الكتاب: تفسير الرازي
المؤلف: الرازي
الجزء: ٣٢
الوفاة: ٦٠٦
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الثالثة
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:

سورة الشرح
ثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم نشرح لك صدرك
يروى عن طاووس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان هذه السورة وسورة الضحى سورة واحدة وكانا يقرآنهما في الركعة الواحدة وما كانا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم والذي دعاهما إلى ذلك هو أن قوله تعالى: * (ألم نشرح لك) * كالعطف على قوله: * (ألم يجدك يتيما) * وليس كذلك لأن الأول: كان نزوله حال اغتمام الرسول صلى الله عليه وسلم من إيذاء الكفار فكانت حال محنة وضيق صدر والثاني: يقتضي أن يكون حال النزول منشرح الصدر طيب القلب، فأنى يجتمعان.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألم نشرح لك صدرك) *.
استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار، فأفاد إثبات الشرح وإيجابه، فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك، وفي شرح الصدر قولان:
الأول: ما روى أن جبريل عليه السلام أتاه وشق صدره وأخرج قلبه وغسله وأنقاه من المعاصي ثم ملأه علما وإيمانا ووضعه في صدره.
واعلم أن القاضي طعن في هذه الرواية من وجوه: أحدها: أن الرواية أن هذه الواقعة إنما وقعت في حال صغره عليه السلام وذلك من المعجزات، فلا يجوز أن تتقدم نبوته وثانيها: أن تأثير الغسل في إزالة الأجسام، والمعاصي ليست بأجسام فلا يكون للغسل فيها أثر ثالثها: أنه لا يصح أن يملأ القلب علما، بل الله تعالى يخلق فيه العلوم والجواب: عن الأول: أن تقويم المعجز على زمان البعثة جائز عندنا، وذلك هو المسمى بالإرهاص، ومثله في حق الرسول عليه السلام كثير.
وأما الثاني والثالث: فلا يبعد أن يكون حصول ذلك الدم الأسود الذي غسلوه من قلب الرسول عليه السلام علامة للقلب الذي يميل إلى المعاصي، ويحجم عن الطاعات، فإذا أزالوه عنه كان ذلك علامة لكون صاحبه مواظبا على الطاعات محترزا عن السيئات، فكان ذلك كالعلامة للملائكة على كون صاحبه معصوما، وأيضا فلأن الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
2

والقول الثاني: أن المراد من شرح الصدر ما يرجع إلى المعرفة والطاعة، ثم ذكروا فيه وجوها أحدها: أنه عليه السلام لما بعث إلى الجن والإنس فكان يضيق صدره عن منازعة الجن والإنس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله، فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغره عنده كل شيء احتمله من المشاق، وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد، فما كان يخطر بباله هم النفقة والعيال، ولا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم، حتى صاروا في عينه دون الذباب لم يجبن خوفا من وعيدهم، ولم يمل إلى مالهم، وبالجملة فشرح الصدر عبارة عن علمه بحقارة الدنيا وكما الآخرة، ونظيره قوله: * (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * وروى أنهم قالوا: يا رسول الله أينشرح الصدر؟ قال: نعم، قالوا: وما علامة ذلك؟ قال: " التجافي عن الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإعداد للموت قبل نزوله " وتحقيق القول فيه أن صدق الإيمان بالله ووعده ووعيده يوجب للإنسان الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والاستعداد للموت وثانيها: أنه انفتح صدره حتى أنه كان يتسع لجميع المهمات لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به، والشرح التوسعة، ومعناه الإراحة من الهموم، والعرب تسمى الغم والهم ضيق صدر كقوله: * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك) * وههنا سؤالات:
الأول: لم ذكر الصدر ولم يذكر القلب؟ والجواب: لأن محل الوسوسة هو الصدر على ما قال: * (يوسوس في صدور الناس) * فإزالة تلك الوسوسة وإبدالها بدواعي الخير هي الشرح، فلا جرم خص ذلك الشرح بالصدر دون القلب، وقال محمد بن علي الترمذي: القلب محل العقل والمعرفة، وهو الذي يقصده الشيطان، فالشيطان يجيء إلى الصدر الذي هو حصن القلب، فإذا وجد مسلكا أغار فيه ونزل جنده فيه، وبث فيه من الهموم والغموم والحرص فيضيق القلب حينئذ ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة، وإذا طرد العدو في الابتداء منع وحصل الأمن ويزول الضيق وينشرح الصدر ويتيسر له القيام بأداء العبودية.
السؤال الثاني: لم قال: * (ألم نشرح لك صدرك) * ولم يقل ألم نشرح صدرك؟ والجواب: من وجهين أحدهما: كأنه تعالى يقول لام بلام، فأنت إنما تفعل جميع الطاعات لأجلي كما قال: * (لا ليعبدون، أقيم الصلاة لذكرى) * فأنا أيضا جميع ما أفعله لأجلك وثانيها: أن فيها تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه السلام، كأنه تعالى قال: إنما شرحنا صدرك لأجلك لا لأجلي.
السؤال الثالث: لم قال: * (ألم نشرح) * ولم يقل ألم أشرح؟ والجواب: إن حملناه على نون التعظيم، فالمعنى أن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، فدل ذلك على أن ذلك الشرح نعمة لا تصل العقول إلى كنه جلالتها، وإن حملناه على نون الجميع، فالمعنى كأنه تعالى يقول: لم أشرحه وحدي بل أعملت فيه ملائكتي، فكنت ترى الملائكة حواليك وبين يديك حتى يقوي قلبك، فأديت
3

ووضعنا عنك وزرك (2) الذي أنقض ظهرك
الرسالة وأنت قوي القلب ولحقتهم هيبة، فلم يجيبوا لك جوابا، فلو كنت ضيق القلب لضحكوا منك، فسبحان من جعل قوة قلبك جبنا فيهم، وانشراح صدرك ضيقا فيهم.
ثم قال تعالى (ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك) وفيه مسائل:
(المسألة الأولى) قال المبرد هذا محمول على معنى ألمن نشرح لا على لفظه، لأنك لا تقول ألم
وضعنا ولكن معنى ألم نشرح قد شرحنا، فحمل الثاني على معنى الأول لا على ظاهر اللفظ، لأنه
لو كان معطوفا على ظاهره لوجب أن يقال ونضع عنك وزرك.
(المسألة الثانية) معنى الوزر ثقل الذنب، وقد مر تفسيره عند قوله (وهم يحملون أوزارهم)
وهو كقوله تعالى (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر).
وأما قوله (أنقض ظهرك) فقال علماء اللغة الأصل فيه أن الظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض
أي صوت خفى. وهو صوت المحامل والرحال والأضلاع. أو البعير إذا أثقله الحمل فهو مثل لما
كان يقتل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوزاره.
(المسألة الثالثة) احتج بهذه الآية من أثبت المعصية للأنبياء عليهم السلام (والجواب
عنه من وجهين (الأول) أن الذين يجوزون الصائر على الأنبياء عليهم السلام حملوا هذه الآية
عليها، لا يقال إن قوله (الذي أنقض ظهرك) يدل على كونه عظيما، فكيف يليق ذلك بالصغائر،
لأنا نقول: إنما وصف ذلك بانقاض الظهر مع كونها مغفورة لشدة اغتمام النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه منه
وتحسره مع ندمه عليه، أو إنما وصفه بذلك لان تأثير فيما يزول به من الثواب عظيم، فيجوز
لذلك ما ذكره الله تعالى. هذا تقرير الكلام على قول المعتزلة وفيه إشكال، وهو أن العفو عن
الصغيرة واجب على الله تعالى عند القاضي، والله تعالى ذكر هذه الآية في معرض الامتنان،
ومن المعلوم أن الامتنان بفعل الواجب غير جائز (الوجه الثاني) أن يحمل ذلك على غير الذئب،
وفيه وجوه (أحدها) قال قتادة كانت النبي صلى الله عليه وسلم ذنوب سلفت منه في الجاهلية قب النبوة، وقد
أثقلته فغفرها له (وثانيها) أن المراد منه تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر من القيام بأمرها
وحفظ موجباتها والمحافظة على حقوقها، فسهل الله تعالى ذلك عليه، وحط عنه ثقلها بأن يسرها
منعهم حتى تيسرت له (وثالثها) الوزر ما كان يكرهه من تغييرهم لسنة الخليل، وكان لا يقدر على
منعهم إلى أن قواه الله، وقال له (أن اتبع ملة إبراهيم) (ورابعها) أنها ذنوب أمته صارت
كالوزر عليه، ماذا يصنع في حقهم إلى أن قال (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) فأمنه من العذاب
في العاجل، ووعد له الشفاعة في الآجل (وخامسها) معناه عصمناك من الوزر الذي ينقض
ظهرك، لو كان ذلك الذنب حاصلا، فسمى العصمة وضعا مجازا، فمن ذلك ما روى أنه حضر وليمة
4

* (ورفعنا لك ذكرك) *.
فيها دف ومزامير قبل البعثة ليسمع، فضرب الله على أذنه فلم يوقظه إلا حر الشمس من الغد
(وسادسها) الوزر ما أصابه من الهيبة والفزع في أول ملاقاة جبريل عليه السلام، حين أخذته
الرعدة، وكاد يرمى نفسه من الجبل، ثم تقوى حتى ألفه وصار بحالة كاد يرمى بنفسه من الجليل لشدة
اشتياقه (وسابعها) الوزر ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقض ظهره وتأخذه الرعدة،
ثم قواه الله تعالى حتى صار بحيث كانوا يدمون وجهه، و (هو) يقول اللهم اهد قومي (وثامنها)
لئن كان نزول السورة بعد موت أبى طالب وخديجة، فلقد كان فراقهما عليه وزرا عظيما، فوضع
عنه الوزر برفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك وحياه فارتفع له الذكر، فلذلك قال (ورفعنا لك
ذكرك) (وتاسعها) أن المراد من الوزر والثقل الحيرة التي كانت له قبل البعثة، وذلك أنه بكمال
عقله لما نظر إلى عظيم نعم الله تعالى عليه، حيث أخرجه من العدم إلى الوجود وأعطاه الحياة
والعقل وأنواع النعم، ثقل عليه نعم الله وكاد ينقض ظهره من الحياة، لأنه عليه السلام كان يرى أن
نعم الله عليه لا تنقطع. ما كان يعرف أنه كيف كان يطيع ربه، فلما جاءته النبوة والتكليف
وعرف أنه كيف ينبغي له أن يطيع ربه، فحينئذ قل حياؤه وسهلت عليه تلك الأحوال، فإن اللئيم
لا يستحى من زيادة النعم بدون مقابلتها بالخدمة، والانسان الكريم النفس إذا كثر الانعام عليه
وهو لا يقابلها بنوع من أنواع الخدمة، فإنه يثقل ذلك عليه جدا، بحيث يميته الحياء. فإذا كلفه
المنعم بنوع خدمه سهل ذلك عليه وطاب قلبه.
ثم قال تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) *.
واعلم أنه عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الأرض والسماوات، اسمه مكتوب على العرش، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وانتشار ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وأنه يذكر في الخطب والأذان ومفاتيح الرسائل، وعند الختم وجعل ذكره في القرآن مقرونا بذكره: * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) *، * (ومن يطع الله ورسوله) * و * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) * ويناديه باسم الرسول والنبي، حين ينادي غيره بالاسم يا موسى يا عيسى، وأيضا جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى: * (سيجعل لهم الرحمن ودا) * كأنه تعالى يقول: أملأ العالم من أتباعك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فريضة من فرائض الصلاة إلا ومعه سنة فهم يمتثلون في الفريضة أمري، وفي السنة أمرك وجعلت طاعتك طاعتي وبيعتك بيعتي * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * لا تأنف السلاطين من أتباعك، بل جراءة لأجهل الملوك أن ينصب خليفة من غير قبيلتك، فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك، والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك
5

بل العلماء والسلاطين يصلون إلى خدمتك، ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باق إلى يوم القيامة.
* (فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا) *.
قال تعالى: * (فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها أن المشركين كانوا يعيرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، ويقولون: إن كان غرضك من هذا الذي تدعيه طلب الغنى جمعنا لك مالا حتى تكون كأيسر أهل مكة، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سبق إلى وهمه أنهم إنما رغبوا عن الإسلام لكونه فقيرا حقيرا عندهم، فعدد الله تعالى عليه مننه في هذه السورة، وقال: * (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك) * أي ما كنت فيه من أمر الجاهلية، ثم وعده بالغنى في الدنيا ليزيل عن قلبه ما حصل فيه من التأذي بسبب أنهم عيروه بالفقر، والدليل عليه دخول الفاء في قوله: * (فإن مع العسر يسرا) * كأنه تعالى قال لا يحزنك ما يقول وما أنت فيه من القلة، فإنه يحصل في الدنيا يسر كامل.
المسألة الثانية: قال ابن عباس: يقول الله تعالى: خلقت عسرا واحدا بين يسرين، فلن يغلب عسر يسرين، وروى مقاتل عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لن يغلب عسر يسرين " وقرأ هذه الآية، وفي تقرير هذا المعنى وجهان الأول: قال الفراء والزجاج: العسر مذكور بالألف واللام، وليس هناك معهود سابق فينصرف إلى الحقيقة، فيكون المراد بالعسر في اللفظين شيئا واحدا. وأما اليسر فإنه مذكور على سبيل التنكير، فكان أحدهما غير الآخر، وزيف الجرجاني هذا وقال: إذا قال الرجل: إن مع الفارس سيفا، إن مع الفارس سيفا، يلزم أن يكون هناك فارس واحد ومعه سيفان، ومعلوم أن ذلك غير لازم من وضع العربية الوجه الثاني: أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى، كما كرر قوله: * (ويل يومئذ للمكذبين) * ويكون الغرض تقرير معناها في النفوس وتمكينها في القلوب، كما يكرر المفرد في قولك: جاءني زيد زيد، والمراد من اليسرين: يسر الدنيا وهو ما تيسر من استفتاح البلاد، ويسر الآخرة وهو ثواب الجنة، لقوله تعالى: * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) * وهما حسن الظفر وحسن الثواب، فالمراد من قوله: " لن يغلب عسر يسرين " هذا، وذلك لأن عمر الدنيا بالنسبة إلى يسر الدنيا، ويسر الآخرة كالمغمور القليل، وههنا سؤالان.
الأول: ما معنى التنكير في اليسر؟ جوابه: التفخيم، كأنه قيل: إن مع اليسر يسرا، إن مع العسر يسرا عظيما، وأي يسر.
السؤال الثاني: أليس لا يكون مع العسر، لأنهما ضدان فلا يجتمعان الجواب: لما
6

كان وقوع اليسر بعد العسر بزمان قليل، كان مقطوعا به فجعل كالمقارن له.
* (فإذا فرغت فانصب) *.
ثم قال تعالى: * (فإذا فرغت فانصب) * وجه تعلق هذا بما قبله أنه تعالى لما عدد عليه نعمه السالفة، ووعدهم بالنعم الآتية، لا جرم بعثه على الشكر والاجتهاد في العبادة، فقال: * (فإذا فرغت فانصب) * أي فاتعب يقال: نصب ينصب، قال قتادة والضحاك ومقاتل: إذا فرغت من الصلاة المكتوبة * (فانصب إلى ربك) * في الدعاء وارغب إليه في المسألة يعطك، وقال الشعبي: إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، وقال مجاهد: إذا فرغت من أمر دنياك فانصب وصل، وقال عبد الله: إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، وقال الحسن: إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة، وقال علي بن أبي طلحة: إذا كنت صحيحا فانصب، يعني اجعل فراغك نصبا في العبادة يدل عليه ما روى أن شريحا مر برجلين يتصارعان، فقال: الفارغ ما أمر بهذا إنما قال الله: * (فإذا فرغت فانصب) * وبالجملة فالمعنى أن يواصل بين بعض العبادات وبعض، وأن لا يخلي وقتا من أوقاته منها، فإذا فرغ من عبادة أتبعها بأخرى.
* (وإلى ربك فارغب) *.
وأما قوله تعالى: * (وإلى ربك فارغب) * ففيه وجهان أحدهما: اجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه وثانيها: ارغب في سائر ما تلتمسه دينا ودنيا ونصرة على الأعداء إلى ربك، وقرئ فرغب أي رغب الناس إلى طلب ما عنده، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
7

سورة التين
وهي ثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الامين) *.
* (والتين والزيتون، وطور سينين، وهذا البلد الأمين) *.
اعلم أن الإشكال هو أن التين والزيتون ليسا من الأمور الشريفة، فكيف يليق أن يقسم الله تعالى بهما؟ فلأجل هذا السؤال حصل فيه قولان:
الأول: أن المراد من التين والزيتون هذان الشيئان المشهوران، قال ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا، ثم ذكروا من خواص التين والزيتون أشياء.
أما التين فقالوا إنه غذاء وفاكهة ودواء، أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج الترشح ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل ويسمن البدن ويفتح مسام الكبد والطحال وهو خير الفواكه وأحمدها، وروى أنه أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم طبق من تين فأكل منه، ثم قال لأصحابه: " كلوا فلو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير وتنفع من النقرس " وعن علي بن موسى الرضا عليهما السلام: التين يزيل نكهة الفم ويطول الشعر وهو أمان من الفالج، وأما كونه دواء، فلأنه يتداوى به في إخراج فضول البدن.
واعلم أن لها بعدما ذكرنا خواص: أحدها: أن ظاهرها كباطنها ليست كالجوز ظاهره قشر ولا كالتمر باطنه قشر، بل نقول: إن من الثمار ما يخبث ظاهره ويطيب باطنه، كالجوز والبطيخ ومنه ما يطيب ظاهره دون باطنه كالتمر والإجاص.
أما التين فإنه طيب الظاهر والباطن وثانيها: أن الأشجار ثلاثة: شجرة تعد وتخلف وهي شجرة الخلاف، وثانية تعد وتفي وهي التي تأتي بالنور أولا بعده بالثمر كالتفاح وغيره، وشجرة تبذل قبل الوعد، وهي التين لأنها تخرج الثمرة قبل أن تعد بالورد، بل لو غيرت العبارة لقلت هي شجرة تظهر المعنى قبل الدعوى، بل لك أن تقول: إنها شجرة تخرج الثمرة قبل أن تلبس نفسها بورد أو بورق، والتفاح والمشمش وغيرهما تبدأ بنفسها، ثم بغيرها، أما شجرة التين فإنها تهتم بغيرها
8

قبل اهتمامها بنفسها، فسائر الأشجار كأرباب المعاملة في قوله عليه السلام: " أيد بنفسك ثم بمن تعول " وشجرة التين كالمصطفى عليه السلام كان يبدأ بغيره فإن فضل صرفه إلى نفسه، بل من الذين أنثى الله عليهم في قوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *، وثالثها: أن من خواص هذه الشجرة أن سائر الأشجار إذا أسقطت الثمرة من موضعها لم تعد في تلك السنة، إلا التين فإنه يعيد البذر وربما سقط ثم يعود مرة أخرى ورابعها: أن التين في النوم رجل خير غني فمن نالها في المنام نال مالا وسعة، ومن أكلها رزقه الله أولادا وخامسها: روى أن آدم عليه السلام لما عصى وفارقته ثيابه تستر بورق التين، وروى أنه لما نزل وكان متزرا بورق التين استوحش فطاف الظباء حوله فاستأنس بها فأطعمها بعض ورق التين، فرزقها الله الجمال صورة والملاحة معنى وغير دمها مسكا، فلما تفرقت الظباء إلى مساكنها رأى غيرها عليها من الجمال ما أعجبها، فلما كانت من الغد جاءت الظباء على أثر الأولى إلى آدم فأطعمها من الورق فغير الله حالها إلى الجمال دون المسك، وذلك لأن الأولى جاءت لآدم لا أجل الطمع والطائفة الأخرى جاءت للطمع سرا وإلى آدم ظاهرة، فلا جرم غير الظاهر دون الباطن، وأما الزيتون فشجرته هي الشجرة المباركة فاكهة من وجه وإدام من وجه ودواء من وجه، وهي في أغلب البلاد لا تحتاج إلى تربية الناس، ثم لا تقتصر منفعتها غذاء بدنك، بل هي غذاء السراج أيضا وتولدها في الجبال التي لا توجد فيها شيء من الدهنية البتة، وقيل: من أخذ ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى، وقال مريض لابن سيرين: رأيت في المنام كأنه قيل لي: كل اللامين تشف، فقال: كل الزيتون فإنه لا شرقية ولا غربية، ثم قال المفسرون: التي والزيتون اسم لهذين المأكولين وفيهما هذه المنافع الجليلة، فوجب إجراء اللفظ على الظاهر، والجزم بأن الله تعالى أقسم بهما لما فيهما هذه المصالح والمنافع.
القول الثاني: أنه ليس المراد هاتين الثمرتين، ثم ذكروا وجوها أحدها: قال ابن عباس: هما جبلان من الأرض المقدسة، يقال لهما: بالسريانية طور تينا، وطور زيتا، لأنهما منبتا التين والزيتون، فكأنه تعالى أقسم بمنابت الأنبياء، فالجبل بالتين لعيسى عليه السلام. والزيتون الشأم مبعث أكثر أنبياء بني إسرائيل، والطور مبعث موسى عليه السلام، والبلد الأمين مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المراد من القسم في الحقيقة تعظيم الأنبياء وإعلاء درجاتهم وثانيها: أن المراد من التين والزيتون مسجدان، ثم قال ابن زيد: التين مسجد دمشق والزيتون مسجد بيت المقدس، وقال آخرون: التين مسجد أصحاب أهل الكف، والزيتون مسجد إيليا، وعن ابن عباس التين مسجد نوح المبني على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، والقائلون بهذا القول إنما ذهبوا إليه لأن القسم بالمسجد أحسن لأنه موضع العبادة والطاعة، فلما كانت هذه المساجد في هذه المواضع التي يكثر فيها التين والزيتون، لا جرم اكتفى بذكر التين والزيتون وثالثها:
9

المراد من التين والزيتون بلدان، فقال كعب: التين دمشق والزيتون بيت المقدس، وقال شهر بن حوشب: التين الكوفة، والزيتون الشام، وعن الربيع هما جبلان بين همدان وحلوان، والقائلون بهذا القول، إنما ذهبوا إليه لأن اليهود والنصارى والمسلمين ومشركي قريش كل واحد منهم يعظم بلدة من هذه البلاد، فالله تعالى أقسم بهذه البلاد بأسرها، أو يقال: إن دمشق وبيت المقدس فيهما نعم الدنيا، والطور ومكة فيهما نعم الدين.
أما قوله تعالى: * (وطور سينين) * فالمراد من * (الطور) * الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام عليه، واختلفوا في * (سينين) * والأولى عند النحويين أن يكون سينين وسينا اسمين للمكان الذي حصل فيه الجبل أو ضيفا إلى ذلك المكان، وأما المفسرون فقال ابن عباس في رواية عكرمة: * (الطور) * الجبل * (وسينين) * الحسن بلغة الحبشة، وقال مجاهد: * (سينين) * المبارك، وقال الكلبي: هو الجبل المشجر ذو الشجر، وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسينا بلغة النبط قال الواحدي: والأولى أن يكون سينين اسما للمكان الذي به الجبل، ثم لذلك سمي سينين أو سينا لحسنه أو لكونه مباركا، ولا يجوز أن يكون
سينين نعتا للطور لإضافته إليه.
أما قوله تعالى: * (وهذا البلد الأمين) * فالمراد مكة والأمين: الآمن قال صاحب الكشاف: من أمن الرجل أمانة فهو أمين وأمانته أن يحفظ من دخله كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه، ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول من أمنه لأنه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمن في قوله: * (حرما آمنا) * يعني ذا أمن، وذكروا في كونه أمينا وجوها أحدها: أن الله تعالى حفظه عن الفيل على ما يأتيك شرحه إن شاء الله تعالى وثانيها: أنها تحفظ لك جميع الأشياء فمباح الدم عند الالتجاء إليها آمن من السباع والصيود تستفيد منها الحفظ عند الالتجاء إليها وثالثها: ما روى أن عمر كان يقبل الحجر، ويقول: إنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك، فقال له علي عليه السلام: إما أنه يضر وينفع إن الله تعالى لما أخذ على ذرية آدم الميثاق كتبه في رق أبيض، وكان لهذا الركن يومئذ لسان وشفتان وعينان، فقال: افتح فاك فألقمه ذلك الرق وقال: تشهد لمن وافاك بالموافاة إلى يوم القيامة، فقال عمر: لأبقيت في قوم لست فيهم يا أبا الحسن.
* (لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم) *.
المراد من الإنسان هذه الماهية والتقويم تصبير الشيء على ما ينبغي أن يكون في التألف والتعديل، يقال: قومته تقويما فاستقام وتقوم، وذكروا في شرح ذلك الحسن وجوها أحدها: أنه تعالى خلق كل ذي روح مكبا على وجهه إلا الإنسان فإنه تعالى خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده وقال الأصم: في أكمل عقل وفهم وأدب وعلم وبيان، والحاصل أن القول الأول راجع إلى الصورة الظاهرة، والثاني إلى
10

السيرة الباطنة، وعن يحيى بن أكثم القاضي أنه فسر التقويم بحسن الصورة، فإنه حكى أن ملك زمانه خلا بزوجته في ليلة مقمرة، فقال: إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت كذا، فأفتى الكل بالحنث إلا يحيى بن أكثم فإنه قال: لا يحنث، فقيل له: خالفت شيوخك، فقال: الفتوى بالعلم ولقد أفتى من هو أعلم منا وهو الله تعالى فإنه يقوله: * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) * وكان بعض الصالحين يقول: إلهنا أعطيتنا في الأولى أحسن الأشكال، فأعطنا في الآخرة أحسن الفعال، وهو العفو عن الذنوب، والتجاوز عن العيوب.
* (ثم رددناه أسفل سافلين) *.
أما قوله تعالى: * (ثم رددناه أسفل سافلين) * ففيه وجهان: الأول: قال ابن عباس: يريد أرذل العمر، وهو مثل قوله: يرد إلى أرذل العمر، قال ابن قتيبة: السافلون هم الضعفاء والزمني، ومن لا يستطيع حيلة ولا يجد سبيلا، يقال: سفل يسفل فهو سافل وهم سافلون، كما يقال: علا يعلو فهو عال وهم عالون، أراد أن الهرم يخرف ويضعف سمعه وبصره وعقله وتقل حيلته ويعجز عن عمل الصالحات، فيكون أسفل الجميع، وقال الفراء: ولو كانت أسفل سافل لكان صوابا، لأن لفظ الإنسان واحد، وأنت تقول: هذا أفضل قائم ولا تقول: أفضل قائمين، إلا أنه قيل: سافلين على الجمع لأن الإنسان في معنى جمع فهو كقوله: * (والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون) * وقال: * (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها وإن تصبهم) *.
والقول الثاني: ما ذكره مجاهد والحسن ثم رددناه إلى النار، قال علي عليه السلام: وضع أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض فيبدأ بالأسفل فيملأ وهو أسفل سافلين، وعلى هذا التقدير فالمعنى ثم رددناه إلى أسفل سافلين إلى النار.
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) *.
أما قوله تعالى: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * فاعلم أن هذا الاستثناء على القول الأول منقطع، والمعنى ولكن الذين كانوا صالحين من الهرمى فلهم ثواب دائم على طاعتهم وصبرهم على ابتلاء الله إياهم بالشيخوخة والهرم، وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة وعلى تخاذل نهوضهم، وأما على القول الثاني فالاستثناء متصل ظاهر الاتصال.
أما قوله تعالى: * (فلهم أجر غير ممنون) * ففيه قولان: أحدهما: غير منقوص ولا مقطوع وثانيهما: أجر غير ممنون أي لا يمن به عليهم، وأعلم أن كل ذلك من صفات الثواب، لأنه يجب أن يكون غير منقطع وأن لا يكون منغصا بالمنة.
* (فما يكذبك بعد بالدين) *.
ثم قال تعالى: * (فما يكذبك بعد بالدين) * وفيه سؤالان:
11

الأولى: من المخاطب بقوله: * (فما يكذبك) *؟ الجواب فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للإنسان على طريقة الالتفات، والمراد من قوله: * (فما يكذبك) * أن كل من أخبر عن الواقع بأنه لا يقع فهو كاذب، والمعنى فما الذي يلجئك إلى هذا الكذب والثاني: وهو اختيار الفراء أنه خطاب مع محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى فمن يكذبك يا أيها الرسول بعد ظهور هذه الدلائل بالدين.
السؤال الثاني: ما وجه التعجب؟ الجواب: أن خلق الإنسان من النطفة وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل ويستوي، تم تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر دليل واضح على قدرة الخالقة على الحشر والنشر، فمن شاهد هذه الحالة ثم بقي مصرا على إنكار الحشر فلا شيء أعجب منه.
* (أليس الله بأحكم الحاكمين) *.
ثم قال تعالى: * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسيره وجهين أحدهما: أن هذا تحقيق لما ذكر من خلق الإنسان ثم رده إلى أرذل العمر، يقول الله تعالى: أليس الذي فعل ذلك بأحكم
الحاكمين صنعا وتدبيرا، وإذا ثبتت القدرة والحكمة بهذه الدلالة صح القول بإمكان الحشر ووقوعه، أما الإمكان فبالنظرة إلى القدرة، وأما الوقوع فبالنظر إلى الحكمة لأن عدم ذلك يقدح في الحكمة، كما قال تعالى: * (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا) *. والثاني: أن هذا تنبيه من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأنه يحكم بينه وبين خصومه يوم القيامة بالعدل.
المسألة الثانية: قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدلائل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلق أفعال العباد مع ما فيها من السفه والظلم، فإنه لو كان الفاعل لأفعال العباد هو الله تعالى لكان كل سفه وكل أمر بسفه وكل ترغيب في سفه فهو من الله تعالى ومن كان كذلك فهو أسفه السفهاء، كما أنه لا حكمة ولا أمر بالحكمة ولا ترغيب في الحكمة إلا من الله تعالى، ومن كان كذلك فهو أحكم الحكماء، ولما ثبت في حقه تعال الأمران لم يكن وصفه بأنه أحكم الحكماء أولى من وصفه بأنه أسفه السفهاء. ولما امتنع هذا الوصف في حقه تعالى علمنا أنه ليس خالقا لأفعال العباد والجواب: المعارضة بالعلم والداعي، ثم نقول: السفيه من قامت السفاهة به لا من خلق السفاهة، كما أن المتحرك والساكن من قامت الحركة والسكون به لا من خلقهما، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
12

سورة العلق
تسع عشرة آية مكية
اقرأ باسم ربك
زعم المفسرون: أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن وقال آخرون: الفاتحة أول ما نزل ثم سورة العلق.
* (اقرأ باسم ربك الذى خلق) *.
* (اقرأ باسم ربك) * اعلم أن في الباء من قوله: * (باسم ربك) * قولين: أحدهما: قال أبو عبيدة: الباء زائدة، والمعنى: اقرأ اسم ربك، كما قال الأخطل: هن الحرائر لا ربات أخمرة * سود المحاجر لا يقرأن بالسور
ومعنى اقرأ اسم ربك، أي أذكر اسمه، وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها: أنه لو كان معناه أذكر اسم ربك ما حسن منه أن يقول: ما أنا بقارئ، أي لا أذكر اسم ربي وثانيها: أن هذا الأمر لا يليق بالرسول، لأنه ما كان له شغل سوى ذكر الله، فكيف يأمره بأن يشتغل بما كان مشغولا به أبدا وثالثها: أن فيه تضييع الباء من غير فائدة.
القول الثاني: أن المراد من قوله: * (اقرأ) * أي اقرأ القرآن، إذ القراءة لا تستعمل إلا فيه قال تعالى: * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) * وقال: * (وقرآنا فرقنا لتقرأه على الناس على مكث) * وقوله: * (باسم ربك) * يحتمل وجوها أحدها: أن يكون محل باسم ربك النصب على الحال فيكون التقدير: اقرأ القرآن مفتتحا باسم ربك أي قل: باسم الله ثم اقرأ، وفي هذا دلالة على أنه يجب قراءة التسمية في ابتداء كل سورة كما أنزل الله تعالى وأمر به، وفي هذه الآية رد على من لا يرى ذلك واجبا ولا يبتدئ بها وثانيها: أن يكون المعنى اقرأ القرآن مستعينا باسم ربك كأنه يجعل الاسم آلة فيما يحاوله من أمر الدين والدنيا، نظيره كتبت بالقلم، وتحقيقه أنه لما قال له: * (اقرأ) * فقال له: لست بقارئ، فقال: * (اقرأ اسم ربك) * أي استعن باسم ربك واتخذه آلة في تحصيل هذا الذي عسر عليك وثالثها: أن قوله: * (اقرأ باسم ربك) * أي اجعل هذا الفعل لله وافعله لأجله كما تقول: بنيت هذه الدار باسم الأمير وصنعت هذا الكتاب باسم الوزير ولأجله، فإن العبادة
13

إذا صارت لله تعالى، فكيف يجترئ الشيطان أن يتصرف فيما هو لله تعالى؟ فإن قيل: كيف يستمر هذا التأويل في قولك: قبل الأكل بسم الله، وكذا قبل كل فعل مباح؟ قلنا: فيه وجهان أحدهما: أن ذلك إضافة مجازية كما تضيف مجازية كما تضيف ضيعتك إلى بعض الكبار لتدفع بذلك ظلم الظلمة، كذا تضيف فعلك إلى الله ليقطع الشيطان طمعه عن مشاركتك، فقد روى أن من لم يذكر اسم الله شاركه الشيطان في ذلك الطعام والثاني: أنه ربما استعان بذلك المباح على التقوى على طاعة الله فيصير المباح طاعة فيصح ذلك التأويل فيه.
أما قوله: * (ربك) * ففيه سؤالان:
أحدها: وهو أن الرب من صفات الفعل، والله من أسماء الذات وأسماء الذات أشرف من أسماء الفعل، ولأنا قد دللنا بالوجوه الكثيرة على أن اسم الله أشرف من اسم الرب، ثم إنه تعالى قال ههنا: * (باسم ربك) * ولم يقل: اقرأ باسم الله كما قال في التسمية المعروفة: * (بسم الله الرحمن الرحيم) * وجوابه: أنه أمر بالعبادة، وبصفات الذات، وهو لا يستوجب شيئا، وإنما يستوجب العبادة بصفات الفعل، فكان ذلك أبلغ في الحث على الطاعة، ولأن هذه السورة كانت من أوائل ما نزل على ما كان الرسول عليه السلام قد فزع فاستماله ليزول الفزع، فقال: هو الذي رباك فكيف يفزعك؟ فأفاد هذا الحرف معنيين أحدهما: ربيتك فلزمك القضاء فلا تتكاسل والثاني: أن الشروع ملزم للاتمام، وقد ربيتك منذ كذا فكيف أضيعك، أي حين كنت علقا لم أدع تربيتك فبعد أن صرت خلقا نفيسا موحدا عارفا بي كيف أضيعك!.
السؤال الثاني: ما الحكمة في أنه أضاف ذاته إليه، فقال: * (باسم ربك) *؟ الجواب: تارة يضيف ذاته إليه بالربوبية كما ههنا، وتارة يضيفه إلى نفسه بالعبودية، أسرى بعبده، نظيره قوله عليه السلام: " علي مني وأنا منه " كأنه تعالى يقول: هو لي وأنا له، يقرره قوله تعالى: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * أو نقول: إضافة ذاته إلى عبده أحسن من إضافة العبد إليه، إذ قد علم في الشاهد أن من له إبنان ينفعه أكبرهما دون الأصغر، يقول: هو ابني فحسب لما أنه ينال منه المنفعة، فيقول الرب تعالى: المنفعة تصل مني إليك، ولم تصل منك إلى خدمة ولا طاعة إلى الآن، فأقول: أنا لك ولا أقول أنت لي، ثم إذا أتيت بما طلبته منك من طاعة أو توبة أضفتك إلى نفسي فقلت: أنزل على عبده * (يا عبادي الذين أسرفوا) *.
السؤال الثالث: لم ذكر عقيب قوله: * (ربك) * قوله: * (الذي خلق) *؟ الجواب: كأن العبد يقول: ما الدليل على أنك ربي؟ فيقول: لأنك كنت بذاتك وصفاتك
معدوما. ثم صرت موجودا فلا بد لك في ذاتك وصفاتك من خالق، وهذا الخلق والإيجاد تربية فدل ذلك على أني ربك وأنت مربوبي.
14

* (خلق الإنسان من علق) *.
أما قوله تعالى: * (الذي خلق، خلق الإنسان من علق) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير هذه الآية ثلاثة أوجه أحدها: أن يكون قوله: * (الذي خلق) * لا يقدر له مفعول، ويكون المعنى أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه والثاني: أن يقدر له مفعول ويكون المعنى أنه الذي خلق كل شيء، فيتناول كل مخلوق، لأنه مطلق، فليس حمله على البعض أولى من حمله على الباقي، كقولنا: الله أكبر، أي من كل شيء، ثم قوله بعد ذلك: * (خلق الإنسان من علق) * تخصيص للإنسان بالذكر من بين جملة المخلوقات، إما لأن التنزيل إليه أو لأنه أشرف ما على وجه الأرض والثالث: أن يكون قوله: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) * مبهما ثم فسره بقوله: * (خلق الإنسان من علق) * تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته.
المسألة الثانية: احتج الأصحاب بهذه الآية على أنه لا خالق غير الله تعالى، قالوا: لأنه سبحانه جعل الخالقية صفة مميزة لذات الله تعالى عن سائر الذوات، وكل صفة هذا شأنها فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، قالوا: وبهذا الطريق عرفنا أن خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع ومما يؤكد ذلك أن فرعون لما طلب حقيقة الإله، فقال: * (وما رب العالمين) * قال موسى: * (ربكم ورب آبائكم الأولين) * والربوبية إشارة إلى الخالقية التي ذكرها ههنا، وكل ذلك يدل على قولنا.
المسألة الثالثة: اتفق المتكلمون على أن أول الواجبات معرفة الله تعالى، أو النظر في معرفة الله أو القصد إلى ذلك النظر على الاختلاف المشهور فيما بينهم، ثم إن الحكيم سبحانه لما أراد أن يبعثه رسولا إلى المشركين، لو قال له: اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له، لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به كما يحكى إن زفر لما بعثه أبو حنيفة إلى البصرة لتقرير مذهبه، فلما ذكر أبو حنيفة زيفوه ولم يلتفتوا إليه، فرجع إلى أبي حنيفة. وأخبره بذلك، فقال إنك لم تعرف طريق التبليغ، لكن ارجع إليهم، واذكر في المسألة أقاويل أئمتهم ثم بين ضعفها، ثم قل بعد ذلك: ههنا قول آخر، واذكر قولي وحجتي، فإذا تمكن ذلك في قلبهم، فقل: هذا قول أبي حنيفة لأنهم حينئذ يستحيون فلا يردون، فكذا ههنا أن الحق سبحانه يقول: إن هؤلاء عباد الأوثان، فلو أثنيت علي وأعرضت عن الأوثان لأبوا ذلك، لكن أذكر لهم أنهم هم الذين خلقوا من العلقة فلا يمكنهم إنكاره، ثم قل: ولا بد للفعل من فاعل فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك إلى الوثن لعلمهم بأنهم نحتوه، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان، كما قال تعالى: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * ثم لما صارت الإلهية موقوفة على الخالقية وحصل القطع بأن من لم يخلق لم يكن إلها، فلهذا قال تعالى: * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * ودلت الآية على أن القول بالطبع باطل، لأن المؤثر فيه إن كان حادثا افتقر إلى مؤثر آخر، وإن كان قديما فإما أن يكون موجبا
15

و قادرا، فإن كان موجبا لزم أن يقارنه الأثر فلم يبق إلا أنه مختار وهو عالم لأن التغير حصل على الترتيب الموافق للمصلحة.
المسألة الرابعة: إنما قال: * (من علق) * على الجمع لأن الإنسان في معنى الجمع، كقوله: * (إن الإنسان لفي خسر) *.
* (اقرأ وربك الاكرم * الذى علم بالقلم) *.
أما قوله تعالى: * (اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال بعضهم: اقرأ أولا لنفسك، والثاني للتبليغ أو الأول للتعلم من جبريل والثاني للتعليم. أو قرأ في صلاتك، والثاني خارج صلاتك.
المسألة الثانية: الكرم إفادة ما ينبغي لا لعوض، فمن يهب السكين ممن يقتل به نفسه فهو ليس بكريم، ومن أعطى ثم طلب عوضا فهو ليس بكريم، وليس يجب أن يكون العوض عينا بل المدح والثواب والتخلص عن المذمة كله عوض، ولهذا قال أصحابنا: إنه تعالى يستحيل أن يفعل فعلا لغرض لأنه لو فعل فعلا لغرض لكان حصول ذلك الغرض أولى له من لا حصوله، فحينئذ يستفيد بفعل ذلك الشيء حصول تلك الأولوية، ولو لم يفعل ذلك الفعل لما كان يحصل له تلك الأولوية، فيكون ناقصا بذاته مستكملا بغيره وذلك محال، ثم ذكروا في بيان أكرميته تعالى وجوها أحدها: أنه كم من كريم يحلم وقت الجناية، لكنه لا يبقى إحسانه على الوجه الذي كان قبل الجناية، وهو تعالى أكرم لأنه يزيد بإحسانه بعد الجناية، ومنه قول القائل:
متى زدت تقصيرا تزد لي تفضلا كأني بالتقصير أستوجب الفضلا
وثانيها: إنك كريم لكن ربك أكرم وكيف لا وكل كريم ينال بكرمه نفعا إما مدحا أو ثوابا أو يدفع ضررا. أما أنا فالأكرم إذ لا أفعله إلا لمحض الكرم وثالثها: أنه الأكرم لأن له الابتداء في كل كرم وإحسان وكرمه غير مشوب بالتقصير ورابعها: يحتمل أن يكون هذا حثا على القراءة أي هذا الأكرم لأنه يجازيك بكل حرف عشرا أو حثا على الإخلاص، أي لا تقرأ لطمع ولكن لأجلي ودع على أمرك فأنا أكرم من أن لا أعطيك ما لا يخطر ببالك، ويحتمل أن المعنى تجرد لدعوة الخلق ولا تخف أحدا فأنا أكرم من أن آمرك بهذا التكيف الشاق ثم لا أنصرك.
المسألة الثالثة: أنه سبحانه وصف نفسه بأنه: * (خلق الإنسان من علق) * وثانيا بأنه علقة وهي بالقلم، ولا مناسبة في الظاهر بين لأمرين، لكن التحقيق أن أول حوال الإنسان كونه علقة وهي أخس الأشياء وآخر أمره هو صيرورته عالما بحقائق الأشياء، وهو أشرف مراتب المخلوقات فكأنه تعالى يقول: انتقلت من أخس المراتب إلى أعلى المراتب فلا بد لك من مدبر مقدر ينقلك من تلك الحالة الخسيسة إلى هذه الحالة الشريفة، ثم فيه تنبيه على أن العلم أشرف الصفات
16

الإنسانية، كأنه تعالى يقول: الإيجاد والإحياء والإفدار والرزق كرم وربوبية، أما الأكرم هو الذي أعطاك العلم لأن العلم هو النهاية في الشرف.
المسألة الرابعة: قوله: * (باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) * إشارة إلى الدلالة العقلية الدالة على كمال القدرة والحكمة والعلم والرحمة، وقوله: * (الذي علم بالقلم) * إشارة إلى الأحكام المكتوبة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالسمع، فالأول كأنه إشارة إلى معرفة الربوبية والثاني إلى النبوة، وقدم الأول على الثاني تنبيها على أن معرفة الربوبية غنية عن النبوة، وأما النبوة فإنها محتاجة إلى معرفة الربوبية.
المسألة الخامسة: في قوله: * (علم بالقلم) * وجهان أحدهما: أن المراد من القلم الكتابة التي تعرف بها الأمور الغائبة، وجعل القلم كناية عنها والثاني: أن المراد علم الإنسان الكتاب بالقلم وكلا القولين متقارب، إذ المراد التنبيه على فضيلة الكتابة، يروى أن سليمان عليه السلام سأل عفريتا عن الكلام، فقال: ريح لا يبقى، قال: فما قيده، قال: الكتابة، فالقلم صياد يصيد العلوم يبكي ويضحك، بركوعه تسجد الأنام، وبحركته تبقى العلوم على مر الليالي والأيام، نظيره قول زكريا: * (إذ نادى ربه نداء خفيا) * أخفى وأسمع فكذا القلم لا ينطق ثم يسمع الشرق والغرب، فسبحانه من قادر بسوادها جعل الدين منورا، كما أنه جعلك بالسواد مبصرا، فالقلم قوام الإنسان والإنسان قوام العين، ولا تقل القلم نائب اللسان، فإن القلم ينوب عن اللسان واللسان لا ينوب عن القلم، التراب طهور، ولو إلى عشر حجج، والقلم بدل (عن اللسان) ولو (بعث) إلى المشرق والمغرب.
* (علم الإنسان ما لم يعلم) *.
أما قوله تعالى: * (علم الإنسان ما لم يعلم) * فيحتمل أن يكون المراد علمه بالقلم وعلمه أيضا غير ذلك ولم يذكر واو النسق، وقد يجري مثل هذا في الكلام تقول: أكرمتك أحسنت إليك ملكتك الأموال وليتك الولايات، ويحتمل أن يكون المراد من اللفظين واحدا ويكون المعنى: علم الإنسان بالقلم ما لم يعلمه، فيكون قوله: * (علم الإنسان ما لم يعلم) * بيانا لقوله: * (علم بالقلم) *.
* (كلا إن الإنسان ليطغى) *.
قال تعالى: * (كلا إن الإنسان ليطغى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أكثر المفسرين على أن المراد من الإنسان ههنا إنسان واحد وهو أبو جهل، ثم منهم من قال: نزلت السورة من ههنا إلى آخرها في أبي جهل. وقيل: نزلت من قوله: * (أرأيت الذي ينهى عبدا) * إلى آخر السورة في أبي جهل. قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟ فزجره النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
17

أبو جهل: والله إنك لتعلم أني أكثر أهل الوادي ناديا، فأنزل الله تعالى: * (فليدع ناديه، سندع الزبانية) * قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله، فكأنه تعالى لما عرفه أنه مخلوق من علق فلا يليق به التكبر، فهو عند ذلك ازداد طغيانا وتعززا بماله ورياسته في مكة. ويروى أنه قال: ليس بمكة أكرم مني. ولعله لعنه الله قال ذلك ردا لقوله: * (وربك الأكرم) * ثم القائلون بهذا القول منهم من زعم أنه ليست هذه السورة من أوائل ما نزل. ومنهم من قال: يحتمل أن يكون خمس آيات من أول السورة نزلت أولا، ثم نزلت البقية بعد ذلك في شأن أبي جهل، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضم ذلك إلى أول السورة، لأن تأليف الآيات إنما كان يأمر الله تعالى، ألا ترى أن قوله تعالى: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * آخر ما نزل عند المفسرين م هو مضموم إلى ما نزل قبله بزمان طويل القول الثاني: أن المراد من الإنسان المذكور في هذه الآية جملة الإنسان، والقول الأول وإن كان أظهر بحسب الروايات، إلا أن هذا القول أقرب بحسب الظاهر، لأنه تعالى بين أن الله سبحانه مع أنه خلقه من علقة، وأنعم عليه بالنعم التي قدمنا ذكرها، إذ أغناه، وزاد في النعمة عليه فإنه يطغى ويتجاوز الحد في المعاصي واتباع هوى النفس، وذلك وعيد وزجر عن هذه الطريقة، ثم إنه تعالى أكد هذا الزجر بقوله: * (إن إلى ربك الرجعي) * أي إلى حيث لا مالك سواه، فتقع المحاسبة على ما كان منه من العمل والمؤاخذة بحسب ذلك.
المسألة الثانية: قوله: * (كلا) * فيه وجوه أحدها: أنه ردع وزجر لمن كفر بنعمة الله بطغيانه، وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه وثانيها: قال مقاتل: كلا لا يعلم الإنسان إن الله هو الذي خلقه من العلقة وعلمه بعد الجهل، وذلك لأنه عند صيرورته غنيا يطغى ويتكبر، ويصير مستغرق القلب في حب الدنيا فلا يتفكر في هذه الأحوال ولا يتأمل فيها وثالثها: ذكر الجرجاني صاحب النظم أن * (كلا) * ههنا بمعنى حقا لأنه ليس قبله ولا بعده شيء تكون * (كلا) * ردا له، وهذا كما قالوه في: * (كلا والقمر) * فإنهم زعموا أنه بمعنى: أي والقمر.
المسألة الثالثة: الطغيان هو التكبر والتمرد، وتحقيق الكلام في هذه الآية أن الله تعالى لما ذكر في مقدمة السورة دلائل ظاهرة على التوحيد والقدرة والحكمة بحيث يبعد من العاقل أن لا يطلع عليها ولا يقف على حقائقها. أتبعها بما هو السبب الأصلي في الغفلة عنها وهو حب الدنيا والاشتغال بالمال والجاه والثروة والقدرة، فإنه لا سبب لعمى القلب في الحقيقة إلا ذلك. فإن قيل: إن فرعون ادعى الربوبية، فقال الله تعالى في حقه: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) * وههنا ذكر في أبي جهل: * (ليطغى) * فأكده بهذه اللام، فما السبب في هذه الزيادة؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: أنه قال لموسى: * (اذهب إلى فرعون إنه طغى) * وذلك قبل أن يلقاه موسى، وقبل أن يعرض عليه الأدلة، وقبل أن يدعي الربوبية. وأما ههنا فإنه تعالى ذكر هذه الآية تسلية لرسوله حين رد عليه أقبح الرد وثانيها: أن فرعون مع كمال سلطته ما كان يزيد كفره على القول، وما كان ليتعرض لقتل موسى عليها السلام ولا لإيذائه. وأما أبو جهل فهو مع قلة جاهه كان
18

يقصد قتل النبي صلى الله عليه وسلم وإيذاءه وثالثها: أن فرعون أحسن إلى موسى أولا، وقال آخرا: * (آمنت) *. وأما أبو جهل فكان يحسد النبي في صباه، وقال في آخر رمقه: بلغوا عني محمدا أني أموت ولا أحد أبغض إلي منه ورابعها: أنهما وإن كانا رسولين لكن الحبيب في مقابلة الكليم كاليد في مقابلة العين، والعاقل يصون
عينه فوق ما يصون يده، بل يصون عينه باليد، فلهذا السبب كانت المبالغة ههنا أكثر.
* (أن رءاه استغنى) *.
أما قوله تعالى: * (أن رآه استغنى) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الأخفش: لأن رآه فخذف اللام، كما يقال: أنكم لتطغون أن رأيتم غناكم.
المسألة الثانية: قال الفراء إنما قال: * (أن رآه) * ولم يقل: رأى نفسه كما يقال: قتل نفسه لأن رأى من الأفعال التي تستدعي اسما وخبرا نحو الظن والحسبان، والعرب تطرح النفس من هذا الجنس فنقول: رأيتني وظننتني وحسبتني فقوله: * (أن رآه استغنى) * من هذا الباب.
المسألة الثالثة: في قوله: * (استغنى) * وجهان: أحدهما: استغنى بماله عن ربه، والمراد من الآية ليس هو الأول، لأن الإنسان قد ينال الثروة فلا يزيد إلا تواضعا كسليمان عليه السلام، فإنه كان يجالس المساكين ويقول: " مسكين جالس مسكينا " وعبد الرحمن بن عوف ما طغى مع كثرة أمواله، بل العاقل يعلم أنه عند الغنى يكون أكثر حاجة إلى الله تعالى منه حال فقره، لأنه في حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه، وأما حال الغنى فإنه يتمنى سلامة نفسه وماله ومماليكه، وفي الآية وجه ثالث: وهو أن سين * (استغنى) * سين الطالب والمعنى أن الإنسان رأى أن نفسه إنما نالت الغنى لأنها طلبته وبذلت الجهد في الطلب فنالت الثروة والغنى بسبب ذلك الجهد، لا أنه نالها بإعطاء الله وتوفيقه، وهذا جهل وحمق فكم من باذل وسعه في الحرص والطلب وهو يموت جوعا، ثم ترى أكثر الأغنياء في الآخرة يصيرون مدبرين خائفين، يريهم الله أن ذلك الغنى ما كان بفعلهم وقوتهم.
المسألة الرابعة: أول السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال.
* (إن إلى ربك الرجعى) *.
ثم قال تعالى: * (إن إلى ربك الرجعي) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذا الكلام واقع على طريقة الالتفات إلى الإنسان تهديدا له وتحذيرا من عاقبة الطغيان.
المسألة الثانية: * (الرجعي) * المرجع والرجوع وهي بأجمعها مصادر، يقال: رجع إليه رجوعا
19

ومرجعا ورجعي على وزن فعلى، وفي معنى الآية وجهان: أحدهما: أنه يرى ثواب طاعته وعقاب تمرده وتكبره وطغيانه، ونظيره قوله: * (ولا تحسبن الله غافلا) * إلى قوله: * (إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) * وهذه الموعظة لا تؤثر إلا في قلب من له قدم صدق، أما الجاهل فيغضب ولا يعتقد إلا الفرح العاجل والقول الثاني: أنه تعالى يرده ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت، كما رده من النقصان إلى الكمال، حيث نقله من الجمادية إلى الحياة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الذل إلى العز، فما هذا التعزز والقوة.
المسألة الثالثة: روى أن أبا جهل قال للرسول عليه الصلاة والسلام: أتزعم أن من استغنى طغى، فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى، فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل وقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم مثل ما فعلنا بأصحاب المائدة، فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إبقاء عليهم.
* (أرأيت الذى ينهى * عبدا إذا صلى) *.
قوله تعالى: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: روى عن أبي جهل لعنه الله أنه قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم، قال: فوالذي يحلف به لئن رأيته لأطأن عنقه، ثم إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنكص على عقبيه، فقالوا له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا. وعن الحسن أن أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة.
واعلم أن ظاهر الآية أن المراد في هذه الآية هو الإنسان المتقدم ذكره، فلذلك قالوا: إنه ورد في أبي جهل، وذكروا ما كان منه من التوعد لمحمد عليه الصلاة والسلام حين رآه يصلي، ولا يمتنع أن يكون نزولها في أبي جهل، ثم يعم في الكل، لكن ما بعده يقتضي أنه في رجل بعينه.
المسألة الثانية: قوله: * (أرأيت) * خطاب مع الرسول على سبيل التعجب، ووجه التعجب فيه أمور أحدها: أنه عليه السلام قال: اللهم أعز الإسلام إما بأبي جعل بن هشام أو بعمر، فكأنه تعالى قال له: كنت تظن أنه يعز به الإسلام، أمثله يعز به الإسلام، وهو: * (ينهى عبدا إذا صلى) * وثانيها: أنه كان يلقب بأبي الحكم، فكأنه تعالى يقول: كيف يليق به هذا اللقب وهو ينهى العبد عن خدمة ربه، أيوصف بالحكمة من يمنع عن طاعة الرحمن ويسجد للأوثان! وثالثها: أن ذلك الأحمق يأمر وينهى، ويعتقد أنه يجب على الغير طاعته، مع أنه ليس بخالق ولا رب، ثم إنه ينهى عن طاعة الرب والخالق، ألا يكون هذا غاية الحماقة.
المسألة الثالثة: قال: * (ينهى عبدا) * ولم يقل: ينهاك، وفيه فوائد أحدها: أن التنكير في عبدا يدل على كونه كاملا في العبودية، كأنه يقول: إنه عبد لا يفي العالم بشرح بيانه وصفة إخلاصه في
20

عبوديته يروى: في هذا المعنى أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته فقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم، فقال عمر: اطلبه من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالا دله على فاطمة ثم فاطمة دلته على علي عليه السلام، فلما سأل عليا عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه، فقال الرجل: هذا لا
يتيسر لي، فقال علي: عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد شهد الله على قلته حيث قال: * (قل متاع الدنيا قليل) * فكيف أصف أخلاق النبي وقد شهد الله تعالى بأنه عظيم حيث قال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * فكأنه تعالى قال: ينهى أشد الخلق عبودية عن العبودية وذلك عين الجهل والحمق وثانيها: أن هذا أبلغ في الذم لأن المعنى أن هذا دأبه وعادته فينهى كل من يرى وثالثها: أن هذا تخويف لكل من نهى عن الصلاة، روى عن علي عليه السلام أنه رأى في المصلى أقواما يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فقيل له: ألا تنهاهم؟ فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * فلم يصرح بالنهي عن الصلاة، وأخذ أبو حنيفة منه هذا الأدب الجميل حيث قال له أبو يوسف: أيقول المصلي حين يرفع رأسه من الركوع: اللهم اغفر لي؟ قال: يقول ربنا لك الحمد ويسجد ولم يصرح بالنهي ورابعها: أيظن أبو جهل أنه لو لم يسجد محمد لي لا أجد ساجدا غيره، إن محمد عد واحد، ولي من الملائكة المقربين مالا يحصيهم إلا أنا وهم دائما في الصلاة والتسبيح وخامسها: أنه تفخيم لشأن النبي عليه السلام يقول: إنه مع التنكير معرف، نظيره الكناية في سورة القدر حملت على القرآن ولم يسبق له ذكر * (أسرى بعبده) * * (أنزل على عبده) * * (وأنه لما قام عبد الله) *.
* (أرءيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى) *.
ثم قال تعالى: * (أرأيت إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قوله: * (أرأيت) * خطاب لمن؟ فيه وجهان الأول: أنه خطاب للنبي عليه السلام، والدليل عليه أن الأول وهو قوله: * (أرأيت الذي ينهى عبدا) * للنبي صلى الله عليه وسلم والثالث وهو قوله: * (أرأيت إن كذب وتولى) * للنبي عليه الصلاة والسلام فلو جعلنا الوسط لغير النبي لخرج الكلام عن النظم الحسن، يقول الله تعالى يا محمد: أرأيت إن كان هذا الكافر، ولم يقل: لو كان إشارة إلى المستقبل كأنه يقول: أرأيت إن صار على الهدى، واشتغل بأمر نفسه، أما كان يليق به ذلك إذ هو رجل عاقل ذو ثروة، فلو اختار الدين والهدى والأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيرا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته وطاعته، كأنه تعالى يقول: تلهف عليه كيف فوت على نفسه المراتب العالية وقنع بالمراتب الدنيئة.
القول الثاني: أنه خطاب للكافر، لأن الله تعالى كالمشاهد للظالم والمظلوم، وكالمولى الذي قام بين يديه عبدان، وكالحاكم الذي حضر عنده المدعى، والمدعى عليه فخاطب هذا مرة، وهذا
21

مرة. فلما قال للنبي: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * التفت بعد ذلك إلى الكافر، فقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاؤه إلى الله أمرا بالتقوى أتنهاه مع ذلك.
المسألة الثانية: ههنا سؤال وهو أن المذكور في أول الآية. هو الصلاة وهو قوله: * (أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى) * والمذكور ههنا أمران، وهو قوله: * (أرأيت إن كان على الهدى) * في فعل الصلاة، فلم ضم إليه شيئا ثانيا، وهو قوله: * (أو أمر بالتقوى) *؟ جوابه: من وجوه أحدها: أن الذي شق على أبي جهل من أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام هو هذان الأمران الصلاة والدعاء إلى الله، فلا جرم ذكرهما ههنا وثانيها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يوجد إلا في أحد أمرين، إما في إصلاح نفسه، وذلك بفعل الصلاة أو في إصلاح غيره، وذلك بالأمر بالتقوى وثالثها: أنه عليه السلام كان في صلاته على الهدى وآمرا بالتقوى، لأن كل من رآه وهو في الصلاة كان يرق قلبه. فيميل إلى الإيمان، فكان فعل الصلاة دعوة بلسان الفعل، وهو أقوى من الدعوة بلسان القول.
* (أرءيت إن كذب وتولى) *.
ثم قال تعالى: * (أرأيت إن كذب وتولى) * وفيه قولان.
القول الأول: أنه خطاب مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن الدلائل التي ذكرها في أول هذه السورة جلية ظاهرة، وكل أحد يعلم ببديهة عقله، أن منع العبد من خدمة مولاه فعل باطل وسفه ظاهر، فإذن كل من كذب بتلك الدلائل وتولى عن خدمة مولاه بل منع غيره عن خدمة مولاه يعلم بعقله السليم أنه على الباطل، وأنه لا يفعل ذلك إلا عنادا، فلهذا قال تعالى لرسوله: أرأيت يا محمد إن كذب هذا الكافر بتلك الدلائل الواضحة، وتولى عن خدمة خالقه، ألم يعلم بعقله أن الله يرى منه هذه الأعمال القبيحة ويعلمها، أفلا يزجره ذلك عن هذه الأعمال القبيحة والثاني: أنه خطاب للكافر، والمعنى إن كان يا كافر محمد كاذبا أو متوليا، ألا يعلم بأن الله يرى حتى ينتهي بل احتاج إلى نهيك.
* (ألم يعلم بأن الله يرى) *.
أما قوله: * (ألم يعلم بأن الله يرى) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: المقصود من الآية التهديد بالحشر والنشر، والمعنى أنه تعالى عالم بجميع المعلومات حكيم لا يهمل، ألم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، فلا بد وأن يوصل جزاء كل أحد إليه بتمامه فيكون هذا تخويفا شديدا للعصاة، وترغيبا عظيما لأهل الطاعة.
المسألة الثانية: هذه الآية وإن نزلت في حق أبي جهل فكل من نهى من طاعة الله فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، ولا يرد عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة والأوقات المكروهة، لأن المنهي عنه غير الصلاة وهو المعصية، ولا يرد المولى بمنع عبده عن قيام الليل
22

وصوم التطوع وزوجته عن الاعتكاف، لأن ذلك لاستيفاء مصلحته بإذن ربه لا بغضا لعبادة ربه.
* (كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية * ناصية كاذبة خاطئة * فليدع ناديه * سندع الزبانية) *.
ثم قال تعالى: * (كلا) * وفيه وجوه أحدها: أنه ردع لأبي جهل ومنه له عن نهيه عن عبادة الله تعالى وأمره بعبادة اللات وثانيها: كلا لن يصل أبو جهل إلى ما يقول إنه يقتل محمدا أو يطأ عنقه، بل تلميذ محمد هو الذي يقتله ويطأ صدره وثالثها: قال مقاتل: كلا لا يعلم أن الله يرى وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بما يعلم فكأنه لا يعلم.
ثم قال تعالى: * (لئن لم ينته) * أو عما هو فيه: * (لنسفعا بالناصية، ناصية كاذبة خاطئة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (لنسفعا) * وجوه أحدها: لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار، والسفع القبض على الشيء، وجذبه بشدة، وهو كقوله: * (فيؤخذ بالنواصي والأقدام) * وثانيها: السفع الضرب، أي لنلطمن وجهه وثالثها: لنسودن وجهه، قال الخليل: تقول للشيء إذا لفحته النار لفحا يسيرا يغير لون البشرة قد سفعته النار، قال: والسفع ثلاثة أحجار يوضع عليها القدر سميت بذلك لسوادها، قال: والسفعة سواد في الخدين. وبالجملة فتسويد الوجه علامة الإذلال والإهانة ورابعها: لنسمنه قال ابن عباس في قوله: * (سنسمه على الخرطوم) * إنه أبو جهل خامسها: لنذلنه.
المسألة الثانية: قرىء لنسفعن بالنون المشددة، أي الفاعل لهذا الفعل هو الله والملائكة، كما قال: * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * وقرأ ابن مسعود لأسعفن، أي يقول الله تعالى يا محمد. أنا الذي أتولى إهانته، نظيره: * (هو الذي أيدك) *، * (هو الذي أنزل السكينة) *.
المسألة الثالثة: هذا السفع يحتمل أن يكون المراد منه إلى النار في الآخرة وأن يكون المراد منه في الدنيا، وهذا أيضا على وجوه أحدها: ما روى أن أبا جهل لما قال: إن رأيته يصلي لأطأن عنقه، فأنزل الله هذه السورة، وأمره جبريل عليه السلام بأن يقرأ على أبي جهل ويخر لله ساجدا في آخرها ففعل، فعدا إليه أبو جهل ليطأ عنقه، فلما دنا منه نكص على عقبيه راجعا، فقيل له مالك؟ قال: إن بيني وبينه فحلا فاغرا فاه لو مشيت إليه لالتقمني، وقيل: كان جبريل وميكائيل عليهما السلام على كتفيه في صورة الأسد والثاني: أن يكون المراد يوم بدر فيكون ذلك بشارة بأنه تعالى يمكن المسلمين من ناصيته حتى يجرونه إلى القتل إذا عاد إلى النهي، فلما عاد لا جرم مكنهم الله تعالى من ناصيته يوم بدر، روى أنه لما نزلت سورة الرحمن * (علم القرآن) * قال عليه السلام: لأصحابه من يقرؤها منكم على رؤساء قريش، فتثاقلوا مخافة أذيتهم، فقام ابن مسعود وقال: أنا يا رسول الله، فأجلسه عليه السلام، ثم قال: من يقرؤها عليهم فلم يقم إلا ابن مسعود، ثم ثالثا كذلك إلى أن أذن له، وكان عليه السلام يبقى عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر
23

جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل فلطمه فشق أذنه وأدماه، فانصرف وعيناه تدمع، فلما رآه النبي عليه السلام رق قلبه وأطرق رأسه مغموما، فإذا جبريل عليه السلام يجيء ضاحكا مستبشرا، فقال: يا جبريل تضحك وابن مسعود يبكي! فقال: ستعلم، فلما ظهر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى. فإذا أبو جهل، مصروع يخور، فخاف أن تكون به قوة فيؤذيه فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا معنى قوله: * (سنسمه على الخرطوم) * ثم لما عرف عجزه ولم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبا، فقال ابن مسعود: الإسلام يعلو ولا يعلى عليه، فقال أبو جهل: بلغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلي منه في حياتي ولا أبغض إلي منه في حال مماتي، فروى أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: " فرعوني أشد من فرعون موسى فإنه قال * (آمنت) * وهو قد زاد عتوا " ثم قال لابن مسعود: اقطع رأسي بسيفي هذا لأنه أحد وأقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفا لأجل أن لا يقوى على الحمل لوجوه: أحدها: أنه كلب والكلب يجر والثاني: لشق الأذن فيقتص الأذن بالأذن والثالث: لتحقيق الوعيد المذكور بقوله: * (لنسفعا بالناصية) * فتجر تلك الرأس على مقدمها، ثم إن ابن مسعود لما لم يطقه شق أذنه وجعل الخيط فيه وجعل يجره إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل بين يديه يضحك، ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس ههنا مع الأذن، فهذا ما روى في مقتل أبي جهل نقلته معنى لا لفظا، الخاطئ معنى قوله: * (لنسفعا بالناصية) *.
المسألة الرابعة: الناصية شعر الجبهة وقد يسمى مكان الشعر الناصية، ثم إنه تعالى كنى ههنا عن الوجه والرأس بالناصية، ولعل السبب فيه أن أبا جهل كان شديد الاهتمام بترجيل تلك الناصية وتطييبها، وربما كان يهتم أيضا بتسويدها فأخبره الله تعالى أنه يسودها مع الوجه.
المسألة الخامسة: أنه تعالى عرف الناصية بحرف التعريف كأنه تعالى يقول: الناصية المعروفة عندكم ذاتها لكنها مجهولة عندكم صفاتها ناصية وأي ناصية كاذبة قولا خاطئة فعلا، وإنما وصف بالكذب لأنه كان كاذبا على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا وكاذبا على رسوله في أنه ساحر أو كذاب أو ليس بنبي، وقيل: كذبه أنه قال: أنا أكثر أهل هذا الوادي ناديا، ووصف الناصية بأنها خاطئة لأن صاحبها متمرد على الله تعال قال الله تعالى: * (لا يأكله إلا المؤمنون) * والفرق بين الخاطئ والمخطئ أن الخاطئ معاقب مؤاخذ والمخطئ غير مؤاخذ، ووصف الناصية بالخاطئة الكاذبة كما وصف الوجوه بأنها ناظرة في قوله تعالى: * (إلى ربها ناظرة) *.
المسألة السادسة: * (ناصية) * بدل من الناصية، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة، لأنها وصفت فاستقلت بفائدة.
24

المسألة السابعة: قرىء ناصية بالرفع والتقدير هي ناصية، وناصية بالنصب وكلاهما على الشتم، واعلم أن الرسول عليه السلام لما أغلظ في القول لأبي جهل وتلا عليه هذه الآيات، قال: يا محمد بمن تهددني وأني لأكثر هذا الوادي ناديا، فافتخر بجماعته الذين كانوا يأكلون حطامه، فنزل قوله تعالى: * (فليدع ناديه، سندع الزبانية) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قد مر تفسير النادي عند قوله: * (وتأتون في ناديكم المنكر) * قال أبو عبيدة: ناديه أي أهل مجلسه، وبالجملة فالمراد من النادي أهل النادي، ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله، وسمى ناديا لأن القوم يندون إليه ندا وندوة، ومنه دار الندوة بمكة، وكانوا يجتمعون فيها للتشاور، وقيل: سمي ناديا لأنه مجلس
الندى والجود، ذكر ذلك على سبيل التهكم أي: أجمع أهل الكرم والدفاع في زعمك لينصروك.
المسألة الثانية: قال أبو عبيدة والمبرد: واحد الزبانية زبنية وأصله من زبنية إذا دفعته وهو متمرد من إنس أو جن، ومثله في المعنى والتقدير عفرية يقال: فلان زبنية عفرية، وقال الأخفش: قال بعضهم واحده الزباني، وقال آخرون: الزابن، وقال آخرون: هذا من الجمع الذي لا واحد له من لفظه في لغة الغرب مثل أبابيل وعباديد وبالجملة فالمراد ملائكة العذاب، ولا شك أنهم مخصوصون بقوة شديدة. وقال مقاتل: هم خزنة جهنم أرجلهم في الأرض ورؤسهم في السماء، وقال قتادة: الزبانية هم الشرط في كلام العرب وهم الملائكة الغلاظ الشداد، وملائكة النار سموا الزبانية لأنهم يزبنون الكفار أي يدفعونهم في جهنم.
المسألة الثالثة: في الآية قولان: الأول: أي فليفعل ما ذكره من أنه يدعو أنصاره ويستعين بهم في مباطلة محمد، فإنه لو فعل ذلك فنحن ندعو الزبانية الذين لا طاقة لناديه وقومه بهم، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته الزبانية من ساعته معاينة، وقيل: هذا إخبار من الله تعالى بأنه يجر في الدنيا كالكلب وقد فعل به ذلك يوم بدر، وقيل: بل هذا إخبار بأن الزبانية يجرونه في الآخرة إلى النار القول الثاني: أن في الآية تقديما وتأخيرا أي لنسفعا بالناصية وسندع الزبانية في الآخرة، فليدع هو ناديه حينئذ فليمنعوه.
المسألة الرابعة: الفاء في قوله: * (فليدع ناديه) * تدل على المعجز، لأن هذا يكون تحريضا للكافر على دعوة ناديه وقومه، ومتى فعل الكافر ذلك ترتب عليه دعوة الزبانية، فلما لم يجترئ الكافر على ذلك دل على ظهور معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الخامسة: قرىء: * (ستدعى) * على المجهول، وهذه السير ليست للشك عسى
25

من الله واجب الوقوع، وخصوصا عند بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ينتقم له من عدوه، ولعل فائدة السين هو المراد من قوله عليه السلام: " لأنصرنك ولو بعد حين ".
* (كلا لا تطعه واسجد واقترب) *.
ثم قال: * (كلا) * وهو ردع لأبي جهل، وقيل: معناه لن يصل إلى ما يتصلف به من أنه يدعو ناديه ولئن دعاهم لن ينفعوه ولن ينصروه، وهو أذل وأحقر من أن يقاومك، ويحتمل: لن ينال ما يتمنى من طاعتك له حين نهاك عن الصلاة، وقيل معناه: ألا لا تطعه.
ثم قال: * (لا تطعه) * وهو كقوله: * (فلا تطع المكذبين) *، * (واسجد) * وعند أكثر أهل التأويل أراد به صل وتوفر على عبادة الله تعالى فعلا وإبلاغا، وليقل فكرك في هذا العدو فإن الله مقويك وناصرك، وقال بعضهم: بل المراد الخضوع، وقال آخرون: بل المراد نفس السجود في الصلاة.
ثم قال: * (واقترب) * والمراد وابتغ بسجودك قرب المنزلة من ربك، وفي الحديث: " أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد " وقال بعضهم المراد: اسجد يا محمد، واقترب يا أبا جهل منه حتى تبصر ما ينالك من أخذ الزبانية إياك، فكأنه تعالى أمره بالسجود ليزداد غيظ الكافر، كقوله: * (ليغيظ بهم الكفار) * والسبب الموجب لازدياد الغيظ هو أن الكفار كان يمنعه من القيام، فيكون غيظه وغضبه عند مشاهدة السجود أتم، ثم قال عند ذلك: * (واقترب) * منه يا أبا جهل وضع قدمك عليه، فإن الرجل ساجد مشغول بنفسه، وهذا تهكم به واستحقار لشأنه، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
26

سورة القدر
خمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنا أنزلناه فى ليلة القدر) *.
* (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أجمع المفسرون على أن المراد: إنا أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ولكنه تعالى ترك التصريح بالذكر، لأن هذا التركيب يدل على عظم القرآن من ثلاثة أوجه أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر. شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التصريح، ألا ترى أنه في السورة المتقدمة لم يذكر اسم أبي جهل ولم يخف على أحد لاشتهاره، وقوله: * (فلولا إذا بلغت الحلقوم) * لم يذكر الموت لشهرته، فكذا ههنا والثالث: تعظيم الوقت الذي أنزل فيه.
المسألة الثانية: أنه تعالى قال في بعض المواضع: * (إني) * كقوله: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * وفي بعض المواضع * (إنا) * كقوله: * (إنا أنزلنا في ليلة القدر) *. * (إنا نحن نزلنا الذكر) *، * (إنا أرسلنا نوحا) *، * (إنا أعطيناك الكوثر) *. وأعلم أن قوله: * (إنا) * تارة يراد به التعظيم، وحمله على الجمع محال لأن الدلائل دلت على وحدة الصانع، ولأنه لو كان في الآلهة كثرة لانحطت رتبة كل واحد منهم عن الإلهية، لأنه لو كان كل واحد منهم قادرا على الكمال لاستغنى بكل واحد منهم عن كل واحد منهم، وكونه مستغنى عنه نقص في حقه فيكون الكل ناقصا، وإن لم يكن كل واحد منهم قادرا على الكمال كان ناقصا، فعلمنا أن قوله: * (إنا) * محمول على التعظيم لا على الجمع.
المسألة الثالثة: إن قيل: ما معنى إنه أنزل في ليلة القدر، مع العلم بأنه أنزل نجوما؟ قلنا فيه وجوه: أحدهما: قال الشعبي: ابتداء بإنزاله ليلة القدر لأن البعث كان في رمضان والثاني: قال ابن عباس: أنزل إلى سماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض نجوما، كما قال: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * وقد ذكرنا هذه المسألة في
قوله: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * لا يقال: فعلى هذا القول لم لم يقل: أنزلناه إلى السماء؟ لأن إطلاقه يوهم الإنزال إلى الأرض، لأنا نقول: إن إنزاله إلى السماء كإنزاله إلى الأرض، لأنه لم يكن ليشرع في أمر ثم لا يتمه، وهو كغائب جاء إلى نواحي البلد
27

يقال: جاء فلان، أو يقال الغرض من تقريبه وإنزاله إلى سماء الدنيا أن يشوقهم إلى نزوله كمن يسمع الخبر بمجيء منشور لوالده أو أمه، فإنه يزداد شوقه إلى مطالعته كما قال: وأبرح ما يكون الشوق يوما إذا دنت الديار من الديار وهذا لأن السماء كالمشترك بيننا وبين الملائكة، فهي لهم مسكن ولنا سقف وزينة، كما قال: * (وجعلنا السماء سقفا) * فإنزاله القرآن هناك كإنزاله ههنا والوجه الثالث في الجواب: أن التقدير أنزلنا هذا الذكر: * (في ليلة القدر) * أي في فضيلة ليلة القدر وبيان شرفها.
المسألة الرابعة: القدر مصدر قدرت أقدر قدرا، والمراد به ما يمضيه الله من الأمور، قال: * (إنا كل شيء خلقنا بقدر) * والقدر، والقدر واحد إلا أنه بالتسكين مصدر وبالفتح اسم، قال الواحدي: القدر في اللغة بمعنى التقدير، وهو جعل لشيء على مساواة غيره من غير زيادة ولا نقصان، واختلفوا في أنه لم سميت هذه الليلة ليلة القدر، على وجوه أحدهما: أنها ليلة تقدير الأمور والأحكام، قال عطاء، عن ابن عباس: أن الله قدر ما يكون في كل تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة إلى مثل هذه الليلة من السنة الآتية، ونظيره قوله تعالى: * (فيها يفرق كل أمر حكيم) * واعلم أن تقدير الله لا يحدث في تلك الليلة، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض في الأزل، بل المراد إظهار تلك الليلة المقادير للملائكة في تلك الليلة بأن يكتبها في اللوح المحفوظ، وهذا القول اختيار عامة العلماء الثاني: نقل عن الزهري أنه قال: * (ليلة القدر) * ليلة العظمة والشرف من قولهم لفلان قدر عند فلان، أي منزلة وشرف، ويدل عليه قوله: * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * ثم هذا يحتمل وجهين أحدهما: أن يرجع ذلك إلى الفاعل أي من أتى فيها بالطاعات صار ذا قدر وشرف وثانيهما: إلى الفعل أي الطاعات لها في تلك الليلة قدر زائد وشرف زائد، وعن أبي بكر الوراق سميت: * (ليلة القدر) * لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على أمة لها قدر، ولعل الله تعالى إنما ذكر لفظة القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب.
والقول الثالث: ليلة القدر، أي الضيق فإن الأرض تضيق عن الملائكة.
المسألة الخامسة: أنه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه أحدها: أنه تعالى أخفاها، كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى في الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان وثانيها: كأنه تعالى يثول: لو عينت ليلة القدر، وأنا عالم بتجاسركم على المعصية، فربما دعتك الشهوة في
28

تلك الليلة إلى المعصية، فوقعت في الذنب، فكانت معصيتك مع علمك أشد من معصيتك لا مع علمك، فلهذا السبب أخفيتها عليك، روى أنه عليه السلام دخل المسجد فرأى نائما، فقال: يا علي نبهه ليتوضأ، فأيقظه علي، ثم قال علي: يا رسول الله إنك سباق إلى الخيرات، فلم لم تنبهه؟ قال: لأن رده عليك ليس بكفر، ففعلت ذلك لتخف جنايته لو أبى، فإذا كان هذا رحمة الرسول، فقس عليه رحمة الرب تعالى، فكأنه تعالى يقول: إذا علمت ليلة القدر فإن أطعت فيها اكتسبت ثواب ألف شهر، وإن عصيت فيها اكتسب عقاب ألف شهر، ودفع العقاب أولى من جلب الثواب وثالثها: أني أخفيت هذه الليلة حتى يجتهد المكلف في طلبها، فيكتسب ثواب الاجتهاد ورابعها: أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر، فإنه يجتهد في الطاعة في جميع ليالي رمضان، على رجاء أنه ربما كانت هذه الليلة هي ليلة القدر، فيباهي الله تعالى بهم ملائكته، يقول: كنتم تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء. فهذا جده واجتهاده في الليلة المظنونة، فكيف لو جعلتها معلومة له! فحينئذ يظهر سر قوله: * (إني أعلم مالا تعلمون) *.
المسألة السادسة: اختلفوا في أن هذه الليلة هل تستتبع اليوم؟ قال الشعبي: نعم يومها كليلتها، ولعل الوجه فيه أن ذكر الليالي يتبع الأيام، ومنه إذا نذر اعتكاف ليلتين ألزمناه بيوميهما قال تعالى: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) * أي اليوم يخلف ليلته وبالضد. المسألة السابعة: هذه الليلة هل هي باقية؟ قال الخليل: من قال إن فضلها لنزول القرآن فيها يقول انقطعت وكانت مرة، والجمهور على أنها باقية، وعلى هذا هل هي مختصة برمضان أم لا؟ روى عن ابن مسعود أنه قال: من يقم الحول يصبها، وفسرها عكرمة بليلة البراءة في قوله: * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) * والجمهور على أنها مختصة برمضان واحتجوا عليه بقوله تعالى: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) * وقال: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * فوجب أن تكون ليلة القدر في رمضان لئلا يلزم التناقص، وعلى هذا القول اختلفوا في تعيينها على ثمانية أقوال، فقال ابن رزين: ليلة القدر هي الليلة الأولى من رمضان، وقال الحسن البصري: السابعة عشرة، وعن أنس مرفوعا التاسعة عشرة، وقال محمد بن إسحق: الحادية والعشرون. وعن ابن عباس الثالثة والعشرون، وقال ابن مسعود: الرابعة والعشرون، وقال أبو ذر الغفاري: الخامسة والعشرون، وقال أبي بن كعب وجماعة من الصحابة: السابعة والعشرون، وقال بعضهم: التاسعة والعشرون. أما الذين قالوا: إنها الليلة الأولى (فقد) قالوا: روى وهب أن صحف إبراهيم أنزلت في الليلة الأولى من رمضان والتوراة ليست ليال مضين من رمضان بعد صحف إبراهيم بسبعمائة سنة، وأنزل الزبور على داود لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان بعد التوراة بخمسمائة عام وأنزل الإنجيل على عيسى لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان بعد الزبور بستمائة عام وعشرين عاما، وكان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة قدر من السنة إلى السنة كان جبريل عليه السلام ينزل به من بيت العزة من السماء
29

السابعة إلى سماء الدنيا، فأنزل الله تعالى القرآن في عشرين شهرا في عشرين سنة، فلما كان هذا الشهر هو الشهر الذي حصلت فيه هذه الخيرات العظيمة، لا جرم كان
في غاية الشرف والقدر والرتبة فكانت الليلة الأولى منه ليلة القدر، وأما الحسن البصري فإنه قال: هي ليلة سبعة عشر، لأنها ليلة كانت صبيحتها وقعة بدر، وأما التاسعة عشرة فقد روى أنس فيها خبرا، وأما ليلة السابع والعشرين فقد مال الشافعي إليه لحديث الماء والطين، والذي عليه المعظم أنها ليلة السابع والعشرين، وذكروا فيه أمارات ضعيفة أحدها: حديث ابن عباس أن السورة ثلاثون كلمة، وقوله: * (هي) * هي السابعة والعشرون منها وثانيها: روى أن عمر سأل الصحابة ثم قال لابن عباس: غص يا غواص فقال زيد بن ثابت: أحضرت أولاد المهاجرين وما أحضرت أولادنا. فقال عمر: لعلك تقول: إن هذا غلام، ولكن عنده ما ليس عندكم. فقال ابن عباس: أحب الأعداد إلى الله تعالى الوتر أحب الوتر إليه السبعة، فذكر السماوات السبع والأرضين السبع والأسبوع ودركات النار وعدد الطواف والأعضاء السبعة، فدل على أنها السابعة والعشرون وثالثها: نقل أيضا عن ابن عباس، أنه قال: * (ليلة القدر) * تسعة أحرف، وهو مذكور ثلاث مرات فتكون السابعة والعشرين ورابعها: أنه كان لعثمان بن أبي العاص غلام، فقال: يا مولاي إن البحر يعذب ماؤه ليلة من الشهر، قال: إذا كانت تلك الليلة، فأعلمني فإذا هي السابعة والعشرون من رمضان. وأما من قال: إنها الليلة الأخيرة قال: لأنها هي الليلة التي تتم فيها طاعات هذا الشهر، بل أول رمضان كآدم وآخره كمحمد، ولذلك روى في الحديث، يعتق في آخر رمضان بعدد ما أعتق من أول الشهر، بل الليلة الأولى كمن ولد له ذكر، فهي ليلة شكر، والأخيرة ليلة الفراق، كمن مات له ولد، فهي ليلة صبر، وقد علمت فرق ما بين الصبر والشكر.
* (ومآ أدراك ما ليلة القدر) *.
ثم قال تعالى: * (وما أدراك ما ليلة القدر) * يعني ولم تبلغ درايتك غاية فضلها ومنتهى علو قدرها، ثم إنه تعالى بين فضيلتها من ثلاثة أوجه:
* (ليلة القدر خير من ألف شهر) *.
الأول: قوله تعالى: * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في تفسير الآية وجوه أحدها: أن العبادة فيها * (خير من ألف شهر) * ليس فيها هذه الليلة، لأنه كالمستحيل أن يقال إنها: * (خير من ألف شهر) * فيها هذه الليلة، وإنما كان كذلك لما يزيد الله فيها من المنافع والأرزاق وأنواع الخير وثانيها: قال مجاهد: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد حتى يمسي فعل ذلك ألف شهر، فتعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون من ذلك، فأنزل الله هذه الآية، أي ليلة القدر لأمتك خير من ألف شهر لذلك الإسرائيلي الذي حمل السلاح ألف شهر وثالثها: قال مالك بن أنس: أرى
30

رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعمار الناس، فاستقصر أعمار أمته، وخاف أن لا يبلغوا من الأعمال مثل ما بلغه سائر الأمم، فأعطاه الله ليلة القدر وهي خير من ألف شهر لسائر الأمم ورابعها: روى القاسم بن فضل عن عيسى بن مازن، قال: قلت للحسن بن علي عليه السلام يا مسود وجوه المؤمنين عمدت إلى هذا الرجل فبايعت له يعني معاوية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى في منامه بني أمية يطؤن منبره واحدا بعد واحد، وفي رواية ينزون على منبره نزو القردة، فشق ذلك عليه فأنزل الله تعالى: * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * إلى قوله: * (خير من ألف شهر) * يعني ملك بني أمية قال القاسم فحسبنا ملك بني أمية، فإذا هو ألف شهر. طعن القاضي في هذه الوجوه فقال: ما ذكر من * (ألف شهر) * في أيام بني أمية بعيد، لأنه تعالى لا يذكر فضلها بذكر ألف شهر مذمومة، وأيام بني أمية كانت مذمومة.
واعلم أن هذا الطعن ضعيف، وذلك لأن أيام بني أمية كانت أياما عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يمتنع أن يقول الله تعالى إني: أعطيتك ليلة هي في السعادات الدينية أفضل من تلك السعادات الدنيوية.
المسألة الثانية: هذه الآية فيها بشارة عظيمة وفيها تهديد عظيم، أما البشارة فهي أنه تعالى ذكر أن هذه الليلة خير، ولم يبين قدر الخيرية، وهذا كقوله عليه السلام لمبارزة علي عليه السلام مع عمرو بن عبد ود (العامري) أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة، فلم يقل مثل عمله بل قال: أفضل كأنه يقول: حسبك هذا من الوزن والباقي جزاف.
واعلم أن من أحياها فكأنما عبد الله تعالى نيفا وثمانين سنة، ومن أحياها كل سنة فكأنه رزق أعمارا كثيرة، ومن أحيا الشهر لينالها بيقين فكأنه أحيا ثلاثين قدرا، يروى أنه يجاء يوم القيامة بالإسرائيلي الذي عبد الله أربعمائة سنة، ويجاء برجل من هذه الأمة، وقد عبد الله أربعين سنة فيكون ثوابه أكثر، فيقول الإسرائيلي: أنت العدل، وأرى ثوابه أكثر، فيقول: إنكم كنتم تخافون العقوبة المعجلة فتعبدون، وأمة محمد كانوا آمنين لقوله: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * ثم إنهم كانوا يعبدون، فلهذا السبب كانت عبادتهم أكثر ثوابا، وأما التهديد فهو أنه تعالى توعد صاحب الكبيرة بالدخول في النار، وأن إحياء مائة ليلة من القدر لا يخلصه عن ذلك العذاب المستحق بتطفيف حبة واحدة، فلهذا فيه إشارة إلى تعظيم حال الذنب والمعصية.
المسألة الثالثة: لقائل أن يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أجرك على قدر نصبك " ومن المعلوم أن الطاعة في ألف شهر أضيق من الطاعة في ليلة واحدة، فكيف يعقل استواؤهما؟ والجواب: من وجوه: أحدها: أن الفعل الواحد قد يختلف حاله في الحسن والقبح بسبب اختلاف الوجوه المنضمة إليه، ألا ترى أن صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بكذا درجة، مع أن الصورة قد تنتقض فإن المسبوق سقطت عنه ركعة واحدة، وأيضا
31

فأنت تقول لمن يرجم: إنه إنما يرجم إنه زان فهو قول حسن، ولو قلته للنصراني فقذف يوجب التعزيز، ولو قلته للمحصن فهو يوجب الحد، فقد اختلفت الأحكام في هذه المواضع، مع أن الصورة واحدة في الكل، بل لو قلته في حق عائشة كان كفرا، ولذلك قال: * (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) * وذلك لأن هذا طعن في
حق عائشة التي كانت رحلة في العلم، لقوله عليه السلام: " خذوا ثلثي دينكم من هذه الحميراء " وطعن في صفوان مع أنه كان رجلا بدريا، وطعن في كافة المؤمنين لأنها أم المؤمنين، وللولد حق المطالبة بقذف الأم وإن كان كافرا، بل طعن في النبي الذي كان أشد خلق الله غيره، بل طعن في حكمة الله إذ لا يجوز أن يتركه حتى يتزوج بامرأة زانية، ثم القائل بقوله: هذا زان، فقد ظن أن هذه اللفظة سهلة مع أنها أثقل من الجبال، فقد ثبت بهذا أن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها، فلا يبعد أن تكون الطاعة القليلة في الصورة مساوية في الثواب للطاعات الكثيرة والوجه الثاني: في الجواب أن مقصود الحكيم سبحانه أن يجر الخلق إلى الطاعات فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين، فقال: * (إن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا) * ومرة عشرا، ومرة سبعمائة، وتارة بحسب الأزمنة، وتارة بحسب الأمكنة، والمقصود الأصلي من الكل جر المكلف إلى الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي، والمقصود ما ذكرناه الوجه الثاني: من فضائل هذه الليلة.
* (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) *.
قوله تعالى: * (تنزل الملائكة والروح فيها) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن نظر الملائكة على الأرواح، ونظر البشر على الأشباح، ثم إن الملائكة لما رأوا روحك محلا للصفات الذميمة من الشهوة والغضب ما قبلوك. فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وأبواك لما رأوا قبح صورتك في أول الأمر حين كنت منيا وعلقة ما قبلوك أيضا، بل أظهروا النفرة، واستقذروا ذلك المني والعلقة، وغسلوا ثيابهم عنه، ثم كم احتالوا للإسقاط والإبطال، ثم إنه تعالى لما أعطاك الصورة الحسنة فالأبوان لما رأوا تلك الصورة الحسنة قبلوك ومالوا إليك، فكذا الملائكة لما رأوا في روحك الصورة الحسنة وهي معرفة الله وطاعته أحبوك فنزلوا إليك معتذرين عما قالوه أولا، فهذا هو المراد من قوله: * (تنزل الملائكة) * فإذا نزلوا إليك رأوا روحك في ظلمة ليل البدن، وظلمة القوى الجسمانية فحينئذ يعتذرون عما تقدم: * (ويستغفرون للذين آمنوا) *.
المسألة الثانية: أن قوله تعالى: * (تنزل الملائكة) * يقتضي ظاهره نزول كل الملائكة، ثم
32

الملائكة لهم كثرة عظيمة لا تحتمل كلهم الأرض، فلهذا السبب اختلفوا فقال بعضهم: إنها تنزل بأسرها إلى السماء الدنيا، فإن قيل الإشكال بعد باق لأن السما مملوءة بحيث لا يوجد فيها موضع إهاب إلا وفيه ملك، فكيف تسع الجميع سماء واحدة؟ قلنا: يقضي بعموم الكتاب على خبر الواحد، كيف والمروي إنهم ينزلون فوجا فوجا فمن نازل وصاعد كأهل الحج فإنهم على كثرتهم يدخلون الكعبة بالكلية لكن الناس بين داخل وخارج، ولهذا السبب مدت إلى غاية طلوع الفجر فلذلك ذكر بلفظ: * (تنزل) * الذي يفيد المرة بعد المرة.
والقول الثاني: وهو اختيار الأكثرين أنهم ينزلون إلى الأرض وهو الأوجه، لأن الغرض هو الترغيب في إحياء هذه الليلة، ولأنه دلت الأحاديث على أن الملائكة ينزلون في سائر الأيام إلى مجالس الذكر والدين، فلأن يحصل ذلك في هذه الليلة مع علو شأنها أولى، ولأن النزول المطلق لا يفيد إلا النزول من السماء إلى الأرض، ثم اختلف من قال: ينزلون إلى الأرض على وجوه: أحدها: قال بعضهم: ينزلون ليروا عبادة البشر وحدهم واجتهادهم في الطاعة وثانيها: أن الملائكة قالوا: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * فهذا يدل على أنهم كانوا مأمورين بذلك النزول فلا يدل على غاية المحبة. وأما هذه الآية وهو قوله: * (بإذن ربهم) * فإنها تدل على أنهم استأذنوا أولا فأذنوا، وذلك يدل على غاية المحبة، لأنهم كانوا يرغبون إلينا ويتمنون لقاءنا. لكن كانوا ينتظرون الإذن، فإن قيل قوله: * (وإنا لنحن الصافون) * ينافي قوله: * (تنزل الملائكة) * قلنا نصرف الحالتين إلى زمانين مختلفين وثالثها: أنه تعالى وعد في الآخرة أن الملائكة: * (يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم) * فههنا في الدنيا إن اشتغلت بعبادتي نزلت الملائكة عليك حتى يدخلوا عليك للتسلم والزيارة، روى عن علي عليه السلام: " أنهم ينزلون ليسلموا علينا وليشفعوا لنا فمن أصابته التسليمة غفر له ذنبه " ورابعها: أن الله تعالى جعل فضيلة هذه الليلة في الاشتغال بطاعته في الأرض فهم ينزلون إلى الأرض لتصير طاعاتهم أكثر ثوابا، كما أن الرجل يذهب إلى مكة لتصير طاعته هناك أكثر ثوابا، وكل ذلك ترغيب للإنسان في الطاعة وخامسها: أن الإنسان يأتي بالطاعات والخيرات عند حضور الأكابر من العلماء والزهاد أحسن مما يكون في الخلوة، فالله تعالى أنزل الملائكة المقربين حتى أن المكلف يعلم أنه إنما يأتي بالطاعات في حضور أولئك العلماء العباد الزهاد فيكون أتم وعن النقصان أبعد وسادسها: أن من الناس من خص لفظ الملائكة ببعض فرق الملائكة، عن كعب أن سدرة المنتهى على حد السماء السابعة مما يلي الجنة، فهي على حد هواء الدنيا وهواء الآخرة، وساقها في الجنة وأغصانها تحت الكرسي فيها ملائكة لا يعلم عددهم إلا الله يعبدون الله ومقام جبريل في وسطها، ليس فيها ملك إلا وقد أعطى الرأفة والرحمة للمؤمنين ينزلون مع جبريل ليلة القدر، فلا تبقى بقعة من الأرض إلا وعليها ملك ساجد أو قائم يدعو للمؤمنين والمؤمنات، وجبريل لا يدع أحدا من الناس إلا صافحهم، وعلامة ذلك من اقشعر جلده
33

ورق قلبه ودمعت عيناه، فإن ذلك من مصافحة جبريل عليه السلام، من قال فيها ثلاث مرات: لا إله إلا الله غفر له بواحدة، ونجاه من النار بواحدة، وأدخله الجنة بواحدة، وأول من يصعد جبريل حتى يصير أمام الشمس فيبسط جناحين أخضرين لا ينشرهما إلا تلك الساعة من تلك الليلة ثم يدعو ملكا ملكا، فيصعد الكل ويجتمع نور الملائكة ونور جناح جبريل عليه السلام، فيقيم جبريل ومن معه من الملائكة بين الشمس وسماء الدنيا يومهم ذلك مشغولين بالدعاء والرحمة والاستغفار للمؤمنين، ولمن صام رمضان احتسابا، فإذا أمسوا دخلوا سماء الدنيا فيجلسون حلقا حلقا فتجمع إليهم ملائكة السماء فيسألونهم عن رجل رجل وعن امرأة امرأة، حتى يقولوا: ما فعل فلان وكيف وجدتموه؟ فيقولون: وجدناه عام أول متعبدا، وفي هذا العام مبتدعا، وفلان كان عام أول مبتدعا، وهذا العام متعبدا، فيكفون عن الدعاء للأول، ويشتغلون بالدعاء للثاني، ووجدنا فلانا تاليا، وفلانا راكعا، وفلانا ساجدا، فهم كذلك يومهم وليلتهم حتى يصعدوا السماء الثانية وهكذا يفعلون في كل سماء حتى ينتهوا إلى السدرة
. فتقول لهم السدرة: يا سكاني حدثوني عن الناس فإن لي عليكم حقا، وإني أحب من أحب الله، فذكر كعب أنهم يعدون لها الرجل والمرأة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ثم يصل ذلك الخبر إلى الجنة، فتقول الجنة: اللهم عجلهم إلي، والملائكة، وأهل السدرة يقولون: آمين آمين، إذا عرفت هذا فنقول، كلما كان الجمع أعظم، كان نزول الرحمة هناك أكثر، ولذلك فإن أعظم الجموع في موثق الحج، لا جرم كان نزول الرحمة هناك أكثر، فكذا في ليلة القدر يحصل مجمع الملائكة المقربين، فلا جرم كان نزل الرحمة أكثر.
المسألة الثالثة: ذكروا في الروح أقوالا أحدها: أنه ملك عظيم، لو التقم السماوات والأرضين كان ذلك له لقمة واحدة وثانيها: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا ليلة القدر، كالزهاد الذين لا نراهم إلا يوم العيد وثالثها: خلق من خلق الله يأكلون ويلبسون ليسوا من الملائكة، ولا من الإنس، ولعلهم خدم أهل الجنة ورابعها: يحتمل أنه عيسى عليه السلام لأنه اسمه، ثم إنه ينزل في مواقفة الملائك ليطلع على أمة محمد وخامسها: أنه القرآن: * (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) * وسادسها: الرحمة قرىء: * (لا تيأسوا من روح الله) * بالرفع كأنه تعالى، يقول: الملائكة ينزلون رحمتي تنزل في أثرهم فيجدون سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسابعها: الروح أشرف الملائكة وثامنها: عن أبي نجيح الروح هم الحفظة والكرام الكاتبون فصاحب اليمين يكتب إتيانه بالواجب، وصاحب الشمال يكتب تركه للقبيح، والأصح أن الروح ههنا جبريل. وتخصيصه بالذكر لزيادة شرفه كأنه تعالى يقول الملائكة في كفة والروح في كفة.
أما قوله تعالى: * (بإذن ربهم) * فقد ذكرنا أن هذا يدل على أنهم كانوا مشتاقين إلينا، فإن
34

قيل: كيف يرغبون إلينا مع علمهم بكثرة معاصينا؟ قلنا: إنهم لا يقفون على تفصيل المعاصي روى أنهم يطالعون اللوح، فيرون فيه طاعة المكلف مفصلة، فإذا وصلوا إلى معاصيه أرخى الستر فلا ترونها، فحينئذ يقول: سبحان من أظهر الجميل، وستر على القبيح، ثم قد ذكرنا فوائد في نزولهم ونذكر الآن فوائد أخرى وحاصلها أنهم يرون في الأرض من أنواع الطاعات أشياء ما رأوها في عالم السماوات أحدها: أن الأغنياء يجيئون بالطعام من بيوتهم فيجعلونه ضيافة للفقراء والفقراء يأكلون طعام الأغنياء ويعبدون الله، وهذا نوع من الطاعة لا يوجد في السماوات وثانيها: أنهم يسمعون أنين العصاة وهذا لا يوجد في السماوات وثالثها: أنه تعالى قال: " لأنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين " فقالوا: تعالوا نذهب إلى الأرض فنسمع صوتا هو أحب إلى ربنا من صوت تسبيحنا، وكيف لا يكون أحب وزجل المسبحين إظهار لكمال حال المطيعين، وأنين العصاة إظهار الغفارية رب الأرض والسماوات (وهذه هي المسألة الأولى).
المسألة الثانية: هذه الآية دالة على عصمة الملائكة ونظيرها قوله: * (وما نتنزل إلا بأمر ربك) * وقوله: * (لا يسبقونه بالقول) * وفيها دقيقة وهي أنه تعالى لم يقل: مأذونين بل قال: * (بإذن ربهم) * وهو إشارة إلى أنهم لا يتصرفون تصرفا ما إلا بإذنه، ومن ذلك قول الرجل لامرأته إن خرجت إلا بإذني، فإنه يعتبر الإذن في كل خرجة.
المسألة الثالثة: قوله: * (ربهم) * يفيد تعظيما للملائكة وتحقيرا للعصاة، كأنه تعالى قال: كانوا لي فكنت لهم، ونظيره في حقنا: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * وقال لمحمد عليه السلام: * (وإذ قال ربك) * ونظيره ما روى أن داود لما مرض مرض الموت قال: إلهي كن لسليمان كما كنت لي، فنزل الوحي وقال: قل لسليمان فليكن لي كما كنت لي، وروى عن إبراهيم الخليل عليه السلام أنه فقد الضيف أياما فخرج بالسفرة ليلتمس ضيفا فإذا بخيمة، فنادى أتريدون الضيف؟ فقيل: نعم، فقال للمضيف: أيوجد عندك إدام لبن أو عسل؟ فرفع الرجل صخرتين فضرب إحداهما بالأخرى فانشقا فخرج من إحداهما اللبن ومن الأخرى العسل، فتعجب إبراهيم وقال: إلهي أنا خليلك ولم أجد مثل ذلك الإكرام، فماله؟ فنزل الوحي يا خليلي كان لنا فكنا له.
أما قوله تعالى: * (من كل أمر) * فمعناه تنزل الملائكة والروح فيها من أجل كل أمر، والمعنى أن كل واحد منهم إنما نزل لمهم آخر، ثم ذكروا فيه وجوها أحدها: أنهم كانوا في أشغال كثيرة فبعضهم للركوع وبعضهم للسجود، وبعضهم بالدعاء، وكذا القول في التفكر والتعليم، وإبلاغ الوحي، وبعضهم لإدراك فضيلة الليلة أو ليسلموا على المؤمنين وثانيها: وهو قول الأكثرين
35

من أجل كل أمر قدر في تلك السنة من خير أو شر، وفيه إشارة إلى أن نزولهم إنما كان عبادة، فكأنهم قالوا: ما نزلنا إلى الأرض لهوى أنفسنا، لكن لأجل كل أمر فيه مصلحة المكلفين، وعم لفظ الأمر ليعم خير الدنيا والآخرة بيانا منه أنهم ينزلون بما هو صلاح المكلف في دينه ودنياه كأن السائل يقول: من أين جئت؟ فيقول: مالك وهذا الفضول، ولكن قل: لأي أمر جئت لأنه حظك وثالثها: قرأ بعضهم: * (من كل امرئ) * أي من أجل كل إنسان، وروى أنهم لا يلقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه، قيل: أليس أنه قد روى أنه تقسم الآجال والأرزاق ليلة النصف من شعبان، والآن تقولون: إن ذلك يكون ليلة القدر؟ قلنا: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله يقدر المقادير في ليلة البراءة، فإذا كان ليلة القدر يسلمها إلى أربابها " وقيل: يقدر ليلة البراءة الآجال والأرزاق، وليلة القدر يقدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة، وقيل: يقدر في ليلة القدر ما يتعلق به إعزاز الدين، وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وأما ليلة البراءة فيكتب فيها أسماء من يموت ويسلم إلى ملك الموت.
* (سلام هى حتى مطلع الفجر) *.
الوجه الثالث: من فضائل هذه الليلة. قوله تعالى: * (سلام هي حتى مطلع الفجر) * وفيه مسائل: المسألة الأولى: في قوله سلام وجوه أحدها: أن ليلة القدر، إلى طلوع الفجر سلام أي تسلم الملائكة على المطيعين، وذلك لأن الملائكة ينزلون فوجا فوجا من ابتداء الليل إلى طلوع الفجر فترادف النزول لكثرة السلام وثانيها: وصفت الليلة بأنها سلام، ثم يجب أن لا يستحقر هذا السلام لأن سبعة من الملائكة سلموا على الخليل في قصة العجل الحنيذ، فازداد فرحه بذلك على فرحه بملك الدنيا،
بل الخليل لما سلم الملائكة عليه صار نار نمروذ عليه * (بردا وسلاما) * أفلا تصير ناره تعالى ببركة تسليم الملائكة علينا بردا وسلاما لكن ضيافة الخليل لهم كانت عجلا مشويا وهم يريدون منا قلبا مشويا، بل فيه دقيقة، وهي إظهار فضل هذه الأمة، فإن هناك الملائكة، نزلوا على الخليل، وههنا نزلوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم وثالثها: أنه سلام من الشرور والآفات، أي سلامة وهذا كما يقال: إنما فلان حج وغزو أي هو أبدا مشغول بهما، ومثله: " فإنما هي إقبال وإدبار ".
وقالوا تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بالخيرات والسعادات ولا ينزل فيها من تقدير المضار شيء فما ينزل في هذه الليلة فهو سلام، أي سلامة ونفع وخير ورابعها: قال أبو مسلم: سلام أي الليلة سالمة عن الرياح والأذى والصواعق إلى ما شابه ذلك وخامسها: سلام لا يستطيع الشيطان فيها سوءا وسادسها: أن الوقف عند قوله: * (من كل أمر سلام) * فيتصل السلام بما قبله ومعناه أن تقدير الخير والبركة والسلامة يدوم إلى طلوع الفجر، وهذا الوجه ضعيف وسابعها:
36

أنها من أولها إلى مطلع الفجر سالمة في أن العبادة في كل واحد من أجزائها خير من ألف شهر ليست كسائر الليالي في أنه يستحب للفرض الثلث الأول وللعبادة النصف وللدعاء السحر بل هي متساوية الأوقات والأجزاء وثامنها: سلام هي، أي جنة هي لأن من أسماء الجنة دار السلام أي الجنة المصوغة من السلامة.
المسألة الثانية: المطلع الطلوع يقال: طلع الفجر طلوعا ومطلعا، والمعنى أنه يدوم ذلك السلام إلى طلوع الفجر، ومن قرأ بكسر اللام فهو اسم لوقت الطلوع وكذا مكان الطلوع مطلع قاله الزجاج: أما أبو عبيدة والفراء وغيرهما فإنهم اختاروا فتح اللام لأنه بمعنى المصدر، وقالوا: الكسر اسم نحو المشرق ولا معنى لاسم موضع الطلوع ههنا بل إن حمل على ما ذكره الزجاج من اسم وقت الطلوع صح، قال أبو علي: ويمكن حمله على المصدر أيضا، لأن من المصادر التي ينبغي أن تكون على المفعل ما قد كسر كقولهم علاء المكبر والمعجز، قوله: * (ويسألونك عن المحيض) * فكذلك كسر المطلع جاء شاذا عما عليه بابه. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
37

سورة البينة
وهي ثمانية آيات مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءتهم البينة) *.
* (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة، رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة، وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) *.
إعلم أن في الآية مسائل:
المسألة الأولى: قال الواحدي في كتاب البسيط: هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء، ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول: وجه الإشكال أن تقدير الآية: * (لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة) * التي هي الرسول، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه، فصار التقدير: لم يكن الذين كفروا منفكين، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول، ثم قال بعد ذلك: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر، هذا منتهى الإشكال فيما أظن والجواب: عنه من وجوه أولها: وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف. وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان، كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم: لا ننفك عما نحن عليه من ديننا، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل. وهو محمد عليه السلام، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه، ثم قال: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * يعني
38

أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه: لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى، فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقا فيقول واعظه: لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما، وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد، وهو أن قوله: * (لم يكن الذين كفروا منفكين) * عن كفرهم: * (حتى تأتيهم البينة) * مذكورة حكاية عنهم، وقوله: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب) * هو إخبار عن الواقع، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا وثانيها: أن تقدير الآية، لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة. وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء وثالثها: أنا لا نحمل قوله: * (منفكين) * على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة: أي حتى أتتهم، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي، وهو كقوله تعالى: * (ما تتلو الشيطين) * أي ما تلت، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه، وقال كل واحد فيه قولا آخر رديا ونظيره قوله تعالى: * (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * والقول المختار في هذه الآية هو الأول، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك، بخلاف ما كان قبل ذلك، والأمر هكذا
كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمنا، ومنهم من صار كافرا، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى، وفيها وجه خامس: وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان، ونظيره قوله: * (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) * والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازما في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام: اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته، وقوله: * (منفكين) * مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها، ثم إن بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.
المسألة الثانية: الكفار كانوا جنسين أحدهما: أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفارا بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم: * (عزير ابن الله) * و: * (المسيح ابن الله) * وتحريفهم
39

كتاب الله ودينه والثاني: المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب، فذكر الله تعالى الجنسين بقوله: * (الذين كفروا) * على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل، وهو قوله: * (من أهل الكتاب والمشركين) * وههنا سؤالان:
السؤال الأول: تقدير الآية: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر، وهذا حق، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر، ومعلوم أن ليس بحق والجواب: من وجوه أحدها: كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله: * (فاجتنبوا الرجس من الأوثان) * وثانيها: أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، بعضهم من أهل الكتاب، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة، وهذا كله شرك، وقد يقول القائل: جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوما بأعيانهم يصفهم بالأمرين. وقال تعالى: * (الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والحافظون لحدود) * وهذا وصف لطائفة واحدة، وفي القرآن من هذا الباب كثير، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفا لموصوف واحد.
السؤال الثاني: المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب؟ قلنا: ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام: " سنوليهم سنة أهل الكتاب " وأنكره الآخرون قال: لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب، وهم اليهود والنصارى، قال تعالى حكاية عنهم: * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) * والطائفتان هم اليهود والنصارى.
السؤال الثالث: ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين؟ حيث قال: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) *؟ الجواب: أن الواو لا تفيد الترتيب، ومع هذا ففيه فوائد أحدها: أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر وثانيها: أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم، فكان إصرارهم على الكفر أقبح وثالثها: أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلا لكفر غيرهم، فلهذا قدموا في الذكر ورابعها: أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر.
السؤال الرابع: لم قال من أهل الكتاب، ولم يقل من اليهود والنصارى؟ الجواب: لأن قوله: * (من أهل الكتاب) * يدل على كونهم علماء، وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى، أو لأن كونه عالما يقتضي مزيد قبح في كفره، فذكروا بهذا الوصف تنبيها على تلك الزيادة من العقاب.
40

المسألة الثانية: هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع أحدها: أنه تعالى فسر قوله: * (الذين كفروا) * بأهل الكتاب وبالمشركين، فهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر، فمن ذلك قال العلماء: الكفر كله ملة واحدة، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس والثاني: أن العطف أوجب المغايرة، فلذلك نقول: الذمي ليس بمشرك، وقال عليه السلام: " غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك الثالث: نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية.
المسألة الرابعة: قال القفال: الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح والزوال، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله: انفك الرهن، ومنه فكاك الأسير وفكه، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفك من مفصله، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثا قويا لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة، أما البينة فهي الحجة الظاهرة التي بها يتميز الحق من الباطل فهي من البيان أو البينونة لأنها تبين الحق من الباطل، وفي المراد من البينة في هذه الآية أقوال:
الأول: أنها هي الرسول، ثم ذكروا في أنه لم سمي الرسول بالبينة وجوها الأول: أن ذاته كانت بينة على نبوته، وذلك لأنه عليه السلام كان في نهاية الجد في تقرير النبوة والرسالة، ومن كان كذابا متصنعا فإنه لا يتأتى منه ذلك الجد المتناهي، فلم يبق إلا أن يكون صادقا أو معتوها والثاني: معلوم البطلان لأنه كان في غاية كمال العقل، فلم يبق إلا أنه كان صادقا الثاني: أن مجموع الأخلاف الحاصلة فيه كان بالغا إلى حد كمال الإعجاز، والجاحظ قرر هذا المعنى، والغزالي رحمه الله نصره في كتاب المنقذ، فإذا لهذين الوجهين سمي هو في نفسه بأنه بينة الثالث: أن معجزاته عليه الصلاة والسلام كانت في غاية الظهور وكانت أيضا في غاية الكثرة فلاجتماع هذين الأمرين جعل كأنه عليه السلام في نفسه بينة وحجة، ولذلك سماه الله تعالى: * (سراجا منيرا) *. واحتج القائلون بأن المراد من البينة هو الرسول بقوله تعالى بعد هذه الآية: * (رسول من الله) * فهو رفع على البدن من البينة، وقرأ عبد الله: * (رسولا) * حال من البينة قالوا: والألف واللام في قوله: * (البينة) *
للتعريف أي هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى، أو يقال: إنها للتفخيم أي هو: * (البينة) * التي لا مزيد عليها أو البينة كل البينة لأن التعريف قد يكون للتفخيم وكذا التنكير وقد جمعهما الله ههنا في حق الرسول عليه لسلام فبدأ بالتعريف وهو لفظ البينة ثم ثنى بالتنكير فقال: * (رسول من الله) * أي هو رسول، وأي رسول، ونظيره ما ذكره الله تعالى في الثناء على نفسه فقال: * (ذو العرش المجيد) * ثم قال: * (فعال) * فنكر بعد التعريف.
القول الثاني: أن المراد من * (البينة) * مطلق الرسل وهو قول أبي مسلم قال: المراد من قوله:
41

* (حتى تأتيهم البينة) * أي حتى تأتيهم رسل من ملائكة الله تتلوا عليهم صحفا مطهرة وهو كقوله: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء) * وكقوله: * (بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة) *.
القول الثالث: وهو قتادة وابن زيد: * (البينة) * هي القرآن ونظيره قوله: * (أو لم تأتيهم بينة ما في الصحف الأولى) * ثم قوله بعد ذلك: * (رسول من الله) * لا بد فيه من مضاف محذوف والتقدير: وتلك البينة وحي: * (رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) *.
أما قوله تعالى: * (يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة) * فاعلم أن الصحف جمع صحيفة وهي ظرف للمكتوب، وفي: * (المطهرة) * وجوه: أحدها: * (مطهرة) * عن الباطل وهي كقوله: * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * وقوله: * (مرفوعة مطهرة) *، وثانيها: مطهرة عن الذكر القبيح فإن القرآن يذكر بأحسن الذكر ويثني عليه أحسن الثناء وثالثها: أن يقال: مطهرة أي ينبغي أن لا يمسها إلا المطهرون، كقوله تعالى: * (في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) *.
واعلم أن المطهرة وإن جرت نعتا للصحف في الظاهر فهي نعت لما في الصحف وهو القرآن وقوله: * (كتب) * فيه قولان: * (أحدهما) * المراد من الكتب الآيات المكتوبة في الصحف والثاني: قال صاحب النظم: الكتب قد يكون بمعنى الحكم: * (كتب الله لأغلبن) * ومنه حديث العسيف: " لأقضين بينكما بكتاب الله " أي بحكم الله فيحتمل أن يكون المراد من قوله: * (كتب قيمة) * أي أحكام قيمة أما القيمة ففيها قولان الأول: قال الزجاج: مستقيمة لا عوج فيها تبين الحق من الباطل من قام يقوم كالسيد والميت، وهو كقولهم: قام الدليل على كذا إذا ظهر واستقام الثاني: أن تكون القيمة بمعنى القائمة أي هي قائمة مستقلة بالحجة والدلالة، من قولهم قام فلان بالأمر يقوم به إذا أجراه على وجهه، ومنه يقال للقائم بأمر القوم القيم، فإن قيل: كيف نسب تلاوة الصحف المطهرة إلى الرسول مع أنه كان أميا؟ قلنا: إذا تلا مثلا المسطور في تلك الصحف كان تاليا ما فيها وقد جاء في كتاب منسوب إلى جعفر الصادق أنه عليه السلام كان يقرأ من الكتاب، وإن كان لا يكتب، ولعل هذا كان من معجزاته صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله تعالى: * (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * ففيه مسائل.
المسألة الأولى: في هذه الآية سؤال، وهو أنه تعالى ذكر في أول السورة، أهل الكتاب والمشركين، وههنا ذكر أهل الكتاب فقط، فما السبب فيه؟ وجوابه: من وجوه أحدها: أن المشركين لم يقروا على دينهم فمن آمن فهو المراد ومن لم يؤمن قتل، بخلاف أهل الكتاب الذين يقرون على كفرهم ببذل الجزية وثانيها: أن أهل الكتاب كانوا عالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب أنهم وجدوها في كتبهم، فإذا وصفوا بالتفرق مع العلم كان من لا كتاب له أدخل في هذا الوصف.
42

المسألة الثانية: قال الجبائي: هذه الآية تبطل قول القدرية الذين قالوا: إن الناس تفرقوا في الشقاوة والسعادة في أصلاب الآباء قبل أن تأتيهم البينة والجواب: أن هذا ركيك لأن المراد منه أن علم الله بذلك وإرادته له حاصل في الأزل، أما ظهوره من المكلف فإنما وقع بعد الحالة المخصوصة.
المسألة الثالثة: قالوا: هذه الآية دالة على أن الكفر والتفرق فعلمهم لا أنه مقدر عليهم لأنه قال: * (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) *، ثم قال: * (أوتو الكتاب) * أي أن الله وملائكته آتاهم ذلك فالخير والتوفيق مضاف إلى الله، والشر والتفرق والكفر مضاف إليهم.
المسألة الرابعة: المقصود من هذه الآية تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا يغمنك تفرقهم فليس ذلك لقصور في الحجة بل لعنادهم، فسلفهم هكذا كانوا لم يتفرقوا في السبت وعبادة العجل: * (إلا من بعد ما جاءتهم البينة) * فهي عادة قديمة لهم.
* (ومآ أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفآء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكوة وذلك دين القيمة) *.
أما قوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (وما أمروا) * وجهان: أحدهما: أن يكون المراد: * (وما أمروا) * في التوراة والإنجيل إلا بالدين الحنيفي، فيكون المراد أنهم كانوا مأمورين بذلك إلا أنه تعالى لما أتبعه بقوله: * (وذلك دين القيمة) * علمنا أن ذلك الحكم كما أنه كان مشروعا في حقهم فهو مشروع في حقنا وثانيها: أن يكون المراد: وما أمر أهل الكتاب على لسان محمد صلى الله عليه وسلم إلا بهذه الأشياء، وهذا أولى، لثلاثة أوجه: أحدها: أن الآية على هذا التقدير تفيد شرعا جديدا وحمل كلام الله على ما يكون أكثر فائدة أولى وثانيها: وهو أن ذكر محمد عليه السلام قد مر ههنا وهو قوله: * (حتى تأتيهم البينة) * وذكر سائر الأنبياء عليهم السلام لم يتقدم وثالثها: أنه تعالى ختم الآية بقوله: * (وذلك دين القيمة) * فحكم بكون ما هو متعلق هذه الآية دينا قيما فوجب أن يكون شرعا في حقنا سواء قلنا: بأنه شرع من قبلنا أو شرع جديد يكون هذا بيانا لشرع محمد عليه الصلاة والسلام وهذا قول مقاتل.
المسألة الثانية: في قوله: * (إلا ليعبدوا الله) * دقيقة وهي أن هذه اللام لام الغرض، فلا يمكن حمله على ظاهره لأن كل من فعل فعلا لغرض فهو ناقص لذاته مستكمل بذلك الغرض، فلو فعل الله فعلا لكان ناقصا لذاته مستكملا بالغير وهو محال، لأن ذلك الغرض إن كان قديما
43

لزم من قدمه قدم الفعل، وإن كان محدثا افتقر إلى غرض آخر فلزم التسلسل وهو محال ولأنه إن عجز عن تحصيل ذلك الغرض إلا بتلك الواسطة فهو عاجز، وإن كان
قادرا عليه كان توسيط تلك الواسطة عبثا، فثبت أنه لا يمكن حمله على ظاهره فلا بد فيه من التأويل. ثم قال الفراء: العرب تجعل اللام في موضع أن في الأمر والإرادة كثيرا، من ذلك قوله تعالى: * (يريد الله ليبين لكم، يريدون ليطفئوا) * وقال في الأمر: * (وأمرنا لنسلم) * وهي في قراءة عبد الله: * (وما أمروا إلا أن يعبدوا الله) * فثبت أن المراد: وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين. والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، والنية الخالصة لما كانت معتبرة كانت النية معتبرة، فقد دلت الآية على أن كل مأمور به فلا بد وأن يكون منوبا، ثم قالت الشافعية: الوضوء مأمور به في قوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) * ودلت هذه الآية على أن كل مأمور يجب أن يكون منويا، فيلزم من مجموع الآيتين وجوب كون الوضوء منويا، وأما المعتزلة فإنهم يوجبون تعليل أفعال الله وأحكامه بالأغراض، لا جرم أجروا الآية على ظاهرها فقالوا معنى الآية: وما أمروا بشيء إلا لأجل أن يعبدوا الله، والاستدلال على هذا القول أيضا قوي، لأن التقدير وما أمروا بشيء إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين في ذلك الشيء، وهذا أيضا يقتضي اعتبار النية في جميع المأمورات. فإن قيل: النظر في معرفة الله مأمور به ويستحيل اعتبار النية فيه. لأن النية لا يمكن اعتبارها إلا بعد المعرفة، فما كان قبل المعرفة لا يمكن اعتبار النية فيه. قلنا: هب أنه خص عموم الآية في هذه الصورة بحكم الدليل العقلي الذي ذكرتم فيبقى في الباقي حجة.
المسألة الثالثة: قوله: * (أمروا) * مذكور بلفظ ما لم يسم فاعله وهو: * (كتب عليكم الصيام) * * (كتب عليكم القصاص) * قالوا: فيه وجوه أحدها: كأنه تعالى يقول العبادة شاقة ولا أريد مشقتك إرادة أصلية بل إرادتي لعبادتك كإرادة الوالدة لحجامتك، ولهذا لما آل الأمر إلى الرحمة قال: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) *، * (كتب في قلوبهم الإيمان) * وذكر في الواقعات إذا أراد الأب من ابنه عملا يقول له أولا: ينبغي أن تفعل هذا ولا يأمره صريحا، لأنه ربما يرد عليه فتعظم جنايته، فههنا أيضا لم يصرح بالأمر لتخف جناية الراد وثانيها: أنا على القول بالحسن والقبح العقليين، نقول: كأنه تعالى يقول: لست أنا الآمر للعبادة فقط، بل عقلك أيضا يأمرك لأن النهاية في التعظيم لمن أوصل إليك (أن) نهاية الإنعام واجبة في العقول.
المسألة الرابعة: اللام في قوله: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) * تدل على مذهب أهل السنة حيث قالوا: العبادة ما وجبت لكونها مفضية إلى ثواب الجنة، أو إلى البعد عن عقاب النار، بل لأجل أنك عبد وهو رب، فلو لم يحصل في الدين ثواب ولا عقاب البتة، ثم أمرك بالعبادة. وجبت لمحض العبودية، وفيها أيضا إشارة إلى أنه من عبد الله للثواب والعقاب، فالمعبود في الحقيقة هو الثواب والعقاب، والحق واسطة، ونعم ما قيل: من آثر العرفان للعرفان فقد قال: بالثاني
44

ومن آثر العرفان لا للعرفان، بل للمعروف، فقد خاض لجة الوصول.
المسألة الخامسة: العبادة هي التذلل، ومنه طريق معبد، أي مذلل، ومن زعم أنها الطاعة فقد أخطأ، لأن جماعة عبدوا الملائكة والمسيح والأصنام، وما أطاعوهم ولكن في الشرع صارت اسما لكل طاعة الله، أديت له على وجه التذلل والنهاية في التعظيم، واعلم أن العبادة بهذا المعنى لا يستحقها إلا من يكون واحدا في ذاته وصفاته الذاتية، والفعلية، فإن كان مثل لم يجز أن يصرف إليه النهاية في التعظيم، ثم نقول: لا بد في كون الفعل عبادة من شيئين أحدهما: غاية التعظيم، ولذلك قلنا: إن صلاة الصبي، ليست بعبادة، لأنه لا يعرف عظمة الله، فلا يكون فعله في غاية التعظيم والثاني: أن يكون مأمورا به، ففعل اليهودي ليس بعبادة، وإن تضمن نهاية التعظيم، لأنه غير مأمور به، والنكتة الوعظية فيه، أن فعل الصبي ليس بعبادة لفقد التعظيم وفعل اليهودي ليس بعبادة لفقد الأمر، فكيف يكون ركوعك الناقص عبادة ولا أمر ولا تعظيم؟.
المسألة السادسة: الإخلاص هو أن يأتي بالفعل خالصا لداعية واحدة، ولا يكون لغيرها من الدواعي تأثير في الدعاء إلى ذلك الفعل، والنكت والوعظية فيه من وجوه أحدها: كأنه تعالى يقول عبدي لا تسع في إكثار الطاعة بل في إخلاصها لأني ما بذلت كل مقدوري لك حتى أطلب منك كل مقدورك، بل بذلت لك البعض، فأطلب منك البعض نصفا من العشرين، وشاة من الأربعين، لكن القدر الذي فعلته لم أرد بفعله سواك، فلا ترد بطاعتك سواي، فلا تستثن من طاعتك لنفسك فضلا من أن تستثنيه لغيرك، فمن ذلك المباح الذي يوجد منك في الصلاة كالحكة والتنحنح فهو حظ استثنيته لنفسك فانتفى الإخلاص، وأما الالتفات المكروه فذا حظ الشيطان وثانيها: كأنه تعالى قال: يا عقل أنت حكيم لا تميل إلى الجهل والسفه وأنا حكيم لا أفعل ذلك البتة، فإذا لا تريد إلا ما أريد ولا أريد إلا ما تريد، ثم إنه سبحانه ملك العالمين والعقل ملك لهذا البدن، فكأنه تعالى بفضله قال: الملك لا يخدم الملك لكن (لكي) نصطلح أجعل جميع ما أفعله لأجلك: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا) * فاجعل أنت أيضا جميع ما تفعله لأجلي: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *.
واعلم أن قوله: * (مخلصين) * نصب على الحال فهو تنبيه على ما يجب من تحصيل الإخلاص من ابتداء الفعل إلى انتهائه، والمخلص هو الذي يأتي بالحسن لحسنه، والواجب لوجوبه، فيأتي بالفعل لوجهه مخلصا لربه، لا يريد رياء ولا سمعة ولا غرضا آخر، بل قالوا: لا يجعل طلب الجنة مقصودا ولا النجاة عن النار مطلوبا وإن كان لا بد من ذلك، وفي التوراة: ما آريد به وجهي فقليله كثير وما أريد به غير وجهي فكثيره قليل. وقالوا من الإخلاص أن لا يزيد في العبادات عبادة أخرى لأجل الغير، مثل الواجب من الأضحية شاة، فإذا ذبحت اثنتين واحدة لله وواحدة للأمير لم يجز لأنه شرك، وإن زدت في الخشوع، لأن الناس يرونه لم يجز، فهذا إذا خلطت بالعبادة عبادة
45

أخرى، فكيف ولو خلطت بها محظورا مثل أن تتقدم على إمامك، بل لا يجوز دفع الزكاة إلى الوالدين والمولودين ولا إلى العبيد ولا الإماء لأنه لم يخلص، فإذا طلبت بذلك سرور والدك أو ولدك يزول الإخلاص، فكيف إذا طلبت مسرة شهوتك كيف يبقى الإخلاص؟ وقد اختلفت ألفاظ السلف في معنى قوله: * (مخلصين) * قال بعضهم: مقرين له بالعبادة، وقال آخرون: قاصدين بقلوبهم رضا الله في العبادة، وقال الزجاج: أي يعبدونه موحدين له لا يعبدون معه غيره، ويدل على هذا قوله: *
(وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) *.
أما قوله تعالى: * (حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) * ففيه أقوال:
الأول: قال مجاهد: متبعين دين إبراهيم عليه السلام، ولذلك قال: * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) * وهذا التفسير فيه لطيف كأنه سبحانه لما علم أن التقليد مستول على الطباع لم يستجز منعه عن التقليد بالكلية ولم يستجز التعويل على التقليد أيضا بالكلية، فلا جرم ذكر قوما أجمع الخلق بالكلية على تزكيتهم، وهو إبراهيم ومن معه، فقال: * (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه) * فكأنه تعالى قال: إن كنت تقلد أحدا في دينك، فكن مقلدا إبراهيم، حيث تبرأ من الأصنام وهذا غير عجيب فإنه قد تبرأ من نفسه حين سلمها إلى النيران، ومن ماله حين بذله للضيفان، ومن ولده حين بذله للقربان، بل روى أنه سمع سبوح قدوس فاستطابه، ولم ير شخصا فاستعاده، فقال: أما بغير أجر فلا، فبذل كل ما ملكه فظهر له جبريل عليه السلام، وقال: حق لك حيث سماك خليلا فخذ مالك، فإن القائل: كنت أنا، بل انقطع إلى الله حتى عن جبريل حين قال: أما إليك فلا، فالحق سبحانه كأنه يقول: إن كنت عابدا فاعبد كعبادته، فإذا لم تترك الحلال وأبواب السلاطين، أما تترك الحرام وموافقة الشياطين، فإن لم تقدر على متابعة إبراهيم، فاجتهد في متابعة ولده الصبي، كيف انقاد لحكم ربه مع صغره، فمد عنقه لحكم الرؤيا، وإن كنت دون الرجل فاتبع الموسوم بنقصان العقل، وهو أم الذبيح، كيف تجرعت تلك الغصة، ثم إن المرأة الحرة نصف الرجل فإن الإثنتين يقومان مقام الرجل الواحد في الشهادة والإرث، والرقيقة نصف الحرة بدليل إن للحرة ليلتين من القسم فهاجر كانت ربع الرجل، ثم أنظر كيف أطاعت ربها فتحملت المحنة في ولادها ثم صبرت حين تركها الخليل وحيدة فريدة في جبال مكة بلا ماء ولا زاد وانصرف، لا يكلمها ولا يعطف عليها، قالت آلله أمرك بهذا؟ فأومأ برأسه نعم، فرضيت بذلك وصبرت على تلك المشاق.
والقول الثاني: المراد من قوله: * (حنفاء) * أي مستقيمين والحنف هو الاستقامة، وإنما سمي مائل القدم أحنف على سبيل التفاؤل، كقولنا: للأعمى بصير وللمهلكة مفازة، ونظيره قوله تعالى: * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) * * (اهدنا الصراط المستقيم) *.
والقول الثالث: قال ابن عباس رضي الله عنهما حجاجا، وذلك لأنه ذكر العباد أولا ثم قال: * (حنفاء) * وإنما قدم الحج على الصلاة لأن في الحج صلاة وإنفاق مال الرابع: قال أبو قلابة
46

الحنيف الذي آمن بجميع الرسل ولم يستثن أحدا منهم، فمن لم يؤمن بأفضل الأنبياء كيف يكون حنيفا الخامس: حنفاء أي جامعين لكل الدين إذ الحنيفية كل الدين، قال عليه السلام: " بعثن بالحنيفية السهلة السمحة " السادس: قال قتادة: هي الختان وتحريم نكاح المحارم أي مختونين محرمين لنكاح الأم والمحارم، فقوله: * (حنفاء) * إشارة إلى النفي، ثم أردفه بالإثبات، وهو قوله: * (ويقيموا الصلاة) * السابع: قال أبو مسلم: أصله من الحنف في الرجل، وهو إدبار إبهامها عن إخوانها حتى يقبل على إبهام الأخرى، فيكون الحنيف هو الذي يعدل عن الأديان كلها إلى الإسلام الثامن: قال الربيع بن أنيس: الحنيف الذي يستقبل القبلة بصلاته، وإنما قال ذلك لأنه عند التكبير يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وأما الكلام في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقد مر مرارا كثيرة، ثم قال: * (وذلك دين القيمة) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قال المبرد والزجاج: ذلك دين الملة القيمة، فالقيمة نعت لموصوف محذوف، والمراد من القيمة إما المستقيمة أو القائمة، وقد ذكرنا هذين القولين في قوله: * (كتب قيمة) * وقال الفراء: هذا من إضافة النعت إلى المنعوت، كقوله: * (إن هذا لهو حق اليقين) * والهاء للمبالغة كما في قوله: * (كتب قيمة) *.
المسألة الثانية: في هذه الآية لطائف إحداها: أن الكمال في كل شيء إنما يحصل إذا حصل الأصل والفرع معا، فقوم أطنبوا في الأعمال من غير إحكام الأصول، وهم اليهود والنصارى والمجوس، فإنهم ربما أتعبوا أنفسهم في الطاعات، ولكنهم ما حصلوا الدين الحق، وقوم حصلوا الأصول وأهملوا الفروع، وهم المرجئة الذين قالوا: لا يضر الذنب مع الإيمان، والله تعالى خطأ الفريقين في هذه الآية، وبين أنه لا بد من العلم والإخلاص في قوله: * (مخلصين) * ومن العمل في قوله: * (ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) * ثم قال: وذلك المجموع كله هو * (دين القيمة) * أي البينة المستقيمة المعتدلة، فكمال أن مجموع الأعضاء بدن واحد كذا هو المجموع دين واحد فقلب دينك الاعتقاد ووجهه الصلاة ولسانه الواصف لحقيقته الزكاة لأن باللسان يظهر قدر فضلك وبالصدقة يظهر قدر دينك، ثم إن القيم من يقوم بمصالح من يعجز عن إقامة مصالح نفسه فكأنه سبحانه يقول: القائم بتحصيل مصالحك عاجلا وآجلا هو هذا المجموع، ونظيره قوله تعالى: * (دينا قيما) * وقوله في القرآن: * (قيما لينذر بأسا شديدا) * لأن القرآن هو القيم بالإرشاد إلى الحق، ويؤيده قوله عليه السلام: " من كان في عمل الله كان الله في عمله " وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: " يا دنيا من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه "، وثانيها: أن المحسنين في أفعالهم هم مثل الحق سبحانه وذلك بالإحسان إلى عبيده والملائكة، وذلك بأنهم اشتغلوا بالتسبيح، لخالقهم فالإحسان من الله لا من الملائكة، والتعظيم والعبودية من الملائكة لا من الله، ثم إن الإنسان إذا حضر عرصة القيامة فيقول الله مباهيا بهم: ملائكتي هؤلاء أمثالكم سبحوا وهللوا، بل في بعض الأفعال أمثالي أحسنوا
47

وتصدقوا، ثم إني أكرمكم يا ملائكتي بمجرد ما أتيتم به من العبودية وأنتم تعظموني بمجرد ما فعلت من الإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين؛ أقاموا الصلاة أتوا بالعبودية وآتوا الزكاة أتوا بالإحسان، فأنتم صبرتم على أحد الأمرين وهم صبروا على الأمرين، فتتعجب الملائكة منهم وينصبون إليهم النظارة، فلهذا قال: * (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب، سلام عليكم بما صبرتم) * أفلا يكون هذا الدين قيما وثالثها: أن الدين كالنفس فحياة الدين بالمعرفة ثم النفس العالمة بلا قدرة كالزمن العاجز، والقادرة بلا علم مجنونة فإذا اجتمع العلم والقدرة كانت النفس كاملة فكذا الصلاة للذين كالعلم والزكاة كالقدرة، فإذا اجتمعتا سمي الدين قيمة ورابعها:
وهو فائدة الترتيب أن الحكم تعالى أمر رسوله أن يدعوهم إلى أسهل شيء، وهو القول والاعتقاد فقال: * (مخلصين) * ثم لما أجابوه زاده، فسألهم الصلاة التي بعد أدائها تبقى النفس سالمة كما كانت، ثم لما أجابوه وأراد منهم الصدقة وعلم أنها تشق عليهم قال: " لا زكاة في مال يحول عليه الحول " ثم لما ذكر الكل قال: * (وذلك دين القيمة) *.
المسألة الثالثة: احتج من قال: الإيمان عبادة عن مجموع القول والاعتقاد والعمل بهذه الآية، فقال: مجموع القول والفعل والعمل هو الدين والدين هو الإسلام والإسلام هو الإيمان فاذن مجموع القول والفعل والعمل هو الإيمان، لأنه تعالى ذكر في هذه الآية مجموع الثلاثة. ثم قال: * (وذلك دين القيمة) * أي وذلك المذكور هو دين القيمة وإنما قلنا: إن الدين هو الإسلام لقوله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * وإنما قلنا: إن الإسلام هو الإيمان لوجهين الأول: أن الإيمان لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا عند الله تعالى لقوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * لكن الإيمان بالإجماع مقبول عند الله، فهو إذا عين الإسلام والثاني: قوله تعالى: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غيرت بيت من المسلمين) * فاستثناء المسلم من المؤمن، يدل على أن الإسلام يصدق عليه، وإذا ثبتت هذه المقدمات، ظهر أن مجموع هذه الثلاثة أعني القول والفعل والعمل هو الإيمان، وحينئذ يبطل قول من قال: الإيمان اسم لمجرد المعرفة، أو المجرد الإقرار أولهما معا والجواب: لم لا يجوز أن تكون الإشارة بقوله: * (وذلك) * إلى الإخلاص فقط؟ والدليل عليه أنا على هذا التقدير لا نحتاج إلى الإضمار أولى، وأنتم تحتاجون إلى الإضمار، فتقولون: المراد وذلك المذكور، ولا شك أن عدم الإضمار أولى، سلمنا أن قوله: * (وذلك) * إشارة إلى مجموع ما تقدم لكنه يدل على أن ذلك المجموع هو الدين القيم، فلم قلتم: إن ذلك المجموع هو الدين، وذلك لأن الدين غير، والدين القيم، فالدين هو الدين الكامل المستقبل بنفسه، وذلك إنما يكون إذا كان الدين حاصلا، وكانت آثاره ونتائجه معه حاصلة أيضا، وهي الصلاة والزكاة، وإذا لم يوجد هذا المجموع، لم يكن الدين القيم حاصلا، لكن لم قلتم: إن أصل الدين لا يكون حاصلا والنزاع ما وقع إلا فيه؟ والله أعلم.
48

قوله تعالى: * (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية) *.
اعلم أنه تعالى لما ذكر حال الكفار أولا في قوله: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * ثم ذكر ثانيا حال المؤمنين في قوله: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله) * أعاد في آخر هذه السورة ذكر كلا الفريقين، فبدأ أيضا بحال الكفار، فقال: * (إن الذين كفروا) * واعلم أنه تعالى ذكر من أحوالهم أمرين أحدهما: الخلود في نار جهنم والثاني: أنهم شر الخلق، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم قدم أهل الكتاب على المشركين في الذكر؟ الجواب: من وجوه أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام، كان يقدم حق الله سبحانه على حق نفسه، ألا ترى أن القوم لما كسروا رباعيته قال: " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " ولما فاتته صلاة العصر يوم الخندق قال: " اللهم املأ بطونهم وقبورهم نارا " فكأنه عليه السلام قال: كانت الضربة ثم على وجه الصورة، وفي يوم الخندق على وجه السيرة التي هي الصلاة، ثم إنه سبحانه قضاه ذلك فقال: كما قدمت حقي على حقك فأنا أيضا أقدم حقك على حق نفسي، فمن ترك الصلاة طول عمره لا يكفر ومن طعن في شعرة من شعراتك يكفر. إذا عرفت ذلك فنقول: أهل الكتاب ما كانوا يطعنون في الله بل في الرسول، وأما المشركون فإنهم كانوا يطعنون في الله، فلما أراد الله تعالى في هذه الآية أن يذكر سوء حالهم بدأ أولا في النكاية بذكر من طعن في محمد عليه الصلاة والسلام وهم أهل الكتاب، ثم ثانيا بذكر من طعن فيه تعالى وهم المشركون وثانيها: أن جناية أهل الكتاب في حق الرسول عليه السلام كانت أعظم، لأن المشركين رأوه صغيرا ونشأ فيهما بينهم، ثم سفه أحلامهم وأبطل أديانهم، وهذا أمر شاق، أما أهل الكتاب فقد كانوا يستفتحون برسالته ويقرون بمبعثه فلما جاءهم أنكروه مع العلم به فكانت جنايتهم أشد.
السؤال الثاني: لم ذكر: * (كفروا) * بلفظ الفعل: * (والمشركين) * باسم الفاعل؟ والجواب: تنبيها على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل، ومقرين بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام بخلاف المشركين فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان وإنكار الحشر والقيامة.
السؤال الثالث: أن المشركين كانوا ينكرون الصانع وينكرون النبوة وينكرون
49

القيامة، أما أهل الكتاب فكانوا مقرين بكل هذه الأشياء إلا أنهم كانوا منكرين لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان كفر أهل الكتاب أخف من كفر المشركين، وإذا كان كذلك فكيف يجوز التسوية بين الفريقين في العذاب؟ والجواب: يقال: بئر جهنام إذا كان بعيد القعر، فكأنه تعالى يقول تكبروا طلبا للرفعة فصاروا إلى أسفل السافلين، ثم إن الفريقين وإن اشتراكا في ذلك لكنه لا ينافي اشتراكهم في هذا القدر تفاوتهم في مراتب العذاب، واعلم أن الوجه في حسن هذا العذاب أن الإساءة على قسمين إساءة إلى من أساء إليك وإساءة إلى من أحسن إليك، وهذا القسم الثاني هو أقبح القسمين والإحسان أيضا على قسمين إحسان إلى من أحسن إليك، وإحسان إلى من أساء إليك، وهذا أحسن القسمين، فكان إحسان الله إلى هؤلاء الكفار أعظم أنواع الإحسان وإساءتهم وكفرهم أقبح أنواع الإساءة، ومعلوم أن العقوبة إنما تكون بحسب الجناية، فبالشتم تعزير وبالقذف حد وبالسرقة قط، وبالزنا رجم، وبالقتل قصاص، بل شتم المماثل يوجب التعزير، والنظر الشزر إلى الرسول يوجب القتل، فلما كانت جناية هؤلاء الكفار أعظم الجنايات، لا جرم استحقوا أعظم العقوبات، وهو نار جهنم، فإنها نار في موضع عميق مظلم هائل لا مفر عنه البتة، ثم كأنه قال قائل: هب أنه ليس هناك رجاء الفرار، فهل هناك رجاء الإخراج؟ فقال: لا بل يبقون خالدين فيها، ثم كأنه قيل: فهل هناك أحد يرق قلبه عليهم؟ فقال: لا بل يذمونهم، ويلعنونهم لأنهم شر البرية.
السؤال الرابع: ما السبب في أنه لم يقل: ههنا خالدين فيها أبدا، وقال في صفة أهل الثواب: * (خالدين فيها أبدا) *؟ والجواب: من وجوه أحدها: التنبيه على أن رحمته أزيد من غضبه وثانيها: أن العقوبات والحدود والكفارات تتداخل، أما الثواب فأقسامه لا تتداخل وثالثها: روى حكاية عن الله أنه قال: يا داود حببني إلى خلقي، قال: وكيف أفعل ذلك؟ قال: أذكر لهم سعة رحمتي، فكان هذا من هذا الباب.
السؤال الخامس: كيف القراءة في لفظ البرية؟ الجواب: قرأ نافع البريئة بالهمز، وقرأ الباقون بغير همز وهو من برأ الله الخلق، والقياس فيها الهمز إلا أنه ترك همزه، كالنبي والذرية والخابية، والهمزة فيه كالرد إلى الأصل المتروك في الاستعمال، كما أن من همز النبي كان كذلك وترك الهمز فيه أجود، وإن كان الهمز هو الأصل، لأن ذلك صار كالشئ المرفوض المتروك. وهمز من همز البرية يدل على فساد قول من قال: إنه من البراء الذي هو التراب.
السؤال السادس: ما الفائدة في قوله: هم شر البرية؟ الجواب: أنه يفيد النفي والإثبات أي هم دون غيرهم، واعلم أن شر البرية جملة يطول تفصيلها، شر من السراق، لأنهم سرقوا من كتاب الله، صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وشر من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق على الخلق، وشر من الجهال الأجلاف، لأن الكبر مع العلم يكون كفر عناد فيكون أقبح.
50

واعلم أن هذا تنبيه على أن وعيد علماء السوء أعظم من وعيد كل أحد.
السؤال السابع: هذه الآية هل هي مجراة على عمومها؟ الجواب: لا بل هي مخصوصة بصورتين إحداهما: أن من تاب منهم وأسلم خرج عن الوعيد والثانية: قال بعضهم: لا يجوز أن يدخل في الآية من مضي من الكفار، لأن فرعون كان شرا منهم، فأما الآية الثانية وهي الآية الدالة على ثواب المؤمنين فعامة فيمن تقدم وتأخر، لأنهم أفضل الأمم.
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) *.
قوله تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الوجه في حسن تقديم الوعيد على الوعد وجوه أحدها: أن الوعيد كالدواء، والوعد كالغذاء، ويجب تقديم الدواء حتى إذا صار البدن نقيا انتفع بالغذاء، فإن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرا، هكذا قاله بقراط في كتاب الفصول وثانيها: أن الجلد بعد الدبغ يصير صالحا للمدارس والخف، أما قبله فلا، ولذلك فإن الإنسان متى وقع في محنة أو شدة رجع إلى الله، فإذا نال الدنيا أعرض، على ما قال: * (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) * وثالثها: أن فيه بشارة، كأنه تعالى يقول: لما لم يكن بد من الأمرين ختمت بالوعد الذي هو بشارة مني في أني أختم أمرك بالخير، ألست كنت نجسا في مكان نجس، ثم أخرجتك إلى الدنيا طاهرا، أفلا أخرجك إلى الجنة طاهرا!.
المسألة الثانية: احتج من قال: إن الطاعات ليست داخلة في مسمى الإيمان بأن الأعمال الصالحة معطوفة في هذه الآية على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه.
المسألة الثالثة: قال: * (إن الذين آمنوا) * ولم يقل: إن المؤمنين إشارة إلى أنهم أقاموا سوق الإسلام حال كساده، وبذلوا الأموال والمهج لأجله، ولهذا السبب استحقوا الفضيلة العظمى كما قال: * (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) * ولفظة: * (آمنوا) * أي فعلوا الإيمان مرة.
واعلم أن الذين يعتبرون الموافاة يحتجون بهذه الآية، وذلك لأنها تدل على أن من أتى بالإيمان مرة واحدة فله هذا الثواب، والذي يموت على الكفر لا يكون له هذا الثواب، فعلمنا أنه ما صدر الإيمان عنه في الحقيقة قبل ذلك.
المسألة الرابعة: قوله: * (وعملوا الصالحات) * من مقابلة الجمع بالجمع، فلا يكلف الواحد بجميع الصالحات، بل لكل مكلف حظ فحظ الغني الإعطاء، وحظ الفقير الأخذ.
المسألة الخامسة: احتج بعضهم بهذه الآية في تفضيل البشر على الملك، قالوا: روى أبو هريرة أنه عليه السلام قال: " أتعجبون من منزلة الملائكة من الله تعالى! والذي نفسي بيده لمنزلة العبد المؤمن عند الله يوم القيامة أعظم من ذلك، واقرؤا إن شئتم: أن الذين آمنوا وعملوا
51

الصالحات أولئك هم خير البرية ".
واعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لوجوه: أحدها: ما روى عن يزيد النحوي أن البرية بنو آدم من البرا وهو التراب فلا يدخل الملك فيه البتة وثانيها: أن قوله: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * غير مختص بالبشر بل يدخل فيه الملك وثالثها: أن الملك خرج عن النص بسائر الدلائل، قالوا: وذلك لأن الفضيلة إما مكتسبة أو موهوبة، فإن نظرت إلى الموهوبة فأصلهم من نور وأصلك من حمأ مسنون، ومسكنهم دار لم يترك فيها أبوك مع الزلة ومسكنكم أرض هي مسكن الشياطين، وأيضا فمصالحنا منتظمة بهم ورزقنا في يد البعض وروحنا في يد البعض، ثم هم العلماء ونحن المتعلمون، ثم أنظر إلى عظيم همتهم لا يميلون إلى محقرات الذنوب، ومن ذلك فإن الله تعالى لم يحك عنهم سوى دعوى الإلهية حين قال: * (ومن يقل منهم إني إله من دونه) * أي لو أقدموا على ذنب فهمتهم بلغت غاية لا يليق بها إلا دعوى الربوبية، وأنت أبدا عبد البطن والفرج، وأما العبادة فهم أكثر عبادة من النبي لأنه تعالى مدح النبي بإحياء ثلثي الليل وقال فيهم: * (يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * ومرة: * (لا يسأمون) * وتمام القول في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة.
* (جزآؤهم عند ربهم جنات عدن تجرى من تحتها الانهار خالدين فيهآ أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه) *.
قوله تعالى: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه) *.
اعلم أن التفسير ظاهر ونحن نذكر ما فيها من اللطائف في مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن المكلف لما تأمل وجد نفسه مخلوقا من المحن والآفات، فصاغه من أنجس شيء في أضيق مكان إلى أن خرج باكيا لا للفراق ولكن مشتكيا من وحشة الحبس ليرحم، كالذي يطلق من الحبس يغلبه البكاء ليرحم، ثم لم يرحم بل شدته القابلة ولم يكن مشدودا في الرحم ثم لم يمض قليل مدة حتى ألقوا في المهد وشدوه بالقماط، ثم لم يمض قليل حتى أسلموه إلى أستاذ يحبسه في المكتب ويضربه على التعليم وهكذا إلى أن بلغ الحلم، ثم بعد ذلك شد بمسامير العقل والتكليف، ثم إن المكلف يصير كالمتحير، يقول: من الذي يفعل في هذه الأفعال مع أنه ما صدرت عني جناية! فلم يزل يتفكر حتى ظفر بالفاعل، فوجده عالما لا يشبه العالمين، وقادرا لا يشبه القادرين، وعرف أن كل ذلك وإن كان صورته صورة المحنة، لكن حقيقته محض الكرم والرحمة، فترك الشكاية وأقبل على الشكر، ثم وقع في قلب العبد أن يقابل إحسانه بالخدمة له والطاعة، فجعل قلبه مسكنا لسطان عرفانه، فكأن الحق قال: عبدي أنزل معرفتي في قلبك حتى
52

لا يخرجها منه شيء أو يسبقها هناك فيقول العبد: يا رب أنزلت حب الثدي في قلبي ثم أخرجته، وكذا حب الأب والأم، وحب الدنيا وشهواتها وأخرجت الكل. أما حبك وعرفانك فلا أخرجهما من قلبي، ثم إنه لما بقيت المعرفة والمحبة في أرض القلب انفجر من هذا الينبوع أنهار وجداول، فالجدول الذي وصل إلى العين حصل منه الاعتبار، والذي وصل إلى الأذن حصل منه استماع مناجاة الموجودات وتسبيحاتهم، وهكذا في جميع الأعضاء والجوارح، فيقول الله: عبدي جعلت قلبك كالجنة لي وأجريت فيه تلك الأنهار دائمة مخلدة، فأنت مع عجزك وقصورك فعلت هذا، فأنا أولى بالجود والكرم والرحمة فجنة بجنة، فلهذا قال: * (جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار) * بل كأن الكريم الرحيم يقول: عبدي أعطاني كل ما ملكه، وأنا أعطيته بعض ما في ملكي، وأنا أولى منه بالكرم والجود، فلا جرم جعلت هذا البعض منه موهوبا دائما مخلدا، حتى يكون دوامه وخلوده جابرا لما فيه من النقصان الحاصل بسبب البعضية.
المسألة الثانية: الجزاء اسم لما يقع به الكفاية، ومنه اجتزت الماشية بالحشيش الرطب عن الماء، فهذا يفيد معنيين أحدهما: أنه يعطيه الجزاء الوافر من غير نقص والثاني: أنه تعالى يعطيه ما يقع به الكفاية، فلا يبقى في نفسه شيء إلا والمطلوب يكون حاصلا، على ما قال: * (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) *.
المسألة الثانية: قال: * (جزاؤهم) * فأضاف الجزاء إليهم، والإضافة المطلقة تدل على الملكية فكيف الجمع بينه وبين قوله: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * والجواب: أما أهل السنة فإنهم يقولون: إنه لو قال الملك الكريم: من حرك أصبعه أعطيته ألف دينار، فهذا شرط وجزاء بحسب اللغة وبحسب الوضع لا بحسب الاستحقاق الذاتي، فقوله: * (جزاؤهم) * يكفي في صدقه هذا المعنى وأما المعتزلة فإنهم قالوا: في قوله تعالى: * (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) * إن كلمة من لابتداء الغاية، فالمعنى أن استحقاق هذه الجنان، إنما حصل بسبب فضلك السابق فإنك لولا أنك خلقتنا وأعطيتنا القدرة والعقل وأزلت الأعذار وأعطيت الألطاف وإلا لما وصلنا إلى هذه الدرجة. فإن قيل: فإذا كان لا حق لأحد عليه في مذهبكم، فما السبب في التزام مثل هذا الأنعام؟ قلنا: أتسأل عن إنعامه الأمسي حال عدمنا؟ أو عن إنعامه اليومي حال التكليف؟ أو عن إنعامه في غد القيامة؟ فإن سألت عن الأمسي فكأنه يقول: أنا منزه عن الإنتفاع والمائدة مملوءة من المنافع فلو لم أخلق الخلق لضاعت هذه المنافع، فكما أن من له مال ولا عيال له فإنه يشتري العبيد والجواري لينتفعوا بماله، فهو سبحانه اشترى من دار العدم هذا الخلق لينتفعوا بملكه، كما روى: " الخلق عيال الله " وأما اليومي فالنعمان يوجب الإتمام بعد الشروع. فالرحمن أولى. وأما الغد فأنا مديونهم بحكم الوعد والإخبار فكيف لا أفي بذلك.
53

المسألة الرابعة: في قوله: * (عند ربهم) * لطائف:
أحدها: قال بعض الفقهاء: لو قال: لا شيء لي على فلان، فهذا يختص بالديون وله أن يدعي الوديعة، ولو قال: لا شيء لي عند فلان انصرف إلى الوديعة دون الدين، ولو قال: لا شيء لي قبل فلان انصرف إلى الدين والوديعة معا، إذا عرفت هذا فقوله: * (عند ربهم) * يفيد أنه وديعة والوديعة عين، ولو قال: لفلان على فهو إقرار بالدين، والعين أشرف من الدين فقوله: * (عند ربهم) * يفيد أنه كالمال المعين الحاضر العتيد، فإن قيل: الوديعة أمانة وغير مضمونة والدين مضمون والمضمون خير مما كان غير مضمون، قلنا: المضمون خير إذا تصور الهلاك فيه وهذا في حق الله تعالى محال، فلا جرم قلنا: الوديعة هناك خير من المضمون.
وثانيها: إذا وقعت الفتنة في البلدة، فوضعت مالك عند إمام المحلة على سبيل الوديعة صرت فارغ القلب، فههنا ستقع الفتنة في بلدة بدنك، وحينئذ تخاف الشيطان من أن يغيروا عليها، فضع وديعة أمانتك عندي فإني أكتب لك به كتابا يتلى في المحاريب إلى يوم القيامة وهو قوله: * (جزاؤهم عند ربهم) * حتى أسلمه إليك أحوج ما تكون إليه وهو في عرصة القيامة.
وثالثها: أنه قال: * (عند ربهم) * وفيه بشارة عظيمة، كأنه تعالى يقول: أنا الذي ربيتك أولا حين كنت معدوما صفر اليد من الوجود والحياة والعقل والقدرة، فخلقتك وأعطيتك كل هذه الأشياء فحين كنت مطلقا أعطيتك هذه الأشياء، وما ضيعتك أترى أنك إذا اكتسبت شيئا وجعلته وديعة عندي فأنا أضيعها، كلا إن هذا مما لا يكون.
المسألة الخامسة: قوله: * (جزاؤهم عند ربهم جنات) * فيه قولان:
أحدهما: أنه قابل الجمع بالجمع، وهو يقتضي مقابلة الفرد بالفرد، كما لو قال لأمر أتيه أو عبديه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما كذا فيحمل هذا على أن يدخل كل واحد منهما دارا على حدة، وعن أبي يوسف لم يحنث حتى يدخلا الدارين، وعلى هذا إن ملكتما هذين العبدين، ودليل القول الأول: * (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم) * فعلى القول الأول بين أن الجزاء لكل مكلف جنة واحدة، لكن أدنى تلك الجنات مثل الدنيا بما فيها عشر مرات كذا روى مرفوعا، ويدل عليه قوله تعالى: * (وملكا كبيرا) * ويحتمل أن يراد لكل مكلف جنات، كما روى عن أبي يوسف وعليه يدل القرآن، لأنه قال: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * ثم قال: * (ومن
دونهما جنتان) * فذكر أربعا للواحد، والسبب فيه أنه بكى من خوف الله، وذلك البكاء إنما نزل من أربعة أجفان اثنان دون الاثنين، فاستحق جنتين دون الجنتين، فحصلت له أربع جنات، لسكبه البكاء من أربعة أجفان، ثم إنه تعالى قدم الخوف في قوله: * (ولمن خاف مقام ربه جنتان) * وأخر الخوف في هذه الآية لأنه ختم السورة بقوله: * (ذلك لمن خشى ربه) * وفيه إشارة إلى أنه لا بد من
54

دوام الخوف، أما قبل العمل فالحاصل خوف الاختلال، وأما بعد العمل فالحاصل خوف الخلاف، إذ هذه العبادة لا تليق بتلك الحضرة.
المسألة السادسة: قوله: * (عدن) * يفيد الإقامة: * (لا يخرجون منها) * * (وما هم منها بمخرجين) * * (لا يبغون عنها حولا) * يقال: عدن بالمكان أقام، وروى أن جنات عدن وسط الجنة، وقيل: عدن من المعدن أي هي معدن النعيم والأمن والسلامة، قال بعضهم: إنها سميت جنة إما من الجن أو الجنون أو الجنة أو الجنين، فإن كانت من الجن فهم المخصوصون بسرعة الحركة يطوفون العالم في ساعة واحدة فكأنه تعالى قال: إنها في إيصال المكلف إلى مشتهياته في غاية الإسراع. مثل حركة الجن، مع أنها دار إقامة وعدن، وإما من الجنون فهو أن الجنة، بحيث لو رآها العاقل يصير كالمجنون، لولا أن الله بفضله يثبته، وإما من الجنة فلأنها جنة واقية تقيك من النار، أو من الجنين، فلأن المكلف يكون في الجنة في غاية التنعم، ويكون كالجنين لا يمسه برد ولا حر * (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) *.
المسألة السابعة: قوله: * (تجري) * إشارة إلى أن الماء الجاري ألطف من الراكد، ومن ذلك النظر إلى الماء الجاري، يزيد نورا في البصر بل كأنه تعالى قال: طاعتك كانت جارية ما دمت حيا على ما قال: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * فوجب أن تكون أنهار إكرامي جارية إلى الأبد، ثم قال: من تحتها إشارة إلى عدم التنغيص، وذلك لأن التنغيص في البستان، أما بسبب عدم الماء الجاري فذكر الجري الدائم، وإما بسبب الغرق والكثرة، فذكر من تحتها، ثم الألف واللام في الأنهار للتعريف فتكون منصرفة إلى الأنهار المذكورة في القرآن، وهي نهر الماء واللبن والعسل والخمر، واعلم أن النهار والأنهار من السعة والضياء، فلا تسمى الساقية نهرا، بل العظيم هو الذي يسمى نهرا بدليل قوله: * (وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار) * فعطف ذلك على البحر.
المسألة الثامنة: اعلم أنه تعالى لما وصف الجنة أتبعه بما هو أفضل من الجنة وهو الخلود أولا والرضا ثانيا، وروى أنه عليه السلام قال: " إن الخلود في الجنة خير من الجنة ورضا الله خير من الجنة.
أما الصفة الأولى: وهي الخلود، فاعلم أن الله وصف الجنة مرة بجنات عدن ومرة بجنات النعيم ومرة بدار السلام، وهذه الأوصاف الثلاثة إنما حصلت لأنك ركبت إيمانك من أمور ثلاثة اعتقاد وقول وعمل.
وأما الصفة الثانية: وهي الرضا، فاعلم أن العبد مخلوق من جسد وروح، فجنة الجسد هي الجنة الموصوفة وجنة الروح هي رضا الرب، والإنسان مبتدأ أمره من عالم الجسد ومنتهى أمره من عالم العقل والروح، فلا جرم ابتدأ بالجنة وجعل المنتهى هو رضا الله، ثم إنه قدم رضي الله عنهم على قوله: * (ورضوا عنه) * لأن الأزلي هو المؤثر في المحدث، والمحدث لا يؤثر في الأزلي.
المسألة التاسعة: إنما قال: * (رضي الله عنهم) * ولم يقل رضي الرب عنهم ولا سائر الأسماء
55

لأن أشد الأسماء هيبة وجلالة لفظ الله، لأنه هو الاسم الدال على الذات والصفات بأسرها أعني صفات الجلال وصفات الإكرام، فلو قال: رضي الرب عنهم لم يشعر ذلك بكمال طاعة العبد لأن المربي قد يكتفي بالقليل، أما لفظ الله فيفيد غاية الجلالة والهيبة، وفي مثل هذه الحضرة لا يحصل الرضا إلا بالفعل الكامل والخدمة التامة، فقوله: * (رضي الله عنهم) * يفيد تطرية فعل العبد من هذه الجهة.
المسألة العاشرة: اختلفوا في قوله: * (رضي الله عنهم) * فقال بعضهم: معناه رضي أعمالهم، وقال بعضهم: المراد رضي بأن يمدحهم ويعظمهم، قال: لأن الرضا عن الفاعل غير الرضا بفعله، وهذا هو الأقرب، وأما قوله: * (ورضوا عنه) * فالمراد أنه رضوا بما جازاهم من النعيم والثواب.
أما قوله تعالى: * (ذلك لمن خشي ربه) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: الخوف في الطاعة حال حسنة قال تعالى: * (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة) * ولعل الخشية أشد من الخوف، لأنه تعالى ذكره في صفات الملائكة مقرونا بالإشفاق الذي هو أشد الخوف فقال: * (هم من خشية ربهم مشفقون) * والكلام في الخوف والخشية مشهور.
المسألة الثانية: هذه الآية إذا ضم إليها آية أخرى صار المجموع دليلا على فضل العلم والعلماء، وذلك لأنه تعالى قال: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * فدلت هذه الآية على أن العالم يكون صاحب الخشية، وهذه الآية وهي قوله: * (ذلك لمن خشي ربه) * تدل على أن صاحب الخشية تكون له الجنة فيتولد من مجموع الآيتين أن الجنة حق العلماء.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن المرء لا ينتهي إلى حد يصير معه آمنا بأن يعلم أنه من أهل الجنة، وجعل هذه الآية دالة عليه. وهذا المذهب غير قوي، لأن الأنبياء عليهم السلام قد علموا أنهم من أهل الجنة، وهم مع ذلك من أشد العباد خشية لله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: " أعرفكم بالله أخوفكم من الله، وأنا أخوفكم منه " والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
56

سورة الزلزلة
وهي ثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إذا زلزلت الارض زلزالها) *.
* (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * ههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة وجوها أحدها: أنه تعالى لما قال: * (جزاؤهم عند ربهم) * فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك يا رب فقال: * (إذا زلزلت الأرض زلزالها) * فالعالمون كلهم يكونون في الخوف، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاؤك وتكون آمنا فيه، كما قال: * (وهم من فزع يومئذ آمنون) * وثانيها: أنه تعالى لما ذكر في السورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في وعيد الكافر، فقال: أجازيه حين يقول الكافر السابق ذكره: ما للأرض تزلزل، نظير قوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) * ثم ذكر الطائفتين فقال: * (فأما الذين اسودت وجوههم) * * (وأما الذين ابيضت وجوههم) * ثم جمع بينهم في آخر السورة فذكر الذرة من الخير والشر.
المسألة الثانية: في قوله: * (إذا) * بحثان أحدهما: أن لقائل أن يقول: * (إذا) * للوقت فكيف وجه البداية بها في أول السورة؟ وجوابه: من وجوه الأول: كانوا يسألونه متى الساعة؟ فقال: * (إذا زلزلت الأرض) * كأنه تعالى قال: لا سبيل إلى تعيينه بحسب وقته ولكني أعينه بحسب علاماته، الثاني: أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقال: * (إذا زلزلت الأرض) *.
البحث الثاني: قالوا كلمة: * (إن) * في المجوز، * (وإذا) * في المقطوع به، تقول: إن دخلت الدار فأنت طالق لأن الدخول يجوز، أما إذا أردت التعليق بما يوجد قطعا لا تقول: إن بل تقول: إذا (نحو إذا) جاء غد فأنت طالق لأنه يوجد لا محالة. هذا هو الأصل، فإن استمل على خلافه فمجاز، فلما كان الزلزال مقطوعا به قال: * (إذا زلزلت) *.
المسألة الثالثة: قال الفراء: الزلزال بالكسر المصدر والزلزال بالفتح الاسم، وقد قرىء بهما، وكذلك الوسواس هم الاسم أي اسم الشيطان الذي يوسوس إليك، والوسواس بالكسر
57

المصدر، والمعنى: حركت حركة شديدة، كما قال: * (إذا رجت الأرض رجا) * وقال قوم: ليس المراد من زلزلت حركت، بل المراد: تحركت واضطربت، والدليل عليه أنه تعالى يخبر عنها في جميع السورة كما يخبر عن المختار القادر، ولأن هذا أدخل في التهويل كأنه تعالى يقول: إن الجماد ليضطرب لأوائل القيامة، أما آن لك أن تضطرب وتتيقظ من غفلتك ويقرب منه: * (لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله) * واعلم أن زل للحركة المعتادة، وزلزل للحركة الشديدة العظيمة، لما فيه من معنى التكرير، وهو كالصرصر في الريح، ولأجل شدة هذه الحركة وصفها الله تعالى بالعظم فقال: * (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) *.
المسألة الرابعة: قال مجاهد: المراد من الزلزلة المذكورة في هذه الآية النفخة الأولى كقوله: * (يوم ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة) * أي تزلزل في النفخة الأولى، ثم تزلزل ثانيا فتخرج موتاها وهي الأثقال، وقال آخرون: هذه الزلزلة هي الثانية بدليل أنه تعالى جعل من لوازمها أنها تخرج الأرض أثقالها، وذلك إنما يكون في الزلزلة الثانية.
المسألة الخامسة: في قوله: * (زلزالها) * بالإضافة وجوه أحدها: القدر اللائق بها في الحكمة، كقولك: أكرم التقي إكرامه وأهن الفاسق إهانته، تريد ما يستوجبانه من الإكرام والإهانة والثاني: أن يكون المعنى زلزالها كله وجميع ما هو ممكن منه، والمعنى أنه وجد من الزلزلة كل ما يحتمله المحل والثالث: * (زلزالها) * الموعود أو المكتوب عليها إذا قدرت تقدير الحي، تقريره ما روى أنها تزلزل من شدة صوت إسرافيل لما أنها قدرت تقدير الحي.
* (وأخرجت الأرض أثقالها) *.
أما قوله: * (وأخرجت الأرض أثقالها) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في الأثقال قولان: * (أحدهما) * أنه جمع ثقل وهو متاع البيت: * (وتحمل أثقالكم) * جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالا لها، قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها، وقيل: سمي الجن والإنس بالثقلين لأن الأرض تثقل بهم إذا كانوا في بطنها ويثقلون عليها إذا كانوا فوقها، ثم قال: المراد من هذه الزلزلة، الزلزلة الأولى يقول: أخرجت الأرض أثقالها، يعني الكنوز فيمتلئ ظهر الأرض ذهبا ولا أحد يلتفت إليه، كأن الذهب يصيح ويقول: أما كنت تخرب دينك ودنياك لأجلي! أو تكون الفائدة في إخراجها كما قال تعالى: * (يوم يحمي عليها في نار جهنم) * ومن قال: المراد من هذه الزلزلة الثانية وهي بعد القيامة. قال: تخرج الأثقال يعني الموتى أحياء كالأم تلده حيا، وقيل: تلفظه الأسرار، ولذلك قال: * (يومئذ تحدث أخبارها) * فتشهد لك أو عليك.
58

المسألة الثانية: أنه تعالى قال في صفة الأرض: * (ألم نجعل الأرض كفاتا) * ثم صارت بحال ترميك وهو تقرير لقوله: * (تذهل كل مرضعة عما أرضعت) * وقوله: * (يوم يفر المرء) *.
* (وقال الإنسان ما لها) *.
أما قوله تعالى: * (وقال الإنسان مالها) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: مالها تزلزل هذه الزلزلة الشديدة ولفظت ما في بطنها، وذلك إما عند النفخة الأولى حين تلفظ ما فيها من الكنوز والدفائن، أو عند النفخة الثانية حين تلفظ ما فيها من الأموات.
المسألة الثانية: قيل: هذا قول الكافر وهو كما يقولون: * (من بعثنا من مرقدنا) * فأما المؤمن فيقول: * (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) * وقيل: بل هو عام في حق المؤمن والكافر أي الإنسان الذي هو كنود جزوع ظلوم الذي من شأنه الغفلة والجهالة: يقول: مالها وهو ليس بسؤال بل هو للتعجب، لما يرى من العجائب التي لم تسمع بها الآذان. ولا تطلق بها لسان، ولهذا قال: الحسن إنه للكافر والفاجر معا.
المسألة الثالثة: إنما قال: * (مالها) * على غير المواجهة لأنه يعاتب بهذا الكلام نفسه، كأنه يقول: يا نفس ما للأرض تفعل ذلك يعني يا نفس أنت السبب فيه فإنه لولا معاصيك لما صارت الأرض كذلك فالكفار يقولون: هذا الكلام والمؤمنون يقولون: * (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) *.
* (يومئذ تحدث أخبارها) *.
أما قوله تعالى: * (يومئذ تحدث أخبارها) * فاعلم أن ابن مسعود قرأ: * (تنبئ أخبارها) * وسعيد بن جبير تنبئ ثم فيه سؤالات:
الأول: أين مفعولا تحدث؟ الجواب: قد حذف أولهما والثاني أخبارها وأصله تحدث الخلق أخبارها إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما.
السؤال الثاني: ما معنى تحديث الأرض؟ قلنا فيه وجوه: أحدها: وهو قول أبي مسلم يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله فكأنها حدثت بذلك، كقولك الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدث أن الدنيا قد انقضت وأن الآخرة قد أقبلت والثاني: وهو قول الجمهور: أن الله تعالى يجعل الأرض حيوانا عاقلا ناطقا ويعرفها جميع ما عمل أهلها فحينئذ تشهد لمن أطاع وعلى من عصي، قال عليه السلام: " أن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عمل عليها " ثم تلا هذه الآية وهذا على مذهبنا غير بعيد لأن البنية عندنا ليست شرطا لقبول الحياة، فالأرض مع بقائها على شكلها ويبسها وقشفها يخلق الله فيها الحياة والنطق، والمقصود كأن الأرض تشكو من العصاة
59

وتشكر من أطاع الله، فنقول: إن فلانا صلى وزكى وصام وحج في، وإن فلانا كفر وزنى وسرق وجار، حتى يود الكافر أن يساق إلى النار، وكان علي عليه السلام: إذا فرغ بيت المال صلى فيه ركعتين ويقول: لتشهدن أني ملأتك يحق وفرغك بحق والقول الثالث: وهو قول المعتزلة: أن الكلام يجوز خلقه في الجماد، فلا يبعد أن يخلق الله تعالى في الأرض حال كونها جمادا أصواتا مقطعة مخصوصة فيكون المتكلم والشاهد على هذا التقدير هو الله تعالى.
السؤال الثالث: إذ ويومئذ ما ناصبهما؟ الجواب: يومئذ بدل من إذا وناصبهما تحدث.
السؤال الرابع: لفظ التحديث يفيد الاستئناس وهناك لا استئناس فما وجه هذا اللفظ الجواب: أن الأرض كأنها تبث شكواها إلى أولياء الله وملائكته.
* (بأن ربك أوحى لها) *.
أما قوله تعالى: * (بأن ربك أوحى لها) * ففيه سؤالان:
السؤال الأول: بم تعلقت الباء في قوله: * (بأن ربك) *؟ الجواب: بتحدث، ومعناه تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها.
السؤال الثاني: لم لم يقل أوحى إليها؟ الجواب: فيه وجهان الأول: قال أبو عبيدة: * (أوحى لها) * أي أوحى إليها وأنشد العجاج: " أوحى لها القرار فاستقرت "
الثاني: لعله إنما قال لها: أي فعلنا ذلك لأجلها حتى تتوسل الأرض بذلك إلى التشفي من العصاة.
* (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) *.
قوله تعالى: * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) * الصدور ضد الورد فالوارد الجائي والصادر والمنصرف وأشتاتا متفرقين، فيحتمل أن يردوا الأرض، ثم يصدرون عنها الأرض إلى عرصة القيامة، ويحتمل أن يردوا عرصة القيامة للمحاسبة ثم يصدرون عنها إلى موضع الثواب والعقاب، فإن قوله: * (أشتاتا) * أقرب إلى الوجه الأول ولفظة الصدر أقرب إلى الوجه الثاني، وقوله: * (ليروا أعمالهم) * أقرب إلى الوجه الأول لأن رؤية أعمالهم مكتوبة في الصحائف أقرب إلى الحقيقة من رؤية جزاء الأعمال، وإن صح أيضا أن يحمل على رؤية جزاء الأعمال، وقوله: * (أشتاتا) * فيه وجوه أحدها: أن بعضهم يذهب إلى الموقف راكبا مع الثياب الحسنة وبياض الوجه والمنادى ينادي بين يديه: هذا ولي الله، وآخرون يذهب بهم سود الوجوه حفاة عراة مع السلاسل والأغلال والمنادي ينادي بين يديه هذا عدو الله وثانيها: أشتاتا أي كل فريق مع شكله اليهودي مع اليهودي والنصراني مع النصراني وثالثها: أشتاتا من أقطار الأرض من كل ناحية، ثم إنه سبحانه ذكر المقصود وقال: * (ليروا أعمالهم) * قال بعضهم: ليروا صحائف أعمالهم، لأن الكتابة يوضع بين يدي الرجل فيقول: هذا طلاقك وبيعك هل تراه والمرئي وهو الكتاب وقال آخرون: ليروا جزاء أعمالهم، وهو الجنة أو النار، وإنما أوقع اسم العمل على الجزاء لأنه الجزاء وفاق، فكأنه
60

نفس العمل بل المجاز في ذلك أدخل من الحقيقة، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم: * (ليروا) * بالفتح.
* (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *.
ثم قال تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: * (مثقال ذرة) * أي زنة ذرة قال الكلبي: الذرة أصغر النمل، وقال ابن عباس: إذا وضعت راحتك على الأرض ثم رفعتها فكل واحد مما لزق به من التراب مثقال ذرة فليس من عبد عمل خيرا أو شرا قليلا أو كثيرا إلا أراه الله تعالى إياه.
المسألة الثانية: في رواية عن عاصم: * (يره) * برفع الياء وقرأ الباقون: * (يره) * بفتحها وقرأ بعضهم: * (يره) * بالجزم.
المسألة الثالثة: في الآية إشكال وهو أن حسنات الكافر محبطة بكفره وسيئات المؤمن مغفورة، إما ابتداء وإما بسبب اجتناب الكبائر، فما معنى الجزاء بمثاقيل الذرة من
الخير والشر؟.
واعلم أن المفسرين أجابوا عنه من وجوه: أحدها: قال أحمد بن كعب القرظي: * (فمن يعمل مثقال ذرة) * من خير وهو كافر فإنه يرى ثواب ذلك في الدنيا حتى يلقى الآخرة، وليس له فيها شيء، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا، ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أنه عليه السلام قال لأبي بكر: " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى توفاها يوم القيامة " وثانيها: قال ابن عباس: ليس من مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا إلا أراه الله إياه، فأما المؤمن فيغفر الله سيئاته ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فترد حسناته ويعذب بسيئاته وثالثها: أن حسنات الكافر وإن كانت محبطة بكفره ولكن الموازنة معتبرة فتقدر تلك الحسنات انحبطت من عقاب كفره، وكذا القول في الجانب الآخر فلا يكون ذلك قادحا في عموم الآية ورابعها: أن تخصص عموم قوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * ونقول: المراد فمن يعمل من السعداء مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل من الأشقياء مثقال ذرة شرا يره.
المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: إذا كان الأمر إلى هذا الحد فأين الكرم؟ والجواب: هذا هو الكرم، لأن المعصية وإن قلت ففيها استخفاف، والكريم لا يحتمله وفي الطاعة تعظيم، وإن قل فالكريم لا يضيعه، وكأن الله سبحانه يقول لا تحسب مثقال الذرة من الخير صغيرا، فإنك مع لؤمك وضعفك لم تضيع مني الذرة، بل اعتبرتها ونظرت فيها، واستدللت بها على ذاتي وصفاتي واتخذتها مركبا به وصلت إلي، فإذا لم تضيع ذرتي أفأضيع ذرتك! ثم التحقيق أن المقصود هو النية والقصد، فإذا كان العمل قليلا لكن النية خالصة فقد حصل المطلوب، وإن كان العمل كثيرا والنية دائرة فالمقصود فائت، ومن ذلك ما روى عن كعب: لا تحقروا شيئا من المعروف، فإن رجلا دخل الجنة بإعارة إبرة في سبيل الله، وإن امرأة أعانت بحبة في بناء بيت
61

المقدس فدخلت الجنة. وعن عائشة: " كانت بين يديها عنب فقدمته إلى نسوة بحضرتها، فجاء سائل فأمرت له بحبة من ذلك العنب فضحك بعض من كان عندها، فقالت: إن فيما ترون مثاقيل الذرة وتلت هذه الآية " ولعلها كان غرضها التعليم، وإلا فهي كانت في غاية السخاوة. روى: " أن ابن الزبير بعث إليها بمائة ألف وثمانين ألف درهم في غرارتين، فدعت بطبق وجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت: يا جارية فطوري هلمي فجاءت بخبز وزيت، فقيل لها: أما أمسكت النار درهما نشتري به لحما نفطر عليه، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت ذلك " وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة، ويقول ما هذا بشيء، وإنما نؤجر على ما نعطي! وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، ويقول: لا شيء علي من هذا إنما الوعيد بالنار على الكبائر، فنزلت هذه الآي ترغيبا في القليل من الخير فإنه يوشك أن يكثر، وتحذيرا من اليسير من الذنب فإنه يوشك أن يكبر، ولهذا قال عليه السلام: " اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة " والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
62

سورة العاديات
إحدى عشرة آية مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (والعاديات ضبحا) *.
* (والعاديات ضبحا) *.
اعلم أن الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدت، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة، ولكنه صوت نفس، ثم اختلفوا في المراد بالعاديات على قولين:
الأول: ما روى عن علي عليه السلام وابن مسعود أنها الإبل، وهو قول إبراهيم والقرظي روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: " بينا أنا جالس في الحجر إذا أتاني رجل فسألني عن العاديات ضبحا، ففسرتها بالخيل فذهب إلى عليه عليه السلام وهو تحت سقاية زمزم فسأله وذكر له ما قلت، فقال: ادعه لي فلما وقفت على رأسه، قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، والله إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر وما كان معنا إلا فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد * (والعاديات ضبحا) * الإبل من عرفة إلى مزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى، يعني إبل الحاج، قال ابن عباس: فرجعت عن قولي إلى قول علي عليه السلام " ويتأكد هذا القول بما روى أبي في فضل السورة مرفوعا: " من قرأها أعطى من الأجر بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعا " وعلى هذا القول: * (فالموريات قدحا) * أن الحوافر ترمى بالحجر من شدة العدو فتضرب به حجرا آخر فتورى النار أو يكون المعنى الذين يركبون الإبل وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم بالمزدلفة * (فالمغيرات) * الإغارة سرعة السير وهم يندفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى منى * (فأثرن به نفعا) * يعني غبارا بالعدو وعن محم د بن كعب النقع ما بين المزدلفة إلى منى * (فوسطن به جمعا) * يعني مزدلفة لأنها تسمى الجمع لاجتماع الحاج بها، وعلى هذا التقدير، فوجه القسم به من وجوه أحدها: ما ذكرنا من المنافع الكثيرة فيه في قوله: * (أفلا ينظرون إلى الإبل) * وثانيها: كأنه تعريض بالآدمي الكنود فكأنه تعالى يقول: إني سخرت مثل هذا لك وأنت متمرد عن طاعتي وثالثها: الغرض بذكر إبل الحج الترغيب في الحج، كأنه تعالى يقول: جعلت ذلك الإبل مقسما به، فكيف أضيع
63

عملك! وفيه تعريض لمن يرغب الحج، فإن الكنود هو الكفور، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك، كما في قوله تعالى: * (ولله على الناس حج البيت) * إلى قوله: * (ومن كفر) *.
القول الثاني: قول ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعطاء وأكثر المحققين: أنه الخيل، وروى ذلك مرفوعا. قال الكلبي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى أناس من كنانة فمكث ما شاء الله أن يمكث لا يأتيه منهم خبر فتخوف عليها. فنزل جبريل عليه السلام بخبر مسيرها، فإن جعلنا الألف واللام في: * (
والعاديات) * للمعهود السابق كان محل القسم خيل تلك السرية، وإن جعلناهما للجنس كان ذلك قسما بكل خيل عدت في سبيل الله.
واعلم أن ألفاظ هذه الآيات تنادي أن المراد هو الخيل، وذلك لأن الضبح لا يكون إلا للفرس، واستعمال هذا اللفظ في الإبل يكون على سبيل الاستعارة، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمهر، والعدول من الحقيقة إلى المجاز بغير ضرورة لا يجوز، وأيضا فالقدح يظهر بالحافر مالا يظهر بخف الإبل، وكذا قوله: * (فالمغيرات صبحا) * لأنه بالخيل أسهل منه بغيره، وقد روينا أنه ورد في بعض السرايا، وإذا كان كذلك فالأقرب أن السورة مدنية، لأن الإذن بالقتال كان بالمدينة، وهو الذي قاله الكلبي: إذا عرفت ذلك فههنا مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى إنما أقسم بالخيل لأن لها في العدو من الخصال الحميدة ما ليس لسائر الدواب، فإنها تصلح للطلب والهرب والكر والفر، فإذا ظننت أن النفع في الطلب عدوت إلى الخصم لتفوز بالغنيمة، وإذا ظننت أن المصلحة في الهرب قدرت على أشد العدو، ولا شك أن السلامة إحدى الغنيمتين، فأقسم تعالى بفرس الغازي لما فيه من منافع الدنيا والدين، وفيه تنبيه على أن الإنسان يجب عليه أن يمسكه لا للزينة والتفاخر، بل لهذه المنفعة، وقد نبه تعالى على هذا المعنى في قوله: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * فأدخل لام التعليل على الركوب وما أدخله على الزينة وإنما قال: * (صبحا) * لأنه أمارة يظهر به التعب وأنه يبذل كل الوسع ولا يقف عند التعب، فكأنه تعالى يقول: إنه مع ضعفه لا يترك طاعتك، فليكن العبد في طاعة مولاه أيضا كذلك.
المسألة الثانية: ذكروا في انتصاب * (ضبحا) * وجوها أحدها: قال الزجاج: والعاديات تضبح ضبحا وثانيها: أن يكون * (والعاديات) * في معنى والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو، وهو قول الفراء وثالثها: قال البصريون: التقدير: والعاديات ضابحة، فقوله: * (ضبحا) * نصب على الحال.
* (فالموريات قدحا) *.
أما قوله تعالى: * (فالموريات قدحا) *.
64

فاعلم أن الإيراء إخراج النار، والقدح الصك تقول: قدح فأورى وقد فأصلد، ثم في تفسير الآية وجوه أحدها: قال ابن عباس: يريد ضرب الخيل بحوافرها الجبل فأورت منه النار مثل الزبد إذا قدح، وقال مقاتل: يعني الخيل تقدحن بحوافرهن في الحجارة نارا كنار الحباحب والحباحب اسم رجل كان بخيلا لا يوقد النار إلا إذا نام الناس، فإذا انتبه أحد أطفأ ناره لئلا ينتفع بها أحد. فشبهت هذه النار التي تنقدح من حوافر الخيل بتلك النار التي لم يكن فيها نفع ومن الناس من يقول: إنها نعل الحديد يصك الحجر فتخرج النار، والأول أبلغ لأن على ذلك التقدير تكون السنابك نفسها كالحديد وثالثها: قال قوم: هذه الآيات في الخيل، ولكن إبراؤها أن تهيج الحرب بين أصحابها وبين عدوهم، كما قال تعالى: * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) * ومنه يقال للحرب إذا التحمت: حمى الوطيس وثالثها: هم الذين يغزون فيورون بالليل نيرانهم لحاجتهم وطعامهم * (فالموريات) * هم الجماعة من الغزاة ورابعها: إنها هي الألسنة توري نار العداوة لعظم ما تتكلم به وخامسها: هي أفكار الرجال توري نار المكر والخديعة، روى ذلك عن ابن عباس، ويقال: لأقدحن لك ثم لأورين لك، أي لأهيجن عليك شرا وحربا، وقيل: هو المكر إلا أنه مكر بإيقاد النار ليراهم العدو كثيرا، ومن عادة العرب عند الغزو إذا قربوا من العدو أن يوقدوا نيرانا كثيرة، لكي إذا نظر العدو إليهم ظنهم كثيرا وسادسها: قال عكرمة: الموريات قدحا الأسنة وسابعها: * (فالموريات قدحا) * أي فالمنجحات أمرا، يعني الذين وجدوا مقصودهم وفازوا بمطلوبهم من الغزو والحج، ويقال للمنجح في حاجته: وروى زنده، ثم يرجع هذا إلى الجماعة المنجحة، ويجوز أن يرجع إلى الخيل ينجح ركبانها قال جرير: وجدنا الأزد أكرمهم جوادا * وأوراهم إذا قدحوا زنادا
ويقال: فلان إذا قدح أورى، وإذا منح أورى، واعلم أن الوجه الأول أقرب لأن لفظ الإيراء حقيقة في إيراء النار، وفي غيره مجاز، ولا يجوز ترك الحقيقة بغير دليل.
* (فالمغيرات صبحا) *.
أما قوله تعالى: * (فالمغيرات صبحا) * يعني الخيل تغير على العدو وقت الصبح، وكانوا يغيرون صباحا لأنهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئا، وأما النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدين للمدافعة والمحاربة، أما هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد. وأما الذين حملوا هذه الآيات على الإبل، قالوا: المراد هو الإبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى، والسنة أن لا تغير حتى تصبح، ومعنى الإغارة في اللغة الإسراع، يقال: أغار إذا أسرع وكانت العرب في الجاهلية تقول: أشرق ثبير كيما نغير. أي نسرع في الإفاضة.
* (فأثرن به نقعا) *.
أما قوله: * (فأثرن به نقعا) * ففيه مسائل:
65

المسألة الأولى: في النقع قولان: أحدهما: أنا هو الغبار وقيل: إنه مأخوذ من نقع الصوت إذا ارتفع، فالغبار يسمى نقعا لارتفاعه، وقيل: هو من النقع في الماء، فكأن صاحب الغبار غاص فيه، كما يغوص الرجل في الماء والثاني: النقع الصباح من قوله عليه الصلاة والسلام: " ما لم يكن نقع ولا لقلقة " أي فهيجن في المغار عليهم صياح النوائح، وارتفعت أصواتهن، ويقال: ثار الغبار والدخان، أي ارتفع وثار القطا عن مفحصه، وأثرن الغبار أي هيجنه، والمعنى أن الخيل أثرن الغبار لشدة العدو في الموضع الذي أغرن فيه.
المسألة الثانية: الضمير في قوله: به إلى ماذا يعود؟ فيه وجوه أحدها: وهو قول الفراء أنه عائد إلى المكان الذي انتهى إليه، والموضع الذي تقع فيه الإغارة، لأن في قوله: * (فالمغيرات صبحا) * دليلا على أن الإغارة لا بد لها من وضع، وإذا علم المعنى جاز أن يكنى عما لم يجز ذكره بالتصريح كقوله: * (إنا أنزلناه في ليلة
القدر) * وثانيها: إنه عائد إلى ذلك الزمان الذي وقعت فيه الإغارة، أي فأثرن في ذلك الوقت نقعا وثالثها: وهو قول الكسائي أنه عائد إلى العدو، أي فأثرن بالعدو نقعا، وقد تقدم ذكر العدو في قوله: * (والعاديات) *.
المسألة الثالثة: فإن قيل: على أي شيء عطف قوله: * (فأثرن) * قلنا: على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، والتقدير واللائي عدون فأورين، وأغرن فأثرن.
المسألة الرابعة: قرأ أبو حياة: * (فأثرن) * بالتشديد بمعنى فأظهرن به غبارا، لأن التأثير فيه معنى الإظهار، أو قلب ثورن إلى وثرن وقلب الواو همزة.
* (فوسطن به جمعا) *.
أما قوله تعالى: * (فوسطن به جمعا) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الليث: وسطت النهر والمفازة أوسطها وسطا وسطة، أي صرت في وسطها، وكذلك وسطتها وتوسطتها، ونحو هذا، قال الفراء: والضمير في قوله: * (به) * إلى ماذا يرجع فيه وجوه أحدها: قال مقاتل: أي بالعدو، وذلك أن العاديات تدل على العدو، فجازت الكناية عنه، وقوله: * (جمعا) * يعني جمع العدو، والمعنى صرن بعدوهن وسط جمع العدو، ومن حمل الآيات على الإبل، قال: يعني جمع مني وثانيها: أن الضمير عائد إلى النقع أي: * (وسطن) * بالنقع الجمع وثالثها: المراد أن العاديات وسطن ملبسا بالنقع جمعا من جموع الأعداء.
المسألة الثانية: قرىء: * (فوسطن) * بالتشديد للتعدية، والباء مزيدة للتوكيد كقوله: * (وأتوا به) * وهي مبالغة في وسطن، واعلم أن الناس أكثروا في صفة الفرس، وهذا القدر الذي ذكره الله أحسن، وقال عليه الصلاة والسلام: " الخيل معقود بنواصيها الخير "، وقال أيضا: " ظهرها حرز
66

وبطنها كنز " واعلم أنه تعالى لما ذكر المقسم به، ذكر المقسم عليه وهو أمور ثلاثة:
* (إن الإنسان لربه لكنود * وإنه على ذلك لشهيد * وإنه لحب الخير لشديد) *.
أحدها: قوله: * (إن الإنسان لربه لكنود) * قال الواحدي: أصل الكنود منع الحق والخير والكنود الذي يمنع ما عليه، والأرض الكنود هي التي لا تنبت شيئا ثم للمفسرين عبارات، فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة: الكنود هو الكفور قالوا: ومنه سمي الرجل المشهور كندة لأنه كند أباه ففارقه، وعن الكلبي الكنود بلسان كندة العاصي وبلسان بني مالك البخيل، وبلسان مضر وربيعة الكفور، وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: * (الكنود) * هو الكفور الذي يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده، وقال الحسن: * (الكنود) * اللوام لربه يعد المحن والمصائب، وينسى النعم والراحات، وهو كقوله: * (وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدره عليه رزقه فنقول ربي أهانن) *. واعلم أن معنى الكنود لا يخرج عن أن يكون كفرا أو فسقا، وكيفما كان فلا يمكن حمله على كل الناس، فلا بد من صرفه إلى كافر معين، أو إن حملناه على الكل كان المعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه من ذلك، والأول قول الأكثرين قالوا: لأن ابن عباس قال: إنها نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وأيضا فقوله: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) * لا يليق إلا بالكافر، لأن ذلك كالدلالة على أنه منكر لذلك الأمر.
الثاني: من الأمور التي أقسم الله عليها قوله: * (وأنه على ذلك لشهيد) * وفيه قولان: أحدهما: أن الإنسان على ذلك أي على كنوده لشهيد يشهد على نفسه بذلك، أما لأنه أمر ظاهر لا يمكنه أن يجحده، أو لأنه يشهد على نفسه بذلك في الآخرة ويعترف بذنوبه القول الثاني: المراد وإن الله على ذلك لشهيد قالوا: وهذا أولى لأن للضمير عائد إلى أقرب المذكورات والأقرب ههنا هو لفظ الرب تعالى ويكون ذلك كالوعيد والزجر له عين المعاصي من حيث إنه يحصى عليه أعماله، وأما الناصرون للقول الأول فقالوا: إن قوله بعد ذلك: * (وإنه لحب الخير لشديد) * الضمير فيه عائد إلى الإنسان، فيجب أن يكون الضمير في الآية التي قبله عائدا إلى الإنسان ليكون النظم أحسن.
الأمر الثالث: مما أقسم الله عليه قوله: * (وإنه لحب الخير لشديد) * الخير المال من قوله تعالى: * (إن ترك خيرا) * وقوله: * (وإذا مسه الخير منوعا) * وهذا لأن الناس يعدون المال فيما بينهم خيرا كما أنه تعالى سمي ما ينال المجاهد من الجراح وأذى الحرب سوءا في قوله: * (لم يمسسهم
67

سوء) * والشديد البخيل الممسك، يقال: فلان شديدة ومتشدد، قال طرفة:
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي * عقيلة مال الفاحش المتشدد
ثم في التفسيري وجوه أحدها: أنه لأجل حب المال لبخيل ممسك وثانيها: أن يكون المراد من الشديدة القرى، ويكون المعنى وإنه لحب المال وإيثار الدنيا وطلبها قوي مطيق، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمه ضعيف، تقول: هو شديد لهذا الأمر وقوي له، وإذا كان مطيقا له ضابطا وثالثها: أراد إنه لحب الخيرات غير هني منبسط ولكنه شديد منقبض ورابعها: قال الفراء: يجوز أن يكون المعنى وإنه لحب الخير لشديد الحب يعني أنه يحب المال، ويحب كونه محبا له، إلا أنه اكتفى بالحب الأول عن الثاني، كما قال: * (اشتدت به الريح في يوم عاصف) * أي في يوم عاصف الريح فاكتفى بالأولى عن الثانية وخامسها: قال قطرب: أي إنه شديد حب الخير، كقولك إنه لزيد ضروب أي أنه ضروب زيد.
* (أفلا يعلم إذا بعثر ما فى القبور) *.
واعلم أنه تعالى لما عد عليه قبائح أفعاله خوفه، فقال: * (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: القول في: * (بعثر) * مضى في قوله تعالى: * (وإذا القبور بعثرت) * وذكرنا أن معنى: * (بعثرت) * بعث وأثير وأخرج، وقرئ بحثر.
المسألة الثانية: لقائل أن يسأل لم قال: * (بعثر ما في القبور) * ولم يقل: بعثر من في القبور؟ ثم إنه لما قال: ما في القبور، فلم قال: * (إن ربهم بهم) * ولم يقل: إن ربها بها يومئذ لخبير؟ الجواب عن السؤال الأول: هو أن ما في الأرض من غير المكلفين أكثر فأخرج الكلام على الأغلب، أو يقال: إنهم حال ما يبعثون لا يكونون أحياء عقلاء بل بعد البعث يصيرون كذلك، فلا جرم كان الضمير الأول ضمير غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
* (وحصل ما فى الصدور) *.
ثم قال تعالى: * (وحصل ما في الصدور) * قال أبو عبيدة، أي ميز ما في الصدور، وقال الليث: الحاصل من كل شيء ما بقي وثبت وذهب سواه، والتحصيل تمييز ما يحصل والاسم الحصيلة قال لبيد:
وكل امرئ يوما سيعلم سعيه * إذا حصلت عند الإله الحصائل
وفي التفسير وجوه أحدها: معنى حصل جمع في الصحف، أي أظهرت محصلا مجموعا وثانيها: أنه لا بد من التمييز بين الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والمحظور، فإن لكل واحد ومنه قيل للمنخل: المحصل وثالثها: أن كثيرا ما يكون باطن الإنسان بخلاف ظاهره، أما في يوم القيامة فإنه تتكشف الأسرار وتنتهك الأستار، ويظهر ما في البواطن، كما قال: * (يوم تلى السرائر) *.
واعلم أن حظ الوعظ منه أن يقال: إنك تستعد فيما لا فائدة لك فيه، فتبني المقابرة وتشتري
68

التابوت، وتفصل الكفن، وتغزل العجوز الكفن، فيقال: هذا كله للديدان، فأين حظ الرحمن! بل المرأة إذا كانت حاملا فإنها تعد للطفل ثيابا، فإذا قلت لها: لا طفل لك فما هذا الاستعداد؟ فتقول: أليس يبعثر ما في بطني؟ فيقول الرب لك: ألا يبعثر ما في بطن الأرض، فأين الاستعداد، وقرئ وحصل بالفتح والتخفيف بمعنى ظهر.
* (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) *.
ثم قال: * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * اعلم أن فيه سؤالات:
الأول: أنه يوهم أن علمه بهم في ذلك اليوم إنما حصل بسبب الخبرة، وذلك يقتضي سبق الجهل وهو على الله تعالى محال: * (الجواب) * من وجهين أحدهما: كأنه تعالى يقول: إن من لم يكن عالما، فإنه يصير بسبب الاختبار عالما، فمن كان لم يزل عالما أن يكون خبيرا بأحوالك! وثانيهما: أن فائدة تخصيص ذلك الوقت في قوله: * (يومئذ) * مع كونه عالما لم يزل أنه وقت الجزاء، وتقريره لمن الملك كأنه يقول: لا حاكم يروج حكمه ولا عالم تروج فتواه يومئذ إلا هو، وكم عالم لا يعرف الجواب وقت الواقعة ثم يتذكره بعد ذلك، فكأنه تعالى يقول: لست كذلك.
السؤال الثاني: لم خص أعمال القلوب بالذكر في قوله: * (وحصل ما في الصدور) * وأهمل ذكر أعمال الجوارح؟ الجواب: لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلب. فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح، ولذلك إنه تعالى جعلها الأصل في الذم، فقال: * (آثم قلبه) * والأصل في المدح، فقال: * (وجلت قلوبهم) *.
السؤال الثالث: لم قال: * (وحصل ما في الصدور) * ولم يقل: وحصل ما في القلوب؟ الجواب: لأن القلب مطية الروح وهو بالطبع محب لمعرفة الله وخدمته، إنما المنازع في هذا الباب هو النفس ومجلسها ما يقرب من الصدر، ولذلك قال: * (يوسوس في صدور الناس) * وقال: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام) * فجعل الصدر موضعا للإسلام.
السؤال الرابع: الضمير في قوله: * (إن ربهم بهم) * عائد إلى الإنسان وهو واحد والجواب: الإنسان في معنى الجمع كقوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر) * ثم قال: * (إلا الذين آمنوا) * ولولا أنه للجمع وإلا لما صح ذلك. واعلم أنه بقي من مباحث هذه الآية مسألتان:
المسألة الأولى: هذه الآية تعدل على كونه تعالى عالما بالجزئيات الزمانيات، لأنه تعالى نص على كونه عالما بكيفية أحوالهم في ذلك اليوم فيكون منكره كافرا.
المسألة الثانية: نقل أن الحجاج سبق على لسانه أن بالنصب، فأسقط اللام من قوله: * (لخبير) * حتى لا يكون الكلام لحنا، وهذا يذكر في تقرير فصاحته، فزعم بعض المشايخ أن هذا كفر لأنه قصد لتغيير المنزل. ونقل عن أبي السماءل أنه قرأ على هذا الوجه، والله سبحانه وتعالى أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
69

سورة القارعة
إحدى عشرة آية مكية
* (سورة القارعة إحدى عشرة آية مكية) * اعلم أنه سبحانه وتعالى لما ختم السورة المتقدمة بقوله: * (إن ربهم بهم يومئذ لخبير) * فكأنه قيل: وما ذلك اليوم؟ فقيل هي القارعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (القارعة، ما القارعة وما أدراك ما القارعة) * اعلم أن فيه مسائل:
المسألة الأولى: القرع الضرب بشدة واعتماد، ثم سميت الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة، قال الله تعالى: * (ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة
) * ومنه قولهم: العبد يقرع بالعصا، ومنه المقرعة وقوارع القرآن وقرع الباب، وتقارعوا تضاربوا بالسيوف، واتفقوا على أن القارعة اسم من أسماء القيامة، واختلفوا في لمية هذه التسمية على وجوه أحدها: أن سبب ذلك هو الصيحة التي تموت منها الخلائق، لأن في الصيحة الأولى تذهب العقول، قال تعالى: * (فصعق من في السماوات ومن في الأرض) * وفي الثانية تموت الخلائق سوى إسرافيل، ثم يميته الله ثم يحييه، فينفخ الثالثة فيقومون. وروى أن الصور له ثقب على عدد الأموات لكل واحد ثقبة معلومة، فيحيي الله كل جسد بتلك النفخة الواصلة إليه من تلك الثقبة المعينة، والذي يؤكد هذا الوجه قوله تعالى: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة، فإنما هي زجرة واحدة) * وثانيها: أن الأجرام العلوية والسفلية يصطكان اصطكاكا شديدا عند تخريب العالم، فبسبب تلك القرعة سمي يوم القيامة بالقارعة وثالثها: أن القارعة هي التي تقرع الناس بالأهوال والإفزاع، وذلك في السماوات بالانشقاق والانفطار، وفي الشمس والقمر بالتكور، وفي الكواكب بالانتثار، وفي الجبال بالدك والنسف، وفي الأرض بالطي والتبديل، وهو قول الكلبي ورابعها: أنها تقرع أعداء الله بالعذاب والخزي والنكال، وهو قول مقاتل، قال بعض المحققين وهذا أولى من قول الكلبي لقوله تعالى: * (وهم من فزع يومئذ آمنون) *.
المسألة الثانية: في إعراب قوله: * (القارعة ما القارعة) * وجوه أحدها: أنه تحذير وقد
70

جاء التحذير بالرفع والنصب تقول: الأسد الأسد، فيجوز الرفع والنصب وثانيها: وفيه إضمار أي ستأتيكم القارعة على ما أخبرت عنه في قوله: * (إذا بعثر ما في القبور) * وثالثها: رفع بالابتداء وخبره: * (ما القارعة) * وعلى قول قطرب الخبر. * (وما أدراك ما القارعة) * فإن قيل: إذا أخبرت عن شيء بشيء فلا بد وأن تستفيد منه علما زائدا، وقوله: * (وما أدراك) * يفيد كونه جاهلا به فكيف يعقل أن يكون هذا خبرا؟ قلنا: قد حصل لنا بهذا الخبر علم زائد، لأنا كنا نظن أنها قارعة كسائر القوارع، فبهذا التجهيل علمنا أنها قارعة فاقت القوارع في الهول والشدة.
المسألة الثالثة: قوله: * (وما أدراك ما القارعة) * فيه وجوه أحدها: معناه لا علم لك بكنهها، لأنها في الشدة بحيث لا يبلغها وهم أحد ولا فهمه، وكيفما قدرته فهو أعظم من تقديرك كأنه تعالى قال: قوارع الدنيا في جنب تلك القارعة كأنها ليست بقوارع، ونار الدنيا في جنب نار الآخرة كأنها ليست بنار، ولذلك قال في آخر السورة: * (نار حامية) * تنبيها على أن نار الدنيا في جنب تلك ليست بحامية، وصار آخر السورة مطابقا لأولها من هذا الوجه. فإن قيل: ههنا قال: * (وما أدراك ما القارعة) * وقال في آخر السورة: * (فأمه هاوية، وما أراك ماهية) * ولم يقل: وما أدراك ما هاوية فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن كونها قارعة أمر محسوس، أما كونها هاوية فليس كذلك، فظهر الفرق بين الموضعين وثانيها: أن ذلك التفصيل لا سبيل لأحد إلى العلم به إلا بأخبار الله وبيانه، لأنه بحث عن وقوع الوقعات لا عن وجوب الواجبات، فلا يكون إلى معرفته دليل إلا بالسمع.
المسألة الرابعة: نظير هذه الآية قوله: * (الحاقة، ما الحاقة، وما أدراك ما الحاقة) * ثم قال المحققون قوله: * (القارعة، ما القارعة) * أشد من قوله: * (الحاقة ما الحاقة) * لأن النازل آخرا لا بد وأن يكون أبلغ لأن المقصود منه زيادة التنبيه، وهذه الزيادة لا تحصل إلا إذا كانت أقوى، وأما بالنظر إلى المعنى، فالحاقة أشد لكونه راجعا إلى معنى العدل، والقارعة أشد لما أنها تهجم على القلوب بالأمر الهائل.
* (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *.
ثم قال تعالى: * (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش) *.
قال صاحب الكشاف: الظرف نصب بمضمر دلت عليه القارعة، أي تقرع يوم يكون الناس كذا.
واعلم أنه تعالى وصف ذلك اليوم بأمرين الأول: كون الناس فيه: * (كالفراش المبثوث) * قال الزجاج: الفراش هو الحيوان الذي يتهافت في النار، وسمي فراشا لتفرشه وانتشاره، ثم إنه
71

تعالى شبه الخلق وقت البعث ههنا بالفراش المبثوث، وفي آية أخرى بالجراد المنتشر. أما وجه التشبيه بالفراش، فلأن الفراش إذا ثار لم يتجه لجهة واحدة، بل كل واحدة منها تذهب إلى غير جهة الأخرى، يدل هذا على أنهم إذا بعثوا فزعوا، واختلفوا في المقاصد على جهات مختلفة غير معلومة، والمبثوث المفرق، يقال: بثه إذا فرقه. وأما وجه التشبيه بالجراد فهو في الكثرة. قال الفراء: كغوغاء الجراد يركب بعضه بعضا، وبالجملة فالله سبحانه وتعالى شبه الناس في وقت البعث بالجراد المنتشر، وبالفراش المبثوث، لأنهم لما بعثوا يموج بعضهم في بعض كالجراد والفراش، ويأكد ما ذكرنا بقوله تعالى: * (فتأتون أفواجا) * وقوله: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * وقوله في قصة يأجوج ومأجوج: * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * فإن قيل: الجراد بالنسبة إلى الفراش كبار، فكيف شبه الشيء الواحد بالصغير والكبير معا؟ قلنا: شبه الواحد بالصغير والكبير لكن في وصفين. أما التشبيه بالفراش فبذهاب كل واحدة إلى غير جهة الأخرى. وأما بالجراد فبالكثرة والتتابع، ويحتمل أن يقال: إنها تكون كبارا أولا كالجراد، ثم تصير صغارا كالفراش بسبب احتراقهم بحر الشمس، وذكروا في التشبيه بالفراش وجوها أخرى أحدها: ما روى أنه عليه السلام قال: " الناس عالم ومتعلم، وسائر الناس همج رعاع " فجعلهم الله في الأخرى كذلك: * (جزاء وفاقا) * وثانيها: أنه تعالى إنما أدخل حرف التشبيه، فقال: * (كالفراش) * لأنهم يكونون في ذلك اليوم أذل من الفراش، لأن الفراش لا يعذب، وهؤلاء يعذبون، ونظيره: * (كالأنعام بل هم أضل) *.
الصفة الثانية: من صفات ذلك اليوم قوله تعالى: * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) * العهن الصوف ذو الألوان، وقد مر تحقيقه عند قوله: * (وتكون الجبال كالعهن) * والنفش فك الصوف حتى ينتفش بعضه عن بعض، وفي قراءة ابن مسعود: كالصوف المنفوش.
واعلم أن الله تعالى أخبر أن الجبال مختلفة الألوان على ما قال: * (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود) * ثم إنه سبحانه يفرق أجزاءها ويزيل
التأليف والتركيب عنها فيصبر ذلك مشابها للصوف الملون بالألوان المختلفة إذا جعل منفوشا، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: إنما ضم بين حال الناس وبين حال الجبال، كأنه تعالى نبه على أن تأثير تلك القرعة في الجبال هو أنها صارت كالعهن المنفوش، فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها! فالويل ثم الويل لابن آدم إن لم تتداركه رحمة ربه، ويحتمل أن يكون المراد أن جبال النار تصير كالعهن المنفوش لشدة حمرتها.
المسألة الثانية: قد وصف الله تعالى تغير الأحوال على الجبال من وجوه أولها: أن تصير قطعا، كما قال: * (ودكت الجبال دكا) *، وثانيها: أن تصير كثيبا مهيلا، كما قال: * (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) * ثم تصير كالعهن المنفوش، وهي أجزاء كالذر تدخل
72

من كوة البيت لا تمسها الأيدي، ثم قال: في الرابع تصير سرابا، كما قال: * (وسيرت الجبال فكانت سرابا) *.
المسألة الثالثة: لم يقل: يوم يكون الناس كالفراش المبثوث والجبال كالعهن المنفوش بل قال: * (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) * لأن التكوير في مثل هذا المقام أبلغ في التحذير.
* (فأما من ثقلت موازينه) *.
واعلم أنه تعالى لما وصف يوم القيامة قسم الناس فيه إلى قسمين فقال: * (فأما من ثقلت موازينه) * واعلم أن في الموازين قولين: أحدهما: أنه جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله، وهذا قول الفراء قال: ونظيره يقال: عندي درهم بميزان درهمك ووزن درهمك وداري بميزان دارك ووزن دارك أي بحذائها والثاني: أنه جمع ميزان، قال ابن عباس: الميزان له لسان وكفتان لا يوزن فيه إلا الأعمال فيؤتى بحسنات المطيع في أحسن صورة، فإذا رجح فالجنة له ويؤتى بسيئات الكافر في أقبح صورة فيخف وزنه فيدخل النار. وقال الحسن: في الميزان له كفتان ولا يوصف، قال المتكلمون: إن نفس الحسنات والسيئات لا يصح وزنهما، خصوصا وقد نقضيا، بل المراد أن الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات توزن، أو يجعل النور علامة الحسنات والظلمة علامة السيئات، أو تصور صحيفة الحسنات بالصورة الحسنة وصحيفة السيئات بالصورة القبيحة فيظهر بذلك الثقل والخفة، وتكون الفائدة في ذلك ظهور حال صاحب الحسنات في الجمع العظيم فيزداد سرورا، وظهور حال صاحب السيئات فيكون ذلك كالفضيحة له عند الخلائق.
* (فهو فى عيشة راضية) *.
أما قوله تعالى: * (فهو في عيشة راضية) * فالعيشة مصدر بمعنى العيش، كالخيفة بمعنى الخوف، وأما الراضية فقال الزجاج: معناه أي عيشة ذات رضا يرضاها صاحبها وهي كقولهم لابن، وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر، ولهذا قال المفسرون: تفسيرها مرضية على معنى يرضاها صاحبها.
* (وأما من خفت موازينه) *.
ثم قال تعالى: * (وأما من خفت موازينه) * أي قلت: حسناته فرجحت السيئات على الحسنات قال أبو بكر رضي الله عنه: إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل أن يكون خفيفا، وقال مقاتل: إنما كان كذلك لأن الحق ثقيل والباطل خفيف.
73

أما قوله تعالى: * (فأمه هاوية) * ففيه وجوه: أحدها: أن الهاوية من أسماء النار وكأنها النار العميقة يهوى أهل النار فيها مهوى بعيدا، والمعنى فمأواه النار، وقيل: للمأوى أم على سبيل التشبيه بالأم التي لا يقع الفزع من الولد إلا إليها وثانيها: فأم رأسه هاوية في النار ذكره الأخفش، والكلبي، وقتادة قال: لأنهم يهوون في النار على رؤوسهم وثالثها: أنهم إذا دعوا على الرجل بالهلاك قالوا: هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه حزنا وثكلا، فكأنه قيل: * (وأما من خفت موازينه) * فقد هلك.
* (فأمه هاوية * ومآ أدراك ما هيه) *.
ثم قال تعالى: * (وما أدراك ماهيه) * قال صاحب الكشاف: هيه ضمير الداهية التي دل عليها قوله: * (فأمه هاوية) * في التفسير الثالث: أو ضمير هاوية: والهاء للسكت فإذا وصل جاز حذفها والاختيار الوقف بالهاء لاتباع المصحف والهاء ثابتة فيه، وذكرنا الكلام في هذه الهاء عند قوله: * (لم يتسنه، فبهداهم اقتداه، ما أغنى عني ماليه) *.
* (نار حامية) *.
ثم قال تعالى: * (نار حامية) * والمعنى أن سائر النيران بالنسبة إليها كأنها ليست حامية، وهذا القدر كاف في التنبيه على قوة سخونتها، نعوذ بالله منها ومن جميع أنواع العذاب، ونسأله التوفيق وحسن المآب: * (ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد) *.
74

سورة التكاثر
ثمان آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ألهاكم التكاثر، حتى زرتم المقابر) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الإلهاء الصرف إلى اللهو. واللهو الانصراف إلى ما يدعو إليه الهوى، ومعلوم أن الانصراف إلى الشيء يقتضي الإعراض عن غيره، فلهذا قال أهل
اللغة: ألهاني فلان عن كذا أي أنساني وشغلني، ومنه الحديث: " أن الزبير كان سمع صوت الرعد لهى عن حديثه " أن تركه وأعرض عنه، وكل شيء تركته فقد لهيت عنه، والتكاثر التباهي بكثرة المال والجاه والمناقب يقال: تكاثر القوم تكاثرا إذا تعادلوا مالهم من كثرة المناقب، وقال أبو مسلم: التكاثر تفاعل عن الكثرة والتفاعل يقع على أحد وجوه ثلاثة يحتمل أن يكون بين الاثنين فيكون مفاعله، ويحتمل تكلف الفعل تقول: تكارهت على كذا إذا فعلته وأنت كاره، وتقول: تباعدت عن الأمر إذا تكلفت العمى عنه وتقول: تغافلت، ويحتمل أيضا الفعل بنفسه كما تقول: تباعدت عن الأمر أي بعدت عنه، ولفظ التكاثر في هذه الآية ويحتمل الوجهين الأولين، فيحتمل التكاثر بمعنى المفاعلة لأنه كم من اثنين يقول كل واحد منهما لصاحبه: * (أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا) * ويحتمل تكلف الكثرة فإن الحريص يتكلف جميع عمره تكثير ماله، واعلم أن التفاخر والتكاثر شيء واحد ونظير هذه الآية قوله تعالى: * (وتفاخر بينكم) *.
المسألة الثانية: اعلم أن التفاخر إنما يكون بإثبات الإنسان نوعا من أنواع السعادة لنفسه، وأجناس السعادة ثلاثة:
فأحدها: في النفس والثانية: في البدن والثالثة: فيما يطيف بالبدن من خارج، أما التي في النفس فهي العلوم والأخلاق الفاضلة وهما المرادان بقوله حكاية عن إبراهيم: * (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) * وبهما ينال البقاء الأبدي والسعادة السرمدية. وأما التي في البدن فهي الصحة والجمال وهي المرتبة الثانية، وأما التي تطيف بالبدن من خارج فقسمان: ة أحدهما: ضروري وهو المال والجاه والآخر غير ضروري وهو الأقرباء والأصدقاء
75

وهذا الذي عددناه في المرتبة الثالثة إنما يراد كله للبدن بدليل أنه إذا تألم عضو من أعضائه فإنه يجعل المال والجاه فداء له.
وأما السعادة البدنية فالفضلاء من الناس إنما يريدونها للسعادة النفسانية فإنه ما لم يكن صحيح البدن لم يتفرغ لاكتساب السعادات النفسانية الباقية، إذا عرفت هذا فنقول: العاقل ينبغي أن يكون سعيه في تقديم الأهم على المهم، فالتفاخر بالمال والجاه والأعوان والأقرباء تفاخر بأخس المراتب من أسباب السعادات، والاشتغال به يمنع الإنسان من تحصيل السعادة النفسانية بالعلم والعمل، فيكون ذلك ترجيحا لأخس المراتب في السعادات على أشرف المراتب فيها، وذلك يكون عكس الواجب ونقيض الحق، فلهذا السبب ذمهم الله تعالى فقال: * (ألهاكم التكاثر) * ويدخل فيه التكاثر بالعدد وبالمال والجاه والأقرباء والأنصار والجيش، وبالجملة فيدخل فيه التكاثر بكل ما يكون من الدنيا ولذاتها وشهواتها.
المسألة الثالثة: قوله: * (ألهاكم) * يحتمل أن يكون إخبارا عنهم، ويحتمل أن يكون استفهاما بمعنى التوبيخ والتقريع أي أألهاكم، كما قرىء أنذرتهم وأأنذرتهم، وإذا كنا عظاما وأئذا كنا عظاما.
المسألة الرابعة: الآية دلت على أن التكاثر والتفاخر مذموم والعقل دل على إن التكاثر والتفاخر في السعادات الحقيقية غير مذموم، ومن ذلك ما روى من تفاخر العباس بأن السقاية بيده، وتفاخر شيبة بأن المفتاح بيده إلى أن قال علي عليه السلام: وأنا قطعت خرطوم الكفر بسيفي فصار الكفر مثلة فأسلمتم فشق ذلك عليهم فنزل قوله تعالى: * (أجعلتم سقاية الحاج) * الآية وذكرنا في تفسير قوله تعالى: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * أنه يجوز للإنسان أن يفتخر بطاعاته ومحاسن أخلاقه إذا كان يظن أن غيره يقتدي به، فثبت أن مطلق التكاثر ليس بمذموم، بل التكاثر في العلم والطاعة والأخلاق الحميدة، هو المحمود، وهو أصل الخيرات، فالألف واللام في التكاثر ليسا للاستغراق، بل للمعهود السابق، وهو التكاثر في الدنيا ولذاتها وعلائقها، فإنه هو الذي يمنع عن طاعة الله تعالى وعبوديته، ولما كان ذلك مقررا في العقول ومتفقا عليه في الأديان، لا جرم حسن إدخال حرف التعريف عليه.
المسألة الخامسة: في تفسير الآية وجوه أحدها: * (ألهاكم التكاثر) * بالعدد روى أنها نزلت في بني سهم وبني عبد مناف تفاخروا أيهم أكثر فكان بنو عبد مناف أكثر فقال: بنو سهم عدوا مجموع أحيائنا وأمواتنا مع مجموع أحيائكم وأمواتكم، ففعلوا فزاد بنو سهم، فنزلت الآية وهذه الرواية مطابقة لظاهر القرآن، لأن قوله: * (حتى زرتم المقابر) * يدل على أنه أمر مضى. فكأنه تعالى يعجبهم من أنفسهم، ويقول هب أنكم أكثر منهم عددا فماذا ينفع، والزيارة إتيان الموضع، وذلك يكون لأغراض كثيرة، وأهمها وأولاها بالرعاية ترقيق القلب وإزالة حب الدنيا
76

فإن مشاهدة القبور تورث ذلك على ما قال عليه السلام: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإن في زيارتها تذكرة " ثم إنكم زرتم القبور، بسبب قساوة القلب والاستغراق في حب الدنيا فلما انعكست هذه القضية، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك في معرض التعجيب.
والقول الثاني: أن المراد هو التكاثر بالمال واستدلوا عليه بما روى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه، أنه عليه السلام كان يقرأ: * (ألهاكم) * وقال ابن آدم: يقول مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، والمراد من قوله: * (حتى زرتم المقابر) * أي حتى متم وزيارة القبر عبارة عن الموت، يقال لمن مات: زار قبره وزار رمسه، قال جرير للأخطل: زار القبور أبو مالك فأصبح ألأم زوارها أي مات فيكون معنى الآية: ألهاكم حرصكم على تكثير أموالكم عن طاعة ربكم حتى أتاكم الموت، وأنتم على ذلك، يقال حمله على هذا الوجه مشكل من وجهين الأول: أن الزائر هو الذي يزور ساعة ثم ينصرف، والميت يبقى في قبره، فكيف يقال: إنه زار القبر؟ والثاني: أن قوله: * (حتى زرتم المقابر) * إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل؟ والجواب: عن السؤال الأول أنه قد يمكث الزائر، لكن لا بد له من الرحيل، وكذا أهل القبور يرحلون عنها إلى مكان الحساب والجواب: عن السؤال الثاني من وجوه أحدها: يحتمل أن يكون المراد من كان مشرفا على الموت بسبب الكبر، ولذلك يقال فيه: إنه على شفير القبر وثانيها: أن الخبر عمن تقدمهم وعظا لهم، فهو كالخبر عنهم، لأنهم كانوا على طريقتهم، ومنه قوله تعالى: * (ويقتلون التبيين) * وثالثها: قال أبو مسلم: إن الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييرا للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور.
القول الثالث: * (ألهاكم) * الحرص على المال وطلب تكثيره حتى منعتم الحقوق المالية إلى حين الموت، ثم تقول في تلك الحالة: أوصيت لأجل الزكاة بكذا، ولأجل الحج بكذا.
القول الرابع: * (ألهاكم التكاثر) * فلا تلتفتون إلى الدين، بل قلوبكم كأنها أحجار لا تنكسر البتة إلا إذا زرتم المقابر، هكذا ينبغي أن تكون حالكم، وهو أن يكون حظكم من دينكم ذلك القدر القليل من الانكسار، ونظيره قوله تعالى: * (قليلا ما تشكرون) * أي لا أقنع منكم بهذا القدر القليل من الشكر.
المسألة السادسة: أنه تعالى لم يقل: * (ألهاكم التكاثر) * عن كذا وإنما لم يذكره، لأن المطلق أبلغ في الذم لأنه يذهب الوهم فيه كل مذهب، فيدخل فيه جميع ما يحتمله الموضع، أي: ألهاكم التكاثر عن ذكر الله وعن الواجبات والمندوبات في المعرفة والطاعة والتفكر والتدبر، أو نقول: إن نظرنا إلى ما قبل هذه الآية فالمعنى: ألهاكم التكاثر عن التدبر في أمر القارعة والاستعداد لها قبل الموت، وإن نظرنا إلى الأسفل فالمعنى ألهاكم التكاثر، فنسيتم القبر حتى زرتموه.
77

* (كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون) *.
أما قوله تعالى: * (كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون) * فهو يتصل بما قبله وبما بعده أما الأول، فعلى وجه الرد والتكذيب أي ليس الأمر كما يتوهمه هؤلاء من أن السعادة الحقيقية بكثرة العدد والأولاد، وأما اتصاله بما بعده، فعلى معنى القسم أي حقا سوف تعلمون لكن حين يصير الفاسق تائبا، والكافر مسلما، والحريص زاهدا، ومنه قول الحسن: لا يغرنك كثرة من ترى حولك فإنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، وتقريره: * (يوم يفر المرء، ويأتينا فردا، ولقد جئتمونا فرادى) * إلى أن قال: * (وتركتم ما خولناكم) * وهذا يمنعك عن التكاثر، وذكروا في التكوير وجوها أحدها: أنه للتأكيد، وأنه وعيد بعد وعيد كما تقول: للمنصوح أقول لك، ثم أقول لك لا تفعل وثانيها: أن الأول عند الموت حيث يقال له: لا بشرى والثاني في سؤال القبر: من ربك؟ والثالث عند النشور حين ينادي المنادي، فلأن شقى شقاوة لا سعادة بعدها أبدا وحين يقال: * (وامتازوا اليوم) * وثالثها: عن الضحاك سوف تعلمون، أيها الكفار: * (ثم كلا سوف تعلمون) * أيها المؤمنون، وكان يقرؤها كذلك، فالأول وعيد والثاني وعد ورابعها: أن كل أحد يعلم قبح الظلم والكذب وحسن العدل والصدق لكن لا يعرف قدر آثارها ونتائجها، ثم إنه تعالى يقول: سوف تعلم العلم المفضل لكن التفصيل يحتمل الزائد فمهما حصلت زيادة لذة، ازداد علما، وكذا في جانب العقوبة فقسم ذلك على الأحوال، فعند المعاينة يزداد، ثم عند البعث، ثم عند الحساب، ثم عند دخول الجنة والنار، فلذلك وقع التكرير وخامسها: أن إحدى الحالتين عذاب القبر والأخرى عذاب القيامة، كما روى عن ذر أنه قال: كنت أشك في عذاب القبر، حتى سمعت علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: إن هذه الآية تدل على عذاب القبر، وإنما قال: * (ثم) * لأن بين العالمين والحياتين موتا.
* (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين) *.
ثم قال تعالى: * (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم، ثم لترونها عين اليقين) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفقوا على أن جواب لو محذوف، وأنه ليس قوله: * (لترون الجحيم) * جواب لو ويدل عليه وجهان أحدهما: أن ما كان جواب لو فنفيه إثبات، وإثباته نفي، فلو كان قوله: * (لترون الجحيم) * جوابا للو لوجب أن لا تحصل هذه الرؤية، وذلك باطل، فإن هذه الرؤية واقعة قطعا، فإن قيل: المراد من هذه الرؤية رؤيتها بالقلب في الدنيا، ثم إن هذه الرؤية غير واقعة قلنا: ترك الظاهر خلاف الأصل والثاني: أن قوله: * (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) * إخبار عن أمر سيقع قطعا، فعطفه على مالا يوجد ولا يقع قبيح في النظم، واعلم أن ترك الجواب
78

في مثل هذا المكان أحسن، يقول الرجل للرجل: لو فعلت هذا أي لكان كذا، قال الله تعالى: * (لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) * ولم يجيء له جواب وقال: * (ولو ترى إذا وقفوا على ربهم) * إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في جواب لو وجوها أحدها: قال الأخفش: * (لو تعلمون علم اليقين) * ما ألهاكم التكاثر وثانيها: قال أبو مسلم لو علمتم ماذا يجب عليكم لتمسكتم به أو لو علمتم لأي أمر خلقتم لاشتغلتم به وثالثها: أنه حذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب فيكون التهويل أعظم، وكأنه قال: * (لو علمتم علم اليقين) * لفعلتم مالا يوصف ولا يكتنه، ولكنكم ضلال وجهلة، وأما قوله: * (لترون الجحيم) * فاللام يدل على أنه جواب قسم محذوف، والقسم لتوكيد الوعيد، وأن ما أوعدا به مما لا مدخل فيه للريب وكرره معطوفا بثم تغليظا للتهديد وزيادة في التهويل.
المسألة الثانية: أنه تعالى أعاد لفظ كلا وهو للزجر، وإنما حسنت الإعادة لأنه عقبه في كل موضع بغير ما عقب به الموضع الآخر، كأنه تعالى قال: لا تفعلوا هذا فإنكم تستحقون به من العذاب كذا لا تفعلوا هذا فإنكم تستوجبون به ضررا آخر، وهذا التكرير ليس بالمكروه بل هو مرضي عندهم، وكان الحسن رحمه الله يجعل معنى * (كلا) * في هذا الموضع بمعنى حقا كأنه قيل حقا: * (لو تعلمون علم اليقين) *.
المسألة الثالثة: في قوله: * (علم اليقين) * وجهان أحدهما: أن معناه علما يقينا فأضيف الموصوف إلى الصفة، كقوله تعالى: * (ولدار الآخرة) * وكما يقال: مسجد الجامع وعام الأول والثاني: أن اليقين ههنا هو الموت والبعث والقيامة، وقد سمي الموت يقينا في قوله: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * ولأنهما إذا وقعا جاء اليقين، وزال الشك فالمعنى لو تعلمون علم الموت وما يلقى الإنسان معه وبعده في القبر وفي الآخرة لم يلهكم التكاثر والتفاخر عن ذكر الله، وقد يقول الإنسان: أنا أعلم علم كذا أي أتحققه، وفلان يعلم علم الطب وعلم الحساب، لأن العلوم أنواع فيصلح لذلك أن يقال: علمت علم كذا.
المسألة الرابعة: العلم من أشد البواعث على العمل، فإذا كان وقت العمل أمامه كان وعدا وعظة، وإن كان بعد وفاة وقت العمل فحينئذ يكون حسرة وندامة، كما ذكر أن ذا القرنين لما دخل الظلمات (وجد خرزا)، فالذين كانوا معه أخذوا من تلك الخرز فلما خرجوا من الظلمات وجدوها جواهر، ثم الآخذون كانوا في الغم أي لما لم
يأخذوا أكثر مما أخذوا، والذين لم يأخذوا كانوا أيضا في الغم، فهكذا يكون أحوال أهل القيامة.
المسألة الخامسة: في الآية تهديد عظيم للعلماء فإنها دلت على أنه لو حصل اليقين بما في التكاثر والتفاخر من الآفة لتركوا التكاثر والتفاخر، وهذا يقتضي أن من لم يترك التكاثر والتفاخر لا يكون اليقين حاصلا له فالويل للعالم الذي لا يكون عاملا ثم الويل له.
المسألة السادسة: في تكرار الرؤية وجوه أحدها: أنه لتأكيد الوعيد أيضا لعل القوم
79

كانوا يكرهون سماع الوعيد فكرر لذلك ونون للتأكيد تقتضي كون تلك الرؤية اضطرارية، يعني لو خليتم ورأيكم ما رأيتموها لكنكم تحملون على رؤيتها شئتم أم أبيتم وثانيها: أن أولهما الرؤية من البعيد: * (إذا رأتهم من مكان بعيد، سمعوا لها تغيظا) * وقوله: * (وبرزت الجحيم لمن يرى) * والرؤية الثانية إذا صاروا إلى شفير النار وثالثها: أن الرؤية الأولى عند الورود والثانية عند الدخول فيها، قيل: هذا التفسير ليس بحسن لأنه قال: * (ثم لتسألن) * والسؤال يكون قبل الدخول ورابعها: الرؤية الأولى للوعد والثانية المشاهدة وخامسها: أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة فيكون ذكر الرؤية مرتين عبارة عن تتابع الرؤية واتصالها لأنهم مخلدون في الجحيم فكأنه قيل لهم: على جهة الوعيد، لئن كنتم اليوم شاكين فيها غير مصدقين بها فسترونها رؤية دائمة متصلة فتزول عنكم الشكوك وهو كقوله: * (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت - إلى قوله - فارجع البصر كرتين) * بمعنى لو أعدت النظر فيها ما شئت لم تجد فطورا ولم يرد مرتين فقط، فكذا ههنا، إن قيل: ما فائدة تخصيص الرؤية الثانية باليقين؟ قلنا: لأنهم في المرة الأولى رأوا لهبا لا غير، وفي المرة الثانية رأوا نفس الحفرة وكيفية السقوط فيها وما فيها من الحيوانات المؤذية، ولا شك أن هذه الرؤية أجلى، والحكمة في النقل من العلم الأخفى إلى الأجلى التفريع على ترك النظر لأنهم كانوا يقتصرون على الظن ولا يطلبون الزيادة.
المسألة السابعة: قراءة العامة لترون بفتح التاء، وقرئ بضمها من رأيته الشيء، والمعنى أنهم يحشرون إليها فيرونها، وهذه القراءة تروي عن ابن عامر والكسائي كأنهما أرادا لترونها فترونها، ولذلك قرأ الثانية: * (ثم لترونها) * بالفتح، وفي هذه الثانية دليل على أنهم إذا أروها رأوها وفي قراءة العامة الثانية تكرير للتأكيد ولسائر الفوائد التي عددناها، واعلم أن قراءة العامة أولى لوجهين الأول: قال الفراء: قراءة العامة أشبه بكلام العرب لأنه تغليظ، فلا ينبغي أن الجحيم لفظه الثاني: قال أبو علي المعنى في: * (لترون الجحيم) * لترون عذاب الجحيم، ألا ترى أن الجحيم يراها المؤمنون أيضا بدلالة قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * وإذا كان كذلك كان الوعيد في رؤية عذابها لا في رؤية نفسها يدل على هذا قوله: * (إذ يرون العذاب) * وقوله: * (وإذا رأى الذين ظلموا العذاب) * وهذا يدل على أن لترون أرجح من لترون.
* (ثم لتسالن يومئذ عن النعيم) *.
قوله تعالى: * (م لتسألن يومئذ عن النعيم) * فيه قولان:
المسألة الأولى: في أن الذي يسأل عن النعيم من هو؟ فيه قولان:
أحدهما: وهو الأظهر أنهم الكفار، قال الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ويدل عليه وجهان الأول: ما روى أن أبا بكر لما نزلت هذه الآية، قال يا رسول الله: أرأيت
80

أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم وبسر وماء عذب أن تكون من النعيم الذي نسأل عنه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنما ذلك للكفار، ثم قرأ: * (وهل يجازي إلا الكفور) * والثاني: وهو أن ظاهر الآية يدل على ما ذكرناه، وذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى والاشتغال بشكره، فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه سببا لسعادتهم هو كان من أعظم أسباب الشقاء لهم في الآخرة.
والقول الثاني: أنه عام في حق المؤمن والكافر واحتجوا بأحاديث، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له: ألم نصحح لك جسمك ونروك من المار البارد " وقال محمود بن لبيد: لما نزلت هذه السورة قالوا: يا رسول الله عن أبي نعيم: نسأل؟ إنما هما الماء والتمر وسيوفنا على عواتقنا والعدو حاضر، فعن أي نعيم نسأل؟ قال: " إن ذلك سيكون " وروى عن عمر أنه قال: أي نعيم نسأل عنه يا رسول الله وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " ظلال المساكن والأشجار والأخبية التي تقيكم من الحر والبرد والماء البارد في اليوم الحار " وقريب منه: " من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها " وروى أن شابا أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمه رسول الله سورة ألهاكم ثم زوجه رسول الله امرأة فلما دخل عليها ورآى الجهاز العظيم والنعيم الكثير خرج وقال: لا أريد ذلك فسأله النبي عليه الصلاة والسلام عنه فقال: ألست علمتني: * (ثم لتسألن يومئذ عن النعيم) * وأنا لا أطيق الجواب عن ذلك. وعن أنس لما نزلت الآية قام محتاج فقال: هل علي من النعمة شيء؟ قال: الظل والنعلان والماء البارد. وأشهر الأخبار في هذا ما روى أنه عليه الصلاة والسلام خرج ذات ليلة إلى المسجد، فلم يلبث أن جاء أبو بكر فقال: ما أخرجك يا أبا بكر؟ قال: الجوع، قال: والله ما أخرجني إلا الذي أخرجك، ثم دخل عمر فقال: مثل ذلك، فقال: قوموا بنا إلى منزل أبي الهيثم، فدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الباب وسلم ثلاث مرات فلم يجب أحد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت امرأته تصيح كنا نسمع صوتك لكن أردنا أن تزيد من سلامك فقال لها: خيرا، ثم قالت: بأبي أنت وأمي إن أبا الهيثم خرج يستعذب لنا الماء، ثم عمدت إلى صاع من شعير فطحنته وخبزته ورجع أبو الهيثم فذبح عناقا وأتاهم بالرطب فأكلوا وشربوا فقال عليه الصلاة والسلام: " هذا من النعيم الذي تسألون عنه " وروى أيضا: " لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع عن عمره وماله وشبابه وعمله " وعن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن العبد ليسأل يوم القيامة حتى عن كحل عينيه، وعن فتات الطينة بأصبعه، عن لمس ثوب أخيه " واعلم أن الأولى أن يقال: السؤال يعم المؤمن والكافر، لكن سؤال
الكافر توبيخ لأنه ترك الشكر، وسؤال المؤمن سؤال تشريف لأنه شكر وأطاع.
المسألة الثانية: ذكروا في النعيم المسؤول عنه وجوها أحدها: ما روى أنه خمس: شبع
81

البطون وبارد الشراب ولذة النوم وإظلال المساكن واعتدال الخلق وثانيها: قال ابن مسعود: إنه الأمن والصحة والفراغ وثالثها: قال ابن عباس: إنه الصحة وسائر ملاذ المأكول والمشروب ورابعها: قال بعضهم: الانتفاع بإدراك السمع والبصر وخامسها: قال الحسن بن الفضل: تخفيف الشرائع وتيسير القرآن وسادسها: قال ابن عمر: إنه الماء البارد وسابعها: قال الباقر: إنه العافية، ويروى أيضا عن جابر الجعفي قال: دخلت على الباقر فقال: ما تقول أرباب التأويل في قوله: * (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) *؟ فقلت: يقولون الظل والماء البارد فقال: لو أنك أدخلت بيتك أحدا وأقعدته في ظل وأسقيته ماء باردا أتمن عليه؟ فقلت: لا، قال: فالله أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه، فقلت: ما تأويله؟ قال: النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على هذا العالم فاستنقذهم به من الضلالة، أما سمعت قوله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا) * الآية القول الثامن: إنما يسألون عن الزائد مما لا بد منه من مطعم وملبس ومسكن. والتاسع: وهو الأولى أنه يجب حمله على جميع النعم، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن الألف واللام يفيدان الاستغراق وثانيها: أنه ليس صرف اللفظ إلى البعض أولى من صرفه إلى الباقي لا سيما وقد دل الدليل على أن المطلوب من منافع هذه الدنيا اشتغال العبد بعبودية الله تعالى وثالثها: أنه تعالى قال: * (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم) * والمراد منه جميع النعم من فلق البحر والإنجاء من فرعون وإنزال المن والسلوى فكذا ههنا ورابعها: أن النعيم التام كالشئ الواحد الذي له أبعاض وأعضاء فإذا أشير إلى النعيم فقد دخل فيه الكل، كما أن الترياق اسم للمعجون المركب من الأدوية الكثيرة فإذا ذكر الترياق فقد دخل الكل فيه. واعلم أن النعم أقسام فمنها ظاهرة وباطنة، ومنها متصلة ومنفصلة، ومنها دينية ودنيوية، وقد ذكرنا أقسام السعادات بحسب الجنس في تفسير أول هذه السورة، وأما تعديدها بحسب النوع والشخص فغير ممكن على ما قاله تعالى: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * واستعن في معرفة نعم الله عليك في صحة بدنك بالأطباء، ثم هم أشد الخلق غفلة، وفي معرفة نعم الله عليك بخلق السماوات والكواكب بالمنجمين، وهم أشد الناس جهلا بالصانع، وفي معرفة سلطان الله بالملوك، ثم هم أجهل الخلق، وأما الذي يروى عن ابن عمر أنه الماء البارد فمعناه هذا من جملته، ولعله إنما خصه بالذكر لأنه أهون موجود وأعز مفقود، ومنه قول ابن السماك للرشيد: أرأيت لو احتجت إلى شربة ماء في فلاة أكنت تبذل فيه نصف الملك؟ فلا تغتر بملك كانت الشربة الواحدة من الماء قيمته مرتين؛ أو لأن أهل النار يطلبون الماء أشد من طلبهم لغيره، قال تعالى: * (أن أفيضوا علينا من الماء) * أو لأن السورة نزلت في المترفين، وهم المختصون بالماء البارد والظل، والحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعيم سواء كان مما لا بد منه (أولا)، وليس كذلك لأن كل ذلك يجب أن يكون
82

مصروفا إلى طاعة الله لا إلى معصيته، فيكون السؤال واقعا عن الكل، ويؤكده ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به " فكل النعيم من الله تعالى داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثالثة: اختلفوا في أن هذا السؤال أين يكون؟.
فالقول الأول: أن هذا السؤال إنما يكون في موقف الحساب، فإن قيل: هذا لا يستقيم، لأنه تعالى أخبر أن هذا السؤال متأخر عن مشاهدة جهنم بقوله: * (ثم لتسئلن) * وموقف السؤال متقدم على مشاهدة جهنم؟ قلنا: المراد من قوله: * (ثم) * أي ثم أخبركم أنكم تسألون يوم القيامة، وهو كقوله: * (فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة) * إلى قوله: * (ثم كان من الذين آمنوا) *.
القول الثاني: أنهم إذا دخلوا النار سئلوا عن النعيم توبيخا لهم، كما قال: * (كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها) * وقال: * (ما سلككم في سقر) * ولا شك أن مجيء الرسول نعمة من الله، فقد سئلوا عنه بعد دخولهم النار، أو يقال: إنهم إذا صاروا في الجحيم وشاهدوها، يقال لهم: إنما حل بكم هذا العذاب لأنكم في دار الدنيا اشتغلتم بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة الفائزين بالدرجات، فيكون ذلك من الملائكة سؤالا عن نعيمهم في الدنيا، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
83

سورة العصر
ثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (والعصر) *.
* (والعصر) * اعلم أنهم ذكروا في تفسير العصر أقوالا.
الأول: أنه الدهر، واحتج هذا القائل بوجوه أحدها: ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقسم بالدهر، وكان عليه السلام يقرأ: والعصر ونوائب الدهر إلا أنا نقول: هذا مفسد للصلاة، فلا نقول: إنه قرأه قرآنا بل تفسيرا، ولعله تعالى لم يذكر الدهل لعلمه بأن الملحد مولع بذكره وتعظيمه ومن ذلك ذكره في: * (هل أتى) * ردا على فساد قولهم: بالطبع والدهر وثانيها: أن الدهر مشتمل على الأعاجيب لأنه يحصل فيه السراء والضراء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، بل فيه ما هو أعجب من كل عجب، وهو أن العقل لا يقوى على أن يحكم عليه بالعدم، فإنه مجزأ مقسم بالسنة، والشهر، واليوم، والساعة، ومحكوم عليه بالزيادة والنقصان
والمطابقة، وكونه ماضيا ومستقبلا، فكيف يكون معدوما؟ ولا يمكنه أن يحكم عليه بالوجود لأن الحاضر غير قابل للقسمة والماضي والمستقبل معدومان، فكيف يمكن الحكم عليه بالوجود؟ وثالثها: أن بقية عمر المرء لا قيمة له، فلو ضيعت ألف سنة، ثم تبث في اللمحة الأخيرة من العمر بقيت في الجنة أبد الآباد فعلمت حينئذ أن أشرف الأشياء حياتك في تلك اللمحة، فكأن الدهر والزمان من جملة أصول النعم، فلذلك أقسم به ونبه على أن الليل والنهار فرصة يضيعها المكلف، وإليه الإشارة بقوله: * (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) * ورابعها: وهو أن قوله تعالى في سورة الأنعام: * (قل لمن ما في السماوات والأرض؟ قل الله) * إشارة إلى المكان والمكانيات، ثم قال: * (وله ما سكن في الليل والنهار) * وهو إشارة إلى الزمان والزمانيات، وقد بينا هناك أن الزمان أعلم وأشرف من المكان، فلما كان كذلك كان القسم بالعصر قسما بأشرف النصفين من ملك الله وملكوته وخامسها: أنهم كانوا يضيفون الخسران إلى نوائب الدهر، فكأنه تعالى أقسم على أن الدهر والعصر نعمة حاصلة لا عيب فيها، إنما الخاسر المعيب هو الإنسان وسادسها: أنه تعالى ذكر العصر الذي بمضيه ينتقص عمرك، فإذا لم يكن في مقابلته
84

كسب صار ذلك النقصان عن الخسران، ولذلك قال: * (لفي خسر) * ومنه قول القائل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى نقص من الأجل
فكأن المعنى: والعصر العجيب أمره حيث يفرح الإنسان بمضيه لظنه أنه وجد الربح مع أنه هدم لعمره وإنه لفي خسر والقول الثاني: وهو قول أبي مسلم: المراد بالعصر أحد طرفي النهار، والسبب فيه وجوه أحدها: أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعا من دلائل القدرة فإن كل بكرة كأنها القيامة يخرجون من القبور وتصير الأموات أحياء ويقام الموازين وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت، وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عد خاسرا فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر وثانيها: قال الحسن رحمه الله: إنما أقسم بهذا الوقت تنبيها على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها وانتهاء التجارة والكسب فيها، فإذا لم تكتسب ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين، فكذا نقول: والعصر أي عصر الدنيا قد دنت القيامة و (أنت) بعد لم تستعد وتعلم أنك تسأل غدا عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك، وتسأل في معاملتك مع الخلق وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك فإذا أنت خاسر، ونظيره: * (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) *، وثالثها: أن هذا الوقت معظم، والدليل عليه قوله عليه السلام: " من حلف بعد العصر كاذبا لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة " فكما أقسم في حق الرابح بالضحى فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار، ثم كأنه يقول بعض النهار: باق فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة، وعن بعض السلف: تعلمت معنى السورة من بائع الثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأسه ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله فقلت: هذا معنى: * (إن الإنسان لفي خسر) * يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب فإذا هو خاسر.
القول الثالث: وهو قول مقاتل: أراد صلاة العصر، وذكروا فيه وجوها أحدها: أنه تعالى أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله: * (والصلاة الوسطى) * صلاة العصر في مصحف حفصة وقيل في قوله: * (تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله) * إنها صلاة العصر وثانيها: قوله عليه السلام: " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " وثالثها: أن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واشتغالهم بمعايشهم ورابعها: روى أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة وتقول: دلوني على النبي صلى الله عليه وسلم فرآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألها ماذا حدث؟ قالت: يا رسول الله إن زوجي غاب عني فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن من الخل حتى مات، ثم بعنا ذلك الخل فهل لي من توبة؟ فقال عليه السلام: أما الزنا فعليك الرجم، أما قتل الولد فجزاؤه جهنم، وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيرا، لكن ظننت أنك تركت صلاة
85

صلاة العصر " ففي هذا الحديث إشارة إلى تفخيم أمر هذه الصلاة وخامسها: أن صلاة العصر بها يحصل ختم طاعات النهار، فهي كالتوبة بها يختم الأعمال، فكما تجب الوصية بالتوبة كذا بصلاة العصر لأن الأمور بخواتيمها، فأقسم بهذه الصلاة تفخيما لشأنها، وزيادة توصية المكلف على أدائها وإشارة منه أنك إن أديتها على وجهها عاد خسرانك ربحا، كما قال: * (إلا الذين آمنوا) * وسادسها: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يكلمهم ولا يزكيهم - (عد) منهم - رجل حلف بعد العصر كاذبا " * (فإن قيل) * صلاة العصر فعلنا، فكيف يجوز أن يقال: أقسم الله تعالى به؟ والجواب: أنه ليس قسما من حيث إنها فعلنا، بل من حيث إنها أمر شريف تعبدنا الله تعالى بها.
القول الرابع: أنه قسم بزمان الرسول عليه السلام، واحتجوا عليه بقوله عليه السلام: " إنما مثلكم ومثل من كان قبلكم مثل رجل استأجر أجيرا، فقال: من يعمل من الفجر إلى الظهر بقيراط، فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل من الظهر إلى العصر بقيراط، فعملت النصارى، ثم ثال: من يعمل من العصر إلى المغبر بقراطين، فعملتم أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملا وأقل أجرا! فقال الله: وهل نقصت من أجركم شيئا، قالوا: لا، قال: فهذا فضلي أوتيه من أشاء، فكنتم أقل عملا وأكثر أجرا " فهذا الخبر دل على أن العصر هو الزمان المختص به وبأمته، فلا جرم أقسم الله به، فقوله: * (والعصر) * أي والعصر الذي أنت فيه فهو تعالى أقسم بزمانه في هذه الآية وبمكانه في قوله: * (وأنت حل بهذا البلد) * وبعمره في قوله: * (لعمرك) * فكأنه قال: وعصرك وبلدك وعمرك، وذلك كله كالظرف له، فإذا وجب تعظيم حال الظرف فقس حال المظروف، ثم وجه القسم، كأنه تعالى يقول: أنت يا محمد حضرتهم ودعوتهم، وهم أعرضوا عنك وما التفتوا إليك، فما أعظم خسرانهم وما أجل خذلانهم.
* (إن الإنسان لفى خسر) *.
قوله تعالى: * (إن الإنسان لفي خسر) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الألف واللام في الإنسان، يحتمل أن تكون للجنس، وأن تكون للمعهود السابق، فلهذا ذكر المفسرون فيه قولين الأول: أن المراد منه الجنس وهو كقولهم: كثر الدرهم في أيدي الناس، ويدل على هذا القول استثناء الذين آمنوا من الإنسان والقول الثاني: المراد منه شخص معين، قال ابن عباس: يريد جماعة من المشركين كالوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد المطلب. وقال مقاتل: نزلت في أبي لهب، وفي خبر مرفوع
86

إنه أبو جهل، وروى أن هؤلاء كانوا يقولون: إن محمدا لفي خسر، فأقسم تعالى أن الأمر بالضد مما توهمون.
المسألة الثانية: الخسر الخسران، كما قيل: الكفر في الكفران، ومعناه النقصان وذهاب رأس المال، ثم فيه تفسيران، وذلك لأنا إذا حملنا الإنسان على الجنس كان معنى الخسر هلاك نفسه وعمره، إلا المؤمن العامل فإنه ما هلك عمره وماله، لأنه اكتسب بهما سعادة أبدية، وإن حملنا لفظ الإنسان على الكافر كان المراد كونه في الضلالة والكفر إلا من آمن من هؤلاء، فحينئذ يتخلص من ذلك الخسار إلى الربح.
المسألة الثالثة: إنما قال: * (لفي خسر) * ولم يقل: لفي الخسر، لأن التنكير يفيد التهويل تارة والتحقير أخرى، فإن حملنا على الأول كان المعنى إن الإنسان لفي خسر عظيم لا يعلم كنهه إلا لله، وتقريره أن الذنب يعظم بعظم من في حقه الذنب، أو لأنه وقع في مقابلة النعم العظيمة، وكلا الوجهين حاصلان في ذنب العبد في حق ربه، فلا جرم كان ذلك الذنب في غاية العظم، وإن حملناه على الثاني كان المعنى أن خسران الإنسان دون خسران الشيطان، وفيه بشارة أن في خلقي من هو أعصى منك، والتأويل الصحيح هو الأول.
المسألة الرابعة: لقائل: أن يقول قوله: * (لفي خسر) * يفيد التوحيد، مع أنه في أنواع من الخسر والجواب: أن الخسر الحقيقي هو حرمانه عن خدمة ربه، وأما البواقي وهو الحرمان عن الجنة، والوقوع في النار، فبالنسبة إلى الأول كالعدم، وهذا كما أن الإنسان في وجوده فوائد، ثم قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * أي لما كان هذا المقصود أجل المقاصد كان سائر المقاصد بالنسبة إليه كالعدم.
واعلم أن الله تعالى قرن بهذه الآية قرائن تدل على مبالغته تعالى في بيان كون الإنسان في خسر أحدها: قوله: * (لفي خسر) * يفيد أنه كالمغمور في الخسران، وأنه أحاط به من كل جانب وثانيها: كلمة إن،، فإنها للتأكيد وثالثها: حرف اللام في لفي خسر، وههنا احتمالان:
الأول: في قوله تعالى: * (لفي خسر) * أي في طريق الخسر، وهذا كقوله في أكل أموال اليتامى: * (إنما يأكلون في بطونهم نارا) * لما كانت عاقبته النار.
الاحتمال الثاني: أن الإنسان لا ينفك عن خسر، لأن الخسر هو تضييع رأس المال، ورأس ماله هو عمره، وهو قلما ينفك عن تضييع عمره، وذلك لأن كل ساعة تمر بالإنسان؛ فإن كانت مصروفة إلى المعصية فلا شك في الخسران، وإن كانت مشغولة بالمباحات فالخسران أيضا حاصل، لأنه كما ذهب لم يبق منه أثر، مع أنه كان متمكنا من أن يعمل فيه عملا يبقى أثره دائما، وإن كانت مشغولة بالطاعات فلا طاعة إلا ويمكن الإتيان بها، أو بغيرها على وجه أحسن من ذلك، لأن مراتب الخضوع والخشوع لله غير متناهية، فإن مراتب جلال الله وقهره غير متناهية، وكلما كان علم الإنسان بها أكثر كان خوفه منه تعالى أكثر، فكان تعظيمه
87

عند الإتيان بالطاعات أتم وأكمل، وترك الأعلى والاقتصار بالأدنى نوع خسران، فثبت أن الإنسان لا ينفك البتة عن نوع خسران.
واعلم أن هذه الآية كالتنبيه على أن الأصل في الإنسان أن يكون في الخسران والخيبة، وتقريره أن سعادة الإنسان في حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، ثم إن الأسباب الداعية إلى الآخرة خفية، والأسباب الداعية إلى حب الدنيا ظاهرها، وهي الحواس الخمس والشهوة والغضب، فلهذا السبب صار أكثر الخلق مشتغلين بحب الدنيا مستغرقين في طلبها، فكانوا في الخسران والبوار، فإن قيل: إنه تعالى قال في سورة التين: * (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين) * فهناك يدل على أن الابتداء من الكمال والانتهاء إلى النقصان، وههنا يدل على أن الابتداء من النقصان والانتهاء إلى الكمال، فكيف وجه الجمع؟ قلنا: المذكور في سورة التين أحوال البدن، وههنا أحوال النفس فلا تناقض بين القولين.
* (إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *.
قوله تعالى: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *.
اعلم أن الإيمان والأعمال الصالحة قد تقدم تفسيرهما مرارا، ثم ههنا مسائل:
المسألة الأولى: احتج من قال: العمل غير داخل في مسمى الإيمان، بأن الله تعالى عطف عمل الصالحات على الإيمان، ولو كان عمل الصالحات داخلا في مسمى الإيمان لكان ذلك تكريرا ولا يمكن أن يقال: هذا التكرير واقع في القرآن، كقوله تعالى: * (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * وقوله: * (وملائكته وجبريل وميكال) * لأنا نقول هناك: إنما حسن، لأن إعادته تدل على كونه أشرف أنواع ذلك الكلي، وعمل الصالحات ليس أشرف أنواع الأمور المسماة بالإيمان، فبطل هذا التأويل. قال الحليمي: هذا التكرير واقع لا محالة، لأن الإيمان وإن لم يشتمل على عمل الصالحات، لكن قوله: * (وعملوا الصالحات) * يشتمل على الإيمان، فيكون قوله: * (وعملوا الصالحات) * مغنيا عن ذكر قوله: * (الذين آمنوا) * وأيضا فقوله: * (وعملوا الصالحات) * يشتمل على قوله: * (وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر) * فوجب أن يكون ذلك تكرارا، أجاب الأولون وقالوا: إنا لا نمنع ورود التكرير لأجل التأكيد، لكن الأصل عدمه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال.
المسألة الثانية: احتج القاطعون بوعيد الفساق بهذه الآية، قالوا: الآية دلت على أن الإنسان في الخسارة مطلقا، ثم استثنى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) *
والمعلق على الشرطين مفقود عند فقد أحدهما، فعلمنا أن من لم يحصل له الإيمان والأعمال الصالحة، لا بد وأن يكون في الخسار في الدنيا وفي الآخرة، ولما كان المستجمع لهاتين الخصلتين في غاية القلة، وكان الخسار
88

لازما لمن لم يكن مستجمعا لهما كان الناجي أقل من الهالك، ثم لو كان الناجي أكثر كان الخوف عظيما حتى لا تكون أنت من القليل، كيف والناجي أقل؟ أفلا ينبغي أن يكون الخوف أشد!.
المسألة الثالثة: أن هذا الاستثناء فيه أمور ثلاثة أحدها: أنه تسلية للمؤمن من فوت عمره وشبابه، لأن العمل قد أوصله إلى خير من عمره وشبابه وثانيها: أنه تنبيه على أن كل ما دعاك إلى طاعة الله فهو الصلاح، وكل ما شغلك عن الله بغيره فهو الفساد وثالثها: قالت المعتزلة: تسمية الأعمال بالصالحات تنبيه على أن وجه حسنها ليس هو الأمر على ما يقوله الأشعرية، لكن الأمر إنما ورد لكونها في أنفسها مشتملة على وجوه الصلاح، وأجابت الأشعرية بأن الله تعالى وصفها بكونها صالحة، ولم يبين أنها صالحة بسبب وجوه عائدة إليها أو بسبب الأمر.
المسألة الرابعة: لسائل أن يسأل، فيقول: إنه في جانب الخسر ذكر الحكم ولم يذكر السبب وفي جانب الربح ذكر السبب، وهو الإيمان والعمل الصالح، ولم يذكر الحكم فما الفرق قلنا: إنه لم يذكر سبب الخسر لأن الخسر كما يحصل بالفعل، وهو الإقدام على المعصية يحصل بالترك، وهو عدم الإقدام على الطاعة، أما الربح فلا يحصل إلا بالفعل، فلهذا ذكر سبب الربح وهو العمل، وفيه وجه آخر، وهو أنه تعالى في جانب الخسر أبهم ولم يفصل، وفي جانب الربح فصل وبين، وهذا هو اللائق بالكرم.
أما قوله تعالى: * (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) *.
فاعلم أنه تعالى لما بين في أهل الاستثناء أنهم بإيمانهم وعملهم الصالح خرجوا عن أن يكونوا في خسر وصاروا أرباب السعادة من حيث إنهم تمسكوا بما يؤديهم إلى الفوز بالثواب والنجاة من العقاب وصفهم بعد ذلك بأنهم قد صاروا لشدة محبتهم للطاعة لا يقتصرون على ما يخصهم بل يوصون غيرهم بمثل طريقتهم ليكونوا أيضا سببا لطاعات الغير كما ينبغي أن يكون عليه أهل الدين وعلى هذا الوجه قال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) * فالتواصي بالحق يدخل فيه سائر الدين من علم وعمل، والتواصي بالصبر يدخل فيه حمل النفس على مشقة التكليف في القيام بما يجب، وفي اجتنابهم ما يحرم إذ الإقدام على المكروه، والإحجام عن المراد كلاهما شاق شديد، وههنا مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية فيها وعيد شديد، وذلك لأنه تعالى حكم بالخسار على جميع الناس إلا من كان آتيا بهذه الأشياء الأربعة، وهي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، فدل ذلك على أن النجاة معلقة بمجموع هذه الأمور وإنه كما يلزم المكلف تحصيل ما يخص نفسه فكذلك يلزمه في غيره أمور، منها الدعاء إلى الدين والنصيحة والأمر
89

بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ثم كرر التواصي ليضمن الأول الدعاء إلى الله، والثاني الثبات عليه، والأول الأمر بالمعروف والثاني النهي عن المنكر، ومنه قوله: * (وأنه عن المنكر، واصبر) * وقال عمر: رحم الله من أهدى إلى عيوبي.
المسألة الثانية: دلت الآية على أن الحق ثقيل، وأن المحن تلازمه، فلذلك قرن به التواصي.
المسألة الثالثة: إنما قال: * (وتواصوا) * ولم يقل: ويتواصون لئلا يقع أمرا بل الغرض مدحهم بما صدر عنهم في الماضي، وذلك يفيد رغبتهم في الثبات عليه في المستقبل.
المسألة الرابعة: قرأ أبو عمرو: * (بالصبر) * بشم الباء شيئا من الحرف، لا يشبع قال أبو علي: وهذا مما يجوز في الوقف، ولا يكون في الوصل إلا على إجراء الوصل مجرى الوقف، وهذا لا يكاد يكون في القراءة، وعلى هذا ما يروى عن سلام بن المنذر أنه قرأ، والعصر بكسر الصاد ولعله وقف لانقطاع نفس أو لعارض منعه من إدراج القراءة، وعلى هذا يحمل لا على إجراء الوصل مجرى الوقف، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
90

سورة الهمزة
تسع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ويل لكل همزة لمزة) *.
* (ويل لكل همزة لمزة) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: الويل لفظة الذم والسخط، وهي كلمة كل مكروب يتولون فيدعو بالويل وأصله وي لفلان ثم كثرت في كلامهم فوصلت باللام، وروى أنه جبل في جهنم إن قيل: لم قال: ههنا: * (ويل) * وفي موضع آخر: * (ولكم الويل) *؟ قلنا: لأن ثمة قالوا: * (يا ويلنا إنا كنا ظالمين) * فقال: * (ولكم الويل) * وههنا نكر لأنه لا يعلم كنهه إلا الله، وقيل: في ويل إنها كلمة تقبيح، وويل استصغار وويح ترحم، فنبه بهذا على قبح هذا الفعل، واختلفوا في الوعيد الذي في هذه السورة هل يتناول كل من يتمسك بهذه الطريقة في الأفعال الرديئة أو هو مخصوص بأقوام معينين، أما المحققون فقالوا: إنه عام لكل من يفعل هذا الفعل كائنا من كان وذلك لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وقال آخرون: إنه مختص بأناس معينين، ثم قال عطاء والكلبي: نزلت في الأخنس بن شريق كان يلمز الناس ويغتابهم وخاصة
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال مقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن عليه في وجهه، وقال محمد بن إسحاق: ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت في أمية بن خلف، قال الفراء: وكون اللفظ عاما لا ينافي أن يكون المراد منه شخصا معينا، كما أن إنسانا لو قال: لك لا أزورك أبدا فتقول: أنت كل من لم يزرني لا أزوره وأنت إنما تريده بهذه الجملة العامة وهذا هو المسمى في أصول الفقه بتخصيص العام بقرينة العرف.
المسألة الثانية: الهمز الكسر قال تعالى: * (هماز مشاء) * واللمز الطعن والمراد الكسر من أعراض الناس والغض منهم والطعن فيهم، قال تعالى: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * وبناء فعله يدل على أن ذلك عادة منه قد ضري بها ونحوهما اللعنة والضحكة، وقرئ: * (ويل لكل همزة لمزة) * بسكون الميم وهي المسخرة التي تأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه ويشتم وللمفسرين ألفاظا أحدها: قال ابن عباس: الهمزة المغتاب، واللمزة العياب وثانيها: قال أبو زيد: الهمزة باليد واللمزة
91

باللسان وثالثها: قال أبو العالية: الهمزة بالمواجهة واللمزة بظهر الغيب ورابعها: الهمزة جهرا واللمزة سرا بالحاجب والعين وخامسها: الهمزة واللمزة الذي يلقب الناس بما يكرهون وكان الوليد بن المغيرة يفعل ذلك، لكنه لا يليق بمنصب الرياسة إنما ذلك من عادة السقاط ويدخل فيه من يحاكي الناس بأقوالهم وأفعالهم وأصواتهم ليضحكوا. وقد حكى الحكم بن العاص مشية النبي صلى الله عليه وسلم فنفاه عن المدينة ولعنه وسادسها: قال الحسن: الهمزة الذي يهمز جليسه يكسر عليه عينه واللمزة الذي يذكر أخاه بالسوء ويعيبه وسابعها: عن أبي الجوزاء قال: قلت لابن عباس: * (ويل لكل همزة لمزة) * من هؤلاء الذين يذمهم الله بالويل فقال: هم المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة الناعتون للناس بالعيب.
واعلم أن جميع هذه الوجوه متقاربة راجعة إلى أصل واحد وهو الطعن وإظهار العيب، ثم هذا على قسمين فإنه إما أن يكون بالجد كما يكون عند الحسد والحقد، وإما أن يكون بالهزل كما يكون عند السخرية والإضحاك، وكل واحد من القسمين، إما أن يكون في أمر يتعلق بالدين، وهو ما يتعلق بالصورة أو المشي، أو الجلوس وأنواعه كثيرة وهي غير مضبوطة، ثم إظهار العيب في هذه الأقسام الأربعة قد يكون لحاضر، وقد يكون لغائب، وعلى التقديرين فقد يكون باللفظ، وقد يكون بإشارة الرأس والعين وغيرهما، وكل ذلك داخل تحت النهي والزجر، إنما البحث في أن اللفظ بحسب اللغة موضوع لماذا، فما كان اللفظ موضوعا له كان منهيا بحسب اللفظ، وما لم يكن اللفظ موضوعا له كان داخلا تحت النهي بحسب القياس الجلي، ولما كان الرسول أعظم الناس منصبا في الدين كان الطعن فيه عظيما عند الله، فلا جرم قال: * (ويل لكل همزة لمزة) *.
* (الذى جمع مالا وعدده) *.
ثم قال تعالى: * (الذي جمع مالا وعدده) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: * (الذي) * بدل من كل أو نصب على ذم، وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره.
المسألة الثانية: قرأ حمزة والكسائي وابن عامر جمع بالتشديد والباقون بالتخفيف والمعنى في جمع وجمع واحد متقارب، والفرق أن * (جمع) * بالتشديد يفيد أنه جمعه من ههنا وههنا، وأنه لم يجمعه في يوم واحد، ولا في يومين، ولا في شهر ولا في شهرين، يقال: فلان يجمع الأموال أي يجمعها من ههنا وههنا، وأما جمع بالتخفيف، فلا يفيد ذلك، وأما قوله: * (مالا) * فالتنكير فيه يحتمل وجهين أحدهما: أن يقال: المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال: * (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) * فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك
92

القليل والثاني: أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات. فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به؟ أما قوله: * (وعدده) * ففيه وجوه أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال: أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر وثانيها: عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال: فلان يعدد فضائل فلان، ولهذا قال السدي: وعدده أي أحصاه يقول: هذا لي وهذا لي يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه وثالثها: عدده أي كثره يقال: في بني فلان عدد أي كثرة، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معي العدد، والقول الثالث إلى معنى العدة، وقرأ بعضهم وعدده بالتخفيف وفيه وجهان أحدهما: أن يكون المعنى جمع المال وضبط عدده وأحصاه وثانيهما: جمع ماله وعدد قومه الذين ينصرونه من قولك فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار والرجل متى كان كذلك كان أدخل في التفاخر.
* (يحسب أن ماله أخلده) *.
ثم وصفه تعالى بضرب آخر من الجهل فقال: * (يحسب أن ماله أخلده) *.
واعلم أن أخلده وخلده بمعنى واحد ثم في التفسير وجوه أحدها: يحتمل أن يكون المعنى طول المال أمله، حتى أصبح لفرط غفلته وطول أمله، يحسب أن ماله تركه خالدا في الدنيا لا يموت وإنما قال: * (أخلده) * ولم يقل: يخلده لأن المراد يحسب هذا الإنسان أن المال ضمن له الخلود وأعطاه الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ منه، ولذلك ذكره على الماضي. قال الحسن: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه كالموت وثانيها: يعمل الأعمال المحكمة كتشييد البنيان بالآجر والجص، عمل من يظن أنه يبقى حيا أو لأجل أن يذكر بسببه بعد الموت وثالثها: أحب المال حبا شديدا حتى اعتقد أنه: إن انتقص مالي أموت، فلذلك يحفظه من النقصان ليبقى حيا، وهذا غير بعيد من اعتقاد البخيل ورابعها: أن هذا تعريض بالعمل الصالح وأنه هو الذي يخلد صاحبه في الدنيا بالذكر الجميل وفي الآخر في النعيم المقيم.
أما قوله تعالى: * (كلا) * ففيه وجهان أحدهما: أنه ردع له عن حسبانه أي ليس الأمر كما يظن أن المال يخلده بل العلم والصلاح، ومنه قول علي عليه السلام:
مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، والقول الثاني معناه حقا: * (لينبذن) * واللام في: * (لينبذن) * جواب القسم المقدر فدل ذلك على حصول معنى القسم في كلا.
* (كلا لينبذن فى الحطمة * ومآ أدراك ما الحطمة) *.
أما قوله تعالى: * (لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة) * فإنما ذكره بلفظ النبذ الدال على الإهانة، لأن الكافر كان يعتقد أنه من أهل الكرامة، وقرئ لنبذان أي هو وماله ولينبذن بضم الذال أي هو وأنصاره، وأما: * (الحطمة) * فقال المبرد: إنها النار التي تحطم كل من وقع
93

فيها ورجل حطمة أي شديد الأكل يأتي على زاد القوم، وأصل الحطم في اللغة الكسر، ويقال: شر الرعاء الحطمة، يقال: راع حطمة وحطم بغير هاء كأنه يحطم الماشية أي يكسرها عند سوقها لعنفه، قال المفسرون: الحطمة اسم من أسماء النار وهي الدركة الثانية من دركات النار، وقال مقاتل: هي تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الملك ليأخذ الكافر فيكسره على صلبه كما توضع الخشبة على الركبة فتكسر ثم يرمى به في النار ".
واعلم أن الفائدة في ذكر جهنم بهذا الاسم ههنا وجوه: أحدها: الاتحاد في الصورة كأنه تعالى يقول: إن كنت همزة لمزة فوراءك الحطمة والثاني: أن الهامز بكسر عين ليضع قدره فيلقيه في الحضيض فيقول تعالى: وراءك الحطمة، وفي الحطم كسر فالحطمة تكسرك وتلقيك في حضيض جهنم لكن الهمزة ليس إلا الكسر بالحاجب، أما الحطمة فإنها تكسر كسرا لا تبقي ولا تذر الثالث: أن الهماز اللماز يأكل لحم الناس والحطمة أيضا اسم للنار من حيث إنها تأكل الجلد واللحم، ويمكن أن يقال: ذكر وصفين الهمز واللمز، ثم قابلهما باسم واحد وقال: خذ واحدا مني بالاثنين منك فإنه يفي ويكفي، فكأن السائل يقول: كيف يفي الواحد بالاثنين؟ فقال: إنما تقول: هذا لأنك لا تعرف هذا الواحد فلذلك قال: * (وما أدراك ما الحطمة) *.
* (نار الله الموقدة) *.
أما قوله تعالى: * (نار الله) * فالإضافة للتفخيم أي هي نار لا كسائر النيران: * (الموقدة) * التي لا تخمد أبدا أو: * (الموقدة) * بأمره أو بقدرته ومنه قول علي عليه السلام: عجبا ممن يعصى الله على وجه الأرض والنار تسعر من تحته، وفي الحديث: " أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم ألف سنة حتى ابيضت، ثم ألف سنة حتى اسودت فهي الآن سوداء مظلمة ".
* (التى تطلع على الافئدة) *.
أما قوله تعالى: * (التي تطلع على الأفئدة) *. فاعلم أنه يقال: طلع الجبل واطلع عليه إذا علاه، ثم في تفسير الآية وجهان: الأول: أن النار تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من الفؤاد، ولا أشد تألما منه بأدنى أذى مماسه، فكيف إذا اطلعت نار جهنم واستولت عليه. ثم إن الفؤاد مع استيلاء النار عليه لا يحترق إذ لو احترق لمات، وهذا هو المراد من قوله: * (لا يموت فيها ولا يحيى) * ومعنى الاطلاع هو أن النار تنزل من اللحم إلى الفؤاد والثاني: أن سبب تخصيص الأفئدة بذلك هو أنها مواطن الكفر والعقائد الخبيثة والنيات الفاسدة، واعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن النار تأكل أهلها حتى إذا اطلعت على أفئدتهم انتهت، ثم إن الله تعالى يعيد لحمهم وعظمهم مرة أخرى.
* (إنها عليهم مؤصدة) *.
أما قوله تعالى: * (إنها عليهم مؤصدة) * فقال الحسن: * (مؤصدة) * أي مطبقة من أصدت الباب
94

وأوصدته لغتان، ولم يقل: مطبقة لأن المؤصدة هي الأبواب المغلقة، والإطباق لا يفيد معنى الباب.
واعلم أن الآية تفيد المبالغة في العذاب من وجوه أحدها: أن قوله: * (لينبذن) * يقتضي أنه موضع له قعر عميق جدا كالبئر وثانيها: أنه لو شاء يجعل ذلك الموضع بحيث لا يكون له باب لكنه بالباب يذكرهم الخروج، فيزيد في حسرتهم وثالثها: أنه قال: * (عليهم مؤصدة) * ولم يقل: مؤصدة عليهم لأن قوله: * (عليهم مؤصدة) * يفيد أن المقصود أولا كونهم بهذه الحالة، وقوله مؤصدة عليهم لا يفيد هذا المعنى بالقصد الأول.
* (فى عمد ممددة) *.
أما قوله تعالى: * (في عمد ممددة) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء في عمد بضمتين وعمد بسكون الميم وعمد بفتحتين، قال الفراء: عمد وعمد وعمد مثل الأديم والإدم والأدم والإهاب والأهب والأهب، والعقيم والعقم والعقم وقال المبرد وأبو علي: العمد جمع عمود على غير واحد؛ أما الجمع على واحد فهو العمد مثل زبور وزبر ورسول ورسل.
المسألة الثانية: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء، يقال: عمود البيت للذي يقوم به البيت.
المسألة الثالثة: في تفسير الآية وجهان الأول: أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب، وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها، ولم يقل: بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني: أن يكون المعنى: * (إنها عليهم مؤصدة) * حال كونهم موثقين: * (في عمد ممدة) * مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص، اللهم أجرنا منها يا أكرم الأكرمين.
95

سورة الفيل
خمس آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) *.
* (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) *.
روى أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصخمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس وأراد أن يصرف إليها الحاج فخرج من بني كنانة رجل وتغوط فيها ليلا فأغضبه ذلك.
وقيل: أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل اسمه محمود وكان قويا عظيما، وثمانية أخرى، وقيل: إثنا عشر، وقيل: ألف، فلما بلغ قريبا من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى وعبأ جيشه، وقدم الفيل فكانوا كلما وجهوه إلى جهة الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى جهة اليمن أو إلى سائر الجهات هرول، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليهم فيها فعظم في عين أبرهة وكان رجلا جسيما وسيما، وقيل: هذا سيد قريش، وصاحب عير مكة فلما ذكر حاجته، قال: سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك فألهاك عنه ذود أخذلك، فقال أنا رب الإبل وللبيت رب سيمنعك عنه، ثم رجع وأتى البيت وأخذ بحلقته وهو يقول:
لا هم إن المرء يمنع حله فامنع حلالك وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك لا يغلبن صليبهم ومحالهم عدوا محالك إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك
ويقول:
يا رب لا أرجو لهم سواكا يا رب فامنع عنهم حماكا
فالتفت وهو يدعو، فإذا هو بطير من نحو اليمن، فقال: والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا
96

تهامية، وكان مع كل طائر حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه فهلكوا في كل طريق ومنهل، ودوى أبرهة فتساقطت أنامله، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر وخر ميتا بين يديه، وعن عائشة قالت: " رأيت قائد الفيل " وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان، ثم في الآية سؤالات.
الأول: لم قال: * (ألم تر) * مع أن هذه الواقعة وقعت قبل المبعث بزمان طويل؟ الجواب: المراد من الرؤية العلم والتذكير، وهو إشارة إلى أن الخبر به متواتر فكان العلم الحاصل به ضروريا مساويا في القوة والجلاء للرؤية، ولهذا السبب قال: لغيره على سبيل الذم: * (أو لم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) * لا يقال: فلم قال: * (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) * لأنا نقول: الفرق أن مالا يتصور إدراكه لا يستعل فيه إلا العلم لكونه قادرا، وأما الذي يتصور إدراكه كفرار الفيل، فإنه يجوز أن يستعمل فيه الرؤية.
السؤال الثاني: لم قال: * (ألم تر كيف فعل ربك) * ولم يقل: ألم تر ما فعل ربك؟ الجواب: لأن الأشياء لها ذوات، ولها كيفيات باعتبارها يدل على مداومتها وهذه الكيفية هي التي يسميها المتكلمون وجه الدليل، واستحقاق المدح إنما يحصل برؤية هذه الكيفيات لا برؤية الذوات ولهذا قال: * (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها) * ولا شك أن هذه الواقعة كانت دالة على قدرة الصانع وعلمه وحكمته، وكانت دالة على شرف محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن مذهبنا أنه يجوز تقديم المعجزات على زمان البعثة تأسيسا لنبوتهم وإرهاصا لها، ولذلك قالوا: كانت الغمامة تظله، وعند المعتزلة، أن ذلك لا يجوز، فلا جرم زعموا أنه لا بد وأن يقال: كان في ذلك الزمان نبي (أو خطيب) كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة، ثم قالوا: ولا يجب أن يشتهر وجودهما، ويبلغ إلى حد التواتر، لاحتمال أنه كان مبعوثا إلى جمع قليلين، فلا جرم لم يشتهر خبره.
واعلم أن قصة الفيل واقعة على الملحدين جدا، لأنهم ذكروا في الزلازل والرياح والصواعق وسائر الأشياء التي عذب الله تعالى بها الأمم أعذارا ضعيفة، أما هذه الواقعة فلا تجرى فيها تلك الأعذار، لأنها ليس في شيء من الطبائع والحيل أن يقبل طير معها حجارة، فتقصد قوما دون قوم فتقتلهم، ولا يمكن أن يقال: إنه كسائر الأحاديث الضعيفة لأنه لم يكن بين عام الفيل ومبعث الرسول إلا نيف وأربعون سنة ويوم تلا الرسول هذه السورة كان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة، ولو كان النقل ضعيفا لشافهوه بالتكذيب، فلما لم يكن كذلك علمنا أنه لا سبب للطعن فيه.
97

السؤال الثالث: لم قال: * (فعل) * ولم يقل: جعل ولا خلق ولا عمل الجواب: لأن خلق يستعمل لابتداء الفعل، وجعل للكيفيات قال تعالى: * (خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) * وعمل بعد الطلب وفعل عام فكان أولى لأنه تعالى خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كانت عليه، وسألوه أن يحفظ البيت، ولعله كان فيهم من يستحق الإجابة، فلو ذكر الألفاظ الثلاثة لطال الكلام فذكر لفظا يشمل الكل.
السؤال الرابع: لما قال: ربك، ولم يقل: الرب؟ الجواب: من وجوه أحدها: كأنه تعالى قال: إنهم لما شاهدوا هذا الانتقام ثم لم يتركوا عبادة الأوثان، وأنت يا محمد ما شاهدته ثم اعترفت بالشكر والطاعة، فكأنك أنت الذي رأيت ذلك الانتقام، فلا جرم تبرأت عنهم واخترتك من الكل، فأقول: ربك، أي أنا لك ولست لهم بل عليهم وثانيها: كأنه تعالى قال: إنما فعلت بأصحاب الفيل ذلك تعظيما لك وتشريفا لمقدمك، فأنا كنت مربيا لك قبل قومك، فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك، ففيه بشارة له
عليه السلام بأنه سيظفر.
السؤال الخامس: قوله: * (ألم تر كيف فعل ربك) * مذكور في معرض التعجب وهذه الأشياء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى ليست عجيبة، فما السبب لهذا التعجب؟ الجواب: من وجوه أحدها: أن الكعبة تبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن العلم يؤدي بدون المسجد أما لا مسجد بدون العالم فالعالم هو الدر والمسجد هو الصدف، ثم الرسول الذي هو الدر همزه الوليد ولمزه حتى ضاق قلبه، فكأنه تعالى يقول: إن الملك العظيم لما طعن في المسجد هزمته وأفنيته، فمن طعن فيك وأنت المقصود من الكل ألا أفنيه وأعدمه! إن هذا لعجيب وثانيها: أن الكعبة قبلة صلاتك وقلبك قبلة معرفتك، ثم أنا حفظت قبلة عملك عن الأعداء، أفلا تسعى في حفظ قبلة دينك عن الآثام والمعاصي!.
السؤال السادس: لم قال: * (أصحاب الفيل) * ولم يقل: أرباب الفيل أو ملاك الفيل؟ الجواب: لأن الصاحب يكون من الجنس، فقوله: * (أصحاب الفيل) * يدل على أن أولئك الأقوام كانوا من جنس الفيل في البهيمية وعدم الفهم والعقل، بل فيه دقيقة، وهي: أنه إذا حصلت المصاحبة بين شخصين، فيقال: للأدون إنه صاحب الأعلى، ولا يقال: للأعلى إنه صاحب الأدون، ولذلك يقال: لمن صحب الرسول عليه السلام: إنهم الصحابة، فقوله: * (أصحاب الفيل) * يدل على أن أولئك الأقوام كانوا أقل حال وأدون منزلة من الفيل، وهو المراد من قوله تعالى: * (بل هم أضل) * ومما يؤكد ذلك أنهم كلما وجهوا الفيل إلى جهة الكعبة كان يتحول عنه ويفر عنه، كأنه كان يقول: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عزمي حميد فلا أتركه وهم ما كانوا يتركون تلك العزيمة الردية فدل ذلك على أن الفيل كان أحسن حالا منهم.
98

السؤال السابع: أليس أن كفار قريش كانوا ملأوا الكعبة من الأوثان من قديم الدهر، ولا شك أن ذلك كان أقبح من تخريب جدران الكعبة، فلم سلط الله العذاب على من قصد التخريب، ولم يسلط العذاب على من ملأها من الأوثان؟ والجواب: لأن وضع الأوثان فيها تعد على حق الله تعالى، وتخريبها تعد على حق الخلق، ونظيره قاطع الطريق، والباغي والقاتل يقتلون مع أنهم مسلمون، ولا يقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة، وإن كانوا كفار، لأنه لا يتعدى ضررهم إلى الخلق.
السؤال الثامن: كيف القول في إعراب هذه الآية؟ الجواب: قال الزجاج: كيف في موضع نصب بفعل لا بقوله: * (ألم تر) * لأن كيف من حروف الاستفهام.
* (ألم يجعل كيدهم فى تضليل) *.
واعلم أنه تعالى ذكر ما فعل بهم. فقال: * (ألم يجعل كيدهم في تضليل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن الكيد هو إرادة مضرة بالغير على الخفية، إن قيل: فلم سماه كيدا وأمره كان ظاهرا، فإنه كان يصرح أنه يهدم البيت؟ قلنا: نعم، لكن الذي كان في قلبه شر مما أظهر، لأنه كان يضمر الحسد للعرب، وكان يريد صرف الشرف الحاصل لهم بسبب الكعبة منهم ومن بلدهم إلى نفسه وإلى بلدته.
المسألة الثانية: قالت المعتزلة: إضافة الكيد إليهم دليل على أنه تعالى لا يرضى بالقبيح، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته، كقوله: * (الصوم لي) * والجواب: أنه ثبت في علم النحو أنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، فلم لا يكفي في حسن هذه الإضافة وقوعه مطابقا لإرادتهم واختيارهم؟.
المسألة الثالثة: * (في تضليل) * أي في تضييع وإبطال يقال: ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا ونظيره قوله تعالى: * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * وقيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنه ضلل ملك أبيه أي ضيعه. بمعنى أنهم كادوا البيت أولا ببناء القليس وأرادوا أن يفتتحوا أمره بصرف وجوه الحاج إليه، فضلل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، ثم كادوه ثانيا بإرادة هدمه فضلل بإرسال الطير عليهم، ومعنى حرف الظرف كما يقال: سعى فلان في ضلال، أي سعيهم كان قد ظهر لكل عاقل أنه كان ضلال وخطأ.
* (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) *.
ثم قال تعالى: * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) * وفيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قال: * (طيرا) * على التنكير؟ والجواب: إما للتحقير فإنه مهما كان أحقر كان صنع الله أعجب وأكبر، أو للتفخيم كأنه يقول: طيرا وأي طير ترمى بحجارة صغيرة فلا تخطئ المقتل.
99

السؤال الثاني: ما الأبابيل الجواب: أما أهل اللغة قال أبو عبيدة: أبابيل جماعة في تفرقة، يقال: جاءت الخيل أبابيل أبابيل من ههنا وههنا، وهل لهذه اللفظة واحد أم لا؟ فيه قولان: الأول: وهو قول الأخفش والفراء: أنه لا واحد لها وهو مثل الشماطيط والعباديد، لا وحد لها والثاني: أنه له واحد، ثم على هذا القول ذكروا ثلاثة أوجه أحدها: زعم أبو جعفر الرؤاسي وكان ثقة مأمونا أنه سمع واحدها إبالة، وفي أمثالهم: ضغث على إبالة، وهي الحزمة الكبيرة سميت الجماعة من الطير في نظامها بالإبالة وثانيها: قال الكسائي: كنت أسمع النحويين يقولون: إبول وأبابيل كعجول وعجاجيل وثالثها: قال الفراء: ولو قال قائل: واحد الأبابيل إيبالة كان صوابا كما قال: دينار ودنانير.
السؤال الثالث: ما صفة تلك الطير؟ الجواب: روى ابن سيرين عن ابن عباس قال: كانت طيرا لها خراطيم كخراطيم الفيل وأكل كأكف الكلاب، وروى عطاء عنه قال: طير سود جاءت من قبل البحر فوجا فوجا، ولعل السبب أنها أرسلت إلى قوم كان في صورتهم سواد اللون وفي سرهم سواد الكفر والمعصية، وعن سعيد بن جبير أنها بيض صغار ولعل السبب أن ظلمة الكفر انهزمت بها، والبياض ضد السواد، وقيل: كانت خضرا ولها رؤوس مثل رؤوس السباع، وأقول: إنها لما كانت أفواجا، فلعل كل فوج منها كان على شكل آخر فكل أحد وصف ما رأى، وقيل: كانت بلقاء كالخطاطيف.
* (ترميهم بحجارة من سجيل) *.
ثم قال تعالى: * (ترميهم بحجارة من سجيل) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ أبو حياة: يرميهم أي الله أو الطير لأنه اسم جمع مذكر، وإنما يؤنث على المعنى.
المسألة الثانية: ذكروا في كيفية الرمي وجوها أحدها: قال مقاتل: كان كل طائر يحمل ثلاثة أحجار، واحد في منقاره واثنان في رجليه يقتل كل واحد رجلا، مكتوب على كل حجر اسم صاحبه ما وقع منها حجر على موضع إلا خرج من الجانب الآخر، وإن وقع على رأسه خرج من دبره وثانيها: روى عكرمة عن ابن عباس، قال: لما أرسل الله الحجارة على أصحاب الفيل لم يقع حجر على أحد منهم إلا نفط جلده وثار به الجدري، وهو قول سعيد بن جبير، وكانت تلك الأحجار أصغرها مثل العدسة، وأكبرها مثل الحمصة.
واعلم أن من الناس من أنكر ذلك، وقال: لو جوزنا أن يكون في الحجارة التي تكون مثل العدسة من الثقل ما يقوى به على أن ينفذ من رأس الإنسان ويخرج من أسفله، لجوزنا أن يكون الجبل العظيم خاليا عن الثقل وأن يكون في ومن التينة، وذلك يرفع الأمان عن المشاهدات، فإنه متى
100

جاز ذلك فليجز أن يكون بحضرتنا شموس وأقمار ولا نراها، وأن يحصل الإدراك في عين الضرير حتى يكون هو بالمشرق ويرى بقعة في الأندلس، وكل ذلك محال. واعلم أن ذلك جائز على مذهبنا إلا أن العادة جارية بأنها لا تقع.
المسألة الثالثة: ذكروا في السجيل وجوها أحدها: أن السجيل كأنه علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا علم لديوان أعمالهم، كأنه قيل: بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال، ومنه السجل الدلو المملوء ماء، وإنما سمي ذلك الكتاب بهذا الاسم لأنه كتب فيه العذاب، والعذاب موصوف بالإرسال لقوله تعالى: * (وأرسل عليهم طيرا أبابيل) * وقوله: * (فأرسلنا عليهم الطوفان) * فقوله: * (من سجيل) * أي مما كتبه الله في ذلك الكتاب وثانيها: قال ابن عباس: سجيل معناه سنك وكل، يعني بعضه حجر وبعضه طين وثالثها: قال أبو عبيدة: السجيل الشديد ورابعها: السجيل اسم لسماء الدنيا وخامسها: السجيل حجارة من جهنم، فإن سجيل اسم من أسماء جهنم فأبدلت النون باللام.
* (فجعلهم كعصف مأكول) *.
أما قوله تعالى: * (فجعلهم كعصف مأكول) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير العصف وجوها ذكرناها في قوله: * (والحب ذو العصف) * وذكروا ههنا وجوها: أحدها: أنه ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد الحصاد وتعصفه الرياح فتأكله المواشي وثانيها: قال أبو مسلم: العصف التبن لقوله: * (ذو العصف والريحان) * لأنه تعصف به الريح عند الذر فتفرقه عن الحب، وهو إذا كان مأكولا فقد بطل ولا رجعة له ولا منعة فيه وثالثها: قال الفراء: هو أطراف الزرع قبل أن يدرك السنبل ورابعها: هو الحب الذي أكل لبه وبقي قشره.
المسألة الثانية: ذكروا في تفسير المأكول وجوها أحدها: أنه الذي أكل، وعلى هذا الوجه ففيه احتمالان:
أحدهما: أن يكون المعنى كزرع وتبن قد أكلته الدواب، ثم ألقته روثا، ثم يجف وتتفرق أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، إلا أن العبارة عنه جاءت على ما عليه آداب القرآن، كقوله: * (كانا يأكلان الطعام) * وهو قول مقاتل، وقتادة وعطاء عن ابن عباس.
والاحتمال الثاني: على هذا الوجه أن يكون التشبيه واقعا بورق الزرع إذا وقع فيه الأكال، وهو أن يأكله الدود الوجه الثاني: في تفسير قوله: * (مأكول) * هو أنه جعلهم كزرع قد أكل حبه وبقي تبنه، وعلى هذا التقدير يكون المعنى: كعصف مأكول الحب كما يقال: فلان حسن أي حسن الوجه، فأجرى مأكول على العصف من أجل أنه أكل حبه لأن هذا المعنى معلوم وهذا
101

قول الحسن الوجه الثالث: في التفسير أن يكون معنى: * (مأكول) * أنه مما يؤكل، يعني تأكله الدواب يقال: لكل شيء يصلح للأكل هو مأكول والمعنى جعلهم كتبن تأكله الدواب وهو قول عكرمة والضحاك.
المسألة الثالثة: قال بعضهم: إن الحجاج خرب الكعبة، ولم يحدث شيء من ذلك، فدل على أن قصة الفيل ما كانت على هذا الوجه وإن كانت هكذا إلا أن السبب لتلك الواقعة أمر آخر سوى تعظيم الكعبة والجواب: أنا بينا أن ذلك وقع إرهاصا لأمر محمد صلى الله عليه وسلم، والإرهاص إنما يحتاج إليه قبل قدومه، أما بعد قدومه وتأكد نبوته بالدلائل القاطعة فلا حاجة إلى شيء من ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
102

سورة قريش
وهي أربع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (لإيلاف قريش) *.
* (لإيلاف قريش إيلافهم اعلم أن ههنا مسائل:
المسألة الأولى: اللام في قوله: * (لإيلاف) * تحتمل وجوها ثلاثة، فإنها إما أن تكون متعلقة بالسورة التي قبلها أو بالآية التي بعدها، أولا تكون متعلقة لا بما قبلها،
ولا بما بعدها أما الوجه الأول: وهو أن تكون متعلقة بما قبلها، ففيه احتمالات:
الأول: وهو قول الزجاج وأبي عبيدة أن التقدير: * (فجعلهم كعصف مأكول) * لإلف قريش أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش، وما قد ألفوا من رحلة الشتاء والصيف، فإن قيل: هذا ضعيف لأنهم إنما جعلوا: * (كعصف مأكول) * لكفرهم ولم يجعلوا كذلك لتأليف قريش، قلنا هذا السؤال ضعيف لوجوه أحدها: أنا لا نسلم أن الله تعالى إنما فعل بهم ذلك لكفرهم، فإن الجزاء على الكفر مؤخر للقيامة، قال تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * وقال: * (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) * ولأنه تعالى لو فعل بهم ذلك لكفرهم، لكان قد فعل ذلك بجميع الكفار، بل إنما فعل ذلك بهم: * (لإيلاف قريش) * ولتعظيم منصبهم وإظهار قدرهم وثانيها: هب أن زجرهم عن الكفر مقصود لكن لا ينافي كون شيء آخر مقصود حتى يكون الحكم واقعا بمجموع الأمرين معا وثالثها: هب أنهم أهلكوا لكفرهم فقط، إلا أن ذلك الإهلاك لما أدى إلى إيلاف قريش، جاز أن يقال: أهلكوا لإيلاف قريش، كقوله تعالى: * (ليكون لهم عدوا وحزنا) * وهم لم يلتقطوه لذلك، لكن لما آل الأمر إليه حسن أن يمهد عليه الالتقاط.
الاحتمال الثاني: أن يكون التقدير: * (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، لإيلاف قريش) * كأنه تعالى قال: كل ما فعلنا بهم فقد فعلناه، لإيلاف قريش، فإنه تعالى جعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل، حتى صاروا كعصف مأكول، فكل ذلك إنما كان لأجل إيلاف قريش.
103

الاحتمال الثالث: أن تكون اللام في قوله: * (لإيلاف) * بمعنى إلى كأنه قال: فعلنا كل ما فعلنا في السورة المتقدمة إلى نعمة أخرى عليهم وهي إيلافهم: * (رحلة الشتاء والصيف) * تقول: نعمة الله نعمة ونعمة لنعمة سواء في المعنى، هذا قول الفراء: فهذه احتمالات ثلاثة توجهت على تقدير تعليق اللام بالسورة التي قبل هذه، وبقي من مباحث هذا القول أمران:
الأول: أن للناس في تعليق هذه اللام بالسورة المتقدمة قولين: أحدهما: أن جعلوا السورتين سورة واحدة واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: أن السورتين لا بد وأن تكون كل واحدة منهما مستقلة بنفسها، ومطلع هذه السورة لما كان متعلقا بالسورة المتقدمة وجب أن لا تكون سورة مستقلة وثانيها: أن أبي بن كعب جعلهما في مصحفه سورة واحدة وثالثها: ما روى أن عمر قرأ في صلاة المغرب في الركعة الأولى والتين، وفي الثانية ألم تر ولإيلاف قريش معا، من غير فصل بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم: القول الثاني: وهو المشهور المستفيض أن هذه السورة منفصلة عن سورة الفيل، وأما تعلق أول هذه السورة بما قبلها فليس بحجة على ما قالوه، لأن القرآن كله كالسورة الواحدة وكالآية الواحدة يصدق بعضها بعضا ويبين بعضها معنى بعض، ألا ترى أن الآيات الدالة على الوعيد مطلقة، ثم إنها متعلقة بآيات التوبة وبآيات العفو عنه من يقول به، وقوله: * (إنا أنزلناه) * متعلق بما قبله من ذكر القرآن، وأما قوله: إن أبيا لم يفصل بينهما فهو معارض بإطباق الكل على الفصل بينهما، وأما قراءة عمر فإنها لا تدل على أنهما سورة واحدة لأن الإمام قد يقرأ سورتين.
البحث الثاني: فيما يتعلق بهذا القول بيان: أنه لم صار ما فعله الله بأصحاب الفيل سببا لإيلاف قريش؟ فنقول: لا شك أن مكة كانت خالية عن الزرع والضرع على ما قال تعالى: * (بواد غير ذي زرع) * إلى قوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) * فكان أشراف أهل مكة يرتحلون للتجارة هاتين الرحلتين، ويأتون لأنفسهم ولأهل بلدهم بما يحتاجون إليه من الأطعمة والثياب، وهم إنما كانوا يربحون في أسفارهم، ولأن ملوك النواحي كانوا يعظمون أهل مكة، ويقولون: هؤلاء جيران بيت الله وسكان حرمه وولاة الكعبة حتى إنهم كانوا يسمون أهل مكة أهل الله، فلو تم للحبشة ما عزموا عليه من هدم الكعبة، لزال عنهم هذا العز ولبطلت تلك المزايا في التعظيم والاحترام ولصار سكان مكة كسكان سائر النواحي يتخطفون من كل جانب ويتعرض لهم في نفسهم وأموالهم، فلما أهلك الله أصحاب الفيل ورد كيدهم في نحرهم ازداد وقع أهل مكة في القلوب، وازداد تعظيم ملوك الأطراف لهم فازدادت تلك المنافع والمتاجر، فلهذا قال الله تعالى: * (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) * * (لإيلاف قريش... رحلة الشتاء والصيف) *. والوجه الثاني: فيما يدل على صحة هذا القول أن قوله تعالى في آخر هذه السورة: * (فليعبدوا رب
104

هذا البيت الذي) * إشارة إلى أول سورة الفيل، كأنه قال: فليعبدوا رب هذا البيت، الذي قصده أصحاب الفيل، ثم إن رب البيت دفعهم عن مقصودهم لأجل إيلافكم ونفعكم لأن الأمر بالعبادة إنما يحسن مرتبا على إيصال المنفعة، فهذا يدل على تعلق أول هذه السورة بالسورة المتقدمة.
القول الثاني: وهو أن اللام في: * (لإيلاف) * متعلقة بقوله: * (فليعبدوا) * وهو قول الخليل وسيبويه والتقدير: فليعبدوا رب هذا البيت، لإيلاف قريش. أي ليجعلوا عبادتهم شكرا لهذه النعمة واعترافا بها، فإن قيل: فلم دخلت الفاء في قوله: * (فليعبدوا) *؟ قلنا: لما في الكلام من معنى الشرط، وذلك لأن نعم الله عليهم لا تحصى، فكأنه قيل: إن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبده لهذه الواحدة التي هي نعمة ظاهرة.
القول الثالث: أن تكون هذه اللام غير متعلقة، لا بما قبلها ولا بما بعدها، قال الزجاج: قال قوم: هذه اللام لام التعجب، كأن المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش، وذلك لأنهم كل يوم يزدادون غيا وجهلا وانغماسا في عبادة الأوثان، والله تعالى يؤلف شملهم ويدفع الآفات عنهم، وينظم أسباب معايشهم، وذلك لا شك أنه في غاية التعجب من عظيم حلم الله وكرمه، ونظيره في اللغة قولك لزيد وما صنعنا به. ولزيد وكرامتنا إياه. وهذا اختيار الكسائي والأخفش والفراء.
المسألة الثانية: ذكروا في الإيلاف ثلاثة أوجه أحدها: أن الإيلاف هو الإلف قال علماء اللغة: ألفت الشيء وألفته إلفا وإلافا وإيلافا بمعنى واحد، أي لزمته فيكون المعنى لإلف قريش هاتين الرحلتين فتتصلا ولا تنقطعا، وقرأ أبو جعفر: لإلف قريش. وقرأ الآخرون لإلاف قريش، وقرأ عكرمة ليلاف قريش وثانيها: أن يكون هذا من قولك: لزمت موضع كذا وألزمنيه الله، كذا تقول: ألفت كذا، وألفنيه الله ويكون المعنى إثبات الألفة بالتدبير الذي فيه لطف ألف بنفسه إلفا وآلفه غيره إيلافا،
والمعنى أن هذه الألفة إنما حصلت في قريش بتدبير الله وهو كقوله: * (ولكن الله ألف بينهم) * وقال: * (وألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) * وقد تكون المسرة سببا للمؤانسة والاتفاق، كما وقعت عند انهزام أصحاب الفيل لقريش، فيكون المصدر ههنا مضافا إلى المفعول، ويكون المعنى لأجل أن يجعل الله قريشا ملازمين لرحلتيهم وثالثها: أن يكون الإيلاف هو التهيئة والتجهيز وهو قول الفراء وابن الأعرابي: فيكون المصدر على هذا القول مضافا إلى الفاعل، والمعنى لتجهيز قريش رحلتيها حتى تتصلا ولا تنقطعا، وقرأ أبو جعفر ليلاف بغير همز فحذف همزة الإفعال حذفا كليا وهو كمذهبه في يستهزءون وقد مر تقريره.
المسألة الثالثة: التكرير في قوله: * (لإيلاف قريش إيلافهم) * هو أنه أطلق الإيلاف أولا ثم جعل المقيد بدلا لذلك المطلق تفخيما لأمر الإيلاف وتذكيرا لعظيم المنة فيه، والأقرب أن يكون قوله: * (لإيلاف قريش) * عاما بجمع كل مؤانسة وموافقة كان بينهم، فيدخل فيه مقامهم
105

وسيرهم وجميع أحوالهم، ثم خص إيلاف الرحلتين بالذكر لسبب أنه قوام معاشهم كما في قوله: * (وجبريل وميكائيل) * وفائدة ترك واو العطف التنبيه على أنه كل النعمة، تقول العرب: ألفت كذا أي لزمته، والإلزام ضربان إلزام بالتكليف والأمر، وإلزام بالمودة والمؤانسة فإنه إذا أحب المرء شيئا لزمه، ومنه: * (ألزمهم كلمة التقوى) * كما أن الإلجاء ضربان أحدهما: لدفع الضرر كالهرب من السبع والثاني: لطلب النفع العظيم، كمن يجد مالا عظيما ولا مانع من أخذه لا عقلا ولا شرعا ولا حسا فإنه يكون كالملجأ إلى الأخذ، وكذا الدواعي التي تكون دون الالجاء، مرة تكون لدفع الضرر وأخرى لجلب النفع، وهو المراد في قوله: * (إيلافهم) *.
المسألة الرابعة: اتفقوا على أن قريشا ولد النضر بن كنانة، قال عليه الصلاة والسلام: " إنا بني النضر بن كنانة لأنفقوا أمنا ولا ننتفي من أبينا " وذكروا في سبب هذه التسمية وجوها أحدها: أنه تصغير القرش وهو دابة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، ولا تنطلق إلا بالنار وعن معاوية أنه سأل ابن عباس: بم سميت قريش؟ قال: بدابة في البحر تأكل ولا تؤكل، تعلو ولا تعلى، وأنشد: وقريش هي التي تسكن البحر بها سميت قريش قريشا والتصغير للتعظيم، ومعلوم أن قريشا موصوفون بهذه الصفات لأنها تلي أمر الأمة، فإن الأئمة من قريش وثانيها: أنه مأخوذ من القرش وهو الكسب لأنهم كانوا كاسبين بتجاراتهم وضربهم في البلاد وثالثها: قال الليث: كانوا متفرقين في غير الحرم، فجمعهم قصي بن كلاب في الحرم حتى اتخذوها مسكنا، فسموا قريشا لأن التقرش هو التجمع، يقال: تقرش القوم إذا اجتمعوا، ولذلك سمي قصي مجمعا، قال الشاعر: أبو كم قصي كان يدعى مجمعا به جمع الله القبائل من فهر ورابعها: أنهم كانوا يسدون خلة محاويج الحاج، فسموا بذلك قريشا، لأن القرش التفتيش قال ابن حرة: أيها الشامت المقرش عنا عند عمرو وهل لذاك بقاء
* (إيلافهم رحلة الشتآء والصيف) *.
قوله تعالى: * (رحلة الشتاء والصيف) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قال الليث: الرحلة اسم الارتحال من القول للمسير، وفي المراد من هذه الرحلة قولان: الأول: وهو المشهور، قال المفسرون: كانت لقريش رحلتان رحلة بالشتاء إلى اليمن لأن اليمن أدفأ وبالصيف إلى الشأم، وذكر عطاء عن ابن عباس أن السبب في ذلك هو أن قريشا إذا أصاب واحدا منهم مخمصة خرج هو وعياله إلى موضع وضربوا على أنفس خباء حتى يموتوا،
106

إلى أن جاء هاشم بن عبد مناف، وكان سيد قومه، وكان له ابن يقال له: أسد، وكان له ترب من بني مخزوم يحبه ويلعب معه فشكا إليه الضرر والمجاعة فدخل أسد على أمه يبكي فأرسلت إلى أولئك بدقيق وشحم فعاشوا فيه أياما، ثم أتى ترب أسد إليه مرة أخرى وشكا إليه من الجوع فقام هاشم خطيبا في قريش، فقال: إنكم أجدبتم جدبا تقلون فيه وتذلون، وأنتم أهل حرم الله وأشراف ولد آدم والناس لكم تبع قالوا: نحن تبع لك فليس عليك منا خلاف فجمع كل بني أب على الرحلتين في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام للتجارات، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير حتى كان فقيرهم كغنيهم، فجاء الإسلام وهم على ذلك، فلم يكن في العرب بنو أب أكثر مالا ولا أعز من قريش، قال الشاعر فيهم: الخالطين فقيرهم بغنيهم حتى يكون فقيرهم كالكافي واعلم أن وجه النعمة والمنة فيه أنه لو تم لأصحاب الفيل ما أرادوا، لترك أهل الأقطار تعظيمهم وأيضا لتفرقوا وصار حالهم كحال اليهود المذكور في قوله: * (وقطعناهم في الأرض أمما) * واجتماع القبيلة الواحدة في مكان واحد أدخل في النعمة من أن يكون الاجتماع من قبائل شتى، ونبه تعالى أن من شرط السفر المؤانسة والألفة، ومنه قوله تعالى: * (ولا جدال في الحج) * والسفر أحوج إلى مكارم الأخلاق من الإقامة القول الثاني: أن المراد، رحلة الناس إلى أهل مكة فرحلة الشتاء والصيف عمرة رجب وحج ذي الحجة لأنه كان أحدهما شتاء والآخر صيفا وموسم منافع مكة يكون بهما، ولو كان يتم لأصحاب الفيل ما أرادوا لتعطلت هذه المنفعة.
المسألة الثانية: نصب الرحل بلإيلافهم مفعولا به، وأراد رحلتي الشتاء والصيف، فأفرد لأمن الإلباس كقوله: كلوا في بعض بطنكم، وقيل: معناه رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وقرئ رحلة بضم الراء وهي الجهة.
* (فليعبدوا رب هذا البيت) *.
قوله تعالى: * (فليعبدوا رب هذا البيت) * اعلم أن الإنعام على قسمين أحدهما: دفع الضرر والثاني: جلب النفع والأول أهم وأقدم، ولذلك قالوا: دفع الضرر عن النفس واجب أما جلب النفع (فإنه) غير واجب، فلهذا السبب بين تعالى نعمة دفع الضرر في سورة الفيل ونعمة جلب النفع في هذه السورة، ولما تقرر أن الإنعام لا بد وأن يقابل بالشكر والعبودية، لا جرم أتبع ذكر النعمة بطلب العبودية فقال: * (فليعبدوا) * وههنا مسائل:
المسألة الأولى: ذكرنا أن العبادة هي التذلل والخضوع للمعبود على غاية ما يكون. ثم قال بعضهم: أراد فليوحدوا رب هذا البيت لأنه هو الذي حفظ البيت دون الأوثان، ولأن التوحيد مفتاح العبادات، ومنهم من قال: المراد العبادات المتعلقة بأعمال الجوارح
107

ثم ذكر كل قسم من أقسام العبادات، والأولى حمله على الكل لأن اللفظ متناول للكل إلا ما أخرجه الدليل، وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون معنى فليعبدوا أي فليتركوا رحلة الشتاء والصيف وليشتغلوا بعبادة رب هذا البيت فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف، ولعل تخصيص لفظ الرب تقرير لما قالوه لأبرهة: إن للبيت ربا سيحفظه، ولم يعولوا في ذلك على الأصنام فلزمهم لإقرارهم أن لا يعبدوا سواه، كأنه يقول: لما عولتم في الحفظ علي فاصرفوا العبادة والخدمة إلي.
المسألة الثانية: الإشارة إلى البيت في هذا النظم تفيد التعظيم فإنه سبحانه تارة أضاف العبد إلى نفسه فيقول: يا عبادي وتارة يضيف نفسه إلى العبد فيقول: وإلهكم كذا في البيت (تارة) يضيف نفسه إلى البيت وهو قوله: * (فليعبدوا رب هذا البيت) * وتارة يضيف البيت إلى نفسه فيقول: * (طهرا بيتي) *.
* (الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من خوف) *.
ثم قال تعالى: * (الذي أطعمهم من جوع) * وفي هذه الإطعام وجوه أحدها: أنه تعالى لما آمنهم بالحرم حتى لا يتعرض لهم في رحلتيهم كان ذلك سبب إطعامهم بعدما كانوا فيه من الجوع ثانيها: قال مقاتل: شق عليهم الذهاب إلى اليمن والشام في الشتاء والصيف لطلب الرزق، فقذف الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا الطعام في السفن إلى مكة فحملوه، وجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والخمر، ويشترون طعامهم من جدة على مسيرة ليلتين وتتابع ذلك، فكفاهم الله مؤونة الرحلتين ثالثها: قال الكلبي: هذه الآية معناها أنهم لما كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم دعا عليهم، فقال: " اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف " فاشتد عليهم القحط وأصابهم الجهد فقالوا: يا محمد ادع الله فإنا مؤمنون، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخصبت البلاد وأخصب أهل مكة بعد القحط، فذاك قوله: * (أطعمهم من جوع) * ثم في الآية سؤالات:
السؤال الأول: العبادة إنما وجبت لأنه تعالى أعطى أصول النعم، والإطعام ليس من أصول النعم، فلما علل وجوب العبادة بالإطعام؟ والجواب: من وجوه أحدها: أنه تعالى لما ذكر إنعامه عليهم بحبس الفيل وإرسال الطير وإهلاك الحبشة، وبين أنه تعالى فعل ذلك لإيلافهم، ثم أمرهم بالعبادة، فكان السائل يقول: لكن نحن محتاجون إلى كسب الطعام والذب عن النفس، فلو اشتغلنا بالعبادة فمن ذا الذي أيطعمنا، فقال: الذي أطعمهم من جوع، قبل أن يعبدوه، ألا يطعمهم إذا عبدوه! وثانيها: أنه تعالى بعد أن أعطى العبد أصول النعم أساء العبد إليه، ثم إنه يطعمهم مع ذلك، فكأنه تعالى يقول: إذا لم تستح من أصول النعم ألا تستحي من إحساني إليك بعد إساءتك وثالثها: إنما ذكر الإنعام، لأن البهيمة تطيع من يعلفها، فكأنه تعالى يقول: لست دون البهيمة.
السؤال الثاني: أليس أنه جعل الدنيا ملكا لنا بقوله: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) *
108

فكيف تحسن المنة علينا بأن أعطانا ملكنا؟ الجواب: أنظر في الأشياء التي لا بد منها قبل الأكل حتى يتم الطعام ويتهيأ، وفي الأشياء التي لا بد منها بعد الأكل حتى يتم الانتفاع بالطعام المأكول، فإنك تعلم أنه لا بد من الأفلاك والكواكب، ولا بد من العناصر الأربعة حتى يتم ذلك الطعام، ولا بد من جملة الأعضاء على اختلاف أشكالها وصورها حتى يتم الانتفاع بالطعام، وحينئذ تعلم أن الإطعام يناسب الأمر بالطاعة والعبادة.
السؤال الثالث: المنة بالإطعام لا تليق بمن له شيء من الكرم، فكيف بأكرم الأكرمين؟ الجواب: ليس الغرض منه المنة، بل الإرشاد إلى الأصلح، لأنه ليس المقصود من الأكل تقوية الشهوة المانعة عن الطاعة، بل تقوية البنية على أداء الطاعات، فكأن المقصود من الأمر بالعبادة ذلك.
السؤال الرابع: ما الفائدة في قوله: * (من جوع) *؟ الجواب: فيه فوائد أحدها: التنبيه على أن أمر الجوع شديد، ومنه قوله تعالى: * (وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا) * وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أصبح آمنا في سربه " الحديث وثانيها: تذكيرهم الحالة الأولى الرديئة المؤلمة وهي الجوع حتى يعرفوا قدر النعمة الحاضرة وثالثها: التنبيه على أن خير الطعام ما سد الجوعة، لأنه لم يقل: وأشبعهم لأن الطعام يزيل الجوع، أما الإشباع فإنه يورث البطنة.
أما قوله تعالى: * (وآمنهم من خوف) * ففي تفسيره وجوه أحدها: أنهم كانوا يسافرون آمنين لا يتعرض لهم أحد، ولا يغير عليهم أحد لا في سفرهم، ولا في حضرهم وكان غيرهم لا يأمنون من الغارة في السفر والحضر، وهذا معنى قوله: * (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) * ثانيها: أنه آمنهم من زحمة أصحاب الفيل وثالثها: قال الضحاك والربيع: وآمنهم من خوف الجزام، فلا يصيبهم ببلدتهم الجذام ورابعها: آمنهم من خوف أن تكون الخلافة في غيرهم وخامسها: آمنهم بالإسلام، فقد كانوا في الكفر يتفكرون، فيعلمون أن الدين الذي هم عليه ليس بشيء، إلا أنهم ما كانوا يعرفون الدين الذي يجب على العاقل أن يتمسك به وسادسها: أطعمهم من جوع الجهل بطعام الوحي، وآمنهم من خوف الضلال ببيان الهدى، كأنه تعالى يقول: يا أهل مكة كنتم قبل مبعث محمد تسمون جهال العرب وأجلافهم، ومن كان ينازعكم كانوا يسمون أهل الكتاب، ثم أنزلت الوحي على نبيكم، وعلمتكم الكتاب والحكمة حتى صرتم الآن تسمون
109

أهل العلم والقرآن، وأولئك يسمون جهال اليهود والنصارى، ثم إطعام الطعام الذي يكون غذاء الجسد يوجب الشكر، فإطعام الذي هو غذاء الروح، ألا يكون موجبا للشكر! وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم لم يقل: عن جوع وعن خوف؟ قلنا: لأن معنى عن أنه جعل الجوع بعيدا عنهم، وهذا يقتضي أن يكون ذلك التبعيد مسبوقا بمقاساة الجوع زمانا، ثم يصرفه عنه، ومن لا تقتضي ذلك، بل معناه أنهم عندما يجوعون يطعمون، وحين ما يخافون يؤمنون.
السؤال الثاني: لم قال: من جوع، من خوف على سبيل التنكير؟ الجواب: المراد من التنكير التعظيم. أما الجوع فلما روينا: أنه أصابتهم شدة حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة. وأما الخوف، فهو الخوف الشديد الحاصل من أصحاب الفيل، ويحتمل أن يكون المراد من التنكير التحقير، يكون المعنى أنه تعالى لما لم يجوز لغاية كرمه إبقاءهم في ذلك الجوع القليل والخوف القليل، فكيف يجوز في كرمه لو عبدوه أن يهمل أمرهم، ويحتمل أن يكون المراد أنه: * (أطعمهم من جوع) * دون
جوع: * (وآمنهم من خوف) * دون خوف، ليكون الجوع الثاني، والخوف الثاني مذكرا ما كانوا فيه أولا من أنواع الجوع والخوف، حتى يكونوا شاكرين من وجه، وصابرين من وجه آخر، فيستحقوا ثواب الخصلتين.
السؤال الثالث: أنه تعالى إنما أطعمهم وآمنهم إجابة لدعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أما في الإطعام فهو قوله: * (وأرزق أهله) * وأما الأمان فهو قوله: * (اجعل هذا البلد آمنا) * وإذا كان كذلك كان ذلك منة على إبراهيم عليه السلام، فكيف جعله منة على أولئك الحاضرين؟ والجواب: أن الله تعالى لما قال: * (إني جاعلك للناس إماما) * قال إبراهيم: * (ومن ذريتي) * فقال الله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * فنادى إبراهيم بهذا الأدب، فحين قال: * (رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات) * قيده بقوله: * (من آمن بالله) * فقال الله: لا حاجة إلى هذا التقيد، بل ومن كفر فأمتعه قليلا، فكأنه تعالى قال: أما نعمة الأمان فهي دينية فلا تحصل إلا لمن كان تقيا، وأما نعمة الدنيا فهي تصل إلى البر والفاجر والصالح والطالح، وإن كان كذلك كان إطعام الكافر من الجوع، وأمانه من الخوف إنعاما من الله ابتداء عليه لا بدعوة إبراهيم، فزال السؤال. والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
110

سورة الماعون
سبع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (أرءيت الذى يكذب بالدين) *.
* (أرأيت الذي يكذب بالدين) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ بعضهم أريت بحذف الهمزة، قال الزجاج: وهذا ليس بالاختيار، لأن الهمزة إنما طرحت من المستقبل نحو يرى وأرى وترى، فأما رأيت فليس يصح عن العرب فيها ريت، ولكن حرف الاستفهام لما كان في أول الكلام سهل إلغاء الهمزة، ونظيره: صاح هل ريت أو سمعت براع * رد في الضرع ما قرى في العلاب
وقرأ ابن مسعود أرأيتك بزيادة حرف الخطاب كقوله: * (أرأيتك هذا الذي كرمت على) *.
المسألة الثانية: قوله: * (أرأيت) * معناه هل عرفت الذي يكذب بالجزاء من هو، فإن لم تعرفه: * (فهو الذي يدع اليتيم) *.
واعلم أن هذا اللفظ وإن كان في صورة الاستفهام، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك: أرأيت فلانا ماذا ارتكب ولماذا عرض نفسه؟ ثم قيل: إنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل خطاب لكل عاقل أي أرأيت يا عاقل هذا الذي يكذب بالدين بعد ظهور دلائله ووضوح تبيانه أيفعل ذلك لا لغرض، فكيف يليق بالعاقل جر العقوبة الأبدية إلى نفسه من غير غرض أو لأجل الدنيا، فكيف يليق بالعاقل أن يبيع الكثير الباقي بالقليل الفاني.
المسألة الثالثة: في الآية قولان: أحدهما: أنها مختصة بشخص معين، وعلى هذا القول ذكروا أشخاصا، فقال ابن جريج: نزلت في أبي سفيان كان ينحر جزورين في كل أسبوع، فأتاه يتيم فسأله لحما فقرعه بعصاه، وقال مقاتل: نزلت في العاص بن وائل السهمي، وكان من صفته الجمع بين التكذيب بيوم القيامة، والإتيان بالأفعال القبيحة، وقال السدي: نزلت في الوليد بن المغيرة، وحكى الماوردي أنها نزلت في أبي جهل، وروى أنه كان وصيا ليتيم، فجاءه وهو عريان يسأله شيئا من مال نفسه، فدفعه ولم يعبأ به فأيس الصبي، فقال له أكابر قريش: قل لمحمد يشفع لك، وكان
111

غرضهم الاستهزاء ولم يعرف اليتيم ذلك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتمس منه ذلك، وهو عليه الصلاة والسلام ما كان يرد محتاجا فذهب معه إلى أبي جهل فرحب به وبذل المال لليتيم فعيره قريش، فقالوا: صبوت، فقال: لا والله ما صبوت، لكن رأيت عن يمينه وعن يساره حربة خفت إن لم أجبه يطعنها في، وروى عن ابن عباس أنها نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة والقول الثاني: أنه عام لكل من كان مكذبا بيوم الدين، وذلك لأن إقدام الإنسان على الطاعات وإحجامه عن المحظورات إنما يكون للرغبة في الثواب والرهبة عن العقاب، فإذا كان منكرا للقيامة لم يترك شيئا من المشتهيات واللذات، فثبت أن إنكار القيامة كالأصل لجميع أنواع الكفر والمعاصي.
المسألة الرابعة: في تفسير الدين وجوه أحدها: أن يكون المراد من يكذب بنفس الدين والإسلام إما لأنه كان منكرا للصانع، أو لأنه كان منكرا للنبوة، أو لأنه كان منكرا للمعاد أو لشيء من الشرائع، فإن قيل: كيف يمكن حمله على هذا الوجه، ولا بد وأن يكون لكل أحد دين والجواب: من وجوه أحدها: أن الدين المطلق في اصطلاح أهل الإسلام، والقرآن هو الإسلام قال: الله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * أما سائر المذاهب فلا تسمى دينا إلا بضرب من التقييد كدين النصارى واليهود وثانيها: أن يقال: هذه المقالات الباطلة ليست بدين، لأن الدين هو الخضوع لله وهذه المذاهب إنما هي خضوع للشهوة أو للشبهة وثالثها: وهو قوله أكثر المفسرين. أن المراد أرأيت الذي يكذب بالحساب والجزاء، قالوا: وحمله على هذا الوجه أولى لأن من ينكر الإسلام قد يأتي بالأفعال الحميدة ويحترز عن مقابحها إذا كان مقرا بالقيامة والبعث، أما المقدم على كل قبيح من غير مبالاة فليس هو إلا المنكر للبعث والقيامة.
* (فذلك الذى يدع اليتيم * ولا يحض على طعام المسكين) *.
ثم قال تعالى: * (فذلك الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين) *.
واعلم أنه تعالى ذكر في تعريف من يكذب الدين وصفين أحدهما: من باب الأفعال وهو قوله: * (فذلك الذي يدع اليتيم) * والثاني: من باب التروك وهو قوله: * (
ولا يحض على طعام المسكين) * والفاء في قوله فذلك للسببية أي لما كان كافرا مكذبا كان كفره سببا لدع اليتيم، وإنما اقتصر عليهما على معنى أن الصادر عمن يكذب بالدين ليس إلا ذلك، لأنا نعلم أن المكذب بالدين لا يقتصر على هذين بل على سبيل التمثيل، كأنه تعالى ذكر في كل واحد من القسمين مثالا واحدا تنبيها بذكره على سائر القبائح، أو لأجل أن هاتين الخصلتين، كما أنهما قبيحان منكران بحسب الشرع فهما أيضا مستنكران بحسب المروءة والإنسانية، أما قوله: * (يدع اليتيم) * فالمعنى أنه يدفعه بعنف وجفوة كقوله: * (يوم يدعون إلى نار جهنم دعا) * وحاصل الأمر في دع اليتيم أمور أحدها: دفعه
112

عن حقه وماله بالظلم والثاني: ترك المواساة معه، وإن لم تكن المواساة واجبة. وقد يذم المرء بترك النوافل لا سيما إذا أسند إلى النفاق وعدم الدين والثالث: يزجره ويضربه ويستخف به، وقرئ يدع أي يتركه، ولا يدعوه بدعوة، أي يدعوا جميع الأجانب ويترك اليتيم مع أنه عليه الصلاة والسلام قال: " ما من مائدة أعظم من مائدة عليها يتيم " وقرئ يدعو اليتيم أي يدعوه رياء ثم لا يطعمه وإنما يدعوه استخداما أو قهرا أو استطالة.
واعلم أن في قوله: * (يدع) * بالتشديد فائدة، وهي أن يدع بالتشديد معناه أنه يعتاد ذلك فلا يتناول الوعيد من وجد منه ذلك وندم عليه، ومثله قوله تعالى: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) * سمى ذنب المؤمن لمما لأنه كالطيف والخيال يطرأ ولا يبقى، لأن المؤمن كما يفرغ من الذنب يندم، إنما المكذب هو الذي يصر على الذنب.
أما قوله: * (ولا يحض على طعام المسكين) * ففيه وجهان أحدهما: أنه لا يحض نفسه على طعام المسكين وإضافة الطعام إلى المسكين تدل على أن ذلك الطعام حق المسكين، فكأنه منه المسكين مما هو حقه، وذلك يدل على نهاية بخله وقساوة قلبه وخساسة طبعه والثاني: لا يحض غيره على إطعام ذلك المسكين بسبب أنه لا يتقد في ذلك الفعل ثوابا، والحاصل أنه تعالى جعل علم التكذيب بالقيامة الإقدام على إيذاء الضعيف ومنع المعروف، يعني أنه لو آمن بالجزاء وأيقن بالوعيد لما صدر عنه ذلك، فموضع الذنب هو التكذيب بالقيامة، وههنا سؤالان:
السؤال الأول: أليس قد لا يحض المرء في كثير من الأحوال ولا يكون آثما؟ الجواب: لأنه غيره ينوب منابه أو لأنه لا يقبل قوله أو لمفسدة أخرى يتوقعها، أما ههنا فذكر أنه لا يفعل ذلك (إلا) لما أنه مكذب بالدين.
السؤال الثاني: لم لم يقل: ولا يطعم المسكين؟ والجواب: إذا منع اليتيم حقه فكيف يطعم المسكين من مال نفسه، بل هو بخيل من مال غيره، وهذا هو النهاية في الخسة، فلأن يكون بخيلا بمال نفسه أولى، وضده في مدح المؤمنين: * (وتواصوا بالمرحمة، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر) *.
* (فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون) *.
ثم قال تعالى: * (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) * وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه أحدها: أنه لا يفعل إيذاء اليتيم والمنع من الإطعام دليلا على النفاق فالصلاة لا مع الخضوع والخضوع أولى أن تدل على النفاق، لأن الإيذاء والمنع من النفع معاملة مع المخلوق، أما الصلاة فإنها خدمة للخالق، وثانيها: كأنه لما ذكر إيذاء اليتيم وتركه للحض كأن سائلا قال: أليس إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر؟ فقال له: الصلاة كيف تنهاه عن هذا الفعل المنكر وهي مصنوعة من عين الرياء
113

والسهو وثالثها: كأنه يقول: إقدامه على إيذاء اليتيم وتركه للحض، تقصير فيما يرجع إلى الشفقة على خلق الله، وسهوه في الصلاة تقصير فيما يرجع إلى التعظيم لأمر الله، فلما وقع التقصير في الأمرين فقد كملت شقاوته، فلهذا قال: * (فويل) * واعلم أن هذا اللفظ إنما يستعمل عند الجريمة الشديدة كقوله: * (ويل للمطففين، فويل لهم مما كتبت أيديهم، ويل لكل همزة لمزة) * ويروى أن كل أحد ينوح في النار بحسب جريمته، فقائل يقول: ويلي من حب الشرف، وآخر يقول: ويلي من الحمية الجاهلية، وآخر يقول: ويلي من صلاتي، فلهذا يستحب عند سماع مثل الآية، أن يقول: المرء ويلي إن لم يغفر لي.
المسألة الثانية: الآية دالة على حصول التهديد العظيم بفعل ثلاثة أمور أحدها: السهو عن الصلاة وثانيها: فعل المراءاة وثالثها: منع الماعون، وكل ذلك من باب الذنوب، ولا يصير المرء به منافقا فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على فاعل هذه الأفعال؟ ولأجل هذا الإشكال ذكر المفسرون فيه وجوها أحدها: أن قوله: * (فويل للمصلين) * أي فويل للمصلين من المنافقين الذين يأتون بهذه الأفعال، وعلى هذا التقدير تدل الآية على أن الكافر له مزبد عقوبة بسبب إقدامه على محظورات الشرع وتركه لواجبات الشرع، وهو يدل على صحة قول الشافعي: إن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع، وهذا الجواب هو المعتمد وثانيها: ما رواه عطاء عن ابن عباس أنه لو قال الله: في صلاتهم ساهون، لكان هذا الوعيد في المؤمنين لكنه قال: * (عن صلاتهم ساهون) * والساهي عن الصلاة هو الذي لا يتذكرها ويكون فارغا عنها، وهذا القول ضعيف لأن السهو عن الصلاة لا يجوز أن يكون مفسرا بترك الصلاة، لأنه تعالى أثبت لهم الصلاة بقوله: * (فويل للمصلين) * وأيضا فالسهو عن الصلاة بمعنى الترك لا يكون نفاقا ولا كفرا فيعود الإشكال، ويمكن أن يجاب عن الاعتراض الأول بأنه تعالى حكم عليهم بكونهم مضلين نظرا إلى الصورة وبأنهم نسوا الصلاة بالكلية نظرا إلى المعنى كما قال: * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا) * ويجاب عن الاعتراض الثاني بأن النسيان عن الصلاة هو أن يبقى ناسيا لذكر الله في جميع أجزاء الصلاة وهذا لا يصدر إلا عن المنافق الذي يعتقد أنه لا فائدة في الصلاة، أما المسلم الذي يعتقد فيها فائدة عينية يمتنع أن لا يتذكر أمر الدين والثواب والعقاب في شيء من أجزاء الصلاة، بل قد يحصل له السهو في الصلاة بمعنى أنه يصير ساهيا في بعض أجزاء الصلاة، فثبت أن السهو في الصلاة من أفعال المؤمن والسهو عن الصلاة من أفعال الكافر وثالثها: أن يكون معنى: * (ساهون) * أي لا يتعهدون أوقات صلواتهم ولا شرائطها، ومعناه أنه لا يبالي سواء صلى أو لم يصل، وهو قول سعد بن أبي وقاص ومسروق والحسن ومقاتل.
المسألة الثالثة: اختلفوا في سهو الرسول عليه الصلاة والسلام في صلاته، فقال كثير من العلماء: إنه عليه الصلاة والسلام ما سها، لكن الله تعالى أذن له في ذلك الفعل حتى يفعل ما يفعله
114

الساهي فيصير ذلك بيانا لذلك الشرع بالفعل والبيان بالفعل أقوى، ثم بتقدير وقوع السهو منه فالسهو على أقسام أحدها: سهو الرسول والصحابة وذلك منجبر تارة بسجود السهو وتارة بالسنن والنوافل والثاني: ما يكون في الصلاة من الغفلة وعدم استحضار المعارف والنيات والثالث: الترك لا إلى قضاء والإخراج عن الوقت، ومن ذلك صلاة المنافق وهي شر من ترك الصلاة لأنه يستهزئ بالدين بتلك الصلاة.
* (الذين هم يرآءون) *.
أما قوله تعالى: * (الذين هم يراءون) * فاعلم أن الفرق بين المنافق والمرائي؛ أن المنافق هو المظهر للإيمان المبطن للكفر، والمرائي المظهر ما ليس في قلبه من زيادة خشوع ليعتقد فيه من يراه أنه متدين، أو تقول: المنافق لا يصلي سرا والمرائي تكون صلاته عند الناس أحسن.
اعلم أنه يجب إظهار الفرائض من الصلاة والزكاة لأنها شعائر الإسلام وتاركها مستحق للعن فيجب نفي التهمة بالإظهار. إنما الإخفاء في النوافل إلا إذا أظهر النوافل ليقتدي به، وعن بعضهم أنه رأى في المسجد رجلا يسجد للشكر وأطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك! لكن مع هذا قالوا: لا يترك النوافل حياء ولا يأتي بها رياء، وقلما يتيسر اجتناب الرياء، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: " الرياء أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على المسح الأسود " فإن قيل: ما معنى المراءاة؟ قلنا هي مفاعلة من الإرادة لأن المرائي يرى الناس عمله، وهم يرونه الثناء عليه والإعجاب به.
واعلم أن قوله: * (عن صلاتهم ساهون) * يفيد أمرين: إخراجها عن الوقت، وكون الإنسان غافلا فيها، قوله: * (الذين هم يراءون) * يفيد المراءاة، فظهر أن الصلاة يجب أن تكون خالية عن هذه الأحوال الثلاثة.
* (ويمنعون الماعون) *.
ثم لما شرح أمر الصلاة أعقبه بذكر الصلاة فقال: * (ويمنعون الماعون) * وفيه أقوال: الأول: وهو قول أبي بكر وعلي وابن عباس وابن الحنفية وابن عمر والحسن وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والضحاك: هو الزكاة، وفي حديث أبي: " من قرأ سورة * (أرأيت) * غفر الله له إن كان للزكاة مؤديا " وذلك يوهم أن * (الماعون) * هو الزكاة، ولأن الله تعالى ذكره عقيب الصلاة، فالظاهر أن يكون ذلك هو الزكاة والقول الثاني: وهو قول أكثر المفسرين، أن * (الماعون) * اسم لما لا يمنع في العادة ويسأله الفقير والغني، ينسب مانعه إلى سوء الخلق ولؤم الطبيعة كالفأس والقدر والدلو والمقدحة والغربال والقدوم، ويدخل فيه الملح والماء والنار. فإنه روى: " ثلاثة لا يحل منعها، الماء والنار والملح " ومن ذلك أن يلتمس جارك أن يخبز في تنورك، أو يضع متاعه عندك يوما أو نصف يوم، وأصحاب هذا القول قالوا: الماعون فاعول من المعن. وهو الشيء
115

القليل ومنه ماله سعته ولا معنة أي كثير و (لا) قليل، وسميت الزكاة ماعونا، لأنه يؤخذ من المال ربع العشر، فهو قليل من كثير، ويسمى ما يستعار في العرف كالفأس والشفرة ماعونا، وعلى هذا التقدير يكون معنى الآية الزجر عن البخل بهذه الأشياء القليلة، فإن البخل بها يكون في نهاية الدناءة والركاكة، والمنافقون كانوا كذلك، لقوله تعالى: * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) * وقال: * (مناع للخير معتد أثيم) * قال العلماء: ومن الفضائل أن يستكثر الرجل في منزله مما يحتاج إليه الجيران، فيعيرهم ذلك ولا يقتصر على الواجب والقول الثالث: قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول: الماعون هو الماء وأنشدني فيه: يمج بعيره الماعون مجا
ولعله خصه بذلك لأن أعز مفقود وأرخص موجود، وأول شيء يسأله أهل النار الماء، كما قال: * (أن أفيضوا علينا من الماء) * وأول لذة يجدها أهل الجنة هو الماء، كما قال: * (وسقاهم ربهم) * القول الرابع: * (الماعون) * حسن الانقياد، يقال: رض بعيرك حتى يعطيك الماعون، أي حتى يعطيك الطاعة.
واعلم أن الأولى أن يحمل على كل طاعة يخف فعلها لأنه أكثر فائدة، ثم قال المحققون في الملاءمة: بين قوله: * (يراءون) * وبين قوله: * (ويمنعون الماعون) * كأنه تعالى يقول الصلاة لي والماعون للخلق، فما يجب جعله لي يعرضونه على الخلق وما هو حق الخلق يسترونه عنهم فكأنه لا يعامل الخلق والرب إلا على العكس * (فإن قيل) * لم لم يذكر الله اسم الكافر بعينه؟ فإن قلت للستر عليه، قلت لم لم يستر على آدم بل قال: * (وعصى آدم ربه) *؟ والجواب: أنه تعالى ذكر زلة آدم لكن بعد موته مقرونا بالتوبة ليكون لطفا لأولاده، أنه أخرج من الجنة بسبب الصغيرة فكيف يطمعون في الدخول مع الكبيرة، وأيضا فإن وصف تلك الزلة رفعة له فإنه رجل لم يصدر عنه إلا تلك الزلة الواحدة ثم تاب عنها مثل هذه التوبة.
ولنختم تفسير هذه السورة بالدعاء: إلهنا، هذه السورة في ذكر المنافقين والسورة التي بعدها في صفة محمد صلى الله عليه وسلم فنحن وإن لم نصل في الطاعة إلى محمد عليه الصلاة والسلام وإلى أصحابه، لم نصل في الأفعال القبيحة إلى هؤلاء المنافقين، فاعف عنا بفضلك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
116

سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنآ أعطيناك الكوثر) *.
* (إنا أعطيناك الكوثر) *.
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف: إحداها: أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف الله تعالى المنافق بأمور أربعة: أولها: البخل وهو المراد من قوله: * (يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين) * الثاني: ترك الصلاة وهو المراد من قوله: * (الذين هم عن صلاتهم ساهون) * والثالث: المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله: * (الذين هم يراءون) * والرابع: المنع من الزكاة وهو المراد من قوله: * (ويمنعون الماعون) * فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة: * (الذين هم عن صلاتهم ساهون) * قوله: * (فصل) * أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة: * (الذين هم يراءون) * قوله: * (لربك) * أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة: * (ويمنعون الماعون) * قوله: * (وانحر) * وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دنياه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
والوجه الثاني: في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى الله تعالى لهم ثلاث درجات: * (أعلاها) * أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال الله وثانيها: أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها: أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة، فقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * إشارة إلى المقام الأول
117

وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف. أما بالكم فلأنها أكثر مقدمات، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالا من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح، وأما قوله: * (فصل لربك) * فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله: * (وانحر) * إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال: * (إن شانئك هو الأبتر) * ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند ربك، وهي السعادات الروحانية والمعارف الربانية التي هي باقية أبدية. ولنشرع الآن في التفسير قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * اعلم أن فيه فوائد:
الفائدة الأولى: أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها من السور. أما أنها كالتتمة لما قبلها من السور، فلأن الله تعالى جعل سورة: * (والضحى) * في مدح محمد عليه الصلاة والسلام وتفصيل أحواله، فذكر في أول السورة ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته أولها: قوم: * (ما ودعك ربك وما قلى) *، وثانيها: قوله: * (وللآخرة خير لك من الأولى) * وثالثها: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * ثم ختم هذه السورة بذكر ثلاثة أحوال من أحواله عليه السلام فيما يتعلق بالدنيا وهي قوله: * (ألم يجدك يتيما فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى) *.
ثم ذكر في سورة: * (ألم نشرح) * أنه شرفه بثلاثة أشياء أولها: * (ألم نشرح لك صدرك) * وثانيها: * (ووضعنا عنك وزرك، الذي انقض ظهرك) *، وثالثها: * (ورفعنا لك ذكرك) *.
ثم إنه تعالى شرفه في سورة: * (التين) * بثلاثة أنواع من التشريف أولها: أنه أقسم ببلده وهو قوله: * (وهذا البلد الأمين) *، وثانيها: أنه أخبر عن خلاص أمته عن النار وهو قوله: * (إلا الذين آمنوا) *، وثالثها: وصولهم إلى الثواب وهو قوله: * (فلهم أجر غير ممنون) *.
ثم شرفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع من التشريفات أولها: * (اقرأ باسم ربك) * أي اقرأ القرآن على الحق مستعينا باسم ربك وثانيها: أنه قهر خصمه بقوله: * (فليدع ناديه سندع الزبانية) *، وثالثها: أنه خصه بالقربة التامة وهو: * (واسجد واقترب) *.
وشرفه في سورة القدر بليلة القدر التي لها ثلاثة أنواع من الفضيلة أولها: كونها: * (خيرا من ألف شهر) *، وثانيها: نزول: * (الملائكة والروح فيها) * وثالثها: كونها: * (سلاما حتى مطلع الفجر) *.
وشرفه في سورة: * (لم يكن) * بأن شرف أمته بثلاثة تشريفات أولها: أنهم: * (خير البرية) * وثانيها: * (أن جزاؤهم عند ربهم جنات) *، وثالثها: رضا الله عنهم.
وشرفه في سورة إذا زلزلت بثلاث تشريفات: أولها: قوله: * (يومئذ تحدث أخبارها) * وذلك يقتضي أن الأرض تشهد يوم القيامة لأمته بالطاعة والعبودية والثاني: قوله: * (يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم) * وذلك يدل على أنه تعرض عليهم طاعاتهم فيحصل لهم الفرح والسرور، وثالثها: قوله: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * ومعرفة الله لا شك أنها أعظم من كل عظيم فلا بد وأن يصلوا إلى ثوابها ثم شرفه في سورة العاديات بأن أقسم بخيل الغزاة من أمته فوصف
118

تلك الخيل بصفات ثلاث: * (والعاديات ضبحا، فالموريات قدحا، فالمغيرات صبحا) *.
ثم شرف أمته في سورة القارعة بأمور ثلاثة أولها: فمن ثقلت موازينه وثانيها: أنهم في عيشة راضية وثالثها: أنهم يرون أعداءهم في نار حامية.
في شرفه في سورة الهاكم بأن بين أن المعرضين عن دينه وشرعه يصيرون معذبين من ثلاثة أوجه أولها: أنهم يرون الجحيم وثانيها: أنهم يرونها عين اليقين وثالثها: أنهم يسألون عن النعيم.
ثم شرف أمته في سورة والعصر بأمور ثلاثة أولها: الإيمان: * (إلا الذين آمنوا) *، وثانيها: وعملوا الصالحات وثالثها: إرشاد الخلق إلى الأعمال الصالحة، وهو
التواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
ثم شرفه في سورة الهمزة بأن ذكر أن من همز ولمز، فله ثلاثة أنواع من العذاب أولها: أنه لا ينتفع بدنياه البتة، وهو قوله: * (يحسب أن ماله أخلده كلا) * وثانيها: أنه ينبذ في الحطمة، وثالثها: أنه يغلق عليه تلك الأبواب حتى لا يبقى له رجاء في الخروج، وهو قوله: * (إنها عليهم مؤصدة) *.
ثم شرف في سورة الفيل بأن رد كيد أعدائه في نحرهم من ثلاثة أوجه أولها: جعل كيدهم في تضليل وثانيها: أرسل عليهم طير أبابيل وثالثها: جعلهم كعصف مأكول.
ثم شرفه في سورة قريش بأنه راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه أولها: جعلهم مؤتلفين متوافقين لإيلاف قريش وثانيها: أطعمهم من جوع وثالثها: أنه آمنهم من خوف.
وشرفه في سورة الماعون، بأن وصف المكذبين بدينه بثلاثة أنواع من الصفات المذمومة أولها: الدناءة واللؤم، وهو قوله: * (يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين) * وثانيها: ترك تعظيم الخالق، وهو قوله: * (عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون) * وثالثها: ترك انتفاع الخلق، وهو قوله: * (ويمنعون الماعون) *.
ثم إنه سبحانه وتعالى لما شرفه في هذه السور من هذه الوجوه العظيمة، قال بعدها: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي إنا أعطيناك هذه المناقب المتكاثرة المذكورة في السورة المتقدمة التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة هذا الرب، وبإرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم، أما عبادة الرب فإما بالنفس، وهو قوله: * (فصل لربك) * وإما بالمال، وهو قوله: * (وانحر) * وأما إرشاد عباده إلى ما هو الأصلح لهم في دينهم ودنياهم، فهو قوله: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * فثبت أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها من السور، وأما أنها كالأصل لما بعدها، فهو أنه تعالى يأمره بعد هذه السورة بأن يكفر جميع أهل الدنيا بقوله: * (يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * ومعلوم أن عسف الناس على مذاهبهم وأديانهم أشد من عسفهم على أرواحهم وأموالهم، وذلك أنهم يبذلون أموالهم وأرواحهم في نصرة أديانهم، فلا جرم كان الطعن في مذاهب الناس يثير من العداوة والغضب مالا يثير سائر المطاعن، فلما أمره بأن يكفر جميع أهل الدنيا، ويبطل أديانهم لزم أن يصير جميع أهل الدنيا في غاية العداوة له، وذلك مما يحترف عنه كل أحد من الخلق فلا يكاد يقدم عليه، وانظر إلى موسى عليه السلام كيف
119

كان يخاف من فرعون وعسكره. وأما ههنا فإن محمدا عليه السلام لما كان مبعوثا إلى جميع أهل الدنيا، كان كل واحد من الخلق، كفرعون بالنسبة إليه، فدبر تعالى في إزالة هذا الخوف الشديد تدبيرا لطيفا، وهو أنه قدم على تلك السورة، هذه السورة فإن قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يزيل عنه ذلك الخوف من وجوه أحدها: أن قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي الخير الكثير في الدنيا والدين، فيكون ذلك وعدا من الله إياه بالنصرة والحفظ، وهو كقوله: * (يا أيها النبي حسبك الله وقوله: * (والله يعصمك من الناس) *) * وقوله: * (إلا ينصروه فقد نصره الله) * ومن كان الله تعالى ضامنا لحفظه، فإنه لا يخشى أحدا وثانيها: أنه تعالى لما قال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * وهذا اللفظ يتناول خيرات الدنيا وخيرات الآخرة، وأن خيرات الدنيا ما كانت واصلة إليه حين كان بمكة، والخلف في كلام الله تعالى محال، فوجب في حكمة الله تعالى إبقاؤه في دار الدنيا إلى حيث يصل إليه تلك الخيرات، فكان ذلك كالبشارة له والوعد بأنهم لا يقتلونه، ولا يقهرونه، ولا يصل إليه مكرهم بل يصير أمره كل يوم في الازدياد والقوة وثالثها: أنه عليه السلام لما كفروا وزيف أديانهم ودعاهم إلى الإيمان اجتمعوا عنده، وقالوا: إن كنت تفعل هذا طلبا للمال فنعطيك من المال ما تصير به أغنى الناس، وإن كان مطلوبك الزوجة نزوجك أكرم نسائنا، وإن كان مطلوبك الرياسة فنحن نجعلك رئيسا على أنفسنا، فقال الله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * أي لما أعطاك خالق السماوات والأرض خيرات الدنيا والآخرة، فلا تغتر لما لهم ومراعاتهم ورابعها: أن قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يفيد أن الله تعالى تكلم معه لا بواسطة، فهذا يقوم مقام قوله: * (وكلم الله موسى تكليما) * بل هذا أشرف لأن المولى إذا شافه عبده بالتزام التربية والإحسان كان ذلك أعلى مما إذا شافهه في غير هذا المعنى، بل يفيده قوة في القلب ويزيل الجبن عن النفس، فثبت أن مخاطبة الله إياه بقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * مما يزيل الخوف عن القلب والجبن عن النفس، فقدم هذه السورة على سورة: * (قل يا أيها الكافرون) * حتى يمكنه الاشتغال بذلك التكليف الشاق والإقدام على تكفير جميع العالم، وإظهار البراءة عن معبودهم فلما امتثلت أمري، فانظر كيف أنجزت لك الوعد، وأعطيتك كثرة الأتباع والأشياع، إن أهل الدنيا يدخلون في دين الله أفواجا، ثم إنه لما تم أمر الدعوة وإظهار الشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن، وذلك لأن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورا على الدنيا، أو يكون طالبا للآخرة، أما طالب الدنيا فليس له إلا الخسار والذل والهوان، ثم يكون مصيره إلى النار، وهو المراد من سورة تبت، وأما طالب الآخرة فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات، وقد ثبت في العلوم العقلية أن طريق الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من عرف الصانع، ثم توسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف الأعلى، ومنهم من عكس وهو طريق الجمهور.
ثم إنه سبحانه ختم كتابه الكريم بتلك الطريق التي هي أشرف الطريقين، فبدأ بذكر صفات
120

الله وشرح جلاله، وهو سورة: * (قل هو الله أحد) * ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في سورة: * (قل أعوذ برب الفلق) * ثم ختم بذكر مراتب النفس الإنسانية، وعند ذلك ختم الكتاب، وهذه الجملة إنما يتضح تفصيلها عند تفسير هذه السورة على التفصيل، فسبحان من أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة المودعة في كتابه الكريم.
الفائدة الثانية: في قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * هي أن كلمة: * (إنا) * تارة يراد بها الجمع وتارة يراد بها التعظيم.
أما الأول: فقد دل على أن الإله واحد، فلا يمكن حمله على الجمع، إلا إذا أريد أن هذه العطية مما سعى في تحصيلها الملائكة وجبريل وميكائيل والأنبياء المتقدمون، حين سأل إبراهيم إرسالك، فقال: * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم) * وقال موسى: رب اجعلني من أمة أحمد. وهو المراد من قوله: * (وما كنت بجانبي الغربي
إذ قضينا إلى موسى الأمر) * وبشر بك المسيح في قوله: * (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) *.
وأما الثاني: وهو أن يكون ذلك محمولا على التعظيم، ففيه تنبيه على عظمة العطية لأن الواهب هو جبار السماوات والأرض والموهوب منه، هو المشار إليه بكاف الخطاب في قوله تعالى: * (إنا أعطيناك) * والهبة هي الشيء المسمى بالكوثر، وهو ما يفيد المبالغة في الكثرة، ولما أشعر اللفظ بعظم الواهب والموهوب منه والموهوب، فيالها من نعمة ما أعظمها، وما أجلها، ويا له من تشريف ما أعلاه.
الفائدة الثالثة: أن الهدية وإن كانت قليلة لكنها بسبب كونها واصلة من المهدي العظيم تصير عظيمة، ولذلك فإن الملك العظيم إذا رمى تفاحة لبعض عبيده على سبيل الإكرام يعد ذلك إكراما عظيما، لا لأن لذة الهدية في نفسها، بل لأن صدورها من المهدي العظيم يوجب كونها عظيمة، فههنا الكوثر وإن كان في نفسه في غاية الكثرة، لكنه بسبب صدوره من ملك الخلائق يزداد عظمة وكمالا.
الفائدة الرابعة: أنه لما قال: * (أعطيناك) * قرن به قرينة دالة على أنه لا يسترجعها، وذلك لأن من مذهب أبي حنيفة أنه يجوز للأجنبي أن يسترجع موهوبه، فإن أخذ عوضا وإن قل لم يجز له ذلك الرجوع، لأن من وهب شيئا يساوي ألف دينار إنسانا، ثم طلب منه مشطا يساوي فلسا فأعطاه، سقط حق الرجوع فههنا لما قال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * طلب منه الصلاة والنحر وفائدته إسقاط حق الرجوع.
الفائدة الخامسة: أنه بنى الفعل على المبتدأ، وذلك يفيد التأكيد والدليل عليه أنك لما ذكرت الاسم المحدث عنه عرف العقل أنه يخبر عنه بأمر فيصبر مشتاقا إلى معرفة أنه بماذا يخبر عنه، فإذا ذكر ذلك الخبر قبله قبول العاشق لمعشوقه، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفى الشبهة
121

ومن ههنا تعرف الفخامة في قوله: * (فإنها لا تعمي الأبصار) * فإنه أكثر فخامة مما لو قال: فإن الأبصار لا تعمى، ومما يحقق قولنا قول الملك العظيم لمن يعده ويضمن له: أنا أعطيك، أنا أكفيك، أنا أقوم بأمرك. وذلك إذا كان الموعود به أمرا عظيما. فلما تقع المسامحة به فعظمه يورث الشك في الوفاء به، فإذا أسند إلى المتكفل العظيم، فحينئذ يزول ذلك الشك، وهذه الآية من هذا الباب لأن الكوثر شيء عظيم، قلما تقع المسامحة به. فلما قدم المبتدأ، وهو قوله: * (إنا) * صار ذلك الإسناد مزيلا لذلك الشك ودافعا لتلك الشبهة.
الفائدة السادسة: أنه تعالى صدر الجملة بحرف التأكيد الجاري محرى القسم، وكلام الصادق مصون عن الخلف، فكيف إذا بالغ في التأكيد.
الفائدة السابعة: قال: * (أعطيناك) * ولم يقل: سنعطيك لأن قوله: * (أعطيناك) * يدل على أن هذا الإعطاء كان حاصلا في الماضي، وهذا فيه أنواع من الفوائد إحداها: أن من كان في الزمان الماضي أبدا عزيزا مرعي الجانب مقضي الحاجة أشرف ممن سيصير كذلك، ولهذا قال عليه السلام: " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " وثانيها: أنها إشارة إلى أن حكم الله بالإسعاد والإشفاء والإغناء والإفقار، ليس أمرا يحدث الآن، بل كان حاصلا في الأزل وثالثها: كأنه يقول: إنا قد هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية! ورابعها: كأنه تعالى يقول: نحن ما اخترناك وما فضلناك، لأجل طاعتك، وإلا كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب، وهو إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: " قبل من قبل لا لعلة، ورد من رد لا لعلة ".
الفائدة الثامنة: قال: * (أعطيناك) * ولم يقل أعطينا الرسول أو النبي أو العالم أو المطيع، لأنه لو قال ذلك لأشعر أن تلك العطية وقعت معللة بذلك الوصف، فلما قال: * (أعطيناك) * علم أن تلك العطية غير معللة بعلة أصلا بل هي محض الاختيار والمشيئة، كما قال: * (نحن قسمنا، الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) *.
الفائدة التاسعة: قال أولا: * (إنا أعطيناك) * ثم قال ثانيا: * (فصل لربك وانحر) * وهذا يدل على أن إعطاؤه للتوفيق والإرشاد سابق على طاعاتنا، وكيف لا يكون كذلك وإعطاؤه إيانا صفته وطاعتنا له صفتنا، وصفة الخلق لا تكون مؤثرة في صفة الخالق إنما المؤثر هو صفة الخالق في صفة الخلق، ولهذا نقل عن الواسطي أنه قال: لا أعبد ربا يرضيه طاعتي ويسخطه معصيتي. ومعناه أن رضاه وسخطه قديمان وطاعتي ومعصيتي محدثتان والمحدث لا أثر له في قديم، بل رضاه عن العبد هو الذي حمله على طاعته فيما لا يزال، وكذا القول في السخط والمعصية.
الفائدة العاشرة: قال: * (أعطيناك الكوثر) * ولم يقل: آتيناك الكوثر، والسبب فيه أمران
122

الأول: أن الإيتاء يحتمل أن يكون واجبا وأن يكون تفضلا، وأما الإعطاء فإنه بالتفضل أشبه فقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يعني هذه الخيرات الكثيرة وهي الإسلام والقرآن والنبوة والذكر الجميل في الدنيا والآخرة، محض التفضل منا إليك وليس منه شيء على سبيل الاستحقاق والوجوب، وفيه بشارة من وجهين أحدهما: أن الكريم إذا شرع في التربية على سبيل التفضل، فالظاهر أنه لا يبطلها، بل كان كل يوم يزيد فيها الثاني: أن ما يكون سبب الاستحقاق، فإنه يتقدر بقدر الاستحقاق، وفعل العبد متناه، فيكون الاستحقاق الحاصل بسببه متناهيا، أما التفضل فإنه نتيجة كرم الله غير متناه، فيكون تفضله أيضا غير متناه، فلما دل قوله: * (أعطيناك) * على أنه تفضل لا استحقاق أشعر ذلك بالدوام والتزايد أبدا.
فإن قيل: أليس قال: * (آتيناك سبعا من المثاني) *؟ قلنا: الجواب من وجهين الأول: أن الإعطاء يوجب التمليك، والملك سبب الاختصاص، والدليل عليه أنه لما قال سليمان: * (هب لي ملكا) * فقال: * (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك) * ولهذا السبب من حمل الكوثر على الحوض قال: الأمة تكون أضيافا له، أما الإيتاء فإنه لا يفيد الملك، فلهذا قال في القرآن: * (آتيناك) * فإنه لا يجوز للنبي أن يكتم شيئا منه الثاني: أن الشركة في القرآن شركة في العلوم ولا عيب فيها، أما الشركة في
النهر، فهي شركة في الأعيان وهي عيب الوجه الثاني: في بيان أن الإعطاء أليق بهذا المقام من الإيتاء، هو أن الإعطاء يستعمل في القليل والكثير، قال الله تعالى: * (وأعطى قليلا وأكدى) * أما الإيتاء، فلا يستعمل إلا في الشيء العظيم، قال الله تعالى: * (وآتاه الله الملك ولقد آتينا داود منا فضلا) * والأتي السيل المنصب، إذا ثبت هذا فقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يفيد تعظيم حال محمد صلى الله عليه وسلم من وجوه أحدها: يعني هذا الحوض كالشئ القليل الحقير بالنسبة إلى ما هو مدخر لك من الدرجات العالية والمراتب الشريفة، فهو يتضمن البشارة بأشياء هي أعظم من هذا المذكور وثانيها: أن الكوثر إشارة إلى الماء، كأنه تعالى يقول: الماء في الدنيا دون الطعام، فإذا كان نعيم الماء كوثرا، فكيف سائر النعيم وثالثها: أن نعيم الماء إعطاء ونعيم الجنة إيتاء ورابعها: كأنه تعالى يقول: هذا الذي أعطيتك، وإن كان كوثرا لكنه في حقك إعطاء لا إيتاء لأنه دون حقك، وفي العادة أن المهدي إذا كان عظيما فالهدية وإن كانت عظيمة، إلا أنه يقال: إنها حقيرة أي هي حقيرة بالنسبة إلى عظمة المهدي له فكذا ههنا وخامسها: أن نقول: إنما قال فيما أعطاه من الكوثر أعطيناك لأنه دنيا، والقرآن إيتاء لأنه دين وسادسها: كأنه يقول: جميع ما نلت مني عطية وإن كانت كوثرا إلا أن الأعظم من ذلك الكوثر أن تبقى مظفرا وخصمك أبتر، فإنا أعطيناك بالتقدمة هذا الكوثر، أما الذكر الباقي والظفر على العدو فلا يحسن إعطاؤه إلا بعد التقدمة بطاعة تحصل منك: * (فصل لربك وانحر) * أي فاعبد لي وسل الظفر بعد العبادة فإني أوجبت على كرمي أن بعد كل فريضة دعوة مستجابة، كذا روى في الحديث المسند، فحينئذ أستجيب فيصير
123

خصمك أبتر وهو الإيتاء، فهذا ما يخطر بالبال في تفسير قوله تعالى: * (إنا أعطيناك) * أما الكوثر فهو في اللغة فوعل من الكثرة وهو المفرط في الكثرة، قيل: لأعرابية رجع ابنها من السفر، بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، أي بالعدد الكثير، ويقال للرجل الكثير العطاء: كوثر، قال الكميت:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب وكان أبوك ابن الفضائل كوثرا ويقال للغبار إذا سطع وكثر كوثر هذا معنى الكوثر في اللغة، واختلف المفسرون فيه على وجوه الأول: وهو المشهور والمستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة، روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " رأيت نهرا في الجنة حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فضربت بيدي إلى مجرى الماء فإذا أنا بمسك أذفر، فقلت: ما هذا؟ قيل: الكوثر الذي أعطاك الله " وفي رواية أنس: " أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، فيه طيور خضر لها أعناق كأعناق البخت من أكل من ذلك الطير وشرب من ذلك الماء فاز بالرضوان " ولعله إنما سمي ذلك النهر كوثرا إما إنه أكثر أنهار الجنة ماء وخيرا أو لأنه انفجر منه أنهار الجنة، كما روى أنه ما في الجنة بستان إلا وفيه من الكوثر نهر جار، أو لكثر الذين يشربون منها، أو لكثرة ما فيها من المنافع على ما قال عليه السلام: " إنه نهر وعدنيه ربي فيه خير كثير " القول الثاني: أنه حوض والأخبار فيه مشهورة ووجه التوفيق بين هذا القول، والقول الأول أن يقال: لعل النهر ينصب في الحوض أو لعل الأنهار إنما تسيل من ذلك الحوض فيكون ذلك الحوض كالمنبع والقول الثالث: الكوثر أولاده قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على من عابه عليه السلام بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحد يعبأ به، ثم أنظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم القول الرابع: الكوثر علماء أمته وهو لعمري الخير الكثير لأنهم كأنبياء بني إسرائيل، وهم يحبون ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وينشرون آثار دينه وأعلام شرعه، ووجه التشبيه أن الأنبياء كانوا متفقين على أصول معرفة الله مختلفين في الشريعة رحمة على الخلق ليصل كل أحد إلى ما هو صلاحه، كذا علماء أمته متفقون بأسرهم على أصول شرعه، لكنهم مختلفون في فروع الشريعة رحمة على الخلق، ثم الفضيلة من وجهين أحدهما: أنه يروى أنه يجاء يوم القيامة بكل نبي ويتبعه أمته فربما يجيء الرسول ومعه الرجل والرجلان، ويجاء بكل عالم من علماء أمته ومعه الألوف الكثيرة فيجتمعون عند الرسول فربما يزيد عدد متبعي بعض العلماء على عدد متبعي ألف من الأنبياء الوجه الثاني: أنهم كانوا مصيبين لأتباعهم النصوص المأخوذة من الوحي، وعلماء هذه الأمة يكونون مصيبين مع كد الاستنباط والاجتهاد، أو على قول البعض: إن كان بعضهم مخطئا لكن المخطئ يكون أيضا مأجورا القول الخامس: الكوثر هو النبوة، ولا شك أنها الخير الكثير لأنها المنزلة التي هي ثانية الربوبية
124

ولهذا قال: * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) * وهو شطر الإيمان بل هي كالغصن في معرفة الله تعالى، لأن معرفة النبوة لا بد وأن يتقدمها معرفة ذات الله وعلمه وقدرته وحكمته، ثم إذا حصلت معرفة النبوة فحينئذ يستفاد منها معرفة بقية الصفات كالسمع والبصر والصفات الخيرية والوجدانية على قول بعضهم، تم لرسولنا الحظ الأوفر من هذه المنقبة، لأنه الذكور قبل سائر الأنبياء والمبعوث بعدهم، ثم هو مبعوث إلى الثقلين، وهو الذي يحشر قبل كل الأنبياء، ولا يجوز ورود الشرع على نسخه وفضائله أكثر من أن تعد وتحصى.
ولنذكر ههنا قليلا منها، فنقول: إن كتاب آدم عليه السلام كان كلمات على ما قال تعالى: * (فتلقى آدم من ربه كلمات) * وكتاب إبراهيم أيضا كان كلمات على ما قال: * (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات) * وكتاب موسى كان صحفا، كما قال: * (صحف إبراهيم وموسى) * أما كتاب محمد عليه السلام، فإنه هو الكتاب المهيمن على الكل، قال: * (ومهيمنا عليه) * وأيضا فإن آدم عليه السلام إنما تحدى بالأسماء المنثورة فقال: * (أنبئوني بأسماء هؤلاء) * ومحمد عليه الصلاة والسلام إنما تحدى بالمنظوم: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن) * وأما نوح عليه السلام، فإن الله أكرمه بأن أمسك سفينته على الماء، وفعل في محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أعظم منه. روى أن النبي عليه الصلاة والسلام: " كان على شط ماء ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقال: لئن كنت صادقا فادع ذلك الحجر الذي هو في الجانب الآخر فليسبح ولا يغرق، فأشار الرسول إليه، فانقلع الحجر الذي أشار إليه من مكانه، وسبح حتى صار بين يدي الرسول عليه السلام وسلم عليه، وشهد له بالرسالة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يكفيك هذا؟ قال: حتى يرجع إلى مكانه، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام، فرجع إلى مكانه، وأكرم إبراهيم فجعل النار عليه بردا وسلاما، وفعل في حق محمد أعظم من ذلك.
عن محمد بن حاطب قال: " كنت طفلا فانصب القدر علي من النار، فاحترق جلدي كله فحملتني أمي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: هذا ابن حاطب احترق كما ترى فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم على جلدي ومسح بيده على المحترق منه، وقال: أذهب البأس، رب الناس، فصرت صحيحا لا بأس بي " وأكرم موسى ففلق له البحر في الأرض، وكرم محمدا ففلق له القمر في السماء، ثم أنظر إلى فرق ما بين السماء والأرض، وفجر له الماء من الحجر، وفجر لمحمد أصابعه عيونا، وأكرم موسى بأن ظلل عليه الغمام، وكذا أكرم محمدا بذلك فكان الغمام يظلله، وأكرم موسى باليد البيضاء، وأكرم محمدا بأعظم من ذلك وهو القرآن العظيم، الذي وصل نوره إلى الشرق والغرب، وقلب الله عصا موسى ثعبانا، ولما أراد أبو جهل أن يرميه بالحجر رأى على كتفيه ثعبانين، فانصرف مرعوبا، وسبحت الجبال مع داود وسبحت الأحجار في يده ويد أصحابه، وكان داود إذا مسك الحديد لان، وكان هو لما مسح الشاة الجرباء درت، وأكرم داود بالطير المحشورة ومحمدا بالبراق، وأكرم عيسى عليه السلام بإحياء الموتى، وأكرمه بجنس ذلك حين أضافه اليهود بالشاة المسمومة، فلما وضع اللقمة في فمه أخبرته، وأبرأ الأكمه والأبرص، روى
125

أن امرأة معاذ بن عفراء أتته وكانت برصاء، وشكت ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمسح عليها رسول الله بغصن فأذهب الله البرص، وحين سقطت حدقة الرجل يوم أحد فرفعها وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردها إلى مكانها، وكان عيسى يعرف ما يخفيه الناس في بيوتهم، والرسول عرف ما أخفاه عمه مع أم الفضل، فأخبره فأسلم العباس لذلك، وأما سليمان فإن الله تعالى رد له الشمس مرة، وفعل ذلك أيضا للرسول حين نام ورأسه في حجر علي فانتبه وقد غربت الشمس، فردها حتى صلى، وردها مرة أخرى لعلي فصلى العصر في وقته، وعلم سليمان منطق الطير، وفعل ذلك في حق محمد، روى أن طيرا فجع بولده فجعل يرفرف على رأسه ويكلمه فقال: أيكم فجع هذه بولدها؟ فقال رجل: أنا، فقال: أردد إليها ولدها! وكلام الذئب معه مشهور، وأكرم سليمان بمسيرة غدوة شهرا وأكرمه بالمسير إلى بيت المقدس في ساعة، وكان حماره يعفور يرسله إلى من يريد فيجئ به، وقد شكوا إليه من ناقة أنها أغيلت، وأنهم لا يقدرون عليها فذهب إليها، فلما رأته خضعت له، وأرسل معاذا إلى بعض النواحي، فلما وصل إلى المفازة، فإذا أسد جاثم فهاله ذلك ولم يستجر (ىء) أن يرجع، فتقدم وقال: إني رسول رسول الله فتبصبص، وكما انقاد الجن لسليمان، فكذلك انقادوا لمحمد عليه الصلاة والسلام، وحين جاء الأعرابي بالضب، وقال لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فتكلم الضب معترفا برسالته، وحين كفل الظبية حين أرسلها الأعرابي رجعت تعدو حتى أخرجته من الكفالة وحنت الحنانة لفراقه، وحين لسعت الحية عقب الصديق في الغار، قالت: كنت مشتاقة إليه منذ كذا سنين فلم حجبتني عنه! وأطعم الخلق الكثير، من الطعام القليل ومعجزاته أكثر من أن تحصى وتعد، فلهذا قدمه الله على الذين اصطفاهم، فقال: * (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * فلما كانت رسالته كذلك جاز أن يسميها الله تعالى كوثرا، فقال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * القول السادس: الكوثر هو القرآن، وفضائله لا تحصى، * (ولو أن ما في الأرض من شجرة أفلام) * * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * القول السابع: الكوثر الإسلام، وهو لعمري الخير الكثير، فإن به يحصل خير الدنيا والآخرة. وبفواته يفوت خير الدنيا وخير الآخرة، وكيف لا والإسلام عبارة عن المعرفة، أو مالا بد فيه من المعرفة، قال: * (ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * وإذا كان الإسلام خيرا كثيرا فهو الكوثر، فإن قيل: لم خصه بالإسلام، مع أن نعمه عمت الكل؟ قلنا: لأن الإسلام وصل منه إلى غيره، فكان عليه السلام كالأصل فيه القول الثامن: الكوثر كثرة الأتباع والأشياع، ولا شك أن له من الأتباع مالا يحصيهم إلا الله، وروى أنه عليه الصلاة والسلام، قال: " أنا دعوة خليل الله إبراهيم، وأنا بشرى عيسى، وأنا مقبول الشفاعة يوم القيامة، فبينا أكون مع الأنبياء، إذ تظهر لنا أمة من الناس فنبتدرهم بأبصارنا ما منا من نبي إلا وهو يرجو أن تكون أمته، فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء، فأقول: أمتي ورب الكعبة فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يظهر لنا مثلا ما ظهر أولا
126

فنبتدرهم بأبصارنا ما من نبي إلا ويرجو أن تكون أمته فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول: أمتي ورب الكعبة، فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يرفع لنا ثلاثة أمثال ما قد رفع فنبتدرهم، وذكر كما ذكر في المرة الأولى والثانية، ثم قال: * (ليدخلن) * ثلاث فرق من أمتي الجنة قبل أن يدخلها أحد من الناس " ولقد قال عليه الصلاة والسلام: " تناكحوا تناسلوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة، ولو بالسقط " فإذا كان يباهي بمن لم يبلغ حد التكليف، فكيف بمثل هذا الجم الغفير، فلا جرم حسن منه تعالى أن يذكره هذه النعمة الجسيمة فقال: * (إنا أعطيناك الكوثر) * القول التاسع: * (الكوثر) * الفضائل الكثيرة التي فيه، فإنه باتفاق الأمة أفضل من جميع الأنبياء، قال المفضل بن سلمة: يقال رجل كوثر إذا كان سخيا كثير الخير، وفي صحاح اللغة: * (الكوثر) * السيد الكثير الخير، فلما رزق الله تعالى أن يذكره تلك النعمة الجسيمة فيقول: * (إنا أعطيناك الكوثر) * القول العاشر: الكوثر رفعة الذكر، وقد مر تفسيره في قوله: * (ورفعنا لك ذكرك) * القول الحادي عشر: أنه العلم قالوا: وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه أحدها: أن العلم هو الخير الكثير قال: * (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * وأمره بطلب العلم، فقال: * (وقل رب زدني علما) * وسمي الحكمة خيرا كثيرا، فقال: * (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) * وثانيها: أنا إما أن نحمل الكوثر على نعم الآخرة، أو على نعم الدنيا، والأول غير جائز لأنه قال: أعطينا، ونعم الجنة سيعطيها لا أنه أعطاها، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة داخلة في العلم، فوجب حمل اللفظ على العلم وثالثها: أنه لما قال: * (أعطيناك الكوثر) * قال عقيبه: * (فصل لربك وانحر) * والشيء الذي يكون متقدما على العبادة هو المعرفة، ولذلك قال في سورة النحل: * (أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) * وقال في طه: * (إنني أنا الله لا إله إل أنا فاعبدني) * فقدم في السورتين المعرفة على العبادة، ولأن فاء الموجب للعبادة ليس إلا العلم، القول الثاني عشر: أن الكوثر هو الخلق الحسن، قالوا: الانتفاع بالخلق الحسن عام ينتفع به العالم والجاهل والبهيمة والعاقل، فأما الانتفاع بالعلم، فهو مختص بالعقلاء، فكان نفع الخلق الحسن أعم، فوجب حمل الكوثر عليه، ولقد كان عليه السلام كذلك كان للأجانب كالوالد يحل عقدهم ويكفي مهمهم، وبلغ حسن خلقه إلى أنهم لما كسروا سنه، قال: " اللهم اهد قومي فإنهم لا
يعلمون " القول الثالث عشر: الكوثر هو المقام المحمود الذي هو الشفاعة، فقال في الدنيا: * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * وقال في الآخرة: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " وعن أبي هريرة قال عليه السلام: " إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة " القول الرابع عشر: أن المراد من الكوثر هو هذه السورة، قال: وذلك لأنها مع
127

قصرها وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة، وذلك لأنها مشتملة على المعجز من وجوه أولها: أنا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع، أو على كثرة الأولاد، وعدم انقطاع النسل كان هذا إخبارا عن الغيب، وقد وقع مطابقا له، فكان معجزا وثانيها: أنه قال: * (فصل لربك وانحر) * وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر، وقد وقع فيكون هذا أيضا إخبارا عن الغيب وثالثها: قوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزا ورابعها: أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها، فثبت أن وجه الإعجاز في كمال القرآن، إنما تقرر بها لأنهم لما عجزوا عن معارضتها مع صغرها فبأن يعجزوا عن معارضة كل القرآن أولى، ولما ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع، وتقرر الدين والإسلام، وتقرر أن القرآن كلام الله وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى، ثم لها خاصية ليست لغيرها وهي أنها ثلاث آيات، وقد بينا أن كل واحدة منها معجز فهي بكل واحدة من آياتها معجز وبمجموعها معجز وهذه الخاصية لا توجد في سائر السور فيحتمل أن يكون المراد من الكوثر هو هذه السورة القول الخامس عشر: أن المراد من الكوثر جميع نعم الله على محمد عليه السلام، وهو المنقول عن ابن عباس لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي فوجب حملها على الكل، وروى أن سعيد بن جبير، لما روى هذا القول عن ابن عباس قال له بعضهم: إنا ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، وقال بعض العلماء ظاهر قوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك الكوثر فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى من النبوة والقرآن والذكر الحكيم والنصرة على الأعداء، وأما الحوض وسائر ما أعد له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال: إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع إلا أن الحقيقة ما قدمناه لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال: على الحقيقة إنه أعطاه في حال نزول هذه السورة بمكة، ويمكن أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بضيعة له يصح أن يقال: إنه أعطاه تلك الضيعة مع أن الصبي في تلك الحال لا يكون أهلا للتصرف والله أعلم.
* (فصل لربك وانحر) *.
قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * في الآية مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (فصل) * وجوه الأول: أن المراد هو الأمر بالصلاة، فإن قيل: اللائق عند النعمة الشكر، فلم قال: فصل ولم يقل: فاشكر؟ الجواب: من وجوه الأول:
128

أن الشكر عبارة عن التعظيم وله ثلاثة أركان أحدها: يتعلق بالقلب وهو أن يعلم أن تلك النعمة منه لا من غيره والثاني: باللسان وهو أن يمدحه والثالث: بالعمل وهو أن يخدمه ويتواضع له، والصلاة مشتملة على هذه المعاني، وعلى ما هو أزيد منها فالأمر بالصلاة أمر بالشكر وزيادة فكان الأمر بالصلاة أحسن وثانيها أنه لو قال فاشكر لكان ذلك يوهم أنه ما كان شاكرا لكنه كان من أول أمره عارفا بربه مطيعا له شاكرا لنعمه، أما الصلاة فإنه إنما عرفها بالوحي، قال: * (ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان) * الثالث: أنه في أول ما أمره بالصلاة.
قال محمد عليه الصلاة والسلام: كيف أصلي ولست على الوضوء، فقال الله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * ثم ضرب جبريل بجناحه على الأرض فنبع ماء الكوثر فتوضأ فقيل له عند ذلك: فصل، فأما إذا حملنا الكوثر على الرسالة، فكأنه قال: أعطيتك الرسالة لتأمر نفسك وسائر الخلق بالطاعات وأشرفها الصلاة فصل لربك القول الثاني: فصل لربك أي فاشكر لربك، وهو قول مجاهد وعكرمة، وعلى هذا القول ذكروا في فائدة الفاء في قوله فصل وجوها أحدها: التنبيه على أن شكر النعمة يجب على الفور لا على التراخي وثانيها: أن المراد من فاء التعقيب ههنا الإشارة، إلى ما قرره بقوله: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * ثم إنه خص محمدا صلى الله عليه وسلم في هذا الباب بمزيد مبالغة، وهو قوله: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) * ولأنه قال له: * (فإذا فرغت فانصب) * أي فعليك بأخرى عقيب الأولى فكيف بعد وصول نعمتي إليك، ألا يجب عليك أن تشرع في الشكر عقيب ذلك القول الثالث: فصل أي فادع الله لأن الصلاة هي الدعاء، وفائدة الفاء على هذا التقدير كأنه تعالى يقول: قبل سؤالك ودعائك ما بخلنا عليك: * (بالكوثر) * فكيف بعد سؤالك لكن: " سل تعطه واشفع تشفع " وذلك لأنه كان أبدا في هم أمته، واعلم أن القول الأول أولى لأنه أقرب إلى عرف الشرع.
المسألة الثانية: في قوله: * (وانحر) * قولان: الأول: وهو قول عامة المفسرين: أن المراد هو نحر البدن والقول الثاني: أن المراد بقوله: * (وانحر) * فعل يتعلق بالصلاة، إما قبلها أو فيها أو بعدها، ثم ذكروا فيه وجوها: أحدها: قال الفراء: معناها استقبل القبلة وثانيها: روى الأصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال: لما نزلت هذه السورة قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل: " ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال ليست بنحيرة ولكنه يأمرك إذا تحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع وإذا سجدت فإنه صلاتنا، وصلاة الملائكة الذين في السماوات السبع وإن لكل شيء زينة، وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة " وثالثها: روى عن علي بن أبي طالب أنه فسر هذا النحر بوضع اليدين على النحر في الصلاة، وقال: رفع اليدين قبل الصلاة عادة المستجير العائذ، ووضعها على النحر عادة الخاضع الخاشع ورابعها: قال عطاء: معناه اقعد بين السجدتين حتى يبدو نحرك وخامسها: روى عن الضحاك، وسليمان التيمي أنهما قالا:
* (انحر) *
129

معناه ارفع يديك عقيب الدعاء إلى نحرك، قال الواحدي: وأصل هذه الأقوال كلها من النحر الذي هو الصدر يقال لمذبح البعير النحر لأن منحره في صدره حيث يبدو الحلقوم من أعلى الصدر فمعنى النحر في هذا الموضع هو إصابة النحر كما يقال: رأسه وبطنه إذا أصاب ذلك منه.
وأما قول الفراء إنه عبارة عن استقبال القبلة فقال ابن الأعرابي: النحر انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب وهو أن ينصب نحره بإزاء القبلة، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، وقال الفراء: منازلهم تتناحر أن تتقابل وأنشد: أبا حكم هل أنت عم مجالد وسيد أهل الأبطح المتناحر والنكتة المعنوية فيه كأنه تعالى يقول الكعبة بيتي وهي قبلة صلاتك وقلبك وقبلة رحمتي ونظر عنايتي فلتكن القبلتان متناحرتين قال: الأكثرون حمله على نحر البدن أولى لوجوه أحدها: هو أن الله تعالى كلما ذكر الصلاة في كتابه ذكر الزكاة بعدها وثانيها: أن القوم كانوا يصلون وينحرون للأوثان فقيل له: فصل وانحر لربك وثالثها: أن هذه الأشياء آداب الصلاة وأبعاضها فكانت داخلة تحت قوله: * (فصل لربك) * فوجب أن يكون المراد من النحر غيرها لأنه يبعد أن يعطف بعض الشيء على جميعه ورابعها: أن قوله: * (فصل) * إشارة إلى التعظيم لأمر الله، وقوله: * (وانحر) * إشارة إلى الشفقة على خلق الله وجملة العبودية لا تخرج عن هذين الأصلين وخامسها: أن استعمال لفظة النحر على نحر البدن أشهر من استعماله في سائر الوجوه المذكورة، فيجب حمل كلام الله عليه، وإذا ثبت هذا فنقول استدلت الحنفية على وجوب الأضحية بأن الله تعالى أمره بالنحر، ولا بد وأن يكون قد فعله، لأن ترك الواجب عليه غير جائر، وإذا فعله النبي عليه الصلاة والسلام وجب علينا مثله لقوله: * (واتبعوه) * ولقوله: * (فاتبعوني يحببكم الله) * وأصحابنا قالوا: الأمر بالمتابعة مخصوص بقوله: " ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الضحى والأضحى والوتر ".
المسألة الثالثة: اختلف من فسر قوله: * (فصل) * بالصلاة على وجوه الأول: أنه أراد بالصلاة جنس الصلاة لأنهم كانوا يصلون لغير الله، وينحرون لغير الله فأمره أن لا يصلي ولا ينحر إلا لله تعالى، واحتج من جوز تأخير بيان المجمل بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أمر بالصلاة مع أنه ما بين كيفية هذه الصلاة أجاب أبو مسلم، وقال: أراد به الصلاة المفروضة أعني الخمس وإنما لم يذكر الكيفية، لأن الكيفية كانت معلومة من قبل القول الثاني: أراد صلاة العيد والأضحية لأنهم كانوا يقدمون الأضحية على الصلاة فنزلت هذه الآية، قال المحققون: هذا قول ضعيف لأن عطف الشيء على غيره بالواو لا يوجب الترتيب القول الثالث: عن سعيد بن جبير صل الفجر بالمزدلفة وانحر بمنى، والأقرب القول الأول لأنه لا يجب إذا قرن ذكر النحر بالصلاة أن تحمل الصلاة على ما بقع يوم النحر.
130

المسألة الرابعة: اللام في قوله: * (لربك) * فيها فوائد الفائدة الأولى: هذه اللام للصلاة كالروح للبدن، فكما أن البدن من الفرق إلى القدم، إنما يكون حسنا ممدوحا إذا كان فيه روح أما إذا كان ميتا فيكون مرميا، كذا الصلاة والركوع والسجود، وإن حسنت في الصورة وطالت، لو لم يكن فيها لام لربك كانت ميتة مرمية، والمراد من قوله تعالى لموسى: * (وأقم الصلاة لذكرى) * وقيل: إنه كانت صلاتهم ونحرهم للصنم فقيل له: لتكن صلاتك ونحرك لله.
الفائدة الثانية: كأنه تعالى يقول: ذكر في السورة المتقدمة أنهم كانوا يصلون للمراءاة فصل أنت لا للرياء لكن على سبيل الإخلاص.
المسألة الخامسة: الفاء في قوله: * (فصل) * تفيد سببية أمرين أحدهما: سببية العبادة كأنه قيل: تكثير الإنعام عليك يوجب عليك الاشتغال بالعبودية والثاني: سببية ترك المبالاة كأنهم لما قالوا له: إنك أبتر فقيل له: كما أنعمنا عليك بهذه النعم الكثيرة، فاشتغل أنت بطاعتك ولا تبال بقولهم وهذيانهم.
واعلم أنه لما كانت النعم الكثيرة محبوبة ولازم المحبوب محبوب، والفاء في قوله: * (فصل) * اقتضت كون الصلاة من لوازم تلك النعم، لا جرم صارت الصلاة أحب الأشياء للنبي عليه الصلاة والسلام فقال: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " ولقد صلى حتى تورمت قدماه، فقيل له: أوليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: " أفلا أكون عبدا شكورا " فقوله: " أفلا أكون عبدا شكورا " إشارة إلى أنه يجب على الاشتغال بالطاعة بمقتضى الفاء في قوله: * (فصل) *.
المسألة السادسة: كان الأليق في الظاهر أن يقول: إن أعطيناك الكوثر، فصل لنا وانحر. لكنه ترك ذلك إلى قوله: * (فصل لربك) * لفوائد إحداها: أن وروده على طريق الالتفات من أمهات أبواب الفصاحة وثانيها: أن صرف الكلام من المضمر إلى المظهر يوجب نوع عظمة ومهابة، ومنه قول الخلفاء لمن يخاطبونهم: يأمرك أمير المؤمنين، وينهاك أمير المؤمنين وثالثها: أن قوله: * (إنا أعطيناك) * ليس في صريح لفظه أن هذا القائل هو الله أو غيره، وأيضا كلمة إنا تحتمل الجمع كما تحتمل الواحد المعظم نفسه، فلو قال: صل لنا، لنفي ذلك الاحتمال وهو أنه ما كان يعرف أن هذه الصلاة لله وحده أم له ولغيره على سبيل التشريك، فلهذا ترك اللفظ، وقال: * (فصل لربك) * ليكون ذلك إزالة لذلك الاحتمال وتصريحا بالتوحيد في الطاعة والعمل لله تعالى.
المسألة السابعة: قوله: * (فصل لربك) * أبلغ من قوله: فصل لله لأن لفظ الرب يفيد التربية المتقدمة المشار إليها بقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * ويفيد الوعد الجميل في المستقبل أنه يربيه ولا يتركه.
المسألة الثامنة: في الآية سؤالان: أحدهما: أن المذكور عقب الصلاة هو الزكاة، فلم كان المذكور ههنا هو النحر؟ والثاني: لما لم يقل: ضحي حتى يشمل جميع أنواع
131

الضحايا؟ والجواب: عن الأول، أما على قول من قال: المراد من الصلاة صلاة العيد، فالأمر ظاهر فيه، وأما على قول من حمله على مطلق الصلاة، فلوجوه أحدها: أن المشركين كانت صلواتهم وقرابينهم للأوثان، فقيل له: اجعلهما لله وثانيها: أن من الناس من قال: إنه عليه السلام ما كان يدخل في ملكه شيء من الدنيا، بل كان يملك بقدر الحاجة، فلا جرم لم تجب الزكاة عليه، أما النحر فقد كان واجبا عليه لقوله: " ثلاث كتبت علي ولم تكتب على أمتي؛ الضحى والأضحى والوتر " وثالثها: أن أعز الأموال عند العرب، هو الإبل فأمره بنحرها وصرفها إلى طاعة الله تعالى تنبيها على قطع العلائق النفسانية عن لذات الدنيا وطيباتها، روى أنه عليه
السلام أهدى مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب فنحر هو عليه السلام حتى أعيا، ثم أمر عليا عليه السلام بذلك، وكانت النوق يزدحمن على رسول الله، فلما أخذ على السكين تباعدت منه والجواب عن الثاني: أن الصلاة أعظم العبادات البدنية فقرن بها أعظم أنواع الضحايا، وأيضا فيه إشارة إلى أنك بعد فقرك تصير بحيث تنحر المائة من الإبل.
المسألة التاسعة: دلت الآية على وجوب تقديم الصلاة على النحر، لا لأن الواو توجب الترتيب، بل لقوله عليه السلام: " ابدؤا بما بدأ الله به ".
المسألة العاشرة: السورة مكية في أصح الأقوال، وكان الأمر بالنحر جاريا مجرى البشارة بحصول الدولة، وزوال الفقر والخوف.
* (إن شانئك هو الابتر) *.
قوله تعالى: * (إن شانئك هو الأبتر) * وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في سبب النزول وجوها أحدها: أنه عليه السلام كان يخرج من المسجد، والعاص بن وائل السهمي يدخل فالتقيا فتحدثا، وصناديد قريش في المسجد، فلما دخل قالوا من الذي كنت تتحدث معه؟ فقال: ذلك الأبتر، وأقول: إن ذلك من إسرار بعضهم مع بعض، مع أن الله تعالى أظهره، فحينئذ يكون ذلك معجزا، وروى أيضا أن العاص بن واثل كان يقول: إن محمدا أبتر لا ابن له يقوم مقامه بعده، فإذا مات انقطع ذكره واسترحم منه، وكان قد مات ابنه عبد الله من خديجة، وهذا قول ابن عباس ومقاتل والكلبي وعامة أهل التفسير القول الثاني: روى ن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشراف مكة أتاه جمامة قريش فقالوا: نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيد أهل المدينة، فنحن خير أم هذا الأبتر من قومه، يزعم أنه خير منا؟ فقال: بل أنتم خير منه فنزل: * (إن شانئك هو الأبتر) * ونزل أيضا: * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) *، والقول الثالث: قال عكرمة وشهر بن حوشب: لما أوحى الله إلى رسوله ودعا قريشا إلى الإسلام، قالوا: بتر محمد أي خالفنا وانقطع
132

عنا، فأخبر تعالى أنهم هم المبتورون القول الرابع: نزلت في أبي جهل فإنه لما مات ابن رسول الله قال أبو جهل: إن أبغضه لأنه أبتر، وهذا منه حماقة حيث أبغضه بأمر لم يكن باختياره فإن موت الابن لم يكن مراده القول الخامس: نزلت في عمه أبي لهب فإنه لما شافهه بقوله: تبا لك كان يقول في غيبته: إنه أبتر والقول السادس: أنها نزلت في عقبة بن أبي معيط، وإنه هو الذي كان يقول ذلك، واعلم أنه لا يبعد في كل أولئك الكفرة أن يقولوا مثل ذلك فإنهم كانوا يقولون فيه ما هو أسوأ من ذلك، ولعل العاص بن وائل كان أكثرهم مواظبة على هذا القول فلذلك اشتهرت الروايات بأن الآية نزلت فيه.
المسألة الثانية: الشنآن هو البغض. والشانئ هو المبغض، وأما البتر فهو في اللغة استئصال القطع يقال: بترته أبتره بترا وبتر أي صار أبتر وهو مقطوع الذنب، ويقال: الذي لا عقب له أبتر، ومنه الحمار الأبتر الذي لا ذنب له، وكذلك لمن انقطع عنه الخير.
ثم إن الكفار لما وصفوه بذلك بين تعالى أن الموصوف بهذه الصفة هو ذلك البغض على سبيل الحضر فيه، فإنك إذا قلت: زيد هو العالم يفيد أنه لا عالم غيره، إذا عرفت هذا فقول الكفار فيه عليه الصلاة والسلام: إنه أبتر لا شك أنهم لعنهم الله أرادوا به أنه انقطع الخير عنه.
ثم ذلك إما أن يحمل على خير معين، أو على جميع الخيرات أما الأول: فيحتمل وجوها أحدها: قال السدي: كانت قريش يقولون لمن مات الذكور من أولاده بتر، فلما مات ابنه القاسم وعبد الله بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا: بتر فليس له من يقوم مقامه، ثم إنه تعالى بين أن عدوه هو الموصوف بهذه الصفة، فإنا نرى أن نسل أولئك الكفرة قد انقطع، ونسله عليه الصلاة والسلام كل يوم يزداد وينمو وهكذا يكون إلى قيام القيامة وثانيها: قال الحسن: عنوا بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله تعالى بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك، فإنهم صاروا مدبرين مغلوبين مقهورين، وصارت رايات الإسلام عالية، وأهل الشرق والغرب لها متواضعة وثالثها: زعموا أنه أبتر لأنه ليس له ناصر ومعين، وقد كذبوا لأن الله تعالى هو مولاه، وجبريل وصالح المؤمنين، وأما الكفرة فلم يبق لهم ناصر ولا حبيب ورابعها: الأبتر هو الحقير الذليل، روى أن أبا جهل اتخذ ضيافة لقوم، ثم إنه وصف رسول الله بهذا الوصف، ثم قال: قوموا حتى نذهب إلى محمد وأصارعه وأجعله ذليلا حقيرا، فلما وصلوا إلى دار خديجة وتوافقوا على ذلك أخرجت خديجة بساطا، فلما تصارعا جعل أبو جهل يجتهد في أن يصرعه، وبقي النبي عليه الصلاة والسلام واقفا كالجبل، ثم بعد ذلك رماه النبي صلى الله عليه وسلم على أقبح وجه، فلما رجع أخذه باليد اليسرى، لأن اليسرى للاستنجاء، فكان نجسا فصرعه على الأرض مرة أخرى ووضع قدمه على صدره، فذكر بعض القصاص أن المراد من قوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * هذه الواقعة وخامسها: أن الكفرة لما وصفوه بهذا الوصف، قيل: * (إن شانئك هو
133

الأبتر) * أي الذي قالوه فيك كلام فاسد يضمحل ويفنى، وأما المدح الذي ذكرناه فيك، فإنه باق على وجه الدهر وسادسها: أن رجلا قام إلى الحسن بن علي عليهما السلام، وقال: سودت وجوه المؤمنين بأن تركت الإمامة لمعاوية، فقال: لا تؤذيني يرحمك الله، فإن رسول الله رأى بني أمية في المنام يصعدون منبره رجلا فرجلا فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) * * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) * فكان ملك بني أمية كذلك، ثم انقطعوا وصاروا مبتورين.
المسألة الثالثة: الكفار لما شتموه، فهو تعالى أجاب عنه من غير واسطة، فقال: * (إن شانئك هو الأبتر) * وهكذا سنة الأحباب، فإن الحبيب إذا سمع من يشتم حبيبه تولى بنفسه جوابه، فههنا تولى الحق سبحانه جوابهم، وذكر مثل ذلك في مواضع حين قالوا: * (هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد، افترى على الله كذبا أم به جنة) * فقال سبحانه: * (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) * وحين قالوا: هو مجنون أقسم ثلاثا، ثم قال: * (ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * ولما قالوا: * (لست مرسلا) * أجاب فقال: * (يس، والقرآن الحكيم، إنك لمن المرسلين) * وحين قالوا: * (أئنا لتاركوا آلهتنا
لشاعر مجنون) * رد عليهم وقال: * (بل جاء بالحق وصدق المرسلين) * فصدقه، ثم ذكر وعيد خصمائه، وقال: * (إنكم لذائقوا العذاب الأليم) * وحين قال حاكيا: * (أم يقولون شاعر) * قال: * (وما علمناه الشعر) * ولما حكى عنهم قوله: * (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون) * سماهم كاذبين بقوله: * (فقد جاؤوا ظلما وزورا) * ولما قالوا: * (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) * أجابهم فقال: * (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) * فما أجل هذه الكرامة.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى لما بشره بالنعم العظيمة، وعلم تعالى أن النعمة لا تهنأ إلا إذا صار العدو مقهورا، لا جرم وعده بقهر العدو، فقال: * (إن شانئك هو الأبتر) * وفيه لطائف إحداها: كأنه تعالى يقول: لا أفعله لكي يرى بعض أسباب دولتك، وبعض أسباب محنة نفسه فيقتله الغيظ وثانيها: وصفه بكونه شانئا، كأنه تعالى يقول: هذا الذي يبغضك لا يقدر على شيء آخر سوى أنه يبغضك، والمبغض إذا عجز عن الإيذاء، فحينئذ يحترق قلبه غيظا وحسدا، فتصير تلك العداوة من أعظم أسباب حصول المحنة لذلك العدو وثالثها: أن هذا الترتيب يدل على أنه إنما صار أبتر، لأنه كان شانئا له ومبغضا، والأمر بالحقيقة كذلك، فإن من عادى محسودا فقد عادى الله تعالى، لا سيما من تكفل بإعلان شأنه وتعظيم مرتبته ورابعها: أن العدو وصف محمدا عليه الصلاة والسلام بالقلة والذلة، ونفسه بالكثرة والدولة، فقلب الله الأمر عليه، وقال العزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فالكثرة والكوثر لمحمد عليه السلام، والأبترية والدناءة والذلة للعدو، فحصل بين أول السورة وآخرها نوع من المطابقة لطيف.
المسألة الخامسة: اعلم أن من تأمل في مطالع هذه السورة ومقاطعها عرف أن الفوائد التي
134

ذكرناها بالنسبة إلى ما استأثر الله بعلمه من فوائد هذه السورة كالقطرة في البحر. روى عن مسيلمة أنه عارضها فقال: إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وجاهر، إن مبغضك رجل كافر، ولم يعرف المخذول أنه محروم عن المطلوب لوجوه أحدها: أن الألفاظ والترتيب مأخوذان من هذه السورة، وهذا لا يكون معارضة وثانيها: أنا ذكرنا أن هذه السورة كالتتمة لما قبلها، وكالأصل لما بعدها، فذكر هذه الكلمات وحدها يكون إهمالا لأكثر لطائف هذه السورة وثالثها: التفاوت العظيم الذي يقر به من له ذوق سليم بين قوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * وبين قوله: إن مبغضك رجل كافر، ومن لطائف هذه السورة أن كل أحد من الكفار وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بوصف آخر، فوصفه بأنه لا ولد له، وآخر بأنه لا معين له ولا ناصر له، وآخر بأنه لا يبقى منه ذكر، فالله سبحانه مدحه مدحا أدخل فيه كل الفضائل، وهو قوله: * (أنا أعطيناك الكوثر) * لأنه لما لم يقيد ذلك الكوثر بشيء دون شيء، لا جرم تناول جميع خيرات الدنيا والآخرة، ثم أمره حال حياته بمجموع الطاعات، لأن الطاعات إما أن تكون طاعة البدن أو طاعة القلب، أما طاعة البدن فأفضله شيئان، لأن طاعة البدن هي الصلاة، وطاعة المال هي الزكاة، وأما طاعة القلب فهو أن لا يأتي بشيء إلا لأجل الله، واللام في قوله: * (لربك) * يدل على هذه الحالة، ثم كأنه نبه على أن طاعة القلب لا تحصل إلا بعد حصول طاعة البدن، فقدم طاعة البدن في الذكر، وهو قوله: * (فصل) * وأخر اللام الدالة على طاعة القلب تنبيها على فساد مذهب أهل الإباحة في أن العبد قد يستغني بطاعة قلبه عن طاعة جوارحه، فهذه اللام تدل على بطلان مذهب الإباحة، وعلى أنه لا بد من الإخلاص، ثم نبه بلفظ الرب على علو حاله في المعاد، كأنه يقول: كنت ربيتك قبل وجودك، أفأترك تربيتك بعد مواظبتك على هذه الطاعات، ثم كما تكفل أولا بإفاضة النعم عليه تكفل في آخر السورة بالذب عنه وإبطال قول أعدائه، وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الأول بإفاضة النعم، والآخر بتكميل النعم في الدنيا والآخرة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
135

سورة الكافرون
ست آيات مكية
اعلم أن هذه السورة تسمى سورة المنابذة وسورة الإخلاص والمقشقشة، وروى أن من قرأها فكأنما قرأ ربع القرآن، والوجه فيه أن القرآن مشتمل على الأمر بالمأمورات والنهي عن المحرمات، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب فتكون ربعا للقرآن والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (قل يا أيها الكافرون) *.
* (قل يا أيها الكافرون) *.
اعلم أن قوله تعالى: * (قل) * فيه فوائد: أحدها: أنه عليه السلام كان مأمورا بالرفق واللين في جميع الأمور كما قال: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فبما رحمة من الله لنت لهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * ثم كان مأمورا بأن يدعو إلى الله بالوجه الأحسن: * (وجاد لهم بالتي هي أحسن) * ولما كان الأمر كذلك، ثم إنه خاطبهم بيا أيها الكافرون فكانوا يقولون: كيف يليق هذا التغليظ بذلك الرفق فأجاب بأني مأمور بهذا الكلام لا أني ذكرته من عند نفسي فكان المراد من قوله: قل تقرير هذا المعنى وثانيها: أنه لما قيل له: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * وهو كان يحب أقرباءه لقوله: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * فكانت القرابة ووحدة النسب كالمانع من إظهار الخشونة فأمر بالتصريح بتلك الخشونة والتغليظ فقيل له: * (قل) *، وثالثها: أنه لما قيل له: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * فأمر بتبليغ كل من أنزل عليه فلما قال الله تعالى له: * (قل يا أيها الكافرون) * نقل هو عليه السلام هذا الكلام بجملته كأنه قال: إنه تعالى أمرني بتبليغ كل ما أنزل علي والذي أنزل علي هو مجموع قوله: * (قل يا أيها الكافرون) *
فأنا أيضا أبلغه إلى الخلق هكذا ورابعها: أن الكفار كانوا مقرين بوجود الصانع، وأنه هو الذي خلقهم ورزقهم، على ما قال
136

تعالى: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * والعبد يتحمل من مولاه مالا يتحمله من غيره، فلو أنه عليه السلام قال ابتداء: * (يا أيها الكافرون) * لجوزوا أن يكون هذا كلام محمد، فلعلهم ما كانوا يتحملونه منه وكانوا يؤذونه. أما لما سمعوا قوله: * (قل) * علموا أنه ينقل هذا التغليظ عن خالق السماوات والأرض، فكانوا يتحملونه ولا يعظم تأذيهم به وخامسها: أن قوله: * (قل) * يوجب كونه رسولا من عند الله، فكلما قيل له: * (قل) * كان ذلك كالمنشور الجديد في ثبوت رسالته، وذلك يقتضي المبالغة في تعظيم الرسول، فإن الملك إذا فوض مملكته إلى بعض عبيده، فإذا كان يكتب له كل شهر وسنة منشورا جديدا دل ذلك على غاية اعتنائه بشأنه، وأنه على عزم أن يزيده كل يوم تعظيما وتشريفا وسادسها: أن الكفار لما قالوا: نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة، فكأنه عليه السلام قال: استأمرت إليه فبه. فقال: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * وسابعها: الكفار قالوا فيه: السوء، فهو تعالى زجرهم عن ذلك، وأجابهم وقال: * (إن شانئك هو الأبتر) * وكأنه تعالى قال: حين ذكروك بسوء، فأنا كنت المجيب بنفسي، فحين ذكروني بالسوء وأثبتوا لي الشركاء، فكن أنت المجيب: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تبعدون) * وثامنها: أنهم سموك أبتر، فإن شئت أن تستوفي منهم القصاص، فاذكرهم بوصف ذم بحيث تكون صادقا فيه: * (قل يا أيها الكافرون) * لكن الفرق أنهم عابوك بما ليس من فعلك وأنت تعيبهم بما هو فعلهم وتاسعها: أن بتقدير أن تقول: يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدونه، والكفار يقولون: هذا كلام ربك أم كلامك، فإن كان كلام ربك فربك يقول: أنا لا أعبد هذه الأصنام، ونحن لا نطلب هذه العبادة من ربك إنما نطلبها منك، وإن كان هذا كلامك فأنت قلت من عند نفسك إني لا أعبد هذه الأصنام، فلم قلت: إن ربك هو الذي أمرك بذلك، أما لما قال: قل، سقط هذا الاعتراض لأن قوله: * (قل) * يدل على أنه مأمور من عند الله تعالى بأن لا يعبدها ويتبرأ منها وعاشرها: أنه لو أنزل قوله: * (يا أيها الكافرون) * لكان يقرؤها عليهم لا محالة، لأنه لا يجوز أن يخون في الوحي إلا أنه لما قال: * (قل) * كان ذلك كالتأكيد في إيجاب تبليغ هذا الوحي إليهم، والتأكيد يدل على أن ذلك الأمر أمر عظيم. فبهذا الطريق تدل هذه الكلمة على أن الذي قالوه وطلبوه من الرسول أمر منكر في غاية القبح ونهاية الفحش الحادي عشر: كأنه تعالى يقول كانت التقية جائزة عند الخوف، أما الآن لما قوينا قلبك بقولنا: * (إنا أعطيناك الكوثر) * وبقولنا: * (إن شانئك هو الأبتر) * فلا تبال بهم ولا تلتفت إليهم و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * الثاني عشر: أن خطاب الله تعالى مع العبد من غير واسطة يوجب التعظيم ألا ترى أنه تعالى ذكر من أقسام إهانة الكفار، إنه تعالى لا يكلمهم، فلو قال: * (يا أيها الكافرون) * لكان ذلك من حيث أنه خطاب مشافهة يوجب التعظيم، ومن حيث أنه وصف لهم بالكفر يوجب الإيذاء فينجبر الإيذاء بالإكرام، أما لما قال: * (قل يا أيها الكافرون) * فحينئذ يرجع تشريف
137

المخاطبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وترجع الإهانة الحاصلة لهم بسبب وصفهم بالكفر إلى الكفار، فيحصل فيه تعظيم الأولياء، وإهانة الأعداء، وذلك هو النهاية في الحسن الثالث عشر: أن محمدا عليه السلام كان منهم، وكان في غاية الشفقة عليهم والرأفة بهم، وكانوا يعلمون منه أنه شديد الاحتراز عن الكذب، والأب الذي يكون في غاية الشفقة بولده، ويكون في نهاية الصدق والبعد عن الكذب ثم إنه يصف ولده بعيب عظيم فالولد إن كان عاقلا يعلم أنه ما وصفه بذلك مع غاية شفقته عليه إلا لصدقه في ذلك ولأنه بلغ مبلغا لا يقدر على إخفائه، فقال تعالى: * (قل) * يا محمد لهم: * (أيها الكافرون) * ليعلموا أنك لما وصفتهم بذلك مع غاية شفقتك عليهم وغاية احترازك عن الكذب فهو موصوفون بهذه الصفة القبيحة، فربما يصير ذلك داعيا لهم إلى البراءة من هذه الصفة والاحتراز عنها الرابع عشر: أن الإيذاء والايحاش من ذوي القربى أشد وأصعب من الغير فأنت من قبيلتهم، ونشأت فيما بين أظهرهم فقل لهم: * (يا أيها الكافرون) * فلعله يصعب ذلك الكلام عليهم، فيصير ذلك داعيا لهم إلى البحث والنظر والبراءة عن الكفر الخامس عشر: كأنه تعالى يقول: ألسنا بينا في سورة: * (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) * وفي سورة الكوثر: * (إنا أعطيناك الكوثر) * وأتيت بالإيمان والأعمال الصالحات، بمقتضى قولنا: * (فصل لربك وانحر) * بقي عليك التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وذلك هو أن تمنعهم بلسانك وبرهانك عن عبادة غير الله، فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * السادس عشر: كأنه تعالى يقول: يا محمد أنسيت أنني لما أخرت الوحي عليك مدة قليلة، قال الكافرون: إنه ودعه ربه وقلاه، فشق عليك ذلك غاية المشقة، حتى أنزلت عليك السورة، وأقسمت بالضحى: * (والليل إذا سجى) * أنه: * (ودعك ربك وما قلى) * فلما لم تستجز أن أتركك شهرا ولم يطب قلبك حتى ناديت في العالم بأنه: * (ما ودعك ربك وما قلى) * أفتستجيز أن تتركني شهرا وتشتغل بعبادة آلهتهم فلما ناديت بنفي تلك التهمة، فناد أنت أيضا في العالم بنفي هذه التهمة و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تبعدون) *، السابع عشر: لما سألوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة، فهو عليه السلام سكت ولم يقل شيئا، لا لأنه جوز في قلبه أن يكون الذي قالوه حقا، فإنه كان قاطعا بفساد ما قالوه لكنه عليه السلام، توقف في أنه بماذا يجيبهم؟ أبأن يقيم الدلائل العقلية على امتناع ذلك أو بأن يزجرهم بالسيف أو بأن ينزل الله عليهم عذابا، فاغتنم الكفار ذلك السكوت وقالوا: إن محمدا مال إلى ديننا، فكأنه تعالى قال: يا محمد إن توقفك عن الجواب في نفس الأمر حق ولكنه أوهم باطلا، فتدارك إزالة ذلك الباطل، وصرح بما هو الحق و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * الثامن عشر: أنه عليه السلام لما قال له ربه ليلة المعراج: أثن علي استولى عليه هيبة الحضرة الإلهية فقال: لا أحصي ثناء عليك، فوقع ذلك السكوت منه في غاية الحسن فكأنه
138

قيل له: إن سكت عن الثناء رعاية لهيبة الحضرة فأطلق لسانك في مذمة الأعداء و: * (قل يا أيها الكافرون) * حتى يكون سكوتك الله وكلامك الله، وفيه تقرير آخر وهو أن هيبة الحضرة سلبت عنك قدرة القول فقل: ههنا حتى إن هيبة قولك تسلب قدرة القول عن هؤلاء الكفار التاسع عشر: لو قال له: لا تعبد ما يعبدون لم يلزم منه أن يقول بلسانه: * (لا أعبد ما تعبدون) * أما لما أمره بأن يقول بلسانه: * (لا أعبد ما تعبدون) * يلزمه أن لا يعبد ما يعبدون إذ لو فعل ذلك لصار كلامه كذبا،
فثبت أنه لما قال له قل: * (لا أعبد ما تعبدون) * فلزمه أن يكون منكرا لذلك بقلبه ولسانه وجوارحه. ولو قال له: لا تعبد ما يعبدون لزمه تركه، أما لا يلزمه إظهار إنكاره باللسان، ومن المعلوم أن غاية الإنكار إنما تحصل إذا تركه في نفسه وأنكره بلسانه فقوله له: * (قل) * يقتضي المبالغة في الإنكار، فلهذا قال: * (قل.. لا أعبد ما تعبدون) *، العشرون: ذكر التوحيد ونفي الأنداد جنة للعارفين ونار للمشركين فاجعل لفظك جنة للموحدين ونارا للمشركين و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الحادي والعشرون: أن الكفار لما قالوا نعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة سكت محمد فقال: إن شافهتهم بالرد تأذوا، وحصلت النفرة عن الإسلام في قلوبهم، فكأنه تعالى قال له: يا محمد لم سكت عن الرد، أما الطمع فيما يعدونك من قبول دينك، فلا حاجة بك في هذا المعنى إليهم: * (فإنا أعطيناك الكوثر) * وأما الخوف منهم فقد أزلنا عنك، الخوف بقولنا: * (إنا شانئك هو الأبتر) * فلا تلتفت إليهم، ولا تبال بكلامهم، * (وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثاني والعشرون: أنسيت يا محمد أني قدمت حقك على حق نفسي، فقلت: * (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين) * فقدمت أهل الكتاب في الكفر على المشركين لأن طعن المشركين في، فقدمت حقك على حق نفسي وقدمت أهل الكتاب في الذم على المشركين، وأنت أيضا هكذا كنت تفعل فإنهم لما كسروا سنك قلت: " اللهم أهد قومي " ولما شغلوك يوم الخندق عن الصلاة قلت: " اللهم املأ بطونهم نارا " فههنا أيضا قدم حقي على حق نفسك وسواء كنت خائفا منهم، أو لست خائفا منهم فأظهر إنكار قولهم: * (وقل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثالث والعشرون: كأنه تعالى يقول: قصة امرأة زيد واقعة حقيرة بالنسبة إلى هذه الواقعة، ثم إنني هناك ما رضيت منك أن تضمر في قلبك شيئا ولا تظهره بلسانك، بل قلت لك على سبيل العتاب: * (وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) * فإذا كنت لم أرض منك في تلك الواقعة الحقيرة إلا بالإظهار، وترك المبالاة بأقوال الناس فكيف أرضى منك في هذه المسألة، وهي أعظم المسائل خطرا بالسكوت، قل بصريح لسانك: * (يا أيها الكافرون لا أعبد تعبدون) * الرابع والعشرون: يا محمد ألست قلت لك: * (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا) * ثم إني مع هذه القدرة راعيت جانبك وطيبت قلبك وناديت في العالمين بأني لا أجعل الرسالة مشتركة بينه وبين غيره، بل الرسالة له لا لغيره حيث قلت: * (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) *
139

فأنت مع علمك بأنه يستحيل عقلا أن يشاركني غيري في المعبودية أولى أن تنادي في العالمين بنفي هذه الشركة. فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الخامس والعشرون: كأنه تعالى يقول: القوم جاؤوك وأطمعوك في متابعتهم لك ومتابعتك لدينهم فسكت عن الإنكار والرد، ألست أنا جعلت البيعة معك بيعة معي حيث قلت: * (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) * وجعلت متابعتك متابعة لي حيث قلت: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * ثم إني ناديت في العالمين وقلت: * (إن الله بريء عن المشركين ورسوله) * فصرح أنت أيضا بذلك، و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *، السادس والعشرون: كأنه تعالى يقول: ألست أرأف بك من الولد بولده، ثم العرى والجوع مع الوالد أحسن من الشبع مع الأجانب، كيف والجوع لهم لأن أصنامهم جائعة عن الحياة عارية عن الصفات وهم جائعون عن العلم عارون عن التقوى، فقد جربتني، ألم أجدك يتيما وضالا وعائلا، ألم نشرح لك صدرك، ألم أعطك بالصديق خزينة وبالفاروق هيبة وبعثمان معونة، وبعلي علما، ألم أكف أصحاب الفيل حين حاولوا تخريب بلدتك، ألم أكف أسلافك رحلة الشتاء والصيف، ألم أعطك الكوثر، ألم أضمن أن خصمك أبتر، ألم يقل جدك في هذه الأصنام بعد تخريبها: * (لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * فصرح بالبراءة عنها و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * السابع والعشرون: كأنه تعالى يقول: يا محمد ألست قد أنزلت عليك: * (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) * ثم إن واحدا لو نسبك إلى والدين لغضبت ولأظهرت الإنكار ولبالغت فيه، حتى قلن: " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " فإذا لم تسكت عند التشريك في الولادة، فكيف سكت عند التشريك في العبادة! بل أظهر الإنكار، وبالغ في التصريح به، و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) *، الثامن والعشرون: كأنه تعالى يقول يا محمد ألست قد أنزلت عليك: * (أفمن يخلق كمن لا يحلق أفلا تذكرون) * فحكمت بأن من سوى بين الإله الخالق وبين الوثن الجماد في المعبودية لا يكون عاقلا بل يكون مجنونا، ثم إني أقسمت وقلت: * (ن والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون) * والكفار يقولون: إنك مجنون، فصرح برد مقالتهم فإنها تفيد براءتي عن عيب الشرك، وبراءتك عن عيب الجنون و: * (قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) *، التاسع والعشرون: أن هؤلاء الكفار سموا الأوثان آلهة، والمشاركة في الاسم لا توجب المشاركة في المعنى، ألا ترى أن الرجل والمرأة يشتركان في الإنسانية حقيقة، ثم القيمية كلها حظ الزوج لأنه أعلم وأقدر، ثم من كان أعلم وأقدر كان له كل الحق في القيمية، فمن لا قدرة له ولا علم البتة كيف يكون له حق في القيومية، بل ههنا شيء آخر: وهو أن امرأة لو ادعاها رجلان فاصطلحا عليها لا يجوز، ولو أقام كل واحد منها بينة على أنها زوجته لم يقض لواحد منهما، والجارية بين اثنين لا تحل لواحد منهما، فإذا لم يحز حصول زوجة لزوجين، ولا أمة بين موليين في حل الوطء
140

فكيف يعقل عابد واحد بين معبودين! بل من جوز أن يصطلح الزوجان على أن تحل الزوجة لأحدهما شهرا، ثم الثاني شهرا آخر كان كافرا، فمن جوز الصلح بين الإله والصنم ألا يكون كافرا فكأنه تعالى يقول لرسوله: إن هذه المقالة في غاية القبح فصرح بالإنكار وقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثلاثون: كأنه تعالى يقول أنسيت أني لما خيرت نساءك حين أنزلت عليك: * (قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) * إلى قوله: * (أجرا عظيما) * ثم خشيت من عائشة أن تختار الدنيا، فقلت لها: لا تقولي شيئا حتى تستأمري أبويك، فقالت: أفي هذا استأمر أبوي بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة! فناقصة العقل ما توقفت فيما يخالف رضاي أتتوقف فيما يخالف رضاي وأمري مع أني جبار السماوات والأرض: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الحادي والثلاثون: كأنه تعالى يقول: يا محمد ألست أنت الذي قلت: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم، وحتى أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه: لا تخاف السلطان قال: ولم؟ قال: لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين، وإما أن يعتقدوا أن السلطان متدين، لأنه يخالطه العالم الزاهد، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله، وكلاهما خطأ، فإذا ثبت أنه
يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك، لا سيما وقد سبق أن الشيطان ألقى فيما بين قراءتك: تلك الغرانيق العلي منها الشفاعة ترتجي، فأزل عن نفسك هذه التهمة و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثاني والثلاثون: الحقوق في الشاهد نوعان حق من أنت تحت يده، وهو مولاك، وحق من هو تحت يدك وهو الولد، ثم أجمعنا على أن خدمة المولى مقدمة على تربية الولد، فإذا كان حق المولى المجازي مقدما، فبأن يكون حق المولى الحقيقي مقدما كان أولى، ثم روى أن عليا عليه السلام استأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في التزوج بابنة أبي جهل فضجر وقال: لا آذن لا آذن لا آذن أن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ويسرني ما يسرها والله لا يجمع بين بنت عدو الله، وبنت حبيب الله، فكأنه تعالى يقول: صرحت هناك بالرد وكررته على سبيل المبالغة رعاية لحق الولد، فههنا أولى أن تصرح بالرد، وتكرره رعاية لحق المولى فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * ولا أجمع في القلب بين طاعة الحبيب وطاعة العدو الثالث والثلاثون: يا محمد ألست قلت لعمر: رأيت قصرا في الجنة، فقلت: لمن؟ فقيل: لفتى من قريش، فقلت: من هو، فقالوا: عمر فخشيت غيرتك فلم أدخلها حتى قال عمر: أو أغار عليك يا رسول الله، فكأنه تعالى قال: خشيت غيرة عمر فما دخلت قصره أفما تخشى غيرتي في أن تدخل قلبك طاعة غيري، ثم هناك أظهرت الامتناع فههنا أيضا أظهر الامتناع و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *، الرابع والثلاثون: أترى أن نعمتي عليك دون نعمة الوالدة، ألم أربك؟ ألم أخلقك؟ ألم أرزقك؟ ألم أعطك الحياة والقدرة والعقل والهداية والتوفيق؟ ثم حين كنت طفلا عديم العقل وعرفت تربية الأم فلو أخذتك امرأة أجمل وأحسن وأكرم من أمك لأظهرت النفرة ولبكيت
141

ولو أعطتك الثدي لسددت فمك تقول لا أريد غير الأم لأنها أول المنعم علي، فههنا أولى أن تظهر النفرة فنقول: لا أعبد سوى ربي لأنه أول منعم علي فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الخامس والثلاثون: نعمة الإطعام دون نعمة العقل والنبوة، ثم قد عرفت أن الشاة والكلب لا ينسيان نعمة الإطعام ولا يميلان إلى غير من أطعمهما فكيف يليق بالعاقل أن ينسى نعمة الإيجاد والإحسان فكيف في حق أفضل الخلق: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * السادس والثلاثون: مذهب الشافعي أنه يثبت حق الفرقة بواسطة الإعسار بالنفقة فإذا لم تجد من الأنصار تربية حصلت لك حق الفرقة لو كنت متصلا بها، * (لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) * فبتقدير أن كنت متصلا بها، كان يجب أن تنفصل عنها وتتركها، فكيف وما كنت متصلا بها أيليق بك أن تقرب الاتصال بها * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * السابع والثلاثون: هؤلاء الكفار لفرط حماقتهم ظنوا أن الكثرة في الإلهية كالكثرة في المال يزيد به الغني وليس الأمر كذلك بل هو كالكثرة في العيال تزيد به الحاجة فقل: يا محمد لي إله واحد أقوم له في الليل وأصوم له في النهار، ثم بعد لم أتفرغ من قضاء حق ذرة من ذرات نعمه، فكيف ألتزم عبادة آلهة كثيرة: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثامن والثلاثون: أن مريم عليها السلام لما تمثل لها جبريل عليه السلام: * (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) * فاستعاذت أن تميل إلى جبريل دون الله أفتستجيز مع كمال رجوليتك أن تميل إلى الأصنام: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * التاسع والثلاثون: مذهب أبي حنيفة أنه لا يثبت حق الفرقة بالعجز عن النفقة ولا بالعنة الطارئة يقول: لأنه كان قيما فلا يحسن الإعراض عنه مع أنه تعيب فالحق سبحانه يقول: كنت قيما ولم أتعيب، فكيف يجوز الإعراض عني: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الأربعون: هؤلاء الكفار كانوا معترفين بأن الله خالقهم: * (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) * وقال في موضع آخر: * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * فكأنه تعالى يقول: هذه الشركة إما أن تكون مزارعة وذلك باطل، لأن البذر مني والتربية والسقي مني، والحفظ مني، فأي شيء للصنم، أو شركة الوجوه وذلك أيضا باطل أترى أن الصنم أكثر شهرة وظهورا مني، أو شركة الأبدان وذلك أيضا باطل، ون ذلك يستدعي الجنسية، أو شركة العنان، وذلك أيضا باطل، لأنه لا بد فيه من نصاب فما نصاب الأصنام، أو يقول ليس هذه من باب الشركة لكن الصنم يأخذ بالتغلب نصيبا من الملك، فكأن الرب يقول: ما أشد جهلكم إن هذا الصنم أكثر عجزا من الذبابة: * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا) * فأنا أخلق البذر ثم ألقيه في الأرض، فالتربية والسقي والحفظ مني. ثم إن من هو أعجز من الذبابة يأخذ بالقهر والتغلب نصيبا مني، ما هذا بقول يليق بالعقلاء: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الحادي والأربعون: أنه لا ذرة في عالم المحدثات إلا وهي تدعو العقول إلى معرفة الذات والصفات
142

وأما الدعاة إلى معرفة أحكام الله فهم الأنبياء عليهم السلام، ولما كان كل بق وبعوضة داعيا إلى معرفة الذاتي والصفات قال: * (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها) *، ذلك لأن هذه البعوضة بحسب حدوث ذاتها وصفاتها تدعو إلى قدرة الله بحسب تركيبها العجيب تدعوا إلى علم الله وبحسب تخصيص ذاتها وصفاتها بقدر معين تدعو إلى إرادة الله، فكأنه تعالى يقول: مثل هذا الشيء كيف يستحيا منه، روى أن عمر رضي الله عنه كان في أيام خلافته دخل السوق فاشترى كرشا وحمله بنفسه فرآه على من بعيد فتنكب على عن الطريق فاستقبله عمر وقال له: لم تنكبت عن الطريق؟ فقال علي: حتى لا تستحي، فقال: وكيف أستحي من حمل ما هو غذائي! فكأنه تعالى يقول: إذا كان عمر لا يستحي من الكرش الذي هو غذاؤه في الدنيا فكيف أستحي عن ذكر البعوض الذي يعطيك غذاء دينك، ثم كأنه تعالى يقول: يا محمد إن نمروذ لما ادعى الربوبية صاح عليه البعوض بالإنكار، فهؤلاء الكفار لما دعوك إلى الشرك أفلا تصيح عليهم أفلا تصرح بالرد عليهم: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * وإن فرعون لما ادعى الإلهية فجبريل ملأ فاه من الطين فإن كنت ضعيفا فلست أضعف من بعوضة نمروذ، وإن كنت قويا فلست أقوى من جبريل، فأظهر الإنكار عليهم و: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثاني والأربعون: كأنه تعالى يقول يا محمد: * (قل) * بلسانك: * (لا أعبد ما تعبدون) * واتركه قرضا علي فإني أقضيك هذا القرض على أحسن الوجوه، ألا ترى أن النصراني إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله فأقول أنا لا أكتفي بهذا ما لم تصرح بالبراءة عن النصرانية، فلما أوجبت على كل مكلف أن يتبرأ بصريح لسانه عن كل دين يخالف دينك فأنت أيضا أوجب على نفسك أن تصرح برد كل معبود غيري فقل: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * الثالث والأربعون: أن موسى عليه السلام كان في طبعه الخشونة فلما أرسل إلى فرعون قيل له: * (فقولا له
قولا لينا) * وأما محمد عليه السلام فلما أرسل إلى الخلق أمر بإظهار الخشونة تنبيها على أنه في غاية الرحمة، فقيل له: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) *.
أما قوله تعالى: * (قل يا أيها الكافرون) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: * (يا أيها) *، قد تقدم القول فيها في مواضع، والذي نزيده ههنا، أنه روى عن علي عليه السلام أنه قال: يا نداء النفس وأي نداي القلب، وها نداء الروح، وقيل: يا نداء الغائب وأي للحاضر، وها للتنبيه، كأنه يقول: أدعوك ثلاثا ولا تجيبني مرة ما هذا إلا لجهلك الخفي، ومنهم من قال: أنه تعالى جمع بين يا الذي هو للبعيد، وأي الذي هو للقريب، كأنه تعالى يقول: معاملتك معي وفرارك عني يوجب البعد البعيد، لكن إحساني إليك، ووصول نعمتي إليك توجب القرب القريب: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وإنما قدم يا الذي يوجب البعد على أي الذي يوجب القرب، كأنه يقول: التقصير منك والتوفيق مني، ثم ذكرها بعد ذلك لأن
143

ما يوجب البعد الذي هو كالموت وأي يوجب القرب الذي هو كالحياة، فلما حصلا حصلت حالة متوسطة بين الحياة والموت، وتلك الحالة هي النوم، والنائم لا بد وأن ينبه وها كلمة تنبيه، فلهذا السبب ختمت حروف النداء بهذا الحرف.
المسألة الثانية: روى في سبب نزول هذه السورة أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب، وأمية بن خلف، قالوا لرسول الله تعالى: حتى نعبد إلهك مدة، وتعبد آلهتنا مدة، فيحصل مصلح بيننا وبينك، وتزول العداوة من بيننا، فإن كان أمرك رشيدا أخذنا منه حظا، وإن كان أمرنا رشيدا أخذت منه حظا، فنزلت هذه السورة ونزل أيضا قوله تعالى: * (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) * فتارة وصفهم بالجهل وتارة بالكفر، واعلم أن الجهل كالشجرة، والكفر كالثمرة، فلما نزلت السورة وقرأها على رؤوسهم شتموه وأيسوا منه، وههنا سؤالات:
السؤال الأول: لم ذكرهم في هذه السورة بالكافرين، وفي الأخرى بالجاهلين؟ الجواب: لأن هذه السورة بتمامها نازلة فيهم، فلا بد وأن تكون المبالغة ههنا أشد، وليس في لدنيا لفظ أشنع ولا أبشع من لفظ الكافر، وذلك لأنه صفة ذم عند جميع الخلق سواء كان مطلقا أو مقيدا، أما لفظ الجهل فإنه عند التقييد قد لا يذم، كقوله عليه السلام في علم الأنساب: " علم لا ينفع وجهل لا يضر ".
السؤال الثاني: لما قال تعالى في سورة: * (لم تحرم) * يا أيها الذين كفروا، ولم يذكر قل، وههنا ذكر قل، وذكره باسم الفاعل والجواب: الآية المذكورة في سورة لم تحزم: إنما تقال لهم يوم القيامة وثمة لا يكون الرسول رسولا إليهم فأزال الواسطة وفي ذلك الوقت يكونون مطيعين لا كافرين. فلذلك ذكره بلفظ الماضي، وأما ههنا فهم كانوا موصوفين بالكفر، وكان الرسول رسولا إليهم، فلا جرم قال: * (قل يا أيها الكافرون) *.
السؤال الثالث: قوله ههنا: * (قل يا أيها الكافرون) * خطاب مع الكل أو مع البعض؟ الجواب: لا يجوز أن يكون قوله: * (لا أعبد ما تعبدون) * خطابا مع الكل، لأن في الكفار من يعبد الله كاليهود والنصارى فلا يجوز أن يقول لهم: * (لا أعبد ما تعبدون) * ولا يجوز أيضا أن يكون قوله: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * خطابا مع الكل، لأن في الكفار من آمن وصار بحيث يعبد اللهد فإذن وجب أن يقال: إن قوله: * (يا أيها الكافرون) * خطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين وهم الذين قالوا نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة، والحاصل أنا لو حملنا الخطاب على العموم دخل التخصيص، ولو حملنا على أنه خطاب مشافهة لم يلزمنا ذلك، فكان حمل الآية على هذا المحمل أولى.
* (لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون مآ أعبد * ولا أنآ عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون مآ أعبد) *.
أما قوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد
144

ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: في هذه الآية قولان: أحدهما: أنه لا تكرار فيها والثاني: أن فيها تكرارا أما الأول: فتقريره عن وجوه أحدها: أن الأول للمستقبل، والثاني للحال والدليل على أن الأول للمستقبل أن لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، أن ترى أن لن تأكيد فيما ينفيه لا، وقال الخليل: في أن أصله لا أن، إذا ثبت هذا فقوله: * (لا أعبد ما تعبدون) * أي لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ولا أنتم فاعلون في المستقبل ما أطلبه منكم من عبادة إلهي، ثم قال: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * أي ولست في الحال بعابد معبودكم ولا أنتم في الحال بعابدين لمعبودي الوجه الثاني: أن تقلب الأمر فتجعل الأول للحال والثاني للاستقبال والدليل على أن قول: * (ولا أنا عابد ما عبدتم) * للاستقبال أنه رفع لمفهوم قولنا: أنا عابد ما عبدتم ولا شك أن هذا للاستقبال بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيدا فهم منه الاستقبال الوجه الثالث: قال بعضهم: كل واحد منهما يصلح للحال وللاستقبال، ولكنا نخص إحداها بالحال، والثاني بالاستقبال دفعا للتكرار، فإن قلنا: إنه أخبر عن الحال، ثم عن الاستقبال، فهو الترتيب، وإن قلنا: أخبر أولا عن الاستقبال، فلأنه هو الذي دعوه إليه، فهو الأهم فبدأ به، فإن قيل: ما فائدة الإخبار عن الحال وكان معلوما أنه ما كان يعبد الصنم، وأما الكفار فكانوا يعبدون الله في بعض الأحوال؟ قلنا: أما الحكاية عن نفسه فلئلا يتوهم الجاهل أنه يعبدها سرا خوفا منها أو طمعا إليها وأما نفيه عبادتهم. فلأن فعل الكافر ليس بعبادة أصلا: * (الوجه الرابع) * وهو اختيار أبي مسلم أن المقصود من الأولين المعبود وما بمعنى الذي، فكأنه قالا: لا أعبد الأصنام ولا تعبدون الله، وأما في الأخيرين فما مع الفعل في تأويل المصدر أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشرك وترك النظر، ولا أنتم تعبدون عبادتي المبنية على اليقين، فإن زعمتم أنكم تعبدون إلهي، كان ذلك باطلا لأن العبادة فعل مأمور به وما تفعلونه أنتم، فهو منهي عنه، وغير مأمور به الوجه الخامس: أن تحمل
الأولى على نفي الاعتبار الذي ذكروه، والثانية على النفي العام المتناول لجميع الجهات فكأنه أولا قال: * (لا أعبد ما تعبدون) * رجاء أن تعبدوا الله، ولا أنتم تعبدون الله رجاء أن أعبد أصنامكم، ثم قال: ولا أنا عابد صنمكم لغرض من الأغراض، ومقصود من المقاصد البتة بوجه من الوجوه: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * بوجه من الوجوه، واعتبار من الاعتبارات، ومثاله من يدعو غيره إلى الظلم لغرض التنعيم، فيقول: لا أظلم لغرض بل لا أظلم أصلا لا لهذا الغرض ولا لسائر الأغراض القول الثاني: وهو أن نسلم حصول التكرار، وعلى هذا القول العذر عنه من ثلاثة أوجه الأول: أن التكرير يفيد التوكيد وكلما كانت الحاجة إلى التأكيد أشد كان التكرير
145

أحسن، ولا موضع أحوج إلى التأكيد من هذا الموضع، لأن أولئك الكفار رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى مرارا، وسكت رسول الله عن الجواب، فوقع في قلوبهم أنه عليه السلام قد مال إلى دينهم بعض الميل، فلا جرم دعت الحاجة إلى التأكيد والتكرير في هذا النفي والإبطال الوجه الثاني: أنه كان القرآن ينزل شيئا بعد شيء، وآية بعد آية جوابا عما يسألون فالمشركون قالوا: استلم بعد آلهتنا حتى نؤمن بإلهك فأنزل الله: * (ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد) * ثم قالوا بعد مدة تعبد آلهتنا شهرا ونعبد إلهك شهرا فأنزل الله: * (ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد) * ولما كان هذا الذي ذكرناه محتملا لم يكن التكرار على هذا الوجه مضرا البتة الوجه الثالث: أن الكفار ذكروا تلك الكلمة مرتين تعبد آلهتنا شهرا ونعبد إلهك شهرا وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. فأتى الجواب على التكرير على وفق قولهم وهو ضرب من التهكم فإن من كرر الكلمة الواحدة لغرض فاسد يجازي بدفع تلك الكلمة على سبيل التكرار استخفافا به واستحقارا لقوله.
المسألة الثانية: في الآية سؤال وهو أن كلمة: * (ما) * لا تتناول من يعلم فهب أن معبودهم كان كذلك فصح التعبير عنه بلفظ ما لكن معبود محمد عليه الصلاة والسلام هو أعلم العالمين فكيف قال: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * أجابوا عنه من وجوه أحدها: أن المراد منه الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل وأنتم لا تعبدون الحق وثانيها: أن مصدرية في الجملتين كأنه قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في المستقبل، ثم قال: ثانيا لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي في الحال وثالثها: أن يكون ما بمعنى الذي وحينئذ يصح الكلام ورابعها: أنه لما قال أولا: * (لا أعبد ما تعبدون) * حمل الثاني عليه ليتسق الكلام كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
المسألة الثالثة: احتج أهل الجبر بأنه تعالى أخبر عنهم مرتين بقوله: * (ولا أنتم عابدون ما أعبد) * والخبر الصدق عن عدم الشيء يضاد وجود ذلك الشئ فالتكليف بتحصيل العبادة مع وجود الخبر الصدق بعدم العبادة تكليف بالجمع بين الضدين، واعلم أنه بقي في الآية سؤالات:
السؤال الأول: أليس أن ذكر الوجه الذي لأجله تقبح عبادة غير الله كان أولى من هذا التكرير؟ الجواب بل قد يكون التأكيد والتكرير أولى من ذكر الحجة، إما لأن المخاطب بليد ينتفع بالمبالغة والتكرير ولا ينتفع بذكر الحجة أو لأجل أن محل النزاع يكون في غاية الظهور فالمناظرة في مسألة الجبر والقدر حسنة، أما القائل: بالصنم فهو إما مجنون يجب شده أو عاقل معاند فيجب قتله، وإن لم يقدر على قتله فيجب شتمه، والمبالغة في الإنكار عليه كما في هذه الآية.
السؤال الثاني: أن أول السورة اشتمل على التشديد، وهو النداء بالكفر والتكرير وآخرها على اللطف والتساهل، وهو قوله: * (لكم دينكم ولي دين) * فكيف وجه الجمع بين الأمرين؟
146

الجواب: كأنه يقول: إني قد بالغت في تحذيركم على هذا الأمر القبيح، وما قصرت فيه، فإن لم تقبلوا قولي، فاتركوني سواء بسواء.
السؤال الثالث: لما كان التكرار لأجل التأكيد والمبالغة فكان ينبغي أن يقول: لن أعبد ما تعبدون، لأن هذا أبلغ، ألا ترى أن أصحاب الكهف لما بالغوا قالوا: * (لن ندعو من دونه إلها) * والجواب: المبالغة إنما يحتاج إليها في موضع التهمة، وقد علم كل أحد من محمد عليه السلام أنه ما كان يعبد الصنم قبل الشرع، فكيف يعبده بعد ظهور الشرع، بخلاف أصحاب الكهف فإنه وجد منهم ذلك فيما قبل.
* (لكم دينكم ولى دين) *.
أما قوله تعالى: * (لكم دينكم ولي دين) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قال ابن عباس: لكم كفركم بالله ولي التوحيد والإخلاص له، فإن قيل: فهل يقال: إنه أذن لهم في الكفر قلنا: كلا فإنه عليه السلام ما بعث إلا للمنع من الكفر فكيف يأذن فيه، ولكن المقصود منه أحد أمور أحدها: أن المقصود منه التهديد، كقوله اعملوا ما شئتم وثانيها: كأنه يقول: إني نبي مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحق والنجاة، فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فاتركوني ولا تدعوني إلى الشرك وثالثها: * (لكم دينكم) * فكونوا عليه إن كان الهلاك خيرا لكم * (ولي ديني) * لأني لا أرفضه القول الثاني: في تفسير الآية أن الدين هو الحساب أي لكم حسابكم ولي حسابي، ولا يرجع إلى كل واحد منا من عمل صاحبه أثر البتة القول الثالث: أن يكون على تقدير حذف المضاف أي لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني وحسبهم جزاء دينهم وبالا وعقابا كما حسبك جزاء دينك تعظيما وثوابا القول الرابع: الدين العقوبة: * (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله يعني الحد، فلكم العقوبة من ربي، ولي العقوبة من أصنامكم، لكن أصنامكم جمادات، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام، وأما أنتم فيحق لكم عقلا أن تخافوا عقوبة جبار السماوات والأرض) * القول الخامس: الدين الدعاء، فادعوا الله مخلصين له الدين، أي لكم دعاؤكم * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * * (وإن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم) * ثم ليتها تبقى على هذه الحالة فلا يضرونكم، بل يوم القيامة يجدون لسانا فيكفرون بشرككم، وأما ربي فيقول: * (ويستجيب الذين آمنوا) * * (ادعوني أستجب لكم) * * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * القول السادس: الدين العادة، قال الشاعر: يقول لها وقد دارت وضينيأ هذا دينها أبدأ وديني معناه لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشياطين، ولي عادتي المأخوذة من الملائكة والوحي، ثم يبقى كل واحد منا على عادته، حتى تلقوا الشياطين والنار، وألقى الملائكة والجنة.
147

المسألة الثانية: قوله: * (لكم دينكم) * يفيد الحصر، ومعناه لكم دينكم لا لغيركم، ولي ديني لا لغيري، وهو إشارة إلى قوله: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، ولا تزر وازرة وزر أخرى) * أي أنا مأمور بالوحي والتبليغ، وأنتم مأمورون بالامتثال والقبول، فأنا لما فعلت ما كلفت به خرجت من عهدة التكليف، وأما إصراركم على كفركم، فذلك مما لا يرجع إلي منه ضرر البتة.
المسألة الثانية: جرت عادة الناس بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المتاركة، وذلك غير جائز لأنه تعالى ما أنزل القرآن ليتمثل به بل ليتدبر فيه، ثم يعمل بموجبه، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على سيدنا، وعلى آله وصحبه وسلم.
148

سورة النصر
وهي ثلاث آيات مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إذا جآء نصر الله والفتح) *.
* (إذا جاء نصر الله) * في الآية لطائف:
إحداها: أنه تعالى لما وعد محمدا بالتربية العظيمة بقوله: * (ولسوف يعطيك ربك فترضى) * وقوله: * (إنا أعطيناك الكوثر) * لا جرم كان يزداد كل يوم أمره، كأنه تعالى قال: يا محمد لم يضيق قلبك، ألست حين لم تكن مبعوثا لم أضيعك بل نصرتك بالطير الأبابيل، وفي أول الرسالة زدت فجعلت الطير ملائكة ألن يكفيكم: * (أن يمدكم ربكم بخمسة آلاف) * ثم الآن أزيد فأقول إني أكون ناصرا لك بذاتي: * (إذا جاء نصر الله) * فقال: إلهي إنما تتم النعمة إذا فتحت لي دار مولدي ومسكني فقال: * (والفتح) * فقال: إلهي لكن القوم إذا خرجوا، فأي لذة في ذلك فقال: * (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * ثم كأنه قال: هل تعلم يا محمد بأي سبب وجدت هذه التشريفات الثلاثة إنما وجدتها لأنك قلت في السورة المتقدمة: * (يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) * وهذا يشتمل على أمور ثلاثة أولها: نصرتني بلسانك فكان جزاؤه: * (إذا جاء نصر الله) * وثانيها: فتحت مكة قلبك بعسكر التوحيد فأعطيناك فتح مكة وهو المراد من قوله، والفتح والثالث: أدخلت رعية جوارحك وأعضائك في طاعتي وعبوديتي فأنا أيضا أدخلت عبادي في طاعتك، وهو المراد من قوله: * (يدخلون في دين الله أفواجا) * ثم إنك بعد أن وجدت هذه الخلع الثلاثة فابعث إلى حضرتي بثلاث أنواع من العبودية تهادوا تحابوا، إن نصرتك فسبح، وإن فتحت مكة فاحمد وإن أسلموا، فاستغفر، وإنما وضع في مقابلة: * (نصر الله) * تسبيحه، لأن التسبيح هو تنزيه الله عن مشابهة المحدثات، يعني تشاهد أنه نصرك، فإياك أن تظن أنه إنما نصرك لأنك تستحق منه ذلك النحر، بل اعتقد كونه منزها عن أن يستحق عليه أحد من الخلق شيئا، ثم جعل في مقابل فتح مكة الحمد لأن النعمة لا يمكن أن تقابل إلا بالحمد، ثم جعل في مقابلة دخول الناس في الدين الاستغفار وهو المراد من قوله: * (واستغفر لذنبك، وللمؤمنين والمؤمنات) * أي كثرة الأتباع مما يشغل
149

القلب بلذة الجاه والقبول، فاستغفر لهذا القدر من ذنبك، واستغفر لذنبهم فإنهم كلما كانوا أكثر كانت ذنوبهم أكثر فكان احتياجهم إلى استغفارك أكثر الوجه الثاني: أنه عليه السلام لما تبرأ عن الكفر وواجههم بالسوء في قوله: * (يا أيها الكافرون) * كأنه خاف بعض القوم فقلل من تلك الخشونة فقال: * (لكم دينكم ولي دين) * فقيل: يا محمد لا تخف فإني لا أذهب بك إلى النصر بل أجيء بالنصر إليك: * (إذا جاء نصر الله) * نظيره: " زويت الأرض " يعني لا تذهب إلى الأرض بل تجيء الأرض إليك، فإن سئمت المقام وأردت الرحلة، فمثلك لا يرتحل إلا إلى قاب قوسين: * (سبحان الذي أسرى بعبده) * بل أزيد على هذا فأفضل فقراء أمتك على أغنيائهم ثم آمر الأغنياء بالضحايا ليتخذوها مطايا فإذا بقي الفقير من غير مطية أسوق الجنة إليه: * (وأزلفت الجنة للمتقين) * الوجه الثالث: كأنه سبحانه قال: يا محمد إن الدنيا لا يصفو كدرها ولا تدوم محنها ولا نعيمها فرحت بالكوثر فتحمل مشقة سفاهة السفهاء حيث قالوا: اعبد آلهتنا حتى نعبد إلهك فلما تبرأ عنهم وضاق قلبه من جهتهم قال: أبشر فقد جاء نصر الله فلما استبشر قال: الرحيل الرحيل أما علمت أنه لا بد بعد الكمال من الزوال، فاستغفره أيها الإنسان لا تحزن من جوع الربيع فعقيبه غنى الخريف ولا تفرح بغنى الخريف فعقيبه وحشة الشتاء، فكذا من تم إقباله لا يبقى له إلا الغير ومنه إذا تم أمر دنا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم إلهي لم فعلت كذلك قال: حتى لا نضع قلبك على الدنيا بل تكون أبدا على جناح الارتحال والسفر الوجه الرابع: لما قال في آخر السورة المتقدمة: * (لكم دينكم ولي دين) * فكأنه قال: إلهي وما جزائي فقال: نصر الله فيقول: وما جزاء عمي حين دعاني إلى عبادة الأصنام فقال: * (تبت يدا أبي لهب) * فإن قيل: فلم بدأ بالوعد قبل الوعيد، قلنا: لوجوه أحدها: لأن رحمته سبقت غضبه والثاني: ليكن الجنس متصلا بالجنس فإنه قال: * (ولي دين) * وهو النصر كقوله: * (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، فأما الذين اسودت وجوههم) *، وثالثها: الوفاء بالوعد أهم في الكرم من الوفاء بالانتقام، فتأمل في هذه المجانسات الحاصلة بين هذه السور مع أن هذه السور مع أن هذه السورة من أواخر ما نزل بالمدينة وتلك السورة من أوائل ما نزل بمكة ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله وبأمره الوجه الخامس: أن في السورة المتقدمة لم يذكر شيئا من أسماء الله، بل قال: ما أعبد بلفظ ما، كأنه قال: لا أذكر اسم الله حتى لا يستخفوا فتزداد عقوبتهم، وفي هذه السورة ذكر أعظم أساميه لأنها منزلة على الأحباب ليكون ثوابهم بقراءته أعظم فكأنه سبحانه قال لا تذكر اسمي مع الكافرين حتى لا يهينوه واذكره مع الأولياء حتى يكرموه الوجه السادس: قال النحويون: إذا منصوب بسبح، والتقدير فسبح بحمد ربك إذا جاء نصر الله، كأنه سبحان يقول: جعلت الوقت ظرفا لما تريده وهو النصر والفتح والظفر. وملأت ذلك الظرف من هذه
150

الأشياء، وبعثته إليك فلا ترده علي فارغا، بل املأه من العبودية ليتحقق معنى: " تهادوا تحابوا " فكأن محمدا عليه السلام قال: بأي شيء أملأ ظرف هديتك وأنا فقير، فيقول الله في المعنى: إن لم تجد شيئا آخر فلا أقل من تحريك اللسان بالتسبيح والحمد والاستغفار، فلما فعل محمد عليه الصلاة والسلام ذلك حصل معنى تهادوا، لا
جرم حصلت المحبة، فلهذا كان محمد حبيب الله الوجه السابع: كأنه تعالى يقول: إذا جاءك النصر والفتح ودخول الناس في دينك، فاشتغل أنت أيضا بالتسبيح والحمد والاستغفار، فإني قلت: " لئن شكرتم لأزدينكم " فيصير اشتغالك بهذه الطاعات سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة، ولا تزال تكون في الترقي حتى يصير الوعد بقولي: * (إنا أعطيناك الكوثر) * الوجه الثامن: أن الإيمان إنما يتم بأمرين: بالنفي والإثبات وبالبراءة والولاية، فالنفي والبراءة قوله: * (لا أعبد ما تعبدون) * والإثبات والولاية قوله: * (إذا جاء نصر الله) * فهذه هي الوجوه الكلية المتعلقة بهذه السورة.
واعلم أن في الآية أسرارا، وإنما يمكن بيانها في معرض السؤال والجواب.
السؤال الأول: ما الفرق بين النصر والفتح حتى عطف الفتح على النصر؟ الجواب: من وجوه أحدها: النصر هو الإعانة على تحصيل المطلوب، والفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا، وظاهر أن النصر كالسبب الفتح، فلهذا بدأ يذكر النصر وعطف الفتح عليها وثانيها: يحتمل أن يقال: النصر كمال الدين، والفتح الإقبال الدنيوي الذي هو تمام النعمة، ونظير هذه الآية قوله: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) * وثالثها: النصر هو الظفر في الدنيا على المنى، والفتح بالجنة، كما قال: * (وفتحت أبوابها) * وأظهر الأقوال في النصر أنه الغلبة على قريش أو على جميع العرب.
السؤال الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبدا منصورا بالدلائل والمعجزات، فما المعنى من تخصيص لفظ النصر بفتح مكة؟ والجواب: من وجهين أحدهما: المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع، إنما جعل فظ النصر المطلق دالا على هذا النصر المخصوص، لأن هذا النصر لعظم موقعه من قلوب أهل الدنيا جعل ما قبله كالمعدوم، كما أن المثاب عند دخول الجنة يتصور كأنه لم يذق نعمة قط، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى: * (وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله) *، وثانيهما: لعل المراد نصر الله في أمور الدنيا الذي حكم به لأنبيائه كقوله: * (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) *.
السؤال الثالث: النصر لا يكون إلا من الله، قال تعالى: * (وما النصر إلا من عند الله) * فما الفائدة في هذا التقييد وهو قوله: * (نصر الله) *؟ والجواب معناه نصر لا يليق إلا بالله ولا يليق أن يفعله إلا الله أو لا يليق إلا بحكمته ويقال: هذا صنعة زيد إذا كان زيد مشهورا بإحكام الصنعة، والمراد منه تعظيم حال تلك الصنعة، فكذا ههنا، أو نصر الله لأنه إجابة لدعائهم: * (متى نصر الله) * فيقول هذا الذي سألتموه.
151

السؤال الرابع: وصف النصر بالمجئ مجاز وحقيقته إذا وقع نصر الله فما الفائدة في ترك الحقيقة وذكر المجاز؟ الجواب فيه إشارات: إحداها: أن الأمور مربوطة بأوقاتها وأنه سبحانه قدر لحدوث كل حادث أسبابا معينة وأوقاتا مقدرة يستحيل فيها التقدم والتأخر والتغير والتبدل فإذا حضر ذلك الوقت وجاء ذلك الزمان حضر معه ذلك الأثر وإليه الإشارة بقوله: * (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه، وما ننزله إلا بقدر معلوم) *، وثانيها: أن اللفظ دل على أن النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن ذلك النصر كان مستحقا له بحكم الوعد فالمقتضي كان موجودا إلا أن تخلف الأثر كان لفقدان الشرط فكان كالثقيل المعلق فإن ثقله يوجب الهوى إلا أن العلاقة مانعة فالثقيل يكون كالمشتاق إلى الهوى، فكذا ههنا النصر كان كالمشتاق إلى محمد صلى الله عليه وسلم وثالثها: أن عالم العدم عالم لا نهاية له وهو عالم الظلمات إلا أن في قعرها ينبوع الجود والرحمة وهو ينبوع جود الله وإيجاده، ثم انشعبت بحار الجود والأنوار وأخذت في السيلان، وسيلانها يقتضي في كل حين وصولها إلى موضع ومكان معين فبحار رحمة الله ونصرته كانت آخذة في السيلان من الأزل فكأنه قيل: يا محمد قرب وصولها إليك ومجيئها إليك فإذا جاءتك أمواج هذا البحر فاشتغل بالتسبيح والتحميد والاستغفار فهذه الثلاثة هي السفينة التي لا يمكن الخلاص من بحار الربوبية إلا بها، ولهذا السبب لما ركب أبوك نوح بحر القهر والكبرياء استعان بقوله: * (بسم الله مجراها ومرساها) *.
السؤال الخامس: لا شك أن الذين أعانوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة هم الصحابة من المهاجرين والأنصار، ثم إنه سمي نصرتهم لرسول الله: * (نصر الله) * فما السبب في أن صار الفعل الصادر عنهم مضافا إلى الله؟ الجواب: هذا بحر يتفجر منه بحر سر القضاء والقدر، وذلك لأن فعلهم فعل الله، وتقريره أن أفعالهم مسندة إلى ما في قلوبهم من الدواعي والصوارف، وتلك الدواعي والصوارف أمور حادثة فلا بد لها من محدث وليس هو العبد، وإلا لزم التسلسل، فلا بد وأن يكون الله تعالى، فيكون المبدأ الأول والمؤثر الأبعد هو الله تعالى، ويكون المبدأ الأقرب هو العبد. فمن هذا الاعتبار صارت النصرة المضافة إلى الصحابة بعينها مضافة إلى الله تعالى، فإن قيل: فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد مفرعا على فعل الله تعالى، وهذا يخالف النصر، لأنه قال: * (إن تنصروا الله ينصركم) * فجعل نصرنا له مقدما على نصره لنا والجواب: أنه لا امتناع في أن يصدر عن الحق فعل، فيصير ذلك سببا لصدور فعل عنا، ثم الفعل عنا ينساق إلى فعل آخر يصدر عن الرب، فإن أسباب الحوادث ومسبباتها متسلسلة على ترتيب عجيب يعجز عن إدراك كيفيته أكثر العقول البشرية.
السؤال السادس: كلمة: * (إذا) * للمستقبل، فههنا لما ذكر وعدا مستقبلا بالنصر، قال: * (إذا جاء نصر الله) * فذكر ذاته باسم الله، ولما ذكر النصر الماضي حين قال: * (ولئن جاء نصر من ربك
152

ليقولن) * فذكره بلفظ الرب، فما السبب في ذلك؟ الجواب: لأنه تعالى بعد وجود الفعل صار ربا، وقبله ما كان ربا لكن كان إلها.
السؤال السابع: أنه تعالى قال: * (إن تنصروا الله ينصركم) * وإن محمدا عليه السلام نصر الله حين قال: * (يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون) * فكان واجبا بحكم هذا الوعد أن ينصره الله، فلا جرم قال: * (إذا جاء نصر الله) * فهل تقول بأن هذا النصر كان واجبا عليه؟ الجواب: أن ما ليس بواجب قد يصير واجبا بالوعد، ولهذا قيل: وعد الكريم ألزم من دين الغريم، كيف ويجب على الوالد نصرة ولده، وعلى المولى نصرة عبده، بل يجب النصر على الأجنبي إذا تعين بأن كان واحدا اتفاقا، وإن كان مشغولا بصلاة نفسه، ثم اجتمعت هذه الأسباب في حقه تعالى فوعده مع الكرم وهو أرأف بعبده من الوالد بولده والمولى بعبده وهو ولي بحسب الملك
ومولى بحسب السلطنة، وقيوم للتدبير وواحد فرد لا ثاني له فوجب عليه وجوب الكرم نصرة عبده، فلهذا قال: * (إذا جاء نصر الله) *.
أما قوله تعالى: * (والفتح) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: نقل عن ابن عباس أن الفتح هو فتح مكة وهو الفتح الذي يقال له: فتح الفتوح روى أنه لما كان صلح الحديبية وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار بعض من كان في عهد قريش على خزاعة وكانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء سفير ذلك القوم وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك عليه، ثم قال: أما إن هذا العارض ليخبرني أن الظفر يجيء من الله، ثم قال لأصحابه: أنظروا فإن أبا سفيان يجيء ويلتمس أن يجدد العهد فلم تمض ساعة أن جاء الرجل ملتمسا لذلك فلم يجبه الرسول ولا أكابر الصحابة فالتجأ إلى فاطمة فلم ينفعه ذلك ورجع إلى مكة آيسا وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسير لمكة، ثم يروى أن سارة مولاة بعض بني هاشم أتت المدينة فقال عليه السلام لها: جئت مسلمة؟ قالت: لا لكن كنتم الموالي وبي حاجة، فحث عليها رسول الله بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزودوها فأتاها حاطب بعشرة دنانير واستحملها كتابا إلى مكة نسخته: اعلموا أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا عليه السلام وعمارا في جماعة وأمرهم أن يأخذوا الكتاب وإلا فاضربوا عنقها، فلما أدركوها جحدت وحلفت فسل علي عليه السلام سيفه، وقال الله: ما كذبنا فأخرجته من عقيصة شعرها، واستحضر النبي حاطبا وقال: ما حملك عليه؟ فقال: والله ما كفرت منذ أسلمت ولا أحببتهم منذ فارقتهم، لكن كنت غريبا في قريش وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يدا، فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق
153

فقال: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ففاضت عينا عمر، ثم خرج رسول الله إلى أن نزل بمر الظهران، وقدم العباس وأبو سفيان إليه فاستأذنا فأذن لعمه خاصة فقال أبو سفيان: إما أن تأذن لي وإلا أذهب بولدي إلى المفازة فيموت جوعا وعطشا فرق قلبه، فأذن له وقال له: ألم يأن أن تسلم وتوحد؟ فقال: أظن أنه واحد، ولو كان ههنا غير الله لنصرنا، فقال: ألم يأن أن تعرف أني رسوله؟ فقال: إن لي شكا في ذلك، فقال العباس: أسلم قبل أن يقتلك عمر، فقال: وماذا أصنع بالعزى، فقال عمر: لولا أنك بين يدي رسول الله لضربت عنقك، فقال: يا محمد أليس الأولى أن تترك هؤلاء الأوباش وتصالح قومك وعشيرتك، فسكان مكة عشيرتك وأقارب، و (لا) تعرضهم للشن والغارة، فقال عليه السلام: هؤلاء نصروني وأعانوني وذبوا عن حريمي، وأهل مكة أخرجوني وظلموني، فإن هم أسروا فبسوء صنيعهم، وأمر العباس بأن يذهب به ويوقفه على المرصاد ليطالع العسكر، فكانت الكتيبة تمر عليه، فيقول من هذا؟ فيقول العباس هو فلان من أمراء الجند إلى أن جاءت الكتيبة الخضراء التي لا يرى منها إلا الحدق، فسأل عنهم، فقال العباس: هذا رسول الله، فقال: لقد أوتي ابن أخيك ملكا عظيما، فقال العباس: هو النبوة، فقال هيهات النبوة، ثم تقدم ودخل مكة، وقال: إن محمدا جاء بعسكر لا يطيقه أحد، فصاحت هند وقالت: اقتلوا هذا المبشر، وأخذت بلحيته فصاح الرجل ودفعها عن نفسه، ولما سمع أبو سفيان أذان القوم للفجر، وكانوا عشرة آلاف فزع لذلك فزعا شديدا وسأل العباس، فأخبره بأمر الصلاة، ودخل رسول الله مكة على راحلته ولحيته على قربوس سرجه كالساجد تواضعا وشكرا، ثم التمس أبو سفيان الأمان، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقال: ومن تسع داري، فقال: ومن دخل المسجد فهو آمن فقال: ومن يسع المسجد، فقال: من ألقى سلاحه فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ثم وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب المسجد، وقال: لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، ثم قال: يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم، فقالوا: خير أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء فأعتقهم، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء ومن ذلك كان علي عليه السلام يقول لمعاوية: أنى يستوي المولى والمعتق يعني أعتقناكم حين مكننا الله من رقابكم ولم يقل: اذهبوا فأنتم معتقون، بل قال: الطلقاء، لأن المعتق يجوز أن يرد إلى الرق، والمطلقة يجوز تعاد إلى رق النكاح وكانوا بعد على الكفر، فكان يجوز أن يخونوا فيستباح رقهم مرة أخرى ولأن الطلاق يخص النسوان، وقد ألقوا السلاح وأخذوا المساكن كالنسوان، ولأن المعتق يخلى سبيله يذهب حيث شاء، والمطلقة تجلس في البيت للعدة، وهم أمروا بالجلوس بمكة كالنسوان، ثم إن القوم بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، فصاروا يدخلون في دين الله أفواجا، روى أنه عليه السلام صلى ثمان ركعات: أربعة صلاة الضحى، وأربعة أخرى شكرا لله نافلة، فهذه هي
154

قصة فتح مكة، والمشهور عند المفسرين أن المراد من الفتح في هذه السورة هو فتح مكة، ومما يدل على أن المراد بالفتح فتح مكة أنه تعالى ذكره مقرونا بالنصر. وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني: أن المراد فتح خيبر، وكان ذلك على يد علي عليه السلام، والقصة مشهورة، روى أن استصحب خالد بن الوليد، وكان يساميه في الشجاعة، فلما نصب السلم قال لخالد: أتتقدم؟ قال: لا، فلما تقدم علي عليه السلام سأله كم صعدت؟ فقال: لا أدري لشدة الخوف، وروى أنه قال: لعلي عليه السلام ألا تصارعني، فقال: ألست صرعتك؟ فقال: نعم لكن ذاك قبل إسلامي، ولعل عليا عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه علي، أو كان علي يقول صرعتك حين كنت كافرا، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث: أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع: المراد النصر على الكفار، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق، وهو قول أبي مسلم والقول الخامس: أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم، ومنه قوله: * (وقل رب زدني علما) * لكن حصول العلم لا بد وأن يكون مسبوقا بانشراح الصدر وصفاء القلب، وذلك هو المراد من قوله: * (إذا جاء نصر الله) * ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات.
المسألة الثانية: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان: أحدهما: أن فتح مكة كان سنة ثمان، ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروى
أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يوما، ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني: أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه، ونظيره قوله تعالى: * (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) * وقوله: * (إذا جاء نصر الله والفتح) * يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع: إذا جاء وإذا وقع، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقا له، والإخبار عن الغيب معجز فإن قيل: لم ذكر النصر مضافا إلى الله تعالى، وذكر الفتح بالألف واللام؟ الجواب: الألف واللام للمعهود السابق، فينصرف إلى فتح مكة.
* (ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا) *.
قوله تعالى: * (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: رأيت يحتمل أن يكون معناه أبصرت، وأن يكون معناه علمت، فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال، والتقدير: ورأيت الناس حال دخولهم
155

في دين الله أفواجا، وإن كان معناه علمت كان يدخلون في دين الله مفعولا ثانيا لعلمت، والتقدير: علمت الناس داخلين في دين الله.
المسألة الثانية: ظاهر لفظ الناس للعموم، فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب: من وجهين الأول: أن المقصود من الإنسانية والعقل، إنما هو الدين والطاعة، على ما قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر، فكأنه ليس بإنسان، وهذا المعنى هو المراد من قوله: * (أولئك كالأنعام بل هم أضل) * وقال: * (آمنوا كما آمن الناس) * وسئل الحسن بن علي عليه السلام. من الناس؟ فقال: نحن الناس، وأشياعنا أشباه الناس، وأعداؤنا النسناس، فقبله علي عليه السلام بين عينيه، وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فإن قيل: إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير، فكيف استحقوا هذا المدح العظيم؟ قلنا: هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله، فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره، فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه، ويمدحه هذا المدح العظيم، ويروي أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أتيت. ويروى أنه عليه السلام قال: " لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد، والظمآن الوارد " والمعنى كان الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة، فإن مات على كفره فلا بد وأن أبعثه إلى النار، فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة، فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولا الوجه الثاني: في الجواب، روى أن المراد بالناس أهل اليمن، قال أبو هريرة: لما نزلت هذه السورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية، وقال: أجد نفس ربكم من قبل اليمن ".
المسألة الثالثة: قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون: إن إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية، قالوا: إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام، ولو لم يكن إيمانهم صحيحا لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزها عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح، ولا يقال: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلا كونه عالما بهذه التفاصيل، لأنا نقول: إن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإن الدليل إذا كان مثلا مركبا من عشر مقدمات، فمن علم تسعة
156

منها، وكان في المقدمة العاشرة مقلدا كان في النتيجة مقلدا لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليدا وإن كان عالما بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل، لأن تلك الزيادة إن كانت جزءا معتبرا في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل، فإنه لا بد معها من هذه المقدمة الزائدة، وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية، وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمرا منفصلا عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلا على ذلك المدلول، فثبت أن العلم بكون الدليل دليلا لا يقبل الزيادة والنقصان، فأما أن يقال: إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة، وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك. فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين، ومما يؤكد ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال: لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال، هذا ما رواه الحسن، ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد، فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين.
المسألة الرابعة: دين الله هو الإسلام لقوله تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * ولقوله: * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * وللدين أسماء أخرى، منها الإيمان قال الله تعالى: * (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) * ومنها الصراط قال تعالى: * (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) * ومنها كلمة الله، ومنها النور: * (ليطفئوا نور الله) * ومنها الهدي لقوله: * (يهدي به من يشاء) * ومنها العروة: * (فقد استمسك بالعروة الوثقى) * ومنها الحبل: * (واعتصموا بحبل الله) * ومنها صبغة الله، وفطرة الله، وإنما قال: * (في دين الله) * ولم يقل: في دين الرب، ولا سائر الأسماء لوجهين الأول: أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات، فكأنه يقول: هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول والثاني: لو قال: دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك، وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع، فلا يكون الإخلاص حاصلا، فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك.
المسألة الخامسة: الفوج: الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا وإثنين اثنين، وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " دخل الناس في دين الله أفواجا، وسيخرجون منه أفواجا " نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
157

* (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) *.
قوله تعالى: * (فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار، ولهذا الترتيب فوائد:
الفائدة الأولى: اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمدا كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة علي فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح، أما على قولنا: فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئا بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئا، وأما على قول المعتزلة: ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني: أن للسائرين طريقين فمنهم من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله بعده، ومنهم من قال: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله، ولا شك أن هذا الطريق أكمل، أما بحسب المعالم الحكمية، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر، وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل، وإذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولا من الخالق أمرين أحدهما: التسبيح والثاني: التحميد، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق.
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له، وهي صفات الإكرام، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس، وفيه رؤية جود الحق، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محروما عن مطالعة حضرة جلال الله، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث: أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل
158

متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل: آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * فقوله ههنا: * (فسبح بحمد ربك) * إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم: * (ونحن نسبح بحمدك) * وقوله ههنا: * (واستغفره) * إشارة إلى قوله تعالى: * (ونقدس لك) * لأنهم فسروا قوله: * (ونقدس لك) * أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضا إلى تقديس النفس، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم، وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني، ويحتمل أن يقال: الملائكة كما قالوا: في حق أنفسهم: * (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * قال الله في حقهم: * (ويستغفروا للذين آمنوا) * فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجا كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون: * (ربنا فاغفر للذين تابعوا واتبعوا سبيلك) * الوجه الرابع: التسبيح هو التطهير، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال: * (بحمد ربك) * أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك، وإعانته وتقويته، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتيا بالطاعة اللائقة به، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس: كأنه تعالى يقول يا محمد إما أن تكون معصوما أو لم تكن معصوما فإن كنت معصوما فاشتغل بالتسبيح والتحميد، وإن لم تكن معصوما فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال: * (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) *.
المسألة الثانية: في المراد من التسبيح وجهان الأول: أنه ذكر الله بالتنزه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فقال تنزيه الله عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه، وإنما حسن استعماله في تنزيه الله عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفيا وإثباتا لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي البتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني: أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون) * وقال: * (فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) * والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل، وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول: " الصلاة وما ملكت أيمانكم " جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه، ثم قال بعضهم: عني به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات " وقال آخرون: هي صلاة الضحى، وقال آخرون: صلي ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه: على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال، واحتج
159

أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك، روت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك
أستغفرك وأتوب إليك، وقالت أيضا: كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي وعنها أيضا كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلى قال سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من قولة سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها، وقرأ: * (إذا جاء نصر الله) * وعن ابن مسعود: " لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور " وروى أنه قال: " إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ".
المسألة الثانية: الآية تدلى على فضل التسبيح والتحميد حيث جعل كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح، ولم لا يكون كذلك وقوله: " الصوم لي " من أعظم الفضائل للصوم فإنه أضافه إلى ذاته، ثم إنه جعل صدف الصلاة مساويا للصوم في هذا التشريف: * (وأن المساجد لله) * فهذا يدل على أن الصلاة أفضل من الصوم بكثير، ثم إن الصلاة صدف للأذكار ولذلك قال: * (ولذكر الله أكبر) * وكيف لا يكون كذلك، والثناء عليه مما مدحه معلوم عقلا وشرعا أما كيفية الصلاة فلا سبيل إليها إلا بالشرع ولذلك جعلت الصلاة كالمرصعة من التسبيح والتكبير.
فإن قيل: عدم وجوب التسبيحات يقتضي أنها أقل درجة من سائر أعمال الصلاة.
قلنا الجواب عنه من وجوه: أحدها: أن سائر أفعال الصلاة مما لا يميل القلب إليه فاحتيج فيها إلى الإيجاب أما التسبيح والتهليل فالعقل داع إليه والروح عاشق عليه فاكتفى بالحب الطبيعي ولذلك قال: * (والذين آمنوا أشد حبا) *، وثانيها: أن قوله: * (فسبح) * أمر والأمر المطلق للوجوب عند الفقهاء، ومن قال: الأمر المطلق للندب قال: إنه ههنا للوجوب بقرينة أنه عطف عليه الاستغفار والاستغفار واجب ومن حق العطف التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه وثالثها: أنها لو وجبت لكان العقاب الحاصل بتركها أعظم إظهارا لمزيد تعظيمها فترك الإيجاب خوفا من هذا المحذور.
المسألة الرابعة: أما الحمد فقد تقدم تفسيره، وأما تفسير قوله: * (فسبح بحمد ربك) * فذكروا فيه وجوها: أحدها: قال صاحب الكشاف أي قل: * (سبحان الله والحمد لله) * متعجبا مما أراك من عجيب أنعامه أي اجمع بينهما تقول: شربت الماء باللبن إذا جمعت بينهما خلطا وشربا وثانيها: أنك إذا حمدت الله فقد سبحته لأن التسبيح داخل في الحمد لأن الثناء عليه والشكر له لا بد وأن يتضمن تنزيهه عن النقائص لأنه لا يكون مستحقا للثناء إلا إذا كان منزها عن النقص ولذلك جعل مفتاح القرآن بالحمد لله وعند فتح مكة قال: الحمد لله الذي نصر عبده، ولم يفتتح كلامه بالتسبيح فقوله: * (فسبح بحمد ربك) * معناه سبحه بواسطة أن تحمده أي سبحه بهذا الطريق وثالثها:
160

أن يكون حالا، ومعناه سبح حامدا كقولك: اخرج بسلاحك أي متسلحا ورابعها: يجوز أن يكون معناه سبح مقدرا أن تحمد بعد التسبيح كأنه يقول: لا يتأتى لك الجمع لفظا فاجمعهما نية كما أنك يوم النحر تنوي الصلاة مقدرا أن تنحر بعدها، فيجتمع لك الثوابان في تلك الساعة كذا ههنا وخامسها: أن تكون هذه الباء هي التي في قولك: فعلت هذا بفضل الله، أي سبحه بحمد الله وإرشاده وإنعامه، لا بحمد غيره، ونظيره في حديث الإفك قول عائشة: " بحمد الله لا بحمدك " والمعنى: فسبحه بحمده، فإنه الذي هداك دون غيره، ولذلك روى أنه عليه السلام كان يقول: " الحمد لله على الحمد لله " وسادسها: روى السدي بحمد ربك، أي بأمر ربك وسابعها: أن تكون الباء صلة زائدة، ويكون التقدير: سبح حمد ربك، ثم فيه احتمالات أحدها: اختر له أطهر المحامد وأزكاها والثاني: طهر محامد ربك عن الرياء والسمعة، والتوسل بذكرها إلى الأغراض الدنيوية الفاسدة والثالث: طهر محامد ربك عن أن تقول: جئت بها كما يليق به. وإليه الإشارة بقوله: * (وما قدروا الله حق قدره) * وثامنها: أي ائت بالتسبيح بدلا عن الحمد الواجب عليك، وذلك لأن الحمد إنما يجب في مقابلة النعم، ونعم الله علينا غير متناهية، فحمدها لا يكون في وسع البشر، ولذلك قال: * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * فكأنه تعالى يقول: أنت عاجز عن الحمد، فأت بالتسبيح والتنزيه بدلا عن الحمد وتاسعها: فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد أمر أن لا يجوز تأخير أحدهما عن الثاني، ولا يتصور أيضا أن يؤتى بهما معا، فنظيره من ثبت له حق الشفعة وحق الرد بالعيب، وجب أن يقول: اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع، كذا قال: * (فسبح بحمد ربك) * ليقعا معا، فيصير حامدا مسبحا في وقت واحد معا وعاشرها: أن يكون المراد سبح قلبك، أي طهر قلبك بواسطة مطالعة حمد ربك، فإنك إذا رأيت أن الكل من الله، فقد طهرت قلبك عن الالتفات إلى نفسك وجهدك، فقوله: * (فسبح) * إشارة إلى نفي ما سوى الله تعالى، وقوله: * (بحمد ربك) * إشارة إلى رؤية كل الأشياء من الله تعالى.
المسألة الخامسة: في قوله: * (واستغفره) * وجوه أحدها: لعله عليه السلام كان يتمنى أن ينتقم ممن آذاه، ويسأل الله أن ينصره، فلما سمع: * (إذا جاء نصر الله) * استبشر، لكن لو قرن بهذه البشارة شرط أن لا ينتقم لتنغصت عليه تلك البشارة، فذكر لفظ الناس وأنهم يدخلون في دين الله وأمره بأن يستغفر للداخلين لكن من المعلوم أن الاستغفار لمن لا ذنب له لا يحسن فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطريق أنه تعالى ندبه إلى العفو وترك الانتقام، لأنه لما أمره بأن يطلب لهم المغفرة فكيف يحسن منه أن يشتغل بالانتقام منهم؟ ثم ختم بلفظ التواب كأنه يقول: إن قبول التوبة حرفته فكل من طلب منه التوبة أعطاه كما أن البياع حرفته بيع الأمتعة التي عنده فكل من طلب منه شيئا من تلك الأمتعة باعه منه، سواء كان المشتري عدوا أو وليا، فكذا الرب سبحانه يقبل التوبة سواء كان التائب مكيا أو مدنيا، ثم إنه عليه السلام امتثل أمر الرب تعالى فحين قالوا له: أخ كريم وابن أخ كريم قال لهم:
161

* (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم) * أي أمرني أن استغفر لكم فلا يجوز أن يردني وثالثها: أن قوله: * (واستغفره) * إما أن يكون المراد واستغفر الله لنفسك أو لأمتك، فإن كان المراد هو الأول فهو يتفرع على أنه هل صدرت عنه معصية أم لا فمن قال: صدرت المعصية عنه ذكر في فائدة الاستغفار وجوها: أحدها: أنه لا يمتنع أن تكون كثرة الاستغفار منه تؤثر في جعل ذنبه صغيرة وثانيها: لزمه الاستغفار ليصير الاستغفار جابرا للذنب الصغير فلا ينتقض من ثوابه شيء أصلا، وأما من
قال: ما صدرت المعصية عنه فذكر في هذا الاستغفار وجوها: أحدها: أن استغفار النبي جار مجرى التسبيح وذلك لأنه وصف الله بأنه غفار وثانيها: تعبده الله بذلك ليقتدي به غيره إذ لا يأمن كل مكلف عن تقصير يقع منه في عبادته، وفيه تنبيه على أنه مع شدة اجتهاده وعصمته ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف من دونه وثالثها: أن الاستغفار كان عن ترك الأفضل ورابعها: أن الاستغفار كان بسبب أن كل طاعة أتى بها العبد فإذا قابلها بإحسان الرب وجدها قاصرة عن الوفاء بأداء شكر تلك النعمة، فليستغفر الله لأجل ذلك وخامسها: الاستغفار بسبب التقصير الواقع في السلوك لأن السائر إلى الله إذا وصل إلى مقام في العبودية، ثم تجاوز عنه فبعد تجاوزه عنه يرى ذلك المقام قاصرا فيستغفر الله عنه، ولما كانت مراتب السير إلى الله غير متناهية لا جرم كانت مراتب هذا الاستغفار غير متناهية، أما الاحتمال الثاني: وهو أن يكون المراد واستغفره لذنب أمتك فهو أيضا ظاهر، لأنه تعالى أمره بالاستغفار لذنب أمته في قوله: * (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) * فههنا لما كثرت الأمة صار ذلك الاستغفار أوجب وأهم، وهكذا إذا قلنا: المراد ههنا أن يستغفر لنفسه ولأمته.
المسألة السادسة: في الآية إشكال، وهو أن التوبة مقدمة على جميع الطاعات، ثم الحمد مقدم على التسبيح، لأن الحمد يكون بسبب الإنعام، والإنعام كما يصدر عن المنزه فقد يصدر عن غيره، فكان ينبغي أن يقع الابتداء بالاستغفار، ثم بعده يذكر الحمد، ثم بعده يذكر التسبيح، فما السبب في أن صار مذكورا على العكس من هذا الترتيب؟ وجوابه: من وجوه أولها: لعله ابتدأ بالأشرف، فالأشرف نازلا إلى الأخس فالأخس، تنبيها على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق وثانيها: فيه تنبيه على أن التسبيح والحمد الصادر عن العبد إذا صار مقابلا بجلال الله وعزته صار عين الذنب، فوجب الاستغفار منه وثالثها: للتسبيح والحمد إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق (الله)، والأول كالصلاة، والثاني كالزكاة، وكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة، فكذا ههنا.
المسألة السابعة: الآية تدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يجب عليه الإعلان بالتسبيح والاستغفار، وذلك من وجوه أحدها: أنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بإبلاغ السورة
162

إلى كل الأمة حتى يبقى نقل القرآن متواترا، وحتى نعلم أنه أحسن القيام بتبليغ الوحي، فوجب عليه الإتيان بالتسبيح والاستغفار على وجه الإظهار ليحصل هذا الغرض وثانيها: أنه من جملة المقاصد أن يصير الرسول قدوة للأمة حتى يفعلوا عند النعمة والمحنة، ما فعله الرسول من تجديد الشكر والحمد عند تجديد النعمة وثالثها: أن الأغلب في الشاهد أن يأتي بالحمد في ابتداء الأمر، فأمر الله رسوله بالحمد والاستغفار دائما، وفي كل حين وأوان ليقع الفرق بينه وبين غيره، ثم قال: واستغفره حين نعيت نفسه إليه ليفعل الأمة عند اقتراب آجالهم مثل ذلك.
المسألة الثامنة: في الآية سؤالات أحدها: وهو أنه قال: * (إنه كان توابا) * على الماضي وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وثانيها: هلا قال: غفارا كما قاله: في سورة نوح وثالثها: أنه قال: * (نصر الله) * وقال: * (في دين الله) * فلم لم يقل: بحمد الله بل قال: * (بحمد ربك) * والجواب: عن الأول من وجوه أحدها: أن هذا أبلغ كأنه يقول: ألست أثنيت عليكم بأنكم: * (خير أمة أخرجت للناس) * ثم من كان دونكم كنت أقبل توبتهم كاليهود فإنهم بعد ظهور المعجزات العظيمة، وفلق البحر ونتق الجبل، ونزول المن والسلوى عصوا ربهم. وأتوا بالقبائح، فلما تابوا قبلت توبتهم فإذا كنت قابلا للتوبة ممن دونكم أفلا أقبلها منكم وثانيها: منذ كثير كنت شرعت في قبول توبة العصاة والشروع ملزم على قبول النعمان فكيف في كرم الرحمن وثالثها: كنت توابا قبل أن آمركم بالاستغفار أفلا أقبل وقد أمرتكم بالاستغفار ورابعها: كأنه إشارة إلى تخفيف جنايتهم أي لستم بأول من جنى وتاب بل هو حرفتي، والجناية مصيبة للجاني والمصيبة إذا عمدت خفت وخامسها: كأنه نظير ما يقال: لقد أحسن الله فيما مضى كذلك يحسن فيما بقي والجواب: عن السؤال الثاني من وجوه أحدها: لعله خص هذه الأمة بزيادة شرف لأنه لا يقال في صفات العبد غفار، ويقال: تواب إذا كان آتيا بالتوبة، فيقول تعالى: كنت لي سميا من أول الأمر أنت مؤمن، وأنا مؤمن، وإن كان المعنى مختلفا فتب حتى تصير سميا لي آخر الأمر، فأنت تواب، وأنا تواب، ثم إن التواب في حق الله، هو أنه تعالى يقبل التوبة كثيرا فنبه على أنه يجب على العبد أن يكون إتيانه كثيرا وثانيها: إنما قيل: توابا لأن القائل قد يقول: أستغفر الله وليس بتائب، ومنه قوله: " المستغفر بلسانه المصر بقلبه كالمستهزئ بربه " إن قيل: فقد يقول: أتوب، وليس بتائب، قلنا: فإذا يكون كاذبا، لأن التوبة اسم للرجوع والندم، بخلاف الاستغفار فإنه لا يكون كاذبا فيه، فصار تقدير الكلام، واستغفره بالتوبة، وفيه تنبيه على أن خواتيم الأعمال يجب أن تكون بالتوبة والاستغفار، وكذا خواتيم الأعمال، وروى أنه لم يجلس مجلسا إلا ختمه بالاستغفار والجواب: عن السؤال الثالث أنه تعالى راعى العدل فذكر اسم الذات مرتين وذكر اسم الفعل مرتين أحدهما: الرب والثاني: التواب، ولما كانت التربية تحصل أولا والتوابية آخرا، لا جرم ذكر اسم الرب أولا واسم التواب آخرا.
163

المسألة التاسعة: الصحابة اتفقوا على أن هذه السورة دلت على أنه نعي لرسول الله صلى الله عليه وسلم روى أن العباس عرف ذلك وبكى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك فقال: نعيت إليك نفسك فقال: الأمر كما تقول، وقيل: إن ابن عباس هو الذي قال ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: " لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا " روى أن عمر كان يعظم ابن عباس ويقربه ويأذن له مع أهل بدر، فقال عبد الرحمن: أتأذن لهذا الفتى معنا، وفي أبنائنا من هو مثله؟ فقال: لأنه ممن قد علمتم قال ابن عباس: فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله: * (إذا جاء نصر الله) * وكأنه ما سألهم إلا من أجلي فقال بعضهم: أمر الله نبيه إذا فتح أن يستغفره ويتوب إليه، فقلت: ليس كذلك ولكن نعيت إليه نفسه فقال عمر: ما أعلم منها إلا مثل ما تعلم، ثم قال: كيف تلومونني عليه بعدما ترون، وروى أنه لما نزلت هذه السورة خطب وقال: " إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين لقائه والآخرة فاختار لقاء الله " فقال السائل: وكيف دلت هذه السورة على هذا المعنى؟ الجواب: من وجوه أحدها: قال بعضهم: إنما عرفوا ذلك لما روينا أن الرسول خطب عقيب السورة وذكر التخيير وثانيها: أنه لما ذكر حصول النصر والفتح ودخول الناس في الدين أفواجا
دل ذلك على حصول الكال والتمام، وذلك يعقبه الزوال كما قيل: إذا تم شيء دنا نقصه توقع زوالا إذا قيل تم وثالثها: أنه أمره بالتسبيح والحمد والاستغفار مطلقا واشتغاله به يمنعه عن الاشتغال بأمر الأمة فكان هذا كالتنبيه على أن أمر التبليغ قد تم وكمل، وذلك يوجب الموت لأنه لو بقي بعد ذلك لكان كالمعزول عن الرسالة وأنه غير جائز ورابعها: قوله: * (واستغفره) * تنبيه على قرب الأجل كأنه يقول قرب الوقت ودنا الرحيل فتأهب للأمر، ونبهه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله أن يستكثر من التوبة وخامسها: كأنه قيل له: كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته، وهو النصر والفتح والاستيلاء، والله تعالى وعدك بقوله: * (والآخرة خير لك من الأولى) * فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادات العالية.
المسألة العاشرة: ذكرنا أن الأصح هو أن السورة نزلت قبل فتح مكة. وأما الذين قالوا: إنها نزلت بعد فتح مكة، فذكر الماوردي أنه عليه السلام لم يلبث بعد نزول هذه السورة إلا ستين يوما مستديما للتسبيح والاستغفار، وقال مقاتل: عاش بعدها حولا ونزل: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فعاش بعده ثمانين يوما ثم نزل آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يوما، ثم نزل: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ثم نزل: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * فعاش بعدها أحد عشر يوما وفي رواية أخرى عاش بعدها سبعة أيام، والله أعلم كيف كان ذلك.
164

سورة المسد
خمس آيات مكية بالاتفاق) *
اعلم أنه تعالى قال: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * ثم بين في سورة: * (قل يا أيها الكافرون) * أن محمدا عليه الصلاة والسلام أطاع ربه وصرح بنفي عبادة الشركاء والأضداد وأن الكافر عصى ربه واشتغل بعبادة الأضداد والأنداد، فكأنه قيل: إلهنا ما ثواب المطيع، وما عقاب العاصي؟ فقال: ثواب المطيع حصول النصر والفتح والاستيلاء في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى، كما دل عليه سورة: * (إذا جاء نصر الله) * وأما عقاب العاصي فهو الخسار في الدنيا والعقاب العظيم في العقبى، كما دلت عليه سورة: * (تبت) * ونظيره قوله تعالى في آخر سورة الأنعام: * (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات) * فكأنه قيل: إلهنا أنت الجواد المنزه عن البخل والقادر المنزه عن العجز، فما السبب في هذا التفاوت؟ فقال: * (ليبلوكم فيما آتاكم) * فكأنه قيل: إلهنا فإذا كان العبد مذنبا عاصيا فكيف حاله؟ فقال: في الجواب: * (إن ربك سريع العقاب) * وإن كان مطيعا منقادا كان جزاؤه أن الرب تعالى يكون غفورا لسيئاته في الدنيا رحيما كريما في الآخرة، وذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها أحدها: قال ابن عباس: كان رسول الله يكتم أمره في أول المبعث ويصلي في شعاب مكة ثلاث سنين إلى أن نزل قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * فصعد الصفا ونادى يا آل غالب فخرجت إليه غالب من المسجد فقال أبو لهب: هذه غالب قد أتتك فما عندك؟ ثم نادى يا آل لؤي فرجع من لم يكن من لؤي فقال أبو لهب: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ ثم قال يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة، فقال أبو لهب: هذه لؤي قد أتتك فما عندك؟ ثم قال: يا آل مرة فرجع من لم يكن من مرة، فقال أبو لهب: هذه مرة قد أتتك فما عندك؟ ثم قال يا آل كلاب، ثم قال بعده: يا آل قصي، فقال أبو لهب: هذه قصي قد أتتك فيما عندك؟ فقال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين وأنتم الأقربون، اعلموا أني لا أملك لكم من الدنيا حظا ولا من الآخرة نصيبا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله فأشهد بها لكم عند ربكم فقال أبو لهب عند ذلك: تبا لك ألهذا دعوتنا، فنزلت السورة وثانيها: روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ذات يوم وقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: مالك؟ قال: أرأيتم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني؟ قالوا: بلى قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال عند ذلك أبو لهب ما قال فنزلت السورة وثالثها: أنه جمع أعمامه وقدم إليهم طعاما في صحفة فاستحقروه وقالوا: إن أحدنا يأكل كل الشاة، فقال: كلوا فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص من الطعام إلا اليسير، ثم قالوا: فما عندك؟ فدعاهم إلى الإسلام فقال أبو لهب ما قال، وروى أنه قال أبو لهب: فمالي إن أسلمت فقال: ما للمسلمين، فقال: أفلا أفضل عليهم؟ فقال
165

النبي عليه الصلاة والسلام بماذا تفضل! فقال: تبا لهذا الدين يستوي فيه أنا وغيري ورابعها: كان إذا وفد على النبي وفد سألوا عمه عنه وقالوا: أنت أعلم به فيقول لهم: إنه ساحر فيرجعون عنه ولا يلقونه، فأتاه وفد فقال لهم مثل ذلك فقالوا: لا ننصرف حتى نراه فقال: إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتبا له وتعسا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فحزن ونزلت السورة.
بسم الله الرحمن الرحيم
* (تبت يدآ أبى لهب وتب) *.
قوله تعالى: * (تبت يدا أبي لهب) * اعلم أن قوله: * (تبت) * فيه أقاويل أحدها: التباب الهلاك، ومنه قولهم شابة أم تابة أي هالكة من الهرم، ونظيره قوله تعالى: * (وما كيد فرعون إلا في تباب) * أي في هلاك، والذي يقرر ذلك ن الأعرابي لما واقع أهله في نهار رمضان قال: هلكت وأهلكت، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام ما أنكر ذلك، فدل على أنه كان صادقا في ذلك، ولا شك أن العمل إما أن يكون داخلا في الإيمان، أو إن كان داخلا لكنه أضعف أجزائه، فإذا كان بترك العمل حصل الهلاك، ففي حق أبي لهب حصل ترك الاعتقاد والقول والعمل، وحصل وجود الاعتقاد الباطل، والقول الباطل، والعمل الباطل، فكيف يعقل أن لا يحصل معنى الهلاك، فلهذا قال: * (تبت) * وثانيها: تبت خسرت، والتياب هو الخسران المفضي إلى الهلاك، ومنه قوله تعالى: * (وما زادوهم غير تتبيب) * أي تخسير بدليل أنه قال في موضع آخر: غير تخسير وثالثها: تبت خابت، قال ابن عباس: لأنه كان يدفع القوم عنه بقوله: إنه ساحر، فينصرفون عنه قبل لقائه لأنه كان شيخ القبيلة وكان له كالأب فكان لا يتهم، فلما نزلت السورة وسمع بها غضب وأظهر العداوة الشديدة فصار متهما فلم يقبل قوله في الرسول بعد ذلك، فكأنه خاب
سعيه وبطل غرضه، ولعله إنما ذكر اليد لأنه كان يضرب بيده على كتف الوافد عليه، فيقول: انصرف راشدا فإنه مجنون، فإن المعتاد أن من يصرف إنسانا عن موضع وضع يده علي كتفه ودفعه عن ذلك الموضع ورابعها: عن عطاء تبت أي غلبت لأنه كان يعتقد أن يده هي العليا وأنه يخرجه من مكة ويذله ويغلب عليه وخامسها: عن ابن وثاب؛ صفرت يداه على كل خير، وإن قيل: ما فائدة ذكر اليد؟ قلنا: فيه وجوه أحدها: ما يرى أنه أخذ حجرا ليرمي به رسول الله، روى عن طارق المحاربي أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السوق يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل خلفه يرميه بالحجارة وقد أدمى عقبيه،
166

لا تطيعوه فإنه كذاب، فقلت: من هذا، فقالوا: محمد وعمه أبو لهب وثانيها: المراد من اليدين الجملة كقوله تعالى: * (ذلك بما قدمت يداك) * ومنه قولهم: يداك أو كتا، وقوله تعالى: * (مما عملت أيدينا) * وهذا التأويل متأكد بقوله: * (وتب) * وثالثها: تبت يداه أي دينه ودنياه أولاه وعقباه، أو لأن بإحدى اليدين تجر المنفعة، وبأخرى تدفع المضرة، أو لأن اليمنى سلاح والأخرى جنة ورابعها: روى أنه عليه السلام لما دعاه نهارا فأبى، فلما جن الليل ذهب إلى داره مستنا بسنة نوح ليدعوه ليلا كما دعاه نهارا، فلما دخل عليه قال له: جئتني معتذرا فجلس النبي عليه السلام أمامه كالمحتاج، وجعل يدعوه إلى الإسلام وقال: إن كان يمنعك العار فأجبني في هذا الوقت واسكت، فقال: لا أومن بك حتى يؤمن بك هذا الجدي، فقال عليه الصلاة والسلام للجدي: من أنا؟ فقال رسول الله: وأطلق لسانه يثني عليه، فاستولى الحسد على أبي لهب، فأخذ يدي الجدي ومزقه وقال: تبا لك أثر فيك السحر، فقال الجدي: بل تبا لك، فنزلت السورة على وفق ذلك: * (تبت يدا أبي لهب) * لتمزيقه يدي الجدي وخامسها: قال محمد بن إسحق: يروى أن أبا لهب كان يقول: يعدني محمد أشياء، لا أرى أنها كائنة يزعم أنها بعد الموت، فلم يضع في يدي من ذلك شيئا، ثم ينفخ في يديه ويقول: تبا لكما ما أرى فيكما شيئا، فنزلت السورة.
أما قوله تعالى: * (وتب) * ففيه وجوه أحدها: أنه أخرج الأول مخرج الدعاء عليه كقوله: * (قتل الإنسان ما أكفره) * والثاني مخرج الخبر أي كان ذلك وحصل، ويؤيده قراءة ابن مسعود وقد تب وثانيها: كل واحد منهما إخبار ولكن أراد بالأول هلاك عمله، وبالثاني هلاك نفسه ووجهه أن المرء إنما يسعى لمصلحة نفسه وعمله، فأخبر الله تعالى أنه محروم من الأمرين وثالثها: * (تبت يدا أبي لهب) * يعني ماله ومنه يقال: ذات اليد * (وتب) * هو بنفسه كما يقال: * (خسروا أنفسهم وأهليهم) * وهو قول أبي مسلم ورابعها: * (تبت يدا أبي لهب) * يعني نفسه: * (وتب) * يعني ولده عتبة على ما روى أن عتبة بن أبي لهب خرج إلى الشأم مع أناس من قريش فلما هموا أن يرجعوا قال لهم: عتبة بلغوا محمدا عني أني قد كفرت بالنجم إذا هوى، وروى أنه قال ذلك في وجه رسول الله وتفل في وجهه، وكان مبالغا في عداوته، فقال: اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فوقع الرعب في قلب عتبة وكان يحترز فسار ليلة من الليالي فلما كان قريبا من الصبح، فقال له أصحابه: هلكت الركاب فما زالوا به حتى نزل وهو مرعوب وأناخ الإبل حوله كالسرادق فسلط الله عليه الأسد وألقى السكينة على الإبل فجعل الأسد يتخلل حتى افترسه ومزقه، فإن قيل: نزول هذه السورة كان قبل هذه الوقعة، وقوله: * (وتب) * إخبار عن الماضي، فكيف يحمل عليه؟ قلنا: لأنه كان في معلومه تعالى أنه يحصل ذلك
167

وخامسها: * (تبت يدا أبي لهب) * حيث لم يعرف حق ربه * (وتب) * حيث لم يعرف حق رسوله وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لماذا كناه مع أنه كالكذب إذا لم يكن له ولد اسمه لهب، وأيضا فالتكنية من باب التعظيم؟ والجواب: عن الأول أن التكنية قد تكون اسما، ويؤيده قراءة من قرأ تبت يدا أبو لهب كما يقال: علي بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان، فإن هؤلاء أسماؤهم كناهم، وأما معنى التعظيم فأجيب عنه من وجوه أحدها: أنه لما كان اسما خرج عن إفادة التعظيم والثاني: أنه كان اسمه عبد العزي فعدل عنه إلى كنيته والثالث: أنه لما كان من أهل النار ومآله إلى نار ذات لهب وافقت حاله كنيته، فكان جديرا بأن يذكر بها، ويقال أبو لهب: كما يقال: أبو الشر للشرير وأبو الخير للخير الرابع: كنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما، فيجوز أن يذكر بذلك تهكما به واحتقارا له.
السؤال الثاني: أن محمدا عليه الصلاة والسلام كان نبي الرحمة والخلق العظيم، فكيف يليق به أن يشافه عمه بهذا التغليظ الشديد، وكان نوح مع أنه في نهاية التغليظ على الكفار قال في ابنه الكافر إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق، وكان إبراهيم عليه السلام يخاطب أباه بالشفقة في قوله: يا أبت يا أبت وأبوه كان يخاطبه بالتغليظ الشديد، ولما قال له: * (لأرجمنك واهجرني مليا) * قال: * (سلام عليك سأستغفر لك ربي) * وأما موسى عليه السلام فلما بعثه إلى فرعون قال له ولهرون: * (فقولا له قولا لينا) * مع أن جرم فرعون كان أغلظ من جرم أبي لهب، كيف ومن شرع محمد عليه الصلاة والسلام أن الأب لا يقتل بابنه قصاصا ولا يقيم الرجم عليه وإن خاصمه أبوه وهو كافر في الحرب فلا يقتله بل يدفعه عن نفسه حتى يقتله غيره والجواب: من وجوه أحدها: أنه كان يصرف الناس عن محمد عليه الصلاة والسلام بقوله: إنه مجنون والناس ما كانوا يتهمونه، لأنه كان كالأب له، فصار ذلك كالمانع من أداء الرسالة إلى الخلق فشافهه الرسول بذلك حتى عظم غضبه وأظهر العداوة الشديدة، فصار بسبب تلك العداوة متهما في القدح في محمد عليه الصلاة والسلام، فلم يقبل قوله فيه بعد ذلك وثانيها: أن الحكمة في ذلك، أن محمدا لو كان يداهن أحدا في الدين ويسامحه فيه، لكانت تلك المداهنة والمسامحة مع عمه الذي هو قائم مقام أبيه، فلما لم تحصل هذه المداهنة معه انقطعت الأطماع وعلم كل أحد أنه لا يسامح أحدا في شيء يتعلق بالدين أصلا وثالثها: أن الوجه الذي ذكرتم كالمتعارض، فإن كونه عما يوجب أن يكون له الشفقة العظيمة عليه، فلما انقلب الأمر وحصلت العداوة العظيمة، لا جرم استحق التغليظ العظيم.
السؤال الثالث: ما السبب في أنه لم يقل قل: * (تبت يدا أبي لهب وتب) * وقال في سورة الكافرون: * (قل يا أيها الكافرون) *؟ الجواب: من وجوه الأول: لأن قرابة العمومة تقتضي
168

رعاية الحرمة فلهذا السبب لم يقل له: قل ذلك لئلا يكون مشافها لعمه بالشتم بخلاف السورة الأخرى فإن أولئك الكفار ما كانوا أعماما له الثاني: أن الكفار في تلك
السورة طعنوا في الله فقال الله تعالى: يا محمد أجب عنهم: * (قل يا أيها الكافرون) * وفي هذه السورة طعنوا في محمد، فقال الله تعالى أسكت أنت فإني أشتمهم: * (تبت يدا أبي لهب) * الثالث: لما شتموك، فاسكت حتى تندرج تحت هذه الآية: * (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) * وإذا سكت أنت أكون أنا المجيب عنك، يروى أن أبا بكر كان يؤذيه واحد فبقي ساكتا، فجعل الرسول يدفع ذلك الشاتم ويزجره، فلما شرع أبو بكر في الجواب سكت الرسول، فقال أبو بكر: ما السبب في ذلك؟ قال: لأنك حين كنت ساكتا كان الملك يجيب عنك، فلما شرعت في الجواب انصرف الملك وجاء الشيطان.
واعلم أن هذا تنبيه من الله تعالى على أن من لا يشافه السفيه كان الله ذابا عنه وناصرا له ومعينا.
السؤال الرابع: ما الوجه في قراءة عبد الله بن كثير المكي حيث كان يقرأ: * (أبي لهب) * ساكنة الهاء؟ الجواب: قال أبو علي: يشبه أن يكون لهب ولهب لغتين كالشمع والشمع والنهر والنهر، وأجمعوا في قوله: * (سيصلى نارا ذات لهب) * على فتح الهاء، وكذا قوله: * (ولا يغني من اللهب) * وذلك يدل على أن الفتح أوجه من الإسكان، وقال غيره: إنما اتفقوا على الفتح في الثانية مراعاة لو فاق الفواصل.
* (مآ أغنى عنه ماله وما كسب) *.
قوله تعالى: * (ما أغنى عنه ماله وما كسب) * في الآية مسائل:
المسألة الأولى: ما في قوله: * (ما أغنى) * يحتمل أن يكون استفهاما بمعنى الإنكار، ويحتمل أن يكون نفيا، وعلى التقدير الأول يكون المعنى أي تأثير كان لماله وكسبه في دفع البلاء عنه، فإنه لا أحدا كثر مالا من قارون فهل دفع الموت عنه، ولا أعظم ملكا من سليمان فهل دفع الموت عنه، وعلى التقدير الثاني يكون ذلك إخبارا بأن المال والكسب لا ينفع في ذلك.
المسألة الثانية: ما كسب مرفوع وما موصولة أو مصدرية يعني مكسوبه أو كسبه، يروى أنه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وأولادي، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم ذكروا في المعنى وجوها: أحدها: لم ينفعه ماله وما كسب بماله يعني رأس المال والأرباح وثانيها: أن المال هو الماشية وما كسب من نسلها، ونتاجها، فإنه كان صاحب النعم والنتاج وثالثها: * (ماله) * الذي ورثه من أبيه والذي كسبه بنفسه ورابعها: قال ابن عباس: * (ما كسب) * ولده، والدليل عليه قوله عليه السلام: " إن أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه " وقال عليه السلام: " أنت ومالك لأبيك " وروى أن بني أبي لهب احتكموا إليه فاقتتلوا فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع: فغضب فقال: أخرجوا عني الكسب
169

الخبيث وخامسها: قال الضحاك: ما ينفعه ماله وعمله الخبيث يعني كيده في عداوة رسول الله وسادسها: قال قتادة: * (وما كسب) * أي عمله الذي ظن أنه منه على شيء كقوله: * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) * وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: قال ههنا: * (ما أغنى عنه ماله وما كسب) * وقال في سورة: * (والليل إذا يغشى) *) * وما يغني عنه ماله إذا تردى) * فما الفرق؟ الجواب: التعبير بلفظ الماضي يكون آكد كقوله: * (ما أغنى عني ماليه) * وقوله: * (أتى أمر الله) *.
السؤال الثاني: ما أغنى عنه ماله وكسبه فيماذا؟ الجواب: قال بعضهم في عداوة الرسول: فلم يغلب عليه، وقال بعضهم: بل لم يغنيا عنه في دفع النار ولذلك قال: * (سيصلى) *.
* (سيصلى نارا ذات لهب) *.
قوله تعالى: * (سيصلى نارا ذات لهب) * وفيه مسائل.
المسألة الأولى: لما أخبر تعالى عن حال أبي لهب في الماضي بالتباب وبأنه ما أغنى عنه ماله وكسبه، أخبر عن حاله في المستقبل بأنه: * (سيصلى نارا) *.
المسألة الثانية: * (سيصلى) * قرىء بفتح الياء وبضمها مخففا ومشددا.
المسألة الثالثة: هذه الآيات تضمنت الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه أحدها: الإخبار عنه بالتباب والخسار، وقد كان كذلك وثانيها: الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده، وقد كان كذلك. روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام دخل بيتنا، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت أنا، وكان العباس يهاب القوم ويكتم إسلامه، وكان أبو لهب يخلف عن بدر، فبعث مكانه العاص بن هشام، ولم يتخلف رجل منهم إلا بعث مكانه رجلا آخر، فلما جاء الخبر عن واقعة أهل بدر وجدنا في أنفسنا قوة، وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح ألحيها في حجرة زمزم، فكنت جالسا هناك وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذا أقبل أبو لهب يجر رجليه، فجلس على طنب الحجرة وكان ظهري إلى ظهره، فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب، فقال له أبو لهب: كيف الخبر يا ابن أخي؟ فقال: لقينا القوم ومنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف أرادوا، وأيم الله مع ذلك تأملت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق بين السماء والأرض، قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة، ثم قلت: أولئك والله الملائكة، فأخذني وضربني على الأرض، ثم برك علي فضربني وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود فضربته على رأسه وشجته، وقالت: تستضعفه أن غاب سيده، والله نحن مؤمنون منذ أيام كثيرة، وقد صدق فيما قال: فانصرف ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته،
170

ولقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا ما يدفناه حتى أنتن في بيته، وكانت قريش تتقي العدسة وعدواها كما يتقي الناس الطاعون، وقالوا نخشى هذه القرحة، ثم دفنوه وتركوه، فهذا معنى قوله: * (ما أغنى عنه ماله وما كسب) * وثالثها: الإخبار بأنه من أهل النار، وقد كان كذلك لأنه مات على الكفر.
المسألة الرابعة: احتج أهل السنة على وقوع تكليف مالا يطاق بأن الله تعالى كلف أبا لهب بالإيمان، ومن جملة الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار، فقد صار مكلفا بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال. وأجاب الكعبي وأبو الحسين البصري بأنه لو آمن أبو لهب لكان لهذا الخبر خبرا بأنه آمن، لا بأنه ما آمن، وأجاب القاضي عنه فقال: متى قيل: لو فعل الله ما أخبر أنه لا يفعله فكيف يكون؟ فجوابنا: أنه لا يصح الجواب عن ذلك بلا أو نعم.
واعلم أن هذين الجوابين في غاية السقوط، أما الأول: فلأن هذه الآية دالة على أن خبر الله عن عدم إيمانه واقع، والخبر الصدق عن عدم إيمانه ينافيه وجود الإيمان منافاة ذاتية ممتنعة الزوال فإذا كان كلفه أن يأتي بالإيمان مع وجود هذا الخبر فقد كلفه بالجمع بين المتنافيين.
وأما الجواب الثاني: فأرك من الأول لأنا لسنا في طلب أن يذكروا بلسانهم لا أو نعم، بل صريح العقل شاهد بأن بين كون الخبر عن عدم الإيمان صدقا، وبين وجود الإيمان منافاة ذاتية، فكان التكليف بتحصيل أحد المتضادين حال حصول الآخر تكليفا بالجمع بين الضدين، وهذا الإشكال قائم سواء ذكر الخصم بلسانه شيئا أم بقي ساكتا.
* (وامرأته حمالة الحطب) *.
أما قوله تعالى: * (وامرأته حمالة الحطب) * ففيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء ومريئته بالتصغير وقرئ حمالة الحطب بالنصب على الشتم، قال صاحب الكشاف: وأنا أستحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل وقرئ بالنصب والتنوين والرفع.
المسألة الثانية: أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان بن حرب عمة معاوية، وكانت في غاية العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكروا في تفسير كونها حمالة الحطب وجوها: أحدها: أنها كانت تحمل حزمة من الشوك والحسك فتنثرها بالليل في طريق رسول الله، فإن قيل: إنها كانت من بيت العز فكيف يقال: إنها حمالة الحطب؟ قلنا: لعلها كانت مع كثرة مالها خسيسة أو كانت لشدة عداوتها تحمل بنفسها الشوك والحطب، لأجل أن تلقيه في طريق رسول الله وثانيها: أنها كانت تمشي بالنميمة يقال: المشاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي يوقد بينهم النائرة، ويقال للمكثار: هو حاطب
171

ليل وثالثها: قول قتادة: أنها كانت تعير رسول الله بالفقر، فعيرت بأنها كانت تحتطب والرابع: قول أبي مسلم وسعيد بن جبير: أن المراد ما حملت من الآثام في عداوة الرسول، لأنه كالحطب في تصيرها إلى النار، ونظيره أنه تعالى شبه فاعل الإثم بمن يمشي وعلى ظهره حمل، قال تعالى: * (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) * وقال تعالى: * (يحملون أوزارهم على ظهورهم) * وقال تعالى: * (وحملها الإنسان) *.
المسألة الثالثة: امرأته إن رفعته، ففيه وجهان أحدهما: العطف على الضمير في سيصلى، أي سيصلي هو وامرأته. وفي جيدها في موضع الحال والثاني: الرفع على الابتداء، وفي جيدها الخبر.
المسألة الرابعة: عن أسماء لما نزلت * (تبت) * جاءت أم جميل ولها ولولة وبيدها حجر، فدخلت المسجد، ورسول الله جالس ومعه أبو بكر، وهي تقول:
مذمما قلينا ودينه أبينا وحكمه عصينا
فقال أبو بكر: يا رسول الله قد أقبلت إليك فأنا أخاف أن تراك، فقال عليه السلام: " إنها لا تراني " وقرأ: * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * وقالت لأبي بكر: قد ذكر لي أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها
وفي هذه الحكاية أبحاث:
الأول: كيف جاز في أم جميل أن لا ترى الرسول، وترى أبا بكر والمكان واحد؟ الجواب: أما على قول أصحابنا فالسؤال زائل، لأن عند حصول الشرائط يكون الإدراك جائزا لا واجبا، فإن خلق الله الإدراك رأى وإلا فلا، وأما المعتزلة فذكروا فيه وجوها أحدها: لعله عليه السلام أعرض وجهه عنها وولاها ظهره، ثم إنها كانت لغاية غضبها لم تفتش، أو لأن الله ألقى في قلبها خوفا، فصار ذلك صارفا لها عن النظر وثانيها: لعل الله تعالى ألقى شبه إنسان آخر على الرسول، كما فعل ذلك بعيسى وثالثها: لعل الله تعالى حول شعاع بصرها عن ذلك السمت حتى أنها ما رأته.
واعلم أن الإشكال على الوجوه الثلاثة لازم، لأن بهذه الوجوه عرفنا أنه يمكن أن يكون الشيء حاضر ولا نراه، وإذا جوزنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون عندنا فيلات وبوقات، ولا نراها ولا نسمعها.
البحث الثاني: أن أبا بكر حلف أنه ما هجاك، وهذا من باب المعاريض، لأن القرآن لا يسمى هجوا، ولأنه كلام الله لا كلام الرسول، فدلت هذه الحكاية على جواز المعاريض.
172

بقي من مباحث هذه الآية سؤالان:
السؤال الأول: لم لم يكتف بقوله: * (وامرأته) * بل وصفها بأنها حمالة الحطب؟ الجواب: قيل: كان له امرأتان سواها فأراد الله تعالى أن لا يظن ظان أنه أراد كل من كانت امرأة له، بل ليس المراد إلا هذه الواحدة.
السؤال الثاني: أن ذكر النساء لا يليق بأهل الكرم والمروءة، فكيف يليق ذكرها بكلام الله، ولا سيما امرأة العم؟ الجواب: لما لم يستبعد في امرأة نوح وامرأة لوط
بسبب كفر تينك المرأتين، فلأن لا يستعبد في امرأة كافرة زوجها رجل كافر أولى.
* (فى جيدها حبل من مسد) *.
قوله تعالى: * (في جيدها حبل من مسد) * قال الواحدي: المسد في كلام العرب الفتل، يقال مسد الحبل يمسده مسدا إذا أجاد فتله، ورجل ممسود إذا كان مجدول الخلق، والمسد ما مسد أي فتل من أي شيء كان، فيقال لما فتل من جلود الإبل، ومن الليف والخوص مسد. ولما فتل من الحديد أيضا مسد، إذا عرفت هذا فنقول ذكر المفسرون وجوها أحدها: في جيدها حبل مما مسد من الحبال لأنها كانت تحمل تلك الحزمة من الشوك وتربطها في جيدها كما يفعل الحطابون، والمقصود بيان خساستها تشبيها لها بالحطابات إيذاءه لها ولزوجها وثانيها: أن يكون المعنى أن حالها يكون في نار جهنم على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الحزمة من الشوك، فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجرة الزقوم وفي جيدها حبل من سلاسل النار.
فإن قيل: الحبل المتخذ من المسد كيف يبقى أبدا في النار؟ قلنا: كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبدا في النار، ومنهم من قال: ذلك المسد يكون من الحديد، وظن من ظن أن المسد لا يكون من الحديد خطأ، لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد أو من غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
173

سورة الاخلاص
أربع آيات مكية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (قل هو الله أحد) *.
* (قل هو أحد) * قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصول: الفصل الأول: روى أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ سورة قل هو الله أحد، فكأنما قرأ ثلث القرآن وأعطى من الأجر عشر حسنات بعدد من أشرك بالله وأمن بالله " وقال عليه الصلاة والسلام: " من قرأ قل هو الله أحد مرة واحدة أعطى من الأجر كمن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأعطى من الأجر مثل مائة شهيد "، وروى: " أنه كان جبريل عليه السلام مع الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أقبل أبو ذر الغفاري، فقال جبريل: هذا أبو ذر قد أقبل، فقال عليه الصلاة والسلام: أو تعرفونه؟ قال: هو أشهر عندنا منه عندكم، فقال عليه الصلاة والسلام: بماذا نال هذه الفضيلة؟ قال لصغره في نفسه وكثرة قراءته قل هو الله أحد " وروى أنس قال: " كنا في تبوك فطلعت الشمس مالها شعاع وضياء وما رأيناها على تلك الحالة قط قبل ذلك فعجب كلنا، فنزل جبريل وقال: إن الله أمر أن ينزل من الملائكة سبعون ألف ملك فيصلوا على معاوية بن معاوية، فهل لك أن تصلي عليه ثم ضرب بجناحه الأرض فأزال الجبال وصار الرسول عليه الصلاة والسلام كأنه مشرف عليه فصلى هو وأصحابه عليه، ثم قال: بم بلغ ما بلغ؟ فقال جبريل: كان يحب سورة الإخلاص " وروى: " أنه دخل المسجد فسمع رجلا يدعو ويقول أسألك يا الله يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، فقال: غفر لك غفر لك غفر لك ثلاث مرات " وعن سهل بن سعد: " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وشكا إليه الفقر فقال: إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد فسلم على نفسك، واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة ففعل الرجل فأدر الله عليه رزقا حتى أفاض على جيرانه " وعن أنس: " أن رجلا كان يقرأ في جميع صلاته: * (قل هو الله أحد) * فسأله الرسول عن ذلك فقال: يا رسول الله إني أحبها، فقال: حبك إياها
174

يدخلك الجنة " وقيل من قرأها في المنام: أعطي التوحيد وقلة العيال وكثرة الذكر لله، وكان مستجاب الدعوة.
الفصل الثاني: في سبب نزولها وفيه وجوه الأول: أنها نزلت بسبب سؤال المشركين، قال الضحاك: إن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: شققت عصانا وسببت آلهتنا، وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيرا أغنيناك، وإن كنت مجنونا داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها، فقال عليه الصلاة والسلام: لست بفقير، ولا مجنون، ولا هويت امرأة، أنا رسول الله أدعوكم من عبادة الأصنام إلى عبادته، فأرسلوه ثانية وقالوا: قل له بين لنا جنس معبودك، أمن ذهب أو فضة، فأنزل الله هذه السورة، فقالوا له: ثلثمائة وستون صنما لا تقوم بحوائجنا، فكيف يقوم الواحد بحوائج الخلق؟ فنزلت: * (والصافات) * إلى قوله: * (إن إلهكم لواحد) * فأرسلوه أخرى، وقالوا: بين لنا أفعاله فنزل: * (إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض) * الثاني: أنها نزلت بسبب سؤال اليهود روى عكرمة عن ابن عباس، أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله ومعهم كعب بن الأشرف، فقالوا: يا محمد هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ فغضب نبي الله عليه السلام فنزل جبريل فسكنه، وقال: اخفض جناحك يا محمد، فنزل: * (قل هو الله أحد) * فلما تلاه عليهم قالوا: صف لنا ربك كيف عضده، وكيف ذراعه؟ فغضب أشد من غضبه الأول، فأتاه جبريل بقوله: * (وما قدروا الله حق قدره) * الثالث: أنها نزلت بسبب سؤال النصارى، روى عطاء عن ابن عباس، قال: قدم وفد نجران، فقالوا: صف لنا ربك أمن زبرجد أو ياقوت، أو ذهب، أو فضة؟ فقال: إن ربي ليس من شيء لأنه خالق الأشياء فنزلت: * (قل هو الله أحد) * قالوا: هو واحد، وأنت واحد، فقال: ليس كمثله شيء، قالوا: زدنا من الصفة، فقال: * (الله الصمد) * فقالوا: وما الصمد؟ فقال: الذي يصمد إليه الخلق في الحوائج، فقالوا: زدنا فنزل: * (لم يلد) * كما ولدت مريم: * (ولم يولد) * كما ولد عيسى: * (ولم يكن له كفوا أحد) * يريد نظيرا من خلقه.
الفصل الثالث: في أساميها، اعلم أن كثرة الألقاب تدل على مزيد الفضيلة، والعرف يشهد لما ذكرناه فأحدها: سورة التفريد وثانيها: سورة التجريد وثالثها: سورة التوحيد ورابعها: سورة الإخلاص لأنه لم يذكر في هذه السورة سوى صفاته السلبية التي هي صفات الجلال، ولأن من اعتقده كان مخلصا في دين الله، ولأن من مات عليه كان خلاصه من النار، ولأن ما قبله خلص في ذم أبي لهب فكان جزاء من قرأه أن لا يجمع بينه وبين أبي لهب وخامسها: سورة النجاة لأنها تنجيك عن التشبيه
والكفر في الدنيا، وعن النار في الآخرة وسادسها: سورة الولاية لأن من قرأها صار من أولياء الله ولأن من عرف الله على هذا الوجه فقد والاه فبعد محنة رحمة كما بعد منحة نعمة وسابعها: سورة النسبة لما روينا أنه ورد جوابا لسؤال من قال: أنسب لنا ربك، ولأنه عليه السلام قال لرجل من بني سليم: " يا أخا بني سليم استوص
175

بنسبة الله خيرا " وهو من لطيف المباني، لأنهم لما قالوا: أنسب لنا ربك، فقال: نسبة الله هذا والمحافظة على الأنساب من شأن العرب، وكانوا يتشددون على من يزيد في بعض الأنساب أو ينقص، فنسبة الله في هذه السورة أولى بالمحافظة عليها وثامنها: سورة المعرفة لأن معرفة الله لا تتم إلا بمعرفة هذه السورة، روى جابر أن رجلا صلى فقرأ: قل هو الله أحد فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك وتاسعها: سورة الجمال قال عليه الصلاة والسلام: " إن الله جميل يحب الجمال " فسألوه عن ذلك فقال: أحد صمد لم يلد ولم يولد لأنه إذا لم يكن واحدا عديم النظير جاز أن ينوب ذلك المثل منابه وعاشرها: سورة المقشقشة، يقال: تقشيش المريض مما به، فمن عرف هذا حصل له البرء من الشرك والنفاق لأن النفاق مرض كما قال: * (في قلوبهم مرض) * الحادي عشر: المعوذة، روى أنه عليه السلام دخل على عثمان بن مظعون فعوذه بها وباللتين بعدها، ثم قال: " نعوذ بهن فما تعوذت بخير منها " والثاني عشر: سورة الصمد لأنها مختصة بذكره تعالى والثالث عشر: سورة الأساس، قال عليه الصلاة والسلام: " أسست السماوات السبع والأرضون السبع على قل هو الله أحد " ومما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السماوات والأرض بدليل قوله: * (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال) * فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة هذه الأشياء وقيل السبب فيه معنى قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) * الرابع عشر: سورة المانعة روى ابن عباس أنه تعالى قال: لنبيه حين عرج به أعطيتك سورة الإخلاص وهي من ذخائر كنوز عرشي، وهي المانعة تمنع عذاب القبر ولفحات النيران الخامس عشر: سورة المحضر لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرئت السادس عشر: المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها السابع عشر: البراءة لأنه روى أنه عليه السلام رأى رجل يقرأ هذه السورة، فقال: أما هذا فقد برئ من الشرك، وقال عليه السلام: من قرأ سورة قل هو الله أحد مائة مرة في صلاة أو في غيرها كتبت له براءة من النار الثامن عشر: سورة المذكرة لأنها تذكر العبد خالص التوحيد فقراءة السورة كالوسمة تذكرك ما تتغافل عنه مما أنت محتاج إليه التاسع عشر: سورة النور قال الله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض) * فهو المنور للسموات والأرض، والسورة تنور قلبك وقال عليه السلام: " إن لكل شيء نور ونور القرآن قل هو الله أحد " ونظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه وهو الحدقة، فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان العشرون: سورة الأمان قال عليه السلام: " إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل حصني ومن دخل حصني أمن من عذابي ".
الفصل الرابع: في فضائل هذه السورة وهي من وجوه الأول: اشتهر في الأحاديث أن قراءة هذه السورة تعدل قراءة ثلث القرآن، ولعل الغرض منه أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع والعبادات، معرفة ذات الله ومعرفة صفاته ومعرفة أفعاله، وهذه السورة مشتملة
176

على معرفة الذات، فكانت هذه السورة معادلة لثلث القرآن، وأما سورة: * (قل يا أيها الكافرون) * فهي معادلة لربع القرآن، لأن المقصود من القرآن إما الفعل وإما الترك وكل واحد منهما فهو إما في أفعال القلوب وإما في أفعال الجوارح فالأقسام أربعة، وسورة: * (قل يا أيها الكافرون) * لبيان ما ينبغي تركه من أفعال القلوب، فكانت في الحقيقة مشتملة على ربع القرآن، ومن هذا السبب اشتركت السورتان أعني: * (قل يا أيها الكافرون) *، و: * (قل هو الله أحد) * في بعض الأسامي فهما المقشقشتان والمبرئتان، من حيث إن كل واحدة منهما تقيد براءة القلب عما سوى الله تعالى، إلا أن: * (قل يا أيها الكافرون) * يفيد بلفظه البراءة عما سوى الله وملازمة الاشتغال بالله و: * (قل هو الله أحد) * يفيد بلفظه الاشتغال بالله وملازمة الإعراض عن غير الله أو من حيث إن: * (قل يا أيها الكافرون) * تفيد براءة القلب عن سائر المعبودين سوى الله، و: * (قل هو الله أحد) * تفيد براءة المعبود عن كل مالا يليق به الوجه الثاني: وهو أن ليلة القدر لكونها صدقا للقرآن كانت خيرا من ألف شهر فالقرآن كله صدف والدر هو قوله: * (قل هو الله أحد) * فلا جرم حصلت لها هذه الفضيلة الوجه الثالث: وهو أن الدليل العقلي دل على أن أعظم درجات العبد أن يكون قلبه مستنيرا بنور جلال الله وكبريائه، وذلك لا يحصل إلا من هذه السورة، فكانت هذه السورة أعظم السور، فإن قيل: فصفات الله أيضا مذكورة في سائر السور، قلنا: لكن هذه السورة لها خاصية وهي أنها لصغرها في الصورة تبقى محفوظة في القلوب معلومة للعقول فيكون ذكر جلال الله حاضرا أبدا بهذا السبب، فلا جرم امتازت عن سائر السور بهذه الفضائل وليرجع الآن إلى التفسير.
قوله تعالى: * (قل هو الله أحد) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن معرفة الله تعالى جنة حاضرة إذا لجنة أن تنال ما يوافق عقلك وشهوتك، ولذلك لم تكن الجنة جنة لآدم لما نازع عقله هواه، ولا كان القبر سجنا على المؤمن لأنه حصل له هناك ما يلائم عقله وهواه، ثم إن معرفة الله تعالى مما يريدها الهوى والعقل، فصارت جنة مطلقة، وبيان ما قلنا: أن العقل يريد أمينا تودع عنده الحسنات، والشهوة تريد غنيا يطلب منه المستلذات، بل العقل كالإنسان الذي له همة عالية فلا ينقاد إلا لمولاه، والهوى كالمنتجع الذي إذا سمع حضور غني، فإنه ينشط للانتجاع إليه، بل العقل يطلب معرفة المولى ليشكر له النعم الماضية والهوى يطلبها ليطمع منه في النعم المتربصة، فلما عرفاه كما أراده عالما وغنيا تعلقا بذيله، فقال العقل: لا أشكر أحدا سواك، وقالت الشهوة: لا أسأل أحدا إلا إياك، ثم جاءت الشبهة فقالت: يا عقل كيف أفردته بالشكر ولعل له مثلا؟ ويا شهوة كيف اقتصرت عليه ولعل ههنا بابا آخر؟ فبقي العقل متحيرا وتنغصت عليه تلك الراحة، فأراد أن يسافر في عالم الاستدلال ليفوز بجوهرة اليقين فكأن الحق سبحانه قال: كيف أنغص على عبدي لذة الاشتغال بخدمتي وشكري، فبعث الله رسوله وقال: لا تقله من عند نفسك، بل قل هو الذي عرفته صادقا
177

يقول لي: * (قل هو الله أحد) * فعرفك الوحدانية بالسمع وكفاك مؤنة النظر والاستدلال بالعقل، وتحقيقه أن المطالب على ثلاثة أقسام قسم منها لا يمكن الوصول إليه
بالسمع وهو كل ما تتوقف صحة السمع على صحته كالعلم بذات الله تعالى وعلمه وقدرته وصحة المعجزات، وقسم منها لا يمكن الوصول إليه إلا بالسمع وهو وقوع كل ما علم بالعقل والسمع معا، وهو كالعلم بأنه واحد وبأنه مرئي إلى غيرهما، وقد استقصينا في تقرير دلائل الوحدانية في تفسير قوله تعالى: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) *.
المسألة الثانية: اعلم أنهم أجمعوا على أنه لا بد في سورة: * (قل يا أيها الكافرون) * من قل وأجمعوا على أنه لا يجوز لفظ قل في سورة: * (تبت) * وأما في هذه السورة فقد اختلفوا، فالقراءة المشهورة: * (قل هو الله أحد) * وقرأ أبي وابن مسعود. بغير قل هكذا: * (هو الله أحد) * وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم، بدون قل هو هكذا: * (الله أحد الله الصمد) * فمن أثبت قل قال: السبب فيه بيان أن النظم ليس في مقدوره، بل يحكي كل ما يقال له، ومن حذفه قال: لئلا يتوهم أن ذلك ما كان معلوما للنبي عليه الصلاة والسلام.
المسألة الثالثة: اعلم أن في إعراب هذه الآية وجوها أحدها: أن هو كناية عن اسم الله، فيكون قوله: الله مرتفعا بأنه خبر مبتدأ، ويجوز في قوله: * (أحد) * ما يجوز في قولك: زيد أخوك قائم الثاني: أن هو كناية عن الشأن، وعلى هذا التقرير يكون الله مرتفعا بالابتداء وأحد خبره، والجملة تكون خبرا عن هو، والتقدير الشأن والحديث: هو أن الله أحد، ونظيره قوله: * (فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا) * إلا أن هي جاءت على التأنيث، لأن في التفسير: اسما مؤنثا، وعلى هذا جاء: * (فإنها لا تعمي الأبصار) * أما إذا لم يكن في التفسير مؤنث لم يؤنث ضمير القصة، كقوله: * (إنه من يأت ربه مجرما) * والثالث: قال الزجاج: تقدير هذه الآية أن هذا الذي سألتم عنه هو الله أحد.
المسألة الرابعة: في أحد وجهان أحدهما: أنه بمعنى واحد، قال الخليل: يجوز أن يقال: أحد اثنان وأصل أحد وحد إلا أنه قلبت الواو همزة للخفيف وأكثر ما يفعلون هذا بالواو المضمومة، والمكسورة كقولهم: وجوه وأجوه وسادة وأسادة والقول الثاني: أن الواحد والأحد ليسا اسمين مترادفين قال الإهري: لا يوصف شيء بالأحدية غير الله تعالى لا يقال: رجل أحد ولا درهم أحدكما يقال: رجل واحد أي فرد به بل أحد صفة من صفات الله تعالى استأثر بها فلا يشركه فيها شيء. ثم ذكروا في الفرق بين الواحد والأحد وجوها أحدها: أن الواحد يدخل في الأحد والأحد لا يدخل فيه وثانيها: أنك إذا قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان بخلاف الأحد، فإنك لو قلت: فلان لا يقاومه أحد لا يجوز أن يقال: لكنه يقاومه اثنان
178

وثالثها: أن الواحد يستعمل في الإثبات والأحد في النفي، تقول في الإثبات رأيت رجلا واحدا وتقول في النفي: ما رأيت أحدا فيفيد العموم.
المسألة الخامسة: اختلف القراء في قوله: * (أحد الله الصمد) * فقراءة العامة بالتنوين وتحريكه بالكسر هكذا أحدن الله، وهو القياس الذي لا إشكال فيه، وذلك لأن التنوين من أحد ساكن ولام المعرفة من الله ساكنة، ولما التقى ساكنان حرك الأول منهما بالكسر، وعن أبي عمرو، أحد الله بغير تنوين، وذلك أن النون شابهت حروف اللين في أنها تزاد كما يزدن فلما شابهتها أجريت مجراها في أن حذفت ساكنة لالتقاء الساكنين كما حذفت الألف والواو والياء لذلك نحو غزا القوم ويغزو القوم، ويرمي القوم، ولهذا حذفت النون الساكنة في الفعل نحو: * (لم يك) * * (ولا تك في مرية) * فكذا ههنا حذفت في أحد الله لالتقاء الساكنين كما حذفت هذه الحروف.
وقد ذكرنا هذا مستقصى عند قوله: * (عزير ابن الله) * وروى أيضا عن أبي عمرو: * (أحد الله) * وقال: أدركت القراء يقرؤونها كذلك وصلا على السكون، قال أبو علي: قد تجري الفواصل في الإدراج مجراها في الوقف وعلى هذا قال من قال: * (فأضلونا السبيلا، ربنا) * * (وما أدراك ما هيه، نار فكذلك: * (أحد الله) * لما كان أكثر القراء فيما حكاه أبو عمرو على الوقف أجراه في الوصل مجراه في الوقف لاستمرار الوقف عليه وكثرته في ألسنتهم، وقرأ الأعمش: * (قل هو الله الواحد) * فإن قيل: لماذا؟ قيل: أحد على النكرة، قال الماوردي: فيه وجهان أحدهما: حذف لام التعريف على نية إضمارها والتقدير قل: هو الله الأحد والثاني: أن المراد هو التنكير على سبيل التعظيم.
المسألة السادس: اعلم أن قوله: * (هو الله أحد) * ألفاظ ثلاثة وكل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات الطالبين فالمقام الأول: مقام المقربين وهو أعلى مقامات السائرين إلى الله وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات الأشياء وحقائقها من حيث هي هي، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله لأن الحق هو الذي لذاته يجب وجوده، وأما ما عداه فممكن لذاته والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو كان معدوما، فهؤلاء لم يروا موجودا سوى الحق سبحانه، وقوله: * (هو) * إشارة مطلقة والإشارة وإن كانت مطلقة إلا أن المشار إليه لما كان معينا انصرف ذلك المطلق إلى ذلك المعين، فلا جرم كان قولنا: هو إشارة من هؤلاء المقربين إلى الحق سبحانه فلم يفتقروا في تلك الإشارة إلى مميز، لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حين حصل هناك موجودان، وقد بينا أن هؤلاء ما شاهدوا بعيون عقولهم إلا الواحد فقط، فلهذا السبب كانت لفظة: * (هو) * كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء، المقام الثاني: وهو مقام أصحاب اليمين وهو دون المقام الأول، وذلك لأن هؤلاء شاهدوا الحق موجودا وشاهدوا الخلق أيضا موجودا، فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق، بل لا بد هناك من مميز به يتميز الحق عن الخلق: فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرنوا لفظة هو، فقيل: لأجلهم هو
179

الله، لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه، ويستغني هو عن كل ما عداه والمقام الثالث: وهو مقام أصحاب الشمال وهو أخس المقامات وأدونها، وهم الذين يجوزون أن يكون واجب الوجود أكثر من واحد وأن يكون الإله أكثر من واحد فقرن لفظ الأحد بما تقدم ردا على هؤلاء وإبطال لمقالاتهم فقيل: * (قل هو الله أحد) *.
وههنا بحث آخر: أشرف وأعلى مما ذكرناه وهو أن صفات الله تعالى إما أن تكون إضافية وإما أن تكون سلبية، أما الإضافية فكقولنا: عالم، قادر مربد خلاق، وأما السلبية فكقولنا: ليس بجسم ولا بجوهر ولا بعرض والمخلوقات تدل أولا على النوع الأول من الصفات وثانيا على النوع الثاني منها، وقولنا: الله يدل على مجامع
الصفات الإضافية، وقولنا: أحد يدل على مجامع الصفات السلبية، فكان قولنا: * (الله أحد) * تاما في إفادة العرفان الذي يليق بالعقول البشرية، وإنما قلنا: إن لفظ الله يدل على مجامع الصفات الإضافية، وذلك لأن الله هو الذي يستحق العبادة، واستحقاق العبادة ليس إلا لمن يكون مستبدا بالإيجاد والإبداع والاستبداد بالإيجاد لا يحصل إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة والإرادة النافذة والعلم المتعلق بجميع المعلومات من الكليات والجزئيات. وهذه مجامع الصفات الإضافة، وأما مجامع الصفات السلبية فهي الأحدية، وذلك لأن المراد من الأحدية كون تلك الحقيقة في نفسها مفردة منزهة عن أنحاء التركيب، وذلك لأن كل ماهية مركبة فه مفتقرة إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته، فكل مركب فهو ممكن لذاته، فالإله الذي هو مبدأ لجميع الكائنات ممتنع أن يكون ممكنا، فهو في نفسه فرد أحد وإذا ثبتت الأحدية، وجب أن لا يكون متحيزا لأن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره، وكل ما كان كذلك فهو منقسم، فالأحد يستحيل أن يكون متحيزا، وإذا لم يكن متحيزا لم يكن في شيء من الأحياز والجهاد ويجب أن لا يكون حالا في شيء، لأنه مع محله لا يكون أحدا، ولا يكون محلا لشيء، لأنه مع حاله لا يكون أحدا، وإذا لم يكن حالا ولا محلا لم يكن متغيرا البتة لأن التغير لا بد وأن يكون من صفة إلى صفة، وأيضا إذا كان أحدا وجب أن يكون واحدا إذ لو فرض موجودان واجبا الوجود لاشتركا في الوجوب ولتمايزا في التعين وما به المشاركة غير ما به الممايزة فكل واحد منهما مركب، فثبت أن كونه أحدا يستلزم كونه واحدا فإن قيل: كيف يعقل كون الشيء أحدا، فإن كل حقيقة توصف بالأحدية فهناك تلك الحقيقة من تلك الأحدية ومجموعهما فذاك ثالث ثلاث لا أحد الجواب: أن الأحدية لازمة لتلك الحقيقة فالمحكوم عليه بالأحدية هو تلك الحقيقة لا المجموع الحاصل منها ومن تلك الأحدية، فقد لاح بما ذكرنا أن قوله: * (الله أحد) * كلام متضمن لجميع صفات الله تعالى من الإضافيات والسلوب وتمام الكلام في هذا الباب مذكور في تفسير قوله: * (وإلهكم إله واحد) *.
180

* (الله الصمد) *.
قوله تعالى: * (الله الصمد) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير: * (الصمد) * وجهين الأول: أنه فعل بمعنى مفعول من صمد إليه إذا قصده، وهو السيد المصمود إليه في الحوائج، قال الشاعر: ألا بكر الناعي بخير بني أسد * بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال أيضا: علوته بحسامي ثم قلت له * خذها حذيف فأنت السيد الصمد
والدليل على صحة هذا التفسير ما روى ابن عباس: " أنه لما نزلت هذه الآية قالوا: ما الصمد؟ قال عليه السلام هو السيد الذي يصمد إليه في الحوائج " وقال الليث: صمدت صمد هذا الأمر أي قصدت قصده والقول الثاني: أن الصمد هو الذي لا جوف له، ومنه يقال: لسداد القارورة الصماد، وشئ مصمد أي صلب ليس فيه رخاوة، وقال قتادة: وعلى هذا التفسير: الدال فيه مبدلة من التاء وهو المصمت، وقال بعض المتأخرين من أهل اللغة: الصمد هو الأملس من الحجر الذي لا يقبل الغبار ولا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء، واعلم أنه قد استدل قوم من جهال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحدا ينافي جسما فمقدمة هذا الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغطة وتعالى الله عن ذلك، فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه، وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجبا لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته، فهذا ما يتعلق بالبحث اللغوي في هذه الآية.
وأما المفسرون فقد نقل عنهم وجوه، بعضها يليق بالوجه الأول وهو كونه تعالى سيدا مرجوعا إليه في دفع الحاجات، وهو إشارة إلى الصفات الإضافية، وبعضها بالوجه الثاني وهو كونه تعالى واجب الوجود في ذاته وفي صفاته ممتنع التغير فيهما وهو إشارة إلى الصفات السلبية وتارة يفسرون الصمد بما يكون جامعا للوجهين.
أما النوع الأول: فذكروا فيه وجوها: الأول: الصمد هو العالم بجميع المعلومات لأن كونه سيدا مرجوعا إليه في قضاء الحاجات لا يتم إلا بذلك الثاني: الصمد هو الحليم لأن كونه سيدا يقتضي الحلم والكرم الثالث: وهو قول ابن مسعود والضحاك الصمد هو السيد الذي قد انتهى سؤدده الرابع: قال الأصم: الصمد هو الخالق للأشياء، وذلك لأن كونه سيدا يقتضي ذلك الخامس: قال السدي: الصمد هو المقصود في الرغائب، المستغاث به عند المصائب السادس: قال الحسين بن الفضل البجلي: الصمد هو الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه السابع: أنه السيد المعظم الثامن: أنه الفرد الماجد لا يقضي في أمر دونه.
181

وأما النوع الثاني: وهو الإشارة إلى الصفات السلبية فذكروا فيه وجوها: الأول: الصمد هو الغني على ما قال: * (وهو الغني الحميد) * الثاني: الصمد الذي ليس فوقه أحد لقوله: * (وهو القاهر فوق عباده) * ولا يخاف من فوقه، ولا يرجو من دونه ترفع الحوائج إليه الثالث: قال قتادة: لا يأكل ولا يشرب: * (وهو يطعم ولا يطعم) * الرابع: قال قتادة: الباقي بعد فناء خلقه: * (كل من عليها فان) * الخامس: قال الحسن البصري: الذي لم يزل ولا يزال، ولا يجوز عليه الزوال كان ولا مكان، ولا أين ولا أواه، ولا عرش ولا كرسي، ولا جني ولا إنسي وهو الآن كما كان السادس: قال يمان وأبو مالك: الذي لا ينام ولا يسهو الثامن: قال ابن كيسان: هو الذي لا يوصف بصفة أحد التاسع: قال مقاتل بن حبان: هو الذي لا عيب فيه العاشر: قال الربيع بن أنس: هو الذي لا تعتريه الآفات الحادي عشر: قال سعيد بن جبير: إنه الكامل في جميع صفاته، وفي جميع أفعاله الثاني عشر: قال جعفر الصادق: إنه الذي يغلب ولا يغلب الثالث عشر: قال أبو هريرة: إنه المستغنى عن كل أحد الرابع عشر: قال أبو بكر الوراق: إنه الذي أيس الخلائق من الاطلاع على كيفيته الخامس عشر: هو الذي لا تدركه الأبصار السادس عشر: قال أبو العالية ومحمد القرظي: هو الذي لم يلد ولم يولد، لأنه ليس شيء إلا سيورث، ولا شيء يولد إلا وسيموت السابع عشر: قال ابن عباس: إنه الكبير الذي ليس فوقه أحد الثامن عشر: أنه المنزه عن قبول النقصانات والزيادات، وعن أن يكون موردا للتغيرات والتبدلات، وعن إحاطة الأزمنة والأمكنة والآنات والجهات.
وأما الوجه الثالث: وهو أن يحمل لفظ الصمد على الكل وهو محتمل، لأنه بحسب دلالته على الوجوب الذاتي يدل على جميع السلوب، وبحسب دلالته على كونه مبدأ للكل يدل على جميع النعوت الإلهية.
المسألة الثانية: قوله: * (الله الصمد) * يقتضي أن لا يكون في الوجود صمد سوى الله، وإذا كان الصمد مفسرا بالمصمود إليه في الحوائج، أو بما لا يقبل التغير في ذاته لذم أن لا يكون في الوجود موجود هكذا سوى الله تعالى، فهذه الآية تدل على أنه لا إله سوى الواحد، فقوله: * (الله أحد) * إشارة إلى كونه واحدا، بمعنى أنه ليس في ذاته تركيب ولا تأليف بوجه من الوجوه، وقوله: * (الله الصمد) * إشارة إلى كونه واحدا، بمعنى نفي الشركاء والأنداد والأضداد. وبقي في الآية سؤالان:
السؤال الأول: لم جاء أحد منكرا، وجاء الصمد معرفا؟ الجواب: الغالب على أكثر أوهام الخلق أن كل موجود محسوس، وثبت أن كل محسوس فهو منقسم، فإذا مالا يكون منقسما لا يكون خاطرا بيان أكثر الخلق، وأما الصمد فهو الذي يكون مصمودا إليه في الحوائج، وهذا كان معلوما للعرب بل لأكثر الخلق على ما قال: * (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) * وإذا كانت
182

الأحدية مجهولة مستنكرة عند أكثر الخلق، وكانت الصمدية معلومة الثبوت عند جمهور الخلق، لا جرم جاء لفظ أحد على سبيل التنكير ولفظ الصمد على سبيل التعريف.
السؤال الثاني: ما الفائدة في تكرير لفظة الله في قوله: * (الله أحد الله الصمد) *؟ الجواب: لو لم تكرر هذه اللفظة لوجب في لفظ أحد وصمد أن يردا، إما نكرتين أو معرفتين، وقد بينا أن ذلك غير جائز، فلا جرم كررت هذه اللفظة حتى يذكر لفظ أحد منكرا ولفظ الصمد معرفا.
* (لم يلد ولم يولد) *.
قوله تعالى: * (لم يلد ولم يولد) * فيه سؤالات:
السؤال الأول: لم قدم قوله: * (لم يلد) * على قوله: * (ولم يولد) * مع أن في الشاهد يكون أولا مولودا، ثم يكون والدا؟ الجواب: إنما وقعت البداءة بأنه لم يلد، لأنهم ادعوا أن له ولدا، وذلك لأن مشركي العرب قالوا: * (الملائكة بنات الله، وقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله) * ولم يدع أحد أن له والدا فلهذا السبب بدأ بالأهم فقال: * (لم يلد) * ثم أشار إلى الحجة فقال: * (ولم يولد) * كأنه قيل: الدليل على امتناع الولدية اتفاقنا على أنه ما كان ولدا لغيره.
السؤال الثاني: لماذا اقتصر على ذكر الماضي فقال: * (لم يلد) * ولم يقل: لن يلد؟ الجواب: إنما اقتصر على ذلك لأنه ورد جوابا عن قولهم ولد الله والدليل عليه قوله تعالى: * (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله) * فلما كان المقصود من هذه الآية تكذيب قولهم وهم إنما قالوا ذلك في الماضي، لا جرم وردت الآية على وفق قوله.
السؤال الثالث: لم قال ههنا: * (لم يلد) * وقال في سورة بني إسرائيل: * (ولم يتخذ ولدا) *؟ الجواب: أن الولد يكون على وجهين: أحدهما: أن يتولد منه مثله وهذا هو الولد الحقيقي والثاني: أن لا يكون متولدا منه ولكنه يتخذه ولدا ويسميه هذا الاسم، وإن لم يكن ولدا له في الحقيقة، والنصارى فريقان: منهم من قال: عيسى ولد الله حقيقة، ومنهم من قال: إن الله اتخذه ولدا تشريفا له، كما اتخذ إبراهيم خليلا تشريفا له، فقوله: * (لم يلد) * فيه إشارة إلى نفي الوالد في الحقيقة، وقوله: * (لم يتخذ ولدا) * إشارة إلى نفي القسم الثاني، ولهذا قال: * (لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك) * لأن الإنسان قد يتخذ ولدا ليكون ناصرا ومعينا له على الأمر المطلوب، ولذلك قال في سورة أخرى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه هو الغني) * وإشارة إلى ما ذكرنا أن اتخاذ الولد إنما يكون عند الحاجة.
السؤال الرابع: نفي كونه تعالى والدا ومولودا، هل يمكن أن يعلم بالسمع أم لا، وإن كان لا يمكن ذلك فما الفائدة في ذكره ههنا؟ الجواب: نفي كونه تعالى والدا مستفاد من العلم بأنه تعالى ليس بجسم ولا متبعض ولا منقسم، ونفي كونه تعالى مولودا مستفاد من العلم بأنه تعالى
183

قديم، والعلم بكل واحد من هذين الأصلين متقدم على العلم بالنبوة والقرآن، فلا يمكن أن يكونا مستفادين من الدلائل السمعية. بقي أن يقال: فلما لم يكن استفادتهما من السمع، فما الفائدة في ذكرهما في هذه السورة؟ قلنا: قد بينا أن المراد من كونه أحدا كونه سبحانه في ذاته وماهيته منزها عن جميع أنحاء التراكيب، وكونه تعالى صمدا معناه كونه واجبا لذاته ممتنع التغير في ذاته وجميع صفاته، وإذا كان كذلك فالأحدية والصمدية يوجبان نفي الولدية والمولودية، فلما ذكر السبب الموجب لانتفاء الوالدية والمولودية، لا جرم ذكر هذين الحكمين، فالمقصود من ذكرهما تنبيه الله تعالى على الدلالة العقلية القاطعة على انتفائهما.
السؤال الخامس: هل في قوله تعالى: * (لم يلد ولم يولد) * فائدة أزيد من نفي الولدية ونفي المولودية؟ قلنا: فيه فوائد كثيرة، وذلك لأن قوله: * (الله أحد) * إشارة إلى كونه تعالى في ذاته وماهيته منزها عن التركيب، وقوله: * (الله الصمد) * إشارة إلى نفي الأضداد والأنداد والشركاء والأمثال وهذان المقامان الشريفان مما حصل الاتفاق فيهما بين أرباب الملل والأديان، وبين الفلاسفة، إلا أن من بعد هذا الموضع حصل الاختلاف بين أرباب الملل وبين الفلاسفة، فإن الفلاسفة قالوا: إنه يتولد عن واجب الوجود عقل، وعن العقل عقل آخر ونفس وفلك، وهكذا على هذا الترتيب حتى ينتهي إلى العقل الذي هو مدبر ما تحت كرة القمر، فعلى هذا القول يكون واجب الوجود قد ولد العقل الأول الذي هو تحته، ويكون العقل الذي هو مدبر لعالمنا هذا كالمولود من العقول التي فوقه، فالحق سبحانه وتعالى نفي الوالدية أولا، كأنه قيل: إنه لم يلد العقول والنفوس، ثم قال: والشيء الذي هو مدبر أجسادكم وأرواحكم وعالمكم هذا ليس مولودا من شيء آخر، فلا والد ولا مولود ولا مؤثر إلا
الواحد الذي هو الحق سبحانه.
* (ولم يكن له كفوا أحد) *.
قوله سبحانه: * (ولم يكن له كفوا أحد) * فيه سؤالان:
السؤال الأول: الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم، وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه، فما باله ورد مقدما في أفصح الكلام؟ والجواب: هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الله، واللفظ الدال على هذا المعنى هو هذا الظرف، وتقديم الأهم أولى، فلهذا السبب كان هذا الظرف مستحقا للتقديم.
السؤال الثاني: كيف القراءة في هذه الآية؟ الجواب: قرىء: * (كفوا) * بضم الكاف والفاء وبضم الكاف وكسرها مع سكون الفاء، والأصل هو الضم ثم يخفف مثل طنب وطنب وعنق وعنق، وقال أبو عبيدة: يقال كفو وكفء وكفاء كله بمعنى واحد وهو المثل، وللمفسرين فيه أقاويل أحدها: قال كعب وعطاء: لم يكن له مثل ولا عديل، ومنه المكافأة في الجزاء لأنه
184

يعطيه ما يساوي ما أعطاه وثانيها: قال مجاهد: لم يكن صاحبة كأنه سبحانه وتعالى قال: لم يكن أحد كفؤا له فيصاهره، ردا على من حكى الله عنه قوله: * (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) * فتفسير هذه الآية كالتأكيد لقوله تعالى: * (لم يلد) * وثالثها: وهو التحقيق أنه تعالى بين لما بين أنه هو المصمود إليه في قضاء الحوائج ونفي الوسائط من البين بقوله: * (لم يلد ولم يولد) * على ما بيناه، فحينئذ ختم السورة بأن شيئا من الموجودات يمتنع أن يكون مساويا له في شيء من صفات الجلال والعظمة، أما الوجود فلا مساواة فيه لأن وجوده من مقتضيات حقيقته فإن حقيقته غير قابلة للعدم من حيث هي هي، وأما سائر الحقائق، فإنها قابلة للعدم، وأما العلم فلا مساواة فيه لأن علمه ليس بضروري ولا باستدلالي ولا مستفاد من الحس ولا من الرؤية ولا يكون في معرض الغلط والزلل وعلوم المحدثات كذلك، وأما القدرة فلا مساواة فيها وكذا الرحمة والجود والعدل والفضل والإحسان! واعلم أن هذه السورة أربع آيات، وفي ترتيبها أنواع من الفوائد:
الفائدة الأولى: أن أول السورة يدل على أنه سبحانه واحد، والصمد على أنه كريم رحيم لأنه لا يصمد إليه حتى يكون محسنا و: * (لم يلد ولم يولد) * على أنه غني على الإطلاق ومنزه عن التغيرات فلا يبخل بشيء أصلا، ولا يكون جوده لأجل جر نفع أو دفع ضر، بل بمحض الإحسان وقوله: * (ولم يكن له كفوا أحد) * إشارة إلى نفي مالا يجوز عليه من الصفات.
الفائدة الثانية: نفي الله تعالى عن ذاته أنواع الكثرة بقوله: * (أحد) * ونفي النقص والمغلوبية بلفظ الصمد، ونفي المعلولية والعلية بلم يلد ولم يولد، ونفي الأضداد والأنداد بقوله: * (ولم يكن له كفوا أحد) *.
الفائدة الثالثة: قوله: * (أحد) * يبطل مذهب الثنوية القائلين بالنور والظلمة، والنصارى في التثليث، والصابئين في الأفلاك والنجوم، والآية الثانية تبطل مذهب من أثبت خالقا سوى الله لأنه لو وجد خالق آخر لما كان الحق مصمودا إليه في طلب جميع الحاجات، والثالثة تبطل مذهب اليهود في عزير، والنصارى في المسيح، والمشركين في أن الملائكة بنات الله، والآية الرابعة تبطل مذهب المشركين حيث جعلوا الأصنام أكفاء له وشركاء.
الفائدة الرابعة: أن هذه السورة في حق الله مثل سورة الكوثر في حق الرسول لكن الطعن في حق الرسول كان بسبب أنهم قالوا: إنه أبتر لا ولد له، وههنا الطعن بسبب أنهم أثبتوا لله ولدا، وذلك لأن عدم الولد في حق الإنسان عيب ووجود الولد عيب في حق الله تعالى، فلهذا السبب قال ههنا: * (قل) * حتى تكون ذابا عني، وفي سورة: * (إنا أعطيناك) * أنا أقول ذلك الكلام حتى أكون أنا ذابا عنك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
185

مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الخوض في التفسير لا بد من تقديم فصلين:
(الفصل الأول) سمعت بعض العارفين فسر هاتين السورتين على وجه عجيب، فقال إنه
سبحانه لما شرح أمر الإلهية في سورة الاخلاص ذكر هذه السورة عقيبها في شرح مراتب
مخلوقات الله فقال أولا (قل أعوذ برب الفلق) وذلك لان ظلمات العدم غير متناهية، والحق
سبحانه هو الذي فلق تلك الظلمات بنور التكوين والايجاد والابداع، فلهذا قال (قل أعوذ برب
الفلق) ثم قال (من شر ما خلق) والوجه فيه أن عالم الممكنات على قسمين عالم الامر وعالم الخلق
على ما قال (ألا له الخلق والامر) وعالم الامر كان خيرات محضة بريئة عن الشرور والآفات، أما عالم الخلق
وهو عالم الأجسام والجسمانيات، فالشر لا يحصل إلا فيه، وإنما سمى عالم الأجسام والجسمانيات
بعالم الخلق. لان الخلق هو التقدير: والمقدار من لواحق الجسم، فلما كان الامر كذلك، لا جرم قال:
أعوذ بالرب الذي فلق ظلمات بحر العدم بنور الايجاد والابداع من الشرور الواقعة في عالم الخلق
وهو عالم الأجسام والجسمانيات، ثم من الظاهر أن الأجسام، إما أثرية أو عنصرية والأجسام
الأثرية خيرات. لأنها بريئة عن الاختلال والفطور، على ما قال (ما ترى في خلق الرحمن
من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور) وأما العنصريات فهي إما جماد
أو نبات أو حيوان، أما الجمادات فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمة فيها خالصة
والأنوار عنها بالكلية زائلة، وهي المراد من قوله (ومن شر غاسق إذا وقب) وأما النبات فالقوة
الغاذية النباتية هي التي تزيد في الطول والعرض والعمق معا، فهذه النباتية كأنها تنفت في العقد
الثلاثة وأما الحيوان فالقوى الحيوانية هي الحراس الظاهرة والحواس الباطنة والشهوة والغضب
وكلها تمنع الروح الانسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله وهو المراد
من قوله (ومن شر حاسد إذا حسد) ثم إنه لم يبق من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس
الانسانية، وهي المستعيذة، فلا تكون مستعاذا منها، فلا جرم قطع هذه السورة وذكر بعدها
في سورة الناس مراتب درجات النفس الانسانية في الترقي، وذلك لأنها بأصل فطرتها مستعدة،
لان تنتقش بمعرفة الله تعالى ومحبته إلا أنها تكون أول الامر خالية عن هذه المعارف بالكلية،
ثم إنه في المرتبة الثانية يحصل فيها علوم أولية بديهية يمكن التوصل بها إلى استعلام المجهولات
186

الفكرية، ثم في آخر الامر تلك المجهولات الفكرية من القوة إلى الفعل، فقوله تعالى
(قل أعوذ برب الناس) إشارة إلى المرتبة الأولى من مراتب النفس الانسانية وهي حال كونها
خالية من جميع العلوم البديهية والكسبية، وذلك لان النفس في تلك المرتبة تحتاج إلى مرب
يريها ويزينها بتلك المعارف البديهية، ثم في المرتبة الثانية وهي عند حصول هذه العلوم
البديهية يحصل لها ملكة من الانتقال منها إلى استعلام العلوم الفكرية وهو المراد من قوله
(ملك الناس) ثم في المرتبة الثالثة وهي عند خروج تلك العلوم الفكرية من القوة إلى
الفعل يحصل الكمال التام للنفس وهو المراد من قوله (إله الناس) فكأن الحق سبحانه
يسمى نفسه بحسب كل مرتبة من مراتب النفس الانسانية بما يليق بتلك المرتبة، ثم قال (من شر
الوسواس الخناس) والمراد منه القوة الوهمية، والسبب في إطلاق اسم الخناس على الوهم أن
العقل والوهم، قد يتساعدان على تسليم بعض المقدمات، ثم إذا آل الامر إلى النتيجة فالعقل يساعد
على النتيجة والوهم يخنس، ويرجع ويمتنع عن تسليم النتيجة، فلهذا السبب يسمى الوهم (بالخناس)
ثم بين سبحانه أن ضرر هذا الخناس عظيم على العقل، وأنه قلما ينفك أحد عنه فكأنه سبحانه
بين في هذه السورة مراتب الأرواح البشرية ونبه على عدوها ونبه على ما به يقع الامتياز بين العقل
وبين الوهم، وهناك آخر درجات مراتب النفس الانسانية، فلا جرم، وقع ختم الكتاب الكريم
والفرقان العظيم عليه.
(الفصل الثاني) ذكروا في سبب نزول هذه السورة وجوها (أحدها) روى أن جبريل
عليه السلام أتاه وقال إن عفريتا من الجن يكيدك، فقال إذا أويت إلى فراشك قل أعوذ برب
السورتين (وثانيها) أن الله تعالى أنزلهما عليه ليكونا رقية من العين، وعن سعيد بن المسيب أن قريشا
قالوا: تعالوا نتجوع فنعين محمدا ففعلوا، ثم أتوه وقالوا ما أشد عضدك، وأقوى ظهرك وأنضر
وجهك، فأنزل الله تعالى المعوذتين (وثالثها) وهو قول جمهور المفسرين، أن لبيد بن أعصم
اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في إحدى عشرة عقدة وفى وتر دسه في بئر يقال لها ذوال فمرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم، واشتد عليه ذلك ثلاث ليال فنزلت المعوذتان لذلك، وأخبره جبريل بموضع السحر
فأرسل عليا عليه السلام، وطلحة وجاءا به، وقال جبريل للنبي حل عقدة واقرأ آية ففعل وكان
كلما قرأ آية انحلت عقدة فكان يحد بعض الخفة والراحة.
واعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم، قال القاضي هذه الرواية باطلة. وكيف يمكن القول
بصحتها، والله تعالى يقول (والله يعصمك من الناس) وقال (ولا يفلح الساحر حيث أتى) ولان
تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى الضرر
لجميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولان
الكفار كانوا يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك
187

الدعوة، ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز، قال الأصحاب: هذه
القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل، والوجوه المذكورة قد سبق الكلام عليها في سورة البقرة.
أما قوله: الكفار كانوا يعيبون الرسول عليه السلام بأنه مسحور، فلو وقع ذلك لكان الكفار
صادقين في ذلك القول (فجوابه) أن الكفار كانوا يريدون وبكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله
بواسطة السحر، فلذلك ترك دينهم، فأما أن يكون مسحورا بألم يجده في بدنه فذلك مما لا ينكره
أحد، وبالجملة فالله تعالى ما كان يسلط عليه لا شيطانا ولا إنسيا ولا جنيا يؤذيه في دينه وشرعه
ونبوته، فأما في الاضرار ببدنه فلا يبعد، وتمام الكلام في هذه المسألة قد تقدم في سورة البقرة،
ولنرجع إلى التفسير.
188

بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: * (قل أعوذ برب الفلق) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: في قوله: * (قل) * فوائد أحدها: أنه سبحانه لما أمر بقراءة سورة الإخلاص تنزيها له عما لا يليق به في ذاته وصفاته، وكان ذلك من أعظم الطاعات، فكأن العبد قال: إلهنا هذه الطاعة عظيمة جدا لا أثق بنفسي في الوفاء بها، فأجاب بأن قال: * (قل أعوز برب الفلق) * أي استعذ بالله، والتجئ إليه حتى يوفقك لهذه الطاعة على أكمل الوجوه وثانيها: أن الكفار لما سألوا الرسول عن نسب الله وصفته، فكأن الرسول عليه السلام قال: كيف أنجو من هؤلاء الجهال الذين تجاسروا وقالوا: فيك مالا يليق بك، فقال الله: * (قل أعوذ برب الفلق) * أي استعذ بي حتى أصونك عن شرهم وثالثها: كأنه تعالى يقول: من التجأ إلى بيتي شرفته وجعلته آمنا فقلت: ومن دخله كان آمنا فالتجئ أنت أيضا إلي حتى أجعلك آمنا: * (فقل أعوذ برب الفلق) *.
المسألة الثانية: اختلفوا في أنه هل يجوز الاستعانة بالرقي والعوذ أم لا؟ منهم قال: إنه يجوز واحتجوا بوجوه أحدها: ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى فرقاه جبريل عليه السلام، فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، والله يشفيك وثانيها: قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا من الأوجاع كلها والحمى هذا الدعاء: " بسم الله الكريم، أعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار، ومن شر حر النار " وثالثها: قال عليه السلام: من دخل على مريض لم يحضره أجله؛ فقال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات شفى ورابعها: عن علي عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل على مريض قال: " أذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت " وخامسها: عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين يقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة من شيطان وهامة، ومن
189

كل عين لامة " ويقول: هكذا كان أبي إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق وسادسها: قال عثمان بن أبي العاص الثقفي: قدمت على رسول الله وبي وجع قد كاد يبطلني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اجعل يدك اليمنى عليه، وقل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد " سبع مرات ففعلت ذلك فشفاني الله وسابعها: روى أنه عليه السلام كان إذا سافر فنزل منزلا يقول: " يا أرض، ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما يخرج منك، وشر ما يدب عليك، وأعوذ بالله من أسد وأسود وحية وعقرب، ومن شر ساكني البلد ووالد وما ولد " وثامنها: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اشتكى شيئا من جسده قرأ: * (قل هو الله أحد) * والمعوذتين في كفه اليمنى ومسح بها المكان الذي يشتكي ومن الناس من منع من الرقي لما روى عن جابر، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، وقال عليه السلام: " إن لله عبادا لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون " وقال عليه السلام: " لم يتوكل على الله من اكتوى واسترقى " وأجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون النهي عن الرقي المجهولة التي لا تعرف حقائقها، فأما ما كان له أصل موثوق، فلا نهي عنه، واختلفوا في التعليق، فروى أنه عليه السلام قال: " من علق شيئا وكل إليه " وعن ابن مسعود: إنه رأى على أم ولده تميمة مربوطة بعضدها، فجذبها جذبا منيعا فقطعها، ومنهم من جوزه، سئل الباقر عليه السلام عن التعويذ يعلق على الصبيان فرخص فيه، واختلفوا في النفث أيضا، فروى عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفث على نفسه إذا اشتكى بالمعوذات ويمسح بيده، فلما اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي توفي فيه طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث بها على نفسه، وعنه عليه السلام: " أنه كان إذا أخذ مضجعه نفث في يديه وقرأ فيهما بالمعوذات، ثم مسح بهما جسده " ومنهم من أنكر النفث، قال عكرمة: لا ينبغي للرقي أن ينفث ولا يمسح ولا يعقد. وعن إبراهيم قال: كانوا يكرهون النفث في الرقي، وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجيع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد؟ قال: بلى ولكن لا تنفث، فعوذته بالمعوذتين. قال الحليمي: الذي روى عن عكرمة أنه ينبغي للراقي أن لا ينفث ولا يمسح ولا يعقد، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ منه، فوجب أن يكون منهيا عنه إلا أن هذا ضعيف، لأن النفث في العقد إنما يكون مذموما إذا كان سحرا مضرا بالأرواح والأبدان. فأما إذا كان هذا النفث لإصلاح الأرواح والأبدان وجب أن لا يكون حراما.
المسألة الثالثة: أنه تعالى قال في مفتاح القراءة: * (فاستعذ بالله) * وقال ههنا: * (أعوذ برب الفلق) * وفي موضع آخر: * (وقل رب أعوذ بك من همزات
الشياطين) * وجاء في الأحاديث: * (أعوذ بكلمات الله التامات) * ولا شك أن أفضل أسماء الله هو الله، وأما الرب فإنه قد يطلق على غيره، قال تعالى: * (أأرباب متفرقون) * فما السبب في أنه تعالى عند الأمر بالتعوذ لم يقل: أعوذ بالله بل قال: * (برب الفلق) *؟ وأجابوا عنه من وجوه: أحدها: أنه في قوله: * (وإذا قرأت القرآن فاستعذ
190

بالله) * إنما أمره بالاستعاذة هناك لأجل قراءة القرآن، وإنما أمره بالاستعاذة ههنا في هذه السورة لأجل حفظ النفس والبدن عن السحر، والمهم الأول أعظم، فلا جرم ذلك هناك الاسم الأعظم وثانيها: أن الشيطان يبالغ حال منعك من العبادة أشد مبالغة في إيصال الضر إلى بدنك وروحك، فلا جرم ذكر الاسم الأعظم هناك دون ههنا وثالثها: أن اسم الرب يشير إلى التربية فكأنه جعل تربية الله له فيما تقدم وسيلة إلى تربيته له في الزمان الآتي، أو كان العبد يقول: التربية والإحسان حرفتك فلا تهملني، ولا تخيب رجائي ورابعها: أن بالتربية صار شارعا في الإحسان، والشروع ملزم وخامسها: أن هذه السورة آخر سور القرآن فذكر لفظ الرب تنبيها على أنه سبحانه لا تنقطع عنك تربيته وإحسانه، فإن قيل: إنه ختم القرآن على اسم الإله حيث قال: * (ملك الناس إله الناس) * قلنا: فيه لطيفة وهي كونه تعالى قال: قل أعوذ بمن هو ربي ولكنه إله قاهر لوسوسة الخناس فهو كالأب المشفق الذي يقول ارجع عند مهماتك إلى أبيك المشفق عليك الذي هو كالسيف القاطع والنار المحرقة لأعدائك فيكون هذا من أعظم أنواع الوعد بالإحسان والتربية وسادسها: كان الحق قال لمحمد عليه السلام: قلبك لي فلا تدخل فيه حب غيري، ولسانك لي فلا نذكر به أحدا غيري، وبدنك لي فلا تشغله بخدمة غيري، وإن أردت شيئا فلا تطلبه إلا مني، فإن أردت العلم فقل: * (رب زدني علما) * وإن أردت الدنيا فاسألوا الله من فضله، وإن خفت ضررا فقل: * (أعوذ برب الفلق) * فإني أنا الذي وصفت نفسي بأني خالق الأصباح. وبأني فالق الحب والنوى، وما فعلت هذه الأشياء إلا لأجلك، فإذا كنت أفعل كل هذه الأمور لأجلك، أفلا أصونك عن عن الآفات والمخافات.
المسألة الرابعة: ذكروا في: * (الفلق) * وجوها أحدها: أنه الصبح وهو قول الأكثرين قال الزجاج: لأن الليل يفلق عنه الصبح ويفرق فعل بمعنى مفعول يقال: هو أبين من فلق الصبح ومن فرق الصبح وتخصيصه في التعوذ لوجوه الأول: أن القادر على إزالة هذه الظلمات الشديدة عن كل هذا العالم يقدر أيضا أن يدفع عن العائذ كل ما يخافه ويخشاه الثاني: أن طلوع الصبح كالمثال لمجيء الفرج، فكما أن الإنسان في الليل يكون منتظرا لطلوع الصباح كذلك الخائف يكون مترقيا لطلوع صباح النجاح الثالث: أن الصبح كالبشري فإن الإنسان في الظلام يكون كلحم على وضم، فإذا ظهر الصبح فكأنه صاح بالأمان وبشر بالفرج، فلهذا السبب يجد كل مريض ومهموم خفة في وقت السحر، فالحق سبحانه يقول: * (قل أعوذ برب) * يعطي إنعام فلق الصبح قبل السؤال، فكيف بعد السؤال الرابع: قال بعضهم: إن يوسف عليه السلام لما ألقى في الجب وجعت ركبته وجعا شديدا فبات ليلته ساهرا فلما قرب طلوع الصبح نزل جبريل عليه السلام بإذن الله يسليه ويأمره بأن يدعوا ربه فقال: يا جبريل ادع أنت وأؤمن أنا فدعا جبريل وأمن يوسف فكشف الله ما كان به من الضر، فلما طاب وقت يوسف قال جبريل: وأنا أدعو أيضا
191

وتؤمن أنت، فسأل يوسف ربه أن يكشف الضر عن جميع أهل البلاء في ذلك الوقت، فلا جرم ما من مريض إلا ويجد نوع خفة في آخر الليل، وروى أن دعاءه في الجب: يا عدتي في شدتي ويا مؤنسي في وحشتي ويا راحم غربتي ويا كاشف كربتي ويا مجيب دعوتي، ويا إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحق ويعقوب ارحم صغر سني وضعف ركني وقلة حيلتي يا حي يا قوم يا ذا الجلال والإكرام الخامس: لعل تخصيص الصبح بالذكر في هذا الموضع لأنه وقت دعاء المضطرين وإجابة الملهوفين فكأنه يقول: قل أعوذ برب الوقت الذي يفرج فيه عن كل مهموم السادس: يحتمل أنه خص الصبح بالذكر لأنه أنموذج من يوم القيامة لأن الخلق كالأموات والدور كالقبور، ثم منهم من يخرج من داره مفلسا عريانا لا يلتفت إليه، ومنهم من كان مديونا فيجر إلى الحبس، ومنهم من كان ملكا مطاعا فتقدم إليه المراكب ويقوم الناس بين يديه، كذا في يوم القيامة بعضهم مفلس عن الثواب عار عن لباس التقوى يجر إلى الملك الجبار، ومن عبد كان مطيعا لربه في الدنيا فصار ملكا مطاعا في العقبى يقدم إليه البراق السابع: يحتمل أنه تعالى خص الصبح بالذكر لأنه وقت الصلاة الجامعة لأحوال القيامة فالقيام في الصلاة يذكر القيام يوم القيامة كما قال: * (يوم يقوم الناس لرب العالمين) * والقراءة في الصلاة تذكر قراءة الكتب والركوع في الصلاة يذكر من القيامة قوله: * (ناكسوا رؤوسهم) * والسجود في الصلاة يذكر قوله: * (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) * والقعود يذكر قوله: * (وترى كل أمة جاثية) * فكان العبد يقول: إلهي كما خلصتني من ظلمة الليل فخلصني من هذه الأهوال، وإنما خص وقت صلاة الصبح لأن لها مزيد شرف على ما قال: * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * أي تحضرها ملائكة الليل والنهار الثامن: أنه وقت الاستغفار والتضرع على ما قال: * (والمستغفرين بالأسحار) * القول الثاني: في الفلق أنه عبارة عن كل ما يفلقه الله كالأرض عن النبات: * (إن الله فالق الحب والنوى) * والجبال عن العيون: * (وإن منها لما يتفجر منه الأنهار) * والسحاب عن الأمطار والأرحام عن الأولاد والبيض عن الفرخ والقلوب عن المعارف، وإذا تأملت الخلق تبين لك أن أكثره عن انقلاب، بل العدم كأنه ظلمة والنور كأنه الوجود، وثبت أنه كان الله في الأزل ولم يكن معه شيء البتة فكأنه سبحانه هو الذي فلق بحار ظلمات العدم بأنوار الإيجاد والتكوين والإبداع، فهذا هو المراد من الفلق، وهذا التأويل أقرب من وجوه أحدها: هو أن الموجود إما الخالق وإما الخلق، فإذا فسرنا الفلق بهذا التفسير صار كأنه قال: قل أعوذ برب جميع الممكنات، ومكون كل المحدثات والمبدعات. فيكون التعظيم فيه أعظم، ويكون الصبح أحد الأمور الداخلة في هذا المعنى وثانيها: أن كل موجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والممكن لذاته يكون موجودا بغيره، معدوما في حد ذاته، فإذن كل ممكن فلا بد له من مؤثر يؤثر فيه حال حدوثه ويبقيه حال بقائه، فإن الممكن حال بقائه يفتقر إلى المؤثر والتربية، إشارة لا إلى حال الحدوث بل إلى حال البقاء، فكأنه يقول: إنك لست محتاجا إلى حال
192

الحدوث فقط بل في حال الحدوث وحال البقاء معا في الذات وفي جميع الصفات، فقوله: * (برب الفلق) * يدل على احتياج كل ما عداه إليه حالتي الحدوث والبقاء في الماهية والوجود بحسب الذوات والصفات وسر التوحيد لا يصفو عن شوائب الشرك إلا عند مشاهدة هذه المعاني، وثالثها: أن التصوير والتكوين في الظلمة أصعب
منه في النور، فكأنه يقول: أنا الذي أفعل ما أفعله قبل طلوع الأنوار وظهور الأضواء ومثل ذلك مما لا يتأتى إلا بالعلم التام والحكمة البالغة وإليه الإشارة بقوله: * (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) *.
القول الثالث: أنه واد في جهنم أوجب فيها من قولهم لما اطمأن من الأرض الفلق والجمع فلقان، وعن بعض الصحابة أنه قدم الشام فرأى دور أهل الذمة وما هم فيه من خصب العيش فقال لا أبالي، أليس من ورائهم الفلق، فقيل: وما الفلق؟ قال: بيت في جهنم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره، وإنما خصه بالذكر ههنا لأنه هو القادر على مثل هذا التعذيب العظيم الخارج عن حد أوهام الخلق، ثم قد ثبت أن رحمته أعظم وأكمل وأتم من عذابه، فكأنه يقول: يا صاحب العذاب الشديد أعوذ برحمتك التي هي أعظم وأكمل وأتم وأسبق وأقدم من عذابك.
* (من شر ما خلق) *.
قوله تعالى: * (من شر ما خلق) * وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسير هذه الآية وجوه أحدها: قال عطاء عن ابن عباس: يريد إبليس خاصة لأن الله تعالى لم يخلق خلقا هو شر منه ولأن السورة إنما نزلت في الاستعاذة من السحر، وذلك إنما يتم بإبليس وبأعوانه وجنوده وثانيها: يريد جهنم كأنه يقول: قل أعوذ برب جهنم ومن شدائد ما خلق فيها وثالثها: * (من شر ما خلق) * يريد من شر أصناف الحيوانات المؤذيات كالسباع والهوام وغيرهما، ويجوز أن يدخل فيه من يؤذيني من الجن والإنس أيضا ووصف أفعالها بأنها شر، وإنما جاز إدخال الجن والإنسان تحت لفظة ما، لأن الغلبة لما حصلت في جانب غير العقلاء حسن استعمال لفظة ما فيه، لأن العبرة بالأغلب أيضا ويدخل فيه شرور الأطعمة الممرضة وشرور الماء والنار، فإن قيل الآلام الحاصلة عقيب الماء والنار ولدغ الحية والعقرب حاصلة بخلق الله تعالى ابتداء، على قول أكثر المتكلمين، أو متولدة من قوى خلقها الله تعالى في هذه الأجرام، على ما هو قول جمهور الحكماء وبعض المتكلمين، وعلى التقديرين فيصير حاصل الآية أنه تعالى أمر الرسول عليه السلام بأن يستعيذ بالله من الله، فما معناه؟ قلنا: وأي بأس بذلك، ولقد صرح عليه السلام بذلك، فقال: " وأعوذ بك منك " ورابعها: أراد به ما خلق من الأمراض والأسقام والقحط وأنواع المحن والآفات، وزعم الجبائي والقاضي أن هذا التفسير باطل، لأن فعل الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شر، قالوا:
193

ويدل عليه وجوه الأول: أنه يلزم على هذا التقدير أن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمرنا أن نتعوذ به، وذلك متناقض والثاني: أن أفعال الله كلها حكمة وصواب، وذلك لا يجوز أن يقال: إنه شر والثالث: أن فعل الله لو كان شرا لوصف فاعله بأنه شرير ويتعالى الله عن ذلك والجواب: عن الأول أنا بينا أنه لا امتناع في قوله أعوذ بك منك؟ وعن الثاني أن الإنسان لما تألم به فإنه يعد شرا، فورد اللفظ على وفق قوله، كما في قوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وقوله: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وعن الثالث أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية، ثم الذي يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى: * (إذا مسه الشر جزوعا) * وقوله: * (وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض) * وكان عليه السلام: " وأعوذ بك من شر طوارق الليل والنهار ".
المسألة الثانية: طعن بعض الملحدة في قوله: * (قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق) * من وجوه أحدها: أن المستعاذ منه أهو واقع بقضاء الله وقدره، أولا بقضاء الله ولا بقدره؟ فإن كان الأول فكيف أمر بأن يستعيذ بالله منه، وذلك لأن ما قضى الله به وقدره فهو واقع، فكأنه تعالى يقول: الشيء الذي قضيت بوقوعه، وهو لا بد واقع فاستعذ بي منه حتى لا أوقعه، وإن لم يكن بقضائه وقدره فذلك يقدح في ملك الله وملكوته وثانيها: أن المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فلا دافع له، فلا فائدة في الاستعاذة وإن كان معلوم اللاوقوع، فلا حاجة إلى الاستعاذة وثالثها: أن المستعاذ منه إن كان مصلحة فكيف رغب المكلف في طلب دفعه ومنعه، وإن كان مفسدة فكيف خلقه وقدره، واعلم أن الجواب عن أمثال هذه الشبهات، أن يقال إنه: * (لا يسأل عما يفعل) * وقد تكرر هذا الكلام في هذا الكتاب.
* (ومن شر غاسق إذا وقب) *.
قوله تعالى: * (ومن شر غاسق إذا وقب) * ذكروا في الغاسق وجوها أحدها: أن الغاسق هو الليل إذا عظم ظلامه من قوله: * (إلى غسق الليل) * ومنه غسقت العين إذا امتلأت دمعا وغسقت الجراحة إذا امتلأت دما، وهذا قول الفراء وأبي عبيدة، وأنشد ابن قيس: إن هذا الليل قد غسقا * واشتكيت الهم والأرقا
وقال الزجاج الغاسق في اللغة هو البارد، وسمي الليل غاسقا لأنه أبرد من النهار، ومنه قوله إنه الزمهرير وثالثها: قال قوم: الغاسق والغساق هو السائل من قولهم: غسقت العين تغسق غسقا إذا سالت بالماء، وسمي الليل غاسقا لانصباب ظلامه على الأرض، أما الوقوب فهو الدخول في شيء آخر بحيث يغيب عن العين، يقال: وقب يقب وقوبا إذا دخل، الوقبة النقرة لأنه يدخل فيها الماء، والإيقاب إدخال الشيء في الوقبة، هذا ما يتعلق باللغة وللمفسرين في الآية أقوال:
194

أحدها: أن الغاسق إذا وقب هو الليل إذا دخل، وإنما أمر أن يتعوذ من شر الليل لأن في الليل تخرج السباع من آجامها والهوام من مكانها، ويهجم السارق والمكابر ويقع الحريق ويقل فيه الغوث، ولذلك لو شهر (معتد) سلاحا على إنسان ليلا فقتله المشهور عليه لا يلزمه قصاص، ولو كان نهارا يلزمه لأنه يوجد فيه الغوث، وقال قوم: إن في الليل تنتشر الأرواح المؤذية المسماة بالجن والشياطين، وذلك لأن قوة شعاع الشمس كأنها تقهرهم، أما في الليل فيحصل لهم نوع استيلاء وثانيها: أن الغاسق إذا وقب هو القمر، قال ابن قتيبة: الغاسق القمر سمي به لأنه يكسف فيغسق، أي يذهب ضوؤه ويسود، (و) وقوبه دخوله في ذلك الاسوداد، روى أبو سلمة عن عائشة أنه أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها وأشار إلى القمر، وقال: " استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب " قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: تعوذي بالله من شره إذا وقب أي إذا دخل في الكسوف، وعندي فيه وجه آخر: وهو أنه صح أن القمر في جرمه غير مستنير بل هو مظلم، فهذا هو المراد من كونه غاسقا، وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر الشهر، والمنجمون يقولون: إنه في آخر الشهر يكون منحوسا قليل القوة لأنه لا يزال ينتقص نوره فبسبب ذلك تزداد نحوسته،
ولذلك فإن السحرة إنما يشتغلون بالسحر المورث للتمريض في هذا الوقت، وهذا مناسب لسبب نزول السورة فإنها إنما نزلت لأجل أنهم سحروا النبي صلى الله عليه وسلم لأجل التمريض وثالثها: قال ابن زيد: الغاسق إذا وقب يعني الثريا إذا سقطت قال، وكانت الأسقام تكثر عند وقوعها، وترتفع عند طلوعها، وعلى هذا تسمى الثريا غاسقا، لانصبابه عند وقوعه في المغرب، ووقوبه دخوله تحت الأرض وغيبوبته عن الأعين ورابعها: قال صاحب الكشاف: يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيات ووقوبه ضربة ونقبه، والوقب والنقب واحد، واعلم أن هذا التأويل أضعف الوجوه المذكورة وخامسها: الغاسق: * (إذا وقب) * هو الشمس إذا غابت وإنما سميت غاسقا لأنها في الفلك تسبح فسمي حركتها وجريانها بالغسق، ووقوبها غيبتها ودخولها تحت الأرض.
* (ومن شر النفاثات فى العقد) *.
قوله تعالى: * (ومن شر النفاثات في العقد) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية قولان: الأول: أن النفث النفخ مع ريق، هكذا قاله صاحب الكشاف، ومنهم من قال: إنه النفخ فقط، ومنه قوله عليه السلام: إن جبريل نفث في روعي والعقد جمع عقدة، والسبب فيه أن الساحر إذا أخذ في قراءة الرقية أخذ خيطا، ولا يزال يعقد عليه عقدا بعد عقد وينفث في تلك العقد، وإنما أنت النفاثات لوجوه أحدها: أن هذه الصناعة إنما تعرف بالنساء لأنهن يعقدن وينفثن، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر وإحكام الهمة والوهم فيه، وذلك إنما يتأتى من النساء لقلة علمهن وشدة شهوتهن، فلا جرم كان
195

هذا العمل منهن أقوى، قال أبو عبيدة: * (النفاثات) * هن بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صلى الله عليه وسلم وثانيها: أن المراد من: * (النفاثات) * النفوس وثالثها: المراد منها الجماعات، وذلك لأنه كلما كان اجتماع السحرة على العمل الواحد أكثر كان التأثير أشد القول الثاني: وهو اختيار أبي مسلم: * (من شر النفاثات) * أي النساء في العقد، أي في عزائم الرجال وآرائهم وهو مستعار من عقد الحبال، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حله سهلا، فمعنى الآية أن النساء لأجل كثرة حبهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي، ومن عزيمة إلى عزيمة، فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن كقوله: * (إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) * فلذلك عظم الله كيدهن فقال: * (إن كيدكن عظيم) *.
واعلم أن هذا القول حسن، لولا أنه على خلاف قول أكثر المفسرين.
المسألة الثالثة: أنكرت المعتزلة تأثير السحر، وقد تقدمت هذه المسألة، ثم قالوا: سبب الاستعاذة من شرهن لثلاثة أوجه أحدها: أن يستعاذ من إثم عملهن في السحر والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن والثالث: أن يستعاذ من إطعامهن الأطعمة الرديئة المورثة للجنون والموت.
* (ومن شر حاسد إذا حسد) *.
قوله تعالى: * (ومن شر حاسد إذا حسد) * من المعلوم أن الحاسد هو الذي تشتد محبته لإزالة نعمة الغير إليه، ولا يكاد يكون كذلك إلا ولو تمكن من ذلك بالحيل لفعل، فلذلك أمر الله بالتعوذ منه، وقد دخل في هذه السورة كل شر يتوفى ويتحرز منه دينا ودينا، فلذلك لما نزلت فرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنزولها لكونها مع ما يليها جامعة في التعوذ لكل أمر، ويجوز أن يراد بشر الحاسد إثمه وسماجة حاله في وقت حسده وإظهاره أثره. بقي هنا سؤالان:
السؤال الأول: قوله: * (من شر ما خلق) * عام في كل ما يستعاذ منه، فما معنى الاستعاذة بعده من الغاسق والنفاثات والحاسد الجواب: تنبيها على أن هذه الشرور أعظم أنواع الشر.
السؤال الثاني: لم عرف بعض المستعاذ منه ونكر بعضه؟ الجواب: عرف النفاثات لأن كل نفاثة شريرة، ونكر غاسقا لأنه ليس كل غاسق شريرا، وأيضا ليس كل حاسد شريرا، بل رب حسد يكون محمودا وهو الحسد في الخيرات.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
196

سورة الناس
وهي ست آيات مدنية
بسم الله الرحمن الرحيم
* (قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس) *.
* (قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس) * فيه مسائل:
المسألة الأولى: قرىء: * (قل أعوذ) * بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام ونظيره: * (فخذ أربعة من الطير) * وأيضا أجمع القراء على ترك الإمالة في الناس، وروى عن الكسائي الإمالة في الناس إذا كان في موضع الخفض.
المسألة الثانية: أنه تعالى رب جميع المحدثات، ولكنه ههنا ذكر أنه رب الناس على التخصيص وذلك لوجوه أحدها: أن الاستعاذة وقعت من شر الموسوس في صدور الناس فكأنه قيل: أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم وهو إلههم ومعبودهم كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيدهم ومخدومهم ووالي أمرهم وثانيها: أن أشرف المخلوقات في العالم هم الناس وثالثها: أن المأمور بالاستعاذة هو الإنسان، فإذا قرأ الإنسان هذه صار كأنه يقول: يا رب يا ملكي يا إلهي.
المسألة الثالثة: قوله تعالى: * (ملك الناس، إله الناس) * هما عطف بيان كقوله: سيرة أبي حفص عمر الفاروق، فوصف أولا بأنه رب الناس ثم الرب قد يكون ملكا وقد لا يكون، كما يقال: رب الدار ورب المتاع قال تعالى: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * فلا جرم بينه بقوله: * (ملك الناس) * ثم الملك قد يكون إلها وقد لا يكون فلا جرم بينه بقوله: * (إله الناس) * لأن الإله خاص به وهو سبحانه لا يشركه فيه غيره وأيضا بدأ بذكر الرب وهو اسم لمن قام بتدبيره وإصلاحه، وهو من أوائل نعمه إلى أن رباه وأعطاه العقل فحينئذ عرف بالدليل أنه عبد مملوك وهو ملكه، فثنى بذكر الملك، ثم لما علم أن العبادة لازمة له واجبة عليه، وعرف أن معبوده مستحق لتلك العبادة عرف أنه إله، فلهذا ختم به، وأيضا أول ما يعرف العبد من ربه كونه مطيعا لما عنده من النعم الظاهرة والباطنة، وهذا هو الرب، ثم لا يزال يتنقل من معرفة هذه الصفات
197

إلى معرفة جلالته واستغنائه عن الخلق، فحينئذ يحصل العلم بكونه ملكا، لأن الملك هو الذي يفتقر إليه غيره ويكون هو غنيا عن غيره، ثم إذا عرفه العبد كذلك عرف أنه في الجلالة والكبرياء فوق وصف الواصفين وأنه هو الذي ولهت العقول في عزته وعظمته، فحينئذ يعرفه إلها.
المسألة الرابعة: السبب في تكرير لفظ الناس أنه إنما تكررت هذه الصفات، لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار، ولأن هذا التكرير يقتضي مزيد شرف الناس، لأنه سبحانه كأنه عرف ذاته بكونه ربا للناس، ملكا للناس، إلها للناس. ولولا أن الناس أشر مخلوقاته وإلا لما ختم كتابه بتعريف ذاته بكونه ربا وملكا وإلها لهم.
المسألة الخامسة: لا يجوز ههنا مالك الناس ويجوز: * (مالك يوم الدين) * في سورة الفاتحة، والفرق أن قوله: * (رب الناس) * أفاد كونه مالكا لهم فلا بد وأن يكون المذكور عقيبه هذا الملك ليفيد أنه مالك ومع كونه مالكا فهو ملك، فإن قيل: أليس قال في سورة الفاتحة: * (رب العالمين) * ثم قال: * (مالك يوم الدين) * فليزم وقوع التكرار هناك؟ قلنا اللفظ دل على أنه رب العالمين، وهي الأشياء الموجودة في الحال، وعلى أنه مالك ليوم الدين أي قادر عليه فهناك الرب مضاف إلى شيء والمالك إلى شيء آخر فلم يلزم التكرير، وأما ههنا لو ذكر المالك لكان الرب والمالك مضافين إلى شيء واحد، فيلزم منه التكرير فظهر الفرق، وأيضا فجواز القراءات يتبع النزول لا القياس، وقد قرىء مالك لكن في الشواذ.
* (من شر الوسواس الخناس) *.
قوله تعالى: * (من شر الوسواس الخناس) * الوسواس اسم بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر فوسواس بالكسر كزلزال والمراد به الشيطان سمي بالمصدر، كأنه وسوسة في نفسه لأنها صنعته وشغله الذي هو عاكف عليه، نظيره قوله: * (إنه عمل غير صالح) * والمراد ذو الوسواس وتحقيق الكلام في الوسوسة قد تقدم في قوله: * (فوسوس لهما الشيطان) * وأما الخناس فهو الذي عادته أن يخنس منسوب إلى الخنوس وهو التأخر كالعواج والنفاثات، عن سعيد بن جبير إذا ذكر الإنسان ربه خنس الشيطان وولى، فإذا غفل وسوس إليه.
* (الذى يوسوس فى صدور الناس) *.
قوله تعالى: * (الذي يوسوس في صدور الناس) *.
اعلم أن قوله: * (الذي يوسوس) * يجوز في محله الحركات الثلاث فالجر على الصفة والرفع والنصب على الشتم، ويحسن أن يقف القارئ على الخناس ويبتدئ الذي يوسوس، على أحد هذين الوجهين.
198

* (من الجنة والناس) *.
أما قوله تعالى: * (من الجنة والناس) * ففيه وجوه:
أحدها: كأنه يقول الوسواس الخناس قد يكون من الجنة وقد يكون من الناس كما قال: * (شياطين الإنس والجن) * وكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يرى نفسه كالناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس، ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه وثانيها: قال قوم قوله: * (من الجنة والناس) * قسمان مندرجان تحت قوله في: * (صدور الناس) * كأن القدر المشترك بين الجن والإنس، يسمى إنسانا والإنسان أيضا يسمى إنسانا فيكون لفظ الإنسان واقعا على الجنس والنوع بالاشتراك، والدليل على أن لفظ الإنسان يندرج فيه الجن والإنس ما روى أنه جاء نفر من الجن فقيل لهم: من أنتم فقالوا: أناس من الجن، أيضا قد سماهم الله رجالا في قوله: * (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن) * فجاز أيضا أن يسميهم ههنا ناسا، فمعنى الآية على هذا التقدير أن هذا الوسواس الخناس شديد الخنث لا يقتصر على إضلال الإنس بل يضل جنسه وهم الجن، فجدير أن يحذر العاقل شره، وهذا القول ضعيف، لأن جعل الإنسان اسما للجنس الذي يندرج فيه الجن والإنس بعيد من اللغة لأن الجن سموا جنا لاجتنانهم والإنسان إنسانا لظهوره من الإيناس وهو الإبصار، وقال صاحب الكشاف: من أراد تقرير هذا الوجه، فالأولى أن يقول: المراد من قوله: * (يوسوس في صدور الناس) * أي في صدور الناس كقوله: * (يوم يدع الداع) * وإذا كان المراد من الناس الناسي، فحينئذ يمكن تقسيمه إلى الجن والإنس لأنهما هما النوعان الموصوفان بنسيان حق الله تعالى وثالثها: أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس ومن الجنة والناس كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من الجميع الجنة والناس.
واعلم أن هذه السورة لطيفة أخرى: وهي أن المستعاذ به في السورة الأولى مذكور بصفة واحدة وهي أنه رب الفلق، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات، وهي الغاسق والنفاثات والحاسد، وأما في هذه السورة فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاثة: وهي الرب والملك والإله والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية سلامة الدين، وهذا تنبيه على أن
مضرة الدين وإن قلت: أعظم من مضار الدنيا وإن عظمت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
199