أوذي نبي مثل ما أوذيت '، كأنه قال: ما صفى نبي مثل ما صفيت. ولقد
أحسن من قال:
* لله در النائبات فإنها
* صدأ اللئام وصيقل الأحرار
*
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل: عند الامتحان
يكرم الرجل أو يهان.
[تفسير سورة آل عمران آية 155]
* (استزلهم) * أي: طلب منهم الزلة ودعاهم إليها، وهي زلة التولي * (ببعض ما كسبوا) * من الذنوب. فإن الشيطان إنما يقدر على وسوسة الناس وإنفاذ أمره إذا كان له
مجال بسبب أدنى ظلمة في القلب، حادثة من ذنب، وحركة من النفس كما قيل:
الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول. * (ولقد عفا الله عنهم) * بالاعتذار - والندم.
[تفسير سورة آل عمران من آية 156 إلى. 16]
* (ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم) * أي: يجعل ذلك القول والاعتقاد ضيقا
وضنكا وغما في قلوبهم لرؤيتهم القتل والموت مسببا عن فعل، ولو كانوا موقنين
موحدين لرأوا أنه من الله، فكانوا منشرحي الصدور * (والله يحيي) * من يشاء في السفر
151

والجهاد وغيره * (ويميت) * من يشاء في الحضر وغيره * (لمغفرة من الله ورحمة) * أي:
لنعيمكم الأخروي من جنة الأفعال وجنة الصفات خير لكم من الدنيوي لكونكم
عاملين للآخرة و * (لإلى الله تحشرون) * لمكان توحيدكم، فحالكم فيما بعد الموت
أحسن من حالكم قبله.
* (فبما رحمة من الله) * أي: فباتصافك برحمة رحيمية، أي: رحمة تامة، كاملة،
وافرة، هي صفة من جملة صفات الله، تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود
البشري * (لنت لهم ولو كنت فظا) * موصوفا بصفات النفس التي منها الفظاظة والغلظة
* (لانفضوا من حولك) * لأن الرحمة الإلهية الموجبة لمحبتهم إياك تجمعهم * (فاعف عنهم) * فيما يتعلق بك من جنايتهم لرؤيتك إياه من الله بنظر التوحيد وعلو مقامك من
التأذي بفعل البشر، والتغيظ من أفعالهم، وتشفي الغيظ بالانتقام منهم * (واستغفر لهم) *
فيما يتعلق بحق الله لمكان غفلتهم وندامتهم واعتذارهم * (وشاورهم) * في أمر الحرب
وغيره مراعاة لهم واحتراما، ولكن إذا عزمت ففوض الأمر إلى الله بالتوكل عليه ورؤية
جميع الأفعال والفتح والنصر والعلم بالأصلح والأرشد منه، لا منك، ولا ممن
تشاوره. ثم حقق معنى التوكل والتوحيد في الأفعال بقوله: * (إن ينصركم الله) * إلى
آخره.
[تفسير سورة آل عمران من آية 161 إلى آية 169]
* (وما كان لنبي أن يغل) * لبعد مقام النبوة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل،
وامتناع صدور ذلك منهم مع كونهم منسلخين عن صفات البشرية، معصومين عن تأثير
دواعي النفس والشيطان فيهم، قائمين بالله متصفين بصفاته * (يأت بما غل) * أي: يظهر
152

على صورة غلوله بما غل بعينه.
* (أفمن اتبع رضوان الله) * أي: النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات،
لاتصافه بصفات الله، والغال في مقام السخط لاحتجابه بصفات نفسه * (ومأواه) * أسفل
حضيض النفس المظلمة، فهل يتشابهان؟ * (هم درجات) * أي: كل من أهل الرضا
وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات أو هم مختلفون اختلاف الدرجات * (قل هو من عند أنفسكم) * لا ينافي قوله تعالى: * (قل كل من عند الله) * [النساء، الآية: 78] لأن السبب
الفاعلي في الجميع هو الحق تعالى، والسبب القابلي أنفسهم، ولا يفيض من الفاعل
إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه، وباعتبار الفاعل يكون من عند الله، وباعتبار القابل
يكون من عند أنفسهم. واستعداد الأنفس إما أصلي وإما عارضي، والأصلي من فيضه
الأقدس على مقتضى مشيئته، والعارضي من اقتضاء قدره. فهذا الجانب أيضا ينتهي
إليه، ومن وجه آخر ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله نظرا إلى التوحيد، إذ لا
غير ثمة * (وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا) * أي: وليتميز المؤمنون والمنافقون في
العلم التفصيلي.
* (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله) * سواء كان قتلهم بالجهاد الأصغر، وبذل
النفس طلبا لرضا الله، أو بالجهاد الأكبر، وكسر النفس، وقمع الهوى بالرياضة
* (أمواتا بل أحياء عند ربهم) * بالحياة الحقيقية مجردين عن دنس الطبائع، مقربين في
حضرة القدس * (يرزقون) * من الأرزاق المعنوية، أي المعارف والحقائق واستشراق
الأنوار، ويرزقون في الجنة الصورية كما يرزق سائر الأحياء. فإن للجنان مراتب
بعضها معنوية وبعضها صورية، ولكل من المعنوية والصورية درجات على حسب
الأعمال، فالمعنوية جنة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها على حسب تفاضل
درجات أهل الجبروت والملكوت، والصورية جنة الأفعال وتفاوت درجاتها على
حسب تفاوت درجات عالم الملك من السماوات العلى، وجنات الدنيا وعن
النبي صلى الله عليه وسلم: ' لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر،
تدور في أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب، معلقة في ظل
العرش '. فالطير الخضر: إشارة إلى الأجرام السماوية، والقناديل هي الكواكب، أي
تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها،
وثمارها الأحوال والمعارف والأنهار، والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو
الصورية. فإن كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر
الملاذ والمشتهيات، موجود في الآخرة وفي طبقات السماء ألذ وأصفى مما في الدنيا.
153

[تفسير سورة آل عمران من آية 170 إلى آية 172]
* (فرحين بما آتاهم الله من فضله) * من الكرامة والنعمة والقرب عند الله
* (ويستبشرون) * بحال إخوانهم * (الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم) * ولم ينالوا
درجاتهم بعد من خلفهم لاستسعادهم عن قريب بمثل حالهم ولحوقهم بهم * (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * بدل اشتمال من الذين، أي: يستبشرون بأنهم آمنوا،
لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * (يستبشرون بنعمة) * أي: أمنهم بنعمة عظيمة لا يعلم
كنهها، هي جنة الصفات بحصول مقام الرضوان المذكورة بعده لهم * (وفضل) * وزيادة
عليها هي جنة الذات والأمن الكلي من بقية الوجود وذلك كمال كونهم شهداء الله،
ومع ذلك فإن الله لا يضيع أجر إيمانهم الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال.
* (الذين استجابوا لله) * بالفناء في الوحدة الذاتية * (والرسول) * بالمقام بحق الاستقامة
* (من بعد ما أصابهم القرح) * أي: كسر النفس * (للذين أحسنوا منهم) * أي: ثبتوا في
مقام المشاهدة * (واتقوا) * بقاياهم * (أجر عظيم) * وراء الإيمان هو روح المشاهدة.
تفسير سورة آل عمران من آية 173 إلى آية 178]
* (الذين قال لهم الناس) * قبل الوصول إلى المشاهدة * (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) * أي: اعتبروا لوجودكم واعتدوا بكم فاعتدوا بهم * (فزادهم) * ذلك القول
* (إيمانا) * أي: يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به، وتوصلوا بنفي ما سوى الله
إلى إثباته بقولهم * (حسبنا الله) * فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة
فقالوا: * (ونعم الوكيل) * وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار
فصارت بردا وسلاما عليه * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل) * أي: رجعوا بالوجود
154

الحقاني في جنة الصفات والذات كما مر آنفا * (لم يمسسهم سوء) * البقية ورؤية الغير.
* (و) * هم * (اتبعوا رضوان الله) * الذي هو جنة الصفات في حال سلوكهم حين لم
يعلموا ما أخفي لهم من قرة أعين وهي جنة الذات المشار إليها بقوله: * (والله ذو فضل عظيم) * فإن الفضل هو المزيد على الرضوان * (يخوف أولياءه) * المحجوبين بأنفسهم
مثله من الناس أو يخوفكم أولياءه * (فلا تخافوهم) * ولا تعتدوا بوجودهم * (وخافون إن كنتم) * موحدين، أي لا تخافوا غيري لعدم عينه وأثره * (ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر) * لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية خوف أن يضروك * (إنهم لن يضروا الله شيئا) * إملاء الكفار وطول حياتهم سبب لشدة عذابهم وغاية هوانهم وصغارهم
لازديادهم بطول عمرهم حجابا على حجاب، وبعدا على بعد. وكلما ازدادوا بعدا عن
الحق الذي هو منيع العزة ازدادوا هوانا.
[تفسير سورة آل عمران من آية 179 إلى آية 180]
* (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه) * من ظاهر الإسلام وتصديق
اللسان * (حتى يميز الخبيث) * من صفات النفس وشكوك الوهم وحظوظ الشيطان،
ودواعي الهوى من طيبات صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدات
الروح ومناغيات السر ومسامراته، وتخلص المعرفة والمحبة لله بالابتلاء ووقوع الفتن
والمصائب بينكم.
* (وما كان الله ليطلعكم على) * غيب وجودكم من الحقائق والأحوال الكامنة
فيكم بلا واسطة الرسول لبعد ما بينكم وبينه وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه
* (ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء) * فيطلعه على أسراره وحقائقه بالكشف ليهديكم
إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية النفسانية التي بينه وبينكم،
الموجبة لإمكان اهتدائكم به * (فآمنوا بالله ورسله) * بالتصديق القلبي والإرادة والتمسك
بالشريعة ليمكنكم التلقي والقبول منهم * (وإن تؤمنوا) * بعد ذلك الإيمان بالتحقيق
والسلوك إلى اليقين والمتابعة في الطريقة * (وتتقوا) * الحجب النفسانية وموانع السلوك
* (فلكم أجر عظيم) * من كشف الحقيقة * (بما آتاهم الله من فضله) * من المال والعلم
والقدرة والنفس ولا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين والمستعدين والأنبياء
والصديقين في الذب عنهم أو الفناء في الله * (سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) * أي:
155

يجعل غل أعناقهم وسبب تقيدهم وحرمانهم عن روح الله ورحمته وموجب هوانهم
وحجابهم عن نور جماله لمحبتهم له وتعلقهم به * (ولله ميراث السماوات والأرض) * من
النفوس وصفاتها كالقوى والقدر والعلوم والأموال وكل ما ينطبق عليه اسم الوجود فما
لهم يبخلون بماله عنه.
[لتفسير سورة آل عمران من آية 181 إلى آية]
* (لقد سمع الله) * إلى قوله * (إن كنتم صادقين) * روي أن أنبياء بني إسرائيل كانت
معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله فتأتي نار من السماء تأكله. وتأويله: أن يأتوا
بنفوسهم يتقربون بها إلى الله ويدعون الله بالزهد والعبادة، فتأتي نار العشق من سماء
الروح تأكله وتفنيه في الوحدة، فبعد ذلك صحت نبوتهم وظهرت فسمع به عوام بني
إسرائيل فاعتقدوا ظاهره، وإن كان ممكنا من عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك
الآية كما توهموا من إقراض الله الذي هو بذل المال في سبيل الله بالإنفاق لاستيفاء
الثواب وبذل الأفعال والصفات بالمحو في السلوك لاستبدال صفات الحق وأفعاله وتحصيل
مقام الإبدال، فقر الحق وغناهم، أو كابروا الأنبياء في الموضعين بعدما فهموا.
[تفسير سورة آل عمران من آية 188 إلى آية 191]
156

* (لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا) * أي: يعجبوا بما فعلوا من طاعة وإيثار،
وكل حسنة من الحسنات، ويحجبون برؤيته * (ويحبون أن يحمدوا) * أي: يحمدهم
الناس، فهم محجوبون بعرض الحمد والثناء من الناس، أو أن يكونوا محمودين في
نفس الأمر، عند الله * (بما لم يفعلوا) * بل فعله الله على أيديهم إذ لا فعل إلا لله،
* (والله خلقكم وما تعملون) * [الصافات، الآية: 96] فائزين من عذاب الحرمان * (ولهم عذاب أليم) * لمكان استعدادهم واحتجابهم عما فيه، وكان من حقهم أن ينسبوا
الفضيلة والفعل الجميل إلى الله ويتبرأوا عن حولهم وقوتهم إليه ولا يحتجبوا برؤية
الفعل من أنفسهم، ولا يتوقعوا به المدح والثناء.
* (ولله ملك السماوات والأرض) * ليس لأحد فيها شيء حتى يعطي غيره فيعجب
بعطائه * (والله على كل شيء قدير) * لا يقدر غيره على فعل ما، حتى يعجب برؤيته،
فيفرح به فرح إعجاب.
* (الذين يذكرون الله) * في جميع الأحوال وعلى جميع الهيئات * (قياما) * في مقام
الروح بالمشاهدة * (وقعودا) * في محل القلب بالمكاشفة * (وعلى جنوبهم) * أي:
تقلباتهم في مكان النفس بالمجاهدة * (ويتفكرون) * بألبابهم أي: عقولهم الخالصة عن
شوب الوهم * (في خلق) * عالم الأرواح والأجساد. يقولون عند الشهود * (ربنا ما خلقت هذا) * الخلق * (باطلا) * أي: شيئا غيرك، فإن غير الحق هو الباطل، بل جعلته
أسماءك ومظاهر صفاتك * (سبحانك) * ننزهك أن يوجد غيرك، أي: يقارن شيء
فردانيتك أو يثني وحدانيتك * (فقنا عذاب) * نار الاحتجاب بالأكوان عن أفعالك،
وبالأفعال عن صفاتك، وبالصفات عن ذاتك وقاية مطلقة تامة كافية.
[تفسير سورة آل عمران من آية 192 إلى آية 195
* (ربنا إنك من تدخل النار) * بالحرمان * (فقد أخزيته) * بوجود البقية التي كلها ذل
وعار وشنار * (وما للظالمين) * الذين أشركوا برؤية الغير مطلقا أو البقية * (من أنصار) *
* (ربنا إننا سمعنا) * بأسماع قلوبنا * (مناديا) * من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح
157

الأيمن * (ينادي) * إلى الإيمان العياني * (أن آمنوا بربكم) * أي: شاهدوا ربكم، فشاهدنا
* (ربنا فاغفر لنا) * ذنوب صفاتنا بصفاتك * (وكفر عنا) * سيئات أفعالنا برؤية أفعالك
* (وتوفنا) * عن ذواتنا في صحبة الأبرار من الأبدال الذين تتوفاهم بذاتك عن ذواتهم،
لا الأبرار الباقين على حالهم في مقام محو الصفات غير المتوفين بالكلية * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على) * اتباع * (رسلك) * أو محمولا على رسلك من البقاء بعد الفناء، والاستقامة
بالوجود الموهوب بعد التوحيد * (ولا تخزنا يوم القيامة) * الكبرى ووقت بروز الخلق لله
الواحد القهار بالاحتجاب بالوحدة عن الكثرة، وبالجمع عن التفصيل * (إنك لا تخلف الميعاد) * فتبقى مقاما وراءنا لم نصل إليه.
* (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر) * القلب من
الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والكشف * (أو أنثى) * النفس من الأعمال القالبية،
كالطاعات والمجاهدات والرياضات * (بعضكم من بعض) * يجمعكم أصل واحد وحقيقة
واحدة هي الروح الإنسانية، أي: بعضكم منشأ من بعض، فلا أثيب بعضكم وأحرم
بعضا * (فالذين هاجروا) * عن أوطان مألوفات النفس * (وأخرجوا من) * ديار صفاتها أو
هاجروا من أحوالهم التي التذوا بها، وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها
* (وأوذوا في سبيلي) * أي: ابتلوا في سبيل سلوك أفعالي بالبلايا والمحن والشدائد
والفتن ليتمرنوا بالصبر، ويفوزوا بالتوكل في سبيل سلوك صفاتي بسطوات تجليات
الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى الرضا * (وقاتلوا) * البقية بالجهاد في * (وقتلوا) *
وأفنوا في بالكلية * (لأكفرن عنهم سيئاتهم) * كلها من الصغائر والكبائر، أي: سيئات
بقاياهم * (ولأدخلنهم) * الجنات الثلاثة المذكورة * (ثوابا) * أي: عوضا لما أخذت منهم
من الوجودات الثلاثة * (والله عنده حسن الثواب) * أي: لا يكون عند غيره الثواب
المطلق الذي لا يبقى منه شيء، ولهذا قال: والله، لأنه الاسم الجامع لجميع
الصفات، فلم يحسن أن يقول: والرحمن، في هذا الموضع أو اسم آخر غير اسم
الذات.
[تفسير سورة آل عمران من آية 196 إلى آية 200]
158

* (لا يغرنك تقلب الذين كفروا) * أي: حجبوا عن التوحيد الذي هو دين الحق
في المقامات والأحوال.
* (متاع قليل) * أي: هو يعني الاحتجاب بالمقامات والتقلب فيها تمتع قليل * (ثم مأواهم جهنم) * الحرمان * (وبئس المهاد) * * (لكن الذين اتقوا ربهم) * من المؤمنين، أي:
تجردوا عن الوجودات الثلاثة، لهم الجنات الثلاث، * (نزلا) * معدا * (من عند الله) *
* (وإن من أهل الكتاب) * أي: المحجوبين عن التوحيد، والمذكورين بصفة التقلب في
الأحوال والمقامات * (لمن يؤمن بالله) * أي: يتحقق بالتوحيد الذاتي * (وما أنزل إليكم) *
من علم التوحيد والاستقامة * (وما أنزل إليهم) * من علم المبدأ والمعاد * (خاشعين لله) *
قابلين لتجلي الذات.
* (لا يشترون بآيات الله) * التي هي تجليات صفاته ثمن البقية الموصوف بالقلة
* (أولئك لهم أجرهم عند ربهم) * من الجنان المذكورة * (إن الله سريع الحساب) *
يحاسبهم ويجازيهم فيعاقب على بقايا من بقي منه شيء، أو يثيب بنفي البقايا على
حسب درجاتهم في المواطن الثلاثة.
* (يا أيها الذين آمنوا اصبروا) * لله * (وصابروا) * مع الله * (ورابطوا) * بالله، أي:
اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة، وصابروا في مقام القلب مع سطوات تجليات
صفات الجلال بالمكاشفة، ورابطوا في مقام الروح ذواتكم بالمشاهدة حتى لا يغلبكم
فترة أو غفلة أو غيبة بالتلوينات * (واتقوا الله) * في مقام الصبر عن المخالفة والرياء،
وفي المصابرة عن الاعتراض والامتلاء وفي المرابطة عن البقية والجفاء لكي تفلحوا
الفلاح الحقيقي السرمدي الذي لا فلاح وراءه، إن شاء الله.
159

((سورة النساء))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
تفسير سورة النساءآية 1]
* (يا أيها الناس اتقوا ربكم) * احذروه في انتحال صفته عند صدور الخيرات
منكم، واتخذوا الصفة وقاية لكم في صدور ما صدر منكم من الخير، وقولوا صدر
عن القادر المطلق * (الذي خلقكم من نفس واحدة) * هي النفس الناطقة الكلية، التي
هي قلب العالم، وهو آدم الحقيقي * (وجعل منها زوجها) * أي: النفس الحيوانية الناشئة
منها. وقيل: إنها خلقت من ضلعه الأيسر من الجهة التي تلي عالم الكون، فإنها
أضعف من الجهة التي تلي الحق، ولولا زوجها لما أهبط إلى الدنيا. كما اشتهر أن
إبليس سول لها أولا فتوسل بإغوائها إلى إغواء آدم ولا شك في أن التعلق البدني لا
يتهيأ إلا بواسطتها * (وبث منهما رجالا كثيرا) * أي: أصحاب قلوب ينزعون إلى أبيهم
* (ونساء) * أصحاب نفوس وطبائع ينزعون إلى أمهم * (واتقوا الله) * في ذاته عن إثبات
وجودكم، واجعلوه وقاية لكم عند ظهور البقية منكم في الفناء في التوحيد حتى لا
تحتجبوا برؤية الفناء * (الذي تساءلون به) * لا بكم * (والأرحام) * أي: احذروا الأرحام
الحقيقية، أي أقربة المبادئ العالية من المفارقات وأرواح الأنبياء والأولياء في قطعها
بعدم المحبة، واجعلوها وقاية لكم في حصول سعاداتكم وكمالاتكم، فإن قطع الرحم
يققد المحبة توجه عن الاتصال والوحدة إلى الانفصال والكثرة، وهو المقت الحقيقي
والبعد الكلي عن جناب الحق تعالى، ولهذا قال عليه صلى الله عليه وسلم: ' صلة الرحم
تزيد في العمر '، أي: توجب دوام البقاء. واعلم أن الرحم من الظاهر صورة الاتصال
الحقيقي في الباطن، وحكم الظاهر في التوحيد كحكم الباطن، فمن لا يقدر على
مراعاة الظاهر فهو أحرى بأن لا يقدر على مراعاة الباطن * (إن الله كان عليكم رقيبا) *
يراقبكم لئلا تحتجبوا عنه بظهور صفة من صفاتكم، أو بقية من بقاياكم فتتعذبوا.
[تفسير سورة النساء من آية 2 إلى آية 30
160

((صفحة فارغة))
161

من آية 18 إلى آية 30] * (وآتوا اليتامى) * يتامى قواكم الروحانية، المنقطعين عن تربية الروح القدسي
الذي هو أبوهم * (أموالهم) * أي: معلوماتهم وكمالاتهم، وربوهم بها * (ولا تتبدلوا الخبيث) * من المحسوسات والخياليات والوساوس ودواعي الوهم وسائر قوى النفس
التي هي أموالها * (بالطيب) * من أموالهم * (ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم) * أي: لا
تخلطوها بها، فيشتبه الحق بالباطل وتستعملوها في تحصيل لذاتكم الحسية وكمالاتكم
162

النفسية، فتنتفعوا بها في مطالبكم الخسيسة الدنيوية وتجعلوها غذاء نفوسكم * (إنه كان حوبا كبيرا) * حجبة وحرمانا.
[تفسير سورة النساء من آية 31 إلى آية 36]
* (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) * من إثبات الغير في الوجود الذي هو الشرك
ذاتا وصفة وفعلا، فإن أكبر الكبائر إثبات وجود غير وجوده تعالى كما قيل:
* وجودك ذنب لا يقاس به ذنب
*
ثم إثبات الإثنينية في الذات بإثبات زيادة الصفات عليها، كما قال أمير المؤمنين
عليه السلام. وكما قال: ' الإخلاص له نفي الصفات عنه '.
* (نكفر عنكم سيئاتكم) * بظهور النفس والقلب بصفة من صفاتها أحيانا، فإنها
بعد ظهور نور التوحيد لا تثبت * (وندخلكم مدخلا كريما) * أي: حضرة عين الجمع لا
كرم إلا فيها * (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) * من الكمالات المرتبة
بحسب الاستعدادات الأولية، فإن كل استعداد يقتضي بهويته في الأزل كمالا وسعادة
تناسبه، وحصول ذلك الكمال الخاص لغيره محال. ولذلك ذكر بلفظ التمني الذي هو
طلب ما يمتنع حصوله للطالب لامتناع سببه * (للرجال) * أي: الأفراد الواصلين * (نصيب مما اكتسبوا) * بنور استعدادهم الأصلي * (وللنساء) * أي: الناقصين القاصرين عن
الوصول * (نصيب مما اكتسبن) * بقدر استعدادهن * (واسألوا الله من فضله) * أي: اطلبوا
منه إفاضة كمال يقتضيه استعدادكم بالتزكية والتصفية حتى لا يحول بينكم وبينه
163

فتحتجبوا وتتعذبوا بنيران الحرمان منه * (إن الله كان بكل شيء) * مما يخفى عليكم،
كامنا في استعدادكم بالقوة * (عليما) * فيجيبكم بما يليق بكم كما قال: * (وءاتكم من
كل ما سألتموه) * [إبراهيم، الآية: 34] أي: بلسان الاستعداد الذي ما دعاه أحد به إلا
أجاب، كما قال: * (ادعوني أستجب لكم) * [غافر، الآية: 40].
* (واعبدوا الله) * خصصوه بالتوجه إليه، والفناء فيه، الذي هو غاية التذلل * (ولا تشركوا به شيئا) * بإثبات وجوده * (وبالوالدين إحسانا) * وأحسنوا بالروح والنفس اللذين
تولد القلب منهما وهو حقيقتكم، لستم إلا إياه، ووفوا حقوقهما وراعوهما حق
المراعاة بالاستفاضة من الأول، والتوجه إليه بالتسليم والتعظيم وتزكية الثانية، وحفظها
من أدناس محبة الدنيا، والتذلل بالحرص والشره وأمثالهما، ومن شر الشيطان وعداوته
إياها وأعينوها بالرأفة والحمية بتوفير حقوقها عليها، ومنع الحظوظ عنها * (وبذي القربى) * الذي يناسبكم في الحقيقة بحسب القرب في الاستعداد الأصلي والمشاكلة
الروحانية * (واليتامى) * المستعدين المنقطعين عن نور الروح القدسي الذي هو الأب
الحقيقي، بالاحتجاب عنه * (والمساكين) * العاملين الذين لا مال لهم، أي: لا لاحظ
من
العلوم والمعارف والحقائق، فسكنوا ولم يقدروا على المسير وهم السعداء الصالحون
الذين مآلهم إلى جنة الأفعال.
* (والجار ذي القربى) * الذي هو في مقام من مقامات السلوك، قريب من مقامك
* (والجار الجنب) * الذي هو في مقامه بعيد من مقامك، * (والصاحب بالجنب) * والرفيق
الذي هو في عين مقامكم ويرافقكم في سيركم * (وابن السبيل) * أي: السالك في طريق
الحق، الداخل في الغربة عن مأوى النفس الذي لم يصل إلى مقام من مقامات أهل
الله * (وما ملكت أيمانكم) * من أهل إرادتكم ومحبتكم، الذين هم عبيدكم كلا بما
يناسبه ويليق به من أنواع الإحسان، وإن شئت أولت ذي القربى بما يتصل به من
الملكوت العالية من المجردات واليتامى بالقوى الروحانية كما مر. والمساكين بالقوى
النفسانية من الحواس الظاهرة وغيرها. والجار ذي القربى بالعقل، والجار الجنب
بالوهم، والصاحب بالجنب بالشوق والإرادة، وابن السبيل بالفكر، والمماليك
بالملكات المكتسبة التي هي مصادر الأفعال الجميلة.
* (إن الله لا يحب من كان مختالا) * يسعى في السلوك بنفسه لا بالله، معجبا
بأعماله * (فخورا) * مبتهجا بأحواله ومقاماته وكمالاته، محتجبا برؤيتها ورؤية اتصافه
بها.
تفسير سورة النساء من آية 37 إلى آية 41
164

* (الذين يبخلون) * أولا بإمساك كمالاتهم وعلومهم في مكامن قرائحهم ومطامير
غرائزهم، لا يظهرونها بالعمل بها في وقتها ثم بالامتناع عن توفير حقوق ذوي
الحقوق عليهم، لا يبذلون صفاتهم وذواتهم بالفناء في الله لمحبتهم لها، ولا ينفقون
أموال علومهم وأخلاقهم وكمالاتهم على ما ذكرنا من المستحقين. * (ويأمرون الناس بالبخل) * يحملونهم على مثل حالهم * (ويكتمون ما آتاهم الله من فضله) * من التوحيد
والمعارف والأخلاق والحقائق في كتم الاستعداد وظلمة القوة كأنها معدومة * (وأعتدنا للكافرين) * المحجوبين عن الحق
* * (عذابا مهينا) * في ذل وجوههم وشين صفاتهم.
* (والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس) * أي: يبرزون كمالاتهم من كتم العدم،
ويخرجونها إلى الفعل، محجوبين برؤيتها لأنفسهم، يراؤون الناس بأنها لهم * (ولا يؤمنون بالله) * الإيمان الحقيقي، فيعلمون أن الكمال المطلق ليس إلا له، ومن أين
لغيره وجود حتى يكون له؟ فيتخلصون عن حجاب رؤية الكمال لأنفسهم، وينجون
عن إثم العجب. * (ولا باليوم الآخر) * أي: الفناء في الله والبروز للواحد القهار،
فيتبرؤون من ذنب الشرك، وذلك لمقارنة شيطان الوهم إياهم * (ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا) * لأنه يضله عن الهدى، ويحجبه عن الحق * (وماذا عليهم لو آمنوا بالله) * أي: لو صدقوا الله بالتوحيد والفناء فيه، ومحو كمالاتهم التي رزقهم الله
بإضافتها إلى الله؟ * (وكان الله بهم عليما) * يجازيهم بالبقاء بعد الفناء، وكونهم مع تلك
الصفات والكمالات بالله لا بأنفسهم.
* (إن الله لا يظلم) * أي: لا ينقص من تلك الكمالات بالفناء فيه * (مثقال ذرة) *
بل يضاعفها بالتأييد الحقاني * (وإن تك حسنة يضاعفها) * ولا تكون حسنة إلا إذا كانت
له * (ويؤت من لدنه أجرا عظيما) * هو ما أخفي له من قرة أعين، أي: الشهود الذاتي
الذي لا حجبة معه عن تفاصيل الصفات.
* (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * إلى آخره، الشهيد والشاهد: ما يحضر
كل أحد مما بلغه من الدرجة في العرفان، وهو الغالب عليه، فهو يكشف عن حاله
وعمله وسعيه ومبلغ جهده مقاما كان أو صفة من صفات الحق أو ذاتا، فلكل أمة
165

شهيد بحسب ما دعاهم إليه نبيهم وعرفه لهم وما دعاهم إلا إلى ما وصل إليه من
مقامه في المعرفة، ولا يبعث نبي إلا بحسب استعداد أمته فهم يعرفون الله بنور
استعدادهم في صورة كمال نبيهم. ولهذا ورد في الحديث: إن الله يتجلى لعباده في
صورة معتقدهم، فيعرفه كل واحد من الملل والمذاهب، ثم يتحول عن تلك الصورة،
فيبرز في صورة أخرى فلا يعرفه إلا الموحدون الداخلون في حضرة الأحدية من كل
باب. وكما أن لكل أمة شهيدا، فكذلك لكل أهل مذهب شهيد، ولكل واحد شهيد
يكشف عن حال مشهوده، وأما المحمديون فشهيدهم الله المحبوب الموصوف بجميع
الصفات لمكان كمال نبيهم وكونه حبيبا مؤتى جوامع الكلم، متمما لمكارم الأخلاق،
فلا جرم يعرفونه عند التحول في جميع الصور إذا تابعوا نبيهم حق المتابعة، وكانوا
أوحديين محبوبين كنبيهم.
[تفسير سورة النساء من آية 42 إلى آية 43]
* (يومئذ يود الذين كفروا) * بالاحتجاب عن الحق * (وعصوا الرسول) * بالاحتجاب
عن الدين * (لو تسوى بهم) * أرض الاستعداد، فتنطمس نفوسهم أو تصير ساذجة لا
نقش فيها من العقائد الفاسدة الرذائل الموبقة * (ولا يكتمون الله حديثا) * أي: لا
يقدرون على كتم حديث من تلك النقوش حتى لا يتعذبون بعقابه.
* (يا أيها الذين آمنوا) * بالإيمان العلمي، فإن المؤمن بالإيمان العيني لا يكون في
صلاته غافلا * (لا تقربوا الصلاة) * أي: لا تقربوا مقام الحضور والمناجاة مع الله في
حال كونكم * (سكارى) * من نوم الغفلة، أو من خمور الهوى ومحبة الدنيا * (حتى تعلموا ما تقولون) * في مناجاتكم ولا تشتغل قلوبكم بأشغال الدنيا ووساوسها فتذهلوا
عنه، ولا في حال كونكم بعداء عن الحق بشدة الميل إلى النفس ومباشرة لذاتها
وشهواتها وحظوظها والركون إليها * (إلا عابري سبيل) * أي: مارين عليها، سالكي
طريق من طرق تمتعاتها بقدر الضرورة والمصلحة كعبور طريق الاغتذاء بالمطعم
والمشرب لسد الرمق وحفظ القوة، والاكتساء لدفع الحر والبرد وستر العورة،
والمباشرة لحفظ النسل لا منجذبين إليها بالكلية بمجرد الهوى فتنطبع فيكم فلا يمكن
زوالها أو يتعذر * (حتى تغتسلوا) * أي: تتطهروا عن تلك الهيئة الحاصلة من الانجذاب
166

إلى الجهة السفلية بماء التوبة والاستغفار وعيون التنصل والاعتذار * (وإن كنتم مرضى) *
القلوب، فاقدي سلامتها بأمراض العقائد الفاسدة والرذائل المهلكة * (أو على سفر) * في
تيه الجهل والحيرة لطلب لذة النفس ومادة الرجس بالحرص * (أو جاء أحد منكم) * من
الاشتغال بلوث المال وكسب الحطام ملوثا بهيئة محبته وميله راسخة فيه تلك الهيئة
* (أو لامستم النساء) * لازمتم النفوس وباشرتموها في لذاتها وشهواتها * (فلم تجدوا ماء) * علما يهديكم إلى التفصي منها ويهذبكم بالتطهر عنها * (فتيمموا صعيدا طيبا) *
فتوجهوا صعيد استعدادكم الطيب، واقصدوه وارجعوا إلى أصل الاستعداد الفطري
* (فامسحوا) * من نوره * (بووهكم وأيديكم) * أي: ذواتكم الموجودة وصفاتكم بالنزول
ومحو هيئات التعلق بها، والتصرف فيها، فإن ذلك التراب يمحو آثارها ويذرها صافية
كما كانت * (إن الله كان عفوا) * يعفو عن تلك الهيئات المظلمة ورسوخ تلك الملكات
الحاجبة بتركها والإعراض عنها، فيزيلها بالكلية فيصفو استعدادكم وتستعدوا للقائه
ومناجاته * (غفورا) * يستر صفاتكم وذواتكم بصفاته وذاته.
[تفسير سورة النساء من آية 44 إلى آية 46]
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * أي: بعضا هو اعترافهم بالحق مع
احتجابهم عن الدين * (يشترون الضلالة) * يستبدلون الاحتجاب عن الدين الذي هو
طريق الحق بنور هداية استعدادهم ويريدون بكم ذلك أيضا وهم أعداؤكم، علم الله
عداوتهم إياكم إذا * (وكفى بالله وليا) * يلي أمركم بالتوفيق لطريق التوحيد، ونصيرا
ينصركم على أعدائكم بالقمع.
[تفسير سورة النساء آية 47]
* (يا أيها الذين أوتوا الكتاب) * كتاب الاستعداد * (آمنوا) * إيمانا حقيقيا عيانيا
بإخراج ما في كتاب استعدادكم إلى الفعل من توحيد الذات * (من قبل أن نطمس وجوها) * بإزالة استعدادها ومحوه * (فنردها على أدبارها) * التي هي أسفل سافلي عالم
الجسم الذي هو خلف كل عالم * (أو نلعنهم) * نعذبهم بالمسخ كما مسخنا * (أصحاب
167

السبت) * * (وكان أمر الله مفعولا) * أي: مقضيا إلى الأبد، لا يغيره أحد ولا ينقضه.
تفسير سورة النساء من آية 48 إلى آية 55]
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به) * إشارة إلى أن الشقاوة العلمية الاعتقادية مخلدة لا
تتدارك أبدا دون العملية، أي: لا يستر بوجوده ولا يفني بذاته من يثبت غيره في
الوجود وكيف وأنه يناوبه بوجوده. * (ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم) * أي: يزيلون
صفات نفوسهم بنفوسهم، وذلك غير ممكن كما لا يمكن لأحدنا حمل نفسه إذ هي
لوازم النفس باقية لازمة لها، ولهذا قال تعالى: * (ومن يوق شح نفسه) * [الحشر، الآية:
9]، إذ الرذائل معجونة فيها، باقية ببقائها. وقال عليه صلى الله عليه وسلم: ' شر الناس من
قامت عليه القيامة وهو حي ' أي: يقف على علم التوحيد ونفسه لم تمت بالفناء حتى
تحيى بالله، فإنه حينئذ زنديق قائل بالإباحة في الأشياء. * (بل الله يزكي من يشاء) *
بمحو صفاته وإزالتها بصفاته تعالى * (ولا يظلمون فتيلا) * أي: لا ينقصون شيئا حقيرا
من صفاتهم وحقوقها فإن الله لا يأخذ شيئا منها مع ضعفها وسرعة انقضائها حتى يعطي
بدله من صفاته مع قوتها ودوامها * (انظر كيف يفترون على الله الكذب) * بادعاء تزكية
نفوسهم من صفاتها وما تزكت، أو بانتحال صفات الله إلى أنفسهم لوجود نفوسهم.
* (ألم تر) * إلى آخره، * (يؤمنون بالجبت والطاغوت) * لإثباتهم وجود الغير، وذلك
إضلالهم عن الدين الذي هو طريق التوحيد * (ويقولون) * لأجل الذين حجبوا عن الحق
* (هؤلاء أهدى) * من الموحدين * (سبيلا) * لموافقتهم في الشرك دون المؤمنين، فإنهم
يخالفونهم في الطريق والمقصد، إذ المعترفون بالتوحيد لما ضلوا السبيل لم يصلوا إلى
المقصد الذي اعترفوا به فلزمهم شرك خفي قريب من حال المحجوبين عن الحق الذين
أشركوا شركا جليا فناسبوهم وصوبوهم وزعموا انهم أهدى الموحدين على ما نرى عليه
بعض الظاهريين من الإسلاميين * (أولئك الذين لعنهم الله) * بمسخ الاستعداد، ومن طرده
الله فلا يمكن لأحد نصرته بالهداية والتقريب والإنجاء.
168

[تفسير سورة النساء من آية 56 إلى آية 58]
* (إن الذين كفروا بآياتنا) * أي: حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا: إذ مطلع
الآية كونه متجليا بالعلم والحكمة والملك في آل إبراهيم * (سوف نصليهم) * نار شوق
الكمال لاقتضاء غرائزهم وطبائعهم بحسب استعدادهم ذلك مع رسوخ الحجاب
ولزومه، أو نار قهر من تجليات صفات قهره تناسب أحوالهم، أو نار شره نفوسهم
وحدة شوقها وطلبها لما ضريت بها من كمالات صفاتها وشهواتها مع حرمانها عنها
* (كلما نضجت جلودهم) * رفعت حجبهم الجسمانية بانسلاخهم عنها * (بدلناهم) * حجبا
غيرها جديدة * (ليذوقوا العذاب) * نيران الحرمان * (إن الله كان عزيزا) * قويا يقهرهم ويذلهم
بذل صفات نفوسهم، ويحرقهم بنيران توقانها إلى كمالاتهم مع حرمانهم أبدا * (حكيما) *
يجازيهم بما يناسبهم من العذاب الذي اختاروه لأنفسهم بدواعيهم الغضبية والشهوية
وغيرها، وميولهم إلى الملاذ الجسمانية فلذلك بدلوا حجبا ظلمانية بعد حجب.
* (والذين آمنوا) * بتوحيد الصفات * (وعملوا) * ما يصلحهم لقبول تجلياتها
* (سندخلهم جنات) * الاتصاف بها ومقاماتها * (تجري من تحتها الأنهار) * أي: أنهار
علوم تجلياتها من علوم القلب. والأزواج ههنا الأرواح المقدسة التي هي مظاهر
الصفات الإلهية المطهرة بالهيئات البدنية * (وندخلهم ظلا ظليلا) * أي: ظل الصفات
الإلهية الدائم روحها بمحو الصفات البشرية.
* (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * أي: حق كل ذي حق إليه بتوفية
حق الاستعداد أولا، ثم بتوفية حقوق القوى كلها من كمالاتها التي تقتضيها، ثم بتوفية
حق الله تعالى من أداء الصفات إليه، ثم أداء الوجود فتكونوا فانين في التوحيد. فإذا
رجعتم إلى البقاء بعد الفناء، وحكمتم بين الناس، كنتم قائمين في الأشياء بالله،
قوامين بالقسط، متصفين بعدل الله بحيث لا يمكن صدور الجور منكم. وأقل
الدرجات في العدل هو المحو في الصفات، إذ القائم بالنفس لا يقدر على العدل أبدا
* (إن الله كان سميعا) * بأقوالكم فيما بين الناس من المحاكمات، هل هي صائبة بالحق
أم فاسدة بالنفس؟ * (بصيرا) * بأعمالكم، هل تصدر من صفات نفوسكم أو من صفات
الحق؟.
169

تفسير سورة النساء من آية 59 إلى آية 63]
* (يا أيها الذين آمنوا) * بتوحيد الصفات * (أطيعوا الله) * بتوحيد الذات والفناء في
الجمع * (وأطيعوا الرسول) * بمراعاة حقوق التفصيل في عين الجمع وملاحظة ترتيب
الصفات بعد الفناء في الذات * (وأولي الأمر منكم) * ممن استحق الولاية والرياسة كما مر
في حكاية طالوت. * (ألم تر) * أي: تعجب من * (الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) *
من علم التوحيد * (وما أنزل من قبلك) * من علم المبدأ والمعاد * (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) * وهو ينافي ما ادعوه إذ لو كان إيمانهم صحيحا لما أثبتوا غيرا حتى يكون له
حكم، فإنهم بحكم الإيمان الحقيقي مأمورون بالكفر بغيره، ومن لم ينسلخ عن صفاته
وأفعاله ولم تنطمس ذاته في الله تعالى فهو غيره، ومن توجه إلى الغير فقد أطاع الشيطان ولا
يريد الشيطان بهم إلا الضلال البعيد الذي هو الانحراف عن الحق بالشرك، إذ الزيغ عن
الدين هو الضلال المبين.
[تفسير سورة النساء من آية 64 إلى آية 56]
* (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) * الآية، الفرق بين الرسول والنبي
هو: أن الرسالة، باعتبار تبليغ الأحكام: * (يا أيها الرسول بلغ) * [المائدة، الآية: 67] والنبوة
باعتبار الإخبار عن المعارف والحقائق التي تتعلق بتفاصيل الصفات والأفعال. فإن النبوة
ظاهر الولاية التي هي الاستغراق في عين الجمع والفناء في الذات، فعلمها علم توحيد
الذات ومحو الأفعال والصفات. فكل رسول نبي، وكل نبي ولي، وليس كل ولي نبيا، ولا
كل نبي مرسلا، وإن كانت رتبة الولاية أشرف من النبوة، والنبوة من الرسالة كما قيل:
170

* مقام النبوة في برزخ
* دوين الولي وفوق الرسول
*
فلا يرسل الرسول إلا للطاعة، إذ حكمه حكم الله باعتبار التبليغ فيجب أن
يطاع، ولا يطاع إلا بإذنه، فإن من حجب عنه بقصور الاستعداد كالكافر الأصلي
والشقي الحقيقي، أو بالرين ومحو الاستعداد كالمنافق ليس بمأذون له في الطاعة في
الحقيقة. * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم) * بمنعها عن حقوقها التي هي كمالاتها الثابتة
فيها بالقوة، وتكدير الاستعداد بالتوجه إلى طلب اللذات الحسية والأغراض الفانية
* (جاؤوك) * بالإرادة التي هي مقتضى استعدادهم * (فاستغفروا الله) * طلبوا من الله ستر
صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال الحاجبة لما في استعدادهم بنور صفاته
* (واستغفر لهم الرسول) * بإمدادهم بنور صفاته التي هي صفات الله عز وجل لرابطة
الجنسية التي بينهم وبين نفسه، ومكان الإرادة والمحبة التي تستلزم قربهم منه
وامتزاجهم به * (لوجدوا الله توابا) * مطهرا، مصفيا لاستعدادهم بنوره، إذ قبول التوبة
هو إلقاء نور الصفات عليهم، وتنوير بواطنهم بهيئة نورية تعصمهم من الخطأ في
الأفعال لبعد النور عن الظلمة * (رحيما) * يفيض عليهم رحمة الكمال اللائق بهم من الإيقان
العلمي أو العيني أو الحقي.
* (فلا وربك لا يؤمنون) * الإيمان الحقيقي التوحيدي * (حتى يحكموك) * لكون
حكمك حكم الله، وإنما حجبت الذات بالصفات، والصفات بالأفعال، فإذا تشاجروا
وقفوا مع صفاتهم محجوبين عن صفات الحق أو مع أفعالهم محجوبين عن أفعال
الحق، فلم يؤمنوا حقيقة. فإذا حكموك انسلخوا عن أفعالهم، وإذا لم يجدوا في
أنفسهم حرجا من قضائك انسلخوا عن إرادتهم فصاروا إلى مقام الرضا، وعن علمهم
وقدرتهم فصاروا إلى مقام التسليم فلم يبق لهم حجاب من صفاتهم واتصفوا بصفات
الحق فانكشف لهم في صورة الصفات فعلموا أنك هو قائم به، لا بنفسك، عادل
بالحقيقة بعدله، فتحقق إيمانهم بالله.
[تفسير سورة النساء من آية 66 إلى آية 96
171

((صفحة فارغة))
172

* (ولو أنا كتبنا) * أي: فرضنا * (عليهم أن اقتلوا أنفسكم) * بقمع الهوى الذي هو
حياتها وإفناء صفاتها * (أو اخرجوا من دياركم) * مقاماتكم التي هي الصبر والتوكل
والرضا وأمثالها، لكونها حاجبة عن التوحيد كما قال الحسين بن منصور قدس الله
روحه لإبراهيم بن أدهم رحمه الله، لما سأله عن حاله، وأجابه بقوله: أدور في
الصحاري، وأطوف في البراري، حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر، هل
يصح حالي في التوكل أم لا؟، فقال: إذا أفنيت عمرك في عمران بطنك فأين الفناء
في التوحيد؟.
* (ما فعلوه إلا قليل منهم) * وهم: المحبون المستعدون للقائه، الأكثرون قدر
الأقلون عددا كما قال تعالى: * (وقليل ما هم) * [ص، الآية: 24]، * (لكان خيرا لهم) *
بحسب كمالهم الحاصل لهم عند رفع حجب صفات النفس بالاتصاف بصفات الحق
أو بالوصول إلى عين الجمع * (وأشد تثبيتا) * بالاستقامة في الدين عند البقاء بعد الفناء
* (وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما) * من تجليات الصفات عند قتل النفس * (ولهديناهم صراطا مستقيما) * عند الخروج عن الديار، أي: منازل النفس والمقامات، وهو طريق
الوحدة والاستقامة في التوحيد * (ومن يطع الله) * بسلوك طرق التوحيد والجمع
* (والرسول) * بمراعاة التفصيل * (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) * بالهداية * (من
173

النبيين والصديقين) * الذين صدقوا بنسبة الأفعال والصفات إلى الله، بالانخلاع عن
صفاتهم والاتصاف بصفاته ولو ظهروا بصفات نفوسهم لكانوا كاذبين * (والشهداء) *
أي: أهل الحضور * (والصالحين) * أي: أهل الاستقامة في الدين.
* (ذلك الفضل) * أي: التوفيق لتحصيل الكمال الذي ناسبوا به النبيين ومن معهم
فرافقوهم. * (عليما) * يعلم ما في استعدادهم من الكمال فيظهره عليهم * (خذوا
حذركم) * أي: ما تحذرون من إلقاء الشيطان ووساوسه وإهلاكه إياكم بالإغواء، ومن
ظهور صفات نفوسكم واستيلائها عليكم، فإنها أعدى عدوكم * (فانفروا ثبات) * اسلكوا
في سبيل الله جماعات، كل فرقة على طريقة شيخ كامل عالم * (أو انفروا جميعا) * في
طريق التوحيد والإسلام على متابعة النبي * (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله) *
إلى آخره، ثبت أنهم قدريون يضيفون الخيرات إلى الله والشرور إلى الناس، يتشبهون
بالمجوس في الثبات، مؤثرين مستقلين في الوجود، وإضافتهم الشرور إلى الرسول لا
إلى أنفسهم كانت لأنه باعثهم ومحرضهم على ما يلقون بسببه الشر عندهم. فأمر
الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوتهم إلى توحيد الأفعال ونفي التأثير عن الأغيار والإقرار بكونه فاعل
الخير والشر بقوله: * (قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) *
لاحتجابهم بصفات النفوس وارتجاج آذان قلوبهم التي هي أوعية السماع والوعي. ثم
بين أن لله فضلا وعدلا، فالخيرات والكمالات كلها من فضله، والشرور من عدله،
أي: يقدرها علينا ويفعلها بنا لاستعداد واستحقاق فينا يقتضي ذلك. وذلك الاستحقاق
إنما يحدث من ظهور النفس بصفاتها وارتكابها المعاصي والذنوب الموجبة للعقاب لا
بفعل آخر كما نسبوا ما أصابهم من الشر إلى الرسول، لأن الاستحقاق مرتب على
الاستعداد، ولا يعرض ما يقتضيه استعداد أحد لغيره، كما قال تعالى: * (ولا تزر وازرة
وزر أخرى) * [الأنعام، الآية: 164]، فكذبهم وخطأهم في قدريتهم بإثبات أن: السبب
الفاعلي للخير والشر ليس إلا لله وحده بمقتضى فضله وعدله. وأما السبب القابلي فهو
وإن كان أيضا منه في الحقيقة إلا أن قابلية الخير هو من الاستعداد الأصلي الذي هو
من الفيض الأقدس الذي لا مدخل لفعلنا واختيارنا فيه، وقابلية الشر من الاستعداد
الحادث بسبب ظهور النفس بالصفات والأفعال الحاجبة للقلب، المكدرة لجوهره،
حتى احتاج إلى الصقل بالرزايا والمصائب والبلايا والنوائب لا من قبل الرسول أو
غيره.
تفسير سورة النساء من آية 97 إلى آية 99
174

* (إن الذين توفاهم الملائكة) * إلى آخره، التوفي هو: استيفاء الروح من البدن
بقبضها عنه، وهو على ثلاثة أوجه: توفي الملائكة، وتوفي ملك الموت، وتوفي الله.
أما توفي الملائكة فهو لأصحاب النفوس وهم إما سعداء أهل الخير والصفات الحميدة
والأخلاق الحسنة من الصالحين المتقين * (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام
عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون 32) * [النحل، الآية: 32] فمعادهم إلى جنة
الأفعال. وإما أشقياء أهل الشر والصفات الرديئة والأخلاق السيئة فلا يقبض أرواحهم
إلا القوى الملكوتية التي هي للعالم بمثابة قواهم التي هم في مقامها، محتجبون
بصفات النفس ولذات القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية من الكافرين: * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * [النحل، الآية: 28] فمعادهم إلى النار. وأما توفي ملك
الموت فهو لأرباب القلوب الذين برزوا عن حجاب النفس إلى مقام القلب، ورجعوا
إلى الفطرة، فتنوروا بنورها، فتقبض أرواحهم النفس الناطقة الكلية التي هي قلب
العالم باتصالهم بها، هذا إذا قبض أرواحهم ملك الموت بنفسه، أما إذا قبض بأعوانه
وقواهم فهم الفريق الأول. وقد يقبض بنفسه ويذرهم في ملكوت العذاب حتى
يحاسبوا ويعاقبوا بحسب رذائلهم ويتخلصوا، وذلك للكمال العلمي والنقصان العلمي
كما خلص من الجهل والشرك وتحلى بالعلم والتوحيد، ولكن تراكمت على قلبه
الهيئات المظلمة والملكات الرديئة بسبب الأعمال السيئة والأخلاق الذميمة. وللعلم
بالتوحيد والجهل بالمعاد كالموحد المنكر للجزاء، فينهمك في المعاصي كما قال
تعالى: * (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) * [السجدة، الآية: 11]. وأما توفي الله
تعالى، فهو للموحدين الذين عرجوا عن مقام القلب إلى محل الشهود فلم يبق بينهم
وبين ربهم حجاب، فهو يتولى قبض أرواحهم بنفسه ويحشرهم إلى نفسه * (يوم نحشر
المتقين إلى الرحمن وفدا 85) * [مريم، الآية: 85]، كما قال تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * [الزمر، الآية: 42].
* (ظالمي أنفسهم) * بمنعها عن حقوقها التي اقتضتها استعداداتهم من الكمالات
المودعة فيها * (فيم كنتم) * حيث قصرتم في السعي لما قدرتم وفرطتم في جنب الله،
وقصرتم عن بلوغ كمالكم الذي هيئ لكم وندبتم إليه * (قالوا كنا مستضعفين) * في
أرض الاستعداد الذي جبلنا عليه باستيلاء قوى النفس الأمارة وغلبة سلطان الهوى
بشيطان الوهم، أسرونا في قيودهم، وجبرونا على دينهم، وأكرهونا على كفرهم.
175

* (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة) * ألم تكن سعة استعدادكم بحيث تهاجروا فيها من
مبدأ فطرتكم خطوات يسيرة، بحيث إذا ارتفعت عنكم بعض الحجب انطلقتم عن أسر
القوى وتخلصتم عن قيود الهوى، وتقويتم بإمداد أعوانكم القوى الروحانية، ونصرتم
بأنوار القلب، فخرجتم عن القرية، الظالم أهلها، التي هي مدينة النفس إلى بلد القلب
الطيبة، فتداركتكم رحمة ربكم الغفور * (فأولئك مأواهم جهنم) * نفوسهم الشديدة
التوقان مع حصول الحرمان * (وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال) * أي: أقوياء
الاستعداد الذين قويت قواهم الشهوية والغضبية مع قوة استعدادهم فلم يقدروا على
قمعها في سلوك طريق الحق ولم يذهبوا لقواهم الوهمية والخيالية، فيبطلوا
استعداداتهم بالعقائد الفاسدة فبقوا في أسر قواهم البدنية مع تنور استعدادهم بنور العلم
وعجزهم عن السلوك برفع القيود * (والنساء) * أي: القاصرين الاستعداد عن درك
الكمال العلمي، وسلوك طريق التحقيق، الضعفاء القوى والأحلام، الذين قال في
حقهم: ' أكثر أهل الجنة البله '. * (والولدان) * أي: الناقصين القاصرين عن بلوغ درجة
الكمال لغيرة تلحقهم من قبل صفات النفس * (لا يستطيعون حيلة) * لعدم قدرتهم
وعجزهم عن كسر صفات النفس وقمع الهوى بالرياضة * (ولا يهتدون سبيلا) * لعدم
علمهم بكيفية السلوك وحرمانهم عن نور الهداية الشرعية * (فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم) * بمحو تلك الهيئات المظلمة لعدم رسوخها وسلامة عقائدهم * (وكان الله عفوا) *
العفو عن الذنوب ما دامت الفطرة لم تتغير * (غفورا) * يستر بنور صفاته صفات
نفوسهم.
[تفسير سورة النساء آية 100]
* (ومن يهاجر) * أي مقار النفس المألوفة في سبيل طريق الحق بالعزيمة * (يجد) *
في أرض استعداده مهاجر ومساكن ومنازل كثيرة فيها رغم أنوف قوى نفسه الوهمية
والخيالية والبهيمية والسبعية وإذلالها * (وسعه) * وانشراحا في الصدر عند الخلاص من
ضيق صفات النفس وأسر الهوى * (ومن يخرج) * من المقام الذي هو فيه سواء كان مقر
استعداده الذي جبل عليه أو منزلا من منازل النفس أو مقاما من مقامات القلب
* (مهاجرا إلى الله) * بالتوجه إلى توحيد الذات * (ورسوله) * بالتوجه إلى طلب الاستقامة
في توحيد الصفات * (ثم يدركه) * الانقطاع قبل الوصول * (فقد وقع أجره على الله) *
بحسب ما توجه إليه، فإن المتوجه إلى السلوك له أجر المنزل الذي وصل إليه، أي:
المرتبة من الكمال الذي حصل له إن كان، وأجر المقام الذي وقع نظره عليه وقصده.
176

فإن ذلك الكمال وإن لم يحصل له بحسب الملك والقدم لكنه اشتاق إليه بحسب
القصد والنظر، فعسى أن يؤيده التوفيق بعد ارتفاع الحجب بالوصول إليه * (وكان الله غفورا) * يغفر له ما يمنعه عن قصده من الموانع * (رحيما) * يرحمه، بأن يهب له
الكمال الذي توجه إليه ووقع نظره عليه.
[تفسير سورة النساء من آية 101 إلى آية 104]
وإذا سافرتم في أرض الاستعداد بالطريق العلمي لطلب اليقين * (فليس عليكم جناح أن تقصروا) * أي: تنقصوا من الأعمال البدنية وأداء حقوق العبودية من الشكر
والحضور، لقوله عليه صلى الله عليه وسلم: ' من أوتي حظه من اليقين فلا يبالي بما
انتقص من صلاته وصومه '.
* (إن خفتم أن يفتنكم) * أي: يغويكم ويضلكم * (الذين كفروا) * أي: حجبوا من
قوى الوهم والتخيل وشياطين الإنس الضالين المضلين لما علم من قوله صلى الله عليه وسلم: ' لفقيه
واحد أشد على الشيطان من ألف عابد '.
[تفسير سورة النساء من آية 105 إلى آية 108]
* (أنا أنزلنا عليك الكتاب) * أي: علم تفاصيل الصفات وأحكام تجلياتها بالحق
ملتبسا بالعدل والصدق أو قائما بالحق لا بنفسك لتكون حاكما بين الخلق * (بما أراك الله) * من عدله * (ولا تكن للخائنين) * الذين لا يؤدون أمانة الله التي أودعها عندهم في
الأزل بما ركز في استعدادهم من إمكان كمال معرفته وخانوا أنفسهم وغيرهم بنهب
177

حقوقهم وصرفها في غير وجهها * (خصيما) * يدفع عنهم العذاب وتسليط الله الخلق
عليهم بالإيذاء ويحتج عنهم على غيرهم أو على الله بالاعتراض بأنه لم خذلهم
وقهرهم فإنهم الظالمون لا حجة لهم بل الحجة عليهم * (واستغفر الله) * لنفسك بترك
الاعتراض والاحتجاج عنهم لنغفر تلوينك الذي ظهر عليك بوجود قلبك وبصفاته
* (ولا تجادل) * ظهر تأويله من هذا * (يستخفون من الناس) * بكتمان رذائلهم وصفات
نفوسهم التي هي معايبهم عنهم * (ولا يستخفون من الله) * بإزالتها وقلعها وهو شاهدهم
يعلم بواطنهم * (إذ يبيتون) * أي: يقدرون في عالم ظلمة النفس والطبيعية * (ما لا يرضى من القول) * من الوهميات والتخيلات الفاسدة التي يلفقونها في تحصيل أغراضهم من
حطام الدنيا ولذاتها * (وكان الله بما يعملون محيطا) * يجازيهم بحسب صفاتهم
وأعمالهم.
[تفسير سورة النساء من آية 109 إلى آية 112]
* (ها أنتم هؤلاء) * ظاهر مما مر * (ومن يعمل سوءا) * بظهور صفة من صفات
نفسه * (أو يظلم نفسه) * بنقص شيء من كمالاته التي هي مقتضى استعداده بتقصير فيه
وارتكاب عمل ينافيه ثم يطلب من الله ستر تلك الصفة والهيئة الساترة لكماله بالتوجه
إليه والتنصل عن الذنب * (يجد الله غفورا) * يستر ذلك السوء والهيئة المظلمة بنور
صفته * (رحيما) * يهب ما يقتضيه استعداده. * (ومن يكسب خطيئة) * بظهور نفسه * (أو إثما) * يمحو ما في استعداده وكسب هيئة منافية لكماله * (ثم يرم به بريئا) * بأن قال:
حملني على ذلك فلان، ومنعني عن طلب الحق فلان، وهذا جريمة فلان، كما هو
عادة المتعللين بالأعذار * (فقد احتمل بهتانا) * بنسبة فعله إلى الغير إذ لو لم يكن في
نفسه ميل لما يضاد كماله ومناسبة لمن وافقه وأطاعه لما قبل ذلك منه، فما كان إلا
من قبل نفسه كما قال لهم الشيطان: * (إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) * [إبراهيم، الآية: 14] إذ لو لم يكن في نفوسهم ظلمة بكسبها وظهور صفاتهم
لم يكن فيهم محل لوسوسته وقابلية لدعوته * (وإثما مبينا) * ظاهرا متضاعفا لتركبه من
هيئة الخطيئة والامتناع من الاعتراف، ونسبة التقصير إلى أنفسهم لتنكسر فتضعف عن
الاستيلاء على القلب وحجبه عن الكمال.
178

[تفسير سورة النساء من آية 113 إلى آية 116]
* (ولولا فضل الله عليك) * أي: توفيقه وإمداده لسلوك طريقه بما يخرج كمالك
إلى الفعل ويبرز ما فيك كامنا من العلم * (ورحمته) * هبته لذلك الكمال المطلق الذي
أودعه فيك في الأزل وهي الرحمة التي ليس وراءها رحمة * (وما يضلون إلا أنفسهم) *
لكون الضلال ناشئا من أصل استعدادهم لكونهم مجبولين على الشقاوة أزلا فكيف
يرجع ذلك الضلال المعجون فيهم إلى غيرهم.
* (وأنزل الله عليك الكتاب) * أي: العلم التفصيلي التام بعد الوجود الموهوب
* (والحكمة) * وعلم أحكام التفاصيل وتجليات الصفات مع العمل به * (وعلمك ما لم تكن تعلم) * لأنه علم الله لا يعلمه إلا هو، فلما كشف لك عن ذاته بفنائك فيه ثم
أبقاك بالوجود الحقاني فصار قلبك وحجبك بحجاب ذلك القلب علمك علمه، إذ
الصفة تابعة للذات * (وكان فضل الله) * في إظهار هذا الكمال عليك بالتوفيق للعمل
الذي أوصلك إلى ما أوصلك * (عظيما) * * (لا خير في كثير من نجواهم) * فإنها
فضول، والفضول يجب تركها على السالك كما قال عليه صلى الله عليه وسلم: ' من حسن
إسلام المرء تركه ما لا يعنيه '.
* (إلا من أمر) * أي: إلا نجوى من أمر * (بصدقة) * أي: بفضيلة السخاء التي هي
من باب العفة * (أو معروف) * قولي كتعليم علم وحكمة من باب فضيلة الحكمة، أو
فعلي كإغاثة ملهوف وإعانة مظلوم من باب الشجاعة * (أو إصلاح بين الناس) * من باب
العدالة * (ومن يفعل ذلك) * أي: يجمع بين الكمالات المذكورة * (ابتغاء مرضات الله) *
لا لطلب المحمدة أو الرياء والسمعة، فتصير به الفضيلة رذيلة * (فسوف نؤتيه أجرا عظيما) * من جنات الصفات.
[تفسير سورة النساء من آية 117 إلى آية 133
179

* (إن يدعون من دونه إلا إناثا) * أي: نفوسا، إذ كل من يشرك بالله فهو عابد
لنفسه بطاعة هواها، وعابد لشيطان الوهم بقبول إغوائه وطاعته، أو كل ما يعبد من
دون الله لأنه ممكن وكل ممكن فهو متأثر عن الغير قابل لتأثيره محتاج إليه وهي صفة
الإناث * (نصيبا مفروضا) * أي: غير المخلصين الذين أخلصوا دينهم بالتوحيد
* (ولآمرنهم) * بالعادات الفاسدة والأهواء المردية والأفعال الشنيعة المخالفة للعقل
والشرع * (والذين آمنوا) * الإيمان الحقيقي التوحيد، لأنهم في مقابلة المشركين
* (وعملوا) * ما يصلح لهم في الوصول إلى الجمع أو يصلح للناس أجمعين بالاستقامة
في الله وبالله بعد الفناء وحصول البقاء * (سندخلهم) * الجنات الثلاثة المذكورة * (ليس) *
حصول الموعود * (بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب) * أي: ما بقيتم مع نفوسكم
180

وصفاتها وأفعالها، فإرادتكم مجرد تمن والتمني طلب ما يمتنع وجوده في العادة.
* (ومن أحسن دينا) * أي طريقا * (ممن أسلم وجهه) * أي: وجوده * (لله) * وأخلص
ذاته من شوب الآنية والإثنينية بالفناء المحض * (وهو محسن) * مشاهد للجمع في عين
التفصيل، مراع لحقوق تجليات الصفات وأحكامها، سالك طريق الإحسان بالاستقامة
في الأعمال * (واتبع ملة إبراهيم) * في التوحيد * (حنيفا) * مائلا عن كل شرك في ذاته
وصفاته وأفعاله، وعن كل دين باطل، أي: طريق يؤدي إلى إثبات فعل لغيره أو صفة
أو ذات، إذ دينه دين الحق، أعني: سيره حينئذ سير إلى الله لا سير في الله بسلوك
طريق الصفات، ولا إلى الله بقطع صفات النفس ومناهل صفات القلب، فلا دين
أحسن منه دينه.
* (واتخذ الله إبراهيم خليلا) * يخاله، أي: يداخله في خلال ذاته وصفاته بحيث
لا يذر منها بقية، أو يسد خلله ويقوم بدل ما يفنى منه عند تكميله وفقره إليه.
فالخليل وإن كان أعلى مرتبة من الصفي، لكنه أدون من الحبيب، لأن الخليل محب
يوشك أن يتوهم فيه بقية غيرية، والحبيب محبوب لا يتصور فيه ذلك. ولهذا ألقي في
نار العشق دونه.
تفسير سورة النساء من آية 134 إلى آية 143
181

* (من كان يريد ثواب الدنيا) * بالوقوف مع هوى النفس فما له يطلب أخس
الأشياء ويقف في أدنى المراتب * (فعند الله ثواب) * الدارين جميعا، بالفناء فيه لأنه
الوجود المحيط بالكل فلا يفوته شيء * (وكان الله سميعا) * بأحاديث نفوسكم * (بصيرا) *
بنياتكم وإرادتكم بأعمالكم * (يا أيها الذين آمنوا) * بالتوحيد العلمي وإرادة ثواب الدارين
* (كونوا) * ثابتين في مقام العدالة التي هي أشرف الفضائل * (قوامين) * بحقوقها بحيث
تكون ملكة راسخة فيكم لا يمكن معها صدور جور وميل منكم في شيء، ولا ظهور
صفة نفس لاتباع هوى في جذب نفع دنيوي أو دفع مضرة. * (يا أيها الذين آمنوا) *
بالإيمان التقليدي * (آمنوا) * بالإيمان التحقيقي أو آمنوا بالإيمان العلمي، أو آمنوا
بالإيمان العيني.
* (إن الذين آمنوا ثم كفروا) * إلى آخره، أي: تحيروا وترددوا بين جهتي الربوبية
العلوية والسفلية لشدة النفاق وغلبة نور الفطرة تارة واستيلاء ظلمة النفس والهوى
أخرى، لاستواء الحالتين فيهم حتى استحكمت الهيئات المظلمة وازدادت الحجب
ورسخت العقائد الفاسدة والملكات الكاسدة باستيلاء صفات النفس واستعلائها مطلقا
فرانت على قلوبهم * (ما كان الله ليغفر لهم) * لمكان الرين الحاجب وفساد جوهر
القلب وزوال الاستعداد * (ولا ليهديهم سبيلا) * إلى الحق ولا إلى الكمال ولا إلى
الفطرة الأصلية لعدم قبولهم الهداية وصرف عذابهم بالإيلام لمكان استعدادهم في
الأصل.
* (الذين يتخذون الكافرين أولياء) * لمناسبتهم إياهم في الاحتجاب * (من دون المؤمنين) * لعدم الجنسية * (أيبتغون) * التعزز بهم في الدنيا والتقوي بمالهم وجاههم فلا
سبيل إلى ذلك، وهم قد أخطأوا لأن العزة كلها صفة من صفات الله تعالى منيع القوى
والقدر، له قوة القهر والغلبة للكل فبقدر القرب منه وقبول نوره وقوته والاتصاف
بصفاته تحصل العزة فهي بأهل الإيمان أولى وأهل الحجاب والكفر بالزلة أولى
* قاموا
كسالى) * لعدم شوقهم إلى الحضور ونفورهم عنه لظلمة استعدادهم باستيلاء الهوى.
[تفسير سورة النساء من آية 144 إلى آية 151
182

* (لا تتخذوا الكافرين أولياء) * لئلا يتعدى إليكم كفرهم واحتجابهم بالصحبة
والمخالطة فإنه لا شيء أقوى تأثيرا من الصحبة والميل إلى ولايتهم لا يخلو عن
جنسية بينهم لوجود هوى كامن فيهم وضراوة بعادة رديئة تشملهم لا يؤمن عليهم
الوقوع في الكفر بغلبة الهوى والنفس.
* (سلطانا مبينا) * حجة ظاهرة في عقابكم برسوخ الهيئة التي بها تميلون إلى
ولايتهم بصحبتهم ومجالستهم * (في الدرك الأسفل) * باعتبار زيادة عذابه وشدة إيلامه
وإحراقه لا باعتبار كونه أدون مرتبة، إذ تأثير النار في المنافق أشد وأكثر إيلاما لبقية
استعداد فيه. وأما الكافر الأصلي البهيم فلعدم استعداده لا يتألم بعذابه كما يتألم
المنافق وإن كان أسوا حالا منه وأعظم عذابا وهوانا * (نصيرا) * ينصرهم من عذاب الله
لانقطاع وصلتهم وارتفاع محبتهم مع أهل الله * (إلا الذين تابوا) * رجعوا إلى الله ببقية
نور الاستعداد وقبول مدد التوفيق * (وأصلحوا) * ما أفسدوا من استعدادهم بقمع الهوى
وكسر صفات النفس ورفع حجب القوى بالزهد والرياضة * (واعتصموا بالله) * بالتمسك
بحبل الإرادة وقوة العزيمة في التوجه إليه * (وأخلصوا دينهم لله) * بإفناء موانع السلوك
من صفات النفس وإزالة خفاء الشرك وقطع النظر عن الغير في السير * (فأولئك مع المؤمنين) * الموقنين * (أجرا عظيما) * من مشاهدة تجليات الصفات وجنة الأفعال.
* (إن الذين يكفرون) * يحتجبون عن الحق والدين وعن الجمع والتفصيل * (ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) * بالاحتجاب عن الدين دون الحق والتفصيل دون الجمع،
فينكرون الرسل لتوهمهم وحدة منافية للكثرة وجمعا مباينا للتفصيل، وذلك هو إيمانهم
بالبعض وكفرهم بالبعض.
* (ويريدون أن يتخذوا) * بين الإيمان بالكل جمعا وتفصيلا والكفر بالكل طريقا
* (أولئك هم الكافرون) * المحجوبون * (حقا) * بذواتهم وصفاتهم فإن معرفتهم وهم
وغلط وتوحيدهم زندقة ليسوا من الدين ولا من الحق في شيء * (مهينا) * يهينهم
بوجود الحجاب وذل النفس وصفاتها.
تفسير سورة النساء من آية 152 إلى آية 159
183

* (والذين آمنوا بالله ورسله) * جمعا وتفصيلا * (أجورهم) * من الجنات الثلاثة
* (وكان الله غفورا) * يستر عنهم ذواتهم وصفاتهم التي هي ذنوبهم وحجبهم بذاته
وصفاته * (رحيما) * يرحمهم بتمتيعهم بالجنات الثلاثة وبالوجود الموهوب الحقاني
والبقاء السرمدي * (كتابا من السماء) * علما يقينيا بالمكاشفة من سماء الروح * (أكبر من ذلك) * لأن المشاهدة أكبر وأعلى من المكاشفة * (بظلمهم) * بطلبهم المشاهدة مع بقاء
ذواتهم إذ وجود البقية عند المشاهدة وضع الشيء في غير موضعه وطلب المشاهدة مع
البقية طغيان من النفس ينشأ من رؤيتها كمالات الصفات لنفسها وذلك ظلم * (سلطانا) *
تسلطا بالحجة عليهم بعد الإفاقة * (بل رفعه الله إليه) * إلى قوله * (ليؤمنن به) * رفع
عيسى عليه السلام اتصال روحه عند المفارقة عن العالم السفلي بالعالم العلوي.
وكونه في السماء الرابعة إشارة إلى أن مصدر فيضان روحه روحانية تلك الشمس الذي
هو بمثابة قلب العالم ومرجعه إليه وتلك الروحانية نور يحرك ذلك الفلك بمعشوقيته
وإشراق أشعته على نفسه المباشرة لتحريكه ولما كان مرجعه إلى مقره الأصلي ولم
يصل إلى الكمال الحقيقي وجب نزوله في آخر الزمان، بتعلقه ببدن آخر وحينئذ يعرفه
كل أحد فيؤمن به أهل الكتاب، أي: أهل العلم العارفين بالمبدأ والمعاد كلهم عن
آخرهم قبل موت عيسى بالفناء في الله، وإذ آمنوا به يكون يوم القيامة أي يوم بروزهم
عن الحجب الجسمانية وقيامهم عن حال غفلتهم ونومهم الذي هم عليه الآن
* (شهيدا) * شاهدهم يتجلى عليهم الحق في صورته كما أشير إليه.
تفسير سورة النساء من آية 160 إلى آية 165
184

* (فبظلم) * عظيم * (من الذين هادوا) * أي: بعباداتهم عجل النفس واتخاذه إلها
وامتناعهم عن دخول القرية التي هي حضرة الروح واعتدائهم في السبت بمخالفة
الشرع والاحتجاب عن كشف توحيد الأفعال ونقضهم ميثاق الله واحتجابهم عن
تجليات الصفات الذي هو كفرهم بآيات الله والانغماس في الرذائل كلها، كقتل الأنبياء
والافتراء على الله بكون قلوبهم غلفا أي: مغشاة بحجب خلقية لا سبيل إلى رفعها
وبهتانهم على مريم، وادعائهم قتل عيسى عليه السلام من الخصال التي اجتماعها ظلم
لا يعرف كنهه * (حرمنا عليهم طيبات) * جنات النعيم من تجليات الأفعال والصفات
وشهود الذات التي هي طيبات لا يعرف كنهها * (أحلت لهم) * بحسب قابلية استعدادهم
لولا هذه الموانع * (وبصدهم) * الناس بصحبتهم ومرافقتهم ودعوتهم إلى الضلال أو
بصد قواهم الروحانية * (عن سبيل الله وأخذهم) * ربا فضول العلوم كالخلاف والجدل
واللذات البدنية والحظوظ التي نهوا عنها * (وأكلهم أموال الناس بالباطل) * برذيل
الحرص والطبع كأخذ الرشا وأجر التزويرات والتلبيسات أو استعمال علوم القوى
الروحانية بين الفكر والعقل النظري والعلمي في تحصيل المآكل والمشارب وكسب
الحطام، وتحصيل اللذات والشهوات الحسية والمآرب السبعية والبهيمية عذابا مؤلما
لوجود استعدادهم.
* (لكن الراسخون في العلم) * أي: المحققون * (منهم والمؤمنون) * بالإيمان
التقليدي المطابق الثابت * (يؤمنون بما أنزل إليك) * إلى آخره، أي: يتصفون بالتزكية
والتحلية * (والمؤمنون) * الموحدون بالتوحيد العياني * (واليوم الآخر) * المعاينون لأحوال
المعاد على ما هو عليه * (أجرا عظيما) * من حظوظ تجليات الصفات وجناتها.
* (رسلا مبشرين) * بتجليات صفات اللطف * (ومنذرين) * بتجليات صفات القهر
* (لئلا يكون للناس على الله حجة) * ظهور وسلطنة بوجود صفة ما بعد رفعها ومحوها
بإمداد الرسل * (وكان الله عزيزا) * قويا يقهرهم بمحو صفاتهم وإفناء ذواتهم * (حكيما) *
لا يفعل ذلك إلا بحكمة اتصافهم بصفاته أو بقائهم بذاته.
185

[تفسير سورة النساء من آية 166 إلى آية 170
* (لكن الله يشهد بما أنزل إليك) * لكونك في مقام الجمع وهم محجوبون لا
يقرون به بل هو يشهد * (أنزله بعلمه) * ملتبسا بعلمه، أي: في حالة كونه عالما به
بحيث إنه علمه الخاص لا علمك ولا علم غيرك من غيره.
* (والملائكة يشهدون) * لكونك مراعيا للتفصيل في غير الجمع فهو الشاهد بذاته
وبأسمائه وصفاته * (وكفى بالله شهيدا) * أي: الذات مع الصفات تكفي في الشهادة إذ لا
موجود غيره * (كفروا) * حجبوا عن الحق لكون ضلالهم بعيدا * (إن الذين كفروا) *
حجبوا عن الدين * (وظلموا) * منعوا استعداداتهم عن حقوقها من الكمال بارتكاب
الرذائل وتسليط صفات النفس على قلوبهم * (لم يكن الله ليغفر لهم) * لرسوخ هيئات
الرذائل فيهم وبطلان الاستعداد * (ولا ليهديهم طريقا) * لجهلهم المركب واعتقادهم
الفاسد وعدم علمهم بطريق ما من طرق الكمال * (إلا طريق جهنم) * نيران أشواق
نفوسهم إلى ملاذها مع حرمانهم عنها * (وكان ذلك) * سهلا على الله لانجذابهم إليها
بالطبيعة.
تفسير سورة النساء من آية 171 إلى آية 173]
* (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) * أما اليهود فبالتعمق في الظاهر ونفي
البواطن وحط عيسى عن درجة النبوة ومقام الاتصاف بصفات الربوبية. وأما النصارى
فبالتعمق في البواطن ونفي الظواهر ورفع عيسى إلى مقام الألوهية * (ولا تقولوا على الله إلا الحق) * بالجمع بين الظواهر والبواطن والجمع والتفصيل كما هو عليه التوحيد
186

المحمدي، والقول: بكون عيسى مظهر الصفات الإلهية، حيا بحياته داعيا إلى مقام
توحيد الأوصاف و * (كلمته) * نفسا مجردة هي كلمة من كلمات الله، أي: حقيقة من
حقائقه الروحانية وروحا من أرواح * (فآمنوا بالله ورسله) * بالجمع والتفصيل * (ولا تقولوا ثلاثة) * بزيادة الحياة والعلم على الذات، فيكون الإله ثلاثة أشياء ويكون عيسى جزء
من حياته بالنفخ أو بالتفرقة بين ذات الحق وعالم النور وعالم الظلمة، فيكون عيسى
متولدا من نوره. بل قولوا بالكل من حيث هو كل فيكون العلم والحياة عين الذات
وكذا عالم النور والظلمة. ويكون عيسى فانيا فيه موجودا بوجوده، حيا بحياته، عالما
بعلمه، وذلك وحدته الذاتية المعبر عنها بقوله * (إنما الله إله واحد سبحانه) * نزهه عن
أن يكون موجود غيره، فيتولد منه وينفصل ويجانسه بأنه موجود مثله، بل هو الموجود
من حيث هو وجود.
* (له ما في السماوات) * الأرواح * (والأرض) * الأجساد بكونها أسماءه وظاهره
وباطنه * (وكيلا) * يقوم مقام الخلق في أفعالهم وصفاتهم وذواتهم عند فنائهم في
التوحيد، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: ' لا إله إلا الله بعد فناء الخلق '.
* (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله) * في مقام التفصيل، إذ باعتبار الجمع
لا وجود للمسيح ولا لغيره فلا ممكن أصلا. وأما باعتبار التفصيل فكل ما ظهر بتعين
فهو ممكن، والممكن لا وجود له بنفسه فضلا عن شيء غيره فيكون عبدا محتاجا
ذليلا مفتقرا غير مستنكف عن ذلة العبودية وإن كان غنيا عن تعلق الأجسام بالتجرد
المحض والتقدس عن دنس الطبائع كالملائكة المقربين الذين هم الأرواح المجردة
والأنوار المحضة * (ومن يستنكف عن عبادته) * بظهور أنيته * (ويستكبر) * بطغيانه في
الظهور بصفاته * (فسيحشرهم إليه جميعا) * بظهور نور وجهه وتجليه بصفة قاهريته حتى
يفنوا بالكلية في عين الجمع، كما قال تعالى: * (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) * [غافر، الآية: 9]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور
وظلمة، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه '.
* (فأما الذين آمنوا) * بالفناء في عين الجمع بمحو الصفات وطمس الذات
* (وعملوا الصالحات) * بالاستقامة في الأعمال ومراعاة تفاصيل الصفات وتجلياتها
* (فيوفيهم أجورهم) * وصفاتهم من جنات صفاته * (ويزيدهم من فضله) * بالوجود
الموهوب بعد الفناء في الذات * (وأما الذين استنكفوا) * بظهور أنيتهم * (واستكبروا) *
طغوا عند تجليات الصفات وتنورهم بنورها، فظهروا بها ونسبوها إلى أنفسهم كمن
قال: أنا ربكم الأعلى.
187

* (فيعذبهم عذابا أليما) * باحتجابهم ببقايا ذواتهم وصفاتهم وحرمانهم عن مقام
الجمع * (ولا يجدون) * غير الله * (وليا) * يواليهم برفع حجاب الذات * (ولا نصيرا) *
ينصرهم في رفع حجاب الصفات البرهاني وهو التوحيد الذاتي والنور المبين وهو
التفصيل في عين الجمع، أي: القرآن الذي هو علم الجمع والفرقان الذي هو علم
التفصيل.
[تفسير سورة النساء من آية 174 إلى آية 176]
* (فأما الذين آمنوا) * بالتوحيد الذاتي واعتصموا به أي: في كثرة الصفات وتفرقها
وراعوا الجمع في التفاصيل * (فسيدخلهم في رحمة) * من جنات الصفات التي لا يعرف
كنهها * (وفضل) * من جنات الذات * (ويهديهم إلى صراطا مستقيما) * بالاستقامة إلى
الوحدة في تفاصيل الكثرة أو رحمة من جنات الأفعال وفضل من جنات الصفات،
* (ويهديهم إليه صراطا مستقيما) * من تفاصيل الصفات إلى الفناء في الذات، والأول
أولى بهذا المقام، ولك التطبيق على تفاصيل وجودك وأحوالك في نفسك حيث أمكن
من هذه السورة على القاعدة التي مرت في سورة (آل عمران) والله تعالى أعلم.
188

((سورة المائدة))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة المائدة من آية 1 إلى آية 2]
* (يا أيها الذين آمنوا) * بالإيمان العلمي * (أوفوا بالعقود) * أي: العزائم التي
أحكمتموها في السلوك. والفرق بين العهد والعقد ههنا: أن العهد هو إيداع التوحيد
فيهم في الأزل كما مر، والعقد هو إحكام عزائم التكليف عليهم ليتأدى بهم إلى
الإيفاء بما عاهدوا عليه. فالعهد سابق والعقد لاحق، فكل عزيمة على أمر يوجب
إخراج ما في الاستعداد بالقوة إلى الفعل عقد بينه وبين الله يجب الوفاء به والامتناع
عن نقضه بفتور أو تقصير * (أحلت لكم) * جميع أنواع التمتعات والحظوظ بالنفوس
السليمة التي لا تغلب عليها السبعية والشره، كالنفوس التي هي على طباع الأنعام
الثلاثة * (إلا ما يتلى عليكم) * من التمتعات المنافية للفضيلة والعدالة فإنها منهي عنها
لحجبها عن الكمال الشخصي والنوعي * (غير محلي الصيد وأنتم حرم) * أي: لا
متمتعين بالحظوظ في تجريدكم للسلوك وشروعكم في الرياضة عند السير إلى الله
لطلب الوصول فإنه يجب حينئذ الاقتصار على الحقوق، إذ الإحرام في الظاهر صورة
الإحرام الحقيقي للسالكين في طريق كعبة الوصال، والقاصدين لدخول الحرم الإلهي
وسرادقات صفات الجلال والكمال * (إن الله يحكم ما يريد) * على من يريده من
أوليائه.
* (لا تحلوا شعائر الله) * من المقامات والأحوال التي يعلم بها حال السالك في
سلوكه كالصبر والشكر والتوكل والرضا وأمثالها، أي: لا ترتكبوا ذنوب الأحوال ولا
تخرجوا عن حكم المقامات فإنها شعائر دين الله الخالص. وكما أن المواضع المعلومة
المعلمة بما يفعل فيها كالمطاف والمسعى والمنحر وغيرها والأفعال المعلومة في الحج
189

شعائر يشعر بها الحاج. فهذه المقامات والمراتب والأحوال شعائر يشعر بها حال
السالك وكما أنه لا يجوز في ظاهر الشرع تغييرها عن موضعها والخروج عن حكمها
فكذلك هذه في شرع المحبين كما يحكى عن أحدهم أنه كان يتكلم في الصبر فدب
عقرب على ساقه وأخذت تضربه وهو على حاله لا ينحيها فسئل عنه فقال: أستحي
من أن أتكلم في مقام وأنا أفعل ما ينافيه * (ولا الشهر الحرام) * أي: وقت الإحرام
بالحج الحقيقي وهو وقت السلوك والوصول بالخروج عن حكمه والاشتغال بما ينافيه
ويصده عن وجهته ويثبطه في سيره * (ولا الهدي) * ولا النفس المستعدة المعدة للقربان
عند الوصول إلى فناء الحضرة الإلهية على ما أشير إليه باستعمالها في شغل يصرفها
عن طريقها أو يضعفها أو حمل فوق طاقتها من الرياضة، فينقطع دون البلوغ إلى
المحل * (ولا القلائد) * ولا ما قلدته النفس من شعار أهل السلوك والسنن والأعمال
الظاهرة بتركها وتغييرها عن وضعها * (ولا آمين البيت الحرام) * ولا القاصدين المجدين
في السلوك المجتهدين بتغيرهم ومنعهم عن الرياضة وإيهان عزائمهم بالمخالطة وتقليل
السعي وإيهامهم أنه لا حاجة بهم إليه وشغلهم بما يصدهم أو يكسلهم * (يبتغون فضلا من ربهم) * بتجليات الأفعال * (ورضوانا) * بتجليات الصفات.
* (وإذا حللتم) * بالرجوع إلى البقاء بعد الفناء والاستقامة * (فاصطادوا) * أي: فلا
حرج عليكم في الحظوظ بل ربما كان تمتيع النفس بالحظوظ إعانة لها في مشاهداتها
ومكاشفاتها لشرفها وذكائها وشدة صفائها * (ولا يجرمنكم شنآن قوم) * إلى آخره، أي:
لا يكسبنكم بعض القوى النفسانية المانعة عن سلوككم أن تقهروها بالكلية بمنعها عن
الحقوق التي تقوم بها فتبطلوها أو تضعفوها عن منافعها وما يحتاج إليه من أفعالها
بسبب صدها إياكم، فإن وبال ذلك عائد إليكم. أو عداوة قوم من أهليكم وأقاربكم
وأصدقائكم بسبب منعهم إياكم عن التجريد والرياضة في السلوك * (أن تعتدوا) * عليهم
بإضرارهم ومقتهم وإرادة الشر بهم فإنه أضر بكم في السلوك من منعهم إياكم
* (وتعاونوا على البر والتقوى) * بتدبير تلك القوى وسياستها بالإحسان إليها بحقوقها
ومنعها من حظوظها أو بمراعاة الأهلين والأقارب والأصدقاء بمواساتهم والإحسان
إليهم، والمعروف في حقهم مع مخالفتهم إلى ما يمنعكم عنه والاجتناب عن ذلك،
كما قال تعالى: * (فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) * [لقمان، الآية: 15]، * (واتقوا الله) * واجعلوه وقاية لكم في هذه الأمور واحذروه في خلافها * (أن الله شديد العقاب) *
يعاقبكم بالصد والحرمان.
تفسير سورة المائدة آية 3
190

* (حرمت عليكم الميتة) * هذه هي الأمور المستثناة من أنواع التمتعات المحللة،
وهي الميتة أي: خمود الشهوة التي هي رذيلة التفريط المنافية للعفة كالخنوثة والعجز
عن الإقدام على القدر الضروري من التمتعات والتمتع بفقدان اعتدال القوة الشهوانية
على ما يفعله الخناثى وبعض المغزلين والمتقشفين والمتزهدين بالطبع، القاصرين عن
السلوك لنقصان الاستعدادات * (والدم) * أي: التمتع بهوى النفس في الأعمال فإن مزج
الهوى وشوبه يفسد الأعمال كلها * (ولحم الخنزير) * ووجوه التمتعات الحاصلة
بالحرص والشره، فإن قوة الحرص أخبث القوى وأسدها لطرق الكمال والنجاة * (وما أهل لغير الله به) * أي: الرياضات والأعمال بالرياء وكل ما يفعل لغير الله. فإن كسر
النفس وقمعها ومخالفتها لا يكون فعلا جميلا وفضيلة ومعينا في السلوك إلا إذا كان
لله، فأما إذا كان لغير الله فهو شرك والشرك أكبر الكبائر * (والمنخنقة) * أي: حبس
النفس عن الرذائل ومنعها عن القبائح بحصول صور الفضائل وصدور الأفعال الحسنة
صورة من كمون الهوى فيها. فإن الأفعال النفسية إنما تحسن بقمعها وقهرها لله
وخروج الهوى الذي هو قوتها وحياتها عنها وقيامها بإرادة القلب كخروج الدم الذي
هو قوة الحيوان وحياته منه بذبحه لله * (والموقوذة) * أي: صدور الفضائل في الظاهر
عن النفس مع كره منها وإجبار عليها * (والمتردية) * التي تتعلق بالتفريط والنقصان
والميل إلى الجهة السفلية وانحطاط النفس عن الهمم العلية والدرجة القوية
* (والنطيحة) * التي تصدر عن خوف وقهر من مثله كالعفاف الحاصل بواسطة زجر
المحتسب وخوف الفضيحة * (وما أكل السبع) * كفضائل العفة التي تحصل لشدة القوة
الغضبية من الأنفة والحمية واستيلاء الغضب، فإن الغضب إذا استولى منع الشدة عن
فعلها أو لقهر من قهار كالملك والأمير * (إلا ما ذكيتم) * إلا ما قرنت واعتادت وانقادت
لكم بعد قهر من غير، فكانت تصدر عنها الفضائل بإرادة قلبية من غير مزج الهوى.
* (وما ذبح على النصب) * ما يفعل بناء على العادات التي يجب رفعها إلا لغرض
عقلي أو شرعي * (وأن تستقسموا بالأزلام) * وأن تطلبوا السعادات والكمالات بالرسوم
والطوالع اتكالا على ما قضى الله وقدر وتتركوا السعي والجد في الطلب، وتجعلوا
ذلك علة للتقصير بأن تقولوا: ليس لنا نصيب فيها، ولو كان لنا نصيب لحصل. فإنه
191

ربما كان مجرد تعليل وقد علق في القدر كماله بسعيه، فإنه لم يطلع على ذلك
* (ذلكم فسق) * خروج عن الدين الذي هو طريق الحق * (اليوم) * أي: وقت حصول
الكمال بتمرن النفس بالفضائل، وتثبتها في العزائم * (يئس الذين كفروا) * أي: حجبوا
من قوى نفوسكم أو من أبناء جنسكم وأهل جلدتكم من الطبيعيين والمتزندقين * (من دينكم) * أي: من أن يصدوكم عن طريق الحق * (فلا تخشوهم) * فإنهم يستولون عليكم
بعد ذلك * (واخشوني) * بأن لا تقفوا عند تجلي صفة من صفاتي وتهيبوا عظمة ذاتي
حتى تصلوا إلى مقام الفناء.
* (اليوم أكملت لكم دينكم) * ببيان الشعائر وكيفية السلوك * (وأتممت عليكم نعمتي) * بالهداية إلي * (ورضيت لكم) * الاستسلام والانقياد بالانمحاء عند تجليات
الأفعال والصفات أو إسلام الوجه للفناء عند تجلي الذات * (دينا فمن اضطر) * إلى أمر
من هذه الأمور المحرمة التي عددناها * (في مخمصة) * في هيجان شديد من النفس
وغلبة لظهور صفة من صفاتها * (غير متجانف لإثم) * غير منحرف عن الدين والوجهة
إلى رذيلة مانعة لقصد منه وعزيمة * (فإن الله غفور) * يستر ذلك عنه بنور صفة من
صفاته تقابلها * (رحيم) * يرحم بمداد التوفيق لإظهار الكمال ورفع موانعه.
[تفسير سورة المائدة من آية 4 إلى آية 5]
* (قل أحل لكم الطيبات) * من الحقائق والمعارف الحقية والفضائل العلمية التي
تحصل لكم بعقولكم وقلوبكم وأرواحكم * (وما علمتم) * من جوارح حواسكم الظاهرة
والباطنة وسائر قواكم وآلاتكم البدنية في اكتساب الفضائل والآداب، محرضين
* (تعلمونهن مما علمكم الله) * من علوم الأخلاق والشرائع التي تبين طريق الاحتظاء من
الحظوظ على وجه العدالة * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * مما حصلن لكم بتعليمكم
على ما ينبغي بنية وإرادة قلبية وغرض صحيح يؤدي إلى كمال الشخص أو النوع لا
يهجن ويثبن وينزن عليه بميلهن وحرصهن لطلب لذتهن وشهوتهن * (واذكروا اسم الله عليه) * واحضروا بقلوبكم أنها للصورة الإنسانية الكاملة تقصد وتراد، لا لغرض آخر.
واجعلوا الله وقاية لكم في فعلها حتى تكون حسنة * (إن الله سريع الحساب) * يحاسبكم
بها في آن لا في أزمنة، كحصول هيآتها في أنفسكم عند ارتكابها.
192

[تفسير سورة المائدة من آية 6 إلى آية 11]
* (يا أيها الذين آمنوا) * الإيمان العلمي * (إذا قمتم إلى الصلاة) * انبعثتم عن نوم
الغفلة وقصدتهم إلى صلاة الحضور والمناجاة الحقيقية والتوجه إلى الحق * (فاغسلوا وجوهكم) * أي: طهروا وجود قلوبكم بماء العلم النافع الطاهر المطهر من علم الشرائع
والأخلاق والمعاملات التي تتعلق بإزالة الموانع عن لوث صفات النفس * (وأيديكم) *
أي: وقدركم عن دنس تناول الشهوات والتصرفات في مواد الرجس * (إلى المرافق) *
إلى قدر الحقوق والمنافع * (وامسحوا برؤوسكم) * بجهات أرواحكم عن قتام كدورة
القلب وغبار تغيره بالتوجه إلى العالم السفلي ومحبة الدنيا بنور الهدى. فإن الروح لا
يتكدر بالتعليق، بل يحتجب نوره عن القلب فيسود القلب ويظلم ويكفي في انتشار
نوره صقل الوجه العالي من القلب الذي إليه، فإن القلب ذو وجهين أحدهما: إلى
الروح والرأس ههنا إشارة إليه. والثاني: إلى النفس وقواها، فأحرى بالرجل أن تكون
إشارة إليه * (وأرجلكم) * وجهات قواكم الطبيعية البدنية بنفض غبار الانهماك في
الشهوات والإفراط في اللذات * (إلى الكعبين) * إلى حد الاعتدال الذي يقوم به البدن.
فعلى هذا من انهمك في الشهوات في اللذات احتاج إلى غسلها بماء علم
الأخلاق وعلم الرياضات حتى ترجع إلى الصفاء الذي يستعد به القلب للحضور
والمناجاة، ومن قرب حوضه فيها من الاعتدال كفاه المسح ولهذا مسح من مسح
وغسل من غسل * (وإن كنتم جنبا) * بعداء عن الحق بالانجذاب إلى الجهة السفلية
والإعراض عن الجهة العلوية والميل الكلي إلى النفس * (فاطهروا) * بكليتكم عن تلك
193

الهيئة المظلمة والصفة الخبيثة الموجبة للبعد والاحتجاب.
* (وإن كنتم مرضى) * إلى آخره مكرر، * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) *
من ضيق ومشقة بكثرة المجاهدات والمكابدات * (ولكن يريد) * أن يطهركم من الهيئات
المظلمة والصفات الخبيثة * (وليتم نعمته عليكم) * بالتكميل * (ولعلكم تشكرون) * نعمة
الكمال بالاستقامة والقيام بحق العدالة عند البقاء بعد الفناء * (نعمة الله عليكم) * بالهداية
إلى طريق الوصول * (وميثاقه) * أي: عقود عزائمه المذكورة إذ قبلتموها من معدن النبوة
بصفاء الفطرة * (هو أقرب للتقوى) * أي: العقل أقرب للتجرد عن ملابس صفات النفس
واتخاذ صفات الله تعالى وقاية لأنه أشرف الفضائل الذي إذا حصل تبعه الجميع
* (واتقوا الله) * واجعلوه وقاية لكم في صدور العدل منكم فإن منبع الكمالات والفضائل
ذاته تعالى * (إن الله خبير بما تعملون) * أنه من صفات نفوسكم أو منه.
* (وعد الله الذين آمنوا) * منكم بالتوحيد العلمي * (وعملوا الصالحات) * التي
توصلهم إلى التوحيد العيني وتعدهم لذلك * (لهم مغفرة) * من صفاتهم * (وأجر عظيم) *
من تجليات صفاته تعالى. * (إذ هم قوم) * من قوى نفوسكم المحجوبة وصفاتها * (أن يبسطوا إليكم أيديهم) * بالاستيلاء والقهر والاستعلاء لتحصيل مآربها وملاذها فمنعها
عنكم بما أراكم من طريق التطهير والتنزيه * (واتقوا الله) * واجعلوه وقاية في قهرها
ومنعها * (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) * برؤية الأفعال كلها منه.
[تفسير سورة المائدة من آية 12 إلى آية 13]
* (ميثاق بني إسرائيل) * هو العهد المذكور والنقباء الإثنا عشر هم الحواس
الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والقوة العاقلة النظرية والعاقلة العلمية * (وقال الله إني معكم) * أي: في العقد اللاحق أوفقكم وأعينكم لئن قمتم بحقوق التزكية والتخلية من
الإعراض عن السعادات البدنية بالعبادة وترك السعادات الخارجية بالزهد، وإيثار الثالثة
التي هي الإيمان برسل العقل والإلهامات والأفكار الصائبة والخواطر الصادقة من
194

الروح والقلب، وإمداد الملكوت وتعزيرهم أي: تعظيمهم بتسليطهم على شياطين
الوهم وتقويتهم ومنعهم وساوسها وإلقاء الوهميات والخياليات والخواطر النفسانية
* (وأقرضتم الله قرضا حسنا) * بالبراءة من الحول والقوة والعلم والقدرة إلى الله بالجملة
من الأفعال والصفات كلها ثم من الذات بالمحو والفناء وإسلامها إلى الله * (لأكفرن عنكم سيئاتكم) * أي: وجودات هذه الثلاث التي هي حجبكم وموانعكم عنكم
* (ولأدخلنكم جنات) * من أفعالي وصفاتي وذاتي * (تجري من تحتها الأنهار) * علوم
التوكل والرضا والتسليم والتوحيد. وبالجملة علوم تجليات الأفعال والصفات والذات،
فمن احتجب بعد ذلك العهد وبعث النقباء منكم * (فقد ضل) * السبيل المستقيم
بالحقيقة.
* (قاسية) * قست باستيلاء صفات النفس عليها وميلها إلى الأمور الأرضية الجاسية
الصلبية فحجبت عن أنوار الملكوت والجبروت التي هي كلمات الله واستبدلوا قوى
نفوسهم بها، واستعملوا وهمياتهم وخيالياتهم بدل معارفها وحقائقها من المعاني
المعقولية أو خلطوها بها، وذلك هو تحريف الكلم عن مواضعه. * (ونسوا حظا) * أي:
نصيبا وافرا مما أوتوه في العهد السابق من الكمالات الكامنة في استعدادهم بالقوة،
فذكروا به في العهد اللاحق * (ولا تزال تطلع على خائنة منهم) * أي: على نقض عهد
ومنع أمانة لاستيلاء صفات النفس والشيطان عليهم وقساوة قلوبهم * (المحسنين) * الذين
يشاهدون ابتلاء الله إياهم فلا يقابلونهم بالعقاب فيستعملون معهم الصفح والعفو.
[تفسير سورة المائدة من آية 14 إلى آية 22]
195

* (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء) * أي: ألزمناهم ذلك لتخالف دواعي قواهم
السبعية والبهيمية والشيطانية وميلهم إلى الجهة السفلية الموجب للتضاد والتعاند
لاحتجابهم عن نور التوحيد وبعدهم عن العالم القدسي الذي فيه المقاصد كلية لا
تقتضي التجاذب والتعاند إلى وقت قيامهم بظهور نور الروح والقيامة الكبرى بظهور
نور التوحيد * (ينبئهم الله) * بعقاب ما صنعوا عند الموت وظهور الحرمان والخسران
بظهور الهيئات القبيحة المؤذية الراسخة فيهم.
* (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح) * بأن حصروا الألوهية فيه وقيدوا الإله
بتعينه * (أن يهلك المسيح ابن مريم) * إلى قوله * (جميعا) * بالإفناء في التوحيد والطمس
في غير الجمع كما قال: * (كل شيء هالك إلا وجهه) * [القصص، الآية: 88].
* (ولله ملك السماوات) * أي: عالم الأرواح * (والأرض) * عالم الأجساد * (وما بينهما) * من الصور والأعراض كلها ظاهرة وباطنة أسماؤه وصفاته وأفعاله *
(ادخلوا الأرض المقدسة) * أي: حضرة القلب التي هي مقام تجلي الصفات، فإنه بالنسبة إلى
سماء الروح أرض * (كتب الله لكم) * عين لكم في القضاء السابق وأودع في استعدادكم
الوصول إليها والمقام بها * (ولا ترتدوا على أدباركم) * في الميل إلى مدينة البدن
والإقبال عليه بتحصيل مآربه ولذاته وطلب موافقته وتزيين هيآته فإنه مقام خلف
مقامكم وأدنى وأسفل من رتبتكم * (فتنقلبوا خاسرين) * باستبدال ظلمات البدن بأنوار
القلب وخبائثه بطيباته * (إن فيها قوما جبارين) * من سلطان الوهم وأمراء الهوى
والغضب والشهوة وسائر صفات النفس الفرعونية أخذوها عنوة وقهرا واستولوا عليها
مستعلين يجبرون كلا على هواهم ما لنا بهم يدان ولا نقدر على مقاومتهم، قالوا ذلك
لاعتيادهم بالذات الطبيعية والشهوات الجسمانية وغلبة الهوى عليهم، فلم يقدروا على
الرياضة وقمع الهوى وكسر صفات النفس بالمجاهدة * (وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها) * أي: يصرفهم الله عنها بلا رياضة منا ومجاهدة أو ينصرفوا بالطبع مع إحالته أو
يضعفوا عن الاستيلاء كما في الشيخوخة مع امتناع دخولهم فيها حينئذ.
196

[تفسير سورة المائدة من آية 23 إلى آية 26]
* (قال رجلان من الذين يخافون) * كانا من النقباء الاثني عشر وهم: العقل
النظري والعقل العلمي يخافون سوء عاقبة ملازمة الجسم ووبال العقوبة بهيآته المظلمة
* (أنعم الله عليهما) * بالهداية إلى الطريق المستقيم والدين القويم * (ادخلوا عليهم الباب) * باب قرية القلب وهو التوكل بتجلي الأفعال كما أن باب قرية الروح هو الرضا
* (فإذا) * دخلتم مقام التوكل الذي هو باب القرية * (فإنكم غالبون) * بخروجكم عن
أفعالكم وعن أحوالكم وبكونكم فاعلين بالله، وإذا كان الحول والقوة بالله يهرب
شيطان الوهم والتخيل والهوى والغضب منكم فغلبتم عليهم. ويدل على أن الباب هو
التوكل قوله: * (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) * بالحقيقة، إذ الإيمان بالغيبة عن
المؤمن به أقل درجات حضور تجلي الأفعال * (قالوا يا موسى) * أي: أصروا على
إبائهم وامتناعهم عن الدخول * (فاذهب أنت وربك) * أي: إن كنت نبيا فادفعهم عنا
بقوة نفسك، واقمع الهوى، وتلك القوى فينا بلا رياضة ومجاهدة منا، وسل ربك
يدفعها عنا كما يقول الشطار والوغود عند موعظتك إياهم، وزجرك وتهديدك لهم. ادفع
بهمتك عنا هذه الشقاوة إما استهزاء وعنادا وإما جدا واعتقادا * (إنا ها هنا قاعدون) * ملازمون
مكاننا في مقام النفس، معتكفون على هوى نفوسنا ولذات أبداننا كما قالوا: حطا سمقاثا.
* (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) * هي مدة بقائهم في
مقام النفس، أي: بقوا في تيه الطبيعة يتحيرون أربعين سنة إلى قرية القلب، فإن
دخول مقام القلب مع استيلاء جبابرة صفات النفس عليه حرام ممتنع، ولهذا قال
تعالى: * (بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) * [الأحقاف، الآية: 15]، فإنه وقت البلوغ الحقيقي.
وقيل في قصة التيه: إنهم كانوا يسيرون جادين طول النهار في ستة فراسخ، فإذا أمسوا
كانوا على المقام الذي ارتحلوا عنه، أي: كان سعيهم في تحصيل المناجح الجسمانية
والمباغي البدنية المحصورة في الجهات الست ولم يخرجوا عن الجهات بالتجرد،
فكانوا على المقام الأول لعدم توجههم إلى سمت القلب بطلب التجرد والتنزه عن
الهيئات البدنية والصفات النفسانية. وكانت ينزل من السماء بالليل عمود من نار يسيرون
وينتفعون بضوئه، أي: ينزل عليهم نور عقل المعاش من سماء الروح فيهتدون به إلى
197

مصالحهم. وقيل: من نار لأنه عقل مشوب بالوهم ليس عقلا صرفا، وإلا لاهتدوا به
إلى طريق القلب. وأما الغمام والمن والسلوى فقد مر ذكرها وتأويلها وقيل: كان على
كل مولود ولد في التيه قميص بقدر قامته يزيد بزيادته، يعنون به: لباس البدن والله
أعلم. وإن شئت أن تطبق القصة على حالك أولت موسى بالقلب وهارون بالروح،
فإنه كان أخاه الأكبر، ولهذا قال: * (هو أفصح مني لسانا) * [القصص، الآية: 34] وبني
إسرائيل بالقوة الروحانية، والأرض المقدسة بالنفس المطمئنة، ثم أجريت القصة
بحالها إلى آخرها * (فلا تأس) * أي: لا تهتم بهدايتهم، ولا تغتم على عقوبتهم،
فإنهم فسقوا وخرجوا عن طريق القلب بهواهم وطغيانهم.
تفسير سورة المائدة آية 27
* (واتل عليهم نبأ ابني آدم) * القلب للذين هما هابيل القلب وقابيل الوهم، إذ
كان لكل منهما توأمة. أما توأمة العقل فالعاقلة العلمية المدبرة لأمور المعاش والمعاد
بالآراء الصلاحية المقتضية للأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة المستنبطة لأنواع
الصناعات والسياسات. وأما توأمة الوهم: فالقوة المتخيلة المتصرفة في المحسوسات
والمعاني الجزئية لتحصيل الآراء الشيطانية، فأمر آدم القلب بتزويج الوهم توأمة العقل
التي هي العاقلة العلمية لتتسلط عليه بالقياسات العقلية البرهانية وتدربه بالرياضات
الإذعانية والسياسات الروحانية، وتسخره للعقل فيطيع أب القلب، ويحسن إليه، ويبره
بأنواع الرجاء الصادقة ويعينه في الأعمال الصالحة ويمتنع من عقوقه بالتسويلات
والتزينات الشيطانية الفاسدة، وإغراء النفس عليها بالهيئات الفاسقة والأفعال السيئة،
وتزويج العقل توأمة الوهم ليجعلها صالحة ويمنعها عن شهوات التخيلات الفاسدة
وتهيج أحاديث النفس الكاذبة فيستريح أبوها منها ويستعملها في المعقولات
والمحسوسات والمعاني الكلية والجزئية، فتصير مفكرة عاملة في تحصيل العلوم فينتفع
أبوها. فحسد قابيل الوهم هابيل العقل لكون توأمته أجمل عنده وأحب لمناسبتها إياه،
فأمر أبوهما القلب بأن يقرب كل واحد منهما قربانا أي: نسكا يتقرب به إلى الله
بإفاضة النتيجة وإفناء صورة القياس وقبول الصورة المعقولة الكلية المطابقة لما في
نفس الأمر التي هي نسيكته التي يتقرب بها إلى الله منه، وعدم قبول قربان الوهم
الذي هو صورة المغالطة أو الصورة الموهومة الجزئية امتناع اتصال العقل به بإفاضة
النتيجة إذ لا نتيجة لها أو امتناع قبول الصورة الوهمية إذ لا تطابق ما في نفس الأمر
فزاد حسده عليه.
198

* (قال لأقتلنك) * أي: لما زاد قرب العقل من الله وبعده عن رتبة الوهم في
مدركاته وتصرفاته كان الوهم أحرص على إبطال عمله ومنعه عن فعله كما ترى في
التشكيكات الوهمية ومعارضاته العقل في تحصيل المطالب النظرية العميقة الغور وقتله
عبارة عن منعه عن فعله وقطع مدد الروح ونور الهداية الذي به حياة العقل عنه * (من المتقين) * الذين يتخذون الله وقاية في صدور الخيرات منهم أو يحذرون آثام الهيئات
المظلمة البدنية والأكاذيب الباطلة والأضاليل المغوية الأهواء المردية والتسويلات
المهلكة.
تفسير سورة المائدة من آية 28 إلى آية 31]
* (ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك) * لأني لا أبطل أعمالك التي هي شديدة في
مواضعها من المحسوسات ولا أقطع عنك حياتك التي هي مدد النفس والهوى ولا
أمنعك عن فعلك الخاص بك إذ العقل يعلم أن المصالح الجزئية وأحكام
المحسوسات والمعاني الجزئية المعلقة بها وترتيب أسباب المعاش كلها لا تحصل ولا
تتيسر إلا بالوهم ولولا الرجاء وحصول الأماني والآمال الصادرة عن الوهم لم يتيسر
لأحد ما يتمعش به * (إني أخاف الله رب العالمين) * لأني أعرفه، وقال: * (إنما يخشى
الله من عباده العلماء) * [فاطر، الآية: 28] واعلم بأنه إنما خلقك لشأن وأوجدك لحكمة،
فلا أتعرض له في ذلك * (إني أريد أن تبوء) * بإثم قتلي وإثم قتلك من الآراء الباطلة
والتصورات الفاسدة التي لم يتقبل قربانك لأجلها * (فتكون من أصحاب) * نار الحجبة
والحرمان * (وذلك جزاء الظالمين) * الواضعين الأشياء في غير موضعها كوضعك
الأحكام الحسية في المعقولات.
* (فطوعت) * فسهلت وسولت * (له نفسه قتل أخيه فقتله) * بمنعه عن أفعاله
الخاصة وحجبه عن نور الهداية * (فأصبح من الخاسرين) * لتضرره باستيلائه على العقل
واستبدال ضلالته وخطئه بهداية العقل وصوابه، فإن الوهم إذا انقطع عن معاضدة
العقل حمل النفس بأنواع التسويلات والتزيينات على إقدام أمور يتضرر به النفس
والبدن جميعا، كالإسرافات المذمومة من باب اللذات البهيمية، والسبعية مثل شدة
الحرص في طلب المال والجاه والإفراط فيضعف الوهم أيضا أو يبطل * (فبعث الله) *
199

غراب الحرص * (يبحث في) * أرض النفس * (ليريه كيف يواري سوأة أخيه) * أي:
الوهم، إذ بقطع العقل عن نور الهداية وحجبها عن السير في العالم العلوي لتحصيل
الكمال وطلب سعادة المآل تحير في أمره، فانبعث الحرص فهداه في تيه الضلالة
وأراه كيف يواري ويدفن عورته أي: جثته المقتولة التي حملها الوهم على ظهره حتى
أنتنت فصار عقل المعاش في تراب الأرض وهو صورة العقل المنقطع عن حياة الروح
المشوب بالوهم والهوى المحجوب عن عالمه في ظلمات أرض النفس المدفون فيها
تأكله ديدان القوى الطبيعية باستعمالها في تحصيل لذاتها ومطالبها * (أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب) * الذي دفن فرخه أي: داعيته أو كماله في أرض النفس بإفناء ما
يحصل له وكتمانه فيها * (فأواري سوأة أخي) * بإخفائها في ظلمة النفس فأنتفع بها
* (فأصبح من النادمين) * عند الخسران وحصول الحرمان.
تفسير سورة المائدة من آية 32] إلى آية 49]
200

* (فكأنما قتل الناس جميعا) * لأن كل شخص يشتمل على ما يشتمل عليه جميع
أفراد النوع وقيام النوع بالواحد كقيامه بالجميع في الخارج ولا اعتبار بالعدد فإن النوع
لا يزيد بحسب الحقيقة بتعدد الأفراد ولا ينقص بانحصاره في شخص.
* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * بالتزكية * (وابتغوا إليه الوسيلة) * بالتحلية
* (وجاهدوا في سبيله) * بمحو الصفات والفناء بالذات * (لعلكم تفلحون) * من ظهور بقايا
الصفات والذات * (ما في الأرض) * أي: ما في الجهة السفلية لأنها أسباب زيادة
الحجاب والبعد ولا ينجع ثمة إلا في الجهة العلوية من المعارف والحقائق النورية.
* (وأنزلنا إليك الكتاب) * علم الفرقان الذي هو ظهور تفاصيل كمالك * (بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب) * أي: علم القرآن وهو العلم الإجمالي الثابت في
استعدادك وحافظا عليه بالإظهار أو لما بين يديه العلوم النازلة على الأنبياء السابقين
زمانا فإن الغالب على موسى عند الرجوع إلى البقاء عند الفناء بالوجود الموهوب قوة
النفس وسلطانها، ولهذا بطش بأخيه كما قال تعالى: * (وأخذ برأس أخيه يجره إليه) * [الأعراف، الآية: 150]، وقال عند طلب التجلي: * (أرني أنظر إليك) * [الأعراف،
201

الآية: 143] فكان أكثر التوراة علم الأحكام الذي يتعلق بأحوال النفس وتهذيبها ودعوته
إلى الظاهر والغالب على عيسى قوة القلب ونوره، ولهذا تجرد عن ملابس الدنيا وأمر
بالترهب. وقال لبعض أصحابه: إذا لطمت في خدك فأدر الخد الآخر لمن لطمك.
وكان أكثر الإنجيل علم تجليات الصفات والأخلاق والمواعظ والنصائح التي تتعلق
بأحوال القلب وتصفيته وتنويره ودعوته إلى الباطن والغالب على محمد عليه صلى الله عليه وسلم
سلطان الروح ونوره، فكان جامعا لمكارم الأخلاق متمما لها، عادلا في
الأحكام، متوسطا فيها. وكان القرآن شاملا لما في الكتابين من العلوم والأحكام
والمعارف مصدقا له، حافظا عليه، مع زيادات في التوحيد والمحبة ودعوته إلى
التوحيد.
* (فاحكم بينهم بما أنزل الله) * من العدل الذي هو ظل المحبة التي هي ظل
الوحدة التي انكشفت عليك * (ولا تتبع أهواءهم) * في تغليب أحد الجانبين، إما الظاهر
وإما الباطن * (عما جاءك من الحق) * من التوحيد والمحبة والعدل، فإن التوحيد يقتضي
المحبة، والمحبة العدل، ويقع ظله من سماء الروح على القلب بالمحبة، وعلى
النفس بالعدالة * (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) * موردا كمورد النفس ومورد القلب
ومورد الروح، وطريقا كعلم الأحكام والمعاملات التي تتعلق بالقلب وسلوك طريق
الباطن الموصل إلى جنة الصفات، وعلم التوحيد والمشاهدة الذي يتعلق بالروح
وسلوك طريق الفناء الذي يوصل إلى جنة الذات * (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة) *
موحدين على الفطرة الأولى، متفقين على دين واحد * (ولكن) * ليظهر عليكم ما آتاكم
بحسب استعداداتكم على قدر قبول كل واحد منكم فتتنوع الكمالات * (فاستبقوا الخيرات) * أي: الأمور الموصلة إلى كمالكم الذي قدر لكم بحسب استعدادكم المقربة
إياكم إليه بإخراجه إلى الفعل * (إلى الله مرجعكم جميعا) * في عين جمع الوجود على
حسب المراتب لا عين جمع الذات * (فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) * أي: يظهر
عليكم ما اختلفتم فيه بحسب اختلاف استعداداتكم من طلب إحدى الجنان الثلاث،
والوصول إليها، والحرمان بموانعها التي احتجبتم بها عما في استعدادكم من الكمال
* (ببعض ذنوبهم) * ذنوب اليهود حجب الأفعال وذنوب النصارى حجب الصفات ففسق
اليهود هو الخروج عن حكم تجليات الأفعال الإلهية برؤية النفس وأفعالها وفسق
النصارى خروجهم عن حكم تجليات الصفات الحقانية برؤية النفس صفاتها واحتجابها
بها كما أن فسق المحمديين هو الالتفات إلى ذواتهم والخروج عن حكم الوحدة
الذاتية.
202

[تفسير سورة المائدة من آية 50 إلى آية 54]
* (أفحكم الجاهلية يبغون) * أي: ما يطلبون بجهلهم إلا حكما صادرا عن مقام
النفس بالجهل لا صادرا عن علم إلهي * (من يرتد) * من يرجع عن طريق الحق إلى
الاحتجاب ببعض الحجب، أي حجاب كان وخرج عنه فهو من المردودين لا من أهل
المحبة ولا ينثلم ولا ينتقض دين الحق بارتداده، فإن الله سوف يأتي بقوم يحبهم
بحسب العناية الأولى لا لعلة بل لذواتهم، ويحبون ذاته لا لصفة من صفاته ككونه
لطيفا أو رحيما أو منعما فإن محبة الصفات تتغير باختلاف تجلياتها ومن يحب اللطيف
لم تبق محبته إذا تجلى بصفة القهر، ومن يحب المنعم انمحت محبته إذا تجلى بصفة
المنتقم. وأما محبة الذات فهي باقية ببقائها لا تتغير باختلاف التجليات فيحب محبها
القهار عند القهر كما يحب اللطيف عند اللطف، ويحب المنتقم حالة الانتقام كما
يحب المنعم حالة الإنعام فلا تفاوت في الرضا وعدمه، ولا تختلف محبته في أحواله
ويشكر عند البلاء كما يشكر عند النعماء. وأما من يحب المنعم فلا يشكر عند البلاء
بل يصبر ومثل هذه المحبة يلزم المحبة الأولى التي هي لله ولأوليائه فيحبونه بحبه
إياهم، وإلا فمن أين لهم المحبة لله، ما للتراب ورب الأرباب.
* (أذلة على المؤمنين) * لينين حانين عليهم، عطوفين في تواضعهم لهم لمكان
الجنسية الذاتية ورابطة المحبة الأزلية والمناسبة الفطرية بينهم * (أعزة) * أشداء غلاظ
* (علي) * المحجوبين لأضداد ما ذكر * (يجاهدون في سبيل الله) * بمحو صفاتهم وإفناء
ذواتهم التي هي حجب مشاهداتهم * (ولا يخافون لومة لائم) * من نسبتهم إلى الإباحة
والزندقة والكفر، وعذلهم بترك الدنيا ولذاتها، بل بترك الآخرة ونعيمها كما قال أمير
المؤمنين عليه السلام: ' اعبدوا الله لا لرغبة ولا لرهبة '، فهم من الفتيان الذين قيل
فيهم:
* وإذا الفتى عرف الرشاد لنفسه
* هانت عليه ملامة العذال
*
203

[تفسير سورة المائدة من آية 55 إلى آية 64]
* (إنما وليكم الله ورسوله) * والمؤمنون لا هم للتنافي الحقيقي بينكم وبينهم،
أي: يتولى الله ورسوله والمؤمنون إياكم أو لا يتولى الله وأولياءه من الرسول
والمؤمنين المحجوبون للتضاد الحقيقي بينهم، إنما تتولون الله ورسوله والذين آمنوا
أنتم: جمع أولا في إثبات ولايتهم لله مطلقا ثم فصلها بحسب الظاهر، فقال:
* (ورسوله والذين آمنوا) *، كما فعل في الشهادة في قوله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) * [آل عمران، الآية: 18].
* (الذين) * آمنوا * (يقيمون) * صلاة الشهود والحضور الذاتي * (ويؤتون) * زكاة البقايا
* (وهم راكعون) * خاضعون في البقاء بالله بنسبة كمالاتهم وصفاتهم إلى الله كأمير
المؤمنين عليه السلام النازل في حقه هذا القائل: لا إله إلا الله بعد فناء الخلق، لا
منتصبون في مقام الطغيان بنسبتها إلى أنفسهم. * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا) *
فهو من أهل الله، وإن أهل الله * (هم الغالبون) * بالله.
* (وترى كثيرا منهم يسارعون) * أي: يقدمون على جميع الرذائل بالسرعة
لاعتيادهم بها وتدربهم فيها وكونها ملكات لنفوسهم فالإثم رذيلة القوة النطقية لأنه
الكذب، والعدوان رذيلة القوة الشهوية.
[تفسير سورة المائدة من آية 65 إلى آية 71
204

* (ولو أن أهل الكتاب آمنوا) * آمنوا الإيمان التوحيدي الحقيقي * (واتقوا) * واجتنبوا
عن شرك أفعالهم وصفاتهم وذواتهم * (لكفرنا عنهم سيئاتهم) * من بقاياهم
* (ولأدخلناهم) * الجنات الثلاث * (ولو أنهم أقاموا التوراة) * بتحقق علوم الظاهر والقيام
بحقوق تجليات الأفعال والمحافظة على أحكامها في المعاملات * (والإنجيل) * بتحقق
عنوان الباطن، والقيام بحقوق تجليات الصفات، والمحافظة على أحكامها * (و) *
احكموا * (ما أنزل إليهم) * من علم المبدأ والمعاد وتوحيد الملك والملكوت من عالم
الربوبية الذي هو عالم الأسماء * (لأكلوا من فوقهم) * أي: لرزقوا من العالم العلوي
الروحاني العلوم الإلهية والحقائق العقلية اليقينية، والمعارف الحقانية التي بها اهتدوا
إلى معرفة الله ومعرفة الملكوت والجبروت * (ومن تحت أرجلهم) * أي: من العالم
السفلي الجسماني العلوم الطبيعية والمدركات الحسية التي اهتدوا بها إلى معرفة عالم
الملك، فعرفوا الله باسمه الظاهر والباطن، بل بجميع الأسماء والصفات ووصلوا إلى
مقام التوحيدين المذكورين * (منهم أمة مقتصدة) * عادلة واصلة إلى توحيد الأسماء
والصفات * (وكثير منهم) * لم يصلوا إلى توحيد الأفعال بعد فضلا عن توحيد الصفات،
فساء عملهم لأنه من صفات نفوسهم فهو حجابهم الأكثف.
* (وأرسلنا إليهم رسلا) * على حسب مراتبهم فلما كانوا محجوبين من جميع
الوجوه أرسلنا موسى لرفع حجاب الأفعال والدعوة إلى توحيد الملك، فما هوته
أنفسهم لأن دعوته كانت مخالفة لهواها لضراوتها بأفعالها وبتجمعها بها وبلذاتها
وشهواتها فكذبوه وعبدوا عجل النفس واعتدوا في السبت وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن
به من آمن وبرز من حجاب الأفعال حسب أنه الكمال المطلق، فأرسلنا عيسى برفع
205

حجاب الصفات والدعوة إلى الباطن، وتوحيد الملكوت فما هوته أنفسهم لمخالفة
دعوته هواها من حسبان الكمال، فكذبوه وفعلوا ما فعلوا حتى إذا آمن به من آمن
وبرز عن حجاب الصفات بقي على حاله، حاسبا لنفسه الكمال المطلق فأرسلنا محمدا
برفع حجاب الصفات والدعوة إلى توحيد الذات فما هوته أنفسهم فكذبوه.
* (وحسبوا أن لا تكون فتنة) * شرك عند توحيد الأفعال وظهور الدعوة العيسوية
* (فعموا) * عن تجليات رؤية الصفات * (وصموا) * عن سماع علمها * (ثم تاب الله عليهم) * بفتح أسماع قلوبهم وأبصارها، فتابوا، فقبل توبتهم * (ثم عموا وصموا) * عند
الدعوة المحمدية عن مشاهدة الوجه الباقي وسماع علم توحيد الجمع المطلق * (والله بصير) * بعملهم في المقامات الثلاث ورد الدعوات وإنكار الأنبياء فيجازيهم على
حسب حالهم.
[تفسير سورة المائدة آية 72]
* (اعبدوا الله ربي وربكم) * أي: خصصوا عبادتكم بالذات الموصوفة بجميع
الصفات والأسماء التي هي الوجود المطلق، ولا تعينوه باسم وصفة، فإن نسبة ربوبيته
إلى الكل سواء ومن حصر ألوهيته في صورة وخصصها باسم معين وكلمة معينة وصفة
معينة، فقد أثبت غيره ضرورة وجود ما سواه من الأسماء والصور والصفات. ومن
أثبت غيره فقد أشرك به ومن أشرك به * (فقد حرم الله عليه) * جنة شهوده بذاته وصفاته
وأفعاله أي: الجنة المطلقة الشاملة، يعني: فقد حجبه مطلقا * (ومأواه) * نار الحرمان
لظلمه بالشرك * (وما للظالمين من أنصار) * ينصرونهم فينقذونهم من العذاب.
[تفسير سورة المائدة من آية 73 إلى آية 81
206

* (لقد كفر) * حجب * (الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) * واحد من جملة ثلاثة
أشياء: الفعل الذي هو ظاهر عالم الملك، والصفة التي هي باطن عالم الملكوت،
والذات التي تقوم بها الصفة ويصدر عنها الفعل، إذ ليس هو ذلك الواحد الذي
توهموه بل الفعل والصفة في الحقيقة عين الذات، ولا فرق إلا بالاعتبار، وما الله إلا
الواحد المطلق، وإلا لكان بحسب كل اسم من أسمائه إله آخر، فتتعدد الآلهة سبحانه
وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا * (وإن لم ينتهوا عما يقولون) * من كون الصفة
والفعل غير الذات * (ليمسن) * المحجوبين * (عذاب) * مؤلم لقصورهم في العرفان مع
كونهم مستعدين * (أفلا يتوبون إلى الله) * بالرجوع عن إثبات التعدد في الله إلى عين
الجمع المطلق، ويستغفرونه عن ذنب رؤية وجودهم ووجود غيرهم * (والله غفور) *
يسترهم بذاته * (رحيم) * يرحمهم بكمال العرفان والتوحيد * (ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) * إذ لا فعل له فيضر أو ينفع، بل لا وجود فضلا عن الفعل. وقال: ما لا يملك
دون من، وإن كان المراد عيسى للتنبيه على أنه شيء يعتبر اعتبارا من حيث تعينه ولا
وجود له حقيقة * (قد ضلوا من قبل) * بالاحتجاب عن أنوار الصفات * (وأضلوا كثيرا وضلوا) * الآن * (عن سواء السبيل) * طريق الوحدة الذاتية التي هي الاستقامة إلى الله.
[تفسير سورة المائدة من آية 82 إلى آية 86]
* (لتجدن) * إلى آخره، الموالاة والمعاداة إنما يكونان بحسب المناسبة والمخالفة،
فكل من والى أحدا دل على رابطة جنسية بينهما، وكل من عاداه دل على مباينة
ومضادة بينهما. ولما كان اليهود محجوبين عن الذات والصفات ولم يكن لهم إلا
توحيد الأفعال كانت مناسبتهم مع المحجوبين المشركين مطلقا أقوى من مناسبتهم مع
207

المؤمنين الموحدين مطلقا. ولما كان النصارى برزوا من حجاب الصفات ولم يتولهم
إلا حجاب الذات كانت مناسبتهم مع المؤمنين أقوى، فلذلك كانوا أقرب مودة لهم
من غيرهم. والمشركون واليهود أشد عداوة لقوة حجابهم، أما ترى كيف علل قربهم
في المودة بعلمهم وعبادتهم وعدم استكبارهم؟، فإن العبادة توصل إلى جنة الأفعال
لتجردهم فيها عن أفعال نفوسهم فاعلين ما أمر الله، والعلم يوصل إلى جنة الصفات
لتنزههم به عن جنة النفوس والوصول إلى مقام القلب الذي هو محل المكاشفة وقبول
العلم الإلهي، وعدم الاستكبار يدل على أنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفات العبادة
والعلم ولا نسبوا فعلهم وعلمهم إليها بل إلى الله وإلا استكبروا وأظهروا العجب.
* (ترى أعينهم تفيض من الدمع) * شوقا إلى ما عرفوا من توحيد الذات لأنهم
كانوا أهل رياضة وذوق فهاجت نفوسهم بسماع الوحي وذكروا الوحدة * (مما عرفوا من الحق) * بصفاته أو سمعوا من الحق كلامه، فبكوا اشتياقا كما قال:
* ويبكي إن نأوا شوقا إليهم
* ويبكي إن دنوا خوف الفراق
*
* (آمنا) * بالتوحيد الذاتي إيمانا عينيا فاجعلنا من * (الشاهدين) * الحاضرين الذين
مقامهم الشهود الذاتي واليقين الحقي، وإيمانا علميا يقينيا فاجعلنا مع المعاينين * (وما لنا لا نؤمن) * إيمانا حقيقيا بذاته وما جاءنا من كلامه أو لا نؤمن بالله جمعا * (وما جاءنا من الحق) * تفصيلا * (من القوم الصالحين) * الذين استقاموا بالبقاء بعد * (جنات تجري من تحتها الأنهار) * من التجليات الثلاث مع علومها * (وذلك جزاء المحسنين) *
المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله.
* (والذين) * حجبوا عن الذات * (وكذبوا) * بآيات الصفات * (أولئك أصحاب) *
الحرمان الكلي في جحيم صفات النفوس.
[تفسير سورة المائدة من آية 87 إلى آية 93
208

* (يا أيها الذين آمنوا) * إيمانا عمليا * (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * من
مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات بتقصيركم في السلوك * (ولا تعتدوا) * بطغيان
النفس وظهورها بصفاتها واجعلوا ما رزقكم الله من علوم التجليات ومواهب الأحوال
والمقامات غذاء قلوبكم سائغا طيبا واجعلوا الله وقاية لكم في حصول تلك الكمالات
بأن تروها منه وله لا منكم ولكم فتطغوا * (إن كنتم) * موحدين.
* (وأطيعوا الله) * بالفناء فيه فتنقادوا فيما يستعملكم فيه كالميت * (وأطيعوا الرسول) * بالبقاء بعد الفناء، فتستقيموا فيه مراعين للتفصيل، أحياء بحياته * (واحذروا) *
ظهور البقاء حالة الاستقامة * (فإن توليتم فاعلموا) * أن التقصير منكم وما على الرسول
إلا البلاغ لا الإلزام.
* (ليس على الذين آمنوا) * الإيمان الغيبي بتوحيد الأفعال * (وعملوا) * بمقتضى
إيمانهم أعمالا تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق، حرج وضيق
فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله وقاية في
صدور الأفعال منهم * (وآمنوا) * بتوحيد الصفات * (وعملوا) * ما يخرجهم عن حجب
الصفات ويصلحهم لمشاهدة التجليات الإلهية بالمحو فيها * (ثم اتقوا) * بقايا صفاتهم
واتخذوا الله وقاية في صدور صفاته عليهم * (وآمنوا) * بتوحيد الذات * (ثم اتقوا) * بقية
ذواتهم واتخذوا الله وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات
وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء * (والله يحب المحسنين) * المشاهدين للوحدة في عين الكثرة، المراعين لحقوق التفاصيل في عين
الجمع بالوجود الحقاني.
[تفسير سورة المائدة آية 94]
* (يا أيها الذين آمنوا) * بالغيب * (ليبلونكم الله) * حال سلوككم وإحرامكم لزيارة
كعبة الوصول * (بشيء) * من الحظوظ يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليها * (ليعلم الله) *
العلم التفصيلي التابع للوقوع الذي يترتب عليه جزاء * (من يخافه) * في حالة الغيبة فإن
الخوف لا يكون إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالخطاب الذي هو من باب الأفعال. وأما
في حالة الحضور فأما الخشية فبتجلي الربوبية والعظمة، وأما الهيبة فبتجلي الذات.
209

فالخوف من صفات النفس، والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح
* (فمن اعتدى بعد ذلك) * بارتكاب الحظوظ بعد الابتلاء * (فله عذاب) * مؤلم للاحتجاب
بفعله عن الشوق.
[تفسير سورة المائدة من آية 95 إلى آية 96]
* (لا تقتلوا الصيد) * لا ترتكبوا الحظوظ النفسانية في حالة الإحرام الحقيقي،
ومن ارتكبه قصدا منه ونية بميل قوى من النفس وانجذاب إليه لا لأمر اتفاقي أو رعاية
خاطر ضيف أو صاحب * (جزاء) * أي: فحكمه جزاء قهره تلك القوة التي ارتكب بها
الحظ النفساني من قوى النفس البهيمية بأمر يوازي ذلك الحظ * (يحكم به ذوا عدل) *
من العاقلتين النظرية والعملية * (منكم) * أي: من أنفسكم أو من شيوخكم أو من
أصحابكم المقدمين السابقين يعينان كيفيته وكميته * (هديا بالغ الكعبة) * الحقيقية، أي:
في حال كون تلك القوة البهيمية هديا بإفنائها في الله إن كان صاحبها من الأقوياء ملبيا
قادرا * (أو كفارة) * أي: ستر بصدقة أو صيام يزيل ذلك الميل ويستر تلك الهيئة عن
نفسه أو بإيتاء حق تلك القوة والاقتصار عليه دون الحظ فإنها مسكينة أو إمساك عن
أفعال تلك القوة بقدر ذلك الحظ كيما يزول عنها الميل * (ليذوق وبال أمره ومن عاد
فينتقم الله منه) * بالحجب والحرمان * (والله عزيز) * لا يمكن الوصول إلى جنات عزه مع
كدورات صفات النفس * (ذو انتقام) * يحجب بهيئة مظلمة وظهور صفة ووجود بقية،
كما قال تعالى لنبيه محمد عليه صلى الله عليه وسلم: ' أنذر الصديقين بأني غيور '.
* (أحل لكم صيد) * بحر العالم الروحاني من المعارف والمعقولات والحظوظ
العلمية في إحرام الحضرة الإلهية * (وطعامه) * من العلم النافع الذي هو حق واجب
تعلمه في المعاملات والأخلاق تمتيعا * (لكم) * أيها السالكون لطريق الحق * (وللسيارة) *
المسافرين لسفر الآخرة، المحرزين لأرباح النعيم الباقي * (وحرم عليكم صيد) * بر
العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية. واجعلوا الله وقاية لكم في
سيركم لتسيروا به واجعلوا نفوسكم وقاية الله في صدور الشرور المانعة منها وتيقنوا
أنكم * (إليه تحشرون) * بالفناء في الذات، فاجتهدوا في السلوك لا تقفوا مع الموانع
وراء الحجاب.
210

[تفسير سورة المائدة من آية 97 إلى آية 99]
* (جعل الله) * كعبة حضرة الجمع * (البيت) * المحرم من دخول الغير فيه كما
قيل: جل جناب الحق من أن يكون شريعة لكل وارد. * (قياما للناس) * من موتهم
الحقيقي وانتعاشا لهم به وبحياته وقدرته وسائر صفاته * (والشهر الحرام) * أي: زمان
الوصول، وهو زمان الحج الحقيقي الذي يحرم ظهور صفات النفس فيه * (والهدى) *
أي: النفس المذبوحة بفناء تلك الكعبة * (والقلائد) * وخصوصا النفس القوية، الشريفة،
المطيعة، المنقادة، فإن التقرب بها أفضل وشأنها عند البقاء والقيام بالوجود الثاني
والحياة الحقيقية أرفع * (ذلك) * أي: جعل تلك الحضرة قياما لكم * (لتعلموا) * بعلمه
عند القيام به * (أن الله يعلم) * حقائق الأشياء في عالم الغيب والشهادة وعلمه محيط
بكل شيء إذ لا يمكن إحاطة علمكم بعلمه.
* (اعلموا أن الله شديد العقاب) * بالحجب لمن ظهر بصفة أو بقية حال الوصول
أو ضرب بخطأ واشتغل بغير حال السلوك وانتهك حرمة من حرماته * (غفور) *
للتلوينات والفترات * (رحيم) * بهيئة الكمالات والسعادات التي لا يعلم قدرها إلا هو.
* (وما على الرسول إلا) * التبليغ لا الإيصال * (والله يعلم) * سركم وعلانيتكم * (ما تبدون) * من الأعمال والأخلاق * (وما تكتمون) * من النيات والعلوم والأحوال، هل
تصلح للتقرب بها إليه؟ وهل تستعدون بها للقائه أم لا؟.
[تفسير سورة المائدة من آية 100 إلى آية 108
211

* (قل لا يستوي الخبيث) * من النفوس والأعمال والأخلاق والأموال * (والطيب) *
منها عند الله تعالى، فإن الطيب مقبول موجب للقرب والوصول والخبيث منها مردود
موجب للبعد والطرد والحرمان * (ولو أعجبك) * الخبيث بكثرته ووفوره لمناسبته للنفس
ولملاءمته لصفاتها، فاجعلوا الله وقاية لكم في الاجتناب عن الخبيث واختيار الطيب.
يأكل من له لب أي: عقل خالص عن شوب الوهم ومزج هوى النفس * (لعلكم تفلحون) * بالخلاص عن نفوسكم وصفاتها وخبائثها والوصول إلى الله بالفناء فيه.
[تفسير سورة المائدة من آية 109 إلى آية 111]
* (يوم يجمع الله الرسل) * في عين الجمع المطلق أو عين جمع الذات * (فيقول ماذا) * أجابكم الأمم حين دعوتموهم إلي؟ أي: هل تطلعون على مراتبهم في كمالاتهم
التي توجهوا إليها في متابعتكم * (قالوا لا علم لنا) * أي: العلم كله لك جمعا وتفصيلا
ليس لغيرك علم لفناء صفاتنا في صفاتك * (إنك أنت علام الغيوب) * فغيوب بواطننا
وبواطنهم كلها علمك * (نعمتي عليك) * بالهداية الخاصة ومقام النبوة والولاية * (وعلى والدتك) * بالتطهير والتزكية والاصطفاء * (تكلم الناس) * في مهد البدن * (وكهلا) * بالغا
إلى نور شيب الكمال بالتجرد عن البدن وملابسه
* * (وإذ علمتك) * كتاب الحقائق
والمعارف الثابتة في اللوح المحفوظ بتأييد روح القدس وحكمة السلوك في الله
بتحصيل الأخلاق والأحوال والمقامات والتجريد والتفريد، وتوراة العلوم الظاهرة
والأحكام المتعلقة بالأفعال وأحوال النفس وصفاتها، وإنجيل العلوم الباطنة من علوم
212

تجليات الصفات وأحكامها وأحكام أحوال القلب وصفاته وأعماله.
* (وإذ تخلق) * من طين العقل الهيولاني الذي هو الاستعداد المحض بيد التربية
والحكمة العملية * (كهيئة) * طير القلوب الطائرة إلى حضرة القدس لتجردها عن عالمها
وكمالها * (بإذني) * أي: بعلمي وقدرتي وتيسيري عند تجلي صفات حياتي وعلمي
وقدرتي لك وإنصافك واستنبائي إياك * (فتنفخ فيها) * من روح الكمال، حياة العلم
الحقيقي بالتكميل والإضافة * (فتكون طيرا) * نفسا مجردة كاملة تطير إلى جناب القدس
بجناح العشق * (وتبرئ الأكمه) * المحجوب عن نور الحق. * (والأبرص) * المعيب
بمرض محبة الدنيا وغلبة الهوى * (وإذ تخرج) * موتى الجهل من قبور البدن وأرض
النفس * (بإذني) * * (وإذ كففت بني إسرائيل) * المحجوبين عن نور تجليات الصفات
الجاهلين المضادين لك لجهلهم بحالك ومقامك * (عنك إذ جئتهم بالبينات) * بالحجج
والدلائل الواضحة * (فقال الذين) * حجبوا * (منهم) * عن دين الحق * (إن هذا إلا سحر مبين) * لحيرتهم فيه.
* (وإذ أوحيت إلى الحواريين) * أي: ألهمت في قلوبهم النورانيين الذين طهروا
نفوسهم بماء المنافع والأعمال المزكية حتى قبلوا دعوتك لصفاء نفوسهم وأحبوك
بالإرادة التامة لمناسبتهم إياك بنور الفطرة وصفاء الاستعداد * (أن آمنوا بي) * إيمانا
حقيقيا بتوحيد الصفات والمحو * (وبرسولي) * برعاية حقوق تجلياتها على التفصيل.
* (قالوا آمنا واشهد) * يا إلهنا بعلمك الشامل المحيط بالكل أننا منقادون لك مسلمين
وجودات صفاتنا إليك.
[تفسير سورة المائدة من آية 112 إلى آية 115]
* (إذ قال الحواريون) * إذ اقترح عليك أصحابك فقالوا * (هل يستطيع ربك) * أي:
شاهدك من عالم الربوبية، فإن رب كل واحد هو الاسم الذي يربه ويكمله ولا يعبد
أحد إلا ما عرفه من عالم الربوبية ولا عرف إلا ما بلغ إليه من المرتبة في الألوهية
فيستفيض منه العلوم ويستنزل منه البركات ويستمد منه المدد الروحاني، ولهذا قالوا
مع إقرارهم وإسلامهم: ربك، ولم يقولوا: ربنا، لأن ربهم لا يستطيع * (أن ينزل علينا
213

مائدة من السماء) * شريعة من سماء عالم الروح تشتمل على أنواع العلوم والحكم
والمعارف والأحكام فيها غذاء القلوب وقوت النفوس وحياتها وذوقها * (قال اتقوا الله) *
احذروه في ظهور صفات نفوسكم واجعلوه وقاية لكم فيما يصدر عنكم من الأخلاق
والأفعال تنجوا من تبعاتها وتفوزوا وتفلحوا إن تحقق إيمانكم فلا حاجة بكم إلى
شريعة جديدة.
* (قالوا نريد أن) * نستفيد * (منها) * ونعمل بها ونتقوى بها * (وتطمئن قلوبنا) * فإن
العلم غذاء القلب وقوته * (ونعلم) * صدقك في الإخبار عن ربك ونبوتك وولايتك بها
وفيها * (ونكون عليها من الشاهدين) * الحاضرين أهل العلم نخبر بها من عدانا من
الغائبين ونعلمهم وندعوهم بها إلى الله * (تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا) * أمرا أي: شرعا
ودينا يعود إليه من في زماننا من أهل ديننا ومن بعدنا ممن سيوجد من النصارى * (وآية
منك) * علامة وعلما منك تعرف بها وتعبد * (وارزقنا) * ذلك الشرع والعلم النافع
والهداية * (وأنت خير الرازقين) * لا ترزق إلا ما ينفعنا ويكون صلاحنا فيه * (فمن
يكفر) * يحتجب عن ذلك الدين بعد إنزاله ووضوحه * (فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا
من العالمين) * لبيان الطريق ووضوح الدين والحجة مع وجود استعدادهم فلا ينكرونه
إلا معاندين والعذاب مع العلم أشد من العذاب من الجهل، إذ الشعور بالمحجوب
عنه يوجب شدة الإيلام.
[تفسير سورة المائدة من آية 116 إلى آية 120]
* (أأنت) * دعوت الناس إلى نفسك وأمك أو إلى مقام قلبك ونفسك فإن من بقي
فيه وجود الأنائية وبقية النفس والهوى، أو كان فيه تلوين بوجود القلب وظهوره بصفته
يدعو الخلق إما إلى مقام نفسه وإما إلى مقام قلبه لا إلى الحق * (قال سبحانك) * تنزيه
لله عن الشريك وتبرئة له عن وجود البقية * (ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) *
فإني لا وجود لي بالحقيقة فلا ينبغي ولا يصح أن أقول قولا ليس لي ذلك القول
214

بالحقيقة، فإن القول والفعل والصفة والوجود كلها لك * (إن كنت قلته فقد علمته) *
أي: إن كان صدر مني قول فعن علمك ولا وجود لما لا تعلم وما وجد بعلمك وجد
* (تعلم ما في نفسي) * لإحاطتك بالكل، فعلمي بعض علمك * (ولا أعلم ما في نفسك) * أي: ذاتك لأني لا أحيط بالكل * (ما قلت لهم) * وما أمرتهم إلا ما كلفتني
قوله وألزمتني إياه * (أن اعبدوا الله ربي وربكم) * أي: ما دعوتهم إلا إلى الجمع في
صورة التفصيل وهو الذي نسبة ربوبيته إلى الكل سواء فغلطوا فما رأوه إلا في بعض
التفاصيل لضيق وعائهم * (وكنت عليهم شهيدا) * رقيبا حاضرا أراعيهم وأعلمهم * (ما دمت فيهم) * أي: ما بقي مني وجود بقية * (فلما توفيتني) * أفنيتني بالكلية بك * (كنت أنت الرقيب عليهم) * لفنائي فيك * (وأنت على كل شيء شهيد) * حاضر، يوجد بك،
وإلا لم يكن ذلك الشيء.
* (إن تعذبهم) * بإدامة الحجاب * (فإنهم عبادك) * أحقاء بالحجب والحرمان وأنت
أولى بهم تفعل بهم ما تشاء * (وإن تغفر لهم) * برفع الحجاب * (فإنك أنت العزيز) *
القوي القادر على ذلك لا تزول عزتك بتقريبهم ورفع حجابهم * (الحكيم) * تفعل ما
تفعله من التعذيب بالحجب والحرمان والتقريب باللطف والغفران بحكمتك البالغة
* (هذا يوم) * نفع صدقك إياك، وصدق كل صادق لكونه خميرة الكمالات وخاصية
الملكوت * (لهم جنات) * الصفات بدليل ثمرة الرضوان فإن الرضا لا يكون إلا بفناء
الإرادة ولا تفنى إرادتهم إلا إذا غلبت إرادة الله عليهم فأفنتها، ولهذا قدم رضوان الله
عنهم على رضوانهم عنه، أي: لما أرادهم الله تعالى في الأزل بمظهرية إرادته ومحل
رضوانه ورضي بهم محلا وأهلا لذلك سلب عنهم إرادتهم بأن جعل إرادته مكانها
وأبدلهم بها فرضي عنهم وأرضاهم * (ذلك الفوز العظيم) * أي: الفلاح العظيم الشأن
ولو كان فناء الذات لكان الفوز الأكبر والفلاح الأعظم. له ما في العالم العلوي
والسفلي باطنه وظاهره * (وما فيهن) * أسماؤه وصفاته وأفعاله * (وهو على كل شيء
قدير) * إن شاء أفنى بظهور ذاته، وإن شاء أوجد بتستره بأسمائه وصفاته.
215

((سورة الأنعام))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
تفسير سورة الأنعام من آية 1 إلى آية 8]
* (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض) * ظهور الكمالات، وصفات الجمال
والجلال على مظاهر تفاصيل الموجودات بأسرها الذي هو كمال الكل. والحمد
المطلق مخصوص بالذات الإلهية الجامعة لجميع صفاتها وأسمائها باعتبار البداية الذي
أوجد سماوات عالم الأرواح وأرض عالم الجسم وأنشأ في عالم الجسم ظلمات مراتبه
التي هي حجب ظلمانية لذاته وفي عالم الأرواح نور العلم والإدراك * (ثم) * أي: بعد
ظهور هذه الآيات * (الذين كفروا) * حجبوا مطلقا * (بربهم يعدلون) * غيره يثبتون موجودا
يساويه في الوجود * (هو الذي خلقكم من طين) * المادة الهيولانية * (ثم قضى أجلا) *
مطلقا غير معين بوقت وهيئة، لأن أحكام القضاء الثابت الذي هو أم الكتاب كلية
منزهة عن الزمان، متعالية عن المشخصات إذ محلها الروح الأولى المقدس عن التعلق
بالمحل، فهو الأجل الذي يقتضيه الاستعداد طبعا بحسب هويته المسمى أجلا طبيعيا
بالنظر إلى نفس ذلك المزاج الخاص والتركيب المخصوص بلا اعتبار عارض من
العوارض الزمانية * (وأجل مسمى) * معين * (عنده) * هو الأجل المقدر الزماني الذي
يجب وقوعه عند اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع المثبت في كتاب النفس الفلكية التي
هي لوح القدر المقارن لوقت معين ملازما له، كما قال تعالى: * (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * [الأعراف، الآية: 34]. * (ثم أنتم) * بعدما علمتم قدرته على
216

إبدائكم وإفنائكم وإحاطة علمه بكم تشكون فيه وفي قدرته، فتتبتلون لغيره تأثيرا
وقدرة.
* (وهو الله) * في صورة الكل سواء ألوهيته بالنسبة إلى العالم العلوي والسفلي
* (يعلم سركم) * في عالم الأرواح الذي هو عالم الغيب * (وجهركم) * في عالم الأجسام
الذي هو عالم الشهادة * (ويعلم ما تكسبون) * فيهما من العلوم والعقائد والأحوال
والحركات والسكنات والأعمال صحيحها وفاسدها، صوابها وخطئها، خيرها وشرها،
فيجازيكم بحسبها.
[تفسير سورة الأنعام من آية 9 إلى آية 17]
* (ولو جعلناه) * الرسول * (ملكا لجعلناه رجلا) * أي: لجسدناه لأن الملك نور
غير مرئي بالبصر وهم ظاهريون لا يدركون إلا ما كان محسوسا وكل محسوس فهو
جسم أو جسماني ولا صورة تناسب الملك الذي ينطبق بالحق حتى يتجسد فيها إلا
الصورة الإنسانية، إما لكونه نفسا ناطقة تقتضي هذه الصورة وإما لوجوب وجود الجنسية
التي لو لم تكن لما أمكنهم السماع منه وأخذ القول * (كتب على نفسه الرحمة) * أي: ألزم
ذاته من حيث هي إفاضة الخير والكمال بحسب استعداد القوابل فما من مستحق لرحمة
وجود أو كمال إلا أعطاه عند حصول استحقاقه لها.
* (ليجمعنكم إلى يوم القيامة) * الصغرى والإعادة أو الكبرى في عين الجمع
المطلق * (لا ريب فيه) * في كل واحد من الجمعين في نفس الأمر عند التحقيق، وإن
لم يشعر به المحجوبون وهم * (الذين خسروا أنفسهم) * بإهلاكها في الشهوات واللذات
الفانية ومحبة ما يفنى سريعا من حطام الدنيا، وكل محب لشيء فهو محشور فيه.
فهؤلاء لمحبتهم إياها واحتجابهم بها عموا عن الحقائق الباقية النورانية واستبدلوا بها
217

المحسوسات الفانية الظلمانية * (فهم لا يؤمنون) * * (قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم) * قال ذلك مع قوله: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * [النحل، الآية:
123]، وكذلك قال موسى: * (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) * [الأعراف، الآية:
143] لأن مراتب الأرواح مختلفة في القرب والبعد من الهوية الإلهية. وكل من كان
أبعد فإيمانه بواسطة من تقدمه في الرتبة، وأهل الوحدة كلهم في المرتبة الإلهية أهل
الصف الأول فكان إيمانهم بلا واسطة وإيمان غيرهم بواسطتهم الأقدم فالأقدم، وكل
من كان إيمانه بلا واسطة فهو أول من آمن وإن كان متأخر الوجود بحسب الزمان كما
قال النبي عليه صلى الله عليه وسلم: ' نحن الآخرون السابقون '. فلا يقدح اتباعه لملة
إبراهيم في سابقيته لأن معنى الاتباع هو السير في طريق التوحيد مثل سيره في الزمان
الأول. ومعنى أوليته كونه في الصف الأول مع السابقين.
[تفسير سورة الأنعام من آية 18 إلى آية 21]
* (وهو القاهر فوق عباده) * بإفنائهم ذاتا وصفة وفعلا بذاته وصفاته وأفعاله،
فيكون قهره عين لطفه كما لطف بهم بإيجادهم وتمكينهم وإقدارهم على أنواع
التمتعات وهيأ لهم ما أرادوا من أنواع النعم والمشتهيات فحجبوا بها عنه وذلك عين
قهره. فسبحان الذي اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته واشتدت نقمته على أعدائه
في سعة رحمته * (وهو الحكيم) * يفعل ما يفعل من القهر الظاهر المتضمن للطف
الواسع أو اللطف الظاهر المتضمن للقهر الكامل بالحكمة * (الخبير) * الذي يطلع على
خفايا أحوالهم واستحقاقها للطف والقهر * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *
بإثبات وجود غيره * (أو كذب) * بصفاته بإظهار صفات نفسه، فأشرك به. وغاية الظلم
الشرك بالله * (إنه لا يفلح الظالمون) * لاحتجابهم بما وضعوه في موضع ذات الله
وصفاته.
[تفسير سورة الأنعام من آية 22 إلى آية 29
218

* (ويوم نحشرهم جميعا) * في عين جمع الذات * (ثم نقول للذين أشركوا) *
بإثبات الغير * (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) * لفناء الكل في التجلي الذاتي * (ثم لم تكن) * عند تجلية الحال وبروز الكل للملك القهار نهاية شركهم وعاقبته * (إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين) * لامتناع وجود شيء نشركه بالله.
* (انظر كيف كذبوا على أنفسهم) * بافتراء الوجود والصفات لها وضاع * (عنهم ما كانوا يفترون) * فلم يجدوه شيئا بل وجدوه لا شيء سوى المفتري أو كذبوا على
أنفسهم بنفي الشرك عنها مع رسوخ ذلك الاعتقاد فيها.
* (ولو ترى إذ وقفوا على) * نار الحرمان والتعذب بهيآت نفوسهم المظلمة
واستيلاء صور المفتريات عليهم في العذاب * (فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) *
من تجليات صفاته * (ونكون من المؤمنين) * الموحدين، لكان ما لا يدخل تحت
الوصف * (بل بدا) * ظهر * (لهم ما كانوا يخفون) * من العقائد الفاسدة والصفات المهلكة
والهيئات المظلمة ببروزهم لله وانقلاب باطنهم ظاهرا، فتعذبوا به * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) * لرسوخ تلك الاعتقادات والملكات فيهم * (وإنهم لكاذبون) * في الدنيا
والآخرة لكون الكذب ملكة راسخة فيهم.
[تفسير سورة الأنعام آية 30]
* (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم) * في القيامة الكبرى وهو تصوير لحالهم في
الاحتجاب والبعد وإلا لم يكن ثم قول ولا جواب، لحرمانهم عن الحضور والشهود،
وإن كانوا في عين الجمع المطلق.
واعلم أن الوقف على الشيء غير الوقوف معه، فإن الوقوف مع الشيء يكون
طوعا ورغبة، والوقف على الشيء لا يكون إلا كرها ونفرة، فمن وقف مع الله
بالتوحيد كمن قال:
* وقف الهوى من حيث أنت فليس
* لي متأخر عنه ولا متقدم
*
لا يوقف للحساب، بل هو من أهل الفوز الأكبر الذين قال فيهم: * (واصبر
219

نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه) * [الكهف، الآية: 28]، * (ما
عليك من حسابهم من شيء) * [الأنعام، الآية: 52] ويثاب بأنواع النعيم في الجنان كلها.
ومن وقف مع الغير بالشرك وقف على الرب وعذب بجميع أنواع العذاب في مراتب
النيران كلها، لكون حجابه أغلظ وكفره أعظم. ومن وقف مع الناسوت بمحبة اللذات
والشهوات، ولبث في حجاب الآثار وقف على الملكوت وعذب بنيران الحرمان عن
المراد، وسلط عليه زبانية الهيئات المظلمة، وقرن بشياطين الأهواء المردية. ومن وقف
مع الأفعال وخرج عن حجاب الآثار، وقف على الجبروت، وعذب بنار الطمع
والرجاء، ورد إلى مقام الملكوت. ومن وقف مع الصفات وخرج عن حجاب
الأفعال، وقف على الذات، وعذب بنار الشوق في الهجران وإن كان من أهل الرضا
وهذا الموقف ليس هو الموقف على الرب، فإن الموقوف على الذات يعرف ربه
الموصوف بصفات اللطف كالرحيم، والرؤوف، والكريم، دون الموقوف على الرب
فهو حجاب الأنية كما أن الواقف مع الأفعال في حجاب أوصافه، والواقف مع
الناسوت في حجاب أفعاله التي هي من جملة الآثار. فالمشرك موقوف في المواقف
الأربعة أولا على الرب فيحجب بالبعد والطرد، كما قال: * (اخسئوا فيها ولا
تكلمون) * [المؤمنون، الآية: 108]، وقال: * (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون) * [آل عمران،
الآية: 106]، ثم على الجبروت فيطرد بالسخط والقهر كما قال: * (ولا يكلمهم الله ولا
ينظر إليهم) * [آل عمران، الآية: 77]، ثم على الملكوت فيزجر بالغضب واللعن كما
قيل: * (ادخلوا أبواب جهنم) * [الزمر، الآية: 72] ثم على النار، فيعذب بأنواع النيران
أبدا، كما قال على لسان مالك: * (إنكم ماكثون) * [الزخرف، الآية: 77]، فيكون وقفه
على النار متأخرا عن وقفه على الرب، معلولا منه، كما قال: * (ثم إلينا مرجعهم ثم
نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون) * [يونس، الآية: 70]. وأما الواقف مع
الناسوت فيقف للحساب على الملكوت ثم على النار، وقد ينحى لعدم السخط وقد لا
ينحى لوجوده. والواقف مع الأفعال لا يوقف على النار أصلا، بل يحاسب ويدخل
الجنة. وأما الواقف مع الصفات فهو من الذين: * (رضي الله عنهم ورضوا عنه) * [المائدة،
الآية: 119] والله أعلم بحقائق الأمور.
[تفسير سورة الأنعام من آية 31 إلى آية 33]
220

* (قد خسر الذين) * المحجوبون المكذبون بلقاء الحق * (حتى إذا جاءتهم) * القيامة
الصغرى ندموا على تفريطهم فيها * (وهم يحملون أوزارهم) * من أعباء التعلقات،
وأفعال محبة الجسمانيات، ووبال السيئات، وآثام هيئات الحسيات * (على ظهورهم) *
أي: ارتكبتهم واستولت عليهم للرسوخ في نفوسهم فحجبتهم وعذبتهم وثبطتهم عما
أرادوا * (وما الحياة الدنيا) * أي: الحياة الحسية، لأن المحسوس أدنى إلى الخلق من
المعقول * (إلا لعب) * أي: إلا شيء لا أصل له ولا حقيقة سريع الفناء والانقضاء
* (وللدار الآخرة) * أي: عالم الروحانيات * (خير للذين) * يتجردون عن ملابس الصفات
البشرية واللذات البدنية * (أفلا تعقلون) * حتى تختاروا الأشرف الأطيب على الأخس
الأدون الفاني. * (قد نعلم إنه ليحزنك) * عتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بظهور نفسه بصفة
الحزن * (لا يكذبونك) * إلى آخره، أي: ليس إنكارهم تكذيبك لأنك لست في هذه
الدعوة قائما بنفسك ولا هذا الكلام صفة لك، بل تدعوهم بالله وصفاته وهذه عادة
قديمة.
[تفسير سورة الأنعام من آية 34 إلى آية 38]
* (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا) * بالله، سلاه بالله بعدما عاتبه لئلا يبقى في
التلوين ولا يتأسف بعد ذهابه عليه فيقع في القبض بل يطمئن قلبه، ولهذا عقبه بقوله:
* (ولا مبدل لكلمات الله) * أي: صفات الله التي يتجلى بها لعباده ولا تتغير ولا تتبدل
بإنكار المنكرين ولا يمكنهم تبديلها. ونفى عنه القدرة وعجزه بقوله: * (وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت) * إلى آخره، لئلا تظهر نفسه بصفاتها * (فلا تكونن من الجاهلين) * الذين لا يطلعون على حكمة تفاوت الاستعدادات، فتتأسف على احتجاب
من احتجب. فإن المشيئة الإلهية اقتضت هداية بعض وحرمان بعض لحكمة ترتب
النظام وظهور الكمالات الظاهرة والباطنة، فلا يستجيب إلا من فتح الله سمع قلبه
بالهداية الأصلية ووهب له الحياة الحقيقية بصفات الاستعداد ونور الفطرة، لا موتى
221

الجهل الذين ماتت غريزتهم بالجهل المركب أو بالحجب الجبلية، أو لم يكن لهم
استعداد بحسب الفطرة فإنهم لا يمكنهم السماع، بل: * (يبعثهم الله) * بالإعادة في
النشأة الثانية * (ثم إليه يرجعون) * في عين الجمع المطلق للجزاء أو المكافأة مع
احتجابهم. وقد يمكن رفع الحجب في الآخرة للفريق الثاني دون الباقين * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * نزول الآيات، فإن ظهور كل صفة من صفاته على كل مظهر من
مظاهر الأكوان آية له يعرفه بها أهل العلم.
* (وما من دابة في الأرض) * إلى آخره، يمكن حمله على المسخ أي: أمم
أمثالكم في الاحتجاب والاعتداء وارتكاب الرذائل كأصحاب السبت الذين مسخوا قردة
وخنازير * (ما فرطنا) * ما قصرنا في كتابهم الذي فيه صور أعمالهم وهو صحيفة النفس
الفلكية أو صحيفة نيتهم التي ثبتت فيها صور أعمالهم * (ثم إلى ربهم يحشرون) *
للجزاء، محجوبين في عين الجمع المطلق. والظاهر أن المراد أنهم أمم أمثالكم
مربوبون بما احتاجوا إليه من معايشهم، مكفيون مؤنتهم بتقدير من الله وحكمه. ما
قصرنا في كتاب اللوح المحفوظ من شيء يصلحهم بل أثبتنا فيه أرزاقهم وآجالهم
وأعمالهم وكل ما احتاجوا إليه، * (ثم إلى ربهم يحشرون) * لجزاء أعمالهم كما هو
مروي في الحديث من حشر الوحوش، وقصاص الأعمال بينهم، وكل واحدة منها آية
لكم تعرف بها أحوالكم وأرزاقكم وآجالكم وأعمالكم، فاعتبروا بها ولا تصرفوا
هممكم ومساعيكم في طلب الرزق وإصلاح الحياة الدنيا فتخسروا أنفسكم وتضروها
وتشقوا بها في آخرتكم.
[تفسير سورة الأنعام من آية 39 إلى آية 50
222

* (والذين كذبوا) * بتجليات صفاتنا لاحتجابهم بغواشي صفات نفوسهم * (صم) *
بآذان القلوب فلا يسمعون كلام الحق * (وبكم) * بألسنتها التي هي العقول فلا ينطقون
بالحق في ظلمات صفات نفوسهم وجلابيب أبدانهم وغشاوات طبائعهم كالدواب،
فكيف يصدقونك وما هداهم الله لذلك بالتوفيق * (من يشأ الله يضلله) * بإسبال حجب
جلاله * (ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) * بإشراق نور وجهه وسبحات جماله
* (قل أرأيتكم) * إلى آخره، أي: كل مشرك عند وقوعه في العذاب أو عند حضور
الموت إن فسرنا الساعة بالقيامة الصغرى أو رفع الحجاب بالهداية الحقانية إلى التوحيد
الحقيقي، إن فسرناها بالقيامة الكبرى يتبرأ عن حول من أشركه بالله وقوته ويتحقق أن
لا حول ولا قوة إلا بالله ولا يدعو إلا الله، وينسى كل من تمسك به وأشركه بالله من
الوسائل، ولهذا قيل: البلاء سوط من سياط الله، يسوق عباده. أما ترى كيف عقب
كلامه بمقارنة الأخذ بالبأساء والضراء بإرسال الرسل.
لعل تضاعف أسباب اللطف، كقود الأنبياء وسوق العذاب، يزعجهم عن مقار
نفوسهم ويكسر سورتها وشدة شكيمتها، فيطيعوا ويبرزوا من الحجاب وينقادوا
متضرعين عند تجلي صفة القهر وتأثيرها فيهم، ثم بين أنهم ما تضرعوا لقساوة قلوبهم
بكثافة الحجاب وغلبة غش الهوى وحب الدنيا وميل اللذات الجسمانية.
[تفسير سورة الأنعام من آية 51 إلى آية 53]
* (وأنذر به الذين يخافون) * أي: أنذر بما أوحي إليك المستعدين الذين هم أهل
الخوف والرجاء، وأعرض عن الذين قست قلوبهم فإنه لا ينجع فيهم كما قال في أول
الكتاب: * (هدى للمتقين) * [البقرة، الآية: 2]. * (أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) * أي: يعلمون بصفاء استعدادهم أنه لا بد من الرجوع إلى الله،
فيخافون أن يحشروا إليه في حال كونهم محجوبين عنه بحجب صفاتهم وأفعالهم لا
ولي ينصرهم غير الله فينقذهم من ذلة البعد وعذاب الحرمان، ولا شفيع يشفع لهم
223

فيقربهم منه، ويكرمهم لفناء الذوات والقدر كلها في الله، وقهره إياهم، كما قال
تعالى: * (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد
القهار 16) * [غافر، الآية: 16]، فيتعظون بسماعهم له ويحدث فيهم الرجاء فيشمرون
في السلوك بالجد والاجتهاد * (لعلهم يتقون) * لكي يحذروا حجب أفعالهم وصفاتهم
وذواتهم، ويتجردوا عنها بالمحو والفناء في الله، ويتجه أن يكون الولي القلب،
والشفيع الروح، أي: لم يصلوا إلى مقام القلب الذي هو ولي النفس فينقذها من
العذاب وينصرها من الحرمان، ولا إلى مقام الروح فتشفع لهم بإمداد مدد القرب لها
واستمدادها من الله وتتوسل بينهم وبين الله.
* (ولا تطرد الذين يدعون) * أي: لا تزجرهم به، وهم أهل الوحدة الكاملون
الواصلون، فإن الإنذار كما لا ينجع في الذين قست قلوبهم لا ينفع في الذين طاشت
قلوبهم في الله وتلاشت * (ربهم بالغداة والعشي) * أي: يخصونه بالعبادة دائما بحضور
القلب وشهود الروح وتوجه السر إليه، لا يريدون بالعبادة إلا ذاته بالمحبة الأزلية لا
يجعلون عبادتهم معللة بغرض من توقع ثواب جنة أو خوف عقاب أو نقمة، ولا
يريدونه بمحبة الصفات فتتغير إرادتهم باختلاف تجلياتها ولا يستحلون توسيط ذاته في
مقصد أو مطلب بل شاهدوا فناء الوسائط والوسائل فيه ولم يبق في شهودهم شيء يقع
نظرهم عليه حتى ذواتهم * (ما عليك من حسابهم) * فيما يعملون من شيء، أي: لا
واسطة بينهم وبين ربهم من ملك أو نبي فلست من دعوتهم إلى طاعة أو إلى جهاد أو
إلى غير ذلك في شيء فحسابهم على الله إذ عملهم ليس إلا بالله وفي الله * (وما من
حسابك عليهم من شيء) * أي: لا يخوضون في أمور دعوتك بنصر وإعانة للإسلام
ولا يدفع وقمع للكفر لاشتغالهم بالله عما سواه ودوام حضورهم كما قال تعالى:
* (الذين هم على صلاتهم دائمون) * [المعارج، الآية: 23] لا يعنيهم شأن من أمرك ونبوتك
* (فتطردهم) * عما هم عليه من دوام الحضور بإنهاضهم لشغل ديني أو مصلحة أو
تشوش وقتهم وجمعيتهم * (فتكون من الظالمين) * * (وكذلك فتنا) * أي: مثل ذلك الفتن
والابتلاء العظيم فتنا * (بعضهم) * وهم المحجوبون بالبعض، فإن المحجوبين لما لم
يروا منهم إلا صورتهم وسوء حالهم في الظاهر وفقرهم ومسكنتهم، ولم يروا قدرهم
ومرتبتهم وحسن حالهم في الباطن، استحقروهم وازدرتهم أعينهم بالنسبة إلى ما هم
فيه من المال والجاه والتنعم وخفض العيش فقالوا فيهم:
* (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) * بالهداية استخفافا وهم والله الأطيبون عيشا،
الأرفعون حالا ومنزلا، الأعظمون قدرا ورتبة عند الله وعند من يعرفهم كما قال نوح
224

عليه السلام: * (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا) * [هود، الآية: 31] بل
الخير كل الخير ما آتاهم الله * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * الذين يشكرونه بالحقيقة
باستعمال نعمة وجودهم وصفاتهم وجوارحهم وما يقوم به من أرزاقهم ومعايشهم في
طاعة الله فشكروه بإزاء النعمة الخارجية بالعبادة وتصورها من المنعم وصرفها في
مراضي الله، وبإزاء نعمة الجوارح باستعمالها في عبادته وسلوك طريقه وتحصيل معرفته
ومعرفة صفاته، وبإزاء نعمة الصفات بمحوها في الله والاعتراف بالعجز عن معرفته
وشكره وعبادته، وبإزاء نعمة الوجود بالفناء في عين الشهود حتى شكر الله سعيهم
بالوجود الموهوب الحقاني، وعلمهم أنه الشاكر المشكور لنفسه بنفسه، لا يقدر على
شكره أحد إلا هو، فقالوا: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، سبحانك ما عبدناك حق
عبادتك، وذلك هو علمه بشكرهم وجزاؤه منه.
[تفسير سورة الأنعام من آية 54 إلى آية 58]
* (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا) * بمحو صفاتهم * (فقل سلام عليكم) * لتنزهكم
عن عيوب صفاتكم وتجردكم عن ملابسها * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * ألزم ذاته
إبدال صفاتكم بصفاته رحمة لكم، لأن في الله خلفا عن كل ما فات * (أنه من عمل منكم سوءا بجهالة) * أي: ظهر عليه في تلوينه صفة من صفاته بغيبة وغفلة، ثم رجع
عن تلوينه من بعد ظهور تلك الصفة وفاء إلى الحضور فعرفها وقمعها بالإنابة إلى الله
والتضرع بين يديه والرياضة * (فإنه غفور) * يسترها عنه * (رحيم) * يرحمه بهبة التمكين
ونعمة الاستقامة. * (وكذلك نفصل الآيات) * أي: مثل ذلك التبيين الذي بينا لهؤلاء
المؤمنين نبين لك صفاتنا * (ولتستبين سبيل) * المحجوبين بصفاتهم الذين يفعلون ما
يفعلون بها وذلك إجرامهم. * (قل إني نهيت أن أعبد) * ما سوى الله من الذين تعبدون
بهواكم من مال أو نفس أو شهوة أو لذة بدنية أو غير ذلك، فلا * (أتبع أهواءكم) *
بعبادتها فأضل إذا باحتجابي بها فلا أهتدي إلى التوحيد ومعنى الماضي أنه تحقق ضلالي
على هذا التقدير وما أنا من الهدى في شيء.
225

تفسير سورة الأنعام من آية 59 إلى آية 60]
* (وعنده مفاتح الغيب) * إلى آخره، اعلم أن الغيب مراتب أولها غيب الغيوب
وهو علم الله المسمى بالعناية الأولى، ثم غيب عالم الأرواح وهو انتقاش صورة كل
ما وجد وسيوجد من الأزل والأبد في العالم الأول العقلي الذي هو روح العالم
المسمى بأم الكتاب على وجه كلي، وهو القضاء السابق. ثم غيب عالم القلوب وهو
ذلك الانتقاش بعينه مفصلا تفصيلا علميا كليا وجزئيا في عالم النفس الكلية التي هي
قلب العالم المسمى باللوح المحفوظ ثم غيب عالم الخيال وهو انتقاش الكائنات
بأسرها في النفوس الجزئية الفلكية المنطبعة في أجرامها معينة مشخصة مقارنة لأوقاتها
على ما يقع بعينه، وذلك العالم هو المعبر عنه في الشرع بالسماء الدنيا إذ هو أقرب
مراتب الغيوب إلى عالم الشهادة ولوح القدر الإلهي الذي هو تفصيل قضائه وعلم
الله، وهو العناية الأولى عبارة عن إحاطته بالكل بحضور ذاته لكل هذه العوالم التي
هي عين ذاته فيعلمها مع جميع تلك الصور التي فيها بأعيانها لا بصورة زائدة فهي
عين علمها ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فالمفاتح إن كان
جمع مفتح بفتح الميم الذي هو المخزن فمعناه عنده هذه الخزائن المشتملة على
جميع الغيوب لحضور ذاته لها * (ولا يعلمها إلا هو) * وإن كان جمع مفتح بكسر الميم
بمعنى المفتاح، فمعناه إما ذلك المعنى بعينه يعني أبوابها مغلقة ومفاتيحها بيده لا
يطلع على ما فيها أحد غيره. وإما أن أسباب إظهارها وإخراجها من مكانها إلى عالم
الشهادة حتى يطلع عليه الخلق بيد قدرته وتصرفه محفوظة عنده لا يقدر غيره على
انتزاعها منه حتى يطلع على ما فيها وهي أسماؤه تعالى، والكتاب المبين هو السماء
الدنيا لتعين هذه الجزئيات فيها مع عددها وتشخصها.
* (ثم يبعثكم فيه) * أي: فيما جرحتم من صواب أعمالكم ومكاسبكم للجزاء
* (ليقضى أجل) * عينه للبعث والإحياء. ثم إلى ربكم ترجعون في عين الجمع المطلق
فينبئكم بإظهار صور أعمالكم عليكم وجزائكم بها.
[تفسير سورة الأنعام من آية 61 إلى آية 62]
226

* (وهو القاهر فوق عباده) * بتصرفه فيهم كما شاء وإفنائهم في عين الجمع المطلق
إذ لا شيء إلا وهو مقهور فيه * (ويرسل عليكم حفظة) * هي قواهم التي ينطبع فيها كل
حال بحسب الرسوخ وعدمه، فيظهر عليهم عند انسلاخهم عن البدن فيتمثل بصور
تناسبها إما روحانية لطيفة توصل إليها الروح والثواب، وإما جسمانية مظلمة توصل
إليها العذاب بل تظهر تلك الصور على جوارحها وأعضائها فتتشكل بهيآتها وتنطق
عليهم بأعمالها بلسان الحال. والقوى السماوية التي أشرنا إليها وإلى انتقاش جميع
الحوادث الجزئية فيها فتظهر عليهم بأسرها عند مفارقتها عن بدنها، لا تغادر صغيرة
ولا كبيرة إلا أحصتها عليهم وهي بأعيانها الرسل التي توفتهم عند الموت. والرد أيضا
يكون في عين الجمع المطلق فإنه للجزاء * (وهو أسرع الحاسبين) * لوقوع حسابهم في
آن وهو: توفيهم.
[تفسير سورة الأنعام من آية 63 إلى آية 65
* (قل من ينجيكم من ظلمات البر) * التي هي حجب الغواشي البدنية والصفات
النفسانية * (و) * ظلمات * (البحر) * التي هي حجب صفات القلوب وفكر العقول
* (تدعونه) * إلى كشفها * (تضرعا) * في نفوسكم * (وخفية) * في أسراركم * (لئن أنجيتنا من هذه) * الحجب * (لنكونن من) * الذين شكروا نعمة الإنجاء بالاستقامة والتمكين * (قل الله ينجيكم منها) * بكشف تلك الحجب بأنوار تجليات صفاته * (ومن كل كرب) * أي: ما
بقي في استعدادكم بالقوة من كمالاتكم بإبرازها حتى لو كانت بقية من بقايا وجودكم
كربا لكم لاستعدادكم للفناء والخلاص منها بالكلية لقوة الاستعداد وكمال الشوق
لأنجاكم منها * (ثم أنتم) * بعد علمكم بهذا المقام الشريف وما ادخر لكم * (تشركون) *
به أنفسكم وأهواءكم فتعبدونها.
* (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم) * باحتجابكم بالمعقولات
والحجب الروحانيات * (أو من تحت أرجلكم) * باحتجابكم بالحجب الطبيعية * (أو يلبسكم شيعا) * أو يخلطكم فرقا متفرقة كل فرقة على دين قوة من قواكم هي أمامهم
تقابل الفرقة الأخرى فيقع بينكم الهرج والمرج والقتال، أو فرقا مختلفة العقائد كل
فرقة على دين دجال أو شيطان أنسي أو جني هو إمامهم، أو يجعل أنفسكم شيعا
باستيلاء كل قوة من قواكم على القلب بطلب لذتها المخصوصة بها، إحداها تجذبه
227

إلى غضب والأخرى إلى شهوة أو طمع أو غير ذلك، فيعرق القلب عاجزا فيما
بينهم، أسيرا في قبضتهم، كلما هم بتحصيل لذة هذه منعته الأخرى، ويقع بينهم
الهرج والمرج في وجودكم لعدم ارتياضهم بسياسة رئيس واحد قاهر يقهرهم
ويسوسهم بأمر وحداني يقيم كلا منهم في مقامها، مطيعة منقادة فتستقيم مملكة
الوجود ويستقر الملك على رئيس القلب. وعلى هذا التأويل يكون كل واحد منهم
فرقة أو فرقا متفرقة على أديان شتى لا شخصا واحدا.
[تفسير سورة الأنعام من آية 66 إلى آية 70]
* (وكذب به) * أي: بهذا العذاب * (قومك وهو الحق) * الثابت النازل بهم * (قل لست عليكم بوكيل) * بموكل يحفظكم ويمنعكم من هذا العذاب * (لكل) * ما ينبأ عنه
محل وقوع واستقرار * (وسوف تعلمون) * حين يكشف عنكم أغطية أبدانكم فيظهر
عليكم ألم هذا العذاب بصور ما تقتضيه نفوسكم.
* (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) * أي: صفاتنا بإظهار صفات نفوسهم
وإثبات العلم والقدرة لها * (فأعرض عنهم) * فإنهم محجوبون مشركون * (وإما ينسينك الشيطان) * بتسويل بعض الأباطيل والخرافات عليك، ووسوسة نفسك فتظهر ببعض
صفاتها وتجانسهم بذلك فتميل إلى صحبتهم * (فلا تقعد بعد) * ما تذكرت بتذكيرنا إياك
* (مع القوم) * الذين ظلموا أنفسهم بوضع صفاتهم موضع صفاتي وحجبوها بصفاتهم
فإن صحبتهم تؤثر فيوشك أن تقع في الاحتجاب بشؤم صحبتهم على سبيل التلوين.
* (وما على) * الموحدين الذين يتجردون عن ملابس صفاتهم ويجتنبون هيآتها من
حساب أولئك المحجوبين * (من شيء) * أي: لا يحتجبون بواسطة مخالطتهم فيكونون
معهم سواء ولكن ذكرناهم لعلهم يحترزون عن صحبتهم وما عسى يقعون فيه من
التلوين أو وبالهم وشأنهم وحسابهم حتى يصاحبونهم ولكن فليذكروهم أحيانا بأدنى
مخالطة لعلهم يحذرون شركهم وحجبهم فينجون ببركة صحبتهم أو وما عليهم مما
228

يحاسب به من أعمالهم ووبالها من شيء ولكن فليذكروهم بالزجر والنهي لعلهم
يحترزون عنها.
* (وذر الذين اتخذوا) * أي: اترك الذين دينهم وعاداتهم الهوى واللهو لأنهم لا
يرفعون بذلك رأسا لرسوخ ذلك الاعتقاد فيهم واغترارهم بالحياة الحسية وأعرض
عنهم وأنذر بالقرآن كراهة أن تحجب نفس بكسبها، أي: لا يكون دينها وديدنها ذلك
ولم ترسخ تلك العقيدة فيها لكن ترتكب بالميل الطبيعي أفعالا من أفعالهم فتحتجب
بسببها فإنها تتأثر به وتتعظ فتنتهي، فأنذرها حتى لا تصير مثلهم فتحبس بعملها عن
الهداية وحينئذ لا يقبل منها فدية إذ حجبت بكسبها. والشراب الحميم هو شدة شوقها
إلى الكمال لقوة استعدادها. والعذاب الأليم حرمانها عنه باحتجابها بأعمالها وهيآتها.
[تفسير سورة الأنعام من آية 71 إلى آية 73]
* (قل أندعو من دون الله) * أي: أنعبد ما لا قدرة ولا وجود له حقيقة فينفع أو
يضر * (ونرد) * إلى الشرك * (على أعقابنا بعد إذ هدانا الله) * الهداية الحقيقية إلى التوحيد
* (كالذي) * ذهبت به شياطين الوهم والتخيل في مهمة أرض النفس * (حيران) * لا يدري
أين يمشي وما يصنع بلا طريق ولا مقصد * (له أصحاب) * رفقاء من الفكر والعاقلة
العملية والنظرية * (يدعونه إلى الهدى) * يقولون * (ائتنا) * فإن هذا هو الطريق ولا يسمع
لارتتاق سمع قلبه بالهوى * (قل إن) * هداية الله التي هي طريق التوحيد * (هو الهدى) *
لا غير * (وأمرنا لنسلم لرب العالمين) * لننقاد لصفة الربوبية بمحو صفاتنا في المتجلى
بها وإسلامها إليه ونقيم صلاة الحضور القلبي ونتقيه ونجعله وقاية لنا في الصفات
ليكون هو الموصوف به، فنتخلص به عن وجودنا فيكون هو المحشور إليه بذاته عند
فنائنا فيه.
* (وهو الذي خلق) * سماوات الأرواح وأرض الجسم قائما بالعدل الذي هو
مقتضى ذاته * (ويوم يقول كن فيكون) * أي: وقت السرمدي الذي هو أزل آزال ظهور
الأشياء في أزلية ذاته التي هي أزلية الأزل مطلقا وهو حين تعلق إرادته القديمة بالظهور
في تعينات ذاته المعبر عنه يقوله: كن، وهو بعد أزلية الآزال بالاعتبار العقلي لا أنها
229

تتأخر عن تلك الأزلية بالزمان بل بالترتيب العقلي الاعتباري في ذاته تعالى، فإن
التعينات تتأخر عن مطلق الهوية المحضة عقلا وحقيقة وظهورها بالإرادة المسماة
بقوله: * (كن فيكون) * بلا فصل وتأخير يعبر عنه ب: (يكون)، لأنها لم تكن في الأزل
فكانت * (قوله الحق) * أي: في ذلك الوقت سيما سرمدي إرادته التي اقتضت وجود
المبدعات على ما هي عليه ثابتة في حالها غير متغيرة، اقتضت ما اقتضت على أحسن
ما يكون من النظام والترتيب وأعدل ما يكون من الهيئة والتركيب.
* (يوم ينفخ في الصور) * وقت نفخه في الصور أي: إحياء صور المكونات
بإفاضة أرواحها عليها لا ملك إلا له فإنها بنفسها ميتة لا وجود لها ولا حياة فضلا عن
المالكية * (عالم الغيب) * أي: حقائق عالم الأرواح التي هي ملكوته * (والشهادة) * أي:
صور عالم الأجسام التي هي ملكه * (وهو الحكيم) * الذي أوجدها ورتبها بحكمته
فأفاض على كل صورة ما يليق بها من الأرواح * (الخبير) * الذي علم أسرارها وعلانيتها
وخواصها وأفعالها، تلخيصه: هو مبدع الأرواح والجسم المطلق بإرادته القديمة الأزلية
الثابتة التي لا تغير فيها أبدا إبداعا على وجه العدل والحكمة الذي اقتضاه ذاته ومكون
الكائنات بإنشائها في عالم الملك الذي هو مالكه لا غير، كيف شاء عالما بما يجب
أن يكون عليها حكيما في اتقانها ونظامها وترتيبها، خبيرا بما يحدث فيها من الأحوال
الحادثة على حسب إرادته بذاته لا شريك له في ذلك كله.
[تفسير سورة الأنعام من آية 74 إلى آية 75]
* (وإذ قال إبراهيم لأبيه) * أي: اذكر وقت سلوك إبراهيم طريق التوحيد عند
تبصيرنا وهدايتنا إياه واطلاعه على شرك قومه واحتجابهم بظهور عالم الملك عن
حقائق عالم الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء بأسمائه معتقدين لتأثير الأجرام والأكوان،
ذاهلين بها عن المكون فعيرهم بذلك وقال لمقدمهم وأكبرهم أبيه: * (أتتخذ أصناما آلهة) * وتعتقد تأثيرها * (إني أراك وقومك في ضلال مبين) * ظاهر يعرف بالحس، ومثل
ذلك التبصير والتعريف العام الكامل نعرف إبراهيم ونريه * (ملكوت السماوات والأرض) * أي: القوى الروحانية التي يدبر الله بها أمر السماوات والأرض، فإن لكل
شيء قوة ملكوتية تحفظه وتدبر أمره بإذن الله * (وليكون من الموقنين) * فعلنا ذلك أي:
بصرناه ليعلم ويعرف أن لا تأثير إلا لله، يدبر بأسمائه التي هي ذاته مع كل واحدة من
الصفات، فتتكثر الأفعال من وراء حجب الأكوان. فالمحجوب بالكون واقف مع
الحس يرى تلك الأفعال من الأكوان والمجاوز عنه الذي خرق حجاب الكون ووقف
230

مع العقل محبوسا في قيده يراها من الملكوت، والمهتدي بنور الهداية الإلهية المنفتحة
عين بصيرته يرى أن الملكوت بالنسبة إلى ذات الله تعالى كالملك بالنسبة إلى
الملكوت، فكما لا يرى التأثير من الأكوان لا يراها من ملكوتها بل من مالكها
ومكونها، فيقول حقا: لا إله إلا الله.
تفسير سورة الأنعام من آية 76 إلى آية 79]
* (فلما جن عليه الليل) * أي: فلما أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية في
صباه وأول شبابه * (رأي) * كوكب ملكوت الهيكل الإنساني التي هي النفس المسماة
روحا روحانية وجد فيضه وحياته وربوبيته منها إذ كان الله تعالى يريه في ذلك الحين
باسمه المحيي، فقال بلسان الحال: * (هذا ربي فلما أفل) * بعبوره عن مقام النفس
وطلوع نور القلب وإشراقه عليه بآثار الرشد والتعقل ومعرفته لإمكان النفس ووجوب
انطباعها في الجسم * (قال لا أحب الآفلين) * الغاربين في مغرب الجسم، المحتجبين
به، المتسترين بظلمة الإمكان والاحتياج إلى الغير * (فلما رأى) * قمر القلب بازغا
بوصوله إلى مقام القلب وطلوعه من أفق النفس بظهوره عليه ورأى فيضه بمكاشفات
الحقائق وعلمه وربوبيته منه، إذ كان الله تعالى يريه حينئذ باسمه العالم والحكيم
* (قال هذا ربي فلما أفل) * باحتجابه عنه وعبوره عن طوره وشعوره بأن نوره مستفاد
من شمس الروح وإنه قد يتغيب في ظلمة النفس وصفاتها فيحتجب بها ولا نور له
أعرض عن مقامه سالكا طريق تجلي الروح قائلا: * (لئن لم يهدني ربي) * إلى نور
وجهه * (لأكونن من القوم الضالين) * الذين يحتجبون بالبواطن عنه كالنصارى الواقفين
مع الحجب النورانية.
* (فلما رأى الشمس) * الروح * (بازغة) * بتجليها عليه وظهور نورها وجد فيضه
وشهوده وربوبيته منها إذ كان الله تعالى يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم * (قال هذا ربي هذا أكبر) * لعظمته وشدة نورانيته * (فلما أفلت) * باستيلاء أنوار تجلي الحق
وطلوع سبحات الوجه الباقي، وانكشاف حجاب الذات بوصوله إلى مقام الوحدة رأى
النظر إلى الروح وإلى وجوده مشركا فقال: * (يا قوم إني بريء مما تشركون) * به أي:
أي شيء كان إذ لا وجود لغيره * (إني وجهت وجهي) * أي: أسلمت ذاتي ووجودي
* (للذي) * أوجد سماوات الأرواح وأرض النفس مائلا عن كل ما سواه حتى عن
231

وجودي بالفناء فيه * (وما أنا من المشركين) * أي: لست من الشرك في شيء، كوجود
البقية وظهورها وغير ذلك.
[تفسير سورة الأنعام من آية 80 إلى آية 92]
* (وحاجه قومه) * في نفي التأثير عن الأجرام والأكوان وترك تعبد كل ما سوى
الله * (قال أتحاجوني في الله وقد هدان) * إلى توحيده * (ولا أخاف ما تشركون) * وتقولون
بتأثيره أبدا * (الآ) * وقت * (أن يشاء ربي شيئا) * من جهتها بي من مكروه أو ضر يلحقني
من جهتها وذلك منه وبعلمه لا منها. * (وسع ربي كل شيء علما) * يعلم حالي وما فيه
صلاحي، إن علم إضراري من جهتها أولى بي فعل * (أفلا تتذكرون) * فتميزوا بين
العاجز والقادر.
* (الذين آمنوا) * بالتوحيد الذاتي * (ولم) * يخلطوا * (إيمانهم بظلم) * من ظهور نفس
القلب أو وجود بقية فإنها شرك خفي * (أولئك لهم الأمن) * الحقيقي الذي لا خوف
معه * (وهم مهتدون) * بالحقيقة إلى الحق * (وتلك حجتنا) * أي: حجة التوحيد التي
احتج بها إبراهيم على قومه * (كل من الصالحين) * الذين يقومون بصلاح العالم وضبط
232

نظامه وتدبيره لاستقامتهم بالوجود الموهوب الحقاني بعد فناء الوجود البشري * (وكلا فضلنا على) * عالمي زمانهم.
* (وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء) * أي: ما
عرفوه حق معرفته إذ بالغوا في تنزيهه حتى جعلوه بعيدا من عباده بحيث لا يمكن أن
يظهر من علمه وكلامه عليهم شيء ولو عرفوه حق معرفته لعلموا أن لا وجود لعباده
ولا لشيء آخر إلا به. والكل موجود بوجوده لا وجود إلا له جميع عالم الشهادة
ظاهره وعالم الغيب باطنه، ولكل باطن ظاهر، فأي حرج من ظهور بعض صفاته على
مظهر بشري بل لا مظهر لكمال علمه الباطن وحكمته إلا الإنسان الكامل. فالنبي من
حيث الصورة ظاهره، ومن حيث المعنى باطنه ينزل علمه على قلبه ويظهر على لسانه
ويدعو به عباده إلى ذاته ولا إثنينية إلا باعتبار تفاصيل صفاته. وأما باعتبار الجمع فلا
أحد موجود إلا هو لا النبي ولا غيره، فإذا اعتبرنا تفاصيل صفاته وأسمائه يظهر النبي
تبعية الخاص في ذاته تعالى ببعض صفاته فيصير اسما من أسمائه، وإذا كان كاملا في
نبوته يكون الأعظم الذي لا تنفتح أبواب خزائن غيبه ووجوده وحكمته إلا به كما
سمعت. فلا تنكر إن عجبت وحرمت من فهمه وبهت، فعسى أن يفتح الله عين
بصيرتك فترى ما لا عين رأت أو سمع قلبك، فتسمع ما لا أذن سمعت أو ينور قلبك
فتدرك ما لا خطر على قلب بشر.
[تفسير سورة الأنعام من آية 93 إلى آية 94]
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * بادعاء الكمال والوصول إلى التوحيد
والخلاص عن كثرة صفات النفس وازدحامها مع بقائها فيه فيكون في أقواله وأفعاله
بالنفس وهو يدعي أنه بالله * (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) * أي: حسب
مفتريات وهمه وخياله ومخترعات عقله وفكره وحيا من عند الله وفيضا من الروح
القدسي فتنبأ * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) * أي: تفرعن بوجود أنائيته وتوهم
التوحيد العلمي عينيا، فادعى الإلهية * (ولو ترى إذ الظالمون) * أي: هؤلاء الظلمة من
المدعين للكمال المحجوبين الذين يزعمون كون أفعالهم إلهية وهي نفسانية والمتنبئين
والمتفرعنين * (في غمرات الموت) * أي: شدائده وسكراته لافتقادهم في دعواهم
233

وغلطهم في حسبانهم أنهم قد فنوا عن أنفسهم وتجردوا عن ملابس أبدانهم مع شدة
تعلقهم بها وقوة محبة الدنيا ورسوخ الهوى فيهم لأنهم ما ماتوا بالموت الإرادي
والتجرد عن الشهوات واللذات البدنية، وما فنوا عن صفات نفوسهم ودواعيها حتى
يسهل عليهم الموت الطبيعي * (والملائكة) * أي: قوى العالم التي كانت تمد قواهم
النفسانية من النفوس الكوكبية والفلكية وتأثيراتها التي كانت تستولي عليهم في حياتهم
مع ظنهم أنهم تخلصوا منها بالتجرد كما أشرنا إليه * (باسطو أيديهم) * قوية التأثير
فيهم، بالغة فيه كنه قواها وقدرها * (أخرجوا أنفسكم) * أي: تعنفهم وتقهرهم لشدة
تعكفهم وكثرة تحسرهم وصعوبة مفارقة الأبدان عليهم * (اليوم تجزون عذاب الهون) *
والصغار بوجود صفات نفوسكم وهيآتها المظلمة المؤذية وحجب أنائيتكم وتفرعنكم
كما قال: * (سيجزيهم وصفهم) * [الأنعام، الآية: 139] * (بما كنتم تقولون على الله غير الحق) * أي: بسبب افترائكم على الله، أعمالكم وأقوالكم الصادرة من صفات نفوسكم
وأهوائها * (وكنتم عن آياته تستكبرون) * وبسبب احتجابكم بأنائيتكم وتفرعنكم معجبين
بصفاتكم غير مذعنين بمحوها لصفاتنا محجوبين عنها بوجودها مستكبرين بها عنها.
* (ولقد جئتمونا فرادى) * مجردين عن الصفات والعلائق والأهل والأقارب
والوجود بالاستغراق في عين جمع الذات * (كما خلقناكم أول مرة) * بإنشاء ذرات
هوياتكم في الأزل عند أخذ الميثاق * (وتركتم ما خولناكم) * من الوسائل والعلوم
والفضائل * (وراء ظهوركم وما نرى معكم) * وسائلكم وأسبابكم وما آثرتموه بهواكم
وتعلقتم بها من محبوباتكم ومعبوداتكم * (الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء) * بمحبتكم
إياها وتعبدكم لها ونسبتكم التأثير إليها واعتباركم واعتدادكم بها قد وقع التفرق بينكم
بتغير الأحوال وتبدل الصور والأشكال * (وضل عنكم ما كنتم تزعمون) * شيئا موجودا
بشهودكم ثناء الكل في الله.
[تفسير سورة الأنعام من آية 95 إلى آية 98]
* (إن الله فالق) * حبة القلب بنور الروح عن العلوم والمعارف ونوى النفس بنور
القلب عن الأخلاق والمكارم * (يخرج) * حي القلب عن ميت النفس تارة باستيلاء نور
الروح عليها * (ومخرج) * ميت النفس عن حي القلب أخرى بإقباله عليها واستيلاء
234

الهوى وصفات النفس عليه. * (ذلكم الله) * القادر على تقليب أحوالكم وتغليبكم في
أطواركم * (فإني) * تصرفون منه إلى غيره * (فالق الإصباح) * أي: فالق ظلمة صفات
النفس عن القلب بإصباح نور شمس الروح وإشراقه عليها * (وجاعل) * ظلمة النفس
سكن القلب يسكن إليها للارتفاق والاسترواح أحيانا أو سكنا تسكن فيه القوى البدنية
وتستقر عن الاضطراب وشمس الروح وقمر القلب محسوبين في عداد الموجودات
الباقية الشريفة، معتدا بهما. أو علمي حسب الأحوال والأوقات تعتبر بهما * (ذلك تقدير العزيز) * القوي على ذلك * (العليم) * بأحوال البروز والانكشاف والتستر
والاحتجاب بهما يعز تارة باحتجابه بهما وعنهما في ستور جلاله، وتارة بتجليه
وقهرهما وإفنائهما يعلم ما يفعل بحكمته.
* (وهو الذي جعل لكم) * نجوم الحواس * (لتهتدوا بها في ظلمات) * بر الأجساد
إلى مصالح المعاش وبحر القلوب باكتساب العلوم بها * (قد فصلنا الآيات) * أي:
الروح والقلب والحواس * (لقوم يعلمون) * ذلك * (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة) *
هي النفس الكلية * (فمستقر) * في أرض البدن حال الظهور * (ومستودع) * في عين جمع
الذات حال الفناء. * (قد فصلنا) * آيات ظهور النفس واستقرارها واستيداعها * (لقوم يفقهون) * بتنور قلوبهم وصفاء فهومهم.
[تفسير سورة الأنعام من آية 99 إلى آية 101]
* (وهو الذي أنزل) * من سماء الروح ماء العلم * (فأخرجنا به نبات) * كل صنف
من الأخلاق والفضائل * (فأخرجنا) * من النبات هيئة خضرة النفس وزينة حسنة جميلة
وبهجة بالعلم والخلق * (نخرج) * من تلك الهيئة والنفس الطرية الغضة أعمالا مترتبة
شريفة مرضية، ونيات صادقة يتقوى بها القلب، ومن نخل العقل من ظهور تعلقها
معارف وحقائق قريبة التناول لظهورها بنور الروح كأنها بديهية * (وجنات من أعناب) *
الأحوال والأذواق وخصوصا أنواع المحبة القلبية المسكر عصيرها وسلافها، وزيتون
التفكر، ورمان التوهمات الصادقة التي هي الهمم الشريفة، والعزائم النفسية * (مشتبها) *
بعضها ببعض كالتعقلات والتفكرات والمعارف والحقائق والأعمال والنيات وكمحبة
الذات ومحبة الصفات * (وغير متشابه) * كأنواع المحبة مع الأعمال مثلا، أو مشتبها في
235

رتبتها وقوتها وضعفها وجلائها وخفائها وغير متشابه فيه * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر) *
وراعوه بالمراقبة عند السلوك وبدء الحال، وليكن نظركم من اللذات إلى هذه الثمرات
* (وينعه) * وكماله عند الوصول بالحضور * (إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) * بالإيمان
العلمي، ويوقنون هذه الآيات والأحوال التي عددناها.
* (وجعلوا لله شركاء الجن) * أي: جعلوا جن الوهم والخيال شركاء لله في
طاعتهم لها وانقيادهم. وقد علموا أن الله خلقهم فكيف يعبدون غيره * (وخرقوا له) *
اختلقوا بالافتراء المحض * (بنين) * من العقول * (وبنات) * من النفوس يعتقدون أنها
مؤثرات ومجردات مثله تولدت منه * (بغير علم) * منهم أنها أسماؤه وصفاته لا تؤثر إلا
به * (سبحانه وتعالى) * تنزه عن أن يكون وجودا مجردا مخصوصا بتعين خاص واحدا
عن الموجودات المتعينة يصدر عنه وجودات العقول المجردة والنفوس وتعاظم * (عما يصفون) * به علوا كبيرا.
* (بديع السماوات والأرض) * أي: عديم النظير والمثل في سماوات عالم الأرواح
وأرض عالم الأجساد * (أنى يكون له ولد) * أي: كيف يماثله شيء * (ولم تكن له صاحبة) * لأن الصاحبة لا تكون إلا مجانسة وهو لا يجانس شيئا، وإذا لم يجانس شيئا
لم يماثله فلم يكن له مثل يتولد منه * (وخلق كل شيء) * بتخصيصه بتعين في ذاته
وإيجاده بوجوده لا بأنه موجود مثله * (وهو بكل شيء عليم) * يحيط علمه بالعقول
والنفوس وغيرها كما يحيط وجوده بها وهي محاطة لا تحيط بعلمه ولا تعلم إلا بعلمه ولا
توجد إلا بوجوده فلا تماثله لأنها بأنفسها معدومة، وأنى يماثل المعدوم الموجود المطلق.
[تفسير سورة الأنعام من آية 102 إلى آية 108]
* (ذلكم) * البديع العديم المثل الموصوف بجميع هذه الصفات * (الله ربكم لا إله) * في الوجود * (إلا هو) * أي: لا موجود إلا هو باعتبار الجمع * (خالق كل شيء) *
باعتبار تفاصيل صفاته فخصوا العبادة به، أي: بالوجود الموصوف بجميع الصفات
236

الذي هو الله دون من سواه * (وهو على كل شيء وكيل) * أي: لا يستحق العبادة إلا
المبدئ لكل شيء وهو مع ذلك وكيل على الكل يحفظها ويدبرها ويوصل إليها
الأرزاق وما تحتاج إليه حتى تبلغ الكمال اللاحق بها.
* (لا تدركه الأبصار) * أي: لا تحيط به لأنه اللطيف الجليل عن إدراكها، وكيف
تدركه وهي لا تدرك أنفسها التي هي نور منه؟! * (وهو يدرك الأبصار) * لإحاطته بكل
شيء ولطف إدراكه * (قد جاءكم بصائر من ربكم) * أي: آيات بينات هي صور تجليات
صفاته التي هي أنوار بصائر القلوب. والبصيرة نور يبصر به القلب، كما أن البصر نور
تبصر به العين، * (فمن أبصر) * أي: صار بصيرا بها، فإنما فائدة إبصاره وهدايته لنفسه
ومن حجب عنها فإنما مضرة احتجابه لا تتعدى إلى غيره بل إليه * (وما أنا عليكم بحفيظ) * رقيب يرقبكم ويحفظكم عن الضلال، بل الله حفيظ يحفظكم ويحفظ
أعمالكم * (ولو شاء الله ما أشركوا) * أي: كل ما يقع فإنما يقع بمشيئة الله ولا شك أن
استعداداتهم التي وقعوا بها في الشرك وأسباب ذلك من تعليم الآباء والعادات وغيرها
أيضا واقعة بإرادة من الله وإلا لم تقع. فإن آمنوا بذلك فبهداية الله وإلا فهون على
نفسك * (وما جعلناك عليهم حفيظا) * تحفظهم عن الضلال * (وما أنت) * بموكل عليهم
بالإيمان، ولا ينافي هذا ما قال في تعييرهم فيما بعد بقوله: * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) * [الأنعام، الآية: 148] لأنهم قالوا ذلك عنادا ودفعا للإيمان بذلك
التعلل لا اعتقادا، فقولهم ذلك وإن كان صدقا في نفس الأمر لكنهم كانوا به كاذبين،
مكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو صدقوا لعلموا أن توحيد المؤمنين أيضا بإرادة الله وكذا
كل دين. فلم يعاندوا ولم يعادوا أحدا، ولو علموا أن كل شيء لا يقع إلا بإرادة الله
لما بقوا مشركين بل كانوا موحدين، لكنهم قالوه لغرض التكذيب والعناد وإثبات أنه
لا يمكنهم الانتهاء عن شركهم فلذلك عيرهم به لا لأنه ليس كذلك في نفس الأمر،
فإنهم لم يطلعوا على مشيئة الله وأنه كما أراد شركهم في الزمان السابق لم يرد إيمانهم
الآن إذ ليس كل منهم مطبوع القلب بدليل إيمان من آمن منهم. فلم لا يجوز أن
يكون بعضهم كانوا مستعدين للإيمان والتوحيد واحتجبوا بالعادة وما وجدوا من آبائهم
فأشركوا ثم إذا سمعوا الإنذار وشاهدوا آيات التوحيد اشتاقوا إلى الحق وارتفع
حجابهم فوحدوا؟، فلذلك وبخهم على قولهم وطلب منهم الحجة على أن الله أرادهم
بذلك دائما وأنذرهم بوعيد من كان قبلهم لعل من كان فيه أدنى استعداد إذا انقطع عن
حجته وسمع وعيد من قبله من المنكرين، ارتفع حجابه ولان قلبه فآمن، ويكون ذلك
توفيقا له ولطفا في شأنه، فإن عالم الحكمة يبتنى على الأسباب. وأما من كان من
237

الأشقياء المردودين المختوم على قلوبهم، فلا يرفع لذلك رأسا ولا يلقى إليه سمعا.
[تفسير سورة الأنعام من آية 109 إلى آية 111
* (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية) * إلى آخره، طلبوا خوارق العادات
وأعرضوا عن الحجج البينات، لأنهم كانوا محجوبين بالحس والمحسوس، فلم تنجع
فيهم الدعوة بالحكمة والإثبات بالحجة كما تنجع في العقلاء والمستعدين. * (قل إنما الآيات) * أي: خوارق العادات التي اقترحوها إنما هي من عالم القدرة ليست إلا عنده
* (وما يشعركم) * أنهم لا يؤمنون عند مجيئها، أي: أنا أعلم بهم منكم أنهم لا يؤمنون
بها، أو وما يشعركم أنهم يؤمنون عند مجيئها لعلها إذا جاءت لا يؤمنون بها، ومن لم
يرد الله منه الإيمان يقلب قلبه وبصره عند مجيء الآية التي اقترحها وزعم أنه يؤمن
عند نزولها، فيقول: هذا سحر، ولا يؤمن به كما لا يؤمن قبل مجيء الآية ويذره في
ظهور نفسه بصفاتها واحتجابه بها، ولهذا قال في آخر الآية الثانية: * (ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله) * يعني: من استعد للإيمان فهم المعقول وأدرك الحجة، وانفتحت
عين بصيرته بأدنى نور من هداية الله وآمن بأدنى سبب، ومن لم يستعد لذلك ولم
يخلق له لو رأى كل آية من خوارق العادات وغيرها ما آثر فيه * (ولكن أكثرهم يجهلون) * أن الإيمان بمشيئة الله لا بخوارق العادات، وفي الحقيقة لا اعتبار بالإيمان
المرتب على مشاهدة خوارق العادات، فإنه ربما كان مجرد إذعان لأمر محسوس
وإقرار باللسان وليس في القلب من معناه شيء كإيمان أصحاب السامري. والإيمان لا
يكون إلا بالجنان، كما قال تعالى: * (قالت الأعراب ءامنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * [الحجرات، الآية: 14].
[تفسير سورة الأنعام من آية 112 إلى آية 114]
* (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * إلى آخره، يلزم من ترتب مراتب الأرواح أن
238

مقابلة أصفى الاستعدادات وأنورها بأكدرها وأظلمها وأبعدها ولزم منه وجود عدو لكل
نبي للتضاد الحقيقي بينهما. وفائدة وجود العدو في مقابلته له أن الكمال الذي قدر له
بحسب استعداده لا يظهر عليه إلا بقوة المحبة للاستمداد، وأما القهر فلانكسار نفسه
به وبإهانته واستخفافه له، وتثبته عند مقابلته في مقام القلب وتجلده معرضا عن النفس
ولذاتها لاشتغاله بالعدو ذاهلا عنها لفرط الحمية والحرص على الفضيلة التي يقهر بها
العدو والاحتراز عن الملابس الحيوانية والشيطانية ليبعد بها عن مقامه ومناسبته ولئلا
يتطرق له سبيل إلى طعنه وتحقيره وازدرائه بها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ' ما أوذي نبي قط
مثل ما أوذيت '، إذ لا كمال لأحد مثل كماله فيجب أن يكون سبب إخراجه إلى
الفعل أقوى لغاية بعده عن صفات النفس وعاداتها.
* (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة) * ولتميل إليه المحجوبون
لمناسبتهم * (وليرضوه) * لمحبتهم إياه، فتقوى غوايتهم ويتظاهرون ويخرج ما فيهم من
الشرور إلى الفعل، ويزدادوا طغيانا وتعديا على النبي صلى الله عليه وسلم فتزداد قوة كماله وتهيج أيضا
بسببه دواعي المؤمنين، والذين في استعدادهم مناسبة للنبي صلى الله عليه وسلم فتنبعث حميتهم،
وتزداد محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرهم إياه، فتظهر عليهم كمالاتهم ويتقوى بهم النبي صلى الله عليه وسلم
كما قيل: إن شهرة المشايخ وكثرة مريديهم لا تكون إلا بواسطة المنكرين إياهم.
تفسير سورة الأنعام من آية 115 إلى آية 122
* (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) * أي: تم قضاؤه في الأزل بما قضى وقدر من
إسلام من أسلم وكفر من كفر ومحبة من أحب أحدا، وعداوة من عادى قضاء مبرما
وحكما صادقا مطابقا لما يقع عادلا بمناسبة كل قول وكل كمال وحال، لاستعداد من
239

يصدر عنه واقتضائه له * (لا مبدل) * لأحكامه الأزلية * (وهو السميع) * لما يظهرون من
الأقوال والأفعال المقدرة * (العليم) * بما يخفون * (أكثر من في الأرض) * أي: من في
الجهة السفلية بالركون إلى الدنيا وعالم النفس والطبيعة * (يضلوك عن سبيل الله) *
بتزيينهم زخارفهم عليك ودعوتهم إياك إلى ما هم فيه * (إن يتبعون إلا الظن) * لكونهم
محجوبين في مقام النفس بالأوهام والخيالات عن اليقين * (وإن هم إلا) * يخمنون
المعاني بالصور والآخرة بالدنيا، ويقدرون أحوال المعاد وذات الحق وصفاته كأحوال
المعاش وذواتهم وصفاتهم فيشركون ويحلون بعض المحرمات.
* (فكلوا) * إلى آخره، معلوم مما مر في (المائدة) ومسبب للنهي عن طاعة
المضلين واتباعهم * (ظاهر الإثم) * سيئات الأعمال والأقوال الظاهرة على الجوارح
* (وباطنه) * العقائد الفاسدة والعزائم الباطلة * (أو من كان ميتا) * بالجهل، وهو النفس
وباحتجاجه بصفاتها * (فأحييناه) * بالعلم ومحبة الحق أو بكشف حجب صفاته بتجليات
صفاتنا * (وجعلنا له نورا) * من هدايتنا وعلمنا أو نورا من صفاتنا أو نورا منا بقيوميتنا له
بذاتنا على حسب مراتبه، كمن صفته هذا، أي: هذا القول وهو أنه في ظلمات من
نفسه وصفاتها وأفعالها ليس بخارج منها * (كذلك زين) * للمحجوبين عملهم فاحتجبوا به.
[تفسير سورة الأنعام من آية 123 إلى آية 125
* (وكذلك جعلنا في كل قرية) * للحكمة المذكورة في إعلاء الأنبياء وكذا في قرية
وجود الإنسان التي هي البدن، جعلنا أكابر مجرميها من قوى النفس الأمارة ليمكروا
فيها بإضلال القلب وفتنته وإغوائه * (وما يمكرون إلا بأنفسهم) * لأن عاقبة مكرهم
راجعة إليهم باحتراقهم بنيران فقدان الآلات والأسباب في جحيم الهوى والحرمان عن
اللذات والشهوات وحصول الآلات الجسمانية عند خراب البدن وعند المعاد والبعث
في أقبح الصور على أسوأ الأحوال.
* (وإذا جاءتهم آية) * من صفة قلبية وإشراق نوري من هيئة ملكية خلقية، أو علم
وحكمة وفيض من روح ينكرونها بالإعراض عنها، ويتمنون من قبل الوهم والخيال
240

إدراكات مثل إدراكات العقل والفكر وتركيبات تخيلية ومغالطات وهمية يعارضون بها
البراهين الحقة حتى يؤمنوا بها ويذعنوا لها. * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * لا
يضعها إلا مواضعها من القوى الروحانية المجردة من المواد الهيولانية * (سيصيب الذين أجرموا) * باحتجابهم ومكرهم في إضلالهم من استعد للهدى أو اهتدى من القلوب
الصافية * (صغار عند الله) * بزوال قدرتهم وتمكنهم بخراب البدن * (وعذاب شديد) *
بحرمانهم عما يلائمهم ووصول ما ينافيهم في المعاد الجسماني بسبب مكرهم.
* (فمن يرد الله أن يهديه) * من هذه القوى للانقياد للعقل * (يشرح صدره) * أي:
يسهل عليه ويجعل وجهه الذي يلي القلب ذا نتوء وسعة لقبول نوره وممكنا من
استسلامه له * (ومن يرد أن يضله يجعل صدره) * يعسر عليه ويعجزه عن ذلك
* (حرجا) * ذا ظلمة وقصور استعداد عن قبول النور كأنما يزاول أمرا ممتنعا في
الاستنارة بنور القلب وطلب الفيض منه. على هذا التأويل الذي ذكرناه وعلى المعنى
الظاهر المراد من الآية السابقة. فمن يرد الله أن يهديه للتوحيد يشرح صدره بقبول نور
الحق وإسلام الوجود إلى الله بكشف حجب صفات نفسه عن وجه قلبه الذي يلي
النفس، فيفسح لقبول نور الحق. ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا
باستيلائها عليه وضغطها له * (كأنما يصعد) * في سماء روحه مع تلك الهيئات البدنية
وذلك أمر محال.
* (كذلك يجعل الله) * رجس التلوث بلوث التعلقات المادية أو رجس التعذب
بالهيآت البدنية * (على الذين لا يؤمنون) *.
[تفسير سورة الأنعام من آية 126 إلى آية 128]
* (وهذا) * أي: طريق التوحيد وإسلام الوجه إلى الله * (صراط ربك مستقيما) * لا
اعوجاج فيه بوجه من الوجوه يميل إلى جانب الصورة وإلى جانب المعنى أو إلى
النظر إلى الغير والشرك به * (قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) * المعارف والحقائق التي
هي مركوزة في استعدادهم فيهتدوا بها * (لهم دار السلام) * السلامة من كل نقص وآفة
وخوف ظهور صفة ووجود بقية * (عند ربهم) * في حضرة صفاته أو حضرة ذاته * (وهو وليهم) * يعطيهم محبته وكماله، ويدخلهم في ظل صفاته وذاته، ويجعلهم في أمانه
بالبقاء السرمدي بعد فناء حدثانهم بسبب أعمالهم القلبية والقالبية في سلوكهم.
241

* (ويوم يحشرهم) * في يوم عين الجمع المطلق * (جميعا) *. قلنا * (يا معشر) * جن
القوى النفسانية * (قد استكثرتم من الإنس) * أي: من الحواس والأعضاء الظاهرة أو من
الصور الإنسانية بأن جعلتموهم أتباعكم وأهل طاعتكم إياهم، وتسويلكم وتزيينكم
الحطام الدنيوية واللذات الجسمانية عليهم، ووسوستكم إياهم بالمعاصي * (وقال أولياؤهم من الإنس) * الذين تولوهم * (ربنا استمتع بعضنا ببعض) بانتفاع كل منا في
صورة الجمعية بالآخر * (و) * (قد) * (بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا) * بالموت أو بالمعاد
الجسماني على أقبح الصور وأسوأ العيش * (قال النار) * نار الحرمان عن اللذات
ووجدان الآلام * (مثواكم خالدين فيها إلا) * (وقت) * (ما شاء الله) * أن تخفف، أو ينجي
منكم من لا يكون سبب تعذبه شركا راسخا في اعتقاده * (إن ربك حكيم) * لا يعذبكم
إلا بهيآت نفوسكم التي كسبتم على ما تقتضيه الحكمة * (عليم) * بمن يتعذب باعتقاده
فيدوم عذابه أو بهيآت سيئات أعماله فيعذب على حسبها ثم ينجو منه.
[تفسير سورة الأنعام من آية 129 إلى آية 150
242

* (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا) * أي: مثل ذلك الجعل العظيم الهائل
نجعل بعضهم ولي بعض بتوافق مكاسبهم وتناسبها، فيتوالون ويحشرون معا في
العذاب كالجن والإنس الذين ذكرناهم أو نجعل بعضهم والى بعض بتعذيبه بمكسوباته
في النار * (رسل منكم) * من البشر الذين هم جنسكم وعلى التآويل المذكورة من
عقولكم التي هي قوى من جنسكم وهذه الأسئلة والأجوبة والشهادات كلها بلسان
الحال وإظهار الأوصاف، كما قيل:
* قال الجدار للوتد: لم تشقني؟
*
* قال الوتد: سل من يدقني
*
وكشهادة الأيدي والأرجل بصورها التي تناسب هيئات أفعالها وتعذبها بها
* (ذلك) * إشارة إلى إرسال الرسل وتبيين الآيات وإلزام الحجة بالإنذار والتهديد، أي:
الأمر ذلك لأن ربك لم يكن مهلك القرى على غفلتهم ظالما لأنه ينافي الحكمة.
243

* (ولكل درجات) * في القرب والبعد من أعمالهم التي عملوها * (إن يشأ يذهبكم) * بفناء عينكم * (ويستخلف من بعدكم) * من أهل طاعته برحمته * (ذلك) * أي:
تحريم الطيبات عليهم جزاء * (جازيناهم) * بظلمهم * (وإنا لصادقون) * في إيعادهم بجزاء
الظلم * (فإن كذبوك) * بأن الله واسع المغفرة فلا يعذبنا بظلمنا * (فقل) * بلى * (ربكم ذو رحمة واسعة) * ولكنه ذو قهر شديد فلا ترد رحمته بأسه * (عن القوم المجرمين) * بل
ربما أودع قهره في صورة لطفه ولطفه في صورة قهره * (كذلك كذب الذين من قبلهم) * أي: كذب المنكرون الرسل من قبلهم بتعليق كفرهم بمشيئة الله عنادا وعتوا
فعذبوا بكفرهم.
* (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) * أي: إن كان لكم علم بذلك وحجة
فبينوا، وإنما قال ذلك إشارة إلى قولهم: * (لو شاء الله ما أشركنا) * لأنهم لو قالوا
ذلك عن علم لعلموا أن إيمان الموحدين وكل شيء لا يقع إلا بإرادة الله فلم يعادوهم
ولم ينكروهم، بل والوهم، ولم يبق بينهم وبين المؤمنين خلاف. ولعمري إنهم لو
قالوا ذلك عن علم لما كانوا مشركين، بل كانوا موحدين ولكنهم اتبعوا الظن في ذلك
وبنوا على التقدير والتخمين لغرض التكذيب والعناد، وعلى ما سمعوا من الرسل
إلزاما لهم وإثباتا لعدم امتناعهم عن الرسل لأنهم محجوبون في مقام النفس، وأنى لهم
اليقين؟ ومن أين لهم الاطلاع على مشيئة الله؟.
* (قل فلله الحجة البالغة) * أي: إن كان ظنكم صدقا في تعليق شرككم بمشيئة
الله فليس لكم حجة على المؤمنين وعلى غيركم من أهل دين، لكون كل دين حينئذ
بمشيئة الله، فيجب أن توافقوهم وتصدقوهم بل لله الحجة عليكم في وجوب تصديقهم
وإقراركم بأنكم أشركتم بمن لا يقع أمر إلا بإرادته ما لا أثر لإرادته أصلا فأنتم أشقياء
في الأزل، مستحقون للبعد والعقاب * (فلو شاء لهداكم أجمعين) * أي: بلى صدقتم،
ولكن كما شاء كفركم لو شاء لهداكم كلكم، فبأي شيء علمتم أنه لم يشأ هدايتكم
حتى أصررتم؟ وهذا تهييج لمن عسى أن يكون له استعداد منهم فيقمع ويهتدي فيرجع
عن الشرك ويؤمن.
[تفسير سورة الأنعام آية 151 [
* (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * لما أثبت أن المشركين في التحريم
والتحليل يتبعون أهواءهم، إذ الشرك في نفسه ليس إلا عبادة الهوى والشيطان. فلما
244

احتجبوا بصفات النفس عن صفات الحق، وأمروا عليهم الهوى وعبدوه وأطاعوا
أوامره ونواهيه في التحريم والتحليل، بين أن التحريم والتحليل المتبع فيهما أمر الله
تعالى ما هما، ولما كان الكلام معهم في تحريم الطيبات عدد المحرمات ليستدل بها
على المحللات فحصر جميع أنواع الفضائل بالنهي عن أجناس الرذائل وابتدأ بالنهي
عن رذيلة القوة النطقية التي هي أشرفها. فإن رذيلتها أكبر الكبائر، مستلزمة لجميع
الرذائل، بخلاف رذيلة أخويها من القوتين البهيمية والسبعية فقال: * (ألا تشركوا به شيئا) * إذ الشرك من خطئها في النظر وقصورها عن استعمال العقل ودرك البرهان
وعقبه بإحسان الوالدين، إذ معرفة حقوقهما تتلو معرفة الله في الإيجاد والربوبية لأنهما
سببان قريبان في الوجود والتربية وواسطتان جعلهما الله تعالى مظهرين لصفتي إيجاده
وربوبيته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ' من أطاع الوالدين فقد أطاع الله ورسوله '. فعقوقهما يلي
الشرك ولا يقع الجهل بحقوقهما إلا عن الجهل بحقوق الله تعالى ومعرفة صفاته، ثم
بالنهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، فإن ارتكاب ذلك لا يكون إلا عن الجهل والعمى
عن تسبيبه تعالى الرزق لكل مخلوق وأن أرزاق العباد بيده يبسط الرزق لمن يشاء
ويقدر. والاحتجاب عن سر القدر، فلا يعلم أن الأرزاق مقدرة بإزاء الأعمار كتقدير
الآجال، فأولاها لا تقع إلا من خطئها في معرفة ذات الله تعالى، والثانية من خطئها
في معرفة صفاته، والثالثة من معرفة أفعاله فلا يرتكب هذه الرذائل الثلاث إلا
منكوس، محجوب عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وهذه الحجب أم الرذائل
وأساسها. ثم بين رذيلة القوة البهيمية لأن رذيلتها أظهر وأقدم، فقال: * (ولا تقربوا الفواحش) * من الأعمال القبيحة الشنيعة عند العقل * (ما ظهر منها) * كالزنا في
الحانات، وشرب الخمر وأكل الربا * (وما بطن) * كقصد هذه الفواحش المذكورة ونيتها
والهم بها وإخفائها كالسرقة وارتكاب المحظورات في الخفية.
ثم أشار إلى رذيلة القوة السبعية بقوله: * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * أي: بالقصاص والكفر، وختم الكلام بقوله: * (ذلكم) * أي: الاجتناب عن
أجناس رذائل النفوس الثلاث * (وصاكم به لعلكم تعقلون) * أي: لا تجتنبها إلا العقلاء
ومن ارتكبها فلا عقل له.
[تفسير سورة الأنعام من آية 152 إلى آية 153]
245

ثم أراد أن يبين أن الرذائل الثلاث مستلزمة باجتماعها رذيلة الجور التي هي
أعظمها وجماعها كما أن فضائلها تستلزم العدالة التي هي كمالها والشاملة لها فقال:
* (ولا تقربوا مال اليتيم) * بوجه من الوجوه * (إلا بالتي هي أحسن) * إلا بالخصلة التي
هي أحسن من حفظه وتثميره * (حتى يبلغ أشده) * فينتفع به، لا بالأكل والإنفاق في
مآربكم والإتلاف فإنه أفحش. ولما بين تحريم أجناس الرذائل الأربع بأسرها على
التفصيل أمر بإيجاب الفضائل الأربع بالإجمال، إذ تفصيل الرذائل يغني عن تفصيل
مقابلاتها وذلك أنها مندرجة بأسرها في العدالة فأمر بها في جميع الوجوه فعلا وقولا
وقال: * (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) * أي: حافظوا على العدل فيما بينكم وبين
الخلق مطلقا * (وإذا قلتم فاعدلوا) * أي: لا تقولوا إلا الحق * (ولو كان) * المقول فيه
* (ذا قربى) * فلا تميلوا في القول له أو عليه إلى زيادة أو نقصان * (وبعهد الله أوفوا) *
أي: بالتوحيد والطاعة وكل ما بينكم وبين الله من لوازم العهد السابق بالعقد اللاحق.
ولما كان سلوك طريقة الفضيلة التي هي طريقة الوحدة والتوجه إلى الحق صعبا، كما
قيل: أدق من الشعرة وأحد من السيف، وخصوصا في الأفعال إذ مراعاة الوسط فيها
بلا ميل ما إلى طرف الإفراط والتفريط في غاية الصعوبة. قال بعد قوله: * (وأوفوا
الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلى وسعها) * فبين أنه جمع في هذا المقام بين
النهي عن جميع الرذائل والأمر بجميع الفضائل كلها بحيث لا يخرج منها جزئي ما من
جزئياتها، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه: إن هذه آيات محكمات لم ينسخهن
شيء من جميع الكتب. واتفق على قوله أهل الكتابين وجميع الملل والنحل. وقال
كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إنها لأول شيء في التوراة. * (ذلكم) * أي: ما
ذكر من وجوب الانتهاء عن جميع الرذائل والاتصاف بجميع الفضائل * (وصاكم به) *
في جميع الكتب على ألسنة جميع الرسل * (لعلكم تذكرون) * عند سماعها ما وهب الله
لكم من الكمال وأودع استعدادكم في الأزل.
* (وأن هذا) * أي: طريق الفضائل لأن منبع الفضيلة هي الوحدة. ألا ترى أنها
أواسط واعتدالات بين طرفي إفراط وتفريط لا يمكن سلوكها على التعيين بالحقيقة إلا
لمن استقام في دين الله إليه وأيده الله بالتوفيق لسلوك طريق الحق حتى وصل إلى
الفناء عن صفاته ثم عن ذاته. ثم اتصف في حال البقاء بعد الفناء بصفاته تعالى حتى
قام بالله فاستقام فيه وبه فحينئذ يكون صراطه صراط الحق وسيره سير الله * (صراطي مستقيما) * أي: طريقي لا يسلكها إلا من قام بي مستويا غير مائل إلى اليمين والشمال
لغرض * (فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) * من المذاهب المتفرقة والأديان المختلفة فإنها
246

أوضاع وضعها أهل الاحتجاب بالعادات والأهواء، أي: وضع لهم لئلا يزدادوا ظلمة
وعتوا وحيرة. وروى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه خط خطا فقال: ' هذا سبيل
الرشاد '، ثم خط عن يمينه وشماله خطوطا فقال: ' هذه سبل على كل سبيل منها
شيطان يدعو إليه ' ثم تلا هذه الآية: * (فتفرق بكم عن سبيله ذلكم) * أي: سلوك طريق
الوحدة والفضيلة * (وصاكم به لعلكم تتقون) * السبل المتفرقة بالاجتناب عن مقتضيات
الأهواء ودواعي النفوس وتجعلون الله وقاية لكم في ملازمة الفضائل ومجانبة الرذائل.
[تفسير سورة الأنعام من آية 154 إلى آية 157]
* (ثم آتينا موسى الكتاب) * أي: بعدما وصاكم بسلوك طريق الفضيلة في قديم
الدهر * (آتينا موسى الكتاب) * [البقرة، الآية: 53] * (تماما على الذي أحسن) * أي: تتميما
لكرامة الولاية ونعمة النبوة مزيدا على الذي أحسنه موسى من سلوك طريق الكمال
وبلوغه إلى ما بلغ من مقام المكالمة والقرب بالوجود الموهوب بعد الفناء في الوحدة، كما
قال تعالى: * (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) * [الأعراف، الآية: 143]
بالتكميل ودعوة الخلق إلى الحق * (وتفصيلا لكل شيء) * يحتاج إليه الخلق في المعاد
* (وهدى) * لهم إلى ربهم في سلوك سبيله * (ورحمة) * عليهم بإفاضة كمالاته عليهم
بواسطة موسى وكتابه * (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) * الإيمان العلمي أو العياني.
* (وهذا كتاب أنزلناه مبارك) * بزيادة الهداية إلى محض التوحيد والإرشاد إلى
سواء السبيل يهدي بأقرب الطرق إلى أرفع الدرجات من الكمال * (فاتبعوه واتقوا) * كل
ما سوى الله حتى ذواتكم وصفاتكم * (لعلكم ترحمون) * رحمة الاستقامة بالله وفي الله
بالوجود الموهوب. * (أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم) * لقوة
استعداداتنا وصفاء أذهاننا إن صدقتم * (فقد جاءتكم بينة من ربكم) * بيان لكيفية سلوككم
* (وهدى) * إلى مقصدكم * (ورحمة) * بتسهيل طريقكم وتيسيرها إلى أشرف الكمالات.
[تفسير سورة الأنعام آية 158]
247

* (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة) * لتوفي روحهم * (أو يأتي ربك) * بتجليه في
جميع الصفات كما مرت الإشارة إليه من تحول الصورة في القيامة، فلا يعرفه إلا
الموحدون الكاملون. وأما أهل المذاهب والملل المختلفة فلا يعرفونه إلا في صورة
معتقدهم * (أو يأتي بعض آيات ربك) * تجليه في بعض الصفات التي لم يعرفوه بها
* (يوم يأتي بعض آيات ربك) * بعض تجلياته التي لم يأنسوا بها أو لم يعرفوها * (لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) * فإن الناس إما محجوبون مطلقا أو ليسوا
كذلك، وهم إما مؤمنون لعرفانهم ببعض الصفات أو بكلها، والمؤمنون به العارفون
إياه بكلها إما محبون للذات وإما محبون للصفات، فإذا تجلى الحق ببعض الصفات لا
ينفع إيمان المحجوبين مطلقا، وإيمان المؤمنين الذين لم يعرفوه بهذه الصفة من قبل
هذا التجلي، إذ الإيمان إنما ينفع إذا صار عقيدة ثابتة راسخة يتمثل بها القلب وتتنور
بها النفس وتشاهد بها الروح، لا الذي يقع عند الاضطرار دفعة * (أو كسبت في إيمانها خيرا) * كإيمان العارفين، المحبين للصفات، فإنهم وإن آمنوا به وعرفوا بتجليه بكل
الصفات. فلما لم يكتسبوا المحبة الذاتية، والكمال المطلق، وأحبوه ببعض الصفات،
كالمنعم مثلا أو اللطيف أو الرحيم فإذا تجلى بصفة المنتقم أو القهار أو المبلي لم
ينفعهم الإيمان به، إذ لم يطيعوه من قبل بهذا الوصف ولم يتمرنوا بتجليه ولم يحبوا
الذات فيلتذوا بشهوده في أي صفة كانت.
[تفسير سورة الأنعام من آية 159 إلى آية 160]
* (إن الذين فرقوا دينهم) * أي: جعلوا دينهم أهواء متفرقة، كالذين غلبت عليهم
صفات النفس بجذبهم هذه إلى شيء وهذه إلى شيء فحدثت فيهم أهواء مختلفة،
فبقوا حيارى لا جهة لهم ولا مقصد * (وكانوا شيعا) * فرقا مختلفة بحسب غلبة تلك
الأهواء يغلب على بعضهم الغضب وعلى بعضهم الشهوة وإن دانوا بدين جعلوا دينهم
بحسب غلبة هواهم مادة التعصب ومدد استيلاء تلك القوة الغالبة على القلب ولم
يتعبدوا إلا بعادات وبدع، ولم ينقادوا إلا لأهواء وخدع، يعبد كل منهم إلها مجعولا
في وهمه، مخيلا في خياله ويجعله سبب الاستطالة والتفرق على الآخر كما نشاهد
من أهل المذاهب الظاهرة * (لست منهم في شيء) * أي: لست من هدايتهم ودعوتهم
إلى التوحيد في شيء إذ هم أهل التفرقة والاحتجاب بالكثرة لا يجتمع همهم ولا
يتحد قصدهم. * (إنما أمرهم إلى الله) * في جزاء تفرقهم لا إليك * (ثم ينبئهم) * عند
248

ظهور هيئات نفوسهم المختلفة والأهواء المتفرقة عليهم بمفارقة الأبدان * (بما كانوا يفعلون) * من السيئات.
* (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * هذا أقل درجات الثواب وذلك أن الحسنة
تصدر بظهور القلب، والسيئة بظهور النفس، فأقل درجات ثوابها أنه يصل إلى مقام
القلب الذي يتلو مقام النفس في الارتقاء تلو مرتبة العشرات للآحاد في الأعداد.
* (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * لأنه لا مقام أدون من مقام النفس، فينحط
إليه بالضرورة فيرى جزاءه في مقام النفس بالمثل. ومن هذا يعلم أن الثواب من باب
الفضل فإنه يزيد به صاحبه ويتنور استعداده ويزداد قبوله لفيض الحق فيتقوى على
إضعاف ما فعل ويكتسب به أجورا متضاعفة إلى غير نهاية بازدياد القبول عند فعل كل
حسنة، وزيادة القدرة والشغف على الحسنة عند زيادة الفيض إلى ما لا يعلمه إلا الله،
كما قال بعد ذكر أضعافها إلى سبعمائة: * (والله يضاعف لمن يشاء) * [البقرة، الآية: 261]
وأن العقاب من باب العدل، إذ العدل يقتضي المساواة ومن فعل بالنفس إذا لم يعف
عنه يجازى بالنفس سواء وتذكر ما قيل في قوله تعالى: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * [البقرة، الآية: 286] فإن الفضيلة للإنسان ذاتية موجبة لترقيه البتة، والرذيلة
عارضة ظلمتها للفطرة، فمهما لم تكن بقصد ونية من صاحبها أو كانت ولم يصر
عليها، عفي عنها ولم تحجب صاحبها. وإن كانت وأصر عليها جوزي في مقام النفس
بالمثل. والحسنة والسيئة المذكورتان هاهنا من قبيل الأعمال وإلا فرب سيئة من
شخص تعادل حسنة من غيره، كما قال عليه السلام: ' حسنات الأبرار سيئات
المقربين '، بوجود القلب عند الشهود، وسيئات الأبرار بظهور النفس عند السلوك،
وحسناتهم بظهور القلب، ورب سيئة توجب حجاب الأبد كاعتقاد الشرك مثلا.
[تفسير سورة الأنعام من آية 161 إلى آية 165]
* (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم) * إلى طريق التوحيد الذاتي * (دينا قيما) * ثابتا أبدا لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب * (ملة إبراهيم) * التي
249

أعرض بها عن كل ما سواه بالترقي عن جميع المراتب مائلا عن كل دين وطريق باطل
فيه شرك ما، ولو بصفة من صفات الله تعالى.
* (قل إن صلاتي) * أي: حضوري بالقلب وشهودي بالروح * (ونسكي) * أي:
تقربي أو كل ما أتقرب به بالقلب * (ومحياي) * بالحق * (ومماتي) * بالنفس كلها * (لله) *
لا نصيب لي ولا لأحد غيري فيها لأني قمت به له بالفناء فلا وجود لي ولا لغيري
حتى يكون لي لاحظ
ونصيب * (رب العالمين) * أي: له باعتبار الجمع في صورة تفاصيل
الربوبية * (لا شريك له) * في ذلك جمعا وتفصيلا * (وبذلك أمرت) * أي: أمرت أن لا
أرى غيره في عين الجمع ولا في صورة التفاصيل حتى أعمل له كما وصفني تعالى
بقوله: * (ما زاغ البصر وما طغى 17) * [النجم، الآية: 17] فهو الآمر والمأمور، والرائي
والمرئي * (وأنا أول المسلمين) * المنقادين للفناء فيه بإسلام وجهي له باعتبار الرتبة في
تفاصيل الذات وإلا فلا أول ولا آخر ولا مسلم ولا كافر.
* (قل أغير الله) * الذي هذا شأنه * (أبغي ربا) * فأطلب مستحيلا أو غير الذات
الشامل لجميع الصفات الذي هو الكل من حيث هو كل أبغي متعينا فيكون مربوبا لا
ربا * (وهو رب كل شيء) * وما سواه باعتبار تفاصيل صفاته مربوب * (ولا تكسب كل نفس) * شيئا * (الآ) * هو وبال * (عليها) * إذ كسب النفس شرك في أفعاله تعالى، وكل
من أشرك فوباله عليه باحتجابه * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * لرسوخ هيئة وزرها فيها
ولزومه إياها تحتجب هي به، فكيف يتعدى إلى غيرها.
* (وهو الذي جعلكم خلائف) * في أرضه بإظهار كمالاته في مظاهركم ليمكنكم
إنفاذ أمره * (ورفع بعضكم فوق بعض درجات) * في مظهرية كمالاته على تفاوت
درجات الاستعدادات، * (ليبلوكم فيما آتاكم) * من كمالاته بحسب الاستعدادات من
يقوم بحقوق ما ظهر منها عليه ومن لا يقوم، ومن يقوم بحقي في سلوك طريقها حتى
يظهرها الله بإخفاء صفات نفسه فيكون مؤديا لأمانات الله ومن لا يقوم فيكون خائنا
وتظهر عليكم أعمالكم بحسبها فيترتب عليها الجزاء معا، إما بمثوبة الاحتجاب حالة
التقصير فيكون ربك سريع العقاب، وإما بمثوبة البروز والانكشاف فيكون غفورا يستر
أفعالكم وصفات نفوسكم الساترة الحاجبة لتلك الصفات الإلهية والكمالات الربانية،
رحيما يرحمكم بإظهارها عليكم، والله أعلم بحقائق الأمور.
250

((سورة الأعراف))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الأعراف من آية 1 إلى آية 7]
* (المص كتاب أنزل إليك) * إلى قوله * (ذكرى للمؤمنين) * (ا) إشارة إلى
الذات الأحدية، و (ل) إلى الذات مع صفة العلم كما مر، و (م) إلى التميمة الجامعة
التي هي معنى محمد، أي: نفسه وحقيقته، و (ص) إلى الصورة المحمدية التي هي
جسده وظاهره.
وعن ابن عباس، أنه قال صلى الله عليه وسلم: ' جبل بمكة كان عليه عرش الرحمن حين لا ليل
ولا نهار '، أشار بالجبل إلى جسد محمد، وبعرش الرحمن إلى قلبه. كما ورد في
الحديث: ' قلب المؤمن عرش الله '. وجاء: ' لا يسعني أرضي ولا سمائي، ويسعني
قلب عبدي المؤمن '. وقوله: ' حين لا ليل ولا نهار ' إشارة منه إلى الوحدة، لأن
القلب إذا وقع في ظل أرض النفس واحتجب بظلمة صفاتها كان في الليل، وإذا طلع
عليه نور شمس الروح واستضاء بضوئه كان في النهار، وإذا وصل إلى الوحدة
الحقيقية بالمعرفة والشهود الذاتي واستوى عنده النور والظلمة كان وقته لا ليلا ولا
نهارا، ولا يكون عرش الرحمن إلا في هذا الوقت.
فمعنى الآية: إن وجود الكل من أوله إلى آخره * (كتاب أنزل إليك) * أي: أنزل
إليك علمه * (فلا يكن في صدرك حرج منه) * أي: ضيق من حمله، فلا يسعه لعظمته
فيتلاشى بالفناء في الوحدة والاستغراق في عين الجمع والذهول عن التفصيل، إذ كان
عليه صلى الله عليه وسلم في مقام الفناء محجوبا بالحق عن الخلق كلما رد عليه الوجود، وحجب
عنه الشهود الذاتي وظهر عليه بالتفصيل، ضاق عنه وعاؤه وارتكب عليه وزر وثقل،
ولهذا خوطب بقوله تعالى: * (ألم نشرح لك صدرك (1) ووضعنا عنك وزرك (2)) * [الشرح،
251

الآيات: 1 - 2] بالوجود الموهوب الحقاني، والاستقامة في البقاء بعد الفناء بالتمكين
ليسع صدرك الجمع والتفصيل والحق والخلق، فلم يبق عليك وزر في عين الجمع
ولا حجاب بأحدهما عن الآخر * (لتنذر به) * وتذكر تذكيرا * (للمؤمنين) * بالإيمان
الغيبي، أي: لا يضق صدرك منه ليمكنك الإنذار والتذكير، إذ لو ضاق لبقي في حال
الفناء، لا يرى إلا الحق في الوجود وينظر إلى الحق بنظر العدم المحض فكيف ينذر
ويذكر ويأمر وينهى. على تقدير القسم. فمعناه بالكل من أوله إلى آخره، أو باسم الله
الأعظم إذ (ص) حامل العرش والعرش يسع الذات والصفات والمجموع هو الاسم
الأعظم، لهو كتاب أنزل إليك علمه، أو: لهذا القرآن كتاب أنزل إليك.
[تفسير سورة الأعراف من آية 8 إلى آية 9]
* (والوزن يومئذ الحق) * الوزن هو الاعتبار، أي: اعتبار الأعمال حين قامت
القيامة الصغرى. هو الحق، أي: العدل أو الثابت أو الوزن العدل يومئذ. * (فمن ثقلت موازينه) * أي: رجحت موزوناته بأن كانت باقيات صالحات * (فأولئك هم المفلحون) * الفائزون بصفات الفطرة، ونعيم جنة الصفات في مقام القلب * (ومن خفت موازينه) * موزوناته بأن كانت من المحسوسات الفانية * (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) *
ببيعها باللذات العاجلة السريعة الزوال وإفنائها في دار الفناء مع كونها بضاعة البقاء.
واعلم أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس، والكفة
الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة
والأعمال الخيرية المقرونة بالنيات الصادقة، ثقلت أي: كانت ذات قدر ووزن، إذ لا
قدر أرجح من البقاء الدائم. ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات
الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة والشرور المردية، خفت أي: لا قدر لها
ولا اعتداد بها، ولا خفة أخف من الفناء، فخسرانهم هو أنهم أضاعوا استعدادهم
الأصلي في طلب الحطام الدنيوي وتحصيل المآرب النفسانية بسبب ظهورهم بصفات
أنفسهم وظلمهم بصفات الله تعالى بالتكذيب بها، أي: بإخفائها بصفات أنفسهم.
[تفسير سورة الأعراف من آية 10 إلى آية 18
252

* (خلقتني من نار وخلقته من طين) * خلقت القوة الوهمية من ألطف أجزاء الروح
الحيوانية التي تحدث في القلب من بخارية الأخلاط ولطافتها وترتقي إلى الدماغ،
وتلك الروح هي آخر ما في البدن فلذلك سماها نارا. والحرارة توجب الصعود
والترفع، وقد مر أن كل قوة ملكوتية تطلع على خواص ما تحتها دون ما فوقها وعلى
الكمالات البدنية وخواصها وكمالات الروح الحيوانية وخواصها، واحتجابها عن
الكمالات الإنسانية الروحانية والقلبية هو صورة إنكارها وعلة إبائها واستكبارها،
وتعديها عن طورها بالحكم في المعاني المعقولة والمجردات والامتناع عن قبول حكم
العقل هو صورة إبائها عن السجود.
* (فما يكون لك أن تتكبر فيها) * إذ التكبر، وهو التظاهر بما ليس فيه من الفضيلة
من صفات النفس، فلا يليق بالحضرة الروحانية التي تزعم أنك من أهلها بالترفع على
العقل، * (فأخرج) *، فلست من أهلها الذين هم الأعزة * (إنك من الصاغرين) * من
القوى النفسانية الملازمة للجهة السفلية الدائمة الهوان بملازمة الأبدان * (إلى يوم يبعثون) * من قبور الأبدان وأجداث صفات النفس بعد الموت الإرادي في القيامة
الوسطى بحياة القلب وخلاص الفطرة من حجب النشأة، أو يبعثون بعد الفناء في
الوحدة في القيامة الكبرى بالوجود الموهوب الحقاني والحياة الحقيقية، والمبعوث
الأول هو المخلص بكسر اللام، والثاني هو المخلص بالفتح ولا سبيل لإبليس إلى
إغوائهما * (فبما أغويتني) * إقسام وإبليس محجوب عن الذات الأحدية دون الصفات
والأفعال، فشهوده للأفعال وتعظيمه لها إقسام بها كما أقسم بعزته في قوله: * (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) * [ص، الآية: 82].
* (لأقعدن لهم صراطك) * أي: أعترضن لهم في طريق التوحيد الذاتي وأمنعنهم
عن سلوكها بأن أشغلهم بما سواك، ولآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو
في الشاهد لأن إتيانه من أسفل، أي: من جهة الأحكام الحسية والتدابير الجزئية من
باب المصالح الدنيوية غير موجب للضلالة، بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية
والرياضية وبه يستعين العقل فيها كما مر في تأويل قوله: * (لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم) * [المائدة، الآية: 66]. وإتيانه من فوق غير ممكن له إذ الجهة العلوية هي
التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والإلقاءات الملكية وتفيض المعارف
253

والحقائق الروحية فبقيت الجهات الأربع مواقع وساوسه. أما من بين يديه فبأن يؤمنه
من مكر الله ويغره بأن الله غفور رحيم فلا يخاف فيثبطه عن الطاعات. وأما من خلفه
فبأن يخوفه من الفقر وضيعة الأولاد من خلفه فيحرضه على الجمع والادخار لهم
ولنفسه في المستقبل عند تأميله طول العمر. وأما من جهة اليمين، فبأن يزين عليه
فضائله ويعجبه بفضله وعلمه وطاعته ويحجبه عن الله برؤية تفضيله. وأما عن شماله
فبأن يحمله على المعاصي والمقابح ويدعوه إلى الشهوات واللذات. * (ولا تجد أكثرهم شاكرين) * مستعملين لقواهم وجوارحهم وما أنعم الله به عليهم في طريق
الطاعة والتقرب إلى الله.
* (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم) * الطبيعة التي هي أسفل مراتب الوجود * (منكم أجمعين) * محجوبين عن لذة النعيم الأبدي وذوق البقاء السرمدي والكمالات الروحانية
والكمالات الحقانية معذبين بنيران الحرمان عن المراد في انقلابات عالم التضاد
وتقلبات الكون والفساد.
[تفسير سورة الأعراف من آية 19 إلى آية 23]
* (ليبدي لهما ما وري عنهما من سوآتهما) * أي: ليظهر عليهما بالميل إلى الطبيعة
ما حجب عنهما عند التجرد من الأمور الطبيعية واللذات البدنية والرذائل الخلقية
والأفعال الحيوانية والصفات السبعية والبهيمية التي يستحيي الإنسان من إظهارها
ويستهجن إفشاءها وتحمله المروءة على إخفائها لكونها عورات عند العقل يأنف منها
ويستقبحها * (وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * أي:
أوهمهما أن في الاتصال بالطبيعة الجسمانية والمادة الهيولانية لذات ملكية وإدراكات
وأفعالا وخلودا فيها أو ملكا ورياسة على القوى وسائر الحيوانات دائما بغير زوال إن
قرئ ملكين بكسر اللام كما قال: * (أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) * [طه، الآية:
120]. وزين لها من المصالح الجزئية والزخارف الحسية التي لا تنال إلا بالآلات
البدنية في صورة الناصح الأمين.
254

* (فدلاهما) * أي: فنزلهما إلى التعلق بها والسكون إليها بما غرهما من التزيي
بزي الناصحين وإفادة توهم دوام اللذات البدنية والرياسة الإنسية وسول لهما من
المنافع البدنية والشهوات النفسية * (وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة) * أي:
يكتمان الغواشي الطبيعية بالآداب الحسنة والعادات الجميلة التي هي من تفاريع الآراء
العقلية ومستنبطات القوة العاقلة العملية ويخفيانها بالحيل العلمية * (وناداهما ربهما ألم أنهكما) * صورة النهي هو ما ركز في العقول من الميل إلى التجرد وإدراك المعقولات
والتجافي عن المواد والمحسوسات وقوله لهما: * (إن الشيطان لكما عدو مبين) * ما
ألهم العقل من منافاة أحكام الوهم ومضادة مدركاته والوقوف على مخالفاته ومكابراته
إياه ونداؤه إياهما بذلك هو التنبيه على ذلك المعنى على سبيل الخاطر والتذكير له بعد
التعلق والانغمار في اللذات الطبيعية عند البلوغ وظهور أنوار العقل والفهم عليهما.
وقولهما: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * هو لتنبه النفس الناطقة على نقصانها من جهة
الطبيعة وانطفاء نورها وانكسار قوتها وحصول الداعي فيها على طلب الكمال بالتجرد
* (وإن لم تغفر لنا) * بإلباسنا الأنوار الروحانية وإفاضتها مشرقة علينا * (وترحمنا) * بإفاضة
المعارف الحقيقية * (لنكونن من) * الذين أتلفوا الاستعداد الأصلي الذي هو مادة السعادة
والبقاء بصرفها في دار الفناء، وحرموا عن الكمال التجردي بملازمة النقص الطبيعي.
[تفسير سورة الأعراف من آية 24 إلى آية 28]
* (لباسا يواري سوآتكم) * أي: شريعة تستر قبائح أوصافكم وفواحش أفعالكم
* (وريشا) * أي: جمالا يبعدكم عن شبه الأنعام المهملة ويزينكم بالأخلاق الحسنة
والأعمال الجميلة * (ولباس التقوى) * أي: صفة الورع والحذر من صفة النفس * (ذلك خير) * من جملة أركان الشرائع لأنه أصل الدين وأساسه كالحمية في العلاج * (ذلك من آيات الله) * أي: من أنوار صفاته، إذ الاجتناب عن صفات النفس لا يحصل ولا يتيسر
إلا بظهور تجليات صفات الحق. وإلى هذا أشار القوم بقولهم: إن الله لا يتصرف في
شيء من العبد إلا ويعوضه أحسن منه من جنسه * (لعلكم تذكرون) * عند ظهور تجليات
255

لباسكم النوري الأصلي أو جوار الحق الذي كنتم تسكنون فيه بهداية أنوار الصفات
* (لا يفتنكم الشيطان) * عن دخول الجنة وملازمتها بنزع لباس الشريعة والتقوى عنكم
* (كما أخرج أبويكم) * منها بنزع اللباس الفطري النوري.
[تفسير سورة الأعراف من آية 29 إلى آية 30]
* (قل أمر ربي بالقسط) * أي: العدالة والاستقامة * (وأقيموا وجوهكم) * ذواتكم
الموجودة بمنعها عن الميل والزيغ إلى طرفي الإفراط والتفريط في العدالة، وعن
التلوينات في الاستقامة * (عند كل مسجد) * أي: كل مقام سجود أو وقت سجود،
والسجود أربعة أقسام: سجود الانقياد والطاعة وإقامة الوجه فيه بالإخلاص،
والاجتناب عن الرياء والنفاق في العمل لله، والالتفات إلى الغير فيه، ومراعاة موافقة
الأمر مع صدق النية والامتناع عن المخالفة في جميع الأمور وهي العدالة وسجود
الفناء في الأفعال وإقامة الوجه فيه بالقيام بحقه بحيث لا يرى هو مؤثرا غير الله ولا
يرى مؤثرا من نفسه ولا من غيره، وسجود الفناء في الصفات، وإقامة الوجه عنده
بالمحافظة على شرائطه بحيث لا يرى زينة ذاته بها ولا يريد ولا يكره شيئا من غير أن
يميل إلى الإفراط بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا إلى التفريط بالتسخط
على المخالف وسجود الفناء في الذات، وإقامة الوجه عنده بالغيبة عن البقية،
والانطماس بالكلية والامتناع عن إثبات الأنية والإثنينية فلا يطغى بحجاب الأنائية ولا
يتزندق بالإباحة وترك الطاعة. * (وادعوه مخلصين له الدين) * في المقام الأول
بتخصيص العمل لله به، وفي الثاني والثالث برؤية الدين والطاعة من الله، وفي الرابع
برؤيته بالله، فيكون الله هو المتدين بدينه ليس لغيره فيه نصيب * (كما بدأكم) *
بإظهاركم واختفائه * (تعودون) * بفنائكم فيه واختفائكم ليظهر.
* (فريقا هدى) * إليهم بهذا الطريق * (وفريقا حق عليهم) * كلمة * (الضلالة) * بسبب
اتخاذهم شياطين القوى النفسانية الوهمية والتخيلية * (أولياء من دون الله) * لمناسبة
ذواتهم في الظلمة والكدورة والبعد عن معدن النور إياهم، والجنسية التي بينهم في
الركون إلى الجهة السفلية، والميل إلى الزخارف الطبيعية * (ويحسبون أنهم مهتدون) *
لأن سلطان الوهم بالحسبان.
تفسير سورة الأعراف من آية 31 إلى آية 34
256

* (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * أي: لازموها وتمسكوا بها، فزينة المقام الأول
من السجود هي الإخلاص في العمل لله، وزينة المقام الثاني هي التوكل ومراعاة
شرائطه، وزينة المقام الثالث هي القيام بحق الرضا، وزينة المقام الرابع هي التمكين
في التحقق بالحقيقة الحقية ومراعاة حقوق الاستقامة وشرائطها * (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) * بالمحافظة على قانون العدالة فيها * (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده) *
أي: من منعهم من جنس هذه الزينة المذكورة المطلقة وقال إنه لا يمكنهم التزين بها
واستحال ذلك منهم تمسكا بأن الله مانعهم. * (والطيبات) * من رزق علوم الإخلاص
وعلوم مقام التوكل والرضا والتمكين * (خالصة يوم القيامة) * عن شوب التلوينات
وظهور شيء من بقايا الأفعال والصفات والذات.
* (قل إنما حرم ربي الفواحش) * أي: رذائل القوة البهيمية * (والإثم والبغي) * أي:
رذائل القوة السبعية * (وأن تشركوا) * إلى آخره، أي: رذائل القوة النطقية الملكية لأنها
صفات نفسانية مانعة عن الزينة المذكورة التي هي الكمالات الإنسانية مضادة لها.
[تفسير سورة الأعراف من آية 35 إلى آية 46
257

* (فمن اتقى وأصلح) * أي: اتقى البقية في الفناء وأصلح بالاستقامة عند البقاء
* (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * لكونهم في مقام الولاية.
* (والذين كذبوا بآياتنا) * أي: أخفوا صفاتنا بصفات أنفسهم * (واستكبروا عنها) *
بالشيطنة * (أولئك أصحاب) * نار الحرمان * (وبينهما حجاب) * أي: وبين أصحاب الجنة
وبني أصحاب النار حجاب به كل منهم محجوب عن صاحبه. والمراد بأصحاب الجنة
ههنا: أهل ثواب الأعمال من الأبرار والزهاد والعباد الذين جنتهم جنة النفوس، وإلا
فأهل جنة القلوب والأرواح لا يحجبون عن أصحاب النار * (وعلى الأعراف) * أي:
على أعالي ذلك الحجاب الذي هو حجاب القلب الفارق بين الفريقين هؤلاء عن يمينه
وهؤلاء عن شماله * (رجال) * هم العرفاء أهل الله وخاصته * (يعرفون كلا) * من الفريقين
* (بسيماهم) * يسلمون على أهل الجنة بإمداد أسباب التزكية والتحلية والأنوار القلبية
وإفاضة الخيرات والبركات عليهم، لم يدخلوا الجنة لتجردهم عن ملابس صفات
النفوس وطيباتها وترقيهم عن طورهم فلا يشغلهم عن الشهود الذاتي ومطالعة التجلي
الصفاتي نعيم * (وهم) * أي: أصحاب الجنة * (يطمعون) * في دخولهم ليقتبسوا من
نورهم ويستضيئوا بأشعة وجوههم، ويستأنسوا بحضورهم.
[تفسير سورة الأعراف من آية 47 إلى آية 53]
258

* (وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار) * أي: لا ينظرون إليهم طوعا ورأفة
ورحمة ورضا، بل كراهة واعتبارا كأن صارفا صرف أبصارهم إليهم * (ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين) * أي: لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، كما قال أمير المؤمنين علي
عليه السلام: ' أعوذ بالله من الضلالة بعد الهدى '. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ' اللهم ثبت قلبي
على دينك '، فقيل له: أما غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال صلى الله عليه وسلم: ' أو ما
يؤمنني أن مثل القلب كمثل ريشة في فلاة، تقلبها الرياح كيف شاءت.
* (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم) * أي: البدن الإنساني المفصل إلى
أعضاء وجوارح وآلات وحواس تصلح للاستكمال على ما يقتضيه العلم الإلهي وتأويله
ما يؤول إليه أمره في العاقبة من الانقلاب إلى ما لا يصلح لذلك عند البعث من
هيئات وصور وأشكال تناسب صفاتهم وعقائدهم على مقتضى قوله تعالى: * (سيجزيهم وصفهم) * [الأنعام، الآية: 139]، كما قال تعالى: * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما) * [الأنعام، الآية: 97].
[تفسير سورة الأعراف من آية 54 إلى آية 72
259

* (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * أي: اختفى في صور
سماء الأرواح وأرض الأجساد في ستة آلاف سنة لقوله تعالى: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * [الحج، الآية: 47] أي: من لدن خلق آدم إلى زمان محمد
عليهما الصلاة والسلام لأن الخلق هو اختفاء الحق في المظاهر الخلقية وهذه المدة
من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية، كما
قال صلى الله عليه وسلم: ' إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله في السماوات والأرض '، لأن
ابتداء الخفاء بالخلق هو انتهاء الظهور، فإذا انتهى الخفاء إلى الظهور عاد إلى أول
الخلق كما مر، ويتم الظهور بخروج المهدي عليه السلام في تتمة سبعة أيام ولهذا
قالوا: مدة الدنيا سبعة آلاف سنة. * (ثم استوى على العرش) * أي: عرش القلب
المحمدي بالتجلي التام فيه بجميع صفاته كما ذكر في معنى (ص) * (يغشى) * ليل البدن
وظلمة الطبيعة نهار نور الروح * (يطلبه) * بتهيئته واستعداده لقبوله باعتدال مزاجه سريعا،
وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس * (مسخرات بأمره) * الذي هو الشأن
المذكور في قوله تعالى: * (كل يوم هو في شأن) * [الرحمن، الآية: 29]. * (ألا له) * الإيجاد
بالقدرة والتصريف بالحكمة، أو ألا له التكوين والإبداع. وإن حمل السماوات
والأرض على الظاهر فالأيام الستة هي الجهات الست، إذ يعبر عن الحوادث بالأيام
كقوله تعالى: * (وذكرهم بأيم الله) * [إبراهيم، الآية: 5] أي: خلق عالم الأجسام في
الجهات الست ثم استعلى متمكنا على العرش بالتأثير فيه بإثبات صور الكائنات عليه.
وللعرش ظاهر وباطن، فظاهره هو السماء التاسعة التي تنتقش فيها صور الكائنات
بأسرها ويتبع وجودها وعدمها المحو والإثبات فيها على ما سيأتي في تأويل قوله
تعالى: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت) * [الرعد، الآية: 39] إن شاء الله. وباطنه هو العقل
الأول المرتسم بصور الأشياء على وجه كلي، المعبر عنه ببطنان العرش كما جاء:
' نادى منادى من بطنان العرش '، وهو محل القضاء السابق، فالاستواء عليه قصد
الاستعلاء عليه بالتأثير في إيجاد الأشياء بإثبات صورها عليه قصدا مستويا من غير أن
يلوي إلى شيء غيره.
260

تفسير سورة الأعراف من آية 73 إلى آية 103
261

* (هذه ناقة الله لكم آية) * الناقة لصالح عليه السلام كالعصا لموسى عليه السلام
والحمار لعيسى والبراق لمحمد عليهما السلام، فإن لكل أحد من الأنبياء وغيرهم
مركبا هو نفسه الحيوانية الحاملة لحقيقته التي هي النفس الإنسانية وتنتسب بالصفة
الغالبة إلى ما يتصف بتلك الصفة من الحيوانات فيطلق عليه اسمه، فمن كانت نفسه
مطواعة منقادة من غاية اللين حمولة قوية متذللة فمركبه ناقة ونسبتها إلى الله لكونها
مأمورة بأمره مختصة به في طاعته وقربه. وما قيل: إن الماء قسم بينها وبينهم، لها
شرب يوم ولهم شرب يوم، إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية، ومشربها
من العاقلة النظرية. وما روي أنها يوم شربها كانت تتفجح فيحلب منها اللبن حتى
ملؤوا أوانيهم، إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم
النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع والآداب. وخروجها من الجبل: ظهورها
من بدن صالح عليه السلام. هذا هو التأويل مع أن الإقرار بظاهرها واجب، فإن
ظهور المعجزات وخوارق العادات حق لا ننكر شيئا منها. وما يؤيد التأويل تسوية
النبي عليه صلى الله عليه وسلم عاقرها بقاتل علي عليه السلام، حيث قال: ' يا علي،
أتدري من أشقى الأولين؟ ' قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: ' عاقر ناقة صالح '، ثم
قال صلى الله عليه وسلم: ' أتدري من أشقى الآخرين؟ '، قال: الله ورسوله أعلم. قال صلى الله عليه وسلم: ' قاتلك '.
وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: ' من خضب هذا بهذا ' وأشار بيده إلى لحيته ورأسه.
تفسير سورة الأعراف من آية 104 إلى آية 141
262

* (فألقى عصاه) * ظاهره إعجاز موسى كما هو مروي. والتأويل هو: أن العصا
263

إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي: يعتمد عليها في الحركات والأفعال الحيوانية
ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمية، ورق الآداب الجميلة والملكات الفاضلة
والعادات الحميدة من شجرة الفكر، وكانت نفسه من حسن سياسته إياها ورياضته لها،
منقادة لتصرفاته، مطواعة لأوامره، مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا. وإذا
أرسلها عند الاحتجاج في مقابلة الخصوم صارت كالثعبان يتلقف ما يأفكون من
أكاذيبهم الباطلة ويزورون من حبال شبهاتهم التي بها تحكم دعاويهم، وعصي
مغالطاتهم ومزخرفاتهم التي تمسكوا بها عند الخصام في إثبات مقاصدهم فتغلبهم
وتقهرهم. * (ونزع يده) * أي: أظهر قدرته الباهرة التي تبهرهم وتظهر نور حقية دعواه،
والظاهر أنه كان الغالب على زمانه هو السحر، فخرج بالسحر الإلهي كما أن الغالب
على زمان محمد عليه صلى الله عليه وسلم كان هو الفصاحة، فكانت معجزة القرآن.
وعلى زمان عيسى عليه السلام الطب، فجاء بالطب الإلهي على ما روي لأن
معجزة كل نبي يجب أن تكون من جنس ما غلب على زمانه ليكون أدعى إلى إجابة دعواه.
[تفسير سورة الأعراف من آية 142 إلى آية 144]
* (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * قيل: أمره بصوم ثلاثين فلما أتم أنكر خلوف
فمه، فتسوك فعاتبه الله على ذلك وأمره بزيادة عشر، وقيل: أمره بأن يتقرب إليه بما
تقرب به في الثلاثين، وأنزل إليه التوراة في العشر الأخير تتمة الأربعين. فالأول:
إشارة إلى أنه خلص عن حجاب الأفعال والصفات والذات في الثلاثين لكن بقي منه
بقية ما خلص عن وجودها. واستعمال السواك إشارة إلى ظهور تلك البقية عند قوله:
* (رب أرني أنظر إليك) *. والثاني: إشارة إلى أنه بلغ الشهود الذاتي التام في الثلاثين
بالسلوك إلى الله ولم يبق منه بقية، بل فنى بالكلية. وتم في العشر الأخير سلوكه في
الله حتى رزق البقاء بالله بعد الفناء بالإفاقة، وعلى هذا ينبغي أن يكون قوله: * (رب أرني أنظر إليك) * كان قد صدر عنه في الثلاثين، والإفاقة بعدها في تتمة الأربعين.
وكلمة ربه، التكليم في مقام تجلي الصفات، وقوله: * (رب أرني أنظر إليك) * بدر عن
إفراط شوق منه إلى شهود الذات في مقام فناء الصفات مع وجود البقية. و * (لن
264

تراني) * إشارة إلى استحالة الإثنينية وبقاء الأنية في مقام المشاهدة كقوله:
* إذا تغيبت بدا
* وإن بدا غيبني
*
وقوله: رأيت ربي بعين ربي * (ولكن انظر إلى الجبل) * أي: جبل وجودك * (فإن
استقر مكانه) * أمكنت رؤيتك إياي، وذلك من باب التعليق بالمحال * (جعله دكا) * أي:
متلاشيا لا وجود له أصلا * (وخر موسى) * عن درجة الوجود فانيا * (فلما أفاق) *
بالوجود الموهوب الحقاني عند البقاء بعد الفناء * (قال سبحانك) * أن تكون مرئيا
لغيرك، مدركا لأبصار الحدثان * (تبت إليك) * عن ذنب البقية * (وأنا أول المؤمنين) *
بحسب الرتبة لا بحسب الزمان، أي: أنا في الصف الأول من صفوف مراتب الأرواح
الذي هو مقام أهل الوحدة وذلك مقام الاصطفاء المحض. وقوله: * (إني اصطفيتك
على الناس برسالاتي) * هو أول درجة الاستنباء بعد الولاية * (فخذ ما آتيتك) * بالتمكين
* (وكن من الشاكرين) * بالاستقامة في القيام بحق العبودية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
' أو لا أكون عبدا شكورا '.
[تفسير سورة الأعراف من آية 145 إلى آية 146]
* (في الألواح) * أي: الألواح تفاصيل وجود موسى من روحه وقلبه وعقله وفكره
وخياله. وإلقاؤها عند الغضب هو الذهول عنها والتجافي عن حكم ما فيها كما يحكم
أحدنا بحسن الحلم والتحمل للأذى، ثم ينسى عند سورة الغضب ولا يتذكر شيئا مما
في عقله من علمه عند ظهور نفسه * (فخذها بقوة) * أي: بعزيمة لتكون من أولي العزم
* (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) * أي: بالعزائم دون الرخص * (سأريكم دار الفاسقين) *
أي: عاقبة الذين لا يأخذون بها.
* (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) * لأن التكبر من
صفات النفس، فهم في مقام النفس محجوبون عن آيات الصفات التي تكون في مقام
القلب دون المتكبرين بالحق الذين اتصفوا بصفة الكبرياء في مقام المحو والفناء، فقام
كبرياؤه تعالى مقام تكبرهم، كما قال جعفر الصادق عليه السلام في جواب من قال
له: فيك كل فضيلة إلا أنك متكبر! فقال: ' لست بمتكبر، ولكن كبرياء الله تعالى قام
مني مقام التكبر '.
265

[تفسير سورة الأعراف من آية 147 إلى آية 158]
* (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة) * أي: ستروا بصفاتهم صفاتنا وبأفعالهم
أفعالنا فوقفوا مع الآثار وعموا عن لقاء الآخرة وجنة النفوس والأفعال * (حبطت أعمالهم) * ولو كان التكذيب بالصفات مجردا عن التكذيب بلقاء الآخرة لما حبطت
أعمالهم، وإن عذبوا حينا بنوع من العذاب * (سبعين رجلا) * من أشرافهم ونجبائهم
أهل الاستعداد وصفاء النفس والإرادة والطلب والسلوك وهم المصعوقون في قوله
تعالى: * (فأخذتهم الصاعقة) * [الذاريات، الآية: 44].
* (فلما أخذتهم الرجفة) * أي: رجفة جبل البدن التي هي من مبادئ صعقة الفناء
266

عند طيران بوارق الأنوار وظهور طوالع تجليات الصفات من اقشعرار الجسد وتأثره
وارتعاده بها، ولهذا قال موسى عليه السلام عندها: * (رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) * إذ لا قول لموسى عليه السلام عند الصعقة ولا لهم لفنائهم عندها، وقوله
صلى الله عليه وسلم: * (رب لو شئت) *، كلمة ضجر وفقدان صبر من غلبة الشوق عند ألم
الفراق، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الحالة: ' ليت أمي لم تلدني، وكذا ليت رب
محمد لم يخلق محمدا '، وهم بإلقاء نفسه عن الجبل. ولو هذه للتمني. * (أتهلكنا) *
بطول الحجاب وعذاب الحرمان وألم الفراق * (بما فعل السفهاء منا) * من عبادة عجل
هوى النفس والاحتجاب بصفاتها أو بما صدر منا حالة السفه قبل التيقظ والاستبصار
وإرادة السلوك وظهور نور البصيرة والاعتبار من الوقوف مع النفس وصفاتها * (إن هي إلا فتنتك) * أي: ما هذا الابتلاء بصفات النفس وعبادة الهوى إلا ابتلاؤك لا مدخل
فيها لغيرك * (تضل من تشاء) * من أهل الحجب والشقاوة والجهل والعمى * (وتهدي من تشاء) * من أهل السعادة والعناية والعلم والهدى، قالها في مقام تجلي الأفعال.
* (أنت) * متولي أمورنا القائم بها * (فاغفر لنا) * ذنوب صفاتنا وذواتنا كما غفرت لنا
ذنوب أفعالنا * (وارحمنا) * بإفاضة أنوار شهودك ورفع حجاب الأينية بوجودك * (وأنت خير الغافرين) * بالمغفرة التامة.
* (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) * العدالة والاستقامة بالبقاء بعد الفناء * (وفي الآخرة حسنة) * المشاهدة والزيادة * (إنا هدنا) * رجعنا * (إليك) * عن ذنوب وجودنا * (قال عذابي) * أي: عذاب الشوق المخصوص بي الحاصل من جهتي، وإن كان أليما لشدة
ألم الفراق، لكنه أمر عزيز خطير * (أصيب به من أشاء) * من أهل العناية من عبادي
الخاصة بي * (ورحمتي وسعت كل شيء) * لا تختص بأحد دون أحد غيره وشئ دون
شيء ففي هذا العذاب رحمة لا يبلغ كنهها ولا يقدر قدرها من رحمة لذة الوصول
التي قال فيها: * (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) * [السجدة، الآية: 17] مع كونه
لذيذا لا يقاس بلذته لذة، كما قال أحدهم:
* وكل لذيذ قد نلت منه
* سوى ملذوذ وجدي بالعذاب
*
ولعمري إن هذا العذاب أعز من الكبريت الأحمر. وأما الرحمة فلا يخلو من
حظ منها أحد * (فسأكتبها) * تامة كاملة رحيمية كتبة خاصة * (للذين يتقون) * الحجب
كلها ويفيضون مما رزقوا من الأموال والأخلاق والعلوم والأحوال على مستحقيها
* (والذين هم) * بجميع صفاتنا يتصفون وهم * (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) * في
آخر الزمان، أي: المحمديون الذين اتبعوا في التقوى وصفه بقوله تعالى له: * (وما
267

رميت إذ رميت ولكن الله رمى) * [الأنفال، الآية: 17]، وبقوله تعالى: * (وما ينطق عن
الهوى (3)) * [النجم، الآية: 3]، وقوله تعالى: * (ما زاغ البصر وما طغى (17) * [النجم، الآية:
17]. وفي إيتاء الزكاة قوله تعالى: * (وأما السائل فلا تنهر (10) وأما بنعمة ربك
فحدث (11)) * [الضحى، الآية: 10 - 11]، وفي الإيمان بالآيات قوله صلى الله عليه وسلم: ' أوتيت
جوامع الكلم، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق '.
[تفسير سورة الأعراف من آية 159 إلى آية 178
268

* (ومن قوم موسى أمة) * أي: أولئك المتبعون هم المفلحون بالرحمة التامة، وأمة
من قوم موسى موحدون * (يهدون) * الناس * (بالحق) * لا بأنفسهم * (وبه يعدلون) * بين
الناس في حال الاستقامة والتمكين * (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم) * ما كان إلا كحال الإسلاميين من أهل زماننا في اجتماع أنواع
الحظوظ النفسانية من المطاعم والمشارب والملاهي والمناكح ظاهرة في الأسواق
والمواسم والشوارع والمحافل يوم الجمعات دون سائر الأيام، وما ذلك إلا ابتلاء من
الله بسبب الفسق.
[تفسير سورة الأعراف من آية 179 إلى آية 194]
* (أولئك كالأنعام) * لفقدان إدراك الحقائق والمعارف التي تقربهم من الله بالقلوب
269

وعدم الاعتبار بالأعين والإذكار والفهم بالأسماع * (بل هم أضل) * لوجود الشيطنة فيهم
الموجبة للبعد بفساد العقائد وكثرة المكايد * (ولله الأسماء الحسنى) * قد مر أن كل اسم
هو الذات مع صفة، والله يدبر كل أمر باسم من أسمائه * (فادعوه) * عند الافتقار إلى
ذلك الاسم به إما بلسان الحال كما أن الجاهل إذا طلب العلم يدعوه باسمه العليم،
والمريض إذا طلب الشفاء يدعوه باسمه الشافي، والفقير إذا طلب الغنى يدعوه باسمه
المغني، كل بتحصيل الاستعداد الذي استلزم قبوله لتأثير ذلك الاسم وأثر تلك الصفة.
وأما بلسان القال كما إذا قال الأول: يا رب، يريد به يا عليم، لاختصاص ربوبيته
بذلك الاسم. والثاني: يريد بيا رب يا شافي. والثالث: يا مغني. وأما بلسان الفعل
كما يدعوه الطالب السالك باتصافه بتلك الصفة فإذا فنى عن علمه بعلمه دعاه باسمه:
العليم، وإذا وجد شفاء دائه منه وطلب منه أن يشفي غيره باتصافه بصفة الشفاء دعاه
باسمه: الشافي، وإذا استغنى عن فقره به دعاه باسمه: الغني. وهذه هي الدعوة
المأمور بها الموحدون من المؤمنين فليمتثلوا. * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) *
يطلبون هذه الصفات من غيره ويضيفونها إليه فيشركون به.
المراد بالساعة: وقت ظهور القيامة الكبرى، أي: الوحدة الذاتية بوجود المهدي
ولا يعلم وقتها إلا الله كما قال النبي عليه صلى الله عليه وسلم في وقت خروج المهدي:
' كذب الوقاتون '، ولعمري ما يعلمها عند وقوعها أيضا إلا الله كما هي قبل وقوعها.
* (ثقلت في السماوات والأرض) * إذ لا يسع أهلها علمها.
* (إن الذين تدعون من دون الله) * كائنين من كانوا، ناسا كانوا أو غيرهم * (عباد أمثالكم) * في العجز وعدم التأثير * (فادعوهم) * إلى أمر لا ييسره الله لكم * (فليستجيبوا لكم) * إلى تيسيره * (إن كنتم صادقين) * في نسبة التأثير إلى الغير، كما قال النبي عليه
صلى الله عليه وسلم لابن عباس ' يا غلام، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك.
وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن
ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك
بشيء لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف '.
[تفسير سورة الأعراف من آية 195 إلى آية 200
270

* (ألهم أرجل يمشون بها) * استفهام على سبيل الإنكار، أي: ألهم أرجل ولكن
لا يمشون بها بل بالله، إذ هو الذي يمشيهم بها وكذا سائر الجوارح * (قل ادعوا شركاءكم) * من الجن والإنس * (ثم كيدون) * إن استطعتم فإن متولي أمري وحافظي
ومديري هو * (الله الذي) * يعلمني بتنزيل الكتاب * (وهو يتولى) * كل صالح، أي: كل
من قام به في حال الاستقامة. وكلما ورد الصالح في وصف نبي من الأنبياء أريد به
الباقي بالحق بالاستقامة والتمكين بعد الفناء في عين الجمع القائم بإصلاح النوع بإذن
الحق * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * أي: إن تدع المطبوع على قلوبهم من
المشركين وغيرهم إلى الهدى لا يسمعوا ولا يطيعوا وتراهم مع صحة البصر والنظر لا
يبصرون الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة.
* (خذ العفو) * أي: السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما لا يتيسر لهم * (وأمر بالعرف) * أي: بالوجه الجميل * (وأعرض عن الجاهلين) * بعدم مكافأة جهلهم. وعن
الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه: ' أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية
أجمع لمكارم الأخلاق منها '. قال ذلك لقوة دلالتها على التوحيد، فإن من شاهد
مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويذرون به لا بأنفسهم، لا
يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولا يتشدد عليهم ويحلم عنهم. * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) * أي: نخس وداعية
قوية تحملك على مناقشتهم برؤية الفعل منهم ونسبة الذنب إليهم * (فاستعذ بالله) *
بالشهود والحضور لفاعليته * (إنه سميع) * يسمع أحاديث النفس ووساوس الشيطان في
الصدر * (عليم) * بالنيات والأسرار.
[تفسير سورة الأعراف من آية 201 إلى آية 206]
* (إن الذين اتقوا) * الشرك * (إذا مسهم طائف) * لمسة
* * (من الشيطان) * بنسبة الفعل
إلى الغير * (تذكروا) * مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله * (فإذا هم مبصرون) * فعالية
271

الله، فلا يبقى شيطان ولا فاعل غير الله في نظرهم. وإخوان الشياطين من المحجوبين
* (يمدونهم) * في نسبة الفعل إلى غيره فلا يقصرون من العناد والمراء والجهل * (لولا اجتبيتها) * أي: هلا اجتمعتها من تلقاء نفسك * (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) *
أي: لا أفتعل بنفسي، بل أبلغ عن الله ولا أقول إلا ما يوحى إلي منه به لأني قائم به
لا بنفسي * (فاستمعوا له) * أي: إلى الله ولا تستمعوا إلا منه * (وأنصتوا) * عن حديث
النفس وغيره، فإن المتكلم به هو الله * (لعلكم ترحمون) * برحمة تجلي المتكلم في
كلامه بصفاته وأفعاله * (واذكر ربك) * حاضرا * (في نفسك) * كقوله تعالى: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * [الأحزاب، الآية: 21]. * (تضرعا) * في مقام التفصيل
للجمع * (وخيفة) * في السر من النفس أو خيفة أن يكون للنفس فيه نصيب * (ودون الجهر) * أي: دون أن يظهر لك التضرع والذكر منك، بل تكون ذاكرا به له في غدو
ظهور نور الروح وإشراقه وغلبته، وآصال غلبات صفات النفس وقواها * (ولا تكن) *
في حال من الأحوال، وخصوصا حال غلبات النفس وصفاتها * (من الغافلين) * عن
شهود الوحدة الذاتية.
* (إن الذين عند ربك) * بالتوحيد والفناء فيه باقين به ذوي الاستقامة * (لا يستكبرون عن عبادته) * بسبب احتجابهم بالأنائية بل يشاهدون التفصيل في عين الجمع
فيذعنون له * (ويسبحونه) * ينزهونه عن الشرك بنفي الأنائية * (وله يسجدون) * بالفناء
التام، وطمس البقية، وآثار الأينة، والله الباقي بعد فناء الخلق.
272

((سورة الأنفال))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الأنفال من آية 1 إلى آية 4]
* (يسألونك عن الأنفال) * احتجبوا بأفعالهم فاعترضوا على فعل الله ورسوله،
أي: فعل الله في مظهر الرسول، فأمروا بتقوى الأفعال، أي: الاجتناب عنها برؤية
فعل الله، وإصلاح ذات البين بمحو صفات النفوس التي هي مصادر أفعالهم الموجبة
للتنازع والتخالف حتى يرجعوا إلى الإلفة والمحبة القلبية بظهور أنواع الصفات
* (وأطيعوا الله ورسوله) * بفناء صفاتها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية.
* (إن كنتم مؤمنين) * الإيمان الحقيقي * (إنما المؤمنون) * بالإيمان الحقيقي * (الذين إذا ذكر الله) * ذكر الصفات الذي للقلب لا ذكر الأفعال الذي للنفس * (وجلت قلوبهم) *
تأثرت بتصور العظمة والبهاء والقهر والكبرياء وإشراق أنوار تجليات تلك الصفات
عليها * (وإذا تليت عليهم آياته) * أي: جليت عليهم صفاته في المظاهر الكلامية
* (زادتهم إيمانا) * حقيقيا بالترقي عن مقام العلم إلى العين * (وعلى ربهم يتوكلون) * أي:
يصححون مقام التوكل بفناء الأفعال ويتممونه في مقام فناء الصفات. فإن تصحيح كل
مقام إنما يتم بالترقي عنه والنظر إليه من مقام فوقه. * (الذين يقيمون) * صلاة الحضور
القلبي بمشاهدة الصفات والترقي فيها بتجلياتها * (ومما رزقناهم) * من علوم التوكل في
مقام فناء الأفعال أو علوم تجليات الصفات في السير فيها * (ينفقون) * بالعمل بها
والإفاضة على مستحقيها. * (أولئك هم المؤمنون حقا) * الإيمان الحقيقي * (لهم درجات عند ربهم) * من مراتب الصفات وروضات جنات القلب * (ومغفرة) * من ذنوب الأفعال
* (ورزق كريم) * من باب تجليات الصفات وعلومها.
[تفسير سورة الأنفال من آية 5 إلى آية 6]
273

* (كما أخرجك) * أي: هذه الحال يعني حالهم في الاعتراض عليك في باب
التنقيل كحالهم في الاعتراض عليك عند إخراج ربك إياك لأنهم لما احتجبوا عن
فعل الله بأفعالهم رأوا الفعلين منك فكرهوا خروجك كما كرهوا تنفيلك وما فطنوا
لإخراج ربك إياك * (من بيتك بالحق) * أي: ملتبسا بالحق، خارجا به لا بنفسك،
فيكون بالحق حالا من مفعول: أخرجك، أو خروجا ملتبسا بالذي هو الصواب
والحكمة * (يجادلونك في الحق) * لاحتجابهم بأفعالهم وصفاتهم * (بعدما تبين) * عليك حاله
بالتجلي أو تبين عليهم آثاره بالمعجزات من قبل، أو بإعلامك إياهم بأن النصرة لهم.
[تفسير سورة الأنفال من آية 7 إلى آية 10]
* (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته) * أي: يثبته بملائكته السماوية التي أمدهم بها.
* (إذ تستغيثون ربكم) * بالبراءة عن حولكم وقوتكم إليه والانسلاخ عن حجب
أفعالكم بتيقن أن التأثير والقوة منه لا منكم ولا من عدوكم * (فاستجاب) * دعوتكم عند
ذلك التجرد عن ملابس الأفعال وصفات النفس ب * (أني ممدكم) * من عالم الملكوت
لجنسية قلوبكم إياها حينئذ * (بألف من الملائكة) * بعالم من ملكوت القهر، أي: من
القوى السماوية وروحانياتها التي تناسب قلوبكم في تلك الحالة كما مرت الإشارة إليه
في (آل عمران) واختلاف العدد في الموضعين إما لأن المراد الكثرة لا العدد
المخصوص وإما لأن قوله: * (مردفين) * هنا يدل على اتباعهم بطائفة أخرى منهم
وإمدادهم إما بأن يتجسدوا ويتمثلوا لهم بصورة المقاتلة كما تتمثل الصور في المنام
مثلا، فيتهيبوا منهم، وإما بأن يصل أثرهم وقهرهم إليه فيهلكوا وينهزموا.
* (وما) * جعل * (الله) * الإمداد * (الآ) * بشارة لكم بالنصر وطمأنينة لقلوبكم
بالاتصال بها عند التجرد عن ملابس النفس وأحوالها، لا أن النصر منها فإن النصر
ليس * (إلا من عند الله) * لكن حكمته تقتضي تعليق الأشياء بأسبابها * (إن الله) * قوي
على النصر غالب * (حكيم) * يفعله على مقتضى الحكمة.
[تفسير سورة الأنفال من آية 11 إلى آية 23]
274

* (إذ يغشيكم) * نعاس هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أمنا
من عند الله وطمأنينة * (وينزل عليكم من) * سماء الروح * (ماء) * علم اليقين * (ليطهركم به) * من خبث أحاديث النفس وهواجس الوهم * (ويذهب عنكم رجز) * وسوسة
* (الشيطان) * وتخويفه * (وليربط على قلوبكم) * أي: ليقوي قلوبكم بقوة اليقين ويسكن
جأشكم * (ويثبت به الأقدام) * إذ الشجاعة وثبات القدم في المخاوف والمهالك لا تكون
إلا بقوة اليقين.
* (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) * أي: يمد الملكوت بالجبروت فيعلموا
من عالم الجبروت أن الله ناصرهم * (فثبتوا الذين آمنوا) * بالتأييد الاتصالي * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * لانقطاعهم عن الإمداد السماوي والتأييد الإلهي واستيلاء
الشك وقوة الوهم عليهم * (فاضربوا فوق الأعناق) * أي: ثبتوهم بتلقين هذا المعنى،
وشجعوهم بإلقاء هذا القول عليهم أو بإراءتهم هذا الفعل منكم كما هو المروي.
* (فلم تقتلوهم) * أدبهم وهداهم إلى فناء الأفعال بسلب الأفعال عنهم وإثباتها لله
تعالى. ولما كان النبي عليه صلى الله عليه وسلم في مقام البقاء بالحق نسب الفعل إليه
بقوله: * (إذ رميت) * مع سلبه عنه بما رميت وإثباته لله بقوله: * (ولكن الله رمى) * ليفيد
معنى التفصيل في عين الجمع، فيكون الرامي محمدا بالله تعالى لا بنفسه، وما نسب
إليهم من الفعل شيئا إذ لو فعلوا لفعلوا بأنفسهم * (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا) *
275

أي: عطاء جميلا هو توحيد الأفعال فعل ذلك * (إن الله سميع) * بأحاديث نفوسكم، أنا
قتلناهم * (عليم) * بأنه هو القاتل وإن أظهر الفعل على مظاهركم * (ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون) * أي: لا تعرضوا عنه مع السماع لأن أثر السماع الفهم والتصديق، وأثر
الفهم والإرادة، وأثر الإرادة الطاعة، فلا يصح دعوى السماع مع الإعراض إذ هما لا
يجتمعان، فلازموا الطاعة بالإرادة إن كنتم صادقين في دعوى السماع * (ولا تكونوا كالذين) * يدعون السماع وليسوا منه في شيء لكونهم محجوبين عن الفهم والقبول
كالدواب، بل هم شر الدواب عند الله، لما مر.
* (ولو علم الله فيهم خيرا) * وصلاحا، أي: استعدادا لقبول كمال سمعهم حتى
فهموا وقبلوا وأطاعوا * (ولو أسمعهم) * مع عدم الخير فيهم حتى فهموا لما كان
لفهمهم أثر من الإرادة والطاعة، بل تولوا سريعا لكون ذلك الفهم فيهم أمرا عارضيا
سريع الزوال لا ذاتيا * (وهم معرضون) * بالذات، فلا يلبث فيهم الفهم والإرادة كما قال
أمير المؤمنين رضي الله عنه: ' خذ الحكمة ولو من أهل النفاق، فإن الحكمة لتتلجلج
في صدر المنافق حتى تسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن '، أي: لا تثبت في
صدره لكونها عارضية هناك لا تناسب ذاته.
[تفسير سورة الأنفال من آية 24 إلى آية 25]
* (يا أيها الذين آمنوا) * بالغيب * (استجيبوا) * بالتزكية والتصفية * (إذا دعاكم لما) *
يحيي قلوبكم من العلم الحقيقي أو آمنوا الإيمان التحقيقي، استجيبوا بالسلوك إلى الله
وفيه إذا دعاكم إليه لإحيائكم به. هذا إذا كانت استجابة الله والرسول استجابة واحدة،
أما إذا كانت متغايرة فمعناه: استجيبوا لله بالباطن والأعمال القلبية، وللرسول بالظاهر
والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله بالفناء في الجمع، وللرسول بمراعاة حقوق التفصيل
إذا دعاكم إلى الاستقامة لما يحييكم من البقاء بالله فيها، كل ذلك قبل زوال الاستعداد
فإن الله يحول بين المرء وقلبه بزوال الاستعداد وحصول الحجاب بارتكاب الرين،
فانتهزوا الفرصة ولا تؤخروا الاستجابة * (وأنه إليه تحشرون) * فيجازيكم من صفاته
وذاته على حسب محوكم وفنائكم.
* (واتقوا فتنة) * شركا وحجابا * (لا تصيبن) * تلك الفتنة * (الذين ظلموا منكم) *
بإزالة الاستعداد أو نقصه لاستعماله في غير موضعه وصرفه فيما دون الحق * (خاصة) *
لانفرادهم بالظلم. ومعنى لا تصيبن النهي، أي: إن تصب تصبهم خاصة، كقوله
276

تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * [الأنعام، الآية: 164]، ويجوز أن يكون المعنى: لا
تصيبنهم خاصة، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم
كقوله تعالى: * (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) * [الروم، الآية: 41]،
* (واعلموا أن الله شديد العقاب) * بتسليط الهيئات الظلمانية التي اكتسبتها القلوب عليها
وحجبها عنه وتعذيبها بها.
[تفسير سورة الأنفال من آية 26 إلى آية 33]
* (واذكروا إذ أنتم قليل) * القدر، لجهلكم وانقطاعكم عن نور العلم * (مستضعفون في) * أرض النفس * (تخافون أن يتخطفكم الناس) * أي: ناس القوى الحسية لضعف
نفوسكم * (فآواكم) * إلى مدينة العلم * (وأيدكم بنصره) * في مقام توحيد الأفعال
* (ورزقكم من) * طيبات علوم تجليات الصفات * (لعلكم تشكرون) * نعمة العلوم
والتجليات بالسلوك فيه. * (لا تخونوا الله) * بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق * (و) *
تخونوا * (الرسول) * بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق * (وتخونوا أماناتكم) * من
المعارف والحقائق التي استودع الله فيكم بحسب الاستعداد الأول في الأزل بإخفائها
بصفات النفس * (وأنتم تعلمون) * أنكم حاملوها، أو تعلمون أن الخيانة من أسوأ
الرذائل وأقبحها * (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة) * أي: حجاب لكم لاشتغالكم
بها عن الله، أو شرك لمحبتكم إياها كحب الله * (وأن الله عنده أجر عظيم) * فاطلبوه
بالتجرد عنها ومراعاة حق الله فيها.
* (إن تتقوا الله) * بالاجتناب عن نقض العهد وفسخ العزيمة وإخفاء الأمانة ومحبة
الأموال والأولاد حتى تفنوا فيه * (يجعل لكم فرقانا) * نورا يفرق به بين الحق والباطل
من طور العقل الفرقاني * (ويكفر عنكم سيئاتكم) * أي: سيئات نفوسكم * (ويغفر لكم
277

ذنوبكم) * أي: ذنوب ذواتكم * (والله ذو الفضل العظيم) * بإعطاء الوجود الموهوب
الحقاني والعقل الفرقاني.
* (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * لأن العذاب صورة الغضب وأثره فلا يكون
إلا من غضب النبي أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم
كان صورة الرحمة لقوله تعالى: * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 107) * [الأنبياء،
الآية: 107] ولهذا إذ كسروا رباعيته قال صلى الله عليه وسلم: ' اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون '،
ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام، وقال: * (رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارا) * [نوح، الآية: 26] فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، وكذا وجود الاستغفار.
فإن السبب الأولي للعذاب لما كان وجود الذنب، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته
بل يوجب زواله فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون.
ت [فسير سورة الأنفال من آية 34 إلى آية 40
* (وما لهم ألا يعذبهم الله) * أي: ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك
بحسب أنفسهم، بل إنهم مستحقون بذواتهم لصدورهم وصدهم المستعدين عن مقام
القلب وعدم بقاء الخيرية فيهم ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك
فيهم. واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب، لأن الوجود الواجبي هو الخير
المحض، فما رجح خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية، وإذا غلب
الشر لم تبق المناسبة فلزم استئصاله وإعدامه فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان
الخير فيهم غالبا فلم يستحقوا الدمار بالعذاب. وأما إذا تفرقوا ما بقي شرهم إلا خالصا
فوجب تدميرهم كما وقع في وقعة بدر. ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله
تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * [الأنفال، الآية: 25] لغلبة
278

الشر على المجموع حينئذ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: ' كان في الأرض
أمانان، فرفع أحدهما وبقي الآخر. فأما الذي رفع فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما الذي بقي
فالاستغفار ' وقرأ هذه الآية.
* (يصدون عن المسجد الحرام) * صورة لصدودهم وإعراضهم عن معناه الذي هو
القلب بالركون إلى النفس وصفاتها، وصدهم المستعدين عنه بإغرائهم على الأمور
النفسانية واللذات الطبيعية.
* (وما كانوا أولياءه) * لبعدهم عن الصفة وغلبة ظلمة النفس واستيلاء صفاتها
عليهم، واحتجابهم عنه بالكفر المستفاد من الدين * (إن أولياؤه إلا المتقون) * الذين
اتقوا صفات النفس وأفعالها * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * أن البيت صورة القلب الذي
هو بيت الله بالحقيقة فلا يستحق ولايته إلا أهل التقوى من الموحدين دون المشركين.
[تفسير سورة الأنفال من آية 41 إلى آية 42]
* (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) * إلى قوله: * (والله شديد العقاب) *
لا يقبل التأويل بحسب ما ورد فيه من (الواقعة) وإن شئت تطبيقه على تفاصيل وجودك
أمكن أن نقول: واعلموا أيها القوى الروحانية أنما غنمتم من العلوم النافعة والشرائع
المبني عليها الإسلام في قوله: بني الإسلام على خمس، فإن لله خمسه، وهو شهادة
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، باعتبار التوحيد الجمعي ولرسول القلب
* (ولذي القربى) * الذي هو السر، ويتامى العاقلة النظرية والعملية، والقوة الكفرية،
ومساكين القوى النفسانية * (وابن السبيل) * الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة
الجائبة منازل السلوك، النابية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي في العالم
النبوي. والأخماس الأربعة الباقية تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية * (إن كنتم آمنتم) * الإيمان الحقيقي * (بالله) * جمعا، * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان) *
وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا * (يوم التقى الجمعان) * من فريقي القوى الروحانية
والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع.
* (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) * من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني * (وهم بالعدوة
279

القصوى) * أي: الجهة السفلية البعيدة من الحق ومحل العلم وركب القوى الطبيعية
الممتازة للقوى النفسانية * (أسفل منكم) * أي: من الفريقين * (ولو تواعدتم) * اللقاء
للمحاربة من طريق العقل والحكمة دون طريق الرياضة والوحدة * (لاختلفتم في
الميعاد) * لكون ذلك صعبا حينئذ، موجبا للفشل والجبن * (ولكن ليقضي الله أمرا كان
مفعولا) * مقدرا، محققا عنده، واجبا وقوعه فعل ذلك * (ليهلك من هلك عن بينة) *
هي كونها ملازمة للبدن الواجب الفناء منطبعة فيه * (ويحيا من حي عن بينة) * هي كونها
مجردة عنه متصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء.
[تفسير سورة الأنفال من آية 43 إلى آية 49]
* (إذ يريكهم الله) * أيها القلب في منام تعطل الحواس الظاهرة وهو القوى البدنية
قليلي القدر، ضعاف الحال * (ولو أراكهم كثيرا) * في حال غلبة صفات النفس * (لفشلتم
ولتنازعتم) * في أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة * (ولكن الله سلم) * عن
الفشل والتنازع بتأييده وعصمته * (ولا تكونوا) ككفرة القوى النفسانية الذين * (خرجوا من) *
ديار مقارهم ومحالهم وحدودهم * (بطرا ورئاء الناس) * وإظهارا للجلادة على الحواس.
* (وإذ زين لهم) * شيطان الوهم * (أعمالهم) * في التغلب على مملكة القلب وقواه
* (وقال لا غالب لكم اليوم من الناس) * وأوهمهم تحقيق أمنيتهم بأن بصرهم أن لا
غالب عليهم من ناس الحواس فكذا سائر القوى. * (وإني جار لكم) * أمدكم وأقويكم
وأمنعكم من ناس القوى الروحانية * (فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه) * لشعوره
بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها بإدراك المعاني. * (وقال إني بريء منكم) *
لأني لست من جنسكم * (إني أري) * من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح
280

وملكوت عالم القدس * (ما لا ترون إني أخاف الله) * لشعوري ببعض أنواره وقهره
* (والله شديد العقاب) * وفيه إشارة إلى قول سيد المرسلين: ' لكل أحد شيطان، ولكن
شيطاني أسلم على يدي '. وهذا هو الدستور والأنموذج في أمثال ذلك إن أراد مريد
تطبيق القصص على أحواله، لكني قلما أعود إلى مثله بعد هذا لقلة الفائدة إلا في تصوير
طريق السلوك وتخييل المبتدئ ما هو بصدده لتنشيطه في الترقي والعروج والله الهادي.
[تفسير سورة الأنفال من آية 50 إلى آية 52]
* (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) * مر توفي الملائكة وأنه لا يكون إلا
لمن هو في مقام النفس، فإن كان من العصاة ومن غلب عليه صفات النفس من
الغضب والحقد والشهوة والحرص وأمثال ذلك من رذائل الأخلاق توفتهم ملائكة
القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم * (يضربون وجوههم) * لاحتجابهم عن عالم
الأنوار وإعراضهم عنها، ولهيئات الكبر والعجب والنخوة فيها * (وأدبارهم) * لميلهم
وشدة انجذابهم إلى البدن وعالم الطبيعة ولهيئات الشهوة والحرص والشره * (وذوقوا عذاب الحريق) * أي: حريق الحرمان واستيلاء نيران التعب والطلب مع الفقدان
لاكتسابهم تلك الهيئات الموجبة لذلك وإن كان من أهل الطاعة ومن غلبت عليه أنوار
صفات القلب من الرأفة والرحمة والسلامة والقناعة وأمثال ذلك من فضائل القوتين
السبعية والبهيمية دون فضيلة القوة النطقية فإنه حينئذ يكون صاحب قلب ليس في مقام
النفس توفتهم ملائكة الرحمة * (طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) * [النحل، الآية: 32] لمناسبة هيئات نفوسهم تلك الروحانيات من العالم.
[تفسير سورة الأنفال من آية 53 إلى آية 71
281

* (ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم) * إلى آخره، أي: كل ما
يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده ويسأله بدعاء الحال وسؤال الاستحقاق،
فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة لسلامة الاستعداد وبقاء الخيرية فيه لم
يغيرها حتى أفسد استعداده وغير قبوله للصلاح بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه
بالقوة إلى الشر لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه بحيث لم يبق له مناسبة للخير ولا
إمكان لصدوره منه، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا وطلبا من ذلك الاستعداد إياها
بجاذبة الجنسية والمناسبة لا ظلما وجورا.
* (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم) * لاتفاقها في الوجهة
وخلاصها عن قيود صفات النفس التي تستلزم التخالف والتعاند لركونها إلى عالم
التضاد واختلافها بالطباع، فإن القلب ما دام واقفا مع النفس ومراداتها واستولت عليه
بصفاتها جذبته إلى الجهة السفلية وصيرت مطالبه جزئية مما يناسب مصالحها فيطلب
ما يمنعه منه الآخر، وتقع العداوة والبغضاء، وتستولي القوة الغضبية الطالبة للجاه
والكرامة والقهر والغلبة والرياسة والسلطنة، ويقع الاستكبار والإباء والأنفة
والاستنكاف، ويؤدي إلى التقاطع والتهاجر والتحارب والتشاجر. وكلما بعد عن الجهة
السفلية بالتوجه إلى الجهة العلوية والتنور بأنوار الوحدة الصفاتية أو الذاتية، ارتفع عن
مقام النفس واتصل بالروح وصارت مطالبه كلية لا تتمانع ولا يتنافس فيها لإمكان حصولها
282

لهذا بدون حرمان الآخر منه ومال إلى من يجانسه في الصفاء بالمحبة الذاتية لشدة المناسبة.
وكلما كان أقرب إلى الوحدة كانت قوة المحبة فيه أقوى لشدة قربه لمن تدين بدينه
كالخطوط الآتية من محيط الدائرة إلى مركزها، فبحسب قوة الإيمان شدة الألفة بينهم.
* (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) * لأن ما في الجهة
السفلية تزيد في عداوتهم ومناوأتهم لاشتداد حرصهم وتكالبهم به * (ولكن الله ألف بينهم) * بنور الوحدة التي تورث المحبة الروحانية والألفة القلبية فإن المحبة ظل
الوحدة، والألفة ظل المحبة، والعدالة ظل الألفة * (إنه عزيز) * قوي على دفع الكفرة
وقهرهم باجتماع المؤمنين واتفاقهم * (حكيم) * يفعل ذلك بحكمة لإيقاع الألفة والمحبة
بين هؤلاء والتفرقة واختلاف الكلمة بين أولئك.
[تفسير سورة الأنفال من آية 72 إلى آية 75]
* (إن الذين آمنوا وهاجروا) * إلى آخر الآية، بالفحوى تدل على أن الفقير القائم
بالخدمة في الخانقاه والبقعة ليس عليه خدمة المقيم بل المسافر لقوله تعالى: * (والذين
ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء) * [الأنفال، الآية: 72] أي: الذين آمنوا
الإيمان العلمي وهاجروا المألوفات من الأهل والولد والأموال والأسباب وأوطان
النفس بقوة العزيمة واختاروا السياحة في الغربة، وجاهدوا بقوة اليقين والتوكل
بأموالهم بتركها وإنفاقها في مراضي الله وأنفسهم بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان
وتحمل وعثاء السفر في سبيل الله وبذلها في الدين بنية السلوك في الله. والذين آووهم
بالخدمة في المنزل، ونصروهم بتهيئة ما احتاجوا إليه من الأهبة * (أولئك بعضهم أولياء بعض) * بالألفة والمحبة * (والذين آمنوا ولم يهاجروا) * عن الأوطان المألوفة ما لكم من
ولايتهم من شيء حتى يهاجروا.
283

((سورة التوبة))
[تفسير سورة التوبة آية 1]
* (براءة من الله ورسوله) * الآية، لما لم يتمكن الرسول في الاستقامة لمكان
تلوينه بظهور صفاته تارة وبوجود البقية تارة أخرى، على ما دل عليه القرآن في مواضع
العتاب والتثبيت كقوله: * (عبس وتولى (1)) * [عبس، الآية: 1]، وقوله: * (ولولا أن ثبتناك
لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا 74) * [الإسراء، الآية: 74]، * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * [التوبة، الآية: 43]، * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * [الأنفال، الآية: 67]،
فلم يصل أصحابه من المؤمنين إلى مقام الوحدة الذاتية لاحتجابهم تارة بالأفعال وتارة
بالصفات كان بينهم وبين المشركين مناسبة وقرابة جنسية وآل فبتلك الجنسية عاهدوهم
لوجود الاتصال بينهم. ثم لما امتثل النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون قوله تعالى:
* (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك) * [هود، الآية: 112] وبلغ غاية التمكين وارتفعت
الحجب الإفعالية والصفاتية والذاتية عن وجه السالكين من أصحابه حتى بلغوا مقام
التوحيد الذاتي. ارتفعت المناسبة بينهم وبين المشركين ولم تبق بينهم جنسية بوجه ما
وتحققت الضدية والمخالفة وحقت الفرقة والعداوة فنزلت براءة من الله ورسوله * (إلى الذين عاهدتم من المشركين) * أي: هذه الحالة حالة الفرقة والمباينة الكلية بيننا والتبري
الحقيقي من الله باعتبار الجمع ورسوله باعتبار التفصيل إليهم فتبرأوا منهم ظاهرا كما
تبرأوا منهم باطنا، ونبذوا عهدهم في الصورة كما نبذوا عهدهم في الحقيقة.
[تفسير سورة التوبة من آية 2 إلى آية 19
284

* (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيها
لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات
والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله ثم على الجبروت ثم
على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار على ما مرت الإشارة إليه في (الأنعام)
فيعذبوا بأنواع العذاب. * (واعلموا أنكم غير معجزي الله) * لوجوب حبسكم في هذه
المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك فكيف تفوتونه * (وأن الله مخزي الكافرين) *
المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما يعبدون من دون الله ووقوفه معه
على النار.
* (وأذان) * أي: إعلام * (من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) * أي: وقت
ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل كما مر * (أن الله بريء من المشركين ورسوله) *
في الحقيقة فيوافق الظاهر الباطن.
285

* (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا) * أي: هذه براءة إليهم
إلا الذين بقيت فيهم مسكة الاستعداد وأثر سلامة الفطرة فلم يقدموا على نقض العهد
لبقاء المروءة فيهم الدالة على سلامة الفطرة وبقائهم على عهد الله السابق بوجود
الاستعداد وإمكان الرجوع إلى الوحدة. * (ولم يظاهروا عليكم أحدا) * لبقاء الوصلة
الأصلية والمودة الفطرية بينكم وبينهم وعدم ظهور العداوة الكسبية * (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) * أي: مدة تراكم الرين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا أو يتوبوا
* (إن الله يحب المتقين) * الذين اجتنبوا الرذائل خصوصا نقض العهد الذي هو أم
الرذائل ظاهرا وباطنا.
[تفسير سورة التوبة من آية 20 إلى آية 33]
286

* (الذين آمنوا) * علما * (وهاجروا) * الرغائب الحسية والمواطن النفسية بالسلوك في
سبيل الله وجاهدوا بأموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم بمحو صفاتهم في صفات
الله * (وأنفسهم) * بإفنائها في ذات الله * (أولئك أعظم درجة) * في التوحيد * (عند الله) *.
* (يبشرهم ربهم برحمة) * ثواب الأعمال * (ورضوان) * الصفات * (وجنات) * من
الجنان الثلاثة * (لهم فيها نعيم) * شهود الذات * (مقيم) * ثابت أبدا.
* (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم) * إلى آخره، أي: لا يترجح فيكم جهة
القرابة الصورية والوصلة الطبيعية على جهة القرابة المعنوية والوصلة الحقيقية فيكون
بينكم وبين من آثر الاحتجاب على الكشف من أقربائكم ولاية مسببة عن الاتصال
الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة الموجب للقطيعة المعنوية
والعداوة الحقيقية، فإن ذلك من ضعف الإيمان ووهن العزيمة، بل قضية الإيمان
بخلاف ذلك. قال الله تعالى: * (والذين آمنوا أشد حبا لله) * [البقرة، الآية: 165]. وقال
بعض الحكماء: الحق حبيبنا والخلق حبيبنا، فإذا اختلفا فالحق أحب إلينا.
* (قل إن) * كانت هذه القرابات الصورية والمألوفات الحسية * (أحب إليكم من الله ورسوله) * فقد ضعف إيمانكم ولم يظهر أثره في نفوسكم وعلى جوارحكم لتنقاد
بحكمه وذلك لوقوفكم مع الآثار الناسوتية الموجب للعذاب والحجاب * (فتربصوا حتى يأتي الله) * بعذابه. وكيف لا، وأنتم تسلكون طريق الطبيعة وتنقادون بحكمها مكان
سلوك طريق الحق والانقياد لأمره؟ وذلك فسق منكم، والفاسق محجوب عن الله لا
يهديه إليه لعدم توجهه وإرادته بل لإعراضه وتوليه، فهو يستحق العذاب والخذلان
والحجاب والحرمان.
تفسير سورة التوبة من آية 34 إلى آية 60
287

((الصفحة فارغة))
288

إلى آية 6] * (والذين يكنزون الذهب والفضة) * إلى آخره، جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق
لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح وحب المال وكل رذيلة يعذب بها صاحبها في
الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي
ذلك المال، كان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة وهاوية الهوى فيكوى
به، وإنما خصت هذه الأعضاء لأن الشح مركوز في النفس والنفس تغلب القلب من
هذه الجهات لا من جهة العلو التي هي جهة استيلاء الروح وممر الحقائق والأنوار ولا
من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية لعدم تمكن الطبيعة من ذلك،
فبقيت سائر الجهات فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب كما تراه يعاب بها في
الدنيا ويخزى من هذه الجهات أيضا إما بأن يواجه بها جهرا فيفضح أو يسار بها في
جنبه أو يغتاب بها من وراء ظهره.
* (كره الله انبعاثهم فثبطهم) * أي: كانوا أشقياء لم يبق في استعدادهم خير فيريده
الله منهم فلذلك كره انبعاثهم، أي: كانوا من الفريق الثاني من الأشقياء المردودين
الذين مر ذكرهم غير مرة.
[تفسير سورة التوبة من آية 61 إلى آية 71
289

إلى آية 71] * (ويقولون هو أذن) * كانوا يؤذونه ويغتابونه بسلامة القلب وسرعة القبول
والتصديق لما يسمع، فصدقهم في ذلك وسلم وقال: هو كذلك، ولكن بالنسبة إلى
الخير فإن النفس الأبية والغليظة الجافية والكرة القاسية التي تتصلب في الأمور ولا
تتأثر غير مستعدة للكمال، إذ الكمال الإنساني لا يكون إلا بالقبول والتأثر والانفعال.
فكلما كانت النفس ألين عريكة وأسلم قلبا وأسهل قبولا كانت أقبل للكمال وأشد
استعدادا له، وليس هذا اللين هو من باب الضعف والبلاهة الذي يقتضي الانفعال من
كل ما يسمع حتى المحال والتأثر من كل ما يرد عليه ويراه حتى الكذب والشرور
والضلال بل هو من باب اللطافة وسرعة القبول لما يناسبه من الخير والصدق، فلذلك
قال: * (قل أذن خير) * إذ صفاء الاستعداد ولطف النفس يوجب قبول ما يناسبه من باب
الخيرات لا ما ينافيه من باب الشرور، فإن الاستعداد الخيري لا يقبل الشر ولا يتأثر به
ولا ينطبع فيه لمنافاته إياه وبعده عنه * (لكم) * أي: يسمع ما ينفعكم وما فيه صلاحكم
دون غيره * (يؤمن بالله) * هو بيان لينه وقابليته لأن الإيمان لا يكون إلا مع سلامة
القلب ولطافة النفس ولينها * (ويؤمن للمؤمنين) * يصدق قولهم في الخيرات ويسمع
كلامهم فيها ويقبله * (ورحمة للذين آمنوا منكم) * يعطف عليهم ويرق لهم فينجيهم من
العذاب بالتزكية والتعليم، ويصلح أمر معاشهم ومعادهم بالبر والصلة وتعليم الأخلاق
من الحلم والشفقة، والأمر بالمعروف باتباعهم إياه فيها، ووضع الشرائع الموجبة لنظام
أمرهم في الدارين، والتحريض على أبواب البر بالقول والفعل إلى غير ذلك.
تفسير سورة التوبة من آية 72 إلى آية 99
290

((الصفحة فارغة))
291

* (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار) * وهي جنات
النفوس * (ومساكن طيبة) * مقامات أرباب التوكل في جنات الأفعال بدليل قوله تعالى:
* (ورضوان من الله أكبر) * [التوبة، الآية: 72]، فإن الرضوان من جنات الصفات
* (ذلك) * أي الرضوان * (هو الفوز العظيم) * لكرامة أهله عند الله وشدة قربهم منه.
[تفسير سورة التوبة من آية 100 إلى آية 102]
* (والسابقون الأولون) * أي: الذين سبقوا إلى الوحدة من أهل الصف الأول * (من المهاجرين) * الذين هاجروا مواطن النفس * (والأنصار) * الذين نصروا القلب بالعلوم
الحقيقية على النفس * (الذين اتبعوهم) * في الاتصاف بصفات الحق * (بإحسان) * أي:
بمشاهدة من مشاهدات الجمال والجلال * (رضي الله عنهم) * لاشتراكهم في كشف
الصفات والوصول إلى مقام الرضا الذي هو باب الله الأعظم * (وأعد لهم جنات) * من
جنات الأفعال والصفات * (تجري تحتها) * أنهار علوم التوكل والرضا وما يناسبهما
وذلك لا ينافي وجود جنة أخرى للسابقين هي جنة الذات واختصاصهم بها لاشتراك
الكل في هذه.
* (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) * الاعتراف بالذنب هو إبقاء نور الاستعداد ولين
الشكيمة وعدم رسوخ ملكة الذنب فيه لأنه ملك الرجوع والتوبة ودليل رؤية قبح
الذنب التي لا تكون إلا بنور البصيرة وانفتاح عين القلب إذ لو ارتكمت الظلمة
ورسخت الرذيلة ما استقبحه ولم يره ذنبا بل رآه فعلا حسنا لمناسبته لحاله فإذا عرف
أنه ذنب ففيه خير * (خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا) * أي: كانوا في رتبة النفس اللوامة
التي لم يصر اتصالها بالقلب وتنورها بنوره ملكة ولم يتذلل بعد في طاعتها للقلب،
فتارة يستولي عليها القلب فتتذلل وتنقاد وتتنور بنوره وتعمل أعمالا صالحة، وتارة
تظهر بصفاتها الحاجبة لنور القلب عنها وتحتجب بظلمتها فتفعل أفعالا سيئة، فإن
ترجحت الأنوار القلبية والأعمال الصالحة وتعاقبت عليها الخواطر الملكية حتى صار
اتصالها بالقلب وطاعتها إياه ملكة صلح أمرها ونجت وذلك معنى قوله: * (عسى الله أن يتوب عليهم) * وإن ارتكمت عليها الهيئات المظلمة المكتسبة من غلباتها وكثرة
إقدامها على السيئات كان الأمر بالعكس فزال استعدادها بالكلية وحق عذابها أبدا.
292

وترجح أحد الجانبين على الآخر لا يكون إلا بالصحبة ومجالسة أصحاب كل واحد
من الصنفين ومخالطة الأخيار والأشرار، فإن أدركه التوفيق ساقه القدر إلى صحبة
الصالحين ومتابعة أخلاقهم وأعمالهم فيصير منهم، وإن لحقه الخذلان ساقه إلى صحبة
المفسدين واختلاطه بهم فيصير من الخاسرين أعاذنا الله من ذلك.
* (إن الله غفور) * يغفر لهم السيئات المظلمة ويسترها عنهم * (رحيم) * يرحمهم
بالتوفيق للصالحات وقبول التوبة.
[تفسير سورة التوبة من آية 103 إلى آية 106
ولما وفقوا للقسم الأول ببركة صحبة الرسول وتزكيته إياهم وتربيته لهم قال:
* (خذ من أموالهم صدقة) * إذ المال هو سبب ظهور النفس وغلبة صفاتها ومدد قواها
ومادة هواها كما قال عليه صلى الله عليه وسلم: ' المال مادة الشهوات ' فينبغي أن يكون
أول حالهم التجرد عن الأموال لتنكسر قوى النفس وتضعف أهواؤها وصفاتها، فتتزكى
من الهيئات المظلمة التي فيها وتتطهر من خبث الذنوب ورجس دواعي الشيطان وذلك
معنى قوله: * (تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) * بإمداد الهمة وإفاضة نور الصحبة
عليهم * (إن صلاتك سكن لهم) * أي: إن نورك الذي تفيض عليهم بالتفات خاطرك
إليهم وقوة همتك وبركة صحبتك سبب نزول السكينة فيهم تسكن قلوبهم إليه
وتطمئن. والسكينة نور مستقر في القلب يثبت معه في التوجه إلى الحق ويتقوى اليقين
ويتخلص عن الطيش بلمات الشيطان ووساوسه وأحاديث النفس وهواجسها لعدم قبوله
لها حينئذ * (والله سميع) * يسمع تضرعهم واعترافهم بذنوبهم * (عليم) * يعلم نياتهم
وعزائمهم وما في ضمائرهم من الندم والغم.
[تفسير سورة التوبة من آية 107 إلى آية 110
293

* (لمسجد أسس على التقوى) * لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت
وتسخيره لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال فكل ما
فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية صحبته بركة ويمن وجمعية وصفا، وكل ما
فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم. ألا ترى
الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبي من أنبياء الله
بنية صادقة ونفس شريفة صافية عن كمال إخلاص لله تعالى. ونحن نشاهد أثر ذلك
في أعمال الناس ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة
والتفرقة في بعضها وما هو إلا لذلك، فلهذا قال: * (لمسجد أسس على التقوى) *،
* (من أول يوم أحق أن تقوم فيه) * لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس كما أن
الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنيا على التقوى وصفاء
النفس تأثرت النفس باجتماع الهم وصفاء الوقت وطيب الحال وذوق الوجدان، وإذا
كان مبنيا على الرياء والضرار تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * أي: أهل إرادة وسعي في التطهر عن الذنوب نبه على أن صحبة الصالحين
من أهل الإرادة لها أثر عظيم يجب أن تختار وتؤثر على غيرها. كما أن المقام له أثر
يجب أن يراعى ويتعاهد ولهذا ورد في اصطلاح القوم: يجب مراعاة الزمان والمكان
والإخوان في حصول الجمعية وجعلوها شرطا لها وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني
وصدق نيته مؤثر في البناء وإن تبرك المكان وكونه مبنيا على الخير يقتضي أن يكون
فيه أهل الخير والصلاح ممن يناسب حال بانيه، وإن محبة الله واجبة لأهل الإرادة
والطهارة لقوله: * (والله يحب المتطهرين) * كيف ولولا محبة الله إياهم لما أحبوا التطهر.
[تفسير سورة التوبة آية 111]
* (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * لما هداهم إلى الإيمان العلمي
وهم مفتونون بمحبة الأموال والأنفس استنزلهم لفرط عنايته بهم عن مقام محبة
الأموال والأنفس بالتجارة المربحة والمعاملة المرغوبة بأن جعل جنة النفس ثمن
أموالهم وأنفسهم ليكون الثمن من جنس المثمن الذي هو مألوفهم لكنه ألذ وأشهى
وأرغب وأبقى، فرغبوا فيما عنده وصدقوا لقوة اليقين وعده.
294

[تفسير سورة التوبة من آية 112 إلى آية 114]
ثم لما ذاقوا بالتجرد عنها لذة الترك وحلاوة نور اليقين رجعوا عن مقام لذة
النفس وتابوا عن هواها ومشتهياتها فلم يبق عندهم لجنة النفس قدر، فوصفهم بالتائبين
بالحقيقة الراجعين عن طلب ملاذ النفس وتوقع الأجر إليه، العابدين الذين إذا رجعوا
عن محبة النفس والمال وطلب الأجر والثواب، عبدوا الله حق عبادته لا لرغبة ولا
لرهبة بل تشبها بملكوته في القيام بحقه تعالى بالخضوع والخشوع والتذلل لعظمته
وكبريائه تعظيما وإجلالا ثم حمدوا الله حق حمده بإظهار الكمالات العملية الخلقية
والعملية المكنونة في استعداداتهم بالقوة حمدا فعليا حاليا ثم ساحوا إليه بالهجرة عن
مقام الفطرة ورؤية الكمالات الثابتة وتآلفهم واعتدادهم وابتهاجهم بها في مفاوز
الصفات ومنازل السبحات ثم ركعوا في مقام محو الصفات ثم سجدوا بفناء الذات،
ثم قاموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على حدود الله في مقام البقاء
بعد الفناء * (وبشر المؤمنين) * بالإيمان الحقيقي المقيمين في مقام الاستقامة.
* (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا) * إلى آخره، أي: لما اطلعوا على سر
القدر ووقفوا على ما قضى الله وقدر، وعلموا بما ينتهي إليه عواقب الأمور، لم يكن
لهم أن يطلبوا خلاف ذلك ورضوا بما دبر الله من أمره وإن كان في طبيعتهم ما
يقتضي خلافه لأنهم قد انسلخوا عن مقتضيات طباعهم فإن اقتضت القرابة الطبيعية
واللحمة الصورية فرط شفقة ورقة على بعض من يناسبهم ويواصلهم فيها وشاهدوا
حكم الله عليه بالقهر والتعذيب، حملتهم الحمية الدينية على الصبر إن لم يكن لهم
مقام الرضا بل غلبتهم المباعدة الدينية على القرابة الطبيعية فتبرؤوا منه ولم يقترحوا
على الله خلاف حكمته وأمره ولهذا قيل: لا تؤثر همة العارف بعد كمال عرفانه أي
إذا تيقن وقوع كل شيء بقدره وامتناع وقوع خلاف ما قدر الله في الأزل علم أن ما
شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا تؤثر همته ولا غيرها في شيء فلا يسلط همته
على أمر بخلاف المحجوب الذي ينسب التأثير إلى غير الله ولا يعلم سر القدر.
تفسير سورة التوبة من آية 115 إلى آية 118
295

* (وما كان الله) * ليضلهم عن طريق التسليم والانقياد لأمره والرضا بحكمه * (بعد إذ هداهم) * إلى التوحيد العلمي ورؤية وقوع كل شيء بقضائه وقدره * (حتى يبين لهم) *
كل ما يجب عليهم اتقاؤه في كل مقام من مقامات سلوكهم ومرتبة من مراتب
وصولهم، فإن أقدموا في بعض مقاماتهم على ما تبين لهم وجوب اتقائه فهو يضلهم لكونهم
مقدمين على ما هو ذنب حالهم وهو فسق في دينهم والعياذ بالله من الضلال بعد الهدى.
* (إن الله بكل شيء عليم) * يعلم دقائق ذنوب أحوالهم وإن لم يتفطن لها أحد فيؤاخذ بها أهل
الهداية من أوليائه كما ورد في الحديث الرباني: ' وأنذر الصديقين بأني غيور '.
[تفسير سورة التوبة من آية 119 إلى آية 127]
* (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) * في جميع الرذائل بالاجتناب عنها خاصة رذيلة
الكذب، وذلك معنى قوله: * (وكونوا مع الصادقين) * فإن الكذب أسوأ الرذائل وأقبحها
لكونه ينافي المروءة لقوله صلى الله عليه وسلم: ' لا مروءة لكذوب ' إذ المراد من الكلام الذي يتميز به
296

الإنسان عن سائر الحيوان إخبار الغير عما لا يعلم، فإذا كان الخبر غير مطابق لم
تحصل فائدة النطق وحصل منه اعتقاد غير مطابق وذلك من خواص الشيطنة، فالكاذب
شيطان. وكما أن الكذب أقبح الرذائل، فالصدق أحسن الفضائل. وأصل كل حسنة
ومادة كل خصلة محمودة وملاك كل خير وسعادة به يحصل كل كمال ويحصل كل
حال وأصله الصدق في عهد الله تعالى الذي هو نتيجة الوفاء بميثاق الفطرة أو نفسه
كما قال تعالى: * (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) * [الأحزاب، الآية: 23] في عقد
العزيمة ووعد الخليقة، كما قال تعالى في إسماعيل عليه السلام: * (إنه كان صادق الوعد) * [مريم، الآية: 54] وإذا روعي في المواطن كلها حتى الخاطر والفكر والنية
والقول والعمل صدقت المنامات والواردات والأحوال والمقامات والمواهب
والمشاهدات كأنه أصل شجرة الكمال وبذر ثمرة الأحوال.
* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * أي: يجب على كل مستعد من جماعة
سلوك طريق طلب العلم إذ لا يمكن لجميعهم، أما ظاهرا فلفوات المصالح، وأما
باطنا فلعدم الاستعداد. والتفقه في الدين هو من علوم القلب لا من علوم الكسب إذ
ليس كل من يكتسب العلم يتفقه كما قال تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * [الأنعام، الآية: 25] والأكنة: هي الغشاوات الطبيعية والحجب النفسانية فمن أراد
التفقه فلينفر في سبيل الله وليسلك طريق التزكية والتصفية حتى يظهر العلم من قلبه
على لسانه كما نزل على بعض أنبياء بني إسرائيل: ' يا بني إسرائيل، لا تقولوا العلم
في السماء من ينزل به، ولا في تخوم الأرض من يصعد به، ولا من وراء البحر من
يعبر ويأتي به، العلم مجعول في قلوبكم تأدبوا بين يدي بآداب الروحانيين، وتخلقوا
بأخلاق الصديقين، أظهر العلم من قلوبكم حتى يغمركم ويغطيكم '. فالمراد من التفقه
علم راسخ في القلب، ضارب بعروقه في النفس، ظاهر أثره على الجوارح بحيث لا
يمكن صاحبه ارتكاب ما يخالف ذلك العلم وإلا لم يكن عالما. ألا ترى كيف سلب
الله الفقه عمن لم تكن رهبة الله أغلب عليه من رهبة الناس بقوله تعالى: * (لأنتم أشد
رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13) * [الحشر، الآية: 13] لكون
رهبه الله لازمة للعلم، كما قال تعالى: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * [فاطر، الآية:
28] وسلب العلم عمن لم يعمل به في قوله تعالى: * (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * [الزمر، الآية: 9]. وإذا تفقهوا وظهر علمهم على جوارحهم أثر في غيرهم
وتأثروا منه لارتوائهم به وترشحهم منه كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلزم الإنذار
الذي هو غايته كما قال: * (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * ومن
297

لازم التفقه الجهاد الأكبر ثم الأصغر فلذلك قال بعده: * (قاتلوا الذين يلونكم) * من
كفار قوى نفوسكم التي هي أعدى عدوكم * (وليجدوا فيكم غلظة) * أي: قهرا وشدة
حتى تبلغوا درجة التقوى فينزل عليكم النصر من عند الله كما قال: * (واعلموا أن الله
مع المتقين).
* (أو لا يرون أنهم يفتنون) * الآية، البلاء قائد من الله تعالى يقود الناس إليه. وقد
ورد في الحديث: ' البلاء سوط من سياط الله تعالى، يسوق به عباده إليه '. فإن كل
مرض وفقر وسوء حال يحل بأحد يكسر ثورة نفسه وقواها ويقمع صفاتها وهواها،
فيلين القلب ويبرز من حجابها وينزعج من الركون إلى الدنيا ولذاتها وينقبض منها
ويشمئز، فيتوجه إلى الله تعالى. وأقل درجاته أنه إذا اطلع على أن لا مفر منه إلا
إليه، ولم يجد مهربا ومحيصا من البلاء سواه، تضرع إليه وتذلل بين يديه، كما قال
تعالى: * (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين) * [لقمان، الآية: 32]، * (وإذا
مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما) * [يونس، الآية: 12]، وبالجملة يوجب
رقة الحجاب أو ارتفاعه فليغتنم وقته وليتعوذ وليتخذ ملكة يعود إليها أبدا حتى يستقر
التيقظ والتذكر وتتسهل التوبة والحضور فلا يتعود الغفلة عند الخلاص وتتقوى النفس
عند الأمان فتغلب وينسبل الحجاب أغلظ مما كان كما قال: * (فلما نجاهم إلى البر إذا
هم يشركون) * [العنكبوت، الآية: 65]، * (فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر
مسه) * [يونس، الآية: 12].
[تفسير سورة التوبة من آية 128 إلى آية 129]
* (رسول من أنفسكم) * ليكون بينكم وبينه جنسية نفسانية بها تقع الألفة بينكم
وبينه فتخالطونه بتلك الجنسية وتختلطون به فتتأثر من نورانيتها المستفادة من نور قلبه
أنفسكم فتتنور بها وتنسلخ عنها ظلمة الجبلة والعادة * (عزيز عليه) * شديد شاق عليه،
عنتكم مشقتكم ولقاؤكم المكروه لرأفته اللازمة للمحبة الإلهية التي له لعباده ورؤيته
إياهم بمثابة أعضائه وجوارحه لكونه ناظرا بنظر الوحدة. فكما يشق على أحدنا تألم
بعض أعضائه، يشق عليه تعذيب بعض أمته * (حريص عليكم) * لشدة اهتمامه بحفظكم
كما يشتد اهتمام أحدنا بكل واحد من أجزاء جسده وجوارحه لا يرضى بنقص أقل
جزء منه ولا بشقائه فكذلك هو، بل أشد اهتماما لدقة نظره * (بالمؤمنين رؤوف) *
ينجيهم من العقاب بالتحذير عن الذنوب والمعاصي برأفته * (رحيم) * يفيض عليهم
298

العلوم والمعارف والكمالات المقربة بالتعليم والترغيب عليها برحمته.
* (فإن تولوا) * وأعرضوا عن قبول الرأفة والرحمة لعدم الاستعداد أو زواله
وتعرضوا للشقاوة الأبدية * (فقل حسبي الله) * لا حاجة لي بكم ولا باستعانتكم كما لا
حاجة للإنسان إلى العضو المألوم المتعفن الذي يجب قطعه عقلا، أي: الله كافيني
ليس في الوجود إلا هو فلا مؤثر غيره ولا ناصر إلا هو * (عليه توكلت) * لا أرى لأحد
فعلا ولا حول ولا قوة إلا به * (وهو رب العرش العظيم) * المحيط بكل شيء يأتي منه
حكمه وأمره إلى الكل.
299

((سورة يونس (عليه السلام)))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة يونس من آية 1 إلى آية 3]
* (الر) * إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية لقوله تعالى: * (وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين 107) * [الأنبياء، الآية: 107]، و (ا ل) مر ذكرهما * (تلك) * أي: ما
أشير إليه بهذه الحروف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم المتقن تفاصيله أو
أقسم بالله باعتبار الهوية الأحدية جمعا وباعتبار الصفة الواحدية تفصيلا في باطن
الجبروت وظاهر الرحموت على ما ذكر أو على أن تلك الآيات المذكورة في السورة
* (آيات الكتاب) * ذي الحكمة * (أكان للناس عجبا) * إلى آخره، أنكر عجبهم لكون سنة
الله جارية أبدا على هذا الأسلوب في الإيحاء على الرجال وإنما كان تعجبهم لبعدهم
عن مقامه وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه * (أن لهم قدم صدق عند ربهم) * أي: سابقة بحسب العناية الأولى عظيمة أو مقاما من قربه ليس لأحد مثله
خصصهم الله به في الأزل بمحض الاجتباء وإلا لما آمنوا به * (قال الكافرون) * الذين
حجبوا عن الله فلم يطلعوا على ظهور صفاته في النفس المحمدية * (إن هذا) * الذي
جاء به * (لسحر مبين) * أي: شيء خارج عن قدرة البشر ليس إلا من عمل الشياطين.
قالوا ذلك لغلبة الشيطنة عليهم واحتجابهم بها عن الله وعبادتهم الشيطان بحيث لم
يصلوا إلى طور من الروحانيات وراءه في القدرة، فلذلك نسبوا ما تجاوز عن حد
البشرية إليه بالطبع.
* (يدبر) * أمر السماوات والأرضين على وفق حكمته بيد قدرته * (ما من شفيع) *
يشفع لأحد بإفاضة كمال وإمداد نور يقربه إلى الله وينجيه من ظلمات النفس ويطهره
من رجز صفاتها * (إلا من بعد) * أن يأذن بموهبة الاستعداد ثم بتوفيق الأسباب
* (ذلكم) * الموصوف بهذه الصفات * (الله ربكم) * الذي يربيكم ويدبر أمركم، فخصصوه
300

بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه ببعض صفاته،
فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان * (أفلا تذكرون) * ما في أنفسكم من آياته فتتفكروا فيها
وتنزجروا عن الشرك به.
[تفسير سورة يونس آية 4]
* (إليه مرجعكم جميعا) * بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى كما
هو الآن أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه عند القيامة الكبرى.
* (وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق) * في النشأة الأولى * (ثم يعيده) * في النشأة الثانية
* (ليجزي) * المؤمن والكافر على حسب إيمانهم وعملهم الصالح وكفرهم وعملهم
الفاسد وهذا على التأويل الأول، وعلى الثاني: يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم
يعيدهم بإفنائهم وظهوره ليجزي الذين آمنوا به وعملوا الصالحات ما يصلحهم للقائه
من الأعمال الرافعة لحجبهم المقربة إياهم * (بالقسط) * بحسب ما بلغوا من المقامات
بأعمالهم من مواهبه الحالية والذوقية التي يقتضيها مقامهم وشوقهم، أو ليجزي الذين
آمنوا الإيمان الحقيقي وعملوا بالله الأعمال التي تصلح العباد، أي جزاء بالتكميل
بقسطهم أي بسبب عدلهم في زمان الاستقامة أو جزاء بحسب رتبتهم ومقامهم في
الاستقامة * (والذين) * حجبوا في أي مقام كان * (لهم شراب من حميم) * لجهلهم بما
فوقه وشكهم واضطرابهم إذ لو وصلوا إلى اليقين لذاقوا برده * (وعذاب أليم) * من
الحرمان والهجران وفقدان روح الوجدان بسبب احتجابهم.
[تفسير سورة يونس من آية 5 إلى آية 10]
* (هو الذي جعل) * شمس الروح ضياء الوجود وقمر القلب نوره وقدر مسيره في
سلوكه * (منازل) * ومقامات * (لتعلموا عدد) * سني مراتبكم وأطواركم في السير إلى الله
وفي الله وحساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة.
301

* (إن في اختلاف) * ليل غلبة ظلمة النفس على القلب ونهار إشراق ضوء الروح
عليه وما خلق الله في سماوات الأرواح وأرض الأجساد * (لآيات لقوم يتقون) * حجب
صفات النفس الأمارة وبلغوا إلى رتبة النفس اللوامة فتعرفوا تلك الآيات.
* (دعواهم فيها) * أي: دعاؤهم الاستعدادي في الجنات الثلاث التي يهديهم الله
إليها بحسب نور إيمانهم * (سبحانك) * أي: تنزيهه في الأولى عن الشرك في الأفعال
بالبراءة عن حولهم وقوتهم، وفي الثانية: عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن
صفاتهم، وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم * (وتحيتهم فيها) * أي: تحية
بعضهم لبعض في كل مرتبة منها إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية من بعضهم على
بعض، أو تحية الله لهم فيها إشراقات التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات من
الحق تعالى عليهم * (وآخر دعواهم) * أي: آخر ما يقتضي استعداداتهم وسؤال الله تعالى
بالطلب والاستفاضة قيامهم بالله في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم الذي
هو الحمد الحقيقي منه وله وتخصيص ذلك الحمد به مجملا ثم مفصلا أولا باعتبار
هويته المطلقة، ثم باعتبار ربوبيته للعالمين.
[تفسير سورة يونس من آية 11 إلى آية 18]
* (ولو يعجل الله للناس الشر) * إلى آخره، لما كانت الاستعدادات مفطورة على
الخير الإضافي الصوري أو المعنوي بحسب درجاتها في الأزل كان كل دعاء منها
وطلب للخير بتهيئة قابليتها وتصفيتها وشوقها إليه يوجب حصول ذلك له عاجلا
302

وفيضانه عليه من المبدأ الفياض الذي هو منبع الخيرات والبركات كقوله تعالى:
* (وآتاكم من كل ما سألتموه) * [إبراهيم، الآية: 34] وكلما فاض عليه خير باستحقاقه
له لوجود تصفية وتزكية زاد استعداده بانضمام هذا الخير إليه، فصار أقوى وأقبل من
الأول فيكون المبدأ تعالى أسرع إجابة له وأكثر إفاضة عليه وعلى هذا يزداد الاستعداد
فيزداد الفيض حتى يبلغ مداه وهو معنى تضاعف الحسنات. ومعنى قوله: * (من جاء بالحسنة فله خير منها) * [القصص، الآية: 84]. وأما الشرور فليست إلا حجب الاستعداد
وموانع القبول وحواجز الفيض، فلما حصلت ما وقع بسببها إلا عدم القبول للخيرات
فمنعت فيضانها وبقي الاستعداد في حجاب ما حصل منها ليس إلا، وإن اقتضى
بحسب المناسبة فيضان الشر فليس في فيض المبدأ ما يجانسه فلا يفيض عليه شيء
من جنسه، وهذا معنى قوله تعالى: * (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها) * [الأنعام،
الآية: 160] اللهم إلا إذا أفرط وتجاوز حد الرحمة وأزال الاستعداد بالكلية فناسب
الشيطنة واستمد من عالمها، كما قال تعالى: * (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221)
تنزل على كل أفاك أثيم (222)) * [الشعراء، الآيات: 221 - 222]، * (لقضي إليهم) * لقطع
مدى استعدادهم فانقطع مدد الحياة الحقيقية عنهم ومدد الخير عن استعدادهم بالكلية
وأزيل إمكان التصفية منه لاقتضائه الشر، فلم يصل إليهم بعد ذلك خير صوري ولا معنوي
ولكن يمهلهم ما بقي فيهم أدنى مسكة من استعدادهم وإمكان قبول لأدنى خير.
* (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) * من جملتهم، أي: لا يرفعون رأسا من انهماكهم
في الشرور ولا يتوقعون نورا من أنوارنا ولا يتنبهون قط من غفلتهم بالرجوع إلينا
وطلب رحمتنا * (في طغيانهم) * وتماديهم في الشرور يتحيرون وينقطع مدد الخيرات
الصورية التي يسألها استعدادهم بلسان حاله عنهم حتى يزول بانغماسهم وانهماكهم في
الطبيعيات نور استعدادهم بالكلية لحصول الرين ويحق الطمس، فنكسوا على رؤوسهم
إلى أسفل سافلين.
[تفسير سورة يونس من آية 19 إلى آية 20]
* (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * على الفطرة التي فطر الله الناس عليها،
متوجهين إلى الوحدة، متنورين بنور الهداية الأصلية * (فاختلفوا) * بمقتضيات النشأة
واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات. * (ولولا كلمة سبقت من ربك) *
أي: قضاء سبق في الأزل بتعيين الآجال والأرزاق وتمادي كل واحد من الشقي
303

والسعيد إلى حيث قدر له فيما يزاوله * (لقضي بينهم فيما فيه يختلفون) * عاجلا ولميز
السعيد من الشقي، والحق من الباطل من أديانهم ومللهم ولكن حكمة الله اقتضت أن يبلغ
كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه.
[تفسير سورة يونس من آية 21 إلى آية 22]
* (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء) * قد مر أن أنواع البلاء من الضراء
والبأساء وصنوف اللأواء تكسر شرة النفس، وتلطف القلب بكشف حجب صفات
النفس وترقيق كثافات الطبع ورفع غشاوات الهوى، فلذا تنزع قلوبهم بالطبع إلى
مبدئها في تلك الحالة لرجوعها إلى مقتضى فطرتها حينئذ وعودها إلى نوريتها الأصلية
وقوتها الفطرية وميلها إلى العروج الذي هو في سنخها لزوال المانع بل الميل إلى
الجهة العلوية والمبادئ النورية مفطور في طباع القوى الملكوتية كلها. حتى النفس
الحيوانية لو تزكت عن الهيئات البدنية الظلمانية فإن التسفل من العوارض الجسمانية
حتى أن البهائم والوحوش إذا اشتدت الحال عليها في أوقات المحل وأيام الجدب
اجتمعت رافعة رؤوسها إلى السماء كأن ملكوتها يشعر بنزول الفيض من الجهة العلوية
فتستمد منها فكذا إذا توافرت على الناس النعم الظاهرة وتكاملت عليهم الأمداد
الطبيعية والمرادات الجسمانية قويت النفس من مدد الجهة السفلية واستطالت قواها
بالترفع على القلب وتكاثف الحجاب وغلظ وتسلط الهوى وغلب، وصارت السلطنة
للطبيعة الجسمانية، وارتكمت الهيئات البدنية الظلمانية فتشكل القلب بهيئة النفس وقسا
وغلظ وطغى، وأبطرته النعمة فكفر وعمى ومال إلى الجهة السفلية لبعده عن الهيئة
النورية حينئذ. وبقدر استيلاء النفس على القلب يستولي الوهم على العقل، فتستولي
الشيطنة لكون القوة العاقلة أسيرة في قيد الوهم مأمورة له يستعملها في مطالبه
ويستسعيها في مآربه من تحصيل لذات النفس وإمدادها من عالم الرجس وتقوية
صفاتها بأهب عالم الطبع وعدد مواد الحظ بالفكر، فيحتجب القلب بالرين عن قبول
صفات الحق بالكلية، وذلك معنى قوله: * (إذا لهم مكر في آياتنا قل الله أسرع مكرا) *
بإخفاء القهر الحقيقي في هذا اللطف الصوري وتعبية عذاب نيران الحرمان وحيات
هيئات الرذائل والعقارب السود ولباس القطران في هذه الرحمة الظاهرة.
304

* (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) * قد علمت أن الملكوت السماوية تنتقش بكل
حادثة تقع في هذا العالم فكل عمل حسن أو قبيح يصدر عن أحد فقد كتب عليه في
تلك الألواح وقد اتصل ملكوت كل بدن بتلك المبادئ الملكوتية فمتى هممنا بحسنة
أو سيئة ارتسمت صورته في ملكوت أبداننا على سبيل الخاطر أولا ثم أخذنا في الفكر
فيه، فإن استحكم النقش وانبعثت منه العزيمة حتى امتثلنا الخاطر الأول بالإرادة
الجازمة انطبع بإقدامنا على الفعل إلا أنه إن كان حسنة انطبع في الحال في جهة القلب
التي تلي الروح ولوح الفؤاد المنور بنوره وكتبته القوة العاقلة العملية التي هي صاحب
اليمين من الملكين الموكلين المشار إليهما بقوله تعالى: * (عن اليمين وعن الشمال قعيد) * [ق،
الآية: 17] إذ الفؤاد هو الجانب الأقوى منه وإن كان سيئة لا ينطبع في الحال لبعد
الهيئة الظلمانية من القلب وعدم مناسبته إياها بالذات، فإن أدركه التوفيق وتلألأ عليه
نور من أنوار الهداية الروحانية ندم واستغفر فمحى عنه، وعفى له، وإن لم يتداركه
بقي متلجلجا حتى أمدته النفس بظلمة صفاتها فاستقر في لوح الصدر الذي هو وجه
القلب الذي يلي النفس المظلم بظلمة النفس الغالبة عليه في صدور هذا الفعل منه
وكتبته القوة المتخيلة التي هي صاحب الشمال إذ هذا الجانب هو الأضعف وهذا هو
المراد من قولهم: صاحب الشمال لا يكتب السيئة حتى تمضي ست ساعات فإن
استغفر فيها صاحبها لم تكتب، وإن أصر كتبته. ويفهم من هذا التقرير إيتاء الكتاب
بيمين المسلم وشمال الكافر، وأما صورة الإيتاء وكيفيته فقد تجيء في موضعها إن
شاء الله تعالى.
[تفسير سورة يونس من آية 23 إلى آية 25]
* (إنما بغيكم على أنفسكم) * إلى آخره، البغي ضد العدل، فكما أن العدل
فضيلة شاملة لجميع الفضائل وهيئة وجدانية لها فائضة من نور الوحدة على النفس
فالبغي لا يكون إلا عن غاية الانهماك في الرذائل بحيث يستلزمها جميعا فصاحبها في
غاية البعد عن الحق ونهاية الظلمة كما قال: ' الظلم ظلمات يوم القيامة '. فلهذا قال:
* (على أنفسكم) *، لا على المظلوم لأن المظلوم سعد به وشقى الظالم غاية الشقاء
وهو ليس إلا متاع الحياة الدنيا إذ جميع الإفراطات والتفريطات المقابلة للعدالة
305

تمتعات طبيعية ولذات حيوانية تنقضي بانقضاء الحياة الحسية التي مثلها في سرعة
الزوال وقلة البقاء هذا المثل الذي مثل به من تزين الأرض بزخرفها من ماء المطر ثم
فسادها ببعض الآفات سريعا قبل الانتفاع بنباتها ثم تتبعها الشقاوة الأبدية والعذاب
الأليم الدائم. وفي الحديث: أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي
واليمين الفاجرة، لأن صاحبه تتراكم عليه حقوق الناس فلا تحتمل عقوبته المهل
الطويل الذي يحتمله حق الله تعالى. وقد سمعت بعض المشايخ يقول: قلما يموت
الظالم حتف أنفه وقلما يبلغ الفاسق أوان الشيخوخة، وذلك لمبارزتهما لله تعالى في
هدم النظام المصروف عنايته تعالى إلى ضبطه ومخالفتهما إياه في حكمته وعدله.
* (والله يدعو إلى دار السلام) * يدعو الكل إلى دار سلام العالم الروحاني الذي لا
آفة فيه ولا نقص ولا فقر ولا فناء بل فيه السلامة عن كل عيب والأمان من كل خوف
* (ويهدي من يشاء) * من جملتهم من أهل الاستعداد * (إلى صراط) * الوحدة.
[تفسير سورة يونس من آية 26 إلى آية 27]
* (للذين أحسنوا) * أي: جاؤوا بما يحسن به حالهم من خير فعلي أو قولي أو
علمي مما هو سبب كمالهم المثوبة * (الحسنى) * من الكمال الذي يفيض عليهم بسبب
ذلك الخير * (وزيادة) * مرتبة مما كان قبله بالترقي أو زيادة في استعداد قبول الخيرات
والكمالات بانضمام هذا الكمال والنور الفائض عليهم إلى استعدادهم الأول على ما
ذكر * (ولا يرهق) * وجوه قلوبهم غبار من كدورات صفات النفس وقيام غلباتها * (ولا ذلة) * من ميل قلوبهم إلى الجهة السفلية.
* (أولئك أصحاب الجنة) * التي يقتضيها حالهم وارتقاؤهم من الجنان المذكورة
* (هم فيها خالدون) * * (والذين كسبوا) * أجناس * (السيئات) * من أعمال وأقوال وعقائد
تحجب استعدادهم عن قبول الكمال * (جزاء سيئة بمثلها) * من الهيئة التي ارتكبت على
قلوبهم من سيئاتهم فمنعتها الصفاء والنور * (وترهقهم ذلة) * الميل إلى الجهة السفلية
* (ما لهم من الله من عاصم) * يعصمهم من تلك الذلة والخذلان لوجود الحجاب وعدم
قبول هذه العصمة لثبوت الكدورة * (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل) * لفرط
ارتكاب الهيئة المظلمة من الميول الطبيعية والأعمال الردية عليها. * (أولئك أصحاب النار) * التي يقتضيها حالهم في التسفل من نيران الآثار والأفعال.
306

[تفسير سورة يونس من آية 28 إلى آية 36]
* (ويوم نحشرهم جميعا) * في المجمع الأكبر عين جمع الوجود المطلق * (ثم نقول للذين أشركوا) * منهم أي: المحجوبين الواقفين مع الغير بالمحبة والطاعة
* (مكانكم) * أي: الزموا مكانكم * (أنتم وشركاؤكم) * ومعناه: وقفوا مع ما وقفوا معه
في الموقف مع قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم وتبرء المعبود
من العابد لانقطاع الآلات البدنية والأغراض الطبيعية التي توجب تلك الوصل وهو
معنى قوله: * (فزيلنا بينهم) * أي: مع كونهم في الموقف معا فرقنا بينهم في الوجهة
وذلك عند علو رتبة المعبود ودنو رتبة العابد وتباين حاليهما إذا كان المعبود شريفا
كالملائكة والمسيح وعزير وأمثالهم ممن له السابقة عند الله كما قال تعالى: * (إن الذين
سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون 101) * [الأنبياء، الآية: 101]. * (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) * بل تعبدون الشيطان بطاعتكم إياه وما اخترعتموه في
أوهامكم من أباطيل فاسدة وأماني كاذبة.
* (فكفى بالله شهيدا) * إلى آخره، أي: الله يعلم أنا ما أمرناكم بذلك وما أردنا
عبادتكم إيانا * (هنالك) * أي: عند ذلك الموقف تختبر وتذوق * (كل نفس ما أسلفت) *
في الدنيا * (وردوا إلى الله) * في موقف الجزاء بالانقطاع عن الآلهة وانفرادهم عنها
* (مولاهم الحق) * المتولي جزاءهم بالعدل والقسط * (وضل عنهم ما كانوا يفترون) * من
اختراعاتهم وأصول دينهم ومذهبهم وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة.
[تفسير سورة يونس من آية 37 إلى آية 42
307

* (وما كان هذا القرآن) * اختلاقا * (من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه) * من
اللوح المحفوظ * (وتفصيل الكتاب) * الذي هو الأم له كقوله تعالى: * (وإنه في أم
الكتاب لدينا لعلي حكيم (4)) * [الزخرف، الآية: 4] أي: كيف يكون مختلقا وقد
أثبت قبله في كتابين من علم مفصلا كما هو في اللوح المحفوظ ومجملا في أم
الكتاب الذي هذا تفصيله.
* (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) * أي: لما جهلوا كيفية ثبوته في علم الله
ونزوله على سيدنا محمد عليه صلى الله عليه وسلم وقصر علمهم عن ذلك كذبوا به * (ولما يأتهم تأويله) * أي: ظهور ما أشار إليه في مواعيده وأمثاله مما يؤول أمره وعلمه إليه
فلا يمكنهم التكذيب لأنه إذا ظهرت حقائقه لا يمكن لأحد تكذيبه، مثل ذلك
التكذيب العظيم * (كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان) * عاقبتهم لما ظلموا
بالتكذيب * (ومنهم من يؤمن به) * أي: سيؤمن به لرقة حجابه * (ومنهم من لا يؤمن به) *
أبدا لغلظ حجابه * (ومنهم من يستمعون إليك) * ولكن لا يفهمون إما لعدم الاستعداد
في الأصل وإما لرسوخ الهيئات المظلمة الحاجبة لنور الاستعداد فيهم وإما لاجتماع
الأمرين كالأصم الذي لا عقل له فلا يسمع ولا يتفطن للإشارة، فكيف يمكن إفهامه.
[تفسير سورة يونس من آية 43 إلى آية 46]
* (ومنهم من ينظر إليك) * ولكن لا يبصر الحق ولا حقيقتك لأحد الأمرين
المذكورين أو كليهما كالأعمى الذي انضم إلى فقدان بصره فقدان البصيرة فلا يبصر
ولا يستبصر فكيف تمكن هدايته.
* (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * لما ذكر الصمم والعمى اللذين يدلان على عدم
استعداد الإدراك أشعر الكلام بوقوع الظلم لوجود الاستعداد لبعض وعدمه لبعض
فسلب الظلم عن نفسه لأن عدم الاستعداد في الأصل ليس ظلما لعدم إمكان ما هو
308

أجود منه بالنسبة إلى خصوصية ذلك وهويته فكان عينه مقتضيا له في رتبة من مراتب
الإمكان كما لا يمكن للحمار مع حماريته استعداد الإدراك الإنساني وكان عينه
مستدعيا لما هو عليه من الاستعداد الحماري ولا يطلب منه وراء ما في استعداده فلا
ظلم هذا إذا لم يكن في الأصل وأما إذا بطل برسوخ الهيئات المظلمة فلا كلام فيه
وكلاهما ظالم لنفسه. أما الأول فلقصوره في درجات الإمكان ونقصانه بالإضافة إلى ما
فوقه كقصور الحمار مثلا عن الإنسان ونقصانه بالإضافة إليه لا في نفسه فإنه في حد نفسه
ليس بقاصر ولا ناقص. وأما الثاني فظاهر وعلى هذا معنى * (أنفسهم يظلمون) * ينقصون
حظها، أو إن الله لا يظلم الناس شيئا بأن يطلب منهم ما ليس في استعدادهم فيعاقبهم على
ذلك ولكن الناس أنفسهم يظلمون فيستعملون استعداداتهم فيما لم تخلق لأجله.
* (ويوم يحشرهم كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار) * لعدم إحساسهم بالحركة
المستلزم لذهولهم عن الزمان إذ الذاهل عن الحركة ذاهل عن الزمان، فسواء عندهم
الساعة الواحدة والدهور المتطاولة * (يتعارفون بينهم) * بحكم سابقة الصحبة وداعية
الهوى اللازمة للجنسية الأصلية بدلا التشاؤم. ثم إن بقيت الجنسية الأصلية والمناسبة
الفطرية لاتحادهم في الوجهة واتفاقهم في المقصد بقي التعارف بينهم، وإن لم يبق
بسبب اختلاف الأهواء وتباين الآراء وتفاوت الهيئات المستفادة من لواحق النشأة
وعوارض المادة انقلب إلى التناكر * (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله) * لوقوعهم في
وحشة التناكر حينئذ واحتجابهم بحجب عاداتهم الفاسقة وهيئات اعتقاداتهم الفاسدة
* (وما كانوا مهتدين) * وبطل نور استعدادهم فلا يهتدون إلى الله ولا إلى التعارف
فخسئوا مبغوضين مطرودين لا يألفون أنيسا ولا يؤون أليفا.
[تفسير سورة يونس من آية 47 إلى آية 56]
309

* (ولكل أمة رسول) * يجانسهم في الأحوال النفسانية ليمكن بينهم الألفة الموجبة
للاستفادة منه ويمكنه النزول إلى مبالغ عقولهم ومراتب فهومهم فيزكيهم بما يصلح
أحوالهم ويكشف حجبهم ويعلمهم بما يوجب ترقيهم عن مقاماتهم ويهديهم إلى الله،
* (فإذا جاء رسولهم قضي بينهم) * بهداية من اهتدى منهم وضلالة من ضل وسعادة من
سعد وشقاوة من شقي لظهور ذلك بوجوده وطاعة بعضهم إياه لقربه منه وإنكار
بعضهم له لبعده عنه * (بالقسط) * أي: بالعدل الذي هو الغالب على حال النبي لكونه
ظاهر توحيده وسيرته وطريقته * (وهم لا يظلمون) * بنسبة خلاف ما هو حالهم إليهم
ومجازاتهم به أو قضى بينهم بإنجاء من اهتدى به وإثابته وإهلاك من ضل وتعذيبه
لظهور أسباب ذلك بوجوده.
* (ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) * إنكار لاحتجابهم عن القيامة وعدم
وقوفهم على معناها إذ لو علموا كيفيته بارتفاع حجبهم بالتجرد عن ملابس النفس
صدقوهم في ذلك وما أنكروا. * (قل لا أملك لنفسي) * إلى آخره، درجهم إلى شهود
الأفعال بسلب الملك والتأثير عن نفسه ووجوب وقوع ذلك عنه بمشيئة الله ليعرفوا آثار
القيامة، ثم لوح إلى أن القيامة الصغرى هي بانقضاء آجالهم المقدرة عند الله بقوله:
* (لكل أمة أجل) * إلى آخره.
[تفسير سورة يونس من آية 57 إلى آية 64]
* (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة) * أي: تزكية لنفوسكم بالوعد والوعيد
والإنذار والبشارة والزجر عن الذنوب المورطة في العقاب والتحريض على الأعمال
الموجبة للثواب لتعملوا على الخوف والرجاء * (وشفاء لما في الصدور) * أي: القلوب
من أمراضها كالشك والنفاق والغل والغش وأمثال ذلك بتعليم الحقائق والحكم
310

الموجبة لليقين وتصفيتها لقبول المعارف والتنور بنور التوحيد، والتهيئ لتجليات
الصفات * (وهدى) * لأرواحكم إلى الشهود الذاتي * (ورحمة) * بإفاضة الكمالات اللائقة
بكل مقام من المقامات الثلاث بعد حصول الاستعداد في مقام النفس بالموعظة ومقام
القلب بالتصفية ومقام الروح بالهداية * (للمؤمنين) * بالتصديق أولا ثم باليقين ثانيا ثم
بالعيان ثالثا.
* (قل بفضل الله) * أي: بتوفيقه للقبول في المقامات الثلاثة * (وبرحمته) *
بالمواهب الخلقية والعلمية والكشفية في المراتب الثلاث فليعتنوا وإن كانوا يفرحون
* (فبذلك فليفرحوا) * لا بالأمور الفانية القليلة المقدار، الدنيئة القدر والوقع * (هو خير مما يجمعون) * من الخسائس الفاسدة والمحقرات الزائلة من جملة الحطام إن كانوا
أصحاب دراية وفطنة وأرباب قدر وهمة.
* (قل أرأيتم ما أنزل الله) * إلى آخره، أي: أخبروني ما أنزل الله من رزق معنوي
كالحقائق والمعارف والأحوال والمواهب وكالآداب والشرائع والمواعظ والنصائح
* (فجعلتم) * بعضه * (حراما) * كالقسم الأول * (و) * بعضه * (حلالا) * كالقسم الثاني * (قل
لله أذن لكم) * في الحكم بالتحريم والتحليل * (أم على الله تفترون وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة) * الوسطى بتجرد القلب عن ملابس النفس وحصول اليقين
أو يوم القيامة الكبرى بالتوحيد الذاتي وظهور العيان، أي: لا يبقى ظنهم وليس شيئا
حينئذ أو يوم القيامة الصغرى بالموت وحصول الحرمان أي: يكون ظنهم وبالا وعذابا
حينئذ * (إن الله لذو فضل على الناس) * بصنفي العلمين وإفاضتهما وتوفيق القبول لهما
وتهيئة الاستعداد لقبولهما * (ولكن أكثرهم لا يشكرون) * نعمته فيستعملون ما وهب لهم
من الاستعداد والعلوم في تحصيل المنافع الجزئية والمطالب الحسية ويكفرون نعمته
فيمنعون عن الزيادة.
* (ألا إن أولياء الله) * المستغرقين في عين الهوية الأحدية بفناء الأنية * (لا خوف عليهم) * إذ لم يبق منهم بقية خافوا بسببها من حرمان ولا غاية وراء ما بلغوا فيخافوا
من حجبه * (ولا هم يحزنون) * لامتناع فوات شيء من الكمالات واللذات منهم،
فيحزنوا عليه. وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من هم؟
فقال: ' هم الذين يذكروا الله برؤيتهم '. وهذا رمز لطيف منه صلى الله عليه وسلم. وعن عمر
رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ' إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا
شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله '، قالوا: يا رسول الله،
أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فلعلنا نحبهم. قال: ' هم قوم تحابوا في الله على غير
311

أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوجههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور،
لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ' ثم قرأ الآية. قوله: وإنهم لعلى
منابر من نور، يريد به اتصالهم بالمبادئ العالية الروحانية كالعقل الأول وما يليه.
* (الذين آمنوا وكانوا يتقون) * إن جعل صفة لأولياء الله فمعناه الذين آمنوا
بالإيمان الحقي وكانوا يتقون بقاياهم وظهور تلويناتهم.
* (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * بوجود الاستقامة في الأعمال والأخلاق المبشرة
بجنة النفوس * (وفي الآخرة) * بظهور أنوار الصفات والحقائق الروحانية والمعارف
الحقانية عليهم المبشرة بجنة القلوب وحصول الذوق بهما واللذة * (لا تبديل لكلمات الله) * لحقائقه الواردة عليهم وأسمائه المنكشفة لهم وأحكام تجلياته النازلة بهم، وإن
جعل كلاما برأسه مبتدأ فمعناه الذين آمنوا الإيمان اليقيني وكانوا يتقون حجب صفات
النفس وموانع الكشف من التشكيكات الوهمية والوساوس الشيطانية * (لهم البشرى في الحياة الدنيا) * بوجدان لذة برد اليقين في النفس واطمئنانها بنزول السكينة وفي الآخرة
بوجدان ذوق تجليات الصفات وأثر أنوار المكاشفات لا تبديل لكلمات الله من
علومهم اللدنية وحكمهم اليقينية أو فطرتهم التي فطرهم الله عليها فإن كل نفس كلمة.
[تفسير سورة يونس من آية 65 إلى آية 109
312

((الصفحة فارغة))
313

* (ولا يحزنك قولهم) * أي: لا تتأثر به فإنه مراء وشاهد عزة الله وقهره لتنظر
إليهم بنظر الفناء وترى أعمالهم وأقوالهم وما يهددونك به كالهباء فمن شاهد قوة الله
وعزته يرى كل القوة والعزة لا قوة لأحد ولا حول. * (هو السميع) * لأقوالهم فيك
فيجازيهم * (العليم) * لما ينبغي أن يفعل بهم ثم بين ضعفهم وعجزهم وامتناع غلبتهم
عليه بقوله: * (ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض) * كلهم تحت ملكته وتصرفه
وقهره لا يقدرون على شيء بغير إذنه ومشيئته وإقداره إياهم * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) * وأي شيء يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء، أي: إذا كان
الكل تحت قهره وملكته فما يتبعون من دون الله ليس بشيء ولا تأثير له ولا قوة * (إن يتبعون إلا) * ما يتوهمونه في ظنهم ويتخيلونه في خيالهم وما هم إلا يقدرون وجود
شيء لا وجود له في الحقيقة.
* (هو الذي جعل لكم) * ليل الجسم * (لتسكنوا فيه) * ونهار الروح لتبصروا به
حقائق الأشياء وما تهتدون به إليه * (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) * كلام الله به،
فيفهمون بواطنه وحدوده ويطلعون به على صفاته وأسمائه فيشاهدونه موصوفا ومتسما
بها.
* (قالوا اتخذ الله ولدا) * أي: معلولا يجانسه * (سبحانه) * أنزهه عن مجانسة شيء
* (هو الغني) * الذي وجوده بذاته وبه وجود كل شيء، فكيف يماثله شيء، ومن له
الوجود كله فكيف يجانسه شيء.
* (واتل عليهم نبأ نوح) * في صحة توكله على الله ونظره إلى قومه وإلى شركائهم
بعين الفناء وعدم مبالاته بهم وبمكايدهم ليعتبروا به حالك، فإن الأنبياء كلهم في ملة
التوحيد والقيام بالله وعدم الالتفات إلى الخلق سواء.
* (وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم) * أي: إيمانا يقينيا * (فعليه توكلوا) * جعل
التوكل من لوازم الإسلام وهو إسلام الوجه لله تعالى، ولم يجعل الإسلام من لوازم
الإيمان أي: إن كمل إيمانكم ويقينكم بحيث أثر في نفوسكم وجعلها خالصة لله فانية
فيه لزم التوكل عليه فإن أول مرتبة الفناء هو فناء الأفعال ثم الصفات ثم الوجود فإن
تم الفناء لزم التوكل الذي هو فناء الأفعال وإن أريد الإسلام بمعنى الانقياد كان شرطا
314

في التوكل لا ملزوما له وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينا فعليه توكلوا بشرط
أن لا يكون لكم فعل ولا تروا لأنفسكم ولا لغيركم قوة وتأثيرا بل تكونوا منقادين
كالميت فإن شرط صحة التوكل فناء بقايا الأفعال والقوى كما تقول: إن كرهت هذا
الشجر فاقلعه إن قدرت، والباقي إلى آخر السورة بعضه لا يقبل التأويل وبعضه معلوم
مما مر.
315

((سورة هود))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة هود من آية 1 إلى آية 6]
* (الر كتاب) * مر ذكره * (أحكمت آياته) * أي: أعيانه وحقائقه في العالم الكلي
بأن أثبتت دائمة على حالها لا تتبدل ولا تتغير ولا تفسد محفوظة عن كل نقص وآفة
* (ثم فصلت) * في العالم الجزئي وجعلت مبينة في الظاهر معينة بقدر معلوم * (من لدن حكيم) * أي: أحكامها وتفصيلها من لدن حكيم بناها على علم وحكمة لا يمكن
أحسن منها وأشد أحكاما * (خبير) * بتفاصيلها على ما ينبغي في النظام الحكمي في
تقديرها وتوقيتها وترتيبها.
* (ألا تعبدوا إلا الله) * أي: ينطق عليكم بلسان الحال والدلالة أن لا تشركوا بالله
في عبادته وخصوصه بالعبادة * (إنني لكم منه نذير وبشير) * كلام على لسان الرسول،
أي: إنني أنذركم من الحكيم الخبير عقاب الشرك وتبعته وأبشركم منه بثواب التوحيد
وفائدته.
* (وأن استغفروا ربكم) * أي: وحدوه واطلبوا منه أن يغفر هيئات النظر إلى الغير
والاحتجاب بالكثرة والتقيد بالأشياء والوقوف معها حتى أفعالكم وصفاتكم * (ثم توبوا إليه) * ارجعوا إليه بالفناء فيه ذاتا * (يمتعكم) * في الدنيا تمتيعا * (حسنا) * على وفق
الشريعة والعدالة حالة البقاء بعد الفناء إلى وقت وفاتكم * (ويؤت كل ذي فضل) * في
الأخلاق والعلوم والكمالات * (فضله) * في الثواب والدرجات أو يمتعكم بلذات
تجليات الأفعال والصفات عند تجردكم إلى وقت فنائكم أو * (ويؤت كل ذي فضل) *
في الاستعداد فضله في الكمال والمرتبة عند الترقي والتدلي * (وإن تولوا) * أي:
316

تعرضوا عن التوحيد والتجريد * (فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) * شاق عليكم وهو
يوم الرجوع إلى الله القادر على كل شيء أي: يوم ظهور عجزكم وعجز ما تعبدون
بظهوره تعالى في صفة قادريته فيقهركم بالعذاب.
[تفسير سورة هود من آية 7 إلى آية 8]
* (وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام) * أي: خلق العالم الجسماني
في ست جهات * (وكان عرشه على الماء) * أي: عرشه الذي هو العقل الأول مبتنيا
على العلم الأول مستندا إليه مقدما بالوجود على عالم الأجسام، وإن أولنا الأيام الستة
بمدة الخفاء كما مر وخلق السماوات والأرض باختفائه تعالى بتفاصيل الموجودات
فمعنى كون عرشه على الماء كونه قبل بداية الاختفاء ظاهرا معلوما للناس كقولك:
فعلته على علم، أي: في حال كونه معلوما لي، أو كوني عالما به، أي: على
المعلومية كما قال حارثة حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' كيف أصبحت يا حارثة؟ ' قال:
أصبحت مؤمنا حقا. قال صلى الله عليه وسلم: ' لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ ' قال: رأيت
أهل الجنة يتزاورون ورأيت أهل النار يتعاوون ورأيت عرش ربي بارزا. قال صلى الله عليه وسلم:
' أصبت، فالزم '. وقد عبر في الشرع عن المادة الهيولانية بالماء في مواضع كثيرة منها
ما ورد في الحديث: إن الله خلق أول ما خلق جوهرة، فنظر إليها بعين الجلال فذابت
حياء نصفها ماء ونصفها نار. فإن أولناه بها فمعناه: وكان عرشه قبل السماوات
والأرض بالذات لا بالزمان مستعليا على المادة فوقها بالرتبة، وإن شئت التطبيق على
تفاصيل وجودك فمعناه خلق سماوات القوى الروحانية وأرض الجسد في الأشهر الستة
التي هي أقل مدة الحمل وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد
مستوليا عليه متعلقا به تعلق التصوير والتدبير * (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * جعل غاية
خلق الأشياء ظهور أعمال الناس أي: خلقناهم لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي
يترتب عليه الجزاء أيكم أحسن عملا فإن علم الله قسمان: قسم يتقدم وجود الشيء في
اللوح، وقسم يتأخر وجوده في مظاهر الخلق والبلاء الذي هو الاختبار هو هذا القسم.
[تفسير سورة هود من آية 9 إلى آية 10]
317

* (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة) * إلى آخره، ينبغي للإنسان أن يكون في الفقر
والغنى والشدة والرخاء والمرض والصحة واثقا بالله متوكلا عليه لا يحتجب عنه
بوجود نعمة ولا بسعيه وتصرفه في الكسب ولا بقوته وقدرته في الطلب ولا بسائر
الأسباب والوسائط لئلا يحصل اليأس عند فقدان تلك الأسباب والكفران والبطر
والأشر عند وجودها فيبعد بها عن الله تعالى وينساه فينساه الله بل يرى الإعطاء والمنع
منه دون غيره، فإن أتاه رحمة من صحة أو نعمة شكره أولا برؤية ذلك منه وشهود
المنعم في صورة النعمة، وذلك بالقلب ثم بالجوارح باستعمالها في مراضيه وطاعته
والقيام بحقوقه تعالى فيها ثم باللسان بالحمد والثناء متيقنا بأنه القادر على سلبها،
محافظا عليها بشكرها مستزيدا إياها اعتمادا على قوله تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * [إبراهيم، الآية: 7].
قال أمير المؤمنين عليه السلام: ' إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا
أقصاها بقلة الشكر '، ثم إن نزعها منه فليصبر ولا يتأسف عليها عالما بأنه هو الذي
نزع دون غيره لمصلحة تعود إليه. فإن الرب تعالى كالوالد المشفق في تربيته إياه، بل
أرأف وأرحم، فإن الوالد محجوب عما يعلمه تعالى إذ لا يرى إلا عاجل مصالحه
وظاهرها وهو العالم بالغيب والشهادة فيعلم ما فيه صلاحه عاجلا وآجلا راضيا بفعله
راجيا إعادة أحسن ما نزع منها إليه إذ القانط من رحمته بعيد منه لا يستوسع رحمته
لضيق وعائه محجوب عن ربوبيته لا يرى عموم فيض رحمته ودوامه ثم إذا أعادها لم
يفرح بوجودها كما لم يحزن بفقدانها ولا يفخر بها على الناس، فإن ذلك من الجهل
وظهور النفس وإلا لعلم أن ذلك ليس منه وله فبأي سبب يسوغ له فخر بما ليس له
ومنه بل لله ومن الله.
[تفسير سورة هود من آية 11 إلى آية 15]
* (إلا الذين صبروا) * استثناء من الإنسان أي هذا النوع يؤوس كفور فرح فخور
في الحالين إلا الذين صبروا مع الله واقفين معه في حالة الضراء والنعماء والشدة
318

والرخاء كما قال عمر رضي الله عنه: الفقر والغنى مطيتان لا أبالي أيهما أمتطي،
* (وعملوا) * في الحالين ما فيه صلاحهم مما ذكر * (أولئك لهم مغفرة) * من ذنوب ظهور
النفس باليأس والكفران والفرح والفخر في الحالين * (وأجر كبير) * من ثواب تجليات
الأفعال والصفات وجنانها * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) * لما لم يقبلوا كلامه
صلى الله عليه وسلم بالإرادة وأنكروا قوله بالاقتراحات الفاسدة وقابلوه بالعناد والاستهزاء ضاق صدره
ولم ينبسط للكلام إذ الإرادة تجذب الكلام وقبول المستمع يزيد نشاط المتكلم
ويوجب بسطه فيه، وإذا لم يجد المتكلم محلا قابلا لم يتسهل له وبقي كربا عنده
فشجعه الله تعالى بذلك، وهيج قوته ونشاطه بقوله: * (إنما أنت نذير) * فلا يخلو
إنذارك من إحدى الفائدتين إما رفع الحجاب بأن ينجع فيمن وفقه الله تعالى لذلك،
وإما إلزام الحجة لمن لم يوفق لذلك * (والله على كل شيء وكيل) * فكل الهداية إليه.
* (من كان يريد الحياة الدنيا) * أي: كل من يعمل عملا وإن كان من أعمال
الآخرة في الظاهر بنية الدنيا لا يريد به إلا حظا من حظوظها يوفيه الله تعالى أجره فيها
ولا يصل إليه من ثواب الآخرة شيء، فإن لكل أحد نصيبا من الدنيا بمقتضى نشأته
التي هو عليها ونصيبا من الآخرة بمقتضى فطرته التي فطر عليها، فإذا لم يرد بعمله
إلا الدنيا فقد أقبل بوجهه إليها وأعرض عن الآخرة وجعل النصيب الدنيوي بانجذابه
وتوجهه إلى الجهة السفلية حجاب النصيب الأخروي حتى انتكست فطرته وتبعت
النشأة واستخدمت نفسه القلب في طلب حظوظها فصار نصيبه من الآخرة منضما إلى
النصيب الدنيوي * (وهم فيها) * لا ينقصون أي: لا ينقص من ثواب أعمالهم في الدنيا
شيء لأنه لما تشكل القلب بهيئة النفس تمثل حظه بصورة لاحظ
النفس.
[تفسير سورة هود من آية 16 إلى آية 22]
319

* (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار) * لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية
وحرمانها عن مقتضى استعدادها وتألمها بما لا يلائمها من مكسوباتها * (وحبط ما صنعوا) * من أعمال البر في الآخرة لكونها بنية الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم: ' الأعمال بالنيات
ولكل امرئ ما نوى ' إلى آخر الحديث.
* (أفمن كان على بينة من ربه) * أي: أمن كان يريد الحياة الدنيا فمن كان على
بينة من ربه يعني بعد ما بينهما في المرتبة بعدا عظيما من كان على بينة أي: يقين
برهاني عقلي أو وجداني كشفي ويتبع ذلك اليقين * (شاهد) * من ربه أي: القرآن
المصدق للبرهان العقلي في التوحيد وصحة النبوة وأصول الدين، ومن قبل هذا القرآن
* (كتاب موسى) * أي: يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى في حال كونه * (إماما) *
يؤتم به وقدوة يتمسك بها في تحقيق المطالب ورحمة رحيمية تهدي الناس وتزكيهم
وتعلمهم الحكم والشرائع * (أولئك يؤمنون به) * بالحقيقة دون الطالبين لحظوظ الدنيا.
* (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) * بإثبات وجود غيره وإسناد صفته من
الكلام ونحوه إلى الغير * (أولئك يعرضون على ربهم) * بالوقف في الموقف الأول
محجوبين مخذولين * (ويقول الأشهاد) * الموحدون * (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) *
بالشرك ثم طردوا ولعنوا بسبب شركهم الذي هو أعظم الظلم * (الذين يصدون) * الناس
عن سبيل التوحيد ويصفونها بالاعوجاج مع استقامتها وهم مع احتجابهم عن الحق
محجوبون عن الآخرة دون غيرهم من أهل الأديان.
[تفسير سورة هود من آية 23 إلى آية 28]
* (إن الذين آمنوا) * الإيمان اليقيني الغيبي * (وعملوا) * الأعمال التي تصلحهم للقاء
الله وتقربهم إليه من التوبة والزهد الحقيقي والإنابة والعبادة والصبر والشكر وما يناسبها
من أعمال أهل السلوك ومقاماتهم * (وأخبتوا إلى ربهم) * وتذللوا واطمأنوا إليه بالشوق
وانقطعوا إليه متفانين فيه * (أولئك أصحاب) * جنة القلوب * (هم فيها خالدون).
320

* (فقال الملأ الذين كفروا من قومه) * أي: الإشراق المليئون بأمور الدنيا،
القادرون عليها، الذين حجبوا بعقلهم ومعقولهم عن الحق. * (ما نراك إلا بشرا مثلنا) *
لكونهم ظاهريين واقفين على حد العقل المشوب بالوهم المتحير بالهوى الذي هو
عقل المعاش لا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه من العقل غير مطلعين على
مراتب الاستعدادات والكمالات طورا بعد طور ورتبة فوق رتبة إلى ما لا يعلمه إلا
الله، فلم يشعروا بمقام النبوة ومعناها * (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) * فقراؤنا
الأدنون منا، إذ المرتبة والرفعة عندهم بالمال والجاه ليس إلا كما قال تعالى: * (يعلمون
ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون 7) * [الروم، الآية: 7].
* (بادي الرأي) * أي: بديهة الرأي وأوله لأنهم ضعاف العقول، عاجزون عن
كسب المعاش، ونحن أصحاب فكر ونظر قالوا ذلك لاحتجابهم بعقلهم القاصر عن
إدراك الحقيقة والفضيلة المعنوية لقصر تصرفه على كسب المعاش والوقوف على
حدة. وأما أتباع نوح عليه السلام فإنهم أصحاب همم بعيدة وعقول حائمة حول
القدس غير متصرفة في المعاش ولا ملتفتة إلى وجوه كسبه وتحصيله، فلذلك استنزلوا
عقولهم واستحقروها * (وما نرى لكم علينا من فضل) * وتقدم فيما نحن بصدده لكون
الفضل عندهم محصورا في التقدم بالغنى والمال والجاه * (بل نظنكم كاذبين) * لعدم
إدراك ما تثبتون وفهم ما تقولون مع وفور كياستنا * (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) *
يجب عليكم من طريق العقل الإذعان له * (وآتاني رحمة) * أي: هداية خاصة كشفية
متعالية عن درجة البرهان * (من عنده) * أي: فوق طور العقل من العلوم اللدنية ومقام
النبوة * (فعميت عليكم) * لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة ولا
يمكن تلقيها إلا بالإرادة لأهل الاستعداد فكيف نلزمكموها ونجبركم عليها * (وأنتم لها كارهون) * أي: إن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم وصفوا استعدادكم إن وهب لكم واتركوا
إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوها إن شاء الله.
[تفسير سورة هود من آية 29 إلى آية 37]
321

* (ولا أسألكم عليه مالا) * أي: الغرض عندكم من كل أمر محصور في حصول
المعاش وأنا لا أطلب ذلك منكم فتنبهوا لغرضي وأنتم عقلاء بزعمكم * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * لأنهم أهل القربة والمنزلة عند الله فإن طردتهم كنت عدو الله مناويا
لأوليائه لست بنبي حينئذ * (ولكني أراكم قوما تجهلون) * ما يصلح به المرء للقاء الله
ولا تعرفون الله ولا لقاءه لذهاب عقولكم في الدنيا أو تسفهون تؤذون المؤمنين
بسفهكم.
* (ويا قوم من ينصرني من الله) * الذي هو القاهر فوق عباده * (إن طردتهم) *
واستوجبت قهره بطردهم * (أفلا تذكرون) * مقتضيات الفطرة الإنسانية فتنزجرون عما
تقولون * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * أي: أنا أدعي الفضل بالنبوة لا بالغنى
وكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك
* (ولا أقول) * للفقراء المؤمنين الذين تستحقرونهم وتنظرون إليهم بعين الحقارة * (لن يؤتيهم الله خيرا) * كما تقولون، إذ الخير عندي ما عند الله لا المال * (الله أعلم بما في أنفسهم) * من الخير مني ومنكم وهو أعرف بقدرهم وخطرهم وما يعلم أحد قدر
خيرهم لعظمه * (إني إذا) * أي: إذ نفيت الخير عنهم أو طردتهم * (لمن الظالمين) *.
[تفسير سورة هود من آية 38 إلى آية 40]
* (ويصنع الفلك) * إلى آخره، تفسيره على ما دل عليه الظاهر حق يجب الإيمان
به وصدق لا بد من تصديقه كما جاء في التواريخ من بيان قصة الطوفان وزمانه
وكيفيته وكميته. وأما التأويل فمحتمل بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو
ومن آمن معه من قومه كما قال النبي عليه صلى الله عليه وسلم: ' مثل أهل بيتي مثل سفينة
نوح، من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق '. والطوفان باستيلاء بحر الهيولى
وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في كلام إدريس النبي
عليه السلام ومخاطباته لنفسه ما معناه: إن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت
322

سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت،
فعلى هذا يكون معنى ويصنع الفلك يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر
العلوم التي تنظم بها الأعمال وتحكم.
* (وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه) * كما ترى من عادة الشطار وذوي
الخلاعة المشتهرين بالإباحة يستهزئون بالمتشرعين والمتقيدين بقيودها * (قال إن تسخروا منا) * بجهلكم * (فإنا نسخر منكم) * عند ظهور وخامة عاقبة كفركم واحتجابكم * (كما تسخرون فسوف تعلمون) * عند ذلك * (من يأتيه عذاب يخزيه) * في الدنيا من هلاك
وموت أو مرض وضر أو شدة وفقر، كيف يضطرب ويتحسر على ما يفوت منه
* (ويحل عليه عذاب مقيم) * دائم في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وهيئات الرذائل
المظلمة والخسران.
* (حتى إذا جاء أمرنا) * بإهلاك أمتك * (وفار) * تنور البدن باستيلاء الأخلاط
الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار
الروح الحيوانية أو أمرنا بإهلاككم المعنوي وفار التنور باستيلاء ماء هوى الطبيعة على
القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) *
أي: من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء
الأشخاص. ومعنى حملهما فيها: علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية، فإن علمه
جزء من سفينته الحاوية للكل لتركبها من العلم والعمل، فمعلوميتهما محموليتهما
وعالميته بهما حامليته إياهما فيها * (وأهلك) * ومن يتصل بك في دينك وسيرتك من
أقاربك * (إلا من سبق عليه القول) * أي: الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره * (ومن آمن) *
بالله من أمتك.
[تفسير سورة هود من آية 41 إلى آية 44]
* (وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها) * أي: باسم الله الأعظم الذي هو
وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إنفاذها وإجراء أحكامها وترويجها في
بحر العالم الجسماني وإقامتها وأحكامها وإثباتها كما ترى من إجراء كل شريعة وإنفاذ
323

أمرها وتثبيتها وأحكامها بوجود نبي أو إمام من أئمتها أو حبر من أحبارها * (إن ربي لغفور) * يغفر هيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم،
المغرقة في بحرها بمتابعة الشريعة * (رحيم) * يرحم بإفاضة المواهب العلمية والكشفية
والهيئات النورانية التي ينجيكم بها لولا مغفرته ورحمته لغرقتم وهلكتم مثل إخوانكم.
* (وهي تجري بهم في موج) * من فتن بحر الطبيعة الجسمانية واستيلاء دواعيها
على الناس وغلبة أهوائها باتفاقهم على مقتضياتها كالجبال الحاجبة للنظر، المانعة
للسير أو موج من انحرافات المزاج وغلبات الأخلاط المردية * (ونادى نوح ابنه) *
المحجوب بعقله المغلوب بالوهم الذي هو عقل المعاش عن دين أبيه وتوحيده * (وكان في معزل) * عن دينه وشريعته * (يا بني اركب معنا) * أي: ادخل في ديننا * (ولا تكن مع الكافرين) * المحجوبين عن الحق، الهالكين بموج هوى النفس، المغرقين في بحر
الطبع * (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) * يعني به الدماغ الذي هو محل
العقل، أي: سأستعصم بالعقل والمعقول ليعصمني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق
فيه * (قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا) * الذي * (رحم) * بدين التوحيد والشرع * (وحال بينهما) * موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة، أي: حجبه عن أبيه ودينه
وتوحيده * (فكان من المغرقين) * في بحر الجسمانية.
* (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) * أي: نودي من جهة الحق على
لسان الشرع أرض الطبيعة الجسمانية أي: يا أرض انقصي بأمر الشريعة وامتثال
أحكامها من غلبة هواك واستيلائه بفوران موادك على القلب، وقفي على حد الاعتدال
الذي به قوامه، ويا سماء العقل المحجوبة بالعادة والحس، المشوبة بالوهم، المغيمة
بغيم الهوى التي تمد النفس والطبيعة بتهيئة موادها وأسبابها بالفكر * (أقلعي) * عن
مددها * (وغيض) * ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق، المانعة
للحياة الحقيقية * (وقضي) * أمر الله بإنجاء من نجا وإهلاك من هلك * (واستوت) * أي:
استقامت شريعته * (علي) * جودي وجود نوح واستقرت * (وقيل بعدا) * أي: هلاكا
* (للقوم الظالمين) * الذين كذبوا بآيات الله وعبدوا الهوى مكان الحق ووضعوا طريق
الطبيعة مكان الشريعة.
[تفسير سورة هود من آية 45 إلى آية 49]
324

* (ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي) * حمله شفقة الأبوة وتعطف الرحم
والقرابة على طلب نجاته لشدة تعلقه به واهتمامه بأمره، وراعى مع ذلك أدب الحضرة
وحسن السؤال فقال: * (وإن وعدك الحق) * ولم يقل لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي،
وإنما قال ذلك لوجود تلوين وظهور بقية منه إذ فهم من الأهل ذوي القرابة الصورية
والرحم الطبيعية وغفل لفرط التأسف على ابنه عن استثنائه تعالى بقوله: * (إلا من سبق عليه القول) * [هود، الآية: 40] ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول ولا
استعطف ربه بالاسترحام وعرض بقوله: * (وأنت أحكم الحاكمين) * إلى أن العالم
العادل والحكيم لا يخلف وعده.
* (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) * أي: إن أهلك في الحقيقة هو الذي بينك
وبينه القرابة الدينية واللحمة المعنوية والاتصال الحقيقي لا الصوري كما قال أمير
المؤمنين عليه السلام: ' ألا وإن ولي محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته، ألا وإن
عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته '، * (إنه عمل غير صالح) * بين انتفاء كونه
من أهله بأنه غير صالح تنبيها على أن أهله هم الصلحاء، أهل دينه وشريعته وأنه
لتماديه في الفساد والغي كأن نفسه عمل غير صالح. وأن سبب النجاة ليس إلا
الصلاح لا قرابته منك بحسب الصورة، فمن لا صلاح له لا نجاه له. ولوح إلى أنه
صورة من صور الخطايا صدرت منك كما قيل: إنه سر من أسرار أبيه على ما قال
النبي عليه صلى الله عليه وسلم: ' الولد سر أبيه ' وذلك أنه لما بالغ في الدعوة وبلغ الجهد
في المدة المتطاولة وما أجابه قومه غضب ودعا عليهم بقوله: * (رب لا تذر على الأرض
ديارا (26) إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا (27)) * [نوح، الآيات:
26 - 27]، فذهل عن شهود قدرة الله وحكمته وأنه: * (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) * [يونس، الآية: 31] فكانت دعوته تلك ذنب حاله في خطيئة مقامه،
فابتلاه الله بالفاجر الكفار الذي زعم حال غضبه أنهم لا يلدون إلا مثله وحكم على
الله بظنه فزكاه عن خطيئته بتلك العقوبة. وفي الحديث: ' خلق الكافر من ذنب
المؤمن '. * (فلا تسألني ما ليس لك به علم) * من إنجاء من ليس بصالح ولا من
أهلك، واعلم أن الصلاح هو سبب النجاة دون غيره، وأن أهلك هو ذو القرابة
المعنوية لا الصورية.
* (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * الواقفين مع ظواهر الأمور، المحجوبين
325

عن حقائقها، فتنبه صلى الله عليه وسلم عند ذلك التأديب الإلهي والعتاب الرباني وتعوذ بقوله:
* (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي) * تلويناتي وظهور
بقاياي * (وترحمني) * بالاستقامة والتمكين * (أكن من الخاسرين) * الذين خسروا أنفسهم
بالاحتجاب عن علمك وحكمتك * (قيل يا نوح اهبط) * أي: اهبط من محل الجمع
وذروة مقام الولاية والاستغراق في التوحيد إلى مقام التفصيل وتشريع النبوة بالرجوع
إلى الخلق ومشاهدة الكثرة في عين الوحدة لا مغضبا بالاحتجاب بهم عن الحق ولا
راضيا بكفرهم بالاحتجاب بالحق عنهم * (بسلام) * أي: سلامة عن الاحتجاب بالكثرة
وظهور النفس بالغضب ووجود التلوين وحصول التعلق بعد التجرد والضلال بعد
الهدى * (منا) * أي صادر منا وبنا * (وبركات) * بتقنين قوانين الشرع وتأسيس قواعد
العدل الذي ينمو به كل شيء ويزيد * (عليك وعلى أمم) * ناشئة * (ممن معك) * وعلى
دينك وطريقتك إلى آخر الزمان.
* (وأمم) * أي: وينشأ ممن معك أمم * (سنمتعهم) * في الحياة الدنيا لاحتجابهم بها
ووقوفهم * (ثم يمسهم منا عذاب أليم) * بإهلاكهم بكفرهم وإحراقهم بنار الآثار،
وتعذيبهم بالهيئات، وإن شئت التطبيق أولت نوحا بروحك والفلك بكمالك العلمي
والعملي الذي به نجاتك عند طوفان بحر الهيولى حتى إذا فار تنور البدن باستيلاء
الرطوبة الغريبة والأخلاط الفاسدة وأذن بالخراب، ركب هو فيها وحمل معه من كل
صنفين من وحوش القوى الحيوانية والطبيعية وطيور القوى الروحانية اثنين، أي:
أصليهما وبنيه الثلاثة حام القلب، وسام العقل النظري، ويافث العقل العملي، وزوجه
النفس المطمئنة وأجراها باسم الله الأعظم فنجا بالبقاء السرمدي من الهلاك الأبدي
بالطوفان وغرقت زوجه الأخرى التي هي الطبيعة الجسمانية وابنه منها الذي هو الوهم
* (لآوي إلى جبل) * الدماغ، وأولت استواءها على الجودي وهبوطه بمثل نزول عيسى
عليه السلام في آخر الزمان.
[تفسير سورة هود من آية 51 إلى آية 68]
326

* (ويا قوم استغفروا ربكم) * من ذنوب حجب صفات النفس والوقوف مع الهوى
بالشرك * (ثم توبوا إليه) * بالتوجه إلى التوحيد والسلوك في طريقه بالتجرد والتنور.
يرسل سماء الروح * (عليكم مدرارا) * بماء العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية * (ويزدكم) *
قوة الكمال * (إلي) * قوة الاستعداد ولا تعرضوا عنه * (مجرمين) * بظهور صفات نفوسكم
وتوجهكم إلى الجهة السفلية بمحبة الدنيا ومتابعة الطبيعة.
* (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) * لقصور فهمهم وعمى بصيرتهم عن إدراك البرهان
لمكان الغشاوات الطبيعية وإذا لم يدركوه أنكروه بالضرورة * (إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * بين وجوب التوكل على الله وكونه حصنا
حصينا أولا بأن ربوبيته شاملة لكل أحد، ومن يرب يدبر أمر المربوب ويحفظه فلا
حاجة له إلى كلاءة غيره وحفظه. ثم بان كل ذي نفس تحت قهره وسلطانه أسير في
يد تصرفه ومملكته وقدرته عاجز عن الفعل والقوة والتأثير في غيره لا حراك به بنفسه
كالميت فلا حاجة إلى الاحتراز منه والتحفظ ثم بأنه * (على صراط مستقيم) * أي: على
طريق العدل في عالم الكثرة الذي هو ظل وحدته فلا يسلط أحدا على أحد إلا عن
استحقاق له لذلك بسبب ذنب وجرم ولا يعاقب أحدا من غير زلة ولو صغيرة وقد
يكون لتزكية ورفع درجة كالشهادة وفي ضمن ذلك كله نفي القدرة على النفع والضر
عنهم وعن آلهتهم.
327

* (ويا قوم هذه ناقة الله) * قد مر تأويل الناقة، وأما إنجاء صالح ومن معه على
التأويل المذكور فكإنجاء عيسى عليه السلام من الصلب كما جاء في قوله تعالى: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * [النساء، الآية: 157]، وفي قوله: * (وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه) * [النساء، الآيات: 157 - 158]. وكإنجاء مؤمن آل فرعون على ما أشار إليه
بقوله تعالى: * (فوقاه الله سيئات ما مكروا) * [غافر، الآية: 45].
[تفسير سورة هود من آية 69 إلى آية 83]
* (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) * إلى آخره، إن للنفوس الشريفة الإنسانية
اتصالات بالمبادئ المجردة العالية والأرواح المقدسة الفلكية من الأنوار القاهرة العقلية
والنفوس المدبرة السماوية واختلاطات بالملأ الأعلى من أهل الجبروت وانخراطات
في سلك الملكوت. ولكل نفس بحسب فطرتها مبدأ يناسبها من عالم الجبروت ومدبر
يربها من عالم الملكوت تستمد من الأول فيض العلم والنور، ومن الثاني مدد القوة
والعمل كما أشار إليه قوله: * (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21)) * [ق، الآية: 21]
ومقر أصلي تأوي إليه من جناب اللاهوت إن تجردت، كما قال عليه صلى الله عليه وسلم:
' أرواح الشهداء تأوي إلى قناديل من نور معلقة تحت العرش '، وكلما انجذبت إلى
الجهة السفلية بالميل إلى اللذات الطبيعية احتجبت بغشاوتها عن ذلك الجناب وانقطع
328

مددها من تلك الجهة من الأنوار الجبروتية والقوى الملكوتية، فضعفت في الإدراكات
لاحتجابها عن قبول تلك الإشراقات. وفي المنة والقوة لانقطاع مددها من تلك القوة.
وكلما توجهت إلى الجهة العلوية بالتنزه عن الهيئات البدنية، والتجرد عن الملابس
المادية، والتقرب إلى الله تعالى، مبدأ المبادئ، ونور الأنوار بالزهد والعبادة.
والتشبث في المبادئ بالنظافة والنزاهة مقرونا عمله بالصدق في النية وإخلاص
الطوية أمده الله تعالى لمناسبته سكان حضرته من عالمهم إمداد النور والقوة، فتعلم ما
لا يعلمه غيرها من أبناء جنسها وتقدر على ما لا يقدر عليه مثلها من بني نوعها،
ويكون لها أوقات تنخرط فيها في سلكها بالانخلاع عن بدنها وأوقات تبعد فيها عنها
بما هي ممنوة به من تدبير جسدها. ففي أوقات اتصالها بها وانخراطها في سلكها قد
تتقلى الغيب منها، إما كما هو على سبيل الوحي والإلهام والإلقاء في الروع والإعلام
بمطالعة صورة الغيب المنتقشة هي بها منها، وإما على طريق الهتاف والإنهاء، وإما
على صورة كتابة في صحيفة تطالعه منها وذلك بحسب جهة قبول لوح حسها المشترك
واختصاصه بنوع بعض المحسوسات دون بعض للأحوال السابقة والاتفاقات العارضة.
وقد يتراءى لها صور منها تناسبها في الحسن واللطافة فيتجسد لها إما بقوة تخليها
وظهورها في حسها المشترك لاستحكام الاتصال واستقراره ريثما تحاكيها المتخيلة،
وإما بتمثيلها في متخيلة الكل التي هي السماء الدنيا وانطباعها في متخيلتها بالانعكاس
كما فيها بين المرايا المتقابلة فتخاطبها بصورة الغيب شفاها على ما يرى في المنامات
الصادقة من غير فرق، فإن الرؤيا الصادقة والوحي كلاهما من واد واحد لا تباين
بينهما إلا بالنوم واليقظة، فإن صاحب الوحي يقدر على الغيبة من الحواس وإدراكاتها
وعزلها عن أفعالها وتعطيلها في استعمالها فيتصل بالمجردات العلوية لقوة نفسه
وحصول ملكة الاتصال لها، وصاحب الرؤيا الصادقة يقع له ذلك بحكم الطبع وتلك
الرؤيا هي التي لا تحتاج إلى تعبير كما أشار إليه من رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن
بقوله: * (لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله إمنين
محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون) * [الفتح، الآية: 27] ولهذا جعل الرؤيا الصادقة جزء
من ستة وأربعين جزء من النبوة، وكانت مقدمة وحيه المنامات الصادقة ستة أشهر ثم
استحكمت وصارت إلى اليقظة. وقد تنتقل المتخيلة في الحالتين، أي: النوم واليقظة،
إلى اللوازم، فيقع الاحتياج إلى التعبير والتأويل وقد يظهر على تلك النفس المتدربة
بملكة الاتصال المتمرنة فيها من خوارق العادات وأنواع الكرامات والمعجزات لوصول
المدد من عالم القدرة ما ينكره من لا يعلمه من المحجوبين بالعادة وأصحاب قسوة
329

القلوب والجفوة والمحجوبين بالعقول الناقصة المشوبة بالوهم القاصرة عن بلوغ الحد
وإدراك الحق، ويقبله من تنور قلبه بنور الهداية وعصم عن الضلالة والغواية استبصارا
وإيقانا أو سلمت فطرته عن الحجب المظلمة والغباوة وخلصت عن الجهالة والغشاوة
تقليدا وإيمانا للين قلبه بالإرادة وقوة قبوله للصقالة، وذلك إما بتأييد نفسه من عالم
الملكوت وتقويها بمبدأ الأيد والقوة كما قال علي عليه السلام عند قلعه باب خيبر:
' والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية، ولكن قلعته بقوة ملكوتية ونفس بنور ربها
مضية '. وإما بصدور ذلك عن تلك النفوس الملكوتية والمبادئ الجبروتية التي اتصل
هو بها لإجابة دعوته بإطاعة الملكوت له بإذن الله تعالى وأمره وتقديره وحكمه
وتسخيره. وقد دلت الآية على تمثل الملائكة لخليل الله عليه الصلاة والسلام
وتجسدها على الحالات الثلاث: مخاطبتها إياه بالغيب الذي هو البشرى بوجود الولد،
وإهلاك قوم لوط وإنجائه وتأييده بهم في خرق العادة من ولادة العجوز العقيم من
الشيخ الفاني وتأثيرهم في إهلاك قوم لوط وتدميرهم بدعائه والله أعلم بحقائق الأمور.
[تفسير سورة هود من آية 84 إلى آية 95]
* (إني أراكم بخير) * لما رأى شعيب عليه السلام ضلالتهم بالشرك واحتجابهم
330

عن الحق بالجبت، وتهالكهم على كسب الحطام بأنواع الرذائل وتماديهم في الحرص
على جمع المال بأسوأ الخصال منعهم عن ذلك وقال: إني أراكم بخير في استعدادكم
من إمكان حصول كمال وقبول هداية فإني أخاف عليكم إحاطة خطيئاتكم بكم
لاحتجابكم عن الحق ووقوفكم مع الغير وصرف أفكاركم بالكلية إلى طلب المعاش
وإعراضكم عن المعاد، وقصور هممكم على إحراز الفاسدات الفانيات عن تحصيل
الباقيات الصالحات، وانجذابكم إلى الجهة السفلية عن الجهة العلوية، واشتغالكم
بالخواص البهيمية عن الكمالات الأنسية، فلازموا التوحيد والعدالة واعتزلوا عن الشرك
والظلم الذي هو جماع الرذائل وأم الغوائل * (ولا تعثوا) * في إفسادكم أي: ولا تبالغوا
ولا تمادوا في غاية الإفساد فإن الظلم هو الغاية في ذلك كما أن العدل هو الغاية في
الصلاح وجماع الفضائل.
* (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) * أي: إن كنتم مصدقين ببقاء شيء فما
يبقى لكم عند الله من الكمالات والسعادات الأخروية والمقتنيات العقلية والمكاسب
العلمية والعملية خير لكم من تلك المكاسب الفانية التي تشقون بها وتشقون على
أنفسكم في كسبها وتحصيلها ثم تتركونها بالموت ولا يبقى منها معكم شيء إلا وبال
التبعات والعذاب اللازم لما في نفوسكم من رواسخ الهيئات. ولما شاهد إنكارهم
وعتوهم في العصيان، واستهزاءهم بطاعته، وزهده وتوحيده وتنزهه بقولهم:
* (أصلاتك) * إلى آخره.
* (قال يا قوم أرأيتم) * أي: أخبروني * (إن كنت على) * برهان يقيني على التوحيد
* (من ربي ورزقني منه رزقا حسنا) * من الحكمة العلمية والعملية والكمال والتكميل
بالاستقامة في التوحيد، هل يصح لي أن أترك النهي عن الشرك والظلم والإصلاح
بالتزكية والتحلية؟. وحذف جواب: أرأيتم، لما دل عليه في مثله كما مر في قصة
نوح وصالح عليهما السلام وعلى خصوصيته ههنا من قوله: * (وما أريد أن أخالفكم) *
إلى آخره، أي: أن أقصد إلى أجر المنافع الدنيوية الفانية بارتكاب الظلم الذي أنهاكم
عنه * (إن أريد إلا) * إصلاح نفسي ونفوسكم بالتزكية والتهيئة لقبول الحكمة ما دمت
مستطيعا وما كوني موفقا للإصلاح * (إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب) *.
* (قالوا يا شعيب ما نفقه) * إنما لم يفقهوا لوجود الرين على قلوبهم بما كسبوا
من الآثام وإنما منعهم خوف رهطه من رجمه دون خوف الله تعالى لاحتجابهم بالخلق
عن الحق المسبب عن عدم الفقه كقوله تعالى: * (لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله
ذلك بأنهم قوم لا يفقهون 13) * [الحشر، الآية: 13].
331

[تفسير سورة هود من آية 96 إلى آية 111]
* (فمنهم شقي وسعيد) * لما أطلق الشقي والسعيد منكرين للتعظيم دل على
الشقي والسعيد الأزليين الأبديين، ولما وصفهم في التقسيم التفصيلي استثنى عن خلود
الشقي في النار وخلود السعيد في الجنة بقوله: * (إلا ما شاء ربك) * لأن المراد بالنار
والجنة عذاب النفس بنار الحرمان عن المراد وآلام الهيئات والآثار وثواب النفس بجنة
حصول المرادات واللذات وبالاستثناء عن الخلود فيهما خروج الشقي منها إلى ما هو
أشد منه من نيران القلب في حجب الصفات والأفعال بالسخط والطرد والإذلال
والإهانة، ونيران الروح بالحجب واللعن والقهر وخروج السعيد منها إلى ما هو ألذ
وأطيب من جنان القلب في مقام تجليات الصفات بالرضوان واللطف والإكرام
والإعزاز وجنان الروح في مقام الشهود باللقاء وظهور سبحات الجلال، وما لا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكون الشقي في مقابلة السعيد
وخروج السعيد من الجنة إلى النار محال، وقد دل عليه بقوله: * (عطاء غير مجذوذ) *
أي: غير مقطوع، فكذا ما يقابله على أن قوله تعالى: * (فعال لما يريد) * يشعر بذلك
لكونه وعيدا شديدا. هذا لسان الأدب ومراعاة الظواهر في تحقيق البواطن، وأما
الحقيقة فتحكم بأن الشقي لما كان في المراتب المذكورة في النار لم يخرج منها بل
332

انتقل من طبقة منها إلى طبقة أخرى ومن دركة إلى دركة فكان في حكم الخلود
فالمراد بالاستثناء غيره وهو أنه من حيث الأحدية مع ربه والرب آخذ بناصيته على
صراط مستقيم يقوده ريح الدبور التي هي هوى نفسه يسوقه إلى جهنم، فهو هنالك
في عين القرب مع هوى نفسه فيتلذذ بما يوافقه فتصير عين النعيم، فزال مسمى النار
في حقه وصار جنة لتلذذه به وإن كان بعيدا عن نعيم السعيد كما جاء في الحديث:
' سينبت في قعر جهنم الجرجير '. وفيه: ' يأتي على جهنم زمان يصفق أبوابها ليس
فيها أحد '. وكذا السعيد، فإن انتقاله في الجنان ودرجاتها والخروج بحكم الاستثناء
غير ذلك فهو بفنائه في أحدية الذات واحتراقه بلوعة العشق في سبحات الجمال حيث
كان الحق شاهدا ومشهودا لا في مقام المشاهدة بوجود الروح بل بالشهود الذاتي
الأحدي الذي لم يبق فيه لغيره عين ولا أثر ولا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر
على قلب بشر. وإن جعل التنكير في قوله: * (شقي وسعيد) * للنوعية لا للتعظيم، جاز
تأويل خروج الشقي من النار بالترقي إلى الجنة من مقامه بزكاء نفسه عن الهيئات
المظلمة وتبعات المعاصي وحينئذ لا يكون شقي الأبد.
[تفسير سورة هود من آية 112 إلى آية 113]
* (فاستقم كما أمرت) * في القيام بحقوق الله بالله، فإنه عليه صلى الله عليه وسلم
مأمور بمحافظة حقوق الله والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه بضبط أحكام التجليات
الصفاتية بعد الرجوع إلى الخلق مع شهود الوحدة الذاتية بحيث لا يتحرك ولا يسكن
ولا ينطق ولا يتفكر إلا به من غير ظهور تلوين من بقايا صفاته أو ذاته ولا يخطر له
خاطر بغيره من غير إخلال بشرط ما من شرائط التعظيم كما قال صلى الله عليه وسلم: ' أفلا أكون
عبدا شكورا؟ ' حين تورمت قدماه من قيام الليل وقيل له: أما بشرك الله بقوله: * (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) * [الفتح، الآية: 2]؟، ولا بدقيقة من باب النهي عن
المنكر والأمر بالمعروف والإنذار والدعوة وذلك في غاية الصعوبة. ولهذا قال:
' شيبتني سورة هود '. قيل: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض العرفاء في المنام، فسأله عن
ذلك وقال: لماذا يا رسول الله؟ ألقصص الأنبياء وما نزل بأممهم المكذبين من العذاب
وما كانوا يقاسون من أممهم؟، قال: ' لا، بل لقوله تعالى: * (فاستقم كما أمرت) * '.
* (ومن تاب) * عن أنيته وذنب وجوده * (معك) * من الموحدين الواصلين إلى شهود
الكثرة في عين الوحدة ومقام البقاء بعد الفناء * (ولا تطغوا) * بالاحتجاب بحجاب
الأنائية ونسبة الكمالات الإلهية المطلقة إلى أنائيتكم المشخصة المقيدة برؤيتها لكم،
333

الموجبة للاحتجاب بالتقيد عن الإطلاق، فإن الهوية الإلهية لا تتقيد بإشارة الهذية
والأنائية * (إنه بما تعملون بصير) * أتعملونه بي أم بأنفسكم؟.
* (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) * أي: أشركوا بهوى كامن، ناشئ عن وجود
بقية خفية أو التفات خفي إلى إثبات غيره، فإنه هو الزيغ المقارن للطغيان في قوله:
* (ما زاغ البصر وما طغى 17) * [النجم، الآية: 17]، * (فتمسكم) * نار السخط والحرمان
بالاحتجاب والتعذيب بالفراق من نيران غيرة المحبوب، كما قال تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:
' بشر المذنبين بأني غفور، وأنذر الصديقين بأني غيور ' ولهذا المعنى قال:
' والمخلصون على خطر عظيم '. فإن دقائق ذنوب أحوالهم أدق من أن تدرك بالعقل
وأشد عقابا من أن تتوهم بالوهم * (وما لكم) * حينئذ * (من دون الله من أولياء) *
يتولونكم من عقابه ويدبرون أموركم ويربونكم * (ثم لا تنصرون) * من بأسه، وهذا
تهديد لأوليائه فكيف بأعدائه.
[تفسير سورة هود من آية 114 إلى آية 117]
* (وأقم الصلاة طرفي النهار) * لما كانت الحواس الخمس شواغل تشغل القلب
بما يرد عليه من الهيئات الجسمانية، وتجذبه عن الحضرة الرحمانية، وتحجبه عن
النور، والحضور بالإعراض عن جناب القدس والتوجه إلى معدن الرجس، وتبدله
الوحشة بالأنس، والكدورة بالصفاء، فرضت خمس صلوات يتفرغ فيها العبد للحضور
ويسد أبواب الحواس لئلا يرد على القلب شاغل يشغله ويفتح باب القلب إلى الله
تعالى بالتوجه والنية لوصول مدد النور ويجمع همه عن التفرق ويستأنس بربه عن
التوحش مع اتحاد الوجهة، وحصول الجمعية، فتكون تلك الصلوات خمسة أبواب
مفتوحة للقلب على جناب الرب يدخل بها عليه النور بإزاء تلك الخمسة المفتوحة إلى
جناب الغرور ودار اللعين الغرور التي تدخل بها الظلمة ليذهب النور الوارد آثار
ظلماتها ويكسح غبار كدوراتها، وهذا معنى قوله: * (إن الحسنات يذهبن السيئات) *
وقد ورد في الحديث: ' إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر '.
وأمر بإقامتها في طرفي النهار لينسحب حكمها ببقاء الجمعية واستيلاء الهيئة النورية في
أوله إلى سائر الأوقات، فعسى أن يكون من: * (الذين هم على صلاتهم دائمون (23)) *
[المعارج، الآية: 23] لدوام ذلك الحضور، وبقاء ذلك النور يكسح ويزيل في آخره ما
334

حصل في سائر الأوقات من التفرقة والكدورة. ولما كانت القوى الطبيعية المدبرة لأمر
الغذاء سلطانها في الليل وهي تجذب النفس إلى تدبير البدن بالنوم عن عالمها
الروحاني وتحجزها عن شأنها الخاص بها الذي هو مطالعة الغيب ومشاهدة عالم
القدس يشغلها باستعمال آلات الغذاء لعمارة الجسد، فتسلبها اللطافة والطراوة
وتكدرها بالغشاوة. واحتيج إلى تلطيفها وتصفيتها باليقظة وتنويرها وتطريتها بالصلاة
فقال: * (وزلفا من الليل) * ذلك الذي ذكر من إقامة الصلاة في الأوقات المذكورة
وإذهاب السيئات بالحسنات تذكير لمن يذكر حاله عند الحضور مع الله في الصفاء
والجمعية والأنس والذوق * (واصبر) * بالله في الاستقامة ومع الله في الحضور في
الصلاة وعدم الركون إلى الغير * (فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) * الذين يشاهدونه في
حال القيام بحقوق الاستقامة ومراعاة العدالة والقيام بشرائط التعظيم في العبادة.
[تفسير سورة هود من آية 118 إلى آية 119]
* (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) * متساوية في الاستعداد متفقة على دين
التوحيد ومقتضى الفطرة * (ولا يزالون مختلفين) * في الوجهة والاستعداد * (إلا من رحم
ربك) * بهدايته إلى التوحيد وتوفيقه للكمال، فإنهم متفقون في المذهب والمقصد
وموافقون في السيرة والطريقة، قبلتهم الحق، ودينهم التوحيد والمحبة * (ولذلك) *
الاختلاف * (خلقهم) * ليستعد كل منهم لشأن وعمل، ويختار بطبعه أمرا وصنعة،
ويستتب بهم نظام العالم، ويستقيم أمر المعاش، فهم محامل لأمر الله حمل عليهم
حمول الأسباب والأرزاق وما يتعيش به الناس، ورتب بهم قوام الحياة الدنيا كما أن
الفئة المرحومة مظاهر لكماله، أظهر الله بهم صفاته وأفعاله وجعلهم مستودع حكمه
ومعارفه وأسراره. * (وتمت كلمة ربك) * أي: أحكمت وأبرمت وثبتت وهي هذه
* (لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) * لأن جهنم رتبة من مراتب الوجود لا يجوز
في الحكمة تعطيلها وإبقاؤها في كتم العدم مع إمكانها.
[تفسير سورة هود من آية 120 إلى آية 123]
* (وكلا نقص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * أي: لما أطلعناك على
335

مقاساتهم الشدائد من أمتهم مع ثباتهم في مقام الاستقامة وعدم مزلتهم عنه وعلى
معاتباتهم عند تلويناتهم وظهور شيء من بقياتهم كما في قصة نوح عليه السلام من
سؤال إنجاء الولد، وعلى قوة ثباتهم وشجاعتهم في يقينهم وتوكلهم كما في قصة هود
عليه السلام من قوله: * (إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون) * [هود، الآية: 54]
إلى قوله: * (على صراط مستقيم) * [هود، الآية: 56]، وعلى كمال كرمهم وفضيلتهم في
العتو كما في قصة لوط عليه السلام من تفدية البنات لحفظ الأضياف من السوء، ثبت
قلبك في ذلك كله واستحكمت استقامتك وقوي تمكينك بذهاب آثار التلوين عنك
وقوي توكلك ورضاك ويقينك وشجاعتك، وكمل خلقك وكرمك * (وجاءك في هذه) *
السورة * (الحق) * أي: ما يتحقق به اعتقاد المؤمنين * (وموعظة) * لهم يحترزون بها عما
أهلك به الأمم، وتذكير لما يجب أن يتدينوا به ويجعلوه طريقهم وسيرتهم والله أعلم.
336

((سورة يوسف))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة يوسف من آية 1 إلى آية 3]
* (الر تلك آيات الكتاب المبين) * مر ذكره * (أحسن القصص) * لكون لفظه وتركيبه
إعجازا، وظاهر معناه مطابقا للواقع وباطنه دالا على صورة السلوك وبيان حال السالك
كالقصص الموضوعة لذلك وأشد طباقا، وأحسن وفاقا منها.
[تفسير سورة يوسف من آية 4 إلى آية 6]
* (يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا) * إلى آخره، هذه من المنامات التي ذكرنا
في سورة (هود) أنها تحتاج إلى تغيير لانتقال المتخيلة من النفوس الشريفة التي عرض
على النفس من الغيب سجودها له إلى الكواكب والشمس والقمر وما كانت في نفس
الأمر إلا أبويه وإخوته * (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا) * هذا من
الإلهامات المجملة، فإنه قد يلوح صورة الغيب من المجردات الروحانية على الوجه
الكلي العالي عن الزمان في الروح ويصل أثره إلى القلب ولا يتشخص في النفس
مفصلا حتى يقع العلم به كما هو فيقع في النفس منه خوف واحتراز، إن كان
مكروها، وفرح وسرور إن كان مرغوبا. ويسمى هذا النوع من الإلهام: إنذارات
وبشارات، فخاف عليه السلام من وقوع ما وقع قبل وقوعه، فنهاه عن إخبارهم برؤياه
احترازا. ويجوز أن يكون احترازه كان من جهة دلالة الرؤيا على شرفه وكرامته وزيادة
قدره على إخوته، فخاف من حسدهم عليه عند شعورهم بذلك.
* (وكذلك يجتبيك ربك) * أي: مثل ذلك الاصطفاء بإراءة هذه الرؤيا العظيمة الشأن،
يصطفيك للنبوة إذ الرؤيا الصادقة، خصوصا مثل هذه من مقدمات النبوة، فعلم من رؤياه أنه
من المحبوبين الذين يسبق كشوفهم سلوكهم * (ويتم نعمته عليك) * بالنبوة والملك.
337

[تفسير سورة يوسف من آية 7 إلى آية 18]
* (لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين) أي: آيات معظمات لمن يسأل
عن قصتهم ويعرفها تدلهم أولا على أن الاصطفاء المحض أمر مخصوص بمشيئة الله
تعالى لا يتعلق بسعي ساع ولا إرادة مريد، فيعلمون مراتب الاستعدادات في الأزل.
وثانيا: على أن من أراد الله به خيرا لم يكن لأحد دفعه ومن عصمه الله لم يكن لأحد
رميه بسوء ولا قصده بشر، فيقوى يقينهم وتوكلهم ويشهدون تجليات أفعاله وصفاته.
وثالثا: على أن كيد الشيطان وإغواءه أمر لا يأمن منه أحد حتى الأنبياء، فيكونون منه
على حذر، وأقوى من ذلك كله أنها تطلعهم من طريق الفهم الذي هو الانتقال الذهني
على أحوالهم في البداية والنهاية وما بينهما وكيفية سلوكهم إلى الله فتثير شوقهم
وإرادتهم وتشحذ بصيرتهم وتقوي عزيمتهم وذلك أن مثل يوسف مثل القلب المستعد
الذي هو في غاية الحسن، المحبوب، المرموق إلى أبيه يعقوب العقل، المحسود من
إخوته من العلات، أي: الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة والغضب والشهوة
بنى النفس إلا الذاكرة، فإنها لا تحسده ولا تقصده بسوء، فبقيت إحدى عشرة على
عددهم. وأما حسدهم عليه وقصدهم بالسوء فهو أنها تنجذب بطبائعها إلى لذاتها
ومشتهياتها وتمنع استعمال العقل القوة الفكرية في تحصيل كمالات القلب من العلوم
والأخلاق، وتكره ذلك ولا تريد إلا استعماله إياها في تحصيل اللذات البدنية
ومشتهيات تلك القوى الحيوانية. ولا شك أن الفكر نظره إلى القلب أكثر، وميله إلى
تحصيل السعادات القلبية من العلوم والفضائل أشد وأوفر، وذلك معنى قولهم:
338

* (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا) * وأخوه هو: القوة العاقلة العملية من أم يوسف
القلب التي هي راحيل النفس اللوامة التي تزوجها يعقوب القلب بعد وفاة ليا النفس
الأمارة، وإنما قالوا * (ليوسف وأخوه) * لأن العقل كما يقتضي تكميل القلب بالعلوم
والمعارف يقتضي تكميل هذه القوة باستنباط أنواع الفضائل من الأخلاق الجميلة
والأعمال الشريفة ونسبتهم إياه إلى الضلال الذي هو البعد عن الصواب بقولهم: * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * قصورها عن النظر العقلي وبعد طريقه عن طريقتها في تحصيل
الملاذ البدنية وإلقاؤهم إياه في غيابة الجب استيلاؤها على القلب وجذبها إياه إلى
الجهة السفلية بحدوث محبة البدن وموافقاته له حتى ألقي في قعر جب الطبيعة
البدنية، إلا أنه ألبس قميصا من الجنة أتى به جبريل إبراهيم عليهما السلام يوم جرد
وألقي في النار، فألبسه إياه وورثه إسحق وورثه منه يعقوب فعلقه في تميمة على
عنقه، فأتاه جبريل عليه السلام في البئر فأخرجه وألبسه إياه، وإلا لغمره الماء وظهرت
عورته، كما قيل. وهو إشارة إلى صفة الاستعداد الأصلي والنور الفطري وذلك هو
الذي منع إبراهيم عن النار وحماه بإذن الله حتى صارت عليه بردا وسلاما. واستنزالها
العقل إلى الفكر في باب المعاش وتحصيل أسبابه والتوجه نحوه هو معنى قولهم:
* (يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين) * أي: في ترتيب
المعاش وتهيئة أسبابه على حسب المراد. ومراودتها للعقل عن القلب بالتسويلات
الشيطانية والتعزيرات النفسانية مع كراهية العقل لذلك هو معنى قولهم عند مراودة
يعقوب عنه: * (أرسله معنا غدا يرتع ويلعب) * وافتراؤهم على الذئب هو أن القوة
الغضبية إذا ظهرت واستشاطت حجبت القلب بالكلية عن أفعاله الخاصة به. والظاهر
من حالها أنها أقوى إضرارا به وإبطالا لفعله وحجبا له الذي هو معنى الأكل مع أن
القوة الشهوانية والحواس وسائر القوى أشد نكاية في القلب وأضر به في نفس الأمر
وأجذب له إلى الجهة السفلية وأشد إباء وامتناعا من قبول السياسات العقلية وطاعة
الأوامر والنواهي الشرعية وإذعان القلب بالموافقة في طلب الكمالات الروحية منها،
وظهور ذلك الأثر من القوة الغضبية مع كونه بخلاف ذلك في الحقيقة هو الدم الكاذب
على قميصه وابيضاض عين يعقوب في فراقه عبارة عن كلال البصيرة وفقدان نور
العقل عند كون يوسف القلب في غيابة جب الطبيعة، وبعض السيارة الذي أخرجه من
البئر هو القوة الفكرية وشراؤه من عزيز مصر.
* (بثمن بخس دراهم معدودة) * تسليمهم له إلى عزيز الروح الذي هو من مصر
مدينة القدس بما يحصل للقوة الفكرية من المعاني والمعارف الفائضة عليها من الروح
339

عند استنارتها بنوره وقربها منه، فإن القوة الفكرية لما كانت قوة جسمانية، والقلب
ليس بجسماني، لم تصل إلى مقامه إلا عند كونه مغشى بغشاوات النفس في مقام
الصدر أي: الوجه الذي يلي النفس منه. وأما إذا تجرد في مقام الفؤاد أو وصل إلى
مقام الروح الذي سموه السر فتتركه عند عزيز الروح وتسلمه إليه وتفارقه على
الدريهمات التي تحصل لها بقربه من المعاني المذكورة.
[تفسير سورة يوسف من آية 19 إلى آية 21]
وامرأة العزيز المسماة زليخاء التي أوصى إليها به بقوله: * (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) * هي النفس اللوامة التي استنارت بنور الروح ووصل أثره إليها
ولم تتمكن في ذلك ولم تبلغ إلى درجة النفس المطمئنة وتمكين الله إياه في الأرض
إقداره بعد التزكية والتنور بنور الروح على مقاومة النفس والقوى وتسليطه على أرض
البدن باستعمال آلاته في تحصيل الكمالات وسياستها بالرياضات حتى يخرج ما في
استعداده من الكمال إلى الفعل كما قال: * (ولنعلمه من تأويل الأحاديث) * أي:
ولنعلمه فعلنا ما فعلنا به من الإنجاء والتمكين * (والله غالب على أمره) * بالتأييد
والتوفيق والنصر حتى يبلغ غاية كمال أشده من مقامه الذي يقتضيه استعداده فيؤتيه
العلم والحكمة كما قال: * (ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما) * والأشد هو نهاية
الوصول إلى الفطرة الأولى بالتجرد عن غواشي الخلقة الذي نسميه مقام الفتوة * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * أن الأمر بيد الله في ذلك، فيضيفون إلى السعي والاجتهاد
والتربية، ولا يعلمون أن السعي والاجتهاد والتربية والرياضة أيضا من عند الله جعلها
الله أسبابا ووسايط لما قدره ولذلك لم يعزلها.
[تفسير سورة يوسف من آية 22 إلى آية 29
340

وقال بعد قوله: * (آتيناه حكما وعلما) *. * (وكذلك نجزي المحسنين) * في الطلب
والإرادة والاجتهاد والرياضة، ومراودة زليخاء إياه عن نفسه وتغليقها الأبواب عليه
إشارة إلى ظهور النفس اللوامة بصفتها. فإن التلوين في مقام القلب يكون بظهور
النفس كما أن التلوين في مقام الروح يكون بوجود القلب وجذبها للقلب إلى نفسها
بالتسويل والاستيلاء عليه وتزيين صفاتها ولذاتها، وسدها طرق مخرجه إلى الروح
بحجبها مسالك الفكر ومنافذ النور بصفاتها الحاجبة وهمه بها ميل القلب إليها لعدم
التمكين والاستقامة ورؤيته لبرهان ربه إدراك ذلك التلوين بنور البصيرة ونظر العقل كما
قيل في القصة: تراءى له أبوه، فمنعه أو صوت به، وقيل: ضرب بكفه في نحره
فخرجت شهوته من أنامله وذهبت، كل ذلك إشارة إلى منع العقل إياه عن مخالطة
النفس بالبرهان ونور البصيرة والهداية وتأثيره فيه بالقدرة والأيد النوري الموجب
لذهاب شهوتها وظلمتها النافذ فيها إلى أطرافها المزيل عنها بالهيئة النورية الهيئة
الظلمانية، وقد قميصه من دبر إشارة إلى خرقها لباس الصفة النورية التي له من قبل
الأخلاق الحسنة والأعمال الصالحة بتأثيرها في القلب بصفتها، فإنها صفة يكسبها
القلب بالجهة التي تلي النفس المسماة بالصدر هو الدبر لا محالة.
وقوله: * (ألفيا سيدها لدى الباب) * إشارة إلى ظهور نور الروح عند إقبال القلب
إليه بواسطة تذكر البرهان العقلي وورود الوارد القدسي عليه، واستتباعه للنفس وهي
تنازعه بالجذب إلى جهتها واستيلائه على القلب ثم على النفس بواسطته. وقولها:
* (ما جزاء من أراد بأهلك سوء) * تلويح إلى أن النفس تسول أغراضها في صور
المصالح العقلية وتزينها بحيث تشتبه مفاسدها بالمصالح العقلية التي يجب على العقل
مراعاتها والقيام بها وموافقتها فيها ومخالفته إياها فيها إرادة السوء بها ومقابحها
بالمحاسن التي تتعلق بالمعاش كمماكرة النساء بالرجال وميل القلب إلى الجهة العلوية
يكذب قولها ودعواها، والشاهد الذي شهد من أهلها قيل كان ابن عم لها، أي:
الفكر الذي يعلم أن الفساد الواقع من جهة الأخلاق والأعمال لا يكون إلا من قبل
النفس واستيلائها، إذ لو كان من جهة القلب وميله إلى النفس لوقع في الاعتقاد
341

والعزيمة لا في مجرد العمل. وقيل كان ابن خالتها، أي: الطبيعة الجسمانية التي تدل
على الميل السفلي في النفس الجاذب للقلب من جهة الصدر المباشر للعمليات إلى
أرض البدن وموافقاته واطلاع الروح بنور الهداية، على أن الخلل وقع في العمل لا
في العقد والعزيمة وذلك لا يكون إلا من قبل الداعية النفسانية، وهو معنى قوله:
* (فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم) *.
وقوله: * (يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك) * إشارة إلى إشراق نور
الروح على القلب وانجذابه إلى جانبه للنازل النوري والخاطر الروحي الذي يصرفه عن
جهة النفس ويأمره بالإعراض عن عملها ويذكره لئلا يحدث الميل مرة أخرى. وتأثير
ذلك الوارد والخاطر في النفس بالتنوير والتصفية فإن تنورها بنور الروح المنعكس إليها
من القلب استغفارها عن الهيئة المظلمة التي غلبت بها على القلب.
[تفسير سورة يوسف من آية 30 إلى آية 33]
ولما بلغ القلب هذا المنزل من الاتصال بالروح والاستشراق من نوره وتنورت
النفس بشعاع نور القلب وتصفت عن كدوراتها عشقته للاستنارة بنوره، والتشكل
بهيئته، والتقرب إليه، وإرادة الوصول إلى مقامه لا لجذبه إلى نفسه وقضاء وطرها منه
باستخدامها إياه في تحصيل اللذات الطبيعية واستنزالها إياه عن مقامه ومرتبته إلى
مرتبتها ليتشكل بهيئتها ويشاركها في أفعالها ولذاتها، كما كانت عند كونها أمارة فتتأثر
قواها حينئذ حتى القوى الطبيعية بتأثرها، وذلك معنى قول نسوة المدينة:
* (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا) * وكلما استولى القلب عليها
بهيئته النورية وحسنه الذاتي الفطري والصفاتي الكسبي من الترقي إلى مجاورة الروح
وبلوغه منزل السر، استنارت جميع القوى البدنية بنوره لاستتباعه للنفس واستتباعها
إياه، فشغلت عن أفعالها وتحيرت ووقفت عن تصرفاتها في الغذاء وذهلت عن
سكاكين آلاتها التي كانت تدبر بها أمر التلذذ والتغذي والتفكه، وجرحت قدرتها التي
تستعمل بها الآلات في تصرفاتها وبقيت مبهوتة في متكآتها التي هي محالها في أعضاء
342

البدن التي هيأتها لها النفس في قراها وهو معنى قوله: * (فلما رأينه أكبرنه وقطعن
أيديهن وقلن حاشا لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم) * وقولها: * (اخرج عليهن) *
استجلاؤها لنوره بالإرادة واقتضاؤها طلوعه عليها بحصول استعداد التنور لها. ولما
انخرطت النفس في سلك إرادة القلب، وقلت منازعتها إياه في عزيمة السلوك،
وتمرنت لمطاوعته حان وقت الرياضة بالدخول في الخلوة لتجرد القلب حينئذ عن
علائقه وموانعه وتجريده عزمه بانتفاء التردد إذ بتردد العزم بانجذابه إلى جهة النفس
تارة وإلى جهة الروح أخرى لا تمكن الرياضة ولا السلوك ولا تصح الخلوة لفقدان
الجمعية التي هي من شرطها وهذه الرياضة ليست رياضة النفس بالتطويع فإنها لا
تحتاج إلى الخلوة بل إلى ترك ارتكاب المخالفات والإقدام على كسرها وقهرها
بالمقاومات من أنواع الزهد والعبادة إنما هي رياضة القلب بالتنزه عن صفاته وعلومه
وكمالاته وكشوفه في سلوك طريق الفناء وطلب الشهود واللقاء وذلك بعد العصمة من
استيلاء النفس عليه كما قالت: * (ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * طلب العصمة من
نفسه واستزادها * (ولئن لم يفعل ما آمره) * من إيفاء حظي ليمنعن من اللذات البدنية
وروح الهوى والمدركات الحسية بالخلوة والانقطاع عنها * (وليكونا من الصاغرين) *
لفقدان كرامته وعزته عندنا واختذالنا عنه واعتزاله عن رياسة الأعوان والخدم في
البدن. ولما حببت إليه الخلوة كما حببت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند التحنث في حراء.
* (قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه) * وإنما قال: * (مما يدعونني إليه) *، ودعا ربه أن يصرف عنه كيدهن بقوله: * (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين) * لأن في طباعها الميل إلى الجهة السفلية وجذب القلب إليها
وداعية استنزاله إليها بحيث لا يزول أبدا، وتنورها بنوره وطاعتها له أمر عارضي لا
يدوم والقلب يمدها في أعمالها دائما فإنه ذو طبيعتين وذو وجهين ينزع بإحداهما إلى
الروح وبالأخرى إلى النفس، ويقبل بوجه إلى هذه وبوجه إلى هذه، فلا شيء
أقرب إليه من الصبوة إليها بجهالته لو لم يعصمه الله بتغليب الجهة العليا وإمداده
بأنوار الملأ الأعلى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' اللهم ثبت قلبي على دينك '، قيل
له: أو تقول ذلك وأنت نبي يوحى إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: ' وما يؤمنني إن مثل القلب
كمثل ريشة في فلاة تقلبها الرياح كيف شاءت '. وذلك الدعاء هو صورة افتقار
القلب الواجب عليه أبدا.
[تفسير سورة يوسف من آية 34 إلى آية 36
343

* (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) * أي: أيده بالتأييد القدسي وقواه بالإلقاء
السبوحي فصرف وجهه عن جناب الرجس إلى جناب القدس، ودفع عنه بذلك كيدهن
* (إنه هو السميع) * لمناجاة القلب في مقام السر * (العليم) * بما ينبغي أن يفعل به عند
افتقاره إليه.
* (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه) * أي: ظهر لعزيز الروح ونسوة
النفس والقوى وأعوان الروح من العقل والفكر وغيرهما رأي متفق عليه من جميعها
وهو ليسجننه، أي: ليتركنه في الخلوة التي هي أحب إليه. أما الروح فلقهره إياه بنور
الشهود ومنعه عن تصرفاته وصفاته، وأما النفس وسائر القوى فلامتناعها عن استجذابه
إليها من بعدما رأوا آيات العصمة وصدق العزيمة وعدم الميل إليها وبهره عليها بنوره
وإخلاصه في الافتقار إلى الله وإلا لما خلته وشأنه في الخلوة، وأما الوهم فلانهزامه
عن نوره وفراره من ظله عند التصلب في الدين والتعود بالحق. وأما العقل فلتنوره
بنور الهداية، وأما الفكر فلحصول سلطانه في الخلوة، والفتيان اللذان دخلا معه
السجن أحدهما قوة المحبة الروحية اللازمة له وهو شرابي الملك الذي يسقيه خمر
العشق كما قيل في القصة: إنه كان شرابيه، والثاني: هوى النفس التي لا تفارقه أيضا
بحال، فإن الهوى حياة النفس الفائضة إليها منه لاستبقائها وهو خباز الملك الذي يدبر
الأقوات في المدينة كما قيل وهما يلازمانه في الخلوة دون غيرهما. ومنام الشرابي في
قوله: * (إني أراني أعصر خمرا) * اهتداء قوة المحبة إلى عصر خمر العشق من كرم
معرفة القلب في نوم الغفلة عن الشهود الحقيقي ومنام الخباز في قوله: * (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه) * توجه الهوى بكليته إلى تحصيل لذات طير
القوى النفسانية وحظوظها وشهواتها، وشبهت بالطير في جذب ما تجذبه من الحظوظ
لسرعة حركتها نحوه.
[تفسير سورة يوسف من آية 37 إلى آية 40]
344

وقوله: * (لا يأتيكما طعام ترزقانه) * الخ، إشارة إلى منعه إياهما عن حظوظهما
إلا بعد تبيينه لهما ما يؤول إليه أمرهما من شأنهما الذي يجب لهما القيام به بالسياسة
والتسديد والتقويم والإصلاح وإظهار التوحيد لهما بقوله: * (إني تركت) * إلى آخره،
بعثه إياهما على القيام بالأمر الإلهي الضروري وترك الفضول والامتناع عن تفرق
الوجهة وتشتت الهم، فإن خاصية الهوى التفرقة والتوزع وتعبد الشهوات المختلفة
للقوى المتنازعة، وخاصية المحبة في البداية وقبل الوصول إلى النهاية التعلق بحسن
الصفات والتعبد لها دون جمال الذات، فدعاهما إلى التوحيد بقوله: * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * أي: المشركين، العابدين لأوثان صفات النفس بل لوجود القلب
وصفاته * (وهم بالآخرة) * أي: وهم عن البقاء في العالم الروحاني محجوبون، وبقوله:
* (ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء).
* (وبقوله: * (أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار) * أي: إذا كان لكل منكما
أرباب كثيرة كما قال تعالى: * (فيه شركاء متشاكسون) * [الزمر، الآية: 29] يأمره هذا بأمر
وهذا بأمر متمانعون في ذلك، عاجزون إما للمحبة فكالصفات والأسماء، وإما للهوى
فكالقوى النفسانية كان خيرا له أم رب واحد لا يأمره إلا بأمر واحد، كما قال: * (وما أمرنا إلا واحدة) * [القمر، الآية: 50]، قهار، قوي، يقهر كل أحد، لا يمانعه في أمره
شيء، ولا يمتنع عليه. وأجبرهما بالسياسة على اتحاد الوجهة، فإن القلب إذا غلبت
عليه الوحدة امتنعت محبته عن حب الصفات وانصرفت إلى الذات، وإذا تمرن في
التوحيد انقمع هواه عن تعبد الحظوظ والشهوات والتفرق في تحصيل اللذات واقتصر
على الحقوق والضرورات بأمر الحق لا بطاعة الشيطان.
[تفسير سورة يوسف من آية 41 إلى آية 42]
وقوله: * (أما أحدكما فيسقي ربه خمرا) * تعيين لشأن الأول بعد السياسة بالمنع
عن الشرك وهو تسليط حب اللذات على الروح * (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه) * بيان لما يؤول إليه أمر الثاني. وصلبه: منعه عن أفعاله بنفسه وقمعه عن
مقتضاه وتثبيته وتقريره على جذع القوة الطبيعية النباتية بحيث لا تصرف للمتخيلة فيه
345

ولا له فيها ولا في سائر القوى الحيوانية وذلك هو إماتة الهوى، فتأكل بعد الإماتة
والصلب طير قوى النفس من رأسه بأمر الحق وهو الوقوف مع الحقوق * (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان) * أي: ثبت واستقر أمركما على هذا وذلك وقت وصوله وتقربه من
الله وأوان ظهور مقام الولاية بالفناء في الله. وإذا تمكنت القوتان فيما عينه لهما من
الأمر ثم تم أمره بالوصول إلى مقام الشهود الذاتي وانقضت خلوته، فإن طول مدة
السجن هو امتداد سلوكه في الله، فإذا تم له الفناء استوى أمر القوتين لكونهما بالله
حينئذ لا بنفسهما وانتهى زمان الخلوة بابتداء زمان البقاء بالوجود الحقاني، ولكن لم
يتم بعد لوجود البقية المشار إليها بقوله:
* (اذكرني عند ربك) * أي: اطلب الوجود في مقام الروح بالمحبة والاستقرار
فيه، فإن المحبة إذا أسكرت الروح بخمر العشق ارتقى الروح إلى مقام الوحدة والقلب
إلى مقام الروح، ويسمى الروح في ذلك المقام خفيا والقلب سرا، وهو ليس بالفناء
لكونهما موجودين حينئذ مغمورين بنور الحق. ومن الوقوف في هذا المقام ينشأ
الطغيان والأنائية فلهذا قال: * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) * أي: أنسى شيطان الوهم
يوسف القلب ذكر الله تعالى بالفناء فيه لوجود البقية وطلبه مقام الروح وإلا ذهل عن
ذكر نفسه ووجوده وللاحتجاب بهذا المقام وهذه البقية لبث * (في السجن بضع سنين) *
وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ' رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند ربك لما
بقي في السجن بضع سنين '، أو أنسى شيطان الوهم المقهور الممنوع المحجوب عن
جناب الحق رسول المحبة المقرب عند ارتفاع درجته واستيلائه واستعلاء سلطانه،
والتحير في الجمال الإلهي، والسكر الغالب ذكر يوسف القلب في حضرة الشهود لأن
المحب المشاهد للجمال حيران ذاهل عن الخلق كله وتفاصيل وجوده بل نفسه
مستغرق في عين الجمع حتى يتم فناؤه وينقضي سكره ثم يرجع إلى الصحو فيذكر
التفصيل ثم لما انتهى فناؤه بالانغماس في بحر الهوية والانطماس في الذات الأحدية
وانقضى زمان السجن أحياه الله تعالى بحياته ووهب له وجودا من ذاته وصفاته فأراه
صورة التبديل في صفات النفس مدة اعتزاله عنها بالخلوة والسلوك في الله بصورة أكل
البقرات العجاف السمان، وفي صفات الطبيعة البدنية بصورة استيلاء السنبلات اليابسة
على الخضر.
[تفسير سورة يوسف من آية 43 إلى آية 48]
346

والملك الذي قال: * (إني أري) * قيل: هو ريان بن الوليد الذي ملك قطفير على
مصر وولاه عليها لا العزيز المسمى قطفير، وإن كان العزيز بلسان العرب هو الملك
فعلى هذا يكون الملك إشارة إلى العقل الفعال ملك ملوك الأرواح المسمى روح
القدس، فإن الله تعالى لا يحيي أهل الولاية عند الفناء التام الذي هو بداية النبوة إلا
بواسطة نفخه ووحيه وبالاتصال به تظهر التفاصيل في عين الجمع ولهذا قالوا لما دخل
عليه كلمة بالعبرانية فأجابه بها وكان عارفا بسبعين لسانا فكلمه بها، فتكلم معه بكلها
والملأ الذين قالوا: * (أضغاث أحلام) * هي القوى الشريفة من العقل والفكر المحجوب
بالوهم والوهم نفسه المحجوبة عن سر الرياضة والتبديل، كما ترى المحجوبين بها
الواقفين معها يعدون أحوال أهل الرياضات من الخرافات ورسول المحبة الذي ادكر
بعد أمة إنما يذكر بواسطة ظهور ملك روح القدس وإيحائه وإراءته تفاصيل وجوده
بالرجوع إلى الكثرة بعد الوحدة وإلا لكان فيه حالة الفناء ذاهبا في عين الجمع لا يرى
فيها وجود القلب ولا غيره، فكيف يذكره إنما يدكره بظهوره بنور الحق بعد عدمه.
[تفسير سورة يوسف من آية 49 إلى آية 57]
والعام الذي * (فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) * هو وقت تمتيعه للنفس عند الاطمئنان
التام والأمن الكلي. وقول نسوة القوى * (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) *.
وقول امرأة العزيز: * (الآن حصحص الحق) * إشارة إلى تنور النفس والقوى بنور
347

الحق واتصافها بصفة الإنصاف والصدق وحصول ملكة العدالة بنور الوحدة وظهور
المحبة حال الفرق بعد الجمع وكمال طمأنينة النفس لإقرارها بفضيلة القلب وصدقه
وذنبها وبراءته فإن من كمال اطمئنان النفس اعترافها بالذنب واستغفارها عما فرط منها
حالة كونها أمارة وتمسكها بالرحمة الإلهية والعصمة الربانية واستخلاص الملك إياه
لنفسه استخلافه للقلب على الملك بعد الكمال التام، كما جاء في القصة: أجلسه على
سريره وتوجه بتاجه وختمه بخاتمه وقلده بسيفه وعزل قطفير ثم توفى قطفير وزوجه
الملك امرأته زليخا واعتزل عن الملك وجعله في يده وتخلى بعبادة ربه. كل ذلك
إشارة إلى مقام خلافة الحق كما قال لداود: * (إنا جعلناك خليفة في الأرض) * [ص،
الآية: 26]. وتوفي العزيز إشارة إلى وصول القلب إلى مقامه وذهاب الروح في شهوده
للوحدة. وتزوجه بامرأة العزيز إشارة إلى تمتيع القلب النفس بعد الاطمئنان بالحظوظ
فإن النفس الشريفة المتنورة تقوى بالحظوظ على محافظة شرائط الاستقامة وتقنين
قوانين العدالة واستنباط أصول العلم والعمل وهما الولدان اللذان جاءا في القصة أنها
ولدتهما منه افراثيم وميشا. وروي أنه لما دخل عليها قال لها: أليس هذا خيرا مما
طلبت؟ فوجدها عذراء وهو إشارة إلى حسن حالها في الاطمئنان مع التمتيع ومراعاة
العدالة، وكونها عذراء إشارة إلى أن الروح لا يخالط النفس لتقدسه دائما وامتناع
مباشرته إياها، فإن مطالبه كلية لا تدرك جزئياتها بخلاف القلب وإنما كانت امرأته
لتسلطه عليها ووصول أثر أمره وسلطانه إليها بواسطة القلب ومحكوميتها له في الحقيقة
وسؤال التولية على خزائن الأرض ووصف نفسه بالحفظ والعلم هو أن القلب يدرك
الجزئيات المادية ويحفظها دون الروح فيقتضي باستعداده قبول ذلك المعنى من
الواهب الذي هو ملك روح القدس وتمكينه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء
استخلافه بالبقاء بعد الفناء عند الوصول إلى مقام التمكين وهو أجر المحسن أي العابد
لربه في مقام الشهود لرجوعه إلى التفصيل من عين الجمع * (ولأجر الآخرة) * أي:
الحظ المعنوي بلذة شهود الجمال ومطالعة أنوار سبحات الوجه الباقي * (خير للذين آمنوا) * الإيمان العيني * (وكانوا يتقون) * بقية الأنائية.
[تفسير سورة يوسف من آية 58 إلى آية 66]
348

ولما رجع إلى مقام التفصيل وجلس على سرير الملك للخلافة. جاءه إخوته
القوى الحيوانية بعد طول مفارقته إياهم في سجن الرياضة والخلوة بمصر الحضرة
القدسية والاستغراق في عين الجمع * (فدخلوا عليه) * متقربين إليه بوسيلة التأدب بآداب
الروحانيين لاطمئنان النفس وتنورها وتنور تلك القوى بها وتدربها بهيئات الفضائل
والأخلاق ممتارين لأقوات العلوم النافعة من الأخلاق والشرائع * (فعرفهم) * مع حسن
حالهم وصلاحهم بالذكاء والصفاء وفقرهم واحتياجهم إلى ما يطلبون منه من المعاني
* (وهم له منكرون) * لارتقائه عن رتبتهم بالتجرد واتصافه بما لا يمكنهم إدراكه من
الأوصاف ولهذا استحضر القوة العاقلة العملية بقوله: * (ائتوني بأخ لكم من أبيكم) * إذ
المعاني الكلية المتعلقة بالأعمال لا يدركها إلا تلك القوة. واعلم أن المحبوبين يسبق
كشوفهم اجتهادهم فيعلمون قواهم الشرائع والأحكام ويسوسونها بعد الوصول وإن
اطمأنت نفوسهم قبله.
وأما جهازهم الذي جهزهم به فهو الكيل اليسير من الجزئيات التي يمكنهم
إدراكها والعمل بها، وقال: * (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم) * من المعاني الكلية
الحاصلة * (عندي ولا تقربون) * لبعد رتبتكم عن رتبتي إلا بواسطته. ولما كانت العاقلة
العملية إذا لم تفارق مقام العقل المحض إلى مقام الصدر لم يمكنها مرافقة القوى
الحسية وإلقاؤها المعاني الجزئية الباعثة إياها على العمل وتحريك القوة النزوعية
الشوقية نحو المصالح العقلية * (قالوا سنراود عنه أباه) * أي: بتصفية الاستعداد لقبول
فيضه وقوله * (لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) * إشارة إلى أمر القلب فتيانه القوى
النباتية عند تمتيع النفس حالة الاطمئنان بإيراد مواد قواهم التي يتقوون بها ويقتدرون
على كسب كمالاتهم إذ هي بضاعتهم التي يمكنهم بها الامتياز، ورحالهم آلات
إدراكاتهم ومكاسبهم * (لعلهم) * يعرفون قواهم وقدرهم على الاكتساب * (إذا انقلبوا إلى أهلهم) * من سائر القوى الحيوانية كالغضبية والشهوانية وأمثالهما * (لعلهم يرجعون) * إلى
مقام الاسترباح والامتياز من قوت المعاني والعلوم النافعة بتلك البضاعة * (فلما رجعوا إلى أبيهم) * بتصفية الاستعداد والتمرن بهيئات الفضائل اقتضوه إرسال القوة العاقلة
العملية معهم لإمدادهم في فضائل الأخلاق بالمعاني دائما، أي: استمدوا من فيضه
349

* (نكتل) * أي: نستفد منه وإنا لا نستنزله إلى تحصيل مطالبنا فنهلكه كما فعلنا حالة
الجاهلية بأخيه بل نحفظه بالتعهد له ومراعاته في طريق الكمال. وأخذ العهد منهم في
إرساله معهم واستيثاقه عبارة عن تقديم الاعتقاد الصحيح الإيماني على العمل وإلزامهم
ذلك العقد أولا وإلا لم يستقم حالهم في العمل ولم ينجح.
[تفسير سورة يوسف آية 67]
* (لا تدخلوا من باب واحد) * أي: لا تسلكوا طريق فضيلة واحدة كالسخاوة مثلا
دون الشجاعة أو لا تسيروا على وصف واحد من أوصاف الله تعالى فإن حضرة
الوحدة هي منشأ جميع الفضائل والذات الأحدية مبدأ جميع الصفات، فاسلكوا طرق
جميع الفضائل المتفرقة حتى تتصفوا بالعدالة فتتطرقوا إلى الحضرة الواحدية، وسيروا
على جميع الصفات حتى يكشف لكم عن الذات. وقد ورد في الحديث: إن الله
تعالى يتجلى على أهل المذاهب يوم القيامة في صورة معتقدهم فيعرفونه ثم يتحول
إلى صورة أخرى فينكرونه * (وما أغني عنكم من الله من شيء) * أي: لا أدفع عنكم
شيئا إن منعكم توفيقه وحجبكم ببعض الحجب عن كمالاتكم فإن العقل ليس إليه إلا
إفاضة العلم لا إجادة الاستعداد ورفع الحجاب.
[تفسير سورة يوسف من آية 68 إلى آية 76]
* (ولما دخلوا) * أي: امتثلوا أمر العقل بسلوك طرق جميع الفضائل لم يغن عنهم
من جهة الله * (من شيء) * أي: لم يدفع عنهم الاحتجاب بحجاب الجلال والحرمان
عن لذة الوصال لأن العقل لا يهتدي إلا إلى الفطرة ولا يهدي إلا إلى المعرفة. وأما
350

التنور بنور الجمال، والتلذذ بلذة الشوق بطلب الوصال، وذوق العشق بكمال الجلال
والجمال، بل جلال الجمال وجمال الجلال فأمر لا يتيسر إلا بنور الهداية الحقانية
* (إلا حاجة في نفس يعقوب) * هي تكميلهم بالفضيلة * (وإنه لذو علم) * لتعليم الله إياه
لا ذو عيان وشهود * (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) * ذلك فيحسبون الكمال ما عند
العقل من العلم أو ناس الحواس لا يعلمون علم العقل الكلي * (آوى إليه أخاه) *
للتناسب بينهما في التجرد * (جعل السقاية في رحل أخيه) * مشربته التي يكيل بها على
الناس، أي: قوة إدراكه للعلوم ليستفيد بها علوم الشرائع ويستنبط قوانين العدالة، فإن
العاقلة العملية تقوى على إدراك المعقولات عند التجرد عن ملابس الوهم والخيال كما
تقوى النظرية وهي القوة المدبرة لأمر المعاش المشوبة بالوهم في أول الحال.
ونسبته إلى السرقة لتعوده بإدراك الجزئيات في محل الوهم من المعاني المتعلقة
بالمواد وبعده عن إدراك الكليات، فلما تقوى عليها بالآوي إلى أخيه واستفادته منه
تلك القوة بالتجرد فكأنه قد سرق ولم يسرق. والمؤذن الذي نسبهم إلى السرقة هو
الوهم لوجدان الموهم تغير حال الجميع عما كانت عليه، وعدم مطاوعتها له وتوهمه
لذلك نقصا فيهم.
والحمل الموعود لمن يجيء بالصواع، هو التكليف الشرعي الذي يحصل
بواسطة العقل العملي عند استفادته علم ذلك من القلب، والصواع هو القوة
الاستعدادية التي يحصل بها علمه. والفاقد لها المفتش لمتاعهم، المستخرج إياها من
رحل أخيه هو الفكر الذي بعثه القلب لهذا الشأن. ولما كان دين روح القدس تحقق
المعارف والحقائق النظرية مما لا يتعلق بالعمل * (ما كان ليأخذ أخاه) * بالبعث على
العمليات والاستعمال على الفضائل * (في دين الملك) * لأن دينه العلم وعلمه التعقل
* (إلا أن يشاء الله) * أي: وقت تنور النفس بنور القلب المستفاد منه وتفسح الصدر
القابل للعمليات وذلك هو رفع الدرجات، لأن النفس حينئذ ترتفع إلى درجة القلب
والقلب إلى درجة الروح في مقام الشهود * (وفوق كل ذي علم) * كالقوى * (عليم) *
كالعقل العملي وفوقه القلب وفوقه العقل النظري وفوقه الروح وفوقه روح القدس والله
تعالى فوق الكل، علام الغيوب كلها.
[تفسير سورة يوسف من آية 77 إلى آية 83]
351

ومعنى: * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * أن القلب استعد لهذا
المعنى من قبل دون القوى، فبقوا منكرين لهما، متهمين إياهما عند أبيهما لتحصيل
مطالبهما وطلب لذة وراء ما يطلبونها. وقيل: كان لإبراهيم صلوات الله عليه وسلامه
منطقة يتوارثها أكابر أولاده، فورثها من إسحق عمة يوسف لكونها كبرى من أولاده،
وقد حضنته بعد وفاة أمه راحيل، فلما شب أراد يعقوب انتزاعه منها، فلم تصبر عنه،
فحزمت المنطقة تحت ثيابه عليه السلام ثم قالت: إني فقدت المنطقة، فلما وجدت
عليه سلم لها وتركه يعقوب عندها حتى ماتت. وهي إشارة إلى مقام الفتوة التي ورثها
من إبراهيم الروح قبل مقام الولاية وقت شبابه. وقد حزمتها عليه النفس المطمئنة التي
حضنتها وقت وفاة راحيل اللوامة. وإرادة انتزاع يعقوب إياه منها إشارة إلى أن العقل
يريد الترقي إلى كسب المعارف والحقائق، وإذا وجده موصوفا بالفضائل في مقام
الفتوة رضي به، وتركه عند النفس المطمئنة سالكا في طريق الفضائل حتى توفيت
بالفناء في الله في مقام الولاية والله أعلم.
وإسرار يوسف في نفسه كلمته علمه بقصورهم عن إدراك مقامه ونقصانهم عن
كماله، وهي قوله: * (أنتم شر مكانا) * والذي اقترح أن يأخذه يوسف القلب مكان أخيه
العقل العملي هو الوهم لمداخلته في المعقولات، وشوقه إلى الترقي إلى أفق العقل،
وحكمه فيها لا على ما ينبغي وميلهم إلى سياسته إياهم دون العقل العملي للتناسب
الذي بينهم في التعلق بالمادة ونزوعه إلى تحصيل مآربهم من اللذات البدنية. ولما
وجد القلب متاعه من إدراك المعاني المعقولة عند العقل العملي دون الوهم * (قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا) * إن أخذنا الوهم مكانه وآويناه إلينا وألقينا
إليه ما ألقينا إلى أخينا كنا مرتكبين الظلم العظيم لوضعنا الشيء في غير محله
ويأسهم منه شعورهم بعدم تكفيل الوهم إياهم وتمتيعهم بدواعيه وحكمه _ وكبيرهم
الذي ذكرهم موثق أبيهم الذي هو الاعتقاد الإيماني، وتفريطهم في يوسف عند
حكومة الوهم هو الفكر، ولهذا قال المفسرون: هو الذي كان أحسنهم رأيا في يوسف
ومنعهم عن قتله.
352

وقوله: * (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) * أي: لا أتحرك إلا بحكم العقل
دون الوهم إلى أن أموت، وأمرهم بالرجوع إلى أبيهم سياسته إياهم بامتثال الأوامر
العقلية * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * أي: إنا لا نعلم كون ذلك المتاع عند العاقلة
العملية إلا نقصا وسرقة لعدم شعورنا به وبكونه كمالا * (وما كنا) * حافظين للمعنى
العقلي العيني لأنا لا ندرك إلا ما في عالم الشهادة، وكذا أهل قريتنا التي هي مدينة
البدن من القوى النباتية * (والعير التي أقبلنا فيها) * من القوى الحيوانية، فاسألهم
ليخبروك بسرقة ابنك.
* (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا) * أي: زينت طبائعكم الجسمانية لكم أمر
التلذذ باللذات البدنية والشهوات الحسية فحسبتموها كمالا، وتتبع المعقولات والتزام
الشرائع والتآمر بالفضائل نقصا * (فصبر جميل) * أي: فأمركم صبر جميل في العمل
بالشرائع والفضائل دائما والوقوف مع حكم الشرع والعقل، أو صبر جميل على
الاستمتاع على وجه الشرع أجمل بكم من الإباحة والاسترسال بحكم الطبيعة، أو
فأمري صبر جميل في بقاء يوسف القلب وإخوته على استشراق الأنوار القدسية
واستنزال الأحكام الشرعية واستخراج قواعدها التي لا مدخل لي فيها، فلا بد لي من
فراقهم إلى أوان فراغهم إلى رعاية مصالح الجانبين والوفاء بكلا الأمرين، أي:
المعاش والمعاد، فإن العقل كما يقتضي طلب الكمال وإصلاح المعاد، يقتضي صلاح
البدن وترتيب المعاش وتعديل المزاج بالغذاء وتربية القوى باللذات، أو فأمري صبر
جميل على ذلك * (عسى الله أن يأتيني بهم جميعا) * من جهة الأفق الأعلى والترقي عن
طوري إلى ما يقتضيه نظري ورأيي من مراعاة الطرفين ومقامي ومرتبتي من اختيار
التوسط بين المنزلتين * (إنه هو العليم) * بالحقائق * (الحكيم) * بتدبير العوالم، فلا
يتركهم مراعين للجهة العلوية، ذاهلين عن الجهة السفلية، فيخرب مدينة البدن ويهلك
أهلها، وذلك قبل التمتيع التام الذي أشرنا إليه إذ هو مقام الاجتهاد بعد الكشف
والسلوك في طريق الاستقامة بعد التوحيد.
[تفسير سورة يوسف من آية 84 إلى آية 92]
353

* (وتولى عنهم) * أي: أعرض عن جانبهم وذهل عن حالهم، لحنينه إلى يوسف
القلب وانجذابه إلى جهته.
* (وابيضت عيناه من الحزن) * أولا بوقوعه في غياهب الجب وكلال قوة بصيرته
لفرط التأسف على فراقه ثم بترقيه عن طوره وفنائه في التوحيد وتخلفه عنه وعدم
إدراكه لمقامه وكماله، فبقي بصره حسيرا غير بصير بحال يوسف * (وهو كظيم) * مملوء
من فراقه. وقولهم: * (تفتؤ تذكر يوسف) * إشارة إلى شدة حنينه ونزوعه وانجذابه إلى
جهة القلب في تلك الحالة دونهم لشدة المناسبة بينهما في التجرد والميل إلى العالم
العلوي. وقوله: * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * إشارة إلى علم العقل برجوع القلب
إلى عالم الخلق ووقوفه مع العادة بعد الذهاب إلى الجهة الحقانية وانخلاعه عن حكم
العادة عن قريب، كما سئل أحدهم: ما النهاية؟ قال: الرجوع إلى البداية. ولهذا العلم
قال: * (يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه) * وذلك عند فراغه عن السلوك
بالكلية ووصول أثر ذلك الفراغ إلى العقل بقربه إلى رتبته في التنزل والتدلي فيأمر
القوى باستنزاله إلى مقامهم بطلب الحظوظ في صورة الجمعية البدنية وتدبير معاشهم
ومصالحهم الجزئية، وذلك هو الروح الذي نهاهم عن اليأس منه، إذ المؤمن يجد هذا
الروح والرضوان في الحياة الثانية التي هي بالله فيحيا به ويتمتع بحضوره بجميع أنواع
النعيم ولذات جنات الأفعال والصفات والذات بالنفس والقلب والروح دون الكافر كما
قال: * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) *. وقولهم: * (مسنا وأهلنا الضر) *
إشارة إلى عسرهم وسوء حالهم، وضيقهم في الوقوف مع الحقوق * (وجئنا ببضاعة مزجاة) * إلى ضعفهم لقلة مواد قواهم وقصور غذائهم عن بلوغ مرادهم.
وقولهم: * (فأوف لنا الكيل) * استعطافهم إياه بطلب الحظوظ. وقوله: * (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) * إشارة إلى تنزل القلب إلى مقامهم في محل الصدر
ليعرفوه فيتذكروا حالهم في البداية وما فعلوا به في زمان الجهل والغواية. وقولهم:
* (أئنك لأنت يوسف) * تعجب منهم عن حاله بتلك الهيئة النورانية والأبهة السلطانية
وبعدها عن حال بدايته. وقوله: * (قد من الله علينا) * إلى آخره، إشارة إلى علة ذلك
وسبب كماله. وقولهم: * (تالله لقد آثرك الله علينا) * إشارة تهدي القوي عند الاستقامة
إلى كماله ونقصها. وقوله: * (لا تثريب عليكم اليوم) * لكونها مجبولة على أفعالها
354

الطبيعية. وقوله: * (يغفر الله لكم) * إشارة إلى براءتها من الذنب عند التنور بنور
الفضيلة والتأمر بأمره عند الكمال.
[تفسير سورة يوسف من آية 93 إلى آية 98]
والقميص هو الهيئة النورانية التي اتصف بها القلب عند الوصول إلى الوحدة في
عين الجمع والاتصاف بصفات الله تعالى. وقيل: هو القميص الإرثي الذي كان في
تعويذه حين ألقي في البئر، وهو إشارة إلى نور الفطرة الأصلية. كما أن الأول إشارة
إلى نور الكمال الحاصل له بعد الوصول، والأول أولى بتبصير عين العقل فإن العقل
لما لم تكتحل بصيرته بنور الهداية الحقانية عمي عن إدراك الصفات الإلهية. * (وائتوني
بأهلكم أجمعين) * أي: ارجعوا إلي عن آخركم في مقام الاعتدال ومراعاة التوسط في
الأفعال، فإن القلب متوسط بين جهتي العلو والسفالة، وانضموا إلي، وائتمروا
بأمري، واقربوا مني ولا تبعدوا عن مقامي في طلب اللذات البدنية بمقتضى طباعكم.
وريحه الذي وجده من بعيد هو وصول أثر رجوع القلب إلى عالم العقل والمعقول،
وإقباله إليه من محض التوحيد بتجهيز القوى الحيوانية بجهاز الحظوظ على حكم
العدالة وقانون الشرع والعقل، فقد قيل: إنه جهز العير بأجمل ما يكون، ووجهها إلى
كنعان. وضلاله القديم هو: تعشقه بالقلب أزلا وذهوله عن جهتهم.
وقوله: * (ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون) * إشارة إلى سابق علمه
برجوع القلب إلى مقام العقل. واستغفاره لهم: تقريره إياهم على حكم الفضائل
العقلية بالاستقامة بعد صفائهم وذكائهم وقبولهم للهيئات النورانية بعد خلع الظلمانية.
[تفسير سورة يوسف من آية 99 إلى آية 105]
355

ودخولهم على يوسف هو وصولهم إلى مقام الصدر حال الاستقامة. ودخولهم
مصر كون الكل في حضرة الجمعية الإلهية الواحدية مع تفاضل مراتبهم في عين جمع
الوحدة. ورفع أبويه على العرش عبارة عن ارتفاع مرتبتي العقل والنفس عن مراتب
سائر القوى وزيادة قربهما إليه وقوة سلطنتهما عليها. وخرورهم له سجدا عبارة عن
انقياد الكل وطاعتهم له بالأمر الوحداني بلا فعل حركة بأنفسهم بحيث لا يتحرك منها
شعر ولا ينبض لها عرق إلا بالله. وتأويل رؤياه صورة ما تقرر في استعداده الأول من
قبول هذا الكمال.
* (قد جعلها ربي حقا) * أخرجها من القوة إلى الفعل * (وقد أحسن بي) * بالبقاء
بعد الفناء * (إذ أخرجني من) * سجن الخلوة التي كنت فيها محجوبا عن شهود الكثرة
في عين الوحدة ومطالعة الجمال في صفات الجلال * (وجاء بكم من) * بدو خارج
مصر الحضرة الإلهية * (من بعد أن نزغ) * شيطان الوهم * (بيني وبين إخوتي) * بتحريضه
إياهم على إلقائي في قعر بئر الطبيعة، بانهماكهم وتهالكهم على اللذات البدنية * (إن ربي لطيف) * يلطف بأحبابه بتوفيقهم للكمال وتدبير أمورهم بحسب مشيئته الأزلية
وعنايته القديمة * (إنه هو العليم) * بما في الاستعدادات * (الحكيم) * بترتيب أسباب
الكمال وتوفيق المستعد للوصول إليه.
* (رب قد آتيتني من الملك) * أي: من توحيد الملك الذي هو توحيد الأفعال
* (وعلمتني من تأويل الأحاديث) * أي: معاني المغيبات وما يرجع إليه صورة الغيب،
وهو من باب توحيد الصفات. * (فاطر) * سماوات الصفات في مقام القلب وأرض
توحيد الأفعال في مقام النفس * (أنت وليي) * بتوحيد الذات في دنيا الملك وآخرة
الملكوت * (توفني مسلما) * أفنني عني في حالة كوني منقادا لأمرك لا طاغيا ببقاء الأنية
* (وألحقني بالصالحين) * الثابتين في مقام الاستقامة بعد الفناء في التوحيد.
[تفسير سورة يوسف من آية 106 إلى آية 108]
* (وما يؤمن أكثرهم بالله) * الإيمان العلمي * (إلا وهم مشركون) * بإثبات موجود
غيره أو الإيمان العيني إلا وهم مشركون باحتجابهم بأنائيتهم * (غاشية من عذاب الله) *
356

حجاب يحجب استعدادهم عن قبول الكمال من هيئة راسخة ظلمانية * (أو تأتيهم) *
القيامة الصغرى * (بغتة وهم لا يشعرون) * بنور الكشف والتوحيد، فلا يرتفع حجابهم
فيبقون في الاحتجاب أبدا.
* (قل هذه) * السبيل التي أسلكها، وهي سبيل توحيد الذات * (سبيلي) *
المخصوص بي، ليس عليه إلا أنا وحدي * (أدعو إلى) * الذات الأحدية الموصوفة بكل
الصفات في عين الجمع * (أنا ومن اتبعني) * في هذه السبيل وكل من يدعو إلى هذه
السبيل فهو من أتباعي، إذ الأنبياء قبلي كلهم كانوا داعين إلى المبدأ والمعاد وإلى
الذات الواحدية الموصوفة ببعض الصفات إلا إبراهيم صلى الله عليه وسلم فإنه قطب التوحيد،
ولهذا كان صلى الله عليه وسلم من أتباعه باعتبار الجمع دون التفصيل، إذ لا متمم لتفاصيل الصفات
إلا هو عليه صلى الله عليه وسلم وإلا لكان غيره خاتما السبيل الحق كما ختم لأن كل أحد
لا يمكنه الدعوة إلا إلى المقام الذي بلغ إليه من الكمال * (وسبحان الله) * أنزهه من أن
يكون غيره على سبيله، بل هو السالك سبيله والداعي إلى ذاته * (وما أنا من المشركين) * المثبتين للغير في مقام التوحيد الذاتي، المحتجبين عنه بالأنائية، بل أنا
به، فإن عنى فهو الداعي إلى سبيله.
[تفسير سورة يوسف من آية 109 إلى آية 111]
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * أي: من كان فيه بقية من
الرجولية من أهل قرى الصفات والمقامات لا من مصر الذات، فإن البقاء الحاصل
لأهل التمكين لا يكون إلا بقدر الفناء. والرجوع إلى الخلق لا يكون إلا على حسب
العروج. فالفناء التام والعروج الكامل لا يكون إلا للقطب الذي هو صاحب الاستعداد
الكامل الذي لا رتبة إلا قد يبلغها ويلزم أن يكون الرجوع التام الشامل لجميع تفاصيل
الصفات عند البقاء له وهو الخاتم ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ' كان بنيان النبوة
تم ورصف وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة '. وإلى هذا المعنى
أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: ' بعثت لأتمم مكارم الأخلاق '.
* (أفلم يسيروا في الأرض) * أرض استعدادهم * (فينظروا كيف كان) * نهاية أمر
357

* (الذين من قبلهم) * وغاية كمالهم، فيبلغوا منتهى إقدامهم ويحصلوا كمالاتهم بحسب
استعداداتهم، فإن لكل أحد خاصية واستعداده الخاص يقتضي سعادة خاصة هي
عاقبته، ومن الاطلاع على خواص النفوس وغايات إقدامهم في السير يحصل للنفس
هيئة اجتماعية من تلك الكمالات هي كمال الأمة المحمدية على حسب اختلاف
استعداداتهم وهي الدار الآخرة التي هي خير للذين اتقوا صفات نفوسهم التي هي
حجب الاستعدادات * (أفلا تعقلون) * أن هذا المقام خير مما أنتم عليه من الدار الفانية
وتمتعاتها، فإنها * (لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) * [العنكبوت، الآية: 64].
* (حتى إذا استيأس الرسل) * أي: ساروا واتقوا وتراخى فتحهم ونصرهم في
الكشوف على كفرة قوى النفس حتى إذا استيأس الرسل الذين هم أشراف القوم من
بلوغ الكمال * (وظنوا أنهم قد) * كذبتهم ظنونهم في استعدادهم للكمال أو رجائهم
* (جاءهم نصرنا) * بالتأييد والتوفيق من إمداد أنوار الملكوت والجبروت * (فنجي من نشاء) * من أهل العناية من الرسل وأتباعهم * (ولا يرد) * قهرنا بالحجب والتعذيب * (عن القوم المجرمين) * بإظهار صفات نفوسهم على قلوبهم فيكسبونها الهيئات الغاسقة
الحاجبة المؤذية.
* (لقد كان في قصصهم عبرة) * أي: ما يعبر بها عن ظاهرها إلى باطنها، كما
عبرنا في قصة يوسف عليه السلام لأولي العقول المجردة عن قشور الوهميات
الخالصة عن غشاوات الحسيات * (ما كان) * هذا القرآن * (حديثا يفترى) * من عند النفس
* (ولكن تصديق الذي) * كان ثابتا قبله في اللوح * (وتفصيل كل شيء) * أجمل في عالم
القضاء وهداية إلى التوحيد * (ورحمة) * بالتجليات الصفاتية من وراء أستار آياته * (لقوم يؤمنون) * بالغيب لصفاء الاستعداد.
358

((سورة الرعد))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الرعد من آية 1 إلى آية 2]
* (المر) * أي: الذات الأحدية، واسمه العليم، واسمه الأعظم، ومظهره الذي هو
الرحمة التامة على ما أشير إليه * (تلك) * معظمات علامات كتاب الكل الذي هو الوجود
المطلق وآياته الكبرى * (و) * المعنى * (الذي أنزل إليك من ربك) * من العقل الفرقاني، وهذا
الذي ذكر من درج المعاني في الحروف هو الحق * (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) *.
* (الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها) * أي: بعمد غير مرئية هي ملكوتها
التي تقومها وتحركها من النفوس السماوية أو سماوات الأرواح بلا مادة تعمدها فتقوم
هي بها، بل مجردة قائمة بأنفسها * (ثم استوى) * مستعليا * (على العرش) * بالتأثير
والتقويم أو على عرش القلب بالتجلي * (وسخر) * شمس الروح بإدراك المعارف الكلية
واستشراق الأنوار العالية وقمر القلب بإدراك ما في العالمين جميعا، والاستمداد من
فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات بالكشف. * (كل يجري لأجل مسمى) * أي:
غاية معينة هي كماله بحسب الفطرة الأولى * (يدبر الأمر) * في البداية بتهيئة الاستعداد
وترتيب المبادئ * (يفصل الآيات) * في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات المترتبة في
السلوك على حسب تجليات الأفعال والصفات * (لعلكم بلقاء ربكم) * عند مشاهدات
آيات التجليات * (توقنون) * عين اليقين.
[تفسير سورة الرعد من آية 3 إلى آية 4]
* (وهو الذي مد) * أرض الجسد * (وجعل فيها رواسي) * العظام وأنهار العروق
* (ومن كل) * ثمرات الأخلاق والمدركات * (جعل فيها زوجين اثنين) * أي: صنفين
359

متقابلين كالجود والبخل، والحياء والقحة، والفجور والعفة، والجبن والشجاعة،
والظلم والعدالة وأمثالها. وكالسواد والبياض، والحلو والحامض، والطيب والنتن،
والحرارة والبرودة، والملاسة والخشونة وأمثالها. * (يغشى) * ليل ظلمة الجسمانيات
على نهار الروحانيات كتغشية القوى الروحانية بآلاتها والروح بالجسد * (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) * في صنع الله وتطابق عالميه الأصغر والأكبر.
* (وفي) * أرض الجسد * (قطع متجاورات) * من العظم واللحم والشحم والعصب،
* (وجنات) * من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية
التي يعصر منها خمر هوى النفس، والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة،
يعصر العشق وزرع القوى النباتية * (ونخيل) * سائر الحواس الظاهرة والباطنة * (صنوان) *
كالعينين والأذنين والمنخرين * (وغير صنوان) * كاللسان وآلة الفكر والوهم والذكر
* (تسقى بماء واحد) * هو: ماء الحياة * (ونفضل بعضها على بعض في) * أكل الإدراكات
والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة
على العفة وأمثالها * (لقوم يعقلون) * عجائب صنعه.
[تفسير سورة الرعد من آية 5 إلى آية 7
* (وإن تعجب) * عن قولهم فهو مكان التعجب لأن الإنسان في كل ساعة خلق
آخر جديد، بل العالم لحظة فلحظة خلق جديد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع
والصور، فكيف ينكر الخلق الجديد من نظر في عالم الكون والفساد بعين الاعتبار؟
* (أولئك الذين) * حجبوا عن شهود أفعال الربوبية وتجلياتها، فكيف عن تجليات
الصفات الإلهية؟ * (وأولئك الأغلال في أعناقهم) * فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم
المنتكسة إلى الأرض القاصر نظرها إلى ما يدانيها من الحس فيروا ملكوت الأرواح
ويشاهدوا عالم القدرة وما يبعد عن منازل الحس من المعقولات * (وأولئك أصحاب) *
نيران جهنم الأفعال في قعر هاوية الطبيعة * (هم فيها خالدون) *.
* (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * بمناسبة استعدادهم للشر لاستيلاء الهيئات
المظلمة والرذائل عليها فينزعون إلى الشر لغلبة الشر عليهم. * (وقد خلت من قبلهم) *
360

عقوبات أمثالهم * (وإن ربك لذو مغفرة للناس) * مع ظلمهم على أنفسهم باكتساب تلك
الهيئات الغاسقة الحاجبة عن النور لمن لم ترسخ فيه ولم تبطل استعداده فيزيلها بنور
رحمته * (وإن ربك لشديد العقاب) * لمن ترسخت فيه وصارت رينا وأبطلت الاستعداد.
* (ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه) * حجبوا، فلم يروا الآيات
الشاهدة على النبوة من اتصافه بصفات الله لعدم إدراكهم وعمى بصائرهم، فلذلك لم
يعدوها آيات واقترحوها على حسب هواهم ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم، إذ
الهداية إلى الله * (ولكل قوم هاد) * يناسبهم بحسب الجنسية الفطرية فيألفونه عند كماله
وتلقيه النور الإلهي، ويقبلون الهداية منه فيهديهم الله على مظهره، فمن ناسبك بتلك
الجنسية الأصلية قبل الهداية منك ومن لا فلا.
تفسير سورة الرعد من آية 8 إلى آية 11
تلك أسرار خفية لا يعلمها إلا * (الله) * الذي * (يعلم ما تحمل كل أنثى) * فيعلم ما
تحمل أنثى النفس من ولد الكمال، أي ما في قوة كل استعداد وما تزيد أرحام
الاستعداد بالتزكية والتصفية وبركة الصحبة من الكمالات وما تنقص منها بالانهماك في
الشهوات * (وكل شيء) * من الكمالات * (عنده بمقدار) * معين على حسب القابلية أو
كل شيء من قوة قبول في استعداد مقدر عنده بمقدار في الأزل من فيضه الأقدس لا
يزيد ولا ينقص، أو لكل قوم هاد هو الله تعالى كما قال: * (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) * [القصص، الآية: 56] لعلمه بما في الاستعدادات من قوة
القبول وزيادتها ونقصانها فيقدر بحسبها كمالاتهم.
* (عالم) * غيب ما في الاستعدادات من قوة القبول وشهادة الكمالات الحاضرة
الخارجة إلى الفعل * (الكبير) * الشأن الذي يجل عن إعطاء ما يقتضيه بعض
الاستعدادات بل يسع كلها فيعطيها مقتضياتها * (المتعال) * عن أن ينقطع فيضه فيتأخر
عن حصول الاستعداد وينقص مما يقتضيه.
* (سواء منكم من أسر القول) * في مكمن استعداده * (ومن جهر به) * بإبراز العلم
من القوة إلى الفعل * (ومن هو مستخف) * بليل ظلمة نفسه * (و) * من هو * (سارب) *
361

بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح.
* (له معقبات) * أمداد متعاقبة من الملكوت واصلة إليه من أمر الله * (يحفظونه من) * خطفات جن القوى الخيالية والوهمية وغلبات البهيمية والسبعية وإهلاكها إياه
* (إن الله لا يغير ما بقوم) * من نعمة وكمال ظاهر أو باطن * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) *
من الاستعداد وقوة القبول، فإن الفيض الإلهي عام متصل كالماء الجاري، ألم تر إلى
قوله تعالى: * (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * [الرعد، الآية: 4]
فيتلون بلون الاستعداد، فمن تكدر استعداده تكدر فيضه فزاد في شره، ومن تصفى
استعداده تصفى فيضه فزاد في خيره، وكذا النعم الظاهرة لا بد في تغيرها إلى النقم
من استحقاق جلي أو خفي، ولهذا قال المحققون: إن الدعاء الذي لا يتخلف عنه
الاستجابة المشار إليه بقوله تعالى: * (ادعوني أستجب لكم) * [غافر، الآية: 60] هو الذي
يكون بلسان الاستعداد. وعن بعض السلف: أن الفأرة مزقت خفي، وما أعلم ذلك
إلا بذنب أحدثته وإلا ما سلطها الله علي. وتمثل بقول الشاعر:
* لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
*
[تفسير سورة الرعد من آية 12 إلى آية 14]
* (هو الذي يريكم) * برق لوامع الأنوار القدسية والخطفة الإلهية * (خوفا) * أي:
خائفين من سرعة انقضائه وبطء رجوعه * (وطمعا) * أي: طامعين في ثباته وسرعة
رجوعه * (وينشئ) * سحاب السكينة * (الثقال) * بماء العلم اليقيني والمعرفة الحقة.
* (ويسبح) * رعد سطوة التجليات الجلالية أي يسبح الله ويمجده عما يتصور في
العقل ممن ترد عليه تلك التجليات لوجدانه ما لا يدركه العقل ويحمده حق حمده
بالكمال المستفاد من ذلك التجلي حمدا فعليا فيكون التسبيح للرعد الموجب لذلك أو
السطوة تسبح بنفس التجلي المنزه عن أن يدرك بالإدراك العقلي * (والملائكة) * أي:
ملكوت القوى الروحانية من هيبته وجلاله * (ويرسل) * صواعق السبحات الإلهية بتجلي
القهر الحقيقي المتضمن للطف الكلي فيسلب الوجود عن المتجلى عليه ويفنيه عن بقية
نفسه، كما ورد في الحديث: ' إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه '. * (فيصيب بها من يشاء) * من
362

عباده المحوبين والمحبين العشاق المشتاقين * (وهم يجادلون في الله) * بالتفكر في
صفاته والنظر العقلي في إثباته وما يجب له ويمتنع عليه من الصفات * (وهو شديد
المحال) * القوي في رفع الحيل العقلية في الإدراك وطمس نور بصيرته بالتجلي
وإحراقه بنور العشق.
* (له دعوة الحق) * أي: الدعوة الحقية التي ليست بالباطل له لا لغيره يدعو نفسه
فيستجيب كما قال تعالى: * (ألا لله الدين الخالص) * [الزمر، الآية: 3] أي: الدين الخالص
ليس إلا دينه ومعناه: أن الدعوة الحقة الحقيقية بالإجابة هي دعوة الموحد الفاني عن
نفسه، الباقي بربه، وكذا الدين الخالص دينه. والدعاة القائمون بأنفسهم لا يدعون إلا
من تصوروه ونحتوه في خيالهم فلا يستجاب لهم إلا كاستجابة الجماد الذي يطلب منه
الشيء، ولعمري إنه لا يدعو الله إلا الموحد وغيره يدعو الغير الموهوم الذي لا قدرة
له ولا وجود فلا استجابة، وهو الذي حجب استعداده بصفات نفسه فلا يعلم ما
استحقه فضاع دعاؤه ولا يكون مثل هذا الدعاء إلا في ضياع أو دعوة الحق جل
وعلا، لا تكون إلا له، أو دعوة المدعو الذي هو الحق هي الدعوة المختصة بذاته لا
يدعى بها غيره من أسمائه وصفاته والواصفيون الذين يدعون أسماءه وصفاته من دون
ذاته لا يستجيبهم المدعو إلا استجابة كاستجابة داعي الماء بالإشارة لكونهم محجوبين
* (وما دعاء) * المحجوبين * (إلا في) * ضياع.
[تفسير سورة الرعد من آية 15 إلى آية 17]
* (ولله) * ينقاد * (من في السماوات والأرض) * من الحقائق والروحانيات كأعيان
الجواهر وملكوت الأشياء * (وظلالهم) * أي: هياكلهم وأجسادهم التي هي أصنام تلك
الروحانيات وظلالها، ولهذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السجدة: ' سجد لك وجهي،
وسوادي، وخيالي ' أي: حقيقة ذاتي وسواد شخصي وخيال نفسي، أي: وجودي
وعيني وشخصي * (طوعا وكرها) * أي: شاؤوا أو أبوا، والمعنى يلزمهم ذلك
اضطرارا، لأن بعضهم طائع وبعضهم كاره * (بالغدو والآصال) * أي: دائما * (قل
363

أفاتخذتم من دونه) * أي: من كل ما عداه كائنا من كان * (أولياء لا يملكون لأنفسهم
نفعا ولا ضرا) * إذ القادر المالك هو الله لا غير.
* (أنزل) * من سماء روح القدس ماء العلم * (فسالت أودية) * القلوب بقدر
استعداداتها * (فاحتمل) * سيل العلم * (زبدا) * من خبث صفات أرض النفس ورذائلها
ودناياها * (ومما يوقدون عليه) * في نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني
التي تهيج العشق * (ابتغاء) * زينة النفس وبهجتها بها لكونها كمالات لها * (أو متاع) * من
الفضائل الخلقية التي يحصل بسببها، فإنها مما يتمتع به النفس * (زبد مثله) * خبث كالنظر
إليها ورؤيتها وتصور النفس كونها كاملة أو فاضلة متزينة بزينة تلك الأوصاف وإعجابها
واحتجابها وسائر ما يعد من آفات النفس وذنوب الأحوال * (فأما الزبد فيذهب جفاء) *
مرميا به منفيا بالعلم كما قال تعالى: * (ليطهركم به) * [الأنفال، الآية: 11]، * (وأما ما ينفع
الناس) * من المعاني الحقية والفضائل الخالصة * (فيمكث) * في أرض النفس.
[تفسير سورة الرعد من آية 18 إلى آية 22]
* (للذين استجابوا لربهم) * بتصفية الاستعداد عن كدورات صفات النفس
* (الحسنى) * أي: المثوبة الحسنى وهو الكمال الفائض عليهم عند الصفاء المعبر عنه
بقوله تعالى: * (نور على نور) * [النور، الآية: 35]، * (والذين لم يستجيبوا) * لم يتزكوا عن
الرذائل البشرية والكدورات الطبيعية لا يمكنهم اللافتداء بكل ما في الجهة السفلية من
الأموال والأسباب التي انجذبوا إليها بالمحبة فأهلكوا نفوسهم، لأن تلك سبب زيادة
البعد والهلاك، فكيف تكون سببا لخلاصهم عن تلك الظلمات وتبرئهم عنها؟، لا
ينفعهم عند رسوخ هيئات التعلق بها في أنفسهم * (أولئك لهم سوء الحساب) * لوقوفهم
مع الأفعال في مقام النفس الذي هو مقام العدل الإلهي، فلا بد لهم من المناقشة في
الحساب * (ومأواهم جهنم) * صفات النفس ونيران الحرمان وهيئات السوء * (ويخشون
ربهم) * عند تجلي الصفات في مقام القلب، فيشاهدون جلال صفة العظمة ويلزمهم
الهيبة والخشية * (ويخافون سوء الحساب) * عند تجلي الأفعال في مقام النفس فينظرون
إلى البطش والعقاب فيلزمهم الخوف.
364

* (والذين صبروا) * في سلوك سبيله عن المألوفات طلبا لرضاه واشتغلوا بالتزكية
بالعبادات المالية والبدنية ويدفعون بالفضيلة رذيلة النفس * (أولئك لهم عقبى الدار) *
بالرجوع إلى الفطرة أو صبروا عن صفات نفوسهم * (ابتغاء وجه ربهم) *، أي: لمحبة
الذات لا لمحبة الصفات، وأقاموا صلاة المشاهدة * (وأنفقوا مما رزقناهم) * من
المقامات والأحوال والكشوف والأعمال * (سرا) * بالتجريد عن هيئاتها وهيئات الركون
إليها والمحبة إياها، * (وعلانية) * بتركها وعدم الالتفات إليها، * (ويدرؤون بالحسنة) *
الحاصلة من تجلي الصفة الإلهية * (السيئة) * التي هي صفة النفس * (أولئك لهم عقبى
الدار) * أي: البقاء بعد الفناء.
[تفسير سورة الرعد من آية 23 إلى آية 32]
* (جنات عدن) * أي: ثلاثتها، يدخلون جنة الذات مع من صلح من آباء
الأرواح، وجنة الصفات بالقلوب، وجنة الأفعال بمن صلح من أزواج النفوس وذريات
القوى * (والملائكة) * من أهل الجبروت والملكوت * (يدخلون عليهم من كل باب) * من
أبواب الصفات مسلمين محيين إياهم بتحايا الإشراقات النورية والإمدادات القدسية كل
ذلك بسبب صبرهم على اللذات الحسية * (قل إن الله يضل من يشاء) * أي: ليس
الهداية والضلال بالآيات فإن في كل شيء آية، وكفى بالآيات المنزلة على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وإنما هما بالمشيئة الإلهية، * (يضل من يشاء) * لعدم الاستعداد أو لحجبهم
بالغواشي الظلمانية * (ويهدي إليه من أناب) * بتصفية الاستعداد من المحبين. وكما أن
365

أهل الضلال فريقان: عديم الاستعداد وحاجبه بظلمة البشرية، فكذلك أهل الهداية
قسمان: محبوبون يهتدون بغير الإنابة لقوة الاستعداد ومحبون يهديهم الله بعد الإنابة،
كما قال تعالى: * (يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * [الشورى، الآية: 13].
* (والذين آمنوا) * أي: المنيبون الذين آمنوا الإيمان العلمي بالغيب * (وتطمئن
قلوبهم بذكر الله) * ذكر النفس باللسان والتفكر في النعم، أو ذكر القلب بالتفكر في
الملكوت ومطالعة صفات الجمال والجلال، فإن للذكر مراتب ذكر النفس باللسان
والتفكر في النعم، وذكر القلب بمطالعة الصفات، وذكر السر بالمناجاة، وذكر الروح
بالمشاهدة، وذكر الخفاء بالمناغاة في المعاشقة، وذكر الله بالفناء فيه. والنفس
تضطرب بظهور صفاتها وأحاديثها وتطيش فيتلون القلب بسببها ويتغير بأحاديثها، فإذا
ذكر الله استقرت النفس وانتفت الوساوس كما قال عليه صلى الله عليه وسلم: ' إن الشيطان
يضع خرطومه على قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس فاطمأن القلب '. وكذا ذكر
القلب بالتفكر في الملكوت ومطالعة أنوار الجبروت، وأما سائر الأذكار فلا تكون إلا
بعد الاطمئنان. والعمل الصالح ههنا: التزكية والتحلية و * (طوبى لهم) * بالوصول إلى
الفطرة وكمال الصفات * (وحسن مآب) * بالدخول في جنة القلب، جنة الصفات.
[تفسير سورة الرعد من آية 33 إلى آية 40]
* (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) * أي: يقوم عليها بإيجاد كل ما
ينسب إليها من مكاسبها، قيوم لها وبمكسوباتها، وإنما سمي مكسوبها وإن كان بخلق
الله تعالى لأنه إنما أظهره عليها لاستعداد فيها يناسبه به قبلته من الله تعالى، فمن جهة
قبول المحل وصلاحيته لمظهريته ومحليته ينسب إلى كسبها مع قيام الحق تعالى
366

بإيجاده لأنها اقتضته، أو قائم عليها بحسب كسبها وبمقتضاه أي كما يقتضي مكسوباتها
من الصفات والأحوال التي تعرض لاستعدادها يفيض عليها من الجزاء الذي هو
الهيئات الكمالية النورانية المثيبة إياها، أو الهيئات الكدرة الظلمانية المعذبة إياها.
* (لكل أجل كتاب) * لكل وقت أمر مكتوب مقدر أو مفروض في ذلك الوقت
على الخلق، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات في كل وقت يأتي بما هو صلاح
ذلك الوقت رسول من عنده وكذا جميع الحوادث من الآيات وغيرها. * (وما كان
لرسول أن يأتي) * بشيء منها إلا بإذنه في وقته لأنها معينة بإزاء الأوقات التي تحدث
فيها من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر * (يمحو الله ما يشاء) * عن الألواح الجزئية التي
هي النفوس السماوية من النقوش الثابتة فيها فيعدم عن المواد ويفنى * (ويثبت) * ما يشاء
فيها فيوجد. * (وعنده أم الكتاب) * أي: لوح القضاء السابق الذي هو عقل الكل
المنتقش بكل ما كان ويكون أزلا وأبدا على الوجه الكلي المنزه عن المحو والإثبات،
فإن الألواح أربعة: لوح القضاء السابق العالي عن المحو والإثبات وهو لوح العقل
الأول. ولوح القدر أي: لوح النفس الناطقة الكلية التي يفصل فيها كليات اللوح الأول
ويتعلق بأسبابها وهو المسمى ب: اللوح المحفوظ. ولوح النفوس الجزئية السماوية
التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيأته ومقداره وهو المسمى بالسماء
الدنيا وهو بمثابة خيال العالم كما أن الأول بمثابة روحه والثاني بمثابة قلبه. ثم لوح
الهيولى القابل للصور في عالم الشهادة والله أعلم.
[تفسير سورة الرعد من آية 41 إلى آية 43]
* (أو لم يروا أنا نأتي الأرض) * نقصد أرض الجسد وقت الشيخوخة * (ننقصها من
أطرافها) * بتواكل الأعضاء وتخاذل القوى وكلالة الحواس شيئا فشيئا حتى يموت * (والله
يحكم) * على هذا الوجه * (لا معقب لحكمه) * لا راد ولا مبدل لحكمه، أو نأتي أرض
النفس وقت السلوك ننقصها من أطرافها بإفناء أفعالها بأفعالنا أولا كما قال تعالى: ' بي
يسمع وبي يبصر '، ثم بإفناء صفاتها بصفاتنا ثانيا، كما قال تعالى: ' كنت سمعه الذي يسمع
به وبصره الذي يبصر '. ثم بإفناء ذاتها بذاتنا كما قال تعالى: * (لمن الملك اليوم) * [غافر،
الآية: 16] وأجاب نفسه بقوله تعالى: * (لله الواحد القهار) * [غافر، الآية: 16] لفناء الخلق
كله، وحينئذ لا حكم إلا لله، يحكم كما يشاء لا معقب لحكمه لعدم غيره.
367

((سورة إبراهيم (عليه السلام)))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة إبراهيم من آية 1 إلى آية 3]
* (الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس) * من ظلمات الكثرة إلى نور الوحدة، أو
من ظلمات صفات النشأة إلى نور الفطرة، أو من ظلمات حجب الأفعال والصفات
إلى نور الذات * (بإذن ربهم) * بتيسيره بإبداع ذلك النور فيهم بهيئة الاستعداد من الفيض
الأقدس من عالم الألوهية وتوفيقه بتهيئة أسباب خروجه إلى الفعل من حضرة الربوبية،
إذ الإذن منه هبة الاستعداد وتهيئة الأسباب وإلا لم يكن لأحد إخراجهم * (إلى صراط العزيز) * القوي الذي يقهر ظلمات الكثرة بنور وحدته * (الحميد) * بكمال ذاته. وعلى
المعنى الثاني: * (صراط العزيز) * الذي يقهر صفات النفس بنور القلب * (الحميد) * الذي
يهب نعم الفضائل والعلوم عند صفاء الفطرة. وعلى الثالث: * (العزيز) * الذي يقهر
بسبحات ذاته أنوار صفاته ويفنى بحقيقة هويته جميع مخلوقاته الحميد الذي يهب
الوجود الباقي الكامل بعد فناء الرذائل الناقص بوجود ذاته وجمال وجهه. * (وويل للكافرين) * المحجوبين عن الوحدة أو الفطرة أو تجلي الذات وكشفه. ويترتب على
الوجوه الثلاثة مراتب العذاب، فهو إما عذاب محبة الأنداد في جحيم التضاد وإما
عذاب هيئات الرذائل ونيران صفات النفس ومقتضيات الطبائع أو عذاب حجب الأفعال
والصفات والحرمان عن نور الذات.
* (الذين) * يؤثرون * (الحياة الدنيا) * الحسية على العقلية والصورية على المعنوية
لوصفه الضلال بالبعد وكون عالم الحس في أبعد المراتب عن الله تعالى.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 4 إلى آية 9
368

* (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * أي: بكلام يناسب ما عليه حالهم
بحسب استعدادهم وعلى قدر عقولهم وإلا لم يفهموا لبعد ذلك المعنى عن أفهامهم
وعدم مناسبته لمقامهم، فلم يمكنه أن يبين لهم ما في استعدادهم الأول بالقوة من
الكمال اللائق به وما تقتضيه هوياتهم بحسب الفطرة * (فيضل الله من يشاء) * لزوال
استعداده بالهيئات الظلمانية ورسوخها والاعتقادات الباطلة واستقرارها * (ويهدي من يشاء) * ممن بقي على استعداده أو لم يترسخ فيه حواجب هيئاته وصور اعتقاداته * (وهو العزيز) * القوي الذي لا يغلب على مشيئته فيهدي من يشاء هدايته ويضل من يشاء
ضلالته * (الحكيم) * الذي يدبر أمر هداية المهتدي بأنواع اللطف وأمر ضلال الضال
بأصناف الخذلان على مقتضى الحكمة البالغة.
* (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) * أي: لكل مؤمن بالإيمان الغيبي إذ
الصبر والشكر مقامان للسالك قبل الوصول حال العقد الإيماني والسير في الأفعال
لتحصيل رتبة التوكل، وحينئذ آياته التي يعتبر بها ويستمدها يتمسك بها ويعتمدها في
سلوكه هي الأفعال، فكلما رأى نعمة أو سمع بها أو وصلت إليه من هداية وغيرها
شكره باللسان وبالقلب بتصوره من عند الله، وبالجوارح بحسن التلقي والقبول والطاعة
والعمل بمقتضاها على ما ينبغي، وكلما رأى أو سمع بلاء أو نزل به صبر بحفظ
اللسان عن الجزع. وقول: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * [البقرة، الآية: 156] وربط القلب
وتصور أن له فيه خير أو مصلحة وإلا لما ابتلاه الله به ومنع الجوارح عن الاضطراب.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 10 إلى آية 23]
369

* (أفي الله شك) * مع وضوحه، أي: كيف تشكون فيما ندعوكم إليه وهو الذي
لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره وإنما يوضح ما يوضح به. * (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) * ليستر بنوره ظلمات حجب صفاتكم فلا تشكون فيه عند جلية اليقين
* (ويؤخركم إلى) * غاية يقتضيها استعدادكم من السعادة إذ كل شخص عين له بحسب
استعداده الأول كمال هو أجله المعنوي كما أن لكل أحد بحسب مزاجه الأول غاية
من العمر هي أجله الطبيعي، وكما أن الآجال الاخترامية تقطع العمر دون الوصول إلى
الغاية المسماة بسبب من الأسباب فكذلك الآفات والموانع التي هي حجب الاستعداد
تحول دون الوصول إلى الكمال المعين. * (وبرزوا لله جميعا) * للخلائق ثلاث برزات،
برزة عند القيامة الصغرى بموت الجسد وبروز كل أحد من حجاب جسده إلى عرصة
الحساب والجزاء، وبرزة عند القيامة الوسطى بالموت الإرادي عن حجاب صفات
النفس والبروز إلى عرصة القلب بالرجوع إلى الفطرة، وبرزة عند القيامة الكبرى بالفناء
المحض عن حجاب الأنية إلى فضاء الوحدة الحقيقية وهذا هو البروز المشار إليه بقوله
تعالى: * (وبرزوا لله الواحد القهار) * [إبراهيم، الآية: 48]، ومن كان من أهل هذه القيامة
يراهم بارزين لا يخفى على الله منهم شيء. وأما ظهور هذه القيامة للكل وبروز الجميع لله،
وحدوث التقاول بين الضعفاء والمستكبرين، فهو بوجود المهدي القائم بالحق، الفارق بين
370

أهل الجنة والنار عند قضاء الأمر الإلهي بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء.
* (وقال الشيطان) * ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنور بنوره، فأسلم
وأطاع وصار محقا عالما بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له، ودعوته إلى
الباطل بتسويل الحطام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة عن الحجة، وأقر بأن
وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حق قد وفى به.
ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته. فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل
الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم
يستجب لها * (فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) *.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 24 إلى آية 27]
* (كلمة طيبة) * أي: نفسا طيبة، كما مر في تسمية عيسى عليه السلام (كلمة).
* (كشجرة طيبة) * كما شبهها بالزيتونة في القرآن وبالنخلة في الحديث * (أصلها ثابت) *
بالاطمئنان وثبات الاعتقاد بالبرهان * (وفرعها في) * سماء الروح * (تؤتي أكلها) * من
ثمرات المعارف والحكم والحقائق * (كل) * وقت * (بإذن ربها) * بتسهيله وتيسيره بتوفيق
الأسباب وتهيئتها * (ومثل) * نفس * (خبيثة كشجرة خبيثة) * مثل الحنظلة أو الشرجط
* (اجتثت من فوق الأرض) * استؤصلت للطيش الذي فيها وتشوش الاعتقاد وعدم القرار
على شيء. * (يثبت الله الذين آمنوا) * الإيمان اليقيني بالبرهان الحقيقي * (في الحياة) *
الحسية لاستقامتهم في الشريعة وسلوكهم في تحصيل المعاش طريق الفضيلة والعدالة
* (وفي الآخرة) * أي: الحياة الروحانية لاهتدائهم بنور الحق في الطريقة وكونهم في تحصيل
المعارف على بصيرة من الله وبينة من ربهم * (ويضل الله الظالمين) * في الحياتين لنقص
استعداداتهم بحظوظ صفات النفس وبقائهم في الحيرة للاحتجاب عن نور الحق.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 28 إلى آية 31]
371

* (بدلوا نعمة الله) * التي أنعم بها عليهم في الأزل من الهداية الأصلية والنور
الاستعدادي الذي هو بضاعة النجاة * (كفرا) * أي: احتجابا وضلالة، كما قال تعالى:
* (اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) * [البقرة، الآية: 16]
أضاعوا النور الباقي واستبدلوا به اللذة الحسية الفانية، فبقوا في الظلمة الدائمة
* (وأحلوا قومهم) * من في قوى نفوسهم أو من اقتدى بطريقتهم وتأسى بهم وتابعهم في
ذلك * (دار البوار) *.
* (وجعلوا لله أندادا) * من متاع الدنيا وطيباتها ومشتهياتها يحبونها كحب الله، إذ
كل ما غلب حبه فهو معبود. قال الله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) * [آل عمران، الآية: 14] الخ، * (ليضلوا عن سبيله) * كل من نظر إليهم من
الأحداث المستعدين ومن دان بدينهم. * (قل تمتعوا) * أي: اذهبوا فيه بأمر الوهم فإن
تمتعكم قليل سريع الزوال، وشيك الفناء، وعاقبته وخيمة بالمصير إلى النار.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 32 إلى آية 34]
* (الله الذي خلق) * سماوات الأرواح وأرض الجسد * (وأنزل من) * سماء عالم
القدس ماء العلم * (فأخرج به) * من أرض النفس ثمرات الحكم والفضائل * (رزقا لكم) *
وتقوى القلب بها * (وسخر لكم) * أنهار العلم بالاستنتاج والاستنباط والتفريع والتفصيل
* (وسخر لكم) * شمس الروح وقمر القلب * (دائبين) * في السير بالمكاشفة والمشاهدة
* (وسخر لكم) * ليل ظلمة صفات النفس ونهار نور الروح لطلب المعاش والمعاد
والراحة والاستنارة * (وآتاكم من كل ما سألتموه) * بألسنة استعداداتكم، فإن كل شيء
يسأله بلسان استعداده كمالا يفيض عليه مع السؤال بلا تخلف وتراخ كما قال تعالى: * (يسئله
من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن (29)) * [الرحمن، الآية: 29].
* (وإن تعدو نعمة الله) * من الأمور السابقة على وجودكم الفائضة من الحضرة
الإلهية ومن اللاحقة بكم من امداد التربية الواصلة عن الحضرة الربوبية * (لا تحصوها) *
لعدم تناهيها كما تقرر في الحكمة * (إن الإنسان لظلوم) * بوضع نور الاستعداد ومادة
البقاء في ظلمة الطبيعة ومحل الفناء وصرفه فيها، أو بنقص حق الله أو حق نفسه
بإبطال الاستعداد * (كفار) * بتلك النعم التي لا تحصى باستعمالها في غير ما ينبغي أن
تستعمل وغفلته عن المنعم عليه بها واحتجابه بها عنه.
372

[تفسير سورة إبراهيم من آية 35 إلى آية 38]
* (وإذ قال إبراهيم) * الروح بلسان الحال عند التوجه إلى الله في طلب الشهود
* (رب اجعل هذا البلد) * أي: بلد البدن * (آمنا) * من غلبات صفات النفس وتنازع القوى
وتجاذب الأهواء * (واجنبني وبني) * القوى العاقلة النظرية والعملية والفكر والحدس
والذكر وغيرها. * (أن نعبد) * أصنام الكثرة عن المشتهيات الحسية والمرغوبات البدنية
والمألوفات الطبيعية بالمحبة.
* (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * بالتعلق بها، والانجذاب إليها،
والاحتجاب بها عن الوحدة * (فمن تبعني) * في سلوك طريق التوحيد * (فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور) * تستر عنه تلك الهيئة المظلمة بنورك * (رحيم) * ترحمه بإفاضة
الكمال عليه بعد المغفرة.
* (ربنا إني أسكنت من) * ذرية قواي * (بواد غير ذي زرع) * أي: وادي الطبيعة
الجسمانية الخالية عن زرع الإدراك والعلم والمعرفة والفضيلة * (عند بيتك المحرم) *
الذي هو القلب * (ربنا ليقيموا) * صلاة المناجاة والمكاشفة * (فاجعل أفئدة) * من ناس
الحواس * (تهوي إليهم) * فتميزهم بأنواع الإحساسات وتمدهم بإدراك الجزئيات وتميل
إليهم بالمشايعة وترك المخالفة بالميل إلى الجهة السفلية واللذة البدنية * (وارزقهم) * من
ثمرات المعارف والحقائق من الكليات * (لعلهم يشكرون) * نعمتك فيستعملون تلك
المدركات في طلب الكمال. * (ربنا إنك تعلم ما نخفي) * مما فينا بالقوة * (وما نعلن) *
مما أخرجناه إلى الفعل من الكمالات * (وما يخفى على الله من شيء في) * أرض
الاستعداد * (ولا) * في سماء الروح.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 39 إلى آية 47]
373

* (الحمد لله الذي وهب لي على) * كبر الكمال * (إسماعيل) * العاقلة النظرية
* (وإسحاق) * العلمية * (إن ربي لسميع الدعاء) * أي: لسميع لدعاء الاستعداد، كما قال:
حسبي من سؤالي علمه بحالي.
* (رب اجعلني مقيم) * صلاة الشهود * (ومن ذريتي) * كلا منهم مقيم صلاة تخصه
* (ربنا وتقبل دعاء) * أي: طلبي للفناء التام فيك * (ربنا اغفر لي) * بنور ذاتك ذنب
وجودي فلا أحتجب بالطغيان * (ولوالدي) * ولما يتسبب لوجودي من القوابل والفواعل
فلا أرى غيرك ولا ألتفت إلى سواك فأبتلى بزيغ البصر، ولمؤمني القوى الروحانية
* (يوم يقوم) * حساب الهيئات الروحانية النورانية والنفسانية الظلمانية أيها أرجح.
[تفسير سورة إبراهيم من آية 48 إلى آية 52]
* (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * تبدل أرض الطبيعة بأرض النفس عند الوصول
إلى مقام القلب وسماء القلب بسماء السر وكذا تبدل أرض النفس بأرض القلب وسماء
السر بسماء الروح، وكذا كل مقام يعبره السالك يبدل ما فوقه وما تحته كتبدل سماء
التوكل في توحيد الأفعال بسماء الرضا في توحيد الصفات، ثم سماء الرضا بسماء
التوحيد عند كشف الذات ثم يطوى الكل * (وبرزوا لله الواحد) * الذي لا موجود غيره
* (القهار) * الذي يفنى كل ما عداه بتجليه * (وترى المجرمين) * المحتجبين بصفات
النفوس وهيئات الرذائل * (مقرنين) * في أماكنهم من سجين الطبيعة وهاوية هوى النفس
بقيود علائق الطبيعيات وأرسان محبات السفليات * (سرابيلهم من قطران) * لاستيلاء
سواد الهيئات المظلمة من تعلقات الجواهر الغاسقة عليها * (وتغشى وجوههم) * نار
القهر والإذلال والاحتجاب عن لذة الكمال، وفيه سر آخر لا ينكشف إلا لأهل القيامة
ممن شاهد البعث والنشور، والله أعلم.
374

((سورة الحجر))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الحجر من آية 1 إلى آية 25]
* (وقرآن مبين) * أي: جامع لكل شيء، مظهر له * (ولقد جعلنا) * في سماء العقل
* (بروجا) * مقامات ومراتب من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل
المستفاد * (وزيناها) * بالعلوم والمعارف * (للناظرين) * المتفكرين فيه * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * من الأوهام الباطلة * (إلا من استرق السمع) * فاختطف الحكم العقلي
باستراق السمع لقربه من أفق العقل * (فأتبعه شهاب مبين) * أي: برهان واضح فنطرده
ونبطل حكمه. وأرض النفس * (مددناها) * بسطناها بالنور القلبي * (وألقينا فيها رواسي) *
الفضائل * (وأنبتنا فيها من كل شيء) * من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية
والملكات الفاضلة والمدركات الحسية * (موزون) * معين مقدر بقدر عقلي عدلي غير
مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط لكل قوة بحسبها * (وجعلنا لكم فيها معايش) *
بالتدابير الجزئية والأعمال البدنية * (ومن لستم له برازقين) * ممن ينسب إليكم ويتعلق
375

بكم، أو جعلنا في سماء القلب بروجا مقامات كالصبر والشكر والتوكل والرضا
والمعرفة والمحبة، وزيناها بالمعارف والحكم والحقائق * (وحفظناها من كل شيطان رجيم) * من الأوهام والتخيلات * (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين (18)) * [الحجر،
الآية: 18] أي: إشراق نوري من طوالع أنوار الهداية.
* (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه) * أي: ما من شيء في الوجود إلا له عندنا
خزانة في عالم القضاء أولا بارتسام صورته في أم الكتاب الذي هو العقل الكلي على
الوجه الكلي، ثم خزانة أخرى في عالم النفس الكلية وهو اللوح المحفوظ بارتسام
صورته فيه متعلقا بأسبابه، ثم خزانة أخرى بل خزائن في النفوس الجزئية السماوية
المعبر عنها بسماء الدنيا ولوح القدر بارتسام صورته فيها جزئية مقدرة بمقدارها
وشكلها ووضعها * (وما ننزله) * في عالم الشهادة * (إلا بقدر معلوم) * من شكل وقدر
ووضع ووقت ومحل معينة واستعداد مختص به في ذلك الوقت.
* (وأرسلنا) * رياح النفحات الإلهية * (لواقح) * بالحكم والمعارف، مصفية
للقلوب، معدة للاستعدادات لقبول التجليات * (فأنزلنا) * من سماء الروح ماء من العلوم
الحقيقية * (فأسقيناكموه) * وأحييناكم به * (وما أنتم) * لذلك العلم * (بخازنين) * لخلوكم
عنها. * (وإنا لنحن نحيي) * بالحياة الحقيقية بماء الحياة العلمية والقيام في مقام الفطرة
* (ونميت) * بالإفناء في الوحدة * (ونحن الوارثون) * للوجود، الباقون بعد فنائكم.
* (ولقد علمنا المستقدمين منكم) * أي: المستبصرين، المشتاقين من المحبين الطالبين
للتقدم * (ولقد علمنا المستأخرين) * المنجذبين إلى عالم الحس ومعدن الرجس باستيلاء
صفات النفس ومحبة البدن ولذاته، الطالبين للتأخر عن عالم القدس * (وإن ربك هو يحشرهم) * مع من يتولونه ويجمعهم إلى من يحبونه وينزعون إليه * (إنه حكيم) * يدبر
أمرهم في الحشر على وفق الحكمة بحسب المناسبة * (عليم) * بكل ما فيهم من خفايا
الميل والانجذاب والمحبة وما تقتضيه هيئاتهم وصفاتهم فسيجزيهم وصفهم.
تفسير سورة الحجر من آية 26 إلى آية 44
376

* (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون) * أي: من العناصر الأربعة
الممتزجة إذ الحمأ هو الطين المتغير والمسنون ما صب عليه الماء حتى خلص عن
الأجزاء الصلبة الخشنة الغير المعتدلة المنافية لقبول الصورة التي يراد تصويرها منه.
والصلصال ما تخلخل منه بالهواء وتجفف بالحرارة * (والجان) * أي: أصل الجن وهو
جوهر الروح الحيواني الذي تولد منه قوى الوهم والتخيل وغيرهما * (خلقناه من قبل من نار السموم) * أي: من الحرارة الغريزية ومن بخارية الأخلاط ولطافتها المستحيلة
بها، وإنما قال من قبل لتقدم تأثير الحرارة في التركيب بالتمزيج والتعديل وإثارة ذلك
البخار على صور الأعضاء بل القوى الفعالة المؤثرة متقدمة على التركيب في الأصل
وقد مر معنى انقياد الملائكة له وعدم انقياد إبليس.
* (فأخرج) * من جنة عالم القدس التي ترتقي إلى أفقه * (فإنك) * مرجوم، مطرود
منها لكونك غير مجرد عن المادة * (وإن عليك) * لعنة البعد في الرتبة * (إلى يوم) *
القيامة الصغرى وتجرد النفس عن البدن بقطع علاقتها أو الكبرى بالفناء في التوحيد
* (لأزينن لهم) * الشهوات واللذات في الجهة السفلية * (ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك) *
أي: المخصوصين بك، الذين أخلصتهم من شوائب صفات النفس وطهرتهم من دنس
تعلق الطبيعة، وجردتهم بالتوجه إليك من بقايا صفاتهم وذواتهم، أو الذين أخلصوا
أعمالهم لك من غير لاحظ
لغيرك فيها * (هذا صراط علي) * حق نهجه ومراعاته
* (مستقيم) * لا اعوجاج فيه، وهو أن لا سلطان لك على عبادي المخلصين إلا الذين
يناسبونك في الغواية والبعد عن صراطي فيتبعونك. * (لها سبعة أبواب) * هي الحواس
الخمس والشهوة والغضب * (لكل باب منهم جزء مقسوم) * عضو خاص به، أو بعض
من الخلق يختصون بالدخول منه لغلبة قوة ذلك الباب عليهم.
[تفسير سورة الحجر من آية 45 إلى آية 86]
377

* (إن المتقين) * الذين تزكوا عن الغواشي الطبيعية وتجردوا عن الصفات البشرية
* (في جنات) * من روضات عالم القدس * (وعيون) * من ماء حياة العلم مقولا لهم
* (ادخلوها) * بسلامة من الهيئات الجسدانية وأمراض القلوب المانعة عن الوصول إلى
ذلك المقام * (أمنين) * من آفات عالم التضاد وعوارض الكون والفساد، وتغيرات أحوال
الأزمنة والمواد. * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * أي: حقد راسخ وكل هيئة
متصاعدة من النفس إلى وجه القلب الذي يليها بفيض النور واستيلاء قوة الروح وتأييد
القدس، وهم الذين غلبت أنوارهم على ظلماتهم من أهل العلم واليقين فاضمحلت
وزالت عنهم الهيئات النفسانية الغاسقة وآثار العداوة اللازمة لهبوط النفس والميل إلى
عالم التضاد، وأشرقت فيهم قوة المحبة الفطرية بتعاكس أشعة القدس وأنوار التوحيد
واليقين من بعضهم إلى بعض، فصاروا إخوانا بحكم العقد الإيماني والتناسب
الروحاني. * (على سرر) * مراتب عالية * (متقابلين) * لتساوي درجاتهم وتقارب مراتبهم
وكونهم غير محتجبين.
* (لا يمسهم فيها نصب) * لامتناع أسباب المنافاة والتضاد هناك * (وما هم منها بمخرجين) * لسرمدية مقامهم وتنزهه عن الزمان وتغيراته. وأما كيفية نزول الملائكة
378

على النبيين وتجسد الأرواح العالية للمتجردين المنسلخين عن الهيئات البدنية
المتقدسين، فقد مرت الإشارة إليها في سورة (هود).
[تفسير سورة الحجر من آية 87 إلى آية 99]
* (ولقد آتيناك سبعا) * أي: الصفات السبع التي ثبتت لله تعالى وهي: الحياة
والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والتكلم * (من المثاني) * التي كرر وثنى ثبوتها
لك أولا في مقام وجود القلب عند تخلقك بأخلاقه، واتصافك بأوصافه، فكانت لك.
وثانيا: في مقام البقاء بالوجود الحقاني بعد الفناء في التوحيد * (والقرآن العظيم) * أي:
الذات الجامعة لجميع الصفات وإنما كانت لمحمد عليه صلى الله عليه وسلم سبعا،
ولموسى تسعا لأنه ما أوتي القرآن العظيم بل كان مقامه التكليم، أي: مقام كشف
الصفات دون كشف الذات، فله هذه السبع مع القلب والروح.
* (فسبح) * بالتجريد عن عوارض الصفات المتعلقة بالمادة لتكون منزها لله تعالى
بلسان الحال، حامدا لربك بالاتصاف بالصفات الكمالية لتكون حامدا لنعم تجليات
صفاته بأوصافك * (وكن من الساجدين) * بسجود الفناء في ذاته * (واعبد ربك) * بالتسبيح
والتحميد والسجود المذكورة * (حتى يأتيك) * حق * (اليقين) * فتنتهي عبادتك بانقضاء
وجودك، فيكون هو العابد والمعبود جميعا لا غيره.
379

((سورة النحل))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة النحل من آية 1 إلى آية 2]
* (أتى أمر الله) * لما كان صلى الله عليه وسلم من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها
في عين الجمع، كما قال صلى الله عليه وسلم: ' بعثت أنا والساعة كهاتين '. أخبر عن شهوده بقوله
تعالى: * (أتى أمر الله) * ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا
يكون إلا بوجود المهدي عليه السلام قال: * (فلا تستعجلوه) * لأن هذا ليس وقت
ظهوره، ثم أكد شهوده لوجه الله وفناء الخلق في القيامة بقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * من إثبات وجود الغير. ثم فصل ما شهد في عين الجمع لكونه في مقام
الفرق بعد الجمع يشاهد كثرة الصفات في عين أحدية الذات بحيث لا يحتجب
بالوحدة عن الكثرة ولا بالعكس، كما ذكر في قوله تعالى: * (شهد الله) * [آل عمران،
الآية: 18] الآية، فقال: * (ينزل الملائكة بالروح) * أي: العلم الذي يحيي به القلوب،
يعني: القرآن * (من) * عالم * (أمره) * الذي انتقش فيه * (على من يشاء من عباده) *
المخصوصين بمزيد عنايته، إن أخبروهم بالتوحيد والتقوى، فبين بعد بيان أحدية
الذات عالم الصفات الحقيقية بتنزيل الروح الذي هو العلم، وإثبات المشيئة التي هي
الإرادة، وعالم الأسماء بإثبات الملائكة، وعالم الأفعال بالإنذار.
[تفسير سورة النحل من آية 3 إلى آية 29]
380

ثم عد الصفات الإضافية كالخلق والرزق، وفصل النعم المتعددة كالنعم
وغيرها. ولما ظهر الحق والخلق ظهر طريق الحق والباطل، فقال: * (وعلى الله قصد السبيل) * أي: عليه لزوم السبيل المستقيم والهداية إليها لأهله، كما قال: * (إن ربي على صراط مستقيم) * [هود، الآية: 56] أي: كل من كان على هذا الصراط الذي هو طريق
التوحيد لا بد وأن يكون من أهله تعالى لأنه طريقه الذي يلزمه. ومن السبيل * (جائر) *
يعني بعض السبل، وهي السبل المتفرقة مما عدا سبيل التوحيد جائر عادل عن الحق،
موصل إلى الباطل لا محالة، فهي سبيل الضلالة كيفما كانت. ولم يشأ هداية الجميع
إلى السبيل المستقيم لكونها تنافي الحكمة. * (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) *
قد مر أن السابقين الموحدين يتوفاهم الله تعالى بذاته، وأما الأبرار والسعداء فقسمان:
فمن ترقى عن مقام النفس بالتجرد ووصل إلى مقام القلب بالعلوم والفضائل يتوفاهم
ملك الموت، ومن كان في مقام النفس من العباد والصلحاء والزهاد والمتشرعين الذين
لم يتجردوا عن علائق البدن بالتزكية والتحلية تتوفاهم ملائكة الرحمة بالبشرى بالجنة،
أي: جنة النفس التي هي جنة الأفعال والآثار. وأما الأشرار الأشقياء فكيفما كانوا
381

تتوفاهم ملائكة العذاب، إذ القوى الملكوتية المتصلة بالنفوس تتشكل بهيئات تلك
النفوس، فإذا كانت محجوبة ظالمة كانت هيئاتهم غاسقة ظلمانية هائلة، فتتشكل القوى
الملكوتية القابضة لنفوسهم بتلك الهيئات لمناسبتها، ولهذا قيل: إنما يظهر ملك
الموت على صورة أخلاق المحتضر، فإذا كانت رديئة، ظلمانية، كانت صورته هائلة،
موحشة، غلب على من يحضره الخوف والذعر، وتذلل وتمسكن، ونزل عن
استكباره، وأظهر العجز والمسكنة، وهذا معنى قوله: * (فألقوا السلم) * أي: سالموا،
وهانوا، ولانوا، وتركوا العناد والتمرد وقالوا: * (ما كنا نعمل من سوء) * فأجيبوا
بقولهم: * (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فأدخلوا أبواب جهنم) * الأفعال.
[تفسير سورة النحل من آية 30 إلى آية 47]
وأما المتقون عن المعاصي والمناهي، الواقفون مع أحكام الشريعة، المعترفون
382

بالتوحيد والنبوة على التقليد لا التحقيق، وإلا لتجردوا بعلم اليقين عن صفات النفس
إلى مقام القلب، فتتوفاهم الملائكة طيبين على صورة أخلاقهم وأعمالهم الطيبة
الجميلة، فرحين مستبشرين * (يقولن سلام عليكم ادخلوا الجنة) * أي: الجنة المعهودة
عندهم، وهي جنة النفوس من جنات الأفعال * (بما كنتم تعملون) *.
* (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء) * إنما قالوا ذلك
عنادا وتعنتا عن فرط الجهل، وإلزاما للموحدين بناء على مذهبهم، إذ لو قالوا ذلك
عن علم ويقين لكانوا موحدين لا مشركين بنسبة الإرادة والتأثير إلى الغير، لأن من
علم أنه لا يمكن وقوع شيء بغير مشيئة من الله، علم أنه لو شاء كل من في العالم
شيئا لم يشأ الله ذلك لم يمكن وقوعه، فاعترف بنفي القدرة والإرادة عما عدا الله
تعالى فلم يبق مشركا، قال الله تعالى: * (ولو شاء الله ما أشركوا) * [الأنعام، الآية: 107].
* (كذلك فعل الذين من قبلهم) * في تكذيب الرسل بالعناد.
* (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * الفرق بين إرادة الله تعالى
وعلمه وقدرته لا يكون إلا بالاعتبار، فإن الله تعالى يعلم كل شيء ويعلم وقوعه في
وقت معين بسبب معين على وجه معين، فإذا اعتبرنا علمه بذلك قلنا بعالميته، وإذا
اعتبرنا تخصيصه بالوقت المعين والوجه المعين قلنا بإرادته، وإذا اعتبرنا وجوب
وجوده بوجود ما يتوقف عليه وجوده في ذلك الوقت على ذلك الوجه المعلوم قلنا
بقدرته، فمرجع الثلاثة إلى العلم. ولو اقتضى علمنا وجود شيء ولم يتغير ولم يحتج
إلى ترو وعزيمة غير كونه معلوما وتحريك الآلات لكان فينا أيضا كذلك.
[تفسير سورة النحل من آية 48 إلى آية 55]
* (أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء) * أي: ذات وحقيقة مخلوقة، أية ذات
كانت من المخلوقات * (يتفيأ ظلاله) * أي: يتجسد ويتمثل هياكله وصوره، فإن لكل
شيء حقيقة هي ملكوت ذلك الشيء وأصله الذي هو به، هو كما قال تعالى: * (بيده
ملكوت كل شيء) * [يس، الآية: 83]. وظلاله هو: صفته ومظهره، أي: جسده الذي به
383

يظهر ذلك الشيء. * (عن اليمين و) * عن * (الشمائل) * أي: عن جهة الخير والشر
* (سجدا لله) * منقادة بأمره، مطواعة لا تمتنع عما يريد فيها، أي: يتحرك هياكله إلى
جهات الأفعال الخيرية والشرية بأمره * (وهم داخرون) * صاغرون، متذللون لأمره،
مقهورون. * (ولله يسجد) * ينقاد * (ما في السماوات) * في عالم الأرواح من أهل
الجبروت والملكوت والأرواح المجردة المقدسة * (وما في الأرض) * في عالم الأجساد
من الدواب والأناسي والأشجار وجميع النفوس والقوى الأرضية والسماوية * (وهم لا يستكبرون) * لا يمتنعون عن الانقياد والتذلل لأمره * (يخافون ربهم) * أي: ينكسرون
ويتأثرون وينفعلون منه انفعال الخائف * (من فوقهم) * من قهره وتأثيره وعلوه عليهم
* (ويفعلون ما يؤمرون) * طوعا وانقيادا بحيث لا يسعهم فعل غيره.
* (إذا فريق منكم بربهم يشركون) * بنسبة النعمة إلى غيره ورؤيته منه، وكذا بنسبة
الضر إلى الغير وإحالة الذنب في ذلك عليه، والاستعانة في رفعه به. قال الله تعالى:
' أنا والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري '، وذلك
هو كفران النعمة والغفلة عن المنعم المشار إليهما بقوله: * (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) * وبال ذلك الاعتقاد عليهم، أو فسوف تعلمون بظهور التوحيد أن لا
تأثير لغير الله في شيء.
[تفسير سورة النحل من آية 56 إلى آية 74]
384

* (ويجعلون لما لا يعلمون) * وجوده مما سواه * (نصيبا مما رزقناهم) * فيقولون: هو
أعطاني كذا، ولو لم يعطني لكان كذا، وفلان رزقني وأعانني، فيجعلون لغيره تأثيرا في
وصول ذلك إليه، وإن لم يثبتوا له تأثيرا في وجوده فقد جعلوا له نصيبا مما رزقهم الله.
[تفسير سورة النحل من آية 75 إلى آية 76]
* (ضرب الله مثلا) * للمجرد والمقيد والمشرك والموحد * (عبدا مملوكا) * محبا
لغير الله، مؤثرا له بهواه، فإن المقيد بالشيء يدين بدينه ويصدر عن حكمه، ويتصرف
بأمره، فهو عبده إذ كل من أحب شيئا أطاعه، وإذا أطاعه فقد عبده. فمنهم من يعبد
الشيطان ومنهم من يعبد الشهوة ومنهم من يعبد الدنيا أو الدينار أو اللباس، كما قال
عليه صلى الله عليه وسلم: ' تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة '،
وقال الله تعالى: * (أفرءيت من اتخذ إلهه هواه) * [الجاثية، الآية: 23] وإذا عبده كان مملوكه
ورقيقه. * (لا يقدر على شيء) * لأن المحب والعابد لا يرتقي همته وتأثيره وقوة نفسه
من محبوبه ومعبوده وإلا لما كان مقهورا له، أسيرا في وثاقه، بل ينقض منه ومعبوده
عاجز لا تأثير له، بل لا وجود سواء كان جمادا أو حيوانا أو إنسانا أو ما شئت، فهو
أعجز منه وأذل، ولهذا قيل: إن الدنيا كالظل، إذا تبعته فاتك وإن تركته تبعك، فإن
تابع الدنيا أحقر قدرا من الدنيا وأقل خطرا، ولا تأثير للدنيا فكيف به حتى يحصل له
وبسببه شيء؟ وإن الدنيا ظل زائل، فهو ظل الظل ولا ظل لظل الظل، بل الظل
للذات ولا ذات له فلا ملك له ولا قدرة.
* (ومن رزقناه منا رزقا حسنا) * ومن أحبنا وأقبل بقلبه علينا، وتجرد عما سوانا،
وانقطع إلينا، أعطيناه الأيد والقوة، ورزقناه الملك والحكمة، وأسبغنا عليه النعمة
385

الظاهرة والباطنة لأنه متوجه إلى مالك الملك، منعم الكل، منيع القوى والقدر،
فأكسب نفسه القوة والتأثير والقدرة منه، وتأثر منه الأكوان والأجرام وأطاعه الملك
والملكوت كما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: ' يا دنيا اخدمي من خدمني،
واتعبي من خدمك '. ثم إذا ربت همته الشريفة عن الأكوان ولم تقف بمحبته مع غير
الله ولم يلتفت إلى ما سواه زدنا في رزقه فآتيناه صفاتنا ومحونا عنه صفاته، فعلمناه
من لدنا علما وأقدرناه بقدرتنا، كما قال تعالى: * (لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل
حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به '، الحديث. * (فهو ينفق منه سرا
وجهرا) * ينفق من النعم الباطنة كالعلم والحكمة سرا، ومن الظاهرة جهرا، أو ينفق من
كلتيهما سرا كالذي يصل إلى الناس من غير تسببه لوصوله ظاهرا وهو في الحقيقة منه
وصل لأنه حينئذ واسطة الوجود الإلهي ووكيل حضرته وجهرا كالذي يتسبب هو بنفسه
ظاهرا لوصوله * (هل يستوون) * استفهام بطريق الإنكار وكذا المشرك كالأبكم الذي لم
يكن له استعداد النطق في الخلقة لأنه ما استعد للإدراك والعقل الذي هو خاصية
الإنسان، فيدرك وجوب وجود الحق تعالى وكماله وإمكان الغير ونقصانه فيتبرأ عن
غيره ويلوذ به عن حول نفسه وغيره وقوتهما.
* (لا يقدر على شيء) * لعدم استطاعته وقصور قوته للنقص اللازم لاستعداده
* (وهو كل على مولاه) * لعجزه بالطبع عن تحصيل حاجته، فهو عبد بالطبع محتاج،
متذلل للغير، ناقص عن رتبة كل شيء لكونه أقل من لا شيء، فإن الممكن الذي
يعبده ليس بشيء سواء كان ملكا أو ملكا أو فلكا أو كوكبا أو عقلا أو غيرها * (أينما
يوجهه لا يأت بخير) * لعدم استعداده وشرارته بالطبع فلا يناسب إلا الشر الذي هو
العدم فكيف يأتي بالخير * (هل يستوي هو) * والموحد القائم بالله، الفاني عن غيره
حتى نفسه يقوم بالحق، ويعامل الخلق بالعدل، ويأمر بالعدل، لأن العدل ظل الوحدة
في عالم الكثرة فحيث قام بوحدة الذات وقع ظله على الكل، فلم يكن إلا آمرا
بالعدل * (وهو على صراط مستقيم) * أي: صراط الله الذي عليه خاصته من أهل البقاء
بعد الفناء الممدود على نار الطبيعة لأهل الحقيقة يمرون عليه كالبرق اللامع.
[تفسير سورة النحل من آية 77 إلى آية 83]
386

* (ولله غيب السماوات والأرض) * أي: ولله علم الذي خفي في السماوات
والأرض من أمر القيامة الكبرى، أو علم مراتب الغيوب السبعة التي أشرنا إليه من
غيب الجن والنفس والقلب والسر والروح والخفي وغيب الغيوب أو ما غاب من
حقيقتهما أي: ملكوت عالم الأرواح وعالم الأجساد * (وما أمر) * القيامة الكبرى
بالقياس إلى الأمور الزمانية * (الآ) * كأقرب زمان يعبر عنه مثل لمح البصر * (أو هو أقرب) * وهو بناء على التمثيل وإلا فأمر الساعة ليس بزماني وما ليس بزماني يدركه من
يدركه لا في الزمان * (إن الله على كل شيء قدير) * يقدر على الإماتة والإحياء
والحساب لا في زمان كما يشاهد أهله وخاصته.
* (ألم يروا إلى الطير) * القوى الروحانية والنفسانية من الفكر والعقل النظري
والعملي، بل الوهم والتخيل * (مسخرات في جو السماء) * أي: فضاء عالم الأرواح
* (ما يمسكهن) * من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل * (إلا الله) *.
* (يعرفون نعمة الله) * أي: هداية النبي أو وجوده لما ذكرنا أن كل نبي يبعث على
كمال يناسب استعدادات أمته ويجانسهم بفطرته، فيعرفونه بقوة فطرتهم * (ثم ينكرونها) *
لعنادهم وتعنتهم بسبب غلبة صفات نفوسهم من الكبر والأنفة وحب الرياسة أو
لكفرهم واحتجابهم عن نور الفطرة بالهيئات الغاسقة الظلمانية وتغير الاستعداد الأول
* (وأكثرهم الكافرون) * في إنكاره لشهادة فطرهم بحقيته.
[تفسير سورة النحل من آية 84 إلى آية 90].
387

* (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) * أي: نبعث نبيهم على غاية الكمال الذي
يمكن لأمته الوصول إليه أو التقرب منه والتوجه إليه لإمكان معرفتهم إياه فيعرفونه،
ولهذا يكون لكل أمة شهيد غير شهيد الأمة الأخرى، ويعرف كل من قصر وخالف
نبيه بالإعراض عن الكمال الذي هو يدعو إليه، والوقوف في حضيض النقصان قصوره
واحتجابه فلا حجة له ولا نطق، فيبقى متحيرا متحسرا، وهو معنى قوله: * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) * ولا سبيل له إلى إدراك ما فاته من كماله لعدم آلته، ولا يمكن أن
يرضى بحاله لقوة استعداده الفطري الذي جبل عليه، وشوقه الأصلي الغريزي إليه،
فهو مكظوم لا يستعتب ولا يسترضي.
* (وألقوا إلى الله يومئذ السلم) * أي: الاستسلام والانقياد. وقد جاء إنكارهم
كقوله تعالى: * (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم) * [المجادلة، الآية: 18]
وذلك بحسب المواقف، فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة
شكيمة النفس في الشيطنة، وغاية البعد عن النور الإلهي للاحتجاب بالحجب الغليظة
والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه ونهاية تكدر نور الفطرة حتى
يمكنه إظهار خلاف مقتضاه. والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة
من ساعات اليوم الذي كان مقداره خمسين ألف سنة حين زالت الهيئات، ورقت
وضعفت شراشر النفس في رذائلها، وقرب من عالم النور لرقة الحجب ولمعان نور
فطرته الأولى، فيعترف وينقاد، هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها. وقد
يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم، ولم تغلظ حجبهم، ولم
ينطفئ نور استعدادهم. والإنكار لمن ترسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه
الشيطنة، واستقرت وكثف الحجاب، وبطل الاستعداد والله أعلم.
* (وجئنا بك شهيدا على هؤلاء) * قد مر في سورة (النساء)، * (ونزلنا عليك الكتاب) * أي: العقل الفرقاني بعد الوجود الحقاني * (تبيانا لكل شيء) * تبيينا وتحقيقا
لحقية كل شيء، وهداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله * (ورحمة) * له
بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد وبشارة له ببقائه على ذلك الكمال أبدا سرمدا
في الجنان الثلاث.
[تفسير سورة النحل من آية 91 إلى آية 98
388

* (وأوفوا بعهد الله) * الذي هو تذكر العهد السابق وتجديده بالعقد اللاحق بالبقاء
على حكمه في الإعراض عن الغير والتجرد عن العوائق والعلائق في التوجه إليه * (إذ
عاهدتم) * أي: تذكرتموه بإشراق نور النبي عليكم وتذكيره إياكم. * (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى) * أي: عملا يوصله إلى كماله الذي يقتضيه استعداده، إذ الصلاح في
الشخص توجهه إلى كماله أو كونه على ذلك الكمال، والفساد بالضد وفي العمل كونه
وصلة وسيلة إليه من صاحب قلب بالغ إلى كمال الرجولية أو صاحب نفس قابلة لتأثير
القلب مستفيضة منه * (وهو مؤمن) * أي: معتقد للحق اعتقادا جازما، إذ صلاح العمل
مشروط بصحة الاعتقاد وإلا لم يتصور كماله على ما هو عليه ولم يعتقده على الوجه
الذي ينبغي فلم يمكنه عمل يوصله إليه فلا يكون ما يعمله صالحا حينئذ في الحقيقة.
وإن كان في صورة الصلاح * (فلنحيينه حياة طيبة) * أي: حياة حقيقية لا موت بعدها
بالتجرد عن المواد البدنية والانخراط في سلك الأنوار السرمدية، والتلذذ بكمالات
الصفات في مشاهدات التجليات الأفعالية والصفاتية * (ولنجزينهم أجرهم) * من جنان
الأفعال والصفات * (بأحسن ما كانوا يعملون) * إذ عملهم يناسب صفاتهم التي هي
مبادئ أفعالهم وأجرهم يناسب صفاتنا التي هي مصادر أفعالنا، فانظر كم بينهما من
التفاوت في الحسن. * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * فادرج عن مقام النفس بالعروج
إلى جناب القدس، فإن النفس مأوى كل كدورة ومنبع كل رجس تناسب وساوس
الشيطان، وتجردها بأحاديثها، فإن ارتقيت من مقرها لم يكن للشيطان عليك سلطان
لأنه لا يطيق نور حضور الحق وحضرة القلب مهبط أنواره وجناب صفاته المقدسة
ومحل تجلياته النورية، فعذ إليها وعذ بنور الله فيها تستحكم بنيان إيمانك باليقين.
[تفسير سورة النحل من آية 99 إلى آية 105]
389

فإن الإيمان الذي لا يبقى معه سلطان الشطيان كما قال تعالى: * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا) * أقل درجاته اليقين العلمي الذي محله القلب الصافي ولا
يكفي هذا اليقين في نفي سلطانه إلا إذا كان مقرونا بشهود الأفعال الذي هو مقام
التوكل كما قال تعالى: * (وعلى ربهم يتوكلون) * والفناء في الأفعال لا يمكن مع بقاء
صفات النفس، إذ بقاء صفاتها يستدعي أفعالها، ولهذا قيل: لا يمكن إيفاء حق مقام
وتصحيحه وإحكامه إلا بعد الترقي إلى ما فوقه، فبالترقي إلى مقام الصفات يتم فناء
الأفعال فيصح التوكل. * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * في مقام النفس بالمناسبة
التي بينهما في الظلمة والكدورة، إذ التولي مرتب على الجنسية * (والذين هم به مشركون) * بنسبة القوة والتأثير إليه، بل بطاعته وانقياد أوامره للتولي المذكور.
[تفسير سورة النحل من آية 106 إلى آية 111]
* (من كفر بالله من بعد إيمانه) * لكون الظلمة له ذاتية بحسب استعداده الأول
والنور عارضيا، فهو في حجاب خلقي عن نور الإيمان إن اعتراه شعاع قدسي من
نفس الرسول أو من فيض القدس أو أثر فيه وعدا ووعيدا، أو كلمة حق في دعوته
إلى الحق في حال إقبال من قلبه ودعاه داعية نفسانية من حصول نفع ودفع ضر ماليين
أو جاه وعزة بسبب الإسلام، آمن ظاهرا، ومقامه ومقره الكفر، فقد استحق غضب الله
لأنه محجوب بحسب الاستعداد عن أول مراتب الإيمان الذي هو شهود الأفعال
بالاستدلال من الصنع على الصانع فعقابه من باب الأفعال والصفات لا الذي * (أكره) *
على الكفر بالإنذار والتخويف * (وقلبه مطمئن) * ثابت متمكن مملوء * (بالإيمان) * لنورية
390

فطرته في الأصل وكون النور ذاتيا له بحسب الفطرة، والكفر والاحتجاب إنما عرض
بمقتضى النشأة. وقد زال الحجاب العارضي. * (ولكن من شرح بالكفر صدرا) * أي:
طاب به نفسا ورضي واطمأن لكونه مستقره مأواه الأصلي * (فعليهم غضب) * عظيم،
أي: غضب * (من الله ولهم عذاب عظيم) * لاحتجابهم عن جميع مراتب الأنوار من
الأفعال والصفات والذات، فما أغلظ حجابهم وما أعظم عذابهم.
* (ذلك) * أي: انشراح الصدر بالكفر والرضا به * (ب) * سبب * (أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة) * لكونها مبلغ علمهم ونهايته، وما بلغ علمهم إلى الآخرة
لانسداد بصائر قلوبهم ومناسبة استعدادهم للأمور الغاسقة السفلية من المواد الجسمية،
فأحبوا ما شعروا به ولاءم حالهم. وحب الدنيا رأس كل خطيئة لاستلزامه الحجاب
الأغلظ الذي لا خطيئة إلا تحته وفي طيه * (وأن الله لا يهدي القوم الكافرين) * أي:
المحجوبين بأغلظ الحجب لامتناع قبولهم للهداية.
* (أولئك الذين طبع الله على قلوبهم) * بقساوتها وكدورتها في الأصل فلم ينفتح
لهم طريق الإلهام والفهم والكشف * (وسمعهم وأبصارهم) * بسد طريق المعنى المراد
من مسموعاتهم وطريق الاعتبار من مبصراتهم إلى القلب، فلم يؤثر فيهم شيء من
أسباب الهداية من طريق الباطن من فيض الروح وإلقاء الملك وإشراق النور ولا من
طريق الظاهر بطريق التعليم والتعلم والاعتبار من آثار الصنع * (وأولئك هم الغافلون) *
بالحقيقة لعدم انتباههم بوجه من الوجوه وامتناع تيقظهم من نوم الجهل بسبب من
الأسباب. * (لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون) * الذين ضاعت دنياهم التي
استنفدوا في تحصيلها وسعهم، وأتلفوا في طلبها أعمارهم، وليسوا من الآخرة في
شيء إلا في عذاب هيئات التعلقات ووبال التحسرات.
* (ثم إن ربك للذين هاجروا) * أي: تباعد بين هؤلاء المحجوبين الذين: إن ربك
عليهم بالغضب والقهر، وبين الذين: إن ربك لهم بالرضا والرحمة وهم الذين هاجروا
عن مواطن النفس بترك المألوفات والمشتهيات * (من بعد ما فتنوا) * وابتلوا بحكم النشأة
البشرية * (ثم جاهدوا) * في الله بالرياضات وسلوك طريقه بالترقي في المقامات والتجريد
عن الهيئات والتعلقات * (وصبروا) * على ما تحب النفس وتكرهه بالثبات في السير * (إن ربك من) * بعد هذه الأحوال * (لغفور) * لهم بستر غواشي الصفات النفسانية * (رحيم) *
بإفاضة الكمالات وإبدال صفاتهم بالصفات الإلهية.
[تفسير سورة النحل من آية 112 إلى آية 119]
391

* (وضرب الله مثلا) * للنفس المستعدة، القابلة الصافية عن الكدورات، المستفيدة
من فيض القلب، الثابتة في طريق اكتساب الفضائل، الآمنة من خوف فواتها وفنائها،
المطمئنة باعتقادها * (يأتيها رزقها رغدا) * من العلوم النافعة والفضائل الحميدة والأنوار
الشريفة * (من كان مكان) * أي: من جميع جهات الطرق البدنية كالحواس الممتارة إياها
قوت العلوم الجزئية، والجوارح، والآلات التي تطاوعها في الأعمال الجميلة، وتمرين
الفضيلة إذا كانت منقادة للقلب مطواعة له، قابلة لفيضه، باقية على معتقدها من الحق
تقليدا. ومن جهة القلب كإمداد الأنوار، وهيئات الفضائل، فظهرت بصفاتها بطرا
وإعجابا بزينتها وكمالها. ونظرا إلى ذاتها ببهجتها وبهائها فاحتجبت بصفاتها الظلمانية
عن تلك الأنوار ومالت إلى الأمور السفلية من زخارف الدنيا واللذات الحسية وانقطع
إمداد القلب عنها، وانقلبت المعاني الواردة إليها من طريق الحس هيئات غاسقة من
صور المحسوسات التي انجذبت إليها * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) * بانقطاع
مدد المعاني والفضائل والأنوار من القلب والخوف من زوال مقتنياتها من الشهوات
والمألوفات الحسية والمشتهيات * (بما كانوا يصنعون) * من كفران نعم الله باستعمالها
في طلب اللذات الحسية والزخارف الدنيوية ولظهورها بصفاتها وإعجابها بكمالاتها
وركونها إلى الدنيا ولذاتها واستيلائها على القلب بهيئاتها وأفعالها وحجب صاحبها عن
نوره ومدده بطلب شهواتها، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ' نعوذ بالله من
الضلال بعد الهدى ' بقرية صفتها ما ذكر.
* (ولقد جاءهم رسول منهم) * أي: من جنسهم وهي القوة الفكرية التي هي من
جملة قوى النفس بالمعاني المعقولة والآراء الصادقة * (فكذبوه) * بعدم التأثر بها
والانقياد لأوامرها ونواهيها العقلية والشرعية وترك العمل بمقتضاها وقلة المبالاة بها،
ولم يرفعوا بها رأسا عن الانهماك فيما هم عليه * (فأخذهم) * عذاب الاحتجاب والحرمان عن
لذة الكمال في حالة ظلمهم وزيغهم عن طريق الفضيلة ونقصهم لحقوق صاحبهم.
392

[تفسير سورة النحل من آية 120 إلى آية 123]
* (إن إبراهيم كان أمة) * قد مر أن كل نبي يبعث في قوم يكون كماله شاملا
لجميع كمالات أمته وغاية لا يمكن لأمته الوصول إلى رتبة إلا وهي دونه، فهو
مجموع كمالات قومه ولا يصل إليهم الكمال في صفة من صفات الخير والسعادة إلا
بواسطته بل وجوداتهم فائضة من وجوده فهو وحده أمة لاجتماعهم بالحقيقة في ذاته،
ولهذا قال عليه صلى الله عليه وسلم: ' لو وزنت بأمتي لرجحت بهم '. * (قانتا) * لله مطيعا
له، منقادا بحيث لا يتحرك منه شعرة إلا بأمره لاستيلاء سلطان التوحيد عليه ومحو
صفاته بصفاته، واتحاده بذاته، ولهذا سمي خليل الله لمخالة الحق إياه في شهوده.
فخلته عبارة عن مزج بقية من ذاته تؤذن بالإثنينية أما ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يبق
منه شيء من بقيته سمي حبيب الله فمحو صفاته في صفات الحق بالكلية وبقاء أثر من
ذاته دون العين قنوته لله وإلا كان قانتا بالله لا لله، كما قال لمحمد عليه صلى الله عليه وسلم: * (وما صبرك إلا بالله) * [النحل، الآية: 172] * (حنيفا) * مائلا عن كل باطل
حتى عن وجوده ووجود كل ما سواه تعالى معرضا عن إثباته. وما كان * (من المشركين) * بنسبة الوجود والتأثير إلى الغير. * (شاكرا لأنعمه) * أي: مستعملا لها على
الوجه الذي ينبغي لكونه متصرفا فيها بصفات الله فتكون أفعاله إلهية مقصودة لذاتها لا
لغرض فلا يمكنه ولا يسعه إلا توجيه كل نعمة إلى ما هو كمالها على مقتضى الحكمة
الإلهية والعناية السرمدية * (اجتباه) * اختاره في العناية الأولى بلا توسط عمل منه وكذا
لكونه من المحبوبين الذين سبقت لهم منه الحسنى، فتتقدم كشوفهم على سلوكهم
* (وهداه إلى صراط مستقيم) * أي: بعد الكشف والتوحيد والوصول إلى عين الجمع
هداه إلى سلوك صراطه ليقتدي به، ورده من الوحدة إلى الكثرة وإلى الفرق بعد
الجمع لإعطاء كل ذي حق حقه من مراتب التفاصيل، وتبيين أحكام التجليات في مقام
التمكين والاستقامة وإلا لم يصلح للنبوة.
* (وآتيناه في الدنيا حسنة) * من تمتيعه بالحظوظ لتتقوى نفسه على تقنين القوانين
الشرعية والقيام بحقوق العبودية في مقام الاستقامة والإطاقة بحمل أعباء الرسالة
* (وآتيناه) * الملك العظيم مع النبوة، كما قال: * (وآتيناهم ملكا عظيما) * [النساء، الآية:
54] ليتمكن من تقرير الشريعة ويضطلع بأحكام الدعوة والذكر الجميل كما قال:
* (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) * [مريم، الآية: 50] والصلاة والسلام عليه كما قال:
393

* (وتركنا عليه في الآخرين (108) سلام على إبراهيم (109)) * [الصافات، الآيات: 108 - 109] * (وإنه في الآخرة) * أي: في عالم الأرواح * (لمن الصالحين) * المتمكنين في مقام الاستقامة
بإيفاء كل ذي حق حقه، وتبليغه إلى كماله وحفظه عليه ما أمكن.
* (ثم أوحينا إليك) * أي: بعد هذه الكرامات والحسنات التي أعطيناه إياها في
الدارين شرفناه وكرمناه بأمرنا باتباعك إياه * (أن اتبع ملة إبراهيم) * في التوحيد وأصول
الدين التي لا تتغير في الشرائع كأمر المبدأ والمعاد والحشر والجزاء وأمثالها، لا في
فروع الشريعة وأوضاعها وأحكامها، فإنها تتغير بحسب المصالح واختلاف الأزمنة
والطبائع وما عليه أحوال الناس من العادات والخلائق.
[تفسير سورة النحل من آية 124 إلى آية 126]
* (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * أي: ما فرض عليك إنما فرض
عليهم فلا يلزمك اتباع موسى في ذلك بل اتباع إبراهيم. * (ادع إلى سبيل ربك) * الخ،
أي: لتكن دعوتك منحصرة في هذه الوجوه الثلاثة لأن المدعو إما أن يكون خاليا عن
الإنكار أو لا، فإن كان خاليا لكونه في مقام الجهل البسيط غير معتقد لشيء، فإما أن
يكون مستعدا غير قاصر عن درك البرهان بل يكون برهاني الطباع أو لا. فإن كان
الأول فادعه بالحكمة وكلمه بالبرهان والحجة واهده إلى صراط التوحيد بالمعرفة، وإن
كان قاصر الاستعداد فادعه بالموعظة الحسنة والنصيحة البالغة من الإنذار والبشارة
والوعد والوعيد والزجر والترهيب واللطف والترغيب، وإن كان منكرا ذا جهل مركب
واعتقاد باطل فجادله بالطريقة التي هي أحسن من إبطال معتقده بما يلزم من مذهبه
بالرفق والمداراة على وجه يلوح له أنك تثبت الحق وتبطل الباطل لا غرض لك
سواه. * (إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله) * في الأزل لشقاوته الأصلية فلا ينجع فيه
أحد هذه الطرق الثلاثة * (وهو أعلم بالمهتدين) * المستعدين، القابلين للهداية لصفاء الفطرة.
* (وإن عاقبتم) * الخ، أي: الزموا سيرة العدالة والفضيلة لا تجاوزوها فإنها أقل
درجات كمالكم، فإن كان لكم قدم في الفتوة وعرق راسخ في الفضل والكرم
والمروءة فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم وعارضوه بالعفو مع القدرة
واصبروا على الجناية فإنه * (لهو خير للصابرين) * ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في
جوابه وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال: لهو خير لكم، بل قال: * (لهو خير
394

للصابرين) * [النحل، الآية: 126] للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر، فإن
الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب فلم يتكدر بظهور
صفة النفس وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه، فكثيرا ما يندم ويتجاوز عن مقام
النفس، وتنكسر سورة غضبه فيصلح، وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف فلا
تعاقبوا المسئ لسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح
الرذائل وأفحشها فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني.
[تفسير سورة النحل من آية 127 إلى آية 128]
* (واصبر وما صبرك إلا بالله) * اعلم أن الصبر أقسام: صبر لله، وصبر في الله،
وصبر مع الله، وصبر عن الله، وصبر بالله، فالصبر لله هو من لوازم الإيمان وأول
درجات أهل الإسلام. قال النبي عليه صلى الله عليه وسلم: ' الإيمان نصفان، نصف صبر
ونصف شكر '، وهو حبس النفس عن الجزع عند فوات مرغوب أو وقوع مكروه،
وهو من فضائل الأخلاق الموهوبة من فضل الله لأهل دينه وطاعته المقتضى للثواب
الجزيل. والصبر في الله هو الثبات في سلوك طريق الحق، وتوطين النفس على
المجاهدة بالاختيار، وترك المألوفات واللذات، وتحمل البليات، وقوة العزيمة في
التوجه إلى منبع الكمالات، وهو من مقامات السالكين، يهبه الله لمن يشاء من فضله
من أهل الطريقة. والصبر مع الله هو لأهل الحضور، والكشف عند التجرد عن ملابس
الأفعال والصفات، والتعرض لتجليات الجمال والجلال، وتوارد واردات الأنس
والهيبة، فهو بحضور القلب لمن كان له قلب، والاحتراس عن الغفلة والغيبة عند
التلوينات بظهور النفس وهو أشق على النفس من الضرب على الهام، وإن كان لذيذا
جدا. والصبر عن الله هو لأهل الجفاء والحجاب، نورانيا كان أو ظلمانيا، وهو مذموم
جدا، وصاحبه ملوم حقا وكلما كان أصبر كان أسوأ حالا وأبعد، وكلما كان في ذلك
أقوى كان ألوم وأجفى أو لأهل العيان والمشاهدة من العشاق والمشتاقين المتقلبين في
أطوار التجلي والاستتار، والمنخلعين عن الناسوت المتنورين بنور اللاهوت ما بقي
لهم قلب ولا وصف كلما لاح لهم نور من سبحات أنوار الجمال احترقوا وتفانوا،
وكلما ضرب لهم حجاب ورد وجوههم تشويقا وتعظيما ذاقوا من ألم الشوق وحرقة
الفرقة ما عيل به صبرهم وتحقق موتهم وهو من أحوال المحبين ولا شيء أشق من
هذا الصبر وأشد تحملا وأقتل، فإن أطاقه المحب كان خافيا وإن لم يطق كان فانيا فيه
هالكا، وفي هذا المقام قال الشبلي:
395

* صابر الصبر فاستغاث به الصبر
* فصاح المحب بالصبر صبرا
*
أي: صابر الحبيب الصبر، فاستغاث به الصبر عند إشرافه على النفاد فصاح
المحب بالصبر صبرا على النفاد والهلاك، فإن فيه النجاح والفلاح. والصبر بالله هو
لأهل التمكين في مقام الاستقامة الذين أفناهم الله بالكلية وما ترك عليهم شيئا من بقية
الأنية والإثنينية ثم وهب لهم وجودا من ذاته حتى قاموا به وفعلوا بصفاته وهو من
أخلاق الله تعالى ليس لأحد فيه نصيب ولهذا أمره به. ثم بين أن ذلك الصبر الذي
أمرت به ليس من سائر أقسام الصبر حتى يكون بنفسك أو بقلبك بل هو صبري لا
تباشره إلا بي ولا تطيقه إلا بقوتي، ولعدم وفاء قوته بهذا الصبر قال: ' شيبتني سورة
هود '.
* (ولا تحزن عليهم) * بالتلوين بظهور القلب بصفته لأن صاحب هذا الصبر يرى
الأشياء بعين الحق فكل ما يصدر عنهم يراه فعل الله وكل صفة تظهر عليهم يراه تجليا
من تجلياته وينكر المنكر بحكمه لأن الله بصره بأنواع التجليات القهرية واللطفية
والغضبية والرضوية وعرفه أحكامه وأمره بإنفاذ الأحكام في مواقعها. * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * لانشراح صدرك بي، فكن معهم كما تراني معهم سائرا بسيري،
قائما بي وبأمري.
* (إن الله مع الذين اتقوا) * بقاياهم وأنياتهم بالاستهلاك في الوحدة والاستغراق في
عين الجمع * (والذين هم محسنون) * بشهود الوحدة في عين الكثرة، والطاعة في عين
المعصية، والقيام بالأمر والنهي في مقام الاستقامة، وإبقاء حقوق التفاصيل في عين
الجمع، فلا يحجبهم الفرق عن الجمع ولا الجمع عن الفرق، ويسعهم مراعاة الحق
والخلق للرجوع إلى الكثرة بوجود القلب الحقاني.
396

((سورة الإسراء))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الإسراء آية 1]
* (سبحان الذي أسرى) * أي: أنزهه عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية بلسان
حال التجرد والكمال في مقام العبودية الذي لا تصرف فيه أصلا * (ليلا) * أي: في ظلمة
الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية لأن العروج والترقي لا يكون إلا بواسطة البدن * (من المسجد الحرام) * أي: من مقام القلب المحرم عن أن يطوف به مشرك القوى البدنية
ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها ويحجه غوى القوى الحيوانية من البهيمية والسبعية
المنكشفة سوأتا إفراطها وتفريطها لعروها عن لباس الفضيلة * (إلى المسجد الأقصى) * الذي
هو مقام الروح الأبعد من العالم الجسماني بشهود تجليات الذات وسبحات الوجه، وتذكر
ما ذكرنا أن تصحيح كل مقام لا يكون إلا بعد الترقي إلى ما فوقه لتفهم من قوله.
* (لنريه من آياتنا) * مشاهدة الصفات، فإن مطالعة تجليات الصفات وإن كانت في
مقام القلب لكن الذات الموصوفة بتلك الصفات لا تشاهد على الكمال بصفة الجلال
والجمال إلا عند الترقي إلى مقام الروح، أي: لنريه آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة
إلينا ونحن المشاهدون بها، البارزون بصورها * (إنه هو السميع) * لمناجاته في مقام
السر لطلب الفناء * (البصير) * بقوة استعداده وتوجهه إلى محل الشهود وانجذابه إليه
بقوة المحبة وكمال الشوق.
[تفسير سورة الإسراء من آية 2 إلى آية 5]
* (وآيتنا موسى) * القلب كتاب العلم * (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) * أي: القوى
التي هي أسباط إسرائيل الروح * (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) * لا تستبدوا بأفعالكم ولا
تستقلوا بطلب كمالاتكم وحظوظكم ولا تكتسبوا بمقتضى دواعيكم ولا تكلوا أمركم
إلى شيطان الوهم فيسول لكم اللذات البدنية ولا إلى عقل المعاش فيستعملكم في
397

ترتبيه وإصلاحه، بل كلوا أمركم إلي لأدبركم بأرزاق العلوم والمعارف وهيئات
الأخلاق والفضائل، وأكملكم بإمداد الأنوار من عالم القلب الروح بتأييد القدس
وأنزل عليكم من عوالم الملكوت والجبروت ما يغنيكم عن مكاسب الناسوت أعني
* (ذرية من حملنا مع نوح) * العقل في فلك الشريعة والحكمة العملية * (إنه كان عبدا شكورا) * لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي.
* (وقضينا إلى بني إسرائيل) * القوى في كتاب اللوح المحفوظ أي: حكمنا فيه
* (لتفسدن في الأرض مرتين) * مرة في مقام النفس حالة كونها أمارة لتفسدن في طلب
شهواتكم ولذاتكم * (ولتعلن علوا كبيرا) * باستيلائكم على القلب وغلبتكم واستعلائكم
عليه ومنعكم إياه عن كماله واستخدام قوته المفكرة في تحصيل مطالبكم ومآربكم،
ومرة في مقام القلب عند تزينكم بالفضائل وتنوركم بنور القلب وظهوركم ببهجة
كمالاتكم لتفسدن بالظهور بكمالاتكم واحتجاب القلب بفضائلكم عن شهود تجلي
التوحيد والحجب النورية أقوى من الحجب الظلمانية لرقتها ولطافتها وتصورها كمالات
يجب الوقوف معها، ولتعلن في مقام الفطرة بالسلطنة بالهيئات العقلية والكمالات الأنسية.
* (فإذا جاء وعد أولاهما) * أي: وعد وبال أولاهما * (بعثنا عليكم عبادا لنا) * من
الصفات القلبية والأنوار الملكوتية والآراء العقلية * (أولي بأس شديد) * ذوي سلطنة
وقهر * (فجاسوا خلال) * ديار أماكنكم ومحالكم وقتلوا بعضكم بالقمع والقهر وسبوا
ذراري الهيئات البدنية والرذائل النفسانية ونهبوا أموال المدركات الحسية واللذات
البهيمية والسبعية * (وكان وعدا) * على الله * (مفعولا) * للإيداعه قوة الكمال وطلبه في
استعدادكم وتركيزه أدلة العقل في فطرتكم.
[تفسير سورة الإسراء من آية 6 إلى آية 8 [
* (ثم رددنا لكم) * الدولة بتنوركم بنور القلب وإقبالكم على الصدر وانصرافكم
إلى مقتضى نظر العقل ورأيه * (وأمددناكم بأموال) * العلوم النافعة والحكم العقلية
والشرعية والمعارف القلبية * (وبنين) * من الفضائل الخلقية والهيئات النورانية
* (وجعلناكم أكثر نفيرا) * بكثرة الفضائل والملكات الفاضلة والأخلاق الحسنة.
* (إن أحسنتم) * بتحصيل الكمالات الخلقية والآراء العقلية * (أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم) * باكتساب الرذائل والهيئات البدنية * (فلها فإذا جاء وعد) * المرة * (الآخرة) *
بالفناء في التوحيد بعثنا عليكم عبادا من الأنوار القدسية والتجليات الجلالية والسبحات
398

القهرية من الصفات الإلهية وجنود سلطان العظمة والكبرياء * (ليسوؤوا وجوهكم) * أي:
وجوداتكم بالفناء في التوحيد، فيغلب عليكم كآبة فقدان الكمالات بقهرها وسلبها
* (وليدخلوا) * مسجد القلب * (كما دخلوه أول مرة) * ووصل أثرها عليكم من العلوم
والفضائل * (وليتبروا ما علوا) * بالظهور بكماله وفضيلته والإعجاب برؤية زينته وبهجته
* (تتبيرا) * بالإفناء بصفات الله. * (عسى ربكم أن يرحمكم) * بعد القهر بالفناء والمحو
بتجليات الصفات بالإحياء ويبعثكم بالبقاء بعد الفناء، ويثيبكم بما لا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. * (وإن عدتم) * بالتلوين في مقام الفناء بالظهور
بأنائيتكم * (عدنا) * بالقهر والإفناء كما قال تعالى: * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن
إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا
نصيرا (75)) * [الإسراء، الآية: 74 75] * (وجعلنا جهنم) * الطبيعة * (للكافرين) *
المحجوبين عن الأنوار، الذين بقوا على فساد المرة الأولى * (حصيرا) * محبسا وسجنا
يحصرهم في عذاب الاحتجاب والحرمان عن الثواب.
[تفسير سورة الإسراء من آية 9 إلى آية 12]
* (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) * أي: يبين أحوال الفرق الثلاث من
السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال يهدي إلى طريقة التوحيد التي هي أقوم
الطرق للسابقين * (ويبشر المؤمنين) * من أصحاب اليمين الذين آمنوا تقليدا جازما أو
تحقيقا علميا وداوموا على أعمال التزكية والتحلية الصالحة لأن يتوصل بها إلى الكمال
* (أن لهم أجرا كبيرا) * من نعيم جنات الأفعال والصفات في عوالم الملك والملكوت
والجبروت. * (وأن الذين لا يؤمنون) * من أصحاب الشمال * (بالآخرة) * لكونهم بدنيين
محجوبين عن عالم النور، محبوسين في ظلمات الطبيعة * (اعتدنا لهم عذابا أليما) * في
قعر سجين الطبيعة، مقيدين بسلاسل محبة السفليات وأغلال التعلقات ونيران الحرمان
عن اللذات والشهوات، والتعذب بالعقارب والحيات من غواسق الهيئات.
* (وجعلنا) * ليل الكون وظلمة البدن ونهار الإبداع ونور الروح يتوصل بهما
وبمعرفتهما إلى معرفة الذات والصفات * (فمحونا آية الليل) * بالفساد والفناء * (وجعلنا آية النهار) * بينة باقية أبدا، منيرة بكمالها، تبصر بنورها الحقائق * (لتبتغوا فضلا من ربكم) * أي: كمالكم الذي تستعدونه * (ولتعلموا عدد) * المراتب والمقامات أي:
لتحصوها من أول حال بدايتكم إلى كبر نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم
399

وأخلاقكم وأحوالكم، فلا تجدوا شيئا من سيئات أعمالكم إلا وتكفرونه بحسنة مما
يقابله من جنسه ولا رذيلة من أخلاقكم إلا وتكفرونها بضدها من الفضيلة، ولا ذنبا
من ذنوب أحوالكم إلا وتكفرونه بالإنابة إلى جناب الحق * (وكل شيء) * من العلوم
والحكم * (فصلناه) * بنور عقولكم عند الكمال ونزول العقل الفرقاني * (تفصيلا) * أي:
علما تفصيليا مستحضرا إجماليا مغفولا عنه كما في العقل القرآني عند البداية.
[تفسير سورة الإسراء من آية 13 إلى آية 17]
* (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * أي: جعلنا سعادته وشقاوته وسبب خيره
وشره لازما لذاته لزوم الطوق في العنق، كما قال: ' السعيد من سعد في بطن أمه
والشقي من شقى في بطن أمه '. * (ونخرج له يوم القيامة) * الصغرى عند الخروج من
قبر جسده * (كتابا) * هيكلا مصورا بصور أعماله مقلدا في عنقه * (يلقاه) * للزومه إياه
* (منشورا) * لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة لا مطويا كما كان عند كونها فيه
بالقوة، يقال له: * (اقرأ كتابك) * أي: اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره
بالقراءة، أو تأمره القوى الملكوتية سواء كان قارئا أو غير قارئ، لأن الأعمال هناك
ممثلة بهيئاتها وصورها يعرفها كل أحد لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها
الأمي * (كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) * لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها نصب
عينها مفصلا لا يمكنها الإنكار، فبين لها غيرها * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * لرسوخ
هيئة ما فعلته فيها وصيرورتها ملكة لازمة دون الذي فعل غيرها، ولم يعرض لها منه
شيء، وإنما يتعذب من يتعذب بالهيئات التي فيه لا من خارج.
* (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * رسول العقل بإلزام الحجة وتمييز الحق
والباطل. ألا ترى أن الصبي والسفيه غير مكلفين؟، أو رسول الشرع لظهور ما في
الاستعداد من الخير والشر والسعادة والشقاوة بسببه ومقابلته بالإقرار والإنكار، فإن
المستعد للكمال يتحرك ما فيه بالقوة عند سماع الدعوة فيشتاق ويطلب متلقيا لها
بالإقرار والقبول لما يدعوه إليه لمناسبته إياه وقربه وغير المستعد ينكر ويعاند لمنافاته
لما يدعوه إليه ويعده.
* (وإذا أردنا أن نهلك قرية) * الخ، إن لكل شيء من الدنيا زوالا وزواله بحصول
استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال وحصول انحراف يبعده عن
400

ظل الوحدة التي هي سبب بقاء كل شيء وثباته فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث
انحراف فيها عن الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام،
فإذا جاء وقت إهلاك قرية فلا بد من استحقاقها للإهلاك، وذلك بالفسق والخروج عن
طاعة الله فلما تعلقت إرادته بإهلاكها تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب
الترف والنعم بطرا وأشرا بنعمة الله واستعمالا لها فيما لا ينبغي وذلك بأمر من الله
وقدر منه لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم وحينئذ وجب إهلاكهم.
[تفسير سورة الإسراء من آية 18 إلى آية 21]
* (من كان يريد العاجلة) * لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته * (عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) * أي: لا نزيده بإرادته زيادة على ما قدرنا له من النصيب في اللوح
ولذلك قيده بالمشيئة ثم بقوله * (لمن نريد) * يعني: لو لم نقدر له شيئا مما أراده لم
نعجل له تخليصه، إنا لا نعطي إلا ما أردنا * (من أردنا ثم جعلنا له جهنم) * أي: قعر
بئر الطبيعة الظلمانية لانجذابه بإرادته إلى الجهة السفلية وميله إليها * (يصلاها) * بنيران
الحرمان * (مذموما) * عند أهل الدنيا والآخرة * (مدحورا) * من جناب الرحمة والرضوان
في سخط الله وقهره. * (ومن أراد الآخرة) * لصفاء استعداده وسلامة فطرته وقام بشرائط
إرادته من الإيمان والعمل الصالح شكر سعيه بحصول مراده كما قيل: من طلب وجد
وجد، لأن الطلب الحقيقي والإرادة الصادقة لا يكونان إلا عند حصول استعداد
المطلوب، وإذا قارن الاستعداد الدال على أن المطلوب حاصل له بالقوة، مقدر له في
اللوح أسباب خروج المطلوب إلى الفعل وبروزه من الغيب إلى الشهادة وهو السعي
الذي ينبغي له ومن حقه أن يسعى له على هذا الوجه المعني بقوله: * (وسعى لها سعيها) * أي: السعي الذي يحق لها بشرط الإيمان الغيبي اليقيني وجب حصوله له
* (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء) * أي: كلهم من طالبي الدنيا وطالبي الآخرة نمد من عطائنا
ليس بمجرد إرادتهم وسعيهم شيء وإنما إرادتهم وسعيهم معرفات وعلامات لما قدرنا
لهم من العطاء * (وما كان عطاء ربك) * ممنوعا من أحد، لا من أهل الطاعة ولا من
أهل المعصية. * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) * في الدنيا بمقتضى مشيئتنا
وحكمتنا * (وللآخرة أكبر درجات) * إذ بقدر رجحان الروح على البدن يكون رجحان
درجات الآخرة على الدنيا وبقدر تفاضلهما يكون تفاضل درجاتهما.
[تفسير سورة الإسراء من آية 22 إلى آية 44]
401

* (لا تجعل مع الله إلها آخر) * بتوقع العطاء منه وجعله سببا لوصول شيء لم
يقدر الله لك إليك، فتصير * (مذموما) * برذيلة الشرك والشك عند الله وعند أهله
* (مخذولا) * من الله يكلك إليه ولا ينصرك * (وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) * [آل عمران، الآية: 160]. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ' إن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك
بشيء لم ينفعوك إلا ما كتب الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إلا ما كتب الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف '.
قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة لأنه من مقتضى
التوحيد لكونهما مناسبين للحضرة الإلهية في سببيتهما لوجودك وللحضرة الربوبية
لتربيتهما إياك، عاجزا، صغيرا، ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك، وهما أول مظهر
ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية والرحمة والرأفة بالنسبة إليك ومع
ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما والله غني عن ذلك، فأهم الواجبات بعد
402

التوحيد إذن إحسانهما والقيام بحقوقهما ما أمكن.
* (تسبح له السماوات السبع) * إلى آخره، إن لكل شيء خاصية ليست لغيره،
وكمالا يخصه دون ما عداه، يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا
حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله عن الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها، فكأنه يقول
بلسان الحال: أوحده على ما وحدني، وبطلب كماله ينزهه عن صفات النقص كأنه
يقول: يا كامل كملني، وبإظهار كماله يقول: كملني الكامل المكمل. وعلى هذا
القياس، حتى أن اللبوة مثلا بإشفاقها على ولدها تقول: أرأفني الرؤوف وأرحمني
الرحيم. وبطلب الرزق: يا رزاق، فالسماوات السبع تسبحه بالديمومة والكمال والعلو
والتأثير والإيجاد والربوبية، وبأنه كل يوم هو في شأن، والأرض بالدوام والثبات
والخلاقية والرزاقية والتربية والإشفاق والرحمة وقبول الطاعة والشكر عليها بالثواب،
وأمثال ذلك. والملائكة بالعلم والقدرة والذوات المجردة منهم بالتجرد عن المادة
والوجوب أيضا مع ذلك كله فهم مع كونهم مسبحين إياه، مقدسون له * (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * لقلة النظر والفكر في ملكوت الأشياء وعدم الإصغاء إليهم وإنما يفقه * (كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * [ق، الآية: 37]. * (إنه كان حليما) * لا يعاجلكم بترك
التسبيح في طلب كمالاتكم وإظهار خواصكم، فإن من خواصكم تفقه تسبيحهم
وتوحيده كما وحدوه * (غفورا) * يغفر لكم غفلاتكم وإهمالاتكم.
[تفسير سورة الإسراء من آية 45 إلى آية 69
403

* (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) * لقصور نظرهم عن إدراك
الروحانيات وقصر هممهم على الجسمانيات * (حجابا مستورا) * من الجهل وعمى
القلب فلا يرون حقيقة القارئ ولا آمنوا وإنما لا يبصرونك لأنهم لا يحسبونك إلا
هذه الصورة البشرية لكونهم بدنيين منغمسين في بحر الهيولى محجوبين بالغواشي
الطبيعية وملابس الصفات النفسانية عن الحق وصفاته وأفعاله إذ لو عرفوا الحق لعرفوك
ولو عرفوا صفاته لعرفوا كلامه، ولم يكن على قلوبهم أكنة من الغشاوات الطبيعية
والهيئات البدنية * (أن يفقهوه) * ولو عرفوا أفعاله لعلموا القراءة ولم يكن * (في آذانهم) *
وقر لرسوخ أوساخ التعلقات * (ولوا على أدبارهم نفورا) * لتشتت أهوائهم وتفرق
هممهم في عبادة متعبداتهم من أصنام الجسمانيات والشهوات، فلا يناسب بواطنهم
معنى الوحدة لتألفها بالكثرة واحتجابها بها.
* (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * أي: تتعلق إرادته ببعثكم فتنبعثون في أقرب
من طرفة عين حامدين له بحياتكم وعلمكم وقدرتكم وإرادتكم حمدا واصفين له
بالكمال بإظهار هذه الكمالات * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * أي: في القبور والمضاجع
لذهولكم عن ذلك الزمان كما يجيء في قصة أصحاب (الكهف) أو في الحياة الأولى
لاستقصاركم إياها بالنسبة إلى الحياة الآخرة فيتناول اللفظ القيامات الثلاث، إلا أن
الآية السابقة ترجح الصغرى.
* (واستفزز) * إلى آخره، تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام، لأن
404

الاستعدادات متفاوتة فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه أي استخفه بصوته يكفيه
وسوسة وهمس بل هاجسة ولمة، ومن كان قوي الاستعداد فإن أخلص استعداده عن
شوائب الصفات النفسانية أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية فليس له إلى إغوائه
سبيل كما قال: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * وإلا فإن كان منغمسا في
الشواغل الحسية غارزا رأسه في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده بأن يحرضه
على إشراكهم بالله في المحبة بحبهم كحب الله ويسول له التمتع بهم والتكاثر والتفاخر
بوجودهم ويمنيه الأماني الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة وإن لم ينغمس فإن كان
عالما بصيرا بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله، أي: مكر به بأنواع الحيل وكاده
بصنوف الفتن وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح
المعاش وغره بالعلم وحمله على الإعجاب، وأمثال ذلك، حتى يصير ممن أضله الله
على علم وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا أغواه بالوعد والتمنية وغره بالطاعة
والتزكية أيسر ما يكون * (وكفى بربك وكيلا) * أي: عبادي الخاصة لا يكلون أمرهم إلا
إلى الله وحده لا إلى الشيطان ولا إلى غيره، وهو كافيهم بتدبير الأمور ولا يتوكلون
إلا عليه بشهود أفعاله وصفاته.
[تفسير سورة الإسراء من آية 70 إلى آية 74]
* (ولقد كرمنا بني آدم) * بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة * (وحملناهم في البر والبحر) * أي: يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما وتحصيلها
* (ورزقناهم من الطيبات) * أي: المركبات التي لم ترزق غيرهم من المخلوقات
* (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا) * أي: ما عدا الذوات المقدسة من الملأ الأعلى،
وأما أفضلية بعض الناس كالأنبياء على الملائكة المقربين فليست من جهة كونهم بني
آدم فإنهم من تلك الحيثية لا يتجاوزون مقام العقل بل من جهة السر المودع فيهم
المشار إليه بقوله: * (إني أعلم ما لا تعلمون) * [البقرة، الآية: 30] وهو ما أعد لذلك
البعض من المعرفة الإلهية التامة بواسطة الجمعية التي فيه، أي: مقام الوحدة، وحينئذ
ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
* وإني وإن كنت ابن آدم صورة
* فلي فيه معنى شاهد بأبوتي
*
بل هو عين المكرم المعروف كما قيل:
405

* رأيت ربي بعين ربي
* فقال من أنت قلت أنت
*
وقد فني ابن آدم في هذا المقام وما بقي منه شيء وإلا فما للتراب ورب
الأرباب، أو * (ولقد كرمنا بني آدم) * بالتقريب ومعرفة التوحيد وحملناهم في بر عالم
الأجساد وبحر عالم الأرواح بتسييره فيهما لتركيبه منهما وإرقائه عنهما في طلب
الكمال ورزقناهم من طيبات العلوم والمعارف، * (وفضلناهم) * على الجم الغفير * (ممن خلقنا) *، أي: جميع المخلوقات، على أن تكون من للبيان والمبالغة في تعظيمه
بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف أي كثير، وأي
كثير وهو جميع مخلوقاتنا لدلالة من على العموم * (تفضيلا) * تاما بينا.
* (يوم ندعو) * إلى آخره، أي: نحضر * (كل) * طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي
يحضرهم ويتوجهون إليه من الكمال ويعرفونه سواء كان في صورة نبي آمنوا به كما
ذكر في تفسير قوله: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد) * [النساء، الآية: 41] أو
إمام اقتدوا به أو دين أو كتاب أو ما شئت على أن تكون الباء بمعنى مع أو ننسبهم
إلى إمامهم وندعوهم باسمه لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم المستعلي مجتهم
إياه على سائر محباتهم * (فمن أوتي كتابه بيمينه) * أي: من جهة العقل الذي هو أقوى
جانبيه وبعث في صورة السعداء * (فأولئك يقرؤون كتابهم) * دون غيرهم لاستعدادهم
للقراءة والفهم لأن الذي أوتي كتابه بشماله، أي: من جهة النفس التي هي أضعف
جانبيه لا يقدر على قراءة كتابه وإن كان مقروؤا لذهاب عقله وفرط حيرته * (ولا يظلمون) * أي: لا ينقصون من صور أعمالهم وكمالاتهم وأخلاقهم شيئا قليلا.
* (ومن كان في هذه أعمى) * عن الاهتداء إلى الحق * (فهو في الآخرة) * كذلك
* (وأضل سبيلا) * مما هنا لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا يمكنه الاهتداء
بها وهو في مقام الكسب باقي الاستعداد إن كان ولم يبق هناك شيء من ذلك.
* (وإن كادوا ليفتنونك) * الخ، هو من باب التلوينات التي تحدث لأرباب القلوب
بظهور النفس ولأرباب الشهود والفناء بوجود القلب، فإنه صلى الله عليه وسلم لفرط شغفه
وحرصه على إيمانهم بوجود القلب كاد يميل إليهم في بعض مقترحاتهم ويرضى
ببعض ما هو خلاف شريعته، ويضيف إلى الله ما ليس منه طلبا للمناسبة التي كان
يتوقع أن تحدث بينه وبينهم بذلك فيحبوه كما قال: * (وإذا لاتخذوك خليلا) * عسى أن
يقبلوا قوله ويهتدوا به. واستمالة وتطييبا لقلوبهم عسى أن يلينوا وينزلوا عن شدة
إنكارهم فيرق حجابهم وتتنور قلوبهم، فشدد وأقيم من عند الله، ولهذا قالت عائشة
رضي الله عنها: ' كان خلقه القرآن ' تعني أنه عليه صلى الله عليه وسلم كلما ظهرت نفسه
وهمت بما ليس بفضيلة نبه من عند الله وثبت بتنزيل آية تقومه وترده إلى الاستقامة
406

حتى بلغ مقام التمكين، وهذا وأمثاله من قوله تعالى: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * [الأنفال، الآية: 67]، وقوله: * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * [التوبة، الآية:
43]، وقوله: * (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * [الأحزاب، الآية: 37]، وقوله:
* (عبس وتولى (1)) * [عبس، الآية: 1] يدل على أنه كان أكثر سلوكه في الله بعد الوصول
في زمان النبوة وزمان الوحي.
[تفسير سورة الإسراء من آية 75 إلى آية 78]
* (إذا لأذقناك) * أي: لو قاربت فتنتهم وكدت توافقهم لأذقناك عذابا مضاعفا في
الحياة وعذابا مضاعفا في الممات، فإن شدة العذاب بحسب علو المرتبة وقوة
الاستعداد إذ النقصان الموجب للعذاب يقابل الكمال الموجب للذة. فكلما كان
الاستعداد أتم والإدراك أقوى، كانت المرتبة في الكمال والسعادة واللذة أقوى فكذا ما
يقابله من النقص والشقاوة أبعد وأسفل والألم أشد.
* (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * اعلم أن الصلاة على خمسة أقسام: صلاة
المواصلة والمناغاة في مقام الخفاء، وصلاة الشهود في مقام الروح، وصلاة المناجاة
في مقام السر، وصلاة الحضور في مقام القلب، وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام
النفس. فدلوك الشمس هو علامة زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد
بالفناء المحض، فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ الصلاة عمل يستدعي وجودا، وفي
هذه الحالة لا وجود للعبد حتى يصلي كما ذكر في تأويل قوله تعالى: * (واعبد ربك
حتى يأتيك اليقين 99) * [الحجر، الآية: 99]. ألا ترى الشارع صلى الله عليه وسلم كيف نهى
عن الصلاة وقت الاستواء، فأما عند الزوال، إذا حدث ظل وجود العبد سواء عند
الاحتجاب بالخلق حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء حالة الفرق بعد الجمع،
فالصلاة واجبة * (إلى غسق) * ليل النفس * (وقرآن) * فجر القلب، فأول الصلوات وألطفها
صلاة المواصلة والمناغاة وأفضلها وأشرفها صلاة الشهود للروح المشار إليها بصلاة
العصر كما فسرت الصلاة الوسطى، أي: الفضلى في قوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات) * [البقرة، الآية: 238] والصلاة الوسطى بها، وأوحاها وأخفها صلاة السر
بالمناجاة أول وقت الاحتجاب بظهور القلب لسرعة انقضاء وقتها ولهذا استحب
التخفف في صلاة المغرب في القراءة وغيرها لكونها علامة لها، وأزجر الصلاة
للشيطان، وأوفرها تنويرا لباطن الإنسان صلاة الحضور للقلب المومئ إليها بقرآن
407

الفجر، فإنها في وقت تجليات أنوار الصفات ونزول المكاشفات ولهذا استحب التكثر
في جماعة صلاة الصبح وأكد استحباب الجماعة فيها خاصة، وتطويل القراءة، وقال
تعالى: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * أي: محضورا بحضور ملائكة الليل والنهار
إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها، وأشدها تثبيتا
للنفس وتطويعا لها صلاة النفس للطمأنينة والثبات، ولهذا سن فيما جعل آية لها من
صلاة العشاء السكوت بعدها حتى النوم إلا بذكر الله، وحيث أمكن للشيطان سبيل إلى
الوسوسة استحب، فيما جعل علامة لها الجهر كصلاة النفس والقلب والسر للزجر ولا
مدخل له في مقام الروح والخفاء فأمر بالإخفات.
[تفسير سورة الإسراء من آية 79 إلى آية 81]
* (ومن الليل فتهجد به) * أي: خصص بعض الليل بالتهجد * (نافلة لك) * زيادة
على ما فرض خاصة بك، لكونه علامة مقام النفس، فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة
لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات فيقتدي بك السالكون
من أمتك في تطويع نفوسهم ويقوى تمكنك في مقام الاستقامة، كما قال: ' أفلا أكون
عبدا شكورا '. * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * أي: في مقام يجب على الكل
حمده وهو مقام ختم الولاية بظهور المهدي، فإن خاتم النبوة في مقام محمود من
وجه هو جهة كونه خاتم النبوة غير محمود من وجه هو جهة ختم الولاية، فهو من
هذا الوجه في مقام الحامدية فإذا تم ختم الولاية يكون في مقام محمود من كل وجه.
* (وقل رب أدخلني) * حضرة الوحدة في عين الجمع * (مدخل صدق) * مدخلا
حسنا مرضيا به بلا آفة زيغ البصر بالالتفات إلى الغير ولا الطغيان بظهور الأنائية ولا
شوب الإثنينية * (وأخرجني) * إلى الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب
الحقاني * (مخرج صدق) * مخرجا حسنا مرضيا به من غير آفة التلوين بالميل إلى النفس
وصفاته ولا الضلال بعد الهدى بالانحراف عن جادة الاستقامة والزيغ عن سنن العدالة
إلى الجوز كالفتنة الداودية * (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) * حجة ناصرة بالتثبيت
والتمكين بأن أكون بك في الأشياء في حال البقاء بعد الفناء لا بنفسي كما قال عليه
صلى الله عليه وسلم: ' لا تكلني إلى نفسي طرفة عين '، أو عزا وقوة قهرية بك، أقوي بها
دينك وأظهره على الأديان كلها.
* (وقل جاء الحق) * أي: الوجود الثابت الواجب الحقاني الذي لا يتغير ولا
يتبدل * (وزهق الباطل) * أي: الوجود البشري الإمكاني القابل للفناء والتغير والزوال
408

* (إن الباطل) * أي: الوجود الممكن * (كان) * فانيا في الأصل لا شيئا ثابتا طرأ عليه
الفناء ففني، بل الفاني فان في الأزل والباقي باق لم يزل، وإنما احتجبنا بتوهم فاسد
باطل فكشف.
[تفسير سورة الإسراء من آية 82 إلى آية 84]
* (وننزل من) * العقل القرآني الجامع بالتدريج نجوم تفاصيل العقل الفرقاني نجما
فنجما على الوجود الحقاني على حسب ظهور الصفات أي: نفصل ما في ذاتك
مجملا مكنونا تفصيلا بارزا ظاهرا عليك ليكون شفاء لأمراض قلوب المستعدين
المؤمنين بالغيب من أمتك كالجهل والشك والنفاق وعمى القلب والغل والحقد
والحسد وأمثالها فنزكيهم ورحمة تفيدهم الكمالات والفضائل وتحليهم بالحكم
والمعارف * (ولا يزيد الظالمين) * الناقصين استعدادهم بالرذائل والحجب الظلمانية
الباخسين حظوظهم من الكمال بالهيئات البدنية والصفات النفسانية * (إلا خسارا) * بزيادة
ظهور أنفسهم بصفاتها كالإنكار والعناد والمكابرة واللجاج والرياء والنفاق منضمة إلى
ما لهم من الشك والجهل والعمى والعمه.
* (وإذا أنعمنا على الإنسان) * بنعمة ظاهرة * (أعرض) * لوقوفه مع النفس والبدن
وكون القوى البدنية متناهية لا تتدبر الأمور الغير المتناهية الممكنة الوقوع من سبب
النعمة وردها عند عدمها وسائر الغير ولا يرى إلا العاجل، وتكبر لاستعلاء نفسه على
القلب وظهوره بأنائيته وتفرعنه فنأى، أي: بعد عن الحق في جانب النفس وطوى
جنبه معرضا وكذا في جانب الشر إذا مسه يئس لاحتجابه عن القادر وقدرته ولو نظر
بعين البصيرة شاهد قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين وتيقن في الحالة الأولى أن الشكر
رباط النعم، وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم، فشكر وصبر وعلم أن المنعم قدر فلم
يعرض عند النعمة بطرا وأشرا خائفا زوالها، غير غافل عن المنعم، ولم ييأس عند
النقمة جزعا وضجرا راجيا كشفها، مراعيا لجانب المبلي.
* (قل كل يعمل على شاكلته) * أي: خليقته وملكته الغالبة عليه من مقامه فمن
كان مقامه النفس وشاكلته مقتضى طباعها عمل ما ذكرنا من الإعراض واليأس ومن
كان مقامه القلب وشاكلته السجية الفاضلة عمل بمقتضاها الشكر والصبر * (فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا) * من العاملين عامل الخير بمقتضى سجية القلب وعامل الشر
بمقتضى طبيعة النفس فيجازيهما بحسب أعمالهما.
[تفسير سورة الإسراء من آية 85 إلى آية 87]
409

* (ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) * أي: ليس من عالم الخلق حتى
يمكن تعريفه للظاهرين البدنيين الذين لا يتجاوز إدراكهم عن الحس والمحسوس
بالتشبيه ببعض ما شعروا به من التوصيف بل من عالم الأمر، أي: الإبداع الذي هو
عالم الذوات المجردة عن الهيولى والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة
والأين، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون لقصور إدراككم وعلمكم عنه
* (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * هو علم المحسوسات وذلك شيء نزر حقير بالنسبة
إلى علم الله تعالى والراسخين في العلم.
* (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * بالطمس في محل الفناء أو الحجب
بعد الكشف بالتلوين * (ثم لا تجد لك به علينا وكيلا) * يتوكل علينا برده * (الآ) * مجرد
رحمة عظيمة خاصة بك من فرط عنايتنا وهي أعلى مراتب الرحمة الرحيمية المتكفلة
من عند الله تعالى بإفاضة الكمال التام عليه، أي: لو تجلينا بذاتنا لما وجدت الوحي
ولا ذاتك إلا إذا تجلينا بصفة الرحمة واسمنا الرحيم فتوجد وتجد الوحي، وكذا لو
تجلينا بصفة الجلال لاحتجبت عن الوحي والمعرفة * (إن فضله) * بالإيحاء والتعليم
الرباني بعد موهبة الوجود الحقاني * (كان عليك كبيرا) * في الأزل.
[تفسير سورة الإسراء من آية 88 إلى آية 99]
410

* (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) *
لكون الاستعداد الكامل الحامل له مخصوصا بك وأنت قطب العالم يرشح إليهم ما
يطفح منك فلا يمكنهم الإتيان بمثله ولا يطيقون حمله، ولهذا المعنى أبى أكثرهم
* (إلا كفورا) * واقترحوا الآيات الجسمانية المناسبة لاستعدادهم وإدراكهم كتفجير العيون
من الأرض وجنة النخيل والأعناب وإسقاط السماء عليهم كسفا والرقي فيها والإتيان
بالملائكة وسائر الممتنعات المتخيلة وأجيبوا بقوله:
* (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) * أي: ما أمكن نزول الملائكة
مع كونهم نفوسا مجردة على الهيئة الملكية في الأرض، بل لو نزلت لم ينزلوا إلا
متجسدين، كما قال: * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما
يلبسون (9)) * [الأنعام، الآية: 9] وإلا لم يمكنكم إدراكهم فبقيتم على إنكاركم، وإذا
كانوا مجسدين ما صدقتم كونهم ملائكة فشأنكم الإنكار على الحالين بل على أي حال
كان كإنكار الخفاش ضوء الشمس.
* (ومن يهد الله) * بمقتضى العناية الأزلية في الفطرة الأولى بنوره * (فهو المهتد) *
خاصة دون غيره * (ومن يضلل) * بمنع ذلك النور عنه * (فلن تجد لهم) * أنصارا يهدونه
* (من دونه) * أو يحفظونه من قهره * (ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم) * أي: ناكسي
الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية أو على وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في
الدنيا كقوله: ' كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون ' إذ الوجه يعبر به عن الذات
الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها أي على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان
* (عميا) * عن الهدى، كما كانوا في الحياة الأولى * (وبكما) * عن قول الحق، لعدم
إدراكهم المعنى المراد بالنطق إذ ليسوا ذوي قلوب يفهم بها ويفقه، فكيف التعبير عما لم
يفهم * (وصما) * عن سماع المعقول، لعدم الفهم أيضا، فلا يؤثر فيهم موجب الهداية لا من
جهة الفهم من الله تعالى بالإلهام ولا من طريق السمع من كلام الناس ولا من طريق البصر
بالاعتبار * (كلما خبت زدناهم سعيرا) * كقوله: * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها) *
[الأنعام، الآية: 56] بل أبلغ منه ذلك بسبب احتجابهم عن صفاتنا خصوصا قدرتنا على
البعث وإنكارهم له. أنكروا ما استدلوا بخلق السماوات والأرض على القدرة.
[تفسير سورة الإسراء من آية 100 إلى آية 106]
411

* (قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم) * لوقوفكم مع صفات
نفوسكم التي من لوازمها الشح الجبلي لكون إدراكها مقصورا على ما يدرك بالحس
من الأمور المادية المحصورة واحتجابها عن البركات الغير المتناهية والرحمة الواسعة
الغير المنقطعة التي لا تدرك إلا عند اكتحال البصيرة بنور الهداية فتخشى نفادها
وانقطاعها * (تسع آيات بينات) * مرت الإشارة إليها في سورة (الحجر).
* (وبالحق أنزلناه) * أي: ما أنزلنا القرآن إلا بعد زوال بشرية النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية في
مقام الفناء وانتفاء الحدثان عن وجه القدم وانقشاع ظلمة الإمكان عن سبحات الوجه
الواجب الباقي بالفرق الثاني ليكون له محل وجودي فما كان إنزاله إلا ظهور أحكام
التفاصيل من عين الجمع على المظهر التفصيلي فكان إنزاله بالحق من الحق على
الحق ونزوله بالحق على هذا التأويل هو كما يقال: نزل بكذا إذا حل به، على أن
تكون الباء الثانية للظرفية كقولك: نزلت ببغداد والأولى للحال أي: ملتبسا بالحق على
معنيين إما بالحق الذي هو نقيض الباطل أي: بالحقيقة والحكمة، وإما بالحق الذي
هو الله تعالى أي: أنزل على صفته وهو الحق * (وقرآنا فرقناه) * على حسب ظهور
استعدادات المظاهر المقتضية لقبوله بحسب الأحوال والمصالح والصفات كما أشرنا
إليه في قوله: * (ولولا أن ثبتناك) * [الإسراء، الآية: 74].
[تفسير سورة الإسراء من آية 107 إلى آية 110]
* (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) * أي: أن وجوداتكم كالعدم عندنا. ليس المراد منه
هدايتكم لكونكم مطبوعا على قلوبكم لا محل لكم عند الله ولا في الوجود لكونكم
أحلاس بقعة الإمكان معدومي الأعيان بالذات إنما الاعتبار بالعلماء الذين لهم وجود
عند الله في عالم البقاء المعتد بهم في الأنباء، فانظر كيف تراهم عند تلاوته عليهم
وسماعهم إياه * (يخرون) * أي: ينقادون له ويعترفون به ويعرفون حقيقته لعلمهم به
ومعرفتهم إياه بنورية الاستعداد ومناسبته له، وبنور كمالهم لتجردهم وعلمهم بأنه كان
كتابا من عند الله موعودا ليس هو إلا إياه لما وجدوه مطابقا لما اعتقدوه يقينا فإن
الاعتقاد الحق لا يكون إلا واحدا * (ويزيدهم خشوعا) * باللين والانقياد لحكمه لتأثرهم
به وحسن تلقيهم لقبوله. * (قل ادعوا الله) * بالفناء في الذات الجامعة لجميع الصفات
412

* (أو ادعوا الرحمن) * بالفناء في الصفة التي هي أم الصفات * (أيا ما) * طلبت من هذين
المقامين لست هناك بموجود ولا لك بقية ولا اسم ولا عين ولا أثر إذ الرحمن لا
يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة أي: الرحمة الرحمانية لغيرها فلا
يلزم وجود البقية بخلاف سائر الأسماء والصفات * (فله الأسماء الحسنى) * كلها في هذين
المقامين لا لك * (ولا تجهر) * في صلاة الشهود بإظهار صفة الصلاة عن نفسك فيؤذن
بالطغيان وظهور الأنائية * (ولا تخافت) * غاية الإخفات فيؤذن بالانطماس في محل الفناء
دون الرجوع إلى مقام البقاء، فلا يمكن أحدا الاقتداء بك، * (وابتغ بين ذلك سبيلا) * يدل
على الاستقامة ولزوم سيرة العدالة في عالم الكثرة وملازمة الصراط المستقيم بالحق.
[تفسير سورة الإسراء آية 111]
* (وقل الحمد لله) * أي: أظهر الكمالات الإلهية والصفات الرحمانية التي لا
تكون إلا للذات الأحدية * (الذي لم يتخذ ولدا) * أي: لم يكن علة لموجود من جنسه
لضرورة كون المعلول محتاجا إليه ممكنا بالذات معدوما بالحقيقة فكيف يكون من
جنس الموجود حقا الواجب بذاته من جميع الوجوه * (ولم يكن له) * من يساويه في
قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك وإلا لكانا مشتركين في وجوب الوجود
والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الآخر لا بد وأن يكون بأمر غير الحقيقة
الواجبية فلزم تركبهما فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير لم
يكن أحدهما إلها، وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه فلا شريك له
وإن استقلا جميعا لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد إن فعلا معا وإلا
لزم إلهية أحدهما دون الآخر رضي بفعله أو لم يرض * (ولم يكن له ولي من الذل) *
أي: لم يكن له ناصر علة كان أو جزء علة تقويه وتنصره من ذلة الانفعال والعدم وإلا
لم يكن إلها واجبا بل ممكنا لتكون حبيبا قائما به لا بنفسك * (وكبره) * من أن يتقيد
بصفة دون أخرى أو صورة غير أخرى أو يلحقه شيء من هذه النقائص فينحصر في
وجود خاص تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا * (تكبيرا) * لا يقدر قدره ولا يعرف
كنهه لامتناع وجود شيء غيره يفضل عليه وينسب إليه بل كل ما يتصور ويعقل ولا
يكبر غيره بهذا التكبير والله الحق الموفق.
413

((سورة الكهف))
((بسم الله الرحمن الرحيم))
[تفسير سورة الكهف من آية 1 إلى آية 3]
* (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * أثنى الله تعالى بلسان التفصيل على
نفسه باعتبار الجمع من حيث كونه منعوتا بإنزال الكتاب وهو إدراج معنى الجمع في
صورة التفصيل فهو الحامد والمحمود تفصيلا وجمعا، فالحمد إظهار الكمالات الإلهية
والصفات الجمالية والجلالية على الذات المحمدية باعتبار العروج بعد تخصيصه إياه
بنفسه في العناية الأزلية المشار إليه بالإضافة في قوله: عبده، وذلك جعل عينه في
الأزل قابلة للكمال المطلق من فيضه وإيداع كتاب الجمع فيه بالقوة التي هي الاستعداد
الكامل وإنزال الكتاب عليه إبراز تلك الحقائق عن ممكن الجمع الوحداني على ذلك
المظهر الإنساني فهما متعاكسان باعتبار النزول والعروج والإنزال في الحقيقة حمدا لله
تعالى لنبيه إذ المعاني الكامنة في أغيب الغيب ما لم ينزل على قلبه فلم يمكنه حمد
الله حق حمده فما لم يحمده الله لم يحمد الله بل حمده حمده كما قال: لا أحصي
ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، حمد أولا في عين الجمع نفسه باعتبار
التفصيل ثم عكس فقال: الحمد لله.
* (ولم يجعل له) * أي: لعبده * (عوجا) * أي: زيغا وميلا إلى الغير كما قال: * (ما
زاغ البصر وما طغى (17)) * [النجم، الآية: 17] أي: لم ير الغير في شهوده.
* (قيما) * أي: جعله قيما، يعني: مستقيما كما أمر بقوله: * (فاستقم كما أمرت) *
[فصلت، الآية: 30]، والمعنى: جعله موحدا فانيا فيه غير محتجب في شهوده بالغير
ولا بنفسه لكونها غيرا أيضا ممكنا مستقيما حال البقاء، كما قال: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * [الكهف، الآية: 4]، أو جعله قيما بأمر العباد وهدايتهم إذ
التكميل يترتب على الكمال لأنه عليه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها
أقيمت نفوس أمته مقام نفسه فأمر بتقويمها وتزكيتها ولهذا المعنى سمى إبراهيم
صلوات الله عليه أمة، وهذه القيمية أي القيام بهداية الناس داخلة في الاستقامة المأمور
هو بها في الحقيقة * (لينذر) * متعلق بعامل قيما أي: جعله قيما بأمر العباد * (لينذر بأسا شديدا) * وحذف المفعول الأول للتعميم لأن أحدا لا يخلو من بأس مؤمنا كان أو
414

كافرا، كما قال تعالى: ' أنذر الصديقين بأني غيور، وبشر المذنبين بأني غفور '. إذ
البأس عبارة عن قهره ولذلك عظمه بالتنكير، أي: بأسا يليق بعظمته وعزته ووصفه
بالشدة وخصصه بقوله: * (من لدنه) * والقهر قسمان: قهر محض ظاهره وباطنه قهر
كالمختص بالمحجوبين بالشرك، وقسم ظاهره قهر وباطنه لطف، وكذا اللطف كما قال
أمير المؤمنين علي عليه السلام: سبحان من اشتدت نقمته على أعدائه في سعة نعمته،
واتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته. ومن القسم الثاني القهر المخصوص
بالموحدين من أهل الفناء أطلق الإنذار للكل تنبيها ثم فصل اللطف والقهر مقيدين
بحسب الصفات والاستحقاقات فقال: * (ويبشر المؤمنين) * أي: الموحدين لكونهم في
مقابلة المشركين الذين قالوا: اتخذ الله ولدا.
* (الذين يعملون الصالحات) * أي: الباقيات من الخيرات والفضائل لأن الأجر
الحسن هو من جنة الآثار والأفعال التي تستحق بالأعمال.
[تفسير سورة الكهف من آية 4 إلى آية 6]
واعلم أن الإنذار والتبشير اللذين هما من باب التكميل اللازم لكونه قيما عليهم
كلاهما أثر ونتيجة عن صفتي القهر واللطف الإلهيين اللذين محل استعداد قبولهما من
نفس العبد الغضب والشهوة، فإن العبد ما استعد لقبولهما إلا بصفتي الغضب والشهوة
وفنائهما كما لم يستعد لفضيلتي الشجاعة والعفة إلا بوجودهما، فلما انتفتا قامتا مقامهما
لأن كلا منهما ظل لواحدة من تينك يزول بحصولها فعند ارتواء القلب منهما وكمال التخلق
بهما حدث عن القهر الإنذار عند استحقاقية المحل بالكفر والشرك وعن اللطف التبشير
باستحقاقية الإيمان والعمل الصالح، إذ الإفاضة لا تكون إلا عند استحقاق المحل.
* (ما لهم به من علم ولا لآبائهم) * أي: ما لهم بهذا القول من علم بل إنما
يصدر عن جهل مفرط وتقليد للآباء لا عن علم ويقين ويؤيده قوله: * (كبرت كلمة) *
أي: ما أكبرها كلمة * (تخرج من أفواههم) * ليس في قلوبهم من معناه شيء لأنه
مستحيل لا معنى له إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي العلي أحدي الذات لا
يماثله الوجود الممكن المعلول. والولد هو المماثل لوالده في النوع المكافئ له في
القوة والشهود الذاتي يحكم بفناء الخلق في الحق والمعلول في المشهود، فلم يكن ثم
سواه شيء غيره فضلا عن الشبيه والولد كما قال أحدهم:
* هذا الوجود وإن تكثر ظاهرا
* وحياتكم ما فيه إلا أنتم
*
* (إن يقولون إلا كذبا) * لتطابق الدليل العقلي والوجدان الذوقي الشهودي على
415

إحالته. * (فلعلك باخع) * أي: مهلك * (نفسك) * من شدة الوجد والأسف على توليهم
وإعراضهم، وذلك لأن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله
ونتائجه ولما كان صلى الله عليه وسلم حبيب الله ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله: * (يحبهم ويحبونه) *
[المائدة، الآية: 54] وكلما كانت محبته للحق أقوى كانت شفقته ورحمته على خلقه
أكثر لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله اشتد تعطفه عليهم، فإنهم كأولاده وأقاربه بل
كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقي، فلذلك بالغ في التأسف عليهم حتى كاد
يهلك نفسه. وأيضا علم أن المحب إذا تقوى بالمحبوب في استمرار الوصل ظهر
قبوله في القلوب لمحبة الله إياه.
[تفسير سورة الكهف من آية 7 إلى آية 9]
* (فلما لم يؤمنوا بالقرآن استشعر ببقية من نفسه وتوجس بنقصان حاله فعلاه الوجد
وعزم على قهر النفس بالكلية طلبا للغاية وكان ذلك من فرط شفقته عليهم وكمال أدبه
مع الله حيث أحال عدم إيمانهم على ضعف حاله لا على عدم استعدادهم ولذلك
سلاه بقوله: * (إنا جعلنا) * أي: لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا، إنا
نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء ثم نفنيها ولا حيف ولا نقص، أو إنا
جعلنا ما على أرض البدن من النفس ولذاتها وشهواتها وقوى صفاتها وإدراكاتها ودواعيها
* (زينة) * لها ليظهر أيهم أقهر لها وأعصى لهواها في رضاي وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
* (وإنا لجاعلون) * بتجلينا وتجلي صفاتنا * (ما عليها) * من صفاتها هامدة كأرض
ملساء لا نبات فيها أي: نفنيها وصفاتها بالموت الحقيقي أو بالموت الطبيعي ولا
نبالي، بل * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) * أي: إذا
شاهدت هذا الإنشاء والإفناء فليس حال أصحاب الكهف آية عجيبة من آياتنا بل هذه
أعجب. واعلم أن أصحاب الكهف هم السبعة الكمل القائمون بأمر الحق دائما الذين
يقوم بهم العالم ولا يخلو عنهم الزمان على عدد الكواكب السبعة السيارة وطبقها فكما
سخرها الله تعالى في تدبير نظام عالم الصورة كما أشار إليه بقوله: * (فالسابقات
سبقا (4) فالمدبرات أمرا (5)) * [النازعات، الآيات: 4 - 5] على بعض التفاسير وكل نظام
عالم المعنى وتكميل نظام الصورة إلى سبعة أنفس من السابقين كل ينتسب بحسب
الوجود الصوري إلى واحد منهم، والقطب هو المنتسب إلى الشمس والكهف هو
باطن البدن والرقيم ظاهره الذي انتقش بصور الحواس والأعضاء إن فسر باللوح الذي
رقمت فيه أسماؤهم والعالم الجسماني إن جعل اسم الوادي الذي فيه الجبل والكهف
والنفس الحيوانية إن جعل اسم الكلب والعالم العلوي إن جعل اسم قريتهم على
416

اختلاف الأقوال في التفاسير ومنهم الأنبياء السبعة المشهورون المبعوثون بحسب
القرون والأدوار، وإن كان كل نبي منهم على ذكر وهم: آدم وإدريس ونوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأنه السابع المخصوص بمعجزة
انشقاق القمر، أي: انفلاقه عنه لظهوره في دورة ختم النبوة وكمل به الدين الإلهي
كما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: ' إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات
والأرض '. إذ المتأخر بالزمان والظهور أي: الوجود الحسي هو الحائز لصفات الكل
وكمالاتهم كالإنسان بالنسبة إلى سائر الحيوانات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ' كأن بنيان النبوة قد
تم وبقي منه موضع لبنة واحدة، فكنت أنا تلك اللبنة '. وقد اتفق الحكماء المتألهة من
قدماء الفرس أن مراتب العقول والأرواح على مذهبهم في التنازل تتضاعف إشراقاتها،
فكل ما تأخر في الرتبة كان حظه من إشراقات الحق وأنواره وسبحات أشعة وجهه
وإشراقات أنوار الوسائط أوفر وأزيد فكذا في الزمان فهو الجامع الحاصر لصفات الكل
وكمالاتهم الحاوي لخواصهم ومعانيهم مع كماله الخاص به اللازم للهيئة الاجتماعية،
كما قال صلى الله عليه وسلم: ' بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ' ومن هذا ظهر تقدمه عليهم بالشرف
والفضيلة ومن جهة أن إبراهيم عليه السلام كان مظهر التوحيد الأعظمي الذاتي، وكان
هو الوسط في الترتيب الزماني بمنزلة الشمس في الرتبة كان قطب النبوة، ولزمهم
كلهم اتباعه وإن لم يظهر في المتقدمين عليه بالزمان كارتباط الكواكب الستة في سيرها
بها، ولكن لا كالقمر، فتبعه بالحقيقة محمد صلى الله عليه وسلم. واعلم أن الأرواح في عالمها مراتب
متعينة، وصفوف مترتبة واستعدادات متفاوتة متهيئة بالأزل بمحض العناية الأولى
والفيض الأقدس فأهل الصف الأول هم السابقون المفردون المقربون المحبوبون
المخصوصون بفضل عنايته وسابقة كرامته المتعارفون بنوره المتحابون فيه، والباقون
يتباينون في الدرجات وبحسب تقاربها وتباعدها، يتعارفون ويتناكرون، فما تعارف منها
ائتلف وما تناكر منها اختلف إلى آخر الصفوف، فلها مراكز ثابتة، وأصول راسخة في
العالم العلوي وعند التعلق بالأبدان يتفاوت درجات كمالاتها وغاية سعاداتها بحسب ما
لها من الاستعداد الأول المخصوص بكل منها من مباديها في الأزل كما قال عليه
صلى الله عليه وسلم: ' الناس معادن كمعادن الذهب والفضة '، حتى انتهت الدرجات في
العلو إلى الفناء في التوحيد الذاتي، فبهذا الاعتبار يكون محمد صلى الله عليه وسلم عين آدم
بل عين السبعة وكذا باعتبار كونه جامعا لصفاتهم كما قيل إنه سأله أبو يزيد رحمة الله
عليه: أنت من السبعة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ' أنا السبعة '. وباعتبار علو مرتبته ومكانته، وسبقه
في القدم وارتفاع درجة كماله وفضيلته، كان أقدمهم وأولهم وأفضلهم كما قال: ' أول
ما خلق الله نوري وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين '. فهو متقدم عليهم بالرتبة والعلية
والشرف والفضيلة، متأخر عنهم بالزمان وهو عينهم باعتبار السر والوحدة الذاتية،
417

فالحاصل أن اختلافهم وتباينهم روحا وقلبا ونفسا لا ينافي اتحادهم في الحقيقة وكذا
افتراقهم بالأزمنة لا ينافي معيتهم في الأزل والأبد وعين الجمع كما قال: * (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * [البقرة، الآية: 253] مع قوله: * (لا نفرق بين أحد منهم) *
[البقرة، الآية: 136]. ويجوز أن يكون المراد بأصحاب الكهف روحانيات الإنسان التي
تبقى بعد خراب البدن. وقول من قال: ثلاثة، إشارة إلى الروح والعقل والقلب.
والكلب هي النفس الملازمة لباب الكهف. ومن قال: خمسة إشارة إلى الروح والقلب
والعقل النظري والعقل العملي والقوة القدسية للأنبياء التي هي الفكر لغيرهم. ومن
قال: سبعة فتلك الخمسة مع السر والخفاء والله أعلم.
[تفسير سورة الكهف من آية 10 إلى آية 12]
* (إذ أوى الفتية إلى الكهف) * أي: كهف البدن بالتعلق به * (فقالوا) * بلسان الحال
* (ربنا آتنا من لدنك) * أي: من خزائن رحمتك التي هي أسماؤك الحسنى * (رحمة) *
كما لا يناسب استعدادنا ويقتضيه * (وهيئ لنا من أمرنا) * الذي نحن فيه من مفارقة
العالم العلوي والهبوط إلى العالم السفلي للاستكمال * (رشدا) * استقامة إليك في سلوك
طريقك والتوجه إلى جنابك، أي: طلبوا بالاتصال البدني والتعلق بآلات الكمال
وأسبابه الكمال العلمي والعملي.
* (فضربنا على آذانهم) * أي: أنمناهم نومة الغفلة عن عالمهم وكمالهم نومة ثقيلة
لا ينبههم صفير الخفير ولا دعوة الداعي الخبير. في كهف البدن * (سنين) * ذوات
عدد، أي: كثيرة أو معدودة أي: قليلة هي مدة انغماسهم في تدبير البدن وانغمارهم
في بحر الطبيعة مشتغلين بها، غافلين عما وراءها من عالمهم إلى أوان بلوغ الأشد
الحقيقي، والموت الإرادي والطبيعي، كما قال: ' الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا '.
* (ثم بعثناهم) * أي: نبهناهم عن نوم الغفلة بقيامهم عن مرقد البدن ومعرفتهم
بالله وبنفوسهم المجردة * (لنعلم) * أي: ليظهر علمنا في مظاهرهم أو مظاهر غيرهم من
سائر الناس * (أي الحزبين) * المختلفين في مدة لبثهم وضبط غايته الذين يعينون المدة
أم يكلون علمه إلى الله، فإن الناس مختلفون في زمان الغيبة. يقول بعضهم: يخرج
أحدهم على رأس كل ألف سنة وهو يوم عند الله، لقوله: * (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * [الحج، الآية: 47]. ويقول بعضهم: على رأس كل سبعمائة عام
أو على رأس كل مائة، وهو بعض يوم، كما قالوا: * (لبثنا يوما أو بعض يوم) *
[الكهف، الآية: 19]. والمحققون المصيبون هم الذين يكلون علمه إلى الله كالذين
418

قالوا: * (ربكم أعلم بما لبثتم) * [الكهف، الآية: 19] ولهذا لم يعين رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقت ظهور المهدي عليه السلام، وقال: ' كذب الوقاتون '.
[تفسير سورة الكهف من آية 13 إلى آية 15]
* (إنهم فتية آمنوا بربهم) * إيمانا يقينا علميا على طريق الاستدلال أو المكاشفة
* (وزدناهم هدى) * أي: هداية موصلة إلى عين اليقين ومقام المشاهدة بالتوفيق.
* (وربطنا على قلوبهم) * قويناها بالصبر على المجاهدة، وشجعناهم على محاربة
الشيطان ومخالفة النفس، وهجر المألوفات الجسمانية، واللذات الحسية، والقيام
بكلمة التوحيد، ونفي إلهية الهوى، وترك عبادة صنم الجسم بين يدي جبار النفس
الأمارة من غير مبالاة بها حين عاتبتهم على ترك عبادة إله الهوى وصنم البدن،
وأوعدتهم بالفقر والهلاك، إذ النفس داعية إلى عبادته وموافقته، وتهيئة أسباب حظوظه
مخيفة للقلب من الخوف والموت، أو جسرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار
الدين القويم والدعوة إلى الحق عند كل جبار هو دقيانوس وقته كنمروذ وفرعون وأبي
جهل وأضرابهم ممن دان بدينهم واستولى عليه النفس الأمارة فعبد الهوى، أو ادعى
الطغيان، وتمرد أنائيته وعدوانه الربوبية من غير مبالاة عند معاتبته إياهم على ترك
عبادة الصنم المجعول كما هو عادة بعضهم أو صنم نفسه، كما قال فرعون اللعين:
* (ما علمت لكم من إله غيري) * [القصص، الآية: 38] و * (أنا ربكم الأعلى) *
[النازعات، الآية: 24]. * (هؤلاء قومنا) * إشارة إلى النفس الأمارة وقواها، لأن لكل قوم
إلها تعبده وهو مطلوبها ومرادها، والنفس تعبد الهوى كقوله: * (أفرءيت من اتخذ إلهه
هواه) * [الجاثية، الآية: 23]، أو إلى أهل زمان كل من خرج منهم داعيا إلى الله، إذ كل
من عكف على شيء يهواه فقد عبده. * (لولا يأتون عليهم) * أي: على عبادتهم
وإلهيتهم وتأثيرهم ووجودهم * (بسلطان بين) * أي: حجة بينة دليل على فساد التقليد
وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله وتأثيره ووجوده محال، كما قال: * (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) * [النجم، الآية
: 23] أي: أسماء
بلا مسميات لكونها ليست بشيء.
[تفسير سورة الكهف آية 16]
* (وإذ اعتزلتموهم) * أي: فارقتم نفوسكم وقواها بالتجرد * (وما يعبدون إلا الله) *
419

من مراداتها وأهوائها * (فأووا إلى الكهف) * إلى البدن لاستعمال الآلات البدنية في
الاستكمال بالعلوم والأعمال، وانخزلوا فيه منكسرين، مرتاضين، كأنهم ميتون بترك
الحركات النفسانية والنزوات البهيمية والسطوات السبعية، أي: موتوا موتا إراديا * (ينشر لكم ربكم من رحمته) * حياة حقيقية بالعلم والمعرفة * (ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) *
كما لا ينتفع به بظهور الفضائل وطلوع أنوار التجليات، فتلتذون بالمشاهدات وتتمتعون
بالكمالات كما قال تعالى: * (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس) * [الأنعام، الآية: 122]، وقال صلى الله عليه وسلم في أبي بكر رضي الله عنه: ' من أراد
أن ينظر ميتا يمشي على وجه الأرض فلينظر أبا بكر '، أي: ميتا عن نفسه يمشي
بالله. أو وإذ اعتزلتم قومكم ومعبوداتهم غير الله من مطالبهم المختلفة، ومقاصدهم
المتشتتة، وأهوائهم المتفننة، وأصنامهم المتخذة، فأووا إلى كهوف أبدانكم وامتنعوا
عن فضول الحركات والخروج في أثر الشهوات، واعكفوا على الرياضات، * (ينشر لكم ربكم من رحمته) * [الكهف، الآية: 16] زيادة كمال وتقوية ونصرة بالأمداد
الملكوتية، والتأييدات القدسية، فيغلبكم عليهم ويهيئ لكم دينا وطريقا ينتفع به،
وقبولا يهتدي بكم الخلائق ناجين. وفي المأوى إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر
يفهم من دخول المهدي في الغار إذا خرج ونزل عيسى والله أعلم. وفي نشر الرحمة
وتهيئة المرفق من أمرهم عند الأوي إلى الكهف إشارة إلى أن الرحمة الكامنة في
استعدادهم إنما تنتشر بالتعلق البدني والكمال بتهيئاته.
[تفسير سورة الكهف آية 17]
* (وترى الشمس) * أي: شمس الروح * (إذا طلعت) * أي: ترقت بالتجرد عن
غواشي الجسم وظهرت من أفقه تميل بهم من جهة البدن وميله ومحبته إلى جهة
اليمين أي: جانب عالم القدس وطريق أعمال البر من الخيرات والفضائل والحسنات
والطاعات. وسيرة الأبرار، فإن الأبرار هم أصحاب اليمين. * (وإذا غربت) * أي:
هوت في الجسم واحتجبت به، واختفت في ظلماته وغواشيه، وخمد نورها، تقطعهم
وتفارقهم كائنين في جهة الشمال، أي: جانب النفس وطريق أعمال السوء فينهمكون
في المعاصي والسيئات والشرور والرذائل. وسيرة الفجار الذين هم أصحاب الشمال
* (وهم في فجوة منه) * أي: في مجال متسع من بدنهم هو مقام النفس والطبيعة، فإن
فيه متفسحا لا يصيبهم فيه نور الروح. واعلم أن الوجه الذي يلي الروح من القلب
موضع منور بنور الروح يسمى العقل وهو الباعث على الخير والمطرق لإلهام الملك
420

والوجه الذي يلي النفس منه مظلم بظلمة صفاتها يسمى الصدر وهو محل وسوسة
الشيطان كما قال: * (الذي يوسوس في صدور الناس 5) * [الناس، الآية: 5]، فإذا
تحرك الروح وأقبل القلب بوجهه إليه تنور وتقوى بالقوة العقلية الباعثة المشوقة إلى
الكمال ومال إلى الخير والطاعة، وإذا تحركت النفس وأقبل القلب بوجهه إليها تكدر
واحتجب عن نور الروح وأظلم العقل ومال إلى الشر والمعصية. وفي هاتين الحالتين
تطرق الملك للإلهام والشيطان للوسواس وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا. وفي الآية
لطيفة هي: أنه استعمل في الميل إلى الخير الازورار عن الكهف، وفي الميل إلى
الشر قرضهم أي: قطعهم، وذلك أن الروح يوافق القلب في طريق الخير ويأمره به
ويوافقه معرضا عن جانب البدن وموافقاته ولا يوافقه في طريق الشر بل يقطعه ويفارقه
وهو منغمس في ظلمات النفس وصفاتها الحاجبة إياه عن النور وهو إشارة إلى تلوينهم
في السلوك، فإن السالك ما لم يصل إلى مقام التمكين وبقي في التلوين قد تظهر عليه
النفس وصفاته فيحتجب عن نور الروح ثم يرجع ذلك أي: طلوع نور الروح واختفاؤه
من آيات الله التي يستدل بها ويتوصل منها إليه وإلى هدايته. * (من يهد الله) * بإيصاله
إلى مقام المشاهدة والتمكين فيها * (فهو المهتد) * بالحقيقة لا غير * (ومن يضلل) *
بحجبه عن نور وجهه فلا هادي له ولا مرشد، أو من يهد الله إليهم وإلى حالهم
بالحقيقة ومن يضلله يحجبه عن حالهم.
[تفسير سورة الكهف من آية 18 إلى آية 20]
* (وتحسبهم أيقاظا) * يا مخاطب لانفتاح أعينهم وإحساساتهم وحركاتهم الإرادية
الحيوانية * (وهم رقود) * بالحقيقة في سنة الغفلة تراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون
* (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) * أي: نصرفهم إلى جهة الخير وطلب الفضيلة
تارة، وإلى جهة الشر ومقتضى الطبيعة أخرى * (وكلبهم) * أي: نفسهم * (باسط ذراعيه) *
أي: ناشرة قوتيها الغضبية والشهوانية * (بالوصيد) * أي: بفناء البدن، ولم يقل: وكلبهم
هاجع لأنها لم ترقد بل بسطت القوتين في فناء البدن ملازمة له لا تبرح عنه، والذراع
الأيمن هو الغضب لأنه أقوى وأشرف وأقبل لدواعي القلب في تأديبه، والأيسر هو
الشهوة لضعفها وخستها * (لو اطلعت عليهم) * أي: على حقائقهم المجردة وأحوالهم
421

السنية وما أودع الله فيهم من النورية والسنا، وما ألبسهم من العز والبهاء * (لوليت
عنهم) * فارا لعدم اعتقادك بالنفوس المجردة وأحوالها وعدم استعدادك لقبول كمالهم،
أو لوليت منهم للفرار عنهم وعن معاملاتهم لميلك إلى اللذات الحسية والأمور
الطبيعية * (ولملئت منهم رعبا) * من أحوالهم ورياضاتهم، أو لو اطلعت عليهم بعد
الوصول إلى الكمال وعلى أسرارهم ومقاماتهم في الوحدة لأعرضت عنهم وفررت من
أحوالهم وملئت منهم رعبا لما ألبسهم الله من عظمته وكبريائه. وأين الحدث من
القدم، وأنى يسع الوجود والعدم.
* (وكذلك بعثناهم) * أي: مثل ذلك البعث الحقيقي والإحياء المعنوي بعثناهم
* (ليتساءلوا بينهم) * أي: ليتباحثوا بينهم عن المعاني المودعة في استعدادهم الحقائق
المكنونة في ذواتهم فيكملوا بإبرازها وإخراجها إلى الفعل، وهو أول الانتباه الذي
تسميه المتصوفة اليقظة * (قال قائل منهم كم لبثتم) * مر تأويله، والمحققون منهم هم
الذين * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) * هذا هو
زمان استبصارهم واستفادتهم واستكمالهم. والورق هو ما معهم من العلوم الأولية التي
لا تحتاج إلى كسب، إذ بها تستفاد الحقائق الذهنية من العلوم الحقيقية والمعارف
الإلهية. والمدينة محل الاجتماع، إذ لا بد من الصحبة والتربية أو مدينة العلم من قوله
صلى الله عليه وسلم: ' أنا مدينة العلم وعلي بابها '. وإنما بعثوا أحدهم لأن كمال الكل غير
موقوف على التعليم والتعلم بل الكمال الأشرف هو العلمي فيكفي تعلم البعض عن
كل فرقة وتنبيه الباقين كما قال تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) * [التوبة، الآية: 122].
* (فلينظر أيها أزكى طعاما) * أي: أهلها أطيب وأفضل علما وأنقى من الفضول
واللغو والظواهر كعلم الخلاف والجدل والنحو وأمثالها التي لا تتقوى ولا تكمل بها
النفس كقوله: * (لا يسمن ولا يغني من جوع (7)) * [الغاشية، الآية: 7]، إذ العلم غذاء
القلب كالطعام للبدن وهو الرزق الحقيقي الإلهي * (وليتلطف) * في اختيار الطعام ومن
يشتري منه أي: ليختر المحقق الزكي النفس، الرشيد السمت، الفاضل السيرة، النقي
السريرة، الكامل المكمل دون الفضولي الظاهري الخبيث النفس، المتعالم، المتصدر،
لإفادة ما ليس عنده ليستفيد بصحبته ويظهر كماله بمجالسته ويستبصر بعلمه فيفيدنا أو
ليتلطف في أمره حتى لا يشعر بحالكم ودينكم، جاهل من غير قصد له * (ولا يشعرن بكم أحدا) * من أهل الظاهر المحجوبين وسكان عالم الطبيعة المنكرين، وإن أولنا
أصحاب الكهف بالقوى الروحانية فالمبعوث هو الفكر، والمدينة محل اجتماع القوى
الروحانية والنفسانية والطبيعة والذي هو أزكى طعاما العقل دون الوهم والخيال
والحواس، لأن كل مدرك له طعام والرزق هو العلم النظري على كلا التقديرين، ولا
422

يشعرن بكم أحدا من القوى النفسانية. * (إنهم إن يظهروا) * أي: يغلبوا * (عليكم يرجموكم) * بحجارة الأهواء والدواعي من الغضب والشهوة وطلب اللذة فيقتلوكم
بمنعكم عن كمالكم * (أو يعيدوكم في ملتهم) * باستيلاء الوهم وغلبة الشيطان والإمالة
إلى الهوى وعبادة الأوثان وعلى التأويل الأول ظهور العوام، واستيلاء المقلدة
والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم
إياهم إلى ملتهم ظاهر كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[تفسير سورة الكهف من آية 21 إلى آية 22]
* (وكذلك أعثرنا عليهم) * أي: مثل ذلك البعث والإنامة أطلعنا على حالهم
المستعدين القابلين لهديهم ومعرفة حقائقهم * (ليعلموا) * بصحبتهم وهدايتهم * (إن وعد الله) * بالبعث والجزاء * (حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم) * أي:
حين يتنازع المستعدون الطالبون بينهم أمرهم في المعاد، فمنهم من يقول: إن البعث
مخصوص بالأرواح المجردة دون الأجساد، ومنهم من يقول: إنه بالأرواح والأجساد
معا، فعلموا بالاطلاع عليهم ومعرفتهم أنه بالأرواح والأجساد وأن المعاد الجسماني
حق، * (فقالوا ابنوا عليهم بنيانا) * أي: فلما توفوا قالوا ذلك كالخانقاهات والمشاهد
والمزارات المبنية على الكمل، المقربين من الأنبياء والأولياء كإبراهيم ومحمد، وسائر
الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام. * (ربهم أعلم بهم) * من كلام أتباعهم من
أممهم والمقتدين بهم، أي: هم أجل وأعظم شأنا من أن يعرفهم غيرهم، الموحدون
الهالكون في الله، المتحققون به، فهو أعلم بهم كما قال تعالى: ' أوليائي تحت قبائي،
لا يعرفهم غيري '. * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * من أصحابهم والذين يلون أمرهم
تبركا بهم وبمكانهم * (لنتخذن عليهم مسجدا) * يصلى فيه. * (سيقولون) * أي:
الظاهريون من أهل الكتاب والمسلمين الذين لا علم لهم بالحقائق. وقوله: * (ورجما
بالغيب) * أي: رميا بالذي غاب عنهم، يعني: ظنا خاليا عن اليقين بعد قولهم:
* (ثلاثة رابعهم كلبهم) * و * (خمسة سادسهم كلبهم) * وتوسيط الواو الدالة على أن
الصفة مجامعة للموصوف ولا تفارقه، وأنه لا عدد وراءه بين قوله: * (ويقولون سبعة) *
وبين * (وثامنهم كلبهم) *. وقوله: * (ما يعلمهم إلا قليل) * بعده، يدل على أن العدد هو
سبعة لا غير، فالقليل هم المحققون القائلون به وإن أولناهم بالقوى الروحانية فهم
423

العاقلتان: النظرية والعملية، والفكر والوهم، والتخيل والذكر، والحس المشترك
المسمى بنطاسيا، والكلب النفس والشمس والروح على كلا التأويلين. ولهذا روي عن
أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: ' إنهم كانوا سبعة، ثلاثة عن يمين الملك وثلاثة
عن يساره، والسابع هو الراعي صاحب الكلب '، فإن صحت الرواية فالملك هو
دقيانوس النفس الأمارة، والثلاثة الذين كانوا عن يمينه يستشيرهم هم العاقلتان والفكر،
والثلاثة الذين كانوا عن يساره يستوزرهم هم التخيل والوهم والذكر، والراعي هو
بنطاسيا صاحب أغنام الحواس، والذين قالوا هم ثلاثة أرادوا القلب والعاقلتين،
والذين قالوا خمسة زادوا عليهم الفكر والوهم وتركوا المدرك للصور والذكر لعدم
تصرفهما وكون كل منهما كالخزانة. وعلى هذا التأويل فالاطلاع للفئة المحققين من
الحضرة الإلهية على بقاء النفس بعد خراب البدن، والتنازع، هو التجاذب والتغالب
الواقع بين القوى في الاستيلاء على البدن الذي يبعثون فيه وهو البنيان المأمور ببنائه
والآمرون هم الغالبون الذين قالوا: * (لنتخذن عليهم مسجدا) * [الكهف، الآية: 21]
يسجد، أي: ينقاد فيه جميع القوى الحيوانية والطبيعية والنفسانية والمأمورون هم
المغلوبون الفاعلون في البدن المبعوث فيه والله أعلم.
[تفسير سورة الكهف من آية 23 إلى آية 24]
* (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك) * أدبه بالتأديب الإلهي بعدما نهاه عن المماراة
والسؤال، فقال: ' لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله ' بأن يأذن لك في القول فتكون قائلا
به وبمشيئته أو إلا بمشيئته على أنه حال، أي: ملتبسا بمشيئته، يعني: لا تقولن لما
عزمت عليه من فعل إني فاعل ذلك في الزمان المستقبل إلا ملتبسا بمشيئة الله، قائلا:
إن شاء الله، أي: لا تسند الفعل إلى إرادتك بل إلى إرادة الله، فتكون فاعلا به
وبمشيئته * (واذكر ربك) * بالرجوع إليه والحضور * (إذا نسيت) * بالغفلة عند ظهور النفس
والتلوين بظهور صفاتها * (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا) * أي: من الذكر
عند التلوين وإسناد الفعل إلى صفاته بالتمكين والشهود الذاتي المخلص عن حجب
الصفات * (رشدا) * استقامة، وهو التمكين في الشهود الذاتي.
[تفسير سورة الكهف من آية 25 إلى آية 29]
424

* (ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين) * من التي تبتنى على دور القمر فتكون كل سنة
شهرا ومجموعها خمسة وعشرون سنة، وذلك وقت انتباههم وتيقظهم * (وازدادوا تسعا) * هي مدة الحمل. وروعيت في الآية نكتة، هي أنه: لم يقل ثلاثمائة سنة وتسعا،
أو ثلاثمائة وتسع سنين، لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية
لا قمرية، فأجمل العدد ثم بينه بقوله: سنين، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر
مثلا، ثم بين أن المدة سنين مبهمة غير معينة، إذ لو قيل: ثلاثمائة شهر سنين، فأبدل
سنين من مجموع العدد، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عددا، أي: خمسة
وعشرين. ويؤيده قوله بعده: * (قل الله أعلم بما لبثوا) * وقال قتادة: هو حكاية كلام
أهل الكتاب من تتمة سيقولون: وقوله: * (قل الله أعلم) * رد عليهم. وفي مصحف
عبد الله: وقالوا: لبثوا، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.
* (واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك) * يجوز أن تكون من لابتداء الغاية،
والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى
إليه، وأن تكون بيانا لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين * (لا مبدل لكلماته) * التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما * (ولن تجد من دونه ملتحدا) * تميل إليه لامتناع وجود ذلك.
* (واصبر نفسك) * أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر
هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله * (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي) * أي: دائما هم الموحدون من الفقراء المجردين الذين لا يطلبون غير الله ولا
حاجة لهم في الدنيا والآخرة، ولا وقوف مع الأفعال والصفات * (يريدون وجهه) * أي:
ذاته فحسب، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت
احتجابها بهم عند البقاء، فالصبر معهم هو الصبر مع الله، ومجاوزة العين عنهم
المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير. * (إنا اعتدنا للظالمين) * أي: المشركين
المحجوبين عن الحق لقوله: * (إن الشرك لظلم عظيم) * [لقمان، الآية: 13] * (نارا) *
عظيمة * (أحاط بهم سرادقها) * من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية
المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية * (بماء كالمهل) * من جنس الغساق والغسلين،
أي: المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسودة فيها دسومات يغاثون بها أو
غسالاتهم القذرة أو من جنس الغصص والهموم المحرقة.
[تفسير سورة الكهف من آية 30 إلى آية 46]
425

* (إن الذين آمنوا) * بالتوحيد الذاتي لكونهم في مقابلة المشركين * (وعملوا الصالحات) * من الأعمال المقصودة لذاتها في مقام الاستقامة * (إنا لا نضيع) * أجرهم،
وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أن الأجر إنما يستحق بالعمل دون العلم، إذ
به يستحق ارتفاع الدرجة والرتبة * (جنات عدن) * من الجنان الثلاث * (يحلون فيها من أساور من ذهب) * أي: يزينون فيها بأنواع الحلي من حقائق التوحيد الذاتي ومعاني
التجليات العينية الأحدية، إذ الذهبيات من الحلي هي العينيات والفضيات هي
الصفاتيات النورانيات كقوله: * (وحلوا أساور من فضة) * [الإنسان، الآية: 21]. * (ويلبسون ثيابا خضرا) * يتصفون بصفات بهيجة، حسنة، نضرة، موجبة للسرور * (من سندس) *
الأحوال والمواهب لكونها ألطف * (وإستبرق) * الأخلاق والمكاسب لكونها أكثف
* (متكئين فيها على) * أرائك الأسماء الإلهية التي هي مبادئ أفعاله لاتصافهم بأوصافه
وكون الصفة مع الذات هي الاسم المستند هو عليه في جنة الصفات والأفعال * (نعم الثواب وحسنت مرتفقا) * في مقابلة: * (بئس الشراب وساءت مرتفقا) *.
[تفسير سورة الكهف من آية 47 إلى آية 59]
426

* (ويوم نسير الجبال) * أي: نذهب جبال الأعضاء بالتفتيت فنجعلها هباء منثورا
* (وترى) * أرض البدن * (بارزة) * ظاهرة مستوية، مسطحة بسيطة، كما كانت، لا صورة
عليها ولا تركيب، فيها ترابا خالصا * (وحشرناهم) * الضمير إما للقوى المذكورة وإما
لأفراد الناس * (فلم نغادر منهم أحدا) * غير محشور. * (وعرضوا على ربك) * عند البعث
* (صفا) * أي: مصطفين مترتبين في المواقف لا يحجب بعضهم بعضا، كل في رتبته
* (لقد جئتمونا) * أي: قلنا لهم ذلك اليوم: لقد جئتمونا حفاة عراة، غرلا فرادى، أي:
* (كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم) * بإنكاركم البعث * (ألن نجعل لكم موعدا) * وقتا
لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء من البعث والنشور. * (ووضع الكتاب) * أي: كتاب
القالب المطابق لما في نفوسهم من هيئات الأعمال الراسخة فيهم * (فترى المجرمين مشفقين مما فيه) * لعثورهم به على ما نسوا * (ويقولون يا ويلتنا) * يدعون الهلكة التي
هلكوا بها من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة * (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) * لكون آثار حركاتهم وأعمالهم كلها باقية في نفوسهم صغيرة
كانت أو كبيرة، ثابتة في ألواح النفوس الفلكية أيضا، مضبوطة فيها، تظهر عليهم على
التفصيل في نشأتهم الثانية لا محيص لهم عنها، وهذا معنى قوله: * (ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا) * مر معنى سجود الملائكة وإباء إبليس. وقوله: * (وكان
من الجن) * كلام مستأنف، كأن قائلا قال: ما بال إبليس لم يسجد؟ قال: كان من
الجن، أي: من القوى البدنية المختفية بالمواد، فلذلك * (فسق عن أمر ربه) * أي:
427

لاحتجابه بالمادة ولواحقها.
[تفسير سورة الكهف من آية 60 إلى آية 63
* (وإذ قال موسى لفتاه) * ظاهره على ما ذكر في القصص ولا سبيل إلى إنكار
المعجزات. وأما باطنه فأن يقال: وإذ قال موسى القلب لفتى النفس وقت التعلق
بالبدن: * (لا أبرح) * أي: لا أنفك عن السير والمسافرة، أو لا أزال أسير * (حتى أبلغ مجمع البحرين) * أي: ملتقى العالمين: عالم الروح وعالم الجسم، وهما العذب
والأجاج في صورة الإنسانية ومقام القلب * (أو أمضي حقبا) * أي: أسير مدة طويلة.
* (فلما بلغا مجمع بينهما) * في الصورة الحاضرة الجامعة * (نسيا حوتهما) * وهو
الحوت الذي ابتلع ذا النون عليه السلام بالنوع لا بالشخص، لأن غداءهما كان قبل
الوصول إلى هذه الصورة في الخارج من ذلك الحوت الذي أمر بتزوده في السفر
وقت العزيمة * (فاتخذ سبيله) * في بحر الجسد حيا كما كان أولا * (سربا) * نقبا واسعا
كما قيل: بقي طريقه في البحر منفرجا، لم ينضم عليه البحر.
* (فلما جاوزا) * مكان مفارقة الحوت وألقي على موسى النصب والجوع، ولم
ينصب في السفر ولا جاع قبل ذلك على ما حكي، تذكر الحوت والاغتذاء منه وطلب
الغداء من فتاه وإنما قال: * (آتنا غداءنا) * لأن حاله ذلك نهارا بالنسبة إلى ما قبله في
الرحم * (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا) * هو نصب الولادة ومشقتها.
* (قال أرأيت) * ما عراني * (إذ أوينا إلى الصخرة) * أي: النحر للارتضاع * (فإني نسيت الحوت) * لاستغنائنا عنه * (وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) * أي: وما أنساني
أن أذكره إلا الشيطان على إبدال أن أذكره من الضمير، وذلك لأن موسى كان راقدا
حين اتخذ الحوت سبيله في البحر على ما قيل. وفتى النفس يقظان، فأنسى شيطان
الوهم الذي زين الشجرة لآدم ذكر النفس الحوت لموسى لكون الحال حال ذهول
والسبيل المتعجب منه هو السرب المذكور.
[تفسير سورة الكهف من آية 64 إلى آية 73]
428

* (قال ذلك) * أي: تملص الحوت واتخاذه سبيله الذي كان عليه في جبلته * (ما كنا) * نطلبه، لأن هناك مجمع البحرين الذي وعد موسى عنده بوجود من هو أعلم
منه، إذ الترقي إلى الكمال بمتابعة العقل القدسي لا يكون إلا في هذا المقام * (فارتدا على آثارهما) * في الترقي إلى مقام الفطرة الأولى كما كانا أولا يقصان * (قصصا) * أي:
يتبعان آثارهما عند الهبوط في الترقي إلى الكمال حتى وجد العقل القدسي، وهو عبد
من عباد الله مخصوص بمزية عناية ورحمة * (آتيناه رحمة من عندنا) * أي: كمالا معنويا
بالتجرد عن المواد والتقدس عن الجهات. والنورية المحضة التي هي آثار القرب
والعندية * (وعلمناه من لدنا علما) * من المعارف القدسية والحقائق الكلية اللدنية بلا
واسطة تعليم بشري. وقوله: * (هل أتبعك) * هو ظهور إرادة السلوك والترقي إلى
الكمال * (إنك لن تستطيع معي صبرا) * لكونك غير مطلع على الأمور الغيبية والحقائق
المعنوية لعدم تجردك واحتجابك بالبدن وغواشيه، فلا تطيق مرافقتي، وهذا معنى
قوله: * (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا) * لقوة
استعدادي وثباتي على الطلب * (ولا أعصي لك أمرا) * لتوجهي نحوك وقبولي أمرك،
لصفاتي وصدق إرادتي. والمقاولات كلها بلسان الحال.
* (فإن اتبعتني) * في سلوك طريق الكمال * (فلا تسألني عن شيء) * أي: عليك
بالاقتداء والمتابعة في السير بالأعمال والرياضات والأخلاق والمجاهدات، ولا تطلب
الحقائق والمعاني * (حتى) * يأتي وقته، ف * (أحدث لك منه) * أي: من ذلك العلم
* (ذكرا) * وأخبرك بالحقائق الغيبية عند تجردك بالمعاملات القالبية والقلبية * (فانطلقا حتى إذا ركبا) * في سفينة البدن البالغ إلى حد الرياضة الصالح للعبودية إلى العالم
القدسي في بحر الهيولى للسير إلى الله * (خرقها) * أي: نقصها بالرياضة وتقليل الطعام
وأضعف احكامها وأوقع الخلل في نظامها وأوهنها * (قال أخرقتها لتغرق أهلها) * أي:
أكسرتها لتغرق القوى الحيوانية والنباتية التي فيها في بحر الهيولى فتهلك * (لقد جئت شيئا إمرا) * وهذا الإنكار عبارة عن ظهور النفس بصفاتها وميل القلب إليها، والتضجر عن حرمان
الحظوظ في الرياضة، وعدم القناعة بالحقوق. * (قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا) *
تنبيه روحي وتحريض قدسي على أن العزيمة في السلوك يجب أن تكون أقوى من ذلك
* (قال لا تؤاخذني بما نسيت) * إلى آخره، اعتذاره في مقام النفس اللوامة.
[تفسير سورة الكهف من آية 74 إلى آية 78]
429

* (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما) * هو النفس التي تظهر بصفاتها فتحجب القلب
فتكون أمارة بالسوء. وقتله بإماتة الغضب والشهوة وسائر الصفات * (أقتلت نفسا زكية) *
اعتراض لتحنن القلب على النفس و * (ألم أقل لك) * تذكير وتعبير روحي و * (إن
سألتك عن شيء) * إلى آخره، اعتذار وإقرار بالذنب واعتراف، وكلها من التلوينات
عند كون النفس لوامة.
* (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) * هم القوى البدنية، واستطعامهما منهم هو
طلب الغذاء الروحاني منهم، أي: بواسطتهم كانتزاع المعاني الكلية من مدركاتها
الجزئية وإنما أبوا أن يضيفوهما وإن أطعموهما قبل ذلك لأن غذاءهما حينئذ كان من
فوقهم من الأنوار القدسية والتجليات الجمالية والجلالية والمعارف الإلهية والمعاني
الغيبية لا من تحت أرجلهم كما كان قبل خرق السفينة، وقتل الغلام بالرياضة والقوى
والحواس مانعة من ذلك لا ممدة، بل لا تتهيأ إلا بعد نعاسهم وهدوهم كما قال
موسى لأهله: امكثوا. والجدار الذي * (يريد أن ينقض) * هو النفس المطمئنة وإنما عبر
عنها بالجدار لأنها حدثت بعد قتل النفس الأمارة وموتها بالرياضة، فصارت كالجماد
غير متحركة بنفسها وإرادتها، ولشدة ضعفها كادت تهلك، فعبر عن حالها بإرادة
الانقضاض. وإقامته إياها تعديلها بالكمالات الخلقية والفضائل الجملية بنور القوة
النطقية حتى قامت الفضائل مقام صفاتها من الرذائل. وقول موسى عليه السلام: * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * تلوين قلبي لا نفسي، وهو طلب الأجر والثواب باكتساب
الفضائل واستعمال الرياضة، ولهذا أجابه بقوله:
* (هذا فراق بيني وبينك) * أي: هذا هو مفارقة مقامي ومقامك ومباينتهما والفرق
بين حالي وحالك، فإن عمارة النفس بالرياضة والتخلق بالأخلاق الحميدة ليست لتوقع
الثواب والأجر وإلا فليست فضائل ولا كمالات لأن الفضيلة هي التخلق بالأخلاق
الإلهية بحيث تصدر عن صاحبها الأفعال المقصودة لذاتها لا لغرض. وما كان لغرض
فهو حجاب ورذيلة لا فضيلة والمقصود هو طرح الحجاب وانكشاف غطاء صفات
النفس، والبروز إلى عالم النور لتلقي المعاني الغيبية بل الاتصاف بالصفات الإلهية بل
التحقق بالله بعد الفناء فيه لا الثواب كما زعمت * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * أي: لما اطمأنت النفس واستقرت القوى أمكنك قبول المعاني وتلقي الغيب
430

الذي نهيتك عن السؤال عنه حتى أحدث لك منه ذكرا فسأذكر لك وأنبئك بتأويل هذه
الأمور إذا استعددت لقبول المعاني والمعارف.
تفسير سورة الكهف من آية 79 إلى 81]
* (أما السفينة فكانت لمساكين) * في بحر الهيولى، أي: القوى البدنية من
الحواس الظاهرة والقوى الطبيعية النباتية، وإنما سماها مساكين لدوام سكونها
وملازمتها لتراب البدن وضعفها عن ممانعة القلب في السلوك والاستيلاء عليه كسائر
القوى الحيوانية. وحكي أنهم كانوا عشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعملون في
البحر، وذلك إشارة إلى الحواس الظاهرة والباطنة * (فأردت أن أعيبها) * بالرياضة لئلا
يأخذها ملك النفس الأمارة غصبا وهو الملك الذي كان وراءهم أي: قدامهم * (يأخذ كل سفينة غصبا) * بالاستيلاء عليها واستعمالها في أهوائه ومطالبه * (وأما الغلام فكان أبواه) * اللذان هما الروح والطبيعة الجسمانية * (مؤمنين) * مقرين بالتوحيد لانقيادهما في
سلك طاعة الله وامتثالهما لأمر الله وإذعانهما لما أراد الله منهما * (فخشينا أن يرهقهما) *
أي: يغشيهما * (طغيانا) * عليهما بظهوره بالأنائية عند شهود الروح * (وكفرا) * لنعمتهما
بعقوقه وسوء صنيعه أو كفرا بالحجاب فيفسد عليهما أمرهما ودينهما ويبطل عبوديتهما
لله * (فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة) * كما بدلهما بالنفس المطمئنة التي هي خير
منه زكاة، أي: طهارة ونقاء * (وأقرب رحما) * تعطفا ورحمة لكونها أعطف على الروح
والبدن وأنفع لهما، وأكثر شفقة. ويجوز أن يكون المراد بالأبوين الجد والأب، فكان
كناية عن الروح والقلب. وكونه أقرب رحما أنسب لهما وأشد تعطفا.
[تفسير سورة الكهف من آية 82 إلى آية 87]
* (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) * أي: العاقلتين النظرية والعملية
المنقطعتين عن أبيهما الذي هو روح القدس لاحتجابهما عنه بالغواشي البدنية أو القلب
الذي مات أو قتل قبل الكمال باستيلاء النفس في مدينة البدن * (وكان تحته كنز لهما) *
أي: كنز المعرفة التي لا تحصل إلا بهما في مقام القلب لإمكان اجتماع جميع
431

الكليات والجزئيات فيه بالفعل وقت الكمال وهو حال بلوغ الأشد واستخراج ذلك
الكنز. وقال بعض أهل الظاهر من المفسرين: كان الكنز صحفا فيها علم * (وكان أبوهما) * على كلا التأويلين * (صالحا) * وقيل: كان أبا أعلى لهما حفظهما الله له،
فعلى هذا لا يكون إلا روح القدس.
قصة ذي القرنين مشهورة وكان روميا قريب العهد والتطبيق، إن ذا القرنين في
هذا الوجود هو القلب الذي ملك قرنيه، أي: خافقيه شرقها وغربها * (إنا مكنا له) * في
أرض البدن بالإقدار والتمكين على جمع الأموال من المعاني الكلية والجزئية والسير
إلى أي قطر شاء من المشرق والمغرب. * (وآتيناه من كل شيء) * أراده من الكمالات
* (سببا) * أي: طريقا يتوصل به إليه * (فاتبع) * طريقا بالتعلق البدني والتوجه إلى العالم
السفلي. * (حتى إذا بلغ مغرب الشمس) * أي: مكان غروب شمس الروح * (وجدها تغرب في عين حمئة) * أي: مختلطة بالحمأة، وهي المادة البدنية الممتزجة من
الأجسام الغاسقة كقوله: * (من نطفة أمشاج) * [الإنسان، الآية: 2]. * (ووجد عندها قوما) * هم القوى النفسانية البدنية والروحانية * (قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب) *
بالرياضة والقهر والإماتة * (وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * بالتعديل وإيفاء الحظ.
* (قال أما من ظلم) * بالإفراط وعدم الاستسلام والانقياد كالشهوة والغضب
والوهم والتخيل * (فسوف نعذبه) * بالرياضة * (ثم يرد إلى ربه) * في القيامة الصغرى
* (فيعذبه) * بالإلقاء في نار الطبيعة * (عذابا نكرا) * أي: منكرا أشد من عذابي، أو في
القيامة الكبرى فيعذبه عذاب القهر والإفناء.
[تفسير سورة الكهف من آية 88 إلى آية 94]
* (وأما من آمن) * بالعلم والمعرفة كالعاقلتين والفكر والحواس الظاهرة * (وعمل صالحا) * بالسعي في اكتساب الفضائل والانقياد والطاعة * (فله جزاء) * المثوبة
* (الحسنى) * من جنة الصفات وتجليات أنوارها وأنهار علومها * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * أي: قولا ذا يسر بحصول الملكات الفاضلة.
* (ثم أتبع) * طريقا هي طريق الترقي والسلوك إلى الله بالتجرد والتزكي * (حتى إذا بلغ مطلع الشمس) * أي: مطلع شمس الروح * (وجدها تطلع على قوم) * هم العاقلتان
والفكر والحدس والقوة القدسية * (لم نجعل لهم من دونها سترا) * أي: حجابا لتنورهم
بنورها وإدراكهم المعاني الكلية * (كذلك) * أي: أمره كما وصفنا * (وقد أحطنا بما
432

لديه) * من العلوم والمعارف والكمالات والفضائل * (خبرا) * أي: علما، ومعناه: لم
يحط به غيرنا لكونه الحضرة الجامعة للعالمين فليس في الوجود من يقف على
معلوماته إلا الله ولأمر ما سمي عرش الله.
* (ثم أتبع) * طريقا بالسير في الله * (حتى إذا بلغ بين السدين) * أي: الكونين،
وذلك مرتبته ومقامه الأصلي بين صدفي جبلي الإله والسير في المشرق والمغرب سفرة
تنزلا وترقيا * (وجد من دونهما قوما) * هم القوى الطبيعية البدنية والحواس الظاهرة * (لا
يكادون يفقهون قولا) * لكونها غير مدركة للمعاني ولا ناطقة بها.
* (قالوا) * بلسان الحال * (إن يأجوج) * الدواعي والهواجس الوهمية * (ومأجوج) *
الوساوس والنوازع الخيالية * (مفسدون) * في أرض البدن بالتحريض على الرذائل
والشهوات المنافية للنظام والحث على الأعمال الموجبة للخلل فيه وخراب القوانين
الخيرية والقواعد الحكمية وإحداث النوائب والفتن والأهواء والبدع المنافية للعدالة
المقتضية لفساد الزرع والنسل * (فهل نجعل لك خرجا) * بإمدادك بكمالاتنا وصور
مدركاتنا * (على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) * لا يتجاوزونه وحاجزا لا يعلونه، وذلك
هو الحد الشرعي والحجاب القلبي من الحكمة العملية.
[تفسير سورة الكهف من آية 95 إلى آية 99]
* (قال ما مكني فيه ربي) * من المعاني الكلية والجزئية الحاصلة بالتجربة والسير
في المشرق والمغرب * (خير فأعينوني بقوة) * أي: عمل وطاعة * (أجعل بينكم وبينهم
ردما) * هو الحكمة العملية والقانون الشرعي. * (آتوني زبر الحديد) * من الصور العملية
وأوضاع الأعمال * (حتى إذا ساوى بين الصدفين) * بالتعديل والتقدير * (قال) * للقوى
الحيوانية * (انفخوا) * في هذه الصور نفخ المعاني الجزئية والهيئات النفسانية من فضائل
الأخلاق * (حتى إذا جعله نارا) * أي: علما برأسه من جملة العلوم يحتوي على بيان
كيفية الأعمال * (قال آتوني أفرغ عليه قطرا) * النية والقصد الذي يتوسط بين العلم
والعمل، فيتحد به روح العلم وجسد العمل كالروح الحيواني المتوسط بين الروح
الإنساني والبدن، فحصل سد، أي: قاعدة وبنيان من زبر الأعمال ونفخ العلوم
والأخلاق وقطر العزائم والنيات، واطمأنت به النفس وتدبرت فآمنت. * (فما اسطاعوا
أن يظهروه) * ويعلوه لارتفاع شأنه وكونه مشتملا على علوم وحجج لم يمكنهم دفعها
والاستيلاء عليها * (وما استطاعوا له نقبا) * لاستحكامه بالملكات والأعمال والأذكار.
* (قال هذا) * السد، أي: القانون * (رحمة من ربي) * على عباده، يوجب أمنهم
433

وبقاءهم * (فإذا جاء وعد ربي) * بالقيامة الصغرى * (جعله دكا) * باطلا، منهدما، لامتناع
العمل به عند الموت وخراب الآلات البدنية.
* (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * بالاضطراب والاختلاط، أي: تركناهم
يختلطون لاجتماعهم في الروح مع عدم الحيلولة * (ونفخ في الصور) * للبعث في النشأة
الثانية * (فجمعناهم جمعا) * أو بالقيامة الكبرى حال الفناء وظهور الحق. جعله دكا
لارتفاع العلم والحكمة هناك، وظهور معنى الحل والإباحة بتجلي الأفعال الإلهية
وانتفاء الغير وفعله، * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) *، حيارى، مختلطين شيئا
واحدا لا حراك بهم. * (ونفخ في الصور) * بالإيجاد بالوجود الحقاني حال البقاء
* (فجمعناهم جمعا) * في التوحيد والاستقامة والتمكين وكونهم بالله لا بأنفسهم.
[تفسير سورة الكهف من آية 100 إلى آية 110]
* (وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين) * أي: يوم القيامة الصغرى يتعذب المحجوبون
عن الحق بأنواع العذاب والنيران كما ذكر في سورة (الأنعام) أو في ذلك الشهود،
أي: ظهر لصاحب القيامة الكبرى تعذبهم في نار جهنم * (كانت أعينهم في غطاء عن ذكري) * أي: محجوبة عن آياتي وتجليات صفاتي الموجبة لذكري * (لا يبغون عنها حولا) * أي: تحولا لبلوغهم الكمال الذي يقتضيه استعدادهم، فلا شوق لهم إلى ما وكونهم في
وراءه وإن وجد كمال وراء ذلك لعدم إدراكهم له فلا ذوق ولا شوق، وكونهم في
مقابلة المشركين المحجوبين عن الحق بالغير. وكون جناتهم جنات الفردوس يدلان
على أن المراد بهم هم الموحدون الكاملون الاستعداد الذين لا كمال فوق كمالهم،
فلا يبقى شيء وراء مرتبتهم، يريدون التحول إليه.
* (قل لو كان البحر) * أي: بحر الهيولى القابلة للصور الممدة لها في الظهور * (مدادا لكلمات ربي) * من المعاني والحقائق والأعيان والأرواح * (لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي) * لكونها غير متناهية وامتناع وفاء المتناهي بغير المتناهي، والله أعلم.
434