الكتاب: فتح القدير
المؤلف: الشوكاني
الجزء: ٤
الوفاة: ١٢٥٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: عالم الكتب
الناشر: عالم الكتب
ردمك:
ملاحظات:

فتح القدير
الجامع
بين فني الرواية والدراية من علم التفسير
تأليف
محمد بن علي بن محمد الشوكاني
وفاته بصنعاء 1250 ه‍
الجزء الرابع
عالم الكتب
1

بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة النور
هي مدنية، وآياتها أربع وستون آية
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا: أنزلت سورة النور بالمدينة. وأخرج الحاكم وابن مردويه
والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة: يعني النساء، وعلموهن الغزل
وسورة النور. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور " وهو مرسل. وأخرج أبو عبيد في فضائله
عن حارثة بن مضرب قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
السورة في اللغة اسم للمنزلة الشريفة، ولذلك سميت السورة من القرآن سورة، ومنه قوله زهير:
ألم تر أن الله أعطاك سورة * ترى كل ملك دونها يتذبذب
أي منزلة، قرأ الجمهور (سورة) بالرفع وفيه وجهان: أحدهما أن تكون خبرا لمبتدأ محذوف: أي هذه سورة،
ورجحه الزجاج والفراء والمبرد، قالوا: لأنها نكرة، ولا يبتدأ بالنكرة في كل موضع. والوجه الثاني أن يكون مبتدأ
3

وجاز الابتداء بالنكرة لكونها موصوفة بقوله (أنزلناها) والخبر (الزانية والزاني) ويكون المعنى: السورة المنزلة
المفروضة كذا وكذا، إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختم، وهذا معنى صحيح، ولا وجه لما قاله
الأولون من تعليل المنع من الابتداء بها كونها نكرة فهي نكرة مخصصة بالصفة، وهو مجمع على جواز الابتداء
بها. وقيل هي مبتدأ محذوف الخبر على تقدير: فيما أوحينا إليك سورة، ورد بأن مقتضى المقام ببيان شأن هذه
السورة الكريمة، لا بيان أن في جملة ما أوحى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة شأنها كذا وكذا. وقرأ
الحسن بن عبد العزيز وعيسى الثقفي وعيسى الكوفي ومجاهد وأبو حيوة وطلحة بن مصرف بالنصب، وفيه
أوجه: الأول أنها منصوبة بفعل مقدر غير مفسر بما بعده، تقديره أتل سورة، أو اقرأ سورة. والثاني أنها
منصوبة بفعل مضمر يفسره ما بعده على ما قيل في باب اشتغال الفعل عن الفاعل بضميره: أي أنزلنا سورة أنزلناها،
فلا محل لأنزلناها هاهنا لأنها جملة مفسرة، بخلاف الوجه الذي قبله فإنها في محل نصب على أنها صفة لسورة. الوجه
الثالث أنها منصوبة على الإغراء: أي دونك سورة قاله صاحب الكشاف. ورده أبو حيان بأنه لا يجوز حذف
أداة الإغراء. الرابع أنها منصوبة على الحال من ضمير أنزلناها، قال الفراء: هي حال من الهاء والألف والحال من
المكنى يجوز أن تتقدم عليه، وعلى هذا فالضمير في أنزلناها ليس عائدا على سورة، بل على الأحكام، كأنه
قيل: أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن. قرأ ابن كثير وأبو عمرو (وفرضناها) بالتشديد، وقرأ
الباقون بالتخفيف. قال أبو عمرو: فرضناها بالتشديد: أي قطعناها في الإنزال نجما نجما، والفرض القطع،
ويجوز أن يكون التشديد للتكثير أو للمبالغة، ومعنى التخفيف أوجبناها وجعلناها مقطوعا بها، وقيل ألزمناكم
العمل بها، وقيل قدرنا ما فيها من الحدود، والفرض التقدير، ومنه - إن الذي فرض عليك القرآن _ (وأنزلنا فيها
آيات بينات) أي أنزلنا في غضونها وتضاعيفها، ومعنى كونها بينات أنها واضحة الدلالة على مدلولها، وتكرير
أنزلنا لكمال العناية بإنزال هذه السورة، لما اشتملت عليه من الأحكام (الزانية والزاني)، هذا شروع في تفصيل
ما أجمل من الآيات البينات، والارتفاع على الابتداء، والخبر (فاجلدوا كل واحد منهما) أو على الخبرية لسورة
كما تقدم، والزنا هو وطء الرجل للمرأة في فرجها من غير نكاح ولا شبهة نكاح. وقيل هو إيلاج فرج في فرج
مشتهى طبعا محرم شرعا، والزانية هي المرأة المطاوعة للزنا الممكنة منه كما تنبئ عنه الصيغة لا المكرهة، وكذلك
الزاني، ودخول الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وأما على مذهب سيبويه فالخبر
محذوف، والتقدير: فيما يتلى عليكم حكم الزانية، ثم بين ذلك بقوله (فاجلدوا) والجلد الضرب، يقال: جلده
إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه، وقوله (مائة جلدة) هو حد الزاني الحر
البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد، وهي تغريب عام، وأما المملوك والمملوكة
فجلد كل واحد منهما خمسون جلدة لقوله سبحانه " فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب "
وهذا نص في الإماء، وألحق بهن العبيد لعدم الفارق، وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة
المتواترة وبإجماع أهل العلم بل وبالقرآن المنسوخ لفظه الباقي حكمه وهو " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة "
وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضحنا ما هو الحق في ذلك في شرحنا للمنتقى، وقد مضى الكلام
في حد الزنا مستوفى، وهذه الآية ناسخة لآية الحبس وآية الأذى اللتين في سورة النساء. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي
ويحيى بن يعمر وأبو جعفر وأبو شيبة " الزانية والزاني " بالنصب، قيل وهو القياس عند سيبويه لأنه عنده كقولك زيدا
اضرب. وأما الفراء والمبرد والزجاج فالرفع عندهم أوجه وبه قرأ الجمهور. ووجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن
4

الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة
منهن. وقيل وجه التقديم أن المرأة هي الأصل في الفعل، وقيل لأن الشهوة فيها أكثر وعليها أغلب، وقيل لأن
العار فيهن أكثر إذ موضوعهن الحجبة والصيانة، فقدم ذكر الزانية تغليظا واهتماما. والخطاب في هذه الآية
للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعا، والإمام ينوب عنهم، إذ
لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود (ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله) يقال رأف يرأف رأفة على وزن فعلة،
ورأفة على وزن فعالة، مثل النشأة والنشاءة وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة، وقيل هي أرق الرحمة. وقرأ الجمهور
" رأفة " بسكون الهمزة، وقرأ ابن كثير بفتحها، وقرأ ابن جريج " رأفة " بالمد كفعالة، ومعنى " في دين الله " في
طاعته وحكمه - كما في قوله - ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك - ثم قال مثبتا للمأمورين ومهيجا لهم (إن كنتم
تؤمنون بالله واليوم الآخر) كما تقول للرجل تحضه على أمر: إن كنت رجلا فافعل كذا: أي إن كنتم تصدقون
بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) أي ليحضره
زيادة في التنكيل بهما وشيوع العار عليهما وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشئ، من
الطوف، وأقل الطائفة ثلاثة، وقيل اثنان، وقيل واحد، وقيل أربعة، وقيل عشرة.
ثم ذكر سبحانه شيئا يختص بالزاني والزانية، فقال (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة).
قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأول أن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله وأنه
محرم على المؤمنين، ويكون معنى الزاني لا ينكح: الوطء لا العقد: أي الزاني لا يزني إلا بزانية، والزانية لا تزني إلا
بزان، وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا. ورد هذا الزجاج وقال: لا يعرف
النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويرد هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه،
ومنه قوله - حتى تنكح زوجا غيره - فقد بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بأن المراد به الوطء، ومن جملة
القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلا زانية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه
ابن جرير عنهم، وحكاه الخطابي عن ابن عباس. القول الثاني: أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة كما سيأتي
بيانه فتكون خاصة بها كما قاله الخطابي. القول الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين، فتكون خاصة به قاله
مجاهد. الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة، فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح. الخامس: أن المراد بالزاني والزانية
المحدودان حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا
محدودة. وروى نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا معنى لا يصح نظرا
كما لم يثبت نقلا. السادس: أن الآية هذه منسوخة بقوله سبحانه " وأنكحوا الأيامى منكم ". قال النحاس: وهذا
القول عليه أكثر العلماء. القول السابع: أن هذا الحكم مؤسس على الغالب، والمعنى: أن غالب الزناة لا يرغب
إلا في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن، والمقصود زجر المؤمنين عن
نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما سيأتي.
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها، فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك. وروي عن
ابن عباس، وروي عن عمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز. قال ابن مسعود: إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها
بعد ذلك فهما زانيان أبدا، وبه قال مالك، ومعنى (وحرم ذلك على المؤمنين) أي نكاح الزواني، لما فيه من
5

التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب. وقيل هو مكروه فقط، وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه
مبالغة في الزجر.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (سورة أنزلناها
وفرضناها) قال: بيناها. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق
عبيد الله بن عبد الله بن عمر: أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها، فقلت (ولا تأخذكم بهما رأفة
في دين الله) قال: يا بنى ورأيتني أخذتني بها رأفة؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجلد رأسها، وقد أوجعت
حيث ضربت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وليشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين) قال: الطائفة الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد
ابن جبير عن ابن عباس في قوله (الزاني لا ينكح) قال: ليس هذا بالنكاح، ولكن الجماع، لا يزني بها حين
يزنى إلا زان أو مشرك (وحرم ذلك على المؤمنين) يعنى الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد في
قوله (الزاني لا ينكح إلا زانية) قال: كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل،
فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها، فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من
المسلمين، وهو مرسل. وأخرج عبد بن حميد عن سليمان بن يسار نحوه مختصرا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن عطاء عن ابن عباس قال: كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان، وبغايا آل فلان، فقال الله (الزاني لا ينكح
إلا زانية) الآية، فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد عن الضحاك في الآية قال: إنما عنى بذلك الزنا ولم يعن به التزويج. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي عن ابن عباس في هذه الآية قال: الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة أو مشركة من
غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا
على المؤمنين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول،
وكانت تسافح وتشترط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوجها،
فأنزل الله (الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك). وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي وحسنه والنسائي وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده قال: " كان رجل يقال له مرثد، يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال
لها عناق، وكانت صديقة له، وذكر قصة وفيها: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول
الله أنكح عناقا؟ فلم يرد علي شيئا حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية) الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: يا مرثد (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على
المؤمنين) فلا تنكحها. وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن عمرو في الآية قال: كن نساء معلومات، فكان الرجل
من فقراء المسلمين يتزوج المرأة منهن لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن
المنذر والبيهقي عن ابن عباس: أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات، فحرم الله
6

نكاحهن على المؤمنين. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
من طريق شعبة مولى ابن عباس قال: كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها
ما حرم الله علي، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها، فقال الناس: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة،
فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنما كن نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن
الناس يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية، تزوجها فما كان فيها من إثم فعلي. وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن عدي وابن مردويه والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا ينكح
الزاني المجلود إلا مثله ". وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن علي بن أبي طالب أن رجلا تزوج امرأة، ثم إنه
زنى فأقيم عليه الحد، فجاءوا به إلى علي ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك.
قوله (والذين يرمون) استعار الرمي للشتم بفاحشة الزنا لكونه جناية بالقول كما قال النابغة:
* وجرح اللسان كجرح اليد * وقال آخر:
رماني بأمر كنت عنه ووالدي * بريا ومن أجل الطوى رماني
ويسمى هذا الشتم بهذه الفاحشة الخاصة قذفا، والمراد بالمحصنات النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن
أشنع والعار فيهن أعظم، ويلحق الرجال بالنساء في هذا الحكم بلا خلاف بين علماء هذه الأمة، وقد جمعنا في
ذلك رسالة رددنا بها على بعض المتأخرين من علماء القرن الحادي عشر لما نازع في ذلك. وقيل إن الآية تعم
الرجال والنساء، والتقدير: والأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله تعالى في آية أخرى " والمحصنات من النساء "
فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى، وقيل أراد
بالمحصنات الفروج كما قال - والتي أحصنت فرجها _ فتتناول الآية الرجال والنساء. وقيل إن لفظ المحصنات وإن
كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليبا، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب
والمراد بالمحصنات هنا العفائف، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني. وللعلماء في
الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل، ومنها
7

ما هو مجرد رأي بحت. قرأ الجمهور " والمحصنات " بفتح الصاد، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. وذهب الجمهور
من العلماء أنه لا حد على من قذف كافرا أو كافرة وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: إنه يجب
عليه الحد. وذهب الجمهور أيضا أن العبد يجلد أربعين جلدة. وقال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وقبيصة:
يجلد ثمانين. قال القرطبي: وأجمع العلماء على أن الحر لا يجلد للعبد إذا افترى عليه لتباين مرتبتهما، وقد ثبت في
الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال.
ثم ذكر سبحانه شرطا لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) أي يشهدون عليهن
بوقوع الزنا منهن، ولفظ ثم يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف، وبه قال
الجمهور، وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن يكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك
الحسن ومالك، وإذا لم تكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون حد القذف. وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد
على الشهود ولا على المشهود عليه، وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن. ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي
الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنه. قرأ
الجمهور " بأربعة شهداء " بإضافة أربعة إلى شهداء، وقرأ عبد الله بن مسلم بن يسار وأبو زرعة بن عمرو بتنوين
أربعة.
وقد اختلف في إعراب شهداء على هذه القراءة، فقيل هو تمييز. ورد بأن المميز من ثلاثة إلى عشرة يضاف
إليه العدد كما هو مقرر في علم النحو. وقيل إنه في محل نصب على الحال. ورد بأن الحال لا يجيء من النكرة
التي لم تخصص. وقيل إن شهداء في محل جر نعتا لأربعة، ولما كان فيه ألف التأنيث لم ينصرف. وقال النحاس:
يجوز أن يكون شهداء في موضع نصب على المفعولية: أي ثم لم يحضروا أربعة شهداء، وقد قوى ابن جني هذه
القراءة، ويدفع ذلك قول سيبويه إن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر. ثم بين سبحانه ما يجب على
القاذف فقال (فاجلدوهم ثمانين جلدة) الجلد الضرب كما تقدم، والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم
أستعير للضرب بالعصى والسيف وغيرهما، ومنه قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حاسرا * كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقد تقدم بيان الجلد قريبا، وانتصاب ثمانين كانتصاب المصادر، وجلدة منتصبة على التمييز، وجملة (ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا) معطوفة على اجلدوا: أي فاجمعوا لهم بين الأمرين: الجلد، وترك قبول الشهادة، لأنهم قد
صاروا بالقذف غير عدول بل فسقة كما حكم الله به عليهم في آخر هذه الآية. واللام في لهم متعلقة بمحذوف هو
حال من شهادة ولو تأخرت عليها لكانت صفة لها، ومعنى " أبدا ": ما داموا في الحياة. ثم بين سبحانه حكمهم بعد
صدور القذف منهم وإصرارهم عليه وعدم رجوعهم إلى التوبة فقال (وأولئك هم الفاسقون) وهذه جملة مستأنفة
مقررة لما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة الحد بالمعصية، وجوز أبو البقاء أن تكون هذه الجملة
في محل نصب على الحال. ثم بين سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال (إلا الذين
تابوا) وهذه الجملة في محل نصب على الاستثناء، لأنه من موجب، وقيل يجوز أن يكون في موضع خفض على
البدل، ومعنى التوبة قد تقدم تحقيقه، ومعنى (من بعد ذلك) من بعد اقترافهم الذنب القذف، ومعنى (وأصلحوا)
إصلاح أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد.
8

وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي جملة عدم قبول الشهادة، وجملة
الحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد
التائب كالمصر، وبعد إجماعهم أيضا على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع
إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت
شهادته وزال عنه الفسق، لأن سبب ردها هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة
بالإجماع كان الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول
وعبد الرحمن بن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم
قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إلى التفصيل
فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته. وقول الجمهور
هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم
واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قيدا لما
قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعا عليه، وكونه
أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهرا. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من
يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائدا إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى
بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع
هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن
القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته
لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه. وقالت فرقة منهم مالك وغيره:
إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك
العود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة فإنها
مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفرا فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى
الإجماع القرطبي. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما من
مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد
كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله - إنما جزاء الذين
يحاربون الله - إلى قوله - إلا الذين تابوا - ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج: وليس
القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله (أبدا) أي ما دام قاذفا،
كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن معناه: ما دام كافرا انتهى، وجملة (فإن الله غفور رحيم) تعليل لما تضمنه
الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا له، مرحوما من الرحمن الرحيم، غير فاسق ولا
مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة. ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع
القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا
9

أنفسهم) أي لم يكن لهم شهداء يشهدون بما رموهن به من الزنا إلا أنفسهم بالرفع على البدل من شهداء. قيل ويجوز
النصب على خبر يكن. قال الزجاج: أو على الاستثناء على الوجه المرجوح (فشهادة أحدهم أربع شهادات) قرأ
الكوفيون برفع أربع على أنها خبر لقوله (فشهادة أحدهم) أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حد القذف أربع
شهادات. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو أربع بالنصب على المصدر، ويكون (فشهادة أحدهم) خبر مبتدأ محذوف:
أي فالواجب شهادة أحدهم، أو مبتدأ محذوف الخبر: أي فشهادة أحدهم واجبة. وقيل إن أربع منصوب
بتقدير: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وقوله (بالله) متعلق بشهادة أو بشهادات، وجملة (إنه لمن
الصادقين) هي المشهود به، وأصله على أنه فحذف الجار وكسرت إن، وعلق العامل عنها (والخامسة) قرأ السبعة
وغيرهم الخامسة بالرفع على الابتداء، وخبرها (أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين) وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة
وعاصم في رواية حفص " والخامسة " بالنصب على معنى وتشهد الشهادة الخامسة، ومعنى (إن كان من الكاذبين)
أي فيما رماها به من الزنا. قرأ الجمهور بتشديد " أن " من قوله (أن لعنة الله) وقرأ نافع بتخفيفها، فعلى قراءة نافع
يكون اسم أن ضمير الشأن، ولعنة الله مبتدأ، وعليه خبره، والجملة خبر أن، وعلى قراءة الجمهور تكون لعنة
الله اسم أن، قال سيبويه: لا تخفف أن في الكلام وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة. وقال الأخفش: لا أعلم
الثقيلة إلا أجود في العربية (ويدرأ عنها العذاب) أي عن المرأة، والمراد بالعذاب الدنيوي: وهو الحد، وفاعل
يدرأ قوله (أن تشهد أربع شهادات بالله) والمعنى: أنه يدفع عن المرأة الحد شهادتها أربع شهادات بالله: أن
الزوج (لمن الكاذبين والخامسة) بالنصب عطفا على أربع: أي وتشهد الخامسة كذلك قرأ حفص والحسن والسلمي
وطلحة والأعمش، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء، وخبره (أن غضب الله عليها إن كان) الزوج (من الصادقين)
فيما رماها به من الزنا، وتخصيص الغضب بالمرأة للتغليظ عليها لكونها أصل الفجور ومادته، ولأن النساء يكثرن
اللعن في العادة، ومع استكثارهن منه لا يكون له في قلوبهن كبير موقع بخلاف الغضب (ولولا فضل الله عليكم
ورحمته) جواب لولا محذوف. قال الزجاج: المعنى ولولا فضل الله لنال الكاذب منهما عذاب عظيم. ثم بين
سبحانه كثير توبته على من تاب وعظيم حكمته البالغة فقال (وأن الله تواب حكيم) أي يعود على من تاب إليه،
ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له: حكيم فيما شرع لعباده من اللعان وفرض عليهم من الحدود.
وقد أخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (إلا الذين تابوا) قال: تاب الله عليهم من
الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة:
إن تبت قبلت شهادتك. وأخرج ابن مردويه عنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت
شهادتهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: من تاب وأصلح فشهادته في كتاب
الله تقبل. وفي الباب روايات عن التابعين. وقصة قذف المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة. وأخرج
البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس " أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: البينة وإلا حد في ظهرك، فقال: يا رسول الله إذا
رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول: البينة وإلا
حد في ظهرك، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، ونزل
جبريل فأنزل عليه (والذين يرمون أزواجهم) حتى بلغ (إن كان من الصادقين) فانصرف النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فأرسل إليهما، فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الله يعلم أن أحدكما كاذب
10

فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة، فتلكأت ونكصت
حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك،
فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. وأخرج هذه القصة أبو داود
الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس مطولة. وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، ولم يسموا الرجل ولا المرأة. وفي آخر القصة أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال له: " اذهب فلا سبيل لك عليها، فقال يا رسول الله مالي، قال: لا مال لك، إن كنت
صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ". وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما عن سهل بن سعد قال: " جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله، أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم: فعاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل، فقال عويمر: والله لآتين رسوا الله صلى الله عليه
وآله وسلم لأسألنه، فأتاه فوجده قد أنزل عليه، فدعا بهما فلاعن بينهما، قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول
الله لقد كذبت عليها، ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصارت سنة للمتلاعنين، فقال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبصروها، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلا قد
صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا، فجاءت به مثل النعت المكروه " وفي الباب أحاديث
كثيرة وفيما ذكرنا كفاية. وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود، قالوا لا يجتمع المتلاعنان أبدا.
11

خبر إن من قوله (إن الذين جاءوا بالإفك) هو (عصبة) و (منكم) صفة لعصبة، وقيل هو (لا تحسبوه
شرا لكم) ويكون عصبة بدلا من فاعل جاءوا. قال ابن عطية: وهذا أنسق في المعنى وأكثر فائدة من أن يكون
الخبر عصبة، وجملة لا تحسبوه، وإن كانت طلبية، فجعلها خبرا يصح بتقدير كما في نظائر ذلك، والإفك أسوأ
الكذب وأقبحه، وهو مأخوذ من أفك الشئ إذا قلبه عن وجهه. فالإفك هو الحديث المقلوب، وقيل هو البهتان
وأجمع المسلمون على أن المراد بما في الآية ما وقع من الإفك على عائشة أم المؤمنين، وإنما وصفه الله بأنه إفك، لأن
المعروف من حالها رضي الله عنها خلاف ذلك، قال الواحدي: ومعنى القلب في هذا الحديث الذي جاء به أولئك
النفر أن عائشة رضي الله عنها كانت تستحق الثناء بما كانت عليه من الحصانة وشرف النسب والسبب لا القذف،
فالذين رموها بالسوء قلبوا الأمر عن وجهه، فهو إفك قبيح وكذب ظاهر، والعصبة: هم الجماعة من العشرة
إلى الأربعين، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة
وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في
اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض، وجملة (لا تحسبوه شرا لكم) إن كانت خبرا لأن فظاهر، وإن كان
الخبر عصبة كما تقدم فهي مستأنفة، خوطب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل الذي
قذف مع أم المؤمنين وتسلية لهم، والشر ما زاد ضره على نفعه، والخير ما زاد نفعه على ضره، وأما الخير الذي
لا شر فيه فهو الجنة، والشر الذي لا خير فيه فهو النار، ووجه كونه خيرا لهم أنه يحصل لهم به الثواب العظيم مع
بيان براءة أم المؤمنين وصيرورة قصتها هذه شرعا عاما (لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم) أي بسبب تكلمه
بالإفك (والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم) قرأ الحسن والزهري وأبو رجاء وحميد الأعرج ويعقوب وابن
أبي علية ومجاهد وعمرة بنت عبد الرحمن بضم الكاف، قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى
عظيم كذا وكذا: أي أكبره، وقرأ الباقون بكسرها. قيل هما لغتان، وقيل هو بالضم معظم الإفك، وبالكسر
البداءة به، وقيل هو بالكسر الإثم. فالمعنى: إن الذي تولى معظم الإفك من العصبة له عذاب عظيم في الدنيا
أو في الآخرة أو فيهما.
واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم؟ فقيل هو عبد الله بن أبي، وقيل هو
حسان، والأول هو الصحيح. وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلد في الإفك
رجلين وامرأة، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش. وقيل جلد عبد الله بن أبي وحسان بن
ثابت وحمنة بنت جحش ولم يجلد مسطحا، لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح.
وقيل لم يجلد أحدا منهم. قال القرطبي: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حدوا: حسان ومسطح
وحمنة. ولم يسمع بحد لعبد الله بن أبي، ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة، قالت: لما نزل عذري، قام
12

النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم،
وسماهم: حسان، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وآله وسلم لجلد عبد الله بن أبي، فقيل لتوفير العذاب العظيم له في
الآخرة، وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال " إنها
كفارة لمن أقيمت عليه " وقيل ترك حده تألفا لقومه واحتراما لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة
الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم. ثم صرف سبحانه الخطاب عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون
والمؤمنات بأنفسهم خيرا) لولا هذه هي التحضيضية تأكيدا للتوبيخ والتقريع ومبالغة في معاتبتهم: أي كان ينبغي
للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أم المؤمنين
أبعد. قال الحسن: معنى بأنفسهم بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله " ولا تقتلوا أنفسكم "
قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضا إنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرد ومثله قوله سبحانه
" فاقتلوا أنفسكم " قال النحاس: بأنفسهم بإخوانهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف
أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. قال العلماء: إن في الآية دليلا على أن درجة الإيمان
والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع (هذا إفك مبين) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك هذا إفك
ظاهر مكشوف، وجملة (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) من تمام ما يقوله المؤمنون: أي وقالوا هلا جاء الخائضون
بأربعة شهداء) يشهدون على ما قالوا (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله هم الكاذبون)
أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا
خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه هي لامتناع الشئ لوجود غيره (لمسكم فيما أفضتم فيه) أي
بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك، يقال أفاض في الحديث، واندفع وخاض. والمعنى: لولا أني قضيت
عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال والرحمة في الآخرة بالعفو، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه
من حديث الإفك. وقيل المعنى: لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معا، ولكن برحمته ستر
عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا (إذ تلقونه بألسنتكم) الظرف منصوب بمسكم أو بأفضتم، قرأ الجمهور
" إذ تلقونه " من التلقي، والأصل تتلقونه فحذف إحدى التاءين. قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن
بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا. قال الزجاج:
معناه يلقيه بعضكم إلى بعض. وقرأ محمد بن السميفع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف، من الإلقاء، ومعنى
هذه القراءة واضح. وقرأ أبي مسعود " تتلقونه " من التلقي، وهي كقراءة الجمهور. وقرأ ابن عباس وعائشة
وعيسى بن عمر ويحيى بن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول
العرب ولق يلق ولقا: إذا كذب. قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية:
وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. قال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع،
يقال جاءت الإبل تلق: أي تسرع، ومنه قول الشاعر:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق * جاءوا بأسراب من الشام ولق
وقال الآخر: جاءت به عيسى من الشام تلق * قال أبو البقاء: أي يسرعون فيه قال ابن جرير:
13

وهذه اللفظة أي تلقونه على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق، وهو الإسراع بالشيء بعد الشئ كعدد في إثر
عدد، وكلام في إثر كلام، وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر " تألقونه " بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف
مضمومة من الألق وهو الكذب، وقرأ يعقوب " تيلقونه " بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة ولام مفتوحة
وقاف مضمومة، وهو مضارع ولق بكسر اللام، ومعنى (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) أن قولهم هذا
مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعا في الخارج معتقدا في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله
" يطير بجناحيه " ونحوه، والضمير في تحسبونه راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (وتحسبونه
هينا) أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم، وجملة (وهو عند الله عظيم) في محل نصب على الحال: أي عظيم ذنبه
وعقابه (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين: أي هلا إذ سمعتم حديث
الإفك قلتم تكذيبا للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ولا يصدر ذلك منا بوجه
من الوجوه، ومعنى قوله (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك، وأصله التنزيه
لله سبحانه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه: أي هذا
كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله عنها، وصدوره مستحيل شرعا من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين
خاضوا في الإفك فقال (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) أي ينصحكم الله، أو يحرم عليكم، أو ينهاكم كراهة أن
تعودوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يقتضي
عدم الوقوع في مثله ما دمتم، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ (ويبين الله لكم الآيات) في الأمر والنهى لتعملوا بذلك
وتتأدبوا بآداب الله وتنزجروا عن الوقوع في محارمه (والله عليم) بما تبدونه وتخفونه (حكيم) في تدبيراته لخلقه.
ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال (إن الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة في الذين آمنوا) أي يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر، ومن قولهم شاع الشئ يشيع شيوعا وشيعا وشيعانا:
إذا ظهر وانتشر، والمراد بالذين آمنوا المحصنون العفيفون، أو كل من اتصف بصفة الإيمان، والفاحشة هي
فاحشة الزنا أو القول السيء (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) بعذاب النار (والله يعلم) جميع
المعلومات (وأنتم لا تعلمون) إلا ما علمكم به وكشفه لكم ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف، وعقوبة فاعله
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته) هو تكرير لما تقدم تذكيرا للمنة منه سبحانه على عبادة بترك المعاجلة لهم (وأن الله
رؤوف رحيم) ومن رأفته بعباده لا يعاجلهم بذنوبهم، ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار
وجملة: وأن الله رؤوف رحيم معطوفة على فضل الله، وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي لعاجلكم
بالعقوبة (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) الخطوات جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، والخطوة
بالفتح المصدر: أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها. قرأ الجمهور
" خطوات " بضم الخاء والطاء، وقرأ عاصم والأعمش بضم الخاء وإسكان الطاء (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه
يأمر بالفحشاء والمنكر) قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له، كأنه قيل: فقد ارتكب الفحشاء والمنكر
لأن دأبه أن يستمر آمرا لغيره بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان،
وقيل للشأن، والأولى أن يكون عائدا إلى من يتبع خطوات الشيطان، لأن من اتبع الشيطان صار مقتديا به في الأمر
بالفحشاء والمنكر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) قد تقدم بيانه وجواب لولا هو قوله (ما زكى منكم من أحد
أبدا) أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حيا. قرأ الجمهور " زكى " بالتخفيف،
14

وقرأ الأعمش وابن محيصن وأبو جعفر بالتشديد أي ما طهره الله. وقال مقاتل: أي ما صلح. والأولى تفسير زكى
بالتطهر والتطهير، وهو الذي ذكره ابن قتيبة. قال الكسائي إن قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات
الشيطان) معترض، وقوله (ما زكى منكم من أحد أبدا) جواب لقوله أولا وثانيا ولولا فضل الله. وقراءة
التخفيف أرجح لقوله (ولكن الله يزكي من يشاء) أي من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم (والله سميع) لما
يقولونه (عليم) بجميع المعلومات وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن
يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ
متعددة وطرق مختلفة. حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة رضي
الله عنها، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقدا لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها،
فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومر بها صفوان بن المعطل، وكان متأخرا عن
الجيش، فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوه. هذا حاصل
القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأهل السنن
الأربع وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم. قال الترمذي: هذا
حديث حسن. ووقع عند أبي داود تسميتهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال: الذين افتروا على عائشة عبد الله بن أبي سلول ومسطح وحسان
وحمنة بنت جحش. وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال:
كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال الذي تولى كبره منهم علي، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة
ابن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره
منهم عبد الله بن أبي، قال فقال لي: فما كان جرمه؟ قلت: حدثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن
ابن عوف وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئا في أمري. وقال
يعقوب بن شيبة في مسنده: حدثنا الحسن بن علي الحلواني، حدثنا الشافعي، حدثنا عمي قال: دخل سليمان
ابن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال: عبد الله بن أبي. قال:
كذبت هو علي. قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟
فقال: ابن أبي. قال: كذبت هو علي. قال: أنا أكذب؟ لا أبالك، والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد
أحل الكذب ما كذبت، حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال:
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لكنك لست كذلك، قلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك، وقد أنزل الله (والذي تولى كبره منهم له
عذاب عظيم) فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه وابن عساكر عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع
ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، قال:
15

فعائشة والله خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال
من أهل الإفك. ثم قال (لولا إذا سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين) أي كما
قال أبو أيوب وصاحبته. وأخرج الواقدي والحاكم وابن عساكر عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب فذكر
نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس
(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) قال: يحرج الله عليكم. وأخرج البخاري في الأدب والبيهقي في شعب الإيمان
عن علي بن أبي طالب قال: القائل الفاحشة والذي شيع بها في الإثم سواء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ما زكى منكم من أحدا أبدا) قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشئ من الخير
قوله (ولا يأتل) أي يحلف وزنه يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قول الشاعر:
تألى ابن أوس حلفة ليردني * إلى نسوة كأنهن مفايد
وقول الآخر: قليل الألايا حافظ ليمينه * وإن بدرت منه الألية برت
يقال ائتلى يأتلي إذا حلف. ومنه قوله سبحانه " للذين يؤلون من نسائهم " وقالت فرقة: هو من ألوت في كذا إذا
قصرت، ومنه لم آل جهدا: أي لم أقصر، وكذا منه قوله " لا يألونكم خبالا " ومنه قول الشاعر:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه * بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
والأول أولى بدليل سبب النزول، وهو ما سيأتي، والمراد بالفضل الغنى والسعة في المال (أن يؤتوا أولي
القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) أي على أن لا يؤتوا. قال الزجاج: أن لا يؤتوا فحذف لا، ومنه
قول الشاعر:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا * ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان
الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم
شحناء لذنب اقترفوه، وقرأ أبو حيوة " إ ن تؤتوا " بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدبا آخر فقال
16

(وليعفو) عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع: أي درس، والمراد محو الذنب
حتى يعفو كما يعفو أثر الربع (وليصفحوا) بالإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، وقرئ بالفوقية في
الفعلين جميعا. ثم ذكر سبحانه ترغيبا عظيما لمن عفا وصفح فقال (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بسبب عفوكم
وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم (والله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم،
فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم (إن الذين يرمون المحصنات) قد مر تفسير
المحصنات وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي
الله عنها. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في
عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي
صلى الله عليه وآله سلم فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية أنه لا توبة لمن رمى إحدى
أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة كما تقدم في قوله (إلا الذين تابوا)
وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب، وقيل إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات
والمحصنين، واختاره النحاس، وهو الموافق لما قرره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب. وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت خرجت لتفجر. قال
أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين
لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة
كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون (في الدنيا
والآخرة ولهم عذاب عظيم) والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي
ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل هن السليمات الصدور النقيات
القلوب (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم
لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. وقرأ الجمهور " يوم تشهد " بالفوقية، واختار هذه
القراءة أبو حاتم، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد،
لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل. والمعنى: تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل
تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به (وأيديهم وأرجلهم) بما عملوا بها في الدنيا، وإن الله سبحانه
ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي اقترفوها: أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها
ومعاصيهم التي عملوها (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله
جزاءهم عليها موفرا، فالمراد بالدين هاهنا الجزاء، وبالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته. قرأ زيد بن علي
" يوفيهم " مخففا من أوفى، وقرأ من عداه بالتشديد من وفى. وقرأ أبو حيوة ومجاهد " الحق " بالرفع على أنه نعت
لله، وروى ذلك عن ابن مسعود. وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف
الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتا لله عز وجل ولتكون موافقة لقراءة أبي، وذلك أن جرير ابن حازم قال:
رأيت في مصحف أبي " يوفيهم الله الحق دينهم ". قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج
بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضا فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبي كذلك جاز أن يكون دينهم
17

بدلا من الحق (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب
العزيز أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله، المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه
الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره. وقيل سمي بالحق: أي الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم.
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال (الخبيثات للخبيثين) أي الخبيثات من النساء
للخبيثين من الرجال: أي مختصة بهم لا تتجاوزهم، وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن، وهكذا
قوله (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات
الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من
القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال
الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال
والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبث ومدح للذين برءوها. وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله " الزاني
لا ينكح إلا زانية " فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، والإشارة بقوله (أولئك
مبرؤن مما يقولون) إلى الطيبين والطيبات: أي هم مبرؤن مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى
أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل،
وقيل عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال " فإن كان له إخوة " والمراد إخوان (لهم مغفرة) أي هؤلاء
المبرؤن لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (ورزق كريم) وهو رزق الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولا يأتل) الآية، يقول: لا يقسموا
أن لا ينفعوا إلا أحدا. وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك،
وكان قريبا لأبي بكر وكان في عياله، فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيرا أبدا، فأنزل الله (ولا يأتل أولوا الفضل
منكم والسعة) الآية، قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا
تحللتها وأتيت الذي هو خير. وقد روى هذا من طرق عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن
ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رموا فيه عائشة بالقبيح وأفشوا
ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم أبو بكر ان لا يتصدقوا على رجل
تكلم بشئ من هذا ولا يصلوه، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من
أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه عنه في قوله (إن الذين يرمون المحصنات) الآية، قال: نزلت في عائشة خاصة. وأخرج
سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله
عليه وآله وسلم التوبة، ثم قرأ (والذين يرمون المحصنات) إلى قوله (إلا الذين تابوا). وأخرج أبو يعلى وابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة
عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك
وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم
يدخلهم النار " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة
18

الجوارح على العصاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله سبحانه (يومئذ يوفيهم
الله دينهم الحق) قال: حسابهم وكل شئ في القرآن الدين فهو الحساب. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن بن
حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم. وأخرج ابن جرير
والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (الخبيثات) قال: من الكلام (للخبيثين) قال من الرجال (والخبيثون)
من الرجال (للخبيثات) من الكلام (والطيبات) من الكلام (للطيبين) من الناس (والطيبون) من الناس (للطيبات)
من الكلام، نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قالوا من البهتان. وأخرج عبد الزراق
والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير
والطبراني عن قتادة نحوه أيضا، وكذا روي عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني
عن ابن زيد في الآية قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان والفرية فبرأها الله من ذلك. وكان
عبد الله بن أبي هو الخبيث، فكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة ويكون لها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم طيبا، فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب، وفي قوله
(أولئك مبرؤن مما يقولون) قال: هاهنا برئت عائشة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: لقد نزل عذري
من السماء، ولقد خلقت طيبه وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة وأجرا عظيما النور.
لما فرغ سبحانه من ذكر الزجر عن الزنا والقذف شرع في ذكر الزجر عن دخول البيوت استئذان لما
في ذلك من مخالطة الرجال بالنساء، فربما يؤدي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضا إن الإنسان يكون في بيته
ومكان خلوته على حالة قد لا يحب أن يراه عليها غيره، فنهى الله سبحانه عن دخول بيوت الغير إلى غاية، هي قوله
(حتى تستأنسوا) والاستئناس الاستعلام والاستخبار: أي حتى تستعلموا من البيت، والمعنى: حتى تعلموا
أن صاحب البيت قد علم بكم وتعلموا أنه قد أذن بدخولكم، فإذا علمتم ذلك دخلتم، ومنه قوله - فأن آنستم منهم
رشدا - أي علمتم. قال الخليل: الاستئناس الاستكشاف، من أنس الشئ إذا أبصره كقوله - إني آنست نارا -
أي أبصرت. وقال ابن جرير: إنه بمعنى وتؤنسوا أنفسكم. قال ابن عطية: وتصريف الفعل يأبى أن يكون من
أنس. ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش، لأن الذي يطرق باب غيره
لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له، فإذا أذن له استأنس، فنهى سبحانه عن دخول تلك
البيوت حتى يؤذن للداخل. وقيل هو من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثم إنسان أم لا؟ وقيل معنى الاستئناس
الاستئذان: أي لا تدخلوها حتى تستأذنوا. قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا، ويؤيده ما حكاه
19

القرطبي عن ابن عباس وأبي وسعيد بن جبير أنهم قرأوا " حتى تستأذنوا " قال مالك فيما حكاه عنه ابن وهب:
الاستئناس فيما يرى والله أعلم الاستئذان، وقوله (وتسلموا على أهلها) قد بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما
سيأتي بأن يقول: السلام عليكم أدخل؟ مرة أو ثلاثا كما سيأتي.
واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام أو العكس، فقيل يقدم الاستئذان، فيقول: أدخل سلام عليكم،
لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم
أدخل، وهو الحق، لأن البيان منه صلى الله عليه وآله وسلم للآية كان هكذا. وقيل إن وقع بصره على إنسان
قدم السلام، وإلا قدم الاستئذان (ذلكم خير لكم) الإشارة إلى الاستئناس والتسليم: أي دخولكم مع الاستئذان
والسلام خير لكم من الدخول بغتة (لعلكم تذكرون) أن الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر: أي
أمرتم بالإستئذان، والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به (فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن
لكم) أي فإن تجدوا في البيوت التي لغيركم أحدا ممن يستأذن عليه فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بدخولها من جهة
من يملك الإذن. وحكى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: معنى الآية فإن لم تجدوا فيها أحدا: أي لم يكن لكم فيها
متاع، وضعفه وهو حقيق بالضعف، فإن المراد بالأحد المذكور أهل البيوت الذين يأذنون للغير بدخولها، لإمتاع
الداخلين إليها (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا) أي إن قال لكم أهل البيت ارجعوا فارجعوا، ولا تعاودوهم
بالاستئذان مرة أخرى، ولا تنتظروا بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع. ثم بين سبحانه أن الرجوع
أفضل من الإلحاح وتكرار الاستئذان والقعود على الباب فقال (هو أزكى لكم) أي أفضل (وأطهر) من التدنس
بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة (والله بما تعملون عليم)
لا تخفى عليه من أعمالكم خافية (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم) أي لا جناح عليكم
في الدخول بغير استئذان إلى البيوت التي ليست بمسكونة.
وقد اختلف الناس في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد:: هي الفنادق التي في الطرق
السابلة الموضوعة لابن السبيل يأوي إليها. وقال ابن زيد والشعبي: هي حوانيت القيساريات، قال الشعبي:
لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم. وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول
والغائط، ففي هذا أيضا متاع. وقيل هي بيوت مكة. روى ذلك عن محمد ابن الحنفية أيضا، وهو موافق لقول
من قال: إن الناس شركاء فيها، ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة. والمتاع:
المنفعة عند أهل اللغة، فيكون معنى الآية: فيها منفعة لكم، ومنه قوله " ومتعوهن " وقولهم: أمتع الله بك، وقد
فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدم بالأعيان التي تباع. قال جابر بن زيد: وليس المراد بالمتاع الجهاز، ولكن
ما سواه من الحاجة. قال النحاس، وهو حسن موافق للغة (والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) أي ما تظهرون وما
تخفون، وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير.
وقد أخرج الفريابي وابن جرير من طريق عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال: قالت امرأة: يا رسول
الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحب أن يراني عليها أحد ولد ولا والد، فيأتيني الأب فيدخل علي فكيف
أصنع؟ ولفظ ابن جرير: وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحالة، فنزلت (يا أيها الذين آمنوا
لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم) الآية. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
20

أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن منده في غرائب شعبة والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي
في الشعب والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في قوله (حتى تستأنسوا) قال: أخطأ الكاتب حتى تستأذنوا
(وتسلموا على أهلها). وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن إبراهيم النخعي قال في
مصحف عبد الله " حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة
مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: الاستئناس: الاستئذان. وأخرج ابن
أبي شيبة والحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم عن أبي أيوب قال " قلت يا رسول الله: أرأيت
قول الله تعالى (حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة
وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت ". قال ابن كثير: هذا حديث غريب. وأخرج الطبراني عن
أبي أيوب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الاستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين
يسلم عليهم ". وأخرج ابن سعد وأحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي في الشعب من
طريق كلدة " أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وضغابيس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى الوادي،
قال: فدخلت عليه ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟ "
قال الترمذي: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والبخاري في الأدب وأبو داود
والبيهقي في السنن من طريق ربعي، قال " حدثنا رجل من بنى عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو
في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لخادمه: أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له:
قل السلام عليكم أأدخل؟ ". وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعا، ولكنه قال " إن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم قال لأمة له يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن أبي سعيد الخدري قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار فجاء أبو موسى فزعا، فقلنا له: ما أفزعك
قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته، فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ فقلت: قد جئت
فاستأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له
فليرجع، قال: لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا: لا يقوم إلا أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه ليشهد له، فقال
عمر لأبي موسى: إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم شديد. وفي الصحيحين
وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومعه
مدرى يحك بها رأسه، قال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر. وفي
لفظ: إنما جعل الإذن من أجل البصر. وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن مردويه عن أنس قال: قال رجل من
المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية، فما أدركتها أن استأذن على بعض إخواني، فيقول لي ارجع،
فأرجع وأنا مغتبط لقوله " وإن قيل لكم راجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ". وأخرج البخاري في الأدب وأبو داود
في الناسخ والمنسوخ وابن جرير عن ابن عباس قال (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا
وتسلموا على أهلها) فنسخ، واستثنى من ذلك فقال (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع
لكم).
21

لما ذكر سبحانه حكم الاستئذان، أتبعه بذكر حكم النظر على العموم، فيندرج تحته غض البصر من
المستأذن، كما قال صلى الله عليه وآله وسلم " إنما جعل الإذن من أجل البصر " وخص المؤمنين مع تحريمه على
غيرهم، لكون قطع ذرائع الزنا التي منها النظر هم أحق من غيرهم بها وأولى بذلك ممن سواهم. وقيل إن في الآية
دليلا على أن الكفار غير مخاطبين بالشرعيات كما يقوله بعض أهل العلم، وفي الكلام حذف، والتقدير (قل
للمؤمنين) غضوا (يغضوا) ومعنى غض البصر: إطباق الجفن على العين بحيث تمتنع الرؤية، ومنه قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير * فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقول عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي * حتى تواري جارتي مأواها
و " من " في قوله (من أبصارهم) هي التبعيضية، وإليه ذهب الأكثرون، وبينوه بأن المعنى غض البصر عما
يحرم والاقتصار به على ما يحل. وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر أول نظرة تقع من غير قصد. وقال الأخفش:
إنها زائدة وأنكر ذلك سيبويه. وقيل إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء. واعترض عليه بأنه لم يتقدم منهم يكون
مفسرا بمن، وقيل إنها لابتداء الغاية قاله ابن عطية، وقيل الغض النقصان، يقال غض فلان من فلان: أي
وضع منه، فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه ومنقوص فتكون " من " صلة للغض، وليست لمعنى
من تلك المعاني الأربعة. وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه، ومعنى (ويحفظوا
فروجهم) أنه يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم. وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها،
ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج. قيل ووجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه
موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى، بخلاف حفظ الفرج فإنه مضيق فيه، فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى.
وقيل الوجه أن غض البصر كله كالمتعذر، بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق، والإشارة بقوله (ذلك)
إلى ما ذكره من الغض والحفظ، وهو مبتدأ، وخبره (أزكى لهم) أي أظهر لهم من دنس الريبة وأطيب من التلبس
بهذه الدنيئة (إن الله خبير بما يصنعون) لا يخفى عليه شئ من صنعهم، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ
فرجه (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن
تحت خطاب المؤمنين تغليبا كما في سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضض ولم يظهر في يغضوا، لأن
لام الفعل من الأول متحركة ومن الثاني ساكنة وهما في موضع جزم جوابا للأمر، وبدأ سبحانه بالغض
22

في الموضعين قبل حفظ الفرج، لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج، والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه،
ومعنى: يغضضن من أبصارهن كمعنى يغضوا من أبصارهم، فيستدل به على تحريم نظر النساء إلى ما يحرم
عليهن، وكذلك يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم (ولا يبدين
زينتهن) أي ما يتزين به من الحلية وغيرها، وفي النهي عن إبداء الزينة نهى عن إبداء مواضعها من أبدانهن
بالأولى. ثم استثنى سبحانه من هذا النهي، فقال (إلا ما ظهر منها).
واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو؟ فقال ابن مسعود وسعيد بن جبير: ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد
سعيد بن جبير الوجه. وقال عطاء والأوزاعي: الوجه والكفان. وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة:
ظاهر الزينة هو الكل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك، فإنه يجوز للمرأة أن تبديه. وقال ابن
عطية: إن المرأة لا تبدي شيئا من الزينة وتخفي كل شئ من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة.
ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلا ما ظهر منها كالجلباب والخمار ونحوهما مما على الكف
والقدمين من الحلية ونحوها، وإن كان المراد بالزينة مواضعها كان الاستثناء راجعا إلى ما يشق على المرأة ستره
كالكفين والقدمين ونحو ذلك. وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى
الخطاب، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به
النساء فالأمر واضح، والاستثناء يكون من الجميع. قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين: خلقية،
ومكتسبة، فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب والحلي
والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى - خذوا زينتكم - وقول الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما ترى * وإذا عطلن فهن خير عواطل
(وليضربن بخمرهن على جيوبهن) قرأ الجمهور بإسكان اللام التي للأمر. وقرأ أبو عمرو بكسرها على الأصل
لأن أصل لام الأمر الكسر، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. والخمر جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها،
ومنه اختمرت المرأة وتخمرت. والجيوب: جمع جيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص، مأخوذ من
الجوب وهو القطع. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن، وكانت جيوبهن من
قدام واسعة، فكان تنكشف نحورهن وقلائدهن، فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستر بذلك ما كان
يبدو، وفي لفظ الضرب مبالغة في الألقاء الذي هو الإلصاق. قرأ الجمهور " بخمرهن " بتحريك الميم، وقرأ طلحة
ابن مصرف بسكونها. وقرأ الجمهور " جيوبهن " بضم الجيم، وقرأ ابن كثير وبعض الكوفيين بكسرها، وكثير من
متقدمي النحويين لا يجوزون هذه القراءة. وقال الزجاج: يجوز أن يبدل من الضمة كسرة، فأما ما روي عن حمزة
من الجمع بين الضم والكسر فمحال لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء، وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا
وهو المعنى الحقيقي. وقال مقاتل: إن معنى على جيوبهن: على صدورهن، فيكون في الآية مضاف محذوف:
أي على مواضع جيوبهن. ثم كرر سبحانه النهي عن إبداء الزينة لأجل ما سيذكره من الاستثناء فقال (ولا يبدين
زينتهن إلا لبعولتهن) البعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، وقدم البعولة لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن
كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثله قوله سبحانه - والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - ثم لما استثنى سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال (أو آبائهن
23

أو آباء بعولتهن) إلى قوله (أو بني أخواتهن) فجوز للنساء أن يبدين الزينة لهؤلاء لكثرة المخالطة وعدم خشية الفتنة
لما في الطباع من النفرة عن القرائب. وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا ينظران إلى أمهات
المؤمنين ذهابا منهما إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله
(لا جناح عليهن في آبائهن) والمراد بأبناء بعولتهن ذكور أولاد الأزواج، ويدخل في قوله (أو أبنائهن) أولاد
الأولاد وإن سفلوا وأولاد بناتهن وإن سفلوا، وكذا آباء البعولة وآباء الآباء وآباء الأمهات وإن علوا،
وكذلك أبناء البعولة وإن سفلوا، وكذلك أبناء الإخوة والأخوات. وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر
المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم، وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب. وقال الشعبي وعكرمة:
ليس العم والخال من المحارم، ومعنى (أو نسائهن) هن المختصات بهن الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة،
ويدخل في ذلك الإماء، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن
لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، وإضافة النساء إليهن تدل على
اختصاص ذلك بالمؤمنات (أو ما ملكت أيمانهن) ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء من غير فرق بين أن يكونوا
مسلمين أو كافرين، وبه قال جماعة من أهل العلم، وإليه ذهبت عائشة وأم سلمة وابن عباس ومالك. وقال
سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية (أو ما ملكت أيمانهن) إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد. وكان الشعبي
يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد والحسن وابن سيرين، وروى عن ابن مسعود،
وبه قال أبو حنيفة وابن جريج (أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) قرأ الجمهور غير بالجر. وقرأ أبو بكر
وابن عامر بالنصب على الاستثناء، وقيل على القطع، والمراد بالتابعين هم الذين يتبعون القوم فيصيبون من طعامهم
لا همة لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم في النساء قاله مجاهد وعكرمة والشعبي، ومن الرجال في محل نصب على الحال.
وأصل الإربة والأرب والمأربة الحاجة والجمع مآرب: أي حوائج، ومنه قوله سبحانه - فيها مآرب أخرى -
ومنه قول طرفة:
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا * تقدم يوما ثم ضاعت مآربه
وقيل المراد بغير أولى الأربة من الرجال الحمقى الذين لا حاجة لهم في النساء، وقيل البله، وقيل العنين، وقيل
الخصي، وقيل المخنث، وقيل الشيخ الكبير، ولا وجه لهذا التخصيص، بل المراد بالآية ظاهرها وهم من يتبع أهل
البيت، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل من هؤلاء من هو بهذه الصفة
ويخرج من عداه (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) الطفل يطلق على المفرد والمثنى والمجموع، أو
المراد به هنا الجنس الموضوع موضع الجمع بدلالة وصفة بوصف الجمع، وفي مصحف أبي " أو الأطفال " على
الجمع، يقال للإنسان طفل ما لم يراهق الحلم، ومعنى لم يظهروا: لم يطلعوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قاله
ابن قتيبة. وقيل معناه: لم يبلغوا حد الشهوة، قاله الفراء والزجاج، يقال ظهرت على كذا: إذا غلبته وقهرته.
والمعنى: لم يطلعوا على عورات النساء ويكشفوا عنها للجماع، أو لم يبلغوا حد الشهوة للجماع. قراءة الجمهور
" عورات " بسكون الواو تخفيفا، وهي لغة جمهور العرب. وقرأ ابن عامر في رواية بفتحها. وقرأ بذلك ابن
أبي إسحاق والأعمش. ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، وهي لغة هذيل بن مدركة، ومنه قول الشاعر الذي
أنشده الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب * رفيق لمسح المنكبين سبوح
24

واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال، فقيل لا يلزم لأنه لا تكليف عليه وهو
الصحيح، وقيل يلزم لأنها قد تشتهي المرأة. وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير الذي قد سقطت شهوته،
والأولى بقاء الحرمة كما كانت، فلا يحل النظر إلى عورته ولا يحل له أن يكشفها.
وقد اختلف العلماء في حد العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوءتين عورة من الرجل والمرأة،
وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها على خلاف في ذلك. وقال الأكثر: إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته
(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من
يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال. قال الزجاج: وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها.
ثم أرشد عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) فيه الأمر بالتوبة، ولا خلاف
بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين. وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء. ثم ذكر
ما يرغبهم في التوبة، فقال (لعلكم تفلحون) أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي
عما كانوا يعملونه في الجاهلية، والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام بحب ما قبله.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: مر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا
إعجابا به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها، إذ استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله
لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعلمه أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال
النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا عقوبة ذنبك، وأنزل الله (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) الآية. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم) قال: يعنى من شهواتهم
مما يكره الله. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والبيهقي في سننه عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك وليست لك الأخرى " وفي مسلم وأبي داود
والترمذي والنسائي عن جرير البجلي قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظرة الفجأة، فأمرني أن
أصرف بصري " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إياكم
والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، فقال: إن أبيتم فأعطوا الطريق
حقه، قالوا: وما حقه يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف،
والنهي عن المنكر ". وأخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال " قلت:
يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك، قلت: يا نبي
الله إذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها، قلت إذا كان أحدنا خاليا،
قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " كتب الله على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محاله، فزنا العين النظر، وزنا اللسان
النطق، وزنا الأذنين السماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطو، والنفس تتمنى، والفرج يصدق ذلك
أو يكذبه ". وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " النظرة سهم من
سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه " والأحاديث في هذا الباب
كثيرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا والله أعلم أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت
يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن، يعنى الخلاخل،
25

وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا، فأنزل الله ذلك (وقل للمؤمنات يغضضن من
أبصارهن) الآية، وفيه مع كونه مرسلا مقاتل. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في
قوله (ولا يبدين زينتهن) قال: الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة (إلا ما ظهر منها) قال: الثياب
والجلباب. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا
الزوج، فأما الزينة الظاهرة فالثياب، وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار والخاتم. ولفظ ابن جرير: فالظاهرة
منها الثياب، وما خفى الخلخالان والقرطان والسواران. وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله (إلا ما ظهر منها)
قال: الكحل والخاتم. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن
عباس (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن
حميد عنه قال: هو خضاب الكف والخاتم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن ابن عمر قال: الزينة الظاهرة
الوجه والكفان. وأخرجا عن ابن عباس قال: إلا ما ظهر منها وجهها وكفاها والخاتم، وأخرجا أيضا عنه قال:
رقعة الوجه وباطن الكف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أنها سئلت
عن الزينة الظاهرة قال: القلب والفتخ وضمت طرف كمها. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن عائشة:
أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها وقال: يا أسماء
إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفه. قال أبو داود وأبو حاتم الرازي:
هذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها. وأخرج البخاري وأبو داود والنسائي وابن
جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن عائشة قالت: " رحم الله نساء المهاجرات الأولات لما أنزل
الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أكثف مروطهن فاختمرن به ". وأخرج ابن جرير والحاكم
وصححه وابن مردويه عنها بلفظ: أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) والزينة
الظاهرة الوجه وكحل العينين وخضاب الكف والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها. ثم قال (ولا يبدين
زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن) الآية، والزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها وسوارها، فأما خلخالها ومعضدها
ونحرها وشعرها فإنها لا تبديه إلا لزوجها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس (أو نسائهن) قال: هن المسلمات لا تبديه اليهودية ولا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح، وما
يحرم أن يراه إلا محرم. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى
أبي عبيدة: أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك
عن ذلك، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر عن ابن عباس قال: لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته. وأخرج أبو داود وابن مردويه والبيهقي عن أنس
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهب لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها،
وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تلقي قال: إنه ليس عليك بأس إنما
هو أبوك وغلامك " وإسناده في سنن أبي داود هكذا: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن
ثابت عن أنس فذكره. وأخرج عبد الرزاق وأحمد عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا
26

كان لإحداكن مكاتب، وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه، وإسناد أحمد هكذا: حدثنا سفيان بن عيينة عن
الزهري عن نبهان أن أم سلمة فذكره. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في
قوله (أو التابعين غير أولى الأربة من الرجال) قال: هذا الذي لا تستحي منه النساء. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال: هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله،
لا يكترث للنساء ولا يشتهى النساء. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه في الآية قال: كان الرجل يتبع الرجل
في الزمان الأول لا يغار عليه ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: هو المخنث الذي لا يقوم زبه.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن
عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخنث، فكانوا يدعونه من غير أولى
الإربة، فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال: إذا أقبلت أقبلت
بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمان، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلن
عليكم فحجبوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولا يضربن بأرجلهن)
وهو أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون في رجلها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن
ذلك، لأنه من عمل الشيطان.
لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به
قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا ويسهل بعده غض البصر عن المحرمات وحفظ الفرج عما لا يحل، فقال
(وأنكحوا الأيامى منكم) الأيم التي لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا، والجمع أيامى والأصل أيايم، والأيم بتشديد
الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال أبو عمرو والكسائي: اتفق أهل اللغة على أن الأيم في الأصل هي المرأة التي
لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا. قال أبو عبيد: يقال رجل أيم وامرأة أيم، وأكثر ما يكون في النساء، وهو
كالمستعار في الرجال، ومنه قول أمية بنت أبي الصلت:
لله در بني علي * أيم منهم وناكح
ومنه أيضا قول الآخر:
لقد إمت حتى لا مني كل صاحب * رجاء سليمى أن تأيم كما إمت
27

والخطاب في الآية للأولياء، وقيل للأزواج، والأول أرجح، وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها، وقد
خالف في ذلك أبو حنيفة.
واختلف أهل العلم في النكاح هل مباح، أو مستحب، أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره، وإلى
الثاني مالك وأبو حنيفة، وإلى الثالث بعض أهل العلم على تفصيل لهم في ذلك، فقالوا: إن خشي على نفسه
الوقوع في المعصية وجب عليه وإلا فلا. والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع تلك
الخشية، وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح بعد
ترغيبه في النكاح " ومن رغب عن سنتي فليس مني " ولكن مع القدرة عليه، وعلى مؤنه كما سيأتي قريبا، والمراد
بالأيامي هنا الأحرار والحرائر، وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله (والصالحين من عبادكم وإمائكم) قرأ الجمهور
" عبادكم " وقرأ الحسن " عبيدكم " قال الفراء: ويجوز وإماءكم بالنصب برده على الصالحين، والصلاح هو
الإيمان. وذكر سبحانه الصلاح في المماليك دون الأحرار لأن الغالب في الأحرار الصلاح بخلاف المماليك، وفيه
دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه، وإنما يزوجه مالكه. وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده
وأمته على النكاح. وقال مالك: لا يجوز. ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال (إن يكونوا فقراء يغنهم الله
من فضله) أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما، فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله
سبحانه ويتفضل عليهم بذلك. قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر، ولا يلزم أن يكون
هذا حاصلا لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة. وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى
إذا تزوجوا. وقيل المعنى: إنه يغني يغنى النفس، وقيل المعنى: إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله
بالحلال ليتعففوا عن الزنا. والوجه الأول أولى، ويدل عليه قوله سبحانه - وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من
فضله إن شاء - فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك، وجملة (والله واسع عليم) مؤكدة لما قبلها ومقررة لها، والمراد
أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غني من يغنيه من عباده عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من
يشاء. ثم ذكر سبحانه حال العاجزين عن النكاح بعد بيان جواز مناكحتهم إرشادا لهم إلى ما هو الأولى فقال
(وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) استعف طلب أن يكون عفيفا: أي ليطلب العفة عن الزنا والحرام من لا يجد
نكاحا: أي سبب نكاح، وهو المال. وقيل النكاح هنا ما تنكح به المرأة من المهر والنفقة كاللحاف اسم لما
يلتحف به، واللباس اسم لما يلبس، وقيد سبحانه هذا النهي بتلك الغاية، وهي (حتى يغنيهم الله من فضله) أي
يرزقهم رزقا يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد، الجملة الأولى: وهي
إن يكونوا فقراء يغنهم الله بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعدا حتما لا محالة في حصوله لكان الغنى والزواج
متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة، فإنه سيغني عند تزوجه لا محالة، فيكون
في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال: إن هذا الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح،
ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحا إذا كان غير واجد لأسبابه
التي يتحصل بها، وأعظمها المال. ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء، أرشد المالكين
إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم) الموصول في محل رفع
على الابتداء، ويجوز أن يكون في محل نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده: أي وكاتبوا الذين يبتغون الكتاب:
والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال: كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة، كما يقال قاتل يقاتل قتالا ومقاتلة:
28

وقيل الكتاب ها هنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه الشئ، وذلك لأنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه
وعلى أنفسهم بذلك كتابا، فيكون المعنى الذين يطلبون كتاب المكاتبة. ومعنى المكاتبة في الشرع: أن يكاتب
الرجل عبده على مال يؤديه منجما، فإذا أداه فهو حر، وظاهر قوله (فكاتبوهم) أن العبد إذا طلب الكتابة من
سيده وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو (إن علمتم فيهم خيرا) والخير هو القدرة على أداء
ما كوتب عليه وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط، كما ذهب إليه مجاهد والحسن وعطاء والضحاك وطاوس
ومقاتل. وذهب إلى الأول ابن عمر وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج. قال الفراء: يقول
إن رجوتم عندهم وفاء وتأدية للمال. وقال الزجاج: لما قال " فيهم " كان الأظهر الاكتساب، والوفاء وأداء
الأمانة. وقال النخعي: إن الخير الدين والأمانة. وروى مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة
الصلاة. قال الطحاوي: وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه فكيف يكون له مال؟
قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق. قال أبو عمر بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر
أن يقال: إن علمتم فيهم مالا، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال. هذا
حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم في الخبر المذكور في هذه الآية. وإذا تقرر لك هذا، فاعلم أنه قد ذهب
ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بن دينار والضحاك: وأهل
الظاهر، فقالوا: يجب على السيد أن يكاتب مملوكه إذا طلب منه ذلك وعلم فيه خيرا. وقال الجمهور من أهل
العلم: لا يجب ذلك، وتمسكوا بالإجماع على أنه لو سأل العبد سيده أن يبيعه من غيره لم يجب عليه ذلك ولم يجبر
عليه، فكذا الكتابة لأنها معاوضة.
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس
واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم)
ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئا من المال أو بأن يحطوا عنهم مما
كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل الثلث، وقيل الربع، وقيل العشر، ولعل وجه
تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن
والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: وآتوهم لجميع الناس. وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا
المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه - وفي الرقاب -، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض
مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل
الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) والمراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى
والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء: الزنا، مصدر بغت المرأة تبغى بغاء إذا زنت، وهذا
مختص بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا إنه بغي، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله (إن أردن تحصنا) لأن
الإكراه لا يتصور إلا عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد
بالتحصن هنا: التعفف والتزوج. وقيل إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل: في الكلام
تقديم وتأخير: أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم وإمائكم أن أردن تحصنا. وقيل هذا الشرط ملغى.
وقيل إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهن وهن يردن التعفف، وليس لتخصص النهي
29

بصورة إرادتهن التعفف. وقيل إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب، لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلا عند
إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة
قد تكون غير مريدة للحلال ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا
مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن، إلا أن يقال إن المراد
بالتحصن هنا مجرد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد، فقد قال
الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن التعفف والتزوج، وتابعه على ذلك غيره، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله
(لتبتغوا عرض الحياة الدنيا) وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضا خارج مخرج الغالب، والمعنى: أن
هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء
لا لفائدة له أصلا لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدل هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغيا
بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي
عن الإكراه لهن، وهذا يلاقي المعنى الأول ولا يخالفه (ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) هذا
مقرر لما قبله ومؤكد له، والمعنى: أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة
ابن مسعود وجابر بن عبد الله وسعيد بن جبير: فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة
على الزنا غير آثمة. وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم
الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل إن المعنى: فإن الله من بعد إكراههن
غفور رحيم لهم: إما مطلقا، أو بشرط التوبة. ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام، شرع في وصف القرآن
بصفات ثلاث: الأولى أنه آيات مبينات: أي واضحات في أنفسهن أو موضحات، فتدخل الآيات المذكورة
في هذه الصورة دخولا أوليا. والصفة الثانية كونه مثلا من الذين خلوا من قبل هؤلاء: أي مثلا كائنا من جهة
أمثال الذين مضوا من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، فإن العجب من قصة عائشة
رضي الله عنها، هو كالعجب من قصة يوسف ومريم وما اتهما به، ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما.
والصفة الثالثة كونه (موعظة) ينتفع بها المتقون خاصة، فيقتدون عليه بما فيه من الأوامر، وينزجرون عما فيه من
النواهي. وأما غير المتقين، فإن الله قد ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ،
والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وأنكحوا الأيامى) الآية قال:
أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى فقال (إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قال: أطيعوا الله فيما أمركم من
النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، قال تعالى (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وأخرج عبد الرزاق
في المصنف وعبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في
الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد، فقال (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وأخرج عبد الرزاق وابن
أبي شيبة عنه نحوه من طريق أخرى. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج البزار والدارقطني في العلل
والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" أنكحوا النساء، فإنهن يأتينكم بالمال ". وأخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا إلى النبي
30

صلى الله عليه وآله وسلم ولم يذكر عائشة وهو مرسل. وأخرج عبد الرزاق وأحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن
ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله " وقد ورد في
الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج الخطيب في تاريخه عن ابن عباس في قوله
(وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا) قال: ليتزوج من لا يجد فإن الله سيغنيه. وأخرج ابن السكن في معرفة الصحابة
عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: كنت مملوكا لحويطب عن عبد العزى، فسألته الكتابة فأبى، فنزلت (والذين
يبتغون الكتاب) الآية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين
المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا)
فكاتبته. وقال ابن كثير: إن إسناده صحيح. وأخرج أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه عن يحيى بن أبي كثير
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) قال: إن علمتم فيهم حرفة، ولا
ترسلوهم كلا على الناس ". وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس
(ان علمتم فيهم خيرا) قال: المال. وأخرج ابن مردويه عن علي مثله. وأخرج البيهقي عن ابن عباس في الآية
قال: أمانة ووفاء. وأخرج عنه أيضا قال: إن علمت مكاتبك يقضيك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي عنه في الآية قال: إن علمتم لهم حيلة، ولا تلقوا مؤنتهم على المسلمين (وآتوهم من مال الله الذي
آتاكم) يعنى ضعوا عنهم من مكاتبتهم. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن نافع قال:
كان ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ويقول: يطعمني من أوساخ الناس. وأخرج ابن أبي حاتم
عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس في قوله (وآتوهم من مال الله) الآية: أمر المؤمنين أن يعينوا في الرقاب.
وقال علي بن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه. وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن
فيه أجر. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والروياني في مسنده والضياء المقدسي في
المختارة عن بريدة في الآية قال: حث الناس عليه أن يعطوه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة ومسلم
والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طريق أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال:
كان عبد الله بن أبي يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئا، وكانت كارهة، فأنزل الله (ولا تكرهوا فتياتكم على
البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم) هكذا
كان يقرؤها، وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي: يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها
أميمة، فكان يريدهما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله (ولا تكرهوا فتياتكم)
الآية. وأخرج البزار وابن مردويه عن أنس نحو حديث جابر الأول. وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب
في الآية قال: كان أهل الجاهلية يبغين إماءهم، فنهوا عن ذلك في الإسلام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن
ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، يأخذون أجورهن فنزلت الآية. وقد ورد النهي
منه صلى الله عليه وآله وسلم عن مهر البغي وكسب الحجام وحلوان الكاهن.
31

لما بين سبحانه من الأحكام ما بين أردف ذلك بكونه سبحانه في غاية الكمال فقال (الله نور السماوات
والأرض) وهذه الجملة مستأنفة لتقرير ما قبلها، والاسم الشريف مبتدأ، ونور السماوات والأرض خبره، إما
على حذف مضاف: أي ذو نور السماوات والأرض، أو لكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال
جلاله وظهور عدله وبسطه أحكامه، كما يقال فلان نور البلد وقمر الزمن وشمس العصر، ومنه قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب * إذا ظهرت لم يبق فيهن كوكب
وقول الآخر: هلا قصدت من البلاد لمفضل * قمر القبائل خالد بن يزيد
ومن ذلك قول الشاعر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة * فقد سار منها نورها وجمالها
وقول الآخر: نسب كأن عليه من شمس الضحى * نورا ومن فلق الصباح عمودا
ومعنى النور في اللغة: الضياء، وهو الذي يبين الأشياء ويرى الأبصار حقيقة ما تراه، فيجوز إطلاق النور
على الله سبحانه على طريقه المدح، ولكونه أوجد الأشياء المنورة وأوجد أنوارها ونورها، ويدل على هذا المعنى
قراءة زيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي " الله نور السماوات والأرض " على صيغة الفعل الماضي، وفاعله
ضمير يرجع إلى الله، والسماوات مفعوله، فمعنى (الله نور السماوات والأرض) انه سبحانه صيرهما منيرتين
باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما، كما يقال الملك نور البلد، هكذا قال الحسن ومجاهد
والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة وابن جرير وغيرهم، ومثله قول الشاعر:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة * ونبت لمن يرجو نداك وريف
وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار، وجسم لا كالأجسام، وقوله (مثل
نوره) مبتدأ وخبره (كمشكاة) أي صفة نوره الفائض عنه، الظاهر على الأشياء كمشكاة، والمشكاة الكوة
في الحائط غير النافذة، كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين، وحكاه القرطبي عن جمهورهم. ووجه تخصيص
المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون فيه من مصباح أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يجعل فيه الشئ. وقيل المشكاة
عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وقال مجاهد - هي القنديل. والأول أولى، ومنه قول الشاعر:
* كأن عينيه مشكاتان في جحر * ثم قال (فيها مصباح) وهو السراج (المصباح في زجاجة) قال الزجاج:
النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شئ وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك: أن الزجاج جسم
32

شفاف يظهر فيه النور أكمل ظهور. ثم وصف الزجاجة فقال (الزجاجة كأنها كوكب دري) أي منسوب إلى
الدر لكون فيه من الصفاء والحسن ما يشابه الدر. وقال الضحاك: الكوكب الدري الزهرة. قرأ أبو عمرو " دري "
بكسر الدال. قال أبو عمرو: لم أسمع أعرابيا يقول: إلا كأنه كوكب دري بكسر الدال، أخذوه من درأت
النجوم تدرأ إذا اندفعت. وقرأ حمزة بضم الدال مهموزا، وأنكره الفراء والزجاج والمبرد. وقال أبو عبيد: إن
ضممت الدال وجب أن لا تهمز، لأنه ليس في كلام العرب. والدراري هي المشهورة من الكواكب كالمشتري
والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت. ثم وصف المصباح بقوله (يوقد من شجرة مباركة) ومن هذه هي
الابتدائية: أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل هو على تقدير مضاف: أي يوقد من زيت شجرة مباركة،
والمباركة الكثيرة المنافع. وقيل المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، ومنه قول أبي طالب يرثى مسافر بن أبي عمرو
ابن أمية بن عبد شمس:
ليث شعري مسافر بن أبي عمرو * وليت يقولها المحزون
بورك الميت الغريب كما * بورك نبع الرمان والزيتون
قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها، وهي إدام ودهان ودباغ ووقود، وليس فيها
شئ إلا وفيه منفعة، ثم وصفها بأنها (لا شرقية ولا غربية).
وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف، فقال عكرمة وقتادة وغيرهم: إن الشرقية هي التي تصيبها
الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت. والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت. وهذه
الزيتونة هي في صحراء بحيث لا يسترها عن الشمس شئ لا في حال شروقها ولا في حال غروبها، وما كانت من
الزيتون هكذا فثمرها أجود. وقيل إن المعنى: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة
الشرق، ولا من جهة الغرب، حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس. قال ابن عطية: وهذا لا يصح عن ابن
عباس، لأن الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء والزجاج.
وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره ولو كانت في الدنيا لكانت إما
شرقية وإما غربية. قال الثعلبي: قد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله شجرة.
قال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن الشام لا شرقي ولا غربي، والشام هي الأرض المباركة. وقد قرئ
" توقد " بالتاء الفوقية على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح، وبها قرأ الكوفيون. وقرأ شيبة ونافع
وأيوب وسلام وابن عامر وأهل الشام وحفص (يوقد) بالتحتية مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ
الحسن والسلمي وأبو عمرو بن العلاء وأبو جعفر (توقد) بالفوقية مفتوحة وفتح الواو وتشديد القاف وفتح الدال
على أنه فعل ماض من توقد يتوقد، والضمير في هاتين القراءتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان
القراءتان متقاربتان لأنهما جمعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء
له. وقرأ نصر بن عاصم كقراءة أبي عمرو ومن معه إلا أنه ضم الدال على أنه فعل مضارع، وأصله تتوقد. ثم
وصف الزيتونة بوصف آخر فقال (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار) قرأ الجمهور " تمسسه " بالفوقية، لأن
النار مؤنثة. قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبي مالك عن ابن
عباس أنه قرأ (يمسسه) بالتحتية لكون تأنيث النار غير حقيقي. والمعنى: أن هذا الزيت في صفاته وإنارته يكاد
33

يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلا، وارتفاع (نور) على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو نور، و (على
نور) متعلق بمحذوف هو صفة لنور مؤكدة له، والمعنى: هو نور كائن على نور. قال مجاهد: والمراد النار على
الزيت. وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور، وقال السدي: نور الإيمان ونور القرآن (يهدي الله لنوره
من يشاء) من عباده: أي هداية خاصة موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة (ويضرب الله
الأمثال للناس) أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها تقريبا لها إلى الأفهام وتسهيلا لإدراكها، لأن إبراز المعقول في
هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحا وبيانا (والله بكل شئ عليم) لا يغيب عنه شئ من الأشياء
معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا أو باطنا، واختلف في قوله (في بيوت أذن الله أن ترفع) بما هو متعلق، فقيل
متعلق بما قبله: أي كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل مثل نوره كما ترى في المسجد نور
المشكاة التي صفتها كيت وكيت، وقيل متعلق بمصباح. وقال ابن الأنباري: سمعت أبا العباس يقول: هو
حال للمصباح والزجاجة والكوكب، كأنه قيل: وهي في بيوت، وقيل متعلق يتوقد: أي توقد في بيوت، وقد
قيل متعلق بما بعده، وهو يسبح: أي يسبح له رجال في بيوت، وعلى هذا يكون قوله " فيها " تكريرا كقولك،
زيد في الدار جالس فيها. وقيل إنه منفصل عما قبله، كأنه قال الله: في بيوت أذن الله أن ترفع. قال الحكيم
الترمذي: وبذلك جاءت الأخبار أنه من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه. وقد قيل على تقدير تعلقه بمشكاة أو
بمصباح أو بتوقد ما الوجه في توحيد المصباح والمشكاة وجمع البيوت؟ ولا تكون المشكاة الواحدة ولا المصباح
الواحد إلا في بيت واحد. وأجيب بأن هذا الخطاب الذي يفتح أوله بالتوحيد، ويختم بالجمع كقوله سبحانه
- يا أيها النبي إذا طلقتم النساء - ونحوه. وقيل معنى في بيوت: في كل واحد من البيوت، فكأنه قال: في كل
بيت، أو في كل واحد من البيوت. واختلف الناس في البيوت، على أقوال: الأول أنها المساجد، وهو قول
مجاهد والحسن وغيرهما. الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس، روى ذلك عن الحسن. الثالث أنها بيوت النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، روي عن مجاهد: الرابع هي البيوت كلها، قاله عكرمة. الخامس أنها المساجد الأربعة
الكعبة، ومسجد قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد. والقول الأول أظهر لقوله
(يسبح له فيها بالغدو والآصال) والباء من بيوت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة، ومعنى أذن الله أن ترفع:
أمر وقضى، ومعنى ترفع تبنى، قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما، ومنه قوله سبحانه - وإذ يرفع إبراهيم القواعد من
البيت - وقال الحسن البصري وغيره: معنى ترفع تعظم ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ورجحه الزجاج.
وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين، ومعنى (يذكر فيها اسمه) كل ذكر لله عز وجل، وقيل هو التوحيد،
وقيل المراد تلاوة القرآن، والأول أولى (يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) قرأ ابن عامر وأبو بكر " يسبح "
بفتح الباء الموحدة مبنيا للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنيا للفاعل إلا ابن وثاب وأبا حيوة فإنهما قرآ بالتاء الفوقية
وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على
أحد وجهين: إما بفعل مقدر، وكأنه جواب سؤال مقدر، كأنه قيل من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال. الثاني
أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. وعلى القراءة الثانية يكون رجال فاعل يسبح، وعلى القراءة الثالثة
يكون الفاعل أيضا رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.
واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا: الغدو صلاة الصبح،
والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدو والآصال: بالغداة والعشي
34

وقيل صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد صلاة الضحى، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله
سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه
المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأولون، وهو ما ذكرناه (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن
ذكر الله) هذه الجملة صفة لرجال: أي لا تشغلهم التجارة والبيع عن الذكر، وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم
ما يشتغل به الإنسان عن الذكر. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب، والبيع ما باعه الرجل على بدنه، وخص
قوم التجارة هاهنا بالشراء لذكر البيع بعدها، وبمثل قول الفراء. قال الواقدي: فقال التجار هم الجلاب المسافرون
والباعة هم المقيمون، ومعنى عن ذكر الله: هو ما تقدم في قوله (ويذكر فيها اسمه) وقيل المراد الأذان،
وقيل عن ذكره بأسمائه الحسنى: أي يوحدونه ويمجدونه. وقيل المراد عن الصلاة، ويرده ذكر الصلاة بعد
الذكر هنا. والمراد بإقام الصلاة إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث
كلمات جمعها الشاعر في قوله:
ثلاثة تحذف تا آتها * مضافة عند جمع النحاة
وهي إذا شئت أبو عذرها * وليت شعري وإقام الصلاة
وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر:
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا * وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج:
وإنما حذفت الهاء لأنه يقال أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل أقواما، ولكن قلبت الواو ألفا فاجتمعت ألفان
فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي أقمت الصلاة إقاما، فأدخلت الهاء عوضا من المحذوف وقامت الإضافة
هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين انتهى. وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة
المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فرارا من التكرار ولا ملجئ إلى ذلك، بل يحمل الذكر على
معناه الحقيقي كما قدمنا. والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة، وقيل المراد بالزكاة طاعة الله والإخلاص،
إذ ليس لكل مؤمن مال (يخافون يوما) أي يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف
هذا اليوم بقوله (تتقلب فيه القلوب والأبصار) أي تضطرب وتتحول، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من
أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو أن تصير عمياء بعد أن كانت
مبصرة. وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار
فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون، وإلى أي ناحية يصيرون. وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه
من الشك إلى اليقين، ومثله قوله - فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد - فما كان يراه في الدنيا غيا يراه في
الآخرة رشدا. وقيل المراد التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك (ليجزيهم الله أحسن ما عملوا) متعلق بمحذوف:
أي يفعلون ما يفعلون من التسبيح والذكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ليجزيهم الله أحسن ما عملوا: أي أحسن
جزاء أعمالهم حسبما وعدهم من تضعيف ذلك إلى عشرة أمثاله وإلى سبعمائة ضعف، وقيل المراد بما في هذه الآية
ما يتفضل سبحانه به عليهم زيادة على ما يستحقونه، والأول أولى لقوله (ويزيدهم من فضله) فإن المراد به التفضل
عليهم بما فوق الجزاء الموعود به (والله يرزق من يشاء بغير حساب) أي من غير أن يحاسبه على ما أعطاه، أو أن
عطاءه سبحانه لا نهاية له، والجملة مقررة لما سبقها من الوعد بالزيادة.
35

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (الله نور السماوات والأرض) قال: يدبر الأمر فيهما
نجومهما وشمسهما وقمرهما. وأخرج الفريابي عنه في قوله (الله نور السماوات والأرض) مثل نوره (الذي أعطاه
المؤمن (كمشكاة)، وقال في تفسير (زيتونة لا شرقية ولا غربية) إنها التي في سفح جبل لا تصيبها الشمس إذا طلعت
ولا إذا غربت (يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور) فذلك مثل قلب المؤمن نور على نور. وأخرج
عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف عن الشعبي قال: في قراءة أبي بن كعب مثل نور المؤمن كمشكاة.
وأخرج ابن أبي حاتم وصححه عن ابن أبي عباس في الآية قال: يقول مثل نور من آمن بالله كمشكاة، وهي
الكوه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (مثل نوره) قال: هي خطأ من الكاتب هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور
المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء
والصفات عنه أيضا (الله نور السماوات والأرض) قال: هادي أهل السماوات والأرض (مثل نوره) مثل هداه في
قلب المؤمن (كمشكاة) يقول موضع الفتيلة كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه النار، فإذا مسته النار ازداد
ضوءا على ضوئه، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم ازداد هدى على
هدى ونورا على نور، وفي إسناده علي بن أبي طلحة، وفيه مقال. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي بن كعب (الله نور السماوات والأرض (مثل نوره) قال:
هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله، فقال " نور السماوات والأرض مثل نوره "
فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال مثل نور من آمن به، فكان أبي بن كعب يقرؤها " مثل نور من آمن
به " فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره (كمشكاة) قال: فصدر المؤمن المشكاة (فيها مصباح المصباح)
النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره (في زجاجة) و (الزجاجة) قلبه (كأنها كوكب دري) يقول
كوكب مضيء (يوقد من شجرة مباركة) والشجرة المباركة: أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك
له (زيتونة لا شرقية ولا غربية) قال: فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس
على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شئ من الفتن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد: كيف يخلص نور الله من
دون السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) المشكاة
كوة البيت فيها مصباح، وهو السراج يكون في الزجاجة، وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نورا، ثم
سماها أنواعا شتى (لا شرقية ولا غربية) قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت ولا إذا غربت،
وذلك أجود الزيت (يكاد زيتها يضيء) بغير نار (نور على نور) يعنى بذلك إيمان العبد وعلمه (يهدي الله لنوره
من يشاء) وهو مثل المؤمن. وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله (كمشكاة
فيها مصباح) قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في
قلبه (يوفد من شجرة مباركة) الشجرة إبراهيم (زيتونة لا شرقية ولا غربية) لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ - ما كان
إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين -. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن شمر بن عطية قال: جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار، فقال:
حدثني عن قول الله (الله نور السماوات والأرض مثل نوره) قال: مثل نور محمد صلى الله عليه وآله وسلم
كمشكاة قال: المشكاة الكوة ضربها الله مثلا لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه (المصباح في زجاجة) والزجاجة
36

صدره (كأنها كوكب دري) شبه صدر محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالكوكب الدري، ثم رجع المصباح إلى قلبه فقال (يوقد من شجرة مباركة - يكاد زيتها يضيء) قال: يكاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم يبين للناس ولو
لم يتكلم أنه نبي، كما يكاد الزيت أن يضيء ولو لم تمسسه نار.
وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدم عن أبي بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم
ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يجوز العدول عن المعنى
العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم
استبعدوا ولم تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره
مثل نور المشكاة كما قدمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح
ما هو المراد على أحسن وجه وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول
عن الظاهر، لا من كتاب ولا من سنة ولا من لغة. وأما ما حكى عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا، فإن
كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به
في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيرا،
فلا تقوم به الحجة ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبي بن كعب، كانت هي
المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح فالوقوف على ما تقتضيه قراءة
الجمهور من السبعة وغيرهم ممن قبلهم وممن بعدهم هو المتعين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
(في بيوت أذن الله أن ترفع) قال: هي المساجد تكرم وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه
(يسبح له فيها بالغدو والآصال) صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما
ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد وتنزيهها عن القذر واللغو وتنظيفها وتطييبها أحاديث ليس هذا
موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن وما
يغوص عليها إلا غواص في قوله (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (رجال لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله) قال: هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه
والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)
قال: هم الذين يبتغون من فضل الله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال: كانوا رجالا يبتغون
من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وأخرج
ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال: ضرب الله هذا المثل قوله " كمشكاة " لأولئك القوم
الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم ولا بيعهم
عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا عن ذكر الله قال: عن شهود الصلاة.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر. أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة
فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم نزلت: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه رأى ناسا من أهل السوق
سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذين قال الله فيهم (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله). وأخرج
37

هناد بن السري في الزهد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب ومحمد بن نصر في الصلاة عن أسماء بنت
يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي
وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي: أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون
الجنة بغير حساب، ثم يعود فينادي: أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون وهم قليل
فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يعود فينادي: ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون
وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون ". وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي في الشعب عن عقبة بن عامر مرفوعا نحوه.
لما ذكر سبحانه حال المؤمنين وما يؤول إليه أمرهم ذكر مثلا للكافرين فقال (والذين كفروا أعمالهم كسراب
بقيعة) المراد بالأعمال هنا: هي الأعمال التي من أعمال الخير كالصدقة والصلة وفك العاني وعمارة البيت وسقاية
الحاج، والسراب: ما يرى في المفاوز من لمعان الشمس عند اشتداد حر النهار على صورة الماء في ظن من يراه،
وسمى سرابا لأنه يسرب: أي يجرى كالماء، يقال سرب الفحل: أي مضى وسار في الأرض، ويسمى الآل
أيضا. وقيل الآل هو الذي يكون ضحى كالماء، إلا أنه يرتفع عن الأرض حتى يصير كأنه بين السماء والأرض،
قال امرؤ القيس:
38

ألم أنض المطي بكل خرق * طويل الطول لماع السراب
وقال آخر: فلما كففنا الحرب كانت عهودهم * كلمع سراب بالفلا متألق
والقيعة جمع قاع: وهو الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء، مثل جيرة وجار، قاله الهروي. وقال
أبو عبيد: قيعة وقاع واحد. قال الجوهري: القاع المستوى من الأرض، والجمع: أقوع وأقواع وقيعان،
صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، والقيعة مثل القاع. قال: وبعضهم يقول هو جمع (يحسبه الظمآن ماء) هذه صفة
ثانية لسراب، والظمآن العطشان، وتخصيص الحسبان بالضمآن مع كون الريان يراه كذلك، لتحقيق التشبيه
المبني على الطمع (حتى إذا جاءه لم يجده شيئا) أي إذا جاء العطشان ذلك الذي حسبه ماء لم يجده شيئا مما قدره
وحسبه ولا من غيره، والمعنى: أن الكفار يعولون على أعمالهم التي يظنونها من الخير ويطمعون في ثوابها، فإذا
قدموا على الله سبحانه لم يجدوا منها شيئا، لأن الكفر أحبطها ومحا أثرها، والمراد بقوله (حتى إذا جاءه) مع أنه
ليس بشئ أنه جاء الموضع الذي كان يحسبه فيه. ثم ذكر سبحانه ما يدل على زيادة حسرة الكفرة، وأنه لم يكن
قصارى أمرهم مجرد الخيبة كصاحب السراب فقال (ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب) أي وجد
الله بالمرصاد فوفاه حسابه: أي جزاء عمله، كما قال امرؤ القيس:
فولى مدبرا يهوى حثيثا * وأيقن أنه لاقى الحسابا
وقيل وجد وعد الله بالجزاء على عمله، وقيل وجد أمر الله عند حشره، وقيل وجد حكمه وقضاءه عند المجيء، وقيل
عند العمل والمعنى متقارب. وقرأ مسلمة بن محارب " بقيعاه " بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه. وروى عنه أنه
قرأ " بقيعات " بتاء مبسوطة. قيل يجوز أن تكون الألف متولدة من إشباع العين على الأول، وجمع قيعة على الثاني.
وروي عن نافع وأبي جعفر وشيبة أنهم قرأوا " الظمآن " بغير همز، والمشهور عنهم الهمز (أو كظلمات)
معطوف على كسراب، ضرب الله مثلا آخر لأعمال الكفار كما أنه تشبه السراب الموصوف بتلك الصفات، فهي
أيضا تشبه الظلمات. قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن أعمال الكفار إن مثلت بما يوجد فمثلها كمثل السراب، وإن
مثلت بما يرى فهي كهذه الظلمات التي وصف. قال أيضا: إن شئت مثل بالسراب، وإن شئت مثل بهذه
الظلمات، فأو للإباحة حسبما تقدم من القول في - أو كصيب - قال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال
الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم لأنه أيضا من أعمالهم. قال القشيري: فعند الزجاج
التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار (في بحر لجي) اللجة معظم الماء، والجمع لجج وهو
الذي لا يدرك لعمقه. ثم وصف سبحانه هذا البحر بصفة أخرى فقال (يغشاه موج) أي يعلو هذا البحر موج
فيستره ويغطيه بالكلية، ثم وصف هذا الموج بقوله (من فوقه موج) أي من فوق هذا الموج موج ثم وصف
الموج الثاني فقال (من فوقه سحاب) أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب، فيجتمع حينئذ عليهم خوف البحر
وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه. وقيل إن المعنى: يغشاه موج من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضا
حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من
فوقه زاد الخوف شدة، لأنها تستر النجوم التي يهتدى بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب وهبت الريح
المعتادة في الغالب عند نزول المطر تكاثفت الهموم وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية،
ولهذا قال سبحانه (ظلمات بعضها فوق بعض) أي هي ظلمات، أو هذه ظلمات متكاثفة مترادفة، ففي هذه
39

الجملة بيان لشدة الأمر وتعاظمه وقرأ ابن محيصن والبزي " سحاب ظلمات " بإضافة سحاب إلى ظلمات، ووجه
الإضافة أن السحاب يرتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة. وقرأ الباقون بالقطع والتنوين.
ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات: أعمال الكافر، وبالبحر اللجي: قلبه، وبالموج فوق
الموج: ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة. والسحاب الرين والختم والطبع على قلبه، وهذا تفسير هو عن
لغة العرب بمكان بعيد. ثم بالغ سبحانه في هذه الظلمات المذكورة بقوله (إذا أخرج يده لم يكد يراها) وفاعل
أخرج ضمير يعود على مقدر دل عليه المقام: اي إذا أخرج الحاضر في هذه الظلمات أو من ابتلى بها. قال
الزجاج وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد. وقال الفراء: إن كاد زائدة. والمعنى: إذا أخرج يده لم يرها، كما
تقول ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد. قال النحاس، أصح الأقوال في هذا أن المعنى
لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة، وجملة (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) مقررة لما
قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة، والمعنى: ومن لم يجعل الله له هداية فما له من هداية. قال الزجاج:
ذلك في الدنيا، والمعنى: من لم يهده الله لم يهتد، وقيل المعنى من لم يجعل له نورا يمشى به يوم القيامة فما له من
نور يهتدي به إلى الجنة (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض) قد تقدم تفسير مثل هذه الآية في
سورة سبحان، والخطاب لكل من له أهلية النظر، أو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقد علمه من جهة
الاستدلال، ومعنى (ألم تر) ألم تعلم، والهمزة للتقرير: أي قد علمت علما يقينيا شبيها بالمشاهدة، والتسبيح
التنزيه في ذاته وأفعاله وصفاته عن كل ما لا يليق به، ومعنى (من في السماوات والأرض) من هو مستقر فيهما
من العقلاء وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها. وقيل إن
التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء والتنزيه من غيرهم. وقد قيل إن هذه الآية تشمل الحيوانات والجمادات، وأن
آثار الصنعة الإلهية في الجمادات ناطق ومخبر باتصافه سبحانه بصفات الجلال والكمال وتنزهه عن صفات النقص،
وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها
كعبادته عز وجل. وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق بكل نوع من أنواع المخلوقات على طريقة عموم
المجاز. قرأ الجمهور (والطير صافات) بالرفع للطير والنصب لصافات على أن الطير معطوفة على من، وصافات
منتصب على الحال. وقرأ الأعرج " والطير " بالنصب على المفعول معه، وصافات حال أيضا. قال الزجاج: وهي
أجود من الرفع. وقرأ الحسن وخارجة عن نافع " والطير صافات " برفعهما على الابتداء والخبر، ومفعول صافات
محذوف: أي أجنحتها، وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض لعدم استمرار استقرارها
في الأرض وكثرة لبثها في الهواء وهو ليس من السماء ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة التي تقدر بها
تارة على الطيران، وتارة على المشي بخلاف غيرها من الحيوانات، وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون
صدور التسبيح منها حال كونها صافات لأجنحتها، لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء
مسبحة من دون تحريك لأجنحتها ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شئ. ثم زاد في
البيان فقال (كل قد علم صلاته وتسبيحه) أي كل واحد مما ذكر، والضمير في علم يرجع إلى كل، والمعنى:
أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلى وتسبيح المسبح. وقيل المعنى: أن كل مصل ومسبح
قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه. قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحا.
وقيل المراد بالصلاة هنا الدعاء: أي كل واحد قد علم دعاءه وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم
40

ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك وألهمها إليه، إلا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا
روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها
غير جاهلة له (والله عليم بما يفعلون) هذه الجملة مقررة لما قبلها: أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم،
ويجوز أن يكون الضمير في " علم " لله سبحانه: أي كل واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له وتسبيحه إياه
والأول أرجح لاتفاق القراء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض
المفسرين أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال (ولله ملك
السماوات والأرض) أي له لا لغيره (وإليه المصير) لا إلى غيره، والمصير: الرجوع بعد الموت. وقد تقدم
تفسير مثل هذه الآية في غير موضع. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر من الآثار العلوية، فقال (ألم تر أن الله يزجي
سحابا) الإزجاء: السوق قليلا قليلا، ومنه قول النابغة:
إني أتيتك من أهلي ومن وطني * أزجى حشاشة نفس ما بها رمق
وقوله أيضا: أسرت عليه من الجوزاء سارية * يزجى السماك عليه جامد البرد
والمعنى: أنه سبحانه يسوق السحاب سوقا رقيقا إلى حيث يشاء (ثم يؤلف بينه) أي بين أجزائه، فيضم بعضه
إلى بعض ويجمعه بعد تفرقه ليقوى ويتصل ويكثف، والأصل في التأليف الهمز. وقرأ ورش وقالون عن نافع
" يولف " بالواو تخفيفا، والسحاب واحد في اللفظ، ولكن معناه جمع، ولهذا دخلت بين عليه لأن أجزاءه في
حكم المفردات له. قال الفراء: إن الضمير في بينه راجع إلى جملة السحاب، كما تقول الشجر قد جلست بينه، لأنه
جمع وأفرد الضمير باعتبار اللفظ (ثم يجعله ركاما) أي متراكما يركب بعضه بعضا. والركم: جمع الشئ، يقال ركم
الشئ يركمه ركما: أي جمعه وألقى بعضه على بعض وارتكم الشئ وتراكم إذا اجتمع، والركمة: الطين المجموع،
والركام: الرمل المتراكب (فترى الودق يخرج من خلاله) الودق: المطر عند جمهور المفسرين، ومنه قول الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها * ولا أرض أبقل إبقالها
وقال امرؤ القيس:
فدفعهما قد ودق وسح وديمة * وسكب وتوكاف وتنهملان
يقال ودقت السحاب فهي وادقة وودق المطر يدق: أي قطر يقطر، وقيل إن الودق البرق، ومنه قول
الشاعر: أثرن عجاجة وخرجن منها * خروج الودق من خلل السحاب
والأول أولى. ومعنى (من خلاله) من فتوقه التي هي مخارج القطر، وجملة (يخرج من خلاله) في محل نصب
على الحال، لأن الرؤية هنا هي البصرية. وقرأ ابن عباس وابن مسعود والضحاك وأبو العالية " من خلله " على
الإفراد. وقد وقع الخلاف في خلال، هل هو مفرد كحجاب؟ أو جمع كجبال؟ (وينزل من السماء من جبال
فيها من برد) المراد بقوله من سماء: من عال، لأن السماء قد تطلق على جهة العلو، ومعنى من جبال: من قطع
عظام تشبه الجبال، ولفظ فيها في محل نصب على الحال، " ومن " في من برد للتبعيض، وهو مفعول ينزل. وقيل
إن المفعول محذوف، والتقدير: ينزل من جبال فيها من برد بردا. وقيل إن من في من برد زائدة، والتقدير: ينزل
من السماء من جبال فيها برد. وقيل إن في الكلام مضافا محذوفا: أي ينزل من السماء قدر جبال، أو مثل جبال من
برد إلى الأرض. قال الأخفش: إن من في من جبال وفي من برد زائدة في الموضعين والجبال والبرد في موضع
41

نصب: أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والحاصل أن " من " في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف و " من "
في من جبال فيها ثلاثة أوجه: الأول لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الأولى بإعادة الخافض بدل
اشتمال. الثاني أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل
بعض جبال. الثالث أنها زائدة: أي ينزل من السماء جبالا. وأما " من " في من برد ففيها أربعة أوجه: الثلاثة
المتقدمة. والرابع أنها لبيان الجنس، فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد.
قال الزجاج: معنى الآية: وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد: أي خاتم
حديد في يدي، لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا انتهى. وعلى هذا يكون من
برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال، ويلزم من كون
الجبال بردا أن يكون المنزل بردا. وذكر أبو البقاء أن التقدير: شيئا من جبال، فحذف الموصوف واكتفى
بالصفة (فيصيب به من يشاء) أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده (ويصرفه عمن يشاء)
منهم، أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدم الكلام عن مثل هذا في البقرة (يكاد سنا
برقه يذهب الأبصار) السنا الضوء: أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدة بريقه
وزيادة لمعانه، وهو كقوله - يكاد البرق يخطف أبصارهم -. قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها * ليبصر ضوءها إلا البصير
وقال امرؤ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب * أهان السليط في الذبال المفتل
فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة، كذا قال المبرد وغيره. وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب
" سناء برقه " بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف. وقرأ طلحة ويحيى أيضا
بضم الباء من برقه وفتح الراء. قال أحمد بن يحيى ثعلب: وهي على هذه القراءة جمع برق. وقال النحاس: البرقة
المقدار من البرق والبرقة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع (يذهب) بضم الياء وكسر الهاء من الإذهاب.
وقرأ الباقون " سنا " بالقصر " وبرقه " بفتح الباء وسكون الراء و " يذهب " بفتح الياء والهاء من الذهاب، وخطأ
قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم. ومعنى ذهاب البرق بالأبصار: خطفه إياها من شدة الإضاءة
وزيادة البريق، والباء في الأبصار على قراءة الجمهور للإلصاق، وعلى قراءة غيرهم زائدة (يقب الله الليل والنهار)
أي يعاقب بينهما، وقيل يزيد في أحدهما وينقص الآخر، وقيل يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشر
ونفع وضر، وقيل بالحر والبرد، وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى،
وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة وبضوء القمر أخرى، والإشارة بقوله (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) إلى
ما تقدم، ومعنى العبرة: الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار، والمراد بأولى الأبصار كل من له بصر يبصر
به. ثم ذكر سبحانه دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته فقال (والله خلق كل دابة من ماء) قرأ
يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " والله خالق كل دابة " وقرأ الباقون " خلق " والمعنيان صحيحان، والدابة:
كل ما دب على الأرض من الحيوان، يقال دب يدب فهو دأب، والهاء للمبالغة، ومعنى (من ماء) من نطفة،
وهي المني، كذا قال الجمهور. وقال جماعة: إن المراد الماء المعروف لأن آدم خلق من الماء والطين. وقيل في
الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأول، لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة، ويخرج من هذا
42

العموم الملائكة فإنهم خلقوا من نور، والجان فإنهم خلقوا من نار. ثم فصل سبحانه أحوال كل دابة فقال
(فمنهم من يمشى على بطنه) وهي الحيات والحوت والدود ونحو ذلك (ومنهم من يمشي على رجلين) الإنسان
والطير (ومنهم من يمشي على أربع) سائر الحيوانات، ولم يتعرض لما يمشي على أكثر من أربع لقلته، وقيل لأن
المشي على أربع فقط وإن كانت القوائم كثيرة، وقيل لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا
فإن المراد التنبيه على بديع الصنع وكمال القدرة، فكيف يقال لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع؟ وقيل
ليس في القرآن ما يدل على عدم المشي على أكثر من أربع، لأنه لم ينف ذلك ولا جاء بما يقتضي الحصر، وفي
مصحف أبي " ومنهم من يمشي على أكثر " فعم بهذه الزيادة جميع ما يمشي على أكثر من أربع كالسرطان والعناكب
وكثير من خشاش الأرض (يخلق الله ما يشاء) مما ذكره هاهنا ومما لم يذكره كالجمادات مركبها وبسيطها ناميها
وغير ناميها (إن الله على كل شئ قدير) لا يعجزه شئ بل الكل من مخلوقاته داخل تحت قدرته سبحانه (لقد
أنزلنا آيات مبينات) أي القرآن، فإنه قد اشتمل على بيان كل شئ وما فرطنا في الكتاب من شئ، وقد تقدم
بيان مثل هذا في غير موضع (والله يهدي من يشاء) بتوفيقه للنظر الصحيح وإرشاده إلى التأمل الصادق (إلى
صراط مستقيم) إلى طريق مستوي لا عوج فيه، فيتوصل بذلك إلى الخير التام وهو نعيم الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والذين كفروا أعمالهم كسراب) قال: هو مثل
ضربه الله كرجل عطش فاشتد عطشه فرأى سرابا فحسبه ماء، فطلبه فظن أنه قدر عليه حتى أتى، فلما أتاه لم
يجده شيئا، وقبض عند ذلك يقول: الكافر كذلك السراب إذا أتاه الموت لم يجد عمله يغنى عنه شيئا، ولا ينفعه إلا
كما نفع السراب العطشان (أو كظلمات في بحر لجي) قال: يعنى بالظلمات الأعمال، وبالبحر اللجي قلب
الإنسان (يغشاه موج) يعنى بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر. وأخرج ابن جرير عنه بقيعة: بأرض
مستوية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبيه عن أصحاب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال " إن الكفار يبعثون يوم القيامة وردا عطاشا فيقولون أين الماء؟ فيتمثل لهم السراب فيحسبونه
ماء، فينطلقون إليه فيجدون الله عنده فيوفيهم حسابه والله سريع الحساب " وفي إسناده السدي عن أبيه، وفيه
مقال معروف. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة
في قوله (كل قد علم صلاته وتسبيحه) قال: الصلاة للإنسان والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه في قوله (والطير صافات) قال: بسط أجنحتهن. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يكاد سنا برقه) يقول: ضوء برقه. وأخرج ابن
أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس قال: كل شئ يمشي على أربع إلا الإنسان. وأقول هذه الطيور على اختلاف
أنواعها تمشي على رجلين، وهكذا غيرها، كالنعامة فإنها تمشي على رجلين، وليست من الطير، فهذه الكلية
المروية عنه رضي الله عنه لا تصح.
43

شرع سبحانه في بيان أحوال من لم تحصل له الهداية إلى الصراط المستقيم فقال (ويقولون آمنا بالله وبالرسول
وأطعنا) وهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ويقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم،
فإنهم كما حكى الله عنهم هاهنا ينسبون إلى أنفسهم الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لله ولرسوله نسبة بمجرد اللسان،
لا عن اعتقاد صحيح، ولهذا قال (ثم يتولى فريق منهم) أي من هؤلاء المنافقين القائلين هذه المقالة (من بعد ذلك)
أي من بعد ما صدر عنهم ما نسبوه إلى أنفسهم من دعوى الإيمان والطاعة، ثم حكم عليهم سبحانه
وتعالى بعدم الإيمان فقال (وما أولئك بالمؤمنين) أي ما أولئك القائلون هذه المقالة بالمؤمنين على الحقيقة، فيشمل
الحكم بنفي الايمان جميع القائلين، ويندرج تحتهم من تولى اندراجا أوليا. وقيل إن الإشارة بقوله " أولئك " راجع
إلى من تولى، والأول أولى. والكلام مشتمل على حكمين: الحكم الأول على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني على
جميعهم بعدم الإيمان. وقيل أراد بمن تولى: من قبول حكمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أراد بذلك
رؤساء المنافقين، وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها
ورودها على سبب خاص كما سيأتي بيانه. ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقا منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى
الله وإلى رسوله في خصوماتهم، فقال (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم) أي ليحكم الرسول بينهم،
فالضمير راجع إليه لأنه المباشر للحكم وإن كان الحكم في الحقيقة لله سبحانه، ومثل ذلك قوله تعالى - والله
ورسوله أحق أن يرضوه - و " إذا " في قوله (إذا فريق منهم معرضون) هي الفجائية: أي فاجأ فريق منهم الإعراض
عن المحاكمة إلى الله والرسول، ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم
44

يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحكم إلا بالحق فقال ((وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه
مذعنين) قال الزجاج: الإذعان الإسراع مع الطاعة، يقال أذعن لي بحقي: أي طاوعني لما كنت ألتمس منه
وصار يسرع إليه، وبه قال مجاهد. وقال الأخفش وابن الأعرابي: مذعنين مقرين. وقال النقاش: مذعنين:
خاضعين. ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال (أفي قلوبهم مرض) وهذه الهمزة للتوبيخ
والتقريع لهم، والمرض النفاق: أي أكان هذا الإعراض منهم بسبب النفاق الكائن في قلوبهم (أم ارتابوا) وشكوا
في أمر نبوته صلى الله عليه وآله وسلم وعدله في الحكم (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله) والحيف الميل في
الحكم، يقال حاف في قضيته: أي جار فيما حكم به، ثم أضرب عن هذه الأمور التي صدرها بالاستفهام
الإنكاري فقال (بل أولئك هم الظالمون) أي ليس ذلك لشئ مما ذكر، بل لظلمهم وعنادهم، فإنه لو كان
الاعراض لشئ مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى
القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله
العارفين بالكتاب والسنة، العادلين في القضاء هو حكم بحكم الله وحكم رسوله، فالداعي إلى التحاكم إليهم قد
دعا إلى الله وإلى رسوله: أي إلى حكمهما. قال ابن خويز منداد: واجب على كل من دعى إلى مجلس الحاكم أن
يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق. قال القرطبي: في هذه الآية دليل علي وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله
سبحانه ذم من دعى إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم، فقال (أفي قلوبهم مرض) الآية انتهى، فإن
كان القاضي مقصرا لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة، ولا يعقل حجج الله ومعاني كلامه وكلام رسوله، بل كان
جاهلا جهلا بسيطا، وهو من لا علم له بشئ من ذلك، أو جهلا مركبا، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا،
ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شئ من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد
أنه يعلم بشئ من العلم فاعتقاده باطل، فمن كان من القضاة هكذا فلا تجب الإجابة إليه لأنه ليس ممن يعلم بحكم
الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت وحكام الباطل، فإن ما عرفه من علم
الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة ولم يرخص فيه
لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرر لديك هذا وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون
غيره والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع
المضلة والفواقر الموحشة فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه (القول المفيد في حكم
التقليد) وفي مؤلفنا الذي سميناه (أدب الطلب ومنتهى الأرب) فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي
طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليهما. ثم لما ذكر ما كان عليه أهل النفاق أتبع بما يجب على المؤمنين أن يفعلوه
إذا دعوا إلى حكم الله ورسوله فقال (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا
وأطعنا) قرأ الجمهور بنصب " قول " على أنه خبر كان واسمها أن يقولوا. وقرأ علي والحسن وابن أبي إسحاق
برفع " قول " على أنه الاسم وأن المصدرية وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرر عند
النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسما. وأما سيبويه فقد خير بين
كل معرفتين ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين وذكرنا
من تجب الإجابة إليه من القضاة ومن لا تجب (أن يقولوا سمعنا وأطعنا) أي أن يقولوا هذا القول لا قولا آخر،
وهذا وإن كان على طريقة الخبر فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد
45

المتخاصمين للآخر. والمعنى: أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة
والإذعان. قال مقاتل وغيره: يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما
يكرهونه ويضرهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله (وأولئك) أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول (هم المفلحون)
أي الفائزون بخير الدنيا والآخرة، ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال (ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه
فأولئك هم الفائزون) وهذه الجملة مقررة لما قبلها من حسن حال المؤمنين وترغيب من عداهم إلى الدخول في
عدادهم والمتابعة في طاعة الله ورسوله والخشية من الله عز وجل والتقوى له. قرأ حفص " ويتقه " بإسكان
القاف على نية الجزم. وقرأ الباقون بكسرها، لأن جزم هذا الفعل بحذف آخره، وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر
واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والمثنى عن أبي عمرو وحفص وأشبع كسرة الهاء الباقون. قال ابن
الأنباري: وقراءة حفص هي على لغة من قال: لم أر زيدا، ولم أشتر طعاما يسقطون الياء للجزم ثم يسكنون
الحرف الذي قبلها، ومنه قول الشاعر: * قالت سليمى اشتر لنا دقيقا * وقول الاخر:
عجبت لمولود وليس له أب * وذي ولد لم يلده أبوان
وأصله يلد بكسر اللام وسكون الدال للجزم، فلما سكن اللام التقى ساكنان، فلو حرك الأول لرجع إلى
ما وقع الفرار منه، فحرك ثانيهما وهو الدال. ويمكن أن يقال إنه حرك الأول على أصل التقاء الساكنين وبقى
السكون على الدال لبيان ما عليه أهل هذه اللغة ولا يضر الرجوع إلى ما وقع الفرار منه، فهذه الحركة غير تلك الحركة
والإشارة بقوله: فأولئك هم الفائزون إلى الموصوفين بما ذكر من الطاعة والخشية والتقوى أي هم الفائزون بالنعيم
الدنيوي والأخروي لا من عداهم. ثم حكى سبحانه عن المنافقين أنهم لما كرهوا حكمه أقسموا بأنه لو أمرهم
بالخروج إلى الغزو لخرجوا فقال (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن) أي لئن أمرتهم بالخروج إلى
الجهاد ليخرجن، وجهد أيمانهم منتصب على أنه مصدر مؤكد للفعل المحذوف الناصب له: أي أقسموا بالله
يجهدون أيمانهم جهدا. ومعنى جهد أيمانهم: طاقة ما قدروا أن يحلفوا، مأخوذ من قولهم جهد نفسه: إذا بلغ
طاقتها وأقصى وسعها. وقيل هو منتصب على الحال والتقدير: مجتهدين في أيمانهم، كقولهم افعل ذلك جهدك
وطاقتك، وقد خلط الزمخشري الوجهين فجعلهما واحدا. وجواب القسم قوله " ليخرجن " ولما كانت مقالتهم
هذه كاذبة وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم، فقال (قل لا تقسموا) أي رد عليهم زاجرا لهم، وقل لهم لا تقسموا:
أي لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به، وهاهنا تم الكلام. ثم ابتدأ فقال (طاعة
معروفة) وارتفاع طاعة على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد
ويجوز أن تكون طاعة مبتدأ، لأنها قد خصصت بالصفة، ويكون الخبر مقدرا: أي طاعة معروفة أولى بكم من
أيمانكم، ويجوز أن ترتفع بفعل محذوف: أي لتكن منكم طاعة أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف
إلا إذا تقدم ما يشعر به. وقرأ زيد بن علي والترمذي طاعة بالنصب على المصدر لفعل محذوف: أي أطيعوا طاعة
(ان الله خبير بما تعملون) من الأعمال وما تضمرونه من المخالفة لما تنطق به ألسنتكم، وهذه الجملة تعليل لما
قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله
فقال (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) طاعة ظاهرة وباطنة بخلوص اعتقاد وصحة نية، وهذا التكرير منه تعالى
لتأكيد وجوب الطاعة عليهم، فإن قوله (قل لا تقسموا طاعة معروفة) في حكم الأمر بالطاعة، وقيل إنهما
مختلفان، فالأول نهي بطريق الرد والتوبيخ، والثاني أمر بطريق التكليف لهم والإيجاب عليهم (فإن تولوا)
46

خطاب للمأمورين، وأصله فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين تخفيفا، وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلى الطاعة والانقياد،
وجواب الشرط قوله (فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم) أي فاعلموا أنما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما حمل
مما أمر به من التبليغ وقد فعل، وعليكم ما حملتم: أي ما أمرتم به من الطاعة، وهو وعيد لهم، كأنه قال لهم:
فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل (وإن تطيعوه) فيما أمركم به ونهاكم عنه (تهتدوا) إلى الحق وترشدوا
إلى الخير وتفوزوا بالأجر، وجملة (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) مقررة لما قبلها، واللام إما للعهد فيراد
بالرسول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وإما للجنس فيراد كل رسول، والبلاغ المبين: التبليغ الواضح
أو الموضح. قيل يجوز أن يكون قوله (فإن تولوا) ماضيا وتكون الواو لضمير الغائبين، وتكون هذه الجملة الشرطية
مما أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله لهم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة،
والأول أرجح. ويؤيده الخطاب في قوله (وعليكم ما حملتم) وفي قوله (وإن تطيعوه تهتدوا) ويؤيده أيضا قراءة
البزي (فإن تولوا) بتشديد التاء وإن كانت ضعيفة لما فيها من الجمع بين ساكنين (وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات) هذه الجملة مقررة لما قبلها من أن طاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبب لهدايتهم،
وهذا وعد من الله سبحانه لمن آمن بالله وعمل الأعمال الصالحات بالاستخلاف لهم في الأرض لما استخلف الذين
من قبلهم من الأمم، وهو وعد يعم جميع الأمة. وقيل هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك، فإن الإيمان وعمل
الصالحات لا يختص بهم، بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة، ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله
فقد أطاع الله ورسوله، واللام في (ليستخلفنهم في الأرض) جواب لقسم محذوف، أو جواب للوعد بتنزيله
منزلة القسم، لأنه ناجز لا محالة، ومعنى ليستخلفنهم في الأرض: ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك
في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة، أو بالمهاجرين، أو بأن المراد بالأرض أرض مكة،
وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وظاهر قوله (كما استخلف الذين من قبلهم) كل من
استخلفه الله في أرضه فلا يخص ذلك ببني إسرائيل ولا أمة من الأمم دون غيرها. قرأ الجمهور (كما استخلف)
بفتح الفوقية على البناء للفاعل. وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم بضمها على البناء للمفعول، ومحل
الكاف النصب على المصدرية: أي استخلافا كما أستخلف، وجملة (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) معطوفة
على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا: التثبيت والتقرير: أي يجعله الله
ثابتا مقررا ويوسع لهم في البلاد ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا: الإسلام، كما في قوله
- ورضيت لكم الإسلام دينا - ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولا، وهو جعلهم ملوكا، وذكر التمكين
ثانيا. فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطرو، بل على وجه الاستقرار والثبات، بحيث يكون
الملك لهم ولعقبهم من بعدهم، وجملة (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) معطوفة على التي قبلها. قرأ ابن كثير وابن
محيصن ويعقوب وأبو بكر " ليبدلنهم " بالتخفيف من أبدل، وهي قراءة الحسن واختارها أبو حاتم. وقرأ الباقون
بالتشديد من بدل واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح
من قراءة التخفيف. قال النحاس: وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقا، وأنه يقال بدلته:
أي غيرته، وأبدلته: أزلته وجعلت غيره. قال النحاس: وهذا القول صحيح. والمعنى: أنه سبحانه يجعل لهم مكان
ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله
47

سبحانه ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون
إلا في السلاح ولا يمسون ويصبحون إلا على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن والدعة
وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة
(يعبدونني) في محل نصب على الحال ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة (لا يشركون بي شيئا)
في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني: أي يعبدوني، غير مشركين بي في العبادة شيئا من الأشياء، وقيل
معناه: لا يراؤن بعبادتي أحدا، وقيل معناه: لا يخافون غيري، وقيل معناه لا يحبون غيري (ومن كفر بعد ذلك
فأولئك هم الفاسقون) أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمر على الكفر، أو من كفر
بعد إيمان، فأولئك الكافرون هم الفاسقون، أي الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة والطغيان في الكفر
وجملة (وأقيموا الصلاة) معطوفة على مقدر يدل عليه ما تقدم، كأنه قيل لهم فآمنوا واعملوا صالحا وأقيموا
الصلاة، وقيل معطوف على (وأطيعوا الله) وقيل التقدير: فلا تكفروا وأقيموا الصلاة. وقد تقدم الكلام على
إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكرر الأمر بطاعة الرسول للتأكيد وخصه بالطاعة، لأن طاعته طاعة لله، ولم يذكر
ما يطيعونه فيه لقصد التعميم كما يشعر به الحذف على ما تقرر في علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم
(لعلكم ترحمون) أي افعلوا ما ذكر من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول راجين أن يرحمكم الله سبحانه
(لا يحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض) قرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة " لا يحسبن " بالتحتية بمعنى: لا تحسبن
الذين كفروا، وقرأ الباقون بالفوقية: أي لا تحسبن يا محمد، والموصول المفعول الأول، ومعجزين الثاني، لأن
الحسبان يتعدى إلى مفعولين، قاله الزجاج والفراء وأبو علي. وأما على القراءة الأولى، فيكون المفعول الأول
محذوفا: أي لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم. قال النحاس: وما علمت أحدا بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ
قراءة حمزة، ومعجزين معناه: فائتين. وقد تقدم تفسيره وتفسير ما بعده.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ويقولون آمنا بالله وبالرسول) الآية
قال: أناس من المنافقين أظهروا الإيمان والطاعة، وهم في ذلك يصدون عن سبيل الله وطاعته وجهاد مع رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرجوا أيضا عن الحسن قال: إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة
أو منازعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا دعى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو محق
أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيقضي صلى له بالحق، وإذا أراد أن يظلم فدعى إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أعرض وقال: أنطلق إلى فلان، فأنزل الله سبحانه (وإذا دعوا إلى الله ورسوله) إلى قوله (هم الظالمون)
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من كان بينه وبين أخيه شئ فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين فلم
يجب، فهو ظالم لاحق له " قال ابن كثير بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه: وهذا حديث غريب وهو مرسل.
وقال ابن العربي: هذا حديث باطل، فأما قوله: فهو ظالم، فكلام صحيح. وأما قوله: فلا حق له، فلا يصح.
ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى. وأقول: أما كون الحديث مرسلا فظاهر. وأما دعوى كونه باطلا
فمحتاجة إلى برهان، فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما ذكرنا، ويبعد
كل البعد أن ينفق عليهم ما هو باطل، وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا
موسى بن إسماعيل، حدثنا مبارك، حدثنا الحسن فذكره. وليس في هؤلاء كذاب ولا وضاع. ويشهد له
ما أخرجه الطبراني عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من دعي إلى سلطان فلم
48

يجب، فهو ظالم لا حق له انتهى. ولا يخفاك أن قضاة العدل وحكام الشرع الذين هم على الصفة التي قدمنا لك
قريبا هم سلاطين الدين المترجمون عن الكتاب والسنة، المبينون للناس ما نزل إليهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس قال: أتى قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا،
فأنزل الله (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال: ذلك في شأن الجهاد،
قال: يأمرهم أن لا يحلفوا على شئ (طاعة معروفة) قال أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد (طاعة معروفة) يقول: قد عرفت طاعتهم: أي إنكم
تكذبون به. وأخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال " قدم زيد بن أسلم على
رسول الله صلى الله وآله وسلم فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق ولا يعطونا؟ قال: فإنما
عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " وأخرج ابن جرير وابن قانع والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي عن سلمة بن
يزيد الجعفي قال: قلت يا رسول فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سئل: إن كان علي
إمام فاجر فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا؟ قال: قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم
ما حملتم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء في قوله (وعد الله الذين آمنوا منكم) الآية. قال: فينا نزلت
ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: كان النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وعبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خائفون
لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون
في السلاح ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من أصحابه قال: يا رسول الله أبد الدهر
نحن خائفون هكذا؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لن
تغبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيهم حديدة، فأنزل الله (وعد الله الذين آمنوا
منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض) إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على جزيرة
العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبى بكر وعمر وعثمان حتى
وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط،
وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وآوتهم الأنصار
رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: أترون أنا نعيش
حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات) الآية. وأخرج
عبد بن حميد عن ابن عباس (يعبدونني لا يشركون بي شيئا) قال: لا يخافون أحدا غيري. وأخرج الفريابي وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال (ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) العاصون.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة
(معجزين في الأرض) قال: سابقين في الأرض.
49

لما فرغ سبحانه من ذكر ما ذكره من دلائل التوحيد رجع إلى ما كان فيه من الاستئذان فذكره هاهنا على
وجه أخص فقال (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) والخطاب للمؤمنين وتدخل المؤمنات فيه
تغليبا كما في غيره من الخطابات. قال العلماء: هذه الآية خاصة ببعض الأوقات. واختلفوا في المراد بقوله
(ليستأذنكم) على أقوال: الأول أنها منسوخة، قاله سعيد بن المسيب. وقال سعيد بن جبير: إن الأمر فيها
للندب لا للوجوب. وقيل كان ذلك واجبا حيث كانوا لا أبواب لهم، ولو عاد الحال لعاد الوجوب، حكاه
المهدوي عن ابن عباس. وقيل إن الأمر هاهنا للوجوب، وإن الآية محكمة غير منسوخة، وأن حكمها ثابت على
الرجال والنساء، قال القرطبي: وهو قول أكثر أهل العلم. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: إنها خاصة بالنساء. وقال
ابن عمر: هي خاصة بالرجال دون النساء. والمراد بقوله " ملكت أيمانكم " العبيد والإماء، والمراد بالذين لم يبلغوا
الحلم الصبيان منكم: أي من الأحرار، ومعنى (ثلاث مرات) ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر بالمرات عن الأوقات
لأن أصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات،
وانتصاب ثلاث مرات على الظرفية الزمانية: أي ثلاثة أوقات، ثم فسر تلك الأوقات بقوله (من قبل صلاة الفجر)
الخ، أو منصوب على المصدرية: أي ثلاث استئذانات، ورجح هذا أبو حيان فقال: والظاهر من قوله (ثلاث
مرات) ثلاث استئذانات، لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهمه منه إلا ثلاث ضربات. ويرد بأن الظاهر
هنا متروك للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. قرأ الحسن وأبو عمرو في رواية الحلم بسكون اللام
وقرأ الباقون بضمها. قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام، ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسر اللام،
50

ثم فسر سبحانه الثلاث المرات فقال (من قبل صلاة الفجر) وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع، وطرح ثياب
النوم، وليس ثياب اليقظة، وربما يبيت عريانا، أو على حال لا يحب أن يراه غيره فيها، ومحله النصب على أنه
بدل من ثلاث، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هي من قبل، وقوله (وحين
تضعون ثيابكم من الظهيرة) معطوف على محل (من قبل صلاة الفجر) و " من " في (من الظهيرة) للبيان، أو بمعنى
في، أو بمعنى اللام. والمعنى: حين تضعون ثيابكم التي تلبسونها في النهار من شدة حر الظهيرة وذلك عند
انتصاف النهار، فإنهم قد يتجردون عن الثياب لأجل القيلولة. ثم ذكر سبحانه الوقت الثالث فقال (ومن بعد
صلاة العشاء) وذلك لأنه وقت التجرد عن الثياب والخلوة بالأهل، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل
فقال (ثلاث عورات لكم) قرأ الجمهور " ثلاث عورات " برفع ثلاث، وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بالنصب
على البدل من ثلاث مرات. قال ابن عطية: إنما يصح البدل بتقدير أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف
وأقيم المضاف إليه مقامه، ويحتمل أنه جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة، ويجوز أن يكون
ثلاث عورات بدلا من الأوقات المذكورة، أي من قبل صلاة الفجر الخ، ويجوز أن تكون منصوبة بإضمار
فعل: أي أعني ونحوه، وأما الرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هن ثلاث. قال أبو حاتم: النصب ضعيف
مردود. وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. وقال
الكسائي: إن ثلاث عورات مرتفعة بالابتداء والخبر ما بعدها. قال: والعورات الساعات التي تكون فيها العورة.
قال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعورات جمع
عورة، والعورة في الأصل الخلل، ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره: أي هي ثلاث أوقات
يختل فيها الستر. وقرأ الأعمش " عورات " بفتح الواو، وهي لغة هذيل وتميم فإنهم يفتحون عين فعلات سواء
كان واو أو ياء، ومنه:
أخو بيضات رايح متأوب * رفيق بمسح المنكبين سبوح
وقوله: أبو بيضات رايح أو مبعد * عجلان ذا زاد وغير مزود
و " لكم " متعلق بمحذوف هو صفة لثلاث عورات: أي كائنة لكم، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان علة
وجوب الاستئذان (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) أي ليس على المماليك ولا على الصبيان جناح: أي إثم
في الدخول بغير استئذان لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر والاطلاع علي العورات. ومعنى بعدهن: بعد كل
واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها، وهذه الجملة مستأنفة مقررة
للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة، ويجوز أن تكون في محل رفع صفة لثلاث عورات على قراءة الرفع
فيها. قال أبو البقاء (بعدهن) أي بعد استئذانهم فيهن، ثم حذف حرف الجر والمجرور فبقى بعد استئذانهم، ثم
حذف المصدر وهو الاستئذان، والضمير المتصل به. ورد بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير الذي ذكره، بل
المعنى: ليس عليكم جناح ولا عليهم: أي العبيد والإماء والصبيان جناح في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات
المذكورة، وارتفاع (طوافون) على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم طوافون عليكم، والجملة مستأنفة مبينة
للعذر المرخص في ترك الاستئذان. قال الفراء: هذا كقولك في الكلام هم خدمكم وطوافون عليكم، وأجاز أيضا
نصب طوافين لأنه نكرة، والمضمر في (عليكم) معرفة ولا يجيز البصريون أن تكون حالا من المضمرين اللذين
في عليكم وفى بعضكم لاختلاف العاملين. ومعنى طوافون عليكم: أي يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرة
51

" إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات " أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير
إذن، ومعنى (بعض على بعضكم) بعضكم يطوف أو طائف على بعض، وهذه الجملة بدل مما قبلها أو مؤكدة
لها. والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه العبيد على الموالي والموالي على العبيد ومنه قول الشاعر:
ولما قرعنا النبع بالنبع بعضه * ببعض أبت عيدانه أن تكسرا
وقرأ ابن أبي عبلة " طوافين " بالنصب على الحال كما تقدم عن الفراء، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك
الأوقات الثلاثة بغير استئذان، لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها، والإشارة بقوله (كذلك
يبين الله لكم الآيات) إلى مصدر الفعل الذي بعده، كما في سائر المواضع في الكتاب العزيز: أي مثل ذلك التبيين
يبين الله لكم الآيات الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام (والله عليم حكيم) كثير العلم بالمعلومات وكثير الحكمة في
أفعاله (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم بعد ما بين فيما مر
حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال (فليستأذنوا)
يعني الذين بلغوا الحلم إذا دخلوا عليكم (كما استأذن الذين من قبلهم) والكاف نعت مصدر محذوف: أي استئذانا
كما استأذن الذين من قبلهم، والموصول عبارة عن الذين قيل لهم - لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا -
الآية. والمعنى: أن هؤلاء الذين بلغوا الحلم يستأذنون في جميع الأوقات كما استأذن الذين من قبلهم من الكبار
الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء، ثم كرر ما تقدم للتأكيد فقال (كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم)
وقرأ الحسن " الحلم " فحذف الضمة لثقلها. قال عطاء: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا أحرارا كانوا
أو عبيدا. وقال الزهري: يستأذن الرجل على أمه، وفى هذا المعنى نزلت هذه الآية، والمراد بالقواعد من النساء:
العجائز التي قعدن عن الحيض والولد من الكبر، واحدتها قاعد بلا هاء ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما
قالوا: امرأة حامل ليدل بحذف الهاء على أنه حمل حبل، ويقال: قاعدة في بيتها وحاملة على ظهرها. قال الزجاج:
هن اللاتي قعدن عن التزويج، وهو معنى قوله (اللاتي لا يرجون نكاحا) أي لا يطمعن فيه لكبرهن. وقال
أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، ثم ذكر سبحانه
حكم القواعد فقال (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) أي الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب
ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة، وإنما جاز لهن لانصراف الأنفس عنهن إذ لا رغبة للرجال
فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن، ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال (غير متبرجات بزينة) أي
غير مظهرات للزينة التي أمرت بإخفائها في قوله - ولا يبدين زينتهن - والمعنى: من غير أن يردن بوضع الجلاليب
إظهار زينتهن ولا متعرضات بالتزين لينظر إليهن الرجال. والتبرج التكشف والظهور للعيون، ومنه - بروج
مشيدة - وبروج السماء، ومنه قولهم: سفينة بارجة: أي لا غطاء عليها (وأن يستعففن خير لهن) أي وأن يتركن
وضع الثياب فهو خير لهن من وضعها. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس " أن يضعن من
ثيابهن " بزيادة من، وقرأ ابن مسعود " وان يعففن " بغير سين (والله سميع عليم) كثير السماع والعلم أو بليغهما
(ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي
محكمة أو منسوخة؟ قال بالأول جماعة من العلماء، وبالثاني جماعة. قيل إن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا
زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، فكانوا
يتحرجون من ذلك وقالوا: لا ندخلها وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، فمعنى الآية نفي الحرج عن
52

الزمني في أكلهم من بيوت أقاربهم أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح إذا خرج للغزو. قال النحاس: وهذا القول
من أجل ما روي في الآية لما فيه من الصحابة والتابعين من التوقيف. وقيل إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون
من مؤاكلة الأصحاء حذارا من استقذارهم إياهم وخوفا من تأذيهم بأفعالهم فنزلت. وقيل إن الله رفع الحرج عن
الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على
المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه. وقيل المراد بهذا الحرج
المرفوع عن هؤلاء هو الحرج في الغزو: أي لا حرج على هؤلاء في تأخرهم عن الغزو. وقيل كان الرجل إذا أدخل
أحدا من هؤلاء الزمني إلى بيته فلم يجد فيه شيئا يطعمهم إياه ذهب بهم إلى بيوت قرابته، فيتحرج الزمني من ذلك
فنزلت. ومعنى قوله (ولا على أنفسكم) عليكم وعلى من يماثلكم من المؤمنين (أن تأكلوا) أنتم ومن معكم، وهذا
ابتداء كلام: أي ولا عليكم أيها الناس. والحاصل أن رفع الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض إن كان باعتبار
مؤاكلة الأصحاء، أو دخول بيوتهم " ولا على أنفسكم " متصلا بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك
باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر وعدم العرج وعدم المرض، فقوله " ولا على أنفسكم " ابتداء كلام
غير متصل بما قبله. ومعنى (من بيوتكم) البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم فيدخل بيوت الأولاد كذا قال
المفسرون، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد وذكر بيوت
الاباء وبيوت الأمهات ومن بعدهم. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا فقال: هذا تحكم على كتاب الله سبحانه
بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفا لهؤلاء. ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء
لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث " أنت ومالك
لأبيك " وحديث " ولد الرجل من كسبه " ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت
الأعمام والعمات، بل بيوت الأخوال والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء،
ولا ينفيه عن بيوت الأولاد؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم. وقال آخرون:
لا يشترط الإذن. قيل وهذا إذا كان الطعام مبذولا، فإن كان محرزا دونهم لم يجز لهم أكله. ثم قال سبحانه (أو
ما ملكتم مفاتحه) أي البيوت التي تملكون التصرف فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزان، فإنهم
يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفاتحه. وقيل المراد بها بيوت المماليك. قرأ الجمهور
" ملكتم " بفتح الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها. وقرأ أيضا " مفاتيحه "
بياء بين التاء والحاء. وقرأ قتادة " مفاتحه " على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح (أو صديقكم)
أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح
لصديقه بذلك وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع، ومنه قول جرير:
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا * بأسهم أعداء وهن صديق
ومثله العدو والخليط والقطين والعشير، ثم قال سبحانه (ليس عليكم جناح أن تأكلوا) من بيوتكم (جميعا
أو أشتاتا) انتصاب جميعا وأشتاتا على الحال. والأشتات جمع شت، والشت المصدر: بمعنى التفرق، يقال شت
القوم: أي تفرقوا، وهذه الجملة كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر من جنس ما قبله: أي ليس عليكم
جناح أن تأكلوا من بيوتكم مجتمعين أو متفرقين، وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده حتى يجد له
أكيلا يؤاكله فيأكل معه، وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف، ومنه قول حاتم:
53

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له * أكيلا فإني لست آكله وحدي
(فإذا دخلتم بيوتا) هذا شروع في بيان أدب آخر أدب به عباده: أي إذا دخلتم بيوتا غير البيوت التي تقدم
ذكرها (فسلموا على أنفسكم) أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم. وقيل المراد البيوت المذكورة سابقا. وعلى
القول الأول، فقال الحسن والنخعي: هي المساجد، والمراد سلموا على من فيها من صنفكم، فإن لم يكن في
المساجد أحد، فقيل يقول: السلام على رسول الله، وقيل يقول: السلام عليكم مريدا للملائكة، وقيل يقول:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وقال بالقول الثاني: أعني أنها البيوت المذكورة سابقا جماعة من الصحابة
والتابعين، وقيل المراد بالبيوت هنا هي كل البيوت المسكونة وغيرها، فيسلم على أهل المسكونة، وأما غير
المسكونة فيسلم على نفسه. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، وانتصاب (تحية) على
المصدرية، لأن قوله فسلموا معناه فحيوا: أي تحية ثابتة (من عند الله) أي إن الله حياكم بها. وقال الفراء: أي
إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له، ثم وصف هذه التحية فقال (مباركة) أي كثيرة البركة والخير دائمتهما (طيبة)
أي تطيب بها نفس المستمع، وقيل حسنة جميلة. وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه
من الأجر والثواب، ثم كرر سبحانه فقال (كذلك يبين الله لكم الآيات) تأكيدا لما سبق. وقد قدمنا أن الإشارة
بذلك إلى مصدر الفعل (لعلكم تعقلون) تعليل لذلك التبيين برجاء تعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: بلغنا أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرشدة صنعا
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما، فقالت أسماء: يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل على المرأة وزوجها وهما
في ثوب واحد غلامهما بغير إذن، فأنزل الله في ذلك (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) يعني
العبيد والإماء (والذين لم يبلغوا الحلم منكم) قال: من أحراركم من الرجال والنساء. وأخرج ابن أبي حاتم عن
السدي في هذه الآية قال: كان أناس من أصحاب رسول الله عليه وآله وسلم يعجبهم أن يواقعوا نساءهم
في هذه الساعات ليغتسلوا، ثم يخرجوا إلى الصلاة، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم
في تلك الساعات إلا بإذن. وأخرج ابن مردويه عن ثعلبة القرظي عن عبد الله بن سويد قال " سألت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عن العورات الثلاث، فقال: إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج على أحد من الخدم من
الذين لم يبلغوا الحلم ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء، ومن قبل
صلاة الصبح ". وأخرجه عبد بن حميد والبخاري في الأدب عن عبد الله بن سويد من قوله. وأخرج نحوه أيضا
ابن سعد عن سويد بن النعمان. وأخرج سعيد بن منصور وابن وأبي شيبة وأبو داود وابن مردويه والبيهقي في سننه
عن ابن عباس قال: إنه لم يؤمن بها أكثر الناس: يعني آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة
على رأسه أن تستأذن علي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس، قال: ترك الناس ثلاث آيات لم
يعملوا بهن - يا أيها الذين امنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم -، والآية التي في سورة النساء - وإذا حضر
القسمة - الآية، والآية التي في الحجرات - إن أكرمكم عند الله أتقاكم -. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي في السنن عنه أيضا في الآية قال: إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه
حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو
قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل
حال، وهو قوله (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم). وأخرج أبو داود وابن
54

المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسند صحيح من طريق عكرمة عنه أيضا: أن رجلا سأله عن
الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القران، فقال ابن عباس " إن الله ستير يحب الستر " وكان الناس
ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيم في حجره وهو على
أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق،
فاتخذوا الستور واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وأخرج ابن
أبي شيبة والبخاري في الأدب وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم) قال:
هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه
الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن بعض أزواج
النبي صلى الله عليه وآل وسلم في الآية قالت: نزلت في النساء أن يستأذن علينا. وأخرج الحاكم وصححه عن علي
في الآية قال: النساء فإن الرجال يستأذنون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال: هي في النساء خاصة، الرجال يستأذنون على كل حال
بالليل والنهار. وأخرج الفريابي عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال لا.
وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء أنه سأل ابن
عباس أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، قلت: إنها في حجري وإني أنفق عليها وإنها معي في البيت أأستأذن عليها؟ قال: نعم إن الله يقول: (ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم) الآية، فلم يؤمر هؤلاء
بالإذن إلا في هؤلاء العورات الثلاث، قال (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما أستأذن الذين من قبلهم)
فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال:
عليكم إذن على أمهاتكم. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب عنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه
وأخيه وأخته. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن جابر نحوه. وأخرج ابن جرير والبيهقي في السنن
عن عطاء بن يسار أن رجلا قال: يا رسول الله أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إني معها في البيت، قال:
استأذن عليها، قال: إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال:
فاستأذن عليها، وهو مرسل. وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وهو أيضا مرسل. واخرج أبو داود والبيهقي في السنن عن ابن عباس (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
الآية، فنسخ واستثنى من ذلك (والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا) الآية. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم والبيهقي في السنن عنه قال: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار وتضع عليها الجلباب
ما لم تتبرج بما يكرهه الله، وهو قوله (فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة). وأخرج
أبو عبيد في فضائله وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي عن ابن عباس أنه كان يقرأ (أن يضعن من
ثيابهن) ويقول: هو الجلباب. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال: تضع الجلباب.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود
(أن يضعن ثيابهن) قال: الجلباب والرداء. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت - يا أيها
الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - قالت الأنصار: ما بالمدينة مال أعز من الطعام كانوا يتحرجون أن
55

يأكلوا مع الأعمى يقولون إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج يقولون الصحيح
يسبقه إلى المكان ولا يستطيع إلى أن يزاحم، ويتحرجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح،
وكانوا يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت (ليس على الأعمى) يعني في الأكل مع الأعمى. وأخرج
عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى
بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته، فكان الزمني يتحرجون من ذلك
يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه
وابن النجار عن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيدفعون
مفاتيحهم إلى أمنائهم ويقولون لهم قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون إنه لا يحل لنا أن نأكل
إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمني، فأنزل الله - ولا على أنفسكم أن تأكلوا - إلى قوله أو ما ملكتم
مفاتحه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: لما نزلت - يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو
أفضل الأموال فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله (ليس على الأعمى حرج)
إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر
ويشرب اللبن، وكانوا أيضا يتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم
فقال (ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: كان
أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض ولا أعرج
لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في
مراسيله وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله (ليس على الأعمى حرج)) ما بال الأعمى والأعرج
والمريض ذكروا هنا؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا
يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك يقولون
لا ندخلها وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة
قال: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن
كان الرجل يسوق الزود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله (ليس عليكم جناح أن
تأكلوا جميعا أو أشتاتا) وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبى صالح قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم
الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال
خرج الحارث غازيا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل
من طعامه، وكان مجهودا فنزلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في
قوله (أو صديقكم) قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك
بأس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله (أو صديقكم) قال: هذا شئ قد انقطع، إنما كان هذا في
أوله ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو
جائع فسوغه الله أن يأكله. وقال: ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
56

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس في قوله (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم)
يقول: إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم (تحية من عند الله) وهو السلام، لأنه اسم الله وهو تحية أهل
الجنة. وأخرج البخاري وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال:
إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله (مباركة طيبة). وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (فسلموا على أنفسكم) قال: هو المسجد
إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب عن ابن عمر
قال: إذا دخل البيت غير المسكون أو المسجد فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
جملة (إنما المؤمنون) مستأنفة مسوقة لتقدير ما تقدمها من الأحكام، و " إنما " من صيغ الحصر. والمعنى
لا يتم إيمان ولا يكمل حتى يكون (بالله ورسوله) وجملة (وإذا كانوا معه علي أمر جامع) معطوفة على آمنوا داخلة
معه في حيز الصلة: أي إذا كانوا مع رسول الله على أمر جامع: أي على طاعة يجتمعون عليها، نحو الجمعة
والنحر والفطر والجهاد وأشباه ذلك، وسمى الأمر جامعا مبالغة (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) قال المفسرون: كان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر
لم يخرج حتى يقوم بحيال النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث يراه، فيعرف أنه إنما قام ليستأذن فيأذن لمن يشاء
منهم. قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده. قال الزجاج: أعلم الله أن المؤمنين إذا كانوا مع نبيه
فيما يحتاج فيه إلى الجماعة لم يذهبوا حتى يستأذنوه، وكذلك ينبغي أن يكونوا مع الإمام لا يخالفونه ولا يرجعون عنه
في جمع من جموعهم إلا بإذنه، وللإمام أن يأذن وله أن لا يأذن على ما يرى لقوله تعالى (فأذن لمن شئت منهم) وقرأ
اليماني على أمر جميع. والحاصل أن الأمر الجامع أو الجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره، وهو الأمر الجليل الذي
يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب. قال العلماء: كل أمر اجتمع عليه المسلمون مع الإمام لا يخالفونه ولا
يرجعون عنه إلا بإذن، ثم قال سبحانه (إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) فبين سبحانه
ان المستأذنين هم المؤمنون بالله ورسوله كما حكم أولا بأن المؤمنين الكاملين الإيمان: هم الجامعون بين الإيمان
بهما وبين الاستئذان (فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) أي إذا استأذن المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
57

لبعض الأمور التي تهمهم فإنه يأذن لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم، وفيه إشارة إلى أن الاستئذان إن كان لعذر
مسوغ، فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة (إن الله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة بالغ فيهما إلى
الغاية التي ليس وراءها غاية (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما
قبلها: أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة أو الرجوع
بغير استئذان أو رفع الصوت. وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله في رفق ولين، ولا
تقولوا يا محمد بتجهم. وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه. وقيل المعنى: لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم
بإسخاطه، فإن دعوته موجبة (قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا) التسلل: الخروج في خفية، يقال تسلل
فلان من بين أصحابه: إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وأصله أن
يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل اللواذ الزوغان من شئ إلى شئ في خفية. وانتصاب
لواذا على الحال: أي متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض وينضم إليه، وقيل هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو
الحال في الحقيقة: أي يلوذون لواذا. وقرأ زيد بن قطيب " لواذا " بفتح اللام. وفي الآية بيان ما كان يقع من
المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتارا من رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة فكانوا
يفرون على الحضور ويتسللون في خفية ويستتر بعضهم ببعض وينضم إليه. وقيل اللواذ: الفرار من الجهاد وبه
قال الحسن، ومنه قول حسان:
وقريش تجول منكم لواذا * لم تحافظ وجف منها الحلوم
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها: أي يخالفون أمر النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بترك العمل بمقتضاه وعدي فعل المخالفة بعن مع كونه متعديا بنفسه لتضمينه معنى الإعراض أو الصد،
وقيل الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة، و (أن تصيبهم فتنة) مفعول يحذر، وفاعله الموصول. والمعنى:
فليحذر المخالفون عن أمر الله أو أمر رسوله أو أمرهما جميعا إصابة فتنة لهم (أو يصيبهم عذاب أليم) أي في الآخرة،
كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة أو لمنع الخلو. قال القرطبي: احتج الفقهاء على أن
الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله: (أن
تصيبهم فتنة) الآية، فيجب امتثال أمره وتحرم مخالفته، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل هي
القتل، وقيل الزلازل، وقيل تسلط سلطان جائر عليهم، وقيل الطبع على قلوبهم. قال أبو عبيدة والأخفش:
عن في هذا الموضع زائدة. وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى بعد، كقوله - ففسق عن أمر
ربه - أي بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين (ألا إن لله ما في السماوات والأرض) من المخلوقات
بأسرها، فهي ملكه (قد يعلم ما أنتم عليه) أيها العباد من الأحوال التي أنتم عليها فيجازيكم بحسب ذلك، ويعلم
هاهنا بمعنى علم (ويوم يرجعون إليه) معطوف على ما أنتم عليه: أي يعلم ما أنتم عليه ويعلم يوم يرجعون إليه
فيجازيكم فيه بما عملتم، وتعليق علمه سبحانه بيوم يرجعون لا بنفس رجعهم لزيادة تحقيق علمه، لأن العلم
بوقت وقوع الشئ يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه (فينبئهم بما عملوا) أي يخبرهم بما عملوا من الأعمال التي من
جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين (والله بكل شئ عليم) لا يخفى عليه شئ من أعمالهم.
58

وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن عروة ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما أقبلت
قريش عام الأحزاب نزلوا بمجمع الأسيال من رومة بئر بالمدينة، قائدها أبو سفيان، وأقبلت غطفان حتى نزلوا
بنقمي إلى جانب أحد، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر، فضرب الخندق على المدينة وعمل فيه
المسلمون، وأبطأ رجال من المنافقين، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل، فيتسللون إلى أهليهم بغير علم من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا إذن، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة من الحاجة التي لابد
منها يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويستأذنه في اللحوق لحاجته فيأذن له، فإذا قضى حاجته
رجع، فأنزل الله في أولئك (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد
ابن جبير في الآية قال: هي في الجهاد والجمعة والعيدين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله
(على أمر جامع) قال: من طاعة الله عام. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله
(لا تجعلوا دعاء الرسول) الآية قال: يعنى كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه. ولكن وقروه وقولوا له: يا رسول
الله يا نبي الله. وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضا في الآية قال: لا تصيحوا به
من بعيد يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات - إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله -. وأخرج
أبو داود في مراسيله عن مقاتل، قال: كان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين
من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى
يخرج. فأنزل الله (الذين يتسللون منكم لواذا) الآية. وأخرج أبو عبيد في فضائله والطبراني، قال السيوطي بسند
حسن عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور
وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول: بكل شئ بصير.
تفسير سورة الفرقان
هي سبع وسبعون آية
وهي مكية كلها في قول الجمهور، وكذا أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه من طرق عن ابن
عباس. وأخرجه ابن مردويه عن ابن الزبير. قال القرطبي: وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها نزلت
بالمدينة، وهي - والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - الآيات. وأخرج مالك والشافعي والبخاري ومسلم وابن حبان
والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فكدت أساوره في الصلاة فتصبرت حتى سلم فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال:
أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرأنيها
على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة
الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أرسله، أقرئنا هشام، فقرأ عليه القراءة
التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: أقرئنا عمر، فقرأت القراءة
59

التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف
فاقرؤا ما تيسر منه.
تكلم سبحانه في هذه السورة على التوحيد لأنه أقدم وأهم، ثم في النبوة لأنها الواسطة، ثم في المعاد لأنه
الخاتمة. وأصل تبارك مأخوذ من البركة، وهي النماء والزيادة، حسية كانت أو عقلية. قال الزجاج: تبارك
تفاعل، من البركة. قال: ومعنى البركة: الكثرة من كل ذي خير، وقال الفراء: إن تبارك وتقدس في العربية
واحد، ومعناهما العظمة. وقيل المعنى: تبارك عطاؤه: أي زاد كثر، وقيل المعنى: دام وثبت. قال النحاس:
وهذا أولاها في اللغة، والاشتقاق من برك الشئ إذا ثبت، ومنه برك الجمل: أي دام وثبت. واعترض ما قاله
الفراء بأن التقديس إنما هو من الطهارة، وليس من ذا في شئ. قال العلماء: هذه اللفظة لا تستعمل إلا لله سبحانه
ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، والفرقان القرآن، وسمي فرقانا لأنه يفرق بين الحق والباطل بأحكامه، أو بين المحق
والمبطل، والمراد بعبده نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. ثم علل التنزيل (ليكون للعالمين نذيرا) فإن النذارة هي
الغرض المقصود من الإنزال، والمراد محمد صلى الله عليه وآله وسلم أو الفرقان، والمراد بالعالمين هنا الإنس والجن،
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسل إليهما، ولم يكن غيره من الأنبياء مرسلا إلى الثقلين، والنذير: المنذر:
أي ليكون محمد منذرا، أو ليكون إنزال القرآن منذرا، ويجوز أن يكون النذير هنا بمعنى المصدر للمبالغة: أي
ليكون إنزاله إنذارا، أو ليكون محمد إنذارا، وجعل الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى، لأن صدور
الإنذار منه حقيقة ومن القرآن مجاز، والحمل على الحقيقة أولى ولكونه أقرب مذكور. وقيل إن رجوع الضمير
إلى الفرقان أولى لقوله تعالى - إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم - ثم إنه سبحانه وصف نفسه بصفات أربع:
الأولى (له ملك السماوات والأرض) دون غيره فهو المتصرف فيهما، ويحتمل أن يكون الموصول الآخر بدلا
أو بيانا للموصول الأول، والوصف أولى، وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وتوابعه من البقاء وغيره.
والصفة الثانية (ولم يتخذ ولدا) وفيه رد على النصارى واليهود. والصفة الثالثة (ولم يكن له شريك في الملك)
60

وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وأهل الشرك الخفي. والصفة الرابعة (وخلق كل شئ) من
الموجودات (فقدره تقديرا) أي قدر كل شئ مما خلق بحكمته على ما أراد وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي
قال المفسرون: قدر له تقديرا من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل أريد بالخلق هنا مجرد
الإحداث والإيجاد مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى: أوجد كل
شئ فقدره لئلا يلزم التكرار، ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال (واتخذوا من دونه آلهة)
والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم: أي اتخذ المشركون لأنفسهم
متجاوزين الله آلهة (لا يخلقون شيئا) والجملة في محل نصب صفة لآلهة: أي لا يقدرون على خلق شئ من الأشياء
وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح (وهم يخلقون أي يخلقهم الله
سبحانه. وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع. وقيل معنى (وهم يخلقون)
أن عبدتهم يصورونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال
(ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا) أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ولا يدفعوا عنها ضررا، وقدم
ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف
يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال (ولا يملكون موتا ولا حياة ولا
نشورا) أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت،
يقال أنشر الله الموتى فنشروا، ومنه قول الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر
ولما فرغ من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوة، فالشبهة الأولى
ما حكاه عنهم بقوله (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك) أي كذب (افتراه) أي اختلقه محمد صلى الله عليه وآله
وسلم، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن (وأعانه عليه) أي علي الاختلاق (قوم آخرون) يعنون من اليهود. قيل
وهم: أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر، وكان
هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مر الكلام على مثل هذا في النحل. ثم رد الله سبحانه عليهم فقال (فقد جاءوا ظلما
وزورا) أي فقد قالوا ظلما هائلا عظيما وكذبا ظاهرا، وانتصاب ظلما بجاءوا، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى
ويعدي تعديته. وقال الزجاج: إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءوا بظلم. وقيل هو منتصب على
الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلما لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه، فقد وضعوا الشئ في غير موضعه،
وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زورا فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة. ثم ذكر الشبهة الثانية فقال
(وقالوا أساطير الأولين) أي أحاديث الأولين وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة
مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال (اكتتبها) أي استكتبها أو كتبها
لنفسه، ومحل اكتتبها النصب على أنه حال من أساطير، أو محله الرفع على أنه خبر ثان، لأن أساطير مرتفع على أنه
خبر مبتدأ محذوف: أي هذه أساطير الأولين اكتتبها، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ واكتتبها خبره، ويجوز أن
يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو الجمع، لا من الكتابة بالقلم. والأول أولى. وقرأ طلحة " اكتتبها "
مبنيا للمفعول، والمعنى: اكتتبها له كاتب، لأنه كان أميا لا يكتب، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير
فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا، كذا قال
في الكشاف، واعترضه أبو حيان (فهي تملى عليه) أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه
61

من يمليها عليه من ذلك المكتتب لكونه أميا لا يقدر على أن يقرأها من ذلك المكتوب بنفسه، ويجوز أن يكون المعنى
اكتتبها أراد اكتتابها (فهي تملى عليه) لأنه يقال أمليت عليه فهو يكتب (بكرة وأصيلا) غدوة وعشيا كأنهم قالوا:
إن هؤلاء يعلمون محمد طرفي النهار، وقيل معنى بكرة وأصيلا: دائما في جميع الأوقات فأجاب سبحانه عن
هذه الشبهة بقوله (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) أي ليس ذلك مما يفترى ويفتعل بإعانة قوم
وكتابة آخرين من الأحاديث الملفقة وأخبار الأولين، بل هو أمر سماوي أنزله الذي يعلم كل شئ لا يغيب عنه
شئ من الأشياء، فلهذا عجزتم عن معارضته ولم تأتوا بسورة منه، وخص السر للإشارة إلى انطواء ما أنزله
سبحانه على أسرار بديعة لا تبلغ إليها عقول البشر، والسر: الغيب أي يعلم الغيب الكائن فيهما، وجملة (إنه كان
غفورا رحيما) تعليل لتأخير العقوبة: أي إنكم وإن كنتم مستحقين لتعجيل العقوبة بما تفعلونه من الكذب على
رسوله والظلم له، فإنه لا يعجل عليكم بذلك، لأنه كثير المغفرة والرحمة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (تبارك) تفاعل من البركة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وأعانه عليه قوم آخرون) قال يهود (فقد جاءوا ظلما
وزورا) قال: كذبا. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (تبارك الذي أنزل الفرقان
على عبده) هو القرآن فيه حلاله وحرامه وشرائعه ودينه، وفرق الله بين الحق والباطل (ليكون للعالمين نذيرا) قال:
بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم نذيرا من الله لينذر الناس بأس الله ووقائعه بمن خلا قبلكم (وخلق كل
شئ فقدره تقديرا) قال: بين لكل شئ من خلقه صلاحه وجعل ذلك بقدر معلوم (واتخذوا من دونه آلهة)
قال: هي الأوثان التي تعبد من دون الله (لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) وهو الله الخالق الرازق، وهذه الأوثان
تخلق ولا تخلق شيئا ولا تضر ولا تنفع ولا تملك ولا حياة ولا نشورا: يعنى بعثا (وقال الذين كفروا) هذا
قول مشركي العرب (إن هذا إلا إفك عظيم) هو الكذب (افتراه وأعانه عليه) أي على حديثه هذا وأمره (قوم آخرون،
أساطير الأولين) كذب الأولين وأحاديثهم.
62

لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال
(وقالوا مال هذا الرسول) وفى الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
وسموه رسولا استهزاء وسخرية (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) أي ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في
الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الطعام والكسب، وما
الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، وخبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة يأكل في محل
نصب على الحال، وبها تتم فائدة الإخبار كقوله - فما لهم عن التذكرة معرضين - والإنكار متوجه إلى السبب مع
تحقق المسبب، وهو الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكما واستهزاء. والمعنى: أنه
إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله لم يخالف حاله حالنا (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) طلبوا أن يكون
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصحوبا بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم ملكا مستغنيا عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويشهد له بالرسالة. قرأ
الجمهور " فيكون " بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ " فيكون " بالرفع على أنه معطوف على أنزل،
وجاز عطفه على الماضي لأن المراد به المستقبل (أو يلقى إليه كنز) معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على
فيكون، والمعنى: أو هلا يلقى إليه كنز، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه
من السماء ليستغني به عن طلب الرزق (أو تكون له جنة يأكل منها) قرأ الجمهور " تكون " بالمثناة الفوقية، وقرأ
الأعمش وقتادة " يكون " بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ " نأكل " بالنون حمزة وعلي وخلف، وقرأ
الباقون " يأكل " بالمثناة التحتية: أي بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية
علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم
ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)
المراد بالظالمون هنا هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل
عليهم به: أي ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة: أي بشرا له رئة لا ملكا،
وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي
الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هاهنا (فضلوا) عن الصواب فلا يجدون طريقا إليه ولا
وصلوا إلى شئ منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزا ولهذا قال (فلا
يستطيعون سبيلا) أي لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقا من الطرق (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا
من ذلك) أي تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلا خيرا من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير فقال
(جنات تجري من تحتها الأنهار) فجنات بدل من خيرا (ويجعل لك قصورا) معطوف على موضع جعل، وهو
الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع " يجعل " على أنه مستأنف، وقد تقرر في
علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع
63

فيجوز فيما عطف عليه أن يجزم ويرفع. وقرئ بالنصب. وقرئ بإدغام لام لك في لام يجعل لاجتماع المثلين.
وقرئ بترك الإدغام لان الكلمتين منفصلتان، والقصر البيت من الحجارة، لأن الساكن به مقصور عن أن يوصل
إليه، وقيل هو بيت الطين وبيوت الصوف والشعر. ثم أضرب سبحانه عن توبيخهم بما حكاه عنهم من الكلام
الذي لا يصدر عن العقلاء فقال (بل كذبوا بالساعة) أي بل أتوا بأعجب من ذلك كله. وهو تكذيبهم بالساعة،
فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها. ثم ذكر سبحانه ما أعده لمن كذب بالساعة فقال (واعتدنا لمن كذب
بالساعة سعيرا) أي نارا مشتعلة متسعرة، والجملة في محل نصب على الحال: أي بل كذبوا بالساعة، والحال أنا
اعتدنا. قال أبو مسلم: اعتدنا: أي جعلناه عتيدا ومعدا لهم (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا)
هذه الجملة الشرطية في محل نصب صفة لسعيرا لأنه مؤنث بمعنى النار، قيل معنى إذا رأتهم: إذا ظهرت لهم
فكانت بمرأى الناظر في البعد، وقيل المعنى: إذا رأتهم خزنتها، وقيل إن الرؤية منها حقيقية وكذلك التغيظ
والزفير، ولا مانع من أن يجعلها الله سبحانه مدركة هذا الإدراك. ومعنى (من مكان بعيد) أنها رأتهم وهي بعيدة
عنهم، قيل بينها وبينهم مسيرة خمسمائة عام. ومعنى التغيظ: أن لها صوتا يدل على التغيظ على الكفار أو لغليانها
صوتا يشبه صوت المغتاظ. والزفير: هو الصوت الذي يسمع من الجوف. قال الزجاج: المراد سماع ما يدل على
الغيظ وهو الصوت: أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. وقال قطرب: أراد علموا لها تغيظا وسمعوا لها
زفيرا كما قال الشاعر: * متقلدا سيفا ورمحا * أي وحاملا رمحا، وقيل المعنى: سمعوا فيها تغيظا وزفيرا
للمعذبين كما قال - لهم فيها زفير وشهيق - وفي اللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله (وإذا ألقوا منها مكانا
ضيقا) وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدة وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب (مقرنين) على الحال:
أي إذا ألقوا منها مكانا ضيقا حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل
مكتفين، وقيل قرنوا مع الشياطين: أي قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في
سورة إبراهيم (دعوا هنالك) أي في ذلك المكان الضيق (ثبورا) أي هلاكا. قال الزجاج: وانتصابه على
المصدرية: أي ثبرنا ثبورا، وقيل منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك وينادونه لما
حل بهم من البلاء، فأجيب عليهم بقوله (لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا) أي فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم
هم الملائكة: أي اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك وأعظم، كذا قال الزجاج
(وادعوا ثبور كثيرا) والثبور مصدر يقع على القليل والكثير فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضربا كثيرا، وقعد
قعودا طويلا، فالكثرة ها هنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شئ واحد.
والمعنى: لا تدعو ا على أنفسكم بالثبور دعاء واحدا وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشد من ذلك
لطول مدته وعدم تناهيه، وقيل هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول،
وقيل إن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا بل هو ثبور كثير لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد
بهذا الجواب عليهم الدلالة على خلود عذابهم وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.
ثم وبخهم الله سبحانه توبيخا بالغا على لسان رسوله فقال (قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون) والإشارة
بقوله ذلك إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة: أي تلك السعير خير أم جنة الخلد، وفي إضافة الجنة إلى
الخلد إشعار بدوام نعيمها وعدم انقطاعه، ومعنى (التي وعد المتقون) التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير
هنا مع أنه لا خير في النار أصلا، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم أنهم يقولون: السعادة
64

أحب إليك أم الشقاوة؟ وقيل ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا
قول حسن كما قال:
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء
ثم قال سبحانه (كانت لهم جزاء ومصيرا) أي كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم ومصيرا يصيرون إليه
(لهم فيها ما يشاؤن) أي ما يشاؤنه من النعيم وضروب الملاذ كما في قوله - ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم - وانتصاب
خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود (كان على ربك وعدا مسؤولا) أي كان ما يشاؤنه، وقيل
كان الخلود، وقيل كان الوعد المدلول عليه بقوله: وعد المتقون، ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن
يسأل ويطلب كما في قوله - ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك - وقيل إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله - وأدخلهم
جنات عدن التي وعدتهم - وقيل المراد به الوعد الواجب وإن لم يسأل.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن المنذر عن ابن عباس أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر
ابن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام
وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال
بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه إن أشراف قومك قد اجتمعوا
لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك،
فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسودك،
وإن كنت تريد به ملكا ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما
جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، وأنزل علي كتابا،
وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم
في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، قالوا: يا محمد فإن كنت غير
قابل منا شيئا مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما
تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم
بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم، فقال
لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن
الله بعثني بشيرا ونذيرا، فأنزل الله في ذلك (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام - وجعلنا بعضكم لبعض فتنة
أتصبرون وكان ربك بصيرا) أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا
يخالفون لفعلت. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض ومفاتيحها
ما لم يعط نبي قبلك ولا نعطها أحدا بعدك ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة،
فقال: اجمعوها لي في الآخرة، فأنزل الله سبحانه (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من
تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا). وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه
65

وآله وسلم: " من يقل علي ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو أنتمي إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم
مقعدا، قيل يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم، أما سمعتم الله يقول (إذا رأتهم من مكان بعيد) ".
وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله (إذا رأتهم من مكان بعيد) قال: من مسيرة مائة عام،
وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشد بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل بر وفاجر
(سمعوا لها تغيظا وزفيرا) تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلا بدت، ثم تزفر الثانية فتقطع القلوب من أماكنها وتبلغ
القلوب الحناجر. وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله
(وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين) قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (دعوا هنالك ثبورا) قال: ويلا (لا تدعوا اليوم
ثبورا واحدا) يقول: لا تدعوا اليوم ويلا واحدا. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسند صحيح عن أنس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن أول ما يكسى حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه
وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه، ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على الناس فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم،
فيقال لهم: لا تدعو ا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ". وإسناد أحمد هكذا: حدثنا عفان عن حميد بن سلمة
عن علي بن زيد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وفى علي بن زيد بن جدعان مقال
معروف. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (كان على ربك وعدا مسؤولا) يقول: سلوا الذي
وعدتكم تنجزوه ".
66

قوله (ويوم نحشرهم) الظرف منصوب بفعل مضمر: أي واذكر، وتعليق التذكير باليوم مع أن المقصود
ذكر ما فيه للمبالغة والتأكيد كما مر مرارا. قرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وحفص ويعقوب وأبو عمر في رواية
الدوري " يحشرهم " بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد وأبو حاتم لقوله في أول الكلام - كان على ربك - والباقون
بالنون على التعظيم ما عدا الأعرج فإنه قرأ " نحشرهم " بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في
الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضمها، ورده أبو حبان باستواء
المضموم والمكسور إلا أن يشتهر أحدهما اتبع (وما يعبدون من دون الله) معطوف على مفعول نحشر، وغلب غير
العقلاء من الأصنام والأوثان ونحوها على العقلاء من الملائكة والجن والمسيح تنبيها على أنها جميعا مشتركة في كونها
غير صالحة لكونها آلهة، أو لأن من يعبد من لا يعقل أكثر ممن يعبد من يعقل منها، فغلبت اعتبارا بكثرة من يعبدها
وقال مجاهد وابن جريج: المراد الملائكة والإنس والجن والمسيح وعزير بدليل خطابهم وجوابهم فيما بعد. وقال
الضحاك وعكرمة والكلبي: المراد الأصنام خاصة، وإنها وإن كانت لا تسمع ولا تتكلم فإن الله سبحانه يجعلها
يوم القيامة سامعة ناطقة، (فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) قرأ ابن عامر وأبو حيوة وابن
كثير وحفص " فنقول " بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية، واختارها أبو عبيد كما اختار القراءة بها في
نحشرهم، وكذا أبو حاتم. والاستفهام في قوله: أأنتم أضللتم للتوبيخ والتقريع. والمعنى: أكان ضلالهم بسببكم
وبدعوتكم فلا لهم إلى عبادتكم، أم هم ضلوا عن سبيل الحق بأنفسهم لعدم التفكر فيما يستدل به على الحق والتدبر فيما
يتوصل به إلى الصواب وجملة (قالوا سبحانك) مستأنفة جواب سؤال مقدر، ومعنى سبحانك: التعجب مما
قيل لهم لكونهم ملائكة أو أنبياء معصومين، أو جمادات لا تعقل: أي تنزيها لك (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك
من أولياء) أي ما صح ولا استقام لنا أن نتخذ من دونك أولياء فنعبدهم، فكيف ندعو عبادك إلى عبادتنا نحن مع
كوننا لا نعبد غيرك، والولي يطلق على التابع كما يطلق على المتبوع، هذا معنى الآية على قراءة الجمهور نتخذ مبنيا
للفاعل. وقرأ الحسن وأبو جعفر " نتخذ " مبنيا للمفعول: أي ما كان ينبغي لنا أن يتخذنا المشركون أولياء من
دونك. قال أبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر: لا تجوز هذه القراءة ولو كانت صحيحة لحذفت من الثانية. قال
أبو عبيدة: لا تجوز هذه القرادة لأن الله سبحانه ذكر " من " مرتين، ولو كان كما قرأ لقال: أن نتخذ من دونك
أولياء. وقيل إن " من " الثانية زائدة. ثم حكى عنهم سبحانه بأنهم بعد هذا الجواب ذكروا سبب ترك المشركين
للإيمان فقال (ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر) وفي هذا ما يدل على أنهم هم الذين ضلوا السبيل، ولم
يضلهم غيرهم، والمعنى: ما أضللناهم، ولكنك يا رب متعتهم ومتعت آباءهم بالنعم ووسعت عليهم الرزق وأطلت
لهم العمر حتى غفلوا عن ذكرك ونسوا موعظتك والتدبر لكتابك والنظر في عجائب صنعك وغرائب مخلوقاتك.
وقرأ أبو عيسى الأسود القارئ " ينبغي " مبنيا للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنها لغة. وقيل المراد
بنسيان الذكر هنا هو ترك الشكر (وكانوا قوما بورا) أي وكان هؤلاء الذين أشركوا بك وعبدوا غيرك في قضائك
الأزلي قوما بورا: أي هلكى، مأخوذ من البوار وهو الهلاك: يقال: رجل بائر وقوم بور، يستوي فيه الواحد
والجماعة لأنه مصدر يطلق على القليل والكثير ويجوز أن يكون جمع بائر. وقيل البوار الفساد. يقال بارت
بضاعته: أي فسدت، وأمر بائر: أي فاسد وهي لغة الأزد. وقيل المعنى: لا خير فيهم، مأخوذ من بوار
الأرض وهو تعطيلها من الزرع فلا يكون فيها خير، وقيل إن البوار الكساد، ومنه بارت السلعة إذا كسدت
67

(فقد كذبوكم بما تقولون) في الكلام حذف، والتقدير: فقال الله عند تبري المعبودين مخاطبا للمشركين العابدين
لغير الله فقد كذبوكم: أي فقد كذبكم المعبودون بما تقولون: أي في قولكم إنهم آلهة (فما يستطيعون) أي الآلهة
(صرفا) أي دفعا للعذاب عنكم بوجه من الوجوه، وقيل حيلة (ولا نصرا) أي ولا يستطيعون نصركم، وقيل المعنى
فما يستطيع هؤلاء الكفار لما كذبهم المعبودون صرفا للعذاب الذي عذبهم الله به ولا نصرا من الله، وهذا الوجه
مستقيم على قراءة من قرأ " تستطيعون " بالفوقية وهي قراءة حفص، وقرأ الباقون بالتحتية. وقال ابن زيد: المعنى:
فقد كذبوكم أيها المؤمنون هؤلاء الكفار بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فمعنى بما تقولون:
ما تقولونه من الحق. وقال أبو عبيد: المعنى فما يستطيعون لكم صرفا عن الحق الذي هداكم الله إليه ولا نصرا
لأنفسهم بما ينزل بهم من العذاب بتكذيبهم إياكم. وقرأ الجمهور " بما تقولون " بالتاء الفوقية على الخطاب. وحكى
الفراء أنه يجوز أن يقرأ " فقد كذبوكم " مخففا بما يقولون: أي كذبوكم في قولهم وكذا قرأ بالياء التحتية مجاهد
والبزي (ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا) هذا وعيد لكل ظالم ويدخل تحته الذين فيهم السياق دخولا أوليا،
والعذاب الكبير عذاب النار، وقرئ " يذقه " بالتحتية، وهذه الآية وأمثالها مقيدة بعدم التوبة. ثم رجع سبحانه
إلى خطاب رسوله موضحا لبطلان ما تقدم من قوله: يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فقال (وما أرسلنا قبلك
من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) قال الزجاج: الجملة الواقعة بعد إلا صفة لموصوف
محذوف، والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحد من المرسلين إلا آكلين وماشين، وإنما حذف الموصوف لأن في قوله من
المرسلين دليلا عليه، نظيره - و منا إلا له مقام معلوم - أي وما منا أحد. وقال الفراء: لا محل لها من الإعراب،
وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول، والتقدير: إلا من أنهم فالضمير في أنهم وما بعده راجع إلى من
المقدرة، ومثله قوله تعالى - وإن منكم إلا واردها - أي إلا من يردها، وبه قرأ الكسائي. قال الزجاج: هذا خطأ
لأن من الموصولة لا يجوز حذفها. وقال ابن الأنباري: إنها في محل نصب على الحال، والتقدير: إلا وأنهم،
فالمحذوف عنده الواو. قرأ الجمهور " إلا إنهم " بكسر إن لوجود اللام في خبرها كما تقرر في علم النحو، وهو
مجمع عليه عندهم. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان الأخفش حكى لنا عن محمد بن يزيد المبرد أنه قال:
يجوز في إن هذه الفتح وإن كان بعدها اللام وأحسبه وهما. وقرأ الجمهور. " يمشون " بفتح الياء وسكون الميم
وتخفيف الشين. وقرأ علي وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وضم الشين، المشددة، وهي بمعنى القراءة
الأولى، قال الشاعر:
أمشي بأعطان المياه وأتقي * قلائص منها صعبة وركوب
وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الحي ضامزة * ولا تمشي بواديه الأراجيل
(وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) هذا الخطاب عام للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيدة فتنة لبعض فالصحيح
فتنة للمريض والغني فتنة للفقير، وقيل المراد بالبعض الأول كفار الأمم، وبالبعض الثاني الرسل، ومعنى الفتنة
الابتلاء والمحنة. والأول أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به، فالمريض يقول لم لم أجعل
كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض فلا يضجر منه ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير
يواسيه، والفقير مبتلى بالغني يحسده، ونحو هذا مثله. وقيل المراد بالآية أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم ورأى
الوضيع قد أسلم قبله أنف وقال لا أسلم بعده، فيكون له على السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان
68

بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول،
فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة (أتصبرون) هذا
الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره أم لا تصبرون: أي أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة
والابتلاء العظيم. قيل موقع هذه الجملة الاستفهامية هاهنا موقع قوله - أيكم أحسن عملا - في قوله - ليبلوكم أيكم
أحسن عملا - ثم وعد الصابرين بقوله (وكان ربك بصيرا) أي بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلا منهما
بما يستحقه. وقيل معنى أتصبرون: اصبروا مثل قوله - فهل أنتم منتهون - أي انتهوا (وقال الذين لا يرجون لقاءنا)
هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على - وقالوا ما لهذا - أي وقال المشركون
الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما * على أي جنب كان في الله مصرعي
أي لا أبالي، وقيل المعنى لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها * وخالفها في بيت نوب عوامل
أي لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل لا يأملون، ومنه قول الشاعر:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب
والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من
لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب (لولا أنزل علينا الملائكة) أي هلا أنزلوا علينا فيخبرونا أن محمدا صادق، أو
هلا أنزلوا علينا رسلا يرسلهم الله (أو نرى ربنا) عيانا فيخبرنا بأن محمدا رسول. ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه
فقال (لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) أي أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في
قوله - إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه -، والعتو مجاوزة الحد في الطغيان والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه
بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى
طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه ورؤيته في الدنيا من دون
أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغا هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله،
أو تعد من المستعدين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حده، ومن جهلت نفسه قدره رأي غيره
منه مالا يرى، وانتصاب (يوم يرون الملائكة) بفعل محذوف: أي واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه
الذي طلبوه والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت أو عند الحشر،
ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدل عليه قوله (لا بشرى يومئذ للمجرمين) أي يمنعون البشرى يوم
يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فأعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة
، وهو وقت الموت، أو يوم
القيامة قد حرمهم الله البشرى. قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله (ويقولون حجرا
محجورا) أي ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة حجرا محجورا، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدو
وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل أتفعل كذا؟ فيقول حجرا محجورا: أي حراما عليك
التعرض لي. وقيل إن هذا من قول الملائكة: أي يقولون للكفار حراما محرما أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك
قول الشاعر:
ألا أصبحت أسماء حجرا محرما * وأصبحت من أدنى حمومتها حماء
69

أي أصبحت أسماء حراما محرما، وقال آخر:
حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها * حجر حرام إلا تلك الدهاريس
وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة وجعلها من جملتها (وقدمنا إلى
ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها صورة الخير: من
صلة الرحم، وإغاثة الملهوف وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلا الكفر الذي هم عليه، فمثلت
حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى ما معهم من المتاع فأفسده ولم يترك منها شيئا، وإلا
فلا قدوم هاهنا. قال الواحدي: معنى قدمنا عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده،
ومنه قول الشاعر:
وقدم الخوارج الضلال * إلى عباد ربهم فقالوا
إن دماءكم لنا حلال
وقيل هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل:
الهباء التراب الذي تطيره الربح كأنه دخان. وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوة مع ضوء الشمس يشبه الغبار،
وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور،
لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرق متبدد، وقيل إن الهباء ما أذرته الرياح من يابس
أوراق الشجر، وقيل هو الماء المهراق، وقيل الرماد. والأول هو الذي ثبت في لغة العرب ونقله العارفون بها. ثم
ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار فقال (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) أي أفضل منزلا في الجنة (وأحسن
مقيلا) أي موضع قائلة، وانتصاب مستقرا على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب الاستراحة نصف
النهار إذا اشتد الحر وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخل.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله
(ويوم نحشرهم) الآية، قال: عيسى وعزير والملائكة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (قوما
بورا) قال: هلكى. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله (ومن يظلم منكم) قال: هو الشرك.
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال يشرك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (وما
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق) يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه
وآله وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة) قال: بلاء.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن (وجعلنا بعضكم لبعض
فتنة) قال: يقول الفقير لو شاء الله لجعلني غنيا مثل فلان، ويقول السقيم لو شاء لجعلني صحيحا مثل فلان،
ويقول الأعمى لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وعتوا عتوا كبيرا)
قال: شدة الكفر. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (يوم يرون
الملائكة) قال: يوم القيامة. وأخرج أبي. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي نحوه. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (ويقولون حجرا محجورا) قال: عوذا معاذا، الملائكة تقوله. وفى لفظ قال:
حراما محرما أن تكون البشرى في اليوم إلا للمؤمنين. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم من طريق عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري في قوله (ويقولون حجرا محجورا) قال: حراما محرما
70

أن نبشركم بما نبشر به المتقين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة
(ويقولون حجرا محجورا) قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدة قال: حجرا
محجورا حراما محرما. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا. وأخرج سعيد بن
منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله (هباء منثورا) قال: الهباء شعاع
الشمس الذي يخرج من الكوة. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب
قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب فلا يبقى منه شئ، فجعل الله أعملهم كذلك. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئا. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: هو
الماء المهراق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (خير مستقلا وأحسن مقيلا) قال: في الغرف من الجنة.
وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود
قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن
مقيلا).
قوله (ويوم تشقق السماء بالغمام) وصف سبحانه هاهنا بعض حوادث يوم القيامة، والتشقق التفتح، قرأ
عاصم والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وأبو عمر تشقق بتخفيف الشين، وأصله تتشقق، وقرأ الباقون
بتشديد الشين على الإدغام. واختار القراءة الأولى أبو عبيد، واختار الثانية أبو حاتم، ومعنى تشققها بالغمام:
أنها تتشقق عن الغمام. قال أبو علي الفارسي: تشقق السماء وعليها غمام كما تقول: ركب الأمير بسلاحه: أي وعليه
سلاحه وخرج بثيابه: أي وعليه ثيابه. ووجه ما قاله أن الباء وعن يتعاقبان كما تقول: رميت بالقوس. وعن القوس
71

وروى أن السماء تتشقق عن سحاب رقيق أبيض، وقيل إن السماء تتشقق بالغمام الذي بينها وبين الناس. والمعنى:
أنه يتشقق السحاب بتشقق السماء، وقيل إنها تشقق لنزول الملائكة كما قال سبحانه بعد هذا (ونزل الملائكة تنزيلا)
وقيل إن الباء في بالغمام سببية: أي بسبب الغمام، يعنى بسبب طلوعه منها كأنه الذي تتشقق به السماء، وقيل إن
الباء متعلقة بمحذوف: أي ملتبسة بالغمام، قرأ ابن كثير " وننزل الملائكة " مخففا، من الإنزال بنون بعدها نون
ساكنة وزاي مخففة بكسرة مضارع أنزل، والملائكة منصوبة على المفعولية. وقرأ الباقون من السبعة " ونزل " بضم
النون وكسر الزاي المشددة ماضيا مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود وأبو رجاء " نزل " بالتشديد ماضيا مبنيا للفاعل
وفاعله الله سبحانه، وقرأ أبي بن كعب " أنزل الملائكة " وروى عنه أنه قرأ " تنزلت الملائكة " وقد قرئ في
الشواذ بغير هذه، وتأكيد هذا الفعل بقوله تنزيلا يدل على أن هذا التنزيل على نوع غريب ونمط عجيب، قال
أهل العلم إن هذا تنزيل رضا ورحمة لا تنزيل سخط وعذاب (الملك يومئذ الحق للرحمن) الملك مبتدأ، والحق صفة
له وللرحمن الخبر كذا قال الزجاج: أي الملك الثابت الذي لا يزول للرحمن يومئذ، لأن الملك الذي يزول وينقطع
ليس بملك في الحقيقة، وفائدة التقييد بالظرف أن ثبوت الملك المذكور له سبحانه خاصة في هذا اليوم، وأما فيما
عداه من أيام الدنيا فلغيره ملك في الصورة وإن لم يكن حقيقيا. وقيل إن خبر المبتدأ هو الظرف، والحق نعت
للملك. والمعنى: الملك الثابت للرحمن خاص في هذا اليوم (وكان يوما على الكافرين عسيرا) أي وكان هذا اليوم
مع كون الملك فيه لله وحده شديدا على الكفار لما يصابون به فيه، وينالهم من العقاب بعد تحقيق الحساب، وأما
على المؤمنين فهو يسير غير عسير، لما ينالهم فيه من الكرامة والبشرى العظيمة (ويوم يعض الظالم على يديه)
الظرف منصوب بمحذوف: أي واذكر كما انتصب بهذا المحذوف الظرف الأول، أعني يوم تشقق، ويوم يعض
الظالم على يديه الظاهر أن العض هنا حقيقة، ولا مانع من ذلك ولا موجب لتأويله. وقيل هو كناية عن الغيظ
والحسرة، والمراد بالظالم كل ظالم يرد ذلك المكان وينزل ذلك المنزل، ولا ينافيه ورود الآية على سبب خاص،
فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا) يقول في محل نصب على الحال
ومقول القول هو: يا ليتني الخ، والمنادى محذوف: أي يا قوم ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا طريقا وهو طريق
الحق ومشيت فيه حتى أخلص من هذه الأمور المضلة، والمراد اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به
(يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا) دعاء على نفسه بالويل والثبور على مخاللة الكافر الذي أضله في الدنيا، وفلان
كناية عن الأعلام. قال النيسابوري: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية،
لا يقال جاءني فلان، ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان، لأنه اسم اللفظ الذي هو علم الاسم، وكذلك جاء في
كلام الله. وقيل فلان كناية عن علم ذكور من يعقل، وفلانة عن علم إناثهم. وقيل كناية عن نكرة من يعقل من
الذكور، وفلانة عمن يعقل من الإناث، وأما الفلان والفلانة فكناية عن غير العقلاء، وفل يختص بالنداء إلا في
ضرورة كقول الشاعر: * في لجة أمسك فلانا عن فل * وقوله * حد ثاني عن فلان وفل * وليس
فل مرخما من فلان خلافا للفراء. وزعم أبو حيان أن ابن عصفور وابن مالك وهما في جعل فلان كناية علم من يعقل.
وقرأ الحسن " يا ويلتي " بالياء الصريحة، وقرأ الدوري بالإمالة. قال أبو علي: وترك الإمالة أحسن، لأن أصل هذه
اللفظة الياء فأبدلت الكسرة فتحة، والياء التاء فرارا من الياء، فمن أمال رجع إلى الذي فر منه (لقد أضلني عن
الذكر بعد إذ جاءني) أي والله لقد أضلني هذا الذي اتخذته خليلا عن القرآن أو عن الموعظة أو كلمة الشهادة أو
مجموع ذلك، بعد إذ جاءني وتمكنت منه وقدرت عليه (وكان الشيطان للإنسان خذولا) الخذل ترك الإغاثة،
72

ومنه خذلان إبليس للمشركين حيث يوالونه، ثم يتركهم عند استغاثتهم به، وهذه الجملة مقررة لمضمون
ما قبلها، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، أو من تمام كلام الظالم، وأنه سمى خليله شيطانا بعد أن جعله
مضلا، أو أراد بالشيطان إبليس لكونه الذي حمله على مخاللة المضلين (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا
القرآن مهجورا) معطوف على - وقال الذين لا يرجون لقاءنا - والمعنى: إن قومي اتخذوا هذا القرآن الذي جئت به
إليهم وأمرتني بإبلاغه وأرسلتني به مهجورا متروكا لم يؤمنوا به، ولا قبلوه بوجه من الوجوه، وقيل هو من
هجر إذا هذى. والمعنى: أنهم اتخذوه هجرا وهذيانا. وقيل معنى مهجورا مهجورا فيه، ثم حذف الجار،
وهجرهم فيه قولهم: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين، وهذا القول يقوله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يوم
القيامة، وقيل إنه حكاية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) هذا
تسلية من الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: أن الله سبحانه جعل لكل نبي من الأنبياء
الداعين إلى الله عدوا يعاديه من مجرمي قومه، فلا تجزع يا محمد، فإن هذا دأب الأنبياء قبلك واصبر كما صبروا
(وكفى بربك هاديا ونصيرا) قال المفسرون: الباء زائدة: أي كفى ربك، وانتصاب نصيرا وهاديا على الحال،
أو التمييز: أي يهدي عباده إلى مصالح الدين والدنيا وينصرهم على الأعداء (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه
القرآن جملة واحدة) هذا من جملة اقتراحاتهم وتعنتاتهم: أي هلا نزل الله علينا هذا القرآن دفعة واحدة غير منجم.
واختلف في قائل هذه المقالة، فقيل كفار قريش، وقيل اليهود، قالوا: هلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة كما
أنزلت التوراة والإنجيل والزبور؟ وهذا زعم باطل ودعوى داحضة فإن هذه الكتب نزلت مفرقة كما نزل القرآن
ولكنهم معاندون، أو جاهلون لا يدرون بكيفية نزول كتب الله سبحانه على أنبيائه، ثم رد الله سبحانه عليهم
فقال (كذلك لنثبت به فؤادك) أي نزلنا القرآن كذلك مفرقا، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر
محذوف، وذلك إشارة إلى ما يفهم من كلامهم: أي مثل ذلك التنزيل المفرق الذي قدحوا فيه، واقترحوا خلافه
نزلناه لنقوي بهذا التنزيل على هذه الصفة فؤادك، فإن إنزاله مفرقا منجما على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له
وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت، واللام متعلقة بالفعل المحذوف الذي قدرناه. وقال أبو حاتم:
إن الأخفش قال: إنها جواب قسم محذوف. قال: وهذا قول مرجوح. وقرأ عبد الله " ليثبت " بالتحتية: أي
الله سبحانه، وقيل إن هذه الكلمة: أعني كذلك، هي من تمام كلام المشركين، والمعنى كذلك: أي كالتوراة
والإنجيل والزبور، فيوقف على قوله كذلك، ثم يبتدأ بقوله (لنثبت به فؤادك) على معنى أنزلناه عليك متفرقا
لهذا الغرض. قال ابن الأنباري: وهذا أجود وأحسن. قال النحاس: وكان ذلك: أي إنزال القرآن منجما من
أعلام النبوة لأنهم لا يسألونه فيه عن شئ إلا أجيبوا عنه، وهذا لا يكون إلا من نبي، فكان ذلك تثبيتا لفؤاده
وأفئدتهم (ورتلناه ترتيلا) هذا معطوف على الفعل المقدر: أي كذلك نزلناه ورتلناه ترتيلا، ومعنى الترتيل:
أن يكون آية بعد آية، قال النخعي والحسن وقتادة. وقيل: إن المعني بيناه تبيينا، حكى هذا عن ابن عباس.
وقال مجاهد: بعضه في إثر بعض. وقال السدي: فصلناه تفصيلا. قال ابن الأعرابي: ما أعلم الترتيل إلا التحقيق
والتبيين. ثم ذكر سبحانه أنهم محجوجون في كل أوان مدفوع قولهم بكل وجه وعلى كل حالة فقال (ولا يأتونك
بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) أي لا يأتيك يا محمد المشركون بمثل من أمثالهم التي من جملتها اقتراحاتهم المتعنتة
إلا جئناك في مقابلة مثلهم بالجواب الحق الثابت الذي يبطل ما جاءوا به من المثل ويدمغه. فالمراد بالمثل هنا:
السؤال والاقتراح وبالحق جوابه الذي يقطع ذريعته ويبطل شبهته ويحسم مادته. ومعنى (أحسن تفسيرا) جئناك
73

بأحسن تفسير، فأحسن تفسيرا معطوف على الحق، والاستثناء بقوله (إلا جئناك) مفرغ، والجملة في محل نصب
على الحال: أي لا يأتونك بمثل إلا في حال إيتائنا إياك ذلك. ثم أوعد هؤلاء الجهلة وذمهم فقال (الذين يحشرون
على وجوهم إلى جهنم) أي يحشرون كائنين على وجوهم، والموصول مبتدأ وخبره: أولئك، أو هو خبر
مبتدأ محذوف: أي هم الذين، ويجوز نصبه على الذم. ومعنى يحشرون على وجوهم: يسحبون عليها إلى جهنم
(أولئك شر مكانا) أي منزلا ومصيرا (وأضل سبيلا) وأخطأ طريقا، وذلك لأنهم قد صاروا في النار. وقد
تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة سبحان، وقد قيل إن هذا متصل بقوله - أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا
وأحسن مقيلا -.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس في
قوله (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا) قال: يجمع الله الخلق يوم القيامة في صعيد واحد: الجن
والإنس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق، فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الأرض من
الجن والإنس وجميع الخلق، فيحيطون بالجن والإنس وجميع الخلق فيقول أهل الأرض: أفيكم ربنا؟ فيقولون لا
ثم تنشق السماء الثانية وذكر مثل ذلك، ثم كذلك في كل سماء إلى السماء السابعة، وفي كل سماء أكثر من السماء
التي قبلها، ثم ينزل ربنا في ظلل من الغمام وحوله الكروبيون، وهم أكثر من أهل السماوات السبع والإنس
والجن وجميع الخلق، لهم قرون ككعوب القثاء، وهم تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله
تعالى، ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة خمسمائة عام، ومن ركبته إلى فخذه مسيرة خمسمائة عام، ومن فخذه
إلى ترقوته مسيره خمسمائة عام، وما فوق ذلك مسيرة خمسمائة عام. وإسناده عند ابن جرير هكذا: قال حدثنا
القاسم، حدثنا الحسين، حدثني الحجاج بن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن
مهران أنه سمع ابن عباس فذكره. وأخرجه ابن أبي حاتم باسناد هكذا: قال حدثنا محمد بن عمار بن الحرث
مأمول، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند، قال السيوطي:
صحيح من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن أبا معيط كان يجلس مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمكة
لا يؤذيه، وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه، وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام،
فقالت قريش: صبأ أبو معيط، وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته: ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت:
أشد ما كان أمرا، فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقالت: صبأ، فبات بليلة سوء، فلما أصبح أتاه أبو معيط
فحياه، فلم يرد عليه التحية، فقال: مالك لا ترد على تحيتي؟ فقال: كيف أرد عليك تحيتك وقد صبوت؟
قال: أو قد فعلتها قريش؟ قال نعم، قال: فما يبرئ صدورهم إن أنا فعلته؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في
وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم، ففعل فلم يرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أن مسح وجهه من
البزاق، ثم ألتفت إليه فقال: إن وجدتك خارجا من جبال مكة أضرب عنقك صبرا، فلما كان يوم بدر وخرج
أصحابه أبى أن يخرج، فقال له أصحابه: أخرج معنا، قال: وعدني هذا الرجل إن وجدني خارجا من جبال مكة
أن يضرب عنقي صبرا، فقالوا: لك جمل أحمر لا يدرك، فلو كانت الهزيمة طرت عليه فخرج معهم، فلما هزم
الله المشركين وحمل به جمله في جدود من الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسيرا في سبعين من
قريش، وقدم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني من بين هؤلاء؟ قال: نعم بما بزقت في وجهي، فأنزل الله في
أبي معيط (ويوم يعض الظالم على يديه) إلى قوله (وكان الشيطان للإنسان خذولا). وأخرج أبو نعيم هذه القصة
74

من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وذكر أن خليل أبي معيط: هو أبي بن خلف. وأخرج ابن
مردويه عن ابن عباس أيضا في قوله (يوم يعض الظالم على يديه) قال: أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وهما
الخليلان في جهنم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) قال: كان
عدو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو جهل وعدو موسى قارون، وكان قارون ابن عم موسى. وأخرج ابن
أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قال المشركون: لو كان محمد
كما يزعم نبيا فلم يعذبه ربه؟ ألا ينزل عليه القرآن جملة واحدة، ينزل عليه الآية والآيتين والسورة والسورتين،
فأنزل الله على نبيه جواب ما قالوا (وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة) إلى (وأضل سبيلا).
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (لنثبت به فؤادك) قال: لنشدد به فؤادك ونربط على قلبك
(ورتلناه ترتيلا) قال: رسلناه ترسيلا، يقول شيئا بعد شئ (ولا يأتونك بمثل) يقول: لو أنزلنا عليك القرآن
جملة واحدة، ثم سألوك لم يكن عنده ما يجيب، ولكنا نمسك عليك، فإذا سألوك أجبت.
اللام في قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب) جواب قسم محذوف: أي والله لقد آتينا موسى التوراة، ذكر
سبحانه طرفا من قصص الأولين تسلية له صلى الله عليه وآله وسلم بأن تكذيب قوم أنبياء الله لهم عادة للمشركين
بالله. وليس ذلك بخاص بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم و (هارون) عطف بيان، ويجوز أن ينصب على القطع
و (وزيرا) المفعول الثاني، وقيل حال، والمفعول الثاني معه، والأول أولى. قال الزجاج: الوزير في اللغة الذي
يرجع إليه ويعمل برأيه، والوزر ما يعتصم به، ومنه - كلا لا وزر -. وقد تقدم تفسير الوزير في طه، والوزارة
لا تنافي النبوة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. وقد كان هارون
في أول الأمر وزيرا لموسى، ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما (اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا) وهم فرعون
75

وقومه، والآيات هي التسع التي تقدم ذكرها، وإن لم يكونوا قد كذبوا بها عند أمر الله لموسى وهارون بالذهاب
بل كان التكذيب بعد ذلك، لكن هذا الماضي بمعنى المستقبل على عادة إخبار الله: أي اذهبا إلى القوم الذين
يكذبون بآياتنا. وقيل إنما وصفوا بالتكذيب عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيانا لعلة استحقاقهم
للعذاب. وقيل يجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا. وقيل إن المراد بوصفهم بالتكذيب عند
الإرسال إنهم كانوا مكذبين للآيات الإلهية وليس المراد آيات الرسالة. قال القشيري: وقوله تعالى في موضع
آخر - اذهب إلى فرعون إنه طغى - لا ينافي هذا لأنهما إذا كانا مأمورين فكل واحد مأمور. ويمكن أن يقال إن
تخصيص موسى بالخطاب في بعض المواطن لكونه الأصل في الرسالة، والجمع بينهما في الخطاب لكونهما مرسلين
جميعا (فدمرناهم تدميرا) في الكلام حذف: أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم: أي أهلكناهم إثر ذلك التكذيب
إهلاكا عظيما. وقيل إن المراد بالتدمير هنا: الحكم به، لأنه لم يحصل عقب بعث موسى وهارون إليهم، بل بعده
بمدة (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم) في نصب قوم أقوال: العطف على الهاء، والميم في دمرناهم، أو
النصب بفعل محذوف: أي أذكر، أو بفعل مضمر يفسره ما بعده، وهو أغرقناهم: أي أغرقنا قوم نوح أغرقناهم،
وقال الفراء: هو منصوب بأغرقناهم المذكور بعده من دون تقدير مضمر يفسره ما بعده. ورده النحاس بأن أغرقنا
لا يتعدى إلى مفعولين حتى يعمل في الضمير المتصل به، وفي قوم نوح. ومعنى (لما كذبوا الرسل) أنهم كذبوا
نوحا وكذبوا من قبله من رسل الله. وقال الزجاج: من كذب نبيا فقد كذب جميع الأنبياء، وكان إغراقهم
بالطوفان كما تقدم في هود (وجعلناهم للناس آية) أي جعلنا إغراقهم، أو قصتهم للناس آية: أي عبرة لكل
الناس على العموم يتعظ بها كل مشاهد لها وسامع لخبرها (وأعتدنا للظالمين) المراد بالظالمين قوم نوح على الخصوص.
ويجوز أن يكون المراد كل من سلك مسلكهم في التكذيب، والعذاب الأليم: هو عذاب الآخرة، وانتصاب
(عادا) بالعطف على قوم نوح، وقيل على محل الظالمين، وقيل على مفعول جعلناهم (وثمود) معطوف على
عادا، وقصة عاد وثمود قد ذكرت فيما سبق (وأصحاب الرس) الرس في كلام العرب: البئر التي تكون غير
مطوية، والجمع رساس كذا قال أبو عبيدة، ومنه قول الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم * تنابلة يحفرون الرساسا
قال السدي: هي بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها، وهو صاحب يس الذي - قال يا قوم
اتبعوا المرسلين - وكذا قال مقاتل وعكرمة وغيرهما. وقيل هم قوم بآذربيجان قتلوا أنبياءهم فجفت أشجارهم
وزروعهم، فماتوا جوعا وعطشا. وقيل كانوا يعبدون الشجر، وقيل كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم
شعيبا فكذبوه وآذوه. وقيل هم قوم أرسل الله إليهم نبيا فأكلوه، وقيل هم أصحاب الأخدود. وقيل إن الرس:
هي البئر المعطلة التي تقدم ذكرها، وأصحابها أهلها. وقال في الصحاح: والرس اسم بئر كانت لبقية ثمود، وقيل
الرس: ماء ونخل لبني أسد، وقيل الثلج المتراكم في الجبال. والرس: اسم واد، ومنه قول زهير:
بكرن بكورا واستحرن بسحرة * فهن لوادي الرس كاليد للفم
والرس أيضا: الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم، فهو من الأضداد. وقيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان،
وهم الذين ابتلاهم الله بالطائر المعروف بالعنقاء (وقرونا بين ذلك كثيرا) معطوف على ما قبله، والقرون جمع قرن:
أي أهل قرون، والقرن: مائة سنة، وقيل مائة وعشرون، وقيل القرن أربعون سنة، والإشارة بقوله (بين ذلك)
76

إلى ما تقدم ذكره من الأمم. وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك (وكلا ضربنا له الأمثال) قال
الزجاج: أي وأنذرنا كلا ضربنا لهم الأمثال وبينا لهم الحجة، ولم نضرب لهم الأمثال الباطلة كما يفعله هؤلاء
الكفرة، فجعله منصوبا بفعل مضمر يفسره ما بعده، لأن حذرنا وذكرنا وأنذرنا في معنى ضربنا، ويجوز أن
يكون معطوفا على ما قبله، والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف، وهو الأمم: أي كل الأمم ضربنا لهم
الأمثال (و) أما (كلا) الأخرى: فهي منصوبة بالفعل الذي بعدها، والتتبير: الإهلاك بالعذاب. قال
الزجاج: كل شئ كسرته وفتته فقد تبرته. وقال المؤرج والأخفش: معنى (تبرنا تتبيرا) أدمرنا تدميرا أبدلت
التاء والباء من الدال والميم (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) هذه جملة مستأنفة مبينة بمشاهدتهم لآثار
هلاك بعض الأمم. والمعنى: ولقد أتوا: أي مشركوا مكة على قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء، وهو
الحجارة: أي هلكت بالحجارة التي أمطروا بها، وانتصاب مطر على المصدرية، أو على أنه مفعول ثان: إذ
المعنى أعطيتها وأوليتها مطر السوء، أو على أنه نعت مصدر محذوف: أي إمطارا مثل مطر السوء، وقرأ أبو السمأل
" السوء " بضم السين، وقد تقدم تفسير السوء في براءة (أفلم يكونوا يرونها) الاستفهام للتقريع والتوبيخ، أي
يرون القرية المذكورة عند سفرهم إلى الشام للتجارة، فإنهم يمرون بها، والفاء للعطف على مقدر: أي لم يكونوا
ينظرون إليها فلم يكونوا يرونها (بل كانوا لا يرجون نشورا) أضرب سبحانه عما سبق من عدم رؤيتهم لتلك
الآثار إلى عدم رجاء البعث منهم المستلزم لعدم رجائهم للجزاء، ويجوز أن يكون معنى يرجون يخافون (وإذا
رأوك إن يتخذونك إلا هزوءا) أي ما يتخذونك إلا هزوءا: أي مهزوءا بك، قصر معاملتهم له على اتخاذهم إياه
هزوا، فجواب " إذا " هو " إن يتخذونك " وقيل الجواب محذوف، وهو قالوا (أهذا الذي) وعلى هذا فتكون
جملة " إن يتخذونك إلا هزوءا " معترضة، والأول أولى. وتكون جملة (أهذا الذي بعث الله رسولا) في محل
نصب على الحال بتقدير القول: أي قائلين أهذا الخ، وفي اسم الإشارة دلالة على استحقارهم له وتهكمهم به،
والعائد محذوف: أي بعثه الله وانتصاب رسولا على الحال: أي مرسلا، واسم الإشارة مبتدأ، وخبره الموصول،
وصلته (إن كاد ليضلنا عن آلهتنا) أي قالوا: إن كاد هذا الرسول ليضلنا: ليصرفنا عن آلهتنا فنترك عبادتها،
وإن هنا هي المخففة، وضمير الشأن محذوف: أي إنه كاد أن يصرفنا عنها (لولا أن صبرنا عليها) أي حبسنا
أنفسنا على عبادتها، ثم إنه سبحانه أجاب عليهم فقال (وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا) أي
حين يرون عذاب يوم القيامة الذي يستحقونه ويستوجبونه بسبب كفرهم من هو أضل سبيلا: أي أبعد طريقا
عن الحق والهدى، أهم أم المؤمنون؟ ثم بين لهم سبحانه أنه لا تمسك فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع الهوى،
فقال معجبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول
علمت منطلقا زيدا: أي أطاع هواه طاعة كطاعة الإله: أي انظر إليه يا محمد وتعجب منه. قال الحسن: معنى
الآية لا يهوى شيئا إلا اتبعه (أفأنت تكون عليه وكيلا) الاستفهام للإنكار والاستبعاد: أي أفأنت تكون عليه
حفيظا وكفيلا حتى ترده إلى الإيمان وتخرجه من الكفر، ولست تقدر على ذلك ولا تطيقه، فليست الهداية
والضلالة موكولتين إلى مشيئتك، وإنما عليك البلاغ. وقد قيل إن هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم انتقل سبحانه
من الإنكار الأول إلى إنكار آخر فقال (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون) أي أتحسب أن أكثرهم يسمعون
ما تتلو عليهم من آيات القرآن ومن المواعظ، أو يعقلون معاني ذلك ويفهمونه حتى تعتني بشأنهم وتطمع في إيمانهم،
وليسوا كذلك، بل هم بمنزلة من لا يسمع ولا يعقل. ثم بين سبحانه حالهم وقطع مادة الطمع فيهم فقال (إن هم
77

إلا كالأنعام) أي ما هم في الانتفاع بما يسمعونه إلا كالبهائم التي هي مسلوبة الفهم والعقل فلا تطمع فيهم، فإن
فائدة السمع والعقل مفقودة، وإن كانوا يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يتلى عليهم، ولكنهم لما لم ينتفعوا بذلك
كانوا كالفاقد له. ثم أضرب سبحانه عن الحكم عليهم بأنهم كالأنعام إلى ما هو فوق ذلك فقال (بل هم أضل
سبيلا) أي أضل من الأنعام طريقا. قال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتهتدي إلى مراعيها وتنقاد لأربابها، وهؤلاء
لا ينقادون ولا يعرفون ربهم الذي خلقهم ورزقهم. وقيل إنما كانوا أضل من الأنعام، لأنه لا حساب عليها ولا
عقاب لها، وقيل إنما كانوا أضل لأن البهائم إذا لم تعقل صحة التوحيد والنبوة لم تعتقد بطلان ذلك، بخلاف هؤلاء
فإنهم اعتقدوا البطلان عنادا ومكابرة وتعصبا وغمطا للحق.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا) قال:
عونا وعضدا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فدمرناهم تدميرا) قال: أهلكناهم بالعذاب.
وأخرج ابن جرير عنه قال: الرس قرية من ثمود. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الرس بئر بآذربيجان،
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه سأل كعبا عن أصحاب الرس قال: صاحب يس الذي قال
- يا قوم اتبعوا المرسلين - فرسه قومه في بئر بالأحجار. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود، وذلك أن
الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلا ذلك الأسود، ثم إن أهل القرية غدوا على النبي فحفروا له
بئرا فألقوه فيها، ثم أطبقوا عليه بحجر ضخم، فكان ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره، ثم يأتي يحطبه فيبيعه
فيشتري به طعاما وشرابا، ثم يأتي به إلى تلك البئر، فيرفع تلك الصخرة فيعينه الله عليها، فيدلى طعامه وشرابه ثم
يردها كما كانت، فكان كذلك ما شاء الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه
وحزم حزمته وفرغ منها، فلما أراد أن يحملها وجد سنة فاضطجع فنام فضرب على أذنه سبع سنين نائما، ثم إنه
ذهب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب الله على أذنه سبع سنين أخرى، ثم إنه ذهب فاحتمل حزمته
ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار، فجاء إلى القرية فباع حزمته، ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع، ثم
ذهب إلى الحفرة في موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم يجده، وقد كان بدا لقومه فيه بد فاستخرجوه فآمنوا به
وصدقوه، وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل؟ فيقولون ما ندري حتى قبض ذلك النبي، فأهب الله
الأسود من نومته بعد ذلك، إن ذلك الأسود لأول من يدخل الجنة " قال ابن كثير في تفسيره بعد إخراجه: وفيه
غرابة ونكارة، ولعل فيه إدراجا انتهى. الحديث أيضا مرسل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عن زرارة بن أوفى قال: القرن مائة وعشرون عاما. وأخرج هؤلاء عن قتادة قال: القرن سبعون
سنة، وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة قال: القرن مائة سنة. وقد روى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أنه قال: القرن مائة سنة، وقال القرن خمسون سنة، وقال القرن أربعون سنة. وما أظنه يصح شئ من ذلك
وقد سمى الجماعة من الناس قرنا كما في الحديث الصحيح " خير القرون قرني ". وأخرج الحاكم في الكنى عن ابن
عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك، ثم يقول: كذب
النسابون. قال الله (وقرونا بين ذلك كثيرا). وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس (ولقد أتوا على القرية) قال:
هي سدوم قرية لوط (التي أمطرت مطر السوء) قال: الحجارة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (أرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: كان الرجل يعبد الحجر الأبيض زمانا من الدهر في الجاهلية،
78

فإذا وجد حجرا أحسن منه رمى به وعبد الآخر، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال:
ذلك الكافر لا يهوى شيئا إلا اتبعه.
لما فرغ سبحانه من ذكر جهالة الجاهلين وضلالتهم أتبعه بذكر طرف من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم
الإنعام، فأولها الاستدلال بأحوال الظل فقال (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) هذه الرؤية إما بصرية، والمراد
بها ألم تبصر إلى صنع ربك، أو ألم تبصر إلى الظل كيف مده ربك، وإما قلبية بمعنى العلم، فإن الظل متغير،
وكل متغير حادث، ولكل حادث موجد. قال الزجاج (ألم تر) ألم تعلم، وهذا من رؤية القلب. قال: وهذا
الكلام على القلب، والتقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك: يعنى الظل من وقت الإسفار إلى طلوع الشمس
وهو ظل لا شمس معه، وبه قال الحسن وقتادة. وقيل هو من غيبوبة الشمس إلى طلوعها. قال أبو عبيدة: الظل
بالغداة والفيء بالعشي، لأنه يرجع بعد زوال الشمس، سمي فيئا لأنه فاء من المشرق إلى جانب المغرب. قال حميد
ابن ثور يصف سرحة وكنى بها عن امرأة:
فلا الظل من برد الضحى تستطيعه * ولا الفيء من برد العشى تذوق
وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس. وحكى أبو عبيدة عن رؤبة قال:
كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل، وما لم تكن عليه الشمس فهو ظل انتهى. وحقيقة الظل
أنه أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة، وهذا التوسط هو أعدل من الطرفين، لأن الظلمة الخالصة
يكرهها الطبع وينفر عنها الحس، والضوء الكامل لقوته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك
وصفت الجنة به بقوله - وظل ممدود - وجملة (ولو شاء لجعله ساكنا) معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه: أي
لو شاء الله سبحانه سكونه لجعله ساكنا ثابتا دائما مستقرا لا تنسخه الشمس. وقيل المعنى: لو شاء لمنع
الشمس الطلوع، والأول أولى. والتعبير بالسكون عن الإقامة والاستقرار سائغ، ومنه قولهم: سكن فلان
بلد كذا: إذا أقام به واستقر فيه. وقوله (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) معطوف على قوله: مد الظل داخل
في حكمه: أي جعلناها علامة يستدل بها بأحوالها على أحواله، وذلك لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق
79

من جهة أنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، وقوله (ثم قبضناه) معطوف أيضا على مد داخل في حكمه.
والمعنى: ثم قبضنا ذلك الظل الممدود ومحوناه عند إيقاع شعاع الشمس موقعه بالتدريج حتى انتهى الإظلال
إلى العدم والاضمحلال. وقيل المراد في الآية قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، وهي الأجرام النيرة، والأول
أولى. والمعنى: أن الظل يبقى في هذا الجو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس صار الظل
مقبوضا وخلفه في هذا الجو شعاع الشمس، فأشرقت على الأرض وعلى الأشياء إلى وقت غروبها، فإذا غربت
فليس هنالك ظل، إنما فيه بقية نور النهار، وقال قوم: قبضه بغروب الشمس، لأنها إذا لم تغرب فالظل فيه
بقية، وإنما يتم زواله بمجيء الليل ودخول الظلمة عليه. وقيل المعنى: ثم قبضنا ضياء الشمس بالفيء (قبضا
يسيرا) ومعنى إلينا: أن مرجعه إليه سبحانه كما أن حدوثه منه قبضا يسيرا: أي على تدريج قليلا قليلا بقدر ارتفاع
الشمس، وقيل يسيرا سريعا، وقيل المعنى يسيرا علينا: أي يسيرا قبضه علينا ليس بعسير (وهو الذي جعل لكم
الليل لباسا) شبه سبحانه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر. قال ابن جرير: وصف الليل باللباس تشبيها من
حيث أنه يستر الأشياء ويغشاها، واللام متعلقة بجعل (والنوم سباتا) أي وجعل النوم سباتا: أي راحة لكم لأنكم
تنقطعون عليه عن الاشتغال، وأصل السبات التمدد: يقال سبتت المرأة شعرها: أي نقضته وأرسلته، ورجل مسبوت:
أي ممدود الخلقة. وقيل للنوم ثبات، لأنه بالتمدد يكون، وفي التمدد معنى الراحة. وقيل السبت القطع، فالنوم
انقطاع عن الاشتغال، ومنه سبت اليهود لانقطاعهم عن الاشتغال. قال الزجاج: السبات النوم، وهو أن
ينقطع عن الحركة والروح في بدنه: أي جعلنا نومكم راحة لكم. وقال الخليل: السبات نوم ثقيل: أي جعلنا
نومكم ثقيلا ليكمل الإجمام والراحة (وجعل النهار نشورا) أي زمان بعث من ذلك السبات، شبه اليقظة بالحياة كما
شبه النوم بالسبات الشبيه بالممات. وقال في الكشاف: إن السبات الموت، واستدل على ذلك بكون النشور في
مقابلته (وهو الذي أرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته) قرئ " الريح " وقرئ " بشرا " بالباء الموحدة وبالنون،
وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في الأعراف (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) أي يتطهر به كما يقال وضوء للماء
الذي يتوضأ به. قال الأزهري: الطهور في اللغة الطاهر المطهر، والطهور ما يتطهر به. قال ابن الأنباري:
الطهور بفتح الطاء الاسم، وكذلك الوضوء والوقود، وبالضم المصدر، هذا هو المعروف في اللغة، وقد ذهب
الجمهور إلى أن الطهور هو الطاهر المطهر، ويؤيد ذلك كونه بناء مبالغة. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: الطهور
هو الطاهر، واستدل لذلك بقوله تعالى - وسقاهم ربهم شرابا طهورا - يعنى طاهرا، ومنه قول الشاعر:
خليلي هل في نظرة بعد توبة * أداوي أبي بها قلبي علي فجور
إلى رجح الأكفال غيد من الظبي * عذاب الثنايا ريقهن طهور
فوصف الريق بأنه طهور وليس بمطهر، ورجح القول الأول ثعلب، وهو راجح لما تقدم من حكاية
الأزهري لذلك عن أهل اللغة. وأما وصف الشاعر للريق بأنه طهور، فهو على طريق المبالغة، وعلى كل حال
فقد ورد الشرع بأن الماء طاهر في نفسه مطهر لغيره، قال الله تعالى - وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به -
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " خلق الماء طهورا " ثم ذكر سبحانه علة الإنزال فقال (لنحيي به) أي بالماء
المنزل من السماء (بلدة ميتا) وصف البلدة بميتا، وهي صفة للمذكر لأنها بمعنى البلد. وقال الزجاج: أراد
بالبلد المكان، والمراد بالإحياء هنا إخراج النبات من المكان الذي لانبات فيه (ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا)
أي نسقي ذلك الماء، قرأ أبو عمرو وعاصم في رواية عنهما وأبو حيان وابن أبي عبلة بفتح النون من " نسقيه " وقرأ
الباقون بضمها، و " من " في مما خلقنا للابتداء، وهي متعلقة بنسقيه، ويجوز أن تتعلق بمحذوف على أنه حال،
80

والأنعام قد تقدم الكلام عليها، والأناسي جمع إنسان على ما ذهب إليه سيبويه. وقال الفراء والمبرد والزجاج: إنه
جمع إنسي، وللفراء قول آخر: إنه جمع إنسان، والأصل أناسين مثل سرحان وسراحين وبستان وبساتين، فجعلوا
الباء عوضا من النون (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) ضمير صرفناه ذهب الجمهور إلى أنه راجع إلى ما ذكر من
الدلائل: أي كررنا أحوال الإظلال، وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية
ليتفكروا ويعتبروا (فأبى أكثرهم) إلا كفران النعمة وجحدها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات
وهو المطر: أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، فنزيد منه في بعض البلدان وننقص في بعض آخر منها،
وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقد جرى ذكره في أول السورة حيث قال - تبارك الذي نزل الفرقان على عبده -
وقوله - لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني - وقوله - اتخذوا هذا القرآن مهجورا - والمعنى: ولقد كررنا هذا
القرآن بإنزال آياته بين الناس ليذكروا به ويعتبروا بما فيه، فأبى أكثرهم (إلا كفورا) به، وقيل هو راجع إلى
الريح، وعلى رجوع الضمير إلى المطر، فقد اختلف في معناه، فقيل ما ذكرناه. وقيل صرفناه بينهم وابلا وطشا
وطلا ورذاذا، وقيل تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات. قال عكرمة: إن
المراد بقوله - فأبى أكثر الناس إلا كفورا - هو قولهم: في الأنواء مطرنا بنوء كذا. قال النحاس: ولا نعلم بين أهل
التفسير اختلافا أن الكفر هنا قولهم: مطرنا بنوء كذا. وقرأ عكرمة " صرفناه " مخففا، وقرأ الباقون بالتثقيل. وقرأ
حمزة والكسائي " ليذكروا " مخففة الذال من الذكر، وقرأ الباقون بالتثقيل من التذكر (ولو شئنا لبعثنا في كل قرية
نذيرا) أي رسولا ينذرهم كما قسمنا المطر بينهم، ولكنا لم نفعل ذلك بل جعلنا نذيرا واحدا، وهو أنت يا محمد،
فقابل ذلك بشكر النعمة (فلا تطع الكافرين) فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم، بل اجتهد في الدعوة وأثبت فيها
والضمير في قوله (وجاهدهم به جهادا كبيرا) راجع إلى القرآن: أي جاهدهم بالقرآن واتل عليهم ما فيه من القوارع
والزواجرات قال والأوامر والنواهي. وقيل الضمير يرجع إلى الإسلام، وقيل بالسيف، والأول أولى. وهذه السورة
مكية، والأمر بالقتال إنما كان بعد الهجرة. وقيل الضمير راجع إلى ترك الطاعة المفهوم من قوله (فلا تطع
الكافرين) وقيل الضمير يرجع إلي ما دل عليه قوله - ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا - لأنه سبحانه لو بعث في
كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة القرية التي أرسل إليها، وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى
وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلا جرم اجتمع عليه كل المجاهدات، فكبر جهاده، وعظم وصار جامعا لكل
مجاهدة، ولا يخفى ما في هذين الوجهين من البعد. ثم ذكر سبحانه دليلا رابعا على التوحيد فقال (وهو الذي مرج
البحرين) مرج خلى وخلط وأرسل، يقال مرجت الدابة وأمرجتها: إذا أرسلتها في المرعى وخليتها تذهب حيث
تشاء. قال مجاهد: أرسلهما وأفاض أحدهما إلى الاخر. وقال ابن عرفة: خلطهما فهما يلتقيان، يقال مرجته:
إذا خلطته، ومرج الدين والأمر: اختلط واضطرب، ومنه قوله - في أمر مريج - وقال الأزهري (مرج
البحرين) خلى بينهما، يقال مرجت الدابة: إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب: المرج الإجراء، فقوله (مرج
البحرين) أي أجراهما. قال الأخفش: ويقول قوم أمرج البحرين مثل مرج، فعل وأفعل بمعنى (هذا عذب
فرات) الفرات البليغ العذوبة، وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل كيف مرجهما؟ فقيل هذا
عذب وهذا ملح، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال. قيل سمي الماء الحلو فراتا لأنه يفرت العطش: أي
يقطعه ويكسره (وهذا ملح أجاج) أي بليغ الملوحة هذا معنى الأجاج، وقيل الأجاج البليغ في الحرارة وقيل
البليغ في المرارة، وقرأ طلحة " ملح " بفتح الميم وكسر اللام (وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) البرزخ الحاجز
والحائل الذي جعله الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمارج، ومعنى (حجرا محجورا) ستر مستورا
81

يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر، فالبرزخ الحاجز، والحجز المانع. وقيل معنى (حجرا محجورا) هو ما تقدم
من أنها كلمة يقولها المتعوذ كأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه، ويقول له هذا القول، وقيل حدا
محدودا. وقيل المراد من البحر العذب الأنهار العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج البحار
المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض. وقيل معنى (حجرا محجورا) حراما محرما أن يعذب هذا المالح
بالعذب، أو يملح هذا العذب بالمالح، ومثل هذه الآية قوله سبحانه في سورة الرحمن - مرج البحرين يلتقيان
بينهما برزخ لا يبغيان - ثم ذكر سبحانه حالة من أحوال خلق الإنسان والماء فقال (وهو الذي خلق من الماء بشرا
فجعله نسبا وصهرا) والمراد بالماء هنا ماء النطفة: أي خلق من ماء النطفة إنسانا فجعله نسبا وصهرا، وقيل المراد
بالماء الماء المطلق الذي يراد في قوله (وجعلنا من الماء كل شئ حي) والمراد بالنسب هو الذي لا يحل نكاحه.
قال الفراء والزجاج: واشتقاق الصهر من صهرت الشئ: إذا خلطته، وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها.
وقيل الصهر قرابة النكاح، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج هم الأحماء، والأصهار تعمهما، قاله الأصمعي.
قال الواحدي. قال المفسرون: النسب سبعة أصناف من القرابة يجمعها قوله - حرمت عليكم أمهاتكم - إلى قوله
- وأمهات نسائكم - ومن هنا إلى قوله - وأن تجمعوا بين الأختين - تحريم بالصهر، وهو الخلطة التي تشبه القرابة،
حرم الله سبعة أصناف من النسب وسبعة من جهة الصهر، قد اشتملت الآية المذكورة على ستة منها، والسابعة
قوله - ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء - وقد جعل ابن عطية والزجاج وغيرهما الرضاع من جملة النسب،
ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " (وكان ربك قديرا) أي بليغ القدرة
عظيمها، ومن جملة قدرته الباهرة خلق الإنسان وتقسيمه إلى القسمين المذكورين.
وقد أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ألم تر إلى ربك كيف مد
الظل) قال: بعد الفجر قبل أن تطلع الشمس. وأخرج ابن أبي حاتم عنه بلفظ: ألم تر أنك إذا صليت الفجر
كان بين مطلع الشمس إلى مغربها ظلا، ثم بعث الله عليه الشمس دليلا فقبض الظل. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: مد الظل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس (ولو شاء لجعله
ساكنا) قال: دائما (ثم جعلنا الشمس عليه دليلا) يقول: طلوع الشمس (ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا) قال:
سريعا. وأخرج أهل السنن وأحمد وغيرهم من حديث أبي سعيد قال: " قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟
وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن، فقال: إن الماء طهور لا ينجسه شئ ". وفى إسناد هذا
الحديث كلام طويل قد استوفيناه في شرحنا على المنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: ما من عام بأقل مطر من عام، ولكن الله يصرفه
حيث يشاء، ثم قرأ هذه الآية (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس
في قوله (وجاهدهم به) قال: بالقرآن. وأخرج ابن جرير عنه (هو الذي مرج البحرين) يعني خلط أحدهما على
الآخر فليس يفسد العذب المالح وليس يفسد المالح العذب. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وحجرا
محجورا) يقول: حجر أحدهما عن الآخر بأمره وقضائه. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن المغيرة قال: سئل
عمر بن الخطاب عن " نسبا وصهرا " فقال: ما أراكم إلا وقد عرفتم النسب، وأما الصهر: فالأختان والصحابة.
82

لما ذكر سبحانه دلائل التوحيد عاد إلى ذكر قبائح الكفار وفضائح سيرتهم فقال (ويعبدون من دون الله مالا
ينفعهم) إن عبدوه (ولا يضرهم) إن تركوه (وكان الكافر على ربه ظهيرا) الظهير المظاهر: أي المعاون على ربه
بالشرك والعداوة، والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه. قال الزجاج: لأنه يتابع الشيطان
ويعاونه على معصية الله، لأن عبادتهم للأصنام معاونة للشيطان. وقال أبو عبيدة: المعنى وكان الكافر على ربه
هينا ذليلا، من قول العرب ظهرت به: أي جعلته خلف ظهرك لم تلتفت إليه، ومنه قوله - واتخذتموه وراءكم
ظهريا - أي هينا، ومنه أيضا قول الفرزدق:
تميم بن بدر لا تكونن حاجتي * بظهر فلا يعيا علي جوابها
وقيل إن المعنى: وكان الكافر على ربه الذي يعبده وهو الصنم قويا غالبا يعمل به ما يشاء، لأن الجماد لا قدرة
له على دفع ونفع، ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله - والملائكة بعد ذلك ظهير - والمعنى: أن بعض الكفرة
مظاهر لبعض على رسول الله أو على دين، والمراد بالكافر هنا الجنس، ولا ينافيه كون سبب النزول هو كافر
معين كما قيل إنه أبو جهل (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا) أي مبشرا للمؤمنين بالجنة ومنذرا للكافرين بالنار
(قل ما أسألكم عليه من أجر) أي قل لهم يا محمد: ما أسألكم على القرآن من أجر، أو على تبليغ الرسالة المدلول
عليه بالإرسال، والاستثناء في قوله (إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا) منقطع: أي لكن من شاء أن يتخذ إلى
ربه سبيلا فليفعل، وقيل هو متصل. والمعنى: إلا من شاء أن يتقرب إليه سبحانه بالطاعة وصور ذلك بصورة
الأجر من حيث أنه مقصود الحصول. ولما بين سبحانه أن الكفار متظاهرون على رسول الله، وأمره أن لا يطلب
منهم أجرا البتة، أمره أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع فقال (وتوكل على الحي الذي لا يموت) وخص
صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه دون الأحياء
83

المنقطعة حياتهم فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم، والتوكل اعتماد العبد على الله في كل الأمور (وسبح
بحمده) أي نزهه عن صفات النقصان، وقيل معنى سبح صل، والصلاة تسمى تسبيحا (وكفى به بذنوب عباده
خبيرا) أي حسبك، وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك: كفى بالله ربا، والخبير المطلع على الأمور بحيث لا يخفى
عليه منها شئ، ثم زاد في المبالغة، فقال (الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على
العرش) قد تقدم تفسير هذا في الأعراف، والموصول في محل جر على أنه صفة للحي، وقال بينهما ولم يقل
بينهن لأنه أراد النوعين، كما قال القطامي:
ألم يحزنك أن جبال قيس * وتغلب قد تباتتا انقطاعا
فإن قيل يلزم أن يكون خلق العرش بعد خلق السماوات والأرض كما تفيده ثم، فيقال إن كلمة ثم لم تدخل على
خلق العرش بل على رفعه على السماوات والأرض، والرحمن مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهو صفة أخرى
للحي، وقد قرأه الجمهور بالرفع، وقيل يجوز أن يكون بدلا من الضمير في استوى، أو يكون مبتدأ وخبره
الجملة: أي فاسأل على رأي الأخفش، كما في قول الشاعر: * وقائلة خولان فانكح فتاتهم * وقرأ زيد
ابن علي " الرحمن " بالجر على أنه نعت للحي أو للموصول (فاسأل به خبيرا) الضمير في به يعود إلى ما ذكر من خلق
السماوات والأرض والاستواء على العرش. والمعنى: فاسأل بتفاصيل ما ذكر إجمالا من هذه الأمور. وقال الزجاج
والأخفش: الباء بمعنى عن: أي فاسأل عنه، كقوله - سأل سائل بعذاب واقع -، وقول امرئ القيس:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك * إن كنت جاهلة بما لم تعلم
وقال امرؤ القيس:
فإن تسألوني بالنساء فإنني * خبير بأدواء النساء طبيب
والمراد بالخبير الله سبحانه لأنه لا يعلم تفاصيل تلك المخلوقات إلا هو، ومن هذا قول العرب: لو لقيت فلانا
للقيك به الأسد: أي للقيك بلقائك إياه الأسد، فخبيرا منتصب على المفعولية، أو على الحال المؤكدة،
واستضعف الحالية أبو البقاء فقال: يضعف أن يكون خبيرا حالا من فاعل اسأل، لأن الخبير لا يسأل إلا على
جهة التوكيد كقوله - وهو الحق مصدقا - قال: ويجوز أن يكون حالا من الرحمن إذا رفعته باستوى. وقال ابن
جرير: يجوز أن تكون الباء في به زائدة. والمعنى: فاسأله حال كونه خبيرا. وقيل قوله به يجري مجرى القسم
كقوله - واتقوا الله الذي تساءلون به - والوجه الأول أقرب هذه الوجوه، ثم أخبر سبحانه عنهم بأنهم جهلوا
معنى الرحمن فقال (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) قال المفسرون: إنهم قالوا ما نعرف الرحمن إلا رحمن
اليمامة، يعنون مسيلمة. قال الزجاج: الرحمن اسم من أسماء الله، فلما سمعوه أنكروا فقالوا وما الرحمن (أنسجد لما
تأمرنا) والاستفهام للإنكار: أي لا نسجد للرحمن الذي تأمرنا بالسجود له، ومن قرأ بالتحتية فالمعنى: أنسجد لما
يأمرنا محمد بالسجود له. وقد قرأ المدنيون والبصريون (لما تأمرنا) بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم
وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي بالتحتية. قال أبو عبيد: يعنون الرحمن. قال النحاس: وليس يجب أن يتأول على
الكوفيين في قراءتهم هذا التأويل البعيد، ولكن الأولى أن يكون التأويل لهم اسجدوا لما يأمرنا النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فتصح القراءة على هذا، وإن كانت الأولى أبين (وزادهم نفورا) أي زادهم الأمر بالسجود نفورا عن
الدين وبعد عنه، وقيل زادهم ذكر الرحمن تباعدا من الإيمان، كذا قال مقاتل، والأول أولى. ثم ذكر سبحانه
ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) المراد بالبروج بروج
84

النجوم: أي منازلها الاثنا عشر، وقيل هي النجوم الكبار، والأول أولى. وسميت بروجا، وهي القصور العالية
لأنها للكواكب كالمنازل الرفيعة لمن يسكنها، واشتقاق البرج من التبرج، وهو الظهور (وجعل فيها سراجا) أي
شمسا، ومثله قوله تعالى - وجعل الشمس سراجا - قرأ الجمهور " سراجا " بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي " سرجا "
بالجمع: أي النجوم العظام الوقادة، ورجح القراءة الأولى أبو عبيد. قال الزجاج: في تأويل قراءة حمزة والكسائي
أراد الشمس والكواكب (وقمرا منيرا) أي ينير الأرض إذا طلع، وقرأ الأعمش " قمرا " بضم القاف وإسكان
الميم، وهي قراءة ضعيفه شاذة (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) قال أبو عبيدة: الخلفة كل شئ بعد شئ:
الليل خلفه للنهار، والنهار خلفه لليل، لأن أحدهما يخلف الاخر ويأتي بعده، ومنه خلفه النبات، وهو ورق
يخرج بعد الورق الأول في الصيف، ومنه قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
قال الفراء في تفسير الآية: يقول يذهب هذا ويجيء هذا، وقال مجاهد: خلفة من الخلاف، هذا أبيض
وهذا أسود. وقيل يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان. وقيل هو من باب حذف المضاف: أي جعل
الليل والنهار ذوي خلفة: أي اختلاف (لمن أراد أن يذكر) قرأ حمزة مخففا، وقرأ الجمهور بالتشديد، فالقراءة
الأولى من الذكر لله، والقراءة الثانية من التذكر له. وقرأ أبي بن كعب " يتذكر " ومعنى الآية: أن المتذكر المعتبر
إذا نظر في اختلاف الليل والنهار علم أنه لابد في انتقالهما من حال إلى حال من ناقل (أو أراد شكورا) أي أراد
أن يشكر الله على ما أودعه في الليل والنهار من النعم العظيمة والألطاف الكثيرة. قال الفراء: ويذكر ويتذكر يأتيان
بمعنى واحد. قال الله تعالى - واذكروا ما فيه - وفي حرف عبد الله ويذكروا ما فيه (وعباد الرحمن الذين يمشون
على الأرض هونا) هذا كلام مستأنف مسوق لبيان صالحي عباد الله سبحانه، وعباد الرحمن مبتدأ وخبره الموصول
مع صلته، والهون مصدر، وهو السكينة والوقار. وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن الهون متعلق بيمشون:
أي يمشون على الأرض مشيا هونا. قال ابن عطية: ويشبه أن يتأول هذا على أن تكون أخلاق ذلك الماشي هونا
مناسبة لمشيه، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأنه رب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس، وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشى في صيب (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا
سلاما) ذكر سبحانه أنهم يتحملون ما يرد عليهم من أذى أهل الجهل والسفه فلا يجهلون مع من يجهل ولا يسافهون
أهل السفه. قال النحاس: ليس هذا السلام من التسليم إنما هو من التسلم تقول العرب سلاما: أي تسلما منك:
أي براءة منك، منصوب على أحد أمرين: إما على أنه مصدر لفعل محذوف: أي قالوا سلمنا سلاما، وهذا على قول
سيبويه، أو على أنه مفعول به: أي قالوا هذا اللفظ، ورجحه ابن عطية. وقال مجاهد: معنى سلاما سدادا:
أي يقول للجاهل كلاما يدفعه به برفق ولين. قال سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين لكنه
على قوله تسليما منكم ولا خير ولا شر بيننا وبينكم. قال المبرد: كان ينبغي أن يقال لم يؤمر المسلمون يومئذ بحربهم،
ثم أمروا بحربهم. وقال محمد بن يزيد: أخطأ سيبويه في هذا وأساء العبارة. قال النحاس: ولا نعلم لسيبويه كلاما
في معنى الناسخ والمنسوخ إلا في هذه الآية، لأنه قال في آخر كلامه فنسختها آية السيف. وأقول: هكذا يكون
كلام الرجل إذا تكلم في غير علمه ومشى في غير طريقته، ولم يؤمر المسلمون بالسلام على المشركين ولا نهوا
عنه، بل أمروا بالصفح والهجر الجميل، فلا حاجة إلى دعوى النسخ. قال النضر بن شميل: حدثني الخليل قال:
أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح، فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا:
85

استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول
الله - ثم استوى إلى السماء - قال: فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير؟ فقلنا الساعة فارقناه،
فقال: سلاما، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر. قال الخليل: هو من قول
الله (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت
أو لم تنم. قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال: بات فلان قلقا، والمعنى: يبيتون
لربهم سجدا على وجوههم، وقياما على أقدامهم، ومنه قول امرئ القيس:
فبتنا قياما عند رأس جوادنا * يزاولنا عن نفسه ونزاوله
(والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) أي هم مع طاعتهم مشفقون وجلون
خائفون من عذابه، والغرام اللازم الدائم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا: أي ملازم له
مولع به، هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما * وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي
وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال أبو عبيدة: هو الهلاك. وقال ابن زيد: الشر، وجملة (إنها
ساءت مستقرا ومقاما) تعليل لما قبلها، والمخصوص محذوف: أي هي، وانتصاب مستقرا على الحال أو التمييز،
وكذا مقاما، قيل هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما، وقيل بل هما مختلفان معنى:
فالمستقر للعصاة فإنهم يخرجون، والمقام للكفار فإنهم يخلدون، وساءت من أفعال الذم كبئست، ويجوز أن
يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم. ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق
فقال (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب " يقتروا "
بفتح التحتية وضم الفوقية، من قتر يقتر كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية،
وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال
أبو عبيدة: يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قترا، وأقتر يقتر إقتارا، ومعنى الجميع: التضييق في الإنفاق.
قال النحاس: ومن أحسن ما قبل في معنى الآية: أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن
طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى،
ولا ينفق نفقة، يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاما
للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة
الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا
كقوله - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط - قرأ حسان بن عبد الرحمن (وكان بين ذلك قواما)
بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل هما بمعنى، وقيل القوام بالكسر: ما يدوم عليه الشئ ويستقر،
وبالفتح: العدل والاستقامة، قاله ثعلب. وقيل بالفتح: العدل بين الشيئين، وبالكسر: ما يقام به الشئ
لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل بالكسر: السداد والمبلغ، واسم كان مقدر فيها: أي كان إنفاقهم بين ذلك قواما
وخبرها قواما، قال الفراء. وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان بين ذلك، وتبنى بين على الفتح لأنها
من الظروف المفتوحة. وقال النحاس: ما أدرى ما وجه هذا، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت.
86

وقد أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وكان الكافر على ربه ظهيرا) يعنى أبا الحكم
الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل بن هشام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (قل ما أسألكم
عليه من أجر) قال: قل لهم يا محمد: لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من أجر، يقول عرض من عرض الدنيا.
وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عنه أيضا في قوله (تبارك الذي جعل في السماء بروجا) قال: هي هذه الاثنا عشر
برجا: أولها: الحمل، ثم الثور، ثم الجوزاء، ثم السرطان، ثم الأسد، ثم السنبلة، ثم الميزان، ثم العقرب،
ثم القوس، ثم الجدي، ثم الدلو، ثم الحوت. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (وهو الذي جعل الليل والنهار
خلفة) قال: أبيض وأسود. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا يقول: من فاته شئ من
الليل أن يعمله أدركه بالنهار: ومن النهار أدركه بالليل. وأخرج الطيالسي وابن أبي حاتم عن الحسن أن عمر أطال
صلاة الضحى، فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، فقال: إنه بقي علي من وردي شئ فأحببت أن أتمه،
أو قال أقضيه، وتلا هذه الآية (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وعباد الرحمن) قال: هم المؤمنون (الذين يمشون على الأرض
هونا) قال: بالطاعة والعفاف والتواضع. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال (هونا) علما وحلما. وأخرج عبد بن
حميد عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (إن عذابها كان غراما) قال: الدائم. وأخرج
عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا)
قال: هم المؤمنون لا يسرفون فينفقوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعوا حقوق الله.
قوله (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) لما فرغ من ذكر إتيانهم بالطاعات شرع في بيان اجتنابهم للمعاصي
فقال: والذين لا يدعون مع الله سبحانه ربا من الأرباب. والمعنى: لا يشركون به شيئا، بل يوحدونه ويخلصون
87

له العبادة والدعوة (ولا يقتلون النفس التي حرم الله) أي حرم قتلها (إلا بالحق) أي بما يحق أن تقتل به النفوس
من كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس (ولا يزنون) أي يستحلون الفروج المحرمة بغير
نكاح، ولا ملك يمين (ومن يفعل ذلك) أي شيئا مما ذكر (يلق) في الآخرة (أثاما) والأثام في كلام العرب
العقاب. قال الفراء: آثمه الله يؤثمه أثاما وآثاما: أي جازاه جزاء الإثم. وقال عكرمة ومجاهد: إن أثاما واد
في جهنم جعله الله عقابا للكفرة. وقال السدي: جبل فيها. وقرئ " يلق " بضم الياء وتشديد القاف. قال أبو مسلم:
والأثام والإثم واحد، والمراد هنا جزاء الآثام فأطلق اسم الشئ على جزائه. وقرأ الحسن يلق أياما جمع يوم: يعنى
شدائد، والعرب تعبر عن ذلك بالأيام، وما أظن هذه القراءة تصح عنه (يضاعف له العذاب) قرأ نافع
وابن عامر وحمزة والكسائي " يضاعف، ويخلد " بالجزم، وقرأ ابن كثير " يضعف " بتشديد العين وطرح الألف
والجزم، وقرأ طلحة بن سليمان " نضعف " بضم النون وكسر العين المشددة والجزم، وهي قراءة أبي جعفر وشيبة.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر بالرفع في الفعلين على الاستئناف. وقرأ طلحة بن سليمان " وتخلد " بالفوقية خطابا
للكافر. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ " ويخلد " بضم الياء التحتية وفتح اللام. قال أبو علي الفارسي: وهي غلط
من جهة الرواية، ووجه الجزم في يضاعف أنه بدل من يلق لاتحادهما في المعنى، ومثله قول الشاعر:
إن علي الله أن تبايعا * تؤخذ كرها أو تجيء طائعا
والضير في قوله (ويخلد فيه) راجع إلى العذاب المضاعف: أي يخلد في العذاب المضاعف (مهانا) ذليلا
حقيرا (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا) قيل هو استثناء متصل، وقيل منقطع. قال أبو حيان: لا يظهر
الاتصال لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير: إلا من تاب وأمن وعمل عملا
صالحا فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف. قال: والأولى عندي
أن تكون منقطعا: أي لكن من تاب. قال القرطبي: لا خلاف بين العلماء أن الاستثناء عام في الكافر والزاني.
واختلفوا في القاتل من المسلمين. وقد تقدم بيانه في النساء والمائدة، والإشارة بقوله (فأولئك يبدل الله سيئاتهم
حسنات) إلى المذكورين سابقا، ومعنى تبديل السيئات حسنات أنه يمحو عنهم المعاصي ويثبت لهم مكانها طاعات.
قال النحاس: من أحسن ما قيل في ذلك أنه يكتب موضع كافر مؤمن، وموضع عاص مطيع. قال الحسن:
قوم يقولون التبديل في الآخرة، وليس كذلك إنما التبديل في الدنيا يبدل الله لهم إيمانا مكان الشرك، وإخلاصا من
الشك، وإحصانا من الفجور. قال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة، ولكن يجعل مكان السيئة التوبة
والحسنة مع التوبة. وقيل إن السيئات تبدل بحسنات، وبه قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم: وقيل التبديل
عبارة عن الغفران: أي يغفر الله لهم تلك السيئات، لا أن يبدلها حسنات. وقيل المراد بالتبديل: أن يوفقه لأضداد
ما سلف منه (وكان الله غفورا رحيما) هذه الجملة مقررة لما قبلها من التبديل (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب
إلى الله متابا) أي من تاب عما اقترف وعمل صالحا بعد ذلك، فإنه يتوب بذلك إلى الله متابا: أي يرجع إليه
رجوعا صحيحا قويا. قال القفال: يحتمل أن تكون الآية الأولى فيمن تاب من المشركين، ولهذا قال (إلا من تاب
وآمن) ثم عطف عليه من تاب من المسلمين وأتبع توبته عملا صالحا، فله حكم التائبين أيضا. وقيل أي من تاب
بلسانه ولم يحقق التوبة بفعله، فليست تلك التوبة نافعة، بل من تاب وعمل صالحا فحقق توبته بالأعمال الصالحة،
فهو الذي تاب إلى الله متابا: أي تاب حق التوبة، وهي النصوح، ولذلك أكد بالمصدر، ومعنى الآية: من
أراد التوبة وعزم عليها فليتب إلى الله، فالخبر في معنى الأمر كذا قيل لئلا يتحد الشرط والجزاء، فإنه لا يقال من
88

تاب فإنه يتوب، ثم وصف سبحانه هؤلاء التائبين العاملين للصالحات فقال (والذين يشهدون الزور) أي
لا يشهدون الشهادة الكاذبة، أو لا يحضرون الزور والزور، هو الكذب والباطل ولا يشاهدونه وإلى الثاني ذهب
جمهور المفسرين. قال الزجاج: الزور في اللغة الكذب ولاكذب فوق الشرك بالله. قال الواحدي: أكثر
المفسرين على أن الزور هاهنا بمعنى الشرك. والحاصل أن يشهدون إن كان من الشهادة ففي الكلام مضاف
محذوف: أي لا يشهدون شهادة الزور وإن كان من الشهود والحضور كما ذهب إليه الجمهور فقد اختلفوا
في معناه، فقال قتادة: لا يساعدون أهل الباطل على باطلهم، وقال محمد بن الحنفية: لا يحضرون اللهو والغناء
وقال ابن جريج: الكذب. وروي عن مجاهد أيضا والأولى عدم التخصيص بنوع من أنواع الزور، بل المراد
الذين لا يحضرون ما يصدق عليه اسم الزور كائنا ما كان (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي معرضين عنه غير
ملتفتين إليه، واللغو كل ساقط من قول أو فعل. قال الحسن: اللغو المعاصي كلها، وقيل المراد مروا بذوي
اللغو، يقال: فلان يكرم عما يشينه: أي يتنزه ويكرم نفسه عن الدخول في اللغو والاختلاط بأهله (والذين إذا
ذكروا بآيات ربهم) أي بالقرآن، أو بما فيه موعظة وعبرة (لم يخروا عليها صما وعميانا) أي لم يقعوا عليها حال
كونهم صما وعميانا، ولكنهم أكبوا عليها سامعين مبصرين وانتفعوا بها. قال ابن قتيبة: المعنى لم يتغافلوا عنها،
كأنهم صم لم يسمعوها، وعمى لم يبصروها. قال ابن جرير: ليس ثم خرور، بل كما يقال قعد يبكي، وإن
كان غير قاعد. قال ابن عطية: كأن المستمع للذكر قائم، فإذا أعرض عنه كان ذلك خرورا، وهو السقوط
على غير نظام. قيل المعنى: إذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، فخروا سجدا وبكيا، ولم يخروا عليها صما
وعميانا. قال الفراء: أي لم يقعدوا على حالهم الأول كأن لم يسمعوا. قال في الكشاف: ليس بنفي للخرور، وإنما
هو إثبات ونفي للصمم والعمى، وأراد أن النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد (والذين يقولون ربنا هب لنا من
أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) من ابتدائية، أو بيانية. قرأ نافع وابن كثير وابن عباس والحسن " وذرياتنا " بالجمع
وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى " وذريتنا " بالإفراد، والذرية تقع على الجمع، كما في قوله - ذرية
ضعافا - وتقع على الفرد كما في قوله: ذرية طيبة، وانتصاب قرة أعين على المفعولية، يقال قرت عينه قرة. قال
الزجاج: يقال أقر الله عينك: أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال: أحدها
برد دمعها، لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم. والثاني نومها، لأنه يكون مع فراغ
الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضا (واجعلنا للمتقين إماما) أي قدوة يقتدى بنا في الخير، وإنما قال:
إماما، ولم يقل أئمة، لأنه يريد به الجنس: كقوله - ثم نخرجكم طفلا - قال الفراء: قال إماما، ولم يقل أئمة، كما
قال للاثنين - أنا رسول رب العالمين - يعني أنه من الواحد الذي أريد به الجمع. وقال الأخفش: الإمام جمع أم
من أم يأم، جمع على فعال، نحو صاحب وصحاب، وقائم وقيام. وقيل إن إماما مصدر، يقال أم فلان فلانا
إماما، مثل الصيام والقيام. وقيل أرادوا: اجعل كل واحد منا إماما، وقيل أرادوا: اجعلنا إماما واحدا لاتحاد
كلمتنا، وقيل إنه من الكلام المقلوب، وأن المعنى: واجعل المتقين لنا إماما، وبه قال مجاهد. وقيل إن هذا
الدعاء صادر عنهم بطريق الانفراد، وأن عبارة كل واحد منهم عند الدعاء: واجعلني للمتقين إماما، ولكنها
حكيت عبارات الكل بصيغة المتكلم مع الغير لقصد الإيجاز كقوله - يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا -
وفي هذا إبقاء إماما على حاله، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي * إن العواذل ليس لي بأمين
89

أي أمناء. قال القفال: وعندي أن الإمام إذا ذهب به مذهب الاسم وحد كأنه قيل: اجعلنا حجة للمتقين،
ومثله البينة: يقال هؤلاء بينة فلان. قال النيسابوري: قيل في الآية دلالة على أن الرياسة الدينية مما يجب أن تطلب
ويرغب فيها، والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم، والإشارة بقوله
(أولئك يجزون الغرفة بما صبروا) إلى المتصفين بتلك الصفات، وهو مبتدأ وخبره ما بعده، والجمل مستأنفة.
وقيل إن " أولئك " وما بعده خبر لقوله - وعباد الرحمن - كذا قال الزجاج، والغرفة: الدرجة الرفيعة، وهي أعلى
منازل الجنة وأفضلها، وهي في الأصل لكل بناء مرتفع، والجمع غرف. وقال الضحاك: الغرفة الجنة، والباء
في " بما صبروا " سببية، وما مصدرية: أي يجزون الغرفة بسبب صبرهم على مشاق التكليف (ويلقون فيها تحية
وسلاما) قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف " يلقون " بفتح الياء وسكون اللام
وتخفيف القاف، واختار هذه القراءة الفراء، قال: لأن العرب تقول: فلان يلقي بالسلام والتحية والخير، وقل
ما يقولون يلقى. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم لقوله
- ولقاهم نضرة وسرورا - والمعنى: أنه يحي بعضهم بعضا ويرسل إليهم الرب سبحانه بالسلام، قيل التحية البقاء
الدائم والملك العظيم، وقيل هي بمعنى السلام، وقيل إن الملائكة تحييهم وتسلم عليهم، والظاهر أن هذه التحية
والسلام هي من الله سبحانه لهم، ومن ذلك قوله سبحانه - تحيتهم يوم يلقونه سلام - وقيل معنى التحية: الدعاء لهم
بطول الحياة. ومعنى السلام: الدعاء لهم بالسلامة من الآفات، وانتصاب ((خالدين فيها) على الحال: أي مقيمين
فيها من غير موت (حسنت مستقرا ومقاما) أي حسنت الغرفة مستقرا يستقرون فيه، ومقاما يقيمون به، وهذا
في مقابل ما تقدم من قوله: ساءت مستقرا ومقاما (قل ما يعبأ بكم ربى لولا دعاؤكم) بين سبحانه أنه غني عن
طاعة الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا بالتكليف، يقال ما عبأت بفلان: أي ما باليت به ولا له عندي قدر، وأصل
يعبأ من العبء، وهو الثقل. قال الخليل: ما أعبأ بفلان: أي " ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره، ويدعى أن
وجوده وعدمه سواء، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: " ما يعبأ بكم ربي " يريد: أي وزن يكون لكم عنده.
والعبء: الثقل، وما استفهامية أو نافية، وصرح الفراء بأنها استفهامية. قال ابن الشجري: وحقيقة القول
عندي أن موضع " ما " نصب والتقدير: أي: عبء يعبأ بكم أي أي مبالاة يبالي بكم (لولا دعاؤكم): أي لولا
دعاؤكم إياه لتعبدوه، وعلى هذا فالمصدر الذي هو الدعاء مضاف إلى مفعوله، وهو اختيار الفراء، وفاعله
محذوف، وجواب لولا محذوف: تقديره لولا دعاؤكم لم يعبأ بكم، ويؤيد هذا قوله وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون - والخطاب لجميع الناس، ثم خص الكفار منهم فقال (فقد كذبتم) وقرأ ابن الزبير " فقد كذب
الكافرون " وفي هذه القراءة دليل بين على أن الخطاب لجميع الناس. وقيل إن المصدر مضاف إلى الفاعل: أي
لولا استغاثتكم إليه في الشدائد. وقيل المعنى: ما يعبأ بكم: أي بمغفرة ذنوبكم لولا دعاؤكم الآلهة معه. وحكى
ابن جني أن ابن عباس قرأ كقراءة ابن الزبير. وحكى الزهراوي والنحاس أن ابن مسعود قرأ كقراءتهما، وممن قال
بأن الدعاء مضاف إلى الفاعل القتيبي والفارسي قالا: والأصل لولا دعاؤكم آلهة من دونه، وجواب لولا
محذوف تقديره على هذا الوجه: لولا دعاؤكم لم يعذبكم، ويكون معنى " فقد كذبتم " على الوجه الأول فقد
كذبتم بما دعيتم إليه، وعلى الوجه الثاني: فقد كذبتم بالتوحيد. ثم قال سبحانه (فسوف يكون لزاما) أي فسوف
يكون جزاء التكذيب لازما لكم، وجمهور المفسرين على أن المراد بالزام هنا: ما لزم المشركين يوم بدر، وقالت
طائفة: هو عذاب الآخرة. قال أبو عبيدة: لزاما فيصلا: أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين. قال
90

الزجاج: فسوف يكون تكذيبكم لزاما يلزمكم فلا تعطون التوبة، وجمهور القراء على كسر اللام من لزاما، وأنشد
أبو عبيدة لصخر:
فاما ينجوا من خسف أرض * فقد لقيا حتوفهما لزاما
قال ابن جرير لزاما: عذابا دائما وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض، كقول أبي ذؤيب:
ففاجأه بعادية لزام * كما يتفجر الحوض اللفيف
يعنى باللزام الذي يتبع بعضه بعضا، وباللفيف المتساقط من الحجارة المنهدمة. وحكى أبو حاتم عن أبي زيد
قال: سمعت أبا السماك يقرأ " لزاما " بفتح اللام. قال أبو جعفر يكون مصدر لزم، والكسر أولى.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي
الذنب أكبر؟ قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك،
قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك، فأنزل الله تصديق ذلك (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا
يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون) ". وأخرجا وغيرهما أيضا عن ابن عباس أن ناسا من أهل الشرك
قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه
لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت (والذين لا يدعون) الآية، ونزلت - قل يا عبادي الذين أسرفوا على
أنفسهم - الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو في قوله (يلق أثاما) قال:
واد في جهنم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) الآية اشتد
ذلك على المسلمين، فقالوا: ما منا أحد إلا أشرك وقتل وزنى، فأنزل الله - يا عبادي الذين أسرفوا علي أنفسهم -
الآية، يقول لهؤلاء الذين أصابوا هذا في الشرك، ثم نزلت هذه الآية (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنات) فأبدلهم الله بالكفر الإسلام، وبالمعصية الطاعة، وبالإنكار المعرفة، وبالجهالة العلم.
وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
سنين (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق
أثاما) ثم نزلت (إلا من تاب وآمن) فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرح بشئ قط فرحه بها،
وفرحه - إنا فتحنا لك فتحا مبينا - وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (فأولئك يبدل الله
سيئاتهم حسنات) قال: هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات، فرغب الله بهم عن ذلك فحولهم إلى
الحسنات، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات. وأخرج أحمد وهناد والترمذي وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات
عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار
ذنوبه، فيعرض عليه صغارها وينحى عنه كبارها، فيقال: عملت يوم كذا كذا، وهو يقر، ليس ينكر، وهو
مشفق من الكبائر أن تجيء فيقال: أعطوه بكل سيئة عملها حسنة " والأحاديث في تكفير السيئات وتبديلها
بالحسنات كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (والذين لا يشهدون الزور) قال: إن الزور كان
صنما بالمدينة يلعبون حوله كل سبعة أيام، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مروا به مروا
كراما لا ينظرون إليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (والذين يقولون ربنا هب لنا
من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) قال: يعنون من يعمل بالطاعة فتقر به أعيننا في الدنيا والآخرة (واجعلنا للمتقين
إماما) قال: أئمة هدى يهتدى بنا ولا تجعلنا أئمة ضلالة، لأنه قال لأهل السعادة - وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا -
91

ولأهل الشقاوة - وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار -. وأخرج الحكيم الترمذي عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله (أولئك يجزون الغرفة) قال: الغرفة من ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، أو درة
بيضاء. ليس فيها فصم ولا وصم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (قل
ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم) يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين. ولو كانت
له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين (فسوف يكون لزاما) قال: موتا. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري عنه أنه كان يقرأ - فقد كذب الكافرون، فسوف يكون لزاما - وأخرج عبد
ابن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن الزبير أنه قرأها كذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه
(فسوف يكون لزاما) قال: القتلى يوم بدر، وفى الصحيحين عنه قال: خمس قد مضين: الدخان والقمر واللزوم
والبطشة واللزام.
تفسير سورة الشعراء
وآياتها مائتان، وسبع وعشرون آية
وهي مكية عند الجمهور، وكذا أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير. وأخرج النحاس عن ابن
عباس قال: سورة الشعراء أنزلت بمكة سوى خمس آيات من آخرها نزلت بالمدينة، وهي " والشعراء يتبعهم
الغاوون " إلى آخرها. وأخرج القرطبي في تفسيره عن البراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله أعطاني
السبع الطوال مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني الطواسين مكان الزبور، وفضلني بالحواميم
والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ". وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " أعطيت
السورة التي تذكر فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت فواتح القرآن وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش،
وأعطيت المفصل نافلة ". قال ابن كثير في تفسيره: ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها بسورة الجمعة.
92

قوله (طسم) قرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وأبو بكر والمفضل وحمزة والكسائي وخلف بإمالة الطاء، وقرأ نافع
وأبو جعفر وشيبة والزهري بين اللفظين، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ الباقون بالفتح مشبعا.
وقرأ المدنيون وأبو عمرو وعاصم والكسائي بإدغام النون من " طسن " في الميم، وقرأ الأعمش وحمزة بإظهارها. قال
الثعلبي: الإدغام اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. قال النحاس: وحكى الزجاج في كتابه فيما يجرى وما لا يجرى أنه
يجوز أن يقال " طاسين ميم " بفتح النون وضم الميم كما يقال: هذا معدي كرب. وقرأ عيسى ويروى عن نافع
بكسر الميم على البناء. وفى مصحف عبد الله بن مسعود " ط س م " هكذا حروفا مقطعة فيوقف على كل حرف
وقفة يتميز بها عن غيره، وكذلك قرأ أبو جعفر ومحله الرفع على الابتداء إن كان اسما للسورة كما ذهب إليه الأكثر
أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون في محل نصب بتقدير: أذكر أو أقر. وأما إذا كان مسرودا على
نمط التعديد كما تقدم في غير موضع من هذا التفسير فلا محل له من الإعراب. وقد قيل إنه اسم من أسماء الله
سبحانه، وقيل اسم من أسماء القرآن، والإشارة بقوله (تلك آيات الكتاب المبين) إلى السورة، ومحلها الرفع على
أنها وما بعدها خبر للمبتدأ إن جعلنا طسم مبتدأ، وإن جعلناه خبر لمبتدأ محذوف فمحلها الرفع على أنه مبتدأ خبره
ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من طسم، والمراد بالكتاب هنا القرآن، والمبين المبين المظهر، أو البين الظاهر إن
كان من أبان بمعنى بان (لعلك باخع نفسك) أي قاتل نفسك ومهلكها (أن لا يكونوا مؤمنين) أي لعدم إيمانهم بما
جئت به، والبخع في الأصل أن يبلغ بالذبح النخاع بالنون قاموس، وهو عرق في القفا، وقد مضى تحقيق هذا
في سورة الكهف، وقرأ قتادة " باخع نفسك " بالإضافة، وقرأ الباقون بالقطع قال: الفراء أن في قوله (أن
لا يكونوا مؤمنين) في موضع نصب لأنها جزاء قال النحاس وإنما يقال إن مكسورة لأنها جزء هكذا التعارف
والقول في هذا ما قاله الزجاج في كتابه في القرآن أنها في موضع نصب مفعول لأجله والمعنى لعلك قاتل نفسك
لتركهم الإيمان وفى هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنه كان حريصا على إيمان قومه شديد
الأسف لما يراه من إعراضهم وجملة (إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية) مستأنفة مسوقة لتعليل ما سبق من التسلية،
والمعنى: إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية تلجئهم إلى الإيمان، ولكن قد سبق القضاء بأنا لا ننزل ذلك، ومعنى
(فظلت أعناقهم لها خاضعين) أنهم صاروا منقادين لها: أي فتظل أعناقهم الخ، قيل وأصله فضلوا لها خاضعين
93

فأقحمت الأعناق لزيادة التقرير والتصوير، لأن الأعناق موضع الخضوع، وقيل أنها لما وضعت الأعناق
بصفات العقلاء أجريت مجراهم ووصفت بما يوصفون به. قال عيسى بن عمر: خاضعين وخاضعة هنا سواء،
واختاره المبرد، والمعنى: أنها إذا ذلت رقابهم ذلوا، فالإخبار عن الرقاب إخبار عن أصحابها، ويسوغ في كلام
العرب أن يترك الخبر عن الأول ويخبر عن الثاني، ومنه قول الراجز:
طول الليالي أسرعت في نقضي * طوين طولى وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي وترك الطول، ومنه قول جرير:
أرى مر السنين أخذن مني * كما أخذ السرار من الهلال
وقال أبو عبيد والكسائي: إن المعنى خاضعيها هم، وضعفه النحاس. وقال مجاهد: أعناقهم كبراؤهم. قال
النحاس: وهذا معروف في اللغة، يقال جاءني عنق من الناس: أي رؤساء منهم. وقال أبو زيد والأخفش:
أعناقهم جماعاتهم، يقال جاءني عنق من الناس: أي جماعة (وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه
معرضين) بين سبحانه أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال، وأن لا يجدد
لهم موعظة وتذكيرا إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وهو الإعراض والتكذيب والاستهزاء، ومن في " من
ذكر " مزيدة لتأكيد العموم، ومن في " من ربهم " لابتداء الغاية، والاستثناء مفرغ من أعم العام محله النصب
على الحالية من مفعول يأتيهم، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة الأنبياء (فقد كذبوا) أي بالذكر الذي
يأتيهم تكذيبا صريحا ولم يكتفوا بمجرد الإعراض. وقيل إن الإعراض بمعنى التكذيب، لأن من أعرض عن شئ
ولم يقبله فقد كذبه، وعلى هذا فيكون ذكر التكذيب للدلالة على صدور ذلك منهم على وجه التصريح، والأول
أولى، فالإعراض عن الشئ عدم الالتفات إليه. ثم انتقلوا عن هذا إلى ما هو أشد منه، وهو التصريح بالتكذيب
ثم انتقلوا عن التكذيب إلى ما هو أشد منه، وهو الاستهزاء كما يدل عليه قوله (فسيأتيهم أنباء ما كانوا به
يستهزئون) والأنباء هي ما يستحقونه من العقوبة آجلا وعاجلا، وسميت أنباء لكونها مما أنبأ عنه القرآن وقال
" ما كانوا به يستهزئون " ولم يقل ما كانوا عنه معرضين، أو ما كانوا به يكذبون، لأن الاستهزاء أشد منهما ومستلزم
لهما، وفي هذا وعيد شديد، وقد مر تفسير مثل هذا في سورة الأنعام. ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته
من الأمور الحسية التي يحصل بها للمتأمل فيها والناظر إليها والمستدل بها أعظم دليل وأوضح برهان، فقال (أو لم
يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم) الهمزة للتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره،
فنبه سبحانه على عظمته وقدرته، وأن هؤلاء المكذبين المستهزئين لو نظروا حق النظر لعلموا أنه سبحانه الذي
يستحق أن يعبد، والمراد بالزوج هنا الصنف. وقال الفراء: هو اللون. وقال الزجاج: معنى زوج نوع، وكريم،
محمود، والمعنى: من كل زوج نافع لا يقدر على إنباته إلا رب العالمين، والكريم في الأصل: الحسن الشريف،
يقال نخلة كريمة: أي كثيرة الثمرة، ورجل كريم: شريف فاضل، وكتاب كريم: إذا كان مرضيا في معانيه،
والنبات الكريم هو المرضى في منافعه. قال الشعبي: الناس مثل نبات الأرض فمن صار منهم إلى الجنة فهو كريم،
ومن صار منهم إلى النار فهو لئيم، والإشارة بقوله (إن في ذلك لآية) إلى المذكور قبله: أي إن فيما ذكر من
الإنبات في الأرض لدلالة بينة، وعلامة واضحة على كمال قدرة الله سبحانه، وبديع صنعته. ثم أخبر سبحانه
بأن أكثر هؤلاء مستمر على ضلالته مصمم على جحوده وتكذيبه واستهزائه فقال (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي
سبق علمي فيهم أنهم سيكونون هكذا. وقال سيبويه: إن " كان " هنا صلة (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي
94

الغالب القاهر لهؤلاء بالانتقام منهم مع كونه كثير الرحمة، ولذلك أمهلهم ولم يعالجهم بالعقوبة، أو المعنى: أنه
منتقم من أعدائه رحيم بأوليائه، وجملة (وإذ نادى ربك موسى) الخ مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من الإعراض
والتكذيب والاستهزاء، والعامل في الظرف محذوف تقديره: واتل إذ نادى أو أذكر، والنداء: الدعاء، و " أن "
في قوله (أن ائت القوم الظالمين) يجوز أن تكون مفسرة، وأن تكون مصدرية، ووصفهم بالظلم لأنهم جمعوا بين
الكفر الذي ظلموا به أنفسهم وبين المعاصي التي ظلموا بها غيرهم كاستعباد بني إسرائيل، وذبح أبنائهم، وانتصاب
(قوم فرعون) على أنه بدل، أو عطف بيان من القوم الظالمين، ومعنى (ألا يتقون) ألا يخافون عقاب الله سبحانه
فيصرفون عن أنفسهم عقوبة الله بطاعته. وقيل المعنى: قل لهم ألا تتقون، وجاء بالياء التحتية لأنهم غيب وقت
الخطاب، وقرأ عبيد بن عمير وأبو حازم " ألا تتقون " بالفوقية: أي قل لهم ذلك، ومثله - قل للذين كفروا ستغلبون -
بالتحتية والفوقية (قال رب إني أخاف أن يكذبون) أي قال موسى هذه المقالة، والمعنى: أخاف أن يكذبوني في
الرسالة (ويضيق صدري ولا ينطلق لساني) معطوفان على أخاف: أي يضيق صدري لتكذيبهم إياي، ولا ينطلق
لساني بتأدية الرسالة، قرأ الجمهور برفع - يضيق - ولا ينطلق بالعطف على أخاف كما ذكرنا، أو على الاستئناف،
وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر وأبو حيوة بنصبهما عطفا على يكذبون. قال الفراء: كلا القراءتين له وجه. قال النحاس
الوجه: الرفع، لأن النصب عطف على يكذبون وهذا بعيد (فأرسل إلى هارون) أي أرسل إليه جبريل بالوحي
ليكون معي رسولا موازرا مظاهرا معاونا، ولم يذكر الموازرة هنا لأنها معلومة من غير هذا الموضع كقوله في طه
- واجعل لي وزيرا -، وفي القصص - أرسله معي ردءا يصدقني - وهذا من موسى عليه السلام من باب طلب
المعاونة له بإرسال أخيه، لا من باب الاستعفاء من الرسالة، ولا من التوقف عن المسارعة بالامتثال (ولهم علي
ذنب فأخاف أن يقتلون) الذنب هو قتله للقبطي، وسماه ذنبا بحسب زعمهم: فخاف موسى أن يقتلوه به، وفيه
دليل على أن الخوف قد يحصل مع الأنبياء فضلا عن الفضلاء، ثم أجابه سبحانه بما يشتمل على نوع من الردع
وطرف من الزجر (قال كلا فاذهبا بآياتنا) وفي ضمن هذا الجواب إجابة موسى إلى ما طلبه من ضم أخيه إليه كما
يدل عليه توجيه الخطاب إليهما كأنه قال: ارتدع يا موسى عن ذلك واذهب أنت ومن استدعيته ولا تخف من
القبط (إنا معكم مستمعون) وفي هذا تعليل للردع عن الخوف، وهو كقوله سبحانه - إنني معكما أسمع وأرى -
وأراد بذلك سبحانه تقوية قلوبهما وأنه متول لحفظهما وكلاءتهما وأجراهما مجرى الجمع، فقال " معكم " لكون
الاثنين أقل الجمع على ما ذهب إليه بعض الأئمة أو لكونه أراد موسى وهارون ومن أرسلا إليه، ويجوز أن يكون
المراد هما مع بني إسرائيل، ومعكم ومستمعون خبران، لأن، أو الخبر مستمعون، ومعكم متعلق به، ولا يخفى
ما في المعية من المجاز: لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة (فأتيا فرعون فقولا إنا
رسول رب العالمين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ووحد الرسول هنا ولم يثنه كما في قوله - إنا رسولا ربك -
لأنه مصدر بمعنى رسالة، والمصدر يوحد، وأما إذا كان بمعنى المرسل فإنه يثنى مع المثنى ويجمع مع الجمع. قال
أبو عبيدة: رسول بمعنى رسالة، والتقدير على هذا: إنا ذوا رسالة رب العالمين ومنه قول الشاعر:
ألا أبلغ أبا عمرو رسولا * فإني عن فتاحتكم غني
أي رسالة. وقال العباس بن مرداس:
ألا من مبلغ عنى خفافا * رسولا بيت أهلك منتهاها
95

أي رسالة. قال أبو عبيدة أيضا، ويجوز أن يكون الرسول بمعنى الاثنين والجمع، تقول العرب: هذا رسولي
ووكيلي، وهذان رسولي ووكيلي، وهؤلاء رسولي ووكيلي، ومنه قوله تعالى - فإنهم عدو لي - وقيل معناه: إن
كل واحد منا رسول رب العالمين، وقيل إنهما لما كانا متعاضدين متساندين في الرسالة كانا بمنزلة رسول واحد،
و " أن " في قوله (أن أرسل معنا بني إسرائيل) مفسرة لتضمن الإرسال المفهوم من الرسول معنى القول (قال ألم
نريك فينا وليدا) أي قال فرعون لموسى بعد أن أتياه وقالا له ما أمرهما الله به، ومعنى " فينا " أي في حجرنا ومنازلنا،
أراد بذلك المن عليه والاحتقار له: أي ربيناك لدينا صغيرا ولم نقتلك فيمن قتلنا من الأطفال (ولبثت فينا من
عمرك سنين) فمتى كان هذا الذي تدعيه؟ قيل لبث فيهم ثماني عشرة سنة، وقيل ثلاثين سنة، وقيل أربعين سنة.
ثم قرر بقتل القبطي فقال (وفعلت فعلتك التي فعلت) الفعلة بفتح الفاء: المرة من الفعل، وقرأ الشعبي " فعلتك "
بكسر الفاء، والفتح أولى لأنها للمرة الواحدة لا للنوع، والمعنى: أنه لما عدد عليه النعم ذكر له ذنوبه، وأراد
بالفعل قتل القبطي، ثم قال (وأنت من الكافرين) أي من الكافرين للنعمة حيث قتلت رجلا من أصحابي، وقيل
المعنى: من الكافرين بأن فرعون إله، وقيل من الكافرين بالله في زعمه لأنه كان معهم على دينهم، والجملة في محل
نصب على الحال (قال فعلتها إذن وأنا من الضالين) أي قال موسى مجيبا لفرعون: فعلت هذه الفعلة التي ذكرت،
وهي قتل القبطي وأنا إذ ذاك من الضالين: أي الجاهلين، فنفى عليه السلام عن نفسه الكفر، وأخبر أنه فعل ذلك
على الجهل قبل أن يأتيه العلم الذي علمه الله. وقيل المعنى: من الجاهلين أن تلك الوكزة تبلغ القتل. وقال أبو عبيدة:
من الناسين (فقررت منكم لما خفتكم) أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة القصص (فوهب لي ربي
حكما) أي نبوة أو علما وفهما. وقال الزجاج: المراد بالحكم تعليمه التوراة التي فيها حكم الله (وجعلني من
المرسلين وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل) قيل هذا الكلام من موسى على جهة الإقرار بالنعمة كأنه قال
نعم تلك التربية نعمة تمن بها علي، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي، وبهذا قال الفراء وابن جرير. وقيل هو من
موسى على جهة الإنكار: أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم وهم قومي؟.
قال الزجاج: المفسرون أخرجوا هذا على جهة الإنكار بأن يكون ما ذكر فرعون نعمة على موسى، واللفظ لفظ
خبر، وفيه تبكيت للمخاطب على معنى: أنك لو كنت لا تقتل أبناء بني إسرائيل لكانت أمي مستغنية عن قذفي
في اليم، فكأنك تمن علي ما كان بلاؤك سببا له، وذكر نحوه الأزهري بأبسط منه. وقال المبرد: يقول التربية
كانت بالسبب الذي ذكرت من التعبيد: أي تربيتك إياي كانت لأجل التملك والقهر لقومي. وقيل إن في الكلام
تقدير الاستفهام: أي أو تلك نعمة؟ قاله الأخفش، وأنكره النحاس. قال الفراء: ومن قال إن الكلام إنكار قال
معناه: أو تلك نعمة؟ ومعنى (أن عبدت بني إسرائيل) أن اتخذتهم عبيدا، يقال عبدته وأعبدته بمعنى. كذا قال
الفراء، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من نعمة، والجر بإضمار الباء، والنصب بحذفها.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (فظلت أعناقهم لها خاضعين) قال: ذليلين. وأخرج عبد الرزاق وعبد
ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة (ولهم علي ذنب) قال قتل النفس. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس في قوله (وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين) قال: للنعمة، إن فرعون لم يكن ليعلم ما الكفر؟،
وفي قوله (فعلتها إذن وأنا من الضالين) قال: من الجاهلين. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (أن عبدت بني إسرائيل) قال: قهرتهم واستعملتهم.
96

لما سمع فرعون قول موسى وهارون (إنا رسول رب العالمين) قال مستفسرا لهما عن ذلك عازما على الاعتراض
لما قالاه فقال (وما رب العالمين) أي أي شئ هو؟ جاء في الاستفهام بما التي يستفهم بها عن المجهول ويطلب بها
تعيين الجنس، فلما قال فرعون ذلك (قال) موسى (رب السماوات والأرض وما بينهما) فعين له ما أراد
بالعالمين. وترك جواب ما سأل عنه فرعون لأنه سأله عن جنس رب العالمين ولا جنس له، فأجابه موسى بما يدل
على عظيم القدرة الإلهية التي تتضح لكل سامع أنه سبحانه الرب ولا رب غيره (إن كنتم موقنين) أي إن كنتم
موقنين بشئ من الأشياء فهذا أولى بالإيقان (قال) فرعون (لمن حوله ألا تستمعون) أي لمن حوله من الأشراف
ألا تستمعون ما قاله، يعنى موسى معجبا لهم من ضعف المقالة كأنه قال: أتسمعون وتعجبون، وهذا من اللعين
97

مغالطة، لما لم يجد جوابا عن الحجة التي أوردها عليه موسى، فلما سمع موسى ما قال فرعون، أورد عليه حجة
أخرى هي مندرجة تحت الحجة الأولى ولكنها أقرب إلى فهم السامعين له ف (قال ربكم ورب آبائكم الأولين)
فأوضح لهم أن فرعون مربوب لا رب كما يدعيه، والمعنى: أن هذا الرب الذي أدعوكم إليه هو الذي خلق آباءكم
الأولين وخلقكم، فكيف تعبدون من هو واحد منكم مخلوق كخلقكم وله آباء قد فنوا كآبائكم، فلم يجبه فرعون
عند ذلك بشئ يعتد به، بل جاء بما يشكك قومه ويخيل إليهم أن هذا الذي قاله موسى مما لا يقوله العقلاء،
ف (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) قاصدا بذلك المغالطة وإيقاعهم في الحيرة، مظهرا إنه مستخف بما
قاله موسى مستهزئ به، فأجابه موسى عند ذلك بما هو تكميل لجوابه الأول، ف (قال رب المشرق والمغرب وما
بينهما) ولم يشتغل موسى بدفع ما نسبه إليه من الجنون، بل بين لفرعون شمول ربوبية الله سبحانه للمشرق والمغرب
وما بينهما وإن كان ذلك داخلا تحت ربوبيته سبحانه للسموات والأرض وما بينهما، لكن فيه تصريح بإسناد
حركات السماوات وما فيها، وتغيير أحوالها وأوضاعها، تارة بالنور وتارة بالظلمة إلى الله سبحانه، وتثنية
الضمير في " وما بينهما " الأول لجنسي السماوات والأرض كما في قول الشاعر:
تنقلت في أشرف التنقل * بين رماحي نهشل ومالك
(إن كنتم تعقلون) أي شيئا من الأشياء، أو إن كنتم من أهل العقل: أي إن كنت يا فرعون ومن معك من العقلاء
عرفت وعرفوا أنه لا جواب لسؤالك إلا ما ذكرت لك. ثم إن اللعين لما انقطع عن الحجة رجع إلى الاستعلاء
والتغلب، ف (قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) أي لأجعلنك من أهل السجن، وكان سجن
فرعون أشد من القتل لأنه إذا سجن أحدا لم يخرجه حتى يموت، فلما سمع موسى عليه السلام ذلك لاطفه طمعا في
إجابته وإرخاء لعنان المناظرة معه، مريدا لقهره بالحجة المعتبرة في باب النبوة وهي إظهار المعجزة، فعرض له على
وجه يلجئه إلى طلب المعجزة ف (قال أو لو جئتك بشئ مبين) أي أتجعلني من المسجونين ولو جئتك بشئ يتبين
به صدقي ويظهر عنده صحة دعواي، والهمزة هنا للاستفهام، والواو للعطف على مقدر كما مر مرارا، فلما سمع
فرعون ذلك طلب ما عرضه عليه موسى ف (قال فأت به إن كنت من الصادقين) في دعواك، وهذا الشرط جوابه
محذوف، لأنه قد تقدم ما يدل عليه فعند ذلك أبرز موسى المعجزة (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) وقد تقدم
تفسير هذا وما بعده في سورة الأعراف، واشتقاق الثعبان من ثعبت الماء في الأرض فانبعث: أي فجرته فانفجر،
وقد عبر سبحانه في موضع آخر مكان الثعبان بالحية بقوله - فإذا هي حية تسعى - وفي موضع بالجان، فقال - كأنها
جان - والجان هو المائل إلى الصغر، والثعبان هو المائل إلى الكبر، والحية جنس يشمل الكبير والصغير، ومعنى
(فماذا تأمرون) ما رأيكم فيه وما مشورتكم في مثله؟ فأظهر لهم الميل إلى ما يقولونه تألفا لهم واستجلابا لمودتهم،
لأنه قد أشرف ما كان فيه من دعوى الربوبية على الزوال، وقارب ما كان يغرر به عليهم الاضمحلال، وإلا
فهو أكبر تيها وأعظم كبرا من أن يخاطبهم مثل هذه المخاطبة المشعرة بأنه فرد من أفرادهم وواحد منهم، مع كونه
قبل هذا الوقت يدعى أنه إلههم ويذعنون له بذلك ويصدقونه في دعواه، ومعنى (أرجه وأخاه) أخر أمرهما،
من أرجأته إذا أخرته، وقيل المعنى احبسهما (وابعث في المدائن حاشرين) وهم الشرط الذين يحشرون الناس:
أي يجمعونهم (يأتونك بكل سحار عليم) هذا ما أشاروا به عليه، والمراد بالسحار العليم: الفائق في معرفة
السحر وصنعته (فجمع السحرة لميقات يوم معلوم) هو يوم الزينة كما في قوله - قال موعدكم يوم الزينة - (وقيل
للناس هل أنتم مجتمعون) حثا لهم على الاجتماع ليشاهدوا ما يكون من موسى والسحرة ولمن تكون الغلبة، وكان
98

ذلك ثقة من فرعون بالظهور وطلبا أن يكون بمجمع من الناس حتى لا يؤمن بموسى أحد منهم، فوقع ذلك من
موسى الموقع الذي يريده، لأنه يعلم أن حجة الله هي الغالبة، وحجة الكافرين هي الداحضة، وفي ظهور حجة
الله بمجمع من الناس زيادة في الاستظهار للمحقين، والانقهار للمبطلين، ومعنى (لعلنا نتبع السحرة) نتبعهم في
دينهم (إن كانوا هم الغالبين) والمراد باتباع السحرة في دينهم هو البقاء على ما كانوا عليه، لأنه دين السحرة إذ ذاك
والمقصود المخالفة لما دعاهم إليه موسى، فعند ذلك طلب السحرة من موسى الجزاء على ما سيفعلونه ف (قال لفرعون
أئن لنا لأجرا) أي لجزاء تجزينا به من مال أو جاه، وقيل أرادوا إن لنا ثوابا عظيما، ثم قيدوا ذلك بظهور غلبتهم
لموسى، فقالوا (إن كنا نحن الغالبين) فوافقهم فرعون على ذلك و (قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين) أي نعم
لكم ذلك عندي مع زيادة عليه، وهي كونكم من المقربين لدي (قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون) وفي آية
أخرى - قالوا يا موسى إما أن تلقي وأما نكون نحن الملقين - فيحتمل ما هنا على أنه قال لهم: ألقوا بعد أن قالوا هذا
القول، ولم يكن ذلك من موسى عليه السلام أمرا لهم بفعل السحر، بل أراد أن يقهرهم بالحجة ويظهر لهم أن الذي
جاء به ليس هو من الجنس الذي أرادوا معارضته به (فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا) عند الألقاء (بعزة فرعون
إنا لنحن الغالبون) يحتمل قولهم بعزة فرعون وجهين: الأول أنه قسم، وجوابه إنا لنحن الغالبون، والثاني متعلق
بمحذوف، والباء للسببية: أي نغلب بسبب عزته، والمراد بالعزة العظمة (فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف
ما يأفكون) قد تقدم تفسير هذا مستوفى. والمعنى: أنها تلقف ما صدر منهم من الإفك بإخراج الشئ عن صورته
الحقيقية (فألقي السحرة ساجدين) أي لما شاهدوا ذلك وعلموا أنه صنع صانع حكيم ليس من صنيع البشر ولا من
تمويه السحرة، آمنوا بالله وسجدوا له وأجابوا دعوة موسى وقبلوا نبوته، وقد تقدم بيان معنى ألقى، ومن فاعله
لوقوع التصريح به، وعند سجودهم (قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون) رب موسى عطف بيان لرب
العالمين، وأضافوه سبحانه إليهما لأنهما القائمان بالدعوة في تلك الحال. وفيه تبكيت لفرعون بأنه ليس برب،
وأن الرب في الحقيقة هو هذا، فلما سمع فرعون ذلك منهم ورأى سجودهم لله ((قال آمنتم له قبل أن آذن لكم) أي
بغير إذن مني، ثم قال مغالطا للسحرة الذين آمنوا، وموهما للناس أن فعل موسى سحر من جنس ذلك السحر (إنه
لكبيركم الذي علمكم السحر) وإنما اعترف له بكونه كبيرهم مع كونه لا يحب الاعتراف بشئ يرتفع به شأن
موسى، لأنه قد علم كل من حضر أن ما جاء به موسى أبهر مما جاءوا به السحرة، فأراد أن يشكك على الناس بأن
هذا الذي شاهدتم وإن كان قد فاق على ما فعله هؤلاء السحرة فهو فعل كبيرهم ومن هو أستاذهم الذي أخذوا عنه
هذه الصناعة، فلا تظنوا أنه فعل لا يقدر عليه البشر، وأنه من فعل الرب الذي يدعو إليه موسى، ثم توعد
أولئك السحرة الذين آمنوا بالله لما قهرتهم حجة الله، فقال (فلسوف تعلمون) أجمل التهديد أولا للتهويل، ثم
فصله فقال (لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) فلما سمعوا ذلك من قوله (قالوا لا ضير
إنا إلى ربنا منقلبون) أي لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا، فإن ذلك يزول وننقلب بعده إلى ربنا فيعطينا
من النعيم الدائم مالا يحد ولا يوصف. قال الهروي: لا ضير ولا ضرر ولا ضر بمعنى واحد، وأنشد أبو عبيدة:
فإنك لا يضرك بعد حول * أظبي كان أمك أم حمار
قال الجوهري: ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا: أي ضره. قال الكسائي: سمعت بعضهم يقول:
لا ينفعني ذلك ولا يضورني (إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا) ثم عللوا هذا بقولهم (أنا كنا أول المؤمنين)
بنصب أن: أي لأن كنا أول المؤمنين. وأجاز الفراء والكسائي كسرها على أن يكون مجازاة، ومعنى أول
99

المؤمنين: أنهم أول من آمن من قوم فرعون بعد ظهور الآية. وقال الفراء: أول مؤمني زمانهم، وأنكره الزجاج،
وقال قد روى أنه آمن معهم ستمائة ألف وسبعون ألفا، وهم الشرذمة القليلون الذين عناهم فرعون بقوله - إن هؤلاء
لشرذمة قليلون -.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين) يقول: مبين له خلق حية
(ونزع يده) يقول. وأخرج موسى يده من جيبه (فإذا هي بيضاء) تلمع (للناظرين) لمن ينظر إليها ويراها.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله (وقيل للناس هل أنتم مجتمعون) قال: كانوا بالإسكندرية. قال: ويقال
بلغ ذنب الحية من وراء البحيرة يومئذ. قال: وهربوا وأسلموا فرعون وهمت به فقال خذها يا موسى، وكان مما
بلى الناس به منه أنه كان لا يضع على الأرض شيئا: أي يوهمهم أنه لا يحدث فأحدث يومئذ تحته. وأخرج ابن
جرير عن ابن زيد في قوله (لا ضير) قال: يقولون لا يضيرنا الذي تقول وإن صنعت بنا وصلبتنا (إنا إلي ربنا
منقلبون) يقولون: إنا إلى ربنا راجعون وهو مجازينا بصبرنا على عقوبتك إيانا وثباتنا على توحيده والبراءة من
الكفر، وفي قوله (أن كنا أول المؤمنين) قالوا كانوا كذلك يومئذ أول من آمن بآياته حين رأوها.
قوله (أن أسر بعبادي) أمر الله سبحانه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلا، وسماهم عباده لأنهم آمنوا بموسى
وبما جاء به، وقد تقدم تفسير مثل هذا في سورة الأعراف، وجملة (إنكم متبعون) تعليل للأمر المتقدم: أي
يتبعكم فرعون وقومه ليردوكم، و (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين) وذلك حين بلغه مسيرهم، والمراد بالحاشرين
الجامعون للجيش من الأمكنة التي فيها أتباع فرعون. ثم قال فرعون لقومه بعد اجتماعهم لديه (إن هؤلاء لشرذمة
قليلون) يريد بني إسرائيل، والشرذمة الجمع الحقير القليل والجمع شراذم: قال الجوهري: الشرذمة الطائفة من
الناس والقطعة من الشئ، وثوب شراذم: أي قطع، ومنه قول الشاعر:
جاء الشتاء وقميصي أخلاق * شراذم يضحك منها الخلاق
قال الفراء: يقال عصبة قليلة وقليلون وكثيرة وكثيرون. قال المبرد: الشرذمة القطعة من الناس غير الكثير
100

وجمعها الشراذم. قال الواحدي: قال المفسرون: وكان الشرذمة الذين قللهم فرعون ستمائة ألف ولا يحصى عدد
أصحاب فرعون (وإنهم لنا لغائظون) يقال: غاظني كذا وأغاظني، والغيظ الغضب، ومنه التغيظ والاغتياظ:
أي غاظونا بخروجهم من غير إذن مني (وإنا لجميع حذرون) قرئ حذرون وحاذرون وحذرون بضم الذال،
حكى ذلك الأخفش. قال الفراء: الحاذر الذي يحذرك الآن، والحذر المخلوق كذلك لا تلقاه إلا حذرا. وقال
الزجاج: الحاذر المستعد، والحذر المتيقظ، وبه قال الكسائي ومحمد بن يزيد، قال النحاس: حذرون قراءة
المدنيين وأبي عمرو، وحاذرون قراءة أهل الكوفة. قال: وأبو عبيدة يذهب إلى أن معنى حذرون وحاذرون واحد
وهو قول سيبويه، وأنشد سيبويه:
حذر أمورا لا تضير وحاذر * ما ليس ينجيه من الأقدار
(فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم) يعني فرعون وقومه أخرجهم الله من أرض مصر وفيها
الجنات والعيون والكنوز، وهي جمع جنة وعين وكنز، والمراد بالكنوز: الخزائن، وقيل الدفائن، وقيل الأنهار،
وفيه نظر لأن العيون المراد بها عند جمهور المفسرين عيون الماء فيدخل تحتها الأنهار.
واختلف في المقام الكريم، فقيل المنازل الحسان، وقيل المنابر، وقيل مجالس الرؤساء والأمراء، وقيل
مرابط الخيل، والأول أظهر، ومن ذلك قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها * وأندية ينتابها القول والفعل
(كذلك وأورثناها بني إسرائيل) يحتمل أن يكون كذلك في محل نصب: أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج
الذي وصفنا، ويحتمل أن يكون في محل جر على الوصفية: أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، ويحتمل
الرفع علي أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر كذلك: ومعنى وأورثناها بني إسرائيل جعلناها ملكا لهم، وهو معطوف
على فأخرجناهم (فأتبعوهم مشرقين) روي قراءة الجمهور بقطع الهمزة، وقرأ الحسن والحارث الديناري بوصلها وتشديد
التاء: أي فلحقوهم حال كونهم مشرقين: أي داخلين في وقت الشروق. يقال شرقت الشمس شروقا إذا طلعت
كأصبح وأمسى: أي دخل في هذين الوقتين، وقيل داخلين نحو المشرق كأنجد وأتهم، وقيل معنى مشرقين
مضيئين. قال الزجاج: يقال شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضائت (فلما تراءى الجمعان) قرأ الجمهور
" تراءى " بتخفيف الهمزة، وقرأ ابن وثاب والأعمش من غير همز، والمعنى: تقابلا بحيث يرى كل فريق
صاحبه، وهو تفاعل من الرؤية، وقرئ " تراءت الفئتان " (قال أصحاب موسى إنا لمدركون) أي سيدركنا جمع
فرعون ولا طاقة لنا بهم. قرأ الجمهور " إنا لمدركون " اسم مفعول من أردك، ومنه - حتى إذا أدركه الغرق - وقرأ
الأعرج وعبيد بن عمير بفتح الدال مشددة وكسر الراء. قال الفراء: هما بمعنى واحد. قال النحاس: ليس كذلك
يقول النحويون الحذاق، إنما يقولون مدركون بالتخفيف ملحقون وبالتشديد مجتهدون في لحاقهم. قال: وهذا
معنى قول سيبويه. وقال الزمخشري: إن معنى هذه القراءة إنا لمتتابعون في الهلاك على أيديهم حتى لا يبقى منا أحد
(قال كلا إن معي ربي سيهدين) قال موسى هذه المقالة زجرا لهم وردعا، والمعنى: أنهم لا يدركونكم، وذكرهم
وعد الله بالهداية والظفر، والمعنى: إن معي ربي بالنصر والهداية سيهدين: أي يدلني على طريق النجاة، فلما
عظم البلاء على بني إسرائيل ورأوا من الجيوش مالا طاقة لهم به، وأمر الله سبحانه موسى أن يضرب البحر بعصاه،
وذلك قوله (فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر) لما قال موسى: (إن معي ربي سيهدين) بين الله سبحانه
له طريق الهداية فأمره بضرب البحر، وبه نجا بنو إسرائيل وهلك عدوهم، والفاء في (فانفلق) فصيحة: أي
101

فضرب فانفلق فصار اثنى عشر فلقا بعدد الأسباط، وقام الماء عن يمين الطريق وعن يساره كالجبل العظيم، وهو
معنى قوله (فكان كل فرق كالطود العظيم) والفرق القطعة من البحر، وقرئ فلق بلام بدل الراء، والطود الجبل
قال امرؤ القيس:
فبينا المرء في الأحياء طود * رماه الناس عن كثب فمالا
وقال الأسود بن يعفر:
حلوا بأنقرة يسيل عليهم * ماء الفرات يجيء من أطواد
(وأزلفنا ثم الآخرين) أي قربناهم إلى البحر: يعنى فرعون وقومه. قال الشاعر:
وكل يوم مضى أو ليلة سلفت * فيها النفوس إلى الآجال تزدلف
قال أبو عبيدة: أزلفنا جمعنا، ومنه قيل لليلة المزدلفة ليلة جمع، وثم ظرف مكان للبعيد. وقيل إن المعنى:
وأزلفنا قربنا من النجاة، والمراد بالآخرين موسى وأصحابه، والأول أولى، وقرأ الحسن وأبو حيوة وزلفنا ثلاثيا،
وقرأ أبي وابن عباس وعبد الله بن الحارث " وأزلقنا " بالقاف: أي أزللنا وأهلكنا من قولهم: أزلقت الفرس إذا
ألقت ولدها (وأنجينا موسى ومن معه أجمعين) بمرورهم في البحر بعد أن جعله الله طرقا يمشون فيها (ثم أغرقنا
الآخرين) يعني فرعون وقومه أغرقهم الله باطباق البحر عليهم بعد أن دخلوا فيه متبعين موسى وقومه، والإشارة
بقوله (إن في ذلك لآية) إلى ما تقدم ذكره مما صدر بين موسى وفرعون إلى هذه الغاية، ففي ذلك آية عظيمة
وقدرة باهرة من أدل العلامات على قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي ما كان أكثر
هؤلاء الذين مع فرعون مؤمنين، فإنه لم يؤمن منهم فيما بعد إلا القليل كحزقيل وابنته، وآسية امرأة فرعون،
والعجوز التي دلت على قبر يوسف، وليس المراد أكثر من كان مع فرعون عند لحاقه بموسى فإنهم هلكوا في
البحر جميعا بل المراد من كان معه من الأصل ومن كان متابعا له ومنتسبا إليه، هذا غاية ما يمكن أن يقال. وقال
سيبويه وغيره: إن " كان " زائدة، وأن المراد الإخبار عن المشركين بعد ما سمعوا الموعظة (وإن ربك لهو العزيز
الرحيم) أي المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله (إن
هؤلاء لشرذمة قليلون) قال: ستمائة ألف وسبعون ألفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانوا ستمائة
ألف. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان أصحاب موسى
الذين جازوا البحر اثنى عشر سبطا، فكان في كل طريق اثنا عشر ألفا كلهم ولد يعقوب ". وأخرج ابن مردويه
عنه أيضا بسند. قال السيوطي: واه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كان فرعون عدو الله حيث
أغرقه الله هو وأصحابه في سبعين قائدا مع كل قائد سبعون ألفا، وكان موسى مع سبعين ألفا حيث عبروا البحر ".
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: كان طلائع فرعون الذين بعثهم في أثرهم ستمائة ألف ليس فيها أحد إلا على بهيم.
وأقول: هذه الروايات المضطربة قد روي عن كثير من السلف ما يماثلها في الاضطراب والاختلاف، ولا
يصح منها شئ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (ومقام كريم) قال:
المنابر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (كالطود) قال: كالجبل. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر عن ابن مسعود مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (وأزلفنا) قال: قربنا. وأخرج الفريابي وعبد بن
102

حميد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي موسى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن موسى لما
أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق، فقال لبني إسرائيل: ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل: أن يوسف لما
حضره الموت أخذ علينا موثقا أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته معنا، فقال لهم موسى: أيكم يدري أين قبره؟
فقالوا: ما يعلم أحد مكان قبره إلا عجوز لبني إسرائيل، فأرسل إليها موسى فقال: دلينا على قبر يوسف؟
فقالت: لا والله حتى تعطيني حكمي، قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه
ذلك، فقيل له أعطها حكمها، فأعطاها حكمها، فانطلقت بهم إلى بحيرة مستنقعة ماء، فقالت لهم: انضبوا عنها
الماء ففعلوا، قالت: احفروا فحفروا، فاستخرجوا قبر يوسف، فلما احتملوه إذا الطريق مثل ضوء النهار "
قوله (وأتل عليهم) معطوف على العامل في قوله - وإذ نادى ربك موسى - وقد تقدم، والمراد بنبأ إبراهيم
103

خبره: أي أقصص عليهم يا محمد خبر إبراهيم وحديثه، و (إذ قال) منصوب بنبأ إبراهيم: أي وقت قوله (لأبيه
وقومه ما تعبدون) وقيل إذا بدل من نبأ بدل اشتمال، فيكون العامل فيه أتل، والأول أولى. ومعنى ما تعبدون:
أي شئ تعبدون؟ وهو يعلم أنهم يعبدون الأصنام، ولكنه أراد إلزامهم الحجة (قالوا نعبد أصناما فنظل لها
عاكفين) أي فتقيم على عبادتها مستمرا لا في وقت معين، يقال ظل يفعل كذا: إذا فعله نهارا، وبات يفعل
كذا إذا فعله ليلا، فظاهره أنهم يستمرون على عبادتها نهارا لا ليلا، والمراد من العكوف لها الإقامة على عبادتها،
وإنما قال لها لإفادة أن ذلك العكوف لأجلها، فلما قالوا هذه المقالة قال إبراهيم منبها على فساد مذهبهم (هل
يسمعونكم إذ تدعون) قال الأخفش: فيه حذف، والمعنى: هل يسمعون منكم، أو هل يسمعون دعاءكم.
وقرأ قتادة " هل يسمعونكم " بضم الياء أي هل يسمعونكم أصواتهم وقت دعائكم لهم (أو ينفعونكم) بوجه من
وجوه النفع (أو يضرون) أي يضرونكم إذا تركتم عبادتهم، وهذا الاستفهام للتقرير، فإنها إذا كانت لا تسمع
ولا تنفع ولا تضر فلا وجه لعبادتها، فإذا قالوا نعم هي كذلك أقروا بأن عبادتهم لها من باب اللعب والعبث،
وعند ذلك تقوم الحجة عليهم، فلما أورد عليهم الخليل هذه الحجة الباهرة لم يجدوا لها جوابا إلا رجوعهم إلى التقليد
البحت وهو أنهم وجدوا آباءهم كذلك يفعلون أي يفعلون لهذه العبادة لهذه الأصنام مع كونها بهذه الصفة التي هي
سلب السمع والنفع والضر عنها، وهذا الجواب هو العصى التي يتوكأ عليها كل عاجز، ويمشي بها كل أعرج ويغتر
بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع، فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال التي طبقت الأرض بطولها
والعرض، وقلت لهم: ما الحجة لهم على تقليد فرد من أفراد العلماء والأخذ بكل ما يقوله في الدين ويبتدعه من
الرأي المخالف للدليل لم يجدوا غير هذا الجواب ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعددون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا
من سلفهم واقتداء بأقواله وأفعاله وهم قد ملئوا صدورهم هيبة، وضاقت أذهانهم عن تصورهم، وظنوا أنهم
خير أهل الأرض وأعلمهم وأورعهم، فلم يسمعوا لناصح نصحا ولا لداع إلى الحق دعاء، ولو فظنوا لوجدوا
أنفسهم في غرور عظيم وجهل شنيع وإنهم كالبهيمة العمياء، وأولئك الأسلاف كالعمى الذين يقودون البهائم
العمى، كمال قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها * أعمى على عوج الطريق الحائر
فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة المبرأ من التعصب والتعسف أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم
براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء، فلو
أوردت عليه كل حجة وأقمت عليه كل برهان لما أعارك إلا أذنا صماء وعينا عمياء، ولكنك قد قمت بواجب
البيان الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم - إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء -
ولما قال هؤلاء المقلدة هذه المقالة (قال) الخليل (أفرأيتم ما كنتم تعبدون. أنتم وآباؤكم الأقدمون) أي فهل أبصرتم
وتفكرتم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع حتى تعلموا أنكم على ضلالة وجهالة،
ثم أخبرهم بالبراءة من هذه الأصنام التي يعبدونها. فقال (فإنهم عدو لي) ومعنى كونهم عدوا له مع كونهم جمادا
أنه إن عبدهم كانوا له عدوا يوم القيامة. قال الفراء: هذا من المقلوب: أي فإني عدو لهم لأن من عاديته عاداك،
والعدو كالصديق يطلق على الواحد والمثنى والجماعة والمذكر والمؤنث، كذا قال الفراء. قال علي بن سليمان:
من قال عدوة الله فأثبت الهاء، قال هي بمعنى المعادية، ومن قال عدو للمؤنث والجمع جعله بمعنى النسب. وقيل
104

المراد بقوله (فإنهم عدو لي) آباؤهم الأقدمون لأجل عبادتهم الأصنام، ورد بأن الكلام مسوق فيما عبدوه لا في
العابدين، والاستثناء في قوله (إلا رب العالمين) منقطع: أي لكن رب العالمين ليس كذلك، بل هو ولي في
الدنيا والآخرة. قال الزجاج: قال النحويون: هو استثناء ليس من الأول، وأجاز الزجاج أيضا أن يكون من
الأول على أنهم كانوا يعبدون الله عز وجل ويعبدون معه الأصنام، فأعلمهم أنه تبرأ مما يعبدون إلا الله. قال
الجرجاني: تقديره أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون إلا رب العالمين فإنهم عدو لي، فجعله من باب
التقديم والتأخير، وجعل إلا بمعنى دون وسوى كقوله - لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى - أي دون الموتة
الأولى. وقال الحسن بن الفضل: إن المعنى إلا من عبد رب العالمين، ثم وصف رب العالمين بقوله (الذي خلقني
فهو يهدين) أي فهو يرشدني إلى مصالح الدين والدنيا. وقيل إن الموصول مبتدأ وما بعده خبره، والأول أولى.
ويجوز أن يكون الموصول بدلا من رب، وأن يكون عطف بيان له، وأن يكون منصوبا على المدح بتقدير أعني
أو أمدح، وقد وصف الخليل ربه بما يستحق العبادة لأجله، فإن الخلق والهداية والرزق يدل عليه قوله (والذي
هو يطعمني ويسقين) ودفع ضر المرض، وجلب نفع الشفاء، والإماتة والإحياء، والمغفرة للذنب، كلها نعم
يجب على المنعم عليه ببعضها فضلا عن كلها أن يشكر المنعم بجميع أنواع الشكر التي أعلاها وأولاها العبادة،
ودخول هذه الضمائر في صدور هذه الجمل للدلالة على أنه الفاعل لذلك دون غيره، وأسند المرض إلى نفسه دون
غيره من هذه الأفعال المذكورة رعاية للأدب مع الرب، وإلا فالمرض وغيره من الله سبحانه، ومراده بقوله (ثم
يحيين) البعث، وحذف الياء من هذه الأفعال لكونها رؤوس الآي. وقرأ ابن أبي إسحاق هذه الأفعال كلها بإثبات
الياء، وإنما قال عليه الصلاة والسلام (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) هضما لنفسه، وقيل إن الطمع
هنا بمعنى اليقين في حقه، وبمعنى الرجاء في حق سواه. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق " خطاياي " قالا: ليست
خطيئته واحدة. قال النحاس: خطيئة بمعنى خطايا في كلام العرب. قال مجاهد: يعنى بخطيئته قوله - بل فعله
كبيرهم هذا -، وقوله - إني سقيم - وقوله إن سارة أخته، زاد الحسن: وقوله للكوكب - هذا ربي - وحكى
الواحدي عن المفسرين أنهم فسروا الخطايا بما فسرها به مجاهد. قال الزجاج: الأنبياء بشر، ويجوز أن تقع عليهم
الخطيئة إلا أنهم لا تكون منهم الكبيرة لأنهم معصومون، والمراد بيوم الدين يوم الجزاء للعباد بأعمالهم، ولا يخفى أن
تفسير الخطايا بما ذكره مجاهد ومن معه ضعيف، فإن تلك معاريض، وهي أيضا إنما صدرت عنه بعد هذه
المقاولة الجارية بينه وبين قومه. ثم لما فرغ الخليل من الثناء على ربه والاعتراف بنعمه عقبه بالدعاء ليقتدي به غيره
في ذلك، فقال (رب هب لي حكما) والمراد بالحكم العلم والفهم، وقيل النبوة والرسالة، وقيل المعرفة بحدود الله
وأحكامه إلى اخره (وألحقني بالصالحين) يعني بالنبيين من قبلي، وقيل بأهل الجنة (واجعل لي لسان صدق في
الآخرين) أي اجعل لي ثناء حسنا في الآخرين الذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. قال القتيبي: وضع اللسان
موضع القول على الاستعارة، لأن القول يكون به، وقد تكنى العرب بها عن الكلمة، ومنه قول الأعشى:
* إني أتتني لسان لا أسر بها * وقد أعطى الله سبحانه إبراهيم ذلك بقوله (وتركنا عليه في الآخرين) فإن كل
أمة تتمسك به وتعظمه. وقال مكي: قيل معنى سؤاله أن يكون من ذريته في آخر الزمان من يقوم بالحق، فأجيبت
دعوته في محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا وجه لهذا التخصيص. وقال القشيري: أراد الدعاء الحسن إلى
قيام الساعة، ولا وجه لهذا أيضا، فإن لسان الصدق أعم من ذلك (واجعلني من ورثة جنة النعيم) من ورثة يحتمل
أن يكون مفعولا ثانيا، وأن يكون صفة لمحذوف هو المفعول الثاني: أي وارثا من ورثة جنة النعيم، لما طلب عليه
105

السلام بالدعوة الأولى سعادة الدنيا طلب بهذه الدعوة سعادة الآخرة، وهي جنة النعيم، وجعلها مما يورث تشبيها
لغنيمة الآخرة بغنيمة الدنيا، وقد تقدم تفسير معنى الوراثة في سورة مريم (واغفر لأبي إنه كان من الضالين) كان
أبوه قد وعده أنه يؤمن به، فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة
التوبة وسورة مريم، ومعنى " من الضالين " من المشركين الضالين عن طريق الهداية، وكان زائدة على مذهب
سيبويه كما تقدم في غير موضع (ولا تحزني يوم يبعثون) أي لا تفضحني على رؤوس الأشهاد بمعاتبتي، أو
لا تعذبني يوم القيامة، أو لا تخزني بتعذيب أبى أو ببعثه في جملة الضالين، والإخزاء يطلق على الخزي وهو الهوان،
وعلى الخزاية وهي الحياء، و (يوم لا ينفع مال ولا بنون) بدل من يوم يبعثون: أي يوم لا ينفع فيه المال والبنون
أحدا من الناس، والابن هو أخص القرابة وأولاهم بالحماية والدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة والأعوان
بالأولى. وقال ابن عطية: إن هذا وما بعده من كلام الله، وهو ضعيف، والاستثناء بقوله (إلا من أتى الله
بقلب سليم) قيل هو منقطع: أي لكن من أتى الله بقلب سليم. قال في الكشاف: إلا حال من أتى الله بقلب سليم،
فقدر مضافا محذوفا. قال أبو حيان: ولا ضرورة تدعوا إلى ذلك. وقيل إن هذا الاستثناء بدل من المفعول
المحذوف، أو مستثنى منه، إذ التقدير لا ينفع مال ولا بنون أحدا من الناس إلا من كانت هذه صفته، ويحتمل
أن يكون بدلا من فاعل ينفع، فيكون مرفوعا. قال أبو البقاء: فيكون التقدير: إلا مال من أو بنو من فإنه ينفع.
واختلف في معنى القلب السليم، فقيل السليم من الشرك، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد، قاله أكثر
المفسرين. وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم الصحيح، وهو قلب المؤمن، لأن قلب الكافر والمنافق مريض،
وقيل هو القلب الخالي عن البدعة المطمئن إلى السنة، وقيل السالم من آفة المال والبنين. وقال الضحاك: السليم
الخالص. وقال الجنيد: السليم في اللغة اللديغ، فمعناه: أنه قلب كاللديغ من خوف الله تعالى، وهذا تحريف
وتعكيس لمعنى القران. قال الرازي: أصح الأقوال أن المراد منه سلامة النفس عن الجهل والأخلاق الرذيلة
(وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت وأدنيت لهم ليدخلوها. وقال الزجاج: قرب دخولهم إياها ونظرهم إليها
(وبرزت الجحيم للغاوين) أي جعلت بارزة لهم، والمراد بالغاوين الكافرون، والمعنى: أنها أظهرت قبل أن يدخلها
المؤمنون ليشتد حزن الكافرين ويكثر سرور المؤمنين (وقل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله) من الأصنام
والأنداد (هل ينصرونكم) فيدفعون عنكم العذاب (أو ينتصرون) بدفعه عن أنفسهم. وهذا كله توبيخ وتقريع
لهم، وقرأ مالك بن دينار " وبرزت " بفتح الباء والراء مبنيا للفاعل (فكبكبوا فيها هم والغاوون) أي ألقوا في جهنم
هم: يعني المعبودين والغاوون: يعني العابدين لهم. وقيل معنى كبكبوا: قلبوا على رؤوسهم، وقيل ألقى بعضهم
على بعض، وقيل جمعوا، مأخوذ من الكبكبة وهي الجماعة قاله الهروي. وقال النحاس: هو مشتق من كوكب
الشئ: أي معظمه، والجماعة من الخيل كوكب وكبكبة، وقيل دهدهوا، وهذه المعاني متقاربة، وأصله
كببوا بباءين الأولى مشددة من حرفين، فأبدل من الباء الوسطى الكاف. وقد رجح الزجاج أن المعنى: طرح
بعضهم على بعض. ورجح ابن قتيبة أن المعنى: ألقوا على رؤوسهم. وقيل الضمير في كبكبوا لقريش، والغاوون
الآلهة، والمراد بجنود إبليس شياطينه الذين يغوون العباد، وقيل ذريته وقيل كل من يدعوا إلى عبادة الأصنام،
و (أجمعون) تأكيد للضمير في كبكبوا وما عطف عليه، وجملة (قالوا وهم فيها يختصون) مستأنفة جواب سؤال
مقدر، كأنه قيل ماذا قالوا حين فعل بهم ما فعل، ومقول القول (تالله إن كنا لفي ضلال مبين) وجملة: وهم
فيها يختصمون في محل نصب على الحال: أي قالوا هذه المقالة حال كونهم في جهنم مختصمين، و " إن " في إن
106

كنا هي المخففة من الثقيلة واللام فارقة بينها وبين النافية: أي قالوا تالله إن الشأن كوننا في ضلال واضح ظاهر،
والمراد بالضلال هنا الخسار والتبار والحيرة عن الحق، والعامل في الظرف، أعني (إذ نسويكم برب العالمين) هو
كونهم في الضلال المبين. وقيل العامل هو الضلال، وقيل ما يدل عليه الكلام، كأنه قيل ضللنا وقت تسويتنا
لكم برب العالمين. وقال الكوفيون: إن " إن " في إن كنا نافية واللام بمعنى إلا: أي ما كنا ألا في ضلال مبين.
والأول أولى، وهو مذهب البصريين (فما لنا من شافعين) يشفعون لنا من العذاب كما للمؤمنين (ولا صديق حميم)
أي ذي قرابة، والحميم القريب الذي توده ويودك، ووحد الصديق لما تقدم غير مرة أنه يطلق على الواحد
والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، والحميم مأخوذ من حامة الرجل: أي أقربائه، ويقال حم الشئ وأحم
إذا قرب منه، ومنه الحمى لأنه يقرب من الأجل. وقال علي بن عيسى: إنما سمى القريب حميما لأنه يحمى لغضب
صاحبه، فجعله مأخوذا من الحمية (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) هذا منهم على طريق التمني الدال على
كمال التحسر كأنهم قالوا: فليت لنا كرة: أي رجعة إلى الدنيا، وجواب التمني فنكون من المؤمنين: أي
نصير من جملتهم، والإشارة بقوله (إن في ذلك لآية) إلى ما تقدم ذكره من نبأ إبراهيم، والآية العبرة والعلامة،
والتنوين يدل على التعظيم والتفخيم (وما كان أكثرهم مؤمنين) أي أكثر هؤلاء الذين يتلو عليهم رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم نبأ إبراهيم، وهم قريش ومن دان بدينهم. وقيل وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين، وهو
ضعيف لأنهم كلهم غير مؤمنين (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي هو القاهر لأعدائه الرحيم بأوليائه، أو الرحيم
للأعداء بتأخير عقوبتهم وترك معاجلتهم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وألحقني بالصالحين) يعنى بأهل الحنة. وأخرج
ابن أبي حاتم عنه في قوله (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) قال: اجتماع أهل الملل على إبراهيم. وأخرج عنه
أيضا (واغفر لأبي) قال: امنن عليه بتوبة يستحق بها مغفرتك. وأخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة، فيقول له
إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني، فاليوم لا أعصينك، فيقول إبراهيم: رب إنك وعدتني أن لا تخزيني
يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله: إني حرمت الجنة على الكافرين، ثم يقول: يا إبراهيم
ما تحت رجليك؟ فإذا هو بذيخ متلطخ، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " والذيخ هو الذكر من الضباع، فكأنه
حول آزر إلى صورة ذيخ. وقد أخرجه النسائي بأطول من هذا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (إلا من أتى الله بقلب سليم) قال: شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه (فكبكبوا فيها) قال: جمعوا فيها (هم والغاوون) قال: مشركوا العرب والآلهة. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أيضا (فلو أن لنا كرة) قال رجعة إلى الدنيا (فنكون من المؤمنين) حتى تحل لنا الشفاعة كما حلت
لهؤلاء.
107

قوله (كذبت قوم نوح المرسلين) أنث الفعل لكونه مسندا إلى قوم، وهو في معنى الجماعة أو الأمة أو
القبيلة، وأوقع التكذيب على المرسلين، وهم لم يكذبوا إلا الرسول المرسل إليهم، لأن من كذب رسولا فقد كذب
الرسل، لأن كل رسول يأمر بتصديق غيره من الرسل. وقيل كذبوا نوحا في الرسالة وكذبوه فيما أخبرهم به من
مجيء المرسلين بعده (إذ قال لهم أخوهم نوح) أي أخوهم من أبيهم، لا أخوهم في الدين. وقيل هي أخوة المجانسة،
وقيل هو من قول العرب: يا أخا بنى تميم، يريدون واحدا منهم (ألا تتقون) أي ألا تتقون الله بترك عبادة الأصنام
وتجيبون رسوله الذي أرسله إليكم (إني لكم رسول أمين) أي إني لكم رسول من الله أمين فيما أبلغكم عنه، وقيل
أمين فيما بينكم، فإنهم كانوا قد عرفوا أمانته وصدقه (فاتقوا الله وأطيعون) أي اجعلوا طاعة الله وقاية لكم من
عذابه وأطيعون فيما آمركم به عن الله من الإيمان به وترك الشرك والقيام بفرائض الدين (وما أسألكم عليه من أجر)
أي ما أطلب منكم أجرا على تبليغ الرسالة ولا أطمع في ذلك منكم (إن أجرى) الذي اطلبه وأريده (إلا على رب
العالمين) أي على ما أجري إلا عليه، وكرر قوله (فاتقوا الله وأطيعون) للتأكيد والتقرير في النفوس مع كونه
علق كل واحد منهم بسبب، وهو الأمانة في الأول، وقطع الطمع في الثاني، ونظيره قولك: ألا تتقي الله في
عقوقي وقد ربيتك صغيرا، ألا تتقئ الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا، وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته،
لأن تقوى الله علة لطاعته (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) الاستفهام للإنكار: أي كيف نتبعك ونؤمن لك،
والحال أن قد أتبعك الأرذلون، وهم جمع أرذل، وجمع التكسير أرذال، والأنثى رذلى. وهم الأقلون جاها ومالا
108

والرذالة الخسة والذلة، استرذلوهم لقلة أموالهم وجاههم، أو لا تضاع أنسابهم. وقيل كانوا من أهل الصناعات
الخسيسة، وقد تقدم تفسير هذه الآيات في هود. وقرأ ابن مسعود والضحاك ويعقوب الحضرمي " وأتباعك
الأرذلون " قال النحاس: وهي قراءة حسنة، لأن هذه الواو تتبعها الأسماء كثيرا، وأتباع جمع تابع، فأجابهم
نوح بقوله (وما علمي بما كانوا يعملون) كان زائدة، والمعنى: وما علمي بعملهم: أي لم أكلف العلم بأعمالهم،
إنما كلفت أن أدعوهم إلى الإيمان والاعتبار به، لا بالحرف والصنائع والفقر والغنى، وكأنهم أشاروا بقولهم
(واتبعك الأرذلون) إلى أن إيمانهم لم يكن عن نظر صحيح فأجابهم بهذا. وقيل المعنى: إني لم أعلم أن الله سيهديهم
ويضلكم (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون) أي ما حسابهم والتفتيش عن ضمائرهم وأعمالهم إلا على الله لو كنتم
من أهل الشعور والفهم، قرأ الجمهور " تشعرون " بالفوقية، وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميفع والأعرج وأبو زرعة
بالتحتية، كأنه ترك الخطاب للكفار والتفت إلى الإخبار عنهم. قال الزجاج: والصناعات لا تضر في باب الديانات
وما أحسن ما قال (وما أنا بطارد المؤمنين) هذا جواب من نوح على ما ظهر من كلامهم من طلب الطرد لهم (إن
أنا إلا نذير مبين) أي ما أنا إلا نذير موضح لما أمرني الله سبحانه بإبلاغه إليكم، وهذه الجملة كالعلة لما قبلها
(قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) أي إن لم تترك عيب ديننا وسب آلهتنا لتكونن من المرجومين
بالحجارة، وقيل من المشتومين، وقيل من المقتولين، فعدلوا بعد تلك المحاورة وبينهم وبين نوح إلى التجبر والتوعد
فلما سمع نوح قولهم هذا (قال رب إن قومي كذبون) أي أصروا على تكذيبي، ولم يسمعوا قولي ولا أجابوا دعائي
(فافتح بيني وبينهم فتحا) الفتح الحكم: أي احكم بيني وبينهم حكما، وقد تقدم تحقيق معنى الفتح (ونجني ومن
معي من المؤمنين) فلما دعا ربه بهذا الدعاء استجاب له فقال (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون) أي السفينة
المملوءة، والشحن ملء السفينة بالناس والدواب والمتاع (ثم أغرقنا بعد الباقين) أي ثم أغرقنا بعد إنجائهم الباقين
من قومه (إن في ذلك لآية) أي علامة وعبرة عظيمة (وما كان أكثرهم مؤمنين) كان زائدة عند سيبويه وغيره
على ما تقدم تحقيقه (وإن ربك لهو العزيز الرحيم) أي القاهر لأعدائه، الرحيم بأوليائه (كذبت عاد المرسلين) أنت
الفعل باعتبار إسناده إلى القبيلة، لأن عادا اسم أبيهم الأعلى. ومعنى تكذيبهم المرسلين مع كونهم لم يكذبوا إلا
رسولا واحدا قد تقدم وجهه في قصة نوح قريبا (إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) الكلام فيه كالكلام في قول
نوح المتقدم قريبا، وكذا قوله (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على
رب العالمين) الكلام فيه كالذي قبله سواء (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الريع المكان المرتفع من الأرض جمع
ريعة، يقال كم ريع أرضك؟ أي كم ارتفاعها. قال أبو عبيدة: الريع الارتفاع جمع ريعة. وقال قتادة والضحاك
والكلبي: الريع الطريق، وبه قال مقاتل والسدي. وإطلاق الريع على ما ارتفع من الأرض معروف عند أهل
اللغة، ومنه قول ذي الرمة:
طراق الخوافي مشرف فوق ريعة * بذى ليلة في ريشه يترقرق
وقيل الريع الجبل، واحده ريعة، والجمع أرياع. وقال مجاهد: هو الفج بين الجبلين، وروى عنه أن
الثنية الصغيرة، وروى عنه أيضا أنه المنظرة. ومعنى الآية: أنكم تبنون بكل مكان مرتفع علما تعبثون ببنيانه
وتلعبون بالمارة وتسخرون منهم، لأنكم تشرفون من ذلك البناء المرتفع على الطريق فتؤذون المارة وتسخرون منهم.
وقال الكلبي: إنه عبث العشارين بأموال من يمر بهم حكاه الماوردي. قال ابن الأعرابي: الريع الصومعة،
والريع البرج يكون في الصحراء، والريع التل العالي، وفي الريع لغتان كسر الراء وفتحها (وتتخذون مصانع)
109

المصانع: هي الأبنية التي يتخذها الناس منازل. قال أبو عبيدة: كل بناء مصنعة ومنه وبه قال الكلبي وغيره، ومنه
قول الشاعر:
تركن ديارهم منهم قفارا * وهد من المصانع والبروجا
وقيل هي الحصون المشيدة، قاله مجاهد وغيره. وقال الزجاج: إنها مصانع الماء التي تجعل تحت الأرض
واحدتها مصنعة ومصنع، ومنه قول لبيد:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع * وتبقى الجبال بعدنا والمصانع
وليس في هذا البيت ما يدل صريحا على ما قاله الزجاج، ولكنه قال الجوهري: المصنعة بضم النون الحوض
يجمع فيه ماء المطر، والمصانع الحصون. وقال عبد الرزاق: المصانع عندنا بلغة اليمن القصور العالية: ومعنى
(لعلكم تخلدون) راجين أن تخلدوا، وقيل إن لعل هنا للاستفهام التوبيخي: أي هل تخلدون، كقولهم لعلك
تشتمني: أي هل تشتمني. وقال الفراء: كي تخلدون لا تتفكرون في الموت، وقيل المعنى: كأنكم باقون مخلدون.
اقرأ الجمهور " تخلدون " مخففا. وقرأ قتادة بالتشديد. وحكى النحاس أن في بعض القراءات " كأنكم مخلدون " وقرأ
ابن مسعود " كي تخلدوا " (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) البطش السطوة والأخذ بالعنف. قال مجاهد وغيره:
البطش العسف قتلا بالسيف وضربا بالسوط. والمعنى: فعلتم ذلك ظلما، وقيل هو القتل على العصب قاله الحسن
والكلبي. قيل والتقدير: وإذا أردتم البطش، لئلا يتحد الشرط والجزاء، وانتصاب جبارين على الحال. قال
الزجاج: إنما أنكر عليهم ذلك لأنه ظلم، وأما في الحق فالبطش بالسوط والسيف جائز. ثم لما وصفهم بهذه
الأوصاف القبيحة الدالة على الظلم والعتو والتمرد والتجبر أمرهم بالتقوى فقال (فاتقوا الله وأطيعون) أجمل التقوى
ثم فصلها بقوله (واتقوا الذي أمدكم بما تعملون، أمدكم بأنعام وبنين) وأعاد الفعل للتقرير والتأكيد (وجنات
وعيون) أي بساتين وأنهار وأبيار. ثم وعظهم وحذرهم فقال (إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) إن كفرتم
وأصررتم على ما أنتم فيه ولم تشكروا هذه النعم، والمراد بالعذاب العظيم الدنيوي والأخروي.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (قالوا أنؤمن لك) أي أنصدقك؟ وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد
(واتبعك الأرذلون) قال: الحواكون. وأخرج أيضا عن قتادة قال: سفلة الناس وأراذلهم. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس (الفلك المشحون) قال: الممتلئ. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أنه قال " أتدرون ما المشحون؟ قلنا لا، قال: هو الموقر " وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال:
هو المثقل. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (بكل ريع) قال: طريق (آية) قال: علما (تعبثون) قال: تلعبون.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (بكل ريع) قال: شرف. وأخرجوا أيضا عنه (لعلكم
تخلدون) قال: كأنكم تخلدون. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (جبارين) قال: أقوياء.
110

أي وعظك وعدمه (سواء) عندنا لا نبالي بشئ منه ولا نلتفت إلى ما تقوله. وقد روى العباس عن أبي عمرو،
وروى بشر عن الكسائي (أوعظت) بإدغام الظاء في التاء وهو بعيد، لأن حرف الظاء حرف إطباق إنما يدغم فيما
قرب منه جدا. وروي ذلك عن عاصم والأعمش وابن محيصن. وقرأ الباقون بإظهار الظاء (إن هذا إلا خلق
الأولين) أي ما هذا الذي جئتنا به ودعوتنا إليه من الدين إلا خلق الأولين: أي عادتهم التي كانوا عليها.
وقيل المعنى: ما هذا الذي نحن عليه إلا خلق الأولين وعادتهم، وهذا بناء على ما قاله الفراء وغيره: إن معنى خلق
الأولين عادة الأولين. قال النحاس: خلق الأولين عند الفراء بمعنى عادة الأولين. وحكى لنا محمد بن الوليد عن
محمد بن يزيد قال (خلق الأولين) مذهبهم وما جرى عليه أمرهم، والقولان متقاربان. قال: وحكى لنا محمد بن
يزيد أن معنى (خلق الأولين) تكذيبهم. قال مقاتل: قالوا ما هذا الذي تدعونا إليه إلا كذب الأولين. قال
الواحدي: وهو قول ابن مسعود ومجاهد. قال: والخلق والاختلاق الكذب، ومنه قوله - وتخلقون إفكا -
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب " خلق الأولين " بفتح الخاء وسكون اللام. وقرأ الباقون بضم الخاء
واللام. قال الهروي: معناه على القراءة الأولى: اختلاقهم وكذبهم، وعلى القراءة الثانية: عادتهم، وهذا التفصيل
لابد منه. قال ابن الأعرابي: الخلق الدين، والخلق الطبع، والخلق المروءة. وقرأ أبو قلابة بضم الخاء وسكون
اللام وهي تخفيف لقراءة الضم لهما، والظاهر أن المراد بالآية هو قول من قال: ما هذا الذي نحن عليه إلا عادة
الأولين وفعلهم، ويؤيده قولهم (وما نحن بمعذبين) أي على ما نفعل من البطش ونحوه مما نحن عليه الان (فكذبوه
فأهلكناهم) أي بالريح كما صرح القرآن في غير هذا الموضع بذلك (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين
وإن ربك لهو العزيز الرحيم) تقدم تفسير هذا قريبا في هذه السورة. ثم لما فرغ سبحانه من ذكر قصة هود وقومه
ذكر قصة صالح وقومه، وكانوا يسكنون الحجر فقال (كذبت ثمود) إلى قوله (إلا على رب العالمين) قد تقدم
تفسيره في قصة هود المذكورة قبل هذه القصة (أتتركون فيما هاهنا آمنين) الاستفهام للإنكار، أي أتتركون
111

في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله (في جنات
وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم) والهضيم النضيج الرخص اللين اللطيف، والطلع ما يطلع من الثمر، وذكر
النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، وكثيرا ما يذكرون الشئ الواحد بلفظ يعمه وغيره كما
يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة، ولا يريدون إلا النخل. قال زهير:
كأن عيني في غربي مقبلة * من النواضح تسقى جنة سحقا
وسحقا جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل. وقيل المراد بالجنات غير النخل من الشجر، والأول أولى.
وحكى الماوردي في معنى هضيم اثنى عشر قولا أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه (وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين)
النحت: النجر والبري، نحته ينحته بالكسر براه، والنحاتة البراية، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت
أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان " فرهين " بغير ألف. وقرأ الباقون
" فارهين " بالألف. قال أبو عبيدة وغيره: وهما بمعنى واحد. والفره: النشاط، وفرق بينهما أبو عبيد وغيره
فقالوا " فارهين " حاذقين بنحتها، وقيل متجبرين، " وفرهين " بطرين أشرين، وبه قال مجاهد وغيره. وقيل
شرهين. وقال الضحاك: كيسين. وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل فرحين، قاله
الأخفش. وقال ابن زيد: أقوياء (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين) أي المشركين، وقيل الذين
عقروا الناقة، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) أي ذلك دأبهم
يفعلون الفساد في الأرض ولا يصدر منهم الصلاح البتة (وقالوا إنما أنت من المسحرين) أي الذين أصيبوا بالسحر
قاله مجاهد وقتادة. وقيل المسحر هو المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر، وهو
الرئة، فكأنهم قالوا إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء: أي إنك تأكل الطعام والشراب وتسحر به،
ومنه قول امرئ القيس أو لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال امرؤ القيس أيضا:
أرانا موضعين لحتم غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب
قال المؤرج: المسحر المخلوق بلغة ربيعة (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) في قولك
ودعواك (قال هذه ناقة) الله (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أي لها نصيب من الماء ولكم نصيب منه معلوم
ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم. قال الفراء: الشرب
الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر، فيقال فيه شرب شربا وشربا وأكثرها المضموم، والشرب بفتح
الشين جمع شارب، والمراد هنا الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما (ولا
تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) أي لا تمسوها بعقر، أو ضرب، أو شئ مما يسوؤها، وجواب النهي
فيأخذكم (فعقروها فأصبحوا نادمين) على عقرها، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم، وذلك أنه أنظرهم ثلاثا،
فظهرت عليهم العلامة في كل يوم وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور
آثاره (فأخذهم العذاب) الذي وعدهم به. وقد تقدم تفسير قوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم في هذه السورة، وتقدم أيضا تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة.
112

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (ونخل طلعها هضيم) قال: معشب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال: أينع وبلغ. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: أرطب واسترخى.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (فرهين) قال: حاذقين. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عنه قال (فرهين) أشرين. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
مجاهد قال: شرهين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن
عباس في قوله (إنما أنت من المسحرين) قال: من المخلوقين، وأنشد قول لبيد بن ربيعة:
فإن تسألينا فيم نحن...................... البيت.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في قوله (لها شرب) قال: إذا كان يومها أصدر لها لبنا ما شاءوا.
113

ذكر سبحانه القصة السادسة من قصص الأنبياء مع قومهم، وهي قصة لوط. وقد تقدم تفسير قوله (إذ
قال لهم) إلى قوله (إلا على رب العالمين) في هذه السورة، وتقدم أيضا تفسير قصة لوط مستوفى في الأعراف،
قوله (أتأتون الذكران من العالمين) الذكران جمع الذكر ضد الأنثى، ومعنى تأتون: تنكحون الذكران من
العالمين، وهم بنو آدم، أو كل حيوان، وقد كانوا يفعلون ذلك بالغرباء على ما تقدم في الأعراف (وتذرون
ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) أي وتتركون ما خلقه الله لأجل استمتاعكم به من النساء، وأراد بالأزواج جنس
الإناث (بل أنتم قوم عادون) أي مجاوزون للحد في جميع المعاصي، ومن جملتها هذه المعصية التي ترتكبونها من
الذكران (قالوا لئن لم تنته يا لوط) عن الإنكار علينا وتقبيح أمرنا (لتكونن من المخرجين) من بلدنا المنفيين عنها
(قال إني لعملكم) وهو ما أنتم فيه من إتيان الذكران (من القالين) المبغضين له، والقلي البغض، قليته أقليه قلا
وقلاء، ومنه قول الشاعر: * فلست بمقلي الخلال ولا قالي * وقال الآخر: * ومالك عندي إن نأيت قلاء *
ثم رغب عليه الصلاة والسلام عن محاورتهم، وطلب من الله عز وجل أن ينجيه فقال (رب نجني وأهلي مما
يعملون) أي من عملهم الخبيث، أو من عقوبته التي ستصيبهم، فأجاب الله سبحانه دعاءه، وقال (فنجيناه
وأهله أجمعين) أي أهل بيته، ومن تابعه على دينه، وأجاب دعوته (إلا عجوزا في الغابرين) هي امرأة لوط،
ومعنى من الغابرين: من الباقين في العذاب. وقال أبو عبيدة: من الباقين في الهرم: أي بقيت حتى هرمت.
قال النحاس: يقال للذاهب غابر وللباقي غابر. قال الشاعر:
لا تكسع الشول بأغبارها * إنك لا تدري من الناتج
والأغبار بقية الألبان، وتقول العرب: ما مضى وما غبر: أي ما مضى وما بقي (ثم دمرنا الآخرين) أي
أهلكناهم بالخسف والحصب (وأمطرنا عليهم مطرا) يعنى الحجارة (فساء مطر المنذرين) المخصوص بالذم
محذوف، والتقدير مطرهم، وقد تقدم تفسير (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز
الرحيم) في هذه السورة (كذب أصحاب الأيكة المرسلين) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " ليكة " بلام واحدة وفتح
التاء جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه أصحاب، وقرأ الباقون " الأيكة " معرفا، والأيكة الشجر الملتف، وهي
الغيضة، وليكة اسم للقرية، وقيل هما بمعنى واحد اسم للغيضة. قال القرطبي: فأما ما حكاه أبو عبيد من أن ليكة
اسم القرية التي كانوا فيها، وأن الأيكة اسم البلد كله، فشئ لا يثبت ولا يعرف من قاله ولو عرف لكان فيه نظر،
لأن أهل العلم جميعا على خلافه. قال أبو علي الفارسي: الأيكة تعريف أيكة، فإذا حذفت الهمزة تخفيفا ألقيت
حركتها على اللام. قال الخليل: الأيكة غيضة تنبت السدر والأراك ونحوهما من ناعم الشجر (إذ قال لهم شعيب ألا
تتقون) لم يقل أخوهم كما قال في الأنبياء قبله، لأنه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب، فلما ذكر مدين قال
أخاهم شعيبا لأنه كان منهم، وقد مضى تحقيق نسبه في الأعراف، وقد تقدم تفسير قوله (إني لكم رسول أمين)
إلى قوله تعالى (إلا على رب العالمين) في هذه السورة. قوله (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين) أي أتموا
الكيل لمن أراده وعامل به، ولا تكونوا من المخسرين: الناقضين للكيل والوزن، يقال أخسرت الكيل والوزن:
114

أي نقصته، ومنه قوله تعالى - وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون - ثم زاد سبحانه في البيان فقال (وزنوا بالقسطاس
المستقيم) أي أعطوا الحق بالميزان السوي، وقد مر بيان تفسير هذا في سورة سبحان، وقد قرئ " بالقسطاس "
مضموما ومكسورا (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) البخس النقص، يقال بخسه حقه إذا نقصه: أي لا تنقصوا
الناس حقوقهم التي لهم، وهذا تعميم بعد التخصيص، وقد تقدم تفسيره في سورة هود، وتقدم أيضا تفسير
(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) فيها وفي غيرها (واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين) قرأ الجمهور بكسر الجيم
والباء وتشديد اللام، وقرأ أبو حصين والأعمش والحسن والأعرج وشيبة بضمهما وتشديد اللام، وقرأ السلمي
بفتح الجيم مع سكون الباء، والجبلة الخليقة قاله مجاهد وغيره: يعنى الأمم المتقدمة، يقال: جبل فلان على
كذا: أي خلق. قال النحاس: الخلق يقال له جبلة بكسر الحرفين الأولين وبضمهما مع تشديد اللام فيهما وبضم
الجيم وسكون الباء وضمه فتحها، قال الهروي: الجبلة والجبلة والجبل والجبل لغات، وهو الجمع ذو العدد
الكثير من الناس، ومنه قوله تعالى - جبلا كثيرا - أي خلقا كثيرا، ومن ذلك قول الشاعر:
والموت أعظم حادث * فيما يمر على الجبلة
(قالوا إنما أنت من المسحرين. وما أنت إلا بشر مثلنا) قد تقدم تفسيره مستوفى في هذه السورة (وإن نظنك
لمن الكاذبين) إن هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر، واللام هي الفارقة أي فيما تدعيه علينا من
الرسالة، وقيل هي النافية، واللام بمعنى إلا: أي ما نظنك إلا من الكاذبين، والأول أولى (فأسقط علينا كسفا
من السماء) كان شعيب يتوعدهم بالعذاب إن لم يؤمنوا، فقالوا له هذا القول نعتا واستبعادا وتعجيزا. والكسف:
القطعة. قال أبو عبيدة: الكسف جمع كسفة مثل سدر وسدرة. قال الجوهري: الكسفة القطعة من الشئ،
يقال: أعطني كسفة من ثوبك والجمع كسف، وقد مضى تحقيق هذا في سورة سبحان (إن كنت من
الصادقين) في دعواك (قال ربي أعلم بما تعملون) من الشرك والمعاصي، فهو مجازيكم على ذلك إن شاء، وفي هذا
تهديد شديد (فكذبوه) فاستمروا على تكذيبه وأصروا على ذلك (فأخذهم عذاب يوم الظلة) والظلة السحاب،
أقامها الله فوق رؤوسهم فأمطرت عليهم نارا فهلكوا، وقد أصابهم الله بما اقترحوا، لأنهم إن أرادوا بالكسف القطعة
من السحاب فظاهر، وإن أرادوا بها القطعة من السماء فقد نزل عليهم العذاب من جهتها، وأضاف العذاب إلى
يوم الظلة لا إلى الظلة تنبيها على أن لهم في ذلك اليوم عذابا غير عذاب الظلة، كذا قيل. ثم وصف سبحانه هذا
العذاب الذي أصابهم بقوله (إنه كان عذاب يوم عظيم) لما فيه من الشدة عليهم التي لا يقادر قدرها وقد تقدم
تفسير قوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم) في هذه السورة مستوفى فلا
نعيده، وفي هذا التكرير لهذه الكلمات في آخر هذه القصص من التهديد والزجر والتقرير والتأكيد مالا يخفى على
من يفهم مواقع الكلام ويعرف أساليبه.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله
(وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم) قال: تركتم أقبال النساء إلى أدبار الرجال وأدبار النساء. وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر عن عكرمة نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة (إلا عجوزا في الغابرين) قال: هي امرأة لوط
غبرت في عذاب الله. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد " ليكة " قال: هي الأيكة. وأخرج إسحاق بن بشر وابن
عساكر وابن عباس في قوله (كذب أصحاب الأيكة المرسلين) قال: كانوا أصحاب غيضة من ساحل البحر إلى
115

مدين (إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخوهم شعيب. لأنه لم يكن من جنسهم (ألا تتقون) كيف لا تتقون وقد علمتم
أني رسول أمين لا تعتبرون من هلاك مدين وقد أهلكوا فيما يأتون. وكان أصحاب الأيكة مع ما كانوا فيه من الشرك
استنوا بسنة أصحاب مدين، فقال لهم شعيب (إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم) على ما أدعوكم
إليه (من أجر) في العاجل من أموالكم (إن أجرى إلا على رب العالمين - واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين)
يعنى القرون الأولين الذي أهلكوا بالمعاصي ولا تهلكوا مثلهم (قالوا إنما أنت من المسحرين) يعني من المخلوقين
(وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفا من السماء) يعني قطعا من السماء (فأخذهم
عذاب يوم الظلة) أرسل الله إليهم سموما من جهنم، فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم
وغلت مياههم في الآبار والعيون فخرجوا من منازلهم ومحلتهم هاربين، والسموم معهم، فسلط الله عليهم الشمس
من فوق رؤوسهم فغشيتهم حتى تقلقلت فيها جماجمهم، وسلط الله عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت
لحوم أرجلهم، ثم نشأت لهم ظلة كالسحابة السوداء، فلما رأوها ابتدروها يستغيثون بظلها حتى إذا كانوا جميعا
أطبقت عليهم فهلكوا ونجى الله شعيبا والذين آمنوا معه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال
(الجبلة الأولين) الخلق الأولين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا
أنه سئل عن قوله (فأخذهم عذاب يوم الظلة) قال: بعث الله عليهم حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف
البيوت فدخل عليهم أجوافها فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هربا إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم
من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة، فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أسقط الله عليهم نارا،
فذلك عذاب يوم الظلة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم عنه أيضا قال من حدثك من العلماء عذاب
يوم الظلة فكذبه. أقول: فما نقول له رضي الله عنه فيما حدثنا به من ذلك مما نقلناه عنه هاهنا؟ ويمكن أن يقال إنه
لما كان هو البحر الذي علمه الله تأويل كتابه بدعوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كان مختصا بمعرفة هذا الحديث
دون غيره من أهل العلم، فمن حدث بحديث عذاب الظلة على وجه غير هذا الوجه الذي حدثنا به فقد وصانا
بتكذيبه، لأنه قد علمه ولم يعلمه غيره.
116

قوله (وإنه لتنزيل رب العالمين) الضمير يرجع إلى ما نزله عليه من الأخبار: أي وإن هذه الأخبار أو وإن
القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، قيل وهو على تقدير مضاف محذوف: أي ذو تنزيل، وأما إذا كان تنزيل
بمعنى منزل فلا حاجة إلى تقدير مضاف. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم (نزل) مخففا، وقرأه
الباقون مشددا، و (الروح الأمين) على القراءة الثانية منصوب على أنه مفعول به، وقد اختار هذه القراءة أبو حاتم
وأبو عبيد، والروح الأمين جبريل، كما في قوله - قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك - ومعنى (على
قلبك) أنه تلاه على قلبه، ووجه تخصيص القلب، لأنه أول مدرك من الحواس الباطنة. قال أبو حيان: إن على
قلبك ولتكون متعلقان بنزل، وقيل يجوز أن يتعلقا بتنزيل، والأول أولى، وقرئ نزل مشددا مبنيا للمفعول
والفاعل هو الله تعالى، ويكون الروح على هذه القراءة مرفوعا على النيابة (تكون من المنذرين) علة للإنزال: أي
أنزله لتنذرهم بما تضمنه من التحذيرات والإنذارات والعقوبات (بلسان عربي مبين) متعلق بالمنذرين: أي لتكون
من المنذرين بهذا اللسان، وجوز أبو البقاء أن يكون بدلا من " به " وقيل متعلق بنزل، وإنما أخر للاعتناء بذكر
الإنذار، وإنما جعل الله سبحانه القرآن عربيا بلسان الرسول العربي لئلا يقول مشركوا العرب لسنا نفهم ما تقوله
بغير لساننا فقطع بذلك حجتهم وأزاح علتهم ودفع معذرتهم (وإنه لفي زبر الأولين) أي إن هذا القرآن باعتبار
احكامه التي أجمعت عليها الشرائع في كتب الأولين من الأنبياء، والزبر الكتب، الواحد زبور، وقد تقدم
الكلام على تفسير مثل هذا. وقيل الضمير لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل المراد بكون القرآن في زبر
الأولين أنه مذكور فيها هو نفسه، لا ما اشتمل عليه من الأحكام، والأول أولى (أو لم يكن لهم اية أن يعلمه
علماء بني إسرائيل) الهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدر كما تقدم مرارا، والآية العلامة والدلالة: أي ألم
117

يكن لهؤلاء علامة دالة على أن القرآن حق، وأنه تنزيل رب العالمين. وأنه في زبر الأولين. أن يعلمه علماء بني
إسرائيل على العموم، أو من آمن منهم كعبد الله بن سلام، وإنما صارت شهادة أهل الكتاب حجة على المشركين
لأنهم كانوا يرجعون إليهم ويصدقونهم. قرأ ابن عامر " تكن " بالفوقية، وآية بالرفع على أنها اسم كان، وخبرها
أن يعلمه الخ، ويجوز أن تكون تامة، وقرأ الباقون " يكن " بالتحتية وآية بالنصب على أنها خبر يكن، واسمها أن
يعلمه الخ. قال الزجاج: أن يعلمه اسم يكن وآية خبره. والمعنى: أو لم يكن لهم علماء بني إسرائيل أن محمدا
نبي حق علامة ودلالة على نبوته، لأن العلماء الذين آمنوا من بني إسرائيل كانوا يخبرون بوجود ذكره في كتبهم،
وكذا قال الفراء، ووجها قراءة الرفع بما ذكرنا. وفى قراءة ابن عامر نظر، لأن جعل النكرة اسما والمعرفة خبرا غير
سائغ، وإن ورد شاذا في مثل قول الشاعر: * فلا يك موقف منك الوداعا * وقول الآخر:
* وكان مزاجها عسل وماء *
ولا وجه لما قيل إن النكرة قد تخصصت بقولهم " لهم " لأنه في محل نصب على الحال والحال صفة في المعنى،
فأحسن ما يقال في التوجيه ما قدمنا ذكره من أن يكن تامة (ولو نزلناه على بعض الأعجمين) أي لو أنزلنا
القرآن على الصفة التي هو عليها على رجل من الأعجمين الذي لا يقدرون على التكلم بالعربية (فقرأه عليهم) قراءة
صحيحة (ما كانوا به مؤمنين) مع انضمام إعجاز القراءة من الرجل الأعجمي للكلام العربي إلى إعجاز القران. وقيل
المعنى: ولو نزلناه على بعض الأعجمين بلغة العجم فقرأه عليهم بلغته لم يؤمنوا به وقالوا: ما نفقه هذا ولا نفهمه،
ومثل هذا قوله " ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته " يقال رجل أعجم وأعجمي إذا كان غير
فصيح اللسان وإن كان عربيا، ورجل عجمي إذا كان أصله من العجم وإن كان فصيحا، إلا أن الفراء أجاز أن
يقال رجل عجمي بمعنى أعجمي وقرأ الحسن " على بعض الأعجميين " وكذلك قرأ الجحدري. قال أبو الفتح بن
جني: أصل الأعجمين الأعجميين، ثم حذفت ياء النسب، وجعل جمعه بالياء والنون دليلا عليها (كذلك سلكناه
في قلوب المجرمين) أي مثل ذلك السلك سلكناه: أي أدخلناه في قلوبهم: يعني القرآن حتى فهموا معانيه وعرفوا
فصاحته وأنه معجز. وقال الحسن وغيره: سلكنا الشرك والتكذيب في قلوب المجرمين. وقال عكرمة: سلكنا
القسوة. والأول أولى، لأن السياق في القرآن وجملة (لا يؤمنون) تحتمل وجهين: الأول الاستئناف على جهة
البيان والإيضاح لما قبلها. والثاني أنها في محل نصب على الحال من الضمير في سلكناه، ويجوز أن يكون حالا من
المجرمين. وأجاز الفراء الجزم في لا يؤمنون، لأن فيه معنى الشرط والمجازاة، وزعم أن من شأن العرب إذا وضعت
لا موضع كيلا مثل هذا ربما جزمت ما بعدها، وربما رفعت، فتقول ربطت الفرس لا ينفلت بالرفع والجزم لأن
معناه: إن لم أربطه ينفلت، وأنشد لبعض بنى عقيل:
وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا * مساكنه لا يقرب الشر قارب
بالرفع، ومن الجزم قول الآخر:
لطال ما حللتماها لا ترد * فخلياها والسخال تبترد
قال النحاس: وهذا كله في لا يؤمنون خطأ عند البصريين، ولا يجوز الجزم بلا جازم (حتى يروا العذاب
الأليم) أي لا يؤمنون إلى هذه الغاية وهي مشاهدتهم للعذاب الأليم (فيأتيهم) العذاب (بغتة) أي فجأة (و) الحال
(أنهم لا يشعرون) بإتيانه، وقرأ الحسن فتأتيهم بالفوقية: أي الساعة وإن لم يتقدم لها ذكر، لكنه قد دل العذاب
118

عليها (فيقولوا هل نحن منظرون) أي مؤخرون وممهلون. قالوا هذا تحسرا على ما فات من الإيمان، وتمنيا للرجعة
إلى الدنيا لاستدراك ما فرط منهم. وقيل إن المراد بقولهم (هل نحن منظرون) الاستعجال للعذاب على طريقة
الاستهزاء لقوله (أفبعذابنا يستعجلون) ولا يخفى ما في هذا من البعد والمخالفة للمعنى الظاهر، فإن معنى (هل نحن
منظرون) طلب النظرة والإمهال، وأما قوله (أفبعذابنا يستعجلون) فالمراد به الرد عليهم والإنكار لما وقع منهم
من قولهم - أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم - وقولهم - فأتنا بما تعدنا - (أفرأيت إن متعناهم سنين)
الاستفهام للإنكار، والفاء للعطف على مقدر يناسب المقام كما مر في غير موضع، ومعنى أرأيت أخبرني،
والخطاب لكل من يصلح له: أي أخبرني إن متعناهم سنين في الدنيا متطاولة، وطولنا لهم الأعمار (ثم جاءهم
ما كانوا يوعدون) من العذاب والهلاك (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) ما هي الاستفهامية، والمعنى: أي شئ
أغنى عنهم كونهم ممتعين ذلك التمتع الطويل، و " ما " في ما كانوا يمتعون يجوز أن تكون المصدرية، ويجوز أن
تكون الموصولة والاستفهام للإنكار التقريري، ويجوز أن تكون ما الأولى نافية، والمفعول محذوف: أي لم يغن
عنهم تمتيعهم شيئا، وقرئ يمتعون بإسكان الميم وتخفيف التاء من أمتع الله زيدا بكذا (وما أهلكنا من قرية إلا لها
منذرون) من مزيدة للتأكيد: أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا لها منذرون. وجملة (إلا لها منذرون) يجوز أن
تكون صفة لقرية، ويجوز أن تكون حالا منها، وسوغ ذلك سبق النفي، والمعنى: ما أهلكنا قرية من القرى إلا
بعد الأنذار إليهم والإعذار بإرسال الرسل وإنزال الكتب، وقوله (ذكرى) بمعنى تذكرة، وهي في محل نصب
على العلة أو المصدرية. وقال الكسائي: ذكرى في موضع نصب على الحال، وقال الفراء والزجاج: إنها في
موضع نصب على المصدرية: أي يذكرون ذكرى. قال النحاس: وهذا قول صحيح، لأن معنى (إلا لها
منذرون) إلا لها مذكرون. قال الزجاج: ويجوز أن يكون ذكرى في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف:
أي إنذارنا ذكرى، أو ذلك ذكرى. قال ابن الأنباري: المعنى هي ذكرى، أو يذكرهم ذكرى، وقد رجح
الأخفش أنها خبر مبتدأ محذوف (وما كنا ظالمين) في تعذيبهم، فقد قدمنا الحجة إليهم وأنذرناهم وأعذرنا إليهم
(وما تنزلت به الشياطين) أي بالقرآن، وهذا رد لما زعمه الكفرة في القرآن أنه من قبيل ما يلقيه الشياطين على
الكهنة (وما ينبغي لهم) ذلك، ولا يصح منهم (وما يستطيعون) ما نسبه الكفار إليهم أصلا (إنهم عن السمع)
للقرآن، أو لكلام الملائكة (لمعزولون) محجوبون مرجومون بالشهب. وقرأ الحسن وابن السميفع والأعمش " وما
تنزلت به الشياطين " بالواو والنون إجراء له مجرى جمع السلامة. قال النحاس: وهذا غلط عند جميع النحويين.
قال: وسمعت علي بن سليمان يقول: سمعت محمد بن يزيد يقول: هذا من غلط العلماء، وإنما يكون بشبهة لما
رأى الحسن في آخره ياء ونونا، وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع السالم فغلط. قال الفراء: غلط الشيخ:
يعني الحسن، فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال: إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما جاز أن يحتج بقول
الحسن وصاحبه: يعني محمد بن السميفع مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا فيه شيئا. وقال المؤرج: إن
كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. قال يونس بن حبيب: سمعت أعرابيا يقول: دخلنا بساتين من
ورائها بساتون. ثم لما قرر سبحانه حقية القرآن وأنه منزل من عنده أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بدعاء الله
وحده فقال (ولا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين) وخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا مع كونه
منزها عنه معصوما منه لحث العباد على التوحيد ونهيهم عن شوائب الشرك، وكأنه قال: أنت أكرم الخلق علي
وأعزهم عندي ولو اتخذت معي إلها لعذبتك، فكيف بغيرك من العباد (وأنذر عشيرتك الأقربين) خص الأقربين لأن
119

الاهتمام بشأنهم أولى، وهدايتهم إلى الحق أقدم. قيل هم قريش، وقيل بنو عبد مناف، وقيل بنو هاشم. وقد
ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فذلك
منه صلى الله عليه وآله وسلم بيان للعشيرة الأقربين، وسيأتي بيان ذلك (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين)
يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة. والمعنى: ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين
وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم (فإن عصوك) أي خالفوا أمرك ولم يتبعوك (فقل إني بريء مما تعملون)
أي من عملكم، أو من الذي تعملونه، وهذا يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان،
لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه. ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال (فتوكل على العزيز
الرحيم) أي فوض أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء، وهو الرحيم للأولياء. قرأ نافع وابن عامر " فتوكل "
بالفاء. وقرأ الباقون " وتوكل " بالواو، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتبا عليه، وعلى
القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفا على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب (الذي يراك حين تقوم) أي
حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت (وتقلبك في
الساجدين) أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما، كذا قال أكثر المفسرين. وقيل يراك في
الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة. وقيل المراد بقوله " يراك " حين تقوم قيامه إلى التهجد،
وقوله (وتقلبك في الساجدين) يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم، كذا قال
مجاهد (إنه هو السميع) لما تقوله (العليم) به. ثم أكد سبحانه معنى قوله (وما تنزلت به الشياطين) وبينه فقال
(هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) أي على من تتنزل، فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزل
الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تنزل على كل أفاك أثيم) والأفاك الكثير الإفك، والأثيم
كثير الإثم، والمراد بهم كل من كان كاهنا، فإن الشياطين كانت تسترق السمع ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم،
وهو معنى قوله (يلقون السمع) أي ما يسمعونه مما يسترقونه، فتكون جملة " يلقون السمع " على هذا راجعة إلى
الشياطين في محل نصب على الحال: أي حال كون الشياطين ملقين السمع: أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى
الكهان. ويجوز أن يكون المعنى: إن الشياطين يلقون السمع: أي ينصتون إلى الملأ الأعلى ليسترقوا منهم شيئا،
ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع. ويجوز أن تكون جملة
" يلقون السمع " راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم
الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث، وجملة (وأكثرهم
كاذبون) راجعة إلى كل أفاك أثيم: أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون
إلى ما يسمعونه كثيرا من أكاذيبهم المختلفة، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع: أي المسموع من الشياطين
إلى الناس، ويجوز أن تكون جملة (وأكثرهم كاذبون) راجعة إلى الشياطين: أي وأكثر الشياطين كاذبون فيما
يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرا من الكذب. وقد قيل كيف يصح
على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعا بالإفك. وأجيب بأن المراد بالأفاك
الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطق إلا بالكذب، فالمراد بقوله وأكثرهم كاذبون أنه قل من يصدق منهم فيما
يحكى عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي صلى الله
عليه وآله وسلم من جملة من يلقى إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب. ولم يظهر
120

من أحوال محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الصدق، فكيف يكون كما زعموا، ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون
الشياطين، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوذ منهم. ثم لما كان قد قال
قائل من المشركين: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاعر، بين سبحانه حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (والشعراء يتبعهم الغاوون) والمعنى: أن الشعراء يتبعهم: أي يجاريهم ويسلك
مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون: أي الضالون عن الحق، والشعراء جمع شاعر، والغاوون جمع غاو، وهم
ضلال الجن والإنس. وقيل الزائلون عن الحق، وقيل الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز، وقيل
المراد شعراء الكفار خاصة. قرأ الجمهور " والشعراء " بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر
" الشعراء " بالنصب على الاشتغال، وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي يتبعهم بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) والجملة مقررة لما قبلها، والخطاب
لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيما وهيمانا إذا ذهب على وجهه: أي ألم تر أنهم في كل فن من فنون
الكذب يخوضون، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون
من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق
ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من
مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة، ثم قال سبحانه (وأنهم يقولون مالا يفعلون) أي يقولون
فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه، وقد ينسبون إلى أنفسهم من
أفعال الشر مالا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوي الكاذبة والزور الخالص المتضمن
لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا، وذلك كذب محض وافتراء بحت. ثم استثنى سبحانه الشعراء
المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحري الحق والصدق فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي دخلوا
في حزب المؤمنين وعملوا بأعمالهم الصالحة، (وذكروا الله كثيرا) في أشعارهم (وانتصروا من بعد ما ظلموا) كمن
يهجو منهم من هجاء، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم كانوا
يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم، ويدخل في هذا
من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة،
كما يقع ذلك كثيرا من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة،
وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام. فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه
إلى قسم الواجب، وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه،
والكلام في تحقيق ذلك يطول، وسنذكر في أخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث. ثم ختم سبحانه هذه
السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فإن في قوله " سيعلم " تهويلا عظيما
وتهديدا شديد، وكذا في إطلاق الذين ظلموا وإبهام أي منقلب ينقلبون، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء،
ولا وجه لذلك فإن الاعتبار بعموم اللفظ. وقوله (أي منقلب) صفة لمصدر محذوف: أي ينقلبون منقلبا أي
منقلب، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه سيعلم، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق
عن العمل فيه. وقرأ ابن عباس والحسن " أي منفلت ينفلتون " بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء من الانفلات
121

بالنون والفاء الفوقية. وقرأ الباقون بالقاف والباء من الانقلاب بالنون والقاف الموحدة، والمعنى على قراءة ابن
عباس والحسن: أن الظالمين يطمعون في الانفلات من عذاب الله والانفكاك منه ولا يقدرون على ذلك.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (وإنه لتنزيل رب العالمين) قال:
هذا القرآن (نزل به الروح الأمين) قال: جبريل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (نزل به الروح الأمين) قال:
جبريل. وأخرج أبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (الروح الأمين)
قال: الروح الأمين جبريل، رأيت له ستمائة جناح من لؤلؤ قد نشرها فيها مثل ريش الطواويس. وأخرج ابن
النجار في تاريخه عن ابن عباس في قوله (بلسان عربي مبين) قال: بلسان قريش ولو كان غير عربي ما فهموه.
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن بريدة في قوله (بلسان عربي مبين) قال: بلسان جرهم. وأخرج
مثله أيضا عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس
قال: كان عبد الله بن سلام من علماء بني إسرائيل، وكان من خيارهم فآمن بكتاب محمد، فقال لهم الله (أو لم
يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال " لما نزلت هذه
الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش
أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني
لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بنى قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر
بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من
النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا
إلا أن لكم رحما وسأبلها ببلالها " وفي الباب أحاديث من طريق جماعة من الصحابة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (الذي يراك حين تقوم) قال: للصلاة. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه (الذي يراك حين تقوم
وتقلبك في الساجدين) يقول: قيامك وركوعك وسجودك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (وتقلبك
في الساجدين) قال: يراك وأنت مع الساجدين تقوم وتقعد معهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله (وتقلبك
في الساجدين) قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام إلى الصلاة يرى من خلفه كما يرى من بين يديه.
ومنه الحديث في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " هل ترون
قبلتي هاهنا؟ فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم، وإني لأراكم من وراء ظهري ". وأخرج ابن أبي عمر
العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس في قوله (وتقلبك
في الساجدين) قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبيا. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم عنه في الآية
نحوه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت: سأل أناس النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الكهان
قال: إنهم ليسوا بشئ، قالوا: يا رسول الله إنهم يحدثون أحيانا بالشيء يكون حقا؟ قال: تلك الكلمة من
الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة وفي لفظ للبخاري " فيزيدون معها مائة
كذبة ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: تهاجى رجلان على عهد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أحدهما من الأنصار والاخر من قوم آخرين، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه
وهم السفهاء، فأنزل الله (والشعراء يتبعهم الغاوون) الآيات. وأخرج ابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن
عساكر عن عروة قال: لما نزلت (والشعراء) إلى قوله (مالا يفعلون) قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد
122

علم الله أني منهم، فأنزل الله (إلا الذين آمنوا) إلى قوله (ينقلبون) وروى نحو هذا من طرق. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (يتبعهم الغاوون) قال: هم الكفار يتبعون ضلال الجن
والإنس (في كل واد يهيمون) قال: في كل لغو يخوضون (وأنهم يقولون مالا يفعلون) أكثر قولهم يكذبون،
ثم استثنى منهم فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا) قال:
ردوا على الكفار كانوا يهجون المؤمنين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا نحوه. وأخرج
ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا (والشعراء) قال: المشركون منهم الذين كانوا يهجون النبي صلى الله عليه وآله
وسلم (يتبعهم الغاوون) قال: قال غواة الجن في كل واد يهيمون في كل فن من الكلام يأخذون. ثم استثنى
فقال (إلا الذين آمنوا) الآية. يعنى حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك كانوا يذبون عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بهجاء المشركين. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم عنه (الغاوون)
قال: هم الرواة. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عنه أيضا (إلا الذين آمنوا) الآية قال: أبو بكر وعمر وعلي
وعبد الله بن رواحة. وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه وأبو يعلى وابن مردويه عن كعب بن مالك " أنه قال
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله قد أنزل في الشعراء ما أنزل فكيف ترى فيه؟ فقال: إن المؤمن يجاهد
بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل ". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال
" بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عرض شاعر ينشد، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ". وأخرج الديلمي عن ابن مسعود مرفوعا الشعراء الذين
يموتون في الإسلام يأمرهم الله أن يقولوا شعرا يتغنى به الحور العين لأزواجهن في الجنة، والذين ماتوا في الشرك
يدعون بالويل والثبور في النار. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" إن من الشعر لحكمة " قال: وأتاه قريظة بن كعب وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت فقالوا: إنا نقول الشعر
وقد نزلت هذه الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقرأوا فقرأوا (والشعراء) إلى قوله (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات) فقال: أنتم هم (وذكروا الله كثيرا) فقال: أنتم هم (وانتصروا من بعد ما ظلموا) فقال:
أنتم هم. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحسان
ابن ثابت: اهج المشركين فإن جبريل معك. وأخرج ابن سعد عن البراء بن عازب قال: قيل يا رسول الله إن
أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك، فقام بن رواحة فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه، فقال: أنت
الذي تقول ثبت الله؟ فقال: نعم يا رسول الله، قلت:
ثبت الله ما أعطاك من حسن * تثبيت موسى ونصرا مثل ما نصرا
قال: وأنت، ففعل الله بك مثل ذلك، ثم وثب كعب فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه؟ فقال: أنت الذي
تقول همت؟ قال: نعم يا رسول الله، قلت:
همت سخينة أن تغالب ربها * فلتغلبن مغالب الغلاب
فقال: أما إن الله لم ينسى ذلك لك، ثم قام حسان فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه، وأخرج لسانا له أسود،
فقال: يا رسول الله لو شئت لفريت به المراد، ائذن لي فيه، فقال: اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم
وأيامهم وأحسابهم واهجهم وجبريل معك. وأخرج أحمد وابن سعد عن أبي هريرة قال: مر عمر بحسان وهو
ينشد في المسجد فلحظ إليه فنظر إليه، فقال: قد كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك، فسكت ثم التفت
123

حسان إلى أبي هريرة فقال: أنشدك بالله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أجب عني اللهم
أيده بروح القدس؟ قال نعم. وأخرج ابن سعد من حديث جابر مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن بريدة
قال: قال رسول الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن من الشعر حكما ". وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن من الشعر حكما ومن البيان سحرا ". وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه، خير من أن يمتلئ شعرا ". وفي الصحيح
من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير
له من أن يمتلئ شعرا " قال في الصحاح: وروي القيح جوفه يريه وريا: إذا أكله. قال القرطبي: روى إسماعيل
ابن عباس عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" حسن الشعر كحسن الكلام وقبيح الشعر كقبيح الكلام ". قال القرطبي: رواه إسماعيل عن عبد الله بن عون
الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. قال: وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام ".
وأخرج مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال " ردفت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل
معك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ قلت نعم، قال: هيه فأنشدته بيتا، فقال هيه، ثم أنشدته بيتا، فقال هيه حتى
أنشدته مائة بيت ". وأخرج ابن أبي حاتم عن فضالة بن عبيد في قوله (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)
قال: هؤلاء الذين يخربون البيت.
تفسير سورة النمل
هي ثلاث وتسعون آية، وقيل أربع وتسعون
قال القرطبي: وهي مكية كلها في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة النمل بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
124

قوله (طس) قد مر الكلام مفصلا في فواتح السور، وهذه الحروف إن كانت اسما للسورة فمحلها الرفع
على الابتداء وما بعده خبره، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هذا اسم هذه السورة وإن لم تكن هذه
الحروف اسما للسورة، بل مسرودة على نمط التعديد فلا محل لها، والإشارة بقوله (تلك) إلى نفس السورة،
لأنها قد ذكرت إجمالا بذكر اسمها، واسم الإشارة مبتدأ وخبره (آيات القرآن) والجملة خبر المبتدأ الأول على
تقدير أنه مرتفع بالابتداء (وكتاب مبين) قرأ الجمهور بجر كتاب عطفا على القرآن: أي آيات القرآن وآيات
كتاب مبين، ويحتمل أن يكون المراد بقوله (وكتاب) القرآن نفسه، فيكون من عطف بعض الصفات على
بعض مع اتحاد المدلول، وأن يكون المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، أو نفس السورة، وقرأ ابن عبلة " وكتاب
مبين " برفعهما عطفا على آيات. وقيل هو على هذه القراءة على تقدير مضاف محذوف وإقامة المضاف إليه مقامه:
أي وآيات كتاب مبين، فقد وصف الآيات بالوصفين: القرآنية الدالة على كونه مقروءا مع الإشارة إلى كونه
قرآنا عربيا معجزا، والكتابية الدالة على كونه مكتوبا مع الإشارة إلى كونه متصفا بصفة الكتب المنزلة، فلا يكون
على هذا من باب عطف صفة على صفة مع اتحاد المدلول، ثم ضم إلى الوصفين وصفا ثالثا، وهي الإبانة لمعانيه
لمن يقرؤه، أو هو من أبان بمعنى: بان معناه واتضح إعجازه بما اشتمل عليه من البلاغة. وقدم وصف القرآنية
هنا نظرا إلى تقدم حال القرآنية على حال الكتابة وأخره في سورة الحجر فقال - الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين -
نظرا إلى حالته التي قد صار عليها، فإنه مكتوب، والكتابة سبب القراءة والله أعلم. وأما تعريف القرآن هنا وتنكير
الكتاب، وتعريف الكتاب في سورة الحجر، وتنكير القرآن فلصلاحية كل واحد منهما للتعريف والتنكير (هدى
وبشرى للمؤمنين) في موضع نصب على الحال من الآيات أو من الكتاب: أي تلك آيات هادية ومبشرة، ويجوز
أن يكون في محل رفع على الابتداء: أي هو هدى: أو هما خبران آخران لتلك، أو هما مصدران منصوبان بفعل
مقدر: أي يهدى هدى ويبشر بشرى. ثم وصف المؤمنين الذين لهم الهدى والبشرى فقال (الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة) والموصول في محل جر، أو يكون بدلا أو بيانا، أو منصوبا على المدح، أو مرفوعا على تقدير
مبتدأ. والمراد بالصلاة الصلوات الخمس، والمراد بالزكاة الزكاة المفروضة، وجملة (وهم بالآخرة هم يوقنون)
في محل نصب على الحال، وكرر الضمير للدلالة على الحصر: أي لا يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون
125

بين الإيمان والعمل الصالح، وجعل الخبر مضارعا للدلالة على التجدد في كل وقت وعدم الانقطاع. ثم لما
ذكر سبحانه أهل السعادة ذكر بعدهم أهل الشقاوة فقال (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) وهم الكفار: أي
لا يصدقون بالبعث (زينا لهم أعمالهم) قيل المراد زين الله لهم أعمالهم السيئة حتى رأوها حسنة. وقيل المراد أن الله زين
لهم الأعمال الحسنة وذكر لهم ما فيها من خيري الدنيا والآخرة فلم يقبلوا ذلك. قال الزجاج: معنى الآية انا جعلنا
جزاءهم علي كفرهم أن زينا لهم ما هم فيه (فهم يعمهون) أي يترددون فيها متحيرين على الاستمرار لا يهتدون إلى
طريقة ولا يقفون على حقيقة. وقيل معنى يعمهون يتمادون. وقال قتادة: يلعبون، وفي معنى التحير. قال الشاعر:
ومهمه أطرافه في مهمه * أعمى الهدى الحائرين العمة
والإشارة بقوله (أولئك) إلى المذكورين قبله، وهو مبتدأ خبره (لهم سوء العذاب) قيل في الدنيا كالقتل
والأسر، ووجه تخصيصه بعذاب الدنيا قوله بعده (وهم في الآخرة هم الأخسرون) أي هم أشد الناس خسرانا
وأعظمهم خيبة، ثم مهد سبحانه مقدمة نافعة لما سيذكره بعد ذلك من الأخبار العجيبة، فقال (وإنك لتلقى
القرآن من لدن حكيم عليم) أي يلقى عليك فتلقاه وتأخذه من لدن كثير الحكمة والعلم، قيل إن لدن هاهنا بمعنى
عند. وفيها لغات كما تقدم في سورة الكهف (إذ قال موسى لأهله) الظرف منصوب بمضمر وهو أذكر. قال
الزجاج: موضع إذ نصب، المعنى: أذكر إذ قال موسى: أي أذكر قصته إذ قال لأهله، والمراد بأهله امرأته
في مسيره من مدين إلى مصر، ولم يكن معه إذ ذاك إلا زوجته بنت شعيب، فكنى عنها بلفظ الأهل الدال على
الكثرة، ومثله قوله - امكثوا - ومعنى (إني آنست نارا) أبصرتها (سآتيكم منها بخبر) السين تدل على بعد مسافة
النار (أو آتيكم بشهاب قبس) قرأ عاصم وحمزة والكسائي بتنوين شهاب، وقرأ الباقون بإضافته إلى قبس، فعلى
القراءة الأولى يكون قبس بدلا من شهاب أو صفة له لأنه بمعنى مقبوس، وعلى القراءة الثانية الإضافة للبيان،
والمعنى على القراءتين: آتيكم بشعلة نار مقبوسة: أي مأخوذة من أصلها. قال الزجاج: من نون جعل قبس من
صفة شهاب، وقال الفراء: هذه الإضافة كالإضافة في قولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، أضاف الشئ
إلى نفسه لاختلاف أسمائه. وقال النحاس: هي إضافة النوع إلى الجنس كما تقول: ثوب خز، وخاتم حديد.
قال: ويجوز في غير القرآن بشهاب قبسا على أنه مصدر أو بيان أو حال (لعلكم تصطلون) أي رجاء أن تستدفئوا
بها، أو لكي تستدفئوا بها من البرد، يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها. قال الزجاج: كل أبيض ذي
نور فهو شهاب. وقال أبو عبيدة: الشهاب النار، ومنه قول أبي النجم:
كأنما كان شهابا واقدا * أضاء ضوءا ثم صار خامدا
وقال ثعلب: أصل الشهاب عود في أحد طرفيه جمرة، والاخر لا نار فيه، والشهاب الشعاع المضئ، وقيل
للكوكب شهاب، ومنه قول الشاعر:
في كفه صعدة مثقفة * فيها سنان كشعلة القبس
(فلما جاءها) أي جاء النار موسى (نودي أن بورك من في النار ومن حولها) أن هي المفسرة لما في النداء من
معنى القول، أو هي المصدرية: أي بأن بورك، وقيل هي المخففة من الثقيلة. قال الزجاج: أن في موضع نصب
أي بأن قال، ويجوز أن يكون في موضع رفع اسم ما لم يسم فاعله. والأولى أن النائب ضمير يعود إلى موسى.
وقرأ أبي وابن عباس ومجاهد " أن بوركت النار ومن حولها " حكى ذلك أبو حاتم. وحكى الكسائي عن العرب:
126

باركك الله، وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك، وكذلك حكى هذا الفراء. قال ابن جرير: قال بورك
من في النار، ولم يقل بورك على النار على لغة من يقول باركك الله: أي بورك على من في النار، وهو موسى، أو
على من في قرب النار لا أنه كان في وسطها. وقال السدي: كان في النار ملائكة، والنار هنا هي مجرد نور،
ولكنه ظن موسى أنها نار، فلما وصل إليها وجدها نورا. وحكي عن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد بمن في
النار هو الله سبحانه: أي نوره. وقيل بورك ما في النار من أمر الله سبحانه الذي جعلها على تلك الصفة. قال
الواحدي: ومذهب المفسرين أن المراد بالنار النور، ثم نزه سبحانه نفسه فقال (وسبحان الله رب العالمين) وفيه
تعجيب لموسى من ذلك (يا موسى أنه أنا الله العزيز الحكيم) الضمير للشأن، أنا الله العزيز الغالب القاهر الحكيم
في أمره وفعله. وقيل إن موسى قال: يا رب من الذي ناداني؟ فأجابه الله سبحانه بقوله: إنه أنا الله، ثم أمره
سبحانه بأن يلقي عصاه ليعرف ما أجراه الله سبحانه على يده من المعجزة الخارقة، وجملة (وألق عصاك) معطوفة
على بورك، وفي الكلام حذف، والتقدير فألقاها من يده فصارت حية (فلما رآها تهتز كأنها جان) قال الزجاج:
صارت العصا تتحرك كما يتحرك الجان، وهي الحية البيضاء، وإنما شبهها بالجان في خفة حركتها، وشبهها في
موضع آخر بالثعبان لعظمها، وجمع الجان جنان وهي الحية الخفيفة الصغيرة الجسم. وقال الكلبي: لا صغيرة ولا
كبيرة (ولى مدبرا) من الخوف (ولم يعقب) أي لم يرجع: يقال عقب فلان إذا رجع، وكل راجع معقب، وقيل
لم يقف ولم يلتفت. والأول أولى، لأن التعقيب هو الكر بعد الفر، فلما وقع منه ذلك قال الله سبحانه (يا موسى
لا تخف) أي من الحية وضررها (إني لا يخاف لدي المرسلون) أي لا يخاف عندي من أرسلته برسالتي فلا تخف
أنت. قيل ونفي الخوف عن المرسلين ليس في جميع الأوقات، بل في وقت الخطاب لهم لأنهم إذ ذاك مستغرقون.
ثم استثنى استثناء منقطعا فقال (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم) أي لكن من أذنب في ظلم
نفسه بالمعصية " ثم بدل حسنا " أي توبة وندما " بعد سوء " أي بعد عمل سوء " فإني غفور رحيم " وقيل الاستثناء
من مقدر محذوف: أي لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل الخ، كذا قال
الفراء. قال النحاس: الاستثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شئ لم يذكر. وروي عن الفراء أنه قال: إلا
بمعنى الواو. وقيل إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف. والمعنى: إلا من ظلم من المرسلين بإتيان
الصغائر التي لا يسلم منها أحد، واختار هذا النحاس، وقال: علم من عصي منهم فاستثناه فقال: إلا من ظلم،
وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطي. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: وددت أني شجرة تعضد
(وأدخل يدك في جيبك) المراد بالجيب هو المعروف، وفي القصص - اسلك يدك - وفي أدخل من المبالغة
ما لم يكن في اسلك (تخرج بيضاء من غير سوء) أي من غير برص أو نحوه من الآفات، فهو احتراس. وقوله
" تخرج " جواب أدخل يدك. وقيل في الكلام حذف تقديره: أدخل يدك تدخل وأخرجها تخرج، ولا حاجة
لهذا الحذف ولا ملجئ إليه. قال المفسرون: كانت على موسى مدرعة من صوف لا كم لها ولا إزار، فأدخل
يده في جيبه وأخرجها فإذا هي تبرق كالبرق، وقوله (في تسع آيات) قال أبو البقاء: هو في محل نصب على
الحال من فاعل تخرج، وفيه بعد. وقيل متعلق بمحذوف: أي اذهب في تسع آيات. وقيل متعلق بقوله: ألق
عصاك وأدخل يدك في جملة تسع آيات أو مع تسع آيات. وقيل المعنى: فهما آيتان من تسع: يعني العصا واليد،
فتكون الآيات إحدى عشرة: هاتان، والفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة،
127

والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم، قال النحاس: أحسن ما قيل فيه أن هذه الآية يعنى اليد داخلة في
تسع آيات، وكذا قال المهدوي والقشيري. قال القشيري: تقول خرجت في عشرة نفر، وأنت أحدهم: أي
خرجت عاشر عشرة، ففي بمعنى من لقربها منها كما تقول خذ لي عشرا من الإبل فيها فحلان: أي منها. قال
الأصمعي في قول امرئ القيس:
وهل ينعمن من كان آخر عهده * ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال
في بمعنى من، وقيل في بمعنى مع (إلى فرعون وقومه) قال الفراء: في الكلام إضمار: أي إنك مبعوث، أو
مرسل إلى فرعون وقومه، وكذا قال الزجاج: (إنهم كانوا قوما فاسقين) الجملة تعليل لما قبلها (فلما جاءتهم
آياتنا مبصرة) أي جاءتهم آياتنا التي على يد موسى حال كونها مبصرة: أي واضحة بينه كأنها لفرط وضوحها
تبصر نفسها كقوله - وآتينا ثمود الناقة مبصرة - قال الأخفش: ويجوز أن تكون بمعنى مبصرة على أن اسم الفاعل
بمعنى اسم المفعول، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا. وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم والصاد: أي
مكانا يكثر فيه التبصر، كما يقال: الولد مجبنة ومبخلة (قالوا هذا سحر مبين) أي لما جاءتهم قالوا هذا القول:
أي سحر واضح (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) أي كذبوا بها حال كون أنفسهم مستيقنة لها فالواو للحال،
وانتصاب (ظلما وعلوا) على الحال: أي ظالمين عالين، ويجوز أن ينتصبا على العلة: أي الحامل لهم على ذلك
الظلم والعلو، ويجوز أن يكونا نعت مصدر محذوف: أي جحدوا بها جحودا ظلما وعلوا. قال أبو عبيدة:
والباء في " وجحدوا بها " زائدة: أي وجحدوها. قال الزجاج: التقدير: وجحدوا بها ظلما وعلوا: أي شركا
وتكبرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى وهم يعلمون أنها من عند الله (فانظر) يا محمد (كيف كان عاقبة المفسدين)
أي تفكر في ذلك فإن فيه معتبرا للمعتبرين، وقد كان عاقبة أمرهم الإغراق لهم في البحر على تلك الصفة الهائلة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (فلما جاءها نودي أن بورك من
في النار) يعنى تبارك وتعالى نفسه كان نور رب العالمين في الشجرة (ومن حولها) يعني الملائكة. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: كان الله في النور نودي من النور (ومن حولها) قال:
الملائكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال: ناداه الله وهو
في النور. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عنه أيضا (أن بورك من في النار) قال: بوركت النار.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: في مصحف أبي بن كعب: بوركت النار ومن
حولها، أما النار فيزعمون أنها نور رب العالمين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (أن بورك) قال: قدس:
وأخرج عبد بن حميد وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات من
طريق أبي عبيدة عن أبي موسي الأشعري قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " إن الله لا ينام
ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، حجابه النور لو
رفع لأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره. ثم قرأ أبو عبيدة (أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان
الله رب العالمين) ". والحديث أصله مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال: كانت على موسى جبة من صوف لا تبلغ مرفقيه، فقال له: أدخل يدك في جيبك فأدخلها.
وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) قال: تكبرا وقد استيقنتها أنفسهم، وهذا من
التقديم والتأخير.
128

لما فرغ سبحانه من قصة موسى شرع في قصة داود وابنه سليمان، وهذه القصص وما قبلها وما بعدها هي
كالبيان والتقرير لقوله - وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم -، والتنوين في (علما) إما للنوع: أي طائفة من
العلم، أو للتعظيم: أي علما كثيرا، والواو في قوله (وقالا الحمد لله) للعطف على محذوف، لأن هذا المقام مقام
الفاء، فالتقدير: ولقد آتيناهما علما فعملا به وقالا الحمد لله، ويؤيده أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان
مسبوقا بعمل القلب، وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية (الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) أي
فضلنا بالعلم والنبوة وتسخير الطير والجن والإنس ولم يفضلوا أنفسهم على الكل تواضعا منهم. وفي الآية دليل
على شرف العلم وارتفاع محله، وأن نعمة العلم من أجل النعم التي ينعم الله بها على عباده، وأن من أوتيه فقد أوتي
فضلا على كثير من العباد، ومنح شرفا جليلا (وورث سليمان داود) أي ورثه العلم والنبوة. قال قتادة والكلبي:
كان لداود تسعة عشر ولدا ذكرا فورث سليمان من بينهم نبوته، ولو كان المراد وراثة المال لم يخص سليمان بالذكر
لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين، فهذه الوراثة هي وراثة مجازية كما في قوله صلى الله
عليه وآله وسلم " العلماء ورثة الأنبياء " (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير) قال سليمان هذه المقالة مخاطبا
129

للناس تحدثا بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها
غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور:
عجيب لها أن يكون غناؤها * فصيحا ولم يغفر بمنطقها فما
ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير
لأنه كان جندا من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا
يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيرا ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها
وفهمه، ومعنى (وأوتينا من كل شئ) كل شئ تدعو إليه الحاجة: كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير
الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد
نفسه بيانا لحاله من كونه مطاعا لا يخالف، لا تكبرا وتعظيما لنفسه، والإشارة بقوله (إن هذا) إلى ما تقدم ذكره
من التعليم والإيتاء (لهو الفضل المبين) أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا (وحشر
لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) الحشر الجمع: أي جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون
في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة
الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر (فهم يوزعون) أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على
مراتبهم، يقال وزعه يزعه وزعا: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم: أي يرده،
ومنه قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا * وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقول الآخر: ومن لم يزعه لبه وحياؤه * فليس له من شيب فوديه وازع
وقول الآخر: ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى * من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع: أي طوائف (حتى إذا أتوا على واد النمل) حتى
هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويكون غاية لما قبلها، والمعنى فهم يوزعون إلى حصول هذه الغاية وهو إتيانهم على
واد النمل: أي فهم يسيرون ممنوعا بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا أتوا الخ، وعلى واد النمل متعلق بأتوا،
وعدي بعلى لأنهم كانوا محمولين على الريح فهم مستعلون. والمعنى: أنهم قطعوا الوادي وبلغوا اخره، ووقف
القراء جميعهم على واد بدون ياء اتباعا للرسم حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين كقوله - الذين جابوا الصخر بالواد -
إلا الكسائي فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل. قال كعب: واد
النمل بالطائف. وقال قتادة ومقاتل: هو بالشام (قالت نملة) هذا جواب إذا، أنها لما رأتهم متوجهين إلى
الوادي فرت ونبهت سائر النمل منادية لها قائلة (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم) جعل خطاب النمل كخطاب العقلاء
لفهمها لذلك الخطاب، والمساكن هي الأمكنة التي يسكن النمل فيها.
قيل وهذه النملة التي سمعها سليمان هي أنثى بدليل تأنيث الفعل المسند إليها. ورد هذا أبو حيان فقال: لحاق
التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر قالت، لأن نملة وإن كانت بالتاء فهي مما
لا يتميز فيه المذكر من المؤنث بتذكير الفعل ولا بتأنيثه، بل يتميز بالإخبار عنه بأنه ذكر أو أنثى ولا يتعلق بمثل
هذا كثير فائدة ولا بالتعرض لاسم النملة ولما ذكر من القصص الموضوعة والأحاديث المكذوبة. وقرأ الحسن
وطلحة ومعمر بن سليمان " نملة " والنمل بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة. وقرأ سليمان التيمي بضمتين فيهما
130

(لا يحطمنكم سليمان وجنوده) الحطم الكسر، يقال حطمته حطما: أي كسرته كسرا وتحطم تكسر، وهذا النهي
هو في الظاهر للنمل، وفي الحقيقة لسليمان، فهو من باب: لا أرينك هاهنا، ويجوز أن يكون بدلا من الأمر،
ويحتمل أن يكون جوابا للأمر. قال أبو حيان: أما تخريجه على جواب الأمر فلا يكون إلا على قراءة الأعمش،
فإنه قرأ " لا يحطمكم " بالجزم بدون نون التوكيد، وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا في الشعر. قال
سيبويه: وهو قليل في الشعر، شبهوه بالنهي حيث كان مجزوما. وقرأ أبي " ادخلوا مساكنكن " وقرأ شهر بن حوشب
" مسكنكم " وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني " لا يحطمنكم " بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء،
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد، وجملة (وهم لا يشعرون) في محل نصب
على الحال من فاعل يحطمنكم: أي لا يشعرون بحطمكم ولا يعلمون بمكانكم، وقيل إن المعنى: والنمل لا يشعرون
أن سليمان يفهم مقالتها، وهو بعيد (فتبسم ضاحكا من قولها) قرأ ابن السميفع " ضحكا " وعلى قراءة الجمهور
يكون ضاحكا حالا مؤكدة لأنه قد فهم الضحك من التبسم، وقيل هي حال مقدره لأن التبسم أول الضحك،
وقيل لم كان التبسم قد يكون للغضب كان الضحك مبينا له، وقيل إن ضحك الأنبياء هو التبسم لاغير، وعلى
قراءة ابن السميفع يكون ضحكا مصدرا منصوبا بفعل محذوف أو في موضع الحال، وكان ضحك سليمان تعجبا
من قولها وفهمها واهتدائها إلى تحذير النمل (وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي)
قد تقدم بيان معنى أوزعني قريبا في قوله " فهم يوزعون " قال في الكشاف: وحقيقة أوزعني: اجعلني أزع
شكر نعمك عندي وأكفه وأرتبطه لا ينفلت عني حتى لا أنفك شاكرا لك انتهى. قال الواحدي: أوزعني أي
ألهمني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي، يقال فلان موزع بكذا: أي مولع به انتهى. قال القرطبي: وأصله من
وزع، فكأنه قال: كفني عما يسخطك انتهى. والمفعول الثاني لأوزعني هو: أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي،
وقال الزجاج: إن معنى أوزعني: امنعني أن أكفر نعمتك، وهو تفسير باللازم، ومعنى وعلى والدي: الدعاء
منه بأن يوزعه الله شكر نعمته على والديه كما أوزعه شكر نعمته عليه، فإن الإنعام عليهما إنعام عليه، وذلك
يستوجب الشكر منه لله سبحانه، ثم طلب أن يضيف الله له لواحق نعمه إلى سوابقها، ولا سيما النعم الدينية، فقال
(وأن أعمل صالحا ترضاه) أي عملا صالحا ترضاه مني، ثم دعا أن يجعله الله سبحانه في الآخرة داخلا في زمرة
الصالحين فإن ذلك هو الغاية التي يتعلق الطلب بها، فقال (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) والمعنى:
أدخلني في جملتهم، وأثبت اسمي في أسمائهم، واحشرني في زمرتهم إلى دار الصالحين وهي الجنة، اللهم وإني
أدعوك بما دعاك به هذا النبي الكريم فتقبل ذلك مني وتفضل علي به، فإني وإن كنت مقصرا في العمل ففضلك هو
سبب الفوز بالخير، فهذه الآية منادية بأعلى صوت وأوضح بيان بأن دخول الجنة التي هي دار المؤمنين بالتفضل
منك لا بالعمل منهم كما قال رسولك الصادق المصدوق فيما ثبت عنه في الصحيح " سددوا وقاربوا واعلموا أن
لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " فإذا لم يكن إلا
تفضلك الواسع فترك طلبه منك عجز، والتفريط في التوسل إليك بالإيصال إليه تضييع. ثم شرع سبحانه في ذكر
قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان، وذلك بدلالة الهدهد فقال (وتفقد الطير) التفقد تطلب ما غاب عنك
وتعرف أحواله، والطير اسم جنس لكل ما يطير، والمعنى: أنه تطلب ما فقد من الطير وتعرف حال ما غاب
منها، وكانت الطير تصحبه في سفره، وتظله بأجنحتها (فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) أي
131

ما للهدهد لا أراه؟ فهذا الكلام من الكلام المقلوب الذي تستعمله العرب كثيرا، وقيل لا حاجة إلى ادعاء القلب،
بل هو استفهام عن المانع له من رؤية الهدهد، كأن قال: مالي لا أراه هل ذلك لساتر يستره عني، أو لشئ
آخر؟ ثم ظهر له أنه غائب فقال: أم كان من الغائبين، وأم هي المنقطعة التي بمعنى الإضراب قرأ ابن كثير
وابن محيصن وهشام وأيوب " مالي " بفتح الياء، وكذلك قرأوا في يس - ومالي لا أعبد الذي فطرني - بفتح الياء،
وقرأ بإسكانها في الموضعين حمزة والكسائي ويعقوب، وقرأ الباقون بفتح التي في يس وإسكان التي هنا. قال
أبو عمرو: لأن هذه التي هنا استفهام، والتي في يس نفي، واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان (لأعذبنه عذابا
شديدا أو لأذبحنه).
اختلفوا في هذا العذاب الشديد ما هو؟ فقال مجاهد وابن جريج: هو أن ينتف ريشه جميعا. وقال يزيد بن
رومان: هو أن ينتف ريش جناحيه، وقيل هو أن يحبسه مع أضداده، وقيل أن يمنعه من خدمته، وفي هذا
دليل على أن العقوبة على قدر للذنب لا على قدر الجسد. وقوله عذابا اسم مصدر أو مصدر على حذف الزوائد
كقوله - أنبتكم من الأرض نباتا - (أو ليأتيني بسلطان مبين) قرأ ابن كثير وحده بنون التأكيد المشددة بعدها نون
الوقاية، وقرأ الباقون بنون مشددة فقط، وهي نون التوكيد، وقرأ عيسى ابن عمر بنون مشددة مفتوحة غير
موصولة بالياء، والسلطان المبين هو الحجة البينة في غيبته (فمكث غير بعيد) أي الهدهد مكث زمانا غير بعيد.
قرأ الجمهور " مكث " بضم الكاف، وقرأ عاصم وحده بفتحها، ومعناه في القرائتين: أقام زمانا غير بعيد. قال
سيبويه: مكث يمكث مكوثا كقعد يقعد قعودا. وقيل إن الضمير في مكث لسليمان. والمعنى: بقي سليمان بعد
التفقد والتوعد زمانا غير طويل، والأول أولى (فقال أحطت بما لم تحط به) أي علمت ما لم تعلمه من الأمر،
والإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته، ولعل في الكلام حذفا، والتقدير: فمكث الهدهد غير بعيد فجاء فعوتب
على مغيبه، فقال معتذرا عن ذلك (أحطت بما لم تحط به). قال الفراء: ويجوز إدغام التاء في الطاء، فيقال أحط،
وإدغام الطاء في التاء فيقال أحت (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) قرأ الجمهور من سبأ بالصرف على أنه اسم رجل،
نسب إليه قوم، ومنه قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد غض أعناقهم جلد الجواميس
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة وترك الصرف على أنه اسم مدينة، وأنكر الزجاج أن يكون اسم الرجل
وقال: سبأ اسم مدينة تعرف بمأرب اليمن بينهما وبين صنعاء ثلاثة أيام. وقيل هو اسم امرأة سميت بها المدينة. قال
القرطبي: والصحيح أنه اسم رجل كما في كتاب الترمذي من حديث فروة بن مسيك المرادي. قال ابن عطية:
وخفي هذا على الزجاج فخبط خبط عشواء. وزعم الفراء أن الرؤاسي سأل أبا عمرو بن العلاء عن سبأ فقال:
ما أدري ما هو؟ قال النحاس: وأبو عمرو أجل من أن يقول هذا، قال: والقول في سبأ ما جاء التوقيف فيه أنه
في الأصل اسم رجل، فإن صرفته فلأنه قد صار اسما للحي، وإن لم تصرفه جعلته اسما للقبيلة مثل ثمود، إلا أن
الاختيار عند سيبويه الصرف انتهى.
وأقول: لا شك أن سبأ اسم لمدينة باليمن كانت فيها بلقيس، وهو أيضا اسم رجل من قحطان، وهو سبأ بن
132

يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود، ولكن المراد هنا أن الهدهد جاء إلى سليمان بخبر ما عاينه في مدينة سبأ مما
وصفه، وسيأتي في آخر هذا البحث من المأثور ما يوضح هذا ويؤيده، ومعنى الآية: أن الهدهد جاء سليمان من
هذه المدينة بخبر يقين، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن، فلما قال الهدهد لسليمان ما قال، قال له سليمان: وما ذاك؟
فقال (إني وجدت امرأة تملكهم) وهي بلقيس بنت شرحبيل، وجدها الهدهد تملك أهل سبأ، والجملة هذه
كالبيان، والتفسير للجملة التي قبلها: أي ذلك النبأ اليقين هو كون هذه المرأة تملك هؤلاء (وأوتيت من كل
شئ) فيه مبالغة، والمراد أنها أوتيت من كل شئ من الأشياء التي تحتاجها، وقيل المعنى: أوتيت من كل شئ
في زمانها شيئا، فحذف شيئا لأن الكلام قد دل عليه (ولها عرش عظيم) أي سرير عظيم، ووصفه بالعظم لأنه كما
قيل كان من ذهب طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وارتفاعه في السماء ثلاثون ذراعا مكلل بالدر
والياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر. وقيل المراد بالعرش هنا الملك، والأول أولى لقوله: " أيكم يأتيني بعرشها "
قال ابن عطية: واللازم من الآية أنها امرأة ملكة على مدائن اليمن ذات ملك عظيم وسرير عظيم، وكانت كافرة من
قوم كفار (وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله) أي يعبدونها متجاوزين عبادة الله سبحانه، قيل كانوا
مجوسا، وقيل زنادقة (وزين لهم الشيطان أعمالهم) التي يعملونها، وهي عبادة الشمس وسائر أعمال الكفر
(فصدهم عن السبيل) أي صدهم الشيطان بسبب ذلك التزيين عن الطريق الواضح، وهو الإيمان بالله وتوحيده
(فهم لا يهتدون) إلى ذلك (ألا يسجدوا) قرأ الجمهور بتشديد " ألا ". قال ابن الأنباري: الوقف على فهم
لا يهتدون غير تام عند من شدد ألا، لأن المعنى: وزين لهم الشيطان ألا يسجدوا. قال النحاس: هي أن دخلت
عليها لا، وهي في موضع نصب. قال الأخفش: أي زين لهم أن لا يسجدوا لله بمعنى لئلا يسجدوا لله. وقال
الكسائي: هي في موضع نصب بصدهم: أي فصدهم ألا يسجدوا بمعنى لئلا يسجدوا، فهو على الوجهين
مفعول له. وقال اليزيدي: إنه بدل من أعمالهم في موضع نصب. وقال أبو عمرو: في موضع خفض على البدل
من السبيل. وقيل العامل فيها لا يهتدون: أي فهم لا يهتدون أن يسجدوا لله، وتكون لا على هذا زائدة كقوله
- ما منعك أن لا تسجد - وعلى قراءة الجمهور ليس هذه الآية موضع سجدة، لأن ذلك إخبار عنهم بترك السجود:
إما بالتزيين أو بالصد، أو بمنع الاهتداء، وقد رجح كونه علة للصد الزجاج، ورجح الفراء كونه علة لزين،
قال: زين لهم أعمالهم لئلا يسجدوا، ثم حذفت اللام. وقرأ الزهري والكسائي بتخفيف " ألا ". قال الكسائي:
ما كنت أسمع الأشياخ يقرأونها إلا بالتخفيف على نية الأمر، فتكون " ألا " على هذه القراءة حرف تنبيه واستفتاح
وما بعدها حرف نداء، واسجدوا فعل أمر، وكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون هكذا ألا يا اسجدوا،
ولكن الصحابة رضي الله عنهم أسقطوا الألف من يا وهمزة الوصل من اسجدوا خطأ ووصلوا الياء بسين اسجدوا،
فصارت صورة الخط ألا يسجدوا، والمنادي محذوف، وتقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا، وقد حذفت العرب
المنادي كثيرا في كلامها، ومنه قول الشاعر:
ألا يا أسلمي يا دار مي على البلى * ولا زال منهلا بجرعائك القطر
وقول الآخر: ألا يا أسلمي ثم أسلمي ثمت أسلمي * ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقول الآخر أيضا: * ألا يا أسلمي يا هند هند بني بكر * وهو كثير في أشعارهم. قال الزجاج:
وقراءة التخفيف تقتضي وجوب السجود دون قراءة التشديد، واختار أبو حاتم وأبو عبيد قراءة التشديد. قال
الزجاج: ولقراءة التخفيف وجه حسن إلا أن فيها انقطاع الخبر عن أمر سبأ ثم الرجوع بعد ذلك إلى ذكرهم.
133

والقراءة بالتشديد خبر يتبع بعضه بعضا لا انقطاع في وسطه، وكذا قال النحاس، وعلى هذه القراءة تكون جملة
ألا يسجدوا معترضة من كلام الهدهد، أو من كلام سليمان، أو من كلام الله سبحانه. وفي قراءة عبد الله بن
" مسعود " هل لا تسجدوا " بالفوقية، وفي قراءة أبي (ألا تسجدوا) بالفوقية أيضا (الذي يخرج الخبء في السماوات
والأرض) أي يظهر ما هو مخبوء ومخفي فيهما، يقال: خبأت الشئ أخبؤه خبأ، والخب ء ما خبأته. قال
الزجاج: جاء في التفسير أن الخب ء ها هنا بمعنى القطر من السماء والنبات من الأرض. وقيل خب ء الأرض
كنوزها ونباتها. وقال قتادة: الخب ء السر. قال النحاس: أي ما غاب في السماوات والأرض. وقرأ أبي
وعيسى بن عمر " الخب " بفتح الباء من غير همز تخفيفا، وقرأ عبد الله وعكرمة ومالك بن دينار " الخبا " بالألف
قال أبو حاتم: وهذا لا يجوز في العربية. ورد عليه بأن سيبويه حكى عن العرب أن الألف تبدل من الهمزة إذا
كان قبلها ساكن. وفي قراءة عبد الله " يخرج الخب من السماوات والأرض ". قال الفراء: ومن وفي يتعاقبان،
والموصول يجوز أن يكون في محل جر نعتا لله سبحانه، أو بدلا منه، أو بيانا له، ويجوز أن يكون في محل نصب
على المدح، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وجملة (ويعلم ما تخفون وما تعلنون) معطوفة
على يخرج، قرأ الجمهور بالتحتية في الفعلين، وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وحفص والكسائي بالفوقية
للخطاب، أما القراءة الأولى فلكون الضمائر المتقدمة ضمائر غيبة، وأما القراءة الثانية فلكون قراءة الزهري والكسائي
فيها الأمر بالسجود والخطاب لهم بذلك، فهذا عندهم من تمام ذلك الخطاب. والمعنى: أن الله سبحانه يخرج ما في
هذا العالم الإنساني من الخفاء بعلمه له كما يخرج ما خفي في السماوات والأرض، ثم بعد ما وصف الرب سبحانه بما
تقدم مما يدل على عظيم قدرته وجليل سلطانه ووجوب توحيده وتخصيصه بالعبادة قال (الله لا إله إلا هو رب
العرش العظيم) قرأ الجمهور العظيم بالجر نعتا للعرش، وقرأ ابن محيصن بالرفع نعتا للرب، وخص العرش بالذكر
لأنه أعظم المخلوقات كما ثبت ذلك في المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إن الله لم ينعم على عبد نعمة فحمد الله عليها إلا كان
حمده أفضل من نعمته لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله عز وجل (ولقد آتينا داود وسليمان
علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين) وأي نعمة أفضل مما أعطى داود وسليمان.
أقول: ليس في الآية ما يدل على ما فهمه رحمه الله، والذي تدل عليه أنهما حمدا الله سبحانه على ما فضلهما به من
النعم، فمن أين تدل على أن حمده أفضل من نعمته. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في
قوله (وورث سليمان داود) قال: ورثه نبوته وملكه وعلمه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم
عن أبي الصديق الناجي قال " خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها
إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تسقينا وإما أن تهلكنا، فقال
سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ". وأخرج الحاكم في المستدرك عن جعفر بن محمد قال: أعطي
سليمان ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سليمان سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن
والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطى كل شئ، ومنطق كل شئ، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة،
حتى إذا أراد الله أن يقبضه إليه أوحى إليه أن يستودع علم الله وحكمته أخاه، وولد داود كانوا أربعمائة وثمانين
رجلا أنبياء بلا رسالة. قال الذهبي: هذا باطل، وقد رويت قصص في عظم ملك سليمان لا تطيب النفس بذكر
شئ منها، فالإمساك عن ذكرها أولى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
134

(فهم يوزعون) قال يدفعون. وأخرج ابن جرير عنه في قوله (فهم يوزعون) قال: جعل لكل صنف وزعة
ترد أولاها على أخراها لئلا تتقدمه في السير كما تصنع الملوك. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
قتادة في قوله (أوزعني) قال: ألهمني. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس أنه سئل كيف تفقد سليمان الهدهد من
بين الطير؟ قال: إن سليمان نزل منزلا فلم يدر ما بعد الماء، وكان الهدهد يدل سليمان على الماء، فأراد أن
يسأله عنه ففقده، قيل كيف ذاك والهدهد ينصب له الفخ يلقي عليه التراب ويضع له الصبي الحبالة فيغيبها فيصيده؟
فقال: إذا جاء القضاء ذهب البصر. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (لأعذبنه عذابا شديدا) قال: أنتف ريشه
كله، وروى نحو هذا عن جماع من التابعين، وروى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: كان اسم هدهد سليمان غبر.
وأقول: من أين جاء علم هذا للحسن رحمه الله، وهكذا ما رواه عنه ابن عساكر أن اسم النملة حرس، وأنها
من قبيلة يقال لها بنو الشيصان، وأنها كانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وهو رحمه الله أورع الناس عن نقل
الكذب، ونحن نعلم أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شئ، ونعلم أنه ليس للحسن
إسناد متصل بسليمان أو بأحد من أصحابه، فهذا العلم مأخوذ من أهل الكتاب، وقد أمرنا أن لا نصدقهم ولا
نكذبهم، فإن ترحض مترخص بالرواية عنهم لمثل ما روى " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج " فليس ذلك فيما
يتعلق بتفسير كتاب الله سبحانه بلا شك، بل فيما يذكر عنهم من القصص الواقعة لهم. وقد كررنا التنبيه على مثل
هذا عند عروض ذكر التفاسير الغريبة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(أو ليأتيني بسلطان مبين) قال: خبر الحق الصدق البين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة قال:
قال ابن عباس كل سلطان في القرآن حجة وذكر هذه الآية، ثم قال: وأي سلطان كان للهدهد؟ يعني أن المراد
بالسلطان الحجة لا السلطان الذي هو الملك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (أحطت بما لم تحط به) قال:
اطلعت على ما لم تطلع عليه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (وجئتك من سبأ) قال: سبأ بأرض
اليمن، يقال لها مأرب بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال (بنبأ يقين) قال: بخبر حق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر عنه أيضا (إني وجدت امرأة تملكهم) قال: كان اسمها بلقيس بنت ذي شيرة، وكانت صلباء شعراء.
وروي عن الحسن وقتادة وزهير بن محمد أنها بلقيس بنت شراحيل، وعن ابن جريج بنت ذي شرح. وأخرج
ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه وابن عساكر عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله وعليه وآله
وسلم: إحدى أبوي بلقيس كان جنيا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ولها عرش عظيم)
قال: سرير كريم من ذهب وقوائمه من جوهر ولؤلؤ حسن الصنعة غالي الثمن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه في قوله (يخرج الخبء) قال: يعلم كل خبيئة في السماء والأرض.
135

جملة (قال سننظر) مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال سليمان للهدهد: سننظر فيما أخبرتنا به من هذه
القصة (أصدقت) فيما قلت (أم كنت من الكاذبين) هذه الجملة الاستفهامية في محل نصب على أنها مفعول
سننظر، وأم هي المتصلة، وقوله (أم كنت من الكاذبين) أبلغ من قوله أم كذبت، لأن المعنى: من الذين
اتصفوا بالكذب وصار خلقا لهم. والنظر هو التأمل والتصفح، وفيه إرشاد إلى البحث عن الأخبار والكشف عن
الحقائق، وعدم قبول خبر المخبرين تقليدا لهم واعتمادا عليهم إذا تمكن من ذلك بوجه من الوجوه. ثم بين سليمان هذا
النظر الذي وعد به فقال (إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم) أي إلى أهل سبأ. قال الزجاج: في ألقه خمسة أوجه:
إثبات الياء في اللفظ وحذفها، وإثبات الكسرة للدلالة عليها، وبضم الهاء وإثبات الواو، وبحذف الواو وإثبات
الضمة للدلالة عليها، وبإسكان الهاء. وقرأ بهذه اللغة الخامسة أبو عمرو وحمزة وأبو بكر. وقرأ قالون بكسر الهاء
فقط من غير ياء. وروى عن هشام وجهان: إثبات الياء لفظا وحذفها مع كسر الهاء. وقرأ الباقون بإثبات الياء
في اللفظ، وقوله " بكتابي هذا " يحتمل أن يكون اسم الإشارة صفة للكتاب، وأن يكون بدلا منه، وأن يكون
بيانا له، وخص الهدهد بإرساله بالكتاب لأنه المخبر بالقصة ولكونه رأى منه من مخايل الفهم والعلم ما يقتضي كونه
أهلا للرسالة (ثم تول عنهم) أي تنح عنهم، أمره بذلك لكون التنحي بعد دفع الكتاب من أحسن الآداب التي
يتأدب بها رسل الملوك، والمراد التنحي إلى مكان يسمع فيه حديثهم حتى يخبر سليمان بما سمع، وقيل معنى التولي:
الرجوع إليه، والأول أولى لقوله (فانظر ماذا يرجعون) أي تأمل وتفكر فيما يرجع بعضهم إلى بعض من القول
وما يتراجعونه بينهم من الكلام (قالت) أي بلقيس (يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم) في الكلام حذف،
136

والتقدير: فذهب الهدهد فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ الخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من
عند عظيم في نفسها فعظمته إجلالا لسليمان، وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل وصفته بذلك
لكونه وصل إليها مختوما بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعا، ثم بينت ما تضمنه هذا
الكتاب فقالت (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول
مفتتح بالتسمية وبعد التسمية (أن لا تعلوا علي) أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل
مصدرية، ولا ناهية، وقيل نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو أن
لا تعلوا. قرأ الجمهور " إنه من سليمان وإنه " بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على
إسقاط حرف الجر، وقرأ أبي " إن من سليمان وإن بسم الله " بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنهما مفسرتان،
وقرأ عبد الله بن مسعود " وإنه من سليمان " بزيادة الواو، وروى ذلك أيضا عن أبي. وقرأ أشهب العقيلي وابن
السميفع " أن لا تغلوا " بالغين المعجمة من الغلو، وهو تجاوز الحد في الكبر (وأتوني مسلمين) أي منقادين للذين
مؤمنين بما جئت به (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري) الملأ أشراف القوم، والمعنى يا أيها الأشراف أشيروا علي
وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حل
لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت
لهم: يا أيها الملأ إني ألقى إلي، يا أيها الملأ أفتوني، وكرر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب
واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ويشيروا عليها بالصواب فقالت (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) أي
ما كنت مبرمة أمرا من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا علي، ف‍ (قالوا) مجيبين لها (نحن أولوا قوة) في العدد
والعدة (وأولوا بأس شديد) عند الحرب واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا، ثم
فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها فقالوا (والأمر إليك) أي موكول إلى رأيك ونظرك (فانظري
ماذا تأمرين) أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له، فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها (قالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) أي إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا
أموالها، وفرقوا شمل أهلها (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة
وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج: أي إذا
دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم،
وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه (وكذلك يفعلون) أي مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري:
الوقف على قوله (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها (وكذلك يفعلون) وقيل
هذه الجملة من تمام كلامها، فتكون من جملة مقول قولها، وعلى القول الأول تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل
لها من الإعراب. ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت
لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه فقالت (وإني مرسلة إليهم بهدية) أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال
رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكا أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبيا لم يرضه
ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك
طريقته، ولهذا قالت (فناظرة بم يرجع المرسلون) الفاء للعطف على مرسلة، وبم متعلق بيرجع، والمعنى: إني
ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو رد فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طول المفسرون في ذكر
137

هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة (فلما جاء سليمان) أي فلما جاء
رسولها المرسل بالهدية سليمان، والمراد بهذا المضمر الجنس فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: " بم يرجع
المرسلون " وقرأ عبد الله " فلما جاءوا سليمان " أي الرسل، وجملة (قال أتمدونن بمال) مستأنفة جواب سؤال مقدر
والاستفهام للإستنكار: أي قال منكرا لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه وكثرة ماله. وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب
في نون الوقاية، والباقون بنونين من غير إدغام، وأما الياء فإن نافعا وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلا ويحذفونها
وقفا، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين. وروي عن نافع أن يقرأ بنون واحدة (فما
آتاني الله خير مما آتاكم) أي ما آتاني من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه
الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص " آتاني الله " بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في
الوصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم فقال (بل أنتم بهديتكم
تفرحون) توبيخا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن
الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدا من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان
بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم والحط عليهم (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي قال
سليمان للرسول: ارجع إليهم: أي إلى بلقيس وقومها، وخاطب المفرد هاهنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل، إما
لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتنانا في الكلام.
وقرأ عبد الله بن عباس " ارجعوا " وقيل إن الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في لنأتينهم جواب قسم محذوف.
قال النحاس: وسمعت ابن كيسان يقول: هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذاق من النحويين
لأنهم يردون الشئ إلى أصله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية، ومعنى " لا قبل لهم ": لا طاقة لهم بها، والجملة
في محل جر صفة لجنود (ولنخرجنهم) معطوف على جواب القسم: أي لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها (أذلة)
أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزة، وجملة (وهم صاغرون) في محل نصب على الحال، قيل وهي حال
مؤكدة لأن الصغار هو الذلة، وقيل إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد، وقيل إن الصغار الإهانة التي تسبب
عنها الذلة. ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان، وأخبر جبريل سليمان بذلك ف (قال) سليمان
(يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها) أي عرش بلقيس الذي تقدم وصفه بالعظم (قيل أن يأتوني مسلمين) أي قبل أن
تأتيني هي وقومها مسلمين. قيل إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا، لأنها إذا أسلمت وأسلم
قومها لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم. قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء
هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. وقيل استدعاء العرش قبل وصولها ليريها
القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلا على نبوته، وقيل أراد أن يختبر عقلها ولهذا (قال نكروا لها عرشها)
الخ، وقيل أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم، والقول الأول هو الذي عليه الأكثر (قال
عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون
المثناة التحتية وبالتاء، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع وأبو السمال " عفريه " بفتح التحتية بعدها تاء
تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق. وقرأ أبو حيان بفتح العين. والعفريت المارد الغليظ
الشديد. قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت، وقال قتادة: هو الداهية،
وقيل هو رئيس الجن. قال ابن عطية: وقرأت فرقة " عفر " بكسر العين جمعه على عفار، ومما ورد من أشعار
العرب مطابقا لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي
138

فقال شيطان لهم عفريت * مالكم مكث ولا تبييت
ومما ورد على القراءة الثانية قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفرية * مصوب في سواد الليل منقضب
ومعنى قول العفريت أنه سيأتي بالعرش إلى سليمان قبل أن يقوم من مجلسه الذي يجلس فيه للحكومة بين الناس
(وإني عليه لقوي أمين) إني لقوي على حمله أمين على ما فيه. قيل اسم هذا العفريت كودن ذكره النحاس عن
وهب بن منبه. وقال السهيلي ذكوان، وقيل اسمه دعوان، وقيل صخر. وقوله: (آتيك) فعل مضارع، وأصله
أأتيك بهمزتين، فأبدلت الثانية ألفا، وقيل هو اسم فاعل (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن
يرتد إليك طرفك) قال أكثر المفسرين: اسم هذا الذي عنده علم من الكتاب آصف بن برخيا، وهو من بني
إسرائيل، وكان وزيرا لسليمان، وكان يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى. قال
ابن عطية: وقالت فرقة هو سليمان نفسه، ويكون الخطاب على هذا للعفريت: كأن سليمان استبطأ ما قاله العفريت
فقال له تحقيرا له (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) وقيل هو جبريل، وقيل الخضر والأول أولى. وقد قيل
غير ذلك بما لا أصل له. والمراد بالطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر وارتداده انضمامها. وقيل هو بمعنى
المطروف: أي الشئ الذي ينظره، وقيل هو نفس الجفن عبر به عن سرعة الأمر كما تقول لصاحبك: افعل ذلك
في لحظة. قاله مجاهد. وقال سعيد بن جبير: إنه قال لسليمان: انظر إلى السماء فما طرف حتى جاء به، فوضعه بين
يديه. والمعنى: حتى يعود إليك طرفك بعد مده إلى السماء، والأول أولى هذه الأقوال. ثم الثالث (فلما رآه
مستقرا عنده) قيل في الآية حذف، والتقدير: فأذن له سليمان فدعا الله فأتى به، فلما رآه سليمان مستقرا عنده: أي
رأى العرش حاضرا لديه (قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) الإشارة بقوله هذا إلى حضور العرش،
ليبلوني: أي ليختبرني أشكره بذلك وأعترف أنه من فضله من غير حول مني ولا قوة أم أكفر بترك الشكر وعدم
القيام به. قال الأخفش: المعنى لينظر أأشكر أم أكفر، وقال غيره: معنى ليبلوني ليتعبدني، وهو مجاز، والأصل
في الابتلاء الاختبار (ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) لأنه استحق بالشكر تمام النعمة ودوامها، والمعنى: أنه
لا يرجع نفع ذلك إلا إلى الشاكر (ومن كفر) بترك الشكر (فإن ربي غني) عن شكره (كريم) في ترك المعالجة
بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها، وأم في " أم أكفر " هي المتصلة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم)
يقول: كن قريبا منهم (فانظر ماذا يرجعون) فانطلق بالكتاب حتى إذا توسط عرشها ألقى الكتاب إليها فقرئ عليها
فإذا فيه " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". وأخرج ابن مردويه عنه (كتاب كريم) قال: مختوم
وأخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتب " باسمك اللهم " حتى نزلت
(إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ". وأخرج أبو داود في مراسيله عن أبي مالك مرفوعا مثله. وأخرج ابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أفتوني في أمري) قال: جمعت رؤوس مملكتها فشاورتهم في رأيها، فأجمع رأيهم
ورأيها على أن يغزوه، فسارت حتى إذا كانت قريبة قالت: أرسل إليه بهدية فإن قبلها فهو ملك أقاتله، وإن
ردها تابعته فهو نبي، فلما دنت رسلها من سليمان علم خبرهم، فأمر الشياطين فموهوا ألف قصر من ذهب
وفضة، فلما رأت رسلها قصور الذهب قالوا: ما يصنع هذا بهديتنا وقصوره ذهب وفضة، فلما دخلوا عليه
بهديتها (قال أتمدونن بمال) ثم قال سليمان (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) فقال كاتب سليمان: ارفع
139

بصرك فرفع بصره، فلما رجع إليه طرفه فإذا هو بسرير (قال نكروا لها عرشها) فنزع منه فصوصه ومرافقه وما كان
عليه من شئ ف (قيل) لها (أهكذا عرشك؟ قالت كأنه هو) وأمر الشياطين فجعلوا لها صرحا ممردا من قوارير وجعل
فيها تماثيل السمك، ف (قيل لها ادخلي الصرح) فكشفت عن ساقيها فإذا فيها شعر، فعند ذلك أمر بصنعة النورة
فصنعت، فقيل لها (إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
قال: إذا أخذوها عنوة أخربوها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: يقول الرب تبارك وتعالى (وكذلك
يفعلون). وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وإني مرسلة إليهم بهدية)
قال: أرسلت بلبنة من ذهب، فلما قدموا إذا حيطان المدينة من ذهب فذلك قوله (أتمدونن بمال) الآية.
وقال ثابت البناني أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج. وقال مجاهد: جواري لباسهن لباس الغلمان وغلمان
لباسهم لباس الجواري. وقال عكرمة: أهدت مائتي فرس على كل فرس غلام وجارية، وعلى كل فرس لون
ليس على الاخر. وقال سعيد بن جبير: كانت الهدية جواهر، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره.
وأخرج ابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (قبل أن يأتوني مسلمين) قال: طائعين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: اسم العفريت صخر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه أيضا (قبل أن تقوم من مقامك) قال: من مجلسك. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (قال الذي
عنده علم من الكتاب) قال: هو آصف بن برخيا، وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم. وأخرج أبو عبيد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال في قراءة ابن مسعود " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب
ربي، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قال: فتكلم ذلك العالم بكلام دخل العرش في نفق تحت الأرض حتى
خرج إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله (قبل أن يرتد إليك طرفك) قال: قال لسليمان انظر إلى
السماء، قال: فما أطرف حتى جاءه به فوضعه بين يديه. وأخرج ابن شيبة وابن المنذر وابن عساكر عن ابن
عباس قال: لم يجر عرش صاحبة سبأ بين الأرض والسماء، ولكن انشقت به الأرض، فجرى تحت الأرض حتى
ظهر بين يدي سليمان.
قوله (نكروا لها عرشها) التنكير التغيير، يقول غيروا سريرها إلى حال تنكره إذا رأته. قيل جعل أعلاه أسلفه
وأسفله أعلاه، وقيل غير بزيادة ونقصان. قال الفراء وغيره: إنما أمر بتنكيره لأن الشياطين قالوا له إن في عقلها
140

شيئا، فأراد أن يمتحنها، وقيل خافت الجن أن يتزوج بها سليمان، فيولد له منها ولد فيبقون مسخرين لآل سليمان
أبدا، فقالوا لسليمان إنها ضعيفة العقل ورجلها كرجل الحمار، وقوله (ننظر) بالجزم على أنه جواب الأمر،
وبالجزم قرأ الجمهور، وقرأ أبو حيان بالرفع على الاستئناف (أتهتدي) إلى معرفته، أو إلى الإيمان بالله (أم تكون
من الذين لا يهتدون) إلى ذلك (فلما جاءت) أي بلقيس إلى سليمان (قيل) لها، والقائل هو سليمان، أو غيره بأمره
(أهكذا عرشك) لم يقل هذا عرشك لئلا يكون ذلك تلقينا لها فلا يتم الاختبار لعقلها (قالت كأنه هو) قال
مجاهد: جعلت تعرف وتنكر وتعجب من حضوره عند سليمان، فقالت: كأنه هو. وقال مقاتل: عرفته ولكنه
شبهت عليهم كما شبهوا عليها، ولو قيل لها: أهذا عرشك لقالت نعم. وقال عكرمة: كانت حكيمة، قالت: إن
قلت هو هو خشيت أن أكذب، وإن قلت لا خشيت أن أكذب، فقالت كأنه هو، وقيل أراد سليمان أن يظهر
لها أن الجن مسخرون له (وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين) قيل هو من كلام بلقيس: أي أوتينا العلم بصحة
نبوة سليمان من قبل هذه الآية في العرش " وكنا مسلمين " منقادين لأمره. وقيل هو من قول سليمان: أي أوتينا العلم
بقدرة الله من قبل بلقيس، وقيل أوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة من قبلها: أي من قبل مجيئها، وقيل هو من
كلام قوم سليمان. والقول الثاني أرجح من سائر الأقوال (وصدها ما كانت تعبد من دون الله) هذا من كلام الله
سبحانه بيان لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام. ففاعل صد هو ما كانت تعبد: أي منعها من إظهار
الإيمان ما كانت تعبده، وهي الشمس. قال النحاس: أي صدها عبادتها من دون الله، وقيل فاعل صد هو
الله: أي منعها الله ما كانت تعبد من دونه فتكون " ما " في محل نصب، وقيل الفاعل سليمان: أي ومنعها سليمان
ما كانت تعبد، والأول أولى، والجملة مستأنفة للبيان كما ذكرنا، وجملة (إنها كانت من قوم كافرين) تعليل
للجملة الأولى: أي سبب تأخرها عن عبادة الله، ومنع ما كانت تعبده عن ذلك أنها كانت من قوم متصفين
بالكفر. قرأ الجمهور " إنها " بالكسر. وقرأ أبو حيان بالفتح. وفي هذه القراءة وجهان: أحدهما أن الجملة بدل مما
كانت تعبد. والثاني أن التقدير: لأنها كانت تعبد، فسقط حرف التعليل (قيل لها ادخلي الصرح). قال
أبو عبيدة: الصرح القصر. وقال الزجاج: الصرح الصحن. يقال هذه صرحة الدار وقاعتها. قال ابن قتيبة:
الصرح بلاط اتخذ لها من قوارير وجعل تحته ماء وسمك. وحكى أبو عبيد في الغريب أن الصرح كل بناء عال
مرتفع، وأن الممرد الطويل (فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) أي فلما رأت الصرح بين يديها حسبت أنه
لجة، واللجة معظم الماء. فلذلك كشفت عن ساقيها لتخوض الماء، فلما فعلت ذلك (قال) سليمان (إنه صرح
ممرد من قوارير) الممرد المحكوك المملس، ومنه الأمرد، وتمرد الرجل إذا لم تخرج لحيته، قاله الفراء. ومنه
الشجرة المرداء التي لا ورق لها. والممرد أيضا المطول، ومنه قيل للحصن ما رد، ومنه قول الشاعر:
غدوت صباحا باكرا فوجدتهم * قبيل الضحى في السابري الممرد
أي الدروع الواسعة الطويلة، فلما سمعت بلقيس ذلك أذعنت واستسلمت، و (قالت رب إني ظلمت
نفسي) أي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وقيل بالظن الذي توهمته في سليمان، لأنها توهمت أنه أراد تغريقها
في اللجة، والأول أولى (وأسلمت مع سليمان) متابعة له داخلة في دينه (لله رب العالمين) التفتت من الحطاب إلى
الغيبة، قيل لإظهار معرفتها بالله، والأولى أنها التفتت لما في هذا الاسم الشريف من الدلالة على جميع الأسماء،
ولكونه علما للذات.
141

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (نكروا لها عرشها) قال: زيد فيه ونقص ل (ننظر
أتهتدي) قال: لننظر إلى عقلها فوجدت ثابتة العقل. وأخرج الفريابي وأبن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله (وأوتينا العلم من قبلها) قال: من قول سليمان. وأخرج ابن أبي حاتم
عن زهير بن محمد نحوه. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (فلما رأته حسبته لجة) قال: بحرا. وأخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في أثر طويل أن سليمان تزوجها بعد ذلك. قال أبو بكر
ابن أبي شيبة: ما أحسنه من حديث. قال ابن كثير في تفسيره بعد حكايته لقول أبي بكر بن أبي شيبة: بل هو
منكر جدا، ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس، والله أعلم.
والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب بما يوجد في صحفهم كروايات كعب ووهب
سامحهما الله فيما نقلا إلى هذه الأمة من بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان ومما لم يكن ومما حرف
وبدل ونسخ انتهى، وكلامه هذا هو شعبة مما قد كررناه في هذا التفسير ونبهنا عليه في عدة مواضع، وكنت
أظن أنه لم ينبه على ذلك غيري. فالحمد لله على الموافقة لمثل هذا الحافظ المنصف. وأخرج البخاري في تاريخه
والعقيلي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أول من صنعت له الحمامات
سليمان " وروي عنه مرفوعا من طريق أخرى رواها الطبراني وابن عدي في الكامل والبيهقي في الشعب بلفظ " أول
من دخل الحمام سليمان فلما وجد حرة قال أوه من عذاب الله ".
قوله (ولقد أرسلنا) معطوف على قوله " ولقد آتينا داود " واللام هي الموطئة للقسم، وهذه القصة من جملة
بيان قوله " وإنك لتلقى القران من لدن حكيم عليم " و (صالحا) عطف بيان، و (أن اعبدوا الله) تفسير للرسالة
وأن هي المفسرة، ويجوز أن تكون مصدرية: أي بأن اعبدوا الله، وإذا في (فإذا هم فريقان) هي الفجائية: أي
ففاجئوا التفرق والاختصام، والمراد بالفريقان المؤمنون منهم والكافرون، ومعنى الاختصام: أن كل فريق
يخاصم على ما هو فيه ويزعم أن الحق معه، وقيل إن الخصومة بينهم في صالح هل هو مرسل أم لا؟ وقيل أحد
142

الفريقين صالح، والفريق الآخر جميع قومه، وهو ضعيف (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) أي قال
صالح للفريق الكافر منهم منكرا عليهم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ قال مجاهد: بالعذاب قبل الرحمة.
والمعنى: لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب وتقدمون الكفر الذي يجلب إليكم العقوبة؟ وقد كانوا
لفرط كفرهم يقولون: ائتنا يا صالح بالعذاب (لولا تستغفرون الله) هلا تستغفرون الله وتتوبون إليه من الشرك
(لعلكم ترحمون) رجاء أن ترحموا أوكي ترحموا فلا تعذبوا، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، ووصف
العذاب بأنه سيئة مجازا، إما لأن العقاب من لوازمه، أو لأنه يشبهه في كونه مكروها، فكان جوابهم عليه بعد هذا
الإرشاد الصحيح والكلام اللين أنهم (قالوا اطيرنا بك وبمن معك) أصله تطيرنا، وقد قرئ بذلك، والتطير
التشاؤم: أي تشاءمنا بك وبمن معك ممن أجابك ودخل في دينك، وذلك لأنه أصابهم قحط فتشاءموا بصالح،
وقد كانت العرب أكثر الناس طيرة وأشقاهم بها وكانوا إذا أرادوا سفرا أو أمرا من الأمور نفروا طائرا من وكره
فإن طار يمنة ساروا وفعلوا ما عزموا عليه، وإن طار يسرة تركوا ذلك فلما قالوا ذلك (قال) لهم صالح (طائركم
عند الله) أي ليس ذلك بسبب الطير الذي تتشاءمون به، بل سبب ذلك عند الله، وهو ما يقدره عليكم والمعنى
أن الشؤم الذي أصابكم هو من عند الله بسبب كفركم، وهذا كقوله تعالى - يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما
طائرهم عند الله -. ثم أوضح لهم سبب ما هم فيه بأوضح بيان، فقال (بل أنتم قوم تفتنون) أي تمتحنون وتختبرون
وقيل تعذبون بذنوبكم، وقيل يفتنكم غيركم، وقيل يفتنكم الشيطان بما تقعون فيه من الطيرة أو بما لأجله تطيرون
فأضرب عن ذكر الطائر إلى ما هو السبب الداعي إليه (وكان في المدينة) التي فيها صالح، وهو الحجر (تسعة
رهط) أي تسعة رجال من أبناء الأشراف، والرهط اسم للجماعة، فكأنهم كانوا رؤساء يتبع كل واحد منهم
جماعة. والجمع أرهط وأراهط. وهؤلاء التسعة هم أصحاب قدار عاقر الناقة، ثم وصف هؤلاء بقوله (يفسدون
في الأرض ولا يصلحون) أي شأنهم وعملهم الفساد في الأرض الذي لا يخالطه صلاح، وقد اختلف في أسماء
هؤلاء التسعة اختلافا كثيرا لا حاجة إلى التطويل بذكره (قالوا تقاسموا بالله) أي قال بعضهم لبعض: احلفوا بالله،
هذا على أن تقاسموا فعل أمر. ويجوز أن يكون فعلا ماضيا مفسرا لقالوا: كأنه قيل ما قالوا، فقال تقاسموا، أو
يكون حالا على إظمار قد: أي قالوا ذلك متقاسمين، وقرأ ابن مسعود " يفسدون في الأرض ولا يصلحون تقاسموا
بالله " وليس فيها قالوا. واللام في (لنبيتنه وأهله) جواب القسم: أي لنأتينه بغتة في وقت البيات، فنقتله وأهله
(ثم لنقولن لوليه) قرأ الجمهور بالنون للمتكلم في لنبيتنه وفي لنقولن، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ حمزة
والكسائي بالفوقية فيهما على خطاب بعضهم لبعضهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وقرأ مجاهد وحميد بالتحتية
فيهما، والمراد بولي صالح رهطه (ما شهدنا مهلك أهله) أي ما حضرنا قتلهم ولا ندري من قتله وقتل أهله، ونفيهم
لشهودهم لمكان الهلاك يدل على نفي شهودهم لنفس القتل بالأولى، وقيل إن المهلك بمعنى الإهلاك وقرأ حفص
والسلمي مهلك بفتح الميم واللام، وقرأ أبو بكر والمفضل بفتح الميم وكسر اللام (وإنا لصادقون) فيما قلناه.
قال الزجاج: وكان هؤلاء النفر تحالفوا أن يبيتوا صالحا وأهله ثم ينكروا عند أوليائه أنهم ما فعلوا ذلك ولا
رأوه وكان هذا مكرا منهم، ولهذا قال الله سبحانه (ومكروا مكرا) أي بهذه المحالفة (ومكرنا مكرا) جازيناهم
بفعلهم فأهلكناهم (وهم لا يشعرون) بمكر الله بهم (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم) أي انظر ما انتهى إليه أمرهم
الذي بنوه على المكر وما أصابهم بسببه (أنا دمرناهم وقومهم أجمعين) قرأ الجمهور بكسر همزة أنا، وقرأ حمزة
143

والكسائي والأعمش والحسن وابن أبي إسحاق وعاصم بفتحها، فمن كسر جعله استئنافا. قال الفراء والزجاج: من
كسر استأنف، وهو يفسر به ما كان قبله، كأنه جعله تابعا للعاقبة، كأنه قال: العاقبة إنا دمرناهم، وعلى
قراءة الفتح يكون التقدير بأنا دمرناهم أو لأنا دمرناهم، وكان تامة وعاقبة فاعل لها، أو يكون بدلا من عاقبة، أو
يكون خبر مبتدأ محذوف: أي هي أنا دمرناهم ويجوز أن تكون كان ناقصة وكيف خبرها، ويجوز أن يكون خبرها
أنا دمرنا. قال أبو حاتم: وفي حرف أبي أن دمرناهم. والمعنى في الآية: أن الله دمر التسعة الرهط المذكورين،
ودمر قومهم الذين لم يكونوا معهم عند مباشرتهم لذلك، ومعنى التأكيد بأجمعين أنه لم يشذ منهم أحد ولا سلم من
العقوبة فرد من أفرادهم، وجملة (فتلك بيوتهم خاوية) مقررة لما قبلها. قرأ الجمهور خاوية بالنصب على الحال.
قال الزجاج: المعنى فانظر إلى بيوتهم حال كونها خاوية، وكذا قال الفراء والنحاس: أي خالية عن أهلها خرابا
ليس بها ساكن. وقال الكسائي وأبو عبيدة: نصب خاوية على القطع، والأصل فتلك بيوتهم الخاوية، فلما قطع
منها الألف واللام نصبت كقوله - وله الدين واصبا - وقرأ عاصم بن عمر ونصر بن عاصم والجحدري وعيسى بن
عمر برفع " خاوية " على أنه خبر اسم الإشارة وبيوتهم بدل، أو عطف بيان، أو خبر لاسم الإشارة وخاوية خبر
آخر، والباء في (بما ظلموا) للسببية: أي بسبب ظلمهم (إن في ذلك) التدمير والإهلاك (لآية) عظيمة (لقوم
يعلمون) أي يتصفون بالعلم بالأشياء (وأنجينا الذين آمنوا) وهم صالح ومن آمن به (وكانوا يتقون) الله ويخافون
عذابه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (طائركم) قال: مصائبكم. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (وكان في المدينة تسعة رهط) قال: هم الذين عقروا الناقة وقالوا حين عقروها:
نبيت صالحا وأهله فنقتلهم، ثم نقول لأولياء صالح: ما شهدنا من هذا شيئا وما لنا به علم فدمرهم الله أجمعين.
144

انتصاب لوطا: بفعل مضمر معطوف على أرسلنا: أي وأرسلنا لوطا، و (إذ قال) ظرف للفعل المقدر
ويجوز أن يقدر أذكر، والمعنى: وأرسلنا لوطا وقت قوله (لقومه أتأتون الفاحشة) أي الفعلة المتناهية في القبح
والشناعة، وهم أهل سدوم، وجملة (وأنتم تبصرون) في محل نصب على الحال متضمنة لتأكيد الإنكار: أي
وأنتم تعلمون أنها فاحشة. وذلك أعظم لذنوبكم، على أن تبصرون من بصر القلب، وهو العلم، أو بمعنى النظر،
لأنهم كانوا لا يستترون حال فعل الفاحشة عتوا وتمردا، وقد تقدم تفسير هذه القصة في الأعراف مستوفى
(أئنكم لتأتون الرجال شهوة) فيه تكرير للتوبيخ مع التصريح بأن تلك الفاحشة هي اللواطة، وانتصاب شهوة
على العلة: أي للشهوة، أو على أنه صفة لمصدر محذوف: أي إتيانا شهوة، أو أنه بمعنى الحال: أي مشتهين لهم
(من دون النساء) أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل لذلك (بل أنتم قوم تجهلون) التحريم أو العقوبة على
هذه المعصية، واختار الخليل وسيبويه تخفيف الهمزة من أئنكم (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا
آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) قرأ الجمهور بنصب جواب على أنه خبر كان، واسمها إلا أن قالوا:
أي إلا قولهم. وقرأ ابن أبي إسحاق برفع جواب على أنه اسم كان وخبرها ما بعده، ثم عللوا ما أمروا به بعضهم بعضا
من الإخراج بقولهم: إنهم أناس يتطهرون: أي يتنزهون عن أدبار الرجال: قالوا ذلك استهزاء منهم بهم (فأنجيناه
وأهله) من العذاب (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي قدرنا أنها من الباقين في العذاب، ومعنى قدرنا قضينا
قرأ الجمهور قدرنا بالتشديد، وقرأ عاصم بالتخفيف. والمعنى واحد مع دلالة زيادة البناء على زيادة المعنى
(وأمطرنا عليهم مطرا) هذا التأكيد يدل على شدة المطر وأنه غير معهود (فساء مطر المنذرين) المخصوص بالذم
محذوف: أي ساء مطر المنذرين مطرهم، والمراد بالمنذرين الذين أنذروا فلم يقبلوا، وقد مضى بيان هذا كله في
الأعراف والشعراء (قل الحمد لله وسلام على عباده) قال الفراء: قال أهل المعاني: قيل للوط قل الحمد لله على
هلاكهم، وخالفه جماعة فقالوا: إن هذا خطاب لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم: أي قيل الحمد لله على هلاك
كفار الأمم الخالية، وسلام على عباده (الذين اصطفى) قال النحاس: وهذا أولى لأن القرآن منزل على النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وكل ما فيه فهو مخاطب به إلا ما لم يصح معناه إلا لغيره. قيل والمراد بعباده الذين اصطفى:
أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأولى حمله على العموم، فيدخل في ذلك الأنباء وأتباعهم (الله خير أما
145

يشركون) أي الله الذي ذكرت أفعاله وصفاته الدالة على عظيم قدرته خير أما يشركون به من الأصنام، وهذه
الخيرية ليست بمعناها الأصلي، بل هي كقول الشاعر:
أتهجوه ولست له بكفء * فشركما لخيركما الفداء
فيكون ما في الآية من باب التهكم بهم، إذ لا خير فيهم أصلا. وقد حكى سيبويه أن العرب تقول: السعادة
أحب إليك أم الشقاوة، ولا خير في الشقاوة أصلا. وقيل المعنى: أثواب الله خير، أم عقاب ما تشركون به؟
وقيل: قال لهم ذلك جريا على اعتقادهم، لأنهم كانوا يعتقدون أن في عبادة الأصنام خيرا. وقيل المراد من هذا
الاستفهام الخبر. قرأ الجمهور " تشركون " بالفوقية على الخطاب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ
أبو عمرو وعاصم ويعقوب " يشركون " بالتحتية، و " أم " في " أما يشركون " هي المتصلة، وأما في قوله (أمن
خلق السماوات والأرض) فهي المنقطعة. وقال أبو حاتم: تقديره أآلهتكم خير أم من خلق السماوات والأرض
وقدر على خلقهن؟ وقيل المعنى: أعبادة ما تعبدون من أوثانكم خير، أم عبادة من خلق السماوات والأرض؟
فتكون أم على هذا متصلة وفيها معنى التوبيخ والتهكم كما في الجملة الأولى. وقرأ الأعمش " أمن " بتخفيف الميم
(وأنزل لكم من السماء ماء) أي نوعا من الماء، وهو المطر (فأنبتنا به حدائق) جمع حديقة. قال الفراء: الحديقة
البستان الذي عليه حائط، فإن لم يكن عليه حائط فهو البستان وليس بحديقة. وقال قتادة وعكرمة: الحدائق
النخل (ذات بهجة) أي ذات حسن ورونق. والبهجة: هي الحسن الذي يبتهج به من رآه ولم يقل ذوات بهجة على
الجمع، لأن المعنى جماعة حدائق (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) أي ما صح لكم أن تفعلوا ذلك، ومعنى هذا النفي
الحظر والمنع من فعل هذا: أي ما كان للبشر ولا يتهيأ لهم ذلك ولا يدخل تحت مقدرتهم لعجزهم عن إخراج الشئ
من العدم إلى الوجود. ثم قال سبحانه موبخا لهم ومقرعا (أإله مع الله) أي هل معبود مع الله الذي تقدم ذكر
بعض أفعاله حتى يقرن به ويجعل شريكا له في العبادة، وقرئ " أإلها مع الله) بالنصب على تقدير: أتدعون إلها.
ثم أضرب عن تقريعهم وتوبيخهم بما تقدم وانتقل إلى بيان سوء حالهم مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة فقال
(بل هم قوم يعدلون) أي يعدلون بالله غيره، أو يعدلون عن الحق إلى الباطل، ثم شرع في الاستدلال بأحوال
الأرض وما عليها فقال (أمن جعل الأرض قرارا) القرار المستقر: أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها.
وقيل هذه الجملة وما بعدها من الجمل الثلاث بدل من قوله " أمن خلق السماوات والأرض " ولا ملجئ لذلك،
بلى هي وما بعدها إضراب وانتقال من التوبيخ والتقريع بما قبلها إلى التوبيخ والتقريع بشئ اخر (وجعل خلالها
أنهارا) الخلال: الوسط. وقد تقدم تحقيقه في قوله - وفجرنا خلالهما نهرا - (وجعل لها رواسي) أي جبالا
ثوابت تمسكها وتمنعها من الحركة (وجعل بين البحرين حاجزا) الحاجز: المانع: أي جعل بين البحرين من
قدرته حاجزا، والبحران هما العذب والمالح، فلا يختلط أحدهما بالآخر فلا هذا يغير ذاك ولا ذاك يدخل في هذا،
وقد مر بيانه في سورة الفرقان (أإله مع الله) أي إذا ثبت أنه لا يقدر على ذلك إلا الله فهل إله في الوجود يصنع
صنعه ويخلق خلقه؟ فكيف يشركون به مالا يضر ولا ينفع (بل أكثرهم لا يعلمون) توحيد ربهم وسلطان قدرته
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه) هذا استدلال منه سبحانه بحاجة الإنسان إليه على العموم، والمضطر اسم مفعول
من الاضطرار: وهو المكروب المجهود الذي لا حول له ولا قوة. وقيل هو المذنب، وقيل هو الذي عراه ضر من
فقر أو مرض، فألجأه إلى التضرع إلى الله. واللام في المضطر للجنس لا للاستغراق، فقد لايجاب دعاء بعض
بعض المضطرين لمانع يمنع من ذلك بسبب يحدثه العبد يحول بينه وبين إجابة دعائه، وإلا فقد ضمن الله سبحانه
146

إجابة دعاء المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والوجه في إجابة دعاء المضطر أن ذلك الاضطرار الحاصل له
يتسبب عنه الاخلاص وقطع النظر عما سوى الله، وقد أخبر الله سبحانه بأنه يجيب دعاء المخلصين له الدين وإن
كانوا كافرين فقال - حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم
الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا وإن من هذه لنكونن من الشاكرين -
وقال - فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون - فأجابهم عند ضرورتهم وإخلاصهم مع علمه بأنهم سيعودون إلى
شركهم (ويكشف السوء) أي الذي يسوء العبد من غير تعيين، وقيل هو الضر، وقيل هو الجور (ويجعلكم
خلفاء الأرض) أي يخلف كل قرن منكم القرن الذي قبله بعد انقراضهم، والمعنى: يهلك قرنا وينشئ آخرين،
وقيل يجعل أولادكم خلفا منكم، وقيل يجعل المسلمين خلفا من الكفار ينزلون أرضهم وديارهم (أإله مع الله)
الذي يوليكم هذه النعم الجسام (قليلا ما تذكرون) أي تذكرا قليلا ما تذكرون. قرأ الجمهور بالفوقية على الخطاب.
وقرأ أبو عمرو وهشام ويعقوب بالتحتية على الخبر ردا على قوله " بل أكثرهم لا يعلمون " واختار هذه القراءة
أبو حاتم (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي يرشدكم في الليالي المظلمات إذا سافرتم في البر أو البحر. وقيل
المراد: مفاوز البر التي لا أعلام لها ولجج البحار، وشبهها بالظلمات لعدم ما يهتدون به فيها (ومن يرسل الرياح
نشرا بين يدي رحمته) والمراد بالرحمة هنا المطر: أي يرسل الرياح بين يدي المطر، وقبل نزوله (أإله مع الله)
يفعل ذلك ويوجده (تعالى الله عما يشركون) أي تنزه وتقدس عن وجود ما يجعلونه شريكا له (أم من يبدؤا
الخلق ثم يعيده) كانوا يقرون بأن الله سبحانه هو الخالق فألزمهم الإعادة: أي إذا قدر على الابتداء قدر على
الإعادة (ومن يرزقكم من السماء والأرض) بالمطر والنبات: أي هو خير أم ما تجعلونه شريكا له مما لا يقدر على
شئ من ذلك (أإله مع الله) حتى تجعلونه شريكا له (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) أي حجتكم على أن الله
سبحانه شريكا، أو هاتوا حجتكم أن ثم صانعا يصنع كصنعه، وفي هذا تبكيت لهم وتهكم بهم (قل لا يعلم من
في السماوات والأرض الغيب إلا الله) أي لا يعلم أحد من المخلوقات الكائنة في السماوات والأرض الغيب الذي
استأثر الله بعلمه، والاستثناء في قوله إلا الله منقطع: أي لكن الله يعلم ذلك، ورفع ما بعد إلا مع كون الاستثناء
منقطعا هو على اللغة التميمية كما في قولهم * إلا اليعافير وإلا العيس * وقيل إن فاعل يعلم هو ما بعد إلا، ومن
في السماوات مفعوله، والغيب بدل من من: أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله، وقيل هو
استثناء متصل من من. وقال الزجاج: إلا الله بدل من من. قال الفراء: وإنما رفع ما بعد إلا لأن ما بعدها خبر
كقولهم ما ذهب أحد إلا أبوك وهو كقول الزجاج. قال الزجاج: ومن نصب نصب على الاستثناء (وما يشعرون
أيان يبعثون) أي لا يشعرون متى ينشرون من القبور، وأيان مركبة من أي وإن. وقد تقدم تحقيقه، والضمير
للكفرة. وقرأ السلمي إيان بكسر الهمزة، وهي لغة بني سليم وهي منصوبة بيبعثون ومعلقة ليشعرون، فتكون هي
وما بعدها في محل نصب بنزع الخافض: أي وما يشعرون بوقت بعثهم، ومعنى أيان معنى متى (بل ادارك
علمهم في الآخرة). قرأ الجمهور " ادارك " وأصل ادارك تدارك أدغمت التاء في الدال وجئ بهمزة الوصل
ليمكن الابتداء بالساكن. وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمر وحميد " بل أدرك " من الإدراك. وقرأ عطاء بن
يسار وسليمان بن يسار والأعمش " بل أدرك " بفتح لام بل وتشديد الدال. وقرأ ابن محيصن " بل أدرك " على
الاستفهام. وقرأ ابن عباس وأبو رجاء وشيبة والأعمش والأعرج " بلى أدارك " بإثبات الياء في بل وبهمزة قطع
147

وتشديد الدال. وقرأ أبي " بل تدارك " ومعنى الآية: بل تكامل علمهم في الآخرة لأنهم رأوا كل ما وعدوا به
وعاينوه. وقيل معناه: تتابع علمهم في الآخرة والقراءة الثانية معناها كمل علمهم في الآخرة مع المعاينة وذلك حين
لا ينفعهم العلم لأنهم كانوا في الدنيا مكذبين. وقال الزجاج: إنه على معنى الإنكار، واستدل على ذلك بقوله
فيما بعد (بل هم منها عمون) أي لم يدرك علمهم علم الآخرة، وقيل المعنى: بل ضل وغاب علمهم في الآخرة
فليس لهم فيها علم، ومعنى القراءة الثالثة كمعنى القراءة الأولى فافتعل وتفاعل وقد يجيئان لمعنى، والقراءة الرابعة هي
بمعنى الإنكار. قال الفراء: وهو وجه حسن كأنه وجهه إلى المكذبين على طريق الاستهزاء بهم، وفي الآية قراءات
أخر لا ينبغي الاشتغال بذكرها وتوجيهها (بل هم في شك منها) أي بل هم اليوم في الدنيا في شك من الآخرة، ثم
أضرب عن ذلك إلى ما هو أشد منه فقال (بل هم منها عمون) فلا يدركون شيئا من دلائلها لاختلال بصائرهم
التي يكون بها الإدراك، وعمون جمع عم: وهو من كان أعمى القلب، والمراد بيان جهلهم بها على وجه لا يهتدون
إلى شئ مما يوصل إلى العلم بها، فمن قال: إن معنى الآية الأولى أعني " بل ادارك علمهم في الآخرة " أنه كمل
علمهم وتم مع المعاينة فلا بد من حمل قوله " بل هم في شك " الخ على ما كانوا عليه في الدنيا، ومن قال: إن
معنى الآية الأولى الاستهزاء بهم والتبكيت لهم لم يحتج إلى تقييد قوله " بل هم في شك " الخ بما كانوا عليه في الدنيا
وبهذا يتضح معنى هذه الآيات ويظهر ظهورا بينا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(وسلام على عباده الذين اصطفى). قال: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم اصطفاهم الله لنبيه،
وروى مثله عن سفيان الثوري. والأولى ما قدمناه من التعميم فيدخل في ذلك أصحاب نبينا صلى الله عليه وآله وسلم
دخولا أوليا. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والطبراني عن رجل من بلجهم قال " قلت يا رسول الله إلى ما تدعو؟
قال: أدعو الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشفه عنك " هذا طرف من حديث طويل. وقد رواه أحمد من
وجه آخر فبين اسم الصحابي فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس، حدثنا عبيد بن عبيدة
الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن جابر بن سليم الهجيمي. ولهذا الحديث طرق عند أبي داود والنسائي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة قالت " ثلاث من تكلم بواحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية "
وقالت في اخره " ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول (قل لا يعلم
من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (بل
ادارك علمهم في الآخرة) قال: حين لا ينفع العلم. وأخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قرأ (بل أدرك علمهم في الآخرة) قال: لم يدرك علمهم. قال أبو عبيد: يعني أنه
قرأها بالاستفهام. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (بل أدرك علمهم في الآخرة) يقول:
غاب علمهم.
148

لما ذكر سبحانه أن المشركين في شك من البعث وأنهم عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين غاية شبههم
وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا فقال (وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا
لمخرجون) والعامل في إذا محذوف دل عليه مخرجون تقديره أنبعث أو نخرج إذا كنا، وإنما لم يعمل فيه مخرجون
لتوسط همزة الاستفهام وإن ولام الابتداء بينهما. قرأ أبو عمرو باستفهامين إلا أنه خفف الهمزة. وقرأ عاصم وحمزة
باستفهامين، إلا أنهما حققا الهمزتين. وقرأ نافع بهمزة. وقرأ ابن عامر وورش ويعقوب " أإذا " بهمزتين
" وإننا " بنونين على الخبر، ورجح أبو عبيد قراءة نافع، ورد على من جمع بين استفهامين، ومعنى الآية: أنهم
استنكروا واستبعدوا أن يخرجوا من قبورهم أحياء بعد أن قد صاروا ترابا، ثم أكدوا ذلك الاستبعاد بما هو
تكذيب للبعث فقالوا (لقد وعدنا هذا) يعنون البعث (نحن وآباؤنا من قبل) أي من قبل وعد محمد لنا، والجملة
مستأنفة مسوقة لقرير الإنكار مصدرة بالقسم لزيادة التقرير (إن هذا) الوعد بالبعث (إلا أساطير الأولين)
أحاديثهم وأكاذيبهم الملفقة، وقد تقدم تحقيق معنى الأساطير في سورة المؤمنون، ثم أوعدهم سبحانه على عدم
قبول ما جاءت به الأنبياء من الإخبار بالبعث، فأمرهم بالنظر في أحوال الأمم السابقة المكذبة للأنبياء وما عوقبوا به
وكيف كانت عاقبتهم فقال (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) بما جاءت به الأنبياء من
الإخبار بالبعث، ومعنى النظر هو مشاهدة آثارهم بالبصر فإن في المشاهدة زيادة اعتبار. وقيل المعنى: فانظروا
بقلوبكم وبصائركم كيف كان عاقبة المكذبين لرسلهم، والأول أولى لأمرهم بالسير في الأرض (ولا تحزن عليهم)
لما وقع منهم من الإصرار على الكفر (ولا تكن في ضيق) الضيق: الحرج، يقال ضاق الشئ ضيقا بالفتح وضيقا
بالكسر قرئ بهما، وهما لغتان. قال ابن السكيت: يقال في صدر فلان ضيق وضيق وهو ما تضيق عنه الصدور.
وقد تقدم تفسير هذه الآية في اخر سورة النحل (ويقولون متى هذا الوعد) أي بالعذاب التي تعدنا به (إن كنتم
149

صادقين) في ذلك (قل عسى أن يكون ردف لكم) يقال ردفت الرجل وأردفته إذا ركبت خلفه، وردفه إذا
أتبعه وجاء في أثره، والمعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار عسى أن يكون هذا العذاب الذي به توعدون تبعكم
ولحقكم، فتكون اللام زائدة للتأكيد، أو بمعنى اقترب لكم ودنا لكم، فتكون غير زائدة. قال ابن شجرة:
معنى ردف لكم تبعكم، قال ومنه ردف المرأة لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبي ذؤيب:
عاد السواد بياضا في مفارقه * لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا
قال الجوهري: وأردفه لغة في ردفه مثل تبعه وأتبعه بمعنى. قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا * ظننت بال فاطمة الظنونا
قال الفراء: ردف لكم: دنا لكم ولهذا قيل لكم. وقرأ الأعرج " ردف لكم " بفتح الدال وهي لغة والكسر
أشهر. وقرأ ابن عباس " أزف لكم " وارتفاع (بعض الذي تستعجلون) أي على أنه فاعل ردف، والمراد بعض
الذي تستعجلونه من العذاب: أي عسى أن يكون قد قرب ودنا وأزف بعض ذلك، قيل هو عذابهم بالقتل يوم
بدر، وقيل هو عذاب القبر. ثم ذكر سبحانه فضله في تأخير العذاب فقال (وإن ربك لذو فضل على الناس)
في تأخير العقوبة، والأولى أن تحمل الآية على العموم ويكون تأخير العقوبة من جملة أفضاله سبحانه وإنعامه
(ولكن أكثرهم لا يشكرون) فضله وإنعامه ولا يعرفون حق إحسانه، ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم، فقال
(وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم) أي ما تخفيه. قرأ الجمهور " تكن " بضم التاء من أكن. وقرأ ابن محيصن وابن
السميفع وحميد بفتح التاء وضم الكاف، يقال كننته بمعنى سترته وخفيت أثره (وما يعلنون) وما يظهرون من
أقوالهم وأفعالهم (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) قال المفسرون: ما من شئ غائب وأمر
يغيب عن الخلق في السماء والأرض إلا في كتاب مبين إلا هو مبين في اللوح المحفوظ، وغائبة هي من الصفات
الغالبة والتاء للمبالغة. قال الحسن: الغائبة هنا هي القيامة. وقال مقاتل: علم ما يستعجلون من العذاب هو مبين
عند الله وإن غاب عن الخلق. وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله عن خلقه وغيبه عنهم مبين في أم
الكتاب، فكيف يخفى عليه شئ من ذلك، ومن جملة ذلك ما يستعجلونه من العذاب فإنه موقت بوقت ومؤجل
بأجل علمه عند الله فكيف يستعجلونه قبل أجله المضروب له؟ (إن هذا القران يقص على بني إسرائيل أكثر
الذي هم فيه يختلفون) وذلك لأن أهل الكتاب تفرقوا فرقا وتحزبوا أحزابا يطعن بعضهم على بعض ويتبرأ بعضهم من
بعض، فنزل القران مبينا لما اختلفوا فيه من الحق، فلو أخذوا به لوجدوا فيه ما يرفع اختلافهم ويدفع تفرقهم
(وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين) أي وإن القران لهدى ورحمة لمن آمن بالله وتابع رسوله، وخص المؤمنين لأنهم
المنتفعون به، ومن جملتهم من آمن من بني إسرائيل (إن ربك يقضي بينهم بحكمه) أي يقضي بين المختلفين من بني
إسرائيل بما يحكم به من الحق فيجازي المحق ويعاقب المبطل، وقيل يقضي بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. قرأ
الجمهور بحكمه بضم الحاء وسكون الكاف. وقرأ جناح بكسرها وفتح الكاف جمع حكمة (وهو العزيز العليم)
العزيز الذي لا يغالب، والعليم بما يحكم به، أو الكثير العلم، ثم أمره سبحانه بالتوكل وقلة المبالاة، فقال (فتوكل
على الله) والفاء لترتيب الأمر على ما تقدم ذكره، والمعنى: فوض إليه أمرك واعتمد عليه فإنه ناصرك. ثم علل
ذلك بعلتين: الأولى قوله (إنك على الحق المبين) أي الظاهر، وقيل المظهر. والعلة الثانية قوله (إنك لا تسمع الموتى)
لأنه إذا علم أن حالهم كحال الموتى في انتفاء الجدوى بالسماع أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهموا ولا يهتدون
150

صار ذلك سببا قويا في عدم الاعتداد بهم، شبه الكفار بالموتى الذين لا حس لهم ولا عقل، وبالصم الذين
لا يسمعون المواعظ ولا يجيبون الدعاء إلى الله. ثم ذكر جملة لتكميل التشبيه وتأكيده فقال (إذا ولوا مدبرين) أي
إذا أعرضوا عن الحق إعراضا تاما، فإن الأصم لا يسمع الدعاء إذا كان مقبلا فكيف إذا كان معرضا عنه موليا
مدبرا. وظاهر نفي إسماع الموتى العموم، فلا يخص منه إلا ما ورد بدليل كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه
وآله وسلم خاطب القتلى في قليب بدر، فقيل له يا رسول الله إنما تكلم أجسادا أرواح لها، وكذلك ما ورد من
أن الميت يسمع خفق نعال المشيعين له إذا انصرفوا. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبي إسحاق " لا يسمع "
بالتحتية مفتوحة وفتح الميم، وفاعله الصم. وقرأ الباقون " تسمع " بضم الفوقية وكسر الميم من أسمع. قال قتادة:
الأصم إذا ولى مدبرا ثم ناديته لم يسمع، كذلك الكافر لا يسمع ما يدعى إليه من الإيمان. ثم ضرب العمى مثلا لهم
فقال (وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم) أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الحق إرشادا يوصله إلى المطلوب
منه وهو الإيمان، وليس في وسعك ذلك، ومثله قوله - إنك لا تهدى من أحببت - قرأ الجمهور بإضافة هادي إلى
العمى. وقرأ يحيى بن الحارث وأبو حيان " بهاد العمى " بتنوين هاد. وقرأ حمزة " تهدى " فعلا مضارعا، وفي حرف
عبد الله " وما أن تهدي العمى " (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي ما تسمع إلا من يؤمن لا من يكفر، والمراد بمن
يؤمن بالآيات من يصدق القرآن، وجملة (فهم مسلمون) تعليل للإيمان: أي فهم منقادون مخلصون. ثم هدد
العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها: فقال (وإذا وقع القول عليهم).
واختلف في معنى وقوع القول عليهم، فقال قتادة: وجب الغضب عليهم. وقال مجاهد: حق القول عليهم
بأنهم لا يؤمنون، وقيل حق العذاب عليهم، وقيل وجب السخط، والمعاني متقاربة. وقيل المراد بالقول ما نطق به
القرآن من مجيء الساعة وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها، وقيل وقع القول بموت العلماء وذهاب
العلم، وقيل إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. والحاصل أن المراد بوقع وجب، والمراد بالقول مضمونه،
أو أطلق المصدر على المفعول: أي المقول، وجواب الشرط (أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم).
واختلف في هذه الدابة على أقوال، فقيل إنها فصيل ناقة صالح يخرج عند اقتراب القيامة ويكون من أشراط
الساعة. وقيل هي دابة ذات شعر وقوائم طوال يقال لها الجساسة. وقيل هي دابة على خلقة بني ادم وهي في
السحاب وقوائمها في الأرض. وقيل رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن إيل، وعنقها
عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم
بعير، بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذرعا. وقيل هي الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب
حين أرادت قريش بناء الكعبة، والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان وقيل هي دابة ما لها ذنب ولها لحية وقيل
هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار، وقيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره وقد رجح
القول الأول القرطبي في تفسيره.
واختلف من أي موضع تخرج؟ فقيل من جبل الصفا بمكة، وقيل تخرج من جبل أبي قبيس. وقيل لها ثلاث
خرجات: خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس، وتكثر الدماء ثم تكمن، وتخرج في القرى ثم
تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها، وقيل تخرج من بين الركن والمقام، وقيل تخرج في تهامة، وقيل من
مسجد الكوفة من حيث فار التنور، وقيل من أرض الطائف، وقيل من صخرة من شعب أجياد، وقيل من صدع
في الكعبة.
151

واختلف في معنى قوله " تكلمهم " فقيل: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام وقيل تكلمهم بما يسوؤهم
وقيل تكلمهم بقوله تعالى (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) أي بخروجها لأن خروجها من الآيات. قرأ الجمهور
" تكلمهم " من التكليم، ويدل عليه قراءة أبي " تنبئهم " وقرأ ابن عباس وأبو زرعة وأبو رجاء والحسن:
تكلمهم بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم، وهو الجرح. قال عكرمة: أي تسمهم وسما، وقيل تجرحهم، وقيل
إن قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم بفتح الكاف وسكون اللام وهو الجرح والتشديد للتكثير، قاله أبو حاتم.
قرأ الجمهور: إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون بكسر إن على الاستئناف، وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق بفتح
" أن " قال الأخفش: المعنى على قراءة الفتح " بأن الناس " وكذا قرأ ابن مسعود " بأن الناس " بالباء. وقال
أبو عبيد: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها: أي تخبرهم أن الناس، وعلى هذه القراءة فالذي تكلم الناس به هو
قوله " أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " كما قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأما على قراءة الكسر فالجملة مستأنفة كما
قدمنا، ولا تكون من كلام الدابة. وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين، وجزم به الكسائي والفراء. وقال
الأخفش: إن كسر " إن " هو على تقدير القول أي تقول لهم " إن الناس " الخ، فيرجع معنى القراءة الأولى على
هذا إلى معنى القراءة الثانية، والمراد بالناس في الآية: هم الناس على العموم، فيدخل في ذلك كل مكلف،
وقيل المراد الكفار خاصة، وقيل كفار مكة، والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (عسى أن يكون ردف لكم) قال:
اقترب لكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) قال: يعلم ما عملوا بالليل
والنهار. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (وما من غائبة) الآية يقول: ما من شئ في السماء والأرض
سرا ولا علانية إلا يعلمه. وأخرج ابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد وعبد
ابن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر في قوله (وإذا وقع القول
عليهم) الآية قال: إذا لم يأمروا بمعروف ولم ينهوا عن منكر. وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير عن أبي العالية أنه فسر (وقع القول عليهم) بما أوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد
آمن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (دابة من الأرض تكلمهم) قال: تحدثهم.
وأخرج ابن جرير عنه قال كلامها تنبئهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن أبي داود نفيع الأعمى قال: سألت ابن عباس عن قوله (تكلمهم) يعني هل هو من التكليم باللسان
أو من الكلم وهو الجرح، فقال: كل ذلك والله تفعل تكلم المؤمن وتكلم الكافر: أي تجرحه. وأخرج عبد بن
حميد وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ليس ذلك حديث ولا
كلام، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به فيكون خروجها من الصفا ليلة منى، فيصبحون بين رأسها وذنبها لا يدحض
داحض ولا يجرح جارح، حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ونجا من نجا، كان أول خطوة تضعها
بأنطاكية ". وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: الدابة ذات وبر وريش مؤلفة فيها من كل لون، لها أربع
قوائم تخرج بعقب من الحاج. وأخرج أحمد وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة، فيقال له ممن اشتريتها؟ فيقول:
من الرجل المخطم ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس " إن للدابة ثلاث خرجات "، وذكر نحو ما قدمنا.
. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد رفعه قال " تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة ". وأخرج سعيد
152

ابن منصور ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: تخرج من بعض أودية تهامة.
وأخرج الطيالسي وأحمد ونعيم بن حماد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " تخرج دابة الأرض
ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم، وتخطم أنف الكافر بالعصا، حتى يجتمع الناس على
الخوان يعرف المؤمن من الكافر ". وأخرج الطيالسي ونعيم بن حماد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: " ذكر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم الدابة فقال: لها ثلاث خرجات من الدهر " وذكر نحو ما قدمنا في حديث طويل. وفي صفتها ومكان
خروجها وما تصنعه ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، وأما كونها
تخرج، وكونها من علامات الساعة فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة. ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث
حذيفة مرفوعا " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم وفي السنن الأربعة
وكحديث " بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها " والدجال، والدابة " فإنه في صحيح مسلم أيضا من
حديث أبي هريرة مرفوعا، وكحديث ابن عمر مرفوعا " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها،
وخروج الدابة على الناس ضحى " فإنه في صحيح مسلم أيضا.
ثم ذكر سبحانه طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة، فقال (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) العامل في الظرف
153

فعل محذوف خوطب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والحشر الجمع. قيل والمراد بهذا الحشر هو حشر العذاب
بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق، ومن لابتداء الغاية، والفوج: الجماعة كالزمرة، ومن في (ممن يكذب
بآياتنا) بيانية (فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم) وقد تقدم تحقيقه في هذه السورة مستوفى، وقيل
معناه: يدفعون، ومنه قول الشماخ: * وسمه وزعنا من خميس جحفل *
ومعنى الآية: واذكر يا محمد يوم نجمع من كل أمة من الأمم جماعة مكذبين بآياتنا فهم عند ذلك الحشر يرد
أولهم على آخرهم أو يدفعون: أي أذكر لهم هذا أو بينه تحذيرا لهم وترهيبا (حتى إذا جاءوا) إلى موقف الحساب
قال الله لهم توبيخا وتقريعا (أكذبتم بآياتي) التي أنزلتها على رسلي، وأمرتهم بإبلاغها إليكم (و) الحال أنكم (لم
تحيطوا بها علما) بل كذبتم بها بادئ بدء جاهلين لها غير ناظرين فيها ولا مستدلين على صحتها أو بطلانها تمردا
وعنادا وجرأة على الله وعلى رسله، وفي هذا مزيد تقريع وتوبيخ، لأن من كذب بشئ ولم يحط به علما فقد
كذب في تكذيبه، ونادى على نفسه بالجهل وعدم الإنصاف، وسوء الفهم، وقصور الإدراك، ومن هذا
القبيل من تصدى لذم علم من العلوم الشرعية أو لذم علم هو مقدمة من مقدماتها، ووسيلة يتوسل بها إليها،
ويفيد زيادة بصيرة في معرفتها، وتعقل معانيها كعلوم اللغة العربية بأسرها، وهي اثنا عشر علما، وعلم أصول الفقه
فإنه يتوصل به إلى استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها التفصيلية مع اشتماله على بيان قواعد اللغة الكلية، وهكذا
كل علم من العلوم التي لها مزيد نفع في فهم كتاب الله وسنة رسوله، فإنه قد نادى على نفسه بأرفع صوت بأنه
جاهل مجادل بالباطل طاعن على العلوم الشرعية، مستحق لأن تنزل به قارعة من قوارع العقوبة التي تزجره عن
جهله وضلاله وطعنه على مالا يعرفه، ولا يعلم به، ولا يحيط بكنهه حتى يصير عبرة لغيره، وموعظة يتعظ بها أمثاله
من ضعاف العقول وركاك الأديان، ورعاع المتلبسين بالعلم زورا وكذبا، وأم في قوله (أماذا كنتم تعملون) هي
المنقطعة، والمعنى: أم أي شئ كنتم تعملون حتى شغلكم ذلك عن النظر فيها والتفكر في معانيها، وهذا الاستفهام
على طريق التبكيت لهم (ووقع القول عليهم) قد تقدم تفسيره قريبا، والباء في (بما ظلموا) للسببية: أي وجب
القول عليهم بسبب الظلم الذي أعظم أنواعه الشرك بالله (فهم لا ينطقون) عند وقوع القول عليهم: أي ليس لهم
عذر ينطقون به، أو لا يقدرون على القول لما يرونه من الهول العظيم. وقال أكثر المفسرين: يختم على أفواههم
فلا ينطقون، ثم بعد أن خوفهم بأهوال القيامة ذكر سبحانه ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد، وعلى الحشر،
وعلى النبوة مبالغة في الإرشاد وإبلاء للمعذرة، فقال (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا) أي
جعلنا الليل للسكون، والاستقرار والنوم، وذلك بسبب ما فيه من الظلمة فإنهم لا يسعون فيه للمعاش، والنهار
مبصرا ليبصروا فيه ما يسعون له من المعاش الذي لا بد له منهم، ووصف النهار بالإبصار، وهو وصف للناس
مبالغة في إضاءته كأنه يبصر ما فيه. قيل في الكلام حذف، والتقدير: وجعلنا الليل مظلما ليسكنوا، وحذف
مظلما لدلالة مبصرا عليه، وقد تقدم تحقيقه في الإسراء وفي يونس (إن في ذلك) المذكور (لآيات) أي علامات
ودلالات (لقوم يؤمنون) بالله سبحانه. ثم ذكر سبحانه علامة أخرى للقيامة فقال (ويوم ينفخ في الصور) هو
معطوف على " ويوم نحشر " منصوب بناصبه المتقدم. قال الفراء: إن المعنى: وذلكم يوم ينفخ في الصور،
والأول أولى. والصور: قرن ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم في الأنعام استيفاء الكلام عليه. والنفخات رسول في الصور
ثلاث: الأولى نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة البعث. وقيل إنها نفختان، وإن نفخة الفزع
إما أن تكون راجعة إلى نفخة الصعق أو إلى نفخة البعث، واختار هذا القشيري والقرطبي وغيرهما. وقال
154

الماوردي: هذه النفخة المذكورة هنا يوم النشور من القبور (ففزع من في السماوات ومن في الأرض) أي خافوا
وانزعجوا لشدة ما سمعوا، وقيل المراد بالفزع هنا: الإسراع والإجابة إلى النداء من قولهم فزعت إليك في كذا:
إذا أسرعت إلى إجابتك، والأول أولى بمعنى الآية. وإنما عبر بالماضي مع كونه معطوفا على مضارع للدلالة على
تحقق الوقوع حسبما ذكره علماء البيان. وقال الفراء: هو محمول على المعنى لأن المعنى إذا نفخ (إلا من شاء الله)
أي إلا من شاء الله أن لا يفزع عند تلك النفخة.
واختلف في تعيين من وقع الاستثناء له، فقيل هم الشهداء والأنبياء، وقيل الملائكة، وقيل جبريل وميكائيل
وإسرافيل وملك الموت، وقيل الحور العين، وقيل هم المؤمنون كافة بدليل قوله فيما بعد " من جاء بالحسنة فله
خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون " ويمكن أن يكون الاستثناء شاملا لجميع المذكورين فلا مانع من ذلك (وكل
أتوه داخرين) قرأ الجمهور " آتوه " على صيغة اسم الفاعل مضافا إلى الضمير الراجع إلى الله سبحانه. وقرأ الأعمش
ويحيى بن وثاب وحمزة وحفص عن عاصم " أتوه " فعلا ماضيا، وكذا قرأ ابن مسعود. وقرأ قتادة " وكل أتاه ".
قال الزجاج: إن من قرأ على الفعل الماضي فقد وحد على لفظ كل، ومن قرأ على اسم الفاعل فقد جمع على معناه،
وهو غلط ظاهر، فإن كلا القراءتين لا توحيد فيها، بل التوحيد في قراءة قتادة فقط، ومعنى " داخرين " صاغرين
ذليلين، وهو منصوب على الحال، قرأ الجمهور " داخرين " وقرأ الأعرج " دخرين " بغير ألف، وقد مضى
تفسير هذا في سورة النحل (وترى الجبال تحسبها جامدة) معطوف على " ينفخ ". والخطاب لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح للرؤية، و " تحسبها جامدة " في محل نصب على الحال من ضمير ترى أو من
مفعوله، لأن الرؤية بصرية، وقيل هي بدل من الجملة الأولى، وفيه ضعف، وهذه هي العلامة الثالثة لقيام
الساعة، ومعنى " تحسبها جامدة ": أي قائمة ساكنة، وجملة (وهي تمر مر السحاب) في محل نصب على الحال:
أي وهي تسير سيرا حثيثا كسير السحاب التي تسيرها الرياح. قال القتيبي: وذلك أن الجبال تجمع وتسير وهي في
رؤية العين كالقائمة وهي تسير. قال القشيري وهذا يوم القيامة، ومثله قوله تعالى - وسيرت الجبال فكانت سرابا -
قرأ أهل الكوفة تحسبها بفتح السين، وقرأ الباقون بكسرها (صنع الله الذي أتقن كل شئ) انتصاب صنع على
المصدرية عند الخليل وسيبويه وغيرهما: أي صنع الله ذلك صنعا، وقيل هو مصدر مؤكد لقوله " ويوم ينفخ
في الصور " وقيل منصوب على الإغراء: أي انظروا صنع الله، ومعنى " الذي أتقن كل شئ " الذي أحكمه،
يقال رجل تقن: أي حاذق بالأشياء، وجملة (إنه خبير بما تفعلون) تعليل لما قبلها من كونه سبحانه صنع ما صنع
وأتقن كل شئ، والخبير: المطلع على الظواهر والضمائر. قرأ الجمهور بالتاء الفوقية على الخطاب، وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الخبر (من جاء بالحسنة فله خير منها) الألف واللام للجنس: أي من جاء
بجنس الحسنة فله من الجزاء والثواب عند الله خير منها: أي أفضل منها وأكثر، وقيل خير حاصل من جهتها،
والأول أولى. وقيل المراد بالحسنة هنا: لا إله إلا الله، وقيل هي الإخلاص، وقيل أداء الفرائض، والتعميم أولى
ولا وجه للتخصيص وإن قال به بعض السلف. قيل وهذه الجملة بيان لقوله " إنه خبير بما تفعلون " وقيل بيان
لقوله " وكل أتوه داخرين ". قرأ عاصم وحمزة والكسائي (وهم من فزع) بالتنوين وفتح ميم (يومئذ). وقرأ نافع
بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون بإضافة فزع إلى يومئذ. قال أبو عبيد: وهذا أعجب إلي لأنه أعم التأويلين
لأن معناه: الأمن من فزع جميع ذلك اليوم، ومع التنوين يكون الأمن من فزع دون فزع. وقيل إنه مصدر
يتناول الكثير فلا يتم الترجيح بما ذكر، فتكون القراءتان بمعنى واحد. وقيل المراد بالفزع هاهنا هو الفزع الأكبر
155

المذكور في قوله - لا يحزنهم الفزع الأكبر -، ووجه قراءة نافع أنه نصب يوم على الظرفية لكون الإعراب فيه غير
متمكن، ولما كانت إضافة الفزع إلى ظرف غير متمكن بني، وقد تقدم في سورة هود كلام في هذا مستوفى
(ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار). قال جماعة من الصحابة ومن بعدهم حتى قيل إنه مجمع عليه بين
أهل التأويل: إن المراد بالسيئة هنا الشرك، ووجه التخصيص قوله " فكبت وجوههم في النار "، فهذا الجزاء
لا يكون إلا بمثل سيئة الشرك، ومعنى " فكبت وجوههم في النار " أنهم كبوا فيها على وجوههم وألقوا فيها وطرحوا
عليها، يقال كببت الرجل: إذا ألقيته لوجهه فانكب وأكب، وجملة (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) بتقدير
القول: أي يقال ذلك، والقائل خزنة جهنم: أي ما تجزون إلا جزاء عملكم (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة
الذي حرمها) لما فرغ سبحانه من بيان أحوال المبدأ والمعاد أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم هذه
المقالة: أي قل يا محمد إنما أمرت أن أخص الله بالعبادة وحده لا شريك له، والمراد بالبلدة: مكة، وإنما خصها
من بين سائر البلاد لكون فيها بيت الله الحرام، ولكونها أحب البلاد إلى رسوله، والموصول صفة للرب، وهكذا
قرأ الجمهور. وقرأ ابن عباس وابن مسعود التي حرمها على أن الموصول صفة للبلدة، ومعنى " حرمها " جعلها
حرما أمنا لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد، ولا يصطاد صيدها، ولا يختلى خلاها (وله كل شئ) من
الأشياء خلقا وملكا وتصرفا: أي ولله كل شئ (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي المنقادين لأمر الله
المستسلمين له بالطاعة، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والمراد بقوله " أن أكون " أن أثبت على ما أنا عليه (وأن أتلوا
القرآن) أي أداوم تلاوته وأواظب على ذلك. قيل وليس المراد من تلاوة القرآن هنا إلا تلاوة الدعوة إلى الإيمان،
والأول أولى (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) لأن نفع ذلك راجع إليه: أي فمن اهتدى على العموم، أو فمن
اهتدى بما أتلوه عليه فعمل بما فيه من الإيمان بالله، والعمل بشرائعه. قرأ الجمهور (وأن أتلو) بإثبات الواو بعد
اللام على أنه من التلاوة وهي القراءة، أو من التلو، وهو الاتباع. وقرأ عبد الله " وأن أتل " بحذف الواو أمرا له
صلى الله عليه وآله وسلم كذا وجهه الفراء. قال النحاس: ولا نعرف أحدا قرأ هذه القراءة، وهي مخالفة لجميع
المصاحف (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي ومن ضل بالكفر وأعرض عن الهداية فقل له إنما أنا من
المنذرين، وقد فعلت بإبلاغ ذلك إليكم وليس علي غير ذلك. وقيل الجواب محذوف: أي فوبال ضلاله عليه،
وأقيم إنما أنا من المنذرين مقامه لكونه كالعلة له (وقل الحمد لله) على نعمه التي أنعم بها علي من النبوة والعلم وغير
ذلك، وقوله (سيريكم آياته) هو من جملة ما أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله: أي سيريكم الله
آياته في أنفسكم وفي غيركم (فتعرفونها) أي تعرفون آياته، ودلائل قدرته ووحدانيته، وهذه المعرفة لا تنفع الكفار
لأنهم عرفوها حين لا يقبل منهم الإيمان، وذلك عند حضور الموت. ثم ختم السورة بقوله (وما ربك بغافل عما
تعملون) وهو كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقوله،
وفيه ترهيب شديد وتهديد عظيم. قرأ أهل المدينة والشام وحفص عن عاصم " تعملون " بالفوقية على الخطاب،
وقرأ الباقون بالتحتية.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (داخرين) قال: صاغرين. وأخرج
هؤلاء عنه في قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة) قال: قائمة (صنع الله الذي أتقن كل شئ) قال: أحكم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (صنع الله الذي أتقن كل شئ) قال: أحسن كل شئ خلقه
وأوثقه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من جاء
156

بالحسنة فله خير منها) قال: هي لا إله إلا الله، (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) قال: هي الشرك،
وإذا صح هذا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالمصير إليه في تفسير كلام الله سبحانه متعين ويحمل على
أن المراد قال: لا إله إلا الله بحقها، وما يجب لها، فيدخل تحت ذلك كل طاعة، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في الكنى
عن صفوان بن عسال قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا كان يوم القيامة: جاء الإيمان
والشرك يجثوان بين يدي الله سبحانه، فيقول الله للإيمان: انطلق أنت وأهلك إلى الجنة، ويقول للشرك: انطلق
أنت وأهلك إلى النار، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني قول:
لا إله إلا الله، (ومن جاء بالسيئة) يعني الشرك (فكبت وجوههم في النار) ". وأخرج ابن مردويه من حديث
أبي هريرة وأنس نحوه مرفوعا: وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " - من جاء بالحسنة - " يعني شهادة أن لا إله إلا الله (فله خير منها) يعني بالخير الجنة (ومن جاء
بالسيئة) يعني الشرك " فكبت وجوههم في النار " وقال هذه تنجي، وهذه تردى ". وأخرج عبد بن حميد وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات، والخرائطي في مكارم الأخلاق: عن ابن مسعود (من
جاء بالحسنة) قال: لا إله إلا الله، (ومن جاء بالسيئة) قال: بالشرك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم (فله خير منها) قال: له منها خير، يعني من
جهتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (فله خير منها) قال: ثواب. وأخرج أيضا عنه أيضا قال: البلدة مكة.
تفسير سورة القصص
آياتها ثمان وثمانون آية، وهي مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء
وأخرج ابن الضريس وابن النجار وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة
القصص بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثل ذلك: قال القرطبي: قال ابن عباس وقتادة: إنها نزلت
بين مكة والمدينة. وقال ابن سلام: بالجحفة وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهي قوله عز وجل
(إن الذي فرض عليك القران لرادك إلى معاد) وقال مقاتل: فيها من المدني (الذين اتيناهم الكتاب) إلى قوله
(لا نبتغي الجاهلين). وأخرج أحمد والطبراني وابن مردويه: قال السيوطي: سنده جيد عن معد يكرب قال: أتينا
عبد الله بن مسعود فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين، فقال: ما هي معي، ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم خباب بن الأرت. فأتيت خبابا فقلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقرأ طسم أو طس؟ فقال: كل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأه.
157

الكلام في فاتحة هذه السورة قد مر في فاتحة الشعراء وغيرها فلا نعيده، وكذلك مر الكلام على قوله (تلك
آيات الكتاب المبين) فاسم الإشارة مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف وآيات بدل من اسم الإشارة،
ويجوز أن يكون تلك في موضع نصب بنتلوا، والمبين المشتمل على بيان الحق من الباطل. قال الزجاج: مبين
الحق من الباطل، والحلال من الحرام، وهو من أبان بمعنى أظهر (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم
يؤمنون) أي نوحي إليك من خبرهما ملتبسا بالحق، وخص المؤمنين لأن التلاوة إنما ينتفع بها المؤمن. وقيل إن
مفعول نتلوا محذوف، والتقدير: نتلوا عليك شيئا من نبأهما، ويجوز أن تكون من مزيدة على رأي الأخفش: أي
نتلوا عليك نبأ موسى وفرعون، والأولى أن تكون للبيان على تقدير المفعول كما ذكر، أو للتبعيض، ولا ملجئ
للحكم بزيادتها، والحق الصدق، وجملة (إن فرعون علا في الأرض) وما بعدها مستأنفة مسوقة لبيان ما أجمله من
النبأ. قال المفسرون: معنى علا تكبر وتجبر بسلطانه، والمراد بالأرض أرض مصر. وقيل معنى علا: ادعى
الربوبية، وقيل علا عن عبادة ربه (وجعل أهلها شيعا) أي فرقا وأصنافا في خدمته يشايعونه على ما يريد ويطيعونه،
وجملة (يستضعف طائفة منهم) مستأنفة مسوقة لبيان حال الأهل الذين جعلهم فرقا وأصنافا، ويجوز أن تكون في
محل نصب على الحال من فاعل جعل: أي جعلهم شيعا حال كونهم مستضعفا طائفة منهم، ويجوز أن تكون صفة
لطائفة، والطائفة هم بنو إسرائيل، وجملة (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) بدل من الجملة الأولى، ويجوز أن
تكون مستأنفة للبيان، أو حالا، أو صفة كالتي قبلها على تقدير عدم كونها بدلا منها، وإنما كان فرعون يذبح
158

أبناءهم ويترك النساء، لأن المنجمين في ذلك العصر أخبروه أنه يذهب ملكه على يد مولود من بني إسرائيل. قال
الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل، وإن كان
كاذبا فلا معنى للقتل (إنه كان من المفسدين) في الأرض بالمعاصي والتجبر، وفيه بيان أن القتل من فعل أهل
الإفساد (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) جاء بصيغة المضارع لحكاية الحالة الماضية. واستحضار
صورتها: أي نريد أن نتفضل عليهم بعد استضعافهم، والمراد بهؤلاء بنو إسرائيل، والواو في " ونريد " للعطف
على جملة " إن فرعون علا " وإن كانت الجملة المعطوف عليها اسمية، لأن بينهما تناسبا من حيث إن كل واحدة
منهما للتفسير والبيان، ويجوز أن تكون حالا من فاعل يستضعف بتقدير مبتدأ: أي ونحن نريد أن نمن على الذين
استضعفوا في الأرض كما في قول الشاعر: * نجوت وأرهنهم ملكا * والأول أولى (ونجعلهم أئمة) أي
قادة في الخير ودعاة إليه، وولاة على الناس وملوكا فيهم (ونجعلهم الوارثين) لملك فرعون ومساكن القبط
وأملاكهم، فيكون ملك فرعون فيهم ويسكنون في مساكنه ومساكن قومه، وينتفعون بأملاكه وأملاكهم
(ونمكن لهم في الأرض) أي نجعلهم مقتدرين عليها وعلى أهلها مسلطين على ذلك يتصرفون به كيف شاءوا.
قرأ الجمهور " نمكن " بدون لام، وقرأ الأعمش " لنمكن " بلام العلة (ونرى فرعون وهامان وجنودهما) قرأ
الجمهور نرى بنون مضمومة وكسر الراء على أن الفاعل هو الله سبحانه. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة
والكسائي وخلف (ويرى) " بفتح الياء التحتية والراء، والفاعل فرعون، والقراءة الأولى ألصق بالسياق لأن قبلها
نريد ونجعل ونمكن بالنون. وأجاز الفراء " ويرى فرعون " بضم الياء التحتية وكسر الراء: أي ويرى الله فرعون،
ومعنى (منهم) من أولئك المستضعفين (ما كانوا يحذرون) الموصول هو المفعول الثاني على القراءة الأولى،
والمفعول الأول على القراءة الثانية، والمعنى: أن الله يريهم، أو يرون هم الذي كانوا يحذرون منه ويجتهدون
في دفعه من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد المولود من بني إسرائيل المستضعفين (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه)
أي ألهمناها وقذفنا في قلبها وليس ذلك هو الوحي الذي يوحى إلى الرسل، وقيل: كان ذلك رؤيا في منامها،
وقيل: كان ذلك بملك أرسله الله يعلمها بذلك.
وقد أجمع العلماء على أنها لم تكن نبية، وإنما كان إرسال الملك إليها عند من قال به على نحو تكليم الملك
للأقرع والأبرص والأعمى كما في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما، وقد سلمت على عمران بن حصين
الملائكة كما في الحديث الثابت في الصحيح فلم يكن بذلك نبيا، وأن في " أن ارضعيه " هي المفسرة، لأن في الوحي
معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية: أي بأن أرضعيه، وقرأ عمر بن عبد العزيز بكسر نون أن، ووصل
همزة أرضعيه فالكسر لالتقاء الساكنين، وحذف همزة الوصل على غير القياس (فإذا خفت عليه) من فرعون بأن
يبلغ خبره إليه (فألقيه في اليم) وهو بحر النيل، وقد تقدم بيان الكيفية التي ألقته في اليم عليها في سورة طه (ولا
تخافي ولا تحزني) أي لا تخافي عليه الغرق أو الضيعة، ولا تحزني لفراقه (إنا رادوه إليك) عن قريب على وجه
تكون به نجاته (وجاعلوه من المرسلين) الذين نرسلهم إلى العباد، والفاء في قوله (فالتقطه آل فرعون) هي
الفصيحة، والالتقاط: إصابة الشئ من غير طلب، والمراد بآل فرعون هم الذين أخذوا التابوت الذي فيه
موسى من البحر، وفي الكلام حذف، والتقدير فألقته في اليم بعد ما جعلته في التابوت فالتقطه من وجده من آل
فرعون، واللام في (ليكون لهم عدوا وحزنا) لام العاقبة، ووجه ذلك أنهم إنما أخذوه ليكون لهم ولدا وقرة عين
159

لا ليكون عدوا فكان عاقبة ذلك إنه كان لهم عدوا وحزنا، ولما كانت هذه العداوة نتيجة لفعلهم وثمرة له شبهت
بالداعي الذين يفعل الفاعل الفعل لأجله، ومن هذا قول الشاعر: * لدوا للموت وابنوا للخراب *
وقول الآخر: وللمنايا تربي كل مرضعة * ودورنا لخراب الدهر نبنيها
قرأ الجمهور وحزنا بفتح الحاء والزاي، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف وحزنا بضم الحاء
وسكون الزاي، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، وهما لغتان كالعدم والعدم، والرشد والرشد،
والسقم والسقم، وجملة (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) لتعليل ما قبلها، أو للاعتراض لقصد
التأكيد، ومعنى خاطئين: عاصين آثمين في كل أفعالهم وأقوالهم، وهو مأخوذ من الخطأ المقابل للصواب،
وقرئ خاطين بياء من دون همزة فيحتمل أن يكون معنى هذه القراءة معنى قراءة الجمهور ولكنها خففت بحذف
الهمزة، ويحتمل أن تكون من خطا يخطو: أي تجاوز الصواب (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك) أي قالت
امرأة فرعون لفرعون، وارتفاع قرة على أنه خبر مبتدأ محذوف، قاله الكسائي وغيره. وقيل على أنه مبتدأ وخبره
(لا تقتلوه) قاله الزجاج، والأول أولى. وكان قولها لهذا القول عند رؤيتها له لما وصل إليها وأخرجته من التابوت
وخاطبت بقولها " لا تقتلوه " فرعون ومن عنده من قومه، أو فرعون وحده على طريقة التعظيم له. وقرأ عبد الله بن
مسعود " وقالت امرأة فرعون لا تقتلوه قرة عين لي ولك " ويجوز نصب قرة بقوله لا تقتلوه على الاشتغال. وقيل
إنها قالت: لا تقتلوه فإن الله أتى به من أرض بعيدة وليس من بني إسرائيل. ثم عللت ما قالته بالترجي منها لحصول
النفع منه لهم، أو التبني له فقالت (عسى أن ينفعنا) فنصيب منه خيرا (أو نتخذه ولدا) وكانت لا تلد فاستوهبته
من فرعون فوهبه لها، وجملة (وهم لا يشعرون) في محل نصب على الحال: أي وهم لا يشعرون أنهم على خطأ في
التقاطه، ولا يشعرون أن هلاكهم على يده، فتكون حالا من آل فرعون، وهي من كلام الله سبحانه. وقيل هي
من كلام المرأة: أي وبنو إسرائيل لا يدرون أنا التقطناه وهم لا يشعرون، قاله الكلبي، وهو بعيد جدا. وقد حكى
الفراء عن السدي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن قوله " لا تقتلوه " من كلام فرعون واعترضه بكلام
يرجع إلى اللفظ، ويكفي في رده ضعف إسناده (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) قال المفسرون: معنى ذلك أنه
فارغ من كل شئ إلا من أمر موسى كأنها لم تهتم بشئ سواه. قال أبو عبيدة: خاليا من ذكر كل شئ
في الدنيا إلا من ذكر موسى. وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد: فارغا مما أوحى إليها من قوله " ولا تخافي ولا
تحزني "، وذلك لما سول الشيطان لها من غرقه وهلاكه. وقال الأخفش: فارغا من الخوف والغم لعلمها أنه لم
يغرق بسبب ما تقدم من الوحي إليها، وروي مثله عن أبي عبيدة أيضا. وقال الكسائي: ناسيا ذاهلا. وقال العلاء
ابن زياد نافرا. وقال سعيد بن جبير: والها كادت تقول وا ابناه من شدة الجزع. وقال مقاتل: كادت تصيح
شفقة عليه من الغرق. وقيل المعنى: أنها لما سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها من فرط الجزع والدهش.
قال النحاس: وأصح هذه الأقوال الأول، والذين قالوه أعلم بكتاب الله. فإذا كان فارغا من كل شئ إلا من
ذكر موسى فهو فارغ من الوحي، وقول من قال فارغا من الغم غلط قبيح لأن بعده " إن كادت لتبدي به لولا
أن ربطنا على قلبها " وقرأ فضالة بن عبيد الأنصاري ومحمد بن السميفع وأبو العالية وابن محيصن " فزعا " بالفاء
والزاي والعين المهملة من الفزع: أي خائفا وجلا. وقرأ ابن عباس " قرعا " بالقاف المفتوحة والراء المهملة المسكورة
والعين المهملة من قرع رأسه: إذا انحسر شعره، ومعنى وأصبح وصار: كما قال الشاعر:
160

مضى الخلفاء في أمر رشيد * وأصبحت المدينة للوليد
(إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) أن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شان محذوف: أي إنها
كادت لتظهر أمر موسى وأنه ابنها من فرط ما دهمها من الدهش والخوف والحزن، من بدا يبدو: إذا ظهر،
وأبدى يبدي: إذا أظهر، وقيل الضمير في به عائد إلى الوحي الذي أوحى إليها، والأول أولى. وقال الفراء:
إن كانت لتبدي باسمه لضيق صدرها لولا أن ربطنا على قلبها. قال الزجاج: ومعنى الربط على القلب: إلهام
الصبر وتقويته، وجواب لولا محذوف: أي لولا أن ربطنا على قلبها لأبدت، واللام في (ولتكون من المؤمنين)
متعلق بربطنا، والمعنى: ربطنا على قلبها لتكون من المصدقين بوعد الله وهو قوله " إنا رادوه إليك " قيل والباء
في " لتبدي به " زائدة للتأكيد. والمعنى: لتبديه كما تقول أخذت الحبل وبالحبل. وقيل المعنى: لتبدي القول به
(وقالت لأخته قصيه) أي قالت أم موسى لأخت موسى وهي مريم قصيه: أي تتبعي أثره واعرفي خبره وانظري
أين وقع وإلى من صار؟ يقال قصصت الشئ: إذا اتبعت أثره متعرفا لحاله (فبصرت به عن جنب) أي أبصرته
عن بعد، وأصله عن مكان جنب، ومنه الأجنبي. قال الشاعر:
فلا تحرميني أو نائلا عن جنابة * فإني امرؤ وسط الديار غريب
وقيل المراد بقوله " عن جنب " عن جانب، والمعنى أنها أبصرت إليه متجانفة مخاتلة، ويؤيد ذلك قراءة
النعمان بن سالم عن جانب، ومحل عن جنب النصب على الحال إما من الفاعل: أي بصرت به مستخفية كائنة عن
جنب، وإما من المجرور: أي بعيدا منها. قرأ الجمهور " بصرت به " بفتح الباء وضم الصاد، وقرأ قتادة بفتح الصاد
وقرأ عيسى بن عمر بكسرها. قال المبرد: أبصرته وبصرت به بمعنى، وقرأ الجمهور " عن جنب " بضمتين، وقرأ
قتادة والحسن والأعرج وزيد بن علي بفتح الجيم وسكون النون، وروي عن قتادة أيضا أنه قرأ بفتحهما.
وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بضم الجيم وسكون النون. وقال أبو عمرو بن لعلاء: إن معنى " عن جنب " عن
شوق. قال: وهي لغة جذام يقولون: جنبت إليك: أي اشتقت إليك (وهم لا يشعرون) أنها تقصه وتتبع خبره
وأنها أخته (وحرمنا عليه المراضع) المراضع جمع مرضع: أي منعناه أن يرضع من المرضعات. وقيل المراضع جمع
مرضع بفتح الضاد، وهو الرضاع أو موضعه، وهو الثدي، ومعنى (من قبل) من قبل أن نرده إلى أمه، أو من
قبل أن تأتيه أمه، أو من قبل قصها لأثره، وقد كانت امرأة فرعون طلبت لموسى المرضعات ليرضعنه، فلم يرضع
من واحدة منهم، (ف) عند ذلك (قالت) أي أخته لما رأت امتناعه من الرضاع (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه
لكم) أي يضمنون لكم القيام به وإرضاعه (وهم له ناصحون) أي مشفقون عليه لا يقصرون في إرضاعه وتربيته.
وفي الكلام حذف، والتقدير: فقالوا لها من هم؟ فقالت أمي، فقيل لها: وهل لأمك لبن؟ قالت نعم لبن أخي
هارون: فدلتهم على أم موسى فدفعوه إليها، فقبل ثديها، ورضع منه، وذلك معنى قوله سبحانه (فرددناه إلى
أمه كي تقر عينها) بولدها (ولا تحزن) على فراقه (ولتعلم أن وعد الله) أي جميع وعده، ومن جملة ذلك ما وعدها
بقوله " إنا رادوه إليك " (حق) لا خلف فيه واقع لا محالة (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي أكثر آل فرعون
لا يعلمون بذلك، بل كانوا في غفلة عن القدر وسر القضاء، أو أكثر الناس لا يعلمون بذلك أو لا يعلمون أن الله
وعدها بأن يرده إليها.
وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (وجعل
أهلها شيعا) قال: فرق بينهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة (وجعل
161

أهلها شيعا) قال: يستعبد طائفة منهم ويدع طائفة، ويقتل طائفة ويستحيى طائفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في قوله (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم
أئمة) قال: يوسف وولده. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (ونريد أن نمن
على الذين استضعفوا في الأرض) قال: هم بنو إسرائيل (ونجعلهم أئمة) أي ولاة الأمر (ونجعلهم الوارثين) أي
الذين يرثون الأرض بعد فرعون وقومه (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) قال ما كان
القوم حذروه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وأوحينا إلى أم موسى) أي ألهمناها الذي صنعت
بموسى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الأعمش قال: قال ابن عباس في قوله (فإذا خفت عليه) قال: أن يسمع
جيرانك صوته. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا) قال: فرغ من
ذكر كل شئ من أمر الدنيا إلا من ذكر موسى. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله " وأصبح فؤاد أم موسى فارغا " قال:
خاليا من كل شئ غير ذكر موسى. وفي قوله (إن كادت لتبدي به) قال: تقول: يا ابناه. وأخرج الفريابي
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله (وقالت لأخته قصيه) أي اتبعي أثره (فبصرت
به عن جنب) قال: عن جانب. وأخرج الطبراني وابن عساكر عن أبي أمامة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم قال لخديجة: أما شعرت أن الله زوجني مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وامرأة فرعون؟ قالت: هنيئا
لك يا رسول الله. وأخرجه ابن عساكر عن ابن أبي رواد مرفوعا بأطول من هذا، وفي آخره أنها قالت: بالرفاء
والبنين. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (وحرمنا عليه
المراضع من قبل) قال: لا يؤتي بمرضع فيقبلها.
162

قوله (ولما بلغ أشده) قد تقدم الكلام في بلوغ الأشد في الأنعام، وقد قال ربيعة ومالك: هو الحلم لقوله
تعالى - حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا - الآية، وأقصاه أربع وثلاثون سنة كما قال مجاهد وسفيان
الثوري وغيرهما. وقيل الأشد ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين، وقيل
الاستواء هو بلوغ الأربعين، وقيل الاستواء إشارة إلى كمال الخلقة، وقيل هو بمعنى واحد، وهو ضعيف لأن
العطف يشعر بالمغايرة (آتيناه حكما وعلما) الحكم الحكمة على العموم، وقيل النبوة، وقيل الفقه في الدين. والعلم
الفهم قاله السدي. وقال مجاهد الفقه. وقال ابن إسحاق: العلم بدينه ودين ابائه، وقيل كان هذا قبل النبوة، وقد
تقدم بيان معنى ذلك في البقرة (وكذلك نجزي المحسنين) أي مثل ذلك الجزاء الذي جزينا أم موسى لما استسلمت
لأمر الله وألقت ولدها في البحر وصدقت بوعد الله نجزي المحسنين على إحسانهم، والمراد العموم (ودخل المدينة)
أي ودخل موسى مدينة مصر الكبرى، وقيل مدينة غيرها من مدائن مصر، ومحل قوله على حين غفلة من
أهلها) النصب على الحال: إما من الفاعل: أي مستخفيا، وإما من المفعول. قيل لما عرف موسى ما هو عليه من
الحق في دينه عاب ما عليه قوم فرعون وفشا ذلك منه، فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل المدينة إلا مستخفيا. قيل
كان دخوله بين العشاء والعتمة، وقيل وقت القائلة. قال الضحاك: طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها
فدخل على حين علم منهم، فكان منه ما حكى الله سبحانه بقوله (فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) أي
ممن شايعه على دينه، وهم بنو إسرائيل (وهذا من عدوه) أي من المعادين له على دينه وهم قوم فرعون (فاستغاثه
الذي من شيعته) أي طلب منه أن ينصره ويعينه على خصمه (على الذي من عدوه) فأغاثه لأن نصر المظلوم واجب
في جميع الملل. قيل أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه واستغاث بموسى (فوكزه
موسى) الوكز الضرب بجمع الكف، وهكذا اللكز واللهز. وقيل اللكز على اللحى، والوكز على القلب. وقيل
ضربه بعصاه. وقرأ ابن مسعود " فلكزه " وحكى الثعلبي أن في مصحف عثمان " فنكزه " بالنون. قال الأصمعي:
نكزه بالنون: ضربه ودفعه. قال الجوهري: اللكز الضرب على الصدر. وقال أبو زيد: في جميع الجسد: يعني
أنه يقال له لكز. واللهز الضرب بجميع اليدين في الصدر، ومثله عن أبي عبيدة (فقضى عليه) أي قتله، وكل
شئ أتيت عليه وفرغت منه: فقد قضيت عليه، ومنه قول الشاعر: * قد عضه فقضى عليه الأشجع *
قيل لم يقصد موسى قتل القبطي، وإنما قصد دفعه فأتى ذلك على نفسه، ولهذا قال (هذا من عمل الشيطان)
163

وإنما قال بهذا القول مع أن المقتول كافر حقيق بالقتل لأنه لم يكن إذ ذاك مأمورا بقتل الكفار. وقيل إن تلك
الحالة حالة كف عن القتال لكونه مأمونا عندهم، فلم يكن له أن يغتالهم. ثم وصف الشيطان بقوله (إنه عدو مضل
مبين أي عدو للإنسان يسعى في إضلاله، ظاهر العداوة والإضلال. وقيل إن الإشارة بقوله " هذا " إلى عمل
المقتول لكونه كافرا مخالفا لما يريده الله. وقيل إنه إشارة إلى المقتول نفسه: يعني أنه من جند الشيطان وحزبه. ثم
طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه (قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر) الله (له) ذلك (إنه هو
الغفور الرحيم) ووجه استغفاره أنه لم يكن لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وقيل إنه طلب المغفرة من تركه للأولى كما هو
سنة المرسلين، أو أراد إني ظلمت بقتل هذا الكافر، لأن فرعون لو يعرف ذلك لقتلني به، ومعنى فاغفر لي:
فاستر ذلك علي لا تطلع عليه فرعون، وهذا خلاف الظاهر فإن موسى عليه السلام ما زال نادما على ذلك خائفا
من العقوبة بسببه: حتى إنه يوم القيامة عند طلب الناس الشفاعة منه يقول: إني قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها، كما ثبت
ذلك في حديث الشفاعة الصحيح. وقد قيل إن هذا كان قبل النبوة، وقيل كان ذلك قبل بلوغه سن التكليف وإنه
كان إذ ذاك في اثنتي عشرة سنة، وكل هذه التأويلات البعيدة محافظة على ما تقرر من عصمة الأنبياء ولا شك أنهم
معصومون من الكبائر، والقتل الواقع منه لم يكن عن عمد فليس بكبيرة، لأن الوكزة في الغالب لا تقتل. ثم لما
أجاب الله سؤاله وغفر له ما طلب منه مغفرته (قال رب بما أنعمت علي) هذه الباء يجوز أن تكون باء القسم
والجواب مقدر: أي أقسم بإنعامك علي لأتوبن وتكون جملة (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) كالتفسير للجواب
وكأنه أقسم بما أنعم الله عليه أن لا يظاهر مجرما. ويجوز أن تكون هذه الباء هي باء السببية متعلقة بمحذوف: أي
أعصمني بسبب ما أنعمت به علي، ويكون قوله " فلن أكون ظهيرا " مترتبا عليه، ويكون في ذلك استعطاف لله
تعالى وتوصل إلى إنعامه بإنعامه، و " ما " في قوله " بما أنعمت " إما موصولة أو مصدرية، والمراد بما أنعم به عليه:
هو ما آتاه من الحكم والعلم أو بالمغفرة أو بالجميع، وأراد بمظاهرة المجرمين: إما صحبة فرعون والانتظام في جملته في
ظاهر الأمر، أو مظاهرته على ما فيه إثم. قال الكسائي والفراء: ليس قوله (فلن أكون ظهيرا للمجرمين) خبرا بل
هو دعاء: أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا لهم. قال الكسائي: وفي قراءة عبد الله " فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين "
وقال الفراء: المعنى اللهم فلن أكون ظهيرا للمجرمين. وقال النحاس: إن جعله من باب الخبر أو في وأشبه بنسق
الكلام (فأصبح في المدينة خائفا يترقب) أي دخل في وقت الصباح في المدينة التي قتل فيها القبطي، وخائفا خبر
أصبح، ويجوز أن يكون حالا، والخبر في المدينة، ويترقب يجوز أن يكون خبرا ثانيا، وأن يكون حالا ثانية،
وأن يكون بدلا من خائفا، ومفعول يترقب محذوف، والمعنى: يترقب المكروه أو يترقب الفرح (فإذا الذي
استنصره بالأمس يستصرخه) إذا هي الفجائية والموصول مبتدأ وخبره يستصرخه: أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي
استغاثه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أراد أن يسخره ويظلمه كما أراد القبطي الذي قد قتله موسى بالأمس، والاستصراخ
الاستغاثة، وهو من الصراخ، وذلك أن المستغيث يصوت ويصرخ في طلب الغوث، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع * كان الجواب له قرع الظنابيب
(قال له موسى إنك لغوي مبين) أي بين الغواية، وذلك أنك تقاتل من لا تقدر على مقاتلته ولا تطيقه،
وقيل إنما قال له هذه المقالة لأنه تسبب بالأمس لقتل رجل يريد اليوم أن يتسبب لقتل آخر: (فلما أن أراد أن يبطش
بالذي هو عدو لهما) أي يبطش بالقبطي الذي هو عدو لموسى وللإسرائيلي حيث لم يكن على دينهما، وقد تقدم
164

معنى يبطش واختلاف القراء فيه (قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) القائل هو الإسرائيلي لما
سمع موسى يقول له (إنك لغوي مبين) ورآه يريد أن يبطش بالقبطي ظن أنه يريد أن يبطش به، فقال لموسى
(أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) فلما سمع القبطي ذلك أفشاه. ولم يكن قد علم أحد من أصحاب فرعون
أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس حتى أفشى عليه الإسرائيلي، هكذا قال جمهور المفسرين. وقيل إن القائل
(أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو
الظاهر، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل لأنه هو المراد بقوله عدو لهما، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى
يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرة الأولى، والمرة الأخرى هو الذي أفشى عليه، وأيضا إن قوله (إن
تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) لا يليق صدور مثله إلا من كافر، وإن في قوله (إن تريد) هي النافية أي
ما تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. قال الزجاج: الجبار في اللغة الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق
جبار. وقيل الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل ولا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن (وما
تريد أن تكون من المصلحين) أي الذين يصلحون بين الناس (وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى) قيل المراد بهذا
الرجل حزقيل وهو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم موسى، وقيل اسمه شمعون، وقيل طالوت، وقيل شمعان.
والمراد بأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، ويسعى يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل، ويجوز أن يكون في
محل نصب على الحال، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: من أقصى المدينة (قال يا موسى إن
الملأ يأتمرون بك ليقتلوك) أي يتشاورون في قتلك ويتآمرون بسببك. قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضا بقتلك. وقال
أبو عبيد: يتشاورون فيك ليقتلوك: يعني أشراف قوم فرعون. قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا: أي أمر
بعضهم بعضا، نظيره قوله " وائتمروا بينكم بمعروف " قال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة * وفي كل حادثة يؤتمر
(فأخرج إني لك من الناصحين) في الأمر بالخروج، واللام للبيان لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه (فخرج
منها خائفا يترقب) فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفا من الظالمين مترقبا لحوقهم به وإدراكهم له، ثم دعا
ربه بأن ينجيه مما خافه قائلا (رب نجني من القوم الظالمين) أي خلصني من القوم الكافرين وأدفعهم عني، وحل
بيني وبينهم (ولما توجه تلقاء مدين) أي نحو مدين قاصدا لها. قال الزجاج: أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين
فيها انتهى، يقال داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون، ولهذا
خرج إليها (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين (ولما ورد ماء
مدين) أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه (وجد عليه أمة من الناس يسقون) أي وجد على الماء جماعة
كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه وإن
لم يدخل فيه، وهو المراد هنا، ومنه قول زهير: * فلما وردنا الماء زرقا حمامه * وقد تقدم تحقيق معنى
الورود في قوله - وإن منكم إلا واردها - وقيل مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين
(ووجد من دونهم) أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها، وقيل معناه: في موضع
أسفل منهم (امرأتين تذودان) أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس ويخلو بينهما وبين الماء، ومعنى
الذود الدفع والحبس، ومنه قول الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما * أذود بها سربا من الوحش نزعا
165

أي أحبس وأمنع، وورد الذود بمعنى الطرد، ومنه قول الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم * فما تدري بأي عصى تذود أي تطرد
(قال ما خطبكما) أي قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب الشأن، قيل
وإنما يقال ما خطبك لمصاب، أو مضطهد، أو لمن يأتي بمنكر (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء) أي إن عادتنا
التأني حتى يصدر الناس عن الماء وينصرفوا منه حذرا من مخالطتهم، أو عجزا عن السقي معهم. قرأ الجمهور
" يصدر " بضم الياء وكسر الدال مضارع أصدر المتعدي بالهمزة. وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء
وضم الدال من صدر يصدر لازما، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف: أي يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع
راع. قرأ الجمهور " الرعاء " بكسر الراء. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها. قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم
مقام الصفة، فلذلك استوى فيه الواحد والجمع. وقرئ " الرعاء " بالضم اسم جمع. وقرأ طلحة بن مصرف " نسقي "
بضم النون من أسقي (وأبونا شيخ كبير) عالي السن، وهذا من تمام كلامهما: أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من
الكبر، فلذلك احتجنا ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك (فلما سمع موسى
كلامهما) سقي لهما (رحمة لهما: أي سقي أغنامهما لأجلهما) ثم (لما فرغ من السقي لهما) تولى إلى الظل. أي
انصرف إليه، فجلس فيه، قيل كان هذا الظل ظل سمرة هنالك. ثم قال لما أصابه من الجهد والتعب مناديا لربه
(إني لما أنزلت إلي من خير) أي خير كان (فقير) أي محتاج إلى ذلك، قيل أراد بذلك الطعام، واللام في لما
أنزلت معناها إلي. قال الأخفش: يقال هو فقير له وإليه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد
عن ابن عباس في قوله (ولما بلغ أشده) قال: ثلاثا وثلاثين سنة (واستوى) قال: أربعين سنة. وأخرج ابن
أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال: الأشد ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين،
والاستواء ما بين الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله (ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها) قال: نصف النهار. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني، عنه أيضا في الآية قال: ما بين المغرب والعشاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (هذا من شيعته) قال: إسرائيلي (وهذا من عدوه) قال: قبطي (فاستغاثه الذي
من شيعته) الإسرائيلي (على الذي من عدوه) القبطي (فوكزه موسى فقضى عليه) قال: فمات، قال فكبر ذلك
على موسى. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه) قال:
هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال:
الذي استنصره هو الذي استصرخه. وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه
الآية؟ إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لا يكون
الرجل جبارا حتى يقتل نفسين. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: خرج موسى
خائفا يترقب جائعا ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين، و (عليه أمة من الناس يسقون) وامرأتان جالستان
بشياههما فسألهما (ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا لا،
إلا بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر، قال: فانطلقتا فأريانيها، فانطلقتا معه، فقال بالصخرة بيده فنحاها،
166

ثم استقى لهم سجلا واحدا فسقى الغنم، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها (ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي
من خير فقير) فسمعتا، قال: فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما، فسألهما فأخبرتاه، فقال لإحداهما:
انطلقي فأدعيه فأتت، ف (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فمشت بين يديه، فقال لها أمشي خلفي،
فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحل لي أن أرى منك ما حرم الله علي، وأرشديني الطريق (فلما جاءه وقص عليه
القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين. قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي
الأمين) قال لها أبوها: ما رأيت من قوته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوته فإنه قلب الحجر
وحده، وكان لا يقلبه إلا النفر. وأما أمانته فقال أمشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم
لا يحل لي منك ما حرمه الله. قيل لابن عباس: أي الأجلين قضى موسى قال: أبرهما وأوفاهما. وأخرج
الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب
قال: إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق
رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما؟ فحدثناه، فأتى الحجر، فرفعه وحده، ثم استقى
فلم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما فحدثتاه، وتولى موسى إلى الظل فقال:
رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير. قال: (فجائته إحداهما تمشي على استحياء) واضعة ثوبها على وجهها
ليست بسلفع من النساء خراجة ولاجة (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) فقام معها موسى، فقال
لها: أمشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها
قص عليه، فقالت إحداهما: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال: يا بنية ما علمك بأمانته
وقوته؟ قالت: أما قوته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلا عشرة رجال، وأما أمانته فقال إمشي خلفي وانعتي لي الطريق
فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، ف (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي
هاتين) إلى قوله (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) أي في حسن الصحبة والوفاء بما قلت (قال) موسى (ذلك
بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي) قال: نعم، قال: (والله على ما نقول وكيل) فزوجه وأقام معه يكفيه
ويعمل في رعاية غنمه وما يحتاج إليه وزوجه صفورا وأختها شرفا، وهما اللتان كانتا تذودان. قال ابن كثير بعد
إخراجه لطرق من هذا الحديث: إن إسناده صحيح. والسلفع من النساء الجريئة السليطة. وأخرج أحمد في الزهد
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولما ورد ماء مدين) قال: ورد الماء حيث ورد وإنه لتتراءي
خضرة البقل في بطنه من الهزال. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه
وبينها ثمان ليال، ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر، وخرج حافيا، فما وصل إليها حتى وقع خف قدمه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا قال (تذودان) تحسبان غنمهما حتى ينزع
الناس ويخلو لهما البئر.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عنه أيضا قال:
لقد قال موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شق تمرة ولقد لصق
بطنه بظهره من شدة الجوع. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: ما سأل إلا طعام. وأخرج
عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: سأل فلقا من الخبر يشد بها صلبه من الجوع.
167

قوله (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) في الكلام حذف يدل عليه السياق. قال الزجاج: تقديره فذهبتا
إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر
الكبرى من بنتيه، وقيل الصغرى أن تدعوه له فجاءته. وذهب أكثر المفسرين إلى أنهما ابنتا شعيب، وقيل هما
ابنتا أخي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات. والأول أرجح، وهو ظاهر القرآن. ومحل " تمشي " النصب على
الحال من فاعل جاءت، " وعلى استحياء " حال أخرى: أي كائنة على استحياء حالتي المشي والمجيء فقط،
وجملة (قالت إن أبي يدعوك) مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل ماذا قالت له لما جاءته (ليجزيك أجر
ما سقيت لنا) أي جزاء سقيك لنا (فلما جاءه وقص عليه القصص) القصص مصدر سمي به المفعول: أي المقصوص
يعني أخبره بجميع ما اتفق له من عند قتله القبطي إلى عند وصوله إلى ماء مدين (قال) شعيب (لا تخف نجوت من
القوم الظالمين) أي فرعون وأصحابه، لأن فرعون لا سلطان له على مدين، وللرازي في هذا الموضع إشكالات باردة
جدا لا تستحق أن تذكر في تفسير كلام الله عز وجل، والجواب عليها يظهر للمقصر فضلا عن الكامل، وأشف
ما جاء به أن موسى كيف أجاب الدعوة المعللة بالجزاء لما فعله من السقي. ويجاب عنه بأنه اتبع سنة الله في إجابة
دعوة نبي من أنبياء الله، ولم تكن تلك الإجابة لأجل أخذ الأجر على هذا العمل، ولهذا ورد أنه لما قدم إليه
الطعام قال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا (قالت إحداهما يا أبت استأجره) القائلة هي التي جاءته:
168

أي استأجره ليرعى لنا الغنم، وفيه دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة. وقد اتفق على جوازها ومشروعيتها
جميع علماء الإسلام إلا الأصم فإنه عن سماع أدلتها أصم، وجملة (إن خير من استأجرت القوي الأمين) تعليل لما
وقع منها من الإرشاد لأبيها إلى استئجار موسى: أي إنه حقيق باستئجارك له لكونه جامعا بين خصلتي القوة
والأمانة. وقد تقدم في المروى عن ابن عباس وعمر أن أباها سألها عن وصفها له بالقوة والأمانة فأجابته بما تقدم
قريبا (قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) فيه مشروعية عرض ولي المرأة لها على الرجل، وهذه سنة
ثابته في الإسلام، كما ثبت من عرض عمر لابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، والقصة معروفة، وغير
ذلك مما وقع في أيام الصحابة أيام النبوة، وكذلك ما وقع من عرض المرأة لنفسها على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (على أن تأجرني ثماني حجج) أي على أن تكون أجيرا لي ثماني سنين. قال الفراء: يقول على أن تجعل ثوابي
أن ترعى غنمي ثماني سنين، ومحل (على أن تأجرني) النصب على الحال، وهو مضارع أجرته، ومفعوله الثاني
محذوف: أي نفسك و (ثماني حجج) ظرف. قال المبرد: يقال: أجرت داري ومملوكي غير ممدود وممدودا
والأول أكثر (فإن أتممت عشرا فمن عندك) أي إن أتممت ما استأجرتك عليه من الرعي عشر سنين فمن عندك
أي تفضلا منك لا إلزاما مني لك، جعل ما زاد على الثمانية الأعوام إلى تمام عشرة أعوام. موكولا إلى المروءة،
ومحل (فمن عندك) الرفع على تقدير مبتدأ: أي فهي من عندك (وما أريد أن أشق عليك) بإلزامك إتمام العشرة
الأعوام، واشتقاق المشقة من الشق: أي شق ظنه نصفين، فتارة يقول أطيق، وتارة يقول لا أطيق. ثم رغبه
في قبول الإجارة فقال (ستجدني إن شاء الله من الصالحين) في حسن الصحبة والوفاء، وقيل أراد الصلاح على
العموم، فيدخل صلاح المعاملة في تلك الإجارة تحت الآية دخولا أوليا، وقيد ذلك بالمشيئة تفويضا للأمر إلى
توفيق الله ومعونته. ثم لما فرغ شعيب من كلامه قرره موسى ف (قال ذلك بيني وبينك) واسم الإشارة مبتدأ وخبره
ما بعده، والإشارة إلى ما تعاقدا عليه، وجملة (أيما الأجلين قضيت) شرطية وجوابها (فلا عدوان علي) والمراد
بالأجلين الثمانية الأعوام والعشرة الأعوام، ومعي قضيت وفيت به وأتممته، والأجلين مخفوض بإضافة اي
إليه، وما زائدة. وقال ابن كيسان: " ما " في موضع خفض بإضافة أي إليها، و " الأجلين " بدل منها، وقرأ
الحسن (أيما) بسكون الياء، وقرأ ابن مسعود (أي الأجلين ما قضيت) ومعنى (فلا عدوان علي) فلا ظلم علي
بطلب الزيادة على ما قضيته من الأجلين: أي كما لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام لا أطالب بالنقصان على
العشرة. وقيل المعنى: كما لا أطالب بالزيادة على العشرة الأعوام لا أطالب بالزيادة على الثمانية الأعوام، وهذا
أظهر. وأصل العدوان تجاوز الحد في غير ما يجب. قال المبرد: وقد علم موسى أنه لا عدوان عليه إذا أتمهما،
ولكنه جمعهما ليجعل الأول كالأتم في الوفاء. قرأ الجمهور (عدوان) بضم العين. وقرأ أبو حيوة بكسرها (والله
على ما نقول وكيل) أي على ما نقول من هذه الشروط الجارية بيننا شاهد وحفيظ، فلا سبيل لأحدنا إلى الخروج
عن شئ من ذلك. قيل هو من قول موسى، وقيل من قول شعيب، والأول أولى لوقوعه في جملة كلام موسى
(فلما قضى موسى الأجل) هو أكملهما وأوفاهما، وهو العشرة الأعوام كما سيأتي آخر البحث، والفاء صريحه
(وسار بأهله) إلى مصر، وفيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء (آنس من جانب الطور نارا) أي
أبصر من الجهة التي تلي الطور نارا، وقد تقدم تفسير هذا في سورة طه مستوفى (قال لأهله امكثوا إني آنست
نارا لعلي آتيكم منها بخبر) وهذا تقدم تفسيره أيضا في سورة طه وفي سورة النمل (أو جذوة) قرأ الجمهور بكسر
الجيم، وقرأ حمزة ويحيى بن وثاب بضمها، وقرأ عاصم والسلمي وذر بن حبيش بفتحها. قال الجوهري: الجذوة
169

والجذوة الجمرة، والجمع جذى وجذى وجذى. قال مجاهد: في الآية أن الجذوة قطعة من الجمر في لغة
جميع العرب. وقال أبو عبيدة: هي القطعة الغليظة من الخشب كأن في طرفها نارا ولم يكن، ومما يؤيد أن الجذوة
الجمرة قول السلمي:
وبدلت بعد المسك والبان شقوة * دخان الجذا في رأس أشمط شاحب
(لعلكم تصطلون) أي تستدفئون بالنار (فلما أتاها) أي أتى النار التي أبصرها، وقيل أتى الشجرة، والأول
أولى لعدم تقدم الذكر للشجرة (نودي من شاطئ الواد الأيمن) من لابتداء الغاية، والأيمن صفة للشاطئ، وهو
من اليمن وهو البركة، أو من جهة اليمين المقابل لليسار بالنسبة إلى موسى: أي الذي يلي يمينه دون يساره، وشاطئ
الوادي طرفه، وكذا شطه. قال الراغب: وجمع الشاطئ أشطاء، وقوله (في البقعة المباركة) متعلق بنودي، أو
بمحذوف على أنه حال من الشاطئ، و (من الشجرة) بدل اشتمال من شاطئ الواد، لأن الشجرة كانت نابتة
على الشاطئ. وقال الجوهري: يقول شاطئ الأودية ولا يجمع. قرأ الجمهور (في البقعة) بضم الباء، وقرأ
أبو سلمة والأشهب العقيلي بفتحها، وهي لغة حكاها أبو زيد (أن يا موسى إني أنا الله) أن هي المفسرة، ويجوز
أن تكون هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، وجملة النداء مفسرة له، والأول أولى. قرأ الجمهور بكسر
همزة " إني " على إضمار القول أو على تضمين النداء معناه. وقرئ بالفتح وهي قراءة ضعيفة، وقوله (وأن ألق
عصاك) معطوف على (أن يا موسى) وقد تقدم تفسير هذا وما بعده في طه والنمل، وفي الكلام حذف، والتقدير:
فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت (فلما رآها تهتز كأنها جان) في سرعة حركتها مع عظم جسمها (ولى مدبرا) أي
منهزما، وانتصاب مدبرا على الحال، وقوله (ولم يعقب) في محل نصب أيضا على الحال: أي لم يرجع (يا موسى
أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) قد تقدم تفسير جميع ما ذكر هنا مستوفى فلا نعيده، وكذلك قوله (اسلك يدك
في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك) جناح الإنسان عضده، ويقال لليد كلها جناح: أي
اضمم إليك يديك المبسوطتين لتتقي بهما الحية كالخائف الفزع، وقد عبر عن هذا المعنى بثلاث عبارات: الأولى
اسلك يدك في جيبك، والثانية: واضمم إليك جناحك، والثالثة: وأدخل يدك في جيبك، ويجوز أن يراد
بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا ثعبانا، ومعنى (من الرهب) من أجل الرهب، وهو الخوف. قرأ الجمهور
(الرهب) بفتح الراء والهاء، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمر وابن
أبي إسحاق بفتح الراء وإسكان الهاء. وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفصا بضم الراء وإسكان الهاء. وقال الفراء:
أراد بالجناح عصاه، وقال بعض أهل المعاني: الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة. قال الأصمعي: سمعت أعرابيا
يقول لآخر: أعطني ما في رهبك، فسألته عن الرهب، فقال الكم. فعلى هذا يكون معناه: اضمم إليك يدك
وأخرجها من الكم (فذانك) إشارة إلى العصا واليد (برهانان من ربك إلى فرعون وملائه) أي حجتان نيرتان
ودليلان واضحان، قرأ الجمهور " فذانك " بتخفيف النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديدها، قيل والتشديد
لغة قريش. وقرأ ابن مسعود وعيسى بن عمر وشبل وأبو نوفل بياء تحتية بعد نون مكسورة، والياء بدل من
من إحدى النونين وهي لغة هذيل، وقيل لغة تميم، وقوله (من ربك) متعلق بمحذوف: أي كائنان منه،
وكذلك قوله (إلى فرعون وملائه) متعلق بمحذوف: أي مرسلان، أو واصلان إليهم (إنهم كانوا قوما فاسقين)
متجاوزين الحد في الظلم خارجين عن الطاعة أبلغ خروج، والجملة تعليل لما قبلها.
170

وقد أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن أبي الهذيل عن عمر بن الخطاب
في قوله (تمشي على استحياء) قال: جاءت مستترة بكم درعها على وجهها. وأخرجه ابن المنذر عن
أبي الهذيل موقوفا عليه. وأخرج ابن عساكر عن أبي حازم قال: لما دخل موسى على شعيب إذا هو بالعشاء،
فقال له شعيب: كل، قال موسى: أعوذ بالله، قال: ولم؟ ألست بجائع؟ قال: بلى ولكن أخاف أن يكون هذا
عوضا عما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملء الأرض ذهبا، قال: لا والله ولكنها
عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف ونطعم الطعام، فجلس موسى فأكل. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس
أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه القصص. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود قال: كان صاحب موسى أثرون بن أخي شعيب النبي. وأخرج ابن جرير
عن ابن عباس قال: الذي استأجر موسى يثرب صاحب مدين. وأخرج ابن المنذر وابن مردويه عنه قال: كان
اسم ختن موسى يثربي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن قال: يقول أناس إنه شعيب، وليس
بشعيب، ولكنه سيد الماء يومئذ. وأخرج ابن ماجة والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عتبة
ابن المنذر السلمي قال " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقرأ سورة طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال إن
موسى أجر نفسه ثماني سنين أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه، فلما وفي الأجل قيل: يا رسول الله أي الأجلين قضى
موسى؟ قال: أبرهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به،
فأعطاها ما ولدت غنمه " الحديث بطوله. وفي إسناده مسلمة بن علي الحسني الدمشقي البلاطي ضعفه الأئمة. وقد
روي من وجه آخر وفيه نظر. وإسناده عند ابن أبي حاتم هكذا: حدثنا أبو زرعة عن يحيى بن عبد الله بن بكير،
حدثني ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال: سمعت عتبة بن المنذر السلمي
صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وابن لهيعة ضعيف، وينظر في بقية رجال السند. وأخرج
ابن جرير عن أنس طرفا منه موقوفا عليه. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف وعبد بن حميد
والبخاري وابن المنذر وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه سئل: أي الأجلين قضى موسى؟ فقال: قضى
أكثرهما وأطيبهما. إن رسول الله إذا قال فعل. وأخرج البزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
وابن مردويه عنه نحوه، وقوله: إن رسول الله إذا قال فعل فيه نظر، فإن موسى لم يقل إنه سيقضي أكثر الأجلين
بل قال: أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن موسى
قضى أتم الأجلين من طرق. وأخرج الخطيب في تاريخه عن أبي ذر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " إذا سئلت أي الأجلين قضى موسى؟ فقل خيرهما وأبرهما، وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى
منهما، وهي التي جاءت فقالت: يا أبت استأجره ". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " قال لي جبريل: يا محمد إن سألك اليهود أي الأجلين قضى موسى؟ فقل أوفاهما، وإن
سألوك أيهما تزوج؟ فقل الصغرى منهما " وأخرج البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه. قال
السيوطي بسند ضعيف عن أبي ذر " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال:
أبرهما وأوفاهما، قال: وإن سئلت أي المرأتين تزوج؟ فقل الصغرى منهما " قال البزار: لا نعلم يروى عن أبي ذر
إلا بهذا الإسناد، وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويد بن أبي عمران، وهو ضعيف. وأما روايات أنه قضى
أتم الأجلين فلها طرق يقوى بعضها بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي قال: قال ابن عباس: لما
171

قضى موسى الأجل سار بأهله، فضل الطريق، وكان في الشتاء فرفعت له نار، فلما رآها ظن أنها نار، وكانت
من نور الله (فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر) فإن لم أجد خبرا آتيكم بشهاب قبس (لعلكم
تصطلون) من البرد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه لعلي آتيكم منها بخبر لعلي أجد من يدلني على الطريق، وكانوا قد
ضلوا الطريق. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (أو جذوة) قال: شهاب. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (نودي من شاطئ الواد) قال: كان النداء من السماء الدنيا، وظاهر القرآن يخالف
ما قاله رضي الله عنه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود قال:
ذكرت لي الشجرة التي أوى إليها موسى، فسرت إليها يومي وليلتي حتى صبحتها، فإذا هي سمرة خضراء ترف،
فصليت على النبي صلى الله عليه وسلم واله وسلم وسلمت، فأهوى إليها بعيري وهو جائع، فأخذ منها ملآن فيه فلاكه
فلم يستطع أن يسيغه فلفظه، فصليت على النبي وسلمت، ثم انصرفت. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن
عباس في قوله (واضمم إليك جناحك) قال: يدك.
لما سمع موسى قول الله سبحانه: فذانك برهانان إلى فرعون طلب منه سبحانه أن يقوي قلبه، ف (قال رب إني
قتلت منهم نفسا) يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه (فأخاف أن يقتلون) بها (وأخي هارون هو أفصح مني
لسانا) لأنه كان في لسان موسى حبسة كما تقدم بيانه، والفصاحة لغة الخلوص، يقال فصح اللبن وأفصح فهو
172

فصيح: أي خلص من الرغوة، ومنه فصح الرجل: جادت لغته، وأفصح: تكلم بالعربية. وقيل الفصيح الذي
ينطق، والأعجم الذي لا ينطق. وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة: خلوص الكلمة عن تنافر الحروف
والغرابة ومخالفة القياس، وفصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد، وانتصاب (ردءا) على الحال،
والردء المعين، من أردأته: أي أعنته، يقال فلان ردء فلان: إذا كان ينصره ويشد ظهره، ومنه قول الشاعر:
ألم تر أن أصرم كان ردئي * وخير الناس في قل ومال
وحذفت الهمزة تخفيفا في قراءة نافع وأبي جعفر، ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة:
إذا زاد عليها، فكان المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي، ومنه قول الشاعر:
وأسمر خطيا كأن كعوبه * نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر
وروي البيت في الصحاح بلفظ قد أربى، والقسب الصلب، وهو الثمر اليابس الذي يتفتت في الفم، وهو
صلب النواة (يصدقني) قرأ عاصم وحمزة يصدقني بالرفع على الاستئناف، أو الصفة لردءا، أو الحال من مفعول
أرسله، وقرأ الباقون بالجزم على جواب الأمر، وقرأ أبي وزيد بن علي (يصدقون) أي فرعون وملؤه (إني أخاف
أن يكذبون) إذا لم يكن معي هارون لعدم انطلاق لساني بالمحاجة (قال سنشد عضدك بأخيك) أي نقويك به،
فشد العضد كناية عن التقوية، ويقال في دعاء الخير: شد الله عضدك، وفي ضده: فت الله في عضدك. قرأ
الجمهور (عضدك) بفتح العين. وقرأ الحسين وزيد بن علي بضمها. وروي عن الحسن أيضا أنه قرأ بضمة وسكون.
وقرأ عيسى بن عمر بفتحهما (ونجعل لكم سلطانا) أي حجة وبرهانا. أو تسلطا عليه، وعلى قومه (فلا يصلون
إليكما) بالأذى ولا يقدرون على غلبتكما بالحجة، و (بآياتنا) متعلق بمحذوف: أي تمتنعان منهم بآياتنا، أو
اذهبا بآياتنا. وقيل الباء للقسم، وجوابه يصلون، وما أضعف هذا القول. وقال الأخفش وابن جرير: في
الكلام تقديم وتأخير. والتقدير (أنتما ومن أتبعكما الغالبون) بآياتنا، وأول هذه الوجوه أولاها. وفي أنتما ومن
أتبعكما الغالبون تبشير لهما وتقوية لقلوبهما (فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات) البينات الواضحات الدلالة، وقد
تقدم وجه إطلاق الآيات، وهي جمع على العصا واليد في سورة طه (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) أي مختلق
مكذوب اختلقته من قبل نفسك (وما سمعنا بهذا) الذي جئت به من دعوى النبوة، أو ما سمعنا بهذا السحر (في
آبائنا الأولين) أي كائنا أو واقعا في آبائنا الأولين (وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده) يريد نفسه،
وإنما جاء بهذه العبارة لئلا يصرح لهم بما يريده قبل أن يوضح لهم الحجة، والله أعلم. قرأ الجمهور (وقال موسى)
بالواو، وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن (قال موسى) بلا واو، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة. وقرأ
الكوفيون إلا عاصما (ومن يكون عاقبة الدار) بالتحتية على أن اسم يكون عاقبة الدار. والتذكير لوقوع الفصل،
ولأنه تأنيث مجازي، وقرأ الباقون (تكون) بالفوقية، وهي أوضح من القراءة الأولى، والمراد بالدار هنا الدنيا
وعاقبتها هي الدار الآخرة. والمعنى: لمن تكون له العاقبة المحمودة، والضمير في (إنه لا يفلح الظالمون) للشأن:
أي إن الشأن أنه لا يفلح الظالمون: أي لا يفوزون بمطلب خير، ويجوز أن يكون المراد بعاقبة الدار خاتمة الخير،
وقال فرعون (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه،
وقد كان يعلم أنه ربه الله عز وجل، ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال (فأوقد لي يا هامان
على الطين) أي أطبخ لي الطين حتى يصير آجرا (فاجعل لي صرحا) أي اجعل لي من هذا الطين الذي توقد عليه
حتى يصير آجرا صرحا: أي قصرا عاليا (لعلي أطلع إلى إله موسى) أي أصعد إليه (وإني لأظنه من الكاذبين)
173

والطلوع والاطلاع واحد، يقال طلع الجبل واطلع (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق) المراد بالأرض
أرض مصر، والاستكبار التعظيم بغير استحقاق، بل بالعدوان لأنه لم يكن له حجة يدفع بها ما جاء به موسى،
ولا شبهة ينصبها في مقابلة ما أظهره من المعجزات (وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون) أي فرعون وجنوده، والمراد
بالرجوع البعث والمعاد، قرأ نافع وشيبة وابن محيصن وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي (لا يرجعون) بفتح الياء
وكسر الجيم مبنيا للفاعل. وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الجيم مبنيا للمفعول، واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار
القراءة الثانية أبو عبيد (فأخذناه وجنوده) بعد أن عتوا في الكفر وجاوزوا الحد فيه (فنبذناهم في اليم) أي
طرحناهم في البحر، وقد تقدم بيان الكلام في هذا (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) الخطاب لنبينا محمد صلى
الله عليه وآله وسلم: أي انظر يا محمد كيف كان آخر أمر الكافرين حين صاروا إلى الهلاك (وجعلناهم أئمة يدعون
إلى النار) أي صيرناهم رؤساء متبوعين مطاعين في الكافرين فكأنهم بإصرارهم على الكفر والتمادي فيه يدعون
أتباعهم إلى النار لأنهم اقتدوا وسلكوا طريقتهم تقليدا لهم. وقيل المعنى: إنه يأتم بهم: أي يعتبر بهم من جاء
بعدهم ويتعظ بما أصيبوا به، والأول أولى (ويوم القيامة لا ينصرون) أي لا ينصرهم أحد ولا يمنعهم مانع من
عذاب الله (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي طردا وإبعادا، أو أمرنا العباد بلعنهم، فكل من ذكرهم لعنهم،
والأول أولى (ويوم القيامة هم من المقبوحين) المقبوح المطرود المبعد. وقال أبو عبيدة وابن كيسان: معناه من
المهلكين الممقوتين. وقال أبو زيد: قبح الله فلانا قبحا وقبوحا أبعده من كل خير. قال أبو عمرو: قبحت وجهه
بالتخفيف بمعنى قبحت بالتشديد، ومثله قول الشاعر:
ألا قبح الله البراجم كلها * وقبح يربوعا وقبح دارما
وقيل المقبوح المشوه الخلقة، والعامل في يوم محذوف يفسره من المقبوحين، والتقدير: وقبحوا يوم القيامة، أو
هو معطوف على موضع في هذه الدنيا: أي وأتبعناهم لعنة يوم القيامة، أو معطوف على لعنة على حذف مضاف:
أي ولعنة يوم القيامة (ولقد آتينا موسى الكتاب) يعني التوراة (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) أي قوم نوح
وعاد وثمود وغيرهم، وقيل من بعد ما أهلكنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون، وانتصاب (بصائر للناس) على
أنه مفعول له أو حال: أي آتيناه الكتاب لأجل يتبصر به الناس، أو حال كونه بصائر الناس يبصرون به الحق
ويهتدون إليه وينقذون بين أنفسهم به من الضلالة بالاهتداء به (ورحمة) لهم من الله بها (لعلهم يتذكرون)
هذه النعم فيشكرون الله ويؤمنون به ويجيبون داعيه إلى ما فيه خير لهم.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ردءا يصدقني) كي
يصدقني. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: لما قال فرعون (يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري) قال جبريل:
يا رب طغى عبدك فائذن لي في هلكه، فقال: يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني، له أجل يجيء ذلك الأجل،
فلما قال (أنا ربكم الأعلى) قال الله: يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي وقد جاء أوان هلاكه. وأخرج ابن
مردويه عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كلمتان قالهما فرعون (ما علمت لكم من إله غيري)
وقوله: (أنا ربكم الأعلى) قال: كان بينهما أربعون عاما - فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ". وأخرج
عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة قال: بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر.
وأخرجه ابن المنذر عن ابن جريج. وأخرج البزار وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ
174

أنزل التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخت قردة، ألم تر إلى قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد
ما أهلكنا القرون الأولى). وأخرجه البزار وابن جرير وابن أبي حاتم ومن وجه آخر عن أبي سعيد موقوفا.
قوله (وما كنت بجانب الغربي) هذا شروع في بيان إنزال القرآن: أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي،
فيكون من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، واختاره الزجاج. وقال الكلبي: بجانب الوادي الغربي: أي
حيث ناجى موسى ربه (إذ قضينا إلى موسى الأمر) أي عهدنا إليه وأحكمنا الأمر معه بالرسالة إلى فرعون وقومه
175

(وما كنت من الشاهدين) لذلك حتى تقف على حقيقته وتحكيه من جهة نفسك. وإذا تقرر أن الوقوف على
تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشاهدة لها منه.
وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلق ذلك من غيره من البشر ولا علمه معلم منهم كما قدمنا تقريره تبين أنه من عند
الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك، فهذا الكلام هو على طريقة - وما كنت لديهم إذ
يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم - وقيل معنى (إذ قضينا إلى موسى الأمر) إذ كلفناه وألزمناه، وقيل أخبرناه أن
أمة محمد خير الأمم، ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين، لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد.
قيل المراد بالشاهدين السبعون الذين اختارهم موسى للميقات (ولكنا أنشأنا قرونا) أي خلقنا أمما بين زمانك يا محمد
وزمان موسى (فتطاول عليهم العمر) طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وتنوسيت
الأديان فتركوا أمر الله ونسوا عهده، ومثله قوله سبحانه - فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم -، وقد استدل بهذا
الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهدوا في محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الإيمان به فلما طال
عليهم العمر ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها (وما كنت ثاويا في أهل مدن) أي
مقيما بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقص عليهم من جهة نفسك يقال ثوى يثوي ثواء وثويا
فهو ثاو. قال ذو الرمة:
لقد كان في حول ثواء ثويته * نقضي لبانات ويسأم سائم
وقال العجاج: * فبات حيث يدخل الثوى * يعني الضيف المقيم،
وقال آخر: * طال الثواء على رسول المنزل * (تتلوا عليهم آياتنا) اي تقرأ على أهل مدين آياتنا وتتعلم منهم،
وقيل تذكرهم بالوعد والوعيد، والجملة في محل نصب على الحال أو خبر ثان، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر
وثاويا حال. وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل وها أنت تتلو على أمتك (ولكنا كنا مرسلين) أي أرسلناك إلى أهل
مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها. قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ولا
تليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) أي وما كنت يا محمد
بجانب الجبل المسمى بالطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين. وقيل المنادي هو أمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم. قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك
لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، فقال الله: يا أمة محمد، فأجابوا من أصلاب
آبائهم. فيكون معنى الآية على هذا: ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك، وسيأتي ما يدل
على هذا ويقويه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله (ولكن رحمة من ربك) أي ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم،
وقيل ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم، وقيل علمناك، وقيل عرفناك. قال الأخفش: هو منصوب: يعني رحمة على
المصدر: أي ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج: هو مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. قال
النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ولكن بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة. وقال الكسائي: هو
خبر لكان مقدرة: أي ولكن كان ذلك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة رحمة بالرفع على تقدير: ولكن
أنت رحمة. وقال الكسائي: الرفع على أنها اسم كان المقدرة، وهو بعيد إلا على تقدير أنها تامة، واللام في (لتنذر
قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) متعلق بالفعل المقدر على الاختلاف في تقديره، والقوم هم أهل مكة، فإنه لم
يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى الله عليه وآله وسلم. وجملة " ما أتاهم " الخ صفة لقوما (لعلهم يتذكرون)
176

أي يتعظون بإنذارك (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم) لولا هذه هي الامتناعية وأن وما في حيزها
في موضع رفع بالابتداء وجوابها محذوف. قال الزجاج: وتقديره ما أرسلنا إليهم رسلا: يعني أن الحامل على
إرسال الرسل هو إزاحة عللهم، فهو كقوله سبحانه - لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل - وقدره ابن
عطيه لعاجلناهم بالعقوبة، ووافقه على هذا التقدير الواحدي فقال: والمعنى لولا أنهم يحتجون بترك الإرسال إليهم
لعاجلناهم بالعقوبة بكفرهم، وقوله (فيقولوا) عطف على تصيبهم ومن جملة ما هو في حيز لولا: أي فيقولوا
(ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) ولولا هذه الثانية هي التحضيضية: أي هلا أرسلت إلينا رسولا من عندك،
وجوابها هو (فنتبع آياتك) وهو منصوب بإضمار أن لكونه جوابا للتحضيض والمراد بالآيات الآيات التنزيلية
الظاهرة الواضحة، وإنما عطف القول على تصيبهم لكونه هو السبب للإرسال ولكن العقوبة لما كانت هي السبب
للقول، وكان وجوده بوجودها جعلت العقوبة كأنها هي السبب لإرسال الرسل بواسطة القول (ونكون من
المؤمنين) بهذه الآيات، ومعنى الآية: أنا لو عذبناهم لقالوا طال العهد بالرسل ولم يرسل الله إلينا رسولا، ويظنون أن
ذلك عذر لهم ولا عذر لهم بعد أن بلغتهم أخبار الرسل، ولكنا أكملنا الحجة وأزحنا العلة وأتممنا البيان بإرسالك يا محمد
إليهم (فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى) أي فلما جاء أهل مكة الحق من عند الله وهو
محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنزل عليه من القرآن قالوا تعنتا منهم وجدالا بالباطل: هلا أوتي هذا الرسول
مثل ما أوتي موسى من الآيات التي من جملتها التوراة المنزلة عليه جملة واحدة، فأجاب الله عليهم بقوله (أو لم
يكفروا بما أوتي موسى من قبل) أي من قبل هذا القول، أو من قبل ظهور محمد، والمعنى: أنهم قد كفروا
بآيات موسى كما كفروا بآيات محمد، وجملة (قالوا ساحران تظاهرا) مستأنفة مسوقة لتقرير كفرهم وعنادهم،
والمراد بقولهم " ساحران " موسى ومحمد، والتظاهر التعاون: أي تعاونا على السحر، والضمير في قوله " أو لم
يكفروا " لكفار قريش، وقيل هو لليهود. والأول أولى، فإن اليهود لا يصفون موسى بالسحر إنما يصفه بذلك
كفار قريش وأمثالهم إلا أن يراد من أنكر نبوة موسى كفرعون وقومه، فإنهم وصفوا موسى وهارون بالسحر،
ولكنهم ليسوا من اليهود. ويمكن أن يكون الضمير لمن كفر بموسى ومن كفر بمحمد، فإن الذين كفروا بموسى
وصفوه بالسحر، والذين كفروا بمحمد وصفوه أيضا بالسحر. وقيل المعنى: أو لم يكفر اليهود في عصر محمد
بما أوتي موسى من قبله بالبشارة بعيسى ومحمد. قرأ الجمهور " ساحران " وقرأ الكوفيون " سحران " يعنون التوراة
والقرآن، وقيل الإنجيل والقرآن. قال بالأول الفراء. وقال بالثاني أبو زيد. وقيل إن الضمير في " أو لم يكفروا "
لليهود، وأنهم عنوا بقولهم " ساحران " عيسى ومحمدا (وقالوا إنا بكل كافرون) أي بكل من موسى ومحمد،
أو من موسى وهارون، أو من موسى وعيسى على اختلاف الأقوال، وهذا على قراءة الجمهور، وأما على
القراءة الثانية فالمراد التوراة والقرآن أو الإنجيل والقرآن. وفي هذه الجملة تقرير لما تقدمها من وصف النبيين
بالسحر، أو من وصف الكتابين به وتأكيد لذلك. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يقول لهم قولا يظهر به عجزهم فقال
(قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه) أي قل لهم يا محمد فأتوا بكتاب هو أهدى من التوراة والقرآن،
وأتبعه جواب الأمر، وقد جزمه جمهور القراء لذلك. وقرأ زيد بن علي برفع أتبعه على الاستئناف: أي فأنا أتبعه.
قال الفراء: إنه على هذه القراءة صفة للكتاب، وفي هذا الكلام تهكم به. وفيه أيضا دليل على أن قراءة الكوفيين
أقوى من قراءة الجمهور لأنه رجع الكلام إلى الكتابين لا إلى الرسولين، ومعنى (إن كنتم صادقين) إن كنتم فيما
وصفتم به الرسولين أو الكتابين صادقين (فإن لم يستجيبوا لك) أي لم يفعلوا ما كلفتم به من الإتيان بكتاب هو
177

أهدى من الكتابين، وجواب الشرط (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي آراءهم الزائغة واستحساناتهم الزائفة بلا
حجة ولا برهان، وقيل المعنى: فإن لم يستجيبوا لك بالإيمان بما جئت به، وتعدية يستجيبوا باللام هو أحد الجائزين
(ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) أي لا أحد أضل منه، بل هو الفرد الكامل في الضلال (إن الله
لا يهدي القوم الظالمين) لأنفسهم بالكفر وتكذيب الأنبياء والإعراض عن آيات الله (ولقد وصلنا لهم القول) قرأ
الجمهور " وصلنا " بتشديد الصاد، وقرأ الحسن بتخفيفها، ومعنى الآية: أتبعنا بعضه بعضا وبعثنا رسولا بعد
رسول. وقال أبو عبيدة والأخفش: معناه أتممنا. وقال ابن عيينة والسدي: بينا. وقال ابن زيد: وصلنا لهم
خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا الآخرة في الدنيا، والأولى أولى. وهو مأخوذ من وصل الحبال بعضها
ببعض، ومنه قول الشاعر:
فقل لبني مروان ما بال ذمتي * بحبل ضعيف لا تزال توصل
وقال امرؤ القيس: * يقلب كفيه بخيط موصل * والضمير في " لهم " عائد إلى قريش، وقيل إلى
اليهود، وقيل للجميع (لعلهم يتذكرون) فيكون التذكر سببا لإيمانهم مخافة أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم (الذين
آتيناهم الكتاب من قبله) أي من قبل القرآن، والموصول مبتدأ وخبره (هم به يؤمنون) أخبر سبحانه أن طائفة من
بني إسرائيل آمنوا بالقرآن كعبد الله بن سلام وسائر من أسلم من أهل الكتاب، وقيل الضمير في " من قبله " يرجع
إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والأول أولى. والضمير في " به " راجع إلى القرآن على القول الأول، وإلى
محمد على القول الثاني (وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به) أي وإذا يتلى القرآن عليهم قالوا صدقنا به (إنه الحق من ربنا)
أي الحق الذي نعرفه المنزل من ربنا (إنا كنا من قبله مسلمين) أي مخلصين لله بالتوحيد، أو مؤمنين بمحمد وبما
جاء به لما نعلمه من ذكره في التوراة والإنجيل من التبشير به، وأنه سيبعث آخر الزمان وينزل عليه القرآن، والإشارة
بقوله (أولئك يؤتون أجرهم مرتين) إلى الموصوفين بتلك الصفات، والباء في (بما صبروا) للسببية: أي بسبب
صبرهم وثباتهم على الإيمان بالكتاب الأول والكتاب الآخر، وبالنبي الأول والنبي الآخر (ويدرءون بالحسنة
السيئة) الدرء الدفع: أي يدفعون بالاحتمال والكلام الحسن ما يلاقونه من الأذى. وقيل يدفعون بالطاعة المعصية،
وقيل بالتوبة والاستغفار من الذنوب، وقيل بشهادة أن لا إله إلا الله الشرك (ومما رزقناهم ينفقون) أي ينفقون
أموالهم في الطاعات وفيما أمر به الشرع. ثم مدحهم سبحانه بإعراضهم عن اللغو فقال (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا
عنه) تكرما وتنزها وتأدبا بآداب الشرع، ومثله قوله سبحانه - وإذا مرو باللغو مروا كراما -، واللغو هنا هو
ما يسمعونه من المشركين من الشتم لهم ولدينهم والاستهزاء بهم (وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم) لا يلحقنا من ضرر
كفركم شئ، ولا يلحقكم من نفع إيماننا شئ (سلام عليكم) ليس المراد بهذا السلام سلام التحية، ولكن المراد به
سلام المتاركة، ومعناه أمنة لكم منا وسلامة لا نجاريكم لو ولا نجاوبكم يكون فيما أنتم فيه. قال الزجاج: وهذا قبل الأمر بالقتال
(لا نبتغي الجاهلين) أي لا نطلب صحبتهم. وقال مقاتل: لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه. وقال الكلبي:
لا نحب دينكم الذي أنتم عليه (إنك لا تهتدي من أحببت) من الناس وليس ذلك إليك (ولكن الله يهدي من يشاء)
هدايته (وهو أعلم بالمهتدين) أي القابلين للهداية المستعدين لها، وهذه الآية نزلت في أبي طالب كما ثبت في
الصحيحين وغيرهما، وقد تقدم ذلك في براءة. قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب،
وقد تقرر في الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيدخل في ذلك أبو طالب دخولا أوليا (وقالوا
إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) أي قال مشركو قريش ومن تابعهم: إن ندخل في دينك يا محمد نتخطف
178

من أرضنا: أي يتخطفنا العرب من أرضنا: يعنون مكة ولا طاقة لنا بهم، وهذا من جملة أعذارهم الباطلة
وتعلللاتهم العاطلة، والتخطف في الأصل هو الانتزاع بسرعة. قرأ الجمهور " نتخطف " بالجزم جوابا للشرط،
وقرأ المنقري بالرفع على الاستئناف. ثم رد الله ذلك عليهم ردا مصدرا باستفهام التوبيخ والتقريع فقال (أو لم
نمكن لهم حرما آمنا) أي ألم نجعل لهم حرما ذا أمن. قال أبو البقاء: عداه بنفسه لأنه بمعنى جعل كما صرح بذلك
في قوله - أو لم يروا أنا جعلنا حرما -، ثم وصف هذا الحرم بقوله (يجبي إليه ثمرات كل شئ) أي تجمع إليه
الثمرات على اختلاف أنواعها من الأراضي المختلفة وتحمل إليه. قرأ الجمهور " يجبي " بالتحتية اعتبارا بتذكير كل
شئ ووجود الحائل بين الفعل وبين ثمرات، وأيضا ليس تأنيث ثمرات بحقيقي، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد
لما ذكرنا، وقرأ نافع بالفوقية اعتبارا بثمرات. وقرأ الجمهور أيضا " ثمرات " بفتحتين، وقرأ " أبان " بضمتين،
جمع ثمر بضمتين، وقرئ بفتح الثاء وسكون الميم (رزقا من لدنا) منتصب على المصدرية لأن معنى يجبي:
نرزقهم، ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول له لفعل محذوف: أي نسوقه إليهم رزقا من لدنا، ويجوز أن ينتصب
على الحال أي رازقين (ولكن أكثرهم لا يعلمون) لفرط جهلهم ومزيد غفلتهم وعدم تفكرهم في أمر معادهم
ورشادهم لكونهم من طبع الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة.
وقد أخرج الفريابي والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا
في الدلائل عن أبي هريرة في قوله (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) قال: نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن
تسألوني، واستجبت لكم قبل أن تدعوني. وأخرجه ابن مردويه من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه
عبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عنه من وجه آخر بنحوه. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل
وأبو نصر السجزي في الإبانة والديلمي عن عمرو بن عبسة قال: " سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله
(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) ما كان النداء وما كانت الرحمة؟ قال: كتبه الله قبل أن يخلق خلقه بألفي عام،
ثم وضعه على عرشه، ثم نادى: يا أمة محمد سبقت رحمتي غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل
أن تستغفروني، فمن لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبدي ورسولي صادقا أدخلته الجنة ". وأخرج
الختلي في الديباج عن سهل بن سعد الساعدي مرفوعا مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم عن حذيفة في قوله (وما
كنت بجانب الطور إذ نادينا) مرفوعا، قال نودوا: يا أمة محمد ما دعوتمونا إذ استجبنا لكم، ولا سألتمونا إذ
أعطيناكم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا " إن الله نادى: يا أمة محمد أجيبوا ربكم، قال: فأجابوا وهم
في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم إلى يوم القيامة فقالوا: لبيك أنت ربنا حقا، ونحن عبيدك حقا، قال: صدقتم
أنا ربكم وأنتم عبيدي حقا، قد عفوت عنكم قبل أن تدعوني، وأعطيتكم قبل أن تسألوني، فمن لقيني منكم
بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: الهالك في الفترة يقول: رب لم يأتني كتاب ولا رسول، ثم قرأ هذه الآية (ربنا لولا أرسلت إلينا
رسولا). وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (قالوا ساحران تظاهرا) الخ: قال:
هم أهل الكتاب (إنا بكل كافرون) يعني بالكتابين: التوراة والفرقان. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو القاسم البغوي والبارودي وابن قانع الثلاثة في معاجم الصحابة. والطبراني وابن مردويه
بسند جيد عن رفاعة القرظي قال: نزلت (ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون) إلى قوله (أولئك يؤتون أجرهم
مرتين) في عشرة رهط أنا أحدهم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به
179

يؤمنون) قال: يعني من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الكتاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى اله عليه واله وسلم " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من
أهل الكتاب آمن بالكتاب الأول والآخر، ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها. وعبد
مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث المسيب ومسلم وغيره من
حديث أبي هريرة أن قوله " إنك لا تهدي من أحببت " نزلت في أبي طالب لما امتنع من الإسلام. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن ناسا من قريش قالوا للنبي صلى اله عليه وآله وسلم: إن
نتبعك يتخطفنا الناس، فنزلت (وقالوا إن نتبع الهدى معك) الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن
أبي حاتم عنه (يجبي إليه ثمرات كل شئ) قال: ثمرات الأرض.
قوله (وكم أهلكنا من قرية) أي من أهل قرية كانوا في خفض عيش ودعة ورخاء، فوقع منهم البطر
فأهلكوا. قال الزجاج: البطر الطغيان عند النعمة. قال عطاء: عاشوا في البطر فأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام.
قال الزجاج والمازني: معنى (بطرت معيشتها) بطرت في معيشتها، فلما حذفت في " تعدي " الفعل كقوله - واختار
180

موسى قومه - وقال الفراء: هو منصوب على التفسير كما تقول: أبطرك مالك وبطرته، ونظيره عنده قوله تعالى
- إلا من سفه نفسه - ونصب المعارف على التمييز غير جائز عند البصريين، لأن معنى التفسير أن تكون النكرة دالة
على الجنس. وقيل إن معيشتها منصوبة ببطرت على تضمينه معنى جهلت (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا
قليلا) أي لم يسكنها أحد بعدهم إلا زمنا قليلا، كالذي يمر بها مسافرا فإنه يلبث فيها يوما أو بعض يوم، أو لم يبق
من يسكنها فيها إلا أياما قليلة لشؤم ما وقع فيها من معاصيهم. وقيل إن الاستثناء يرجع إلى المساكن: أي لم تسكن
بعد هلاك أهلها إلا قليلا من المساكن وأكثرها خراب، كذا قال الفراء وهو قول ضعيف (وكنا نحن الوارثين)
منهم لأنهم لم يتركوا وارثا يرث منازلهم وأموالهم، ومحل جملة " لم تسكن " الرفع على أنها خبر ثان لاسم الإشارة،
ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم
آياتنا) أي وما صح ولا استقام أن يكون الله مهلك القرى الكافرة: أي الكافر أهلها حتى يبعث في أمها رسولا
ينذرهم ويتلوا عليهم آيات الله الناطقة بما أوجبه الله عليهم وما أعده من الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، ومعنى
أمها: أكبرها وأعظمها، وخص الأعظم منها بالبعثة إليها، لأن فيها أشراف القوم، وأهل الفهم والرأي، وفيها
الملوك والأكابر، فصارت بهذا الاعتبار كالأم لما حولها من القرى. وقال الحسن: أم القرى أولها. وقيل المراد
بأم القرى هنا مكة كما في قوله - أن أول بيت وضع للناس - الآية، وقد تقدم بيان ما تضمنته هذه الآية في آخر
سورة يوسف، وجملة " يتلوا عليهم آياتنا " في محل نصب على الحال: أي تاليا عليهم ومخبرا لهم أن العذاب سينزل
بهم إن لم يؤمنوا (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون) هذه الجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، والاستثناء
مفرغ من أعم الأحوال: أي وما كنا مهلكين لأهل القرى بعد أن نبعث إلى أمها رسولا يدعوهم إلى الحق إلا حال
كونهم ظالمين قد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم، وتأكيد الحجة عليهم كما في قوله
سبحانه - وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون -، ثم قال سبحانه (وما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة
الدنيا وزينتها) الخطاب لكفار مكة: أي وما أعطيتم من شئ من الأشياء فهو متاع الحياة الدنيا تتمتعون به مدة
حياتكم أو بعض حياتكم ثم تزولون عنه أو يزول عنكم، وعلى كل حال فذلك إلى فناء وانقضاء (وما عند
الله) من ثوابه وجزائه (خير) من ذلك الزائل الفاني لأنه لذة خالصة عن شوب الكدر (وأبقى) لأنه يدوم أبدا،
وهذا ينقضي بسرعة (أفلا تعقلون) أن الباقي أفضل من الفاني، وما فيه لذة خالصة غير مشوبة أفضل من اللذات
المشوبة بالكدر المنغصة بعوارض البدن والقلب، وقرئ بنصب " متاع " على المصدرية: أي فتمتعون متاع
الحياة، قرأ أبو عمرو " يعقلون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب وقراءتهم أرجح لقوله (وما أوتيتم)
(أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه) أي وعدناه بالجنة وما فيها من النعم التي لا تحصى فهو لاقيه: أي مدركه
لا محالة فإن الله لا يخلف الميعاد (كمن متعناه متاع الحياة الدنيا) فأعطى منها بعض ما أراد مع سرعة زواله وتنغيصه
(ثم هو يوم القيامة من المحضرين) هذا معطوف على قوله " متعناه " داخل معه في حيز الصلة مؤكد لإنكار التشابه
ومقرر له، والمعنى: ثم هذا الذي متعناه هو يوم القيامة من المحضرين النار، وتخصيص المحضرين بالذين أحضروا
للعذاب اقتضاه المقام، والاستفهام للإنكار: أي ليس حالهما سواء، فإن الموعود بالجنة لا بد أن يظفر بما وعد به
مع أنه لا يفوته نصيبه من الدنيا، وهذا حال المؤمن. وأما حال الكافر فإنه لم يكن معه إلا مجرد التمتيع بشئ من
الدنيا يستوي فيه هو والمؤمن، وينال كل واحد منهما حظه منه، وهو صائر إلى النار، فهل يستويان؟ قرأ
الجمهور " ثم هو " بضم الهاء. وقرأ الكسائي وقالون بسكون الهاء إجراء لثم مجرى الواو والفاء، وانتصاب يوم
181

في قوله (ويوم يناديهم) بالعطف على يوم القيامة أو بإضمار أذكر: أي يوم ينادي الله سبحانه هؤلاء المشركين
(فيقول) لهم (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) أنهم ينصرونكم ويشفعون لكم، ومفعولا يزعمون محذوفان: أي
تزعمونهم شركائي لدلالة الكلام عليهما (قال الذين حق عليهم القول) أي حقت عليهم كلمة العذاب وهم رؤساء
الضلال الذين اتخذوهم أربابا من دون الله، كذا قال الكلبي. وقال قتادة: هم الشياطين (ربنا هؤلاء الذين
أغوينا) أي دعوناهم إلى الغواية يعنون الأتباع (أغويناهم كما غوينا) أي أضللناهم كما ضللنا (تبرأنا إليك)
منهم، والمعنى: أن رؤساء الضلال أو الشياطين تبرءوا ممن أطاعهم. قال الزجاج: بريء بعضهم من بعض،
وصاروا أعداء كما قال الله تعالى - الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو - وهؤلاء مبتدأ والذين أغوينا صفته،
والعائد محذوف: أي أغويناهم، والخبر أغويناهم، وكما أغوينا نعت مصدر محذوف وقيل إن خبر هؤلاء هو
الذين أغوينا، وأما أغويناهم كما غوينا فكلام مستأنف لتقرير ما قبله، ورجح هذا أبو علي الفارسي، واعترض
الوجه الأول، ورد اعتراضه أبو البقاء (ما كانوا إيانا يعبدون) وإنما كانوا يعبدون أهواءهم، وقيل إن " ما " في
ما كانوا مصدرية: أي تبرأنا إليك من عبادتهم إيانا والأول أولى (وقيل ادعوا شركاءكم) أي قيل للكفار من
بني آدم هذا القول، والمعنى: استغيثوا بآلهتكم التي كنتم تعبدونهم من دون الله في الدنيا لينصروكم ويدفعوا عنكم
(فدعوهم) عند ذلك (فلم يستجيبوا لهم) ولا نفعوهم بوجه من وجوه النفع (ورأوا العذاب) أي التابع والمتبوع
قد غشيهم (لو أنهم كانوا يهتدون) قال الزجاج: جواب لو محذوف، والمعنى: لو أنهم كانوا يهتدون لأنجاهم
ذلك ولم يروا العذاب. وقيل المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون ما دعوهم، وقيل المعنى: لو أنهم كانوا يهتدون في
الدنيا لعلموا أن العذاب حق. وقيل المعنى: لو كانوا يهتدون لوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل قد
آن لهم أن يهتدوا لو كانوا يهتدون، وقيل غير ذلك. والأول أولى، ويوم في قوله (ويوم يناديهم فيقول ماذا
أجبتم المرسلين) معطوف على ما قبله: أي ما كان جوابكم لمن أرسل إليكم من النبيين لما بلغوكم رسالاتي (فعميت
عليهم الأنباء يومئذ) أي خفيت عليهم الحجج حتى صاروا كالعمى الذين لا يهتدون، والأصل فعموا عن الأنباء،
ولكنه عكس الكلام للمبالغة، والأنباء الأخبار، وإنما سمى حججهم أخبارا لأنها لم تكن من الحجة في شئ،
وإنما هي أقاصيص وحكايات (فهم لا يتساءلون) لا يسأل بعضهم بعضا، ولا ينطقون بحجة ولا يدرون بما
يجيبون، لأن الله قد أعذر إليهم في الدنيا فلا يكون لهم عذر ولا حجة يوم القيامة. قرأ الجمهور " عميت " بفتح
العين وتخفيف الميم. وقرأ الأعمش وجناح بن حبيش بضم العين وتشديد الميم (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا
فعسى أن يكون من المفلحين) أن تاب من الشرك وصدق بما جاء به الرسل وأدى الفرائض واجتنب المعاصي
فعسى أن يكون من المفلحين: أي الفائزين بمطالبهم من سعادة الدارين، وعسى وإن كانت في الأصل للرجاء
فهو من الله واجب على ما هو عادة الكرام. وقيل إن الترجي هو من التائب المذكور لا من جهة الله سبحانه (وربك
يخلق ما يشاء) أي يخلقه (ويختار) ما يشاء أن يختاره - لا يسأل عما يفعل وهم يسألون - وهذا متصل بذكر الشركاء
الذين عبدوهم واختاروهم: أي الاختيار إلى الله (ما كان لهم الخيرة) أي التخير، وقيل المراد من الآية أنه ليس
لأحد من خلق الله أن يختار، بل الاختيار هو إلى الله عز وجل. وقيل إن هذه الآية جواب عن قولهم - لولا نزل
هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم - وقيل هذه الآية جواب عن اليهود حيث قالوا لو كان الرسول إلى محمد
غير جبريل لآمنا به.
قال الزجاج: الوقف على " ويختار " تام على أن ما نافية. قال: ويجوز أن تكون " ما " في موضع نصب
182

بيختار، والمعنى: ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة. والصحيح الأول لإجماعهم على الوقف. وقال ابن جرير:
إن تقدير الآية ويختار لولايته الخيرة من خلقه، وهذا في غاية من الضعف. وجوز ابن عطية أن تكون كان تامة،
ويكون لهم الخيرة جملة مستأنفة. وهذا أيضا بعيد جدا. وقيل إن " ما " مصدرية: أي يختار اختيارهم والمصدر
واقع موقع المفعول به: أي ويختار مختارهم، وهذا كالتفسير لكلام ابن جرير. والراجح أول هذه التفاسير،
ومثله قوله سبحانه - وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة - والخيرة التخير،
كالطيرة فإنها التطير، إسمان يستعملان استعمال المصدر، ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحان الله) أي تنزه تنزها
خاصا به من غير أن ينازعه منازع ويشاركه مشارك (وتعالى عما يشركون) أي عن الذين يجعلونهم شركاء له،
أو عن إشراكهم (وربك يعلم ما تكن صدورهم) أي تخفيه من الشرك، أو من عداوة رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، أو من جميع ما يخفونه مما يخالف الحق (وما يعلنون) أي يظهرونه من ذلك. قرأ الجمهور " تكن "
بضم التاء الفوقية وكسر الكاف. وقرأ ابن محيصن وحميد بفتح الفوقية وضم الكاف. ثم تمدح سبحانه وتعالى
بالوحدانية والتفرد باستحقاق الحمد فقال (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى) أي الدنيا (والآخرة) أي
الدار الآخرة (وله الحكم) يقضي بين عباده بما شاء من غير مشارك (وإليه ترجعون) بالبعث فيجازي المحسن
بإحسانه والمسئ بإساءته، لا ترجعون إلى غيره.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)
قال: قال الله لم نهلك قرية بإيمان، ولكنه أهلك القرى بظلم إذا ظلم أهلها، ولو كانت مكة آمنت لم يهلكوا مع
من هلك، ولكنهم كذبوا وظلموا فبذلك هلكوا. وأخرج مسلم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يقول الله عز وجل: يا بن آدم مرضت فلم تعدني " الحديث بطوله.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن عبد بن عبيد بن عمير قال " يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا
وأعطش ما كانوا وأعرى ما كانوا، فمن أطعم لله عز وجل أطعمه الله، ومن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن
سقى لله عز وجل سقاه الله، ومن كان في رضا الله كان الله على رضاه ". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد (فعميت عليهم الأنباء) قال: الحجج (فهم لا يتساءلون) قال: بالأنساب. وقد
ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح تعليم الاستخارة وكيفية صلاتها ودعائها فلا نطول بذكره.
183

قوله (قل أرأيتم) أي أخبروني (إن جعل الله عليكم الليل سرمدا) السرمد الدائم المستمر، من السرد، وهو
المتابعة فالميم زائدة، ومنه قول طرفة:
لعمرك ما أمري عليك بغمة * نهاري ولا ليلى عليك بسرمد
184

وقيل إن ميمه أصلية ووزنه فعلل لا فعمل، وهو الظاهر، بين لهم سبحانه أنه مهد لهم أسباب المعيشة ليقوموا
بشكر النعمة، فإنه لو كان الدهر الذي يعيشون فيه ليلا دائما إلى يوم القيامة لم يتمكنوا من الحركة فيه وطلب
ما لا بد لهم منه مما يقوم به العيش من المطاعم والمشارب والملابس، ثم أمتن عليهم فقال (من إله غير الله يأتيكم بضياء)
أي هل لكم إله من الآلهة التي تعبدونها يقدر على أن يرفع هذه الظلمة الدائمة عنكم بضياء: أي بنور تطلبون فيه
المعيشة وتبصرون فيه ما تحتاجون إليه وتصلح به ثماركم وتنمو عنده زرائعكم وتعيش فيه دوابكم (أفلا تسمعون) هذا
الكلام سماع فهم وقبول وتدبر وتفكر. ثم لما فرغ من الامتنان عليهم بوجود النهار أمتن عليهم بوجود الليل فقال
(قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة) أي جعل جميع الدهر الذي تعيشون فيه نهارا إلى يوم القيامة
(من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي تستقرون فيه من النصب والتعب وتستريحون مما تزاولون من طلب
المعاش والكسب (أفلا تبصرون) هذه المنفعة العظيمة إبصار متعظ متيقظ حتى تنزجروا عما أنتم فيه من عبادة غير
الله، وإذا أقروا بأنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل فقد لزمتهم الحجة وبطل ما يتمسكون به من الشبه الساقطة،
وإنما قرن سبحانه بالضياء قوله (أفلا تسمعون) لأن السمع يدرك مالا يدركه البصر من درك منافعه ووصف
فوائده، وقرن بالليل قوله (أفلا تبصرون) لأن البصر يدرك مالا يدركه السمع من ذلك (ومن رحمته جعل لكم
الليل والنهار لتسكنوا فيه) أي في الليل (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار بالسعي في المكاسب (ولعلكم تشكرون)
أي ولكي تشكروا نعمة الله عليكم، وهذه الآية من باب اللف والنشر كما في قول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا * لدى وكرها العناب والحشف البالي
واعلم أنه وإن كان السكون في النهار ممكنا وطلب الرزق في الليل ممكنا وذلك عند طلوع القمر على الأرض،
أو عند الاستضاءة بشئ بما له نور كالسراج. لكن ذلك قليل نادر مخالف لما يألفه العباد فلا اعتبار به (ويوم
يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون) كرر سبحانه هذا لاختلاف الحالتين لأنهم ينادون مرة فيدعون
الأصنام، وينادون أخرى فيسكتون، وفي هذا التكرير أيضا تقريع بعد تقريع وتوبيخ بعد توبيخ، وقوله
(ونزعنا من كل أمة شهيدا) عطف على ينادى، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقق، والمعنى: وأخرجنا
من كل أمة من الأمم شهيدا يشهد عليهم. قال مجاهد: هم الأنبياء، وقيل عدول كل أمة، والأول أولى. ومثله
قوله سبحانه - فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا - ثم بين سبحانه ما يقوله لكل أمة من
هذه الأمم بقوله (فقلنا هاتوا برهانكم) أي حجتكم ودليلكم بأن معي شركاء، فعند ذلك اعترفوا وخرسوا عن إقامة
البرهان، ولذا قال (فعلموا أن الحق لله) في الإلهية وأنه وحده لا شريك له (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي
غاب عنهم وبطل وذهب ما كانوا يختلقونه من الكذب في الدنيا بأن لله شركاء يستحقون العبادة. ثم عقب سبحانه
حديث أهل الضلال بقصة قارون لما اشتملت عليه من بديع القدرة وعجيب الصنع فقال (إن قارون كان من
قوم موسى) قارون على وزن فاعول اسم أعجمي ممتنع للعجمة والعلمية، وليس بعربي مشتق من قرنت. قال
الزجاج: لو كان قارون من قرنت الشئ لانصرف. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى، وهو
قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى هو ابن عمران بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان عم
موسى لأب وأم فجعله أخا لعمران، وهما ابنا قاهث. وقيل هو ابن خالة موسى ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ
للتوراة منه، فنافق كما نافق السامري وخرج عن طاعة موسى، وهو معنى قوله (فبغى عليهم) أي جاوز الحد
في التجبر والتكبر عليهم وخرج عن طاعة موسى وكفر بالله. قال الضحاك: بغيه على بني إسرائيل استخفافه بهم
185

لكثرة ماله وولده. وقال قتادة: بغيه بنسبته ما آتاه الله من المال إلى نفسه لعلمه وحيلته. وقيل كان عاملا لفرعون
على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم، وقيل كان بغيه بغير ذلك مما لا يناسب معنى الآية (وآتيناه من الكنوز)
جمع كنز وهو المال المدخر، قال عطاء: أصاب كنزا من كنوز يوسف، وقيل كان يعمل الكيمياء، و " ما "
في قوله (ما إن مفاتحة) موصولة صلتها إن وما في حيزها، ولهذا كسرت. ونقل الأخفش الصغير عن الكوفيين
منع جعل المكسورة وما في حيزها صلة الذي، واستقبح ذلك منهم لوروده في الكتاب العزيز في هذا الموضع،
والمفاتح جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به، وقيل المراد بالمفاتح: الخزائن، فيكون واحدها مفتح بفتح الميم.
قال الواحدي: إن المفاتح الخزائن في قول أكثر المفسرين كقوله - وعنده مفاتح الغيب - قال: وهو اختيار
الزجاج فإنه قال: الأشبه في التفسير أن مفاتحه خزائن ماله. وقال آخرون: هي جمع مفتاح، وهو ما يفتح به
الباب، وهذا قول قتادة ومجاهد (لتنوء بالعصبة أولى القوة) هذه الجملة خبر إن وهي واسمها وخبرها صلة
ما الموصولة، يقال ناء بحمله: إذا نهض به مثقلا، ويقال ناء بي الحمل: إذا أثقلني، والمعنى: يثقلهم حمل
المفاتح. قال أبو عبيدة: هذا من المقلوب، والمعنى: لتنوء بها العصبة: أي تنهض بها. قال أبو زيد: نؤت
بالحمل: إذا نهضت به. قال الشاعر:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف * عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
وقال الفراء: معنى تنوء بالعصبة: تميلهم بثقلها كما يقال: يذهب بالبؤس ويذهب البؤس وذهبت به
وأذهبته وجئت به وأجأته ونؤت به وأنأته، واختار هذا النحاس، وبه قال كثير من السلف. وقيل هو مأخوذ
من النأي، وهو البعد وهو بعيد. وقرأ بديل بن ميسرة " لينوء " بالياء: أي لينوء الواحد منها أو المذكور، فحمل
على المعنى والمراد بالعصبة الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض. قيل هي من الثلاثة إلى العشرة، وقيل من العشرة إلى
الخمسة عشر، وقيل ما بين العشرة إلى العشرين، وقيل من الخمسة إلى العشرة، وقيل أربعون، وقيل سبعون،
وقيل غير ذلك (إذ قال له قومه لا تفرح) الظرف منصوب بتنوء، وقيل بآتيناه، وقيل ببغي. وردهما أبو حبان
بأن الإيتاء والبغي لم يكونا ذلك الوقت. وقال ابن جرير: هو متعلق بمحذوف وهو أذكر، والمراد بقومه هنا:
هم المؤمنون من بني إسرائيل. وقال الفراء: هو موسى وهو جمع أريد به الواحد، ومعنى لا تفرح: لا تبطر ولا
تأشر (إن الله لا يحب الفرحين) البطرين الأشرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. قال الزجاج: المعنى
لا تفرح بالمال، فإن الفرح بالمال لا يؤدى حقه، وقيل المعنى: لا تفسد كقول الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة * وتحمل أخرى أفرحتك الودائع
أي أفسدتك. قال الزجاج: الفرحين والفارحين سواء. وقال الفراء: معنى الفرحين الذين هم في حال الفرح،
والفارحين الذين يفرحون في المستقبل. وقال مجاهد: معنى لا تفرح لا تبغ إن الله لا يحب الفرحين الباغين. وقيل
معناه: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة) أي واطلب فيما أعطاك الله من الأموال
الدار الآخرة فأنفقه فيما يرضاه الله لا في التجبر والبغي. وقرئ " واتبع " (ولا تنس نصيبك من الدنيا). قال
جمهور المفسرين: وهو أن يعمل في دنياه لآخرته، ونصيب الإنسان عمره وعمله الصالح. قال الزجاج: معناه لا تنس
أن تعمل لآخرتك، لأن حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الذي يعمل به لآخرته. وقال الحسن وقتادة: معناه
لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، وهذا ألصق بمعنى النظم القرآني (وأحسن كما أحسن الله
إليك) أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بما أنعم به عليك من نعم الدنيا، وقيل أطع الله وأعبده كما أنعم
186

عليك، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما " أن جبريل سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الإحسان
فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا تعمل فيها بمعاصي
الله (إن الله لا يحب المفسدين) في الأرض (قال إنما أوتيته على علم عندي) قال قارون: هذه المقالة ردا على من
نصحه بما تقدم: أي إنما أعطيت ما أعطيت من المال لأجل علمي، فقوله " على علم " في محل نصب على الحال،
وعندي إما ظرف لأوتيته، وإما صلة للعلم، وهذا العلم الذي جعله سببا لما ناله من الدنيا. قيل هو علم التوراة،
وقيل علمه بوجوه المكاسب والتجارات، وقيل معرفة الكنوز والدفائن، وقيل علم الكيمياء، وقيل المعنى: إن
الله آتاني هذه الكنوز على علم منه باستحقاقي إياها لفضل علمه مني. واختار هذا الزجاج وأنكر ما عداه. ثم رد
الله عليه قوله هذا فقال (أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) المراد
بالقرون الأمم الخالية، ومعنى أكثر جمعا: أكثر منه جمعا للمال، ولو كان المال أو القوة يدلان على فضيلة لما
أهلكهم الله. وقيل القوة الآلات، والجمع الأعوان. وهذا الكلام خارج مخرج التقريع والتوبيخ لقارون، لأنه
قد قرأ التوراة، وعلم علم القرون الأولى وإهلاك الله سبحانه لهم (ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون) أي لا يسألون
سؤال استعتاب كما في قوله - ولاهم يستعتبون - وما هم من المعتبين - وإنما يسألون سؤال تقريع وتوبيخ كما في
قوله - فوربك لنسألنهم أجمعين - وقال مجاهد: لا تسأل الملائكة غدا عن المجرمين لأنهم يعرفون بسيماهم، فإنهم
يحشرون سود الوجوه زرق العيون. وقال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهروها وكثرتها، بل يدخلون
النار. وقيل لا يسأل مجرموا هذه الأمة عن ذنوب الأمم الخالية (فخرج على قومه في زينته) الفاء للعطف على " قال "
وما بينهما اعتراض، و " في زينته " متعلق بخرج، أو بمحذوف هو حال من فاعل خرج. وقد ذكر المفسرون في
هذه الزينة التي خرج فيها روايات مختلفة، والمراد أنه خرج في زينة انبهر لها من رآها، ولهذا تمنى الناظرون إليه
أن يكون لهم مثلها كما حكى الله عنهم بقوله (قال الذين يريدون الحياة الدنيا) وزينتها (يا ليت لنا مثل ما أوتي
قارون إنه لذو حظ عظيم) أي نصيب وافر من الدنيا.
واختلف في هؤلاء القائلين بهذه المقالة، فقيل هم من مؤمني ذلك الوقت، وقيل هم قوم من الكفار (وقال
الذين أوتوا العلم) وهم أحبار بني إسرائيل قالوا للذين تمنوا (ويلكم ثواب الله خير) أي ثواب الله في الآخرة خير
مما تمنونه (لمن آمن وعمل صالحا) فلا تمنوا عرض الدنيا الزائل الذي لا يدوم (ولا يلقاها) أي هذه الكلمة التي تكلم
بها الأحبار، وقيل الضمير يعود إلى الأعمال الصالحة، وقيل إلى الجنة (إلا الصابرون) على طاعة الله والمصبرون
أنفسهم عن الشهوات (فخسفنا به وبداره الأرض) يقال: خسف المكان يخسف خسوفا: ذهب في الأرض،
وخسف به الأرض خسفا: أي غاب به فيها، والمعنى: أن الله سبحانه غيبه وغيب داره في الأرض (فما كان له
من فئة ينصرونه من دون الله) أي ما كان له جماعة يدفعون ذلك عنه (وما كان) هو في نفسه (من المنتصرين) من
الممتنعين مما نزل به من الخسف (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) أي منذ زمان قريب (يقولون ويكأن الله
يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر) أي يقول كل واحد منهم متندما على ما فرط منه من التمني. قال النحاس:
أحسن ما قيل في هذا ما قاله الخليل وسيبويه ويونس والكسائي أن القوم تنبهوا فقالوا: وي. والمتندم من العرب
يقول في خلال ندمه وي. قال الجوهري: وي كلمة تعجب، ويقال ويك، وقد تدخل وي على كأن المخففة
والمشددة ويكأن الله. قال الخليل: هي مفصولة تقول وي، ثم تبتدئ فيقول كأن. وقال الفراء: هي كلمة
187

تقرير كقولك: أما ترى صنع الله وإحسانه، وقيل هي كلمة تنبيه بمنزلة ألا. وقال قطرب: إنما وهو يلك
فأسقطت لامه، ومنه قول عنترة:
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها * قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وقال ابن الأعرابي: معنى ويكأن الله: أعلم أن الله. وقال القتيبي: معناها بلغة حمير رحمة، وقيل هي بمعنى
ألم تر. وروي عن الكسائي أنه قال: هي كلمة تفجع (لولا أن من الله علينا) برحمته وعصمنا من مثل ما كان عليه
قارون من البطر والبغي ولم يؤاخذنا بما وقع منا من ذلك التمني (لخسف بنا) كما خسف به. قرأ حفص " لخسف "
مبنيا للفاعل، وقرأ الباقون مبنيا للمفعول (ويكأنه لا يفلح الكافرون) أي لا يفوزون بمطلب من مطالبهم (تلك
الدار الآخرة) أي الجنة، والإشارة إليها لقصد التعظيم لها والتفخيم لشأنها كأنه قال: تلك التي سمعت بخبرها وبلغك
شأنها (نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض) أي رفعة وتكبرا على المؤمنين (ولا فسادا) أي عملا بمعاصي الله
سبحانه فيها، وذكر العلو والفساد منكرين في حيز النفي يدل على شمولهما لكل ما يطلق عليه أنه علو وأنه فساد
من غير تخصيص بنوع خاص، أما الفساد فظاهر أنه لا يجوز شئ منه كائنا ما كان، وأما العلو فالممنوع منه
ما كان على طريق التكبر على الغير والتطاول على الناس، وليس منه طلب العلو في الحق والرئاسة في الدين ولا
محبة اللباس الحسن والمركوب الحسن والمنزل الحسن (من جاء بالحسنة فله خير منها) وهو أن الله يجازيه بعشر
أمثالها إلى سبعمائة ضعف (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) أي إلا مثل
ما كانوا يعملون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وقد تقدم بيان معنى هذه الآية في سورة النمل (إن
الذي فرض عليك القرآن) قال المفسرون: أي أنزل عليك القرآن. وقال الزجاج: فرض عليك العمل بما يوجبه
القرآن، وتقدير الكلام: فرض عليك أحكام القرآن وفرائضه (لرادك إلى معاد) قال جمهور المفسرين: إي إلى
مكة. وقال مجاهد وعكرمة والزهري والحسن: إن المعنى: لرادك إلى يوم القيامة وهو اختيار الزجاج، يقال
بيني وبينك المعاد: أي يوم القيامة، لأن الناس يعودون فيه أحياء. وقال أبو مالك وأبو صالح: لرادك إلى معاد
إلى الجنة. وبه قال أبو سعيد الخدري، وروي عن مجاهد. وقيل " إلى معاد " إلى الموت (قل ربي أعلم من جاء بالهدى
ومن هو في ضلال مبين) هذا جواب لكفار مكة لما قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنك في ضلال، والمراد
من جاء بالهدى هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن هو في ضلال مبين المشركون: والأولى حمل الآية على
العموم، وأن الله سبحانه يعلم حال كل طائفة من هاتين الطائفتين ويجازيها بما تستحقه من خير وشر (وما كنت
ترجو أن يلقى إليك الكتاب) أي ما كنت ترجو أنا نرسلك إلى العباد وننزل عليك القرآن. وقيل ما كنت ترجو أن
يلقى إليك الكتاب بردك إلى معادك، والاستثناء في قوله (إلا رحمة من ربك) منقطع: أي لكن إلقاؤه عليك رحمة
من ربك، ويجوز أن يكون متصلا حملا على المعنى، كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة من ربك.
والأول أولى وبه جزم الكسائي والفراء (فلا تكونن ظهيرا للكافرين) أي عونا لهم، وفيه تعريض بغيره من الأمة.
وقيل المراد لا تكونن ظهيرا لهم بمداراتهم (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) أي لا يصدنك يا محمد
الكافرون وأقوالهم وكذبهم وأذاهم عن تلاوة آيات الله والعمل بها بعد إذ أنزلها الله إليك وفرضت عليك. قرأ
الجمهور بفتح الياء وضم الصاد من صده يصده. وقرأ عاصم بضم الياء وكسر الصاد، من أصده بمعنى
188

صده (وادع إلى ربك) أي ادع الناس إلى الله وإلى توحيده، والعمل بفرائضه واجتناب معاصيه (ولا تكونن
من المشركين) وفيه تعريض بغيره كما تقدم، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يكون من المشركين بحال من
الأحوال، وكذلك قوله (ولا تدع مع الله إلها آخر) فإنه تعريض لغيره. ثم وحد سبحانه نفسه ووصفها بالبقاء
والدوام فقال (لا إله إلا هو كل شئ) من الأشياء كائنا ما كان (هالك إلا وجهه) أي إلا ذاته. قال الزجاج:
وجهه منصوب على الاستثناء، ولو كان في غير القرآن كان مرفوعا بمعنى كل شئ غير وجهه هالك. كما قال
الشاعر: وكل أخ مفارقه أخوه * لعمر أبيك إلا الفرقدان
والمعنى كل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه (له الحكم) أي القضاء النافذ يقضي بما شاء ويحكم بما أراد
(وإليه ترجعون) عند البعث ليجزي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، لا إله غيره سبحانه وتعالى.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (سرمدا) قال: دائما. وأخرج ابن أبي حاتم عنه
(وصل عنهم) يوم القيامة (ما كانوا يفترون) قال: يكذبون في الدنيا. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن
المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه أيضا (إن قارون كان من قوم موسى) قال: كان ابن
عمه وكان يتبع العلم حتى جمع علما فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى وحسده فقال له موسى إن الله
أمرني أن آخذ الزكاة، فأبى فقال إن موسى يريد أن يأكل أموالكم جاءكم بالصلاة وجاءكم بأشياء فاحتملتموها
فتحتملون أن تعطوه أموالكم؟ فقالوا لا نحتمل فما ترى؟ فقال لهم أرى أن أرسل إلى بغي من بغايا بني إسرائيل
فنرسلها إليه فترميه بأنه أرادها على نفسها، فأرسلوا إليها فقالوا لها نعطيك حكمك على أن تشهدي على موسى أنه
فجر بك، قالت نعم، فجاء قارون إلى موسى فقال: أجمع بني إسرائيل فأخبرهم بما أمرك ربك، قال نعم،
فجمعهم فقالوا له: ما أمرك ربك؟ قال: أمرني أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تصلوا الرحم وكذا وكذا،
وأمرني إذا زنا وقد أحصن أن يرجم، قالوا: وإن كنت أنت، قال نعم، قالوا: فإنك قد زنيت. قال أنا؟
فأرسلوا للمرأة فجاءت، فقالوا: ما تشهدين على موسى؟ فقال لها موسى: أنشدك بالله إلا ما صدقت. قالت: أما
إذا نشدتني بالله فإنهم دعوني وجعلوا لي جعلا على أن أقذفك بنفسي وأنا أشهد أنك بريء وأنك رسول الله، فخر
موسى ساجدا يبكي، فأوحى الله إليه ما يبكيك؟ قد سلطناك على الأرض فمرها فتعطيك، فرفع رأسه فقال خذيهم،
فأخذتهم إلى أعقابهم، فجعلوا يقولون: يا موسى يا موسى، فقال خذيهم، فأخذتهم إلى ركبهم، فجعلوا
يقولون يا موسى يا موسى، فقال خذيهم فأخذتهم إلى أعناقهم، فجعلوا يقولون يا موسى يا موسى، فقال خذيهم،
فأخذتهم فغشيتهم، فأوحى الله يا موسى: سألك عبادي وتضرعوا إليك فلم تجبهم وعزتي لو أنهم دعوني لأجبتهم.
قال ابن عباس: وذلك قوله " فخسفنا به وبداره الأرض " خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن خيثمة قال: كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود، كل مفتاح مثل
الأصبع كل مفتاح على خزانة على حدة، فإذا ركب حملت المفاتيح على سبعين بغلا أعز محجل. وأخرج سعيد بن
منصور وابن المنذر عنه قال: وجدت في الإنجيل أن بغال مفاتيح خزائن قارون غر محجلة لا يزيد مفتاح منها على
أصبع لكل مفتاح كنز، قلت: لم أجد في الإنجيل هذا الذي ذكره خيثمة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (لتنوء بالعصبة) قال: تثقل. وأخرج ابن المنذر عنه قال: لا يرفعها العصبة من الرجال أولو
القوة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: العصبة أربعون رجلا. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله
189

(إن الله لا يحب الفرحين) قال المرحين، وفي قوله (ولا تنس نصيبك من الدنيا) قال: أن تعمل فيها لآخرتك.
وأخرج ابن مردويه عن أوس بن أوس الثقفي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (فخرج على قومه في زينته)
في أربعة آلاف بغل. وقد روي عن جماعة من التابعين أقوال في بيان ما خرج به على قومه من الزينة ولا يصح منها شئ
مرفوعا، بل هي من أخبار أهل الكتاب كما عرفناك غير مرة، ولا أدري كيف إسناد هذا الحديث الذي رفعه
ابن مردويه فمن ظفر بكتابه فلينظر فيه. وأخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله (فخسفنا به وبداره الأرض)
قال: خسف به إلى الأرض السفلى. وأخرج المحاملي والديلمي في مسند الفردوس عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) قال:
التجبر في الأرض والأخذ بغير الحق. وروى نحوه عن مسلم البطين وابن جريج وعكرمة. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (لا يريدون علوا في الأرض) قال: بغيا في الأرض. وأخرج ابن
أبي حاتم عن الحسن قال: هو الشرف والعلو عند ذوي سلطانهم. وأقول: إن كان ذلك للتقوى به على الحق،
فهو من خصال الخير لا من خصال الشر. وأخرج ابن أبن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب
قال: إن الرجل ليحب أن يكون شسع نعله أفضل من شسع نعل صاحبه، فيدخل في هذه الآية " تلك الدار الآخرة
نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا " قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكر هذه الرواية عن علي رضي
الله عنه: وهذا محمول على من أحب ذلك لا لمجرد التجمل، فهذا لا بأس به، فقد ثبت " أن رجلا قال يا رسول
الله إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة، أفمن الكبر ذلك؟ قال لا، إن الله جميل يحب الجمال ". وأخرج
ابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه قال: نزلت هذه الآية، يعني (تلك الدار الآخرة) الخ في
أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج
ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: لما دخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألقى إليه وسادة، فجلس على
الأرض فقال: أشهد أنك لا تبغي علوا في الأرض ولا فسادا فأسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. وأخرج
أيضا ابن مردويه عن علي بن الحسين بن واقد أن قوله تعالى (إن الذي فرض عليك القران) الآية أنزلت على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة حين خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرا إلى المدينة. وأخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي من طرق
عن ابن عباس في قوله (لرادك إلى معاد) قال: إلى مكة، زاد ابن مردويه كما أخرجك منها. وأخرج الفريابي
وعبد بن حميد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري (لرادك إلى معاد) قال الآخرة. وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري
في تاريخه وأبو يعلى وابن المنذر عنه أيضا في قوله (لرادك إلى معاد) قال: معاده الجنة، وفي لفظ معاده آخرته.
وأخرج الحاكم في التاريخ والديلمي عن علي بن أبي طالب قال (لرادك إلى معاد) الجنة. وأخرج سعيد بن
منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه قال: لما نزلت
- كل من عليها فان - قالت الملائكة: هلك أهل الأرض، فلما نزلت - كل نفس ذائقة الموت - قالت الملائكة:
هلك كل نفس، فلما نزلت - كل شئ هالك إلا وجهه - قالت الملائكة: هلك أهل السماء والأرض. وأخرج
عبد بن حميد عن ابن عباس (كل شئ هالك إلا وجهه) قال: إلا ما أريد به وجهه.
190

تفسير سورة العنكبوت
هي تسع وستون آية
وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية، أو بعضها مكيا وبعضها مدنيا على ثلاثة أقوال: الأول أنها مكية كلها،
أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس. وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله
ابن الزبير، وبه قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. والقول الثاني أنها مدنية كلها، قال القرطبي: وهو
أحد قولي ابن عباس وقتادة. والقول الثالث أنها مكية إلا عشر آيات من أولها، قال القرطبي: وهو أحد قولي ابن
عباس وقتادة، وهو قول يحيى بن سلام. وحكي عن علي بن أبي طالب أنها نزلت بين مكة والمدينة، وهذا
قول رابع. وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في كسوف
الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات، يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم، وفي الثانية يس.
191

قد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في سورة البقرة، والاستفهام في قوله (أحسب الناس)
للتقريع والتوبيخ، و (أن يتركوا) في موضع نصب بحسب، وهي وما دخلت عليه قائمة مقام المفعولين على قول
سيبويه والجمهور، و (أن يقولوا) في موضع نصب على تقدير: لأن يقولوا، أو بأن يقولوا، أو على أن
يقولوا، وقيل هو بدل من أن يتركوا، ومعنى الآية: أن الناس لا يتركون بغير اختبار ولا ابتلاء (أن يقولوا آمنا
وهم لا يفتنون) أي وهم لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم، وليس الأمر كما حسبوا، بل لا بد أن يختبرهم حتى يتبين
المخلص من المنافق، والصادق من الكاذب، فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستعباده، وبيان أنه لا بد من
الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها. قال الزجاج: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط ولا
يمتحنون بما تتبين به حقيقة إيمانهم، وهو قوله (أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) قال السدي وقتادة
ومجاهد: أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح
معنى ما ذكرناه. وظاهرها شمول كل الناس من أهل الإيمان، وإن كان السبب خاصا فالاعتبار بعموم اللفظ كما
قررناه غير مرة. قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص فهي باقية في أمة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو
وغير ذلك (ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي هذه سنة الله في عباده وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم
من الأمم كما جاء به القرآن في غير موضع من قصص الأنبياء وما وقع مع قومهم من المحن وما اختبر الله به
أتباعهم ومن آمن بهم من تلك الأمور التي نزلت بهم (فليعلمن الله الذين صدقوا) في قولهم: آمنا (وليعلمن
الكاذبين) منهم في ذلك، قرأ الجمهور " فليعلمن " بفتح الياء واللام في الموضعين: أي ليظهرن الله الصادق
والكاذب في قولهم ويميز بينهم، وقرأ علي بن أبي طالب في الموضعين بضم الياء وكسر اللام. والمعنى: أي يعلم
الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يعلم الناس بصدق من صدق ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة
علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) أي يفوتونا ويعجزونا قبل أن
نؤاخذهم بما يعملون، وهو ساد مسد مفعولي حسب، وأم هي المنقطعة (ساء ما يحكمون) أي بئس الذي يحكمونه
حكمهم ذلك. وقال الزجاج: " ما " في موضع نصب بمعنى ساء شيئا أو حكما يحكمون. قال: ويجوز أن تكون
" ما " في موضع رفع بمعنى ساء الشئ أو الحكم حكمهم، وجعلها ابن كيسان مصدرية: أي ساء حكمهم (من
كان يرجوا لقاء الله) أي من كان يطمع، والرجاء بمعنى الطمع. قاله سعيد بن جبير. وقيل الرجاء هنا بمعنى
الخوف. قال القرطبي: وأجمع أهل التفسير على أن المعنى: من كان يخاف الموت، ومنه قول الهذلي:
* إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها * قال الزجاج: معنى من كان يرجو لقاء الله: من كان يرجو ثواب
لقاء الله: أي ثواب المصير إليه، فالرجاء على هذا معناه الأمل (فإن أجل الله لآت) أي الأجل المضروب للبعث
آت لا محالة. قال مقاتل: يعني يوم القيامة، والمعنى: فليعمل لذلك اليوم كما في قوله " فمن كان يرجوا لقاء ربه
فليعمل عملا صالحا " ومن في الآية التي هنا يجوز أن تكون شرطية والجزاء فإن أجل الله لآت، ويجوز أن تكون
موصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيها لها بالشرطية. وفي الآية من الوعد والوعيد والترهيب والترغيب مالا يخفى
192

(وهو السميع) لأقوال عباده (العليم) بما يسرونه وما يعلنونه (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) أي من جاهد
الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه: أي ثواب ذلك له لا لغيره ولا يرجع إلى الله سبحانه
من نفع ذلك شئ (إن الله لغني عن العالمين) فلا يحتاج إلى طاعاتهم كما لا تضره معاصيهم. وقيل المعنى: ومن
جاهد عدوه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله، فليس لله حاجة بجهاده، والأول أولى (والذين آمنوا وعملوا الصالحات
لنكفرن عنهم سيئآتهم) أي لنغطينها عنهم بالمغفرة بسبب ما عملوا من الصالحات (ولنجزينهم أحسن الذي كانوا
يعملون) أي بأحسن جزاء أعمالهم، وقيل بجزاء أحسن أعمالهم، والمراد بأحسن مجرد الوصف لا التفضيل لئلا يكون
جزاؤهم بالحسن مسكوتا عنه، وقيل يعطيهم أكثر مما عملوا وأحسن منه كما في قوله - من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها - (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا) انتصاب حسنا على أنه نعت مصدر محذوف: أي إيصاء حسنا على
المبالغة، أو على حذف المضاف: أي ذا حسن. هذا مذهب البصريين، وقال الكوفيون: تقديره ووصينا
الإنسان أن يفعل حسنا، فهو مفعول لفعل مقدر، ومنه قول الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا * ومن أبي دهماء إذ يوصينا * خيرا بها كأنما خافونا
أي يوصينا أن نفعل بها خيرا، ومثله قول الحطيئة:
وصيت من برة قلبا حرا * بالكلب خيرا والحمأة شرا
قال الزجاج: معناه ووصينا الإنسان: أن يفعل بوالديه ما يحسن، وقيل هو صفة لموصوف محذوف: أي
ووصيناه أمرا ذا حسن، وقيل هو منتصب على أنه مفعول به على التضمين أي ألزمناه حسنا، وقيل منصوب
ينزع الخافض: أي ووصيناه بحسن، وقيل هو مصدر لفعل محذوف: أي يحسن حسنا، ومعنى الآية: التوصية
للإنسان بوالديه بالبر بهما والعطف عليهما. قرأ الجمهور " حسنا " بضم الحاء وإسكان السين، وقرأ أبو رجاء
وأبو العالية والضحاك بفتحهما، وقرأ الجحدري " إحسانا " وكذا في مصحف أبي (وإن جاهداك لتشرك بي
ما ليس لك به علم فلا تطعهما) أي طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلها ليس لك به علم بكونه إلها فلا تطعهما،
فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لا يعلم صحته لا يجوز اتباعه، فكيف بما
علم بطلانه؟ وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون
مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه، فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله كما صح
ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) أي أخبركم بصالح أعمالكم
وطالحها، فأجازي كلا منكم بما يستحقه، والموصول في قوله (والذين آمنوا وعملوا الصالحات) في محل رفع
على الابتداء وخبره (لندخلنهم في الصالحين) أي في زمرة الراسخين في الصلاح، ويجوز أن يكون في محل نصب على
الاشتغال، ويجوز أن يكون المعنى: لندخلنهم في مدخل الصالحين، وهو الجنة كذا قيل، والأول أولى (ومن
الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله) أي في شأن الله ولأجله كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان، وكما
يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات من إيقاع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به (جعل فتنة الناس)
التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى (كعذاب الله) أي جزع من أذاهم. فلم يصبر عليه وجعله في الشدة والعظم
كعذاب الله فأطاع الناس كما يطيع الله، وقيل هو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر. قال الزجاج:
ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله (ولئن جاء نصر من ربك) أي نصر من الله للمؤمنين وفتح وغلبة للأعداء
وغنيمة يغنمونها منهم (ليقولن إنا كنا معكم) أي داخلون معكم في دينكم ومعاونون لكم على عدوكم، فكذبهم
193

الله، وقال (أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) أي هو سبحانه أعلم بما في صدورهم منهم من خير وشر،
فكيف يدعون هذه الدعوى الكاذبة. وهؤلاء هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف، كانوا إذا مسهم الأذى من
الكفار وافقوهم. وإذا ظهرت قوة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن (قالوا إنا كنا معكم) وقيل المراد
بهذا وما قبله المنافقون. قال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم. فإذا أصابهم بلاء من الله أو
مصيبة افتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون. فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك،
والظاهر أن هذا النظم من قوله (ومن الناس من يقول) إلى قوله (وقال الذين كفروا) نازل في المنافقين لما يظهر
من السياق، ولقوله (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) فإنها لتقرير ما قبلها وتأكيده: أي ليميزن الله
بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في
الله حق الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله. والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا، فإن أصابه أذى من
الكافرين وافقهم وتابعهم وكفر بالله عز وجل، وإن خفقت ريح الإسلام وطلع نصره ولاح فتحه رجع إلى
الإسلام، وزعم أنه من المسلمين (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا) اللام في " للذين آمنوا " هي لام
التبليغ: أي قالوا مخاطبين لهم كما سبق بيانه في غير موضع: أي قالوا لهم اسلكوا طريقتنا وادخلوا في ديننا
(ولنحمل خطاياكم) أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور كما تقولون فلنحمل ذلك
عنكم فنؤاخذ به دونكم واللام في لنحمل لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقال الفراء والزجاج: هو أمر
في تأويل الشرط والجزاء: أي إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، ثم رد الله عليهم بقوله (وما هم بحاملين من خطاياهم
من شئ) من الأولى بيانية. والثانية مزيدة للاستغراق: أي وما هم بحاملين شيئا من خطيئاتهم التي التزموا بها
وضمنوا لهم حملها، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال (إنهم لكاذبون) فيما ضمنوا به من حمل
خطاياهم. قال المهدوي: هذا التكذيب لهم من الله عز وجل حمل على المعنى، لأن المعنى: إن اتبعتم سبيلنا حملنا
خطاياكم، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر (وليحملن أثقالهم)
أي أوزارهم التي عملوها، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة (وأثقالا مع أثقالهم) أي أوزارا مع
أوزارهم. وهي أوزار من أضلوهم وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة ومثله قوله سبحانه - إن أوزارهم
كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم - ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من سن سنة سيئة
فعليه وزرها ووزر من عمل بها " كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره (وليسألن يوم القيامة)
تقريعا وتوبيخا (عما كانوا يفترون) أي يختلقونه من الأكاذيب التي كانوا يأتون بها في الدنيا. وقال مقاتل:
يعني قولهم: نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (ألم أحسب الناس أن يتركوا) الآية
قال: أنزلت في ناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام، فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من
المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار ولا إسلام حتى تهاجروا، قال: فخرجوا عامدين إلى المدينة
فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية، فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج
فإن اتبعنا أحد قتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم - ثم
إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم -. وأخرج ابن
أبي حاتم عن قتادة نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن سعد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عبد الله بن
194

عبيد الله بن عمير قال: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله (ألم أحسب الناس أن يتركوا) الآية. وأخرج
ابن ماجة وابن مردويه عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الله إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأبو بكر، وسمية أم عمار، وعمار، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد
وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد أتاهم على ما أرادوا إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله وهان
على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول أحد أحد. وأخرج الفريابي وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (أن يسبقونا) قال: أن يعجزونا. وأخرج ابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي لا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بمحمد
فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا. فنزلت هذه الآية (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا
وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما). وأخرجه أيضا الترمذي من حديثه، وقال: نزلت في أربع
آيات وذكر نحو هذه القصة، وقال: حسن صحيح. وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي
أيضا. وأخرج أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن ماجة وأبو يعلى وابن حبان وأبو نعيم والبيهقي والضياء
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لقد أوذيت في الله وما يؤذي أحد " ولقد أخفت في الله وما
يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال ". وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (جعل فتنة الناس كعذاب الله) قال: يرتد عن دين الله إذا أوذي في الله.
195

أجمل سبحانه قصة نوح تصديقا لقوله في أول السورة (ولقد فتنا الذين من قبلهم) وفيه تثبيت للنبي صلى الله
عليه وآله وسلم، كأنه قيل له: إن نوحا لبث ألف سنة إلا خمسين عاما يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فأنت
أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك. قيل ووقع في النظم إلا خمسين عاما ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين.
لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني، فقد يطلق على ما يقرب منه. وقد اختلف في مقدار عمر نوح.
وسيأتي آخر البحث. وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة، وهي لا تدل على أنها جميع عمره. فقد تلبث في
غيرهم قبل اللبث فيهم، وقد تلبث في الأرض بعد هلاكهم بالطوفان، والفاء في (فأخذهم الطوفان) للتعقيب: أي
أخذهم عقب تمام المدة المذكورة، والطوفان يقال لكل شئ كثير مطيف بجمع محيط بهم من مطر أو قتل أو موت
قاله النحاس. وقال سعيد بن جبير وقتادة والسدي: هو المطر. وقال الضحاك: الغرق، وقيل الموت، ومنه
قول الشاعر: * أفناهم طوفان موت جارف * وجملة (وهم ظالمون) في محل نصب على الحال: أي
مستمرون على الظلم ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها (فأنجيناه وأصحاب السفينة) أي
أنجينا نوحا وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه. واختلف في عددهم على أقوال (وجعلناها) أي السفينة
(آية للعالمين) أي عبرة عظيمة لهم، وفي كونها آية وجوه: أحدها أنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة.
وثانيها أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة. وثالثها أن الماء غيض قبل نفاذ الزاد. وهذا غير مناسب لوصف
السفينة بأن الله جعلها آية، وقيل إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة أو إلى النجاة، أو إلى العقوبة بالغرق.
(وإبراهيم إذ قال لقومه) انتصاب إبراهيم بالعطف على نوحا. وقال النسائي: هو معطوف على الهاء في جعلناها.
وقيل منصوب بمقدر: أي واذكر إبراهيم. وإذ قال منصوب على الظرفية: أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله لقومه
اعبدوا الله أو جعلنا إبراهيم آية وقت قوله هذا: أو واذكر إبراهيم وقت قوله، على أن الظرف بدل اشتمال من
إبراهيم (اعبدوا الله واتقوه) أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها واتقوه أن تشركوا به شيئا (ذلكم خير لكم) أي عبادة
الله وتقواه خير لكم من الشرك، ولا خير في الشرك أبدا، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم (إن كنتم تعلمون) شيئا
من العلم، أو تعلمون علما تميزون به بين ما هو خير وما هو شر. قرأ الجمهور " وإبراهيم " بالنصب، ووجهه
ما قدمنا. وقرأ النخعي وأبو جعفر وأبو حنيفة بالرفع على الابتداء والخبر مقدر: أي ومن المرسلين إبراهيم (إنما
تعبدون من دون الله أوثانا) بين لهم إبراهيم أنهم يعبدون مالا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر، والأوثان هي
196

الأصنام. وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس، والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة.
وقال الجوهري: الوثن الصنم والجمع أوثان (وتخلقون إفكا) أي وتكذبون كذبا على أن معنى تخلقون تكذبون،
ويجوز أن يكون معناه: تعملون وتنحتون: أي تعملونها وتنحتونها للإفك. قال الحسن: معنى تخلقون تنحتون:
أي إنما تعبدون أوثانا وأنتم تصنعونها. قرأ الجمهور " تخلقون " بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق
وإفكا بكسر الهمزة وسكون الفاء. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام
مشددة، والأصل تتخلقون. وروي عن زيد بن علي أنه قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة. وقرأ ابن الزبير
وفضيل بن ورقان " أفكا " بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب، أو صفة لمصدر محذوف: أي خلقا
أفكا (إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئا من الرزق (فابتغوا
عند الله الرزق) أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله فاسألوه من فضله ووحدوه
دون غيره (واشكروا له) أي على نعمائه، فإن الشكر موجب لبقائها وسبب للمزيد عليها، يقال شكرته وشكرت
له (إليه ترجعون) بالموت ثم البعث لا إلى غيره (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) قيل هذا من قول
إبراهيم: أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم، وقيل هو من قول الله سبحانه: أي وإن تكذبوا
محمدا فذلك عادة الكفار مع من سلف (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) لقومه أرسل إليهم، وليس عليه
هدايتهم، وليس ذلك في وسعه (أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده) قرأ الجمهور " أو لم يروا " بالتحتية
على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. قال أبو عبيد: كأنه قال: أو لم ير الأمم. وقرأ أبو بكر
والأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه، وقيل هو خطاب من الله لقريش.
قرأ الجمهور " كيف يبدئ " بضم التحتية من أبدأ يبدئ. وقرأ الزبيري وعيسى بن عمر وأبو عمرو بفتحها من بدأ
يبدأ. وقرأ الزهري " كيف بدأ " والمعنى ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم ينفخ فيه
الروح ثم يخرجه إلى الدنيا ثم يتوفاه بعد ذلك، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات، فإذا رأيتم قدرة الله
سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة، والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم، والواو للعطف على مقدر
(إن ذلك على الله يسير) لأنه إذا أراد أمرا قال له كن فيكون. ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في
الأرض ليتفكروا ويعتبروا فقال (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) على كثرتهم واختلاف
ألوانهم وطبائعهم وألسنتهم وانظروا إلى مساكن القرون الماضية والأمم الخالية وآثارهم لتعلموا بذلك كمال
قدرة الله. وقيل إن المعنى: قل لهم يا محمد سيروا، ومعنى قوله (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) أن الله الذي بدأ
النشأة الأولى وخلقها على تلك الكيفية ينشئها نشأة ثانية عند البعث، والجملة عطف على جملة سيروا في الأرض
داخلة معها في حيز القول، وجملة (إن الله على كل شئ قدير) تعليل لما قبلها. قرأ الجمهور ب " النشأة " بالقصر
وسكون الشين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالمد وفتح الشين، وهما لغتان كالرأفة والرأفة. وهي منتصبة على
المصدرية بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء) أي هو سبحانه بعد النشأة الآخرة
يعذب من يشاء تعذيبه وهم الكفار والعصاة ويرحم من يشاء رحمته، وهم المؤمنون به المصدقون لرسله العاملون
بأوامره ونواهيه (وإليه تقلبون) أي ترجعون وتردون لا إلى غيره (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء)
قال الفراء: ولا من في السماء بمعجزين الله فيها. قال: وهو كما في قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم * ويمدحه وينصره سواء
197

أي ومن يمدحه وينصره سواء. ومثله قوله تعالى - وما منا إلا له مقام معلوم - أي إلا من له مقام معلوم.
والمعنى: أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوه. وقال قطرب: إن معنى الآية:
ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة: يعني ولا بالبصرة لو صار إليها. وقال
المبرد: المعنى ولا من في السماء. على أن من ليست موصولة بل نكرة، وفي السماء صفة لها، فأقيمت الصفة مقام
الموصوف، ورد ذلك علي بن سليمان وقال: لا يجوز، ورجح ما قاله قطرب (وما لكم من دون الله من ولي ولا
نصير) من مزيدة للتأكيد: أي ليس لكم ولي يواليكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذاب الله (والذين كفروا
بآيات الله ولقائه) المراد بالآيات الآيات التنزيلية أو التكوين أو جميعهما، وكفروا بلقاء الله: أي أنكروا البعث
وما بعده ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الكافرين بالآيات واللقاء.
وهو مبتدأ وخبره (يئسوا من رحمتي) أي إنهم في الدنيا آيسون فيه من رحمة الله لم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله ولا
ما أخبرتهم به رسله. وقيل المعنى: أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة. والمعنى: أنهم أو يسوا من
الرحمة (وأولئك لهم عذاب أليم) كرر سبحانه الإشارة للتأكيد، ووصف العذاب بكونه أليما للدلالة على أنه
في غاية الشدة (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) هذا رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض
بما تقدم من خطاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم على قول من قال: إن قوله قل سيروا في الأرض خطاب لمحمد
صلى الله عليه وآله وسلم، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقا
ولاحقا: أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: افعلوا بإبراهيم أحد الأمرين المذكورين، ثم اتفقوا على
تحريقه (فأنجاه الله من النار) وجعلها عليه بردا وسلاما (إن في ذلك) أي في إنجاء الله لإبراهيم (لآيات) بينة: أي
دلالات واضحة وعلامات ظاهرة على عظيم قدرة الله وبديع صنعه: حيث أضرموا تلك النار العظيمة وألقوه فيها
ولم تحرقه ولا أثرت فيه أثرا، بل ثارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها من الحرارة والإحراق، وإنما خص
المؤمنون، لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون. قرأ الجمهور بنصب
" جواب قومه " على أنه خبر كان وما بعده اسمها. وقرأ سالم الأفطس وعمرو بن دينار والحسن برفعه على أنه اسم
كان وما بعده في محل نصب على الخبر (وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا) أي
قال إبراهيم لقومه: أي للتوادد صلى بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن
تركتم عبادتها. قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي " مودة بينكم " برفع مودة غير منونة، وإضافتها إلى بينكم.
وقرأ الأعمش وابن وثاب " مودة " برفعها منونة. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بنصب " مودة " منونة ونصب
بينكم على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص بنصب " مودة " مضافة إلى بينكم. فأما قراءة الرفع فذكر الزجاج لها وجهين:
الأول أنها ارتفعت على خبر إن في إنما اتخذتم وجعل ما موصولة، والتقدير: إن الذي اتخذتموه من دون الله
أوثانا مودة بينكم. والوجه الثاني أن تكون على إضمار مبتدأ: أي هي مودة أو تلك مودة. والمعنى: أن المودة
هي التي جمعتكم على عبادة الأوثان واتخاذها. قيل ويجوز أن تكون مودة مرتفعة بالابتداء وخبرها في الحياة الدنيا.
ومن قرأ برفع مودة منونة فتوجيهه كالقراءة الأولى، ونصب بينكم على الظرفية. ومن قرأ بنصب مودة ولم ينونها
جعلها مفعول اتخذتم وجعل إنما حرفا واحدا للحصر، وهكذا من نصبها ونونها. ويجوز أن يكون النصب في هاتين
القراءتين على أن المودة علة فهي مفعول لأجله، وعلى قراءة الرفع يكون مفعول اتخذتم الثاني محذوفا: أي أوثانا
آلهة، وعلى تقدير أن ما في قوله " إنما اتخذتم " موصولة يكون المفعول الأول ضميرها: أي اتخذتموه، والمفعول
198

الثاني أوثانا (ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر
منهم فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل المعنى: يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان وتتبرأ الأوثان من
العابدين لها (ويلعن بعضكم بعضا) أي يلعن كل فريق الآخر على التفسيرين المذكورين (ومأواكم النار) أي
الكفار، وقيل يدخل في ذلك الأوثان: أي هي منزلكم الذي تأوون إليه (وما لكم من ناصرين) يخلصونكم منها
بنصرتهم لكم (فآمن له لوط) أي آمن لإبراهيم لوط فصدقه في جميع ما جاء به، وقيل إنه لم يؤمن به إلا حين رأى
النار لا تحرقه، وكان لوط ابن أخي إبراهيم (وقال إني مهاجر إلى ربي) قال النخعي وقتادة: الذي قال إني مهاجر
إلى ربي هو إبراهيم. قال قتادة: هاجر من كوثي وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه
لوط وامرأته سارة. والمعنى: إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي (إنه هو العزيز الحكيم) أي الغالب
الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة، وقيل إن القائل إني مهاجر إلى ربي هو لوط، والأول أولى لرجوع
الضمير في قوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) إلى إبراهيم، وكذا في قوله (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب)،
وكذا في قوله (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف:
أي من الله عليه بالأولاد فوهب له إسحاق ولدا له ويعقوب ولدا لولده إسحاق وجعل في ذريته النبوة والكتاب فلم
يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا من صلبه، ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد
التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومعنى (وآتيناه أجره في الدنيا) أنه أعطي في الدنيا الأولاد، وأخبره الله
باستمرار النبوة فيهم، وذلك مما تقر به عينه ويزداد به سروره، وقيل أجره في الدنيا أن أهل الملل كلها تدعيه
وتقول هو منهم. وقيل أعطاه في الدنيا عملا صالحا وعاقبة حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين: أي الكاملين في
الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة وكثرة العطاء من الرب سبحانه. وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس قال: بعث الله نوحا وهو ابن
أربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس
وفشوا. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة
سنة. وأخرج ابن جرير عن عوف بن أبي شداد قال: إن الله أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاثمائة سنة
فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاثمائة سنة. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب ذم
الدنيا عن أنس بن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمرا كيف وجدت الدنيا ولذتها؟
قال: كرجل دخل بيتا له بابان، فقال في وسط البيت هنيهة، ثم خرج من الباب الآخر. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (وجعلناها آية للعالمين) قال: أبقاها الله آية فهي على الجودي.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وتخلقون إفكا) قال: تقولون كذبا.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (النشأة الآخرة) قال: هي الحياة بعد الموت. وهو النشور. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (فآمن له لوط) قال: صدق لوط إبراهيم. وأخرج
أبو يعلى وابن مردويه عن أنس قال: " أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي صلى
الله عليه وآله وسلم: صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط ". وأخرج ابن منده وابن عساكر
عن أسماء بنت أبي بكر قالت: " هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه أول من هاجر بعد
إبراهيم ولوط ". وأخرج ابن عساكر والطبراني والحاكم في الكنى عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله
199

عليه وآله وسلم: ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط مهاجر ". وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال: أول من
هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عثمان بن عفان كما هاجر لوط إلى إبراهيم. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) قال هما ولدا إبراهيم، وفي قوله (وآتيناه
أجره في الدنيا) قال إن الله وصى أهل الأديان بدينه فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به.
وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله (وآتيناه أجره في الدنيا) قال الذكر الحسن. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال:
الولد الصالح والثناء، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد،
ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس فهو حبر الأمة، وهذه الرواية عنه هي من رواية العوفي، وفي الصحيحين
" إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ".
200

قوله (ولوطا) منصوب بالعطف على نوحا، أو على إبراهيم، أو بتقدير أذكر. قال الكسائي: المعنى
وأنجينا لوطا، أو وأرسلنا لوطا (إذ قال لقومه) ظرف للعامل في لوط (إنكم لتأتون الفاحشة) قرأ أبو عمرو وحمزة
والكسائي وأبو بكر " أئنكم " بالاستفهام. وقرأ الباقون بلا استفهام، والفاحشة الخصلة المتناهية في القبح، وجملة
(ما سبقكم بها من أحد من العالمين) مقررة لكمال قبح هذه الخصلة، وأنهم منفردون بذلك لم يسبقهم إلى عملها أحد
من الناس على اختلاف أجناسهم. ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال (أئنكم لتأتون الرجال) أي تلوطون وقال بهم
(وتقطعون السبيل) قيل إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور
بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب. قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث، وقيل كانوا
يقطعون الطريق على المارة بقتلهم ونهبهم، والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سببا لقطع الطريق من غير تقييد
بسبب خاص، وقيل إن معنى قطع الطريق: قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال (وتأتون في ناديكم المنكر)
النادي والندى والمنتدى مجلس القوم ومتحدثهم.
واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقيل كانوا يحذفون الناس بالحصباء، ويستخفون بالغريب،
وقيل كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا، وقيل كانوا
يلعبون بالحمام، وقيل كانوا يخضبون أصابعهم بالحناء، وقيل كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش،
وقيل يلعبون بالنرد والشطرنج ويلبسون المصبغات، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات. قال
الزجاج: وفي هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر وأن لا يجتمعوا على الهزؤ والمناهي. ولما أنكر
لوط عليهم ما كانوا يفعلونه أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن
كنت من الصادقين) أي فما أجابوا بشئ إلا بهذا القول رجوعا منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقد تقدم
الكلام على هذه الآية، وقد تقدم في سورة النمل - فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم -
وتقدم في سورة الأعراف - فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم - وقد جمع بين هذه الثلاثة
المواضع بأن لوطا كان ثابتا على الإرشاد ومكررا للنهي لهم والوعيد عليهم، فقالوا له أولا: ائتنا بعذاب الله كما في
هذه الآية، فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم كما في الأعراف والنمل، وقيل إنهم قالوا أولا
أخرجوهم من قريتكم، ثم قالوا ثانيا ائتنا بعذاب الله. ثم إن لوطا لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه
ف (قال رب انصرني على القوم المفسدين) بإنزال عذابك عليهم وإفسادهم هو بما سبق من إتيان الرجال وعمل المنكر
في ناديهم، فاستجاب الله سبحانه وبعث لعذابهم ملائكته وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم، ولهذا قال (ولما
جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) أي بالبشارة بالولد وهو إسحاق، وبولد الولد وهو يعقوب (قالوا إنا مهلكوا
أهل هذه القرية) أي قالوا لإبراهيم هذه المقالة، والقرية هي قرية سدوم التي كان فيها قوم لوط، وجملة (إن
أهلها كانوا ظالمين) تعليل للإهلاك: أي إهلاكنا لهم بهذا السبب (قال إن فيها لوطا) أي قال لهم إبراهيم: إن في
هذه القرية التي أنتم مهلكوها لوطا فكيف تهلكونها؟ (قالوا نحن أعلم بمن فيها) فيها من الأخيار والأشرار ونحن أعلم
من غيرنا بمكان لوط (لننجينه وأهله) من العذاب. قرأ الأعمش وحمزة ويعقوب والكسائي " لننجينه " بالتخفيف،
وقرأ الباقون بالتشديد (إلا امرأته كانت من الغابرين) أي الباقين في العذاب، وهو لفظ مشترك بين الماضي
والباقي، وقد تقدم تحقيقه، وقيل المعنى: من الباقين في القرية التي سينزل بها العذاب، فتعذب من جملتهم ولا
تنجو فيمن نجا (ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ بهم) أي لما جاءت الرسل لوطا بعد مفارقتهم إبراهيم سئ بهم:
201

أي جاءه ما ساءه وخاف منه، لأنه ظنهم من البشر، فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور
البشرية، و " أن " في أن جاءت زائدة للتأكيد (وضاق بهم ذرعا) أي عجز عن تدبيرهم وحزن وضاق صدره،
وضيق الذراع كناية عن العجز، كما يقال في الكناية عن الفقر: ضاقت يده، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في
سورة هود. ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر (قالوا لا تخف ولا تحزن) أي لا تخف علينا من
قومك ولا تحزن فإنهم لا يقدرون علينا (إنا منجوك وأهلك) من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم (إلا امرأتك
كانت من الغابرين) أخبروا لوطا بما جاءوا به من إهلاك قومه وتنجيته وأهله إلا امرأته كما أخبروا بذلك إبراهيم،
قرأ حمزة والكسائي وشعبة ويعقوب والأعمش " منجوك " بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد. قال المبرد: الكاف
في منجوك مخفوض ولم يجز عطف الظاهر على المضمر المخفوض، فحمل الثاني على المعنى وصار التقدير:
وننجي أهلك (إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء) هذه الجملة مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم
من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز العذاب أي عذابا من السماء، وهو الرمي بالحجارة، وقيل إحراقهم بنار
نازلة من السماء، وقيل هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون الخسف من السماء أن الأمر
به نزل من السماء. قرأ ابن عامر " منزلون " بالتشديد. وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون بالتخفيف، والباء في
(بما كانوا يفسقون) للسببية: أي لسبب فسقهم (ولقد تركنا منها آية بينة) أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة
وهي الآثار التي بها من الحجارة رجموا بها وخراب الديار. وقال مجاهد: هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم
ولا مانع من حمل الآية على جميع ما ذكر، وخص من يعقل، لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها
(وإلى مدين أخاهم شعيبا) أي وأرسلناه إليهم، وقد تقدم ذكره وذكر نسبه وذكر قومه في سورة الأعراف
وسورة هود (قال يا قوم اعبدوا الله) أي أفردوه بالعبادة وخصوه بها (وأرجوا اليوم الآخر) أي توقعوه وافعلوا
اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم. قال يونس النحوي: معناه أخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال (ولا
تعثوا في الأرض مفسدين) العثو والعثى أشد الفساد. وقد تقدم تفسيره (فأخذتهم الرجفة) أي الزلزلة، وتقدم
في سورة هود - وأخذ الذين ظلموا الصيحة - أي صيحة جبريل وهي سبب الرجفة (فأصبحوا في دارهم جاثمين)
أي أصبحوا في بلدهم أو منازلهم جاثمين على الركب ميتين (وعادا وثمود) قال الكسائي: قال بعضهم هو راجع إلى
أول السورة: أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عادا وثمود، قال: وأحب إلي أن يكون على " فأخذتهم الرجفة "
أي وأخذت عادا وثمود. وقال الزجاج: التقدير وأهلكنا عادا وثمود، وقيل المعنى: واذكر عادا وثمودا إذ
أرسلنا إليهم هودا وصالحا (وقد تبين لكم من مساكنهم) أي وقد ظهر لكم يا معاشر الكفار من مساكنهم بالحجر
والأحقاف آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها، ففاعل تبين محذوف (وزين لهم الشيطان أعمالهم) التي يعملونها
من الكفر ومعاصي الله (فصدهم) بهذا التزيين (عن السبيل) أي الطريق الواضح الموصل إلى الحق (وكانوا
مستبصرين) أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستدلال. قال الفراء: كانوا عقلاء ذوي بصائر فلم
تنفعهم بصائرهم، وقيل المعنى: كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها يحسبون أنهم على هدى
ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم (وقارون وفرعون وهامان) قال
الكسائي: إن شئت كان محمولا على " عادا " وكان فيه ما فيه، وإن شئت كان على " فصدهم عن السبيل " أي
وصد قارون وفرعون وهامان. وقيل التقدير: وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل (فاستكبروا في الأرض)
عن عبادة الله (وما كانوا سابقين) أي فائتين، يقال سبق طالبه: إذا فاته: وقيل وما كانوا سابقين في الكفر،
202

بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة. (فكلا أخذنا بذنبه) أي عاقبنا بكفره وتكذيبه. قال الكسائي (فكلا أخذنا) أي
فأخذنا كلا بذنبه (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) أي ريحا تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها، وهم
قوم لوط (ومنهم من أخذته الصيحة) وهم ثمود وأهل مدين (ومنهم من خسفنا به الأرض) وهو قارون وأصحابه
(ومنهم من أغرقنا) وهم قوم نوح وقوم فرعون (وما كان الله ليظلمهم) بما فعل بهم، لأنه قد أرسل إليهم رسله
وأنزل عليهم كتبه (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) باستمرارهم على الكفر وتكذيبهم للرسل وعملهم بمعاصي الله.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وتأتون في ناديكم المنكر) قال:
مجلسكم. وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب وابن عساكر عن أم هانئ
بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله سبحانه (وتأتون في ناديكم المنكر)
قال: كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل ويسخرون منهم. قال الترمذي: بعد إخراجه وتحسينه: ولا
نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك. وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
نهى عن الحذف، وهو قول الله سبحانه (وتأتون في ناديكم المنكر). وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر في الآية
قال: هو الحذف. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج البخاري في تاريخه وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في الآية قالت: الضراط. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (فأخذتهم الرجفة) قال: الصيحة، وفي قوله (وما كانوا
مستبصرين) قال: في الضلالة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (فمنهم من أرسلنا عليه
حاصبا) قال: قوم لوط (ومنهم من أخذته الصيحة) قال: ثمود (ومنهم من خسفنا به الأرض) قال: قارون
(ومنهم من أغرقنا) قال: قوم نوح.
203

قوله (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) يوالونهم ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا
من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات (كمثل العنكبوت اتخذت بيتا) فإن بيتها لا يغني عنها شيئا
لا في حر ولا قر ولا مطر، كذلك ما اتخذوه وليا من دون الله، فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني
عنهم شيئا. قال الفراء: هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها
حرا ولا بردا. قال: ولا يحسن الوقف على العنكبوت لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شئ شبهت
الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت الأخفش، وغلطه ابن الأنباري قال: لأن
اتخذت صلة للعنكبوت كأنه قال: كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتا، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول
والعنكبوت تقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، وتجمع على عناكب وعنكبوتات، وهي الدويبة الصغيرة
التي تنسج نسجا رقيقا. وقد يقال لها عكنبات، ومنه قول الشاعر:
كأنما يسقط من لغامها * بيت عكنبات على زمامها
(وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) لا بيت أضعف منه مما يتخذه الهوام بيتا ولا يدانيه في الوهي والوهن
شئ من ذلك (لو كانوا يعلمون) أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتا، أو لو كانوا يعلمون
شيئا من العلم لعلموا بهذا (إن الله يعلم ما تدعون من دونه من شئ) ما استفهامية، أو نافية أو موصولة، ومن
للتبعيض أو مزيدة للتوكيد. وقيل إن هذه الجملة على إضمار القول: أي قل للكافرين إن الله يعلم أي شئ يدعون
من دونه. وحرم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية، وعلى تقدير النفي كأنه قيل: إن الله يعلم أنكم لا تدعون من
دونه من شئ: يعني ما تدعونه ليس بشئ، وعلى تقدير الموصولة: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه،
ويجوز أن تكون ما مصدرية، ومن شئ عبارة عن المصدر. قرأ عاصم وأبو عمرو ويعقوب " يدعون " بالتحتية.
واختار هذه القراءة أبو عبيد لذكر الأمم قبل هذه الآية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب (وهو العزيز الحكيم)
الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان (وتلك الأمثال نضربها للناس) أي هذا المثل وغيره من الأمثال
التي في القرآن نضربها للناس نبها لهم وتقريبا لما بعد من أفهامهم (وما يعقلها) أي يفهمها ويتعقل الأمر الذي
ضربناها لأجله (إلا العالمون) بالله الراسخون في العلم المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم وما يشاهدونه (خلق الله
السماوات والأرض بالحق) أي بالعدل والقسط مراعيا في خلقها مصالح عباده. وقيل المراد بالحق كلامه وقدرته.
ومحل بالحق النصب على الحال (إن في ذلك لآية للمؤمنين) أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته وتفرده
بالإلهية، وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك (أتل ما أوحي إليك من الكتاب) أي القرآن. وفيه الأمر
بالتلاوة للقرآن والمحافظة على قراءته مع التدبر لآياته والتفكر في معانيه (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر) أي دم على إقامتها واستمر على أدائها كما أمرت بذلك. وجملة " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر "
تعليل لما قبلها، والفحشاء ما قبح من العمل، والمنكر مالا يعرف في الشريعة: أي تمنعه عن معاصي الله وتبعده
منها، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سببا للانتهاء، والمراد هنا الصلوات المفروضة (ولذكر الله أكبر) أي
أكبر من كل شئ: أي أفضل من العبادات كلها بغير ذكر. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى ولذكر الله
أكبر على الإطلاق: أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك وكذلك يفعل
ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا من ذاكر لله مراقب له. وقيل ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي
عن الفحشاء والمنكر مع المداومة عليه. قال الفراء وابن قتيبة: المراد بالذكر في الآية التسبيح والتهليل، يقول هو
204

أكبر وأحرى بأن ينهى عن الفحشاء والمنكر. وقيل المراد بالذكر هنا الصلاة: أي وللصلاة أكبر من سائر
الطاعات، وعبر عنها بالذكر كما في قوله - فاسعوا إلى ذكر الله - للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في
تفضيلها على سائر الطاعات، وقيل المعنى: ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في
عبادتكم وصلواتكم، واختار هذا ابن جرير، ويؤيده حديث " من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن
ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " (والله يعلم ما تصنعون) لا تخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير
خيرا وبالشر شرا (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) أي إلا بالخصلة التي هي أحسن، وذلك على
سبيل الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام، لا على طريق الإغلاظ
والمخاشنة (إلا الذين ظلموا منهم) بأن أفرطوا في المجادلة ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم والتخشين
في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى. وقيل معنى الآية:
لا تجادلوا من آمن بمحمد من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن: يعني
بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا القول هم الباقون على كفرهم.
وقيل هذه الآية منسوخة بآيات القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل. قال النحاس: من قال هي منسوخة احتج بأن
الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك. قال سعيد بن جبير ومجاهد: إن
المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين فجدالهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية (وقولوا آمنا
بالذي أنزل إلينا) من القرآن (وأنزل إليكم) من التوراة والإنجيل: أي آمنا بأنهما منزلان من عند الله وأنهما
شريعة ثابته إلى قيام الشريعة الإسلامية والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه (وإلهنا وإلهكم
واحد) لا شريك له ولا ضد ولا ند (ونحن له مسلمون) أي ونحن معاشر أمة محمد مطيعون له خاصة، لم نقل
عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا به أربابا من دون الله، ويحتمل أن يراد ونحن جميعا
منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب وطاعتهم أبلغ من طاعاتهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) الآية قال: ذاك مثل
ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت. وأخرج أبو داود في مراسيله عن يزيد بن مرثد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " العنكبوت شيطان مسخها الله فمن وجدها فليقتلها ". وأخرج ابن أبي حاتم
عن مزيد بن ميسرة قال: العنكبوت شيطان. وأخرج الخطيب عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " دخلت أنا وأبو بكر الغار فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن " وروى القرطبي في تفسيره
عن علي أيضا أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيت يورث الفقر. وأخرج ابن أبي حاتم
عن عطاء الخراساني قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود، والثانية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) قال:
في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عمران بن حصين قال " سئل النبي
صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) فقال: من لم تنهه صلاته عن
الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ". وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا ". وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من لم تنهه صلاته عن
205

الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " وفي لفظ " لم يزدد بها من الله إلا بعدا ". وأخرج الخطيب عن ابن عمر مرفوعا نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا نحوه. قال السيوطي: وسنده ضعيف.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن جرير وابن المنذر والطبراني في الشعب عنه نحوه موقوفا. قال ابن
كثير في تفسيره: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولذكر الله أكبر) يقول: ولذكر الله
لعباده إذا ذكروه أكبر من ذكرهم إياه. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن ربيعة قال: سألني ابن عباس عن قول الله (ولذكر
الله أكبر) فقلت: ذكر الله بالتسبيح والتهليل والتكبير قال: لذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، ثم قال:
اذكروني أذكركم. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن جرير عن ابن مسعود (ولذكر
الله أكبر) قال: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله. وأخرج ابن السني وابن مردويه والديلمي عن ابن عمر
نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: لها وجهان: ذكر الله أكبر مما
سواه، وفي لفظ: ذكر الله عندما حرمه وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه. وأخرج أحمد في الزهد وابن
المنذر عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل
الله؟ قال: ولا أن يضرب بسيفه حتى يتقطع، لأن الله يقول في كتابه العزيز (ولذكر الله أكبر). وأخرج سعيد
ابن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن عنترة قال: قلت لابن عباس أي
العمل أفضل؟ قال: ذكر الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن)
قال: بلا إله إلا الله. وأخرج البخاري والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن
أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم،
وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ". وأخرج البيهقي في الشعب والديلمي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن
جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ فإنهم لن
يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تصدقوا بباطل، أو تكذبوا بحق، والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا
أن يتبعني ". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن ابن مسعود قال: " لا تسألوا أهل الكتاب، وذكر نحو حديث
جابر، ثم قال: فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه ".
206

قوله (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والإشارة إلى مصدر
الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة: أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا إليك الكتاب، وهو القرآن، وقيل المعنى:
كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن (فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله
ابن سلام، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه وجحدهم لصفات
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المذكورة فيه (ومن هؤلاء من يؤمن به) الإشارة إلى أهل مكة، والمراد أن
منهم، وهو من قد أسلم من يؤمن به: أي بالقرآن. وقيل الإشارة إلى جميع العرب (وما يجحد بآياتنا) أي آيات
القرآن (إلا الكافرون) المصممون على كفرهم من المشركين وأهل الكتاب (وما كنت تتلوا من قبله من كتاب)
الضمير في قبله راجع إلى القرآن لأنه المراد بقوله أنزلنا إليك الكتاب: أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتابا ولا
تقدر على ذلك لأنك أمي لا تقرأ ولا تكتب (ولا تخطه بيمينك) أي ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة. قال مجاهد:
كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية. قال
النحاس: وذلك دليل على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار
الأنبياء والأمم (إذا لارتاب المبطلون) أي لو كانت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من
كتب الله السابقة أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أميا لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة
ولا محل للشك أبدا، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر مجرد عناد وجحود بلا شبهة، وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم
على تقدير أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ويكتب ظلم منهم لظهور نزاهته ووضوح معجزاته (بل هو آيات بينات)
يعني القرآن (في صدور الذين أوتوا العلم) يعني المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده صلى الله عليه وآله وسلم
وحفظوه بعده، وقال قتادة ومقاتل: إن الضمير يرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي بل محمد آيات
بينات: أي ذو آيات. وقرأ ابن مسعود " بل هي آيات بينات " قال الفراء: معنى هذه القراءة: بل آيات القرآن
آيات بينات. واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع " بل هذا آيات
بينات " ولا دليل في هذه القراءة على ذلك، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل، والتقدير (وما يجحد بآياتنا إلا
الظالمون) أي المجاوزون للحد في الظلم (وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه) أي قال المشركون هذا القول،
والمعنى: هلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء، وذلك كآيات موسى وناقة صالح وإحياء المسيح للموتى، ثم
أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال (قل إنما الآيات عند الله) ينزلها على من يشاء من عباده ولا قدرة لأحد على
207

ذلك (وإنما أنا نذير مبين) أنذركم كما أمرت وأبين لكم كما ينبغي، ليس في قدرتي غير ذلك. قرأ ابن كثير وأبو بكر
وحمزة والكسائي " لولا أنزل عليه آية " بالإفراد. وقرأ الباقون بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله " قل إنما
الآيات " (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) هذه الجملة مستأنفة للرد على اقتراحهم وبيان بطلانه.
أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة
منه فعجزوا، ولو أتيتهم بآيات موسى وآيات غيره من الأنبياء لما آمنوا، كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في
كل زمان ومكان (إن في ذلك) الإشارة إلى الكتاب الموصوف بما ذكر (لرحمة) عظيمة في الدنيا والآخرة (وذكرى)
في الدنيا يتذكرون بها وترشدهم إلى الحق (لقوم يؤمنون) أي لقوم يصدقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم
الذين ينتفعون بذلك (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) أي قل للمكذبين كفى الله شهيدا بما وقع بيني وبينكم (يعلم
ما في السماوات والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله (والذين آمنوا
بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) أي آمنوا بما يعبدونه من دون الله وكفروا بالحق وهو الله سبحانه،
أولئك هم الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة (ويستعجلونك بالعذاب) استهزاء وتكذيبا منهم بذلك كقولهم
- أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم - (ولولا أجل مسمى) قد جعله الله لعذابهم وعينه، وهو
القيامة، وقال الضحاك: الأجل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب (لجاءهم العذاب) أي لولا ذلك
الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم. وقيل المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى، وقيل
الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر يوم بدر. والحاصل أن لك عذاب أجلا لا يتقدم عليه ولا
يتأخر عنه كما في قوله سبحانه - لكل نبأ مستقر - وجملة (وليأتينهم بغتة) مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور
قبلها، ومعنى بغتة فجأة، وجملة (وهم لا يشعرون) في محل نصب على الحال: أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه،
ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار فقال (يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي يطلبون منك
تعجيل عذابهم والحال أن مكان العذاب محيط بهم: أي سيحيط بهم عن قرب، فإن ما هو آت قريب، والمراد
بالكافرين جنسهم فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولا أوليا، فقوله (ويستعجلونك بالعذاب) إخبار عنهم،
وقوله ثانيا (يستعجلونك بالعذاب تعجب) منهم، وقيل التكرير للتأكيد. ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب
بهم فقال (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) أي من جميع جهاتهم فإذا غشيهم العذاب على هذه
الصفة فقد أحاطت بهم جهنم (ونقول ذوقوا ما كنتم تعملون) القائل هو الله سبحانه أو بعض ملائكته يأمره: أي
ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي. قرأ أهل المدينة والكوفة " نقول " بالنون. وقرأ الباقون
بالتحتية، واختار القراءة الأخيرة أبو عبيد لقوله (قل كفى بالله) وقرأ ابن مسعود وابن أبي عبلة " ويقال ذوقوا ".
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والإسماعيلي في معجمه عن ابن عباس في قوله (وما كنت
تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ولا يكتب
كان أميا، وفي قوله (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) قال: كان الله أنزل شأن محمد في التوراة
والإنجيل لأهل العلم وعلمه لهم وجعله لهم آية فقال لهم: إن آية نبوته أن يخرج حين يخرج ولا يعلم كتابا ولا يخطه
بيمينه، وهي الآيات البينات التي قال الله تعالى. وأخرج البيهقي في سننه عن ابن مسعود في قوله (وما كنت
208

تتلوا من قبله من كتاب) الآية قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ ولا يكتب. وأخرج الفريابي والدارمي
وأبو داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين
بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " كفى بقوم حمقا أو ضلالة
أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم " فنزلت (أو لم يكفهم) الآية. وأخرجه الإسماعيلي
في معجمه وابن مردويه من طريق يحيى بن جعدة عن أبي هريرة فذكره بمعناه. وأخرج عبد الرزاق في المصنف
والبيهقي في الشعب عن الزهري " أن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب من قصص يوسف
في كتف، فجعلت تقرؤه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يتلون وجهه فقال: والذي نفسي بيده لو أتاكم
يوسف وأنا نبيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ". وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن الضريس والحاكم في
الكنى والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير
وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحرث لعمر: أما ترى وجه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال عمر: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، فسرى عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين وأنتم حظكم
من الأمم ". وأخرج نحوه عبد الرزاق والبيهقي من طريق أبي قلابة عن عمر. وأخرج البيهقي وصححه عن عمر بن
الخطاب قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تعلم التوراة فقال: لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا
ما أنزل إليكم وآمنوا به ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) قال:
جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكون فيه الشمس والقمر ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي
هذا نكارة شديدة، فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها
الكتاب والسنة.
209

لما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار
اشتد عنادهم، وزاد فسادهم، وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه (يا عبادي الذين آمنوا)
أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفا وتكريما، والذين آمنوا صفة موضحة أو مميزة (إن أرضي واسعة إن كنتم
في ضيق بمكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فأخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي وتتسهل رسول عليكم.
قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا يمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على من كان في بلد يعمل فيها
بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ له أن يعبد الله حق عبادته. وقال مطرف بن الشخير:
المعنى إن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع فابتغوه في الأرض. وقيل المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة
فاعبدون حتى أورثكموها. وانتصاب إياي بفعل مضمر: أي فاعبدوا إياي. ثم خوفهم سبحانه بالموت ليهون
عليهم أمر الهجرة فقال (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) أي كل نفس من النفوس واجدة مرارة الموت
لا محالة، فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان، ثم إلى الله المرجع بالموت والبعث لا إلى
غيره، فكل حي في سفر إلى دار القرار وإن طال لبثه في هذه الدار (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من
الجنة غرفا) في هذا الترغيب إلى الهجرة، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة ومعنى " لنبوئنهم " لننزلنهم غرف
الجنة، وهي علاليها: فانتصاب غرفا على أنه المفعول الثاني على تضمين نبوتهم معنى ننزلنهم أو على الظرفية مع
عدم التضمين، لأن نبوتهم لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. وإما منصوب بنزع الخافض اتساعا: أي في غرف
الجنة، وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال. قرأ أبو عمرو ويعقوب والجحدري وابن أبي إسحاق وابن محيصن
والأعمش وحمزة والكسائي وخلف " يا عبادي " بإسكان الياء وفتحها الباقون. وقرأ ابن عامر " إن أرضي " بفتح
الياء، وسكنها الباقون. وقرأ السلمي وأبو بكر عن عاصم " يرجعون " بالتحتية، وقرأ الباقون بالفوقية. وقرأ ابن
مسعود والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي " لنثوينهم " بالثاء المثلثة مكان الباء الموحدة. وقرأ الباقون بالباء
الموحدة، ومعنى لنثوينهم بالمثلثة: لنعطينهم غرفا يثوون فيها من الثوى وهو الإقامة. قال الزجاج: يقال ثوى
الرجل: إذا أقام، وأثويته: إذا أنزلته منزلا يقيم فيه. قال الأخفش: لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول أثويته
الدار، بل تقول في الدار، وليس في الآية حرف جر في المفعول الثاني. قال أبو علي الفارسي: هو على إرادة حرف
الجر، ثم حذف كما تقول أمرتك الخير: أي بالخير. ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال (تجري من تحتها الأنهار)
210

أي من تحت الغرف (خالدين فيها) أي في الغرف لا يموتون أبدا، أو في الجنة، والأول أولى (نعم أجر العاملين)
المخصوص بالمدح محذوف: أي نعم أجر العاملين أجرهم، والمعنى: العاملين للأعمال الصالحة. ثم وصف هؤلاء
العاملين فقال (الذين صبروا) على مشاق التكليف وعلى أذية المشركين لهم، ويجوز أن يكون منصوبا على المدح
(وعلى ربهم يتوكلون) أي يفوضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام. ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر
والتوكل، وهو النظر في حال الدواب فقال (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم) فقد تقدم الكلام
في كأين، وأن أصلها أي دخلت عليها كاف التشبيه وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه، وتقديرها
عندهما كشئ كثير من العدد من دابة. وقيل المعنى: وكم من دابة. ومعنى " لا تحمل رزقها " لا تطيق حمل رزقها
لضعفها ولا تدخره، وإنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم فكيف لا يتوكلون على الله مع قوتهم وقدرتهم على
أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. قال الحسن: تأكل لوقتها، لا تدخر شيئا. قال مجاهد:
يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئا (وهو السميع) الذي يسمع كل مسموع (العليم) بكل معلوم.
ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم وعجب السامع من كونهم يقرون بأنه خالقهم ورازقهم
ولا يوحدونه ويتركون عبادة غيره فقال (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن
الله) أي خلقها، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يتمكنون من جحوده (فأنى يؤفكون) أي فكيف يصرفون عن
الإقرار بتفرده بالإلهية، وأنه وحده لا شريك له، والاستفهام للإنكار والاستبعاد. ولما قال المشركون لبعض
المؤمنين: لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع سبحانه ذلك بقوله (الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له)
أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض يبسطه لمن يشاء ويضيقه على من يشاء على حسب
ما تقتضيه حكمته، وما يليق بحال عباده من القبض والبسط، ولهذا قال (إن الله بكل شئ عليم) يعلم ما فيه صلاح
عباده وفسادهم (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) أي نزله وأحيا به
الأرض الله،: يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلا. ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات، وهو
يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة، أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحمد
الله على إقرارهم وعدم جحودهم مع تصلبهم في العناد وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله من التوحيد فقال
(قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون) أي احمد الله على أن جعل الحق معك، وأظهر حجرك عليهم، ثم ذمهم فقال
(بل أكثرهم لا يعقلون) الأشياء التي يتعقلها العقلاء. فلذلك لا يعملون بمقتضى ما عترفوا به مما يستلزم بطلان ما هم
عليه عند كل عاقل. ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وأنها من جنس اللعب واللهو: وأن الدار على الحقيقة هي دار
الآخرة فقال (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولهب) من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به (وإن الدار الآخرة لهي
الحيوان). قال ابن قتيبة وأبو عبيدة: إن الحيوان الحياة. قال الواحدي: وهو قول جميع المفسرين ذهبوا إلى أن
معنى الحيوان ههنا الحياة، وأنه مصدر بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان ويكون التقدير: وإن الدار الآخرة
لهي دار الحيوان، أو ذات الحيوان: أي دار الحياة الباقية التي لا تزول ولا ينغصها موت ولا مرض، ولا هم ولا
غم (لو كانوا يعلمون) شيئا من العلم لما آثروا عليها الدار الفانية المنغصة. ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من
الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) أي إذا انقطع رجاؤهم من
الحياة وخافوا الغرق رجعوا إلى الفطرة، فدعوا الله وحده كائنين على صورة المخلصين له الدين بصدق نياتهم،
وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه (فلما نجاهم
211

إلى البر إذا هم يشركون) أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك، ودعوا غير الله سبحانه. والركوب هو الاستعلاء، وهو
متعد بنفسه، وإنما عدي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة، واللام في (ليكفروا بما
آتيناهم) وفي قوله (وليتمتعوا) للتعليل: أي فاجئوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين
لام كي، وقيل هما لاما الأمر تهديدا ووعيدا: أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا، ويدل على هذه
القراءة قراءة أبي " وتمتعوا " وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر
اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وفي قوله (فسوف يعلمون) تهديد عظيم لهم:
أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) أي ألم ينظروا: يعني كفار
قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرما آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية
مما صار فيه غيرهم من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود،
وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها، وجملة (ويتخطف الناس من حولهم) في محل نصب على
الحال: أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب، والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في
سورة القصص (أفبالباطل يؤمنون) وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد (وبنعمة
الله يكفرون) يجعلون كفرها مكان شكرها، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ مالا يقادر قدره (ومن أظلم
ممن افترى على الله كذبا) أي لا أحد أظلم منه، وهو من زعم أن الله شريكا (أو كذب بالحق لما جاءه) أي كذب
بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: كذب بالتوحيد، والظاهر شموله لما
يصدق عليه أنه حق. ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال: أليس في جهنم مثوى للكافرين (أي مكان يستقرون فيه،
والاستفهام للتقرير، والمعنى: أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا. ثم لما ذكر حال المشركين
الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين، فقال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أي
جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا: أي الطريق الموصل إلينا. قال ابن
عطية: هي مكية نزلت قبل فرض الجياد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقيل: الآية
هذه نزلت في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون (وإن الله لمع المحسنين) بالنصر
والعون، ومن كان معه لم يخذل، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسما، أو على أنها حرف ودخلت
عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول: ان زيدا لفي الدار، والبحث مقرر في علم النحو.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لما نزلت هذه
الآية - إنك ميت وإنهم ميتون - قلت يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت - كل نفس ذائقة
الموت ثم إلينا ترجعون - ". وينظر كيف صحة هذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يسمع قول الله
سبحانه - إنك ميت وانهم ميتون - يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء
فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه علي رضي الله عنه من قوله " أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء " فلعل هذه
الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر، قال
السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان
المدينة، فجعل يلتقط التمر ويأكل، فقال لي: مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه
وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر،
212

فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعف اليقين. قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى
نزلت (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يأمرني بكنز
الدنيا ولا باتباع الشهوات، إلا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما، ولا أخبأ رزقا لغد ". وهذا الحديث فيه نكارة
شديدة لمخالفته لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب
الحديث المعتبرة. وفي إسناده أبو العطوف الجوزي وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس (وان الدار الآخرة لهي الحيوان) قال: باقية. وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب عن
أبي جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو
يسعى لدار الغرور " وهو مرسل.
تفسير سورة الروم
هي ستون اية، قال القرطبي كلها مكية بلا خلاف
وأخرج ابن الضرير والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة
الروم بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد. قال السيوطي بسند حسن عن
رجل من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ فيهم سورة الروم. وأخرج
البزار عن الأغر المدني مثله. وأخرج عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك بن عمير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وأحمد وابن قانع من طريق عبد الملك بن
عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة وزاد يتردد فيها، فلما انصرف قال: إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم
يحضرون الصلاة بغير طهور، من شهد الصلاة فليحسن الطهور.
213

قد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة في فاتحة سورة البقرة وتقدم الكلام على محلها من الإعراب ومحل أمثالها
في غير موضع من فواتح السور، قرأ الجمهور: غلبت الروم بضم الغين المعجمة وكسر اللام مبنيا للمفعول، وقرأ
علي بن أبي طالب وأبو سعيد الخدري ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام بفتح الغين واللام مبنيا للفاعل. قال
النحاس: قراءة أكثر الناس (غلبت) بضم الغين وكسر اللام. قال أهل التفسير: غلبت فارس الروم ففرح بذلك
كفار مكة وقالوا: الذين ليس لهم كتاب غلبوا الذين لهم كتاب، وافتخروا على المسلمين وقالوا: نحن أيضا
نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. ومعنى (في
أدنى الأرض) في أقرب أرضهم من أرض العرب، أو في أقرب أرض العرب منهم، قيل هي أرض الجزيرة،
وقيل أذرعات، وقيل كسكر، وقيل الأردن، وقيل فلسطين، وهذه المواضع هي أقرب إلى بلاد العرب من
غيرها، وإنما حملت الأرض على أرض العرب لأنها المعهود في ألسنتهم إذا أطلقوا الأرض أرادوا بها جزيرة العرب
وقيل إن الألف واللام عوض عن المضاف إليه، والتقدير: في أدنى أرضهم فيعود الضمير إلى الروم، ويكون
المعنى: في أقرب أرض الروم من العرب. قال ابن عطية: إن كانت الوقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض
بالقياس إلى مكة، وإن كانت الوقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي
أدنى إلى أرض الروم (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) أي والروم من بعد غلب فارس إياهم سيغلبون أهل فارس،
والغلب والغلبة لغتان، والمصدر مضاف إلى المفعول على قراءة الجمهور، وإلى الفاعل على قراءة غيرهم. قرأ
الجمهور " سيغلبون " مبنيا للفاعل وقرأ علي وأبو سعيد ومعاوية بن قرة وابن عمر وأهل الشام على البناء للمفعول،
وسيأتي في آخر البحث ما يقوي قراءة الجمهور في الموضعين. وقرأ أبو حياة الشامي وابن السميفع " من بعد غلبهم "
بسكون اللام (في بضع سنين) متعلق بما قبله، وقد تقدم تفسير البضع واشتقاقه في سورة يوسف، والمراد به هنا
ما بين الثلاثة إلى العشرة (لله الأمر من قبل ومن بعد) أي هو المنفرد بالقدرة وإنقاذ الأحكام وقت مغلوبيتهم ووقت
غالبيتهم، فكل ذلك بأمر الله سبحانه وقضائه، قرأ الجمهور " من قبل ومن بعد " بضمهما لكونهما مقطوعين عن
الإضافة، والتقدير: من قبل الغلب ومن بعده، أو من قبل كل أمر ومن بعده. وحكى الكسائي من قبل ومن
بعد بكسر الأول منونا وضم الثاني بلا تنوين. وحكى الفراء من قبل ومن بعد بكسرهما من غير تنوين، وغلطه
النحاس. قال شهاب الدين: قد قرئ بكسرهما منونين. قال الزجاج: ومعنى الآية: من متقدم ومن متأخر
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي يوم أن تغلب الروم على فارس في بضع سنين يفرح المؤمنون بنصر الله
للروم لكونهم أهل كتاب كما أن المسلمين أهل كتاب، بخلاف فارس فإنه لا كتاب لهم، ولهذا سر المشركون
بنصرهم على الروم، وقيل نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم على فارس،
والأول أولى. قال الزجاج: وهذه الآية من الآيات التي تدل على أن القرآن من عند الله لأنه إنباء بما سيكون،
وهذا لا يعلمه إلا الله سبحانه (ينصر من يشاء) أن ينصره (وهو العزيز) الغالب القاهر (الرحيم) الكثير الرحمة لعباده
المؤمنين، وقيل المراد بالرحمة هنا: الدنيوية، وهي شاملة للمسلم والكفر (وعد الله لا يخلف الله وعده) أي وعد
الله وعدا لا يخلفه، وهو ظهور الروم على فارس (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن الله لا يخلف وعده، وهم
214

الكفار، وقيل كفار مكة على الخصوص (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) أي يعلمون ظاهر ما يشاهدونه من
زخارف الدنيا وملاذها وأمر معاشهم وأسباب تحصيل فوائدهم الدنيوية، وقيل هو ما تلقيه الشياطين إليهم من أمور
الدنيا عند استراقهم السمع، وقيل الظاهر الباطل (وهم عن الآخرة) التي هي النعمة الدائمة، واللذة الخالصة (هم
غافلون) لا يلتفتون إليها ولا يعدون لها ما يحتاج إليه. أو غافلون عن الإيمان بها والتصديق بمجيئها (أو لم يتفكروا
في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما) الهمزة للانكار عليهم والواو للعطف على مقدر كما في نظائره،
وفي أنفسهم ظرف للتفكر وليس مفعولا للتفكر والمعنى: أن أسباب التفكر حاصلة لهم، وهي أنفسهم لو
تفكروا فيها كما ينبغي لعلموا وحدانية الله وصدق أنبيائه، وقيل إنها مفعول للتفكر. والمعنى: أو لم يتفكروا في خلق
الله إياهم ولم يكونوا شيئا، و " ما " في " ما خلق الله " نافية: أي لم يخلقها إلا بالحق الثابت الذي يحق ثبوته أو هي اسم
في محل نصب على إسقاط الخافض: أي بما خلق الله والعامل فيها إما العلم الذي يؤدي إليه التفكر. وقال الزجاج: في
الكلام حذف: أي فيعلموا، فجعل ما معمولة للفعل المقدر لا للعلم المدلول عليه، والباء في (إلا بالحق) إما
للسببية، أو هي ومجرورها في محل نصب على الحال: أي ملتبسة بالحق. قال الفراء: معناه إلا للحق: أي
للثواب والعقاب، وقيل بالحق بالعدل، وقيل بالحكمة، وقيل بالحق: أي أنه هو الحق وللحق خلقها (وأجل
مسمى) معطف على الحق: أي وبأجل مسمى للسموات والأرض وما بينهما تنتهي إليه، وهو يوم القيامة، وفي
هذا تنبيه على الفناء، وأن لكل مخلوق أجلا لا يجاوزه. وقيل معنى (وأجل مسمى) أنه خلق ما خلق في وقت سماه
لخلق ذلك الشئ (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) أي الكافرون بالبعث بعد الموت، واللام هي
المؤكدة، والمراد بهؤلاء الكفار على الإطلاق، أو كفار مكة (أو لم يسيروا في الأرض) الاستفهام للتقريع
والتوبيخ لعدم تفكرهم في الآثار وتأملهم لمواقع الاعتبار، والفاء في (فينظروا) للعطف على يسيروا داخل تحت
ما تضمنه الاستفهام من التقريع والتوبيخ، والمعنى: أنهم قد ساروا وشاهدوا (كيف كان عاقبة الذين من قبلهم)
من طوائف الكفار الذين أهلكهم الله بسبب كفرهم بالله وجحودهم للحق وتكذيبهم للرسل، وجملة (كانوا أشد
منهم قوة) مبينة للكيفية التي كانوا عليها، وأنهم أقدر من كفار مكة ومن تابعهم على الأمور الدنيوية، ومعنى
(وأثاروا الأرض) حرثوها وقلبوها للزراعة وزاولوا إلى أسباب ذلك ولم يكن أهل مكة أهل حرث (وعمروها أكثر
مما عمروها) أي عمروها عمارة أكثر مما عمرها هؤلاء، لأن أولئك كانوا أطول منهم أعمارا، وأقوى أجساما،
وأكثر تحصيلا لأسباب المعاش، فعمروا الأرض بالأبنية والزراعة والغرس (وجاءتهم رسلهم) بالبينات أي
المعجزات، وقيل بالأحكام الشرعية (فما كان الله ليظلمهم) بتعذيبهم على غير ذنب (ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون) بالكفر والتكذيب (ثم كان عاقبة الذين أساءوا) أي علموا السيئات من الشرك والمعاصي (السوآي) هي
فعلى من السوء تأنيث الأسوأ، وهو الأقبح: أي كان عاقبتهم العقوبة التي هي أسوأ العقوبات، وقيل هي اسم
لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، ويجوز أن تكون مصدرا كالبشرى والذكرى، وصفت به العقوبة مبالغة. قرأ
نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاقبة بالرفع على أنها اسم كان، وتذكير الفعل لكون تأنيثها مجازيا، والخبر السوآي:
أي الفعلة أو الخصلة أو العقوبة السوآي أو الخبر (أن كذبوا) أي كان آخر أمرهم التكذيب، وقرأ الباقون " عاقبة "
بالنصب على خبر كان والاسم السويء، أو أن كذبوا، ويكون التقدير: ثم كان التكذيب عاقبة الذين أساءوا،
والسوآي مصدر أساءوا أو صفة لمحذوف. وقال الكسائي: إن قوله (أن كذبوا) في محل نصب على العلة: أي لأن
كذبوا بآيات الله التي أنزلها على رسله، أو بأن كذبوا، ومن القائلين بأن السوآي جهنم. الفراء والزجاج وابن قتيبة
215

وأكثر المفسرين، وسميت سوآي لكونها تسوء صاحبها. قال الزجاج: المعنى ثم كان عاقبة الذين أشركوا النار
بتكذيبهم آيات الله واستهزائهم، وجملة (وكانوا بها يستهزءون) عطف على كذبوا داخلة معه في حكم العلية على
أحد القولين، أو في حكم الاسمية لكان، أو الخبرية لها على القول الآخر.
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه،
وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله (ألم غلبت الروم) قال: كان المشركون
يحبون أن تظهر فارس على الروم، لأنهم كانوا أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس
لأنهم أصحاب كتاب، فذكروه لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " أما إنهم سيغلبون " فذكره أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان
لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل بينهم أجلا خمس سنين فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر
لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: ألا جعلته أراه قال دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك
قوله (ألم غلبت الروم) فغلبت، ثم غلبت بعد بقول الله (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر
الله) قال سفيان: سمعت أنهم ظهروا عليهم يوم بدر. وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر
عن البراء بن عازب نحوه، وزاد أنه لما مضى الأجل ولم تغلب الروم فارسا، ساء النبي ما جعله أبو بكر من المدة
وكرهه وقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: تصديقا لله ولرسوله فقال: تعرض لهم وأعظم الخطة واجعله إلى بضع
سنين، فأتاهم أبو بكر فقال: هل لكم في العود فإن العود أحمد؟ قالوا نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غلبت
الروم فارسا وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا رومية، فقمر أبو بكر فجاء به أبو بكر يحمله إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، فقال: هذا السحت تصدق به. وأخرج الترمذي وصححه والدارقطني في الأفراد والطبراني
وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والبيهقي في الشعب عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت (ألم غلبت الروم)
الآية كانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين الروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم، لأنهم وإياهم
أهل الكتاب، وفي ذلك يقول الله (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) وكانت قريش تحب ظهور فارس لأنهم
وإياهم ليسوا أهل الكتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة (ألم غلبت
الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) فقال ناس من قريش لأبي بكر: ذلك بيننا
وبينكم يزعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى، وذلك قبل تحريم
الرهان، فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: لم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع
سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، فمضت الست قبل أن يظهروا، فأخذ
المشركون رهن أبي بكر، فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم، فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست
سنين لأن الله قال (في بضع سنين) فأسلم عند ذلك ناس كثير. وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لأبي بكر: لا احتطت يا أبا بكر، فإن البضع ما بين ثلاث
إلى تسع ". وأخرج البخاري عنه في تاريخه نحوه. وأخرج الفريابي والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهر الروم على فارس، فأعجب ذلك المؤمنين،
فنزلت (ألم غلبت الروم) قرأها بالنصب: يعني للغين على البناء للفاعل إلى قوله (يفرح المؤمنون بنصر الله). قال:
ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس، وهذه الرواية مفسرة لقراءة أبي سعيد ومن معه. وأخرج الحاكم وصححه
216

عن أبي الدرداء قال: سيجيء أقوام يقرءون (ألم غلبت الروم) يعني بفتح الغين، وإنما هي غلبت: يعني
بضمها، وفي الباب روايات وما ذكرناه يغني عما سواه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس
(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا) يعني معايشهم متى يغرسون، ومتى يزرعون، ومتى يحصدون. وأخرج ابن
مردويه عن ابن عمر في قوله (كانوا أشد منهم قوة) قال: كان الرجل ممن كان قبلكم بين منكبيه ميل.
قوله (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي يخلقهم أولا، ثم يعيدهم بعد الموت أحياء كما كانوا (ثم إليه ترجعون)
إلى موقف الحساب، فيجازي المحسن بإحسانه والمسئ بإساءته، وأفرد الضمير في يعيده باعتبار لفظ الخلق،
وجمعه في ترجعون باعتبار معناه. قرأ أبو بكر وأبو عمرو " يرجعون " بالتحتية. وقرأ الباقون بالفوقية على الخطاب
217

والالتفات المؤذن بالمبالغة (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) قرأ الجمهور " يبلس " على البناء للفاعل. وقرأ السلمي
على البناء للمفعول، يقال أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته. قال الفراء والزجاج: المبلس الساكت
المنقطع في حجته الذي أيس أن يهتدى إليها، ومنه يقول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا * قال نعم أعرفه وأبلسا
وقال الكلبي: أي يئس المشركون من كل خير حين عاينوا العذاب، وقد قدمنا تفسير الإبلاس عند قول
- فإذا هم مبلسون - (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) أي لم يكن للمشركين يوم تقوم الساعة من شركائهم الذين
عبدوهم من دون الله شفعاء يجيرونهم من عذاب الله (وكانوا) في ذلك الوقت (بشركائهم) أي بآلهتهم الذين
جعلوهم شركاء لله (كافرين) أي جاحدين لكونهم آلهة لأنهم علموا إذ ذاك أنهم لا ينفعون ولا يضرون، وقيل
إن معنى الآية: كانوا في الدنيا كافرين بسبب عبادتهم، والأول أولى (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) أي
يتفرق جميع الخلق المدلول عليهم بقوله (الله يبدأ الخلق) والمراد بالتفرق أن كل طائفة تنفرد، فالمؤمنون يصيرون
إلى الجنة، والكافرون إلى النار، وليس المراد تفرق كل فرد منهم عن الآخر، ومثله قوله تعالى - فريق في الجنة وفريق
في السعير - وذلك بعد تمام الحساب فلا يجتمعون أبدا. ثم بين سبحانه كيفية تفرقهم فقال (فأما الذين آمنوا وعملوا
الصالحات فهم في روضة يحبرون) قال النحاس: سمعت الزجاج يقول معنى " أما " دع ما كنا فيه وخذ في غيره،
وكذا قال سيبويه: إن معناها: مهما يكن من شئ فخذ في غير ما كنا فيه، والروضة كل أرض ذات نبات.
قال المفسرون: والمراد بها هنا الجنة، ومعنى يحبرون يسرون، والحبور والحبرة السرور: أي فهم في رياض
الجنة ينعمون. قال أبو عبيد: الروضة ما كان في سفل، فإذا كان مرتفعا فهو ترعه. وقال غيره: أحسن ما تكون
الروضة إذا كانت في مكان مرتفع، ومنه قول الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبة * خضراء جاد عليها مسبل هطل
وقيل معنى " يحبرون " يكرمون. قال النحاس: حكى الكسائي حبرته: أي أكرمته ونعمته، والأولى تفسير
يحبرون بالسرور كما هو المعنى العربي، ونفس دخول الجنة يستلزم الإكرام والنعيم، وفي السرور زيادة على
ذلك. وقيل التحبير التحسين فمعنى يحبرون يحسن إليهم، وقيل هو السماع الذي يسمعونه في الجنة، وقيل غير
ذلك، والوجه ما ذكرناه (وأما الذين كفروا) بالله (وكذبوا بآياتنا) وكذبوا ب (لقاء الآخرة) أي البعث والجنة
والنار، والإشارة بقوله (فأولئك) إلى المتصفين بهذه الصفات، وهو مبتدأ وخبره (في العذاب محضرون) أي
مقيمون فيه، وقيل مجموعون، وقيل نازلون، وقيل معذبون، والمعاني متقاربة، والمراد دوام عذابهم. ثم لما
بين عاقبة طائفة المؤمنين وطائفة الكافرين أرشد المؤمنين إلى ما فيه الأجر الوافر والخير العام فقال (فسبحان الله
حين تمسون وحين تصبحون) والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فإذا علمتم ذلك فسبحوا الله: أي نزهوه عما
لا يليق به في وقت الصباح والمساء وفي العشي وفي وقت الظهيرة. وقيل المراد بالتسبيح هنا الصلوات الخمس،
فقوله " حين تمسون " صلاة المغرب والعشاء، وقوله " وحين تصبحون " صلاة الفجر، وقوله " وعشيا " صلاة
العصر، وقوله " وحين تظهرون " صلاة الظهر، كذا قال الضحاك وسعيد بن جبير وغيرهما. قال الواحدي: قال
المفسرون: إن معنى " فسبحان الله " فصلوا لله. قال النحاس: أهل التفسير على أن هذه الآية في الصلوات قال:
وسمعت محمد بن يزيد يقول: حقيقته عندي فسبحوا الله في الصلوات، لأن التسبيح يكون في الصلاة، وجملة
(وله الحمد في السماوات والأرض) معترضة مسوقة للإرشاد إلى الحمد والإيذان بمشروعية الجمع بينه وبين
218

التسبيح كما في قوله سبحانه - فسبح بحمد ربك - وقوله - ونحن نسبح بحمدك - وقيل معنى وله الحمد: أي
الاختصاص له بالصلاة التي يقرأ فيها الحمد، والأول أولى. وقرأ عكرمة " حينا تمسون وحينا تصبحون " والمعنى:
حينا تمسون فيه وحينا تصبحون فيه والعشي من صلاة المغرب إلى العتمة. قال الجوهري، وقال قوم: هو من
زوال الشمس إلى طلوع الفجر، ومنه قول الشاعر:
غدونا غدوة سحرا بليل * عشيا بعد ما انتصف النهار
وقوله (عشيا) معطوف على حين، وفي السماوات متعلق بنفس الحمد: أي الحمد له يكون في السماوات
والأرض (يخرج الحي من الميت) كالإنسان من النطفة والطير من البيضة (ويخرج الميت من الحي) كالنطفة
والبيضة من الحيوان. وقد سبق بيان هذا في سورة آل عمران. قيل ووجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها أن الإنسان
عند الصباح يخرج من شبه الموت، وهو النوم إلى شبه الوجود، وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى
النوم (ويحيي الأرض بعد موتها) أي يحييها بالنبات بعد موتها باليباس، وهو شبيه بإخراج الحي من الميت (وكذلك
تخرجون) أي ومثل ذلك الإخراج تخرجون من قبوركم. قرأ الجمهور " تخرجون " على البناء للمفعول. وقرأ حمزة
والكسائي على البناء للفاعل، فأسند الخروج إليهم كقوله - يوم يخرجون من الأجداث - (ومن آياته أن خلقكم من
تراب) أي من آياته الباهرة الدالة على البعث أن خلقكم: أي خلق أباكم آدم من تراب وخلقكم في ضمن خلقه،
لأن الفرع مستمد من الأصل ومأخوذ منه، وقد مضى تفسير هذا في الإنعام، وأن في موضع رفع بالابداء ومن
آياته خبره (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) إذا هي الفجائية: أي ثم فاجأتم بعد ذلك وقت كونكم بشرا تنتشرون في
الأرض. وإذا الفجائية وإن كانت أكثر ما تقع بعد الفاء، لكنها وقعت هنا بعد ثم بالنسبة إلى ما يليق بهذه الحالة
الخاصة، وهي أطوار الإنسان كما حكاه الله في مواضع: من كونه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما مكسوا لحما
فاجأ البشرية والانتشار، ومعنى تنتشرون: تنصرفون فيما هو قوام معايشكم (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم
أزواجا) أي ومن علاماته ودلالاته الدالة على البعث أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا: أي من جنسكم في البشرية
والانسانية، وقيل المراد حواء فإنه خلقها من ضلع آدم (لتسكنوا إليها) أي تألفوها وتميلوا إليها، فإن الجنسين
المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر ولا يميل قلبه إليه (وجعل بينكم مودة ورحمة) أي ودادا وترحما بسبب عصمة
النكاح يعطف به بعضكم على بعض من غير أن يكون بينكم قبل ذلك معرفة فضلا عن مودة ورحمة. وقال مجاهد:
المودة الجماع، والرحمة الولد، وبه قال الحسن. وقال السدي: المودة المحبة، والرحمة الشفقة. وقيل المودة
حب الرجل امرأته، والرحمة رحمته إياها من أن يصيبها بسوء. وقوله " أن خلق لكم " في موضع رفع على الابتداء،
ومن آياته خبره (إن في ذلك) المذكور سابقا. (لآيات) عظيمة الشأن بديعة البيان واضحة الدلالة على قدرته
سبحانه على البعث والنشور (لقوم يتفكرون) لأنهم الذين يقتدرون على الاستدلال لكون التفكر مادة له يتحصل
عنه. وأما الغافلون عن التفكر فما هم إلا كالأنعام (ومن آياته خلق السماوات والأرض) فإن من خلق هذه
الأجرام العظيمة التي هي أجرام السماوات والأرض وجعلها باقية ما دامت هذه الدار وخلق فيها من عجائب الصنع
وغرائب التكوين ما هو عبرة للمعتبرين قادر على أن يخلقكم بعد موتكم وينشركم من قبوركم (واختلاف ألسنتكم)
أي لغاتكم من عرب وعجم، وترك، وروم وغير ذلك من اللغات (وألوانكم) من البياض والسواد والحمرة
والصفرة والزرقة والخضرة مع كونكم أولاد رجل واحد وأم واحدة، ويجمعكم نوع واحد وهو الإنسانية،
وفصل واحد وهو الناطقية، حتى صرتم متميزين في ذات بينكم لا يلتبس هذا بهذا، بل في كل فرد من أفرادكم
219

ما يميزه عن غيره من الأفراد، وفي هذا من بديع القدرة مالا يعقله إلا العالمون، ولا يفهمه الا المتفكرون (إن في
ذلك لآيات للعالمين) الذين هم من جنس هذا العالم من غير فرق بين بر وفاجر، قرأ الجمهور بفتح لام العالمين.
وقرأ حفص وحده بكسرها. قال الفراء: وله وجه جيد لأنه قد قال " لآيات لقوم يعقلون - لآيات لأولي الألباب -
وما يعقلها إلا العالمون " (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) قيل في الكلام تقديم وتأخير،
والتقدير: ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار. وقيل المعنى صحيح من دون تقديم وتأخير: أي
ومن آياته العظيمة أنكم تنامون بالليل وتنامون بالنهار في بعض الأحوال للاستراحة كوقت القيلولة وابتغاؤكم من
فضله فيهما، فإن كل واحد منهما يقع فيه ذلك، وإن كان ابتغاء الفضل في النهار أكثر. والأول هو المناسب
لسائر الآيات الواردة في هذا المعنى، والآخر هو المناسب للنظم القرآني هاهنا. ووجه ذكر النوم والابتغاء هاهنا
وجعلهما من جملة الأدلة على البعث أن النوم شبيه بالموت، والتصرف في الحاجات والسعي في المكاسب شبيه
بالحياة بعد الموت (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) أي يسمعون الآيات والمواعظ سماع متفكر متدبر فيستدلون
بذلك على البعث (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا) المعنى: أن يريكم، فحذف أن لدلالة الكلام عليه كما
قال طرفه: ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى * وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
والتقدير: أن أحضر، فلما حذف الحرف في الآية والبيت بطل عمله، ومنه المثل المشهور " تسمع بالمعيدي
خير من أن تراه " وقيل هو على التقديم والتأخير: أي ويريكم البرق من آياته، فيكون من عطف جملة فعليه على
جملة اسمية، ويجوز أن يكون " يريكم " صفة لموصوف محذوف: أي ومن آياته آية يريكم بها وفيها البرق، وقيل
التقدير: ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا من آياته. قال الزجاج: فيكون من عطف جملة على جملة. قال
قتادة: خوفا للمسافر وطمعا للمقيم. وقال الضحاك: خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث. وقال يحيى بن سلام:
خوفا من البرد أن يهلك الزرع، وطمعا في المطر أن يحيي الزرع. وقال ابن بحر: خوفا أن يكون البرق برقا خلبا
لا يمطر، وطمعا أن يكون ممطرا، وأنشد:
لا يكن برقك برقا خلبا * إن خير البرق ما الغيث معه
وانتصاب خوفا وطمعا على العلة (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها) أي يحييها بالنبات بعد
موتها باليباس (إن ذلك لآيات لقوم يعقلون) فإن من له نصيب من العقل يعلم أن ذلك آية يستدل بها على
القدرة الباهرة (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) أي قيامهما واستمساكهما بإرادته سبحانه وقدرته بلا
عمد يعمد هما، ولا مستقر يستقران عليه. قال الفراء: يقول أن تدوما قائمتين بأمره (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض
إذا أنتم تخرجون) أي ثم بعد موتكم ومصيركم في القبور إذا دعاكم دعوة واحدة فاجأتم الخروج منها بسرعة من
غير تلبث ولا توقف، كما يجيب المدعو المطيع دعوة الداعي المطاع. ومن الأرض متعلق بدعا: أي دعاكم من
الأرض التي أنتم فيها، كما يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي، أو متعلق بمحذوف هو صفة لدعوة، أو
متعلق بمحذوف يدل عليه تخرجون: أي خرجتم من الأرض، ولا يجوز أن يتعلق بتخرجون، لأن ما بعد إذ
لا يعمل فيما قبلها، وهذه الدعوة هي نفخة إسرافيل الآخرة في الصور على ما تقدم بيانه، وقد أجمع القراء على فتح
التاء في " تخرجون " هنا، وغلط من قال إنه قرئ هنا بضمها على البناء للمفعول، وإنما قرئ بضمها في الأعراف
(وله من في السماوات والأرض) من جميع المخلوقات ملكا وتصرفا وخلقا، ليس لغيره في ذلك شئ (كل له
قانتون) أي مطيعون طاعة انقياد، وقيل مقرون بالعبودية، وقيل مصلون، وقيل قائمون يوم القيامة كقوله
220

- يوم يقوم الناس لرب العالمين -: أي للحساب، وقيل بالشهادة أنهم عباده، وقيل مخلصون (وهو الذي يبدأ
الخلق ثم يعيده) بعد الموت فيحييه الحياة الدائمة (وهو أهون عليه) أي هين عليه لا يستصعبه، أو أهون عليه
بالنسبة إلى قدرتكم وعلى ما يقوله بعضكم لبعض، وإلا فلا شئ في قدرته بعضه أهون من بعض، بل كل الأشياء
مستوية يوجدها بقوله كن فتكون. قال أبو عبيد: من جعل أهون عبارة عن تفضيل شئ على شئ فقوله
مردود بقوله - وكان ذلك على الله يسيرا - وبقوله - ولا يؤده حفظهما - والعرب تحمل أفعل على فاعل كثيرا كما
في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول
أي عزيزة طويلة، وأنشد أحمد بن يحيى ثعلب على ذلك:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت * فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي لست بواحد، ومثله قول الآخر:
لعمرك إن الزبرقان لباذل * لمعروفه عند السنين وأفضل
أي وفاضل، وقرأ عبد الله بن مسعود " وهو عليه هين " وقال مجاهد وعكرمة والضحاك: إن الإعادة أهون عليه:
أي على الله من البداية: أي أيسر وإن كان جميعه هينا. وقيل المراد أن الإعادة فيما بين الخلق أهون من البداية،
وقيل الضمير في عليه للخلق: أي هو أهون على الخلق لأنه يصاح بهم صيحة واحدة فيقومون ويقال لهم كونوا
فيكونون، فذلك أهون عليهم من أن يكونوا نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى آخر النشأة (وله المثل الأعلى) قال الخليل:
المثل الصفة: أي وله الوصف الأعلى (في السماوات والأرض) كما قال - مثل الجنة التي وعد المتقون - أي صفتها.
وقال مجاهد: المثل الأعلى قول لا إله إلا الله، وبه قال قتادة. وقال الزجاج (وله المثل الأعلى في السماوات
والأرض) أي قوله " وهو أهون عليه " قد ضربه لكم مثلا فيما يصعب ويسهل. وقيل المثل الأعلى هو أنه ليس
كمثله شئ، وقيل هو أن ما أراده كان بقول كن، وفي السماوات والأرض متعلق بمضمون الجملة المتقدمة.
والمعنى: أنه سبحانه عرف بالمثل الأعلى، ووصف به في السماوات والأرض، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على
أنه حال من الأعلى، أو من المثل، أو من الضمير في الأعلى (وهو العزيز) في ملكه القادر الذي لا يغالب (الحكيم)
في أقواله وأفعاله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يبلس) قال: يبتئس. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم (يبلس) قال: يكتئب، وعنه الإبلاس: الفضيحة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن
ابن عباس في قوله (يحبرون) قال: يكرمون. وأخرج الديلمي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " إذا كان يوم القيامة قال الله: أين الذين كانوا ينزهون ‌أسماعهم وأبصارهم عن مزامير الشيطان ميزوهم،
فيميزون في كثب المسك والعنبر، ثم يقول للملائكة: أسمعوهم من تسبيحي وتحميدي وتهليلي، قال: فيسبحون
بأصوات لم يسمع السامعون بمثلها قط ". وأخرج الدينوري في المجالسة عن مجاهد قال: ينادي مناد يوم القيامة
فذكر نحوه، ولم يسم من رواه له عن رسول الله. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والأصبهاني في الترغيب
عن محمد بن المنكدر نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا والضياء المقدسي كلاهما في صفة الجنة، قال السيوطي بسند
صحيح عن ابن عباس قال " في الجنة شجرة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام، فيخرج أهل
الجنة أهل الغرف وغيرهم فيتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك
221

تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا ". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعا نحوه.
وأخرج الفريابي وابن مردويه عن ابن عباس قال " كل تسبيح في القرآن فهو صلاة ". وأخرج عبد الرزاق
والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن أبي رزين قال: جاء نافع بن
الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال نعم، فقرأ (فسبحان الله حين تمسون)
صلاة المغرب (وحين تصبحون) صلاة الصبح (وعشيا) صلاة العصر (وحين تظهرون) صلاة الظهر، وقرأ
- ومن بعد صلاة العشاء -. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت
الصلاة، (فسبحان الله حين تمسون) قال: المغرب والعشاء (وحين تصبحون) الفجر (وعشيا) العصر
(وحين تظهرون) الظهر. وأخرج أحمد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن السني في عمل يوم وليلة،
والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ألا
أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وأمسى: سبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون " وفي إسناده ابن لهيعة. وأخرج أبو داود
والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من قال حين
يصبح (سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) أدرك ما فاته في يومه،
ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته وإسناده ضعيف. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (كل له
قانتون) يقول مطيعون: يعني الحياة والنشور والموت وهم له عاصون فيما سوى ذلك من العبادة. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وهو أهون عليه) قال: أيسر. وأخرج ابن الأنباري
عنه أيضا في قوله (وهو أهون عليه) قال: الإعادة أهون على المخلوق، لأنه يقول له يوم القيامة كن فيكون،
وابتدأ الخلقة من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله
(وله المثل الأعلى) يقول: ليس كمثله شئ.
222

قوله (ضرب لكم مثلا) قد تقدم تحقيق معنى المثل، ومن في (من أنفسكم) لابتداء الغاية وهي ومجرورها
في محل نصب صفة لمثلا: أي مثلا منتزعا ومأخوذا من أنفسكم فإنها أقرب شئ منكم، وأبين من غيرها عندكم،
فإذا ضرب لكم المثل بها في بطلان الشرك كان أظهر دلالة وأعظم وضوحا. ثم بين المثل المذكور فقال (هل لكم
مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم) " من " في مما ملكت للتبعيض، وفي " من شركاء " زائدة للتأكيد، والمعنى
هل لكم شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكت أيمانكم، وهم العبيد والإماء، والاستفهام للإنكار،
وجملة (فأنتم فيه سواء) جواب للاستفهام الذي بمعنى النفي، ومحققه لمعنى الشركة بينهم وبين العبيد والإماء
المملوكين لهم في أموالهم: أي هل ترضون لأنفسكم، والحال أن عبيدكم وإماءكم أمثالكم في البشرية أن يساووكم
في التصرف بما رزقناكم من الأموال، ويشاركوكم فيها من غير فرق بينكم وبينهم (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم)
الكاف نعت مصدر محذوف: أي تخافونهم خيفة كخيفتكم أنفسكم: أي كما تخافون الأحرار المشابهين لكم في
الحرية وملك الأموال وجواز التصرف، والمقصود نفي الأشياء الثلاثة الشركة بينهم وبين المملوكين والاستواء
معهم وخوفهم إياهم. وليس المراد ثبوت الشركة ونفي الاستواء والخوف كما قيل في قولهم: ما تأتينا فتحدثنا.
والمراد: إقامة الحجة على المشركين فإنهم لا بد أن يقولوا لا نرضى بذلك، فيقال لهم فكيف تنزهون أنفسكم عن
مشاركة المملوكين لكم وهم أمثالكم في البشرية، وتجعلون عبيد الله شركاء له؟ فإذا بطلت الشركة بين العبيد
وساداتهم فيما يملكه السادة بطلت الشركة بين الله وبين أحد من خلقه، والخلق كلهم عبيد الله تعالى، ولم يبق إلا
أنه الرب وحده لا شريك له. قرأ الجمهور " أنفسكم " بالنصب على أنه معمول المصدر المضاف إلى فاعله، وقرأ
ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر إلى مفعوله (كذلك نفصل الآيات) تفصيلا واضحا وبيانا جليا (لقوم
يعقلون) لأنهم الذين ينتفعون بالآيات التنزيلية والتكوينية باستعمال عقولهم في تدبرها والتفكر فيها. ثم أضرب
سبحانه عن مخاطبة المشركين وإرشادهم إلى الحق بما ضربه لهم من المثل فقال (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير
علم) أي لم يعقلوا الآيات بل اتبعوا أهواءهم الزائغة، وآراءهم الفاسدة الزائفة، ومحل " بغير علم " النصب على
الحال: أي جاهلين بأنهم على ضلالة (فمن يهدي من أضل الله) أي لا أحد يقدر على هدايته، لأن الرشاد والهداية
بتقدير الله وإرادته (وما لهم من ناصرين) أي ما لهؤلاء الذين أضلهم الله من ناصرين ينصرونهم ويحولون بينهم
وبين عذاب الله سبحانه. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بتوحيده وعبادته كما أمره فقال (فأقم وجهك
للدين حنيفا) شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه وإقباله عليه، وانتصاب حنيفا على الحال من فاعل أقم أو
من مفعوله: أي مائلا إليه مستقيما عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة (فطرت الله التي فطر الناس عليها)
223

الفطرة في الأصل: الخلقة، والمراد بها هنا الملة، وهي الإسلام والتوحيد. قال الواحدي: هذا قول المفسرين في
فطرة الله، والمراد بالناس هنا: الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب
وإن كان خاصا برسول الله فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي باتفاق من أهل التأويل: والأولى حمل الناس على
العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعا مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم فيبقون
بسببها على الكفر كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" ما من مولود إلا يولد على الفطرة ". وفي رواية " على هذه الملة، ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما
تنتج البهيمة بهيمة جمعاء على تحسون فيها من جدعاء؟ " ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم (فطرت الله التي فطر
الناس عليها لا تبديل لخلق الله) وفي رواية " حتى تكونوا أنتم تجدعونها ". وسيأتي في آخر البحث ما ورد معاضدا
لحديث أبي هريرة هذا، فكل فرد من أفراد الناس مفطور: أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان
والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان، وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم، وقول
جماعة من المفسرين وهو الحق. والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف. وقال آخرون:
هي البداءة التي ابتدأهم الله عليها، فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة. والفاطر في كلام العرب هو
المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة وإهمال معناها شرعا. والمعنى الشرعي مقدم على المعنى
اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مرادا بها المعنى
اللغوي كقوله تعالى - الحمد لله فاطر السماوات والأرض - أي خالقهما ومبتديهما، وكقوله - وما لي لا أعبد الذي
فطرني - إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة وهو ما ذكره الأولون كما
بيناه، وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج: فطرة منصوب بمعنى اتبع فطرة
الله، قال: لأن معنى (فأقم وجهك للدين) اتبع الدين واتبع فطرة الله. وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى
" فأقم وجهك " لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين، وقيل هي منصوبة على الإغراء: أي الزموا فطرة الله،
أو عليكم فطرة الله، ورد هذا الوجه أبو حيان وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر إذ هي عوض عن الفعل، فلو
حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه وهو إجحاف. وأجيب بأن هذا رأى البصريين، وأما الكسائي وأتباعه
فيجيزون ذلك وجملة (لا تبديل لخلق الله) تعليل لما قبلها من الأمر بلزوم الفطرة: أي هذه الفطرة التي فطر الله
الناس عليها لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه. وقيل هو نفي معناه النهي: أي لا تبدلوا خلق الله. قال مجاهد
وإبراهيم النخعي: معناه لا تبديل لدين الله. قال قتادة وابن جبير والضحاك وابن زيد: هذا في المعتقدات. وقال
عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق في البهائم بأن تخصي فحولها (ذلك الدين القيم) أي ذلك الدين المأمور بإقامة الوجه
له هو الدين القيم، أو لزوم الفطرة هو الدين القيم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به
(منيبين إليه) أي راجعين إليه بالتوبة والإخلاص، ومطيعين له في أوامره ونواهيه. ومنه قول أبي قيس بن
الأسلت: فإن تابوا فإن بني سليم * وقومهم هوازن قد أنابوا
قال الجوهري: أناب إلى الله: أقبل وتاب، وانتصابه على الحال من فاعل أقم. قال المبرد: لأن معنى أقم
وجهك: أقيموا وجوهكم. قال الفراء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين، وكذا قال الزجاج وقال تقديره:
فأقم وجهك وأمتك، فالحال من الجميع. وجاز حذف المعطوف لدلالة منيبين عليه. وقيل هو منصوب على
القطع، وقيل على أنه خبر لكان محذوفة: أي وكونوا منيبين إليه لدلالة " ولا تكونوا من المشركين " على ذلك.
224

ثم أمرهم سبحانه بالتقوى بعد أمرهم بالإنابة فقال (واتقوه) أي باجتناب معاصيه وهو معطوف على الفعل المقدر
ناصبا لمنيبين (وأقيموا الصلاة) التي أمرتم بها (ولا تكونوا من المشركين) بالله. وقوله (من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا) هو بدل مما قبله بإعادة الجار، والشيع الفرق: أي لا تكونوا من الذين تفرقوا فرقا في الدين يشايع
بعضهم بعضا من أهل البدع والأهواء. وقيل المراد بالذين فرقوا دينهم شيعا اليهود والنصارى. وقرأ حمزة والكسائي
" فارقوا دينهم " ورويت هذه القراءة عن علي بن أبي طالب: أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد.
وقد تقدم تفسير هذه الآية في آخر سورة الأنعام (كل حزب بما لديهم فرحون) أي كل فريق بما لديهم من الدين
المبني على غير الصواب مسرورون مبتهجون يظنون أنهم على الحق وليس بأيديهم منه شئ. وقال الفراء: يجوز
أن يكون قوله " من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " مستأنفا كما يجوز أن يكون متصلا بما قبله (وإذا مس الناس ضر)
أي قحط وشدة (دعوا ربهم) أن يرفع ذلك عنهم واستغاثوا به (منيبين إليه) أي راجعين إليه ملتجئين به لا يعولون
على غيره، وقيل مقبلين عليه بكل قلوبهم (ثم إذا أذاقهم منه رحمة) بإجابة دعائهم ورفع تلك الشدائد عنهم (إذا
فريق منهم بربهم يشركون) إذا هي الفجائية وقعت جواب الشرط لأنها كالفاء في إفادة التعقيب: أي فاجأ فريق
منهم الإشراك وهم الذين دعوه فخلصهم مما كانوا فيه. وهذا الكلام مسوق للتعجيب من أحوالهم وما صاروا عليه
من الاعتراف بوحدانية الله سبحانه عند نزول الشدائد والرجوع إلى الشرك عند رفع ذلك عنهم، واللام في
(ليكفروا بما آتيناهم) هي لام كي، وقيل لام الأمر لقصد الوعيد والتهديد، وقيل هي لام العاقبة. ثم خاطب
سبحانه هؤلاء الذين وقع منهم ما وقع فقال (فتمتعوا فسوف تعلمون) ما يتعقب هذا التمتع الزائل من العذاب الأليم.
قرأ الجمهور " فتمتعوا " على الخطاب. وقرأ أبو العالية بالتحتية على البناء للمفعول، وفي مصحف ابن مسعود
" فليتمتعوا " (أم أنزلنا عليهم سلطانا) أم هي المنقطعة، والاستفهام للإنكار والسلطان الحجة الظاهرة (فهو يتكلم)
أي يدل كما في قوله - هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق - قال الفراء: إن العرب تؤنث السلطان، يقولون: قضت به
عليك السلطان. فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة،
وقيل المراد بالسلطان هنا الملك (بما كانوا به يشركون) أي ينطق بإشراكهم بالله سبحانه، ويجوز أن تكون الباء
سببية: أي بالأمر الذي بسببه يشركون (وإذا أذقنا الناس رحمة) أي خصبا ونعمة وسعة وعافية (فرحوا بها) فرح
بطر وأشر، لا فرح شكر بها وابتهاج بوصولها إليهم - قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا - ثم قال سبحانه (وإن
تصبهم سيئة) شدة على أي صفة (بما قدمت أيديهم) أي بسبب ذنوبهم (إذا هم يقنطون) القنوط الإياس من
الرحمة، كذا قال الجمهور. وقال الحسن: القنوط ترك فرائض الله سبحانه. قرأ الجمهور " يقنطون " بضم النون.
وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسرها (أو لم يروا أن الله يبسط الزرق لمن يشاء) من عباده ويوسع له (ويقدر)
أي يضيق على من يشاء لمصلحة في التوسيع لمن وسع له وفي التضييق على من ضيق عليه (إن في ذلك لايات لقوم
يؤمنون) فيستدلون على الحق لدلالتها على كمال القدرة وبديع الصنع وغريب الخلق.
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك لبيك لا شريك لك إلا شريك هو
لك تملكه وما ملك، فأنزل الله (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال
هي في الآلهة، وفيه يقول تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله
(لا تبديل لخلق الله) قال: دين الله (ذلك الدين القيم) قال: القضاء القيم. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة
وأحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن مردويه عن الأسود بن سريع " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث
225

سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين، فانتهى القتل إلى الذرية، فلما جاءوا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟
والذي نفسي بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ". وأخرج أحمد من حديث جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا
عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا " رواه أحمد عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر. وقال الإمام أحمد
في المسند: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا هشام حدثنا قتادة عن مطرف عن عياض بن حماد " أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم خطب يوما فقال في خطبته حاكيا عن الله سبحانه: وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم " وإنهم أتتهم
الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم الحديث.
لما بين سبحانه كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى ما ينبغي من مواساة القرابة وأهل الحاجات ممن بسط الله له
في رزقه فقال (فآت ذا القربى حقه) والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته أسوته، أو لكل مكلف له
مال وسع الله به عليه، وقدم الإحسان إلى القرابة لأن خير الصدقة ما كان على قريب، فهو صدقة مضاعفة وصلة
رحم مرغب فيها، والمراد الإحسان إليهم بالصدقة والصلة والبر (والمسكين وابن السبيل) أي وآت المسكين وابن
السبيل حقهما الذي يستحقانه. ووجه تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر أنهم أولى من سائر الأصناف بالإحسان،
ولكون ذلك واجبا لهم على كل من له مال فاضل عن كفايته وكفاية من يعول.
226

وقد اختلف في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل هي منسوخة بآية المواريث. وقيل محكمة
وللقريب في مال قريبه الغني حق واجب، وبه قال مجاهد وقتادة. قال مجاهد: لا تقبل صدقة من أحد ورحمه
محتاج. قال مقاتل: حق المسكين أن يتصدق عليه، وحق ابن السبيل الضيافة. وقيل المراد بالقربى قرابة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم. قال القرطبي: والأول أصح، فإن حقهم مبين في كتاب الله عز وجل في قوله - فإن لله
خمسه وللرسول ولذي القربى - وقال الحسن: إن الأمر في إيتاء ذي القربى للندب (ذلك خير للذين يريدون وجه
الله) أي ذلك الإيتاء أفضل من الإمساك لمن يريد التقرب إلى الله سبحانه (وأولئك هم المفلحون) أي الفائزون
بمطلوبهم حيث أنفقوا لوجه الله امتثالا لأمره (وما آتيتم من ربا) قرأ الجمهور " آتيتم " بالمد بمعنى أعطيتم، وقرأ
مجاهد وحميد وابن كثير بالقصر بمعنى ما فعلتم، وأجمعوا على القراءة بالمد في قوله " وما آتيتم من زكاة " وأصل
الربى الزيادة، وقراءة القصر تئول إلى قراءة المد، لأن معناها ما فعلتم على وجه الإعطاء، كما تقول: أتيت خطأ
وأتيت صوابا، والمعنى في الآية: ما أعطيتم من زيادة خالية عن العوض (ليربو في أموال الناس) أي ليزيد
ويزكوا في أموالهم (فلا يربو عند الله) أي لا يبارك الله فيه. قال السدي: الربا في هذا الموضع الهداية يهديها
الرجل لأخيه يطلب المكافأة، لأن ذلك لا يربو عند الله لا يؤجر عليه صاحبه ولا إثم عليه، وهكذا قال قتادة
والضحاك. قال الواحدي: وهذا قول جماعة المفسرين. قال الزجاج: يعني دفع الإنسان الشئ ليعوض أكثر
منه وذلك ليس بحرام، ولكنه لا ثواب فيه، لأن الذي يهبه يستدعي به ما هو أكثر منه. وقال الشعبي: معنى الآية
أن ما خدم به الإنسان أحدا لينتفع به في دنياه فإن ذلك النفع الذي يجزى به الخدمة لا يربو عند الله. وقيل هذا
كان حراما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الخصوص لقوله سبحانه - ولا تمنن تستكثر - ومعناها: أن
تعطي فتأخذ أكثر منه عوضا عنه. وقيل إن هذه الآية نزلت في هبة الثواب. قال ابن عطية: وما يجري مجراه مما
يصنعه الإنسان ليجازي عليه. قال عكرمة: الربا ربوان: فربا حلال، وربا حرام. فأما الربا الحلال فهو الذي
يهدى يلتمس ما هو أفضل منه: يعني كما في هذه الآية. وقيل إن هذا الذي في هذه الآية هو الربا المحرم، فمعنى
لا يربو عند الله على هذا القول لا يحكم به، بل هو للمأخوذ منه.
قال المهلب: اختلف العلماء فيمن وهب هبة يطلب بها الثواب، فقال مالك: ينظر فيه، فإن كان مثله ممن
يطلب الثواب من الموهوب له فله ذلك، مثل هبة الفقير للغني، وهبة الخادم للمخدوم، وهبة الرجل لأميره،
وهو أحد قولي الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يكون له ثواب إذا لم يشترط، وهو قول الشافعي الآخر. قرأ الجمهور
" ليربو " بالتحتية على أن الفعل مسند إلى ضمير الربا. وقرأ نافع ويعقوب بالفوقية مضمومة خطابا للجماعة بمعنى
لتكونوا ذوي زيادات. وقرأ أبو مالك " لتربوها " ومعنى الآية: أنه لا يزكو عند الله ولا يثيب عليه لأنه لا يقبل
إلا ما أريد به وجهه خالصا له (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله) أي وما أعطيتم من صدقة لا تطلبون بها
المكافأة، وإنما تقصدون بها ما عند الله (فأولئك هم المضعفون) المضعف دون الأضعاف من الحسنات الذين
يعطون بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الفراء: هو نحو قولهم: مسمن ومعطش ومضعف إذا كانت
له إبل سمان، أو عطاش، أو ضعيفة. وقرأ أبي " المضعفون " بفتح العين اسم مفعول (الله الذي خلقكم ثم رزقكم
ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) عاد سبحانه إلى الاحتجاج على المشركين، وأنه
الخالق الرازق المميت المحيي، ثم قال على جهة الاستفهام (هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) ومعلوم أنهم
يقولون ليس فيهم من يفعل شيئا من ذلك، فتقوم عليهم الحجة، ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحانه وتعالى عما
227

يشركون) أي نزهوه تنزيها، وهو متعال عن أن يجوز عليه شئ من ذلك، وقوله " من شركائكم " خبر مقدم
ومن للتبعيض، والمبتدأ هو الموصول: أعني من يفعل، ومن ذلكم متعلق بمحذوف لأنه حال من شئ المذكور
بعده، ومن في " من شئ " مزيدة للتوكيد، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم كانوا يسمونهم آلهة، ويجعلون لهم
نصيبا من أموالهم (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) بين سبحانه أن الشرك والمعاصي سبب
لظهور الفساد في العالم.
واختلف في معنى ظهور الفساد المذكور، فقيل هو القحط وعدم الثبات، ونقصان الرزق، وكثرة الخوف
ونحو ذلك. وقال مجاهد وعكرمة: فساد البر قتل ابن آدم أخاه: يعني قتل قابيل لهابيل، وفي البحر الملك الذي
كان يأخذ كل سفينة غصبا.
وليت شعري أي دليل دلهما على هذا التخصيص البعيد والتعيين الغريب، فإن الآية نزلت على محمد صلى
الله عليه وآله وسلم، والتعريف في الفساد يدل على الجنس، فيعم كل فساد واقع في حيزي البر والبحر. وقال
السدي: الفساد الشرك، وهو أعظم الفساد. ويمكن أن يقال إن الشرك وإن كان الفرد الكامل في أنواع المعاصي،
ولكن لا دليل على أنه المراد بخصوصه. وقيل الفساد كساد الأسعار وقلة المعاش، وقيل الفساد قطع السبل والظلم،
وقيل غير ذلك مما هو تخصيص لا دليل عليه. والظاهر من الآية ظهور ما يصح إطلاق اسم الفساد عليه سواء كان
راجعا إلى أفعال بني آدم من معاصيهم واقترافهم السيئات وتقاطعهم وتظالمهم وتقاتلهم، أو راجعا إلى ما هو من
جهة الله سبحانه بسبب ذنوبهم كالقحط وكثرة الخوف والموتان ونقصان الزرائع ونقصان الثمار. والبر والبحر هما
المعروفان المشهوران، وقيل البر الفيافي، والبحر القرى التي على ماء قاله عكرمة، والعرب تسمي الأمصار
البحار. قال مجاهد: البر ما كان من المدن والقرى على غير نهر، والبحر ما كان على شط نهر. والأول أولى.
ويكون معنى البر مدن البر، ومعنى البحر مدن البحر، وما يتصل بالمدن من مزارعها ومراعيها، والباء في بما
كسبت للسببية، وما إما موصولة أو مصدرية (ليذيقهم بعض الذي عملوا) اللام متعلقة بظهر، وهي لام العلة:
أي ليذيقهم عقاب بعض عملهم أو جزاء بعض عملهم (لعلهم يرجعون) عما هم فيه من المعاصي ويتوبون إلى الله
(قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) لما بين سبحانه ظهور الفساد بما كسبت أيدي
المشركين والعصاة بين لهم ضلال أمثالهم من أهل الزمن الأول، وأمرهم بأن يسيروا لينظروا آثارهم ويشاهدوا
كيف كانت عاقبتهم، فإن منازلهم خاوية وأراضيهم مقفرة موحشة كعاد وثمود ونحوهم من طوائف الكفار.
وجملة (كان أكثرهم مشركين) مستأنفة لبيان الحالة التي كانوا عليها، وإيضاح السبب الذي صارت عاقبتهم به
إلى ما صارت إليه (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له) هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وأمته أسوته فيه، كأن المعنى إذا قد ظهر الفساد بالسبب المتقدم فأقم وجهك يا محمد الخ. قال الزجاج:
اجعل جهتك اتباع الدين القيم، وهو الإسلام المستقيم " من قبل أن يأتي يوم " يعني يوم القيامة " لا مرد له " لا يقدر
أحد على رده، والمرد مصدر رد، وقيل المعنى: أوضح الحق وبالغ في الأعذار، و (من الله) يتعلق بيأتي،
أو بمحذوف يدل عليه المصدر: أي لا يرده من الله أحد، وقيل يجوز أن يكون المعنى لا يرده الله لتعلق إرادته
القديمة بمجيئه، وفيه من الضعف وسوء الأدب مع الله مالا يخفى (يومئذ يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع
التفرق، يقال: تصدع القوم إذا تفرقوا، ومنه قول الشاعر:
وكنا كندماني جذيمة برهة * من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
228

والمراد بتفرقهم ها هنا أن أهل الجنة يصيرون إلى الجنة، وأهل النار يصيرون إلى النار (من كفر فعليه كفره)
أي جزاء كفره، وهو النار (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) أي يوطئون لأنفسهم منازل في الجنة بالعمل
الصالح، والمهاد الفراش، وقد مهدت الفراش مهدا: إذا بسطته ووطأته، فجعل الأعمال الصالحة التي هي
سبب لدخول الجنة كبناء المنازل في الجنة وفرشها. وقيل المعنى: فعلى أنفسهم يشفقون، من قولهم في المشفق:
أم فرشت فأنا مت، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص. وقال مجاهد " فلأنفسهم يمهدون "
في القبر، واللام في (ليجزي الذين آمنوا) متعلقة بيصدعون، أو يمهدون: أي يتفرقون ليجزي الله المؤمنين بما
يستحقونه (من فضله) أو يمهدون لأنفسهم بالأعمال الصالحة ليجزيهم، وقيل يتعلق بمحذوف. قال ابن عطية:
تقديره ذلك ليجزي، وتكون الإشارة إلى ما تقدم من قوله: من عمل ومن كفر. وجعل أبو حيان قسيم قوله
" الذين آمنوا وعملوا الصالحات " محذوفا لدلالة قوله (إنه لا يحب الكافرين) عليه لأنه كناية عن بغضه لهم
الموجب لغضبه سبحانه، وغضبه يستتبع عقوبته (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات) أي ومن دلالات بديع
قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر لأنها تتقدمه كما في قوله سبحانه - بشرا بين يدي رحمته - قرأ الجمهور " الرياح "
وقرأ الأعمش " الريح " بالإفراد على قصد الجنس لأجل قوله " مبشرات " واللام في قوله (وليذيقكم من رحمته)
متعلقة بيرسل: أي يرسل الرياح مبشرات ويرسلها ليذيقكم من رحمته: يعني الغيث والخصب، وقيل هو متعلق
بمحذوف: أي وليذيقكم أرسلها، وقيل الواو مزيدة على رأي من يجوز ذلك، فتتعلق اللام بيرسل (ولتجري
الفلك بأمره) معطوف على ليذيقكم من رحمته: أي يرسل الرياح لتجرى الفلك في البحر عند هبوبها، ولما أسند
الجري إلى الفلك عقبه بقوله بأمره (ولتبتغوا من فضله) أي تبتغوا الرزق بالتجارة التي تحملها السفن (ولعلكم
تشكرون) هذه النعم فتفردون الله بالعبادة وتستكثرون من الطاعة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما آتيتم من ربا) الآية قال: الربا ربوان: ربا لا بأس به
وربا لا يصلح. فأما الربا الذي لا بأس به فهدية الرجل إلى الرجل يريد فضلها وأضعافها. وأخرج البيهقي عنه قال:
هذا هو الربا الحلال أن يهدي يريد أكثر منه وليس له أجر ولا وزر، ونهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة
فقال - ولا تمنن تستكثر -. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا (وما آتيتم من زكاة) قال:
هي الصدقة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ظهر الفساد في البر والبحر) قال: البر البرية التي ليس
عندها نهر، والبحر ما كان من المدائن والقرى على شط نهر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية
قال: نقصان البركة بأعمال العباد كي يتوبوا. وأخرج ابن المنذر أيضا (لعلهم يرجعون) قال: من الذنوب.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (يصدعون) قال: يتفرقون.
229

قوله (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم) كما أرسلناك إلى قومك (فجاءوهم بالبينات) أي بالمعجزات
والحجج النيرات فانتقمنا منهم: أي فكفروا (فانتقمنا من الذين أجرموا) أي فعلوا الإجرام، وهي الآثام (وكان
حقا علينا نصر المؤمنين) هذا إخبار من الله سبحانه بأن نصره لعباده المؤمنين حق عليه وهو صادق الوعد لا يخلف
الميعاد، وفيه تشريف للمؤمنين ومزيد تكرمة لعباده الصالحين، ووقف بعض القراء على حقا وجعل اسم كان
ضميرا فيها وخبرها حقا: أي وكان الانتقام حقا. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، والصحيح أن نصر المؤمنين اسمها
وحقا خبرها وعلينا متعلق بحقا، أو بمحذوف هو صفة له (الله الذي يرسل الرياح) قرأ حمزة والكسائي وابن كثير
وابن محيصن يرسل " الريح " بالإفراد. وقرأ الباقون " الرياح " قال أبو عمرو: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع،
وما كان بمعنى العذاب فهو موحد، وهذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان ما سبق من أحوال الرياح، فتكون على
هذا جملة " ولقد أرسلنا " إلى قوله " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " معترضة (فتثير سحابا) أي تزعجه من حيث هو
(فيبسطه في السماء كيف يشاء) تارة سائرا وتارة واقفا، وتارة مطبقا، وتارة غير مطبق، وتارة إلى مسافة بعيدة،
وتارة إلى مسافة قريبة، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة وفي سورة النور (ويجعله كسفا) تارة أخرى،
أو يجعله بعد بسطه قطعا متفرقة، والكسف جمع كسفة، والكسفة القطعة من السحاب. وقد تقدم تفسيره واختلاف
230

القراءة فيه (فترى الودق يخرج من خلاله) الودق المطر، ومن خلاله من وسطه. وقرأ أبو العالية والضحاك
" يخرج من خلله " (فإذا أصاب به) أي بالمطر (من يشاء من عباده) أي بلادهم وأرضهم (إذا هم يستبشرون)
إذا هي الفجائية: أي فاجئوا الاستبشار بمجيء المطر، والاستبشار الفرح (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم)
أي من قبل أن ينزل عليهم المطر، وإن هي المخففة وفيها ضمير شأن مقدر هو اسمها: أي وإن الشأن كانوا
من قبل أن ينزل عليهم، وقوله (من قبله) تكرير للتأكيد، قاله الأخفش وأكثر النحويين كما حكاه عنهم
النحاس. وقال قطرب: إن الضمير في قبله راجع إلى المطر: أي وإن كانوا من قبل التنزيل من قبل المطر.
وقيل المعنى: من قبل تنزيل الغيث عليهم من قبل الزرع والمطر، وقيل من قبل أن ينزل عليهم من قبل السحاب:
أي من قبل رؤيته، واختار هذا النحاس. وقيل الضمير عائد إلى الكسف، وقيل إلى الإرسال، وقيل إلى
الاستبشار. والراجح الوجه الأول، وما بعده من هذه الوجوه كلها ففي غاية التكلف والتعسف، وخبر كان
(لمبلسين) أي آيسين حديث أو بائسين. وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا (فانظر إلى أثر رحمت الله) الناشئة عن إنزال
المطر من النبات والثمار والزرائع لأنه التي بها يكون الخصب ورخاء العيش: أي انظر نظر اعتبار واستبصار لتستدل
بذلك على توحيد الله وتفرده بهذا الصنع العجيب. قرأ الجمهور " أثر " بالتوحيد. وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة
والكسائي آثار بالجمع (كيف يحيي الأرض بعد موتها) فاعل الإحياء ضمير يعود إلى الله سبحانه، وقيل ضمير
يعود إلى الأثر، وهذه الجملة في محل نصب بانظر: أي انظر إلى كيفية هذا الإحياء البديع للأرض. وقرأ
الجحدري وأبو حيوة " تحيي " بالفوقية على أن فاعله ضمير يعود إلى الرحمة أو إلى الآثار على قراءة من قرأ بالجمع،
والإشارة بقوله (إن ذلك) إلى الله سبحانه: أي إن الله العظيم الشأن المخترع لهذه الأشياء المذكورة (لمحيي الموتى)
أي لقادر على إحيائهم في الآخرة وبعثهم ومجازاتهم كما أحيا الأرض الميتة بالمطر (وهو على كل شئ قدير) أي
عظيم القدرة كثيرها (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا) الضمير في فرأوه يرجع إلى الزرع والنبات الذي كان من
أثر رحمة الله: أي فرأوه مصفرا من البرد الناشئ عن الريح التي أرسلها الله بعد اخضراره. وقيل راجع إلى الريح،
وهو يجوز تذكيره وتأنيثه. وقيل راجع إلى الأثر المدلول عليه بالآثار. وقيل راجع إلى السحاب لأنه إذا كان
مصفرا لم يمطر، والأول أولى. واللام هي الموطئة، وجواب القسم (لظلوا من بعده يكفرون) وهو يسد مسد
جواب الشرط. والمعنى: ولئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة، فضربت زرعهم بالصفار لظلوا من بعد ذلك يكفرون
بالله ويجحدون نعمه، وفي هذا دليل على سرعة تقلبهم وعدم صبرهم وضعف قلوبهم، وليس كذا حال أهل
الإيمان. ثم شبههم بالموتى وبالصم فقال (فإنك لا تسمع الموتى) إذا دعوتهم، فكذا هؤلاء لعدم فهمهم للحقائق
ومعرفتهم للصواب (ولا تسمع الصم الدعاء) إذا دعوتهم إلى الحق ووعظتهم بمواعظ الله، وذكرتهم الآخرة وما
فيها. وقوله (إذا ولوا مدبرين) بيان لإعراضهم عن الحق بعد بيان كونهم كالأموات وكونهم صم الآذان، قد
تقدم تفسير هذا في سورة النمل. ثم وصفهم بالعمى فقال (وما أنت بهاد العمى عن ضلالتهم) لفقدهم للانتفاع
بالأبصار كما ينبغي، أو لفقدهم للبصائر (إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا) أي ما تسمع إلا هؤلاء لكونهم أهل التفكر
والتدبر والاستدلال بالآثار على المؤثر (فهم مسلمون) أي منقادون للحق متبعون له (الله الذي خلقكم من ضعف)
ذكر سبحانه استدلالا آخر على كمال قدرته، وهو خلق الإنسان نفسه على أطوار مختلفة، ومعنى من ضعف:
من نطفة. قال الواحدي: قال المفسرون: من نطفة، والمعنى من ذي ضعف. وقيل المراد حال الطفولية والصغر
(ثم جعل من بعد ضعف قوة) وهي قوة الشباب، فإنه إذ ذاك تستحكم القوة وتشتد الخلقة إلى بلوغ النهاية
231

(ثم جعل من بعد قوة ضعفا) أي عند الكبر والهرم (وشيبة) الشيبة هي تمام الضعف ونهاية الكبر. قرأ الجمهور
" ضعف " بضم الضاد في هذه المواضع. وقرأ عاصم وحمزة بفتحها. وقرأ الجحدري بالفتح في الأولين والضم في
الثالث. قال الفراء: الضم لغة قريش والفتح لغة تميم. قال الجوهري: الضعف والضعف خلاف القوة، وقيل هو
بالفتح في الرأي، وبالضم في الجسم (يخلق ما يشاء) يعني من جميع الأشياء ومن جملتها القوة والضعف في بني آدم
(وهو العليم) بتدبيره (القدير) على خلق ما يريده، وأجاز الكوفيون من ضعف بفتح الضاد والعين (ويوم تقوم
الساعة) أي القيامة، وسميت ساعة لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا (يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)
أي يحلفون ما لبثوا في الدنيا، أو في قبورهم غير ساعة، فيمكن أن يكونوا استقلوا مدة لبثهم واستقر ذلك في
أذهانهم، فحلفوا عليه وهم يظنون أن حلفهم مطابق للواقع. وقال ابن قتيبة: إنهم كذبوا في هذا الوقت كما
كانوا يكذبون من قبل، وهذا هو الظاهر لأنهم إن أرادوا لبثهم في الدنيا فقد علم كل واحد منهم مقداره، وإن
أرادوا لبثهم في القبور فقد حلفوا على جهالة إن كانوا لا يعرفون الأوقات في البرزخ (كذلك كانوا يؤفكون)
يقال أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق، فالمعنى: مثل ذلك الصرف كانوا يصرفون. وقيل المراد يصرفون عن
الحق، وقيل عن الخير، والأول أولى، وهو دليل على أن حلفهم كذب " وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد
لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " اختلف في تعيين هؤلاء الذين أتوا العلم، فقيل الملائكة، وقيل الأنبياء، وقيل
علماء الأمم، وقيل مؤمنو هذه الأمة، ولا مانع من الحمل على الجميع. ومعنى في كتاب الله: في علمه وقضائه.
قال الزجاج: في علم الله المثبت في اللوح المحفوظ. قال الواحدي: والمفسرون حملوا هذا على التقديم والتأخير على
تقدير: وقال الذين أوتوا العلم في كتاب الله، وكان رد الذين أوتوا العلم عليهم باليمين للتأكيد، أو للمقابلة لليمين
باليمين، ثم نبهوهم على طريقة التبكيت بأن (هذا) الوقت الذي صاروا فيه هو (يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون)
أنه حق، بل كنتم تستعجلونه تكذيبا واستهزاء (فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم) أي لا ينفعهم الاعتذار يومئذ
ولا يفيدهم علمهم بالقيامة. وقيل لما رد عليهم المؤمنون سألوا الرجوع إلى الدنيا واعتذروا فلم يعذروا. قرأ
الجمهور " لا تنفع " بالفوقية، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بالتحتية (ولا هم يستعتبون) يقال استعتبته فأعتبني: أي
استرضيته فأرضاني، وذلك إذا كنت جانيا عليه، وحقيقة أعتبته أزلت عتبه، والمعنى: أنهم لا يدعون إلى إزالة
عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إلى ذلك في الدنيا (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي من كل
مثل من الأمثال التي تدلهم على توحيد الله وصدق رسله واحتججنا عليهم بكل حجة تدل على بطلان الشرك (ولئن
جئتهم بآية) من آيات القران الناطقة بذلك، أو لئن جئتهم بآية كالعصا واليد (ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا
مبطلون) أي ما أنت يا محمد وأصحابك إلا مبطلون أصحاب أباطيل تتبعون السحر وما هو مشاكل له في البطلان
(كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون) أي مثل ذلك الطبع يطبع الله على قلوب الفاقدين للعلم النافع الذي
يهتدون به إلى الحق وينجون به من الباطل، ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر معللا لذلك
بحقية وعد الله وعدم الخلف فيه، فقال (فاصبر) على ما تسمعه منهم من الأذى وتنظره من الأفعال الكفرية فإن
الله قد وعدك بالنصر عليهم وإعلاء حجتك وإظهار دعوتك ووعده حق لا خلف فيه (ولا يستخفنك الذين
لا يوقنون) أي لا يحملنك على الخفة ويستفزنك عن دينك وما أنت عليه الذين لا يوقنون بالله ولا يصدقون أنبياءه
ولا يؤمنون بكتبه، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقال استخف فلان فلانا: أي استجهله حتى حمله
على اتباعه في الغي. قرأ الجمهور " يستخفنك " بالخاء المعجمة والفاء، وقرأ يعقوب وابن أبي إسحاق بحاء مهملة
وقاف من الاستحقاق، والنهي في الآية من باب: لا أرينك هاهنا.
232

وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم يقول: " ما من مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا
(وكان حقا علينا نصر المؤمنين) "، وهو من طريق شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. وأخرج
أبو يعلى وابن المنذر عنه في قوله (فيجعله كسفا) قال: قطعا بعضها فوق بعض (فترى الودق) قال: المطر
(يخرج من خلاله) قال: من بينه. وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
نزلت هذه الآية (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهل بدر،
والإسناد ضعيف. والمشهور في الصحيحين وغيرهما أن عائشة استدلت بهذه الآية على رد رواية من روى من
الصحابة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نادى أهل قليب بدر، وهو من الاستدلال بالعام على رد الخاص فقد
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قيل له: إنك تنادي أجسادا بالية " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " وفي مسلم
من حديث أنس " أن عمر بن الخطاب لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يناديهم، فقال: يا رسول الله تناديهم
بعد ثلاث وهل يسمعون؟ يقول الله إنك لا تسمع الموتى، فقال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم، ولكنهم
لا يطيقون أن يجيبوا ".
تفسير سورة لقمان
آياتها أربع وثلاثون آية
وهي مكية إلا ثلاث آيات، وهي قوله " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام " إلى تمام الآيات الثلاث.
قاله ابن عباس فيما أخرجه النحاس عنه. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه أنها مكية ولم
يستثن، وحكى القرطبي عن قتادة أنها مكية إلا آيتين. وأخرج النسائي وابن ماجة عن البراء قال: كنا نصلي خلف
النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر نسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات.
233

قوله (ألم تلك آيات الكتاب) قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا
نعيده، وبيان مرجع الإشارة أيضا، و (الحكيم) إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل، أو بمعنى ذي الحكمة
أو الحكيم قائلة، و (هدى ورحمة) منصوبان على الحال على قراءة الجمهور. قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب
في حال الهداية والرحمة، وقرأ حمزه " ورحمة " بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف: أي هو هدى ورحمة، ويجوز أن
يكونا خبر تلك، والمحسن العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في
الصحيح لما سأله جبريل عن الاحسان: فقال " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم بين
عمل المحسنين فقال (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) والموصول في محل جر على
الوصف للمحسنين، أو في محل رفع، أو نصب على المدح أو القطع، وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدة
العبادات (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى
هنا: أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى. وهم
الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) محل " ومن الناس " الرفع على
الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وخبره " من يشتري لهو الحديث " ومن إما موصولة أو موصوفة، ولهو
الحديث كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية.
وقيل المراد شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: ومن يشتري أهل لهو الحديث. قال الحسن: لهو
الحديث المعازف والغناء. وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. قال القرطبي: أن أولى ما قيل في هذا الباب
هو تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، واللام في (ليضل عن سبيل الله) للتعليل.
قرأ الجمهور بضم الياء من " ليضل " أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في
نفسه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء: أي ليضل هو في نفسه.
قال الزجاج: من قرأ بضم الياء، فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه
ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة، فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما
يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي. قال الطبري: قد أجمع
علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري. قال القاضي
أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شئ منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها،
فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟
قلت: قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له،
وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها، وسميتها (إبطال دعوى الإجماع،
على تحريم مطلق السماع) فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها.
234

ومحل قوله " بغير علم " النصب على الحال: أي حال كونه غير عالم بحال ما يشتريه، أو بحال ما ينفع من
التجارة وما يضر. فلهذا استبدل بالخير ما هو شر محض (ويتخذها هزوا) قرأ الجمهور برفع " يتخذها " عطفا
على يشتري فهو من جملة الصلة، وقيل الرفع على الاستئناف، والضمير المنصوب في يتخذها يعود إلى الآيات
المتقدم ذكرها، والأول أولى. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش " ويتخذها " بالنصب عطفا على يضل، والضمير
المنصوب راجع إلى السبيل، فتكون على هذه القراءة من جملة التعليل للتحريم، والمعنى: أنه يشتري لهو الحديث
للإضلال عن سبيل الله واتخاذ السبيل هزوا: أي مهزوءا به، والسبيل يذكر ويؤنث، والإشارة بقوله (أولئك
لهم عذاب مهين) إلى من، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلين باعتبار لفظها، والعذاب المهين: هو
الشديد الذي يصير به من وقع عليه مهينا (وإذا تتلى عليه آياتنا) أي وإذا تتلى آيات القران على هذا المستهزيء (ولى
مستكبرا) أي أعرض عنها حال كونه مبالغا في التكبر، وجملة (كأن لم يسمعها) في محل نصب على الحال: أي
كأن ذلك المعرض المستكبر لم يسمعها مع أنه قد سمعها، ولكن أشبهت حاله حال من لم يسمع، وجملة (كأن في
أذنيه وقرا) حال ثانية، أو بدل من التي قبلها، أو حال من ضمير يسمعها، ويجوز أن تكون مستأنفة، والوقر
الثقل، وقد تقدم بيانه، وفيه مبالغة في إعراض ذلك المعرض (فبشره بعذاب أليم) أي أخبره بأن له العذاب
البليغ في الألم، ثم لما بين سبحانه حال من يعرض عن الآيات بين حال من يقبل عليها، فقال (إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات) أي آمنوا بالله وبآياته ولم يعرضوا عنها بل قبلوها وعملوا بها (لهم جنات النعيم) أي
نعيم الجنات فعكسه للمبالغة، جعل لهم جنات النعيم كما جعل للفريق الأول العذاب المهين، وانتصاب (خالدين
فيها) على الحال وقرأ زيد بن علي " خالدون فيها " على أنه خبر ثان لأن (وعد الله حقا) هما مصدران الأول
مؤكد لنفسه: أي وعد الله وعدا. والثاني مؤكدة لغيره، وهو مضمون الجملة الأولى وتقديره حق ذلك حقا.
والمعنى: أن وعده كائن لا محالة ولا خلف فيه (وهو العزيز) الذي لا يغلبه غالب (الحكيم) في كل أفعاله
وأقواله. ثم بين سبحانه عزته وحكمته بقوله (خلق السماوات بغير عمد ترونها) العمد جمع عماد، وقد تقدم
الكلام فيه في سورة الرعد. وترونها في محل جر صفة لعمد فيمكن أن تكون ثم عمد، ولكن لا ترى. ويجوز أن
تكون في موضع نصب على الحال: أي ولا عمد البتة. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول: الأولى أن
يكون مستأنفا: أي ولا عمد ثم (وألقى في الأرض رواسي) أي جبالا ثوابت (أن تميد بكم) في محل نصب على
العلة: أي كراهة أن تميد بكم. والكوفيون يقدرونه لئلا تميد، والمعنى: أنها خلقها وجعلها مستقرة ثابتة
لا تتحرك بجبال جعلها عليها وأرساها على ظهرها (وبث فيها من كل دابة) أي من كل نوع من أنواع الدواب،
وقد تقدم بيان معنى البث (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي أنزلنا من السماء مطرا فأنبتنا
فيها بسبب إنزاله من كل زوج: أي من كل صنف، ووصفه بكونه كريما لحسن لونه وكثرة منافعه. وقيل إن
المراد بذلك الناس، فالكريم منهم من يصير إلى الجنة، واللئيم من يصير إلى النار. قاله الشعبي وغيره، والأول
أولى. والإشارة بقوله (هذا) إلى ما ذكر في خلق السماوات والأرض، وهو مبتدأ وخبره (خلق الله) أي مخلوقه
(فأروني ماذا خلق الذين من دونه) من آلهتكم التي تعبدونها، والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والمعنى: فأروني
أي شئ خلقوا مما يحاكى خلق الله أو يقاربه، وهذا الأمر لهم لقصد التعجيز والتبكيت. ثم أضرب عن تبكيتهم
بما ذكر إلى الحكم عليهم بالضلال الظاهر فقال (بل الظالمون في ضلال) فقرر ظلمهم أولا وضلالهم ثانيا،
ووصف ضلالهم بالوضوح والظهور، ومن كان هكذا فلا يعقل الحجة ولا يهتدي إلى الحق.
235

وقد أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) يعني باطل
الحديث. وهو النضر بن الحارث بن علقمة اشترى أحاديث الأعاجم وصنيعهم في دهرهم. وكان يكتب الكتب من
الحيرة إلى الشام ويكذب بالقرآن. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال: باطل الحديث.
وهو الغناء ونجوه (ليضل عن سبيل الله) قال: قراءة القرآن وذكر الله، نزلت في رجل من قريش اشترى جارية
مغنية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن
عنه أيضا في الآية قال: هو الغناء وأشباهه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال:
الجواري الضاريات. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي في
الشعب عن أبي الصهباء قال: سألت عبد الله بن مسعود عن قوله (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال:
هو والله الغناء. ولفظ ابن جرير: هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات. وأخرج سعيد بن
منصور وأحمد والترمذي وابن ماجة وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
والبيهقي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا خير
في تجارة فيهن وثمنهن حرام " في مثل هذا أنزلت هذه الآية (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) الآية، وفي
إسناده عبيد بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم بن عبد الرحمن وفيهم ضعف. وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم
الملاهي وابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله حرم القينة وبيعها وثمنها
وتعليمها والاستماع إليها، ثم قرأ (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) ". وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن
عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الغناء ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل " وروياه
عنه موقوفا. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما رفع
أحد صوته بغناء إلا بعث الله إليه شياطين يجلسان على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك " وفي
الباب أحاديث في كل حديث منها مقال. وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن مسعود في قوله (ومن الناس من
يشتري لهو الحديث) قال: الرجل يشتري جارية تغنيه ليلا ونهارا. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن عمر
" أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في قوله (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) إنما ذلك شراء
الرجل اللعب والباطل ". وأخرج ابن أبي الدنيا والبيهقي عن نافع قال: كنت أسير مع عبد الله بن عمر في طريق
فسمع زمارة فوضع أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول يا نافع أتسمع؟ قلت لا فأخرج أصبعيه
من أذنيه وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع. وأخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن
عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو
ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان ".
236

أختلف في لقمان هل هو عجمي أم عربي؟ مشتق من اللقم، فمن قال إنه عجمي منعه للتعريف والعجمة،
ومن قال إنه عربي منعه للتعريف ولزيادة الألف والنون. واختلفوا أيضا هو نبي أم رجل صالح؟ فذهب أكثر
أهل العلم إلى أنه ليس بنبي. وحكى الواحدي عن عكرمة والسدي والشعبي أنه كان نبيا، والأول أرجح لما
سيأتي في آخر البحث. وقيل لم يقل بنبوته إلا عكرمة فقط، مع أن الراوي لذلك عنه جابر الجعفي وهو ضعيف
جدا. وهو لقمان بن باعورا ابن ناحور بن تارخ، وهو آزر أبو إبراهيم، وقيل هو لقمان بن عنقا بن مروان،
وكان نوبيا من أهل أيلة ذكره السهيلي. قال وهب: هو ابن أخت أيوب. وقال مقاتل: هو ابن خالته، عاش
ألف سنة وأخذ عنه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود، فلما بعث داود قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال ألا أكتفي
إذ كفيت. قال الواقدي: كان قاضيا في بني إسرائيل، والحكمة التي آتاه الله هي الفقه والعقل والإصابة في القول
وفسر الحكمة من قال بنبوته بالنبوة (أن اشكر لي) أن هي المفسرة، لأن في إيتاء الحكمة معنى القول. وقيل التقدير
قلنا له أن اشكر لي. وقال الزجاج: المعنى ولقد آتينا لقمان الحكمة لأن اشكر لي. وقيل بأن اشكر لي فشكر
فكان حكيما بشكره والشكر لله الثناء عليه في مقابلة النعمة وطاعته فيما أمر به. ثم بين سبحانه أن الشكر لا ينتفع به
إلا الشاكر، فقال (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) لأن نفع ذلك راجع إليه وفائدته حاصلة له إذ به تستبقي
النعمة وبسببه يستجلب المزيد لها من الله سبحانه (ومن كفر فإن الله غني حميد) أي من جعل كفر النعم مكان
شكرها، فإن الله غني عن شكره غير محتاج إليه حميد مستحق للحمد من خلقه لإنعامه عليهم بنعمه التي لا يحاط
بقدرها ولا يحصر عددها وإن لم يحمده أحد من خلقه، فإن كل موجود ناطق بحمده بلسان الحال. قال يحيى بن
سلام: غني عن خلقه حميد في فعله (وإذ قال لقمان لابنه) قال السهيلي: اسم ابنه ثاران في قول ابن جرير
والقتيبي. وقال الكلبي: مشكم. وقال النقاش أنعم. وقيل مأتان. قال القشيري: كان ابنه وامرأته كافرين فما
زال يعظها حتى أسلما، وهذه الجملة معطوفة على ما تقدم، والتقدير: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا
في نفسه، وحين جعلناه واعظا لغيره. قال الزجاج: إذ في موضع نصب بآتينا. والمعنى: ولقد آتينا لقمان
الحكمة إذ قال. قال النحاس: وأحسبه غلطا لأن في الكلام واوا وهي تمنع من ذلك، ومعنى (وهو يعظه)
237

يخاطبه بالمواعظ التي ترغبه في التوحيد وتصده عن الشرك (يا بني لا تشرك بالله) قرأ الجمهور بكسر الياء. وقرأ
ابن كثير بإسكانها. وقرأ حفص بفتحها، ونهيه عن الشرك يدل على أنه كان كافرا كما تقدم، وجملة (إن الشرك
لظلم عظيم) تعليل لما قبلها، وبدأ في وعظه بنهيه عن الشرك لأنه أهم من غيره.
وقد اختلف في هذه الجملة، فقيل هي من كلام لقمان، وقيل هي من كلام الله، فتكون منقطعة عما قبلها.
ويؤيد هذا ما ثبت في الحديث الصحيح إنها لما نزلت - ولم يلبسوا إيمانهم بظلم - شق ذلك على الصحابة، وقالوا:
أينا لم يظلم نفسه. فأنزل الله (إن الشرك لظلم عظيم) فطابت أنفسهم (ووصينا الإنسان بوالديه) هذه الوصية
بالوالدين وما بعدها إلى قوله (بما كنتم تعملون) اعتراض بين كلام لقمان لقصد التأكيد لما فيها من النهي عن
الشرك بالله، وتفسير التوصية هي قوله (أن اشكر لي ولوالديك) وما بينهما اعتراض بين المفسر والمفسر وفي
جعل الشكر لهما مقترنا بالشكر لله دلالة على أن حقهما من أعظم الحقوق على الولد وأكبرها وأشدها وجوبا
ومعنى (حملته أمه وهنا على وهن) أنها حملته في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفا على ضعف، وقيل المعنى: إن
المرأة ضعيفة الخلقة، ثم يضعفها الحمل وانتصاب وهنا على المصدر. وقال النحاس على أنه مفعول ثان بإسقاط
الحرف: أي حملته بضعف على ضعف. وقال الزجاج: المعنى لزمها بحملها إياه أن تضعف، مرة بعد مرة وقيل
انتصابه على الحال من أمه و " على وهن " صفة لوهنا أي وهنا كائنا على وهن. قرأ الجمهور بسكون الهاء في
الموضعين. وقرأ عيسى الثقفي وهي رواية عن أبي عمرو بفتحهما وهما لغتان. قال قعنب:
هل للعواذل من ناه فيزجرها * إن العواذل فيها الأين والوهن
(وفصاله في عامين) الفصال الفطام، وهو أن يفصل الولد عن الأم، وهو مبتدأ وخبره الظرف. وقرأ
الجحدري وقتادة وأبو رجاء والحسن ويعقوب " وفصله " وهما لغتان، يقال انفصل عن كذا: أي تميز، وبه
سمي الفصيل. وقد قدمنا أن أمه في قوله (أن اشكر لي ولوالديك) هي المفسرة. وقال الزجاج: هي مصدرية.
والمعنى: بأن اشكر لي. قال النحاس: وأجود منه أن تكون أن مفسرة، وجملة (إلي المصير) تعليل لوجوب
امتثال الأمر: أي الرجوع إلي لا إلى غيري (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم) أي مالا علم لك
بشركته (فلا تطعهما) في ذلك. وقد قدمنا تفسير الآية وسبب نزولها في سورة العنكبوت، وانتصاب (معروفا)
على أنه صفة لمصدر محذوف: أي وصاحبهما صحابا معروفا، وقيل هو منصوب بنزع الخافض، والتقدير
بمعروف (واتبع سبيل من أناب إلي) أي اتبع سبيل من رجع إلي من عبادي الصالحين بالتوبة والإخلاص (ثم
إلي مرجعكم) جميعا لا إلى غيري (فأنبئكم) أي أخبركم عند رجوعكم (بما كنتم تعملون) من خير وشر فأجازي
كل عامل بعمله. وقد قيل إن هذا السياق من قوله " ووصينا الإنسان " إلى هنا من كلام لقمان فلا يكون اعتراضا
وفيه بعد. ثم شرع سبحانه في حكاية بقية كلام لقمان في وعظه لابنه فقال (يا بني إنها إن تك مثقال حبة من
خردل) الضمير في إنها عائد إلى الخطيئة لما روي أن ابن لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني
أحد هل يعلمها الله؟ فقال إنها: أي الخطيئة، والجملة الشرطية مفسرة للضمير: أي إن الخطيئة إن تك مثقال حبة
من خردل. قال الزجاج: التقدير أن التي سألتني عنها إن تك مثقال حبة من خردل، وعبر بالخردلة لأنها أصغر
الحبوب ولا يدرك بالحس ثقلها ولا ترجح ميزانا. وقيل إن الضمير في " إنها " راجع إلى الخصلة من الإساءة
والإحسان: أي إن الخصلة من الإساءة والإحسان إن تك مثقال حبة الخ، ثم زاد في بيان خفاء الحبة مع خفتها
فقال (فتكن في صخرة) فإن كونها في الصخرة قد صارت في أخفى مكان وأحرزه (أو في السماوات أو في الأرض)
238

أي أو حيث كانت من بقاع السماوات أو من بقاع الأرض (يأت بها الله) أي يحضرها ويحاسب فاعلها
عليها (إن الله لطيف) لا تخفى عليه خافية، بل يصل علمه إلى كل خفى (خبير) بكل شئ لا يغيب عنه
شئ. قرأ الجمهور " إن تك " بالفوقية على معنى إن تك الخطيئة أو المسألة أو الخصلة أو القصة. وقرأوا " مثقال "
بالنصب على أنه خبر كان، واسمها هو أحد تلك المقدرات. وقرأ نافع برفع مثقال على أنه اسم كان وهي تامة،
وأنث الفعل في هذه القراءة لإضافة مثقال إلى المؤنث. وقرأ الجمهور " فتكن " بضم الكاف، وقرأ الجحدري
بكسرها وتشديد النون، من الكن الذي هو الشئ المغطى. قال السدي: هذه الصخرة هي صخرة ليست في السماوات
ولا في الأرض. ثم حكى سبحانه عن لقمان أنه أمر ابنه بإقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر
على المصيبة. ووجه تخصيص هذه الطاعات أنها أمهات العبادات وعماد الخير كله. والإشارة بقوله (إن ذلك) إلى
الطاعات المذكورة. وخبر إن قوله (من عزم الأمور) أي مما جعله الله عزيمة وأوجبه على عباده. وقيل المعنى:
من حق الأمور التي أمر الله بها، والعزم يجوز أن يكون بمعنى المعزوم: أي من معزومات الأمور أو بمعنى العازم
كقوله - فإذا عزم الأمر - قال المبرد: إن العين تبدل جاء، فيقال عزم وحزم. قال ابن جرير: ويحتمل أن يريد
أن ذلك من مكارم أهل الأخلاق وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، وصوب هذا القرطبي (ولا تصاعر
خدك للناس) قرأ الجمهور " تصعر " وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم " تصاعر " والمعنى متقارب، والصعر
الميل، يقال صعر خده وصاعر خده: إذا أمال وجهه وأعرض تكبرا. والمعنى لا تعرض عن الناس تكبرا عليهم،
ومنه قول الشاعر:
وكنا إذا الجبار صعر خده * مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
ورواه ابن جرير هكذا:
وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما
قال الهروي (ولا تصاعر خدك للناس) أي لا تعرض عنهم تكبرا، يقال أصاب البعير صعر: إذا أصابه داء
يلوي عنقه. وقيل المعنى: ولا تلو شدقك إذا ذكر الرجل عندك كأنك تحتقره. قال ابن خويز منداد: كأنه
نهى أن يذل الإنسان نفسه من غير حاجة، ولعله فهم من التصعير التذلل (ولا تمش في الأرض مرحا) أي خيلاء
وفرحا، والمعنى النهي عن التكبر والتجبر، والمختال يمرح في مشيه، وهو مصدر في موضع الحال، وقد تقدم
تحقيقه، وجمله (إن الله لا يحب كل مختال فخور) تعليل للنهي لأن الاختيال هو المرح، والفخور هو الذي يفتخر
على الناس بماله من المال أو الشرف أو القوة أو غير ذلك، وليس منه التحدث بنعم الله، فإن الله يقول - وأما
بنعمة ربك فحدث - (واقصد في مشيك) أي توسط فيه، والقصد ما بين الإسراع والبطء، يقال قصد فلان في
مشيته: إذا مشى مستويا لا يدب دبيب المتماوتين ولا يثب وثوب الشياطين. وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم: كان إذا مشى أسرع، فلا بد أن يحمل القصد هنا على ما جاوز الحد في السرعة. وقال مقاتل: معناه
لا تختل في مشيتك. وقال عطاء: امش بالوقار والسكينة، كقوله - يمشون على الأرض هونا - (واغضض من
صوتك) أي انقص منه واخفضه ولا تتكلف رفعه، فإن الجهر بأكثر من الحاجة يؤذي السامع، وجملة (إن
أنكر الأصوات لصوت الحمير) تعليل للأمر بالغض من الصوت: أي أوحشها وأقبحها. قال قتادة: أقبح
الأصوات صوت الحمير أوله زفير وآخره شهيق. قال المبرد: تأويله أن الجهر بالصوت ليس بمحمود وإنه
239

داخل في باب الصوت المنكر، واللام في لصوت للتأكيد، ووحد الصوت مع كونه مضافا إلى الجمع لأنه
مصدر، وهو يدل على الكثرة، وهو مصدر صات يصوت صوتا فهو صائت.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أتدرون ما كان لقمان؟
قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: كان حبشيا ". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في كتاب
المملوكين وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان لقمان عبدا حبشيا نجارا. وأخرج
الطبراني وابن حبان في الضعفاء وابن عساكر عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " اتخذوا السودان
فإن ثلاثة منهم سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن ". قال الطبراني: أراد الحبشة.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله (ولقد آتينا لقمان الحكمة) يعني العقل والفهم والفطنة في غير نبوة. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة أنه كان نبيا، وقد قدمنا أن الراوي عنه جابر الجعفي، وهو ضعيف جدا.
وأخرج أحمد والحكيم والترمذي والحاكم في الكنى والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم قال " إن لقمان الحكيم كان يقول: إن الله إذا استودع شيئا حفظه " وقد ذكر جماعة من أهل الحديث
روايات عن جماعة من الصحابة والتابعين تتضمن كلمات من مواعظ لقمان وحكمه، ولم يصح عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك شئ ولا ثبت إسناد صحيح إلى لقمان بشئ منها حتى نقبله. وقد حكى الله
سبحانه من مواعظه لابنه ما حكاه في هذا الوضع، وفيه كفاية وما عدا ذلك مما لم يصح فليس في ذكره إلا شغلة
للحيز وقطيعة للوقت، ولم يكن نبيا حتى يكون ما نقل عنه من شرع من قبلنا، ولا صح إسناد ما روي عنه من
الكلمات حتى يكون ذكر ذلك من تدوين كلمات الحكمة التي هي ضالة المؤمن. وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن
مردويه وابن عساكر عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن أبي وقاص قال: أنزلت في هذه الآية " وإن جاهداك على
أن تشرك بي "، وقد تقدم ذكر هذا. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في سعد بن
أبي وقاص. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وهنا على وهن) قال: شدة بعد شدة وخلقا بعد خلق.
وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل
عن قوله (ولا تصعر خدك للناس) فقال لي الشدق. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن
عباس في قوله (ولا تصعر خدك للناس) قال: لا تتكبر فتحتقر عباد الله وتعرض عنهم إذا كلموك. وأخرج
ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه كالمستكبر.
240

لما فرغ سبحانه من قصة لقمان رجع إلى توبيخ المشركين وتبكيتهم وإقامة الحجج عليهم فقال (ألم تروا أن
الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض) قال الزجاج: معنى تسخيرها للادميين الانتفاع بها انتهى، فمن
مخلوقات السماوات المسخرة لبني آدم: أي التي ينتفعون بها الشمس والقمر والنجوم ونحو ذلك. ومن جملة ذلك
الملائكة فإنهم حفظة لبني آدم بأمر الله سبحانه، ومن مخلوقات الأرض المسخرة لبني آدم الأحجار والتراب والزرع
والشجر والثمر والحيوانات التي ينتفعون بها والشعب الذي يرعون فيه دوابهم وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، فالمراد
بالتسخير جعل المسخر بحيث ينتفع به المسخر له سواء كان منقادا له وداخلا تحت تصرفه أم لا (وأسبغ عليكم
نعمه ظاهرة وباطنة) أي أتم وأكمل عليكم نعمه، يقال سبغت النعمة إذا تمت وكملت. قرأ الجمهور " أسبغ "
بالسين، وقرأ ابن عباس ويحيى بن عمارة " أصبغ " بالصاد مكان السين. والنعم جمع نعمة على قراءة نافع وأبي عمرو
وحفص، وقرأ الباقون " نعمة " بسكون العين على الإفراد والتنوين اسم جنس يراد به الجمع ويدل به على الكثرة،
كقوله - وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها - وهي قراءة ابن عباس. والمراد بالنعم الظاهرة ما يدرك بالعقل أو الحس
ويعرفه من يتعرفه، وبالباطنة فلا مالا يدرك للناس ويخفى عليهم. وقيل الظاهرة الصحة وكمال الخلق، والباطنة المعرفة
والعقل. وقيل الظاهرة ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال وفعل الطاعات، والباطنة ما يجده المرء في نفسه
من العلم بالله وحسن اليقين وما يدفعه الله عن البعد من الآفات. وقيل الظاهرة نعم الدنيا، والباطنة نعم الآخرة.
وقيل الظاهرة الإسلام والجمال، والباطنة ما ستره الله على العبد من الأعمال السيئة (ومن الناس من يجادل في الله)
أي في شأن الله سبحانه في توحيده وصفاته مكابرة وعنادا بعد ظهور الحق له وقيام الحجة عليه، ولهذا قال (بغير
علم) من عقل ولا نقل (ولا هدى) يهتدي به إلى طريق الصواب (ولا كتاب منير) أنزله الله سبحانه، بل مجرد
تعنت ومحض عناد. وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله) أي إذا قيل
لهؤلاء المجادلين. والجمع باعتبار معنى من، اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الكتاب تمسكوا بمجرد التقليد
البحت، و (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي منه في الطريق التي
كانوا يمشون بها في دينهم، ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت (أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى
عذاب السعير) أي يدعو آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم: أي يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم
فيما هم عليه من الشرك، ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع إلى عذاب السعير، لأنه زين لهم اتباع آبائهم والتدين
241

بدينهم، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك،
ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب لو محذوف: أي يدعوهم فيتبعونهم، ومحل الجملة النصب على
الحال. وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه. فإن
الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك وتتهافت في
نار الحريق وعذاب السعير (ومن يسلم وجهه إلى الله) أي يفوض إليه أمره، ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته
(وهو محسن) في أعماله، لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالموقع الذي تقع به
عبادة المحسنين. وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له " أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به، وهو تمثيل لحال
من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى حبل متدل منه (وإلى الله
عاقبة الأمور) أي مصيرها إليه لا إلى غيره. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار
" ومن يسلم " بالتشديد. قال النحاس: والتخفيف في هذا أعرف كما قال عز وجل - فقل أسلمت وجهي لله -
(ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك، بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من
بيان حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) أي تخبرهم بقبائح أعمالهم ونجازيهم عليها
(إن الله عليم بذات الصدور) أي بما تسره صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. فالسر عنده كالعلانية (نمتعهم
قليلا) أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب
قليلا على أنه صفة لمصدر محذوف: أي تمتيعا قليلا (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) أي نلجهئم غير إلى عذاب النار.
فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا أستعير له الغلظ (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن الله) أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم. وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد
وبطلان الشرك ولهذا قال (قل الحمد لله) أي قل يا محمد الحمد لله على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره وتجعلونه
شريكا له؟ أو المعنى: فقل الحمد لله على ما هدانا له من دينه ولا حد لغيرة ثم أضرب عن ذلك فقال (بل أكثرهم
لا يعلمون) أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره (لله
ما في السماوات والأرض) ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة غيره (إن الله هو الغني) عن غيره (الحميد) أي المستحق
للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال. ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض أتبعه
بما يدل على أن له وراء ذلك مالا يحيط به عدد ولا يحصر بحد فقال (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) أي
لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام، ووحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل، فكأنه
قال: كل شجرة شجرة حتى لا يبقي من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاما، وجمع الأقلام لقصد التكثير:
أي لو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع
المعرفة كقوله - ما ننسخ من آية -، ثم قال سبحانه (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) أي يمده من بعد نفاده سبعة
أبحر. قرأ الجمهور " والبحر " بالرفع على أنه مبتدأ، ويمده خبره، والجملة في محل الحال: أي والحال أن البحر
المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مدا لا ينقطع، كذا قال سيبويه. وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدر
تقديره ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقيل: هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها.
وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق والبحر بالنصب عطفا على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره يمده. وقرأ ابن هرمز
والحسن " يمده " بضم حرف المضارعة وكسر الميم، من أمد. وقرأ جعفر بن محمد والبحر " مداده " وجواب لو
242

(ما نفذت كلمات الله) أي كلماته التي هي عبارة عن معلوماته. قال أبو علي الفارسي: المراد بالكلمات والله
أعلم ما في المقدور دون ما خرج منه إلى الوجود، ووافقه القفال فقال: المعنى أن الأشجار لو كانت أقلاما والبحار
مدادا فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفذ تلك العجائب. قال القشيري: رد القفال
معنى الكلمات إلى المقدورات، وحمل الآية على الكلام القديم أولى. قال النحاس: قد تبين أن الكمات هاهنا
يراد بها العلم وحقائق الأشياء، لأنه جل وعلا قبل أن يخلق الخلق ما هو خالق في السماوات والأرض من شئ،
وعلم ما فيه من مثاقيل الذر، وعلم الأجناس كلها وما فيها من شعرة وعضو وما في الشجرة من ورقة وما فيها من
ضروب الخلق. وقيل إن قريشا قالت: ما أكثر كلام محمد، فنزلت قاله السدي، وقيل إنها لما نزلت - وما
أو تيتم من العلم إلا قليلا - في اليهود، قالوا كيف وقد أوتينا التوراة فيها كلام الله وأحكامه، فنزلت. قال أبو عبيدة:
المراد بالبحر هنا الماء العذب الذي ينبت الأقلام، وأما الماء المالح فلا ينبت الأقلام. قلت: ما أسقط هذا
الكلام وأقل جدواه (إن الله عزيز حكيم) أي غالب لا يعجزه شئ، ولا يخرج عن حكمته وعلمه فرد من
أفراد مخلوقاته (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. قال النحاس: كذا
قدره النحويون كخلق نفس مثل قوله - واسئل القرية -. قال الزجاج: أي قدرة الله على بعث الخلق كلهم وعلى
خلقهم كقدرته على خلق نفس واحدة وبعث نفس واحدة (إن الله سميع) لكل ما يسمع (بصير) بكل ما يبصر.
وقد أخرج البيهقي في الشعب عن عطاء قال: سألت ابن عباس عن قوله (وأسبغ عليكم) الآية، قال: هذه من
كنوز علمي سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال " أما الظاهرة فما سوى من خلقك، وأما الباطنة
فما ستر من عورتك، ولو أبداها لقلاك أهلك فمن سواهم ". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب والديلمي وابن
النجار عنه قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله (وأسبغ عليكم نعمة ظاهرة وباطنة) فقال:
أما الظاهرة فالإسلام وما سوى من خلقك وما أسبغ عليك من رزقه، وأما الباطنة فما ستر من مساوئ عملك ".
وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال: النعمة الظاهرة الإسلام، والنعمة الباطنة كل يستر عليكم من الذنوب
والعيوب والحدود. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا أنه قال في
تفسير الآية هي: لا إله إلا الله. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ولو أن
ما في الأرض) الآية " إن أحبار اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة: يا محمد أرأيت قولك
- وما أو تيتم من العلم إلا قليلا - إيانا تريد أم قومك؟ فقال كلا، فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة
وفيها تبيان كل شئ؟ فقال: إنها في علم الله قليل، وأنزل الله (ولو أن ما في الأرض ". وأخرجه ابن
مردويه عنه بأطول منه. وأخرج ابن مردويه أيضا عن ابن مسعود نحوه.
243

الخطاب بقوله (ألم تر) لكل أحد يصلح لذلك أو للرسول صلى الله عليه وآله وسلم (أن الله يولج الليل في
النهار ويولج النهار في الليل) أي يدخل كل واحد منهما في الآخر، وقد تقدم تفسيره في سورة الحج والأنعام
(وسخر الشمس والقمر) أي ذللهما وجعلهما منقادين بالطلوع والأفول تقديرا للآجال وتتميما للمنافع، والجملة
معطوفة على ما قبلهما مع اختلافهما (كل يجري إلى أجل مسمى) اختلف في الأجل المسمى ماذا هو؟ فقيل هو
يوم القيامة، وقيل وقت الطلوع ووقت الأفول، والأول أولى، وجملة (وأن الله بما تعملون خبير) معطوفة على
أن الله يولج: أي خبير بما تعملونه من الأعمال لا تخفى عليه منها خافية لأن من قدر على قبل هذه الأمور العظيمة
فقدرته على العلم بما تعملونه بالأولى. قرأ الجمهور " تعملون " بالفوقية، وقرأ السلمي ونصر بن عامر والدوري عن
أبي عمرو بالتحتية على الخبر، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره، والباء في (بأن الله) للسببية: أي ذلك
بسبب أنه سبحانه (هو الحق) وغيره الباطل، أو متعلقة بمحذوف: أي فعل ذلك ليعلموا أنه الحق (وأن ما يدعون
من دونه الباطل) قال مجاهد: الذي يدعون من دونه هو الشيطان، وقيل ما أشركوا به من صنم أو غيره، وهذا
أولى (وأن الله هو العلي الكبير) معطوفة على جملة " أن الله هو الحق " والمعنى: أن ذلك الصنع البديع الذي وصفه
في الآيات المتقدمة للاستدلال به على حقيقة الله، وبطلان ما سواه، وعلوه وكبريائه: هو العلي في مكانته،
ذو الكبرياء في ربوبيته وسلطانه. ثم ذكر من عجيب صنعه وبديع قدرته نوعا آخر فقال (ألم تر أن الفلك تجري
في البحر بنعمة الله) أي بلطفه بكم ورحمته لكم، وذلك من أعظم نعمه عليكم لأنها تخلصكم من الغرق عند أسفاركم
في البحر لطلب الرزق، وقرأ ابن هرمز " بنعمات الله " جمع نعمة (ليريكم من آياته) من للتبعيض: أي ليريكم
بعض آياته. قال يحيى بن سلام: وهو جري السفن في البحر بالريح. وقال ابن شجرة: المراد بقوله " من آياته
ما يشاهدونه من قدرة الله ". وقال النقاش: ما يرزقهم الله في البحر (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) هذه
الجملة تعليل لما قبلها: أي أن فيما ذكر لآيات عظيمة لكل من له صبر بليغ وشكر كثير يصبر عن معاصي الله
ويشكر نعمه (وإذا غشيهم موج كالظلل) شبه الموج لكبره بما يظل الإنسان من جبل أو سحاب أو غيرهما، وإنما
شبه الموج وهو واحد بالظلل. وهى جمع، لأن الموت يأتي شيئا بعد شئ ويركب بعضه بعضا. وقيل إن الموج
في معنى الجمع لأنه مصدر، وأصل الموج الحركة والازدحام، ومنه يقال ماج البحر وماج الناس. وقرأ محمد بن
الحنفية " موج كالظلال " جمع ظل (دعوا الله مخلصين له الدين) أي دعوا الله وحده لا يعولون على غيره في
خلاصهم لأنهم يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع سواه، ولكنه تغلب على طبائعهم العادات وتقليد الأموات. فإذا
244

وقعوا في مثل هذه الحالة اعترفوا بوحدانية الله وأخلصوا دينهم له طلبا للخلاص والسلامة مما وقعوا فيه (فلما
نجاهم إلى البر) صاروا على قسمين: فقسم (مقتصد) أي موف بما عاهد عليه الله في البحر من إخلاص الدين له
باق على ذلك بعد أن نجاه الله من هول البحر، وأخرجه إلى البر سالما. قال الحسن: معنى مقتصد مؤمن متمسك
بالتوحيد والطاعة. وقال مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، والأولى ما ذكرناه، ويكون في الكلام حذف،
والتقدير فمنهم مقتصد ومنهم كافر، ويدل على هذا المحذوف قوله (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) الختر:
أسوأ الغدر وأقبحه، ومنه قول الأعشى:
بالأبلق الفرد من تيماء منزله * حصن حصين وجار غير ختار
قال الجوهري: الختر الغدر، يقال ختره فهو ختار. قال الماوردي: وهذا قول الجمهور. وقال ابن
عطية: إنه الجاحد، وجحد الآيات: إنكارها، والكفور: عظيم الكفر بنعم الله سبحانه (يا أيها الناس اتقوا ربكم
واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده) أي لا يغني الوالد عن ولده شيئا ولا ينفعه بوجه من وجوه النفع لاشتغاله
بنفسه. وقد تقدم بيان معناه في البقرة (ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) ذكر سبحانه فردين من القرابات وهو
الوالد والولد وهما الغاية في الحنو والشفقة على بعضهم البعض فما عداهما من القرابات لا يجزي بالأولى فكيف
بالأجانب. اللهم اجعلنا ممن لا يرجو سواك ولا يعول على غيرك (إن وعد الله حق) لا يتخلف فما وعد به من الخير
وأوعد به من الشر فهو كائن لا محالة (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) وزخارفها فإنها زائلة ذاهبة (ولا يغرنكم بالله
الغرور) قرأ الجمهور " الغرور " بفتح الغين المعجمة، والغرور هو الشيطان، لأن من شأنه أن يغر الخلق ويمنيهم
بالأماني الباطلة، ويلهيهم عن الآخرة، ويصدهم عن طريق الحق. وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميفع
بضم الغين مصدر غر يغر غرورا، ويجوز أن يكون مصدرا واقعا وصفا للشيطان على المبالغة (إن الله عنده علم
الساعة) أي علم وقتها الذي تقوم فيه. قال الفراء: إن معنى هذا الكلام النفي: أي ما يعلمه أحد إلا الله عز وجل. قال
النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي لما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في قوله - وعنده مفاتح الغيب
لا يعلمها إلا هو - إنها هذه (وينزل الغيث) في الأوقات التي جعلها معينة لإنزاله ولا يعلم ذلك غيره (ويعلم ما في الأرحام)
من الذكور والإناث والصلاح والفساد (وما تدري نفس) من النفوس كائنة ما كانت من غير فرق بين الملائكة
والأنبياء والجن والإنس (ماذا تكسب غدا) من كسب دين أو كسب دنيا (وما تدري نفس بأي أرض تموت)
أي بأي مكان يقضي الله عليها بالموت. قرأ الجمهور " وينزل الغيث " مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة
والكسائي مخففا. وقرأ الجمهور " بأي أرض " وقرأ أبي بن كعب وموسى الأهوازي " بأية " وجوز ذلك الفراء
وهي لغة ضعيفة. قال الأخفش: يجوز أن يقال مررت بجارية أي جارية. قال الزجاج: من ادعى أنه يعلم شيئا
من هذه الخمس فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ختار) قال: جحاد. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
في قوله (ولا يغرنكم بالله الغرور) قال: هو الشيطان. وكذا قال مجاهد وعكرمة وقتادة. وأخرج الفريابي وابن
جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال " جاء رجل من أهل البادية فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا
مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله (إن الله عنده علم
الساعة) الآية ". وأخرج ابن المنذر عن عكرمة نحوه وزاد: وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا؟
245

وزاد أيضا أنه سأله عن قيام الساعة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم ما في غد إلا الله، ولا متى تقوم الساعة إلا الله،
ولا ما في الأرحام إلا الله، ولا متى ينزل الغيث إلا الله، وما تدرى نفس بأي أرض تموت إلا الله، " وفي
الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة في حديث سؤاله عن الساعة وجوابه بأشراطها، ثم قال " في خمس
لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا هذه الآية " وفي الباب أحاديث.
تفسير سورة السجدة
هي ثلاثون آية
وهي مكية كما رواه ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس، ورواه ابن مردويه عن
ابن الزبير. وأخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: هي مكية سوى ثلاث آيات (أفمن كان مؤمنا) إلى تمام
الآيات الثلاث، وكذا قال الكلبي ومقاتل، وقيل إلا خمس آيات من قوله (تتجافى جنوبهم) إلى قوله (الذي كنتم
به تكذبون) وقد ثبت عند مسلم وأهل السنن من حديث أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ في
صلاة الفجر يوم الجمعة بآلم تنزيل السجدة. وهل أتى على الإنسان ". وأخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديثه
أيضا. وأخرج أبو عبيد في فضائله وأحمد وعبد بن حميد والدارمي والترمذي والنسائي والحاكم وصححه وابن
مردويه عن جابر قال " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ آلم تنزيل السجدة وتبارك الذي بيده
الملك ". وأخرج أبو نصر والطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال " من صلى أربع ركعات خلف العشاء الأخيرة قرأ في الركعتين الأوليين قل يا أيها الكافرون (و) (قل هو الله أحد)
وفي الركعتين الأخريين (تبارك الذي بيده الملك) و (آلم تنزيل) السجدة كتبن له كأربع ركعات من ليلة القدر ".
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ تبارك الذي بيده الملك
وآلم تنزيل السجدة بين المغرب والعشاء الآخرة فكأنما قام ليلة القدر ". وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ في ليلة آلم تنزيل السجدة ويس واقتربت الساعة وتبارك الذي
بيده الملك كن له نورا وحرزا من الشيطان، ورفع في الدرجات إلى يوم القيامة. " وأخرج ابن الضريس عن
المسيب بن رافع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " آلم تنزيل تجيء لها جناحات يوم القيامة تظل صاحبها
وتقول: لا سبيل عليه لا سبيل عليه ".
246

قوله (آلم) قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة وعلى محلها من الإعراب في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة
من فواتح السور، وارتفاع (تنزيل) على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر على تقدير أن آلم في محل
رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر لقوله آلم على تقدير أنه اسم للسورة، و (لا ريب فيه) في محل نصب على
الحال، ويجوز أن يكون ارتفاع تنزيل على أنه مبتدأ وخبره لا ريب فيه، ومن رب العالمين في محل نصب على الحال،
ويجوز أن تكون هذه كلها أخبارا للمبتدأ المقدر قبل تنزيل، أو لقوله آلم على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه
حروف مسرودة على نمط التعديد. قال مكي: وأحسن الوجوه أن تكون " لا ريب فيه " في موضع الحال. و " من
رب العالمين " الخبر، والمعنى على هذه الوجوه: أن تنزيل الكتاب المتلو لا ريب فيه ولا شك وأنه منزل من رب
العالمين، وأنه ليس بكذب ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأولين، و " أم " في (أم يقولون افتراه) هي المنقطعة
التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أيقولون هو مفترى فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام
المتضمن للتقريع والتوبيخ، ومعنى " افتراه " افتعله واختلقه. ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن
الكتاب فقال (بل هو الحق من ربك) فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء، ثم بين العلة التي كان التنزيل لأجلها
فقال (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) وهم العرب وكانوا أمة أمية لم يأتهم رسول، وقيل قريش خاصة،
والمفعول الثاني لتنذر محذوف: أي لتنذر قوما العقاب، وجملة ما أتاهم من نذير في محل نصب على الحال ومن
قبلك صفة لنذير. وجوز أبو حيان أن تكون ما موصولة، والتقدير: لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من
نذير من قبلك، وهو ضعيف جدا، فإن المراد تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله، لا تعليله بالإنذار
لقوم قد أنذروا بما أنذرهم به، وقيل المراد بالقوم أهل الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم (لعلهم
يهتدون) رجاء أن يهتدوا، أو كي يهتدوا (الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش)
قد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف، والمراد من ذكرها هنا تعريفهم كمال قدرته وعظيم صنعته ليسمعوا
القرآن ويتأملوه، ومعنى خلق: أوجد وأبدع. قال الحسن: الأيام هنا هي من أيام الدنيا، وقيل مقدار اليوم
ألف سنة من سني الدنيا، قاله الضحاك. فعلى هذا المراد بالأيام هنا هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا، وليست
ثم للترتيب في قوله (ثم استوى على العرش) وقد تقدم تفسير هذا مستوفى (مالكم من دونه من ولي ولا شفيع)
247

أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه من ولي يواليكم ويرد عنكم عذابه ولا شفيع يشفع لكم عنده (أفلا
تتذكرون) تذكر تدبر وتفكر وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل حتى تنتفعوا بها (يدبر الأمر من
السماء إلى الأرض) لما بين سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما بين تدبيره لأمرها: أي يحكم الأمر بقضائه
وقدره من السماء إلى الأرض، والمعنى: ينزل أمره من أعلا السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة كما قال
سبحانه - الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن - ومسافة ما بين سماء الدنيا والأرض
التي تحتها نزولا وطلوعا ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل المراد بالأمور المأمور به من الأعمال: أي ينزله مدبرا من
السماء إلي الأرض. وقيل يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض.
وقيل ينزل الوحي مع جبريل. وقيل العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله - ثم
استوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات - وما دون السماوات موضع التصرف. قال الله - ولقد صرفناه
بينهم ليذكروا - ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال (ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون)
أي ثم يرجع ذلك الأمر ويعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، وذلك باعتبار
مسافة النزول من السماء والطلوع من الأرض كما قدمنا. وقيل إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره
ألف سنة من أيام الدنيا، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا ويموت من فيها. وقيل هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه
مع من يرسله إليها من الملائكة، والمعنى: أنه يثبت ذلك عنده ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في
كل وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. وقيل معنى يعرج إليه: يثبت في علمه موجودا بالفعل في
برهة من الزمان هي مقدار ألف سنة، والمراد طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان. وقيل يدبر
أمر الحوادث اليومية باثباتها في اللوح المحفوظ فتنزل بها الملائكة، ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام
الدنيا. وقيل يقضى قضاء ألف سنة فتنزل به الملائكة، ثم تعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل المراد أن الأعمال
التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه وينزل بها ملائكته ثم لا يعرج إليها منها إلا الخالص بعد مدة متطاولة لقلة
المخلصين من عباده. وقيل الضمير في يعرج يعود إلى الملك وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق، وقد جاء
صريحا في قوله - تعرج الملائكة والروح إليه - والضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها، أو إلى مكان
الملك الذي يرجع إليه وهو الذي أقره الله فيه. وقيل المعنى: يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها
إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة. وقيل المعنى: أن الملك يعرج إلى الله في يوم
كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة، لأن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، فمسافة النزول من
السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام، وقد رجح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير.
وقيل مسافة النزول ألف سنة ومسافة الطلوع ألف سنة، روى ذلك عن الضحاك. وهذا اليوم هو عبارة عن زمان
يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدة النهار بين ليلتين، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم
كما قال الشاعر: يومان يوم مقامات وأندية * ويوم سير إلى الأعداء تأديب
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم.
قرأ الجمهور " يعرج " على البناء للفاعل. وقرأ ابن عبلة على البناء للمفعول، والأصل يعرج به، ثم حذف حرف
الجار فاستر الضمير. وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه - تعرج الملائكة والروح إليه
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة - فقيل في الجواب إن يوم القيامة مقداره الف سنة من أيام الدنيا، ولكنه باعتبار
248

صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة، والعرب تصف كثيرا يوم المكروه بالطول كما تصف يوم
السرور بالقصر كما قال الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله * دم الزق عنا واصطفاف المزاهر
وقول الآخر: * ويوم كإبهام القطاة قطعته * وقيل إن يوم القيامة فيه أيام، فمنها ما مقداره ألف سنة،
ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة، ثم
ينقل إلى نوع آخر، فيعذب به خمسين ألف سنة. وقيل مواقف القيامة خمسون موقفا كل موقف ألف سنة،
فيكون معنى (يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة) أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من
تلك المواقف. وحكى الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله (تعرج الملائكة والروح إليه
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل، والمراد أنه
يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام
الدنيا، وأراد بقوله (في يوم كان مقداره ألف سنة) المسافة التي بين الأرض وبين سماء الدنيا هبوطا وصعودا
فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر، وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ
في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله (في يوم كان مقداره ألف سنة)
يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون الشهر منه؟ وكم تكون السنة منه؟ وعلى هذا فلا فرق بين
ألف سنة وبين خمسين ألف سنة. وقيل غير ذلك. وقد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين كما سيأتي
في آخر البحث إن شاء الله. قرأ الجمهور (مما تعدون) بالفوقية على الخطاب، وقرأ الحسن والسلمي وابن وثاب
والأعمش بالتحتية على الغيبة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، وهو
مبتدأ وخبره (عالم الغيب والشهادة) أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم. وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه
إذا علم بما يغيب وما يحضر فهو مجاز لكل عامل بعمله، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته (العزيز) القاهر
الغالب (الرحيم) بعباده، وهذه أخبار لذلك المبتدأ، وكذلك قوله (الذي أحسن كل شئ خلقه) هو خبر آخر.
قرأ الجمهور " خلقه " بفتح اللام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإسكانها، فعلى القراءة الأولى هو فعل ماض
نعتا لشئ، فهو في محل جر. وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم، ويجوز أن تكون صفة للمضاف،
فيكون في محل نصب. وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه: الأول أن يكون بدلا من كل شئ بدل اشتمال،
والضمير عائد إلى كل شئ، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة. الثاني أنه بدل كل من كل، والضمير راجع
إلى الله سبحانه، ومعنى أحسن: حسن، لأنه مامن شئ إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة، فكل المخلوقات
حسنة. الثالث أن يكون كل شئ هو المفعول الأول، وخلقه هو المفعول الثاني على تضمين أحسن معنى أعطى،
والمعنى: أعطى كل شئ خلقه الذي خصه به. وقيل على تضمينه معنى ألهم. قال الفراء: ألهم خلقه كل شئ مما
يحتاجون إليه. الرابع أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة: أي خلقه خلقا كقوله - صنع الله - وهذا
قول سيبويه والضمير يعود إلى الله سبحانه. والخامس أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى أحسن كل شئ
في خلقه، ومعنى الآية: أنه أتقن وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها، فهي متقنة
محكمة، فتكون هذه الآية معناها معنى - أعطى كل شئ خلقه - أي يخلق الإنسان على خلق البهيمة وخلق لا
البهيمة على خلق الإنسان، وقيل هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى: أي أحسن خلق كل شئ حسن (وبدأ
249

خلق الإنسان من طين) يعني آدم خلقه من طين فصار على صورة بديعة وشكل حسن (وجعل نسله) أي ذريته
(من سلالة) سميت الذرية سلالة لأنها تسل من الأصل وتنفصل عنه، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنين،
ومعنى (من ماء مهين) من ماء ممتهن لاخطر له عند الناس وهو المني. وقال الزجاج: من ماء ضعيف (ثم سواه)
أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم، أو جميع النوع، والمراد أنه عدل خلقه وسوى شكله وناسب
بين أعضائه (ونفخ فيه من روحه) الإضافة للتشريف والتكريم، وهذه الإضافة تقوى أن الكلام في آدم لا في
ذريته وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع. ثم خاطب جميع النوع فقال (وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة)
أي خلق لكم هذه الأشياء تكميلا لنعمته عليكم وتتميما لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم، فتسمعون كل
مسموع وتبصرون كل مبصر، وتتعقلون كل متعقل، وتفهمون كل ما يفهم، وأفرد السمع لكونه مصدرا
يشمل القليل والكثير، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم ولهذا جمعا، لأن السمع
قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على رده، ولا على
تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض، بخلاف الأبصار فمحلها العين وله فيه اختيار، فإنها تتحرك إلى
جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشئ، وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه،
فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا. قرأ الجمهور " وبدأ " بالهمز، والزهري بألف خالصة بدون همز،
وانتصاب (قليلا ما تشكرون) على أنه صفة مصدر محذوف: أي شكرا قليلا، أو صفة زمان محذوف: أي زمانا
قليلا. وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال (وقالوا أئذا ضللنا في الأرض) قد
تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة وفي الهمزة التي بعدها، والضلال الغيبوبة، يقال: ضل الميت في التراب إذا
غاب وبطل، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره قد ضل. ومنه قول الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد * قذف الأتى بها فضل ضلالا
قال قطرب: معنى ضللنا في الأرض: غبنا في الأرض. قرأ الجمهور " ضللنا " بفتح ضاد معجمة ولام
مفتوحة بمعنى ذهبنا وضعنا وصرنا ترابا وغبنا عن الأعين. وقرأ يحيى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء " ضللنا "
بكسر اللام، وهي لغة العالية من نجد. قال الجوهري: وأهل العالية يقولون ضللت بالكسر. قال وأضله: أي
أضاعه وأهلكه، يقال ضل الميت إذا دفن. وقرأ علي بن أبي طالب والحسن والأعمش وأبان بن سعيد " صللنا "
بصاد مهملة ولام مفتوحة: أي أنتنا. قال النحاس: ولا يعرف في اللغة صللنا، ولكن يقال صل اللحم إذا أنتن.
قال الجوهري: صل اللحم يصل بالكسر صلولا إذا أنتن، مطبوخا كان أو نيئا، ومنه قول الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدرة * لا يفسد اللحم لديه الصلول
(أإنا لفي خلق جديد) أي نبعث ونصير أحياء، والاستفهام للاستنكار. وهذا قول منكري البعث من الكفار،
فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه، وهو كفرهم بلقاء الله، فقال (بل هم
بلقاء ربهم كافرون) أي جاحدون له مكابرة وعنادا، فإن اعترافهم بأنه المبتدئ للخلق يستلزم اعترافهم بأنه قادر
على الإعادة. ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبين لهم الحق ويرد عليهم ما زعموه من الباطل،
فقال (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) يقال: توفاه الله واستوفى روحه إذا قبضه إليه، وملك الموت هو
عزرائيل، ومعنى وكل بكم: وكل بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم (ثم إلى ربكم ترجعون) أي تصيرون
إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
250

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (يدبر الأمر) الآية قال: هذا في الدنيا تعرج
الملائكة في يوم مقداره ألف سنة. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه في قوله
(في يوم كان مقداره ألف سنة) قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض. وأخرج عبد الرزاق
وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وصححه عن عبد الله بن
أبي مليكة قال: دخلت على عبد الله بن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان، فقال له ابن فيروز:
يا أبا عباس. قوله (يدبر الأمر من السماء إلي الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقدره ألف سنة) فكأن ابن عباس اتهمه
فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما
الله في كتابه الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله مالا أعلم، فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلي ابن
المسيب، فسأله عنهما إنسان فلم يخبره ولم يدر. فقلت: ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس؟ قال بلى، فأخبرته
فقال للسائل: هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيها، وهو أعلم مني. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(كان مقداره ألف سنة) قال: لا يتنصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم حتى يقضي بين العباد،
فينزل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة. وأخرج ابن جرير عنه
أيضا في قوله (ثم يعرج إليه في يوم) من أيامكم هذه، ومسيرة ما بين السماء والأرض خمسمائة عام. وأخرج ابن
أبي شيبة والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ (الذي أحسن
كل شئ خلقه) قال: أما رأيت القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في
الآية أنه قال: أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها، وقال (خلقه) صورته. وقال (أحسن كل
شئ) القبيح والحسن والعقارب والحيات وكل شئ مما خلق، وغيره لا يحسن شيئا من ذلك. وأخرج الطبراني عن
أبي أمامة قال " بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد
أسبل. فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بناحية ثوبه، فقال: يا رسول الله إني أحمش الساقين، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عمرو بن زرارة إن الله عز وجل قد أحسن كل شئ خلقه، يا عمرو بن زرارة
إن الله لا يحب المسبلين ". وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال " أبصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم
رجلا قد أسبل إزاره، فقال: ارفع إزارك، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: ارفع
إزارك كل خلق الله حسن ".
251

قوله (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم) المراد بالمجرمين هم القائلون أئذا ضللنا، والخطاب هنا
لكل من يصلح له، أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم ويدخل فيه أولئك
القائلون دخولا أوليا، ومعنى (ناكسوا رؤوسهم) مطأطؤها حياء وندما على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله
والعصيان له، ومعنى عند ربهم: عند محاسبته لهم. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطبة
لأمته، فالمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب (ربنا أبصرنا وسمعنا) أي يقولون:
ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به وسمعنا ما كنا ننكره، وقيل أبصرنا صدق وعيدك وسمعنا تصديق رسلك، فهؤلاء
أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع (فارجعنا) إلى الدنيا (نعمل) عملا (صالحا) كما
أمرتنا (إنا موقنون) أي مصدقون، وقيل مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصفوا
أنفسهم بالإيقان الآن طمعا فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا، وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم
- لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون - وقيل معنى (إنا موقنون) أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت
تخالطهم في الدنيا لما رأوا ما رأوا وسمعوا ما سمعوا، ويجوز أن يكون معنى (أبصرنا وسمعنا) صرنا ممن يسمع ويبصر
فلا يحتاج إلى تقدير مفعول، ويجوز أن يكون صالحا مفعولا لنعمل كما يجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف،
وجواب لو محذوف: أي لرأيت أمرا فظيعا وهولا هائلا (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) هذا رد عليهم لما
طلبوا الرجعة: أي لو شئنا لآتينا كل نفس هداها فهدينا الناس جميعا فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس: في معنى
هذا قولان: أحدهما أنه في الدنيا، والآخر أنه في الآخرة: أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا (ولكن حق القول
مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) وجملة ولو شئنا مقدرة بقول معطوف على المقدر قبل قوله " أبصرنا "
أي ونقول لو شئنا، ومعنى (ولكن حق القول مني) أي نفذ قضائي وقدري وسبقت كلمتي (لأملأن جهنم من
الجنة والناس أجمعين) هذا هو القول الذي وجب من الله وحق على عباده ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا
القول أنه لا يعطي كل نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا، لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم
ممن يختار الضلالة على الهدى، والفاء في قوله (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله،
والباء في " بما نسيتم " للسببية، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدم، بل بذاك وهذا.
252

واختلف في النسيان المذكور هنا، فقيل هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر، وقيل هو
الترك. والمعنى على الأول: أنهم لم يعلموا لذلك اليوم، فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه. وعلى الثاني لابد
من تقدير مضاف قبل لقاء: أي ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد
وأنشد: كأنه خارج من جنب صفحته * سفود شرب نسوه عند مفتأد
أي تركوه، وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام: إن النسيان هنا بمعنى الترك. قال يحيى بن سلام: والمعنى:
بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم تركناكم من الخير، وكذا قال السدي، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب.
وقال مقاتل: إذا دخلوا النار. قالت لهم الخزنة: ذوقوا العذاب بما نسيتم، واستعار الذوق للإحساس، ومنه قول
طفيل: فذقوا كما ذقنا غداة محجة * من الغيظ في أكبادنا والتحوب
وقوله (وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون) تكرير لقصد التأكيد: أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا ينقطع
أبدا بما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي. قال الرازي في تفسيره: إن اسم الإشارة في قوله (بما نسيتم
لقاء يومكم هذا) يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إشارة إلى اليوم، وأن يكون إشارة
إلى العذاب، وجملة (إنما يؤمن بآياتنا) مستأنفة لبيان ما يستحق الهداية إلى الإيمان، ومن لا يستحقها، والمعنى:
إنما يصدق بآياتنا وينتفع بها (الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا) لا غيرهم ممن يذكر بها: أي يوعظ بها ولا يتذكر
ولا يؤمن بها، ومعنى " خروا سجدا " سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيما لآيات الله وخوفا من سطوته وعذابه
(وسبحوا بحمد ربهم) أي نزهوه عن كل مالا يليق به ملتبسين بحمده على نعمه التي أجلها وأكملها الهداية إلى
الإيمان، والمعنى: قالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده. وقال سفيان: المعنى
صلوا حمدا لربهم، وجملة (وهم لا يستكبرون) في محل نصب على الحال: أي حال كونهم خاضعين لله، متذللين
له غير مستكبرين عليه (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) أي ترتفع وتنبو يقال: جفي الشئ عن الشئ وتجافى عنه: إذا لم
يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه. قال الزجاج والرماني: التجافي والتجفي
إلى جهة فوق، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سب ونحوه، والجنوب جمع جنب، والجملة في محل نصب
على الحال: أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه
قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور، والمراد بالصلاة صلاة التنفل بالليل من غير تقييد. وقال قتادة وعكرمة:
هو التنقل ما بين المغرب والعشاء، وقيل صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء. وقال الضحاك:
صلاة العشاء والصبح في جماعة، وقيل هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها (يدعون ربهم
خوفا وطمعا) هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضا من الضمير الذي في جنوبهم فهي حال بعد حال،
ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم، والمعنى: تتجافى جنوبهم حال كونهم
داعين ربهم خوفا من عذابه وطمعا في رحمته (ومما رزقناهم ينفقون) أي من الذي رزقناهم أو من رزقهم، وذلك
الصدقة الواجبة، وقيل صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم، وانتصاب خوفا وطمعا على العلة، ويجوز أن
يكونا مصدرين منتصبين بمقدر (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) النكرة في سياق النفي تفيد العموم: أي
لاتعلم نفس من النفوس أي نفس كانت ما أخفاه لله سبحانه لأولئك الذين تقدم ذكرهم مما تقر به أعينهم، قرأ
الجمهور قرة بالإفراد. وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء " من قرأت " بالجمع. وقرأ حمزة ما أخفى بسكون
الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه، وقرأ الباقون بفتحها فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وقرأ ابن مسعود
253

" ما تخفى " بالنون مضمومة، وقرأ الأعمش " يخفى " بالتحتية مضمومة. قال الزجاج في معنى قراءة حمزة: أي منه
ما أخفى الله لهم، وهى قراءة محمد بن كعب، و " ما " في موضع نصب. ثم بين سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم
الصالحة فقال (جزاء بما كانوا يعملون) أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا أو جوزوا جزاء بذلك
(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا) الاستفهام للإنكار: أي ليس المؤمن كالفاسق فقد ظهر ما بينهما من التفاوت، ولهذا
قال (لا يستوون) ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام. قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة
حيث قال (لا يستوون) لأجل معنى من، وقيل لكون الاثنين أقل الجمع، وسيأتي بيان سبب نزولها آخر
البحث. ثم بين سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين فقال (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات
المأوى) قرأ الجمهور " جنات " بالجمع، وقرأ طلحة بن مصرف " جنة المأوى " بالإفراد، والمأوى هو الذي
يأوون إليه، وأضاف الجنات إليه لكونه المأوى الحقيقي، وقيل المأوى جنة من الجنات، وقد تقدم الكلام على
هذا، ومعنى (نزلا) أنها معدة لهم عند نزولهم، وهو في الأصل ما يعد للنازل من الطعام والشراب كما بيناه في
آل عمران، وانتصابه على الحال. وقرأ أبو حيوة " نزلا " بسكون الزاي، والباء في (بما كانوا يعملون) للسببية:
أي بسبب ما كانوا يعملونه، أو بسبب عملهم. ثم ذكر الفريق الآخر فقال (وأما الذين فسقوا) أي خرجوا عن
طاعة الله وتمردوا عليه وعلى رسله (فمأواهم النار) أي منزلهم الذي يصيرون إليه ويستقرون فيه هو النار (كلما
أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها) أي إذا أرادوا الخروج منها ردوا إليها راغمين مكرهين، وقيل إذ دفعهم
اللهب إلى أعلاها ردوا إلى مواضعهم (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) والقائل لهم هذه المقالة
هو خزنة جهنم من الملائكة، أو القائل لهم هو الله عز وجل، وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار
من الإغاظة لهم مالا يخفى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) وهو عذاب الدنيا. قال الحسن وأبو العالية والضحاك
والنخعي: هو مصائب الدنيا وأسقامها، وقيل الحدود، وقيل القتل بالسيف يوم بدر، وقيل سنين الجوع بمكة،
وقيل عذاب القبر، ولا مانع من الحمل على الجميع (دون العذاب الأكبر) وهو عذاب الآخرة (لعلهم يرجعون)
مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه. وفي هذا
التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر (ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم
أعرض عنها) أي لا أحد أظلم منه لكونه سمع من أيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، فجعل الإعراض
مكان ذلك، والمجيء بثم للدلالة على استبعاد ذلك، وأنه مما ينبغي أن لا يكون (إنا من المجرمين منتقمون) أي من
أهل الإجرام على العموم فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولا أوليا.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنا نسيناكم) قال: تركناكم.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال: نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس (إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا
بها خروا سجدا) أي أتوها (وسبحوا) أي صلوا بأمر ربهم (وهم لا يستكبرون) عن إتيان الصلاة في الجماعات.
وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن أنس بن
مالك أن هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة. وأخرج البخاري
في تاريخه وابن مردويه عنه قال: نزلت في صلاة العشاء. وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن
مردويه عنه أيضا في الآية قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء. وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: كنا نجتنب
الفرش قبل صلاة العشاء. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وابن مردويه عنه أيضا قال: ما رأيت رسول الله صلى
254

الله عليه وآله وسلم راقدا قط قبل العشاء، ولا متحدثا بعدها، فإن هذه الآية نزلت في ذلك (تتجافى جنوبهم عن
المضاجع). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال. تتجافى جنوبهم عن المضاجع
قال: هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم، فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه
فوقتها قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير. وأخرج ابن مردويه عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد وناس من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلون بعد المغرب العشاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع. وأخرج
عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن عدي وابن مردويه عن أنس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود ومحمد
ابن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في قوله (تتجافى جنوبهم
عن المضاجع) قال: كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون. وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن
معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (تتجافى جنوبهم) قال: قيام العبد من الليل. وأخرج
أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة وابن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر حديثا وأرشد فيه
إلى أنواع من الطاعات وقال فيه " وصلاة الرجل في جوف الليل، ثم قرأ (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ".
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا في حديث قال فيه " وصلاة المرء في جوف الليل، ثم تلا هذه الآية ".
وأخرج ابن مردويه عن أنس في الآية قال: كان لا تمر عليهم ليلة إلا أخذوا منها. وأخرج عبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد من طريق أبي عبد الله الجدلي عن عبادة بن الصامت عن كعب قال " إذا حشر الناس نادى مناد:
هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع " الحديث. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية
يقول: تتجافى لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله، إما في الصلاة، وإما في القيام أو قعود، أو على جنوبهم
لا يزالون يذكرون الله. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم
وأبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: كان عرش الله على الماء فاتخذ جنة لنفسه، ثم
اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة، ثم قال - ومن دونهما جنتان - لم يعلم الخلق ما فيهما. وهي التي قال
الله (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين) تأتيهم منها كل يوم تحفة. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد
أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ولا يعلم ملك
مقرب ولا نبي مرسل، وإنه لفي القرآن (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين). وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين
رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. قال أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من
قرة أعين) ". وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة فلا نطول بذكرها. وأخرج أبو الفرج
الأصبهاني في كتاب الأغاني والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس
قال: قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب: أنا أحد منك سنانا، وأنشط منك لسانا، وأملأ للكتيبة منك،
فقال له علي: اسكت فإنما أنت فاسق، فنزلت (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) يعنى بالمؤمن
عليا، وبالفاسق الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه في الآية نحوه.
وروي نحو هذا عن عطاء بن يسار والسدي وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وأخرج الفريابي وابن منيع وابن جرير
255

وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود في قوله
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) قال: يوم بدر (دون العذاب الأكبر) قال: يوم القيامة (لعلهم يرجعون)
قال: لعل من بقي منهم أن يتوب فيرجع. وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن
مردويه عن ابن مسعود في الآية قال: العذاب الأدنى سنون أصابتهم (لعلهم يرجعون) قال: يتوبون. وأخرج
مسلم وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة في صحيحه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي بن كعب في قوله (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى) قال: مصائب الدنيا والروم.
والبطشة والدخان. وأخرج ابن جرير عنه قال: يوم بدر. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس (ومن العذاب الأدنى) قال: الحدود (لعلهم يرجعون) قال: يتوبون. وأخرج ابن
منيع وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه. قال السيوطي بسند ضعيف عن معاذ بن جبل: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عق
والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم " يقول الله (إنا من المجرمين منتقمون). قال ابن كثير بعد إخراجه:
هذا حديث غريب.
قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب) أي التوراة (فلا تكن) يا محمد (في مرية) أي شك وريبة (من لقائه)
قال الواحدي: قال المفسرون: وعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه سيلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه
في السماء أو في بيت المقدس حين أسرى به. وهذا قول مجاهد والكلبي والسدي. وقيل فلا تكن في شك من لقاء
موسى في القيامة وستلقاه فيها. وقيل فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب قاله الزجاج. وقال الحسن: إن
معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب فكذب وأوذي، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى
فيكون الضمير في لقائه على هذا عائدا على محذوف، والمعنى من لقاء مالا موسى. قال النحاس: وهذا قول
غريب. وقيل في الكلام تقدير وتأخير، والمعنى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، فلا تكن في مرية من
256

لقائه، فجاء معترضا بين (ولقد آتينا موسى الكتاب) وبين (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) وقيل الضمير راجع
إلى الكتاب الذي هو الفرقان كقوله - وإنك لتلقى القرآن - والمعنى: أنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب،
ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وما أبعد هذا، ولعل الحامل لقائله
عليه قوله (وجعلناه هدى لبني إسرائيل) فإن الضمير راجع إلى الكتاب، وقيل إن الضمير في لقائه عائد إلى
الرجوع المفهوم من قوله - ثم إلى ربكم ترجعون - أي لا تكن في مرية من لقاء الرجوع وهذا بعيد أيضا.
واختلف في الضمير في قوله " وجعلناه " فقيل هو راجع إلى الكتاب: أي جعلنا التوراة هدى لبني
إسرائيل، قاله الحسن وغيره. وقال قتادة: إنه راجع إلى موسى: أي وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل (وجعلنا
منهم أئمة) أي قادة يقتدون به في دينهم، وقرأ الكوفيون " أئمة " قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين،
لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، ومعنى (يهدون بأمرنا) أي يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليه من أحكام
التوراة ومواعظها بأمرنا: أي بأمرنا لهم بذلك، أو لأجل أمرنا. وقال قتادة: المراد بالأئمة الأنبياء منهم. وقيل
العلماء (لما صبروا) قرأ الجمهور " لما " بفتح اللام وتشديد الميم: أي حين صبروا، والضمير للأئمة، وفي لما
معنى الجزاء، والتقدير: لما صبروا جعلناهم أئمة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف وورش عن يعقوب ويحيى بن
وثاب بكسر اللام وتخفيف الميم: أي جعلناهم أئمة لصبرهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد مستدلا بقراءة ابن
مسعود " بما صبروا " بالباء، وهذا الصبر هو صبرهم على مشاق التكليف والهداية للناس، وقيل صبروا عن الدنيا
(وكانوا بآياتنا) التنزيلية (يوقنون) أي يصدقونها ويعلمون أنها حق وأنها من عند الله لمزيد تفكرهم وكثرة تدبرهم
(إن ربك هو يفصل بينهم) أي يقضي بينهم ويحكم بين المؤمنين والكفار (يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون)
وقيل يقضي بين الأنبياء وأممهم، حكاه النقاش (أو لم يهد لهم) أي أولم يبين لهم، والهمزة للإنكار، والفاعل
ما دل عليه (كم أهلكنا من قبلهم من القرون) أي أولم نبين لهم كثرة إهلاكنا من قبلهم. قال الفراء: كم في
موضع رفع بيهد. وقال المبرد: إن الفاعل الهدى المدلول عليه بيهد: أي أو لم يهد لهم الهدى. وقال الزجاج: كم في
موضع نصب بأهلكنا، قرأ الجمهور " أولم يهد " بالتحتية، وقرأ السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب بالنون،
وهذه القراءة واضحة. قال النحاس: والقراءة بالياء التحتية فيها إشكال لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل فأين
الفاعل ليهد؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدمنا ذكره، والمراد بالقرون: عاد وثمود ونحوهم، وجملة (يمشون
في مساكنهم) في محل نصب على الحال من ضمير لهم: أي والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين ويشاهدونها،
وينظرون ما فيها من العبر، وآثار العذاب، ولا يعتبرون بذلك، وقيل يعود إلى المهلكين، والمعنى: أهلكناهم
حال كونهم ماشين في مساكنهم، والأول أولى (إن في ذلك) المذكور (لآيات) عظيمات (أفلا يسمعونها)
ويتعظون بها (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) أي أولم يعلموا بسوقنا الماء إلى الأرض التي لا تنبت
إلا بسوق الماء إليها، وقيل هي اليابسة، وأصله من الجرز وهو القطع: أي التي قطع نباتها لعدم الماء، ولا يقال
للتي لا تنبت أصلا كالسباخ جرز لقوله (فتخرج به زرعا) قيل هي أرض اليمن، وقيل أرض عدن. وقال
الضحاك: هي الأرض العطشى. وقال الفراء: هي الأرض التي لانبات فيها. وقال الأصمعي: هي الأرض التي
لا تنبت شيئا. قال المبرد: يبعد أن تكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام، وقيل: هي مشتقة من قولهم رجل
جروز: إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله، ومنه قول الراجز:
خب جروز وإذا جاع بكى * ويأكل التمر ولا يلقى النوى
257

وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شئ تجده. وقال مجاهد: إنها أرض النيل، لأن الماء إنما يأتيها
في كل عام (فنخرج به): أي بالماء (زرعا تأكل منه أنعامهم) أي من الزرع كالتبن والورق ونحوهما مما
لا يأكله الناس (وأنفسهم) أي يأكلون الحبوب الخارجة في الزرع مما يقتاتونه، وجملة (تأكل منه أنعامهم) في
محل نصب على الحال (أفلا يبصرون) هذه النعم ويشكرون المنعم ويوحدونه لكونه المنفرد بإيجاد ذلك (ويقولون
متى هذا الفتح إن كنتم صادقين) القائلون هم الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص: أي متى الفتح
الذي تعدونا به، يعنون بالفتح القضاء والفصل بين العباد، وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين عباده، قاله
مجاهد وغيره. وقال الفراء والقتيبي: هو فتح مكة. قال قتادة: قال أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للكفار:
إن لنا يوما ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم: يعنون يوم القيامة، فقال الكفار: متى هذا الفتح؟ وقال
السدي: هو يوم بدر، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للكفار: إن الله ناصرنا ومظهرنا
عليكم، ومتى في قوله (متى هذا الفتح) في موضع رفع، أو في موضع نصب على الظرفية. ثم أمر الله سبحانه
نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عليهم فقال (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولاهم ينظرون)
وفي هذا دليل على أن يوم الفتح هو يوم القيامة، لأن يوم فتح مكة ويوم بدر هما مما ينفع فيه الإيمان، وقد أسلم
أهل مكة يوم الفتح، وقبل ذلك منهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى (ولا هم ينظرون) لا يمهلون ولا
يؤخرون، ويوم في " يوم الفتح " منصوب على الظرفية، وأجاز الفراء الرفع (فأعرض عنهم) أي عن سفههم
وتكذيبهم ولا تجبهم إلا بما أمرت به (وانتظر إنهم منتظرون) أي وانتظر يوم الفتح، وهو يوم القيامة، أو يوم
إهلاكهم بالقتل إنهم منتظرون بك حوادث الزمان من موت أو قتل أو غلبة كقوله - فتربصوا إنا معكم متربصون -
ويجوز أن يراد إنهم منتظرون لإهلاكهم، والآية منسوخة بآية السيف، وقيل غير منسوخة، إذ قد يقع الإعراض
مع الأمر بالقتال. وقرأ ابن السميفع " إنهم منتظرون " بفتح الظاء مبنيا للمفعول، ورويت هذه القراءة عن مجاهد
وابن محيصن. قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار: أي إنهم منتظر بهم. قال أبو حاتم: الصحيح الكسر: أي
انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " رأيت
ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلا طويلا جعدا كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق
إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكا خازن جهنم والدجال في آيات أراهن الله إياه " قال (فلا تكن في
مرية من لقائه) فكان قتادة يفسرها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد لقي موسى (وجعلناه هدى لبني إسرائيل)
قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل. وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند قال السيوطي:
صحيح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (فلا تكن في مرية من لقائه) قال من لقاء موسى، قيل
أو لقى موسى؟ قال نعم، ألا ترى إلى قوله - واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا - وأخرج الفريابي وابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز) قال: الجرز التي لا تمطر إلا
مطرا لا يغنى عنها شيئا إلا ما يأتيها من السيول. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في
قوله (إلى الأرض الجرز) قال: أرض باليمن. قال القرطبي في تفسيره: والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن
فيه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم
صادقين) قال: يوم بدر فتح للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت.
258

تفسير سورة الأحزاب
هي ثلاث وسبعون آية، وهي مدنية
أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة
الأحزاب بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف والطيالسي وسعيد بن
منصور وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن منيع والنسائي وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والدارقطني
في الإفراد والحاكم وصححه، وابن مردويه والضياء في المختارة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب كأي تقرأ سورة
الأحزاب أو كأين تعدها، قلت ثلاثا وسبعين آية، فقال أقط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة، أو أكثر من
سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم " فرفع فيما رفع
قال ابن كثير: وإسناده حسن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب قام، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه
آية الرجم، فقرأناها ووعيناها " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة " ورجم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ورجمنا بعده، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل: لا نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة
أنزلها الله. وقد روي عنه نحو هذا من طرق. وأخرج ابن مردويه عن حذيفة قال: قال لي عمر بن الخطاب: كم
تعدون سورة الأحزاب؟ قلت ثنتين أو ثلاثا وسبعين، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية
الرجم. وأخرج البخاري في تاريخه عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها. وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت:
كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم يقرر
منها إلا على ما هو الآن.
259

قوله (يا أيها النبي اتق الله) أي دم على ذلك وازدد منه (ولا تطع الكافرين) من أهل مكة ومن هو على مثل
كفرهم (والمنافقين) أي الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر. قال الواحدي: إنه أراد سبحانه بالكافرين
أبا سفيان وعكرمة وأبا الأعور السلمي، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ارفض ذكر آلهتنا،
وقل إن لها شفاعة لمن عبدها. قال: والمنافقين عبد الله بن أبي وعبد الله بن سعد بن أبي سرح. وسيأتي آخر البحث
بيان سبب نزول الآية (إن الله كان عليما حكيما) أي كثير العلم والحكمة بليغهما، قال النحاس: ودل بقوله (إن الله
كان عليما حكيما) على أنه كان يميل إليهم: يعنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم استدعاء لهم إلى الإسلام، والمعنى:
أن الله عز وجل لو علم أن ميلك إليهم فيه منفعة لما نهاك عنهم لأنه حكيم، ولا يخفى بعد هذه الدلالة التي زعمها،
ولكن هذه الجملة تعليل لجملة الأمر بالتقوى والنهي عن طاعة الكافرين، والمنافقين، والمعنى: أنه لا يأمرك أو
ينهاك إلا بما علم فيه صلاحا أو فسادا لكثرة علمه وسعة حكمته (واتبع ما يوحى إليك من ربك) من القرآن: أي
اتبع الوحي في كل أمورك ولا تتبع شيئا مما عداه من مشورات الكافرين والمنافقين ولا من الرأي البحت، فإن فيما
أوحى إليك ما يغنيك عن ذلك، وجملة (إن الله كان بما تعملون خبيرا) تعليل لأمره باتباع ما أوحى إليك، والأمر
له صلى الله عليه وآله وسلم أمر لأمته، فهم مأمورون باتباع القرآن كما هو مأمور باتباعه، ولهذا جاء بخطابه
وخطابهم في قوله (بما تعملون) على قراءة الجمهور بالفوقية للخطاب، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم.
وقرأ أبو عمرو والسلمي وابن أبي إسحاق بالتحتية (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا) أي اعتمد عليه وفوض أمورك
إليه، وكفى به حافظا يحفظ من توكل عليه. ثم ذكر سبحانه مثلا توطئة وتمهيدا لما يتعقبه من الأحكام القرآنية
التي هي من الوحي الذي أمره الله باتباعه فقال (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه).
وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية كما سيأتي، وقيل هي مثل ضربه الله للمظاهر: أي كما لا يكون
للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه حتى يكون له أمان، وكذلك لا يكون الدعي ابنا لرجلين. وقيل
كان الواحد من المنافقين يقول: لي قلب يأمرني بكذا وقلب بكذا، فنزلت الآية لرد النفاق وبيان أنه لا يجتمع مع
الإسلام كما لا يجتمع قلبان، والقلب بضعة صغيرة على هيئة الصنوبرة خلقها الله وجعلها محلا للعلم (وما جعل
أزواجكم اللائي تظهرون منهن أمهاتكم) وقرأ الكوفيون وابن عامر " اللائي " بياء ساكنة بعد همزة، وقرأ أبو عمرو
والبزي بياء ساكنة بعد ألف محضة. قال أبو عمرو بن العلاء: إنها لغة قريش التي أمر الناس أن يقرءوا بها. وقرأ
قنبل وورش بهمزة مكسورة بدون ياء. قرأ عاصم تظاهرون بضم الفوقية وكسر الهاء بعد ألف مضارع
ظاهر، وقرأ ابن عامر بفتح الفوقية والهاء وتشديد الظاء مضارع تظاهر، والأصل تتظاهرون وقرأ الباقون
260

" تظهرون " بفتح الفوقية وتشديد الظاء بدون ألف، والأصل تتظهرون، والظهار مشتق من الظهر، وأصله أن
يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، والمعنى: وما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن هذا القول
كأمهاتكم في التحريم، ولكنه منكر من القول وزور (و) كذلك (ما جعل) الأدعياء الذين تدعون أنهم (أبناءكم)
أبناء لكم، والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعى ابنا لغير أبيه، وسيأتي الكلام في الظهار في سورة المجادلة،
والإشارة بقوله (ذلكم) إلى ما تقدم من ذكر الظهار والادعاء، وهو مبتدأ وخبره (قولكم بأفواهكم) أي ليس
ذلك إلا مجرد قول بالأفواه ولا تأثير له، فلا تصير المرأة به أما ولا ابن الغير به ابنا، ولا يترتب على ذلك شئ من
أحكام الأمومة والبنوة. وقيل الإشارة راجعة إلى الادعاء: أي ادعاؤكم أن أبناء الغير أبناؤكم لا حقيقة له، بل
هو مجرد قول بالفم (والله يقول الحق) الذي يحق اتباعه لكونه حقا في نفسه لا باطلا، فيدخل تحته دعاء الأبناء
لآبائهم (وهو يهدي السبيل) أي يدل على الطريق الموصلة إلى الحق، وفي هذا إرشاد للعباد إلى قول الحق وترك
قول الباطل والزور. ثم صرح سبحانه بما يجب على العباد من دعاء الأبناء للآباء فقال (ادعوهم لآبائهم) للصلب
وانسبوهم إليهم ولا تدعوهم إلى غيرهم، وجملة (هو أقسط عند الله) تعليل للأمر بدعاء الأبناء للآباء، والضمير
راجع إلى مصدر ادعوهم، ومعنى أقسط أعدل: أي أعدل كل كلام يتعلق بذلك، فترك الإضافة للعموم كقوله
الله أكبر، وقد يكون المضاف إليه مقدرا خاصا: أي أعدل من قولكم هو ابن فلان ولم يكن ابنه لصلبه. ثم تمم
سبحانه الإرشاد للعباد فقال (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) أي فهم إخوانكم في الدين وهم
مواليكم، فقولوا: أخي ومولاي ولا تقولوا ابن فلان، حيث لم تعلموا آباءهم على الحقيقة. قال الزجاج: ويجوز
أن يكون مواليكم أولياءكم في الدين. وقيل المعنى: فإن كانوا محررين ولم يكونوا أحرارا، فقولوا موالي فلان
(وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) أي لا إثم عليكم فيما وقع منكم من ذلك خطأ من غير عمد، (ولكن) الإثم
(فيما تعمدت قلوبكم) وهو ما قلتموه على طريقة العمد من نسبة الأبناء إلى غير آبائهم مع علمكم بذلك. قال قتادة:
لو دعوت رجلا لغير أبيه وأنت ترى أنه أبوه لم يكن عليك بأس (وكان الله غفورا رحيما) يغفر للمخطئ ويرحمه
ويتجاوز عنه، أو غفورا للذنوب رحيما بالعباد، ومن جملة من يغفر له ويرحمه من دعا رجلا لغير أبيه خطأ. أو
قبل النهي عن ذلك. ثم ذكر سبحانه لرسوله مزية عظيمة وخصوصية جليلة لا يشاركه فيها أحد من العباد فقال
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أي هو أحق بهم في كل أمور الدين والدنيا، وأولى بهم من أنفسهم فضلا عن
أن يكون أولى بهم من غيرهم، فيجب عليهم أن يؤثروه بما أراده من أموالهم، وإن كانوا محتاجين إليها، ويجب
عليهم أن يحبوه زيادة على حبهم أنفسهم، ويجب عليهم أن يقدموا حكمه عليهم على حكمهم لأنفسهم. وبالجملة
فإذا دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لشئ ودعتهم أنفسهم إلى غيره وجب عليهم أن يقدموا ما دعاهم إليه
ويؤخروا ما دعتهم أنفسهم إليه، ويجب عليهم أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ويقدموا طاعته على ما تميل إليه
أنفسهم وتطلبه خواطرهم. وقيل المراد بأنفسهم في الآية بعضهم، فيكون المعنى: أن النبي أولى بالمؤمنين من
بعضهم ببعض. وقيل هي خاصة بالقضاء: أي هو أولى بهم من أنفسهم فيما قضى به بينهم. وقيل أولى بهم
في الجهاد بين يديه وبذل النفس دونه، والأول أولى (وأزواجه أمهاتهم) أي مثل أمهاتهم في الحكم بالتحريم
ومنزلات منزلتهن في استحقاق التعظيم فلا يحل لأحد أن يتزوج بواحدة منهن كما لا يحل له أن يتزوج بأمه،
فهذه الأمومة مختصة بتحريم النكاح لهن وبالتعظيم لجنابهن، وتخصيص المؤمنين يدل على أنهن لسن أمهات
نساء المؤمنين ولا بنات أخوات المؤمنين، ولا أخوتهن أخوال المؤمنين. وقال القرطبي: الذي يظهر لي أنهن
261

أمهات الرجال والنساء تعظيما لحقهن على الرجال والنساء كما يدل عليه قوله " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم "
وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة. قال: ثم إن في مصحف أبي بن كعب " وأزواجه أمهاتهم، وهو أب لهم "
وقرأ ابن عباس " أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب وأزواجه أمهاتهم "، ثم بين الله سبحانه أن القرابة أولى ببعضهم
البعض فقال (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) المراد بأولى الأرحام القرابات: أي هم أحق ببعضهم البعض
في الميراث، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة الأنفال وهى ناسخة لما كان في صدر الإسلام من التوارث
بالهجرة والموالاة. قال قتادة: لما نزل قوله سبحانه في سورة الأنفال - والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم
من شئ حتى يهاجروا - فتوارث المسلمون بالهجرة، ثم نسخ ذلك بهذه الآية، وكذا قال غيره. وقيل إن هذه
الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، و (في كتاب الله) يجوز أن يتعلق بأفعل التفضيل في قوله (أولى
ببعض) لأنه يعمل في الظرف، ويجوز أن يتعلق بمحذوف هو حال من الضمير: أي كائنا في كتاب الله والمراد
بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن أو آية المواريث، وقوله (من المؤمنين) يجوز أن يكون بيانا لأولوا الأرحام
والمعنى إن ذوي القرابات من المؤمنين (والمهاجرين) بعضهم أولى ببعض، ويجوز أن يتعلق بأولى: أي وأولوا
الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين الذين هم أجانب، وقيل إن معنى الآية: وأولوا الأرحام
ببعضهم أولى ببعض: إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونهم كالأمهات في تحريم النكاح،
وفي هذا من الضعف مالا يخفى (إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام،
والتقدير: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كل شئ من الإرث وغيره إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا
من صدقة أو وصية فإن ذلك جائز. قاله قتادة والحسن وعطاء ومحمد ابن الحنفية. قال محمد ابن الحنفية: نزلت
في إجازة الوصية لليهودي والنصراني. فالكافر ولي في النسب لا في الدين، فتجوز الوصية له، ويجوز أن يكون
منقطعا، والمعنى: لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به، ومعنى الآية: أن الله سبحانه لما نسخ التوارث
بالحلف والهجرة أباح أن يوصى لهم. وقال مجاهد: أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة بحق الإيمان والهجرة،
والإشارة بقوله (كان ذلك) إلى ما تقدم ذكره: أي كان نسخ الميراث بالهجرة والمحالفة والمعاقدة، ورده إلى
ذوي الأرحام من القرابات (في الكتاب مسطورا) أي في اللوح المحفوظ، أو في القرآن مكتوبا.
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه
والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوما يصلي، فخطر خطرة، فقال
المنافقون الذين يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم؟ فنزل (ما جعل الله لرجل من قلبين في
جوفه). وأخرج ابن مردويه عنه من طريق أخرى بلفظ صلى لله النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة فسها فيها.
فخطرت منه كلمة فسمعها المنافقون، فقالوا: إن له قلبين، فنزلت. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا
قال: كان رجل من قريش يسمى من هائه ذا القلبين، فأنزل الله هذا في شأنه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن ابن عمر أن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزل
القرآن (ادعوهم لآبائهم) الآية، فقال رسول الله: أنت زيد بن حارثة بن شراحيل. وأخرج البخاري وغيره عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " مامن مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرءوا
إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا، فإن ترك دينا أو ضياعا
فليأتني فأنا مولاه ". وأخرج أحمد وأبو داود وابن مردويه من حديث جابر نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد
262

والنسائي عن بريدة قال " غزوت مع علي إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم ذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تغير وقال: يا بريدة ألست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه " وقد ثبت في الصحيح أنه صلى
الله عليه وآله وسلم قال " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس
أجمعين ". وأخرج ابن سعد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن عائشة أن امرأة قالت لها: يا أمه، فقالت: أنا أم
رجالكم ولست أم نسائكم. وأخرج ابن سعد عن أم سلمة قالت: أنا أم الرجال منكم والنساء. وأخرج عبد الرزاق
وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي في دلائله عن بجالة: قال مر عمر بن الخطاب بغلام وهو
يقرأ في المصحف " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " فقال يا غلام حكها، فقال:
هذا مصحف أبي، فذهب إليه فسأله، فقال: إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق في الأسواق. وأخرج
الفريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه يقرأ " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو
أب لهم وأزواجه أمهاتهم ".
263

قوله (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) العامل في الظرف محذوف: أي واذكر، كأنه قال: يا أيها النبي
اتق الله واذكر أن الله أخذ ميثاق النبيين. قال قتادة: أخذ الله الميثاق على النبيين خصوصا أن يصدق بعضهم
بعضا ويتبع بعضهم بعضا. وقال مقاتل: أخذ ميثاقهم على أن يعبدوا الله، ويدعوا إلى عبادة الله، وأن
يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصحوا لقومهم. والميثاق هو اليمين، وقيل هو الإقرار بالله، والأول أولى، وقد سبق
تحقيقه. ثم خصص سبحانه بعض النبيين بالذكر بعد التعميم الشامل لهم ولغيرهم، فقال (ومنك ومن نوح وإبراهيم
وموسى وعيسى ابن مريم) ووجه تخصيصهم بالذكر الإعلام بأن لهم مزيد شرف وفضل لكونهم من أصحاب
الشرائع المشهورة من أولي العزم من الرسل، وتقديم ذكر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم مع تأخر زمانه فيه من
التشريف له والتعظيم مالا يخفى. قال الزجاج: وأخذ الميثاق حيث أخرجوا من صلب آدم كالذر. ثم أكد ما أخذه
على النبيين من الميثاق بتكرير ذكره وصفه بالغلظ فقال (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) أي عهدا شديدا على الوفاء بما
حملوا وما أخذه الله عليهم، ويجوز أن يكون قد أخذ الله عليهم الميثاق مرتين، فأخذ عليهم في المرة الأولى مجرد
الميثاق بدون تغليظ ولا تشديد، ثم أخذه عليهم ثانيا مغلظا مشددا، ومثل هذه الآية قوله - وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه - واللام في قوله
(ليسأل الصادقين عن صدقهم) يجوز أن تكون لام كي: أي لكي يسأل الصادقين من النبيين عن صدقهم في
تبليغ الرسالة إلى قومهم، وفي هذا وعيد لغيرهم، لأنهم إذا كانوا يسألون عن ذلك فكيف غيرهم. وقيل ليسأل
الأنبياء عما أجابهم به قومهم كما في قوله - فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين - ويجوز أن تتعلق
بمحذوف: أي فعل ذلك ليسأل (وأعد للكافرين عذابا أليما) معطوف على ما دل عليه (ليسأل الصادقين) إذ
التقدير: أثاب الصادقين وأعد للكافرين، ويجوز أن يكون معطوفا على أخذنا، لأن المعنى: أكد على الأنبياء
الدعوة إلى دينه ليثيب المؤمنين وأعد للكافرين. وقيل إنه قد حذف من الثاني ما أثبت مقابله في الأول، ومن
الأول ما أثبت مقابله في الثاني، والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم، ويسأل الكافرين عما أجابوا به
رسلهم وأعد لهم عذابا أليما. وقيل إنه معطوف على المقدر عاملا في ليسأل كما ذكرنا، ويجوز أن يكون الكلام قد
تم عند قوله (ليسأل الصادقين عن صدقهم) وتكون جملة (وأعد لهم) مستأنفة لبيان ما أعده للكفار (يا أيها الذين
آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم) هذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحيث لا يبقى معها خوف من أحد وقوله " عليكم "
متعلق بالنعمة إن كانت مصدرا أو بمحذوف هو حال: أي كائنة عليكم، ومعنى (إذ جاءتكم جنود) حين جاءتكم
جنود، وهو ظرف للنعمة، أو للمقدر عاملا في عليكم، أو لمحذوف هو أذكر، والمراد بالجنود: جنود الأحزاب
الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وغزوه إلى المدينة، وهي الغزوة المسماة " غزوة الخندق "
وهم: أبو سفيان بن حرب بقريش ومن معهم من الألفاف، وعيينة بن حفص الفزاري ومن معه من قومه غطفان
وبنو قريظة والنضير، فضايقوا المسلمين مضايقة شديدة كما وصف الله سبحانه في هذه الآيات، وكانت هذه
الغزوة في شوال سنة خمس من الهجرة. قاله ابن إسحاق. وقال ابن وهب وابن القاسم عن مالك: كانت في سنة
أربع. وقد بسط أهل السير في هذه الوقعة ما هو معروف فلا نطيل بذكرها (فأرسلنا عليهم ريحا) معطوف على
جاءتكم. قال مجاهد: هي الصبا، أرسلت على الأحزاب يوم الخندق حتى ألقت قدورهم ونزعت فساطيطهم،
ويدل على هذا ما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم من قوله " نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور "، والمراد
بقوله (وجنودا لم تروها) الملائكة. قال المفسرون: بعث الله عليهم الملائكة فقلعت الأوتاد، وقطعت أطناب
264

الفساطيط، وأطفأت النيران، وأكفأت القدور، وجالت الخيل بعضها في بعض، وأرسل الله عليهم الرعب،
وكثر تكبير الملائكة في جوانب العسكر حتى كان سيد كل قوم يقول لقومه: يا بني فلان هلم إلي، فإذا اجتمعوا
قال لهم: النجاء النجاء (وكان الله بما تعملون بصيرا) قرأ الجمهور " تعملون " بالفوقية: أي بما تعملون أيها
المسلمون من ترتيب الحرب، وحفر الخندق، واستنصاركم به، وتوكلكم عليه، وقرأ أبو عمرو بالتحتية: أي
بما يعلمه الكفار من العناد لله ولرسوله، والتحزب على المسلمين واجتماعهم عليهم من كل جهة (إذ جاءكم من
فوقكم) إذ هذه وما بعدها بدل من إذ الأولى، والعامل في هذه هو العامل في تلك، وقيل منصوبة بمحذوف هو
أذكر، ومعنى (من فوقكم) من أعلى الوادي، وهو من جهة المشرق، والذين جاءوا من هذه الجهة هم غطفان
وسيدهم عيينة بن حصن، وهوازن وسيدهم عوف بن مالك، وأهل نجد وسيدهم طليحة بن خويلد الأسدي،
وانضم إليهم عوف بن مالك وبنو النضير، ومعنى (ومن أسفل منكم) من أسفل الوادي من جهة المغرب من ناحية
مكة، وهم قريش ومن معهم من الأحابيش، وسيدهم أبو سفيان بن حرب، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن
أخطب اليهودي في يهود بني قريظة من وجه الخندق، ومعهم عامر بن الطفيل، وجملة (وإذ زاغت الأبصار)
معطوفة على ما قبلها: أي مالت عن كل شئ فلم تنظر إلا إلى عدوها مقبلا من كل جانب، وقيل شخصت دهشا
من فرط الهول والحيرة (وبلغت القلوب الحناجر) جمع حنجرة، وهي جوف الحلقوم: أي ارتفعت القلوب عن
مكانها، ووصلت من الفزع والخوف إلى الحناجر، فلولا أنه ضاق الحلقوم عنها، وهو الذي نهايته الحنجرة
لخرجت، كذا قال قتادة. وقيل هو على طريق المبالغة المعهودة في كلام العرب وإن لم ترتفع القلوب إلى ذلك
المكان ولا خرجت عن موضعها، ولكنه مثل في اضطرابها وجبنها. قال الفراء: والمعنى أنهم جبنوا وجزع أكثرهم،
وسبيل الجبان إذا اشتد خوفه أن تنتفخ رئته، فإذا انتفخت الرئة ارتفع القلب إلى الحنجرة، ولهذا يقال للجبان:
انتفخ سحره (وتظنون بالله الظنونا) أي الظنون المختلفة، فبعضهم ظن النصر ورجا الظفر، وبعضهم ظن خلاف
ذلك. وقال الحسن: ظن المنافقون أنه يستأصل محمد وأصحابه، وظن المؤمنون أنه ينصر. وقيل الآية خطاب
للمنافقين، والأولى ما قاله الحسن. فيكون الخطاب لمن أظهر الإسلام على الإطلاق أعم من أن يكون مؤمنا في
الواقع أو منافقا.
واختلف القراء في هذه الألف في " الظنونا ": فأثبتها وصلا ووقفا نافع وابن عامر وأبو بكر، ورويت هذه
القراءة عن أبي عمرو والكسائي، وتمسكوا بخط المصحف العثماني وجميع المصاحف في جميع البلدان فإن الألف فيها
كلها ثابتة، واختار هذه القراءة أبو عبيد إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن بل يقف عليهن،
وتمسكوا أيضا بما في أشعار العرب من مثل هذا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والجحدري ويعقوب بحذفها في الوصل
والوقف معا، وقالوا: هي من زيادات الخط فكتبت كذلك، ولا ينبغي النطق بها. وأما في الشعر فهو يجوز فيه
للضرورة مالا يجوز في غيره. وقرأ ابن كثير والكسائي وابن محيصن بإثباتها وقفا وحذفها وصلا، وهذه القراءة
راجحة باعتبار اللغة العربية، وهذه الألف هي التي تسميها النحاة ألف الإطلاق، والكلام فيها معروف في علم
النحو، وهكذا اختلف القراء في الألف التي في قوله " الرسولا، والسبيلا " كما سيأتي آخر هذه السورة (هنالك
ابتلى المؤمنون) الظرف منتصب بالفعل الذي بعده، وقيل بتظنون، واستضعفه ابن عطية، وهو ظرف مكان
يقال للمكان البعيد هنالك كما يقال للمكان القريب هنا، وللمتوسط هناك. وقد يكون ظرف زمان: أي عند
ذلك الوقت ابتلى المؤمنون ومنه قول الشاعر:
265

وإذا الأمور تعاظمت وتشاكلت * فهناك يعترفون أين المفزع
أي في ذلك الوقت، والمعنى: أن في ذلك المكان أو الزمان اختبر المؤمنون بالخوف والقتال والجوع والحصر
والنزال ليتبين المؤمن من المنافق (وزلزلوا زلزالا شديدا) قرأ الجمهور " زلزلوا " بضم الزاي الأولى وكسر الثانية
على ما هو الأصل في المبني للمفعول، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بكسر الأولى، وروى الزمخشري عنه أنه قرأ
بإشمامها كسرا، وقرأ الجمهور " زلزالا " بكسر الزاي الأولى، وقرأ عاصم والجحدري وعيسى بن عمر بفتحها.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح: نحو قلقلته قلقالا، وزلزلوا زلزالا،
والكسر أجود. قال ابن سلام: معنى زلزلوا: حركوا بالخوف تحريكا شديدا. وقال الضحاك: هو إزاحتهم
عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق، وقيل المعنى أنهم اضطربوا اضطرابا مختلفا، فمنهم من اضطراب
في نفسه، ومنهم من اضطرب في دينه (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) معطوف على " إذ زاغت
الأبصار "، والمرض في القلوب هو الشك والريبة، والمراد بالمنافقون: عبد الله بن أبي وأصحابه، وبالذين في
قلوبهم مرض: أهل الشك والاضطراب (ما وعدنا الله ورسوله) من النصر والظفر (إلا غرورا) أي باطلا من
القول، وكان القائلون بهذه المقالة نحو سبعين رجلا من أهل النفاق والشك، وهذا القول المحكى عن هؤلاء هو
كالتفسير للظنون المذكورة: أي كان ظن هؤلاء هذا الظن، كما كان ظن المؤمنين النصر وإعلاء كلمة الله (وإذ
قالت طائفة منهم) أي من المنافقين. قال مقاتل: هم بنو سالم من المنافقين. وقال السدي: هم عبد الله بن أبي
وأصحابه، وقيل هم أوس بن قبطي وأصحابه، والطائفة تقع على الواحد فما فوقه، والقول الذي قالته هذه الطائفة
هو قوله (يا أهل يثرب لا مقام لكم) أي لا موضع إقامة لكم، أو لا إقامة لكم هاهنا في العسكر. قال أبو عبيد:
يثرب اسم الأرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناحية منها. قال السهيلي: وسميت يثرب، لأن
الذي نزلها من العمالقة اسمه يثرب بن عميل، قرأ الجمهور " لا مقام لكم " بفتح الميم، وقرأ حفص والسلمي
والجحدري وأبو حيوة بضمها، على أنه مصدر من أقام يقيم، وعلى القراءة الأولى هو اسم مكان (فارجعوا) أي
إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من عسكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك " أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم والمسلمين خرجوا عام الخندق حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع والخندق بينهم وبين القوم، فقال هؤلاء
المنافقون: ليس هاهنا موضع إقامة، وأمروا الناس بالرجوع إلى منازلهم بالمدينة " (ويستأذن فريق منهم النبي)
معطوف على " قالت طائفة منهم ": أي يستأذنون في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة وبنو سلمة، وجملة
(يقولون) بدل من قوله " يستأذن " أو حال أو استئناف جوابا لسؤال مقدر، والقول الذي قالوه هو قولهم (إن
بيوتنا عورة) أي ضائعة سائبة ليست بحصينة ولا ممتنعة من العدو. قال الزجاج: يقال عور المكان يعور عورا
وعورة، وبيوت عورة وعورة، وهي مصدر. قال مجاهد ومقاتل والحسن: قالوا بيوتنا ضائعة نخشى عليها
السراق. وقال قتادة: قالوا بيوتنا مما يلي العدو ولا تأمن على أهلنا. قال الهروي: كل مكان ليس بممنوع ولا
مستور فهو عورة، والعورة في الأصل: الخلل فأطلقت على المختل، والمراد: ذات عورة، وقرأ ابن عباس
وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي عورة بكسر الواو أي قصيرة الجدران. قال الجوهري: العورة كل حال
يتخوف منه في ثغر أو حرب. قال النحاس يقال أعور المكان: إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس: إذا تبين
منه موضع الخلل، ثم رد الله سبحانه عليهم بقوله (وما هي بعورة) فكذبهم الله سبحانه فيما ذكروه، والجملة
في محل نصب على الحال، ثم بين سبب استئذانهم وما يريدونه به، فقال (إن يريدون إلا فرارا) أي ما يريدون
266

إلا الهرب من القتال، وقيل المراد: ما يريدون إلا الفرار من الدين (ولو دخلت عليهم من أقطارها) يعني بيوتهم
أو المدينة، والأقطار: النواحي جمع قطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة
من جوانبها جميعا لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم
(ثم سئلوا الفتنة) من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم (لآتوها) أي لجاؤوها أو أعطوها، ومعنى
الفتنة هنا: إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون
خلافه كما قال الحسن. قرأ الجمهور لآتوها بالمد: أي لأعطوها من أنفسهم، وقرأ نافع وابن كثير بالقصر:
أي لجاؤوها (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثا يسيرا حتى يهلكوا، كذا قال الحسن
والسدي والفراء والقتيبي. وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا، بل هم
مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه
الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ
ذاك عورة. ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب
وعدم الفرار عنه فقال (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر
قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله
قتالا لنقاتلن، وهم بنو حارثة وبنو سلمة (وكان عهد الله مسؤولا) أي مسؤولا عنه، ومطلوبا صاحبه بالوفاء به،
ومجازي على ترك الوفاء به (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) فإن من حضر أجله مات أو قتل فر
أو لم يفر (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم، وكل ما هو
آت فهو قريب. قرأ الجمهور " تمتعون " بالفوقية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية، وفى
بعض الروايات " لا تمتعوا " بحذف النون إعمالا لإذن، وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة (قل من ذا الذي يعصمكم
من الله إن أراد بكم سوءا) أي هلاكا أو نقصا في الأموال وجدبا ومرضا (أو أراد بكم رحمة) يرحمكم بها من
خصب ونصر وعافية (ولا يجدون لهم من دون الله وليا) يواليهم ويدفع عنهم (ولا نصيرا) ينصرهم من عذاب الله.
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابيا قال: يا رسول الله أي
شئ كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا (وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) ودعوة إبراهيم قال - وابعث
فيهم رسولا منهم -، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامها أنه خرج
من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال " قيل يا رسول الله متى أخذ
ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد ". وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عنه قال
" قيل يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد ". وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.
وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة
عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) الآية قال:
كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ به قبلهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن
عباس قال (ميثاقهم) عهدهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن
عباس (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج الحاكم وصححه
267

وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل وابن عساكر من طرق عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن
صافون قعود وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة اليهود أسفل منا، نخافهم على ذرارينا، وما أتت
علينا ليلة قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق، وهى ظلمة ما يرى أحد منا أصبعه،
فجعل المنافقون يستأذنون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و (يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة) فما
يستأذن أحد منهم إلا أذن له، فيتسللون ونحن ثلاثمائة، أو نحو ذلك إذ استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
رجلا رجلا حتى مر علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي، فأتاني وأنا جاث
على ركبتي فقال: من هذا؟ فقلت حذيفة، قال حذيفة، فتقاصرت إلى الأرض، فقلت بلى يا رسول الله كراهية
أن أقوم، قال: قم فقمت، فقال: إنه كان في القوم خبر، فأتني بخبر القوم، قال: وأنا من أشد القوم فزعا
وأشدهم قرا، فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه
وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، قال: فوالله ما خلق الله فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي،
فما أجد منه شيئا، فلما وليت قال: يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني، فخرجت حتى إذا دنوت من
عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد، وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول:
الرحيل الرحيل، ثم دخلت العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام
لكم، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز شبرا، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم،
ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحو ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا
معتمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته وهو
مشتمل في شملة يصلي، وكان إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم أنى تركتهم يترحلون، وأنزل الله (يا أيها
الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود) الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (إذ جاءتكم جنود) قال: كان يوم أبي سفيان يوم الأحزاب.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس
قال: لما كان ليلة الأحزاب جاءت الشمال إلى الجنوب، فقالت: انطلقي فانصري الله ورسوله، فقالت الجنوب:
إن الحرة لا تسري بالليل، فغضب الله عليها وجعلها عقيما، فأرسل عليهم الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطنابهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور " فذلك قوله (فأرسلنا عليهم
ريحا وجنودا لم تروها). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور ". وأخرج البخاري وغيره عن عائشة في قوله (إذ جاءوكم
من فوقكم) الآية قالت: كان ذلك يوم الخندق، وفي الباب أحاديث في وصف هذه الغزوة وما وقع فيها،
وقد اشتملت عليها كتب الغزوات والسير. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب، وهي المدينة تنفي البأس كما ينفي الكير خبث
الحديد ". وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله، هي طابة هي طابة هي طابة " ولفظ أحمد " إنما هي طابة " وإسناده
ضعيف. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن
268

ابن عباس في قوله (ويستأذن فريق منهم النبي) قال: هم بنو حارثة قالوا (بيوتنا عورة) أي مختلة نخشى عليها
السرق. وأخرج ابن مردويه عن جابر نحوه. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء تأويل هذه الآية
على رأس ستين سنة (ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها) قال: لأعطوها: يعني إدخال بني
حارثة أهل الشام على المدينة.
قوله (قد يعلم الله المعوقين منكم) يقال عاقه واعتاقه وعوقه: إذا صرفه عن الوجه الذي يريده. قال الواحدي
قال المفسرون: هؤلاء قوم من المنافقين كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أنهم قالوا
لهم: ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتقمهم أبو سفيان وحزبه، فخلوهم وتعالوا إلينا، وقيل
إن القائل هذه المقالة اليهود قالوا (لإخوانهم) من المنافقين (هلم إلينا) ومعنى هلم أقبل واحضر وأهل الحجاز
يسوون فيه بين الواحد والجماعة والمذكر والمؤنث، وغيرهم من العرب يقولون: هلم للواحد المذكر، وهلمي
للمؤنث، وهلما للاثنين، وهلموا للجماعة، وقد مر الكلام على هذا في سورة الأنعام (ولا يأتون البأس) أي
الحرب (إلا قليلا) خوفا من الموت، وقيل المعنى: لا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة من غير احتساب (أشحة
عليكم) أي بخلاء عليكم لا يعاونوكم بحفر الخندق ولا بالنفقة في سبيل الله، قاله مجاهد وقتادة. وقيل أشحة بالقتال
معكم، وقيل بالنفقة على فقرائكم ومساكينكم، وقيل أشحة بالغنائم إذا أصابوها. قاله السدي. وانتصابه على
269

الحال من فاعل يأتون. أو من المعوقين. وقال الفراء: يجوز في نصبه أربعة أوجه: منها النصب على الذم، ومنها
بتقدير فعل محذوف: أي يأتونه أشحة. قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيه للمعوقين ولا القائلين لئلا
يفرق بين الصلة والموصول (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم) أي تدور يمينا وشمالا، وذلك
سبيل الجبان إذا شاهد ما يخافه (كالذي يغشى عليه من الموت) أي كعين الذي يغشى عليه من الموت، وهو الذي
نزل به الموت وغشيته أسبابه، فيذهل ويذهب عقله ويشخص بصره فلا يطرف، كذلك هؤلاء تشخص أبصارهم
لما يلحقهم من الخوف، ويقال للميت إذا شخص بصره: دارت عيناه، ودارت حماليق عينيه، والكاف نعت
مصدر محذوف (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) يقال سلق فلانا فلانا بلسانه: إذا أغلظ له في القول
مجاهرا. قال الفراء: أي آذوكم بالكلام في الأمن بألسنة سليطة ذربة، ويقال: خطيب مسلاق ومصلاق إذا كان
بليغا، ومنه قول الأعشى:
فيهم المجد والسماحة والنج‍ * دة فيهم والخاطب السلاق
قال القتيبي: المعنى آذوكم بالكلام الشديد، والسلق الأذى، ومنه قول الشاعر:
ولقد سلقت هوازنا * بنو أهل حتى انحنينا
قال قتادة: معنى الآية: بسطوا ألسنتهم فيكم في وقت قسمة الغنيمة يقولون: أعطنا فإنا قد شهدنا معكم،
فعند الغنيمة أشح قوم وأبسطهم لسانا، ووقت البأس أجبن قوم وأخوفهم. قال النحاس: وهذا قول حسن،
وانتصاب (أشحة على الخير) على الحالية من فاعل سلقوكم، ويجوز أن يكون نصبه على الذم. وقرأ ابن أبي عبلة
برفع أشحة، والمراد هنا أنهم أشح على الغنيمة يشاحون كان المسلمين عند القسمة، قاله يحيى بن سلام. وقيل على
المال أن ينفقوه في سبيل الله. قاله السدي. ويمكن أن يقال معناه: أنهم قليلو الخير من غير تقييد بنوع من أنواعه
والإشارة بقوله (أولئك) إلى الموصوفين بتلك الصفات (لم يؤمنوا) إيمانا خالصا بل هم منافقون: يظهرون الإيمان
ويبطنون الكفر (فأحبط الله أعمالهم) أي أبطلها بمعنى أظهر بطلانها، لأنها لم تكن لهم أعمال تقتضي الثواب حتى
يبطلها الله. قال مقاتل: أبطل جهادهم لأنه لم يكن في إيمان (وكان ذلك على الله يسيرا) أي وكان ذلك الإحباط
لأعمالهم، أو كان نفاقهم على الله هينا (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) أي يحسب هؤلاء المنافقون لجبنهم أن الأحزاب
باقون في معسكرهم لم يذهبوا إلى ديارهم، وذلك لما نزل بهم من الفشل والروع (وإن يأت الأحزاب) مرة أخرى
بعد هذه المرة (يودوا لو أنهم بأدون في الأعراب) أي يتمنون أنهم في بادية الأعراب لما حل بهم من الرهبة،
والبادي خلاف الحاضر، يقال: بدا يبدو بداوة إذا خرج إلى البادية (يسألون عن أنبائكم) أي عن أخباركم
وما جرى لكم، كل قادم عليهم من جهتكم، أو يسأل بعضهم بعضا عن الأخبار التي بلغته من أخبار الأحزاب
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: أنهم يتمنون أنهم بعيد عنكم يسألون عن أخباركم من غير مشاهدة
للقتال لفرط جبنهم وضعف نياتهم (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) أي لو كانوا معكم في هذه الغزوة مشاهدين
للقتال ما قاتلوا معكم إلا قتالا قليلا خوفا من العار وحمية على الديار (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي
قدوة صالحة، يقال لي في فلاة أسوة: أي لي به، والأسوة من الائتساء، كالقدوة من الاقتداء: اسم يوضع
موضع المصدر. قال الجوهري: والأسوة والإسوة بالضم والكسر، والجمع أسى وإسى. قرأ الجمهور " أسوة "
بالضم للهمزة، وقرأ عاصم بكسرها، وهما لغتان كما قال الفراء وغيره.
270

وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي لقد كان لكم في رسول
الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية وإن كان سببها خاصا فهي عامة
في كل شئ، ومثلها - ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا -، وقوله - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله -، واللام في (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) متعلق بحسنة، أو بمحذوف هو صفة لحسنة: أي
كائنة لمن يرجو الله. وقيل إن الجملة بدل من الكاف في لكم، ورده أبو حيان وقال: إنه لا يبدل من ضمير
المخاطب بإعادة الجار. ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإن منعه البصريون، والمراد بمن كان
يرجو الله: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى
يرجون اليوم الآخر: أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة تخصيص
بعد التعميم بالجملة الأولى (وذكر الله كثيرا) معطوف على كان: أي ولمن ذكر الله في جميع أحواله ذكرا كثيرا،
وجمع بين الرجاء لله والذكر له، فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم بين
سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر
العباب فقال (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الإشارة بقوله " هذا " إلى ما رأوه من
الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشارا بحصول ما وعدهم الله
ورسوله من مجيء هذه الجنود، وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و " ما " في " ما وعدنا
الله " هي الموصولة، أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم (صدق الله ورسوله) أي ظهر صدق خبر الله
ورسوله (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) أي ما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وتسليما لأمره. قال الفراء: ما زادهم النظر
إلى الأحزاب إلا إيمانا وتسليما. قال علي بن سليمان: " رأى " يدل على الرؤية وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى:
ما زادهم الرؤية إلا إيمانا للرب وتسليما للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله
عليه) أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق، من صدقني إذا قال الصدق، ومحل " ما عاهدوا الله
عليه " النصب بنزع الخافض، والمعنى: أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة
من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله وهم المنافقون، وقيل هم
الذين نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثبتوا له ولم يفروا، ووجه إظهار الاسم
الشريف، والرسول في قوله (صدق الله ورسوله) بعد قوله (ما وعد الله ورسوله) هو قصد التعظيم كما في قول
الشاعر: * أرى الموت لا يسبق الموت شئ *
وأيضا لو أضمرهما لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد. وقال صدقا، وقد ورد النهي عن
جمعهما كما في حديث " بئس خطيب القوم أنت " لمن قال ومن يعصها فقد غوى. ثم فصل سبحانه حال الصادقين
بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) النحب: ما التزمه الإنسان
وأعتقد الوفاء به. ومنه قول الشاعر:
عشية فر الحارثيون بعد ما * قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر
وقال الآخر: بطخفة لا جالدنا الملوك وخيلنا * عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمر عظيم، والنحب يطلق على النذر والقتل والموت. قال ابن قتيبة: قضى نحبه: أي قتل وأصل
النحب النذر. كانوا يوم بدر نذورا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح لهم فقتلوا، فقيل فلان قضى
271

نحبه: أي قتل، والنحب أيضا الحاجة وإدراك الأمنية، يقول قائلهم: مالي عندهم نحب، والنحب العهد، ومنه
قول الشاعر: لقد نحبت كلب على الناس أنهم * أحق بتاج الماجد المتكرم
وقال آخر: * قد نحب المجد علينا نحبا * ومن ورود النحب في الحاجة وإدراك الأمنية قول الشاعر:
* أنحب فيقضي أم ضلال وباطل * ومعنى الآية: أن من المؤمنين رجالا أدركوا أمنيتهم وقضوا حاجتهم
ووفوا بنذرهم فقاتلوا حتى قتلوا، وذلك يوم أحد كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر (ومنهم من ينتظر)
قضاء نحبه حتى يحضر أجله كعثمان بن عفان وطلحة والزبير وأمثالهم فإنهم مستمرون على الوفاء بما عاهدوا الله عليه
من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقتال لعدوه، ومنتظرون لقضاء حاجتهم وحصول أمنيتهم
بالقتل وإدراك فضل الشهادة، وجملة (وما بدلوا تبديلا) معطوفة على صدقوا: أي ما غيروا عهدهم الذي عاهدوا
الله ورسوله عليه كما غير المنافقون عهدهم، بل ثبتوا عليه ثبوتا مستمرا، أما الذين قضوا نحبهم فظاهر، وأما
الذين ينتظرون قضاء نحبهم فقد استمروا على ذلك حتى فارقوا الدنيا ولم يغيروا ولا بدلوا، واللام في قوله
(ليجزي الله الصادقين بصدقهم) يجوز أن يتعلق بصدقوا أو بزادهم، أو بما بدلوا، أو بمحذوف، كأنه قيل:
وقع جميع ما وقع ليجزي الله الصادقين بصدقهم (ويعذب المنافقين إن شاء) بما صدر عنهم من التغيير والتبديل،
جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بسبب تبديلهم وتغييرهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق
بوفائهم، فكل من الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب، فكأنهما استويا في طلبها والسعي لتحصيلها،
ومفعول " إن شاء " وجوابها محذوفان: أي إن شاء تعذيبهم عذبهم، وذلك إذا أقاموا على النفاق ولم يتركوه
ويتوبوا عنه (إن الله كان غفورا رحيما) أي لمن تاب منهم وأقلع عما كان عليه من النفاق. ثم رجع سبحانه إلى
حكاية بقية القصة وما أمتن به على رسوله والمؤمنين من النعمة فقال (ورد الله الذين كفروا) وهم الأحزاب،
والجملة معطوفة على (فأرسلنا عليهم ريحا) أو على المقدر عاملا في ليجزي الله الصادقين بصدقهم، كأنه قيل:
وقع ما وقع من الحوادث ورد الله الذين كفروا، ومحل (بغيظهم) النصب على الحال، والباء للمصاحبة: أي
حال كونهم متلبسين بغيظهم ومصاحبين له، ويجوز أن تكون للسببية، وجملة (لم ينالوا خيرا) في محل نصب على
الحال أيضا من الموصول، أو من الحال الأولى على التعاقب، أو التداخل. والمعنى: أن الله ردهم بغيظهم لم
يشف صدورهم ولا نالوا خيرا في اعتقادهم، وهو الظفر بالمسلمين، أو لم ينالوا خيرا أي خير، بل رجعوا
خاسرين لم يربحوا إلا عناء السفر وغرم النفقة (وكفى الله المؤمنين القتال) بما أرسله من الريح والجنود من الملائكة
(وكان الله قويا عزيزا) على كل ما يريده إذا قال له كن كان، عزيزا غالبا قاهرا لا يغالبه أحد من خلقه ولا
يعارضه معارض في سلطانه وجبروته.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في قوله (سلقوكم) قال: استقبلوكم. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه (وكان ذلك على الله يسيرا) قال: هينا. وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر وابن النجار عن عمر في
قوله (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) قال: في جوع رسول الله، وقد استدل بهذه الآية جماعة من
الصحابة في مسائل كثيرة اشتملت عليها كتب السنة، وهي خارجة عما نحن بصدده. وأخرج ابن جرير وابن
مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله (ولما رأى المؤمنون الأحزاب) إلى آخر الآية قال: إن الله قال
لهم في سورة البقرة - أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء - فلما
مسهم البلاء حيث رابطوا الأحزاب في الخندق (قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) فتأول المسلمون ذلك فلم يزدهم
272

(إلا إيمانا وتسليما). وأخرج البخاري وغيره عن أنس قال: نرى هذه الآية نزلت في أنس بن النضر (من
المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه). وأخرج ابن سعد وأحمد ومسلم والترمذي والنسائي والبغوي في معجمه
وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر فشق
عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غبت عنه لئن أراني الله مشهدا مع رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فيما بعد ليرين الله ما أصنع، فشهد يوم أحد، فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو
وأين؟ قال: واها لريح الجنة أجدها دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة
وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) وكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.
وقد روى عنه نحوه من طريق أخرى عند الترمذي وصححه والنسائي وغيرهما. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي
في الدلائل عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين انصرف من أحد مر على مصعب بن عمير
وهو مقتول فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية، ثم قال: أشهد
أن هؤلاء شهداء عند الله فأتوهم وزوروهم، والذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه "
وقد تعقب الحاكم في تصحيحه الذهبي كما ذكر ذلك السيوطي، ولكنه قد أخرج الحاكم حديثا آخر وصححه.
وأخرجه أيضا البيهقي في الدلائل عن أبي ذر قال: " لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد مر على
مصعب بن عمير مقتولا على طريقه، فقرأ (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية ". وأخرج ابن
مردويه من حديث خباب مثله، وهما يشهدان لحديث أبي هريرة. وأخرج الترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن جرير
والطبراني وابن مردويه عن طلحة " أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن
قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترئون على مسئلته يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض
عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا، قال: هذا ممن
قضى نحبه ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من حديثه نحوه. وأخرج الترمذي وابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " طلحة ممن قضى
نحبه ". وأخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى وأبو نعيم وابن المنذر وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: " من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ". وأخرج
ابن مردويه من حديث جابر مثله. وأخرج ابن منده وابن عساكر من حديث أسماء بنت أبي بكر نحوه. وأخرج
أبو الشيخ وابن عساكر عن علي أن هذه الآية نزلت في طلحة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (فمنهم من قضى نحبه) قال: الموت على ما عاهدوا الله عليه، ومنهم من
ينتظر الموت على ذلك. وأخرج أحمد والبخاري وابن مردويه عن سليمان بن صرد قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوم الأحزاب " الآن نغزوهم ولا يغزونا " وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله
(فمنهم من قضى نحبه) قال: مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان (ومنهم من ينتظر) ذلك (وما بدلوا
تبديلا) لم يغيروا كما غير المنافقون.
273

قوله (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب) أي عاضدوهم وعاونوهم على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وهم بنو قريظة، فإنهم عاونوا الأحزاب ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وصاروا يدا واحدة مع الأحزاب. والصياصي جمع صيصية: وهي الحصون، وكل شئ يتحصن به يقال له
صيصية، ومنه صيصية الديك، وهي الشوكة التي في رجله، وصياصي البقر قرونها لأنها تمتنع بها، ويقال
لشوكة الحائك التي يسوي بها السداة واللحمة صيصية، ومنه قول دريد بن الصمة:
فجئت إليه والرماح تنوشه * كوقع الصياصي في النسيج الممدد
ومن إطلاقها على الحصون قول الشاعر:
فأصبحت الثيران صرعى وأصبحت * نساء تميم يبتدرن الصياصيا
(وقذف في قلوبهم الرعب) أي الخوف الشديد حتى سلموا أنفسهم للقتل وأولادهم ونساءهم للسبي وهي
معنى قوله (فريقا تقتلون وتأسرون فريقا) فالفريق الأول هم الرجال، والفريق الثاني هم النساء والذرية، وهذه
الجملة مبينة ومقررة لقذف الرعب في قلوبهم. قرأ الجمهور " تقتلون " بالفوقية على الخطاب، وكذلك قرأوا
" تأسرون " وقرأ ابن ذكوان في رواية عنه بالتحتية فيهما، وقرأ اليماني بالفوقية في الأول والتحتية في الثاني، وقرأ
أبو حيوة " تأسرون " بضم السين. وقد حكى الفراء كسر السين وضمها فهما لغتان، ووجه تقديم مفعول الفعل
الأول وتأخير مفعول الفعل الثاني أن الرجال لما كانوا أهل الشوكة، وكان الوارد عليهم أشد الأمرين وهو القتل،
كان الاهتمام بتقديم ذكرهم أنسب بالمقام.
وقد اختلف في عدد المقتولين والمأسورين، فقيل كان المقتولون من ستمائة إلى سبعمائة، وقيل ستمائة،
وقيل سبعمائة، وقيل ثمانمائة، وقيل تسعمائة، وكان المأسورون سبعمائة، وقيل سبعمائة وخمسين، وقيل
تسعمائة (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) المراد بالأرض العقار والنخيل، وبالديار المنازل والحصون،
وبالأموال والحلي والأثاث والمواشي والسلاح والدراهم والدنانير (وأرضا لم تطئوها) أي وأورثكم أرضا لم
تطئوها، وجملة لم تطئوها صفة لأرضا. قرأ الجمهور " لم تطئوها " بهمزة مضمومة ثم واو ساكنة، وقرأ زيد بن علي
" تطوها " بفتح الطاء وواو ساكنة.
واختلف المفسرون في تعيين هذه الأرض المذكورة فقال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل: إنها خيبر ولم
يكونوا إذ ذاك قد نالوها، فوعدهم الله بها. وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة. وقال الحسن: فارس والروم.
وقال عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة (وكان الله على كل شئ قديرا) أي هو سبحانه قدير على كل
ما أراده من خير وشر ونعمة ونقمة، وعلى إنجاز ما وعد به من الفتح للمسلمين.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (من صياصيهم) قال: حصونهم. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد
وابن مردويه عن عائشة قالت " خرجت يوم الخندق أقفو الناس، فإذا أنا بسعد بن معاذ ورماه رجل من قريش
يقال له ابن الفرقدة بسهم فأصاب أكحله فقطعه، فدعا الله سعدا فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من قريظة،
274

فبعث الله الريح على المشركين (وكفى الله المؤمنين القتال) ولحق أبو سفيان ومن معه بتهامة، ولحق عيينة بن بدر
ومن معه بنجد، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
المدينة وأمر بقبة من أدم، فضربت على سعد في المسجد، قالت: فجاء جبريل، وإن على ثناياه لوقع الغبار،
فقال: أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح: اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم، فلبس
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامته، وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة،
فلما اشتد حصرهم واشتد البلاء عليهم، قيل لهم أنزلوا على حكم رسول الله، قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ،
فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ فأتى به على حمار، فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم: احكم فيهم، قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم وتقسم أموالهم، فقال:
لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله ".
قوله (يا أيها النبي قل لأزواجك) قيل هذه الآية متصلة بمعنى ما تقدمها من المنع من إيذاء النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، وكان قد تأذى ببعض الزوجات. قال الواحدي: قال المفسرون: إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله
وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا وطلبن منه الزيادة في النفقة وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فآلى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم منهن شهرا، وأنزل الله آية التخيير هذه، وكن يومئذ تسعا: عائشة وحفصة وأم سلمة
وأم حبيبة وسودة هؤلاء من نساء قريش وصفية الخيبرية وميمونة الهلالية، وزينب بنت جحش الأسدية،
وجويرية بنت الحارث المصطلقية. ومعنى (الحياة الدنيا وزينتها) سعتها ونضارتها ورفاهيتها والتنعم فيها (فتعالين)
أي أقبلن إلي (أمتعكن) بالجزم جوابا للأمر: أي أعطكن المتعة (و) كذا (أسرحكن) بالجزم: أي أطلقكن
275

وبالجزم في الفعلين قرأ الجمهور، وقرأ حميد الخراز بالرفع في الفعلين على الاستئناف، والمراد بالسراح الجميل:
هو الواقع من غير ضرار على مقتضى السنة. وقيل إن حزم الفعلين على أنهما جواب الشرط، وعلى هذا يكون
قوله " فتعالين " اعتراضا بين الشرط والجزاء (وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة) أي الجنة ونعيمها
(فأن الله أعد للمحسنات منكن) أي اللاتي عملن عملا صالحا (أجرا عظيما) لا يمكن وصفه، ولا يقادر قدره
وذلك بسبب إحسانهن، وبمقابلة صالح عملهن.
وقد اختلف العلماء في كيفية تخيير النبي صلى الله عليه وآله وسلم أزواجه على قولين: القول الأول أنه
خيرهن بإذن الله في البقاء على الزوجية أو الطلاق فاخترن البقاء، وبهذا قالت عائشة ومجاهد وعكرمة والشعبي
والزهري وربيعة. والقول الثاني أنه إنما خيرهن بين الدنيا فيفارقهن، وبين الآخرة فيمسكهن ولم يخيرهن
في الطلاق، وبهذا قال علي والحسن وقتادة، والراجح الأول. واختلفوا أيضا في المخيرة إذا اختارت زوجها هل
يحسب مجرد ذلك التخيير على الزوج طلقة أم لا؟ فذهب الجمهور من السلف والخلف إلى أنه لا يكون التخيير مع
اختيار المرأة لزوجها طلاقا لا واحدة ولا أكثر. وقال علي وزيد بن ثابت: إن اختارت زوجها فواحدة بائنة،
وبه قال الحسن والليث: وحكاه الخطابي والنقاش عن مالك. والراجح الأول لحديث عائشة الثابت في الصحيحين
قالت " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخترناه فلم يعد طلاقا " ولا وجه لجعل مجرد التخيير طلاقا،
ودعوى أنه كناية من كنايات الطلاق مدفوعة بأن المخير لم يرد الفرقة لمجرد التخيير، بل أراد تفويض المرأة وجعل
أمرها بيدها، فإن اختارت البقاء بقيت على ما كانت عليه من الزوجية، وإن اختارت الفرقة صارت مطلقة.
واختلفوا في اختيارها لنفسها هل يكون ذلك طلقة رجعية أو بائنة. فقال بالأول عمر وابن مسعود وابن
عباس وابن أبي ليلى والثوري والشافعي، وقال بالثاني علي وأبو حنيفة وأصحابه وروي عن مالك. والراجح
الأول، لأنه يبعد كل البعد أن يطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه على خلاف ما أمره الله به، وقد
أمره بقوله - إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - وروي عن زيد بن ثابت أنها إذا اختارت نفسها فثلاث طلقات،
وليس لهذا القول وجه. وقد روي عن علي أنها إذا اختارت نفسها فليس بشئ، وإذا اختارت زوجها فواحدة
رجعية. ثم لما اختار نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله أنزل فيهن هذه الآيات تكرمة لهن
وتعظيما لحقهن فقال (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة) أي ظاهرة القبح واضحة الفحش، وقد عصمهن
الله عن ذلك وبرأهن وطهرهن (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي يعذبهن مثلي عذاب غيرهن من النساء إذا
أتين بمثل تلك الفاحشة، وذلك لشرفهن وعلو درجتهن وارتفاع منزلتهن. وقد ثبت في هذه الشريعة في غير
موضع أن تضاعف الشرف وارتفاع الدرجات يوجب لصاحبه إذا عصى تضاعف العقوبات. وقرأ أبو عمرو
" يضعف " على البناء للمفعول، وفرق هو وأبو عبيد بين يضاعف ويضعف فقالا: يكون يضاعف ثلاثة عذابات
ويضعف عذابين. قال النحاس: هذه التفرقة التي جاء بها لا يعرفها أحد من أهل اللغة، والمعنى في يضاعف
ويضعف واحد: أي يجعل ضعفين، وهكذا ضعف ما قالاه ابن جرير (وكان ذلك على الله يسيرا) لا يتعاظمه ولا
يصعب عليه (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا) قرأ الجمهور " يقنت " بالتحتية، وكذا قرأوا: يأت
منكن حملا على لفظ من في الموضعين، وقرأ الجحدري ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر بالفوقية حملا
على المعنى، ومعنى " من يقنت " من يطع، وكذا اختلف القراء في " مبينة "، فمنهم من قرأها بالكسر ومنهم من
قرأها بفتح الياء كما تقدم في النساء. وقرأ ابن كثير وابن عامر " نضعف " بالنون ونصب العذاب، وقرئ
276

" نضاعف " بكسر العين على البناء للفاعل (نؤتها أجرها مرتين) قرأ حمزة والكسائي بالتحتية، وكذا قرأ يعمل
بالتحتية، وقرأ الباقون تعمل بالفوقية، ونؤت بالنون، ومعنى إتيانهن الأجر مرتين أنه يكون لهن من الأجر على
الطاعة مثلا ما يستحقه غيرهن من النساء إذا فعلن تلك الطاعة. وفي هذا دليل قوي على أن معنى " يضاعف لها
العذاب ضعفين " أنه يكون العذاب مرتين لا ثلاثا، لأن المراد إظهار شرفهن ومزيتهن في الطاعة والمعصية بكون
حسنتهن كحسنتين، وسيئتهن كسيئتين، ولو كانت سيئتهن كثلاث سيئات لم يناسب ذلك كون حسنتهن
كحسنتين، فإن الله أعدل من أن يضاعف العقوبة عليهن مضاعفة تزيد على مضاعفة أجرهن (وأعتدنا لها)
زيادة على الأجر مرتين (رزقا كريما). قال المفسرون: الرزق الكريم هو نعيم الجنة، حكى ذلك عنهم النحاس.
ثم أظهر سبحانه فضيلتهن على سائر النساء تصريحا فقال (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) قال الزجاج: لم
يقل كواحدة من النساء، لأن أحد نفي عام للمذكر والمؤنث والواحدة والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي كما
يقال: ليس فيها أحد لا شاة ولا بعير. والمعنى: لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل والشرف.
ثم قيد هذا الشرف العظيم بقيد فقال (إن اتقيتن) فبين سبحانه أن هذه الفضيلة لهن إنما تكون بملازمتهن للتقوى،
لا لمجرد اتصالهن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد وقعت منهن ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص،
والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد مماته. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله
عليه: أي إن اتقيتن فلستن كأحد من النساء. وقيل إن جوابه (فلا تخضعن) والأول أولى. ومعنى (فلا تخضعن
بالقول) لا تلن القول عند مخاطبة الناس كما تفعله المريبات من النساء، فإنه يتسبب عن ذلك مفسدة عظيمة، وهي
قوله (فيطمع الذي في قلبه مرض) أي فجور وشك ونفاق، وانتصاب يطمع لكونه جواب النهي. كذا قرأ
الجمهور. وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ " فيطمع " بفتح الياء وكسر الميم. قال النحاس: أحسب هذا غلطا،
ورويت هذه القراءة عن أبي السمأل وعيسي بن عمر وابن محيصن، وروي عنهم أنهم قرأوا بالجزم عطفا على
محل فعل النهي (وقلن قولا معروفا) عند الناس بعيدا من الريبة على سنن الشرع، لا ينكر منه سامعه شيئا، ولا
يطمع فيهن أهل الفسق والفجور بسببه (وقرن في بيوتكن) قرأ الجمهور " وقرن " بكسر القاف من وقر يقر
وقارا: أي سكن، والأمر منه قر بكسر القاف، وللنساء قرن مثل عدن وزن. وقال المبرد: هو من القرار،
لا من الوقار، تقول قررت بالمكان بفتح الراء، والأصل اقررن بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا كما قالوا
في ظللت ظلت، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل بتحريك القاف. وقال أبو علي الفارسي:
أبدلت الراء الأولى ياء كراهة التضعيف كما أبدلت في قيراط ودينار، وصار للياء حركة الحرف الذي أبدلت منه،
والتقدير أقيرن، ثم تلقي حركة الياء على القاف كراهة تحريك الياء بالكسر فتسقط الياء لاجتماع الساكنين،
وتسقط همزة الوصل لتحريك ما بعدها فيصير قرن. وقرأ نافع وعاصم بفتح القاف وأصله قررت بالمكان: إذا
أقمت فيه بكسر الراء، أقر بفتح القاف كحمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز، ذكر ذلك أبو عبيد عن الكسائي،
وذكرها الزجاج وغيره. قال الفراء: هو كما تقول هل حست صاحبك: أي هل أحسسته؟ قال أبو عبيد: كان
أشياخنا من أهل العربية ينكرون القراءة بالفتح للقاف، وذلك لأن قررت بالمكان أقر لا يجوزه كثير من أهل
العربية. والصحيح قررت أقر بالكسر، ومعناه: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن، وهذا
يخالف ما ذكرناه هنا عنه عن الكسائي وهو من أجل مشايخه. وقد وافقه على الإنكار لهذه القراءة أبو حاتم فقال:
إن قرن بفتح القاف لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: قد خولف أبو حاتم في قوله إنه لا مذهب له في
277

في كلام العرب بل فيه مذهبان: أحدهما حكاه الكسائي، والآخر عن علي بن سليمان، فأما المذهب الذي حكاه
الكسائي فهو ما قدمناه من رواية أبي عبيد عنه، وأما المذهب الذي حكاه علي بن سليمان، فقال: إنه من قررت
به عينا أقر. والمعنى: واقررن به عينا في بيوتكن. قال النحاس: وهو وجه حسن.
وأقول: ليس بحسن ولا هو معنى الآية، فإن المراد بها أمرهن بالسكون والاستقرار في بيوتهن، وليس من
قرة العين. وقرأ ابن أبي عبلة " واقررن " بألف وصل ورائين، الأولى مكسورة على الأصل (ولا تبرجن تبرج
الجاهلية الأولى) التبرج: أن تبدي المرأة زينتها ومحاسنها ما يجب عليها ستره مما تستدعي به شهوة الرجل. وقد
تقدم معنى التبرج في سورة النور. قال المبرد: هو مأخوذ من السعة، يقال في أسنانه برج: إذا كانت متفرقة.
وقيل التبرج هو التبختر في المشي، وهذا ضعيف جدا.
وقد اختلف في المراد بالجاهلية الأولى، فقيل ما بين آدم ونوح، وقيل ما بين نوح وإدريس، وقيل ما بين
نوح وإبراهيم، وقيل ما بين موسى وعيسى، وقيل ما بين عيسى ومحمد. وقال المبرد: الجاهلية الأولى كما تقول
الجاهلية الجهلاء. قال: وكان نساء الجاهلية تظهر ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها،
فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى أعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى أسفل، وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.
قال ابن عطية: والذي يظهر لي أنه أشار إلى الجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل
الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى كذا قال، وهو قول
حسن. ويمكن أن يراد بالجاهلية الأخرى ما يقع في الإسلام من التشبيه بأهل الجاهلية بقول أو فعل، فيكون المعنى:
ولا تبرجن أيها المسلمات بعد إسلامكن تبرجا مثل تبرج أهل الجاهلية التي كنتن عليها، وكان عليها من قبلكن:
أي لا تحدثن بأفعالكن فلا وأقوالكن جاهلية تشابه الجاهلية التي كانت من قبل (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن
الله ورسوله) خص الصلاة والزكاة لأنهما أصل الطاعات البدنية والمالية. ثم عمم فأمرهن بالطاعة لله ولرسوله في
كل ما هو شرع (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) أي إنما أوصاكن الله بما أوصاكن من التقوى،
وأن لا تخضعن بالقول، ومن قول المعروف، والسكون في البيوت وعدم التبرج، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة،
والطاعة ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، والمراد بالرجس الإثم والذنب المدنسان للأعراض الحاصلان بسبب
ترك ما أمر الله به، وفعل ما نهى عنه، فيدخل تحت ذلك كل ما ليس فيه لله رضا، وانتصاب أهل البيت على
المدح كما قال الزجاج، قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض
فعلى أنه بدل من الكاف والميم، واعترضه المبرد بأنه لا يجوز البدل من المخاطب، ويجوز أن يكون نصبه على النداء
(ويطهركم تطهيرا) أي يطهركم من الأرجاس والأردان تطهيرا كاملا. وفي استعارة الرجس للمعصية والترشيح
لها بالتطهير تنفير عنها بليغ، وزجر لفاعلها شديد.
وقد اختلف أهل العلم في أهل البيت المذكورين في الآية، فقال ابن عباس وعكرمة وعطاء والكلبي ومقاتل
وسعيد بن جبير: إن أهل البيت المذكورين في الآية هن زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. قالوا:
والمراد بالبيت بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومساكن زوجاته لقوله " واذكرن ما يتلى في بيوتكن ". وأيضا
السياق في الزوجات من قوله (يا أيها النبي قل لأزواجك) إلي قوله (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله
والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا). وقال أبو سعيد الخدري ومجاهد وقتادة، وروي عن الكلبي أن أهل البيت
278

المذكورين في الآية هم علي وفاطمة والحسن والحسين خاصة، ومن حججهم الخطاب في الآية بما يصلح للذكور
لا للإناث، وهو قوله " عنكم وليطهركم " ولو كان للنساء خاصة لقال عنكن ويطهركن. وأجاب الأولون عن
هذا أن التذكير باعتبار لفظ الأهل كما قال سبحانه - أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت - وكما
يقول الرجل لصاحبه: كيف أهلك؟ يريد زوجته أو زوجاته، فيقول: هم بخير.
ولنذكر ههنا ما تمسك به كل فريق: أما الأولون فتمسكوا بالسياق، فإنه في الزوجات كما ذكرنا، وبما
أخرجه ابن أبي حاتم وابن عساكر من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت) قال: نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. وقال عكرمة: من شاء باهلته أنها نزلت
في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج نحوه ابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن سعد عن عروة نحوه.
وأما ما تمسك به الآخرون، فأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتي نزلت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت)
وفي البيت فاطمة وعلي الحسن والحسين، فجللهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكساء كان عليه، ثم
قال: " هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتها على منامة له عليه كساء
خيبري، فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ادعي زوجك وابنيك
حسنا وحسينا فدعتهم، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلة كسائه فغشاهم إياها، ثم أخرج
يده من الكساء وألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا، قالها ثلاث مرات. قالت أم سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم؟ فقال:
إنك إلى خير مرتين ". وأخرجه أيضا أحمد من حديثها قال: حدثنا عبد الله بن نمير. حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان
عن عطاء بن أبي رياح، حدثني من سمع أم سلمة تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وفي إسناده
مجهول وهو شيخ عطاء، وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه الطبراني عنها من طريقين بنحوه. وقد ذكر ابن كثير
في تفسيره لحديث أم سلمة طرقا كثيرة في مسند أحمد وغيره. وأخرج ابن مردويه والخطيب من حديث أبي سعيد
الخدري نحوه. وأخرج الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال: لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت) وذكر نحو حديث أم سلمة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم
عن عائشة قالت: " خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء الحسن
والحسين فأدخلهما معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها معه، ثم جاء علي فأدخله معه، ثم قال (إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ". وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم
والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن واثلة بن الأسقع قال " جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى
فاطمة ومعه علي وحسن وحسين حتى دخل، فأدنى عليا وفاطمة وأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا
كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه وأنا مستدبرهم، ثم تلا هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم
279

الرجس أهل البيت) وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قلت:
يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال: وأنت من أهلي ". قال واثلة: إنه لأرجا ما أرجوه. وله طرق في مسند أحمد.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس
" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل
البيت الصلاة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ". وأخرج مسلم عن زيد بن أرقم
أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " أذكركم الله في أهل بيتي " فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس
نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده: آل علي وآل عقيل
وآل جعفر، وآل العباس. وأخرج الحكيم الترمذي والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله قسم الخلق قسمين، فجعلني في خيرهما قسما، فذلك قوله
- وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال - فأنا من أصحاب اليمين، وأنا خير أصحاب اليمين. ثم جعل القسمين أثلاثا،
فجعلني في خيرها ثلاثا، فذلك قوله - وأصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون السابقون - فأنا من
السابقين، وأنا خير السابقين. ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة، وذلك قوله - وجعلناكم شعوبا
وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم - وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتا،
فجعلني في خيرها بيتا، فذلك قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فأنا وأهل
بيتي مطهرون من الذنوب ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر
على عهد رسول الله، قال: " رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا طلع الفجر جاء إلى باب علي وفاطمة
فقال: الصلاة الصلاة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم) ". وفي إسناده أبو داود
الأعمى، وهو وضاع كذاب. وفي الباب أحاديث وآثار، وقد ذكرنا ههنا ما يصلح للتمسك به دون مالا يصلح.
وقد توسطت طائفة ثالثة بين الطائفتين، فجعلت هذه الآية شاملة للزوجات ولعلي وفاطمة والحسن والحسين،
أما الزوجات فلكونهن المرادات في سياق هذه الآيات كما قدمنا، ولكونهن الساكنات في بيوته صلى الله عليه
وآله وسلم النازلات في منازله، ويعضد ذلك ما تقدم عن ابن عباس وغيره. وأما دخول علي وفاطمة والحسن
والحسين فلكونهم قرابته وأهل بيته في النسب، ويؤيده ذلك ما ذكرناه من الأحاديث المصرحة بأنهم سبب النزول،
فمن جعل الآية خاصة بأحد الفريقين فقد أعمل بعض ما يجب إعماله وأهمل مالا يجوز إهماله. وقد رجح هذا القول
جماعة من المحققين منهم القرطبي وابن كثير وغيرهما. وقال جماعة: هم بنو هاشم، واستدلوا بما تقدم من حديث
ابن عباس ويقول زيد بن أرقم المتقدم حيث قال: ولكن آله من حرم الصدقة بعده: آل علي، وآل عقيل،
وآل جعفر، وآل العباس، فهؤلاء ذهبوا إلى أن المراد بالبيت بيت النسب. قوله (واذكرن ما يتلى في بيوتكن
من آيات الله والحكمة) أي أذكرن موضع النعمة إذ صيركن الله في بيوت يتلى فيها آيات الله والحكمة أو أذكرنها
وتفكرن يقول فيها لتتعظن بمواعظ الله، أو أذكرنها للناس ليتعظوا بها ويهتدوا بهداها، أو أذكرنها بالتلاوة لها
لتحفظنها ولا تتركن الاستكثار من التلاوة. قال القرطبي: قال أهل التأويل: آيات الله هي القرآن، والحكمة
السنة. وقال مقاتل: المراد بالآيات والحكمة أمره ونهيه في القرآن. وقيل إن القرآن جامع بين كونه آيات بينات
دالة على التوحيد وصدق النبوة وبين كونه حكمة مشتملة على فنون من العلوم والشرائع (إن الله كان لطيفا خبيرا)
280

أي لطيفا بأوليائه خبيرا بجميع خلقه وجميع ما يصدر منهم من خير وشر وطاعة ومعصية، فهو يجازي المحسن بإحسانه
والمسئ بإساءته.
وقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وابن مردويه من طريق أبي الزبير عن جابر قال " أقبل أبو بكر يستأذن على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم
أقبل عمر فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لأبي بكر وعمر فدخلا والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جالس وحوله نساؤه
وهو ساكت، فقال عمرت: لأكلمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله لو
رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألت النفقة آنفا فوجأت في عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى
بدت نواجذه وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما
يقولان: تسألان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقلن نساؤه: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فنادى بعائشة فقال: إني
ذاكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها (يا أيها النبي قل لأزواجك)
الآية، قالت عائشة: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله رسوله، وأسألك أن لا تذكر لنسائك ما اخترت فقال:
إن الله لن يبعثني متعنتا ولكن بعثني مبشرا، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها ". وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن عائشة " أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءها حين أمره الله أن يخير أزواجه قالت:
فبدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمر فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك، وقد علم أن أبوي لم يكونا
يأمراني بفراقه، فقال: إن الله قال (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا) إلى تمام الآية، فقلت
له: ففي أي هذا أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، وفعل أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم
مثل ما فعلت ". وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل
صالحا) قال يقول: من يطع الله منكن وتعمل منكن لله ورسوله بطاعته. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (فلا
تخضعن بالقول) قال: يقول لا ترخصن بالقول ولا تخضعن بالكلام. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (فلا
تخضعن بالقول) قال: مقارنة الرجال في القول حتى يطمع الذي في قلبه مرض. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر
عن محمد بن سيرين قال: نبئت أنه قيل لسودة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مالك لا تحجين ولا تعتمرين
كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت وأمرني الله أن أقر في بيتي، فوالله لا أخرج من بيتي حتى
أموت، قال: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت بجنازتها. وأخرج ابن أبي شيبة وابن سعد
وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن مسروق قال: كانت عائشة إذا قرأت (وقرن في بيوتكن)
بكت حتى تبل خمارها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب
قال: كانت الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف سنة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب سأله فقال: أرأيت قول الله لأزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) هل كانت جاهلية غير واحدة، فقال ابن عباس ما سمعت بأولى
إلا ولها آخرة، فقال له عمر: فأتني من كتاب الله ما يصدق ذلك، فقال: إن الله يقول - وجاهدوا في الله حق
جهاده هو اجتباكم أول مرة - فقال عمر: من أمرنا أن نجاهد؟ قال: مخزوم وعبد شمس. وأخرج ابن أبي حاتم
عن ابن عباس أيضا في الآية قال: تكون جاهلية أخرى. وأخرج ابن أبي حاتم عن عائشة أنها تلت هذه الآية
281

فقالت الجاهلية الأولى كانت على عهد إبراهيم. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الجاهلية الأولى ما بين
عيسى ومحمد. وقد قدمنا ذكر الآثار الواردة في سبب نزول قوله (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت). وأخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (واذكرن
ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) قال: القرآن والسنة يمتن بذلك عليهن. وأخرج ابن سعد عن أبي أمامة
عن سهل في قوله (واذكرن ما يتلى في بيوتكن) الآية قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في
بيوت أزواجه النوافل بالليل والنهار.
قوله (إن المسلمين) بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذي هو مجرد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل، كما
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: " هو أن تشهد أن
لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان. ثم عطف على المسلمين
(المسلمات) تشريفا لهن بالذكر " وهكذا فيما بعد وإن كن داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك،
والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك، ثم ذكر (المؤمنين
والمؤمنات) وهم من يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره كما ثبت ذلك في الصحيح عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، والقانت العابد المطيع، وكذا القانتة، وقيل الدوامين على العبادة والطاعة،
والصادق والصادقة هما من يتكلم بالصدق ويتجنب الكذب ويفي بما عوهد عليه، والصابر والصابرة هما من يصبر
عن الشهوات وعلى مشاق التكليف، والخاشع والخاشعة هما المتواضعان لله الخائفان منه الخاضعان في عباداتهم لله،
والمتصدق والمتصدقة هما من تصدق من ماله بما أوجبه الله عليه. وقيل ذلك أعم من صدقة الفرض والنفل،
وكذلك الصائم والصائمة، قيل ذلك مختص بالفرض، وقيل هو أعم، والحافظ والحافظة لفرجيهما عن الحرام
بالتعفف والتنزه والاقتصار على الحلال، والذاكر والذاكرة هما من يذكر الله على أحواله، وفي ذكر الكثرة دليل
على مشروعية الاستكثار من ذكر الله سبحانه بالقلب واللسان، واكتفى في الحافظات بما تقدم في الحافظين من
ذكر الفروج والتقدير: والحافظين فروجهم والحافظات فروجهن، وكذا في الذاكرات والتقدير: والذاكرين
الله كثيرا والذاكرات الله كثيرا، والخبر لجميع ما تقدم هو قوله (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) أي مغفرة
لذنوبهم التي أذنبوها وأجرا عظيما على طاعاتهم التي فعلوها من الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر
والخشوع والتصدق والصوم والعفاف والذكر، ووصف الأجر بالعظم للدلالة على أنه بالغ غاية المبالغ ولا شئ
أعظم من أجر هو الجنة ونعيمها الدائم الذي لا ينقطع ولا ينفد، اللهم اغفر ذنوبنا وأعظم أجورنا (وما كان لمؤمن
282

ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) أي ما صح ولا أسقام لرجل ولا امرأة من
المؤمنين، ولفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها المنع والحظر من الشئ والإخبار بأنه لا يحل أن يكون شرعا،
وقد يكون لما يمتنع عقلا كقوله - ما كان لكم أن تنبتوا شجرها - ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله إذا قضى
الله أمرا أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه واختاره
له، وجمع الضميرين في قوله: لهم ومن أمرهم لأن مؤمن ومؤمنة وقعا في سياق النفي فهما يعمان كل مؤمن
ومؤمنة. قرأ الكوفيون " أن يكون " بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث
بقوله لهم مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرأ الباقون بالفوقية لكونه مسندا إلى الخيرة وهى مؤنثة لفظا، والخيرة
مصدر بمعنى الاختيار. وقرأ ابن السميفع " الخيرة " بسكون التحتية، والباقون بتحريكها، ثم توعد سبحانه من لم
يذعن لقضاء الله وقدره فقال (ومن يعص الله ورسوله) في أمر من الأمور، ومن ذلك عدم الرضا بالقضاء (فقد
ضل ضلالا مبينا) أي ضل عن طريق الحق ضلالا ظاهرا واضحا لا يخفى.
وقد أخرج أحمد والنسائي وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول
الله مالنا لا نذكر أنه في القرآن كما يذكر الرجال فلم يرعني منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر وهو يقول: إن الله يقول
(إن المسلمين والمسلمات) إلى آخر الآية. وروي نحو هذا عنها من طريق أخرى أخرجها الفريابي وابن سعد وابن
أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. وأخرج الفريابي وسعيد بن
منصور وعبد بن حميد والترمذي وحسنه، والطبراني وابن مردويه عن أم عمارة الأنصارية أنها أتت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم فقالت: ما أرى كل شئ إلا للرجال، وما أرى النساء يذكرن بشيء؟ فنزلت هذه الآية (إن
المسلمين والمسلمات). وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه بإسناد. قال السيوطي: حسن، عن ابن عباس
قال: قالت النساء يا رسول الله ما باله يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟ فنزلت (إن المسلمين والمسلمات)
الآية. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
انطلق ليخطب على فتاة زيد بن حارثة، فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها، قالت: لست بناكحته،
قال: بلى فانكحيه، قالت: يا رسول الله أؤامر نفسي، فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله (وما
كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية، قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحا، قال نعم، قالت: إذن لا أعصي
رسول الله قد أنكحته نفسي. وأخرج نحوه عنه ابن جرير من طريق أخرى. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزينب: " إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك، قالت
يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي وأنا أيم قومي وبنت عمتك فلم أكن لأفعل، فنزلت هذه الآية (وما كان لمؤمن)
يعنى زيدا (ولا مؤمنة) يعني زينب (إذا قضى الله ورسوله أمرا) يعني النكاح في هذا الموضع (أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم) يقول: ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا
مبينا) قالت: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوجها زيدا ودخل عليها ". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال:
نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله
وسلم فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله فزوجنا عبده.
283

لما زوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر في تفسير الآية التي
قبل هذه أنزل الله سبحانه (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) أي واذكر إذ تقول للذي أنعم الله عليه
وهو زيد بن حارثة، أنعم الله عليه بالإسلام، وأنعم عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن أعتقه من الرق،
وكان من سبي الجاهلية اشتراه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الجاهلية وأعتقه وتبناه، وسيأتي في بيان سبب
نزول الآية في آخر البحث ما يوضح المراد منها. قال القرطبي: وقد اختلف في تأويل هذه الآية، فذهب قتادة
وابن زيد وجماعة من المفسرين منهم ابن جرير الطبري وغيره إلى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع منه
استحسان لزينب بنت جحش وهى في عصمة زيد، وكان حريصا على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو، ثم إن زيدا
لما أخبره بأنه يريد فراقها ويشكو منها غلظة قول وعصيان أمر وأذى باللسان وتعظما بالشرف قال له: اتق الله فيما
تقول عنها وأمسك عليك زوجك، وهو يخفي الحرص على طلاق زيد إياها، وهذا الذي كان يخفي في نفسه ولكنه
لزم ما يجب من الأمر بالمعروف انتهى (أمسك عليك زوجك) يعنى زينب (واتق الله) في أمرها ولا تعجل بطلاقها
(وتخفي في نفسك ما الله مبديه) وهو نكاحها إن طلقها زيد، وقيل حبها (وتخشى الناس) أي تستحيهم، أو
تخاف من تعييرهم بأن يقولوا أمر مولاه بطلاق امرأته ثم تزوجها (والله أحق أن تخشاه) في كل حال وتخاف منه
وتستحييه والواو للحال: أي تخفى في نفسك ذلك الأمر مخافة من الناس (فلما قضى زيد منها وطرا) قضاء الوطر
في اللغة: بلوغ منتهى ما في النفس من الشئ، يقال قضى وطرا منه: إذا بلغ ما أراد من حاجته فيه، ومنه قول
عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرائح المجد ابتكارا * قد قضى من تهامة الأوطارا
أي فرغ من أعمال الحج وبلغ ما أراد منه، والمراد هنا أنه قضى وطره منها بنكاحها والدخول بها بحيث لم يبق
وله فيها حاجة، وقيل المراد به الطلاق، لأن الرجل إنما يطلق امرأته إذا لم يبق له فيها حاجة وقال المبرد: الوطر
الشهوة والمحبة وأنشد:
وكيف ثوائي بالمدينة بعد ما * قضى وطرا منها جميل بن معمر
وقال أبو عبيدة: الوطر: الأرب والحاجة، وأنشد قول الفزاري:
ودعنا قبل أن نودعه * لما قضى من شبابنا وطرا
284

قرأ الجمهور (زوجناكها) وقرأ علي وابناه الحسن والحسين زوجتكها فلما أعلمه الله بذلك دخل عليها بغير
إذن ولا عقد ولا تقدير صداق ولا شئ مما هو معتبر في النكاح في حق أمته. وقيل المراد به الأمر له بأن يتزوجها.
والأول أولى، وبه جاءت الأخبار الصحيحة. ثم علل سبحانه ذلك بقوله (لكيلا يكون على المؤمنين حرج) أي
ضيق ومشقة (في أزواج أدعيائهم) أي في التزوج بأزواج من يجعلونه ابنا كما كانت تفعله العرب فإنهم كانوا
يتبنون من يريدون، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد تبنى زيد بن حارثة، فكان يقال زيد بن محمد حتى
نزل قوله سبحانه - ادعوهم لآبائهم - وكانت العرب تعتقد أنه يحرم عليه نساء من تبنوه كما تحرم عليه نساء أبنائهم
حقيقة. والأدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعي ابنا من غير أن يكون ابنا على الحقيقة، فأخبرهم الله أن نساء
الأدعياء حلال لهم (إذا قضوا منهن وطرا) بخلاف ابن الصلب فإن امرأته تحرم على أبيه بنفس العقد عليها (وكان
أمر الله مفعولا) أي كان قضاء الله في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضاء ماضيا مفعولا
لا محالة. ثم بين سبحانه أنه لم يكن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرج في هذا النكاح فقال (ما كان على
النبي من حرج فيما فرض الله له) أي فيما أحل الله وقدره وقضاه، يقال فرض له كذا: أي قدر له (سنة الله
في الذين خلوا من قبل) أي إن هذا هو السنن الأقدم في الأنبياء والأمم‌ الماضية أن ينالوا ما أحله الله لهم من أمر
النكاح وغيره (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي قضاء مقضيا. قال مقاتل: أخبر الله أن أمر زينب كان من حكم
الله وقدره، وانتصاب سنة على المصدر: أي سن الله سنة الله، أو اسم وضع موضع المصدر أو منصوب بجعل
أو بالإغراء. ورده أبو حبان بأن عامل الإغراء لا يحذف. ثم ذكر سبحانه الأنبياء الماضين وأثنى عليهم فقال
(الذين يبلغون رسالات الله) والموصول في محل جر صفة " للذين خلو " أو منصوب على المدح، مدحهم سبحانه
بتبليغ ما أرسلهم به إلى عباده وخشيته في كل فعل وقول ولا يخشون سواه ولا يبالون بقول الناس ولا بتعييرهم،
بل خشيتهم مقصورة على الله سبحانه (وكفى بالله حسيبا) حاضرا في كل مكان يكفي عباده كل ما يخافونه، أو
محاسبا لهم في كل شئ، ولما تزوج صلى الله عليه وآله وسلم زينب قال الناس: تزوج امرأة ابنة، فأنزل الله
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) أي ليس بأب لزيد بن حارثة على الحقيقة حتى تحرم عليه زوجته، ولا هو أب
لأحد لم يلده. قال الواحدي: قال المفسرون: لم يكن أبا أحد لم يلده، وقد ولد من الذكور إبراهيم والقاسم
والطيب والمطهر. قال القرطبي: ولكن لم يعش له ابن حتى يصير رجلا: قال: وأما الحسن والحسين فكانا
طفلين ولم يكونا رجلين معاصرين له (ولكن رسول الله) قال الأخفش والفراء: ولكن كان رسول الله وأجازا
الرفع. وكذا قرأ ابن أبي عبلة بالرفع في رسول وفي خاتم على معنى: ولكن هو رسول الله وخاتم النبيين. وقرأ
الجمهور بتخفيف لكن، ونصب رسول وخاتم، ووجه النصب على خبرية كان المقدرة كما تقدم، ويجوز أن
يكون بالعطف على أبا أحد. وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بتشديد لكن ونصب رسول على أنه اسمها وخبرها
محذوف: أي ولكن رسول الله هو. وقرأ الجمهور خاتم بكسر التاء. وقرأ عاصم بفتحها. ومعنى القراءة الأولى:
أنه ختمهم: أي جاء آخرهم. ومعنى القراءة الثانية: أنه صار كالخاتم لهم الذي يتخمون به ويتزينون بكونه منهم.
وقيل كسر التاء وفتحها لغتان. قال أبو عبيد: الوجه الكسر لأن التأويل أنه ختمهم فهو خاتمهم، وأنه قال " أنا
خاتم النبيين " وخاتم الشئ آخره ومنه قولهم: خاتمة المسك. وقال الحسن: الخاتم هو الذي ختم به (وكان الله بكل
شئ عليما) قد أحاط علمه بكل شئ، ومن جملة معلوماته هذه الأحكام المذكورة هنا.
285

وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس قال " جاء زيد بن حارثة يشكو زينب إلى رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اتق الله وأمسك عليك زوجك،
فنزلت (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) " قال أنس: فلو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كاتما شيئا لكتم
هذه الآية، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة (فلما
قضى زيد منها وطرا زوجناكها) فكانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: زوجكن
أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أنس قال: لما انقضت
عدة زينب، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد: " اذهب فاذكرها علي، فانطلق، قال: فلما رأيتها
عظمت في صدري، فقلت: يا زينب أبشري أرسلني رسول الله يذكرك، قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر
ربي، فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخل عليها بغير إذن، ولقد
رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطعمنا عليها الخبز واللحم، فخرج الناس وبقي رجال
يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتبعته، فجعل يتتبع حجر نسائه
يسلم عليهن ويقولون: يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر،
فانطلق حتى دخل البيت، فذهبت أدخل معه، فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به
(لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية ". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عائشة قالت: لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) يعني بالإسلام (وأنعمت عليه) يعني بالعتق
(أمسك عليك زوجك) إلى قوله (وكان أمر الله مفعولا) وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما تزوجها
قالوا تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وكان
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تبناه وهو صغير، فلبث حتى صار رجلا يقال له زيد بن محمد، فأنزل الله
- ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله - يعني أعدل عند الله. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي في قوله
(سنة الله في الذين خلوا من قبل) قال: يعني يتزوج من النساء ما شاء هذا فريضة، وكان من قبل من الأنبياء هذا
سنتهم، قد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، وكان لداود مائة امرأة. وأخرج ابن المنذر والطبراني عن ابن جريج
في قوله - سنة الله في الذين خلوا من قبلي - قال داود: والمرأة التي نكح وزوجها واسمها اليسية، فذلك سنة في محمد
وزينب (وكان أمر الله قدرا مقدورا) كذلك من سنته في داود والمرأة والنبي وزينب. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس في قوله (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) قال: نزلت في زيد بن حارثة. وأخرج أحمد ومسلم عن
أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى دارا، فانتهى
إلا لبنة واحدة، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة ". وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن جابر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل ابتنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة، فكان من
دخلها فنظر إليها قال ما أحسنها إلا موضع اللبنة، فأنا موضع اللبنة حتى ختم بي الأنبياء ". وأخرج البخاري ومسلم
وغيرهما من حديث أبي هريرة نحوه. وأخرج أحمد والترمذي وصححه من حديث أبي بن كعب نحوه أيضا.
286

قوله (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكر كثيرا) أمر سبحانه عباده بأن يستكثروا من ذكره بالتهليل والتحميد
والتسبيح والتكبير وكل ما هو ذكر لله تعالى. قال مجاهد: هو أن لا ينساه أبدا، وقال الكلبي: ويقال ذكرا كثيرا
بالصلوات الخمس، وقال مقاتل: هو التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على كل حال (وسبحوه بكرة وأصيلا)
أي نزهوه هما لا يليق به في وقت البكرة ووقت الأصيل، وهما أول النهار وآخره، وتخصيصهما بالذكر لمزيد ثواب
التسبيح فيهما، وخص التسبيح بالذكر بعد دخوله تحت عموم قوله (اذكروا الله) تنبيها على مزيد شرفه، وإنافة
ثوابه على غيره من الأذكار. وقيل المراد بالتسبيح بكرة صلاة الفجر، وبالتسبيح أصيلا صلاة المغرب. وقال قتادة
وابن جرير: المراد صلاة الغداة وصلاة العصر. وقال الكلبي: أما بكرة فصلاة الفجر، وأما أصيلا فصلاة الظهر
والعصر والمغرب والعشاء. قال المبرد: والأصيل العشي وجمعه أصائل (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) والصلاة
من الله على العباد رحمته لهم وبركته عليهم، ومن الملائكة الدعاء لهم والاستغفار كما قال - ويستغفرون للذين آمنوا -
قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان: المعنى ويأمر ملائكته بالاستغفار لكم، والجملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها
من الأمر بالذكر والتسبيح. وقيل الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده، وقيل الثناء
عليه، وعطف ملائكته علي الضمير المستكن في يصلي لوقوع الفصل بقوله " عليكم " فأغنى ذلك عن التأكيد
بالضمير المنفصل. والمراد بالصلاة هنا معنى مجازي يعم صلاة الله بمعنى الرحمة، وصلاة الملائكة بمعنى الدعاء
لئلا يجمع بين حقيقة ومجاز في كلمة واحدة، واللام في (ليخرجكم من الظلمات إلى النور متعلق بيصلي: أي يعتني
بأموركم هو ملائكته ليخرجكم من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعات ومن ظلمة الضلالة إلى نور الهدى، ومعنى
الآية تثبيت المؤمنين على الهداية ودوامهم عليها لأنهم كانوا وقت الخطاب على الهداية. ثم أخبر سبحانه برحمته
للمؤمنين تأنيسا لهم وتثبيتا فقال (وكان بالمؤمنين رحيما) وفي هذه الجملة تقرير لمضمون ما تقدمها، ثم بين سبحانه
أن هذه الرحمة منه لا تخص السامعين وقت الخطاب بل هي عامة لهم ولمن بعدهم وفي الدار الآخرة فقال (تحيتهم يوم
يلقونه سلام) أي تحية المؤمنين من الله سبحانه يوم لقائهم له عند الموت أو عند البعث أو عند دخول الجنة هي
التسليم عليهم منه عز وجل. وقيل المراد تحية بعضهم لبعض يوم يلقون ربهم سلام، وذلك لأنه كان بالمؤمنين رحيما
فلما شملتهم رحمته وأمنوا من عقابه حيا بعضهم بعضا سرورا واستبشارا. والمعنى: سلامة لنا من عذاب النار. قال
الزجاج: المعنى فيسلمهم الله من الآفات ويبشرهم بالأمن من المخافات يوم يلقونه. وقيل الضمير في " يلقونه "
راجع إلى ملك الموت، وهو الذي يحييهم كما ورد أنه لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. وقال مقاتل: هو تسليم
الملائكة عليهم يوم يلقون الرب كما في قوله - والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم - (وأعد لهم أجرا
287

كريما) أي أعد لهم في الجنة رزقا حسنا ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم. ثم ذكر سبحانه صفات رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم التي أرسله لها فقال (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا) أي على أمته يشهد لمن صدقه وآمن به،
وعلى من كذبه وكفر به. قال مجاهد: شاهدا على أمته بالتبليغ إليهم وعلى سائر الأمم بتبليغ أنبيائهم إليهم (ومبشرا)
للمؤمنين برحمة الله وبما أعده لهم من جزيل الثواب وعظيم الأجر (ونذيرا) للكافرين والعصاة بالنار، وبما أعده
الله لهم من عظيم العقاب (وداعيا إلى الله) يدعون عباد الله إلى التوحيد والإيمان بما جاء به، والعمل بما شرعه لهم،
ومعنى قوله (بإذنه) بأمره له بذلك وتقديره، وقيل بتبشيره (وسراجا منيرا) أي يستضاء به في ظلم الضلالة كما يستضاء
بالمصباح في الظلمة. قال الزجاج (وسراجا) أي ذا سراج منير أي كتاب نير، وانتصاب شاهدا وما بعده على
الحال (وبشر المؤمنين) عطف على مقدر يقتضيه المقام كأنه قال فاشهد وبشر، أو فدبر أحوال الناس (وبشر
المؤمنين) أو هو من عطف جملة على جملة، وهي المذكورة سابقا، ولا يمنع من ذلك الاختلاف بين الجملتين
بالإخبار والإنشاء. أمره سبحانه بأن يبشرهم بأن لهم من الله فضلا كبيرا على سائر الأمم، وقد بين ذلك سبحانه
بقوله - والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير - ثم
نهاه سبحانه عن طاعة أعداء الدين فقال (ولا تطع الكافرين والمنافقين) أي لا تطعهم فيما يشيرون عليك به من
المداهنة في الدين، وفي الآية تعريض لغيره من أمته لأنه صلى الله عليه وآله وسلم معصوم عن طاعتهم في شئ مما
يريدونه ويشيرون به عليه، وقد تقدم تفسير هذه الآية في أول السورة (ودع أذاهم) أي لا تبال بما يصدر منهم
إليك من الأذى بسبب يصيبك في دين الله وشدتك على أعدائه، أو دع أن تؤذيهم مجازاة لهم على ما يفعلونه من
الأذى لك، فالمصدر على الأول مضاف إلى الفاعل. وعلى الثاني مضاف إلى المفعول، وهي منسوخة بآية السيف
(وتوكل على الله) في كل شؤونك (وكفى بالله وكيلا) توكل إليه الأمور وتفوض إليه الشؤون، فمن فوض إليه
أموره كفاه، ومن وكل إليه أحواله لم يحتج فيها إلى سواه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (اذكروا الله ذكرا كثيرا) يقول:
لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها أجلا معلوما، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإن الله لم يجعل له
حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في تركه إلا مغلوبا على عقله، فقال: اذكروا الله قياما وقعودا، وعلى جنوبكم
بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، في الصحة والسقم، في السر والعلانية
وعلى كل حال، وقال (وسبحوه بكرة وأصيلا) إذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله (هو الذي يصلي
عليكم وملائكته).
وقد ورد في فضل الذكر والاستكثار منه أحاديث كثيرة وقد صنف في الأذكار المتعلقة بالليل والنهار جماعة
من الأئمة كالنسائي والنووي والجزري وغيرهم، وقد نطقت الآيات القرآنية بفضل الذاكرين وفضيلة الذكر
- ولذكر الله أكبر - وقد ورد أنه أفضل من الجهاد كما في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد والترمذي والبيهقي
" أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل: أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله
كثيرا، قلت: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر
ويختضب دما لكان الذاكرون أفضل منه درجة ". وأخرج أحمد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب
288

والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: وما هو يا رسول الله؟
قال: ذكر الله عز وجل ". وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال:
الذاكرون الله كثيرا ". وأخرج أحمد وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون ". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون ".
وورد في فضل التسبيح بخصوصه أحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال في يوم مائة مرة سبحان الله وبحمده حطت خطاياه ولو كانت
مثل زبد البحر ". وأخرج أحمد ومسلم والترمذي وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص قال " كنا مع رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فقال لنا: أيعجز أحدكم أن يكتسب في اليوم ألف حسنة؟ فقال رجل: كيف يكتسب أحدنا
ألف حسنة؟ قال: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف خطيئة ". وأخرج ابن أبي شيبة
في المصنف وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في ذكر الموت وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن البراء بن عازب في قوله (تحيتهم يوم يلقونه سلام) قال: يوم يلقون
ملك الموت ليس من مؤمن يقبض روحه إلا سلم عليه. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والخطيب وابن
عساكر عن ابن عباس قال: لما نزلت (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) وقد كان أمر عليا
ومعاذا أن يسيرا إلى اليمن، فقال انطلقا فبشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا، فإنها قد أنزلت علي (يا أيها النبي إنا
أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) قال: شاهد على أمتك، ومبشرا بالجنة، ونذيرا من النار، وداعيا إلى شهادة أن
لا إله إلا الله (بإذنه وسراجا منيرا) بالقرآن. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله
ابن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال: أجل والله إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفة في القرآن " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذير، وحرزا للأميين،
أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا تجزي بالسيئة السيئة،
ولكن تعفو وتصفح " زاد أحمد " ولن يقبضه الله حتى يقيم الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، فيفتح بها أعينا
عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا " وقد ذكر البخاري في صحيحه في البيوع هذا الحديث فقال: وقال سعيد عن
هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام، ولم يقل عبد الله بن عمرو، وهذا أولى، فعبد الله بن سلام هو الذي كان
يسئل عن التوراة فيخبر بما فيها.
289

لما ذكر سبحانه قصة زيد وطلاقه لزينب، وكان قد دخل بها وخطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد
انقضاء عدتها كما تقدم خاطب المؤمنين مبينا لهم حكم الزوجة إذا طلقها زوجها قبل الدخول فقال (يا أيها الذين
آمنوا إذا نكحتم المؤمنات) أي عقدتم بهن عقد النكاح، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب الله إلا في معنى العقد كما
قاله صاحب الكشاف والقرطبي وغيرهما.
وقد اختلف في لفظ النكاح هل هو حقيقة في الوطء، أو في العقد، أو فيهما على طريقة الاشتراك، وكلام
صاحب الكشاف في هذا الموضع يشعر بأنه حقيقة في الوطء، فإنه قال النكاح الوطء، وتسمية العقد نكاحا
لملابسته له من حيث أنه طريق إليه، ونظيره تسمية الخمر إثما لأنها سبب في اقتراف الإثم. ومعنى (من قبل أن
تمسوهن) من قبل أن تجامعوهن، فكنى عن ذلك بلفظ المس (فمالكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا مجمع
عليه كما حكى ذلك القرطبي وابن كثير، ومعنى تعتدونها: تستوفون عددها، من عددت الدراهم فأنا أعتدها.
وإسناد ذلك إلى الرجال للدلالة على أن العدة حق لهم كما يفيده (فمالكم عليهن من عدة) قرأ الجمهور " تعتدونها "
بتشديد الدال، وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة بتخفيفها. وفى هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تكون
بمعنى الأولى، مأخوذة من الاعتداد: أي تستوفون عددها، ولكنهم تركوا التضعيف لقصد التخفيف. قال
الرازي: ولو كان من الاعتداء الذي هو الظلم لضعف، لأن الاعتداء يتعدى بعلى. وقيل يجوز أن يكون من
الاعتداء بحذف حرف الجر: أي تعتدون عليها: أي على العدة مجازا، ومثله قوله:
تحن فتبدي ما بها من صبابة * وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضى علي. والوجه الثاني أن يكون المعنى تعتدون فيها، والمراد بالاعتداء هذا هو ما في قوله - ولا تمسكوهن
ضرار لتعتدوا - فيكون معنى الآية على القراءة الآخرة: فما لكم عليهن من عدة تعتدون عليهن فيها بالمضارة. وقد
أنكر ابن عطية صحة هذه القراءة عن ابن كثير وقال: إن البزي غلط عليه، وهذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى
- والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - وبقوله - واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر - والمتعة المذكورة هنا قد تقدم الكلام فيها في البقرة. وقال سعيد بن جبير: هذه المتعة المذكورة هنا
290

منسوخة بالآية التي في البقرة وهي قوله - وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف
ما فرضتم - وقيل المتعة هنا هي أعم من أن تكون نصف الصداق، أو المتعة خاصة إن لم يكن قد سمى لها، فمع
التسمية للصداق تستحق نصف المسمى عملا بقوله - فنصف ما فرضتم لهن -، ومع عدم التسمية تستحق المتعة عملا
بهذه الآية، ويؤيد ذلك قوله تعالى - لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن
على الموسع قدره وعلى المقتر قدره - وهذا الجمع لابد منه، وهو مقدم على الترجيح وعلى دعوى النسخ،
وتخصص من هذه الآية المتوفى عنها زوجها، فإنه إذا مات بعد العقد عليها وقبل الدخول بها كان الموت كالدخول
فتعتد أربعة أشهر وعشرا. قال ابن كثير: بالإجماع، فيكون المخصص هو الإجماع، وقد استدل بهذه الآية القائلون
بأنه لاطلاق قبل النكاح، وهم الجمهور، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح إذا قال: إن
تزوجت فلانة فهي طالق، فتطلق إذا تزوجها. ووجه الاستدلال بالآية لما قاله الجمهور أنه قال - إذا نكحتم
المؤمنات ثم طلقتموهن - فعقب الطلاق بالنكاح بلفظ ثم المشعرة بالترتيب والمهلة (وسرحوهن سراحا جميلا)
أي أخرجوهن من منازلكم: إذ ليس لكم عليهن عدة، والسراح الجميل الذي لاضرار فيه، وقيل السراح الجميل
أن لا يطالبها بما كان قد أعطاها، وقيل السراح الجميل هنا كناية عن الطلاق، وهو بعيد لأنه قد تقدم ذكر الطلاق
ورتب عليه التمتيع وعطف عليه السراج الجميل، فلا بد أن يراد به معنى غير الطلاق (يا أيها النبي إنا أحللنا لك
أزواجك اللاتي آتيت أجورهن) ذكر سبحانه في هذه الآية أنواع الأنكحة التي أحلها لرسوله، وبدأ بأزواجه
اللاتي قد أعطاهن أجورهن: أي مهورهن، فإن المهور أجور الأبضاع، وإيتاؤها: إما تسليمها معجلة أو
تسميتها في العقد.
واختلف في معنى قوله (أحللنا لك أزواجك) فقال ابن زيد والضحاك: إن الله أحل له أن يتزوج كل
امرأة يؤتيها مهرها، فتكون الآية مبيحة لجميع النساء ما عدا ذوات المحارم. وقال الجمهور: المراد أحللنا لك
أزواجك الكائنات عندك لأنهن قد اخترنك على الدنيا وزينتها، وهذا هو الظاهر، لأن قوله أحللنا وآتيت
ماضيان، وتقييد الإحلال بإيتاء الأجور ليس لتوقف الحل عليه، لأنه يصح العقد بلا تسمية، ويجب مهر المثل
مع الوطء والمتعة مع عدمه، فكأنه لقصد الإرشاد إلى ما هو أفضل (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي
السراري اللاتي دخلن في ملكه بالغنيمة. ومعنى (مما أفاء الله عليك) مما رده الله عليك من الكفار بالغنيمة لنسائهم
المأخوذات على وجه القهر والغلبة، وليس المراد بهذا القيد إخراج ما ملكه بغير الغنيمة، فإنها تحل له السرية
المشتراة والموهوبة ونحوهما، ولكنه إشارة إلى ما هو أفضل كالقيد الأول المصرح بإيتاء الأجور، وهكذا قيد
المهاجرة في قوله (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) فإنه للإشارة إلى
ما هو أفضل، وللإيذان بشرف الهجرة وشرف من هاجر والمراد بالمعية هنا الاشتراك في الهجرة لا في الصحبة فيها.
وقيل إن هذا القيد: أعني المهاجرة معتبر وأنها لا تحل له من لم تهاجر من هؤلاء كما في قوله - والذين آمنوا ولم
يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا - ويؤيد هذا حديث أم هانئ، وسيأتي آخر البحث هذا إن
شاء الله تعالى ووجه إفراد العم والخال وجمع العمة والخالة ما ذكره القرطبي أن العم والخال في الإطلاق اسم جنس
كالشاعر والراجز، وليس كذلك العمة والخالة. قال: وهذا عرف لغوي، فجاء الكلام عليه بغاية البيان. وحكاه
عن ابن العربي. وقال ابن كثير: إنه وحد لفظ الذكر لشرفه، وجمع الأنثى كقوله - عن اليمين والشمائل - وقوله
- يخرجهم من الظلمات إلى النور - وجعل الظلمات والنور - وله نظائر كثيرة انتهى. وقال النيسابوري. وإنما لم
291

يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتهما مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم
يحسن هذا الاختصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة انتهى. وكل وجه من هذه الوجوه
يحتمل المناقشة بالنقض والمعارضة، وأحسنها تعليل جمع العمة والخالة بسبق الوهم إلى أن التاء للوحدة، وليس في
العم والحال ما يسبق الوهم إليه بأنه أريد به الوحدة إلا مجرد صيغة الإفراد وهي لا تقتضي ذلك بعد إضافتها لما تقرر
من عموم أسماء الأجناس المضافة، على أن هذا الوجه الأحسن لا يصفو عن شوب المناقشة (وامرأة مؤمنة إن وهبت
نفسها للنبي) هو معطوف على مفعول أحللنا: أي وأحللنا لك امرأة مصدقة بالتوحيد إن وهبت نفسها منك بغير
صداق. وأما من لم تكن مؤمنة فلا تحل لك بمجرد هبتها نفسها لك. ولكن ليس ذلك بواجب عليك بحيث يلزمك
قبول ذلك، بل مقيدا بإرادتك، ولهذا قال (إن أراد النبي أن يستنكحها) أي يصيرها منكوحة له ويتملك بضعها
بتلك الهبة بلا مهر. وقد قيل إنه لم ينكح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الواهبات أنفسهن أحدا ولم يكن عنده
منهن شئ. وقيل كان عنده منهن خولة بنت حكيم كما في صحيح البخاري عن عائشة. وقال قتادة: هي ميمونة
بنت الحارث. وقال الشعبي: هي زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين. وقال علي بن الحسين والضحاك
ومقاتل: هي أم شريك بنت جابر الأسدية. وقال عروة بن الزبير: هي أم حكيم بنت الأوقص السلمية. ثم
بين سبحانه أن هذا النوع من النكاح خاص برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل لغيره من أمته فقال (خالصة
لك من دون المؤمنين) أي هذا الإحلال الخالص هو خاص بك دون غيرك من المؤمنين. ولفظ خالصة إما حال
من امرأة، قاله الزجاج. أو مصدر مؤكد كوعد الله: أي خالص لك خلوصا. قرأ الجمهور " وامرأة " بالنصب.
وقرأ أبو حيوة بالرفع على الابتداء. وقرأ الجمهور " إن وهبت " بكسر إن. وقرأ أبي والحسن وعيسى بن عمر
بفتحها على أنه بدل من امرأة بدل اشتمال. أو على حذف لام العلة: أي لأن وهبت. وقرأ الجمهور " خالصة "
بالنصب، وقرئ بالرفع على أنها صفة لامرأة على قراءة من قرأ امرأة بالرفع، وقد أجمع العلماء على أن هذا خاص
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه لا يجوز لغيره ولا ينعقد النكاح بهبة المرأة نفسها إلا ما روي عن أبي حنيفة
وصاحبيه أنه يصح النكاح إذا وهبت، وأشهد هو على نفسه بمهر. وأما بدون مهر فلا خلاف في أن ذلك خاص
بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا قال (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) أي ما فرضه الله سبحانه على
المؤمنين في حق أزواجهم من شرائط العقد وحقوقه، فإن ذلك حق عليهم مفروض لا يحل لهم الاخلال به، ولا
الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما خصه الله به توسعة عليه وتكريما له، فلا يتزوجوا إلا أربعا بمهر
وبينة وولي (وما ملكت أيمانهم) أي وعلمنا ما فرضنا عليهم فيما ملكت أيمانهم من كونهن ممن يجوز سبيه وحربه،
لا من كان لا يجوز سبيه أو كان له عهد من المسلمين (لكيلا يكون عليك حرج). قال المفسرون: هذا يرجع
إلى أول الآية: أي أحللنا لك أزواجك وما ملكت يمينك والموهوبة لكيلا يكون عليك حرج، فتكون اللام
متعلقة بأحللنا، وقيل هي متعلقة بخالصة، والأول أولى والحرج الضيق: أي وسعنا عليك في التحليل لك لئلا
يضيق صدرك، فتظن أنك قد أثمت في بعض المنكوحات (وكان الله غفورا رحيما) يغفر الذنوب ويرحم العباد،
ولذلك وسع الأمر ولم يضيقه (ترجى من تشاء منهن) قرئ " ترجى " مهموزا وغير مهموز، وهما لغتان،
والإرجاء التأخير، يقال: أرجأت الأمر وأرجيته: إذا أخرته (وتؤوي إليك من تشاء) أي تضم إليك، يقال
آواه إليه بالمد: ضمه إليه، وأوى مقصورا: أي ضم إليه، والمعنى: أن الله وسع على رسوله وجعل الخيار إليه
في نسائه، فيؤخر من شاء منهن ويؤخر نوبتها ويتركها ولا يأتيها من غير طلاق، ويضم إليه من شاء منهن
292

ويضاجعها ويبيت عندها، وقد كان القسم واجبا عليه حتى نزلت هذه الآية، فارتفع الوجوب وصار الخيار
إليه، وكان ممن أوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، وممن أرجأه سودة وجويرية وأم حبيبة وميمونة
وصفية، فكان صلى الله عليه وآله وسلم يسوي بين من آواه في القسم، وكان يقسم لمن أرجأه ما شاء. هذا قول
جمهور المفسرين في معنى الآية، وهو الذي دلت عليه الأدلة الثابتة في الصحيح وغيره. وقيل هذه الآية في الواهبات
أنفسهن، لا في غيرهن من الزوجات. قاله الشعبي وغيره. وقيل معنى الآية في الطلاق: أي تطلق من تشاء
منهن وتمسك من تشاء. وقال الحسن: إن المعنى: تنكح من شئت من نساء أمتك وتترك نكاح من شئت منهن،
وقد قيل إن هذه الآية ناسخة لقوله - لا يحل لك النساء من بعد - وسيأتي بيان ذلك (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا
جناح عليك) الابتغاء الطلب، والعزل الإزالة، والمعنى: أنه إن أراد أن يؤوي إليه امرأة ممن قد عزلهن من القسمة
ويضمها إليه فلا حرج عليه في ذلك. والحاصل أن الله سبحانه فوض الأمر إلى رسوله يصنع في زوجاته ما شاء من
تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجا، وإرجاء من ضم إليه، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه
ونفيا للحرج عنه. وأصل الجناح الميل، يقال جنحت السفينة: إذا مالت. والمعنى: لا ميل عليك بلوم ولا عتب
فيما فعلت، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من التفويض إلى مشيئته، وهو مبتدأ وخبره (أن تقر أعينهن)
أي ذلك التفويض الذي فوضناك أقرب إلى رضاهن لأنه حكم الله سبحانه. قال قتادة: أي ذلك التخيير الذي
خيرناك في صحبتهن أدنى إلى رضاهن إذ كان من عندنا، لأنهن إذا علمن أنه من الله قرت أعينهن. قرأ الجمهور
" تقر " على البناء للفاعل مسندا إلى أعينهن، وقرأ ابن محيصن " تقر " بضم التاء من أقرر وفاعله ضمير المخاطب
ونصب أعينهن على المفعولية، وقرئ على البناء للمفعول. وقد تقدم بيان معنى قرة العين في سورة مريم، (و)
معنى (لا يحزن) لا يحصل معهن حزن بتأثيرك بعضهن دون بعض (ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي يرضين
جميعا بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء وعزل وإيواء. قرأ الجمهور " كلهن " بالرفع تأكيدا لفاعل يرضين. وقرأ
أبو إياس بالنصب تأكيدا لضمير المفعول في آتيتهن (والله يعلم ما في قلوبكم) من كل ما تضمرونه، ومن ذلك
ما تضمرونه من أمور النساء (وكان الله عليما) بكل شئ لا تخفى عليه خافية (حليما) لا يعاجل العصاة بالعقوبة
(لا يحل لك النساء من بعد) قرأ الجمهور " لا يحل " بالتحتية للفصل بين الفعل وفاعله المؤنث، وقرأ ابن كثير
بالفوقية.
وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على أقوال: الأول أنها محكمة، وأنه حرم على رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أن يتزوج على نسائه مكافأة لهن بما فعلن من اختيار الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله له بذلك، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة والحسن وابن
سيرين وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وابن زيد وابن جرير. وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف:
لما حرم الله عليهن أن يتزوجن من بعده حرم عليه أن يتزوج غيرهن. وقال أبي بن كعب وعكرمة وأبو رزين:
إن المعنى: لا يحل لك النساء من بعد الأصناف التي سماها الله. قال القرطبي: وهو اختيار ابن جرير. وقيل لا يحل
لك اليهوديات ولا النصرانيات لأنهن لا يصح أن يتصفن بأنهن أمهات المؤمنين. وهذا القول فيه بعد لأنه يكون
التقدير: لا يحل لك النساء من بعد المسلمات، ولم يجر للمسلمات ذكر. وقيل هذه الآية منسوخة بالسنة وبقوله
سبحانه (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) وبهذا قالت عائشة وأم سلمة وعلي بن أبي طالب وعلي بن
الحسين وغيرهم، وهذا هو الراجح، وسيأتي في آخر البحث ما يدل عليه من الأدلة (ولا أن تبدل بهن من
293

أزواج) أي تتبدل فحذفت إحدى التاءين: أي ليس لك أن تطلق واحدة منهن أو أكثر وتتزوج بدل من طلقت
منهن، و " من " في قوله (من أزواج) مزيدة للتأكيد. وقال ابن زيد: هذا شئ كانت العرب تفعله يقول:
خذ زوجتي وأعطني زوجتك، وقد أنكر النحاس وابن جرير ما ذكره ابن زيد. قال ابن جرير: ما فعلت العرب
هذا قط. ويدفع هذا الإنكار منهما ما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول
الرجل للرجل: تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي. فأنزل الله عز وجل (ولا أن تبدل بهن). وأخرجه
أيضا عنه البزاز وابن مردويه، وجملة (ولو أعجبك حسنهن) في محل نصب على الحال من فاعل تبدل، والمعنى:
أنه لا يحل التبدل بأزواجك ولو أعجبك حسن غيرهن ممن أردت أن تجعلها بدلا من إحداهن، وهذا التبدل
أيضا من جملة ما نسخه الله في حق رسوله على القول الراجح. وقوله (إلا ما ملكت يمينك) استثناء من النساء لأنه
يتناول الحرائر والإماء.
وقد اختلف العلماء في تحليل الأمة الكافرة. القول الأول: أنها تحل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لعموم
هذه الآية، وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء والحكم. القول الثاني: أنها لا تحل له تنزيها لقدره عن مباشرة
الكافرة. ويترجح القول بعموم هذه الآية، وتعليل المنع بالتنزه ضعيف فلا تنزه عما أحله الله سبحانه، فإن
ما أحله فهو طيب لا خبيث باعتبار ما يتعلق بأمور النكاح، لا باعتبار غير ذلك، فالمشركون نجس بنص القرآن.
ويمكن ترجيح القول الثاني بقوله سبحانه - ولا تمسكوا بعصم الكوافر - فإنه نهي عام (وكان الله على كل شئ
رقيبا) أي مراقبا حافظا مهيمنا لا يخفى عليه شئ ولا يفوته شئ.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إذا نكحتم المؤمنات) قال: هذا
في الرجل يتزوج المرأة، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فإذا طلقها واحدة بانت منه ولا عدة عليها تتزوج من
شاءت، ثم قال (فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا) يقول: إن كان سمى لها صداقا فليس لها إلا النصف، وإن
لم يكن سمى لها صداقا متعها على قدر عسره ويسره، وهو السراح الجميل. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال
(إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) منسوخة نسختها التي في البقرة - فنصف ما فرضتم -. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن سعيد بن المسيب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن وأبى العالية قالا: ليست بمنسوخة، لها
نصف الصداق ولها المتاع. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: بلغ ابن عباس أن ابن مسعود يقول: إن
طلق ما لم ينكح فهو جائز، فقال ابن عباس أخطأ في هذا، إن الله يقول (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن) ولم يقل: إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن
عباس أنه تلا هذه الآية وقال: لا يكون طلاق حتى يكون نكاح. وقد وردت أحاديث منها أنه " لا طلاق إلا بعد
نكاح " وهي معروفة. وأخرج ابن سعد وابن راهويه وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم
والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب. قالت: خطبني رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فاعتذرت إليه فعذرني، فأنزل الله (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله (هاجرن معك)
قالت: فلم أكن أحل له لأني لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من وجه آخر
عنها قالت: نزلت في هذه الآية (وبنات عمك وبنات عماتك اللاتي هاجرن معك) أراد النبي أن يتزوجني،
فنهى عني إذ لم أهاجر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله
(خالصة لك) قال فحرم الله عليه سوى ذلك من النساء، وكان قبل ذلك ينكح في أي النساء شاء لم يحرم ذلك
294

عليه، وكان نساؤه يجدن من ذلك وجدا شديدا أن ينكح في أي النساء أحب، فلما أنزل إني حرمت عليك من
النساء سوى ما قصصت عليك أعجب ذلك نساءه. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن عن
عائشة قالت: التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خولة بنت حكيم. وأخرج عبد الرزاق وابن سعد
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه عن عروة:
أن خولة بنت حكيم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن أبي شيبة
وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ثلاث عشرة امرأة: ست من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة، وثلاث من بني
عامر بن صعصعة، وامرأتين من بني هلال بن عامر: ميمونة بنت الحارث، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى
الله عليه وآله وسلم، وزينب أم المساكين، والعامرية وهي التي اختارت الدنيا، وامرأة من بني الجون وهي
التي استعاذت منه، وزينب بنت جحش الأسدية، والسبيتين: صفية بنت حيي، وجويرية بنت الحارث
الخزاعية. وأخرج البخاري وابن مردويه عن أنس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت:
يا نبي الله هل لك بي حاجة؟ فقالت ابنة أنس: ما كان أقل حياءها، فقال: هي خير منك رغبت في النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فعرضت نفسها عليه. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة
جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت نفسها له فصمت، الحديث بطوله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر
في قوله (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) قال: فرض الله عليهم أنه لا نكاح إلا بولي وشاهدين. وأخرج ابن
مردويه عن ابن عباس مثله وزاد ومهر. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم أن توطأ الحامل حتى تضع، والحائل حتى تستبرأ بحيضة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (ترجى من
تشاء منهن) قال: تؤخر. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في قوله (ترجى من تشاء منهن) يقول: من
شئت خليت سبيله منهن، ومن أحببت أمسكت منهن. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قالت:
كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقول تهب المرأة نفسها، فلما أنزل الله
(ترجى من تشاء منهن) الآية قلت: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: هم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يطلق
من نسائه، فلما رأين ذلك أتينه فقلن: لا تخل سبيلنا وأنت في حل فيما بيننا وبينك، افرض لنا من نفسك ومالك
ما شئت، فأنزل الله (ترجى من تشاء منهن) يقول: تعزل من تشاء فأرجأ منهن نسوة وآوى نسوة، وكان ممن
أرجى ميمونة وجويرية وأم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقسم بينهن من نفسه وماله ما شاء، وكان ممن أوى
عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب، فكانت قسمته من نفسه وماله بينهن سواء. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية (ترجى
من تشاء منهن) فقلت لها: ما كنت تقولين؟ قالت: كنت أقول: إن كان ذلك إلي فإني لا أريد أن أوثر عليك
أحدا. وأخرج الروياني والدارمي وابن سعد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه والضياء في المختارة عن زياد رجل من الأنصار قال: قلت لأبي بن كعب: أرأيت لو أن
أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم متن أما كان يحل له أن يتزوج؟ قال: وما يمنعه من ذلك؟ قلت: قوله
(لا يحل لك النساء من بعد) قال: إنما أحل له ضربا من النساء ووصف له صفة فقال (يا أيها النبي إنا حللنا لك
295

أزواجك) إلى قوله (وامرأة مؤمنة) ثم قال: لا يحل لك النساء من بعد هذه الصفة. وأخرج عبد بن حميد
والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات قال (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من
أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك) فأحل له الفتيات المؤمنات (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي)
وحرم كل ذات دين غير الإسلام، وقال (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك) إلى قوله (خالصة لك من دون
المؤمنين) وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء. وأخرج ابن مردويه عنه قال " نهى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن يتزوج بعد نسائه الأول شيئا ". وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في الآية قال: حبسه الله عليهن كما حبسهن
عليه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: لما خيرهن فاخترن الله ورسوله
قصره عليهن فقال (لا يحل لك النساء من بعد). وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن أم سلمة قالت: لم يمت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحل الله أن يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم، وذلك قول الله
(ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء). وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن سعد وأحمد
وعبد ابن حميد وأبو داود في ناسخه والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن
مردويه والبيهقي من طريق عطاء عن عائشة قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أحل الله له أن
يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم لقوله (ترجى من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء). وأخرج ابن سعد عن
ابن عباس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن أبي رزين (لا يحل لك النساء من بعد) قال: من المشركات إلا ما سبيت عند فملكت يمينك. وأخرج البزار
وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل: بادلني امرأتك وأبادلك امرأتي:
أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي، فأنزل الله (ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن)
قال: فدخل عيينة بن حصن الفزاري إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنده عائشة، فدخل بغير إذن، فقال
له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أين الاستئذان؟ قال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل من الأنصار
منذ أدركت، ثم قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول الله: هذه عائشة أم المؤمنين، قال: أفلا أنزل
لك عن أحسن خلق الله؟ قال: يا عيينة إن الله حرم ذلك، فلما أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال: أحمق
مطاع، وإنه على ما ترين لسيد قومه ".
296

قوله (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) هذا نهي عام لكل مؤمن أن يدخل بيوت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إلا بإذن منه. وسبب النزول ما وقع من بعض الصحابة في وليمة زينب، وسيأتي بيان ذلك
آخر البحث إن شاء الله. وقوله (إلا أن يؤذن لكم) استثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي لا تدخلوها في حال من
الأحوال إلا في حال كونكم مأذونا لكم، وهو في موضع نصب على الحال: أي إلا مصحوبين بالإذن أو بنزع
الخافض: أي إلا بأن يؤذن لكم، أو منصوب على الظرفية: أي إلا وقت أن يؤذن لكم، وقوله (إلى طعام)
متعلق بيؤذن على تضمينه معنى الدعاء: أي إلا أن يؤذن لكم مدعوين إلى طعام، وانتصاب (غير ناظرين إناه)
على الحال، والعامل فيه يؤذن أو مقدر: أي ادخلوا غير ناظرين، ومعنى ناظرين: منتظرين، وإناه: نضجه
وإدراكه، يقال أنى يأني أنى: إذا حان وأدرك. قرأ الجمهور " غير ناظرين " بالنصب. وقرأ ابن أبي عبلة غير
بالجر صفة لطعام، وضعف النحاة هذه القراءة لعدم بروز الضمير لكونه جاريا على غير من هو له، فكان حقه
أن يقال غير ناظرين إناه أنتم. ثم بين لهم سبحانه ما ينبغي في ذلك فقال (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا) وفيه تأكيد
للمنع، وبيان الوقت الذي يكون فيه الدخول، وهو عند الإذن. قال ابن العربي: وتقدير الكلام: ولكن إذا
دعيتم وأذن لكم فأدخلوا، وإلا فنفس الدعوة لا تكون إذنا كافيا في الدخول، وقيل إن فيه دلالة بينة على أن
المراد بالإذن إلى الطعام هو الدعوة إليه (فإذا طعمتم فانتشروا) أمرهم سبحانه بالانتشار بعد الطعام، وهو التفرق،
والمراد الإلزام بالخروج من المنزل الذي وقعت الدعوة إليه عند انقضاء المقصود من الأكل (ولا مستأنسين لحديث)
عطف على قوله غير ناظرين، أو على مقدر: أي ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين. والمعنى: النهي لهم عن أن
يجلسوا بعد الطعام يتحدثون مستأنسين بالحديث. قال الرازي في قوله (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام) إما أن يكون
فيه تقديم وتأخير تقديره: ولا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم، فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام
بغير إذن. وإما أن لا يكون فيه تقديم وتأخير فيكون معناه: ولا تدخلوا إلا أن يؤذن لكم إلى طعام، فيكون الإذن
مشروطا بكونه إلى طعام، فإن لم يؤذن إلى طعام فلا يجوز الدخول، فلو أذن لواحد في الدخول لاستماع كلام
لا لأكل طعام فلا يجوز، فنقول المراد هو الثاني ليعم النهي عن الدخول. وأما كونه لا يجوز إلا بإذن إلى طعام
فلما هو مذكور في سبب النزول أن الخطاب مع قوم كانوا يتحينون حين الطعام ويدخلون من غير إذن، فمنعوا
من الدخول في وقتهم بغير إذن. وقال ابن عادل: الأولى أن يقال المراد هو الثاني، لأن التقديم والتأخير خلاف
الأصل، وقوله (إلى طعام) من باب التخصيص بالذكر، فلا يدل على نفي ما عداه، لا سيما إذا علم مثله، فإن
من جاز دخول بيته بإذنه إلى طعامه جاز دخوله بإذنه إلى غير الطعام انتهى. والأولى في التعبير عن هذا المعنى
الذي أراده أن يقال: قد دلت الأدلة على جواز دخول بيوته صلى الله عليه وآله وسلم بإذنه لغير الطعام، وذلك
معلوم لاشك فيه، فقد كان الصحابة وغيرهم يستأذنون عليه لغير الطعام فيأذن لهم، وذلك يوجب قصر هذه الآية
على السبب الذي نزلت فيه، وهو القوم الذين كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيدخلون
297

ويقعدون منتظرين لإدراكه وأمثالهم، فلا تدل على المنع من الدخول مع الإذن لغير ذلك، وإلا لما جاز لأحد أن
يدخل بيوته بإذنه لغير الطعام، واللازم باطل فالملزوم مثله. قال ابن عطية: وكانت سيرة القوم إذا كان لهم طعام
وليمة أو نحوه أن يبكر من شاء إلى الدعوة ينتظرون طبخ الطعام ونضجه، وكذلك إذا فرغوا منه جلسوا كذلك،
فنهى الله المؤمنين عن ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ودخل في النهي سائر المؤمنين، والتزم الناس
أدب الله لهم في ذلك، فمنعهم من الدخول إلا بإذن عند الأكل لا قبله لانتظار نضج الطعام، والإشارة بقوله (إن
ذلكم) إلى الانتظار والاستئناس للحديث، وأشير إليهما بما يشار به إلى الواحد بتأويلهما بالمذكور كما في قوله
- عوان بين ذلك - أي إن ذلك المذكور من الأمرين (كان يؤذي النبي) لأنهم كانوا يضيقون المنزل عليه وعلى
أهله ويتحدثون بما لا يريده. قال الزجاج: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتمل إطالتهم كرما منه فيصبر
على الأذى في ذلك، فعلم الله من يحضره الأدب صار أدبا لهم ولمن بعدهم (فيستحيي منكم) أي يستحيي أن يقول
لكم قوموا أو اخرجوا (والله لا يستحيي من الحق) أي لا يترك أن يبين لكم ما هو الحق ولا يمتنع من بيانه وإظهاره
والتعبير عنه بعدم الاستحياء للمشاكلة. قرأ الجمهور " يستحيي " بياءين، وروي عن ابن كثير أنه قرأ بياء واحدة،
وهي لغة تميم يقولون استحى يستحي مثل استقى يستقي، ثم ذكر سبحانه أدبا آخر متعلقا بنساء النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فقال (وإذا سألتموهن متاعا) أي شيئا يتمتع به، من الماعون وغيره (فاسألوهن من وراء حجاب)
أي من وراء ستر بينكم وبينهن. والمتاع يطلق على كل ما يتمتع به، فلا وجه لما قيل من أن المراد به العارية أو
الفتوى أو المصحف، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى سؤال المتاع من وراء حجاب، وقيل الإشارة إلى جميع ما ذكر
من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول وسؤال المتاع، والأول أولى، واسم
الإشارة مبتدأ وخبره (أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي أكثر تطهيرا لها من الريبة، وخواطر السوء التي تعرض للرجال
في أمر النساء، وللنساء في أمر الرجال. وفي هذا أدب لكل مؤمن وتحذير له من أن يثق بنفسه في الخلوة مع من
لا تحل له والمكالمة من دون حجاب لمن تحرم عليه (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) أي ما صح لكم ولا استقام
أن تؤذوه بشئ من الأشياء كائنا ما كان، ومن جملة ذلك دخول بيوته بغير إذن منه، واللبث فيها على غير الوجه
الذي يريده، وتكليم نسائه من دون حجاب (ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) أي ولا كان لكم ذلك بعد
وفاته لأنهن أمهات المؤمنين، ولا يحل للأولاد نكاح الأمهات، والإشارة بقوله (إن ذلكم) إلى نكاح أزواجه
من بعده (كان عند الله عظيما) أي ذنبا عظيما وخطبا هائلا شديدا، وكان سبب نزول الآية أنه قال قائل: لو قد
مات محمد لتزوجنا نساءه، وسيأتي بيان ذلك (إن تبدو شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما) يعلم كل
شئ من الأشياء، ومن جملة ذلك ما تظهرونه في شأن أزواج رسوله، وما تكتمونه في صدوركم. وفي هذا وعيد
شديد، لأن إحاطته بالمعلومات تستلزم المجازاة على خيرها وشرها. ثم بين سبحانه من لا يلزم الحجاب منه فقال
(لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا اخوانهن ولا أبناء اخوانهن ولا أبناء أخواتهن) فهؤلاء لا يجب على
نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا غيرهن من النساء الاحتجاب منهم، ولم يذكر العم والخال لأنهما
يجريان مجرى الوالدين. وقال الزجاج: العم والخال ربما يصفان المرأة لولديهما، فإن المرأة تحل لابن العم وابن
الخال فكره لهما الرؤية، وهذا ضعيف جدا، فإن تجويز وصف المرأة لمن تحل له ممكن من غيرهما ممن يجوز له
النظر إليها، لا سيما أبناء الإخوة وأبناء الأخوات، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا يستلزم أن لا يجوز للنساء
الأجنبيات أن ينظرن إليها لأنهن يصفنها، واللازم باطل فالملزوم مثله، وهكذا لاوجه لما قاله الشعبي وعكرمة
298

من أنه يكره للمرأة أن تضع خمارها عند عمها أو خالها، والأولى أن يقال أنه سبحانه اقتصر ههنا على بعض ما ذكره
من المحارم في سورة النور اكتفاء بما تقدم (ولا نسائهن) هذه الإضافة تقتضي أن يكون المراد بالنساء المؤمنات،
لأن الكافرات غير مأمونات على العورات، والنساء كلهن عورة (ولا ما ملكت أيمانهن) من العبيد والإماء،
وقيل الإماء خاصة، ومن لم يبلغ من العبيد، والخلاف في ذلك معروف. وقد تقدم في سورة النور ما فيه كفاية.
ثم أمرهن سبحانه بالتقوى التي هي ملاك الأمر كله. (و) المعنى (اتقين) الله في كل الأمور التي من جملتها ما هو
مذكور هنا (إن الله كان على كل شئ شهيدا) لم يغب عنه شئ من الأشياء كائنا ما كان، فهو مجاز للمحسن
بإحسانه وللمسئ بإسائته.
وقد أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر
والفاجر فلو حجبتهن، فأنزل الله آية الحجاب. وفي لفظ أنه قال عمر: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر،
فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال
" لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا، ثم جلسوا يتحدثون وإذا
هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام، فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنهم قد انطلقوا، فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل فألقي الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا
لا تدخلوا بيوت النبي) الآية. وأخرج ابن جرير عن عائشة أن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كن يخرجن
بالليل إذا تبرزن إلى المناصع، وهو صعيد أفيح، وكان عمر بن الخطاب يقول لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
أحجب نساءك، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل، فخرجت سودة بنت زمعة ليلة من الليالي
عشاء، وكانت امرأة طويلة، فناداها عمر بصوته الأعلى: قد عرفناك يا سودة حرصا على أن ينزل الحجاب، فأنزل
الله الحجاب قال (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآية. وأخرج ابن سعد عن أنس قال: نزل الحجاب
مبتني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزينب بنت جحش، وذلك سنة خمس من الهجرة، وحجب نساءه من
يومئذ وأنا ابن خمس عشرة سنة. وكذا أخرج ابن سعد عن صالح بن كيسان، وقال: نزل الحجاب على نسائه
في ذي القعدة سنة خمس من الهجرة، وبه قال قتادة والواقدي. وزعم أبو عبيدة وخليفة بن خياط أن ذلك كان
في سنة ثلاث. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله)
قال: نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعده. قال سفيان: وذكروا أنها
عائشة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: بلغنا أن طلحة بن عبيد الله قال: أيحجبنا محمد عن بنات عمنا
ويتزوج نساءنا من بعدنا؟ لئن حدث به حدث لنتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق
وعبد بن عيد وابن المنذر عن قتادة قال: قال طلحة بن عبيد الله: لو قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم
لتزوجت عائشة. فنزلت. وأخرج ابن سعد عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: نزلت في طلحة لأنه
قال: إذا توفي النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوجت عائشة. قال ابن عطية: وهذا عندي لا يصح على طلحة
ابن عبيد الله. قال القرطبي: قال شيخنا الإمام أبو العباس: وقد حكى هذا القول عن بعض فضلاء الصحابة
وحاشاهم عن مثله، وإنما الكذب في نقله، وإنما يليق مثل هذا القول بالمنافقين الجهال. وأخرج البيهقي في السنن
عن ابن عباس قال: قال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو قد مات رسول الله صلى الله
299

عليه وآله وسلم تزوجت عائشة أو أم سلمة، فأنزل الله (وما كان لكن أن تؤذوا رسول الله) الآية. وأخرج ابن
جرير عنه " أن رجلا أتى بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلمها وهو ابن عمها، فقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: لا تقومن هذا المقام بعد يومك هذا، فقال: يا رسول الله إنها ابنة عمي، والله ما قلت لها منكرا
ولا قالت لي، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد عرفت ذلك إنه ليس أحد أغير من الله، وإنه ليس أحد
أغير مني، فمضى ثم قال: يمنعني من كلام ابنة عمى لأتزوجنها من بعده، فأنزل الله هذه الآية، فأعتق ذلك
الرجل رقبة وحمل على عشرة أبعرة في سبيل الله، وحج ماشيا توبة من كلمته. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت
عميس قالت: خطبني علي فبلغ ذلك فاطمة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إن أسماء
متزوجة عليا، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما كان لها أن تؤذي الله ورسوله. وأخرج ابن سعد عن
أبي أمامة بن سهل بن حنيف في قوله (إن تبدوا شيئا أو تخفوه) قال: إن تكلموا به فتقولون تتزوج فلانه لبعض
أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو تخفوه ذلك في أنفسكم فلا تنطقوا به يعلمه الله. وأخرج ابن مردويه عن
ابن عباس في قوله (لا جناح عليهن) إلى آخر الآية قال: أنزلت هذه في نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم
خاصة، وقوله (نساء النبي) يعني نساء المسلمات (وما ملكت أيمانهن) من المماليك والإماء ورخص لهن أن
يروهن بعد ما ضرب الحجاب عليهن.
قرأ الجمهور (وملائكته) بنصب الملائكة عطفا على لفظ اسم إن. وقرأ ابن عباس (وملائكته) بالرفع عطفا
على محل اسم إن، والضمير في قوله (يصلون) راجع إلى الله وإلى الملائكة، وفيه تشريف للملائكة عظيم حيث
جعل الضمير لهم ولله سبحانه واحدا، فلا يرد الاعتراض بما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم لما سمع قول
الخطيب يقول: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال: بئس خطيب القوم أنت، قل
ومن يعص الله ورسوله، ووجه ذلك أنه ليس لأحد أن يجمع ذكر الله سبحانه مع غيره في ضمير واحد، وهذا
الحديث ثابت في الصحيح. وثبت أيضا في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر مناديا ينادي يوم
خيبر: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية. ولأهل العلم أبحاث في الجمع بين الحديثين ليس هذا
موضع ذكرها، والآية مؤيدة للجواز لجعل الضمير فيها لله ولملائكته واحدا، والتعليل بالتشريف للملائكة يقال
مثله في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويحمل الذم لذلك الخطيب الجامع بينهما على أنه صلى الله عليه وآله
وسلم فهم منه إرادة التسوية بين الله سبحانه وبين رسوله، فيختص المنع بمثل ذلك، وهذا أحسن ما قيل في الجمع.
وقالت طائفة: في هذه حذف، والتقدير: إن الله يصلي وملائكته يصلون، وعلى هذا القول فلا تكون الآية مما
جمع فيه بين ذكر الله وذكر غيره في ضمير واحد، ولا يرد أيضا ما قيل إن الصلاة من الله الرحمة ومن ملائكته الدعاء
300

فكيف يجمع بين هذين المعنيين المختلفين في لفظ يصلون، ويقال على القول الأول أنه أريد بيصلون معنى مجازى
يعم المعنيين، وذلك بأن يراد بقوله يصلون يهتمون بإظهار شرفه، أو يعظمون شأنه، أو يعتنون بأمره. وحكى
البخاري عن أبي العالية أن صلاة الله سبحانه ثناؤه عليه عند ملائكته وصلاة الملائكة الدعاء. وروى الترمذي في
سننه عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم أنهم قالوا: صلاة الرب الرحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار.
وحكى الواحدي عن مقاتل أنه قال: أما صلاة الرب فالمغفرة، وأما صلاة الملائكة فالاستغفار. وقال عطاء بن
أبي رباح: صلاته تبارك وتعالى سبوح قدوس سبقت رحمتي غضبي. والمقصود من هذه الآية أن سبحانه أخبر
عباده بمنزلة نبيه عنده في الملأ الأعلى بأنه يثنى عليه عند ملائكته وأن الملائكة تصلي عليه، وأمر عباده بأن يقتدوا
بذلك ويصلوا عليه.
وقد اختلف أهل العلم في الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل هي واجبة أم مستحبة؟ بعد اتفاقهم
على أن الصلاة عليه فرض في العمر مرة. وقد حكى هذا الإجماع القرطبي في تفسيره، فقال قوم من أهل العلم: إنها
واجبة عند ذكره، وقال قوم: تجب في كل مجلس مرة. وقد وردت أحاديث مصرحة بذم من سمع ذكر النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فلم يصل عليه.
واختلف العلماء في الصلاة علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تشهد الصلاة المفترضة هل هي واجبة أم لا؟
فذهب الجمهور إلى أنها فيها سنة مؤكدة غير واجبة. قال ابن المنذر: يستحب أن لا يصلي أحد صلاة إلا صلى فيها
على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ترك ذلك تارك فصلاته مجزئة في مذهب مالك وأهل المدينة وسفيان
الثوري وأهل الكوفة من أصحاب الرأي وغيرهم، وهو قول جمهور أهل العلم. قال: وشذ الشافعي فأوجب على
تاركها الإعادة مع تعمد تركها دون النسيان، وهذا القول عن الشافعي لم يروه عنه إلا حرملة بن يحيى ولا يوجد
عن الشافعي إلا من روايته. قال الطحاوي: لم يقل به أحد من أهل العلم غير الشافعي. وقال الخطابي، وهو من
الشافعية: إنها ليست بواجبة في الصلاة. قال: وهو قول جماعة الفقهاء إلا الشافعي ولا أعلم له في ذلك قدوة
انتهى. وقد قال يقول الشافعي جماعة من أهل العلم منهم الشعبي والباقر ومقاتل بن حيان، وإليه ذهب أحمد بن
حنبل أخيرا، كما حكاه أبو زرعة الدمشقي، وبه قال ابن راهويه وابن المواز من المالكية.
وقد جمعت في هذه المسألة رسالة مستقلة ذكرت فيها ما احتج به الموجبون لها وما أجاب به الجمهور، وأشف
ما يستدل به على الوجوب الحديث الثابت بلفظ " إن الله أمرنا أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك في صلاتنا،
فقال قولوا " الحديث. فإن هذا الأمر يصلح للاستدلال به على الوجوب. وأما على بطلان الصلاة بالترك ووجوب
الإعادة لها فلا، لأن الواجبات لا يستلزم عدمها العدم كما يستلزم ذلك الشروط والأركان.
وأعلم أنه قد ورد في فضل الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث كثيرة لو جمعت لجاءت
في مصنف مستقل ولو لم يكن منها إلا الأحاديث الثابتة في الصحيح من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " من صلى
علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا " فناهيك بهذه الفضيلة الجليلة والمكرمة النبيلة. وأما صفة الصلاة عليه صلى الله
عليه وآله وسلم فقد وردت فيها صفات كثيرة بأحاديث ثابتة في الصحيحين وغيرهما، منها ما هو مقيد بصفة
الصلاة عليه في الصلاة، ومنها ما هو مطلق، وهي معروفة في كتب الحديث فلا نطيل بذكرها. والذي يحصل به
الامتثال لمطلق الأمر في هذه الآية هو أن يقول القائل: اللهم صلي وسلم على رسولك، أو على محمد أو على النبي،
301

أو اللهم صلي على محمد وسلم. ومن أراد أن يصلي عليه ويسلم بصفة من الصفات التي ورد التعليم بها والإرشاد
إليها فذلك أكمل، وهي صفات كثيرة قد اشتملت عليها كتب السنة المطهرة، وسيأتي بعضها آخر البحث، وسيأتي
الكلام في الصلاة على الآل، وكان ظاهر هذا الأمر بالصلاة والتسليم في الآية أن يقول القائل: صليت عليه
وسلمت عليه، أو الصلاة عليه والسلام عليه، أو عليه الصلاة والتسليم، لأن الله سبحانه أمرنا بإيقاع الصلاة عليه
والتسليم منا، فالامتثال هو أن يكون ذلك على ما ذكرنا، فكيف كان الامتثال لأمر الله لنا بذلك أن نقول: اللهم
صل عليه وسلم بمقابلة أمر الله لنا بأمرنا له بأن يصلى عليه ويسلم عليه. وقد أجيب عن هذا بأن الصلاة والتسليم
لما كانتا شعارا عظيما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتشريفا كريما وكلنا ذلك إلى الله عز وجل وأرجعناه إليه،
وهذا الجواب ضعيف جدا. وأحسن ما يجاب به أن يقال: إن الصلاة والتسليم المأمور بهما في الآية هما أن نقول:
اللهم صل عليه وسلم، أو نحو ذلك مما يؤدي معناه كما بينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا، فاقتضى ذلك
البيان في الأحاديث الكثيرة أن هذه هي الصلاة الشرعية.
واعلم أن هذه الصلاة من الله على رسوله وإن كان معناها الرحمة فقد صارت شعارا له يختص به دون غيره،
فلا يجوز لنا أن نصلي على غيره من أمته كما يجوز لنا أن نقول: اللهم ارحم فلانا أبو رحم الله فلانا، وبهذا قال
جمهور العلماء مع اختلافهم هل هو محرم، أو مكروه كراهة شديدة، أو مكروه كراهة تنزيه على ثلاثة أقوال.
وقد قال ابن عباس كما رواه عنه ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب لا تصلح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله
عليه وآله وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالاستغفار. وقال قوم: إن ذلك جائز لقوله تعالى - وصلي
عليهم إن صلاتك سكن لهم - ولقوله - أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة - ولقوله - هو الذي يصلي عليكم
وملائكته - ولحديث عبد الله بن أبي أوفى الثابت في الصحيحين وغيرهما قال " كان رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صلي على آل أبي أوفى "
ويجاب عن هذا بأن هذا الشعار الثابت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له أن يخص به من شاء، وليس لنا أن
نطلقه على غيره. وأما قوله تعالى - هو الذي يصلي عليكم وملائكته - وقوله - أولئك عليهم صلوات من ربهم -
فهذا ليس فيه إلا أن الله سبحانه يصلي على طوائف من عباده كما يصلي على من صلى على رسوله مرة واحدة عشر
صلوات، وليس في ذلك أمر لنا ولا شرعه الله في حقنا، بل لم يشرع لنا إلا الصلاة والتسليم على رسوله. وكما
أن لفظ الصلاة على رسول الله شعار له، فكذا لفظ السلام عليه. وقد جرت عادة جمهور هذه الأمة والسواد
الأعظم من سلفها وخلفها على الترضي عن الصحابة والترحم على من بعدهم والدعاء لهم بمغفرة الله وعفوه كما أرشدنا
إلى ذلك بقوله سبحانه - والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل
في قلوبنا غلا للذين آمنوا - ثم لما ذكر سبحانه ما يجب لرسوله من التعظيم ذكر الوعيد الشديد للذين يؤذونه فقال
(إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة) قيل المراد بالأذى هنا هو فعل ما يكرهانه من المعاصي
لاستحالة التأذي منه سبحانه. قال الواحدي: قال المفسرون هم المشركون واليهود والنصارى وصفوا الله بالولد
فقالوا - عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، والملائكة بنات الله، وكذبوا رسول الله، وشجوا وجهه وكسروا
رباعيته وقالوا مجنون شاعر كذاب ساحر. قال القرطبي: وبهذا قال جمهور العلماء. وقال عكرمة: الأذية لله
سبحانه بالتصوير والتعرض لفعل مالا يفعله إلا الله بنحت الصور وغيرها. وقال جماعة: إن الآية على حذف
مضاف، والتقدير: إن الذين يؤذون أولياء الله، وأما أذية رسوله فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال،
302

ومعنى اللعنة: الطرد والإبعاد من رحمته، وجعل ذلك في الدنيا والآخرة لتشملهم اللعنة فيهما بحيث لا يبقى وقت من
أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم ومصاحبة لهم (وأعد لهم) مع ذلك اللعن (عذابا مهينا) يصيرون به
في الإهانة في الدار الآخرة لما يفيده معنى الإعداد من كونه في الدار الآخرة. ثم لما فرغ من الذم لمن آذى الله
ورسوله ذكر الأذية لصالحي عباده فقال (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات) بوجه من وجوه الأذى من قول
أو فعل، ومعنى (بغير ما اكتسبوا) أنه لم يكن ذلك لسبب فعلوه يوجب عليهم الأذية ويستحقونها به، فأما الأذية
للمؤمن والمؤمنة بما كسبه مما يوجب عليه حدا أو تعزيرا أو نحوهما، فذلك حق أثبته الشرع وأمر أمرنا الله به وندبنا
إليه، وهكذا إذا وقع من المؤمنين والمؤمنات الابتداء بشتم لمؤمن أو مؤمنة أو ضرب، فإن القصاص من الفاعل
ليس من الأذية المحرمة على أي وجه كان ما لم يجاوز ما شرعه الله. ثم أخبر عما لهؤلاء الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات
بغير ما اكتسبوا فقال (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) أي ظاهرا واضحا لاشك في كونه من البهتان والإثم، وقد
تقدم بيان حقيقة البهتان وحقيقة الإثم.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس (يصلون على النبي) يبركون.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى: هل يصلي
ربك؟ فناداه ربه: يا موسى سألوك هل يصلي ربك؟ فقل نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي، فأنزل الله
على نبيه (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية. وأخرج ابن مردويه عنه قال: إن صلاة الله على النبي هي
المغفرة، إن الله لا يصلي ولكن يغفر، وأما صلاة الناس على النبي فهي الاستغفار له. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس أنه قرأ " صلوا عليه كما صلى الله عليه وسلموا تسليما ". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
أبي حاتم وابن مردويه عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت (إن الله وملائكته يصلون على النبي) الآية، قلنا:
يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى
آل إبراهيم إنك حميد مجيد. وأخرجه البخاري ومسلم وغيرها من حديثه بلفظ: قال رجل يا رسول الله: أما
السلام عليك فقد علمناه فكيف الصلاة عليك؟ قال: قل اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على
آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأحمد والنسائي من حديث طلحة بن عبيد الله قال: قلت يا رسول الله كيف
الصلاة عليك؟ قال: قل اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد،
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد. وفي الأحاديث اختلاف،
ففي بعضها على إبراهيم فقط، وفي بعضها على آل إبراهيم فقط، وفي بعضها بالجمع بينهما كحديث طلحة هذا.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله " كيف نصلي عليك؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم،
وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " والأحاديث في هذا الباب كثيرة
جدا، وفي بعضها التقييد بالصلاة كما في حديث أبي مسعود عند ابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه: أن
رجلا قال: يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ الحديث
وأخرج الشافعي في مسنده من حديث أبي هريرة مثله. وجميع التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في
303

الصلاة عليه مشتملة على الصلاة على آله معه إلا النادر اليسير من الأحاديث، فينبغي للمصلي عليه أن يضم آله إليه
في صلاته عليه، وقد قال بذلك جماعة، ونقله إمام الحرمين والغزالي قولا عن الشافعي كما رواه عنهما ابن كثير في
تفسيره، ولا حاجة إلى التمسك بقول قائل في مثل هذا مع تصريح الأحاديث الصحيحة به، ولا وجه لقول من
قال إن هذه التعليمات الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صفة الصلاة عليه مقيدة بالصلاة في الصلاة حملا
لمطلق الأحاديث على المقيد منها بذلك القيد، لما في حديث كعب بن عجرة وغيره أن ذلك السؤال لرسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم كان عند نزول الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " صلوا على أنبياء الله ورسله، فإن الله بعثهم كما بعثني " وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن الذين يؤذون الله ورسوله) الآية قال: نزلت في الذين طعنوا على النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حين اتخذ صفية بنت حيي وروى عنه أنها نزلت في الذين قذفوا عائشة.
لما فرغ سبحانه من الزجر لمن يؤذي رسوله والمؤمنين والمؤمنات من عباده أمر رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم بأن يأمر بعض من ناله الأذى ببعض ما يدفع ما يقع عليه منه فقال (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء
المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) من للتبعيض، والجلابيب جمع جلباب، وهو ثوب أكبر من الخمار. قال
الجوهري: الجلباب الملحقة، وقيل القناع، وقيل هو ثوب يستر جميع بدن المرأة، كما ثبت في الصحيح من
حديث أم عطية أنها قالت: يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب، فقال: لتلبسها أختها من جلبابها، قال
الواحدي: قال المفسرون يغطين وجوههن ورؤوسهن إلا عينا واحدة، فيعلم أنهن حرائر فلا يعرض لهن بأذى.
وقال الحسن: تغطي نصف وجهها. وقال قتادة: تلويه فوق الجبين وتشده ثم تعطفه على الأنف وإن ظهرت
عيناها لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه، والإشارة بقوله (ذلك) إلى إدناء الجلابيب، وهو مبتدأ وخبره (أدنى أن
304

يعرفن) أي أقرب أن يعرفن فيتميزن عن الإماء ويظهر للناس أنهن حرائر (فلا يؤذين) من جهة أهل الريبة
بالتعرض لهن مراقبة لهن ولأهلهن، وليس المراد بقوله (ذلك أدنى أن يعرفن) أن تعرف الواحدة منهن من هي،
بل المراد أن يعرفن أنهن حرائر لا إماء لأنهن قد لبسن لبسة تختص بالحرائر (وكان الله غفورا) لما سلف منهن من
ترك إدناء الجلابيب (رحيما) بهن أو غفور الذنوب المذنبين رحيما بهم فيدخلن في ذلك دخولا أوليا. ثم توعد
سبحانه أهل النفاق والإرجاف فقال (لئن لم ينته المنافقون) عما هم عليه من النفاق (والذين في قلوبهم مرض) أي
شك وريبة عما هم عليه من الاضطراب (والمرجفون في المدينة) عما يصدر منهم من الإرجاف بذكر الأخبار
الكاذبة المتضمنة لتوهين جانب المسلمين وظهور المشركين عليهم. قال القرطبي: أهل التفسير على أن الأوصاف
الثلاثة لشئ واحد، والمعنى: أن المنافقين قد جمعوا بين النفاق ومرض القلوب والإرجاف على المسلمين، فهو
على هذا من باب قوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
أي إلى الملك القرم بن الهمام ليث الكتيبة. وقال عكرمة وشهر بن حوشب: الذين في قلوبهم مرض هم الزناة.
والإرجاف في اللغة: إشاعة الكذب والباطل، يقال أرجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبرا
متزلزلا غير ثابت، من الرجفة وهي الزلزلة. يقال رجفت الأرض: أي تحركت وتزلزلت ترجف رجفا،
والرجفان: الاضطراب الشديد، وسمي البحر رجافا لاضطرابه، ومنه قول الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية * حتى تغيب الشمس في الرجاف
والإرجاف واحد الأراجيف، وأرجفوا في الشئ خاضوا فيه، ومنه قول شاعر:
فانا وان عيرتمونا بقلة * وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
وقول الآخر:
أبا لأراجيف يا بن اللوم توعدني * وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور
وذلك بأن هؤلاء المرجفين كانوا يخبرون عن سرايا المسلمين بأنهم هزموا، وتارة بأنهم قتلوا، وتارة بأنهم
غلبوا ونحو ذلك مما تنكسر له قلوب المسلمين من الأخبار، فتوعدهم الله سبحانه بقوله (لنغرينك بهم) أي
لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل والتشريد بأمرنا لك بذلك. قال المبرد: قد أغراه الله بهم في قوله بعد هذه الآية
(ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا) فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم: أي هذا حكمهم إذا كانوا
مقيمين على النفاق والإرجاف. قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية. وأقول ليس هذا بحسن ولا
أحسن، فإن قوله ملعونين الخ، إنما هو لمجرد الدعاء عليهم لا أنه أمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم
ولا تسليط لهم عليهم، وقد قيل إنهم انتهوا بعد نزول هذه الآية عن الإرجاف فلم يغره الله بهم، وجملة (لنغرينك
بهم) جواب القسم، وجملة (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا) معطوفة على جملة جواب القسم: أي لا يجاورونك
فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، وانتصاب (ملعونين) على الحال كما قال المبرد وغيره، والمعنى مطرودين
(أينما) وجودوا وأدركوا (أخذوا وقتلوا) دعاء عليهم بأن يؤخذوا ويقتلوا (تقتيلا) وقيل إن هذا هو الحكم فيهم
وليس بدعاء عليهم، والأول أولى. وقيل معنى الآية: أنهن إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدينة إلا وهم
مطرودون (سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي سن الله ذلك في الأمم الماضية، وهو لعن المنافقين وأخذهم
305

وتقتيلهم، وكذا حكم المرجفين، وهو منتصب على المصدر. قال الزجاج: بين الله في الذين ينافقون الأنبياء
ويرجفون بهم أن يقتلوا حيثما ثقفوا (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي تحويلا وتغييرا، بل هي ثابتة دائمة في أمثال
هؤلاء في الخلف والسلف (يسألك الناس عن الساعة) أي عن وقت قيامها وحصولها، قيل السائلون عن الساعة
هم أولئك المنافقون والمرجفون لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة استبعادا وتكذيبا (وما يدريك) يا محمد:
أي ما يعلمك ويخبرك (لعل الساعة تكون قريبا) أي في زمان قريب، وانتصاب قريبا على الظرفية، والتذكير
لكون الساعة في معنى اليوم أو الوقت مع كون تأنيث الساعة ليس بحقيقي، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم لبيان أنها إذا كانت محجوبة عنه لا يعلم وقتها، وهو رسول الله، فكيف بغيره من الناس؟ وفي هذا
تهديد لهم عظيم (إن الله لعن الكافرين) أي طردهم وأبعدهم من رحمته (وأعد لهم) في الآخرة مع ذلك اللعن منه لهن
في الدنيا (سعيرا) أي نارا شديدة التسعر (خالدين فيها أبدا) بلا انقطاع (لا يجدون وليا) يواليهم ويحفظهم من
عذابها (ولا نصيرا) ينصرهم ويخلصهم منها، ويوم في قوله (يوم تقلب وجوهم في النار) ظرف لقوله لا يجدون،
وقيل لخالدين، وقيل لنصيرا، وقيل لفعل مقدر، وهو أذكر. قرأ الجمهور " تقلب " بضم التاء وفتح اللام على
البناء للمفعول. وقرأ عيسى الهمذاني وابن أبي إسحاق " نقلب " بالنون وكسر اللام على البناء للفاعل، وهو الله
سبحانه. وقرأ عيسى أيضا بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وقرأ أبو حيوة وأبو جعفر
وشيبة بفتح التاء واللام على معنى تتقلب، ومعنى هذا التقلب المذكور في الآية: هو تقلبها تارة على جهة منها،
وتارة على جهة أخرى ظهرا لبطن، أو تغير ألوانهم بلفح النار فتسود تارة وتخضر أخرى، أو تبديل جلودهم
بجلود أخرى، فحينئذ (يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) والجملة مستأنفة كأنه قيل فما حالهم؟ فقيل
يقولون، ويجوز أن يكون المعنى يقولون يوم تقلب وجوهم في النار يا ليتنا الخ. تمنوا أنهم أطاعوا الله والرسول
وآمنوا بما جاء به لينجوا مما هم فيه من العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الألف في الرسولا، والألف التي ستأتي
في " السبيلا " هي الألف التي تقع في الفواصل ويسميها النحاة ألف الإطلاق، وقد سبق بيان هذا في أول هذه
السورة (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا) هذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى، والمراد بالسادة والكبراء هم
الرؤساء والقادة الذين كانوا يمتثلون أمرهم في الدنيا ويقتدون بهم، وفي هذا زجر عن التقليد شديد، وكم في
الكتاب العزيز من التنبيه على هذا والتحذير منه والتنفير عنه، ولكن لمن يفهم معنى كلام الله ويقتدى به وينصف
من نفسه، لا لمن هو من جنس الأنعام، في سوء الفهم ومزيد البلادة وشدة التعصب. وقرأ الحسن وابن عامر
" ساداتنا " بكسر التاء جمع سادة فهو جمع الجمع. وقال مقاتل: هم المطعمون في غزوة بدر، والأول أولى، ولا
وجه للتخصيص بطائفة معينة (فأضلونا السبيلا) أي عن السبيل بما زينوا لنا من الكفر بالله ورسوله، والسبيل هو
التوحيد، ثم دعوا عليهم في ذلك الموقف فقالوا (ربنا آتهم ضعفين من العذاب) أي مثل عذابنا مرتين. وقال
قتادة: عذاب الدنيا والآخرة، وقيل عذاب الكفر وعذاب الإضلال (والعنهم لعنا كبيرا) قرأ الجمهور " كثيرا "
بالمثلثة: أي لعنا كثير العدد عظيم القدر شديد الموقع، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، وقرأ
ابن مسعود وأصحابه ويحيى بن وثاب وعاصم بالباء الموحدة: أي كبيرا في نفسه شديدا عليهم ثقيل الموقع.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة قال: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت
امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين؟
قال: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق، فدخلت وقالت:
306

يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا وكذا، فأوحى إليه ثم رفع عنه، وإن العرق في يده
ما وضعه فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وعبد بن حميد وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: كان نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان
ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فقيل ذلك للمنافقين، فقالوا: إنما نفعله بالإماء، فنزلت هذه (يا أيها
النبي قل لأزواجك) الآية. وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان رجل من المنافقين يتعرض
النساء المؤمنين يؤذيهن، فإذا قيل له قال كنت أحسبها أمة، فأمرهن الله أن يخالفن زي الإماء ويدنين عليهن من
جلابيبهن تخمر وجهها إلا إحدى عينيها (ذلك أدنى أن يعرفن) يقول: ذلك أحرى أن يعرفن. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: أمر الله نساء المؤمنات إذا خرجن من بيوتهن في
حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد
وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من
جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها، هكذا في الزوائد
بلفظ من السكينة، وليس لها معنى، فإن المراد تشبيه الأكسية السود بالغربان، لا أن المراد وصفهن بالسكينة كما
يقال: كأن على رؤوسهم الطير. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: رحم الله نساء الأنصار لما نزلت (يا أيها
النبي قل لأزواجك) الآية شقن مروطهن، فاعتجرن بها وصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
كأنما على رؤوسهن الغربان. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كانت الحرة تلبس
لباس الأمة فأمر الله نساء المؤمنين أن يدنين عليهن من جلابيبهن، وإدناء الجلباب أن تقنع وتشده على جبينها.
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب في قوله (لئن لم ينته المنافقون) يعني المنافقين بأعيانهم (والذين في قلوبهم
مرض) شك: يعني المنافقين أيضا. وأخرج ابن سعد أيضا عن عبيد بن جبير قال (الذين في قلوبهم مرض
والمرجفون في المدينة) هم المنافقون جميعا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(لنغرينك بهم) قال: لنسلطنك عليهم.
قوله (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) هو قولهم: إن به أدرة أو برصا أو عيبا، وسيأتي بيان ذلك آخر
البحث. وفيه تأديب للمؤمنين وزجر لهم عن أن يدخلوا في شئ من الأمور التي تؤذي رسول الله قال مقاتل:
307

وعظ الله المؤمنين أن لا يؤذوا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كما آذى بنو إسرائيل موسى. وقد وقع الخلاف فيما
أوذي به نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلت هذه الآية، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا قولهم زيد بن
محمد. وقال أبو وائل: إنه صلى الله عليه وآله وسلم قسم قسما، فقال رجل من الأنصار: إن هذه قسمة ما أريد
بها وجه الله، وقيل نزلت في قصة زيد بن ثابت وزينب بنت جحش وما سمع فيها من قالة الناس، ومعنى (وكان
عند الله وجيها) وكان عند الله عظيما ذا وجاهة، والوجيه عند الله العظيم القدر الرفيع المنزلة، وقيل في تفسير
الوجاهة إنه كلمه تكليما. قرأ الجمهور " وكان عند الله " بالنون على الظرفية المجازية، وقرأ ابن مسعود والأعمش
وأبو حيوة عبد الله بالباء الموحدة من العبودية، وما في قوله (فبرأه الله مما قالوا) هي الموصولة أو المصدرية: أي
من الذي قالوه، أو من قولهم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أي في كل أمر من الأمور (وقولوا قولا سديدا) أي
قولا صوابا وحقا. قال قتادة ومقاتل: يعني قولوا قولا سديدا في شأن زيد وزينب، ولا تنسبوا النبي صلى الله
عليه وآله وسلم إلى مالا يحل. وقال عكرمة: إن القول السديد لا إله إلا الله. وقيل هو الذي يوافق ظاهره باطنه،
وقيل هو ما أريد به وجه الله دون غيره، وقيل هو الإصلاح بين الناس. والسديد مأخوذ من تسديد السهم ليصاب
به الغرض، والظاهر من الآية أنه أمرهم بأن يقولوا قولا سديدا في جميع ما يأتونه ويذرونه فلا يخص ذلك نوعا
دون نوع، وإن لم يكن في اللفظ ما يقتضي العموم فالمقام يفيد هذا المعنى، لأنه أرشد سبحانه عباده إلى أن يقولوا
قولا يخالف قول أهل الأذى. ثم ذكر ما لهؤلاء الذين امتثلوا الأمر بالتقوى والقول السديد من الأجر فقال
(يصلح لكم أعمالكم) أي يجعلها صالحة لا فاسدة بما يهديهم إليه ويوفقهم فيه (ويغفر لكم ذنوبكم) أي يجعلها
مكفرة مغفورة (ومن يطع الله ورسوله) في فعل ما هو طاعة واجتناب ما هو معصية (فقد فاز فوزا عظيما) أي
ظفر بالخير ظفرا عظيما، ونال خير الدنيا والآخرة، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما سبقها. ثم لما فرغ سبحانه
من بيان ما لأهل الطاعة من الخير بعد بيان ما لأهل المعصية من العذاب بين عظم شأن التكاليف الشرعية وصعوبة
أمرها فقال (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها منها).
واختلف في تفسير هذه الأمانة المذكورة هنا، فقال الواحدي: معنى الأمانة ههنا في قول جميع المفسرين
الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب. قال القرطبي: والأمانة تعم جميع وصائف الدين
على الصحيح من الأقوال، وهو قول الجمهور.
وقد اختلف في تفاصيل بعضها، فقال ابن مسعود: هي في أمانة الأموال كالودائع وغيرها، وروي عنه
أنها في كل الفرائض، وأشدها أمانة المال. وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. وقال
أبو الدرداء: غسل الجنابة أمانة، وإن الله لم يأمن ابن آدم على شئ من دينه غيرها. وقال ابن عمر: أول ما خلق
الله من الإنسان فرجه وقال: هذه أمانة استودعكها فلا تلبسها إلا بحق، فإن حفظتها حفظتك. فالفرج أمانة
والأذن أمانة والعين أمانة واللسان أمانة والبطن أمانة واليد أمانة والرجل أمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له.
وقال السدي: هي ائتمان آدم ابنه قابيل على ولده هابيل وخيانته إياه في قتله. وما أبعد هذا القول، وليت شعري
ما هو الذي سوغ للسدي تفسير هذه الآية بهذا، فإن كان ذلك لدليل دله على ذلك فلا دليل، وليست هذه الآية
حكاية عن الماضين من العباد حتى يكون له في ذلك متمسك أبعد من كل بعيد وأوهن من بيوت العنكبوت،
وإن كان تفسير هذا عملا بما تقتضيه اللغة العربية، فليس في لغة العرب ما يقتضي هذا ويوجب حمل هذه الأمانة
308

المطلقة على شئ كان في أول هذا العالم، وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأي، فليس الكتاب العزيز عرضة
لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه
التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك
التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك
ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات
الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي
ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك ما إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت: وما فيها؟ فقال لها: إن أحسنت آجرتك
وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك فقال: قد تحملتها.
وروى نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل هذه
الأمانة هي ما أودعه الله في السماوات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها
فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف، فيكون على
هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلابد من تقدير
الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب
مثل: أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع
لما فيها من الثواب والعقاب: أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال، وقد كلفه
الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله - لو أنزلنا هذا القرآن على جبل - وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا:
أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها.
وقيل إن عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام، وأن الله أمره أن يعرض ذلك
عليها، وهذا أيضا تحريف لا تفسير، ومعنى (وحملها الإنسان) أي التزم بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول
لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير، أو جهول بربه كما قال الحسن. وقال الزجاج:
معنى حملها خان فيها، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة، وقيل معنى حملها: كلفها وألزمها، أو صار
مستعدا لها بالفطرة، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم،
واللام في (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله
العاصي ويثيب المطيع، وعلى هذا فجملة (إنه كان ظلوما جهولا) معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه
بما تحمله. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حبان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من
الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء
الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها. وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك
فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه: أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض
الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب (وكان الله غفورا رحيما)
أي كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شئ مما يجب عليهم. وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل،
309

والراجح ما قدمنا عن الجمهور، وما عداه فلا يخلو عن ضعف لعدم وروده على المعنى العربي ولا انطباقه على
ما يقتضيه الشرع ولا موافقته لما يقتضيه تعريف الأمانة.
وقد أخرج البخاري وغيره من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن موسى
كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شئ استحياء منه، فأذاه من أذاه من بني إسرائيل، فقالوا ما تستر هذا
الستر إلا من عيب بجلده، إما برص، وإما أدرة، وإما آفة، وإن الله عز وجل أراد أن يبرئ موسى مما قالوا،
فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه،
فأخذ موسى عصاه فطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل
فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضربا بعصاه،
فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثا أو أربعا أو خمسا ". وأخرج نحوه البزار وابن الأنباري وابن مردويه من
حديث أنس. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) قال: قال له قومه إنه آدر، فخرج ذات يوم ليغتسل فوضع
ثيابه على حجر فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، فخرج موسى يتبعها عريانا حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل
فرأوه وليس بآدر فذلك قوله (فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها). وأخرج الحاكم وصححه من طريق السدي
عن أبي مالك عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: أن الله أوحى إلى موسى إني متوف
هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحو الجبل فإذا هم بشجرة وبيت فيه سرير عليه فرش وريح طيب، فلما
نظر هارون إلى ذلك الجبل والبيت وما فيه أعجبه قال: يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير، قال نم عليه،
قال نم معي، فلما ناما أخذ هارون الموت، فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت الشجرة ورفع السرير إلى السماء،
فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا قتل هارون وحسده حب بني إسرائيل له، وكان هارون أألف بهم وألين،
وكان في موسى بعض الغلظة عليهم، فلما بلغه ذلك قال: ويحكم إنه كان أخي أفتروني من أقتله؟ فلما أكثروا عليه
قام فصلى ركعتين ثم دعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه. وأخرج البخاري
ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قسما، فقال رجل: إن
هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فاحمر وجهه ثم قال: رحمة الله على
موسى لقد أوذي أكثر من هذا فصبر. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي موسى
الأشعري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الظهر ثم قال: على مكانكم أثبتوا، ثم أتى
الرجال فقال: إن الله أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وأن تقولوا قولا سديدا، ثم أتى النساء فقال: إن الله أمرني أن
آمركن أن تتقين الله وأن تقلن قولا سديدا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في كتاب
الأضداد عن ابن عباس في قوله (إنا عرضنا الأمانة) الآية قال الأمانة الفرائض عرضها الله على السماوات والأرض
والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله أن
لا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله (وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) يعني غرا
بأمر الله. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن
الأنباري في كتاب الأضداد والحاكم وصححه عنه في الآية قال: عرضت على آدم، فقيل خذها بما فيها فإن أطعت
غفرت لك وإن عصيت عذبتك، قال: قبلتها بما فيها، فما كان إلا ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب
الذنب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا من طريق أخرى نحوه.
310

تفسير سورة سبأ
هي أربع وخمسون آية
وهي مكية. قال القرطبي في قول الجميع إلا آية واحدة اختلف فيها، وهي قوله (ويرى الذين أوتوا العلم)
فقالت فرقة هي مكية، وقالت فرقة هي مدنية، وسيأتي الخلاف في معنى هذه الآية إن شاء الله وفيمن نزلت.
وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة سبأ بمكة.
قوله (الحمد لله) تعريف الحمد مع لام الاختصاص مشعران باختصاص جميع أفراد الحمد بالله سبحانه على
ما تقدم تحقيقه في فاتحة الكتاب، والموصول في محل جر على النعت، أو البدل، أو النصب على الاختصاص،
أو الرفع على تقدير مبتدأ، ومعنى (له ما في السماوات وما في الأرض) أن جميع ما هو فيها في ملكه وتحت تصرفه
311

يفعل به ما يشاء ويحكم فيه بما يريد، وكل نعمة واصلة إلى العبد فهي مما خلقه له ومن به عليه، فحمده على ما في
السماوات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم. ولما بين أن الحمد الدنيوي من عباده
الحامدين له مختص به بين أن الحمد الأخروي مختص به كذلك فقال (وله الحمد في الآخرة) وقوله " له " متعلق
بنفس الحمد، أو بما تعلق به خبر الحمد أعني في الآخرة، فإنه متعلق بمتعلق عام هو الاستقرار أو نحوه، والمعنى:
أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة كما في قوله - وقالوا الحمد
لله الذي صدقنا وعده - وقوله - الحمد لله الذي هدانا لهذا - وقوله الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن - وقوله
- الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله - وقوله - وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين - فهو سبحانه المحمود
في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للدنيا (وهو الحكيم) الذي أحكم أمر الدارين
(الخبير) بأمر خلقه فيهما، قيل والفرق بين الحمدين أن الحمد في الدنيا عبادة، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج، لأنه
قد انقطع التكليف فيها. ثم ذكر سبحانه بعض ما يحيط به علمه من أمور السماوات والأرض فقال (يعلم ما يلج
في الأرض) أي ما يدخل فيها من مطر أو كنز أو دفين (وما يخرج منها) من زرع ونبات وحيوان (وما ينزل
من السماء) من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والبركات، ومن ذلك ما ينزل منها من ملائكته وكتبه إلى أنبيائه
(وما يعرج فيها) من الملائكة وأعمال العباد. قرأ الجمهور " ينزل " بفتح الياء وتخفيف الزاي مسندا إلى " ما " وقرأ
علي بن أبي طالب والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندا إلى الله سبحانه (وهو الرحيم) بعباده (الغفور) لذنوبهم
(وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة) المراد بهؤلاء القائلين جنس الكفرة على الإطلاق، أو كفار مكة على الخصوص
ومعنى لا تأتينا الساعة: أنها لا تأتي بحال من الأحوال، إنكارا منهم لوجودها لا لمجرد إتيانها في حال تكلمهم أو في
حال حياتهم مع تحقق وجودها فيما بعد، فرد الله عليهم وأمر رسوله أن يقول لهم (قل بلى وربي لتأتينكم) وهذا
القسم لتأكيد الإتيان، قرأ الجمهور " لتأتينكم " بالفوقية: أي الساعة، وقرأ طلق المعلم بالتحتية على تأويل الساعة
باليوم أو الوقت. قال طلق: سمعت أشياخنا يقرءون بالياء: يعني التحتية على المعنى، كأنه قال ليأتينكم البعث
أو أمره كما قال - هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك - قرأ نافع وابن عامر (عالم الغيب) بالرفع
على أنه مبتدأ، وخبره لا يعزب، أو على تقدير مبتدأ، وقرأ عاصم وابن كثير وأبو عمرو بالجر على أنه نعت لربي،
وقرأ حمزة والكسائي علام بالجر مع صيغة المبالغة، ومعنى (لا يعزب) لا يغيب عنه ولا يستتر عليه ولا يبعد (عنه
مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك) المثقال (ولا أكبر) منه (إلا في كتاب مبين) وهو
اللوح المحفوظ. والمعنى: إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله سبحانه فهو مؤكد
لنفي العزوب. قرأ الجمهور " يعزب " بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها. قال الفراء: والكسر أحب إلي،
وهما لغتان، يقال عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور " ولا أصغر ولا أكبر "
بالرفع على الابتداء، والخبر إلا في كتاب، أو على العطف على مثقال، وقرأ قتادة والأعمش بنصبهما عطفا على
ذرة، أو على أن لا هي لا التبرئة التي يبني اسمها على الفتح، واللام في (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات)
للتعليل لقوله " لتأتينكم " أي إتيان الساعة فائدته جزاء المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب، والإشارة بقوله
(أولئك) إلى الموصول: أي أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات (لهم مغفرة) لذنوبهم (ورزق كريم) وهو
الجنة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح مع التفضل عليهم من الله سبحانه. ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند
إتيان الساعة فقال (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) أي سعوا في إبطال آياتنا المنزلة على الرسل، وقدحوا فيها
312

وصدوا الناس عنها، ومعنى " معاجزين " مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا ولا يدركون، وذلك باعتقادهم أنهم
لا يبعثون، يقال عاجزه وأعجزه: إذا غالبه وسبقه. قرأ الجمهور " معاجزين " وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد
ومجاهد وأبو عمرو " معجزين " أي مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات (أولئك) أي الذين سعوا (لهم عذاب من
رجز) الرجز هو العذاب، فمن للبيان، وقيل الرجز هو أسوأ العذاب وأشده، والأول أولى، ومن ذلك قوله
- فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء - قرأ الجمهور (أليم) بالجر صفة لرجز، وقرأ ابن كثير وحفص عن
عاصم بالرفع صفة لعذاب، والأليم الشديد الألم (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) لما
ذكر الذين سعوا في إبطال آيات الله ذكر الذين يؤمنون بها، ومعنى (ويرى الذين أوتوا العلم) أي يعلمون وهم
الصحابة. وقال مقاتل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل جميع المسلمين، والموصول هو المفعول الأول ليرى،
والمفعول الثاني الحق، والضمير هو ضمير الفصل. وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على أنه
خبر الضمير، والجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني، وهي لغة تميم، فإنهم يرفعون ما بعد ضمير الفصل،
وزعم الفراء أن الاختيار الرفع، وخالفه غيره وقالوا النصب أكثر. قيل وقوله " يرى " معطوف على ليجزي،
وبه قال الزجاج والفراء، واعترض عليهما بأن قوله " ليجزي " متعلق بقوله " لتأتينكم " ولا يقال لتأتينكم الساعة
ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق، والأولى أنه كلام مستأنف لدفع ما يقوله الذين سعوا في الآيات: أي
إن ذلك السعي منهم يدل على جهلهم لأنهم مخالفون لما يعلمه أهل العلم في شأن القرآن (ويهدي إلى صراط مستقيم)
معطوف على الحق عطف فعل على اسم، لأنه في تأويله كما في قوله - صافات ويقبضن - أي وقابضات كأنه قيل
وهاديا، وقيل إنه مستأنف وفاعله ضمير يرجع إلى فاعل أنزل، وهو القرآن، والصراط الطريق: أي ويهدي إلى
طريق (العزيز) في ملكه (الحميد) عند خلقه، والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد. ثم ذكر سبحانه نوعا
آخر من كلام منكري البعث فقال (وقال الذين كفروا) أي قال بعض لبعض (هل ندلكم على رجل)، يعنون
محمدا صلى الله عليه وآله وسلم أي هل نرشدكم إلى رجل (ينبئكم) أي يخبركم بأمر عجيب ونبأ غريب هو أنكم
(إذا مزقتم كل ممزق) أي فرقتم كل تفريق وقطعتم كل تقطيع وصرتم بعد موتكم رفاتا وترابا (إنك لفي خلق جديد)
أي تخلقون خلقا جديدا وتبعثون من قبوركم أحياء وتعودون إلى الصور التي كنتم عليها، قال هذا القول بعضهم
لبعض استهزاء بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به والتضاحك مما يقوله
من ذلك، " وإذا " في موضع نصب بقوله " مزقتم ". قال النحاس: ولا يجوز أن يكون العامل فيها ينبئكم لأنه ليس
يخبرهم ذلك الوقت، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد إن لأنه لا يعمل فيما قبلها. وأجاز الزجاج أن يكون
العامل فيها محذوفا، والتقدير: إذا مزقتم كل ممزق بعثتم أو نبئتم بأنكم تبعثون إذا مزقتم، وقال المهدوي: لا يجوز
أن يعمل فيه مزقتم لأنه مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأصل المزق خرق الأشياء، يقال ثوب
مزيق وممزق ومتمزق وممزوق. ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم من البعث بين أمرين فقالوا (أفترى على الله كذبا أم به جنة) أي أهو كاذب فيما قاله أم به جنون
بحيث لا يعقل ما يقوله، والهمزة في أفترى هي همزة الاستفهام وحذفت لأجلها همزة الوصل كما تقدم في قوله
- أطلع الغيب - ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله فقال (بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال
البعيد) أي ليس الأمر كما زعموا، بل هم الذين ضلوا عن الفهم وإدراك الحقائق، فكفروا بالآخرة ولم يؤمنوا بما
جاءهم به، فصاروا بسبب ذلك في العذاب الدائم في الآخرة وهم اليوم في الضلال البعيد عن الحق غاية البعد.
313

ثم وبخهم سبحانه بما اجترء عليه من التكذيب مبينا لهم أن ذلك لم يصدر منهم إلا لعدم التفكر والتدبر في خلق السماء
والأرض، وأن من قدر على هذا الخلق العظيم لا يعجزه أن يبعث من مخلوقاته ما هو دون ذلك ويعيده إلى ما كان
عليه من الذات والصفات، ومعنى (إلى ما بين أيديهم وما خلفهم) أنهم إذا نظروا رأوا السماء خلفهم وقدامهم،
وكذلك إذا نظروا في الأرض رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم فهو القادر على أن ينزل
بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين: أحدهما
أن هذا الخلق الذي خلقه الله من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث كما في قوله
- أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم -. والأمر الآخر: التهديد لهم بأن من خلق
السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما قادر على تعجيل العذاب لهم (إن نشأ نخسف
بهم الأرض) كما خسف بقارون (أو نسقط عليهم كسفا) أي قطعا (من السماء) كما أسقطها على أصحاب الأيكة
فكيف يأمنون ذلك. قرأ الجمهور " إن نشأ " بنون العظمة، وكذا نخسف ونسقط. وقرأ حمزة والكسائي بالياء
التحتية في الأفعال الثلاثة، أي أن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في " نخسف بهم ". قال
أبو علي الفارسي: وذلك غير جائز لأن الفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا بخلاف الباء، وقرأ
الجمهور " كسفا " بسكون السين. وقرأ حفص والسلمي بفتحها (إن في ذلك) المذكور من خلق السماء والأرض
(لآية) واضحة ودلالة بينة (لكل عبد منيب) أي راجع إلى ربه بالتوبة والإخلاص وخص المنيب لأنه المنتفع
بالتفكر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله (يعلم ما يلج في الأرض) قال: من المطر (وما يخرج منها)
قال: من النبات (وما ينزل من السماء) قال: من الملائكة (وما يعرج فيها) قال: الملائكة، وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (من رجز أليم) قال: الرجز هو العذاب الأليم
الموجع، وفي قوله (ويرى الذين أوتوا العلم) قال: أصحاب محمد. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية
قال: يعني المؤمنين من أهل الكتاب. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن قتادة في قوله (وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل) قال: قال ذلك مشركو قريش (إذا مزقتم كل
ممزق) يقول: إذا أكلتكم الأرض وصرتم رفاتا وعظاما وتقطعكم السباع والطير (إنكم لفي خلق جديد) إنكم
ستحيون وتبعثون، قالوا ذلك تكذيبا به (أفترى على الله كذبا أم به جنة) قال: قالوا إما أن يكون يكذب على
الله وإما أن يكون مجنونا (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض) قالوا: إنك إن نظرت عن
يمينك وعن شمالك ومن بين يديك ومن خلفك رأيت السماء والأرض (إن نشأ نخسف بهم الأرض) كما خسفنا بمن
كان قبلهم (أو نسقط عليهم كسفا من السماء) أي قطعا من السماء إن يشأ أن يعذب بسمائه فعل وإن يشأ أن يعذب
بأرضه فعل وكل خلقه له جند (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) قال: نائب مقبل إلى الله.
314

ثم ذكر سبحانه من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في داود - فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب -
وقال في سليمان - وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب - فقال (ولقد آتينا داود منا فضلا) أي آتيناه بسبب إنابته
فضلا منا على سائر الأنبياء. واختلف في هذا الفضل على أقوال: فقيل النبوة، وقيل الزبور، وقيل العلم، وقيل
القوة كما في قوله - واذكر عبدنا داود ذا الأيد - وقيل تسخير الجبال كما في قوله (يا جبال أوبي معه) وقيل التوبة
وقيل الحكم بالعدل كما في قوله - يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق - وقيل هو إلانة
الحديد كما في قوله (وألنا له الحديد) وقيل حسن الصوت، والأولى أن يقال: إن هذا الفضل المذكور هو
ما ذكره الله بعده من قوله (يا جبال) إلى آخر الآية، وجملة (يا جبال أوبي معه) مقدرة بالقول: أي قلنا يا جبال:
والتأويب: التسبيح كما في قوله - إنا سخرنا الجبال معه يسبحن -. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة.
وكان إذا سبح داود سبحت معه، ومعنى تسبيح الجبال: أن الله يجعلها قادرة على ذلك، أو يخلق فيها التسبيح
معجزة لداود، وقيل معنى أوبي: سيرى معه، من التأويب الذي هو سير النهار أجمع، ومنه قول ابن مقبل:
لحقنا بحي أو بوا السير بعد ما * دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
قرأ الجمهور " أوبي " بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر، من التأويب: وهو الترجيع أو التسبيح
أو السير أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن قتادة وابن أبي إسحاق " أوبي " بضم الهمزة أمرا من آب يئوب إذا رجع:
أي ارجعي معه. قرأ الجمهور (والطير) بالنصب عطفا على " فضلا " على معنى: وسخرنا له الطير، لأن إيتاءه إياها
تسخيرها له، أو عطفا على محل " يا جبال " لأنه منصوب تقديرا، إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه
وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون
مفعولا معه كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي إنه معطوف على فضلا لكن على تقدير مضاف محذوف
أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير. وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن
هرمز ومسلمة بن عبد الملك بالرفع عطفا على لفظ الجبال، أو على المضمر في أوبي لوقوع الفصل بين المعطوف
والمعطوف عليه (وألنا له الحديد) معطوف على آتيناه: أي جعلناه لينا ليعمل به ما شاء. قال الحسن: صار الحديد
كالشمع يعمله من غير نار. وقال السدي: كان الحديد في يده كالطين المبلول والعجين والشمع يصرفه كيف
يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة، وكذا قال مقاتل، وكان يفرغ من عمل الدرع في بعض يوم (أن اعمل
سابغات) في أن هذه وجهان: أحدهما أنها مصدرية على حذف حرف الجر: أي بأن اعمل، والثاني أنها المفسرة
لقوله (وألنا) وفيه نظر لأنها لا تكون إلا بعد القول أو ما هو في معناه. وقدر بعضهم فعلا فيه معنى القول فقال
التقدير وأمرناه أن اعمل. وقوله (سابغات) صفة لموصوف محذوف: أي دروعا سابغات، والسابغات الكوامل
315

الواسعات، يقال سبغ الدرع والثوب وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه فضلة (وقدر في السرد)
السرد نسج الدروع، ويقال السرد والزرد كما يقال السراد والزراد لصانع الدروع، والسرد أيضا الخرز، يقال
سرد يسرد: إذا خرز، ومنه سرد الكلام: إذا جاء به متواليا، ومنه حديث عائشة لم يكن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم يسرد الحديث كسردكم. قال سيبويه: ومنه سريد: أي جري، ومعنى سرد الدروع إحكامها،
وأن يكون نظام حلقها ولاء غير مختلف، ومنه قول لبيد:
سرد الدروع مضاعفا أسراده * لينال طول العيش غير مروم
وقول أبي ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود إذ صنع السوابغ تبع
قال قتادة: كانت الدروع قبل داود ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع الخفة والحصانة: أي قدر
ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه فلا تقصد الحصانة فيثقل ولا الخفة فيزيل المنعة، وقال ابن زيد: التقدير الذي
أمر به هو في قدر الحلقة: أي لا تعملها صغيرة فتضعف ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فتثقل
على لابسها. وقيل إن التقدير هو في المسمار: أي لا تجعل مسمار الدرع دقيقا فيقلق ولا غليظا فيفصم الحلق. ثم
خاطب داود وأهله فقال (واعملوا صالحا) أي عملا صالحا كما في قوله - اعملوا آل داود شكرا - ثم علل الأمر
بالعمل الصالح بقوله (إني بما تعملون بصير) أي لا يخفى على شئ من ذلك (ولسليمان الريح) قرأ الجمهور
" الريح " بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح كما قال الزجاج، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع
على الابتداء والخبر: أي ولسليمان الريح ثابتة أو مسخرة، وقرأ الجمهور " الريح " وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد
ابن إلياس " الرياح " بالجمع (غدوها شهر ورواحها شهر) أي تسير بالغداة مسيرة شهر وتسير بالعشي كذلك،
والجملة إما مستأنفة لبيان تسخير الريح، أو في محل نصب على الحال، والمعنى: أنها كانت تسير في اليوم الواحد
مسيرة شهرين. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من
إصطخر فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر (وأسلنا له عين القطر) القطر: النحاس الذائب. قال الواحدي:
قال المفسرون: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن كجري الماء، وإنما يعمل الناس اليوم بما أعطى سليمان،
والمعنى: أسلنا له عين النحاس كما ألنا الحديد لداود، وقال قتادة: أسال الله له عينا يستعملها فيما يريد (ومن
الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) من مبتدأ ويعمل خبره ومن الجن متعلق به أو بمحذوف على أنه حال، أو من
يعمل معطوف على الريح ومن الجن حال، والمعنى: وسخرنا له من يعمل بين يديه حال كونه من الجن بإذن ربه:
أي بأمره. والإذن مصدر مضاف إلى فاعله، والجار والمجرور في محل نصب على الحال: أي مسخرا أو ميسرا
بأمر ربه (ومن يزغ منهم عن أمرنا) أي ومن يعدل من الجن عن أمرنا الذي أمرنا به: وهو طاعة سليمان (نذقه من
عذاب السعير) قال أكثر المفسرين: وذلك في الآخرة، وقيل في الدنيا. قال السدي: وكل الله بالجن ملكا
بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة فتحرقه. ثم ذكر سبحانه ما يعمله الجن
لسليمان فقال (يعملون له ما يشاء) و " من " في قوله (من محاريب) للبيان، والمحاريب في اللغة كل موضع مرتفع وهي
الأبنية الرفيعة والقصور العالية. قال المبرد: لا يكون المحراب إلا أن يرتقى إليه بدرج، ومنه قيل للذي يصلي فيه
محراب لأنه يرفع ويعظم. وقال مجاهد: المحاريب دون القصور. وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار،
ومنه قول الشاعر:
316

وماذا عليه إن ذكرت أو أنسا * كغزلان رمل في محاريب أقيال
وقال الضحاك: المراد بالمحاريب هنا المساجد، والتماثيل جمع تمثال وهو كل شئ مثلته بشئ: أي صورته
بصورته من نحاس أو زجاج أو رخام أو غير ذلك. قيل كانت هذه التماثيل صور الأنبياء والملائكة والعلماء
والصلحاء، وكانوا يصورونها في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا. وقيل هي تماثيل أشياء ليست
من الحيوان. وقد استدل بهذا على أن التصوير كان مباحا في شرع سليمان، ونسخ ذلك بشرع نبينا محمد صلى الله
عليه وآله وسلم. والجفان جمع جفنة وهى القصعة الكبيرة. والجواب جمع جابية وهي حفيرة كالحوض، وقيل هي
الحوض الكبير يجبي الماء: أي يجمعه. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني قصاعا في العظم كحياض الإبل
يجتمع على القصعة الواحدة ألف رجل يأكلون منها. قال النحاس: الأولى إثبات الياء في الجوابي، ومن حذف
الياء قال سبيل الألف واللام أن تدخل على النكرة فلا تغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الألف
واللام أقر على حاله فحذف الياء. قال الكسائي: يقال جبوت الماء وجبيته في الحوض: أي جمعته، والجابية
الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل. وقال النحاس: والجابية القدر العظيمة والحوض العظيم الكبير الذي يجبى
فيه الشئ: أي يجمع، ومنه جبيت الخراج وجبيت الجراد: جمعته في الكساء (وقدور راسيات) قال قتادة: هي
قدور النحاس تكون بفارس، وقال الضحاك: هي قدور تنحت من الجبال الصم عملتها له الشياطين، ومعنى
راسيات: ثابتات لا تحمل ولا تحرك لعظمها. ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم: أي سليمان وأهله،
فقال (اعملوا آل داود شكرا) أي وقلنا لهم اعملوا بطاعة الله يا آل داود شكرا له على ما آتاكم أو اعملوا عملا شكرا
على أنه صفة مصدر محذوف، أو اعملوا للشكر على أنه مفعول له أو حال: أي شاكرين أو مفعول به، وسميت
الطاعة شكرا لأنها من جملة أنواعه، أو منصوب على المصدرية بفعل مقدر من جنسه: أي اشكر واشكرا. ثم
بين بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده ليسوا بالكثير فقال (وقليل من عبادي الشكور) أي العامل
بطاعتي الشاكر لنعمتي قليل. وارتفاع قليل على أنه خبر مقدم. ومن عبادي صفة له. والشكور مبتدأ (فلما
قضينا عليه الموت) أي حكمنا عليه به وألزمناه إياه (ما دلهم على موته إلا دابة الأرض) يعني الأرضة. وقرئ
" الأرض " بفتح الراء: أي الأكل، يقال أرضت الخشبة أرضا: إذا أكلتها الأرضة. ومعنى تأكل منسأته:
تأكل عصاه التي كان متكئا عليها، والمنسأة: العصا بلغة الحبشة، أو هي مأخوذة من نسأت الغنم: أي زجرتها.
قال الزجاج: المنسأة التي ينسأ بها: أي يطرد. قرأ الجمهور " منسأته " بهمزة مفتوحة. وقرأ ابن ذكوان بهمزة
ساكنة. وقرأ نافع وأبو عمرو بألف محضة. قال المبرد: بعض العرب يبدل من همزتها ألفا وأنشد:
إذا دببت على المنساة من كبر * فقد تباعد عنك اللهو والغزل
ومثل قراءة الجمهور قول الشاعر:
ضربنا بمنسأة وجهه * فصار بذاك مهينا ذليلا
ومثله: أمن أجل حبل لا أباك ضربته * بمنسأة قد جر حبلك أحبلا
ومما يدل على قراءة ابن ذكوان قول طرفة:
أمون كألواح الأران نسأتها * على لأحب كأنه ظهر برجد
(فلما خر) أي سقط (تبينت الجن) أي ظهر لهم، من تبينت الشئ إذا علمته: أي علمت الجن (أن
317

لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) أي لو صح ما يزعمونه من أنهم يعلمون الغيب لعلموا بموته ولم
يلبثوا بعد موته مدة طويلة في العذاب المهين في العمل الذي أمرهم به والطاعة له وهو إذ ذاك ميت. قال مقاتل:
العذاب المهين: الشقاء والنصب في العمل. قال الواحدي: قال المفسرون: كانت الناس في زمان سليمان يقولون
إن الجن تعلم الغيب، فلما مكث سليمان قائما على عصاه حولا ميتا، والجن تعمل تلك الأعمال الشاقة التي كانت
تعمل في حياة سليمان لا يشعرون بموته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتا فعلموا بموته، وعلم الناس أن الجن
لا تعلم الغيب، ويجوز أن يكون تبينت الجن من تبين الشئ، لا من تبينت الشيء: أي ظهر وتجلى، وأن وما
في حيزها بدل اشتمال من الجن مع تقدير محذوف: أي ظهر أمر الجن للناس أنهم وكانوا يعلمون الغيب ما لبثوا
في العذاب المهين، أو ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب الخ. قرأ الجمهور " تبينت " على البناء للفاعل مسندا
إلى الجن. وقرأ ابن عباس ويعقوب " تبينت " على البناء للمفعول، ومعنى القراءتين يعرف مما قدمنا.
وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أوبي
معه) قال: سبحي معه، وروي مثله عن أبي ميسرة ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن زيد. وأخرج ابن المنذر عن ابن
عباس في قوله (وألنا له الحديد) قال: كالعجين. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه
أيضا في قوله (وقدر في السرد) قال: حلق الحديد. وأخرج عبد الرزاق والحاكم عنه أيضا (وقدر في السرد)
قال: لا تدق المسامير وتوسع الحلق فتسلس، ولا تغلظ المسامير وتضيق الحلق فتقصم، واجعله قدرا. وأخرج
ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضا في قوله (وأسلنا له عين
القطر) قال النحاس. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: القطر النحاس لم يقدر عليها أحد بعد سليمان، وإنما
يعمل الناس بعده فيما كان أعطى سليمان. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: القطر الصفر. وأخرج الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عباس في قوله (وتماثيل) قال: اتخذ سليمان تماثيل من نحاس فقال: يا رب
انفخ فيها الروح فإنها أقوى على الخدمة، فنفخ الله فيها الروح فكانت تخدمه، وكان اسفنديار من بقاياهم، فقيل
لداود وسليمان (اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه في قوله (كالجواب) قال: كالجوبة من الأرض (وقدور راسيات) قال: أثافيها منها. وأخرج ابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وقليل من عبادي الشكور) يقول: قليل من عبادي الموحدين
توحيدهم. وأخرج هؤلاء عنه أيضا قال: لبث سليمان على عصاه حولا بعد ما مات، ثم خر على رأس الحول،
فأخذت الجن عصى مثل عصاه ودابة مثل دابته فأرسلوها عليها فأكلتها في سنة، وكان ابن عباس يقرأ (فلما خر
تبينت الجن) الآية، قال سفيان: وفي قراءة ابن مسعود " وهم يدأبون له حولا ". وأخرج البزار وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن السني وابن مردويه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال: " كان سليمان إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول لها ما اسمك؟ فتقول كذا وكذا، فيقول لما أنت؟
فتقول لكذا وكذا، فإن كانت لغرس غرست، وإن كانت لدواء كتبت " وصلى ذات يوم فإذا شجرة نابتة بين يديه
فقال لها ما اسمك؟ قالت الخروب؟ قال لأي شئ أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عم عن
الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فهيأ عصا فتوكأ عليها، وقبضه الله وهو متكئ عليها،
فمكث حولا ميتا والجن تعمل، فأكلتها الأرضة فسقطت، فعلموا عند ذلك بموته، فتبينت الإنس (أن) الجن
(لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين) وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، فشكرت الجن للأرضة،
318

فأينما كانت يأتونها بالماء. وأخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس موقوفا. وأخرج الديلمي عن زيد بن أرقم
مرفوعا يقول الله عز وجل: " إني تفضلت على عبادي بثلاث: ألقيت الدابة على الحبة ولولا ذلك لكنزها
الملوك كما يكنزون الذهب والفضة، وألقيت النتن على الجسد ولولا ذلك لم يدفن حبيب حبيبه، واستلبت الحزن
ولولا ذلك لذهب النسل ".
لما ذكر سبحانه حال بعض الشاكرين لنعمه عقبه بحال بعض الجاحدين لها، فقال (لقد كان لسبأ) المراد
بسبأ القبيلة التي هي من أولاد سبأ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود. قرأ الجمهور " لسبأ "
بالجر والتنوين على أنه اسم حي: أي الحي الذين هم أولاد سبأ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " لسبأ " ممنوع الصرف
بتأويل القبيلة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، ويقوي القراءة الأولى قوله (في مساكنهم) ولو كان على تأويل
القبيلة لقال في مساكنها، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر:
الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد عض أعناقها جلد الجواميس
ومما ورد على القراءة الثانية قول الشاعر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ * يبنون من دون مسيله العرما
وقرأ قنبل وأبو حيوة والجحدري " لسبأ " بإسكان الهمزة، وقرئ بقلبها ألفا. وقرأ الجمهور " في مساكنهم "
على الجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ووجه الاختيار أنها كانت لهم منازل كثيرة، ومساكن
متعددة. وقرأ حمزة وحفص بالإفراد مع فتح الكاف. وقرأ الكسائي بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن
وثاب والأعمش، ووجه الإفراد أنه مصدر يشمل القليل والكثير، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع، وهذه
319

المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن مأرب، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، ومعنى قوله (آية)
أي علامة دالة على كمال قدرة الله وبديع صنعه، ثم بين هذه الآية فقال (جنتان) وارتفاعهما على البدل من آية
قاله الفراء، أو على أنهما خبر مبتدأ محذوف قاله الزجاج، أو على أنهما مبتدأ وخبره " عن يمين وشمال " واختار
هذا الوجه ابن عطية، وفيه أنه لا يجوز الابتداء بالنكرة من غير مسوغ وقرأ ابن أبي عبلة " جنتين " بالنصب على
أنهما خبر ثان واسمها آية، وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله قد أحاطتا لو به من جهتيه، وكانت مساكنهم
في الوادي، والآية هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما وعلى رأسها المكتل، فيمتلئ من أنواع الفواكه التي
تتساقط من غير أن تمسها بيدها. وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم أنهم لم يروا
فيها بعوضة ولا ذبابا ولا برغوثا ولا قملة ولا عقربا ولا حية ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في
ثيابهم القمل ماتت عند رؤيتهم لبيوتهم. قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في
كل جهة بساتين كثيرة (كلوا من رزق ربكم) أي قيل لهم ذلك ولم يكن ثم أمر، ولكن المراد تمكينهم من تلك
النعم، وقيل إنها قالت لهم الملائكة، والمراد بالرزق هو ثمار الجنتين، وقيل إنهم خوطبوا بذلك على لسان نبيهم
(واشكروا له) على ما رزقكم من هذه النعم واعملوا بطاعته واجتنبوا معاصيه، وجملة (بلدة طيبة ورب غفور)
مستأنفة لبيان موجب الشكر. والمعنى: هذه بلدة طيبة لكثرة أشجارها وطيب ثمارها. وقيل معنى كونها طيبة:
أنها غير سبخة، وقيل ليس فيها هوام. وقال مجاهد: هي صنعاء. ومعنى (ورب غفور) أن المنعم عليهم رب
غفور لذنوبهم. قال مقاتل: المعنى وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب. وقيل إنما جمع لهم بين طيب
البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام. وقرأ ورش بنصب بلدة ورب على المدح، أو على
تقدير اسكنوا بلدة واشكروا ربا. ثم ذكر سبحانه ما كان منهم بعد هذه النعمة التي أنعم بها عليهم فقال (فاعرضوا)
عن الشكر وكفروا بالله وكذبوا أنبياءهم قال السدي: بعث الله إلى أهل سبأ ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم، وكذا قال
وهب. ثم لما وقع منهم الإعراض عن شكر النعمة أرسل الله عليهم نقمة سلب بها ما أنعم به عليهم فقال (فأرسلنا
عليهم سيل العرم) وذلك أن الماء كان يأتي أرض سبأ من أودية اليمن، فردموا ردما بين جبلين وحبسوا الماء،
وجعلوا في ذلك الردم ثلاثة أبواب بعضها فوق بعض، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الباب الثاني، ثم من
الثالث فأخصبوا وكثرت أموالهم، فلما كذبوا رسلهم بعث الله جرذا، ففتقت ذلك الردم حتى انتقض فدخل الماء
جنتهم فغرقها ودفن السيل بيوتهم، فهذا هو سيل العرم، وهو جمع عرمة: وهي السكر التي تحبس الماء،
وكذا قال قتادة وغيره. وقال السدي: العرم اسم للسد. والمعنى: أرسلنا عليهم سيل العرم. وقال عطاء:
العرم اسم الوادي. وقال الزجاج: العرم اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له الخلد: فنسب
السيل إليه لكونه سبب جريانه. قال ابن الأعرابي: العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي نجيح: العرم ماء أحمر
أرسله الله في السد فشقه وهدمه. وقيل إن العرم اسم المطر الشديد، وقيل اسم للسيل الشديد، والعرامة في الأصل:
الشدة والشراسة والصعوبة: يقال عرم فلان: إذا تشدد وتصعب. وروي عن ابن الأعرابي أنه قال: العرم
السيل الذي لا يطاق. وقال المبرد: العرم كل شئ حاجز بين شيئين (وبدلناهم بجنتيهم جنتين) أي أهلكنا جنتيهم
320

اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة والأنواع الحسنة وأعطيناهم بدلهما جنتين لا خير فيهما ولا فائدة لهم
فيما هو نابت فيهما، ولهذا قال (ذواتي أكل خمط) قرأ الجمهور بتنوين " أكل " وعدم إضافته إلى " خمط " وقرأ
أبو عمرو بالإضافة. قال الخليل: الخمط الأراك، وكذا قال كثير من المفسرين. وقال أبو عبيدة: الخمط كل
شجرة مرة ذات شوك. وقال الزجاج: كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. وقال المبرد: كل شئ تغير إلى مالا
يشتهي يقال له خمط، ومنه اللبن إذا تغير، وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو. والخمط نعت لأكل أو بدل
منه، لأن الأكل هو الخمط بعينه. وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب: مثل ثوب خز ودار آجر،
والأولى تفسير الخمط بما ذكره الخليل ومن معه. قال الجوهري: الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل،
وتسمية البدل جنتين للمشاكلة أو التهكم بهم، والأثل هو الشجر المعروف الشبيه بالطرفاء كذا قال الفراء وغيره قال:
إلا أنه أعظم من الطرفاء طولا، الواحدة أثلة، والجمع أثلاث. وقال الحسن: الأثل الخشب. وقال أبو عبيدة:
هو شجر النطار، والأول أولى، ولا ثمر للأثل. والسدر شجر معروف. قال الفراء: هو السمر. قال الأزهري:
السدر من الشجر سدران: بري لا ينتفع به ولا يصلح للغسول، وله ثمر عفص لا يؤكل، وهو الذي يسمى
الضال. والثاني سدر ينبت على الماء وثمره النبق، وورقه غسول يشبه شجر العناب. قيل ووصف السدر بالقلة لأن
منه نوعا يطيب أكله، وهو النوع الثاني الذي ذكره الأزهري. قال قتادة: بينما شجرهم من خير شجر إذ صيره
الله من ثمر الشجر بأعمالهم، فأهلك أشجارهم المثمرة وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. ويحتمل أن يرجع قوله
(قليل) إلى جميع ما ذكر من الخمط والأثل والسدر. والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من التبديل، أو إلى
مصدر (جزيناهم) والباء في (بما كفروا) للسببية: أي ذلك التبديل، أو ذلك الجزاء بسبب كفرهم للنعمة
بإعراضهم عن شكرها (وهل نجازي إلا الكفور) أي وهل نجازي هذا الجزاء بسلب النعمة ونزول النقمة إلا الشديد
الكفر المتبالغ فيه. قرأ الجمهور " يجازى " بضم التحتية وفتح الزاي على البناء للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب
وحفص بالنون وكسر الزاي على البناء للفاعل وهو الله سبحانه، والكفور على القراءة الأولى مرفوع، وعلى القراءة
الثانية منصوب، واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو حاتم قالا: لأن قبله (جزيناهم) وظاهر الآية أنه لا يجازي
إلا الكفور مع كون أهل المعاصي يجازون، وقد قال قوم: إن معنى الآية أنه لا يجازي هذا الجزاء، وهو الاصطدام
والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل عمل عمله. وقال
طاووس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش. وقال الحسن: إن المعنى إنه يجازي الكافر مثلا بمثل
ورجح هذا الجواب النحاس (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) هذا معطوف على قوله - لقد كان لسبأ -
أي وكان من قصتهم: أنا جعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها بالماء والشجر، وهي قرى الشام (قرى ظاهرة)
أي متواصلة، وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية ويقيلون بأخرى حتى
يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زاد يحملونه من أرضهم إلى الشام، فهذا من جملة الحكاية لما أنعم الله به عليهم.
قال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن والشام، قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية، وقيل هي بين
المدينة والشام. وقال المبرد: القرى الظاهرة هي المعروفة، وإنما قيل لها ظاهرة لظهورها، إذا خرجت من هذه
ظهرت لك الأخرى فكانت قرى ظاهرة: أي معروفة، يقال هذا أمر ظاهر: أي معروف (وقدرنا فيها السير)
أي جعلنا السير من القرية إلى القرية مقدارا معينا واحدا، وذلك نصف يوم كما قال المفسرون. قال الفراء: أي
جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام، وإنما
321

يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل
أينما أراد. والحاصل أن الله سبحانه عدد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به
عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز
والبراري كما سيأتي وقوله (سيروا فيها) هو على تقدير القول: أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة، فهو
أمر تمكين: أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا (ليالي وأياما آمنين) مما يخافونه، وانتصاب ليالي وأياما على
الظرفية، وانتصاب آمنين على الحال. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظمأ، كانوا
يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا ولو لقى الرجل قاتل أبيه لم يحركه. ثم ذكر سبحانه أنهم
لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما
سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم
وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن والمفاوز والقفاز والبراري المتباعدة الأقطار،
فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر، فكانت دعوتهم هذه
كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا - ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها - الآية مكان المن والسلوى،
وكقول النضر بن الحارث - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء - الآية. قرأ
الجمهور " ربنا " بالنصب على أنه منادي مضاف، وقرأوا أيضا " باعد " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن
وهشام عن ابن عامر بعد بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلا ماضيا، فيكون معنى هذه القراءة
الشكوى من بعد الأسفار، وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب " ربنا " بالرفع
" باعد " بفتح العين على أنه فعل ماضي على الابتداء والخبر. والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه
القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان
بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرا وأشرا وكفرا للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر " ربنا " بالرفع
" بعد " بفتح العين مشددة، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة
بالقرى والشجر والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع
رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله - لقد تقطع بينكم - وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع
نصب بين على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها
لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم
أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا، ولهذا قال سبحانه (وظلموا أنفسهم)
حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم. والمعنى:
جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا بحالهم وعاقبتهم (ومزقناهم كل ممزق)
أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وهذه الجملة مبنية لجعلهم أحاديث، وذلك أن الله سبحانه لما
أغرق مكانهم وأذهب جنتهم، تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال، فتقول: تفرقوا أيدي سبا.
قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة (إن في ذلك لآيات)
أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات، ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من
هو كثير الصبر والشكر، وخص الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات (ولقد صدق عليهم إبليس
322

ظنه) قرأ الجمهور صدق بالتخفيف ورفع إبليس ونصب ظنه. قال الزجاج: وهو على المصدر: أي صدق
عليهم ظنا ظنه، أو صدق في ظنه، أو على الظرف. والمعنى: أنه ظن بهم أنه إذا أغواهم اتبعوه فوجدهم كذلك،
ويجوز أن يكون منتصبا على المفعولية، أو بإسقاط الخافض. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وعاصم
" صدق " بالتشديد، وظنه بالنصب على أنه مفعول به. قال أبو علي الفارسي: أي صدق الظن الذي ظنه. قال
مجاهد: ظن ظنا فصدق ظنه، فكان كما ظن، وقرأ أبو جعفر وأبو الجهجاء والزهري وزيد بن علي " صدق "
بالتخفيف و " إبليس " بالنصب و " ظنه " بالرفع، قال أبو حاتم: لا وجه لهذه القراءة عندي، وقد أجاز هذه
القراءة الفراء وذكرها الزجاج، وجعل الظن فاعل صدق وإبليس مفعوله، والمعنى: أن إبليس سول له ظنه شيئا
فيهم فصدق ظنه، فكأنه قال: ولقد صدق عليهم ظن إبليس. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ برفعهما مع تخفيف
صدق على أن يكون ظنه بدل اشتمال من إبليس. قيل وهذه الآية خاصة بأهل سبأ. والمعنى: أنهم غيروا وبدلوا
بعد أن كانوا قد آمنوا بها جاءت به رسلهم، وقيل هي عامة: أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من
أطاع الله. قاله مجاهد والحسن. قال الكلبي: إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه، وإن أضلهم أطاعوه فصدق ظنه
(فاتبعوه) قال الحسن: ما ضربهم بصوت ولا بعصى، وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته، وانتصاب (إلا
فريقا من المؤمنين) على الاستثناء، وفيه وجهان: أحدهما أن يراد به بعض المؤمنين، لأن كثيرا من المؤمنين يذنب
وينقاد لإبليس في بعض المعاصي، ولم يسلم منه إلا فريق، وهم الذين قال فيهم - إن عبادي ليس لك عليهم
سلطان - وقيل المراد بفريقا من المؤمنين: المؤمنون كلهم على أن تكون من بيانية (وما كان له عليهم من سلطان) أي
ما كان له تسلط عليهم: أي لم يقهرهم على الكفر، وإنما كان منه الدعاء والوسوسة والتزيين، وقيل السلطان
القوة، وقيل الحجة، والاستثناء في قوله (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك) منقطع، والمعنى:
لا سلطان له عليهم، ولكن ابتليناهم بوسوسته لنعلم. وقيل هو متصل مفرغ من أعم العام: أي ما كان له عليهم
تسلط بحال من الأحوال ولا لعلة من العلل إلا ليتميز من يؤمن، ومن لا يؤمن، لأنه سبحانه قد علم ذلك علما
أزليا. وقال الفراء: المعنى إلا لنعلم ذلك عندكم، وقيل إلا لتعلموا أنتم، وقيل ليعلم أولياؤنا والملائكة. وقرأ
الزهري " إلا ليعلم " على البناء للمفعول، والأولى حمل العلم هنا على التمييز والإظهار كما ذكرنا (وربك على كل
شئ حفيظ) أي محافظ عليه. قال مقاتل: علم كل شئ من الإيمان والشك.
وقد أخرج أحمد والبخاري والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهم عن فروة بن مسيك المرادي قال
" أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله ألا أقاتل من أدبر من قومي بمن أقبل منهم؟ فأذن لي في
قتالهم وأمرني، فلما خرجت من عنده أرسل في أثري فردني فقال: ادع القوم، فمن أسلم منهم فاقبل منه، ومن
لم يسلم فلا تعجل حتى أحدث إليك، وأنزل في سبأ ما أنزل، فقال رجل: يا رسول الله وما سبأ: أرض أم
امرأة؟ قال: ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة،
فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا، فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج
وأنمار، فقال الرجل: يا رسول الله وما أنمار؟ قال: الذي منهم خثعم وبجيلة ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد
والطبراني وابن عدي والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس نحوه بأخصر منه. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (سيل العرم) قال: الشديد. وأخرج ابن جرير عنه قال (سيل
العرم) واد كان باليمن كان يسيل إلى مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم أيضا في قوله (أكل
323

خمط) قال: الأراك. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (وهل نجازي إلا الكفور) قال: تلك المناقشة
وأخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عنه أيضا في قوله (وجعلنا بينهم) يعني بين مساكنهم (وبين القرى التي
باركنا فيها) يعني الأرض المقدسة (قرى ظاهرة) يعني عامرة مخصبة (وقدرنا فيها السير) يعني فيما بين مساكنهم
وبين أرض الشام (سيروا فيها) إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدسة. وأخرج عبد بن حميد وابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) قال: إبليس: إن آدم خلق من تراب ومن طين ومن
حمأ مسنون خلقا ضعيفا، وإني خلقت من نار، والنار تحرق كل شئ لأحتنكن ذريته إلا قليلا. قال فصدق
ظنه عليهم (فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) قال هم المؤمنون كلهم.
قوله (قل ادعو الذين زعمتم من دون الله) هذا أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لكفار قريش أو
للكفار على الإطلاق هذا القول، ومفعولا زعمتم محذوفان: أي زعمتموهم آلهة لدلالة السياق عليهما. قال مقاتل:
يقول ادعوهم ليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم في سنين الجوع. ثم أجاب سبحانه عنهم فقال (لا يملكون مثقال
ذرة في السماوات ولا في الأرض) أي ليس لهم قدرة على خير ولا شر، ولا على جلب نفع ولا دفع ضرر في أمر
من الأمور، وذكر السماوات والأرض لقصد التعميم لكونهما ظرفا موجودات الخارجية (وما لهم فيهما من
شرك) أي ليس للآلهة في السماوات والأرض مشاركة لا بالخلق ولا بالملك ولا بالتصرف (وما له من ظهير)
أي وما لله سبحانه من تلك الآلهة من معين يعينه على شئ من أمر السماوات والأرض ومن فيهما (ولا تنفع الشفاعة
عنده) أي شفاعة من يشفع عنده من الملائكة وغيرهم، وقوله (إلا لمن أذن له) استثناء مفرغ من أعم الأحوال:
أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ونحوهم من أهل العلم
والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع
الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له: أي لأجله وفى شأنه من المستحقين
للشفاعة لهم، لا من عداهم من غير المستحقين لها، واللام في " لمن " يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة. قال أبو البقاء:
كما تقول شفعت له، ويجوز أن تتعلق بتنفع، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا. قيل والمراد بقوله (لا تنفع
الشفاعة) أنها لا توجد أصلا إلا لمن أذن له، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحا بنفي ما هو غرضهم من
324

وقوعها. قرأ الجمهور " أذن " بفتح الهمزة: أي أذن له الله سبحانه: لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا، وقرأ
أبو عمرو وحمزة والكسائي بضمها على البناء للمفعول، والآذن هو الله سبحانه، ومثل هذه الآية قوله تعالى - من
ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه - وقوله - ولا يشفعون إلا لمن ارتضى - ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء
والمشفوع لهم فقال (حتى إذا فزع عن قلوبهم) قرأ الجمهور " فزع " مبنيا للمفعول، والفاعل هو الله، والقائم
مقام الفاعل هو الجار والمجرور، وقرأ ابن عامر " فزع " مبنيا للفاعل، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه،
وكلا القراءتين بتشديد الزاي، وفعل معناه السلب، فالتفزيع إزالة الفزع. وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلا أنه
خفف الزاي. قال قطرب: معنى فزع عن قلوبهم أخرج ما فيها من الفزع، وهو الخوف. وقال مجاهد: كشف
عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة. والمعنى: أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة
والأنبياء والأصنام، إلا أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها، وهم على غاية
النزع من الله كما قال تعالى - وهم من خشيته مشفقون - فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من
الأمر الهائل والخوف الشديد من أن يحدث شئ من أقدار الله، فإذا سرى عليهم (قالوا) للملائكة فوقهم، وهم
الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن (ماذا قال ربكم) أي ماذا أمر به، فيقولون لهم قال: القول (الحق) وهو
قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم (وهو العلي الكبير) فله أن يحكم في عباده بما يشاء ويفعل ما يريد،
وقيل هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الرب. والمعنى: لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم
فزعون اليوم مطيعون لله، دون الجمادات والشياطين، وقيل إن الذين يقولون: ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم،
والذين أجابوهم: هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء. وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: معنى الآية: حتى إذا
كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة. قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا الحق، فأقروا
حين لا ينفعهم الإقرار. وقرأ ابن عمر وقتادة: فرغ بالراء المهملة والغين المعجمة من الفراغ. والمعنى: فرغ الله
قلوبهم: أي كشف عنها الخوف. وقرأ ابن مسعود " افرنقع " بعد الفاء راء مهملة ثم نون ثم قاف ثم عين مهملة من
الافرنقاع وهو التفرق. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكت المشركين ويوبخهم فقال (قل من يرزقكم من السماوات
والأرض) أي من ينعم عليكم بهذه الأرزاق التي تتمتعون بها، فإن آلهتكم لا يملكون مثقال ذرة، والرزق من
السماء هو المطر وما ينتفع به منها من الشمس والقمر والنجوم، والرزق من الأرض هو النبات والمعادن ونحو ذلك
ولما كان الكفار لا يقدرون على جواب هذا الاستفهام، ولم تقبل عقولهم نسبة هذا الرزق إلى آلهتهم، وربما
يتوقفون في نسبته إلى الله مخافة أن تقوم عليهم الحجة، فأمر الله رسوله بأن يجيب عن ذلك فقال (قل الله) أي هو
الذي يرزقكم من السماوات والأرض، ثم أمره سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلالة، لكن على وجه الإنصاف
في الحجة بعد ما سبق تقرير من هو على الهدى ومن هو على الضلالة، فقال (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال
مبين) والمعنى: أن أحد الفريقين من الذين يوحدون الله الخالق الرازق ويخصونه بالعبادة، والذين يعبدون
الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل
عاقل أن من عبد الذي يخلق ويرزق وينفع ويضر هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا
رزق ولا نفع ولا ضر هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى، وهم المسلمون، وفريق
الضلالة وهم المشركون على وجه أبلغ من التصريح. قال المبرد: ومعنى هذا الكلام معنى قول المتبصر في الحجة
لصاحبه: أحدنا كاذب، وقد عرف أنه الصادق المصيب، وصاحبه الكاذب المخطئ. قال: وأو عند البصريين
325

على بابها وليست للشك، لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين وهو عالم بالمعنى.
وقال أبو عبيدة والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى وإياكم لفي ضلال مبين، ومنه قول جرير:
أثعلبة الفوارس أو رباحا * عدلت بهم طهية والربابا
أي ثعلبة ورباحا، وكذا قول الآخر:
فلما اشتد بأس الحرب فينا * تأملنا رباحا أو رزاما
أي ورزاما، وقوله: أو إياكم معطوف على اسم إن وخبرها هو المذكور، وحذف خبر الثاني للدلالة عليه: أي
أي إنا لعلى هدى أو في ضلال مبين، وإنكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، ويجوز العكس: وهو كون المذكور
خبر الثاني، وخبر الأول محذوفا كما تقدم في قوله - والله ورسوله أحق أن يرضوه - ثم أردف سبحانه هذا
الكلام المنصف بكلام أبلغ منه في الإنصاف، وأبعد من الجدل والمشاغبة فقال (قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل
عما تعملون) أي إنما أدعوكم إلى ما فيه خير لكم ونفع، ولا ينالني من كفركم وترككم لإجابتي ضرر، وهذا
كقوله سبحانه - لكم دينكم ولي دين - وفي إسناد الجرم إلى المسلمين ونسبة مطلق العمل إلى المخاطبين، مع كون
أعمال المسلمين من البر الخالص والطاعة المحضة، وأعمال الكفار من المعصية البينة والإثم الواضح من الإنصاف
ما لا يقادر قدره. والمقصود: المهادنة والمتاركة، وقد نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف. ثم أمره سبحانه بأن
يهددهم بعذاب الآخرة، لكن على وجه لا تصريح فيه فقال (قل يجمع بيننا ربنا) أي يوم القيامة (ثم يفتح بيننا
بالحق) أي يحكم ويقضي بيننا بالحق، فيثيب المطيع، ويعاقب العاصي (وهو الفتاح) أي الحاكم بالحق القاضي
بالصواب (العليم) بما يتعلق بحكمه وقضائه من المصالح. وهذه أيضا منسوخة بآية السيف. ثم أمره سبحانه أن
يورد عليهم حجة أخرى يظهر بها ما هم عليه من الخطأ فقال (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي أروني الذين
ألحقتموهم بالله شركاء له، وهذه الرؤية هي القلبية، فيكون شركاء هو المفعول الثالث، لأن الفعل تعدى بالهمزة
إلى ثلاثة. الأول الياء في أروني، والثاني الموصول، والثالث شركاء، وعائد الموصول محذوف: أي ألحقتموهم،
ويجوز أن تكون هي البصرية، وتعدى الفعل بالهمزة إلى اثنين: الأول الياء، والثاني الموصول، ويكون شركاء
منتصبا على الحال. ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء وأبطل ذلك فقال (كلا بل هو الله العزيز الحكيم) أي
ارتدعوا عن دعوى المشاركة، بل المنفرد بإلاهية، هو الله العزيز بالقهر والغلبة، الحكيم بالحكمة الباهرة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فزع عن قلوبهم) قال: جلى. وأخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه عنه قال: لما أوحى الجبار إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه
بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي، فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله، فقالوا
الحق، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا. قال ابن عباس: وصوت الوحي كصوت الحديد على الصفا، فلما
سمعوا خروا سجدا، فلما رفعوا رؤوسهم (قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير). وأخرج عبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: ينزل الأمر إلى السماء الدنيا له وقعة كوقعة السلسلة على الصخرة،
فيفزع له جميع أهل السماوات فيقولون: ماذا قال ربكم؟ ثم يرجعون إلى أنفسهم فيقولون: الحق وهو العلي
الكبير. وأخرج البخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله: كأنه سلسلة على صفوان
326

ينفذهم ذلك، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا: للذي قال الحق وهو العلي الكبير " الحديث،
وفي معناه أحاديث. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في
قوله (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) قال: نحن على هدى، وإنكم لفي ضلال مبين. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال (الفتاح) القاضي.
في انتصاب (كافة) وجوه، فقيل إنه منتصب على الحال من الكاف في (أرسلناك) قال الزجاج: أي وما
أرسلناك إلا جامعا للناس بالإنذار والإبلاغ، والكافة بمعنى الجامع، والهاء فيه للمبالغة كعلامة. قال أبو حيان:
أما قول الزجاج إن كافة بمعنى جامعا، والهاء فيه للمبالغة، فإن اللغة لا تساعد عليه لأن كف ليس معناه جمع،
بل معناه منع. يقال كف يكف: أي منع يمنع. والمعنى: إلا مانعا لهم من الكفر، ومنه الكف لأنها تمنع من
خروج ما فيه. وقيل إنه منتصب على المصدرية والهاء للمبالغة كالعاقبة والعافية، والمراد أنها صفة مصدر محذوف:
أي إلا رسالة كافة. وقيل إنه حال من الناس والتقدير: وما أرسلناك إلا للناس كافة، ورد بأنه لا يتقدم الحال
من المجرور عليه كما هو مقرر في علم الإعراب. ويجاب عنه بأنه قد جوز ذلك أبو علي الفارسي وابن كيسان وابن
برهان، ومنه قول الشاعر:
إذا المرء أعيته السيادة ناشئا * فمطلبها كهلا عليه عسير
وقول الآخر: تسليت طرا عنكم بعد بينكم * بذكراكم حتى كأنكم عندي
وقول الآخر: غافلا تعرض المنية للمرء * فيدعى ولات حين إباء
وممن رجح كونها حالا من المجرور بعدها ابن عطية، وقال: قدمت للاهتمام والتقوى. وقيل المعنى إلا
327

ذا كافة: أي ذا منع، فحذف المضاف. قيل واللام في (للناس) بمعنى إلى: أي وما أرسلناك إلى الناس إلا
جامعا لهم بالإنذار والإبلاغ، أو مانعا لهم من الكفر والمعاصي، وانتصاب (بشيرا ونذيرا) على الحال: أي مبشرا
لهم بالجنة، ومنذرا لهم من النار (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل
(ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) أي متى يكون هذا الوعد الذي تعدونا به وهو قيام الساعة أخبرونا
به إن كنتم صادقين، قالوا هذا على طريقة الاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المؤمنين
فأمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عنهم فقال (قل لكم ميعاد يوم) أي ميقات يوم وهو يوم
البعث. وقيل وقت حضور الموت، وقيل أراد يوم بدر لأنه كان يوم عذابهم في الدنيا، وعلى كل تقدير فهذه
الإضافة للبيان، ويجوز في ميعاد أن يكون مصدرا مرادا به الوعد، وأن يكون اسم زمان. قال أبو عبيدة: الوعد
والوعيد والميعاد بمعنى. وقرأ ابن أبي عبلة بتنوين " ميعاد " ورفعه، ونصب " يوم " على أن يكون ميعاد مبتدأ،
ويوما ظرف، والخبر لكم. وقرأ عيسى بن عمر برفع " ميعاد " منونا، ونصب " يوم " مضافا إلى الجملة بعده.
وأجاز النحويون " ميعاد يوم " برفعهما منونين على أن ميعاد مبتدأ ويوم بدل منه، وجملة (لا تستأخرون عنه ساعة
ولا تستقدمون) صفة لميعاد: أي هذا الميعاد المضروب لكم لا تتأخرون عنه ولا تتقدمون عليه، بل يكون لا محالة
في الوقت الذي قد قدر الله وقوعه فيه. ثم ذكر سبحانه طرفا من قبائح الكفار ونوعا من أنواع كفرهم فقال
(وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) وهي الكتب القديمة، كالتوراة والإنجيل والرسل
المتقدمون. وقيل المراد بالذي بين يديه الدار الآخرة. ثم أخبر سبحانه عن حالهم في الآخرة فقال (ولو ترى
إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) الخطاب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح له، ومعنى موقوفون
عند ربهم: محبوسون في موقف الحساب (يرجع بعضهم إلى بعض القول) أي يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم
والعتاب بعد أن كانوا في الدنيا متعارضين متناصرين متحابين. ثم بين سبحانه تلك المراجعة فقال (يقول الذين
استضعفوا) وهم الأتباع (للذين استكبروا) وهم الرؤساء المتبوعون (لولا أنتم) صددتمونا عن الإيمان بالله
والاتباع لرسوله (لكنا مؤمنين) بالله مصدقين لرسوله وكتابه (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا) مجيبين
عليهم مستنكرين لما قالوه (أنحن صددناكم عن الهدى) أي منعناكم عن الإيمان (بعد إذ جاءكم) الهدى، قالوا
هذا منكرين لما ادعوه عليهم من الصد لهم، وجاحدين لما نسبوه إليهم من ذلك، ثم بينوا لهم أنهم الصادون
لأنفسهم، الممتنعون من الهدي بعد إذ جاءهم فقالوا (بل كنتم مجرمين) أي مصرين على الكفر، كثيري الإجرام،
عظيمي الآثام (وقالوا الذين استضعفوا للذين استكبروا) ردا لما أجابوا به عليهم، ودفعا لما نسبوه إليهم من
صدهم لأنفسهم (بل مكر الليل والنهار) أصل المكر في كلام العرب: الخديعة والحيلة، يقال: مكر به إذا
خدعه واحتال عليه. والمعنى: بل مكركم بنا الليل والنهار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه اتساعا.
وقال الأخفش: هو على تقدير هذا مكر الليل والنهار. قال النحاس: المعنى والله أعلم، بل مكركم في الليل
والنهار، ودعاؤكم لنا إلى الكفر هو الذي حملنا على هذا. وقال سفيان الثوري: بل عملكم في الليل والنهار،
ويجوز أن يجعل الليل والنهار ماكرين على الإسناد المجازي كما تقرر في علم المعاني. قال المبرد كما تقول العرب:
نهاره صائم، وليله قائم، وأنشد قول جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم
328

وأنشد سيبويه: * قيام ليلى وتجلى همي * وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر برفع " مكر " منونا، ونصب الليل
والنهار، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار. وقرأ سعيد بن جبير وأبو رزين بفتح الكاف وتشديد الراء
مضافا بمعنى الكرور، من كر يكر إذا جاء وذهب، وارتفاع مكر على هذه القراءات على أنه مبتدأ وخبره
محذوف: أي مكر الليل والنهار صدنا، أو على أنه فاعل لفعل محذوف: أي صدنا مكر الليل والنهار، أو على أنه
خبر مبتدأ محذوف كما تقدم عن الأخفش. وقرأ طلحة بن راشد كما قرأ سعيد بن جبير، ولكنه نصب مكر على
المصدرية: أي بل تكررن الإغواء مكرا دائما لا تفترون عنه، وانتصاب (إذ تأمروننا) على أنه ظرف للمكر:
أي بل مكركم بنا وقت أمركم لنا (أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) أي أشباها وأمثالا. قال المبرد يقال ند فلان
فلان: أي مثله وأنشد:
أتيما تجعلون إلي ندا * وما تيم بذي حسب نديد
والضمير في قوله (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) راجع إلى الفريقين: أي أضمر الفريقان الندامة على
ما فعلوا من الكفر وأخفوها عن غيرهم، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة. وقيل المراد بأسروا هنا أظهروا
لأنه من الأضداد يكون، تارة بمعنى الإخفاء، وتارة بمعنى الإظهار، ومنه قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا وأهوال معشر * علي حراص لو يسرون مقتلي
وقيل معنى أسروا الندامة: تبينت الندامة في أسرة وجوههم (وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا)
الأغلال جمع غل، يقال في رقبته غل من حديد: أي جعلت الأغلال من الحديد في أعناق هؤلاء في النار،
والمراد بالذين كفروا: هم المذكورون سابقا، والإظهار لمزيد الذم أو للكفار على العموم فيدخل هؤلاء فيهم
دخولا أوليا (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) أي إلا جزاء ما كانوا يعملونه من الشرك بالله، أو إلا بما كانوا
يعملون على حذف الخافض.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد في قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس) قال: إلى الناس جميعا.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال: أرسل الله محمدا إلى العرب والعجم فأكرمهم على
الله أطوعهم له. وأخرج هؤلاء عنه في قوله (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن) قال: هذا قول مشركي
العرب كفروا بالقرآن وبالذي بين يديه من الكتب والأنبياء.
329

لما قص سبحانه حال من تقدم من الكفار أتبعه بما فيه التسلية لرسوله وبيان أن كفر الأمم السابقة بمن أرسل
إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول فقال (وما أرسلنا في قرية) من القرى (من نذير) ينذرهم
ويحذرهم عقاب الله (إلا قال مترفوها) أي رؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر لرسلهم (إنا بما أرسلتم به
كافرون) أي بما أرسلتم به من التوحيد والإيمان، وجملة (إلا قال مترفوها) في محل نصب على الحال. ثم ذكر
ما افتخروا به من الأموال والأولاد وقاسوا حالهم في الدار الآخرة على حالهم في هذه الدار على تقدير صحة ما أنذرهم
به الرسل فقال (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) والمعنى: أن الله فضلنا عليكم بالأموال والأولاد
في الدنيا، وذلك يدل على أنه قد رضى ما نحن عليه من الدين وما نحن بمعذبين في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا
ورضاه عنا، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن يجيب عنهم وقال (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء)
أن يبسطه له (ويقدر) أي يضيق على من يشاء أن يضيقه عليه، فهو سبحانه قد يرزق الكافر والعاصي استدراجا
له، وقد يمتحن المؤمن المطيع بالتقتير توفيرا لأجره، وليس مجرد بسط الرزق لمن بسطه له يدل على أنه قد رضي عنه
ورضي عمله، ولا قبضه عمن قبضه عنه يدل على أنه لم يرضه ولا رضى عمله، فقياس الدار الآخرة على الدار الأولى
في مثل هذا من الغلط البين أو المغالطة الواضحة (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) هذا، ومن جملة هؤلاء الأكثر
من قاس أمر الآخرة على الأولى، ثم زاد هذا الجواب تأييدا وتأكيدا (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم
عندنا زلفى) أي ليسوا بالخصلة التي تقربكم عندنا قربى. قال مجاهد: الزلفى القربى والزلفة القربة. قال الأخفش:
زلفى اسم مصدر كأنه قال بالتي تقربكم عندنا تقريبا فتكون زلفى منصوبة المحل. قال الفراء: إن التي تكون
للأموال والأولاد جميعا. وقال الزجاج: إن المعنى وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ولا أولادكم بالشيء
يقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه وأنشد:
نحن بما عندنا وأنت بما عن * دك راض والرأي مختلف
ويجوز في غير القرآن باللتين وباللاتي وباللواتي وبالذي للأولاد خاصة: أي لا تزيدكم الأموال عندنا درجة
ورفعة ولا تقربكم تقريبا (إلا من آمن وعمل صالحا) هو استثناء منقطع فيكون محله النصب: أي لكن من آمن
وعمل صالحا، أو في محل جر بدلا من الضمير في تقربكم، كذا قال الزجاج. قال النحاس: وهذا القول غلط،
لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيدا. ويجاب عنه بأن الأخفش والكوفيين
يجوزون ذلك، وقد قال بمثل قول الزجاج الفراء وأجاز الفراء أن يكون في موضع رفع بمعنى ما هو إلا من آمن،
والإشارة بقوله (فأولئك) إلى من، والجمع باعتبار معناها وهو مبتدأ وخبره (لهم جزاء الضعف) أي جزاء
الزيادة، وهي المرادة بقوله - من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها - وهو من إضافة المصدر إلى المفعول: أي جزاء
330

التضعيف للحسنات، وقيل لهم جزاء الإضعاف لأن الضعف في معنى الجمع، والباء في (بما عملوا) للسببية (وهم
في الغرفات آمنون) من جميع ما يكرهون، والمراد غرفات الجنة، قرأ الجمهور " جزاء الضعف " بالإضافة، وقرأ
الزهري ويعقوب ونصر بن عاصم وقتادة برفعهما على أن الضعف بدل من جزاء. وروي عن يعقوب أنه قرأ
" جزاء " بالنصب منونا، و " الضعف " بالرفع على تقدير: فأولئك لهم الضعف جزاء: أي حال كونه جزاء. وقرأ
الجمهور " في الغرفات " بالجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد لقوله - لنبوئنهم من الجنة غرفا - وقرأ الأعمش ويحيى
ابن وثاب وحمزة وخلف " في الغرفة " بالإفراد لقوله - أولئك يجزون الغرفة - ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين ذكر
حال الكافرين فقال (والذين يسعون في آياتنا) بالرد لها والطعن فيها حال كونهم (معاجزين) مسابقين لنا زاعمين
أنهم يفوتوننا بأنفسهم، أو معاندين لنا بكفرهم (أولئك في العذاب محضرون) أي في عذاب جهنم تحضرهم
الزبانية إليها لا يجدون عنها محيصا. ثم كرر سبحانه ما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة فقال (قل
إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي يوسعه لمن يشاء ويضيفه على من يشاء، وليس في ذلك
دلالة على سعادة ولا شقاوة (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) أي يخلفه عليكم، يقال أخلف له وأخلف عليه:
إذا أعطاه عوضه وبدله، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة (وهو خير الرازقين) فإن رزق العباد لبعضهم
البعض إنما هو بتيسير الله وتقديره، وليسوا برازقين على الحقيقة بل على طريق المجاز، كما يقال في الرجل إنه يرزق
عياله، وفي الأمير إنه يرزق جنده، والرازق للأمير والمأمور والكبير والصغير هو الخالق لهم، ومن أخرج من
العباد إلى غيره شيئا مما رزقه الله فهو إنما تصرف في رزق الله له فاستحق بما خرج منه الثواب عليه المضاعف لامتثاله
لأمر الله وإنفاقه فيما أمره الله (ويوم نحشرهم جميعا) الظرف منصوب بفعل مقدر نحو أذكر، أو هو متصل بقوله
- ولو ترى إذ الظالمون موقوفون - أي ولو تراهم أيضا يوم نحشرهم جميعا للحساب العابد والمعبود والمستكبر
والمستضعف، (ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) تقريعا للمشركين وتوبيخا لمن عبد غير الله عز
وجل كما في قوله لعيسى - أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله - وإنما خصص الملائكة بالذكر مع
أن بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام لأنهم أشرف معبودات المشركين. قال النحاس: والمعنى
أن الملائكة إذا أكذبتهم كان في ذلك تبكيت للمشركين، وجملة (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم) مستأنفة
جواب سؤال مقدر: أي تنزيها لك أنت الذي نتولاه ونطيعه ونعبده من دونهم، ما اتخذناهم عابدين ولا توليناهم
وليس لنا غيرك وليا، ثم صرحوا بما كان المشركون يعبدونه فقالوا (بل كانوا يعبدون الجن) أي الشياطين وهم
إبليس وجنوده ويزعمون أنهم يرونهم وأنهم ملائكة وأنهم بنات الله. وقيل كانوا يدخلون أجواف الأصنام
ويخاطبونهم منها (أكثرهم بهم مؤمنون) أي أكثر المشركين بالجن مؤمنون بهم مصدقون لهم، قيل والأكثر في
معنى الكل (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا) يعني العابدين والمعبودين لا يملك بعضهم وهم المعبودون
لبعض، وهم العابدون (نفعا) أي شفاعة ونجاة (ولا ضرا) أي عذابا وهلاكا، وإنما قيل لهم هذا القول إظهارا
لعجزهم وقصورهم وتبكيتا لعابديهم، وقوله (ولا ضرا) هو على حذف مضاف: أي لا يملكون لهم دفع ضر،
وقوله (ونقول للذين ظلموا) عطف على قوله (نقول للملائكة) أي للذين ظلموا أنفسهم بعبادة غير الله (ذوقوا
عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) في الدنيا.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رزين قال: كان رجلان شريكين، خرج أحدهما إلى الساحل
وبقي الآخر، فلما بعث الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل؟ فكتب إليه أنه لم يتبعه
331

أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال: دلني عليه، وكان يقرأ الكتب،
فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إلى ما تدعو؟ قال: إلى كذا وكذا، قال: أشهد أنك رسول الله،
قال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآيات (وما
أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها) الآيات، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن الله قد أنزل
تصديق ما قلت. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله (جزاء الضعف) قال: تضعيف الحسنة.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب قال: إذا كان الرجل
غنيا تقيا آتاه الله أجره مرتين، وتلا هذه الآية (وما أموالكم ولا أولادكم) إلى قوله (فأولئك لهم جزاء الضعف)
قال: تضعيف الحسنة. وأخرج سعيد بن منصور والبخاري في الأدب المفرد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي
في الشعب عن ابن عباس في قوله (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) قال: في غير إسراف ولا تقتير، وعن مجاهد
مثله، وعن الحسن مثله. وأخرج الدارقطني والبيهقي في الشعب عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
" كلما أنفق العبد من نفقة فعلى الله خلفها ضامنا إلا نفقة في بيان أو معصية ". وأخرج نحوه ابن عدي في الكامل
والبيهقي من وجه آخر عنه مرفوعا بأطول منه. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " قال الله عز وجل أنفق يا ابن آدم أنفق عليك " وثبت في الصحيح من حديثه أيضا قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم
أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا ". وأخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب سمعت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " إن لكل يوم نحسا، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصدقة " ثم قال:
اقرءوا مواضع الخلف، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه "
إذا لم تنفقوا كيف يخلف. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال " إن المعونة تنزل من السماء على قدر المئونة ".
332

ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من أنواع كفرهم، فقال (وإذا تتلى عليهم آياتنا) أي الآيات القرآنية حال كونها
(بينات) واضحات الدلالات ظاهرات المعاني (قالوا ما هذا) يعنون التالي لها، وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم
(إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) أي أسلافكم من الأصنام التي كانوا يعبدونها (وقالوا) ثانيا
(ما هذا) يعنون القرآن الكريم (إلا إفك مفترى) أي كذب مختلق (وقال الذين كفروا) ثالثا (للحق لما جاءهم)
أي لأمر الدين الذي جاءهم به رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم (إن هذا إلا سحر مبين) وهذا الإنكار منهم
خاص بالتوحيد، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقا عليه بين أهل الكتاب والمشركين، وقيل أريد بالأول،
وهو قولهم (إلا إفك مفترى) معناه، وبالثاني، وهو قولهم (إن هذا إلا سحر مبين) نظمه المعجز. وقيل إن طائفة
منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر، وقيل إنهم جميعا قالوا تارة إنك إفك، وتارة إنه سحر، والأول
أولى (وما آتيناهم من كتب يدرسونها) أي ما أنزلنا على العرب كتبا سماوية يدرسون فيها (وما أرسلنا إليهم قبلك
من نذير) يدعوهم إلى الحق وينذرهم بالعذاب، فليس لتكذيبهم بالقرآن وبالرسول وجه، ولا شبهة يتشبثون بها.
قال قتادة: ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال
الفراء: أي من أين كذبوك، ولم يأتهم كتاب ولا نذير بهذا الذي فعلوه. ثم خوفهم سبحانه وأخبر عن عاقبتهم
وعاقبة من كان قبلهم فقال (وكذب الذين من قبلهم) من القرون الخالية (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) أي ما بلغ
أهل مكة من مشركي قريش وغيرهم من العرب عشر ما آتينا من قبلهم من القوة وكثرة المال وطول العمر
فأهلكهم الله، كعاد وثمود وأمثالهم. والمعشار: هو العشر. قال الجوهري: معشار الشئ عشره. وقيل المعشار:
عشر العشر، والأول أولى. وقيل إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى. وقيل
ما بلغ من قبلهم معشار شكر ما أعطيناهم، وقيل ما أعطى الله من قبلهم معشار ما أعطاهم من العلم والبيان والحجة
والبرهان، والأول أولى. وقيل: المعشار عشر العشير، والعشير عشر العشر، فيكون جزءا من ألف جزء. قال
الماوردي: وهو الأظهر لأن المراد به المبالغة في التقليل قلت مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن
المعنى العربي، وقوله (فكذبوا رسلي) عطف على (كذب الذين من قبلهم) على طريقة التفسير كقوله - كذبت
قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا - الآية، والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام، لأن التكذيب الأول لما حذف
منه المتعلق للتكذيب أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة والرسل المرسلة والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل
أخص منه، وإن كان مستلزما له فقد روعيت الدلالة اللفظية لا الدلالة الإلتزامية (فكيف كان نكير) أي فكيف
كان إنكاري لهم بالعذاب والعقوبة، فليحذر هؤلاء من مثل ذلك، قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: فأهلكناهم
فكيف كان نكير، والنكير اسم بمعنى الإنكار. ثم أمر سبحانه رسوله أن يقيم عليهم حجة ينقطعون عندها فقال
(قل إنما أعظكم بواحدة) أي أحذركم وأنذركم سوء عاقبة ما أنتم فيه، وأوصيكم بخصلة واحدة، وهي (أن
تقوموا لله مثنى وفرادى) هذا تفسير للخصلة الواحدة، أو بدل منها: أي هي قيامكم وتشميركم في طلب الحق
بالفكرة الصادقة متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، لأن الاجتماع يشوش الفكر، وليس المراد القيام على
الرجلين، بل المراد القيام بطلب الحق وإصداق الفكر فيه، كما يقال قام فلان بأمر كذا (ثم تتفكروا) في أمر
333

النبي وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بصاحبكم من جنة) وذلك لأنهم كانوا يقولون:
إن محمدا مجنون، فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة، وهى أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين،
فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة: أي جنون أو جربنا عليه كذبا، ثم ينفرد
كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم صادق وأنه
رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون، وهو معنى قوله (إن هو إلا نذير لكم بين يدي
عذاب شديد) أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة، وقيل إن جملة (ما بصاحبكم من جنة) مستأنفة من جهة الله
سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون
لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا، فوجب أن يصدقوه في
دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذبا
مدة عمره وعمرهم. وقيل يجوز أن تكون " ما " في " ما بصاحبكم " استفهامية: أي ثم تتفكروا أي شئ به من آثار
الجنون، وقيل المراد بقوله (إنما أعظكم بواحدة) هي " لا إله إلا الله " كذا قال مجاهد والسدي. وقيل القرآن لأنه
يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أولا. وقال الزجاج: إن " أن " في قوله (أن تقوموا) في موضع نصب
بمعنى لأن تقوموا. وقال السدي: معنى مثنى وفرادى: منفردا برأيه ومشاورا لغيره. وقال القتيبي: مناظرا مع
عشيرته ومفكرا في نفسه. وقيل المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول وأقل
جدواه. واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله (ثم تتفكروا) وعلى هذا تكون جملة (ما بصاحبكم من
جنة) مستأنفة كما قدمنا، وقيل ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذبا، أو رأيتم منه جنة،
أو في أحواله من فساد. ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم
الشكوك ويرتفع الريب فقال (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل
الرسالة فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا فقد وهبته لك،
يريد أنه لا ملك له فيه أصلا، ومثل هذه الآية قوله - قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - وقوله - ما أسألكم
عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا -. ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال (إن أجري إلا على
الله) أي ما أجري إلا على الله لا على غيره (وهو على كل شئ شهيد) أي مطلع لا يغيب عنه منه شئ (قل إن
ربي يقذف بالحق) القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام. قال الكلبي: يرمى على معنى يأتي به، وقال مقاتل:
يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي: أي يلقيه إلى أنبيائه. وقال قتادة (بالحق) أي بالوحي، والمعنى: أنه يبين
الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل يرمي الباطل بالحق فيدمغه (علام الغيوب) قرأ الجمهور برفع
" علام " على أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم
إن. قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي
وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتا لاسم إن، أو بدلا منه، أو على المدح. قال الفراء: والرفع في مثل
هذا أكثر كقوله - إن ذلك لحق تخاصم أهل النار -، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو جمع
غيب، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفى جدا (قل جاء الحق) أي الإسلام والتوحيد. وقال قتادة: القرآن.
وقال النحاس: التقدير صاحب الحق: أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج.
334

وأقول: لا وجه لتقدير المضاف، فإن القرآن قد جاء كما جاء صاحبه (وما يبدئ الباطل وما يعيد) أي
ذهب الباطل ذهابا لم يبق منه إقبال ولا إدبار ولا إبداء ولا إعادة. قال قتادة: الباطل هو الشيطان: أي ما يخلق
لشيطان ابتداء ولا يبعث، وبه قال مقاتل والكلبي. وقيل يجوز أن تكون ما استفهامية: أي أي شئ يبديه وأي
شئ يعيده؟ والأول أولى (قل إن ضللت) عن الطريق الحقة الواضحة (فإنما أضل على نفسي) أي إثم ضلالتي
يكون على نفسي، وذلك أن الكفار قالوا له تركت دين آبائك فضللت، فأمره الله أن يقول لهم هذا القول (وإن
اهتديت فيما يوحى إلى ربي) من الحكمة والموعظة والبيان بالقرآن (إنه سميع قريب) مني ومنكم يعلم الهدي
والضلالة، قرأ الجمهور " ضللت " بفتح اللام، وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب بكسر اللام، وهي لغة أهل العالية.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس (وما بلغوا معشار ما آتيناهم) يقول: من
القوة في الدنيا. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب
القرظي في الآية قال: يقوم الرجل مع الرجل أو وحده فيفكر ما بصاحبه من جنة. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن أبي حاتم عن قتادة (ما بصاحبكم من جنة) يقول: إنه ليس بمجنون. وأخرج هؤلاء عنه أيضا في قوله
(ما سألتكم من أجر) أي من جعل فهو لكم، يقول: لم أسألكم على الإسلام جعلا، وفي قوله (قل إن ربي
يقذف بالحق) قال: بالوحي، وفي قوله (وما يبدئ الباطل وما يعيد) قال: الشيطان لا يبدئ ولا يعيد إذا هلك.
وأخرج هؤلاء أيضا عنه في قوله (وما يبدئ الباطل وما يعيد) قال: ما يخلق إبليس شيئا ولا يبعثه. وأخرج عبد
ابن حميد وابن المنذر عن عمر بن سعد في قوله (إن ضللت فإنما أضل على نفسي) قال: إنما أوخذ بجنايتي.
ثم ذكر سبحانه حالا من أحوال الكفار فقال (ولو ترى إذ فزعوا) والخطاب لرسول الله، أو لكل من
يصلح له، قيل المراد فزعهم عند نزول الموت بهم. وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال
قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم. وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف
الملائكة فلم يستطيعوا فرارا ولا رجوعا إلى التوبة. وقال ابن مغفل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة.
وقال سعيد بن جبير: هو الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم فيخبر الناس بما لقي أصحابه
فيفزعون. وجواب لو محذوف: أي لرأيت أمرا هائلا، ومعنى (فلا فوت) فلا يفوتني أحد منهم ولا ينجو منهم
ناج. قال مجاهد: فلا مهرب (وأخذوا من مكان قريب) من ظهر الأرض أو من القبور أو من موقف الحساب
وقيل من حيث كانوا، فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه. قيل ويجوز أن يكون هذا الفزع هو الفزع
الذي بمعنى الإجابة، يقال فزع الرجل: إذا أجاب الصارخ الذي يستغيث به كفزعهم إلى الحرب يوم بدر (وقالوا
آمنا به) أي بمحمد، قاله قتادة، أو بالقرآن. وقال مجاهد: بالله عز وجل. وقال الحسن: بالبعث (وأنى لهم
335

التناوش) التناوش التناول، وهو تفاعل من التناوش الذي هو التناول، والمعنى: كيف لهم أن يتناولوا الإيمان
من بعد، يعني في الآخرة وقد تركوه في الدنيا، وهو معنى (من مكان بعيد) وهو تمثيل لحالهم في طلب الخلاص
بعد ما فات عنهم. قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه أو بلحيته ناشه ينوشه نوشا، وأنشد:
فهي تنوش الحوض نوشا من علا * نوشا به تقطع أحواز الفلا
أي تناول ماء الحوض من فوق، ومنه المناوشة في القتال، وقيل التناوش الرجعة: أي وأنى لهم الرجعة إلى
الدنيا ليؤمنوا، ومنه قول الشاعر:
تمنى أن تئوب إلى مي * وليس إلى تناوشها سبيل
وجملة (وقد كفروا به من قبل) في محل نصب على الحال: أي والحال أن قد كفروا بما آمنوا به الآن من
قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي والأعمش " التناؤش " بالهمز، وقرأ
الباقون بالواو، واستبعد أبو عبيد والنحاس القراءة الأولى، ولا وجه للاستبعاد، فقد ثبت ذلك في لغة العرب
وأشعارها، ومنه قول الشاعر:
قعدت زمانا عن طلابك للعلا * وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخير
أي وجئت أخيرا. قال الفراء: الهمز وترك الهمز متقارب (ويقذفون بالغيب) أي يرمون بالظن فيقولون:
لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار (من مكان بعيد) أي من جهة بعيدة ليس فيها مستند لظنهم الباطل. وقيل المعنى:
يقولون في القرآن أقوال باطلة: إنه سحر وشعر وأساطير الأولين. وقيل يقولون في محمد إنه ساحر شاعر كاهن
مجنون. وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو " يقذفون " مبنيا للمفعول: أي يرجمون بما يسوؤهم من جراء
أعمالهم من حيث لا يحتسبون، وفيه تمثيل لحالهم بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للوهم في لحوقه،
والجملة إما معطوفة على: وقد كفروا به على أنها حكاية للحال الماضية واستحضار لصورتها، أو مستأنفة لبيان
تمثيل حالهم (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) من النجاة من العذاب ومنعوا من ذلك، وقيل حيل بينهم وبين
ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وبين ما يشتهونه من الرجوع إلى الدنيا (كما فعل بأشياعهم
من قبل) أي بأمثالهم ونظرائهم من كفار الأمم الماضية، والأشياع جمع شيع، وشيع جمع شيعة، وجملة (إنهم
كانوا في شك مريب) تعليل لما قبلها: أي في شك موقع في الريبة أو ذي ريبة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار،
أو في التوحيد وما جاءتهم به الرسل من الدين، يقال أراب الرجل إذا صار ذا ريبة فهو مريب، وقيل هو من
الريب الذي هو الشك، فهو كما يقال عجب عجيب وشعر شاعر.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (فلا فوت) قال: فلا نجاة. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه في قوله (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب) قال: هو جيش السفياني، قيل من أين
أخذوا؟ قال: من تحت أقدامهم. وقد ثبت في الصحيح أنه يخسف بجيش في البيداء من حديث حفصة وعائشة،
وخارج الصحيح من حديث أم سلمة وصفية وأبي هريرة وابن مسعود، وليس في شيء منها أن ذلك سبب نزول
هذه الآية، ولكنه أخرج ابن جرير من حديث حذيفة بن اليمان قصة الخسف هذه مرفوعة، وقال في آخرها:
فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ (ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت) الآية. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (وأنى لهم التناوش) قال: كيف لهم الرد
(من مكان بعيد) قال: يسألون الرد، وليس بحين رد. وأخرج ابن المنذر عن التيمي قال: أتيت ابن عباس
قلت: ما التناوش؟ قال: تناول الشئ وليس بحين ذاك.
336

تفسير سورة فاطر
هي خمس وأربعون آية
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة فاطر بمكة.
الفطر: الشق عن الشئ، يقال فطرته فانفطر، ومنه فطر ناب البعير إذا طلع فهو بعير فاطر، وتفطر
الشئ تشقق، والفطر الابتداء والاختراع، وهو المراد هنا، والمعنى (الحمد لله) مبدع (السماوات والأرض)
ومخترعهما، والمقصود من هذا أن من قدر على ابتداء هذا الخلق العظيم فهو قادر على الإعادة. قرأ الجمهور
" فاطر " على صيغة اسم الفاعل، وقرأ الزهري والضحاك " فطر " على صيغة الفعل الماضي، فعلى القراءة الأولى هو
نعت لله لأن إضافته محضة لكونه بمعنى الماضي، وإن كانت غير محضة كان بدلا، ومثله (جاعل الملائكة رسلا)
يجوز فيه الوجهان، وانتصاب رسلا بفعل مضمر على الوجه الأول، لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي
لا يعمل، وجوز الكسائي عمله. وأما على الوجه الثاني فهو منصوب بجاعل، والرسل من الملائكة هم جبريل
وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقرأ الحسن " جاعل " بالرفع، وقرأ خليل بن نشيط ويحيى بن يعمر " جعل " على
337

صيغة الماضي. وقرأ الحسن وحميد " رسلا " بسكون السين، وهي لغة تميم (أولى أجنحة) صفة لرسلا، والأجنحة
جمع جناح (مثنى وثلاث ورباع) صفة لأجنحة، وقد تقدم الكلام في مثنى وثلاث ورباع في النساء. قال
قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم ثلاثة، وبعضهم أربعة ينزلون بها من السماء إلى الأرض ويعرجون بها من
الأرض إلى السماء. قال يحيى بن سلام: يرسلهم الله إلى الأنبياء. وقال السدي: إلى العباد بنعمه أو نقمه، وجملة
(يزيد في الخلق ما يشاء) مستأنفة مقررة لما قبلها من تفاوت أحوال الملائكة، والمعنى: أنه يزيد في خلق الملائكة
ما يشاء، وهو قول أكثر المفسرين، واختاره الفراء والزجاج. وقيل إن هذه الزيادة في الخلق غير خاصة بالملائكة
فقال الزهري وابن جريج: إنها حسن الصوت. وقال قتادة: الملاحة في العينين والحسن في الأنف والحلاوة في
الفم، وقيل الوجه الحسن، وقيل الخط الحسن، وقيل الشعر الجعد، وقيل العقل والتمييز، وقيل العلوم والصنائع
ولا وجه لقصر ذلك على نوع خاص بل يتناول كل زيادة، وجملة (إن الله على كل شئ قدير) تعليل لما قبلها
من أنه يزيد في الخلق ما يشاء (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) أي ما يأتيهم الله به من مطر ورزق لا يقدر
أحد أن يمسكه (وما يمسك) من ذلك لا يقدر أحد أن يرسله من بعد إمساكه، وقيل المعنى: إن الرسل بعثوا رحمة
للناس فلا يقدر على إرسالهم غير الله، وقيل هو الدعاء، وقيل التوبة، وقيل التوفيق والهداية. ولا وجه لهذا
التخصيص بل المعنى: كل ما يفتحه الله للناس من خزائن رحمته فيشمل كل نعمة ينعم الله بها على خلقه، وهكذا
الإمساك يتناول كل شئ يمنعه الله من نعمه، فهو سبحانه المعطي المانع القابض الباسط لا معطي سواه ولا منعم
غيره. ثم أمر سبحانه عباده أن يتذكروا نعمه الفائضة عليهم التي لا تعد ولا تحصى - وإن تعدوا نعمة الله
لا تحصوها - ومعنى هذا الأمر لهم بالذكر هو إرشادهم إلى الشكر لاستدامتها وطلب المزيد منها (هل من خالق غير
الله) من زائدة وخالق مبتدأ وغير الله صفة له. قال الزجاج: ورفع غير على معنى هل خالق غير الله لأن " من "
زيادة مؤكدة، ومن خفض غير جعلها صفة على اللفظ. قرأ الجمهور برفع " غير " وقرأ حمزة والكسائي بخفضها،
وقرأ الفضل بن إبراهيم بنصبها على الاستثناء، وجملة (يرزقكم من السماء والأرض) خبر المبتدأ، أو جملة مستأنفة
أو صفة أخرى لخالق، وخبره محذوف، والرزق من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغير ذلك، وجملة
(لا إله إلا هو) مستأنفة لتقرير النفي المستفاد من الاستفهام (فأنى تؤفكون) من الإفك بالفتح وهو الصرف،
يقال ما أفكك عن كذا: أي ما صرفك: أي فكيف تصرفون، وقيل هو مأخوذ من الإفك بالكسر، وهو
الكذب لأنه مصروف عن الصدق. قال الزجاج: أي من أين يقع لكم الإفك والتكذيب بتوحيد الله والبعث وأنتم
مقرون بأن الله خلقكم ورزقكم. ثم عزى الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وإن يكذبوك فقد كذبت
رسل من قبلك) ليتأسى بمن قبله من الأنبياء ويتسلى عن تكذيب كفار العرب له (وإلى الله ترجع الأمور) لا إلى
غيره فيجازي كلا بما يستحقه. قرأ الحسن والأعرج ويعقوب وابن عامر وأبو حيوة وابن محيض وحميد والأعمش
ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف " ترجع " بفتح الفوقية على البناء للفاعل، وقرأ الباقون بضمها على البناء
للمفعول (يا أيها الناس إن وعد الله حق) أي وعده بالبعث والنشور والحساب والعقاب والجنة والنار، كما أشير
إليه بقوله " وإلى الله ترجع الأمور " فلا تغرنكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها. قال سعيد بن جبير: غرور الحياة
الدنيا أن يشتغل الإنسان بنعيمها ولذاتها عن عمل الآخرة حتى يقول - يا ليتني قدمت لحياتي - (ولا يغرنكم بالله
الغرور) قرأ الجمهور بفتح الغين: أي المبالغ في الغرور، وهو الشيطان. قال ابن السكيت وأبو حاتم: الغرور
الشيطان ويجوز أن يكون مصدرا، واستبعده الزجاج، لأن غرر به متعدي ومصدر المتعدي إنما هو على فعل نحو
338

ضربته ضربا، إلا في أشياء يسيرة معروفة لا يقاس عليها، ومعنى الآية: لا يغرنكم الشيطان بالله فيقول لكم: إن
الله يتجاوز عنكم ويغفر لكم لفضلكم أو لسعة رحمته لكم. وقرأ أبو حيوة وأبو سماك ومحمد بن السميفع بضم الغين،
وهو الباطل. قال ابن السكيت: والغرور بالضم ما يغر من متاع الدنيا. وقال الزجاج: يجوز أن يكون الغرور
جمع غار، مثل قاعدة وقعود، قيل ويجوز أن يكون مصدر غره كاللزوم والنهوك، وفيه ما تقدم عن الزجاج من
الاستبعاد. ثم حذر سبحانه عباده من الشيطان فقال (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) أي فعادوه بطاعة الله
ولا تطيعوه في معاصي الله. ثم بين لعباده كيفية عداوة الشيطان لهم فقال (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير) أي إنما يدعو أشياعه وأتباعه والمطيعين له إلى معاصي الله سبحانه لأجل أن يكونوا من أهل النار، ومحل
الموصول في قوله (الذين كفروا لهم عذاب شديد) الرفع على الابتداء، ولهم عذاب شديد خبره، أو الرفع على
البدل من فاعل يكونوا، أو النصب على البدل من حزبه، أو النعت له، أو إضمار فعل يدل على الذم، والجر
على البدل من أصحاب، أو النعت له. والرفع على الابتداء أقوى هذه الوجوه، لأنه سبحانه بعد ذكر عداوة
الشيطان ودعائه لحزبه ذكر حال الفريقين من المطيعين له والعاصين عليه فالفريق الأول قال " لهم عذاب شديد "
والفريق الآخر قال فيه (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير) أي يغفر الله لهم بسبب الإيمان
والعمل الصالح، ويعطيهم أجرا كبيرا وهو الجنة (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) هذه الجملة مستأنفة لتقرير
ما سبق من ذكر التفاوت بين الفريقين، و " من " في موضع رفع بالابتداء وخبره محذوف. قال الكسائي:
والتقدير ذهبت نفسك عليهم حسرات. قال: ويدل عليه قوله - فلا تذهب نفسك عليهم حسرات - قال: وهذا
كلام عربي ظريف لا يعرفه إلا القليل. وقال الزجاج: تقديره كمن هداه، وقدره غيرهما كمن لم يزين له،
وهذا أولى لموافقته لفظا ومعنى، وقد وهم صاحب الكشاف، فحكى عن الزجاج ما قاله الكسائي. قال النحاس:
والذي قاله الكسائي أحسن ما قيل في الآية لما ذكره من الدلالة على المحذوف، والمعنى: أن الله عز وجل نهى نبيه
صلى الله عليه وآله وسلم عن شدة الاغتمام بهم والحزن عليهم كما قال - فلعلك باخع نفسك - وجملة (فإن الله يضل
من يشاء ويهدي من يشاء) مقررة لما قبلها: أي يضل من يشاء أن يضله ويهدي من يشاء أن يهديه (فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات) قرأ الجمهور بفتح الفوقية والهاء مسندا إلى النفس، فتكون من باب: لا أرينك ها هنا.
وقرأ أبو جعفر وشيبة وابن محيصن والأشهب بضم التاء وكسر الهاء، ونصب " نفسك " وانتصاب " حسرات "
على أنه علة: أي للحسرات، ويجوز أن ينتصب على الحال كأنها صارت كلها حسرات لفرط التحسر كما روي
عن سيبويه. وقال المبرد: إنها تمييز. والحسرة شدة الحزن على ما فات من الأمر (إن الله عليم بما يصنعون) لا يخفى
عليه من أفعالهم وأقوالهم خافية، والجملة تعليل لما قبلها مع ما تضمنته من الوعيد الشديد.
وقد أخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال: كنت
لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، يقول:
ابتدأتها. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال (فاطر السماوات) بديع السماوات. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله
(يزيد في الخلق ما يشاء) قال: الصوت الحسن. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ما يفتح
الله للناس من رحمة) الآية قال: ما يفتح الله من باب توبة (فلا ممسك لها) هم يتوبون إن شاءوا وإن أبوا،
وما أمسك من باب توبة (فلا مرسل له من بعده) وهم لا يتوبون. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم في الآية قال:
يقول ليس لك من الأمر شئ. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله (لهم مغفرة وأجر كبير) قال: كل
339

شئ في القرآن لهم مغفرة وأجر كبير، ورزق كريم فهو الجنة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم
عن قتادة والحسن في قوله (أفمن زين له سوء عمله) قال: الشيطان زين لهم هي والله الضلالات (فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات) أي لا تحزن عليهم.
ثم أخبر سبحانه عن نوع من أنواع بديع صنعه وعظيم قدرته، ليتفكروا في ذلك وليعتبروا به، فقال (والله
الذي أرسل الرياح) قرأ الجمهور: الرياح، وقرأ ابن كثير وابن محيصن والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي
" الريح " بالإفراد (فتثير سحابا) جاء بالمضارع بعد الماضي استحضارا للصورة، لأن ذلك أدخل في اعتبار
المعتبرين، ومعنى كونها: تثير السحاب أنها تزعجه من حيث هو (فسقناه إلى بلد ميت) قال أبو عبيدة: سبيله
فتسوقه، لأنه قال: فتثير سحابا. قيل النكتة في التعبير بالماضيين بعد المضارع: الدلالة على التحقق. قال المبرد:
ميت وميت واحد، وقال هذا قول البصريين، وأنشد:
ليس من مات فاستراح بميت * إنما الميت ميت الأحياء
(فأحيينا به الأرض) أي أحيينا بالمطر الأرض بإنبات ما ينبت فيها، وإن لم يتقدم ذكر المطر فالسحاب يدل
عليه، أو أحيينا بالسحاب، لأنه سبب المطر (بعد موتها) أي بعد يبسها، استعار الإحياء للنبات والموت لليبس
(كذلك النشور) أي كذلك يحيي الله العباد بعد موتهم كما أحيا الأرض بعد موتها، والنشور: البعث، من نشر
نشورا، والكاف في محل رفع على الخبرية: أي مثل إحياء موات الأرض إحياء الأموات، فكيف
340

تنكرونه وقد شاهدتم غير مرة ما هو مثله وشبيه به (من كان يريد العزة) قال الفراء: معناه من كان علم العزة لمن
هي؟ فإنها لله جميعا. وقال قتادة: من كان يريد العزة فليتعزز بطاعة الله، فجعل معنى فلله العزة: الدعاء إلى
طاعة من له العزة، كما يقال من أراد المال فالمال لفلان: أي فليطلبه من عنده. وقال الزجاج: تقديره من كان
يريد بعبادة الله العزة، والعزة له سبحانه، فإن الله عز وجل يعزه في الدنيا والآخرة. وقيل المراد بقوله (من كان
يريد العزة) المشركون، فإنهم كانوا يتعززون بعبادة الأصنام: كقوله - واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم
عزا - وقيل المراد: الذين كانوا يتعززون بهم من الذين آمنوا بألسنتهم - الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين أيبتغون عندهم العزة - الآية (فلله العزة جميعا) أي فليطلبها منه لا من غيره، والظاهر في معنى الآية: أن
من كان يريد العزة ويطلبها فليطلبها من الله عز وجل: فلله العزة جميعا، ليس لغيره منها شئ، فتشمل الآية كل
من طلب العزة، ويكون المقصود بها التنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أي جهة تطلب؟
(إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) أي إلى الله يصعد لا إلى غيره، ومعنى صعوده إليه قبوله له، أو
صعود الكتبة من الملائكة بما يكتبونه من الصحف، وخص الكلم الطيب بالذكر لبيان الثواب عليه، وهو يتناول
كل كلام يتصف بكونه طيبا من ذكر لله، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتلاوة وغير ذلك، فلا وجه
لتخصيصه بكلمة التوحيد، أو بالتحميد والتمجيد. وقيل المراد بصعوده صعوده إلى سماء الدنيا. وقيل المراد بصعوده
علم الله به، ومعنى (والعمل الصالح يرفعه) أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، كما قال الحسن وشهر بن حوشب
وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبو العالية والضحاك، ووجهه أنه لا يقبل الكلم الطيب إلا مع العمل الصالح.
وقيل إن فاعل يرفعه هو الكلم الطيب، ومفعوله العمل الصالح، ووجهه أن العمل الصالح لا يقبل إلا مع التوحيد
والإيمان. وقيل إن فاعل يرفعه ضمير يعود إلى الله عز وجل. والمعنى: أن الله يرفع العمل الصالح على الكلم
الطيب، لأن العمل يحقق الكلام. وقيل والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة. وقال قتادة:
المعنى أن الله يرفع العمل الصالح لصاحبه: أي يقبله، فيكون قوله (والعمل الصالح) على هذا مبتدأ خبره يرفعه،
وكذا على قول من قال يرفع صاحبه. قرأ الجمهور " يصعد " من صعد الثلاثي. " والكلم الطيب " بالرفع على
الفاعلية. وقرأ علي وابن مسعود " يصعد " بضم حرف المضارعة من أصعد، " والكلم الطيب " بالنصب على المفعولية
وقرأ الضحاك على البناء للمفعول وقرأ الجمهور " الكلم " وقرأ أبو عبد الرحمن " الكلام " وقرأ الجمهور " والعمل
الصالح " بالرفع على العطف أو على الابتداء. وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بن عمر بالنصب على الاشتغال (والذين
يمكرون السيئات لهم عذاب شديد) انتصاب السيئات على أنها صفة لمصدر محذوف: أي يمكرون المكرات السيئات
وذلك لأن " مكر " لازم، ويجوز أن يضمن يمكرون معنى يكسبون، فتكون السيئات مفعولا به. قال مجاهد وقتادة:
هم أهل الرياء. وقال أبو العالية: هم الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة.
وقال الكلبي: هم الذين يعملون السيئات في الدنيا. وقال مقاتل: هم المشركون، ومعنى (لهم عذاب شديد) لهم
عذاب بالغ الغاية في الشدة (ومكر أولئك هو يبور) أي يبطل ويهلك، ومنه - وكنتم قوما بورا - والمكر في
الأصل: الخديعة والاحتيال، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الذين مكروا السيئات على اختلاف الأقوال في
تفسير مكرهم، وجملة (هو يبور) خبر مكر أولئك. ثم ذكر سبحانه دليلا آخر على البعث والنشور فقال (والله
خلقكم من تراب) أي خلقكم ابتداء في ضمن خلق أبيكم آدم من تراب. وقال قتادة: يعني آدم، والتقدير على
هذا: خلق أباكم الأول، وأصلكم الذي ترجعون إليه من تراب (ثم من نطفة) أخرجها من ظهر آبائكم (ثم
341

جعلكم أزواجا) أي زوج بعضكم ببعض، فالذكر زوج الأنثى، أو جعلكم أصنافا ذكرانا وإناثا (وما تحمل من
أنثى ولا تضع إلا بعلمه) أي لا يكون حمل ولا وضع إلا والله عالم به، فلا يخرج شئ عن عمله وتدبيره (وما
يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) أي ما يطول عمر أحد، ولا ينقص من عمره إلا في كتاب: أي
في اللوح المحفوظ قال الفراء: يريد آخر غير الأول، فكنى عنه بالضمير كأنه الأول لأن لفظ الثاني لو ظهر
كان كالأول كأنه قال: ولا ينقص من عمر معمر، فالكناية في عمره ترجع إلى آخر غير الأول، ومثله قولك
عندي درهم ونصفه: أي نصف آخر. قيل إنما سمي معمرا باعتبار مصيره إليه. والمعنى: وما يمد في عمر أحد ولا
ينقص من عمر أحد، لكن لا على معنى لا ينقص من عمره بعد كونه زائدا، بل على معنى أنه لا يجعل من الابتداء
ناقصا إلا وهو في كتاب. قال سعيد بن جبير: وما يعمر من معمر إلا كتب عمره: كم هو سنة، كم هو شهرا،
كم هو يوما، كم هو ساعة، ثم يكتب في كتاب آخر نقص من عمره ساعة، نقص من عمره يوم، نقص من
عمره شهر، نقص من عمره سنة حتى يستوفى أجله، فما مضى من أجله فهو النقصان، وما يستقبل، فهو الذي
يعمره. وقال قتادة: المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة. وقيل المعنى: إن
الله كتب عمر الإنسان كذا إن أطاع، ودونه إن عصى فأيهما بلغ فهو في كتاب، والضمير على هذا يرجع إلى
معمر. وقيل المعنى: وما يعمر من معمر إلى الهرم، ولا ينقص آخر من عمر الهرم إلا في كتاب: أي بقضاء الله
قاله الضحاك، واختاره النحاس. قال: وهو أشبهها بظاهر التنزيل، والأولى أن يقال ظاهر النظم القرآني أن
تطويل العمر وتقصيره: هما بقضاء الله وقدره لأسباب تقتضي التطويل، وأسباب تقتضي التقصير.
فمن أسباب التطويل: ما ورد في صلة الرحم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونحو ذلك. ومن أسباب
التقصير الاستكثار من معاصي الله عز وجل، فإذا كان العمر المضروب للرجل مثلا سبعين سنة، فقد يزيد الله
له عليها إذا فعل أسباب الزيادة، وقد ينقصه منها إذا فعل أسباب النقصان، والكل في كتاب مبين فلا تخالف بين
هذه الآية، وبين قوله سبحانه - فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - ويؤيد هذا قوله سبحانه
- يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب - وقد قدمنا في تفسيرها ما يزيد ما ذكرنا هنا وضوحا وبيانا. قرأ
الجمهور " ينقص " مبنيا للمفعول. وقرأ يعقوب وسلام وروي عن أبي عمرو " ينقص " مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور
" من عمره " بضم الميم. وقرأ الحسن والأعرج والزهري بسكونها، والإشارة بقوله (إن ذلك) إلى ما سبق من الخلق
وما بعده (على الله يسير) لا يصعب عليه منه شئ، ولا يعزب عنه كثير ولا قليل، ولا كبير ولا صغير. ثم
ذكر سبحانه نوعا آخر من بديع صنعه، وعجيب قدرته فقال (وما يستوي البحران هذا عذاب فرات سائغ شرابه
وهذا ملح أجاج) فالمراد بالبحران هو العذب والمالح، فالعذب الفرات الحلو، والأجاج المر، والمراد (بسائغ شرابه)
الذي يسهل انحداره في الحلق لعذوبته. وقرأ عيسى بن عمر " سيغ " بتشديد الياء، وروي تسكينها عنه. وقرأ طلحة
وأبو نهيك " ملح " بفتح الميم (ومن كل) منهما (تأكلون لحما طريا) وهو ما يصاد منهما من حيواناتهما التي
تؤكل (وتستخرجون حلية تلبسونها) الظاهر أن المعنى: وتستخرجون فيها حلية تلبسونها. وقال المبرد: إنما
تستخرج الحلية من المالح، وروي عن الزجاج أنه قال: إنما تستخرج الحلية منهما إذا اختلطا، لا من كل
واحد منهما على انفراده، ورجح النحاس قول المبرد. ومعنى (تلبسونها) تلبسون كل شئ منها بحسبه، كالخاتم
في الأصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرجل، ومما يلبس حلية السلاح الذي يحمل
كالسيف والدرع ونحوهما (وترى الفلك فيه) أي في كل واحد من البحرين. وقال النحاس: الضمير يعود إلى
342

الماء المالح خاصة، ولولا ذلك لقال: فيهما (مواخر) يقال مخرت السفينة تمخر: إذا شقت الماء. فالمعنى: وترى
السفن في البحرين شواق للماء بعضها مقبلة، وبعضها مدبرة بريح واحدة، وقد تقدم الكلام على هذا في سورة
النحل، واللام في (لتبتغوا من فضله) متعلقة بما يدل عليه الكلام السابق: أي فعل ذلك لتبتغوا أو بمواخر. قال
مجاهد: ابتغاء الفضل هو التجارة في البحر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة كما تقدم في البقرة (ولعلكم تشكرون)
الله على ما أنعم عليكم به من ذلك. قال أكثر المفسرين: إن المراد من الآية ضرب المثل في حق المؤمن والكافر،
والكفر والإيمان، فكما لا يستوي البحران كذلك لا يستوي المؤمن والكافر، ولا الكفر والإيمان (يولج الليل في
النهار ويولج النهار في الليل) أي يضيف بعض أجزائهما إلى بعض، فيزيد في أحدهما بالنقص في الآخر، وقد
تقدم تفسيره في آل عمران، وفي مواضع من الكتاب العزيز (وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى)
قدره الله لجريانهما، وهو يوم القيامة. وقيل هو المدة التي يقطعان في مثلها الفلك، وهو سنة للشمس، وشهر
للقمر. وقيل المراد به جري الشمس في اليوم، والقمر في الليلة. وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في سورة لقمان،
والإشارة بقوله (ذلكم) إلى الفاعل لهذه الأفعال وهو الله سبحانه، واسم الإشارة مبتدأ وخبره (الله ربكم له
الملك) أي هذا الذي من صنعته ما تقدم: هو الخالق المقدر والقادر المقتدر المالك للعالم، والمتصرف فيه،
ويجوز أن يكون قوله: له الملك جملة مستقلة في مقابلة قوله (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) أي
لا يقدرون عليه ولا على خلقه، والقطمير: القشرة الرقيقة التي تكون بين التمرة والنواة وتصير على النواة كاللفافة
لها. وقال المبرد: هو شق النواة. وقال قتادة: هو القمع الذي على رأس النواة. قال الجوهري: ويقال هي
النكتة البيضاء التي في ظهر النواة تنبت منها النخلة. ثم بين سبحانه حال هؤلاء الذين يدعونهم من دون الله بأنهم
لا ينفعون ولا يضرون فقال (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم،
لكونها جمادات لا تدرك شيئا من المدركات (ولو سمعوا) على طريقة الفرض، والتقدير (ما استجابوا لكم)
لعجزهم عن ذلك. قال قتادة: المعنى ولو سمعوا لم ينفعوكم. وقيل المعنى: لو جعلنا لهم سماعا وحياة فسمعوا دعاءكم
لكانوا أطوع لله منكم ولم يستجيبوا لكم إلى ما دعوتموهم إليه من الكفر (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي يتبرؤون
من عبادتكم لهم، ويقولون - ما كنتم إيانا تعبدون - ويجوز أن يرجع (والذين تدعون من دونه) وما بعده إلى من
يعقل ممن عبدهم الكفار، وهم الملائكة والجن والشياطين. والمعنى: أنهم يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا،
وينكرون أنهم أمروكم بعبادتهم (ولا ينبئك مثل خبير) أي لا يخبرك مثل من هو خبير بالأشياء عالم بها، وهو الله
سبحانه فإنه لا أحد أخبر بخلقه وأقوالهم وأفعالهم منه سبحانه، وهو الخبير بكنه الأمور وحقائقها.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: يقوم ملك بالصور بين السماء والأرض
فينفخ فيه، فلا يبقى خلق لله في السماوات والأرض إلا من شاء الله إلا مات، ثم يرسل الله من تحت العرش منيا
كمني الرجال، فتنبت أجسامهم ولحومهم من ذلك الماء كما تنبت الأرض من الثرى، ثم قرأ عبد الله (الله الذي
أرسل الرياح) الآية. وأخرج أبو داود والطيالسي وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال " قلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: أما
مررت بأرض مجدبة ثم مررت بها مخصبة تهتز خضراء؟ قلت بلى، قال: كذلك يحيي الله الموتى، وكذلك
النشور ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن
ابن مسعود قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله، إن العبد المسلم إذا قال: سبحان الله
343

وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وتبارك الله، قبض عليهن ملك يضمهن تحت جناحه، ثم يصعد
بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفر لقائلهن حتى يجيء بهن وجه الرحمن، ثم قرأ (إليه
يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) قال: أداء الفرائض، فمن ذكر الله في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله
فصعد به إلى الله، ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله، وكان عمله أولى به. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما يعمر من معمر) الآية قال: يقول ليس أحد قضيت له طول العمر
والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت له ذلك، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت له لا يزاد
عليه، وليس أحد قضيت له أنه قصير العمر والحياة ببالغ العمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتب له، فذلك
قوله (ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) يقول: كل ذلك في كتاب عنده. وأخرج أحمد ومسلم وأبو عوانة وابن
حبان والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمسة وأربعين ليلة، فيقول أي رب أشقى أم
سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ويكتبان، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة فلا
يزاد فيها ولا ينقص ". وأخرج ابن أبي شيبة ومسلم والنسائي وأبو الشيخ عن عبد الله بن مسعود قال: قالت
أم حبيبة: اللهم أمتعني بزوجي النبي، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
" إنك سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، ولن يعجل الله شيئا قبل حله أو يؤخر شيئا،
ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيرا وأفضل " وهذه الأحاديث
مخصصة بما ورد من قبول الدعاء، وأنه يعتلج هو والقضاء، وبما ورد في صلة الرحم أنها تزيد في العمر، فلا
معارضة بين الأدلة كما قدمنا. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن
ابن عباس في قوله (ما يملكون من قطمير) قال: القطمير القشر، وفي لفظ: الجلد الذي يكون على ظهر النواة.
344

ثم ذكر سبحانه افتقار خلقه إليه، ومزيد حاجتهم إلى فضله، فقال (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله) أي
المحتاجون إليه في جميع أمور الدين والدنيا، فهم الفقراء إليه على الإطلاق و (هو الغني) على الإطلاق (الحميد) أي
المستحق للحمد من عباده بإحسانه إليهم. ثم ذكر سبحانه نوعا من الأنواع التي يتحقق عندها افتقارهم إليه
واستغناؤه عنهم فقال (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) أي إن يشأ يفنكم ويأت بدلكم بخلق جديد يطيعونه ولا
يعصونه، أو يأت بنوع من أنواع الخلق وعالم من العالم غير ما تعرفون (وما ذلك) إلا ذهاب لكم والإتيان بآخرين
(على الله بعزيز) أي بممتنع ولا متعسر، وقد مضى تفسير هذا في سورة إبراهيم (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
أي نفس وازرة فحذف الموصوف للعلم به، ومعنى تزر: تحمل. والمعنى: لا تحمل نفس حمل نفس أخرى:
أي إثمها بل كل نفس تحمل وزرها، ولا تخالف هذه الآية قوله - وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم - لأنهم إنما
حملوا أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، والكل من أوزارهم، لا من أوزار غيرهم، ومثل هذا حديث " من سن
سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فإن الذي سن السنة السيئة إنما حمل وزر سنته السيئة،
وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى (وإن تدع مثقلة إلى حملها) قال الفراء: أي نفس مثقلة، قال: وهذا
يقع للمذكر والمؤنث. قال الأخفش: أي وإن تدع مثقلة إنسانا إلى حملها، وهو ذنوبها (لا يحمل منه) أي من حملها (شئ ولو كان ذا قربى) أي ولو كان الذي تدعوه ذا قرابة لها، لم يحمل من حملها شيئا. ومعنى الآية:
وإن تدع نفس مثقلة بالذنوب نفسا أخرى إلى حمل شئ من ذنوبها معها لم تحمل تلك المدعوة من تلك الذنوب
شيئا، ولو كانت قريبة لها في النسب، فكيف بغيرها مما لا قرابة بينها وبين الداعية لها؟ وقرئ " ذو قربى " على أن
كان تامة، كقوله - وإن كان ذو عسرة - وجملة (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب) مستأنفة مسوقة لبيان من
يتعظ بالإنذار، ومعنى (يخشون ربهم بالغيب) أنه يخشونه حال كونهم غائبين عن عذابه أو يخشون عذابه وهو
غائب عنهم، أو يخشونه في الخلوات عن الناس. قال الزجاج: تأويله أن إنذارك إنما ينفع الذين يخشون ربهم،
فكأنك تنذرهم دون غيرهم ممن لا ينفعهم الإنذار، كقوله - إنما أنت منذر من يخشاها - وقوله - إنما تنذر من اتبع
الذكر وخشي الرحمن بالغيب - ومعنى (وأقاموا الصلاة) أنهم احتفلوا بأمرها، ولم يشتغلوا عنها بشئ مما يلهيهم
(ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) التزكي: التطهر من أدناس الشرك والفواحش، والمعنى: أن من تطهر بترك
المعاصي واستكثر من العمل الصالح فإنما يتطهر لنفسه، لأن نفع ذلك مختص به كما أن وزر من تدنس لا يكون
إلا عليه لا على غيره. قرأ الجمهور " ومن تزكى فإنما يتزكى " وقرأ أبو عمرو " فإنما يزكى " بإدغام التاء في الزاي
وقرأ ابن مسعود وطلحة " ومن أزكى فإنما يزكى " (وإلى الله المصير) لا إلى غيره، ذكر سبحانه أولا أنه لا يحمل
أحد ذنب أحد، ثم ذكر ثانيا أن المذنب إن دعا غيره ولو كان من قرابته إلى حمل شئ من ذنوبه لا يحمله، ثم
ذكر ثالثا أن ثواب الطاعة مختص بفاعلها ليس لغيره منه شئ. ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر فقال (وما
يستوي الأعمى) أي المسلوب حاسة البصر (والبصير) الذي له ملكة البصر، فشبه الكافر بالأعمى، وشبه المؤمن
بالبصير (ولا الظلمات ولا النور) أي ولا تستوي الظلمات ولا النور، فشبه الباطل بالظلمات، وشبه الحق
بالنور. قال الأخفش: ولا في قوله " ولا النور، ولا الحرور " زائدة، والتقدير وما يستوي الظلمات والنور
ولا الظل والحرور، والحرور شدة حر الشمس. قال الأخفش: والحرور لا يكون إلا مع شمس النهار،
345

والسموم يكون بالليل، وقيل عكسه. وقال رؤبة بن العجاج: الحرور يكون بالليل خاصة، والسموم يكون
بالنهار خاصة. وقال الفراء: السموم لا يكون إلا بالنهار، والحرور يكون فيهما. قال النحاس: وهذا أصح.
وقال قطرب: الحرور الحر، والظل البرد، والمعنى: أنه لا يستوي الظل الذي لا حر فيه ولا أذى، والحر
الذي يؤذي. قيل أراد الثواب والعقاب، وسمى الحر حرورا مبالغة في شدة الحر، لأن زيادة البناء تدل على
زيادة المعنى. وقال الكلبي: أراد بالظل الجنة، وبالحرور النار. وقال عطاء: يعني ظل الليل وشمس النهار.
قيل وإنما جمع الظلمات وأفرد النور لتعدد فنون الباطل واتحاد الحق. ثم ذكر سبحانه تمثيلا آخر للمؤمن والكافر
فقال (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) فشبه المؤمنين بالأحياء، وشبه الكافرين بالأموات، وقيل أراد تمثيل
العلماء والجهلة. وقال ابن قتيبة: الأحياء العقلاء، والأموات الجهال. قال قتادة: هذه كلها أمثال: أي كما
لا تستوي هذه الأشياء كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن (إن الله يسمع من يشاء) أن يسمعه من أوليائه الذين خلقهم
لجنته ووفقهم لطاعته (وما أنت بمسمع من في القبور) يعني الكفار الذين أمات الكفر قلوبهم: أي كما لا تسمع
من مات كذلك لا تسمع من مات قلبه، قرأ الجمهور بتنوين " مسمع " وقطعه عن الإضافة. وقرأ الحسن وعيسى
الثقفي وعمرو بن ميمون بإضافته (إن أنت إلا نذير) أي ما أنت إلا رسول منذر ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ،
والهدى والضلالة بيد الله عز وجل (إنا أرسلناك بالحق) يجوز أن يكون بالحق في محل نصب على الحال من
الفاعل: أي محقين، أو من المفعول: أي محقا، أو نعت لمصدر محذوف: أي إرسالا ملتبسا بالحق، أو هو
متعلق ببشيرا: أي بشيرا بالوعد الحق ونذيرا بالوعد الحق، والأولى أن يكون نعتا للمصدر المحذوف، ويكون
معنى بشيرا: بشيرا لأهل الطاعة ونذيرا لأهل المعصية (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي ما من أمة من الأمم الماضية
إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها، واقتصر على ذكر النذير دون البشير، لأنه ألصق بالمقام، ثم سلى نبيه صلى
الله عليه وآله وسلم وعزاه، فقال (وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم) أي كذب من قبلهم من الأمم
الماضية أنبياءهم (جاءتهم رسلهم بالبينات) أي بالمعجزات الواضحة والدلالات الظاهرة (وبالزبر) أي الكتب
المكتوبة كصحف إبراهيم (وبالكتاب المنير) كالتوراة والإنجيل، قيل الكتاب المنير داخل تحت الزبر وتحت البينات
والعطف لتغاير المفهومات، وإن كانت متحدة في الصدق، والأولى تخصيص البينات بالمعجزات، والزبر
بالكتب التي فيها مواعظ، والكتاب بما فيه شرائع وأحكام، (ثم أخذت الذين كفروا) وضع الظاهر موضع
الضمير يفيد التصريح بذمهم بما في حيز الصلة، ويشعر بعلة الأخذ (فكيف كان نكير) أي فكيف كان نكيري
عليهم وعقوبتي لهم، وقرأ ورش عن نافع وشيبة بإثبات الياء في " نكير " وصلا لا وقفا، وقد مضى بيان معنى
هذا قريبا.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة عن عمرو بن الأحوص أن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم قال في حجة الوداع " ألا لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده ولا مولود على والده ".
وأخرج سعيد بن منصور وأبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي رمثة قال: انطلقت
مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأيته قال لأبي: ابنك هذا؟ قال: إي ورب الكعبة،
قال: أما أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ) قال:
يكون عليه وزر لا يجد أحدا يحمل عنه من وزره شيئا.
346

ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته الباهرة وخلقا من مخلوقاته البديعة. فقال (ألم تر) والخطاب لرسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أو لكل من يصلح له (أن الله أنزل من السماء ماء) وهذه الرؤية هي القلبية: أي ألم
تعلم، وأن واسمها وخبرها سدت مسد المفعولين (فأخرجنا به) أي بالماء، والنكتة في هذا الالتفات إظهار كمال
العناية بالفعل لما فيه من الصنع البديع، وانتصاب (مختلفا ألوانها) على الوصف لثمرات، والمراد بالألوان الأجناس
والأصناف: أي بعضها أبيض، وبعضها أحمر، وبعضها أصفر، وبعضها أخضر، وبعضها أسود (ومن الجبال
جدد) الجدد جمع جدة، وهي الطريق. قال الأخفش: ولو كان جمع جديد لقال جدد بضم الجيم والدال، نحو
سرير وسرر. قال زهير:
كأنه أسفع الخدين ذو جدد * طار ويرتع بعد الصيف أحيانا
وقيل الجدد القطع، مأخوذ من جددت الشئ إذا قطعته، حكاه ابن بحر. قال الجوهري: الجدة: الخطة التي
في ظهر الجمار تخالف لونه، والجدة الطريقة، والجمع جدد وجدائد، ومن ذلك قول أبي ذؤيب:
* جون السراة له جدائد أربع * قال المبرد: جدد: طرائق وخطوط. قال الواحدي: ونحو هذا قال
المفسرون في تفسير الجدد. وقال الفراء: هي الطرق تكون في الجبال كالعروق بيض وسود وحمر واحدها جدة.
والمعنى: أن الله سبحانه أخبر عن جدد الجبال، وهي طرائقها، أو الخطوط التي فيها بأن لون بعضها البياض ولون
بعضها الحمرة، وهو معنى قوله (بيض وحمر مختلف ألوانها) قرأ الجمهور " جدد " بضم الجيم وفتح الدال. وقرأ
347

الزهري بضمهما جمع جديدة وروي عنه أنه قرأ بفتحهما وردها أبو حاتم وصححها غيره وقال: الجدد الطريق الواضح
البين (وغرابيب سود) الغربيب الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب. قال الجوهري: تقول هذا أسود
غربيب: أي شديد السواد، وإذا قلت غرابيب سود جعلت السود بدلا من غرابيب. قال الفراء: في الكلام تقديم
وتأخير تقديره وسود غرابيب، لأنه يقال أسود غربيب، وقل ما يقال غربيب أسود، وقوله (مختلف ألوانها)
صفة لجدد، وقوله (وغرابيب) معطوف على جدد على معنى: ومن الجبال جدد بيض وحمر، ومن الجبال غرابيب
على لون واحد، وهو السواد، أو على حمر على معنى، ومن الجبال جدد بيض وحمر وسود، وقيل معطوف على
بيض، ولا بد من تقدير مضاف محذوف قبل جدد: أي ومن الجبال ذو جدد، لأن الجدد إنما هي في ألوان
بعضها (ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه) قوله مختلف صفة لموصوف محذوف: أي ومنهم صنف،
أو نوع أو بعض مختلف ألوانه بالحمرة والسواد والبياض والخضرة والصفرة. قال الفراء: أي خلق مختلف ألوانه
كاختلاف الثمرات والجبال، وإنما ذكر سبحانه اختلاف الألوان في هذه الأشياء، لأن هذا الاختلاف من أعظم
الأدلة على قدرة الله وبديع صنعه، ومعنى (كذلك) أي مختلفا مثل ذلكك الاختلاف، وهو صفة لمصدر محذوف،
والتقدير مختلف ألوانه اختلافا كائنا كذلك: أي كاختلاف الجبال والثمار. وقرأ الزهري " والدواب " بتخفيف
الباء. وقرأ ابن السميفع " ألوانها ". وقيل إن قوله " كذلك " متعلق بما بعده: أي مثل ذلك المطر والاعتبار في
مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله من عباده العلماء، وهذا اختاره ابن عطيه، وهو مردود بأن ما بعد إنما
لا يعمل فيما قبلها. والراجح الوجه الأول، والوقف على كذلك تام. ثم استؤنف الكلام وأخبر سبحانه بقوله
(إنما يخشى الله من عباده العلماء) أو هو من تتمة قوله - إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب - على معنى إنما
يخشاه سبحانه بالغيب العالمون به، وبما يليق به من صفاته الجليلة وأفعاله الجميلة، وعلى كل تقدير فهو سبحانه
قد عين في هذه الآية أهل خشيته، وهم العلماء به وتعظيم قدرته. قال مجاهد: إنما العالم من خشي الله عز وجل.
وقال مسروق: كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار جهلا، فمن كان أعلم بالله كان أخشاهم له. قال الربيع بن
أنس: من لم يخش الله فليس بعالم. وقال الشعبي: العالم من خاف الله، ووجه تقديم المفعول أن المقام مقام حصر
الفاعلية ولو أخر انعكس الأمر. وقرأ عمر بن عبد العزيز برفع الاسم الشريف ونصب العلماء، ورويت هذه
القراءة عن أبي حنيفة قال في الكشاف: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: أنه يجلهم ويعظمهم كما يجل
المهيب المخشي من الرجال بين الناس، وجملة (إن الله عزيز غفور) تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب
على معصيته غافر لمن تاب من عباده (إن الذين يتلون كتاب الله) أي يستمرون على تلاوته ويداومونها. والكتاب
هو القرآن الكريم، ولا وجه لما قيل إن المراد به جنس كتب الله (وأقاموا الصلاة) أي فعلوها في أوقاتها مع كمال
أركانها وأذكارها (وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية) فيه حث على الإنفاق كيف ما تهيأ، فإن تهيأ سرا فهو أفضل
وإلا فعلانية، ولا يمنعه ظنه أن يكون رياء، ويمكن أن يراد بالسر صدقة النفل، وبالعلانية صدقة الفرض،
وجملة (يرجون تجارة لن تبور) في محل رفع على خبرية إن كما قال ثعلب وغيره، والمراد بالتجارة ثواب الطاعة
ومعنى (لن تبور) لن تكسد ولن تهلك، وهي صفة للتجارة والإخبار برجائهم لثواب ما عملوا بمنزلة الوعد
بحصول مرجوهم، واللام في (ليوفيهم أجورهم) متعلق بلن تبور، على معنى: أنها لن تكسد لأجل أن يوفيهم
أجور أعمالهم الصالحة، ومثل هذه الآية قوله سبحانه - فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم
من فضله - وقيل إن اللام متعلقة بمحذوف دل عليه السياق: أي فعلوا ذلك ليوفيهم، ومعنى (ويزيدهم من
348

فضله) أنه يتفضل عليهم بزيادة على أجورهم التي هي جزاء أعمالهم، وجملة (إنه غفور شكور) تعليل لما ذكر من
التوفية والزيادة: أي غفور لذنوبهم شكور لطاعتهم، وقيل إن هذه الجملة هي خبر إن، وتكون جملة يرجون
في محل نصب على الحال، والأول أولى (والذي أوحينا إليك من الكتاب) يعني القرآن، وقيل اللوح المحفوظ
على أن من تبعيضية أو ابتدائية، وجملة (هو الحق) خبر الموصول (ومصدقا لما بين يديه) منتصب على الحال:
أي موافقا لما تقدمه من الكتب (إن الله بعباده لخبير بصير) أي محيط بجميع أمورهم (ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا) المفعول الأول لأورثنا الموصول، والمفعول الثاني الكتاب، وإنما قدم المفعول الثاني لقصد
التشريف والتعظيم للكتاب، والمعنى: ثم أورثنا الذين اصطفيناهم من عبادنا الكتاب، وهو القرآن: أي قضينا
وقدرنا بأن نورث العلماء من أمتك يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، ومعنى اصطفائهم اختيارهم
واستخلاصهم، ولا شك أن علماء هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم قد شرفهم الله على سائر العباد وجعلهم أمة
وسطا ليكونوا شهداء على الناس، وأكرمهم بكونهم أمة خير الأنبياء وسيد ولد آدم. قال مقاتل: يعني قرآن
محمد جعلناه ينتهي إلى الذين اصطفينا من عبادنا. وقيل إن المعنى: أورثناه من الأمم السالفة: أي أخرناه عنهم
وأعطيناه الذين اصطفينا، والأول أولى. ثم قسم سبحانه هؤلاء الذي أورثهم كتابه واصطفاهم من عباده إلى ثلاثة
أقسام فقال (فمنهم ظالم لنفسه) قد استشكل كثير من أهل العلم معنى هذه الآية، لأنه سبحانه جعل هذا القسم الظالم
لنفسه من ذلك المقسم، وهو من اصطفاهم من العباد، فكيف يكون من اصطفاه الله ظالما لنفسه؟ فقيل إن التقسيم
هو راجع إلى العباد: أي فمن عبادنا ظالم لنفسه، وهو الكافر، ويكون ضمير يدخلونها عائدا إلى المقتصد
والسابق. وقيل المراد بالظالم لنفسه هو المقصر في العمل به، وهو المرجأ لأمر الله، وليس من ضرورة ورثة
الكتاب مراعاته حق رعايته، لقوله - فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب - وهذا فيه نظر، لأن ظلم النفس
لا يناسب الاصطفاء. وقيل الظالم لنفسه: هو الذي عمل الصغائر، وقد روي هذا القول عن عمر وعثمان وابن
مسعود وأبي الدرداء وعائشة، وهذا هو الراجح، لأن عمل الصغائر لا ينافي الاصطفاء ولا يمنع من دخول صاحبه
مع الذين يدخلون الجنة يحلون فيها من أساور من ذهب إلى آخر ما سيأتي. ووجه كونه ظالما لنفسه أنه نقصها من
الثواب بما فعل من الصغائر المغفورة له، فإنه لو عمل مكان تلك الصغائر طاعات لكان لنفسه فيها من الثواب حظا
عظيما، وقيل الظالم لنفسه هو صاحب الكبائر.
وقد اختلف السلف في تفسير السابق والمقتصد، فقال عكرمة وقتادة والضحاك: إن المقتصد المؤمن العاصي،
والسابق التقي على الإطلاق، وبه قال الفراء، وقال مجاهد في تفسير الآية: فمنهم ظالم لنفسه أصحاب المشأمة (ومنهم
مقتصد) أصحاب الميمنة (ومنهم سابق بالخيرات) السابقون من الناس كلهم. وقال المبرد: إن المقتصد هو الذي
يعطي الدنيا حقها والآخرة حقها. وقال الحسن: الظالم الذي ترجح سيآته على حسناته، والمقتصد الذي استوت
حسناته وسيئاته، والسابق من رجحت حسناته على سيآته. وقال مقاتل: الظالم لنفسه أصحاب الكبائر من أهل
التوحيد، والمقتصد الذي لم يصب كبيرة، والسابق الذي سبق إلى الأعمال الصالحة. وحكى النحاس أن الظالم
صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته على سيآته، فتكون جنات عدن يدخلونها الذين
سبقوا بالخيرات لا غير، قال: وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولى. وقال
الضحاك فيهم ظالم لنفسه: أي من ذريتهم ظالم لنفسه. وقال سهل بن عبد الله: السابق العالم، والمقتصد المتعلم
والظالم لنفسه الجاهل. وقال ذو النون المصري: الظالم لنفسه الذاكر لله بلسانه فقط، والمقتصد الذاكر بقلبه،
349

والسابق الذي لا ينساه. وقال الأنطاكي: الظالم صاحب الأقوال، والمقتصد صاحب الأفعال، والسابق صاحب
الأحوال. وقال ابن عطاء: الظالم الذي يحب الله من أجل الدنيا، والمقتصد الذي يحب الله من أجل العقبى،
والسابق الذي أسقط مراده بمراد الحق. وقيل الظالم الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد الذي يعبده طمعا في
الجنة، والسابق الذي يعبده لا لسبب. وقيل الظالم الذي يحب نفسه، والمقتصد الذي يحب دينه، والسابق الذي
يحب ربه. وقيل الظالم الذي ينتصف ولا ينصف، والمقتصد الذي ينتصف وينصف، والسابق الذي ينصف ولا
ينتصف. وقد ذكر الثعلبي وغيره أقوالا كثيرة، ولا شك أن المعاني اللغوية للظالم والمقتصد والسابق معروفة، وهو
يصدق على الظلم للنفس بمجرد إحرامها للحظ وتفويت ما هو خير لها، فتارك الاستكثار من الطاعات قد ظلم نفسه
باعتبار ما فوتها من الثواب، وإن كان قائما بما أوجب الله عليه تاركا لما نهاه الله عنه، فهو من هذه الحيثية ممن
اصطفاه الله ومن أهل الجنة فلا إشكال في الآية، ومن هذا قول آدم - ربنا ظلمنا أنفسنا - وقول يونس - إني
كنت من الظالمين - ومعنى المقتصد هو من يتوسط في أمر الدين ولا يميل إلى جانب الإفراط ولا إلى جانب التفريط
وهذا من أهل الجنة، وأما السابق فهو الذي سبق غيره في أمور الدين، وهو خير الثلاثة.
وقد استشكل تقديم الظالم على المقتصد وتقديمهما على السابق مع كون المقتصد أفضل من الظالم لنفسه والسابق
أفضل منهما، فقيل إن التقديم لا يقتضي التشريف كما في قوله - لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة - ونحوها
من الآيات القرآنية التي فيها تقديم أهل الشر على أهل الخير وتقديم المفضولين على الفاضلين. وقيل وجه التقديم
هنا أن المقتصدين بالنسبة إلى أهل المعاصي قليل والسابقين بالنسبة إلى الفريقين أقل قليل، فقدم الأكثر على
الأقل، والأول أولى فإن الكثرة بمجردها لا تقتضي تقديم الذكر، وقد قيل في وجه التقديم غير ما ذكرنا مما
لا حاجة إلى التطويل به، والإشارة بقوله (ذلك) إلى توريث الكتاب والاصطفاء، وقيل إلى السبق بالخيرات.
والأول أولى، وهو مبتدأ وخبره (هو الفضل الكبير) أي الفضل الذي لا يقادر قدره، وارتفاع (جنات عدن)
على أنها مبتدأ وما بعدها خبرها، أو على البدل من الفضل لأنه لما كان هو السبب في نيل الثواب نزل منزلة المسبب،
وعلى هذا فتكون جملة (يدخلونها) مستأنفة وقد قدمنا أن الضمير في يدخلونها يعود إلى الأصناف الثلاثة، فلا
وجه لقصره على الصنف الأخير، وقرأ زر بن حبيش والترمذي " جنة " بالإفراد، وقرأ الجحدري " جنات "
بالنصب على الاشتغال، وجوز أبو البقاء أن تكون جنات خبرا ثانيا لاسم الإشارة، وقرأ أبو عمرو " يدخلونها "
على البناء للمفعول، وقوله (يحلون) خبر ثان لجنات عدن، أو حال مقدرة، وهو من حليت المرأة فهي حال،
وفيه إشارة إلى سرعة الدخول، فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول، فلما قال (يحلون فيها) أشار أن
دخولهم على وجه السرعة (من أساور من ذهب) من الأولى تبعيضية، والثانية بيانية: أي يحلون بعض أساور كائنة
من ذهب، والأساور جمع أسورة جمع سوار، وانتصاب (لؤلؤا) بالعطف على محل (من أساور) وقرئ بالجر
عطفا على ذهب (ولباسهم فيها حرير) قد تقدم تفسير الآية مستوفى في سورة الحج (وقالوا الحمد لله الذي أذهب
عنا الحزن) قرأ الجمهور " الحزن " بفتحتين. وقرأ جناح بن حبيش بضم الحاء وسكون الزاي. والمعنى: أنهم
يقولون هذه المقالة إذا دخلوا الجنة. قال قتادة: حزن الموت. وقال عكرمة: حزن السيئات والذنوب وخوف رد
الطاعات. وقال القاسم: حزن زوال النعم وخوف العاقبة. وقيل حزن أهوال يوم القيامة. وقال الكلبي: ما كان
يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة. وقال سعيد بن جبير: هم الخبز في الدنيا، وقيل هم المعيشة. وقال الزجاج:
أذهب الله عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد. وهذا أرجح الأقوال، فإن الدنيا وإن بلغ
350

نعيمها أي بلغ لا تخلو من شوائب ونوائب تكثر لأجلها الأحزان، وخصوصا أهل الإيمان، فإنهم لا يزالون وجلين
من عذاب الله خائفين من عقابه، مضطربي القلوب في كل حين، هل تقبل أعمالهم أو ترد؟ حذرين من عاقبة
السوء وخاتمة الشر، ثم لا تزال همومهم وأحزانهم حتى يدخلوا الجنة. وأما أهل العصيان: فهم وإن نفس عن
خناقهم قليلا في حياة الدنيا التي هي دار الغرور، وتناسوا دار القرار يوما من دهرهم فلا بد أن يشتد وجلهم
وتعظم مصيبتهم، وتغلي مراجل أحزانهم إذا شارفوا الموت وقربوا من منازل الآخرة، ثم إذا قبضت أرواحهم
ولاح لهم ما يسوؤهم من جزاء أعمالهم ازدادوا غما وحزنا فإن تفضل الله عليهم بالمغفرة وأدخلهم الجنة فقد أذهب
عنهم أحزانهم وأزال غمومهم وهمومهم (إن ربنا لغفور شكور) أي غفور لمن عصاه، شكور لمن أطاعه (الذي
أحلنا دار المقامة من فضله) أي دار الإقامة التي يقام فيها أبدا ولا ينتقل عنها تفضلا منه ورحمة (لا يمسنا فيها نصب)
أي لا يصيبنا في الجنة عناء ولا تعب ولا مشقة (ولا يمسنا فيها لغوب) وهو الإعياء من التعب، والكلال من النصب.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ثمرات مختلفا ألوانها) قال: الأبيض والأحمر
والأسود، وفي قوله (ومن الجبال جدد) قال: طرائق (بيض) يعنى الألوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال:
الغربيب الأسود الشديد السواد. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي مالك في
قوله: (ومن الجبال جدد) قال: طرائق تكون في الجبل بيض (وحمر) فتلك الجدد (وغرابيب سود) قال: جبال
سود (ومن الناس والدواب والأنعام) قال (كذلك) اختلاف الناس والدواب والأنعام كاختلاف الجبال، ثم
قال (إنما يخشى الله من عباده العلماء) قال: فصل لما قبلها. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (إنما
يخشى الله من عباده العلماء) قال: العلماء بالله الذين يخافونه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
في الآية قال: الذين يعلمون أن الله على كل شئ قدير. وأخرج ابن أبي حاتم وابن عدي عن ابن مسعود قال:
ليس العلم من كثرة الحديث، ولكن العلم من الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والطبراني
عنه قال: كفى بخشية الله علما، وكفى باغترار بالله جهلا. وأخرج أحمد في الزهد عنه أيضا قال: ليس العلم بكثرة
الرواية ولكن العلم الخشية. وأخرج ابن أبي شيبة عن حذيفة قال: يحسب المؤمن من العلم أن يخشى الله. وأخرج
عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف نزلت فيه
(إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) قال: هم أمة محمد صلى
الله عليه وآله وسلم ورثهم الله كل كتاب أنزل، فظالمهم مغفور له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم
يدخل الجنة بغير حساب. وأخرج الطيالسي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في هذه
الآية " (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) قال:
هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم يدخلون الجنة ". وفي إسناده رجلان مجهولان. قال الإمام أحمد في مسنده
قال: حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار، أنه سمع رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد.
وأخرج الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه
والبيهقي في البعث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " قال الله (ثم أورثنا
351

الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) فأما الذين
سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب. وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا. وأما الذين
ظلموا أنفسهم، فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر، ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته، فهم الذين يقولون
(الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور) إلى آخر الآية. " قال البيهقي: إذا كثرت روايات في
حديث ظهر أن للحديث أصلا، وفي إسناد أحمد محمد بن إسحاق، وفي إسناد ابن أبي حاتم رجل مجهول، لأنه
رواه من طريق الأعمش عن رجل عن أبي ثابت عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير عن الأعمش قال: ذكر
أبو ثابت. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني عن عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " أمتي
ثلاث أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة، وثلث يمحصون
ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون: لا إله إلا الله وحده، فيقول الله: أدخلوهم الجنة بقولهم
لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل التكذيب، وهي التي قال الله - وليحملن أثقالهم وأثقالا مع
أثقالهم - وتصديقها في التي ذكر في الملائكة. قال الله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) فجعلهم
ثلاثة أفواج. فمنهم ظالم لنفسه، فهذا الذي يكشف ويمحص، ومنهم مقتصد، وهو الذي يحاسب حسابا يسيرا.
ومنهم سابق بالخيرات، فهو الذي يلج الجنة بغير حساب ولا عذاب بإذن الله يدخلونها جميعا ". قال ابن كثير بعد
ذكر هذا الحديث: غريب جدا. وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا ويجب المصير إليها، ويدفع بها قول
من حمل الظالم لنفسه على الكافر، ويؤيدها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أسامة بن زيد:
(فمنهم ظالم لنفسه) الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " كلهم من هذه الأمة، وكلهم في الجنة "
وما أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه عن عقبة بن
صهبان قال: قلت لعائشة أرأيت قول الله (ثم أورثنا الكتاب) الآية، قالت: أما السابق، فمن مضى في حياة
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهد له بالجنة. وأما المقتصد فمن تبع آثارهم، فعمل بمثل عملهم حتى لحق
بهم. وأما الظالم لنفسه، فمثلي ومثلك ومن اتبعنا، وكل في الجنة. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: هذه
الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يحاسبون حسابا يسيرا، وثلث يجيئون
بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا، فيقول الرب: أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي، ثم قرأ (ثم أورثنا الكتاب) الآية.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر والبيهقي في البعث عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه
الآية (ثم أورثنا الكتاب) قال: ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له. وأخرجه العقيلي وابن
مردويه والبيهقي في البعث من وجه آخر عنه مرفوعا. وأخرجه ابن النجار من حديث أنس مرفوعا. وأخرج
الطبراني عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله، والظالم
لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج سعيد بن منصور وابن
أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عثمان بن عفان أنه نزع بهذه الآية، ثم قال: ألا إن سابقنا
أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا، ألا وإن ظالمنا أهل بدونا. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في
البعث عن البراء بن عازب في قوله (فمنهم ظالم لنفسه) الآية قال: أشهد على الله أنه يدخلهم جميعا الجنة. وأخرج
الفريابي وابن جرير وابن مردويه عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " (ثم أورثنا الكتاب
352

الذين اصطفينا من عبادنا) قال: كلهم ناج وهي هذه الأمة. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد عن ابن عباس في
الآية قال: هي مثل التي في الواقعة أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة. والسابقون: صنفان ناجيان، وصنف هالك.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي عنه في قوله: فمنهم ظالم لنفسه قال: هو
الكافر، والمقتصد أصحاب اليمين. وهذا المروي عنه رضي الله عنه لا يطابق ما هو الظاهر من النظم القرآني، ولا
يوافق ما قدمنا من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن جماعة من الصحابة. وأخرج ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عبد الله بن الحرث أن ابن عباس سأل كعبا عن هذه الآية،
فقال نجوا كلهم، ثم قال: تحاكت مناكبهم ورب الكعبة، ثم أعطوا الفضل بأعمالهم، وقد وقدمنا عن ابن عباس
ما يفيد أن الظالم لنفسه من الناجين، فتعارضت الأقوال عنه. وأخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في البعث
عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا قول الله (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور
من ذهب ولؤلؤا) فقال: إن عليهم التيجان، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب. وأخرج عبد بن
حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقالوا الحمد لله) الآية قال: هم قوم في الدنيا يخافون الله
ويجتهدون له في العبادة سرا وعلانية، وفي قلوبهم حزن من ذنوب قد سلفت منهم، فهم خائفون أن لا يتقبل
منهم هذا الاجتهاد من الذنوب التي سلفت، فعندها (قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور)
غفر لنا العظيم، وشكر لنا القليل من أعمالنا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
عنه في الآية قال: حزن النار.
353

ثم لما فرغ سبحانه من ذكر جزاء عباده الصالحين، ذكر جزاء عباده الطالحين فقال (والذين كفروا لهم نار
جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا) أي لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ويستريحوا من العذاب (ولا يخفف عنهم من
عذابها) بل - كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب - وهذه الآية هي مثل قوله سبحانه
- لا يموت فيها ولا يحيى - قرأ الجمهور " فيموتوا " بالنصب جوابا للنفي، وقرأ عيسى بن عمر والحسن بإثبات
النون. قال المازني: على العطف على يقضى. وقال ابن عطية: هي قراءة ضعيفة ولا وجه لهذا التضعيف بل هي
كقوله - ولا يؤذن لهم فيعتذرون - (كذلك نجزي كل كفور) أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي كل من هو
مبالغ في الكفر، وقرأ أبو عمرو " نجزي " على البناء للمفعول (وهم يصطرخون فيها) من الصراخ وهو الصياح
أي وهم يستغيثون في النار رافعين أصواتهم، والصارخ: المستغيث، ومنه قول الشاعر:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع * كان الصراخ له قرع الطنابيب
(ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) أي وهم فيها يصطرخون يقولون: ربنا الخ. قال مقاتل:
هو أنهم ينادون: ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل: من الشرك والمعاصي، فنجعل الإيمان منا بدل
ما كنا عليه من الكفر، والطاعة بدل المعصية، وانتصاب صالحا على أنه صفة لمصدر محذوف: أي عملا صالحا،
أو صفة لموصوف محذوف: أي نعمل شيئا صالحا. قيل وزيادة قوله (غير الذي كنا نعمل) للتحسر على ما عملوه
من غير الأعمال الصاحة مع الاعتراف منهم بأن أعمالهم في الدنيا كانت غير صالحة، فأجاب الله سبحانه عليهم
بقوله (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) والاستفهام للتقريع والتوبيخ، والواو للعطف على مقدر كما في
نظائره، وما نكرة موصوفة: أي أولم نعمركم عمرا يتمكن من التذكر فيه من تذكر. فقيل هو ستون سنة، وقيل
أربعون، وقيل ثماني عشرة سنة. قال بالأول جماعة من الصحابة، وبالثاني الحسن ومسروق وغيرهما. وبالثالث
عطاء وقتادة. وقرأ الأعمش " ما يذكر " بالإدغام (وجاءكم النذير) قال الواحدي: قال جمهور المفسرين: هو
النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسن بن الفضل والفراء وابن جرير:
هو الشيب، ويكون معناه على هذا القول: أولم نعمركم حتى شبتم، وقيل هو القرآن، وقيل الحمى. قال
الأزهري: معناه: أن الحمى رسول الموت: أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه، والشيب نذير أيضا، لأنه
يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب، وقيل هو موت الأهل
354

والأقارب، وقيل هو كمال العقل، وقيل البلوغ (فذوقوا فما للظالمين من نصير) أي فذوقوا عذاب جهنم، لأنكم
لم تعتبروا ولم تتعظوا، فما لكم ناصر يمنعكم من عذاب الله، ويحول بينكم وبينه. قال مقاتل: فذوقوا العذاب،
فما للمشركين من مانع يمنعهم (إن الله عالم غيب السماوات والأرض) قرأ الجمهور بإضافة عالم إلى غيب، وقرأ
جناح بن حبيش بالتنوين ونصب غيب. والمعنى: أنه عالم بكل شئ ومن ذلك أعمال لا تخفى عليه منها خافية،
فلو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا كما قال سبحانه - ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه - (إنه عليم بذات الصدور)
تعليل لما قبله، لأنه إذا علم مضمرات الصدور وهي أخفى من كل شئ علم ما فوقها بالأولى، وقيل هذه الجملة
مفسرة للجملة الأولى (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) أي جعلكم أمة خالفة لمن قبلها. قال قتادة: خلفا
بعد خلف وقرنا بعد قرن، والخلف: هو التالي للمتقدم، وقيل جعلكم خلفاءه في أرضه (فمن كفر) منكم هذه
النعمة (فعليه كفره) أي عليه ضرر كفره، لا يتعداه إلى غيره (ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا)
أي غضبا وبغضا (ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا) أي نقصا وهلاكا، والمعنى: أن الكفر لا ينفع عند الله
حيث لا يزيدهم إلا المقت، ولا ينفعهم في أنفسهم حيث لا يزيدهم إلا الخسار. ثم أمره سبحانه أن يوبخهم ويبكتهم
فقال (قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) أي أخبروني عن الشركاء الذين اتخذتموهم آلهة وعبدتموهم
من دون الله، وجملة (أروني ماذا خلقوا من الأرض) بدل اشتمال من أرأيتم، والمعنى: أخبروني عن شركائكم،
أروني أي شئ خلقوا من الأرض؟ وقيل إن الفعلان، وهما أرأيتم وأروني من باب التنازع. وقد أعمل الثاني
على ما هو اختيار البصريين (أم لهم شرك في السماوات) أي أم لهم شركة مع الله في خلقها أو ملكها أو التصرف فيها
حتى يستحقوا بذلك الشركة في الإلهية (أم آتيناهم كتابا) أي أم أنزلنا عليهم كتابا بالشركة (فهم على بينات منه)
أي على حجة ظاهرة واضحة من ذلك الكتاب. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم " بينة " بالتوحيد،
وقرأ الباقون بالجمع. قال مقاتل: يقول هل أعطينا كفار مكة كتابا، فهم على بيان منه بأن مع الله شريكا. ثم
أضرب سبحانه عن هذا إلى غيره فقال (بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) أي ما يعد الظالمون بعضهم
بعضا كما يفعله الرؤساء والقادة من المواعيد لأتباعهم إلا غرورا يغرونهم به ويزينونه لهم، وهو الأباطيل التي تغر
ولا حقيقة لها، وذلك قولهم: إن هذه الآلهة تنفعهم وتقربهم إلى الله، وتشفع لهم عنده. وقيل إن الشياطين تعد
المشركين بذلك، وقيل المراد بالوعد الذي يعد بعضهم بعضا هو أنهم ينصرون على المسلمين ويغلبونهم، وجملة
(إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) مستأنفة لبيان قدرة الله سبحانه، وبديع صنعه بعد بيان ضعف
الأصنام وعدم قدرتها على شئ، وقيل المعنى: إن شركهم يقتضي زوال السماوات والأرض كقوله - تكاد
السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن ادعوا للرحمن ولدا - (ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد
من بعده) أي ما أمسكهما من أحد من بعد إمساكه، أو من بعد زوالهما، والجملة سادة مسد جواب القسم
والشرط، ومعنى (أن تزولا) لئلا تزولا، أو كراهة أن تزولا. قال الزجاج: المعنى أن الله يمنع السماوات
والأرض من أن تزولا، فلا حاجة إلى التقدير. قال الفراء: أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد، قال: وهو
مثل قوله - ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون - وقيل المراد زوالهما يوم القيامة، وجملة (إنه
كان حليما غفورا) تعليل لما قبلها من إمساكه تعالى للسموات والأرض (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم
نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم) المراد قريش، أقسموا قبل أن يبعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
بهذا القسم حيث بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، ومعنى (من إحدى الأمم) يعني المكذبة للرسل، والنذير:
355

النبي، والهدى: الاستقامة، وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كان الرسل في بني إسرائيل (فلما
جاءهم) ما تمنوه، وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو أشرف (نذير) وأكرم مرسل وكان من
أنفسهم (ما زادهم) مجيئه (إلا نفورا) منهم عنه، وتباعدا عن إجابته (استكبارا في الأرض) أي لأجل
الاستكبار والعتو (و) لأجل (مكر السيء) أي مكر العمل السييء، أو مكروا المكر السيء، والمكر هو الحيلة
والخداع والعمل القبيح، وأضيف إلى صفته كقوله: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وأنث إحدى لكون أمة
مؤنثة كما قال الأخفش. وقيل المعنى: من إحدى الأمم على العموم، وقيل من الأمة التي يقال لها إحدى الأمم
تفضيلا لها. قرأ الجمهور " ومكر السيء " بخفض همزة السيء، وقرأ الأعمش وحمزة بسكونها وصلا. وقد غلط
كثير من النحاة هذه القراءة، ونزهوا الأعمش على جلالته أن يقرأ بها، قالوا: وإنما كان يقف بالسكون، فغلط
من روى عنه أنه كان يقرأ بالسكون وصلا، وتوجيه هذه القراءة ممكن، بأن من قرأ بها أجرى الوصل مجرى
الوقف كما في قول الشاعر:
فاليوم أشرب غير مستحقب * إنما من الله ولا واغل
بسكون الباء من أشرب، ومثله قراءة من قرأ " وما يشعركم " بسكون الراء، ومثل ذلك قراءة أبى عمرو " إلى بارئكم "
بسكون الهمزة، وغير ذلك كثير. قال أبو علي الفارسي: هذا على إجراء الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن مسعود
" ومكرا سيئا " (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) أي لا تنزل عاقبة السوء إلا بمن أساء. قال الكلبي: يحيق بمعنى
يحيط، والحوق الإحاطة، يقال حاق به كذا إذا أحاط به وهذا هو الظاهر من معنى يحيق في لغة العرب، ولكن
قطرب فسره هنا بينزل، وانشد:
وقد رفعوا المنية فاستقلت * ذراعا بعد ما كانت تحيق
أي تنزل (فهل ينظرون إلا سنة الأولين) أي فهل ينتظرون إلا سنة الأولين: أي سنة الله فيهم بأن ينزل بهؤلاء
العذاب كما نزل بأولئك (فلن تجد لسنة الله تبديلا) أي لا يقدر أحد أن يبدل سنة الله التي سنها بالأمم المكذبة من
إنزال عذابه بهم بأن يضع موضعه غيره بدلا عنه (ولن تجد لسنة الله تحويلا) بأن يحول ما جرت به سنة الله من
العذاب فيدفعه عنهم ويضعه على غيرهم، ونفى وجدان التبديل والتحويل عبارة عن نفي وجودهما (أولم يسيروا
في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) هذه الجملة مسوقة لتقرير معنى ما قبلها وتأكيده: أي
ألم يسيروا في الأرض فينظروا ما أنزلنا بعاد وثمود ومدين وأمثالهم من العذاب لما كذبوا الرسل، فإن ذلك هو من
سنة الله في المكذبين التي لا تبدل ولا تحول، وآثار عذابهم وما أنزل الله بهم موجودة في مساكنهم ظاهرة في
منازلهم (و) الحال أن أولئك (كانوا أشد منهم قوة) وأطول أعمارا وأكثر أموالا وأقوى أبدانا (وما كان الله
ليعجزه من شئ في السماوات ولا في الأرض) أي ما كان ليسبقه ويفوته من شئ من الأشياء كائنا ما كان فيهما (إنه
كان عليما قديرا) أي كثير العلم وكثير القدرة لا يخفى عليه شئ ولا يصعب عليه أمر (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا)
من الذنوب وعملوا من الخطايا (ما ترك على ظهرها) أي الأرض (من دابة) من الدواب التي تدب كائنة ما كانت،
أما بنو آدم فلذنوبهم، وأما غيرهم فلشؤم معاصي بني آدم. وقيل المراد ما ترك على ظهر الأرض من دابة تدب من
بني آدم والجن، وقد قال بالأول ابن مسعود وقتادة، وقال بالثاني الكلبي. وقال ابن جريج والأخفش والحسين
ابن الفضل: أراد بالدابة هنا الناس وحدهم دون غيرهم (ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة فإذا
356

جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا) أي بمن يستحق منهم الثواب ومن يستحق منهم العقاب، والعامل في إذا
هو جاء، لا بصيرا، وفي هذا تسلية للمؤمنين ووعيد للكافرين.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في السنن عن ابن عباس في قوله (أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر)
قال: ستين سنة. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن
مردويه والبيهقي في الشعب عنه أن النبي صلى اله عليه وآله وسلم قال " إذا كان يوم القيامة قيل أين أبناء الستين؟
وهو العمر الذي قال الله أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، وفيه مقال.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري والنسائي والبزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه والبيهقي
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أعذر الله إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة "
وأخرج عبد بن حميد والطبراني والحاكم وابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير عن علي
ابن أبي طالب قال: العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة. وأخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وابن المنذر والبيهقي
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من
يجوز ذلك ". قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ثم أخرجه في موضع آخر من
كتاب الزهد وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو ست وأربعون سنة. وأخرج ابن جرير
عنه أيضا قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) أربعون سنة.
وأخرج أبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم والدارقطني في الإفراد وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات
والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول على المنبر " قال وقع
في نفس موسى هل ينام الله عز وجل؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة،
وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة
فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله له مثلا إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك
السماء والأرض " وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام أن موسى قال: يا جبريل هل ينام ربك؟
فذكر نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أن موسى فذكر نحوه. وأخرج
الفريابي وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم
ثم قرأ (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) الآية.
357

تفسير سورة يس
هي ثلاث وثمانون آية
وهي مكية. قال القرطبي: بالإجماع إلا أن فرقة قالت (ونكتب ما قدموا وآثارهم) نزلت في بنى سلمة من
الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم وينتقلوا إلى جوار مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيأتي
بيان ذلك. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: سورة يس
نزلت بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عائشة مثله. وأخرج الدارمي والترمذي ومحمد بن نصر والبيهقي في الشعب
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل شئ قلبا، وقلب القرآن يس، من قرأ يس
كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث
حميد بن عبد الرحمن، وفي إسناده هارون أبو محمد، وهو شيخ مجهول، وفي الباب عن أبي بكر، ولا يصح
لضعف إسناده. وأخرج البزار من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن لكل
شئ قلبا، وقلب القرآن يس "، ثم قال بعد إخراجه: لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد: يعني زيد بن الخباب عن
حميد المكي مولى آل علقمة. وأخرج الدارمي وأبو يعلى والطبراني في الأوسط وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له في تلك الليلة " قال ابن
كثير: إسناده جيد. وأخرج ابن حبان والضياء عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر له " وإسناده في صحيح ابن حبان هكذا: حدثنا محمد بن إسحاق بن
إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا الوليد بن شجاع بن الوليد الكوبي، حدثنا أبي، حدثنا زياد بن خيثمة، حدثنا محمد
ابن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وأخرج أحمد
وأبو داود والنسائي وابن ماجة ومحمد بن نصر وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب عن معقل بن
يسار أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " يس قلب القرآن، لا يقرؤها عبد يريد الله والدار الآخرة إلا غفر
له ما تقدم من ذنبه، فاقرأوها على موتاكم " وقد ذكر له أحمد إسنادين: أحدهما فيه مجهول، والآخر ذكر فيه
عن أبي عثمان وقال: وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن حسان بن عطية أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من قرأ يس فكأنما قرأ القرآن عشر مرات ". وأخرج ابن الضريس وابن
مردويه والخطيب والبيهقي عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " سورة يس تدعى
في التوراة المعممة، تعم صاحبها بخير الدنيا والآخرة، تكابد عنه بلوى الدنيا والآخرة، وتدفع عنه أهاويل الآخرة،
وتدعى الدافعة والقاضية، تدفع عن صاحبها كل سوء وتقضي له كل حاجة، من قرأها عدلت عشرين حجة،
ومن سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل الله، ومن كتبها ثم شربها أدخلت جوفه ألف دواء وألف نور وألف
يقين وألف بركة وألف رحمة ونزعت عنه كل غل وداء " قال البيهقي: تقرب به عبد الرحمن بن أبي بكر الجدعاني
عن سليمان بن رافع الجندي، وهو منكر. قلت: وهذا الحديث هو الذي تقدمت الإشارة من الترمذي إلى
ضعف إسناده، ولا يبعد أن يكون موضوعا، فهذه الألفاظ كلها منكرة بعيدة من كلام من أوتي جوامع الكلم،
358

وقد ذكره الثعلبي من حديث عائشة، وذكره الخطيب من حديث أنس، وذكر نحوه الخطيب من حديث علي
بأخصر منه. وأخرج البزار عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سورة يس لوددت أنها
في قلب كل إنسان من أمتي " وإسناده هكذا: قال حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن
أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وأخرج الطبراني وابن
مردويه قال السيوطي بسند ضعيف عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من داوم على قراءة
يس كل ليلة ثم مات مات شهيدا ". وأخرج الدارمي عن ابن عباس قال: من قرأ يس حين يصبح أعطى يسر
يومه حتى يمسي، ومن قرأها في صدر ليلته أعطى يسر ليلته حتى يصبح.
قوله (يس) قرأ الجمهور بسكون النون، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص وقالون وورش بإدغام
النون في الواو الذي بعدها، وقرأ عيسى بن عمر بفتح النون، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم
بكسرها، فالفتح على البناء أو على أنه مفعول فعل مقدر تقديره: أتل يس، والكسر على البناء أيضا كجير،
وقيل الفتح والكسر للفرار من التقاء الساكنين. وأما وجه قراءة الجمهور بالسكون للنون فلكونها مسرودة على نمط
التعديد فلا حظ لها من الإعراب. وقرأ هارون الأعور ومحمد بن السميفع والكلبي بضم النون على البناء كمنذ
وحيث وقط، وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هذه يس، ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث.
واختلف في معنى هذه اللفظة، فقيل معناها يا رجل، أو يا إنسان. قال ابن الأنباري: الوقف على يس
حسن لمن قال هو افتتاح للسورة، ومن قال معناه يا رجل لم يقف عليه. وقال سعيد بن جبير وغيره: هو اسم من
أسماء محمد صلى الله عليه وآله وسلم دليله (إنك لمن المرسلين) ومنه قول السعد الحميري:
يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة * على المودة إلا آل ياسين
ومنه قوله - سلام على آل ياسين - أي على آل محمد، وسيأتي في الصافات ما المراد بآل ياسين. قال الواحدي:
359

قال ابن عباس والمفسرون: يريد يا إنسان: يعنى محمدا صلى اله عليه وآله وسلم. وقال أبو بكر الوراق: معناه
يا سيد البشر. وقال مالك: هو اسم من أسماء الله تعالى، روى ذلك عنه أشهب. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن
جعفر الصادق أن معناه يا سيد. وقال كعب: هو قسم أقسم الله به، ورجح الزجاج أن معناه يا محمد.
واختلفوا هل هو عربي أو غير عربي؟ فقال سعيد بن جبير وعكرمة: حبشي. وقال الكلبي: سرياني
تكلمت به العرب فصار من لغتهم. وقال الشعبي: هو بلغة طي. وقال الحسن: هو بلغة كلب. وقد تقدم في طه
وفي مفتتح سورة البقرة ما يغنى عن التطويل ها هنا (والقرآن الحكيم) بالجر على أنه مقسم به ابتداء. وقيل هو
معطوف على يس على تقدير كونه مجرورا بإضمار القسم. قال النقاش: لم يقسم الله لأحد من أنبيائه بالرسالة في
كتابه إلا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم تعظيما له وتمجيدا، والحكيم المحكم الذي لا يتناقض ولا يتخالف، أو
الحكيم قائله، وجواب القسم (إنك لمن المرسلين) وهذا رد على من أنكر رسالته من الكفار بقولهم (لست مرسلا)
وقوله (على صراط مستقيم) خبر آخر لأن: أي إنك على صراط مستقيم، والصراط المستقيم: الطريق القيم الموصل
إلى المطلوب. قال الزجاج: على طريقة الأنبياء الذين تقدموك، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال
(تنزيل العزيز الرحيم) قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر برفع " تنزيل " على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو
تنزيل، ويجوز أن يكون خبرا لقوله يس إن جعل اسما للسورة، وقرأ الباقون بالنصب على المصدرية: أي نزل
الله ذلك تنزيل العزيز الرحيم. والمعنى: أن القرآن تنزيل العزيز الرحيم، وقيل المعنى: إنك يا محمد تنزيل العزيز
الرحيم، والأول أولى. وقيل هو منصوب على المدح على قراءة من قرأ بالنصب، وعبر سبحانه عن المنزل بالمصدر
مبالغة حتى كأنه نفس التنزيل، وقرأ أبو حيوة والترمذي وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة " تنزيل " بالجر على النعت
للقرآن أو البدل منه، واللام في (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم) يجوز أن تتعلق بتنزيل، أو بفعل مضمر يدل
عليه من المرسلين: أي أرسلناك لتنذر، و " ما " في (ما أنذر آباؤهم) هي النافية: أي لم ينذر آباؤهم، ويجوز أن
تكون موصولة أو موصوفة: أي لتنذر قوما الذي أنذره آباؤهم، أو لتنذرهم عذابا أنذره آباؤهم، ويجوز أن
تكون مصدرية: أي إنذار آبائهم، وعلى القول بأنها نافية يكون المعنى: ما أنذر آباؤهم برسول من أنفسهم،
ويجوز أن يراد من أنذر آباؤهم الأقربون لتطاول مدة الفترة، وقوله (فهم غافلون) متعلق بنفي الإنذار على الوجه
الأول: أي لم ينذر آباؤهم فهم بسبب ذلك غافلون، وعلى الوجوه الآخرة متعلق بقوله لتنذر: أي فهم غافلون
عما أنذرنا به آباءهم، وقد ذهب أكثر أهل التفسير إلى أن المعنى على النفي، وهو الظاهر من النظم لترتيب فهم
غافلون على ما قبله، واللام في قوله (لقد حق القول على أكثرهم) هي الموطئة للقسم أي والله لقد حق القول على
أكثرهم، ومعنى حق: ثبت ووجب القول: أي العذاب على أكثرهم: أي أكثر أهل مكة، أو أكثر الكفار
على الإطلاق، أو أكثر كفار العرب، وهم من مات على الكفر وأصر عليه طول حياته فيتفرع قوله (فهم
لا يؤمنون) على ما قبله بهذا الاعتبار: أي لأن الله سبحانه قد علم منهم الإصرار على ما هم فيه من الكفر والموت
عليه، وقيل المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه - فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك -
وجملة (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا) تقرير لما قبلها مثلت حالهم بحال الذين غلت أعناقهم (فهي) الأغلال
منهية (إلى الأذقان) فلا يقدرون عند ذلك على الالتفات ولا يتمكنون من عطفها، وهو معنى قوله (فهم
مقمحون) أي رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم. قال الفراء والزجاج: المقمح: الغاض بصره بعد رفع رأسه،
ومعنى الإقماح رفع الرأس وغض البصر، يقال أقمح البعير رأسه وقمح: إذا رفع رأسه ولم يشرب الماء
360

قال الأزهري: أراد الله أن أيديهم لما غلت عند أعناقهم رفعت الأغلال إلى أذقانهم ورؤوسهم صعداء، فهم
مرفوعوا الرؤوس برفع الأغلال إياها. وقال قتادة: معنى مقمحون: مغلولون، والأول أولى، ومنه قول الشاعر:
ونحن على جوانبها قعود * نغض الطرف كالإبل القماح
قال الزجاج: قيل للكانونين شهرا قماح، لأن الإبل إذا وردت الماء رفعت رؤوسها لشدة البرد، وأنشد
قول أبي الهذلي:
فتى ما ابن الأغر إذا استوينا * وجب الزاد في شهري قماح
قال أبو عبيدة: قمح البعير إذا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب. وقال أبو عبيدة أيضا: هو مثل ضربة
الله لهم في امتناعهم عن الهدى كامتناع المغلول، كما يقال فلان حمار: أي لا يبصر الهدى، وكما قال الشاعر:
* لهم عن الرشد أغلال وأقياد * وقال الفراء: هذا ضرب مثل: أي حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله، وهو
كقوله - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك - وبه قال الضحاك. وقيل الآية إشارة إلى ما يفعل بقوم في النار من وضع
الأغلال في أعناقهم كما قال تعالى - إذ الأغلال في أعناقهم - وقرأ ابن عباس " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا " قال
الزجاج: أي في أيديهم. قال النحاس: وهذه القراءة تفسير ولا يقرأ بما خالف المصحف. قال: وفي الكلام
حذف على قراءة الجماعة، التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفى أيديهم أغلالا فهي إلى الأذقان، فلفظ هي كناية
عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا، ونظيره - سرابيل تقيكم الحر - وتقديره: وسرابيل تقيكم
البرد، لأن ما وقى من الحر وقى من البرد، لأن الغل إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد
قال الله (فهي إلى الأذقان) فقد علم أنه يراد به الأيدي فهم مقمحون: أي رافعوا رؤوسهم لا يستطيعون الإطراق،
لأن من غلت يداه إلى ذقنه ارتفع رأسه. وروي عن ابن عباس أنه قرأ " إنا جعلنا في أيديهم أغلالا " وعن ابن
مسعود أنه قرأ " إنا جعلنا في أيمانهم أغلالا " كما روي سابقا من قراءة ابن عباس (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن
خلفهم سدا) أي منعناهم عن الإيمان بموانع فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه
وخلفه بالأسداد، والسد بضم السين وفتحها لغتان، ومن هذا المعنى في الآية قول الشاعر:
ومن الحوادث لا أبالك أنني * ضربت على الأرض بالأسداد
لا أهتدي فيها لموضع تلعة * بين العذيب وبين أرض مراد
(فأغشيناهم) أي غطينا أبصارهم (فهم) بسبب ذلك (لا يبصرون) أي لا يقدرون على إبصار شئ. قال
الفراء: فألبسنا أبصارهم غشوة: أي عمى فهم لا يبصرون سبيل الهدى، وكذا قال قتادة: إن المعنى لا يبصرون
الهدى. وقال السدى: لا يبصرون محمدا حين ائتمروا على قتله. وقال الضحاك: وجعلنا من بين أيديهم سدا:
أي الدنيا ومن خلفهم سدا: أي الآخرة فأغشيناهم فهم لا يبصرون: أي عموا عن البعث، وعموا عن قبول الشرائع
في الدنيا. وقيل ما بين أيديهم الآخرة وما خلفهم الدنيا، وقرأ الجمهور بالغين المعجمة: أي غطينا أبصارهم، فهو
على حذف مضاف. وقرأ ابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن ويحيى بن يعمر وأبو رجاء وعكرمة بالعين المهملة
من العشا وهو ضعف البصر. ومنه - ومن يعش عن ذكر الرحمن - (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)
أي إنذارك إياهم وعدمه سواء. قال الزجاج: أي من أضله الله هذا الإضلال لم ينفعه الإنذار، إنما ينفع الإنذار
من ذكر في قوله (إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب) أي اتبع القرآن، وخشي الله في الدنيا، وجملة
361

" لا يؤمنون " مستأنفة مبينة لما قبلها من الاستواء، أو في محل نصب على الحال، أو بدل، وبالغيب في محل نصب
على الحال من الفاعل أو المفعول (فبشره بمغفرة وأجر كريم) أي بشر هذا الذي اتبع الذكر، وخشي الرحمن
بالغيب بمغفرة عظيمة وأجر كريم: أي حسن، وهو الجنة. ثم أخبر سبحانه بإحيائه الموتى فقال (إنا نحن نحيي
الموتى) أي نبعثهم بعد الموت. وقال الحسن والضحاك: أي نحييهم بالإيمان بعد الجهل، والأول أولى. ثم توعدهم
بكتب آثارهم فقال (ونكتب ما قدموا) أي أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة (وآثارهم) أي ما أبقوه من
الحسنات التي لا ينقطع نفعها بعد الموت: كمن سن سنة حسنة أو نحو ذلك، أو السيئات التي تبقى بعد موت فاعلها:
كمن سن سنة سيئة. قال مجاهد وابن زيد: ونظيره قوله - علمت نفس ما قدمت وأخرت - وقوله - ينبأ الإنسان
يومئذ بما قدم وأخر - وقيل المراد بالآية آثار المشائين إلى المساجد، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين. قال
النحاس: وهو أولى ما قيل في الآية لأنها نزلت في ذلك. ويجاب عنه بأن الاعتبار بعموم الآية لا بخصوص سببها،
وعمومها يقتضي كتب جميع آثار الخير والشر، ومن الخير تعليم العليم وتصنيفه والوقف على القرب وعمارة المساجد
والقناطر. ومن الشر ابتداع المظالم وإحداث ما يضر بالناس ويقتدى به أهل الجور ويعملون عليه من مكس أو
غيره، ولهذا قال سبحانه (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) أي وكل شئ من أعمال العباد وغيرها كائنا ما كان
في إمام مبين: أي كتاب مقتدى به موضح لكل شئ. قال مجاهد وقتادة وابن زيد: أراد اللوح المحفوظ،
وقالت فرقة: أراد صحائف الأعمال. قرأ الجمهور " ونكتب " على البناء للفاعل. وقرأ زر ومسروق على البناء
للمفعول. وقرأ الجمهور (كل شئ أحصيناه) بنصب كل على الاشتغال. وقرأ أبو السمأل بالرفع على الابتداء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود وابن عباس قوله (يس) قالا: يا محمد. وأخرج ابن أبي شيبة
وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس في قوله (يس) قال: يا إنسان.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن والضحاك وعكرمة مثله. وأخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن ابن
عباس قال: " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في المسجد فيجهر بالقراءة، حتى تأذى به ناس من قريش،
حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا هم عمى لا يبصرون، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، قال: ولم يكن بطن من بطون قريش إلا وللنبي صلى الله عليه
وآله وسلم فيهم قرابة، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى ذهب ذلك عنهم، فنزلت (يس والقرآن
الحكيم) إلى قوله (أم لم تنذرهم لا يؤمنون) قال: فلم يؤمن من ذلك النفر أحد " وفي الباب روايات في سبب نزول
ذلك هذه الرواية أحسنها وأقربها إلى الصحة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: الأغلال ما بين الصدر إلى الذقن
(فهم مقمحون) كما تقمح الدابة باللجام. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا في قوله (وجعلنا من بين أيديهم سدا)
الآية قال: كانوا يمرون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يرونه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال:
اجتمعت قريش بباب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينتظرون خروجه ليؤذوه، فشق ذلك عليه، فأتاه جبريل
بسورة يس وأمره بالخروج عليهم، فأخذ كفا من تراب وخرج وهو يقرؤها ويذر التراب على رؤوسهم، فما
رأوه حتى جاز، فجعل أحدهم يلمس رأسه فيجد التراب، وجاء بعضهم فقال: ما يجلسكم؟ قالوا ننتظر محمدا،
فقال: لقد رأيته داخلا المسجد، قال: قوموا فقد سحركم. وأخرج عبد الرزاق والترمذي وحسنه والبزار وابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري قال:
كان بنو سلمة في ناحية من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فأنزل الله (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب
362

ما قدموا وآثارهم) فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إنه يكتب آثاركم، ثم قرأ عليهم الآية
فتركوا. وأخرج الفريابي وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر والطبراني وابن مردويه
عن ابن عباس نحوه. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر قال " إن بني سلمة أرادوا أن يبيعوا ديارهم ويتحولوا
قريبا من المسجد، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم ".
قوله (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية) قد تقدم الكلام على نظير هذا في سورة البقرة وسورة النمل، والمعنى:
اضرب لأجلهم مثلا، أو اضرب لأجل نفسك أصحاب القرية مثلا: أي مثلهم عند نفسك بأصحاب القرية، فعلى
الأول لما قال تعالى - إنك لمن المرسلين - وقال - لتنذر قوما - قال قل لهم: ما أنا بدعا من الرسل، فإن قبلي بقليل
جاء أصحاب القرية مرسلون، وأنذروهم بما أنذرتكم، وذكروا التوحيد، وخوفوا بالقيامة، وبشروا بنعيم دار
الإقامة. وعلى الثاني لما قال: إن الإنذار لا ينفع من أضله الله، وكتب عليه أنه لا يؤمن، قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: اضرب لنفسك ولقومك مثلا: أي مثل لهم عند نفسك مثلا بأصحاب القرية حيث جاءهم ثلاثة رسل
ولم يؤمنوا، وصبر الرسل على الإيذاء وأنت جئت إليهم واحدا، وقومك أكثر من قوم الثلاثة، فإنهم جاءوا إلى
أهل القرية، وأنت بعثتك إلى الناس كافة. والمعنى: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية: أي أذكر لهم قصة
عجيبة قصة أصحاب القرية، فترك المثل، وأقيم أصحاب القرية مقامه في الإعراب. وقيل لا حاجة إلى الإضمار، بل
المعنى: اجعل أصحاب القرية لهم مثلا على أن يكون مثلا وأصحاب القرية مفعولين لا ضرب، أو يكون أصحاب
القرية بدلا من مثلا، وقد قدمنا الكلام على المفعول الأول من هذين المفعولين هل هو مثلا أو أصحاب القرية.
وقد قيل إن ضرب المثل يستعمل تارة في تطبيق حالة غريبة بحالة أخرى مثلها كما في قوله - ضرب الله مثلا للذين
كفروا امرأة نوح وامرأة لوط - ويستعمل أخرى في ذكر حالة غريبة، وبيانها للناس من غير قصد إلى تطبيقها
363

بنظيره لها كما في قوله - وضربنا لكم الأمثال - أي بينا لكم أحوالا بديعة غريبة: هي في الغرابة كالأمثال، فقوله
سبحانه هنا (واضرب لهم مثلا) يصح اعتبار الأمرين فيه. قال القرطبي: هذه القرية هي أنطاكية في قول جميع
المفسرين، وقوله (إذ جاءها المرسلون) بدل اشتمال من أصحاب القرية، والمرسلون: هم أصحاب عيسى بعثهم إلى
أهل أنطاكية للدعاء إلى الله، فأضاف الله سبحانه الإرسال إلى نفسه في قوله (إذ أرسلنا إليهم اثنين) لأن
عيسى أرسلهم بأمر الله سبحانه، ويجوز أن يكون الله أرسلهم بعد رفع عيسى إلى السماء، فكذبوهما في الرسالة،
وقيل ضربوهما وسجنوهما. قيل واسم الاثنين يوحنا وشمعون. وقيل أسماء الثلاثة صادق ومصدوق وشلوم قاله
ابن جرير وغيره. وقيل سمعان ويحيى وبولس (فعززنا بثالث) قرأ الجمهور بالتشديد، وقرأ أبو بكر عن عاصم
بتخفيف الزاي. قال الجوهري " فعززنا " يخفف ويشدد: أي قوينا وشددنا فالقراءتان على هذا بمعنى. وقيل
التخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا، ومنه - وعزني في الخطاب - والتشديد بمعنى قوينا وكثرنا. قيل وهذا الثالث هو
شمعون، وقيل غيره (فقالوا إنا إليكم مرسلون) أي قال الثلاثة جميعا، وجاءوا بكلامهم هذا مؤكدا لسبق التكذيب
للاثنين، والتكذيب لهما تكذيب للثالث، لأنهم أرسلوا جميعا بشئ واحد، وهو الدعاء إلى الله عز وجل، وهذه
الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: ما قال هؤلاء الرسل بعد التعزيز لهم بثالث؟ وكذلك جملة (قالوا
ما أنتم إلا بشر مثلنا) فإنها مستأنفة جواب سؤال مقدر: كأنه قيل فما قال لهم أهل أنطاكية، فقيل: قالوا ما أنتم
إلا بشر مثلنا: أي مشاركون لنا في البشرية، فليس لكم مزية علينا تختصون بها. ثم صرحوا بجحود إنزال الكتب
السماوية فقالوا (وما أنزل الرحمن من شئ) مما تدعونه أنتم ويدعيه غيركم ممن قبلكم من الرسل وأتباعهم (إن أنتم
إلا تكذبون) أي ما أنتم إلا تكذبون في دعوى ما تدعون من ذلك، فأجابوهم بإثبات رسالتهم بكلام مؤكد
تأكيدا بليغا لتكرر الإنكار من أهل أنطاكية، وهو قولهم (ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) فأكدوا الجواب بالقسم
الذي يفهم من قولهم: ربنا يعلم، وبان، وباللام (وما علينا إلا البلاغ المبين) أي ما يجب علينا من جهة ربنا إلا
تبليغ رسالته على وجه الظهور والوضوح وليس علينا غير ذلك، وهذه الجملة مستأنفة كالتي قبلها، وكذلك
جملة (قالوا إنا تطيرنا بكم) فإنها مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر: أي إنا تشاءمنا بكم، لم تجدوا جوابا تجيبون به
على الرسل إلا هذا الجواب المبني على الجهل المنبئ عن الغباوة العظيمة، وعدم وجود حجة تدفعون الرسل بها.
قال مقاتل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين. قيل إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين، ثم رجعوا إلى التجبر والتكبر
لما ضاقت صدورهم وأعيتهم العلل فقالوا (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) أي لئن لم تتركوا هذه الدعوى وتعرضوا عن
هذه المقالة لنرجمنكم بالحجارة (وليمسنكم منا عذاب أليم) أي شديد فظيع. قال الفراء: عامة ما في القرآن من الرجم
المراد به القتل. وقال قتادة: هو على بابه من الرجم بالحجارة. قيل ومعنى العذاب الأليم: القتل، وقيل الشتم،
وقيل هو التعذيب المؤلم من غير تقييد بنوع خاص وهذا هو الظاهر. ثم أجاب عليهم الرسل دفعا لما زعموه من التطير
بهم ف (قالوا طائركم معكم) أي شؤمكم معكم من جهة أنفسكم، لازم في أعناقكم، وليس هو من شؤمنا. قال
الفراء: طائركم معكم: أي رزقكم وعملكم وبه قال قتادة. قرأ الجمهور " طائركم " اسم فاعل: أي ما طار لكم من
الخير والشر، وقرأ الحسن " أطيركم " أي تطيركم (أئن ذكرتم) قرأ الجمهور من السبعة وغيرهم بهمزة استفهام
بعدها إن الشرطية على الخلاف بينهم في التسهيل والتحقيق، وإدخال ألف بين الهمزتين وعدمه. وقرأ أبو جعفر
وزر بن حبيش وابن السميفع وطلحة بهمزتين مفتوحتين. وقرأ الأعمش وعيسى بن عمر والحسن " أين " بفتح
الهمزة وسكون الباء على صيغة الظرف.
364

واختلف سيبويه ويونس إذا اجتمع استفهام وشرط أيهما يجاب؟ فذهب سيبويه إلى أنه يجاب الاستفهام،
وذهب يونس إلى أنه يجاب الشرط، وعلى القولين فالجواب هنا محذوف: أي أئن ذكرتم فطائركم معكم لدلالة
ما تقدم عليه. وقرأ الماجشون " أن ذكرتم " بهمزة مفتوحة: أي لأن ذكرتم. ثم أضربوا عما يقتضيه الاستفهام
والشرط من كون التذكير سببا للشؤم فقالوا (بل أنتم قوم مسرفون) أي ليس الأمر كذلك، بل أنتم قوم عادتكم
الإسراف في المعصية. قال قتادة: مسرفون في تطيركم. وقال يحيى بن سلام: مسرفون في كفركم. وقال ابن بحر:
السرف هنا الفساد، والإسراف في الأصل مجاوزة الحد في مخالفة الحق (وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى)
هو حبيب بن موسى النجار، وكان نجارا، وقيل إسكافا، وقيل قصارا. وقال مجاهد ومقاتل: هو حبيب بن
إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام. وقال قتادة: كان يعبد الله في غار، فلما سمع بخبر الرسل جاء يسعى،
وجملة (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) مستأنفة جواب سؤال مقدر: كأنه قيل فماذا قال لهم عند مجيئه؟ فقيل: قال
يا قوم اتبعوا المرسلين هؤلاء الذين أرسلوا إليكم فإنهم جاءوا بحق. ثم أكد ذلك وكرره فقال (اتبعوا من لا يسألكم
أجرا) أي لا يسألونكم أجرا على ما جاءوكم به من الهدى (وهم مهتدون) يعني الرسل. ثم أبرز الكلام في معرض
النصيحة لنفسه، وهو يريد مناصحة قومه فقال (وما لي لا أعبد الذي فطرني)؟ أي أي مانع من جانبي يمنعني من
عبادة الذي خلقني. ثم رجع إلى خطابهم لبيان أنه ما أراد نفسه، بل أرادهم بكلامه فقال (وإليه ترجعون) ولم
يقل إليه أرجع، وفيه مبالغة في التهديد. ثم عاد إلى المساق الأول لقصد التأكيد ومزيد الايضاح فقال (أأتخذ من
دونه آلهة) فجعل الإنكار متوجها إلى نفسه، وهم المرادون به: أي لا أتخذ من دون الله آلهة وأعبدها، وأترك
عبادة من يستحق العبادة وهو الذي فطرني. ثم بين حال هذه الأصنام التي يعبدونها من دون الله سبحانه إنكارا
عليهم، وبيانا لضلال عقولهم وقصور إدراكهم فقال (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا) أي شيئا
من النفع كائنا ما كان (ولا ينقذون) من ذلك الضر الذي أرادني الرحمن به، وهذه الجملة صفة لآلهة، أو مستأنفة
لبيان حالها في عدم النفع والدفع، وقوله (لا تغن) جواب الشرط، وقرأ طلحة بن مصرف " إن يردني " بفتح الياء،
قال (إني إذا لفي ضلال مبين) أي إني إذا اتخذت من دونه آلهة لفي ضلال مبين واضح، وهذا تعريض بهم كما
سبق، والضلال الخسران. ثم صرح بإيمانه تصريحا لا يبقى بعده شك فقال (إني آمنت بربكم فاسمعون) خاطب
بهذا الكلام المرسلين. قال المفسرون: أرادوا القوم قتله، فأقبل هو على المرسلين، فقال: إني آمنت بربكم أيها
الرسل فاسمعون: أي اسمعوا إيماني واشهدوا لي به. وقيل إنه خاطب بهذا الكلام قومه لما أرادوا قتله تصلبا في الدين
وتشددا في الحق، فلما قال هذا القول وصرح بالإيمان وثبوا عليه فقتلوه، وقيل وطئوه بأرجلهم، وقيل
حرقوه، وقيل حفروا له حفيرة وألقوه فيها، وقيل إنهم لم يقتلوه بل رفعه الله إلى السماء فهو في الجنة، وبه قال
الحسن، وقيل نشروه بالمنشار (قيل ادخل الجنة) أي قيل له ذلك تكريما له بدخولها بعد قتله كما هي سنة الله
في شهداء عباده. وعلى قول من قال إنه رفع إلى السماء ولم يقتل يكون المعنى: أنهم لما أرادوا قلته نجاه الله من القتل،
وقيل له ادخل الجنة فلما دخلها وشاهدها (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي وجعلني من المكرمين) والجملة
مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي فماذا قال بعد أن قيل له ادخل الجنة فدخلها، فقيل قال يا ليت قومي الخ، وما
في (بما غفر لي) هي المصدرية: أي بغفران ربي، وقيل هي الموصولة: أي بالذي غفر لي ربي، والعائد
محذوف: أي غفره لي ربي، واستضعف هذا لأنه لا معنى لتمنيه أن يعلم قومه بذنوبه المغفورة، وليس المراد إلا
التمني منه بأن يعلم قومه بغفران ربه له. وقال الفراء: إنها استفهامية بمعنى التعجب، كأنه قال: بأي شئ غفر لي
365

ربي. قال الكسائي: لو صح هذا لقال بم من غير ألف. ويجاب عنه بأنه ورد في لغة العرب إثباتها وإن
كان مكسورا بالنسبة إلى حذفها، ومنه قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم * كخنزير تمرغ في دمان
وفي معنى تمنيه قولان: أحدهما أنه تمنى أن يعلموا بحاله ليعلموا حسن مآله، وحميد عاقبته إرغاما لهم. وقيل
إنه تمنى أن يعلموا بذلك ليؤمنوا مثل إيمانه، فيصيروا إلى مثل حاله.
وقد أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله (واضرب لهم مثلا أصحاب القرية) قال: هي أنطاكية. وأخرج
ابن أبي حاتم عن بريده مثله. وأخرج ابن سعد وابن عساكر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال:
كان بين موسى بن عمران وبين عيسى ابن مريم ألف سنة وتسعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما
ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم، وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء وهو قوله (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا
بثالث) والذي عزز به شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة
وأربع وثلاثون سنة. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (طائركم معكم) قال: شؤمكم معكم. وأخرج ابن
جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وجاء من أقصى المدينة رجل) قال: هو حبيب النجار. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه من وجه آخر، قال اسم صاحب يس: حبيب، وكان الجذام قد أسرع فيه. وأخرج الحاكم عن
ابن مسعود قال: لما قال صاحب يس (يا قوم اتبعوا المرسلين) خنقوه ليموت فالتفت إلى الأنبياء فقال (إني آمنت
بربكم فاسمعون) أي فاشهدوا لي.
366

لما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة وأهلكهم بالصيحة، ومعنى (وما أنزلنا
على قومه من بعده) أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السماوات على
الاختلاف السابق (من جند من السماء) لإهلاكهم وللانتقام منهم: أي لم تحتج إلى إرسال جنود من السماء
لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه (وما
كنا منزلين) أي وما صح في قضائنا وحكمتنا عبد أن ننزل لإهلاكهم جندا لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة
لا بإنزال الجند. وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ولا نبي بعد قتله. وروي
عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم وتصغير
أمرهم: أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله (إن
كانت إلا صيحة واحدة) أي إن كانت العقوبة أو النقمة أو الأخذة إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فأهلكهم.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار
إذا طفئت، وهو معنى قوله (فإذا هم خامدون) أي قوم خامدون ميتون، شبههم بالنار إذا طفئت، لأن الحياة
كالنار الساطعة، والموت كخمودها. قرأ الجمهور " صيحة " بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود
إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ومعاذ القاري برفعها على أن كان تامة: أي وقع
وحدث، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله (إن كانت) قال أبو حاتم: فلو
كان كما قرأ أبو جعفر لقال " إن كان إلا صيحة " وقدر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا
صيحة واحدة، وقدرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وقرأ عبد الله بن مسعود " إن كانت إلا زقية
واحدة " والزقية الصيحة قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف، وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح،
ومنه المثل " أثقل من الزواقي " فكان يجب على هذا أن تكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال: الزقو
والزقي مصدر وقد زقا الصدا يزقو زقا: أي صاح: وكل صائح زاق، والزقية الصيحة (يا حسرة على العباد)
قرأ الجمهور بنصب حسرة، على أنها منادي منكر كأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري. وقيل إنها
منصوبة على المصدرية، والمنادي محذوف، والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقرأ قتادة وأبي في رواية عنه
بضم حسرة على النداء. قال الفراء: في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب وإنها لو رفعت النكرة لكان صوابا،
واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب يا مهتم بأمرنا لا تهتم، وأنشد: * يا دار غيرها البلى تغييرا *
قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره. قال: وتقدير ما ذكره: يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا، وتقدير
البيت: يا أيتها الدار. وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا. قال ابن جرير: المعنى
يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل الله، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وعلي بن الحسين
" يا حسرة العباد " على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبي. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار
حين كذبوا الرسل. وقيل هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة. وقيل إن القائل: يا حسرة على العباد
هم الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية
ومجاهد، وقيل إن التحسر عليهم هو من الله عز وجل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه. وقرأ ابن هرمز ومسلم
ابن جندب وعكرمة وأبو الزناد " يا حسره " بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرئ " يا حسرتا " كما
قرئ بذلك في سورة الزمر، وجملة (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه
367

من تكذيب الرسل والاستهزاء بهم، وأن ذلك هو سبب التحسر عليهم. ثم عجب سبحانه من حالهم حيث لم يعتبروا
بأمثالهم من الأمم الخالية فقال (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) أي ألم يعلموا كثرة من أهلكنا قبلهم من
القرون التي أهلكناها من الأمم الخالية، وجملة (إنهم إليهم لا يرجعون) بدل من كم أهلكنا على المعنى. قال
سيبويه: أن بدل من كم، وهي الخبرية، فلذلك جاز أن يبدل منها ما ليس باستفهام، والمعنى: ألم يروا أن
القرون الذين أهلكناهم أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الفراء: كم في موضع نصب من وجهين: أحدهما بيروا،
واستشهد على هذا بأنه في قراءة ابن مسعود " ألم يروا من أهلكنا " والوجه الآخر أن تكون كم في موضع نصب
بأهلكنا. قال النحاس: القول الأول محال، لأن كم لا يعمل فيها ما قبلها لأنها استفهام، ومحال أن يدخل الاستفهام
في حيز ما قبله، وكذا حكمها إذا كانت خبرا، وإن كان سيبويه قد أومأ إلى بعض هذا فجعل أنهم بدلا من كم،
وقد رد ذلك المبرد أشد رد (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) أي محضرون لدينا يوم القيامة للجزاء. قرأ ابن
عامر وعاصم وحمزة لما بتشديدها، وقرأ الباقون بتخفيفها. قال الفراء: من شدد جعل لما بمعنى إلا، وإن بمعنى ما:
أي ما كل إلا جميع لدينا محضرون، ومعنى جميع مجموعون، فهو فعيل بمعنى مفعول، ولدينا ظرف له، وأما على
قراءة التخفيف فإن هي المخففة من الثقيلة، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وتنوين " كل " عوض عن المضاف إليه
وما بعده الخبر، واللام هي الفارقة بين المخففة والنافية. قال أبو عبيدة: وما على هذه القراءة زائدة، والتقدير
عنده: وإن كل لجميع. وقيل معنى محضرون معذبون، والأولى أنه على معناه الحقيقي من الإحضار للحساب.
ثم ذكر سبحانه البرهان على التوحيد والحشر مع تعداد النعم وتذكيرها فقال (وآية لهم الأرض الميتة) فآية خبر مقدم
وتنكيرها للتفخيم ولهم صفتها، أو متعلقة بآية لأنها بمعنى علامة، والأرض مبتدأ، ويجوز أن تكون آية مبتدأ
لكونها قد تخصصت بالصفة، وما بعدها الخبر. قرأ أهل المدينة " الميتة " بالتشديد وخففها الباقون، وجملة
(أحييناها) مستأنفة مبينة لكيفية كونها آية، وقيل هي صفة للأرض فنبههم الله بهذا على إحياء الموتى وذكرهم
نعمه وكمال قدرته، فإنه سبحانه أحيا الأرض بالنبات. وأخرج منها الحبوب التي يأكلونها ويتغذون بها، وهو
معنى قوله (وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) وهو ما يقتاتونه من الحبوب، وتقديم منه للدلالة على أن الحب معظم
ما يؤكل وأكثر ما يقوم به المعاش (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب) أي جعلنا في الأرض جنات من أنواع
النخل والعنب، وخصصهما بالذكر لأنهما أعلى الثمار وأنفعها للعباد (وفجرنا فيها من العيون) أي فجرنا في الأرض
بعضا من العيون، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه، أو المفعول العيون، ومن مزيدة على رأي من جوز
زيادتها في الإثبات وهو الأخفش ومن وافقه، والمراد بالعيون عيون الماء. قرأ الجمهور " فجرنا " بالتشديد، وقرأ
جناح بن حبيش بالتخفيف، والفجر والتفجير كالفتح والتفتيح لفظا ومعنى، واللام في (ليأكلوا من ثمره) متعلق
بجعلنا، والضمير في " من ثمره " يعود إلى المذكور من الجنات والنخيل، وقيل هو راجع إلى ماء العيون لأن الثمر منه،
قاله الجرجاني. قرأ الجمهور " ثمره " بفتح الثاء والميم، وقرأ حمزة والكسائي بضمهما، وقرأ الأعمش بضم الثاء
وإسكان الميم، وقد تقدم الكلام في هذا في الأنعام، وقوله (وما عملته أيديهم) معطوف على ثمره: أي ليأكلوا
من ثمره ويأكلوا مما عملته أيديهم كالعصير والدبس ونحوهما، وكذلك ما غرسوه وحفروه على أن ما موصولة،
وقيل هي نافية، والمعنى: لم يعملوه، بل العامل له هو الله: أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها، وهو قول
الضحاك ومقاتل. قرأ الجمهور " عملته " وقرأ الكوفيون " عملت " بحذف الضمير، والاستفهام في قوله (أفلا
يشكرون) للتقريع والتوبيخ لهم لعدم شكرهم للنعم، وجملة (سبحان الذي خلق الأزواج كلها) مستأنفة مسوقة
368

لتنزيهه سبحانه عما وقع منهم من ترك الشكر لنعمه المذكورة والتعجب من إخلالهم بذلك، وقد تقدم الكلام
مستوفى في معنى سبحان، وهو في تقدير الأمر للعباد بأن ينزهوه عما لا يليق به، والأزواج: الأنواع والأصناف،
لأن كل صنف مختلف الألوان والطعوم والأشكال، و (مما تنبت الأرض) بيان للأزواج، والمراد كل ما ينبت فيها
من الأشياء المذكورة وغيرها (ومن أنفسهم) أي خلق الأزواج من أنفسهم، وهم الذكور والإناث (ومما
لا يعلمون) من أصناف خلقه في البر والبحر والسماء والأرض (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) الكلام في هذا كما
قدمنا في قوله - وآية لهم الأرض الميتة أحييناها - والمعنى: أن ذلك علامة دالة على توحيد الله وقدرته ووجوب
إلهيته، والسلخ: الكشط والنزع، يقال سلخه الله من بدنه، ثم يستعمل بمعنى الإخراج، فجعل سبحانه ذهاب
الضوء ومجئ الظلمة كالسلخ من الشئ، وهو استعارة بليغة (فإذا هم مظلمون) أي داخلون في الظلام مفاجأة
وبغتة، يقال أظلمنا: أي دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا دخلنا في وقت الظهر، وكذلك أصبحنا وأمسينا،
وقيل " منه " بمعنى عنه، والمعنى: نسلخ عنه ضياء النهار. قال الفراء: يرمي بالنهار على الليل فيأتي بالظلمة،
وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليه، فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليل: أي كشط وأزيل
فتظهر الظلمة (والشمس تجري لمستقر لها) يحتمل أن تكون الواو للعطف على الليل، والتقدير: وآية لهم الشمس،
ويجوز أن تكون الواو ابتدائية، والشمس مبتدأ، وما بعدها الخبر، ويكون الكلام مستأنفا مشتملا على ذكر
آية مستقلة. قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: تجرى لمجرى مستقر لها، فتكون اللام للعلة: أي لأجل مستقر
لها، وقيل اللام بمعنى إلى وقد قرئ بذلك. قيل والمراد بالمستقر: يوم القيامة، فعنده تستقر ولا يبقى لها حركة،
وقيل مستقرها هو أبعد ما تنتهي إليه ولا تجاوزه، وقيل نهاية ارتفاعها في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقيل
مستقرها تحت العرش، لأنها تذهب إلى هنالك فتسجد، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها، وهذا هو الراجح. وقال
الحسن: إن للشمس في السنة ثلاثمائة وستين مطلعا تنزل في كل يوم مطلعا ثم لا تنزل إلى الحول، فهي تجري في
تلك المنازل، وهو مستقرها، وقيل غير ذلك. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر
والصادق بن الباقر " لا مستقر لها " بلا التي لنفي الجنس، وبناء مستقر على الفتح. وقرأ ابن أبي عبلة: لا مستقر بلا
التي بمعنى ليس، ومستقر اسمها، ولها خبرها، والإشارة بقوله (ذلك) إلى جري الشمس: أي ذلك الجري
(تقدير العزيز) أي الغالب القاهر (العليم): أي المحيط علمه بكل شئ، ويحتمل أن تكون الإشارة راجعة إلى
المستقر: أي ذلك المستقر: تقدير الله (والقمر قدرناه منازل). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو برفع
القمر على الابتداء. وقرأ الباقون بالنصب على الاشتغال، وانتصاب منازل على أنه مفعول ثان، لأن قدرنا
بمعنى صيرنا، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال: أي قدرنا سيره حال كونه ذا منازل، ويجوز أن يكون منتصبا
على الظرفية: أي في منازل. واختار أبو عبيد النصب في القمر، قال: لأن قبله فعلا وهو نسلخ، وبعده فعلا
وهو قدرنا. قال النحاس: أهل العربية جميعا فيما علمت على خلاف ما قال. منهم الفراء قال: الرفع أعجب إلي،
قال: وإنما كان الرفع عندهم أولى لأنه معطوف على ما قبله، ومعناه: وآية لهم القمر. قال أبو حاتم: الرفع أولى،
لأنك شغلت الفعل عنه بالضمير فرفعته بالابتداء، والمنازل: هي الثمانية والعشرون التي ينزل القمر في كل ليلة
في واحد منها وهي معروفة وسيأتي ذكرها، فإذا صار القمر في آخرها عاد إلى أولها، فيقطع الفلك في ثمان
وعشرين ليلة، ثم يستتر ليلتين، ثم يطلع هلالا، فيعود في قطع تلك المنازل من الفلك (حتى عاد كالعرجون
القديم) قال الزجاج: العرجون هو عود العذق الذي فيه الشماريخ، وهو فعلون من الانعراج، وهو الانعطاف:
369

أي سار في منازله، فإذا كان في آخرها دق واستقوس وصغر حتى صار كالعرجون القديم، وعلى هذا فالنون
زائدة. قال قتادة: وهو العذق اليابس المنحني من النخلة. قال ثعلب: العرجون الذي يبقى في النخلة إذا قطعت،
والقديم: البالي. وقال الخليل: العرجون أصل العذق وهو أصفر عريض، يشبه به الهلال إذا انحنى، وكذا قال
الجوهري: إنه أصل العذق الذي يعوج ويقطع منه الشماريخ، فيبقى على النخل يابسا، وعرجته: ضربته
بالعرجون، وعلى هذا فالنون أصلية. قرأ الجمهور " العرجون " بضم العين والجيم: وقرأ سليمان التيمي بكسر
العين وفتح الجيم، وهما لغتان، والقديم: العتيق (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) الشمس مرفوعة بالابتداء،
لأنه لا يجوز أن تعمل لا في المعرفة: أي لا يصح ولا يمكن للشمس أن تدرك القمر في سرعة السير وتنزل في المنزل
الذي فيه القمر، لأن لكل واحد منهما سلطانا على انفراده، فلا يتمكن أحدهما من الدخول على الآخر، فيذهب
سلطانه إلى أن يأذن الله بالقيامة، فتطلع الشمس من مغربها. وقال الضحاك: معناه إذا طلعت الشمس لم يكن
للقمر ضوء، وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء. وقال مجاهد: أي لا يشبه ضوء أحدهما ضوء الآخر. وقال
الحسن: إنهما لا يجتمعان في السماء ليلة الهلال خاصة، وكذا قال يحيى بن سلام. وقيل معناه: إذا اجتمعا
في السماء كان أحدهما بين يدي الآخر في منزل لا يشتركان فيه. وقيل القمر في سماء الدنيا، والشمس في السماء
الرابعة. ذكره النحاس والمهدوي. قال النحاس: وأحسن ما قيل في معناه وأبينه: أن سير القمر سير سريع،
والشمس لا تدركه في السير. وأما قوله - وجمع الشمس والقمر - فذلك حين حبس الشمس عن الطلوع على
ما تقدم بيانه في الأنعام، ويأتي في سورة القيامة أيضا، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا وقيام الساعة (ولا الليل
سابق النهار) أي لا يسبقه فيفوته، ولكن يعاقبه. ويجيء كل واحد منهما في وقته ولا يسبق صاحبه، وقيل المراد
من الليل والنهار آيتاهما، وهما الشمس والقمر، فيكون عكس قوله (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) أي
ولا القمر سابق الشمس، وإيراد السبق مكان الإدراك لسرعة سير القمر (وكل في فلك يسبحون) التنوين في
كل عوض عن المضاف إليه: أي وكل واحد منهما، والفلك: هو الجسم المستدير أو السطح المستدير أو الدائرة،
والخلاف في كون السماء مبسوطة أو مستديرة معروف، والسبح: السير بانبساط وسهولة، والجمع في قوله
(يسبحون) باعتبار اختلاف مطالعهما، فكأنهما متعددان بتعددها، أو المراد: الشمس والقمر والكواكب.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله (وما أنزلنا على قومه من بعده) الآية يقول:
ما كابدناهم بالجموع: أي الأمر أيسر علينا من ذلك. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(يا حسرة على العباد) يقول: يا ويلا للعباد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: يا حسرة على العباد قال: الندامة
على العباد الذين (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) يقول: الندامة عليهم يوم القيامة. وأخرج ابن
أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وما عملته أيديهم) قال: وجدوه معمولا لم تعمله أيديهم: يعني الفرات ودجلة ونهر
بلخ وأشباهها (أفلا يشكرون) لهذا. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عن قوله (والشمس تجري لمستقر لها) قال: مستقرها تحت العرش، وفي لفظ للبخاري وغيره
من حديثه قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال: (يا أبا ذر أتدري
أين تغرب الشمس؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فذلك قوله (والشمس
تجري لمستقر لها) ". وفي لفظ من حديثه أيضا عند أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم قال: يا أبا ذر أتدري أين
تذهب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها فتستأذن في الرجوع فيأذن
370

لها، وكأنها قد قيل لها اطلعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها. ثم قرأ (ذلك مستقر لها) وذلك قراءة عبد الله.
وأخرج الترمذي والنسائي وغيرهما من قول ابن عمر نحوه. وأخرج الخطيب في كتاب النجوم عن ابن عباس في
قوله (والقمر قدرناه منازل) الآية قال: هي ثمانية وعشرون منزلا ينزلها القمر في كل شهر: أربعة عشر منها
شامية، وأربعة عشر منها يمانية، أولها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف
والجبهة والدبرة والصرفة والعواء والسماك، وهو آخر الشامية، والغفر والزبانا والإكليل والقلب والشولة والنعائم
والبلدة وسعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية ومقدم الدلو ومؤخر الدلو والحوت، وهو آخر
اليمانية، فإذا سار هذه الثمانية وعشرين منزلا (عاد كالعرجون القديم) كما كان في أول الشهر. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: كالعرجون القديم: يعني أصل العذق العتيق.
ثم ذكر سبحانه وتعالى نوعا آخر مما أمتن به على عباده من النعم فقال (وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك
المشحون) أي دلالة وعلامة، وقيل معنى " آية " هنا العبرة وقيل النعمة، وقيل النذارة.
وقد اختلف في معنى (أنا حملنا ذرياتهم) وإلى من يرجع الضمير، لأن الضمير الأول وهو قوله (وآية لهم)
لأهل مكة، أو لكفار العرب، أو للكفار على الإطلاق الكائنين في عصر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقيل
الضمير يرجع إلى القرون الماضية، والمعنى: أن الله حمل ذرية القرون الماضية في الفلك المشحون، فالضميران
مختلفان. وهذا حكاه النحاس عن علي بن سليمان الأخفش. وقيل الضميران لكفار مكة ونحوهم. والمعنى: أن
371

الله حمل ذرياتهم من أولادهم وضعفائهم على الفلك، فامتن الله عليهم بذلك: أي إنهم يحملونهم معهم في السفن
إذا سافروا، أو يبعثون أولادهم للتجارة لهم فيها. وقيل الذرية الآباء والأجداد، والفلك هو سفينة نوح: أي
إن الله حمل آباء هؤلاء وأجدادهم في سفينة نوح. قال الواحدي: والذرية تقع على الآباء كما تقع على الأولاد.
قال أبو عثمان: وسمى الآباء ذرية، لأن منهم ذرء الأبناء، وقيل الذرية النطف الكائنة في بطون النساء، وشبه
البطون بالفلك المشحون، والراجح القول الثاني ثم الأول ثم الثالث، وأما الرابع ففي غاية البعد والنكارة. وقد
تقدم الكلام في الذرية واشتقاقها في سورة البقرة مستوفى، والمشحون المملوء الموقر، والفلك يطلق على الواحد
والجمع كما تقدم في يونس، وارتفاع آية على أنها خبر مقدم، والمبتدأ " أنا حملنا " أو العكس على ما قدمنا.
وقيل إن الضمير في قوله (وآية لهم) يرجع إلى العباد المذكورين في قوله (يا حسرة على العباد) لأنه قال بعد ذلك
(وآية لهم الأرض الميتة) وقال (وآية لهم الليل). ثم قال (وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم) فكأنه قال: وآية للعباد أنا حملنا
ذريات العباد، ولا يلزم أن يكون المراد بأحد الضميرين البعض منهم، وبالضمير الآخر البعض الآخر، وهذا
قول حسن (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي وخلقنا لهم مما يماثل الفلك ما يركبونه على أن ما هي الموصولة. قال
مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير: وهي الإبل خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر،
والعرب تسمي الإبل سفائن البر، وقيل المعنى: وخلقنا لهم سفنا أمثال تلك السفن يركبونها، قاله الحسن والضحاك
وأبو مالك. قال النحاس: وهذا أصح لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس، وقيل: هي السفن المتخذة بعد سفينة
نوح (وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون) هذا من تمام الآية التي أمتن الله بها عليهم، ووجه الامتنان
أنه لم يغرقهم في لجج البحار مع قدرته على ذلك، والضمير يرجع إما إلى أصحاب الذرية، أو إلى الذرية، أو إلى
الجميع على اختلاف الأقوال، والصريخ بمعنى المصرخ والمصرخ هو المغيث: أي فلا مغيث لهم يغيثهم إن شئنا
إغراقهم، وقيل: هو المنعة. ومعنى ينقذون: يخلصون، يقال أنقذه واستنقذه، إذا خلصه من مكروه (إلا
رحمة منا) استثناء مفرغ من أعم العلل: أي لا صريخ لهم، ولا ينقذون لشئ من الأشياء إلا رحمة منا، كذا قال
الكسائي والزجاج وغيرهما، وقيل هو استثناء منقطع: أي لكن لرحمة منا. وقيل هو منصوب على المصدرية بفعل
مقدر (و) انتصاب (متاعا) على العطف على رحمة: أي نمتعهم بالحياة الدنيا (إلى حين) وهو الموت، قاله
قتادة. وقال يحيى بن سلام: إلى القيامة (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) أي ما بين أيديكم من
الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم، وما خلفكم منها. قال قتادة معنى (اتقوا ما بين أيديكم) أي من الوقائع فيمن
كان قبلكم من الأمم (وما خلفكم) في الآخرة. وقال سعيد بن جبير ومجاهد (ما بين أيديكم) ما مضى من الذنوب
(وما خلفكم) ما بقي منها. وقيل (ما بين أيديكم) الدنيا (وما خلفكم) الآخرة، قاله سفيان. وحكى عكس هذا
القول الثعلبي عن ابن عباس. وقيل (ما بين أيديكم) ما ظهر لكم (وما خلفكم) ما خفي عنكم، وجواب إذا
محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا كما يدل عليه " إلا كانوا عنها معرضين " (لعلكم ترحمون) أي رجاء
أن ترحموا، أو كي ترحموا، أو راجين أن ترحموا (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) ما هي
النافية، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد، ومن الأولى مزيدة للتوكيد، والثانية للتبعيض: والمعنى: ما تأتيهم
من آية دالة على نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعلى صحة ما دعا إليه من التوحيد في حال من الأحوال إلا
كانوا عنها معرضين. وظاهره يشمل الآيات التنزيلية، والآيات التكوينية، وجملة (إلا كانوا عنها معرضين) في
محل نصب على الحال كما مر تقريره في غير موضع. والمراد بالإعراض عدم الالتفات إليها، وترك النظر الصحيح
372

فيها، وهذه الآية متعلقة بقوله (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) أي إذا جاءتهم الرسل
كذبوا، وإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) أي تصدقوا على الفقراء مما أعطاكم
الله، وأنعم به عليكم من الأموال، قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقال مقاتل: إن المؤمنين
قالوا لكفار قريش: أنفقوا على المساكين مما زعمتم أنه لله من أموالكم من الحرث والأنعام كما في قوله سبحانه
- وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا - فكان جوابهم ما حكاه الله عنهم بقوله (قال الذين كفروا للذين
آمنوا) استهزاء بهم، وتهكما بقولهم (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) أي من لو يشاء الله رزقه، وقد كانوا سمعوا
المسلمين يقولون: إن الرزاق هو الله، وأنه يغني من يشاء، ويفقر من يشاء، فكأنهم حاولوا بهذا القول الإلزام
للمسلمين وقالوا: نحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا غلط منهم ومكابرة ومجادلة بالباطل،
فإن الله سبحانه أغنى بعض خلقه وأفقر بعضا، وأمر الغني أن يطعم الفقير وابتلاه به فيما فرض له من ماله من
الصدقة. وقولهم (من لو يشاء الله أطعمه) هو وإن كان كلاما صحيحا في نفسه، ولكنهم لما قصدوا به الإنكار
لقدرة الله، أو إنكار جواز الأمر بالانفاق مع قدرة الله كان احتجاجهم من هذه الحيثية باطلا. وقوله (إن أنتم
إلا في ضلال مبين) من تمام كلام الكفار. والمعنى: أنكم أيها المسلمون في سؤال المال، وأمرنا بإطعام الفقراء لفي
ضلال في غاية الوضوح والظهور. وقيل هو من كلام الله سبحانه جوابا على هذه المقالة التي قالها الكفار. وقال
القشيري والماوردي: إن الآية نزلت في قوم من الزنادقة. وقد كان في كفار قريش وغيرهم من سائر العرب
قوم يتزندقون فلا يؤمنون بالصانع، فقالوا هذه المقالة استهزاء بالمسلمين ومناقضة لهم. وحكى نحو هذا القرطبي عن
ابن عباس (ويقولون متى هذا الوعد) الذي تعدونا به من العذاب والقيامة، والمصير إلى الجنة أو النار. (إن
كنتم صادقين) فيما تقولونه وتعدونا به. قالوا ذلك استهزاء منهم وسخرية بالمؤمنين، ومقصودهم إنكار ذلك بالمرة،
ونفى تحققه وجحد وقوعه، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) أي ما ينتظرون إلا
صيحة واحدة، وهي نفخة إسرافيل في الصور (تأخذهم وهم يخصمون) أي يختصمون في ذات بينهم في البيع
والشراء ونحوهما من أمور الدنيا، وهذه هي النفخة الأولى، وهى نفخة الصعق.
وقد اختلف القراء في يخصمون، فقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من خصم يخصم، والمعنى: يخصم
بعضهم بعضا، فالمفعول محذوف. وقرأ أبو عمرو وقالون بإخفاء فتحة الخاء وتشديد الصاد، وقرأ نافع وابن كثير
وهشام وكذلك إلا أنهم أخلصوا فتحة الخاء، وقرأ الباقون بكسر الخاء وتشديد الصاد. والأصل في القراءات الثلاث
يختصمون فأدغمت التاء في الصاد، فنافع وابن كثير وهشام نقلوا فتحة التاء إلى الساكن قبلها نقلا كاملا،
وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتها تنبيها على أن الخاء أصلها السكون، والباقون حذفوا حركتها، فالتقى ساكنان
فكسروا أولهما. وروي عن أبي عمرو وقالون أنهما قرءا بتسكين الخاء وتشديد الصاد وهي قراءة مشكلة لاجتماع ساكنين
فيها. وقرأ أبي " يختصمون " على ما هو الأصل (فلا يستطيعون توصية) أي لا يستطيع بعضهم أن يوصي إلى بعض
بماله وما عليه، أو لا يستطيع أن يوصيه بالتوبة والإقلاع عن المعاصي، بل يموتون في أسواقهم ومواضعهم (ولا
إلى أهلهم يرجعون) أي إلى منازلهم التي ماتوا خارجين عنها، وقيل المعنى: لا يرجعون إلى أهلهم قولا، وهذا
إخبار عما ينزل بهم عند النفخة الأولى. ثم أخبر سبحانه عما ينزل بهم عند النفخة الثانية فقال (ونفخ في الصور)
وهي النفخة التي يبعثون بها من قبورهم، ولهذا قال (فإذا هم من الأجداث) أي القبور (إلى ربهم ينسلون) أي
373

يسرعون، وبين النفختين أربعون سنة. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي حيث قال " ونفخ " تنبيها على تحقق
وقوعه كما ذكره أهل البيان، وجعلوا هذه الآية مثالا له، والصور بإسكان الواو: هو القرن الذي ينفخ فيه
إسرافيل كما وردت بذلك السنة، وإطلاق هذا الاسم على القرن معروف في لغة العرب، ومنه قول الشاعر:
نحن نطحناهم غداة الغورين * نطحا شديدا لا كنطح الصورين
أي القرنين. وقد مضى هذا مستوفى في سورة الأنعام. وقال قتادة: الصور جمع صورة: أي نفخ في الصور
الأرواح، والأجداث جمع جدث وهو القبر. وقرئ " الأجداف " بالفاء وهي لغة، واللغة الفصيحة بالثاء المثلثة
والنسل والنسلان: الإسراع في السير، يقال نسل ينسل كضرب يضرب، ويقال ينسل بالضم، ومنه قول امرئ
القيس: * فسلي ثيابي من ثيابك تنسل *. وقول الآخر:
عسلان الذيب أمسى قارنا * برد الليل عليه فنسل
قالوا (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) أي قالوا عند بعثهم من القبور بالنفخة يا ويلنا: نادوا ويلهم، كأنهم قالوا
له أحضر فهذا أوان حضورك، وهؤلاء القائلون هم الكفار. قال ابن الأنباري: الوقف على يا ويلنا وقف حسن.
ثم يبتدئ الكلام بقوله (من بعثنا من مرقدنا) ظنوا لاختلاط عقولهم بما شاهدوا من الهول، وما داخلهم من
الفزع أنهم كانوا نياما. قرأ الجمهور " يا ويلنا " وقرأ ابن أبي ليلى " يا ويلتنا " بزيادة التاء. وقرأ الجمهور " من
بعثنا " بفتح ميم من على الاستفهام. وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرف جر، ورويت
هذه القراءة عن علي بن أبي طالب. وعلى هذه القراءة تكون من متعلقة بالويل، وقرأ الجمهور " من بعثنا ". وفي
قراءة أبي " من أهبنا " من هب من نومه: إذا انتبه، وأنشد ثعلب على هذه القراءة:
وعاذلة هبت بليل تلومني * ولم يعتمدني قبل ذاك عذول
وقيل إنهم يقولون ذلك إذا عاينوا جهنم. وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل
القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وجملة (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) جواب عليهم من جهة
الملائكة، أو من جهة المؤمنين. وقيل هو من كلام الكفرة يجيب به بعضهم على بعض. قال بالأول الفراء.
وبالثاني مجاهد. وقال قتادة: هي من قول الله سبحانه، و " ما " في قوله (ما وعد الرحمن) موصولة وعائدها محذوف
والمعنى: هذا الذي وعده الرحمن، وصدق فيه المرسلون قد حق عليكم، ونزل بكم، ومفعولا الوعد والصدق
محذوفان: أي وعدكموه الرحمن وصدقكموه المرسلون، والأصل وعدكم به، وصدقكم فيه، أو وعدناه الرحمن.
وصدقناه المرسلون على أن هذا من قول المؤمنين، أو من قول الكفار (إن كانت إلا صيحة واحدة) أي ما كانت
تلك النفخة المذكورة إلا صيحة واحدة صاحها إسرافيل بنفخة في الصور (فإذا هم جميع لدينا محضرون) أي فإذا
هم مجموعون محضرون لدينا بسرعة للحساب والعقاب (فاليوم لا تظلم نفس) من النفوس (شيئا) مما تستحقه:
أي لا ينقص من ثواب عملها شيئا من النقص، ولا تظلم فيه بنوع من أنواع الظلم (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) أي
إلا جزاء ما كنتم تعملونه في الدنيا، أو إلا بما كنتم تعملونه: أي بسببه، أو في مقابلته.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله (أنا حملنا ذرياتهم) الآية قال: في سفينة
نوح حمل فيها من كل زوجين اثنين (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) قال: السفن التي في البحر والأنهار التي
يركب الناس فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي صالح نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن
374

ابن عباس في قوله (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) قال: هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يعني الإبل خلقها الله كما رأيت، فهي سفن البر يحملون عليها ويركبونها.
ومثله عن الحسن وعكرمة وعبد الله بن شداد ومجاهد. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر
وابن مردويه عن أبي هريرة في قوله (فلا يستطيعون توصية) الآية قال: تقوم الساعة والناس في أسواقهم يتبايعون
ويذرعون الثياب ويحلبون اللقاح، وفي حوائجهم فلا يستطيعون توصية (ولا إلى أهلهم يرجعون) وأخرج عبد
ابن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن المنذر عن الزبير بن العوام قال: إن الساعة تقوم والرجل يذرع
الثوب والرجل يحلب الناقة، ثم قرأ (فلا يستطيعون توصية) الآية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما، فلا يتبايعانه
ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقى فيه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته
فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها ". وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب في قوله (من بعثنا من مرقدنا) قال: ينامون قبل البعث نومة.
لما ذكر الله سبحانه حال الكافرين أتبعه بحكاية حال عباده الصالحين، وجعله من جملة ما يقال للكفار يومئذ
زيادة لحسرتهم وتكميلا لجزعهم، وتتميما لما نزل بهم من البلاء وما شاهدوه من الشقاء، فإذا رأوا ما أعده الله لهم
من أنواع العذاب، وما أعده لأوليائه من أنواع النعيم، بلغ ذلك من قلوبهم مبلغا عظيما، وزاد في ضيق صدورهم
زيادة لا يقادر قدرها. والمعنى (إن أصحاب الجنة) في ذلك (اليوم في شغل) بما هم فيه من اللذات التي هي
375

ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر عن الاهتمام بأمر الكفار، ومصيرهم إلى النار وإن كانوا من
قراباتهم. والأولى عدم تخصيص الشغل بشئ معين. قال قتادة ومجاهد: شغلهم ذلك اليوم بافتضاض العذارى.
وقال وكيع: شغلهم بالسماع. وقال ابن كيسان: بزيارة بعضهم بعضا، وقيل شغلهم كونهم ذلك اليوم في
ضيافة الله. قرأ الكوفيون وابن عامر: شغل بضمتين. وقرأ الباقون بضم الشين وسكون الغين: وهما لغتان كما
قال الفراء. وقرأ مجاهد وأبو السماك بفتحتين. وقرأ يزيد النحوي وابن هبيرة بفتح الشين وسكون الغين. وقرأ
الجمهور (فاكهون) بالرفع على أنه خبر إن، وفي شغل متعلق به، أو في محل نصب على الحال: ويجوز أن
يكون في محل رفع على أنه خبر إن وفاكهون خبر ثان. وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف " فاكهين " بالنصب على
أنه حال، وفي شغل هو الخبر. وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو حيوة وأبو رجاء وشيبة وقتادة ومجاهد " فكهون "
قال الفراء: هما لغتان كالفاره والفره، والحاذر والحذر. وقال الكسائي وأبو عبيدة الفاكه: ذو الفاكهة مثل تأمر
ولابن، والفكه: المتفكه والمتنعم. وقال قتادة: الفكهون المعجبون. وقال أبو زيد: يقال رجل فكه: إذا كان طيب
النفس ضحوكا. وقال مجاهد والضحاك كما قال قتادة. وقال السدي كما قال الكسائي (هم وأزواجهم في ظلال
على الأرائك متكئون) هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان كيفية شغلهم وتفكههم وتكميلها بما يزيدهم سرورا وبهجة
من كون أزواجهم معهم على هذه الصفة من الاتكاء على الأرائك، فالضمير وهو هم مبتدأ وأزواجهم معطوف عليه
والخبر متكئون، ويجوز أن يكون هم تأكيدا للضمير في " فاكهون " وأزواجهم معطوف على ذلك الضمير،
وارتفاع متكئون على أنه خبر لمبتدأ محذوف، وفي ظلال متعلق به أو حال، وكذا على الأرائك وجوز أبو البقاء
أن يكون (في ضلال) هو الخبر و (على الأرائك) مستأنف. قرأ الجمهور " في ظلال " بكسر الظاء وبالألف
وهو جمع ظل. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير والأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف " في ظلل "
بضم الظاء من غير ألف جمع ظلة، وعلى القراءتين فالمراد الفرش والستور التي تظللهم كالخيام والحجال، والأرائك
جمع أريكة، كسفائن جمع سفينة، والمراد بها السرر التي في الحجال. قال أحمد بن يحيى ثعلب: الأريكة لا يكون
إلا سريرا في قبة. وقال مقاتل: إن المراد بالظلال أكنان القصور، وجملة (لهم فيها فاكهة) مبنية لما يتمتعون به في
الجنة من المآكل والمشارب ونحوها. والمراد فاكهة كثيرة من كل نوع من أنواع الفواكه (ولهم ما يدعون) ما هذه
هي الموصولة والعائد محذوف أو موصوفة أو مصدرية، ويدعون مضارع ادعى. قال أبو عبيدة: يدعون
يتمنون، والعرب تقول: ادع علي ما شئت: أي تمن، وفلان في خير ما يدعي: أي ما يتمنى. وقال الزجاج:
هو من الدعاء: أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم، من دعوت غلامي، فيكون الافتعال بمعنى الفعل كالاحتمال
بمعنى الحمل والارتحال بمعنى الرحل. وقيل افتعل بمعنى تفاعل: أي ما يتداعونه كقولهم ارتموا وتراموا. وقيل
المعنى: إن من ادعى منهم شيئا فهو له، لأن الله قد طبعهم على أن لا يدعي أحد منهم شيئا إلا وهو يحسن ويجمل به
أن يدعيه، وما مبتدأ وخبرها لهم والجملة معطوفة على ما قبلها. وقرئ " يدعون " بالتخفيف ومعناها واضح. قال
ابن الأنباري: والوقف على يدعون وقف حسن، ثم يبتدئ (سلام) على معنى لهم سلام، وقيل إن سلام هو خبر
ما: أي مسلم خالص أو ذو سلامة. وقال الزجاج: سلام مرفوع على البدل من ما: أي ولهم أن يسلم الله عليهم،
وهذا منى أهل الجنة، والأولى أن يحمل قوله (ولهم ما يدعون) على العموم، وهذا السلام يدخل تحته دخولا
أوليا، ولا وجه لقصره على نوع خاص، وإن كان أشرف أنواعه تحقيقا لمعنى العموم، ورعاية لما يقتضيه النظم
القرآني. وقيل إن سلام مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي سلام يقال لهم (قولا) وقيل إن سلام مبتدأ، وخبره
376

الناصب لقولا: أي سلام يقال لهم قولا وقيل خبره من رب العالمين وقيل التقدير: سلام عليكم هذا على قراءة الجمهور
وقرأ أبي وابن مسعود وعيسى " سلاما " بالنصب إما على المصدرية أو على الحالية بمعنى خالصا، والسلام: إما
من التحية أو من السلامة. وقرأ محمد بن كعب القرظي " سلم " كأنه قال سلم لهم لا يتنازعون فيه، وانتصاب قولا
على المصدرية بفعل محذوف على معنى: قال الله لهم ذلك قولا، أو يقوله لهم قولا، أو يقال لهم قولا (من رب
رحيم) أي من جهته، قيل يرسل الله سحابة إليهم بالسلام. وقال مقاتل: إن الملائكة تدخل على أهل الجنة من كل
باب يقولون: سلام عليكم يا أهل الجنة من رب رحيم (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) هو على إضمار القول مقابل
ما قيل للمؤمنين: أي ويقال للمجرمين امتازوا: أي انعزلوا، من مازه غيره، يقال مزت الشئ من الشئ: إذا
عزلته عنه ونحيته. قال مقاتل: معناه اعتزلوا اليوم: يعني في الآخرة من الصالحين. وقال السدي: كونوا على
حدة. وقال الزجاج: انفردوا عن المؤمنين. وقال قتادة: عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون
بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة وعبدة الأوثان فرقة.
وقال داود بن الجراح: يمتاز المسلمون من المجرمين إلا أصحاب الأهواء فإنهم يكونون مع المجرمين. ثم وبخهم الله
سبحانه وقرعهم بقوله (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) وهذا من جملة ما يقال لهم. والعهد الوصية:
أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسن رسلي أن لا تعبدوا الشيطان: أي لا تطيعوه. قال الزجاج: المعنى ألم أتقدم إليكم
على لسان الرسل يا بني آدم. وقال مقاتل: يعنى الذين أمروا بالاعتزال. قال الكسائي: لا للنهي، وقيل المراد
بالعهد هنا: الميثاق المأخوذ عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم، وقيل هو ما نصبه الله لهم من الدلائل العقلية التي
في سماواته وأرضه وجملة (إنه لكم عدو مبين) تعليل لما قبلها من النهي عن طاعة الشيطان وقبول وسوسته، وجملة
(وأن اعبدوني) عطف على أن لا تعبدوا، وأن في الموضعين هي المفسرة للعهد الذي فيه معنى القول، ويجوز أن
تكون مصدرية فيهما: أي لم أعهد إليكم بأن لا تعبدوا بأن اعبدوني، أو ألم أعهد إليكم في ترك عبادة الشيطان وفي
عبادتي (هذا صراط مستقيم) أي عبادة الله وتوحيده، أو الإشارة إلى دين الإسلام. ثم ذكر سبحانه عداوة
الشيطان لبني آدم فقال (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة للتقريع والتوبيخ
أي والله لقد أضل الخ. قرأ نافع وعاصم " جبلا " بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر بضم
الجيم وسكون الباء، وقرأ الباقون بضمتين مع تخفيف اللام، وقرأ ابن أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين مع
تشديد اللام، وكذلك قرأ الحسن وعيسى بن عمر والنضر بن أنس، وقرأ أبو يحيى وحماد بن سلمة والأشهب العقيلي
بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. قال النحاس: وأبينها القراءة الأولى. والدليل على ذلك أنهم قد قرأوا
جميعا " والجبلة الأولين " بكسر الجيم والباء وتشديد اللام. فيكون جبلا جمع جبلة، واشتقاق الكل من جبل الله
الخلق: أي خلقهم، ومعنى الآية: أن الشيطان قد أغوى خلقا كثيرا كما قال مجاهد. وقال قتادة: جموعا كثيرة،
وقال الكلبي: أمما كثيرة. قال الثعلبي: والقراءات كلها بمعنى الخلق، وقرئ " جيلا " بالجيم والياء التحتية. قال
الضحاك: الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما يحصيه إلا الله عز وجل، ورويت هذه القراءة عن علي بن
أبي طالب، والهمزة في قوله (أفلم تكونوا تعقلون) للتقريع والتوبيخ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام كما
تقدم في نظائره: أي أتشاهدون آثار العقوبات، أفلم تكونوا تعقلون، أو أفلم تكونوا تعقلون عداوة الشيطان
لكم، أو أفلم تكونوا تعقلون شيئا أصلا. قرأ الجمهور " أفلم تكونوا تعقلون " بالخطاب. وقرأ طلحة وعيسى بالغيبة
(هذه جهنم التي كنتم توعدون) أي ويقال لهم عند أن يدنوا من النار: هذه جهنم التي كنتم توعدون بها في الدنيا
377

على ألسنة الرسل، والقائل لهم الملائكة، ثم يقولون لهم (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) أي قاسوا حرها اليوم
وأدخلوها وذوقوا أنواع العذاب فيها بما كنتم تكفرون: أي بسبب كفركم بالله في الدنيا وطاعتكم للشيطان وعبادتكم
للأوثان، وهذا الأمر أمر تنكيل وإهانة كقوله - ذق إنك أنت العزيز الكريم - (اليوم نختم على أفواههم) اليوم
ظرف لما بعده، وقرئ يختم على البناء للمفعول، والنائب الجار والمجرور بعده. قال المفسرون: إنهم ينكرون
الشرك وتكذيب الرسل كما في قولهم - والله ربنا ما كنا مشركين - فيختم الله على أفواههم ختما لا يقدرون معه على
الكلام، وفي هذا التفات من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأن أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم، ثم
قال (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) أي تكلمت أيديهم بما كانوا يفعلونه، وشهدت أرجلهم
عليهم بما كانوا يعملون. قرأ الجمهور " تكلمنا وتشهد " وقرأ طلحة بن مصرف " ولتكلمنا، ولتشهد " بلام كي.
وقيل سبب الختم على أفواههم ليعرفهم أهل الموقف. وقيل ختم على أفواههم لأجل أن يكون الإقرار من جوارحهم
لأن شهادة غير الناطق أبلغ في الحجة من شهادة الناطق لخروجه مخرج الإعجاز. وقيل ليعلموا أن أعضاءهم التي
كانت أعوانا لهم في معاصي الله صارت شهودا عليهم، وجعل ما تنطق به الأيدي كلاما وإقرارا لأنها كانت
المباشرة لغالب المعاصي، وجعل نطق الأرجل شهادة لأنها حاضرة عند كل معصية، وكلام الفاعل إقرار، وكلام
الحاضر شهادة، وهذا اعتبار بالغالب، وإلا فالأرجل قد تكون مباشرة للمعصية كما تكون الأيدي مباشرة لها (ولو
نشاء لطمسنا على أعينهم) أي أذهبنا أعينهم وجعلناها بحيث لا يبدو لها شق ولا جفن. قال الكسائي: طمس
يطمس ويطمس والمطموس والطميس عند أهل اللغة الذي ليس في عينيه شق كما في قوله - ولو شاء الله لذهب
بسمعهم وأبصارهم - ومفعول المشيئة محذوف: أي لو نشاء أن نطمس على أعينهم لطمسنا. قال السدي والحسن:
المعنى لتركناهم عميا يترددون لا يبصرون طريق الهدى، واختار هذا ابن جرير (فاستبقوا الصراط) معطوف على
لطمسنا: أي تبادروا إلى الطريق ليجوزوه ويمضوا فيه، والصراط منصوب بنزع الخافض: أي فاستبقوا إليه،
وقال عطاء ومقاتل وقتادة: المعنى لو نشاء لفقأنا أعينهم وأعميناهم عن غيهم. وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى
الهدى، فأبصروا رشدهم، واهتدوا وتبادروا إلى طريق الآخرة، ومعنى (فأنى يبصرون) أي كيف يبصرون
الطريق ويحسنون سلوكه ولا أبصار لهم. وقرأ عيسى بن عمر " فاستبقوا " على صيغة الأمر: أي فيقال لم استبقوا.
وفي هذا تهديد لهم. ثم كرر التهديد لهم فقال (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) المسخ تبديل الخلقة إلى حجر أو
غيره من الجماد أو بهيمة، والمكانة المكان: أي لو شئنا لبدلنا خلقهم على المكان الذي هم فيه. قيل والمكانة أخص
من المكان كالمقامة والمقام. قال الحسن: أي لأقعدناهم (فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون) أي لا يقدرون على
ذهاب ولا مجيء. قال الحسن: فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم
ولا يتأخر. وقيل المعنى: لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم، وقيل لمسخناهم في المكان الذي فعلوا فيه المعصية.
وقال يحيى بن سلام: هذا كله يوم القيامة. قرأ الجمهور " على مكانتهم " بالإفراد. وقرأ الحسن والسلمي وزر
ابن حبيش وأبو بكر عن عاصم " مكاناتهم " بالجمع. وقرأ الجمهور " مضيا " بضم الميم، وقرأ أبو حيوة " مضيا "
بفتحها، وروي عنه أنه قرأ بكسرها ورويت هذه القراءة عن الكسائي. قيل والمعنى: ولا يستطيعون رجوعا،
فوضع الفعل موضع المصدر لمراعاة الفاصلة، يقال مضى يمضي مضيا: إذا ذهب في الأرض، ورجع يرجع
رجوعا: إذا عاد من حيث جاء (ومن نعمره ننكسه في الخلق) قرأ الجمهور " ننكسه " بفتح النون الأولى وسكون
الثانية وضم الكاف مخففة. وقرأ عاصم وحمزة بضم النون الأولى وفتح الثانية وكسر الكاف مشددة. والمعنى: من
378

نطل عمره نغير خلقه، ونجعله على عكس ما كان عليه أولا من القوة والطراوة. قال الزجاج: المعنى من أطلنا عمره
نكسنا خلقه، فصار بدل القوة الضعف، وبدل الشباب الهرم، ومثل هذه الآية قوله سبحانه - ومنكم من يرد إلى
أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا - وقوله - ثم رددناه أسفل سافلين - ومعنى (أفلا تعقلون) أفلا تعلمون
بعقولكم أن من قدر على ذلك قدر على البعث والنشور. قرأ الجمهور " يعقلون " بالتحتية. وقرأ نافع وابن ذكوان
بالفوقية على الخطاب. ولما قال كفار مكة: إن القرآن شعر، وإن محمدا شاعر رد الله عليهم بقوله (وما علمناه
الشعر) والمعنى: نفي كون القرآن شعرا، ثم نفى أن يكون النبي شاعرا، فقال (وما ينبغي له) أي لا يصح له
الشعر ولا يتأتى منه ولا يسهل عليه لو طلبه وأراد أن يقوله، بل كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد أن ينشد
بيتا قد قاله شاعر متمثلا به كسر وزنه، فإنه لما أنشد بيت طرفة بن العبد المشهور، وهو قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال: ويأتيك من لم تزوده بالأخبار وأنشد مرة أخرى قول العباس بن مرداس السلمي:
أتجعل نهبي ونهب العبيد * بين عيينة والأقرع
فقال: بين الأقرع وعيينة، وأنشد أيضا * كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا * فقال أبو بكر:
يا رسول الله إنما قال الشاعر * كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا * فقال: أشهد أنك رسول الله، يقول
الله عز وجل - وما علمناه الشعر وما ينبغي له - وقد وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم كثير من مثل هذا. قال الخليل
كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى منه، ووجه عدم
تعليمه الشعر وعدم قدرته عليه، التكميل للحجة والدحض للشبهة، كما جعله الله أميا لا يقرأ ولا يكتب، وأما
ما روي عنه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم:
هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
وقوله: أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
ونحو ذلك، فمن الاتفاق الوارد من غير قصد كما يأتي ذلك في بعض آيات القرآن، وليس بشعر ولا مراد به الشعر،
بل اتفق ذلك اتفاقا كما يقع في كثير من كلام الناس، فإنهم قد يتكلمون بما لو اعتبره معتبر لكان على وزن الشعر
ولا يعدونه شعرا، وذلك كقوله تعالى - لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون - وقوله - وجفان كالجواب وقدور
راسيات - على أنه قد قال الأخفش إن قوله * أنا النبي لا كذب * ليس بشعر. وقال الخليل في كتاب العين:
إن ما جاء من السجع على جزءين لا يكون شعرا. قال ابن العربي: والأظهر من حاله أنه قال لا كذب برفع الباء من
كذب، وبخفضها من عبد المطلب. قال النحاس: قال بعضهم: إنما الرواية بالإعراب، وإذا كانت بالإعراب لم
يكن شعرا، لأنه إذا فتح الباء من الأول أو ضمهما أو نونها وكسر الباء من الثاني خرج عن وزن الشعر. وقيل إن
الضمير في له عائد إلى القرآن أي وما ينبغي للقرآن أن يكون شعرا (إن هو إلا ذكر) أي ما القرآن إلا ذكر من
الأذكار وموعظة من المواعظ (وقرآن مبين) أي كتاب من كتب الله السماوية مشتمل على الأحكام الشرعية (لينذر
من كان حيا) أي لينذر القرآن من كان حيا: أي قلبه صحيح يقبل الحق ويأبى الباطل، أو لينذر الرسول من كان
حيا. قرأ الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية، فعلى القراءة الأولى المراد القرآن، وعلى الثانية
379

المراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ويحق القول على الكافرين) أي وتجب كلمة العذاب على المصرين على الكفر
الممتنعين من الإيمان بالله وبرسله.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس في
قوله (في شغل فاكهون) قال: في افتضاض الأبكار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وعبد الله بن أحمد في
زوائد الزهد وابن جرير وابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال: شغلهم افتضاض العذارى. وأخرج عبد بن
حميد عن عكرمة وقتادة مثله. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن عمر قال: إن المؤمن كلما أراد
زوجة وجدها عذراء. وقد روي نحوه مرفوعا عن أبي سعيد مرفوعا عند الطبراني في الصغير وأبي الشيخ في العظمة.
وروي أيضا نحوه عن أبي هريرة مرفوعا عند الضياء المقدسي في صفة الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (في شغل فاكهون) قال: ضرب الأوتار. قال أبو حاتم: هذا لعله خطأ من المستمع، وإنما هو افتضاض
الأبكار. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال (فاكهون) فرحون. وأخرج ابن ماجة وابن
أبي الدنيا في صفة الجنة والبزار وابن أبي حاتم والآجري في الرؤية وابن مردويه عن جابر قال: قال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب قد أشرف عليهم من
فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله (سلام قولا من رب رحيم) قال: فينظر إليهم
وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم
في ديارهم " قال ابن كثير: في إسناده نظر. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قوله: إن
الله هو يسلم عليهم. وأخرج أحمد ومسلم والنسائي والبزار وابن أبي الدنيا في التوبة واللفظ له وابن أبي حاتم وابن
مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أنس في قوله (اليوم نختم على أفواههم) قال: " كنا عند النبي صلى الله عليه
وآله وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مما ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله، قال: من مخاطبة
العبد ربه يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى، فيقول: إني لا أجيز علي إلا شاهدا مني، فيقول:
كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه. ويقال لأركانه انطقي، فتنطق بأعماله،
ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل ". وأخرج مسلم والترمذي وابن مردويه
والبيهقي عن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يلقى العبد ربه فيقول الله: قل
ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وترتع؟ فيقول بلى أي رب، فيقول أفظننت
أنك ملاقي؟ فيقول لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول مثل ذلك، ثم يلقى الثالث فيقول له
مثل ذلك، فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت ويثنى بخير ما استطاع، فيقول
ألا نبعث شاهدنا عليك، فيفكر في نفسه من الذي يشهد علي فيختم على فيه، ويقال لفخذه انطقي فتنطق فخذه
وفمه وعظامه بعمله ما كان وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط عليه ". وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم من حديث أبي موسى نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء
والصفات عن ابن عباس في قوله (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم) قال: أعميناهم وأضللناهم عن الهدى (فأنى
يبصرون) فكيف يهتدون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (ولو نشاء لمسخناهم) قال: أهلكناهم
(على مكانتهم) قال: في مساكنهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم قال
بلغني أنه قيل لعائشة: هل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتمثل بشئ من الشعر؟ قالت: كان أبغض
380

الحديث إليه، غير أنه كان يتمثل ببيت أخي بنى قيس فيجعل أوله آخره يقول: " ويأتيك من لم تزود بالأخبار،
فقال أبو بكر: ليس هكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني والله ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي "
وهذا يرد ما نقلناه عن الخليل سابقا أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثير من الكلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت
طرفة: * ويأتيك بالأخبار من لم تزود * وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يتمثل من الأشعار * ويأتيك بالأخبار من لم تزود * وأخرج البيهقي في سننه عن عائشة
قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا:
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما * يقال لشئ كان إلا تحقق
قالت عائشة: ولم يقل تحققا لئلا يعربه فيصير شعرا، وإسناده هكذا: قال أخبرنا أبو عبيد الله الحافظ: يعني
الحاكم حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن
عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن عائشة فذكره. وقد سئل المزي عن هذا الحديث
فقال: هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير.
ثم ذكر سبحانه قدرته العظيمة، وإنعامه على عبيده وجحد الكفار لنعمه فقال (أولم يروا أنا خلقنا لهم مما
عملت أيدينا أنعاما) والهمزة للإنكار والتعجيب من حالهم، والواو للعطف على مقدر كما في نظائره والرؤية هي
القلبية: أي أولم يعلموا بالتفكر والاعتبار (أنا خلقنا لهم): أي لأجلهم (مما عملت أيدينا): أي مما أبدعناه وعملناه من
381

غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا:
عملته بيدي للدلالة على تفرده بعمله، وما بمعنى الذي، وحذف العائد لطول الصلة، ويجوز أن تكون مصدرية،
والأنعام جمع نعم، وهي البقر والغنم والإبل، وقد سبق تحقيق الكلام فيها. ثم ذكر سبحانه المنافع المترتبة على خلق
الأنعام فقال (فهم لها مالكون) أي ضابطون قاهرون يتصرفون بها كيف شاءوا، ولو خلقناها وحشية لنفرت
عنهم ولم يقدروا على ضبطها، ويجوز أن يكون المراد أنها صارت في أملاكهم ومعدودة من جملة أموالهم المنسوبة
إليهم نسبة الملك (وذللناها لهم) أي جعلناها لهم مسخرة لا تمتنع مما يريدون منها من منافعهم حتى الذبح، ويقودها
الصبي فتنقاد له ويزجرها فتنزجر، والفاء في قوله (فمنها ركوبهم) لتقريع أحكام التذليل عليه: أي فمنها مركوبهم
الذي يركبونه كما يقال ناقة حلوب: أي محلوبة. قرأ الجمهور " ركوبهم " بفتح الراء. وقرأ الأعمش والحسن وابن
السميفع بضم الراء على المصدر. وقرأ أبي وعائشة " ركوبتهم " والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة
والحمول والحمولة. وقال أبو عبيدة: الركوبة تكون للواحدة والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة.
وزعم أبو حاتم أنه لا يجوز فمنها ركوبهم بضم الراء لأنه مصدر، والركوب ما يركب، وأجاز ذلك الفراء كما يقال:
فمنها أكلهم ومنها شربهم ومعنى (ومنها يأكلون) ما يأكلونه من لحمها، ومن للتبعيض (ولهم فيها منافع) أي لهم
في الأنعام منافع غير الركوب لها والأكل منها وهي ما ينتفعون به من أصوافها وأوبارها وأشعارها وما يتخذونه من
الأدهان من شحومها، وكذلك الحمل عليها والحراثة بها (ومشارب) أي ولهم فيها مشارب مما يحصل من ألبانها
(أفلا يشكرون) الله على هذه النعم ويوحدونه ويخصونه بالعبادة. ثم ذكر سبحانه جهلهم واغترارهم ووضعهم
كفران النعم مكان شكرها فقال (واتخذوا من دون الله آلهة) من الأصنام ونحوها يعبدونها ولا قدرة لها على شئ
ولم يحصل لهم منها فائدة، ولا عاد عليهم من عبادتها عائدة (لعلهم ينصرون) أي رجاء أن ينصروا من جهتهم إن
نزل بهم عذاب أو دهمهم أمر من الأمور، وجملة (لا يستطيعون نصرهم) مستأنفة لبيان بطلان ما رجوه منها وأملوه
من نفعها، وجمعهم بالواو والنون جمع العقلاء بناء على زعم المشركين أنهم ينفعون ويضرون ويعقلون (وهم لهم
جند محضرون) أي والكفار جند للأصنام محضرون: أي يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون
عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل
المعنى: يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لهم بمنزلة الجند، هذه الأقوال على جعل ضميرهم للمشركين وضمير لهم
للآلهة، وقيل وهم: أي الآلهة لهم: أي للمشركين جند محضرون معهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل
معناه: وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون منهم. وقيل المعنى: إن
الكفار يعتقدون أن الأصنام جند لهم يحضرون يوم القيامة لإعانتهم. ثم سلى سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم
فقال (فلا يحزنك قولهم) هذا القول هو ما يفيده قوله (واتخذوا من دون الله آلهة) فإنهم لا بد أن يقولوا هؤلاء
آلهتنا وإنها شركاء لله في المعبودية ونحو ذلك، وهو نهي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن التأثر بذلك. وقيل
إنه نهى لهم عن الأسباب التي تحزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإن النهي لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عن التأثر لما يصدر منهم هو من باب " لا أرينك ها هنا " فإنه يراد به نهي من خاطبه عن الحضور لديه.
لا نهى نفسه عن الرؤية، وهذا بعيد والأول أولى والكلام من باب التسلية كما ذكرنا، ويجوز أن يكون المراد
بالقول المذكور هو قولهم: إنه ساحر وشاعر ومجنون، وجملة (إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) لتعليل ما تقدم من
النهي. فإن علمه سبحانه بما يظهرون ويضمرون مستلزم للمجازاة لهم بذلك. وأن جميع ما صدر منهم لا يعزب عنه
382

سواء كان خافيا أو باديا سرا أو جهرا مظهرا أو مضمرا. وتقديم السر على الجهر للمبالغة في شمول علمه لجميع المعلومات،
وجملة (أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) مستأنفة مسوقة لبيان إقامة الحجة على من أنكر البعث وللتعجيب من
جهله، فإن مشاهدة خلقهم في أنفسهم على هذه الصفة من البداية إلى النهاية مستلزمة للاعتراف بقدرة القادر الحكيم
على ما هو دون ذلك من بعث الأجسام وردها كما كانت، والإنسان المذكور في الآية المراد به جنس الإنسان كما
في قوله - أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا - ولا وجه لتخصيصه بإنسان معين كما قيل: إنه
عبد الله بن أبي، وأنه قيل له ذلك لما أنكر البعث. وقال الحسن: هو أمية بن خلف. وقال سعيد بن جبير:
هو العاص بن وائل السهمي. وقال قتادة ومجاهد: هو أبي بن خلف الجمحي، فإن أحد هؤلاء وإن كان سببا
للنزول فمعنى الآية خطاب الإنسان من حيث هو، لا إنسان معين، ويدخل من كان سببا للنزول تحت جنس
الإنسان دخولا أوليا، والنطفة هي اليسير من الماء، وقد تقدم تحقيق معناها (فإذا هو خصيم مبين) هذه الجملة
معطوفة على الجملة المنفية قبلها داخلة معها في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، وإذا هي الفجائية: أي ألم ير
الإنسان أنا خلقناه من أضعف الأشياء، ففجأ خصومتنا في أمر قد قامت فيه عليه حجج الله وبراهينه، والخصيم
الشديد الخصومة الكثير الجدال، ومعنى المبين: المظهر لما يقوله الموضح له بقوة عارضته وطلاقة لسانه، وهكذا
جملة (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه) معطوفة على الجملة المنفية داخله في حيز الإنكار المفهوم من الاستفهام، فهي
تكميل للتعجيب من حال الإنسان وبيان جهله بالحقائق وإهماله للتفكر في نفسه فضلا عن التفكر في سائر مخلوقات
الله، ويجوز أن تكون جملة (فإذا هو خصيم) معطوفة على خلقنا، وهذه معطوفة عليها: أي أورد في شأننا قصة
غريبة كالمثل: وهي إنكاره أحيانا للعظام، ونسي خلقه: أي خلقنا إياه. وهذه الجملة معطوفة على ضرب،
أو في محل نصب على الحال بتقدير قد، وجملة (قال من يحيي العظام وهي رميم) استئناف جوابا عن سؤال مقدر
كأنه قيل ما هذا المثل الذي ضربه؟ فقيل قال: من يحيي العظام وهي رميم، وهذا الاستفهام للإنكار لأنه قاس
قدرة الله على قدرة العبد، فأنكر أن الله يحيي العظام البالية حيث لم يكن ذلك في مقدور البشر، يقال رم العظم
يرم رما إذا بلى فهو رميم ورمام وإنما قال رميم ولم يقل رميمة مع كونه خبرا للمؤنث لأنه اسم لما بلى من العظام غير
صفة كالرمة والرفات. وقيل لكونه معدولا عن فاعلة وكل معدول عن وجهه يكون مصروفا عن إعرابه كما في قوله
- وما كانت أمك بغيا - لأنه مصروف عن باغية، كذا قال البغوي والقرطبي وقال بالأول صاحب الكشاف.
والأولى أن يقال إنه فعيل بمعنى فاعل أو مفعول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث كما قيل في جريح وصبور. ثم
أجاب سبحانه عن الضارب لهذا المثل فقال (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) أي ابتدأها وخلقها أول مرة من غير
شئ، ومن قدر على النشأة الأولى قدر على النشأة الثانية (وهو بكل شئ عليم) لا يخفى عليه خافية ولا يخرج عن
علمه خارج كائنا من كان. وقد استدل أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي بهذه الآية على أن العظام مما تحله الحياة.
وقال الشافعي: لا تحله الحياة وأن المراد بقوله " من يحيي العظام " من يحيي أصحاب العظام على تقدير مضاف محذوف،
ورد بأن هذا التقدير خلاف الظاهر (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا) هذا رجوع منه سبحانه إلى تقرير
ما تقدم من دفع استبعادهم، فنبه سبحانه على وحدانيته ودل على قدرته على إحياء الموات بما يشاهدونه من إخراج
النار المحرقة من العود الندي الرطب، وذلك أن الشجر المعروف بالمرخ والشجر المعروف بالعفار إذا قطع منهما
عودان وضرب أحدهما على الآخر انقدحت النار وهما أخضران. قيل المرخ هو الذكر والعفار هو الأنثى،
ويسمى الأول الزند والثاني الزندة، وقال الأخضر ولم يقل الخضراء اعتبارا باللفظ. وقرئ " الخضر " اعتبارا
383

بالمعنى، وقد تقرر أنه يجوز تذكير اسم الجنس وتأنيثه كما في قوله - نخل منقعر - وقوله - نخل خاوية - فبنو تميم
ونجد يذكرونه وأهل الحجاز يؤنثونه إلا نادرا، والموصول بدل من الموصول الأول (فإذا أنتم منه توقدون) أي
تقدحون منه النار وتوقدونها من ذلك الشجر الأخضر. ثم ذكر سبحانه ما هو أعظم خلقا من الإنسان فقال (أوليس
الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) والهمزة لإنكار، والواو للعطف على مقدر كنظائره،
ومعنى الآية: أن من قدر على خلق السماوات والأرض وهما في غاية العظم وكبر الأجزاء يقدر على إعادة خلق
البشر الذي هو صغير الشكل ضعيف القوة، كما قال سبحانه - لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس -.
قرأ الجمهور " بقادر " بصيغة اسم الفاعل. وقرأ الجحدري وابن أبي إسحاق والأعرج وسلام بن المنذر وأبو يعقوب
الحضرمي " يقدر " بصيغة الفعل المضارع. ثم أجاب سبحانه عما أفاده الاستفهام من الإنكار التقريري بقوله (بلى
وهو الخلاق العليم) أي بلى هو قادر على ذلك وهو المبالغ في الخلق والعلم على أكمل وجه وأتمه. وقرأ الحسن
والجحدري ومالك بن دينار " وهو الخالق ". ثم ذكر سبحانه ما يدل على كمال قدرته وتيسر المبدأ والإعادة عليه
فقال (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) أي إنما شأنه سبحانه إذا تعلقت إرادته بشئ من الأشياء
أن يقول له أحدث فيحدث من غير توقف على شئ آخر أصلا، وقد تقدم تفسير هذا في سورة النحل وفي
البقرة. وقرأ الجمهور " فيكون " بالرفع على الاستئناف. وقرأ الكسائي بالنصب عطفا على يقول. ثم نزه سبحانه
نفسه عن أن يوصف بغير القدرة فقال (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ) والملكوت في كلام العرب لفظ
مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية. قال قتادة: ملكوت
كل شئ: مفاتح كل شئ. قرأ الجمهور " ملكوت " وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي " ملكة "
بزنة شجرة، وقرئ " مملكة " بزنة مفعلة، وقرئ " ملك " والملكوت أبلغ من الجميع. وقرأ الجمهور (وإليه
ترجعون) بالفوقية على الخطاب مبنيا للمفعول. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب ابن مسعود بالتحتية على الغيبة
مبنيا للمفعول أيضا. وقرأ زيد بن علي على البناء للفاعل: أي ترجعون إليه لا إلى غيره وذلك في الدار الآخرة بعد
البعث.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم في معجمه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث
والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعظم حائل
ففته بيده فقال: يا محمد أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ قال: " نعم يبعث الله هذا ثم يميتك ثم يحيك ثم يدخلك نار
جهنم " فنزلت الآيات من آخر يس (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة) إلى آخر السورة. وأخرج ابن جرير
وابن مردويه عنه قال: جاء عبد الله بن أبي في يده عظم حائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر مثل ما تقدم
قال ابن كثير: وهذا منكر، لأن السورة مكية وعبد الله بن أبي إنما كان بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن
عباس قال: جاء أبي بن خلف الجمحي وذكر نحو ما تقدم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا قال: نزلت في
أبي جهل وذكر نحو ما تقدم.
384

تفسير سورة الصافات
هي مائة واثنتان وثمانون آية
وهي مكية. قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس وابن النحاس وابن مردويه والبيهقي
في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت بمكة. وأخرج النسائي والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يأمرنا بالتخفيف ويؤمنا بالصافات. قال ابن كثير: تفرد به النسائي. وأخرج ابن
أبي داود في فضائل القرآن، وابن النجار في تاريخه من طريق نهشل بن سعد الورداني عن الضحاك عن ابن عباس
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ يس والصافات يوم الجمعة ثم سأل الله أعطاه سؤله ".
وأخرج أبو نعيم في الدلائل والسلفي في الطيوريات عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله
ملوك حضرموت عند قدومهم عليه أن يقرأ عليهم شيئا مما أنزل الله قرأ (الصافات صفا) حتى بلغ (رب المشارق
والمغارب) " الحديث.
قوله (والصافات صفا) قرأ أبو عمرو وحمزة. وقيل حمزة فقط بإدغام التاء من الصافات في صاد صفا، وإدغام
التاء من الزاجرات في زاي زجرا، وإدغام التاء من التاليات في ذال ذكرا، وهذه القراءة قد أنكرها أحمد بن حنبل
385

لما سمعها. قال النحاس: وهي بعيدة في العربية من ثلاثة جهات: الجهة الأولى أن التاء ليست من مخرج الصاد
ولا من مخرج الزاي ولا من مخرج الدال ولا من أخواتهن. الجهة الثانية أن التاء في كلمة وما بعدها في كلمة أخرى.
الثالثة أنك إذا أدغمت جمعت بين ساكنين من كلمتين، وإنما يجوز الجمع بين ساكنين في مثل هذا إذا كانا في
كلمة واحدة. وقال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن لمقاربة الحرفين، ألا ترى أنهما من طرف اللسان.
وقرأ الباقون بإظهار جميع ذلك، والواو للقسم، والمقسم به الملائكة: الصافات، والزاجرات، والتاليات.
والمراد بالصافات: التي تصف في السماء من الملائكة كصفوف الخلق في الدنيا، قاله ابن مسعود وابن عباس
وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. وقيل إنها تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها الله بما يريد. وقال
الحسن: صفا كصفوفهم عند ربهم في صلاتهم. وقيل المراد بالصافات هنا الطير كما في قوله - أو لم يروا إلى الطير
فوقهم صافات -. والأول أولى، والصف: ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة. وقيل الصافات جماعة
الناس المؤمنين إذا قاموا صفا في الصلاة أو في الجهاد، ذكره القشيري. والمراد ب (الزاجرات) الفاعلات للزجر من
الملائكة، إما لأنها تزجر السحاب كما قال السدي، وإما لأنها تزجر عن المعاصي بالمواعظ والنصائح. وقال
قتادة: المراد بالزاجرات الزواجر من القرآن، وهي كل ما ينهى ويزجر عن القبيح. والأول أولى. وانتصاب صفا
و (زجرا) على المصدرية لتأكيد ما قبلهما. وقيل المراد بالزاجرات العلماء، لأنهم هم الذين يزجرون أهل المعاصي
والزجر في الأصل: الدفع بقوة، وهو هنا قوة التصويت، ومنه قول الشاعر:
زجر أبي عروة السباع إذا * أشفق أن يختلطن بالغنم
ومنه زجرت الإبل والغنم: إذا أفزعتها بصوتك، والمراد ب (التاليات ذكرا) الملائكة التي تتلو القرآن كما قال
ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير والسدي. وقيل المراد جبريل وحده، فذكر بلفظ الجمع تعظيما له
مع أنه لا يخلو من أتباع له من الملائكة. وقال قتادة: المراد كل من تلا ذكر الله وكتبه. وقيل المراد آيات القرآن،
ووصفها بالتلاوة وإن كانت متلوة كما في قوله - إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل - وقيل لأن بعضها يتلو
بعضا ويتبعه. وذكر الماوردي أن التاليات هم الأنبياء يتلون الذكر على أممهم، وانتصاب ذكرا على أنه مفعول به
ويجوز أن يكون مصدرا كما قبله من قوله " صفا، وزجرا " قيل وهذه الفاء في قوله " فالزاجرات،
فالتاليات " إما لترتيب الصفات أنفسها في الوجود أو لترتيب موصوفاتها في الفضل، وفي الكل نظر، وقوله (إن
إلهكم لواحد) جواب القسم: أي أقسم الله بهذه الأقسام إنه واحد ليس له شريك. وأجاز الكسائي فتح إن الواقعة
في جواب القسم (رب السماوات والأرض) يجوز أن يكون خبرا ثانيا، وأن يكون بدلا من " لواحد " وأن يكون
خبر مبتدأ محذوف. قال ابن الأنباري: الوقف على لواحد وقف حسن، ثم يبتدئ رب السماوات والأرض على
معنى هو رب السماوات والأرض. قال النحاس: ويجوز أن يكون بدلا من لواحد. والمعنى في الآية: أن وجود
هذه المخلوقات على هذا الشكل البديع من أوضح الدلائل على وجود الصانع وقدرته، وأنه رب ذلك كله: أي
خالقه ومالكه. والمراد بما بينهما: ما بين السماوات والأرض من المخلوقات. والمراد ب (المشارق) مشارق الشمس.
قيل إن الله سبحانه خلق للشمس كل يوم مشرقا ومغربا بعدد أيام السنة، تطلع كل يوم من واحد منها وتغرب من
واحد، كذا قال ابن الأنباري وابن عبد البر. وأما قوله في سورة الرحمن - رب المشرقين ورب المغربين - فالمراد
بالمشرقين: أقصى مطلع تطلع منه الشمس في الأيام الطوال، وأقصر يوم في الأيام القصار، وكذلك في المغربين.
وأما ذكر المشرق والمغرب بالإفراد فالمراد به الجهة التي تشرق منها الشمس، والجهة التي تغرب منها، ولعله قد
386

تقدم لنا في هذا كلام أوسع من هذا (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب) المراد بالسماء الدنيا التي تلي الأرض،
من الدنو وهو القرب، فهي أقرب السماوات إلى الأرض. قرأ الجمهور " بزينة الكواكب " بإضافة زينة إلى
الكواكب. والمعنى: زيناها بتزيين الكواكب: أي بحسنها. وقرأ مسروق والأعمش والنخعي وحمزة بتنوين
" زينة " وخفض " الكواكب " على أنها بدل من الزينة على أن المراد بالزينة الاسم لا المصدر، والتقدير بعد طرح
المبدل منه: إنا زينا السماء بالكواكب، فإن الكواكب في أنفسها زينة عظيمة، فإنها في أعين الناظرين لها كالجواهر
المتلألئة. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بتنوين " زينة " ونصب " الكواكب " على أن الزينة مصدر وفاعله
محذوف، والتقدير: بأن الله زين الكواكب بكونها مضيئة حسنة في أنفسها، أو تكون الكواكب منصوبة بإضمار
أعني، أو بدلا من السماء بدل اشتمال، وانتصاب حفظا على المصدرية بإضمار فعل: أي حفظناها حفظا، أو على
أنه مفعول لأجله: أي زيناها بالكواكب للحفظ، أو بالعطف على محل زينة كأنه قال: إنا خلقنا الكواكب زينة
للسماء (وحفظا من كل شيطان مارد) أي متمرد خارج عن الطاعة يرمى بالكواكب، كقوله - ولقد زينا السماء
الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين -، وجملة (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) مستأنفة لبيان حالهم بعد حفظ السماء
منهم. وقال أبو حاتم: أي لئلا يسمعوا، ثم حذف إن فرفع الفعل، وكذا قال الكلبي، والملأ الأعلى: أهل
السماء الدنيا فما فوقها، وسمى الكل منهم أعلى بإضافته إلى ملأ الأرض، والضمير في يسمعون إلى الشياطين.
وقيل إن جملة لا يسمعون صفة لكل شيطان، وقيل جوابا عن سؤال مقدر كأنه قيل: فما كان حالهم بعد حفظ
السماء عنهم؟ فقال (لا يسمعون إلى الملأ الأعلى) قرأ الجمهور " يسمعون " بسكون السين وتخفيف الميم. وقرأ حمزة
والكسائي وعاصم في رواية حفص عنه بتشديد الميم والسين، والأصل يتسمعون فأدغم التاء في السين، فالقراءة الأولى
تدل على انتفاء سماعهم دون استماعهم، والقراءة الثانية تدل على انتفائهما وفي معنى القراءة الأولى قوله تعالى - إنهم
عن السمع لمعزولون - قال مجاهد: كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. واختار أبو عبيدة القراءة الثانية، قال:
لأن العرب لا تكاد تقول: سمعت إليه، وتقول تسمعت إليه (ويقذفون من كل جانب دحورا) أي يرمون من
كل جانب من جوانب السماء بالشهب إذا أرادوا الصعود لاستراق السمع، وانتصاب دحورا على أنه مفعول لأجله
والدحور الطرد، تقول دحرته دحرا ودحورا: طردته. قرأ الجمهور " دحورا " بضم الدال، وقرأ علي والسلمي
ويعقوب الحضرمي وابن أبي عبلة بفتحها. وروي عن أبي عمرو أنه قرأ " يقذفون " مبنيا للفاعل، وهي قراءة غير
مطابقة لما هو المرد من النظم القرآني، وقيل إن انتصاب دحورا على الحال: أي مدحورين، وقيل هو جمع داحر
نحو قاعد وقعود فيكون حالا أيضا. وقيل إنه مصدر لمقدر: أي يدحرون دحورا. وقال الفراء: إن المعنى
يقذفون بما يدحرهم: أي بدحور، ثم حذفت الباء فانتصب بنزع الخافض.
واختلف هل كان هذا الرمي لهم بالشهب قبل المبعث أو بعده، فقال بالأول طائفة، وبالآخر آخرون.
وقالت طائفة بالجمع بين القولين: إن الشياطين لم تكن ترمي قبل المبعث رميا يقطعها عن السمع، ولكن كانت
ترمي وقتا ولا ترمي وقتا آخر وترمي من جانب ولا ترمي من جانب آخر، ثم بعد المبعث رميت في كل وقت
ومن كل جانب حتى صارت لا تقدر على استراق شئ من السمع إلا من اختطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب،
ومعنى (ولهم عذاب واصب) ولهم عذاب دائم لا ينقطع، والمراد به العذاب في الآخرة غير العذاب الذي لهم في
الدنيا من الرمي بالشهب. وقال مقاتل: يعنى دائما إلى النفخة الأولى، والأول أولى. وقد ذهب جمهور المفسرين
إلى أن الواصب الدائم. وقال السدي وأبو صالح والكلبي: هو الموجع الذي يصل وجعه إلى القلب، مأخوذ من
387

الوصب وهو المرض، وقيل هو الشديد، والاستثناء في قوله (إلا من خطف الخطفة) هو من قوله " لا يسمعون "
أو من قوله " ويقذفون ". وقيل الاستثناء راجع إلى غير الوحي لقوله: - إنهم عن السمع لمعزولون - بل يخطف
الواحد منهم خطفة مما يتفاوض فيه الملائكة ويدور بينهم مما سيكون في العالم قبل أن يعلمه أهل الأرض. والخطف
الاختلاس مسارقة وأخذ الشئ بسرعة. قرأ الجمهور " خطف " بفتح الخاء وكسر الطاء مخففة، وقرأ قتادة والحسن
بكسرهما وتشديد الطاء، وهي لغة تميم بن مر وبكر بن وائل. وقرأ عيسى بن عمر بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة.
وقرأ ابن عباس بكسرهما مع تخفيف الطاء، وقيل إن الاستثناء منقطع (فأتبعه شهاب ثاقب) أي لحقه وتبعه شهاب
ثاقب: نجم مضيء فيحرقه، وربما لا يحرقه فيلقي إلى إخوانه ما خطفه، وليست الشهب التي يرجم بها هي من
الكواكب الثوابت بل من غير الثوابت، وأصل الثقوب الإضاءة. قال الكسائي: ثقبت النار تثقب ثقابة وثقوبا:
إذا اتقدت، وهذه الآية هي كقوله - إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين - (فاستفتهم أهم أشد خلقا أم من
خلقنا) أي اسأل الكفار المنكرين للبعث أهم أشد خلقا وأقوى أجساما وأعظم أعضاء، أم من خلقنا من السماوات
والأرض والملائكة؟ قال الزجاج: المعنى فاسألهم سؤال تقرير أهم أشد خلقا: أي أحكم صنعة أم من خلقا قبلهم
من الأمم السالفة؟ يريد أنهم ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم وقد أهلكناهم بالتكذيب فما الذي يؤمنهم من
العذاب؟ ثم ذكر خلق الإنسان فقال (إنا خلقناهم من طين لازب) أي إنا خلقناهم في ضمن خلق أبيهم آدم من
طين لازب: أي لاصق، يقال لزب يلزب لزوبا: إذا لصق. وقال قتادة وابن زيد: اللازب اللازق. وقال
عكرمة: اللازب اللزج. وقال سعيد بن جبير: اللازب الجيد الذي يلصق باليد. وقال مجاهد: هو اللازم،
والعرب تقول: طين لازب ولازم تبدل الباء من الميم، واللازم الثابت كما يقال: صار الشئ ضربة لازب،
ومنه قول النابغة:
لا تحسبون الخير لا شر بعده * ولا تحسبون الشر ضربة لازب
وحكى الفراء عن العرب: طين لا تب بمعنى لازم، واللاتب الثابت. قال الأصمعي: واللاتب اللاصق مثل
اللازب. والمعنى في الآية: أن هؤلاء كيف يستبعدون المعاد وهم مخلقون من هذا الخلق الضعيف ولم ينكره من
هو مخلوق خلقا أقوى منهم وأعظم وأكمل وأتم. وقيل اللازب هو المنتن قاله مجاهد والضحاك. قرأ الجمهور
" أم من خلقنا " بتشديد الميم وهي أم المتصلة، وقرأ الأعمش بالتخفيف، وهو استفهام ثان على قراءته. قيل وقد
قرئ لازم ولا تب، ولا أدري من قرأ بذلك. ثم أضرب سبحانه عن الكلام السابق فقال (بل عجبت) يا محمد
من قدرة الله سبحانه (ويسخرون) منك بسبب تعجبك، أو ويسخرون منك بما تقوله من إثبات المعاد. قرأ
الجمهور بفتح التاء من " عجبت " على الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقرأ حمزة والكسائي بضمها،
ورويت هذه القراءة عن علي وابن مسعود وابن عباس، واختارها أبو عبيد والفراء. قال الفراء: قرأها الناس
بنصب التاء ورفعها، والرفع أحب إلي لأنها عن علي وعبد الله وابن عباس. قال: والعجب أن أسند إلى الله
فليس معناه من الله كمعناه من العباد. قال الهروي: وقال بعض الأئمة: معنى قوله (بل عجبت) بل جازيتهم على
عجبهم، لأن الله أخبر عنهم في غير موضع بالتعجب من الخلق كما قال - وعجبوا أن جاءهم منذر منهم - وقالوا:
- إن هذا لشئ عجاب - أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم - وقال علي بن سليمان: معنى القراءتين واحد،
والتقدير: قل يا محمد بل عجبت لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخاطب بالقرآن. قال النحاس: وهذا قول
حسن وإضمار القول كثير. وقيل إن معنى الإخبار من الله سبحانه عن نفسه بالعجب أنه ظهر من أمره وسخطه على
388

من كفر به ما يقوم مقام العجب من المخلوقين. قال الهروي: ويقال معنى عجب ربكم: أي رضي ربكم وأثاب،
فسماه عجبا، وليس بعجب في الحقيقة، فيكون معنى عجبت هنا عظم فعلهم عندي. وحكى النقاش أن معنى بل
عجبت: بل أنكرت. قال الحسن بن الفضل: التعجب من الله إنكار الشيء وتعظيمه، وهو لغة العرب، وقيل
معناه: أنه بلغ في كمال قدرته وكثرة مخلوقاته إلى حيث عجب منها، وهؤلاء لجهلهم يسخرون منها، والواو في
" ويسخرون " للحال: أي بل عجبت والحال أنهم يسخرون، ويجوز أن تكون للاستئناف (وإذا ذكروا
لا يذكرون) أي وإذا وعظوا بموعظة من مواعظ الله أو مواعظ رسوله لا يذكرون: أي لا يتعظون بها ولا ينتفعون
بما فيها. قال سعيد بن المسيب: أي إذا ذكر لهم ماحل بالمكذبين ممن كان قبلهم أعرضوا عنه ولم يتدبروا (وإذا
رأوا آية) أي معجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (يستسخرون) أي يبالغون في السخرية.
قال قتادة: يسخرون ويقولون إنها سخرية، يقال سخر واستسخر بمعنى، مثل قر واستقر، وعجب واستعجب.
والأول أولى، لأن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقيل معنى يستسخرون: يستدعون السخري من غيرهم.
وقال مجاهد: يستهزئون (وقالوا إن هذا إلا سحر مبين) أي ما هذا الذي تأتينا به إلا سحر واضح ظاهر (أإذا متنا
وكنا ترابا وعظاما) الاستفهام للإنكار: أي أنبعث إذا متنا؟ فالعامل في إذا هو ما دل عليه (أإنا لمبعوثون) وهو
أنبعث، لا نفس مبعوثون لتوسط ما يمنع من عمله فيه، وهذا الإنكار للبعث منهم هو السبب الذي لأجله كذبوا
الرسل وما نزل عليهم واستهزأوا بما جاءوا به من المعجزات، وقد تقدم تفسير معنى هذه الآية في مواضع (أو
آباؤنا الأولون) هو مبتدأ وخبره محذوف: أي أو آباؤنا الأولون مبعوثون، وقيل معطوف على محل إن واسمها،
وقيل على الضمير في مبعوثون لوقوع الفصل بينهما والهمزة للإنكار داخلة على حرف العطف، ولهذا قرأ الجمهور
بفتح الواو، وقرأ ابن عامر وقالون بسكونها على أن أو هي العاطفة، وليست الهمزة للاستفهام. ثم أمر الله سبحانه
رسوله بأن يجيب عنهم تبكيتا لهم، فقال (قل نعم وأنتم داخرون) أي نعم تبعثون وأنتم صاغرون ذليلون. قال
الواحدي: والدخور أشد الصغار، وجملة وأنتم داخرون في محل نصب على الحال. ثم ذكر سبحانه أن بعثهم يقع
بزجرة واحدة فقال (فإنما هي زجرة واحدة) الضمير للقصة أو البعثة المفهومة مما قبلها: أي إنما قصة البعث أو البعثة
زجرة واحدة: أي صيحة واحدة من إسرافيل بنفخه في الصور عند البعث (فإذا هم ينظرون) أي يبصرون ما يفعل
الله بهم من العذاب. وقال الحسن: هي النفخة الثانية، وسميت الصيحة زجرة، لأن المقصود منها الزجر، وقيل
معنى ينظرون ينتظرون ما يفعل بهم، والأول أولى.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه من طرق عن ابن مسعود (والصافات صفا) قال: الملائكة (فالزاجرات زجرا) قال: الملائكة (فالتاليات
ذكرا) قال: الملائكة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وعكرمة مثله. وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة
عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أنه كان يقرأ (لا يسمعون إلى
الملأ الأعلى) مخففة، وقال: إنهم كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (عذاب
واصب) قال: دائم. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه أيضا إذا رمى الشهاب لم يخط من رمى به
وتلا (فأتبعه شهاب ثاقب). وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا (فأتبعه شهاب ثاقب) قال: لا يقتلون
بالشهاب ولا يموتون، ولكنها تحرق وتخبل وتجرح في غير قتل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (من طين لازب) قال: ملتصق. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر
389

عنه أيضا (من طين لازب) قال: اللزج الجيد. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: اللازب والحمأ والطين
واحد: كان أوله ترابا ثم صار حمأ منتنا، ثم صار طينا لازبا، فخلق الله منه آدم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن
مسعود قال: اللازب الذي يلصق بعضه إلى بعض. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن
أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنه كان يقرأ (بل عجبت ويسخرون) بالرفع للتاء من عجبت.
قوله (وقالوا يا ويلنا) أي قال أولئك المبعوثون لما عاينوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا يا ويلنا، دعوا
بالويل على أنفسهم. قال الزجاج: الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة، وقال الفراء: إن أصله يأوي لنا،
ووي بمعنى الحزن كأنه قال: يا حزن لنا. قال النحاس: ولو كان كما قال لكان منفصلا، وهو في المصحف
متصل، ولا نعلم أحدا يكتبه إلا متصلا، وجملة (هذا يوم الدين) تعليل لدعائهم بالويل على أنفسهم، والدين
الجزاء، فكأنهم قالوا هذا اليوم الذي نجازي فيه بأعمالنا من الكفر والتكذيب للرسل فأجاب عليهم الملائكة بقولهم
(هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون)، ويجوز أن يكون هذا من قول بعضهم لبعض، والفصل الحكم
والقضاء لأنه يفصل فيه بين المحسن والمسئ، وقوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) هو أمر من الله سبحانه
390

للملائكة بأن يحشروا المشركين وأزواجهم، وهم أشباههم في الشرك، والمتابعون لهم في الكفر، والمشايعون لهم
في تكذيب الرسل، كذا قال قتادة وأبو العالية. وقال الحسن ومجاهد: المراد بأزواجهم نساؤهم المشركات الموافقات
لهم على الكفر والظلم. وقال الضحاك: أزواجهم قرناؤهم من الشياطين يحشر كل كافر مع شيطانه، وبه قال
مقاتل (وما كانوا يعبدون من دون الله) من الأصنام والشياطين، وهذا العموم المستفاد من ما الموصولة، فإنها
عبارة عن المعبودين، لا عن العابدين كما قيل مخصوص، لأن من طوائف الكفار من عبد المسيح، ومنهم من
عبد الملائكة فيخرجون بقوله - إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون - ووجه حشر الأصنام مع
كونها جمادات لا تعقل هو زيادة التبكيت لعابديها وتخجيلهم وإظهار أنها لا تنفع ولا تضر (فاهدوهم إلى صراط
الجحيم) أي عرفوا هؤلاء المحشورين طريق النار وسوقوهم إليها، يقال هديته الطريق وهديته إليها: أي دللته عليها،
وفي هذا تهكم بهم (وقفوهم إنهم مسؤولون) أي احبسوهم، يقال وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا
يتعدى ولا يتعدى، وهذا الحبس لهم يكون قبل السوق إلى جهنم: أي وقفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار بعد
ذلك، وجملة (إنهم مسؤولون) تعليل للجملة الأولى. قال الكلبي: أي مسؤولون عن أعمالهم وأقوالهم وأفعالهم.
وقال الضحاك: عن خطاياهم، وقيل عن لا إله إلا الله، وقيل عن ظلم العباد، وقيل هذا السؤال هو المذكور
بعد هذا بقوله (ما لكم لا تناصرون) أي أي شئ لكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا، وهذا توبيخ لهم
وتقريع وتهكم بهم، وأصله تتناصرون فطرحت إحدى التاءين تخفيفا. قرأ الجمهور (إنهم مسؤولون) بكسر
الهمزة، وقرأ عيسى بن عمر بفتحها. قال الكسائي: أي لأنهم أو بأنهم، وقيل الإشارة بقوله (ما لكم لا تناصرون)
إلى قول أبي جهل يوم بدر - نحن جميع منتصر - ثم أضرب سبحانه عما تقدم إلى بيان الحالة التي هم عليها هنالك
فقال (بل هم اليوم مستسلمون) أي منقادون لعجزهم عن الحيلة. قال قتادة: مستسلمون في عذاب الله. وقال
الأخفش: ملقون بأيديهم، يقال استسلم للشيء: إذا انقاد له وخضع (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) أي
أقبل بعض الكفار على بعض يتسائلون. قيل هم الأتباع والرؤساء يسأل بعضهم بعضا سؤال توبيخ وتقريع ومخاصمة.
وقال مجاهد: هو قول الكفار للشياطين. وقال قتادة: هو قول الإنس للجن، والأول أولى لقوله (قالوا إنكم
كنتم تأتوننا عن اليمين) أي كنتم تأتوننا في الدنيا عن اليمين: أي من جهة الحق والدين والطاعة وتصدونا عنها.
قال الزجاج: كنتم تأتوننا من قبل الدين، فتروننا أن الدين والحق ما تضلوننا به، واليمين عبارة عن الحق، وهذا
كقوله تعالى إخبار عن إبليس - ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم - قال الواحدي: قال أهل
المعاني: إن الرؤساء كانوا قد حلفوا لهؤلاء الأتباع أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم، فمعنى (تأتوننا عن
اليمين) أي من ناحية الإيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها. قال: والمفسرون على القول الأول. وقيل المعنى:
تأتوننا عن اليمين التي نحبها ونتفائل بها لتغرونا بذلك عن جهة النصح، والعرب تتفاءل بما جاء عن اليمين وتسميه
السانح. وقيل اليمين بمعنى القوة: أي تمنعوننا بقوة وغلبة وقهر كما في قوله فراغ عليهم ضربا باليمين - أي بالقوة
وهذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر، وكذلك جملة (قالوا بل لم تكونوا مؤمنين) فإنها مستأنفة جواب سؤال
مقدر، والمعنى: أنه قال الرؤساء أو الشياطين لهؤلاء القائلين: كنتم تأتوننا عن اليمين بل لم تكونوا مؤمنين ولم
نمنعكم من الإيمان. والمعنى: أنكم لم تكونوا مؤمنين قط حتى ننقلكم عن الإيمان إلى الكفر بل كنتم من الأصل على
الكفر فأقمتم عليه (وما كان لنا عليكم من سلطان) من تسلط بقهر وغلبة حتى ندخلكم في الإيمان ونخرجكم من
الكفر (بل كنتم قوما طاغين) أي متجاوزين الحد في الكفر والضلال، وقوله (فحق علينا قول ربنا إنا
391

لذائقون) من قول المتبوعين: أي وجب علينا وعليكم ولزمنا قول ربنا، يعنون قوله تعالى - لأملأن جهنم منك وممن
تبعك منهم أجمعين - إنا لذائقوا العذاب: أي إنا جميعا لذائقوا العذاب الذي ورد به الوعيد. قال الزجاج: أي إن
المضل والضال في النار (فأغويناكم) أي أضللناكم عن الهدى، ودعوناكم إلى ما كنا فيه من الغي، وزينا لكم
ما كنتم عليه من الكفر (إنا كنا غاوين) فلا عتب علينا في تعرضنا لإغوائكم، لأنا أردنا أن تكونوا أمثالنا في الغواية،
ومعنى الآية: أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية، فأقروا ها ها هنا بأنهم تسببوا لإغوائهم، لكن
لا بطريق القهر والغلبة، ونفوا عن أنفسهم فيما سبق أنهم قهروهم وغلبوهم، فقالوا (وما كان لنا عليكم من سلطان)
ثم أخبر الله سبحانه عن الأتباع والمتبوعين بقوله (فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون) كما كانوا مشتركين في الغواية
(إنا كذلك نفعل بالمجرمين) أي إنا نفعل مثل ذلك الفعل بالمجرمين: أي أهل الإجرام، وهم المشركون كما يفيده
قوله سبحانه (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون) أي إذا قيل لهم قولوا لا إله إلا الله يستكبرون عن
القبول، ومحل يستكبرون النصب على أنه خبر كان، أو الرفع على أنه خبر إن، وكان ملغاة (ويقولون أئنا
لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون) يعنون النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أي لقول شاعر مجنون، فرد الله سبحانه
عليهم بقوله (بل جاء بالحق) يعني القرآن المشتمل على التوحيد والوعد والوعيد (وصدق المرسلين) أي صدقهم
فيما جاءوا به من التوحيد والوعيد وإثبات الدار الآخرة ولم يخالفهم ولا جاء بشئ لم تأت به الرسل قبله (إنكم لذائقوا
العذاب الأليم) أي أنكم بسبب شرككم وتكذيبكم لذائقوا العذاب الشديد الألم. قرأ الجمهور " لذائقوا " بحذف
النون وخفض العذاب، وقرأ أبان بن ثعلب عن عاصم وأبو السماك بحذفها ونصب العذاب، وأنشد سيبويه
في مثل هذه القراءة بالحذف للنون والنصب للعذاب قول الشاعر:
فألفيته غير مستعتب * ولا ذاكر الله إلا قليلا
وأجاز سيبويه أيضا - والمقيمي الصلاة - بنصب الصلاة على هذا التوجيه. وقد قرئ بإثبات النون ونصب
العذاب على الأصل. ثم بين سبحانه أن ما ذاقوه من العذاب ليس إلا بسبب أعمالهم، فقال (وما تجزون إلا ما كنتم
تعملون) أي إلا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي، أو إلا بما كنتم تعملون. ثم استثنى المؤمنين فقال (إلا
عباد الله المخلصين) قرأ أهل المدينة والكوفة " المخلصين " بفتح اللام: أي الذين أخلصهم الله لطاعته وتوحيده. وقرأ
الباقون بكسرها: أي الذين أخلصوا لله العبادة والتوحيد، والاستثناء إما متصل على تقدير تعميم الخطاب في
تجزون لجميع المكلفين، أو منقطع: أي لكن عباد الله المخلصين لا يذوقون العذاب، والإشارة بقوله (أولئك)
إلى المخلصين، وهو مبتدأ وخبره قوله (لهم رزق معلوم) أي لهؤلاء المخلصين رزق يرزقهم الله إياه معلوم في حسنه
وطيبة وعدم انقطاعه. قال قتادة: يعني الجنة، وقيل معلوم الوقت، وهو أن يعطوا منه بكرة وعشية كما في قوله
- ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا - وقيل هو المذكور في قوله بعده (فواكه) فإنه بدل من رزق أو خبر مبتدأ محذوف:
أي هو فواكه، وهذا هو الظاهر. والفواكه جمع الفاكهة وهي الثمار كلها رطبها ويابسها، وخصص الفواكه
بالذكر لأن أرزاق أهل الجنة كلها فواكه كذا قيل. والأولى أن يقال: إن تخصيصها بالذكر لأنها أطيب ما يأكلونه
وألذ ما تشتهيه أنفسهم. وقيل إن الفواكه من أتباع سائر الأطعمة، فذكرها يغنى عن ذكر غيرها، وجملة (وهم
مكرمون) في محل نصب على الحال: أي ولهم من الله عز وجل إكرام عظيم برفع درجاتهم عنده وسماع كلامه ولقائه
في الجنة. قرأ الجمهور " مكرمون " بتخفيف الراء. وقرأ أبو مقسم بتشديدها وقوله (في جنات النعيم) يجوز أن يتعلق
بمكرمون وأن يكون خبرا ثانيا، وأن يكون حالا، وقوله (على سرر) يحتمل أن يكون حالا، وأن يكون خبرا ثالثا،
392

وانتصاب (متقابلين) على الحالية من الضمير في مكرمون، أو من الضمير في متعلق على سرر. قال عكرمة
ومجاهد: معنى التقابل أنه لا ينظر بعضهم في قفا بعض، وقيل إنها تدور بهم الأسرة كيف شاءوا فلا يرى بعضهم
قفا بعض. قرأ الجمهور " سرر " بضم الراء. وقرأ أبو السماك بفتحها، وهي لغة بعض تميم. ثم ذكر سبحانه صفة
أخرى لهم فقال (يطاف عليهم بكأس من معين) ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة جوابا عن سؤال مقدر،
ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير متقابلين، والكأس عند أهل اللغة اسم شامل لكل إناء فيه
الشراب، فإن كان فارغا فليس بكأس. وقال الضحاك والسدي: كل كأس في القرآن فهي الخمر. قال
النحاس: وحكى من يوثق به من أهل اللغة أن العرب تقول للقدح إذا كان فيه خمر كأس، فإذا لم يكن فيه خمر
فهو قدح كما يقال للخوان إذا كان عليه طعام مائدة، فإذا لم يكن عليه طعام لم يقل له مائدة، ومن معين متعلق
بمحذوف هو صفة لكأس. قال الزجاج: بكأس من معين: أي من خمر تجري كما تجري العيون على وجه الأرض،
والمعين الماء الجاري، وقوله (بيضاء لذة للشاربين) صفتان لكأس. قال الزجاج: أي ذات لذة فحذف
المضاف، ويجوز أن يكون الوصف بالمصدر لقصد المبالغة في كونها لذة فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال
الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن له لذة لذيذة، يقال شراب لذ ولذيذ كما يقال نبات غض وغضيض،
ومنه قول الشاعر: بحديثها اللذ الذي لو كلمت * أسد الفلاة به أتين سراعا
واللذيذ: كل شئ مستطاب، وقيل البيضاء: هي التي لم يعتصرها الرجال. ثم وصف هذه الكأس من
الخمر بغير ما يتصف به خمر الدنيا، فقال (لا فيها غول) أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها ولا يصيبهم منها مرض ولا
صداع (ولا هم عنها ينزفون) أي يسكرون: يقال نزف الشارب فهو منزوف ونزيف إذا سكر، ومنه قول
امرئ القيس: وإذا هي تمشي كمشي النزيف * يصرعه بالكثيب البهر
وقال أيضا: * نزيف إذا قامت لوجه تمايلت * ومنه قول الآخر:
فلثمت فاها آخذا بقرونها * شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
قال الفراء: العرب تقول ليس فيها غيلة وغائلة وغول سواء. وقال أبو عبيدة: الغول أن تغتال عقولهم،
وأنشد قول مطيع بن إياس:
وما زالت الكأس تغتالهم * وتذهب بالأول الأول
وقال الواحدي: الغول حقيقته الإهلاك، يقال غاله غولا واغتاله: أي أهلكه، والغول كل ما اغتالك:
أي أهلكك. قرأ الجمهور " ينزفون " بضم الياء وفتح الزاي مبنيا للمفعول. وقرأ حمزة والكسائي بضم الياء وكسر
الزاي من أنزف الرجل: إذا ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف ومنزف، يقال أحصد الزرع: إذا حان
حصاده، وأقطف الكرم: إذا حان قطافه. قال الفراء: من كسر الزاي فله معنيان، يقال أنزف الرجل: إذا
فنيت خمره، وأنزف: إذا ذهب عقله من السكر، وتحمل هذه القراءة على معنى لا ينفد شرابهم لزيادة الفائدة. قال
النحاس: والقراءة الأولى أبين وأصح في المعنى، لأن معنى لا ينزفون عند جمهور المفسرين: لا تذهب عقولهم،
فنفى الله عز وجل عن خمر الجنة الآفات التي تلحق في الدنيا من خمرها من الصداع والسكر. وقال الزجاج وأبو علي
الفارسي معنى: لا ينزفون بكسر الزاي: لا يسكرون. قال المهدوي: لا يكون معنى ينزفون يسكرون، لأن قبله
(لا غول فيها) أي لا تغتال عقولهم فيكون تكريرا، وهذا يقوي ما قاله قتادة: إن الغول وجع البطن وكذا روى
393

ابن أبي نجيح عن مجاهد. وقال الحسن: إن الغول الصداع. وقال ابن كيسان: هو المغص، فيكون معنى الآية:
لا فيها نوع من أنواع الفساد المصاحبة لشرب الخمر في الدنيا من مغص أو وجع بطن أو صداع أو عربدة أو لغو أو
تأثيم ولا هم يسكرون منها. ويؤيد هذا أن أصل الغول الفساد الذي يلحق في خفاء، يقال اغتاله اغتيالا: إذا فسد
عليه أمره في خفية، ومنه الغول والغيلة القتل خفية. وقرأ ابن أبي إسحاق " ينزفون " بفتح الياء وكسر الزاي. وقرأ
طلحة بن مصرف بفتح الياء وضم الزاي. ولما ذكر سبحانه صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم فقال
(وعندهم قاصرات الطرف) أي نساء قصرن طرفهن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، والقصر معناه الحبس،
ومنه قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دب محول * من الذر فوق الأتب منها لأثرا
والمحول الصغير من الذر، والأتب القميص، وقيل القاصرات: المحبوسات على أزواجهن، والأول أولى
لأنه قال: قاصرات الطرف، ولم يقل مقصورات. والعين عظام العيون جمع عيناء وهي الواسعة العين. قال
الزجاج: معنى (عين) كبار الأعين حسناها. وقال مجاهد: العين حسان العيون. وقال الحسن: هن الشديدات
بياض العين الشديدات سوادها، والأول أولى (كأنهن بيض مكنون) قال الحسن وأبو زيد: شبههن ببيض
النعام تكنها النعامة بالريش من الريح والغبار. فلونه أبيض في صفرة، وهو أحسن ألوان النساء. وقال سعيد بن
جبير والسدي: شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وتمسه الأيدي وبه قال ابن جرير، ومنه قول امرئ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها * تمتعت من لهو بها غير معجل
قال المبرد: وتقول العرب إذا وصفت الشئ بالحسن والنظافة كأنه بيض النعام المغطى بالريش. وقيل
المكنون: المصون عن الكسر: أي إنهن عذارى، وقيل المراد بالبيض اللؤلؤ كما في قوله - وحور عين كأمثال
اللؤلؤ المكنون - ومثله قول الشاعر:
وهي بيضاء مثل لؤلؤة ألغوا * ص ميزت من جوهر مكنون
والأول أولى، وإنما قال مكنون ولم يقل مكنونات لأنه وصف البيض باعتبار اللفظ.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) قال: تقول الملائكة
للزبانية هذا القول. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وابن منيع في مسنده، وعبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث من طريق النعمان بن بشير عن عمر
ابن الخطاب في قوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) قال: أمثالهم الذين هم مثلهم: يجيء أصحاب الربا مع
أصحاب الربا، وأصحاب الزنا مع أصحاب الزنا، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر، أزواج في الجنة، وأزواج في
النار. وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم
والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) قال: أشباههم، وفي لفظ:
نظراءهم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) قال: وجهوههم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: دلوهم (إلى صراط الجحيم) قال: طريق النار. وأخرج عنه أيضا
في قوله (وقفوهم إنهم مسؤولون) قال: احبسوهم انهم محاسبون. وأخرج البخاري في تاريخه والدارمي والترمذي
394

وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " ما من داع دعا إلى شئ إلا كان موقوفا معه يوم القيامة لازما به لا يفارقه وإن دعا رجل رجلا، ثم
قرأ (وقفوهم إنهم مسؤولون) " وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون) قال: ذلك إذا بعثوا في النفخة الثانية. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله (كانوا إذا قيل
لهم لا إله إلا الله يستكبرون) قال: كانوا إذا لم يشرك بالله يستنكفون، (ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)
لا يعقل، قال: فحكى الله صدقه فقال (بل جاء بالحق وصدق المرسلين). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على
الله ". وأنزل الله في كتابه وذكر قوما استكبروا، فقال (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون)، وقال
- إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة
التقوى وكانوا أحق بها وأهلها - وهي " لا إله إلا الله محمد رسول الله " استكبر عنها المشركون يوم الحديبية يوم
كاتبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قضية المدة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي في البعث عن ابن عباس في قوله (يطاف عليهم بكأس من معين) قال: الخمر (لا فيها غول) قال ليس
فيها صداع (ولا هم عنها ينزفون) قال: لا تذهب عقولهم. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه قال في الخمر
أربع خصال: السكر والصداع والقئ والبول، فنزه الله خمر الجنة عنها، فقال (لا فيها غول) لا تغول عقولهم
من السكر (ولا هم عنها ينزفون) قال: يقيئون عنها كما يقيء صاحب خمر الدنيا عنها. وأخرج ابن جرير عن ابن
عباس (لا فيها غول) قال: هي الخمر ليس فيها وجع بطن. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
والبيهقي في البعث عنه أيضا في قوله (وعندهم قاصرات الطرف) يقول: من غير أزواجهن (كأنهن بيض
مكنون) قال: اللؤلؤ المكنون. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (كأنهن بيض مكنون) قال: بياض البيضة ينزع
عنها فوفها وغشاؤها.
395

قوله (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) معطوف على يطاف: أي يسأل هذا ذاك، وذاك هذا حال شربهم
عن أحوالهم التي كانت في الدنيا، وذلك من تمام نعيم الجنة، والتقدير: فيقبل بعضهم على بعض، وإنما عبر عنه
بالماضي للدلالة على تحقق وقوعه (قال قائل منهم) أي قال قائل من أهل الجنة في حال إقبال بعضهم على بعض
بالحديث وسؤال بعضهم لبعض (إني كان لي قرين) أي صاحب ملازم لي في الدنيا كافر بالبعث منكر له كما
يدل عليه قوله (أئنك لمن المصدقين) يعني بالبعث والجزاء، وهذا الاستفهام من القرين لتوبيخ ذلك المؤمن
وتبكيته بإيمانه وتصديقه بما وعد الله به من البعث، وكان هذا القول منه في الدنيا. ثم ذكر ما يدل على الاستبعاد
للبعث عنده وفي زعمه فقال (إذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمدينون) أي مجزيون بأعمالنا ومحاسبون بها بعد أن صرنا
ترابا وعظاما، وقيل معنى مدينون مسوسون، يقال دانه: إذا ساسه. قال سعيد بن جبير: قرينه شريكه، وقيل
أراد بالقرين الشيطان الذي يقارنه وأنه كان يوسوس إليه بإنكار البعث، وقد مضى ذكر قصتهما في سورة
الكهف، والاختلاف في أسميهما، قرأ الجمهور " لمن المصدقين " بتخفيف الصاد من التصديق: أي لمن المصدقين
بالبعث، وقرئ بتشديدها، ولا أدري من قرأ بها، ومعناها بعيد لأنها من التصدق لا من التصديق، ويمكن
تأويلها بأنه أنكر عليه التصدق بماله لطلب الثواب، وعلل ذلك باستبعاد البعث
وقد اختلف القراء في هذه الاستفهامات الثلاثة، فقرأ نافع الأولى والثانية بالاستفهام بهمزة، والثالثة بكسر
الألف من غير استفهام، ووافقه الكسائي إلا أنه يستفهم الثالثة بهمزتين، وابن عامر الأولى والثالثة بهمزتين،
والثانية بكسر الألف من غير استفهام، والباقون بالاستفهام في جميعها. ثم اختلفوا، فابن كثير يستفهم بهمزة
واحدة غير مطولة وبعده ساكنه خفيفة، وأبو عمرو مطولة، وعاصم وحمزة بهمزتين (قال هل أنتم مطلعون) القائل
هو المؤمن الذي في الجنة بعد ما حكى لجلسائه فيها ما قاله له قرينه في الدنيا: أي هل أنتم مطلعون إلى أهل النار
لأريكم ذلك القرين الذي قال لي تلك المقالة كيف منزلته في النار؟ قال ابن الأعرابي: والاستفهام هو بمعنى الأمر:
أي اطلعوا، وقيل القائل هو الله سبحانه، وقيل الملائكة، والأول أولى (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) أي فاطلع
على النار ذلك المؤمن الذي صار يحدث أصحابه في الجنة بما قال له قرينه في الدنيا، فرأى قرينه في وسط الجحيم.
قال الزجاج: سواء كل شئ وسطه. قرأ الجمهور " مطلعون " بتشديد الطاء مفتوحة وبفتح النون، فاطلع ماضيا
مبنيا للفاعل من الطلوع. وقرأ ابن عباس ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو مطلعون بسكون الطاء وفتح النون
" فأطلع " بقطع الهمزة مضمومة وكسر اللام ماضيا مبنيا للمفعول. قال النحاس: فأطلع فيه قولان على هذه القراءة
أحدهما أن يكون فعلا مستقبلا: أي فأطلع أنا، ويكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام، والقول الثاني أن
يكون فعلا ماضيا، وقرأ حماد بن أبي عمار " مطلعون " بتخفيف الطاء وكسر النون فاطلع مبنيا للمفعول، وأنكر
396

هذه القراءة أبو حاتم وغيره. قال النحاس: هي لحن، لأنه لا يجوز الجمع بين النون والإضافة، ولو كان مضافا
لقال هل أنتم مطلعي، وإن كان سيبويه والفراء قد حكيا مثله وأنشدا:
هم القائلون الخير والآمرونه * إذا ما خشوا من محدث الدهر معظما
ولكنه شاذ خارج عن كلام العرب (قال تالله إن كدت لتردين) أي قال ذلك الذي من أهل الجنة لما اطلع
على قرينه ورآه في النار: تالله إن كدت لتردين: أي لتهلكني بالإغواء. قال الكسائي: لتردين لتهلكني، والردى
الهلاك. قال المبرد: لو قيل لتردين لتوقعني في النار لكان جائزا. قال مقاتل: المعنى والله لقد كدت أن تغويني
فأنزل منزلتك، والمعنى متقارب، فمن أغوى إنسانا فقد أهلكه (ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين) أي لولا
رحمة ربي وإنعامه علي بالإسلام وهدايتي إلى الحق وعصمتي عن الضلال لكنت من المحضرين معك في النار، قال
الفراء: أي لكنت معك في النار محضرا. قال الماوردي: وأحضر لا يستعمل إلا في الشر. ولما تمم كلامه مع ذلك
القرين الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة فقال (أفما نحن بميتين)، والهمزة للاستفهام التقريري
وفيها معنى التعجيب، والفاء للعطف على محذوف كما في نظائره: أي نحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين (إلا
موتتنا الأولى) التي كانت في الدنيا، وقوله هذا كان على طريقة الابتهاج والسرور بما أنعم الله عليهم من نعيم الجنة
الذي لا ينقطع وأنهم مخلدون لا يموتون أبدا، وقوله (وما نحن بمعذبين) هو من تمام كلامه: أي وما نحن بمعذبين
كما يعذب الكفار. ثم قال مشيرا إلى ما هم فيه من النعيم (إن هذا لهو الفوز العظيم) أي أن هذا الأمر العظيم والنعيم
المقيم والخلود الدائم الذي نحن فيه لهو الفوز العظيم الذي لا يقادر قدره ولا يمكن الإحاطة بوصفه، وقوله (لمثل هذا
فليعمل العاملون) من تمام كلامه: أي لمثل هذا العطاء والفضل العظيم فليعمل العاملون، فإن هذه هي التجارة
الرابحة، لا العمل للدنيا الزائلة فإنها صفقة خاسرة نعيمها منقطع وخيرها زائل وصاحبها عن قريب منها راحل. وقيل
إن هذا من قول الله سبحانه، وقيل من قول الملائكة، والأول أولى. قرأ الجمهور " بميتين " وقرأ زيد بن علي
" بمايتين " وانتصاب إلا موتتنا على المصدرية، والاستثناء مفرغ، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. أي لكن
الموتة الأولى التي كانت في الدنيا (أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم) الإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكره من نعيم الجنة،
وهو مبتدأ وخبره خير، ونزلا تمييز، والنزل في اللغة الرزق الذي يصلح أن ينزلوا معه ويقيموا فيه والخيرية
بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غيره. قال الزجاج: المعنى أذلك خير في باب الإنزال التي يبقون بها نزلا أم نزل
أهل النار، وهو قوله (أم شجرة الزقوم) وهو ما يكره تناوله. قال الواحدي: وهو شئ مر كريه يكره أهل النار
على تناوله فهم يتزقمونه، وهي على هذا مشتقة من التزقم وهو البلع على جهد لكراهتها ونتنها. واختلف فيها هل هي
من شجر الدنيا التي يعرفها العرب أم لا على قولين: أحدهما أنها معروفة من شجر الدنيا فقال قطرب: إنها شجرة
مرة تكون بتهامة من أخبث الشجر. وقال غيره: بل هو كل نبات قاتل. القول الثاني أنها غير معروفة في شجر
الدنيا. قال قتادة: لما ذكر الله هذه الشجرة افتتن بها الظلمة فقالوا: كيف تكون في النار شجرة. فأنزل الله تعالى
(إنا جعلناها فتنة للظالمين) قال الزجاج: حين افتتنوا بها وكذبوا بوجودها. وقيل معنى جعلها فتنة لهم: أنها محنة
لهم لكونهم يعذبون بها، والمراد بالظالمين هنا الكفار أو أهل المعاصي الموجبة للنار. ثم بين سبحانه أوصاف هذه
الشجرة ردا على منكريها فقال (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) أي في قعرها، قال الحسن: أصلها في قعر
جهنم وأغصانها ترفع إلى دركاتها، ثم قال (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) أي ثمرها وما تحمله كأنه في تناهي قبحه
وشناعة منظره رؤوس الشياطين، فشبه المحسوس بالمتخيل، وإن كان غير مرئي للدلالة على أنه غاية في القبح كما
397

تقول في تشبيه من يستقبحونه: كأنه شيطان، وفي تشبيه من يستحسنونه: كأنه ملك، كما في قوله - ما هذا بشر
إن هذا إلا ملك كريم - ومنه قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي * ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقال الزجاج والفراء: الشياطين حيات لها رؤوس وأعراف، وهي من أقبح الحيات وأخبثها وأخفها جسما.
وقيل إن رؤوس الشياطين اسم لنبت قبيح معروف باليمن يقال له الاستن، ويقال له الشيطان. قال النحاس:
وليس ذلك معروفا عند العرب. وقيل هو شجر خشن منتن مر منكر الصورة يسمى ثمره رؤوس الشياطين (فإنهم
لآكلون منها) أي من الشجرة أو من طلعها، والتأنيث لاكتساب الطلع التأنيث من إضافته إلى الشجرة (فمالئون
منها البطون) وذلك أنهم يكرهون على أكلها حتى تمتلئ بطونهم، فهذا طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة
(ثم إن لهم عليها) بعد الأكل منها (لشوبا من حميم) الشوب الخلط. قال الفراء: يقال شاب طعامه وشرابه: إذا
خلطهما بشئ يشوبهما شوبا وشيابة، والحميم الماء الحار. فأخبر سبحانه أنه يشاب لهم طعامهم من تلك الشجرة
بالماء الحار ليكون أفظع لعذابهم وأشنع لحالهم كما في قوله - وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم - قرأ الجمهور " شوبا "
بفتح الشين، وهو مصدر، وقرأ شيبان النحوي بالضم. قال الزجاج: المفتوح مصدر، والمضموم اسم بمعنى
المشوب، كالنقص بمعنى المنقوص (ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم) أي مرجعهم بعد شرب الحميم وأكل
الزقوم إلى الجحيم، وذلك أنهم يوردون الحميم لشربه، وهو خارج الجحيم كما تورد الإبل، ثم يردون إلى
الجحيم كما في قوله سبحانه - يطوفون بينها وبين حميم آن - وقيل إن الزقوم والحميم نزل يقدم إليهم قبل
دخولها. قال أبو عبيدة: ثم بمعنى الواو، وقرأ ابن مسعود " ثم إن مقيلهم لا إلى الجحيم " وجملة (إنهم ألفوا،
إي وجدوا (آباءهم ضالين) تعليل لاستحقاقهم ما تقدم ذكره أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم تقليدا
وضلالة لا لحجة أصلا (فهم على آثارهم يهرعون) الإهراع الإسراع. قال الفراء: الإهراع الإسراع برعدة. وقال
أبو عبيدة: يهرعون: يستحثون من خلفهم، يقال جاء فلان يهرع إلى النار: إذا استحثه البرد إليها. وقال المفضل
يزعجون من شدة الإسراع. قال الزجاج: هرع وأهرع: إذا استحث وانزعج، والمعنى: يتبعون آباءهم في
سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين) أي ضل قبل هؤلاء المذكورين أكثر
الأولين من الأمم الماضية (ولقد أرسلنا فيهم منذرين) أي أرسلنا في هؤلاء الأولين رسلا أنذروهم العذاب وبينوا
لهم الحق فلم ينجع ذلك فيهم (فانظر كيف كان عاقبة المنذرين) أي الذين أنذرتهم الرسل فإنهم صاروا إلى النار.
قال مقاتل: يقول كان عاقبتهم العذاب، يحذر كفار مكة ثم استثنى عباده المؤمنين فقال (إلا عباد الله المخلصين)
أي إلا من أخلصهم الله بتوفيقهم إلى الإيمان والتوحيد، وقرئ " المخلصين " بكسر اللام: أي الذين أخلصوا لله
طاعاتهم ولم يشوبوها بشئ مما يغيرها.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وهناد وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله (فاطلع فرآه في سواء الجحيم) قال: اطلع
ثم التفت إلى أصحابه فقال: لقد رأيت جماجم القوم تغلى. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: قول الله لأهل
الجنة - كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون - قال هنيئا: أي لا تموتون فيها فعند ذلك قالوا (أفما نحن بميتين إلا موتتنا
الأولى ما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم) قال: هذا قول الله (لمثل هذا فليعمل العاملون). وأخرج ابن
مردويه عن البراء بن عازب قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده في يدي، فرأى جنازة
فأسرع المشي حتى أتى القبر، ثم جثى على ركبتيه فجعل يبكي حتى بل الثرى، ثم قال (لمثل هذا فليعمل العاملون)
398

وأخرج ابن مردويه عن أنس قال: دخلت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مريض يجود بنفسه فقال (لمثل
هذا فليعمل العاملون). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: مر أبو جهل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وهو جالس، فلما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسم: أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى، فلما سمع
أبو جهل قال: من توعد يا محمد؟ قال إياك، قال بما توعدني؟ قال أوعدك بالعزيز الكريم، فقال أبو جهل:
أليس أنا العزيز الكريم؟ فأنزل الله (إن شجرة الزقوم طعام الأثيم) إلى قوله (ذق إنك أنت العزيز الكريم) فلما
بلغ أبا جهل ما نزل فيه جمع أصحابه، فأخرج إليهم زبدا وتمرا فقال: تزقموا من هذا، فوالله ما يتوعدكم محمد إلا
بهذا، فأنزل الله (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم) إلى قوله (ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم). وأخرج ابن
أبي شيبة عنه قال: لو أن قطرة من زقوم جهنم أنزلت إلى الأرض لأفسدت على الناس معايشهم. وأخرج ابن
جرير وابن المنذر عنه أيضا (ثم إن لهم عليها لشوبا) قال: لمزجا. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال في قوله (لشوبا
من حميم) يخالط طعامهم ويشاب بالحميم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لا ينتصف النهار
يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء ويقيل هؤلاء أهل الجنة وأهل النار، وقرأ (ثم إن مقيلهم لا إلى الجحيم). وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنهم ألفوا آباءهم ضالين) قال: وجدوا آباءهم.
399

لما ذكر سبحانه أنه أرسل في الأمم الماضية منذرين ذكر تفصيل بعض ما أجمله فقال (ولقد نادانا نوح)
واللام هي الموطئة للقسم، وكذا اللام في قوله (فلنعم المجيبون) أي نحن، والمراد أن نوحا دعا ربه على قومه لما
عصوه، فأجاب الله دعاءه وأهلك قومه بالطوفان. فالنداء هنا هو نداء الدعاء لله والاستغاثة به، كقوله - رب
لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا - وقوله - إني مغلوب فانتصر - قال الكسائي: أي فلنعم المجيبون له كنا
(فنجيناه وأهله من الكرب العظيم) المراد بأهله أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين، والكرب العظيم هو
الغرق، وقيل تكذيب قومه له وما يصدر منهم إليه من أنواع الأذايا (وجعلنا ذريته هم الباقين) وحدهم دون غيرهم
كما يشعر به ضمير الفصل، وذلك لأن الله أهلك الكفرة بدعائه ولم يبق منهم باقية، ومن كان معه في السفينة من
المؤمنين ماتوا كما قيل ولم يبق إلا أولاده. قال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد
نوح، فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند،
والهند، والنوب، والزنج، والحبشة، والقبط، والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالب والترك والخزر ويأجوج
ومأجوج وغيرهم، وقيل إنه كان لمن مع نوح ذرية كما يدل عليه قوله - ذرية من حملنا مع نوح - وقوله - قيل
يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم - فيكون على هذا
معنى (وجعلنا ذريته هم الباقين) وذريته وذرية من معه دون ذرية من كفر، فإن الله أغرقهم فلم يبق لهم ذرية
(وتركنا عليه في الآخرين) يعنى في الذين يأتون بعده إلى يوم القيامة من الأمم، والمتروك هذا هو قوله (سلام على
نوح) أي تركنا هذا الكلام بعينه وارتفاعه على الحكاية، والسلام هو الثناء الحسن: أي يثنون عليه ثناء حسنا
ويدعون له ويترحمون عليه. قال الزجاج: تركنا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة، وذلك الذكر هو قوله (سلام
على نوح). قال الكسائي: في ارتفاع سلام وجهان: أحدهما وتركنا عليه في الآخرين يقال سلام على نوح.
والوجه الثاني أن يكون المعنى: وأبقينا عليه، وتم الكلام، ثم ابتدأ فقال: سلام على نوح: أي سلامة له من
أن يذكر بسوء في الآخرين. قال المبرد: أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية: يعني يسلمون عليه تسليما ويدعون له،
وهو من الكلام المحكى كقوله - سورة أنزلناها - وقيل إنه ضمن تركنا معنى قلنا. قال الكوفيون: جملة سلام على
نوح في العالمين في محل نصب مفعول تركنا، لأنه ضمن معنى قلنا. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود " سلاما "
منصوب بتركنا: أي تركنا عليه ثناء حسنا، وقيل المراد بالآخرين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي العالمين
متعلق بما تعلق به الجار والمجرور الواقع خبرا، وهو على نوح: أي سلام ثابت أو مستمر أو مستقر على نوح في
العالمين من الملائكة والجن والإنس، وهذا يدل على عدم اختصاص ذلك بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم
400

كما قيل (إنا كذلك نجزي المحسنين) هذه الجملة تعليل لما قبلها من التكرمة لنوح بإجابة دعائه وبقاء الثناء من الله عليه
وبقاء ذريته: أي إنا كذلك نجزي من كان محسنا في أقواله وأفعاله راسخا في الاحسان معروفا به، والكاف في
كذلك نعت مصدر محذوف: أي جزاء كذلك الجزاء (إنه من عبادنا المؤمنين) هذا بيان لكونه من المحسنين وتعليل
له بأنه كان عبدا مؤمنا مخلصا لله (ثم أغرقنا الآخرين) أي الكفرة الذين لم يؤمنوا بالله ولا صدقوا نوحا. ثم ذكر
سبحانه قصة إبراهيم وبين أنه ممن شايع نوحا فقال (وإن من شيعته لإبراهيم) أي من أهل دينه وممن شايعه ووافقه
على الدعاء إلى الله وإلى توحيده والإيمان به. قال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان
وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبار حتى يستوقد، وقال الفراء: المعنى وإن من
شيعة محمد لإبراهيم، فالهاء في شيعته على هذا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا قال الكلبي. ولا يخفى ما في
هذا من الضعف والمخالفة للسياق. والظرف في قوله (إذ جاء ربه بقلب سليم) منصوب بفعل محذوف: أي أذكر،
وقيل بما في الشيعة من معنى المتابعة. قال أبو حيان: لا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وهو
إبراهيم، والأولى أن يقال: إن لام الابتداء تمنع ما بعدها من العمل فيما قبلها، والقلب السليم المخلص من الشرك
والشك. وقيل هو الناصح لله في خلقه، وقيل الذي يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في
القبور. ومعنى مجيئه إلى ربه يحتمل وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته. الثاني عند إلقائه في النار.
وقوله (إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون) بدل من الجملة الأولى، أو ظرف لسليم، أو ظرف لجاء، والمعنى:
وقت قال لأبيه آزر وقومه من الكفار: أي شئ تعبدون (أئفكا آلهة دون الله تريدون) انتصاب إفكا على أنه
مفعول لأجله، وانتصاب آلهة على أنه مفعول تريدون، والتقدير: أتريدون آلهة من دون الله للإفك، ودون
ظرف لتريدون، وتقديم هذه المعمولات للفعل عليه للاهتمام. وقيل انتصاب إفكا على أنه مفعول به لتريدون،
وآلهة بدل منه، جعلها نفس الإفك مبالغة، وهذا أولى من الوجه الأول. وقيل انتصابه على الحال من فاعل
تريدون: أي أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك. قال المبرد: الإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب
ومنه ائتفكت بهم الأرض (فما ظنكم برب العالمين) أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره وما ترونه يصنع
بكم؟ وهو تحذير مثل قوله - ما غرك بربك الكريم - وقيل المعنى: أي شئ توهمتموه بالله حتى أشركتم به غيره
(فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم) قال الواحدي: قال المفسرون: كانوا يتعاطون علم النجوم فعاملهم بذلك
لئلا ينكروا عليه وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم لتلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد
يوم عيد يخرجون إليه، وأراد أن يتخلف عنهم فاعتل بالسقم: وذلك أنهم كلفوه أن يخرج معهم إلى عيدهم فنظر
إلى النجوم يريهم أنه مستدل بها على حاله، فلما نظر إليها قال إني سقيم أي سأسقم. وقال الحسن: إنهم لما
كلفوه أن يخرج معهم تفكر فيما يعمل، فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي: أي فيما طلع له منه، فعلم أن
كل شئ يسقم (فقال إني سقيم). قال الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشئ يدبره: نظر في النجوم.
وقيل كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تعتاده فيها الحمى. وقال الضحاك: معنى إني سقيم:
سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض كما قال للملك لما
سأله عن ساره هي أختي: يعنى أخوة الدين. وقال سعيد بن جبير: أشار لهم إلى مرض يسقم ويعدي وهو الطاعون
وكانوا يهربون من ذلك، ولهذا قال (فتولوا عنه مدبرين) أي تركوه وذهبوا مخافة العدوي (فراغ إلى آلهتهم)
يقال راغ يروغ روغا وروغانا: إذا مال، ومنه طريق رائغ: أي مائل. ومنه قول الشاعر:
فيريك من طرف اللسان حلاوة * ويروغ عنك كما يروغ الثعلب
401

وقال السدي: ذهب إليهم، وقال أبو مالك: جاء إليهم، وقال الكلبي: أقبل عليهم، والمعنى متقارب
(فقال ألا تأكلون) أي فقال إبراهيم للأصنام التي راغ إليها استهزاء وسخرية: ألا تأكلون من الطعام الذي كانوا
يصنعونه لها، وخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة، وكذا قوله (مالكم لا تنطقون) فإنه
خاطبهم خطاب من يعقل، والاستفهام للتهكم بهم لأنه قد علم أنها جمادات لا تنطق. قيل إنهم تركوا عند أصنامهم
طعامهم للتبرك بها وليأكلوه إذا رجعوا من عيدهم. وقيل تركوه للسدنة، وقيل إن إبراهيم هو الذي قرب إليها
الطعام مستهزئا بها (فراغ عليهم ضربا باليمين) أي فمال عليهم يضربهم ضربا باليمين فانتصابه على أنه مصدر مؤكد
لفعل محذوف، أو هو مصدر لراغ، لأنهم بمعنى ضرب. قال الواحدي: قال المفسرون: يعني بيده اليمنى يضربهم
بها. وقال السدي: بالقوة والقدرة لأن اليمين أقوى اليدين. قال الفراء وثعلب ضربا بالقوة، واليمين القوة. وقال
الضحاك والربيع بن أنس: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال - وتالله لأكيدن أصنامكم - وقيل المراد باليمين هنا
العدل كما في قوله - ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين - أي بالعدل، واليمين كناية عن العدل كما أن
الشمال كناية عن الجور، وأول هذه الأقوال أولا ها (فأقبلوا إليه يزفون) أي أقبل إليه عبدة تلك الأصنام يسرعون
لما علموا بما صنعه بها، ويزفون في محل نصب على الحال من فاعل أقبلوا. قرأ الجمهور " يزفون " بفتح الياء من زف
الظليم يزف إذا عدا بسرعة، وقرأ حمزة بضم الياء من أزف يزف: أي دخل في الزفيف، أو يحملون غيرهم على
الزفيف. قال الأصمعي: أزففت الإبل: أي حملتها على أن تزف، وقيل هما لغتان، يقال زف القوم وأزفوا،
وزفت العروس وأزففتها، حكى ذلك عن الخليل. قال النحاس: زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة: يعني
يزفون بضم الياء، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء، وشبهها بقولهم أطردت الرحل: أي صيرته إلى ذلك،
وقال المبرد: الزفيف الإسراع. وقال الزجاج: الزفيف أول عدو النعام. وقال قتادة والسدي: معنى يزفون
يمشون. وقال الضحاك: يسعون. وقال يحيى بن سلام: يرعدون غضبا. وقال مجاهد: يختالون: أي يمشون
مشي الخيلاء، وقيل يتسللون تسللا بين المشي والعدو، والأولى تفسير يزفون بيسرعون، وقرئ " يزفون " على
البناء للمفعول، وقرئ " يزفون " كيرمون. وحكى الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميفع أنهم قرأوا " يرفون "
بالراء المهملة، وهي ركض بين المشي والعدو (قال أتعبدون ما تنحتون) لما أنكروا على إبراهيم ما فعله بالأصنام،
ذكر لهم الدليل الدال على فساد عبادتها فقال مبكتا لهم ومنكرا عليهم (أتعبدون ما تنحتون) أي أتعبدون أصناما أنتم
تنحتونها، والنحت النجر والبري، نحته ينحته بالكسر نحتا: أي براه، والنحاتة البراية، وجملة (والله خلقكم وما
تعملون) في محل نصب على الحال من فاعل تعبدون، و " ما " في " وما تعملون " موصولة: أي وخلق الذي تصنعونه على
العموم ويدخل فيها الأصنام التي ينحتونها دخولا أوليا، ويكون معنى العمل هنا التصوير والنحت ونحوهما،
ويجوز أن تكون مصدرية: أي خلقكم وخلق عملكم، ويجوز أن تكون استفهامية، ومعنى الاستفهام التوبيخ
والتقريع: أي وأي شئ تعملون، ويجوز أن تكون نافية: أي إن العمل في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون
شيئا، وقد طول صاحب الكشاف الكلام في رد قول من قال إنها مصدرية، ولكن بما لا طائل تحته، وجعلها
موصولة أولى بالمقام وأوفق بسياق الكلام، وجملة (قالوا بنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم) مستأنفة جواب سؤال
مقدر كالجملة التي قبلها، قالوا هذه المقالة لما عجزوا عن جواب ما أورده عليهم من الحجة الواضحة، فتشاوروا
فيما بينهم أن يبنوا له حائطا من حجارة ويملؤوه حطبا ويضرموه، ثم يلقوه فيه، والجحيم النار الشديدة الاتقاد. قال
الزجاج: وكل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، واللام في الجحيم عوض عن المضاف إليه: أي في جحيم ذلك
البنيان، ثم لما ألقوه فيها نجاه الله منها وجعلها عليه بردا وسلاما، وهو معنى قوله (فأرادوا به كيدا فجعلناهم
402

الأسفلين) الكيد: المكر والحيلة: أي احتالوا لإهلاكه فجعلناهم الأسفلين المقهورين المغلوبين، لأنها قامت
له بذلك عليهم الحجة التي لا يقدرون على دفعها ولا يمكنهم جحدها، فإن النار الشديدة الاتقاد العظيمة الاضطرام
المتراكمة الجمار إذا صارت بعد إلقائه عليها بردا وسلاما، ولم تؤثر فيه أقل تأثير كان ذلك من الحجة بمكان يفهمه
كل من له عقل، وصار المنكر له سافلا ساقط الحجة ظاهر التعصب واضح التعسف، وسبحان من يجعل المحن
لمن يدعو إلى دينه منحا، ويسوق إليهم الخير بما هو من صور الضير. ولما انقضت هذه الوقعة وأسفر الصبح لذي
عينين، وظهرت حجة الله لإبراهيم، وقامت براهين نبوته، وسطعت أنوار معجزته (قال إني ذاهب إلى ربي)
أي مهاجر من بلد قومي الذين فعلوا ما فعلوا تعصبا للأصنام وكفرا بالله وتكذيبا لرسله إلى حيث أمرني بالمهاجرة إليه.
أو إلى حيث أتمكن من عبادته (سيهديني) أي سيهديني إلى المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، أو إلى مقصدي.
قيل إن الله سبحانه أمره بالمسير إلى الشام، وقد سبق بيان هذا في سورة الكهف مستوفى. قال مقاتل: فلما
قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد فقال (رب هب لي من الصالحين) أي ولدا صالحا من الصالحين يعينني على
طاعتك ويؤنسني في الغربة هكذا قال المفسرون، وعللوا ذلك بأن الهبة قد غلب معناها في الولد، فتحمل عند
الاطلاق عليه، وإذا وردت مقيدة حملت على ما قيدت به كما في قوله - ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا -
وعلى فرض أنها لم تغلب في طلب الولد فقوله (فبشرناه بغلام حليم) يدل على أنه ما أراد بقوله (رب هب لي من
الصالحين) إلا الولد، ومعنى حليم: أن يكون حليما عند كبره، فكأنه بشر ببقاء ذلك الغلام حتى يكبر
ويصير حليما، لأن الصغير لا يوصف بالحلم. قال الزجاج: هذه البشارة تدل على أنه مبشر بابن ذكر: وأنه
يبقى حتى ينتهي في السن ويوصف بالحلم (فلما بلغ معه السعي) في الكلام حذف كما تشعر به هذه الفاء الفصيحة
والتقدير: فوهبنا له الغلام فنشأ حتى صار إلى السن التي يسعى فيها مع أبيه في أمور دنياه. قال مجاهد:
(فلما بلغ معه السعي) أي شب وأدرك سعيه سعي إبراهيم. وقال مقاتل: لما مشى معه. قال الفراء: كان يومئذ ابن
ثلاث عشرة سنة. وقال الحسن: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. وقال ابن زيد: هو السعي في العبادة،
وقيل هو الاحتلام (قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) قال إبراهيم لابنه لما بلغ معه ذلك المبلغ: إني رأيت
في المنام هذه الرؤيا. قال مقاتل: رأى إبراهيم ذلك ثلاث ليال متتابعات. قال قتادة: رؤيا الأنبياء حق إذا رأوا
شيئا فعلوه.
وقد اختلف أهل العلم في الذبيح؟ هل هو إسحاق أو إسماعيل. قال القرطبي: فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق
وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود، ورواه أيضا عن
جابر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعمر بن الخطاب، قال: فهؤلاء سبعة من الصحابة. قال: ومن
التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن
أبي برزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس كلهم
قالوا الذبيح إسحاق، وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد، منهم النحاس وابن جرير
الطبري وغيرهما. قال وقال آخرون: هو إسماعيل، وممن قال بذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة،
وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد
والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة، وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن
الذبيح فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك، ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة. قال ابن
كثير في تفسيره: وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو إسحاق، وحكى ذلك عن طائفة من السلف
403

حتى يقال عن بعض الصحابة وليس في ذلك كتاب ولا سنة، وما أظن ذلك تلقى إلا عن أخبار أهل الكتاب،
وأخذ مسلما من غير حجة، وكتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل، فإنه ذكر البشارة بالغلام الحليم، وذكر
أنه الذبيح، وقال بعد ذلك (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين).
واحتج القائلون بأنه إسحاق بأن الله عز وجل قد أخبرهم عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع
امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال - إني ذاهب إلى ربي سيهدين - أنه دعا فقال - رب هب لي من الصالحين - فقال
تعالى - فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب - ولأن الله قال - وفديناه بذبح عظيم - فذكر
أنه في الغلام الحليم الذي بشر به إبراهيم، وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال - وبشرناه بإسحاق - وقال هنا - بغلام حليم -
وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن يصير له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. قال الزجاج:
الله أعلم أيهما الذبيح، وما استدل به الفريقان يمكن الجواب عنه والمناقشة له.
ومن جملة ما احتج به من قال إنه إسماعيل بأن الله وصفه بالصبر دون إسحاق كما في قوله - وإسماعيل واليسع
وذا الكفل كل من الصابرين - وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله - إنه كان صادق الوعد -
لأنه وعد أباه من نفسه بالصبر على الذبح، فوفى به، ولأن الله سبحانه قال - وبشرناه بإسحاق نبيا - فكيف يأمره
بذبحه، وقد وعده أن يكون نبيا، وأيضا فإن الله قال - فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب - فكيف يأمر
بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب، وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح
إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح واقعا ببيت المقدس وكل هذا أيضا يحتمل المناقشة (فانظر ماذا ترى) قرأ
حمزة والكسائي " ترى " بضم الفوقية وكسر الراء، والمفعولان محذوفان: أي أنظر ماذا تريني إياه من صبرك
واحتمالك. وقرأ الباقون من السبعة بفتح التاء والراء من الرأي، وهو مضارع رأيت، وقرأ الضحاك والأعمش،
" ترى " بضم التاء وفتح الراء مبنيا للمفعول: أي ماذا يخيل إليك ويسنح لخاطرك. قال الفراء في بيان معنى القراءة
الأولى: انظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير:
أي ما تريك نفسك من الرأي، وقال أبو عبيد: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة وكذا قال أبو حاتم،
وغلطهما النحاس وقال: هذا يكون من رؤية العين وغيرها، ومعنى القراءة الثانية ظاهر واضح، وإنما شاوره
ليعلم صبره لأمر الله، وإلا فرؤيا الأنبياء وحي، وامتثالها لازم لهم متحتم عليهم (قال يا أبت افعل ما تؤمر) أي
ما تؤمر به مما أوحي إليك من ذبحي، وما موصولة، وقيل مصدرية على معنى افعل أمرك، والمصدر مضاف إلى
المفعول، وتسمية المأمور به أمرا، والأول أولى (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) على ما ابتلاني به من الذبح،
والتعليق بمشيئة الله سبحانه تبركا بها منه (فلما أسلما) أي استسلما لأمر الله وأطاعاه وانقادا له. قرأ الجمهور
" أسلمنا " وقرأ علي وابن مسعود وابن عباس " فلما سلما " أي فوضا أمرهما إلى الله، وروي عن ابن عباس أنه
قرأ استسلما قال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله، وأسلم الآخر ابنه، يقال: سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد.
وقد اختلف في الجواب لما ماذا هو؟ فقيل هو محذوف، وتقديره ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما أو فديناه
بكبش هكذا قال البصريون. وقال الكوفيون: الجواب هو ناديناه، والواو زائدة مقحمة، واعترض عليهم
النحاس بأن الواو من حروف المعاني ولا يجوز أن تزاد، وقال الأخفش الجواب - وتله للجبين - والواو زائدة،
وروي هذا أيضا عن الكوفيين، واعتراض النحاس يرد عليه كما ورد على الأول (وتله للجبين) التل: الصرع
404

والدفع، يقال تللت الرجل: إذا ألقيته، والمراد أنه أضجعه على جبينه على الأرض، والجبين أحد جانبي الجبهة،
فللوجه جبينان والجبهة بينهما، وقيل كبه على وجهه كيلا يرى منه ما يؤثر الرقة لقلبه.
واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه، فقيل هو مكة في المقام، وقيل في المنحر بمنى عند الجمار، وقيل
على الصخرة التي بأصل جبل ثبير، وقيل بالشام (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) أي عزمت على الإتيان
بما رأيته. قال المفسرون: لما أضجعه للذبح نودي من الجبل يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، وجعله مصدقا بمجرد
العزم وإن لم يذبحه لأنه قد أتى بما أمكنه، والمطلوب استسلامهما لأمر الله وقد فعلا. قال القرطبي: قال أهل السنة
إن نفس الذبح لم يقع، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من
امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. قال: ومعنى (صدقت الرؤيا) فعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك،
هذا أصح ما قيل في هذا الباب. وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه، لأن معنى ذبحت الشئ قطعته، وقد
كان إبراهيم يأخذ السكين فيمر بها على حلقه فتنقلب كما قال مجاهد. وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءا التأم
وقالت طائفة منهم السدي: ضرب الله على عنقه صفيحة نحاس، فجعل إبراهيم يحز ولا يقطع شيئا. وقال بعضهم
إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وانهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح، فتوهم أنه
أمر بالذبح الحقيقي فلما أتى بما أمر به من الاضجاع قيل له قد (صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين) أي
نجزيهم بالخلاص من الشدائد والسلامة من المحن، فالجملة كالتعليل لما قبلها. قال مقاتل: جزاه الله سبحانه بإحسانه
في طاعته العفو عن ذبح ابنه (إن هذا لهو البلاء المبين) البلاء والابتلاء: الاختبار، والمعنى: إن هذا هو الاختبار
الظاهر حيث اختبره الله في طاعته بذبح ولده. وقيل المعنى: إن هذا لهو النعمة الظاهرة حيث سلم الله ولده من
الذبح وفداه بالكبش، يقال أبلاه الله إبلاء وبلاء: إذا أنعم عليه: والأول أولى، وإن كان الابتلاء يستعمل
في الاختبار بالخير والشر، ومنه - ونبلوكم بالشر والخير فتنة - ولكن المناسب للمقام المعنى الأول. قال أبو زيد:
هذا في البلاء الذي نزل به في أن يذبح ولده. قال: وهذا من البلاء المكروه (وفديناه بذبح عظيم) الذبح: اسم
المذبوح وجمعه ذبوح كالطحن اسم للمطحون، وبالفتح المصدر، ومعنى عظيم: عظيم القدر، ولم يرد عظم الجثة
وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: العظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف،
وأهل التفسير على أنه ها هنا للشريف: أي المتقبل. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: أنزل عليه كبش قد
رعى في الجنة أربعين خريفا. وقال الحسن: ما فدى إلا بتيس من الأروى أهبط عليه من ثبير فذبحه إبراهيم فداء
عن ابنه. قال الزجاج: قد قيل إنه فدى بوعل، والوعل التيس الجبلي، ومعنى الآية: جعلنا الذبح فداء له
وخلصناه به من الذبح (وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم) أي في الأمم الآخرة التي تأتي بعده، والسلام
الثناء الجميل. وقال عكرمة: سلام منا، وقيل سلامة من الآفات، والكلام في هذا كالكلام في قوله - سلام على
نوح في العالمين - وقد تقدم في هذه السورة بيان معناه، ووجه إعرابه (كذلك نجزي المحسنين) أي مثل ذلك الجزاء
العظيم نجزي من انقاد لأمر الله (إنه من عبادنا المؤمنين) أي الذين أعطوا العبودية حقها ورسخوا في الإيمان بالله
وتوحيده (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) أي بشرنا إبراهيم بولد يولد له ويصير نبيا بعد أن يبلغ السن التي
يتأهل فيها لذلك، وانتصاب نبيا على الحال، وهي حال مقدرة. قال الزجاج: إن كان الذبيح إسحاق فيظهر كونها
مقدرة والأولى أن يقال إن من فسر الذبيح بإسحاق جعل البشارة هنا خاصة بنبوته. وفي ذكر الصلاح بعد النبوة
تعظيم لشأنه، ولا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال ليس بشرط، وإنما الشرط
المقارنة للفعل، و " من الصالحين " كما يجوز أن يكون صفة لنبيا يجوز أن يكون حالا من الضمير المستتر فيه، فتكون
405

أحوالا متداخلة (وباركنا عليه وعلى إسحاق) أي على إبراهيم وعلى إسحاق بمرادفة نعم الله عليهما، وقيل كثرنا ولدهما
وقيل إن الضمير في عليه يعود إلى إسماعيل وهو بعيد، وقيل المراد بالمباركة هنا: هي الثناء الحسن عليهما إلى يوم
القيامة (ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) أي محسن في عمله بالإيمان والتوحيد، وظالم لها بالكفر والمعاصي
لما ذكر سبحانه البركة في الذرية بين أن كون الذرية من هذا العنصر الشريف والمحتد المبارك ليس بنافع لهم،
بل إنما ينتفعون بأعمالهم، لا بآبائهم، فإن اليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق فقد صاروا إلى ما صاروا إليه
من الضلال البين، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل فقد ماتوا على الشرك إلا من أنقذه الله بالإسلام.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وجعلنا ذريته هم الباقين) يقول: لم يبق إلا ذرية
نوح (وتركنا عليه في الآخرين) يقول: يذكر بخير. وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وجعلنا ذريته هم الباقين) قال: حام وسام
ويافث. وأخرج ابن سعد وأحمد والترمذي وحسنه وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه
عن سمرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم "
والحديثان هما من سماع الحسن عن سمرة، وفي سماعه منه مقال معروف، وقد قيل إنه لم يسمع منه إلا حديث
العقيقة فقط وما عداه فبواسطة. قال ابن عبد البر: وقد روي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم مثله. وأخرج البزار وابن أبي حاتم والخطيب في تالي التلخيص عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " ولد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم، وولد
يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم، وولد حام القبط والبربر والسودان " وهو من حديث
إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عن ابن عباس في قوله (وإن من شيعته لإبراهيم) قال: من أهل دينه. وأخرج عبد بن حميد عنه في قوله (إني
سقيم) قال: مريض. وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: مطعون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم
عنه أيضا في قوله (فأقبلوا إليه يزفون) قال: يخرجون. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا في قوله (قال إني ذاهب
إلى ربي) قال: حين هاجر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فلما بلغ معه السعي) قال:
العمل. وأخرج الطبراني عنه أيضا قال: لما أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق قال لأبيه: إذا ذبحتني فاعتزل لا أضطرب
فينتضح عليك دمي فشده، فلما أخذ الشفرة وأراد أن يذبحه نودي من خلفه (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا)
وأخرج أحمد عنه أيضا مرفوعا مثله مع زيادة. وأخرجه عنه موقوفا. وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه من طريق
مجاهد عنه أيضا في قوله (وإن من شيعته لإبراهيم) قال: من شيعة نوح على منهاجه وسننه (فلما بلغ معه السعي)
قال شب حتى بلغ سعيه سعي أبيه في العمل (فلما أسلما) سلما ما أمر به (وتله) وضع وجهه إلى الأرض، فقال
لا تذبحني وأنت تنظر عسى أن ترحمني، فلا تجهز علي، وأن أجزع فأنكص فامتنع منك، ولكن اربط
يدي إلى رقبتي ثم ضع وجهي إلى الأرض، فلما أدخل يده ليذبحه فلم تحل المدية حتى نودي: أن يا إبراهيم قد
صدقت الرؤيا فأمسك يده، قوله (وفديناه بذبح عظيم) بكبش عظيم متقبل، وزعم ابن عباس أن الذبيح
إسماعيل. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " رؤيا الأنبياء وحي "
وأخرجه البخاري وغيره من قول عبيد بن عمير واستدل بهذه الآية. وأخرج ابن جرير والحاكم من طريق عطاء
ابن أبي رباح عن ابن عباس قال: المفدى إسماعيل، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود. وأخرج الفريابي
وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن ابن عباس قال: الذبيح إسماعيل.
406

وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال:
الذبيح إسماعيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير من طريق يوسف بن ماهك وأبي الطفيل عن ابن عباس قال:
الذبيح إسماعيل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عمر في قوله (وفديناه
بذبح عظيم) قال: إسماعيل ذبح عنه إبراهيم الكبش. وأخرج عبد بن حميد من طريق الفرزدق الشاعر قال: رأيت
أبا هريرة يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: إن الذي أمر بذبحه إسماعيل. وأخرج
البزار وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " قال نبي الله داود: يا رب أسمع الناس يقولون: رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب فاجعلني رابعا،
قال: إن إبراهيم ألقي في النار فصبر من أجلي، وإن إسحاق جاد لي بنفسه، وإن يعقوب غاب عنه يوسف، وتلك
بلية لم تنلك " وفي إسناده الحسن بن دينار البصري، وهو متروك عن علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وأخرج الديلمي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا نحوه. وأخرج الدارقطني في الأفراد والديلمي عن ابن مسعود قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الذبيح إسحاق ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن العباس بن
عبد المطلب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الذبيح إسحاق ". وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا
مثله. وأخرج ابن مردويه عن بهار وكانت له صحبة، قال: إسحاق ذبيح الله. وأخرج الطبراني وابن مردويه عن
ابن مسعود قال سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكرم الناس؟ قال: " يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح
الله ". وأخرج عبد الرزاق والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: الذبيح إسحاق. وأخرج عبد بن حميد والبخاري
في تاريخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن العباس بن عبد المطلب قال: الذبيح إسحاق.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر والحاكم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: الذبيح إسحاق. وأخرج
ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وتله للجبين) قال: أكبه على وجهه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
قال: صرعه للذبح. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله (وفديناه
بذبح عظيم) قال: كبش أعين أبيض أقرن قد ربط بسمرة في أصل ثبير. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وفديناه بذبح عظيم) قال: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفا.
وأخرج عبد بن حميد عنه قال: فدى إسماعيل بكبشين أملحين أقرنين أعينين. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير
وابن المنذر والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رجلا قال: نذرت لأنحر نفسي، فقال ابن عباس: لقد
كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، ثم تلا (وفديناه بذبح عظيم)، فأمره بكبش فذبحه. وأخرج الطبراني من
طريق أخرى عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) قال: إنما بشر
به نبيا حين فداه الله من الذبح ولم تكن البشارة بالنبوة عند مولده.
وبما سقناه من الاختلاف في الذبيح هل هو إسحاق أو إسماعيل، وما استدل به المختلفون في ذلك تعلم أنه لم يكن
في المقام ما يوجب القطع أو يتعين رجحانه تعينا ظاهرا، وقد رجح كل قول طائفة من المحققين المنصفين كابن
جرير فإنه رجح إنه إسحاق، ولكنه لم يستدل على ذلك إلا ببعض مما سقناه ها هنا، وكابن كثير فإنه رجح أنه
إسماعيل، وجعل الأدلة على ذلك أقوى وأصح، وليس الأمر كما ذكره، فإنها إن لم تكن دون أدلة القائلين بأن
الذبيح إسحاق لم تكن فوقها ولا أرجح منها، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك شئ،
وما روي عنه فهو إما موضوع أو ضعيف جدا، ولم يبق إلا مجرد استنباطات من القرآن كما أشرنا إلى ذلك فيما
407

سبق، وهي محتملة ولا تقوم حجة بمحتمل، فالوقف هو الذي لا ينبغي مجاوزته، وفيه السلامة من الترجيح،
بلا مرجح، ومن الاستدلال بما هو محتمل.
لما فرغ سبحانه من ذكر إنجاء الذبيح من الذبح، وما من عليه بعد ذلك من النبوة ذكر ما من به على موسى
وهارون، فقال (ولقد مننا على موسى وهارون) يعنى بالنبوة وغيرها من النعم العظيمة التي أنعم الله بها عليهما
(ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم) المراد بقومهما هم المؤمنون من بني إسرائيل، والمراد بالكرب العظيم هو
ما كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وما كان نصيبهم من جهته من البلاء، وقيل هو الغرق الذي أهلك فرعون
وقومه، والأول أولى (ونصرناهم) جاء بضمير الجماعة. قال الفراء: الضمير لموسى وهارون وقومهما، لأن
قبله ونجيناهما وقومهما، والمراد بالنصر التأييد لهم على عدوهم (فكانوا) بسبب ذلك (هم الغالبين) على عدوهم
بعد أن كانوا تحت أسرهم وقهرهم، وقيل الضمير في نصرناهم عائد على الاثنين موسى وهارون تعظيما لهما، والأول
408

أولى (وآتيناهما الكتاب المستبين) المراد بالكتاب التوراة: والمستبين: البين الظاهر، يقال استبان كذا، أي صار
بينا (وهديناهما الصراط المستقيم) أي القيم لا اعوجاج فيه، وهو دين الإسلام فإنه الطريق الموصلة إلى المطلوب
(وتركنا عليهما في الآخرين سلام على موسى وهارون) أي أبقينا عليهما في الأمم المتأخرة الثناء الجميل، وقد
قدمنا الكلام في السلام وفي وجه إعرابه بالرفع، وكذلك تقدم تفسير (إنا كذلك نجزي المحسنين إنهما من عبادنا
المؤمنين) في هذه السورة (وإن إلياس لمن المرسلين) قال المفسرون: هو نبي من أنبياء بني إسرائيل، وقصته
مشهورة مع قومه، قيل وهو إلياس بن يس من سبط هارون أخي موسى. قال ابن إسحاق وغيره: كان إلياس
هو القيم بأمر بني إسرائيل بعد يوشع، وقيل هو إدريس، والأول أولى. قرأ الجمهور " إلياس " بهمزة مكسورة
مقطوعة، وقرأ ابن ذكوان بوصلها، ورويت هذه القراءة عن ابن عامر، وقرأ ابن مسعود والأعمش ويحيى بن
وثاب " وإن إدريس لمن المرسلين " وقرأ أبي " وإن إبليس " بهمزة مكسورة ثم تحتية ساكنة ثم لام مكسورة ثم
تحتية ساكنة ثم سين مهملة مفتوحة (إذا قال لقومه ألا تتقون) هو ظرف لقوله من المرسلين، أو متعلق بمحذوف:
أي أذكر يا محمد إذ قال، والمعنى: ألا تتقون عذاب الله، ثم أنكر عليهم بقوله (أتدعون بعلا) هو اسم لصنم
كانوا يعبدونه: أي أتعبدون صنما وتطلبون الخير منه.
قال ثعلب: اختلف الناس في قوله سبحانه " بعلا " فقالت طائفة: البعل هنا الصنم، وقالت طائفة: البعل
هنا ملك، وقال ابن إسحاق: امرأة كانوا يعبدونها. قال الواحدي: والمفسرون يقولون ربا، وهو بلغة اليمن،
يقولون للسيد والرب البعل. قال النحاس: القولان صحيحان: أي أتدعون صنما عملتوه ربا (وتذرون أحسن
الخالقين) أي وتتركون عبادة أحسن من يقال له خالق، وانتصاب الاسم الشريف في قوله (الله ربكم ورب
آبائكم الأولين) على أنه بدل من أحسن، هذا على قراءة حمزة والكسائي والربيع بن خثيم وابن أبي إسحاق ويحيى
ابن وثاب والأعمش، فإنهم قرأوا بنصب الثلاثة الأسماء، وقيل النصب على المدح، وقيل على عطف البيان،
وحكى أبو عبيد أن النصب على النعت. قال النحاس: وهو غلط وإنما هو بدل، ولا يجوز النعت لأنه ليس بتحلية
واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وقرأ ابن كثير وأبوا عمرو وعاصم وأبو جعفر وشيبة ونافع بالرفع. قال
أبو حاتم: بمعنى هو الله ربكم. قال النحاس: وأولى ما قيل إنه مبتدأ وخبر بغير إضمار ولا حذف، وحكي عن
الأخفش أن الرفع أولى وأحسن. قال ابن الأنباري: من رفع أو نصب لم يقف على أحسن الخالقين على جهة التمام
لأن الله مترجم عن أحسن الخالقين على الوجهين جميعا، والمعنى: أنه خالقكم وخالق من قبلكم فهو الذي تحق له
العبادة (فكذبوه فإنهم لمحضرون) أي فإنهم بسبب تكذيبه لمحضرون في العذاب، وقد تقدم أن الإحضار المطلق
مخصوص بالشر (إلا عباد الله المخلصين) أي من كان مؤمنا به من قومه، قرئ بكسر اللام وفتحها كما تقدم،
والمعنى على قراءة الكسر: أنهم أخلصوا لله، وعلى قراءة الفتح: أن الله استخلصهم من عباده. وقد تقدم تفسير
(وتركنا عليه في الآخرين سلام على آل ياسين) قرأ نافع وابن عامر والأعرج وشيبة على آل ياسين بإضافة آل
بمعنى آل ياسين، وقرأ الباقون بكسر الهمزة وسكون اللام موصولة بياسين إلا الحسن، فإنه قرأ " الياسين " بإدخال
آلة التعريف على ياسين، قيل المراد على هذه القراءات كلها إلياس، وعليه وقع التسليم، ولكنه اسم أعجمي،
والعرب تضطرب في هذه الأسماء الأعجمية ويكثر تغييرهم لها. قال ابن جني: العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية
تلاعبا، فياسين، وإلياس، وإلياسين شئ واحد. قال الأخفش: العرب تسمي قوم الرجل باسم الرجل الجليل
منهم، فيقولون المهالبة على أنهم سموا كل رجل منهم بالمهلب. قال: فعلى هذا إنه سمي كل رجل منهم بالياسين.
قال الفراء: يذهب بالياسين إلى أن يجعله جمعا فيجعل أصحابه داخلين معه في اسمه. قال أبو علي الفارسي:
409

تقديره الياسين إلا أن اليائين للنسبة حذفتا كما حذفتا في الأشعرين والأعجمين. ورجح الفراء وأبو عبيدة قراءة
الجمهور قالا: لأنه لم يقل في شئ من السور على آل فلان، إنما جاء بالاسم كذلك الياسين لأنه إنما هو بمعنى إلياس
أو بمعنى إلياس وأتباعه. وقال الكلبي: المراد بآل ياسين آل محمد. قال الواحدي: وهذا بعيد لأن ما بعده من
الكلام وما قبله لا يدل عليه، وقد تقدم تفسير (إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين) مستوفى (وأن
لوطا لمن المرسلين) قد تقدم ذكر قصة لوط مستوفاة (إذ نجيناه وأهله أجمعين) الظرف متعلق بمحذوف هو أذكر
ولا يصح تعلقه بالمرسلين، لأنه لم يرسل وقت تنجيته (إلا عجوزا في الغابرين) قد تقدم أن الغابر يكون بمعنى
الماضي، ويكون بمعنى الباقي، فالمعنى: إلا عجوزا في الباقين في العذاب، أو الماضين الذين قد هلكوا (ثم دمرنا
الآخرين) أي أهلكناهم بالعقوبة، والمعنى: أن في نجاته وأهله جميعا إلا العجوز وتدمير الباقين من قومه الذين
لم يؤمنوا به دلالة بينة على ثبوت كونه من المرسلين (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين) خاطب بهذا العرب أو أهل مكة
على الخصوص: أي تمرون على منازلهم التي فيها آثار العذاب وقت الصباح (وبالليل) والمعنى: تمرون على منازلهم
في ذهابكم إلى الشام ورجوعكم منه نهارا وليلا (أفلا تعقلون) ما تشاهدونه في ديارهم من آثار عقوبة الله النازلة
بهم، فإن في ذلك عبرة للمعتبرين وموعظة للمتدبرين (وإن يونس لمن المرسلين) يونس هو ذو النون، وهو ابن
متي. قال المفسرون: وكان يونس قد وعد قومه العذاب، فلما تأخر عنهم العذاب خرج عنهم وقصد البحر
وركب السفينة، فكان بذهابه إلى البحر كالفار من مولاه فوصف بالإباق، وهو معنى قوله (إذ أبق إلى الفلك
المشحون) وأصل الإباق الهرب من السيد، لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه وصف به. وقال المبرد:
تأويل أبق بباعد: أي ذهب إليه، ومن ذلك قولهم عبد آبق.
وقد اختلف أهل العلم هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه أو بعده؟ ومعنى المشحون: المملوء (فساهم
فكان من المدحضين) المساهمة أصلها المغالبة، وهي الاقتراع، وهو أن يخرج السهم على من غلب. قال المبرد:
أي فقارع. قال: وأصله من السهام التي تجال، ومعنى " فكان من المدحضين " فصار من المغلوبين. قال:
يقال دحضت حجته وأحضها الله، وأصله من الزلق عن مقام الظفر، ومنه قول الشاعر:
قتلنا المدحضين بكل فج * فقد قرت بقتلهم العيون
أي المغلوبين (فالتقمه الحوت وهو مليم) يقال لقمت اللقمة والتقمتها: إذا ابتلعتها: أي فابتلعه الحوت،
ومعنى (وهو مليم) وهو مستحق للوم، يقال: رجل مليم إذا أتى بما يلام عليه، وأما الملوم فهو الذي يلام سواء
أتى بما يستحق أن يلام عليه أم لا، وقيل المليم المعيب، يقال ألام الرجل إذا عمل شيئا صار به معيبا. ومعنى هذه
المساهمة: أن يونس لما ركب السفينة احتبست، فقال الملاحون: ها هنا عبد أبق من سيده، وهذا رسم السفينة
إذا كان فيها آبق لا تجري، فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال أنا الآبق وزج نفسه في الماء. قال سعيد
ابن جبير: لما استهموا جاء حوت إلى السفينة فاغرا فاه ينتظر أمر ربه حتى إذا ألقى نفسه في الماء أخذه الحوت
(فلو لا أنه كان من المسبحين) أي الذاكرين لله، أو المصلين له (للبث في بطنه إلى يوم يبعثون) أي لصار بطن
الحوت له قبرا إلى يوم البعث، وقيل للبث في بطنه حيا.
واختلف المفسرون كم أقام في بطن الحوت؟ فقال السدي والكلبي ومقاتل بن سليمان: أربعين يوما. وقال
الضحاك: عشرين يوما. وقال عطاء: سبعة أيام. وقال مقاتل بن حبان: ثلاثة أيام، وقيل ساعة واحدة.
وفي هذه الآية ترغيب في ذكر الله وتنشيط للذاكرين له (فنبذناه بالعراء وهو سقيم) النبذ الطرح. والعراء.
قال ابن الأعرابي: هو الصحراء، وقال الأخفش: الفضاء، وقال أبو عبيدة: الواسع من الأرض،
410

وقال الفراء: المكان الخالي. وروي عن أبي عبيدة أيضا أنه قال: هو وجه الأرض، وأنشد لرجل
من خزاعة:
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها * ونبذت بالبلد العراء ثيابي
والمعنى: أن الله طرحه من بطن الحوت في الصحراء الواسعة التي لا نبات فيها، وهو عند إلقائه سقيم لما ناله
في بطن الحوت من الضرر، قيل صار بدنه كبدن الطفل حين يولد.
وقد استشكل بعض المفسرين الجمع بين ما وقع هنا من قوله (فنبذناه بالعراء)، وقوله في موضع آخر -
لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم - فإن هذه الآية تدل على أنه لم ينبذ بالعراء. وأجاب النحاس
وغيره بأن الله سبحانه أخبرها هنا أنه نبذ بالعراء وهو غير مذموم، ولولا رحمته عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم (وأنبتنا
عليه شجرة من يقطين) أي شجرة فوقه تظلل عليه، وقيل معنى عليه عنده وقيل معنى عليه له. واليقطين هي شجرة
الدباء. وقال المبرد: اليقطين يقال لكل شجرة ليس لها ساق، بل تمتد على وجه الأرض نحو الدباء والبطيخ
والحنظل، فإن كان لها ساق يقلها فيقال لها شجرة فقط، وهذا قول الحسن ومقاتل وغيرهما. وقال سعيد بن
جبير: هو كل شئ ينبت ثم يموت من عامه. قال الجوهري: اليقطين مالا ساق له من شجر كشجر القرع ونحوه.
قال الزجاج: اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان: أي أقام به فهو يفعيل، وقيل هو اسم أعجمي. قال المفسرون:
كان يستظل بظلها من الشمس، وقيض الله له أروية من الوحش تروح عليه بكرة وعشية، فكان يشرب من لبنها
حتى اشتد لحمه ونبت شعره ثم أرسله الله بعد ذلك، وهو معنى قوله (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) هم
قومه الذين هرب منهم إلى البحر وجرى له ما جرى بعد هربه كما قصه الله علينا في هذه السورة، وهم أهل نينوى.
قال قتادة: أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل، وقد مر الكلام على قصته في سورة يونس مستوفى،
" وأو " في أو يزيدون قيل هي بمعنى الواو، والمعنى: ويزيدون. وقال الفراء: أو ها هنا بمعنى بل، وهو قول
مقاتل والكلبي. وقال المبرد والزجاج والأخفش: أو هنا على أصله، والمعنى: أو يزيدون في تقديركم إذا رآهم
الرائي قال هؤلاء مائة ألف أو يزيدون، فالشك إنما دخل على حكاية قول المخلوقين. قال مقاتل والكلبي:
كانوا يزيدون عشرين ألفا. وقال الحسن: بضعا وثلاثين ألفا. وقال سعيد بن جبير: سبعين ألفا. وقرأ جعفر
ابن محمد ويزيدون بدون ألف الشك.
وقد وقع الخلاف بين المفسرين هل هذا الإرسال المذكور هو الذي كان قبل التقام الحوت له، وتكون الواو
في وأرسلناه لمجرد الجمع بين ما وقع له مع الحوت وبين إرساله إلى قومه من غير اعتبار تقديم ما تقدم في السياق
وتأخير ما تأخر، أو هو إرسال له بعد ما وقع له مع الحوت ما وقع على قولين، وقد قدمنا الإشارة إلى الاختلاف
بين أهل العلم هل كان قد أرسل قبل أن يهرب من قومه إلى البحر أو لم يرسل إلا بعد ذلك؟ والراجح أنه كان رسولا
قبل أن يذهب إلى البحر كما يدل عليه ما قدمنا في سورة يونس وبقي مستمرا على الرسالة، وهذا الإرسال المذكور
هنا هو بعد تقدم نبوته ورسالته (فآمنوا فمتعناهم إلى حين) أي وقع منهم الإيمان بعد ما شاهدوا أعلام نبوته فمتعهم
الله في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم ومنتهى أعمارهم.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن مسعود قال: إلياس
هو إدريس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال
صلى الله عليه وآله وسلم الخضر هو إلياس. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل وضعفه عن أنس قال
" كنا مع رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم في سفر، فنزل منزلا فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من
411

أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم المرحومة المغفور المثاب لها فأشرفت على الوادي فإذا طوله ثمانون ذراعا وأكثر،
فقال من أنت؟ فقلت: أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أين هو؟ فقلت: هو ذا يسمع
كلامك، قال: فأته وأقرأه مني السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام، فأتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فأخبرته، فجاء حتى عانقه وقعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول الله إني إنما آكل في كل سنة يوما وهذا يوم
فطري فآكل أنا وأنت، فنزلت عليهما المائدة من السماء خبز وحوت وكرفس، فأكلا وأطعماني وصليا العصر
ثم ودعه، ثم رأيته مر على السحاب نحو السماء. قال الذهبي متعقبا لتصحيح الحاكم له: بل موضوع قبح الله من
وضعه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس في قوله (أتدعون بعلا) قال: صنما. وأخرج وابن أبي حاتم
والطبراني وابن مردويه عنه في قوله (سلام على الياسين) قال: نحن آل محمد آل ياسين. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال: بعث الله يونس إلى أهل قريته فردوا عليه ما جاءهم به فامتنعوا منه، فلما فعلوا
ذلك أوحى الله إليهم إني مرسل عليهم العذاب في يوم كذا وكذا. فأخرج من بين أظهرهم، فأعلم قومه الذي وعد
الله من عذابه إياهم، فقالوا ارمقوه فإن خرج من بين أظهركم فهو والله كائن ما وعدكم، فلما كانت الليلة التي
وعدوا بالعذاب في صبيحتها أدلج فرآه القوم فحذروا، فخرجوا من القرية إلى براز من أرضهم وفرقوا بين كل
دابة وولدها، ثم عجوا إلى الله وأنابوا واستقالوا فأقالهم الله، وانتظر يونس الخبر عن القرية وأهلها حتى مر
به مار، فقال ما فعل أهل القرية؟ قال: إن نبيهم لما خرج من بين أظهرهم عرفوا أنه قد صدقهم ما وعدهم من
العذاب، فخرجوا من قريتهم إلى براز من الأرض، ثم فرقوا بين كل ذات ولد وولدها ثم عجوا إلى الله وتابوا
إليه، فتقبل منهم وأخر عنهم العذاب. فقال يونس عند ذلك: لا أرجع إليهم كذابا أبدا ومضى على وجهه، وقد
قدمنا الكلام على قصته وما روي فيها في سورة يونس فلا نكرره. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن
ابن عباس في قوله (فساهم) قال: اقترع (فكان من المدحضين) قال: المقروعين. وأخرج ابن أبي شيبة وابن
المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وهو مليم) قال: مسيء. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وعبد
ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (فلولا أنه كان من المسبحين) قال: من المصلين.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا (فنبذناه بالعراء) قال: ألقيناه بالساحل. وأخرج هؤلاء
عنه أيضا (شجرة من يقطين) قال: القرع. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر من طريق سعيد بن جبير عنه أيضا
قال: اليقطين كل شئ يذهب على وجه الأرض. وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه
عنه أيضا قال: إنما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت، ثم تلا (فنبذناه بالعراء) إلى قوله (وأرسلناه إلى مائة
ألف) وقد تقدم عنه ما يدل على أن رسالته كانت من قبل ذلك. وليس في الآية: ما يدل على ما ذكره كما
قدمنا. وأخرج الترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال: سألت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) قال: يزيدون عشرين ألفا. قال
الترمذي: غريب. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: يزيدون ثلاثين ألفا. وروي
عنه أنهم يزيدون بضعة وثلاثين ألفا. وروي عنه أنهم يزيدون بضعة وأربعين ألفا، ولا يتعلق بالخلاف في هذا
كثير فائدة.
412

لما كانت قريش وقبائل من العرب يزعمون أن الملائكة بنات الله أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم باستفتائهم على طريقة التقريع والتوبيخ، فقال (فاستفتهم) يا محمد: أي استخبرهم (ألربك البنات ولهم
البنون) أي كيف يجعلون لله على تقدير صدق ما زعموه من الكذب أدنى الجنسين وأوضعهما ذلك وهو الإناث، ولهم
أعلاهما وأرفعهما وهم الذكور، وهل هذا إلا حيف في القسمة لضعف عقولهم وسوء إدراكهم ومثله قوله - ألكم
الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى - ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال (أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون)
فأضرب عن الكلام الأول إلى ما هو أشد منه في التبكيت والتهكم بهم: أي كيف جعلوهم إناثا وهم لم يحضروا
عند خلقنا لهم، وهذا كقوله - وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم - فبين سبحانه أن مثل
ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ولم يشهدوا، ولا دل دليل على قولهم من السمع، ولا هو مما يدرك بالعقل حتى ينسبوا إدراكه
إلى عقولهم. ثم أخبر سبحانه عن كذبهم فقال (ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون) فبين سبحانه
أن قولهم هذا هو من الإفك والافتراء من دون دليل ولا شبهة دليل فإنه لم يلد ولم يولد. قرأ الجمهور " ولد الله " فعلا
ماضيا مسندا إلى الله. وقرئ بإضافة ولد إلى الله على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي يقولون الملائكة ولد الله، والولد
بمعنى مفعول يستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. ثم كرر سبحانه تقريعهم وتوبيخهم فقال
(أصطفى البنات على البنين) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنها للاستفهام الإنكاري، وقد حذف معها همزة الوصل
استغناء به عنها. وقرأ نافع في رواية عنه وأبو جعفر وشيبة والأعمش بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجا،
413

ويكون الاستفهام منويا قاله الفراء. وحذف حرفه للعلم به من المقام، أو على أن اصطفى وما بعده بدل من الجملة
المحكية بالقول. وعلى تقدير عدم الاستفهام والبدل. فقد حكى جماعة من المحققين منهم الفراء أن التوبيخ يكون
باستفهام وبغير استفهام كما في قوله - أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا - وقيل هو على إضمار القول (ما لكم كيف
تحكمون) جملتان استفهاميتان ليس لأحدهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب: استفهمهم أولا عما استقر لهم
وثبت استفهام بإنكار، وثانيا استفهام تعجب من هذا الحكم الذي حكموا به، والمعنى: أي شئ ثبت لكم كيف
تحكمون لله بالبنات وهم القسم الذي تكرهونه، ولكم بالبنين وهم القسم الذي تحبونه (أفلا تذكرون) أي تتذكرون
فحذفت إحدى التاءين، والمعنى: ألا تعتبرون وتتفكرون فتتذكرون بطلان قولكم (أم لكم سلطان مبين) أي
حجة واضحة ظاهرة على هذا الذي تقولونه، وهو إضراب عن توبيخ إلى توبيخ وانتقال من تقريع إلى تقريع.
(فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين) أي فأتوا بحجتكم الواضحة على هذا إن كنتم صادقين فيما تقولونه، أو فأتوا
بالكتاب الذي ينطق لكم بالحجة ويشتمل عليها (وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا) قال أكثر المفسرين: إن المراد بالجنة
هنا الملائكة، قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد: هم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وقال أبو مالك:
إنما قيل لهم الجنة لأنهم خزان على الجنان. والنسب الصهر. قال قتادة والكلبي: قالوا لعنهم الله: إن الله صاهر
الجن فكانت الملائكة من أولادهم، قالا: والقائل بهذه المقالة اليهود. وقال مجاهد والسدي ومقاتل: إن القائل
بذلك كنانة وخزاعة قالوا: إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من
سروات الجن. وقال الحسن: أشركوا الشيطان في عبادة الله، فهو النسب الذي جعلوه. ثم رد الله سبحانه
عليهم بقوله (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون) أي علموا أن هؤلاء الكفار الذين قالوا هذا القول يحضرون النار
ويعذبون فيها. وقيل علمت الجنة إنهم أنفسهم يحضرون للحساب. والأول أولى، لأن الإحضار إذا أطلق فالمراد
لعذاب. وقيل المعنى: ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون إلى الجنة. ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحان الله عما
يصفون) أو هو حكاية لتنزيه الملك لله عز وجل عما وصفه به المشركون، والاستثناء في قوله. (إلا عباد
الله المخلصين) منقطع، والتقدير: لكن عباد الله المخلصين بريئون عن أن يصفوا الله بشئ من ذلك. وقد
قرئ بفتح اللام وكسرها ومعناهما ما بيناه قريبا. وقيل هو استثناء من المحضرين: أي إنهم يحضرون النار
إلا من أخلص، فيكون متصلا لا منقطعا، وعلى هذا تكون جملة التسبيح معترضة. ثم خاطب الكفار على العموم
أو كفار مكة على الخصوص فقال (فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين) أي فإنكم وآلهتكم التي تعبدون من
دون الله لستم بفاتنين على الله بإفساد عباده وإضلالهم، وعلى متعلقة بفاتنين، والواو في وما تعبدون إما للعطف على
اسم إن، أو هو بمعنى مع، وما موصولة أو مصدرية: أي فإنكم والذي تعبدون، أو عبادتكم، ومعنى فاتنين
مضلين، يقال فتنت الرجل وأفتنته، ويقال فتنه على الشئ وبالشيء كما يقال أصله على الشئ وأضله به. قال
الفراء: أهل الحجاز يقولون فتنته، وأهل نجد يقولون أفتنته، ويقال فتن فلان على فلان امرأته: أي أفسدها
عليه: فالفتنة هنا بمعنى الإضلال والإفساد. قال مقاتل: يقول ما أنتم بمضلين أحدا بآلهتكم إلا من قدر الله له أن
يصلى الجحيم، " وما " في " وما أنتم " نافية " وأنتم " خطاب لهم ولمن يعبدونه على التغليب. قال الزجاج: أهل التفسير
مجمعون فيما علمت أن المعنى: ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدر الله عز وجل عليه أن يضل، ومنه قول الشاعر:
فرد بفتنته كيده * عليه وكان لنا فاتنا
أي مضلا (إلا من هو صال الجحيم) قرأ الجمهور " صال " بكسر اللام لأنه منقوص مضاف حذفت الياء
414

لالتقاء الساكنين وحمل على لفظ من، وأفرد كما أفرد هو. وقرأ الحسن وابن أبي عبلة بضم اللام مع واو بعدها،
وروي عنهما أنهما قرآ بضم اللام بدون واو. فأما مع الواو فعلى أنه جمع سلامة بالواو حملا على معنى من، وحذفت
نون الجمع للإضافة، وأما بدون الواو فيحتمل أن يكون جمعا، وإنما حذفت الواو خطأ كما حذفت لفظا، ويحتمل
أن يكون مفردا، وحقه على هذا كسر اللام. قال النحاس: وجماعة أهل التفسير يقولون: إنه لحن لأنه لا يجوز
هذا قاض المدينة، والمعنى: أن الكفار وما يعبدونه لا يقدرون على إضلال أحد من عباد الله إلا من هو من أهل
النار وهم المصرون على الكفر، وإنما يصر على الكفر من سبق القضاء عليه بالشقاوة، وإنه ممن يصلى النار: أي
يدخلها. ثم قال الملائكة مخبرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما حكاه الله سبحانه عنهم (وما منا إلا له مقام
معلوم) وفي الكلام حذف، والتقدير: وما منا أحد، أو وما منا ملك إلا له مقام معلوم في عبادة الله. وقيل
التقدير: وما منا إلا من له مقام معلوم، رجح البصريون التقدير الأول، ورجح الكوفيون الثاني. قال الزجاج:
هذا قول الملائكة وفيه مضمر. المعنى وما منا ملك إلا له مقام معلوم. ثم قالوا (وإنا لنحن الصافون) أي في
مواقف الطاعة. قال قتادة: هم الملائكة صفوا أقدامهم. وقال الكلبي: صفوف الملائكة في السماء كصفوف أهل
الدنيا في الأرض (وإنا لنحن المسبحون) أي المنزهون لله المقدسون له عما أضافه إليه المشركون، وقيل المصلون،
وقيل المراد بقولهم المسبحون مجموع التسبيح باللسان وبالصلاة، والمقصود أن هذه الصفات هي صفات الملائكة،
وليسوا كما وصفهم به الكفار من أنهم بنات الله (وإن كانوا ليقولون) هذا رجوع إلى الإخبار عن المشركين:
أي كانوا قبل المبعث المحمدي إذا عيروا بالجهل قالوا (لو أن عندنا ذكرا من الأولين) أي كتابا من كتب الأولين
كالتوراة والإنجيل (لكنا عباد الله المخلصين) أي لأخلصنا العبادة له ولم نكفر به، وإن في قوله (وإن كانوا) هي
المخففة من الثقيلة، وفيها ضمير شأن محذوف، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية: أي وإن الشأن كان كفار العرب
ليقولون الخ، والفاء في قوله (فكفروا به) هي الفصيحة الدالة على محذوف مقدر في الكلام. قال الفراء: تقديره
فجاءهم محمد بالذكر فكفروا به، وهذا على طريق التعجب منهم (فسوف يعلمون) أي عاقبة كفرهم ومغبته،
وفي هذا تهديد لهم شديد، وجملة (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين) مستأنفة مقررة للوعيد، والمراد بالكلمة
ما وعدهم الله به من النصر والظفر على الكفار. قال مقاتل: عنى بالكلمة قوله سبحانه - كتب الله لأغلبن أنا ورسلي -.
وقال الفراء: سبقت كلمتنا بالسعادة لهم، والأولى تفسير هذه الكلمة بما هو مذكور هنا، فإنه قال (إنهم لهم
المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون) فهذه هي الكلمة المذكورة سابقا وهذا تفسير لها، والمراد بجند الله حزبه وهم
الرسل وأتباعهم. قال الشيباني: جاء هنا على الجمع: يعني قوله (لهم الغالبون) من أجل أنه رأس آية، وهذا الوعد
لهم بالنصر والغلبة لا ينافيه انهزامهم في بعض المواطن وغلبة الكفار لهم، فإن الغالب في كل موطن هو انتصارهم
على الأعداء وغلبتهم لهم، فخرج الكلام مخرج الغالب، على أن العاقبة المحمودة لهم على كل حال وفي كل موطن
كما قال سبحانه - والعاقبة للمتقين - ثم أمر الله سبحانه رسوله بالإعراض عنهم والإغماض عما يصدر منهم من
الجهالات والضلالات فقال (فتول عنهم حتى حين) أي أعرض عنهم إلى مدة معلومة عند الله سبحانه، وهي
مدة الكف عن القتال. قال السدي ومجاهد: حتى نأمرك بالقتال. وقال قتادة: إلى الموت، وقيل إلى يوم بدر،
وقيل إلى يوم فتح مكة، وقيل هذه الآية منسوخة بآية السيف (وأبصرهم فسوف يبصرون) أي وأبصرهم إذا نزل
بهم العذاب بالقتل والأسر فسوف يبصرون حين لا ينفعهم الإبصار، وعبر الإبصار عن قرب الأمر: أي
فسوف يبصرون عن قريب. وقيل المعنى: فسوف يبصرون العذاب يوم القيامة. ثم هددهم بقوله سبحانه (أفبعذابنا
يستعجلون) كانوا يقولون من فرط تكذيبهم: متى هذا العذاب؟ (فإذا نزل بساحتهم) أي إذا نزل عذاب الله
415

لهم بفنائهم، والساحة في اللغة: فناء الدار الواسع. قال الفراء: نزل بساحتهم ونزل بهم سواء. قال الزجاج: وكان
عذاب هؤلاء بالقتل، قيل المراد به نزول رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم بساحتهم يوم فتح مكة. قرأ الجمهور
" نزل " مبنيا للفاعل. وقرأ عبد الله بن مسعود على البناء للمفعول، والجار والمجرور قائم مقام الفاعل (فساء صباح
المنذرين) أي بئس صباح الذين أنذروا بالعذاب، والمخصوص بالذم محذوف: أي صباحهم. وخص الصباح
بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه. ثم كرر سبحانه ما سبق تأكيدا للوعد بالعذاب فقال (وتول عنهم حتى حين
وأبصر فسوف يبصرون) وحذف مفعول أبصر هاهنا وذكره أولا إما للدلالة الأول عليه فتركه هنا اختصارا،
أو قصدا إلى التعميم للإيذان بأن ما يبصره من أنواع عذابهم لا يحيط به الوصف، وقيل هذه الجملة المراد بها أحوال
القيامة، والجملة الأولى المراد بها عذابهم في الدنيا، وعلى هذا فلا يكون من باب التأكيد، بل من باب التأسيس.
ثم نزه سبحانه نفسه عن قبيح ما يصدر منهم فقال (سبحان ربك رب العزة عما يصفون) العزة الغلبة والقوة،
والمراد تنزيهه عن كل ما يصفونه به مما لا يليق بجنابه الشريف، ورب العزة بدل من ربك. ثم ذكر ما يدل على
تشريف رسله وتكريمهم فقال (وسلام على المرسلين) أي الذين أرسلهم إلى عباده وبلغوا رسالاته، وهو من
السلام الذي هو التحية، وقيل معناه أمن لهم وسلامة من المكاره (والحمد لله رب العالمين) إرشاد لعباده إلى حمده
على إرسال رسله إليهم مبشرين ومنذرين، وتعليم لهم كيف يصنعون عند إنعامه عليهم وما يثنون عليه به، وقيل
إنه الحمد على هلاك المشركين ونصر الرسل عليهم، والأولى أنه حمد لله سبحانه على كل ما أنعم به على خلقه أجمعين
كما يفيده حذف المحمود عليه، فإن حذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني، والحمد هو الثناء الجميل بقصد
التعظيم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (وجعلوا بينه وبين الجنة نسيا) قال: زعم أعداء الله أنه تبارك
وتعالى هو وإبليس أخوان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله (فإنكم وما تعبدون) قال: فإنكم يا معشر المشركين
وما تعبدون: يعني الآلهة (ما أنتم عليه بفاتنين) قال: بمضلين (إلا من هو صال الجحيم) يقول: إلا من سبق
في علمي أنه سيصلى الجحيم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية يقول: إنكم لا تضلون أنتم ولا
أضل منكم إلا من قضيت عليه أنه صال الجحيم. وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال:
لا تفتنون إلا من هو صال الجحيم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عنه أيضا في قوله (وما منا إلا له
مقام معلوم) قال: الملائكة (وإنا لنحن الصافون) قال: الملائكة (وإنا لنحن المسبحون) قال: الملائكة. وأخرج
محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عائشة قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما في السماء موضع قدم إلا عليه ملك ساجد أو قائم، وذلك قول الملائكة
(وما منا إلا له مقام معلوم وإنا لنحن الصافون) ". وأخرج محمد بن نصر وابن عساكر عن العلاء بن سعد أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوما لأصحابه " أطت السماء وحق لها أن تئط، ليس فها موضع قدم إلا عليه
ملك راكع أو ساجد، ثم قرأ (وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون) ". وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد
ابن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال
" إن من السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا وعليه جبهة ملك أو قدماه قائما أو ساجدا، ثم قرأ (وإنا لنحن
الصافون وإنا لنحن المسبحون) ". وأخرج الترمذي وحسنه وابن جرير وابن مردويه عن أبي ذر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، إن السماء أطت وحق لها أن تئط،
416

ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله " وقد ثبت في الصحيح وغيره أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أمر الصحابة أن يصفوا كما تصف الملائكة عند ربهم، فقالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم
قال: يقيمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف ". وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله
(لو أن عندنا ذكرا من الأولين) قال: لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأولين وعلم الآخرين كفروا بالكتاب
(فسوف يعلمون). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال " صبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
خيبر وقد خرجوا بالمساحي، فلما نظروا إليه قالوا: محمد والخميس، فقال: الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا
نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين " الحديث. وأخرج ابن سعد وابن مردويه من طريق سعيد عن قتادة عن
أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا سلمتم على المرسلين فسلموا علي فإنما أنا بشر من المرسلين "
وأخرج ابن مردويه من طريق أبي العوام عن قتادة عن أنس مرفوعا نحوه بأطول منه. وأخرج سعيد بن منصور
وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن مردويه عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان
إذا أراد أن يسلم من صلاته قال (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين)
وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: كنا نعرف انصراف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة بقوله
(سبحان ربك) إلى آخر الآية. وأخرج الخطيب نحوه من حديث أبي سعيد. وأخرج الطبراني عن زيد بن أرقم
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " من قال دبر كل صلاة: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام
على المرسلين والحمد لله رب العالمين ثلاث مرات، فقد اكتال بالمكيال الأوفى من الأجر ". وأخرج حميد بن زنجويه
في ترغيبه من طريق الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب نحوه.
وإلى هنا انتهى الجزء الثالث من هذا التفسير المبارك بمعونة الله، المقبول بفضل الله، بقلم مصنفه الحقير
" محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما " في نهار الخميس الحادي والعشرين من شهر محرم الحرام من شهور سنة
تسع وعشرين ومائتين وألف من الهجرة النبوية، حامدا لله شاكرا له مصليا مسلما على رسوله وآله، ويتلوه إن
شاء الله تفسير سورة ص.
انتهى سماع هذا الجزء على مؤلفه حفظه الله في يوم الاثنين غرة شهر جمادي الآخرة سنة 1239 ه‍
كتبه
يحيى بن علي الشوكاني
غفر الله لهما
417

تفسير سورة ص
آياتها ست وثمانون، وقيل خمس وثمانون، وقيل ثمان وثمانون آية
وهي مكية: قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال: نزلت سورة " ص " بمكة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه
والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس
قال: لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ويفعل
ويفعل ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدخل البيت،
وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرقي عليه، فوثب
فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجلسا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال
له أبو طالب: أي ابن أخي ما بال قومك يشكونك؟ يزعمون أنك تشتم آلهتهم. وتقول وتقول، قال: وأكثروا
عليه من القول، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا عم إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها
تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله، فقال القوم: كلمة واحدة نعم وأبيك
عشرا، قالوا فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم، وهم يقولون - أجعل الآلهة إلها
واحدا إن هذا لشئ عجاب - فنزل فيهم (ص والقرآن ذي الذكر) إلى قوله (بل لما يذوقوا عذاب).
418

قوله (ص) قرأ الجمهور بسكون الدال كسائر حروف التهجي في أوائل السور فإنها ساكنة الأواخر على
الوقف. وقرأ أبي بن كعب والحسن وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم وابن أبي عبلة وأبو السماك بكسر الدال من
غير تنوين، ووجه الكسر أنه لالتقاء الساكنين، وقيل وجه الكسر أنه من صادي يصادي إذا عارض، والمعنى
صاد القرآن بعملك: أي عارضه بعملك وقابله فاعمل به. وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري وقال: إنه
فسر قراءته هذه بهذا، وعنه أن المعنى: أتله وتعرض لقراءته. وقرأ عيسى بن عمر: صاد بفتح الدال، والفتح
لالتقاء الساكنين، وقيل نصب على الإغراء. وقيل معناه: صاد محمد قلوب الخلق واستمالها حتى آمنوا به،
ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو، وروي عن ابن إسحاق أيضا أنه قرأ " صاد " بالكسر والتنوين تشبيها لهذا
الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور وابن السميفع " صاد " بالضم من غير تنوين على
البناء نحو منذ وحيث.
وقد اختلف في معنى " صاد " فقال الضحاك: معناه صدق الله. وقال عطاء: صدق محمد. وقال سعيد بن
جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله. وقال قتادة:
هو اسم من أسماء الله. وروي عنه أنه قال: هو اسم من أسماء الرحمن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة.
وقيل هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة. قيل وهو إما اسم للحروف مسرودا
على نمط التعبد، أو اسم للسورة، أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار أذكر أو اقرأ، والواو في قوله
(والقرآن ذي الذكر) هي واو القسم، والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره وعلو محله، ومعنى (ذي
الذكر) أنه مشتمل على الذكر الذي فيه بيان كل شئ. قال مقاتل: معنى (ذي الذكر) ذي البيان. وقال
الضحاك: ذي الشرف كما في قوله - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم - أي شرفكم، وقيل أي ذي الموعظة.
واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟ فقال الزجاج والكسائي والكوفيون غير الفراء: إنه قوله - إن ذلك
لحق - وقال الفراء: لا نجده مستقيما لتأخره جدا عن قوله (والقرآن) ورجح هو وثعلب أن الجواب قوله (كم
أهلكنا) وقال الأخفش: الجواب هو (إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب) وقيل هو صاد، لأن معناه حق،
فهو جواب لقوله " والقرآن " كما تقول حقا والله، وجب والله. ذكره ابن الأنباري، وروي أيضا عن ثعلب
والفراء، وهو مبني على أن جواب القسم يجوز تقدمه وهو ضعيف. وقيل الجواب محذوف، والتقدير: والقرآن
ذي الذكر لتبعثن ونحو ذلك. وقال ابن عطية: تقديره ما الأمر كما يزعم الكفار، والقول بالحذف أولى. وقيل
أن قوله " ص " مقسم به، وعلى هذا القول تكون الواو في " والقرآن " لعطف عليه، ولما كان الإقسام بالقرآن
دالا على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب قال سبحانه (بل الذين كفروا في عزة وشقاق) فأضرب عن
ذلك وكأنه قال لا ريب فيه قطعا، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه. بل هم في عزة عن قبول الحق:
أي تكبر وتجبر وشقاق: أي وامتناع عن قبول الحق، والعزة عند العرب: الغلبة والقهر، يقال: من عز
بز أي من غلب سلب، ومنه - وعزني في الخطاب - أي غلبني، ومنه قول الشاعر:
يعز على الطريق بمنكبيه * كما أنترك الخليع على القداح
والشقاق: مأخوذ من الشق وقد تقدم بيانه. ثم خوفهم سبحانه وهددهم بما فعله بمن قبلهم من الكفار فقال
(كم أهلكنا من قبلهم من قرن) يعني الأمم الخالية المهلكة بتكذيب الرسل: أي كم أهلكنا من الأمم الخالية الذين
419

كانوا أمنع من هؤلاء وأشد قوة وأكثر أموالا، وكم هي الخبرية الدالة على التكثير، وهي في محل نصب بأهلكنا
على أنها مفعول به، ومن قرن تمييز، " ومن " في " من قبلهم " هي لابتداء الغاية (فنادوا ولات حين مناص)
النداء هنا: هو نداء الاستغاثة منهم عند نزول العذاب بهم، وليس الحين حين مناص. قال الحسن: نادوا بالتوبة
وليس حين التوبة ولا حين ينفع العمل. والمناص مصدر ناص ينوص، وهو الفوت والتأخر. ولات بمعنى ليس
بلغة أهل اليمن. وقال النحويون: هي لا التي بمعنى ليس زيدت عليها التاء كما في قولهم: رب وربت، وثم وثمت
قال الفراء: النوص التأخر، وأنشد قول امرئ القيس: * أمن ذكر ليلى إذ نأتك تنوص *
قال: يقال ناص عن قرنه ينوص نوصا: أي فر وزاغ. قال الفراء: ويقال ناص ينوص: إذا تقدم. وقيل
المعنى: أنه قال بعضهم لبعض مناص: أي عليكم بالفرار والهزيمة، فلما أتاهم العذاب قالوا مناص، فقال الله
(ولات حين مناص) قال سيبويه: لات مشبهة بليس، والاسم فيها مضمر: أي ليس حيننا حين مناص. قال
الزجاج: التقدير وليس أواننا. قال ابن كيسان: والقول كما قال سيبويه، والوقف عليها عند الكسائي بالهاء، وبه
قال المبرد والأخفش. قال الكسائي والفراء والخليل وسيبويه والأخفش: والتاء تكتب منقطعة عن حين،
وكذلك هي في المصاحف. وقال أبو عبيد: تكتب متصلة بحينن، فيقال " ولا تحين " ومنه قول أبي وجرة السعدي:
العاطفون تحين ما من عاطف * والمطعمون زمان ما من مطعم
وقد يستغنى بحين عن المضاف إليه كما قال الشاعر:
تذكر حب ليلى لات حينا * وأمسى الشيب قد قطع القرينا
قال أبو عبيد: لم نجد العرب تزيد هذه التاء إلا في حين وأوان والآن. قلت: بل قد يزيدونها في غير ذلك
كما في قول الشاعر:
فلتعرفن خلائقا مشمولة * ولتندمن ولات ساعة مندم
وقد أنشد الفراء هذا البيت مستدلا به على أن من العرب من يخفض بها، وجملة (ولات حين مناص) في محل
نصب على الحال من ضمير نادوا. قرأ الجمهور " لات " بفتح التاء، وقرئ " لات " بالكسر كجير (وعجبوا
أن جاءهم منذر منهم) أي عجب الكفار الذين وصفهم الله سبحانه بأنهم في عزة وشقاق أن جاءهم منذر منهم:
أي رسول من أنفسهم ينذرهم بالعذاب إن استمروا على الكفر، وأن وما في حيزها في محل نصب بنزع الخافض
أي من أن جاءهم، وهو كلام مستأنف مشتمل على ذكر نوع من أنواع كفرهم (وقال الكافرون هذا ساحر كذاب)
قالوا هذا القول لما شاهدوا ما جاء به من المعجزات الخارجة عن قدرة البشر: أي هذا المدعي للرسالة ساحر فيما
يظهره من المعجزات كذاب فيما يدعيه من أن الله أرسله. قيل ووضع الظاهر موضع المضمر لإظهار الغضب عليهم
وأن ما قالوه لا يتجاسر على مثله إلا المتوغلون في الكفر. ثم أنكروا ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم من التوحيد
وما نفاه من الشركاء لله فقالوا (أجعل الآلهة إلها واحدا) أي صيرها إلها واحدا وقصرها على الله سبحانه (إن هذا
لشئ عجاب) أي لأمر بالغ في العجب إلى الغاية. قال الجوهري: العجيب الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك
العجاب بالضم والعجاب بالتشديد أكثر منه. قرأ الجمهور " عجاب " مخففا. وقرأ علي والسلمي وعيسى بن عمر وابن
مقسم بتشديد الجيم. قال مقاتل: عجاب يعني بالتخفيف لغة أزد شنوءة، قيل والعجاب بالتخفيف والتشديد
يدلان على أنه قد تجاوز الحد في العجب، كما يقال الطويل الذي فيه طول، والطوال الذي قد تجاوز حد الطول
420

وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف، وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب
نزول هذه الآيات (وانطلق الملأ منهم) المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز
أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين (أن امشوا) أي قائلين لبعضهم بعضا امضوا
على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه (واصبروا على آلهتكم) أي أثبتوا على عبادتها، وقيل المعنى: وانطلق الأشراف
منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم، و " أن " في قوله (أن امشوا) هي المفسرة للقول المقدر، أو لقوله
" وانطلق " لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور: أي بأن امشوا.
وقيل المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها: أي اجتمعوا وأكثروا،
وهو بعيد جدا، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة
(إن هذا لشئ يراد) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر: أي يريده محمد بنا وبآلهتنا، ما ويود تمامه ليعلو علينا،
ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجا مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى:
إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى: إن
دينكم لشئ يراد: أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، والأول أولى (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) أي ما سمعنا
بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال
محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي. وقال مجاهد: يعنون ملة قريش، وروي مثله عن
قتادة أيضا. وقال الحسن: المعنى ما سمعنا: أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعنا من اليهود والنصارى
أن محمدا رسول (إن هذا إلا اختلاق) أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه. ثم استنكروا أن يخص الله
رسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) والاستفهام للإنكار: أي كيف يكون ذلك ونحن
الرؤساء والاشراف. قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه،
وهذا مثل قولهم - لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم - فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء
من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونهم بين السبب
الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، فقال (بل هم في شك من ذكري)
أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله
(بل لما يذوقوا عذاب) أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم
عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب)
أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم ولانكار ما تفضل الله به على
هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة. والعزيز
الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) أي بل ألهم ملك
هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء، وقوله
(فليرتقوا في الأسباب) جواب شرط محذوف: أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء
أو إلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة
من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسباب: أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها.
قاله مجاهد وقتادة، ومنه قول زهير * ولو رام أسباب السماء بسلم * قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق
421

من الشعر، وأشد من الحديد ولكن لا ترى. وقال السدي (في الأسباب) في الفضل والدين. وقيل فليعملوا
في أسباب القوة إن ظنوا أنها مانعة وهو قول أبي عبيدة. وقيل الأسباب الحبال: يعنى إن وجدوا حبالا يصعدون
فيها إلى السماء فعلوا، والأسباب عند أهل اللغة كل شئ يتوصل به إلى المطلوب كائنا ما كان. وفي هذا الكلام
تهكم بكم وتعجيز لهم (جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب) هذا وعد من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وآله
وسلم بالنصر عليهم والظفر بهم، وجند مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هم جند، يعني الكفار مهزوم
مكسور عما قريب، فلا تبال بهم ولا تظن أنهم يصلون إلى شئ مما يضمرونه بك من الكيد، و " ما " في قوله
" ما هنالك " هي صفة لجند لإفادة التعظيم والتحقير: أي جند أي جند. وقيل هي زائدة، يقال هزمت الجيش
كسرته، وتهزمت القرية: إذا تكسرت، وهذا الكلام متصل بما تقدم، وهو قوله (بل الذين كفروا في عزة
وشقاق) وهم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم وأهزم جمعهم، وقد
وقع ذلك ولله الحمد في يوم بدر وفيما بعده من مواطن الله.
وقد أخرج عبد بن حميد عن أبي صالح قال: سئل جابر بن عبد الله وابن عباس عن (ص) فقال: لا ندري
ما هو. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ص محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن جرير عنه
(والقرآن ذي الذكر) قال: ذي الشرف. وأخرج أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى (فنادوا ولات حين
مناص) قال: ليس بحين نزو ولا فرار. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه في الآية قال: نادوا النداء حين
لا ينفعهم، وأنشد:
تذكرت ليلى لات حين تذكر * وقد بنت منها والمناص بعيد
وأخرج عنه أيضا في الآية قال: ليس هذا حين زوال. وأخرج ابن المنذر من طريق عطية عنه أيضا قال:
لا حين فرار. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وانطلق الملأ منهم) الآية قال: نزلت حين
انطلق أشراف قريش إلى أبي طالب فكلموه في النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج ابن مردويه عنه (وانطلق
الملأ منهم) قال: أبو جهل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ما سمعنا بهذا في الملة
الآخرة) قال: النصرانية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (فليرتقوا في الأسباب)
قال: في السماء.
422

لما ذكر سبحانه أحوال الكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذكر أمثالهم ممن تقدمهم وعمل
عملهم من الكفر والتكذيب، فقال (كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد) قال المفسرون: كانت
له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد وتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض. وقيل المراد
بالأوتاد: الجموع والجنود الكثيرة، يعني أنهم كانوا يقوون أمره ويشدون سلطانه كما تقوي الأوتاد ما ضربت
عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة على هذا. قال ابن قتيبة: العرب تقول هم في عز ثابت الأوتاد، وملك
ثابت الأوتاد، يريدون ملكا دائما شديدا، وأصل هذا أن البيت من بيوت الشعر إنما يثبت ويقوم بالأوتاد. وقيل
المراد بالأوتاد هنا البناء المحكم: أي وفرعون ذو الأبنية المحكمة. قال الضحاك: والبنيان يسمى أوتادا، والأوتاد
جمع وتد أفصحها فتح الواو وكسر التاء، ويقال وتد بفتحهما وود بإدغام التاء في الدال وودت. قال الأصمعي:
ويقال وتد واتد مثل شغل شاغل وأنشد:
لاقت على الما جديلا واتدا * ولم يكن يخلفها المواعدا
(وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة) الأيكة الغيضة، وقد تقدم تفسيرها واختلاف القراء في قراءتها في سورة
الشعراء، ومعنى (أولئك الأحزاب) أنهم الموصوفون بالقوة والكثرة كقولهم: فلان هو الرجل وقريش وإن
كانوا حزبا كما قال الله سبحانه فيما تقدم - جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب - ولكن هؤلاء الذين قصهم الله
علينا من الأمم السالفة هم أكثر منهم عددا، وأقوى أبدانا، وأوسع أموالا وإعمارا، وهذه الجملة يجوز أن تكون
مستأنفة، ويجوز أن تكون خبرا، والمبتدأ قوله " وعاد " كذا قال أبو البقاء وهو ضعيف، بل الظاهر أن عاد
وما بعده معطوفات على قوم نوح، والأولى أن تكون هذه الجملة خبرا لمبتدأ محذوف، أو بدلا من الأمم المذكورة
(إن كل إلا كذب الرسل) إن هي النافية، والمعنى: ما كل حزب من هذه الأحزاب إلا كذب الرسل، لأن
تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه تكذيب لجميع الرسل أو هو من مقابلة الجمع بالجمع، والمراد تكذيب كل
حزب لرسوله، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال: أي ما كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله إلا وقع منه
تكذيب الرسل (فحق عقاب) أي فحق عليهم عقابي بتكذيبهم، ومعنى حق ثبت ووجب، وإن تأخر فكأنه
واقع بهم، وكل ما هو آت قريب. قرأ يعقوب بإثبات الياء في " عقاب " وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي
423

(وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة) أي ما ينتظرون إلا صيحة، وهي النفخة الكائنة عند قيام الساعة. وقيل هي
النفخة الثانية، وعلى الأول المراد من عاصر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم من الكفار، وعلى الثاني المراد كفار الأمم
المذكورة: أي ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من عذاب النار إلا أن ينفخ في الصور النفخة الثانية. وقيل
المراد بالصيحة عذاب يفجؤهم في الدنيا كما قال الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة * خروا لشدتها على الأذقان
وجملة (ما لها من فواق) في محل نصب صفة لصيحة. قال الزجاج: فواق وفواق بفتح الفاء وضمها أي
ما لها من رجوع، والفواق ما بين حلبتي الناقة، وهو مشتق من الرجوع أيضا، لأنه يعود اللبن إلى الضرع بين
الحلبتين، وأفاق من مرضه: أي رجع إلى الصحة، ولهذا قال مجاهد ومقاتل: إن الفواق الرجوع. وقال قتادة
مالها من مثنوية. وقال السدي: مالها من إفاقة، وقيل مالها من مرد. قال الجوهري: مالها من نظرة وراحة
وإفاقة، ومعنى الآية أن تلك الصيحة هي ميعاد عذابهم، فإذا جاءت لم ترجع ولا ترد عنهم ولا تصرف منهم
ولا تتوقف مقدار فواق ناقة، وهي ما بين حلبتي الحالب لها، ومنه قول الأعشى:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت * جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
والفيقة اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين، وجمعها فيق وأفواق. قرأ حمزة والكسائي ما لها من فواق بضم الفاء
وقرأ الباقون بفتحها. قال الفراء وأبو عبيدة: الفواق بفتح الفاء الراحة: أي لا يفيقون فيها كما يفيق المريض والمغشي
عليه، وبالضم الانتظار (وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب) لما سمعوا ما توعدهم الله به من العذاب قالوا
هذه المقالة استهزاء وسخرية، والقط في اللغة النصيب، من القط، وهو القطع، وبهذا قال قتادة وسعيد بن جبير
قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب، ومنه قيل للصك قط. قال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب
بالجوائز، والجمع القطوط، ومنه قول الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته * بغبطته يعطي القطوط ويأفق
ومعنى يأفق يصلح، ومعنى الآية سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم وحظهم من العذاب، وهو مثل قوله
- ويستعجلونك بالعذاب -. وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به
وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير والسدي. وقال أبو العالية والكلبي
ومقاتل: لما نزل - وأما من أوتي كتابه بيمينه، وأما من أوتى كتابه بشماله - قالت قريش: زعمت يا محمد أنا
نؤتي كتابنا بشمالنا فعجل لنا قطنا قبل يوم الحساب. ثم أمر الله سبحانه نبيه أن يصبر على ما يسمعه من أقوالهم فقال
(اصبر على ما يقولون) من أقوالهم الباطلة التي هذا القول المحكي عنهم من جملتها، وهذه الآية منسوخة بآية السيف
(واذكر عبدنا داود ذا الأيد) لما فرغ من ذكر قرون الضلالة، وأمم الكفر والتكذيب، وأمر نبيه صلى الله
عليه وآله وسلم بالصبر على ما يسمعه زاد في تسليته وتأسيته بذكر قصة داود وما بعدها. ومعنى (أذكر عبدنا
داود) أذكر قصته فإنك تجد فيها ما تتسلى به، والأيد: القوة ومنه رجل أيد: أي قوي، وتأيد الشئ: تقوي
والمراد ما كان فيه عليه السلام من القوة على العبادة. قال الزجاج: وكانت قوة داود على العبادة أتم قوة، ومن
قوته ما أخبرنا به نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يصوم يوما يفطر يوما، وكان يصلي نصف الليل وكان
لا يفر إذا لاقى العدو، وجملة (إنه أواب) تعليل لكونه ذا الأيد، والأواب: الرجاع عن كل ما يكرهه الله
424

سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قويا في دينه. وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب
عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يئوب: إذا رجع (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق)
أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه عما لا يليق به. وجملة " يسبحن " في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله
من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه
تسبيح الجبال. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا
معنى تسبيح الجبال، والأول أولى. وقيل معنى " يسبحن " يصلين، و " معه " متعلق بسخرنا. ومعنى " بالعشي
والإشراق " قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى. وأما شروقها
فطلوعها. قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت (والطير محشورة) معطوف على
الجبال، وانتصاب محشورة على الحال من الطير: أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة: أي مجموعة إليه تسبح
الله معه. قيل كانت تجمعها إليه الملائكة. وقيل كانت تجمعها الريح (كل له أواب) أي كل واحد من داود والجبال
والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عز وجل. وقيل الضمير لداود: أي لأجل
تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى. وقد قدمنا أن الأواب: الكثير الرجوع إلى الله
سبحانه (وشددنا ملكه) قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم. وقيل بكثرة
الجنود (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) المراد بالحكمة النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به. وقال مقاتل: الفهم والعلم.
وقال مجاهد: العدل. وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله. وقال شريح: السنة. والمراد بفصل الخطاب الفصل
في القضاء وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل. وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والإيمان لأنها إنما
تنقطع الخصومة بهذا. وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا
المحراب) لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة.
قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة، فأتياه وهو في محرابه. قال النحاس:
ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة.
ومعنى (تسوروا المحراب) أتوه من أعلى سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في
تسوروا مع كونهم اثنين نظرا إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع. ومنه قول الشاعر:
وخصم غضاب قد نفضت لحاهم * كنفض البراذين العراب المخاليا
والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس
ومنه محراب المسجد. وقيل إنهما كانا إنسيين ولم يكونا ملكين، والعامل في " إذ " في قوله (إذ دخلوا عليه) النبأ:
أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم، وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء. وقيل العامل فيه أتاك.
وقيل معمول للخصم. وقيل معمول لمحذوف: أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. وقيل هو معمول لتسوروا. وقيل
هو بدل مما قبله. وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما (ففزع منهم) وذلك لأنهما أتياه ليلا في غير وقت
دخول الخصوم ودخلوا عليه بغير إذنه ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس. قال ابن الأعرابي: وكان محراب
داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة (قالوا لا تخف) مستأنفة جواب سؤال مقدر
كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم وارتفاع (خصمان) على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي نحن خصمان، وجاء
فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل
425

جائز. قال الخليل: هو كما تقول نحن فعلنا كذا: إذا كنتما اثنين. وقال الكسائي: جمع لما كان خبرا فلما انقضى
الخبر وجاءت المخاطبة أخبر الاثنان عن أنفسهما فقالا خصمان، وقوله (بغى بعضنا على بعض) هو على سبيل
الفرض والتقدير، وعلى سبيل التعريض لأن من المعلوم أن الملكين لا يبغيان. ثم طلبا منه أن يحكم بينهما بالحق
ونهياه عن الجور فقالا (فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط) أي لا تجر في حكمك، يقال شط الرجل وأشط شططا
وإشطاطا: إذا جار في حكمه. قال أبو عبيد: شططت عليه وأشططت: أي جرت. وقال الأخفش: معناه
لا تسرف، وقيل لا تفرط، وقيل لا تمل. والمعنى متقارب، والأصل فيه البعد، من شطت الدار: إذا بعدت.
قال أبو عمرو: الشطط مجاوزة القدر في كل شئ (واهدنا إلى سواء الصراط) سواء الصراط: وسطه. والمعنى:
أرشدنا إلى الحق واحملنا عليه. ثم لما أخبراه عن الخصومة إجمالا شرعا في تفصيلهما وشرحها فقالا (إن هذا أخي
له تسع وتسعون نعجة) المراد بالأخوة هنا: أخوة الدين أو الصحبة، والنعجة هي الأنثى من الضأن، وقد يقال
لبقر الوحش نعجة (ولي نعجة واحدة) قال الواحدي: النعجة البقرة الوحشية، والعرب تكنى عن المرأة بها،
وتشبه النساء بالنعاج من البقر. قرأ الجمهور (تسع وتسعون) بكسر التاء الفوقية. وقرأ الحسن وزيد بن علي بفتحها.
قال النحاس: وهي لغة شاذة، وإنما عنى ب " هذا " داود لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعنى بقوله " ولي
نعجة واحدة " (أوريا) زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود كما سيأتي بيان ذلك (فقال أكفلنيها) أي ضمها
إلي وانزل لي عنها حتى أكفلها وأصير بعلا لها. قال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي (وعزني في الخطاب)
أي غلبني، يقال عزه يعزه عزا: إذا غلبه. وفي المثل " من عزيز " أي من غلب سلب والاسم العزة: وهي القوة.
قال عطاء: المعنى إن تكلم كان أفصح مني. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير " وعازني في الخطاب " أي غالبني
من المعازة وهي المغالبة (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه) أي بسؤاله نعجتك ليضمها إلى نعاجه التسع
والتسعين إن كان الأمر على ما تقول، واللام هي الموطئة للقسم، وهي وما بعدها جواب للقسم المقدر، وجاء
بالقسم في كلامه مبالغة في إنكار ما سمعه من طلب صاحب التسع والتسعين النعجة أن يضم إليه النعجة الواحدة
التي مع صاحبه ولم يكن معه غيرها. ويمكن أنه إنما قال بهذا بعد أن سمع الاعتراف من الآخر. قال النحاس.
ويقال إن خطيئة داود هي قوله (لقد ظلمك) لأنه قال ذلك قبل أن يتثبت (وأن كثيرا من الخلطاء) وهم الشركاء
واحدهم خليط: وهو المخالط في المال (ليبغي بعضهم على بعض) أي يتعدى بعضهم على بعض ويظلمه غير
مراع لحقه (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فإنهم يتحامون ذلك، ولا يظلمون خليطا ولا غيره (وقليل ما هم)
أي وقليل هم، وما زائدة للتوكيد والتعجيب. وقيل هي موصولة، وهم مبتدأ، وقليل خبره (وظن داود أنما
فتناه) قال أبو عمرو والفراء: ظن يعني أيقن. ومعنى " فتناه " ابتليناه، والمعنى: أنه عند أن تخاصما إليه وقال
ما قال علم عند ذلك أنه المراد، وأن مقصودهما التعريض به وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته. قال
الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى بينهما داود نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراده.
قرأ الجمهور " فتناه " بالتخفيف للتاء وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب والحسن وأبو رجاء بالتشديد للتاء
والنون، وهي مبالغة في الفتنة. وقرأ الضحاك " أفتناه " وقرأ قتادة وعبيد بن عمير وابن السميفع " فتناه " بتخفيفهما
وإسناد الفعل إلى الملكين، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو (فاستغفر ربه) لذنبه (وخر راكعا) أي ساجدا، وعبر
بالركوع عن السجود. قال ابن العربي: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالركوع هنا السجود، فإن السجود هو
الميل، والركوع هو الانحناء وأحدهما يدخل في الآخر ولكنه قد يختص كل واحد منهما بهيئة. ثم جاء في هذا على
426

تسمية أحدهما بالآخر. وقيل المعنى للسجود راكعا: أي مصليا. وقيل بل كان ركوعهم سجودا، وقيل بل كان
سجودهم ركوعا (وأناب) أي رجع إلى الله بالتوبة من ذنبه.
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود الذي استغفر له وتاب عنه على أقوال: الأول أنه نظر إلى امرأة الرجل
التي أراد أن تكون زوجة له، كذا قال سعيد بن جبير وغيره. قال الزجاج: ولم يتعمد داود النظر إلى المرأة لكنه
عاود النظر إليها، وصارت الأولى له والثانية عليه. القول الثاني أنه أرسل زوجها في جملة الغزاة. الثالث أنه نوى
إن مات زوجها أن يتزوجها. الرابع أن أوريا كان خطب تلك المرأة فلما غاب خطبها داود فزوجت منه لجلالته فاغتم
لذلك أوريا، فعتب الله عليه حيث لم يتركها لخاطبها. الخامس أنه لم يجزع على قتل أوريا كما كان يجزع على من
هلك من الجند، ثم تزوج امرأته فعاتبه الله على ذلك، لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة. السادس أنه
حكم لأحد الخصمين قبل أن يسمع من الآخر كما قدمنا.
وأقول: الظاهر من الخصومة التي وقعت بين الملكين تعريضا لداود عليه السلام أنه طلب من زوج المرأة
الواحدة أن ينزل له عنها ويضمها إلى نسائه، ولا ينافي هذا العصمة الكائنة للأنبياء، فقد نبهه الله على ذلك وعرض
له بإرسال ملائكته إليه ليتخاصموا في مثل قصته حتى يستغفر لذنبه ويتوب منه فاستغفر وتاب. وقد قال سبحانه -
وعصى آدم ربه فغوى - وهو أبو البشر وأول الأنبياء، ووقع لغيره من الأنبياء ما قصه الله علينا في كتابه. ثم أخبر
سبحانه أنه قبل استغفاره وتوبته قال (فغفرنا له ذلك) أي ذلك الذنب الذي استغفر منه. قال عطاء الخراساني
وغيره: إن داود بقي ساجدا أربعين يوما حتى نبت الرعى حول وجهه وغمر رأسه. قال ابن الأنباري: الوقف
على قوله (فغفرنا له ذلك) تام، ثم يبتدئ الكلام بقوله (وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) الزلفى: القربة
والكرامة بعد المغفرة لذنبه. قال مجاهد: الزلفى الدنو من الله عز وجل يوم القيامة، والمراد بحسن المآب: حسن
المرجع وهو الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مالها من فواق) قال: من رجعة. (وقالوا
ربنا عجل لنا قطنا) قال: سألوا الله أن يعجل لهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الزبير ابن عدي عنه
(عجل لنا قطنا) قال: نصيبنا من الجنة. وأخرج ابن جرير عنه أيضا في قوله (ذا الأيد) قال: القوة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضا قال: الأواب المسبح. وأخرج الديلمي عن مجاهد قال: سألت ابن عمر عن الأواب
فقال سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه فقال: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله. وأخرج عبد
ابن حميد عن ابن عباس قال: الأواب الموقن. وأخرج عبد الرزاق وعبد ابن حميد عن عطاء الخراساني عنه قال:
لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت هذه الآية (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق). وأخرج
ابن المنذر وابن مردويه عنه أيضا قال: لقد أتى علي زمان وما أدرى وجه هذه الآية (يسبحن بالعشي والإشراق)
حتى رأيت الناس يصلون الضحى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عنه قال: كنت أمر بهذه الآية
(يسبحن بالعشي والإشراق) فما أدري ما هي؟ حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم دخل عليها يوم الفتح، فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى، ثم قال: يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من وجه آخر عنه نحوه. والأحاديث في صلاة الضحى كثيرة جدا قد ذكرناها
في شرحنا للمنتقى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: استعدى رجل من بني
إسرائيل عند داود على رجل من عظمائهم فقال: إن هذا غصبني بقرا لي، فسأل داود الرجل عن ذلك فجحده،
فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة، فقال لهما داود: قوما حتى أنظر في أمركما، فقاما من عنده، فأتى داود في منامه
427

فقيل له: اقتل الرجل الذي استعدى، فقال: إن هذه رؤيا ولست أعجل حتى أتثبت، فأتى الليلة الثانية في منامه
فأمر أن يقتل الرجل فلم يفعل، ثم أتى الليلة الثالثة، فقيل له: اقتل الرجل أو تأتيك العقوبة من الله، فأرسل داود
إلى الرجل فقال: إن الله أمرني أن أقتلك، قال: تقتلني بغير بينة ولا تثبت؟ قال نعم، والله لأنفذن أمر الله فيك،
فقال الرجل: لا تعجل علي حتى أخبرك، إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك
أخذت، فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبته في بني إسرائيل وشدد به ملكه، فهو قول الله (وشددنا ملكه).
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (وآتيناه الحكمة) قال: أعطى الفهم. وأخرج ابن أبي حاتم والديلمي عن
أبي موسى الأشعري قال: أول من قال أما بعد داود عليه السلام (و) هو (فصل الخطاب). وأخرج سعيد بن
منصور وابن أبي شيبة وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر عن الشعبي أنه سمع زياد بن أبيه يقول: فصل الخطاب
الذي أوتى داود أما بعد. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن داود حدث نفسه
إذا ابتلى أنه يعتصم، فقيل له: إنك ستبتلى وستعلم اليوم الذي تبتلى فيه فخذ حذرك، فقيل له هذا اليوم الذي تبتلى
فيه، فأخذ الزبور ودخل المحراب وأغلق باب المحراب وأخذ الزبور في حجره، وأقعد منصفا: يعني خادما على
الباب وقال: لا تأذن لأحد علي اليوم، فبينما هو يقرأ الزبور إذ جاء طائر مذهب كأحسن ما يكون للطير، فيه من
كل لون، فجعل يدور بين يديه، فدنا منه فأمكن أن يأخذه، فتناوله بيده ليأخذه فاستوفز الرحمن من خلفه، فأطبق
الزبور وقام إليه ليأخذه، فطار فوقع على كوة المحراب، فدنا منه ليأخذه فأفضى فوقع على خص فأشرف عليه
لينظر أين وقع؟ فإذا هو بامرأة عند بركتها تغتسل من الحيض، فلما رأت ظله حركت رأسها، فغطت جسدها
أجمع بشعرها، وكان زوجها غازيا في سبيل الله، فكتب داود إلى رأس الغزاة: انظر أوريا فاجعله في حملة التابوت
وكان حملة التابوت إما أن يفتح عليهم وإما أن يقتلوا، فقدمه في حملة التابوت فقتل، فلما انقضت عدتها خطبها
داود، فاشترطت عليه إن ولدت غلاما أن يكون الخليفة من بعده، وأشهدت عليه خمسين من بني إسرائيل وكتب
عليه بذلك كتابا، فلما شعر بفتنته أنه أفتتن حتى ولدت سليمان، وشب فتسور عليه الملكان المحراب وكان شأنهما
ما قص الله في كتابه وخر داود ساجدا، فغفر الله له وتاب عليه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال:
ما أصاب داود بعد ما أصابه بعد القدر إلا من عجب عجب بنفسه، وذلك أنه قال: يا رب ما من ساعة من ليل
ولا نهار إلا وعابد من آل داود يعبدك يصلي لك أو يسبح أو يكبر وذكر أشياء، فكره الله ذلك، فقال: يا داود
إن ذلك لم يكن إلا بي فلولا عوني ما قويت عليه، وعزتي وجلالي لأكلنك إلى نفسك يوما، قال: يا رب فأخبرني
به، فأخبر به فأصابته الفتنة ذلك اليوم. وأخرج أصل القصة الحكيم والترمذي في نوارد الأصول وابن جرير وابن
أبي حاتم عن أنس مرفوعا بإسناد ضعيف. وأخرجها ابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس مطولة. وأخرجها
جماعة عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله (إن هذا أخي) قال: على ديني.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وأحمد في الزهد وابن جرير والطبراني عنه قال: ما زاد داود على أن (قال أكفلنيها).
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أكفلنيها) قال:
ما زاد داود على أن قال: تحول لي عنها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (وقليل ما هم)
يقول: قليل الذي هم فيه، وفي قوله (وظن داود أنما فتناه) قال: اختبرناه. وأخرج أحمد والبخاري وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن مردويه والبيهقي في سننه عنه أيضا أنه قال في السجود في ص ليست من عزائم السجود،
وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسجد فيها. وأخرج النسائي وابن مردويه بسند جيد عنه أيضا أن
428

النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في ص وقال: سجدها داود ونسجدها شكرا. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة
" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سجد في ص ". وأخرج ابن مردويه عن أنس مثله مرفوعا. وأخرج الدارمي
وأبو داود وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال:
" قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه، فلما
كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة تهيأ الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة ولكني رأيتكم تهيأتم للسجود،
فنزل فسجد ". وأخرج ابن مردويه عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر يوم القيامة
فعظم شأنه وشدته قال: ويقول الرحمن عز وجل لداود عليه السلام مر بين يدي، فيقول داود: يا رب أخاف
أن تدحضني خطيئتي، فيقول خذ بقدمي، فيأخذ بقدمه عز وجل فيمر، قال: فتلك الزلفى التي قال الله (وإن
له عندنا لزلفى وحسن مآب).
لما تمم سبحانه قصة داود أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه، والجملة مقولة لقول مقدر
معطوف على غفرنا: أي وقلنا له (يا داود إنا) استخلفناك على الأرض، أو (جعلناك خليفة) لمن قبلك من
الأنبياء لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر (فاحكم بين الناس بالحق) أي بالعدل الذي هو حكم الله بين عباده
(ولا تتبع الهوى) أي هوى النفس في الحكم بين العباد. وفيه تنبيه لداود عليه السلام أن الذي عوتب عليه ليس بعدل
وأن فيه شائبة من اتباع هوى النفس (فيضلك عن سبيل الله) بالنصب على أنه جواب للنهي وفاعل يضلك هو
الهوى، ويجوز أن يكون الفعل مجزوما بالعطف على النهي، وإنما حرك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول
يكون المنهى عنه الجمع بينهما، وعلى الوجه الثاني يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة. وسبيل الله: هو
طريق الحق، أو طريق الجنة، وجملة (إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد) تعليل للنهي عن اتباع
الهوى والوقوع في الضلال، والباء في (بما نسوا يوم الحساب) للسببية، ومعنى النسيان الترك: أي بسبب تركهم
العمل لذلك اليوم: قال الزجاج: أي بتركهم العمل لذلك اليوم صاروا بمنزلة الناسين وإن كانوا ينذرون ويذكرون.
429

وقال عكرمة والسدي: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: ولهم عذاب يوم الحساب بما نسوا: أي تركوا القضاء
بالعدل، والأول أولى. وجملة (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا) مستأنفة مقررة لما قبلها من أمر البعث
والحساب: أي ما خلقنا هذه الأشياء خلقا باطلا خارجا على الحكمة الباهرة، بل خلقناها للدلالة على قدرتنا،
فانتصاب باطلا على المصدرية، أو على الحالية، أو على أنه مفعول لأجله، والإشارة بقوله (ذلك) إلى المنفي
قبله وهو مبتدأ، وخبره (ظن الذين كفروا) أي مظنونهم، فإنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض ويقولون
إنه لا قيامة ولا بعث ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلا (فويل للذين كفروا من النار)
والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل: أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم. ثم وبخهم
وبكتهم فقال (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) قال مقاتل: قال كفار قريش
للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة كما تعطون فنزلت، وأم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة: أي بل أنجعل الذين
آمنوا بالله وصدقوا رسله وعملوا بفرائضه كالمفسدين في الأرض بالمعاصي. ثم أضرب سبحانه إضرابا آخر وانتقل
عن الأول إلى ما هو أظهر استحالة منه فقال (أم نجعل المتقين كالفجار) أي بل تجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء
الكافرين والمنافقين والمنهمكين في معاصي الله سبحانه من المسلمين، وقيل إن الفجار هنا خاص بالكافرين، وقيل
المراد بالمتقين الصحابة، ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب (كتاب
أنزلناه إليك مبارك) ارتفاع كتاب على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأنزلناه إليك صفة له، ومبارك خبر ثان للمبتدأ
ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب لما تقرر من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح عن غير الصريح، وقد
جوزه بعض النحاة والتقدير: القرآن كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخير والبركة. وقرئ " مباركا " على الحال
وقوله (ليدبروا) أصله ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال وهو متعلق بأنزلناه. وفي الآية دليل على أن الله سبحانه
إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة بدون تدبر. قرأ الجمهور " ليدبروا " بالإدغام. وقرأ
أبو جعفر وشيبة " لتدبروا " بالتاء الفوقية على الخطاب، ورويت هذه القراءة عن عاصم والكسائي، وهي قراءة
علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا بتاءين فحذف إحداهما تخفيفا (وليتذكر أولوا الألباب) أي ليتعظ أهل
العقول، والألباب جمع لب: وهو العقل (ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب) أخبر سبحانه بأن من جملة نعمه
على داود أنه وهب له سليمان ولدا، ثم مدح سليمان فقال (نعم العبد) والمخصوص بالمدح محذوف: أي نعم العبد
سليمان، وقيل إن المدح هنا بقوله: نعم العبد هو لداود، والأول أولى، وجملة (إنه أواب) تعليل لما قبلها من
المدح، والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة كما تقدم بيانه، والظرف في قوله (إذ عرض عليه) متعلق بمحذوف
وهو أذكر: أي أذكر ما صدر عنه وقت عرض الصافنات الجياد عليه (بالعشي) وقيل هو متعلق بنعم،
وهو مع كونه غير متصرف لا وجه لتقييده بذلك الوقت، وقيل متعلق بأواب، ولا وجه لتقييد كونه أوابا بذلك
الوقت، والعشي من الظهر أو العصر إلى آخر النهار، والصافنات جمع صافن.
وقد اختلف أهل اللغة في معناه، فقال القتيبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها،
وبه قال قتادة، ومنه الحديث " من أحب أن يتمثل له الناس صفونا فليتبوأ مقعده من النار " أي يديمون القيام
له، واستدلوا بقول النابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها * عتاق المهاري والجياد الصوافن
430

ولا حجة لهم في هذا فإنه استدلال بمحل النزاع، وهو مصادرة لأن النزاع في الصافن ماذا هو؟ وقال الزجاج:
هو الذي يقف على إحدى اليدين ويرفع الأخرى ويجعل على الأرض طرف الحافر منها حتى كأنه يقوم على ثلاث
وهي الرجلان وإحدى اليدين، وقد يفعل ذلك بإحدى رجليه وهي علامة الفراهة، وأنشد الزجاج قول الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه * مما يقوم على الثلاث كسير
ومن هذا قول عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه * مقلدة أعنتها صفونا
فإن قوله صفونا لا بد أن يحمل على معنى غير مجرد القيام، لأن مجرد القيام قد استفيد من قوله: عاكفة
عليه. وقال أبو عبيد: الصافن هو الذي يجمع يديه ويسويهما، وأما الذي يقف على سنبكه فاسمه المتخيم، والجياد
جمع جواد، يقال للفرس إذا كان شديد العدو. وقيل إنها الطوال الأعناق، مأخوذ من الجيد وهو العنق، قيل
كانت مائة فرس، وقيل كانت عشرين ألفا، وقيل كانت عشرين فرسا، وقيل إنها خرجت له من البحر وكانت
لها أجنحة (فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي) انتصاب حب الخير على أنه مفعول أحببت بعد تضمينه
معنى آثرت. قال الفراء: يقول آثرت حب الخير، وكل من أحب شيئا فقد آثره. وقيل انتصابه على المصدرية
بحذف الزوائد والناصب له أحببت، وقيل هو مصدر تشبيهي: أي حبا مثل حب الخير، والأول أولى. والمراد
بالخير هنا الخيل. قال الزجاج: الخير هنا الخيل. وقال الفراء: الخير والخيل في كلام العرب واحد. قال النحاس:
وفي الحديث " الخيل معقود بنواصيها الخير " فكأنها سميت خيرا لهذا. وقيل إنها سميت خيرا لما فيها من المنافع.
" وعن " في (عن ذكر ربي) بمعنى على. والمعنى: آثرت حب الخيل على ذكر ربي: يعني صلاة العصر (حتى
توارت بالحجاب) يعني الشمس ولم يتقدم لها ذكر ولكن المقام يدل على ذلك. قال الزجاج: إنما يجوز الإضمار
إذا جرى ذكر الشئ أو دليل الذكر، وقد جرى هنا الدليل وهو قوله بالعشي. والتواري: الاستتار عن الأبصار
والحجاب: ما يحجبها عن الأبصار. قال قتادة وكعب: الحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق وهو جبل قاف،
وسمى الليل حجابا لأنه يستر ما فيه، وقيل الضمير في قوله (حتى توارت) للخيل: أي حتى توارت في المسابقة
عن الأعين. والأول أولى، وقوله (ردوها علي) من تمام قول سليمان: أي أعيدوا عرضها علي مرة أخرى.
قال الحسن: إن سليمان لما شغله عرض الخيل حتى فاتته صلاة العصر غضب لله وقال ردوها علي: أي أعيدوها.
وقيل الضمير في ردوها يعود إلى الشمس ويكون ذلك معجزة له، وإنما أمر بإرجاعها بعد مغيبها لأجل أن يصلي
العصر، والأول أولى، والفاء في قوله (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) هي الفصيحة التي تدل على محذوف
في الكلام، والتقدير هنا: فردوها عليه. قال أبو عبيدة: طفق يفعل مثل ما زال يفعل، وهو مثل ظل وبات
وانتصاب مسحا على المصدرية بفعل مقدر: أي يمسح مسحا لأن خبر طفق لا يكون إلا فعلا مضارعا، وقيل
هو مصدر في موضع الحال، والأول أولى. والسوق جمع ساق، والأعناق جمع عنق، والمراد أنه طفق يضرب
أعناقها وسوقها، يقال مسح علاوته: أي ضرب عنقه. قال الفراء: المسح هنا القطع، قال: والمعنى أنه أقبل
يضرب سوقها وأعناقها لأنها كانت سبب فوت صلاته، وكذا قال أبو عبيدة. قال الزجاج: ولم يكن يفعل ذلك
إلا وقد أباحه الله له، وجائز أن يباح ذلك لسليمان ويحضر في هذا الوقت.
وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح ما تقدم. وقال آخرون منهم الزهري
وقتادة: إن المراد به المسح على سوقها وأعناقها لكشف الغبار عنها حبا لها. والقول الأول أولى بسياق الكلام فإنه
431

ذكر أنه آخرها على ذكر ربه حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه ليعاقب نفسه فإفساد ما ألهاه عن ذلك
وما صده عن عبادة ربه وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا أن يكون الغرض من ردها عليه
هو كشف الغبار عن سوقها وأعناقها بالمسح عليها بيده أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال لا يصدر
عن النبي فإن هذا مجرد استبعاد باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا مع جواز أن يكون في شرع سليمان أن مثل هذا مباح
على أن إفساد المال المنهي عنه في شرعنا هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح فقد جاز مثله
في شرعنا كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من إكفاء القدور التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر
كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة من إحراق طعام المحتكر.
وقد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس في قوله (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض)
قال: الذين آمنوا علي وحمزة وعبيدة بن الحارث، والمفسدين في الأرض عتبة وشيبة والوليد. وأخرج ابن
أبي حاتم عن أبي هريرة قال (الصافنات الجياد) خيل خلقت على ما شاء. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر عن مجاهد في قوله (الصافنات) قال: صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى يكون على أطراف الحافر،
وفي قوله (الجياد) السراع. وأخرج ابن جرير من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله (حب الخير) قال:
الماء، وفي قوله ردوها علي قال: الخيل (فطفق مسحا) قال: عقرا بالسيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
عن علي بن أبي طالب قال: الصلاة التي فرط فيها سليمان صلاة العصر. وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن
جرير وابن أبي حاتم عن إبراهيم التيمي في قوله: إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد قال: كانت عشرين
ألف فرس ذات أجنحة فعقرها. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن مسعود بقوله (حتى توارت بالحجاب)
قال: توارت من وراء ياقوتة خضراء، فخضرة السماء منها. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس قال:
كان سليمان لا يكلم إعظاما له، فلقد فاتته صلاة العصر وما استطاع أحد أن يكلمه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه في قوله (عن ذكر ربي) يقول: من ذكر ربي (فطفق مسحا بالسوق والأعناق) قال: قطع
سوقها وأعناقها بالسيف.
قوله (ولقد فتنا سليمان) أي ابتليناه واختبرناه. قال الواحدي: قال أكثر المفسرين: تزوج سليمان امرأة من
بنات الملوك، فعبدت الصنم في داره ولم يعلم بذلك سليمان، فامتحن بسبب غفلته عن ذلك. وقيل إن سبب الفتنة
أنه تزوج سليمان امرأة يقال لها جرادة وكان يحبها حبا شديدا، فاختصم إليه فريقان: أحدهما من أهل جرادة، فأحب
432

أن يكون القضاء لهم، ثم قضى بينهم بالحق. وقيل إن السبب أنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام لا يقضي بين أحد.
وقيل إنه تزوج جرادة هذه وهي مشركة لأنه عرض عليها الإسلام فقالت: اقتلني ولا أسلم. وقال كعب الأحبار:
إنه لما ظلم الخيل بالقتل سلب ملكه. وقال الحسن: إنه قارب بعض نسائه في شئ من حيض أو غيره. وقيل إنه
أمر أن لا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل فتزوج امرأة من غيرهم. وقيل إن سبب فتنته ما ثبت في الحديث الصحيح
أنه قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يقاتل في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله. وقيل
غير ذلك. ثم بين سبحانه ما عاقبه به فقال (وألقينا على كرسيه جسدا) انتصاب جسدا على أنه مفعول ألقينا، وقيل
انتصابه على الحال على تأويله بالمشتق: أي ضعيفا أو فارغا، والأول أولى. قال أكثر المفسرين: هذا الجسد
الذي ألقاه الله على كرسي سليمان هو شيطان اسمه صخر، وكان متمردا عليه غير داخل في طاعته، ألقى الله شبه سليمان
عليه وما زال يحتال حتى ظفر بخاتم سليمان، وذلك عند دخول سليمان الكنيف لأنه كان يلقيه إذ دخل الكنيف،
فجاء صخر في صورة سليمان فأخذ الخاتم من امرأة من نساء سليمان، فقعد على سرير سليمان وأقام أربعين يوما على
ملكه وسليمان هارب. وقال مجاهد: إن شيطانا قال له سليمان: كيف تفتنون الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك،
فلما أعطاه إياه نبذه في البحر، فذهب ملكه وقعد الشيطان على كرسيه ومنعه الله نساء سليمان فلم يقربهن، وكان
سليمان يستطعم فيقول: أتعرفونني أطعموني؟ فيكذبوه حتى أعطته امرأة يوما حوتا فشق بطنه فوجد خاتمه في بطنه
فرجع إليه ملكه، وهو معنى قوله (ثم أناب) أي رجع إلى ملكه بعد أربعين يوما. وقيل معنى أناب: رجع إلى
الله بالتوبة من ذنبه، وهذا هو الصواب، وتكون جملة (قال رب اغفر لي) بدلا من جملة أناب وتفسيرا له:
أي اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله. ثم لما قدم التوبة والاستغفار جعلها وسيلة إلى إجابة
طلبته فقال (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) قال أبو عبيدة: معنى لا ينبغي لأحد من بعده: لا يكون
لأحد من بعدي، وقيل المعنى: لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته
وليس هذا من سؤال نبي الله سليمان عليه السلام للدنيا وملكها والشرف بين أهلها، بل المراد بسؤاله الملك أن يتمكن
به من إنفاذ أحكام الله سبحانه، والأخذ على يد المتمردين من عباده من الجن والإنس، ولو لم يكن من المقتضيات
لهذا السؤال منه إلا ما رآه عند قعود الشيطان على كرسيه من الأحكام الشيطانية الجارية في عباد الله، وجملة (إنك
أنت الوهاب) تعليل لما قبلها مما طلبه من مغفرة الله له وهبة الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده: أي فإنك كثير الهبات
عظيم الموهوبات. ثم ذكر سبحانه إجابته لدعوته وإعطاءه لمسألته فقال (فسخرنا له الريح) أي ذللناها له وجعلناها
منقادة لأمره. ثم بين كيفية التسخير لها بقوله (تجري بأمره رخاء) أي لينة الهبوب ليست بالعاصف، مأخوذ من
الرخاوة، والمعنى أنها ريح لينة لا تزعزع ولا تعصف مع قوة هبوبها وسرعة جريها، ولا ينافي هذا قوله في آية
أخرى - ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره - لأن المراد أنها في قوة العاصفة ولا تعصف. وقيل إنها كانت تارة
رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين (حيث أصاب) أي حيث
أراد. قال الزجاج: إجماع أهل اللغة والمفسرين أن معنى حيث أصاب: حيث أراد، وحقيقته حيث قعد. وقال
الأصمعي وابن الأعرابي: العرب تقول: أصاب الصواب وأخطأ الجواب. وقيل إن معنى أصاب بلغة حمير أراد
وليس من لغة العرب، وقيل هو بلسان هجر، والأول أولى، وهو مأخوذ من إصابة السهم للغرض (والشياطين)
معطوف على الريح: أي وسخرنا له الشياطين، وقوله (كل بناء وغواص) بدل من الشياطين: أي كل بناء
433

منهم وغواص منهم يبنون له ما يشاء من المباني، ويغوصون في البحر فيستخرجون له الدر منه، ومن هذا قول
الشاعر:
إلا سليمان إذ قال الجليل له * قم في البرية فأحددها عن الفند
وخبر الجن أني قد أذنت لهم * يبنون تذمر بالصفاح والعمد
(وآخرين مقرنين في الأصفاد) معطوف على كل داخل في حكم البدل، وهم مردة الشياطين سخروا له حتى
قرنهم في الأصفاد. يقال قرنهم في الحبال إذا كانوا جماعة كثيرة، والأصفاد: الأغلال واحدها صفد. قال
الزجاج: هي السلاسل، فكل ما شددته شدا وثيقا بالحديد وغيره فقد صفدته. قال أبو عبيدة: صفدت الرجل
فهو مصفود، وصفدته فهو مصفد، ومن هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته:
فآبوا بالنهاب وبالسبايا * وأبناء بالملوك مصفدينا
قال يحيى بن سلام: ولم يكن يفعل ذلك إلا بكفارهم، فإذا آمنوا أطلقهم ولم يسخرهم، والإشارة بقوله
" هذا " إلى ما تقدم من تسخير الريح والشياطين له، وهو بتقدير القول: أي وقلنا له (هذا عطاؤنا) الذي أعطيناكه
من الملك العظيم الذي طلبته (فامنن أو أمسك) قال الحسن والضحاك وغيرهما: أي فأعط من شئت وامنع من
شئت (بغير حساب) لا حساب عليك في ذلك الإعطاء أو الإمساك، أو عطاؤنا لك بغير حساب لكثرته وعظمته.
وقال قتادة: إن قوله (هذا عطاؤنا) إشارة إلى ما أعطيه من قوة الجماع، وهذا لا وجه لقصر الآية عليه لو قدرنا
أنه قد تقدم ذكره من جملة تلك المذكورات، فكيف يدعى اختصاص الآية به مع عدم ذكره (وإن له عندنا
لزلفى) أي قربة في الآخرة (وحسن مآب) وحسن مرجع، وهو الجنة.
وقد أخرج الفريابي والحكيم الترمذي والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله (ولقد فتنا سليمان وألقينا على
كرسيه جسدا) قال: هو الشيطان الذي كان على كرسيه يقضي بين الناس أربعين يوما، وكان لسليمان امرأة يقال
لها جرادة، وكان بين بعض أهلها وبين قوم خصومة، فقضى بينهم بالحق إلا أنه ود أن الحق كان لأهلها،
فأوحى الله إليه أن سيصيبك بلاء، فكان لا يدري أيأتيه من السماء أم من الأرض؟ وأخرج النسائي وابن جرير
وابن أبي حاتم قال السيوطي بسند قوى عن ابن عباس قال: أراد سليمان أن يدخل الخلاء فأعطى لجرادة خاتمه،
وكانت جرادة امرأته وكانت أحب نسائه إليه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأعطته،
فلما لبسه دانت له الإنس والجن والشياطين، فلما خرج سليمان من الخلاء قال هاتي خاتمي، قالت قد أعطيته
سليمان. قال أنا سليمان، قالت كذبت لست سليمان، فجعل لا يأتي أحدا يقول أنا سليمان إلا كذبه، حتى جعل الصبيان
يرمونه بالحجارة، فلما رأى ذلك عرف أنه من أمر الله، وقام الشيطان يحكم بين الناس، فلما أراد الله أن يرد
على سليمان سلطانه ألقى في قلوب الناس إنكار ذلك الشيطان، فأرسلوا إلى نساء سليمان فقالوا لهن: تنكرن من أمر
سليمان شيئا؟ قلن نعم إنه يأتينا ونحن نحيض، وما كان يأتينا قبل ذلك، فلما رأى الشيطان أنه قد فطن له ظن أن
أمره قد انقطع، فكتبوا كتبا فيها سحر وكفر فدفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أثاروها وقرأوها على الناس وقالوا
بهذا كان يظهر سليمان على الناس ويغلبهم فأكفر الناس سليمان فلم يزالوا يكفرونه، وبعث ذلك الشيطان بالخاتم
فطرحه في البحر فتلقته سمكة فأخذته، وكان سليمان يعمل على شط البحر بالأجر، فجاء رجل فاشترى سمكا فيه
تلك السمكة التي في بطنها الخاتم، فدعا سليمان فقال: تحمل لي هذا السمك؟ قال نعم، قال بكم، قال بسمكة
434

من هذا السمك، فحمل سليمان السمك ثم انطلق به إلى منزله، فلما انتهى الرجل إلى باب داره أعطاه تلك السمكة
التي في بطنها الخاتم، فأخذها سليمان فشق بطنها فإذا الخاتم في جوفها فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الجن
والإنس والشياطين وعاد إلى حاله وهرب الشيطان حتى لحق بجزيرة من جزائر البحر، فأرسل سليمان في طلبه،
وكان شيطانا مريدا، فجعلوا يطلبونه ولا يقدرون عليه حتى وجدوه يوما نائما فجاءوا فبنوا عليه بنيانا من رصاص
فاستيقظ فوثب، فجعل لا يثب في مكان من البيت إلا أنباط معه الرصاص فأخذوه فأوثقوه وجاءوا به إلى سليمان
فأمر به فنقر له تخت من رخام ثم أدخله في جوفه ثم شد بالنحاس ثم أمر به فطرح في البحر، فذلك قوله (ولقد
فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا) يعني الشيطان الذي كان سلط عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وألقينا على كرسيه جسدا) قال: صخر الجني تمثل على كرسيه على صورته. وأخرج
البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن عفريتا من الجن جعل
يتفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي وإن الله أمكنني منه، فلقد هممت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد
حتى تصبحوا فتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخي سليمان (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) فرده
الله خاسئا ". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (فامنن) يقول: أعتق من الجن من شئت
وأمسك منهم من شئت.
قوله (واذكر عبدنا أيوب) معطوف على قوله - واذكر عبدنا داود - وأيوب عطف بيان، و (إذ نادى
ربه) بدل اشتمال من عبدنا (أني مسني الشيطان) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه
به، ولو لم يحكه لقال إنه مسه. وقرأ عيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول. وفي ذكر قصة أيوب إرشاد لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم إلى الاقتداء به في الصبر على المكاره. قرأ الجمهور بضم النون من قوله (بنصب) وسكون
435

الصاد، فقيل هو جمع نصب بفتحتين نحو أسد وأسد، وقيل هو لغة في النصب، نحو رشد ورشد. وقرأ
أبو جعفر يزيد بن القعقاع وشيبة وحفص ونافع في رواية عنه بضمتين، ورويت هذه القراءة عن الحسن. وقرأ
أبو حيوة ويعقوب وحفص في رواية بفتح وسكون، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد، وإنما اختلفت القراءات
باختلاف اللغات. وقال أبو عبيدة: إن النصب بفتحتين: التعب والإعياء، وعلى بقية القراءات الشر والبلاء،
ومعنى قوله (وعذاب) أي ألم. قال قتادة ومقاتل: النصب في الجسد، والعذاب في المال. قال النحاس وفيه
بعد كذا قال. والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي وهو التعب والإعياء، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى
العذاب وهو الألم، وكلاهما راجع إلى البدن (اركض برجلك) هو بتقدير القول: أي قلنا له: اركض برجلك
كذا قال الكسائي: والركض الدفع بالرجل، يقال ركض الدابة برجله: إذا ضربها بها. وقال المبرد: الركض
التحريك. قال الأصمعي: يقال ركضت الدابة، ولا يقال ركضت هي، لأن الركض إنما هو تحريك راكبها
رجليه، ولا فعل لها في ذلك، وحكى سيبويه: ركضت الدابة فركضت، مثل جبرت العظم فجبر (هذا مغتسل
بارد وشراب) هذا أيضا من مقول القول المقدر: المغتسل هو الماء الذي يغتسل به، والشراب الذي يشرب منه.
وقيل إن المغتسل هو المكان الذي يغتسل فيه. قال قتادة: هما عينان بأرض الشام في أرض يقال لها الجابية فاغتسل
من إحداهما فأذهب الله ظاهر دائه، وشرب من الأخرى فأذهب الله باطن دائه، وكذا قال الحسن. وقال مقاتل:
نبعث عين جارية فاغتسل فيها فخرج صحيحا، ثم نبعث عين أخرى فشرب منها ماء عذبا باردا. وفي الكلام
حذف، والتقدير: فركض برجله فنبعت عين، فقلنا له هذا مغتسل الخ، وأسند المس إلى الشيطان مع أن الله
سبحانه هو الذي مسه بذلك: إما لكونه لما عمل بوسوسته عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب. فقد قيل إنه
أعجب بكثرة ماله، وقيل استغاثة مظلوم فلم يغثه، وقيل إنه قال ذلك على طريقة الأدب، وقيل إنه قال ذلك
لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه فرفضوه وأخرجوه من ديارهم، وقيل المراد به ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال
مرضه وابتلائه من تحسين الجزع وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك. وقوله (ووهبنا له أهله) معطوف
على مقدر كأنه قيل: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر ووهبنا له أهله. قيل أحياهم الله بعد أن أماتهم:
وقيل جمعهم بعد تفرقهم، وقيل غيرهم مثلهم، ثم زاده مثلهم معهم، وهو معنى قوله (ومثلهم معهم) فكانوا
مثل ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله (رحمة منا وذكرى لأولي الألباب) على أنه مفعول لأجله: أي
وهبنا هم له لأجل رحمتنا إياه، وليتذكر بحاله أولو الألباب فيصبروا على الشدائد كما صبر، وقد تقدم في سورة
الأنبياء تفسير هذه الآية مستوفى فلا نعيده (وخذ بيدك ضغثا) معطوف على اركض، أو على وهبنا. أو التقدير
وقلنا له (خذ بيدك ضغثا) والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها
بيابسها وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان وأصل المادة تدل على جمع المختلطات. قال الواحدي: الضغث
ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ (فاضرب به ولا تحنث) أي اضرب بذلك الضغث ولا تحنث
في يمينك، والحنث: الإثم، ويطلق على فعل ما حلف على تركه، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب
امرأته مائة جلدة.
واختلف في سبب ذلك، فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه من الخبز فخاف
خيانتها فحلف ليضربنها. وقال يحيى بن سلام وغيره: إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا
إليه، فإنه إذا فعل ذلك بريء، فحلف ليضربنها إن عوفي مائة جلدة. وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا
436

وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام، فلهذا حلف ليضربنها. وقيل جاءها إبليس في صورة طبيب فدعته لمداواة
أيوب، فقال أداويه على أنه إذا بريء قال أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه، قالت نعم، فأشارت على أيوب
بذلك فحلف ليضربنها.
وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك.
قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل
هذا الضرب المذكور في الآية، حكاه ابن المنذر عنه وعن أبي ثور وأصحاب الرأي. وقال عطاء: هو خاص
بأيوب ورواه ابن القاسم عن مالك. ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال (إنا وجدناه صابرا) أي على البلاء
الذي ابتليناه به، فإنه ابتلى بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وأهله وولده فصبر (نعم العبد) أي أيوب (إنه
أواب) أي رجاع إلى الله بالاستغفار والتوبة (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب) قرأ الجمهور " عبادنا "
بالجمع. وقرأ ابن عباس ومجاهد وحميد وابن محيصن وابن كثير " عبدنا " بالإفراد. فعلى قراءة الجمهور يكون إبراهيم
وإسحاق ويعقوب عطف بيان، وعلى القراءة الأخرى يكون إبراهيم عطف بيان، وما بعده عطف على عبدنا لا على
إبراهيم. وقد يقال لما كان المراد بعبدنا الجنس جاز إبدال الجماعة منه. وقيل إن إبراهيم وما بعده بدل، أو النصب
بإضمار أعني وعطف البيان أظهر، وقراءة الجمهور أبين وقد اختارها أبو عبيد وأبو حاتم (أولى الأيدي والأبصار)
الأيدي، جمع اليد التي بمعنى القوة والقدرة. قال قتادة: أعطوا قوة في العبادة ونصروا في الدين. قال الواحدي:
وبه قال مجاهد وسعيد بن جبير والمفسرون. قال النحاس: أما الأبصار فمتفق على أنها البصائر في الدين والعلم.
وأما الأيدي فمختلف في تأويلها، فأهل التفسير يقولون إنها القوة في الدين، وقوم يقولون: الأيدي جمع يد وهي
النعمة: أي هم أصحاب النعم: أي الذين أنعم الله عز وجل عليهم، وقيل هم أصحاب النعم على الناس والإحسان
إليهم، لأنهم قد أحسنوا وقدموا خيرا، واختار هذا ابن جرير. قرأ الجمهور " أولى الأيدي " بإثبات الياء في
الأيدي. وقرأ ابن مسعود والأعمش والحسن وعيسى " الأيد " بغير ياء، فقيل معناها معنى القراءة الأولى، وإنما
حذفت الياء لدلالة كسرة الدال عليها، وقيل الأيد: القوة، وجملة (إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) تعليل
لما وصفوا به. قرأ الجمهور " بخالصة " بالتنوين وعدم الإضافة على أنها مصدر بمعنى الإخلاص، فيكون ذكرى
منصوبا به، أو بمعنى الخلوص فيكون ذكرى مرفوعا به، أو يكون خالصة اسم فاعل على بابه، وذكرى بدل
منها أو بيان لها أو بإضمار أعني أو مرفوعة بإضمار مبتدأ، والدار يجوز أن تكون مفعولا به لذكرى وأن تكون
ظرفا: إما على الاتساع، أو على إسقاط الخافض، وعلى كل تقدير فخالصة صفة لموصوف محذوف والباء للسببية:
أي بسبب خصلة خالصة. وقرأ نافع وشيبة وأبو جعفر وهشام عن ابن عامر بإضافة خالصة إلى ذكرى على أن الإضافة
للبيان، لأن الخالصة تكون ذكرى وغير ذكرى، أو على أن خالصة مصدر مضاف إلى مفعوله والفاعل محذوف.
أي بأن أخلصوا ذكرى الدار، أو مصدر بمعنى الخلوص مضافا إلى فاعله. قال مجاهد: معنى الآية استصفيناهم
بذكر الآخرة فأخلصناهم بذكرها. وقال قتادة: كانوا يدعون إلى الآخرة وإلى الله. وقال السدي: أخلصوا
بخوف الآخرة. قال الواحدي: فمن قرأ بالتنوين في خالصة كان المعنى جعلناهم لنا خالصين بأن خلصت لهم ذكرى
الدار، والخالصة مصدر بمعنى الخلوص والذكرى بمعنى التذكر: أي خلص لهم تذكر الدار، وهو أنهم يذكرون
التأهب لها ويزهدون في الدنيا، وذلك من شأن الأنبياء. وأما من أضاف فالمعنى: أخلصنا لهم بأن خلصت لهم
ذكرى الدار، والخالصة مصدر مضاف إلى الفاعل، والذكرى على هذا المعنى الذكر (وإنهم عندنا لمن المصطفين
437

الأخبار) الاصطفاء: الاختيار، والأخيار جمع خير بالتشديد والتخفيف كأموات في جمع ميت مشددا ومخففا،
والمعنى: إنهم عندنا لمن المختارين من أبناء جنسهم من الأخيار (واذكر إسماعيل) قيل وجه إفراده بالذكر بعد
ذكر أبيه وأخيه وابن أخيه للإشعار بأنه عريق في الصبر الذي هو المقصود بالتذكير هنا (واليسع وذا الكفل) قد تقدم
ذكر اليسع، والكلام فيه في الأنعام، وتقدم ذكر ذا الكفل والكلام فيه في سورة الأنبياء، والمراد من ذكر
هؤلاء أنهم من جملة من صبر من الأنبياء وتحملوا الشدائد في دين الله. أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن
يذكرهم ليسلك مسلكهم في الصبر (وكل من الأخيار) يعني الذين اختارهم الله لنبوته واصطفاهم من خلقه (هذا
ذكر) الإشارة إلى ما تقدم من ذكر أوصافهم: أي هذا ذكر جميل في الدنيا وشرف يذكرون به أبدا (وإن
للمتقين لحسن مآب) أي لهم مع هذا الذكر الجميل حسن مآب في الآخرة، والمآب المرجع، والمعنى: أنهم يرجعون
في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنته. ثم بين حسن المرجع فقال (جنات عدن) قرأ الجمهور " جنات "
بالنصب بدلا من حسن مآب، سواء كان جنات عدن معرفة أو نكرة لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس،
ويجوز أن يكون جنات عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة وقد
جوزه بعضهم. ويجوز أن يكون نصب جنات بإضمار فعل. والعدن في الأصل الإقامة، يقال عدن بالمكان: إذا أقام فيه
وقيل هو اسم لقصر في الجنة، وقرئ برفع جنات على أنها مبتدأ. وخبرها مفتحة أو على أنها خبر مبتدأ محذوف:
أي هي جنات عدن، وقوله (مفتحة لهم الأبواب) حال من جنات، والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل،
والأبواب مرتفعة باسم المفعول: كقوله - وفتحت أبوابها - والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، أي منها،
أو الألف واللام لقيامه مقام الضمير، إذ الأصل أبوابها. وقيل إن ارتفاع الأبواب على البدل من الضمير في
مفتحة العائد على جنات، وبه قال أبو علي الفارسي: أي مفتحة هي الأبواب. قال الفراء: المعنى مفتحة
أبوابها، والعرب تجعل الألف واللام خلفا من الإضافة. وقال الزجاج: المعنى مفتحة لهم الأبواب منها. قال
الحسن: إن الأبواب يقال لها: انفتحي فتنفتح انغلقي فتنغلق، وقيل تفتح لهم الملائكة الأبواب، وانتصاب
(متكئين فيها) على الحال من ضمير لهم، والعامل فيه مفتحة، وقيل هو حال من (يدعون) قدمت على العامل
(فيها) أي يدعون في الجنات حال كونهم متكئين فيها (بفاكهة كثيرة) أي بألوان متنوعة متكثرة من الفواكه
(وشراب) كثير، فحذف كثيرا لدلالة الأول عليه، وعلى جعل " متكئين " حالا من ضمير لهم، والعامل فيه
مفتحة، فتكون جملة " يدعون " مستأنفة لبيان حالهم. وقيل إن يدعون في محل نصب على الحال من ضمير متكئين
(وعندهم قاصرات الطرف أتراب) أي قاصرات طرفهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، وقد مضى بيانه
في سورة الصافات. والأتراب: المتحدات في السن، أو المتساويات في الحسن. وقال مجاهد: معنى أتراب
أنهن متواخيات لا يتباغضن ولا يتغايرن. وقيل أترابا للأزواج. والأتراب جمع ترب، واشتقاقه من التراب لأنه
يمسهن في وقت واحد لاتحاد مولدهن (هذا ما توعدون ليوم الحساب) أي هذا الجزاء الذي وعدتم به لأجل
يوم الحساب، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء، أو المعنى في يوم الحساب. قرأ الجمهور " ما توعدون "
بالفوقية على الخطاب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن ويعقوب بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة
أبو عبيد وأبو حاتم لقوله " وإن للمتقين " فإنه خبر (إن هذا لرزقنا) أي إن هذا المذكور من النعم والكرامات
لرزقنا الذي أنعمنا به عليكم (ماله من نفاد) أي انقطاع ولا يفنى أبدا، ومثله قوله - عطاء غير مجذوذ - فنعم
الجنة لا تنقطع عن أهلها.
438

وقد أخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن الشيطان عرج إلى السماء،
فقال: يا رب سلطني على أيوب، قال الله: لقد سلطتك على ماله وولده ولم أسلطك على جسده، فنزل فجمع
جنوده، فقال لهم: قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء، فبينما هم في المشرق
إذا هم بالمغرب، وبينما هم بالمغرب إذا هم بالمشرق. فأرسل طائفة منهم إلى زرعه، وطائفة إلى أهله، وطائفة إلى
بقره، وطائفة إلى غنمه وقال: إنه لا يعتصم منكم إلا بالمعروف، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض، فجاء صاحب
الزرع فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على زرعك نارا فأحرقته؟ ثم جاء صاحب الإبل، فقال: يا أيوب
ألم تر إلى ربك أرسل إلى إبلك عدوا فذهب بها؟ ثم جاء صاحب البقر فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل إلى
بقرك عدوا فذهب بها؟ ثم جاءه صاحب الغنم فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك أرسل على غنمك عدوا فذهب بها؟
وتفرد هو لبنيه فجمعهم في بيت أكبرهم، فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته
عليهم، فجاء الشيطان إلى أيوب بصورة غلام بأذنيه قرطان فقال: يا أيوب ألم تر إلى ربك جمع بنيك في بيت أكبرهم
فبينما هم يأكلون ويشربون إذ هبت ريح فأخذت بأركان البيت فألقته عليهم، فلو رأيتهم حين اختلطت دماؤهم ولحومهم
بطعامهم وشرابهم؟ فقال له أيوب: فأين كنت؟ قال: كنت معهم، قال: فكيف انفلت؟ قال: انفلت، قال أيوب:
أنت الشيطان، ثم قال أيوب أنا اليوم كيوم ولدتني أمي، فقام فحلق رأسه وقام يصلي، فرن إبليس رنة سمعها
أهل السماء وأهل الأرض، ثم عرج إلى السماء فقال: أي رب إنه قد اعتصم فسلطني عليه فإني لا أستطيعه إلا
بسلطانك، قال: قد سلطتك على جسده ولم أسلطك على قلبه، فنزل فنفخ تحت قدمه نفخة قرح ما بين قدمه إلى
قرنه، فصار قرحة واحدة وألقى على الرماد حتى بدا حجاب قلبه، فكانت امرأته تسعي عليه، حتى قالت له:
ألا ترى يا أيوب قد نزل والله بي من الجهد والفاقة ما إن بعت قروني برغيف فأطعمتك فادع الله أن يشفيك ويريحك
قال: ويحك كنا في النعيم سبعين عاما فاصبري حتى نكون في الضراء سبعين عاما، فكان في البلاء سبع سنين ودعا
فجاء جبريل يوما فدعا بيده، ثم قال قم، فقام فنحاه عن مكانه وقال: اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب
فركض برجله فنبعت عين، فقال اغتسل، فاغتسل منها، ثم جاء أيضا فقال: اركض برجلك فنبعت عين أخرى
فقال له اشرب منها، وهو قوله (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) وألبسه الله حلة من الجنة، فتنحى
أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه، فقالت: يا عبد الله أين المبتلى الذي كان ها هنا؟ لعل الكلاب
قد ذهبت به أو الذئاب وجعلت تكلمه ساعة، فقال: ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي، ورد عليه ماله
وولده عيانا ومثلهم معهم، وأمطر عليه جرادا من ذهب، فجعل يأخذ الجراد بيده ثم يجعله في ثوبه وينشر كساءه
ويأخذه فيجعل فيه، فأوحى الله إليه يا أيوب أما شبعت؟ قال: يا رب من ذا الذي يشبع من فضلك ورحمتك.
وفي هذا نكارة شديدة، فإن الله سبحانه لا يمكن الشيطان من نبي من أنبيائه ويسلط عليه هذا التسليط العظيم.
وأخرج أحمد في الزهد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن إبليس قعد على الطريق
وأخذ تابوتا يداوي الناس، فقالت امرأة أيوب: يا عبد الله إن ها هنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه
قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره. فأتت أيوب فذكرت له ذلك، فقال:
ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به،
فأخذ عذقا فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه في قوله (وخذ
بيدك ضغثا) قال: هو الأسل. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال: الضغث القبضة من المرعى الرطب. وأخرج ابن
439

جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا قال: الضغث الحزمة. وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر
من طريق أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: " حملت وليدة في بني ساعدة من زنا، فقيل لها ممن حملك؟ قالت
من فلان المقعد، فسئل المقعد فقال صدقت، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خذوا
عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة واحدة ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والطبراني وابن عساكر
نحوه من طريق أخرى عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد بن سعد بن عبادة. وأخرج الطبراني عن سهل بن
سعد نحوه. وأخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أيوب رأس الصابرين يوم القيامة. وأخرج ابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (أولي الأيدي) قال: القوة في العبادة (والأبصار) قال: الفقه
في الدين. وأخرج ابن أبي حاتم عنه (أولي الأيدي) قال: النعمة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (إنا
أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار) قال: أخلصوا بذكر دار الآخرة أن يعملوا لها.
قوله (هذا) قال الزجاج: هذا خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر هذا فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري:
وهذا وقف حسن ثم يبتدئ (وإن للطاغين) ويجوز أن يكون هذا مبتدأ وخبره محذوف: أي هذا كما ذكر، أو
هذا ذكر. ثم ذكر سبحانه ما لأهل الشر بعد أن ذكر ما لأهل الخير فقال (وإن للطاغين لشر مآب) أي الذين
طغوا على الله وكذبوا رسله " لشر مآب " لشر منقلب ينقلبون إليه، ثم بين ذلك فقال (جهنم يصلونها) وانتصاب جهنم
على أنها بدل من شر مآب، أو منصوبة بأعني، ويجوز أن يكون عطف بيان على قول البعض كما سلف قريبا،
ويجوز أن يكون منصوبا على الاشتغال: أي يصلون جهنم يصلونها، ومعنى يصلونها يدخلونها، وهو في محل
نصب على الحالية (فبئس المهاد) أي بئس ما مهدوا لأنفسهم، وهو الفراش، مأخوذ من مهد الصبي، ويجوز أن
يكون المراد بالمهد الموضع، والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس المهاد هي كما في قوله - لهم من جهنم مهاد - شبه
440

الله سبحانه ما تحتهم من نار جهنم بالمهاد (هذا فليذوقوه حميم وغساق) هذا في موضع رفع بالابتداء وخبره حميم
وغساق على التقديم والتأخير: أي هذا حميم وغساق فليذوقوه. قال الفراء والزجاج: تقدير الآية: هذا حميم
وغساق فليذوقوه: أو يقال لهم في ذلك اليوم هذه المقالة. والحميم الماء الحار الذي قد انتهى حره، والغساق
ما سال من جلود أهل النار من القيح والصديد، من قولهم غسقت عينه إذا انصبت، والغسقان الانصباب.
قال النحاس: ويجوز أن يكون المعنى الأمر هذا، وارتفاع حميم وغساق على أنهما خبران لمبتدأ محذوف: أي هو
حميم وغساق، ويجوز أن يكون هذا في موضع نصب بإضمار فعل يفسره ما بعده: أي ليذوقوا هذا فليذوقوه،
ويجوز أن يكون حميم مرتفع على الابتداء وخبره مقدر قبله: أي منه حميم ومنه غساق، ومثله قول الشاعر:
حتى ما إذا أضاء البرق في غلس * وغودر البقل ملوي ومخضود
أي منه ملوي ومنه مخضود، وقيل الغساق ما قتل ببرده، ومنه قيل لليل غاسق، لأنه أبرد من النهار، وقيل هو
الزمهرير، وقيل الغساق المنتن، وقيل الغساق عين في جهنم يسيل منه كل ذوب حية وعقرب. وقال قتادة: هو
ما يسيل من فروج النساء الزواني ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم. وقال محمد بن كعب: هو عصارة أهل النار.
وقال السدي: الغساق الذي يسيل من دموع أهل النار يسقونه مع الحميم، وكذا قال ابن زيد. وقال مجاهد
ومقاتل: هو الثلج البارد الذي قد انتهى برده، وتفسير الغساق بالبارد أنسب بما تقتضيه لغة العرب، ومنه
قول الشاعر:
إذا ما تذكرت الحياة وطيبها * إلي جرى دمع من الليل غاسق
أي بارد، وأنسب أيضا بمقابلة الحميم. وقرأ أهل المدينة وأهل البصرة وبعض الكوفيين بتخفيف السين من " غساق "
وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بالتشديد، وهما لغتان بمعنى واحد كما قال الأخفش. وقيل معناهما مختلف.
فمن خفف فهو اسم مثل عذاب وجواب وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة نحو ضراب وقتال
(وآخر من شكله) قرأ الجمهور " وآخر " مفرد مذكر، وقرأ أبو عمرو " وأخر " بضم الهمزة على أنه جمع،
وأنكر قراءة الجمهور لقوله أزواج، وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبى عمرو وقال: لو كانت كما قرأ لقال من
شكلها، وارتفاع آخر على أنه مبتدأ وخبره أزواج، ويجوز أن يكون من شكله خبرا مقدما وأزواج مبتدأ مؤخرا
والجملة خبر آخر، ويجوز أن يكون خبرا آخر مقدرا: أي وآخر لهم، و (من شكله أزواج) جملة مستقلة، ومعنى
الآية على قراءة الجمهور: وعذاب آخر أو مذوق آخر، أو نوع آخر من شكل العذاب أو المذوق أو النوع
الأول والشكل المثل، وعلى القراءة الثانية يكون معنى الآية: ومذوقات أخر، أو أنواع أخر من شكل ذلك المذوق
أو النوع المتقدم. وإفراد الضمير في شكله على تأويل المذكور: أي من شكل المذكور، ومعنى (أزواج)
أجناس وأنواع وأشباه. وحاصل معنى الآية: أن لأهل النار حميما وغساقا وأنواعا من العذاب من مثل الحميم
والغساق. قال الواحدي: قال المفسرون: هو الزمهرير، ولا يتم هذا الذي حكاه عن المفسرين إلا على تقدير أن
الزمهرير أنواع مختلفة وأجناس متفاوتة ليطابق معنى أزواج، أو على تقدير أن لكل فرد من أهل النار زمهريرا
(هذا فوج مقتحم معكم) الفوج الجماعة، والاقتحام الدخول، وهذا حكاية لقول الملائكة الذين هم خزنة النار
وذلك أن القادة والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع. قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون الأتباع
" مقتحم معكم ": أي داخل معكم إلى النار، وقوله (لا مرحبا بهم) من قول القادة والرؤساء لما قالت لهم الخزنة ذلك
قالوا لا مرحبا بهم: أي لا اتسعت منازلهم في النار، والرحب السعة، والمعنى: لا كرامة لهم، وهذا إخبار من الله
441

سبحانه بانقطاع المودة بين الكفار، وأن المودة التي كانت بينهم تصير عداوة. وجملة لا مرحبا بهم دعائية لا محل لها
من الإعراب، أو صفة للفوج، أو حال منه أو بتقدير القول: أي مقولا في حقهم لا مرحبا بهم، وقيل إنها
من تمام قول الخزنة. والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي، وجملة (إنهم صالوا النار) تعليل من جهة
القائلين لا مرحبا بهم: أي إنهم صالوا النار كما صليناها ومستحقون لها كما استحقيناها. وجملة (قالوا بل أنتم لا مرحبا
بكم) مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي قال الأتباع عند سماع ما قاله الرؤساء لهم بل أنتم لا مرحبا بكم: أي
لا كرامة لكم، ثم عللوا ذلك بقولهم (أنتم قدمتموه لنا) أي أنتم قدمتم العذاب أو الصلي لنا وأوقعتمونا فيه ودعوتمونا
إليه بما كنتم تقولون لنا من أن الحق ما أنتم عليه وأن الأنبياء غير صادقين فيما جاءوا به (بئس القرار) أي بئس المقر
جهنم لنا ولكم. ثم حكى عن الأتباع أيضا أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر، وهو (قالوا ربنا من قدم لنا هذا
فزده عذابا ضعفا في النار) أي زده عذابا ذا ضعف، والضعف بأن يزيد عليه مثله، ومعنى من قدم لنا هذا
من دعانا إليه وسوغه لنا. قال الفراء: المعنى من سوغ لنا هذا وسنه، وقيل معناه: قدم لنا هذا العذاب بدعائه
إيانا إلى الكفر فزده عذابا ضعفا في النار: أي عذابا بكفره وعذابا بدعائه إيانا، فصار ذلك ضعفا، ومثله قوله
سبحانه - ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار - وقوله - ربنا آتهم ضعفين من العذاب - وقيل المراد
بالضعف هنا الحيات والعقارب (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار) قيل هو من قول الرؤساء،
وقيل من قول الطاغين المذكورين سابقا. قال الكلبي: ينظرون في النار فلا يرون من كان يخالفهم من المؤمنين
معهم فيها، فعند ذلك قالوا: ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار. وقيل يعنون فقراء المؤمنين كعمار وخباب
وصهيب وبلال وسالم وسلمان. وقيل أرادوا أصحاب محمد على العموم (اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار)
قال مجاهد: المعنى اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا أم زاغت عنهم الأبصار فلم نعلم مكانهم؟ والإنكار المفهوم
من الاستفهام متوجه إلى كل واحد من الأمرين. قال الحسن: كل ذلك قد فعلوا: اتخذوهم سخريا، وزاغت عنهم
أبصارهم. قال الفراء: والاستفهام هنا بمعنى التوبيخ والتعجب. قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن كثير
والأعمش بحذف همزة اتخذناهم في الوصل، وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خبرا محضا، وتكون الجملة
في محل نصب صفة ثانية لرجالا، وأن يكون المراد الاستفهام، وحذفت أداته لدلالة أم عليها، فتكون أم على
الوجه الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة: أي بل أزاغت عنهم الأبصار على معنى توبيخ أنفسهم على الاستسخار،
ثم الإضراب والانتقال منه إلى التوبيخ على الازدراء والتحقير، وعلى الثاني أم هي المتصلة. وقرأ الباقون بهمزة
استفهام سقطت لأجلها همزة الوصل، ولا محل للجملة حينئذ وفيه التوبيخ لأنفسهم على الأمرين جميعا لأن أم على
هذه القراءة هي للتسوية. وقرأ أبو جعفر ونافع وشيبة والمفضل وهبيرة ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
(سخريا) بضم السين، وقرأ الباقون بكسرها. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخير
والإشارة بقوله (إن ذلك) إلى ما تقدم من حكاية حالهم، وخبر إن قوله (لحق) أي لواقع ثابت في الدار
الآخرة لا يتخلف البتة، و (تخاصم أهل النار) خبر مبتدأ محذوف، والجملة بيان لذلك، وقيل بيان لحق، وقيل
بدل منه، وقيل بدل من محل ذلك، ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور برفع تخاصم.
والمعنى: إن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق لا بد أن يتكلموا به، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء
442

للأتباع، وما قالته الأتباع لهم. وقرأ ابن أبي عبلة بنصب " تخاصم " على أنه بدل من ذلك أو بإضمار أعني. وقرأ
ابن السميفع " تخاصم " بصيغة الفعل الماضي فتكون جملة مستأنفة. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
أن يقول قولا جامعا بين التخويف والإرشاد إلى التوحيد فقال (قل إنما أنا منذر) أي مخوف لكم من عقاب الله
وعذابه (وما من إله) يستحق العبادة (إلا الله الواحد) الذي لا شريك له (القهار) لكل شئ سواه (رب السماوات
والأرض وما بينهما) من المخلوقات (العزيز) الذي لا يغالبه مغالب (الغفار) لمن أطاعه. وقيل معنى " العزيز "
المنيع الذي لا مثل له، ومعنى " الغفار " الستار لذنوب خلقه. ثم أمره سبحانه أن يبالغ في إنذارهم ويبين لهم عظم
الأمر وجلالته فقال (قل هو نبأ عظيم) أي ما أنذرتكم به من العقاب وما بينته لكم من التوحيد هو خبر عظيم
ونبأ جليل، من شأنه العناية به والتعظيم له وعدم الاستخفاف به، ومثل هذه الآية قوله - عم يتساءلون عن النبأ
العظيم -. وقال مجاهد وقتادة ومقاتل: هو القرآن، فإنه نبأ عظيم لأنه كلام الله. قال الزجاج: قل النبأ الذي
أنبأتكم به عن الله نبأ عظيم: يعني ما أنبأهم به من قصص الأولين، وذلك دليل على صدقه ونبوته لأنه لم يعلم ذلك
إلا بوحي من الله، وجملة (أنتم عنه معرضون) توبيخ لهم وتقريع لكونهم أعرضوا عنه ولم يتفكروا فيه فيعلموا
صدقه ويستدلوا به على ما أنكروه من البعث، وقوله (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى) استئناف مسوق لتقرير
أنه نبأ عظيم، والملأ الأعلى هم الملائكة (إذ يختصمون) أي وقت اختصامهم، فقوله (بالملأ الأعلى) متعلق بعلم
على تضمينه معنى الإحاطة، وقوله " إذ يختصمون " متعلق بمحذوف: أي ما كان لي فيما سبق علم بوجه من الوجوه
بحال الملأ الأعلى وقت اختصامهم، والضمير في يختصمون راجع إلى الملأ الأعلى، والخصومة الكائنة بينهم
هي في أمر آدم كما يفيده ما سيأتي قريبا، وجملة (إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين) معترضة بين اختصامهم
المجمل وبين تفصيله بقوله (إذ قال ربك للملائكة) والمعنى: ما يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين. قال الفراء:
المعنى ما يوحى إلي إلا أنني نذير مبين أبين لكم ما تأتون من الفرائض والسنن وما تدعون من الحرام والمعصية.
قال: كأنك قلت ما يوحى إلي إلا الإنذار. قال النحاس: ويجوز أن تكون في محل نصب بمعنى ما يوحى إلي
إلا لأنما أنا نذير مبين. قرأ الجمهور بفتح همزة أنما على أنها وما في حيزها في محل رفع لقيامها مقام الفاعل: أي
ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيرا مبينا، أو في محل نصب، أو جر بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام
الفاعل على هذا الجار والمجرور. وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة لأن في الوحي معنى القول، وهي القائمة مقام
الفاعل على سبيل الحكاية، كأنه قيل ما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار، وهو أن أقول لكم إنما
أنا نذير مبين. وقيل إن الضمير في يختصمون عائد إلى قريش، يعني قول من قال منهم: الملائكة بنات الله،
والمعنى: ما كان لي علم بالملائكة إذ تختصم فيهم قريش، والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (وغساق) قال: الزمهرير (وآخر من شكله)
قال: من نحوه (أزواج) قال: ألوان من العذاب. وأخرج أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لو
أن دلوا من غساق يهرق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " قال الترمذي بعد إخراجه: لا نعرفه إلا من حديث رشدين
ابن سعد. قلت: ورشدين فيه مقال معروف. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن مسعود في قوله
(فزده عذابا ضعفا في النار) قال: أفاعي وحيات. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(بالملأ الأعلى) قال: الملائكة حين شوروا الذي في خلق آدم فاختصموا فيه، وقالوا: لا تجعل في الأرض خليفة.
443

وأخرج محمد بن نصر في كتاب الصلاة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ
يختصمون) قال: هي الخصومة في شأن آدم حيث قالوا - أتجعل فيها من يفسد فيها -. وأخرج عبد الرزاق وأحمد
وعبد بن حميد والترمذي وحسنه وابن نصر في كتاب الصلاة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " أتاني
الليلة ربي في أحسن صورة، أحسبه قال في المنام، قال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت لا،
فوضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي أو في نحري، فعلمت ما في السماوات والأرض، ثم قال لي:
يا محمد هل تدرى فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت نعم في الكفارات والكفارات: المكث في المساجد بعد الصلوات،
والمشي على الأقدام إلى الجماعات، وإبلاغ الوضوء في المكاره " الحديث. وأخرج الترمذي وصححه ومحمد
ابن نصر والطبراني والحاكم وابن مردويه من حديث معاذ بن جبل نحوه بأطول منه، وقال " وإسباغ الوضوء
في السبرات ". وأخرج الطبراني وابن مردويه من حديث جابر بن سمرة نحوه بأخصر منه. وأخرجا أيضا من
حديث أبي هريرة نحوه، وفي الباب أحاديث.
لما ذكر سبحانه خصومة الملائكة إجمالا فيما تقدم ذكرها هنا تفصيلا، فقال (إذ قال ربك للملائكة)
إذ هذه هي بدل من - إذ يختصمون - لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة. وقيل: هي منصوبة بإضمار أذكر
والأول أولى إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يستخلف في الأرض. وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم
ذكره فالثاني أولى (إني خالق بشرا من طين) أي خالق فيما سيأتي من الزمن " بشرا ": أي جسما من جنس البشر
مأخوذ من مباشرته للأرض، أو من كونه بادي البشرة. وقوله (من طين) متعلق بمحذوف هو صفة لبشر أو بخالق
ومعنى (فإذا سويته) صورته على صورة البشر وصارت أجزاؤه مستوية (ونفخت فيه من روحي) أي من الروح
الذي أملكه ولا يملكه غيري. وقيل هو تمثيل، ولا نفخ ولا منفوخ فيه. والمراد جعله حيا بعد أن كان جمادا لا حياة
444

فيه. وقد مر الكلام في هذا في سورة النساء (فقعوا له ساجدين) هو أمر من وقع يقع، وانتصاب ساجدين على
الحال، والسجود هنا هو سجود التحية لا سجود العبادة، وقد مضى تحقيقه في سورة البقرة (فسجد الملائكة) في الكلام
حذف تدل عليه الفاء والتقدير: فخلقه فسواه ونفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة. وقوله (كلهم) يفيد أنهم
سجدوا جميعا ولم يبق منهم أحد. وقوله (أجمعون) يفيد أنهم اجتمعوا على السجود في وقت واحد: فالأول لقصد
الإحاطة، والثاني لقصد الاجتماع. قال في الكشاف: فأفادا معا أنهم سجدوا عن آخرهم ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم
سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرقين في أوقات. وقيل إنه أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم (إلا إبليس)
الاستثناء متصل على تقدير أنه كان متصفا بصفات الملائكة داخلا في عدادهم فغلبوا عليه، أو منقطع على ما هو
الظاهر من عدم دخوله فيهم: أي لكن إبليس (استكبر) أي أنف من السجود جهلا منه بأنه طاعة لله، (و) كان
استكباره استكبار كفر، فلذلك (كان من الكافرين) أي صار منهم بمخالفته لأمر الله واستكباره عن طاعته،
أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في سورة البقرة والأعراف وبني إسرائيل
والكهف وطه. ثم إن الله سبحانه سأله عن سبب تركه للسجود الذي أمره به ف (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما
خلقت بيدي) أي ما صرفك وصدك عن السجود لما توليت خلقه من غير واسطة، وأضاف خلقه إلى نفسه
تكريما له وتشريفا، مع أنه سبحانه خالق كل شئ كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، والمساجد.
قال مجاهد: اليد هنا بمعنى التأكيد والصلة مجازا كقوله - ويبقى وجه ربك -. وقيل أراد باليد القدرة، يقال:
ما لي بهذا الأمر يد، وما لي به يدان: أي قدرة، ومنه قول الشاعر:
تحملت من ذلفاء ما ليس لي يد * ولا للجبال الراسيات يدان
وقيل التثنية في اليد للدلالة على أنها ليس بمعنى القوة والقدرة، بل للدلالة على أنهما صفتان من صفات ذاته
سبحانه، و " ما " في قوله " لما خلقت " هي المصدرية أو الموصولة. وقرأ الجحدري " لما " بالتشديد مع فتح اللام
على أنها ظرف بمعنى حين كما قال أبو علي الفارسي. وقرئ " بيدي " على الإفراد (استكبرت) قرأ الجمهور
بهمزة الاستفهام، وهو استفهام توبيخ وتقريع، و (أم) متصلة. وقرأ ابن كثير في رواية عنه وأهل مكة
بألف وصل، ويجوز أن يكون الاستفهام مراد فيوافق القراءة الأولى كما في قول الشاعر:
* تروح من الحي أم تبتكر * وقول الآخر * بسبع رمين الجمر أم بثمانيا * ويحتمل أن يكون خبرا
محضا من غير إرادة للاستفهام فتكون " أم " منقطعة، والمعنى: استكبرت عن السجود الذي أمرت به بل أ (كنت
من العالين) أي المستحقين للترفع عن طاعة أمر الله المتعالين عن ذلك، وقيل المعنى: استكبرت عن السجود
الآن أم لم تزل من القوم الذين يتكبرون عن ذلك، وجملة (قال أنا خير منه) مستأنفة جواب سؤال مقدر،
ادعى اللعين لنفسه أنه خير من آدم، وفي ضمن كلامه هذا أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن. ثم علل ما ادعاه
من كونه خيرا منه بقوله (خلقتني من نار وخلقته من طين) وفي زعمه أن عنصر النار أشرف من عنصر الطين،
وذهب عنه أن النار إنما هي بمنزلة الخادم لعنصر عمر الطين إن احتيج إليها استدعيت كما يستدعى الخادم وإن استغنى
عنها طردت، وأيضا فالطين يستولي على النار فيطفئها، وأيضا فهي لا توجد إلا بما أصله من عنصر الأرض،
وعلى كل حال فقد شرف آدم بشرف وكرم بكرامة لا يوازيها شئ من شرف العناصر، وذلك أن الله خلقه بيديه
ونفخ فيه من روحه، والجواهر في أنفسها متجانسة، وإنما تشرف بعارض من عوارضها، وجملة (قال فأخرج
منها) مستأنفة كالتي قبلها: أي فأخرج من الجنة أو من زمرة الملائكة، ثم علل أمره بالخروج بقوله (فإنك رجيم)
445

أي مرجوم بالكواكب مطرود من كل خير (وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين) أي طردي لك عن الرحمة وإبعادي
لك منها، ويوم الدين يوم الجزاء، فأخبر سبحانه وتعالى أن تلك اللعنة مستمرة له دائمة عليه ما دامت الدنيا، ثم في
الآخرة يلقى من أنواع عذاب الله وعقوبته وسخطه ما هو به حقيق، وليس المراد أن اللعنة تزول عنه في الآخرة، بل
هو ملعون أبدا، ولكن لما كان له في الآخرة ما ينسى عنده اللعنة ويذهل عند الوقوع فيه منها صارت كأنها لم تكن
بجنب ما يكون فيه، وجملة (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون) مستأنفة كما تقدم فيما قبلها: أي أمهلني ولا تعاجلني
إلى غاية هي يوم يبعثون: يعني آدم وذريته (قال فإنك من المنظرين) أي الممهلين (إلى يوم الوقت المعلوم) الذي
قدره الله لفناء الخلائق، وهو عند النفخة الآخرة، وقيل هو النفخة الأولى. قيل إنما طلب إبليس الإنظار إلى
يوم البعث ليتخلص من الموت، لأنه إذا أنظر إلى يوم البعث لم يمت قبل البعث، وعند مجيء البعث لا يموت،
فحينئذ يتخلص من الموت. فأجيب بما يبطل مراده، وينقض عليه مقصده، وهو الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم
وهو الذي يعلمه الله ولا يعلمه غيره، فلما سمع اللعين إنظار الله له إلى ذلك الوقت (قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين)
فأقسم بعزة الله أنه يضل بني آدم بتزيين الشهوات لهم، وإدخال الشبه عليهم حتى يصيروا غاوين جميعا. ثم لما
علم أن كيده لا ينجع إلا في أتباعه وأحزابه من أهل الكفر والمعاصي، استثنى من لا يقدر على إضلاله ولا يجد
السبيل إلى إغوائه فقال (إلا عبادك منهم المخلصين) أي الذين أخلصتهم لطاعتك وعصمتهم من الشيطان الرجيم
وقد تقدم تفسير هذه الآيات في سورة الحجر وغيرها. وقد أقسم ها هنا بعزة الله، وأقسم في موضع آخر بقوله
- فبما أغويتني - ولا تنافي بين القسمين فإن إغواءه إياه من آثار عزته سبحانه وجملة (قال فالحق والحق أقول) مستأنفة
كالجمل التي قبلها. قرأ الجمهور بنصب الحق في الموضعين على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب،
أو هما منصوبان على الإغراء: أي الزموا الحق، أو مصدران مؤكدان لمضمون قوله (لأملأن جهنم) وقرأ ابن
عباس ومجاهد والأعمش وعاصم وحمزة برفع الأول ونصب الثاني، فرفع الأول على أنه مبتدأ وخبره مقدر:
أي فالحق مني، أو فالحق أنا، أو خبره لأملأن، أو هو خبر مبتدأ محذوف، وأما نصب الثاني فبالفعل المذكور
بعده: أي وأنا أقول الحق، وأجاز الفراء وأبو عبيد أن يكون منصوبا بمعنى حقا لأملأن جهنم. واعترض عليهما
بأن ما بعد اللام مقطوع عما قبلها. وروي عن سيبويه والفراء أيضا أن المعنى: فالحق أن إملاء جهنم. وروي عن
ابن عباس ومجاهد أنهما قرآ برفعها، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء، وخبره الجملة المذكورة
بعده، والعائد محذوف. وقرأ ابن السميفع وطلحة بن مصرف بخفضهما على تقدير حرف القسم. قال الفراء: كما
يقول الله عز وجل لأفعلن كذا، وغلطه أبو العباس ثعلب وقال: لا يجوز الخفض بحرف مضمر، وجملة
(لأملأن جهنم) جواب القسم على قراءة الجمهور، وجملة (والحق أقول) معترضة بين القسم وجوابه، ومعنى
(منك) أي من جنسك من الشياطين (وممن تبعك منهم) أي من ذرية آدم فأطاعوك إذ دعوتهم إلى الضلال والغواية
و (أجمعين) تأكيد للمعطوف والمعطوف عليه: أي لأملأنها من الشياطين وأتباعهم أجمعين. ثم أمر الله سبحانه
رسوله أن يخبرهم بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله امتثال أمره لا عرض الدنيا الزائل، فقال (قل ما أسألكم عليه من
أجر) والضمير في عليه راجع إلى تبليغ الوحي ولم يتقدم له ذكر، ولكنه مفهوم من السياق. وقيل هو عائد إلى
ما تقدم من قوله - أأنزل عنه عليه الذكر من بيننا - وقيل الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى الدعاء إلى الله على
العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي ومن قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى ما أطلب منكم من
جعل تعطونيه عليه (وما أنا من المتكلفين) حتى أقول ما لا أعلم إذ أدعوكم إلى غير ما أمرني الله بالدعوة إليه،
446

والتكلف: التصنع (إن هو إلا ذكر للعالمين) أي ما هذا القرآن، أو الوحي، أو ما أدعوكم إليه إلا ذكر
من الله عز وجل للجن والإنس. قال الأعمش: ما القرآن إلا موعظة للخلق أجمعين (ولتعلمن) أيها الكفار
(نبأه) أي ما أنبأ عنه، وأخبر به من الدعاء إلى الله وتوحيده، والترغيب إلى الجنة، والتحذير من النار (بعد
حين) قال قتادة والزجاج والفراء: بعد الموت. وقال عكرمة وابن زيد: يوم القيامة. وقال الكلبي: من بقي
علم ذلك لما أظهر أمره وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال السدي وذلك يوم بدر.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (إذ يختصمون) أن الخصومة هي (إذ قال ربك) الخ. وأخرج ابن
جرير وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عمر قال: خلق الله أربعا بيده: العرش، وجنة عدن، والقلم، وآدم.
وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الأسماء والصفات عن عبد الله بن الحارث
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " خلق الله ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده،
وغرس الفردوس بيده " وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (فالحق
والحق أقول) قال: أنا الحق أقول الحق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (قل ما أسألكم عليه من
أجر) قال: قل يا محمد (ما أسألكم عليه) ما أدعوكم إليه (من أجر) عرض دنيا. وفي البخاري ومسلم وغيرهما
عن مسروق قال بينما رجل يحدث في المسجد، فقال فيما يقول - يوم تأتي السماء بدخان مبين - قال: دخان يكون
يوم القيامة يأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم، ويأخذ المؤمنين كهيئة الزكام، قال: قمنا حتى دخلنا على عبد الله
وهو في بيته وكان متكئا فاستوى قاعدا فقال: يا أيها الناس من علم منكم علما فليقل به، ومن لم يعلم فليقل الله
أعلم. فإن من العلم أن يقول العالم لما لا يعلم الله أعلم، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم (قل ما أسألكم
عليه من أجر وما أنا من المتكلفين). وأخرج البخاري عن عمر قال: نهينا عن التكلف. وأخرج الطبراني والحاكم
والبيهقي عن سلمان قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نتكلف للضيف.
تفسير سورة الزمر
هي اثنتان وسبعون آية، وقيل خمس وسبعون
وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر بن زيد. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل
عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر سوى
ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الثلاث الآيات. وقال
آخرون: إلى سبع آيات من قوله (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) إلى آخر السبع. وأخرج النسائي عن
عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول
ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر " وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: " كان رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل ".
447

قوله (تنزيل الكتاب) ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف هو اسم إشارة: أي هذا تنزيل. وقال أبو حيان:
إن المبتدأ المقدر لفظ هو ليعود على قوله - إن هو إلا ذكر للعالمين -، كأنه قيل: وهذا الذكر ما هو؟ فقيل
هو تنزيل الكتاب، وقيل ارتفاعه على أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده: أي تنزيل كائن من الله، وإلى هذا
ذهب الزجاج والفراء. قال الفراء: ويجوز أن يكون مرفوعا بمعنى هذا تنزيل، وأجاز الفراء والكسائي النصب
على أنه مفعول به لفعل مقدر: أي اتبعوا أو اقرؤا تنزيل الكتاب. وقال الفراء: يجوز نصبه على الإغراء: أي
الزموا، والكتاب هو القرآن، وقوله (من الله العزيز الحكيم) على الوجه الأول صلة للتنزيل، أو خبر بعد خبر،
أو خبر مبتدأ محذوف، أو متعلق بمحذوف على أنه حال عمل فيه اسم الإشارة المقدر (إنا أنزلنا إليك الكتاب
بالحق) الباء سببية متعلقة بالإنزال: أي أنزلناه بسبب الحق، ويجوز أن تتعلق بمحذوف هو حال من الفاعل:
أي متلبسين بالحق، أو من المفعول: أي متلبسا بالحق، والمراد كل ما فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد
وأنواع التكاليف. قال مقاتل: يقول لم ننزله باطلا لغير شئ (فاعبد الله مخلصا له الدين) الفاء لترتيب ما بعدها
على ما قبلها، وانتصاب مخلصا على الحال من فاعل أعبد، والإخلاص أن يقصد العبد بعمله وجه الله سبحانه،
والدين العبادة والطاعة، ورأسها توحيد الله وأنه لا شريك له. قرأ الجمهور " الدين " بالنصب على أنه مفعول
مخلصا. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه على أن مخلصا مسند إلى الدين على طريقة المجاز. قيل وكان عليه أن يقرأ مخلصا بفتح
اللام. وفي الآية دليل على وجوب النية وإخلاصها عن الشوائب، لأن الإخلاص من الأمور القلبية التي لا تكون
إلا بأعمال القلب، وقد جاءت السنة الصحيحة أن ملاك الأمر في الأقوال والأفعال النية، كما في حديث " إنما
448

الأعمال بالنيات "، وحديث " لا قول ولا عمل إلا بنية "، وجملة (ألا لله الدين الخالص) مستأنفة مقررة لما قبلها
من الأمر بالإخلاص: أي إن الدين الخالص من شوائب الشرك وغيره هو لله، وما سواه من الأديان فليس بدين
الله الخالص الذي أمر به. قال قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله (والذين اتخذوا من دونه أولياء) لما
أمر سبحانه بعبادته على وجه الإخلاص وأن الدين الخالص له لا لغيره بين بطلان الشرك الذي هو مخالف للإخلاص
والموصول عبارة عن المشركين، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره قوله - إن الله يحكم بينهم -، وجملة (وما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى) في محل نصب على الحال بتقدير القول، والاستثناء مفرغ من أعم العلل، والمعنى:
والذين لم يخلصوا العبادة لله، بل شابوها بعبادة غيره قائلين ما نعبدهم لشئ من الأشياء إلا ليقربونا إلى الله تقريبا
والضمير في نعبدهم راجع إلى الأشياء التي كانوا يعبدونها من الملائكة وعيسى والأصنام، وهم المرادون بالأولياء
والمراد بقولهم (إلا ليقربونا إلى الله زلفى) الشفاعة، كما حكاه الواحدي عن المفسرين. قال قتادة: كانوا إذا قيل
لهم من ربكم وخالقكم ومن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله، فيقال لهم: ما معنى عبادتكم للأصنام؟
قالوا: ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا عنده. قال الكلبي: جواب هذا الكلام قوله في سورة الأحقاف - فلولا
نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة -، والزلفى اسم أقيم مقام المصدر، كأنه قال: إلا ليقربونا إلى الله
تقريبا. وفي قراءة ابن مسعود وابن عباس ومجاهد " قالوا ما نعبدهم " ومعنى (إن الله يحكم بينهم) أي بين أهل
الأديان يوم القيامة فيجازي كلا بما يستحقه، وقيل بين المخلصين للدين وبين الذين لم يخلصوا، وحذف الأول
لدلالة الحال عليه، ومعنى (فيما هم فيه يختلفون) في الذي اختلفوا فيه من الدين بالتوحيد والشرك، فإن كل طائفة
تدعي أن الحق معها (إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) أي لا يرشد لدينه ولا يوفق للاهتداء إلى الحق من هو
كاذب في زعمه أن الآلهة تقربه إلى الله وكفر باتخاذها آلهة وجعلها شركاء لله، والكفار صيغة مبالغة تدل على أن
كفر هؤلاء قد بلغ إلى الغاية. وقرأ الحسن والأعرج كذاب على صيغة المبالغة ككفار، ورويت هذه القراءة عن
أنس (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى) هذا مقرر لما سبق من إبطال قول المشركين بأن الملائكة بنات الله
لتضمنه استحالة الولد في حقه سبحانه على الإطلاق، فلو أراد أن يتخذ ولدا لامتنع اتخاذ الولد حقيقة ولم يتأت
ذلك إلا بأن يصطفى (مما يخلق ما يشاء) أي يختار من جملة خلقه ما يشاء أن يصطفيه، إذ لا موجود سواه إلا وهو
مخلوق له، ولا يصح أن يكون المخلوق ولدا للخالق لعدم المجانسة بينهما، فلم يبق إلا أن يصطفيه عبدا كما يفيد
التعبير بالاصطفاء مكان الاتخاذ. فمعنى الآية: لو أراد أن يتخذ ولدا لوقع منه شئ ليس هو من اتخاذ الولد، بل
إنما هو من الاصطفاء لبعض مخلوقاته، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد على الإطلاق فقال (سبحانه) أي
تنزيها له عن ذلك، وجملة (هو الله الواحد القهار) مبينة لتنزهه بحسب الصفات بعد تنزهه بحسب الذات: أي هو
المستجمع لصفات الكمال المتوحد في ذاته فلا مماثل له القهار لكل مخلوقاته، ومن كان متصفا بهذه الصفات استحال
وجود الولد في حقه، لأن الولد مماثل لوالده ولا مماثل له سبحانه، ومثل هذه الآية قوله سبحانه - لو أردنا أن
نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا -. ثم لما ذكر سبحانه كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا قهارا ذكر ما يدل على
ذلك من صفاته فقال (خلق السماوات والأرض بالحق) أي لم يخلقهما باطلا لغير شئ، ومن كان هذا الخلق
العظيم خلقه استحال أن يكون له شريك أو صاحبة أو ولد. ثم بين كيفية تصرفه في السماوات والأرض فقال
(يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل) التكوير في اللغة طرح الشئ بعضه على بعض. يقال كور المتاع:
إذا ألقى بعضه على بعض، ومنه كور العمامة، فمعنى تكوير الليل على النهار تغشيته إياه حتى يذهب ضوؤه،
449

ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى - يغشى الليل النهار يطلبه
حثيثا - هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك: أي يلقى هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول
الأول. وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى
قوله - يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل - وقيل المعنى: إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كرورا
متتابعا. قال الراغب: تكوير الشئ إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة. والإشارة بهذا التكوير
المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة
عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل، وهما
الشمس والقمر فقال: (وسخر الشمس والقمر) أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد، ثم
بين كيفية هذا التسخير فقال (كل يجري لأجل مسمى) أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة
وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة " يس " (ألا هو العزيز الغفار) ألا حرف تنبيه،
والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته وبديع
صنعه، فقال (خلقكم من نفس واحدة) وهي نفس آدم (ثم جعل منها زوجها) جاء بثم للدلالة على ترتب خلق
حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج:
التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة: أي من نفس
انفردت ثم جعل الخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل
في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة
المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى
في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته الباهرة فقال (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وهو
معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل
أن يكون مجازا، لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعيش بالماء الماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها
منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا
وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل جعل الخلق إنزالا، لأن الخلق إنما يكون بأمر
ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله - من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر
اثنين - ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين
سبحانه نوعا آخر من قدرته البديعة فقال (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) والجملة استئنافية لبيان
ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقا مصدر مؤكد للفعل المذكور، و (من بعد خلق) صفة له:
أي خلقا كائنا من بعد خلق. قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. وقال ابن زيد: خلقكم
خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله (في ظلمات ثلاث) متعلق بقوله " يخلقكم " وهذه
الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك. وقال
سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة
بطن المرأة، وظلمة الرحم، والإشارة بقوله (ذلكم الله) إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف
450

خبره (ربكم) خبر آخر (له الملك) الحقيقي في الدنيا والآخرة لا شركة لغيره فيه، وهو خبر ثالث، وقوله (لا إله
إلا هو) خبر رابع (فأنى تصرفون) أي فكيف تنصرفون عن عبادته وتنقلبون عنها إلى عبادة غيره. قرأ حمزة
" أمهاتكم " بكسر الهمزة والميم. وقرأ الكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم. وقرأ الباقون بضم الهمزة وفتح الميم.
وقد أخرج ابن مردويه عن يزيد الرقاشي أن رجلا قال: " يا رسول الله إنا نعطي أموالنا التماس الذكر فهل
لنا في ذلك من أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا، قال: يا رسول الله إنما نعطي التماس الأجر
والذكر فهل لنا أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لا يقبل إلا ما أخلص له، ثم تلا هذه
الآية (ألا لله الدين الخالص) ". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (يكور
الليل) قال: يحمل الليل. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (خلقا من
بعد خلق) قال: علقة ثم مضغة ثم عظاما (في ظلمات ثلاث) البطن والرحم والمشيمة.
لما ذكر سبحانه النعم التي أنعم بها على عباده وبين لهم من بديع صنعه وعجيب فعله ما يوجب على كل عاقل
أن يؤمن به عقبه بقوله (إن تكفروا فإن الله غني عنكم) أي غير محتاج إليكم ولا إلى إيمانكم ولا إلى عبادتكم له
فإنه الغني المطلق، (و) مع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن، فهو أيضا (لا يرضى لعباده
الكفر) أي لا يرضى لأحد من عباده الكفر ولا يحبه ولا يأمر به، ومثل هذه الآية قوله - إن تكفروا أنتم ومن
في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد - ومثلها ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم " يا عبادي
لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على قلب أفجر رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ".
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية هل هي على عمومها، وإن الكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو
الظاهر، أو هي خاصة؟ والمعنى: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وقد ذهب إلى التخصيص حبر الأمة
451

ابن عباس رضي الله عنه كما سيأتي بيانه آخر البحث، وتابعه على ذلك عكرمة والسدي وغيرهما. ثم اختلفوا في الآية
اختلافا آخر. فقال قوم: إنه يريد كفر الكافر ولا يرضاه، وقال آخرون: إنه لا يريده ولا يرضاه، والكلام في تحقيق
مثل هذا يطول جدا. وقد استدل القائلون بتخصيص هذه الآية، والمثبتون للإرادة مع عدم الرضا بما ثبت في
آيات كثيرة من الكتاب العزيز أنه سبحانه - يضل من يشاء ويهدي من يشاء وما تشاءون إلا أن يشاء الله - ونحو
هذا مما يؤدي معناه كثير في الكتاب العزيز. ثم لما ذكر سبحانه أن لا يرضى لعباده الكفر بين أنه يرضى لهم الشكر
فقال (وإن تشكروا يرضه لكم) أي يرض لكم الشكر المدلول عليه بقوله وإن تشكروا ويثبكم عليه، وإنما
رضي لهم سبحانه الشكر لأنه سبب سعادتهم في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه - لئن شكرتم لأزيدنكم - قرأ
أبو جعفر وأبو عمرو وشيبة وهبيرة عن عاصم بإسكان الهاء من يرضه، وأشبع الضمة على الهاء ابن ذكوان وابن
كثير والكسائي وابن محيصن وورش عن نافع، واختلس الباقون (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي لا تحمل
نفس حاملة للوزر حمل نفس أخرى، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى (ثم إلى ربكم مرجعكم) يوم القيامة
(فينبئكم بما كنتم تعملون) من خير وشر، وفيه تهديد شديد (إنه عليم بذات الصدور) أي بما تضمره القلوب
وتستره، فكيف بما تظهره وتبديه (وإذا مس الإنسان ضر) أي ضر كان من مرض أو فقر أو خوف (دعا ربه
منيبا إليه) أي راجعا إليه مستغيثا به في دفع ما نزل به تاركا لما كان يدعوه ويستغيث به من ميت أو حي أو صنم
أو غير ذلك (ثم إذا خوله نعمة منه) أي أعطاء وملكه، يقال خوله الشئ أي ملكه إياه، وكان أبو عمرو بن
العلاء ينشد:
هنالك إن يستخولوا المال يخولوا * وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا
ومنه قول أبي النجم:
أعطى ولم يبخل ولم يبخل * كوم الذرى من خول المخول
(نسي ما كان يدعو إليه من قبل) أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه عنه من قبل أن يخوله ما خوله
وقيل نسي الدعاء الذي كان يتضرع به وتركه أو نسي ربه الذي كان يدعوه ويتضرع إليه، ثم جاوز ذلك إلى الشرك
بالله، وهو معنى قوله (وجعل لله أندادا) أي شركاء من الأصنام أو غيرها يستغيث بها ويعبدها (ليضل عن سبيله)
أي ليضل الناس عن طريق الله التي هي الإسلام والتوحيد. وقال السدي: يعني أندادا من الرجال يعتمد عليهم في
جميع أموره. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يهدد من كان متصفا بتلك الصفة فقال (قل
تمتع بكفرك قليلا) أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا، فمتاع الدنيا قليل، ثم علل ذلك بقوله (إنك من أصحاب النار)
أي مصيرك إليها عن قريب، وفيه من التهديد أمر عظيم. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه التهديد والوعيد
قرأ الجمهور " ليضل " بضم الياء، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتحها. ثم لما ذكر سبحانه صفات المشركين وتمسكهم
بغير الله عند اندفاع المكروهات عنهم ذكر صفات المؤمنين فقال (أمن هو قانت آناء الليل) وهذا إلى آخره من
تمام الكلام المأمور به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى ذلك الكافر أحسن حالا ومآلا، أمن هو
قائم بطاعات الله في السراء والضراء في ساعات الليل، مستمر على ذلك، غير مقتصر على دعاء الله سبحانه عند
نزول الضرر به. قرأ الحسن وأبو عمرو وابن عامر وعاصم والكسائي " أمن " بالتشديد، وقرأ نافع وابن كثير
وحمزة ويحيى بن وثاب والأعمش بالتخفيف، فعلى القراءة الأولى أم داخلة على من الموصولة وأدغمت الميم في الميم
وأم هي المتصلة ومعادلها محذوف تقديره: الكافر خير أم الذي هو قانت. وقيل هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة
452

أي بل أمن هو قانت كالكافر، وأما على القراءة الثانية فقيل الهمزة للاستفهام دخلت على من، والاستفهام للتقرير
ومقابله محذوف: أي أمن هو قانت كمن كفر. وقال الفراء: إن الهمزة في هذه القراءة للنداء ومن منادى، وهي
عبارة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم المأمور بقوله " قل تمتع " والتقدير: يا من هو قانت، قل كيت وكيت،
وقيل التقدير: يا من هو قانت إنك من أصحاب الجنة. ومن القائلين بأن الهمزة للنداء الفراء، وضعف ذلك
أبو حيان، وقال: هو أجنبي عما قبله وعما بعده، وقد سبقه إلى هذا التضعيف أبو علي الفارسي، واعترض على
هذه القراءة من أصلها أبو حاتم والأخفش ولا وجه لذلك فإنا إذا ثبتت الرواية بطلت الدراية.
وقد اختلف في تفسير القانت هنا فقيل المطيع، وقيل الخاشع في صلاته، وقيل القائم في صلاته، وقيل
الداعي لربه. قال النحاس: أصل القنوت الطاعة، فكل ما قيل فيه فهو داخل في الطاعة، والمراد بآناء الليل
ساعاته، وقيل جوفه، وقيل ما بين المغرب والعشاء، وانتصاب (ساجدا وقائما) على الحال أي جامعا بين السجود
والقيام، وقدم السجود على القيام لكونه أدخل في العبادة، ومحل (يحذر الآخرة) بالنصب على الحال أيضا:
أي يحذر عذاب الآخرة قاله سعيد بن جبير ومقاتل (ويرجو رحمة ربه) فيجمع بين الرجاء والخوف، وما اجتمعا
في قلب رجل إلا فاز. قيل وفي الكلام حذف، والتقدير: كمن لا يفعل شيئا من ذلك كما يدل عليه السياق. ثم
أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم قولا آخر يتبين به الحق من الباطل فقال (قل هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) أي الذين يعلمون أن ما وعد الله به من البعث والثواب والعقاب حق
والذين لا يعلمون ذلك، أو الذين يعلمون ما أنزل الله على رسله والذين لا يعلمون ذلك، أو المراد العلماء والجهال
ومعلوم عند كل من له عقل أنه لا استواء بين العلم والجهل، ولا بين العالم والجاهل. قال الزجاج: أي كما لا يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي. وقيل المراد بالذين يعلمون: هم العاملون
بعلمهم فإنهم المنتفعون به، لأن من لم يعمل بمنزلة من لم يعلم (إنما يتذكر أولوا الألباب) أي إنما يتعظ ويتدبر
ويتفكر أصحاب العقول، وهم المؤمنون لا الكفار، فإنهم وإن زعموا أن لهم عقولا فهي كالعدم وهذه الجملة ليست
من جملة الكلام المأمور به بل من جهة الله سبحانه (قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم) لما نفى سبحانه المساواة بين
من يعلم ومن لا يعلم، وبين أنه (إنما يتذكر أولوا الألباب) أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يأمر المؤمنين
من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به. والمعنى: يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته، واجتناب
معاصيه، وإخلاص الإيمان له، ونفي الشركاء عنه، والمراد قل لهم قولي هذا بعينه. ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين
بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) أي للذين عملوا الأعمال
الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة وهي الجنة، وقوله (في هذه الدنيا) متعلق بأحسنوا،
وقيل هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها، فيكون المعنى: للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية
والظفر والغنيمة، والأول أولى. ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه أرشد
الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال (وأرض الله واسعة) أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله. والعمل
بما أمر به، والترك لما نهى عنه، ومثل ذلك قوله سبحانه - ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها - وقد مضى
الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء، وقيل المراد بالأرض هنا: أرض الجنة، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها
كما في قوله - جنة عرضها السماوات والأرض - والأول أولى. ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا، وكان
453

لا بد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة وعلى كف النفس عن الشهوات، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره
فقال (إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب) أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب: أي بما
لا يقدر على حصره حاصر، ولا يستطيع حسبانه حاسب. قال عطاء: بما لا يهتدى إليه عقل ولا وصف. وقال مقاتل:
أجرهم الجنة، وأرزاقهم فيها بغير حساب. والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له،
لأن كل شئ يدخل تحت الحساب فهو متناه، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه، وهذه فضيلة
عظيمة ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم
نفسه بزمامه ويقيدها بقيده، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل، ولا يجلب خيرا قد سلب، ولا يدفع مكروها قد
وقع، وإذا تصور العاقل هذا حق تصوره وتعقله حق تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر
العظيم، وظفر بهذا الجزاء الخطير، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى، ومع ذلك فاته من الأجر
ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع، وما أحسن قول من قال:
أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب * فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب
هناك يحق الصبر والصبر واجب * وما كان منه للضرورة أوجب
ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخبرهم بما أمر به من التوحيد والإخلاص فقال (قل إنما
أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين) أي أعبده عبادة خالصة من الشرك والرياء وغير ذلك. قال مقاتل: إن كفار
قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما يحملك على الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدك وسادات
قومك يعبدون اللات والعزى فتأخذ بها؟ فأنزل الله الآية، وقد تقدم بيان معنى الآية في أول هذه السورة (وأمرت
لأن أكون أول المسلمين) أي من هذه الأمة، وكذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أول من خالف دين
آبائه ودعا إلى التوحيد، واللام للتعليل: أي وأمرت بما أمرت به لأجل أن أكون، وقيل إنها مزيدة للتأكيد،
والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (إن
تكفروا فإن الله غني عنكم) يعني الكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، فيقولون لا إله إلا الله ثم قال (ولا يرضى
لعباده الكفر) وهم عباده المخلصون الذين قال - إن عبادي ليس لك عليهم سلطان - فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله
وحببها إليهم. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة (ولا يرضى لعباده الكفر) قال: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر. وأخرج
عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضى الله لعبد ضلالة ولا أمره بها ولا دعا إليها، ولكن رضى لكم طاعته
وأمركم بها ونهاكم عن معصيته. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر
عن ابن عمر أنه تلا هذه الآية (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة) قال: ذاك عثمان بن عفان
وفي لفظ: نزلت في عثمان بن عفان. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس في
قوله (أمن هو قانت) الآية قال: نزلت في عمار بن ياسر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله (يحذر
الآخرة) يقول: يحذر عذاب الآخرة. وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس قال " دخل رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم على رجل وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ قال: أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وأمنه الذي
454

يخاف " أخرجوه من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس. قال الترمذي: غريب، وقد
رواه بعضهم عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا.
قوله (قل إني أخاف إن عصيت ربي) أي بترك إخلاص العبادة له وتوحيده والدعاء إلى ترك الشرك وتضليل
أهله (عذاب يوم عظيم) وهو يوم القيامة. قال أكثر المفسرين: المعنى إني أخاف إن عصيت ربي بإجابة المشركين
إلى ما دعوني إليه من عبادة غير الله. قال أبو حمزة اليماني وابن المسيب: هذه الآية منسوخة بقوله - ليغفر لك الله
ما تقدم من ذنبك وما تأخر - وفي هذه الآية دليل على أن الأمر للوجوب، لأن قبله - إنما أمرت أن أعبد الله -
فالمراد عصيان هذا الأمر (قل الله أعبد) التقديم مشعر بالاختصاص: أي لا أعبد غيره لا استقلالا ولا على جهة
الشركة، ومعنى (مخلصا له ديني) أنه خالص لله غير مشوب بشرك ولا رياء ولا غيرهما، وقد تقدم تحقيقه في أول
السورة. قال الرازي: فإن قيل ما معنى التكرير في قوله - قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين - وقوله (قل
الله أعبد مخلصا له ديني) قلنا: ليس هذا بتكرير، لأن الأول إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإيمان والعبادة،
والثاني إخبار بأنه أمر أن لا يعبد أحدا غير الله (فاعبدوا ما شئتم) أن تعبدوه (من دونه) هذا الأمر للتهديد والتقريع
والتوبيخ كقوله - اعملوا ما شئتم - وقيل إن الأمر على حقيقته، وهو منسوخ بآية السيف، والأول أولى (قل إن
الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) أي إن الكاملين في الخسران هم هؤلاء، لأن من دخل النار
فقد خسر نفسه وأهله. قال الزجاج: وهذا يعني به الكفار فإنهم خسروا أنفسهم بالتخليد في النار، وخسروا
أهليهم، لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، وجملة (ألا ذلك هو الخسران المبين) مستأنفة
لتأكيد ما قبلها، وتصديرها بحرف التنبيه للإشعار بأن هذا الخسران الذي حل بهم قد بلغ من العظم إلى غاية
ليس فوقها غاية، وكذلك تعريف الخسران ووصفه بكونه مبينا، فإنه يدل على أنه الفرد الكامل من أفراد الخسران
وأنه لا خسران يساويه ولا عقوبة تدانيه. ثم بين سبحانه هذا الخسران الذي حل بهم والبلاء النازل عليهم بقوله
(لهم من فوقهم ظلل من النار) الظلل عبارة عن أطباق النار: أي لهم من فوقهم أطباق من النار تلتهب عليهم (ومن
455

تحتهم ظلل) أي أطباق من النار، وسمى ما تحتهم ظللا لأنها تظل من تحتها من أهل النار، لأن طبقات النار صارت
في كل طبقة منها طائفة من طوائف الكفار، ومثل هذه الآية قوله - لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش - وقوله
- يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم - والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره من وصف
عذابهم في النار، وهو مبتدأ وخبره قوله (يخوف الله به عباده) أي يحذرهم بما توعد به الكفار من العذاب ليخافوه
فيتقوه، وهو معنى (يا عباد فاتقون) أي اتقوا هذه المعاصي الموجبة لمثل هذا العذاب على الكفار، ووجه تخصيص
العباد بالمؤمنين أن الغالب في القرآن إطلاق لفظ العباد عليهم، وقيل هو للكفار وأهل المعاصي، وقيل هو عام
للمسلمين والكفار (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها) الموصول مبتدأ وخبره قوله (لهم البشرى) والطاغوت
بناء مبالغة في المصدر كالرحموت والعظموت، وهو الأوثان والشيطان. وقال مجاهد وابن زيد: هو الشيطان.
وقال الضحاك والسدي: هو الأوثان. وقيل إنه الكاهن، وقيل هو اسم أعجمي مثل طالوت وجالوت، وقيل
إنه اسم عربي مشتق من الطغيان. قال الأخفش: الطاغوت جمع، ويجوز أن يكون واحدة مؤنثا، ومعنى اجتنبوا
الطاغوت: أعرضوا عن عبادته وخصوا عبادتهم بالله عز وجل، وقوله: " أن يعبدوها " في محل نصب على البدل
من الطاغوت بدل اشتمال، كأنه قال: اجتنبوا عبادة الطاغوت، وقد تقدم الكلام على تفسير الطاغوت مستوفى
في سورة البقرة، وقوله (وأنابوا إلى الله) معطوف على اجتنبوا، والمعنى: رجعوا إليه وأقبلوا على عبادته معرضين
عما سواه (لهم البشرى) بالثواب الجزيل وهو الجنة، وهذه البشرى إما على ألسنة الرسل، أو عند حضور الموت
أو عند البعث (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) المراد بالعباد هنا العموم، فيدخل الموصوفون
بالاجتناب والإنابة إليه دخولا أوليا، والمعنى: يستمعون القول الحق من كتاب الله وسنة رسوله فيتبعون أحسنه
أي محكمه، ويعملون به. قال السدي: يتبعون أحسن ما يؤمرون به فيعملون بما فيه، وقيل هو الرجل يسمع
الحسن والقبيح فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به، وقيل يستمعون القرآن وغيره فيتبعون
القرآن، وقيل يستمعون الرخص والعزائم فيتبعون العزائم ويتركون الرخص، وقيل يأخذون بالعفو ويتركون
العقوبة. ثم أثنى سبحانه على هؤلاء المذكورين فقال (أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) أي هم
الذين أوصلهم الله إلى الحق وهم أصحاب العقول الصحيحة، لأنهم الذين انتفعوا بعقولهم ولم ينتفع من عداهم
بعقولهم. ثم ذكر سبحانه من سبقت له الشقاوة وحرم السعادة فقال (أفمن حق عليه كلمة العذاب) من هذه يحتمل
أن تكون موصولة في محل رفع بالابتداء وخبرها محذوف: أي كمن يخاف، أو فأنت تخلصه أو تتأسف عليه،
ويحتمل أن تكون شرطية، وجوابه (أفأنت تنقذ من في النار) فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء وأعيدت
الهمزة الإنكارية لتأكيد معنى الإنكار. وقال سيبويه إنه كرر الاستفهام لطول الكلام. وقال الفراء: المعنى أفأنت
تنقذ من حقت عليه كلمة العذاب، والمراد بكلمة العذاب هنا هي قوله تعالى لإبليس - لأملأن جهنم منك وممن
تبعك منهم أجمعين - وقوله - لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين - ومعنى الآية التسلية لرسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم، لأنه كان حريصا على إيمان قومه، فأعلمه الله أن من سبق عليه القضاء وحقت عليه كلمة الله
لا يقدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقذه من النار بأن يجعله مؤمنا. قال عطاء: يريد أبا لهب وولده
ومن تخلف من عشيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان، وفي الآية تنزيل لمن يستحق العذاب بمن قد
صار فيه، وتنزيل دعائه إلى الإيمان منزلة الإخراج له من عذاب النار. ولما ذكر سبحانه فيما سبق أن لأهل الشقاوة
ظللا من فوقهم النار ومن تحتهم ظلل استدرك عنهم من كان من أهل السعادة فقال (لكن الذين اتقوا ربهم لهم
456

غرف من فوقها غرف مبنية) وذلك لأن الجنة درجات بعضها فوق بعض، ومعنى " مبنية " أنها مبنية بناء المنازل
في إحكام أساسها وقوة بنائها وإن كانت منازل الدنيا ليست بشئ بالنسبة إليها (تجري من تحتها الأنهار) أي
من تحت تلك الغرف، وفي ذلك كمال لبهجتها وزيادة لرونقها، وانتصاب (وعد الله) على المصدرية المؤكدة
لمضمون الجملة، لأن قوله (لهم غرف) في معنى وعدهم الله بذلك، وجملة (لا يخلف الله الميعاد) مقررة للوعد:
أي لا يخلف الله ما وعد به الفريقين من الخير والشر.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم) الآية. قال: هم
الكفار الذين خلقهم الله للنار زالت عنهم الدنيا وحرمت عليهم الجنة. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله (خسروا
أنفسهم وأهليهم) قال: أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله فغيبوهم. وأخرج ابن مردويه
عن ابن عمر قال: كان سعيد بن زيد وأبو ذر وسلمان يتبعون في الجاهلية أحسن القول والكلام لا إله إلا الله قالوا
بها، فأنزل الله على نبيه (يستمعون القول فيتبعون أحسنه) الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد قال:
لما نزل " فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا
فنادى: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، فاستقبل عمر الرسول فرده فقال: يا رسول الله خشيت أن يتكل
الناس فلا يعملون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو يعلم الناس قدر رحمة ربي لاتكلوا، ولو يعلمون
قدر سخط ربي وعقابه لاستصغروا أعمالهم " وهذا الحديث أصله في الصحيح من حديث أبي هريرة.
لما ذكر سبحانه الآخرة ووصفها بوصف يوجب الرغبة فيها والشوق إليها أتبعه بذكر الدنيا ووصفها بوصف
يوجب الرغبة عنها والنفرة منها، فذكر تمثيلا لها في سرعة زوالها وقرب اضمحلالها مع ما في ذلك من ذكر نوع
من أنواع قدرته الباهرة وصنعه البديع فقال (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) أي من السحاب مطرا (فسلكه
457

ينابيع في الأرض) أي فأدخله وأسكنه فيها، والينابيع جمع ينبوع من نبع الماء ينبع، والينبوع عين الماء والأمكنة
التي ينبع منها الماء، والمعنى أدخل الماء النازل من السماء في الأرض وجعله فيها عيونا جارية، أو جعله في ينابيع:
أي في أمكنة ينبع منها الماء، فهو على الوجه الثاني منصوب بنزع الخافض. قال مقاتل: فجعله عيونا وركايا في
الأرض (ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه) أي يخرج بذلك الماء من الأرض زرعا مختلفا ألوانه من أصفر وأخضر
وأبيض وأحمر، أو من بر وشعير وغيرهما إذا كان المراد بالألوان الأصناف (ثم يهيج) يقال هاج النبت يهيج هيجا
إذا تم جفافه. قال الجوهري: يقال هاج النبت هياجا: إذا يبس، وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت
الريح النبت أيبسته. قال المبرد: قال الأصمعي: يقال هاجت الأرض تهيج: إذا أدبر نبتها وولى. قال: وكذلك
هاج النبت (فتراه مصفرا) أي تراه بعد خضرته ونضارته وحسن رونقه مصفرا قد ذهبت خضرته ونضارته (ثم
يجعله حطاما) أي متفتتا منكسرا، من تحطم العود إذا تفتت من اليبس (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) أي
فيما تقدم ذكره تذكير الأهل العقول الصحيحة، فإنهم الذين يتعقلون الأشياء على حقيقتها فيتفكرون ويعتبرون
ويعلمون بأن الحياة الدنيا حالها كحال هذا الزرع في سرعة التصرم وقرب التقضي، وذهاب بهجتها وزوال رونقها
ونضارتها، فإذا أنتج لهم التفكر والاعتبار العلم بذلك لم يحصل منهم الاغترار بها والميل إليها وإيثارها على دار النعيم
الدائم والحياة المستمرة واللذة الخالصة، ولم يبق معهم شك في أن الله قادر على البعث والحشر، لأن من قدر على
هذا قدر على ذلك. وقيل هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض. والمعنى: أنزل من السماء قرآنا
فسلكه في قلوب المؤمنين، ثم يخرج به دينا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد أيمانا ويقينا، وأما الذي
في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع، وهذا بالتغيير أشبه منه بالتفسير. قرأ الجمهور " ثم يجعله " بالرفع عطفا
على ما قبله، وقرأ أبو بشر بالنصب بإضمار أن، ولا وجه لذلك. ثم لما ذكر سبحانه أن في ذلك لذكرى لأولي
الألباب، ذكر شرح الصدر للإسلام، لأن الانتفاع الكامل لا يحصل إلا به فقال (أفمن شرح الله صدره للإسلام)
أي وسعه لقبول الحق وفتحه للاهتداء إلى سبيل الخير. قال السدي: وسع صدره للإسلام للفرح به والطمأنينة
إليه، والكلام في الهمزة والفاء كما تقدم في - أفمن حق عليه كلمة العذاب - ومن مبتدأ وخبرها محذوف تقديره كمن
قسا قلبه وحرج صدره، ودل على هذا الخبر المحذوف قوله (فويل للقاسية قلوبهم) والمعنى: أفمن وسع الله
صدره للإسلام فقبله واهتدى بهديه (فهو) بسبب ذلك الشرح (على نور من ربه) يفيض عليه كمن قسا قلبه لسوء
اختياره، فصار في ظلمات الضلالة وبليات الجهالة. قال قتادة: النور كتاب الله به يؤخذ وإليه ينتهي. قال
الزجاج: تقدير الآية: أفمن شرح الله صدره كمن طبع على قلبه فلم يهتد لقسوته (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)
قال الفراء والزجاج: أي عن ذكر الله كما تقول أتخمت عن طعام أكلته ومن طعام أكلته، والمعنى: أنه غلظ قلبه وجفا
عن قبول ذكر الله، يقال قسا القلب إذا صلب، وقلب قاس: أي صلب لا يرق ولا يلين، وقيل معنى من ذكر الله
من أجل ذكره الذي حقه أن تنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب. والمعنى: أنه إذا ذكر الله اشمأزوا، والأول
أولى، ويؤيده قراءة من قرأ عن ذكر الله، والإشارة بقوله (أولئك) إلى القاسية قلوبهم، وهو مبتدأ وخبره
(في ضلال مبين) أي ظاهر واضح. ثم ذكر سبحانه بعض أوصاف كتابه العزيز فقال (الله أنزل أحسن الحديث)
يعني القرآن، وسماه حديثا لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحدث به قومه ويخبرهم بما ينزل عليه منه.
458

وفيه بيان أن أحسن القول المذكور سابقا هو القرآن، وانتصاب (كتابا) على البدل من أحسن الحديث، ويحتمل
أن يكون حالا منه (متشابها) صفة لكتابا: أي يشبه بعضه بعضا في الحسن والإحكام وصحة المعاني وقوة المباني،
وبلوغه إلى أعلى درجات البلاغة. وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف، وقيل يشبه كتب الله المنزلة
على أنبيائه، و (مثاني) صفة أخرى لكتابا: أي تثنى فيه القصص وتتكرر فيه المواعظ والأحكام. وقيل يثنى
في التلاوة فلا يمل سامعه ولا يسأم قارئه. قرأ الجمهور " مثاني " بفتح الياء، وقرأ هشام عن ابن عامر وبشر
بسكونها تخفيفا واستثقالا لتحريكها، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي هو مثاني، وقال الرازي في تبيين مثاني
أن أكثر الأشياء المذكورة في القرآن متكررة زوجين زوجين مثل الأمر والنهي والعام والخاص والمجمل والمفصل
وأحوال السماوات والأرض والجنة والنار والنور والظلمة واللوح والقلم والملائكة والشياطين والعرش والكرسي والوعد
والوعيد والرجاء والخوف، والمقصود من ذلك البيان بأن كل ما سوى الحق زوج، وأن الفرد الأحد الحق هو الله
ولا يخفى ما في كلامه هذا من التكلف والبعد عن مقصود التنزيل (تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم) هذه الجملة
يجوز أن تكون صفة لكتابا، وأن تكون حالا منه، لأنه وإن كان نكرة فقد تخصص بالصفة، أو مستأنفة لبيان
ما يحصل عند سماعه من التأثر لسامعيه، والاقشعرار التقبض، يقال اقشعر جلده: إذا تقبض وتجمع من الخوف،
والمعنى: أنها تأخذهم منه قشعريرة. قال الزجاج: إذا ذكرت آيات العذاب اقشعرت جلود الخائفين لله (ثم تلين
جلودهم وقلوبهم) إذا ذكرت آيات الرحمة. قال الواحدي: وهذا قول جميع المفسرين، ومن ذلك قول امرئ
القيس:
فبت أكابد ليل التمام * والقلب من خشية مقشعر
وقيل المعنى: أن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجزهم عن معارضته اقشعرت
الجلود منه إعظاما له وتعجبا من حسنه وبلاغته ثم تلين جلودهم وقلوبهم (إلى ذكر الله) عدى تلين بإلى لتضمينه
فعلا يتعدى بها، كأنه قيل: سكنت واطمأنت إلى ذكر الله لينة غير منقبضة، ومفعول ذكر الله محذوف،
والتقدير: إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته، وحذف للعلم به. قال قتادة: هذا نعت أولياء الله نعتهم بأنها
تقشعر جلودهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما ذلك في أهل البدع
وهو من الشيطان، والإشارة بقوله (ذلك) إلى الكتاب الموصوف، بتلك الصفات، وهو مبتدأ، و (هدى الله)
خبره: أي ذلك الكتاب هدى الله (يهدي به من يشاء) أن يهديه من عباده، وقيل إن الإشارة بقوله " ذلك " إلى
ما وهبه الله لهؤلاء من خشية عذابه ورجاء ثوابه (ومن يضلل الله) أي يجعل قلبه قاسيا مظلما غير قابل للحق
(فما له من هاد) يهديه إلى الحق ويخلصه من الضلال. قرأ الجمهور " من هاد " بغير ياء. وقرأ ابن كثير وابن
محيصن بالياء. ثم لما حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وهو الضلال، حكم عليهم في الآخرة بحكم آخر وهو
العذاب فقال (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة) والاستفهام للإنكار، وقد تقدم الكلام فيه وفي هذه الفاء
الداخلة على من في قوله - أفمن حقت عليه كلمة العذاب - ومن مبتدأ وخبرها محذوف لدلالة المقام عليه، والمعنى:
أفمن شأنه أن يقي نفسه بوجهه الذي هو أشرف أعضائه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده قد صارت مغلولة إلى
عنقه كمن هو آمن لا يعتريه شئ من ذلك ولا يحتاج إلى الاتقاء. قال الزجاج: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب
كمن يدخل الجنة. قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار، فأول شئ تمس منه وجهه. وقال مجاهد:
يجر على وجهه في النار. قال الأخفش: المعنى أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب أفضل أم من سعد؟ مثل قوله - أفمن
459

يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة - ثم أخبر سبحانه عما تقوله الخزنة للكفار فقال (وقيل للظالمين ذوقوا
ما كنتم تكسبون) وهو معطوف على يتقي: أي ويقال لهم، وجاء بصيغة الماضي للدلالة على التحقيق. قال عطاء:
أي جزاء ما كنتم تعملون، ومثل هذه الآية قوله - هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون - وقد تقدم
الكلام على معنى الذوق في غير موضع. ثم أخبر سبحانه عن حال من قبلهم من الكفار، فقال (كذب الذين
من قبلهم) أي من قبل الكفار المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: أنهم كذبوا رسلهم (فأتاهم
العذاب من حيث لا يشعرون) أي من جهة لا يحتسبون إتيان العذاب منها، وذلك عند أمنهم وغفلتهم عن عقوبة
الله لهم بتكذيبهم (فأذاقهم الله الخزي) أي الذل والهوان (في الحياة الدنيا) بالمسخ والخسف والقتل والأسر وغير
ذلك (ولعذاب الآخرة أكبر) لكونه في غاية الشدة مع دوامه (لو كانوا يعلمون) أي لو كانوا ممن يعلم الأشياء
ويتفكر فيها ويعمل بمقتضى علمه. قال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شئ قد ذاقته: أي وصل إليها كما
تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي المكروه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء) الآية قال: ما في الأرض
ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله (فسلكه ينابيع في الأرض) فمن سره أن
يعود الملح عذبا فليصعده. وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (أفمن شرح الله صدره للإسلام) قال: أبو بكر
الصديق. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: تلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (أفمن شرح الله
صدره) قلنا يا نبي الله كيف انشراح صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح. قلنا: فما علامة ذلك
يا رسول الله؟ فقال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت.
وأخرجه ابن مردويه عن محمد بن كعب القرظي مرفوعا مرسلا. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر
" أن رجلا قال: يا نبي الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: أكثرهم ذكرا للموت، وأحسنهم له استعدادا، وإذا دخل
النور في القلب انفسح واستوسع، فقالوا: ما آية ذلك يا نبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار
الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت ". وأخرجه عن أبي جعفر عبد الله بن المسور عن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم بنحوه، وزاد فيه. ثم قرأ (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه). وأخرج الترمذي
وابن مردويه وابن شاهين في الترغيب في الذكر، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس
من الله القلب القاسي ". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال " قالوا يا رسول الله لو حدثتنا، فنزل (الله نزل
أحسن الحديث) الآية ". وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (مثاني) قال: القرآن كله مثاني. وأخرج ابن أبي حاتم
عنه أيضا في الآية قال: القرآن يشبه بعضه بعضا ويرد بعضه إلى بعض. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه
أيضا في الآية قال: كتاب الله مثاني ثنى فيه الأمر مرارا. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه وابن
عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إذا قرأوا القرآن؟ قالت: كانوا كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، قلت: فإن ناسا ها هنا
إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية، قالت: أعوذ بالله من الشيطان. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله
(أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب) قال: ينطلق به إلى النار مكتوفا ثم يرمى به فيها، فأول ما تمس وجهه النار.
460

قوله (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) قد قدمنا تحقيق المثل وكيفية ضربه في غير موضع،
ومعنى (من كل مثل) ما يحتاجون إليه، وليس المراد ما هو أعم من ذلك، فهو هنا كما في قوله - ما فرطنا
في الكتاب من شئ - أي من شئ يحتاجون إليه في أمر دينهم، وقيل المعنى: ما ذكرنا من إهلاك الأمم
السالفة مثل لهؤلاء (لعلهم يتذكرون) يتعظمون فيعتبرون، وانتصاب (قرآنا عربيا) على الحال من هذا وهي
حال مؤكدة، وتسمى هذه حالا موطئة، لأن الحال في الحقيقة هو عربيا، وقرآنا توطئة له، نحو جاءني زيد
رجلا صالحا: كذا قال الأخفش، ويجوز أن ينتصب على المدح. قال الزجاج: عربيا منتصب على الحال،
وقرآنا توكيد، ومعنى (غير ذي عوج) لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه. قال الضحاك: أي غير مختلف. قال النحاس:
أحسن ما قيل في معناه قول الضحاك، وقيل غير متضاد. وقيل غير ذي لبس، وقيل غير ذي لحن، وقيل
غير ذي شك كما قال الشاعر:
وقد أتاك يمين غير ذي عوج * من الإله وقول غير مكذوب
(لعلهم يتقون) علة أخرى بعد العلة الأولى. وهي (لعلهم يتذكرون) أي لكي يتقوا الكفر والكذب. ثم
ذكر سبحانه مثلا من الأمثال القرآنية للتذكير والإيقاظ، فقال (ضرب الله مثلا) أي تمثيل حالة عجيبة بأخرى
مثلها. ثم بين المثل فقال (رجلا فيه شركاء متشاكسون) قال الكسائي: نصب رجلا لأنه تفسير للمثل، وقيل هو
منصوب بنزع الخافض: أي ضرب الله مثلا برجل، وقيل إن رجلا هو المفعول الأول، ومثلا هو المفعول
الثاني، وأخر المفعول الأول ليتصل بما هو من تمامه، وقد تقدم تحقيق هذا في سورة " يس "، وجملة (فيه
شركاء) في محل نصب صفة لرجل، والتشاكس التخالف. قال الفراء: أي مختلفون. وقال المبرد: أي متعاسرون
من شكس يشكس شكسا فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر. قال الجوهري: التشاكس الاختلاف. قال:
ويقال رجل شكس بالتسكين: أي صعب الخلق، وهذا مثل من أشرك بالله وعبد آلهة كثيرة. ثم قال (ورجلا سلما
لرجل) أي خالصا له، وهذا مثل من يعبد الله وحده. قرأ الجمهور " سلما " بفتح السين واللام، وقرأ سعيد
461

ابن جبير وعكرمة وأبو العالية بكسر السين وسكون اللام. وقرأ ابن عباس ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وابن كثير
ويعقوب " سالما " بالألف وكسر اللام اسم فاعل من سلم له فهو سالم، واختار هذه القراءة أبو عبيد قال: لأن
السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب ها هنا. وأجيب عنه بأن الحرف إذا كان له
معنيان لم يحمل إلا على أولاهما فالسلم وإن كان ضد الحرب فله معنى آخر بمعنى سالم، من سلم له كذا: إذا خلص
له. وأيضا يلزمه في سالم ما ألزم به، لأنه يقال شئ سالم: أي لا عاهة به، واختار أبو حاتم القراءة الأولى.
والحاصل أن قراءة الجمهور هي على الوصف بالمصدر للمبالغة، أو على حذف مضاف: أي ذا سلم، ومثلها
قراءة سعيد بن جبير ومن معه. ثم جاء سبحانه بما يدل على التفاوت بين الرجلين فقال (هل يستويان مثلا) وهذا
الاستفهام للإنكار والاستبعاد، والمعنى: هل يستوي هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة
يستخدمه كل واحد منهم فيتعب وينصب مع كون كل واحد منهم غير راض بخدمته، وهذا الذي يخدم واحدا
لا ينازعه غيره إذا أطاعه رضي عنه، وإذا عصاه عفا عنه. فإن بين هذين من الاختلاف الظاهر الواضح
ما لا يقدر عاقل أن يتفوه باستوائهما، لأن أحدهما في أعلى المنازل، والآخر في أدناها، وانتصاب مثلا على التمييز المحول
عن الفاعل لأن الأصل هل يستوي مثلهما، وأفرد التمييز ولم يثنه لأن الأصل في التمييز الإفراد لكونه مبينا للجنس
وجملة (الحمد لله) تقرير لما قبلها من نفي الاستواء، وللإيذان للموحدين بما في توحيدهم لله من النعمة العظيمة
المستحقة لتخصيص الحمد به. ثم أضرب سبحانه عن نفي الاستواء المفهوم من الاستفهام الإنكاري إلى بيان أن
أكثر الناس لا يعلمون فقال (بل أكثرهم لا يعلمون) وهم المشركون فإنهم لا يعلمون ذلك مع ظهوره ووضوحه.
قال الواحدي والبغوي: والمراد بالأكثر الكل والظاهر خلاف ما قالاه، فإن المؤمنين بالله يعلمون ما في التوحيد
من رفعة شأنه وعلو مكانه، وإن الشرك لا يمائله بوجه من الوجوه، ولا يساويه في وصف من الأوصاف، ويعلمون
أن الله سبحانه يستحق الحمد على هذه النعمة، وأن الحمد مختص به. ثم أخبر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله
وسلم بأن الموت يدركه ويدركهم لا محالة فقال (إنك ميت وإنهم ميتون) قرأ الجمهور " ميت، وميتون " بالتشديد
وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق واليماني " مائت ومائتون " وبها قرأ عبد الله بن الزبير.
وقد استحسن هذه القراءة بعض المفسرين لكون موته وموتهم مستقبلا، ولا وجه للاستحسان، فإن قراءة الجمهور
تفيد هذا المعنى. قال الفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من قد مات
وفارقته الروح. قال قتادة: نعيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ونعيت إليهم أنفسهم. ووجه هذا
الإخبار الإعلام للصحابة بأنه يموت، فقد كان بعضهم يعتقد أنه لا يموت مع كونه توطئة وتمهيدا لما بعده حيث
قال (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) أي تخاصمهم يا محمد وتحتج عليهم بأنك قد بلغتهم وأنذرتهم وهم
يخاصمونك، أو يخاصم المؤمن الكافر والظالم المظلوم. ثم بين سبحانه حال كل فريق من المختصمين فقال (فمن أظلم
ممن كذب على الله) أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فزعم أن له ولدا أو شريكا أو صاحبة (وكذب بالصدق
إذ جاءه) وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دعاء الناس إلى التوحيد، وأمرهم بالقيام بفرائض
الشرع ونهيهم عن محرماته وإخبارهم بالبعث والنشور، وما أعد الله للمطيع والعاصي. ثم استفهم سبحانه استفهاما
تقريريا فقال (أليس في جهنم مثوى للكافرين) أي أليس لهؤلاء المفترين المكذبين بالصدق، والمثوى المقام،
وهو مشتق من ثوى بالمكان إذا أقام به يثوي ثواء وثويا، مثل مضى مضاء ومضيا. وحكى أبو عبيد أنه يقال أتوى
وأنشد قول الأعشى:
462

أتوى وأقصر ليله ليرودا * فمضت وأخلف من قبيلة موعدا
وأنكر ذلك الأصمعي وقال لا نعرف أثوى. ثم ذكر سبحانه فريق المؤمنين المصدقين فقال (والذي جاء بالصدق
وصدق به) الموصول في موضع رفع بالابتداء، وهو عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن تابعه
وخبره (أولئك هم المتقون) وقيل الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي صدق به
أبو بكر. وقال مجاهد: الذي جاء بالصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي صدق به علي بن
أبي طالب. وقال السدي: الذي جاء بالصدق جبريل، والذي صدق به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال قتادة ومقاتل وابن زيد: الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والذي صدق به المؤمنون،
وقال النخعي: الذي جاء بالصدق وصدق به هم المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة. وقيل إن ذلك عام
في كل من دعا إلى توحيد الله وأرشد إلى ما شرعه لعباده، واختار هذا ابن جرير وهو الذي اختاره من هذه
الأقوال، ويؤيده قراءة ابن مسعود " والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به ". ولفظ الذي كما وقع في قراءة الجمهور
وإن كان مفردا فمعناه الجمع، لأنه يراد به الجنس كما يفيده قوله (أولئك هم المتقون) أي المتصفون بالتقوى التي
هي عنوان النجاة. وقرأ أبو صالح " وصدق به " مخففا: أي صدق به الناس. ثم ذكر سبحانه ما لهؤلاء الصادقين
المصدقين في الآخرة فقال (لهم ما يشاءون عند ربهم) أي لهم كل ما يشاؤونه من رفع الدرجات ودفع المضرات
وتكفير السيئات، وفي هذا ترغيب عظيم وتشويق بالغ، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره من جزائهم
وهو مبتدأ، وخبره قوله (جزاء المحسنين) أي الذين أحسنوا في أعمالهم. وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أن الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. ثم بين سبحانه ما هو
الغاية مما لهم عند ربهم فقال (ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا) فإن ذلك هو أعظم ما يرجونه من دفع الضرر عنهم
لأن الله سبحانه إذا غفر لهم ما هو الأسوأ من أعمالهم غفر لهم ما دونه بطريقة الأولى، واللام متعلقة بيشاؤون
أو بالمحسنين أو بمحذوف. قرأ الجمهور " أسوأ " على أنه أفعل تفضيل. وقيل ليست للتفضيل بل بمعنى سئ الذي
عملوا. وقرأ ابن كثير في رواية عنه أسوأ بألف بين الهمزة والواو بزنة أجمال جمع سوء، (ويجزيهم أجرهم
بأحسن الذي كانوا يعملون) لما ذكر سبحانه ما يدل على دفع المضار عنهم ذكر ما يدل على جلب أعظم المنافع
إليهم وإضافة الأحسن إلى ما بعده ليست من إضافة المفضل إلى المفضل عليه، بل من إضافة الشئ إلى بعضه قصدا
إلى التوضيح من غير اعتبار تفضيل. قال مقاتل: يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ولا يجزيهم بالمساوئ.
وقد أخرج الآجري والبيهقي عن ابن عباس في قوله (غير ذي عوج) قال: غير مخلوق. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم عنه في قوله (ضرب الله مثلا رجلا) الآية قال: الرجل يعبد آلهة شتى، فهذا مثل ضربه الله لأهل
الأوثان (ورجلا سالما) يعبد إلها واحدا ضرب لنفسه مثلا. وأخرجا عنه أيضا في قوله (ورجلا سالما) قال:
ليس لأحد فيه شئ. وأخرج عبد بن حميد والنسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عمر قال:
لقد لبثنا برهة من دهرنا، ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبلنا (إنك ميت وإنهم ميتون)
الآية، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا. وأخرج نعيم بن حماد في الفتن
والحاكم وصححه وابن مردويه عنه نحوه بأطول منه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن مردويه عنه أيضا قال:
نزلت علينا الآية (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون) وما ندري ما تفسيرها حتى وقعت الفتنة، فقلنا هذا
الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه. وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن منيع وعبد بن حميد والترمذي وصححه وابن
463

أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام قال: " لما
نزلت - إنك ميت وإنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون - قلت: يا رسول الله أيكرر علينا ما يكون
بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: نعم ليكررن عليكم ذلك حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه. قال الزبير:
فوالله إن الأمر لشديد ". وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت (ثم إنكم يوم القيامة
عند ربكم تختصمون) كنا نقول: ربنا واحدا وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين
وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا نعم هو هذا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه
والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (والذي جاء بالصدق) يعني بلا إله إلا لله (وصدق به)
يعني برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أولئك هم المتقون) يعني اتقوا الشرك. وأخرج ابن جرير والباوردي
في معرفة الصحابة وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان، وله صحبة عن علي بن أبي طالب قال: الذي جاء
بالصدق محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وصدق به أبو بكر. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مثله.
قوله (أليس الله بكاف عبده) قرأ الجمهور " عبده " بالإفراد. وقرأ حمزة والكسائي " عباده " بالجمع، فعلى
القراءة الأولى المراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
دخولا أوليا، وعلى القراءة الأخرى المراد الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور لقوله
عقبه " ويخوفونك " والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد
أن ينكره. وقيل المراد بالعبد والعباد ما يعم المسلم والكافر. قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر
464

هذا بالثواب، وهذا بالعقاب. وقرئ " بكافي عباده " بالإضافة، وقرئ " يكافي " بصيغة المضارع، وقوله
(ويخوفونك بالذين من دونه) يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى أليس كافيك حال تخويفهم
إياك، ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها (ومن يضلل الله فما له من
هاد) أي من حق عليه القضاء بضلاله فماله من هاد يهديه إلى الرشد ويخرجه من الضلالة، (ومن يهد الله فماله
من مضل) يخرجه من الهداية ويوقعه في الضلالة (أليس الله بعزيز) أي غالب لكل شئ قاهر له (ذي انتقام)
ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه وما ينزله بهم من سوط عقابه (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض
ليقولن الله) ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة
من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة وجهالة عظيمة لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم
ولما يعبدون من دون الله هو الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل وتشريك مخلوق مع
خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول وكمال الإدراك والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم
وأحسنوا الظن بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل. ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم
بعد هذا الاعتراف ويوبخهم فقال (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره)
أي أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضر، والضر هو الشدة أو أعلى (أو أرادني
برحمة هل هن ممسكات رحمته) عنى بحيث لا تصل إلي، والرحمة النعمة والرخاء. قرأ الجمهور ممسكات وكاشفات
في الموضعين بالإضافة وقرأهما أبو عمرو بالتنوين. قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فسكتوا، وقال غيره: قالوا لا تدفع شيئا من قدر الله ولكنها تشفع، فنزل (قل حسبي الله) في جميع أموري
في جلب النفع ودفع الضر (عليه يتوكل المتوكلون) أي عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد
وأبو حاتم قراءة أبي عمرو، لأن كاشفات اسم فاعل في معنى الاستقبال، وما كان كذلك فتنوينه أجود، وبها قرأ
الحسن وعاصم ثم أمره سبحانه أن يهددهم ويتوعدهم فقال (قل يا قوم اعملوا على مكانتكم) أي على حالتكم التي
أنتم عليها وتمكنتم منها (إني عامل) أي على حالتي التي أنا عليها وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله (فسوف
تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه) أي يهينه ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل وخصمه المحق، والمراد بهذا
العذاب عذاب الدنيا وما حل بهم من القتل والأسر والقهر والذلة. ثم ذكر عذاب الآخرة فقال (ويحل عليه
عذاب مقيم) أي دائم مستمر في الدار الآخرة، وهو عذاب النار. ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضل، فقال (إنا أنزلنا عليك
الكتاب للناس) أي لأجلهم ولبيان ما كلفوا به، و (بالحق) حال من الفاعل أو المفعول: أي محقين أو ملتبسا
بالحق (فمن اهتدى) طريق الحق وسلكها (فلنفسه ومن ضل) عنها (فإنما يضل عليها) أي على نفسه، فضرر
ذلك عليه لا يتعدى إلى غيره (وما أنت عليهم بوكيل) أي بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ
وقد فعلت. وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا
الله ويعملوا بأحكام الإسلام. ثم ذكر سبحانه نوعا من أنواع قدرته البالغة وصنعته العجيبة فقال (الله يتوفى
الأنفس حين موتها) أي يقبضها عند حضور أجلها ويخرجها من الأبدان (والتي لم تمت في منامها) أي ويتوفى
الأنفس التي لم تمت: أي لم يحضر أجلها في منامها.
وقد اختلف في هذا، فقيل يقبضها عن التصرف مع بقاء الروح في الجسد. وقال الفراء: المعنى ويقبض التي
465

لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت وفاتها نومها.
قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما نفس التمييز وهي التي تفارقه إذا نام فلا يعقل، والأخرى نفس الحياة
إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس. قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين
شئ واحد، ولهذا قال (فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى) أي النائمة (إلى أجل مسمى) وهو
الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج ابن الأنباري. وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح
الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف (فيمسك التي قضى عليها الموت
ويرسل الأخرى) فيعيدها، والأولى أن يقال إن توفى الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس وحصول الآفة به
في محل الحس، فيمسك التي قضى عليها الموت ولا يردها إلى الجسد الذي كانت فيه ويرسل الأخرى بأن يعيد
عليها إحساسها. قيل ومعنى (يتوفى الأنفس عند موتها) هو على حذف مضاف: أي عند موت أجسادها.
وقد اختلف العقلاء في النفس والروح هل هما شئ واحد أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدا وهو
معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن. قرأ الجمهور " قضى " مبنيا للفاعل: أي قضى الله عليها الموت. وقرأ حمزة
والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله
(الله يتوفى الأنفس) والإشارة بقوله (إن في ذلك) إلى ما تقدم من التوفي والإمساك والإرسال للنفوس (لآيات)
أي لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل (لقوم يتفكرون)
في ذلك ويتدبرونه ويستدلون به على توحيد الله وكمال قدرته، فإن في هذا التوفي والإمساك والإرسال موعظة
للمتعظين وتذكرة للمتذكرين.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (الله يتوفى الأنفس حين موتها) الآية قال:
نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه ويدع الروح في جوفه تتقلب وتعيش، فإن
بدا له أن يقبضه قبض الروح فمات، وإن أخر أجله رد النفس إلى مكانها من جوفه. وأخرج عبد بن حميد وابن
جرير وابن المنذر والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه والضياء في المختارة عنه
في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء وأرواح الأموات في المنام فيتسائلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح
الأموات ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها (إلى أجل مسمى) لا يغلط بشئ منها فذلك قوله (إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون). وأخرج عبد بن حميد عنه أيضا في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليها
الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك. وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه
عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما
تحفظ به عبادك الصالحين ".
466

قوله (أم اتخذوا من دون الله شفعاء) أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة: أي بل اتخذوا من دون الله آلهة
شفعاء لهم عند الله (قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون) الهمزة للإنكار والتوبيخ والواو للعطف
على محذوف مقدر: أي أيشفعون ولو كانوا الخ، وجواب لو محذوف تقديره تتخذونهم: أي وإن كانوا بهذه
الصفة تتخذونهم، ومعنى لا يملكون شيئا أنهم غير مالكين لشئ من الأشياء وتدخل الشفاعة في ذلك دخولا أوليا
ولا يعقلون شيئا من الأشياء لأنها جمادات لا عقل لها، وجمعهم بالواو والنون لاعتقاد الكفار فيهم أنهم يعقلون. ثم
أمره سبحانه بأن يخبرهم أن الشفاعة لله وحده فقال (قل لله الشفاعة جميعا) فليس لأحد منها شئ إلا أن يكون بإذنه
لمن ارتضى، كما في قوله - من ذا الذي يشفع عنده ألا بإذنه - وقوله - ولا يشفعون إلا لمن ارتضى - وانتصاب
جميعا على الحال، وإنما أكد الشفاعة بما يؤكد به الاثنان فصاعدا لأنها مصدر يطلق على الواحد والاثنين والجماعة
ثم وصفه بسعة الملك فقال (له ملك السماوات والأرض) أي يملكهما ويملك ما فيهما ويتصرف في ذلك كيف يشاء
ويفعل ما يريد (ثم إليه ترجعون) لا إلى غيره، وذلك بعد البعث (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين
لا يؤمنون بالآخرة) انتصاب وحده على الحال عند يونس، وعلى المصدر عند الخليل وسيبويه، والاشمئزاز في
اللغة النفور. قال أبو عبيدة: اشمأزت نفرت، وقال المبرد: انقبضت. وبالأول قال قتادة، وبالثاني قال مجاهد
والمعنى متقارب. وقال المؤرج: أنكرت، وقال أبو زيد: اشمأز الرجل ذعر من الفزع، والمناسب للمقام
تفسير اشمأزت بانقبضت، وهو في الأصل الأزورار، وكان المشركون إذا قيل لهم لا إله إلا الله انقبضوا، كما
حكاه الله عنهم في قوله - وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا - ثم ذكر سبحانه استبشارهم
بذكر أصنامهم فقال (وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) أي يفرحون بذلك ويبتهجون به، والعامل
في إذا في قوله (وإذا ذكر الله) الفعل الذي بعدها، وهو اشمأزت، والعامل في إذا في قوله (وإذا ذكر الذين
من دونه) الفعل العامل في إذا الفجائية، والتقدير: فاجئوا الاستبشار وقت ذكر الذين من دونه. ولما لم يقبل
المتمردون من الكفار ما جاءهم به صلى الله عليه وسلم من الدعاء إلى الخير وصمموا على كفرهم، أمره الله
سبحانه أن يرد الأمر إليه فقال (قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك
فيما كانوا فيه يختلفون) وقد تقدم تفسير فاطر السماوات، وتفسير عالم الغيب والشهادة، وهما منصوبان على النداء
ومعنى (تحكم بين عبادك) تجازي المحسن بإحسانه وتعاقب المسئ بإساءته، فإنه بذلك يظهر من هو المحق ومن
هو المبطل، ويرتفع عند خلاف المختلفين وتخاصم المتخاصمين. ثم لما حكى عن الكفار ما حكاه من الاشمئزاز
عند ذكر الله والاستبشار عند ذكر الأصنام ذكر ما يدل على شدة عذابهم وعظيم عقوبتهم فقال (ولو أن للذين
ظلموا ما في الأرض جميعا) أي جميع ما في الدنيا من الأموال والذخائر (ومثله معه) أي منضما إليه (لافتدوا به
467

من سوء العذاب يوم القيامة) أي من سوء عذاب ذلك اليوم وقد مضى تفسير هذا في آل عمران (وبدا لهم من الله ما لم
يكونوا يحتسبون) أي ظهر لهم من عقوبات الله وسخطه وشدة عذابه ما لم يكن في حسابهم، وفي هذا وعيد عظيم
وتهديد بالغ، وقال مجاهد: عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات، وكذا قال السدي. وقال سفيان
الثوري: ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار: جزع
محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا، فقيل له ما هذا الجزع؟ قال: أخاف آية من كتاب الله (وبدا لهم من الله
ما لم يكونوا يحتسبون) فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) أي مساو أعمالهم
من الشرك وظلم أولياء الله، و " ما " يحتمل أن تكون مصدرية: أي سيئات كسبهم، وأن تكون موصولة: أي سيئات
الذي كسبوه (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي أحاط بهم ونزل بهم ما كانوا يستهزئون به من الإنذار الذي
كان ينذرهم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت) الآية قال: قست ونفرت
(قلوب) هؤلاء الأربعة (الذين لا يؤمنون بالآخرة) أبو جهل بن هشام والوليد بن عقبة وصفوان وأبي بن خلف
(وإذا ذكر الذين من دونه) اللات والعزى (وإذا هم يستبشرون). وأخرج مسلم وأبو داود والبيهقي في الأسماء
والصفات عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته: اللهم رب
جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه
يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ".
468

قوله (فإذا مس الإنسان) المراد بالإنسان هنا الجنس باعتبار بعض أفراده أو غالبها، وقيل المراد به الكفار فقط
والأول أولى، ولا يمنع من حمله على الجنس خصوص سببه، لأن الاعتبار بعموم اللفظ وفاء بحق النظم القرآني
ووفاء بمدلوله، والمعنى: أن شأن غالب نوع الإنسان أنه إذا مسه ضر من مرض أو فقر أو غيرهما دعا الله وتضرع
إليه في رفعه ودفعه (ثم إذا خولناه نعمة منا) أي أعطيناه نعمة كائنة من عندنا (قال إنما أوتيته على علم) مني
بوجوه المكاسب، أو على خير عندي، أو على علم من الله بفضلي. وقال الحسن: على علم علمني الله إياه، وقيل
قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة وجاء بالضمير في أوتيته مذكرا مع كونه راجعا إلى النعمة
لأنها بمعنى الإنعام. وقيل إن الضمير عائد إلى ما، وهي موصولة، والأول أولى (بل هي فتنة) هذا رد لما قاله
أي ليس ذلك الذي أعطيناك لما ذكرت، بل هو محنة لك واختبار لحالك أتشكر أم تكفر؟ قال الفراء: أنت
الضمير في قوله " هي " لتأنيث الفتنة، ولو قال بل هو فتنة لجاز. وقال النحاس: بل عطيته فتنة. وقيل تأنيث
الضمير باعتبار لفظ الفتنة، وتذكير الأول في قوله " أوتيته " باعتبار معناها (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن ذلك
استدراج لهم من الله وامتحان لما عندهم من الشكر أو الكفر (قد قالها الذين من قبلهم) أي قال هذه الكلمة التي
قالوها وهي قولهم: إنما أوتيته على علم الذين من قبلهم كقارون وغيره، فإن قارون قال: إنما أوتيته على علم عندي
(فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) يجوز أن تكون ما هذه نافية: أي لم يغن عنهم ما كسبوا من متاع الدنيا شيئا،
وأن تكون استفهامية: أي أي شئ أغنى عنهم ذلك (فأصابهم سيئات ما كسبوا) أي جزاء سيئات كسبهم،
أو أصابهم سيئات هي جزاء كسبهم، وسمى الجزاء سيئات لوقوعها في مقابلة سيئاتهم، فيكون ذلك من باب
المشاكلة كقوله - وجزاء سيئة سيئة مثلها - ثم أوعد سبحانه الكفار في عصره فقال (والذين ظلموا من هؤلاء) الموجودين
من الكفار (سيصيبهم سيئات ما كسبوا) كما أصاب من قبلهم، وقد أصابهم في الدنيا ما أصابهم من القحط والقتل
والأسر والقهر (وما هم بمعجزين) أي بفائتين على الله بل مرجعهم إليه يصنع بهم ما شاء من العقوبة (أولم يعلموا أن
الله يبسط الرزق لمن يشاء) أي يوسع الرزق لمن يشاء أن يوسعه له (ويقدر) أي يقبضه لمن يشاء أن يقبضه ويضيقه
عليه. قال مقاتل: وعظهم الله ليعتبروا في توحيده، وذلك حين مطروا بعد سبع سنين، فقال: أولم يعلموا أن
الله يوسع الرزق لمن يشاء ويقتر على من يشاء (إن في ذلك لآيات) أي في ذلك المذكور لدلالات عظيمة وعلامات
جليلة (لقوم يؤمنون) وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون بالآيات المتفكرون فيها. ثم لما ذكر سبحانه ما ذكره من
الوعيد عقبه بذكر سعة رحمته وعظيم مغفرته وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبشرهم بذلك فقال (قل
يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) المراد بالإسراف الإفراط في المعاصي والاستكثار منها.
ومعنى لا تقنطوا: لا تيأسوا من رحمة الله من مغفرته. ثم لما نهاهم عن القنوط أخبرهم بما يدفع ذلك ويرفعه ويجعل
الرجاء مكان القنوط فقال (إن الله يغفر الذنوب جميعا).
469

واعلم أن هذه الآية أرجا آية في كتاب الله سبحانه لاشتمالها على أعظم بشارة، فإنه أولا أضاف العباد إلى نفسه
لقصد تشريفهم ومزيد تبشيرهم، ثم وصفهم بالإسراف في المعاصي والاستكثار من الذنوب، ثم عقب ذلك بالنهي
عن القنوط من الرحمة لهؤلاء المستكثرين من الذنوب، فالنهي عن القنوط للمذنبين غير المسرفين من باب الأولى
وبفحوى الخطاب، ثم جاء بما لا يبقي بعده شك ولا يتخالج القلب عند سماعه ظن، فقال (إن الله يغفر الذنوب)
فالألف واللام قد صيرت الجمع الذي دخلت عليه للجنس الذي يستلزم استغراق أفراده، فهو في قوة إن الله يغفر
كل ذنب كائنا ما كان، إلا ما أخرجه النص القرآني وهو الشرك - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك
لمن يشاء - ثم لم يكتف بما أخبر عباده به من مغفرة كل ذنب، بل أكد ذلك بقوله (جميعا) فيالها من بشارة ترتاح
لها قلوب المؤمنين المحسنين ظنهم بربهم الصادقين في رجائه. الخالعين لثياب القنوط الرافضين لسوء الظن بمن
لا يتعاظمه ذنب، ولا يبخل بمغفرته ورحمته على عباده المتوجهين إليه في طلب العفو الملتجئين به في مغفرة ذنوبهم
وما أحسن ما علل سبحانه به هذا الكلام قائلا هو الغفور الرحيم: أي كثير المغفرة والرحمة عظيمهما بليغهما
واسعهما، فمن أبى هذا التفضل العظيم والعطاء الجسيم، وظن أن تقنيط عباد الله وتأييسهم حدثنا من رحمته أولى بهم مما
بشرهم الله به، فقد ركب أعظم الشطط وغلط أقبح الغلط، فإن التبشير وعدم التقنيط الذي جاءت به مواعيد الله
في كتابه العزيز، والمسلك الذي سلكه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما صح عنه من قوله " يسروا ولا تعسروا
وبشروا ولا تنفروا ".
وإذا تقرر لك هذا فاعلم أن الجمع بين هذه الآية وبين قوله - إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك
لمن يشاء - هو أن كل ذنب كائنا ما كان ما عدا الشرك بالله مغفور لمن شاء الله أن يغفر له، على أنه يمكن أن يقال
إن إخباره لنا بأنه يغفر الذنوب جميعا يدل على أنه يشاء غفرانها جميعا، وذلك يستلزم أنه يشاء المغفرة لكل المذنبين
من المسلمين فلم يبق بين الآيتين تعارض من هذه الحيثية. وأما ما يزعمه جماعة من المفسرين من تقييد هذه الآية بالتوبة
وأنها لا تغفر إلا ذنوب التائبين وزعموا أنهم قالوا ذلك للجمع بين الآيات. فهو جمع بين الضب والنون، وبين
الملاح والحادي، وعلى نفسها براقش تجنى، ولو كانت هذه البشارة العظيمة مقيدة بالتوبة لم يكن لها كثير موقع،
فإن التوبة من المشرك يغفر الله له بها ما فعله من الشرك بإجماع المسلمين، وقد قال - إن الله لا يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء - فلو كانت التوبة قيدا في المغفرة لم يكن للتنصيص على الشرك فائدة، وقد قال سبحانه
- وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم - قال الواحدي: المفسرون كلهم قالوا: إن هذه الآية في قوم خافوا
إن أسلموا أن لا يغفر لهم ما جنوا من الذنوب العظام، كالشرك وقتل النفس ومعاداة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت: هب أنها في هؤلاء القوم، فكان ماذا؟ فإن الاعتبار بما اشتملت عليه من العموم لا بخصوص
السبب كما هو متفق عليه بين أهل العلم، ولو كانت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية مقيدة بأسبابها غير متجاوزة
لها لارتفعت أكثر التكاليف عن الأمة إن لم ترتفع كلها، واللازم باطل بالإجماع، فالملزوم مثله.
وفي السنة المطهرة من الأحاديث الثابتة في الصحيحين وغيرهما في هذا الباب ما إن عرفه المطلع عليه حق
معرفته وقدره حق قدره علم صحة ما ذكرناه وعرف حقية ما حررناه. قرأ الجمهور " يا عبادي " بإثبات الياء
وصلا ووقفا، وروى أبو بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء. وقرأ الجمهور " تقنطوا " بفتح النون. وقرأ أبو عمرو
والكسائي بكسرها (وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون) أي راجعوا إليه بالطاعة
لما بشرهم سبحانه بأنه يغفر الذنوب جميعا، أمرهم بالرجوع إليه بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، وليس في هذا
470

ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة
العظمى، ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال: إن هذه الجملة مستأنفة خطابا للكفار
الذين لم يسلموا بدليل قوله (وأسلموا له) جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى
وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيدا ولكنه يمكن أن يقال به. والمعنى على ما هو الظاهر: أن الله جمع لعباده بين
التبشير العظيم، والأمر بالإنابة إليه والإخلاص له والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه، وقوله (من قبل أن يأتيكم
العذاب) أي عذاب الدنيا كما يفيده قوله (من قبل أن يأتيكم) فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون وتمسك
به القانطون المقنطون والحمد لله لله رب العالمين (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) يعني القرآن، يقول:
أحلوا حلاله وحرموا حرامه، والقرآن كله حسن. قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معاصيه. وقال السدي:
الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه. وقيل الناسخ دون
المنسوخ، وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام، وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية
(من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون
به، وقيل أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب. والأول أولى لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل
والأسر والقهر والخوف والجدب، لا عذاب الآخرة ولا الموت، لأنه لم يسند الإتيان إليه (أن تقول نفس يا حسرتا
على ما فرطت في جنب الله) قال البصريون: أي حذرا أن تقول. وقال الكوفيون: لئلا تقول. قال المبرد:
بادروا خوف أن تقول، أو حذرا من أن تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون
فيها: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة، وقيل المراد به التكثير كما
في قوله - علمت نفس ما أحضرت - قرأ الجمهور " يا حسرتا " بالألف بدلا من الياء المضاف إليها، والأصل
يا حسرتي، وقرأ ابن كثير " يا حسرتاه " بهاء السكت وقفا، وقرأ أبو جعفر " يا حسرتي " بالياء على الأصل.
والحسرة: الندامة، ومعنى (على ما فرطت في جنب الله) على ما فرطت في طاعة الله، قال الحسن. وقال
الضحاك: على ما فرطت في ذكر الله، ويعنى به القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة (في جنب الله) أي في ثواب
الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله - والصاحب بالجنب - والمعنى
على هذا القول، على ما فرطت في طلب جنب الله: أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي
وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب: أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، ومنه قول الشاعر:
* للناس جنب والأمير جنب * أي الناس من جانب والأمير من جانب (وإن كنت لمن الساخرين) أي
وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، ومحل الجملة النصب على الحال. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع
طاعة الله حتى سخر من أهلها (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت
ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة
كما في قوله - سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا - فهي كلمة حق يريدون بها باطلا. ثم ذكر سبحانه مقالة
أخرى مما قالوا فقال (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) أي رجعة إلى الدنيا (فأكون من المحسنين)
المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفا على كرة فإنها مصدر،
وأكون في تأويل المصدر: كما في قول الشاعر:
471

للبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف
وأنشد الفراء على هذا:
فما لك منها غير ذكري وخشية * وتسأل عن ركبانها أين يمموا
وإما لكونه جواب التمني المفهوم من قوله (لو أن لي كرة). ثم ذكر سبحانه جوابه على هذه النفس المتمنية
المتعللة بغير علة فقال (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) المراد بالآيات هي
الآيات التنزيلية وهو القرآن، ومعنى التكذيب بها قوله: إنها ليس من عند الله وتكبر عن الإيمان بها، وكان مع
ذلك التكذيب والاستكبار من الكافرين بالله. وجاء سبحانه بخطاب المذكر في قوله: جاءتك وكذبت واستكبرت
وكنت، لأن النفس تطلق على المذكر والمؤنث. قال المبرد: تقول العرب نفس واحد: أي إنسان واحد، وبفتح
التاء في هذه المواضع قرأ الجمهور. وقرأ الجحدري وأبو حيوة ويحيى بن يعمر بكسرها في جميعها، وهي قراءة
أبي بكر وابنته عائشة وأم سلمة، ورويت عن ابن كثير (ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم
مسودة) أي ترى الذين كذبوا على الله بأن له شركاء وصاحبة وولدا وجوههم مسودة لما أحاط بهم من العذاب،
وشاهدوه من غضب الله ونقمته، وجملة " وجوههم مسودة " في محل نصب على الحال. قال الأخفش: ترى
غير عامل في وجوههم مسودة، إنما هو مبتدأ وخبر، والأولى أن ترى إن كانت من الرؤية البصرية، فجملة
" وجوههم مسودة " حالية، وإن كانت قلبية فهي في محل نصب على أنها المفعول الثاني لترى، والاستفهام في
قوله (أليس في جهنم مثوى للمتكبرين) للتقرير: أي أليس فيها مقام للمتكبرين عن طاعة الله، والكبر هو بطر
الحق وغمط الناس كما ثبت في الحديث الصحيح (وينجي الله الذين اتقوا) أي اتقوا الشرك ومعاصي الله، والباء
في (بمفازتهم) متعلقة بمحذوف هو حال من الموصول: أي ملتبسين بمفازتهم. قرأ الجمهور " بمفازتهم " بالإفراد
على أنها مصدر ميمي والفوز: الظفر بالخير والنجاة من الشر. قال المبرد: المفازة مفعلة من الفوز وهو السعادة،
وإن جمع فحسن: كقولك السعادة والسعادات. والمعنى ينجيهم الله بفوزهم: أي بنجاتهم من النار وفوزهم بالجنة.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر بمفازاتهم جمع مفازة، وجمعها مع كونها مصدرا لاختلاف الأنواع، وجملة (لا يمسهم
السوء) في محل نصب على الحال من الموصول، وكذلك جملة (ولا هم يحزنون) في محل نصب على الحال: أي
ينفي السوء والحزن عنهم، ويجوز أن تكون الباء في بمفازتهم للسببية: أي بسبب فوزهم مع انتفاء مساس السوء لهم
وعدم وصول الحزن إلى قلوبهم لأنهم رضوا بثواب الله وأمنوا من عقابه.
وقد أخرج ابن أبي حاتم قال السيوطي بسند صحيح وابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت (قل يا عبادي
الذين أسرفوا) الآية في مشركي أهل مكة. وأخرج ابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه
والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر قال: كنا نقول ليس لمفتتن توبة وما الله بقابل منه شيئا، عرفوا الله وآمنوا به
وصدقوا رسوله ثم رجعوا عن ذلك لبلاء أصابهم، وكانوا يقولونه لأنفسهم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم المدينة أنزل الله فيهم (يا عبادي الذين أسرفوا) الآيات، قال ابن عمر: فكتبتها بيدي، ثم بعثت بها
إلى هشام بن العاصي. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعد قال: لما أسلم وحشي أنزل الله - والذين
لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - قال وحشي وأصحابه: قد ارتكبنا هذا كله،
فأنزل الله (قل يا عبادي الذين أسرفوا) الآية. وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: " خرج
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رهط من أصحابه وهم يضحكون ويتحدثون فقال: والذي نفسي بيده لو
تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ثم انصرف وأبكى القوم، وأوحى الله إليه: يا محمد لم تقنط عبادي
472

فرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبشروا وسددوا وقاربوا ". وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه
عن عمر بن الخطاب أنها نزلت فيمن أفتن. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس أنها نزلت في مشركي
مكة لما قالوا إن الله لا يغفر لهم ما قد اقترفوه من الشرك وقتل الأنفس وغير ذلك. وأخرج أحمد وابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ما أحب
أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) إلى آخر الآية، فقال رجل ومن أشرك؟
فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال إلا ومن أشرك ثلاث مرات ". وأخرج أحمد وعبد بن حميد وأبو داود
والترمذي وحسنه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف والحاكم وابن مردويه عن أسماء بنت يزيد سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ " يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب
جميعا ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ". وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله وابن
جرير وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود أنه مر على قاض يذكر الناس فقال: يا مذكر
الناس لا تقنط الناس، ثم قرأ (يا عبادي الذين أسرفوا) الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي
أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن - من يعمل سوءا أو يظلم نفسه - الآية ونحوها، فقال علي:
ما في القرآن أوسع من (يا عبادي) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله (يا عبادي الذين
أسرفوا على أنفسهم) الآية قال: قد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن المسيح ابن الله، ومن زعم أن عزيرا ابن الله،
ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أن يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول لهؤلاء - أفلا يتوبون إلى الله
ويستغفرونه والله غفور رحيم - ثم دعا إلى توبته من هو أعظم قولا من هؤلاء من - قال أنا ربكم الأعلى - وقال
- ما علمت لكم من إله غيري - قال ابن عباس، ومن آيس العباد من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله، ولكن
لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله
(أن تقول نفس) قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوا، وعلمهم قبل أن يعلموا.
473

قوله (الله خالق كل شئ) من الأشياء الموجودة في الدنيا والآخرة كائنا ما كان من غير فرق بين شئ وشئ
وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأنعام (وهو على كل شئ وكيل) أي الأشياء كلها موكولة إليه فهو القائم بحفظها
وتدبيرها من غير مشارك له (له مقاليد السماوات والأرض) المقاليد واحدها مقليد ومقلاد أو لا واحد له من لفظه
كأساطير، وهي مفاتيح السماوات والأرض والرزق والرحمة. قاله مقاتل وقتادة وغيرهما. وقال الليث: المقلاد
الخزانة، ومعنى الآية له خزائن السماوات والأرض، وبه قال الضحاك والسدي. وقيل خزائن السماوات المطر
وخزائن الأرض النبات. وقيل هي عبارة عن قدرته سبحانه وحفظه لها، والأول أولى. قال الجوهري: الإقليد
المفتاح، ثم قال: والجمع المقاليد. وقيل هي لا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله،
ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقيل غير ذلك (والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون) أي بالقرآن وسائر الآيات
الدالة على الله سبحانه وتوحيده، ومعنى الخاسرون: الكاملون في الخسران لأنهم صاروا بهذا الكفر إلى النار (قل
أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون) الاستفهام للإنكار التوبيخي، والفاء للعطف على مقدر كنظائره، وغير
منصوب بأعبد، وأعبد معمول لتأمروني كان على تقدير أن المصدرية، فلما حذفت بطل عملها، والأصل: أفتأمروني
أن أعبد غير الله. قاله الكسائي وغيره. ويجوز أن يكون غير منصوبا بتأمروني، وأعبد بدل منه بدل اشتمال، وأن
مضمرة معه أيضا. ويجوز أن يكون غير منصوبة بفعل مقدر: أي أفتلزموني غير الله: أي عبادة غير الله أو أعبد
غير الله أعبد. أمره الله سبحانه أن يقول هذا للكفار لما دعوه إلى ما هم عليه من عبادة الأصنام وقالوا هو دين
آبائك. قرأ الجمهور " تأمروني " بإدغام نون الرفع في نون الوقاية على خلاف بينهم في فتح الياء وتسكينها. وقرأ
نافع " تأمروني " بنون خفيفة وفتح الياء، وقرأ ابن عامر " تأمرونني " بالفك وسكون الياء (ولقد أوحى إليك وإلى
الذين من قبلك) أي من الرسل (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) هذا الكلام من باب التعريض
لغير الرسل، لأن الله سبحانه قد عصمهم عن الشرك، ووجه إيراده على هذا الوجه التحذير والإنذار للعباد من
الشرك، لأنه إذا كان موجبا لإحباط عمل الأنبياء على الفرض، والتقدير فهو محبط لعمل غيرهم من أممهم بطريق
الأولى. قيل وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: ولقد أوحى إليك لئن أشركت وأوحى إلى الذين من قبلك
كذلك. قال مقاتل: أي أوحى إليك وإلى الأنبياء قبلك بالتوحيد والتوحيد محذوف، ثم قال: لئن أشركت
يا محمد ليحبطن عملك، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. وقيل إفراد الخطاب في قوله (لئن
أشركت) باعتبار كل واحد من الأنبياء: كأنه قيل أوحى إليك وإلى كل واحد من الأنبياء هذا الكلام. وهو لئن
أشركت، وهذه الآية مقيدة بالموت على الشرك كما في الآية الأخرى - ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر
فأولئك حبطت أعمالهم - وقيل هذا خاص بالأنبياء لأن الشرك منهم أعظم ذنبا من الشرك من غيرهم، والأول أولى،
474

ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بتوحيده، فقال (بل الله فاعبد) وفي هذا رد على المشركين
حيث أمروه بعبادة الأصنام، ووجه الرد ما يفيده التقديم من القصر. قال الزجاج: لفظ اسم الله منصوب بأعبد
قال: ولا اختلاف في هذا بين البصريين والكوفيين. وقال الفراء: هو منصوب بإضمار فعل، وروي مثله عن
الكسائي، والأول أولى. قال الزجاج: والفاء في فاعبد للمجازاة. وقال الأخفش: زائدة. قال عطاء ومقاتل:
معنى فاعبد وحد، لأن عبادته لا تصح إلا بتوحيده (وكن من الشاكرين) لإنعامه عليك بما هداك إليه من التوحيد
والدعاء إلى دينه واختصك به من الرسالة (وما قدروا الله حق قدره) قال المبرد: أي ما عظموه حق عظمته،
من قولك فلان عظيم القدر، وإنما وصفهم بهذا لأنهم عبدوا غير الله وأمروا رسوله بأن يكون مثلهم في الشرك.
وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر قدروا بالتشديد (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) القبضة في اللغة
ما قبضت عليه بجميع كفك، فأخبر سبحانه عن عظيم قدرته بأن الأرض كلها مع عظمها وكثافتها في مقدوره
كالشئ الذي يقبض عليه القابض بكفه كما يقولون: هو في يد فلان وفي قبضته للشيء الذي يهون عليه التصرف
فيه وإن لم يقبض عليه، وكذا قوله (والسماوات مطويات بيمينه) فإن ذكر اليمين للمبالغة في كمال القدرة كما يطوي
الواحد منا الشئ المقدور له طيه بيمينه، واليمين في كلام العرب قد تكون بمعنى القدرة والملك. قال الأخفش:
بيمينه يقول في قدرته، نحو قوله - أو ما ملكت أيمانكم - أي ما كانت لكم قدرة عليه، وليس الملك لليمين دون
الشمال وسائر الجسد، ومنه قوله سبحانه - لأخذنا منه باليمين - أي بالقوة والقدرة، ومنه قول الشاعر:
إذا ما راية نصبت لمجد * تلقاها عرابة باليمين
وقول الآخر: ولما رأيت الشمس أشرق نورها * تناولت منها حاجتي بيمين
وقول الآخر: عطست بأنف شامخ وتناولت * يداي الثريا قاعدا غير قائم
وجملة (والأرض جميعا قبضته) في محل نصب على الحال: أي ما عظموه حق تعظيمه، والحال أنه متصف
بهذه الصفة الدالة على كمال القدرة. قرأ الجمهور برفع " قبضته " على أنها خبر المبتدأ، وقرأ الحسن بنصبها، ووجهه
ابن خالويه بأنه على الظرفية: أي في قبضته. وقرأ الجمهور " مطويات " بالرفع على أنها خبر المبتدأ، والجملة في
محل نصب على الحال كالتي قبلها، وبيمينه متعلق بمطويات، أو حال من الضمير في مطويات أو خبر ثان، وقرأ
عيسى والجحدري بنصب " مطويات " ووجه ذلك أن السماوات معطوفة على الأرض، وتكون قبضته خبرا عن
الأرض والسماوات، وتكون مطويات حالا، أو تكون مطويات منصوبة بفعل مقدر، وبيمينه الخبر، وخص
يوم القيامة بالذكر وإن كانت قدرته شاملة، لأن الدعاوي تنقطع فيه كما قال سبحانه - الملك يومئذ لله - وقال
- مالك يوم الدين - ثم نزه سبحانه نفسه فقال (سبحانه وتعالى عما يشركون) به من المعبودات التي يجعلونها شركاء
له مع هذه القدرة العظيمة والحكمة الباهرة (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض) هذه هي
النفخة الأولى، والصور هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، وقد تقدم غير مرة، ومعنى صعق: زالت عقولهم
فخروا مغشيا عليهم، وقيل ماتوا. قال الواحدي: قال المفسرون: مات من الفزع وشدة الصوت أهل السماوات
والأرض. قرأ الجمهور " الصور " بسكون الواو، وقرأ قتادة وزيد بن علي بفتحها جمع صورة، والاستثناء في قوله
(إلا من شاء الله) متصل، والمستثنى جبريل وميكائيل وإسرافيل، وقيل رضوان وحملة العرش وخزنة الجنة والنار
(ثم نفخ فيه أخرى) يجوز أن يكون أخرى في محل رفع على النيابة وهي صفة لمصدر محذوف: أي نفخة أخرى،
ويجوز أن يكون في محل نصب والقائم مقام الفاعل فيه (فإذا هم قيام ينظرون) يعنى الخلق كلهم قيام على أرجلهم
475

ينظرون ما يقال لهم أو ينتظرون ذلك. قرأ الجمهور " قيام " بالرفع على أنه خبر، وينظرون في محل نصب على الحال
وقرأ زيد بن علي بالنصب على أنه حال، والخبر ينظرون، والعامل في الحال ما عمل في إذا الفجائية. قال الكسائي:
كما تقول خرجت فإذا زيد جالسا (وأشرقت الأرض بنور ربها) الإشراق الإضاءة، يقال أشرقت الشمس:
إذا أضاءت، وشرقت: إذا طلعت، ومعنى بنور ربها: بعدل ربها، قاله الحسن وغيره. وقال الضحاك: بحكم
ربها، والمعنى: أن الأرض أضاءت وأنارت بما أقامه الله من العدل بين أهلها، وما قضى به من الحق فيهم،
فالعدل نور والظلم ظلمات. وقيل إن الله يخلق نورا يوم القيامة يلبسه وجه الأرض فتشرق به غير نور الشمس
والقمر، ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي، فإن الله سبحانه هو نور السماوات والأرض. قرأ الجمهور
" أشرقت " مبنيا للفاعل، وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على البناء للمفعول " ووضع الكتاب "
قيل هو اللوح المحفوظ. وقال قتادة: يعني الكتب والصحف التي فيها أعمال بني آدم فآخذ بيمينه وآخذ بشماله،
وكذا قال مقاتل. وقيل هو من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه: أي وضع الكتاب للحساب (وجئ بالنبيين)
أي جيء بهم إلى الموقف فسئلوا عما أجابتهم به أممهم (والشهداء) الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلى الله
عليه وآله وسلم كما في قوله - وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس - وقيل المراد بالشهداء الذين
استشهدوا في سبيل الله، فيشهدون يوم القيامة لمن ذب عن دين الله. وقيل هم الحفظة كما قال تعالى - وجاءت كل
نفس معها سائق وشهيد - (وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون) أي وقضى بين العباد بالعدل والصدق، والحال
أنهم لا يظلمون: أي لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على ما يستحقونه من عقابهم (ووفيت كل نفس ما عملت)
من خير وشر (وهو أعلم بما يفعلون) في الدنيا لا يحتاج إلى كاتب ولا حاسب ولا شاهد، وإنما وضع الكتاب
وجئ بالنبيين والشهداء لتكميل الحجة وقطع المعذرة. ثم ذكر سبحانه تفصيل ما ذكره من توفية كل نفس ما كسبت
فقال (وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا) أي سيق الكافرون إلى النار حال كونهم زمرا: أي جماعات متفرقة
بعضها يتلوا بعضا. قال أبو عبيدة والأخفش: زمرا جماعات متفرقة بعضها إثر بعض، ومنه قول الشاعر:
وترى الناس إلى أبوابه * زمرا تنتابه بعد زمر
واشتقاقه من الزمر، وهو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه (حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها) أي فتحت
أبواب النار ليدخلوها، وهي سبعة أبواب، وقد مضى بيان ذلك في سورة الحجر (وقال لهم خزنتها) جمع خازن
نحو سدنة وسادن (ألم يأتكم رسل منكم) أي من أنفسكم (يتلون عليكم آيات ربكم) التي أنزلها عليهم (وينذرونكم
لقاء يومكم هذا) أي يخوفونكم لقاء هذا اليوم الذي صرتم فيه، قالوا لهم هذا القول تقريعا وتوبيخا، فأجابوا
بالاعتراف ولم يقدروا على الجدل الذي كانوا يتعللون به في الدنيا لانكشاف الأمر وظهوره، ولهذا (قالوا بلى)
أي قد أتتنا الرسل بآيات الله وأنذرونا بما سنلقاه (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) وهي - لأملأن جهنم
من الجنة والناس أجمعين - فلما اعترفوا هذا الاعتراف (قيل ادخلوا أبواب جهنم) التي قد فتحت لكم لتدخلوها
وانتصاب (خالدين) على الحال: أي مقدرين الخلود (فبئس مثوى المتكبرين) المخصوص بالذم محذوف:
أي بئس مثواهم جهنم، وقد تقدم تحقيق المثوى في غير موضع.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (مقاليد السماوات والأرض) قال:
مفاتيحها. وأخرج أبو يعلى ويوسف القاضي في سننه وأبو الحسن القطان وابن السني وابن المنذر وابن أبي حاتم
476

وابن مردويه عن عثمان بن عفان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله (له مقاليد السماوات
والأرض) فقال لي: " يا عثمان لقد سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، مقاليد السماوات والأرض: لا إله
إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو، الأول والآخر، والظاهر
والباطن، يحيي ويميت وهو حي لا يموت، بيده الخير وهو على كل شئ قدير، ثم ذكر فضل هذه الكلمات "
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس عن عثمان قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أخبرني عن
مقاليد السماوات والأرض، فذكره. وأخرجه الحارث بن أبي أسامة وابن مردويه عن أبي هريرة عن عثمان.
وأخرجه العقيلي والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عمر عن عثمان. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن قريشا
دعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء
ويطأون عقبه، فقالوا له: هذا لك يا محمد وتكف عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء، قال: حتى أنظر ما يأتيني
من ربي، فجاء بالوحي - قل يا أيها الكافرون - إلى آخر السورة، وأنزل الله عليه (قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها
الجاهلون) إلى قوله (من الخاسرين). وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: جاء حبر من الأحبار
إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يحمل السماوات يوم القيامة على أصبع والشجر
على أصبع والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، فيقول أنا الملك، فضحك رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وما قدروا الله حق
قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة) وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة سمعت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم يقول " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك
الأرض؟ " وفي الباب أحاديث وآثار تقتضي حمل الآية على ظاهرها من دون تكلف لتأويل ولا تعسف لقال وقيل.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى
على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه، فقال: أتقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: " قال الله (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات
ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) فأكون أول من يرفع رأسه، فإذا أنا
بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله ". وأخرج أبو يعلى والدارقطني
في الإفراد وابن المنذر والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم في قوله (إلا من شاء الله) قال: " هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول عرشه تتلقاهم الملائكة يوم القيامة "
الحديث. وأخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد من أقوال أبي هريرة. وأخرج الفريابي وابن جرير وأبو نصر
السجزي في الإبانة وابن مردويه عن أنس أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله (إلا من شاء
الله) فقال: " جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش ". وأخرج ابن المنذر عن جابر في قوله (إلا
من شاء الله) قال: موسى، لأنه كان صعق قبل. والأحاديث الواردة في كيفية نفخ الصور كثيرة. وأخرج عبد
ابن حميد عن ابن عباس في قوله (وجئ بالنبيين والشهداء) قال: النبيين الرسل، والشهداء الذين يشهدون لهم
بالبلاغ ليس فيهم طعان ولا لعان. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه في الآية قال: يشهدون بتبليغ الرسالة
وتكذيب الأمم إياهم.
477

لما ذكر فيما تقدم حال الذين كفروا وسوقهم إلى جهنم، ذكر هنا حال المتقين وسوقهم إلى الجنة فقال (وسيق
الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا) أي ساقتهم الملائكة سوق إعزاز وتشريف وتكريم. وقد سبق بيان معنى الزمر
(حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها) جواب إذا محذوف. قال المبرد تقديره: سعدوا وفتحت، وأنشد قول الشاعر:
فلو أنها نفس تموت جميعة * ولكنها نفس تساقط أنفسا
فحذف جواب لو، والتقدير: لكان أروح. وقال الزجاج: القول عندي أن الجواب محذوف على تقدير:
حتى إذا جاءوها، وكانت هذه الأشياء التي ذكرت دخلوها فالجواب دخولها وحذف لأن في الكلام دليلا
عليه. وقال الأخفش والكوفيون: الجواب فتحت والواو زائدة، وهو خطأ عند البصريين، لأن الواو من
حروف المعاني فلا تزاد. وقيل إن زيادة الواو دليل على أن الأبواب فتحت لهم قبل أن يأتوا لكرامتهم على الله،
والتقدير: حتى إذا جاءوها وأبوابها مفتحة بدليل قوله - جنات عدن مفتحة لهم الأبواب - وحذفت الواو في قصة
أهل النار، لأنهم وقفوا على النار وفتحت بعد وقوفهم إذلالا وترويعا. ذكر معناه النحاس منسوبا إلى بعض
أهل العلم، قال: ولا أعلم أنه سبقه إليه أحد. وعلى هذا القول تكون الواو واو الحال بتقدير قد: أي جاءوها
وقد فتحت لهم الأبواب. وقيل إنها واو الثمانية، وذلك أن من عادة العرب أنهم كانوا يقولون في العدد: خمسة
ستة سبعة وثمانية، وقد مضى القول في هذا في سورة براءة مستوفى وفي سورة الكهف أيضا. ثم أخبر سبحانه
أن خزنة الجنة يسلمون على المؤمنين فقال (وقال لهم خزنتها سلام عليكم) أي سلامة لكم من كل آفة (طبتم) في
الدنيا فلم تتدنسوا أبي بالشرك والمعاصي. قال مجاهد: طبتم بطاعة الله، وقيل بالعمل الصالح، والمعنى واحد. قال
مقاتل: إذا قطعوا جسر جهنم حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم حتى
إذا هذبوا وطيبوا قال لهم رضوان وأصحابه (سلام عليكم) الآية (فادخلوها) أي ادخلوا الجنة (خالدين) أي
مقدرين الخلود فعند ذلك قال أهل الجنة (الحمد لله الذي صدقنا وعده) بالبعث والثواب بالجنة (وأورثنا
الأرض) أي أرض الجنة كأنها صارت من غيرهم إليهم فملكوها وتصرفوا فيها، وقيل إنهم ورثوا الأرض التي
كانت لأهل النار لو كانوا مؤمنين. قاله أكثر المفسرين. وقيل إنها أرض الدنيا، وفي الكلام تقديم وتأخير
(نتبوأ من الجنة حيث نشاء) أي نتخذ فيها من المنازل ما نشاء حيث نشاء (فنعم أجر العاملين) المخصوص بالمدح
محذوف: أي فنعم أجر العاملين الجنة، وهذا من تمام قول أهل الجنة. وقيل هو من قول الله سبحانه (وترى
الملائكة حافين من حول العرش) أي محيطين محدقين به، يقال حف القوم بفلان إذا أطافوا به، و " من " مزيدة.
478

قاله الأخفش، أو للابتداء، والمعنى: أن الرائي يراهم بهذه الصفة في ذلك اليوم وجملة (يسبحون بحمد ربهم)
في محل نصب على الحال: أي حال كونهم مسبحين لله ملتبسين بحمده، وقيل معنى يسبحون يصلون حول العرش
شكرا لربهم، والحافين جمع حاف، قاله الأخفش. وقال الفراء: لا واحد له إذ لا يقع لهم هذا الاسم إلا مجتمعين
(وقضى بينهم بالحق) أي بين العباد بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقيل بين النبيين الذين جيء بهم مع
الشهداء وبين أممهم بالحق، وقيل بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب درجاتهم، والأول أولى (وقيل
الحمد لله رب العالمين) القائلون هم المؤمنون حمدوا الله على قضائه بينهم وبين أهل النار بالحق، وقيل القائلون هم
الملائكة حمدوا الله تعالى على عدله في الحكم وقضائه بين عباده بالحق.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء
إضاءة ". وأخرجا وغيرهما عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " في الجنة ثمانية أبواب
منها باب يسمى باب الريان لا يدخله إلا الصائمون " وقد ورد في كون أبواب الجنة ثمانية أبواب أحاديث في
الصحيحين وغيرهما. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة في قوله (وأورثنا الأرض) قال: أرض الجنة.
وأخرج هناد عن أبي العالية مثله.
تفسير سورة غافر
وهي سورة المؤمن، وتسمى سورة الطول
وهي مكية في قول الحسن وعطاء وعكرمة وجابر. قال الحسن: إلا قوله (وسبح بحمد ربك) لأن الصلوات
نزلت بالمدينة. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين نزلتا بالمدينة، وهما (إن الذين يجادلون في آيات الله) والتي
بعدها، وهي خمس وثمانون آية، وقيل اثنتان وثمانون آية. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: أنزلت
سورة حم المؤمن بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. وأخرج ابن الضريس والنحاس والبيهقي في
الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت الحواميم السبع بمكة. وأخرج ابن مردويه والديلمي عن سمرة بن جندب قال:
نزلت الحواميم جميعا بمكة. وأخرج محمد بن نصر وابن مردويه عن أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول " إن الله أعطاني السبع الحواميم مكان التوراة، وأعطاني الراءات إلى الطواسين مكان الإنجيل
وأعطاني ما بين الطواسين إلى الحواميم مكان الزبور، وفضلني بالحواميم والمفصل ما قرأهن نبي قبلي ". وأخرج
أبو عبيد في فضائله عن ابن عباس قال: إن لكل شئ لبابا، وإن لباب القرآن آل حم. وأخرج أبو عبيد وابن
الضريس وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال: الحواميم ديباج القرآن. وأخرج أبو عبيد
ومحمد بن نصر وابن المنذر عنه قال: إذا وقعت في آل حم وقعت في روضات دمثات أتأنق فيهن. وأخرج
أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الحواميم ديباج القرآن ".
وأخرج البيهقي في الشعب عن خليل بن مرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " الحواميم سبع، وأبواب
النار سبع، تجيء كل حم منها تقف على باب من هذه الأبواب تقول: اللهم لا تدخل من هذا الباب من كان يؤمن
بي ويقرؤني ". وأخرج أبو عبيد وابن سعد ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال:
479

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما
حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي، حفظ بهما حتى يصبح ".
قوله (حم) قرأ الجمهور بفتح الحاء مشبعا، وقرأ حمزة والكسائي بإمالته إمالة محضة. وقرأ أبو عمرو بإمالته
بين بين، وقرأ الجمهور حم بسكون الميم كسائر الحروف المقطعة. وقرأ الزهري بضمها على أنها خبر مبتدأ مضمر
أو مبتدأ والخبر ما بعده. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي بفتحها على أنها منصوبة بفعل مقدر أو على أنها حركة بناء لا حركة
إعراب. وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو السماك بكسرها لالتقاء الساكنين، أو بتقدير القسم. وقرأ الجمهور بوصل الحاء
بالميم. وقرأ أبو جعفر بقطعها.
وقد اختلف في معناه، فقيل هو اسم من أسماء الله، وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال الضحاك والكسائي:
معناه قضى، وجعلاه بمعنى حم: أي قضى ووقع، وقيل معناه حم أمر الله: أي قرب نصره لأوليائه وانتقامه
من أعدائه. وهذا كله تكلف لا موجب له وتعسف لا ملجئ إليه، والحق أن هذه الفاتحة لهذه السورة وأمثالها من
المتشابه الذي استأثر الله بعلم معناه كما قدمنا تحقيقه في فاتحة سورة البقرة (تنزيل الكتاب) هو خبر لحم على تقدير
أنه مبتدأ، أو خبر لمبتدأ مضمر، أو هو مبتدأ وخبره (من الله العزيز العليم) قال الرازي: المراد بتنزيل المنزل،
والمعنى: أن القرآن منزل من عند الله ليس بكذب عليه. والعزيز الغالب القاهر، والعليم: الكثير العلم بخلقه
وما يقولونه ويفعلونه (غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) قال الفراء: جعلها كالنعت للمعرفة، وهي
480

نكرة، ووجه قوله هذا أن إضافتها لفظية، ولكنه يجوز أن تجعل إضافتها معنوية كما قال سيبويه أن كل ما إضافته
غير محضة يجوز أن تجعل محضة وتوصف به المعارف إلا الصفة المشبهة. وأما الكوفيون فلم يستثنوا شيئا بل جعلوا
الصفة المشبهة كاسم الفاعل في جواز جعلها إضافة محضة، وذلك حيث لا يراد بها زمان مخصوص، فيجوزون في
شديد هنا أن تكون إضافته محضة. وعلى قول سيبويه لا بد من تأويله بمشدد. وقال الزجاج: إن هذه الصفات
الثلاث مخفوضة على البدل. وروي عنه أنه جعل غافر وقابل مخفوضين على الوصف وشديد مخفوض على البدل
والمعنى: غافر الذنب لأوليائه وقابل توبتهم وشديد العقاب لأعدائه، والتوب مصدر بمعنى التوبة من تاب يتوب
توبة وتوبا، وقيل هو جمع توبة، وقيل غافر الذنب لمن قال لا إله إلا الله، وقابل التوب من الشرك، وشديد
العقاب لمن لا يوحده، وقوله (ذي الطول) يجوز أن يكون صفة، لأنه معرفة وأن يكون بدلا، وأصل الطول
الإنعام والتفضل: أي ذي الإنعام على عباده والتفضل عليهم. وقال مجاهد: ذي الغنى والسعة. ومنه قوله - ومن
لم يستطع منكم طولا - أي غنى وسعة، وقال عكرمة: ذي الطول ذي المن. قال الجوهري: والطول بالفتح المن
يقال منه طال عليه ويطول عليه إذا أمتن عليه. وقال محمد بن كعب: ذي الطول ذي التفضل. قال الماوردي:
والفرق بين المن والتفضل أن المن عفو عن ذنب، والتفضل إحسان غير مستحق. ثم ذكر ما يدل على توحيده
وأنه الحقيق بالعبادة فقال (لا إله إلا هو إليه المصير) لا إلى غيره، وذلك في اليوم الآخر. ثم لما ذكر أن القرآن
كتاب الله أنزله ليهتدى به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه لقصد إبطاله فقال (ما يجادل في آيات الله إلا الذين
كفروا) أي ما يخاصم في دفع آيات الله وتكذيبها إلا الذين كفروا، والمراد الجدال بالباطل والقصد إلى دحض
الحق كما في قوله - وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق - فأما الجدال لاستيضاح الحق ورفع اللبس والبحث
عن الراجح والمرجوح وعن المحكم والمتشابه ودفع ما يتعلق به المبطلون من متشابهات القرآن، وردهم بالجدال
إلى المحكم فهو من أعظم ما يتقرب المتقربون، وبذلك أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا الكتاب فقال - وإذ أخذ الله
ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه - وقال - إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات
والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون - وقال - ولا تجادلوا أهل الكتاب
إلا بالتي هي أحسن - (فلا يغررك تقلبهم في البلاد) لما حكم سبحانه على المجادلين في آيات الله بالكفر، نهى
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يغتر بشئ من حظوظهم الدنيوية فقال: فلا يغررك ما يفعلونه من التجارة
في البلاد وما يحصلونه من الأرباح ويجمعونه من الأموال فإنهم معاقبون عما قليل وإن أمهلوا فإنهم لا يهملون. قال
الزجاج: لا يغررك سلامتهم بعد كفرهم، فإن عاقبتهم الهلاك. قرأ الجمهور " لا يغررك " بفك الإدغام. وقرأ زيد
ابن علي وعبيد بن عمير بالإدغام. ثم بين حال من كان قبلهم، وأن هؤلاء سلكوا سبيل أولئك في التكذيب فقال
(كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم) الضمير في من بعدهم يرجع إلى قوم نوح: أي وكذبت الأحزاب
الذين تحزبوا على الرسل من بعد قوم نوح كعاد وثمود (وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه) أي همت كل أمة من
تلك الأمم المكذبة برسولهم الذي أرسل إليهم ليأخذوه ليتمكنوا منه فيحبسوه ويعذبوه ويصيبوا منه ما أرادوا. وقال
قتادة والسدي: ليقتلوه، والأخذ قد يرد بمعنى الإهلاك، كقوله - فأخذتهم فكيف كان نكير - والعرب تسمي
الأسير الأخيذ (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) أي خاصموا رسولهم بالباطل من القول ليدحضوا به الحق
ليزيلوه، ومنه مكان دحض: أي مزلقة ومزلة أقدام، والباطل داحض لأنه يزلق ويزول فلا يستقر. قال يحيى
ابن سلام: جادلوا الأنبياء بالشرك ليبطلوا به الإيمان (فأخذتهم فكيف كان عقاب) أي فأخذت هؤلاء المجادلين
481

بالباطل، فكيف كان عقابي الذي عاقبتهم به، وحذف ياء المتكلم من عقاب اجتراء بالكسرة عنها وصلا ووقفا
لأنها رأس آية (وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا) أي وجبت وثبتت ولزمت، يقال حق الشئ إذا
لزم وثبت، والمعنى: وكما حقت كلمة العذاب على الأمم المكذبة لرسلهم حقت على الذين كفروا به وجادلوك
بالباطل وتحزبوا عليك، وجملة (أنهم أصحاب النار) للتعليل: أي لأجل أنهم مستحقون للنار. قال الأخفش: أي
لأنهم، أو بأنهم. ويجوز أن تكون في محل رفع بدلا من كلمة. قرأ الجمهور " كلمة " بالتوحيد، وقرأ نافع وابن
عامر " كلمات " بالجمع. ثم ذكر أحوال حملة العرش ومن حوله فقال (الذين يحملون العرش ومن حوله)
والموصول مبتدأ، وخبره يسبحون بحمد ربهم، والجملة مستأنفة مسوقة لتسلية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ببيان أن هذا الجنس من الملائكة الذين هم أعلى طبقاتهم يضمون إلى تسبيحهم لله والإيمان به الاستغفار للذين آمنوا بالله
ورسوله وصدقوا، والمراد بمن حول العرش: هم الملائكة الذين يطوفون به مهللين مكبرين، وهو في محل رفع
عطفا على الذين يحملون العرش، وهذا هو الظاهر. وقيل يجوز أن تكون في محل نصب عطفا على العرش،
والأول أولى. والمعنى: أن الملائكة الذين يحملون العرش، وكذلك الملائكة الذين هم حول العرش ينزهون الله
ملتبسين بحمده على نعمه ويؤمنون بالله ويستغفرون الله لعباده المؤمنين به. ثم بين سبحانه كيفية استغفارهم للمؤمنين
فقال حاكيا عنهم (ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما) وهو بتقدير القول: أي يقولون ربنا، أو قائلين:
ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما انتصاب رحمة وعلما على التمييز المحول عن الفاعل، الفاعل، والأصل وسعت رحمتك
وعلمك كل شئ (فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك) أي أوقعوا التوبة عن الذنوب واتبعوا سبيل الله، وهو دين
الإسلام (وقهم عذاب الجحيم) أي احفظهم منه (ربنا وأدخلهم جنات عدن) " وأدخلهم " معطوف على قوله
" قهم " ووسط الجملة الندائية لقصد المبالغة بالتكرير، ووصف جنات عدن بأنها (التي وعدتهم) إياها (ومن
صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) أي وأدخل من صلح، والمراد بالصلاح ها هنا: الإيمان بالله والعمل بما
شرعه الله، فمن فعل ذلك فقد صلح لدخول الجنة، ويجوز عطف ومن صلح على الضمير في وعدتهم: أي ووعدت
من صلح، والأولى عطفه على الضمير الأول في وأدخلهم. قال الفراء والزجاج: نصبه من مكانين إن شئت
على الضمير في أدخلهم، وإن شئت على الضمير في وعدتهم. قرأ الجمهور بفتح اللام من صلح. وقرأ ابن أبي
عبلة بضمها. وقرأ الجمهور " وذرياتهم " على الجمع. وقرأ عيسى بن عمر على الإفراد (إنك أنت العزيز الحكيم)
أي الغالب القاهر الكثير الحكمة الباهرة (وقهم السيئات) أي العقوبات، أو جزاء السيئات على تقدير مضاف
محذوف. قال قتادة: وقهم ما يسوؤهم من العذاب (ومن تق السيئات يومئذ) أي يوم القيامة (فقد رحمته) يقال
وقاه يقيه وقاية: أي حفظه، ومعنى (فقد رحمته) أي رحمته من عذابك وأدخلته جنتك، والإشارة بقوله (وذلك)
إلى ما تقدم من إدخالهم الجنات، ووقايتهم السيئات وهو مبتدأ، وخبره (هو الفوز العظيم) أي الظفر الذي لا ظفر
مثله، والنجاة التي لا تساويها نجاة.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي أمامة قال (حم) اسم من أسماء الله. وأخرج عبد الرزاق في المصنف وأبو عبيد
وابن سعد وابن أبي شيبة وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه وابن مردويه عن المهلب بن أبي صفرة قال:
حدثني من سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ليلة الخندق " إن أتيتم الليلة فقولوا حم لا ينصرون ". وأخرج
ابن أبي شيبة والنسائي والحاكم وابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إنكم
تلقون عدوكم فليكن شعاركم حم لا ينصرون ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات
482

عن ابن عباس في قوله (ذي الطول) قال: ذي السعة والغنى. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن
ابن عمر في قوله (غافر الذنب) الآية قال: غافر الذنب لمن يقول لا إله إلا الله (قابل التوب) ممن يقول لا إله
إلا الله (شديد العقاب) لمن لا يقول لا إله إلا الله (ذي الطول) ذي الغنى (لا إله إلا هو) كانت كفار قريش
لا يوحدونه فوحد نفسه (إليه المصير) مصير من يقول لا إله إلا الله فيدخله الجنة، ومصير من لا يقول لا إله
إلا الله فيدخله النار. وأخرج عبد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إن جدالا
في القرآن كفر ". وأخرج عبد بن حميد بن حميد وأبو داود عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " مراء في
القرآن كفر ".
لما ذكر سبحانه حال أصحاب النار، وأنها حقت عليهم كلمة العذاب، وأنهم أصحاب النار ذكر أحوالهم بعد
دخول النار فقال (إن الذين كفروا ينادون). قال الواحدي: قال المفسرون: إنهم لما رأوا أعمالهم ونظروا في
كتابهم وأدخلوا النار ومقتوا أنفسهم بسوء صنيعهم ناداهم حين عاينوا عذاب الله مناد (لمقت الله) إياكم في الدنيا
إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون (أكبر من مقتكم أنفسكم) اليوم. قال الأخفش: هذه اللام في لمقت هي لام
الابتداء أوقعت بعد ينادون، لأن معناه يقال لهم، والنداء قول. قال الكلبي: يقول كل إنسان لنفسه من أهل
النار: مقتك يا نفس، فتقول الملائكة لهم وهم في النار: لمقت الله إياكم في الدنيا أشد من مقتكم أنفسكم اليوم.
وقال الحسن: يعطون كتابهم، فإذا نظروا إلى سيئاتهم مقتوا أنفسهم، فينادون: لمقت الله إياكم في الدنيا
483

(إذ تدعون إلى الإيمان) أكبر من مقتكم أنفسكم إذ عاينتم النار، والظرف في (إذ تدعون) منصوب بمقدر محذوف
دل عليه المذكور: أي مقتكم وقت دعائكم، وقيل بمحذوف هو اذكروا، وقيل بالمقت المذكور والمقت أشد
البغض: ثم أخبر سبحانه عما يقولون في النار فقال (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) اثنتين في الموضعين
نعتان لمصدر محذوف: أي أمتنا إماتتين اثنتين، وأحييتنا احيائتين اثنتين والمراد بالإماتتين: أنهم كانوا نطفا لا حياة
لهم في أصلاب آبائهم، ثم أماتهم بعد أن صاروا أحياء في الدنيا، والمراد بالإحيائتين: أنه أحياهم الحياة الأولى
في الدنيا، ثم أحياهم عند البعث، ومثل هذه الآية قوله - وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم - وقيل معنى
الآية: أنهم أميتوا في الدنيا عند انقضاء آجالهم ثم أحياهم الله في قبورهم للسؤال، ثم أميتوا ثم أحياهم الله في الآخرة
ووجه هذا القول أن الموت سلب الحياة ولا حياة للنطفة. ووجه القول الأول أن الموت قد يطلق على عادم الحياة
من الأصل، وقد ذهب إلى تفسير الأول جمهور السلف. وقال ابن زيد: المراد بالآية أنه خلقهم في ظهر آدم
واستخرجهم وأحياهم وأخذ عليهم الميثاق ثم أماتهم ثم أحياهم في الدنيا ثم أماتهم. ثم ذكر سبحانه اعترافهم بعد
أن صاروا في النار بما كذبوا به في الدنيا فقال حاكيا عنهم (فاعترفنا بذنوبنا) التي أسلفناها في الدنيا من تكذيب
الرسل والإشراك بالله وترك توحيده، فاعترفوا حيث لا ينفعهم الاعتراف، وندموا حيث لا ينفعهم الندم، وقد
جعلوا اعترافهم هذا مقدمة لقولهم (فهل إلى خروج من سبيل) أي هل إلى خروج لنا من النار ورجوع لنا إلى
الدنيا من سبيل، ومثل هذا قولهم الذي حكاه الله عنهم - فهل إلى مرد من سبيل - وقوله - فارجعنا نعمل صالحا -
وقوله - يا ليتنا نرد - الآية. ثم أجاب الله سبحانه عن قولهم هذا بقوله (ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده كفرتم) أي
ذلك الذي أنتم فيه من العذاب بسبب أنه إذا دعى الله في الدنيا وحده دون غيره كفرتم به وتركتم توحيده (وإن
يشرك به) غيره من الأصنام أو غيرها (تؤمنوا) بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه، فبين سبحانه لهم السبب الباعث
على عدم إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها
الدعاء، ومحل ذلكم الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي الأمر ذلكم أو مبتدأ خبره محذوف: أي ذلكم العذاب
الذي أنتم فيه بذلك السبب، وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجيبوا بأن لا سبيل إلى الرد، وذلك لأنكم كنتم
إذا دعى الله الخ (فالحكم لله) وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليكم بالخلود في النار وعدم الخروج منها
و (العلي) المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، و (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل أو صاحبة
أو ولد أو شريك (هو الذي يريكم آياته) أي دلائل توحيده وعلامات قدرته (وينزل لكم من السماء رزقا) يعني
المطر فإنه سبب الأرزاق. جمع سبحانه بين إظهار الآيات وإنزال الأرزاق، لأن باظهار الآيات قوام الأديان،
وبالأرزاق في قوام الأبدان، وهذه الآيات هي التكوينية التي جعلها الله سبحانه في سماواته وأرضه وما فيهما وما
بينهما. وقرأ الجمهور " ينزل " بالتشديد. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف (وما يتذكر إلا من ينيب) أي ما يتذكر
ويتعظ بتلك الآيات الباهرة فيستدل بها على التوحيد وصدق الوعد والوعيد إلا من ينيب: أي يرجع إلى طاعة الله
بما يستفيده من النظر في آيات الله. ثم لما ذكر سبحانه ما نصبه من الأدلة على التوحيد أمر عباده بدعائه وإخلاص
الدين له فقال (فادعوا الله مخلصين له الدين) أي إذا كان الأمر كما ذكر من ذلك فادعوا الله وحده مخلصين له
العبادة التي أمركم بها (ولو كره الكافرون) ذلك، فلا تلتفتوا إلى كراهتهم، ودعوهم يموتوا بغيظهم ويهلكوا
بحسرتهم (رفيع الدرجات) وارتفاع رفيع الدرجات على أنه خبر آخر عن المبتدأ المتقدم: أي هو الذي يريكم
آياته، وهو رفيع الدرجات، وكذلك (ذو العرش) خبر ثالث، ويجوز أن يكون رفيع الدرجات مبتدأ، وخبره
484

" ذو العرش " ويجوز أن يكونا خبرين لمبتدأ محذوف، ورفيع صفة مشبهة. والمعنى: رفيع الصفات، أو رفيع
درجات ملائكته: أي معارجهم، أو رفيع درجات أنبيائه وأوليائه في الجنة. وقال الكلبي وسعيد بن جبير:
رفيع السماوات السبع، وعلى هذا الوجه يكون رفيع بمعنى رافع، ومعنى ذو العرش: مالكه وخالقه والمتصرف
فيه، وذلك يقتضي علو شأنه وعظم سلطانه، ومن كان كذلك فهو الذي يحق له العبادة ويجب له الإخلاص، وجملة
(يلقي الروح من أمره) في محل رفع على أنها خبر آخر للمبتدأ المتقدم أو للمقدر، ومعنى ذلك أنه سبحانه يلقي
الوحي (على من يشاء من عباده)، وسمى الوحي روحا، لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان
بالأرواح وقوله (من أمره) متعلق بيلقى، و " من " لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف على أنه حال من
الروح، ومثل هذه الآية قوله تعالى - وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا - وقيل الروح جبريل كما في قوله - نزل
به الروح الأمين على قلبك - وقوله - نزله روح القدس من ربك بالحق - وقوله " على من يشاء من عباده " هم
الأنبياء، ومعنى (من أمره) من قضائه (لينذر يوم التلاق) قرأ الجمهور " لينذر " مبنيا للفاعل ونصب اليوم،
والفاعل هو الله سبحانه أو الرسول أو من يشاء، والمنذر به محذوف تقديره: لينذر العذاب يوم التلاق. وقرأ أبي
وجماعة كذلك إلا أنه رفع اليوم على الفاعلية مجازا. وقرأ ابن عباس والحسن وابن السميفع " لتنذر " بالفوقية على
أن الفاعل ضمير المخاطب وهو الرسول، أو ضمير يرجع إلى الروح لأنه يجوز تأنيثها. وقرأ اليماني " لينذر " على
البناء للمفعول، ورفع يوم على النيابة، ومعنى (يوم التلاق) يوم يلتقي أهل السماوات والأرض في المحشر، وبه
قال قتادة. وقال أبو العالية ومقاتل: يوم يلتقي العابدون والمعبودون، وقيل الظالم والمظلوم، وقيل الأولون
والآخرون، وقيل جزاء الأعمال والعاملون، وقوله (يوم هم بارزون) بدل من يوم التلاق. وقال ابن عطية:
هو منتصب بقوله (لا يخفى على الله) وقيل منتصب بإضمار أذكر، والأول أولى، ومعنى بارزون: خارجون
من قبورهم لا يسترهم شئ، وجملة (لا يخفى على الله منهم شئ) مستأنفة مبينة لبروزهم ويجوز أن تكون في محل
نصب على الحال من ضمير بارزون، ويجوز أن تكون خبرا ثانيا للمبتدأ: أي لا يخفى عليه سبحانه شئ منهم ولا
من أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وجملة (لمن الملك اليوم) مستأنفة جواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يقال
عند بروز الخلائق في ذلك اليوم؟ فقيل: يقال لمن الملك اليوم؟ قال المفسرون: إذا هلك كل من في السماوات
والأرض، فيقول الرب تبارك وتعالى (لمن الملك اليوم) يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فيجيب تعالى نفسه،
فيقول (لله الواحد القهار) قال الحسن: هو السائل تعالى، وهو المجيب حين لا أحد يجيبه فيجيب نفسه، وقيل
إنه سبحانه يأمر مناديا ينادي بذلك، فيقول أهل المحشر مؤمنهم وكافرهم (لله الواحد القهار) وقيل إنه يجيب المنادي
بهذا الجواب أهل الجنة دون أهل النار، وقيل هو حكاية لما ينطق به لسان الحال في ذلك اليوم لانقطاع دعاوي
المبطلين، كما في قوله تعالى - وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا
والأمر يومئذ لله - وقوله (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) من تمام الجواب
على القول بأن المجيب هو الله سبحانه، وأما على القول بأن المجيب هم العباد كلهم أو بعضهم فهو مستأنف لبيان
ما يقوله الله سبحانه بعد جوابهم: أي اليوم تجزى كل نفس بما كسبت من خير وشر لا ظلم اليوم على أحد منهم
بنقص من ثوابه أو بزيادة في عقابه (إن الله سريع الحساب) أي سريع حسابه لأنه سبحانه لا يحتاج إلى تفكر في ذلك
كما يحتاجه غيره لإحاطة علمه بكل شئ فلا يعزب عنه مثقال ذرة. ثم أمر الله سبحانه رسوله بإنذار عباده فقال
(وأنذرهم يوم الآزفة) أي يوم القيامة سميت بذلك لقربها، يقال أزف فلان: أي قرب يأزف أزفا، ومنه
قول النابغة:
485

أزف الترحل غير أن ركابنا * لما تزل بركابنا وكأن قد
ومنه قوله تعالى - أزفة الآزفة - أي قربت الساعة، وقيل إن يوم الآزفة هو يوم حضور الموت، والأول
أولى. قال الزجاج: وقيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس أمرها، وما هو كائن فهو قريب (إذ القلوب
لدى الحناجر كاظمين) وذلك أنها تزول عن مواضعها من الخوف حتى تصير إلى الحنجرة كقوله - وبلغت القلوب
الحناجر - (كاظمين) مغمومين مكروبين ممتلئين غما. قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس لدى الحناجر في حال
كظمهم. قال قتادة: وقعت قلوبهم في الحناجر من المخافة، فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها. وقيل هو إخبار
عن نهاية الجزع، وإنما قال كاظمين باعتبار أهل القلوب، لأن المعنى: إذ قلوب الناس لدى حناجرهم، فيكون
حالا منهم. وقيل حالا من القلوب، وجمع الحال منها جمع العقلاء لأنه أسند إليها ما يسند إلى العقلاء، فجمعت
جمعه. ثم بين سبحانه أنه لا ينفع الكافرين في ذلك اليوم أحد فقال (ما للظالمين من حميم) أي قريب ينفعهم (ولا شفيع
يطاع) في شفاعته لهم، ومحل يطاع الجر على أنه صفة لشفيع. ثم وصف سبحانه شمول علمه لكل شئ وإن كان
في غاية الخفاء فقال (يعلم خائنة الأعين) وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، والجملة خبر آخر لقوله
(هو الذي يريكم) قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير: أي يعلم الأعين الخائنة. وقال قتادة: خائنة الأعين: الهمز
بالعين فيما لا يحب الله. وقال الضحاك: هو قول الإنسان ما رأيت وقد رأى، ورأيت وما رأى. وقال سفيان:
هي النظرة بعد النظرة. والأول أولى، وبه قال مجاهد (وما تخفي الصدور) من الضمائر وتسره من معاصي الله (والله
يقضي بالحق) فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر (والذين تدعون من دونه) أي تعبدونهم من دون الله
(لا يقضون بشئ) لأنهم لا يعلمون شيئا ولا يقدرون على شئ. قرأ الجمهور " يدعون " بالتحتية يعني الظالمين،
واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، وقرأ نافع وشيبة وهشام بالفوقية على الخطاب لهم (إن الله هو السميع
البصير) فلا يخفى عليه من المسموعات والمبصرات خافية.
وقد أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود في
قوله (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) قال: هي مثل التي في البقرة - كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم - كانوا
أمواتا في صلب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم أماتهم ثم يحييهم بعد الموت. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن
مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم، فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم
يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة، فهما موتتان وحياتان كقوله -
كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم - الآية. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (يوم التلاق) قال:
يوم القيامة يلتقي فيه آدم وآخر ولده. وأخرج عنه أيضا قال: (يوم التلاق) يوم الأزفة، ونحو هذا من أسماء يوم
القيامة عظمه الله وحذره عباده. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وأبو نعيم
في الحلية عنه أيضا قال: ينادي مناد بين يدي الساعة: يا أيها الناس أتتكم الساعة، فيسمعها الأحياء والأموات،
وينزل الله إلى السماء الدنيا فيقول (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار). وأخرج ابن أبي الدنيا في البعث والديلمي
عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثله. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود قال " يجمع الله الخلق
يوم القيامة بصعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط، فأول ما يتكلم أن ينادي مناد - لمن
الملك اليوم لله الواحد القهار. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب - فأول ما يبدأ به
من الخصومات الدماء ". وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في
486

قوله (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) قال: الرجل يكون في القوم فتمر بهم المرأة فيريهم أنه يغض بصره
عنها، وإذا غفلوا لحظ إليها، وإذا نظروا غض بصره عنها، وقد اطلع الله من قلبه أنه ود أن ينظر إلى عورتها.
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عنه في الآية قال: إذا نظر إليها
يريد الخيانة أم لا (وما تخفي الصدور) قال: إذا قدر عليها أيزني بها أم لا؟ ألا أخبركم بالتي تليها (والله يقضي
بالحق) قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة. وأخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال: " لما
كان يوم فتح مكة أمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم
متعلقين بأستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلى البيعة جاء به، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا
كل ذلك يأبى بيعته، ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت
يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك؟ فقال: إنه لا ينبغي
لنبي أن يكون له خائنة الأعين ".
487

لما خوفهم سبحانه بأحوال الآخرة أردفه ببيان تخويفهم بأحوال الدنيا فقال (أولم يسيروا في الأرض فينظروا
كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم) أرشدهم سبحانه إلى الاعتبار بغيرهم، فإن الذين مضوا من الكفار (كانوا
هم أشد منهم قوة) من هؤلاء الحاضرين من الكفار وأقوى (وآثارا في الأرض) بما عمروا فيها من الحصون والقصور
وبما لهم من العدد والعدة، فلما كذبوا رسلهم أهلكهم الله، وقوله - فينظروا - إما مجزوم بالعطف على يسيروا،
أو منصوب بجواب الاستفهام، وقوله (كانوا أشد منهم قوة) بيان للتفاوت بين حال هؤلاء وأولئك، وقوله
(وآثارا) عطف على قوة. قرأ الجمهور " أشد منهم " وقرأ ابن عامر " أشد منكم " على الالتفات (فأخذهم الله
بذنوبهم) أي بسبب ذنوبهم (وما كان لهم من الله من واق) أي من دافع يدفع عنهم العذاب، وقد مر تفسير
هذه الآية في مواضع، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم من الأخذ (بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات) أي
بالحجج الواضحة (فكفروا) بما جاءوهم به (فأخذهم الله إنه قوي) يفعل كل ما يريده لا يعجزه شئ (شديد
العقاب) لمن عصاه ولم يرجع إليه، ثم ذكر سبحانه قصة موسى وفرعون ليعتبروا فقال (ولقد أرسلنا موسى
بآياتنا) هي التسع الآيات التي قد تقدم ذكرها في غير موضع (وسلطان مبين) أي حجة بينة واضحة، وهي
التوراة (إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا) إنه (ساحر كذاب) أي فيما جاء به، وخصهم بالذكر لأنهم رؤساء
المكذبين بموسى، ففرعون الملك، وهامان الوزير، وقارون صاحب الأموال والكنوز (فلما جاءهم بالحق من
عندنا) وهي معجزاته الظاهرة الواضحة (قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم) قال قتادة: هذا
قتل غير القتل الأول، لأن فرعون قد كان أمسك عن قتل الولدان وقت ولادة موسى، فلما بعث الله موسى
أعاد القتل على بني إسرائيل، فكان يأمر بقتل الذكور وترك النساء، ومثل هذا قول فرعون - سنقتل أبناءهم
ونستحيي نساءهم - (وما كيد الكافرين إلا في ضلال) أي في خسران ووبال، لأنه يذهب باطلا ويحيق بهم
ما يريده الله عز وجل (وقال فرعون ذروني أقتل موسى) إنما قال هذا لأنه كان في خاصة قومه يمنعه من قتل
موسى مخافة أن ينزل بهم العذاب، والمعنى: اتركوني أقتله (وليدع ربه) الذي يزعم أنه أرسله إلينا فليمنعه
من القتل إن قدر على ذلك: أي لا يهولنكم ذلك فإنه لا رب له حقيقة، بل أنا ربكم الأعلى، ثم ذكر العلة التي
لأجلها أراد أن يقتله فقال (إني أخاف أن يبدل دينكم) الذي أنتم عليه من عبادة غير الله ويدخلهم في دينه الذي
هو عبادة الله وحده (أو أن يظهر في الأرض الفساد) أي يوقع بين الناس الخلاف والفتنة، جعل اللعين ظهور
ما دعا إليه موسى وانتشاره في الأرض واهتداء الناس به فسادا، وليس الفساد إلا ما هو عليه هو ومن تابعه.
قرأ الكوفيون ويعقوب " أو أن يظهر " بأو التي للإبهام، والمعنى: أنه لا بد من وقوع أحد الأمرين. وقرأ الباقون
" وأن يظهر " بدون ألف على معنى وقوع الأمرين جميعا، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من " إني
أخاف " وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص يظهر بضم الياء وكسر الهاء من أظهر، وفاعله ضمير موسى، والفساد
نصبا على أنه مفعول به، وقرأ الباقون بفتح الياء والهاء، ورفع الفساد على الفاعلية (وقال موسى إني عذت بربي
وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب) قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي " عذت " بإدغام الذال، وقرأ الباقون
بالإظهار، لما هدده فرعون بالقتل استعاذ بالله عز وجل من كل متعظم عن الإيمان بالله غير مؤمن بالبعث
والنشور، ويدخل فرعون في هذا العموم دخولا أوليا (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) قال الحسن
ومقاتل والسدي: كان قبطيا وهو ابن عم فرعون، وهو الذي نجا مع موسى، وهو المراد بقوله - وجاء رجل من
أقصى المدينة يسعى قال يا موسى - الآية، وقيل كان من بني إسرائيل ولم يكن من آل فرعون وهو خلاف ما في
488

الآية، وقد تمحل لذلك بأن في الآية تقديما وتأخيرا، والتقدير: وقال رجل مؤمن من بني إسرائيل يكتم إيمانه
من آل فرعون. قال القشيري: ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه كما قال
سبحانه - ولا يكتمون الله حديثا - وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
وقد اختلف في اسم هذا الرجل، فقيل حبيب، وقيل حزقيل، وقيل غير ذلك، قرأ الجمهور " رجل "
بضم الجيم، وقرأ لأعمش وعبد الوارث بسكونها، وهي لغة تميم ونجد، والأولى هي الفصيحة، وقرئ بكسر
الجيم " ومؤمن " صفة لرجل، " ومن آل فرعون " صفة أخرى، " ويكتم إيمانه " صفة ثالثة، والاستفهام في
(أتقتلون رجلا) للإنكار، و (أن يقول ربي الله) في موضع نصب بنزع الخافض: أي لأن يقول أو كراهة أن
يقول، وجملة (وقد جاءكم بالبينات من ربكم) في محل نصب على الحال: أي والحال أنه قد جاءكم بالمعجزات
الواضحات والدلالات الظاهرات على نبوته وصحة رسالته، ثم تلطف لهم في الدفع عنه فقال (وإن يك كاذبا فعليه
كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم) ولم يكن قوله هذا لشك منه، فإنه كان مؤمنا كما وصفه الله،
ولا يشك المؤمن، ومعنى (يصبكم بعض الذي يعدكم) أنه إذا لم يصبكم كله فلا أقل من أن يصيبكم بعضه،
وحذفت النون من يكن في الموضعين تخفيفا لكثرة الاستعمال: كما قال سيبويه، وقال أو عبيدة وأبو الهيثم: بعض
هنا بمعنى كل: أي يصيبكم كل الذي يعدكم، وأنشد أبو عبيدة على هذا أقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها * أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أي كل النفوس، وقد اعترض عليه، وأجيب بأن البعض قد يستعمل في لغة العرب بمعنى الكل كما في
قول الشاعر: قد يدرك المتأني بعض حاجته * وقد يكون مع المستعجل الزلل
وقول الآخر: إن الأمور إذا الأحداث دبرها * دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
وليس في البيتين ما يدل على ما زعموه، وأما بيت لبيد فقيل إنه أراد ببعض النفوس نفسه، ولا ضرورة
تلجئ إلى حمل ما في الآية على ذلك، لأنه أراد التنزل معهم وإيهامهم أنه لا يعتقد صحة نبوته كما يفيده قوله (يكتم
إيمانه) قال أهل المعاني: وهذا على المظاهرة في الحجاج، كأنه قال لهم: أقل ما يكون في صدقه أن يصيبكم بعض
الذي يعدكم، وفي بعض ذلك هلاككم، فكأن الحاصل بالبعض هو الحاصل بالكل: وقال الليث: بعض ها هنا
صلة يريد يصبكم الذي يعدكم، وقيل يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض ما يتوعدكم به من العذاب،
وقيل إنه وعدهم بالثواب والعقاب، فإذا كفروا أصابهم العقاب، وهو بعض ما وعدهم به (إن الله لا يهدي من
هو مسرف كذاب) هذا من تمام كلام الرجل المؤمن، وهو احتجاج آخر ذو وجهين: أحدهما أنه لو كان مسرفا
كذابا لما هداه الله إلى البينات ولا أيده بالمعجزات، وثانيهما أنه إذا كان كذلك خذله الله وأهلكه، فلا حاجة لكم
إلى قتله، والمسرف المقيم على المعاصي المستكثر منها، والكذاب المفتري (يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في
الأرض) ذكرهم ذك الرجل المؤمن ما هم فيه من الملك ليشكروا الله ولا يتمادوا في كفرهم، ومعنى ظاهرين:
الظهور على الناس والغلبة لهم والاستعلاء عليهم، والأرض أرض مصر، وانتصاب ظاهرين على الحال (فمن
ينصرنا من بأس الله إن جاءنا) أي من يمنعنا من عذابه ويحول بيننا وبينه عند مجيئه، وفي هذا تحذير منه لهم من
نقمة الله بهم وإنزال عذابه عليهم، فلما سمع فرعون ما قاله هذا الرجل من النصح الصحيح جاء بمراوغة يوهم
بها قومه أنه لهم من النصيحة والرعاية بمكان مكين، وأنه لا يسلك بهم إلا مسلكا يكون فيه جلب النفع لهم ودفع الضر
عنهم، ولهذا قال (ما أريكم إلا ما أرى) قال ابن زيد: أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي. وقال الضحاك:
489

ما أعلمكم إلا ما أعلم، والرؤية هنا هي القلبية لا البصرية، والمفعول الثاني هو إلا ما أرى (وما أهديكم إلا سبيل
الرشاد) أي ما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الحق. قرأ الجمهور " الرشاد " بتخفيف الشين، وقرأ معاذ بن جبل
بتشديدها على أنها صيغة مبالغة كضراب. وقال النحاس: هي لحن، ولا وجه لذلك.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وقال رجل مؤمن من آل فرعون) قال: لم يكن
في آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى الذي قال - إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك -
قال ابن المنذر: أخبرت أن اسمه حزقيل. وأخرج عبد بن حميد عن أبي إسحاق قال: اسمه حبيب. وأخرج البخاري
وغيره عن طريق عروة قال: قيل لعبد الله بن عمرو بن العاص أخبرنا بأشد شئ صنعه المشركون برسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط
فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر فأخذ
بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات
من ربكم). وأخرج أبو نعيم في فضائل الصحابة والبزار عن علي بن أبي طالب أنه قال: أيها الناس أخبروني من
أشجع الناس؟ قالوا أنت. قال: أما أني ما بارزت أحدا إلا انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا
لا نعلم فمن؟ قال أبو بكر، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذته قريش، فهذا يجنبه وهذا يتلتله،
وهم يقولون أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا، قال: فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجيء هذا
ويتلتل هذا، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله، ثم رفع بردة كانت عليه، فبكى حتى اخضلت
لحيته، ثم قال: أنشدكم أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبون؟ فوالله لساعة من
أبي بكر خير من مثل مؤمن آل فرعون، وذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.
490

ثم كرر ذلك الرجل المؤمن تذكيرهم، وحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بمن قبلهم، فقال الله حاكيا عنه (وقال
الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب) أي مثل يوم عذاب الأمم الماضية الذين تحزبوا على أنبيائهم
وأفرد اليوم لأن جمع الأحزاب قد أغنى عن جمعه، ثم فسر الأحزاب فقال (مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود
والذين من بعدهم) أي مثل حالهم في العذاب، أو مثل عادتهم في الإقامة على التكذيب، أو مثل جزاء ما كانوا
عليه من الكفر والتكذيب (وما الله يريد ظلما للعباد) أي لا يعذبهم بغير ذنب، ونفي الإرادة للظلم يستلزم نفي
الظلم بفحوى الخطاب. ثم زاد في الوعظ والتذكير فقال (ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد) قرأ الجمهور
" التناد " بتخفيف الدال وحذف الياء، والأصل التنادي، وهو التفاعل من النداء، يقال تنادى القوم: أي نادى
بعضهم بعضا. وقرأ الحسن وابن السميفع ويعقوب وابن كثير ومجاهد بإثبات الياء على الأصل، وقرأ ابن عباس
والضحاك وعكرمة بتشديد الدال. قال بعض أهل اللغة هو لحن، لأنه من ند يند: إذا مر على وجهه هاربا. قال
النحاس: وهذا غلط، والقراءة حسنة على معنى التنافي. قال الضحاك: في معناه أنهم إذا سمعوا بزفير جهنم ندوا
هربا، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا صفوفا من الملائكة فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه،
فذلك قوله (يوم التناد) وعلى قراءة الجمهور المعنى: يوم ينادي بعضهم بعضا، أو ينادي أهل النار أهل الجنة
وأهل الجنة أهل النار، أو ينادي فيه بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء، أو يوم ينادي فيه كل أناس بإمامهم،
ولا مانع من الحمل على جميع هذه المعاني، وقوله (يوم تولون مدبرين) بدل من يوم التناد: أي منصرفين عن
الموقف إلى النار، أو فارين منها. قال قتادة ومقاتل: المعنى إلى النار بعد الحساب، وجملة (ما لكم من الله من
عاصم) في محل نصب على الحال: أي مالكم من يعصمكم من عذاب الله ويمنعكم منه (ومن يضلل الله فما له من
هاد) يهديه إلى طريق الرشاد. ثم زاد في وعظهم وتذكيرهم فقال (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) أي
يوسف بن يعقوب، والمعنى: أن يوسف بن يعقوب جاءهم بالمعجزات والآيات الواضحات من قبل مجيء موسى
إليهم: أي جاء إلى آبائكم، فجعل المجيء إلى الآباء مجيئا إلى الأبناء، وقيل المراد بيوسف هنا يوسف بن إفراثيم
ابن يوسف بن يعقوب، وكان أقام فيهم نبيا عشرين سنة. وحكى النقاش عن الضحاك أن الله بعث إليهم رسولا
من الجن يقال له يوسف، والأول أولى. وقد قيل إن فرعون موسى أدرك أيام يوسف بن يعقوب لطول عمره
(فما زلتم في شك مما جاءكم به) من البينات ولم تؤمنوا به (حتى إذا هلك) يوسف (قلتم لن يبعث الله من بعده
رسولا) فكفروا به في حياته وكفروا بمن بعده من الرسل بعد موته (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب)
اي مثل ذلك الضلال الواضح يضل الله من هو مسرف في معاصي الله مستكثر منها مرتاب في دين الله شاك في
وحدانيته ووعده ووعيده، والموصول في قوله (الذين يجادلون في آيات الله) بدل من " من "، والجمع باعتبار
معناها، أو بيان لها، أو صفة، أو في محل نصب بإضمار أعني، أو خبر مبتدأ محذوف: أي هم الذين، أو مبتدأ
491

وخبره يطبع، و (بغير سلطان) متعلق بيجالدون: أي يجادلون في آيات الله بغير حجة واضحة، و (أتاهم)
صفة لسلطان (كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا) يحتمل أن يراد به التعجب، وأن يراد به الذم كبئس، وفاعل
كبر ضمير يعود إلى الجدال المفهوم من يجادلون، وقيل فاعله ضمير يعود إلى من في " من هو مسرف " والأول
أولى. وقوله (عند الله) متعلق بكبر، وكذلك (عند الذين آمنوا) قيل هذا من كلام الرجل المؤمن، وقيل ابتداء
كلام من الله سبحانه (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار) أي كما طبع على قلوب هؤلاء المجادلين فكذلك
يطبع: أي يختم على كل قلب متكبر جبار. قرأ الجمهور بإضافة قلب إلى متكبر، واختار هذه القراءة أبو حاتم
وأبو عبيد، وفي الكلام حذف تقديره: كذلك يطبع الله على كل قلب كل متكبر، فحذف كل الثانية لدلالة
الأولى عليها، والمعنى: أنه سبحانه يطبع على قلوب جميع المتكبرين الجبارين، وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وابن
ذكوان عن أهل الشام بتنوين قلب على أن متكبر صفة له، فيكون القلب مراد به الجملة، لأن القلب هو محل
التكبر وسائر الأعضاء تبع له في ذلك، وقرأ ابن مسعود على قلب كل متكبر. ثم لما سمع فرعون هذا رجع إلى
تكبره وتجبره معرضا عن الموعظة نافرا من قبولها وقال (يا هامان ابن لي صرحا) أي قصرا مشيدا كما تقدم بيان تفسيره (لعلي
أبلغ الأسباب) أي الطرق. قال قتادة والزهري والسدي والأخفش: هي الأبواب. وقوله (أسباب السماوات)
بيان للأسباب، لأن الشئ إذا أبهم ثم فسر كان أوقع في النفوس، وأنشد الأخفش عند تفسيره للآية بيت زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * ولو رام أسباب السماء يسلم
وقيل أسباب السماوات الأمور التي يستمسك بها (فأطلع إلى إله موسى) قرأ الجمهور بالرفع عطفا على أبلغ، فهو
على هذا داخل في حيز الترجي. وقرأ الأعرج والسلمي وعيسى بن عمر وحفص بالنصب على جواب الأمر في قوله
(ابن لي) أو على جواب الترجي كما قال أبو عبيد وغيره. قال النحاس: ومعنى النصب خلاف معنى الرفع، لأن
معنى النصب: متى بلغت الأسباب اطلعت، ومعنى الرفع: لعلي أبلغ الأسباب ولعلي أطلع بعد ذلك، وفي هذا
دليل على أن فرعون كان بمكان من الجهل عظيم، وبمنزلة من فهم حقائق الأشياء سافلة جدا (وإني لأظنه كاذبا)
أي وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه بأن له إلها، أو فيما يدعيه من الرسالة (وكذلك زين لفرعون سوء عمله) أي
ومثل ذلك التزيين زين الشيطان لفرعون سوء عمله من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي واستمر على الطغيان
(وصد عن السبيل) أي سبيل الرشاد. قرأ الجمهور " وصد " بفتح الصاد والدال: أي صد فرعون الناس عن
السبيل، وقرأ الكوفيون " وصد " بضم الصاد مبنيا للمفعول، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، ولعل وجه
الاختيار لها منهما كونها مطابقة لما أجمعوا عليه في زين من البناء للمفعول، وقرأ يحيى بن وثاب وعلقمة " صد "
بكسر الصاد، وقرأ ابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة بفتح الصاد وضم الدال منونا على أنه مصدر معطوف
على سوء عمله: أي زين له الشيطان سوء العمل والصد (وما كيد فرعون إلا في تباب) التباب: الخسار والهلاك
ومنه - تبت يدا أبي لهب -، ثم إن ذلك الرجل المؤمن أعاد التذكير والتحذير كما حكى الله عنه بقوله (وقال الذي
آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد) أي اقتدوا بي في الدين أهدكم طريق الرشاد، وهو الجنة، وقيل هذا
من قول موسى، والأول أولى. وقرأ معاذ بن جبل " الرشاد " بتشديد الشين كما تقدم قريبا في قول فرعون ووقع
في المصحف اتبعون بدون ياء، وكذلك قرأ أبو عمرو ونافع بحذفها في الوقف وإثباتها في الوصل، وقرأ يعقوب
وابن كثير بإثباتها وصلا ووقفا وقرأ الباقون بحذفها وصلا ووقفا فمن أثبتها فعلى ما هو الأصل، ومن حذفها فلكونها
حذفت في المصحف (يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع) يتمتع بها أياما ثم تنقطع وتزول (وإن الآخرة هي دار
492

القرار) أي الاستقرار لكونها دائمة لا تنقطع ومستمرة لا تزول (من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها) أي من عمل في
دار الدنيا معصية من المعاصي كائنة ما كانت فلا يجزى إلا مثلها ولا يعذب إلا بقدرها، والظاهر شمول الآية لكل
ما يطلق عليه اسم السيئة، وقيل هي خاصة بالشرك، ولا وجه لذلك (ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن) أي من عمل عملا صالحا مع كونه مؤمنا بالله وبما جاءت به رسله (فأولئك) الذين جمعوا بين العمل الصالح
والإيمان (يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب) أي بغير تقدير ومحاسبة. قال مقاتل: يقول لا تبعة عليكم فيما
يعطون في الجنة من الخير، وقيل العمل الصالح، هو لا إله إلا الله. قرأ الجمهور " يدخلون " بفتح التحتية مبنيا
للفاعل. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بضمها مبنيا للمفعول.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس (مثل دأب) قال: مثل حال. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن
قتادة (مثل دأب قوم نوح) قال: هم الأحزاب: قوم نوح وعاد وثمود. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في
قوله (ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات) قال: رؤيا يوسف، وفي قوله (الذين يجادلون في آيات الله) قال
يهود. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إلا في تباب) قال: خسران. وأخرج عبد بن
حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إنما هذه الحياة الدنيا متاع) قال: الدنيا جمعة
من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" إن الحياة الدنيا متاع وليس من متاعها شئ أفضل من المرأة الصالحة، التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا غبت
عنها حفظتك في نفسها ومالها ".
493

كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم،
وأنه إنما تصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحب قومه من التحذير
عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) أي أخبروني
عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار
بما تريدونه منى من الشرك. قيل معنى (مالي أدعوكم) مالكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزينا أي مالك. ثم فسر
الدعوتين فقال (تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم)، فقوله تدعونني بدل من تدعونني الأولى أو
بيان لها (ما ليس لي به علم) أي ما لا علم لي بكونه شريكا لله (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) أي إلى العزيز في انتقامه
ممن كفر " الغفار " لذنب من آمن به (لا جرم) قد تقدم تفسير هذا في سورة هود، وجرم فعل ماض بمعنى حق،
ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله (إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في
الدنيا ولا في الآخرة) أي حق ووجب بطلان دعوته. قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنتفع، وقيل
ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة. قال الكلبي: ليس له شفاعة (وأن مردنا إلى الله)
أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولا، وبالبعث آخرا، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر (وأن المسرفين
هم أصحاب النار) أي المستكثرين من معاصي الله. قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي:
هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارون والمتكبرون. وقيل هم الذين تعدوا حدود الله،
" وأن " في الموضعين عطف على " أن " في قوله (أنما تدعونني إليه) والمعنى: وحق أن مردنا إلى الله، وحق أن
المسرفين الخ (فستذكرون ما أقول لكم) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم،
وفي هذا الإبهام من التخويف والتهديد ما لا يخفى (وأفوض أمري إلى الله) أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. قيل
إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقيل القائل هو
موسى، والأول أولى (فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيء، وما أرادوه به
من الشر. قال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) أي أحاط بهم ونزل عليهم سوء
العذاب. قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا: إذا نزل ولزم. قال الكلبي: غرفوا في البحر ودخلوا
النار، والمراد بآل فرعون: فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم،
أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه. والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعا بالغرق، وسيعذبون في الآخرة بالنار
ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب، فقال (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) فارتفاع النار على أنها بدل
من سوء العذاب، وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون، والأول أولى ورجحه الزجاج
وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون
من حيث المعنى: أي يصلون النار يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفراء الخفض على البدل من
494

العذاب. وذهب الجمهور أن هذا العرض هو في البرزخ، وقيل هو في الآخرة. قال الفراء: ويكون في الآية
تقديم وتأخير: أي أدخلوا آل فرعون أشد العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا، ولا ملجئ إلى هذا التكلف
فإن قوله (ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) يدل دلالة واضحة على أن ذلك العرض هو في
البرزخ، وقوله (أدخلوا) هو بتقدير القول: أي يقال للملائكة أدخلوا آل فرعون، و (أشد العذاب) هو
عذاب النار. قرأ حمزة والكسائي ونافع وحفص " أدخلوا " بفتح الهمزة وكسر الخاء، وهو على تقدير القول كما
ذكر. وقرأ الباقون " ادخلوا " بهمزة وصل من دخل يدخل أمرا لآل فرعون بالدخول بتقدير حرف النداء: أي ادخلوا
يا آل فرعون أشد العذاب (وإذ يتحاجون في النار) الظرف منصوب بإضمار أذكر. والمعنى: أذكر لقومك وقت
تخاصمهم في النار ثم بين سبحانه هذا التخاصم فقال (فيقول الضعفاء للذين استكبروا) عن الانقياد للأنبياء والاتباع
لهم، وهم رؤساء الكفر (إنا كنا لكم تبعا) جمع لتابع، كخدم وخادم، أو مصدر واقع موقع اسم الفاعل: أي
تابعين أو على حذف مضاف: أي ذوي تبع. قال البصريون: التبع يكون واحدا ويكون جمعا. وقال الكوفيون:
هو جمع لا واحد له (فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار) أي هل تدفعون عنا نصيبا منها أو تحملونه معنا، وانتصاب
نصيبا بفعل مقدر يدل عليه مغنون: أي هل تدفعون عنا نصيبا أو تمنعون على تضمينه معنى حاملين: أي هل أنتم
حاملون معنا نصيبا، أو على المصدرية (قال الذين استكبروا إنا كل فيها) هذه الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر
والمعنى: إنا نحن وأنتم جميعا في جهنم، فكيف نغني عنكم. قرأ الجمهور " كل " بالرفع على الابتداء، وخبره
" فيها "، والجملة خبر إن، قاله الأخفش. وقرأ ابن السميفع وعيسى بن عمر " كلا " بالنصب. قال الكسائي
والفراء على التأكيد لاسم إن بمعنى كلنا، وتنوينه عوض عن المضاف إليه: وقيل على الحال ورجحه ابن مالك
(إن الله قد حكم بين العباد) أي قضى بينهم بأن فريقا في الجنة، وفريقا في السعير (وقال الذين في النار) من الأمم
الكافرة، مستكبرهم وضعيفهم (لخزنة جهنم) جمع خازن، وهو القوام بتعذيب أهل النار (ادعوا ربكم يخفف
عنا يوما من العذاب) يوما ظرف ليخفف، ومفعول يخفف محذوف: أي يخفف عنا شيئا من العذاب مقدار يوم
أو في يوم، وجملة (قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات) مستأنفة جواب سؤال مقدر، والاستفهام للتوبيخ
والتقريع (قالوا بلى) أي أتونا بها فكذبناهم ولم نؤمن بهم ولا بما جاءوا به من الحجج الواضحة، فلما اعترفوا
(قالوا) أي قال لهم الملائكة الذين هم خزنة جهنم (فادعوا) أي إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، فإنا لا ندعو لمن
كفر بالله وكذب رسله بعد مجيئهم بالحجج الواضحة. ثم أخبروهم بأن دعاءهم لا يفيد شيئا فقالوا (وما دعاء
الكافرين إلا في ضلال) أي في ضياع وبطلان وخسار وتبار، وجملة (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا) مستأنفة
من جهته سبحانه: أي نجعلهم الغالبين لأعدائهم القاهرين لهم، والموصول في محل نصب عطفا على رسلنا: أي
لننصر رسلنا، وننصر الذين آمنوا معهم (في الحياة الدنيا) بما عودهم الله من الانتقام منهم بالقتل والسلب والأسر
والقهر (ويوم يقوم الأشهاد) وهو يوم القيامة. قال زيد بن أسلم: الأشهاد هم الملائكة والنبيون. وقال مجاهد
والسدي: الأشهاد الملائكة تشهد للأنبياء بالإبلاغ، وعلى الأمم بالتكذيب. قال الزجاج: الأشهاد جمع شاهد
مثل صاحب وأصحاب. قال النحاس: ليس باب فاعل أن يجمع على أفعال ولا يقاس عليه، ولكن ما جاء منه
مسموعا أدى على ما يسمع، فهو على هذا جمع شهيد، مثل شريف وأشراف، ومعنى نصرهم يوم يقوم الأشهاد
أن الله يجازيهم بأعمالهم فيدخلهم الجنة ويكرمهم بكراماته ويجازي الكفار بأعمالهم فيلعنهم ويدخلهم النار، وهو
495

معنى قوله (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة) أي البعد عن الرحمة (ولهم سوء الدار) أي النار ويوم بدل من
يوم يقوم الأشهاد، وإنما لم تنفعهم المعذرة لأنها معذرة باطلة وتعلة داحضة وشبهة زائغة. قرأ الجمهور " تنفع "
بالفوقية. وقرأ نافع والكوفيون بالتحتية، والكل جائز في اللغة.
وقد أخرج البخاري في تاريخه وابن المنذر عن ابن مسعود في قوله (وأن المسرفين هم أصحاب النار) قال:
السفاكين للدماء بغير حقها. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن
كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال له هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " زاد ابن مردويه. ثم قرأ
(النار يعرضون عليها غدوا وعشيا). وأخرج البزار وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في
الشعب عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ما أحسن محسن مسلم أو كافر إلا أثابه الله، قلنا
يا رسول الله ما إثابة الكافر؟ قال: المال والولد والصحة وأشباه ذلك، قلنا: وما إثابته في الآخرة؟ قال: عذابا
دون العذاب، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب). وأخرج أحمد
والترمذي وحسنه وابن أبي الدنيا والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم قال " من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه نار جهنم يوم القيامة، ثم تلا (إنا لننصر رسلنا والذين
آمنوا) ". وأخرج ابن مردويه من حديث أبي هريرة مثله.
496

قوله (ولقد آتينا موسى الهدى) هذا من جملة ما قصه الله سبحانه قريبا من نصره لرسله: أي آتيناه التوراة
والنبوة، كما في قوله سبحانه - إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور - قال مقاتل: الهدى من الضلالة: يعني التوراة
(وأورثنا بني إسرائيل الكتاب هدى وذكرى لأولي الألباب) المراد بالكتاب التوراة، ومعنى أورثنا أن الله سبحانه
لما أنزل التوراة على موسى بقيت بعده فيهم وتوارثوها خلفا عن سلف. وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة
على أنبياء بني إسرائيل بعد موت موسى وهدى وذكرى في محل نصب على أنهما مفعول لأجله: أي لأجل الهدى
والذكر، أو على أنهما مصدران في موضع الحال أي هاديا ومذكرا، والمراد بأولي الألباب أهل العقول السليمة.
ثم أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على الأذى فقال (فاصبر إن وعد الله حق) أي اصبر على أذى
المشركين كما صبر من قبلك من الرسل إن وعد الله الذي وعد به رسله حق لا خلف فيه ولا شك في وقوعه كما في
قوله - إنا لننصر رسلنا - وقوله - ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون -
قال الكلبي: نسخ هذا بآية السيف. ثم أمره سبحانه بالاستغفار لذنبه فقال (واستغفر لذنبك) قيل المراد ذنب
أمتك فهو على حذف مضاف، وقيل المراد الصغائر عند من يجوزها على الأنبياء، وقيل هو مجرد تعبد له صلى الله
عليه وآله وسلم بالاستغفار لزيادة الثواب، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (وسبح بحمد ربك بالعشي
والإبكار) أي دم على تنزيه الله ملتبسا بحمده، وقيل المراد صل في الوقتين صلاة العصر وصلاة الفجر، قاله
الحسن وقتادة، وقيل هما صلاتان ركعتان غدوة وركعتان عشية، وذلك قبل أن تفرض الصلوات الخمس (إن
الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم) أي بغير حجة ظاهرة واضحة جاءتهم من جهة الله سبحانه (إن في
صدورهم إلا كبر) أي ما في قلوبهم إلا تكبرا عن الحق يحملهم على تكذيبك، وجملة (ما هم ببالغيه) صفة لكبر
قال الزجاج: المعنى ما في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغي إرادتهم فيه، فجعله على حذف المضاف. وقال غيره:
ما هم ببالغي الكبر. وقال ابن قتيبة: المعنى إن في صدورهم إلا كبر: أي تكبر على محمد صلى الله عليه وآله وسلم
وطمع أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك، وقيل المراد بالكبر الأمر الكبير: أي يطلبون النبوة، أو يطلبون أمرا كبيرا
يصلون به إليك من القتل ونحوه ولا يبلغون ذلك. وقال مجاهد: معناه في صدورهم عظمة ما هم ببالغيها. والمراد
بهذه الآية المشركون، وقيل اليهود كما سيأتي بيانه آخر البحث إن شاء الله. ثم أمره الله سبحانه بأن يستعيذ بالله من
شرورهم فقال (فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) أي فالتجئ إليه من شرهم وكيدهم وبغيهم عليك إنه السميع
لأقوالهم البصير بأفعالهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. ثم بين سبحانه عظيم قدرته فقال (لخلق السماوات والأرض
أكبر من خلق الناس) أي أعظم في النفوس وأجل في الصدور، لعظم أجرامهما واستقرارهما من غير عمد،
وجريان الأفلاك بالكواكب من غير سبب، فكيف ينكرون البعث وإحياء ما هو دونهما من كل وجه كما في
قوله - أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم - قال أبو العالية: المعنى لخلق السماوات
والأرض أعظم من خلق الدجال حين عظمته اليهود. وقال يحيى بن سلام: هو احتجاج على منكري البعث: أي
هما أكبر من إعادة خلق الناس (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) بعظيم قدرة الله وأنه لا يعجزه شئ. ثم لما ذكر
497

سبحانه الجدال بالباطل ذكر مثالا للباطل والحق وأنهما لا يستويان فقال (وما يستوي الأعمى والبصير) أي الذي
يجادل بالباطل، والذي يجادل بالحق (ولا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسئ) أي ولا يستوي المحسن
بالإيمان والعمل الصالح والمسئ بالكفر والمعاصي، وزيادة " لا " في ولا المسئ للتأكيد (قليلا ما يتذكرون) قرأ
الجمهور " يتذكرون " بالتحتية على الغيبة، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، لأن قبلها وبعدها على الغيبة
لا على الخطاب، وقرأ الكوفيون بالفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات: أي تذكرا قليلا ما تتذكرون (إن الساعة
لآتية لا ريب فيها) أي لا شك في مجيئها وحصولها (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) بذلك ولا يصدقونه لقصور
أفهامهم وضعف عقولهم عن إدراك الحجة، والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث. ثم لما بين سبحانه
أن قيام الساعة حق لا شك فيه ولا شبهة، أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود، فأمر رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يحكي عنه ما أمره بإبلاغه وهو (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) قال أكثر المفسرين
المعنى: وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم، وقيل المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر. قيل
الأول أولى لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى لأن معنى الدعاء
حقيقة وشرعا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو
عبادة، بل مخ العبادة كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فا الله سبحانه قد أمر عباده بدعائه ووعدهم بالإجابة
ووعده الحق، وما يبدل القول لديه ولا يخلف الميعاد. ثم صرح سبحانه بأن هذا الدعاء باعتبار معناه الحقيقي
وهو الطلب هو من عبادته فقال (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي ذليلين صاغرين
وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك
طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم
وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه وأرشدكم إلى التعويل عليه وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة
فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع
ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين، قيل وهذا الوعد بالإجابة مقيد بالمشيئة: أي أستجب لكم إن شئت كقوله
سبحانه - فيكشف ما تدعون إليه إن شاء الله - قرأ الجمهور " سيدخلون " بفتح الياء وضم الخاء مبنيا للفاعل، وقرأ
ابن كثير وابن محيصن وورش وأبو جعفر بضم الياء وفتح الخاء مبنيا للمفعول. ثم ذكر سبحانه بعض ما أنعم به
على عباده فقال (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه) من الحركات في طلب الكسب لكونه جعله مظلما باردا
تناسبه الراحة بالسكون والنوم (والنهار مبصرا) أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم
(إن الله لذو فضل على الناس) يتفضل عليهم بنعمه التي لا تحصى (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) النعم ولا يعترفون
بها، إما لجحودهم لها وكفرهم بها كما هو شأن الكفار، أو لإغفالهم للنظر وإهمالهم لما يجب من شكر المنعم، وهم
الجاهلون (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) بين سبحانه في هذا كمال قدرته المقتضية لوجوب توحيده
قرأ الجمهور خالق بالرفع على أنه خبر بعد الخبر الأول عن المبتدأ، وقرأ زيد بن علي بنصبه على الاختصاص
(فأنى تؤفكون) أي فكيف تنقلبون عن عبادته وتنصرفون عن توحيده (كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله
يجحدون) أي مثل الإفك يؤفك الجاحدون لآيات الله المنكرون لتوحيده. ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من نعمه
التي أنعم بها عليهم مع ما في ذلك من الدلالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية فقال (الله الذي جعل لكم الأرض
قرارا والسماء بناء) أي موضع قرار فيها تحيون وفيها تموتون (والسماء بناء): أي سقفا قائما ثابتا. ثم بين بعض
498

نعمه المتعلقة بأنفس العباد فقال (وصوركم فأحسن صوركم) أي خلقكم في أحسن صورة. قال الزجاج: خقلكم
أحسن الحيوان كله. قرأ الجمهور " صوركم " بضم الصاد وقرأ الأعمش وأبو رزين بكسرها. قال الجوهري:
والصور بكسر الصاد لغة في الصور بضمها (ورزقكم من الطيبات) أي المستلذات (ذلكم) المبعوث بهذه النعوت
الجليلة (الله ربكم فتبارك الله رب العالمين) أي كثرة خيره وبركته (هو الحي لا إله إلا هو) أي الباقي الذي لا يفنى
المنفرد بالألوهية (فادعوه مخلصين له الدين) أي الطاعة والعبادة (الحمد لله رب العالمين) قال الفراء: هو خبر
وفيه إضمار أمر: أي احمدوه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي العالية قال: إن اليهود أتوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: إن الدجال يكون منا في آخر الزمان، ويكون في أمره فعظموا أمره، وقالوا:
نصنع كذا ونصنع كذا، فأنزل الله (إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم
ببالغيه) قال: لا يبلغ الذي يقول (فاستعذ بالله) فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال لخلق السماوات والأرض
أكبر من خلق الدجال. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار في الآية قال: هم اليهود نزلت فيهم فيما ينتظرونه
من أمر الدجال. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله (إن في صدورهم إلا كبر) قال: عظمة
قريش. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه
وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " الدعاء
هو العبادة، ثم قرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي) قال: عن دعائي (سيدخلون
جهنم داخرين) ". قال الترمذي: حسن صحيح. وأخرج ابن مردويه والخطيب عن البراء أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال " إن الدعاء هو العبادة (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) " وأخرج ابن جرير وابن مردويه
وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله (ادعوني أستجب لكم) قال: وحدوني أغفر لكم. وأخرج الحاكم
وصححه عن جرير بن عبد الله في الآية قال: اعبدوني. وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم " الدعاء الاستغفار " وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وأحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " من لم يدع الله يعضب عليه ". وأخرج أحمد والحكيم والترمذي وأبو يعلى والطبراني
عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا ينفع حذر من قدر، ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما
لم ينزل فعليكم بالدعاء ". وأخرج الترمذي والحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس بن مالك قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " الدعاء مخ العبادة ". وأخرج ابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال:
أفضل العبادة الدعاء، وقرأ (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم) الآية. وأخرج البخاري في الأدب عن عائشة
قالت: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أي العبادة أفضل؟ فقال: دعاء المرء لنفسه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر
والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال لا إله إلا الله فليقل على
أثرها الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله (فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين).
499

أمر الله سبحانه رسوله أن يخبر المشركين بأن الله نهاه عن عبادة غيره وأمره بالتوحيد فقال (قل إني نهيت أن أعبد
الذين تدعون من دون الله) وهي الأصنام. ثم بين وجه النهي فقال (لما جاءني بالبينات من ربي) وهي الأدلة
العقلية والنقلية، فإنها توجب التوحيد (وأمرت أن أسلم لرب العالمين) أي أستسلم له بالانقياد والخضوع. ثم
أردف هذا بذكر دليل من الأدلة على التوحيد فقال (هو الذي خلقكم من تراب) أي خلق أباكم الأول، وهو
آدم، وخلقه من تراب يستلزم خلق ذريته منه (ثم من نطفة ثم من علقة) قد تقدم تفسير هذا في غير موضع (ثم
يخرجكم طفلا) أي أطفالا، وأفرده لكونه اسم جنس، أو على معنى يخرج كل واحد منكم طفلا (ثم لتبلغوا
أشدكم) وهي الحالة التي تجتمع فيها القوة والعقل، وقد سبق بيان الأشد مستوفى في الأنعام، واللام التعليلية في
لتبلغوا معطوفة على علة أخرى ليخرجكم مناسبة لها، والتقدير: لتكبروا شيئا فشيئا، ثم لتبلغوا غاية الكمال،
وقوله (ثم لتكونوا شيوخا) معطوف على لتبلغوا، قرأ نافع وحفص وأبو عمرو وابن محيصن وهشام " شيوخا "
بضم الشين، وقرأ الباقون بكسرها، وقرئ وشيخا على الإفراد لقوله طفلا، والشيخ من جاوز أربعين سنة (ومنكم
من يتوفى من قبل) أي من قبل الشيخوخة (ولتبلغوا أجلا مسمى) أي وقت الموت أو يوم القيامة، واللام هي
لام العاقبة (ولعلكم تعقلون) أي لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته البالغة في خلقكم على هذه الأطوار المختلفة (هو
الذي يحيي ويميت) أي يقدر على الإحياء والإماتة (فإذا قضى أمرا) من الأمور التي يريدها (فإنما يقول له كن
فيكون) من غير توقف، وهو تمثيل لتأثير قدرته في المقدورات عند تعلق إرادته بها، وقد تقدم تحقيق معناه
في البقرة وفيما بعدها. ثم عجب سبحانه من أحوال المجادلين في آيات الله فقال (ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات
الله) وقد سبق بيان معنى المجادلة (أنى يصرفون) أي كيف يصرفون عنها مع قيام الأدلة الدالة على صحتها، وأنها
في أنفسها موجبة للتوحيد. قال ابن زيد: هم المشركون بدليل قوله (الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا)
قال القرطبي: وقال أكثر المفسرين نزلت في القدرية. قال ابن سيرين: إن لم تكن هذه الآية نزلت في القدرية فلا
أدري فيمن نزلت، ويجاب عن هذا بأن الله سبحانه قد وصف هؤلاء بصفة تدل على غير ما قالوه فقال (الذين
كذبوا بالكتاب) أي بالقرآن، وهذا وصف لا يصح أن يطلق على فرقة من فرق الإسلام، والموصول إما في
محل جر على أنه نعت للموصول الأول، أو بدل منه، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم، والمراد بالكتاب
إما القرآن أو جنس الكتب المنزلة من عند الله، وقوله (وبما أرسلنا به رسلنا) معطوف على قوله بالكتاب، ويراد
به ما يوحى إلى الرسل من غير كتاب إن كانت اللام في الكتاب للجنس أو سائر الكتب إن كان المراد بالكتاب القرآن
(فسوف يعلمون) عاقبة أمرهم ووبال كفرهم، وفي هذا وعيد شديد، والظرف في قوله (إذ الأغلال في أعناقهم)
متعلق بيعلمون: أي فسوف يعلمون وقت كون الأغلال في أعناقهم (والسلاسل) معطوف على الأغلال،
والتقدير: إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، ويجوز أن يرتفع السلاسل على أنه مبتدأ وخبره محذوف لدلالة في
أعناقهم عليه، ويجوز أن يكون خبره (يسحبون في الحميم) بحذف العائد: أي يسحبون بها في الحميم، وهذا
على قراءة الجمهور برفع السلاسل، وقرأ ابن عباس وابن مسعود وعكرمة وأبو الجوزاء بنصبها، وقرأوا
" يسحبون " بفتح الياء مبنيا للفاعل، فتكون السلاسل مفعولا مقدما، وقرأ بعضهم بجر السلاسل. قال الفراء:
وهذه القراءة محمولة على المعنى، إذ المعنى: أعناقهم في الأغلال والسلاسل. وقال الزجاج: المعنى على هذه
القراءة: وفي السلاسل يسحبون، واعترضه ابن الأنباري بأن ذلك لا يجوز في العربية، ومحل يسحبون على تقدير
عطف السلاسل على الأغلال، وعلى تقدير كونها مبتدأ وخبرها في أعناقهم النصب على الحال، أو لا محل له،
501

بل هو مستأنف جواب سؤال مقدر، والحميم هو المتناهي في الحر، وقيل الصديد وقد تقدم تفسيره (ثم في النار
يسجرون) يقال سجرت التنور: أي أوقدته وسجرته ملأته بالوقود، ومنه - والبحر المسحور - أي المملوء، فالمعنى:
توقد بهم النار أو تملأ بهم. قال مجاهد ومقاتل: توقد بهم النار فصاروا وقودها (ثم قيل لهم أينما كنتم تعبدون من
دون الله) هذا توبيخ وتقريع لهم: أي أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم من دون الله (قالوا ضلوا عنا) أي ذهبوا
وفقدناهم فلا نراهم، ثم أضربوا عن ذلك وانتقلوا إلى الإخبار بعدمهم وأنه لا وجود لهم فقالوا (بل لم نكن ندعوا
من قبل شيئا) أي لم نكن نعبد شيئا، قالوا هذا لما تبين لهم ما كانوا فيه من الضلالة والجهالة وأنهم كانوا يعبدون
ما لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس هذا إنكار منهم لوجود الأصنام التي كانوا يعبدونها، بل اعتراف
منهم بأن عبادتهم إياها كانت باطلة (كذلك يضل الله الكافرين) أي مثل ذلك الضلال يضل الله الكافرين حيث
عبدوا هذه الأصنام التي أوصلتهم إلى النار، والإشارة بقوله (ذلكم) إلى الإضلال المدلول عليه بالفعل: أي ذلك
الإضلال بسبب (ما كنتم تفرحون في الأرض) أي بما كنتم تظهرون في الدنيا من الفرح بمعاصي الله والسرور
بمخالفة رسله وكتبه، وقيل بما كنتم تفرحون به من المال والأتباع والصحة، وقيل بما كنتم تفرحون به من إنكار
البعث، وقيل المراد بالفرح هنا البطر والتكبر، وبالمرح الزيادة في البطر. وقال مجاهد وغيره: تمرحون: أي
تبطرون وتأشرون. وقال الضحاك: الفرح والسرور، والمرح العدوان. وقال مقاتل: المرح: البطر والخيلاء (ادخلوا
أبواب جهنم) حال كونكم (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود فيها (فبئس مثوى المتكبرين) عن قبول الحق
جهنم. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر، فقال (فاصبر إن وعد الله حق) أي وعده بالانتقام
منهم كائن لا محالة، إما في الدنيا أو في الآخرة، ولهذا قال (فإما نرينك بعض الذي نعدهم) من العذاب في الدنيا
بالقتل والأسر والقهر، وما في " فإما " زائدة على مذهب المبرد والزجاج، والأصل فإن نرك، ولحقت بالفعل
نون التأكيد وقوله (أو نتوفينك) معطوف على نرينك: أي أو نتوفينك قبل إنزال العذاب بهم (فإلينا يرجعون)
يوم القيامة فنعذبهم (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك) أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوه من
قومهم (ومنهم من لم نقصص عليك) خبره ولا أوصلنا إليك علم ما كان بينه وبين قومه (وما كان لرسول أن يأتي
بآية إلا بإذن الله) لا من قبل نفسه، والمراد بالآية المعجزة الدالة على نبوته (فإذا جاء أمر الله) أي إذا جاء الوقت
المعين لعذابهم في الدنيا أو في الآخرة (قضى بالحق) فيما بينهم فينجي الله بقضائه الحق عباده المحقين (وخسر هنالك)
أي في ذلك الوقت (المبطلون) الذين يتبعون الباطل ويعملون به، ثم أمتن سبحانه على عباده بنوع من أنواع نعمه التي
لا تحصى فقال (الله الذي جعل لكم الأنعام) أي خلقها لأجلكم، قال الزجاج: الأنعام ها هنا الإبل، وقيل الأزواج
الثمانية (لتركبوا منها) من للتبعيض، وكذلك في قوله (ومنها تأكلون) ويجوز أن تكون لابتداء الغاية في الموضعين
ومعناها ابتداء الركوب وابتداء الأكل، والأول أولى. والمعنى: لتركبوا بعضها وتأكلوا بعضها (ولكم فيها
منافع) أخر غير الركوب والأكل من الوبر والصوف والشعر والزبد والسمن والجبن وغير ذلك (لتبلغوا عليها
حاجة في صدوركم) قال مجاهد ومقاتل وقتادة: تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد، وقد تقدم بيان هذا مستوفى في
سورة النحل (وعليها وعلى الفلك تحملون) أي على الإبل في البر، وعلى السفن في البحر. وقيل المراد بالحمل
على الأنعام هنا حمل الولدان والنساء بالهوادج (ويريكم آياته) أي دلالاته الدالة على كمال قدرته ووحدانيته (فأي
آيات الله تنكرون) فإنها كلها من الظهور وعدم الخفاء بحيث لا ينكرها منكر ولا يجحدها جاحد، وفيه تقريع
لهم وتوبيخ عظيم، ونصب أي يتنكرون، وإنما قدم على العامل فيه لأن له صدر الكلام. ثم أرشدهم سبحانه إلى
الاعتبار والتفكر في آيات الله فقال (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) من
502

الأمم التي عصت الله وكذبت رسلها، فإن الآثار الموجودة في ديارهم تدل على ما نزل بهم من العقوبة وما صاروا
إليه من سوء العاقبة. ثم بين سبحانه أن تلك الأمم كانوا فوق هؤلاء في الكثرة والقوة فقال (كانوا أكثر منهم وأشد
قوة) أي أكثر منهم عددا وأقوى منهم أجسادا وأوسع منهم أموالا، (و) أظهر منهم (آثارا في الأرض) بالعمائر
والمصانع والحرث (فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون) يجوز أن تكون ما الأولى استفهامية: أي أي شئ أغنى عنهم،
أو نافية: أي لم يغن عنهم، وما الثانية يجوز أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات)
أي بالحجج الواضحات والمعجزات الظاهرات (فرحوا بما عندهم من العلم) أي أظهروا الفرح بما عندهم مما يدعون
أنه من العلم من الشبه الداحضة والدعاوى الزائغة، وسماه علما تهكما بهم، أو على ما يعتقدونه. وقال مجاهد:
قالوا نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث، وقيل المراد من علم أحوال الدنيا لا الدين كما في قوله - يعلمون ظاهرا
من الحياة الدنيا - وقيل الذين فرحوا بما عندهم من العلم هم الرسل، وذلك أنه لما كذبهم قومهم أعلمهم الله بأنه
مهلك الكافرين ومنجي المؤمنين ففرحوا بذلك (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) أي أحاط بهم جزاء استهزائهم
(فلما رأوا بأسنا) أي عاينوا عذابنا النازل بهم (قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين) وهي الأصنام
التي كانوا يعبدونها (فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا) أي عند معاينة عذابنا، لأن ذلك الإيمان ليس بالإيمان
النافع لصاحبه، فإنه إنما ينفع الإيمان الاختياري لا الإيمان الاضطراري (سنة الله التي قد خلت في عباده) أي التي
قد مضت في عباده، والمعنى: أن الله سبحانه سن هذه السنة في الأمم كلها أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب
وقد مضى بيان هذا في سورة النساء وسورة التوبة، وانتصاب سنة على أنها مصدر مؤكد لفعل محذوف بمنزلة
وعد الله وما أشبهه من المصادر المؤكدة. وقيل هو منصوب على التحذير: أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في الأمم
الماضية، والأول أولى (وخسر هنالك الكافرون) أي وقت رؤيتهم بأس الله ومعاينتهم لعذابه. قال الزجاج:
الكافر خاسر في كل وقت، ولكنه يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب.
وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن عبد الله بن
عمرو قال " تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (إذا الأغلال في أعناقهم) إلى قوله (يسجرون) فقال: لو أن
رصاصة مثل هذه، وأشار إلى جمجمة أرسلت من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض
قبل الليل، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفا الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها، أو قال
قعرها ". وأخرج ابن أبي الدنيا في صفة النار عن ابن عباس قال: يسحبون في الحميم فينسلخ كل شئ عليهم
من جلد ولحم وعرق حتى يصير في عقبه حتى إن لحمه قدر طوله، وطوله ستون ذراعا، ثم يكسى جلدا آخر،
ثم يسجر في الحميم. وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن علي بن أبي طالب في قوله (ومنهم من لم
نقصص عليك) قال: بعث الله عبدا حبشيا فهو ممن لم يقصص على محمد.
503

تفسير سورة حم السجدة
وتسمى سورة فصلت وهي أربع وخمسون آية، وقيل ثلاث وخمسون
قال القرطبي: وهي مكية في قول الجميع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل
وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال " اجتمع قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر
فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا وشتت أمرنا وعاب ديننا، فليكلمه ولينظر ماذا يرد عليه؟ فقالوا:
ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: ائت يا أبا الوليد، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم عبد الله، أنت
خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك
فقد عبدوا الآلهة التي عبت، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، أما والله ما رأينا سخلة قط
أشأم على قومك منك، فرقت جماعتنا وشتت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن
في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا، والله ما تنتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف،
يا رجل إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء
قريش شئت فلنزوجنك عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فرغت؟ قال نعم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته، حتى بلغ " فإن
أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " فقال عتبة: حسبك حسبك ما عندك غير هذا؟ قال لا،
فرجع إلى قريش فقالوا ما وراءك؟ قال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته، فقالوا: فهل أجابك
قال: والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، قالوا: ويلك
يكلمك الرجل بالعربية وما تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة ". وأخرج
أبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عمر قال: " لما قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عتبة بن ربيعة
حم تنزيل من الرحمن الرحيم أتى أصحابه فقال: يا قوم أطيعوني في هذا اليوم واعصوني بعده، فوالله لقد
سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذني قط كلاما مثله، وما دريت ما أرد عليه " وفي هذا الباب روايات
تدل على اجتماع قريش وإرسالهم عتبة بن ربيعة وتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم أول هذه السورة عليه.
504

قوله (حم) قد تقدم الكلام على إعرابه ومعناه في السورة التي قبل هذه السورة فلا نعيده، وكذلك تقدم
الكلام على معنى (تنزيل) وإعرابه. قال الزجاج والأخفش: تنزيل مرفوع بالابتداء وخبره (كتاب فصلت)
وقال الفراء: يجوز أن يكون على إضمار هذا ويجوز أن يقال كتاب بدل من قوله تنزيل، و (من الرحمن الرحيم)
متعلق بتنزيل، ومعنى (فصلت آياته) بينت أو جعلت أساليب مختلفة، قال قتادة: فصلت ببيان حلاله من
حرامه وطاعته من معصيته. وقال الحسن: بالوعد والوعيد. وقال سفيان: بالثواب والعقاب ولا مانع من الحمل
على الكل. والجملة في محل نصب صفة لكتاب. وقرئ " فصلت " بالتخفيف: أي فرقت بين الحق والباطل،
وانتصاب (قرآنا عربيا) على الحال أي فصلت آياته حال كونه قرآنا عربيا. وقال الأخفش: نصب على المدح
وقيل على المصدرية: أي يقرؤه قرآنا، وقيل مفعول ثان لفصلت، وقيل على إضمار فعل يدل عليه فصلت:
أي فصلناه قرآنا عربيا (لقوم يعلمون) أي يعلمون معانيه ويفهمونها: وهم أهل اللسان العربي. قال الضحاك:
أي يعلمون أن القرآن منزل من عند الله. وقال مجاهد: أي يعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل، واللام
متعلقة بمحذوف صفة أخرى لقرآن: أي كائنا لقوم أو متعلق بفصلت، والأول أولى، وكذلك (بشيرا ونذيرا)
صفتان أخريان لقرآنا أو حالان من كتاب، والمعنى بشيرا لأولياء الله ونذيرا لأعدائه. وقرئ " بشير ونذير "
بالرفع على أنهما صفة لكتاب أو خبر مبتدأ محذوف (فأعرض أكثرهم) المراد بالأكثر هنا الكفار: أي فأعرض
الكفار عما اشتمل عليه من النذارة (فهم لا يسمعون) سماعا ينتفعون به لإعراضهم عنه (وقالوا قلوبنا في أكنة) أي
في أغطية مثل الكنانة التي فيها السهام فهي لا تفقه ما تقول ولا يصل إليها قولك، والأكنة جمع كنان وهو الغطاء،
قال مجاهد: الكنان للقلب كالجنة للنبل، وقد تقدم بيان هذا في البقرة (وفي آذاننا وقر) أي صمم وأصل الوقر
505

الثقل. وقرأ طلحة بن مصرف " وقر " بكسر الواو. وقرئ بفتح الواو والقاف، و " من " في (ومن بيننا وبينك
حجاب) لابتداء الغاية، والمعنى: أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة بين جهتنا وجهتك
مستوعية منه بالحجاب لا فراغ فيها، وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق ومج أسماعهم له وامتناع المواصلة بينهم
وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فاعمل إننا عاملون) أي اعمل على دينك إننا عاملون على ديننا. وقال
الكلبي: اعمل في هلاكنا فإنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل: اعمل لإلاهك الذي أرسلك فإنا نعمل لآلهتنا التي
نعبدها، وقيل اعمل لآخرتك فإنا عاملون لدنيانا. ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عن قولهم هذا فقال (قل إنما أنا
بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد) أي إنما أنا كواحد منكم لولا الوحي، ولم أكن من جنس مغاير لكم
حتى تكون قلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقر ومن بيني وبينكم حجاب، ولم أدعكم إلى ما يخالف
العقل، وإنما أدعوكم إلى التوحيد. قرأ الجمهور " يوحى " مبنيا للمفعول. وقرأ الأعمش والنخعي مبنيا للفاعل: أي
يوحى الله إلي. قيل ومعنى الآية: إني لا أقدر على أن أحملكم على الإيمان قسرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز لي عنكم
إلا أني أوحى إلي التوحيد والأمر به، فعلى البلاغ وحده فإن قبلتم رشدتم وإن أبيتم هلكتم. وقيل المعنى: إني
لست بملك وإنما أنا بشر مثلكم وقد أوحى إلي دونكم، فصرت بالوحي نبيا ووجب عليكم اتباعي. وقال الحسن
في معنى الآية: إن الله سبحانه علم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يتواضع (فاستقيموا إليه) عداه بإلى
لتضمنه معنى توجهوا، والمعنى: وجهوا استقامتكم إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله (واستغفروه) لما فرط منكم
من الذنوب. ثم هدد المشركين وتوعدهم فقال (وويل للمشركين) ثم وصفهم بقوله (الذين لا يؤتون الزكاة)
أي يمنعونها ولا يخرجونها إلى الفقراء. وقال الحسن وقتادة: لا يقرون بوجوبها. وقال الضحاك ومقاتل: لا يتصدقون
ولا ينفقون في الطاعة. وقيل معنى الآية، لا يشهدون أن لا إله إلا الله لأنها زكاة الأنفس وتطهيرها. وقال الفراء:
كان المشركون ينفقون النفقات ويسقون الحجيج ويطعمونهم فحرموا ذلك على من آمن بمحمد صلى الله عليه وآله
وسلم فنزلت فيهم هذه الآية (وهم بالآخرة هم كافرون) معطوف على لا يؤتون داخل معه في حيز الصلة: أي
منكرون للآخرة جاحدون لها والمجيء بضمير الفصل لقصد الحصر (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير
ممنون) أي غير مقطوع عنهم، يقال مننت الحبل: إذا قطعته، ومنه قول الأصبغ الأودي:
إني لعمرك ما آبي بذى علق * على الصديق ولا خيري بممنون
وقيل الممنون المنقوص، قاله قطرب، وأنشد قول زهير:
فضل الجواد على الخيل البطاقا: * يعطي بذلك ممنونا ولا مرقا
قال الجوهري: المن القطع ويقال النقص، ومنه قوله تعالى (لهم أجر غير ممنون) وقال لبيد:
* عنسا كواسب لا يمن طعامها * وقال مجاهد غير ممنون: غير محسوب، وقيل معنى الآية، لا يمن عليهم به لأنه
إنما يمن بالتفضل، فأما الأجر فحق أداؤه. وقال السدي: نزلت في المرضى والزمني والهرمي إذا ضعفوا عن
الطاعة كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه. ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن
يوبخهم ويقرعهم فقال (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) أي لتكفرون بمن شأنه هذا الشأن
العظيم وقدرته هذه القدرة الباهرة. قيل اليومان هما يوم الأحد ويوم الاثنين، وقيل المراد مقدار يومين لأن اليوم
الحقيقي إنما يتحقق بعد وجود الأرض والسماء. قرأ الجمهور " أئنكم " بهمزتين الثانية بين بين، وقرأ ابن كثير بهمزة
506

وبعدها ياء خفيفة (وتجعلون له أندادا) أي أضدادا وشركاء، والجملة معطوفة على تكفرون داخلة تحت الاستفهام
والإشارة بقوله (ذلك) إلى الموصول المتصف بما ذكر وهو مبتدأ وخبره (رب العالمين) ومن جملة العالمين ما تجعلونها
أندادا لله فكيف تجعلون بعض مخلوقاته شركاء له في عبادته، وقوله (وجعل فيها رواسي) معطوف على خلق:
أي كيف تكفرون بالذي خلق الأرض وجعل فيها رواسي: أي جبالا ثوابت من فوقها، وقيل جملة وجعل فيها
رواسي مستأنفة غير معطوفة على خلق لوقوع الفصل بينهما بالأجنبي. والأول أولى لأن الجملة الفاصلة هي مقررة
لمضمون ما قبلها فكانت بمنزلة التأكيد، ومعنى (من فوقها) أنها مرتفعة عليها لأنها من أجزاء الأرض، وإنما خالفتها
باعتبار الارتفاع، فكانت من هذه الحيثية كالمغايرة لها (وبارك فيها) أي جعلها مباركة كثيرة الخير بما خلق فيها
من المنافع للعباد. قال السدي: أنبت فيها شجرها (وقدر فيها أقواتها) قال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها
وأشجارها ودوابها، وقال الحسن وعكرمة والضحاك: قدر فيها أرزاق أهلها وما يصلح لمعايشهم من التجارات والأشجار
والمنافع، جعل في كل بلد ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة والأسفار من بلد إلى بلد،
ومعنى (في أربعة أيام) أي في تتمة أربعة أيام باليومين المتقدمين. قاله الزجاج وغيره. قال ابن الأنباري: ومثاله قول
القائل خرجت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وإلى الكوفة في خمسة عشر يوما: أي في تتمة خمسة عشر يوما،
فيكون المعنى أن حصول جميع ما تقدم من خلق الأرض وما بعدها في أربعة أيام. وانتصاب (سواء) على أنه
مصدر مؤكد لفعل محذوف هو صفة للأيام: أي استوت سواء بمعنى استواء، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال
من الأرض أو من الضمائر الراجعة إليها. قرأ الجمهور بنصب " سواء " وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق
وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد بخفضه على أنه صفة لأيام. وقرأ أبو جعفر برفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف.
قال الحسن: المعنى في أربعة أيام مستوية تامة، وقوله (للسائلين) متعلق بسواء: أي مستويات للسائلين، أو بمحذوف
كأنه قيل هذا الحصر للسائلين في كم خلقت الأرض وما فيها؟ أو متعلق بقدر: أي قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين
المحتاجين إليها. قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وقدر فيها أقواتها سواء للمحتاجين في أربعة أيام
واختار هذا ابن جرير. ثم لما ذكر سبحانه خلق الأرض وما فيها ذكر كيفية خلقه للسموات فقال (ثم استوى إلى
السماء) أي عمد وقصد نحوها قصدا سويا. قال الرازي: هو من قولهم: استوى إلى مكان كذا: إذا توجه إليه
توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه، ومنه
قوله تعالى - فاستقيموا إليه -، والمعنى: ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماوات بعد خلق الأرض وما فيها. قال
الحسن: معنى الآية صعد أمره إلى السماء (وهي دخان) الدخان ما ارتفع من لهب النار، ويستعار لما يرى من
بخار الأرض. قال المفسرون: هذا الدخان هو بخار الماء، وخص سبحانه الاستواء إلى السماء مع كون الخطاب
المترتب على ذلك متوجها إليها وإلى الأرض كما يفيده قوله (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها) استغناء بما
تقدم من ذكر تقديرها وتقدير ما فيها، ومعنى ائتيا: افعلا ما آمركما به وجيئا به، كما يقال ائت ما هو الأحسن
أي افعله. قال الواحدي: قال المفسرون: إن الله سبحانه قال: أما أنت يا سماء فاطلعي شمسك وقمرك ونجومك
وأما أنت يا أرض فشققي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك. قرأ الجمهور " ائتيا " أمرا من الإتيان. وقرأ ابن عباس
وابن جبير ومجاهد " آتيا " قالتا آتينا بالمد فيهما، وهو إما من المؤاتاة، وهي الموافقة: أي لتوافق كل منكما الأخرى
أو من الإيتاء وهو الإعطاء فوزنه على الأول فاعلا كقاتلا، وعلى الثاني افعلا كأكرما (طوعا أو كرها) مصدران
في موضع الحال: أي طائعتين أو مكرهتين، وقرأ الأعمش " كرها " بالضم. قال الزجاج: أطيعا طاعة أو تكرهان
507

كرها. قيل ومعنى هذا الأمر لهما التسخير: أي كونا فكانتا، كما قال تعالى - إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول
له كن فيكون - فالكلام من باب التمثيل لتأثير قدرته واستحالة امتناعها (قالتا أتينا طائعين) أي أتينا أمرك منقادين
وجمعهما جمع من يعقل لخطابهما بما يخاطب به العقلاء. قال القرطبي: قال أكثر أهل العلم إن الله سبحانه خلق
فيهما الكلام فتكلمتا كما أراد سبحانه وقيل هو تمثيل لظهور الطاعة منهما وتأثير القدرة الربانية فيهما (فقضاهن
سبع سماوات) أي خلقهن وأحكمهن وفرغ منهن، كما في قول الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود إذ صبغ السوابغ تبع
والضمير في قضاهن إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سبع سماوات، أو مبهم مفسر بسبع سماوات،
وانتصاب سبع سماوات على التفسير أو على البدل من الضمير. وقيل إن انتصابه على أنه المفعول الثاني لقضاهن
لأنه مضمن معنى صبرهن، وقيل على الحال: أي قضاهن حال كونهن معدودات بسبع ويكون قضى بمعنى
صنع، وقيل على التمييز، ومعنى (في يومين) كما سبق في قوله - خلق الأرض في يومين) فالجملة ستة أيام، كما
في قوله سبحانه - خلق السماوات والأرض في ستة أيام - وقد تقدم بيانه في سورة الأعراف. قال مجاهد: ويوم
من الستة الأيام كألف سنة مما تعدون. قال عبد الله بن سلام: خلق الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين وقدر
فيها أقواتها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق السماوات في يوم الخميس ويوم الجمعة، وقوله (وأوحى في كل
كل سماء أمرها) عطف على قضاهن. قال قتادة والسدي: أي خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها وما فيها
من الملائكة والبحار والبرد والثلوج. وقيل المعنى: أوحى فيها ما أراده وما أمر به، والإيحاء قد يكون بمعنى الأمر
كما في قوله - بأن ربك أوحى - وقوله - وإذ أوحيت إلى الحواريين - أي أمرتهم.
وقد استشكل الجمع بين هذه الآية وبين قوله - والأرض بعد ذلك دحاها - فإن ما في هذه الآية من قوله (ثم
استوى إلى السماء) مشعر بأن خلقها متأخر عن خلق الأرض، وظاهره يخالف قوله - والأرض بعد ذلك دحاها -
فقيل إن " ثم " في (ثم استوى إلى السماء) ليست للتراخي الزماني بل للتراخي الرتبي، فيندفع الإشكال من أصله،
وعلى تقدير أنها للتراخي الزماني فالجمع ممكن بأن الأرض خلقها متقدم على خلق السماء، ودحوها بمعنى بسطها
هو أمر زائد على مجرد خلقها فهي متقدمة خلقا متأخرة دحوا وهذا ظاهر، ولعله يأتي عند تفسيرنا لقوله
- والأرض بعد ذلك دحاها - زيادة إيضاح للمقام إن شاء الله (وزينا السماء الدنيا بمصابيح) أي بكواكب مضيئة
متلألئة عليها كتلألؤ المصابيح، (و) انتصاب (حفظا) على أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي وحفظناها حفظا
أو على أنه مفعول لأجله على تقدير: وخلقنا المصابيح زينة وحفظا، والأول أولى. قال أبو حبان: في الوجه
الثاني هو تكلف وعدول عن السهل البين، والمراد بالحفظ حفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع، والإشارة
بقوله (ذلك) إلى ما تقدم ذكره (تقدير العزيز العليم) أي البليغ القدرة الكثير العلم (فإن أعرضوا) عن التدبر
والتفكر في هذه المخلوقات (فقل أنذرتكم) أي فقل لهم يا محمد أنذرتكم خوفتكم (صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود)
أي عذابا مثل عذابهم، والمراد بالصاعقة العذاب المهلك من كل شئ. قال المبرد: الصاعقة المرة المهلكة لأي
شئ كان. قرأ الجمهور " صاعقة " في الموضعين بالألف، وقرأ ابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن " صعقة "
في الموضعين، وقد تقدم بيان معنى الصاعقة والصعقة في البقرة، وقوله (إذا جاءتهم الرسل) ظرف لأنذرتكم.
أو لصاعقة، لأنها بمعنى العذاب: أي أنذرتكم العذاب الواقع وقت مجيء الرسل، أو حال من صاعقة عاد. وهذا أولى
من الوجهين الأولين، لأن الإنذار لم يقع وقت مجيء الرسل فلا يصح أن يكون ظرفا له، وكذلك الصاعقة لا يصح
508

أن يكون الوقت ظرفا لها، وقوله (من بين أيديهم ومن خلفهم) متعلق بجاءتهم: أي جاءتهم من جميع جوانبهم
وقيل المعنى جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم منزلة مجيئهم أنفسهم، فكأن الرسل قد
جاءوهم وخاطبوهم بقولهم (أن لا تعبدوا إلا الله) أي بأن لا تعبدوا على أنها المصدرية، ويجوز أن تكون التفسيرية
أو المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف. ثم ذكر سبحانه ما أجابوا به على الرسل فقال (قالوا لو شاء
ربنا لأنزل ملائكة) أي لأرسلهم إلينا ولم يرسل إلينا بشرا من جنسنا، ثم صرحوا بالكفر ولم يتلعثموا، فقالوا
(فإنا بما أرسلتم به كافرون) أي كافرون بما تزعمونه من أن الله أرسلكم إلينا، لأنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا،
فكيف اختصكم برسالته دوننا، وقد تقدم دفع هذه الشبهة الداحضة التي جاءوا بها في غير موضع.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (وويل
للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) قال: لا يشهدون أن لا إله إلا الله، وفي قوله (لهم أجر غير ممنون) قال: غير
منقوص. وأخرج ابن جرير والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي
في الأسماء والصفات عنه " أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض فقال
خلق الله الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال وما فيهن من منافع يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء
الشجر والحجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة أيام، فقال تعالى (قل أئنكم لتكفرون بالذي
خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها
أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين) وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى
ثلاث ساعات بقين منه، فخلق من أول ساعة من هذه الثلاث الآجال حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى فيها
من كل شئ مما ينتفع به، وفي الثالثة خلق آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر
ساعة، قالت اليهود: ثم ماذا يا محمد؟ قال ثم استوى على العرش، قالوا: قد أصبت لو أتممت، قالوا ثم
استراح، فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضبا شديدا، فنزل - ولقد خلقنا السماوات والأرض وما
بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون -. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وقدر
فيها أقواتها) قال: شق الأنهار، وغرس الأشجار، ووضع الجبال، وأجرى البحار، وجعل في هذه ما ليس في هذه
وفي هذه ما ليس في هذه. وأخرج أبو الشيخ عنه أيضا قال: إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد، ثم خلق ثانيا
فسماه الاثنين، ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء، ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء، ثم خلق خامسا فسماه الخميس وذكر
نحو ما تقدم. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " إن الله فرغ من خلقه في
ستة أيام وذكر نحو ما تقدم ". وأخرج ابن جرير عن أبي بكر نحو ما تقدم عن ابن عباس. وأخرج ابن المنذر
والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله (فقال لها وللأرض ائتنا طوعا أو كرها) قال
قال للسماء أخرجي شمسك وقمرك ونجومك، وللأرض شققي أنهارك وأخرجي ثمارك (قالتا أتينا طائعين) وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله (ائتيا) قال أعطيا وفي قوله (قالتا أتينا) قال: أعطينا.
509

لما ذكر سبحانه عادا وثمودا إجمالا ذكر ما يختص بكل طائفة من الطائفتين تفصيلا، فقال (فأما عاد فاستكبروا
في الأرض بغير الحق) أي تكبروا عن الإيمان بالله وتصديق رسله واستعلوا على من في الأرض بغير الحق: أي
بغير استحقاق ذلك الذي وقع منهم من التكبر والتجبر. ثم ذكر سبحانه بعض ما صدر عنهم من الأقوال الدالة
على الاستكبار فقال (وقالوا من أشد منا قوة) وكانوا ذوي أجسام طوال وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم
حين تهددهم هود بالعذاب، ومرادهم بهذا القول أنهم قادرون على دفع ما ينزل بهم من العذاب، فرد الله عليهم
بقوله (أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة) والاستفهام للاستنكار عليهم وللتوبيخ لهم: أي أولم يعلموا
بأن الله أشد منهم قدرة، فهو قادر على أن ينزل بهم من أنواع عقابه ما شاء بقوله كن فيكون (وكانوا بآياتنا
يجحدون) أي بمعجزات الرسل التي خصهم الله بها وجعلها دليلا على نبوتهم، أو بآياتنا التي أنزلناها على رسلنا،
أو بآياتنا التكوينية التي نصبناها لهم وجعلناها حجة عليهم، أو بجميع ذلك. ثم ذكر سبحانه ما أنزل عليهم من
عذابه، فقال (فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا) الصرصر الريح الشديدة الصوت من الصرة، وهي الصيحة. قال
أبو عبيدة: معنى صرصر شديدة عاصفة. وقال الفراء: هي الباردة تحرق كما تحرق النار. وقال عكرمة وسعيد
ابن جبير وقتادة: هي الباردة، وأنشد قطرب قول الحطيئة:
المطعمون إذا هبت بصرصرة * والحاملون إذا استودوا عن الناس
أي إذا سئلوا الدية. وقال مجاهد: هي الشديدة السموم، والأولى تفسيرها بالبرد، لأن الصر في كلام العرب
البرد، ومنه قول الشاعر:
لها غدر كقرون النسا * ء ركبن في يوم ريح وصر
قال ابن السكيت: صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد، ويجوز أن يكون من صرصر الباب ومن الصرة
وهي الصيحة، ومنه " فأقبلت امرأته في صرة ". ثم بين سبحانه وقت نزول ذلك العذاب عليهم فقال (في أيام نحسات)
510

أي مشئومات ذوات نحوس. قال مجاهد وقتادة: كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء، وذلك سبع
ليال وثمانية أيام حسوما، وقيل نحسات باردات، وقيل متتابعات، وقيل شداد، وقيل ذوات غبار. قرأ نافع
وابن كثير وأبو عمرو " نحسات " بإسكان الحاء على أنه جمع نحس وقرأ الباقون بكسرها، واختار أبو حاتم القراءة
الأولى لقوله - في يوم نحس مستمر - واختار أبو عبيد القراءة الثانية (لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) أي
لكي نذيقهم، والخزي هو الذل والهوان بسبب ذلك الاستكبار (ولعذاب الآخرة أخزى) أي أشد إهانة وذلا،
ووصف العذاب بذلك، وهو في الحقيقة وصف للمعذبين، لأنهم الذين صاروا متصفين بالخزي (وهم لا ينصرون)
أي لا يمنعون من العذاب النازل بهم ولا يدفعه عنهم دافع. ثم ذكر حال الطائفة الأخرى فقال (وأما ثمود فهديناهم)
أي بينا لهم سبيل النجاة ودللناهم على طريق الحق بإرسال الرسل إليهم، ونصب الدلالات لهم من مخلوقات الله،
فإنها توجب على كل عاقل أن يؤمن بالله ويصدق رسله. قال الفراء: معنى الآية دللناهم على مذهب الخير بإرسال
الرسل. قرأ الجمهور " وأما ثمود " بالرفع ومنع الصرف. وقرأ الأعمش وابن وثاب بالرفع والصرف. وقرأ
ابن عباس وابن أبي إسحاق وعاصم في رواية بالنصب والصرف. وقرأ الحسن وابن هرمز وعاصم في رواية بالنصب
والمنع، فأما الرفع فعلى الابتداء والجملة بعده الخبر، وأما النصب فعلى الاشتغال، وأما الصرف فعلى تفسير
الاسم بالأب أو الحي، وأما المنع فعلى تأويله بالقبيلة (فاستحبوا العمى على الهدى) أي اختاروا الكفر على الإيمان
وقال أبو العالية: اختاروا العمى على البيان. وقال السدي: اختاروا المعصية على الطاعة (فأخذتهم صاعقة
العذاب الهون) قد تقدم أن الصاعقة اسم للشيء المهلك لأي شئ كان، والهون الهوان والإهانة فكأنه قال
أصابهم مهلك العذاب ذي الهوان أو الإهانة، ويقال عذاب هون: أي مهين كقوله - ما لبثوا في العذاب المهين -
والباء في (بما كانوا يكسبون) للسببية أي بسبب الذي كانوا يكسبونه، أو بسبب كسبهم (ونجينا الذين آمنوا
وكانوا يتقون) وهم صالح ومن معه من المؤمنين فان الله نجاهم من ذلك العذاب ثم لما ذكر سبحانه ما عاقبهم به
في الدنيا ذكر عاقبهم به في الآخرة فقال (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار) وفي وصفهم بكونهم أعداء الله مبالغة
في ذمهم، والعامل في الظرف محذوف دل عليه ما بعده تقديره: يساق الناس يوم يحشر، أو بأذكر: أي
أذكر يوم يحشرهم. قرأ الجمهور " يحشر " بتحتية مضمومة ورفع أعداء على النيابة، وقرأ نافع " نحشر " بالنون
ونصب أعداء، ومعنى حشرهم إلى النار سوقهم إليها أو إلى موقف الحساب، لأنه يتبين عنده فريق الجنة وفريق
النار (فهم يوزعون) أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، كذا قال قتادة والسدي وغيرهما، وقد
سبق تحقيق معناه في سورة النمل مستوفى (حتى إذا ما جاءوها) أي جاءوا النار التي حشروا إليها أو موقف الحساب
و " ما " مزيدة للتوكيد (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) في الدنيا من المعاصي. قال
مقاتل: تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم بالشرك، والمراد بالجلود هي جلودهم المعروفة في قول أكثر
المفسرين. وقال السدي وعبيد الله بن أبي جعفر والفراء: أراد بالجلود الفروج، والأول أولى (وقالوا لجلودهم
لم شهدتم علينا) وجه تخصيص الثلاثة بالشهادة دون غيرها ما ذكره الرازي أن الحواس الخمس: وهي السمع والبصر
والشم والذوق واللمس، وآلة المس هي الجلد، فالله سبحانه ذكر هنا ثلاثة أنواع من الحواس، وهي السمع
والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، فالذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن
إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان مماسة لجرم الطعام، وكذلك الشم لا يتأتى حتى تصير جلدة الحنك
مماسة لجرم المشموم، فكانا داخلين في جنس اللمس، وإذا عرفت من كلامه هذا وجه تخصيص الثلاثة بالذكر
عرفت منه وجه تخصيص الجلود بالسؤال لأنها قد اشتملت على ثلاث حواس، فكان تأتي المعصية من جهتها أكثر
511

وأما على قول من فسر الجلود بالفروج فوجه تخصيصها بالسؤال ظاهر، لأن ما يشهد به الفرج من الزنا أعظم قبحا
وأجلب للخزي والعقوبة، وقد قدمنا وجه إفراد السمع وجمع الأبصار (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ)
أي أنطق كل شئ مما ينطق من مخلوقاته فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح، وقيل المعنى: ما نطقنا باختيارنا،
بل أنطقنا الله. والأول أولى (وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) قيل هذا من تمام كلام الجلود، وقيل مستأنف
من كلام الله، والمعنى: أن من قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداء قدر على إعادتكم ورجعكم إليه (وما كنتم
تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) هذا تقريع لهم وتوبيخ من جهة الله سبحانه، أو من
كلام الجلود: أي ما كنتم تستخفون عند الأعمال القبيحة حذرا من شهادة الجوارح عليكم، ولما كان الإنسان
لا يقدر على أن يستخفي من جوارحه عند مباشرة المعصية كان معنى الاستخفاء هنا ترك المعصية. وقيل معنى الاستتار
الاتقاء: أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة
و " أن " في قوله (أن تشهد) في محل نصب على العلة: أي لأجل أن تشهد، أو مخافة أن تشهد. وقيل منصوبة
بنزع الخافض، وهو الباء، أو عن، أو من. وقيل إن الاستتار مضمن معنى الظن: أي وما كنتم تظنون أن
تشهد، وهو بعيد (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعلمون) من المعاصي فاجترأتم على فعلها، قيل كان الكفار
يقولون: إن الله لا يعلم ما في أنفسنا ولكن يعلم ما نظهر دون ما نسر. قال قتادة: الظن هنا بمعنى العلم، وقيل
أريد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما هو فوقه من العلم، (و) الإشارة بقوله (ذلكم) إلى ما ذكر من
ظنهم، وهو مبتدأ وخبره (ظنكم الذي ظننتم بربكم) وقوله (أرداكم) خبر آخر للمبتدأ: وقيل إن أرداكم في
محل نصب على الحال المقدرة. وقيل إن ظنكم بدل من ذلكم، والذي ظننتم خبره، وأرداكم خبر آخر، أو حال
وقيل إن ظنكم خبر أول، والموصول وصلته خبر ثان، وأرداكم خبر ثالث، والمعنى: أن ظنكم بأن الله لا يعلم
كثيرا مما تعملون أهلككم وطرحكم في النار (فأصبحتم من الخاسرين) أي الكاملين في الخسران. ثم أخبر عن حالهم
فقال (فإن يصبروا فالنار مثوى لهم) أي فإن يصبروا على النار فالنار مثواهم: أي محل استقرارهم وإقامتهم
لا خروج لهم منها. وقيل المعنى: فان يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار، فالنار مثوى لهم (وإن يستعتبوا
فما هم من المعتبين) يقال أعتبني فلان: أي أرضاني بعد إسخاطه إياي وإستعتبته طلبت منه أن يرضى، والمعنى:
أنهم إن يسألوا أن يرجع بهم إلى ما يحبون لم يرجع لأنهم لا يستحقون ذلك. قال الخليل: تقول إستعتبته فأعتبني:
أي استرضيته فأرضاني، ومعنى الآية: إن يطلبوا الرضى لم يقع الرضى عنهم، بل لا بد لهم من النار. قرأ الجمهور
" يستعتبوا " بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية الثانية مبنيا للفاعل. وقرأوا " من المعتبين " بفتح الفوقية اسم مفعول
وقرأ الحسن وعبيد بن عمير وأبو العالية " يستعتبوا " مبنيا للمفعول " فما هم من المعتبين " اسم فاعل: أي إنهم إن أقالهم
الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته كما في قوله سبحانه - ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه -.
وقد أخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله (فهم يوزعون) قال: يحبس أولهم على آخرهم. وأخرج ابن المنذر
وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يدفعون. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: كنت مستترا
بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر: قرشي وثقفيان، أو ثقفي وقرشيان، كثير لحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا
بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخران: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإنا إذا
لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخران: إن سمع منه شيئا سمعه كله، قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
512

فأنزل الله (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم) إلى قوله (من الخاسرين). وأخرج عبد الرزاق
وأحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم " تحشرون ها هنا، وأومأ بيده إلى الشام، مشاة وركبانا وعلى وجوهكم، وتعرضون
على الله وعلى أفواهكم الفدام، وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه وكتفه، وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم (وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) ". وأخرج أحمد وأبو داود الطيالسي
وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وابن حبان وابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله
(وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين).
قوله (وقيضنا لهم قرناء) أي هيأنا قرناء من الشياطين. وقال الزجاج: سببنا لهم قرناء حتى أضلوهم، وقيل
سلطنا عليهم قرناء، وقيل قدرنا، والمعاني متقاربة، وأصل التقييض التيسير والهيئة، والقرناء جمع قرين، وهم
الشياطين، جعلهم بمنزلة الأخلاء لهم. وقيل إن الله قيض لهم قرناء في النار، والأولى أن ذلك في الدنيا لقوله
513

(فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم) فإن المعنى: زينوا لهم ما بين أيديهم من أمور الدنيا وشهواتها، وحملوهم
على الوقوع في معاصي الله بانهماكهم فيها، وزينوا لهم ما خلفهم من أمور الآخرة فقالوا: لا بعث ولا حساب
ولا جنة ولا نار. وقال الزجاج: ما بين أيديهم ما عملوه، وما خلفهم ما عزموا على أن يعملوه. وروي عن
الزجاج أيضا أنه قال: ما بين أيديهم من أمر الآخرة أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، وما خلفهم من أمر الدنيا
(وحق عليهم القول) أي وجب وثبت عليهم العذاب، وهو قوله سبحانه - لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم
أجمعين - و (في أمم) في محل نصب على الحال من الضمير في عليهم، والمعنى: كائنين في جملة أمم، وقيل
في بمعنى مع: أي مع أمم من الأمم الكافرة التي (قد خلت) ومضت (من قبلهم من الجن والإنس) على
الكفر، وجملة (إنهم كانوا خاسرين) تعليل لاستحقاقهم العذاب (وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن)
أي قال بعضهم لبعض لا تسمعوه ولا تنصتوا له، وقيل معنى لا تسمعوا: لا تطيعوا، يقال سمعت لك: أي أطعتك
(والغوا فيه) أي عارضوه باللغو والباطل، أو ارفعوا أصواتكم ليتشوش القارئ له. وقال مجاهد: ألغوا فيه
بالمكاء والتصدية والتصفيق والتخليط في الكلام حتى يصير لغوا. وقال الضحاك: أكثروا الكلام ليختلط عليه
ما يقول. وقال أبو العالية: قعوا فيه وعيبوه. قرأ الجمهور " والغوا " بفتح الغين، من لغا إذا تكلم باللغو، وهو
ما لا فائدة فيه، أو من لغى بالفتح يلغى بالفتح أيضا كما حكاه الأخفش، وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن
أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي وقتادة والسماك والزعفراني بضم الغين. وقد تقدم الكلام في اللغو في
سورة البقرة (لعلكم تغلبون) أي لكي تغلبوهم فيسكتوا. ثم توعدهم سبحانه على ذلك فقال (فلنذيقن الذين
كفروا عذابا شديدا) وهذا وعيد لجميع الكفار، ويدخل فيهم الذين السياق معهم دخولا أوليا (ولنجزينهم
أسوأ الذي كانوا يعملون) أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. قال مقاتل: وهو
الشرك. وقيل المعنى: أنه يجازيهم بمساوئ أعمالهم لا بمحاسنها كما يقع منهم من صلة الأرحام وإكرام الضيف،
لأن ذلك باطل لا أجر له مع كفرهم، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم، وهو مبتدأ وخبره جزاء أعداء الله،
أو خبر مبتدأ محذوف. أي الأمر ذلك، وجملة (جزاء أعداء الله النار) مبينة للجملة التي قبلها، والأول أولى
وتكون النار عطف بيان للجزاء، أو بدلا منه، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ والخبر (لهم فيها دار الخلد).
وعلى الثلاثة الوجوه الأولى تكون جملة لهم فيها دار الخلد مستأنفة مقررة لما قبلها، ومعنى دار الخلد: دار الإقامة
المستمرة التي لا انقطاع لها (جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون) أي يجزون جزاء بسبب جحدهم بآيات الله. قال
مقاتل: يعنى القرآن يجحدون أنه من عند الله، وعلى هذا يكون التعبير عن اللغو بالجحود لكونه سببا له، إقامة
للسبب مقام المسبب (وقال الذين كفروا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس) قالوا هذا وهم في النار،
وذكره بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه، والمراد أنهم طلبوا من الله سبحانه أن يريهم من أضلهم من فريق
الجن والإنس من الشياطين الذين كانوا يسولون لهم ويحملونهم على المعاصي، ومن الرؤساء الذين كانوا يزينون
لهم الكفر. وقيل المراد إبليس وقابيل لأنهما سنا المعصية لبني آدم. قرأ الجمهور " أرنا " بكسر الراء. وقرأ ابن
محيصن والسوسي عن أبي عمرو وابن عامر بسكون الراء، وبها قرأ أبو بكر والمفضل وهما لغتان بمعنى واحد. وقال
الخليل: إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه وبالسكون أعطنيه (نجعلهما تحت أقدامنا) أي ندسهما
بأقدامنا لنشتفي منهم، وقيل نجعلهم أسفل منا في النار (ليكونا من الأسفلين) فيها مكانا، أو ليكونا من الأذلين
المهانين، وقيل ليكونوا أشد عذابا منا. ثم لما ذكر عقاب الكافرين وما أعده لهم ذكر حال المؤمنين وما أنعم عليهم
514

به فقال (إن الذين قالوا ربنا الله) أي وحده لا شريك له (ثم استقاموا) على التوحيد ولم يلتفتوا إلى إله غير الله. قال
جماعة من الصحابة والتابعين: معنى الاستقامة إخلاص العمل لله. وقال قتادة وابن زيد: ثم استقاموا على طاعة الله.
وقال الحسن: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد وعكرمة: استقاموا على شهادة
أن لا إله إلا الله حتى ماتوا. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الربيع: أعرضوا عما سوى الله. وقال
الفضيل بن عياض: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية (تتنزل عليهم الملائكة) من عند الله سبحانه بالبشرى التي
يريدونها من جلب نفع أو دفع ضر أو رفع حزن. قال ابن زيد ومجاهد: تتنزل عليهم عند الموت. وقال مقاتل
وقتادة: إذا قاموا من قبورهم للبعث. وقال وكيع: البشرى في ثلاثة مواطن: عند الموت، وفي القبر، وعند
البعث (أ) ن (لا تخافوا ولا تحزنوا) أن هي المخففة أو المفسرة أو الناصبة، و " لا " على الوجهين الأولين ناهية،
وعلى الثالث نافية، والمعنى: لا تخافوا مما تقدمون عليه من أمور الآخرة، ولا تحزنوا على ما فاتكم من أمور الدنيا من
أهل وولد ومال. قال مجاهد: لا تخافوا الموت ولا تحزنوا على أولادكم، فإن الله خليفتكم عليهم. وقال عطاء:
لا تخافوا رد ثوابكم فإنه مقبول، ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم. والظاهر عدم تخصيص تنزل الملائكة عليهم
بوقت معين، وعدم تقييد نفي الخوف والحزن بحالة مخصوصة كما يشعر به حذف المتعلق في الجميع (وأبشروا
بالجنة التي كنتم توعدون) بها في الدنيا فإنكم واصلون إليها مستقرون بها خالدون في نعيمها. ثم بشرهم سبحانه بما
هو أعظم من ذلك كله، فقال (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة) أي نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم
في أمور الدنيا وأمور الآخرة، ومن كان الله وليه فاز بكل مطلب ونجا من كل مخافة. وقيل إن هذا من قول
الملائكة. قال مجاهد: يقولون لهم نحن قرناؤكم الذين كنا معكم في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة قالوا: لا نفارقكم
حتى تدخلوا الجنة. وقال السدي: نحن الحفظة لأعمالكم في الدنيا وأولياؤكم في الآخرة. وقيل إنهم يشفعون لهم
في الآخرة ويتلقونهم بالكرامة (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) من صنوف اللذات وأنواع النعم (ولكم فيها ما تدعون)
أي ما تتمنون، افتعال من الدعاء بمعنى الطلب، وقد تقدم بيان معنى هذا في قوله " ولهم ما يدعون " مستوفى،
والفرق بين الجملتين أن الأولى باعتبار شهوات أنفسهم، والثانية باعتبار ما يطلبونه أعم من أن يكون مما تشتهيه أنفسهم
أولا. وقال الرازي: الأقرب عندي أن قوله (ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم) إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة
في قوله " دعواهم فيها سبحانك اللهم " الآية، وانتصاب (نزلا من غفور رحيم) على الحال من الموصول، أو من
عائده، أو من فاعل تدعون، أو هو مصدر مؤكد لفعل محذوف: أي أنزلناه نزلا، والنزل: ما يعد لهم حال
نزولهم من الرزق والضيافة، وقد تقدم تحقيقه في سورة آل عمران (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) أي إلى
توحيد الله وطاعته. قال الحسن: هو المؤمن أجاب الله دعوته ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من طاعته (وعمل
صالحا) في إجابته (وقال إنني من المسلمين) لربي. وقال ابن سيرين والسدي وابن زيد: هو رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم، وروي هذا أيضا عن الحسن. وقال عكرمة وقيس بن أبي حازم ومجاهد: نزلت في المؤذنين.
ويجاب عن هذا بأن الآية مكية، والأذان إنما شرع بالمدينة. والأولى حمل الآية على العموم كما يقتضيه اللفظ
ويدخل فيها من كان سببا لنزولها دخولا أوليا، فكل من جمع بين دعاء العباد إلى ما شرعه الله وعمل عملا صالحا،
وهو تأدية ما فرضه الله عليه مع اجتناب ما حرمه عليه، وكان من المسلمين دينا لا من غيرهم فلا شئ أحسن منه
ولا أوضح من طريقته ولا أكثر ثوابا من عمله. ثم بين سبحانه الفرق بين محاسن الأعمال ومساويها فقال (ولا
515

تستوي الحسنة ولا السيئة) أي لا تستوي الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، ولا السيئة التي يكرهها الله
ويعاقب عليها، ولا وجه لتخصيص الحسنة بنوع من أنواع الطاعات، وتخصيص السيئة بنوع من أنواع المعاصي،
فإن اللفظ أوسع من ذلك. وقيل الحسنة التوحيد والسيئة الشرك. وقيل الحسنة المداراة، والسيئة الغلظة. وقيل
الحسنة العفو، والسيئة الانتصار. وقيل الحسنة العلم، والسيئة الفحش. قال الفراء " لا " في قوله ولا السيئة زائدة
(ادفع بالتي هي أحسن) أي ادفع السيئة إذا جاءتك من المسئ بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، ومنه
مقابلة الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو، والغضب بالصبر، والإغضاء عن الهفوات، والاحتمال للمكروهات.
وقال مجاهد وعطاء: بالتي هي أحسن: يعني بالسلام إذا لقى من يعاديه، وقيل بالمصافحة عند التلاقي (فإذا
الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) هذه هي الفائدة الحاصلة من الدفع بالتي هي أحسن، والمعنى: أنك إذا
فعلت ذلك الدفع صار العدو كالصديق، والبعيد عنك كالقريب منك. وقال مقاتل: نزلت في أبي سفيان بن
حرب كان معاديا للنبي لي الله عليه وآله وسلم فصار له وليا بالمصاهرة التي وقعت بينه وبينه، ثم أسلم فصار وليا
في الإسلام حميما بالصهارة، وقيل غير ذلك، والأولى حمل الآية على العموم (وما يلقاها إلا الذين صبروا) قال
الزجاج: ما يلقى هذه الفعلة وهذه الحالة، وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ واحتمال
المكروه (وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) في الثواب والخير. وقال قتادة: الحظ العظيم الجنة: أي ما يلقاها إلا من
وجبت له الجنة، وقيل الضمير في يلقاها عائد إلى الجنة، وقيل راجع إلى كلمة التوحيد. قرأ الجمهور " يلقاها "
من التلقية، وقرأ طلحة بن مصرف وابن كثير في رواية عنه " يلاقاها " من الملاقاة. ثم أمره سبحانه بالاستعاذة من
الشيطان فقال (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله) النزغ شبيه النخس شبه به الوسوسة لأنها تبعث على
الشر، والمعنى: وإن صرفك الشيطان عن شئ مما شرعه الله لك، أو عن الدفع بالتي هي أحسن فاستعذ بالله من
شره، وجعل النزغ نازغا على المجاز العقلي كقولهم: جد جده، وجملة (إنه هو السميع العليم) تعليل لما قبلها:
أي السميع لكل ما يسمع، والعليم بكل ما يعلم، ومن كان كذلك فهو يعيذ من استعاذ به.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمكة إذا قرأ
القرآن يرفع صوته، فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون (لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)
وكان إذا أخفى قراءته لم يسمع من يحب أن يسمع القرآن، فأنزل الله - لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها -. وأخرج
عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه
وابن مردويه وابن عساكر عن علي بن أبي طالب أنه سئل عن قوله (ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس)
قال: هو ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس. وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم
وابن عدي وابن مردويه عن أنس قال: " قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية (إن الذين قالوا
ربنا الله ثم استقاموا) قال: قد قالها ناس من الناس ثم كفر أكثرهم، فمن قالها حين يموت فهو ممن استقام عليها.
وأخرج ابن المبارك وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وابن سعد وعبد بن حميد وابن جرير وابن
المنذر وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن عمران عن أبي بكر الصديق في قوله (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)
قال: الاستقامة أن لا يشركوا بالله شيئا. وأخرج ابن راهويه وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول
والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية من طريق الأسود بن هلال عن أبي بكر الصديق أنه قال:
ما تقولون في هاتين الآيتين (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا)، و - الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم - قالوا:
516

الذين قالوا ربنا الله ثم عملوا بها واستقاموا على أمره فلم يذنبوا، ولم يلبسوا إيمانهم بظلم لم يذنبوا. قال: لقد
حملتموهما على أمر شديد. الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم - يقول بشرك، والذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلم
يرجعوا إلى عبادة الأوثان. وأخرج ابن مردويه عن بعض الصحابة: ثم استقاموا على فرائض الله. وأخرج البيهقي
في الأسماء والصفات عن ابن عباس (ثم استقاموا) قال: على شهادة أن لا إله إلا الله. وأخرج ابن المبارك وسعيد
ابن منصور وأحمد في الزهد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر عن عمر بن الخطاب (إن الذين قالوا ربنا الله
ثم استقاموا) قال: استقاموا بطاعة الله ولم يروغوا روغان الثعلب. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والدارمي والبخاري
في تاريخه ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان الثقفي أن رجلا قال: يا رسول الله مرني بأمر
في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم، قلت: فما أتقى؟ فآوى إلى لسانه. قال
الترمذي: حسن صحيح. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عائشة في قوله (ومن أحسن قولا
ممن دعا إلى الله) قالت: المؤذن (وعمل صالحا) قالت: ركعتان فيما بين الأذان والإقامة. وأخرج ابن أبي شيبة
في المصنف وابن المنذر وابن مردويه من وجه آخر عنها قالت: ما أرى هذه الآية نزلت إلا في المؤذنين. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع
بالتي هي أحسن) قال: أمر المسلمين بالصبر عند الغضب والحلم عند الجهل والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا ذلك
عصمهم الله من الشيطان وخضع لهم عدوهم (كأنه ولي حميم). وأخرج ابن مردويه عنه (ادفع بالتي هي أحسن)
قال: القه بالسلام فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وأخرج ابن المنذر عن أنس في قوله (وما يلقاها
إلا الذين صبروا) قال: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبا فغفر الله
لك. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سليمان بن صرد قال: " استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم، فقال الرجل: أمجنون تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وإما ينزغنك
من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) ".
517

شرع سبحانه في بيان بعض آياته البديعة الدالة على كمال قدرته وقوة تصرفه للاستدلال بها على توحيده فقال
(ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر) ثم لما بين أن ذلك من آياته نهاهم عن عبادة الشمس والقمر، وأمرهم
بأن يسجدوا لله عز وجل فقال (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر) لأنهما مخلوقان من مخلوقاته، فلا يصح أن يكونا
شريكين له في ربوبيته (واسجدوا لله الذي خلقهن) أي خلق هذه الأربعة المذكورة، لأن جمع ما لا يعقل حكمه
حكم جمع الإناث، أو الآيات، أو الشمس والقمر، لأن الاثنين جمع عند جماعة من الأئمة (إن كنتم إياه تعبدون)
قيل كان ناس يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود
لهما السجود لله فنهوا عن ذلك، فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه. وقيل وجه تخصيصه أنه أقصى
مراتب العبادة، وهذه الآية من آيات السجود بلا خلاف، وإنما اختلفوا في موضع السجدة، فقيل موضعه عند
قوله (إن كنتم إياه تعبدون) لأنه متصل بالأمر، وقيل عند قوله (وهم لا يسأمون) لأنه تمام الكلام (فإن استكبروا
فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون) أي إن استكبر هؤلاء عن الامتثال فالملائكة يديمون
التسبيح لله سبحانه بالليل والنهار وهم لا يملون ولا يفترون (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة) الخطاب هنا لكل
من يصلح له أو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والخاشعة: اليابسة الجدبة. وقيل الغبراء التي لا تنبت. قال
الأزهري: إذا يبست الأرض ولم تمطر قيل قد خشعت (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت) أي ماء المطر،
ومعنى اهتزت تحركت بالنبات: يقال اهتز الإنسان: إذا تحرك، ومنه قول الشاعر:
تراه كنصل السيف يهتز للندى * إذا لم تجد عند امرئ السوء مطعما
ومعنى ربت: انتفخت وعلت قبل أن تنبت: قاله مجاهد وغيره، وعلى هذا ففي الكلام تقديم وتأخير،
وتقديره: ربت واهتزت، وقيل الاهتزاز والربو قد يكونان قبل خروج النبات وقد يكونان بعده، ومعنى الربو
لغة الارتفاع، كما يقال للموضع المرتفع ربوة ورابية، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الحج،
وقيل اهتزت استبشرت بالمطر، وربت انتفخت بالنبات. وقرأ أبو جعفر وخالد " وربأت " (إن الذي أحياها
لمحيي الموتى) بالبعث والنشور (إنه على كل شئ قدير) لا يعجزه شئ كائنا ما كان (إن الذين يلحدون في آياتنا)
أي يميلون عن الحق، والإلحاد الميل والعدول، ومنه اللحد في القبر لأنه أميل إلى ناحية منه: يقال ألحد في دين
الله: أي مال وعدل عنه، ويقال لحد، وقد تقدم في تفسير الإلحاد. قال مجاهد: معنى الآية يميلون عن الإيمان بالقرآن.
وقال مجاهد: يميلون عند تلاوة القرآن بالمكاء والتصدية واللغو والغناء. وقال قتادة: يكذبون في آياتنا. وقال السدي:
يعاندون ويشاقون. قال ابن زيد يشركون (لا يخفون علينا) بل نحن نعلمهم فنجازيهم بما يعملون. ثم بين كيفية
الجزاء والتفاوت بين المؤمن والكافر فقال (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) هذا الاستفهام للتقرير،
518

والغرض منه التنبيه على إن الملحدين في الآيات يلقون في النار، وأن المؤمنين بها يأتون آمنين يوم القيامة. وظاهر
الآية العموم اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل المراد بمن يلقى في النار: أبو جهل ومن يأتي آمنا:
النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل حمزة، وقيل عمر بن الخطاب، وقيل أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي
(اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير) هذا أمر تهديد: أي اعملوا من أعمالكم التي تلقيكم في النار ما شئتم إنه بما
تعملون بصير، فهو مجازيكم على كل ما تعملون. قال الزجاج: لفظه لفظ الأمر، ومعناه الوعيد (إن الذين كفروا
بالذكر لما جاءهم) الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وخبر إن محذوف: أي إن الذين كفروا بالقرآن ما جاءهم
يجازون بكفرهم، أو هالكون، أو يعذبون، وقيل هو قوله (ينادون من مكان بعيد) وهذا بعيد وإن رجحه
أبو عمرو بن العلاء. وقال الكسائي: إنه سد مسده الخبر السابق، وهو (لا يخفون علينا). وقيل إن الجملة بدل
من الجملة الأولى وهي: الذين يلحدون في آياتنا، وخبر إن هو الخبر السابق (وإنه لكتاب عزيز) أي القرآن الذي
كانوا يلحدون فيه: أي عزيز عن أن يعارض أو يطعن فيه الطاعنون، منيع عن كل عيب. ثم وصفه بأنه حق
لا سبيل للباطل إليه بوجه من الوجوه فقال (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). قال الزجاج: معناه أنه
محفوظ من أن ينقص منه فيأتيه الباطل من بين يديه، أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وبه قال قتادة والسدي.
ومعنى الباطل على هذا: الزيادة والنقصان. وقال مقاتل: لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من
بعده كتاب فيبطله، وبه قال الكلبي وسعيد بن جبير. وقيل الباطل هو الشيطان: أي لا يستطيع أن يزيد فيه ولا
ينقص منه. وقيل لا يزاد فيه ولا ينقص منه، لا من جبريل ولا من محمد صلى الله عليه وآله وسلم (تنزيل من
حكيم حميد) هو خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب عند من يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على
الصريح، وقيل إنه الصفة لكتاب، وجملة لا يأتيه معترضة بين الموصوف والصفة. ثم سلى سبحانه رسوله صلى الله
عليه وآله وسلم عن ما كان يتأثر له من أذية الكفار فقال (ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك) أي ما يقال
لك من هؤلاء الكفار من وصفك بالسحر والكذب والجنون إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك، فإن قومهم كانوا
يقولون لهم مثل ما يقول لك هؤلاء، وقيل المعنى: ما يقال لك من التوحيد وإخلاص العبادة لله إلا ما قد قيل للرسل
من قبلك، فإن الشرائع كلها متفقة على ذلك، وقيل هو استفهام: أي أي شئ يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من
قبلك (إن ربك لذو مغفرة) لمن يستحق مغفرته من الموحدين الذين بايعوك وبايعوا من قبلك من الأنبياء (وذو
عقاب أليم) للكفار المكذبين المعادين لرسل الله، وقيل لذو مغفرة للأنبياء، وذو عقاب لأعدائهم (ولو جعلناه
قرآنا أعجميا) أي لو جعلنا هذا القرآن الذي تقرؤه على الناس بغير لغة العرب (لقالوا لولا فصلت آياته) أي
بينت بلغتنا فإننا عرب لا نفهم لغة العجم، والاستفهام في قوله (أأعجمي وعربي) للإنكار، وهو من جملة قول
المشركين: أي لقالوا أكلام أعجمي ورسول عربي. والأعجمي: الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو من
العجم. والأعجم ضد الفصيح: وهو الذي لا يبين كلامه، ويقال للحيوان غير الناطق أعجم. قرأ أبو بكر وحمزة
والكسائي " أأعجمي " بهمزتين محققتين. وقرأ الحسن وأبو العالية ونصر بن عاصم وهشام بهمزة واحدة على الخبر،
وقرأ الباقون بتسهيل الثانية بين بين، وقيل المراد: هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجميا لإفهام العجم وبعضها عربيا
لإفهام العرب. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم فقال (قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء) أي يهتدون به إلى الحق ويشتفون به من كل شك وشبهة، ومن الأسقام والآلام (والذين لا يؤمنون في
آذانهم وقرا) أي صمم عن سماعه وفهم معانيه، ولهذا تواصوا باللغو فيه (وهو عليهم عمى) قال قتادة: عموا عن
519

القرآن وصموا عنه. وقال السدي: عميت قلوبهم عنه. والمعنى: وهو عليهم ذو عمى، أو وصف بالمصدر
للمبالغة، والموصول في قوله (والذين لا يؤمنون) مبتدأ وخبره (في آذانهم وقر) أو الموصول الثاني عطف على
الموصول الأول، ووقر عطف على هدى عند من جوز العطف على عاملين مختلفين، والتقدير: هو للأولين
هدى وشفاء، وللآخرين وقر في آذانهم. قرأ الجمهور " عمى " بفتح الميم منونة على أنه مصدر، وقرأ ابن عباس
وعبد الله بن الزبير وعمرو بن العاص وابن عمر بكسر الميم منونة على أنه اسم منقوص على أنه وصف به مجازا. وقرأ
عمرو بن دينار بكسر الميم وفتح الياء على أنه فعل ماض، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى لقوله أولا " هدى وشفاء "
ولم يقل هاد وشاف، وقيل المعنى: والوقر عليهم عمى، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الذين لا يؤمنون وما في
حيزه، وخبره (وينادون من مكان بعيد) مثل حالهم باعتبار عدم فهمهم للقرآن بحال من ينادي من مسافة بعيدة
لا يسمع صوت من يناديه منها. قال الفراء: تقول للرجل الذي لا يفهم كلامك أنت تنادي من مكان بعيد. وقال
الضحاك: ينادون يوم القيامة بأقبح أسمائهم من مكان بعيد. وقال مجاهد: من مكان بعيد من قلوبهم.
وقد أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان
يسجد بآخر الآيتين من حم السجدة، وكان ابن مسعود يسجد بالأولى منهما. وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة
من طريق نافع عن ابن عمر أنه كان يسجد بالأولى. وأخرج سعيد بن منصور عنه أنه كان يسجد في الآية الأخيرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن الذين يلحدون في آياتنا) قال: هو أن يضع الكلام على غير
موضعه. وأخرج ابن مردويه عنه في قوله (أفمن يلقى في النار) قال: أبو جهل بن هشام (أمن يأتي آمنا يوم
القيامة) قال: أبو بكر الصديق. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن عساكر عن بشير بن تميم
قال: نزلت هذه الآية في أبي جهم وعمار بن ياسر. وأخرج ابن عساكر عن عكرمة مثله. وأخرج ابن مردويه
عن ابن عباس في قوله (اعملوا ما شئتم) قال: هذا لأهل بدر خاصة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن
عباس في قوله (ولو جعلناه قرآنا أعجميا) الآية يقول: لو جعلنا القرآن أعجميا ولسانك يا محمد عربي لقالوا
أعجمي وعربي تأتينا به مختلفا أو مختلطا (لولا فصلت آياته) هلا بينت آياته فكان القرآن مثل اللسان. يقول: فلم
نفعل لئلا يقولوا فكانت حجة عليهم.
520

قوله (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه) هذا كلام مستأنف يتضمن تسلية رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم عما كان يحصل له من الاغتمام بكفر قومه وطعنهم في القرآن، فأخبره أن هذا عادة قديمة في أمم الرسل،
فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة إليهم، والمراد بالكتاب التوراة، والضمير من قوله " فيه " راجع إليه. وقيل يرجع
إلى موسى، والأول أولى (ولولا كلمة سبقت من ربك) في تأخير العذاب عن المكذبين من أمتك كما في قوله
- ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى - (لقضي بينهم) بتعجيل العذاب لمن كذب منهم (وإنهم لفي شك منه مريب)
أي من كتابك المنزل عليك وهو القرآن، ومعنى الشك المريب: الموقع في الريبة، أو الشديد الريبة. وقيل إن
المراد اليهود، وأنهم في شك من التوراة مريب، والأول أولى (من عمل صالحا فلنفسه) أي من أطاع الله وآمن
برسوله ولم يكذبهم فثواب ذلك راجع إليه ونفعه خاص به (ومن أساء فعليها) أي عقاب إساءته عليه لا على غيره
(وما ربك بظلام للعبيد) فلا يعذب أحدا إلا بذنبه، ولا يقع منه الظلم لأحد كما في قوله سبحانه - إن الله لا يظلم
الناس شيئا - وقد تقدم الكلام على معنى هذه الآية في سورة آل عمران عند قوله - وأن الله ليس بظلام للعبيد - وفي
سورة الأنفال أيضا. ثم أخبر سبحانه أن علم القيامة ووقت قيامها لا يعلمه غيره، فقال (إليه يرد علم الساعة) فإذا
وقع السؤال عنها وجب على المسؤول أن يرد علمها إليه لا إلى غيره، وقد روي أن المشركين قالوا: يا محمد إن
كنت نبيا فخبرنا متى تقوم الساعة؟ فنزلت، و " ما " في قوله (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) نافية، ومن
الأولى للاستغراق، ومن الثانية لابتداء الغاية، وقيل هي موصولة في محل جر عطفا على الساعة: أي علم الساعة
وعلم التي تخرج، والأول أولى. والأكمام جمع كم بكسر الكاف، وهو وعاء الثمرة ويطلق على كل ظرف لمال
أو غيره. قال أبو عبيدة: أكمامها أوعيتها، وهي ما كانت فيه الثمرة واحدها كم وكمة. قال الراغب: الكم
ما يغطي اليد من القميص، وما يغطي الثمرة، وجمعه أكمام، وهذا يدل على أن الكم بضم الكاف لأنه جعله مشتركا
بين كم القميص وكم الثمرة، ولا خلاف في كم القميص أنه بالضم. ويمكن أن يقال: إن في الكم الذي هو
وعاء الثمر لغتين. قرأ الجمهور " من ثمرة " بالإفراد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالجمع (وما تحمل من أنثى ولا
تضع إلا بعلمه) أي ما تحمل أنثى حملا في بطنها ولا تضع ذلك الحمل إلا بعلم الله سبحانه، والاستثناء مفرغ من
أعم الأحوال: أي ما يحدث شئ من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع في حال من الأحوال إلا كائنا
بعلم الله فإليه يرد علم الساعة كما إليه يرد علم هذه الأمور (ويوم يناديهم) أي ينادي الله سبحانه المشركين، وذلك
521

يوم القيامة فيقول لهم (أين شركائي) الذين كنتم تزعمون أنهم شركائي في الدنيا من الأصنام وغيرها فادعوهم الان
فليشفعوا لكم أو يدفعوا عنكم العذاب، وهذا على طريقة التهكم بهم. قرأ الجمهور " شركائي " بسكون الياء،
وقرأ ابن كثير بفتحها، والعامل في يوم محذوف: أي أذكر (قالوا آذناك ما منا من شهيد) يقال آذن يأذن: إذا
أعلم، ومنه قول الشاعر:
آذنتنا ببينها أسماء * رب ثاو يمل منه الثواء
والمعنى: أعلمناك ما منا أحد يشهد بأن لك شريكا، وذلك أنهم لما عاينوا القيامة تبرءوا من الشركاء وتبرأت
منهم تلك الأصنام التي كانوا يعبدونها. وقيل إن القائل بهذا هي المعبودات التي كانوا يعبدونها: أي ما منا من
شهيد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين، والأول أولى (وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل) أي زال وبطل في الآخرة
ما كانوا يعبدون في الدنيا من الأصنام ونحوها (وظنوا ما لهم من محيص) أي أيقنوا وعلموا أنه لا محيص لهم، يقال
حاص يحيص حيصا: إذا هرب. وقيل الظن على معناه الحقيقي لأنه بقي لهم في تلك الحال ظن ورجاء، والأول
أولى. ثم ذكر سبحانه بعض أحوال الإنسان فقال (لا يسأم الإنسان من دعاء الخير) أي لا يمل من دعاء الخير
لنفسه وجلبه إليه، والخير هنا: المال والصحة والسلطان والرفعة. وقال السدي: والإنسان هنا يراد به الكافر،
وقيل الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية بن خلف. والأولى حمل الآية على العموم باعتبار الغالب
فلا ينافيه خروج خلص العباد. وقرأ عبد الله بن مسعود " لا يسأم الإنسان من دعاء المال " (وإن مسه الشر فيئوس
قنوط) أي وإن مسه البلاء والشدة والفقر والمرض فيئوس من روح الله قنوط من رحمته. وقيل يئوس من إجابة
دعائه قنوط بسوء الظن بربه. وقيل يئوس من زوال ما به من المكروه قنوط بما يحصل له من ظن دوامه، وهما
صيغتا مبالغة يدلان على أنه شديد اليأس عظيم القنوط (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته) أي ولئن آتيناه
خيرا وعافية وغنى من بعد شدة ومرض وفقر (ليقولن هذا لي) أي هذا شئ أستحقه على الله لرضاه بعملي،
فظن أن تلك النعمة التي صار فيها وصلت إليه باستحقاقه لها ولم يعلم أن الله يبتلي عباده بالخير والشر ليتبين له
الشاكر من الجاحد، والصابر من الجزع. قال مجاهد: معناه هذا بعملي وأنا محقوق به (وما أظن الساعة قائمة)
أي ما أظنها تقوم كما يخبرنا به الأنبياء، أو لست على يقين من البعث، وهذا خاص بالكافرين والمنافقين، فيكون
المراد بالإنسان المذكور في صدر الآية الجنس باعتبار غالب أفراده، لأن اليأس من رحمة الله، والقنوط من خيره،
والشك في البعث لا يكون إلا من الكافرين أو المتزلزلين في الدين المتظهرين بالإسلام المبطنين للكفر (ولئن
رجعت إلى ربي) على تقدير: صدق ما يخبرنا به الأنبياء من قيام الساعة وحصول البعث والنشور (إن لي عنده
للحسنى) أي للحالة الحسنى من الكرامة، فظن أنه استحق خير الدنيا بما فيه من الخير، واستحق خير الآخرة
بذلك الذي اعتقده في نفسه وأثبته لها، وهو اعتقاد باطل وظن فاسد (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي
لنخبرنهم بها يوم القيامة (ولنذيقنهم من عذاب غليظ) شديد بسبب ذنوبهم، واللام هذه والتي قبلها هي الموطئة
للقسم (وإذا أنعمنا على الإنسان) أي على هذا الجنس باعتبار غالب أفراده (أعرض) عن الشكر (ونأى بجانبه)
أي ترفع عن الانقياد للحق وتكبر وتجبر، والجانب هنا مجاز عن النفس، ويقال نأيت وتناءيت: أي بعدت
وتباعدت، والمنتأى: الموضع البعيد. ومنه قول النابغة:
522

فإنك كالليل الذي هو مدركي * وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقرأ يزيد بن القعقاع " وناء بجانبه " بالألف قبل الهمزة (وإذا مسه الشر) أي البلاء والجهد والفقر والمرض
(فذو دعاء عريض) أي كثير، والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة مجازا، يقال أطال فلان في الكلام
وأعرض في الدعاء: إذا أكثر، والمعنى: أنه إذا مسه الشر تضرع إلى الله واستغاث به أن يكشف عنه ما نزل به
واستكثر من ذلك، فذكره في الشدة ونسيه في الرخاء واستغاث به عند نزول النقمة وتركه عند حصول النعمة،
وهذا صنيع الكافرين ومن كان غير ثابت القدم من المسلمين. ثم رجع سبحانه إلى مخاطبة الكفار ومحاجتهم فقال
(قل أرأيتم) أي أخبروني (إن كان من عند الله) أي القرآن (ثم كفرتم به) أي كذبتم به ولم تقبلوه ولا عملتم بما
فيه (من أضل ممن هو في شقاق بعيد) أي لا أحد أضل منكم لفرط شقاوتكم وشدة عداوتكم، والأصل أي
شئ أضل منكم، فوضع (من هو في شقاق) موضع الضمير لبيان حالهم في المشاقة، وأنها السبب الأعظم في
ضلالهم (سنريهم آياتنا في الآفاق) أي سنريهم دلالات صدق القرآن وعلامات كونه من عند الله في الآفاق (وفي
أنفسهم) الآفاق جمع أفق وهو الناحية. والأفق بضم الهمزة والفاء، كذا قال أهل اللغة. ونقل الراغب أنه يقال
أفق بفتحهما، والمعنى: سنريهم آياتنا في النواحي وفي أنفسهم. قال ابن زيد: في الآفاق آيات السماء، وفي
أنفسهم حوادث الأرض. وقال مجاهد: في الآفاق فتح القرى التي يسر الله فتحها لرسوله وللخلفاء من بعده
ونصار دينه في آفاق الدنيا شرقا وغربا، ومن الظهور على الجبابرة والأكاسرة، وفي أنفسهم فتح مكة، ورجح
هذا ابن جرير. وقال قتادة والضحاك: في الآفاق وقائع الله في الأمم، وفي أنفسهم في يوم بدر. وقال عطاء:
في الآفاق: يعني أقطار السماوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار والرياح والأمطار والرعد
والبرق والصواعق والنبات والأشجار والجبال والبحار وغير ذلك، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع
الحكمة، كما في قوله - وفي أنفسكم أفلا تبصرون - (حتى يتبين لهم أنه الحق) الضمير راجع إلى القرآن، وقيل إلى
الإسلام الذي جاءهم به رسول الله، وقيل إلى ما يريهم الله ويفعل من ذلك، وقيل إلى محمد صلى الله عليه وآله
وسلم أنه الرسول الحق من عند الله، والأول أولى (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) الجملة مسوقة
لتوبيخهم وتقريعهم و " بربك " في موضع رفع على أنه الفاعل ليكف، والباء زائدة، و " أنه " بدل من ربك
والهمزة للإنكار. والمعنى: ألم يغنهم عن الآيات الموعودة المبينة لحقية القرآن أنه سبحانه شهيد على جميع الأشياء.
وقيل المعنى: أولم يكف بربك يا محمد أنه شاهد على أعمال الكفار. وقيل أولم يكف بربك شاهدا على أن القرآن
منزل من عنده، والشهيد بمعنى العالم، أو هو بمعنى الشهادة التي هي الحضور. قال الزجاج: ومعنى الكناية
ها هنا أن الله عز وجل قد بين لهم ما فيه كفاية في الدلالة، والمعنى: أولم يكف ربك أنه على كل شئ شهيد
شاهد للأشياء لا يغيب عنه شئ (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم) أي في شك من البعث والحساب والثواب
والعقاب (ألا إنه بكل شئ محيط) أحاط علمه بجميع المعلومات وأحاطت قدرته بجميع المقدورات، يقال أحاط
يحيط إحاطة وحيطة، وفي هذا وعيد شديد لأن من أحاط بكل شئ بحيث لا يخفى عليه شئ جازى المحسن
بإحسانه والمسئ بإساءته.
وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: في قوله (ولولا كلمة سبقت من ربك) سبق لهم من الله حين وأجل
هم بالغوه. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله (وما تخرج من ثمرات من أكمامها) قال: حين
523

تطلع. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (آذناك) قال: أعلمناك. وأخرج عبد بن حميد
وابن المنذر عن عكرمة في قوله (لا يسأم الإنسان) قال: لا يمل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في
قوله (سنريهم آياتنا في الآفاق) قال: محمدا صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عنه في
الآية قال: ما يفتح الله من القرى (وفي أنفسهم) قال: تفتح مكة. وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال:
أمسك المطر عن الأرض كلها (وفي أنفسهم) قال: البلايا التي تكون في أجسامهم. وأخرج عبد بن حميد عن
ابن عباس في الآية قال: كانوا يسافرون فيرون آثار عاد وثمود، فيقولون: والله لقد صدق محمد. وما أراهم
في أنفسهم: قال الأمراض.
تفسير سورة الشورى
هي ثلاث وخمسون آية، وهي مكية كلها
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت (حم عسق) بمكة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله،
وكذا قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وروي عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا أريع آيات منها أنزلت
بالمدينة (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) إلى آخرها. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ونعيم بن
حماد والخطيب عن أرطاة بن المنذر قال: جاء رجل إلى ابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان فقال: أخبرني عن
تفسير حم عسق، فأعرض عنه، ثم كرر مقالته فأعرض عنه وكرر مقالته، ثم كررها الثالثة فلم يجبه، فقال له
حذيفة: أنا أنبئك بها لم كرهها؟ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبد إله أو عبد الله تنزل على نهر من أنهار
المشرق، يبنى عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا، يجتمع فيهما كل جبار عنيد، فإذا أذن الله في زوال ملكهم
وانقطاع دولتهم ومدتهم بعث الله على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة قد احترقت كأنها لم تكن مكانها،
وتصبح صاحبتها متعجبة كيف افتلتت، فما هو إلا بياض يومها ذلك حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد منهم، ثم
يخسف الله بها وبهم جميعا، فذلك قوله (حم عسق) يعني عزيمة من الله وفتنة وقضاء جمع: يعني عدلا منه،
سين: يعنى سيكون، ق لهاتين المدينتين. أقول: هذا الحديث لا يصح ولا يثبت وما أظنه إلا من الموضوعات
المكذوبات، والحامل لواضعه عليه ما يقع لكثير من الناس من عداوة الدول والحط من شأنهم والإزراء عليهم.
وأخرج أبو يعلى وابن عساكر قال السيوطي بسند ضعيف: قلت بل بسند موضوع ومتن مكذوب عن أبي معاوية
قال: صعد عمر بن الخطاب المنبر فقال: أيها الناس هل سمع منكم أحد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفسر
حم عسق فوثب ابن عباس فقال: إن حم اسم من أسماء الله، قال: فعين قال: عاين المذكور عذاب يوم بدر،
قال: فسين، قال: فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. قال: فقاف فسكت، فقام أبو ذر ففسر كما قال ابن
عباس وقال: قاف قارعة من السماء تصيب الناس. قال ابن كثير في الحديث الأول: إنه غريب عجيب منكر،
وفي الحديث الثاني: إنه أغرب من الحديث الأول. وعندي أنهما موضوعان مكذوبان.
524

قوله (حم عسق) قد تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح، وسئل الحسن بن الفضل لم قطع " حم عسق " ولم
يقطع كهيعص فقال: لأنها سور أولها حم فجرت مجرى نظائرها، فكأن حم مبتدأ وعسق خبره، ولأنهما عدا
آيتين، وأخواتهما مثل: كهيعص والمر والمص آية واحدة. وقيل لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص
وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في حم فقيل معناها حم: أي قضى كما تقدم. وقيل إن ح حلمه
ومن مجده، وع علمه، و س سناه، وق قدرته، أقسم الله بها. وقيل غير ذلك مما هو متكلف متعسف لم يدل
عليه دليل ولا جاءت به حجة ولا شبهة حجة، وقد ذكرنا قبل هذا ما روي في ذلك مما لا أصل له، والحق
ما قدمناه لك في فاتحة سورة البقرة. وقيل هما اسمان للسورة، وقيل اسم واحد لها، فعلى الأول يكونان خبرين
لمبتدأ محذوف، وعلى الثاني يكون خبرا لذلك المبتدأ المحذوف. وقرأ ابن مسعود وابن عباس " حم سق " (كذلك
يوحى إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم) هذا كلام مستأنف غير متعلق بما قبله: أي مثل ذلك الإيحاء
الذي أوحى إلى سائر الأنبياء من كتب الله المنزلة عليهم المشتملة على الدعوة إلى التوحيد والبعث يوحى إليك
يا محمد في هذه السورة. وقيل إن حم عسق أوحيت إلى من قبله من الأنبياء، فتكون الإشارة بقوله " كذلك "
525

إليها. قرأ الجمهور " يوحي " بكسر الحاء مبنيا للفاعل وهو الله. وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن بفتحها مبنيا
للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر يعود على كذلك، والتقدير: مثل ذلك الإيحاء يوحي هو إليك، أو
القائم مقام الفاعل إليك، أو الجملة المذكورة: أي يوحى إليك هذا اللفظ أو القرآن أو مصدر يوحي، وارتفاع
الاسم الشريف على أنه فاعل لفعل محذوف كأنه قيل من يوحي؟ فقيل الله العزيز الحكيم. وأما قراءة الجمهور
فهي واضحة اللفظ والمعنى، وقد تقدم مثل هذا في قوله - يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال - وقرأ أبو حيوة
والأعمش وأبان " نوحي " بالنون فيكون قوله (الله العزيز الحكيم) في محل نصب، والمعنى: نوحي إليك هذا
اللفظ (له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم) ذكر سبحانه لنفسه هذا الوصف وهو ملك جميع ما في
السماوات والأرض لدلالته على كمال قدرته ونفوذ تصرفه في جميع مخلوقاته (تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن)
قرأ الجمهور " تكاد " بالفوقية، وكذلك " تتفطرن " قرأوه بالفوقية مع تشديد الطاء. وقرأ نافع والكسائي وابن
وثاب يكاد " يتفطرن " بالتحتية فيهما، وقرأ أبو عمرو والمفضل وأبو بكر وأبو عبيد " ينفطرن " بالتحتية والنون من
الانفطار كقوله " إذا السماء انفطرت " والتفطر: التشقق. قال الضحاك والسدي: يتفطرن يتشققن من عظمة
الله وجلاله من فوقهن. وقيل المعنى: تكاد كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين اتخذ الله
ولدا، وقيل من فوقهن: من فوق الأرضين، والأول أولى. ومن في من فوقهن لابتداء الغاية: أي يبتدئ
التفطر من جهة الفوق. وقال الأخفش الصغير: إن الضمير يعود إلى جماعات الكفار: أي من فوق جماعات
الكفار وهو بعيد جدا، ووجه تخصيص جهة الفوق أنها أقرب إلى الآيات العظيمة والمصنوعات الباهرة، أو على
طريق المبالغة كأن كلمة الكفار مع كونها جاءت من جهة التحت أثرت في جهة الفوق، فتأثيرها في جهة التحت
بالأولى (والملائكة يسبحون بحمد ربهم) أي ينزهونه عما لا يليق به ولا يجوز عليه متلبسين بحمده. وقيل إن
التسبيح موضوع موضع التعجب: أي يتعجبون من جراءة المشركين على الله. وقيل معنى " بحمد ربهم " بأمر ربهم
قاله السدي (ويستغفرون لمن في الأرض) من عباد الله المؤمنين كما في قوله " ويستغفرون للذين آمنوا " وقيل
الاستغفار منهم بمعنى السعي فيما يستدعي المغفرة لهم وتأخير عقوبتهم طمعا في إيمان الكافر وتوبة الفاسق فتكون الآية
عامة كما هو ظاهر اللفظ غير خاصة بالمؤمنين وإن كانوا داخلين فيها دخولا أوليا (ألا إن الله هو الغفور الرحيم)
أي كثير المغفرة والرحمة لأهل طاعته وأوليائه أو لجميع عباده فإن تأخير عقوبة الكفار والعصاة نوع من أنواع
مغفرته ورحمته (والذين اتخذوا من دونه أولياء) أي أصناما يعبدونها (الله حفيظ عليهم) أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم
بها (وما أنت عليهم بوكيل) أي لم يوكلك بهم حتى تؤاخذ بذنوبهم، ولا وكل إليك هدايتهم، وإنما عليك البلاغ
قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا) أي مثل ذلك الإيحاء أوحينا إليك، وقرآنا
مفعول أوحينا، والمعنى: أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه (لتنذر أم
القرى) وهي مكة والمراد أهلها (ومن حولها) من الناس والمفعول الثاني محذوف: أي لتنذرهم العذاب (وتنذر يوم
الجمع) أي ولتنذر بيوم الجمع: وهو يوم القيامة لأنه مجمع الخلائق. وقيل المراد جمع الأرواح بالأجساد. وقيل
جمع الظالم والمظلوم، وقيل جمع العامل والعمل (لا ريب فيه) أي لا شك فيه، والجملة معترضة مقررة لما قبلها أو
صفة ليوم الجمع أو حال منه (فريق في الجنة وفريق في السعير) قرأ الجمهور برفع في الموضعين، إما على
أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور، وشاع الابتداء بالنكرة لأن المقام مقام تفصيل، أو على أن الخبر مقدر قبله:
526

أي منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في السعير، أو أنه خبر مبتدأ محذوف وهو ضمير عائد إلى المجموعين المدلول
عليهم بذكر الجمع: أي هم فريق في الجنة وفريق في السعير. وقرأ زيد بن علي " فريقا " بالنصب في الموضعين
على الحال من جملة محذوفة: أي افترقوا حال كونهم كذلك، وأجاز الفراء والكسائي النصب على تقدير لتنذر فريقا
(ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة) قال الضحاك: أهل دين واحد، إما على هدى وإما على ضلالة، ولكنهم
افترقوا على أديان مختلفة بالمشيئة الأزلية، وهو معنى قوله (ولكن يدخل من يشاء في رحمته) في الدين الحق: وهو
الإسلام (والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير) أي المشركون ما لهم من ولي يدفع عنهم العذاب، ولا نصير ينصرهم
في ذلك المقام، ومثل هذا قوله - ولو شاء الله لجمعهم على الهدى - وقوله - ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها -
وها هنا مخاصمات بين المتمذهبين المحامين على ما درج عليه أسلافهم فدبوا عليه من بعدهم وليس بنا إلى ذكر شئ
من ذلك فائدة كما هو عادتنا في تفسيرنا هذا فهو تفسير سلفي يمشى مع الحق ويدور مع مدلولات النظم الشريف،
وإنما يعرف ذلك من رسخ قدمه وتبرأ من التعصب قلبه ولحمه ودمه، وجملة (أم اتخذوا من دونه أولياء) مستأنفة
مقرر لما قبلها من انتفاء كون للظالمين وليا ونصيرا، وأن هذه هي المنقطعة المقدرة ببل المفيدة للانتقال وبالهمزة
المفيدة للإنكار: أي بل أأتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ (فالله هو الولي) أي هو الحقيق
بأن يتخذوه وليا، فإنه الخالق الرازق الضار النافع، وقيل الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أرادوا أن
يتخذوا أولياء في الحقيقة فالله هو الولي (وهو) أي ومن شأنه أنه (يحيي الموتى وهو على كل شئ قدير)
أي يقدر على كل مقدور، فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية وإفراده بالعبادة (وما اختلفتم فيه من شئ
فحكمه إلى الله) هذا عام في كل ما اختلف فيه العباد من أمر الدين، فإن حكمه ومرجعه إلى الله يحكم فيه
يوم القيامة بحكمه ويفصل خصومة المختصمين فيه، وعند ذلك يظهر المحق من المبطل، ويتميز فريق الجنة وفريق
النار. قال الكلبي: وما اختلفتم فيه من شئ: أي من أمر الدين فحكمه إلى الله يقضي فيه. وقال مقاتل: إن أهل
مكة كفر بعضهم بالقرآن وآمن به بعضهم فنزلت، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويمكن أن يقال:
معنى حكمه إلى الله: أنه مردود إلى كتابه، فإنه قد اشتمل على الحكم بين عباده فيما يختلفون فيه فتكون الآية عامة
في كل اختلاف يتعلق بأمر الدين أنه يرد إلى كتاب الله، ومثله قوله - فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول -
وقد حكم سبحانه بأن الدين هو الإسلام، وأن القرآن حق، وأن المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، ولكن لما
كان الكفار لا يذعنون لكون ذلك حقا إلا في الدار الآخرة وعدهم الله بذلك يوم القيامة (ذلكم) الحاكم بهذا الحكم
(الله ربي عليه توكلت) اعتمدت عليه في جميع أموري، لا على غيره وفوضته في كل شؤوني (وإليه أنيب) أي
أرجع في كل شئ يعرض لي لا إلى غيره (فاطر السماوات والأرض) قرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر آخر لذلكم،
أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره ما بعده، أو نعت لربي لأن الإضافة محضة، ويكون - عليه توكلت وإليه
أنيب - معترضا بين الصفة والموصوف. وقرأ زيد بن علي " فاطر " بالجر على أنه نعت للاسم الشريف في قوله
" إلى الله " وما بينهما اعتراض أو بدل من الهاء في عليه أو إليه، وأجاز الكسائي النصب على النداء وأجازه غيره
على المدح. والفاطر: الخالق المبدع، وقد تقدم تحقيقه (جعل لكم من أنفسكم أزواجا) أي خلق لكم من جنسكم
نساء، أو المراد حواء لكونها خلقت من ضلع آدم. وقال مجاهد: نسلا بعد نسل (ومن الأنعام أزواجا) أي
خلق للأنعام من جنسها إناثا، أو وخلق لكم من الأنعام أصنافا من الذكور والإناث، وهي الثمانية التي ذكرها
527

في الأنعام (يذرؤكم فيه) أي يبثكم، من الذرء: وهو البث، أو يخلقكم وينشئكم، والضمير في يذرؤكم
للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب فيه العقلاء، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل، وقيل راجع إلى
ما ذكر من التدبير. وقال الفراء والزجاج وابن كيسان: معنى يذرؤكم فيه يكثركم به: أي يكثركم بجعلكم أزواجا
لأن ذلك سبب النسل. وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه: أي في الزوج، وقيل في البطن، وقيل في الرحم (ليس
كمثله شئ) المراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية، فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى:
كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، وقيل إن الكاف زائدة للتوكيد: أي ليس مثله شئ، وقيل إن مثل
زائدة قاله ثعلب وغيره كما في قوله " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " أي بما آمنتم به، ومنه قول أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخي * ل يغشاهم مطر منهمر
أي كجذوع، والأول أولى، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيع مألوف لهم، ومنه قول الشاعر:
ليس كمثل الفتى زهير * خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه * وإن بات من ليلى على اليأس طاويا
وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم * فما كمثلهم في الناس من أحد
قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا: أي أنا لا يقال لي. وقال أبو البقاء
مرجحا لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى: أن له مثلا وليس لمثله مثل،
وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير
حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجا مخرج الكناية ومن فهم هذه الآية الكريمة حق
فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة
إذا تأمل معنى قوله (وهو السميع البصير) فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء
الصدور وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيرا من
البدع وتهشم بها رؤوسا من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين، ولا سيما إذا صممت إليه قول الله
سبحانه - ولا يحيطون به علما - فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين:
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديث ما حديث الرواحل
(له مقاليد السماوات والأرض) أي خزائنهما أو مفاتيحهما، وقد تقدم تحقيقه في سورة الزمر، وهي جمع
إقليد، وهو المفتاح جمع على خلاف القياس. قال النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. ثم لما ذكر
سبحانه أن بيده مقاليد السماوات والأرض ذكر بعده البسط والقبض فقال (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي
يوسعه لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء (إنه بكل شئ) من الأشياء (عليم) فلا تخفى عليه خافية، وأحاط
علمه بكل شئ يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي، فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير وشر.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذا الكتابان؟ قلنا لا، إلا أن
528

تخبرنا يا رسول الله، قال: للذي في يده اليمنى: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم
وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم، ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين
بأسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه:
ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه؟ فقال: سددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل
الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يحتم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل له. قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير، قال الترمذي بعد
إخراجه: حديث حسن صحيح غريب. وروى ابن جرير طرفا منه عن ابن عمرو موقوفا عليه. قال ابن جرير:
وهذا الموقوف أشبه بالصواب. قلت: بل المرفوع أشبه بالصواب، فقد رفعه الثقة ورفعه زيادة ثابتة من وجه
صحيح، ويقوي الرفع ما أخرجه ابن مردويه عن البراء. قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في
يده كتاب ينظر فيه قالوا انظروا إليه كيف وهو أمي لا يقرأ، قال: فعلمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،
فقال: هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء قبائلهم لا يزاد منهم ولا ينقص منهم، وقال: فريق
في الجنة، وفريق في السعير فرغ ربكم من أعمال العباد.
الخطاب في قوله (شرع لكم من الدين) أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم: أي بين وأوضح لكم من الدين
ما وصى به نوحا من التوحيد ودين الإسلام وأصول الشرائع التي لم يختلف فيها الرسل وتوافقت عليها الكتب
529

(والذي أوحينا إليك) من القرآن وشرائع الإسلام والبراءة من الشرك، والتعبير عنه بالموصول لتفخيم شأنه،
وخص ما شرعه لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بالإيحاء مع كون ما بعده وما قبله مذكورا بالتوصية للتصريح برسالته
(وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) مما تطابقت عليه الشرائع. ثم بين ما وصى به هؤلاء فقال (أن أقيموا
الدين) أي توحيد الله والإيمان به وطاعة رسله وقبول شرائعه، وأن هي المصدرية، وهي وما بعدها في محل رفع
على الخبرية لمبتدأ محذوف، كأنه قيل ما ذلك الذي شرعه الله؟ فقيل هو إقامة الدين، أو هي في محل نصب بدلا من
الموصول، أو في محل جر بدلا من الدين، أو هي المفسرة، لأنه قد تقدمها ما فيه معنى القول. قال مقاتل: يعني
أنه شرع لكم ولمن قبلكم من الأنبياء دينا واحدا. قال مقاتل: يعنى التوحيد. قال مجاهد: لم يبعث الله نبيا قط إلا
وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم. وقال قتادة: يعني تحليل
الحلال وتحريم الحرام، وخص إبراهيم وموسى وعيسى بالذكر مع نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أرباب
الشرائع. ثم لما أمرهم سبحانه بإقامة الدين، نهاهم عن الاختلاف فيه فقال (ولا تتفرقوا فيه) أي لا تختلفوا في
التوحيد والإيمان بالله وطاعة رسله وقبول شرائعه، فإن هذه الأمور قد تطابقت عليها الشرائع وتوافقت فيها
الأديان، فلا ينبغي الخلاف في مثلها، وليس من هذا فروع المسائل التي تختلف فيها الأدلة وتتعارض فيها
الأمارات وتتباين فيها الأفهام، فإنها من مطارح الاجتهاد ومواطن الخلاف. ثم ذكر سبحانه أن ما شرعه من الدين
شق على المشركين فقال (كبر على المشركين ما تدعوهم إليه) أي عظم وشق عليهم ما تدعوهم إليه من لتوحيد
ورفض الأوثان. قال قتادة: كبر على المشركين واشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله وحده وضاق بها إبليس
وجنوده، فأبى الله إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها ويظفرها هذا على من ناوأها. ثم خص أولياءه فقال (الله يجتبي إليه
من يشاء) أي يختار والاجتباء الاختيار، والمعنى: يختار لتوحيده والدخول في دينه من يشاء من عباده (ويهدي
إليه من ينيب) أي يوفق لدينه ويستخلص لعبادته من يرجع إلى طاعته ويقبل إلى عبادته. ثم لما ذكر سبحانه
ما شرعه لهم من إقامة الدين وعدم التفرق فيه ذكر ما وقع من التفرق الاختلاف فقال (وما تفرقوا إلا من بعد
ما جاءهم العلم) أي ما تفرقوا إلا عن علم بأن الفرقة ضلالة، ففعلوا ذلك التفرق للبغي بينهم بطلب الرياسة وشدة
الحمية، قيل المراد قريش هم الذين تفرقوا بعد ما جاءهم العلم، وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بغيا) منهم
عليه، وقد كانوا يقولون ما حكاه الله عنهم بقوله - وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير - الآية، وبقوله
- فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به - وقيل المراد أمم الأنبياء المتقدمين، وأنهم فيما (بينهم) اختلفوا لما طال بهم المدى
فآمن قوم وكفر قوم، وقيل اليهود والنصارى خاصة كما في قوله - وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد
ما جاءتهم البينة - (ولولا كلمة سبقت من ربك) وهي تأخير العقوبة (إلى أجل مسمى) وهو يوم القيامة كما في
قوله - والساعة موعدهم - وقيل إلى الأجل الذي قضاه الله لعذابهم في الدنيا بالقتل والأسر والذل والقهر (لقضى
بينهم) أي لوقع القضاء بينهم بإنزال العقوبة بهم معجلة، وقيل لقضى بين من آمن منهم ومن كفر بنزول العذاب
بالكافرين ونجاة المؤمنين (وإن الذين أورثوا الكتاب) من اليهود والنصارى (من بعدهم) من بعد من قبلهم من
اليهود والنصارى (لفي شك منه) أي من القرآن، أو من محمد (مريب) موقع في الريب ولذلك لم يؤمنوا. وقال
مجاهد: معنى من بعدهم من قبلهم: يعني من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى. وقيل المراد كفار
المشركين من العرب الذين أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتابهم، وصفهم بأنه في شك من القرآن
مريب. قرأ الجمهور " أورثوا " وقرأ زيد بن علي " ورثوا " بالتشديد (فلذلك فادع واستقم) أي فلأجل ما ذكر
530

من التفرق والشك، أو فلأجل أنه شرع من الدين ما شرع فادع واستقم، أي فأدع إلى الله وإلى توحيده واستقم
على ما دعوت إليه. قال الفراء والزجاج: المعنى فإلى ذلك فادع كما تقول: دعوت إلى فلان ولفلان، وذلك
إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد. وقيل في الكلام تقديم وتأخير. والمعنى: كبر على المشركين ما ندعوهم
إليه فلذلك فادع. قال قتادة: استقم على أمر الله. وقال سفيان: استقم على القران. وقال الضحاك: استقم على
تبليغ الرسالة (كما أمرت) بذلك من جهة الله (ولا تتبع أهواءهم) الباطلة وتعصباتهم الزائغة، ولا تنظر إلى خلاف
من خالفك في ذكر الله (وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب) أي بجميع الكتب التي أنزلها الله على رسله، لا كالذين
آمنوا ببعض منها وكفروا ببعض (وأمرت لأعدل بينكم) في أحكام الله إذا ترافعتم إلي، ولا أحيف عليكم بزيادة
على ما شرعه الله أو بنقصان منه، وأبلغ إليكم ما أمرني الله بتبليغه كما هو، واللام لام كي: أي أمرت بذلك
الذي أمرت به لكي أعدل بينكم، وقيل هي زائدة، والمعنى: أمرت أن أعدل. والأول أولى. قال أبو العالية:
أمرت لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول. والظاهر أن الآية عامة في كل شئ، والمعنى:
أمرت لأعدل بينكم في كل شئ (الله ربنا وربكم) أي إلهنا وإلهكم، وخالقنا وخالقكم (لنا أعمالنا) أي ثوابها
وعقابها خاص بنا (ولكم أعمالكم) أي ثوابها وعقابها خاص بكم (لا حجة بيننا وبينكم) أي لا خصومة بيننا
وبينكم، لأن الحق قد ظهر ووضح (الله يجمع بيننا) في المحشر (وإليه المصير) أي المرجع يوم القيامة فيجازي
كلا بعمله: وهذا منسوخ بآية السيف. قيل الخطاب لليهود، وقيل للكفار على العموم (والذين يحاجون في
الله من بعد ما استجيب له) أي يخاصمون في دين الله من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا فيه. قال مجاهد: من
بعد ما أسلم الناس. قال: وهؤلاء قوم توهموا أن الجاهلية تعود. وقال قتادة: هم اليهود والنصارى ومحاجتهم
قولهم: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل كتاب وأنهم أولاد
الأنبياء، وكان المشركون يقولون - أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا -؟ فنزلت هذه الآية، والموصول مبتدأ،
وخبره الجملة بعده وهي (حجتهم داحضة عند ربهم) أي لا ثبات لها كالشئ الذي يزول عن موضعه، يقال:
دحضت حجته دحوضا: بطلت، والإدحاض: الإزلاق، ومكان دحض: أي زلق، ودحضت رجله:
زلقت. وقيل الضمير في له راجع إلى الله. وقيل راجع إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والأول أولى (وعليهم
غضب) أي غضب عظيم من الله لمجادلتهم بالباطل (ولهم عذاب شديد) في الآخرة (الله الذي أنزل الكتاب بالحق)
المراد بالكتاب: الجنس فيشمل جميع الكتب المنزلة على الرسل. وقيل المراد به القران خاصة، وبالحق متعلق
بمحذوف: أي ملتبسا بالحق وهو الصدق (و) المراد ب (الميزان) العدل، كذا قال أكثر المفسرين، قالوا وسمى
العدل ميزانا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية بين الخلق. وقيل: الميزان ما بين في الكتب المنزلة مما يجب على كل
إنسان أن يعمل به. وقيل: هو الجزاء على الطاعة بالثواب، وعلى المعصية بالعقاب. وقيل إنه الميزان نفسه أنزله الله
من السماء وعلم العباد الوزن به لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس كما في قوله - لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط - وقيل هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم (وما يدريك لعل الساعة قريب)
أي أي شئ يجعلك داريا بها، عالما بوقتها لعلها شئ قريب أو قريب مجيئها أو ذات قرب. وقال قريب ولم يقل
قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي. قال الزجاج: المعنى لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب. وقال الكسائي:
قريب نعت ينعت به المؤنث والمذكر كما في قوله - إن رحمة الله قريب من المحسنين -. ومنه قول الشاعر:
وكنا قريبا والديار بعيدة * فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا
531

قيل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الساعة وعنده قوم من المشركين، فقالوا متى تكون الساعة؟
تكذيبا لها فأنزل الله الآية، ويدل على هذا قوله (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) استعجال استهزاء منهم بها
وتكذيبا بمجيئها (والذين آمنوا مشفقون منها) أي خائفون وجلون من مجيئها. قال مقاتل: لأنهم لا يدرون على
ما يهجمون عليه. وقال الزجاج: لأنهم يعلمون أنهم محاسبون ومجزيون (ويعلمون أنها الحق) أي أنها آتية
لا ريب فيها، ومثل هذا قوله - والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون -. ثم بين ضلال
الممارين فيها فقال (ألا إن الذين يمارون في الساعة) أي يخاصمون فيها مخاصمة شك وريبة، من المماراة وهي
المخاصمة والمجادلة، أو من المرية وهي الشك والريبة (لفي ضلال بعيد) عن الحق لأنهم لم يتفكروا في الموجبات
للإيمان بها من الدلائل التي هي مشاهدة لهم منصوبة لأعينهم مفهومة لعقولهم، ولو تفكروا لعلموا أن الذي خلقهم
ابتداء قادر على الإعادة.
وقد أخرج ابن جرير عن السدي (أن أقيموا الدين) قال: اعملوا به. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير
وابن المنذر عن قتادة في قوله (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) قال: ألا تعلموا أن الفرقة هلكة وأن الجماعة ثقة
(كبر على المشركين ما تدعوهم إليه). قال: استكبر المشركون أن قيل لهم: لا إله إلا الله. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد (الله يجتبى إليه من يشاء) قال: يخلص لنفسه من يشاء. وأخرج ابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له) قال: هم أهل
الكتاب كانوا يجادلون المسلمين ويصدونهم عن الهدى من بعد ما استجابوا لله. وقال: هم قوم من أهل الضلالة
وكانوا يتربصون بأن تأتيهم الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في
قوله (والذين يحاجون في الله) الآية. قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج عبد بن حميد عن الحسن نحوه. وأخرج
ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت " إذا جاء نصر الله والفتح " قال المشركون لمن بين أظهرهم من المؤمنين:
قد دخل الناس في دين الله أفواجا فأخرجوا من بين أظهرنا فنزلت (والذين يحاجون في الله) الآية.
532

قوله (الله لطيف بعباده) أي كثير اللطف بهم بالغ الرأفة لهم. قال مقاتل: لطيف بالبار والفاجر حيث لم
يقتلهم جوعا بمعاصيهم. قال عكرمة: بار بهم. وقال السدي: رفيق بهم، وقيل حفي بهم. وقال القرطبي:
لطيف بهم في العرض والمحاسبة، وقيل غير ذلك. والمعنى: أنه يجري لطفه على عباده في كل أمورهم، ومن جملة
ذلك الرزق الذي يعيشون به في الدنيا، وهو معنى قوله (يرزق من يشاء) منهم كيف يشاء، فيوسع على هذا
ويضيق على هذا (وهو القوي) العظيم القوة الباهرة القادرة (العزيز) الذي يغلب كل شئ ولا يغلبه شئ (من
كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه) الحرث في اللغة: الكسب، يقال هو يحرث لعياله ويحترث: أي يكتسب.
ومنه سمى الرجل حارثا، وأصل معنى الحرث: إلقاء البذر في الأرض، فأطلق على ثمرات الأعمال وفوائدها
بطريق الاستعارة: والمعنى: من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الآخرة يضاعف الله له ذلك الحسنة بعشرة أمثالها
إلى سبعمائة ضعف. وقيل: معناه يزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبل الخير له (ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته
منها) أي من كان يريد بأعماله وكسبه ثواب الدنيا وهو متاعها، وما يزرق الله به عباده منها نعطه منها ما قضت به
مشيئتنا وقسم له في قضائنا. قال قتادة: معنى " نؤته منها " نقدر له ما قسم له كما قال " عجلنا له فيها ما نشاء ".
وقال قتادة أيضا: إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا. قال
القشيري: والظاهر أن الآية في الكافر، وهو تخصيص بغير مخصص. ثم بين سبحانه أن هذا الذي يريد بعمله
الدنيا لا نصيب له في الآخرة فقال (وما له في الآخرة من نصيب) لأنه لم يعمل للآخرة فلا نصيب له فيها، وقد
تقدم تفسير هذه الآية في سورة الإسراء (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) لما بين سبحانه القانون
في أمر الدنيا والآخرة أردفه ببيان ما هو الذنب العظيم الموجب للنار، والهمزة لاستفهام التقرير والتقريع، وضمير
شرعوا عائد إلى الشركاء، وضمير لهم إلى الكفار، وقيل العكس، والأول أولى. ومعنى " ما لم يأذن به الله " ما لم
يأذن به من الشرك والمعاصي (ولولا كلمة الفصل) وهي تأخير عذابهم حيث قال " بل الساعة موعدهم " (لقضي
بينهم) في الدنيا فعوجلوا بالعقوبة، والضمير في بينهم راجع إلى المؤمنين والمشركين، أو إلى المشركين وشركائهم
(وإن الظالمين لهم عذاب أليم) أي المشركين والمكذبين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة. قرأ الجمهور " وإن
الظالمين " بكسر الهمزة على الاستئناف. وقرأ مسلم والأعرج وابن هرمز بفتحها عطفا على كلمة الفصل (ترى
الظالمين مشفقين مما كسبوا) أي خائفين وجلين مما كسبوا من السيئات، وذلك الخوف والوجل يوم القيامة (وهو
533

واقع بهم) الضمير راجع إلى ما كسبوا بتقدير مضاف قاله الزجاج: أي وجزاء ما كسبوا واقع منهم نازل عليهم
لا محالة أشفقوا أو لم يشفقوا، والجملة في محل نصب على الحال. ولما ذكر حال الظالمين ذكر حال المؤمنين فقال
(والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات) روضات جمع روضة. قال أبو حيان: اللغة الكثيرة تسكين
الواو، ولغة هذيل فتحها، والروضة: الموضع النزه الكثير الخضرة، وقد مضى بيان هذا في سورة الروم،
وروضة الجنة: أطيب مساكنها كما أنها في الدنيا لأحسن أمكنتها (لهم ما يشاءون عند ربهم) من صنوف النعم
وأنواع المستلذات، والعامل في عند ربهم يشاءون، أو العامل في روضات الجنات وهو الاستقرار، والإشارة
بقوله (ذلك) إلى ما ذكر للمؤمنين قبله، وخبره الجملة المذكورة بعد وهي (هو الفضل الكبير) أي الذي
لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى معرفة حقيقته، والإشارة بقوله (ذلك الذي يبشر الله عباده) إلى الفضل الكبير:
أي يبشرهم به. ثم وصف العباد بقوله (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فهؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل بما
أمر الله به وترك ما نهى عنه هم المبشرون بتلك البشارة. قرأ الجمهور " يبشر " مشددا من بشر. وقرأ مجاهد وحميد
ابن قيس بضم التحتية وسكون الموحدة وكسر الشين من أبشر. وقرأ بفتح التحتية وضم الشين بعض السبعة، وقد
تقدم بيان القراءات في هذه اللفظة. ثم لما ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من هذه الأحكام
الشريفة التي اشتمل عليها كتابه أمره بأنه يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ ثوابا منهم فقال (قل لا أسألكم
عليه أجرا) أي قل يا محمد: لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلا ولا نفعا (إلا
المودة في القربى) هذا الاستثناء
يجوز أن يكون متصلا: أي إلا أن تودوني لقرابتي بينكم أو تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون منقطعا. قال
الزجاج: إلا المودة استثناء ليس من الأول: أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني، والخطاب لقريش، وهذا
قول عكرمة ومجاهد وأبي مالك والشعبي، فيكون المعنى على الانقطاع: لا أسألكم أجرا قط، ولكن أسألكم
المودة في القربى التي بيني وبينكم، ارقبوني فيها ولا تعجلوا إلي ودعوني والناس، وبه قال قتادة ومقاتل والسدي
والضحاك وابن زيد وغيرهم، وهو الثابت عن ابن عباس كما سيأتي. وقال سعيد بن جبير وغيره: هم آل
محمد، وسيأتي ما استدل به القائلون بهذا. وقال الحسن وغيره: معنى الآية: إلا التودد إلى الله عز وجل
والتقرب بطاعته. وقال الحسن بن الفضل: ورواه ابن جرير عن الضحاك إن هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت
بمكة، وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمرهم الله بمودته، فلما هاجر أوته الأنصار
ونصروه، فأنزل الله عليه - وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين - وأنزل عليه - قل ما سألتكم
من أجر فهو لكم أن أجر إلا على الله - وسيأتي في آخر البحث ما يتضح به الثواب ويظهر به معنى الآية إن شاء
الله (ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) أصل القرف الكسب، يقال فلان يقرف لعياله: أي يكتسب.
والاقتراف: الاكتساب، مأخوذ من قولهم رجل قرفة: إذا كان محتالا. والمعنى: من يكتسب حسنة نزد له هذه
الحسنة حسنا بمضاعفة ثوابها. قال مقاتل: المعنى من يكتسب حسنة واحدة نزد له فيها حسنا نضاعفها بالواحدة
عشرا فصاعدا. وقيل المراد بهذه الحسنة هي المودة في القربى، والحمل على العموم أولى، ويدخل تحته المودة في
القربى دخولا أوليا (إن الله غفور شكور) أي كثير المغفرة للمذنبين كثير الشكر للمطيعين. قال قتادة: غفور
للذنوب شكور للحسنات. وقال السدي: غفور لذنوب آل محمد (أم يقولون افترى على الله كذبا) أم هي
المنقطعة: أي بل أيقولون افترى محمد على الله كذبا بدعوى النبوة، والإنكار للتوبيخ. ومعنى افتراء الكذب:
اختلاقه. ثم أجاب سبحانه عن قولهم هذا فقال (فإن يشأ الله يختم على قلبك) أي لو افترى على الله الكذب لشاء
534

عدم صدوره منه وختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله شيئا مما كذب فيه كما تزعمون. قال قتادة: يختم على قلبك
فينسيك القران، فأخبرهم أنه لو افترى عليه لفعل به ما أخبرهم به في هذه الآية. وقال مجاهد ومقاتل: أن يشأ
يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم. وقيل الخطاب له، والمراد الكفار: أي
إن يشأ يختم على قلوب الكفار ويعاجلهم بالعقوبة، ذكره القشيري. وقيل المعنى: لو حدثتك نفسك أن تفتري
على الله كذبا لطبع على قلبك، فإنه لا يجتريء على الكذب إلا من كان مطبوعا على قلبه، والأول أولى، وقوله
(ويمحوا الله الباطل) استئناف مقرر لما قبله من نفي الافتراء. قال ابن الأنباري: يختم على قلبك تام: يعني وما
بعده مستأنف. وقال الكسائي: فيه تقديم وتأخير: أي والله يمحو الباطل. وقال الزجاج: أم يقولون افترى
على الله كذبا تام. وقوله (ويمحو الله الباطل) احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
أي لو كان ما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلم باطلا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين (ويحق الحق) أي
الإسلام فيبينه (بكلماته) أي بما أنزل من القرآن (إنه عليم بذات الصدور) عالم بما في قلوب العباد، وقد سقطت
الواو من ويمحو في بعض المصاحف كما حكاه الكسائي (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده) أي يقبل من المذنبين
من عباده توبتهم إليه مما عملوا من المعاصي واقترفوا من السيئات، والتوبة الندم على المعصية والعزم على عدم
المعاودة لها. وقيل يقبل التوبة عن أوليائه وأهل طاعته. والأول أولى، فإن التوبة مقبولة من جميع العباد مسلمهم
وكافرهم إذا كانت صحيحة صادرة عن خلوص نية وعزيمة صحيحة (ويعفو عن السيئات) على العموم لمن تاب عن
سيئته (ويعلم ما تفعلون) من خير وشر فيجازي كلا بما يستحقه. قرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف " تفعلون "
بالفوقية على الخطاب. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر، واختار القراءة الثانية أبو عبيد وأبو حاتم لأن هذا الفعل
وقع بين خبرين (ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الموصول في موضع نصب: أي يستجيب الله الذين
آمنوا ويعطيهم ما طلبوه منه، يقال أجاب واستجاب بمعنى. وقيل المعنى يقبل عبادة المخلصين، وقيل التقدير
ويستجيب لهم، فحذف اللام كما حذف في قوله " وإذا كالوهم " أي كالوا لهم، وقيل إن الموصول في محل رفع:
أي يجيبون ربهم إذا دعاهم كقوله - استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم - قال المبرد: معنى (ويستجيب الذين آمنوا)
ويستدعي الذين آمنوا الإجابة، هكذا حقيقة معنى استفعل، فالذين في موضع رفع، والأول أولى (ويزيدهم من
فضله) أي يزيدهم على ما طلبوه منه، أو على ما يستحقونه من الثواب تفضلا منه، وقيل يشفعهم في إخوانهم
(والكافرون لهم عذاب شديد) هذا للكافرين مقابلا ما ذكره للمؤمنين فيما قبله (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا
في الأرض) أي لو وسع الله لهم رزقهم لبغوا في الأرض لعصوا فيها وبطروا النعمة وتكبروا وطلبوا ما ليس لهم
طلبه، وقيل المعنى: لو جعلهم سواء في الرزق لما انقاد بعضهم لبعض ولتعطلت الصنائع. والأول أولى.
والظاهر عموم أنواع الرزق، وقيل هو المطر خاصة (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) أي ينزل من الرزق لعباده بتقدير
على حسب مشيئته وما تقتضيه حكمته البالغة (إنه بعباده خبير) بأحوالهم (بصير) بما يصلحهم من توسيع الرزق
وتضييقه، فيقدر لكل أحد منهم ما يصلحه ويكفه عن الفساد بالبغي في الأرض (وهو الذين ينزل الغيث) أي
المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق وأعمها فائدة وأكثرها مصلحة (من بعد ما قنطوا)) أي من بعد ما أيسوا عن ذلك
فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمته لهم، ويشكرون له ما يجب الشكر عليه (وهو الولي) للصالحين
من عباده بالإحسان إليهم وجلب المنافع لهم، ودفع الشرور عنهم (الحميد) المستحق للحمد منهم على إنعامه
خصوصا وعموما.
535

وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (من كان يريد حرث الآخرة) قال: عيش الآخرة (نزد له في
حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) الآية. قال: من يؤثر دنياه على آخرته لم يجعل الله له نصيبا في الآخرة
إلا النار، ولم يزدد بذلك من الدنيا شيئا الا رزقا فرغ منه وقسم له. وأخرج أحمد والحاكم وصححه وابن مردويه
وابن حبان عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر
والتمكين في الأرض ما لم يطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من
نصيب ". وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(من كان يريد حرث الآخرة) الآية، ثم قال: يقول الله: ابن ادم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك،
وإن لا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن عساكر عن علي قال: الحرث
حرثان، فحرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري
ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه من طريق طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله (إلا
المودة في القربى) قال سعيد بن جبير: قربى آل محمد. قال ابن عباس: عجلت أن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. وأخرج ابن
أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق سعيد بن جبير عنه قال: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
" لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي وتحفظوا القرابة التي بيني وبينكم ". وأخرج سعيد بن منصور
وابن سعد وعبد بن حميد والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الشعبي قال: أكثر الناس علينا
في هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: إن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم كان واسط لنسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وله فيه قرابة، فقال الله (قل
لا أسألكم عليه أجرا) على ما أدعوكم إليه (إلا المودة في القربى) أن تودوني لقرابتي منكم وتحفظوني بها. وأخرج
ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية
قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرابة من جميع قريش، فلما كذبوه وأبوا أن يبايعوه قال " يا قوم
إذا أبيتم أن تبايعوني فاحفظوا قرابتي فيكم، ولا يكون غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم ". وأخرج
عبد بن حميد وابن مردويه عنه نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا
نحوه. وأخرج ابن مردويه عنه أيضا من طريق أخرى نحوه. وأخرج أبن جرير وأبن أبي حاتم وابن مردويه من
طريق مقسم عن ابن عباس قال: قالت الأنصار فعلنا وكأنهم فخروا، فقال العباس: لنا الفضل عليكم،
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاهم في مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم
الله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفلا تجيبون؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: ألا تقولون ألم يخرجك
قومك فآويناك؟ ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب وقالوا:
أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله، فنزلت (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) وفي إسناده يزيد بن
أبي زياد، وهو ضعيف، والأولى أن الآية مكية لا مدنية، وقد أشرنا في أول السورة إلى قول من قال إن هذه
الآية وما بعدها مدنية، وهذا متمسكهم. وأخرج أبو نعيم والديلمي من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) أي تحفظوني في أهل بيتي
وتودونهم بي ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه. قال السيوطي: بسند ضعيف من
طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى)
536

قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولداهما. وأخرج ابن
أبي حاتم وابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية بمكة، وكان المشركون يودون
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله قل لهم يا محمد (لا أسألكم عليه) يعني على ما أدعوكم إليه (أجرا)
عرضا من الدنيا (إلا المودة في القربى) إلا الحفظ لي في قرابتي فيكم، فلما هاجر إلى المدينة أحب أن يلحقه بإخوانه
من الأنبياء فقال " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " يعني ثوابه وكرامته في الآخرة كما قال
نوح " وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى علي رب العالمين " وكما قال هود وصالح وشعيب لم يستثنوا أجرا كما
استثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرده عليهم، وهي منسوخة. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم
وصححه وابن مردويه من طريق مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية: قل لا أسألكم
على ما أتيتكم به من البينات والهدى أجرا إلا أن تودوا الله وأن تتقربوا إليه بطاعته. هذا حاصل ما روي عن حبر
الأمة ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية. والمعنى الأول هو الذي صح عنه، ورواه عنه الجمع الجم
من تلامذته فمن بعدهم، ولا ينافيه ما روي عنه من النسخ، فلا مانع من أن يكون قد نزل القرآن في مكة بأن يوده
كفار قريش لما بينه وبينهم من القربى ويحفظوه بها، ثم ينسخ ذلك ويذهب هذا الاستثناء من أصله كما يدل عليه
ما ذكرنا مما يدل على أنه لم يسأل على التبليغ أجرا على الإطلاق، ولا يقوى ما روى من حملها على آل محمد صلى الله
عليه وآله وسلم على معارضة ما صح عن ابن عباس من تلك الطرق الكثيرة، وقد أغنى الله آل محمد عن هذا بما لهم
من الفضائل الجليلة والمزايا الجميلة، وقد بينا بعض ذلك عند تفسيرنا لقوله " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت " وكما لا يقوى هذا على المعارضة، فكذلك لا يقوى ما روي عنه أن المراد بالمودة في القربى أن يودوا الله
وأن يتقربوا إليه بطاعته، ولكنه يشد من عضد هذا أنه تفسير مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وإسناده عند أحمد في المسند هكذا: حدثنا حسن بن موسى حدثنا قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن مسلم بن إبراهيم عن قزعة به.
وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه
وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب. قال السيوطي بسند صحيح عن أبي هانئ الخولاني قال: سمعت عمر بن
حريث وغيره يقولون: إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض
وذلك أنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا). وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي مثله.
537

ذكر سبحانه بعض آياته الدالة على كمال قدرته الموجبة لتوحيده وصدق ما وعد به من البعث، فقال (ومن
آياته خلق السماوات والأرض) أي خلقهما على هذه الكيفية العجيبة والصنعة الغريبة (وما بث فيهما من دابة)
يجوز عطفه على خلق، ويجوز عطفه على السماوات، والدابة اسم لكل ما دب. قال الفراء: أراد ما بث في الأرض
دون السماء كقوله - يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان - وإنما يخرج من الملح دون العذب. وقال أبو علي الفارسي:
تقديره وما بث في أحدهما، فحذف المضاف. وقال مجاهد: يدخل في هذا الملائكة والناس، وقد قال تعالى
- ويخلق مالا تعلمون - (وهو على جمعهم) أي حشرهم يوم القيامة (إذا يشاء قدير) الظرف متعلق بجمعهم لا بقدير
قال أبو البقاء، لأن ذلك يؤدي، وهو على جمعهم قدير إذا يشاء فتتعلق القدرة بالمشيئة وهو محال. قال شهاب
الدين: ولا أدري ما وجه كونه محالا على مذهب أهل السنة، فإن كان يقول بقول المعتزلة وهو أن القدرة تتعلق
بما لم يشأ الله مشى كلامه، ولكنه مذهب رديء لا يجوز اعتقاده (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) أي
ما أصابكم من المصائب كائنة ما كانت فبسبب ما كسبت أيديكم من المعاصي. قرأ نافع وابن عامر " بما كسبت "
بغير فاء، وقرأ الباقون بالفاء، " وما " في " وما أصابكم " هي الشرطية، ولهذا دخلت الفاء في جوابها على قراءة
الجمهور ولا يجوز حذفها عند سيبويه والجمهور، وجوز الأخفش الحذف كما في قوله - وإن أطعتموهم إنكم
لمشركون - وقول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها * والشر بالشر عند الله مثلان
وقيل هي الموصولة فيكون الحذف والإثبات جائزين، والأول أولى. قال الزجاج: إثبات الفاء أجود لأن
الفاء مجازاة جواب الشرط، ومن حذف الفاء فعلى أن ما في معنى الذي، والمعنى: الذي أصابكم وقع بما كسبت
أيديكم. قال الحسن: المصيبة هنا الحدود على المعاصي، والأولى الحمل على العموم كما يفيده وقوع النكرة في
538

سياق النفي ودخول من الاستغراقية عليها (ويعفو عن كثير) من المعاصي التي يفعلها العباد فلا يعاقب عليها، فمعنى
الآية: أنه يكفر عن العبد بما يصيبه من المصائب ويعفو عن كثير من الذنوب. وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن
جميع ما يصاب به الإنسان في الدنيا يؤجر عليه أو يكفر عنه من ذنوبه. وقيل هذه الآية مختصة بالكافرين على
معنى: أن ما يصابون به بسبب ذنوبهم من غير أن يكون ذلك مكفرا عنهم لذنب ولا محصلا لثواب، ويترك
عقوبتهم عن كثير من ذنوبهم فلا يعاجلهم في الدنيا بل يمهلهم إلى الدار الآخرة. والأولى حمل الآية على العموم،
والعفو يصدق على تأخير العقوبة كما يصدق على محو الذنب ورفع الخطاب به. قال الواحدي: وهذه أرجى آية
في كتاب الله لأنه جعل ذنوب المؤمنين صنفين: صنف كفره عنهم بالمصائب، وصنف عفا عنه في الدنيا وهو
كريم لا يرجع في عفوه، فهذه سنة الله مع المؤمنين. وأما الكافر فإنه لا يعجل له عقوبة ذنبه حتى يوافي به يوم
القيامة (وما أنتم بمعجزين في الأرض) أي بفائتين عليه هربا في الأرض ولا في السماء لو كانوا فيها بل ما قضاه
عليهم من المصائب واقع عليهم نازل بهم (وما لكم من دون الله من ولي) يواليكم فيمنع عنكم ما قضاه الله (ولا
نصير) ينصركم من عذاب الله في الدنيا ولا في الآخرة. ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آياته العظيمة الدالة على
توحيده وصدق ما وعد به فقال (ومن آياته الجوار) قرأ نافع وأبو عمرو " الجواري " بإثبات الياء في الوصل،
وأما في الوقف فإثباتها على الأصل وحذفها للتخفيف، وهي السفن واحدتها جارية: أي سائرة (في البحر
كالأعلام) أي الجبال جمع علم وهو الجبل، ومنه قول الخنساء:
وإن صخرا لتأتم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
قال الخليل: كل شئ مرتفع عند العرب فهو علم. وقال مجاهد: الأعلام القصور واحدها علم (إن يشأ
يسكن الريح) قرأ الجمهور بهمز " يشأ " وقرأ ورش عن نافع بلا همز. وقرأ الجمهور " الريح " بالإفراد. وقرأ
نافع " الرياح " على الجمع: أي يسكن الريح التي تجري بها السفن (فيظللن) أي السفن (رواكد) أي سواكن
ثوابت (على ظهر) البحر، يقال ركد الماء ركودا: سكن، وكذلك ركدت الريح وركدت السفينة وكل ثابت
في مكان فهو راكد. قرأ الجمهور " فيظللن " بفتح اللام الأولى، وقرأ قتادة بكسرها وهي لغة قليلة (إن في ذلك)
الذي ذكر من أمر السفن (لآيات) دلالات عظيمة (لكل صبار شكور) أي لكل من كان كثير الصبر على
البلوى كثير الشكر على النعماء. قال قطرب: الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر وإذا ابتلى صبر. قال عون
ابن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر * وكم من مبتلى غير صابر
(أو يوبقهن بما كسبوا) معطوف على يسكن: أي يهلكهن بالغرق، والمراد أهلهن بما كسبوا من الذنوب،
وقيل بما أشركوا. والأول أولى، فإنه يهلك في البحر المشرك وغير المشرك، يقال أوبقه: أي أهلكه (ويعف عن
كثير) من أهلها بالتجاوز عن ذنوبهم فينجيهم من الغرق. قرأ الجمهور " يعف " بالجزم عطفا على جواب الشرط.
قال القشيري: وفي هذه القراءة إشكال لأن المعنى: إن يشأ يسكن الريح فتبقى تلك السفن رواكد أو يهلكها
بذنوب أهلها فلا يحسن عطف " يعف " على هذا، لأنه يصير المعنى: أن يشأ يعف وليس المعنى ذلك، بل المعنى
الإخبار عن العفو من غير شرط المشيئة فهو إذن عطف على المجزوم من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، وقد قرأ
قوم " ويعفو " بالرفع وهي جيدة في المعنى. قال أبو حيان: وما قاله ليس بجيد إذ لم يفهم مدلول التركيب،
والمعنى: إلا أنه تعالى أهلك ناسا وأنجى ناسا على طريق العفو عنهم، وقرأ الأعمش " ويعفو " بالرفع، وقرأ بعض
أهل المدينة بالنصب بإضمار أن بعد الواو كما في قول النابغة:
539

فإن يهلك أبو قابوس يهلك * ربيع الناس والشهر الحرام
ونأخذ بعده بذناب عيش * أجب الظهر ليس له سنام
بنصب ونأخذ (ويعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص) قرأ الجمهور بنصب " يعلم " قال الزجاج:
على الصرف، قال: ومعنى الصرف صرف العطف على اللفظ إلى العطف على المعنى، قال: وذلك أنه لما لم يحسن
عطف ويعلم مجزوما على ما قبله إذ يكون المعنى: إن يشأ يعلم عدل إلى العطف على مصدر الفعل الذي قبله، ولا
يتأتى ذلك إلا بإضمار أن لتكون مع الفعل في تأويل أسم، ومن هذا بيتا النابغة المذكوران قريبا، وكما قال الزجاج.
قال المبرد وأبو علي الفارسي: واعترض على هذا الوجه بما لا طائل تحته. وقيل النصب على العطف على تعليل
محذوف والتقدير: لينتقم منهم ويعلم. واعترضه أبو حيان بأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن تقدير
لينتقم منهم. وقرأ نافع وابن عامر برفع " يعلم " على الاستئناف وهي قراءة ظاهرة المعنى واضحة اللفظ. وقرئ بالجزم
عطفا على المجزوم قبله على معنى: وإن يشأ يجمع بين الإهلاك والنجاة والتحذير، ومعنى (ما لهم من محيص) ما لهم
من فرار ولا مهرب، قاله قطرب. وقال السدي: ما له من ملجأ، وهو مأخوذ من قولهم حاص به البعير حيصة:
إذا رمى به، ومنه قولهم فلان يحيص عن الحق: أي يميل عنه (فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا) لما ذكر
سبحانه دلائل التوحيد ذكر التنفير عن الدنيا: أي ما أعطيتم من الغنى والسعة في الرزق فإنما هو متاع قليل في أيام
قليلة ينقضي ويذهب. ثم رغبهم في ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال (وما عند الله خير وأبقى) أي
ما عند الله من ثواب الطاعات والجزاء عليها بالجنات خير من متاع الدنيا وأبقى لأنه دائم لا ينقطع، ومتاع الدنيا
ينقطع بسرعة. ثم بين سبحانه لمن هذا فقال (للذين آمنوا) أي صدقوا وعملوا على ما يوجبه الإيمان (وعلى ربهم
يتوكلون) أي يفوضون إليه أمورهم ويعتمدون عليه في كل شؤونهم لا على غيره (والذين يجتنبون كبائر الإثم
والفواحش) الموصول في محل جر معطوف على الذين آمنوا أو بدلا منه أو في محل نصب بإضمار: أعني والأول
أولى، والمعنى: أن ما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وللذين يجتنبون. والمراد بكبائر الإثم: الكبائر من الذنوب،
وقد قدمنا تحقيقها في سورة النساء. قرأ الجمهور " كبائر " بالجمع، وقرأ حمزة والكسائي " كبير " بالإفراد وهو
يفيد مفاد الكبائر، لأن الإضافة للجنس كاللام. والفواحش هي من الكبائر ولكنها مع وصف كونها فاحشة كأنها
فوقها، وذلك كالقتل والزنا ونحو ذلك. وقال مقاتل: الفواحش موجبات الحدود. وقال السدي: هي الزنا
(وإذا ما غضبوا هم يغفرون) أي يتجاوزون عن الذنب الذي أغضبهم ويكظمون الغيظ ويحملون على من ظلمهم،
وخص الغضب بالغفران لأن استيلاءه على طبع الإنسان وغلبته عليه شديدة، فلا يغفر عند سورة الغضب إلا من
شرح الله صدره وخصه بمزية الحلم، ولهذا أثنى الله سبحانه عليهم بقوله في آل عمران " والكاظمين الغيظ " قال
ابن زيد: جعل الله المؤمنين صنفين: صنفا يعفون عن ظالمهم فبدأ بذكرهم، وصنفا ينتصرون من ظالمهم وهم
الذين سيأتي ذكرهم (والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة) أي أجابوه إلى ما دعاهم إليه وأقاموا ما أوجبه عليهم
من فريضة الصلاة. قال ابن زيد: هم الأنصار بالمدينة استجابوا إلى الإيمان بالرسول حين أنفذ إليهم اثنى عشر
نقيبا منهم قبل الهجرة، وأقاموا الصلاة لمواقيتها بشروطها وهيئاتها (وأمرهم شورى بينهم) أي يتشاورون فيما
بينهم ولا يعجلون ولا ينفردون بالرأي، والشورى مصدر شاورته مثل البشرى والذكرى. قال الضحاك: هو
تشاورهم حين سمعوا بظهور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وورود النقباء إليهم حين اجتمع رأيهم في دار
540

أبي أيوب على الإيمان به والنصرة له. وقيل المراد تشاورهم في كل أمر يعرض لهم فلا يستأثر بعضهم على بعض
برأي، وما أحسن ما قاله بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن * برأي نصيح أو نصيحة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة * فريش الخوافي قوة للقوادم
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشاور أصحابه في أموره وأمره الله سبحانه بذلك فقال
" وشاورهم في الأمر " وقد قدمنا في آل عمران كلاما في الشورى (ومما رزقناهم ينفقون) أي ينفقونه في سبيل
الخير ويتصدقون به على المحاويج. ثم ذكر سبحانه الطائفة التي تنتصر ممن ظلمها فقال (والذين إذا أصابهم البغي
هم ينتصرون) أي أصابهم بغي من بغى عليهم بغير الحق، ذكر سبحانه هؤلاء المنتصرين في معرض المدح كما
ذكر المغفرة عند الغضب في معرض المدح لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال
- العزة لله ولرسوله وللمؤمنين - فالانتصار عند البغي فضيلة، كما أن العفو عند الغضب فضيلة. قال النخعي:
كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترئ عليهم السفهاء، ولكن هذا الانتصار مشروط بالاقتصار على ما جعله الله
له وعدم مجاوزته كما بينه سبحانه عقب هذا بقوله (وجزاء سيئة سيئة مثلها) فبين سبحانه أن العدل في الانتصار هو
الاقتصار على المساواة، وظاهر هذا العموم. وقال مقاتل والشافعي وأبو حنيفة وسفيان: إن هذا خاص بالمجروح
ينتقم من الجارح بالقصاص دون غيره. وقال مجاهد والسدي: هو جواب القبيح إذا قال أخزاك الله يقول أخزاك
الله من غير أن يعتدي، وتسمية الجزاء سيئة إما لكونها تسوء من وقعت عليه أو على طريق المشاكلة لتشابههما في
الصورة. ثم لما بين سبحانه أن جزاء السيئة بمثلها حق جائز بين فضيلة العفو فقال (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)
أي من عفا عمن ظلمه وأصلح بالعفو بينه وبين ظالمه: أي أن الله سبحانه يأجره على ذلك، وأبهم الأجر تعظيما
لشأنه وتنبيها على جلالته. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد بينا هذا في سورة آل عمران. ثم
ذكر سبحانه خروج الظلمة عن محبته التي هي سبب الفوز والنجاة فقال (إنه لا يحب الظالمين) أي المبتدئين بالظلم
قال مقاتل: يعني من يبدأ بالظلم، وبه قال سعيد بن جبير. وقيل لا يحب من يتعدى في الاقتصاص ويجاوز الحد
فيه لأن المجاوزة ظلم (ولم انتصر بعد ظلمه) مصدر مضاف إلى المفعول: أي بعد أن ظلمه الظالم له، واللام هي
لام الابتداء. وقال ابن عطية: هي لام القسم، والأول أولى. ومن هي الشرطية وجوابه (فأولئك ما عليهم من
سبيل) بمؤاخذة وعقوبة، ويجوز أن تكون من هي الموصولة ودخلت الفاء في جوابها تشبيها للموصولة بالشرطية،
والأول أولى. ولما نفى سبحانه السبيل على من انتصر بعد ظلمه بين من عليه السبيل فقال (إنما السبيل على الذين
يظلمون الناس) أي يتعدون عليهم ابتداء كذا قال الأكثر. وقال ابن جريج: أي يظلمونهم بالشرك المخالف
لدينهم (ويبغون في الأرض بغير الحق) أي يعلمون في النفوس والأموال بغير الحق كذا قال الأكثر. وقال
مقاتل: بغيهم عملهم بالمعاصي، وقيل يتكبرون ويتجبرون. وقال أبو مالك: هو ما يرجوه أهل مكة أن يكون
بمكة غير الإسلام دينا، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الذين يظلمون الناس وهو مبتدأ، وخبره (لهم عذاب أليم)
أي لهم بهذا السبب عذاب شديد الألم. ثم رغب سبحانه في الصبر والعفو فقال (ولمن صبر وغفر) أي صبر على
الأذى وغفر لمن ظلمه ولم ينتصر، والكلام في هذه اللام ومن كالكلام في ولمن انتصر (إن ذلك) الصبر والمغفرة
(لمن عزم الأمور) أي أن ذلك منه فحذف لظهوره، كما في قولهم * السمن منوان بدرهم * قال مقاتل:
من الأمور التي أمر الله بها. وقال الزجاج: الصابر يؤتى بصبره ثوابا، فالرغبة في الثواب أتم عزما. قال ابن زيد:
541

إن هذا كله منسوخ بالجهاد وأنه خاص بالمشركين. وقال قتادة: إنه عام، وهو ظاهر النظم القرآني (ومن يضلل
الله فما له من ولي من بعده) أي فماله من أحد يلي هدايته وينصره، وظاهر الآية العموم، وقيل هي خاصة بمن
أعرض عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعمل بما دعاه إليه من الإيمان بالله والعمل بما شرعه، والأول أولى.
وقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن منيع وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم
وابن مردويه والحاكم عن علي بن أبي طالب قال: ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) وسأفسرها لك يا علي: ما أصابكم
من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثني عليكم العقوبة في الآخرة، وما
عفا الله عنه في الدنيا، فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه. وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن أبي موسى أن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، وقرأ
(وما أصابكم) الآية ". وأخرج عبد بن حميد وأبن أبي الدنيا في الكفارات وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي
في الشعب عن عمران بن حصين أنه دخل عليه بعض أصحابه، وكان قد ابتلي في جسده، فقال: إنا لنبتئس لك لما
نرى فيك، قال: فلا تبتئس لما ترى، فإن ما ترى بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، ثم تلا هذه الآية (وما
أصابكم من مصيبة) إلى آخرها. وأخرج أحمد عن معاوية بن أبي سفيان سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يقول " ما من شئ يصيب المؤمن في جسده يؤذيه إلا كفر الله عنه به من سيئاته ". وأخرج ابن مردويه عن البراء
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " ما عثرة قدم ولا اختلاج عرق ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم
وما يعفو الله أكثر ". وأخرج ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله (فيظللن رواكد على ظهره)
قال: يتحركن ولا يجرين في البحر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: رواكد قال:
وقوفا (أو يوبقهن) قال: يهلكهن. وأخرج النسائي وابن ماجة وابن مردويه عن عائشة قالت " دخلت علي
زينب وعندي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبلت علي فسبتني، فردعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم
تنته، فقال لي: سبيها، فسببتها حتى جف ريقها في فمها، ووجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتهلل
سرورا ". وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " المستبان ما قالا من شئ فعلى البادئ حتى يعتدي المظلوم " ثم قرأ (وجزاء سيئة سيئة مثلها). وأخرج
ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا
ينادي ألا ليقم من كان له على الله أجر، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا " وذلك قوله (فمن عفا وأصلح فأجره على
الله). وأخرج البيهقي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ينادي مناد من كل له أجر على الله
فليدخل الجنة مرتين، فيقوم من عفا عن أخيه، قال الله (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) ".
542

قوله (وترى الظالمين) أي المشركين المكذبين بالبعث (لما رأوا العذاب) أي حين نظروا النار، وقيل
نظروا ما أعده الله لهم عند الموت (يقولون هل إلى مرد من سبيل) أي هل إلى الرجعة إلى الدنيا من طريق (وتراهم
يعرضون عليها خاشعين من الذل) أي ساكنين متواضعين عند أن يعرضوا على النار لما لحقهم من الذل والهوان،
والضمير في عليها راجع إلى العذاب وأنثه، لأن العذاب هو النار وقوله " يعرضون " في محل نصب على الحال،
لأن الرؤية بصرية، وكذلك خاشعين، ومن الذل يتعلق بخاشعين أي من أجله (ينظرون من طرف خفي) من هي
التي لابتداء الغاية: أي يبتدئ نظرهم إلى النار، ويجوز أن تكون تبعيضية، والطرف الخفي الذي يخفى نظره
كالمصبور ينظر إلى السيف لما لحقهم من الذل والخوف والوجل. قال مجاهد (من طرف خفي) أي ذليل
قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا، وعين القلب طرف خفي. وقال قتادة وسعيد بن جبير والسدي
والقرظي: يسارقون النظر من شدة الخوف. وقال يونس: إن " من " في " من طرف " بمعنى الباء: أي ينظرون
بطرف ضعيف من الذل والخوف وبه قال الأخفش (وقال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم
يوم القيامة) أي أن الكاملين في الخسران: هم هؤلاء الذين جمعوا بين خسران الأنفس والأهلين في يوم القيامة. أما
خسرانهم لأنفسهم فلكونهم صاروا في النار معذبين بها، وأما خسرانهم لأهليهم فلأنهم إن كانوا معهم في النار
فلا ينتفعون بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وبينهم، وقيل خسران الأهل: أنهم لو آمنوا لكان لهم في
الجنة أهل من الحور العين (ألا إن الظالمين في عذاب مقيم) هذا يجوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين، ويجوز
543

أن يكون من كلام الله سبحانه: أي هم في عذاب دائم لا ينقطع (وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله)
أي لم يكن لهم أعوان يدفعون عنهم العذاب، وأنصار ينصرونهم في ذلك الموطن من دون الله، بل هو المتصرف
سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن (ومن يضلل الله فما له من سبيل) أي من طريق يسلكها إلى النجاة. ثم أمر
سبحانه عباده بالاستجابة له وحذرهم فقال (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) أي استجيبوا
دعوته لكم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله من قبل أن يأتي يوم لا يقدر أحد على رده ودفعه، على معنى: من قبل
أن يأتي من الله يوم لا يرده أحد، أو لا يرده الله بعد أن حكم به على عباده ووعدهم به، والمراد به يوم القيامة،
أو يوم الموت (ما لكم من ملجأ يومئذ) تلجأون إليه، (وما لكم من نكير) أي إنكار، والمعنى: ما لكم من إنكار
يومئذ، بل تعترفون بذنوبكم. وقال مجاهد (وما لكم من نكير) أي ناصر ينصركم، وقيل النكير بمعنى المنكر،
كالأليم بمعنى المؤلم: أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب قاله الكلبي وغيره، والأول أولى. قال
الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها (فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا)
أي حافظا تحفظ أعمالهم حتى تحاسبهم عليها، ولا موكلا بهم رقيبا عليهم (إن عليك إلا البلاغ) أي ما عليك إلا
البلاغ لما أمرت بإبلاغه، وليس عليك غير ذلك، وهذا منسوخ بآية السيف (وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة
فرح بها) أي إذا أعطيناه رخاء وصحة وغنى فرح بها بطرا، والمراد بالإنسان الجنس، ولهذا قال (وإن تصبهم
سيئة) أي بلاء وشدة ومرض (بما قدمت أيديهم) من الذنوب (فإن الإنسان كفور) أي كثير الكفر لما أنعم به
عليه من نعمه، غير شكور له عليها، وهذا باعتبار غالب جنس الإنسان. ثم ذكر سبحانه سعة ملكه ونفاذ
تصرفه فقال (لله ملك السماوات والأرض) أي له التصرف فيهما بما يريد، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع
(يخلق ما يشاء) من الخلق (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور). قال مجاهد والحسن والضحاك وأبو مالك
وأبو عبيدة: يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناث معهم. قيل وتعريف الذكور
بالألف واللام للدلالة على شرفهم على الإناث، ويمكن أن يقال إن التقديم للإناث قد عارض ذلك، فلا دلالة
في الآية على المفاضلة بل هي مسوقة لمعنى آخر. وقد دل على شرف الذكور قوله سبحانه - الرجال قوامون على
النساء بما فضل الله - وغير ذلك من الأدلة الدالة على شرف الذكور على الإناث، وقيل تقديم الإناث لكثرتهن
بالنسبة إلى الذكور، وقيل لتطييب قلوب آبائهن، وقيل لغير ذلك مما لا حاجة إلى التطويل بذكره (أو يزوجهم
ذكرانا وإناثا) أي يقرن بين الإناث والذكور ويجعلهم أزواجا فيهبهما جميعا لبعض خلقه. قال مجاهد: هو أن تلد
المرأة غلاما ثم تلد جارية ثم تلد غلاما ثم تلد جارية. وقال محمد ابن الحنفية: هو أن تلد توأما غلاما وجارية.
وقال القتيبي: التزويج هنا هو الجمع بين البنين والبنات تقول العرب: زوجت إبلي: إذا جمعت بين الصغار
والكبار، ومعنى الآية أوضح من أن يختلف في مثله، فإنه سبحانه أخبر أنه يهب لبعض خلقه إناثا، ويهب
لبعض ذكورا، ويجمع لبعض بين الذكور والإناث (ويجعل من يشاء عقيما) لا يولد له ذكر ولا أنثى، والعقيم
الذي لا يولد له، يقال رجل عقيم وامرأة عقيم، وعقمت المرأة تعقم عقما، وأصله القطع، ويقال نساء عقم، ومنه
قول الشاعر: عقم النساء فما يلدن شبيهه * إن النساء بمثله عقم
(إنه عليم قدير) أي بليغ العلم عظيم القدرة (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) أي ما صح لفرد من أفراد
البشر أن يكلمه الله بوجه من الوجوه إلا بأن يوحى إليه فيلهمه ويقذف ذلك في قلبه قال مجاهد: نفث ينفث في
قلبه، فيكون إلهاما منه كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم في ذبح ولده (أو من وراء حجاب) كما كلم موسى،
544

يريد أن كلامه يسمع من حيث لا يرى، وهو تمثيل بحال الملك المحتجب الذي يكلم خواصه من وراء حجاب
(أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) أي يرسل ملكا، فيوحي ذلك الملك إلى الرسول من البشر بأمر الله وتيسيره
ما يشاء أن يوحي إليه. قال الزجاج: المعنى أن كلام الله للبشر: إما أن يكون بإلهام يلهمهم، أو يكلمهم من
وراء حجاب كما كلم موسى، أو برسالة ملك إليهم. وتقدير الكلام: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى
وحيا، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا. ومن قرأ " يرسل " رفعا أراد وهو يرسل، فهو ابتداء واستئناف.
قرأ الجمهور بنصب " أو يرسل " وبنصب " فيوحى " على تقدير أن، وتكون أن وما دخلت عليه معطوفين
على وحيا، ووحيا في محل الحال، والتقدير: إلا موحيا أو مرسلا، ولا يصح عطف أو يرسل على أن يكلمه لأنه
يصير التقدير: وما كان لبشر أن يرسل الله رسولا، وهو فاسد لفظا ومعنى. وقد قيل في توجيه قراءة الجمهور
غير هذا مما لا يخلو عن ضعف. وقرأ نافع " أو يرسل " بالرفع، وكذلك " فيوحى " بإسكان الياء على أنه خبر مبتدأ
محذوف، والتقدير: أو هو يرسل كما قال الزجاج وغيره، وجملة (إنه علي حكيم) تعليل لما قبلها: أي متعال عن
صفات النقص، حكيم في كل أحكامه.
قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تكلم الله وتنظر
إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى، فنزلت (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) أي وكالوحي الذي أوحينا
إلى الأنبياء قبلك أوحينا إليك روحا من أمرنا، المراد به القران، وقيل النبوة. قال مقاتل: يعني الوحي بأمرنا
ومعناه القران، لأنه يهتدى به، ففيه حياة من موت الكفر. ثم ذكر سبحانه صفة رسوله قبل أن يوحى إليه فقال
(ما كنت تدري ما الكتاب) أي أي شئ هو، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وذلك
أدخل في الإعجاز وأدل على صحة نبوته، ومعنى (ولا الإيمان) أنه كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يعرف
تفاصيل الشرائع ولا يهتدي إلى معالمها، وخص الإيمان لأنه رأسها وأساسها، وقيل أراد بالإيمان هنا الصلاة. قال
بهذا جماعة من أهل العلم: منهم إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، واحتج بقوله تعالى - وما كان الله ليضيع
إيمانكم - يعني الصلاة، فسماها إيمانا. وذهب جماعة إلى أن الله سبحانه لم يبعث نبيا إلا وقد كان مؤمنا به، وقالوا
معنى الآية: ما كنت تدري قبل الوحي كيف تقرأ القرآن ولا كيف تدعو الخلق إلى الإيمان، وقيل كان هذا قبل
البلوغ حين كان طفلا وفي المهد. وقال الحسين بن الفضل: إنه على حذف مضاف: أي ولا أهل الإيمان،
وقيل المراد بالإيمان دين الإسلام، وقيل الإيمان هنا عبارة عن الإقرار بكل ما كلف الله به العباد (ولكن جعلناه
نورا نهدي به من نشاء) أي ولكن جعلنا الروح الذي أوحيناه إليك ضياء ودليلا على التوحيد والإيمان نهدي به من
نشاء هدايته (من عبادنا) ونرشده إلى الدين الحق (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) قال قتادة والسدي ومقاتل:
وإنك لتدعو إلى الإسلام، فهو الصراط المستقيم. قرأ الجمهور " لتهدي " على البناء للفاعل. وقرأ ابن حوشب على
البناء للمفعول. وقرأ ابن السميفع بضم التاء وكسر الدال من أهدى، وفي قراءة أبي " وإنك لتدعو " ثم بين الصراط
المستقيم بقوله (صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض) وفي هذه الإضافة للصراط إلى الاسم الشريف
من التعظيم له والتفخيم لشأنه مالا يخفى، ومعنى (له ما في السماوات وما في الأرض) أنه المالك لذلك والمتصرف
فيه (ألا إلى الله تصير الأمور) أي تصير إليه يوم القيامة لا إلى غيره جميع أمور الخلائق، وفيه وعيد بالبعث
المستلزم للمجازاة.
545

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (ينظرون من طرف خفي) قال: ذليل. وأخرج عبد بن حميد
وابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن كعب قال:
يسارقون النظر إلى النار. وأخرج ابن مردويه وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
قال " من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى، لأن الله قال (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) ". وأخرج ابن
المنذر عن ابن عباس في قوله (ويجعل من يشاء عقيما) قال: الذي لا يولد له. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله
(وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا) قال: إلا أن يبعث ملكا يوحى إليه من عنده، أو يلهمه فيقذف في قلبه،
أو يكلمه من وراء حجاب. وأخرج ابن المنذر وأبي أبي حاتم عنه أيضا في قوله (وكذلك أوحينا إليك روحا من
أمرنا) قال: القران. وأخرج أبو نعيم في الدلائل وابن عساكر عن علي قال: قيل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم،
هل عبدت وثنا قط؟ قال لا، قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر،
وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان، وبذلك نزل القرآن (وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان).
تفسير سورة الزخرف
هي تسع وثمانون آية
قال القرطبي: هي مكية بالإجماع. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة حم الزخرف بمكة.
قال مقاتل: إلا قوله " واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا " يعني فإنها نزلت بالمدينة.
546

قوله (حم والكتاب المبين) الكلام ها هنا في الإعراب كالكلام الذي قدمناه في يس والقرآن الحكيم -
فإن جعلت حم قسما كانت الواو عاطفة، وإن لم تجعل قسما فالواو للقسم، وجواب القسم (إنا جعلناه) وقال ابن
الأنباري: من جعل جواب والكتاب حم كما تقول: نزل والله، وجب والله وقف على الكتاب المبين، ومعنى
جعلناه: أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين. وقال السدي: المعنى أنزلناه (قرآنا) وقال مجاهد:
قلناه. وقال سفيان الثوري: بيناه (عربيا) وكذا قال الزجاج: أي أنزل بلسان العرب، لأن كل نبي أنزل
كتابه بلسان قومه. وقال مقاتل: لأن لسان أهل الجنة عربي (لعلكم تعقلون) أي جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا
لكي تفهموه وتتعقلوا معانيه وتحيطوا بما فيه. قال ابن زيد: لعلكم تتفكرون (وإنه في أم الكتاب) أي وإن
القرآن في اللوح المحفوظ (لدينا) أي عندنا (لعلي حكيم) رفيع القدر محكم النظم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض
والجملة عطف على الجملة المقسم بها داخلة تحت معنى القسم، أو مستأنفة مقررة لما قبلها. قال الزجاج: أم
الكتاب أصل الكتاب، وأصل كل شئ أمه، والقرآن مثبت عند الله في اللوح المحفوظ كما قال - بل هو قرآن
مجيد في لوح محفوظ - وقال ابن جريج: المراد بقوله " وإنه " أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. قال
قتادة: أخبر عن منزلته وشرفه وفضله: أي إن كذبتم به يا أهل مكة فإنه عندنا شريف رفيع محكم من الباطل
(أفنضرب عنكم الذكر صفحا) يقال ضربت عنه وأضربت عنه: إذا تركته وأمسكت عنه، كذا قال الفراء
والزجاج وغيرهما، وانتصاب صفحا على المصدرية، وقيل على الحال على معنى: أفنضرب عنكم الذكر
صافحين، والصفح مصدر قولهم: صفحت عنه إذا أعرضت عنه، وذلك أنك توليه صفحة وجهك وعنقك،
والمراد بالذكر هنا القرآن، والاستفهام للإنكار والتوبيخ. قال الكسائي: المعنى أفنضرب عنكم الذكر طيا فلا
توعظون ولا تؤمرون. وقال مجاهد وأبو صالح والسدي: أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم
وكفركم. وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وروي عنه أنه قال: المعنى أفنمسك عن إنزال
القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به. وقيل الذكر التذكير، كأنه قال: أنترك تذكيركم (إن كنتم قوما مسرفين)،
قرأ نافع وحمزة والكسائي إن كنتم بكسر إن على أنها الشرطية والجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه. وقرأ الباقون بفتحها
على التعليل: أي لأن كنتم قوما منهمكين في الإسراف مصرين عليه، واختار أبو عبيد قراءة الفتح. ثم سلى سبحانه
رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وكم أرسلنا من نبي في الأولين) كم هي الخبرية التي معناها التكثير،
547

والمعنى: ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء في الأمم السابقة (وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون) كاستهزاء قومك
بك (فأهلكنا أشد منهم بطشا) أي هلكنا قوما أشد قوة من هؤلاء القوم، وانتصاب بطشا على التمييز أو الحال:
أي باطشين (ومضى مثل الأولين) أي سلف في القرآن ذكرهم غير مرة. وقال قتادة: عقوبتهم، وقيل صفتهم،
والمثل الوصف والخبر. وفي هذا تهديد شديد، لأنه يتضمن أن الأولين أهلكوا بتكذيب الرسل، وهؤلاء إن
استمروا على تكذيبك والكفر بما جئت به هلكوا مثلهم (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن
خلقهن العزيز العليم) أي لئن سألت هؤلاء الكفار من قومك من خلق هذه الأجرام العلوية والسفلية أقروا بأن الله
خالقهن ولم ينكروا، وذلك أسوأ لحالهم وأشد لعقوبتهم، لأنهم عبدوا بعض مخلوقات الله وجعلوه شريكا له،
بل عمدوا إلى مالا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر من المخلوقات وهي الأصنام فجعلوها شركاء لله. ثم وصف
سبحانه نفسه بما يدل على عظيم نعمته على عباده وكمال قدرته في مخلوقاته فقال (الذي جعل لكم الأرض مهادا)
وهذا كلام مبتدأ غير متصل بما قبله، ولو كان متصلا بما قبله من جملة مقول الكفار لقالوا الذي جعل لنا الأرض
مهادا، والمهاد الفراش والبساط، وقد تقدم بيانه، قرأ الجمهور " مهادا " وقرأ الكوفيون " مهدا " (وجعل لكم
فيها سبلا) أي طرقا تسلكونها إلى حيث تريدون، وقيل معايش تعيشون بها (لعلكم تهتدون) بسلوكها إلى مقاصدكم
ومنافعكم (والذي نزل من السماء ماء بقدر) أي بقدر الحاجة وحسبما تقتضيه المصلحة ولم ينزل عليكم منه فوق
حاجتكم حتى يهلك زرائعكم ويهدم منازلكم ويهلككم بالغرق، ولا دونها حتى تحتاجوا إلى الزيادة، وعلى حسب
ما تقتضيه مشيئته في أرزاق عباده بالتوسيع تارة والتقتير أخرى (فأنشرنا به بلدة ميتا) أي أحيينا بذلك الماء بلدة
مقفرة من النبات. قرأ الجمهور " ميتا " بالتخفيف. وقرأ عيسى وأبو جعفر بالتشديد (كذلك تخرجون) من
قبوركم: أي مثل ذلك الإحياء للأرض بإخراج نباتها بعد أن كانت لا نبات بها تبعثون من قبوركم أحياء، فإن من
قدر على هذا قدر على ذلك، وقد مضى بيان هذا في آل عمران والأعراف. قرأ الجمهور " تخرجون " مبنيا للمفعول
وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر مبنيا للفاعل (والذي خلق الأزواج
كلها) المراد بالأزواج هنا الأصناف، قال سعيد بن جبير: الأصناف كلها. وقال الحسن: الشتاء والصيف
والليل والنهار والسماوات والأرض والجنة والنار، وقيل أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، وقيل أزواج النبات،
كقوله - وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج - و - من كل زوج كريم - وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر
وإيمان وكفر، والأول أولى (وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون) في البحر والبر: أي ما تركبونه (لتستووا
على ظهوره) الضمير راجع إلى ما قاله أبو عبيد. وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد، لأن المراد به الجنس،
فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجنس فلذلك ذكر، وجمع الظهر لأن المراد ظهور هذا الجنس والاستواء
الاستعلاء: أي لتستعلوا على ظهور ما تركبون من الفلك والأنعام (ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه) أي
هذه النعمة التي أنعم بها عليكم من تسخير ذلك المركب في البحر والبر. وقال مقاتل والكلبي: هو أن يقول الحمد لله
الذي رزقني هذا وحملني عليه (وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا) أي ذلل لنا هذا المركب، وقرأ علي بن
أبي طالب " سبحان من سخر لنا هذا " قال قتادة: قد علمكم كيف تقولون إذا ركبتم، ومعنى (وما كنا له مقرنين)
ما كنا له مطيقين، يقال أقرن هذا البعير: إذا أطاقه. وقال الأخفش وأبو عبيدة: مقرنين ضابطين، وقيل
ممائلين من له في القوة، من قولهم هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة، وأنشد قطرب قول عمرو بن معدي كرب:
548

لقد علم القبائل ما عقيل * لنا في النائبات بمقرنينا
وقال آخر: ركبتم صعبتي أشر وجبن * ولستم للصعاب بمقرنينا
والمراد بالأنعام هنا الإبل خاصة، وقيل الإبل والبقر، والأول أولى (وإنا إلى ربنا لمنقلبون) أي راجعون
إليه، وهذا تمام ما يقال عند ركوب الدابة أو السفينة. ثم رجع سبحانه إلى ذكر الكفار الذين تقدم ذكرهم،
فقال (وجعلوا له من عباده جزءا) قال قتادة: أي عدلا، يعني ما عبد من دون الله. وقال الزجاج والمبرد:
الجزء هنا البنات، والجزء عند أهل العربية البنات، يقال قد أجزأت المرأة: إذا ولدت البنات، ومنه قول الشاعر:
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب * قد تجزيء الحرة المذكار أحيانا
وقد جعل صاحب الكشاف تفسير الجزء بالنبات من بدع التفسير، وصرح بأنه مكذوب على العرب.
ويجاب عنه بأنه قد رواه الزجاج والمبرد، وهما إماما اللغة العربية وحافظاها ومن إليهما المنتهى في معرفتها، ويؤيد
تفسير الجزء بالنبات ما سيأتي من قوله - أم اتخذ مما يخلق بنات - وقوله - وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن - وقوله
(وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا) وقيل المراد بالجزاء هنا الملائكة فإنهم جعلوهم أولادا لله سبحانه قاله
مجاهد والحسن. قال الأزهري: ومعنى الآية أنهم جعلوا لله من عباده نصيبا على معنى أنهم جعلوا نصيب الله من
الولدان (إن الإنسان لكفور مبين) أي ظاهر الكفران مبالغ فيه، قيل المراد بالإنسان هنا الكافر، فإنه الذي يجحد
نعم الله عليه جحودا بينا. ثم أنكر عليهم هذا فقال (أم اتخذ مما يخلق بنات) وهذا استفهام تقريع وتوبيخ. وأم
هي المنقطعة، والمعنى: أتخذ ربكم لنفسه البنات (وأصفاكم بالبنين) فجعل لنفسه المفضول من الصنفين ولكم
الفاضل منهما، يقال أصفيته بكذا: أي آثرته به، وأصفيته الود: أخلصته له، ومثل هذه الآية قوله - ألكم
الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى - وقوله - أفأصفاكم ربكم بالبنين - وجملة وأصفاكم معطوفة على اتخذ داخلة
معها تحت الإنكار. ثم زاد في تقريعهم وتوبيخهم فقال (وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا) أي بما جعله
للرحمن سبحانه من كونه جعل لنفسه البنات، والمعنى: إنه إذا بشر أحدهم بأنها ولدت له بنت اغتم لذلك وظهر
عليه أثره، وهو معنى قوله (ظل وجهه مسودا) أي صار وجهه مسودا بسبب حدوث الأنثى له حيث لم يكن
الحادث له ذكرا مكانها (وهو كظيم) أي شديد الحزن كثير الكرب مملوء منه. قال قتادة: حزين. وقال عكرمة:
مكروب، وقيل ساكت، وجملة (وهو كظيم) في محل نصب على الحال. ثم زاد في توبيخهم وتقريعهم فقال
(أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) معنى ينشأ يربي، والنشوء التربية، والحلية الزينة، ومن في
محل نصب بتقدير مقدر معطوف على جعلوا، والمعنى: أو جعلوا له سبحانه من شأنه أن يربي في الزينة وهو عاجز
عن أن يقوم بأمور نفسه، وإذا خوصم لا يقدر على إقامة حجته ودفع ما يجادله به خصمه لنقصان عقله وضعف
رأيه. قال المبرد: تقدير الآية: أو يجعلون له من ينشأ في الحلية: أي ينبت في الزينة. قرأ الجمهور " ينشأ " بفتح الياء
وإسكان النون، وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء وفتح النون
وتشديد الشين. واختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار الثانية أبو عبيد. قال الهروي: الفعل على القراءة الأولى
لازم، وعلى الثانية متعد. والمعنى: يربي ويكبر في الحلية. قال قتادة: قلما تتكلم امرأة بحجتها إلا تكلمت بالحجة
عليها. وقال ابن زيد والضحاك: الذي ينشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة (وجعلوا الملائكة
الذين هم عند الرحمن إناثا) الجعل هنا بمعنى القول والحكم على الشئ كما تقول: جعلت زيدا أفضل الناس: أي
549

قلت بذلك وحكمت له به. قرأ الكوفيون " عباد " بالجمع، وبها قرأ ابن عباس. وقرأ الباقون " عند الرحمن " بنون
ساكنة، واختار القراءة الأولى أبو عبيد، لأن الإسناد فيها أعلى، ولأن الله إنما كذبهم في قوله: إنهم بنات الله
فأخبرهم أنهم عباده، ويؤيد هذه القراءة قوله - بل عباد مكرمون - واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال:
وتصديق هذه القراءة قوله - إن الذين عند ربك - ثم وبخهم وقرعهم فقال (أشهدوا خلقهم) أي أحضروا خلق
الله إياهم فهو من الشهادة التي هي الحضور، وفي هذا تهكم بهم وتجهيل لهم. قرأ الجمهور " أشهدوا " على الاستفهام
بدون الواو. وقرأ نافع " أو أشهدوا ". وقرأ الجمهور (ستكتب شهادتهم) بضم التاء الفوقية وبناء الفعل للمفعول
ورفع شهادتهم، وقرأ السلمي وابن السميفع وهبيرة عن حفص بالنون وبناء الفعل للفاعل ونصب شهادتهم، وقرأ
أبو رجاء " شهاداتهم " بالجمع، والمعنى: سنكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في ديوان أعمالهم لنجازيهم على
ذلك (ويسألون) عنها يوم القيامة (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) هذا فن آخر من فنون كفرهم بالله جاءوا به
للاستهزاء والسخرية، ومعناه: لو شاء الرحمن في زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة، وهذا كلام حق يراد به باطل،
وقد مضى بيانه في الأنعام، فبين سبحانه جهلهم بقوله (ما لهم بذلك من علم) أي ما لهم بما قالوه من أن الله لو شاء
عدم عبادتهم للملائكة ما عبدوهم من علم، بل تكلموا بذلك جهلا، وأرادوا بما صورته صورة الحق باطلا،
وزعموا أنه إذا شاء فقد رضي. ثم بين انتفاء علمهم بقوله (إن هم إلا يخرصون) أي ما هم إلا يكذبون فيما قالوا
ويتمحلون تمحلا باطلا. وقيل الإشارة بقوله (ذلك) إلى قوله (وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا).
قاله قتادة ومقاتل والكلبي، وقال مجاهد وابن جريج: أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم.
وقد أخرج أبن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إن أول ما خلق الله من شئ القلم وأمره أن يكتب
ما هو كائن إلى يوم القيامة والكتاب عنده، ثم قرأ (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم). وأخرج ابن مردويه
نحوه عن أنس مرفوعا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله (أفنضرب عنكم الذكر صفحا) قال: أحببتم
أن يصفح عنكم ولم تفعلوا ما أمرتم به. وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والحاكم وابن مردويه عن ابن
عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا سافر ركب راحلته ثم كبر ثلاثا ثم قال (سبحان الذي سخر
لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس
في قوله (وما كنا له مقرنين) قال: مطيقين. وأخرج عبد بن حميد عنه (أو من ينشأ في الحلية) قال: هو النساء
فرق بين زيهن وزي الرجال ونقصهن من الميراث وبالشهادة وأمرهن بالقعدة وسماهن الخوالف. وأخرج سعيد
ابن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن سعيد بن جبير قال: كنت أقرأ هذا
الحرف (الذين هم عند الرحمن إناثا) فسألت ابن عباس فقال: عباد الرحمن؟ قلت: فإنها في مصحفي " عند الرحمن "
قال: فامحها واكتبها " عباد الرحمن ".
550

قوله (أم آتيناهم قبل كتابا من قبله) أم هي المنقطعة: أي بل أعطيناهم كتابا من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله
(فهم به مستمسكون) يأخذون بما فيه ويحتجون به ويجعلونه لهم دليلا، ويحتمل أن تكون أم معادلة لقوله
" أشهدوا "، فتكون متصلة، والمعنى أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا الخ. وقيل إن الضمير في " من قبله " يعود
إلى ادعائهم: أي أم آتيناهم كتابا من قبل ادعائهم ينطق بصحة ما يدعونه، والأول أولى. ثم بين سبحانه أنه
لا حجة بأيديهم ولا شبهة، ولكنهم اتبعوا آبائهم في الضلالة فقال (بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مهتدون) فاعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم، ومعنى على أمة: على طريقة ومذهب. قال
أبو عبيد: هي الطريقة والدين، وبه قال قتادة وغيره. قال الجوهري: والأمة الطريقة والدين، يقال فلان لا أمة
له: أي لا دين له ولا نحلة، ومنه قول قيس بن الخطيم:
كنا على أمة آبائنا * ونقتدي بالأول الأول
وقول الآخر: * وهل يستوي ذا أمة وكفور * وقال الفراء وقطرب: على قبلة. وقال الأخفش:
على استقامة، وأنشد قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قرأ الجمهور " أمة " بضم الهمزة، وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بكسرها. قال الجوهري: والأمة
الكسر: النعمة، والأمة: أيضا لغة في الأمة، ومنه قول عدي بن زيد:
551

ثم بعد الفلاح والملك والأم * ة وارتهم هناك قبور
ثم أخبر سبحانه أن غير هؤلاء من الكفار قد سبقهم إلى هذه المقالة وقال بها فقال (وكذلك ما أرسلنا من
قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) مترفوها: أغنياؤها
ورؤساؤها، قال قتادة: مقتدون متبعون، ومعنى الاهتداء والاقتداء متقارب، وخصص المترفين تنبيها على أن
التنعم هو سبب إهمال النظر. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم فقال (قل أو لو
جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آبائكم) أي أتتبعون آبائكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، قال الزجاج:
المعنى قل لهم أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم وإن جئتكم بأهدى منه. قرأ الجمهور (قل أو لو جئتكم) وقرأ ابن عامر
وحفص " قال أو لو جئتكم " وهو حكاية لما جرى بين المنذرين وقومهم: أي قال كل منذر من أولئك المنذرين
لأمته، وقيل إن كلا القراءتين حكاية لما جرى بين الأنبياء وقومهم، كأنه قال: لكل نبي قل، بدليل قوله (قالوا
إنا بما أرسلتم به كافرون) وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام
إنما يعملون بقول أسلافهم ويتبعون آثارهم ويقتدون بهم، فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة أو
يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير ولا حجة واضحة، بل بمجرد قال وقيل
لشبهة داحضة وحجة زائفة ومقالة باطلة، قالوا بما قاله روى المترفون من هذه الملل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على
آثارهم مقتدون، أو بما يلاقي معناه معنى ذلك، فإن قال لهم الداعي إلى الحق: قد جمعتنا الملة الإسلامية وشملنا هذا
الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم وتعبد آباءكم من قبلكم إلا بكتابه الذي أنزله على رسوله وبما صح
عن رسوله، فإنه المبين لكتاب الله الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى
كتاب الله وسنة رسوله كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله - فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول - فإن الرد
إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحوش، ورموا الداعي لهم إلى
ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه - إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم
بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا - ولا قوله - فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما - فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به وتتبعون أقواله هو مثلكم في كونه
متعبدا بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوبا منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك
رخصة له لا يحل أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجدوا الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه
في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله، وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا نعمل بهذا ولا
سمع لك ولا طاعة، ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا ذلك ولا أذعنوا له،
وقد وهب لهم الشيطان عصى يتوكئون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون:
إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم منك بكتاب الله وسنة رسوله، وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون
به تصورا عظيما بسبب تقدم العصر وكثرة الأتباع. وما علموا أن هذا منقوض عليهم مدفوع به في وجوههم،
فإنه لو قيل لهم إن في التابعين من هو أعظم قدرا، وأقدم عصرا من صاحبكم، فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر
مزية حتى توجب الاقتداء، فتعالوا حتى أريكم من هو أقدم عصرا وأجل قدرا، فإن أبيتم ذلك، ففي الصحابة
رضي الله عنهم من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة قدر، فإن أبيتم ذلك، فها أنا أدلكم على من
هو أعظم قدرا وأجل خطرا وأكثر أتباعا وأقدم عصرا، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم ورسول الله إلينا وإليكم
552

فتعالوا فهذه سنته موجوده في دفاتر الإسلام ودواوينه التي تلقتها جميع هذه الأمة قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر،
وهذا كتاب ربنا خالق الكل ورازق الكل وموجد الكل بين أظهرنا موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم لم يلحقه
تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقص ولا تحريف ولا تصحيف، ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه ويتعقل معانيه،
فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو أهدى مما وجدتم عليه آباءكم، قالوا: لا سمع
ولا طاعة، إما بلسان المقال أو بلسان الحال، فتدبر هذا وتأمله إن بقي فيك بقية من إنصاف وشعبة من خير
ومزعة من حياء وحصة من دين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في
كتابي الذي سميته " أدب الطلب ومنتهى الأرب " فارجع إليه إن رمت أن تنجلي عنك ظلمات التعصب وتتقشع
لك سحائب التقليد (فانتقمنا منهم) وذلك الانتقام ما أوقعه الله بقوم نوح وعاد وثمود (فانظر كيف كان عاقبة
المكذبين) من تلك الأمم فإن آثارهم موجودة (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه) أي واذكر لهم وقت قوله لأبيه
وقومه الذين قلدوا آباءهم وعبدوا الأصنام (إنني براء مما تعبدون) البراء مصدر نعت به للمبالغة، وهو يستعمل
للواحد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث. قال الجوهري: وتبرأت من كذا وأنا منه براء وخلاء، ولا يثنى ولا
يجمع لأنه مصدر في الأصل، ثم استثنى خالقه من البراءة فقال (إلا الذي فطرني) أي خلقني (فإنه سيهدين)
سيرشدني لدينه ويثبتني على الحق، والاستثناء إما منقطع: أي لكن الذي فطرني، أو متصل من عموم ما، لأنهم
كانوا يعبدون الله والأصنام، وإخباره بأنه سيهديه جزما لثقته بالله سبحانه وقوة يقينه (وجعلها كلمة باقية في
عقبة) الضمير في جعلها عائد إلى قوله (إلا الذي فطرني) وهي بمعنى التوحيد كأنه قال: وجعل كلمة التوحيد
باقية في عقب إبراهيم وهم ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله سبحانه، وفاعل جعلها إبراهيم، وذلك حيث وصاهم
بالتوحيد وأمرهم بأن يدينوا به كما في قوله - وأوصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب - الآية، وقيل الفاعل هو الله عز
وجل: أي وجعل الله عز وجل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم، والعقب من بعد. قال مجاهد وقتادة:
الكلمة لا إله إلا الله لا يزال من عقبى من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال عكرمة: هي الإسلام. قال ابن زيد:
الكلمة هي قوله - أسلمت لرب العالمين - وجملة (لعلهم يرجعون) تعليل للجعل: أي جعلها باقية رجاء أن يرجع
إليها من يشرك منهم بدعاء من يوحد. وقيل الضمير في لعلهم راجع إلى أهل مكة: أي لعل أهل مكة يرجعون
إلى دينك الذي هو دين إبراهيم. وقيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها
الخ. قال السدي: لعلهم يتوبون، فيرجعون عما هم عليه إلى عبادة الله. ثم ذكر سبحانه نعمته على قريش ومن
وافقهم من الكفار المعاصرين لهم فقال (بل متعت هؤلاء وآبائهم) أضرب عن الكلام الأول إلى ذكر ما متعهم به
من الأنفس والأهل والأموال وأنواع النعم وما متع به آباءهم ولم يعاجلهم بالعقوبة، فاغتروا بالمهلة وأكبوا على
الشهوات (حتى جاءهم الحق) يعني القران (ورسول مبين) يعني محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ومعنى مبين
ظاهر الرسالة واضحها، أو مبين لهم ما يحتاجون إليه من أمر الدين فلم يجيبوه ولم يعملوا بما أنزل عليه. ثم بين
سبحانه ما صنعوه عند مجيء الحق فقال (ولما جاءهم الحق قالوا هذا سحر وإنا به كافرون) أي جاحدون، فسموا
القرآن سحرا وجحدوه، واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من
القريتين عظيم) المراد بالقريتين مكة والطائف، وبالرجلين الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي
من الطائف كذا قال قتادة وغيره. وقال مجاهد وغيره: عتبة بن ربيعة من مكة وعمير بن عبد يا ليل الثقفي من
الطائف، وقيل غير ذلك. وظاهر النظم أن المراد رجل من إحدى القريتين عظيم الجاه واسع المال مسود في قومه
553

والمعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله (أهم
يقسمون رحمة ربك) يعني النبوة أو ما هو أعم منها، والاستفهام للإنكار. ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم
ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد
من العباد أن يتحكم في شئ بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع
درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه. قال مقاتل:
يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا. قرأ الجمهور - معيشتهم - بالإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد
وابن محيصن - معايشهم - بالجمع (و) معنى (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم
أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على
بعض، فقال (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) أي ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغني الفقير والرئيس المرؤوس
والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه في العقل والعالم الجاهل، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا،
وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون
آخرين، فجعل البعض محتاجا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا، ويصنع
هذا لهذا، ويعطي هذا هذا. قال السدي وابن زيد: سخرنا خولنا وخدما يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم
سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضا، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، وهذا
وإن كان مطابقا للمعنى اللغوي، ولكنه بعيد من معنى القرآن ومناف لما هو مقصود السياق (ورحمة ربك خير مما
يجمعون) يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، وقيل هي النبوة لأنها المراد بالرحمة المتقدمة في
قوله - أهم يقسمون رحمة ربك - ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولا أو بدلا، ومعنى " مما
يجمعون " ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا. ثم بين سبحانه حقارة الدنيا عنده فقال (ولولا أن يكون
الناس أمة واحدة) أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلا إلى الدنيا وزخرفها (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا
من فضة) جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها، ولبيوتهم بدل اشتمال من الموصول
والسقف جمع سقف. قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقال
الفراء: وهو جمع سقيف نحو كثيب وكثب ورغيف ورغف، وقيل هو جمع سقوف فيكون جمعا للجمع. وقرأ ابن
كثير وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس. قال الحسن: معنى الآية:
لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله
وقال بهذا أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على
الآخرة. وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من
الدنيا هذا لهوانها (ومعارج عليها يظهرون) المعارج: الدرج جمع معراج، والمعراج السلم. قال الأخفش: إن
شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل: مرقاة ومرقاة، والمعنى: فجعلنا لهم معارج من فضة عليها يظهرون:
أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال ظهرت على البيت: أي علوت سطحه، ومنه قول النابغة:
بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي مصعدا (ولبيوتهم أبوابا وسررا) أي وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة (عليها يتكئون)
أي على السرر وهو جمع سرير، وقيل جمع أسرة فيكون جمعا للجمع، والاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشئ،
554

ومنه - أتوكأ عليها - واتكأ على الشئ فهو متكئ، والموضع متكأ، والزخرف: الذهب. وقيل الزينة أعم من
أن تكون ذهبا أو غيره. قال ابن زيد: هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن:
النقوش وأصله الزينة، يقال زخرفت الدار: أي زينتها، (و) انتصاب (زخرفا) بفعل مقدر: أي وجعلنا لهم
مع ذلك زخرفا، أو بنزع الخافض: أي أبوابا وسررا من فضة ومن ذهب، فلما حذف الخافض انتصب. ثم
أخبر سبحانه أن جميع ذلك إنما يتمتع به في الدنيا فقال (وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا) قرأ الجمهور " لما "
بالتخفيف وقرأ عاصم وحمزة وهاشم عن ابن عامر بالتشديد. فعلى القراءة الأولى تكون إن هي المخففة من الثقيلة،
وعلى القراءة الثانية هي النافية. ولما بمعنى إلا: أي ما كل ذلك إلا شيء يتمتع به في الدنيا. وقرأ أبو رجاء بكسر
اللام من " لما " على أن اللام للعلة وما موصولة والعائد محذوف: أي للذي هو متاع (والآخرة عند ربك
للمتقين) أي لمن اتقى الشرك والمعاصي وآمن بالله وحده وعمل بطاعته، فإنها الباقية التي لا تفنى ونعيمها الدائم
الذي لا يزول.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس (إنا وجدنا آباءنا على أمة) قال: على دين. وأخرج عبد بن حميد عنه
(وجعلها كلمة باقية) قال: لا إله إلا الله (في عقبه) قال: عقب إبراهيم ولده. وأخرج عبد بن حميد وابن
المنذر وابن مردويه عنه أيضا أنه سئل عن قول الله (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) ما القريتان؟
قال: الطائف ومكة، قيل فمن الرجلان؟ قال: عمير بن مسعود، وخيار قريش. وأخرج ابن جرير وابن
أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضا قال: يعنى بالقريتين مكة والطائف، والعظيم الوليد بن المغيرة القرشي وحبيب بن
عمير الثقفي. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في الآية قال: يعنون أشرف من محمد الوليد بن المغيرة من أهل مكة
ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (لولا
أن يكون الناس أمة واحدة) الآية يقول: لولا أن نفعل الناس كلهم كفارا لجعلت لبيوت الكفار سقفا من فضة
ومعارج من فضة، وهي درج عليها يصعدون إلى الغرف وسرر فضة، وزخرفا: وهو الذهب. وأخرج الترمذي
وصححه وابن ماجة عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لو كانت الدنيا تزن عند الله
جناح بعوضه ما سقى منها كافرا شربة ماء ".
555

قوله (ومن يعش عن ذكر الرحمن) يقال عشوت إلى النار: قصدتها، وعشوت عنها أعرضت عنها، كما
تقول: عدلت إلى فلان وعدلت عنه، وملت إليه وملت عنه، كذا قال الفراء والزجاج وأبو الهيثم والأزهري.
فالمعنى: ومن يعرض عن ذكر الرحمن. قال الزجاج: معنى الآية أن من أعرض عن القرآن وما فيه من الحكمة إلى
أباطيل المضلين يعاقبه الله بشيطان يقيضه له حتى يضله ويلازمه قرينا له، فلا يهتدي مجازاة له حين آثر الباطل
على الحق البين. وقال الخليل: العشو النظر الضعيف، ومنه:
لنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره * إذا الريح هبت والمكان جديب
والظاهر أن معنى البيت القصد إلى النار لا النظر إليها ببصر ضعيف كما قال الخليل، فيكون دليلا على ما قدمنا
من أنه يأتي بمعنى القصد وبمعنى الإعراض، وهكذا ما أنشده الخليل مستشهدا به على ما قاله من قول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد
فإن الظاهر أن معناه: تقصد إلى ضوء ناره، لا تنظر إليها ببصر ضعيف. ويمكن أن يقال: إن المعنى في
البيتين المبالغة في ضوء النار وسطوعها، بحيث لا ينظرها الناظر إلا كما ينظر من هو معشي البصر لما يلحق بصره
من الضعف عندما يشاهده من عظم وقودها. وقال أبو عبيدة والأخفش: إن معنى (ومن يعش) ومن تظلم عينه،
وهو نحو قول الخليل، وهذا على قراءة الجمهور " ومن يعش " بضم الشين من عشا يعشو. وقرأ ابن عباس وعكرمة
" ومن يعش " بفتح الشين، يقال عشى الرجل يعشى عشيا إذا عمى، ومنه قول الأعشى:
رأت رجلا غايب الوافدين * ومختلف الخلق أعشى ضريرا
وقال الجوهري: والعشا مقصور مصدر الأعشى: وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار والمرأة عشواء.
وقرئ " يعشو " بالواو على أن " من " موصولة غير متضمنة معنى الشرط. قرأ الجمهور (نقيض له شيطانا) بالنون
وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم والأعمش بالتحتية مبنيا للفاعل، وقرأ ابن عباس بالتحتية
مبنيا للمفعول ورفع شيطان على النيابة (فهو له قرين) أي ملازم له لا يفارقه أو هو ملازم للشيطان لا يفارقه، بل
يتبعه في جميع أموره ويطيعه في كل ما يوسوس به إليه (وإنهم ليصدونهم عن السبيل) أي وإن الشياطين الذين
يقيضهم الله لكل أحد ممن يعشو عن ذكر الرحمن كما هو معنى من ليصدونهم: أي يحولون بينهم وبين سبيل الحق
ويمنعونهم منه، ويوسوسون لهم أنهم على الهدى حتى يظنون صدق ما يوسوسون به، وهو معنى قوله (ويحسبون
أنهم مهتدون) أي يحسب الكفار أن الشياطين مهتدون فيطيعونهم، أو يحسب الكفار بسبب تلك الوسوسة أنهم
في أنفسهم مهتدون (حتى إذا جاءنا) قرأ الجمهور بالتثنية: أي الكافر والشيطان المقارن له، وقرأ أبو عمرو وحمزة
والكسائي وحفص بالإفراد: أي الكافر أو جاء كل واحد منها (قال) الكافر مخاطبا للشيطان (يا ليت بيني وبينك
بعد المشرقين) أي بعد ما بين المشرق والمغرب، فغلب المشرق على المغرب. قال مقاتل: يتمنى الكافر أن بينهما
بعد مشرق أطول يوم في السنة من مشرق أقصر يوم في السنة، والأول أولى، وبه قال الفراء (فبئس القرين)
المخصوص بالذم محذوف أي أنت أيها الشيطان (ولن ينفعكم اليوم) هذا حكاية لما سيقال لهم يوم القيامة (إذ
556

ظلمتم) أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا، وقيل إن " إذ " بدل من اليوم لأنه تبين في ذلك اليوم أنهم ظلموا
أنفسهم في الدنيا. قرأ الجمهور (أنكم في العذاب مشتركون) بفتح أن على أنها وما بعدها في محل رفع على الفاعلية:
أي لن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب. قال المفسرون: لا يخفف عنهم بسبب الاشتراك شئ من العذاب لأن
لكل أحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر منه. وقيل إنها للتعليل لنفي النفع: أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم
وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا، ويقوي هذا المعنى قراءة ابن عامر على اختلاف عليه
فيها بكسر إن. ثم ذكر سبحانه أنها لا تنفع الدعوة والوعظ من سبقت له الشقاوة فقال (أفأنت تسمع الصم أو
تهدي العمى) الهمزة لإنكار التعجب: أي ليس ذلك فلا يضيق أخبرنا صدرك إن كفروا، وفيه تسلية لرسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وإخبار له أنه لا يقدر على ذلك إلا الله عز وجل، وقوله (ومن كان في ضلال مبين)
عطف على العمى: أي إنك لا تهدي من كان كذلك، ومعنى الآية: أن هؤلاء الكفار بمنزلة الصم الذين
لا يعقلون ما جئت به، وبمنزلة العمى الذين لا يبصرونه لإفراطهم في الضلالة وتمكنهم من الجهالة (فإما نذهبن بك)
بالموت قبل أن ينزل العذاب بهم (فإنا منهم منتقمون) إما في الدنيا أو في الآخرة، وقيل المعني: نخرجنك من مكة
(أو نرينك الذي وعدناهم) من العذاب قبل موتك (فإنا عليهم مقتدرون) متى شئنا عذبناهم. قال كثير من
المفسرين: قد أراه الله ذلك يوم بدر. وقال الحسن وقتادة: هي في أهل الإسلام يريد ما كان بعد النبي صلى الله
عليه وآله وسلم من الفتن، وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتنة شديدة، فأكرم الله نبيه صلى الله عليه
وآله وسلم وذهب به فلم يره في أمته شيئا من ذلك، والأول أولى (فاستمسك بالذي أوحى إليك) أي من القرآن
وإن كذب به من كذب (إنك على صراط مستقيم) أي طريق واضح، والجملة تعليل لقوله " فاستمسك "
(وإنه لذكر لك ولقومك) أي وإن القرآن لشرف لك ولقومك من قريش إذ نزل عليك وأنت منهم بلغتك ولغتهم
ومثله قوله - لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم - وقيل بيان لك ولأمتك فيما لكم إليه حاجة. وقيل تذكرة تذكرون
بها أمر الدين وتعملون به (وسوف تسئلون) عما جعله الله لكم من الشرف، كذا قال الزجاج والكلبي وغيرهما.
وقيل يسئلون عما يلزمهم من القيام بما فيه والعمل به (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن
آلهة يعبدون) قال الزهري وسعيد بن جبير وابن زيد: إن جبريل قال ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما
أسرى به. فالمراد سؤال الأنبياء في ذلك الوقت عند ملاقاته لهم، وبه قال جماعة من السلف. وقال المبرد والزجاج
وجماعة من العلماء: إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا. وبه قال مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن
ومعنى الآية على القولين: سؤالهم هل أذن الله بعبادة الأوثان في ملة من الملل وهل سوغ ذلك لأحد منهم؟ والمقصود
تقريع مشركي قريش بأن ما هم عليه لم يأت في شريعة من الشرائع.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن عثمان المخزومي أن قريشا قالت: قيضوا لكل رجل من أصحاب محمد
رجلا يأخذه، فقيضوا لأبي بكر طلحة بن عبيد الله، فأتاه وهو في القوم، فقال أبو بكر: إلا تدعوني؟ قال:
أدعوك إلى عبادة اللات والعزى. قال أبو بكر: وما اللات؟ قال: أولاد الله. قال: وما العزى؟ قال: بنات الله.
قال أبو بكر: فمن أمهم؟ فسكت طلحة فلم يجبه، فقال لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم، فقال طلحة:
قم يا أبا بكر أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فأنزل الله (ومن يعش عن ذكر الرحمن) الآية.
وثبت في صحيح مسلم وغيره أن مع كل إنسان قرينا من الجن. وأخرج ابن مردويه عن علي في قوله (فإما نذهبن
557

بك) قال: ذهب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وبقيت نقمته في عدوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في
قوله (أو نرينك الذي وعدناهم) قال: يوم بدر. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن
مردويه والبيهقي في الشعب من طرق عنه في قوله (وإنه لذكر لك ولقومك) قال: شرف لك ولقومك. وأخرج
ابن عدي وابن مردويه عن علي وابن عباس قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على
القبائل بمكة ويعدهم الظهور، فإذا قالوا لمن الملك بعدك؟ أمسك فلم يجبهم بشئ لأنه لم يؤمر في ذلك بشئ حتى
نزلت (وإنه لذكر لك ولقومك) فكان بعد إذا سئل قال لقريش فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك.
وأخرج عبد بن حميد من طريق الكلبي عن ابن عباس في قوله (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) قال:
اسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا.
لما أعلم الله سبحانه نبيه بأنه منتقم له من عدوه وذكر اتفاق الأنبياء على التوحيد أتبعه بذكر قصة موسى
وفرعون وبيان ما نزل بفرعون وقومه من النقمة فقال (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا) وهي التسع التي تقدم بيانها
(إلى فرعون وملائه) الملأ: الأشراف (فقال إني رسول رب العالمين) أرسلني إليكم (فلما جاءهم بآياتنا إذا هم
منها يضحكون) استهزاء وسخرية، وجواب لما هو إذا الفجائية، لأن التقدير: فاجئوا وقت ضحكهم (وما
نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها) أي كل واحدة من آيات موسى أكبر مما قبلها، وأعظم قدرا مع كون
التي قبلها عظيمة في نفسها، وقيل المعنى: إن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما، فإذا ضمت الثانية إلى
الأولى ازداد الوضوح، ومعنى الأخوة بين الآيات: أنها متشاكلة متناسبة في دلالتها على صحة نبوة موسى كما يقال
هذه صاحبة هذه: أي هما قرينتان في المعنى، وجملة (إلا هي أكبر من أختها) في محل جر صفة لآية، وقيل
المعنى: أن كل واحدة من الآيات إذا انفردت ظن الظان أنها أكبر من سائر الآيات. ومثل هذا قول القائل:
558

من تلق منهم ثقل لاقيت سيدهم * مثل النجوم التي يسرى بها الساري
(وأخذناهم بالعذاب لعلهم يرجعون) أي بسبب تكذيبهم بتلك الآيات، والعذاب هو المذكور في قوله
- ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات - الآية، وبين سبحانه أن العلة في أخذه لهم بالعذاب هو رجاء
رجوعهم، ولما عاينوا ما جاءهم به من الآيات البينات والدلالات الواضحات ظنوا أن ذلك من قبيل السحر
(وقالوا يا أيه الساحر) وكانوا يسمون العلماء سحرة ويوقرون السحرة ويعظمونهم ولم يكن السحر صفة ذم عندهم.
قال الزجاج: خاطبوه بما تقدم له عندهم من التسمية بالساحر (ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي بما أخبرتنا من
عهده إليك إنا إذا آمنا كشف عنا العذاب، وقيل المراد بالعهد النبوة، وقيل استجابة الدعوة على العموم (إننا
لمهتدون) أي إذا كشف عنا العذاب الذي بنا فنحن مهتدون فيما يستقبل من الزمان، ومؤمنون بما جئت به
(فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون) في الكلام حذف، والتقدير: فدعا موسى ربه فكشف عنهم العذاب،
فلما كشف عنهم العذاب فاجئوا وقت نكثهم للعهد الذي جعلوه على أنفسهم من الاهتداء، والنكث: النقض
(ونادى فرعون في قومه) قيل لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إلى موسى، فجمعهم ونادى بصوته فيما بينهم
أو أمر مناديا ينادي بقوله (يا قوم أليس لي ملك مصر) لا ينازعني فيه أحد ولا يخالفني مخالف (وهذه الأنهار
تجري من تحتي) أي من تحت قصري، والمراد أنهار النيل. وقال قتادة: المعنى تجري بين يدي. وقال الحسن:
تجري بأمري: أي تجري تحت أمري. وقال الضحاك: أراد بالأنهار القواد والرؤساء والجبابرة وأنهم يسيرون
تحت لوائه. وقيل أراد بالأنهار الأموال، والأول أولى. والواو في " وهذه " عاطفة على ملك مصر، و " تجري " في محل
نصب علي الحال أو هي واو الحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة له، وتجري خبره، والجملة في محل
نصب (أفلا تبصرون) ذلك وتستدلون به على قوة ملكي وعظيم قدري وضعف موسى عن مقاومتي (أم أنا خير
من هذا الذي هو مهين) أم هي المنقطعة المقدرة ببل التي للإضراب دون الهمزة التي للإنكار: أي بل أنا خير
قال أبو عبيدة: أم بمعنى بل، والمعنى: قال فرعون لقومه: بل أنا خير. وقال الفراء: إن شئت جعلتها من
الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله، وقيل هي زائدة، وحكى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون أم
زائدة، والمعنى: أنا خير من هذا. وقال الأخفش: في الكلام حذف، والمعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون؟
ثم ابتدأ فقال (أنا خير) وروي عن الخليل وسيبويه نحو قول الأخفش، ويؤيد هذا أن عيسى الثقفي ويعقوب
الحضرمي وقفا على " أم " على تقدير أم تبصرون، فحذف لدلالة الأول عليه، وعلى هذا فتكون أم متصلة لا منقطعة
والأول أولى. ومثله قول الشاعر الذي أنشده الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى * وصورتها أم أنت في العين أملح
أي بل أنت. وحكى الفراء أن بعض القراء قرأ " أما أنا خير " أي ألست خيرا من هذا الذي هو مهين: أي ضعيف
حقير ممتهن في نفسه لا عز له (ولا يكاد يبين) الكلام لما في لسانه من العقدة، وقد تقدم بيانه في سورة طه (فلولا
ألقى عليه أساورة من ذهب) أي فهلا حلى بأساورة الذهب إن كان عظيما، وكان الرجل فيهم إذا سودوه سوروه
بسوار من ذهب، وطوقوه بطوق من ذهب. قرأ الجمهور " أساورة " جمع أسورة جمع سوار. وقال أبو عمر
ابن العلاء: واحد الأساورة والأساور والأساوير أسوار، وهي لغة في سوار. وقرأ حفص " أسورة " جمع سوار،
وقرأ أبي: أساور، وابن مسعود أساوير. قال مجاهد: كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق
559

ذهب علامة لسيادته (أو جاء معه الملائكة مقترنين) معطوف على ألقى، والمعنى: هلا جاء معه الملائكة متتابعين
متقارنين إن كان صادقا يعينونه على أمره ويشهدون له بالنبوة، فأوهم اللعين قومه أن الرسل لابد أن يكونوا على
هيئة الجبابرة ومحفوفين بالملائكة (فاستخف قومه فأطاعوه) أي حملهم على خفة الجهل والسفه بقوله وكيده
وغروره، فأطاعوه فيما أمرهم به، وقبلوا قوله وكذبوا موسى (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي غير خارجين عن
طاعة الله. قال ابن الأعرابي: المعنى فاستجهل قومه فأطاعوه بخفة أحلامهم وقلة عقولهم، يقال استخفه الفرح:
أي أزعجه، واستخفه: أي حمله، ومنه - ولا يستخفنك الذين لا يوقنون - وقيل استخف قومه: أي وجدهم
خفاف العقول وقد استخف بقومه وقهرهم حتى اتبعوه (فلما آسفونا انتقمنا منهم) قال المفسرون: أغضبونا،
والأسف الغضب، وقيل أشد الغضب، وقيل السخط، وقيل المعنى: أغضبوا رسلنا. ثم بين العذاب الذي
وقع به الانتقام فقال (فأغرقناهم أجمعين) في البحر (فجعلناهم سلفا) أي قدوة لمن عمل بعملهم من الكفار في
استحقاق العذاب. قرأ الجمهور " سلفا " بفتح السين واللام جمع سالف كخدم وخادم، ورصد وراصد، وحرس
وحارس، يقال سلف يسلف: إذا تقدم ومضى. قال الفراء والزجاج: جعلناهم متقدمين ليتعظ بهم الآخرون،
وقرأ حمزة والكسائي " سلفا " بضم السين واللام. قال الفراء: هو جمع سليف، نحو سرر وسرير. وقال أبو حاتم:
هو جمع سلف نحو خشب وخشب. وقرأ علي وابن مسعود وعلقمة وأبو وائل والنخعي وحميد بن قيس بضم السين
وفتح اللام جمع سلفة وهي الفرقة المتقدمة نحو غرف وغرفة، كذا قال النضر بن شميل (ومثلا للآخرين) أي عبرة
وموعظة لمن يأتي بعدهم، أو قصة عجيبة تجري مجرى الأمثال.
وقد أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله (ولا يكاد يبين) قال: كانت بموسى لثغة في لسانه. وأخرج
ابن جرير وابن أبي حاتم عنه (فلما آسفونا) قال: أسخطونا. وأخرجا عنه أيضا آسفونا قال: أغضبونا، وفي
قوله (سلفا) قال: أهواء مختلفة. وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي في الشعب وابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر أن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال " إذا رأيت الله يعطي العبد ما شاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج
منه له، وقرأ (فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين) ". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن طارق بن
شهاب قال: كنت عند عبد الله فذكر عنده موت الفجأة فقال: تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر، فلما
آسفونا انتقمنا منهم.
560

لما قال سبحانه - واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون - تعلق المشركون
بأمر عيسى وقالوا: ما يريد محمد إلا أن تتخذه إلها كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم، فأنزل الله (و لما ضرب
ابن مريم مثلا) كذا قال قتادة ومجاهد. وقال الواحدي: أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مجادلة ابن
الزبعرى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل قوله تعالى - إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم -
فقال ابن الزبعرى: خصمتك ورب الكعبة، أليست النصارى يعبدون المسيح واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة؟
ففرح بذلك من قوله، فأنزل الله - إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون - ونزلت هذه الآية
المذكورة هنا، وقد مضى هذا في سورة الأنبياء. ولا يخفاك أن ما قاله ابن الزبعرى مندفع من أصله وباطل برمته،
فإن الله سبحانه قال - إنكم وما تعبدون - ولم يقل ومن تعبدون حتى يدخل في ذلك العقلاء كالمسيح وعزير
والملائكة (إذا قومك منه يصدون) أي إذا قومك يا محمد من ذلك المثل المضروب يصدون: أي يضجون
ويصيحون فرحا بذلك المثل المضروب، والمراد بقومه هنا كفار قريش. قرأ الجمهور " يصدون " بكسر الصاد،
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بضمها. قال الكسائي والفراء والزجاج والأخفش: هما لغتان ومعناهما: يضجون
قال الجوهري: صد يصد صديدا: أي ضج. وقيل إنه بالضم: الإعراض، وبالكسر من الضجيج، قاله
قطرب. قال أبو عبيد: لو كانت من الصدود عن الحق لقال: إذا قومك عنه يصدون. وقال الفراء: هما سواء
منه وعنه. وقال أبو عبيدة: من ضم فمعناه يعدلون، ومن كسر فمعناه يضجون (وقالوا أآلهتنا خير أم هو) أي
أآلهتنا خير أم المسيح؟ قال السدي وابن زيد: خاصموه وقالوا: إن كان كل من عبد غير الله في النار فنحن
نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة. وقال قتادة: يعنون محمدا: أي أآلهتنا خير أم محمد؟ ويقوي
هذا قراءة ابن مسعود: أآلهتنا خير أم هذا. قرأ الجمهور بتسهيل الهمزة الثانية بين بين. وقرأ الكوفيون ويعقوب
بتحقيقها (ما ضربوه لك إلا جدلا) أي ما ضربوا لك هذا المثل في عيسى إلا ليجادلوك، على أن جدلا منتصب
على العلة، أو مجادلين على أنه مصدر في موضع الحال، وقرأ ابن مقسم " جدالا " (بل هم قوم خصمون) أي
شديدوا الخصومة كثيرو اللدد عظيموا الجدل. ثم بين سبحانه أن عيسى ليس برب وإنما هو عبد من عباده اختصه
بنبوته فقال (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه) بما أكرمناه به (وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) أي آية وعبرة لهم يعرفون به
561

قدرة الله سبحانه، فإنه كان من غير أب، وكان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وكل مريض (ولو
نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) أي لو نشاء أهلكناكم وجعلنا بدلا منكم ملائكة في الأرض يخلفون:
أي يخلفونكم فيها. قال الأزهري: ومن قد تكون للبدل كقوله (لجعلنا منكم) يريد بدلا منكم. وقيل المعنى:
لو نشاء لجعلنا من بني آدم ملائكة. والأول أولى. ومقصود الآية: أنا لو نشاء لأسكنا الملائكة الأرض وليس في
إسكاننا إياهم السماء شرف حتى يعبدوا. وقيل معنى " يخلفون " يخلف بعضهم بعضا (وإنه لعلم للساعة) قال مجاهد
والضحاك والسدي وقتادة: إن المراد المسيح، وإن خروجه مما يعلم به قيام الساعة لكونه شرطا من أشراطها، لأن
الله سبحانه ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، كما أن خروج الدجال من أعلام الساعة. وقال الحسن وسعيد بن
جبير: المراد القرآن، لأنه يدل على قرب مجيء الساعة، وبه يعلم وقتها وأهوالها وأحوالها، وقيل المعنى: أن
حدوث المسيح من غير أب وإحياءه للموتى دليل على صحة البعث. وقيل الضمير لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم،
والأول أولى. قرأ الجمهور " لعلم " بصيغة المصدر جعل المسيح علما مبالغة لما يحصل من العلم بحصولها عند نزوله،
وقرأ ابن عباس وأبو هريرة وأبو مالك الغفاري وقتادة بن دينار والضحاك وزيد بن علي بفتح العين واللام:
أي خروجه علم من أعلامها، وشرط من شروطها، وقرأ أبو نظرة وعكرمة " وإنه للعلم " بلامين مع فتح العين
واللام: أي للعلامة يعرف بها قيام الساعة (فلا تمترن بها) أي فلا تشكن في وقوعها ولا تكذبن بها، فإنها
كائنة لا محالة (واتبعون هذا صراط مستقيم) أي اتبعوني فيما آمركم به من التوحيد وبطلان الشرك، وفرائض الله
التي فرضها عليكم، هذا الذي آمركم به وأدعوكم إليه طريق قيم موصل إلى الحق. قرأ الجمهور بحذف الياء من
" اتبعون " وصلا ووقفا، وكذلك قرأوا بحذفها في الحالين في " أطيعون " وقرأ يعقوب بإثباتها وصلا ووقفا فيهما
وقرأ أبو عمرو وهي رواية عن نافع بحذفها في الوصل دون الوقف (ولا يصدنكم الشيطان) أي لا تغتروا بوساوسه
وشبهه التي يوقعها في قلوبكم فيمنعكم ذلك من اتباعي، فإن الذي دعوتكم إليه هو دين الله الذي اتفق عليه رسله
وكتبه. ثم علل نهيهم عن أن يصدهم الشيطان ببيان عداوته لهم فقال (إنه لكم عدو مبين) أي مظهر لعداوته لكم
غير متحاش عن ذلك ولا متكتم فإن به كما يدل على ذلك ما وقع بينه وبين آدم وما ألزم به نفسه من إغواء جميع بني
آدم إلا عباد الله المخلصين (ولما جاء عيسى بالبينات) أي جاء إلى بني إسرائيل بالمعجزات الواضحة والشرائع. قال
قتادة: البينات هنا: الإنجيل (قال قد جئتكم بالحكمة) أي النبوة، وقيل الإنجيل، وقيل ما يرغب في الجميل
ويكف عن القبيح (ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه) من أحكام التوراة. وقال قتادة: يعني اختلاف الفرق
الذين تحزبوا في أمر عيسى. قال الزجاج: الذي جاء به عيسى في الإنجيل إنما هو بعض الذي اختلفوا فيه، فبين
لهم في غير الإنجيل ما احتاجوا إليه. وقيل إن بني إسرائيل اختلفوا بعد موت موسى في أشياء من أمر دينهم. وقال
أبو عبيدة: إن البعض هنا بمعنى الكل كما في قوله - يصبكم بعض الذي يعدكم - وقال مقاتل: هو كقوله - ولأحل
لكم بعض الذي حرم عليكم -: يعنى ما أحل في الإنجيل مما كان محرما في التوراة كلحم الإبل والشحم من كل
حيوان، وصيد السمك يوم السبت واللام في (ولأبين لكم) معطوفة على مقدر كأنه قال: قد جئتكم بالحكمة
لأعلمكم إياها ولأبين لكم. ثم أمرهم بالتقوى والطاعة فقال (فاتقوا الله) أي اتقوا معاصيه (وأطيعون) فيما
آمركم به من التوحيد والشرائع (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه) هذا بيان لما أمرهم بأن يطيعوه فيه (هذا صراط
مستقيم) أي عباده الله وحده والعمل بشرائعه (فاختلف الأحزاب من بينهم). قال مجاهد والسدي: الأحزاب
هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقال الكلبي ومقاتل: هم فرق النصارى اختلفوا في أمر عيسى. قال قتادة:
562

ومعنى " من بينهم " أنهم اختلفوا فيما بينهم، وقيل اختلفوا من بين من بعث إليهم من اليهود والنصارى، والأحزاب
هي الفرق المتحزبة (فويل للذين ظلموا) من هؤلاء المختلفين، وهم الذين أشركوا بالله ولم يعملوا بشرائعه (من
عذاب يوم أليم) أي أليم عذابه وهو يوم القيامة (هل ينظرون إلا الساعة) أي هل يرتقب هؤلاء الأحزاب
وينتظرون إلا الساعة (أن تأتيهم بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون) أي لا يفطنون بذلك، وقيل المراد بالأحزاب
الذين تحزبوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكذبوه، وهم المراد بقوله (هل ينظرون إلا الساعة) والأول
أولى (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو) أي الأخلاء في الدنيا المتحابون فيها يوم تأتيهم الساعة بعضهم لبعض
عدو: أي يعادي بعضهم بعضا، لأنها قد انقطعت بينهم العلائق واشتغل كل واحد منهم بنفسه، ووجدوا تلك
الأمور التي كانوا فيها أخلاء أسبابا للعذاب فصاروا أعداء. ثم استثنى المتقين فقال (إلا المتقين) فإنهم أخلاء
في الدنيا والآخرة، لأنهم وجدوا تلك الخلة التي كانت بينهم من أسباب الخير والثواب فبقيت خلتهم على حالها
(يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) أي يقال لهؤلاء المتقين المتحابين في الله بهذه المقالة فيذهب عند
ذلك خوفهم ويرتفع حزنهم (الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين) الموصول يجوز أن يكون نعتا لعبادي، أو بدلا
منه، أو عطف بيان له، أو مقطوعا عنه في محل نصب على المدح، أو في محل رفع بالابتداء وخبره (ادخلوا
الجنة) على تقدير: يقال لهم ادخلوا الجنة. والأول أولى، وبه قال الزجاج. قال مقاتل: إذا وقع الخوف يوم
القيامة نادى مناد يا عبادي لا خوف عليكم، فإذا سمعوا النداء رفع الخلائق رؤوسهم، فيقال الذين آمنوا بآياتنا
وكانوا مسلمين فينكس أهل الأوثان رؤوسهم غير المسلمين. قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو يا عبادي بإثبات
الياء ساكنة وصلا ووقفا، وقرأ أبو بكر وزر بن حبيش بإثباتها وفتحها في الحالين، وقرأ الباقون بحذفها في
الحالين (ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم) المراد بالأزواج نساؤهم المؤمنات، وقيل قرناؤهم من المؤمنين، وقيل
زوجاتهم من الحور العين (تحبرون) تكرمون، وقيل تنعمون، وقيل تفرحون، وقيل تسرون، وقيل تعجبون،
وقيل تلذذون هو بالسماع، والأولى تفسير ذلك بالفرح والسرور الناشئين عن الكرامة والنعمة (يطاف عليهم
بصحاف من ذهب) الصحاف جمع صحفة: وهي القصعة الواسعة العريضة. قال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة ثم
القصعة، وهي تشبع عشرة، ثم الصحفة، وهي تشبع خمسة، ثم المكيلة وهي تشبع الرجلين والثلاثة، والمعنى:
أن لهم في الجنة أطعمه يطاف عليهم بها في صحاف الذهب (و) لهم فيها أشربة يطاف عليهم بها في أل (أكواب) وهي
جمع كوب. قال الجوهري: الكوب كوز لا عروة له، والجمع أكواب. قال الأعشى:
صريفية طيب طعمها * لها زيد بين كوب ودن
وقال آخر: متكئا تصفق أبوابه * يسعى عليه العبد بالكوب
قال قتادة: الكوب المدور القصير العنق القصير العروة، والإبريق المستطيل العنق الطويل العروة. وقال
الأخفش: الأكواب الأباريق التي لا خراطيم لها. وقال قطرب: هي الأباريق التي ليست لها عرى (وفيها
ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) قرأ الجمهور " تشتهي " وقرأ نافع وابن عامر وحفص " تشتهيه " بإثبات الضمير العائد
على الموصول، والمعنى: ما تشتهيه أنفس أهل الجنة من فنون الأطعمة والأشربة ونحوهما مما تطلبه النفس وتهواه
كائنا ما كان، وتلذ الأعين من كل المستلذات التي تستلذ بها وتطلب مشاهدتها، تقول لذ الشئ يلذ لذاذا
ولذاذة: إذا وجده لذيذا والتذ به، وفي مصحف عبد الله بن مسعود " تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين " (وأنتم فيها
563

خالدون) لا تموتون ولا تخرجون منها (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) أي يقال لهم يوم القيامة هذه
المقالة: أي صارت إليكم كما يصير الميراث إلى الوارث بما كنتم تعملونه في الدنيا من الأعمال الصالحة، واسم
الإشارة مبتدأ، والجنة صفته، والتي أورثتموها صفة للجنة، والخبر بما كنتم تعملون، وقيل الخبر الموصول مع
صلته، والأول أولى (لكم فيها فاكهة كثيرة) الفاكهة معروفة، وهي الثمار كلها رطبها ويابسها: أي لهم في الجنة
سوى الطعام والشراب فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف (منها تأكلون) من تبعيضية أو ابتدائية، وقدم الجار
لأجل الفاصلة.
وقد أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
قال لقريش: " إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير، قالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبيا وعبدا من عباد الله
صالحا وقد عبدته النصارى؟ فإن كنت صادقا فإنه كآلهتهم، فأنزل الله (ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه
يصدون) قلت: وما يصدون؟ قال: يضجون (وإنه لعلم للساعة) قال: خروج عيسى ابن مريم قبل يوم
القيامة ". وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وصححه، وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر
والطبراني والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم " ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، ثم تلا هذه الآية (ما ضربوه لك إلا جدلا) ".
وقد ورد في ذم الجدال بالباطل أحاديث كثيرة. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس " أن المشركين أتوا رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: أرأيت ما نعبد من دون الله أين هم؟ قال: في النار، قالوا: والشمس والقمر؟ قال:
والشمس والقمر قالوا: فعيسى ابن مريم قال: قال الله (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل) "
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور ومسدد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق عنه في قوله (وإنه لعلم
للساعة) قال: خروج عيسى قبل يوم القيامة. وأخرجه الحاكم وابن مردويه عنه مرفوعا. وأخرج عبد بن حميد
عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن مردويه عن سعد بن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إذا
كان يوم القيامة انقطعت الأرحام، وقلت الأنساب، وذهبت الأخوة إلا الأخوة في الله، وذلك قوله (الأخلاء
يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) ". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وحميد بن زنجويه في ترغيبه وابن جرير
وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب في قوله (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو
إلا المتقين) قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران توفى أحد المؤمنين فبشر بالجنة، فذكر خليله وقال: اللهم
إن خليلي فلانا كان يأمرني بطاعتك وطاعة رسولك ويأمرني بالخير وينهاني عن الشر وينبئني أنى ملاقيك، اللهم
لا تضله بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وترضى عنه كما رضيت عني، فيقال له: اذهب، فلو تعلم ماله عندي
لضحكت كثيرا ولبكيت قليلا، ثم يموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على
صاحبه، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: نعم الأخ ونعم الصاحب ونعم الخليل، وإذا مات أحد الكافرين بشر
بالنار، فيذكر خليله، فيقول: اللهم إن خليلي فلانا كان يأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويأمرني بالشر
وينهاني عن الخير وينبئني أني غير ملاقيك، اللهم فلا تهده بعدي حتى تريه مثل ما أريتني وتسخط عليه كما
سخطت علي، فيموت الآخر فيجمع بين أرواحهما فيقال: ليثن كل واحد منكما على صاحبه، فيقول كل
منهما لصاحبه: بئس الأخ وبئس الصاحب وبئس الخليل. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: الأكواب
564

الجرار من الفضة. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال
" مامن أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، فالكافر يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر
منزله من الجنة، وذلك قوله (وتلك الجنة التي أورثتموها) ".
قوله (إن المجرمين) أي أهل الإجرام الكفرية، كما يدل عليه إيرادهم في مقابلة المؤمنين الذين لهم ما ذكر الله
سبحانه قيل هذا (في عذاب جهنم خالدون) لا ينقطع عنهم العذاب أبدا (لا يفتر عنهم) أي لا يخفف عنهم ذلك
العذاب، والجملة في محل نصب على الحال (وهم فيه مبلسون) أي آيسون من النجاة، وقيل ساكتون سكوت
يأس. وقد مضى تحقيق معناه في الأنعام (وما ظلمناهم) أي ما عذبناهم بغير ذنب ولا بزيادة على ما يستحقونه
(ولكن كانوا هم الظالمين) لأنفسهم بما فعلوا من الذنوب. قرأ الجمهور " الظالمين " بالنصب على أنه خبر كان،
والضمير ضمير فصل. وقرأ أبو زيد النحوي " الظالمون " بالرفع على أن الضمير مبتدأ وما بعده خبره، والجملة خبر
كان (ونادوا يا مالك) أي نادى المجرمون هذا النداء، ومالك هو خازن النار. قرأ الجمهور " يا مالك " بدون ترخيم.
وقرأ علي وابن مسعود ويحيى بن وثاب والأعمش " يا مال " بالترخيم (ليقض‌ علينا ربك) بالموت توسلوا بمالك إلى
الله سبحانه ليسأله لهم أن يقضي عليهم بالموت ليستريحوا من العذاب (قال إنكم ماكثون) أي مقيمون في العذاب،
قيل سكت عن إجابتهم ثمانين سنة، ثم أجابهم بهذا الجواب، وقيل سكت عنهم ألف عام، وقيل مائة سنة،
وقيل أربعين سنة (لقد جئناكم بالحق) يحتمل أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويحتمل أن يكون من كلام
565

مالك، والأول أظهر. والمعنى: إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا،
وهو معنى قوله (ولكن أكثركم للحق كارهون) لا يقبلونه، والمراد بالحق: كل ما أمر الله به على ألسن رسله
وأنزله في كتبه. وقيل هو خاص بالقرآن. قيل ومعنى أكثركم: كلكم. وقيل أراد الرؤساء والقادة، ومن عداهم
أتباع لهم (أم أبرموا أمرا فانا مبرمون) أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أبرموا أمرا. وفي ذلك انتقال
من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء، والإبرام: الإتقان والإحكام، يقال أبرمت الشئ: أحكمته
وأتقنته، وأبرم الحبل: إذا أحكم فتله، والمعنى: بل أحكموا كيدا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنا محكمون
لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، ومثل هذا قوله تعالى - أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون -
وقيل المعنى: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب قاله الكلبي (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم)
أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون به في أنفسهم، أو ما يتحادثون به سرا في مكان خال وما يتناجون به فيما
بينهم (بلى) نسمع ذلك ونعمل به (ورسلنا لديهم يكتبون) أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول
أو فعل، والجملة في محل نصب على الحال، أو معطوفة على الجملة التي تدل عليها بلى. ثم أمر الله سبحانه رسوله
صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكفار قولا يلزمهم به الحجة ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال (قل إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين) أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده، لأن من
عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة. وقال الحسن والسدي: إن المعنى ما كان للرحمن
ولد، ويكون قوله (فأنا أول العابدين) ابتداء كلام، وقيل المعنى: قل يا محمد إن ثبت لله ولد، فأنا أول من
يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة
وأحسن أسلوب، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، ومن هذا القبيل قوله تعالى - إنا أو إياكم لعلى هدى أو في
ضلال مبين - ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره: إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، فتكون
" إن " في " إن كان " شرطية، ورجح هذا ابن جرير وغيره. وقيل معنى العابدين: الآنفين من العبادة، وهو تكلف
لا ملجئ إليه، ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني " العبدين " بغير ألف، يقال عبد يعبد عبدا بالتحريك: إذا أنف
وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى
(فأنا أول العابدين) وليس بمستبعد ولا مستنكر. وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله (فأنا أول العابدين)
أنه من الأنف والغضب. وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي، وبه قال الفراء. وكذا قال ابن الأعرابي: إن
معنى العابدين الغضاب الآنفين. وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى عبدني حقي: أي جحدني، وقد
أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق:
أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم * وأعبد أن أهجوا كليبا بدارم
وقوله أيضا: أولاك أناس لو هجوني هجوتهم * وأعبد أن يهجي كليب بدارم
ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة، ولكن
جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجئ إليه ومن التعسف الواضح. وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال:
إنما يقال عبد يعبد فهو عبد، وقل ما يقال عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. قرأ الجمهور " ولد "
بالإفراد، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ولد " بضم الواو وسكون اللام (سبحان رب السماوات والأرض رب
العرش عما يصفون) أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا ويفترون عليه سبحانه مالا يليق بجنابه.
566

وهذا إن كان من كلام الله سبحانه فقد نزه نفسه عما قالوه، وإن كان من تمام كلام رسوله الذي أمره بأن يقوله
فقد أمره بأن يضم إلى ما حكاه عنهم بزعمهم الباطل تنزيه ربه وتقديسه (فذرهم يخوضوا ويلعبوا) أي اترك الكفار
حيث لم يهتدوا بما هديتهم به ولا أجابوك فيما دعوتهم إليه يخوضوا في أباطيلهم ويلهوا في دنياهم (حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون) وهو يوم القيامة، وقيل العذاب في الدنيا، قيل وهذا منسوخ بآية السيف، وقيل هو غير
منسوخ وإنما أخرج مخرج التهديد. قرأ الجمهور " يلاقوا " وقرأ مجاهد وابن محيصن وحميد وابن السميفع " حتى
يلقوا " بفتح الياء وإسكان اللام من غير ألف، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو (وهو الذي في السماء إله وفي
الأرض إله) الجار والمجرور في الموضعين متعلق بإله لأنه بمعنى معبود أو مستحق للعبادة، والمعنى: وهو الذي
معبود في السماء ومعبود في الأرض، أو مستحق للعبادة في السماء والعبادة في الأرض. قال أبو علي الفارسي:
وإله في الموضعين مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي وهو الذي في السماء هو إله وفي الأرض هو إله وحسن
حذفه لطول الكلام، قال: والمعنى على الإخبار بالاهيته، لا على الكون فيهما. قال قتادة: يعبد في السماء
والأرض، وقيل في بمعنى على: أي هو القادر على السماء والأرض كما في قوله - ولأصلبنكم في جذوع النخل -
وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن مسعود " وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله " على تضمين العلم
معنى المشتق فيتعلق به الجار والمجرور من هذه الحيثية (وهو الحكيم العليم) أي البليغ الحكمة الكثير العلم (وتبارك
الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما) تبارك تفاعل من البركة وهي كثرة الخيرات، والمراد بما بينهما الهواء
وما فيه من الحيوانات (وعنده علم الساعة) أي علم الوقت الذي يكون قيامها فيه (وإليه ترجعون) فيجازي كل
أحد بما يستحقه من خير وشر، وفيه وعيد شديد. قرأ الجمهور " ترجعون بالفوقية، وقرأ ابن كثير وحمزة
والكسائي بالتحتية (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) أي لا يملك من يدعونه من دون الله من الأصنام
ونحوها الشفاعة عند الله كما يزعمون أنهم يشفعون لهم. قرأ الجمهور " يدعون " بالتحتية، وقرأ السلمي وابن وثاب
بالفوقية (إلا من شهد بالحق) اي التوحيد (وهم يعلمون) أي هم على علم وبصيرة بما شهدوا به، والاستثناء يحتمل
أن يكون متصلا، والمعنى: إلا من شهد بالحق، وهم المسيح وعزير والملائكة، فإنهم يملكون الشفاعة لمن
يستحقها. وقيل هو منقطع، والمعنى: لكن من شهد بالحق يشفع فيه هؤلاء. ويجوز أن يكون المستثنى منه محذوفا:
أي لا يملكون الشفاعة في أحد إلا فيمن شهد بالحق. قال سعيد بن جبير وغيره: معنى الآية: أنه لا يملك هؤلاء
الشفاعة إلا لمن شهد بالحق وآمن على علم وبصيرة. وقال قتادة: لا يشفعون لعابديها، بل ويشفعون لمن شهد
بالوحدانية. وقيل مدار الاتصال في هذا الاستثناء على جعل الذين يدعون عاما لكل ما يعبد من دون الله، ومدار
الانقطاع على جعله خاصا بالأصنام (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) اللام هي الموطئة للقسم، والمعنى:
لئن سألت هؤلاء المشركين العابدين للأصنام من خلقهم أقروا واعترفوا بأن خالقهم الله ولا يقدرون على الإنكار،
ولا يستطيعون الجحود لظهور الأمر وجلائه (فأنى يؤفكون) أي فكيف ينقلبون عن عبادة الله إلى عبادة غيره
وينصرفون عنها مع هذا الاعتراف، فإن المعترف بأن الله خالقه إذا عمد إلى صنم أو حيوان وعبده مع الله أو عبده
وحده فقد عبد بعض مخلوقات الله، وفي هذا من الجهل مالا يقادر قدره، يقال أفكه يأفكه إفكا: إذا قلبه وصرفه
عن الشئ. وقيل المعنى: ولئن سألت المسيح وعزيرا والملائكة من خلقهم ليقولن الله، فأنى يؤفك هؤلاء الكفار
في اتخاذهم لها آلهة. وقيل المعنى: ولئن سألت العابدين والمعبودين جميعا. قرأ الجمهور " وقيله " بالنصب عطفا
567

على محل الساعة، كأنه قيل: إنه يعلم الساعة ويعلم قيله أو عطفا على سرهم ونجواهم: أي يعلم سرهم ونجواهم ويعلم
قيله، أو عطفا على مفعول يكتبون المحذوف: أي يكتبون ذلك ويكتبون قيله، أو عطفا على مفعول يعلمون
المحذوف: أي يعلمون ذلك ويعلمون قيله أو هو مصدر: أي قال قيله، أو منصوب بإضمار فعل: أي الله يعلم
قيل رسوله، أو هو معطوف على محل بالحق: أي شهد بالحق وبقيله، أو منصوب على حذف حرف القسم.
ومن المجوزين للوجه الأول المبرد وابن الأنباري، ومن المجوزين للثاني الفراء والأخفش، ومن المجوزين للنصب
على المصدرية الفراء والأخفش أيضا. وقرأ حمزة وعاصم " وقيله " بالجر عطفا على لفظ الساعة: أي وعنده علم
الساعة وعلم قيله، والقول والقال والقيل بمعنى واحد، أو على أن الواو للقسم. وقرأ قتادة ومجاهد والحسن
وأبو قلابة والأعرج وابن هرمز ومسلم بن جندب " وقيله " بالرفع عطفا على علم الساعة: أي وعنده علم الساعة
وعنده قيله، أو على الابتداء، وخبره الجملة المذكورة بعده، أو خبره محذوف تقديره وقيله كيت وكيت، أو
وقيله مسموع. قال أبو عبيد: يقال قلت قولا وقيلا وقالا، والضمير في وقيله راجع إلى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم. قال قتادة: هذا نبيكم يشكو قومه إلى ربه، وقيل: الضمير عائد إلى المسيح، وعلى الوجهين فالمعنى: أنه
قال مناديا لربه (يا رب إن هؤلاء) الذين أرسلتني إليهم (قوم لا يؤمنون) ثم لما نادى ربه بهذا أجابه بقوله
(فاصفح عنهم) أي أعرض عن دعوتهم (وقل سلام) أي أمري تسليم منكم ومتاركة لكم. قال عطاء: يريد
مداراة حتى ينزل حكمي، ومعناه المتاركة كقوله - سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين -. وقال قتادة: أمره بالصفح
عنهم ثم أمره بقتالهم فصار الصفح منسوخا بالسيف، وقيل هي محكمة لم تنسخ (فسوف تعلمون) فيه تهديد شديد،
ووعيد عظيم من الله عز وجل. قرأ الجمهور " يعلمون " بالتحتية، وقرأ نافع وابن عامر بالفوقية. قال الفراء:
إن سلام مرفوع بإضمار عليكم.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في البعث والنشور عن ابن عباس في قوله
(ونادوا يا مالك) قال: يمكث عنهم ألف سنة ثم يجيبهم (إنكم ماكثون). وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب
القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها، قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون أن
الله يسمع كلامنا؟ فقال واحد منهم: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فنزلت (أم يحسبون أنا لا نسمع
سرهم ونجواهم) الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (إن كان للرحمن ولد)
يقول: إن يكن للرحمن ولد (فأنا أول العابدين) قال: الشاهدين. وأخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم في قوله
(أن كان للرحمن ولد) قال: هذا معروف من كلام العرب إن كان هذا الأمر قط: أي ما كان. وأخرج ابن
جرير عن قتادة نحوه.
568

تفسير سورة الدخان
هي تسع وخمسون، وقيل سبع وخمسون آية
قال القرطبي: هي مكية باتفاق إلا قوله (إنا كاشفوا العذاب). وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وعبد الله
بن الزبير أن سورة الدخان نزلت بمكة. وأخرج الترمذي والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم: " من قرأ حم الدخان في ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك ". قال الترمذي بعد
إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعمرو بن أبي خثعم ضعيف. قال البخاري: منكر الحديث. وأخرج
الترمذي ومحمد بن نصر وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من
قرأ حم الدخان في ليلة جمعة أصبح مغفورا له ". قال الترمذي بعد إخراجه: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وهشام
ابن المقدام يضعف، والحسن لم يسمع من أبي هريرة، كذا قال أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، ويشهد له
ما أخرجه ابن الضريس والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره، وما
أخرجه ابن الضريس عن الحسن مرفوعا بنحوه وهو مرسل، وما أخرجه الدارمي ومحمد بن نصر عن أبي رافع
قال: من قرأ الدخان في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له وزوج من الحور العين. وأخرج ابن مردويه عن أبي أمامة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " من قرأ سورة حم الدخان في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له
بها بيتا في الجنة ".
569

قوله (حم والكتاب المبين) قد تقدم في السورتين المتقدمتين قبل هذه السورة الكلام على هذا معنى وإعرابا،
وقوله (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) جواب القسم، وإن جعلت الجواب حم كانت هذه الجملة مستأنفة، وقد أنكر
بعض النحويين أن تكون هذه الجملة جوابا للقسم لأنها صفة للمقسم به ولا تكون صفة المقسم به جوابا للقسم،
وقال الجواب (إنا كنا منذرين) واختاره ابن عطية، وقيل إن قوله (إنا كنا منذرين) جواب ثان، أو جملة
مستأنفة مقررة للإنزال، وفي حكم العلة له كأنه قال: إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار، والضمير في أنزلناه راجع
إلى الكتاب المبين وهو القرآن. وقيل المراد بالكتاب سائر الكتب المنزلة، والضمير في أنزلناه راجع إلى القرآن على
معنى أنه سبحانه أقسم بسائر الكتب المنزلة أنه أنزل القرآن، والأول أولى. والليلة المباركة: ليلة القدر كما في قوله
- إنا أنزلناه في ليلة القدر - ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة القدر. قال
عكرمة: الليلة المباركة هنا ليلة النصف من شعبان. وقال قتادة: أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتاب
وهو اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم أنزله الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الليالي والأيام
في ثلاث وعشرين سنة، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا في البقرة عند قوله - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن -
وقال مقاتل: كان ينزل من اللوح كل ليلة قدر من الوحي على مقدار ما ينزل به جبريل في السنة إلى مثلها من
العام، ووصف الله سبحانه هذه الليلة بأنها مباركة لنزول القرآن فيها وهو مشتمل على مصالح الدين والدنيا،
ولكونها تتنزل فيها الملائكة والروح كما سيأتي في سوره القدر، ومن جملة بركتها ما ذكره الله سبحانه هاهنا بقوله
(فيها يفرق كل أمر حكيم) ومعنى يفرق: يفصل ويبين من قولهم: فرقت الشئ أفرقه فرقا، والأمر الحكيم:
المحكم، وذلك أن الله سبحانه يكتب فيها ما يكون في السنة من حياة وموت وبسط وقبض وخير وشر وغير ذلك،
كذا قال مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم: وهذه الجملة إما صفة أخرى لليلة وما بينهما اعتراض، أو مستأنفة
لتقرير ما قبلها. قرأ الجمهور " يفرق " بضم الياء وفتح الراء مخففا، وقرأ الحسن والأعمش والأعرج بفتح الياء وضم
الراء ونصب كل أمر ورفع حكيم على أنه الفاعل. والحق ما ذهب إليه الجمهور من إن هذه الليلة المباركة هي ليلة
القدر لا ليلة النصف من شعبان، لأن الله سبحانه أجملها هنا وبينها في سورة البقرة بقوله - شهر رمضان الذي أنزل
فيه القرآن - وبقوله في سورة القدر - إنا أنزلناه في ليلة القدر - فلم يبقى بعد هذا البيان الواضح ما يوجب الخلاف ولا
ما يقتضي الاشتباه (أمرا من عندنا) قال الزجاج والفراء: انتصاب أمرا يفرق: أي يفرق فرقا، لأن أمرا بمعنى
فرقا. والمعنى: إنا نأمر ببيان ذلك ونسخه من اللوح المحفوظ، فهو على هذا منتصب على المصدرية مثل قولك
يضرب ضربا. قال المبرد: أمرا في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. وقال الأخفش: انتصابه على الحال:
أي آمرين. وقيل هو منصوب على الاختصاص: أي أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا، وفيه تفخيم لشأن
القرآن وتعظيم له. وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب أمرا اثنى عشر وجها أظهرها ما ذكرناه. وقرأ زيد بن علي
" أمر " بالرفع: أي هو أمر (إنا كنا مرسلين) هذه الجملة إما بدل من قوله (كنا منذرين) أو جواب ثالث
للقسم أو مستأنفة. قال الرازي: المعنى إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء (رحمة من ربك) انتصاب
رحمة على العلة: أي أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج. وقال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين: أي إنا كنا
مرسلين رحمة. وقيل هي مصدر في موضع الحال: أي راحمين، قاله الأخفش. وقرأ الحسن " رحمة " بالرفع على
تقدير هي رحمة (إنه هو السميع) لمن دعاه (العليم) بكل شئ. ثم وصف سبحانه نفسه بما يدل على عظيم قدرته
570

الباهرة فقال (رب السماوات والأرض وما بينهما) قرأ الجمهور " رب " بالرفع عطفا على السميع العليم، أو على
أنه مبتدأ وخبره لا إله إلا هو، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو رب، وقرأ الكوفيون " رب " بالجر على أنه
بدل من ربك، أو بيان له أو نعت (إن كنتم موقنين) بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، وقد أقروا بذلك
كما حكاه الله عنهم في غير موضع، وجملة (لا إله إلا هو) مستأنفة مقررة لما قبلها، أو خبر رب السماوات كما
مر، وكذلك جملة (يحيي ويميت) فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها (ربكم ورب آبائكم الأولين) قرأ الجمهور بالرفع
على الاستئناف بتقدير مبتدأ: أي هو ربكم، أو على أنه بدل من رب السماوات، أو بيان أو نعت له، وقرأ
الكسائي في رواية الشيرازي عنه وابن ميحصن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجر، ووجه الجر ما ذكرناه
في قراءة من قرأ بالجر في رب السماوات (بل هم في شك يلعبون) أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شك
من التوحيد والبعث، وفي إقرارهم بأن الله خالقهم وخالق سائر المخلوقات، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب
والهزو، ومحل يلعبون الرفع على أنه خبر ثان أو النصب على الحال (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) الفاء
لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك، والمعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء
بدخان مبين، وقيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض
أربعين يوما. وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل إنه أمر قد مضى،
وهو ما أصاب قريشا بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا، وهذا
ثابت في الصحيحين وغيرهما: وذلك حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنين كسني يوسف،
فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، وكان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد،
وقيل إنه يوم فتح مكة، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدل على هذه الأقوال. وقوله (يغشي الناس) صفة ثانية
لدخان: أي يشملهم ويحيط بهم (هذا عذاب أليم) أي يقولون هذا عذاب أليم، أو قائلين ذلك، أو يقول الله
لهم ذلك (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) أي يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان
أو يقولونه إذا رأو الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح
منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد وشدة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد إن الدخان
من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر ولا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على
تقدير صحة وقوعه (أنى لهم الذكرى) أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم " و " الحال أن (قد جاءهم
رسول مبين) يبين لهم كل شئ يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا (ثم تولوا عنه) أي أعرضوا عن ذلك الرسول
الذي جاءهم ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل جاوزوه (وقالوا معلم مجنون) أي قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر
وقالوا إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب وأنه إذا كشفه
عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله (كاشفوا العذاب قليلا) أي إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا أو زمانا قليلا
ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال
(إنكم عائدون) أي إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك
571

العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والعناد، وقيل المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث والنشور، والأول
أولى (يوم نبطش البطشة الكبرى) الظرف منصوب باضمار أذكر، وقيل هو بدل من يوم تأتي السماء، وقيل هو
متعلق بمنتقمون، وقيل بما دل عليه منتقمون وهو ننتقم. والبطشة الكبرى: هي يوم بدر، قاله الأكثر. والمعنى:
أنهم لما عادوا إلى التكذيب والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر. وقال الحسن وعكرمة:
المراد بها عذاب النار، واختار هذا الزجاج، والأول أولى. قرأ الجمهور " نبطش " بفتح النون وكسر الطاء:
أي نبطش بهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة، وقرأ أبو رجاء وطلحة بضم النون وكسر
الطاء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس (في ليلة مباركة) قال: أنزل القرآن في ليلة القدر ونزل به جبريل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نجوما لجواب الناس. وأخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه
في قوله (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت،
وحياة ومطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، ويحج فلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر (فيها يفرق كل
أمر حكيم) قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدل ولا يغير. وأخرج عبد بن
حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق
وقد وقع اسمه في الموتى ثم قرأ (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) الآية، يعني ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر
الدنيا إلى مثلها من قابل من موت أو حياة أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها. وأخرج ابن زنجويه
والديلمي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " تقطع الآجال من شعبان إلى
شعبان، حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى ". وأخرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير عن عثمان بن
محمد بن المغيرة بن الأخنس، وهذا مرسل ولا تقوم به حجة ولا تعارض بمثله صرائح القرآن. وما روي في هذا
فهو إما مرسل أو غير صحيح. وقد أورد ذلك صاحب الدر المنثور، وأورد ما ورد في فضل ليلة النصف من
شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله في ليلة مباركة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود أن
قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبطئوا عن الإسلام قال: " اللهم أعني عليهم بسبع
كسبع يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة
الدخان من الجوع، فأنزل الله (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) الآية، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فاستسقى لهم فسقوا، فأنزل الله (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون)
فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) فانتقم الله منهم يوم
بدر، فقد مضى البطشة والدخان واللزام. وقد روي عن ابن مسعود نحو هذا من غير وجه، وروي نحوه عن
جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن أبي مليكة قال:
دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت لم؟ قال: طلع الكوكب فخشيت أن يطرق الدخان. قال
ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطي ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية. وقد عرفناك أنه
لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدخان من آيات
الساعة وعلاماتها وأشراطها. فقد وردت أحاديث صحاح وحسان وضاف بذلك، وليس فيها أنه سبب نزول
572

الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن دخان قريش عند
الجهد والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشرط الساعة
كأبن كثير في تفسيره وغيره، وهكذا يندفع قول من قال إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكا بما أخرجه ابن
سعد عن أبي هريرة قال: كان يوم فتح مكة دخان وهو قول الله (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) فإن هذا
لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظن من وقوع
ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرح بأنه سبب نزولها. وأخرج ابن جرير عن عكرمة قال: قال
ابن عباس قال ابن مسعود: البطشة الكبرى يوم بدر وأنا أقول هي يوم القيامة. قال ابن كثير: وهذا إسناد
صحيح. وقال ابن كثير قبل هذا: فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على
تفسيره الدخان بما تقدم، وروي أيضا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه وعن أبي بن كعب وجماعة وهو
محتمل. والظاهر أن ذلك يوم القيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضا انتهى.
قلت: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش،
فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الإنس والجن.
573

قوله (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون) أي ابتليناهم، ومعنى الفتنة هنا أن الله سبحانه أرسل إليهم رسله وأمروهم
بما شرعه لهم فكذبوهم، أو وسع عليهم الأرزاق فطغوا وبغوا. قال الزجاج: بلوناهم، والمعنى: عاملناهم معاملة
المختبر ببعث الرسل إليهم، وقرئ " فتنا " بالتشديد (وجاءهم رسول كريم) أي كريم على الله كريم في قومه.
وقال مقاتل: حسن الخلق بالتجاوز والصفح. وقال الفراء: كريم على ربه إذ اختصه بالنبوة (أن أدوا إلي عباد
الله) أن هذه هي المفسرة لتقدم ما هو بمعنى القول، ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، والمعنى: أن الشأن
والحديث أدوا إلي عباد الله، ويجوز أن تكون مصدرية: أي بأن أدوا، والمعنى: أنه طلب منهم أن يسلموا
إليه بني إسرائيل. قال مجاهد: المعنى أرسلوا معي عباد الله وأطلقوهم من العذاب، فعباد الله على هذا مفعول به.
وقيل المعنى: أدوا إلي عباد الله ما وجب عليكم من حقوق الله، فيكون منصوبا على أنه منادي مضاف. وقيل
أدوا إلي سمعكم حتى أبلغكم رسالة ربكم (إني لكم رسول أمين) هو تعليل لما تقدم: أي رسول من الله إليكم
أمين على الرسالة غير متهم (وأن لا تعلوا على الله) أي لا تتجبروا وتتكبروا عليه بترفعكم عن طاعته ومتابعة رسله،
وقيل لا تبغوا على الله، وقيل لا تفتروا عليه، والأول أولى، وبه قال ابن جريج ويحيى بن سلام، وجملة (إني
آتيكم بسلطان مبين) تعليل لما قبله من النهي: أي بحجة واضحة لا سبيل إلى إنكارها. وقال قتادة: بعذر بين.
والأول أولى، وبه قال يحيى بن سلام. قرأ الجمهور بكسر همزة " إني " وقرئ بالفتح بتقدير اللام (وإني عذت
بربي وربكم أن ترجمون) استعاذ بالله سبحانه لما توعدوه بالقتل، والمعنى: من أن ترجمون. قال قتادة: ترجموني
بالحجارة، وقيل تشتمون، وقيل تقتلون (وإن لم تؤمنوا إلي فاعتزلون) أي إن لم تصدقوني وتقروا بنبوتي
فاتركوني ولا تتعرضوا لي بأذى. قال مقاتل: دعوني كفافا لا علي ولا لي، وقيل كونوا بمعزل عني وأنا بمعزل
منكم إلى أن يحكم الله بيننا، وقيل فخلوا سبيلي، والمعنى متقارب. ثم لما لم يصدقوه ولم يجيبوا دعوته، رجع إلى
ربه بالدعاء كما حكى الله عنه بقوله (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) قرأ الجمهور بفتح الهمزة على إضمار
حرف الجر: أي دعاه بأن هؤلاء، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر بكسرها على إضمار القول، وفي
الكلام حذف: أي فكفروا فدعا ربه، والمجرمون الكافرون، وسماه دعاء مع أنه لم يذكر إلا مجرد كونهم
مجرمين، لأنهم قد استحقوا بذلك الدعاء عليهم (فاسر بعبادي ليلا) أجاب الله سبحانه دعاءه، فأمر أن يسري
ببني إسرائيل ليلا، يقال سرى وأسر لغتان، قرأ الجمهور " فأسر " بالقطع، وقرأ أهل الحجاز بالوصل،
ووافقهم ابن كثير، فالقراءة الأولى من أسرى، والثانية من سرى، والجملة بتقدير القول: أي فقال الله لموسى
أسر بعبادي (إنكم متبعون) أي يتبعكم فرعون وجنوده، وقد تقدم في غير موضع خروج فرعون بعدهم (واترك
البحر رهوا) أي ساكنا، يقال رها يرهو رهوا: إذا سكن لا يتحرك. قال الجوهري: يقال افعل ذلك رهوا:
أي ساكنا على هيئتك، وعيش رآه: أي ساكن، ورها البحر سكن، وكذا قال الهروي وغيره، وهو المعروف
في اللغة، ومنه قول الشاعر:
والخيل تمرح رهوا في أعنتها * كالطير تنجو من الشرنوب ذي الوبر
أي والخيل تمرح في أعنتها ساكنة، والمعنى: اترك البحر ساكنا على صفته بعد أن ضربته بعصاك ولا تأمره
أن يرجع كما كان ليدخله آل فرعون بعدك وبعد بني إسرائيل فينطبق عليهم فيغرقون. وقال أبو عبيدة: رها
بين رجليه يرهوا رهوا: أي فتح. قال، ومنه قوله (واترك البحر رهوا) والمعنى: اتركه منفرجا كما كان بعد
574

دخولكم فيه، وكذا قال أبو عبيد: وبه قال مجاهد وغيره. قال ابن عرفة: وهما يرجعان إلى معنى واحد، وإن
اختلف لفظاهما، لأن البحر إذا سكن جريه انفرج. قال الهروي: ويجوز أن يكون رهوا نعتا لموسى: أي سر
ساكنا على هيئتك. وقال كعب والحسن رهوا طريقا. وقال الضحاك: والربيع سهلا. وقال عكرمة: يبسا كقوله
- فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - وعلى كل تقدير، فالمعنى التركة ذا رهو أو اتركه رهوا على المبالغة في الوصف
بالمصدر (إنهم جند مغرقون) أي إن فرعون وقومه مغرقون. أخبر سبحانه موسى بذلك ليسكن قلبه ويطمئن جأشه.
قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف لقصد الإخبار بذلك، وقرئ بالفتح على تقدير لأنهم (كم) هي الخبرية
المفيدة للتكثير، وقد مضى الكلام في معنى الآية في سورة الشعراء. قرأ الجمهور (ومقام) بفتح الميم على أنه اسم
مكان للقيام، وقرأ ابن هرمز وقتادة وابن السميفع، وروي عن نافع بضمها اسم مكان الإقامة (ونعمة كانوا
فيها فاكهين) النعمة بالفتح التنعم: يقال نعمه الله وناعمه فتنعم، وبالكسر المنة، وما أنعم به عليك، وفلان واسع
النعمة: أي واسع المال ذكر معنى هذا الجوهري. قرأ الجمهور " فاكهين " بالألف. وقرأ أبو رجاء والحسن
وأبو الأشهب والأعرج وأبو جعفر وشيبة " فكهين " بغير ألف، والمعنى على القراءة الأولى: متنعمين طيبة أنفسهم
وعلى القراء الثانية: أشرين بطرين. قال الجوهري: فكه الرجل بالكسر فهو فكه إذا كان طيب النفس مزاحا،
والفكه أيضا: الأشر البطر. قال: وفاكهين: أي ناعمين. وقال الثعلبي: هما لغتان كالحاذر والحذر والفاره
والفره. وقيل إن الفاكهة: هو المستمتع بأنواع اللذة كما يتمتع الرجل بأنواع الفاكهة (كذلك وأورثناها قوما
آخرين) الكاف في محل رفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف. قال الزجاج: أي الأمر كذلك، ويجوز أن تكون في
محل نصب، والإشارة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا: أي مثل ذلك السلب سلبناهم إياها، وقيل مثل ذلك
الإخراج أخرجناهم منها وقيل مثل ذلك الإهلاك أهلكناهم. فعلى الوجه الأول يكون قوله " وأورثناها " معطوفا
على " تركوا " وعلى الوجوه الآخرة يكون معطوفا على الفعل المقدر. والمراد بالقوم الآخرين بنو إسرائيل، فإن الله
سبحانه ملكهم أرض مصر بعد إن كانوا فيها مستعبدين، فصاروا لها وارثين: أي أنها وصلت إليهم كما يصل
الميراث إلى الوارث، ومثل هذا قوله: - وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها -
(فما بكت عليهم السماء والأرض) هذا بيان لعدم الاكتراث بهلاكهم. قال المفسرون: أي إنهم لم يكونوا يعملون
على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم به ولم يصعد لهم إلى السماء عمل طيب يبكى عليهم به، والمعنى: أنه لم يصب
بفقدهم وهلاكهم أحد من أهل السماء ولا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم: بكت
له السماء والأرض: أي عمت مصيبته، ومن ذلك قول جرير:
لما أتى خبر الزبير تواضعت * سور المدينة والجبال الخشع
ومنه قول النابغة: بكى حارث الحولان من فقد ربه * وحوران منه خاشع متضائل
وقال الحسن: في الكلام مضاف محذوف: أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة والناس. وقال
مجاهد: إن السماء والأرض تبكيان على المؤمن أربعين صباحا، وقيل إنه يبكي على المؤمن مواضع صلاته ومصاعد
عمله (وما كانوا منظرين) أي ممهلين إلى وقت آخر بل عوجلوا بالعقوبة لفرط كفرهم وشدة عنادهم (ولقد
نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) أي خلصناهم بإهلاك عدوهم مما كانوا فيه من الاستعباد، وقتل الأبناء
واستحياء النساء وتكليفهم للأعمال الشاقة، وقوله (من فرعون) بدل من العذاب إما على حذف مضاف: أي من
575

عذاب فرعون، وإما على المبالغة كأنه نفس العذاب فأبدل منه أو على أنه حال من العذاب تقديره صادرا من
فرعون، وقرأ ابن عباس " من فرعون " بفتح الميم على الاستفهام التحقيري كما يقال لمن افتخر بحسبه أو نسبه: من
أنت. ثم بين سبحانه حاله فقال (إنه كان عاليا من المسرفين) أي عاليا في التكبر والتجبر من المسرفين في الكفر
بالله وارتكاب معاصيه كما في قوله " إن فرعون علا في الأرض " ولما بين سبحانه كيفية دفعه للضر عن بني
إسرائيل بين ما أكرمهم به فقال (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) أي اختارهم الله على عالمي زمانهم على علم
منه باستحقاقهم لذلك، وليس المراد أنه اختارهم على جميع العالمين بدليل قوله في هذه الأمة - كنتم خير أمة
أخرجت للناس - وقيل على كل العالمين لكثرة الأنبياء فيهم، ومحل على علم النصب على الحال من فاعل اخترناهم:
أي حال كون اختيارنا لهم على علم منا، وعلى العالمين متعلق باخترناهم (وآتيناهم من الآيات) أي معجزات موسى
(ما فيه بلاء مبين) أي اختبار ظاهر وامتحان واضح لننظر كيف يعملون. وقال قتادة: الآيات إنجاؤهم من
الغرق، وفلق البحر لهم، وتظليل الغمام عليهم، وإنزال المن والسلوى لهم. وقال ابن زيد: الآيات هي الشر
الذي كفهم عنه، والخير الذي أمرهم به. وقال الحسن وقتادة: البلاء المبين: النعمة الظاهرة كما في قوله - وليبلي
المؤمنين منه بلاء حسنا - ومنه قول زهير * فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو * والإشارة بقوله (إن هؤلاء)
إلى كفار قريش، لأن الكلام فيهم، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على استوائهم في الإصرار على الكفر (ليقولون
إن هي إلا موتتنا الأولى) أي ما هي إلا موتتنا الأولى التي نموتها في الدنيا ولا حياة بعدها ولا بعث، وهو معنى
قوله (وما نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، وليس في الكلام قصد إلى إثبات موتة أخرى، بل المراد ما العاقبة ونهاية
الأمر إلا الموتة الأولى المزيلة للحياة الدنيوية، قال الرازي: المعنى: أنه لا يأتينا من الأحوال الشديدة إلا الموتة
الأولى، ثم أوردوا على من وعدهم بالبعث ما ظنوه دليلا، وهو حجة داحضة، فقالوا (فأتوا بآبائنا) أي
ارجعوهم بعد موتهم إلى الدنيا (إن كنتم صادقين) فيما تقولونه وتختبرونا به من البعث. ثم رد الله سبحانه عليهم
بقوله (أهم خير أم قوم تبع) أي أهم خير في القوة والمنعة: أم قوم تبع الحميري الذي دار في الدنيا بجيوشه وغلب
أهلها وقهرهم، وفيه وعيد شديد. وقيل المراد بقوم تبع جميع أتباعه لا واحد بعينه. وقال الفراء: الخطاب في
قوله (فأتوا بآبائنا) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده كقوله - رب ارجعون - والأولى أنه خطاب له
ولأتباعه من المسلمين (و) المراد ب (الذين من قبلهم) عاد وثمود ونحوهم، وقوله (أهلكناهم) جملة مستأنفة لبيان
حالهم وعاقبة أمرهم، وجملة (إنهم كانوا مجرمين) تعليل لإهلاكهم، والمعنى: أن الله سبحانه قد أهلك هؤلاء
بسبب كونهم مجرمين، فإهلاكه لمن هو دونهم بسبب كونه مجرما مع ضعفه وقصور قدرته بالأولى.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولقد فتنا) قال: ابتلينا (قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول
كريم) قال: هو موسى (أن أدوا إلي عباد الله) أرسلوا معي بني إسرائيل (وأن لا تعلوا على الله) قال: لا تعثوا
(إني آتيكم بسلطان مبين) قال: بعذر مبين (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) قال: بالحجارة (وإن لم
تؤمنوا لي فاعتزلون) أي خلوا سبيلي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في قوله (أن أدوا إلي
عباد الله) قال: يقول اتبعوني إلى ما أدعوكم إليه من الحق، وفي قوله (وأن لا تعلوا على الله) قال: لا تفتروا
وفي قوله (أن ترجمون) قال: تشتمون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (رهوا)
قال: سمتا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا (رهوا) قال: كهيئته وامضه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم
576

عنه أيضا أنه سأل كعبا عن قوله (واترك البحر رهوا) قال: طريقا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أيضا قال:
الرهو أن يترك كما كان. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله (ومقام كريم) قال: المنابر. وأخرج ابن
مردويه عن جابر مثله. وأخرج الترمذي وابن أبي الدنيا وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية
والخطيب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مامن عبد إلا بابان: باب يصعد منه
عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، وتلا هذه الآية (فما بكت عليهم السماء والأرض)
وذكر أنهم لم يكونوا يعملون على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ولا من
عملهم كلام صالح فتفقدهم فتبكي عليهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب نحوه
من قول ابن عباس. وأخرج أبو الشيخ عنه قال: يقال الأرض تبكي على المؤمن أربعين صباحا. وأخرج ابن
أبي الدنيا وابن جرير عن شريح بن عبيد الحضرمي مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " إن
الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، ألا لا غربة على مؤمن ما مات مؤمن في غربة غابت عنه فيها بواكيه، إلا
بكت عليه السماء والأرض، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (فما بكت عليهم السماء والأرض) ثم قال:
إنهما لا يبكيان على كافر ". وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر من طريق المسيب بن
رافع عن علي بن أبي طالب قال: إن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، ثم
تلا الآية. وأخرج ابن المبارك وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس
قال: إن الأرض لتبكي على ابن آدم أربعين صباحا ثم قرأ الآية. وأخرج الطبراني وابن مردويه عنه عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم قال " لا تسبوا تبعا فإنه قد أسلم ". وأخرجه أحمد والطبراني وابن ماجة وابن مردويه عن سهل بن
سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر مثله، وروي نحو هذا عن غيرهما من
الصحابة والتابعين.
577

قوله (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما) أي بين جنسي السماء والأرض (لاعبين) أي لغير غرض
صحيح. قال مقاتل: لم نخلقهما عابثين لغير شئ. وقال الكلبي: لاهين، وقيل غافلين. قرأ الجمهور (وما
بينهما) وقرأ عمرو بن عبيد " وما بينهن " لأن السماوات والأرض جمع، وانتصاب لاعبين على الحال (ما خلقناهما)
أي وما بينهما (إلا بالحق) أي إلا بالأمر الحق، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال. وقال الكلبي: إلا للحق،
وكذا قال الحسن، وقيل إلا لإقامة الحق وإظهاره (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أن الأمر كذلك وهم المشركون
(إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) أي إن يوم القيامة الذي يفصل فيه الحق عن الباطل ميقاتهم: أي الوقت المجعول
لتمييز المحسن من المسئ والمحق من المبطل، أجمعين لا يخرج عنهم أحد من ذلك. وقد اتفق القراء على رفع ميقاتهم على
أنه خبر إن واسمها يوم الفصل. وأجاز الكسائي والفراء نصبه على أنه اسمها ويوم الفصل خبرها. ثم وصف سبحانه ذلك
اليوم فقال (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) يوم بدل من يوم الفصل، أو منتصب بفعل مضمر يدل عليه الفصل:
أي يفصل بينهم يوم لا يغنى، ولا يجوز أن يكون معمولا للفصل لأنه قد وقع الفصل بينهما بأجنبي، والمعنى: أنه
لا ينفع في ذلك اليوم قريب قريبا، ولا يدفع عنه شيئا، ويطلق المولى على الولي، وهو القريب والناصر (ولا هم
ينصرون) الضمير راجع إلى المولى باعتبار المعنى، لأنه نكرة في سياق النفي وهي من صيغ العموم: أي ولا هم
يمنعون من عذابه الله (إلا من رحم الله) قال الكسائي: الاستثناء منقطع: أي لكن من رحم الله، وكذا قال
الفراء. وقيل هو متصل، والمعنى: لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين، فإنهم يؤذن لهم في الشفاعة فيشفعون،
ويجوز أن يكون مرفوعا على البدل من مولى الأول، أو من الضمير في ينصرون (إنه هو العزيز الرحيم) أي
الغالب الذي لا ينصر من أراد عذابه الرحيم لعباده المؤمنين. ثم لما وصف اليوم ذكر بعده وعيد الكفار، فقال
(إن شجرت الزقوم طعام الأثيم) شجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم وسماها الشجرة الملعونة، فإذا جاع
أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، وقد مضى الكلام على شجرة الزقوم في سورة الصافات، والأثيم الكثير الإثم.
قال في الصحاح: أثم الرجل بالكسر إثما ومأثما: إذا وقع في الإثم فهو آثم وأثيم وأثوم، فمعنى طعام الأثيم: ذي
الإثم (كالمهل) وهو دردي الزيت وعكر القطران. وقيل هو النحاس المذاب. وقيل كل ما يذوب في النار
(تغلى في البطون كغلي الحميم) قرأ الجمهور تغلى بالفوقية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الشجرة، والجملة خبر ثان
أو حال، أو خبر مبتدأ محذوف: أي تغلى غليا مثل غلي الحميم، وهو الماء الشديد الحرارة. وقرأ ابن كثير وحفص
وابن محيصن وورش عن يعقوب " يغلى " بالتحتية على أن الفاعل ضمير يعود إلى الطعام، وهو في معنى الشجرة،
ولا يصح أن يكون الضمير عائدا إلى المهل لأنه مشبه به، وإنما يغلى ما يشبه بالمهل، وقوله (كغلي الحميم) صفة
مصدر محذوف: أي غليا كغلي الحميم (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) أي يقال للملائكة الذين هم خزنة النار
خذوه: أي الأثيم فاعتلوه، العتل: القود بالعنف، يقال عتله يعتله، إذا جره وذهب به إلى مكروه، وقيل
العتل: أن يأخذ بتلابيب الرجل ومجامعه فيجره، ومنه قول الشاعر يصف فرسا:
578

* نقرعه قرعا ولسنا نعتله * ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا: * حتى ترد إلى عطية تعتل * قرأ
الجمهور " فاعتلوه " بكسر التاء. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بضمها، وهما لغتان (إلى سواء الجحيم) أي
إلى وسطه، كقوله " فرآه في سواء الجحيم " (ثم صبوا فوق رأسه عذاب الحميم) من هي التبعيضية: أي صبوا
فوق رأسه بعض هذا النوع، وإضافة العذاب إلى الحميم للبيان: أي عذاب هو الحميم، وهو الماء الشديد
الحرارة كما تقدم (ذق إنك أنت العزيز الكريم) أي وقولوا له تهكما وتقريعا وتوبيخا: ذق إنك أنت
العزيز الكريم. وقيل إن أبا جهل كان يزعم أنه أعز أهل الوادي وأكرمهم، فيقولون له: ذق العذاب أيها المتعزز
المتكرم في زعمك وفيما كنت تقوله. قرأ الجمهور " إنك " بكسر الهمزة، وقرأ الكسائي وروي ذلك عن علي بفتحها
أي لأنك. قال الفراء: أي بهذا القول الذي قلته في الدنيا، والإشارة بقوله (إن هذا) إلى العذاب (ما كنتم به
تمترون) أي تشكون فيه حين كنتم في الدنيا، والجمع باعتبار جنس الأثيم. ثم ذكر سبحانه مستقر المتقين فقال
(إن المتقين في مقام أمين) أي الذين اتقوا الكفر والمعاصي. قرأ الجمهور " مقام " بفتح الميم، وقرأ نافع وابن عامر
بضمها. فعلى القراءة الأولى هو موضع القيام، وعلى القراءة الثانية هو موضع الإقامة قال الكسائي وغيره. وقال
الجوهري: قد يكون كل واحد منهما بمعنى الإقامة، وقد يكون بمعنى موضع القيام. ثم وصف المقام بأنه أمين
يأمن صاحبه من جميع المخاوف (في جنات وعيون) بدل من مقام أمين، أو بيان له، أو خبر ثان (يلبسون من
سندس وإستبرق) خبر ثان أو ثالث أو حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور، والسندس مارق من
الديباج، والإستبرق ما غلظ منه، وقد تقدم بيانه في سورة الكهف، وانتصاب (متقابلين) على الحال من فاعل
يلبسون: أي متقابلين في مجالسهم ينظر بعضهم إلى بعض، والكاف في قوله (كذلك) إما نعت مصدر محذوف:
أي نفعل بالمتقين فعلا كذلك. أو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي الأمر كذلك (وزوجناهم بحور عين)
أي أكرمناهم بأن زوجناهم بحور عين، والحور جمع حوراء: وهي البيضاء، والعين جمع عيناء: وهي الواسعة العينين.
وقال مجاهد: إنما سميت الحوراء حوراء، لأنه يحار الطرف في حسنها، وقيل هو من حور العين: وهو شدة
بياض العين في شدة سوادها كذا قال أبو عبيدة. وقال الأصمعي: ما أدري ما الحور في العين. قال أبو عمرو:
الحور أن تسود العين كلها مثل أعين الظباء والبقر، قال: وليس في بني آدم حور، وإنما قيل للنساء حور،
لأنهن شبهن بالظباء والبقر. قيل والمراد بقوله (زوجناهم) قرناهم وليس من عقد التزويج، لأنه لا يقال زوجته
بامرأة. وقال أبو عبيدة: وجعلناهم أزواجا لهن كما يزوج البعل بالبعل: أي جعلناهم اثنين اثنين، وكذا قال
الأخفش (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) أي يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه حال كونهم آمنين من التختم
والأسقام والآلام. قال قتادة: آمنين من الموت والوصب والشيطان، وقيل من انقطاع ما هم فيه من النعيم
(لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى) أي لا يموتون فيها أبدا إلا الموتة التي ذاقوها في الدنيا، والاستثناء منقطع:
أي لكن الموتة التي قد ذاقوها في الدنيا كذا قال الزجاج والفراء وغيرهما، ومثل هذه الآية قوله - ولا تنكحوا
ما نكح آباءكم من النساء إلا ما قد سلف - وقيل إن إلا بمعنى بعد، كقولك: ما كلمت رجلا اليوم إلا رجلا
عندك: أي بعد رجل عندك، وقيل هي بمعنى سوى: أي سوى الموتة الأولى. وقال ابن قتيبة: إنما استثنى
الموتة الأولى وهي الدنيا، لأن السعداء حين يموتون يصيرون بلطف الله وقدرته إلى أسباب من الجنة يلقون
الروح والريحان، ويرون منازلهم من الجنة، وتفتح لهم أبوابها، فإذا ماتوا في الدنيا فكأنهم ماتوا في الجنة لاتصالهم
579

بأسبابها ومشاهدتهم إياها، فيكون الاستثناء على هذا متصلا. واختار ابن جرير أن إلا بمعنى بعد، واختار كونها
بمعنى سوى ابن عطية (ووقاهم عذاب الجحيم). قرأ الجمهور " وقاهم " بالتخفيف، وقرأ أبو حيوة بالتشديد
على المبالغة (فضلا من ربك) أي لأجل الفضل منه، أو أعطاهم ذلك عطاء فضلا منه (ذلك هو الفوز العظيم)
أي ذلك الذي تقدم ذكره هو الفوز الذي لا فوز بعده المتناهي في العظم. ثم لما بين سبحانه الدلائل وذكر الوعد
والوعيد، قال (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) أي إنما أنزلنا القرآن بلغتك كي يفهمه قومك، فيتذكروا
ويعتبروا ويعملوا بما فيه، أو سهلناه بلغتك عليك وعلى من يقرؤه لعلهم يتذكرون (فارتقب إنهم مرتقبون)
أي فانتظر ما وعدناك من النصر عليهم وإهلاكهم على يدك فإنهم منتظرون ما ينزل بك من موت أو غيره، وقيل
انتظر أن يحكم الله بينك وبينهم، فإنهم منتظرون بك نوائب الدهر، والمعنى متقارب.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ذق إنك أنت العزيز الكريم) يقول: لست بعزيز ولا
كريم. وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: " لقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل، فقال: إن
الله أمرني أن أقول لك - أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى - قال: فنزع يده من يده وقال: ما تستطيع لي أنت
ولا صاحبك من شئ، لقد علمت أني أمنع أهل بطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر وأذله وعيره
بكلمته وأنزل: ذق إنك أنت العزيز الكريم ". وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله (شجرت الزقوم طعام
الأثيم) قال: المهل. وأخرج عنه أيضا (ذق إنك أنت العزيز الكريم) قال: هو أبو جهل بن هشام.
بحمد الله تعالى تم طبع الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس
وأوله: تفسير سورة الجاثية
580