الكتاب: دقائق التفسير
المؤلف: ابن تيمية
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٢٨
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: د. محمد السيد الجليند
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: ١٤٠٤
المطبعة: دمشق - مؤسسة علوم القرآن
الناشر: مؤسسة علوم القرآن
ردمك:
ملاحظات:

سورة الانسان
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
((فصل) عرض مجمل للسورة
اعلم أن سورة * (هل أتى على الإنسان) * سورة عجيبة الشأن من سور القرآن على اختصارها فإن الله سبحانه ابتدأها بذكر كيفية خلق الانسان من النطفة ذات الأمشاج والاخلاط التي لم يزل بقدرته ولطفه وحكمته يصرفه عليها أطوارا وينقله من حال إلى حال إلى أن تمت خلقته وكملت صورته فأخرجه انسانا سويا سميعا بصيرا ثم لما تكامل تمييزه وادراكه هداه طريقي الخير والشر والهدى والضلال وأنه بعد هذه الهداية اما أن يشكر ربه واما أن يكفره ثم ذكر مآل أهل الشكر والكفر وما أعد لهؤلاء وهؤلاء وبدأ أولا بذكر عاقبة أهل الكفر ثم عاقبة أهل الشكر وفي آخر السورة ذكر أولا أهل الرحمة ثم أهل العذاب فبدأ السورة بأول أحوال الإنسان وهي النطفة وختمها بآخر أحواله وهي كونه من أهل الرحمة أو العذاب ووسطها بأعمال الفريقين فذكر أعمال أهل العذاب مجملة في قوله * (إنا اعتدنا للكافرين) * سورة الانسان 4 وأعمال أهل الرحمة مفصلة وجزاءهم مفصلا
فتضمنت السورة خلق الإنسان وهدايته ومبدأه وتوسطه ونهايته وتضمنت المبدأ
21

والمعاد والخلق والأمر وهما القدرة والشرع وتضمنت إثبات السبب وكون العبد فاعلا مريدا حقيقة وأن فاعليته ومشيئته إنما هي بمشيئة الله ففيها الرد على الطائفتين القدرية والجبرية وفيها ذكر أقسام بني آدم كلهم فأنهم أما أهل شمال وهم الكفار أو أهل يمين وهم نوعان أبرار ومقربون وذكر سبحانه أن شراب الأبرار يمزج من شراب عباده المقربين لأنهم مزجوا أعمالهم ويشربه المقربون صرفا خالصا كما أخلصوا أعمالهم وجعل سبحانه شراب المقربين من الكافور الذي فيه من التبريد والقوة ما يناسب برد اليقين وقوته لما حصل لقلوبهم ووصل إليها في الدنيا مع ما في ذلك من مقابلته للسعير
وأخبر سبحانه أن لهم شرابا آخر ممزوجا من الزنجبيل لما فيه من طيب الرائحة ولذة الطعم والحرارة التي توجب تغير برد الكافور واذابة الفضلات وتطهير الأجواف ولهذا وصفه سبحانه بكونه شرابا طهورا أي مطهرا لبطونهم
فوصفهم سبحانه بجمال الظاهر والباطن كما قال * (ولقاهم نضرة وسرورا) * الآية 11 فالنضرة جمال وجوههم والسرور جمال قلوبهم كما قال * (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) * سورة المطففين 24
وقريب من هذا قول امرأة العزيز في يوسف * (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) * سورة يوسف 32 فأخبرت بجمال ظاهره حين أشارت إليه بالخروج عليهن ثم ضمت إلى ذلك اخبارهم بأن باطنه أجمل من ظاهره بأني راودته فأبى إلا العفة والحياء والاستعصام
ثم ذكر سبحانه من أعمال الأبرار ما ينتبه سامعه على جمعهم لأعمال البر كلها فذكر سبحانه وفاءهم بالنذر وخوفهم من ربهم واطعامهم الطعام على محبتهم له واخلاصهم لربهم في طاعتهم
وذكر سبحانه الوفاء بالنذر وهو أضعف الواجبات فإن العبد هو الذي أوجبه على نفسه التزامه فهو دون ما أوجبه الله سبحانه وعليه فإذا (وفى) لله بأضعف الواجبين الذي التزمه هو فهو بأن يوفى بالواجب الأعظم الذي أوجبه الله عليه أولى وأحرى
22

ومن ههنا قال من قال من المفسرين المقربون يوفون بطاعة الله ويقومون بحقه عليهم وذلك أن العبد إذا نذر لله طاعة فوفى بها فإنما يفعل ذلك لكونها صارت حقا لله يجب الوفاء بها وهذا موجود في حقوقه كلها فهي في ذلك سواء
ثم أخبر عنهم بأنهم يخافون اليوم العسير القمطرير وهو يوم القيامة ففي ضمن هذا الخوف إيمانهم باليوم الآخر وكفهم عن المعاصي التي تضرهم في ذلك اليوم وقيامهم بالطاعات التي ينفعهم فعلها ويضرهم تركها في ذلك اليوم
ثم أخبر عنهم باطعام الطعام على محبتهم له وذلك يدل على نفاسته عندهم وحاجتهم إليه وما كان كذلك فالنفوس به أشح والقلوب به أعلق واليد له أمسك فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل
فذكر من حقوق العباد بذل قوت النفس على نفاسته وشدة الحاجة منبها على الوفاء بما دونه كما ذكر من حقوقه الوفاء بالنذر منبها على الوفاء بما هو فوقه وأوجب منه ونبه بقوله * (على حبه) * الآية 8 أنه لولا أن الله سبحانه أحب إليهم منه لما آثروه على ما يحبونه فآثروا المحبوب الأعلى على الأدنى
ثم ذكر أن مصرف طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير الذين لا قوة لهم ينصرونهم بها ولا مال لهم يكافئونهم به ولا أهل ولا عشيرة يتوقعون منهم مكافأتهم كما يقصده أهل لدنيا والمعاوضون بانفاقهم واطعامهم
ثم أخبر عنهم أنهم إنما فعلوا ذلك لوجه الله وأنهم لا يريدون من أطعموه عوضا من أموالهم ولا ثناء عليهم بألسنتهم كما يريده من لا اخلاص له باحسانه إلى الناس من معاوضتهم أو الشكور منهم فتضمن ذلك المحبة والاخلاص والاحسان
ثم أخبر سبحانه عنهم بما صدقهم عليه قبل أن يقولوه حيث قالوا * (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا) * الآية 10 فصدقهم قبل قولهم إذ يقول تعالى * (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) * الآية 7 ثم أخبر سبحانه بأنه وقاهم شر ما يخافونه ولقاهم فوق ما كانوا يأملونه
وذكر سبحانه أصناف النعيم الذي حباهم به من المساكن والملابس والمجالس والثمار
23

والشراب والخدم والنعيم والملك الكبير
ولما كان في الصبر من حبس النفس والخشونة التي تلحق الظاهر والباطن من التعب والنصب والحرارة ما فيه كان الجزاء عليه بالجنة التي فيها السعة والحرير الذي فيه اللين والنعومة والاتكاء الذي يتضمن الراحة والظلال المنافية للحر
ثم ذكر سبحانه لون ملابس (الأبرار) وإنها ثياب سندس خضر وإستبرق وحليتهم وأنها أساور من فضة فهذه زينة ظواهرهم ثم ذكر زينه بواطنهم وهو الشراب الطهور وهو بمعنى التطهير
فإن قيل فلم اقتصر من آنيتهم وحليتهم على الفضة دون الذهب ومعلوم ان الجنان جنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من ذهب آنتيهما وحليتهما وما فيهما
قيل سياق هذه الآيات إنما هو في وصف الأبرار ونعيمهم مفصلا دون تفصيل جزاء المقربين فإنه سبحانه إنما أشار اليه إشارة تنبه على ما سكت عنه وهو أن شراب الأبرار يمزج من شرابهم
فالسورة مسوقة بصفة الأبرار وجزائهم على التفصيل وذلك والله أعلم لأنهم أعم من المقربين وأكثر منهم ولهذا يخبر سبحانه عنهم بأنهم ثلة من الأولين وثلة من الآخرين وعن المقربين السابقين بأنهم ثلة من الأولين وقليل من الآخرين
وأيضا فإن في ذكر جزاء الأبرار تنبيها على أن جزاء المقربين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
وأيضا فإنه سبحانه ذك أهل الكفر وأهل الشكر وأهل الشكر نوعان أبرار أهل يمين ومقربون سابقون وكل مقرب سابق فهو من الأبرار ولا ينعكس فاسم الأبرار والمقربين كاسم الاسلام والايمان أحدهما أعم من الآخر
وأيضا فإنه سبحانه أخبر أن هذا جزاء سعيهم المشكور وكل من الأبرار والمقربين سعيهم مشكور فذكر سبحانه السعي المشكور والسعي المسخوط
24

ثم ذكر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما أنعم عليه من تنزيل القرآن عليه وأمره بأن يصبر لحكمه وهو يعم الحكم الديني الذي أمره به في نفسه وأمره بتبليغه والحكم الكوني الذي يجري عليه من ربه فإنه سبحانه امتحن عباده وابتلاهم بأمره ونهيه وهو حكمه الديني وابتلاهم بقضائه وقدره وهو حكمه الكوني وفرض عليهم الصبر على كل واحد من الحكمين وإن كان الحكم الديني في هذه الآية أظهر إرادة وأنه أمر بالصبر على تبليغه والقيام بحقوقه
ولما كان صبره عليه لا يتم بمخالفته لمن دعاه إلى خلافه من كل آثم أو كفور نهاه عن طاعة هذا وهذا وأتى بحرف أو دون الواو ليدل على أنه منهى عن طاعة أيهما كان أما هذا وأما هذا فكأنه قيل له لا تطع أحدهما وهو أعم في النهي من كونه منهيا عن طاعتهما فإنه لو قيل له لا تطعهما أو لا تطع آثما وكفورا لم يكن صريحا في النهي عن طاعة كل منهما بمفرده
ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر عليه فوته أمره بأن يذكر ربه سبحانه بكرة وأصيلا فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر وأن يصبر لربه بالليل فيكون قيامه بالليل عونا على ما هو بصدده بالنهار ومادة لقوته ظاهرا وباطنا ولنعيمه عاجلا وآجلا
ثم أخبر سبحانه عما يمنع العبد من إيثار ما فيه سعادته في الدنيا والآخرة وهو حب العاجلة وإيثارها على الآخرة تقديما لداعي الحس على داعي العقل
ثم ذكر سبحانه خلقهم واحكامه واتقانه بما شد من أسرهم وهو ائتلاف الأعضاء والمفاصل والأوصال وما بينها من الرباطات وشد بعضها ببعض وحقيقته القوة ومنه قول الشاعر
25

* من كل مجتنب شديد أسره
* سلس القياد تخاله مختالا
*
ولا يكون ذلك إلا فيما له شد ورباط ومنه الاسئار وهو الحبل الذي يشد به الأسير
ثم أخبر سبحانه أنه قادر على أن يبدل أمثالهم بعد موتهم وأنه شاء ذلك فعله وإذا للمحقق فهذا التبديل واقع لا محالة فهو الإعادة التي هي مثل البداءة
هذا هو معنى الآية ومن قال غير ذلك لم يصب معناها ولا توحشك لفظة المثل فإن المعاد مثل للمبدوء وإن كان هو بعينه فهو معاد أو هو مثله من جهة المغايرة بين كونه مبدءا ومعادا وهذا كالدار إذا تهدمت وأعيدت بعينها فهي الأولى وكذلك الصلاة المعادة هي الأولى وهي مثلها
وقد نطق القرآن بأنه سبحانه يعيدهم ويعيد أمثالهم إذا شاء وكلاهما واحد فقال * (كما بدأكم تعودون) * سورة الأعراف 29 وقال تعالى * (وإلينا ترجعون) * سورة الأنبياء 35 وقال * (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده) * سورة الروم 27 وقال * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * سورة يس 81 وقال * (إنا لقادرون) * * (على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون) * سورة الواقعة 61 63
فهذا كله معاد الأبدان وقد صرح سبحانه بأنه خلق جديد في موضعين من كتابه وهذا الخلق الجديد هو المثل
ثم ختم سبحانه السورة بالشرع والقدر كما افتتحها بالخلق والهداية فقال * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * الآية 29 فهذا شرعه ومحل أمره ونهيه ثم قال * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * الآية 30 فهذا قضاؤه وقدره ثم ذكر الاسمين الموجبين
26

للتخصيص وهما اسم العليم الحكيم
وقوله * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * فأخبر أن مشيئتهم موقوفة على مشيته ومع هذا فلا يوجب ذلك حصول الفعل منهم إذ أكثر ما فيه أنه جعلهم شائين ولا يقع الفعل إلا حين يشاؤه منهم كما قال تعالى * (فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله) * سورة المدثر 55 56 وقال * (لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * سورة التكوير 28 29 ومع هذا فلا يقع الفعل منهم حتى يريد من نفسه اعانتهم وتوفيقهم
فهنا أربع إرادات إرادة البيان وإرادة المشيئة وإرادة الفعل وإرادة الإعانة والله أعلم
آخره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما
فصل (*)
وقوله تعالى * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * لا يدل على أن العبد ليس بفاعل لفعله الاختياري ولا أنه ليس بقادر عليه ولا أنه ليس بمريد بل يدل على أنه لا يشاؤه الا من يشاء الله وهذه الآية رد على الطائفتين المجبرة والجهمية والمعتزلة القدرية فإنه تعالى قال * (لمن شاء منكم أن يستقيم) * فاثبت للعبد مشيئة وفعلا ثم قال * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) * فبين ان مشيئة معلقه بمشيئة الله و الأولى رد على الجبرية وهذه رد على القدرية الذين يقولون قد يشاء العبد ما لا يشاؤه الله كما يقولون إن الله يشاء ما لا يشاؤون
وإذا قالوا المراد بالمشيئة هنا الأمر على أصلهم والمعنى وما يشاؤون فعل ما أمر الله به ان لم يأمر الله به قيل سياق الآية يبين انه ليس المراد هذا بل المراد وما تشاؤون بعد ان أمرتم بالفعل ان تفعلوه الا أن يشاء الله فإنه تعالى ذكر الأمر والنهي والوعد والوعيد ثم قال بعد ذلك * (إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * وقوله * (وما تشاؤون) * نفي لمشيئتهم في المستقبل وكذلك قوله الا ان يشاء الله تعليق لها بمشيئة الرب في المستقبل فإن حرف (أن) تخلص الفعل المضارع للاستقبال فالمعنى الا أن يشاء بعد ذلك والامر متقدم على ذلك وهذا كقول الانسان لا افعل هذا الا ان يشاء الله
27

وقد اتفق السلف والفقهاء على أن من حلف فقال لأصلين غدا إن شاء الله أو لأقضين ديني غدا إن شاء الله ومضى الغد ولم يقضه أنه لا يحنث ولو كانت المشيئة هي الأمر لحنث لأن الله أمره بذلك وهذا مما احتج به على القدرية وليس لهم عنه جواب ولهذا خرق بعضهم الاجماع القديم وقال إنه يحنث
و (أيضا) فقوله * (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله) * سيق لبيان مدح الرب والثناء عليه ببيان قدرته وبيان حاجة العباد إليه ولو كان المراد لا يفعلون الا أن يأمركم لكان كل امر بهذه المثابة فلم يكن ذلك من خصائص الرب التي يمدح بها وان أريد انهم لا يفعلون الا بأمره كان هذا مدحا لهم لا له
28

((22) فصل في قوله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء
لا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا يجوز تركه والعياذ بالله بل الأمر كما قال تعالى * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) * آل عمران 3 85 وقال تعالى * (إن الدين عند الله الإسلام) * آل عمران 3 19 وقال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * آل عمران 3 102 وقال تعالى * (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * البقرة 2 130 132
وقد بسطنا الكلام على هذا في موضع آخر وبينا أن الأنبياء كلهم كان دينهم الاسلام الصحيح حديث عياض بن حماد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم الا بقايا من أهل الكتاب الحديث
ولا يقتضي هذا أنه إذا صار غريبا أن المتمسك به يكون في شر بل هو أسعد الناس كما قال في تمام الحديث فطوبى للغرباء وطوبى من الطيب قال تعالى * (طوبى لهم وحسن مآب) *
114

الرعد 13 29 فإنه يكون من جنفى السابقين الأولين الذين اتبعوه لما كان غريبا وهم أسعد الناس أما في الآخرة فهم أعلى الناس درجة بعد الأنبياء عليهم السلام
وأما في الدنيا فقد قال تعالى * (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) * الأنفال 8 64 أي ان الله حسبك وحسب متبعك وقال تعالى * (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) * الأعراف 7 196 وقال تعالى * (أليس الله بكاف عبده) * الزمر 39 36 وقال * (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * الطلاق 65 2 3 فالمسلم المتبع للرسول الله تعالى حسبه وكافيه وهو وليه حيث كان ومتى كان
ولهذا يوجد المسلمون المتمسكون بالاسلام في بلاد الكفر لهم السعادة كلما كانوا أتم تمسكا بالاسلام فإن دخل عليهم شر كان بذنوبهم حتى أن المشركين وأهل الكتاب إذا رأوا المسلم القائم بالاسلام عظموه وأكرموه وأعفوه من الأعمال التي يستعملون بها المنتسبين إلى ظاهر الاسلام من غير عمل بحقيقته لم يكرم
وكذلك كان المسلمون في أول الاسلام وفي كل وقت
فإنه لا بد أن يحصل للناس في الدنيا شر ولله على عباده نعم لكن الشر الذي يصيب المسلم أقل والنعم التي تصل إليه أكثر فكان المسلمون في أول الاسلام وان ابتلوا بأذى الكفار والخروج من الديار فالذي حصل للكفار الهلاك كان أعظم بكثير والذي كان يحصل للكفار من عز أو مال كان يحصل للمسلمين أكثر منه حتى من الأجانب
فرسول الله صلى الله عليه وسلم مع ما كان المشركون يسعون في أذاه بكل طرق كان الله يدفع عنه ويعزه ويمنعه وينصره من حيث كان أعز قريش ما منهم الا من كان يحصل له من يؤذيه ويهينه من لا يمكنه دفعه إذ لكل كبير كبير يناظره ويناويه ويعاديه وهذه حال من
115

فصل سورة الليل (*) (معنى آية * (إن علينا للهدى) * ونظيريها من سورتي الحجر والنحل وبيان اغلاط المفسرين فيها)
قال شيخ الاسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه
فصل في آيات ثلاث متناسبة متشابهة اللفظ والمعنى يخفى معناها على أكثر الناس
قوله تعالى * (قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) * الحجر 15 41 42
وقوله تعالى * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) * النحل 16 6 وقوله تعالى * (إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى) * الليل 92 12 13 فلفظ هذه الآيات فيه أن السبيل الهادي هو على الله
وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي في الآية الأولى ثلاثة أقوال بخلاف الآيتين الآخريين فإنه لم يذكر فيهما إلا قوله واحدا فقال في تلك الآية اختلفوا في معنى هذا الكلام على ثلاثة أقوال
142

أحدها انه يعني بقوله هذا الاخلاص فالمعنى أن الاخلاص طريق إلي مستقيم وعلى بمعنى إلى
والثاني هذا طريق علي جوازه لأني بالمرصاد فأجازيهم بأعمالهم وهو خارج مخرج الوعيد كما تقول للرجل تخاصمه طريقك علي فهو كقوله * (إن ربك لبالمرصاد) * الفجر 89 14
والثالث هذا صراط على استقامته أي أنا ضامن لاستقامته بالبيان والبرهان قال وقرأ قتادة ويعقوب (هذا صراط علي) أي رفيع
(قلت) هذه الأقوال الثلاثة قد ذكرها من قبله كالثعلبي والواحدي والبغوي وذكروا قولا رابعا فقالوا واللفظ للبغوي وهو مختصر الثعلبي
قال الحسن معناه صراط إلى مستقيم وقال مجاهد الحق يرجع إلي وعليه طريقه لا يعرج على شيء
وقال الأخفش يعني على الدلالة على الصراط المستقيم
وقال الكسائي هذا على التهديد والوعيد كما يقول الرجل لمن يخاصمه طريقك علي أي لا تفلت مني كما قال تعالى * (إن ربك لبالمرصاد) *
وقيل معناه على استقامته بالبيان والبرهان والتوفيق والهداية
فذكروا الأقوال الثلاثة وذكروا قول الأخفش على الدلالة على الصراط المستقيم وهو يشبه القول الأخير لكن بينهما فرق فإن ذاك يقول على استقامته بإقامة الأدلة فمن سلكه كان على صراط مستقيم والآخر يقول أن أدل الخلق عليه بإقامة الحجج ففي كلا القولين أنه بين الصراط المستقيم بنصف الأدلة لكن هذا جعل عليه الدلالة عليه وهذا جعل عليه استقامته أي بيان استقامته وهما متلازمان ولهذا والله أعلم لم يجعله أبو الفرج قولا رابعا
وذكروا القراءة الأخرى عن يعقوب وغيره أي رفيع قال البغوي وعبر بعضهم عنه رفيع أن ينال مستقيم أن يمال
143

(قلت) القول الصواب هو قول أئمة السلف قول مجاهد ونحوه فإنهم أعلم بمعاني القرآن لا سيما مجاهد فإنه قال عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها وقال الثوري إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به والأئمة كالشافعي وأحمد والبخاري ونحوهم يعتمدون على تفسيره والبخاري في صحيحة أكثر ما ينقله من التفسير ينقله عنه
والحسن البصري أعلى التابعين بالبصرة
وما ذكروه عن مجاهد ثابت عنه رواه الناس كابن أبي حاتم وغيره من تفسير ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله (هذا صراط علي مستقيم) الحق يرجع إلى الله وعليه طريقة لا يعرج على شيء
وذكر عن قتادة أنه فسرها على قراءته وهو يقرأ علي فقال أي رفيع مستقيم
وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن السلف أنهم فسروا آية النحل فروى من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قوله * (قصد السبيل) * قال طريق الحق على الله قال وروى السدي أنه قال الاسلام وعطاء قال هي طريق الجنة
فهذه الأقوال قول مجاهد والسدي وعطاء في هذه الآية هي مثل قول مجاهد والحسن في تلك الآية
وذكر ابن أبي الحاتم من تفسير العوفي عن ابن عباس في قوله * (وعلى الله قصد السبيل) * يقول على الله البيان أن يبين الهدى والضلالة
وذكر ابن أبي حاتم في هذه الآية قولين ولم يذكر في آية الحجر إلا قول مجاهد فقط
وابن الجوزي لم يذكر في آية النحل إلا هذا القول الثاني وذكره عن الزجاح فقال
144

* (وعلى الله قصد السبيل) * القصد استقامة الطريق يقال طريق قصد وقاصد إذا قصد بك إلى ما تريد قال الزجاج المعنى وعلى الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين
وكذلك الثعلبي والبغوي ونحوهما لم يذكروا إلا هذا القول لكن ذكروه باللفظين
قال البغوي يعني بيان طريق الهدى من الضلالة وقيل بيان الحق بالآيات والبراهين
قال والقصد الصراط المستقيم و * (ومنها جائر) * يعني ومن السبيل ما هو جائر عن الاستقامة معوج فالقصد من السبيل دين الاسلام والجائر منها اليهودية والنصرانية
وسائر ملل الكفر قال جابر بن عبد الله قصد السبيل بيان الشرائع والفرائض وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله قصد السبيل السنة (ومنها جائر) الأهواء والبدع ودليله قوله تعالى * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) * الأنعام 6 153
ولكن البغوي ذكر فيها القول الآخر ذكره في تفسير قوله تعالى * (إن علينا للهدى) * الليل عن القراء كما سيأتي فقد ذكر القولين في الآيات الثلاث تبعا لمن قبله كالثعلبي وغيره
والمهدوي ذكر في الآية الأولى قولين من الثلاثة وذكر في الثانية ما رواه العوفي وقولا آخر فقال
قوله * (هذا صراط علي مستقيم) * أي على أمري وارادتي وقيل هو على التهديد كما يقال على طريقك وإلى مصيرك
وقال في قوله * (وعلى الله قصد السبيل) * قال ابن عباس أي بيان الهدى من الضلال وقيل السبيل الاسلام ومنها جائر أي ومن السبل جائر أي عادل عن الحق وقيل المعنى وعنها جائر أي عن السبيل ف من بمعنى عن
وقيل معنى قصد السبيل سيركم ووجوعكم والسبيل واحدة بمعنى الجمع
145

(قلت) هذا قول بعض المتأخرين جعل القصد بمعنى الإرادة أي عليه قصدكم للسبيل في ذهابكم ورجوعكم وهو كلام من لم يفهم الآية فإن السبيل القصد هي السبيل العادلة أي عليه السبيل القصد والسبيل اسم جنس ولهذا قال ومنها جائر أي عليه القصد من السبيل ومن السبيل جائر فإضافة إلى اسم الجنس إضافة النوع إلى الجنس أي القصد من السبيل كما تقول ثوب خز ولهذا قال ومنها جائر
وأما من ظن أن التقدير قصدكم السبيل فهذا لا يطابق لفظ الآية ونظمها من وجود متعددة
وابن عطية لم يذكر في آية الحجر إلا قول الكسائي وهو أضعف الأقوال وذكر المعنى الصحيح تفسير للقراءة الأخرى فذكر أن جماعة من السلف قرأوا على مستقيم من العلو والرفعة قال والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى الاخلاص لما استثنى إبليس من أخلص قال الله له هذا الاخلاص طريق رفيع مستقيم لا تنال أنت باغوائك أهله
قال وقرأ جمهور الناس على مستقيم والإشارة بهذا على هذه القراءة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص لما قسم إبليس هذين القسمين قال الله هذا طريق علي أي هذا أمر إلى مصيره والعرب تقول طريقك في هذا الأمر على فلان أي اليه يصير النظر في أمرك وهذا نحو قوله * (إن ربك لبالمرصاد) * قال والآية على هذه القراءة خبر يتضمن وعيدا
(قلت) هذا قول لم ينقل عن أحد من علماء التفسير لا في هذه الآية ولا في نظيرها وإنما قاله الكسائي لما أشكل عليه معنى الآية الذي فهمه السلف ودل عليه السياق والنظائر
وكلام العرب لا يدل على هذا القول فإن الرجل وإن كان يقول لمن يتهدده ويتوعده على طريقك فإنه لا يقول إن طريقك مستقيم
وأيضا فالوعيد إنم يكون للمسيء لا يكون للمخلصين فكيف يكون قوله هذا إشارة إلى انقسام الناس إلى غاو ومخلص وطريق هؤلاء غير طريق هؤلاء هؤلاء سلكوا الطريق المستقيم التي تدل على الله وهؤلاء سلكوا السبيل الجائرة
وأيضا فإنما يقول لغيره في التهديد طريقك علي من لا يقدر عليه في الحال لكن ذاك يمر
146

بنفسه عليه وهو متمكن منه كما كان أهل المدينة يتوعدون أهل مكة بأن طريقكم علينا لما تهددوهم بأنكم آويتم محمدا وأصحابه كما قال أبو جهل لسعد بن معاذ لما ذهب سعد إلى مكة إلا أراك تطوف بالبيت أمنا وقد آويتم الصباة وزعمتم أنكم تنصرونهم فقال لئن منعتني هذا لأمنعنك ما هو أشد عليك منه طريقك على المدينة أو نحو هذا
فذكر أن طريقهم في متجرهم إلى الشام عليهم فيتمكنون حينئذ من جزائهم
ومثل هذا المعنى لا يقال في حق الله تعالى فإن الله قادر على العباد حيث كانوا كما قالت الجن * (وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا) * الجن 72 13 وقال * (وما أنتم بمعجزين في الأرض) * العنكبوت 29 22
فلان أي إليه يصير أمرك فهذا يطابق تفسير مجاهد وغيره من السلف كما قال مجاهد الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لا يعرج على شيء فطريق الحق على الله وهو الصراط المستقيم الذي قال الله فيه * (هذا صراط علي مستقيم) * كما فسرت به القراءة الأخرى
فالصراط في القرائتين هذا الصراط المستقيم الذي أمر الله المؤمنين أن يسألوه إياه في صلاتهم فيقولوا * (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * وهو الذي وصى به في قوله * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) * الأنعام
وقوله هذا إشارة إلى ما تقدم ذكره وهو قوله * (إلا عبادك منهم المخلصين) * الحجر 15 40 فتعبد العباد له باخلاص الدين له طريق يدل عليه وهو طريق مستقيم ولهذا قال بعده * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * الحجر 15 42
147

وابن عطية ذكر أن هذا معنى الآية في تفسير الآية الأخرى مستشهدا به مع أنه لم يذكره في تفسيرها فهو بفطرته عرف أن هذا معنى الآية ولكنه لما فسرها ذكر ذلك القول كأنه هو الذي اتفق أن رأى غيره قد قاله هناك فقال رحمه الله
فصل (في معنى السبيل)
وقوله * (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر) * وهذه أيضا من أجل نعم الله تعالى أي على الله تقويم طريق الهدى وتبيينه وذلك نصب الأدلة وبعث الرسل وإلى هذا ذهب المتأولون
قال ويحتمل أن يكون المعنى أن من سلك السبيل القاصد فعلى الله طريقه وإلى ذلك مصيره فيكون هذا مثل قوله * (هذا صراط علي مستقيم) * وضد قول النبي صلى الله عليه وسلم والشر ليس إليك أي لا يفضي إلى رحمتك وطريق قاصد معناه بين مستقيم قريب ومنه قول الراجز
قصد عن نهج الطريق القاصد
قال والألف واللام في السبيل للعهد وهي سبيل الشرع وليست للجنس ولو كانت للجنس لم يكن منها جائر وقوله * (ومنها جائر) * يريد طريق اليهود والنصارى وغيرهم كعباد الأصنام والضمير في منها يعود على السبيل التي يتضمنها معنى الآية كأنه قال ومن السبيل جائر فأعاد عليها وان كان لم يجر لها ذكر لتضمن لفظة السبيل بالمعنى لها
قال ويحتمل أن يكون الضمير في منها على سبيل الشرع المذكورة ويكون من للتبعيض ويكون المراد فرق الضلالة من أمة محمد كأنه قال ومن بينات الطرق من هذه السبيل ومن شعبها جائر
(قلت) سبيل أهل البدع جائرة خارجة عن الصراط المستقيم فيما ابتدعوا فيه ولا يقال إن ذلك من السبيل المشروعة
وأما قوله إن قوله * (قصد السبيل) * هي سبيل الشرع وهي سبيل الهدى والصراط المستقيم وأنها لو كانت للجنس لم يكن منها جائر فهذا أحد الوجهين في دلالة الآية وهو مرجوح والصحيح الوجه الآخر أن السبيل اسم جنس ولكن الذي على
148

الله هو القصد منها وهي سبيل واحد ولماكان جنسا قال * (ومنها جائر) * والضمير يعود على ما ذكر بلا تكلف
وقوله لو كان للجنس لم يكن منها جائر ليس كذلك فإنها ليست كلها عليه بل إنما عليه القصد منها وهي سبيل الهدى والجائر ليس من القصد وكأنه ظن أنه إذا كانت للجنس يكون عليه قصد كل سبيل وليس كذلك بل إنما عليه سبيل واحدة وهي الصراط المستقيم وهي التي تدل عليه وسائرها سبيل الشيطان كما قال * (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) *
وقد أحسن رحمه الله في هذا الاحتمال وفي تمثيله ذلك بقوله * (هذا صراط علي مستقيم) *
وأما آية الليل قوله * (إن علينا للهدى) * فابن عطية مثلها بهذه الآية لكنه فسرها بالوجه الأول فقال
ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعا أي تعريفهم بالسبل كلها ومنحهم الإدراك كما قال * (وعلى الله قصد السبيل) * ثم كل أحد يتكسب ما قدر له وليست هذه الهداية بالارشاد إلى الإيمان ولو كان كذلك لم يوجد كافر
(قلت) وهذا هو الذي ذكره ابن الجوزي وذكره عن الزجاج قال الزجاج ان علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال
وهذا التفسير ثابت عن قتادة رواه عبد بن حميد قال حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة * (إن علينا للهدى) * علينا بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته وكذلك رواه ابن أبي حاتم في تفسير سعيد عن قتادة في قوله * (إن علينا للهدى) * يقول على الله البيان بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته
لكن قتادة ذكر أنه البيان الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه فتبين به حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته
وأما الثعلبي والواحدي والبغوي وغيرهم فذكروا القولين وزادوا أقوالا آخر فقالوا واللفظ للبغوي
149

* (إن علينا للهدى) * يعني البيان قال الزجاج علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلالة وهو قول قتادة قال على الله بيان حلاله وحرامه
وقال القراء يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله تعالى * (وعلى الله قصد السبيل) * يقول من أراد الله فهو على السبيل القاصد
قال وقيل معناه إن علينا للهدى والاضلال كقوله بيدك الخير
(قلت) هذا القول هو من الأقوال المحدثة التي لم تعرف عن السلف وكذلك ما أشبهه فإنهم قالوا معناه بيدك الخير والشر والنبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح يقول والخير بيديك والشر ليس إليك
والله تعالى خالق كل شيء لا يكون في ملكه إلا ما يشاء والقدر حق لكن فهم القرآن ووضع كل شيء موضعه وبيان حكمة الرب وعدله مع الايمان بالقدر هو طريق الصحابة والتابعين لهم بإحسان
(ذكر المهدوي ثلاثة أقوال)
150

وقد ذكر المهدوي الأقوال الثلاثة فقال إن علينا للهدى والضلال فحذف قتادة المعنى إن علينا بيان الحلال والحرام
وقيل المعنى إن علينا أن نهدي من سلك سبيل الهدى
(قلت) هذا هو قول القراء لكن عبارة القراء أبين في معرفة هذا القول
فقد تبين أن جمهور المتقدمين فسروا الآيات الثلاث بأن الطريق المستقيم لا يدل إلا على الله ومنهم من فسرها بأن عليه بيان الطريق المستقيم والمعنى الأول متفق عليه بين المسلمين
وأما الثاني فقد يقول طائفة ليس على الله شيء لا بيان هذا ولا هذا فإنهم متنازعون هل أوجب على نفسه كما قال * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * الأنعام 6 54 وقوله * (وكان حقا علينا نصر المؤمنين) * الروم 20 47 وقوله * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * هود 11 6
وإذا كان عليه بيان الهدى من الضلال وبيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فهذا يوافق قول من يقول إن عليه ارسال الرسل وإن ذلك واجب عليه فإن البيان لا يحصل إلا بهذا
وهذا يتعلق بأصل آخر وهو أن كل ما فعله فهو واجب منه أوجبته مشيئته وحكمته وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فما شاءه رجب وجوده وما لم يشأه امتنع وجوده وبسط هذا له موضع آخر
ودلالة الآيات على هذا فيها نظر
وأما المعنى المتفق عليه فهو مراد من الآيات الثلاث قطعا وأنه أرشد بها إلى الطريق المستقيم وهي الطريق القصد وهي الهدى إنما تدل عليه وهو الحق طريقه على الله لا يعرج عنه
لكن نشأت الشبهة من كونه قال علينا بحرف الاستعلاء ولم يقل الينا والمعروف أن يقال لمن يشار إليه أن يقال هذه الطريق إلى فلان وطن يمر به ويجتاز عليه أن يقول طريقنا على فلان
151

وذكر هذا المعنى بحرف الاستعلاء وهو من محاسن القرآن الذي لا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء
فإن الخلق كلهم مصيرهم ومرجعهم إلى الله على أي طريق سلكوا كما قال تعالى * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) * الانشقاق 84 6 وقال * (وإلى الله المصير) * آل عمران 3 28 النور 24 42 فاطر 35 18 * (إن إلينا إيابهم) * الغاشية 88 25 أي الينا مرجعهم وقال * (وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق) * الانعام 6 60 62 وقال * (أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى) * النجم 53 36 42 وقال * (وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون) * يونس 10 46 فأي سبيل سلكها العبد فإلى الله مرجعه ومنتهاه لا بد له من لقاء الله * (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * النجم 53 31
وتلك الآيات قصد بها أن سبيل الحق والهدى وهو الصراط المستقيم هو الذي يسعد أصحابه وينالون به ولاية الله ورحمته وكرامته فيكون الله وليهم دون الشيطان وهذه سبيل من عبد الله وحده وأطاع رسله فلهذا قال * (إن علينا للهدى) * * (وعلى الله قصد السبيل) * * (قال هذا صراط علي مستقيم) * فالهدى وقصد السبيل والصراط المستقيم إنما يدل على عبادته وطاعته يدل على معصيته وطاعة الشيطان
فالكلام تضمن معنى الدلالة إذ ليس المراد ذكر الجزاء في الآخرة فإن الجزاء يعم الخلق كلهم بل المقصود بيان ما أمر الله به من عبادته وطاعته وطاعة رسله ما الذي يدل على ذلك فكأنه قيل الصراط المستقيم يدل على الله على عبادته وطاعته
وذلك يبين أن من لغة العرب أنهم يقولون هذه الطريق على فلان إذا كانت تدل
152

عليه وكان هو الغاية المقصودة بها وهذا غير كونها عليه بمعنى أن صاحبها يمر عليه وقد قيل
* هن المنايا أي واد سلكته
* عليها طريقي أو على طريقها
*
وهو كما قال الفراء من سلك الهدى فعلى الله سبيله
فالمقصود بالسبيل هو الذي يدل ويوقع عليه كما يقال إن سلكت هذه السبيل وقعت على المقصود ونحو ذلك وكما يقال على الخبير سقطت فإن الغاية المطلوبة إذا كانت عظيمة فالسالك يقع عليها ويرمي نفسه عليها
وأيضا فسالك طريق الله متوكل عليه فلا بد له من عبادته ومن التوكل عليه
فإذا قيل عليه الطريق المستقيم تضمن أن سالكه عليه يتوكل وعليه تدله الطريق وعلى عبادته وطاعته يقع ويسقط لا يعدل عن ذلك إلى نحو ذلك من المعاني التي يدل عليها حرف الاستعلاء دون حرف الغاية
وهو سبحانه قد أخبر أنه على صراط مستقيم فعليه الصراط المستقيم وهو على صراط مستقيم سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا والله أعلم آخر كلام شيخ الاسلام ابن تيمية (فيما يتعلق بهذه السورة)
153

سورة التين (*))
فصل (قوله في أسفل سافلين)
وفي قوله * (أسفل سافلين) * قولان قيل الهرم وقيل العذاب بعد الموت وهذا هو الذي دلت عليه الآية قطعا فإنه جعله في أسفل سافلين إلا المؤمنين والناس نوعان فالكافر بعد الموت يعذب في أسفل سافلين والمؤمن في عليين
وأما القول الأول ففيه نظر فإنه ليس كل من سوى المؤمنين يهرم فيرد إلى أسفل سافلين بل كثير من الكفار يموتون قبل الهرم وكثير من المؤمنين يهرم وإن كان حال المؤمن في الهرم أحسن حالا من الكافر فكذلك في الشباب حال المؤمن أحسن من حال الكافر فجعل الرد إلى أسفل سافلين في آخر العمر وتخصيصه بالكفار ضعيف
ولهذا قال بعضهم إن الاستثناء منقطع على هذا القول وهو أيضا ضعيف فإن المنقطع لا يكون في الموجب ولو جاز هذا لجاز لكل أحد أن يدعى في أي استثناء شاء أنه منقطع وأيضا فالمنقطع لا يكون الثاني منه بعض الأول والمؤمنون بعض نوع الانسان
وقد فسر ذلك بعضهم على القول الأول بأن المؤمن يكتب له ما كان يعمله إذا عجز قال إبراهيم النخعي إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب الله له ما كان يعمل وهو قوله * (فلهم أجر غير ممنون) * وقال ابن قتيبة المعنى الا الذين
154

آمنوا في وقت القوة والقدرة فإنهم في حال الكبر غير منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات فإن الله يعلم لو لم يسلبهم القوة لم ينقطعوا عن أفعال الخير فهو يجري لهم أجر ذلك
فيقال وهذا أيضا ثابت في حال الشباب إذا عجز الشاب لمرض أو سفر كما في الصحيحين عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من العمل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم
وفسره بعضهم بما روي عن ابن عباس أنه قال من قرأ القرآن فإنه لا يرد إلى أرذل العمر فيقال هذا مخصوص بقارئ القرآن والآية استثنت الذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء قرأوا القرآن أو لم يقرأوه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها
وأيضا فيقال هرم الحيوان ليس مخصوصا بالانسان بل غيره من الحيوان إذا كبر هرم
وأيضا فالشيخ وان ضعف بدنه فعقله أقوى من عقل الشاب ولو قدر أنه ينقص بعض قواه فليس هذا ردا إلى أسفل سافلين فإنه سبحانه إنما يصف الهرم بالضعف كقوله * (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة) * الروم 30 54 وقوله * (ومن نعمره ننكسه في الخلق) * يس 36 68 فهو يعيده إلى حال الضعف ومعلوم أن الطفل ليس هو في أسفل سافلين فالشيخ كذلك أولى
وإنما في أسفل سافلين من يكون في سجين لا في عليين كما قال تعالى * (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) * النساء 4 145
ومما يبين ذلك قوله * (فما يكذبك بعد بالدين) * التين 95 7 فإنه يقتضي ارتباط هذا بما قبله لذكره بحرف الفاء ولو كان المذكور إنما هو رده إلى الهرم دون ما بعد
155

الموت لم يكن هناك تعرض الدين والجزاء بخلاف ما إذا كان المذكور أنه بعد الموت يرد إلى أسفل سافلين غير المؤمن المصلح فإن هذا يتضمن الخبر بأن الله يدين العباد بعد الموت فيكرم المؤمنين ويهيمن الكافرين
وأيضا فإنه سبحانه أقسم على ذلك بأقسام عظيمة بالتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين وهي المواضع التي جاء منها محمد والمسيح وموسى وأرسل الله بها هؤلاء الرسل مبشرين ومنذرين
وهذا الاقسام لا يكون على مجرد الهرم الذي يعرفه كل واحد بل على الأمور الغائبة التي تؤكد بالأقسام فان اقسام الله وهو على أنباء الغيب
وفي نفس المقسم به وهو ارسال هؤلاء الرسل تحقيق للمقسم عليه وهو الثواب والعقاب بعد الموت لأن الرسل أخبروا ب
وهو يتضمن أيضا الجزاء في الدنيا كاهلاك من أهلكهم من الكفار فإنه ردهم إلى أسفل سافلين بهلاكهم في الدنيا وهو تنبيه على زوال النعم إذا حصلت المعاصي كمن رد في الدنيا إلى أسفل جزاء على ذنوبه
وقوله * (فما يكذبك بعد بالدين) * أي بالجزاء يتناول جزاءه على الأعمال في الدنيا والرزخ والآخرة إذا كان قد أقسم بأماكن هؤلاء المرسلين الذين أرسلوا بالآيات البينات الدالة على أمر الله ونهيه ووعده ووعيده مبشرين لأهل الايمان منذرين لأهل الكفر وقد أقسم بذلك على أن الانسان بعد أن جعل في أحسن تقويم ان آمن وعمل صالحا كان له أجر غير ممنون والا كان في أسفل سافلين
156

فتضمن السورة بيان ما بعث به هؤلاء الرسل الذين أقسم بأماكنهم والاقسام بمواضع محنهم تعظيم لهم فإن موضع الانسان إذا عظم لأجله كان هو أحق التعظيم ولهذا يقال في الكاتبات إلى المجلس والمقر ونحو ذلك السامي والعالي ويذكر بخضوع له وتعظيم والمراد صاحبه
فلما قال * (فما يكذبك بعد بالدين) * دل على أن ما تقدم قد بين فيه ما يمنع التكذيب بالدين
وفي قوله * (يكذبك) * قولان قيل هو خطاب للإنسان كما قال مجاهد وعكرمة ومقاتل ولم يذكر البغوي غيره قال عكرمة يقول فما يكذبك بعد بهذه الأشياء التي فعلت بك وعن مقاتل فما الذي يجعلك مكذبا بالجزاء وزعم أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة
والثاني أنه خطاب للرسول وهذا أظهر فإن الانسان إنما ذكر مخبرا عنه لم يخاطب والرسول هو الذي أنزل عليه القرآن والخطاب في هذه السور له كقوله * (ما ودعك ربك وما قلى) * وقوله * (ألم نشرح لك صدرك) * وقوله * (اقرأ باسم ربك) *
والانسان إذا خوطب قيل له * (يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم) * * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا) *
وأيضا فبتقدير أن يكون خطابا للانسان يجب أن يكون خطابا للجنس كقوله * (يا أيها الإنسان إنك كادح) * وعلى قول هؤلاء أنما هو خطاب للكافر خاصة المكذب بالدين
وأيضا فان قوله * (يكذبك بعد بالدين) * أي يجعلك كاذبا هذا هو المعروف من لغة العرب فإن استعمال كذب غيره أي نسبه إلى الكذب وجعله كاذبا مشهور والقرآن مملوء من هذا وحيث ذكر الله تكذيب المكذبين للرسل أو التكذيب بالحق ونحو ذلك فهذا مراده
لكن هذه الآية فيها غموض من جهة كونه قال * (يكذبك بعد بالدين) * فذكر المكذب بالدين فذكر المكذب والمكذب به جميعا وهذا قليل جاء نظيره في قوله * (فقد كذبوكم بما تقولون) * الفرقان 25 19 فأما أكثر المواضع فإنما يذكر أحدهما اما المكذب كقوله * (كذبت قوم نوح المرسلين) * وأما المكذب به كقوله * (بل كذبوا بالساعة) * وأما الجمع بين ذكر المكذب والمكذب به فقليل
157

ومن هنا اشتبهت هذه الآية على من جعل الخطاب فيها للانسان وفسر معنى قوله * (فما يكذبك) * فما يجعلك مكذبا
وعبارة آخرين فما يجعلك كذابا قال ابن عطية وقال جمهور من المفسرين المخاطب الانسان الكافر أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين تجعل لله أندادا وتزعم أنه لا بعث بعد هذه الدلائل
(قلت) وكلا القولين غير معروف في لغة العرب أن يقول كذبك أي جعلك مكذبا بل كذبك جعلك كذابا
وما قيل جعلك كاذبا أي كاذبا فيما يخبر به كما جعل الكفار الرسل كاذبين فيما أخبروا به فكذبوهم وهذا يقول جعلك كاذبا بالدين فجعل كذبه أنه أشرك وأنه أنكر المعاد وهذا ضد الذي ينكر
ذاك جعله مكذباا بالدين وهذا جعله كاذبا بالدين والأول فاسد من جهة العربية والثاني فاسد من جهة المعنى فان الدين هو الجزاء الذي كذب به الكافر والكافر كذب به لم يكذب هو به
وأيضا فلا يعرف في الخبر أن يقال كذبت به بل يقال كذبته
وأيضا فالمعروف في كذبه أي نسبه إلى الكذب لا أنه جعل الكذب فيه فهذا كله تكلف لا يعرف في اللغة بل المعروف خلافه وهو لم يقل فما يكذبك ولا قال فما كذبك
ولهذا كان علماء العربية على القول الثاني قال ابن عطية واختلف في المخاطب بقوله * (فما يكذبك) * فقال قتادة والفراء والأخفش هو محمد صلى الله عليه وسلم قال الله له فما
158

الذي يكذبك فيما تخبربه من الجزاء والبعث وهو الدين بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت
قال ويحتمل أن يكون على هذا التأويل جميع شرعه ودينه
(قلت) وعلى أن المخاطب محمد صلى الله عليه وسلم في المعنى قولان أحدهما قول قتادة قال * (فما يكذبك بعد بالدين) * أي استيقن فقد جاءك البيان من الله وهكذا رواه عنه ابن أبي حاتم باسناد ثابت
وكذلك ذكره المهدوي * (فما يكذبك بعد بالدين) * أي استيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وقال معناه عن قتادة قال وقيل المعنى فما يكذبك أيها الشاك يعني الكفار في قدرة الله أي شيء يحملك على ذلك بعد ما تبين لك من قدرته قال وقال الفراء فمن يكذبك بالثواب والعقاب وهو اختيار الطبري
(قلت) هذا القول المنقول عن قتادة هو الذي أوجب نفور مجاهد عن أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم كما روى الناس ومنهم ابن أبي حاتم عن الثوري عن منصور قال قلت لمجاهد * (فما يكذبك بعد بالدين) * عنى به النبي صلى الله عليه وسلم قال معاذ الله عني به الانسان
وقد أحسن مجاهد في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال له * (فما يكذبك) * أي استيقن ولا تكذب فإنه لو قيل له لا تكذب لكان هذا من جنس أمره بالايمان والتقوى ونهيه عما نهى الله عنه وأما إذا قيل * (فما يكذبك بعد بالدين) * فهو لم يكذب بالدين بل هو الذي أخبر بالدين وصدق به لهو * (والذي جاء بالصدق وصدق به) * الزمر 39 33 فكيف يقال له * (فما يكذبك بعد بالدين) * فهذا القول فاسد لفظا ومعنى
واللفظ الذي رأيته مقولا بالاسناد عن قتادة ليس صريحا فيه بل يحتمل أن يكون أراد به خطاب الانسان فإنه قال * (فما يكذبك بعد بالدين) * قال استيقن فقد جاءك البيان وكل انسان مخاطب بهذا فإن كان قتادة أراد هذا فالمعنى صحيح
لكن هم حكوا عنه أن هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فهذا المعنى باطل فلا يقال للرسول فأي شيء يجعلك مكذبا بالدين وان ارتأت به النفس لأن هذا فيه دلائل تدل على فساده ولهذا استعاذ منه مجاهد
والصواب ما قاله الفراء والأخفش وغيرهما وهو الذي اختاره أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري وغيره من العلماء كما تقدم
159

وكذلك ذكره أبو الفرج بن الجوزي عن الفراء فقال إنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى فمن يقدر على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما تبين له أنا خلقنا الانسان على ما وصفنا قاله الفراء
قال وأما الدين فهو الجزاء (قلت) وكذلك قل غير واحد كما روى ابن أبي حاتم عن النضر بن عربي * (فما يكذبك بعد بالدين) * أي بالحساب
ومن تفسير العوفي عن ابن عباس أي بحكم الله قلت قال بحكم الله لقوله * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * وهو سبحانه يحكم بين المصدق بالدين والمكذب به
وعلى هذا قوله * (فما) * وصف للأشخاص ولم يقل فمن لأن ما يراد به الصفات دون الأعيان وهو المقصود كقوله * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) * وقوله * (لا أعبد ما تعبدون) * وقوله * (ونفس وما سواها) * كأنه قيل فما المكذب بالدين بعد هذا أي من هذه صفته ونعته هو جاهل ظالم لنفسه والله يحكم بين عباده فيما يختلفون فيه من هذا النبأ العظيم
وقوله * (بعد) * قد قيل إنه (بعد ما ذكر من دلائل الدين)
وقد يقال لم يذكر الا الاخبار به وأن الناس نوعان في أسفل سافلين ونوع لهم أجر غير ممنون فقد ذكر البشارة والنذارة والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين
فمن كذبك بعد هذا فحكمة إلى الله أحكم الحاكمين وأنت قد بلغت ما وجب عليك تبليغه
وقوله * (فما يكذبك) * ليس نفيا للتكذيب فقد وقع بل قد يقال إنه تعجب منه كما قال * (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) * الرعد 13 5
وقد يقال إن هذا تحقير لشأنه وتصغير لقدره لجهله وظلمه كما يقال من فلان ومن يقول هذا الا جاهل لكنه ذكر بصيغة ما فإنها تدل على صفته وهي المقصودة إذ لا غرض في عينه كأنه قيل فأبي صنف وأي جاهل يكذبك بعد بالدين فإنه من الذين يردون إلى أسفل سافلين
وقوله * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * يدل على أنه الحاكم بين المكذب بالدين والمؤمن به والأمر في ذلك له سبحانه وتعالى
160

والقرآن لا تنقضي عجائبه والله سبحانه بين مراده بيانا أحكمه لكن الاشتباه يقع على من لم يرسخ في علم الدلائل الدالة فان هذه السورة وغيرها فيها عجائب لا تنقضي
ومنها أن قوله * (فما يكذبك بعد بالدين) * ذكر فيه الرسول المكذب والدين المكذب به جميعا فإن السورة تضمنت الأمرين تضمنت الاقسام بأماكن الرسل المبينة لعظمتهم وما أتوا به من الآيات الدالة على دقهم الموجبة للايمان وهم قد أخبروا بالمعاد المذكور في هذه السورة
وقد أقسم الله عليه كما يقسم عليه في غير موضع وكما أمر نبيه أن يقسم عليه في مثل قوله * (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) * التغابن 64 7 وقوله * (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) * سبأ 34 3
فلما تضمنت هذا وهذا ذكر نوعي التكذيب فقال * (فما يكذبك بعد بالدين) * والله سبحانه أعلم
وأيضا فإنه لا ذنب له في ذلك والقرآن مراده أن يبين أن هذا الرد جزاء على ذنوبه ولهذا قال * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * كما قال * (إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * العصر 103 2 و 3
لكن هنا ذكر الخسر فقط فوصف المستثنين بأنه تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر مع الايمان والصلاح وهناك ذكر أسفل سافلين وهو العذاب والمؤمن المصلح لا يعذب وان كان قد ضيع أمورا خسرها لو حفظها لكان رابحا غير خاسر وبسط له موضع آخر
161

والمقصود هنا أنه سبحانه يذكر خلق الانسان مجملا ومفصلا
وتارة يذكر احياءه كقوله تعالى * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * البقرة 2 28 وهو كقول الخليل عليه السلام * (ربي الذي يحيي ويميت) * البقرة 2 258
فان خلق الحياة ولوازمها وملزوماتها أعظم وأدل على القدرة والنعمة والحكمة (آخر كلام الشيخ على سورة والتين)
162