الكتاب: تفسير البحر المحيط
المؤلف: أبي حيان الأندلسي
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٤٥
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض، شارك في التحقيق ١) د.زكريا عبد المجيد النوقي ٢) د.أحمد النجولي الجمل
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: ١٤٢٢ - ٢٠٠١م
المطبعة: لبنان/ بيروت - دار الكتب العلمية
الناشر: دار الكتب العلمية
ردمك:
ملاحظات:

2 (* (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولاكن البر من ءامن بالله واليوم الا خر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسآئلين وفي الرقاب وأقام الصلواة وءاتى الزكواة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأسآء والضراء وحين البأس أولائك الذين صدقوا وأولائك هم المتقون * ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والا نثى بالا نثى فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأدآء إليه بإحسان ذالك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذالك فله عذاب أليم * ولكم في القصاص حيواة ياأولي الألباب لعلكم تتقون * كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والا قربين بالمعروف حقا على المتقين * فمن بدله بعدما سمعه فإنمآ إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم * فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) *)) 2
قبل: ظرف مكان، تقول: زيد قبلك. وشرح المعنى: أنه في المكان الذي هو مقابلك فيه. وقد يتسع فيه فيكون بمعنى: العندية المعنوية. تقول لي: قبل زيد دين. الرقاب: جمع رقبة، والرقبة: مؤخرالعنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم. ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال: أعتق الله عنقه، لأنها لما سميت رقبة، كانت كأنها تراقب العذاب. ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رقوب، لأجل مراعاتها موت ولدها. قال في المنتخب: وفعال جمع يطرد لفعله، سواء كانت اسما نحو: رقبة ورقاب، أو صفة نحو: حسنة وحسان، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته. البأساء: اسم مشتق من البؤس، إلا أنه مؤنث وليس بصفة، وقيل: هو صفة أقيمت مقام الموصوف. والبؤس والبأساء: الفقر، يقال منه: بئس الرجل، إذا افتقر، قال الشاعر:
* ولم يك في بؤس إذا بات ليلة
*
يناغي غزالا ساجي الطرف أكحلا
*
والبأس: شدة القتال، ومنه حديث علي: كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم). ويقال: بؤس الرجل، أي شجع. الضراء: من الضر، فقيل: ليس بصفة، وقيل: هو صفة أقيمت مقام الموصوف. وفي الحديث: (وأعوذ بك من ضر أو مضرة). وقال أهل اللغة: الضراء، بالفتح: ضد النفع، والضر، بالضم الزمانة. القصاص: مصدر قاص يقاص مقاصة وقصاصا؛ نحو: قاتل يقاتل مقاتلة وقتالا. والقصاص: مقابلة الشيء بمثله، ومنه: قتل من قتل بالمقتول، وأصله من قصصت الأثر: أي اتبعته، لأنه اتباع بدم المقتول، ومنه قص الشعر: اتباع أثره. الحر: معروف، تقول: حر الغلام يحر حرية فهو حر، وجمعه، أعني فعلا الصفة على أحرار محفوظ. وقالوا مروا مرارا، فإن كانت فعلا صفة للآدميين، جمعت الواو والنون، وكما أن أحرارا محفوظ في الجمع، كذلك حرائر محفوظ في جمع حرة مؤنثة. القتلى: جمع
3

كانت في أهل الكتاب، فقد جرى ذكرهم بأقبح الذكر من كتمانهم ما أنزل الله واشترائهم به ثمنا قليلا، وذكر ما أعد لهم، ولم يبق لهم مما يظهرون به شعار دينهم إلا صلاتهم، وزعمهم أن ذلك البر، فرد عليهم بهذه الآية. وإن كانت في المؤمنين فهو نهي لهم أن يتعلقوا من شريعتهم بأيسر شيء كما تعلق أهل الكتابين، ولكن عليهم العمل بجميع ما في طاقتهم من تكاليف الشريعة على ما بينها الله تعالى.
وقرأ حمزة، وحفص * (ليس البر) * بنصب الراء، وقرأ باقي السبعة برفع الراء.
وقال الأعمش في مصحف عبد الله: لا تحسبن البر، وفي مصحف أبي، وعبد الله أيضا: ليس البر بأن تولوا، فمن قرأ بنصب البر جعله خبر ليس، وأن تولوا في موضع الاسم، والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدي، وهذه القراءة من وجه أولى، وهو أن جعل فيها اسم ليس: أن تولوا، وجعل الخبر البر، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرف بالألف واللام، وقراءة الجمهور أولى، من وجه، وهو أن توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل، وقد ذهب إلى المنع من ذلك ابن درستويه تشبيها لها بما.. أراد الحكم عليها بأنها حرف، كما لا يجوز توسيط خبر ما، وهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبورود ذلك في كلام العرب.
قال الشاعر:
* سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم
*
وليس سواء عالم وجهول
*
وقال الآخر.
* أليس عظيما أن تلم ملمة
*
وليس علينا في الخطوب معول
*
وقراءة: بأن تولوا، على زيادة الباء في الخبر كما زادوها في اسمها إذا كان ان وصلتها. قال الشاعر:
* أليس عجيبا بأن الفتى
*
يصاب ببعض الذي في يديه
*
أدخل الباء على اسم ليس، وإنما موضعها الخبر، وحسن ذلك في البيت ذكر العجيب مع التقرير الذي تفيده الهمزة، وصار معنى الكلام: أعجب بأن الفتى، ولو قلت أليس قائما بزيد لم يجز.
والبر اسم جامع للخير، وتقدم الكلام فيه، وانتصاب قبل على الظرف وناصبه تولوا، والمعنى: أنهم لما أكثروا الخوض في أمر القبلة حتى وقع التحويل إلى الكعبة.
وزعم كل من الفريقين أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله عليهم، وقيل: ليس البر فيما أنتم عليه، فإنه منسوخ خارج من البر.
وقيل: ليس البر العظيم الذي يجب أن يذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البر أمر القبلة.
وقال قتادة قبلة النصارى مشرق بيت المقدس لأنه ميلاد عيسى على نبينا وعليه السلام لقوله تعالى: * (مكانا شرقيا) * واليهود مغربه والآية رد على الفريقين.
* (ولاكن البر من ءامن بالله) * البر: معنى من المعاني، فلا يكون خبره الذوات إلا مجازا، فاما أن يجعل: البر، هو نفس من آمن، على طريق المبالغة، قاله أبو عبيدة، والمعنى: ولكن البار. وإما أن يكون على حذف من الأول، أي: ولكن ذا البر، قاله الزجاج. أو من الثاني أي: بر من آمن، قاله قطرب، وعلى هذا خرجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: * (ولاكن البر من ءامن) * وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله. انتهى.
وإنما اختار
4

هذا سيبويه لأن السابق، إنما هو نفي كون البر هو تولية الوجه قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدرك إنما هو من جنس ما ينفى، ونظير ذلك: ليس الكرم أن تبذل درهما، ولكن الكرم بذل الآلاف، فلا يناسب: ولكن الكريم من يبذل الآلاف إلا إن كان قبله: ليس الكريم بباذل درهم.
وقال المبرد: لو كنت ممن يقرأ القرآن ولكن البر بفتح الباء، وإنما قال ذلك لأنه يكون اسم فاعل، تقول: بررت أبر، فأنا بر وبار، قيل: فبني تارة على فعل، نحو: كهل، وصعب، وتارة على فاعل، والأولى ادعاء حذف الألف من البر، ومثله: سر، وقر، ورب، أي: سار، وقار، وبار، وراب.
وقال الفراء: من آمن، معناه الإيمان لما وقع من موقع المصدر جعل خبرا للأول، كأنه قال: ولكن البر الإيمان بالله، والعرب تجعل الاسم خبرا للفعل، وأنشد الفراء:
* لعمرك ما الفتيان أن تنبت اللحى
*
ولكنما الفتيان كل فتى ندب
*
جعل نبات اللحية خبرا للفتى، والمعنى: لعمرك ما الفتوة أن تنبت اللحى، وقرأ نافع، وابن عامر: ولكن بسكون النون خفيفة، ورفع البر، وقرأ الباقون بفتح النون مشددة ونصب البر، والإعراب واضح، وقد تقدم نظير القراءتين في * (ولاكن الشياطين كفروا) *.
* (واليوم الاخر والملئكة والكتاب والنبيين) * ذكر في هذه الآية إن كان الإيمان مصرحا بها كما جاء في حديث جبريل حين سأله عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره) ولم يصرح في الآية بالإيمان بالقدر، لأن الإيمان بالكتاب يتضمنه، ومضمون الآية: ان البر لا يحصل باستقبال المشرق والمغرب بل بمجموع أمور.
أحدها: الإيمان بالله، وأهل الكتاب أخلوا بذلك، أما اليهود فللتجسيم ولقولهم: * (عزيز * عبد الله) * وأما النصارى فلقولهم: * (المسيح ابن الله) *.
الثاني: الإيمان بالله واليوم الآخر، واليهود أخلوا به حيث قالوا: * (لن تمسنا النار إلا أياما) * والنصارى أنكروا المعاد الجسماني.
والثالث: الإيمان بالملائكة، واليهود عادوا جبريل.
والرابع: الإيمان بكتب الله، والنصارى واليهود أنكروا القرآن.
والخامس: الإيمان بالنبيين، واليهود قتلوهم، وكلا الفريقين من أهل الكتاب طعنا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
والسادس: بذل الأموال على وفق أمر الله، واليهود ألقوا الشبه لأخذ الأموال.
والسابع: إقامة الصلاة والزكاة، واليهود يمتنعون منها.
والثامن: الوفاء بالعهد، واليهود نقضوه.
وهذا النفي السابق، والاستدراك، لا يحمل على ظاهرهما، لأنه نفي أن يكون التوجه إلى القبلة برا، ثم حكم بأن البر أمور.
أحدها: الصلاة، ولا بد فيها من استقبال القبلة، فيحمل النفي للبر على نفي مجموع البر، لا على نفي أصله، أي: ليس البر كله هو هذا، ولكن البر هو ما ذكر،
ويحمل على نفي أصل البر، لأن استقبالهم المشرق والمغرب بعد النسخ كان إثما وفجورا، فلا يعد في البر، أو لأن استقبال القبلة لا يكون برا إذا لم تقارنه معرفة الله تعالى، وإنما يكون برا مع الإيمان.
وقدم الملائكة والكتب على الرسل، وإن كان الإيمان بوجود الملائكة وصدق الكتب لا يحصل إلا بواسطة الرسل، لأن ذلك اعتبر فيه الترتيب الوجودي، لأن الملك يوجد أولا ثم يحصل بوساطة تبليغه نزول الكتب، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول، فروعي الترتيب الوجودي الخارجي، لا الترتيب الذهني.
وقدم الإيمان بالله واليوم الآخر على الإيمان بالملائكة والكتب والرسل، لأن المكلف له مبدأ، ووسط، ومنتهى، ومعرفة المبدأ والمنتهى هو المقصود بالذات، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة، وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة: الملائكة الآتين بالوحي، والموحى به: وهو الكتاب، والموحى إليه: وهو الرسول.
وقدم الإيمان على أفعال الجوارح، وهو: إيتاء المال والصلاة والزكاة لأن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح، ولأن أعمال الجوارح النافعة عند الله تعالى إنما تنشأ عن الإيمان.
وبهذه الخمسة التي هي متعلق الإيمان، حصلت حقيقة الإيمان، لأن الإيمان بالله يستدعي الإيمان بوجوده وقدمه وبقائه وعلمه بكل المعلومات، وتعلق قدرته بكل الممكنات، وإرادته وكونه سميعا وبصيرا متكلما، وكونه منزها عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية، والإيمان باليوم الآخر يحصل به العلم بما يلزم، من
5

أحكام: المعاد، والثواب، والعقاب، وما يتصل بذلك. والإيمان بالملائكة يستدعي صحة أدائهم الرسالة إلى الأنبياء وغير ذلك من أحوال الملائكة. والإيمان بالكتاب يقتضي التصديق بكتب الله المنزلة. والإيمان بالنبيين يقتضي التصديق بصحة نبوتهم وشرائعهم.
قال الراغب: فإن قيل لم قدم هنا ذكر اليوم الآخر وأخره في قوله.
* (ومن يكفر بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الاخر) * قيل: يجوز ذلك، مع أن الواو لا تقتضي ترتيبا من أجل أن الكافر لا يعرف الآخرة، ولا يعنى بها وهي أبعد الأشياء عن الحقائق عنده، فأخر ذكره. ولما ذكر حال المؤمنين، والمؤمن أقرب الأشياء إليه أمر الآخرة، وكل ما يفعله ويتحراه فإنه يقصد به وجه الله تعالى، ثم أمر الآخرة، فقدم ذكره تنبيها على أن البر مراعاة الله ومراعاة الآخرة ثم مراعاة غيرهما. انتهى كلامه..
* (ليس البر أن تولوا) * إيتاء المال هنا قيل: كان واجبا، ثم نسخ بالزكاة، وضعف بأنه جمع هنا بينه وبين الزكاة.
وقيل: هي الزكاة، وبين بذلك مصارفها، وضعف بعطف الزكاة عليه، فدل على أنه غيرها.
قيل: هي نوافل الصدقات والمبار، وضعف بقوله آخر الآية * (أولئك هم المتقون) * وقف التقوى عليه، ولو كان ندبا لما وقف التقوى، وهذا التضعيف ليس بشيء لأن المشار إليهم بالتقوى من اتصف بمجموع الأوصاف السابقة المشتملة على المفروض والمندوب، فلم يفرد التقوى، ثم اتصف بالمندوب فقط ولا وقفها عليه، بل لو جاء ذكر التقوى لمن فعل المندوب ساغ ذلك، لأنه إذا أطاع الله في المندوب فلأن يطيعه في المفروض أحرى وأولى.
وقيل: هو حق واجب غير الزكاة.
قال الشعبي: إن في المال حقا سوى الزكاة وتلا هذه الآية.
وقيل: رفع الحاجات الضرورية مثل إطعام الطعام للمضطر، فأما ما روي على أن الزكاة تنحت كل حق، فيحمل على الحقوق المقدرة. أما ما لا يكون مقدرا فغير منسوخ، بدليل وجوب التصدق عند الضرورة، ووجوب النفقة على الأقارب وعلى المملوك، وذلك كله غير مقدر.
* (على حبه) * متعلق * (* بآتى) * وهو حال، والمعنى: أنه يعطي المال محبا له، أي: في حال محبته للمال واختياره وإيثاره، وهذا وصف عظيم، أن تكون نفس الإنسان متعلقة بشي تعلق المحب بمحبوبه، ثم يؤثر به غيره ابتغاء وجه الله، كما جاء: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، والظاهر أن الضمير في * (على حبه) * عائد على المال لأنه أقرب مذكور، ومن قواعد النحويين أن الضمير لا يعود على غير الأقرب إلا بدليل، والظاهر أن المصدر فاعله المؤتي، كما فسرناه، وقيل: الفاعل المؤتون، أي حبهم له واحتياجهم إليه وفاقتهم، وإلى الأول ذهب ابن عباس، أي: أعطى المال في حال صحته ومحبته له فآثر به غيره، فقول ابن الفضل: إنه أعاده على المصدر المفهوم من آتى، أي: على حب الإيتاء، بعيد من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فإنه يعود على غير مصرح به، وعلى أبعد من المال، وأما المعنى فلأن من فعل شيئا وهو يحب أن يفعله لا يكاد يمدح على ذلك، لأن في فعله ذلك هوى نفسه ومرادها، وقال زهير:
* تراه إذا ما جئته متهللا
*
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
6

وقول من أعاده على الله تعالى أبعد، لأنه أعاده على لفظ بعيد مع حسن عوده على لفظ قريب، وفي هذه الأوجه الثلاثة يكون المصدر مضافا للفاعل، وهو أيضا بعيد.
قال ابن عطية: ويجيء قوله * (على حبه) * اعتراضا بليغا أثناء القول انتهى كلامه.
فإن كان أراد بالاعتراض المصطلح عليه في النحو فليس كذلك، لأن شرط ذلك أن تكون جملة، وأن لا يكون لها محل من الإعراب، وهذه ليست بجملة، ولها محل من الإعراب. وإن أراد بالاعتراض فصلا بين المفعولين بالحال فيصح، لكن فيه إلباس، فكان ينبغي أن يقول فصلا بليغا بين أثناء القول.
* (ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب) * أما ذوو القربى فالأولى حملها على العموم، وهو: من تقرب إليك بولادة، ولا وجه لقصر ذلك على الرحم المحرم، كما ذهب إليه قوم، لأن الحرمة حكم شرعي، وأما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب، وإن كان من يطلق عليه ذلك يتفاوت في القرب والبعد. وقد رويت أحاديث كثيرة في صلة القرابة، وقد تقدم لنا الكلام على ذوي القربى، واليتامى، والمساكين، في قوله * (وبالوالدين إحسانا وذى القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنا) * فأغنى عن اعادته.
و * (ذوى القربى) * وما بعده من المعطوفات هو المفعول الأول على مذهب الجمهور، و * (المال) * هو المفعول الثاني.
ولما كان المقصود الأعظم هو إيتاء المال على حبه قدم المفعول الثاني اعتناء به لهذا المعنى.
وأما على مذهب السهيلي فإن * (المال) * عنده هو المفعول الأول، و * (ذوى القربى) * وما بعده هو المفعول الثاني، فأتى التقديم على أصله عنده. و * (اليتامى) * معطوف على * (ذوى القربى) * حمله بعضهم على حذف أي ذوي اليتامى، قال: لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه، ومتى فعل ذلك أخطأ، فإن كان مراهقا عارفا بمواقع حقه، والصدقة تؤكل أو تلبس، جاز دفعها إليه، وهذا على قول من خص اليتيم بغير البالغ، وأما من البالغ والصغير عنده ينطلق عليهما يتيم، فيدفع للبالغ ولولي الصغير. انتهى.
ولا يحتاج إلى تقدير هذا المضاف لصدق: آتيت زيدا مالا، وإن لم يباشر هو الأخذ بنفسه بل بوكيله * (وابن السبيل) * الضعف، قاله قتادة، وابن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج؛ أو المسافر يمر عليك من بلد إلى بلد، قاله. مجاهد، وقتادة أيضا، والربيع بن أنس.
وسمي ابن السبيل بملازمته السبيل، وهو الطريق، كما قيل لطائر يلازم الماء ابن ماء، ولمن مرت عليه دهور: ابن الليالي والأيام.
وقيل: سمي ابن سبيل لأن السبيل تبرزه شبه ابرازها له بالولادة، فأطلقت عليه البنوة مجازا والمنقطع في بلد دون بلده، وبين البلد الذي انقطع فيه وبين بلده مسافة بعيدة، قاله أبو حنيفة، وأحمد، وابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى؛ أو الذي يريد سفرا ولا يجد نفقة، قاله الماوردي، وغيره عن الشافعي.
والسائلين: هم المستطعمون، وهو الذي تدعوه الضرورة إلى السؤال في سد خلته، إذ لا تباح له المسألة إلا عند ذلك.
ومن جعل إيتاء المال لهؤلاء ليس هو الزكاة، أجاز ايتاءه للمسلم والكافر، وقد ورد في الحديث ما يدل على ذم السؤال ويحمل على غير حال الضرورة.
* (وفي الرقاب) *: هم المكاتبون يعانون في فك رقابهم، قاله علي وابن عباس، والحسن، وابن زيد، والشافعي.
أوعبيد: يشترون ويعتقون، قاله مجاهد، ومالك، وأبو
7

عبيد، وأبو ثور. وروي عن أحمد القولان السابقان.
أو الأسارى يفدون وتفك رقابهم من الأسر؛ وقيل: هؤلاء الأصناف الثلاثة، وهو الظاهر. فإن كان هذا الإيتاء هو الزكاة فاختلفوا، فقيل: لا يجوز إلا في إعانة المكاتبين، وقيل: يجوز في ذلك، وفيمن يشتريه فيعتقه. وإن كان غير الزكاة فيجوز الأمران، وجاء هذا الترتيب فيمن يؤتي المال تقديما، ألاولى فألاولى، لأن الفقير القريب أولى بالصدقة من غيره للجمع فيها بين الصلة والصدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليها، ولذلك يستحق بها الإرث، فلذلك قدم ثم أتبع باليتامى لأنه منقطع الحيلة من كل الوجوه لصغره، ثم أتبع بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم، ثم بابن السبيل لأنه قد تشتد حاجته في الرجوع إلى أهله، ثم بالسائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره.
قال الراغب: اختير هذا الترتيب لما كان أولى من يتفقد الإنسان لمعروفه أقاربه، فكان تقديمه أولى، ثم عقبه باليتامى، والناس في المكاسب ثلاثة: معيل غير معول، ومعول معيل، ومعول غير معيل. واليتيم: معول غير معيل، فمواساته بعد الأقارب أولى. ثم ذكر المساكين الذين لا مال لهم حاضرا ولا غائبا، ثم ذكر ابن السبيل الذي يكون له مال غائب، ثم ذكر السائلين الذين منهم صادق وكاذب، ثم ذكر الرقاب الذين لهم أرباب يعولونهم فكل واحد ممن أخر ذكره أقل فقرا ممن قدم ذكره عليه. انتهى كلامه.
وأجمع المسلمون على أنه إذا نزل بالمسلمين حاجة وضرورة بعد أداء الزكاة، فإنه يجب صرف المال إليها.
وقال مالك: يجب على الناس فك أسراهم وإن استغرق ذلك أموالهم، واختلفوا في اليتيم: هل يعطى من صدقة التطوع بمجرد اليتم على جهة الصلة وإن كان غنيا؟ أو لا يعطي حتى يكون فقيرا؟ قولان لأهل العلم.
* (ليس البر أن تولوا) *: تقدم الكلام على نظير هاتين الجملتين، فإن كان أريد بالإيتاء السابق الزكاة كان ذكر هذا توكيدا، وإلا فقد تقدمت الأقاويل فيه إذا لم يرد به الزكاة، هذا هو الظاهر، لأن مصرف الزكاة فيه أشياء لم تذكر في مصرف هذا الإيتاء، وقد تقدم القول في تقديم الصلاة على الزكاة، وهو. أن الصلاة أفضل العبادات البدنية، وتكرر في كل يوم وليلة، وتجب على كل عاقل بالشروط المذكورة، فلذلك قدمت. وعطف قوله: * (ليس البر أن تولوا) * على صلة من، وصلة من، آمن وآتى، وتقدمت صلة من التي هي: آمن، لأن الإيمان أفضل الأشياء المتعبد بها، وهو رأس الأعمال الدينية، وهو المطلوب الأول. وثنى بإيتاء المال من ذكر فيه، لأن ذلك من آثر الأشياء عند العرب، ومن مناقبها الجلية، ولهم في ذلك أخبار وأشعار كثيرة، يفتخرون بذلك حتى هم يحسنون للقرابة وإن كانوا مسئين لهم، ويحتملون منهم ما لا يحتملون من غير القرابة، ألا ترى إلى قول طرفة العبدي:
* فمالى أراني وابن عمي مالكا
*
متى أدن منه ينأ عني ويبعد
ويكفي من ذلك في الإحسان إلى ذوي القربى قصيدة المقنع الكندي التي أولها:
يعاتبني في الدين قومي وإنما
ديوني في أشياء تكسبهم حمدا
*
ومنها:
* لهم جل مالي أن تتابع لي غنى
*
وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
8

وكانوا يحسنون إلى اليتامى ويلطفون بهم، وفي ذلك يقول بعضهم:
إذا بعض السنين تعرقتنا
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم
*
ويفتخرون بالإحسان إلى المساكين وابن السبيل من الأضياف والمسافرين، كما قال زهير بن أبي سلمى:
* على مكثريهم رزق من يعتريهم
*
وعند المقلين السماحة والبذل
*
وقال المقنع
وإني لعبد الضعف ما دام نازلا
وقال آخر
* ورب ضيف طرق الحي سرى
*
صادف زادا وحديثا ما أشتهي
*
وقال مرة بن محكان:
* لا تعذليني على إتيان مكرمة
*
ناهبتها إذ رأيت الحمد منتهبا في عقر ناب ولا مال أجود به والحمد خير لمن ينتابه عقبا
*
وقال إياس بن الأرت:
* وإني لقوال لعافي: مرحبا
*
وللطالب المعروف: إنك واجده
* وإني لما أبسط الكف بالند
*
إذا شنجت كف البخيل وساعده
*
فلما كان ذلك من شيمهم الكريمة جعل ذلك من البر الذي ينطوي عليه المؤمن، وجعل ذلك مقدمة لإيتاء الزكاة، يحرص عليها بذلك، إذ من كان سبيله إنفاق ماله على القرابة واليتامى والمساكين، وإبناء السبيل على سبيل المكرمة، فلأن ينفق عليه ما أوجب الله عليه إنفاقه من الزكاة التي هي طهرته ويرجو بذلك الثواب الجزيل عنده أوكد وأحب إليه.
* (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) *: والموفون معطوف على من آمن، وقيل: رفعه على إضمار، وهم الموفون، والعامل في إذا الموفون، والمعنى أنه لا يتأخر الإيفاء بالعهد عن وقت المعاهدة، وقد تقدم الكلام على الإيفاء والعهد في قوله: * (وأوفوا بعهدى أوف بعهدكم) * وفي مصحف عبد الله والموفين، نصبا على المدح.
وقرأ الجحدري،
9

بعهودهم على الجمع.
* (والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس) *: انتصب: والصابرين على المدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو.
وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: والصابرون، عطفا على: الموفون، وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، والأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف، الإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل، لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجها واحدا و جملة واحدة. انتهى كلامه.
قال الراغب: وإنما لم يقل: ووفى، كما قال: وأقام، لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصلة متى طالت كان الأحسن أن يعطف على الموصول دون الصلة لئلا يطول ويقبح، والثاني: أنه ذكر في الأول ما هو داخل في حيز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها، والحكمة العقلية تقضي العدالة دون الجور، ولما ذكر الوفاء بالعهد، وهو مما تقضي به العقود المجردة، صار عطفه على الأول أحسن، ولما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعا للفضائل، إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ، غير إعرابه تنبيها على هذا المقصد. انتهى كلامه.
واتفقوا على تفسير قوله * (حين * البأس) * أنه: حالة القتال.
واختلف المفسرون في البأساء والضراء، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر وان الضراء الزمانة في الجسد، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك.
وقيل: البأساء: القتال، والضراء: الحصار، ذكره الماوردي. وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب: استوعب أنواع الصبر لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله، وهو: البأساء، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم، وهو: الضراء في مدافعة مؤذية، وهو: البأساء. انتهى كلامه.
وعدى الصابرين إلى البأساء والضراء بفي لأنه لا يمدح الإنسان على ذلك إلا إذا صار له الفقر والمرض كالظرف، وأما الفقر وقتا ما، أو المرض وقتا ما، فلا يكاد يمدح الإنسان بالصبر على ذلك لأن ذلك قل أن يخلو منه أحد. وأما القتال فعدى الصابرين إلى ظرف زمانه لأنها حالة لا تكاد تدوم، وفيها الزمان الطويل في أغلب أحوال القتال، فلم تكن حالة القتال تعدى إليها بفي المقتضية للظرفية الحسية التي نزل المعنى المعقول فيها، كالجرم المحسوس، وعطف هذه الصفات في هذه الآية بالواو يدل على أن من شرائط البر استكمالها وجمعها، فمن قام بواحدة منها لم يوصف بالبر، ولذلك خص بعض العلماء هذا بالأنبياء عليهم السلام، قال: لأن غيرهم لا يجتمع فيه هذه الأوصاف كلها، وقد تقدم الكلام على ذلك.
* (أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * أشار: بأولئك، إلى الذين جمعوا تلك الأوصاف الجلية، من الاتصاف بالإيمان وما بعده، وقد تقدم لنا أن اسم الإشارة يؤتى به لهذا المعنى، أي: يشار به إلى من جمع عدة أوصاف سابقة، كقوله: * (أولائك على هدى من ربهم) * والصدق هنا يحتمل أن يراد به الصدق في الأقوال فيكون مقابل الكذب والمعنى: أنهم يطابق أقوالهم ما انطوت عليه قلوبهم من الإيمان والخبر فإذا أخبروا بشيء كان صدقا لا يتطرق إليه الكذب، ومنه: (لا يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صادقا، ولا يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا).
ويحتمل أن يراد بالصدق: الصدق في الأحوال، وهو مقابل الرياء أي: أخلصوا أعمالهم لله تعالى دون رياء ولا سمعة، بل قصدوا وجه الله تعالى، وكانوا عند الظن بهم، كما تقول صدقني الرمح، أي: وجدته عند اختباره كما اختار وكما أظن به، والتقوى هنا اتقاء عذاب الله بتجنب معاصيه، وامتثال طاعته.
وتنوع هنا
10

الخبر عن أولئك، فأخبر عن أولئك الأول: بالذين صدقوا، وهو مفصول بالفعل الماضي لتحقق اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم وثبت واستقر، واخبر عن أولئك الثاني: بموصول صلته اسم الفاعل ليدل على الثبوت، وأن ذلك وصف لهم لا يتجدد، بل صار سجية لهم ووصفا لازما، ولكونه أيضا وقع فاصلة آية، لأنه لو كان فعلا ماضيا لما كان يقع فاصلة.
* (المتقون يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) *: روى البخاري عن ابن عباس قال: كان في إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية. فقال الله تعالى
هذه الآية.
وقال قتادة والشعبي: نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيدا، ولا بالمرأة إلا رجلا.
وقال السدي، وأبو مالك: نزلت في فريقين أحدهما مسلم، والآخر كافر معاهد، كان بينهما على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) قتال، فقتل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد، فنزلت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) دية الرجل قصاصا بدية الرجل، ودية المرأة قصاصا بدية المرأة، ودية العبد قصاصا بدية العبد. ثم أصلح بينهما.
وقيل: نزلت في حيين من العرب اقتلوا قبل الإسلام، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض. قال ابن جبير: هما الأوس والخزرج. وقال مقاتل بن حيان: هما قريظة والنضير، وكان لأحدهما طول على الأخرى في الكثرة والشرف، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية، فرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فنزلت، وأمرهم بالمساواة فرضوا، وفي ذلك قال قائلهم:
* هم قتلوا فيكم مظنة واحد
*
ثمانية ثم استمروا فأربعوا
*
وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له، وقال له بعض من يذب عنهم: سل في قتل شاس، فقال: إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهن، فقالوا: ما هن؟ فقال: تحيون شاسا، أو تملؤون داري من نجوم السماء، أو تدفعون لي غنيا بأسرها فأقتلها، ثم لا أرى أني أخذت عوضا.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها إنه لما حلل ما حلل قبل، وحرم ما حرم، ثم اتبع بذكر من أخذ مالا من غير وجهه، وأنه ما يأكل في بطنه إلا النار، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ يذكر تحريم الدماء، ويستدعي حفظها وصونها، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها، ونبه على جواز أخذ مال بسببها، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه، وكان تقديم تبيين ما أحل الله وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول، لأن به قوام البنية، وحفظ صورة الإنسان.
ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة، لأن من كان مؤمنا يندر منه وقوع القتل، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم، ونبه أيضا على أنه، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر، فليس ذلك مخرجا له عن البر، ولا عن الإيمان، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال: * (المتقون يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) *.
وأصل الكتابة: الخط الذي
11

يقرأ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات، أي: فرض وأثبت، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه.
وقيل: هو على حقيقته، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ، وسبق به القضاء.
وقيل: معنى كتب: أمر، كقوله: * (ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم) * أي: التي أمرتم بدخولها.
وقيل: يأتي كتب بمعنى جعل، ومنه * (أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان) * * (فسأكتبها للذين يتقون) * وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب، * (وفى * القتلى) * في هنا للسببية، أي: بسبب القتلى، مثل: (دخلت امرأة النار في هرة). والمعنى: أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه، أو يكون ذلك خطابا مع القاتل، والتقدير، يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص، وذلك أنه يجب على القاتل، إذا أراد الولي قتله، أن يستسلم لأمر الله وينقاد لقصاصه المشروع، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق، فإن لهما الهرب من الحد، ولهما أن يستترا بستر الله، ولهما أن لا يعترفا ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه، وأن لا يتعدى على غيره، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضي الولي بدية أو عفو، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن، وأما إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص.
قال الراغب: فان قيل: على من يتوجه هذا الوجوب؟ قيل على الناس كافة، فمنهم من يلزمه تسليم النفس، وهو القاتل، ومنهم من يلزمه استيفاؤه، وهو الإمام إذا طلبه الولي، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدى، بل يقتص أو يأخذ الدية، والقصد بالآية منع التعدي، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدون في القتل، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلا بقتل حر. اه كلامه.
وتلخص في قوله: * (المتقون يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) * ثلاثة أقوال.
أحدها: أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم. الثاني: أنهم القاتلون. الثالث: أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه.
وقد اختلف في هذه الآية، أهي ناسخة أو منسوخة؟ فقال الحسن: نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية
نصف الدية، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه،. وإن كان قاتل الرجل امرأة، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل، وإن شاؤوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها. قال: فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه. اه. ولا يكون هذا نسخا، لأن فعلهم ذلك ليس حكما من أحكام الله فينسخ بهذه الآية.
وقال ابن عباس: هي منسوخة بآية المائدة، وسيأتي الكلام في هذا.
ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال: * (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) *، واختلفوا في دلالة هذه الجمل، فقيل: يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة، فلا يكون مشروعا إلا بين الحرين، وبين العبدين، وبين الأنثيين، فالألف واللام تدل على الحصر، كأنه
12

قيل: لا يؤخذ الحر إلا بالحر، ولا يؤخذ العبد إلا بالعبد، ولا تؤخذ الأنثى إلا بالأنثى.
روي معنى هذا عن ابن عباس، وأن ذلك نسخ بآية المائدة، وروي عنه أيضا أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة.
وممن ذهب إلى أنها منسوخة. ابن المسيب، والنخعي، والشعبي، وقتادة، والثوري.
وقيل: لا تدل على الحصر، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكورين، ألا ترى أن عموم: * (والانثى بالانثى) * تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة فلو كان قوله: * (الحر بالحر والعبد بالعبد) * مانعا من ذلك لتصادم العمومان.
وقوله: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * جملة مستقلة بنفسها، وقوله: * (الحر بالحر) * ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات.
وقال مالك: أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس الذكر والأنثى سواء فيه، وأعيد ذكر الأنثى توكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية.
وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا، وذكر أنثى، أو أنثى ذكرا. وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة. وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد، وإن شاء استحيي وأخذ قيمة العبد.
وقد أنكر هذا عن علي والحسن، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلم حرا بمحدد، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه، وهو قول عثمان البتي، قال: إذا قتل ابنه عمدا قتل به.
وقال مالك: إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به، وإن قتله يرمي بشيء أو يضرب، ففي مذهب مالك قولان: أحدهما: يقتل، والآخر: لا يقتل.
وقال عامة العلماء: لا يقتل الوالد بولده، وعليه الدية فيما له، قال بذلك: أبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي، وسووا بين الأب والجد، وروي ذلك عن عطاء ومجاهد.
وقال الحسن بن صالح: يقاد الجد بابن الابن، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه، ولا يجيز شهادة الأب لابنه، وظاهر قوله: * (الحر بالحر) * قتل الابن بابيه، والظاهر أيضا قتل الجماعة بالواحد، وصح ذلك عن عمر وعلي، وهو قول أكثر أهل العلم.
وقال أحمد: لا تقتل الجماعة بالواحد، والظاهر أيضا قتل من يجب عليه القتل لو انفرد إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطىء والصبي والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه.
وقال أبو حنيفة: لا قصاص على واحد منهما وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله والصبي والمخطىء والمجنون على عاقلته، وهو قول الحسن بن صالح.
وقال الأوزاعي: على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية.
وقال الشافعي: على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلا عبدا، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانيا، وإن
13

شاركه قاتل خطا فعلى العامد نصف الدية، وجناية المخطىء على عاقلته.
وقال ابن المسيب، وقتادة، والنخعي، والشعبي، والثوري، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد يقتل الحر بالعبد.
وقال مالك، والليث، والشافعي؛ لا يقتل به، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربي. وقال أبو حنيفة: يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة، والثوري، والأوزاعي، والشافعي: لا يقتل به. قال مالك والليث: إن قتله غيلة قتل به وإلا لم يقتل به وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر.
والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل، من مثقل حجر، أو خشبة، أو عصا، أو شبه ذلك مما يقتل غالبا، وهو مذهب مالك. والشافعي، والجمهور.
وقال أبو حنيفة: لا يقتل إذا قتل بمثقل.
والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل وقال: أبو حنيفة، ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: لا يقتل إلا بالسيف. وقال ابن الغنيم، عن مالك: إن قتل بحجر، أو عصا، أو نار أو تغريق قبل به، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت، وإن زاد على فعل القاتل.
وروي ابن منصور عن أحمد أنه: يقتل بمثل الذي قتل به، ونقل عن الشافعي: أنه إذا قتل بخشب، أو بخنق قتل بالسيف، وروي عنه أيضا أنه: إن ضربه بحجر حتى
مات فعل به مثل ذلك، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة.
وقال ابن شبرمة: يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون: يجزي عن ذلك كله السيف. قال: فإن غمسه في الماء حتى مات، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت.
والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله: * (في القتلى) * وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر. وهو: أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس وقال ابن المسيب، والنخعي، وقتادة، والحكم وابن أبي ليلى: القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات، وروي ذلك عن ابن مسعود، وقال الليث: يقتص للحر من العبد، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات. وقال الشافعي: من جرى عليه، القصاص في النفس جرى عليه في الجراح، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس.
* (والانثى بالانثى) *. واتفقوا على ترك ظاهرها، وأجمعوا، كما تقدم ذكره، على قتل الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، إلا خلافا شاذا عن الحسن البصري، وعطاء، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة.
وروي أن عمر قتل نفرا من صنعاء بامرأة، والمرأة بالرجل وبالعبد، والعبد بالحر، وقد وهم الزمخشري في نسبته إلى مذهب مالك والشافعي أن الذكر لا يقتل بالأنثى، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها.
وقال عثمان البتي: إذا قتلت امرأة رجلا قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء.
واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء، فذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلا في الأنفس، وذهب مالك،
14

والأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، والليث، والشافعي، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها، إلا أن الليث قال: إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه.
وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر، وهي ذوات ابتدىء بها، والجار والمجرور أخبار عنها، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية، فليس ذلك على حد قولهم: زيد بالبصرة، وإنما هي للسبب، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلا في مثل هذا، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدم القصاص في القتلى، فالتقدير: الحر مقتول بالحر، أي: بقتله الحر، فالباء للسبب على هذا التقدير، ولا يصح تقدير العامل كونا مطلقا، ولو قلت: الحر كائن بالحر، لم يكن كلاما إلا إن كان المبتدأ مضافا قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه، فيجوز، والتقدير: قتل الحر كائن بالحر، أي: بقتله الحر، ويجوز أن يكون الحر مرفوعا على إضمار فعل يفسره ما قبله، التقدير: يقتل الحر بقتله الحر، إذ في قوله: * (القصاص في القتلى) * دلالة على هذا الفعل.
* (فمن عفى له من أخيه شىء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) * قال علماء التفسير: معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود، وجعل الله لهذه الأمة لمن شاء القتل، ولمن شاء أخذ الدية، ولمن شاء العفو.
وقال قتادة: لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة، وروي أيضا عن قتادة: أن الحكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو. ولا أرش بينهم، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم، فخير الله هذه الأمة بين الخصال الثلاث.
وارتفاع: من، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة، والظاهر أن: من، هو القاتل والضمير في * (له) * و * (من أخيه) * عائد عليه، * (وشىء) *: هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وهو بمعنى المصدر، وبني * (عفى) *، للمفعول، وإن كان لازما، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله: * (فإذا نفخ فى الصور نفخة واحدة) * والأخ هو المقتول، أي: من دم أخيه أو ولي الدم، وسماه أخا للقاتل اعتبارا بأخوة الإسلام، أو استعطافا له عليه، أو لكونه ملابسا له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به كما تقول: قل لصاحبك كذا، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة، وهذا لذي أقيم مقام الفاعل وإن كان مصدرا فهو يراد به الدم المعفو عنه، والمعنى: أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية. وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين، إما القصاص، وإما الدية. لأن الدية تضمنت عافيا ومعفوا عنه، وليس إلا ولي الدم والقاتل، والعفو لا يتأتي إلا من الولي، فصار تقدير الآية: فإذا عفا ولي الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف. وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية، تقول: عفوت عن زيد، وعفوت عن ذنب زيد، فإذا عديت إليهما معا تعدت إلى الجاني باللام، وإلى الذنب بعن، تقول: عفوت لزيد عن ذنبه، وقوله: * (فمن عفى له من) * من هذا الباب أي: فمن عفي له عن جنايته، وحذف عن جنايته لفهم المعنى، ولا يفسر عفي بمعنى ترك، لأنه لم يثبت ذلك معدى إلا بالهمزة، ومنه: (أعفوا اللحى) ولا يجوز أن تضمن عف معنى ترك وإن كان العافي عن الذنب تاركا له لا يؤاخذ به، لأن التضمين لا ينقاش.
قال الزمخشري. فإن قلت: فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله، فهلا جعلت معناه: فمن محى له من أخيه شيء؟ قلت: عبارة قيلت في مكانها، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نائية عن مكانها، وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا عضل عليه تخريج المشكل من كلام الله على اختراع لغة. وادعاء على العرب ما لا تعرف، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها. انتهى كلامه.
وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محافلا يبعد حمل الآية عليه، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسنادا حقيقا لأنه إذ ذاك مفعول به صريح، وإذا كان لا يتعدى كان إسناده إليه
مجازا وتشبيها للمصدر بالمفعول به، فقد يتعادل الوجهان أعني: كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات، وعفا المتعدي لمعنى محا
15

لتعلقه بمرفوعه تعلقا حقيقيا.
وقول الزمخشري: وترى كثيرا ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين الله، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها الخاصة الإنسان، وخصوصا على الله، وعلى رسوله.
وقال أبو محمد بن حزم ما معناه: إنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره، إلا ما كان من الكاذب، فإنه يكون أول مفارق له، لكن لا يناسب قول الزمخرشي هنا: وترى كثيرا إلى آخر، كلامه اثر قوله: فإن قلت إلى آخره، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة، فليس من باب الجرأة، واختراع اللغة.
وبنى الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحدا أو أكثر، هدا أن أريد بأخيه المقتول. أي: من دم أخيه، وقيل: شيء لأن معناه: شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله، أو أن يعفو بعض الورثة أوكلهم، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص، ولا يجب إلا الدية، وقيل: من عفي له هو ولي الدم، وعفي هنا بمعنى، يسر لا على بابها في العفو، ومن أخيه: هو القاتل، وشئ: هو الدية، والاخوة هي: اخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل: المقتول، أي: من قبل أخيه المقتول، وهذا القول قول مالك، فسر المعفو له بولي الدم، والأخ: بالقاتل، والعفو بالتيسير، وعلى هذا قال مالك: إذا جنح الولي إلى العفو على أخذ الدية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه.
وغير مالك يقول: إذا رضي الولي بالدية فلا خيار للقاتل، ويلزم الدية، وقد روي هذا عن مالك، ورجحه كثير من أصحابه، ويضعف هذا القول أن عفي بمعنى: يسر لم يثبت.
وقيل: هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة، فمعنى الآية: فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، وتكون: عفا بمعنى: فضل، من قولهم: عفا الشيء إذا كثر، أي: أفضلت الحالة له، أو الحساب، أو القدر، وقيل: هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد، أي: من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي هنا بمعنى: أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع، ثم بينت الحكم إذا تداخلت، والقول الأول أظهر كما قلناه، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى: ترك، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل، قال: والأول أجود بمعنى أن يكون عفي لا يتعدى إلى مفعول به، وإن ارتفاع شيء، هو لكونه مصدرا أقيم مقام الفاعل، وتقدم قول الزمخشري: إن عفي بمعنى: ترك لم يثبت.
* (فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) *. ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالحكم، أو الواجب كذا قدره ابن عطية، وقدره الزمخشري: فالأمر اتباع، وجوز أيضا رفعه بإضمار فعل تقديره: فليكن اتباع، وجوزوا أيضا أن يكون مبتدأ محذوف الخبر وتقديره، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية، وقدروه أيضا متأخرا تقديره، فاتباع بالمعروف عليه.
قال ابن عطية بعد تقديره: فالحكم أو الواجب اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله * (فإمساك بمعروف) * وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله: * (فضرب الرقاب) * انتهى.
ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: * (قالوا سلاما قال سلام) * فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا. وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري: فليكن، فهو ضعيف إذ: كان، لا تضمر غالبا إلا بعد إن الشرطية، أو: حيث يدل على إضمارها الدليل، و * (بالمعروف) * متعلق بقوله: فاتباع، وارتفاع: * (وأداء) * لكونه معطوفا على اتباع، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في: فاتباع، ويكون بإحسان متعلقا بقوله: وأداء، وجوزوا أن يكون: وأداء، مبتدأ، وبإحسان، هو
16

الخبر، وفيه بعد والفاء في قوله: فاتباع، جواب الشرط إن كانت من شرطا، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت من موصولة، فإن كانت من: كناية عن القاتل وأخوه: كناية عن الولي، وهو الظاهر، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي، وحسن التقاضي من الطالب، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله: وآداء إليه، عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه ما، لأن في قوله: عفي دلالة على العافي فيكون نظير قوله: * (حتى توارت بالحجاب) * إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس، وقول الشاعر:
* لك الرجل الحادي وقد منع الضحى
*
وطير المنايا فوقهن أواقع
*
أي: فوق الإبل، لأن في قوله: الحادي، دلالة عليهن، وإن كانت من كناية عن القاتل فيكون أيضا توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي، أي: فاتباع من الولي بالمعروف، وأداء من القاتل إليه بإحسان، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، ولا يستعجله إلى ثلا ث سنين يجعل انتهاء الاستيفاء والأداء
بالإحسان، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئا. وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الاتباع والأداء.
وقيل: اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه، وقد روي في الحديث: (من زاد بعيرا في أبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية).
وقيل الاتباع والأداء معا من القاتل، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره. وقيل: المعروف حفظ الجانب ولين القول، والإحسان تطييب القول، وقيل: المعروف ما أوجبه تعالى، وقيل: المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى.
وظاهر قوله: * (فمن عفى له من أخيه شىء) * الآية. أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي، وإليه ذهب سعيد، وعطاء، والحسن، والليث، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، ورواه أشهب عن مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه، وأحمد، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والثوري، وابن شبرمة: ليس للولي إلا القصاص، ولا يأخذ إلا برضى القاتل، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف، أي: فمن عفي له من أخيه شيء ورضي المعفو ودفع الدية فاتباع بالمعروف، وقد تقدمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا: * (فمن عفى) * واختلاف الناس فيه.
* (ذالك تخفيف من ربكم ورحمة) * أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط، وقيل: لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة، وقد تقدم طرق من هذا النقل، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية، وكان العفو والدية تخفيفا من الله إذ فيه انتفاع الولي بالدية، وحصول الأجر بالعفو استبقاء مهجة القاتل، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب لأنه المصلح لأحوال عبيده، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية، وعطف * (ورحمة) * على * (تخفيف) * لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك. وأي رحمة أعظم من ذلك؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله.
* (فمن اعتدى بعد ذالك) * أي: من تجاوز شرع الله بعد القود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم، أو بقتل غير القاتل، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة، وقيل: المعنى: من قتل بعد أخذ الدية، وقيل: بعد العفو، وقيل: من أخذ الدية بعد العفو عنها. والأظهر القول الأول لتقدم العفو،
17

وأخذ المال، والاعتداء، وتجاوز الحد يشمل ذلك كله.
وقال الزمخشري: بعد ذلك التخفيف، فجعل ذلك إشارة إلى التخفيف، وليس يظهر أن ذلك إشارة إلى التخفيف، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية، وكون ذلك تخفيفا هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية، ويحتمل: من في قوله: * (فمن اعتدى) * أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة.
* (فله عذاب أليم) * جواب الشرط، أو خبر عن الموصول، وظاهر هذا العذاب أنه في الأخرة، لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة. وقيل: العذاب الأليم هو في الدنيا، وهو قتله قصاصا، قاله عكرمة، وابن جبير، والضحاك: وقيل: هو قتله البتة حدا، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو قاله عكرمة أيضا، وقتادة، والسدي.
وقيل: عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة، قاله الحسن.
وقيل: عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى، قاله عمر بن عبد العزيز. ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء، إن شاء الولي قتله، وإن شاء عفا عنه.
* (ولكم في القصاص حيواة يأولي * أولى * الالباب لعلكم تتقون) * الحياة التي في القصاص هي: أن الإنسان إذا علم أنه إذا قتل قتل، أمسك عن القتل، فكان ذلك حياة له، للذي امتنع من قتله، فمشروعية القصاص مصلحة عامة، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به، فتقدم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما. أو المعنى: ولكم في شرع القصاص حياة، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه، فيقتتلون، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود، وصالحوا على الدية وتركوا القتال، فكان لهم في ذلك حياة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل.
وقيل: حياة لغير القاتل، لأنه لا يقتل خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: حياة للقاتل. وقيل: حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة. فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه.
وقرأ أبو الجوزاء، أوس بن عبد الله الربعي: ولكم في القصص، أي: فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص، وقيل: القصص: القرآن، أي: لكم في القرآن حياة القلوب، كقوله: * (روحا من أمرنا) * وكقوله: * (أو من كان ميتا فأحييناه) *.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، أي: أنه إذا قص أثر القاتل قصصا قتل كما قتل.
وقال الزمخشري: * (ولكم في القصاص حيواة) * كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جعل مكانا وظرفا للحياة، ومن إصابة مخز البلاغة بتعريف، القصاص، وتنكير: الحياة، لأن المعنى: ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، أو نوع من الحياة، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل. لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، انتهى كلامه.
وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى: القتل أوقى للقتل، وقالوا: أنفي للقتل، وقالوا: أكف للقتل.
وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه. أحدها: أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سببا لانتفاء نفسه، وهو محال. الثاني: تكرير لفظ القتل في جملة واحدة. الثالث: الاقتصار على أن القتل هو أنفي للقتل. الرابع: أن القتل ظلما هو قتل، ولا يكون نافيا للقتل. وقد اندرج في قولهم: القتل أنفى للقتل، والآية المكرمة بخلاف ذلك.
أما في الوجه الأول: ففيه أن نوعا من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة، لا لمطلق الحياة، وإذا كان على حذف مضاف أي: ولكم في شرع القصاص، اتضح كون شرع القصاص سببا للحياة.
وأما في الوجه الثاني: فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف، لأن في
18

كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ، والحذف إذ أنفي، أو أكف، أو أوقى، هو أفعل تفضيل، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفي للقتل من ترك القتل.
وأما في الوجه الثالث: فالقصاص أعم من القتل، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس، والقتل لا يكون إلا في النفس، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة.
وأما في الوجة الرابع: فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق، فترتب على مشروعيته وجود الحياة.
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده، وهو نوع من البيان يسمى الطباق، وهو شبه قوله تعالى: * (وأنه هو أمات) * وهذه الجملة مبتدأ وخبر، وفي القصاص: متعلق بما تعلق به قوله: لكم، وهو في موضع الخبر، وتقديم هذا الخبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، وتفسير المعنى: أنه يكون لكم في القصاص حياة، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة، وهي مشروعية القصاص، إذ لا يعرف كنه محصولها إلا أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه، وهم الذين خصهم الله بالخطاب، * (يعلمون إنما يتذكر أولو الالباب) * * (لآيات لقوم يعقلون) * * (لايات لاولى الالباب) * * (لايات لاولى) * * (ذالك لذكرى لمن كان له قلب) * وذوو الألباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف، فلهذا خص به ذوي الألباب.
* (لعلكم تتقون) * أي: القصاص، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذرا من القصاص أو الانهماك في القتل، أو تتقون الله باجتناب معاصيه، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص.
* (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) * الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما ذكر تعالى القتل في القصاص، والدية، أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية، وبيان أنه مما كتبه الله على عباده حتى يتنبه كل أحد فيوصي مفاجأة الموت، فيموت على غير وصية، ولا ضرورة تدعو إلى أن: كتب، أصله: العطف على. * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * * (كتب عليكم) * وأن الواو حذفت للطول، بل هذه جملة مستأنفة ظاهرة الارتباط بما قبلها، لأن من أشرف على أن يقتص منه فهو بعض من حضره الموت، ومعنى حضور الموت أي: حضور مقدماته وأسبابه من العلل والأمراض والأعراض المخوفة، والعرب تطلق على أسباب الموت موتا على سبيل التجوز. وقال تعالى: * (ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت) * وقال عنترة.
* وان الموت طوع يدي إذا ما
*
وصلت بنانها بالهندوان
*
وقال جرير.
* انا الموت الذي حدثت عنه
*
فليس لهارب مني نجاء
*
19

وقال غيره.
* وقل لهم بادروا بالعذر والتمسوا
*
قولا يبرئكم: إني أنا الموت
*
والخطاب في: عليكم، للمؤمنين مقيدا بالإمكان على تقدير التجوز في حضور الموت، ولو جرى نظم الكلام على خطاب المؤمنين لكان: إذا حضركم الموت، لكنه روعيت دلالة العموم في: عليكم، من حيث المعنى، إذا لمعنى: كتب على كل واحد منكم، ثم أظهر ذلك المضمر، إذ كان يكون إذا حضره الموت، فقيل: إذا حضر أحدكم، ونظير مراعاة المعنى في العموم قول الشاعر:
* ولست بسائل جارات بيتي
*
أغياب رجالك أم شهود
*
فأفرد الضمير في رجالك لأنه راعى معنى العموم، إذ المعنى ولست بسائل كل جارة من جارات بيتي، فجاء قوله: أغياب رجالك، على مراعاة هذا المعنى. وهذا شيء غريب مستطرف من علم العربية.
وقيل: المراد بالموت هنا حقيقته لا مقدماته، فيكون الخطاب متوجها إلى الأوصياء والورثة، ويكون على حذف مضاف، أي: كتب عليكم، إذا مات أحدكم، إنفاذ الوصية والعمل بها، فلا تكون الآية تدل على وجوب الوصية، بل يستدل على وجوبها بدليل آخر.
* (إن ترك خيرا) * يعني: مالا، في قول الجميع، وقال مجاهد: الخير في القرآن كله المال * (وإنه لحب) * * (فقال إنى أحببت حب الخير) * * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * * (إنى أراكم بخير) * وظاهر الآية يدل على مطلق الخير، وبه قال: الزهري، وأبو مجلز، وغيرهما، قالوا: تجب فيما قل وفيما كثر.
وقال أبان: مائتا درهم فضة. وقال النخعي: من ألف درهم إلى خمسمائة؛ وقال علي: وقتادة: ألف درهم فصاعدا، وقال الجصاص: أربعة آلاف درهم. هذا قول من قدر الخير بالمال.
وأما من قدره بمطلق الكثرة، فإن ذلك يختلف بحسب اختلاف حال الرجل، وكثرة عياله، وقلتهم.
وروي عن عائشة أنها قالت: ما أرى فضلا في مال هو أربعمائة دينار لرجل أراد أن يوصى وله عيال، وقالت في آخر: له عيال أربعة وله ثلاثة آلاف، إنما قال الله * (إن ترك خيرا) * وإن هذا الشيء يسير فاتركه لعيالك.
وعن علي: أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة فمنعه، وقال: قال تعالى: * (إن ترك خيرا) * والخير: هو المال، وليس لك مال. انتهى.
ولا يدل عدم تقدير المال على أن الوصية لم تجب، إذ الظاهر التعليق بوجود مطلق الخير، وإن كان المراد غير الظاهر، فيمكن تعليق الإيجاب بحسب الاجتهاد في الخير؛ وفي تسميته هنا وجعله خيرا إشارة لطيفة إلى أنه مال طيب لا خبيث، فإن الخبيث يجب رده إلى أربابه، ويأثم بالوصية فيه.
واختلفوا، فقال قوم:
20

الآية محكمة، والوصية للوالدين والأقربين واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الآيتين.
وقال قوم: إنها محكمة في التطوع، وقال قوم: إنها محكمة وليس معنى الوصية مخالفا للميراث، بل المعنى: كتب عليكم ما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين في قوله: * (يوصيكم الله فى أولادكم) *.
وقال الزمخشري: أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى به الله لهم عليهم ولا ينقص من أنصابهم. انتهى كلامه.
وقيل: هي محكمة، ويخصص الوالدان والأقربون بأن لا يكونوا وارثين بل أرقاء أو كفارا، كما خصص في الموصى به بالثلث فما دونه، قاله الحسن، وطاووس، والضحاك.
وقال: ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين والأقرباء الذين لا يرثون جائزة.
وقال ابن عباس، والحسن، وقتادة: الآية عامة، وتقرر الحكم بها برهة، ونسخ منها كل من يرث بآية الفرائض.
وقال ابن عمر، وابن عباس أيضا، وابن زيد: الآية كلها منسوخة. وبقيت الوصية ندبا، ونحو هذا هو قول الشعبي، والنخعي، ومالك.
وقال الربيع بن خيثم وغيره لا وصية، وقيل: كانت في بدء الإسلام فنسخت بآية المواريث، وبقوله عليه السلام: (ان الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث). ولتلقي الأمة إياه بالقبول حتى لحق بالمتواتر. وإن كان من الأحاد، لأنهم لا يتلقون بالقبول إلا المثبت الذي صحت روايته.
وقال قوم: الوصية للقرابة أولا، فإن كانت لأجنبي فمعهم، ولا يجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس، حين مات أبو العالية: عجبا له، أعتقته امرأة من رياح، وأوصى بما له لبني هاشم. وقال الشعبي: لم يكن ذلك له ولا كرامة، وقال طاووس: إذا أوصى لغير قرابته ردت الوصية إلى قرابته ونقض فعله، وقاله جابر، وابن زيد.
وروي مثله عن الحسن، وبه قال إسحاق بن راهويه.
وقال الحسن، وجابر بن زيد، أيضا، وعبد الملك بن يعلى: يبقى ثلث الوصية حيث جعلها الميت. وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد: إذا أوصى لغير قرابته وترك قرابته جاز ذلك وأمضي، كان الموصى له غنيا، أو فقيرا مسلما أو كافرا. وهو مروي عن عمر، وابن عباس، وعائشة رضي الله عنها.
وظاهر: كتب، وجوب الوصية على من خلف مالا، وهو قول الثوري. وقال أبو ثور: لا تجب إلا على من عليه دين أو عنده مال لقوم، فأما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه، وقيل: لا تجب الوصية، واستدل بقول النخعي: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم يوص، وبقوله في الحديث يريد أن يوصي، فعلق بإرادة الوصية. ولو كانت واجبة لما علقها بإرادته. والموصى له، إن كان وارثا وأجاز ذلك الورثة جاز، وبه قال أبو حنيفة، ومالك. أو قاتلا عمدا وأجاز
ذلك الورثة، جاز في قول أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: لا تجوز ولو أوصى لبعض ورثته بمال، فقال: إن أجاز ذلك الورثة وإلا فهو في سبيل الله فإن أجاز ذلك الورثة وإلا كان ميراثا. هذا قول مالك.
وقال أبو حنيفة، ومعمر يمضي في سبيل الله.
ولو أوصى الأجنبي بأكثر من الثلث، وأجازه الورثة قبل الموت فليس لهم الرجوع فيه بعد الموت، وهي جائزة عليهم، قاله ابن أبي ليلى، وعثمان البتي.
وقال أبو حنيفة
21

ومحمد، وأبو يوسف، وزفر، والحسن بن صالح، وعبيد الله بن الحسن: إن أجازوا ذلك في حياته لم يجز ذلك حتى يجيزوه بعد الموت. وروي ذلك عن عبد الله، وشريح، وإبراهيم.
وقال ابن القاسم عن مالك: إن استأذنهم فأذنوا فكل وارث بائن فليس له أن يرجع، ومن كان في عياله، أو كان من عم وابن عم، أن يقطع نفقته عنهم إن صح، فلهم أن يرجعوا.
وقال ابن وهب عن مالك: إن أذنوا له في الصحة فلهم أن يرجعوا، أو في المرض فلا. وقول الليث كقول مالك، ولا خلاف بين الفقهاء أنهم إذا أجازوه بعد الموت فليس لهم أن يرجعوا فيه.
وروي عن طاووس وعطاء، إن أجازوه في الحياة جاز عليهم، ولا خلاف في صحة وصية العاقل، البالغ غير المحجور عليه؛ واختلف في الصبي، فقال أبو حنيفة: لا تجوز وصيته. قال المزني: وهو قياس قول الشافعي: وقال مالك وغيره: يجوز، والقولان عن أصحاب الشافعي. وظاهر قوله تعالى: * (كتاب) * المنع. لأنه ليس من أهل التكليف، وأجمعوا على أنه للإنسان أن يغير وصيته وأن يرجع فيها.
واختلفوا في المدبر، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنه ليس له أن يغير ما دبر، قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق: هو وصيته، وبه قال الشعبي، والنخعي، وابن شبرمة، والثوري، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) باع مدبرا، وأن عائشة باعت مدبرة، وإذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبر بعد موتي لم يكن له الرجوع فيه، وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، فكل هذا عندهم وصيته..
واختلفوا في الرجوع في التدبير بماذا يكون؟.
فقال أبو ثور: إذا قال: رجعت في مدبري بطل التدبير، وقال الشافعي: لا يكون إلا ببيع أو هبة، وليس قوله رجعت رجوعا. ومن قال: عبدي حر بعد موتي، ولم يرد الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية وقال أشهب هو مدبر.
وكيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها: هذا ما أوصي فلان بن فلان، أنه يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله. * (وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور) * وأوصى من ترك، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته، وأن يصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، ويوصيهم بما أوصى به * (إبراهيم بنيه ويعقوب يابنى * بنى * إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * رواه الدارقطني، عن أنس بن مالك. وبني كتب للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، وللاختصار، إذ معلوم أن الله تعالى، ومرفوع: كتب الظاهر أنه الوصية، ولم يلحق علامة التأنيث للفعل للفصل، لا سيما هنا، إذ طال بالمجرور والشرطين، ولكونه مؤنثا غير حقيقي، وبمعنى الإيصاء. وجواب الشرطين محذوف لدلالة المعنى عليه، ولا يجوز أن يكون من معنى: كتب، لمضي كتب واستقبال الشرطين. ولكن يكون المعنى: كتب الوصية على أحدكم إذا حضر الموت إن ترك خيرا فليوص. ودل على هذا الجواب سياق الكلام. والمعنى: ويكون الجواب محذوفا جاء فعل الشرط بصيغة الماضي، والتحقيق أن كل شرط يقتضي جوابا فيكون ذلك المقدر جوابا للشرط الأول، ويكون جواب الشرط الثاني محذوفا يدل عليه جواب الشرط الأول المحذوف، فيكون المحذوف دل على محذوف، والشرط الثاني شرط في الأول، فلذلك يقتضي أن يكون متقدما في الوجود، وإن كان متأخرا لفظا. واجتماع الشرطين غير مجعول الثاني جوابا للأول بالفاء من أصعب المسائل النحوية، وقد أوضحنا الكلام على ذلك واستوفيناه فيه في (كتاب التكميل) من تأليفنا، فيؤخذ منه.
وقيل: جواب الشرطين محذوف ويقدر من معنى
22

* (كتب عليكم * الوصية) * ويتجوز بلفظ: كتب، عن لفظ: يتوجه إيجاب الوصية عليكم. حتى يكون مستقبلا فيفسر الجواب، لأن مستقبل، وعلى هذا التقدير يجوز أن يكون إذا ظرفا محضا لا شرطا، فيكون إذ ذاك العامل فيها: كتب، على هذا التقدير، ويكون جواب: * (إن ترك خيرا) * محذوفا يدل عليه: كتب، على هذا التقدير، ولا يجوز عند جمهور النجاة أن يكون إذا معمولا للوصية لأنها مصدر وموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه، وأجاز ذلك أبو الحسن لأنه يجوز عنده أن يتقدم المعمول إذا كان ظرفا على العامل فيه إذا لم يكن موصولا محضا، وهو عنده المصدر، والألف واللام في نحو: الضارب والمضروب، وهذا الشرط موجود هنا، وإلى هذا ذهب في قوله.
أبعلى هذا بالرحى المتقاعس
فعلق: بالرحى، بلفظ: المتقاعس.
وقال أبو محمد بن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون: كتب، هو العامل في: إذا، والمعنى: توجه إيجاب الله عليكم مقتضى كتابه إذا حضر، فعبر عن توجيه الإيجاب: بكتب، ليتنظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية مفعول لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين: إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله: * (كتب عليكم) * كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه. وفيه تناقض لأنه قال: العامل في إذا: كتب، وإذا كان العامل فيها كتب تمحضت للظرفية ولم تكن شرطا، ثم قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطا فالعامل فيها إما الجواب، وإما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها، ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه، ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا.
ولا يجوز تأويل كلام ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين: إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم، وما كان مقدرا يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم، وهذا الإعراب هو على ما يقتضيه الظاهر
23

من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب.
والزمخشري يسمي المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا وهذا اصطلاحه، قال في تفسيره: والوصية فاعل كتب، وذكر فعلها للفاصل، ولأنها بمعنى: أن يوصي، ولذلك ذكر الراجع في قوله، فمن بد له بعدما سمعه. اه.
ونبهت على اصطلاحه في ذلك لئلا يتوهم أن تسمية هذا المفعول الذي لم يسم فاعله فاعلا سهو من الناسخ، وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء، على تقدير الفاء، والخبر إما محذوف، أي: فعليه الوصية. وإما منطوق به، وهو قوله: * (للوالدين والاقربين) * أي: فالوصية للوالدين والأقربين، وتكون هذه الجملة الابتدائية جوابا لما تقدم، والمفعول الذي لم يسم فاعله: بكتب، مصمر. أي: الإيصاء يفسره ما بعده.
قال أبو محمد بن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الإيصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد، هو العامل في إذا، وترتفع الوصية بالابتداء، وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه رحمه الله:
من يفعل الحسنات الله يحفظه
ويكون رفعها بالابتداء بتقدير. فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين. اه. كلامه. وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر، ثم قال: إن الوصية فيه جواب الشرطين، وقد تقدم إبداء تناقض ذلك، لأن إذا من حيث هي معمولة للإيصاء لا تكون شرطا، ومن حيث إن الوصية فيه جواب إذا يكون شرطا فتناقضا، لأن الشيء الواحد لا يكون شرطا وغير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملا، في إذا أيضا لأنك إما أن تقدر هذا العامل لي: إذا، لفظ الإيصاء بحذف، أو ضمير الإيصاء: لا، جائز أن يقدره لفظ الإيصاء بحذف، لأن المفعول لم يسم فاعله لا يجوز حذفه، وابن عطية قدر لفظ: الإيصاء، ولا جائز أن يقدره ضمير الإيصاء، لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل، لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهرا، وإذا كان لا يجوز إعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل، وأما قوله: وفيه جواب الشرطين، فليس بصحيح، فإنا قد قررنا أن كل شرط يتقضى جوابا على حذفه، والشيء الواحد لا يكون جوابا لشرطين، وأما قوله على نحو ما أيد سيبويه.
من يفعل الحسنات الله يحفظه
وهو تحريف على سيبويه، وإنما سيبويه أيده في كتابه:
* من يفعل الحسنات الله يشكرها
*
والشر بالشر عند الله مثلان
*
24

وأما قوله: بتقدير فعليه الوصية، أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين، فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه، فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر، فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه.
قال سيبويه: وسألته، يعنى الخليل، عن قوله: إن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلا أن يضطر شاعر من قبل: إن أنا كريم، يكون كلاما مبتدا، والفاء، وإذا لا يكونان إلا معلقتين بما قبلهما، فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء، وقد قاله الشاعر مضطرا، وأنشد البيت السابق.
من يفعل الحسنات
وذكر عن الأخفش: أن ذلك على إضمار الفاء، وهو محجوج بنقل سيبويه أن ذلك لا يكون إلا في اضطرار، وأجاز بعضهم أن تقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو: عليكم، وهو قول لا بأس به على ما تقرره، فنقول: لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت إن ترك خيرا تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو، فتكون الوصية مبتدأ، أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، ويكون جوابا لسؤال مقدر، كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيرا؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة، أو: المكتوب الوصية للوالدين والأقربين، ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة زيد المضروب أو المضروب زيد،
فيكون هذا جوابا بالسؤال مقدر، كأنه قال: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن، وأقل تكلفا من الوجه الذي قبله، وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الإيصاء، وضمير الإيصاء والوالدان معروفان، وتقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: * (وبالوالدين إحسانا) *.
* (والاقربين) * جمع الأقرب، وظاهره أنه أفعل تفضيل، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ، وأقرب ما إليه الوالدان، فصار ذلك تعميما بعد تخصيص، فكأنهما ذكرا مرتين: توكيدا وتخصيصا على اتصال الخير إليهما، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ، وعند المفسرين: الأقربون الأولاد، أو من عدا الأولاد، أو جميع القرابات، أو من لا يرث من الأقارب. أقوال.
* (بالمعروف) * أي: لا يوصى بأزيد من الثلث، ولا للغني دون الفقير، وقال ابن مسعود: الأخل فالأخل، أي: الأحوج فالأحوج، وقيل: الذي لا حيف فيه، وقيل: كان هذا موكولا إلى اجتهاد الموصي، ثم بين ذلك وقدر: (بالثلث والثلث كثير). وقيل: بالقصد الذي تعرفه النفوس دون إضرار بالورثة، فإنهم كانوا قد يوصون بالمال كله، وقيل: بالمعروف من ماله غير المجهول.
وهذه الأقوال ترجع إلى قدر ما يوصي به، وإلى تمييز من يوصى له، وقد لخص ذلك الزمخشري وفسره بالعدل، وهو أن لا يوصي للغني ويدع الفقير، ولا يتجاوز الثلث، وتعلق بالمعروف بقوله: الوصية، أو بمحذوف، أي: كائنة بالمعروف، فيكون بالمعروف حالا من الوصية.
* (حقا على المتقين) * انتصب حقا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة، أي: حق ذلك حقا، قاله ابن عطية، والزمخشري. وهذا تأباه القواعد النحوية لأن ظاهر قوله: * (على المتقين) * إذن يتعلق على بحقا، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين يخرجه عن التأكيد، أما تعلقه به فلأن المصدر المؤكد لا يعمل إنما يعمل المصدر الذي ينحل بحرف مصدري، والفعل أو المصدر الذي هو بدل من اللفظ بالفعل وذلك مطرد في الأمر والاستفهام، على خلاف في هذا الأخير على ما تقرر في علم النحو، وأما جعله صفة: لحقا أي: حقا كائنا على
25

المتقين، فذلك يخرجه عن التأكيد، لأنه إذا ذاك يتخصص بالصفة، وجوز المعربون أن يكون نعتا لمصدر محذوف، إما لمصدر من: كتب عليكم، أي: كتبا حقا وإما مصدر من الوصية، أي أصاء حقا، وأبعد من ذهب إلى أنه منصوب: بالمتقين، وأن التقدير: على المتقين حقا، كقوله: * (أولئك هم المؤمنون حقا) * لأنه غير المتبادر إلى الذهن، ولتقدمه على عامله الموصول، والأولى عندي أن يكون مصدرا من معنى: كتب، لأن معنى: كتبت الوصية، أي: وجبت وحقت، فانتصابه على أنه مصدر على غير الصدر، كقولهم: قعدت جلوسا، وظاهر قوله: كتب وحقا، الوجوب، إذ معنى ذلك الإلزام على المتقين، قيل: معناه: من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف، وفي الأقربين أن يقدم الأحوج فالأحوج، وقيل: من اتبعوا شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولا وفعلا، وخصهم بالذكر تشريفا لهم وتنبيها على علو منزلة المتقين عنده، وقيل: من اتقى الكفر ومخالفة الأمر.
وقال بعضهم: قوله * (على المتقين) * يدل على ندب الوصية لا على وجوبها، إذ لو كانت واجبة لقال: على المسلمين، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين: المؤمنون، وهم الذين اتقوا الكفر، فيحتمل أن يراد ذلك هنا..
* (فمن بدله بعدما سمعه) *: الظاهر أن الضمير يعود على الوصية بمعنى الإيصاء، أي: فمن بدل الإيصاء عن وجهه إن كان موافقا للشرع من الأوصياء والشهود بعدما سمعه سماع تحقق وتثبت، وعوده على الإيصاء أولى من عوده على الوصية، لأن تأنيث الوصية غير حقيقي، لأن ذلك لا يراعى في الضمائر المتأخرة عن المؤنث المجازي، بل يستوي المؤنث الحقيقي والمجازي في ذلك تقول: هند خرجت. والشمس طلعت، ولا يجوز طلع إلا في الشعر، والتذكير على مراعاة المعنى وارد في لسانهم، ومنه.
كخرعوبة البانة المنفطر
ذهب إلى معنى: القضيب، كأنه قال: كقضيب البانة، ومنه في العكس: جاءته كتابي، فاحتقرها على معنى الصحيفة.
والضمير في * (سمعه) * عائد على الإيصاء كما شرحناه، وقيل: يعود على أمر الله تعالى في هذه الآية.
وقيل: الهاء، في: * (فمن بدله) * عائدة إلى الفرض، والحكم، والتقدير: فمن بدل الأمر المقدم ذكره، ومن: الظاهر أنها شرطية، والجواب: * (فإنما إثمه) * وتكون: من، عامة في كل مبدل: من رضي بغير الوصية في كتابة، أو قسمة حقوق، أو شاهد بغير شهادة، أو يكتمها، أو غيرهما ممن يمنع حصول المال ووصوله إلى مستحقه، وقيل: المراد بمن: متولي الإيصاء دون الموصي والموصى له، فإنه هو الذي بيده العدل والجنف والتبديل والإمضاء، وقيل: المراد: بمن: هو الموصي، نهي عن تغيير وصيته عن المواضع التي نهى الله عن الوصية إليها، لأنهم كانوا يصرفونها إلى الأجانب، فأمروا بصرفها إلى الأقربين.
ويتعين على هذا القول أن يكون الضمير في قوله: * (فمن بدله) * وفي قوله: * (بعدما سمعه) * عائدا على أمر الله تعالى في الآية، وفي قوله: * (بعدما سمعه) * دليل على أن الإثم لا يترتب إلا بشرط أن يكون المبدل قد علم بذلك، وكنى بالسماع عن العلم لأنه طريق حصوله. * (فإنما إثمه) *: الضمير عائد على الإيصاء المبدل، أو على المصدر المفهوم من بدله، أي: فإنما إثم التبديل على المبدل، وفي هذا دليل على أن من اقترف ذنبا، فإنما وباله عليه خاصة، فإن قصر الوصي في شيء مما أوصى به الميت، لم يلحق الميت من ذلك شيء، وراعى المعنى في قوله: * (على الذين يبدلونه) * إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول لكان: فإنما إثمه، أو فإنما إثمه عليه على الذي يبدله، وأتي في جملة الجواب بالظاهر مكان المضمر ليشعر بعلية: الإثم الحاصل، وهو التبديل، وأتى بصلة: الذين، مستقبلة جريا على الأصل، إذ هو مستقبل.
* (إن الله سميع عليم) * في هاتين الصفتين تهديد ووعيد للمبدلين، فلا يخفي عليه تعالى شيء، فهو يجازيهم على تبديلهم شر الجزاء، وقيل: سميع لقول الموصي، عليم بفعل الموصي، وقيل: سميع لو صاياه، عليم بنياته. والظاهر القول الأول المجيئه في أثر ذكر التبديل وما يترتب عليه من الإثم.
* (فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه) * الظاهر أن الخوف هو الخشية هنا، جريا على أصل اللغة في الخوف، فيكون المعنى: بتوقع الجنف أو الإثم من الموصي.
قال
26

مجاهد: المعنى: من خشي أن يجنف الموصي، ويقطع ميراث طائفة، ويتعمد الإذاية أو يأتيها دون تعمد، وذلك هو الجنف دون إثم، وإذا تعمد فهو الجنف في إثم، فوعظه في ذلك ورده، فصلح بذلك ما بينه وبين ورثته، فلا إثم عليه.
* (أن الله غفور) * عن الموصي إذا عملت فيه الموعظة ورجع عما أراد من الأذية * (رحيم * به) *. وقيل: يراد بالخوف هنا: العلم، أي: فمن علم، وخرج عليه قوله تعالى: * (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) *.
وقول أبي محجن.
أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
والعلقة بين الخوف والعلم حتى أطلق على العلم الخوف، وأن الإنسان لا يخاف شيئا حتى يعلم أنه مما يخاف منه، فهو من باب التعبير بالمسبب عن السبب، وقال في المنتخب: الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم، وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص، وبين الظن والعلم مشابهة في أمور كثيرة، فلذلك صح إطلاق كل واحد منهما على الأخر. انتهى كلامه.
وعلى الخوف بمعنى العلم، قال ابن عباس، رضي الله عنهما، وقتادة، والربيع، معنى الآية: من خاف أي، علم بعد موت الموصي أن الموصي حاف وجنف وتعمد إذاية بعض ورثته، فأصلح ما وقع بين الورثة من الاضطراب والشقاق، فلا إثم عليه، أي: لا يلحقه إثم التبديل المذكور قبل، وإن كان في فعله تبديلها، ولكنه تبديل لمصلحة، والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى.
وقال عطاء: المعنى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما في عطيته لورثته عند حضور أجله، فأعطى بعضا دون بعض، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك.
وقال طاووس: المعنى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما في وصيته لغير ورثته بما يرجع بعضه على ورثته، فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه.
وقال الحسن: هو أن يوصي للأجانب ويترك الأقارب، فيرد إلى الأقارب، قال: وهذا هو الإصلاح.
وقال السدي: المعنى: فمن خاف من موص بآبائه وأقربائه جنفا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه.
وقال علي بن عيسى: هو مشتمل على أمر ماض واقع، وأمر غير واقع، فإن كانت الوصية باقية أمر الموصي بإصلاحها، ورد من الجنف إلى النصف، وإن كانت ماضية أصلحها الموصى إليه بعد موته.
وقيل: هو أن يوصي لولد ابنته، يقصد بها نفع ابنته، وهذا راجع إلى قول طاووس المتقدم.
وإذا فسرنا الخوف بالخشية، فالخوف إنما يصح في أمر مرتبط والوصية قد وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟ والجواب: أن المصلح إذا شاهد الموصي يوصي، فظهرت منه أمارات الجنف أو التعدي بزيادة غير مستحق، أو نقص مستحق، أو عدل عن مستحق، فأصلح عند ظهور الأمارات لأنه لم يقطع بالجنف والإثم، فناسب أن يعلق بالخوف، لأن الوصية لم تمض بعد ولم تقع، أو علق بالخوف وإن كانت قد وقعت لأنه له أن ينسخها أو يغيرها بزيادة أو نقصان، فلم يصر الجنف أو الإثم معلومين، لأن تجويز الرجوع يمنع من القطع. أو علق بالخوف وإن كانت الوصية استقرت ومات الموصي، يجوز أن يقع بين الورثة والموصى لهم مصالحة على وجه يزول به الميل والخطأ، فلم يكن الجنف ولا الإثم مستقرا، فعلق بالخوف. والجواب الأول أقوى، ومن: شرطية، والجواب: فلا إثم عليه:
27

و * (من موص) * متعلق، بخاف، أو بمحذوف تقديره: كائنا من موص، وتكون حالا، إذ لو تأخر لكان صفة، كقوله: * (جنفا أو إثما) * فلما تقدم صار حالا، ويكون الخائف في هذين التقديرين، ليس الموصي، ويجوز أن يكون: من، لتبيين جنس الخائف، فيكون الخائف بعض الموصين على حد، من جاءك من رجل فأكرمه، أي: من جاءك من الرجال فالجائي رجل، والخائف هنا موص.
والمعنى: فمن خاف من الموصي جنفا أو إثما من ورثته ومن يوصي له، فأصلح بينهم فلا إثم على الموصي المصلح، وهذا معنى لم يذكره المفسرون، إنما ذكروا أن الموصي مخوف منه لا خائف، وأن الجنف أو الإثم من الموصي لا من ورثته، ولا من يوصي له.
وأمال حمزة * (خاف) * وقرأ هو والكسائي وأبو بكر: موص، من، وصا والباقون: موص، من: أوصى، وتقدم أنهما لغتان.
وقرأ الجمهور: جنفا، بالجيم والنون، وقرأ علي: حيفا، بالحاء والياء.
وقال أبو العالية: الجنف الجهالة بموضع الوصية، والإثم: العدول عن موضعها، وقال عطاء، وابن زيد: الجنف: الميل، والإثم أن يكون قد أثم في ايثاره بعض الورثة على بعض، وقال السدي: الجنف: الخطأ، والإثم العمد.
وأما الحيف فمعناه: البخس، وذلك بأن يريد أن يعطي بعض الورثة دون بعض قال الفراء: تحيف مال أي: نقصه من حافاته، وروي: من حاف في وصيته ألقى في
ألوى، وألوى واد في جهنم.
* (فأصلح بينهم) *: الضمير عائد على الموصي والورثة، أو على الموصى لهم وعلى الورثة والموصى لهم على اختلاف الأقاويل التي سبقت، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدل على ذلك لفظ: الموصي، لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، كما قيل في قوله: * (وأداء إليه) * أي: إلى العافي، لدلالة من عفي له، ومنه ما أنشده الفراء رحمة الله تعالى:
* وما أدري إذا يمم ت أرضا
*
أريد الخير أيهما يليني
*
فقال: أيهما، فأعاد الضمير على الخير والشر، وإن لم يتقدم ذكر الشر، لكنه تقدم الخير وفيه دلالة على الشر، والظاهر أن هذا المصلح هو الوصي، والمشاهد ومن يتولى بعد موته ذلك من وال، أو ولي، أو من يأمر بالمعروف فكل هؤلاء يدخل تحت قوله: * (فمن خاف) * إذا ظهرت لهم أمارات الجنف أو الإثم، ولا يوجه لتخصيص الخائف بالوصي، وأما كيفية هذا الإصلاح فبالزيادة أو النقصان، أو كف للعدوان * (فلا إثم عليه) * يعني: في تبديل الوصية إذا فعل ذلك لقصد الإصلاح، والضمير: عليه، عائد على من عاد عليه ضمير: فأصلح، وضمير: خاف، وهو: من، وهو: الخائف المصلح.
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، لما ذكر المبدل في أول الآية: وكان هذا من التبديل بين مخالفته للأول، وأنه لا إثم عليه، لأنه رد الوصية إلى العدد، ولما كان المصلح ينقص الوصايا، وذلك يصعب على الموصى له، أزال الشبهة بقوله: * (فلا إثم عليه) * وإن حصل فيه مخالفة لوصية الموصي، وصرف ماله عن من أحب إلى من يكره. انتهى. وهذا يرجع معناه إلى قوله الأول. وقال أيضا: إن الإصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول، وقد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل، فبين أن ذلك لا إثم فيه إذا كان لقصد الإصلاح، ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح إفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع. انتهى كلامه.
* (إن الله غفور رحيم) *. قيل: غفور لما كان من الخائف، وقيل: للمصلح رحيم حيث رخص، وقيل: غفور للموصي فيما حدث به نفسه من الجنف والخطأ والعهد والإثم إذ رجع إلى الحق، رحيم للمصلح.
وقال الراغب: أي متجاوز عن ما عسى أن يسقط من المصلح ما لم يجر.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة، أن البر ليس هو تولية الوجوه قبل، المشرق والمغرب، بل البر هو الإتيان بما كلفه الإنسان من تكاليف الشرع، اعتقادا وفعلا وقولا. فمن الاعتقاد: الإيمان بالله، وملائكته الذين هم وسائط بينه وبين أنبيائه، وكتبه التي نزلت على أيدي الملائكة، وأنبيائه المتلقين. تلك الكتب من ملائكته. ثم ذكر ما جاءت به الأنبياء عن الله في تلك الكتب، من: إيتاء المال، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة،
28

والإيفاء بالعهد، والصبر في الشدائد. ثم أخبر أن من استوفى ذلك فهو الصابر المتقي، ولما كان تعالى قد ذكر قبل ما حلل وما حرم، ثم أتبع ذلك بمن أخذ مالا من غير حله، وعده بالنار، وأشار بذلك إلى جميع المحرمات من الأموال، ثم ذكر من اتصف بالبر التام وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها، أخذ تعالى يذكر ما حرم من الدماء، ويستدعي صونها، وكان تقديم ذكر المأكول لعموم البلوى بالأكل، فشرع القصاص، ولم يخرج من وقع منه القتل واقتص منه عن الإيمان ألا تراه قد ناداه باسم الإيمان وفصل شيئا المكافأة فقال * (الحر بالحر والعبد بالعبد والانثى بالانثى) *، إلا ثم أخبر بعد ذلك أنه إذا وقع عفو من الولي على دية فليتبع الولي بالمعروف، وليؤدي الجاني بالإحسان ليزرع بذلك الود بين القاتل والولي، ويزيل الإحن، لأن مشروعية العفو تستدعي التحاب وصفاء البواطن.
ثم ذكر أن ذلك تخفيف منه تعالى، إذ فيه صون نفس القاتل بشيء من عرض الدنيا، ثم توعد من اعتدى بعد ذلك، ثم أخبر أن في مشروعية القصاص حياة، إذ من علم أنه مقتول بمن قتل، وكان عاقلا، منعه ذلك من الإقدام على القتل، إذ في ذلك إتلاف نفس المقتول وإتلاف نفس قاتله، فيصير بمعرفته بالقصاص متحرزا من أن يقتل فيقتل، فيحيي بذلك من أراد قتله وهو، فكان ذلك سببا لحياتيهما.
ثم ذكر تعالى مشروعية الوصية لمن حضره الموت، وذكر أن الوصية للوالدين والأقربين، وتوعد من بدل الوصية بعد ما علمها، ثم ذكر أنه لا إثم على من أصلح بين الموصي إليهم إذا كان جنفا أو إثما من الموصي، وأن ذلك لا يعد من التبديل الذي يترتب عليه الإثم، فجاءت هذه الآيات حاوية لما يطلب من المكلف من بدء حاله وهو: الإيمان بالله، وختم حاله وهو: الوصية عند مفارقه هذا الوجود، وما تخلل بينهما مما يعرض من مبار الطاعات، وهنات المعاصي، من غير استيعاب لأفراد ذلك، بل تنبيها على أفضل الأعمال بعد الإيمان، وهو: إقامة الصلاة وما بعدها وعلى أكبر الكبائر بعد الشرك، وهو: قتل النفس، فتعالى من كلامه فصل، وحكمه عدل.
2 (* (ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون * شهر رمضان الذىأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون * وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون * أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسآئكم هن
لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالن باشروهن
29

وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذالك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون * ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بهآ إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) *))
) *
الصيام والصوم مصدران لصام، والعرب تسمي كل ممسك صائما، ومنه الصوم في الكلام * (إنى نذرت للرحمان صوما) * أي سكوتا في الكلام، وصامت الريح: أمسكت عن الهبوب، والدابة: أمسكت عن الأكل والجري، وقال النابغة الذبياني:
* خيل صيام وخيل غير صائمه
*
تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
*
أي: ممسكة عن الجري. وتسمى الدابة التي لا تدور: الصائمة، قال الراجز.
والبكرات شرهن الصائمة
وقالوا: صام النهار: ثبت حره في وقت الظهيرة واشتد، وقال.
ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقال:
* حتى إذا صام النهار واعتدل
*
ومال للشمس لعاب فنزل
*
ومصام النجوم، إمساكها عن اليسير ومنه.
كأن الثريا علقت في مصامها
فهذا مدلول الصوم من اللغة. وأما الحقيقة الشرعية فهو: إمساك عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص ويبين في الفقه. الطاقة، والطوق: القدرة والاستطاعة، ويقال: طاق وأطاق كذا، أي: استطاعه وقدر عليه، قال أبو ذئب.
30

* فقلت له أجمل فوق طوقك إنها
*
مطبعة من يأتها لا يضيرها
*
الشهر مصدر: شهر الشيء يشهره، أظهره ومنه الشهرة، وبه سمي الشهر، وهو: المدة الزمانية التي يكون مبدأ الهلال فيها خافيا إلى أن يستسر، ثم يطلع خافيا. سمي بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات وغيرها من أمورهم وقال الزجاج: الشهر الهلال. قال:
والشهر مثل قلامة الظفر
سمي بذلك لبيانه، وقيل: سمي الشهر شهرا باسم الهلال إذا أهل سمي شهرا، وتقول العرب: رأيت الشهر أي: هلاله. قال ذو الرمة (شعرا).
ترى الشهر قبل الناس وهو نحيل
ويقال: أشهرنا، أي: أتى علينا شهر، وقال الفراء: لم أسمع منه فعلا إلا هذا، وقال الثعلبي: يقال شهر الهلال إذا طلع، ويجمع الشهر قلة على: أفعل، وكثرة على: فعول، وهما مقيسان فيه.
رمضان علم على شهر الصوم، وهو علم جنس، ويجمع على: رمضانات وأرمضة، وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمضى، وهو: شدة الحرة، كما سمي الشهر ربيعا من مدة الربيع، وجمادى من مدة الجمود، ويقال: رمض الصائم يرمض: احترق جوفه من شدة العطش، ورمضت الفصال: أحرق الرمضاء أخفافها فبركت من شدة الحر، وانزوت إلى ظل أمهاتها، ويقال: أرمضته الرمضاء: أحرقته، وأرمضني الأمر.
وقيل: سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي: يحرقها بالأعمال الصالحة، وقيل: لأن القلوب تحترق من الموعظة فيه والفكرة في أمر الآخرة، وقيل: من رمضت
النصل: رققته بين حجرين ليرق، ومنه: نصل رميض ومرموض، عن ابن السكيت. وكانوا يرمضون أسلحتهم في هذا الشهر ليحاربوا بها في شوال قبل دخول الأشهر الحرام، وكان هذا الشهر في الجاهلية يسمى: ناتقا أنشد المفضل.
31

* وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى
*
وولت على الأدبار فرسان خثعما
*
وقال الزمخشري: الرمضان، مصدر رمض إذا احترق من الرمضاء. انتهى. ويحتاج في تحقيق أنه مصدر إلى صحة نقل لأن فعلانا ليس مصدر اللازم بل، إن جاء فيه ذلك كان شاذا، والأولى أن يكون مرتجلا منقولا.
وقيل: هو مشتق من الرمض، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر الأرض من الغبار.
القرآن: مصدر قرأ قرآنا. قال حسان، رضي الله عنه:
* محوا باسمك عنوان السجود به
*
يقطع الليل تسبيحا وقرآنا
*
أي: وقراءة وأطلق على ما بين الدفتين من كلام الله عز وجل، وصار علما على ذلك، وهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول في الأصل، ومعنى: قرآن، بالهمز: الجمع لأنه يجمع السور، كما قيل في القرء، وهو: إجماع الدم في الرحم أولا، لأن القارئ يلقيه عند القراءة من قول العرب: ما قرأت هذه الناقة سلا قط: أي: ما رمت به، ومن لم يهمز فالأظهر أن يكون ذلك من باب النقل والحذف، أو تكون النون أصلية من: قرنت الشيء إلى الشيء: ضممته، لأن ما فيه من السور والآيات والحروف مقترن بعضها إلى بعض. أو لأن ما فيه من الحكم والشرائع كذلك، أو ما فيه من الدلائل ومن القرائن، لأن آياته يصدق بعضها بعضا، ومن زعم من: قريت الماء في الحوض، أي: جمعته، فقوله فاسد لاختلاف المادتين.
السفر: مأخوذ من قولهم: سفرت المرأة إذا ألقت خمارها، والمصدر السفور. قال الشاعر.
* وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
*
فقد رابني منها الغداة سفورها
*
وتقول: سفر الرجل ألقى عمامته، وأسفر الوجه، والصبح أضاء الأزهري سمي مسافرا لكشف قناع الكن عن وجهه، وبروزه للأرض الفضاء، والسفر، بسكون الفاء: المسافرون، وهو اسم جمع: كالصحب والركب، والسفر من الكتب: واحد الأسفار لأنه يكشف عما تضمنة.
اليسر: السهولة، يسر: سهل، ويسر: سهل، وأيسر: استغنى، ويسر، من الميسر، وهو: قمار، معروف. وقال علقمة:.
* لا ييسرون بخيل قد يسرت بها
*
وكل ما يسر الأقوام مغروم
*
وسميت اليد اليسرى تفاؤلا، أو لأنه يسهل بها الأمر لمعاونتها اليمنى.
العسر: الصعوبة والضيق، ومنه أعسر اعسارا، وذو عسرة، أي: ضيق.
الإ كمال: الإتمام.
والإجابة: قد يراد بها السماع، وفي الحديث أن أعرابيا قال: يا محمد. قال: قد أجبتك. وقالوا:
32

دعاء من لا يجيب، أي: من لا يسمع، كما أن السماع قد يراد به الإجابة، ومنه: سمع الله لمن حمده. وأنشد ابن الاعرابي حيث قال:
* دعوت الله حتى خفت أن لا
*
يكون الله يسمع ما أقول
*
وجهة المجاز بينهما ظاهرة لأن الإجابة مترتبة على السماع، والإجابة حقيقة إبلاغ السائل ما دعا به، وأجاب واستجاب بمعنى، وألفه منقلبة عن واو، يقال: جاب يجوب: قطع، فكأن المجيب اقتطع للمسائل ما سأل أن يعطاه، ويقال: أجابت المساء بالمطر، وأجابت الأرض بالنبات، كأن كلا منهما سأل صاحبه فأجابه بما سأل.
قال زهير.
* وغيث من الوسمى حلو بلاغة
*
أجابت روابيه النجا وهواطل
*
الرشد. ضد الغي، يقال: رشد بالفتح، رشدا، ورشد بالكسر رشدا، وأرشدت فلانا: هديته، وطريق أرشد، أي: قاصد، والمراشد: مقاصد الطريق، وهو لرشده، أي: هو لحلال، وهو خلاف هو لزينة، وأم راشد: المفازة، وبنو رشدان: بطن من العرب، وبنو راشد قبيلة كبيرة من البربر.
الرفث: مصدر رفث، ويقال: أرفث: تكلم بالفحش. قال العجاج:
* ورب أسراب حجيج كظم
*
عن اللغا ورفث التكلم
*
وقال ابن عباس، والزجاج، وغيرهما: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من المرأة. وأنشد ابن عباس:
* وهن يمشين بنا هميسا
*
إن تصدق الطيرننك لميسا
*
فقيل له: أترفث وأنت محرم، فقال: إنما الرفث عند النساء، وفي الحديث: (من حج هذا البنية فلم يرفث ولم يفسق خرج منها كيوم ولدته أمة). وقيل: الرفث: الجماع، واستدل على ذلك بقول الشاعر:
* ويرين من أنس الحديث زوانيا
*
ولهن عن رفث الرجال نفار
*
وبقول الآخر.
33

* فبأتوا يرفثون وبات منا
*
رجال في سلاحهم ركوبا
*
وبقول الآخر:
* فظلنا هناك في نعمة
*
وكل اللذاذة غير الرفث
*
ولا دلالة في ذلك، إذ يحتمل أن يكون أراد المقدمات: كالقبلة والنظرة والملاعبة.
أختان: من الخيانة، يقال: خان خونا وخيانة، إذا لم يف، وذلك ضد الأمانة، وتخونت الشيء: نقصته، ومنه الخيانة، وهو ينقص المؤتمن. وقال زهير:
* بآرزة الفقارة لم يخنها
*
قطاف في الركاب ولا خلاء
*
وتخونه وتخوله: تعهده.
الخيط. معروف، ويجمع على فعول وهو فيه مقيس، أعني في فعل الاسم الياء العين نحو: بيت وبيوت، وجيب وجيوب، وغيب وغيوب، وعين وعيون، والخيط، بكسر الخاء: الجماعة من النعام، قال الشاعر:
* فقال ألا هذا صوار وعانة
*
وخيط نعام يرتقي متفرق
*
البياض والسواد لونان معروفان، يقال منهما: بيض وسود. فهو أبيض وأسود، ولم يعل العين بالنقل والقلب لأنها في معنى ما يصح وهما: أبيض وأسود.
العكوف: الإقامة، عكف بالمكان: أقام به، قال تعالى: * (يعكفون على أصنام لهم) * وقال الفرزدق يصف الجفان:
* ترى حولهن المعتفين كأنهم
*
على صنم في الجاهلية عكف
*
وقال الطرماح:
* فباتت بنات الليل حولي عكفا
*
عكوف البواكي بينهن صريع
*
وفي الشرع عبارة عن عكوف مخصوف، وقد بين في كتب الفقه.
الحد، قال الليث: حد الشيء: منتهاه
34

ومنقطعه، والمراد بحدود الله مقدراته بمقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.
الإدلاء: الإرسال للدلو، اشتق منه فعل، فقالوا: أدلى دلوه، أي: أرسلها ليملأها، وقيل: أدلى فلان بماله إلى الحاكم: رفعه. قال:
* وقد جعلت إذا ما حاجة عرضت
*
بباب دارك أدلوها بأقوام
*
ويقال: أدلى فلان بحجته: قام بها، وتدلى من كذا أي: هبط. قال:
* كتيس الظباء الأعفر انضرجت له
*
عقاب تدلت من شماريخ ثهلان
*
* (رحيم يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) *: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أخبر تعالى: أولا بكتب القصاص وهو: إتلاف النفوس، وهو من أشق التكاليف، فيجب على القاتل إسلام نفسه للقتل، ثم أخبر ثانيا بكتب الوصية وهو: إخراج المال الذي هو عديل الروح، ثم انتقل ثالثا إلى كتب الصيام، وهو: منهك للبدن، مضعف له، مانع وقاطع ما ألفه الإنسان من الغذاء بالنهار، فابتداء بالأشق ثم بالأشق بعده، ثم بالشاق فبهذا انتقال فيما كتبه الله على عباده في هذه الآية، وكان فيما قبل ذلك قد ذكر أركان الإسلام ثلاثة: الإيمان، والصلاة، والزكاة، فأتى بهذا الركن الرابع، وهو: الصوم.
وبناء * (كتاب) * للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة، وحذف الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى، لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى
، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يبني الفعل للفاعل، كما قال تعالى: * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * * (كتب الله لاغلبن أنا ورسلى) * * (أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان) * وهذا من لطيف علم البيان.
أما بناء الفعل للفاعل في قوله: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * فناسب لاستعصاء اليهود وكثرة مخالفاتهم لأنبيائهم بخلاف هذه الأمة المحمدية، ففرق بين الخطابين لافتراق المخاطبين، ونادى المؤمنين عند إعلامهم بهذا المكتوب الثالث الذي هو الصيام لينبههم على استماع ما يلقي إليهم من هذا التكليف، ولم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو: حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها، وقدم الجار والمجرور على المفعول به الصريح وإن كان أكثر الترتيب العربي بعكس ذلك، نحو: ضرب زيد بسوط، لأن ما احتيج في تعدي الفعل إليه إلى واسطة دون ما تعدى إليه بغير واسطة، لأن البداءة بذكر المكتوب عليه أكثر من ذكر المكتوب لتعلق الكتب لمن نودي، فتعلم نفسه أولا أن المنادى هو المكلف، فيرتقب بعد ذلك لما كلف به.
والألف واللام في: الصيام، للعهد إن كانت قد سبقت تعبداتهم به، أو للجنس إن كانت لم تسبق.
وجاء هذا المصدر على فعال، وهو أحد البنائين الكثيرين في مصدر هذا النوع من الفعل، وهو الفعل الواوي العين، الصحيح الآخر، والبناءان هما فعول وفعال، وعدل عن الفعول وإن كان الأصل لاستثقال الواوين، وقد جاء منه شيء على الأصل: كالفوور، ولثقل اجتماع الواوين همز بعضهم فقال: الفؤور.
* (كما كتب) * الظاهر أن هذا المجرور في موضع الصفة لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه على ما سبق، أي: كتبا مثل ما كتب أو كتبه، أي: الكتب منها كتب، وتكون السببية قد وقع في مطلق الكتب وهو الإيجاب، وإن كان متعلقه مختلفا بالعدد أو بغيره، وروي
35

هذا المعنى عن معاذ بن جبل، وعطاء، وتكون إذ ذاك ما مصدرية.
وقيل: الكاف في موضع نصب على الحال من الصيام، أي: مشبها ما كتب على الذين من قبلكم، وتكون ما موصولة أي: مشبها الذي كتب عليكم، وذو الحال هو: الصيام، والعامل فيها العامل فيه، وهو: كتب عليكم.
وأجاز ابن عطية أن تكون الكاف في موضع صفة لصوم محذوف، التقدير: صوما كما، وهذا فيه بعد، لأن تشبيه الصوم بالكتابة لا يصح، هذا إن كانت ما مصدرية، وأما إن كانت موصولة ففيه أيضا بعد، لأن تشبيه الصوم بالمصوم لا يصح إلا على تأويل بعيد.
وأجاز بعض النحاة أن تكون الكاف في موضع رفع على أنها نعت لقوله: الصيام، قال: إذ ليس تعريفه بمستحسن لمكان الإجمال الذي فيه مما فسرته الشريعة، فلذلك جاز نعته بكما، إذ لا ينعت بها إلا النكرات، فهي بمنزلة: * (كتب عليكم الصيام) * انتهى كلامه، وهو هدم للقاعدة النحوية من وجوب توافق النعت والمنعوت في التعريف والتنكير، وقد ذهب بعضهم إلى نحو من هذا، وأن الألف واللام إذا كانت جنسية جاز أن يوصف مصحوبها بالجملة، وجعل من ذلك قوله تعالى: * (وءاية لهم اليل نسلخ منه النهار) * ولا يقوم دليل على إثبات هدم ما ذهب إليه النحويون، وتلخص في: ما، من قوله: كما وجهان أحدهما: أن تكون مصدرية، وهو الظاهر، والآخر: أن تكون موصولة، بمعنى. الذي.
* (على الذين من قبلكم) *: ظاهره عموم الذين من قبلنا من الأنبياء وأممهم من آدم إلى زماننا. وقال علي: أولهم آدم، فلم يفترضها عليكم، يعني: أن الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم، فلم يفترضها عليكم خاصة، وقيل: الذين من قبلنا هم النصارى.
قال الشعبي وغيره: والمصوم معين وهو رمضان فرض على الذين من قبلنا وهم النصارى، احتاطوا له بزيادة يوم قبله ويوم بعده قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوما، فصعب عليهم في الحر، فنقلوه إلى الفصل الشمسي.
قال النقاش: وفي ذلك حديث عن دغفل، والحسن، والسدي.
وقيل: بل مرض ملك من ملوكهم، فنذر أن برئ أن يزيد فيه عشرة أيام، ثم آخر سبعة، ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.
وقيل: كان النصارى أولا يصومون، فإذا أفطروا فلا يأكلون ولا يشربون ولا يطؤون إذا ناموا، ثم انتبهوا في الليل، وكان ذلك في أول الإسلام، ثم نسخ بسبب عمر، وقيس بن صرمة. قال السدي أيضا، والربيع وأبو العالية.
قيل: وكذا كان صوم اليهود، فيكون المراد: بالذين من قبلنا، اليهود والنصارى، وقيل: الذين من قبلنا: هم اليهود خاصة، فرض علينا كما فرض عليهم، ثم نسخه الله بصوم رمضان.
قال الراغب: للصوم فائدتان رياضة الإنسان نفسه عن ما تدعوه إليه من الشهوات، والاقتداء بالملأ الأعلى على قدر الوسع. انتهى. وحكمة التشبيه أن الصوم عبادة شاقة، فإذا ذكر أنه كان مفروضا على من تقدم من الأمم سهلت هذه العبادة.
* (تتقون) * الظاهر: تعلق، لعل بكتب، أي: سبب فرضية الصوم هو رجاء حصول التقوى لكم، فقيل: المعنى تدخلون في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم، وقيل: تجعلون بينكم وبين النار وقاية بترك المعاصي، فإن الصوم لإضعاف الشهوة وردعها، كما قال عليه السلام (فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء).
وقيل: تتقون الأكل والشرب والجماع في وقت وجوب الصوم، قاله السدي.
وقيل: تتقون المعاصي، لأن الصوم يكف عن كثير مما تتشوق إليه النفس، قاله الزجاج.
وقيل: تتقون محظورات الصوم، وهذا راجع لقول السدي.
* (أياما معدودات) * إن كان ما فرض صومه هنا هو رمضان، فيكون قوله أياما معدودات عني به رمضان، وهو قول ابن أبي ليلى وجمهور المفسرين، ووصفها بقوله: معدودات، تسهيلا على المكلف بأن هذه الأيام يحصرها العد ليست بالكثيرة التي تفوت العد، ولهذا وقع الاستعمال بالمعدود كناية على القلائل، كقوله: * (فى أيام معدودات) * * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) *
36

* (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) *.
وإن كان ما فرض صومه هو ثلاثة أيام من كل شهر، وقيل: هذه الثلاثة ويوم عاشوراء، كما كان ذلك مفروضا على الذين من قبلنا، فيكون قوله: * (أياما معدودات) * عنى بها هذه الأيام، وإلى هذا ذهب ابن عباس، وعطاء.
قال ابن عباس، وعطاء، وقتادة: هي الأيام البيض، وقيل: وهي: الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر، وقيل: الثالث عشر ويومان بعده، وروي في ذلك حديث. (إن البيض هي الثالث عشر ويومان بعده) فإن صح لم يمكن خلافه.
وروي المفسرون أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا، وصوم يوم عاشوراء، فصاموا كذلك في سبعة عشر شهرا، ثم نسخ بصوم رمضان.
قال ابن عباس: أول ما نسخ بعد الهجرة أمر القبلة، والصوم، ويقال: نزل صوم شهر رمضان قبل بدر بشهر وأيام، وقيل: كان صوم تلك الأيام تطوعا، ثم فرض، ثم نسخ.
قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن): احتج من قال إنها غير رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم): (صوم رمضان نسخ كل صوم)، فدل على أن صوما آخر كان قبله، ولأنه تعالى ذكر المريض والمسافر في هذه الآية ثم ذكر حكمهما في الآية الآتية بعده، فإن كان هذا الصوم هو صوم رمضان لكان هذا تكريرا، ولأن قوله تعالى: * (فدية) * يدل على التخيير، وصوم رمضان واجب على التعيين، فكان غيره، وأكثر المحققين على أن المراد بالأيام: شهر رمضان، لأن قوله: * (كتب عليكم الصيام) * يحتمل يوما ويومين وأكثر، ثم بينه بقوله: * (شهر رمضان) * وإذا أمكن حمله على رمضان فلا وجه لحمله على غيره، وإثبات النسخ؛ وأما الخبر فيمكن أن يحمل على نسخ كل صوم وجب في الشرائع المتقدمة، أو يكون ناسخا لصيام وجب لهذه الأمة، وأما ما ذكر من التكرار فيحتمل أن يكون لبيان إفطار المسافر والمريض في رمضان في الحكم، بخلاف التخيير في المقيم، فإنه يجب عليهما القضاء، فلما نسخ عن المقيم الصحيح وألزم الصوم، كان من الجائز أن نظن أن حكم الصوم، لما انتقل إلى التخيير عن التضييق، يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم من حيث تغير الحكم في الصوم، لما بين أن حال المريض والمسافر في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالهما أولا، فهذه فائدة الإعادة، وهذا هو الجواب عن الثالث، وهو قولهم: لأن قوله تعالى: * (فدية) * يدل على التخيير إلى آخره، لأن صوم رمضان كان واجبا مخيرا، ثم صار معينا. وعلى كلا القولين لا بد من النسخ في الآية، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجبا مخيرا، والآية التي بعد تدل على التضييق، فكانت ناسخة لها، والاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول. انتهى كلامه.
وانتصاب قوله: * (أياما) * على إضمار فعل يدل عليه ما قبله، وتقديره: صوموا أياما معدودات، وجوزوا أن يكون منصوبا بقوله: الصيام، وهو اختيار الزمخشري، إذ لم يذكره غيره، قال: وانتصاب أياما بالصيام كقولك: نويت الخروج يوم الجمعة انتهى كلامه وهو خطأ، لأن معمول المصدر من صلته، وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله: * (كما كتب) * فكما كتب ليس لمعمول المصدر، وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتا لمصدر محذوف، أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير: أن تعريف الصيام جنس، فيوصف بالنكرة، لم يجز أيضا، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز إعماله، فإن قدرت الكاف نعتا لمصدر من الصيام، كما قد قال به بعضهم، وضعفناه قبل، فيكون التقدير: صوما كما كتب، جاز أن يعمل في أياما الصيام، لأنه إذ ذاك العامل في صوما هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس لمعمول للمصدر، وأجازوا أيضا انتصاب أياما على الظرف، والعامل فيه كتب، وأن يكون مفعولا على السعة ثانيا
37

والعامل فيه كتب، وإلى هذا ذهب الفراء، والحوفي، وكلا القولين خطأ.
أما النصب على الظرف فإنه محل للفعل، والكتابة ليست واقعة في الأيام، لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الإنسان لولده وكان ولد يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة، لم يكن أن يكون يوم الجمعة معمولا لسرني، لأن، السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة، إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه، وأما النصب على المفعول اتساعا فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفا لكتب، وقد بينا أن ذلك خطأ.
والصوم: نفل وواجب، والواجب معين الزمان، وهو: صوم رمضان والنذر المعين، وما هو في الذمة، وهو: قضاء رمضان، والنذر غير المعين، وصوم الكفارة. وأجمعوا على اشتراط النية في الصوم، واختلفوا في زمانها.
فمذهب أبي حنيفة: أن رمضان، والنذر المعين، والنفل يصح بنية من الليل، وبنية إلى الزوال، وقضاء رمضان، وصوم الكفارة، ولا يصح إلا بنية من الليل خاصة.
ومذهب مالك على المشهور: أن الفرض والنفل لا يصح إلا بنية من الليل.
ومذهب الشافعي: أنه لا يصح واجب إلا بنية من الليل.
ومذهب مالك: أن نية واحدة تكفي عن شهر رمضان.
وروي عن زفر أنه إذا كان صحيحا مقيما فأمسك فهو صائم، وإن لم ينو.
ومن صام رمضان بمطلق نية الصوم أو بنية واجب آخر، فقال أبو حنيفة: ما تعين زمانه يصح بمطلق النية، وقال مالك، والشافعي: لا يصح إلا بنية الفرض، والمسافر إذا نوى واجبا آخر وقع عما نوى، وقال أبو يوسف، ومحمد: يقع عن رمضان، فلو نوى هو أو المريض التطوع فعن أبي حنيفة: يقع عن الفرض، وعنه أيضا: يقع التطوع، وإذا صام المسافر بنية قبل الزوال جاز، قال زفر: لا يجوز النفل بنية بعد الزوال، وقال الشافعي: يجوز ولو أوجب صوم وقت معين فصام عن التطوع، فقال أبو يوسف: يقع على المنذور، ولو صام عن واجب آخر في وقت الصوم الذي أوجبه وقع عن ما نوى، ولو نوى التطوع وقضاء رمضان، فقال أبو يوسف: يقع عن القضاء، ومحمد قال: عن التطوع، ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان على القضاء في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع على النفل، ولو نوى الصائم الفطر فصومه تام، وقال الشافعي: يبطل صومه.
ودلائل هذه المسائل تذكر في كتب الفقه.
* (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * ظاهر اللفظ اعتبار مطلق المرض بحيث يصدق عليه الاسم، وإلى ذلك ذهب ابن سيرين، وعطاء، والبخاري. وقال الجمهور: هو الذي يؤلم، ويؤذي، ويخاف تمادية، وتزيده؛ وسمع من لفظ مالك: أنه المرض الذي يشق على المرء ويبلغ به التلف إذا صام، وقال مرة: شدة المرض والزيادة فيه؛ وقال الحسن، والنخعي: إذا لم يقدر من المرض على الصيام أفطر. وقال الشافعي: لا يفطر إلا من دعته ضرورة المرض إليه، ومتى احتمل الصوم مع المرض لم يفطر. وقال أبو حنيفة: إن خاف أن تزداد عينه وجعا أو حمى شديدة أفطر.
وظاهر اللفظ اعتبار مطلق السفر زمانا وقصدا.
وقد اختلفوا في المسافة التي تبيح الفطر، فقال ابن عمر، وابن عباس، والثوري وأبو حنيفة: ثلاثة أيام. وروى البخاري أن ابن عمر، وابن عباس كانا يفطران ويقصران في أربعة برد، وهي ستة عشر فرسخا، وقد روي عن ابن أبي حنيفة: يومان وأكثر ثلاث، والمعتبر السير الوسط لا غير من الإسراع والإبطاء.
وقال مالك: مسافة الفطر مسافة القصر، وهي يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا، وقال مرة: اثنان وأربعون، ومرة ستة وأربعون؛ وفي
38

المذهب: ثلاثون ميلا، وفي غير المذهب ثلاثة أميال.
وأجمعوا على أن سفر الطاعة من جهاد وحج وصلة رحم وطلب معاش ضروري مبيح.
فأما سفر التجارة والمباح ففيه خلاف، وقال ابن عطية: والقول بالإجازة أظهر، وكذلك سفر المعاصي مختلف فيه أيضا، والقول بالمنع أرجح. انتهى كلامه.
واتفقوا على أن المسافر في رمضان لا يجوز له أن يبيت الفطر، قالوا: ولا خلاف أنه لا يجوز لمؤمل السفر أن يفطر قبل أن يخرج، فان أفطر فقال أشهب: لا يلزمه شيء سافر، أو لم يسافر. وقال سحنون: عليه الكفارة سافر، أو لم يسافر، وقال عيسى، عن ابن القاسم: لا يلزمه إلا قضاء يومه، وروي عن أنس أنه أفطر وقد أراد السفر، ولبس ثياب السفر، ورجل دابته، فأكل ثم ركب. وقال الحسن يفطر إن شاء في بيته يوم يريد أن يخرج، وقال أحمد: إذا برز عن البيوت، وقال إسحاق: لا بل حتى يضع رجله في الرحل.
ومن أصبح صحيحا ثم اعتل أفطر بقية يومه، ولو أصبح في الحضر ثم سافر فله أن يفطر، وهو قول ابن عمر، والشعبي، وأحمد، وإسحاق، وقيل: لا يفطر يومه ذلك، وإن نهض في سفره وهو قول الزهري، ويحيى الأنصاري، ومالك، والأوزاعي، وابن حنيفة، والشافعي، وأبي ثور، وأصحاب الرأي.
واختلفوا إن أفطر، فكل هؤلاء قال: يقضي ولا يكفر. وقال ابن كنانة: يقضي ويكفر، وحكاه الباجي عن الشافعي، وقال به ابن العربي واختاره، وقال أبو عمر بن عبد البر: ليس بشيء، لأن الله أباح له الفطر في الكتاب والسنة، ومن أوجب الكفارة فقد أوجب ما لم يوجبه الله.
وظاهر قوله: * (أو على سفر) * إباحة الفطر للمسافر، ولو كان بيت نية الصوم في السفر فله أن يفطر وإن لم يكن له عذر، ولا كفارة عليه، قاله الثوري، وأبو حنيفة، والأوزاعي، والشافعي وسائر فقهاء الكوفة.
وقال مالك: عليه القضاء والكفارة، وروي عنه أيضا أنه: لا كفارة عليه، وهو قول أكثر أصحابه.
وموضع أو على السفر، نصب لأنه معطوف على خبر: كان، ومعنى: أو هنا التنويع، وعدل عن اسم الفاعل وهو: أو مسافر إلى، أو على سفر، إشعارا بالاستيلاء على السفر لما فيه من الاختيار للمسافر، بخلاف المرض، فإنه يأخذ الإنسان من غير اختيار، فهو قهري، بخلاف السفر؛ فكان السفر مركوب الإنسان يستعلى عليه، ولذلك يقال: فلان على طريق، وراكب طريق إشعارا بالاختيار، وأن الإنسان مستول على السفر مختار لركوب الطريق فيه.
* (فعدة من أيام أخر) * قراءة الجمهور برفع عدة على أنه مبتدأ محذوف الخبر، وقدر: قبل، أي: فعليه عدة وبعد أي: أمثل له، أو خبر مبتداء محذوف، أي: فالواجب، أو: فالحكم عدة.
وقرئ: فعدة، بالنصب على إضمار فعل، أي: فليصم عدة، وعدة هنا بمعنى معدود، كالرعي والطحن، وهو على حذف مضاف، أي: فصوم عدة ما أفطر، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام، التقدير: فأفطر فعدة، ونظير في الحذف: * (أن اضرب بعصاك البحر فانفلق) * أي: فضرب فانفلق. ونكر * (عدة) * ولم يقل: فعدتها، أي: فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاء، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه، والعدة المعدود، فكان التنكير أخصر * (ومن * أيام) * في موضع الصفة لقوله فعدة، وأخر: صفة لأيام، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة.
فمن الأول: * (إلا أياما معدودة) * ومن الثاني: * (إلا أياما معدودات) * فمعدودات: جمع لمعدودة. وأنت لا تقول: يوم معدودة، إنما تقول: معدود، لأنه مذكر، لكن جاز ذلك في جمعه، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنث، فكان، يكون: من أيام أخرى، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأخر لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله * (فعدة) *، فلا يدرى أهو وصف لعدة، أم لأيام، وذلك لخفاء الإعراب لكونه مقصورا، بخلاف: * (ءاخر) * فإنه نص في أنه صفة لأيام لاختلاف إعرابه مع إعراب فعدة، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو، وهي جمع أخرى مقابلة أخر؟ وأخر
39

مقابل أخر بين؟ لا جمع أخرى لمعنى أخرة، مقابلة الأخر المقابل للأول، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة. وقد اختلفا حكما ومدلولا. أما اختلاف الحكم فلأن تلك غير مصروفة، وأما اختلاف المدلول: فلأن مدلول أخرى، التي جمعها أخر التي لا تتصرف، مدلول: غير ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول: متأخرة، وهي قابلة الأولى. قال تعالى: * (قالت * أولاهم لاخراهم) * فهي بمعنى: الأخرة، كما قال تعالى: * (وإن لنا للاخرة والاولى) * وأخر الذي مؤنثة: أخرى مفردة آخر التي لا تنصرف بمعنى: غير، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلا من جنس ما قبله، تقول: مررت بك وبرجل آخر، ولا يجوز: اشتريت هذا الفرس وحمارا آخر، لأن الحمار ليس من جنس الفرس، فأما قوله:
* صلى على عزة الرحمان وابنتها
*
ليلى، وصلى على جاراتها الآخر
*
فإنه جعل: ابنتها جارة لها، ولولا ذلك لم يجز، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابتا (التكميل).
قالوا: واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر، وأنه لا قضاء عليه إذا صام، لأنهم، كما ذكرنا، قدروا حذفا في الآية، والأصل: أن لا حذف، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر، فلو صاما لم يجزهما، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما.
قالوا: وروي عن أبي هريرة أنه قال: من صام في السفر فعليه القضاء وتابعه عليه شواذ من الناس، ونقل ذلك ابن عطية عن عمر، وابنه عبد الله، وعن ابن عباس: أن الفطر في السفر عزيمة ونقل غيره عن عبد الرحمن بن عوف: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وقال به قوم من أهل الظاهر، وفرق أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر فقال، فيما لخصناه في كتابنا المسمى بالأنور الأجلى في اختصار المحلي ما نصبه: ويجب على من سافر ولو عاصيا ميلا فصاعدا الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان، وليفطر المريض ويقضي بعد، ويكره صومه ويجزى، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه. وثبت بالخبر المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم) صام في السفر، وروي ذلك عنه أبو الدرداء، وسلمة بن المحنق، وأبو سعيد، وجابر، وأنس، وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر، بقوله لحمزة بن عمر، والأسلمي وقد قال: أصوم في السفر؟ قال: (إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر) وعلى قول الجمهور: أن محذوفا، وتقديره: فأفطر، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم.
واختلفوا في الأفضل، فذهب أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والشافعي في بعض ما روي عنهما: إلى أن الصوم أفضل، وبه قال من الصحابة: عثمان بن أبي العاص الثقفي، وأنس بن مالك.
قال ابن عطية: وذهب أنس بن مالك إلى الصوم، وقال: إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع، وذهب الأوزاعي وأحمد وإسحاق إلى أن الفطر أفضل، وبه قال من الصحابة ابن عمر، وابن عباس. ومن التابعين: ابن المسيب، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة.
قال ابن عطية: وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما: أيسرهما أفضلهما.
وكره ابن حنبل الصوم في السفر، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط، قاله الأوزاعي، وأبو حنيفة، وزاد الليث، والكفارة
40

وعن مالك القولان.
ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار، فقال جابر بن يزيد، والشافعي، ومالك فيما رواه ابن القاسم: يأكلان ولا يمسكان.
وقال أبو حنيفة، والأوزاعي والحسن بن صالح، وعبد الله بن الحسن: يمسكان بقية يومها. عن ما يمسك عنه الصائم.
وقال ابن شبرمة في المسافر: يمسك ويقضي، وفي الحائض: إن طهرت تأكل..
والظاهر من قوله: فعدة، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوما، قضى تسعة وعشرين يوما، وبه قال جمهور العلماء، وذهب الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الإيام. وروي عن مالك أنه يقضي بالأهلة، وروي عن الثوري أنه يقضي شهرا تسعة وعشرين يوما وإن كان رمضان ثلاثين، وهو خلاف الظاهر، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه: إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان، فإنه يجب القضاء بالعدد، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد.
وظاهر قوله تعالى: * (فعدة من أيام أخر) * أنه لا يلزم التتابع، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار وروي عن علي ومجاهد وعروة: أنه
لا يفرق، وفي قراءة أبي: فعدة من أيام أخر متتابعات، وظاهر الآية: أنه لا يتعين الزمان، بل تستحب المبادرة إلى القضاء. وقال داود: يجب عليه القضاء ثاني شوال، فلو لم يصمه ثم مات أثم، وهو محجوج بظاهر الآية، وبما ثبت في الصحيح عن عائشة قالت: كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه، إلا في شعبان لشغل من رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو برسول الله صلى الله عليه وسلم). وظاهر الآية أنه: من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر، أنه لا يجب عليه إلا القضاء فقط عن الأول، ويصوم الثاني. وبه قال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة، وداود، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، يجب عليه الفدية مع القضاء.
وقال يحيى بن أكتم القاضي روى وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا. وروي عن ابن عمر أنه: لا قضاء عليه إذا فرط في رمضان الأول، ويطعم عن كل يوم منه مدا من بر، ويصوم رمضان الثاني.
ومن أخر قضاء رمضان حتى مات فقال مالك، والثوري، والشافعي: لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره. وقال الليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو عبيدة، وأهل الظاهر: يصام عنه، وخصصوة بالنذر. وقال أحمد، وإسحاق: يطعم عنه في قضاء رمضان.
* (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * قرأ الجمهور: يطيقونه مضارع أطاق، وقرأ حميد يطوقونه من أطوق، كقولهم أطول في أطال، وهو الأصل. وصحة حرف العلة في هذا النحو شاذة من الواو ومن الياء، والمسموع منه: أجود، وأعول، وأطول. وأغيمت السماء، وأخيلت، وأغيلت المرأة وأطيب، وقد جاء الإعلال في جميعها وهو القياس، والتصحيح كما ذكرنا شاذ عند النحويين، إلا أبا زيد الأنصاري فإنه يرى التصحيح في ذلك مقيسا إعتبارا بهذه الإلفاظ النزرة المسموع فيها الإعتلال والنقل على القياس.
وقرأ عبد الله بن عباس في المشهور عنه: يطوقونه، مبنيا للمفعول من طوق على وزن قطع.
وقرأت عائشة، ومجاهد، وطاووس، وعمرو بن دينار: يطوقونه من أطوق، وأصله تطوق على وزن تفعل، ثم أدغموا التاء في الطاء، فأجتلبوا في الماضي والأمر همزة الوصل. قال بعض الناس: هو تفسير لا قراءة، خلافا لمن أثبتها قراءة، والذي قاله الناس خلاف مقالة هذا القائل، وأوردها قراءة.
وقرأت فرقة، منهم عكرمة: يطيقونه، وهي مروية عن مجاهد،
41

وابن عباس، وقرئ أيضا هكذا لكن بضم ياء المضارع على البناء للمفعول، ورد بعضهم هذه القراءة، وقال: هي باطلة لأنه مأخوذ من الطوق. قالوا: ولازمة فيه، ولا مدخل للياء في هذا المثال.
وقال ابن عطية: تشديد الياء في هذه اللفظة ضعيف انتهى. وإنما ضعف هذا، أو امتنع عند هؤلاء، لأنهم بنوا على أن الفعل على وزن تفعل، فأشكل ذلك عليهم، وليس كما ذهبوا إليه، بل هو على وزن: تفعيل من الطوق، كقولهم: تدير المكان وما بها ديار، فأصله: تطيوقون، اجتمعت ياء واو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء، فقيل: تطيق يتطيق، فهذا توجيه هذه القراءة وهو توجيه نحوي واضح.
(فهذه ست قراءات) يرجع معناها إلى الاستطاعة والقدرة، فالمبني منها للفاعل ظاهر، والمبني منها للمفعول معناه: يجعل مطيقا لذلك، ويحتمل قراءة تشديد الواو والياء أن يكون لمعنى التكليف، أي: يتكلفونه أو يكلفونه، ومجازه أن يكون من الطوق بمعنى القلادة، فكأنه قيل: مقلدون ذلك، أي: يجعل في أعناقهم، ويكون كناية عن التكليف، أي: يشق عليهم الصوم. وعلى هذين المعنيين حمل المفسرون قوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه) * والضمير عائد على الصوم، فاختلفوا، فقال معاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع، والحسن البصري، والشعبي، وعكرمة، وابن شهاب، والضحاك: كان الصيام على المقيمين القادرين مخيرا فيه، فمن شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، ثم نسخ ذلك * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * وهذا قول أكثر المفسرين، وقيل: ثم محذوف معطوف تقديره: يطيقونه، أو الصوم، لكونهم كانوا شبابا ثم عجزوا عنه بالشيخوخة، قاله سعيد بن المسيب والسدي.
وقيل: المعنى: وعلى الذين يطيقون الصوم، وهو بصفة المرض الذي يستطيع معه الصوم، فخير هذا بين أن يصوم وبين أن يفطر ويفدي، ثم نسخ ذلك بقوله: * (فليصمه) * فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم، قاله ابن عباس. وجوز بعضهم أن تكون: لا، محذوفة، فيكون الفعل منفيا، وقدره: وعلى الذين لا يطيقونه، قال: حذف: لا، وهي مرادة. قال ابن أحمد.
* آليت أمدح مقرفا أبدا
*
يبقى المديح ويذهب الرفد
*
وقال الآخر:
* فخالف، فلا والله تهبط تلعة
*
من الأرض إلا أنت للذل عارف
*
وقال امرؤ القيس:
* فقلت يمين الله أبر قاعدا
*
ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
*
42

وتقدير: لا، خطأ لأنه مكان إلباس. ألا ترى أن الذي يتبادر إليه الفهم، هو: أن الفعل مثبت، ولا يجوز حذف: لا، وإرادتها إلا في القسم، والأبيات التي استدل بها هي من باب القسم، وعلة ذلك مذكورة في النحو.
وقيل: * (الذين يطيقونه) * المراد: الشيخ الهرم، والعجوز، أي: يطيقونه بتكلف شديد، فأباح الله لهم الفطر والفدية، والآية على هذا محكمة، ويؤيده توجيه من وجه: يطوقونه، على معنى: يتكلفون صومه ويتجشمونه، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وأنها نزلت في الشيخ الفاني والعجوز الهرمة. وزيد عن علي: والمريض الذي لا يرجى برؤه، والآية عند مالك إنما هي في من يدركه رمضان وعليه صوم رمضان المتقدم، فقد كان يطيق في تلك المدة الصوم، فتركه، فعليه الفدية.
وقال الأصم: يرجع ذلك إلى المريض والمسافر لأن لهما حالين: حال لا يطيقان فيه الصوم، وقد بين الله حكمها في قوله: * (فعدة من أيام أخر) *. وحال يطيقان، وهي حالة المرض والسفر الذين لا يلحق بهما جهد شديد لو صاما، فخير بين أن يفطر ويفدي، فكأنه قيل: وعلى المرضى والمسافرين الذين يطيقونه.
والظاهر من هذه الأقوال القول الأول، وذلك أن الله تعالى لما ذكر فرض الصيام على المؤمنين قسمهم إلى قسمين: متصف بمظنة المشقة، وهو المريض والمسافر، فجعل حكم هذا أنه إذا أفطر لزمه القضاء ومطيق للصوم، فإن صام قضى ما عليه، وإن أفطر فدى: ثم نسخ هذا الثاني، وتقدم أن هذا كان، ثم نسخ.
والقائلون بأن الذين يطيقونه هم الشيوخ والعجز، تكون الآية محكمة على قولهم، واختلفوا، فقيل: يختص هذا الحكم بهؤلاء، وقيل: يتناول الحامل والمرضع، وأجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر عليه الفدية، هكذا نقل بعضهم، وليس هذا الإجماع بصحيح، لأن ابن عطية نقل عن مالك أنه قال: لا أرى الفدية على الشيخ الضعيف واجبة، ويستحب لمن قوي عليها. وتقدم قول مالك ورأيه في الآية.
وقال الشافعي: على الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما، الفدية، لتناول الآية لهما، وقياسا على الشيخ الهرم، والقضاء.
وروي في البويطي: لا إطعام عليهما. وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية، وأبطل القياس على الشيخ الهرم، لأنه لا يجب عليه القضاء، ويجب عليهما. قال: فلو أوجبنا الفدية مع القضاء كان جمعا بين البدلين، وهو غير جائز، وبه قال ابن عمر، والحسن، وأبو يوسف ومحمد وزفر.
وقال علي: الفدية بلا قضاء، وذهب ابن عمر، وابن عباس إلى أن الحامل تفطر وتفدي ولا قضاء عليها، وذهب الحسن، وعطاء، والضحاك، والزهري، وربيعة، ومالك، والليث إلى أن الحامل إذا أفطرت تقضي، ولا فدية عليها وذهب مجاهد، وأحمد إلى أنها تقضي وتفدي. وتقدم أن هذا مذهب الشافعي، وأما المرضع فتقدم قول الشافعي، وأبي حنيفة فيها إذا أفطرت. وقال مالك في المشهور تقضي وتفدي. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: لا إطعام على المرضع.
واختلفوا في مقدار ما يطعم من وجب عليه الإطعام، فقال إبراهيم، والقاسم بن محمد، ومالك والشافعي فيما حكاه عنه المزني. يطعم عن كل يوم مد؛ وقال الثوري: نصف صاع من بر، وصاع، من تمر أو زبيب، وقال قوم: عشاء وسحور، وقال قوم: قوت يوم، وقال أبو حنيفة وجماعة، يطعم عن كل يوم نصف صاع، من بر، وروي عن ابن عباس، وأبي هريرة، وقيس بن الكاتب الذي كان شريك رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الجاهلية وعائشة، وسعيد بن المسيب، في الشيخ الكبير: أنه يطعم عنه كل يوم نصف صاع.
وظاهر الآية: أنه يجب مطلق طعام، ويحتاج التقييد إلى دليل.
ولو جن في رمضان جميعه أو في شيء منه، فقال الشافعي: لا قضاء عليه ولو أفاق قبل أن
43

تغيب الشمس إذ مناط التكليف العقل، وقال مالك وعبيد الله العنبري: يقضي الصوم ولا يقضي الصلاة؛ وقال أبو حنيفة، والثوري ومحمد، وأبو يوسف، وزفر: إذا جن في رمضان كله فلا قضاء عليه، وإن أفاق في شيء منه قضاه كله.
وقرأ الجمهور: فدية طعام مسكين، بتنوين الفدية، ورفع طعام، وإفراد مسكين، وهشام كذلك إلا أنه قرأ: مساكين بالجمع، وقرأ نافع، وابن ذكوان، بإضافة الفدية والجمع وإفراد الفدية، لأنها مصدر. ومن نون كان طعام بدلا من فدية، وكان في ذلك تبيين للفدية ما هي. ومن لم ينون فأضاف كان في ذلك تبيين أيضا وتخصص بالإضافة، وهي إضافة الشيء إلى جنسه، لأن الفدية اسم للقدر الواجب، والطعام يعم الفدية وغيرها، وفي (المنتخب) أنه يجوز أن تكون هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة. قال: لأن الفدية لها ذات، وصفتها أنها طعام، وهذا ليس بجيد، لأن طعاما ليس بصفة، وهو هنا إما أن يكون يراد به المصدر كما يراد بعطاء الإعطاء، أو يكون يراد به المفعول كما يراد بالشراب المشروب، وعلى كلا التقديرين لا يحسن به الوصف.
أما إذا كان مصدرا فإنه لا يوصف به إلا عند إرادة المبالغة، ولا معنى لها هنا، وأما إذا أريد به المفعول فلأنه ليس جاريا على فعل ولا منقاسا، فلا تقول: في
مضروب ضراب، ولا في مقتول قتال، وإنما هو شبيه الرعي والطحن والدهن، لا يوصف بشيء منها، ولا يعمل عمل المفعول، ألا ترى أنه لا يجوز فيها، مررت برجل طعام خبزه ولا شراب ماؤه، فيرفع ما بعدها بها؟ وإذا تقرر هذا فهو ضعف أن يكون ذلك من إضافة الموصوف إلى صفته، ومن قرأ مساكين، قابل الجمع بالجمع، ومن أفرد فعلى مراعاة أفراد العموم أي: وعلى كل واحد ممن يطيق الصوم لكل يوم يفطره إطعام مسكين، ونظيره * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * أي: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة. وتبين من أفراد المسكين أن الحكم لكل يوم يفطر فيه مسكين، ولا يفهم ذلك من الجمع.
* (فمن تطوع خيرا فهو خير له) * أي: من زاد على مقدار الفدية في الطعام للمسكين، قاله مجاهد، وعلى عدد من يلزمه إطعامه، فيطعم مسكينين فصاعدا قاله ابن عباس، وطاووس، وعطاء، والسدي. أو جمع بين الإطعام والصوم، قاله ابن شهاب.
وانتصاب * (خيرا) * على أنه مفعول على إسقاط الحرف، أي: بخير، لأنه تطوع لا يتعدى بنفسه، ويحتمل أن يكون ضمن، تطوع معنى فعل متعد، فانتصب خيرا، على أنه مفعول به، وتقديره، ومن فعل متطوعا خيرا، ويحتمل أن يكون انتصابه على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: تطوعا خيرا، ودل وصف المصدر بالخيرية على خيرية المتطوع به، وتقدم ذكر قراءة من قرأ يطوع، فجعله مضارع أطوع، وأصله تطوع فأدغم، واجتلبت همزة الوصل. ويلزم في هذه القراءة أن تكون: من شرطية، ويجوز ذلك في قراءة من جعله فعلا ماضيا، والضمير في فهو، عائد على المصدر المفهوم من تطوع، أي: فالتطوع خير له، نحو قوله: * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * أي: العدل، وخير: خبر: لهو، وهو، هنا أفعل التفضيل، والمعنى: أن الزيادة على الواجب، إذا كان يقبل الزيادة، خير من الاقتصار عليه، وظاهر هذه الآية العموم في كل تطوع بخير، وإن كانت وردت في أمر الفدية في الصوم، وظاهر التطوع: التخيير في أمر الجواز بين الفعل والترك، وأن الفعل أفضل. ولا خلاف في ذلك، فلو شرع فيه ثم أفسده، لزمه القضاء عند أبي حنيفة، ولا قضاء عليه عند الشافعي.
* (وأن تصوموا خير لكم) * وقرأ أبي: والصوم خير لكم. هكذا نقل عن ابن عطية. ونقل الزمخشري: أن قراءته: والصيام خير لكم، والخطاب
44

للمقيمين المطيقين الصوم، أي: خير لكم من الفطر والفدية، أو للمريض والمسافر، أي: خير لكم من الفطر والقضاء، أو: لمن أبيح له الفطر من الجميع. أقوال ثلاثة.
وأبعد من ذهب إلى أنه متعلق بأول الآية، وهو * (رحيم يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) * أي: وأن تصوموا ذلك المكتوب خير لكم، والظاهر الأول، وفيه حض على الصوم.
* (إن كنتم تعلمون) * من ذوي العلم والتمييز، ويجوز أن يحذف اختصارا لدلالة الكلام عليه أي: ما شرعته وبينته لكم من أمردينكم، أو فضل أعمالكم وثوابها، أو كنى بالعلم عن الخشية أي: تخشون الله، لأن العلم يقتضي خشيته * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *.
* (شهر رمضان) * قرأ الجمهور برفع شهر، وقرأه بالنصب مجاهد، وشهر: دين حوشب وهارون الأعور: عن أبي عمرو، وأبو عمارة: عن حفص عن عاصم. وإعراب شهر يتبين على المراد بقوله: * (أياما معدودات) * فإن كان المراد بها غير أيام رمضان فيكون رفع شهر على أنه مبتدأ، وخبره قوله: * (الذى أنزل فيه القرآن) * ويكون ذكر هذه الجملة تقدمة لفرضية صومه بذكر فضيلته والتنبيه على أن هذا الشهر هو الذي أنزل فيه القرآن هو الذي يفرض عليكم صومه، وجوزوا أن يكون: الذي أنزل، صفة. إما للشهر فيكون مرفوعا، وإما لرمضان فيكون مجرورا.
وخبر المبتدأ والجملة بعد الصفة من قوله: * (فمن شهد منكم الشهر) * وتكون الفاء في: فمن، زائدة على مذهب أبي الحسن، ولا تكون هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان منها للشرط، لأن شهر رمضان لا يشبه الشرط، قالوا: ويجوز أن لا تكون الفاء زائدة، بل دخلت هنا كما دخلت في خبر الذي، ومثله: * (قل إن الموت الذى تفرون منه فإنه ملاقيكم) * وهذا الذي قالوه ليس بشيء، لأن الذي، صفة لعلم، أو لمضاف لعلم، فليس يتخيل فيه شيء ما من العموم، ولمعنى الفعل الذي هو * (أنزل فيه القرآن) * لفظا ومعنى، فليس كقوله قل: * (إن الموت الذى تفرون منه) * لأن الموت هنا ليس معينا، بل فيه عموم. وصلة الذي مستقبلة، وهي: تفرون، وعلى القول، بأن الجملة من قوله * (فمن شهد) * هي الخبر، يكون العائد على المبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه، أي: * (فمن شهده منكم فليصمه، فأقام لفظ المبتدأ مقام الضمير، وحصل به الربط كما في قوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
وذلك لتفخيمه وتعظيمه وإن كان المراد بقوله: * (أياما معدودات) * أيام رمضان، فجوزوا في إعراب شهر وجهين.
أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هو: شهر رمضان، أي: المكتوب شهر رمضان، قاله الأخفش، وقدره الفراء: ذلكم شهر وهو قريب.
الثاني: أن يكون بدلا من قوله: الصيام أي: كتب عليكم شهر رمضان، قاله الكسائي، وفيه بعد لوجهين: أحدهما: كثرة الفضل بين البدل والمبدل منه، والثاني: أنه لا يكون إذ ذاك إلا من بدل الاشتمال، لا وهو عكس بدل الاشتمال، لأن بدل الاشتمال في الغالب يكون بالمصادر كقوله تعالى: * (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه) * وقول الأعشى:
45

* لقد كان في حول ثواء ثويته
*
تقضي لبانات ويسأم سائم
*
وهذا الذي ذكره الكسائي بالعكس، فلو كان هذا التركيب: كتب عليكم شهر رمضان صيامه، لكان البدل إذ ذاك صحيحا وعكس، ويمكن توجيه قول الكسائي على أن يكون على حذف مضاف، فيكون من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة تقديره: صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لكن في ذلك مجاز الحذف والفصل الكثير بالجمل الكثيرة، وهو بعيد، ويجوز على بعد أن يكون بدلا من أيام معدودات، على قراءة عبد الله، فإنه قرأ: أيام معدودات، بالرفع على أنها اخبر مبتدأ محذوف، أي: المكتوب صومه أيام معدودات. ذكر هذه القراءة أبو عبد الله الحسين بن خالويه في كتاب (البديع) له في القرآن؛ وانتصاب شهر رمضان على قراءة من قراء ذلك على إضمار فعل تقديره: صوموا شهر رمضان، وجوزوا فيه أن يكون بدلا من قوله: * (أياما معدودات) * قاله الأخفش، والرماني وفيه بعد لكثرة الفصل، وأن يكون منصوبا على الإغراء تقديره إلزموا شهر رمضان، قاله أبو عبيدة والحوفي، ورد بأنه لم يتقدم للشهر ذكر وإن كان منصوبا بقوله: * (وأن تصوموا) * حكاه ابن عطية وجوزه الزمخشري قال: وقرئ بالنصب على: صوموا شهر رمضان، أو على الإبدال من: * (أياما معدودات) *، أو على أنه مفعول، وأن تصوموا. انتهى. كلامه؛ وهذا لا يجوز، لأن تصوموا صلة لأن، وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خير، لأن تصوموا في موضع مبتدأ، أي: وصيامكم خير لكم، ولو قلت: أن يضرب زيدا شديد، وأن تضرب شديد زيدا، لم يجز.
وأدغمت فرقة شهر رمضان. قال ابن عطية: وذلك لا تقتضيه الأصول لاجتماع الساكنين فيه، يعني بالأصول أصول ما قرره أكثر البصريين، لأن ما قبل الراء في شهر حرف صحيح، فلو كان في حرف علة لجاز بإجماع منهم، نحو: هذا ثوب بكر، لأن فيه لكونه حرف علة مدا أما، ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين، ولا على ما اختاروه، بل إذا صح النقل وجب المصير إليه..
* (الذى أنزل فيه القرآن) *: تقدم اعرابه، وظاهره أنه ظرف لإنزال القرآن، والقرآن يعم الجميع ظاهرا، ولم يبين محل الإنزال، فعن ابن عباس أنه أنزل جميعه إلى سماء الدنيا ليلة أربع وعشرين من رمضان، ثم أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم) منجما.
وقيل: الإنزال هنا هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذلك في الرابع والعشرين من رمضان.
أو تكون الألف واللام فيه لتعريف الماهية، كما تقول: أكلت اللحم، لا تريد استغراق الأفراد، إنما تريد تعريف الماهية. وقيل معنى: * (أنزل فيه القرآن) * أن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رمضان بما أنزل الله عليه، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء قاله الشعبي؛ فيكون الإنزال عبر به عن المعارضة.
وقيل: أنزل في فرضية صومه القرآن، وفي شأنه القرآن، كما تقول: أنزل في عائشة قرآن. والقرآن الذي نزل هو قوله: * (رحيم يأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام) * قاله مجاهد، والضحاك. وقال سفيان بن عيينة في فضله وقيل: المعنى. * (أنزل فيه القرآن) * أي أنزل من اللوح المحفوظ إلى السفرة في سماء الدنيا في ليلة القدر من عشرين شهر، أو نزل به جبريل في عشرين سنة
46

قاله مقاتل.
وروي واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، والتوراة لست مضين منه، والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين). وفي رواية أبي ذر: (نزلت صحف إبراهيم في ثلاث مضين من رمضان، وإنجيل عيسى في ثمانية عشر)، والجمع بين الروايتين بأن رواية واثلة أخبر فيها عن ابتداء نزول الصحف والإنجيل، ورواية أبي ذر أخبر فيها عن انتهاء النزول.
وقرأ ابن كثير القرآن بنقل حركة الهمزة، إلى الراء، وحذف الهمزة، وذلك في جميع القرآن سواء نكر أم عرف بالألف واللام، أو بالإضافة، وهذا المختار من توجيه قراءته، وقد تقدم قول من قال: إن النون فيه مع عدم الهمز أصلية من قرنت الشيء في الشيء ضممته.
* (هدى للناس وبينات) * انتصاب: هدى، على الحال وهو مصدر وضع موضع أسم الفاعل، أي: هاديا للناس، فيكون: للناس، متعلقا بلفظ. هدى، لما وقع موقع هاد، وذو الحال القرآن، والعامل: أنزل، وهي حال لازمة، لأن كون القرآن هدى هو لازم له، وعطف قوله: وبينات، على: هدى، فهو حال أيضا، وهي لازمة، لأن كون القرآن آيات جليات واضحات وصف ثابت له، وهو من عطف الخاص على العام، لأن الهدى: منه خفي ومنه جلي، فنص بالبينات على الجلي من الهدى، لأن القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، فذكر عليه أشرف أنواعه، وهو الذي يتبين الحلال والحرام والموعظة.
* (من الهدى والفرقان) * هذا في موضع الصفة لقوله: هدى وبينات، أي: أن كون القرآن هدى وبينات هو من جملة هدى الله وبيناته، والهدى والفرقان يشمل الكتب الإلهية، فهذا القرآن بعضها، وعبر عن البينات بالفرقان، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل، فمتى كان الشيء جليا واضحا حصل به الفرق، ولأن في لفظ: الفرقان، مؤاخاة للفاصلة قبله، وهو قوله: * (شهر رمضان) * ثم قال: * (الذى أنزل فيه القرآن) *، ثم قال: * (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) * فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، كما قررناه.
ولا يظهر هنا ما قاله بعض الناس من أن الهدى والفرقان أريد به القران، لأن الشيء لا يكون بعض نفسه، وفي (المنتخب) أنه يحتمل أن يحمل: هدى الأول على
أصول الدين، والثاني على فروعه.
وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد، والمراد الأول. انتهى كلامه. يعني: أنه أتى به منكرا أولا، ثم أتى به معرفا ثانيا، فدل على أنه الأول كقوله تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) * فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه، ومن ذلك قولهم: لقيت رجلا فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى؟ ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان ذلك هذا الثاني، فيصح المعنى، لأنه لو أتى فعصاه فرعون، أو: لقيت رجلا فضربته لكان كلاما صحيحا، ولا يتأتي هذا الذي قاله ابن عطية هنا، لأنه ذكر هو والمعربون: أن هدى منصوب على الحال وصف في ذي الحال، وعطف عليه وبينات، فلا يخلو قوله: من الهدى، المراد به الهدى الأول من أن يكون صفة لقوله: هذى، أو لقوله: وبينات، أو لهما، أو متعلق بلفظ بينات، لا جائز أن يكون صفة لهدى، لأنه من حيث هو وصف لزم أن يكون بعضا، ومن حيث هو الأول لزم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضا. كلا بالنسبة لماهيته، ولا جائز أن يكون صفة لبينات فقط، لأن وبينات معطوف على هدى، وهدى حال، والمعطوف على الحال حال، والحال وصف في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصص بهما ذو الحال إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى، خصصها به، فوقف تخصيص القرآن على قوله هدى وبينات معا، ومن حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى، فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محال، ولا جائز أن يتعلق بلفظ: وبينات، لأن المتعلق تقييد للمتعلق به، فهو كالوصف، فيمتنع من حيث يمتنع الوصف.
وأيضا فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا، فقلت: وبينات منه أي: من ذلك الهدى، لم يصح، فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضا منهما..
47

* (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * الألف واللأم في الشهر للعهد، ويعني به شهر رمضان، ولذلك ينوب عنه الضمير، ولو جاء: فمن شهد منكم فليصمه لكان صحيحا، وإنما أبرزه ظاهرا للتنويه به والتعظيم له، وحسن له أيضا كونه من جملة ثانية.
ومعنى شهود الشهر الحضور فيه. فانتصاب الشهر على الظرف، والمعنى: أن المقيم في شهر رمضان إذا كان بصفة التكليف يجب عليه الصوم، إذ الأمر يقتضي الوجوب، وهو قوله: فليصمه، وقالوا على انتصاب الشهر: أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد، حذف مفعوله تقديره المصر أو البلد.
انتصاب الشهر على أنه مفعول به، وهو على حذف مضاف، أي: فمن شهد منكم دخول الشهر عليه وهو مقيم لزمه الصوم، وقالوا: يتم الصوم من دخل عليه رمضان وهو مقيم، أقام أم سافر، وإنما يفطر في السفر من دخل عليه رمضان وهو في سفر، وإلى هذا ذهب علي، وابن عباس، وعبيدة المسلماني، والنخعي، والسدي.
والجمهور على أن من شهد أول الشهر أو آخره فليصم ما دام مقيما.
وقال الزمخشري: الشهر منصوب على الظرف، وكذلك الهاء في: فليصمه، ولا يكون مفعولا به، كقولك: شهدت الجمعة، لأن المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشهر. انتهى كلامه.
وقد تقدم أن ذلك يكون على حذف مضاف تقديره: فمن شهد منكم دخول الشهر، أي: من حضر. وقيل: التقدير هلال الشهر، وهذا ضعيف، لأنك لا تقول: شهدت الهلال، إنما تقول: شاهدت، ولأنه كان يلزم الصوم كل من شهد الهلال وليس كذلك.
ومنكم، في موضع الحال، ومن الضمير المستكن في شهد، فيتعلق بمحذوف تقديره كائنا منكم.
وقال أبو البقاء، حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، فتناقض، لأن جعلها حالا يوجب أن يكون العامل محذوفا، وجعلها متعلقة بشهد يوجب أن لا يكون حالا، فتناقض. ومن، من قوله فمن شهد، الظاهر أنها شرطية، ويجوز أن تكون موصولة، وقد مر نظائره.
وقرأ الجمهور بسكون اللام في: فليصمه، أجروا ذلك مجرى: فعل، فخففوا، وأصلها الكسر، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والزهري، وأبو حيوة، وعيسى الثقفي، وكذلك قرؤوا لام الأمر في جميع القرآن نحو: * (فليكتب وليملل) * بالكسر، وكسر لام الأمر، وهو مشهور لغة العرب، وعلة ذلك ذكرت في النحو. ونقل صاحب التسهيل أن فتح لام الأمر لغة، وعن ابنه ان تلك لغة بني سليم. وقال: حكاها الفراء. وظاهر كلامهما الإطلاق في أن فتح اللام لغة، ونقل صاحب كتاب الإعراب، وهو: أبو الحكم بن عذرة الخضراوي، عن الفراء أن من العرب من يفتح هذه اللام لفتحة الياء بعدها، قال: فلا يكون على هذا الفتح أن الكسر ما بعدها أو ضم. انتهى كلامه. وذلك نحو: لينبذن، ولتكرم زيدا، وليكرم عمرا وخالدا، وقوموا فلأصل لكم.
* (ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * تقدم تفسير هذه الجملة، وذكر فائدة تكرارها على تقدير: أن شهر رمضان هو قوله: أياما معدودات، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * تقدم الكلام في الإرادة في قوله * (ماذا أراد الله بهاذا مثلا) * والإرادة هناغ إما أن تبقى على بابها، فتحتاج إلى حذف، ولذلك قدره صاحب (المنتخب): يريد الله أن يأمركم بما فيه يسر، وأما أن يتجوز بها عن الطلب، أي: يطلب الله منكم اليسر، والطلب عندنا غير الإرادة، وإنما احتيج إلى هذين التأويلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة، على مذهب أهل السنة، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر وهو واقع، وأما على مذهب المعتزلة فتكون
48

الآية على ظاهرها، وأراد: يتعدى إلى الأجرام بالباء، وإلى المصادر بنفسه، كالآية. ويأتي أيضا متعديا إلى الإجرام بنفسه وإلى المصادر بالباء. قال:
* أرادت عرار بالهوان ومن يرد
*
عرارا، لعمري بالهوان فقد ظلم
*
قالوا: يريد هنا بمعنى أراد، فهو مضارع أريد به الماضي، والأولى أن يراد به الحالة الدائمة هنا، لأن المضارع هو الموضوع لما هو كائن لم ينقطع، والإرادة صفة ذات لا صفة فعل، فهي ثابتة له تعالى دائما، وظاهر اليسر والعسر العموم في جميع الأحوال الدنيوية والأخروية.
وفي الحديث. (دين الله يسر يسر ولا تعسر). وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وفي القرآن: * (ما جعل * عليكم فى الدين من حرج) * * (ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم) * فيندرج في العموم في اليسر فطر المريض والمسافر اللذين ذكر حكمهما قبل هذه الآية، ويندرج في العموم في العسر صومهما لما في حالتي المرض والسفر من المشقة والتعسير.
وروي عن علي، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك: أن اليسر الفطر في السفر، والعسر الصوم فيه، ويحمل تفسيرهم على التمثيل بفرد من أفراد العموم، وناسب أن مثلوا بذلك، لأن الآية جاءت في سياق ما قبلها، فدخل فيها ما قبلها دخولا لا يمكن أن يخرج منها، وفي (المنتخب) * (يريد الله بكم اليسر) * كاف عن قوله: * (ولا يريد بكم العسر) * وإنما كرر توكيدا. انتهى.
وقرأ أبو جعفر، ويحيى بن وثاب، وابن هرمذ، وعيسى بن عمر: اليسر والعسر، بضم السين فيهما، والباقون بالإسكان.
* (ولتكملوا العدة) *: قرأ أبو بكر، وأبو عمر وبخلاف عنهما، وروي: مشدد الميم مفتوح الكاف، والباقون بالتخفيف وإسكان الكاف، وفي اللام أقوال.
الأول: قال ابن عطية: هي اللام الداخلة على المفعول، كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى، ويريد إكمال العدة، وهي مع الفعل مقدرة بأن، كأن الكلام: ويريد لأن تكلموا العدة، هذا قول البصريين، ونحوه. قول أبي صخر.
* أريد لأنسى ذكرها فكأنما
*
تخيل لي ليلى بكل طريق
*
انتهى كلامه. وهو كما جوزه الزمخشري. قال: كأنه قيل: يريد الله بكم اليسر، ويريد لتكملوا، لقوله: * (يريدون ليطفئوا) * وفي كلامه أنه معطوف على اليسر، وملخص هذا القول: أن اللام جاءت في المفعول المؤخر عن الفعل، وهو مما نصوا على أنه قليل، أو ضرورة، لكن يحسن ذلك هنا، بعده عن الفعل بالفصل، فكأنه لما أخذ الفعل مفعوله، وهو: اليسر، وفصل بينهما بجملة وهي: ولا يريد بكم العسر، بعد الفعل عن اقتضائه، فقوي باللام، كحاله إذا تقدم فقلت لزيد ضربت، لأنه بالتقدم وتأخر العامل ضعف العامل عن الوصول إليه، فقوي باللام، إذ أصل العامل أن يتقدم، وأصل المعمول أن يتأخر عنه، لكن في هذا القول إضمار إن بعد اللام الزائدة، وفيه بعد وفي كلام ابن عطية تتبع، وهو في قوله: وهي، يعني باللام مع الفعل، يعني تكملوا مقدرة بأن، وليس كذلك، بل أن مضمرة بعدها واللام حرف جر، ويبين ذلك أنه قال: كأن الكلام: ويريد لأن تكملوا العدة، فأظهر أن بعد اللام، فتصحيح لفظه أن تقول: وهي مع الفعل مقدران بعدها، وقوله: هذا قول البصريين ونحوه، قول أبي صخر.
أريد لانسى ذكرها
ليس كما ذكر، بل ذلك مذهب الكسائي والفراء، زعما أن العرب تجعل لام كي في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى: * (يريد الله
49

ليبين لكم) * * (يريدون ليطفئوا) * * (وأن * يطفئوا) * * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس) *. وقال الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها
وقال تعالى: * (وأمرنا لنسلم) * * (وأن * أسلم) * وذهب سيبويه وأصحابه إلى أن اللام هنا باقية على حالها وأن مضمرة بعدها، لكن الفعل قبلها يقدره بمصدر، كأنه قال: الارداة للتبيين، وإرادتي لهذا، وذهب بعض الناس إلى زيادة اللام، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في كتاب (التكميل في شرح التسهيل) فتطالع هناك.
وتلخص مما ذكرناه أن ما قال: من، أنه قول البصريين ليس كما قال: إنما يتمشى قوله: وهي، مع الفعل مقدرة بأن على قول الكسائي والفراء، لا على قول البصريين. وتناقض قول ابن عطية أيضا لأنه قال: هي اللام الداخلة على المفعول كالتي في قولك: ضربت لزيد، المعنى ويريد إكمال العدة. ثم قال: وهي، الفعل مقدرة بأن، فمن حيث جعلها الداخلة على المفعول لا يكون جزءا من المفعول، ومن حيث قدرها بأن كانت جزءا من المفعول، لأن المفعول إنما ينسبك منها مع الفعل، فهي جزء له، والشيء الواحد لا يكون جزءا لشيء غير جزء له، فتناقض.
وأما تجويز الزمخشري أن يكون معطوفا على: اليسر، فلا يمكن إلا بزيادة اللام وإضمار: أن بعدها، أو يجعل اللام لمعنى: أن، فلا تكون أن مضمرة بعدها، وكلاهما ضعيف.
القول الثاني: أن تكون اللام في ولتكملوا العدة لام الأمر قال ابن عطية، ويحتمل أن تكون هذه اللام لام الأمر والواو عاطفة جملة كلام. انتهى. كلامه. ولم يذكر هذا
الوجه فيما وقفنا عليه غير ابن عطية، ويضعف هذا القول أن النحويين قالوا: أمر الفاعل المخاطب فيه التفات، قالوا: أحدهما لغة رديئة قليلة، وهو إقرار تاء الخطاب ولام الأمر قبلها، واللغة الأخرى هي الجيدة الفصيحة، وهو، أن يكون الفعل عاريا من حرف المضارعة ومن اللام، ويضعف هذا القول أيضا أنه لم يؤثر على أحد من القراء أنه قرأ بإسكان هذه اللام، فلو كانت لام الأمر لكتاب كسائر أخواتها من القراءة بالوجهين فيها، فدل ذلك على أنها لام الجر لا لام الأمر، وقول ابن عطية: والواو عاطفة جملة كلام على جملة كلام، يعني: أنها إذا كانت اللام للأمر كان العطف من قبيل الجمل، وإذا كانت كاللام في: ضربت لزيد، كانت من قبل عطف المفردات.
القول الثالث: أن تكون اللام للتعليل، واختلف قائلوا هذا القول على أقوال. أحدها: أن تكون الواو عاطفة على علة محذوفة، التقدير: لتعملوا ما تعملون ولتكملوا العدة، قاله الزمخشري. ويكون هذا الفعل المعلل على هذا القول: إرادة اليسر. الثاني: أن يكون بعد الواو وفعل محذوف هو المعلل، التقدير: وفعل هذا لتكملوا العدة، قاله الفراء. الثالث: أن يكون معطوفا على علة محذوفة وقد حذف معلولها، التقدير: فعل الله ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا، قاله الزجاج. الرابع: أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد التعليل، تقديره: ولأن تكملوا العدة رخص لكم هذه الرخصة، قال ابن عطية: وهذا قول بعض الكوفيين. الخامس: أن الواو زائدة، التقدير: يريد الله بكم اليسر لتكملوا العدة، وهذا قول ضعيف. السادس: أن يكون الفعل المعلل مقدرا بعد قوله؛ * (ولعلكم تشكرون) * وتقديره: شرع ذلك. قاله الزمخشري، قال ما نصه: شرع ذلك، يعني جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، وأمر المرخص له بمراعاة عدة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطر فقوله: لتكملوا، علة الأمر بمراعاة العدة، ولتكبروا علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر ولعلكم تشكرون، علة الترخيص والتيسير. وهذا نوع من اللف لطيف المسلك لا يكاد يهتدي إلى تبينه إلا النقاد المحذق من علماء البيان انتهى كلامه.
والألف واللام في قوله: * (ولتكملوا
50

العدة) * الظاهر أنها للعهد، فيكون ذلك راجعا إلى قوله: * (فعدة من أيام أخر) * أي: وليكمل من أفطر في مرضه أو سفره عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها، وقيل: عدة الهلال سواء كانت تسعة وعشرين يوما أم كان ثلاثين، فتكون العدة راجعة إذ ذاك إلى شهر رمضان المأمور بصومه.
* (ولتكبروا الله على ما هداكم) * معطوف على: ولتكملوا العدة، والكلام في اللام كالكلام في لام: ولتكملوا ومعنى التكبير هنا تعظيم الله والثناء عليه، فلا يختص ذلك بلفظ التكبير، بل يعظم الله ويثني عليه بما شاء من ألفاظ الثناء والتعظيم، وقيل: هو التكبير عند رؤية الهلال في آخر رمضان.
وروي عن ابن عباس أنه قال: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا، وقيل: هو التكبير المسنون في العيد، وقال سفيان: هو التكبير يوم الفطر.
واختلف في مدته وفي كيفيته، فعن ابن عباس: يكبر من رؤية الهلال إلى انقضاء الخطبة ويمسك وقت خروج الإمام ويكبر بتكبيره، وقيل: وهو قول الشافعي: من رؤية الهلال إلى خروج الإمام إلى الصلاة. وقال زيد بن أسلم، ومالك: من حين يخرج من منزله إلى أن يخرج الإمام وروي ابن القاسم، وعلي بن زياد: إن خرج قبل طلوع الشمس فلا يكبر في طريقه ولا في جلوسه حتى تطلع الشمس، وإن غدا بعد الطلوع فليكبر في طريقه إلى المصلى وإذا جلس حتى يخرج الإمام.
واختلف عن أحمد، فنقل الأثر عنه أنه إذا جاء إلى المصلى يقطع؛ قال أبو يعلى: يعني: وخرج الإمام، ونقل حنبل عنه أن يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة.
واختلفوا في الأضحى، فقال مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد: الفطر والأضحى سواء في ذلك، وبه قال ابن المسيب، وأبو سلمة، وعروة، وقال أبو حنيفة: يكبر في الأضحى ولا يكبر في الفطر.
وكيفيته عند الجمهور: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاثا، وهو مروي عن جابر، وقيل: يكبر ويهلل ويسبح أثناء التكبير، ومنهم من يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا. وقال ابن المنذر: كان مالك لا يجد فيه حدا، وقال ابن العربي: اختار علماؤنا التكبير المطلق وهو ظاهر الكتاب، وقال أحمد: كل واسع، وحجج هذه الأقاويل في كتب الفقه.
ورجح في (المنتخب) أن إكمال العدة هو في صوم رمضان، وأن تكبيرا لله هو عند الانقضاء على ما هدى إلى هذه الطاعة، وليس بمعنى التعظيم. قال: لأن تكبير الله بمعنى تعظيمه هو واجب في جميع الآوقات وفي كل الطاعات، فلا معنى للتخصيص انتهى. وعلى، تتعلق: بتكبروا، وفيها إشعار بالعلية، كما تقول أشكرك على ما أسديت إلي.
قال الزمخشري: وإنما عدى فعل التكبر بحرف الاستعلاء لكونه مضمنا معنى الحمد، كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم. انتهى كلامه.
وقوله: كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، هو تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ لو كان تفسير إعراب لم تكن: على، متعلقا، بتكبروا المضمنة معنى الحمد، إنما كانت تكون متعلقة بحامدين التي قدرها، والتقدير الإعرابي هو، أن تقول: كأنه قيل: ولتحمدوا الله بالتكبير على ما هداكم، كما قدر الناس في قولهم: قتل الله زيادا عني أي: صرف الله زيادا عني بالقتل، وفي. قول الشاعر:
* ويركب يوم الروع فينا فوارس
*
بصيرون في طعن الأباهر والكلي
*
أي: تحكمون بالبصيرة في طعن الأباهر، والظاهر في: ما، أنها مصدرية أي: على هدايتكم، وجوزوا أن تكون: ما، بمعنى الذي، وفيه بعد، لأنه يحتاج إلى حذفين أحدهما: حذف العائد على: ما، أي: على الذي هداكموه وقدرناه منصوبا لا مجرورا بإلى، ولا باللام
51

ليكون حذفه أسهل من حذفه مجرورا. والثاني: حذف مضاف به يصح الكلام، التقدير: على اتباع الذي هداكموه، وما أشبه هذا التقدير مما يصح به معنى الكلام.
والظاهر أن معنى: هداكم، حصول الهداية لكم من غير تقييد، وقيل: المعنى، هدايتكم لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم، وإذا كانت بمعنى: الذي، فالمعنى على ما أرشدكم إليه من شريعة الإسلام.
* (ولعلكم تشكرون) * هو ترج في حق البشر على نعمة الله في الهداية، قاله ابن عطية: فيكون الشكر على الهداية، وقيل: المعنى تشكرون على ما أنعم به من ثواب طاعاتكم.
وقال الزمخشري: ومعنى * (ولعلكم تشكرون) * وإرادة أن تشكروا، فتأول الترجي من الله على معنى الإرادة، وجعل ابن عطية الترجي من المخلوق، إذ الترجي حقيقة يستحيل على الله، فلذلك أوله الزمخشري بالإرداة، وجعله ابن عطية من البشر، والقولان متكافئان، وإذا كان التكليف شاقا ناسب أن يعقب بترجي التقوى، وإذا كان تيسيرا ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله: * (لعلكم تشكرون) * لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر، وقوله: * (يريد الله بكم اليسر) * وجاء عقيب قوله: * (كتب عليكم الصيام * لعلكم تتقون) * وقبله * (ولكم في القصاص حيواة) * ثم قال: * (لعلكم تتقون) * لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان.
* (وإذا سألك عبادي * عنى * فإني قريب) * سبب النزول فيما قال الحسن: أن قوما، قيل: اليهود، وقيل: المؤمنون، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم): أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه. وقال عطاء: لما نزل. * (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) * قال قوم: في أي ساعة ندعوا؟ فنزل * (وإذا سألك) * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله: * (ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * طلب تكبيره وشكره بين أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبة، تنبيها على أن يكون ولا بد مسبوقا بالثناء الجميل.
والكاف في: سألك، خطاب النبي صلى الله عليه وسلم)، فكأنه قيل: (أنزل عليك فيه القرآن، فجاء هذا الخطاب مناسبا لهذا المحذوف). و: عبادي، ظاهره العموم، وقيل: أريد به الخصوص: إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب، وأما عبادي. و: عني، فالضمير فيه لله تعالى، وهو من باب الالتفات، لأنه سبق و: التكبروا لله، فهو خروج من غائب إلى متكلم، و: عني، متعلق بسألك، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله: فإني قريب، والقرب المنسوب إلى الله تعالى يستحيل أن يكون قربا بالمكان، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعا لدعائه، مسرعا في إنجاح طلبه من سأله، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى: * (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) * وما روي من قوله عليه السلام: (هو بينكم وبين أعناق رواحلكم).
والفاء في قوله: فإني قريب، جواب إذا، وثم قول محذوف تقديره: فقل لهم إني قريب لأنه لا يترتب على الشرط القرب، إنما يترتب الإخبار عن القرب.
52

* (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * أجيب: إما صفة لقريب، أو خبر بعد خبر، وروعي الضمير في: فإني، فلذلك جاء أجيب، ولم يراع الخبر فيجيء: يجيب، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب: أشهرهما: مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا، وكقولهم: * (بل أنتم قوم تفتنون) * * (بل أنتم قوم تجهلون) *. وكقول الشاعر:
وإنا لقوم ما نرى القتل سبة
والطريق الثاني: مراعاة الخبر كقولك: أنا رجل يأمر بالمعروف، وأنت امرؤ يريد الخير، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب (منهج السالك والعامل في إذا قوله أجيب).
وروي أنه نزل قوله: * (أجيب دعوة الداع إذا دعان) * لما نزل: * (فإني قريب) * وقال المشركون: كيف يكون قريبا من بيننا وبينه على قولك سبع سماوات في غلظ، سمك كل سماء خمسمائة عام، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك، فبين بقوله: * (أجيب) *: أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة، وظاهر قوله: * (أجيب دعوة الداع) * عموم الدعوات، إذ لا يريد دعوة واحدة، والهاء في: دعوة، هنا ليست للمرة، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو. رحمة، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داع مخصوص، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد، وإنما هي للعموم. والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء، والمعنى على هذا الظاهر أن الله تعالى يعطي من سأله ما سأله.
وذكروا قيودا في هذا الكلام، وتخصيصات، فقيدت الإجابة بمشيئة الله تعالى. التقدير: إن شئت، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء، وقيل: بوفق القضاء أي: أجيب إن وافق قضائي، وهو راجع لمعنى المشيئة، وقيل: يكون المسؤول خير السائل، أي: إن كان خيرا. وقيل: يكون المسؤول غير محال، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه الله إلى ما سأل، ولا يبلغه المقصود مما طلب، فخصصوا الداعي بأن يكون: مطيعا مجتنبا لمعاصيه.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال في الرجل يطيل السفر: (أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام،
وغذي بالحرام، فأني يستجاب له)؟.
قالوا: ومن شرطه أن لا يمل، ففي الصحيح: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي.
وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم، ولا قطيعة رحم، ولا معصية، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها). وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور، وأن لا يقصد فيه السجع، سجع الجاهلية، وأن يكون غير ملحون.
وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر، وفي الثلث الأخير من الليل، ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار، وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر، والصف في سبيل الله، والعيدين، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم) في يوم الجمعة: وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة: كذا ورد مفسرا في الحديث، وقيل: بعد عصر الجمعة، وعندما تزول الشمس.
ومن الأماكن: في الكعبة، وتحت ميزابها، وفي الحرم، وفي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم)، والجامع الأقصى.
وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة الله، ولا يقطع رجاءه من فضله، فإن الله تعالى قال: * (قل ياأهل * عبادى * الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) * وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس: * (قال رب فأنظرنى إلى يوم يبعثون) *.
وقالت المعتزلة: الإجابة مختصة بالمؤمنين * (الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * لأن وصف الإنسان بأن الله أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم، والفاسق لا يستحق التعظيم، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله الله ولا يسمى إجابة.
قيل: والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى الله تعالى، والشرع قد ورد بالأمر به، وقد دعت الأنبياء والرسل، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه، وذكر شبها له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة، وقالوا: ألاولى بالعبد التضرع والسؤال إلى الله تعالى، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء، والحث عليه، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس، إنهم علماء الحقيقة: يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فالله متكفل، فلا حاجة إليها.
وقال قوم منهم. إن كان في حالة الدعاء أصلح، وقلبه أطيب، وسره أصفى، ونفسه أزكى، فليدع؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به.
وقال قوم منهم: ترك الدعاء في كل حال
53

أصلح لما فيه من الثقة بالله، وعدم الاعتراض، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار.
وقال قوم منهم: ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى الله أمره وأصلح شأنه، قال تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) *.
وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه. أحدها: أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله، لأنك دعوته ووجدته، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاء سمي القبول إجابة، لتجانس اللفظ.
الوجه الثاني: أن الإجابة هو السماع فكأنه قال: أسمع.
الوجه الثالث: أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو الله عند التوبة، والإجابة قبول التوبة.
الوجه الرابع: أن يكون الدعاء هو العبادة، وفي الحديث: (الدعاء العبادة) قال تعالى: * (وقال ربكم ادعونى أستجب لكم) * ثم قال: * (إن الذين يستكبرون عن عبادتى) * والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب.
الوجه الخامس: الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه، فالمعنى: إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد.
وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر.
* (فليستجيبوا لى) * أي: فيطليوا، أي: فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني، قاله ثعلب، فيكون: استفعل، قد جاءت بمعنى الطلب، كاستغفر، وهو الكثير فيها: أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم، قاله مجاهد، وأبو عبيدة، وغيرهما. ويكون: استفعل، فيه بمعنى أفعل، وهو كثير في القرآن * (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع) * * (فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) * إلا أن تعديته في القرآن باللام، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال:
* وداع دعا يا من يجيب إلى النداء
*
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي: فلم يجبه، ومثل ذلك، أعني كون استفعل موافق أفعل، قولهم: استبل بمعنى أبل، واستحصد الزرع واحصد، واستعجل الشيء وأعجل، واستثاره وأثاره، ويكون استفعل موافقة أفعل متعديا ولازما، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله: * (وإياك نستعين * (.
*
وقال أبو رجاء الخراساني: معناه فليدعوا لي، وقال الأخفش: فليذعنوا الإجابة، وقال مجاهد أيضا، والربيع: فليطيعوا، وقيل: الاستجابة هنا التلبية، وهو: لبيك
اللهم لبيك، واللام لام الأمر، وهي ساكنة، ولا نعلم أحدا قرأها بالكسر.
* (وليؤمنوا بي) * معطوف على: فليجيبوا لي، ومعناه الأمر بالإيمان بالله، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بعد لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون، فلذلك يؤول على الديمومة، أو على إخلاص الدين، والدعوة، والعمل، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه، أو بالإيمان في: أني أجيب دعاءهم، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني.
* (لعلهم يرشدون) * قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين، وقرأ قوم: يرشدون مبنيا للمفعول، وروي عن أبي حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة: يرشدون بفتح الياء وكسر الشين، وذلك باختلاف عنهما، وقرئ أيضا يرشدون بفتحهما، والمعنى: أنهم إذا استجابوا لله وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له، وبالإيمان، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلا وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه، وإنما ذلك مختص بك.
ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن، ناسب ذكر الرشاد وهو: الهداية، كما قال تعالى: * (اهدنا الصراط المستقيم) * * (وإنك لتهدى إلى صراط مستقيم) * * (وهديناهما الصراط المستقيم) *.
* (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري، عن اليراء: لما نزل صوم رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فنزلت، وقيل: كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة، أو يرقد، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل
54

له قبل إلى القابلة، وأن عمر، وكعبا الأنصاري، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائما فغشي عليه عند انتصاف النهار، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم)، فنزلت.
وقال بعض العلماء: نزلت الآية في زلة ندرت، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة، هذا إحكام العناية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه: كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة، وفي العدد، وفي الشرائط، وسائر تكاليف الصوم. وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا، وقيل: بعد العشاء، وكان المسلمون كذلك، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول، أباح الله لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر، لطفا بهم. وناسب أيضا قوله تعالى: في آخر آية الصوم: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * وهذا من التيسير.
وقوله: أحل، يقتضي أنه كان حراما قبل ذلك، وقد تقدم نقل ذلك في سبب النزول، لكنه لم يكن حراما في جميع الليلة، ألا ترى أن ذلك كان حلالا، لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء؟.
وقرأ الجمهور: أحل، مبنيا للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وقرئ، أحل مبنيا للفاعل، ونصب: الرفث به، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو الله، وأما أن يكون من باب الالتفات، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، لأن قبله: * (فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى) * ولكم، متعلق بأحل، وهو التفات، لأن قبله ضمير غائب، وانتصاب: ليلة، على الظرف، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس، قالوا: والناصب لهذا الظرف: أحل، وليس بشيء، لأن: ليلة، ليس بظرف لأحل، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا، فلا يتقدم معموله، لكن يقدر له ناصب، وتقديره: الرفث ليلة الصيام، فحذف، وجعل المذكور مبنيا له كما قالوا في قوله:
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان
أن تقديره: إذعان للذلة إذعان، وكما خرجوا قوله: * (إني لكما لمن الناصحين) * * (وإنى * لعملكم من القالين) * أي ناصح لكما، وقال: لعملكم، فما كان من الموصول قدم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول، وقد تقدم أن من النحويين من يجيز تقدم الظرف على نحو هذا المصدر، وأضيفت: الليلة، إلى الصيام على سبيل الاتساع، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلا بصوم جزء منها صحت الإضافة.
وقرأ الجمهور: الرفث، وقرأ عبد الله: الرفث، وكنى به هنا عن الجماع، والرفث قالوا: هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، كلفظ: النيك، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجينا لما وجد منهم، إذ كان ذلك حراما عليهم، فوقعوا فيه كما قال فيه: * (تختانون أنفسكم) * فجعل ذلك خيانة، وعدى بإلى، وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء، وحسن اللفظ به هذا التضمين، فصار ذلك قريبا من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله: * (فلما تغشاها) * * (ولا تقربوهن) * * (فأتوا حرثكم) * * (فالن باشروهن) *.
والنساء جمع الجمع، وهو نسوة، أو جمع امرأة على غير اللفظ، وأضاف: النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص، إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختصت بالمفضي: أما بتزويج أو ملك.
* (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * اللباس، أصله في الثوب، ثم يستعمل في المرأة.
قال أبو عبيدة: يقال للمرأة هي لباسك، وفراشك، وإزارك لما بينهما من الممازجة. ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق، شبه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان.
قال الربيع: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن، وقال مجاهد، والسدي
55

هن سكن لكم، أي: يسكن بعضكم إلى بعض، كقوله: * (وهو الذى جعل لكم اليل لباسا والنوم سباتا) * وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال، وهو عدم الصبر عنهن لكونهن لكم في المخالطة كاللباس، وقدم: هن لباس لكم، على قوله: وأنتم لباس لهن، لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها، والرجل هو البادىء بطلب ذلك الفعل، ولا تكاذ المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل.
جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان: الطباق المعنوي، بقوله: * (أحل لكم) *، فإنه يقتضي تحريما سابقا، فكأنه أحل لكم ما حرم عليكم، أو ما حرم على من قبلكم، والكناية بقوله: الرفث، وهو كناية عن الجماع، والاستعارة البديعة بقوله: هن لباس لكم، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر، تقول: لابست ملابسة ولباسا.
* (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم) *: إن كانت: علم، معداة تعدية عرف، فسدت أن مسد المفعول، أو التعدية التي هي لها في الأصل، فسدت مسد المفعولين، على مذهب سيبويه، وقد تقدم لنا نظير هذا. وتختاتون: هو من الخيانة، وافتعل هنا بمعنى فعل، فاختان. بمعن: خان، كاقتدر بمعنى: قدر.
قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى، والاختيان هنا معبر به عما وقفوا فيه من المعصية بالجماع، وبالأكل بعد النوم، وكان ذلك خيانة لأنفسهم، لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم، فكأنه قيل: تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير، وقيل: معناه، تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه، وقيل: معناه: تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم.
يقال: تخون، وتخول، بمعنى: تعهد، فتكون النون بدلا من اللام لأنه باللام أشهر. وقال أبو مسلم: هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس، ولذلك قال: أنفسكم، ولم يقل: الله، وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك، وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره، وقيل: ذلك على تقدير ولم يقع بعد، والمعنى: تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة، وهذا فيه ضعف لوجود: كان، ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل، ولمنافاة ظاهر قوله: * (فتاب عليكم وعفا عنكم) *.
* (فتاب عليكم) * أي: قبل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور، وقيل: معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله: * (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم) * * (فصيام شهرين متتابعين توبة من الله) * * (لقد تاب الله على النبى والمهاجرين والانصار) * معناه كله التخفيف، وقيل: معناه أسقط عنكم ما أفترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء، أو بعد النوم على الخلاف، وهذا القول راجع لمعنى القول. الثاني: * (وعفا عنكم) * أي: عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم، وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى الله عليه وسلم): (التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب) فهما راجعان إلى معنى واحد، وعاقب بينهما للمبالغة، وقيل: المعنى، سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف، أي: ترك لكم التحريم، كما تقول: هذا شيء معفو عنه، أي: متروك، ويقال: أعطاه عفوا أي سهلا لم يكلفه إلى سؤال، وجرى الفرس شأوين عفوا، أي: من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط، أو نخس بمهماز.
* (فالن باشروهن) * تقدم الكلام على، الآن، في قوله: * (قالوا الئان جئت بالحق) * أي: فهذا الزمان، أي: ليلة الصيام باشروهن، وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي، ولأن الإجماع انعقد عليه، والمباشرة في قول الجمهور: الجماع، وقيل: الجماع فما دونه، وهو مشتق من تلاصق البشرتين، فيدخل فيه المعانقة والملامسة. وإن قلنا: المراد به هنا الجماع، لقوله: الرفث، ولسبب النزول، فإباحته تتضمن إباحة ما دونه.
* (وابتغوا ما كتب الله لكم) * أي: اطلبوا، وفي تفسير: ما كتب الله، أقوال.
أحدهما: أنه الولد، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والربيع، والسدي، والحكم بن عتيبة: لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم الله لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد، وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط، لكن لابتغاء ما شرع الله النكاح له
56

من التناسل: (تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الآمم يوم القيامة).
الثاني: هو محل الوطء أي: ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) *.
الثالث: هو ما أباحه بعد الحظر، أي: ابتغوا الرخصة والإباحة، قاله قتادة: وابن زيد.
الرابع: وابتغوا ليلة القدر، قاله معاذ بن جبل، وروي عن ابن عباس. قال الزمخشري: وهو قريب من بدع التفاسير.
الخامس: هو القرآن، قاله ابن عباس، والزجاج. أي: ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به، ويرجحه قراءة الحسن، ومعاوية بن قرة: واتبعوا من الاتباع، ورويت أيضا عن ابن عباس.
السادس: هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهن، لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردة.
السابع: هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) *.
الثامن: إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر.
وكتب هنا بمعنى: جعل، كقوله: * (كتب فى قلوبهم الإيمان) * أو بمعنى: قضى، أو: بمعنى: أثبت في اللوح المحفوظ، أو: في القرآن.
والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها، والمعنى، والله أعلم ابتغوا وافعلوا ما أذن الله لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام، ويرجح هذا قراءة الأعم 5:
وأتوا ما كتب الله لكم. وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف.
* (وكلوا واشربوا) * أمر إباحة أيضا أبيح لهم ثلاثة، الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام * (حتى يتبين) * غاية الثلاثة الأشياء من: الجماع، والأكل، والشرب. وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس، فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره، وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره * (لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود) * ظاهره أنه الخيط المعهود، ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطا أبيض وخيطا أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له، إلى أن نزل قوله تعالى: * (من الفجر) * فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار.
روي ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية، وروي أنه كان بين نزول: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود) * وبين نزول * (من الفجر) * سنة من رمضان إلى رمضان.
قال الزمخشري: ومن لا يجوز تأخير البيان وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم، فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوزه فيقول: ليس بعبث، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به. انتهى كلامه. وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة، بل هو من باب النسخ، ألا ترى أن الصحابة عملت به، أعنى بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت: من الفجر، فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما، وصارا ذلك مجازين، شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل، شبها بخيطين أبيض وأسود، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله: من الفجر، كقولك: رأيت أسدا من زيد، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة، لأن الاستعارة لا تكون إلا حيث يدل عليها الحال، أو الكلام وهنا، لو لم يأت: من الفجر، لم يعلم الاستعارة، ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول من الفجر، حتى إن بعضهم، وهو عدي بن حاتم. غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله: من الفجر، فحمل الخيطين على الحقيقة. وحكي ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم) فضحك وقال: (إن كان وسادك لعريضا) وروي: (إنك لعريض القفاء). إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل، والقفا العريض يستدل
57

به على قلة فطنة الرجل، وقال:
* عريض القفا ميزانه عن شماله
*
قد أنحص من حسب القراريط شاربه وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطا.
*
وقال الزجاج: هما فجران: أحدهما يبدو سوادا معترضا، وهو الخيط الأسود؛ والأخر يطلع ساطعا يملأ الأفق، فعنده الخيطان: هما الفجران، سميا بذلك لامتدادهما تشبيها بالخيطين. وقوله: من الفجر، يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق، وهو البياض المستطير في الأفق، لا الصبح الكاذب، وهو البياض المستطيل، لأن الفجر هو انفجار النور، وهو بالثاني لا بالأول، وشبه بالخيط وذلك بأول حاله، لأنه يبدو دقيقا ثم يرتفع مستطيرا، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك. هذا مذهب الجمهور، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار، وهو مقتضى حديث ابن مسعود، وسمرة بن جندب.
وقيل: يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق، وعلى رؤوس الجبال، وهاذ مروي عن عثمان، وحذيفة وابن عباس، وطلق بن علي، وعطاء، والأعمش، وغيرهم.
وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال: الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها، وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار، وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئا من هذه، ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام، أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع.
وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر، فقال أحدهما: طلع الفجر، وقال الآخر: لم يطلع. فقال اختلفتما، فأكل وبان لا قضاء عليه.
قال الثوري، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، وقال مالك: إن أكل شاكا في الفجر لزمه القضاء، والقولان عن أبي حنيفة.
وفي هذه التغيئة أيضا دلالة على جواز المباشرة إلى التبين، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذونا فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة. والحسن يرى: أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال إلا بعد الفجر، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة. والحسن يرى: أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه، وقد روت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان يصبح جنبا من جماع وهو صائم، وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة، فلو كانت مقمرة أو مغيمة، أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر، فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر، إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع، فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراء لدينه.
وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة: المباشرة، والأكل، والشرب. وأما ما عداها من القيء، والحقنة، وغير ذلك، فإنه كان على الإباحة، فبقي عليهم.
وأما الفقهاء فقالوا: خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها، وأما القيء، والحقنة، فالنفس تكرههما، والسعوط نادر، فلهذا لم يذكرها.
ومن الأولى، هي لابتداء الغاية، قيل: وهي مع ما بعدها في موضع نصب، لأن المعنى: حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود، كما يقال: بانت اليد من زندها، أي فارقته، ومن، الثانية للتبعيض، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله، ويتعلق أيضا يتبين، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى،
فمن الأولى هي لابتداء الغاية، ومن الثانية هي للتبعيض. ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معا، على قول الزجاج، لأن الفجر عنده فجران، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد، بل يكون جنسا
58

قيل: ويجوز أن يكون من الفجر حالا من الضمير في الأبيض، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: كائنا من الفجر، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا، فكأنه قيل: حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر، من الخيط الأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود، لأن بيان أحديهما بيان للثاني، وكان الاكتفاء به أولى، لأن المقصود بالتبين، والمنوط بتبيينه: الحكم من إباحة المباشرة، والأكل، والشرب. ولقلق اللفظ لو صرح به، إذ كان: يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل، فيكون من الفجر بيانا للخيط الأبيض، ومن الليل بيانا للخيط الأسود. ولكون: من الخيط الأسود، جاء فضلة فناسب حذف بيانه.
* (ثم أتموا الصيام إلى اليل) *: تقدم ذكر وجوب الصوم، فلذلك، لم يؤمر به هنا، ولم يتقدم ذكر غايته، فذكرت هنا الغاية، وهو قوله: * (أحل لكم) * والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها، لم يدخل في حكم ما قبلها، و: الليل، ليس من جنس النهار، فلا يدخل في حكمه، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل.
قال ابن عباس: أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء، فأمر الله تعالى بالخلاف لهم، وبالإفطار عند غروب الشمس.
والأمر بالإتمام هنا للوجوب، لأن الصوم واجب، فإتمامه واجب، بخلاف: المباشرة، والأكل، والشرب، فإن ذلك مباح في الأصل، فكان الأمر بها الإباحة.
وقال الراغب: فيه دليل على جواز النية بالنهار، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر، وعلى نفي صوم الوصال. انتهى.
أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار.
وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضا، بل من الكلام الذي قبلها.
وأما الدلالة على نفي صوم الوصال، فليس بظاهر، لأنه غيا وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال، وصح في الحديث النهي عن الوصال، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم، وبعضهم على الكراهة. وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين، كعبد الله بن الزبير، وإبراهيم التيمي، وأبي الحوراء، ورخص بعضهم فيه إلى السحر، منهم: أحمد، وإسحاق، وابن وهب.
وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه، وهو قول الجمهور، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر: لا قضاء عليه كالناسي؛ وروي ذلك عن عمر، وقال مالك: من أفطر شاكا في الغروب قضى وكفر؛ وفي ثمانية أبي زيد: عليه القضاء فقط قياسا على الشاك في الفجر، فلو قطع الإتمام متعمد الجماع، فالإجماع على وجوب القضاء، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء، أو ناسيا بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي، وعند مالك يلزمه القضاء، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل، بل رفع نية الصوم، فهو على صومه عند الجمهور، ولا يلزمه قضاء، قال ابن حبيب؛ وعند مالك في المدونة: أنه يفطر وعليه القضاء.
وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلا على من تقدم له الصوم، فلو أصبح مفطرا من غير عذر لم يجب عليه الإمساك، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه، قالوا: لكن السنة أوجبت عليه الإمساك، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم: وأتموا الصيام.
وقالت الشافعية: المراد منه صوم الفرض، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض. قال بعض أرباب الحقائق: لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك، فقال في حقه * (وأتموا * الصيام الرفث إلى) *. وحظك: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين) *.
* (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الأية وسياق المباشرة المذكورة قبل.
وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط، وقال
59

بذلك فرقة، فالمنهي عنه الجماع، وقال الجمهور: يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع. وأما دواعي النكاح: كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك، وقال أبو حنيفة: إن فعل فأنزل فسد، وقال المزني عن الشافعي: إن فعل فسد، وقال الشافعي، أيضا: لا يفسد من الوطء إلا بما مثله من الأجنبية يوجب، وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهو معتكف في المسجد، ولا شك أنها كانت تمسه. قالوا: فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور، وإذا كانت المباشرة معنيا بها اللمس، وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى، لأن فيه اللمس وزيادة، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة.
والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى الله، وهو من الشرائع القديمة.
وقرأ قتادة: وأنتم عكفون، بغير ألف، والجملة في موضع الحال أي: لا تباشروهن في هذه الحالة، وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف، والإجماع على أنه ليس
بواجب، وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اعتكف، فهو سنة، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته، فنذكر شرائطه، وشرطه الصوم، وهو مروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، ومالك، والثوري والحسن بن صالح؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف. وقال جماعة من التابعين، منهم سعيد، وإبراهيم: ليس الصوم شرطا. وروي طاووس عن ابن عباس مثله، وبه قال الشافعي.
وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان، بل كل ما يسمى لبثا في زمن ما، يسمى عكوفا. وهو مذهب الشافعي. وقال مالك: لا يعتكف أقل من عشرة أيام، هذا مشهور مذهبه، وروي عنه: أن أقلة يوم وليلة.
وظاهر إطلاق العكوف أيضا يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار، وأحدهما، فعلى هذا، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صح، أو يوم فقط صح، وهو مذهب الشافعي وقال سحنون: لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه. وقال أبو حنيفة: لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها.
وفي الخروج من المعتكف، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة، والدخول إليه، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقه.
وظاهر قوله: عاكفون في المساجد، أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها، ونظير ذلك: لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلا فرسا، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف، فذكر: المساجد، إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلا فيها، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.
والظاهر من قوله: في المساجد، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف، وبه قال أبو قلابة، وابن عيينة، والشافعي، وداود الطبري، وابن المنذر، وهو أحد قولي مالك، والقول الآخر: أنه لا اعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه، وبه قال عبد الله، وعائشة، وإبراهيم، وابن جبير، وعروة وأبو جعفر.
وقال قوم: إنه لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة.
وقال قوم: لا اعتكاف إلا في مسجد نبي، وبه قال ابن المسيب، وهو موافق لما قبله، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وروى الحارث عن علي: أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، وفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال، وأما النساء فسكوت عنهن. وقال أبو حنيفة: تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره، وقال مالك: تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها. وقال الشافعي: حيث شاءت.
وقرأ مجاهد، والأعمش: في المسجد، على الإفراد، وقال الأعمش: هو المسجد الحرام، والظاهر أنه للجنس. ويرجع هذا
60

قراءة من جمع فقرأ في المساجد.
وقال بعض الصوفية في قوله: * (ولا تباشروهن) * الآية. أخبر الله أن محل القربة مقدس عن اجتلاب الحظوظ. انتهى.
* (تلك حدود الله) * تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف، لأنه شيء واحد، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أولها إلى هنا. وكانت آية الصيام قد تضمنت عدة أوامر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي، ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف، فأطلق على الكل: حدود، تغليبا للمنطوق به، واعتبارا بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر. فقيل: حدود الله، واحتيج إلى هذا التأويل، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه: فلا تقربوها، وحدود الله: شروطه، قاله السدي. أو: فرائضه، قاله شهر بن حوشب. أو: معاصيه، قاله الضحاك. وقال معناه الزمخشري، قال: محارمه ومناهيه، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية.
وإضافة الحدود إلى الله تعالى هنا، وحيث ذكرت، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها، ولم تأت منكرة ولا معرفة بالألف واللام لهذا المعنى.
* (فلا تقربوها) * النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها، وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم): (إن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه). والرتع حول الحمى وقربانه واحد، وجاء هنا: فلا تقربوها، وفي مكان آخر: * (فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله) * وقوله: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) *، لأنه غلب هنا جهة النهي، إذ هو المعقب بقوله: تلك حدود الله، وما كان منهيا عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ، وأما حيث جاء: فلا تعتدوها، فجاء عقب بيان عدد الطلاق، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها، وهو مجاوزة الحد الذي حده الله فيها، وكذلك قوله تعالى: * (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده) * جاء بعد أحكام المواريث، وذكر أنصباء الوارث، والنظر في أموال الأيتام، وبيان عدد ما يحل من الزوجات، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه الله من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه. وجاء قوله: تلك حدود الله، عقيب قوله: * (وصية من الله) * ثم وعد من أطاع بالجنة، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته.
وقال أبو مسلم معنى: لا تقربوها: لا تتعرضوا لها بالتغيير، كقوله: * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتى هى أحسن) *.
* (كذالك يبين الله آياته) * أي: مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته، وقال أبو مسلم: المراد بالآيات: الفرائض التي بينها، كأنه قال كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل. إنتهى كلامه. وهذا لا يتأتى إلا على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به.
* (للناس) *: ظاهره العموم وقال ابن عطية: معناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الآيات التي يتضمن * (إن الله يضل من يشاء) * انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص، بل الله تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم، ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها، لأنك تقول: بينت له فما بين، كما تقول: علمته فما تعلم.
ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين، يجعل فيهم البيان، فلذلك ادعى أن المعنى على الخصوص، لأن الله تعالى كما جعل في قوم الهدى، جعل في قوم الضلال، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعا منا ومن المعتزلة، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين.
* (لعلهم يتقون) * قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر
61

مشتهى بالطبع اشتهاء عظيما بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلا التقوى، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي: هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين الله لهم.
* (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * قال مقاتل: نزلت في امرئ القيس بن عابس الكندي، وفي عدان بن أشوع الحضرمي اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) في أرض، وكان امرؤ القيس المطلوب، وعد أن الطالب، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فنزلت، فحكم عدان في أرضه ولم يخاصمه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن من يعبد الله تعالى بالصيام فحبس نفسه عما تعوده من الأكل والشرب والمباشرة بالنهار، ثم حبس نفسه بالتقييد في مكان تعبد الله تعالى صائما له، ممنوعا من اللذة الكبرى بالليل والنهار جدير أن لا يكون مطعمه ومشربه إلا من الحلال الخالص الذي ينور القلب، ويزيده بصيرة، ويفضي به إلى الاجتهاد في العبادة، فلذلك نهى عن أكل الحرام المفضي به إلى عدم قبول عبادته من صيامه واعتكافه، وتخلل أيضا بين آيات الصيام آية إجابة سؤال الداعي، وسؤال العباد الله تعالى، وقد جاء في الحديث: (إن من كان مطعمه حراما، وملبسه حراما، ومشربه حراما، ثم سأل الله أنى يستجاب له. فناسب أيضا النهي عن أكل المال الحرام.
ويجوز أن تكون المناسبة: أنه لما أوجب عليهم الصوم، كما أوجبه على من كان من قبلهم، ثم خالف بين أهل الكتاب وبينهم، فأحل لهم الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم، أمرهم أن لا يوافقوهم في أكل الرشاء من ملوكهم وسفلتهم وما يتعاطونه من الربا، وما يستبيحونه من الأموال بالباطل، كما قال تعالى: * (ويشترون به ثمنا قليلا) * * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * * (أكالون للسحت) * وأن يكونوا مخالفيهم قولا، وفعلا، وصوما، وفطرا، وكسبا، واعتقادا، ولذلك ورد لما ندب إلى السحور: (خالفوا اليهود) وكذلك أمرهم في الحيض مخالفتهم إذ عزم الصحابة على اعتزال الحيض، إذ نزل * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * لاعتزال اليهود، بأن لا يؤاكلوهن، ولا يناموا معهن في بيت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (افعلوا كل شيء إلا النكاح). فقالت اليهود: ما يريد هذا الرجل أن يترك من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه.
والمفهوم من قوله تعالى: ولا تأكلوا، الأكل المعروف، لأنه الحقيقة. وذكره دون سائر وجوه الاعتداء والاستيلاء، لأنه أهم الحوائج، وبه يقع إتلاف أكثر الأموال. ويجوز أن يكون الأكل هنا مجازا عبر به عن الأخذ والاستيلاء، وهذا الخطاب والنهي للمؤمنين، وإضافة الأموال إلى المخاطبين. والمعنى: ولا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: * (ولا تقتلوا أنفسكم) * أي: لا يقتل بعضكم بعضا، فالضمير الذي للخطاب يصح لكل واحد ممن تحتمه أن يكون منهيا ومنهيا عنه، وآكلا ومأكولا منه، فخلط الضمير لهذه الصلاحية، وكما يحرم أن يأكل يحرم أن يؤكل غيره، فليست الإضافة إذ ذاك للمالكين حقيقة، بل هي من باب الإضافة بالملابسة. وأجاز قوم الإضافة للمالكين، وفسروا الباطل بالملاهي والقيان والشرب، والبطالة بينكم معناه في معاملاتكم وأماناتكم، لقوله: تريدونها بينكم بالباطل: وقال الزجاج بالظلم، وقال غيره بالجهة التي لا تكون مشروعة فيدخل في ذلك الغضب، والنهب، والقمار، وحلوان الكاهن، والخيانة، والرشاء، وما يأخذه المنجمون، وكل ما لم يأذن في أخذه الشرع.
وقال ابن عباس: هذا في
62

الرجل يكون عليه مال ولا بينة عليه، فيجحد المال ويخاصم صاحبه. وهو يعلم أنه آثم؛ وقال عكرمة: هو الرجل يشتري السلعة فيردها ويرد معها دراهم، وقال ابن عباس، أيضا: هو أخذ المال بشهادة الزور، قال ابن عطية: ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما يبيع، لأن الغبن كأنه وهبة. انتهى. وهو صحيح.
والناصب للظرف: تأكلوا، والبينية مجاز إذ موضوعها أنها ظرف مكان، ثم تجوز فيها فاستعملت في أشخاص، ثم بين المعاني. وفي قوله: بينكم، يقع لما هم يتعاطونه من ذلك، لأن ما كان يطلع فيه بعضهم على بعض من المنكر أشنع مما لا يطلع فيه بعضهم على بعض، وهذا يرجح القول الأول بأن الإضافة ليست للمالكين إذ لو كانت كذلك لما احتيج هذا الظرف الدال على التخلل والاطلاع على ما يتعاطى من ذلك، وقيل: انتصاب: بينكم، على الحال من: أموالكم، فيتعلق بمحذوف أي: كائنة بينكم، وهو ضعيف، والباء في: بالباطل، للسبب وهي تتعلق: بتأكلوا، وجوزوا أن تكون بالباطل، حالا من الأموال، وأن تكون حالا من الفاعل.
* (وتدلوا بها إلى الحكام) * هو مجزوم بالعطف على النهي، أي ولا تدلوا بها إلى الحكام، وكذا هي في مصحف أبي، ولا تدلوا بإظهار لا الناهية. والظاهر، أن الضمير في: بها، عائد على الأموال، فنهوا عن أمرين: أحدهما: أخذ المال بالباطل، والثاني: صرفه لأخذه بالباطل، وأجاز الأخفش وغيره أن يكون منصوبا على
جواز النهي بإضمار إن وجوزه الزمخشري، وحكى ابن عطية أنه قيل: تدلوا، في موضع نصب على الظرف، قال: وهذا مذهب كوفي أن معنى الظرف هو الناصب، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة انتهى.
ولم يقم دليل قاطع من لسان العرب على أن الظرف ينصب فتقول به، وأما إعراب الأخفش هنا أن هذا منصوب على جواب النهي، وتجويز الزمخشري ذلك هنا، فتلك مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، بالنصب.
قال النحويون: إذا نصبت كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما، وهذا المعنى لا يصح في الآية لوجهين:
أحدهما: أن النهي عن الجمع لا يستلزم النهي عن كل واحد منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما، لأن في الجمع بينهما حصول كل واحد منهما عنه ضرورة، ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرمات؟.
والثاني: وهو أقوى، إن قوله لتأكلوا علة لما قبلها، فلو كان النهي عن الجمع لم تصلح العلة له، لأنه مركب من شيئين لا تصلح العلة أن يترتب على وجودهما، بل إنما يترتب على وجود أحدهما، وهو: الإدلاء بالأموال إلى الحكام. والإدلاء هنا قيل: معناه الإسراع بالخصومة في الأموال إلى الحكام، إذا علمتم أن الحجة تقوم لكم. إما بأن لا يكون على الجاحد بينة أو يكونن المال أمانة: كمال اليتيم ونحوه مما يكون القول فيه قول المدعي عليه، والباء على هذا القول للسبب، وقيل: معناه لا ترشوا بالأموال الحكام ليقضوا لكم بأكثر منها. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحاكم مظنة الرشاء إلا من عصم، وهو الأقل، وأيضا: فإن اللفظتين متناسبتان تدلوا، من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنها يمد بها لتقضي الحاجة. انتهى كلامه. وهو حسن.
وقيل: المعنى لا تجنحوا بها إلى الحكام من قولهم: أدلى فلان بحجته، قام بها، وهو راجع لمعنى القول الأول، والضمير في: عائد على الأموال، كما قررناه، وأبعد من ذهب إلى أنه يعود على شهادة الزور، أي: لا تدلوا بشهادة الزور إلى الحكام، فيحتمل على هذا القول: أن
63

يكون الذين نهوا عن الإدلاء هم الشهود، ويكون الفريق من المال ما أخذوه على شهادة الزور، ويحتمل أن يكون الذين نهوا هم المشهود لهم، ويكون الفريق من المال هو الذي يأخذونه من أموال الناس، بسبب شهادة أولئك الشهور.
* (لتأكلوا فريقا) * أي: قطعة وطائفة * (من أموال الناس) * قيل. هي أموال الأيتام، وقيل: هي الودائع. والأولى العموم، وأن ذلك عبارة عن أخذ كل مال يتوصل إليه في الحكومة بغير حق، و: من أموال الناس، في موضع الصفة أي: فريقا كائنا من أموال الناس. * (بالإثم) * متعلق بقوله: لتأكلوا، وفسر بالحكم بشهادة الزور، وقيل: بالرشوة، وقيل: بالحلف الكاذب، وقيل: بالصلح، مع العلم بأن المقضي له ظالم، والأحسن العموم، فكل ما أخذ به المال وماله إلى الإثم فهو إثم، والأصل في الإثم التقصير في الأمر قال الشاعر:
* جمالية تعتلى بالرداف
*
إذا كذب الآثمات الهجيرا
*
أي: المقصرات، ثم جعل التقصير في أمر الله تعالى والذنب إثما.
والباء في: بالإثم للسبب، ويحتمل أن تكون للحال أي: متلبسين بالإثم، وهو الذنب، * (وأنتم تعلمون) * جملة حالية أي: أنكم مبطلون آثمون، وما أعد لكم من الجزاء على ذلك، وهذه مبالغة في الإقدام على المعصية مع العلم بها، وخصوصا حقوق العباد. وفي الحديث: (فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئا، فإن ما أقضي له قطعة من نار).
وظاهر الحديث والآية تحريم ما أخذ من مال الناس بالإثم، وأن حكم الحاكم لا يبيح للخصم ما يعلم أنه حرام عليه، وهذا في الأموال باتفاق، وأما في العقود والفسوخ فاختلفوا في قضاء القاضي في الظاهر، ويكون الباطن خلافه بعقد أو فسخ عقد بشهادة زور، والمحكوم له يعلم بذلك.
فقال أبو حنيفة: هو نافذ، وهو كالإنشاء وإن كانوا شهود زور.
وقال الجمهور: ينفذ ظاهرا ولا ينفذ باطنا.
وفي قوله: * (وأنتم تعلمون) * دلالة على أن من لم يعلم أنه آثم، وحكم له الحاكم بأخذ مال، فإنه يجوز له أخذه، كأن يلقى لأبيه دينا وأقام البينة على ذلك الدين، فحكم له به الحاكم، فيجوز له أخذه وإن كان لا يعلم صحة ذلك، إذ من الجائز أن أباه وهبه، أو أن المدين قضاه، أو أنه مكره في الإقرار، لكنه غير عالم به بأنه مبطل فيما يأخذه. والأصل عدم براءة المقر، وعدم إكراهه، فيجوز له أن يأخذه.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نداء المؤمنين تقريبا لهم، وتحريكا لما يلقيه إليهم من وجوب الصيام، وأنه كتبه علينا كما كتب على من قبلنا تأسيا في هذا التكليف الشاق بمن قبلنا، فليس مخصوصا بنا، وأن ذلك كان لرجاء تقوانا له تعالى، ثم إنه قلل هذا التكليف بأن جعله: أياما معدودات أول يحصرها العد من قلتها، ثم خفف عن المريض والمسافر بجواز الفطر في أيام مرضه وسفره، وأوجب عليه قضاء عدتهاغ إذا صح وأقام، ثم ذكر أن من أطلق الصوم وأراد الفطر فأفطر فإنه يفدى باطعام مساكين، ثم ذكر أن التطوع بالخير، هو خير، وإن الصوم أفضل من الفطر، والفداء، ثم نسخ ذلك الحكم من صيام الأيام القلائل بوجوب صوم رمضان، وهكذا جرت
العادة في التكاليف الشرعية يبتدأ فيها أولا بالأخف فالأخف،. ينتهي إلى الحد الذي هو الغاية المطلوبة في الشريعة، فيستقر الحكم.
ونبه على فضيلة هذا الشهر المفروض بأنه الشهر الذي أنزل فيه الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأمر تعالى من كان شهده أن يصومه، وعذر من كان مريضا أو مسافرا، فذكر أن عليه صوم عدة ما أفطر إذا صح وأقامه كحاله حين كلفه صوم تلك الأيام، ثم نبه تعالى على أن التخفيف عن المريض والمسافر هو لإرادته تعالى بالمكلفين التسير.
ثم ذكر أن مشروعية صوم الشهر، وإباحة الفطر للمريض والمسافر وإرادة اليسر بنا هو لتكميل العدة، ولتعظيم الله، ولرجاء الشكر، فقابل كل مشروع بما يناسبه، ثم لما ذكر تعالى تعظيم العباد لربهم والثناء عليه منهم، ذكر قربه بالمكانة، فإذا سألوه أجابهم، ولا تتأخر إجابته تعالى عنده عن وقت دعائه، ثم طلب منهم الاستجابة له إذا دعاهم كما هو يجيبهم إذا
64

دعوه، ثم أمرهم بالديمومة على الإيمان، لأنه أصل العبادات وبصحته تصح، ثم ذكر رجاء حصول الرشاد لهم إذا استجابوا له وآمنوا به، ثم امتن عليهم تعالى بإحلال ما كانوا ممنوعين منه، وهو النكاح في سائر الليالي المصوم أيامها، ثم نبه على العلة في ذلك بأنهن مثل اللباس لكم فأنتم لا تستغنون عنهن، ثم لما وقع بعضهم في شيء من المخالفة تاب الله عليهم وعفا عنهم، ثم إنه تعالى ما اكتفى بذكر الإخبار بالتحليل حتى أباح ذلك بصيغة الأمر فقال: * (فالن باشروهن) *، وكذلك الأكل والشرب، وغيا ثلاثتهن بتبيين الفجر، ثم أمرهم أمر وجوب بإتمام الصيام إلى الليل. ولما كان إحلال النكاح في سائر ليالي الصوم، وكان من أحوال الصائم الاعتكاف، وكانت مباشرة النساء في الاعتكاف حراما نبه على ذلك بقوله: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) *.
ثم أشار إلى الحواجز وهي: الحدود، وأضافها إليه ليعلم أن الذي حدها هو الله تعالى، فنهاهم عن قربانها، فضلا عن الوقوع فيها مبالغة في التباعد عنها، ثم أخبر أنه يبين الآيات ويوضحها وهي سائر الأدلة والعلامات الدالة على شرائع الله تعالى مثل هذا البيان الواضح في الأحكام السابقة ليكونوا على رجاء من تقوى الله المفضية بصاحبها إلى طاعة الله تعالى، ثم نهاهم عن أن يأكل بعضهم مال بعض بالباطل، وهي الطريق التي لم يبح الله الاكتساب بها، ونهاكم أيضا عن رشاء حكام السوء ليأخذوا بذلك شيئا من الأموال التي لا يستحقونها، وقيد النهي والأخذ بقيد العلم بما يرتكبونه تقبيحا لهم، وتوبيخا لهم، لأن من فعل المعصية وهو عالم بها وبما يترتب عليها من الجزاء السيء كان أقبح في حقه وأشنع ممن يأتي في المعصية وهو جاهل فيها. وبما يترتب عليها.
ولما كان افتتاح هذه الآية الكريمة بالأمر المحتم بالصيام وكان من العبادات الجليلة التي أمر فيها باجتناب المحرمات، حتى إنه جاء في الحديث: (فإن امرؤ سبه، فليقل: إني صائم). وجاء عن الله تعالى: (الصوم لي وأنا أجزى به)، وكان من أعظم ممنوعاته وأكبرها الأكل فيه، اختتم هذه الآيات بالنهي عن أكل الأموال بالباطل، ليكون ما يفطر عليه الصائم من الحلال الذي لا شبهة فيه، فيرجى أن يتقبل عمله وأن لا يكون من (الصائمين الذين ليس لهم من صومهم إلا الجوع والعطش). فافتتحت هذه الآيات بواجب مأمور به، واختتمت بمحرم منهي عنه، وتخلل بين الابتداء والانتهاء أيضا أمر ونهي، وكل ذلك تكاليف من الله تعالى بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى تعالى عنه، أعاننا الله عليها.
2 (* (يسألونك عن الأهلة قل هى مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولاكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون * وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذالك جزآء الكافرين * فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين * الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين * وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين * وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من
65

الهدى ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فإذآ أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) *))
) *
* (الاهلة) *: جمع هلال، وهو مقيس في فعال المضعف، نحو: عنان وأعنة، وشذ فيه فعل قالوا: عنن في: عنان، وحجج في حجاج.
والهلال، ذكر صاحب (كتاب شجر الدر) في اللغة: أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي، وذؤابة النعل، وقطعة من الغبار، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع، وقطعة من رحى، وسلخ الحية، ومقاولة الأجير على الشهور، والمباراة في رقة النسج، والمباراة في التهليل. وجمع هلة وهي المفرجة، والثعبان، وبقية الماء في الحوض. انتهى ما ذكره ملخصا.
ويسمي الذي في السماء هلالا لليلتين، وقيل: لثلاث. وقال أبو الهيثم: لليلتين من أوله وليلتين من آخره. وما بين ذلك يسمى قمرا. وقال الأصمعي: يسمي هلال إلى أن يحجر، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق، وقيل: يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل، وذلك إنما يكون في سبع. قالوا: وسمي هلالا لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم: استهل الصبي، والإهلال بالحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته.
وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال، ويقال: أهل الهلال، واستهل وأهللنا واستهللناه، هذا قول عامة أهل اللغة. وقال شمر: يقال استهل الهلال
أيضا يعني مبنيا للفاعل وهو الهلال، وشهر مستهل وأنشد:
* وشهر مستهل بعد شهر
*
وحول بعده حول جديد
*
ويقال أيضا: استهل: بمعنى تبين، ولا يقال أهل، ويقال أهللنا عن ليلة كذا، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: يقال أهل الهلال واستهل، وأهللنا الهلال واستهللناه، انتهى. وقد تقدم لنا الكلام في مادة هلل، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا.
* (مواقيت) *: جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم: الميقات منتهى الوقت، قال تعالى: * (فتم ميقات ربه أربعين ليلة) *.
ثقف الشيء: إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ومنه: رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه، ومنه: فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر:
* فأما تثقفوني فاقتلوني
*
فمن أثقف فليس إلى خلود
*
66

وقال ابن عطية: * (ثقفتموهم) * أحكمتم غلبتهم، يقال: رجل ثقف لقف إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. انتهى. ويقال: ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه، ومنه أخذت الثقافة بالسيف، والثقافة أيضا حديدة تكون للقواس والرماح يقوم بها المعوج، وثقف الشيء: لزمه، وهو ثقف إذا كان سريع العلم، وثقفته: قومته، ومنه الرماح المثقفة، أي: المقومة وقال الشاعر:
* ذكرتك والخطي يخطر بيننا
*
وقد نهلت منا المثقفة السمر
*
يعنى الرماح المقومة.
* (التهلكة) *. على وزن تفعلة، مصدر لهلك، وتفعلة مصدرا قليل، حكى سيبويه منه: التضرة والتسرة، ومثله من الأعيان: التنصبة، والنفلة، يقال: هلك هلكا وهلاكا وتهلكة وهلكاء على وزن فعلاء، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر، وكذلك بالتاء، هو مثلث حركات العين، والضم في مهلك نادر، والهلاك في ذي الروح: الموت، وفي غيره: الفناء والنفاد.
وكون التهلكة مصدرا حكاه أبو علي عن أبي عبيدة، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك، يعني المشدد اللام، فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار. انتهى كلامه.
وما ذهب إليه ليس بجيد، لأن فيها حملا على شاذ، ودعوى إبدال لا دليل عليه، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم، على تفعله ذات الكسر، وجعل تهلكة مصدرا لهلك المشدد اللام، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل، نحو: كسر تكسيرا، ولا يأتي على تفعله، إلا شاذا، فألاولى جعل تهلكة مصدرا، إذ قد جاء ذلك نحو: التضرة. وأما تهلكة فالأحسن أيضا أن يكون مصدرا لهلك المخفف اللام، لأن بمعنى تهلكة بضم الللام، وقد جاء في مصادر فعل: تفعلة قالوا: جل الرجل تجله، أي جلالا، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدرا لهلك المشدد اللام، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذا.
وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له، إذ ليس في المصادر غيره، وليس قوله بصحيح، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرة مصدرين.
وقيل: التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه، وقيل التهلكة: الشيء المهلك، والهلاك حدوث التلف، وقيل: التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك.
* (أحصرتم) * قال يونس بن حبيب: أحصر الرجل رد عن وجه يريده، قيل: حصر وأحصر لمعنى واح، قاله الشيباني، والزجاج، وقاله ابن عطية عن الفراء، وقال ابن ميادة:
* وما هجر ليلى أن يكون تباعدت
*
عليك ولا أن أحصرتك شغول
*
67

وقيل: أحصر بالمرض، وحصره العدو، قاله يعقوب. وقال الزجاج أيضا: الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض: أحصر، والمحبوس: حصر، وقال أبو عبيدة والفراء أيضا أحصر فهو محصر، فإن حبس في سجن أو دار قيل حصر فهو: محصور، وقال ثعلب: أصل الحصر والإحصار: الحبس، وحصر في الحبس أقوى من أحصر، وقال ابن فارس في (المجمل): حصر بالمرض، وأحصر بالعدو. ويقال: حصره صدره أي: ضاق، ورجل حصر: وهو الذي لا يبوح بسره، قال جرير:
* ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا
*
حصرا بسرك يا تميم ضنينا
*
والحصر: احتباس الغائط، والحصير: الملك، لأنه كالمحبوس بالحجاب. قال لبيد:
حتى لدى باب الحصير قيام
والحصير معروف: وهو سقيف من بردى سمي بذلك لانضمام بعضه إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره.
* (الهدى) * الهدي ما يهدي إلى بيت الله تعالى تقربا إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره. يقال: أهديت إلى البيت الحرام هديا وهديا بالتشديد، والتخفيف، فالتشديد جمع هدية، كمطية ومطي، والتخفيف جمع هدية كجذية السرج، وجذي. قال الفراء: لا واحد للهدي، وقيل: التشديد لغة تميم، ومنه قول زهير:
* فلم أر معشرا أسروا هديا
*
ولم أر جار بيت يستباء
*
وقيل: الهدي، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه، فيقع للأفراد والجمع. وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نعم أو غير ذلك يسمى هديا، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم.
وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هديا على ما سيأتي ذكره إن شاء الله.
الحلق: مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدد ونورة، والحلق مجرى الطعام بعد الفم.
الأذى: مصدر، وهو بمعنى الألم، تقول: آذاني زيد إيذاء آلمني.
الصدقة: ما أعطى من مال بلا عوض تقربا إلى الله تعالى.
النسك: قال ابن الأعرابي: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد: ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها، كالنسيكة المخلصة من الدنس، ثم قيل للذبيحة: نسك، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى، وقيل: النسك مصدر نسك ينسك نسكا ونسكا، كما تقول حلم الرجل، حلما وحلما.
الأمن: زوال ما يحذر، يقال: أمن يأمن أمنا وأمنة.
الثلاثة: عدد معروف، ويقال منه: ثلثت القوم أثلثهم، أي صيرتهم ثلاثة بي.
والثلاثون عدد معروف، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة، وثلث ممنوعا من الصرف، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله.
العقاب: مصدر عاقب أي جازى المسئ على
68

إساءته، وهو مشتق من العاقبة، كأنه يراد عاقبة فعله المسئ.
* (يسئلونك عن الاهلة قل هى مواقيت للناس والحج) * نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم) عن الهلال، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، وغيرهم. وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم الأنصاري، قالا: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال، وكذلك الإفطار في شهر شوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم): (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
أيضا قد تقدم كلام في شيء من أعمال الحج، وهو: الطواف، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها.
وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى، وفي الصلاة، والزكاة، والصيام، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو: الحج، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كان أمة أقل سؤالا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) سألوا عن أربعة عشر حرفا فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها * (
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب) * والثاني: هذا، وستة بعدها، وفي غيرها: * (يسألونك ماذا أحل لهم) * * (يسألونك عن الانفال) * * (ويسئلونك عن الروح) * * (ويسألونك عن ذى القرنين) * * (ويسئلونك عن الجبال) * * (ويسئلونك عن * الساعة) * قيل: اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح المبدأ، واثنان في الآخر في شرح المعاد، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب * (يذهبكم أيها الناس) * الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول، تشتمل على شرح المبدأ، والثانية وهي الرابعة أيضا من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد.
والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة، وإن كان من سأل اثنين، كما روي، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلا من واحد منهم أو اثنين، وهذا كثير في كلامهم، قيل: أو لكون الاثنين جمعا على سبيل الاتساع والمجاز.
والكاف: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، و: يسألونك، خبر، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب: وإن كانت نزلت بعد السؤال، وهو المنقول في أسباب النزول، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت.
و: عن، متعلقة بقوله: يسألونك، يقال: سأل به وعنه، بمعنى واحد، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة، بل عن حكمة اختلاف أحوالها، وفائدة ذلك، ولذلك أجاب بقوله: * (قل هى مواقيت للناس) * فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها.
والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه، قالوا: من حيث كونه هلالا في شهر، غير كونه هلالا في آخر.
وقرأ الجمهور: عن الأهلة، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة، وقرأ شاذا بادغام نون: عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف.
* (قل هى) * أي: الأهلة * (مواقيت للناس) * هذه: الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال، والمعاملات، والإيمان، والعدد، والصوم، والفطر، ومدة الحمل والرضاع، والنذور المعلقة بالأوقات، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلا بالأهلة. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله: * (وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) * وفي قوله: * (فمحونا ءاية اليل وجعلنا ءاية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب) *.
وقال الراغب: الوقت الزمان المفروض للعمل، ومعنى: مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم. انتهى.
وقال الرماني: الوقت مقدار من الزمان محدد في ذاته، والتوقيت تقدير حده، وكلما قدرت له غاية فهو موقت، والميقات منتهى الوقت، والآخرة منتهى الخلق، والإهلال ميقات الشهر، ومواضع
69

الإحرام مواقيت الحج، لأنها مقادير ينتهي إليها، والميقات مقدار جعل علما لما يقدر من العمل. انتهى كلامه.
وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء رد على الفلاسفة في قولهم: إن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى.
والحج: معطوف على قوله: للناس، قالوا: التقدير ومواقيت للحج، فحذف الثاني اكتفاء بالأول، والمعنى: لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته. ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة، أفرد بالذكر، وكأنه تخصيص بعد تعمم، إذ قوله: مواقيت للناس، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس، وإنما المعنى: مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت دينا ودنيا. فجاء قوله: والحج، بعد ذلك تخصيصا بعد تعميم. ففي الحقيقة ليس معطوفا على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب. ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب، اقتصر على قوله: مواقيت للناس.
وقال القفال: إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. انتهى كلامه.
وقرأ الجمهور: والحج، بفتح الحاء. وقرأ الحسن وابن أبي الحاق: والحج بكسرها في جميع القرآن في قوله: * (حج البيت) * فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. وقال سيبويه: الحج، كالرد والسد، والحج، كالذكر، فهما مصدران. والظاهر من قوله: مواقيت للناس، والحج، ما ذهب إليه أبو حنيفة، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة، خلافا لمن قال: لا يصح إلا في أشهر الحج. قيل: وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضا، ولا شهورا، لعموم قوله: مواقيت للناس. ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال، وكانت بالشهور، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم) حين آلى من نسائه شهرا، وكذلك الإجارات، والأيمان، والديون، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك، وسقط اعتبار العدد، وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم) في الصوم، وفيها رد على أهل الظاهر. ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو: مالك، وأبو ثور، وأحمد؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه، وبه قال الشافعي، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال: ما فصل، فسواء رئي كبيرا أو صغيرا، فإنه لليلة التي رئي فيها.
* (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولاكن البر من اتقى) *. قال البراء بن عازب، والزهري، وقتادة، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسمون ظهور بيوتهم على الجدران، وقيل: كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو
عمرة لم يأت حائطا، ولا بيتا، ولا دارا من بابه، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقبا يدخل منه ويخرج، أو ينصب سلما، يصعد منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه، ويرون ذلك برا إلا أن يكون ذلك من الحمس، وهم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو نصر بن معاوية.
70

فدخل النبي صلى الله عليه وسلم) ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال: إني أحمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (وأنا أحمس). فنزلت. ذكر هذا مختصرا السدي.
وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم) دخل وخلفه رجل من الأنصار، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم): (لم دخلت وأنت قد أحرمت)؟ قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم): (إني أحمس، إني من قوم لا يدينون بذلك). فقال الرجل: وأنا ديني دينك فنزلت.
وقال إبراهيم: كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز، وقيل: كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة، ويبقى كذلك حولا كاملا.
وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية رادا على من جعل إتيان البيوت من ظهورها برا، آمرا بإتيان البيوت من أبوابها، وهذه أسباب تظافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة، وأن الإتيان هو المجيء إليها، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تظافرت من هذه الآسباب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر، فبين لهم أن ذلك ليس من البر، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه، في الحج، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة، وما حكمة ذلك، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم، فأفعاله جارية على الحكمة، رد عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها، إذا أحرموا، ليس من الحكمة في شيء، ولا من البر، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معا، ووصل إحداهما بالأخرى.
وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال.
أحدهما: أن ذلك ضرب، مثل: المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن اتقوا واسألوا العلماء. فهذا كما يقال: أتيت الأمر من بابه، قاله أبو عبيدة.
الثاني: أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا لمخالفة الواجب في الحج، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فضرب مثلا للمخالفة، وقيل: واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم. قاله أبو مسلم.
الثالث: أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى: أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف العمر، صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم ما تظنونه برا، إنما البر أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم، وهو حكمة الخالق على المجهول، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمون، قاله في (ري الظمآن) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، والمعنى
71

ليس البر، وما ينبغي أن يكونوا عليه، بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه، ولم يجسر على مثله.
ثم قال: * (وأتوا البيوت من أبوابها) * أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها، ولا تعكسوا، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك * (لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون) *. انتهى كلامه.
وحكى هذا القول مختصرا ابن عطية، فقال: وقال غير أبي عبيدة: ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع، أنه كنى بالبيوت عن النساء الإيواء اليهن كالإيواء إلى البيوت، ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن، وآتوهن من حيث يحل من قبلهن. قاله ابن زيد، وحكاه مكي، والمهدوي عن ابن الأنباري.
وقال ابن عطية: كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام، انتهى.
والباء في: بان تأتوا زائدة في خبر ليس، وبأن تأتوا، خبر ليس، ويتقدر بمصدر، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى، وبالأعرف عما دونه في التعريف، لأن: أن وصلتها، عندهم بمنزلة الضمير.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وقالون، وعباس، عن أبي عمرو؛ والعجلي عن حمزة؛ والشموني عن الأعشى، عن أبي بكر: البيوت، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول، وبه قرأ باقي السبعة و: من، متعلقة: بتأتوا، وهي لابتداء الغاية، والضمير في: أبوابها، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة، لأن البيوت جمع كثرة، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره، والأفصح أن يجمع الضمير.
ولذلك جاء في القرآن: * (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) * ونحوه، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح.
* (ولاكن البر من اتقى) * التأويلات التي في قوله: * (ولاكن البر من ءامن) * سائغة هنا، من أنه أطلق البر، وهو المصدر، على من وقع منه على سبيل المبالغة، أو فيه حذف من الأول، أي: ذا البر، ومن الثاني أي: بر من آمن. وتقدم الترجيح في ذلك.
وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عد أوصافا كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف، وقال في آخرها: * (أولئك هم المتقون) * وقال هنا: * (ولاكن البر من اتقى) * والتقوى لا تحصل إلا بحصول تلك الأوصاف، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمنا إذ جاء معها: هو المتقي.
وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيف: ولكن، ورفع: البر، والباقون بالتشديد والنصب.
* (وأتوا البيوت من أبوابها) * تفسيرها: يتفرغ على الأقوال التي تقدمت في قوله: * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) *.
* (واتقوا الله) *: أمر باتقاء الله، وتقدمت جملتان خبريتان وهما * (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولاكن البر من اتقى) * فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأول، والثانية راجعة للثانية، وهذا من بديع الكلام.
ولما كان ظاهر قوله: من اتقى، محذوف المفعول، نص في قوله: واتقوا الله، على من يتقى، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله.
* (لعلكم تفلحون) * ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة، وهي قوله * (واتقوا الله) * لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فعلق التقوى برجاء الفلاح، وهو الظفر بالبغية.
* (وقاتلوا في سبيل الله) * الآية. قال ابن عباس: نزلت لما صد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش، ويصدوهم، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت. وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها، لأن ما قبلها متضمن شيئا من متعلقات الحج، ويظهر أيضا أن المناسب هو: أنه لما أمر تعالى بالتقوى، وكان أشد أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله، فأمر به فقال تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله) * والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد
72

في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل، والكف عن من كف، فهي ناسخة لآيات الموادعة.
وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال * (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) * قال الراغب: أمر أولا بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة، ثم أذن له في القتال، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب، وذلك كان أمرا بعد أمر على حسب مقتضى السياسة انتهى.
وقيل: إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين، وقيل: هي محكمة، وفي (ري الظمآن) هي منسوخة بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون * فتناه) * وضعف نسخها بقوله: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * لأنه من باب التخصيص لا من باب النسخ، ونسخ: * (ولا تقاتلوهم) * بقوله: * (وقاتلوهم) * بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم لم ينسخ، بل هو باق، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى، وأبعد من ذهب إلى أن قوله: وقاتلوا، ليس أمرا بقتال، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدد في الدين، وجعل ذلك قتالا، لأنه يؤول إلى القتال غالبا، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. والآية على هذا محكمة.
هذا القول خلاف الظاهر، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب: في سبيل الله، السبيل هو الطريق، واستعير لدين الله وشرائعه، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني، ويتعلق: في سبيل الله، بقوله: وقاتلوا، وهو ظرف مجازي، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه، وهو على حذف مضاف التقدير: في نصرة دين الله، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل: وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله، فضمن: قاتلوا، معنى المبالعة في القتال.
* (الذين يقاتلونكم) * ظاهره: من يناجزكم القتال ابتداء، أو دفعا عن الحق، وقيل: من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا: النسوان، والصبيان، والرهبان. وقيل: من له قدرة على القتال، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلا مجاز، وأبعد منه مجازا من ذهب إلى أن المعنى: الذين يخالفونكم، فجعل المخالفة قتالا، لأنه يؤول إلى القتال، فيكون أمرا بقتال من خالف، سواء قاتل أم لم يقاتل، وقدم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله: * (وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم) * * (ولا تعتدوا) * نهي عام في جميع مجاوزة كل حد، حدة الله تعالى، فدخل فيه الاعتداء في القتال بما لا يجوز، وقيل: المعنى: ولا تعتدوا في قتل النساء، والصبيان، والرهبان، والأطفال، ومن يجري مجراهم. قاله ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد. ورجحه جماعة من المفسرين: كالنحاس وغيره، لأن المفاعلة غالبا لا تكون إلا من اثنين، والقتال لا يكون من هؤلاء. ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن قتل النساء، والصبيان، وعن المثلة، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء، والشيخ الفاني، وعن تخريب العامر، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره.
وقيل: ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية. قاله ابن بحر، وقيل: في ترك القتال، وقيل: بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة. وقيل: بالمثلة، وقيل: بابتدائهم في
الحرم في الشهر الحرام، وقيل: في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر.
* (إن الله لا يحب المعتدين) *. هذا كالتعليل لما قبله كقوله: أكرم زيدا إن عمرا يكرمه. وحقيقة المحبة: وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه، وإرادة عقابه، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب. وذلك بخلاف محبة الانسان وبغضه، فإن بينهما واسطة، وهي عدمهما، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال: لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى.
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * ضمير المفعول عائد على: الذين يقاتلونكم، وهذا أمر بقتلهم، و: حيث ثقفتموهم، عام في كل مكان حل أو حرم، ويلزم منه عموم الأزمان، في شهر الحرام وفي غيره، وفي (المنتخب) أمر في
73

الآية: الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية زاد في التكليف. فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. انتهى. وليس كما قال: إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، لأن الضمير عائد على: الذين يقاتلونكم، فالوصف باق إذ المعنى: واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم، فليس أمرا بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا.
قال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي، وذلك في سرية عبد الله بن جحش.
* (وأخرجوهم من حيث أخرجوكم) * أي: من المكان الذي أخرجوكم منه، يعني مكة، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين، فكأنه وعد من الله بفتح مكة، وقد أنجز ما وعد، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم، و: من حيث، متعلق بقوله: وأخرجوهم، وقد تصرف في: حيث، بدخول حرف الجر عليها: كمن، والباء، وفي، وبإضافة لدى إليها.
وضمير النصب في: أخرجوكم، عائد على المأمورين بالقتل، والإخراج، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم، جعل إخراج بعضهم، وهو أجلهم قدرا رسول الله صلى الله عليه وسلم) والمهاجرون، إخراجا لكلهم.
* (والفتنة أشد من القتل) * في الفتنة هنا أقوال.
أحدها: الرجوع إلى الكفر أشد من أن يقتل المؤمن، قاله مجاهد. وكانوا قد عذبوا نفرا من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر، فعصمهم الله. والكفر بالله يقتضي العذاب دائما، والقتل ليس كذلك، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام، فاستعظم المسلمون ذلك.
الثاني: الشرك، أي: شركهم بالله أشد حرما من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي.
الثالث: هتك حرمات الله منهم أشد من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم.
الرابع: عذاب الآخرة لهم أشد من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه: * (ذوقوا فتنتكم) * * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات) * أي: عذبوهم.
الخامس: الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب، وتنغيص العيش دائما، ومنه قول الشاعر:
* لموت بحد السيف أهون موقعا
*
على النفس من قتل بحد فراق
*
السادس: أن يراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام، أشد من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم، إن قتلوكم، فلا تبالوا بقتالهم، قاله الزمخشري، وهو راجع لمعنى القول الثالث.
السابع: تعذيبهم المسلمين ليرتدوا، قاله الكسائي.
وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار يستعمل في الامتحان، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الأقوال شائع، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما، ولا مفعولهما، وإنما أقر أن ماهية الفتنة أشد من القتل، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلا في عموم، هذه الأخبار سواء كان المصدر فاعله أو مفعوله: المؤمنون أم الكافرون، وتعيين نوع ما من أفراد العموم يحتاج إلى دليل.
* (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) * هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه، قال مجاهد: وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلا بعد أن يقاتل. وبه قال طاووس، وأبو حنيفة؛ وقال الربيع: منسوخة بقوله: * (وقاتلوهم حتى لا تكون * فتناه) * وقال قتادة بقوله: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين) * والنسخ قول الجمهور، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ، في هذه الآية. وقرأ حمزة، والكسائي والأعمش: ولا تقتلوهم، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم، من القتل، فيحتمل المجاز في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم، ويحتمل المجاز في المفعول، أي: ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم، فإن قتلوا بعضكم، يقال: قتلنا بنو فلان، يريد قتل بعضنا وقال:
74

* فإن تقتلونا نقتلكم
*
وان تقصدوا الذم نقصد
*
ونظيره: قتل * (معه ربيون كثير فما وهنوا) * فأوهنوا أي: قتل معهم أناس من الربيين، فأوهن الباقون، والعامل في عند: ولا تقاتلوهم، و: حتى، هنا للغاية، وفيه متعلق بيقاتلوكم، والضمير عائد على عند، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إيليه إلى: في، هذا، ولم يتسع فتعدى، الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح، لا يقال: إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك، بل الاتساع جائز إذ ذاك. ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع. فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر.
* (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * هذا تصريح بمفهوم الغاية، وفيه محذوف. أي: فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، ودل على إرادته سياق الكلام. ولم يختلف في قوله: فاقتلوهم، أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم، أي: هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلا إلى إيقاع القتل بهم، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم.
* (كذالك جزاء الكافرين) * الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين.
المعنى: جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء، وهو القتل، أي: من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل.
* (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) * أي: عن الكفر، ودخلوا في الاسلام، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار، وقيل: فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك، لتقدمهما في الكلام، وهو حسن، وقيل: عن القتال دون الكفر، وليس الغفران لهم على هذا القول، بل المعنى: فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث اسقط عنكم تكليف قتالهم، وقيل: الجواب محذوف، أي: فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم، وعلى قول: إن الانتهاء عن القتال فقط تكون الآية منسوخة، وعلى القولين قبله تكون محكمة، ومعنى: انتهى: كف، وهو افتعل من النهي، ومعناه فعل الفاعل بنفسه، وهو نحو قولهم: اضطرب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها: افتعل.
قالوا: وفي قوله: * (فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم) * دلالة على قبول توبة قاتل العمد، إذ كان الكفر أعظم مأثما من القتل، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر.
* (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) * ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة، والفتنة هنا الشرك في قبول الجزية، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسدي. أعني: أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى، وقيل: الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره، ويخص منهم بالجزية من دل الدليل عليه، وقد تقدم قول من قال: إنها ناسخة، لقوله: ولا تقاتلوهم.
قال في (المنتخب): و الصحيح، أنه ليس كذلك، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص، وهو: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * ومذهب الشافعي تخصيص العام سواء تقدم على المخصص أم تأخر عنه.
وقال أو مسلم: الفتنة هنا: القتال في الحرم، قال أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون
75

منهم القتال الذي إذا بدؤوا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار.
و: حتى، هنا للغاية، أو للتعليل، وإذا فسرت الفتنة بالكفر، والكفر لا يلزم زواله بالقتال، فكيف غيي الأمر بالقتال بزواله؟.
والجواب: أن ذلك على حكم الغالب، والواقع، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال، ومن عاش خاف من الثبات على كفره، فأسلم، أو يكون المعنى: وقاتلوهم قصدا منكم إلى زوال الكفر، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه.
* (ويكون الدين لله) * الدين هنا: الطاعة، أي: يكون الانقياد خالصا لله، وقيل: الدين هنا السجود والخضوع لله وحده، فلا يسجد لغيره، وغيي هنا الأمر بالقتال بشيئين: أحدهما: انتفاء الفتنة، والثاني: ثبوت الدين لله، وهو عطف مثبت على منفي، وهما في معنى واحدة ومتلازمان، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غيي بأمرين مختلفين: أحدهما: انتفاء القتال في الحرم، والثاني: خلوص الدين لله تعالى.
قيل وجاء في الأنفال: * (ويكون الدين كله لله) * ولم يجئ هنا: كله، لأن آية الأنفال في الكفار عموما، وهنا في مشركي مكة، فناسب هناك التعميم، ولم يحتج هنا إليه.
قيل: وهذا لا يتوجه إلا على قول من جعل الضمير في: وقاتلوهم، عائدا على أهل مكة على أحد القولين، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلا عليه بقوله: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) * فعارضه بقوله: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) * فقال: ألم يقل: * (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) *؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ كان الإسلام قليلا، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
* (فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين) *. متعلق الانتهاء محذوف، التقدير: عن الشرك بالدخول في الاسلام، أو عن القتال. وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن
يشرع ذلك فيهم، أو: عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم، وذلك على الاختلاف في الضمير، إذ هو عام في الكفار، أو خاص بكفار مكة.
والعدوان مصدر عدا، بمعنى: اعتدى، وهو نفي عام، أي: لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلا على من ظلم، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء. سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب، وذلك على المقابلة، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل) * * (ومكروا ومكر الله) * وقال الشاعر:
* جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم
*
قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل
*
وقال الرماني، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى، كأنه يقول: انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلا على الظالمين إنتهى كلامه. وهذا النفي العام يراد به النهي، أي: فلا تعتدوا، ذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام، وصار ألزم في المنع، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلا، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلا لوجود العدوان على غير الظالم. فكأنه يكون إخبارا غير مطابق، وهو لا يجوز على الله تعالى.
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال، وقيل: من بقي على كفر وفتنة، قال عكرمة، وقتادة: الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلا الله.
وقال الأخفش المعنى: فإن انتهى بعضهم
76

فلا عدوان إلا على من لم ينته، وهو الظالم.
قال الزمخشري: فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: إلا على الظالمين، موضع: على المنتهين إنتهى كلامه. وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح، لأن: على المنتهين، ليس مرادفا لقوله: إلا على الظالمين، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بالمفهوم مفهوم الصفة. وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي، وإلا وفرق بين الدلالتين، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب.
ألا ترى قوله: فوضع قوله: إلا على الظالمين، موضع: على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل وما أكرم إلا العالم؟ وإلا على الظالمين، استثناء مفرغ من الأخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا على مذهب الأخفش، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع لا عدوان، على مذهب سيبويه. وقد تقدم التنبيه على ذلك، وجاء: بعلى، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه.
وقيل: معنى لا عدوان، لا سبيل، كقوله: * (أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) * أي لا سبيل علي، وهو مجاز عن التسليط والتعرض، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان.
ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي: إلا على الظالمين منهم، أو بالاندراج في عموم الظالمين، فكان الربط بالعموم.
* (الشهر الحرام بالشهر * الحرم * والحرمات قصاص) * قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقسم، والسدي، والربيع، والضحاك، وغيرهم: نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال، وذلك في ذي القعدة: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) * أي: هتكه بهتكه، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم.
وقال الحسن: سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم): هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل، فنزلت.
والشهر، مبتدأ وخبره الجار والمجرور وبعده، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبرا، فلا بد من حذف التقدير: انتهاك حرمة الشهر الحرام، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر، في اللفظ هي للعهد، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية * (والحرمات قصاص) * والألف واللام للعهد في الحرمات، أي: حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد، والشهر، والقطان، حين دخلتم. وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض، أي: وكل حرمة يجري فيها القصاص، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها، وقيل: * (والحرمات قصاص) * جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام، أي: من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال.
وقالت طائفة: ما كان من تعد في مال أو جرح لم ينسخ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه، ويخفى ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك، وبه قال الشافعي، وهي رواية في مذهب مالك.
وقالت طائفة، منهم مالك: القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلاهم.
وقرأ الحسن * (والحرمات) * باسكان الراء على الأصل، إذ هو جمع حرمة، والضم في
77

الجمع اتباع.
* (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * هذا مؤكد لما قبله من قوله * (والحرمات قصاص) * وقد اختلف فيها: أهي منسوخة أم لا؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك.
وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة، والاسلام لم يعز، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) وعز دينه، أمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم، وأمروا بقتال الكفار.
وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهو من التدريج في الأمر بالقتال.
وقوله: * (فاعتدوا) * ليس أمرا على التحتم إذ يجوز العفو، وسمي ذلك اعتداء على سبيل المقابلة، والباء في: بمثل، متعلقة بقوله: فاعتدوا عليه، والمعنى: بعقوبة مثل جناية اعتدائه، وقيل: الباء زائدة، أي: مثل اعتدائه، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: اعتداء مماثلا لاعتدائه.
* (واتقوا الله) * أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له.
* (واعلموا أن الله مع المتقين) * بالنصرة والتمكين والتأييد، وجاء بلفظ: مع، الدالة على الصحبة والملازمة حضا على الناس بالتقوى دائما إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث (أرموا وأنا مع بني فلان)؛ فأمسكوا، فقال: (إرموا وأنا معكم كلكم؛) أو: كلاما هذا معناه، وكذلك قوله لحسان: (إهجم وروح القدس معك)؛ * (وأنفقوا فى سبيل الله) * هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام، فلكل ما كان سبيلا لله وشرعا له كان مأمورا بالاتفاق فيه؛ وقيل: معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب، وقيل: على المقلين من المجاهدين، قاله ابن عباس، قال: نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقالوا: بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد وقيل: في الجهاد على نفسه وعلى غيره، وقيل: المعنى: إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله.
وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقا مجازا وأتساعا كقول الشاعر:
* وأنفقت عمري في البطالة والصبا
*
فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر
*
والأظهر القول الأول، وهو: الأمر بصرف المال في وجوه البر من حج، أو عمرة، أو جهاد بالنفس، أو بتجهيز غيره، أو صلة رحم، أو صدقة، أو على عيال، أو في زكاة، أو كفارة، أو عمارة سبيل، أو غير ذلك. ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة.
* (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * قال عكرمة: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله، وقال النعمان بن بشير: كان الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفر الله لي، فنزلت.
وفي حديث طويل تضمن أن رجلا من المسلمين حمل على صف الروم، ودخل فيهم وخرج، فقال الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الأنصاري: تأولتم الآية على غير تأويلها، وما أنزلت هذه الآية إلا فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه قلنا: لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا، فنزلت.
وفي تفسير التهلكة أقوال.
أحدها: ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال، قاله أبو أيوب.
الثاني: ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة، قاله حذيفة، وأبن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن جبير.
الثالث: التقحم في العدو بلا نكاية، قاله أبو القاسم البلخي.
الرابع: التصدق بالخبيث، قاله عكرمة.
الخامس: الإسراف بإنفاق كل المال، قال تعالى * (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) * قاله أبو علي.
السادس: الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته، قاله البراء، وعبيدة السلماني.
السابع: القنوط من التوبة، قاله قوم.
الثامن: السفر للجهاد بغير زاد، قاله زيد بن أسلم، وقد كان فعل ذلك قوم فأداهم إلى الانقطاع في الطريق، أو إلى كونهم عالة على الناس.
التاسع: إحباط الثواب أما بالمن أو الرياء والسمعة، كقوله: * (ولا
78

تبطلوا أعمالكم) *.
وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية. والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك، وهو القتل، ولم ينه عنه، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى، وقد رد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو: أن يقتل في سبيل الله ثم يحيا، فيقاتل فيقتل، أو كما جاء في الحديث؛ ويقال: ألقى بيده في كذا، وإلى كذا، إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز.
وألقى يتعدى بنفسه، كما قال تعالى: * (فألقى موسى عصاه) * وقال الشاعر:
* حتى إذا ألقت يدا في كافر
*
وأجن عورات الثغور ظلامها وجاء مستعملا بالباء لهذه الآية، وكقول الشاعر:
وألقى بكفيه الفتى إستكانة من الجوع
وهنا ما يمر وما يحلى
*
وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين، فقال أبو عبيدة وقوم: الباء زائدة، التقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ويكون عبر باليد عن النفس، كأنه قيل: ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقد زيدت الباء في المفعول كقوله.
سود المحاجر لا يقرأن بالسور
أي: لا يقرأن السور، إلا أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس، وقيل: مفعول ألقى محذوف، التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وتتعلق الباء بتلقوا، أو تكون الباء لسبب، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك.
والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو: بأيديكم، لكنه ضمن: ألقى، معنى ما يتعدى بالباء، فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أي: طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك قد عبر عن الأنفس بالأيدي، لأن بها الحركة والبطش والامتناع، فكأنه يقول: إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك، ولا يهمل ما وضع له، ويفضي به إلى الهلاك. وتقدمت معاني: أفعل، في أول البقرة، وهي أربعة وعشرون معنى، وعرضتها على لفظ: ألقى، فوجدت أقرب ما يقال فيه: أن: أفعل، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول: أن تجعله كقولك: أخرجته، أي: جعلته يخرج، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية.
القسم الثاني: أن تجعله على صفة، كقوله: أطردته، فالهمزة فيه ليست للتعدية، لأن الفعل كان متعديا دونها، وإنما المعنى: جعلته طريدا.
والقسم الثالث: أن تجعله صاحب شيء بوجه ما، فمن ذلك: أشفيت فلانا، جعلت له دواء يستشفى به، وأسقيته: جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي. ومن هذا النوع: أقبرته، وأنعلته، وأركبته، وأخدمته، وأعبدته: جعلت له قبرا، ونعلا، ومركوبا، وخادما، وعبدا.
فأما: ألقى، فإنها من القسم الثاني، فمعنى: ألقيت الشيء: جعلته لقي، واللقي فعل بمعنى مفعول، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول، فكأنه قيل: لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك.
وقد حام الزمخشري
79

نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه، فقال: الباء في: بأيديكم، مثلها في أعطى بيده للمنقاد، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم، مالكة لكم، انتهى كلامه. وفي كلامه أن الباء مزيدة، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس.
* (وأحسنوا) * هذا أمر بالإحسان، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين.
وقال عكرمة: المعنى: وأحسنوا الظن بالله، وقال زيد بن أسلم: وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله، وفي الصدقات. وقيل: وأحسنوا والمجاهد محسن.
* (إن الله يحب المحسنين) * هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاما بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائما بحيث لا يخلو منه محبة الله دائما.
* (وأتموا الحج والعمرة لله) * الإتمام كما تقدم ضد النقص، والمعنى: إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئا من شروطهما، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما، كما قال غيلان:
* تمام الحج أن تقف المطايا
*
على خرقاء واضعة اللثام
*
جعل: وقوف المطايا على محبوبته، وهي: مي، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلا به. هذا ظاهر اللفظ، وقد فسر: الإتمام، بغير ما يقتضيه الظاهر. قال الشعبي، وابن زيد: إتمامهما أن لا ينفسخ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما.
وقال علي، وابن مسعود، وابن عباس، وسعيد، وطاووس: إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين. وقال الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصدا لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله: لله.
وقال القاسم بن محمد وقتادة: إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم، وقالت فرقة: إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن، والإفراد عند هؤلاء أفضل.
وقال قوم: إتمامهما: أن تقرن بينهما، والقران عند هؤلاء أفضل. وقال ابن عباس، وعلقمة، وإبراهيم، وغيرهم: إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء، وهذا يقرب من القول الأول، وقال قوم: أن يفرد لكل واحد منهما سفرا. وقيل: أن تكون النفقة حلالا وقال مقاتل: إتمامهما أن لا تستحل فيهما ما لا يجوز، وكانوا يشركون في إحرامهم، يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقال: أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئا.
وقال الماتريدي: إنما قال * (وأتموا الحج والعمرة لله) * لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم، وقال المروزي: كان الكفار يحجون للأصنام.
وقرأ علقمة: وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف: الحج، بالكسر هنا، وفي آل عمران، وبالفتح في سائر القرآن وتقدم قراءة ابن إسحاق: الحج بالكسر في جميع القرآن، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله: * (حج البيت) * في موضعه.
وقرأ ابن مسعود: وأتموا الحج والعمرة إلى البيت لله وقرأ علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر والشعبي، وأبو حيوة، والعمرة، لله بالرفع على الابتداء والخبر، فيخرج العمرة عن الأمر، وينفرد به الحج وروي أيضا: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. والله متعلق بأتمو وهو مفعول لأجله ويجوز أن يكون في موضع الحال، ويكون العامل محذوفا تقديره: كائنين لله، ولا خلاف
80

في أن الحج فرض، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها، وفروضه: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة، خلافا لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة، على قول ابن الماجشون، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي.
وأما أعمال العمرة: فنية، وإحرام، وطواف، وسعي. ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة، ولا على، أنها سنة، فقد يصح صوم رمضان وشئ من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية، وإن اختلفت جهتا الطلب، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله: وأتموا. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر، ومسروق، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين، والشعبي، وابن جبير، وأبي بردة، وعبد الله بن شداد؛ ومن علماء الأمصار: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وابن حميم، من المالكيين.
وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة، منهم: ابن مسعود، وجابر، ومن التابعين: النخعي، ومن علماء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، إلا أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين، والحجج منقولة في كتب الفقه.
* (فإن أحصرتم) * ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة، وأنه يتحلل بالإحصار. وروى عن عائشة وابن عباس: أنه لا يتحلل من إحرامه إلا بأداء نسكه، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره. وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم)، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار.
وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة: أن الإحصار والحصر سواء، وأنهما يقالان في المنع بالعدو، وبالمرض، وبغير ذلك من الموانع، فتحمل الآية على ذلك، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار.
وليس في الآية تقييد، وبهذا قال قتادة، والحسن، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، وأبو حنيفة، وقال علقمة، وعروة: الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدو، وقال ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، ومالك، والشافعي. لا يكون الإحصار إلا بالعدو فقط.
قال ابن عباس: والآية نزلت فيمن أحصر بالعدو لا بالمرض. وقال مالك، والشافعي: ولو أحصر بمرض فلا يحله إلا البيت، ويقيم حتى يفيق، ولو أقام سنين.
وظاهر قوله: * (فإن أحصرتم) * استواء المكي والآفاقي في ذلك، وقال عروة، والزهري، وأبو حنيفة: ليس على أهل مكة إحصار.
وظاهر لفظ: أحصرتم، مطلق الإحصار، وسواء علم بقاء العدو استيطانه لقوته وكثرته، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور، أو رجي زواله، وقيل: لا يباح له التحلل إلا بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدو لم يدرك الحج، فيحل حينئذ، وبه قال ابن القاسم، وابن الماجشون.
وقيل: من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافا لأبي حنيفة، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصرا؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء.
* (فما استيسر من الهدى) * هو شاة، قاله علي، وابن عباس، وعطاء، وابن جبير، وقتادة، وإبراهيم، والضحاك، ومغيرة. وقد سميت هديا في قوله: * (هديا بالغ الكعبة) * وقال الحسن، وقتادة: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة. وبه قال مالك، وأبو يوسف، وزفر، يكون من الثلاثة، يكون المستيسر على حكم حال
المهدي، وعلى حكم الموجود.
وروى طاووس عن ابن عباس: أنه على قدر الميسرة، وقال ابن عمر، وعائشة، والقاسم، وعروة: هو جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة، ولا يكون الهدي إلا من هذين، ولا يكون الشاة من الهدي، وبه قال أبو حينفة.
قال ابن شبرمة: من الإبل خاصة، وقال الأوزاعي يهدي
81

الذكور من الإبل والبقر.
ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ قال أبو حنيفة: تكون في ذمته أبدا ولا يحل حتى يجد هديا فيذبح عنه، وقال أحمد: له بدل، والقولان عن الشافعي، فعلى القول الأول: يقيم على إحرامه أو يتحلل، قولان. وعلى الثاني: يقوم الهدي بالدراهم، ويشترى بها الطعام، والكل أنه لا بدل للهدي، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار، وبه قال أكثر الفقهاء.
وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة.
والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجزي إلا الثني فصاعدا، وقال مالك: لا يجزي من الإبل إلا الثني فصاعدا، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة، وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، والشافعي. وقال مالك: يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب، والظاهر وجوب * (ما * استيسر من الهدى) * وقال ابن القاسم: لا يهدي شيئا إلا إن كان معه هدي، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي، ويحلق رأسه.
وقال قتادة، وإبراهيم: يبعث هديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالا. وقال أبو حنيفة: إن كان حاجا فبالحرم متى شاء، وقال أبو يوسف، ومحمد في أيام النحر: وإن كان معتمرا فبالحرم في كل وقت عندهم جميعا، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم) هديه حيث أحصر، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة، وهو من الحرم، وعن الزهري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم) نحر هديه في الحرم.
وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة.
واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدو أو مرض، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، محلي حيث حبستني. فذهب الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط. وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي: في القديم لا بأس أن يشترط، وله شروط، فيه حديث خرج في الصحيح: ولا قضاء عليه عند الجميع إلا من كان لم يحج، فعليه حجة الإسلام، وشذ بن الماجشون فقال: ليس عليه حجة الإسلام، وقد قضاها حين أحصر.
وما، من قوله: * (فما استيسر) * موصولة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر، قاله الأخفش، أو: في موضع نصب: فليهد قاله أحمد ابن يحيى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب له استيسر، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد، أي: يسر، بمعنى: استغنى وغني، واستصعب وصعب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل.
ومن، هنا تبعيضية، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما، فيتعلق بمحذوف التقدير: كائنا من الهدي، ومن أجاز أن يكون: من، لبيان الجنس، أجاز ذلك هنا. والألف واللام في: الهدي، للعموم.
وقرأ مجاهد، والزهري، وابن هرمز، وأبو حيوة: الهدي، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين، يعني هنا في الجر والرفع، وروي ذلك عصمة عن عاصم.
* (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى محله) * هذا نهي عن حلق الرأس مغيا ببلوغ الهدي محله، ومفهومه: إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم. والضمير في. تحلقوا، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام، فيشمل المحصر وغيره، ويحتمل أن يعود على المحصرين، وكلا الاحتمالين قال به قوم، وأن يكون خطابا للمحصرين هو قول الزمخشري، قال: أي: لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه، ومحل الدين وقت وجوب قضائه، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة. انتهى كلامه.
وكأنه رجح كونه للمحصرين، لأنه أقرب مذكور، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصرا كان المحرم أو مخلى، لأنه قدم هذا القول، ثم حكى القول الآخر، قال: ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله: * (ولا تحلقوا رءوسكم) * مجاز في الفاعل وفي المفعول، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض، وهو مجاز شائع كثير، تقول: حلقت: رأسي، والمعنى أن غيره حلقه له: وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فهو على حذف مضاف، والخطاب يخص الذكور، والحلق للنساء مثله في
82

الحج وغيره، وإنما التقصير سنتهن في الحج.
وخرج أبو داود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم): (ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير). وأجمع أهل العلم على القول به، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه، ولم تتعرض هذه الآية للتقصير فنتعرض نحن له هنا، وإنما استطردنا له من قوله: * (ولا تحلقوا) *.
وظاهر النهي: الحظر ولتحريم حتى يبلغ الهدي محله، فلو نسي فحلق قبل النحر، فقال أبو حنيفة، وابن الماجشون: هو كالعامد وقال ابن القاسم: لا شيء عليه أو تعمد، فقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. قالوا: وهو مخالف لظاهر الآية.
ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج، خلافا المن قال: إن حلق الرأس في غير الحج مثلة، لأنه لو كان مثلة لما
جاز، لا في الحج ولا غيره.
وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام، وكان علي يحلق، وقال أبو عمرو بن عبد البر، أجمع العلماء على إباحة الحلق، وظاهر عموم: * (ولا تحلقوا) *، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك، وهو قول مالك، وأبو يوسف.
وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي.
* (حتى يبلغ الهدى محله) * حيث أحصر من حل أو حرم، قاله عمر، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أو: المحرم، قاله علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان، ولم يقرأ إلا بكسر الحاء. فيما علمنا، ويجوز الفتح: أعني إذا كان يراد به المكان، وفرق الكسائي هنا، فقال: الكسر هو الإحلال من الإحرام، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار، وقد تقدم طرف من القول في محل الهدي، ولم تتعرض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي، فعن النسيء عليه حجة، وقال الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعلقمة، والقاسم، وابن مسعود فيما روى عنه، مجاهد، وابن عباس، فيما روى عنه ابن جبير: عليه حجة وعمرة، فإن جمع بينهما ما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه، فإن كان المحصر بمرض أو عدو، محرما بحج تطوع، أو بعمرة تطوع، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة، وقال مالك، والشافعي: لا قضاء على من أحصر بعدو لا في حج ولا في عمرة.
* (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور، وهو أنه صلى الله عليه وسلم)، رآه والقمل يتناثر من رأسه، وقيل: رآه وقد قرح رأسه، ولما تقدم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملا، فخص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه، أما هذان فأبيح لهما الحلق، وثم محذوف يصح به الكلام، التقدير: فمن كان منكم مريضا ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره، أو به أذى من رأسه فحلق، وظاهر النهي العموم.
وقال بعض أهل العلم: هو مختص بالمحصر، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية، وأكثر العلماء على أنه على العموم، ويدل عليه قصة ابن عجرة.
ومنكم، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال، لأنه قبل تقدمه كان صفة: لمريضا، فلما تقدم انتصب على الحال. ومن، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقا: بمريضا، وهو لا يكاد يعقل، وأو به أذى من رأسه، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات، فيكون معطوفا على قوله: مريضا، ويرتفع: أذى، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به، التقدير: أو كائنا به أذى من رأسه، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله: مريضا، وهي في
83

موضع مفرد، لأن المعطوف على المفرد مفرد، في التقدير: إذا كان جملة، ويرتفع، أذى، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر، فهو: في موضع رفع، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب، وأجازوا أن يكون معطوفا على إضمار: كان، لدلالة: كان، الأولى، عليها. التقدير: أو كان به أذى من رأسه، فاسم كان على هذا إما ضمير يعود على: من؛ وبه أذى، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان، وإما: أذى وبه، في موضع خبر كان، وأجاز أبو البقاء أن يكون، أو به أذى من رأسه، معطوفا علي كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الخبر متعلق بالاستقرار، والهاء في. به، عائدة على: من، وكان قد قدم أبو البقاء أن: من، شرطية، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية، والمعطوف على الشرط شرط، فيجب فيه ما يجب في الشرط، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون: من، موصولة. لأنها إذ ذاك مضمنة معنى اسم الشرط، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية، والباء في: به، للإلصاق، ويجوز أن تكون ظرفية، ومن رأسه، يجوز أن يكون متعلقا بما يتعلق به: به، وأن يكون في موضع الصفة ل: أذى، وعلى التقديرين يكون: من، لابتداء الغاية.
* (ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) * ارتفاع: فدية، على الابتداء، التقدير: فعليه فدية، أو على الخبر، أي: فالواجب فدية. وذكر بعض المفسرين أنه قرىء بالنصب على إضمار فعل التقدير: فليفد فدية.
ومن صيام، في موضع الصفة، وأو، هنا للتخيير، فالفادي مخير في أي الثلاثة شاء.
وقرأ الحسن، والزهري: أو نسك، بإسكان السين؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن: الصيام صيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، والنسك شاة. وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وعلقمة، والربيع، وغيرهم. وبه قال مالك، والجمهور؛ وروي عن الحسن، وعكرمة، ونافع: عشرة أيام. ومحله زمانا متى اختار، ومكانا حيث اختار.
وأما الإطعام، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين، وليس كما ذكر، بل قال الحسن، وعكرمة: يطعم عشرة مساكين، واختلف في قدر الطعام، ومحل الإطعام، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة، واختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة: لكل مسكين من التمر صاع، ومن الحنطة نصف صاع. وقال مالك، والشافعي: الطعام في ذلك مدان مدان، بالمد النبوي، وهو قول أبي ثور، وداود. وروي عن الثوري: نصف صاع من البر، وصاع من التمر، والشعير، والزبيب.
وقال أحمد مرة بقول كقول مالك، ومرة قال: مدين من بر لكل مسكين، ونصف صاع من تمر؛
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم. وقال مالك، والثوري، ومحمد بن الحسن، والشافعي: لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدين مدين، بمد النبي صلى الله عليه وسلم).
وأما المحل فقال علي، وإبراهيم، وعطاء في بعض ما روي عنه، ومالك وأصحابه إلا ابن الجهم، وأصحاب الرأي: حيث شاء وقال الحسن، وطاووس، ومجاهد، وعطاء أيضا، والشافعي: الإطعام بمكة، وأما النسك فشاة. قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل، وأما محلها فحيث شاء، قاله علي، وإبراهيم، ومالك، وأصحابه إلا ابن الجهم، فقال: النسك لا يكون إلا بمكة، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه، والحسن، وطاووس، ومجاهد، وأبو حنيفة، والشافعي.
وظاهر الفدية أنها لا تكون إلا بعد الحلق، إذ التقدير: فحلق ففدية، وقال الأوزاعي: يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق، فيكون المعنى: ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك إن أراد الحلق.
وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلا بمن به مرض أو أذى فيحلق، فلو حلق، أو جز، أو أزال بنوره شعره من غير ضرورة، أو لبس المخيط، أو تطيب من غير عذر عالما، فقال أبو حنيفة، والشافعي وأصحابهما، وأبو ثور: لا يخير في غير الضرورة، وعليه دم لا غير وقال مالك: يخير، والعمد والخطأ بضرورة، وغيرها سواء عنده.
فلو فعله ناسيا، فقال إسحاق، وداود: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة، والثوري، ومالك، والليث: الناسي كالعامد في وجوب ذلك
84

القدر، وعن الشافعي القولان، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس، أو بعضه ولبس الخفين، وتقليم الأظفار، ومس الطيب، وإماطة الأذى، وحلق شعر الجسد، أو مواضع الحجامة، الرجل والمرأة في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد.
* (فإذا أمنتم) * يعني: من الإحصار، هذا الأمن مرتب تفسيره على تفسير الإحصار، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو، وهو قول علقمة، وعروة. والمعنى: فإذا برئتم من مرضكم.
ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال: هنا الأمن من العدو لا من المرض، والمعنى: فإذا أمنتم من خوفكم من العدو.
ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه. وقد جاء في الحديث: (الزكام أمان من الجذام) خرجه ابن ماجة، وجاء: من سبق العاطس بالحمد، أمن من الشوص واللوص والعلوص. أي: من وجع السن، ووجع الأذن، ووجع البطن.
والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره، أي: فإذا كنتم في حال أمن وسعة، وهو قول ابن عباس وجماعة، وقال عبد الله بن الزبير، وعلقمة، وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم.
* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * تقدم الكلام في المتاع في قوله: * (ومتاع إلى حين) * وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج، وقيل: لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج.
واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية، فقال عبد الله بن الزبير: هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي.
وقال ابن جبير، وعلقمة، وإبراهيم، معناه: فإذا أمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار، ولم تقضوا عمرة، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، واعتمرتم في أشهر الحج، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
وقال علي: أي: فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي.
وقال السدي: فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه.
وقال ابن عباس، وعطاء، وجماعة: هو الرجل تقدم معتمرا من أفق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامة ذلك، فيكون مستمتعا بالإحلال إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع: الإهلال بالعمرة، فيقيم حلالا يفعل ما يفعل الحلال بالحج، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات.
والآية محتملة لهذه الأقوال كلها، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء. تمتع، وافراد، وقران. وقد بين ذلك في كتب الفقه.
ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا.
* (فما استيسر من الهدى) * تقدم الكلام على هذه الجملة تفسيرا وإعرابا في قوله: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * فأغنى عن إعادته.
والفاء في: فإذا أمنتم، للعطف وفي: فمن تمتع، جواب الشرط، وفي: فما، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جوابا للشرط بالفاء، لا نعلم في ذلك خلافا لجواب نحو: إن دخلت الدار فإن كلمت زيدا فأنت طالق.
وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره، ويأكل منه، وعند الشافعي: يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين، ولا يأكل منه،
ويذبحه يوم
85

النحر عند أبي حنيفة، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه.
وصورة التمتع على من جعل قوله: فإذا أمنتم فمن تمتع، خاصة بالمحصرين، تقدمت في قول ابن الزبير، وقول ابن جبير ومن معه، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات.
إحداها: أن يحرم غير المكي بعمرة أولا في أشهر الحج في سفر واحد في عام، فيقدم مكة. فيفرع من العمرة ثم يقيم حلالا إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد.
الثانية: أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام، وهو المسمى: قرانا، فيقول: لبيك بحجة وعمرة معا، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى. فروي عن علي وابن مسعود: يطوف طوافين ويسعى سعيين، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد، وابن أبي ليلى؛ وروي عن عبد الله بن عمر: طواف واحد وسعي واحد لهما، وبه قال عطاء، والحسن، ومجاهد، وطاووس، ومالك، والشافعي وأصحابهما، وإسحاق، وأبو ثور.
وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة، وإلى الحج أخرى، ولجمعهما، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه، قيل: وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي، وهو عندكم: بدنة لا يجوز دونها.
وقال مالك: ما سمعت أن مكيا قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ وقال ابن الماجشون. إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران، وقال عبد الله بن عمر: المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع.
الثانية: أن يحرم بالحج، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية، وجمهور العلماء على ترك العمل بها. وروي عن ابن عباس، والحسن، والسدي جوازها، وبه قال أحمد.
وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد. أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده، ثم حج من عامه. وهو مروي عن سعيد بن المسيب، والحسن.
وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعا فلا هدي ولا صوم، وبه قال الجمهور، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعا، وعلى هذا قالوا: الإجماع لأن التمتع مغيا إلى الحج ولم يقع المغيا.
وشذ الحسن فقال: هي متعة، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع، وبه قال طاووس، وقال الجمهور: لا يكون متمتعا.
* (فمن لم يجد) * مفعول: يجد، محذوف لفهم المعنى، التقدير: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه. * (فصيام ثلاثة أيام) *: ارتفع صيام على الابتداء، أي: فعليه، أو على الخبر، أي: فواجب. وقرئ: فصيام، بالنصب أي: فليصم صيام ثلاثة أيام، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة. * (في الحج) * أي: في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين، إحرام العمرة، وإحرام الحج، قاله عكرمة، وعطاء، وأبو حنيفة، قال: والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوما قبلهما، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلا الدم، وقال عطاء أيضا، ومجاهد: لا يصومها إلا في عشر ذي الحجة، وبه قال الثوري، والأوزاعي. وقال ابن عمر، والحسن، والحكم: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وكل هؤلاء يقولون: لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة، لأنه بانقضائه ينقضي الحج. وقال علي، وابن عمر: لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج. وعن عائشة، وعروة، وابن عمر. في رواية ابنه سالم عنه: أنها أيام التشريق. وقيل: زمانها بعد إحرامه، وقيل: يوم النحر، قاله علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وطاووس، وعطاء، والسدي؛ وبه قال مالك؛ وقال الشافعي، وأحمد: يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى ى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر، وعائشة.
وروي هذا عن مالك، وهو قوله في (الموطأ) ليكون يوم عرفة مفطرا. وعن أحمد: يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم، وقال قوم: له أن يؤخرها ابتداء إلى يوم التشريق، لأنه لا يجب عليه الصوم إلا بأن لا يجد الهدي يوم النحر.
وقال عروة: يصومها ما دام بمكة، وقاله أيضا مالك، وجماعة من أهل المدينة،
86

وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها.
وظاهر قوله: في الحج، أن يكون المحذوف: زمانا، لأنه المقابل في قوله: * (وسبعة إذا رجعتم) * إذ معناه في وقت الرجوع، ووقت الحج هو أشهره، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جوابا للشرط، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج، أي: في وقته، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج، وبعده، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق، لأنها من وقت الحج؛ ومن قدر محذوفا آخر، أي: في وقت أفعال الحج، لم يجز الصيام إلا بعد الإحرام بالحج، والقول الأول أظهر لقلة الحذف، ومن لم يلحظ أشهر الحج، وجوز أن يكون ما دام بمكة، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان، أي: فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج. والظاهر: وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي، فلو ابتدأ في الصوم، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو
فرضه، وبه قال الحسن، وقتادة، والشافعي، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر.
وقال مالك: أحب أن يهدي، فإن صام أجزأه، وقال أبو حنيفة: إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام، وبه قال الثوري، وابن أبي نجيح، وحماد.
* (وسبعة إذا رجعتم) * قرأ زيد بن علي، وابن أبي عبدة: وسبعة، بالنصب. قال الزمخشري: عطفا على محل ثلاثة أيام، كأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام كقولك: * (أو إطعام فى يوم ذى مسغبة * يتيما) * انتهى. وخرجه الحوفي، وابن عطية على إضمار فعل، أي: فليصوموا، أو: فصوموا سبعة، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز، ومجئ: وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به، كما قيل: وسبعة أيام، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفا، وعليه جاء: ثم اتبعه بست من شوال، وحكى الكسائي: صمنا من الشهر خمسا، والعامل في: إذا، هو صيام ثلاثة أيام، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين، كما تقول: أكرمت زيدا يوم الخميس وعمرا يوم الجمعة.
وإذا، هنا محض ظرف، ولا شرط فيها، وفي: رجعتم، التفات، وحمل على معنى: من، أما الالتفات. فإن قوله: * (فمن تمتع) * * (فمن لم يجد) * اسم غائب، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع، ولو راعى اللفظ لأفرد، ولفظ الرجوع مبهم، وقد جاء تبيينه في السنة.
ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر، في آخر: وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس: وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم، وبه قال قتادة، وعطاء، وابن جبير، ومجاهد، والربيع، وقالوا: هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلا أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان؛ وقال أحمد، وإسحاق: يجزئه الصوم في الطريق؛ وقال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج، وهذا مذهب أبي حنيفة. فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق؛ قال مالك في (الكتاب): إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم.
* (تلك عشرة كاملة) * تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه: أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد، فجيء بها للتوكيد، كما تقول: زيد رجل صالح.
وقال ابن عرفة: مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما.
وحسن هذا القول الزمخشري بأن قال: فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة، كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم؛ قال ابن عرفة: وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب، وقد جاء: لا نحسب ولا نكتب، وورد
87

ذلك في كثير من أشعارهم؛ قال النابغة:
* توهمت آيات لها فعرفتها
*
لست أعوام وذا العام سابع
*
وقال الأعشى:
* ثلاث بالغداة فهي حسبي
*
وست حين يدركني العشاء
*
* فذلك تسعة في اليوم ربي
*
وشرب المرء فوق الري داء
*
وقال الفرزدق:
* ثلاث واثنتان وهن خمس
*
وسادسة تميل إلى شمام
*
وقال آخر:
* فسرت إليهم عشرين شهرا
*
وأربعة فذلك حجتان
*
وقال المفضل: لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر، وقال الزجاج: جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام: أو، ومنه * (مثنى وثلاث ورباع) * فأزال احتمال التخيير، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين، لأن الواو لا تكون بمعنى: أو.
وقال الزمخشري: الواو، قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن، وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعا، أو واحدا منهما كان ممتثلا؟ ففذلكت نفيا لتوهم الإباحة. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأن لا تتوهم الإباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير، لأن التخيير قد يكون في الواجبات.
وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة، وقيل: هو تقديم وتأخير تقديره: فتلك عشرة: ثلاثة في الحج وسبعة إذا جعتم، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد، ولا يصح مثل هذا القول عنه، وننزه القرآن عن مثله، وقيل: ذكر
88

العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى: * (وقدر فيها أقواتها فى أربعة أيام) * أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله: * (خلق الارض فى يومين) *.
وقيل: ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد، بل الكثرة، روى أبو عمرو بن العلاء، وابن الأعرابي عن العرب: سبع الله لك الأجر، أي: أكثر، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار، فله سبع، وله سبعون، وله سبعمائة، وقال الأزهري في قوله تعالى: * (سبعين مرة) * هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة، ونقل أيضا عن المبرد أنه قال: تلك عشرة، لأنه يجوز أن يظن السامع أن ثم شيئا آخر بعد السبع، فأزال الظن. وقيل: أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط، لاشتباه سبعة وتسعة، وقيل: أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع، والعشرة هي الموصوفة بالكمال، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول.
قال الحسن: كاملة في الثواب في سدها مسد الهدي في المعنى لذي جعلت بدلا عنه، وقيل: كاملة في الغرض والترتيب، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة، وقيل: كاملة في الثواب لمن لم يتمتع.
وقيل: كاملة، توكيد كما تقول: كتبته بيدي، * (فخر عليهم السقف من فوقهم) *. قال الزمخشري: وفيه، يعني: في التأكيد زيادة توصية بصيامها، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل: إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به، وكان منك بمنزلة: الله الله لا تقصر، وقيل: الصيغة خبر ومعناها الأمر، أي: اكملوا صومها، فذلك فرضها. وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكدا خلافا لظاهر دخول المكلف به في الوجود، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر.
وبهذه الفوائد التي ذكرناها رد على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة، فهو إيضاح للواضحات، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة، وذلك محال.
والكمال وصف نسبي لا يختص بالعددية. كما زعموا لعنهم الله:
* وكم من عائب قولا صحيحا
*
وآفته من الفهم السقيم
*
* (ذالك لمن لم يكن أهله حاضرى المسجد الحرام) * تقدم ذكر التمتع، وذكر ما يلزمه، وهو: الهدي، وذكر بدله: وهو الصوم، واختلفوا في المشار إليه بذلك، فقيل: المتمتع وما يلزمه، وهو مذهب أبي حنيفة، فلا متعة، ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه، وقيل: ما يلزم المتمتع وهو: الهدي، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئا، وإنما الهدي، وبدله على الأفقي.
وقد تقدم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه، لأن المناسب في
الترخص: اللام، والمناسب في الواجبات على.
وإذا جاء ذلك: لمن، ولم يجئ: على من، وزعم بعضهم أن: اللام، هنا بمعنى: علي، كقوله: * (أولئك لهم اللعنة) *.
وحاضروا المسجد الحرام. قال ابن عباس، ومجاهد: أهل الحرم كله، وقال مكحول، وعطاء: من كان دون المواقيت من كل جهة، وقال الزهري: من كان على يوم أو يومين، وقال عطاء بن أبي رباح: أهل مكة، وضجنان، وذي طوى، وما أشبهها. وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال قوم: أهل الحرم، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة، وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: أهل مكة، وأهل ذي طوى، وهو مذهب مالك. وقال بعض العلماء: من
89

كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة.
والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز، فيه بعد، وبعضه أبعد من بعض، وذكر حضور الأهل ولامراد حضوره هو، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون.
* (واتقوا الله) * لما تقدم: أمر، ونهي، وواجب، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حده الله تعالى، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله: * (واعلموا أن الله شديد العقاب) *، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصا على تحصيل التقوى، إذ بها يأمن من العقاب، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف، ثم ذكر، من هي له حقيقة، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون أسناد للموصوف.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن حال الأهلة، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر، وكان من الإخبار بالمغيب، فوقع السؤال عن ذلك، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج، ثم ذكر شيئا مما كان يفعله من أحرم بالحج، وكانوا يرون ذلك برا، فرد عليهم فيه، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم، ونهوا عن الاعتداء، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى، ثم أمروا بقتل من ظفروا به، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن، أو بالتعذيب أشد من القتل، لأن في القتل راحة من هذا كله، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلا إن قاتلوكم، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية واسلاما، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم، ولا يقتل الإنسان إلا من كان متمكنا من قتله، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام، فإن الإسلام يجب ما قبله، ولما كان الأمر بالقتال، فيما سبق، مقيدا مرة بمن قاتل، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه، أمرهم بالقتال على كل حال من، قاتل ومن لم يقاتل، وعند المسجد الحرام وغيره، فنسخ هذا الأمر تلك القيود، وصار مغيا أو معللا بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه، وإنما الاعتداء على الظالمين، وهم الكافرون، كما ختم الأمر السابق بأن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه، وهو شهر ذي القعدة، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا العمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية، وصدوكم عن البيت، ثم أكد ذلك بقوله: * (والحرمات قصاص) * فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة، فكما هتكوا حرمة شهر كم لا تبالوا بهتك حرمته لهم، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته، تأكيدا لما سبق، وأمر بالتقوى، فلا يوقع في المجازاة غير ما سؤغه له، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها، ونهانها عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا، ويقوون هم علينا، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى، ثم أمرهم تعالى بالإحسان، وأنه تعالى يحب من أحسن، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، وإن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى.
ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما
90

يسر من الهدي، والهدي يشمل: البعير، والبقرة، والشاة، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله، والذي جرت العادة به في الهدى أنه محله هو الحرم، فخوطبوا بما كان سابقا لهم علمه به، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضى حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي، أو فقدان الهدي، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي: في زمن وقوع الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه.
ثم أخبر أن هذه الأيام، وإن اختلف زمان صيامها، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها، لكن الجميع كامل في الثواب
والأجر، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج، وما أمر بإيقاعه في غير الحج.
ثم ذكر أن هذا التمتع، ولازمه من الهدي أو الصوم، هو مشروع لغير المكي، ثم لما تقدم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي، كرر الأمر بالتقوى، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى.
وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام، مستحكمة النظام، منسوقا بعضها على بعض، ولا كنسق اللآلىء مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي. سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى، معجزة أن يأتي بمثلها أحد من الوري.
(* (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون ياأولي الألباب * ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذآ أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضآلين * ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم * فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم ءابآءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا وما له فى الا خرة من خلاق * ومنهم من يقول ربنآ ءاتنا فى الدنيا حسنة وفي الا خرة حسنة وقنا عذاب النار * أولائك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) *))
) *
* (* الجدال) *: فعال مصدر: جادل، وهي المخاصمة الشديدة، مشتق ذلك من الجدالة، وهي الأرض. كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه، فيكون كمن ضرب منه الجدالة، ومنه قول الشاعر:
91

* قد أنزل الآلة بعد الآلة
*
وأنزل العاجز بالجدالة
*
أي: بالأرض، وقيل: اشتق ذلك من الجدل وهو القتل، ومنه قيل: زمام مجدول، وقيل: له جديل، لقتله وقيل: للصقر: الأجدل لشدته واجتماع حلقه، كأن بعضه قتل في بعض فقوي.
* (خير الزاد) *: معروف، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول، ومشروب، ومركوب، وملبوس، إن احتاج إلى ذلك، وألفه منقلبة عن واو، يدل على ذلك قولهم: تزود، تفعل من الزاد.
* (* الإفاضة) *: الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع، فأفاض من الفيض لا من فوض، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم، وأفعل هذا بمعنى المجرد، وليست الهمزة للتعدية، لأنه لا يحفظ: أفضت زيد، بهذا المعنى الذي شرحناه، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدي بالهمزة، فتقول: أفاض الحزن، أي: جعله يفيض.
وزعم الزجاج، وتبعه الزمخشري، وصاحب (المنتخب) أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية، قال: وأصله: أفضتم أنفسكم، وشرحه صاحب (المنتخب) بالاندفاع في السير بكثرة، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد.
قال معناه: دفع بعضكم بعضا، قال: لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضا، وقيل: الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم، وقيل: السير السريع، وقيل: التفرق بكثرة، وقيل: الدفع بكثرة، ويقال: رجل فياض أي مندفق بالعطاء، وقيل: الانصراف، من قولهم: أفاض بالقداح، وعلى القداح، وهي سهام الميسر، وأفاض البعير بجرانه.
* (من عرفات) * علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج، فقيل: ليس بمشتق، وقيل: هو مشتق من المعرفة، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم.
وفي تعيين المعرفة أقاويل: فقيل: لمعرفة إبراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك وقيل: لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة إبراهيم، فانطلق في طلبه حين فقده، فوجده وأمه بعرفات، وقيل: لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من الله، وقيل: لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لإبراهيم عليها، قال له: أعرفت؟ قال: عرفت، فسميت عرفة، وقيل: لأن الناس يتعارفون بها، وقيل: لتعارف آدم وحواء بها، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب، وهبوطها كان بجدة، وأمره الله ببناء الكعبة، فجاء ممتثلا، فتعارفا بهذه البقعة.
وقيل: من العرف، وهو الرائحة الطيبة، وقيل: من العرف، وهو: الصبر، وقيل: العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة، ومنه: عرف الديك لعلوه، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث، حكى سيبويه: هذه عرفات مباركا فيها، وهي مرادفة لعرفة، وقيل: إنها جمع، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علما فليس بصحيح، لأن الجمعية تنافي العلمية.
وقال قوم: عرفه اسم اليوم، وعرفات اسم البقعة.
والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة، وقيل: تنوين صرف، واعتذر عن كونه
92

منصرفا مع التأنيث والعلمية، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، وإن كان بالتقدير: كسعاد، فلا يصح تقديرها في عرفات، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث، فأنث تقديرها. انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر، ويجوز حذفه حالة التسمية، وحكى الكوفيون، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة، وأنشدوا بيت امرئ القيس:
* تنورتها من أذرعات وأهلها
*
بيثرب أدنى دارها نظر عالي
*
بالفتح.
* (* النصيب) *: الحظ وجمعه على أفعلا شاذ، لأنه اسم، قالوا: نصباء، وقياسه: فعل نحو: كثيب وكثب.
* (والله سريع) *: اسم فاعل من: سرع يسرع سرعة فهو سريع، ويقال: أسرع وكلاهما لازم.
* (الحساب) *: مصدر حاسب، وقال أحمد بن يحيى: حسبت الحساب أحسبه حسبا وحسبانا، والحساب الاسم، وقيل: الحساب مصدر حسب الشيء، والحساب في اللغة هو العدو؛ وقال الليث بن المظفر، ويعقوب: حسب يحسب حسبانا وحسابة وحسبة وحسبا) *، وأنشد:
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
ومنه: حسب الرجل، وهو ما عده من مآثره ومفاخره، والأحساب: الاعتداد بالشيء. وقال الزجاج: الحساب: في اللغة مأخوذ من قولك: حسبك كذا، أي: كفاك، فسمي الحساب من المعاملات حسابا لأنه يعلم ما فيه كفاية، وليس فيه زيادة ولا نقصان.
* (*) *، وأنشد:
وأسرعت حسبة في ذلك العدد
ومنه: حسب الرجل، وهو ما عده من مآثره ومفاخره، والأحساب: الاعتداد بالشيء. وقال الزجاج: الحساب: في اللغة مأخوذ من قولك: حسبك كذا، أي: كفاك، فسمي الحساب من المعاملات حسابا لأنه يعلم ما فيه كفاية، وليس فيه زيادة ولا نقصان.
* (الحج أشهر معلومات) * لما أمر الله تعالى بإتمام الحج والعمرة، وكانت العمرة لا وقت لها معلوما. بين أن الحج له وقت معلوم، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
والحج أشهر، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف، إذ الأشهر ليست الحج، وذلك الحذف أما في المبتدأ، فالتقدير: أشهر الحج، أو وقت الحج، أو: في الخبر، أي: الحج حج أشهر، أو يكون: الأصل في أشهر، فاتسع فيه، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب، ولا يمتنع في العربية.
قال ابن عطية: ومن قدر الكلام: في أشهر، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر، ولم يقرأ بنصبها أحد. انتهى كلامه. ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر، كما ذكر ابن عطية: لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبرا عن المصادر، فإنه يجوز عندهم في ذلك تفصيل، وهو: أن الحدث إما أن يكون مستغرقا للزمان، فيرفع، ولا يجوز فيه النصب، أو غير مستغرق فذهب
93

هشام أنه يجب في الرفع، فيقول: ميعادك يوم، وثلاثة أيام، وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر، لأن: أشهرا، نكرة غير محصورة.
وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه، فيمكن أن يكون له القولان، قول البصريين، وقول هشام، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله * (إن عدة الشهور) * فإنه جاء على: فعول، وهو جمع الكثرة.
وظاهر لفظا أشهر الجمع، وهو: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، كله، وبه قال ابن مسعود، وابن عمر، وعطآء، وطاووس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك.
وقال ابن عباس، وابن الزبير، وابن سيرين، والحسن، وعطاء، والشعبي، وطاووس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والسدي، وأبو حنيفة، والشافعي، وابن حبيب، عن مالك، هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
وروي هذا عن ابن مسعود، وابن عمر، وحكى الزمخشري، وصاحب (المنتخب) عن الشافعي: أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر.
وهذان القولان فيهما مجاز، إذ أطلق على بعض الشهر، شهر.
وقال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو وبعض يوم آخر، وإنما قالوا ذلك تغليبا لا كثر الزمان على أقله، وهو كما نقل في الحديث: أيام منى
ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث، وهو من باب إطلاق بعض على كل، وكما. قال الشاعر:
ثلاثون شهرا في ثلاثة أحوال
على أحد التأويلين، قيل: ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع، وقال الزمخشري. فإن قلت: فكيف كان الشهران. وبعض الشهر أشهرا؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، بدليل قوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) * فلا سؤال فيه إذن، وإنما يكون موضعا للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات. انتهى كلامه.
وما ذكره الدعوى فيه عامة، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد، وهذا فيه النزاع. والدليل الذي ذكره خاص، وهو: * (فقد صغت قلوبكما) * وهذا لا خلاف فيه، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و: أشهر، ليس من باب * (فقد صغت قلوبكما) * فلا يمكن أن يستدل به عليه.
وقوله: فلا سؤال فيه، إذن ليس بجيد، لأنه فرض السؤال بقوله: فإن قلت؟ وقوله فإنما كان يكون موضعا للسؤال لو قيل: ثلاثة أشهر معلومات، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر، كذلك قد يدخل المجاز في العدد، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء: له اليوم يومان لم أره؟ قال: وإنما هو يوم وبعض يوم آخر، وإلى قول امرىءالقيس:
ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال
على ما قدمنا ذكره، وإلى ما حكي عن العرب، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الانتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه، وانتفت الرؤية في بعضه، كان يوم كامل لم تره فيه، فإذا كان هذا موجودا في كلامهم فلا فرق بين أشهر، وبين ثلاثة أشهر، لكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد.
قالوا: وثمرة
94

الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج، وعلى الثاني يلزمه، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر، وأخر عمل ذلك عن وقته.
وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يصح إلا فيها، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وبه قال النخعي. قال: ولا يحل حتى يقضي حجه.
وقال عطاء، ومجاهد، والأوزاعي، والشافعي، وأبو الثور: لا يصح، وينقلب عمرة ويحل لها. وقال ابن عباس: من سنة الحج الإحرام به.
وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله: * (الحج أشهر معلومات) * هل التقدير: الإحرام بالحج أو أفعال الحج؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع، وما روي عن عمر وابنه عبد الله أن العمرة لا تستحب فيها، فكأن هذه الإشهر مخلصة للحج.
وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرة، وينهاهم عن الاعتمار فيهن، وعن ابن عمر أنه قال لرجل: إن أطلقني انتظرت، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
ومعنى: معلومات، معروفات عند الناس، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقررا عندهم.
* (فمن فرض فيهن الحج) * أي: من ألزم نفسه الحج فيهن، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها، ومنه فرضة النهر والجبل، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرما، قال ابن مسعود: وهو الإهلال بالحج والإحرام، وقال عطاء، وطاووس: هو أن يلبي، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم الله، وهي رواية شريك عن ابن عباس: إن فرض الحج بالتلبية.
وروي عن عائشة: لا إحرام إلا لمن أهل ولبى، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه، وابن حبيب، وقالوا، هم وأهل الظاهر: إنها ركن من أركان الحج.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام. فقد أحرم، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية، أو ما قام مقامها من الدم، وروي عن ابن عمر: إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم، وروي عن علي، وقيس بن سعد، وابن عباس، وطاووس، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، وابن سيرين، وجابر بن زيد، وابن جبير: أنه لا يكون محرما بذلك، وقال ابن عباس، وقتادة، والحسن: فرض الحج الإحرام به، وبه قال الشافعي.
وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية. وملخص ذلك أنه يكون محرما بالنية، والإحرام عند مالك، والشافعي، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء.
و: من، شرطية أو موصولة، و: فيهن، متعلق بفرض، والضمير عائد على: أشهر، ولم يقل: فيها، لأن أشهرا جمع قلة، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقا للعاقلات على الكثير المستعمل أيضا، وقال قوم: هما سواء في الاستعمال.
* (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) * الرفث هنا قال ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، والسدي: هو الجماع؛ وقال ابن عمر، وطاووس، وعطاء، وغيرهم: هو الإفحاش للمرأة بالكلام، كقوله: إذا أحللنا فعلنا بك كذا، الايكني، وقال قوم: الإفحاش بذكر النساء، كان ذلك بحضرتهن أم لا؛ وقال قوم: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله، وقال أبو عبيدة: هو اللغو من الكلام، وقال ابن الزبير: هو التعرض بمعانقة ومواعدة
أو مداعبة أو غمز.
وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبسا بالحج لحرمة الحج.
والفسوق: فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد، وحلق شعر، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء
95

دون شيء قاله ابن عباس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وطاووس. أو الذبح للأصنام ومنه: * (أو فسقا أهل لغير الله به) * قاله ابن زيد، ومالك، أو التنابذ بالألقاب قال: * (بئس الاسم الفسوق) * قاله الضحاك، أو السباب منه: (سباب المسلم فسوق). قاله ابن عمر أيضا، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم، والسدي، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله: * (فمن فرض فيهن الحج) *.
وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره، وكذلك التنابذ، ورجح ابن عطية، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال: إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين، ولأنه روي: (والذي نفسي بيده، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل الله، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال).
وقال العلماء: الحج المبرور هو الذي لم يعص الله في أثناء أدائه؛ وقال الفراء: هو الذي لم يعص الله بعده.
والجدال: هنا مماراة المسلم حتى يغضب، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، ومجاهد. أو السباب، قاله ابن عمر، وقتادة. أو: الاختلاف: أيهم صادف موقف أبيهم؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية، تقف قريش في غير موقف العرب، ثم يتجادلون بعد ذلك، قاله ابن زيد، ومالك. أو يقول قوم: الحج اليوم، وقوم الحج غدا، قاله القاسم. أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة، ويقف بعضهم بجمع، وبعضهم بعرفة، ويتمارون في الصواب من ذلك، قاله مجاهد.
قال ابن عطية: وهذا أصح الأقوال، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه.
أو قول طائفة: حجنا أبر من حجكم، وتقول الأخرى مثل ذلك، قاله محمد بن كعب القرطبي، أو الفخر بالآباء، قاله بعضهم، أو قول الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم) إنا أهللنا بالحج، حين قال في حجة الوداع: (من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة) قاله مقاتل. أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين، قاله الزمخشري. أو كل ما يسمى جدالا لا للتغالب، وحظ النفس، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة.
و: الفاء، في: فلا رفث، هي الداخلة في جواب الشرط، إن قدر: من، شرطا، وهو الأظهر، أو في الخبر إن قدر: من، موصولا.
وقرأ ابن مسعود والأعمش: رفوث، وقد تقدم أن الرفث والرفوث مصدران. وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة، ورويت عن عاصم في بعض الطرق، وهو طريق المفضل عن عاصم، وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة. وقرأ الكوفيون، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين؛ وقرأ ابن كثير، وأبو عمر برفع: فلا رفث ولا فسوق، والتنوين، وفتح: ولا جدال، من غير تنوين.
فأما من رفع الثلاثة فإنه جعل: لا، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء، والخبر عن الجميع هو قوله: في الحج، ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ الأول، وحذف خبر الثاني. والثالث للدلالة، ويجوز أن يكون خبرا عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني لدلالة، ولا يجوز أن يكون خبرا عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل.
قيل: ويجوز أن تكون: لا، عاملة عمل ليس فيكون: في الحج، في موضع نصب، وهذا الوجه جزم به ابن عطية، فقال: و: لا، في معنى ليس في قراءة الرفع، وهذا الذي جوزه وجزم به ابن عطية ضعيف، لأن إعمال: لا، إعمال: ليس، قليل جدا، لم يجئ منه في لسان العرب إلا ما لا بال له، والذي يحفظ من ذلك قوله:
* تعز فلا شيء على الأرض باقيا
*
ولا وزر مما قضى الله واقيا
*
أنشده ابن مالك، ولا أعرف هذا البيت إلا من جهته، وقال النابغة الجعدي:
96

* وحلت سواد القلب لا أنا باغيا
*
سواها ولا في حبها متراخيا
*
وقال آخر:
* أنكرتها بعد أعوام مضين لها
*
لا الدار دار ولا الجيران جيرانا
*
وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر:
* من صد عن نيرانها
*
فأنا ابن قيس لا براح
*
وهذا كله يحتمل التأويل، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهى من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب الله الذي هو أفصح الكلام وأجله، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح.
وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر، والعامل فيها أفعال من لفظها، التقدير: فلا يرفث رفثا، ولا يفسق فسوقا، ولا يجادل جدالا. و: في الحج، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع.
وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين، فالخلاف في الحركة، أهي حركة إعراب أو حركة بناء؟ الثاني قول الجمهور، والدلائل مذكورة في النحو، وإذا بنى معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء؟ وإن كانت: لا، عاملة في الاسم النصب على الموضع، ولا خبر لها، أوليس المجموع في موضع مبتدأ؟ بل. لا، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع، وما بعدها خبر: لا، إذا أجريت مجرى. إن، في نصب الاسم ورفع الخبر، قولان للنحويين، الأول: قول سيبويه، والثاني: الأخفش، فعلى هذين القولين يتفرع إعراب: في الحج، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه، وفي موضع خبر: لا، على مذهب الأخفش.
وأما قراءة من رفع ونون: فلا رفث ولا فسوق، وفتح من غير تنوين: ولا جدال، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء، وعلى مذهب سيبويه: إن المفتوح مع: لا، في موضع رفع على الابتداء، يكون: في الحج، خبرا عن الجميع، لأنه ليس فيه، إلا العطف، عطف مبتدأ على مبتدأ.
وأما قول الأخفش فلا يصح أن يكون: في الحج، إلا خبرا للمبتدأين، أو: لا، أو خبر للا، لاختلاف المعرب في الحج، يطلبه المبتدأ أو تطلبه فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبرا عنهما.
وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه: و: لا، بمعنى ليس في قراءة الرفع، وخبرها
97

محذوف على قراءة أبي عمرو، و: في الحج، خبر: لا جدال، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي، وقد خولف في ذلك بل: في الحج، هو خبر الكل، إذ هو في موضع رفع في الوجهين، لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما يليها، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء، وظن أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر، وليس كذلك، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر انتهى كلامه. وفيه مناقشات.
الأولى: قوله و: لا، بمعنى: ليس، وقد قدمنا أن كون: لا، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد، وبينا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الابتداء.
الثانية: قوله: وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها: ليس، لا يجوز حذفه لا اختصارا، ولا اقتصارا، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله:
يرجو جوارك حين ليس مجير
على طريق الضرورة أو الندور، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه.
الثالثة: قوله بل: في الحج، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين، يعني بالوجهين: كونها بمعنى: ليس، وكونها مبنية مع: لا، وهذا لا يصح، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش، وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الابتداء فيقتضي أن يكون خبرا للمبتدأ على مذهب سيبويه، على ما قدمناه من الخلاف، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون: في الحج، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين.
الرابعة: قوله: لأن: لا، إنما تعمل على بابها فيما تليها، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء هذا تعليل لكون: في الحج، خبرا للكل، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب وقد بينا أن ذلك لا يجوز، لأنها إذا كانت بمعنى: ليس، كان خبرها في موضع نصب، ولا يناسب هذا التعليل إلا كونها تعمل عمل إن فقط، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخف 5، لأنه على مذهب الأخفش يكون: في الحج، في موضع رفع بلا، و: لا، هي العاملة الرفع، فاختلف المعرب على مذهبه، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء، وقراءة الفتح في: ولا جدال، هي على عمل: لا، عمل إن.
الخامسة: قوله: وظن أبو علي أنها بمنزلة: ليس، في نصب الخبر وليس كذلك، هذا الظن صحيح، وهو كما ظن، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على
أن: لا، بمعنى ليس أتت به منصوبا في شعرها، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا، فأجازه أبو علي، مثل هذا في القرآن لا ينبغي.
السادسة: قوله: بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر، و: في الحج، هو الخبر، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى: ليس، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء، وأن الخبر يكون مرفوعا لذلك المبتدأ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى: ليس، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعا، لأنه ليس لنا إلا صورة: لا رجل قائم، ولا امرأة. فرجل هنا مبتدأ، وقائم خبر عنه، وهي غير عاملة، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس، وارتفاع الاسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعا بالابتداء، وإلا فلا يمكن العلم بذلك أصلا لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ، والمرفوع بعده خبره.
وقال الزمخشري: وقرأ أبو عمرو، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي، كأنه قيل: فلا يكونن رفث ولا فسوق، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال، كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج؛ وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة، وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج.
واستدل على أن المنهي
98

عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: (من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمه)، وأنه لم يذكر الجدال. انتهى كلامه. وفيه تعقبات.
الأول: تأويله على أبي عمرو، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئا من ذلك، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنيا، وأما أن الرفع يقتضي النهي، والبناء يقتضي الخبر فلا، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم، وقراءة الرفع مرجحة له، فقراءتهما الأولين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلا على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب.
الثاني: قوله: كأنه قيل: ولا شك ولا خلاف في الحج، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال، لأنه قال قبل: ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين. وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير.
الثالث: أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير: ولا جدال، للمتقدمين اختلافهم: في الموقف: لابن زيد، ومالك، والنسيء: لمجاهد، فجعلهما هو شيئا واحدا سببا للإخبار أن لا جدال في الحج.
الرابع: قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه، ولا دليل في ذلك، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله: * (ولا فسوق) * لعمومه، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى، فلا يجعل ذلك شرطا في غفران الذنوب، فلذلك رتب صلى الله عليه وسلم) غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه، الجائز في غير الحج، وهو الجماع المكني عنه بالرفث؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقا في الحج وفي غيره، وهو معصية الله المعبر عنها بالفسوق، وجاء قوله: ولا جدال، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج، من: إفراغ أعماله للحج، وعدم المخاصمة والمجادلة. فمقصد الآية غير مقصد الحديث، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة، وفي الحديث اقتصر على الاثنين.
وقد بقي الكلام على هذه الجملة: أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخبارا؟ أو صورتها صورة النفي؟ والمراد به النهي؟ اختلفوا في ذلك فقال في (المنتخب) قال، أهل المعاني: ظاهر الآية نفي، ومعناها نهي. أي: فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، كقوله تعالى: * (لا ريب فيه) * أي: لا ترتابوا فيه، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر، ويحتمل النهي، فإذا حمل على الخبر فمعناه: أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال، بل يفسد، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته، ولا يستقيم هذا المعنى، إلا إن أريد بالرفث: الجماع، والفسوق: الزنا، وبالجدال: الشك في الحج وفي وجوبه، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر الله، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج، وإذا حمل على النهي، وهو خلاف الظاهر، صلح أن يراد بالرفث: الجماع، ومقدماته، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ، فيتناول جميع أقسامه، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه.
وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية، بقوله: * (فلا رفث) * وإلى قهر القوة النفسانية بقوله: * (ولا فسوق) * وإلى قهر القوة الوهمية بقول: * (ولا جدال) * فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى الله والذب عن دينه. انتهى ما لخصناه من كلامه.
والذي نختاره أنها جملة، صورتها صورة الخبر، والمعنى على النهي، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب، ألا ترى أنه لو قال: إنسان مثلا: من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته، ولا زنا بغيرها، ولا كفر في الصلاة، يريد الخبر، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله: من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهن فيه، هكذا الترتيب
99

العربي الفصيح، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج، حتى كأنه مما لا يوجد، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد.
وقال في (المنتخب) أيضا: إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهيا عن ما يقتضى فساد الحج، والإجماع منعقد على ذلك، ويكون نفيا للصحة مع وجوده، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع، أو الفحش من الكلام، فيكون نهيا لكمال الفضيلة.
وقال ابن العربي ليس نفيا لوجود الرفث، بل نفي لمشروعيته، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه، وإخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعا، لا إلى وجوده محسوسا، كقوله: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * ومعناه مشروعا لا محسوسا، فإنا نجد المطلقات لا يتربصن، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي، وهذا كقوله: * (لا يمسه إلا المطهرون) * إذا قلنا إنه وارد في الآدميين، وهو الصحيح، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعا، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء، فقالوا: إن الخبر يكون بمعنى النهي، وما وجد ذلك قط، ولا يصح أن يوجد، فإنهما يختلفان حقيقة، ويتباينان وصفا انتهى كلام ابن العربي.
وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال:
أحدهما: أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي: الجماع، والزنا، والكفر.
الثاني: أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود.
الثالث: أنها إخبار صورة، والمراد بها النهي.
الرابع: التفرقة في قراءة ابن كثير، وابن عمر، وبأن الأولين في معنى النهي، والثالث خبر، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت: من، شرطية، وفي موضع الخبر، إن كانت: من، موصولة. وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزاء بالشرط، إذا كان الشرط بالاسم، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى، ولا رابط هنا ملفوظ به، فوجب أن يكون مقدرا. ويحتمل وجهين.
أحدهما: أن يقدر منه بعد: ولا جدال، ويكون منه في موضع الصفة، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم: السمن منوان بدرهم أي: منوان منه، ومنه صفة للمنوين.
والثاني: أن يقدر بعد الحج، وتقديره: في الحج منه أوله، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط.
وللكوفيين تخريج في مثل هذا، وهو أن تكون الألف واللام عوضا من الضمير، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله: في الحج، في حجه، فنابت الألف واللام عن الضمير، وحصل بها الربط.
قال بعضهم: وكرر في الحج، فقال: في الحج، ولم يقل: فيه، جريا على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر، كقول الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء
انتهى كلامه، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول، ولمجيئه في جمله غير الجملة الأولى، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائدا على: من، لا على: الحج، أي: في فارض الحج.
وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهيا عنها في الحج. أما الرفث فأكثر أهل العلم، خلفا وسلفا، أنه يراد به هنا الجماع، وأنه منهي عنه بالآية، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج، وأن مقدماته توجب الدم، إلا ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره، أنه سمع يقول: (للمحرم من امرأته كل شيء إلا الجماع). وقد اتفقت الأمة على خلافه، وعلى أن من قبل امرأته بشهوة فعليه دم، وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر، وعطاء، وعكرمة، وإبراهيم، وابن المسيب، وابن جبير، وهو قول فقهاء الأمصار.
وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل امرأته ومباشرتها، ويتجنب الوطىء.
وأما الفسوق والجدال، وإن كان منهيا عنهما في غير الحج، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيما لحرمة الحج، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير، لفعل هذه العبادة، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم) في حق الصائم: (فلا يرفث ولا يجهل، فإن جهل عليه فليقل إني
100

صائم؟) وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج: (إن هذا يوم، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له؟)
ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم، ولكنه خصه بالذكر تعظيما لحرمته.
وفي قوله: ولا فسوق، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
* (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * هذه جملة شرطية، وتقدم الكلام على إعراب نظيرها في قوله: * (وما * ننسخ من ءاية) * وخص الخير، وإن كان تعالى عالما بالخير والشر، حثا على فعل الخير، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج، وهو خير، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل، والفسوق الطاعة، والجدال الوفاق، ولأن يكثر رجاء وجه الله تعالى، ولأن يكون وعدا بالثواب.
وجواب الشرط وهو: يعلمه الله، فإما أن يكون عبر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم، كأنه قيل: يجازكم الله به، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم، أي: يعلمه الله فيثيب عليه، وفي قوله: وما تفعلوا، التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب، وحمل على معنى: من، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع، وعبر بقوله: تفعلوا
، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية، إما تغليبا للفعل، وإما إطلاقا على القول، والاعتقاد لفظ الفعل، فإنه يقال: أفعال الجوارح، وأفعال اللسان، وأفعال القلب، والضمير في: يعلمه، عائد على: ما، من قوله: وما تفعلوا، و: من، في موضع نصب، ويتعلق بمحذوف.
وقد خبط بعض المعربين فقال: إن: من خير، متعلق: بتفعلوا، وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره: وما تفعلوه فعلا من خير يعلمه الله، جزم بجواب الشرط، والهاء في: يعلمه الله، يعود إلى خير انتهى قوله.
ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن: من خير، متعلق: بتفعلوا، ثم قال: وهو في موضع نصب نعتا لمصدر. فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفا، فيناقض هذا القول كون: من، يتعلق: بتفعلوا، لأن: من، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوف وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم، فالهاء عائدة على الاسم، أعني: اسم الشرط، وإذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على أسم الشرط، وذلك لا يجوز، لو قلت: من يأتني يخرج خالد، ولا يقدر ضميرا يعود على أسم الشرط، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف، فإنه يجوز خلو الجملة من الضمير نحو: إن تأتني يخرج خالد.
* (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) * روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد، ويقولون: نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا؟ فيتوصلون بالناس، وربما ظلموا وغصبوا، فأمروا بالتزود، وأن لا يظلموا أو يكونوا كلا على الناس. وروي عن ابن عمر قال: إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها، واستأنفوا زادا آخر، فنهوا عن ذلك، وأمر بالتحفظ بالزاد والتزود.
فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمرا بالتزود في الأسفار الدنيوية، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر، وما بعده أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة، ألا ترى أن قبله: * (وما تفعلوا من خير يعلمه الله) * ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزاء في الآخرة؟ وبعده * (فإن خير الزاد التقوى) * والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار؟ ويكون مفعول: تزودوا، محذوفا تقديره، وتزودوا التقوى، أو: من التقوى، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهرا ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمرا عائدا على المفعول، أو كان يأتي ظاهرا تفخيما لذكر التقوى، وتعظيما لشأنها. وقد قال بعضهم في التزود للآخرة:
101

* إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
*
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
*
ندمت على أن لا تكون كمثله
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
وقال بعض عرب الجاهلية:
* فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت
*
ولكن حمد الناس ليس بمخلد
*
ولكن منه باقيات وراثة
فأورث بنيك بعضها وتزود
*
* تزود إلى يوم الممات فإنه
*
وإن كرهته النفس آخر موعد
*
وصعد سعدون المجنون تلافي مقبرة، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم:
* ألا يا عسكر الأحياء
*
هذا عسكر الموتى
*
* أجابوا الدعوة الصغرى
*
وهم منتظروا الكبرى
*
* يحثون على الزاد
*
ولا زاد سوى التقوى
*
* يقولون لكم جدوا
*
فهذا غاية الدنيا
*
وقيل: أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال، وبالتزود لسفر المعاد، وزاده تقوى الله تعالى؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله: * (فإن خير الزاد التقوى) *.
فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا، فيكون مفعول: تزودوا، ما ينتفعون به، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال، وأنفسكم من الظلم، وقال البغوي: قال المفسرون: التقوى هنا: الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات.
والثاني: أنه أمر بالتزود لسفر الأخرة، وهو الذي نختاره.
والثالث: أنه أمر بالتزود في السفرين، كأن التقدير: وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله.
وأبعد من ذهب إلى أن المعنى: وتزودوا الرفيق الصالح، إلا أن عنى به العمل الصالح، فلا يبعد، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه.
وقال أبو بكر الرازي: احتمل قوله: وتزودوا، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى، فوجب الحمل عليهما، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج، لأنه أحق شيء بالإستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه، كما نص على خطر الفسوق، وإن كان محظورا في غيره، تعظيما لحرمة الإحرام، وإخبارا أنه فيه أعظم مأثما.
ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه، ودوام ثوابه، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج، وعلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم)، حين سئل عن الاستطاعة، فقال: (هي الزاد
102

والراحلة). انتهى كلامه.
ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد، لأنه صح: لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا، وتروح بطانا. وقال تعالى: * (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) * وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد، وبعضهم بالجرع من الماء.
وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهرا، وخرج منها وله عكن، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياما كثيرة، كل واحد منهم بتمرة في اليوم.
فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين، وامتلاء الفرن بالعجين، وإن لم يكن هناك طعام، ونحو ذلك، فحكوا وقوع ذلك. وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقا، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام، فلا يتكرر ذلك إلا من مدع ذلك، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون، ويدعى ذلك لهم.
* (واتقون) * هذا أمر بخوف الله تعالى، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج، وأمروا بالتزود للمعاد، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته، ثم قال * (واتقون يأولي الالباب) * تحريكا لامتثال الأمر بالتقوى، لأنه لا يحذر العواقب، إلا من كان ذا لب، فهو الذي تقوم عليه حجة الله، وهو القابل للأمر والنهي، وإذا كان ذو اللب لا يتقي الله، فكأنه لا لب له، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله: * (ولكم في القصاص حيواة يأولي * أولى * الالباب) * فأغنى عن إعادته.
والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف، فيكون عاما، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب، فيكون خاصا، لأن المأمور باتقاء الله هم جميع المكلفين.
* (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية. كعكاظ، وذي المجاز، ومجنة، فأباح الله لهم ذلك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وعطاء؛ وقال مجاهد أيضا: كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرون، فنزلت في إباحة ذلك، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج، وأن حجة تام.
وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير: فضلا من ربكم في مواسم الحج، والأولى جعل هذا تفسيرا، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة.
والجناح معناه: الدرك، وهو أعم من الإثم، لأنه فيما يقتضي العقاب، وفيما يقتضي الزجر والعقاب، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلا ما نقل شاذا عن سعيد بن جبير، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي، وأنا أريد الحج أفيجزيني؟ قال: (لا، ولا كرامة). وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما نهى عن الجدال، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية، أو لأنا لمسلمين لما صار كثير من المباحات محرما عليهم في الحج، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم، فأباح الله ذلك، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ: في مواسم الحج.
وحمل أبو مسلم الآية على أنه: فيما بعد الحج، ونظيره: * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا فى الارض وابتغوا من فضل الله) * فقاس: الحج، على: الصلاة، وضعف قوله بدخول الفاء في: فإذا قضيتم، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل، فدل على أن ما قبل الإفاضة، وقع في زمان الحج. ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج، لا بعد الفراغ منه، لأن كل أحد يعلم جل التجارة إذ ذاك، فحمله على محل الشبهة أولى،
103

ولأن قياس الحج على الصلاة، قياس فاسد، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول، حيث لم يكن حاجا، لا يقال: حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما، لأنه قياس في مقابلة النص، فهو ساقط. ونسب للياه فزان.
الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل الله ورحمته، من إعانة ضعيف، وإغاثة ملهوف، وإطعام جائع؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها، فلا يقال فيها: لا جناح عليكم، إنما يقال: في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصا في الطاعة: لم تكن مباحة، وإن لم توقع نقصا فالأولى تركها، فهي إذا جارية مجرى الرخص.
وتقدم إعراب مثل: أن تبتغوا، في قوله: * (فلا جناح عليه أن يطوف * فيهما) * و: من وبكم، متعلق: بتبتغوا، و: من، لابتداء الغاية، أو بمحذوف، وتكون صفة لفضل. فتكون: من، لابتداء الغاية أيضا، أو للتبعيض، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي: من فضول.
* (فإذا أفضتم من عرفات) * قيل: فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده. انتهى هذا القول، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب، إنما يعلم منه الحصول في عرفة، والوقوف بها، فهل ذلك على سبيل الوجوب أوا لندب؟ لا دليل في الآية على ذلك، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك.
وقال في (المنتخب): الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، وما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به، فوجب أن لا يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطا. انتهى كلامه.
فقوله: الإفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات، كلام مبهم، فإن عنى مشروط وجودها، أي: وجود الإفاضة بالحصول في عرفات، فصحيح، والوجود لا يدل على الوجوب، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك، بل نقول: لو وقف بعرف واتخذها مسكنا إلى أن مات لم تجب عليه الإفاضة منها، ولم يكن مفرطا في واجب إذا مات بها، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها.
وقوله: وما لا يتم الواجب، إلى آخر الجملة، مرتبة على أن الإفاضة واجبة، وقد منعنا ذلك وقوله: فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج، مبني على ما قبله، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك، و: إذا، لا تدل على تعين زمان، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه، فظاهره يقتضي أنه: متى أفاض من عرفات جاز له ذلك، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإفاضة كان مجزيا.
ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام، ولو أفاض قبل الغروب، وكان وقف بعد الزوال، فأجمعوا على أن حجة تام، إلا مالكا فقال: يبطل حجه.
وروي نحوه عن الزبير، وقال مالك: ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل.
ومن قال: حجه تام، فقال الحسن: عليه هدي، وقال ابن جريج: بدنة، وقال عطاء، والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وأبو ثور: عليه دم.
ولو أفاضل قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة، فدفع بعد الغروب، فذهب أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور، إلى أنه لا يسقط الدم. وذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه. وحديث عروة بن مضرس: وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه، وقضى تفثه، موافق لظاهر الآية في عدم
اشتراط جزء منالليل إلا ما صد عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزئ، وأن من أفاض نهارا لا شيء عليه.
ومن، في قوله: من عرفات، لابتداء الغاية، وهي تتعلق: بأفضتم، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه، ويقتضي ذلك جواز الوقوف، بأي نواحيها وقف، والجمهور على أن عرنة من عرفات. وحكى الباجي، عن ابن حبيب: أن عرنة في الحل، وعرنة في الحرم، وقيل: الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة، ومن قال: بطن عرنة من عرفات، فلو
104

وقف بها فروي عن ابن عباس، والقاسم، وسالم أنه: من أفاض من عرنة لا حج له، وذكره ابن المنذر عن الشافعي، وأبو المصعب عن مالك، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام. ويهريق دما، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضا.
وروي: عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء، فهي كظاهر الآية.
وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيرا جميلا، ولا يطؤا ضعيفا، ولا يؤذوا ماشيا، إذ كان صلى الله عليه وسلم) إذا دفع من عرفات أعنق، وإذا وجد فرجة نص. والعنق: سير سريع مع رفق، والنص: سير شديد فوق العتق، قاله الأصمعي، والنضر بن شميل. ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس.
والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد، تشبيها بأهل عرفة، غير مشروع، فقال بعض أهل العلم: هو ليس بشيء، وأول من عرف ابن عباس بالبصر، وعرف أيضا عمرو بن حريث، وقال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وقد فعله غير واحد: الحسن، وبكر، وثابت، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة.
وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري: يجب ليهم الفطر، وأجازه بعضهم، وصامه عثمان بن القاضي، وابن الزبير، وعائشة. وقال عطاء: أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف، والجمهور على أن ترك الصوم أولى، اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
* (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * الفاء جواب إذا، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة، أو الدعاء. وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر: أمر ندب، أم أمر وجوب؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملا ببينة فعله صلى الله عليه وسلم)، وهو سنة بالمزدلفة. ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة، فقال أبو حنيفة، ومحمد: لا يجزئه، وقال عطاء، وعروة، والقاسم، وابن جبير، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: ليس الجمع شرطا للصحة.
ومن له عذر عن الإفاضة ممن وقف مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها، قاله ابن المواز.
وقال مالك: يجمع بينهما إذا غاب الشفق، وقال ابن القاسم: إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها، وإلا صلى كل صلاة لوقتها.
وهل يصليهما بإقامتين دون أذان؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين؟ أو بأذانين وإقامتين؟ أو بأذان وإقامة للأولى، وبلا أذان ولا إقامة للثانية؟ أقوال أربعة.
الأول: قول سالم، والقاسم، والشافعي، وإسحاق، وأحمد في أحد قوليه.
والثاني: قول زفر، والطحاوي، وابن حزم، وروي عن أبي حنيفة.
والثالث: قول مالك.
والرابع: قول أبي حنيفة، والسنة أن لا يتطوع الجامع بينهما.
والمشعر مفعل من شعر، أي: المعلم: والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام. وهذا المشعر يسمى: جمعا، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر، قاله ابن عباس، وابن عمر، وابن جبير، ومجاهد؛ وتسمي العرب وادي محسر: وادي النار، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام، والمأزم. المضيق، وهو مضيق واحد بين جبلين، ثنوه لمكان الجبلين. وقيل: المشعر الحرام هو قزح، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام، وعليه الميقدة. قيل: وهو الصحيح لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم)، لما صلى الفجر، يعني بالمزدلفة، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفا حتى أسفر، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فدعا عنده وكبر وهلل، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير: فإذا أفضتم من عرفات، ونمتم بالمزدلفة، فاذكروا الله عند المشعر الحرام. ومعنى العندية هنا القرب منه، وكونه يليه
105

ومزدلفة كلها موقف، إلا وادي محسر، وجعلت كلها موقفا لكونها في حكم المشعر، ومتصلة به، وقيل: سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعرا، ووحد لاستوائه في الحكم، فكان كالمكان الواحد.
وقال في (المنتخب): هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب، ويكفي فيه المرور كما في عرفة، فأما الوقوف هناك فمسنون. انتهى كلامه.
وكون الوقوف مسنونا هو قول جمهور العلماء، وقال أبو حنيفة: هو واجب، فمن تركه من غير عذر فعليه دم، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل. ولا شيء عليه.
وقال ابن الزبير، والحسن، وعلقمة، والشعبي، والنخعي، والأوزاعي. الوقوف بمزدلفة فرض، ومن فاته فقد فاته الحج، ويجعل إحرامه عمرة.
والآية لا تدل إلا على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام، لا على الوقوف، ولا على المبيت بمزدلفة، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن. وقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه، لأن المبيت بها سنة مؤكدة، عند مالك. وهو مذهب عطاء، وقتادة، والزهري، والثوري، وأبي حنيفة، وأحمد،
وإسحاق، وأبي ثور.
وقال الشافعي: إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، أو قبله افتدى، والفدية شاة.
ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص. قال بعضهم: وأولى الذكر أن يقول: اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق * (فإذا أفضتم) * ويتلو إلى قوله: * (إن الله غفور رحيم) * ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة.
والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه، والحمد له، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله، وإنما المعنى: اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه، والثناء عليه، والمحمدة له. وعند منصوب باذكروا، وهذا مما يدل على أن جواب: إذا، لا يكون عاملا فيها، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر، لأن ذلك عرفات، وهذا المشعر الحرام، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعا وقت إنشاء الإفاضة.
* (واذكروه كما هداكم) * هذا الأمر الثاني هو الأول، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر، لأن الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر لمعنى: اذكروه ذكرا بعد ذكر، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي: أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة، حكاه القاضي أبو يعلى.
والكاف في: كما، للتشبيه، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف، وإما على الحال. وقد تقدم هذا البحث في غير موضع.
والمعنى: أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم، هذه هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية، ولهذا المعنى قال الزمخشري: أذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هدية حسنة. انتهى.
ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف، فيكون التقدير: كما هداكم، أي: أذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم، وحكى سيبويه: كما أنه لا يعلم، فتجاوز الله عنه، أي: لأنه لا يعلم، وثبت لها هذا المعنى الأخف 5، وابن برهان. وما، في: كما، مصدرية أي: كهدايته إياكم، وجوز الزمخشري، وابن عطية أن تكون: ما، كافة للكاف عن العمل، والفرق بينهما أن: ما، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة، والأولى حملها على أن: ما، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد، وعلي بن مسعود بن الفر خال صاحب (المستوفي) واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر:
106

* لعمرك إنني وأبا حميد
*
كما النشوان والرجل الحليم
*
* أريد هجاءه وأخاف ربي
*
وأعلم أنه عبد لئيم
*
والهداية هنا خاصة، أي: بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
* (وإن كنتم من قبله لمن الضالين) * إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية واللام في: لمن، وما أشبهه فيها خلاف: أهي لام الابتداء لزمت للفرق؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق؟ ومذهب الفراء. في نحو هذا هي النافية بمعنى ما، واللام بمعنى إلا، وذهب الكسائي إلى أن: بمعنى: قد، إذ دخل على الجملة الفعلية، وتكون اللام زائدة، وبمعنى: ما، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية، واللام بمعنى إلا، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو.
فعلى قول البصريين: تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها، وعلى مذهب الفراء: مثبتة إثباتا محصورا، وعلى مذهب الكسائي: مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين.
ومن قبله، يتعلق بمحذوف، ويبينه قوله: لمن الضالن، التقدير: وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله: من الضالين، وقد تقدم نظير هذا.
والهاء في قبله، عائدة على الهدى المفهوم من قوله: هداكم، أي: وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام، وقيل: تعود الهاء على القرآن، وقيل: على النبي صلى الله عليه وسلم).
والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان، وقيل: من الضالين عن مناسك الحج، أو عن تفصيل شعائره.
* (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * صح عن عائشة قالت: كان الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * رجعوا إلى عرفات، وفي (الجامع) للترمذي عن عائشة قالت: كانت قريش ومن على دينها، وهم الحمس، يقفون بالمزدلفة، يقولون: نحن قطان الله، وكان من سواهم يقفون بعرفة، فأنزل الله: * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وروى محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال: خرجت في طلب بعير بعرفة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) قائما بعرفة مع الناس قبل أن يبعث، فقلت: والله إن هذا من الحمس، فما شأنه واقفا هاهنا مع الناس؟ وكان وقوف رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعرفة إلهاما من الله تعالى وتوفيقا إلى ما هو شرع الله ومراده، وكانت قريش قد ابتدعت أشياء: لا يأقطون الأقط، ولا يسلون السمن وهم محرمون، ولا يدخلون بيتا من شعر، ولا يستظلون إلا في بيوت الأدم، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل، وهم حرم، ولا يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب الحمس، ومن لم يجد ذلك طاف عريانا، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبدا، لا هو ولا غيره، وتسمي العرب تلك الثياب: اللقي، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها، وكانت قبل تطوف عريانة، وعلى فرجها نسعة، حتى قالت امرأة منهم:
* اليوم يبدو بعضه أو كله
*
وما بدا منه فلا أحله
*
فلما أنزل الله * (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس) * وأنزل: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) * أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف بعرفة، ومن الأكل والشرب واللباس، فعلى هذا الذي نقل من سبب
107

النزول، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشا وحلفاءها، ومن دان بدينها، وهم الحمس. وهذا قول الجمهور. وقيل: الخطاب عام لقريش وغيرها.
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات، إلا أن: ثم، على هذا، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق، وقد قال: * (فإذ * أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم * ثم أفيضوا) * الإفاضة قد تقدمت، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.
أحدهما: أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها، ألا ترى أنك تقول: إذ ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيد مأمورا بالضرب، فكأنه قيل: ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس، وزعم بعضهم أن: ثم، هنا بمعنى الواو، لا تدل على ترتيب، كأنه قال: وأفيضوا من حيث أفاض الناس، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول، وقد جوز بعض النحويين أن: ثم، تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب. وقد حمل بعض الناس: ثم، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا، فجعل: * (ثم أفيضوا) * معطوفا على قوله: * (واتقون يأولي * أولى * الالباب) * كأنه قيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها، تلك الإفاضة المأمور بها، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة، وننزه القرآن عن حمله عليه، وقد أمكن ذلك بجعل: ثم، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى، والمخاطبون بقوله * (ثم أفيضوا) * جميع المسلمين، وقد قال بهذا: الضحاك، وقوم معه، ورجحه الطبري، وهو يقتضيه ظاهر القرآن. وقال الزمخشري فإن قلت: فكيف موقع: ثم؟ قلت: نحو موقعها في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، يأتي: ثم، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: ثم أفيضوا، التفاوت ما بين الإفاضتين، وأن أحدهما صواب والثانية خطأ. انتهى كلامه.
وليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن: ثم، تسلب الترتيب، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها، ولم يجز في الآية أيضا ذكر الإفاضة الخطأ فيكون: ثم، في قوله: ثم أفيضوا، جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما، ولا نعلم أحدا سبقه إلى اثبات هذا المعنى لثم.
و: من حيث، متعلق: بأفيضوا، و: من، لابتداء الغاية، و: حيث، هنا على أصلها من كونها ظرف مكان، وقال القفال: من حيث أفاض الناس، عبارة عن زمان الإفاضة من عرفة، ولا حاجة إلى إخراج حيث عن موضوعها الأصلي، وكأنه رام أن يغاير بذلك بين الإفاضتين، لأن الأولى في المكان، والثانية في الزمان، ولا تغاير، لأن كلا منهما يقتضي الآخر ويدل عليه، فهما متلازمان. أعني: مكان الإفاضة من عرفات، وزمانها. فلا يحصل بذلك جواب عن مجيء بثم.
و: الناس، ظاهره العموم في المفيضين، ومعناه أنه الأمر القديم الذي عليه الناس، كما تقول: هذا مما يفعله الناس، أي عادتهم ذلك، وقيل: الناس أهل اليمن وربيعة، وقيل: جميع العرب دون الحمس، وقيل: الناس إبراهيم ومن أفاض معه من أبنائه والمؤمنين به، وقيل: إبراهيم وحده، وقيل: آدم وحده، وهو قول الزهري لأنه أبو الناس وهم أولاده وأتباعه، والعرب تخاطب الرجل العظيم الذي له أتباع مخاطبة الجمع، وكذلك من له صفات كثيرة، ومنه قوله:
108

* فأنت الناس إذ فيك الذي قد
*
حواه الناس من وصف جميل
*
ويؤيده قراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناس، بالياء من قوله: * (ولقد عهدنا إلى * من ربه * قبل فنسى) * وإطلاق الناس على: واحد من الناس هو خلاف الأصل، وقد رجح هذا بأن قوله: * (من حيث أفاض الناس) * هو فعل ماض يدل على فاعل متقدم، والإفاضة إنما صدرت من آدم وإبراهيم، ولا يلزم هذا الترجيح، لأن: حيث، إذا أضيفت إلى جملة مصدرة بماض جاز أن يراد بالماضي حقيقته، كقوله تعالى: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) *. وتارة يراد به المستقبل، كقوله تعالى * (ومن حيث خرجت فول وجهك) * وهذا معروف في حيث، فلا يلزم ما ذكره.
وعلى تسليم أنه فعل ماض، وأنه يدل على فاعل متقدم لا يلزم من ذلك أن يكون فاعله واحدا لأنه قبل صدور هذا الأمر بالإضافة كان إما جميع من أفاض قبل تغيير قريش ذلك، وإما غير قريش ذلك، وإما غير قريش بعد تغييرهم من سائر من حج من العرب، فالأولى حمل الناس على جنس المفيضين العام، أو على جنسهم الخاص.
وقد رجح قول من قال بأنهم أهل اليمن وربيعة بحج أبي بكر بالناس، حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأمره أن يخرج بالناس إلى عرفات فيقف بها، فإذا غربت الشمس أفاض بالناس حتى يأتي بهم جميعا، فيبيت بها، فتوجه أبو بكر إلى عرفات، فمر بالحمس وهم وقوف بجمع، فلما ذهب ليجاوزهم قالت له الحمس: يا أبا بكر: أين تجاوزنا إلى غيرنا؟ هذا موقف آبائك فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم) حتى أتى عرفات، وبها أهل اليمن وربيعة. وهذا تأويل قوله: * (من حيث أفاض الناس) * فوقف بها حتى غربت الشمس، ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام، فوقف بها، فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
وقراءة ابن جبير: من حيث أفاض الناسي، بالياء، قراءة شاذة، وفيها تنبيه على أن الإفاضة من عرفات شرع قديم، وفيها تذكير يذكر عهد الله وأن لا ينسى، وقد ذكرنا أنه يؤول على أن المراد بالناسي آدم عليه السلام، ويحتمل أن يكون الناسي في قراءة سعيد معناه التارك، أي: للوقوف بمزدلفة، أو لا، ويكون يراد به الجنس، إذ الناسي يراد به التارك للشيء، فكأن المعنى، والله أعلم: أنهم أمروا بأن يفيضوا من الجهة التي يفيض منها من ترك الإفاضة من الزدلفة، وأفاض من عرفات، ويكون الناسي يراد به الجنس، فيكون موافقا من حيث المعنى لقراءة الجمهور، لأن الناس الذين أمرنا بالإفاضة من حيث أفاضوا، هم التاركون للوقوف بمزدلفة، والجاعلون الإفاضة من عرفات على سنن من سن الحج، وهو إبراهيم عليه السلام، بخلاف قريش، فإنهم جعلوا الإفاضة من المزدلفة، ولم يكونوا ليقفوا بعرفات فيفيضوا منها.
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول: الناس، كالقاض والهاد، قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما كون جوازه مقروءا به فلا أحفظه. انتهى كلامه.
فقوله: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، ظاهر كلام ابن عطية أن ذلك جائز مطلقا، ولم يجزه سيبويه إلا في الشعر، وأجازه الفراء في الكلام. وأما قوله: وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه، فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.
قال أبو العباس المهدوي: أفاض الناسي بسعيد بن جبير، وعنه أيضا: الناس بالكسر من غير ياء. انتهى قول أبي العباس المهدوي.
* (واستغفروا الله) * أمرهم بالاستغفار في مواطن مظنة القبول، وأماكن الرحمة، وهو طلب الغفران من الله باللسان مع التوبة بالقلب، إذ الاستغفار باللسان دون التوبة بالقلب غير نافع، وأمروا بالاستغفار، وإن كان فيهم من لم يذنب، كمن بلغ قبيل الإحرام ولم يقارف ذنبا وأحرم، فيكون الاستغفار من مثل هذا لأجل أنه ربما صدر منه تقصير في أداء الواجبات والاحتراز من المحظورات، وظاهر هذا الأمر أنه ليس طلب غفران من ذنب خاص، بل طلب غفران الذنوب، وقيل: إنه أمر بطلب غفران خاص، والتقدير: واستغفروا الله مما كان من مخالفتكم في الوقوف والإفاضة، فإنه غفور لكم، رحيم فيما فرطتم فيه في حلكم وإحرامكم، وفي سفركم ومقامكم. وفي الأمر بالاستغفار عقب الإفاضة، أو معها، دليل على أن ذلك الوقت، وذلك المكان المفاض منه، والمذهوب إليه من أزمان الإجابة وأماكنها، والرحمة والمغفرة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم) خطب عشية عرفة فقال: (أيها الناس إن الله تعالى تطاول
109

عليكم في مقامكم، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، فامضوا على اسم الله) فلما كان غداة جمع خطب فقال: (أيها الناس إن الله قد تطاول عليكم، فعوض التبعات من عنده).
وأخرج أبو عمرو بن عبد البر في (التمهيد) ثلاثة أحاديث تدل على أن الله تعالى يباهي بحجاج بيته ملائكته، وأنه يغفر لهم ما سلف من ذنوبهم، وأنه ضمن عنهم التبعات.
و: استغفر، يتعدى لاثنين، الثاني منهما بحرف الجر، وهو من: فعول، استغفرت الله من الذنب، وهو الأصل، ويجوز أن تحذف: من، كما قال الشاعر:
* أستغفر الله ذنبا لست محصيه
*
رب العباد إليه الوجه والعمل
*
تقديره: من ذنب، وذهب أبو الحسن بن الطراوة إلى أن: استغفر، يتعدى بنفسها إلى مفعولين صريحين، وأن قولهم: استغفر الله من الذنب، إنما جاء على سبيل التضمين، كأنه قال: تبت إلى الله من الذنب، وهو محجوج بقول سيبويه، ونقله عن العرب وذلك مذكور في علم النحو، وحذف هنا المفعول الثاني للعلم به، ولم يجئ في القرآن مثبتا، لا مجرورا بمن، ولا منصوبا، بخلاف: غفر، فإنه تارة جاء في القرآن مذكورا مفعوله، كقوله: * (ومن يغفر الذنوب إلا الله) * وتارة محذوفا. كقوله تعالى: * (يغفر لمن يشاء) * وجاء: استغفر، أيضا معدى باللام، كما قال تعالى: * (فاستغفروا لذنوبهم) * * (واستغفر لذنبك) * وكأن هذه اللام، والله أعلم، لام العلة، وأن ما دخلت عليه مفعول من أجله، واستفعل هنا للطلب، كاستوهب واستطعم واستعان، وهو أحد المعاني التي جاء لها استفعل، وقد ذكرنا ذلك في قوله: * (وإياك نستعين) *.
* (إن الله غفور رحيم) * هذا كالسبب في الأمر بالاستغفار، وهو أنه تعالى كثير الغفران، كثير الرحمة، وهاتان الصفتان للمبالغة، وأكثر بناء: فعول، من: فعل، نحو: غفور، وصفوح، وصبور، وشكور، وضروب، وقتول، وتروك، وهجوم، وعلوك، وأكثر بناء: فعيل، من ففعل بكسر العين نحو: رحيم، وعليم، وحفيظ، وسميع، وقد يتعارضان. قالوا: رقب فهو رقيب، وقدر فهو قدير، وجهل فهو جهول؛ وقد تقدم الكلام على نحو هذه الجمل، أعني: أن يكون آخر الكلام ذكر اسم الله، ثم يعاد بلفظه بعد: إن، والأولى أن يطلق الغفران والرحمة، وإن ذلك من شأنه تعالى.
وقيل: إن المغفرة الموعودة في الآية هي عند الدفع من عرفات، وقيل: إنها عند الدفع من جمع إلى منى، والأولى ما قدمناه.
* (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم ءاباءكم أو أشد ذكرا) * وسبب نزولها أنهم كانوا إذا اجتمعوا في الموسم تفاخروا بآبائهم، فيقول أحدهم: كان يقرى الضيف، ويضرب بالسيف، ويطعم الطعام، وينحر الجزور، ويفك العاني، ويجر النواصي، ويفعل كذا وكذا. فنزلت.
وقال الحسن: كانوا إذا حدثوا
110

أقسموا بالآباء، فيقولون. وأبيك، فنزلت.
وقال السدي: كانوا إذا قضوا المناسك وأقاموا بمنى يقوم الرجل ويسأل الله فيقول: اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال فأعطني بمثل ذلك ليس يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل الله أن يعطيه في دنياه، وقال: معناه أبو وائل، وابن زيد، فنزلت: فإذا قضيتم، أي أديتم وفرغتم. كقوله: * (فإذا قضيت الصلواة) * أي: أديت، وقد يعبر بالقضاء عن ما يفعل من العبادات خارج الوقت المحدود، والقضاء إذا علق على فعل النفس فالمراد منه الإتمام والفراغ، كقوله: وما فاتكم فاقضوا وإذا علق على فعل غيره، فالمراد منه الإلزام، كقوله: قضى الحاكم بينهما، والمراد من الآية الفراغ.
وقال بعض المفسرين: يحتمل أن يكون هذا الشرط والجزاء، كقولك: إذا حججت فطف وقف بعرفة، فلا نعني بالقضاء الفراغ من الحج، بل الدخول فيه، ونعني بالذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات، والمشعر الحرام، والطواف والسعي، فيكون المعنى: فإذا شرعتم في قضاء المناسك، أي: في أدائها فاذكروا. وهذا خلاف الظاهر، لأن الظاهر الفراغ. من المناسك لا الشروع فيها، ويؤيد ذلك مجيء الفاء في: فإذا، بعد الجمل السابقة.
والمناسك هي مواضع العبادة، فيكون هذا على حذف مضاف، أي: أعمال مناسككم، أو العبادات نفسها المأمور بها في الحج، قاله الحسن، أو الذبائح وإراقة الدماء، قاله مجاهد.
فاذكروا الله: هذا جواب: إذ، والمعنى: إذا فرغتم من الوقوف بعرفة، ونفرتم من منى، فعظموا الله وأثنوا عليه إذ هداكم لهذه الطاعة، وسهلها ويسرها عليكم، حتى أديتم فرض ربكم وتخلصتم من عهدة هذا الأمر الشاق الصعب الذي لا يبلغ إلا بالتعب الكثير، وانهماك النفس والمال، وقيل: الذكر هنا هو ذكر الله على الذبيحة، وقيل: هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق، وقيل: بل المقصود تحويلهم عن ذكر آبائهم إلى ذكره تعالى كذكركم آباءكم تقدم. هذا هو ذكر مفاخرهم، أو السؤال من الله أن يعطيهم مثل ما أعطى آباءهم، أو القسم بآبائهم، وقيل: ذكر آبائهم في حال الصغر، ولهجه بأبيه يقول: أبه أبه، أول ما يتكلم. وقيل: معنى الذكر هنا الغضب لله كما تغضب لوالديك إذا سبا، قاله أبو الجوزاء، عن ابن عباس. ونقل ابن عطية أن محمد بن كعب القرظي قرأ: كذكركم آباؤكم، برفع الأباء، ونقل غيره عن محمد بن كعب أنه قرأ: أباكم، على الإفراد، ووجه الرفع أنه فاعل بالمصدر، والمصدر مضاف إلى المفعول، التقدير: كما يذكركم آباؤكم. والمعنى: ابتهلوا بذكر الله والهجوا به كما يلهج المرء بذكر ابنه. ووجه الإفراد أنه استغنى به عن الجمع، لأنه يفهم الجمع من الإضافة إلى الجمع، لأنه معلوم أن المخاطبين ليس لهم أب واحد، بل آباء.
و: أو، هنا قيل: للتخيير، وقيل: للإباحة، وقيل: بمعنى بل أشد، جوزوا في إعرابه وجوها اضطروا إليها لاعتقادهم أن ذكرا بعد أشد تمييزا بعد أفعل التفضيل، فلا يمكن إقراره تميزا إلا بهذه التقادير التي قدورها، ووجه إشكال كونه تمييزا أن أفعل التفضيل إذا انتصب ما بعده فإنه يكون غير الذي قبله، تقول: زيد أحسن وجها، لأن الوجه ليس زيدا فإذا كان من جنس ما قبله انخفض نحو زيد أفضل رجل. فعلى هذا يكون التركيب في مثل: أضرب زيدا كضرب عمر وخالدا أو أشد ضرب، بالجر لا بالنصب، لأن المعنى أن أفعل التفضيل جنس ما قبله، فجوزوا إذ ذاك النصب على وجوه.
أحدها: أن يكون معطوفا على موضع الكاف في: ذكركم، لأنها عندهم نعت لمصدر محذوف، أي: ذكرا كذكركم آباءكم أو أشد، وجعلوا الذكر ذكرا على جهة المجاز، كما قالوا: شاعر شعر، قاله أبو علي وابن جني.
الثاني: أن يكون معطوفا على آبائكم، قاله الزمخشري، قال: بمعنى أو أشد ذكرا من آبائكم، على أن ذكرا من فعل المذكور انتهى. وهو كلام قلق، ومعناه: أنك إذا عطفت أشد على آبائكم كان التقدير: أو قوما أشد ذكرا من آبائكم، فكان القوم
111

مذكورين، والذكر الذي هو تمييز بعد أشد هو من فعلهم، أي من فعل القوم المذكورين، لأنه جاء بعد أفعل الذي هو صفة للقوم، ومعنى قوله: من آبائكم أي: من ذكركم لآبائكم.
الثالث: أنه منصوب بإضمار فعل الكون. والكلام محمول على المعنى. التقدير: أو كونوا أشد ذكرا له منكم لأبائكم. ودل عليه أن معنى: فاذكروا الله؛ كونوا ذاكريه.
قال أبو البقاء: قال: وهذا أسهل من حمله على المجاز، يعنى في أن يجعل للذكر ذكر في قول أبي علي وابن جني.
وجوزوا الجر في أشد على وجهين. أحدهما: ان يكون معطوفا على: ذكركم، قاله الزجاج، وابن عطية، وغيرهما. فيكون التقدير: أو كذكر أشد ذكرا، فيكون إذ ذاك قد جعل للذكر ذكر.
الثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المجرور بالمصدر في: كذكركم، قاله الزمخشري. قال ما نصه: أو أشد ذكرا في موضع جر، عطف على ما أضيف إليه الذكر في قوله: كذكركم، كما تقول: كذكر قريش آباءهم أو قوم أشد منهم ذكرا، وفي قول الزمخشري: العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، فهي خمسة وجوه من الإعراب كلها ضعيف، والذي يتبادر إليه الذهن في الآية أنهم أمروا بأن يذكروا الله ذكرا يماثل آبائهم أو أشد، وقد ساغ لنا حمل الآية على هذا المعنى بتوجيه واضح ذهلوا عنه، وهو أن يكون: أشد، منصوبا على الحال، وهو نعت لقوله: ذكرا لو تأخر، فلما تقدم انتصب على الحال، كقولهم.
لمية موحشا طلل
فلو تأخر لكان: لمية طلل موحش، وكذلك لو تأخر هذا لكان: أو ذكرا أشد، يعنى: من ذكركم آباءكم، ويكون إذ ذاك: أو ذكرا أشد، معطوفا على محل الكاف من: كذكركم، ويجوز أن يكون ذكرا مصدرا، لقوله: فاذكروا كذكركم، في موضع الحال، لأنه في التقدير: نعت نكرة تقدم عليهما فانتصب على الحال، ويكون: أو أشد، معطوفا على محل الكاف حالا معطوفة على حال، ويصير كقوله: أضرب مثل ضرب فلان ضربا، التقدير ضربا مثل ضرب فلان، فلما تقدم انتصب على الحال، وحسن تأخره أنه كالفاصلة في جنس المقطع. ولو تقدم لكان: فاذكروا ذكرا كذكركم، فكان اللفظ يتكرر، وهم مما يجتنبون كثرة التكرار للفظ، فلهذا المعنى، ولحسن القطع، تأخر.
لا يقال في الوجه الأول: إنه يلزم فيه الفصل بين حرف العطف وهو: أو، وبين المعطوف الذي هو: ذكرا، بالحال الذي هو: أشد، وقد نصوا على أنه إذا جاز ذلك فشرطه أن يكون المفصول به قسما أو ظرفا أو مجرورا، وإن يكون حرف العطف على أزيد من حرف، وقد وجد هذا الشرط الآخر، وهو كون الحرف على أزيد من حرف، وفقد الشرط الأول، لأن المفصول به ليس بقسم ولا ظرف ولا مجرور، بل هو حال، لأن الحال هي مفعول فيها في المعنى، فهي شبيهة بالحرف، فيجوز فيها ما جاز في الظرف. وهذا أولى من جعل: ذكرا، تمييزا لأفعل التفضيل الذي هو وصف في المعنى، فيكون: للذكر ذكر بأن ينصبه على محل الكاف، أو يجره عطفا على ذكر المجرور بالكاف، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي: كونوا أشد، أو للذاكر الذكر، وبأن ينصبه عطفا على: أباءكم، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفا على المضاف إليه الذكر، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.
* (فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا) * قالوا: بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه، وحال المؤمنين بعد مبعثه، وعلمهم بالثواب والعقاب. والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا، فلا يدع إلا بها، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وأن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان: فمنكم من يقول: ومنكم. وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل، وهو الاقتصار على الدنيا، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين، وهذا من التقسيم
112

الذي هو من جملة ضروب البيان، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثم قسما ثالثا لم يذكر لهم تعالى، قالوا: وهم الراضون بقضائه، المستسلمون لامره، الساكتون عن كل دعاء، وافتشآء، ومفعول آتنا الثاني محذوف، تقديره: ما تريد، أو: مطلوبنا، أو ما أشبه.
هذا وجعل في زائدة، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط، وكذلك جعل في بمعنى: من، حتى يكون في موضع المفعول، وحذف مفعولي آتي، وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا، لأن هذا باب: أعطى، وذلك جائز فيه.
* (له فى الاخرة من خلاق) * تقدم تفسير هذا في قوله: * (ولقد علموا لمن اشتراه * ماله * فى الاخرة من خلاق) * واحتملت هذه الجملة هنا معنيين: أحدهما: الأخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا. والثاني: أن يكون المعنى إخبارا عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا، وجمع في قوله: * (ربنا ءاتنا فى الدنيا) * ولو جرى على لفظ من، لكان: رب آتني. وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.
* (ومنهم من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة) * الحسنة: مطلقة، والمعنى: أنهم سألوا الله في الدنيا الحالة الحسنة، وقد مثل المفسرون ذلك بأنها المرأة الصالحة، قاله علي. أو: العافية في الصحة وكفاف المال، قاله قتادة. أو: العلم، أو العبادة، قاله الحسن. أو: المال، قاله السدي، وأبو وائل، وابن زيد. أو: الرزق
الواسع، قاله مقاتل. أو: النعمة في الدنيا، قاله: ابن قتيبة، أو القناعة بالرزق، أو: التوفيق والعصمة، أو: الأولاد الأبرار، أو: الثبات على الإيمان، أو: حلاوة الطاعة، أو: اتباع السنة، أو: ثناء الخلق، أو: الصحة والأمن والكفاءة والنصرة على الأعداء، أو: الفهم في كتاب الله تعالى. أو: صحبة الصالحين، قاله جعفر. وعن الصوفية في ذلك مثل كثيرة.
* (وفي الاخرة حسنة) * مثلوا حسنة الآخرة بأنها الجنة، أو العفو والمغفرة والسلامة من هول الموقف وسوء الحساب، أو النعمة، أو الحور العين، أو تيسير الحساب، أو مرافقة الأنبياء، أو لذة الرؤية، أو الرضا، أو اللقاء.
وقال ابن عطية: هي الحسنة بإجماع. قيل: وينبغي أن تكون الحسنتان هما العافية في الدنيا والآخرة لثبوت ذلك في حديث الذي زاره رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقد صار مثل الفرخ، وإنه سأله عما كان يدعو به، فأخبره أنه سأل الله في الدنيا تعجيل ما يعاقبه به في الآخرة، وأنه قال له: (لا تستطيعه) وقال: (هلا قلت اللهم آتنا في الدنيا...) إلى آخره. فدعا بهما الله تعالى فشفاه.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أكثر ما كان يدعو به، وكان يقول ذلك فيما بين الركن والحجر الأسود، وكان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقوف.
وأبو بكر أول من قالها في الموسم عام الفتح، ثم اتبعه علي، والناس أجمعون؛ وأنس سئل الدعاء فدعا بها، ثم سئل الزيادة فأعادها، ثم سئل الزيادة فقال: ما تريدون؟ قد سألت الله خير الدنيا والآخرة.
وفي الآخرة حسنة: الواو فيها لعطف شيئين على شيئين، فعطفت: في الأخرة حسنة، على: الدنيا حسنة، والحرف قد يعطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، تقول: أعلمت زيدا أخاك منطلقا وعمرا أباه مقيما، إلا إن ناب عن عاملين ففيه خلاف، وفي الجواز تفصيل. وليس هذا من الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف والمجرور كما ظن بعضهم، فأجاز ذلك مستدلا به على ضعف مذهب الفارسي في أن ذلك مخصوص بالشعر، لأن الآية ليست من هذا الباب، بل من عطف شيئين فأكثر على شيئين فأكثر، وإنما الذي وقع فيه خلاف أبي علي هو: ضربت زيدا وفي الدار عمرا، وإنما يستدل على ضعف مذهب أبي علي بقوله: * (الله الذى خلق سبع * سماوات * ومن الارض مثلهن) * وبقوله: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الاحمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) * وتمام الكلام على هذه المسألة مذكور في علم النحو.
* (وقنا عذاب النار) * هو سؤال بالوقاية من النار، وهو: أن لا يدخلوها، وهي نار جهنم، وقيل: المرأة السوء الكثيرة الشر.
وقال القيثري: واللام في النار لام الجنس، فتحصل الاستعاذة عن نيران الحرقة ونيران الفرقة انتهى.
وظاهر هذا الدعاء أنه لما كان قولهم: وفي الآخرة حسنة،
113

يقتضي أن من دخل الجنة، ولو آخر الناس، صدق عليه أنه: أوتي في الآخرة حسنة، قد دعوا الله تعالى أن يكونوا مع دخول الجنة يقيهم عذاب النار، فكأنه دعاء بدخول الجنة أولا دون عذاب، وأنهم لا يكونون ممن يدخل النار بمعاصيهم ويخرجون منا بالشفاعة. ويحتمل أن يكون مؤكدا لطلب دخول الجنة، كما قال بعض الصحابة.
إنما أقول في دعائي: اللهم أدخلني الجنة، وعافني من النار، ولا أدري ما دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (حولها ندندن).
* (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * تقدم انقسام الناس إلى فريقين: فريق اقتصر في سؤآله على دنياه، وفريق أشرك في دنياه أخراه، فالظاهر أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، إذ المحكوم به، وهو كون: نصيب لهم مما كسبوا، مشترك بينهما، والمعنى: أن كل فريق له نصيب مما كسب، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ولا يكون الكسب هنا الدعاء، بل هذا مجرد إخبار من الله بما يؤول إليه أمر كل واحد من الفريقين، وأن انصباءهم من الخير والشر تابعة لاكسابهم.
وقيل: المراد بالكسب هنا الدعاء، أي: لكل واحد منهم نصيب مما دعا به. وسمي الدعاء كسبا لأنه عمل، فيكون ذلك ضمانا للإجابة وعدا منه تعالى أنه يعطي كلا منه نصيبا مما اقتضاه دعاؤه، إما الدنيا فقط، وإما الدنيا والآخرة، فيكون كقوله: * (من كان يريد حرث الاخرة) * * (ومن كان يريد العاجلة) * و * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها) * الآيات.
وكما جاء في الصحيح: وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله بها، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها. وفي المعنى الأول لا يكون فيه وعد بالإجابة.
و: من، في قوله: مما كسبوا، يحتمل أن تكون للتبعيض، أي: نصيب من جنس ما كسبوا، ويحتمل أن يكون للسبب، و: ما، يحتمل أن تكون موصولة لمعنى الذي أو موصولة مصدرية أي: من كسبهم، وقيل: أولئك، مختص بالإشارة إلى طالبي الحسنتين فقط، ولم يذكر ابن عطية غيره. وذكره الزمخشري بإزائه.
قال ابن عطية: وعد على كسب الأعمال الصالحة في صيغة الإخبار المجرد، وقال الزمخشري: أولئك الداعون بالحسنتين لهم نصيب من جنس ما كسبوا من الأعمال الصالحة، وهو الثواب الذي هو منافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، كقوله: مما خطاياهم أغرقوا، ثم قال بعد كلام: ويجوز أن يكون أولئك الفريقين جميعا، وأن لكل فريق نصيبا من جنس ما كسبوا. انتهى كلامه.
والأظهر ما قدمناه من أن: أولئك، إشارة إلى الفريقين، ويؤيده قوله: * (والله سريع الحساب) * وهذا ليس مما يختص به فريق دون فريق، بل هذا بالنسبة لجميع الخلق، والحساب يعم محاسبة العالم كلهم، لا محاسبة هذا الفريق الطالب الحسنتين.
وروي عن ابن عباس: أن النصيب هنا مخصوص بمن حج عن ميت، يكون الثواب بينه وبين الميت، وروي عنه أيضا، في حديث الذي سأل هل يحج عن أبيه. وكان مات؟ وفي آخره، قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية، قيل: وإذا صح هذا فتكون الآية منفصلة عن التي قبلها، معلقة بما قبله من ذكر الحج ومناسكه وأحكامه. انتهى. وليست كما ذكر منفصلة، بل هي متصلة بما قبلها، لأن ما قبلها هو في الحج، وأن انقسام الفريقين هو في الحج، فمنهم من كان يسأل الله الدنيا فقط، ومنهم من يسأل الدنيا والآخرة. وحصل الجواب للسائل عن حجه عن أبيه: أله فيه أجر؟ لعموم قوله: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) * وقد أجاب ابن عباس بهذه الآية من سأله أن يكرى دابته ويشرط عليهم أن يحج، فهل يجزى عنه؟ وذلك لعموم قوله: * (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) *.
* (والله سريع الحساب) * ظاهره الإخبار عنه تعالى بسرعة حسابه، وسرعته بانقضائه عجلا كقصد مدته، فروى: بقدر حلب شاة، وروي بمقدار فواق ناق، وروي بمقدار لمحة البصر. أو لكونه لا يحتاج إلى فكر، ولا رؤية كالمعاجز، قاله أبو سليمان. أو: لما علم ما
114

للمحاسب وما عليه قبل حسابه، قاله الزجاج. أو: لكون حساب العالم كحساب رجل واحدا، و: لقرب مجيء الحساب، قاله مقاتل.
قيل: كنى بالحساب عن المجازاة على الأعمال إذا كانت ناشئة عنها كقوله: * (ولم أدر ما حسابيه) * يعنى ما جزائي، وقيل: كنى بالحساب عن العلم بمجاري الأمور، لأن الحساب يفضي إلى العلم، قاله الزجاج أيضا.
وقيل: عبر بالحساب عن القبول لدعاء عباده، وقيل: عبر به عن القدرة والوفاء، أي: لا يؤخر ثواب محسن ولا عقاب مسيء. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: سريع مجيء يوم الحساب. فالمقصود بالآية الإنذار بسرعة يوم القيامة. وقيل: سرعة الحساب تعالى رحمته وكثرتها، فهي لا تغب ولا تنقطع. وروي ما يقاربه عن ابن عباس.
وظاهر سياق هذا الكلام عموم الحساب للكافر والمؤمن إذ جاء بعد ما ظاهره أنه للطائعين، ويكون حساب الكفار تقريعا وتوبيخا، لأنه ليس له حسنة في الآخرة يجزئ بها، وهو ظاهر قوله: * (ولم أدر ما حسابيه) * وقال الجمهور: الكفار لا يحاسبون، قال تعالى: * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * * (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا) * وظاهر ثقل الموازين وخفتها، وما ترتب عليهاف ي الآيات الواردة في القرآن شمول الحسنات للبر والفاجر، والمؤمن والكافر.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة: أن الحج له أشهر معلومات، وجمعها على أشهر لقلتها، وهي: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة. بكمالها، على ما يقتضيه ظاهر الجمع، ووصفها: بمعلومات، لعلمهم بها. وأخبر تعالى أن من ألزم نفسه الحج فيها فلا يرفت ولا يفسق ولا يجادل، فنهاه عن مفسد الحج مما كان جائزا قبله، وما كان غير جائز مطلقا ليسوي بين التحريمين، وإن كان أحدهما مؤقتا، والآخر ليس بمؤقت. ثم لما نهى عن هذه المفسدات، أخبر تعالى أن ما يفعله الإنسان من الخير الذي فرض الحج منه يعلمه الله، فهو تعالى يثيب عليه. ثم أمر تعالى بالتزود للدار الآخرة بأعمال الطاعات، ودخل فيها ما هم ملتبسون به من الحج، وأخبر أن خير الزاد هو ما كان وقاية بينك وبين النار، ثم نادى ذوي العقول، الذين هم أهل الخطاب، وأمرهم باتقاء عقابه، لأنه قد تقدم ذكر المناهي، فناسب أن ينتهوا على اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه، ثم أنه لما كان الحاج مشغولا بهذه العبادة الشاقة، ملتبسا بأقوالها وأفعالها، كان مما يتوهم أنها لا يمزج وقتها بشيء غير أفعالها، فبين تعالى أنه لا حرج على من ابتغى فيها فضلا بتجارة، أو إجارة، أو غير ذلك من الأعمال المعينة على كلف الدنيا، ثم أمرهم تعالى بذكره عند المشعر الحرام إذا أفاضوا من عرفات، ليرجعهم بذكره إلى الاشتغال بأفعال الحج، لئلا يستغرقهم التعلق بالتجارات والمكاسب، ثم أمرهم بالذكر على هدايته التي منحها إياهم، وقد كانوا قبل في ضلال، فاصطفاهم للهداية، ثم أمرهم بأن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهي التي جرت عادة الناس بأن يفيضوا منها، وذلك المكان هو عرفة، والمعنى أنهم أمروا أن يكونوا تلك الإفاضة السابقة من عرفة لا من غيرها، كما ذكر في سبب النزول. وأتى بثم لا لترتيب في الزمان، بل للترتيب في الذكر، لا في الوقوع.
ثم أمر بالاستغفار، ثم أمر بعد أداء المناسك يذكر الله تعالى، ولما كان الإنسان كثيرا ما يذكر أباه ويثني عليه بما أسلفه من كريم المآثر، وكان ذلك عندهم الغاية في الذكر، مثل ذكر الله بذلك الذكر، ثم أكد مطلوبية المبالغة في الذكر بقوله: أو أشد، ليفهم أن ما مثل به أولا ليس إلا على طريق ضرب المثل لهم؛ والمقصود أن لا يغفلوا عن ذكر الله تعالى طرفة عين.
ثم قسم مقصد الحاج إلى دنيوي صرف، وإلى دنيوي وأخروي، وبين ذلك في سؤاله، إياه وذكر أن من اقتصر على دنياه فإنه لاحظ له في الآخرة، ثم أشار إلى مجموع الصنفين بأن كلا منهما له مما كسب من أعمال حظ، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأنه تعالى حسابه سريع، فيجازي العبد بما كسب.
2 (* (واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه ومن تأخر
115

فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون * ومن الناس من يعجبك قوله فى الحيواة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى فى الا رض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد * وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد * ومن الناس من يشرى نفسه ابتغآء مرضات الله والله رءوف بالعباد * ياأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كآفة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين * فإن زللتم من بعد ما جآءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم * هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الأمر وإلى الله ترجع الأمور * سل بنى إسراءيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جآءته فإن الله شديد العقاب * زين للذين كفروا الحيواة الدنيا ويسخرون من الذين ءامنوا والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة والله يرزق من يشآء بغير حساب) *))
) *
العجلة: الإسراع في شيء والمبادرة، وتعجل تفعل منه وهو إما بمعنى استفعل، وهو أحد المعاني التي يجيء لها تفعل فيكون بمعنى استعجل، كقولهم: تكبر واستكبر، وتيقن واستيقن، وتقضى واستقضى، وتعجل واستعجل، يأتي لازما ومتعديا، تقول: تعجلت في الشيء وتعجلته، واستعجلت في الشيء واستعجلت زيدا، وإما بمعنى الفعل المجرد فيكون بمعنى: عجل، كقولهم: تلبث بمعنى لبث، وتعجب وعجب، وتبر أو برئ، وهو أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
الحشر: جمع القوم من كل ناحية، والمحشر مجتمعهم، يقال منه: حشر يحشر، وحشرات الأرض دوابها الصغار، وقال الراغب: الحشر: ضم المفترق وسوقه، وهو بمعنى الجمع الذي قلناه.
الإعجاب: أفعال من العجب وأصله، لما لم يكن مثله قاله المفضل، وهو الاستحسان للشيء والميل إليه والتعظيم، تقول أعجبني زيد. والهمزة فيه للتعدي، وقال الراغب: العجب حيرة تعرض للإنسان بسبب الشيء وليس هو شيئا له في ذاته حالة، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب، ومن لا يعرفه. وحقيقة أعجبني كذا أي: ظهر لي ظهورا لم أعرف سببه. انتهى كلامه. وقد يقال عجبت من كذا في الإنكار، كما قال زياد الأعجم:
116

* عجبت والدهر كثير عجبه
*
من عنزي سبني لم أضربه
*
اللدد: شدة الخصومة، يقال: لددت تلد لددا ولدادة، ورجل ألد وامرأة لداء، ورجال ونساء لد، ورجل التدد ويلتدد أيضا شديد الخصومة، وإذا غلب خصمه قيل: لده يلده، متعديا، وقال الراجز:
يلد أقران الرجال اللدد
واشتقاقه من لديدي العنق، وهما: صفحتاه، قاله الزجاج، وقيل: من لديدي الوادي وهما جانباه، سميا بذلك لإعوجاجهما، وقيل: هو من لده: حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته ومقاومته.
الخصام: مصدر خاصم، وجمع خصم يقال: خصم وخصوم وخصام، كبحر وبحور بحار، والأصل في الخصومة التعميق في البحث عن الشيء، ولذلك قيل: في زوايا الأوعية: خصوم، الواحد. خصم.
النسل: مصدر: نسل ينسل، وأصله الخروج بسرعة ومن قولهم: نسل وبر البعير، وشعر الحمار، وريش الطائر: خرج فسقط منه، وقيل: النسل الخروج متتابعا، ومنه: نسال الطائر ما تتابع سقوطه من ريشه، وقال:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
والإطلاق على الولد نسلا من إطلاق المصدر على المفعول، يسمى بذلك لخروجه من ظهر الأب، وسقوطه من بطن الأم بسرعة.
جهنم: علم للنار وقيل: اسم الدرك الأسفل فيها، وهي عربية مشتقة من قولهم: ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر، وقد سمي الرجل بجهنام أيضا فهو علم، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة، فالنون على هذا زائدة، فوزنه: فعنل، وقد نصوا على أن جهناما وزنه فعنال.
وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن فعنلا بناء مفقود في كلامهم، وجعل دونكا: فعللا، كعدبس. والواو أصل في بنات الأربعة كهي في: ورنتل، والصحيح إثبات هذا البناء. وجاءت منه ألفاظ، قالوا: ضغنط من الضغاطة، وهي الضخامة، وسفنج، وهجنف: للظليم والزونك: القصير سمي بذلك لأنه يزوك في مشيته. أي: يتبختر، قال حسان:
* أجمعت أنك أنت ألأم من مشى
*
في فحش زانية وزوك غراب
*
وقال بعضهم في معناه: زونكي.
وهذا كله يدل على زيادة النون في: جهنم وامتنعت الصرف للعلمية والتأنيث، وقيل: هي أعجمية وأصلها كهنام، فعربت بإبدال من الكاف جيما. وبإسقاط الألف، ومنعت الصرف على هذا للعجمة والعلمية.
حسب: بمعنى: كاف، تقول أحسبني الشيء: كفاني، فوقع حسب موقع: محسب، ويستعمل مبتدأ فيجر خبره بباء
117

زائدة، وإذا استعمل خبرا لا يزاد فيه الباء وصفة فيضاف، ولا يتعرف إذا أضيف إلى معرفة، تقول: مررت برجل حسبك، ويجيء معه التمييز نحو: برجل حسبك من رجل ولا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، وإن كان صفة لمثنى أو مجموع أو مؤنث لأنه مصدر.
المهاد: الفراش وهو ما وطئ للنوم، وقيل: هو جمع مهد، وهو الموضع المهيأ للنوم.
السلم: بكسر السين وفتحها: الصلح، ويذكر ويؤنث، وأصله من الاستسلام، وهو الانقياد. وحكى البصريون عن العرب: بنو فلان سلم وسلم بمعنى واحد، ويطلق بالفتح والكسر على الإسلام، قاله الكسائي وجماعة من أهل اللغة، وأنشدوا بعض قول كندة:
* دعوت عشيرتي للسلم لما
*
رأيتهم تولوا مدبرينا
*
أي: للإسلام، قال ذلك لما ارتدت كندة مع الأشعث بن قيس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال آخر في الفتح:
* شرائع السلم قد بانت معالمها
*
فما يرى الكفر إلا من به خبل
*
يريد: الإسلام، لأنه قابله بالكفر، وقيل بالكسر: الإسلام وبالفتح: الصلح.
كافة: هو اسم فاعل استعمل بمعنى: جميعا، وأصل اشتقاقه من كف الشيء: منع من أخذه، والكف المنع، ومنه كفة القميص حاشيته، ومنه الكف وهو طرف اليد لأنه يكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف منع بصره أن ينظر، ومنه كفة الميزان لأنها تمنع الموزون أن ينتشر، وقال بعض اللغويين: كفة بالضم لكل مستطيل، وبالكسر لكل مستدير، وكافة: ممها لزم انتصابه على الحال نحو: قاطبة، فإخراجها عن النصب حالا لحن.
التزيين: التحسين، والزينة مما يتحسن به ويتجمل، وفعل من الزين بمعنى الفعل المجرد، والتضعيف فيه ليس للتعدية، وكونه بمعنى المجرد وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل كقولهم: قدر الله، وقدر. وميز وماز، وبشر وبشر، ويبنى من الزين افتعل افتعال: ازدان بإبدال التاء دالا، وهو لازم.
* (واذكروا الله فى أيام معدودات) * هذا رابع أمر بالذكر في هذه الآية، والذكر هنا التكبير عند الجمرات وإدبار الصلاة وغير ذلك من أوقات الحج، أو التكبير عقيب الصلوات المفروضة، قولان. وعن عمر أنه كان يكبر بفسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق، وفي الطواف، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وليس يوم النحر من المعدودات، هذا مذهب الشافعي، وأحمد، ومالك وأبي حنيفة، قاله: ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، والربيع، والضحاك. أو يوم النحر ويومان بعده، قاله: ابن عمر، وعلي، وقال: إذبح في أيها شئت، أو يوم النحر وثلاثة أيام التشريق، قاله: المروزي. أو أيام العشر، رواه مجاهد عن ابن عباس، قيل: وقولهم أيام العشر، غلط من الرواة، وقال ابن عطية: إما أن يكون من تصحيف النسخة، وإما أن يريد العشر الذي بعد يوم النحر، وفي ذلك بعد.
وتكلم المفسرون هنا على قوله: * (فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام) * ونحن نؤخر الكلام على ذلك إلى مكانه إن شاء الله.
واستدل ابن عطية للقول الأول وهو: أن الأيام المعدودات: أيام التشريق وهي الثلاثة بعد يوم النحر، وليس يوم النحر منها. بأن قال: ودل على ذلك إجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر. وهو ثاني يوم النحر، ولو كان يوم النحر في المعدودات لساغ أن ينفر من شاء متعجلا يوم القر، لأنه قد أخذ يومين من المعدودات انتهى كلامه.
ولا يلزم ما قاله: فمن تعجل في يومين، لا يمكن حمله على ظاهره، لأن الظرف المبني إذا عمل فيه الفعل فلا بد من وقوعه في كل واحد من اليومين، لو قلت: ضربت زيدا يومين، فلا بد من وقوع الضرب
118

به في كل واحد من اليومين، وهنا لا يمكن ذلك، لأن التعجيل بالنفر لم يقع في كل واحد من اليومين، فلا بد من ارتكاب مجاز، إما بأن يجعل وقوعه في أحدهما كأنه وقوع فيهما، ويصير نظير: * (نسيا حوتهما) * * (ويخرج * منهما اللؤلؤ والمرجان) * وإنما الناسي أحدهما، وكذلك، إنما يخرجان من أحدهما. أو بأن يجعل ذلك على حذف مضاف، التقدير: فمن تعجل في ثاني يومين بعد يوم النحر، فيكون اليوم الذي بعد يوم القر المتعجل فيه، ويحتمل أن يكون المحذوف في: تمام يومين أو إكمال يومين، فلا يلزم أن يقع التعجل في شيء من اليومين، بل بعدهما. وعلى هذا يصح أن يعد يوم النحر من الأيام المعدودات، ولا يلزم أن يكون النفر يوم القر، كما ذكره ابن عطية.
وظاهر قوله * (واذكروا الله فى أيام معدودات) * الأمر بمطلق ذكر الله في أيام معدودات، ولم يبين ما هذه الأيام، لكن قوله: * (فمن تعجل فى يومين) * يشعر أن تلك الأيام هي التي ينفر فيها، وهي أيام التشريق، وقد قال في (ري الظمآن): أجمع المفسرون على أن الأيام المعدودات أيام التشريق. انتهى.
وجعل الأيام ظرفا للذكر يدل على أنه متى ذكر الله في تلك الأيام فهو المطلوب، ويشعر أنه عند رمي الجمار كون الرمي غير محصور بوقت، فناسب وقوعه في أي وقت من الأيام ذكر الله فيه، ويؤيده قوله: * (فمن تعجل فى يومين) * وأن الخطاب بقوله: واذكروا، ظاهر أنه للحجاج، إذ الكلام معهم، والخطاب قبل لهم، والإخبار بعد عنهم، فلا يدخل غيرهم معهم في هذا الذكر المأمور به.
ومن حمل الذكر هنا على أنه الذكر المشروع عقب الصلاة فهو منهم في الوقت وفي الكيفية.
أما وقته: فمن صلاة الصبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، أو: من غداة عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وعلقمة، وأبو حنيفة. أو: من صلاة الصبح يوم عرفة إلى أن يصلي الصبح آخر أيام التشريق، وروي عن مالك هذا. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى الظهر من آخر أيام التشريق، قاله يحيى بن سعيد. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك، والشافعي. أو: من ظهر يوم النحر إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله ابن شهاب. أو: من ظهر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، قاله سعيد بن جبير. أو: من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الظهر من يوم النفر الأول، قاله الحسن. أو: من صلاة الظهر يوم عرف إلى صلاة الظهر يوم النحر، قاله أبو وائل. أو: من ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق، قاله زيد بن ثابت، وبه أخذ أبو يوسف في أحد قوليه.
وأما الكيفية: فمشهور مذهب مالك ثلاث تكبيرات وفي مذهبه أيضا رواية أنه يزيد بعدها: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد. ومذهب أبي حنيفة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر. ومذهب الشافعي: الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقال أبو حنيفة: يختص التكبير بأدبار الصلوات المكتوبة في جماعة، وقال مالك: مفردا كان أو في جماعة عقب كل فريضة، وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد؛ وعن أحمد: القولان، والمسافر كالمقيم في التكبير عند علماء الأمصار، ومشاهير الصحابة، والتابعين. وعن أبي حنيفة: أن المسافرين إذا صلوا جماعة لا تكبير عليهم، فلو اقتدى مسافر بمقيم كبر، وينبغي أن يكبر عقب السلام، والجمهور يعمل شيئا يقطع به الصلاة من الكلام وغيره، وقيل استدبار القبلة، والجمهور على ذلك، فإن نسي التكبير حين فرغ وذكر قبل أن يخرج من المجلس فينبغي أن يكبر.
وقال مالك في (المختصر): يكبر ما دام في مجلسه، فإذا قام منه فلا شيء عليه وقال في (المدونة): إن نسيه وكان قريبا قعد فكبر، وتباعد فلا شيء عليه، وإن ذهب الامام والقوم جلوس فليكبروا، وكذلك قال أبو حنيفة، ومن نسي صلاة في أيام التشريق من تلك السنة قضاها وكبر، وإن قضى بعدها لم يكبر، ودلائل هذه المسائل مذكورة في كتب الفقه.
والذي يظهر ما قدمناه من أن هذا الخطاب هو للحجاج، وأن هذا الذكر هو ما يختص به الحاج من أفعال الحج، سواء كان الذكر عند الرمي أم عند أعقاب الصلوات، وأنه لا يشركهم غيرهم في الذكر المأمور به إلا بدليل، وأن الذكر في أيام منى، وفي يوم النحر عقب الصلوات لغير الحجاج، وتعيين كيفية الذكر وابتدائه وانتهائه يحتاج إلى دليل سمعي.
* (فمن تعجل فى يومين فلا إثم عليه) * الظاهر أن: تعجل، هنا لازم لمقابلته
119

بلازم في قوله * (من * تأخر) * فيكون مطاوعا لعجل، فتعجل، نحو كسره فتكسر، ومتعلق التعجل محذوف، التقدير: بالنفس، ويجوز أن يكون تعجل متعديا ومفعوله محذوف أي: فمن تعجل النفر، ومعنى: في يومين من الأيام المعدودات. وقالوا: المراد أنه ينفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، وسبق كلامنا على تعليق في يومين بلفظ تعجل، وظاهر قوله: فمن تعجل، العموم، فسواء في ذلك الآفاقي والمكي، لكل منهما أن ينفر في اليوم الثاني، وبهذا قال عطاء. قال ابن المنذر: وهو يشبه مذهب الشافعي، وبه نقول، انتهى كلامه. فتكون الرخصة لجميع الناس من أهل مكة وغيرهم.
وقال مالك وغيره: ولم يبح التعجيل إلا لمن بعد قطره لا للمكي ولا للقريب إلا أن يكون له عذر.
وروي عن عمر أنه قال: من شاء من الناس كلهم فلينفر في النفر الأول، إلا آل خزيمة. فإنهم لا ينفرون إلا في النفر الآخر، وجعل أحمد، وإسحاق قول عمر: إلا آل خزيمة، أي: أنهم أهل حرم، وكان أحمد يقول: لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة.
وظاهر قوله: في يومين، أن التعجل لا يكون بالليل بل في شيء من النهار، ينفر إذا فرغ من رمي الجمار، وهو مذهب الشافعي، وهو مروي عن قتادة. وقال أبو حنيفة: قبل طلوع الفجر، ويعني من اليوم الثالث، وروي عن عمر، وابن عامر، وجابر بن زيد، والحسن، والنخعي. أنهم قالوا: من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني من أيام التشريق لم ينفر حتى الغدو، وهذا مخالف لظاهر القرآن لأنه قال: في يومين، وما بقي من اليومين شيء فسائغ له النفر فيه، قال ابن المنذر: ويمكن أن يقولوا ذلك استحبابا.
وظاهر قوله: ومن تعجل، سقوطه الرمي عنه في اليوم الثالث، فلا يرمي جمرات اليوم الثالث في يوم نفره.
وقال ابن أبي زمنين: يرميها في يوم النفر الأول حين يريد التعجل. قال ابن المواز: يرمي المتعجل في يومين إحدى وعشرين حصاة كل جمرة بسبع حصات فيصير جميع رميه بتسع وأربعين حصاة، يعنى: لأنه قد رمى جمرة العقبة بسبع يوم النحر. قال ابن المواز: ويسقط رمي اليوم الثالث.
وظاهر قوله * (واذكروا الله فى أيام معدودات فمن تعجل) * إلى آخره. مشروعية المبيت بمنى أيام التشريق. لأن التعجل والتأخر إنما هو في النفر من منى، وأجمعوا على أنه لا يجوز لأحد من الحجاج أن يبيت إلا بها إلا للرعاء، ومن ولي السقاية من آل العباس، فمن ترك المبيت من غيرهما ليلة من ليالي منى، فقال مالك، وأبو حنيفة: عليه دم، وقال الشافعي: من ترك المبيت في الثلاث الليالي، فإن ترك مبيت ليلة واحدة فيلزمه ثلث دم، أو مد أو درهم، ثلاثة أقوال، ولم تتعرض الآية للرمي، لا حكما، ولا وقتا، ولا عددا، ولا مكانا لشهرته عندهم. وتؤخذ أحكامه من السنة.
وقيل: في قوله: واذكروا الله، تنبيه عليه، إذ من سنته التكبير على كل حصاة منها، فلا إثم عليه.
وقرأ سالم بن عبد الله: فلا إثم عليه، بوصل الألف، ووجهه أنه سهل الهمزة بين بين، فقربت بذلك من السكون فحذفها تشبيها بالألف، ثم حذف الألف لسكونها وسكون التاء، وهذا جواب الشرط إن جعلنا: من، شرطية، وهو الظاهر، وإن جعلناها موصولة كان ذلك في موضع الخبر، وظاهره نفي الإثم عنه، ففسر بأنه مغفور له، وكذلك من تأخر مغفور له لا ذنب عليه، روي هذا عن علي، وأبي ذر، وابن مسعود، وابن عباس، والشعبي، ومطرف بن الشخير، وقال معاوية بن قرة: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وروي عن عمر ما يؤيد هذا القول، وقال مجاهد: المعنى من تعجل أو تأخر فلا إثم عليه إلى العام القابل.
والذي يظهر أن المعنى: فلا إثم عليه في التعجيل ولا إثم عليه في التأخير، لأن الجزاء مرتب على الشرط، والمعنى أنه لا حرج على من تعجل ولا على من تأخر، وقاله عطاء، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي: ثلاثة أيام، أو بأربعة، أو بالعشر، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل، فنفي بقوله: فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث، فينفر فيه، سوى بينه في الإباحة وعدم الحرج، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل، فقيل: جاء ومن تأخر فلا إثم عليه، لأجل مقابلة: فمن تعجل فلا إثم عليه، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك، وقيل:
120

فلا إثم عليه في ترك الرخصة.
وقيل: كان أهل الجاهلية فريقين: منهم من يؤثم المتعجل، ومنهم من يؤثم المتأخر، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما، وقيل: إنه عبر بذلك عن المغفرة، كما روي عن علي ومن معه. وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر، وقيل: المعنى: ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه، فكأنه قيل: أيام منى ثلاثة، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه.
وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله: فمن تعجل، ومن تأخر، والطباق ذكر الشيء وضده، كقوله * (وأنه هو أضحك وأبكى) * وهو هنا طباق غريب، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى، ومطابق تأخر تقدم، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم.
وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر، وإنما أتى بقوله: فلا إثم عليه، مقابلا لقوله: فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، كقوله: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * وتقدمت الإشارة إلى هذا * (لمن اتقى) * قيل: هو متعلق بقوله: واذكروا الله، أي الذكر لمن اتقى، وقيل: بانتفاء الإثم أي: يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وقيل: المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما بريبه، ولأنه هو الحاج على الحقيقة، قاله الزمخشري، وقال أيضا: لا يجوز أن يراد ذلك الذي مر ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى، لأنه هو المنتفع به دون من سواه، كقوله: ذلك خير للذين يريدون وجهه انتهى كلامه.
واتقى: هنا حاصلة لمن. وهي بلفظ الماضي، فقيل: هو ماضي المعنى أيضا، أي: المغفرة لا تحصل إلا لمن كان متقيا منيبا قبل حجه، نحو: * (إنما يتقبل الله من المتقين) * وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر، وقيل: اتقى جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج، قال قتادة، وأبو صالح. وقال ابن عباس: لمن اتقى في الإحرام الرفث والفسوق والجدال، وقال الماتر يدي: لمن اتقى قتل الصيد في الإحرام، وقيل: يراد به المستقبل، أي: لمن يتقى الله في باقي عمره كما قدمناه.
والظاهر تعلقه بالآخر وهو انتفاء الإثم لقربه منه، ولصحة المعنى أيضا، إذ من لم يكن متقيا لم يرتفع الإثم عنه.
والظاهر أن مفعول اتقي المحذوف هو: الله، أي: لمن اتقى الله، وكذا جاء مصرحا به في مصحف عبد الله.
* (واتقوا الله) * لما ذكر تعالى رفع الإثم، وأن ذلك يكون لمن اتقى الله، أمر بالتقوى عموما، ونبه على ما يحمل على اتقاء الله بالحشر إليه للمجازاة، فيكون ذلك حاملا لهم على اتقاء الله، لأن من علم أنه يحاسب في الآخرة على ما اجترح في الدنيا اجتهد في أن يخلص من العذاب، وأن يعظم له الثواب، وإذا كان المأمور بالتقوى موصوفا بها، كان ذلك الأمر أمرا بالدوام، في ذكر الحشر تخويف من المعاصي، وذكر الأمر بالعلم دليل على أنه لا يكفي في اعتقاد الحشر إلا الجزم الذي لا يجامعه شيء من الظن، وقدم إليه للاعتناء بمن يكون الحشر إليه، ولتواخي الفواصل والمعنى إلى جزائه.
وقد تكملت أحكام الحج المذكورة في هذه السورة من ذكر: وقت الحج إلى آخر فعل، وهو: النفر، وبدئت أولا بالأمر بالتقوى، وختمت به، وتخلل الأمر بها في غضون الآي، وذلك ما يدل على تأكيد مطلوبيتها، ولم لا تكون كذلك وهي اجتناب مناهي الله وإمساك مأموراته، وهذا غاية الطاعة لله تعالى، وبها يتميز الطائع من العاصي؟
* (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحيواة الدنيا) * نزلت في الأخنس بن شريق واسمه: أبي، وكان حلو اللسان والمنظر، يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ويظهر حبه، والإسلام، ويحلف على ذلك، فكان يدنيه ولا يعلم ما أضمر، وكان من ثقيف حليفا لبني زهرة، فجرى بينه وبين ثقيف شيء، فبيتهم ليلا وأحرق زرعهم، وأهلك مواشيهم، قاله عطاء
121

والكلبي، ومقاتل وقال السدي: فمر بزرع للمسلمين وحمر، فأحرق الزرع، وغفر الحمر، قيل: وفيه نزلت * (ولا تطع كل حلاف مهين) * و * (ويل لكل همزة
لمزة) *.
وقال ابن عباس: في كفار قريش، أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم): إنا قد أسلمنا، فابعث إلينا من يعلمنا دينك، وكان ذلك مكرا منهم، فبعث إليهم خبيبا، ومرشدا، وعاصم بن ثابت، وابن الدنية، وغيرهم، وتسمى: سرية الرجيع، والرجيع موضع بين مكة والمدينة، فقتلوا، وحديثهم طويل مشهور في الصحاح.
وقال قتادة، وابن زيد: نزلت في كل منافق أظهر بلسانه ما ليس في قلبه.
وروي عن ابن عباس: أنها في المنافقين، قالوا عن سرية الرجيع: ويح هؤلاء ما فقدوا في بيوتهم، ولا أدوا رسالة صاحبهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما قسم السائلين الله قبل إلى: مقتصد على أمر الدنيا، وسائل حسنة الدنيا، والآخرة، والوقاية من النار، أتى بذكر النوعين هنا، فذكر من النوع الأول من هو حلو المنطق، مظهر الود، وليس ظاهره كباطنه، وعطف عليه من يقصد رضي الله تعالى، ويبيع نفسه في طلبه، وقدم هنا الأول لأنه هناك المقدم في قوله: * (فمنهم من يقول * ربنا ءاتنا فى الدنيا) * وأحال هنا على إعجاب قوله دون غيره، من الأوصاف، وأن القول هو الظاهر منه أولا في قوله تعالى: * (فمن الناس من يقول ربنا) *، فكان من حيث توجهه إلى الله تعالى في الدعاء، ينبغي أن يكون لا يقتصر على الدنيا، وإن سأل منه ما ينجيه من عذابه، وكذلك هذا الثاني ينبغي أن لا يقتصر على حلاوة منطقه، بل كان يطابق في سريرته لعلانيته.
و: من، من قوله: من يعجبك، موصولة، وقيل: نكرة موصوفة، والكاف في: يعجبك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم) إن كانت نزلت في معين، كالأخنس أو غيره، أو خطاب لمن كان مؤمنا إن كانت نزلت في غير معين ممن ينافق قديما أو حديثا.
ومعنى إعجاب قوله استحسانه لمواقفه ما أنت عليه من الإيمان والخبر، وجاء في الترمذي: (أن في بعض كتب الله إن من عباد الله قوما ألسنتهم من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر)، الحديث.
في الحياة، متعلق بقوله، أي يعجبك مقالته في معنى الدنيا، لأن ادعاءه المحبة والتبعية بالباطل يطلب به حظا من حظوظ الدنيا. ولا يريد به الآخرة، إذ لا تراد الآخرة إلا بالإيمان الحقيقي، والمحبة الصادقة، وقال الزمخشري، بعد أن ذكر هذا الوجه: ويجوز أن يتعلق بيعجبك أي: قوله حلو، فيصح: في الدنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما ترهقه في الموقف من الحبسة والكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، فلا يتكلم حتى يعجبك كلامه. انتهى. وفيه بعد.
والذي يظهر أنه متعلق بيعجبك لا على المعنى الذي قاله، والمعنى أنك تستحسن مقالته دائما في مدة حياته، إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف، فمقالته في الظاهر معجبة دائما. ألا تراه يعدل على تلك المقالة الحسنة الرائقة، إلى مقالة خشنة منافية، ومع ذلك أفعاله منافية لأقواله الظاهرة، وأقواله الباطلة مخالفة أيضا لأقواله الظاهرة؟ إذ لا يحمل قوله: يعجبك قوله، وقوله: * (وهو ألد الخصام) * إلا على حالتين: فهو حلو المقالة في الظاهر، شديد الخصومة في الباطن.
* (ويشهد الله على * فى ما * قلبه) * قرأ الجمهور بضم الياء وكسر الهاء. ونصب الجلالة من: أشهد، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن بفتح الياء والهاء ورفع الجلالة، من شهد، وقرأ أبي، وابن مسعود: ويستشهد الله، والمعنى على قراءة الجمهور، وتفسير الجمهور، أنه يحلف بالله ويشهده أنه صادق وقائل حقا، وأنه محب في الرسول والإسلام، وقد جاءت الشهادة في معنى القسم في قصة الملاعنة في سورة النور، قيل: ويكون اسم الله انتصب بسقوط حرف الجر، والتقدير: ويقسم بالله على ما في قلبه، وهذا سهو، لأن الذي يكون يقسم به هو الثلاثي لا الرباعي، تقول: أشهد بالله لأفعلن، ولا تقول: أشهد بالله.
والظاهر عندي أن المعنى: أنه يطلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه وإخفائه الكفر، وهو ظاهر قوله: * (على ما فى قلبه) *، لأن الذي في قلبه هو خلاف ما أظهر بقوله.
وعلى تفسير الجمهور يحتاج إلى حذف ما يصح به المعنى، أي: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه، لأن الذي في قلبه هو الكفر،
122

وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضده، وهو الذي يعجب به. ويقوى هذا التأويل قراءة أبي حيوة، وابن محيصن، إذ معناها: ويطلع الله على ما في قلبه من الكفر الذي هو خلاف قوله.
وقراءة: ويستشهد، بجواز أن تكون فيها: استفعل، بمعنى: أفعل: نحو أيقن واستيقن، فيوافق قراءة الجمهور، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون فيها: استفعل، بمعنى المجرد، فيكون استشهد بمعنى شهد، ويظهر إذ ذاك أن لفظ الجلالة منصوب على إسقاط حرف الجر، أي ويستشهد بالله، كما تقول: ويشهد بالله، ولا بد من الحذف حتى يصح المعنى، أي: ويستشهد بالله على خلاف ما في قلبه، والظاهر أن قوله: ويشهد الله، معطوف على قوله: يعجبك، فهو صلة، أو صفة. وجوز أن تكون الواو واو الحال لا واو العطف، فتكون الجملة حالا من الفاعل المستكن في: يعجبك، أو: من الضمير المجرور في قوله. التقدير: وهو يشهد الله، فيكون ذلك قيدا في الإعجاب، أو في القول، والظاهر عدم التقييد، وأنه صلة، ولما يلزم في الحال من الإضمار للمبتدأ لأن المضارع المثبت، ومعه الواو، يقع حالا بنفسه، فأحتيج إلى إضمار كما احتاجوا إليه في قولهم: قمت وأصك، عينه، أي وأنا أصك، والإضمار على خلاف الأصل.
* (وهو ألد الخصام) * أي: أشد المخاصمين، فالخصام جمع خصم، قاله الزجاج، وإن أريد بالخصام المصدر، كما قاله الخليل، فلا بد من حذف مصحح لجريان الخبر على المبتدأ، إما من المبتدأ، أي: وخصامة ألد الخصام، وإما من متعلق الخبر، أي: وهو ألد ذوي الخصام، وجوز أن يراد هنا بالخصام المصدر على معنى اسم الفاعل، كما يوصف بالمصدر في: رجل خصم، وأن يكون أفعل لا للمفاضلة، كأنه قيل: وهو شديد الخصومة، وأن يكون هو ضمير الخصومة، يفسره سياق الكلام، أي: وخصامه أشد الخصام.
وتقاربت أقاويل المفسرين في: ألد الخصام، قال ابن عباس: معناه ذو الجدال، وقال الحسن: الكاذب المبطل، وقال قتادة: شديد القسوة في معصية الله، وقال السدي: أعوج الخصومة. وقال مجاهد: لا يستقيم على حق في الخصومة.
والظاهر أن هذه الجملة الابتدائية معطوفة على صلة من، فهي صلة، وجوزوا أن تكون حالا معطوفة على: ويشهد إذا كانت حالا، أو حالا من الضمير المستكن في: ويشهد.
وإذا كان الخصام جمعا، كان ألد من إضافة بعض إلى كل، وإذا كان مصدرا فقد ذكرنا تصحيح ذلك بالحذف الذي قررناه، فإن جعلته بمعنى اسم الفاعل فهو كالجمع في أن أفعل بعض ما أضيف إليه، وإن تأولت أفعل على غير بابها، فألد من باب إضافة الصفة المشبهة.
وقال الزمخشري: والخصام المخاصمة، وإضافة الألد بمعنى في كقولهم ثبت الغدر. انتهى.
يعنى أن: أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي إضافة على معنى: في، وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هي بعض له، وفيه إثبات الإضافة بمعنى في، وهو قول مرجوح في النحو، قالوا: وفي هذه الآية دليل على الاحتياط بما يتعلق بأمور الدين والدنيا، واستواء أحوال الشهود والقضاة، وان الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم، حتى يبحث عن باطنهم، لأن الله بين أحوال الناس، وأن منهم من يظهر جميلا وينوي قبيحا.
* (وإذا تولى سعى فى الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل) * حقيقة التولي الانصراف بالبدن، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل،
123

ومعناه هنا، قال ابن عباس: غضب لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله، وقال الحسن: انصرف عن القول الذي قاله، وقال مقاتل، وابن قتيبة: انصرف ببدنه، وقال مجاهد: من الولاية، أي: صار واليا.
والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة، وعلى ذلك حمله هنا أبو سليمان الدمشقي، وابن عباس، فيما ذكر ابن عطية عنه، والمعنى: وإذا نهض عنك يا محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق، فسعى بقدميه في الأرض، فقطع الطريق وأفسد فيها، كما فعله الأخنس بثقيف.
وقيل: السعي هنا العمل، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب، ومنه: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * * (ومن أراد الاخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن) * وقال الشاعر:
* فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
*
كفاني، ولم أطلب، قليل من المال
*
ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
*
وقال الأعشى:
* وسعى لكندة غير سعي مواكل
*
قيس فصد عدوها ونبالها
*
وقال آخر:
* أسعى على حيي بني مالك
*
كل امرئ في شأنه ساع
*
وللمعنى: سعى بخيلة وإرادة الدوائر على الإسلام، وإلى هذا القول نحا مجاهد، وابن جريج، وذكر أيضا عن ابن عباس: والقائلون بهذا القول: قال قوم منهم: معناه سعى فيها بالكفر، وقال قوم بالظلم. وقد يقع السعي بالقول، يقال: سعى بين فلان وفلان نقل إليهما قولا يوجب الفرقة، ومنه:
* ما قلت ما قال وشاة سعوا
*
سعى عدو بيننا يرجف
*
في الأرض، معلوم أن السعي لا يكون إلا في الأرض، لكن أفاد العموم بمعنى في: أي مكان حل منها سعى للفساد، ويدل لفظ: في الأرض، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض، لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدم ما يشبهه في قوله: * (لا تفسدوا فى الارض) *.
وإذا كان المراد الأخنس فالأرض أرض المدينة، فالألف واللام للعهد.
ليفسد فيها، هذا علة سعيه، والحامل له على السعي في الأرض، والفساد ضد الصلاح، وهو معاندة الله في قوله: * (واستعمركم فيها) *.
والفساد يكون بأنواع من: الجور، والقتل، والنهب، والسبي، ويكون: بالكفر.
و: يهلك الحرث، والنسل، عطف هذه العلة على العلة قبلها، وهو: ليفسد فيها، وهو شبيه بقوله: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) * وقوله:
124

أكر عليهم دعلجا ولبانه.
لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا، فكان إفسادهما غاية الإفساد.
من فسر الإفساد بالتخريب، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال.
و: يهلك الحرث والنسل، تقدم ذكر الحرث في قوله: * (ولا تسقى الحرث) * وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات، وعلى ما تقدم من أن الآية في الأخنس، يكون الحرث الزرع، والنسل الحمر التي قتلها، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل. وقيل: المراد هنا بالحرث هنا النساء، وبالنسل الأولاد، وقال تعالى: * (نساؤكم حرث لكم) * وذكره ابن عطية عن الزجاج احتمالا، فيكون من الكناية، وهو من ضروب البيان.
وقرأ الجمهور: ويهلك، من أهلك. عطفا على: ليفسد، وقرأ أبي: وليهلك، بإظهار لام العلة، وقرأ قوم: ويهلك، من أهلك، وبرفع الكاف. وخرج على أن يكون عطفا على قوله: يعجبك، أو على: سعى، لأنه في معنى: يسعى، وأما على الاستئناف، أو على إضمار مبتدأ، أي: وهو يهلك.
وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، وابن محيصن: ويهلك من هلك، وبرفع الكاف، والحرث والنسل على الفاعلية، وكذلك رواه حماد بن سملة عن ابن كثير، وعبد الوراث عن أبي عمرو، وحكى المهدوي أن الذي رواه حماد عن ابن كثير، إنما هو: ويهلك من أهلك، وبضم الكاف، الحرث بالنصب.
وقرأ قوم: ويهلك من هلك، وبفتح اللام، ورفع الكاف ورفع الحرث، وهي لغة شاذة نحو: ركن يركن، ونسبت هذه القراءة إلى الحسن الزمخشري.
قال الزمخشري: وروى عنه، يعنى عن الحسن، ويهلك مبنيا للمفعول، فيكون في هذه اللفظة ست قراءآت: ويهلك وليهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة منصوب، لأن في الفعل ضمير الفاعل، ويهلك ويهلك ويهلك، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة، وتم الكلام عند قوله: وهو ألد الخصام، وإما معطوفة على صلة من أو صفتها، من قوله: ويعجبك.
* (والله لا يحب الفساد) * تقدمت علتان، والثانية داخلة تحت الأولى، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية وإن فسرت المحبة بالإرادة، وقد جاءت كذلك في مواضع منها: * (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة) * فلا بد من التخصيص، أي: لا يحب من أهل الصلاح الفساد، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد، فلو لم يكن مرادا لما كان واقعا. وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى، ولا مفعولا له، لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد؛ قالوا: ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون، بل يكره أن يكون. وفي هذا ما فيه من التناقض. انتهى ما قالوا: وقيل: المعنى والله لا يحب الفساد دينا، وقيل: هو على حذف مضاف أي: أهل الفساد، وقال ابن عباس: المعنى لا يرضى المعاصي، وقيل: عبر بالمحبة عن الأمر أي: لا يأمر بالفساد.
وقال الراغب: الإفساد إخراج الشئ من حالة محمودة لا لغرض صحيح، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة، قال ابن عطية: والحب له على الإرادة مزية إيثار، فلو قال أحد: إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى إنما هو لما حسن من جميع جهاته. انتهى كلامه. وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه.
وقال بعضهم: سوى المعتزلة بين المحبة والإرادة واستدلوا بهذه، وجمهور العلماء على خلاف ذلك، والفرق بين الإرادة والمحبة بين، فإن الإنسان
125

يريد بطيء الجرح ولا يحبه وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: * (ولا يرضى لعباده الكفر) * انتهى كلامه.
وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى، بخلاف غيره، فإنه قد يعر، وعنهما فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان، وبالنسبة إلى غيره ضدان، وظاهر الفساد يعم كل فساد في ارض أو مال أو دين، وقد استدل عطاء بقوله: * (والله لا يحب الفساد) * على منع شق الإنسان ثوبه. وقال ابن عباس: الفساد هنا الخراب.
* (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) * تحتمل أيضا هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وتحتمل أن تكون داخلة في الصلة، تقدم الكلام في نحو هذا في قوله: * (وإذا قيل لهم لا تفسدوا فى الارض) * و: ما، الذي أقيم مقام الفاعل، فأغنى عن ذكره هنا، و: أخذته العزة، احتوت عليه وأحاطت به، وصار كالمأخوذ لها كما
يأخذ الشيء باليد.
قال الزمخشري: من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه، وألزمته إياه، أي: حملته العزة التي فيه، وحمية الجاهلية، على الإثم الذي ينهي عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلى عنه ضررا ولجاجا، أو على رد قول الواعظ. انتهى كلامه.
فالباء، على كلامه للتعدية، كأن المعنى ألزمته العزة الإثم، والتعدية بالباء بابها الفعل اللازم، نحو: * (لذهب بسمعهم وأبصارهم) * أي: لأذهب سمعهم، وندرت التعدية بالباء في المتعدي، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي أصككت الحجر الحجر، بمعنى جعلت أحدهما يصك الآخر، ويحتمل الباء أن تكون للمصاحبة، أي: أخذته مصحوبا بالإثم، أو مصحوبة بالإثم، فيكون للحال من المفعول أو الفاعل، ويحتمل أن تكون سببية، والمعنى: أن إثمه السابق كان سببا لأخذ العزة له، حتى لا يقبل ممن يأمره بتقوى الله تعالى، فتكون الباء هنا: كمن، في قول الشاعر:
* أخذته عزة من جهله
*
فتولى مغضبا فعل الضجر
*
وعلى أن تكون: الباء، سببية فسره الحسن، قال. أي من أجل الإثم الذي في قلبه، يعني الكفر.
وقد فسرت العزة بالقوة وبالحمية والمنعة، وكلها متقاربة.
وفي قوله: * (أخذته العزة بالإثم) * نوع من البديع يسمى التتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس، وتقربه للفهم، كقوله تعالى: * (ولا طائر يطير بجناحيه) * وذلك أن العزة محمودة ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، كما قال: * (أعزة على الكافرين) * * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * * (فإن العزة لله جميعا) * فلما قال: بالإثم، اتضح المعنى وتم، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها. قال ابن مسعود: لا ينبغي للرجل أن يغضب إذا قيل له اتق الله، أو تقول: أو لمثلى يقال هذا؟ وقيل لعمر: اتق الله، فوضع خده على الأرض تواضعا، وقيل: سجد، وقال: هذا مقدرتي. وتردد يهودي إلى باب هارون الرشيد، سنة فلم يقض له حاجة، فتحيل حتى وقف بين يديه، فقال: اتق الله يا أمير المؤمنين: فنزل هارون عن دابته، وخر ساجدا، وقضى حاجته، فقيل له في ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: * (وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) *.
* (فحسبه جهنم) * أي: كافيه جزاء وإذلالا جهنم، وهي جملة مركبة من مبتدأ وخبر، وذهب بعضهم إلى أن جهنم فاعل: فحسبه، لأنه جعله اسم فعل، إما بمعنى الفعل الماضي، أي: كفاه جهنم، أو: بمعنى فعل الأمر، ودخول حرف الجر عليه واستعماله صفة، وجريان حركات الإعراب عليه يبطل كونه اسم فعل، وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله، وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.
* (ولبئس المهاد) * تقدم الكلام في: بئس، والخلاف في تركيب مثل هذه الجملة مذكور في علم النحو، لكن التفريع
126

على مذهب البصريين في أن: بئس ونعم، فعلان جامدان، وأن المرفوع بعدهما فاعل بهما، وأن المخصوص بالذم، إن تقدم، فهو مبتدأ، وإن تأخر فكذلك، هذا مذهب سيبويه. وحذف هنا المخصوص بالذم للعلم به إذ هو متقدم، والتقدير: ولبئس المهاد جهنم. أو: هي، وبهذا الحذف يبطل مذهب من زعم أن المخصوص بالمدح أو بالذم إذا تأخر كان خبر مبتد محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، لأنه يلزم من حذفه حذف الجملة بأسرها من غير أن ينوب عنها شيء، لأنها تبقى جملة مفلتة من الجملة السابقة قبلها، إذ ليس لها موضع من الإعراب، ولا هي اعتراضية ولا تفسيرية، لأنهما مستغنى عنهما وهذه لا يستغنى عنها، فصارت مرتبطة غير مرتبطة، وذلك لا يجوز.
وإذا جعلنا المحذوف من قبيل المفرد. كان فيما قبله ما يدل على حذفه، وتكون جملة واحدة كحاله إذا تقدم، وأنت لا ترى فرقا بين قولك: زيد نعم الرجل، ونعم الرجل زيد، كما لا تجد فرقا بين: زيد قام أبوه، وبين: قام أبو زيد، وحسن حذف المخصوص بالذم هنا كون المهاد وقع فاصلة، وكثيرا ما حذف في القرآن لهذا المعنى نحو قوله: * (فنعم المولى ونعم النصير) * * (ولبئس * مثوى المتكبرين) * وجعل ما أعد لهم مهادا على سبيل الهزء بهم، إذ المهاد: هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم، ومثله قول الشاعر:
* وخيل قد دلفت لها بخيل
*
تحية بينهم ضرب وجيع
*
أي: القائم مقام التحية هو الضرب الوجيع، وكذلك القائم مقام المهاد لهم هو المستقر في النار.
* (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) * قيل المراد: بمن، غير معين، بل. هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد، أو صبر على دين، أو كلمة
حق عند جائر، أو حمية لله، أو ذب عن شرعه، أو ما أشبه هذا.
وقيل: هي في معين، فقيل في: الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى مكة ليحطا خبيبا من خشيته، وقيل: في صهيب الرومي خرج مهاجرا فلحقته قريش، فنشل كنانته، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره، وقالوا: لا نتركل حتى تدلنا على مالك، فدلهم على موضعه، فرجعوا عنه، وقيل: عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجرا، وقيل: في علي حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال الحسن: نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول: قل: لا إله إلا الله، فلا يقول، فيقول: والله لأشرين، فيقاتل حتى يقتل. وقال ابن عباس: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: في صهيب، وأبي ذر، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب، فخرج مهاجرا. وقيل: في المهاجرين والأنصباء، وذكر المفسرون غير هذا، وقصصا طويلا في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية.
والذي ينبغي أن يقال: إنه تعالى لما ذكر * (ومن الناس من يعجبك قوله) * وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من: يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء، وحلاوة المنطق، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته.
وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين، ويكون
127

ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال، ولا يبعد أن يكون السبب خاصا، والمراد عموم اللفظ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه، فقال: * (ومن الناس من يشرى) * بخلاف قوله: * (ومنهم من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا حسنة) * فإنه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم، أضمر في الثاني المقسم.
ومعنى يشري: يبيع، وهو سائغ في اللسان، قال تعالى: * (وشروه بثمن بخس دراهم) * قال الشاعر:
* وشريت بردا ليتني
*
من بعد برد كنت هامة
*
ويشري: عبارة عن أن يبذل نفسه في الله، ومنه تسمى الشراة، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله، وقال قوم: شرى، بمعنى: اشترى، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها.
وانتصاب: ابتغاء، على أنه مفعول من أجله، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم، إنما هو طلب رضى الله تعالى، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت، وهذه الإضافة، أعنى: إضافة المفعول من أجله، هي محضة، خلافا للجرمي، والرياشي، والمبرد، وبعض المتأخرين، فإنهم يزعمون أنها إضافة غير محضة، وهذا مذكور في كتب النحو.
ومرضاة: مصدر بني على التاء: كمدعاة، والقياس تجريده عنها، كما تقول: مرمى ومغزى، وأمال الكسائي: مرضات، وعن ورش خلاف في إمالة: مرضات، وقرأنا له بالوجهين، ووقف حمزة عليها بالتاء، ووقف الباقون بالهاء. فأما وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين.
أحدهما: أن يكون على مذهب من يقف من العرب على: طلحة، وحمزة، بالتاء، كالوصل، وهو كان القياس دون الإبدال. قال:
* دار السلمى بعد حول قد عفت
*
بل حوز تيهاء كظهر الحجفت
*
وقد حكى هذه اللغة سيبويه.
والوجه الآخر: أن تكون على نية الإضافة، كأنه نوى تقدير المضاف إليه، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة، وأن المضاف إليه مراد: كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة، وفي قوله: * (ابتغاء مرضات الله) * إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء، وهو رضاه تعالى.
وفي الحديث الصحيح، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى، حين يسألهم: هل رضيتم؟ فيقولون: يا ربنا كيف لا ترضى وقد أدخلتنا
128

جنتك وباعدتنا من نارك؟ فيقول: ولكم عندي أفضل من ذلك، فيقولون: يا ربنا، وما أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده.
* (والله رءوف بالعباد) * حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء، قاله الزمخشري؛ وقال ابن عطية: ترجئة تقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح في الآية، كما في قوله: * (فحسبه جهنم) * تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذم، وتقدم أن الرأفة أبلغ من الرحمة.
والعباد إن كان عاما، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم، وتيسير أرزاقهم لهم، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته، ورفع درجاتهم في الجنة. وإن كان خاصا، وهو الأظهر، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله: * (فحسبه جهنم) * وكان ذلك خاصا بأولئك الكفار، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب، وجزيل
المآب، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة، ولذلك كانت الكناية أبلغ، ويكون إذ ذاك في لفظ: العباد، التفاتا، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان: والله رؤوف به أو بهم، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان، أحدهما: أن لفظ: العباد، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص، كقوله: * (إن عبادى ليس لك عليهم سلطان) * * (سبحان الذى أسرى بعبده ليلا) * * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * * (بل عباد مكرمون) *.
والثاني: مجيء اللفظة فاصلة، لأن قبله: * (والله لا يحب الفساد * فحسبه جهنم ولبئس المهاد) * فناسب: * (والله رءوف بالعباد) *.
وفي هذه الآية، والتي قبلها من علم البديع: وقد ذكرنا مناسبة هذا التقسيم للتقسيم السابق قبله في قوله: * (فمن الناس من يقول ربنا ءاتنا فى الدنيا) * قال بعض الناس: في هذه الآيات نوع من البديع، وهو التقديم والتأخير، وهو من ضروب البيان في النثر والنظم دليل على قوة الملكة في ضروب من الكلام، وذلك قوله: * (واذكروا الله فى أيام معدودات) * متقدم على قوله: * (فمن الناس من يقول) * لأن قوله: * (واذكروا الله فى أيام معدودات) * معطوف عليه، قوله: * (فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله) * وقوله: * (فمن الناس من يقول) * معطوف على قوله: * (ومنهم من يقول) * وقوله: * (ومنهم من يقول) * معطوف على قوله: * (ومن الناس من يعجبك) * وعلى قوله: * (ومن الناس من يشرى) * فيصير الكلام معطوفا على الذكر لأنه مناسب لما قبله من المعنى، ويصير التقسيم معطوفا بعضه على بعض، لأن التقسيم الأول في معنى الثاني، فيتحد المعنى ويتسق اللفظ، ثم قال: ومثل هذا، قد ذكر قصة البقرة، وقتل النفس، وقصة المتوفى عنها زوجها، في الآيتين، قال: ومثل هذا في القرآن كثير، يعني: التقديم والتأخير، ولا يذهب إلى ما ذكره، ولا تقديم ولا تأخير في القرآن، لأن التقديم والتأخير عندنا من باب الضرورات، وتنزه كتاب الله تعالى عنه.
* (بالعباد يأيها الذين ءامنوا ادخلوا في السلم كافة) * نزلت في عبد الله بن سلام ومن أسلم معه، كانوا يتقون السبت، ولحم الحمل، وأشياء تتقيها أهل الكتاب، قاله عكرمة، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، أو: في أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، قاله الضحاك. وروي عن ابن عباس: أو في المسلمين يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام، قاله مجاهد، وقتادة. أو: في المنافقين، واحتج لهذا بورودها
129

عقيب صفة المنافقين، وعلى هذا الاختلاف في سبب النزول اختلفت أقاويل أهل التفسير.
وقرأ نافع، وابن كثير، والكسائي: بفتح السين في السلم، وكذلك في الأنفال: * (وإن جنحوا للسلم) * وفي القتال: * (وتدعوا إلى السلم) *.
واختلف في السلم هنا، فقيل: هو الإسلام، لأن الإسلام: قد يسمى: سلما بكسر السين، وقد يروى فيه الفتح، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل، وجوز أبو علي الفارسي أن يكون السلم هنا هو الذي بمعنى الصلح، لأن الإسلام صلح على الحقيقة، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله، وأنهم يد واحدة على من سواهم؟ فإن كان الخطاب لابن سلام وأصحابه فقد أمروا بالدخول في شرائع الإسلام، وأن لا يبقوا على شيء من شرائع أهل الكتاب التي لا توافق شرائع الإسلام، وإن كان الخطاب لأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول، فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بما سبق من أنبيائهم ادخلوا في هذه الشريعة، وهي لهم، كأنه قيل: يا من سبق له الإيمان بالتوراة والإنجيل، وهما دالان على صدق هذه الشريعة، ادخلوا في هذه الشريعة، وإن كان الخطاب للمسلمين فالمعنى: يا من آمن بقلبه، وصدق، ادخل في شرائع الإسلام، واجمع إلى الإيمان الإسلام. وقد فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم) الإيمان والإسلام في حديث سؤال جبريل حين سأله عن حقيقة كل واحد منهما. وإن كان الخطاب للمنافقين، فالمعنى: يا من آمن بلسانه، ادخل في الإسلام بالقلب حتى يطابق القول الاعتقاد.
والظاهرمن هذه الأقوال أنه خطاب للمؤمنين، أمروا بامتثال شرائع الإسلام، أو بالانقياد، والرضى وعدم الاضطرار، أو بترك الانتقام، وأمروا كلهم بالائتلاف وترك الاختلاف، ولذلك جاء بقوله * (كافة) * وانتصاب * (كافة) * على الحال من الفاعل في: ادخلوا، والمعنى ادخلوا في السلم جميعا، وهي حال تؤكد معنى العموم، فتفيد معنى: كل، فإذا قلت: قام الناس كافة، فالمعنى قاموا كلهم، وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون حالا من السلم، أي في شرائع الإسلام كلها، أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون: كافة، حالا من السلم، لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، قال الشاعر:
* السلم تأخذ منها ما رضيت به
*
والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
*
على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها، وأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة، أو في شعب الإسلام وشرائعه كلها، وأن لا يخلوا بشيء منها.
وعن عبد الله بن سلام أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل.
و: كافة، من الكف، كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد باجتماعهم. انتهى كلام الزمخشري. وتعليله جواز أن كون: كافة، حالا من السلم بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب، ليس بشيء، لأن التاء في: كافة، وإن كان أصلها للتأنيث، ليست فيها إذا كانت حالا للتأنيث، بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى: جميع وكل، كما صار: قاطبة، وعامة، إذا كان حالا نقلا محضا إلى معنى: كل وجميع. فإذا قلت: قام الناس كافة، أو قاطبة، أو عامة، فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث، كما لا يدل عليه: كل، ولا جميع.
وتوكيده بقوله: وفي شعب الإسلام وشرائعه كلها، هو
130

الوجه الأول من قوله: بأن دخلوا في الطاعات. كلها، فلا حاجة إلى هذا الترديد بأو.
وقال ابن عطية: وقالت فرقة: جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم)، والمعنى: أمرهم بالثبوت فيه، والزيادة من التزام حدوده. وتستغرق: كافة، حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع، فيكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى: * (فأتت به قومها تحمله) * إلى غير ذلك من الأمثلة.
ثم قال بعد كلام ذكره: وكافة، معناه: جميعا. والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها. انتهى كلامه.
وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني: من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم، وهذا الذي ذكره محتمل، ولكن الأظهر أنه حال من ضمير الفاعل، وذلك جائز، يعني: مجيء الحال الواحدة من شيئين، وفي ذلك تفصيل ذكر في النحو.
وقوله: نحو قوله: * (فأتت به قومها تحمله) * يعني أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء، هذا المثال ليس بمطابق: للحال من شيئين، لأن لفظ: تحمله، لا يحتمل شيئين، ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كان اللفظ يحتملهما، واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين، والإخبار بتلك الحال عنهما، فمتى صح ذلك صحت الحال، ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قوله:
* وعلقت سلمى وهي ذات موصد
*
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
*
* صغيرين نرعى البهم يا ليت
*
أنناإلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
*
فصغيرين: حال من الضمير في علقت، ومن سلمى، لأنه يصلح أن يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم، ومثله:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا
فنمشي حال من التاء في: خرجت، ومن الضمير المجرور في بها، ويصلح أن تقول: أنا وهي نمشي، وهنا لا يصلح أن تكون تحمله خبرا عنهما، لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبرا، نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أن يقدر إلا بمفرد، فيمتنع أن يكون حالا من ذوي حال، ولذلك أعرب المعربون في:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا
نمشي: حالا منهما، وتجر حالا من ضمير المؤنث خاصة، لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا لم يجز أن يكون تجر خبرا عنها، لأن تجر وتحمل إنما يتقدران بمفرد، أي حاملة وجارة، وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالا منهما.
و * (كافة) * لدلالته على معنى: جميع، يصلح أن يكون حالا من الفاعل في: ادخلوا، ومن السلم، بمعنى شرائع الإسلام، لأنك لو قلت: الرجال والنساء جميع في كذا، صح أن يكون خبرا.
لا يقال كافة لا يصلح أن يكون خبرا، لا تقول: الزيدون والعمرون كافة، في كذا، فلا يجوز أن يقع حالا على ما قررت، لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة: كافة، إذ لم يتصرف فيها، بل التزم نصبها على الحال، لكن مرادفها يصح فيه ذلك، وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي يكف مخالفها، يعني: أن هذا في أصل الوضع، ثم صار الاستعمال لها لمعنى: جميعا، كما قال هو وغيره، وكافة: معناه جميعا.
* (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) * قد تقدم تفصيل هاتين الجملتين بعد قوله: * (النار يأيها الناس كلوا مما فى الارض حلالا طيبا) * فأغنى ذلك عن إعادته، وقال صاحب (الكتاب الموضح) أبو عبد الله نصر بن علي بن محمد: عرف بابن مريم، أن ضم عين الكلمة في مثل هذا، نحو: عرفة وعرفات، هو مذهب أهل الحجاز، وقال فيمن سكن الطاء: إنهم لما جمعوا نووا الضمة في الطاء، ثم أسكنوها استخفافا، وهو في تقدير الثبات يدل على أن الضمة في حكم الثابت، أن هذه حركة يفصل بها بين الاسم والصفة، كما هي في جمع: فعلة
131

المفتوحة الفاء، فلا تحذف عين الاسم حذفا، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة، فهي منوية لا محالة. انتهى كلامه.
واتضح من هذا أنه في الصفة لا ينقل، فإذا جمعنا: حلوة وضحكة، المراد به صفة المؤنث، فلا تقول: حلوات، ولا ضحكات، بضم عين الكلمة، وعلى هذا قياس: فعلة، الصفة نحو: جلفة، لا يقال فيه جلفات.
* (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات) * أي: عصيتم أو كفرتم، أو أخطأتم، أو ضللتم، أقوال ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله: ادخلوا في السلم، أي
الإسلام، فإن زللتم عن الدخول فيه، وأصل الزلل للقدم، يقال: زلت قدمه، كما قال.
ولا شامت إن نعل عزة زلت
ثم يستعمل في الرأي والاعتقاد، وهو الزلق، وقد تقدم شيء من تفسير في قوله: * (فأزلهما الشيطان عنها) *.
وقرأ أبو السماك: فإن زللتم، بكسر اللام، وهما لغتان: كضللت وضللت.
والبينات: حجج الله ودلائله، أو محمد صلى الله عليه وسلم)، كما قال: * (حتى تأتيهم البينة * رسول من الله) * وجمع تعظيما له، لأن وإن كان واحدا بالشخص، فهو كثير بالمعنى: أو القرآن قاله ابن جريج، أو التوراة والإنجيل قال: * (ولقد جاءكم موسى بالبينات) * وقال * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا) * وهذا يتخرج على قول من قال: إن المخاطب أهل الكتاب، أو الإسلام، أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المعجزات، أقوال ستة.
وفي (المتخب) البينات: تتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية من حيث إن عذر المكلف لا يزول إلا عند حصول البينات، لا حصول التبيين من التكليف. انتهى كلامه.
والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول، فلا ينسب إليها المجيء إلا مجازا، وفيه بعد.
* (فاعلموا أن الله عزيز حكيم) * أي: دوموا على العلم، إن كان الخطاب للمؤمين، وإن كان للكافرين أو المنافقين فهو أمر لهم بتحصيل العلم بالنظر الصحيح المؤدي إليه، وفي وصفه هنا بالعزة التي هي تتضمن الغلبة والقدرة اللتين يحصل بهما الانتقام، وعيد شديد لمن خالفه وزل عن منهج الحق، وفي وصفه بالحكمة دلالة على إتقان أفعاله: وأن ما يرتبه من الزاوجر لمن خالف هو من مقتضى الحكمة، وروي أن قارئا قرأ، غفور رحيم، فسمعه أعرابي فأنكره، ولم يكن يقرأ القرآن، وقال: إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا، الحكيم، لا يذكر الغفران عند الزلل، لأنه إغراء عليه، وقد روي عن كعب نحو هذا، وأن الذي كان يتعلم منه أقرأه: فاعلموا أن الله غفور رحيم، فأنكره حتى سمع: * (عزيز حكيم) * فقال: هكذا ينبغي.
* (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) *؟ هل: هنا للنفي، المعنى: ما ينظرون، ولذلك دخلت إلا، وكونها بمعنى النفي إذ جاء بعدها: إلا، كثير الاستعمال في القرآن، وفي كلام العرب، قال تعالى: * (وهل * نجزى إلا الكفور) * * (فهل يهلك إلا القوم * الظالمون) * وقال الشاعر:
* وهل أنا إلا من غزية إن غوت
*
غويت، وإن ترشد غزية أرشد
*
و: ينظرون، هنا معناه: ينتظرون، تقول العرب: نظرت فلانا انتظره، وهو لا يتعدى لواحد بنفسه إلا بحرف جر. قال امرؤ القيس:
132

* فإنكما إن تنظراني ساعة
*
من الدهر تنفعي لدى أم جندب
*
ومفعول: ينظرون، هو ما بعد إلا، أي: ما ينتظرون إلا إتيان الله، وهو استثناء مفرع، قيل: وينظرون هنا ليست من النظر الذي هو تردد العين في المنظور إليه، لأنه لو كان من النظر لعدى بإلى، وكان مضافا إلى الوجه، وإنما هو من الانتظار. انتهى.
وهذا التعليل ليس بشيء لأنه يقال: هو من النظر، وهو تردد العين. وهو معدى بإلى، لكنها محذوفة، والتقدير: هل ينظرون إلا إلى أن يأتيهم الله؟ وحذف حرف الجر مع أن إذا لم يلبس قياس مطرد، ولا لبس هنا، فحذفت إلى، وقوله: وكان مضافا إلى الوجه يشير إلى قوله: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * فكذلك ليس بلازم، قد نسب النظر إلى الذوات كثيرا كقوله: * (أفلا ينظرون إلى الإبل) * * (أرنى أنظر إليك) * والضمير في: ينظرون، عائد على الذالين، وهو التفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
والإتيان: حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز، وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى، فروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا من المكتوم الذي لا يفسر، ولم يزل السلف في هذا وأمثاله يؤمنون، ويكلون فهم معناه إلى علم المتكلم به، وهو الله تعالى.
والمتأخرون تأولوا الإتيان وإسناده على وجوه:
أحدهما: أنه إتيان على ما يليق بالله تعالى من غير انتقال.
الثاني: أنه عبر به عن المجازات لهم، والانتقام، كما قال: * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * * (فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا) *.
الثالث: أن يكون متعلق الإتيان محذوفا، أي: أن يأتيهم الله بما وعدهم من الثواب، والعقاب، قاله الزجاج.
الرابع: أنه على حذف مضاف، التقدير: أمر الله، بمعنى: ما يفعله الله بهم، لا الأمر الذي مقابله النهي، ويبينه قوله، بعد: * (وقضى الامر) *.
الخامس: قدرته، ذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد.
السادس: أن في ظلل، بمعنى بظلل، فيكون: في، بمعنى: الباء، كما قال.
خبيرون في طعن الأباهر والكلى
أي: بطعن، لأن خبيرا لا يتعدى إلا بالباء، كما. قال.
خبير بأدواء النساء طبيب
قال الزجاج وغيره.
والأولى أن يكون المعنى: أمر الله، إذ قد صرح به في قوله: * (أو يأتى أمر ربك) * وتكون عبارة عن بأسه وعذابه، لأن هذه الآية إنما جاءت مجيء التهديد والوعيد، وقيل: المحذوف: آيات الله، فجعل مجيء آياته مجيئا له على التفخيم لشأنها، قاله في (المنتخب). ونقل عن ابن جرير أنه قال: يأتيهم بمحاسبتهم على الغمام على عرشه تحمله ثمانية من الملائكة، وقيل: الخطاب مع اليهود، وهم مشبهة، ويدل على أنه مع اليهود قول بعد: * (سل بنى إسراءيل) *، وإذا كان كذلك فالمعنى: أنهم لا يقبلون ذلك إلا أن يأتيهم الله، فالآية على ظاهرها، إذ المعنى: أن قوما ينتظرون إتيان الله، ولا يدل ذلك على أنهم محقون ولا مبطلون.
* (في ظلل من الغمام) * تقدم الكلام على ذلك في قوله: * (وظللنا عليكم الغمام) * ويستحيل على الذات المقدسة أن تحل في ظلة، وقيل: المقصود تصوير عظمة يوم القيامة وحصولها وشدتها، لأنه لا شيء أشد على المذنبين، وأهول، ومن وقت جمعهم وحضور أمهر الحكام وأكثرهم هيبة لفصل الخصومة، فيكون هذا من باب التمثيل، وإذا فسر بأن عذاب الله يأتيهم في ظلل من الغمام، فكان ذلك، لأنه أعظم، أو يأتيهم الشر من جهة الخير، لقوله: * (هاذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم) * ولأنه إذا كان ذلك يوم القيامة فهو علامة لأشد الأهوال في ذلك اليوم، قال الله تعالى: * (ويوم تشقق السماء بالغمام) * ولأن الغمام ينزل قطرات غير محدودة، فكذلك العذاب غير محصورة، وقيل: إن العذاب لا يأتي في الظلل، بل المعنى تشبيه الأهوال بالظلل
133

من الغمام، كما قال: * (وإذا غشيهم موج كالظلل) * فالمعنى أن عذاب الله يأتيهم في أهوال عظيمة، كظلل الغمام.
واختلفوا في هذا التوعد، فقال ابن جريج: هو توعد بما يقع في الدنيا، وقال قوم: بل توعد بيوم القيامة.
وقرأ أبي، وعبد الله، وقتادة، والضحاك: في ظلال، وكذلك روي هارون بن حاتم، عن أبي بكر، عن عاصم، هنا وفي الحرفين في الزمر، وهي: جمع ظلة، نحو: قلة وقلال، وهو جمع لا ينقاس، بخلاف: ظلل، فإنه جمع منقاس، أو جمع: ظل نحو ضل وضلال.
و: في ظلل، متعلق بيأتيهم، وجوزوا أن يكون حالا فيتعلق بمحذوف، و: من الغمام، في موضع الصفة لظلل، وجوزوا أن يتعلق بيأتيهم، أي من ناحية الغمام، فتكون: من، لابتداء الغاية، وعلى الوجه الأول تكون للتبعيض، وقرأ الحسن، وأبو حيوة، وأبو جعفر: والملائكة، بالجر عطفا على: في ظلل، أو عطفا على الغمام، فيختلف تقدير حرف الجر، إذ على الأل التقدير: وفي الملائكة، وعلى الثاني التقدير: ومن الملائكة.
وقرأ الجمهور بالرفع عطفا على: الله، وقيل: في هذا الكلام تقديم وتأخير، فالإتيان في الظل مضاف إلى الملائكة، والتقدير: إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل، فالمضاف إلى الله تعالى هو الإيتان فقط، ويؤيد هذا قراءة عبد الله، إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل.
* (وقضى الامر) * معناه: وقع الجزاء وعذب أهل العصيان، وقيل: أتم أمر هلاكهم وفرغ منه، وقيل: فرغ من وقت الانتظار وجاء وقت المؤاخذة، وقيل: فرغ لهم مما يوعدون به إلى يوم القيامة، وقيل: فرغ من الحساب ووجب العذاب. وهذه أقوال متقاربة.
* (وقضى الامر) * معطوف على قوله: يأتيهم، فهو من وضع الماضي موضع المستقبل، وعبر بالماضي عن المستقبل لأنه كالمفروغ منه الذي وقع، والتقدير: ويقضي الأمر، ويحتمل أن يكون هذا إخبارا من الله تعالى، أي: فرغ من أمرهم بما سبق في القدر، فيكون من عطف الجمل لا أنه في حيز ما ينتظر.
وقرأ معاذ بن جبل: وقضاء الأمر، قال: قال الزمخشري: على المصدر المرفوع عطفا على الملائكة، وقال غيره بالمد والخفض عطفا على الملائكة، وقيل: ويكون: في، على هذا بمعنى الباء، أي: بظلل من الغمام، وبالملائكة، وبقضاء الأمر.
وقرأ يحيى بن معمر: وقضي الأمور، بالجمع، وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل للعلم به، ولأنه لو أبرز وبني الفعل للفاعل لتكرر الاسم ثلاث مرات.
* (وإلى الله ترجع الامور) * قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي: ترجع، بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن، ويعقوب: بالتاء مفتوحة وكسر الجيم في جميع القرآن، على أن: رجع، لازم وباقي السبعة: بالياء وفتح الجيم مبينا للمفعول، وخارجة عن نافع: يرجع بالياء. وفتح الجيم على أن رجع متعد. وكلا الاستعمالين له في لسان العرب، ولغة قليلة في المتعدى. أرجع رباعيا، فمن قرأ بالتاء فلتأنيث الجمع، ومن قرأ بالياء فلكون التأنيث غير حقيقي.
وصرح باسم الله لأنه أفخم وأعظم وأوضح، وإن كان قد جرى ذكره في قوله: * (إلا أن يأتيهم الله) * ولأنه في جملة مستأنفة ليست داخلة في المنتظر، وإنما هي إعلام بأن الله إليه تصير الأمور كلها. لا إلى غيره، إذ هو المنفرد بالمجازاة، ولرفع إ بهام ما كان عليه ملوك الدنيا من دفع أمور الناس إليهم، فأعلم أن هذا لا يكون لهم في الآخرة منها شيء، بل ذلك إلى الله وحده، أو لإعلام أنها رجعت إليه في الآخرة بعد أن كان ملكهم بعضها في الدنيا، فصارت إليه كلها في الآخرة.
وإذا كان الفعل مبنيا للمفعول فالفاعل المحذوف، إما الله تعالى، يرجعها إلى نفسه بإفناء الدنيا وإقامة القيامة، أو ذوو الأمور، لما كانت ذواتهم وصفاتهم شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محاسبون مجزيون، كانوا رادين أمورهم إلى خالقها، قيل: أو يكون ذلك على مذهب العرب في قولهم: فلان معجب بنفسه، ويقول الرجل لغيره: إلى
أين يذهب بك؟ وإن لم يكن أحد يذهب به. انتهى. وملخصه: إنه يبني الفعل للمفعول ولا يكون ثم فاعل، وهذا خطأ، إذ لا بد للفعل من تصور فاعل، ولا يلزم أن يكون الفاعل للذهاب أحدا، ولا الفاعل للإعجاب، بل الفاعل غيره، فالذي أعجبه بنفسه هو رأيه، واعتقاده بجمال نفسه، فالمعنى أنه أعجبه رأيه، وذهب به رأيه، فكأنه قيل: أعجبه رأيه بنفسه، وإلى أين يذهب بك رأيك أو عقلك؟ ثم حذف الفاعل، وبني الفعل للمفعول.
قيل: وفي قوله: * (وقضى الامر) * * (وإلى الله ترجع الامور) * قسمان من أقسام علم البيان:
134

أحدهما: الإيجاز في قوله: * (وقضى الامر) * فإن في هاتين الكلمتين يندرج في ضمنها جميع أحوال العباد مند خلقوا إلى يوم التناد، ومن هذا اليوم إلى الفصل بين العباد.
والثاني: الاختصاص بقوله: * (وإلى الله) * فاختص بذلك اليوم لانفراده فيه بالتصرف والحكم والملك. انتهى.
وقال السلمى: وقضي الأمر وصلوا إلى ما قضي لهم في الأزل من إحدى المنزلتين.
وقال جعفر: كشف عن حقيقة الأمر ونهيه.
وقال القشيري: انهتك ستر الغيب عن صريح التقدير.
* (سل بنى إسراءيل) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، قال الزمخشري: أو لكل أحد.
وقرأ أبو عمرو، في رواية ابن عباس: أسأل. وقرأ قوم: إسل، وأصله إسأل، فنقل حركة الهمزة إلى السين وحذف الهمزة التي هي عين، ولم تحذف همزة الوصل لأنه لم يعتد بحركة السين لعروضها، كما قالوا: ألحمر في الأحمر. وقرأ الجمهور: سل، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن أصله إسأل، فلما نقل وحذف اعتد بالحركة، فحذف الهزة لتحرك ما بعدها، والوجه الآخر: أنه جاء على لغة من يجعل المادة من: سين، وواو، ولام، فيقول: سأل يسأل، فقال: سل، كما قال: خف، فلا يحتاج في مثل هذا إلى همزة وصل، وانحذفت عين الكلمة لالتقائها ساكنة مع اللام الساكنة، ولذلك تعود إذا تحركت الفاء نحو: خافا وخافوا وخافي.
ولما تقدم: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل) * وكان المعنى في ذلك استبطاء حق لهم في الإسلام، وأنهم لا ينظرون إلا آية عظيمة تلجئهم إلى الدخول في الإسلام، جاء هذا الأمر بسؤالهم عما جاءتهم من الآيات العظيمة، ولم تنفعهم تلك الآيات، فعدم إسلامهم مرتب على عنادهم واستصحاب لجاجهم، وهذا السؤال ليس سؤالا عما لا يعلم، إذ هو عالم أن بني إسرائيل آتاهم الله آيات بينات، وإنما هو سؤال عن معلوم، فهو تقريع وتوبيخ، وتقرير لهم على ما آتاهم الله من الآيات البينات، وأنها ما أجدت عندهم لقوله بعد: * (ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته) *.
وفي هذا السؤال أيضا تثبيت وزيادة، كما قال تعالى: * (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) * أو: زيادة يقين المؤمن، فالخطاب في اللفظ له صلى الله عليه وسلم)، والمراد: أمته، أو إعلام أهل الكتاب أن هذا القول من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم) وقومه لم يكونوا يعرفون شيئا من قصص بني إسرائيل، ولا ما كان فيهم من الآيات قبل أن أنزل الله ذلك في كتابه:
* (بنى إسراءيل) * من كان بحضرته منهم / صلى الله عليه وسلم)، أو من آمن من به منهم، أو علماؤهم، أو أنبياؤهم، أقوال أربعة.
* (وكم) * في موضع نصب على أنها مفعول ثان * (لاتيناهم) * على مذهب الجمهور، أو على أنها مفعول أول على مذهب السهيلي على ما مر ذكره، وأجاز ابن عطية أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل يفسره ما بعده، وجعل ذلك من باب الاشتغال، قال: وكم، في موضع نصب إما بفعل مضمر بعدها، لأن لها مصدر الكلام تقديره: كم آتيناهم، أو باتيانهم. انتهى. وهذا غير جائزا إن كان قوله: من آية تمييزا لكم، لأن الفعل المفسر لهذا الفعل المحذوف لم يعمل في ضمير الاسم الأول المنتصب بالفعل المحذوف ولا في سببيته، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون من باب الاشتغال. ونظير ما أجاز أن يقول: زيدا ضربت، فتعرب زيدا مفعولا بفعل محذوف يفسره ما بعده، التقدير: زيدا ضربت ضربت، وكذلك: الدرهم أعطيت زيدا، ولا نعمل أحدا ذهب إلى ما ذهب إليه، بل نصوص النحويين، سيبويه فمن دونه، على أن مثل هذا هو مفعول مقدم منصوب بالفعل بعده، وإن كان تمييز: كم، محذوفا.
وأطلقت: كم، على القوم أو الجماعة، فكان التقدير: كم من جماعة آتيناهم، فيجوز ذلك، إذ في الجملة المفسرة لذلك الفعل المحذوف ضمير عائد على: كم، وأجاز ابن عطية وغيره أن تكون: كم، في موضع رفع بالابتداء، والجملة من قوله: آتيناهم، في موضع الخبر، والعائد محذوف، التقدير: آتيناهموه، أو آتيناهموها، وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر، أو في شاذ من القرآن، كقراءة من قرأ * (أفحكم الجاهلية يبغون) * برفع الحكم، وقال ابن مالك: لو كان المبتدأ غير: كل، والضمير مفعول به، لم يجز عند الكوفيين حذفه مع بقاء الرفع إلا في الاضطرار، والبصريون يجيزون ذلك في الاختيار، ويرونه ضعيفا انتهى. فإذا كان لا يجوز إلا في الاضطرار،
135

أو ضعيفا، فأي داعية إلى جواز ذلك في القرآن مع إمكان حمله على غير ذلك؟ ورجحانه. وهو أن تكون في موضع نصب على ما قررناه. وكم، هنا استفهامية ومعناها التقرير لا حقيقة الاستفهام، وقد يخرج الاستفهام عن حقيقته إذا تقدمه ما يخرجه، نحو قولك: سواء عليك أقام زيد أم قعد، و: ما أبالي أقام زيد أم قعد، وقد عملت أزيد منطلق أو عمرو وما أدري أقريب أم بعيد، فكل هذا صورته صورة الاستفهام، وهو على التركيب الإستفهامي وأحكامه، وليس على حقيقة الاستفهام.
وهذه الجملة من قوله: * (كم آتيناهم) * في موضع المفعول الثاني: لسل، لأن سأل يتعدى لاثنين؛ أحدهما: بنفسه، والآخر: بحرف جر، إما عن، وإما الباء. وقد جمع بينهما في الضرورة نحو.
فأصبحن لا يسألنه عن بما به
و: سأل، هنا معلقة عن الجملة الاستفهامية، فهي عاملة في المعنى، غير عاملة في اللفظ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلا الجار، قالوا: وإنما علقت: سل، وإن لم تكن من أفعال القلوب، لأن السؤال سبب للعلم، فأجرى السبب مجرى المسبب في ذلك، وقال تعالى: * (سلهم أيهم بذالك زعيم) * وقال الشاعر.
سائل بني أسد ما هذه الصوت
وقال:
واسأل بمصقلة البكري ما فعلا
وأجاز الزمخشري أن تكون: كم، هنا خبرية، قال: فإن قلت: كم استفهامية أم خبرية؟
قلت: يحتمل الأمرين، ومعنى الاستفهام فيها التقدير. انتهى كلامه. وهو ليس بجيد، لأن جعلها خبرية هو اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال، لأنه يصير المعنى: سل بني إسرائيل، وما ذكر المسؤول عنه، ثم قال: كثيرا من الآيات آتيناهم، فيصير هذا الكلام مفلتا مما قبله، لأنه جملة: كم آتيناهم، صار خبرا صرفا لا يتعلق به: سل، وأنت ترى معنى الكلام، ومصب السؤال على هذه الجملة، فهذا لا يكون إلا في الإستفهامية، ويحتاج في تقرير الخبرية إلى تقدير حذف، وهو المفعول الثاني: لسل، ويكون المعنى: سل بني إسرائيل عن الآيات التي آتيناهم، ثم أخبر تعالى أن كثيرا من الآيات آتيناهم.
* (من ءاية) * تمييز ل: كم، ويجوز دخول: من، على تمييز الإستفهامية والخبرية، سواء وليها أم فصل بينهما، والفصل بينهما بجملة، وبظرف، ومجرور، جائز على ما قررنا في النحو، وأجاز ابن عطية أن يكون: من آية، مفعولا ثانيا: لآيتناهم، وذلك على التقدير الذي قدره قبل من جواز نصب: كم، بفعل محذوف يفسره: آتيناهم، وعلى التقدير الذي قررناه من أن: كم، تكون كناية عن قوم أو جماعة، وحذف تمييزها لفهم المعنى، فإذا كان كذلك، فإن كانت: كم، خبرية فلا يجوز أن تكون: من آية، مفعولا ثانيا، لأن زيادة: من، لا تكون في الإيجاب على مذهب البصريين غير الأخفش، وإن كانت استفهامية فيمكن أن يقال: يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما قبله، وفيه بعد، لأن متعلق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: كم من درهم أعطيته من رجل، على زيادة: من، في قولك: من رجل، لكان فيه نظر، وقد أمعنا الكلام على زيادة: من، في (منهج السالك) من تأليفنا.
و: الآيات البينات ما تضمنته التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم)، وتحقيق نبوته، وتصديق ما جاء به، أو معجزات موسى صلى الله على نبينا وعليه: كالعصا، واليد البيضاء، وفلق البحر، أو: القرآن قص الله قصص الأمم الخالية
136

حسبما وقعت على لسان من لم يدارس الكتب ولا العلماء، ولا كتب ولا ارتجل، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم): كتسبيح الحصى، وتفجير الماء من بين أصابعه، وانشقاق القمر، وتسليم الحجر، أربعة أقوال، وقدروا بعد قوله: من آية بينة، محذوفا، فقدره بعضهم: فكذبوا بها، وبعضهم: فبدلوها.
* (ومن يبدل نعمة الله) * نعمة الله: الحجج الواضحة الدالة على أمره: صلى الله عليه وسلم) يبدل بها التشبيه والتأويلات، أو ما ورد في كتاب الله من نعته. صلى الله عليه وسلم)، يبدل به نعت الدجال، أو الاعتراف بنبوته يبدل لها الحجد لها، أو كتب الله المنزلة على موسى وعيسى على نبينا وعليهم السلام يبدل بها غير أحكامها كآية الرجم وشبهها، أو الإسلام. قاله الطبري؛ أو شكر النعمة يبدل بها الكفر أو آياته وهي أجل نعمة من الله، لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة، وتبديلهم إياها، أن الله أظهرها لتكون أسباب هداهم، فجعلوها أسباب ضلالتهم، كقوله: * (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * قاله الزمخشري: سبعة أقوال.
ولفظ: من يبدل، عام وهو شرط، فيندرج فيه مع بني إسرائيل كل مبدل نعمه: ككفار قريش وغيرهم، فإن بعثه محمد صلى الله عليه وسلم) نعمة عليهم، وقد بدلوا بالشكر عليها وقبولها الكفر.
* (من بعد ما جاءته) * أي: من بعدما أسديت إليه، وتمكن من قبولها، ومن بعدما عرفها كقوله: * (ثم يحرفونه من * بعدما * عقلوه) * وأتى بلفظ: من، إشعارا بابتداء الغاية، وأنه يعقب: ما جاءته، يبدله. وفي قوله: * (من بعد ما جاءته) * تأكيد، لأن إمكانية التبديل منه متوقفة على الوصول إليه.
وقرئ: ومن. يبدل بالتخفيف، و. يبدل، يحتاج لمفعولين: مبدل ومبدل له، فالمبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بحرف جر، والبدل هو الذي يتعدى إليه الفعل بنفسه، ويجوز حذف حرف الجر لفهم المعنى، وتقدم الكلام على هذا في قوله: * (فبدل الذين ظلموا) * وإذا تقرر هذا، فالمفعول الواحد هنا محذوف، وهو البدل، والأجود أن يقدر مثل ما لفظ به في قوله: * (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا) *: فكفرا هو البدل، ونعمة الله، هو المبدل، وهو الذي أصله: أن يتعدى إليه الفعل بحرف الجر، فالتقدير إذن: ومن يبدل نعمة الله كفرا، وجاز حذف المفعول الواحد وحرف الجر لفهم المعنى، ولترتيب جواب الشرط على ما قبله فإنه يدل على ذلك، لأنه لا يترتب على تقدير: أن يكون النعمة هي البدل، والكفر هو المبدل أن يجاب بقوله: * (فإن الله شديد العقاب) * خبر يتضمن الوعيد، ومن حذف حرف الجر الدلالة المعنى قوله: * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات) * أي: بسيئاتهم، ولا يصح أن يكون التقدير: سيئاتهم بحسنات، فتكون السيئات هي البدل، والحسنات هي المبدل، لأن ذلك لا يترتب على قوله: * (إلا من تاب وءامن وعمل صالحا) * * (فإن الله شديد العقاب) * خبر يتضمن الوعيد بالعقاب على من بدل نعمة الله، فإن كان جواب الشرط فلا بد من تقدير عائد في الجملة على اسم الشرط، تقديره: فان الله شديد العقاب له، أو تكون الألف واللام معاقبة للضمير على مذهب الكوفيين، فيغنى عن الربط لقيامها مقام الضمير، وألاولى أن يكون الجواب محذوفا لدلالة ما بعده عليه، التقدير: يعاقبه.
قال عبد القاهر في كتاب (دلائل الإعجار): ترك هذا الإضمار أولى، يعنى بالإضمار شديد العقاب له، لأن المقصود من الآية التخويف لكونه في ذلك موصوفا بأنه
شديد العقاب، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب. لهذا، ولذلك سمى العذاب عقابا، لأنه يعقب الجرم.
وذكر بعض من جمع في التفسير: أن هذه الآية: * (سل بنى إسراءيل) * مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، قال: والتقدير: فإن زللتم إلى آخر الآية: سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله؟ أي: أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.
ولا حاجة إلى ادعاء التقديم والتأخير، بل هذه الأية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض، متلاحمة
137

التركيب، واقعة مواقعها، فالمعنى: أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام، ثم أخبروا أن من زل جازاه الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها، ثم قيل: لا ينتظرون في إيمانهم إلا ظهور آيات بينات، عنادا منهم، فقد أتتهم الآيات، ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم) في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات، بقوله: * (سل بنى إسراءيل كم آتيناهم من آية بينة) * فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز، باللفظ البليغ الموجز، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الآشعار، وبنظم ذوي الانحصار، منزه عنها كلام الواحد القهار.
* (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا) * نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله لهم، ويكذبون بالمعاد، ويسخرون من المؤمنين الفقراء، كعمار، وصهيب، وأبي عبيدة، وسالم، وعامر بن فهيرة، وخباب، وبلال، ويقولون: لو كان نبينا لتبعه أشرافنا، قاله ابن عباس، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه.
وقال مقاتل: في عبد الله بن أبي، وأصحابه، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين، ويقولون: أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم.
وقال عطاء: في علماء اليهود من بني قريظة، والنضير، وقينقاع، سخروا من فقراء المهاجرين، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال، أسهل شيء وأيسره.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني إسرائيل أتتهم آيات واضحة من الله تعالى، وأنهم بدلوا، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا، والاستبشار بها، وتزيينها لهم، واستقامتهم للمؤمنين، فلبني إسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، ويكذبون على كتاب الله، فيكتبون ما شاؤوا لينالوا حظا خسيسا من حظوظ الدنيا، ويقولون: هذا من عند الله.
وقراءة الجمهور: زين، على بناء الفعل للمفعول، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث، وقرأ ابن أبي عبلة: زينت، بالتاء وتوجيهها ظاهر، لأن المسند إليه الفعل مؤنث، وحذف الفاعل لفهم المعنى، وهو: الله تعالى، يؤيد ذلك قراءة مجاهد، وحميد بن قيس، وأبي حيوة: زين، على البناء للفاعل، وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، إذ قبله: * (فإن الله شديد العقاب) *.
وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها، أو بالشهوات التي خلقها فيهم، وإليه أشار بقوله: * (زين للناس حب الشهوات) * الآية، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه، فأعجبهم بهجتها، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه.
وقال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، حين قدم عليه بالمال، قال: اللهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرج بما زينت لنا.
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الله قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها، أو جعل إمهال المزين تزيينا، ويدل عليه قراءة من قرأ: * (زين للذين كفروا الحيواة الدنيا) * على البناء للفاعل. إنتهى كلامه. وهو جار على مذهب المعتزلة بأن الله تعالى لا يخلق الشر، وإنما ذلك من خلق العبد، فلذلك تأول التزيين على الخذلان، أو على الإمهال، وقيل: الزين الشيطان، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعا، وتقبيح ما حسن شرعا. والفرق بين التزيينين: أن تزيين الله بما ركبه ووضعه في الجبلة، وتزيين الشيطان بإذ كار ما وقع غفاله، وتحسينه بوساوسه إياها لهم، وقيل: المزين، نفوسهم كقوله: * (إن النفس لامارة بالسوء) * * (فطوعت له نفسه قتل أخيه) * * (وكذالك سولت لى نفسى) * وقيل: شركاؤهم من الجن والإنس، قال تعالى * (وكذالك زين لكثير من المشركين) * الآية وقال: * (شياطين الإنس والجن يوحى بعضهم إلى بعض) *.
وقيل: المزين هذه الحياة الدنيا قال: * (اعلموا أنما الحيواة الدنيا لعب ولهو) *. وقيل: المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي.
* (ويسخرون من الذين ءامنوا) * الضمير عائد على الذين كفروا، وتقدم من هم، وكلك تقدم القول في: الذين آمنوا، في سبب النزول، ومعنى: يسخرون: يستهزئون
138

وذلك لفقرهم، أو: ولا تباعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو: لاتهامهم إياهم أنهم مصدقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، أو لضعفهم وقلة عددهم؛ أقوال أربعة.
وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله: زين، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا، فليس أمرا متجددا، وصدرت الثانية بالمضارع، لأنها حالة تتجدد كل وقت وقيل: هو على الاستئناف أي: الفعل المضارع، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير: وهم يسخرون، فيكون خبر مبتدأ محذوف، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية.
* (والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة) * فوق: ظرف مكان، فقيل: هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة، لأن المؤمنين في عليين في السماء، والكفار في سجين في الأرض وقيل: الفوقية، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين: نعيم المؤمنين في الجنة، ونعيم الكافرين في الدنيا، وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشى الشبه، وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ، وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا، فهم عالون عليهم، متطاولون، يضحكون منهم، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم، وإما بالنسبة إلى علو حالهم، لأنهم في كرامة، والكفار في هوان.
وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله * (والذين اتقوا) * ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي، ولتبعث المؤمن على التقوى، وليزول قلق التكرار لو كان: والذين آمنوا، لأن قبله: الذين أمنوا، وانتصاب: يوم القيامة، على الظرف، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبرا، أي: كائنون هم يوم القيامة، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه، وبين من تضاف هي إليه، كقولك: زيد فوق عمرو في المنزل، حتى كأنه قيل: زيد أعلى من عمرو في المنزلة، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه، قال ابن عطية: وهذا كله من التحميلات، حفظ لمذهب سيبوية، والخليل، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك. إنتهى كلامه.
وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل، فالبصريون يمنعون: زيد أحسن إخوته، والكوفيون يجيزونه، وأما أن ذلك في: فوق، فلا نعلمه، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى، وأعلى أفعل تفضيل، نقل الخلاف إليها، والذي نقوله: إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل، وإنما تدل على مطلق العلو، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علو، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية، وإنما هي تدل على مطلقها، ولا نقول: إنها مرادفة لأسفل، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن، كقوله: الركب أسفل منكم، كما أن أعلى كذلك، فإذا تقرر هذا كان المعنى، والله أعلم، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علو، بل المعنى أن العلو يوم القيامة إنما هو للمتقين، وغيرهم سافلون، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم.
* (والله يرزق من يشاء بغير حساب) * اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم، فقيل: هذا الرزق في الآخرة، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب، ويكون معنى قوله: بغير حساب، أي بغير نهاية، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب، أو يكون المعنى: أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض، فهو بغير حساب، وقيل: هذا الرزق في الدنيا، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير، يصير إليهم بلا حساب، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره، قاله ابن عباس، وقال نحوه القفال، قال: قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش، ورؤساء اليهود، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه.
وقالوا ما معناه: إنها متصلة بالكفار، وقال الزمخشري يعني: أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه، كما وسع على قارون وغيره، فهذه
139

التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة، وهي استدارجكم بالنعمة، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم، انتهى كلامه.
ولم يذكر غيره في معنى هذه الجملة.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المعنى: والله يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا، فلا تستعظموا ذلك، ولا تقيسوا عليه الآخرة، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله، فيرزقان بحساب ذلك، بل الرزق بغير حساب الأعمال، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه، فالمعنى: إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا، فهو فوق الكافر يوم القيامة. إنتهى كلامه. والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا، بسبب ما رزقوا: من التمكن فيها، والرياسة، والبسط، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة. بسبب ما رزقوا من: الفوز، والتفرد بالنعيم السرمدي، بين أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة، وأنه لا يحاسبه أحد، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي، لأن ذلك لا يكون إلا لمن يخاف نفاذ ما عنده.
وقالوا في الحديث الصحيح: (يمين الله ملآى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، فإن ذلك لم ينقص شيئا مما عنده.
ومفعول يشاء محذوف، التقدير: من يشاء أن يرزقه، دل عليه ما قبله، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها: الفعل، والفاعل، والمفعول الأول وهو: من فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر، وإن كان للفاعل فهو من صفاته، أو للمفعول فهو من صفاته، فإذا كان للفعل كان المعنى: يرزق من يشاء رزقا غير حساب، أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: العد، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته، أو يعني به المحاسبة في الآخرة، أي: رزقا لا يقع عليه حساب في الآخرة، وتكون على هذا الباء زائدة.
وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال: المعنى يرزق الله غير محاسب عليه، أي متفضلا في إعطائه لا يحاسب عليه، أو غير عاد عليه ما يعطيه، ويكون ذلك مجازا عن التقتير والتضييق، فيكون: حساب مصدرا عبر به عن اسم الفاعل من: حاسب، أو عن اسم الفاعل من: حسب، وتكون الباء زائدة في الحال، وقد قيل: إن الباء زيدت في الحال المنفية، وهذه الحال لم يتقدمها نفي، ومما قيل: إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر:
* فما رجعت بخائبة ركاب
*
أي: فلما رجعت خائبة، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدرا عبر به عن اسم المفعول، أي: غير محاسب على ما يعطي تعالى، أي: لا أحد يحاسب الله تعالى ما منح، فعطاؤه غمرا لا نهاية له.
وإذا كان: لمن، وهو المفعول الأول ليرزق، فالمعنى: إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه الله تعالى، فيكون أيضا حالا منه، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب، أو المفعول من حسب، أي: غير معدود عليه ما رزق، أو على حذف مضاف أي: غير ذي حساب، ويعني بالحساب: المحاسبة أو العد، والباء زائدة في هذه الحال أيضا. ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى: أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظن، ولا يقدر أن يأتيه الرزق، كما قال: * (ويرزقه من حيث لا يحتسب) * فيكون حالا أيضا أي: غير محتسب، وهذه الأوجه كلها متكلفة، وفيها زيادة الباء.
والأولى أن تكون الباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بباء الحال، وعلى هذا يصلح أن تكون: للمصدر، وللفاعل، وللمفعول، ويكون الحساب مرادا به المحاسبة، أو العد، أي: يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق، أو: ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق.
وكون الباء لها معنى أولى من كونها زائدة، وكون المصدر باقيا على المصدرية أولى من كونه مجازا عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافا لغير أولى من جعله مضافا لذي محذوفة، ولا تعارض بين قوله: * (جزاء من ربك عطاء حسابا) * أي: محسبا أي: كافيا من: أحسبني كذا، إذا كفاك، وبغير حساب معناه العد، أو المحاسبة، أو لاختلاف
140

متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة، فبغير حساب في التفضل المحض، وعطاء حسابا في الجزاء المقابل للعمل، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما: فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه، وفي الآخرة يحاسب، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به، فبغير حساب الله تعالى وهو حال منه، أي: يرزق ولا يحاسب عليه، أو ولا يعد عليه، وحسابا صفة للعطاء، فقد اختلف من جهة من قاما به، وزال بذلك التعارض.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر الله في أيام معدودات، أي: قلائل، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي، ودل الأمر على مشروعية في أيام، وهو: جمع، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم، وإن كان حال من تأخر أفضل، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم، فلذلك أخبر أن الله رفع الإثم عنهما، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه الله تعالى، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى الله تعالى.
ثم أمر بالتقوى، وتكرار الأمر بها في الحج، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى، قسم الله تعالى ذلك إلى قسمين، فقال: * (ومن الناس من يعجبك قوله فى الحيواة الدنيا) * أي: يؤنقك ويروق لفظه، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهرا، ثم لا يكتفي بما زور ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد الله على ما في قلبه من ذلك، فيحلف بالله أن سريرته مثل علانيته، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقا، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه الله ولا يرضاه، ثم ذكر أنه من شدة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى الله تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم. أي: مصحوبا بالإثم فليس غضبه لله. إنما هو لغير الله، فلذلك استصحبه الإثم.
ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغتر بغير الله، وهو جهنم، فهي كافية له، ومبدلته بعد عزه ذلا، ثم ذم تعالى ما مهد لنفسه من جهنم، وبئس الغاية الذم، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم، وهو: من باع نفسه في طلاب رضى الله تعالى، واكتفى بهذا الوصف الشريف، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات، إذ صار عبد الله يوجد حيث رضي الله تعالى، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف الله به ورحمه، ورأفة الله به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان، وذكر الرأفة التي هي، قيل: أرق من الرحمة.
ثم نادى المؤمنين بقوله: * (ذلك بأن الذين كفروا) * وأمرهم بالدخول في الإسلام، وثنى بالنهي، لأن الأمر أشق من النهي، لأن الأمر فعل والنهي ترك، ولمجاورته قوله: * (ومن الناس من يشرى نفسه) * فصار نظير: * (يوم تبيض وجوه * فى وجوه) * فأما الذين اسودت وجوهم) * ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: سلوك معاصي الله، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب، حكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل، فدل بعزته على القدرة، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع: * (*) * ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان، وهي: سلوك معاصي الله، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس، فاعلموا أن الله عزيز لا يغالب، حكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل، فدل بعزته على القدرة، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع: * (ليجزى الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى) *.
ثم أعرض تعالى عن خطابهم، وأخبر عنهم إخبار الغائبين، مسليا لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام، فقال: ما ينتظرون إلا قيام الساعة يوم فصل الله بين العباد، وقضاء الأمر، ورجوع جميع الأمور إليه، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم، كما جاء في الحديث: (إن يوم القيامة يأتيهم الله في صورة) كذا، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص.
ثم قال تعالى: * (سل بنى إسراءيل) * منبها على أن من أرسل إليهم الأنبياء، وظهرت لهم المعجزات الإعراض
141

عن ذلك، وعدم قبول الإيمان، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق.
ثم أخبر تعالى: أن من بدل نعمة الله عاقبه أشد العقاب، قابل نعمة الله التي هي مظنة الشكر بالكفر، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم الله، وهو: تزيين الحياة الدنيا، فرغبوا في الفاني وزهدو ا في الباقي إيثارا للعاجل على الآجل، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان، والرغبة فيما عند الله تعالى، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين، وهم الذين يحبهم، بغير حساب، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير، والتقدير: وأعاد ذكرهم بلفظ: من يشاء، تنبيها على إرادته لهم، ومحبته إياهم، واختصاصهم به، إذ لو قال: والله يرزقهم بغير حساب، لفات هذا المعنى ذكر المشيئة التي هي الإرادة.
2 (* (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جآءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشآء إلى صراط مستقيم * أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأسآء والضرآء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين ءامنوا معه متى نصر الله ألاإن نصر الله قريب * يسألونك ماذا ينفقون قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والا قربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم * كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولائك حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولائك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم) *)) 2
حسب: بكسر السين: يحسب، بفتحها في المضارع وكسرها، من أخوات: ظن، في طلبها اسمين: هما في مشهور قول النحاة: مبتدأ وخبر، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه، وقد يأتي في المتيقن قليلا، نحو قوله:
* حسبت التقى والجود خير تجارة
*
رباحا إذا ما المرء أصبح ثاقلا
*
142

ومصدرها: الحسبان، ويأتي: حسب أيضا بمعنى: احمر تقول: حسب الرجل يحسب، وهو أحسب، كما تقول: شقر فهو أشقر، ولحسب أحكام ذكرت في النحو.
لما: الجازمة حرف، زعموا أنه مركب من: لم وما، ولها أحكام تخالف فيها: لم، منها: أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى، وذلك في فصيح الكلام، ومنها: أنه يجب اتصال نفيها بالحال، ومنها: أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء.
زلزل: قلقل وحرك، وهو رباعي عند البصريين: كدحرج، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو.
ماذا: إذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت: ما يراد بها الاستفهام، وذا: للإشارة، وإن دخل التجوز فتكون: ذا، موصولة، لمعنى: الذي، والتي، وفروعها، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام، فتفتقر: ذا، إذ ذاك إلى صلة، وتكون مركبة مع: ما، الاستفهامية، فيصير دلالة مجموعهما دلالة: ما، الاستفهامية لو انفردت، ولهذا قالت العرب: عن ماذا تسأل؟ باثبات ألف: ما، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع: ما، الموصولة، أو: ما، النكرة الموصوفة، فتكون دلالة مجموعها دلالة: ما الموصولة، أو الموصوفة، لو انفردت دون: ذا، والوجه الأخر هو عن الفارسي.
الكره: بضم الكاف وفتحها، والكراهية والكراهة مصادر لكره، قاله الزجاج، بمعنى: أبغض، وقيل: الكره بالضم ما كرهه الإنسان، والكره، بالفتح ما أكره عليه، وقيل: الكره بالضم اسم المفعول، كالخبر، والنقض، بمعنى: المخبور والمنقوص، والكره بالفتح. المصدر.
عسى: من أفعال المقاربة، وهي فعل، خلافا لمن قال: هي حرف ولا تتصرف، ووزنها: فعل، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع، أو نون إناث، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو: عسيا وعسوا، خلافا للرماني، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي، ولا يخص حذف: إن، من المضارع بالشعر خلافا لزاعم ذلك، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو، وهي: في الرجاء تقع كثيرا، وفي الإشفاق قليلا قال الراغب.
الصد: ناحية الشعب والوادي المانع السالك، وصده عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدا يمنعه. إنتهى. ويقال: صد يصد صدودا: أعرض، وكان قياسه للزومه: يصد بالكسر، وقد سمع فيه، وصده يصده صدا منعه، وتصدى للشيء تعرض له، وأصله تصدد، نحو: تظني بمعنى تظنن، فوزنه تفعل، ويجوز أن تكون تفعلي نحو: يعلني، فتكون الألف واللام للإلحاق، وتكون من مضاعف اللام.
زال: من أخوات كان، وهي التي مضارعها: يزال، وهي من ذوات الياء، ووزنها فعل بكسر العين، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها، وهو: يزيل، ولا تستعمل إلا منفية بحرف نفي، أو بليس، أو بغير أو: لا، لنهي أو دعاء.
الحبوط: أصله الفساد، وحبوط العمل بطله، وحبط بطنه انتفخ، والحبطات قبيلة من بني تميم، والحنبطي: المنتفخ البطن.
المهاجرة: انتقال من أرض إلى أرض، مفاعلة من الهجر، والمجاهد مفاعلة من جهد، استخرج الجهد والاجتهاد، والتجاهد بذل الوسع، والمجهود والجهاد بالفتح: الأرض الصلبة.
* (كان الناس أمة واحدة) * مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا، وأن ذلك ليس مختصا بهذا الزمان الذي بعثت فيه، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغيا وحسدا وتنازعا في طلب الدنيا.
والناس: القرون بين آدم ونوح وهي عشرة، كانوا على الحق حتى اختلفوا، فبعث الله نوحا فمن بعده، قاله ابن عباس، وقتادة. أو: قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين، أو: آدم وحده، عن مجاهد، أو: هو وحواء، أو: بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسما كانوا على الفطرة، قاله أبي وابن زيد، أو:
143

آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل، أو: بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفارا أمثال البهائم، قاله عكرمة، وقتادة. أو: قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى؛ أو: أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام، أو: قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفارا قاله ابن عباس، أو: الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهى. أو: صنفا واحدا، فكان المراد: أن الكل من جوهر واحد، وأب واحد، ثم خص صنفا من الناس ببعث الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم تكريما لهم، قاله الماتريدي فهذه إثنا عشر قولا في الناس.
وأما في التوحيد فخمسة أقوال: أما في الإيمان، وأما في الكفر، وأما في الخلقة على الفطرة، وأما في الخلو عن الشرائع، وأما في كونهم من جوهر واحد. وهو الأب.
وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله: * (فبعث الله) * وإنما بعثوا حين الاختلاف، ويؤكده قراءة عبد الله * (أمة واحدة) * فاختلفوا، وبقوله: * (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال، وبدلالة العقول، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق، ويكون آدم بعث إلى أولاده، وكانوا مسلمين، وبالولادة على الفطرة، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق، وبإقرارهم في يوم الذر.
ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى، وهو قوله تعالى: * (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) * والقرآن يفسر بعضه بعضا، وتقدم شرح: أمة في قوله: * (ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *.
وفي قراءة أبي: كان البشر، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون، ومن جعل الاتحاد في الإيمان قدر، فاختلفوا فبعث الله، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير، إذ كانت بعثة النبيين إليهم، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة: نوح على نبينا وعليه السلام، يقول الناس له: أنت أول الرسل، المعني: إلى قوم كفار، لأن آدم قبله، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان. * (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين) * أي: أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع، ومنذرين بعقاب من عصى، وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس، وأقبل لما يلقى النبي، وفيها اطمئنان المكلف، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة، ومنه. * (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) * وانتصاب: مبشرين ومنذرين، على الحال المقارنة.
* (وأنزل معهم الكتاب بالحق) * معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحبا لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحبا لهم، لكنه انتهى إليهم.
والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفردا وضع موضع الجمع، وقد قيل به.
ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقا: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوبا بالحق، وتكون حالا مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله: * (فبعث الله) *.
ولا يقال: إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابا يتلى ويكتب، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.
وقال القاضي: الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى، وترك الظلم وغيرهما، انتهى كلامه.
وما ذكر لا يظهر، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب، وإنما ذلك على سبيل الجواز، ثم أتى الشرع بهما، فصار ذلك الجائز في العقل واجبا بالشرع، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلا بعد الوحي قطعا، فإذن يتقدم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطعا.
قال القاضي: وظاهر
144

الآية يدل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق، طال ذلك الكتاب أو قصر، دون أو لم يدون، كان معجزا أو لم يكن، لأن كون الكتاب منزلا معهم لا يقضي شيئا من ذلك. انتهى كلامه.
ويحتمل أن يكون التجوز في: أنزل، فيكون بمعنى: جعل، كقوله: * (وأنزلنا الحديد) *. ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع، ويحتمل أن يكون التجوز في الكتاب، فيكون بمعنى الموحى به، ولما كان كثيرا مما أوحى به بكتب، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه.
* (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * الللام لام العلة، ويتعلق بأنزل، والضمير في: ليحكم، عائد على الله في قوله: فبعث الله، وهو المضمر في: أنزل، وهذا هو الظاهر، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس، وقيل: عائد على الكتاب أي: ليحكم الكتاب بين الناس، ونسبة الحكم إليه مجاز، كما أسند النطق إليه في قوله: * (هاذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) * وكما قال:
* ضربت عليك العنكبوت نسيجها
*
وقضى عليك به الكتاب المنزل
*
ولأن الكتاب هو أصل الحكم، فأسند إليه ردا للأصل، وهذا قول الجمهور، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل: النبي، قال: ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله، فيعود على أفراد الجمع، أي: ليحكم كل نبي بكتابة، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم، بالنون، وهو متعين عوده على الله تعالى، ويكون ذلك التفاتا إذ خرج من ضمير الغائب في: أنزل، إلى ضمير المتكلم، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفا قال: ما معناه لأن مكيا لم يحك عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه، وهي: ليحكم، على بناء الفعل للمفعول، ونقل مكي لنحكم بالنون.
وفي القراءة التي نقل الناس من قوله: وليحكم، حذف الفاعل للعلم به، والأولى أن يكون الله تعالى:
قالوا: ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون. وهي ظرف مكان، وهو هنا مجاز، وانتصابه بقوله: ليحكم، وفيما، متعلق به أيضا، و: فيه، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق..
قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد / صلى الله عليه وسلم)، أو دينه، أو: هما، أو: كتابه.
* (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) * الضمير من قوله: وما اختلف فيه، يعود على، ما عاد عليه في: فيه، الأولى، وقد تقدم أنها عائدة على: ما، وشرح ما المعنى: بما، أهو الدين، أو محمد صلى الله عليه وسلم)؟ أم دينه؟ أم هما؟ أم كتابه؟
والضمير في: أوتوه، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في: فيه، وقيل: الضمير في: فيه، عائد على الكتاب، وأتوه عائد أيضا على الكتاب، التقدير: وما اختلف في الكتاب إلا الذين أوتوه، أي: أوتوا الكتاب.
وقال الزجاج: الضمير في: فيه، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم) إلا الذين أوتوه، أي: أوتوا علم نبوته، فعلوا ذلك للبغي، وعلى هذا يكون الكتاب: التوراة، والذين أوتوه اليهود.
وقيل: الضمير في: فيه، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما، وقيل: يعود الضمير في: فيه، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.
وقال مقاتل: الضمير عائد على الدين، أي: وما اختلف في الدين. انتهى.
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في: أوتوه وفيه الأولى والثانية، يعود على: ما، الموصولة في قوله: فيما اختلفوا فيه، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله، بينه بما نزل في الكتاب، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله: * (ليحكم) *.
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تنبيها منه على شناعة فعلهم،
145

وقبيح ما فعلوه من الاختلاف، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر، وأتى بلفظ: من، الدالة على ابتداء الغاية منبها على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا، لم يتخلل بينهما فترة.
والبينات: التوراة والإنجيل، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى، أو جميع الكتب المنزلة، فالذين أوتوه علماء كل ملة، أو ما في التوراة من صفة هم اليهود والنصارى، أو جميع الكتب المنزلة، فالذين أوتوه علماء كل ملة، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم)، والذين أوتوه اليهود، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم) والذين أوتوه جميع الأمم، أو محمد صلى الله عليه وسلم) والذين أوتوه من بعث إليهم.
والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف، فجعلوا مجيء الآيات البينات سببا لاختلافهم، وذلك أشنع عليهم، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه.
ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجوب ولا داع إلا مجرد البغي والظلم والتعدي.
وانتصاب: بغيا، على أنه مفعول من أجله، و: بينهم، في موضع الصفة له، فتعلق بمحذوف، أي: كائنا بينهم، وأبعد من قال: إنه مصدر في موضع الحال، أي: باغين، والمعنى: أن الحامل على الاختلاف هو البغي، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم) على النبوة، أو كتمهم صفته التي في التوراة، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال:
فالأولان: يختصان بمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم). من أهل الكتاب وغيرهم، والثالث: يكون لسائر الأمم المختلفين، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول، ولذلك قال: * (ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) * والاختلاف الثاني المعني به ازدياد الاختلاف، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا: أوتوه: بأوتوا الكتاب، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب، وقيل: بجحود ما فيه، وقيل: بتحريفه.
وفي قوله: بغيا، إشارة إلى حصر العلة، فيبطل قول من قال: إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزول به الاختلاف الذي كان قبله.
وفي قوله: البينات: دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا.
إلا الذين أوتوه، استثناء مفرغ، وهو فاعل اختلف، و: من بعد ما جاءهم، متعلق باختلف، وبغيا منصوب باختلف، هذا قول بعضهم، قال: ولا يمنع إلا من ذلك، كما تقول: ما قام زيد إلا يوم الجمعة. انتهى كلامه. وهذا فيه نظر، وذلك أن المعنى على الاستثناء، والمفرغ في الفاعل، وفي المجرور، وفي المفعول من أجله، إذ المعنى: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه إلا من بعد ما جاءتهم البينات إلا بغيا بينهم. فكل واحد من الثلاثة محصور.
وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها، شيئان دون الأول من غير عطف، وهو لا يجوز، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوى بعدها إلا، فصارت كالملفوظ بها، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل، ولذلك تأولوا قوله تعالى: * (ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر) * على إضمار فعل التقدير: أرسلناهم بالبينات والزبر، ولم يجعلوا بالبينات متعلقا بقوله: وما أرسلنا، لئلا يكون: إلا، قد استثنى بها شيئان: أحدهما رجالا، والأخر: بالبينات، من غير عطف.
وقد منع أبو الحسن وأبو علي: ما أخذ أحد إلا زيد درهما، وما: ضرب القوم إلا بعضهم بعضا. واختلفا في تصحيحها، فصححها أبو الحسن بأن يقدم على المرفوع الذي بعدها، فيقول: ما أخذ أحد زيد إلا درهما، فيكون: زيد، بدلا من أحد، ويكون: إلا، قد استثنى بها شيء واحد، وهو الدرهم. ويكون إلا درهما استثناء مفرغا من المفعول الذي حذف، ويصير المعنى: ما أخذ زيد شيئا إلا درهما. وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوبا قبل إلا فيقول: ما أخذ أحد شيئا إلا زيد درهما. و: ما ضرب القوم أحدا إلا بعضهم بعضا، فيكون المرفوع بدلا من المرفوع، والمنصوب بدلا من المنصوب، هكذا خرجبه بعضهم.
قال ابن السراح: أعطيت الناس درهما إلا عمرا جائز، ولا يجوز أعطيت الناس درهما إلا عمر الدنانير، لأن الحرف لا يستثنى به إلا واحد، فإن قلت: ما أعطيت الناس درهما إلا
146

عمرا دانقا، على الاستثناء، لم يجز، أو على البدل جاز، فتبدل عمرا من الناس، ودانقا من درهم، كأنك قلت ما أعطيت إلا عمرا دانقا. ويعني: أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين.
قال بعض أصحابنا: ما قاله ابن السراح فيه ضعف، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلا، فأشبه المعطوف بحرف، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلا بدلان. انتهى كلامه.
وأجاز قوم أن يقع بعد إلا مستثنيان دون عطف، والصحيح أنه لا يجوز، لأن إلا هي من حيث المعنى معدية، ولولا إلا لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها، فهي: كواو مع وكالهمزة: التي جعلت للتعدية في بنية الفعل، فكما أنه لا تعدى: واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلا بحرف عطف، فكذلك إلا، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق: من بعد ما جاءهم البينات، وينتصب: بغيا، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله، وتقديره: اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغيا بينهم.
* (فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه) * الذين آمنوا: هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم)، والضمير: فيما اختلفوا، عائد على الذين أوتوه، أي لما اختلف فيه من اختلف، ومن الحق تبيين المختلف فيه، و: من، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من: ما، فتكون للتبعيض، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك، التقدير: لما اختلفوا فيه الذي هو الحق. والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام، ويدل عليه قراءة عبد الله: لما اختلفوا فيه من الإسلام.
وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا، وفي تعيينه خلاف: أهو الجمعة؟ جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا؟ وفي الصحيحين: (نحن الأولون والآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم). فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة، فاليوم لنا وغدا لليهود، وبعد غد للنصارى.
أو الصلاة؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة. قاله زيد بن أسلم.
أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام؟ قالت النصارى: كان نصرانيا، وقالت اليهود: كان يهوديا، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا
) * أو عيسى؟ على نبينا وعليه السلام، جعلته اليهود لعنة، وجعلته النصارى إلها فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه، قاله ابن زيد. أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها؟ أو الصيام؟ اختلفوا فيه، فهدانا الله لشهر رمضان.
فهذه ستة أقوال غير الأول.
وقال الفراء: في الكلام قلب، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه، واختاره الطبري.
قال ابن عطية: ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه، وعساه غير الحق في نفسه، قال: وادعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله: فهدى، يقتضي أنهم أصابوا الحق، وتم المعنى في قوله: فيه، وتبين بقوله: من الحق، جنس ما وقع الخلاف فيه.
قال المهدوي: وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماما، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف. انتهى كلام ابن عطية، وهو حسن.
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه.
وبإذنه: معناه بعلمه، قاله الزجاج أو: بأمره، وتوفيقه، أو بتمكينه، أقوال مرت مشبعا الكلام عليها، في قوله: * (فإنه نزله على قلبك بإذن الله) * ويتعلق بإذنه بقوله: فهدى الله، وأبعد من أضمر له فعلا مطاوعا تقديره: فاهتدوا بإذنه، وهو قول أبي علي، إذ لا حاجة لهذا الإضمار.
* (والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم) * في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه، وتكرر اسم الله في قوله: والله، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة، وذلك أولى من أن يفتقر بإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر، وقد تقدم لذلك نظائر.
وفي قوله: من يشاء، إشعار، بل دلالة، على أن هدايته تعالى منشأها الإرادة فقط، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط * (لا يسأل عما يفعل) *
147

* (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) * نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدة الخوف والبرد وأنواع الأذى، كما قال تعالى: * (وبلغت القلوب الحناجر) * قاله قتادة، والسدي.
أو في حرب أحد، قتل فيها جماعة من المسلمين، وجرت شدائد حتى قال عبد الله بن أبي وأصحابه: إلى متى تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم؟ لو كان محمد نبيا لما سلط عليكم القتل والأسر، فقالوا: لا جرم من قتل منا دخل الجنة. فقال: إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل؟
أو: في أول ما هاجروا إلى المدينة، دخلوها بلا مال، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين، رضي الله تعالى عنهم، فأظهرت اليهود العداوة، وأسر قوم النفاق. قاله عطاء.
قيل: ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال: يهدي من يشاء، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة، فبين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف، أو: لما بين أنه هداهم، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق، فكذا أنتم، أصحاب محمد، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن.
و: أم، هنا منقطعة مقدرة بل والهمزة فتتضمن إضرابا، وهو انتقال من كلام إلى كلام، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية: بأن أم قد تجيء ابتداء كلام، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة، ألف استفهام.
فقوله: قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر، لأنها تتقدر، ببل والهمزة، فكما أن: بل، لا بد أن يتقدمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل، فكذلك ما تضمن معناه.
وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الاستفهام، ويبتدأ بها، فهذا يقتضي أن يكون التقدير: أحسبتم؟ وقال الزجاج: بمعنى بل، قال:
* بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
*
وصورتها، أم أنت في العين أملح؟
*
ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة، فتقدير الآية: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق، فصبروا على استهزاء قومهم بهم، أفتسلكون سبيلهم؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم؟
فتلخص في أم هنا أربعة أقوال: الانقطاع على أنها بمعنى بل والهمزة، والاتصال: على إضمار جملة قبلها، والاستفهام بمعنى الهمزة، والإضراب بمعنى بل؛ والصحيح هو القول الأول.
ومفعولا: حسبتم، سدت أن مسدهما على مذهب سيبويه، وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، وقد تقدم هذا المعنى في قوله: * (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) *.
* (ولما * يأتيكم * مثل الذين خلوا من قبلكم) * الجملة حال، التقدير: غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم، أي: إن دخول الجنة لا بد أن يكون على ابتلاء شدائد،
وصبر على ما ينال من أذى الكفار، والفقر والمجاهد في سبيل الله، وليس ذلك على مجرد الإيمان فقط بل، سبيلكم في ذلك سبيل من تقدمكم من اتباع الرسل. خاطب بذلك الله تعالى عباده المؤمنين، ملتفعا إليهم على سبيل التشجيع والثبيت لهم، وإعلام لهم أنه لا يضركون أعدائكم لا يوافقون، فقد اختلفت الأمم على أنبيائها، وصبروا، حتى آتاهم النصر.
و: لما، أبلغ في النفي من: لم، لأنها تدل على نفي الفعل متصلا بزمان الحال، فهي لنفي التوقع.
والمثل: الشبه، إلا أنه مستعار لحال غريبة، أو قضية عجيبة لها شأن، وهو على حذف مضاف، التقدير: مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره: المؤمنين.
والذين خلوا من قبلكم، متعلق بخلوا، وهو كأنه توكيد، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم.
* (مستهم البأساء والضراء) * هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له، فليس لها موضع من الإعراب، وكأن قائلا قال: ما ذلك المثل؟ فقيل: مستهم البأساء والضراء.
148

والمس هنا معناه: الإصابة، وهو حقيقة في المس باليد، فهو هنا مجاز.
وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم: مستهم، في موضع الحال على إضمار قد، وفيه بعد، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في: خلوا.
وتقدم شرح: البأساء والضراء، في قوله تعالى: * (والصابرين فى البأساء والضراء) * * (وزلزلوا) * أي أزعجوا إعاجا شديدا بالزلزلة، وبني الفعل للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، أي: وزلزلهم أعداؤهم.
* (حتى يقول الرسول) * قرأ الأعمش: وزلوا، و: يقول الرسول، بالواو بدل: حتى، وفي مصحف عبد الله: وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول.
وقرأ الجمهور: حتى، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية، وأما على التعليل، أي: وزلزلوا إلى أن يقول الرسول، أو: وزلزلوا كي يقول الرسول، والمعنى الأول أظهر، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين.
وقرأ نافع برفع، يقول: بعد حتى، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالا في حين الإخبار، نحو: مرض حتى لا يرجونه، وإما أن يكون حالا قد مضت، فيحكيها على ما وقعت، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين، والمراد به هنا المضي، فيكون حالا محكية، إذ المعنى: وزلزلوا فقال الرسول، وقد تكلمنا على مسائل: حتى، في كتاب (التكميل) وأشبعنا الكلام عليها هناك، وتقدم الكلام عليها في هذا الكتاب.
* (والذين ءامنوا معه) * يحتمل معه أن يكون منصوبا بيقول، ويحتمل أن يكون منصوبا بآمنوا.
* (متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) * متى: سؤال عن الوقت، فقيل: ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى، والاستعلام لوقت النصر، فأجابهم الله تعالى فقال: ألا إن نصر الله قريب، وقيل: ذلك على سبيل الاستبطاء، إذ ما حصل لهم من الشدة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام، فقيل: ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين، قالوا ذلك استبطاء للنصر وضجرا مما نالهم من الشدة، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاما بقرب النصر، فتعود كل جملة لمن يناسبها، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين.
وتقدم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى: * (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * وإن قوله: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس، وإن قوله: ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل فى الارض خليفة) *.
وقالت طائفة: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير: حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله؟ فيقول الرسول: ألا إن نصر الله قريب، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان.
قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر. انتهى. وقوله حسن، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة.
وفي قوله: والذين آمنوا، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهرا بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان، ولم يأت، حتى يقول الرسول وهم، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا.
قال ابن عطية: وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول، والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر، لا على شك ولا ارتياب، والرسول اسم الجنس، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول. انتهى كلامه.
واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه، وقيل: هو اليسع، وقيل: هو شعيب، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوما بأعيانهم، وهم أتباع هؤلاء الرسل.
وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم)، وأنزلة، هنا مضافة لأمته، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام، وعلى هذا القول قال بعضهم، وفي هذا الكلام إجمال، وتفصيله أن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم) قالوا: متى نصر الله؟ فقال الرسول: ألا إن نصر الله قريب.
فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل، أو على سبيل أن الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين، فكأنهم قالوا:
قد صبرنا ثقة بوعدك، أو: على أن
149

الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين، والثانية من كلام الله تعالى.
ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب، تضمن الجواب القرب، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو: ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم، كقوله تعالى: * (جاءهم نصرنا) * و * (إذا جاء نصر الله والفتح) *.
وقال ابن عباس: النصر في الآخرة لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء، ومتى انقضى حرب جاءه آخر، فلا يزال في جهاد العدو، والأمر بالمعروف، وجهاد النفس إلى الموت.
وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم، فنتأسى بهم، وننتظر الفرج من الله والنصر، فإنهم أجيبوا لذلك قريبا.
* (يسئلونك ماذا ينفقون) * نزلت في عمرو بن الجموح، كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، سأل بماذا أتصدق؟ وعلى من أنفق؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس. وفي رواية عطاء نزلت في رجل قال؛ إن لي دينارا. قال النبي صلى الله عليه وسلم): (أنفقه على نفسك، فقال إن لي دينارين: فقال: (أنفقهما على أهلك) فقال: إن لي ثلاثة. فقال: (أنفقهما على خادمك) فقال: إن لي أربعة. فقال: (أنفقهما على والديك). فقال إن لي خمسة. فقال: (انفقهما على قرابتك). فقال: إن لي ستة. فقال: (انفقهما في سبيل الله، وهو أحسنها).
وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله، وقال الحسن: هي في التطوع، وقال السدي: هي منسوخة بفرض الزكاة.
قال ابن عطية: وهم المهدوي على السدي في هذا، فنسب إليه أنه قال: إن الآية في الزكاة المفروضة. ثم نسخ منها الوالدان انتهى؛ وقد قال: قدم بهذا القول، وهي أنها في الزكاة المفروضة، وعلى هذا نسخ منها الوالدن ومن جرى مجراهما من الأقربين، وقال ابن جريج: هي ندب، والزكاة غير هذا الإنفاق، فعلى هذا لا نسخ فيها.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة، حتى لقد ورد: الصدقة تطفئ غضب الرب.
والضمير المرفوع في: يسألونك، للمؤمنين، والكاف لخطاب النبي صلى الله عليه وسلم)، و: ماذا، يحتمل هنا النصب والرفع، فالنصب على أن: ماذا، كلها استفهام، كأنه قال: أي شيء ينفقون؟ فماذا منصوب بينفقون، والرفع على أن: ما. وحدها هي الاستفهام، وذا موصولة بمعنى الذي، وينفقون صلة لذا، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي ينفقون به؟ فتكون: ما، مرفوعة بالابتداء، وذا بمعنى الذي خبره، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق، فهو عامل في المعنى دون اللفظ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك، ونظيره ما تقدم من قوله: * (سل بنى إسراءيل كم آتيناهم من آية * بينه) * على ما شرحناه هناك.
و: ماذا، سؤال عن المنفق، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفا تقديره: ولمن يعطونه؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق. قول الشاعر:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول
إلا أن: ماذا، هنا مبتدأ، وخبر، ولا يجوز أن يكون مفعولا بيحاول، لأن بعده:
أنحب فيقضى، أم ضلال وباطل
ويضعف أن يكون: ماذا كله مبتدأ، و: يحاول، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة، فإن حذفه منها فصيح، وذكر ابن عطية: أن: ماذا، إذا كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب، إلا ما جاء من قول الشاعر:
* وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
*
سوى أن يقولوا: إنني لك عاشق
150

فإن عسى لا تعمل في: ماذا، في موضع رفع، وهو مركب إذ لا صلة لذا. انتهى.
*
وإنما لم يكن: لذا، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسما مركبة فهي في موضع نصب، إلا، في ذلك البيت لا نعرفه، بل يجوز أن نقول: ماذا محبوب لك؟ و: من ذا، قائم؟ على تقدير التركيب، فكأنك قلت: ما محبوب؟ ومن قائم؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه؟ على تقديره: من تضربه؟ وجعل: من، مبتدأ.
* (قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) * هذا بيان لمصرف ما ينفقونه، وقد تضمن المسؤول عنه، وهو المنفق بقوله: من خير، ويحتمل أن يكون ماذا سؤالا عن المصرف على حذف مضاف، التقدير مصرف ماذا ينفقون؟ أي: يجعلون إنفاقهم فيكون الجواب إذ ذاك مطابقا، ويحتمل أن يكون حذف من الأول الذي هو السؤال المصرف، ومن الثاني الذي هو الجواب ذكر المنفق، وكلاهما مراد، وإن كان محذوفا، وهو نوع من البلاغة تقدم نظيره في قوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) *.
وقال الزمخشري: قد تضمن قوله تعالى: * (ما أنفقتم من خير) * بيان ما ينفقونه، وهو كل خير، وبني الكلام على هواهم، وهو بيان المصرف، لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها، كقول الشاعر:
* ان الصنيعة لا تكون صنيعة
*
حتى يصاب بها طريق المصنع
*
انتهى كلامه، وهو لا بأس به و * (من خير) * يتناول القليل والكثير.
وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب، ثم بالأحوج فالأحوج، وقد مر الكلام في شيء من هذا الترتيب وشبهه، وقد استدل بهذه الآية على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الواجد، وحمل بعضهم الآية على أنها في الوالدين إذا كانا فقيرين، وهو غني.
* (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم) * ما: في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها، ويجوز أن تكون: ما، من قوله: * (قل ما أنفقتم) * موصولا، وأنفقتم، صلة، و: للوالدين، خبر، فالجار والمجرور في موضع المفرد، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبرا، أو هو معمول لمفرد، أو الجملة.
وإذا كانت: ما، في: ما أنفقتم، شرطية، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: فهو أو فمصرفه للوالدين.
وقرأ علي بن أبي طالب: وما يفعلوا، بالياء، فيكون ذلك من باب الالتفات، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه، أي: وما يفعل الناس، فيكون أعم من المخاطبين قبل إذ يشملهم وغيرهم، وفي قوله: من خير، في الإنفاق يدل على طيب المنفق، وكونه حلالا، لأن الخبيث منهي عنه بقوله: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * وما ورد من أن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، ولأن الحرام لا يقال فيه خير. وقوله: من خير في قوله: وما تفعلوا، هو أعم: من، خير، المراد به المال، لأنه ما يتعلق به هو الفعل، والفعل أعم من الإنفاق، فيدخل الإنفاق في الفعل، فخير، هنا هو الذي يقابل الشر، والمعنى: وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا: وما تفعلوا، راجعا إلى معنى الإنفاق، أي: وما تفعلوا من إنفاق خير، فيكون الأول بيانا للمصرف، وهذا بيان للمجازاة، والأولى العموم، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم.
ولما كان أولا السؤال عن خاص، أجيبوا بخاص، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير، وذكر المجازاة على فعلها، وفي قوله: * (فإن الله به عليم) * دلالة على المجازاة، لأنه إذا كان عالما به جازى عليه، فهي جملة خبرية، وتتضمن الوعد بالمجازاة.
* (كتب عليكم القتال) * قال ابن عباس: لما فرض الله الجهاد على المسلمين، شق عليهم،
151

وكرهوا، فنزلت هذه الآية. وظاهر قوله: كتب، أنه فرض على الأعيان، كقوله: * (كتب عليكم الصيام) * * (كتب عليكم القصاص) * * (فإذا قضيتم الصلواة فاذكروا الله قياما وقعودا) * وبه قال عطاء، قال: فرض القتال على أعيان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم)، فلما استقر الشرع، وقيم به، صار على الكفاية.
وقال الجمهور: أول فرضه إنما كان على الكفاية دون تعيين، ثم استمر الإجماع على أنه فرض كفاية إلى أن نزل بساحة الإسلام، فيكون فرض عين.
وحكى المهدوي، وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع، ويحمل على سؤال سائل، وقد قيم بالجهاد، فأجيب بأنه في حقه تطوع.
وقرأ الجمهور: كتب، مبنيا للمفعول على النمط الذي تقدم قبل هذا من لفظ: كتب وقرأ قوم: كتب مبنيا للفاعل، وينصب القتال، والفاعل ضمير في كتب يعود على اسم الله تعالى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه: لما ذكر ما مس من تقدمنا من اتباع الرسل من البلايا، وأن دخول الجنة معروف بالصبر على ما يبتلى به المكلف، ثم ذكر الإنفاق على من ذكر، فهو جهاد النفس بالمال، انتقل إلى أعلا منه وهو الجهاد الذي يستقيم به الدين، وفيه الصبر على بذل المال والنفس.
* (وهو كره لكم) * أي مكروه، فهو من باب النقض بمنى المنقوض، أو ذوكره إذا أريد به المصدر، فهو على حذف مضاف، أو لمبالغة الناس في كراهة القتال، جعل نفس الكراهة.
والظاهر عود: هو، على القتال، ويحتمل أن يعود على المصدر المفهوم من: كتب، أي: وكتبه وفرضه شاق عليكم، والجملة حال، أي: وهو مكروه لكم بالطبيعة، أو مكروه قبل ورود الأمر.
وقرأ السلمي: كره بفتح الكاف، وقد تقدم ذكر مدلول الكره في الكلام على المفردات.
وقال الزمخشري في توجيه قراءة السلمي: يجوز أن يكون بمعنى المضموم: كالضعف والضعف، تريد المصدر، قال: ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه على سبيل المجاز، كأنهم أكرهوا عليه لشدة كراهته له ومشقته عليهم، ومنه قوله تعالى: * (حملته أمه كرها ووضعته كرها) *. انتهى كلامه.
وكون كره بمعنى الإكراه، وهو أن يكون الثلاثي مصدرا للرباعي هو لا ينقاس، فإن روي استعمال ذلك عن العرب استعملناه.
* (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) *. عسى هنا للاشفاق لا للترجي، ومجيئها للإشفاق قليل، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر، ولو كانت ناقصة لكانت مثل
قوله تعالى: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا) * فقوله: أن تكرهوا، في موضع رفع بعسى، وزعم الحوفي في أنه في موضع نصب، ولا يمكن إلا بتكلف بعيد، واندرج في قوله: شيئا القتال، لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر والقتل، وإفناء الأبدان، وإتلاف الأموال. والخير الذي فيه هو الظفر. والغنيمة بالاستيلاء على النفوس، والأموال أسرا وقتلا ونهبا وفتحا، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم) مرارا.
والجملة من قوله: وهو خير لكم، حال من قوله: شيئا، وهو نكرة، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة، وجوزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة، قالوا: وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها، إذ كانت حالا. انتهى. وهو ضعيف، لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو: مررت برجل عالم وكريم، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه، ودعوى زيادة الواو بعيدة، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة.
* (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) *
152

عسى هنا للترجي، ومجيئها له هو الكثير في لسان العرب، وقالوا: كل عسى في القرآن للتحقيق، يعنون به الوقوع إلا قوله تعالى: * (عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا) * اندرج في قوله: شيئا، الخلود إلى الراحة وترك القتال، لأن ذلك محبوب بالطبع لما في ذلك من ضد ما قد يتوقع من الشر في القتال، والشر الذي فيه هو ذلهم، وضعف أمرهم، واستئصال شأفتهم، وسبى ذراريهم، ونهب أموالهم، وملك بلادهم.
والكلام على هذه إعرابا، كالكلام على التي قبلها.
* (والله يعلم) * ما فيه المصلحة حيث كلفكم القتال * (وأنتم لا تعلمون) * ما يعلمه الله تعالى، لأن عواقب الأمور مغيبة عن عملكم، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير، قال الحسن: لا تكرهوا الملمات الواقعة، فلرب أمر تكرهه فيه أربك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك. وقال أبو سعيد الضرير:
* رب أمر تتقيه
*
جر أمرا ترتضيه
*
* خفى المحبوب منه
*
وبدا المكروه فيه
*
وقال الوضاحي:
* ربما خير الفتى
*
وهو للخير كاره
*
وقال ابن السرحان:
* كم فرحة مطوية
*
لك بين أثناء المصائب
*
* ومسرة قد أقبلت
*
من حيث تنتظر النوائب
*
وقال آخر:
* كم مرة حفت بك المكاره
*
خار لك الله وأنت كاره
*
* (يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه) *؟ طول المفسرون في ذكر سبب نزول هذه الآية في عدة أوراق، وملخصها وأشهرها: أنها نزلت في قصة عبد الله بن جحش الأسدي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم) في ثمانية معه: سعد بن أبي وقاص، وعكاشة بن محيصن، وعقبة بن غزوان، وأبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل بن بيضاء، ووافد بن عبد الله، وخال بن بكير، وأميرهم عبد الله يترصدون عير قريش ببطن نخلة، فوصلوها، ومرت العير فيها عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفل بن عبد الله، وكان ذلك في آخر يوم من جمادى على ظنهم، وهو أول يوم من رجب، فرمى وافد عمرا بسهم فقتله، وكان أول قتيل من المشركين، وأسروا الحكم، وعثمان، وكانا أول أسيرين في الإسلام، وأفلت نوفل، وقدموا بالعير المدينة، فقالت قريش: استحل محمد الشهر الحرام، وأكثر الناس في ذلك، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم) العير، وقال أصحاب السرية: ما نبرج حتى تنزل توبتنا، فنزلت الآية، فخمس العير رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فكان أول خمس في الإسلام.، فوجهت قريش في فداء الأسيرين فقيل: حتى يقدم سعد وعتبة، وكانا قد أضلا بعيرا لهما قبل لقاء العير فخرجا في طلبه، فقد ما، وفودي الأسيران. فأما الحكم فأسلم وأقام بالمدينة وقتل شهيدا ببئر معونة، وأما عثمان فمات بمكة كافرا، وأما نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع بالخندق مع فرسه، فتحطما وقتلهما الله.
وفي هذه القصة اختلاف في مواضع، وقد لخص السخاوندي هذا السبب فقال
153

نزلت في أول سرية الإسلام أميرهم عبد الله بن جحش، أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادى الآخرة، فاشتبه بأول رجب، فعيرهم أهل مكة باستحلاله.
وقيل: نزلت حين عاب المشركون القتال في شهر حرام عام الفتح، وقيل: نزلت في قتل عمرو بن أمية الضمري رجلين من كلاب كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم)، وعمر ولا يعلم بذلك، وكان في أول يوم من رجب، فقالت قريش: قتلهما في الشهر الحرام، فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما فرض القتال لم يخص بزمان دون زمان، وكان من العوائد السابقة أن الشهر الحرام لا يستباح فيه القتال، فبين حكم القتال في الشهر الحرام. وسيأتي معنى قوله * (قل قتال فيه * كبير) * كما جاء: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * وجاء بعده: * (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام) * ذلك التخصيص في المكان، وهذا في الزمان.
وضمير الفاعل في يسألونك، قيل: يعود على المشركين، سألوا تعييبا لهتك حرمة الشهداء، وقصدا للفتك، وقيل: يعود على المؤمنين، سألوا استعظاما لما صدر من ابن جحش واستيضاحا للحكم.
والشهر الحرام، هنا هو رجب بلا خلاف، هكذا قالوا، وذلك على أن تكون الألف واللام فيه للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس، فيراد به الأشهر الحرام وهي: ذو القعدة، ذو الحجة، والمحرم ورجب. وسميت حرما لتحريم القتال فيها، وتقدم شيء من هذا في قوله: * (الشهر الحرام بالشهر الحرام) *.
وقرأ الجمهور: قتال فيه، بالكسر وهو بدل من الشهر، بدل اشتمال وقال الكسائي: هو مخفوض على التكرير، وهو معنى قول الفراء، لأنه قال: مخفوض بعن مضمرة، ولا يجعل هذا خلافا كما يجعله بعضهم، لأن قول البصريين إن البدل على نية تكرار العامل هو قول الكسائي، والفراء.
لا فرق بين هذه الأقوال، هي كلها ترجع لمعنى واحد.
وقال أبو عبيدة: قتال فيه، خفض على الجوار، قال ابن عطية: هذا خطأ. إنتهى. فإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار الذي اصطلح عليه النحاة، فهو كما قال ابن عطية: وجه الخطا فيه هو أن يكون تابعا لما قبله في رفع أو نصب من حيث اللفظ والمعنى، فيعدل به عن ذلك الإعراب إلى إعراب الخفض لمجاورته لمخفوض لا يكون له تابعا من حيث المعنى، وهنا لم يتقدم لا مرفوع، ولا منصوب، فيكون: قتال، تابعا له، فيعدل به عن إعرابه إلى الخفض على الجوار، وإن كان أبو عبيدة عنى الخفض على الجوار أنه تابع لمخفوض، فخفضه بكونه جاور مخفوضا أي: صار تابعا له، ولا نعني به المصطلح عليه، جاز ذلك ولم يكن خطأ، وكان موافقا لقول الجمهور، إلا أنه أغمض في العبارة، وألبس في المصطلح.
وقرأ ابن عباس، والربيع، والأعمش: عن قتال فيه، بإظهار: عن، وهكذا هو في مصحف عبد الله.
وقرئ شاذا: قتال فيه، بالرفع، وقرأ عكرمة: قتل فيه قل قتل فيه، بغير ألف فيهما.
ووجه الرفع في قراءة: قتال فيه، أنه على تقدير الهمزة فهو مبتدأ، وسوغ جواز الابتداء فيه، وهو نكرة، لنية همزة الاستفهام، وهذه الجملة المستفهم عنها هي في موضع البدل من: الشهر الحرام، لأن: سأل، قد أخذ مفعوليه، فلا يكون في موضع المفعول، وإن كانت هي محط السؤال، وزعم بعضهم أنه مرفوع على إضمار اسم فاعل تقديره: أجائز قتال فيه؟ قيل: ونظير هذا، لأن السائلين لم يسألوا عن كينونة القتال في الشهر الحرام، إنما سألوا: أيجوز القتال في الشهر الحرام؟ فهم سألوا عن مشروعيته لا عن كينونته فيه.
* (قل قتال فيه كبير) * هذه الجملة مبتدأ وخبر، و: قتال، نكرة، وسوغ الابتداء بها كونها وصفت بالجار والمجرور، وهكذا قالوا، ويجوز أن يكون: فيه، معمولا لقتال، فلا يكون في موضع الصفة، وتقييد النكرة بالمعمول مسوغ أيضا لجواز الابتدا بالنكرة، وحد الاسم إذا تقدم نكرة، وكان إياها، أن يعود معرفا بالألف واللام، تقول: لقيت رجلا فضربت الرجل، كما قال تعالى: * (كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول) * قيل: وإنما لم يعد بالألف واللام هنا
لأنه ليس المراد تعظيم القتال المذكور المسؤول عنه. حتى يعاد بالألف واللام، بل المراد تعظيم: أي قتال كان في الشهر الحرام، فعلى هذا: قتال الثاني، غير الأول انتهى.
وليست الألف واللام تفيد التعظيم في الاسم، إذ كانت النكرة السابقة، بل هي فيه للعهد السابق، وقيل: في (المنتخب): إنما نكر فيهما لأن النكرة الثانية هي غير الأولى، وذلك أنهم أرادوا بالأول الذي سألوا عنه، فقال عبد الله بن جحش، وكان لنصرة الإسلام وإذلال الكفر، فلا يكون هذا من الكبائر، بل الذي يكون كبيرا هو قتال غير هذا، وهو ما كان الغرض فيه
154

هدم الإسلام وتقوية الكفر، فاختير التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة، ولو وقع التعبير عنهما، أو عن أحدهما، بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة. إنتهى.
واتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام، إذ المعنى: قل قتال فيه لهم كبير، فقال ابن عباس، وقتادة، وابن المسيب، والضحاك، والأوزاعي: إنها منسوخة بآية السيف: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * إذ يلزم من عموم المكان عموم الزمان.
وقيل: هي منسوخة بقوله: * (وقاتلوا المشركين كافة) *، وإلى هذا ذهب الزهري، ومجاهد، وغيرهما.
وقيل: نسخهما غزو النبي صلى الله عليه وسلم) ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.
وقيل: نسخها بيعة الرضوان والقتال في ذي القعدة، وضعف هذا القول بأن تلك البيعة كانت على الدفع لا على الابتداء بالقتال.
وقال عطاء لم تنسخ، وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم، ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه، وروي هذا القول عن مجاهد أيضا؟ وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) لم يكن يغزو في الأشهر الحرم إلا أن يغزى، وذلك قوله: قل قتال فيه كبير.
ورجح كونها محكمة بهذا الحديث، وبما رواه ابن وهب، أن النبي صلى الله عليه وسلم) ودى ابن الحضرمي، ورد الغنيمة والاسيرين، وبأن الأيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة وهذا خاص، والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
* (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل) * هذة جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قوله تعالى: فيه كبير، وكلا الجملتين مقولة، أي: قل لهم قتال في الشهر الحرام إثم كبير، وقل لهم: صد عن كذا إلى آخره، أكبر من القتال، ويحتمل أن يكون مقطوعا من القول، بل إخبار مجرد عن أن الصد عن سبيل الله، وكذا وكذا، أكبر، والمعنى: أنكم يا كفار قريس تستعظمون منا القتال في الشهر الحرام، وما تفعلون أنتم: من الصد عن سبيل الله لمن أراد الإسلام، ومن كفركم بالله، واخراجكم أهل المسجد منه كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، أكبر جرما عند الله مما فعلته السرية من القتال في الشهر الحرام، على سبيل البناء على الظن.
وتقدم لنا أن هذه الجملة من مبتدأ وخبر، فالمبتدأ: صد، وهو نكرة مقيدة بالجار والمجرور، فساغ الابتداء، وهو مصدر محذوف فاعله ومفعوله للعلم بهما، أي: وصدكم المسلمين عن سبيل الله.
وسبيل الله: الإسلام. قاله مقاتل، أو: الحج، لأنهم صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن مكة قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، أو: الهجرة، صدوا المسلمين عنها.
و: كفر به، معطوف على: وصد، وهو أيضا مصدر لازم حذف فاعله، تقديره: وكفركم به، والضمير في: به، يعود على السبيل لأنه هو المحدث عنه بأنه صد عنه، والمعنى: وكفر بسبيل الله، وهو دين الله وشريعته، وقيل: يعود الضمير في: به، على الله تعالى، قاله الحوفي.
والمسجد الحرام: هو الكعبة، وقرئ شاذا والمسجد الحرام بالرفع، ووجهه أنه عطفه على قوله: وكفر به، ويكون على حذف مضاف، أي: وكفر بالمسجد الحرام، ثم حذف الباء وأضاف الكفر إلى المسجد، ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها، فنقول: اختلفوا فيماعطف عليه والمسجد، فقال ابن عطية، والزمخشري، وتبعا في ذلك المبرد: هو معطوف على: سبيل الله، قال ابن عطية: وهذا هو الصحيح، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفا على: سبيل الله، كان متعلقا بقوله: وصد إذ التقدير: وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، فهو من تمام عمل المصدر، وقد فصل بينهما بقوله: وكفر به، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول، وقيل: معطوف على الشهر الحرام، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام، إذ لم يشكوا في تعظيمه، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك، إنتهى، ما ضعف به هذا القول، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين: أحدهما: عن قتال في الشهر الحرام، والآخر: عن
155

المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته، إنما سئل عن القتال فيه، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه، فيصير المعنى: يسألونك عن قتال في الشهر الحرام. وفي المسجد الحرام، فأجيبوا: بأن القتال في الشهر الحرام كبير، وصد عن سبيل الله، وكفر به، ويكون: وصد عن سبيل الله، على هذا، معطوفا على قوله: كبير، أي: القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به.
ويحتمل أن يكون: وصد، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر: قتال، عليه، التقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به كبير، كما تقول: زيد قائم وعمرو، أي: وعمرو قائم، وأجيبوا بأن: القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه، وكونه معطوفا على الشهر الحرام متكلف جدا، ويبعد عنه نظم القرآن، والتركيب الفصيح، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر، تقديره: ويصدون عن المسجد الحرام، كما قال تعالى: * (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد
الحرام) * قال بعضهم: وهذا هو الجيد، يعنى من التخاريج التي يخرج عليه، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر، وهو لا يجوز في مثل هذا إلا في الضرورة، نحو قوله:
أشارت كليب بالأكف الأصابع
أي: إلى كليب، وقيل: هو معطوف على الضمير في قوله: وكفر به، أي: وبالمسجد الحرام، قاله الفراء، ورد بأن هذا لا يجوز إلا بإعادة الجار، وذلك على مذهب البصريين.
ونقول: العطف المضمر المجرور فيه مذاهب:.
أحدها: أنه لا يجوز إلا بإعادة الجار إلا في الضرورة، فإنه يجوز بغير إعادة الجار فيها، وهذا مذهب جمطهور البصريين.
الثاني: أنه يجوز ذلك في الكلام، وهو مذهب الكوفيين، ويونس، وأبي الحسن، والأستاذ أبي علي الشلوبين.
الثالث: أنه يجوز ذلك في الكلام إن أكد الضمير، وإلا لم يجز في الكلام، نحو: مررت بك نفسك وزيد، وهذا مذهب الجرمي.
والذي نختاره أن يجوز ذلك في الكلام مطلقا، لأن السماع يعضده، والقياس يقويه. أما السماع فما روي من قول العرب: ما فيها غيره وفرسه، بجر الفرس عطفا على الضمير في غيره، والتقدير: ما فيها غيره وغير فرسه، والقراءة الثانية في السبعة: * (تساءلون به والارحام) * أي: وبالأرحام وتأويلها على غير العطف على الضمير، مما يخرج الكلام عن الفصاحة، فلا يلتفت إلى التأويل. قرأها كذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحي بن وثاب، والأعمش، وأبو رزين، وحمزة.
ومن ادعى اللحن فيها أو الغلط على حمزة فقد كذب، وقد ورد من ذلك في أشعار العرب كثير يخرج عن أن يجعل ذلك ضرورة، فمنه قول الشاعر:
* نعلق في مثل السواري سيوفنا
*
فما بينها والأرض غوط نفانف
*
وقال آخر:
* هلا سألت بذي الجماجم عنهم
*
وأبي نعيم ذي اللواء المحرق
*
وقال آخر:
* بنا أبدا لا غيرنا يدرك المنى
*
وتكشف غماء الخطوب الفوادح
*
156

وقال آخر:
* إذا أوقدوا نارا لحرب عدوهم
*
فقد خاب من يصلى بها وسعيرها
*
وقال آخر:
* لو كان لي وزهير ثالث وردت
*
من الحمام عدانا شر مورود
*
وقال رجل من طيء:
* إذا بنا، بل أنيسان، أتقت فئة
*
ظلت مؤمنة ممن تعاديها
*
وقال العباس بن مرادس:
* أكر على الكتيبة لا أبالي
*
أحتفي كان فيها أم سواها
*
وأنشد سيبويه رحمه الله:
* فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا
*
فاذهب فما بك والأيام من عجب
*
وقال آخر:
* أبك آية بي أو مصدر
*
من حمر الجلة جأب جسور
*
فأنت ترى هذا السماع وكثرته، وتصرف العرب في حرف العطف، فتارة عطفت بالواو، وتارة بأو، وتارة ببل، وتارة بأم، وتارة بلا، وكل هذا التصرف يدل على الجواز، وإن كان الأكثر أن يعاد الجار كقوله، تعالى: * (وعليها وعلى الفلك تحملون) * * (فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها) * * (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب) * وقد خرج على العطف بغير إعادة الجار قوله: * (ومن لستم له برازقين) * عطفا على قوله: * (لكم فيها معايش) * أي: ولمن. وقوله: * (وما يتلى عليكم) * عطفا على الضمير في قوله: فيهن، أي: وفيما يتلى عليكم.
وأما القياس فهو أنه كما يجوز أن يبدل منه ويؤكد من غير إعادة من غير إعادة جار، كذلك يجوز أن يعطف عليه من غير إعادة جار، ومن احتج للمنع بأن الضمير كالتنوين، فكان ينبغي أن لا يجوز العطف عليه إلا مع الإعادة لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه، وإذا تقرر أن العطف بغير إعادة الجار ثابت من كلام العرب في نثرها ونظمها، كأن يخرج عطف: والمسجد الحرام، على الضمير في: به، أرجح، بل هو متعين، لأن وصف الكلام، وفصاحة التركيب تقتضي ذلك.
وإخراج أهله، معطوف على المصدر قبله، وهو مصدر مضاف للمفعول، التقدير: وإخراجكم أهله، والضمير في: أهله، عائد على: المسجد الحرام، وجعل، المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه، أو لأنهم يصيرون أهله في العاقبة، ولم يجعل المقيمين
157

من الكفار بمكة أهله لأن بقاءهم عارض يزول، كما قال تعالى: * (وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون) * و: منه، متعلق بإخراج، والضمير في: منه، عائد على المسجد الحرام، وقيل: عائد على: سبيل الله، وهو الإسلام، والأول أظهر. و: أكبر، خبر عن المبتدأ الذي هو: وصد، وما عطف عليه، ويحتمل أن يكون خبرا عن المجموع، ويحتمل أن يكون خبرا عنها باعتبار كل واحد واحد، كما تقول: زيد وعمرو وبكر أفضل من خالد، نزيد: كل واحد منهم أفضل من خالد، وهذا الظاهر لا المجموع، وإفراد الخبر لأنه أفعل تفضيل مستعمل: بمن، الداخلة على المفضول في التقدير، وتقديره: أكبر من القتال في الشهر الحرام، فحذف للعلم به.
وقيل: وصد مبتدأ. و: كفر، معطوف عليه، وخبرهما محذوف لدلالة خبر: وإخراج، عليه. والتقدير: وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام أكبر، ولا يجتاج إلى هذا التقدير لأنا قد بينا كون: أكبر، خبرا عن الثلاثة.
وعند الله، منصوب بأكبر، ولا يراد: بعند، المكان بل ذلك مجاز.
وذكر ابن عطية، والسجاوندي عن الفراء أنه قال: وصد عطف على كبير، قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأن المعنى يسوق إلى أن قوله: وكفر به، عطف أيضا على كبير، ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده. انتهى كلام ابن عطية، وليس كما ذكر، ولا يتعين ما قاله من أن: وكفر به، عطف على، كبير، إذ يحتمل أن يكون الكلام قد تم عند قوله: وصد عن سبيل الله، ويكون قد أخبر عن القتال في الشهر الحرام بخبرين. أحدهما: أنه كبير، والثاني: أنه صد عن سبيل الله، ثم ابتدأ فقال: والكفر بالله، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال الذي هو كبير، وهو صد عن سبيل الله. وهذا
معنى سائغ حسن، ولا شك أن الكفر بالله وما عطف عليه أكبر من القتال المذكور. وقوله: ويجيء من ذلك أن إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر عند الله، وهذا بين فساده، ليس بكلام مخلص، لأنه لا يجيء منه ما ذكر إلا بتكلف بعيد، بل يجيء منه أن إخراج أهل المسجد منه أكبر عند الله من القتال المخبر عنه بأنه كبير، وبأنه صد عن سبيل الله، فالمحكوم عليه بالأكبرية هو الإخراج، والمفضول فيها هو القتال لا الكفر والفتنة، أي: الكفر والشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة وغيرهم.
أو التعذيب الحاصل للمؤمنين ليرجعوا عن الإسلام، فهي أكبر حرما من القتل، والمعنى عند جمهور المفسرين أن الفتنة التي كانت تفتن المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا، أشد اجتراما من قتلهم إياكم في المسجد الحرام، وقيل: المعنى: والفتنة أشد من أن لو قتلوا ذلك المفتون، أي فعلكم بكل إنسان، أشد من فعلنا، لأن الفتنة ألم متجدد، والقتل ألم منقض.
ومن فسر الفتنة بالكفر كان المعنى عنده: وكفركم أشد من قتلنا أولئك، وصرح هنا بالمفضول، وهو قوله: من القتل، ولم يحذف. لأنه لا دليل على حذفه، بخلاف قوله: أكبر عند الله، فإنه تقدم ذكر المفضول عليه، وهو: القتال، وقال عبد الله بن جحش في هذه القصة شعرا:
* تعدون قتلا في الحرام عظيمة
*
وأعظم منها لو يرى الرشد راشد
*
صدودكم عما يقول محمد
وكفر به والله راء وشاهد
*
* وإخراجكم من مسجد الله رحله
*
لئلا يرى لله في البيت ساجد
*
فإنا، وإن عيرتمونا بقتلة
وأرجف بالإسلام باغ وحاسد
*
* سقينا من ابن الحضرمي رماحنا
*
بنخلة لما أوقد الحرب واقد
*
* دما، وابن عبد الله عثمان بيننا
*
ينازعه غل من القد عاند
*
* (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) * الضمير في: يزالون، للكفار، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله: يسألونك، هو الكفار، والضمير المنصوب في: يقاتلونكم، خوطب به المؤمنون، وانتقل عن خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى خطاب المؤمنين، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار، ومباينتهم لهم، ودوام تلك
158

العداوة، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم، وقدرتهم على ذلك.
و: حتى يردوكم، يحتمل الغاية، ويحتمل القليل، وعليهما حملها أبو البقاء وهي متعلقة في الوجهين: بيقاتلونكم، وقال ابن عطية: ويردوكم، نصب بحتى لأنها غاية مجردة، وقال الزمخشري: وحتى، معناها التعليل، كقولك: فلان يعبد الله حتى يدخل الجنة، أي: يقاتلونكم كي يردوكم. انتهى. وتخريج الزمخشري أمكن من حيث المعنى، إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين، وهو: المقاتلة، ذكر لها علة توجيها، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل، وذلك بخلاف الغاية، فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه، فزمان وجوده مقيد بغايته، وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علة، وفرق في القوة بين المقيد بالغاية والمقيد بالعلة لما في
التقييد بالعلة من ذكر الحامل وعدم ذلك في التقييد بالغاية.
و: عن دينكم، متعلق: بيردوكم، والدين هنا الإسلام، و: إن استطاعوا، شرط جوابه محذوف يدل عليه ما قبله، التقدير: إن استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم، ومن جوز تقديم جواب الشرط، قال: ولا يزالون، هو الجواب.
وقال الزمخشري: إن استطاعوا، استبعاد لاستطاعتهم، كقول الرجل لعدوه: إن ظفرت بي قلا تبق علي، وهو واثق بأنه لا يظفر به. انتهى قوله: ولا بأس به.
* (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة) * ارتد: افتعل من الرد، وهو الرجوع، كما قال تعالى: * (فارتدا علىءاثارهما قصصا) * وقد عدها بعضهم فيما يتعدى إلى اثنين، إذا كانت عنده، بمعنى: صير وجعل، من ذلك قوله: * (فارتد بصيرا) * أي: صار بصيرا، ولم يختلف هنا في فك المثلين، والفك هو لغة الحجاز، وجاء افتعل هنا بمعنى التعمل والتكسب. لأنه متكلف، إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه، فلذلك جاء افتعل هنا، وهذا المعنى، وهو التعمل والتكسب، هو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.
و: منكم، في موضع الحال من الضمير المستكن في: يرتدد، العائد على: من، و: من، للتبعيض، و: عن دينه، متعلق بيرتدد، والدين: هنا هو الإسلام، لأن الخطاب مع المسلمين، والمرتد إليه هو دين الكفر، بدليل أن ضد الحق الباطل، وبقوله: * (فيمت وهو كافر) * وهذان شرطان أحدهما معطوف على الآخر بالفاء المشعرة بتعقيب الموت على الكفر بعد الردة واتصاله بها، ورتب عليه حبوط العمل في الدنيا والآخرة. وهو حبطه في الدنيا باستحقاق قبله، وإلحاقه في الأحكام بالكفار وفي الآخرة بما يؤول إليه من العقاب السرمدي، وقيل: حبوط أعمالهم في الدنيا هو عدم بلوغهم ما يريدون بالمسلمين من الإضرار بهم ومكايدتهم، فلا يحصلون من ذلك على شيء، لأن الله قد أعز دينه بأنصاره.
وظاهر هذا الشرط والجزاء ترتب حبوط العمل على الموافاة على الكفر، لا على مجرد الاتداد، وهذا مذهب جماعة من العلماء، منهم: الشافعي، وقد جاء ترتب حبوط العمل على مجرد الكفر في قوله: * (ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله) * * (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) * * (والذين كذبوا بئاياتنا ولقاء الاخرة حبطت أعمالهم) *
159

* (لئن أشركت ليحبطن عملك) * والخطاب في المعنى لأمته، وإلى هذا ذهب مالك، وأبو حنيفة، وغيرهما، يعني: أنه يحبط علمه بنفس الردة. دون الموافاة عليها، وإن راجع الإسلام، وثمرة الخلاف تظهر في المسلم إذا حج، ثم ارتد، ثم أسلم، فقال مالك: يلزمه الحج، وقال الشافعي: لا يلزمه الحج.
ويقول الشافعي: اجتمع مطلق ومقيد، فتقيد المطلق، ويقول غيره: هما شرطان ترتب عليهما شيئان، أحد الشرطين: الإرتداد، ترتب عليه حبوط العمل، الشرط الثاني: الموافاة على الكفر، ترتب عليها الخلود في النار.
والجملة من قوله: وهو كافر، في موضع الحال من الضمير المستكن في: فيمت، وكأنها حال مؤكدة، لأنه لو استغنى عنها فهم معناها، لأن ما قبلها يشعر بالتعقيب للارتداد. وكون الحال جاء جملة فيها مبالغة في التأكيد، إذ تكرر الضمير فيها مرتين، بخلاف المفرد، فإنه فيه ضمير واحد.
وتعرض المفسرون هنا لحكم المرتد، ولم تتعرض الآية إلا لحبوط العمل، وقد ذكرنا الخلاف فيه هل يشترط فيه الموافاة على الكفر أم يحبط بمجرد الردة؟ وأما حكمه بالنسبة إلى القتل، فذهب النخعي والثوري: إلى أنه يستتاب محبوسا أبدا، وذهب طاووس، وعبيد بن عمير، والحسن، على خلاف عنه، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والشافعي: في أحد قوليه، إلى أنه يقتل من غير استتابة. وروي نحو هذا عن أبي موسى، ومعاذ، وقال جماعة من أهل العلم: يستتاب، وهل يستتاب في الوقت؟ أو في ساعة واحدة؟ أو شهر؟ روي هذا عن علي، أو ثلاثة أيام؟ وروي عن عمر، وعثمان، وهو قول مالك فيما رواه ابن القاسم، وقول أحمد، وإسحاق، والشافعي، في أحد قوليه، وأصحاب الرأي: أو مائة مرة؟ وهو قول الحسن.
وقال عطاء: إن كان ابن مسلمين قتل دون استتابة، وإن كان أسلم ثم ارتد أستتيب. وقال الزهري: يدعي إلى الإسلام، فإن تاب وإلا قتل. وقال أبو حنيفة: يعرض عليه الإسلام، فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل، فيؤجل ثلاثة أيام. والمشهور عنه، وعن أصحابه، أنه لا يقتل حتى يستتاب.
والزنديق عندهم والمرتد سواء.
وقال مالك: تقتل الزنادقة من غير استتابة، ولو ارتد ثم راجع ثم ارتد، فحكمه في الردة الثانية أو الثالثة أو الرابعة كالأولى، وإذا راجع في الرابعة ضرب وخلي سبيله، وقيل: يحبس حتى يرى أثر التوبة والإخلاص عليه، ولو انتقل الكافر من كفر إلى كفر، فالجمهور على أنه لا يقتل.
وذكر المزني، والربيع، عن الشافعي: أن المبدل لدينه من أهل الذمة يلحقه الإمام بأرض الحرب، ويخرجه من بلده، ويستحل ماله مع أموال الحربيين إن غلب على الدار، هذا حكم الرجل.
وأما المرأة إذا ارتدت فقال مالك، والأوزاعي، والليث، والشافعي: تقتل كالرجل سواء، وقال عطاء، والحسن، والثوري، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن شبرمة، وابن عطية لا تقتل. وروي ذلك عن علي وابن عباس.
وأما ميراثه، فأجمعوا على أن أقرباءه من الكفار لا يرثونه إلا ما نقل عن قتادة، وعمر بن عبد العزيز، أنهم يرثونه، وقد روي عن عمر خلاف هذا، وقال علي، والحسن، والشعبي، والحكم، والليث، وأبو حنيفة في أحد قوليه، وابن راهويه: يرثه أقرباؤه المسلمون. وقال مالك، وربيعة وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو ثور: ميراثه في بيت المال، وقال ابن شبرمة، وأبو يوسف، ومحمد، والأوزاعي في إحدى الروايتين: ما اكتسبه بعد الردة لورثته المسلمين. وقال أبو حنيفة، ما اكتسبه
في حالة الإسلام قبل الردة لورثته المسلمين.
وقرأ الحسن: حبطت بفتح الباء، وهما لغتان، وكذا قرأها أبو السماك في جميع القرآن، وقوله: * (فأولئك حبطت أعمالهم) * أتى باسم الإشارة وهو يدل على من اتصف بالأوصاف السابقة، وأتى به مجموعا حملا على معنى: من، لأنه أولا حمل على اللفظ في قوله: * (يرتد * فيمت وهو كافر) * وإذا جمعت بين الحملين، فالأصح أن تبدأ بالحمل على اللفظ، ثم بالحمل على المعنى. وعلى هذا الأفصح جاءت هذه الآية * (وفى * الدنيا) * متعلق بقوله: * (حبطت) *.
* (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير هذه الجملة، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة يحتمل أن تكون ابتدأ إخبار من الله تعالى بخلود هؤلاء في النار، فلا تكون داخلة في الجزاء وتكون معطوفة على الجملة الشرطية،
160

ويحتمل أن تكون معطوفة على قوله: * (فأولئك حبطت أعمالهم) * فتكون داخلة في الجزاء، لأن المعطوف على الجزاء جزاء، وهذا الوجه أولى، لأن القرب مرجح، وترجح الأول بأنه يقتضي الاستقلال.
* (إن الذين ءامنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله) * سبب نزولها أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه عقاب علينا فيما فعلناه فهل نطمع منه أجرا وثوابا فنزلت لأن عبد الله كان مؤمنا وكان مهاجرا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدا، ثم هي عامة في من اتصف بهذه الأوصاف. وقال الزمخشري إن عبد الله بن جحش وأصحابه، حين قتلوا الحضرمي، ظن قوم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت. انتهى كلامه. وهو كالأول، ألا أنه اختلف في الظان، ففي الأول ابن جحش، وفي قول الزمخشري: قوم، وعلى هذا السبب فمناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة. وقيل: لما أوجب الجهاد بقوله: * (كتب عليكم القتال) * وبين أن تركه سبب للوعيد، اتبع ذلك بذكر من يقوم به، ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويتبعه وعد، وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع، لأن الإيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشئ الواحد. وأتى خبر: أن، جملة مصدرة: بأولئك، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكريرا لموصول بالعطف مشعرا بالمغايرة في الذوات، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة، لا: إن الذين آمنوا، صنف وحده مغاير: للذين هاجروا وجاهدوا، وأتى بلفظة: يرجون، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة، إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أقبل أم لا؟ وأيضا فلأن المذكورة في الأية ثلاثة أوصاف، ولا بد مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة، فلذلك قال: فأولئك يرجون، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال تعالى: * (والذين يؤتون ما ءاتوا وقلوبهم وجلة) *.
وروي عن قتادة أنه قال: هو لأخيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء، كما يسمعون، وقيل: الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته، لا في أصل الثواب، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق، و: رحمت، هنا كتب بالتاء على لغة من يقف عليها بالتاء هنا، أو على اعتبار الوصل لأنها في الوصل تاء، وهي سبعة مواضع كتبت: رحمت، فيها بالتاء. أحدها هذا، وفي الأعراف: * (إن رحمت الله قريب) * وفي هود: * (قالوا أتعجبين من) * وفي مريم * (ذكر رحمت ربك) * وفي الزخرف * (أهم يقسمون * رحمت ربك) * * (* ورحمت ربك خير مما تجمعون) * وفي الروم * (فانظر إلىءاثار * رحمت الله) * * (والله غفور رحيم) * لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة، وزاد وصفا آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران، فكأنه قيل: الله تعالى، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه، فالرحمة متحققة، لأنها من صفاته تعالى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة إخبار الله تعالى عن القرون الماضية أنهم كانوا على سنن واحد، وأنه بعث إليهم النبيين مبشرين من أطاع بالثواب من الله تعالى، ومحذرين من عصى من عقاب الله، وقدم البشارة لأنها هي المفروح بها، ولأنها نتيجتها رضي الله عن من اتبع أوامره واجتنب نواهيه، وأنزل معهم كتابا من عنده مصحوبا بالحق اللائح، ليكون أضبط لما أتوا به من الشرائع، لأن ما جاؤوا به مما ليس في كتاب يقرأ ويدرس على مر الأعصار، وربما يذهب بذهابهم، فإذا كان ما شرع لهم مخلدا في الطروس كان أبقى، وإن ثمرة الكتب هي الفصل بين الناس فيما وقع فيه اختلافهم من أمر عقائدهم، وتكاليفهم، ومصالح دنياهم، ثم ذكر أنه ما اختلف فيما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، أي: أوتوا
161

الكتاب، ووصل إليهم من عند الله، وذلك بعد وضوح الآيات ومجيئها لهم، فكأن ما سبيله إلى الهداية والفصل في الاختلاف عند هؤلاء سببا للاختلاف، فرتبوا على مجيء الشيء الواضح ضد مقتضاه، وأن الحامل على ذلك إنما هو البغي والظلم الذي صار بينهم، ثم هدى الله المؤمنين لاتباع الحق الذي اختلف فيه من اختلف، وذلك بتيسير الله تعالى لهم، ذلك من غير سابقة استحقاق، بل هدايته إياهم الحق هو بتميكنه تعالى لذلك.
ثم ذكر تعالى أن الهداية للصراط المستقيم إنما تكون لمن شاء تعالى هدايته، ثم ذكر تعالى مخاطبا للمؤمنين، إذ كان قد أخبر ببعثة الرسل بالتكاليف الشرعية، أنه لا يحسب أن تنال الرتبة العالية من الفوز بدخول الجنة، ولما يقع ابتلاء لكم كما ابتلى من كان قبلكم، ثم فسر مثل الماضين بأنهم مستهم البأساء والضراء، وأنهم أزعجوا حتى سألوا ربهم عن وقت مجيء النصر لتصبر نفوسهم على ما ابتلاهم به، ولينتظروا الفرج من الله عن قرب، فأجيبوا بأن نصر الله قريب وما هو قريب، فالحاصل: فسكنت نفوسهم من ذلك الإعاج بانتظار النصر القريب.
ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عما ينفقون من أموالهم في وجوه البر؟ فلم يبين لهم جنس ما ينفقون ولا مقداره، وذكر مصرف ذلك، لأنه هو الأهم في الجواب، وكأنه قيل: أي شيء ينفقون من قليل أو كثير فمصرفه لأقرب الناس إليكم، وهما: الوالدان: اللذان كانا سببا في إيجادك وتربيتك من لدن خلقت إلى أن صار لك شيء من الدنيا، وفي الحنو عليك، ثم ذكر: الأقربين بصفة التفضيل، لأنهم هم الذين يشاركونك في النسب، والإنفاق عليهم صدقة وصلة، ثم ذكر اليتامى: وهم الذين قد توفي آباؤهم فليس لهم من يقوم بمصالحهم، فالإنفاق عليهم إحسان جزيل، ثم ذكر: المساكين، وهم الذين انتهوا، من الفقراء، إلى حالة المسكنة، وهي عدم الحركة والتصرف في أحوال الدنيا ومعاشها، ثم أخبر تعالى: أن ما أنفقتم فالله عليم به ومحصيه، فيجازي عليه ويثيب.
ثم أخبر تعالى عن فرض القتال على المؤمنين، وأنه مكروه للطباع لما فيه من إتلاف المهج وانتقاص الأموال، وانتهاك الأجساد بالسفر فيه وبغيره، ثم ذكر أن الإنسان قد يكره الشيء وهو خير له، لأن عقابه إلى خير، فالقتال، وإن كان مكروها للطبع، فإنه خير إن سلم، فخيره بالظفر بأعداء الله، وبالغنيمة، واستيلاء عليهم قتلا ونهبا وتملك دار، وإن قتل فخيره أن له عند الله مرتبة الشهداء.
ويكفيك ما ورد في هذه المرتبة العظيمة في كتاب الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم ذكر مقابل هذا وهو قوله * (وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) * فمن المحبوب ترك القتال، وهو مدعاة إلى الدعاء والراحة، وفي ذلك الشر العظيم من تسلط أعداء الله والإيقاع بالمسلمين، واستئصال شأفتهم بالقتل والنهب وتملك ديارهم، فمتى أخلد الإنسان إلى الراحة طمع فيه عدوه، وبلغ منه مقاصده، ولقد أحسن زهير حيث قال:
* جريء متى يظلم يعاقب بظلمه
*
سريعا، وإن لا يبد بالظلم يظلم
*
ثم ذكر تعالى أنه يعلم ما لا يعلمون حيث شرع القتال، فهو تعالى عالم بما يترتب لكم من المصالح الدينية والدنيوية على مشروعية القتال.
ثم ذكر تعالى أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن القتال في الشهر الحرام، لما كان وقع ذلك منهم، لا على سبيل القصد، بل على سبيل الظن أن الزمان الذي وقع فيه ليس هو من الشهر الحرام، فأخبروا أن ذلك هو إثم كبير، إذ كانت العادة أن الأشهر لحرم لا قتال فيها، ثم ذكر أن أكبر من ذلك هو ما يرتكبه الكفار من صد المسلمين عن سبيل الله، ومن الكفر بالله، وبالمسجد الحرام، ومن إخراج أهله منه.
ثم ذكر تعالى أن الفتنة أكبر من القتل وهو فتنة الرجل المسلم عن دينه، أكبر من قتله وهو على دينه، لأن تلك الفتنة تؤول به إلى النار، وقتله هذا يؤول به إلى الجنة.
ثم أخبر تعالى عن دوام عداء عداوة الكفار، وأن مقصدهم إنما هو فتنتكم عن دينكم ورجوعكم إلى ما هم عليه من الضلال، وأنه متى أمكنهم ذلك وقدروا عليه قاتلوكم، ثم أخبر تعالى أن من رجع عن دينه الحق إلى دينه الباطل، ووافى على ذلك، فجميع ما تقدم من أعماله الصالحات قد بطلت في الدنيا بإلحاقه بالكفار، وإجراء أحكام المرتدين
162

عليه، وفي الآخرة فلا يبقى لها ثمرة يرتجي بها غفرانا لما اجترح، بل مآله إلى النار خالدا فيها.
ثم لما ذكر حال المرتد عن دينه، ذكر حال من آمن بالله وثبت على إيمانه، وهاجر من وطنه الذي هو محل الكفر إلى دار الإسلام، ثم جاهد في سبيل الله من كفر بالله، وأنه طامع في رحمة الله.
ثم ذكر تعالى أنه غفور لما وقع منه قبل ا لإيمان ولما يتخلل في حالة الإيمان من بعض المخالفة، وأنه رحيم له، فهو يحقق له ما طمع فيه من رحمته.
2 (* (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهمآ إثم كبير ومنافع للناس وإثمهمآ أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذالك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * فى الدنيا والا خرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شآء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم * ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولائك يدعون إلى النار والله يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون * ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النسآء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين * نسآؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لانفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) *)) 2
الخمر: هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، سمى بذلك من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة، وتخمرت واختمرت، وهي حسنة الخمرة، والخمر ما واراك من الشجر وغيره، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي: في مكان خاف. وخمر فتاتكم، وخامري أم عامر، مثل الأحمق، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من السباع، ومعناه: ادخلي الخمر واستتري.
فلما كانت تستر العقل سميت بذلك، وقيل: لأنها تخمر: أي تغطي حتى تدرك وتشتد.
وقال ابن الأنباري: سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي: تخالطه، يقال: خامر الداء خالط، وقيل: سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك، يقال: اختمر العجين بلغ إدراكه، وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدرا في الأصل وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول.
الميسر: القمار، وهو مفعل من: يسر، كالموعد من وعد، يقال يسرت الميسر أي قامرته، قال الشاعر:
* لو تيسرون بخيل قد يسرت بها
*
وكل ما يسر الأقوام مغروم
*
واشتقاقه من اليسر وهو السهولة، أو من اليسار لأنه يسلب يساره، أو من يسر الشيء إذا وجب، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر، وهو الذي يجزئ الجزور أجزاء، قال الشاعر:
* أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني
*
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم؟
*
وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسرا لأنها موضع اليسر، ثم قيل للسهام: ميسر للمجاورة، واليسر، الذي
163

يدخل في الضرب بالقداح وجمعه، أيسار، وقيل: يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس.
وصفة الميسر أنه عشرة أقداح، وقيل: أحد عشر على ما ذكر فيه، وهي: الأزلام، والأقلام، والسهام. لسبعة منها حظوظ، وفيها فروض على عدة الحظوظ: القد، وله سهم واحد؛ والتوأم، وله سهمان، والرقيب، وله ثلاثة؛ والجلس، وله أربعة؛ والنافس، وله خمسة؛ والمسبل وله ستة؛ والمعلى وله سبعة؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها، وهي: المنيح، والسفيح، والوغد، وقيل: أربعة وهي: المصدر، والمضعف، والمنيح، والسفيح. تزاد هذه الثلاثة أو الأربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بالقداح، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا، ويسمى أيضا: المجيل، والمغيض، والضارب، والضريب. ويجمع ضرباء، وهو رجل عدل عندهم. وقيل يجعل رقيب لئلا يحابي أحدا، ثم يجثو الضارب على ركبتيه، ويلتحف بثوب، ويخرج رأسه يجعل تلك القداح في الربابة، وهي خريطة يوضع فيها، ثم يجلجها، ويدخل يده ويخرج باسم رجل رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الانصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئا، وغرم الجزور كله.
وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام، في قول أبي عمرو، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي.
قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين، وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء، ولا يأكل منه شيئا، ويفتخرون بذلك، ويسمون من لم يدخل فيه: البرم ويذمونه بذلك، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى:
* المطمعو الضيف إذا ماشتا
*
والجاعلو القوت على الياسر
*
وقال زهير في البرم:
* حتى تأوى إلى لا فاحش برم
*
ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
*
وربما قاموا لأنفسهم.
التفكر: في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده، والفكر: هو الذهن.
الخلط: مزج الشيء بالشيء، وخالط فاعل منه، والخلط الشيء المخلوط: كالرغي.
الإخوان: جمع أخ، والأخ معروف، وهو من ولده أبوك وأمك، أو أحدهما، وجمع فعل على فعلان لا ينقاس.
العنت: المشقة، ومنه عنت الغربة، وعقبة عنوت شاقة المصعد، وعنت البعير انكسر بعد جبر.
النكاح: الوطء وهو المجامعة، قال التبريزي: وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه، ومنه قولهم: نكح المطر الأرض. حكاه ثعلب في (الأمالي) عن
أبي زيد وابن الإعرابي، وحكى الفراء عن العرب: نكح المرأة، بضم النون، بضعة هي بين القبل والدبر، فإذا قالوا نكحها، فمعناه أصاب نكحها، أي ذلك الموضع منها، وقلما يقال ناكحها كما يقال باضعها، قيل: وقد جاء النكاح في أشعار العرب يراد به العقد خاصة، ومن ذلك قول الشاعر:
164

* فلا تقربن جارة إن سرها
*
عليك حرام، فانكحن أو تأبدا
*
أي فاعقد وتزوج، وإلا فاجتنب النساء وتوحش، لأنه قال: لاتقربن جارة على الوجه الذي يحرم. وجاء بمعنى المجامعة، كما قال:
* الباركين على ظهور نسوتهم
*
والناكحين بشاطى دجلة البقرا
*
وقال أبو علي: فرقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف، فإذا قالوا: نكح فلان فلانة، أرادوا به العقد لا غير، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته فلا يريدون غير المجامعة.
الأمة: المملوكة من النساء، وهي ما حذف لامه، وهو واو يدل على ذلك ظهورها في الجمع قال الكلابي.
* أما الإماء فلا يدعونني ولدا
*
إذا تداعى بنو الأموات بالعار
*
وفي المصدر: يقال أمة بينة الأموة، وأقرت بالأموة، أي بالعبودية. وجمعت أيضا على: إماء، وأآم، نحو أكمة وآكام وأكم، وأصله أأمو، وجرى فيه ما يقتضيه التصريف، وفي الحديث: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). وقال الشاعر:
* يمشى بها ريد النعا
*
م تماشى الآم الدوافر
*
ووزنها أموة، فحذفت لامها على غير قياس، إذ كان قياسها أن تنقلب ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها كقناة، وزعم أبو الهيثم: أن جمع الأمة أمو، وأن وزنها فعلة بسكون العين، فتكون مثل: نخلة ونخل، وبقلة وبقل، فأصلها: أموة فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين، فلما جمعوها على مثال نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا: أمة وأم، فكرهوا أن يجعلوها حرفين، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم، فقدموا الواو، وجعلوه ألفا ما بين الألف والميم، وما زعمه أبو الهيثم ليس بشيء، إذ لو كان على ما زعم لكان الإعراب على الميم كما كان على لام نخل، ولكنه على الياء المحذوفة التي هي لام، إذ أصله ألامو، ثم عمل فيه ما عمل في قولهم: الأدلو، والأجرو، جمع: دلو، وجرو، وأبدلت الهمزة الثانية ألفا كما أبدلت في: آدم، ولذلك تقول: جاءت الآمي، ولو كان على ما زعم أبو الهيثم لكان: جاءت الآم، برفع الميم.
المحيض: مفعل من الحيض يصلح للمصدر والمكان والزمان، تقول. حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا بنوه على: مفعل، بكسر العين وفتحها، وفيما كان على هذا النوع من الفعل الذي هو يائي العين على: فعل يفعل، فيه ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه قياسه مفعل. بفتح العين في المراد به المصدر، وبكسرها في المراد به المكان أو الزمان، فيصير: كالمضرب في المصدر، والمضرب بالكسر، أي: بكسر الراء في الزمان والمكان، فيكون على هذا المحيض، إذا أريد به المصدر، شاذا، وإذا أريد به الزمان والمكان كان على القياس.
المذهب الثاني: أنك مخير بين أن تفتح عينه أو تكسره، كما جاء في هذا المحيض والمحاض، وحجة هذا القول أنه كثر في ذلك الوجهان فاقتاسا.
المذهب الثالث: القصر على السماع، فما قالت فيه العرب: مفعل، بالسكر أو مفعل بالفتح لا نتعداه، وهذا هو أولى المذاهب.
وأصل الحيض في اللغة السيلان، يقال: حاض السيل وفاض، وقال الفراء: حاضت الشجرة إذا سال صمغها، وقال الأزهري: ومن هذا قيل للحوض حوض، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل، والعرب تدخل الواو على الياء، والياء على الواو، ولأنها من حيز واحد وهو
165

الهواء.
الاعتزال: ضد الاجتماع، وهو التيأس من الشيء والتباعد منه، وتارة يكون بالبدن، وتارة بالقلب، وهو افتعال من العزل، وهو تنجية الشيء من الشيء.
أنى: اسم ويستعمل شرطا ظرف مكان، ويأتي ظرف زمان بمعنى: متى واستفهاما بمعنى: كيف، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط، وحرف الاستفهام، وهو في موضع نصب لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة.
* (ويسئلونك عن * الخمر) * سبب نزولها سؤال عمر ومعاذ، قالا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر والميسر، فإنه مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون؟ فبين لهم مصرف ذلك في الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، ثم ذكر تعالى فرض القتال والجهاد في سبيل الله، ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر، إذ هما أيضا من مصارف المال، ومع مداومتهما قل أن يبقى مال فتتصدق به، أو تجاهد به، فلذلك وقع السؤال عنهما.
وقال بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ: أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، وسورة الأنعام مكية، فلا يعتبر بما فيها من قوله: * (الظالمين قل لا أجد) * وقال ابن جبير: لما نزل * (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) * كره الخمر قوم للإثم، وشربتها قوم للمنافع، حتى نزل: * (لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى) * فاجتنبوها في أوقات الصلاة، حتى نزل: * (فاجتنبوه) * فحرمت. قال مكي: فهذا يدل على أن هذه منسوخة بآية المائدة، ولا شك في أن نزول المائدة بعد البقرة، وقال قتادة: ذم الله الخمر بهذه الآية ولم يحرمها، وقال بعض الناس: لا يقال إن هذه الآية ناسخة لما كان مباحا من شرب الخمر، لأنه يلزم منه أن الله أنزل إباحتها، ثم نسخ، ولم يكن ذلك، وإنما كان مسكوتا عن شربها، فكانوا جارين في شربها على عادتهم، ثم نزل التحريم. كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم.
وجاء: * (ويسئلونك) * بواو الجمع وإن كان من سأل اثنين: وهمنا عمرو ومعاذ، على ما روي في سبب النزول، لأن العرب تنسب الفعل الصادر من الواحد إلى الجماعة في كلامها، وقد تبين ذلك.
والسؤال هنا ليس عن الذات، وإنما هو عن حكم هذين من حل وحرمة وانتفاع، ولذلك جاء الجواب مناسبا لذلك، لا جوابا عن ذات.
وتقدم تفسير الخمر في اللغة، وأما في الشريعة، فقال الجمهور: كل ما خامر العقل وأفسده مما يشرب يسمى خمرا، وقال الرازي، عن أبي حنيفة: الخمر اسم ما يتخذ من العنب خاصة، ونقل عنه السمرقندي: أن الخمر عنده هو اسم ما اتخذ من العنب والزبيب والتمر، وقال: إن المتخذ من الذرة والحنطة ليس من الأشربة، وإنما هو من الأغذية المشوشة للعقل: كالبنج والسيكران، وقيل: الصحيح، عن أبي حنيفة، أن القطرة من هذه الأشربة من الخمر.
وتقدم تفسير الميسر وهو: قمار أهل الجاهلية، وأما في الشريعة فاسم الميسر يطلق على سائر ضروب القمار، والإجماع منعقد على تحريمه، قال علي، وابن عباس، وعطاء وابن سيرين، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، وطاووس، ومجاهد، ومعاوية بن صالح: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج وغيره فهو ميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز إلا ما أبيح من الرهان في الخيل، والفرعة في إبراز الحقوق. وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو فمنه: النرد والشطرنج والملاهي كلها، وميسر القمار: وهو ما يتخاطر الناس عليه، وقال على الشطرنك: ميسر العجم، وقال القاسم، كل شيء ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
* (قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) *. أنزل في الخمر أربع آيات. * (ومن ثمرات النخيل والاعناب) * بمكة ثم هذه الآية، ثم * (لا تقربوا الصلواة وأنتم سكارى) * ثم * (إنما الخمر والميسر) * قال القفال: ووقع التحريم على هذا الترتيب، لأنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شربها والانتفاع بها كثيرا، فجاء
166

التحريم بهذا التدريج، رفقا منه تعالى. انتهى ملخصا.
وقال الربيع: نزلت هذه الآية بعد تحريم الخمر، واختلف المفسرون: هل تدل هذه الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل؟ والظاهر أنها تدل على ذلك، والمعنى: قل في تعاطيهما إثم كبير، أي: حصول إثم كبير، فقد صار تعاطيهما من الكبائر، وقد قال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم) * فما كان إثما، أو اشتمل على الإثم، فهو حرام، والإثم هو الذنب، وإذا كان الذنب كثيرا أو كبيرا في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه، وكيف يقدم على ذلك مع التصريح بالخسران إذا كان الإثم أكبر من النفع؟ وقال الحسن: ما فيه الإثم محرم، ولما كان في شربها الإثم سميت إثما في قول الشاعر:
* شربت الإثم حتى زل عقلي
*
كذاك الإثم يذهب بالعقول
*
ومن قال: لا تدل على التحريم، استدل بقوله: ومنافع للناس، والمحرم لا يكون فيه منفعة، ولأنها لو دلت على التحريم لقن الصحابة بها، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية المائدة، وآية التحريم في الصلاة، وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدنيا، وبأن بعض الحصابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على أحد، فيكون آكد في التحريم.
وظاهر الآية الإخبار بأن فيهما إثما كبيرا. ومنافع حالة الجواب وزمانه، وقال ابن عباس، والربيع: الإثم فيهما بعد التحريم، والمنفعة فيهما قبل التحريم، فعلى هذا يكون الإثم في وقت، والمنفعة في وقت، والظاهر أنه إخبار عن الحال، والإثم الذي فيهما هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب، وقالت طائفة: الإثم الذي في الخمر:
ذهاب العقل، والسباب، والافتراء، والتعدي الذي يكون من شاربها، والمنفعة التي في الخمر، قال الأكثرون: ما يحصل منها من الأرباح والأكساب، وهو معنى قول مجاهد: وقيل ما ذكر الأطباء في منافعها من ذهاب الهم، وحصول الفرح، وهضم الطعام، وتقوية الضعيف، والإعانة على الباءة، وتسخية البخيل، وتصفية اللون، وتشجيع الجبان، وغير ذلك من منافعها. وقد صنفوا في ذلك مقالات وكتبا، ويسمونها: الشراب الريحاني، وقد ذكروا أيضا لها مضار كثيرة من جهة الطب.
والمنفعة التي في الميسر إيسار القامر بغير كد ولا تعب، وقيل: التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور، ويفرقه على الفقراء. وذكر المفسرون هنا حكم ما أسكر كثيره من غير الخمر العنبية، وحد الشارب، وكيفية الضرب، وما يتوقى من المضروب فلا يضرب عليه، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك، وهو مذكور في علم الفقه.
وقرأ حمزة، والكسائي: إثم كثير، بالثاء، ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين، فكأنه قيل: فيه للناس آثام، أي لكل واحد من متعاطيها إثم، أو باعتبار ما يترتب على شربها من توالي العقاب وتضعيفه، فناسب أن ينعت بالكثرة، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرمة، أو باعتبار من زوالها من لدن كانت إلى أن بيعت وشربت، فقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم) الخمر، ولعن معها عشرة: بائعها، ومبتاعها، والمشتراة له، وعاصرها، ومعتصرها، والمعصورة له وساقيها، وشاربها، وحاملها، والمحمولة له، وآكل ثمنها. فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار.
وقرأ الباقون: كبير، بالباء، وذلك ظاهر، لأن شرب الخمر والقمار ذنبهما من الكبائر، وقد ذكر بعض الناس ترجيحا لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى، وهذا خطأ، لأن كلا من القراءتين كلام الله تعالى، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفنسا، إذ كله كلام الله تعالى.
* (وإثمهما أكبر من نفعهما) * في مصحف عبد الله وقراءته: أكثر، بالثاء كما في مصحفه: كثير، بالثاء المثلثة فيهما.
قال الزمخشري: وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من
167

نفعهما، وهو الالتذاذ بشرب الخمر، والقمار، والطرب فيهما، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم، وسلب الأموال بالقمار، والافتخار على الأبرام؛ وفي قراءة أبي: وإثمهما أقرب، ومعنى الكثرة أن: أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة. انتهى كلام الزمخشري.
وقال ابن عباس، وسعد بن جبير، والضحاك، ومقاتل: إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، وقيل: أكبر، لأن عقابه باق مستمر والمنافع زائلة، والباقي أكبر من الفاني.
* (يسئلونك عن الخمر والميسر قل) * تقدم هذا السؤال وأجيبوا هنا بذكر الكمية والمقدار، والسائل في هذه الآية، قيل: هو عمرو بن الجموح، وقيل: المؤمنون وهو الظاهر من واو الجمع.
والنفقة هنا قيل: في الجهاد، وقيل: في الصدقات، والقائلون في الصدقات، قيل: في التطوع وهو قول الجمهور، وقيل: في الواجب، والقائلون في الواجب، قيل: هي الزكاة المفروضة، وجاء ذكرها هنا مجملا، وفصلتها السنة. وقيل كان واجبا عليهم قبل فرض الزكاة أن ينفقوا ما فضل من مكاسبهم عن ما يكفيهم في عامهم، ثم نسخ ذلك بآية الزكاة.
والعفو: ما فضل الذي لا سرف فيه ولا تقصير، قاله الحسن، أو: الطيب الأفضل، قاله الربيع، أو: الكثير، من قوله * (حتى عفوا) * أي: كثروا، قال الشاعر:
* ولكنا يعض السيف منها
*
بأسوق عافيات اللحم كوم
*
أو: الصفو، يقال؛ أتاك عفوا، أي: صفوا بلا كدر، قال الشاعر:
* خذي العفو مني تستديمي مودتي
*
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
أو: ما فضل عن ألف درهم، أو: قيمة ذلك من الذهب، وكان ذلك فرض عليهم قبل فرض الزكاة، قاله، قتادة. أو: ما فضل عن الثلث، أو: عن ما يقوتهم حولا لذوي الزراعة، وشهرا لذوي الفلاحة، أو: عن ما يقوته يومه للعامل بهذه، وكانوا مأمورين بذلك، فشق عليهم، ففرضت الزكاة، أو: الصدقة المفروضة، قاله مجاهد، و: ما لا يستنفد المال ويبقى صاحبه يسأل الناس، قاله الحسن أيضا.
*
وقد روي في حديث الذي جاء يتصدق ببيضة من ذهب، حدف رسول الله صلى الله عليه وسلم) إياه بها، وقوله: (يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به ويقعد يتكفف الناس
، إنما الصدقة على ظهر غنى). وفي حديث سعد: (لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس).
وقال الزمخشري: العفو نقيض الجهد، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد، واستفراغ الوسع؛ وقال ابن عطية: المعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة؛ وقال الراغب: العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع، وهو الفضل عن الغنى، وقال الماتريدي: الفضل عن القوت.
وقرأ الجمهور: العفو، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره: قل ينفقون العفو، وعلى هذا الأولى في قوله: ماذا ينفقون؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون، ويكون كلها استفهامية، التقدير: أي شيء ينفقون؟ فأجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال.
ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء، وذا موصولة بمعنى الذي، وهي خبره، ولا يكون ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقا للسؤال من حيث اللفظ، بل من حيث المعنى، ويكون العائد على الموصول محذوفا لوجود شرط الحذف فيه، تقديره: ما الذي ينفقونه؟.
وقرأ أبو عمر، و: قل العفو، بالرفع، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: قل المنفق العفو، وأن يكون: ما، في موضع رفع بالابتداء، و: ذا، موصول، كما
168

قررناه ليطابق الجواب السؤال، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاما منصوبا بينفقون، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ، واختلف عن ابن كثير في العفو، فروي عنه النصب كالجمهور، والرفع كأبي عمرو.
وقال ابن عطية، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصبه: وهذا متركب على: ما، فمن جعل ما ابتداء، وذا خبره بمعنى الذي، وقدر الضمير في ينفقونه عائدا قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل، ورفعه على الابتداء تقديره: العفو إنفاقكم، أو الذي ينفقون العفو، ومن جعل ماذا إسما واحدا مفعولا: ينفقون، قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل، وصح له التناسب، ورفع العفو مع نصب: ما، جائز ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها. انتهى كلامه. وتقديره: العفو إنفاقكم، ليس بجيد، لأنه أتى بالمصدر، وليس السؤال عن المصدر، وقوله: جائز، ضعيف، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر، بل هو جائز، وليس بضعيف.
* (كذالك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * فى الدنيا والاخرة) * الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه، أي: تبيينا مثل ذلك يبين، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه، أي: يبين التبيين مماثلا لذلك التبيين، واسم الإشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق، قاله ابن الأنباري، وقال الزمخشري: ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة. أو حكم الخمر والميسر، والإنفاق القريب أي: مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل، والمعنى: أنه يوضح الآيات مثل ما أوضح هذا، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه، فبين لهم كتبيين مصرف ما ينفقون، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم الله في قوله: * (فإن الله به عليم) * وتبيين حكم القتال، وتبيين حاله في الشهر الشهر الحرام، وما تضمنته الآية التي ذكر في القتال في الشهر الحرام، وتبيين حال الخمر والميسر، وتبيين مقدار ما ينفقون.
وأبعد من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط، وأبعد من ذلك من جعله إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام.
وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي صلى الله عليه وسلم)، أو للسامع أو للقبيل، فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى: كذلكم، وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد، وذلك في اسم الإشارة، ويؤيد هذا هنا قوله: * (يبين لكم) * فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع.
* (لكم) * متعلق: بيبين، واللام فيها للتبليغ، كقولك: قلت لك، ويبعد فيها التعليل، والآيات، العلامات، والدلائل لعلكم تتفكرون، ترجئة للتفكر تحصل عند تبيين الآيات. لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها، ترتب عليها التفكر والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة.
و * (فى الدنيا والاخرة) * الأحسن أن يكون ظرفا للتفكر ومتعلقا به، ويكون توضيح الآيات لرجاء التفكر في أمر الدنيا والآخرة مطلقا، لا بالنسبة إلى شيء مخصوص من أحوالها، بل ليحصل التفكر فيما يعن من أمرهما، وهذا ذكر معناه أولا الزمخشري فقال: تتفكرون فيما يتعلق بالدارين، فتأخذون بما هو أصلح لكم، وقيل: تتفكرون في أوامر الله ونواهيه، وتستدركون طاعته في الدنيا، وثوابه في الآخرة، وقال المفضل بن سلمة: تتفكرون في أمر النفقة في الدنيا والآخرة، فتمسكون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا، وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى، وقيل: تتفكرون في زوال الدنيا وبقاء الآخرة، فتعملون للباقي منهما. قال معناه ابن عباس والزمخشري، وقيل: تتفكرون في منافع الخمر في الدنيا، ومضارها في الآخرة، فلا تختاروا النفع العاجل على النجاة من العقاب المستمر، وقال قريبا منه الزمخشري، وقيل: تتفكرون في الدنيا فتمسكون، وفي الآخرة فتتصدقون.
وجوزوا أن يكون، في الدنيا، متعلقا بقوله
169

يبين لكم. الآيات، لا: ب يتفكرون، ويتعلق بلفظ: يبين، أي: يبين الله في الدنيا والآخرة. وروي هذا عن الحسن.
ولا بد من تأويل على هذا إن كان التبيين للآيات يقع في الدنيا، فيكون التقدير في أمر الدنيا والآخرة، وإن كان يقع فيهما، فلا يحتاج إلى تأويل، لأن الآيات، وهي: العلامات يظهرها الله تعالى في الدنيا والآخرة.
وجعل بعضهم هذا القول من باب التقديم والتأخير، إذ تقديره عنده كذلك: ويمكن الحمل على ظاهر الكلام لتعلق: في الدنيا والآخرة، بتتفكرون، ففرض التقديم والتأخير، على ما قاله الحسن، يكون عدولا عن الظاهر لا الدليل، وإنه لا يجوز، وليس هذا من باب التقديم والتأخير، لأن: لعل، هنا جارية مجرى التعليل، فهي كالمتعلقة: بيبين، وإذا كانت كذلك فهي والظرف من مطلوب: يبين، وتقدم أحد المطلوبين، وتأخر الآخر، لا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير.
ويحتمل أن تكون: لعلكم تتفكرون، جملة اعتراضية، فلا يكون ذلك من باب التقديم والتأخير، لأن شرط جملة الاعتراض أن تكون فاصلة بين متقاضيين.
قال ابن عطية، وقال مكي: معنى الآية أنه يبين للمؤمنين آيات في الدنيا والآخرة، يدل عليهما وعلى منزلتهما، لعلكم تتفكرون في تلك الآيات. قال ابن عطية: فقوله: في الدنيا، متعلق على هذا التأويل: بالآيات، انتهى كلامه. وشرح مكي الآية بأن جعل الآيات منكرة، حتى يجعل الظرفين صفة للآيات، والمعنى عنده: آيات كائنة في الدنيا والآخرة، وهو شرح معنى لا شرح إعراب، وما ذكره ابن عطية من أنه متعلق على هذا التأويل بالآيات؛ إن عنى ظاهر ما يريده النحاة بالتعلق فهو فاسد، لأن الآيات لا يتعلق بها جار ومجرور، ولا تعمل في شيء البتة، وإن عنى أنه يكون الظرف من تمام الآيات، وذلك لا يتأتى إلا باعتقاد أن تكون في موضع الحال، أي: كائنة في الدنيا والآخرة، ولذلك فسره مكي بما يقتضي أن تكون صفة، إذ قدر الآيات منكرة، والحال والصفة سواء في أن العامل فيهما محذوف إذا كانا ظرفين أو مجرورين، فعلى هذا تكون: في الدنيا، متعلقا بمحذوف لا بالآيات، وعلى رأي الكوفيين، تكون الآيات موصولا وصل بالظرف؛ ولتقرير مذهبهم ورده موضع غير هذا.
* (فى الدنيا والاخرة) *: سبب نزولها أنهم كانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب وغيرهما، ويتجنبون أموالهم، قاله الضحاك، والسدي. وقيل: لما نزلت * (ولا تقربوا مال اليتيم) * * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى) * تجنبوا اليتامى وأموالهم، وعزلوهم عن أنفسهم فنزلت، قاله ابن عباس، وابن المسيب.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر، وكان تركهما مدعاة إلى تنمية المال، وذكر السؤال عن النفقة، وأجيبوا بأنهم ينفقون ما سهل عليهم، ناسب ذلك النظر في حال اليتيم، وحفظ ماله، وتنميته، وإصلاح اليتيم بالنظر في تربيته، فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم، وفي النظر في حال اليتامى إصلاحا لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه، فيكون قد جمعوا بين النفع لأنفسهم ولغيرهم.
والظاهر أن السائل جمع الاثنين بواو الجمع وهي للجمع به وقيل به.
وقال مقاتل: السائل ثابت بن رفاعة الأنصاري، وقيل: عبد الله بن رواحة، وقيل: السائل من كان بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم) من المؤمنين، فإن العرب كانت تتشاءم بخلط أموال اليتامى بأموالهم، فأعلم تعالى المؤمنين أنما كانت مخالطتهم مشؤومة لتصرفهم في أموالهم تصرفا غير سديد، كانوا يضعون الهزيلة مكان السمينة، ويعوضون التافه عن النفيس، فقال تعالى: * (قل إصلاح لهم خير) * الإصلاح لليتيم يتناول إصلاحه بالتعليم والتأديب، وإصلاح ما له بالتنمية والحفظ.
وإصلاح: مبتدأ وهو نكرة، ومسوغ
170

جواز الابتداء بالنكرة هنا هو التقييد بالمجرور الذي هو: لهم، فإما أن يكون على سبيل الوصف، أو على سبيل المعمول للمصدر، و: خير، خبر عن إصلاح، وإصلاح كما ذكرنا مصدر حذف فاعله، فيكون: خير، شاملا للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول، فتكون الخيرية للجانبين معا، أي إن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح، والمصلح فيتناول حال اليتيم، والكفيل، وقيل: خير للولي، والمعنى: إصلاحه من غير عوض ولا أجرة خير له وأعظم أجرا، وقيل: خير، عائد لليتيم، أي: إصلاح الولي لليتيم، ومخالطته له، خير لليتيم من إعراض الولي عنه، وتفرده عنه، ولفظ: خير، مطلق فتخصيصه بأحد الجانبين يحتاج إلى مرجح، والحمل على الإطلاق أحسن.
وقرأ طاووس: قل إصلاح إليهم، أي: في رعاية المال وغيره خير من تحرجكم، أو خير في الثواب من إصلاح أموالكم.
* (وإن تخالطوهم فإخوانكم) * هذا التفات من غيبة إلى خطاب لأن قبله و: يسألونك، قالوا وضمير للغائب، وحكمة هذا الالتفات ما في الإقبال بالخطاب على المخاطب ليتهيأ لسماع ما يلقى إليه وقبوله والتحرز فيه، فالواو ضمير الكفلاء، وهم ضمير اليتامى، والمعنى: أنهم إخوانكم في الدين، فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والإصلاح لذواتهم وأموالهم.
والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو الامتزاج، والمعنى: في المأكل، فتجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري، إذ يشق عليه إفراده وحده بطعامه، فلا يجد بدا من خلطه بماله لعياله، فجاءت الآية بالرخصة في ذلك، قاله أبو عبيد. أو: المشاركة في الأموال والمتاجرة لهم فيها، فتتناولون من الربح ما يختص بكم، وتتركون لهم ما يختص بهم. أو: المصاهرة فإن كان اليتيم غلاما زوجه ابنته، أو جارية زوجها ابنه ورجح هذا القول بأن هذا خلطة لليتيم نفسه، والشركة خلطة لماله، ولأن الشركة داخلة في قوله: * (قل إصلاح لهم * خير) * ولم يدخل فيه الخلط من جهة النكاح، فحمله على هذا الخلط أقرب. وبقوله: فإخوانكم في الدين، فإن اليتيم إذا كان من أولاد الكفار وجب أن يتحرى صلاح ماله كما يتحرى في المسلم، فوجب أن تكون الإشارة بقوله: فإخوانكم، إلى نوع آخر من المخالطة، وبقوله بعد: ولا تنكحوا المشركات، فكأن المعنى: إن المخالطة المندوب إليها في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام. أو الشرب من لبنه وشربه من لبنك، وأكلك في قصعته وأكله في قصعتك، قاله ابن عباس. أو: خلط المال بالمال في النفقة والمطعم والمسكن والخدم والدواب، فيتناولون من أموالهم عوضا عن قيامكم بأمورهم، بقدر ما يكون أجرة مثل ذلك في العمل، والقائلون بهذا منهم من جوز له ذلك، سواء كان القيم غنيا وفقيرا، ومنهم من قال: إذا كان غنيا لم يأكل من ماله. أو: المضاربة التي يحصل بها تنمية أموالهم. والذي يظهر أن المخالطة لم تقيد بشيء لم يقل في كذا فتحمل على أي: مخالطة كانت مما فيه إصلاح لليتيم، ولذلك قال: فإخوانكم، أي: تنظرون لهم نظركم إلى إخوانكم مما فيه إصلاحهم.
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد، فقبل بقوله: * (قل إصلاح لهم * خير) * وبعد بقوله: * (والله يعلم المفسد من المصلح) * فالأولى أن يراد بالمخالطة
ما فيه إصلاح لليتيم بأي: طريق كان، من مخالطة في مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مصاهرة أو غير ذلك.
وجواب الشرط فإخوانكم، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: فهم إخوانكم، وقرأ أبو مجلز: فإخوانكم على إضمار فعل التقدير: فتخالطون إخوانكم، وجاء جواب السؤال بجملتين: إحداهما: منعقدة من مبتدأ وخبر؛ والثانية: من شرط وجزاء.
فالأولى: تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير، وأبرزت ثبوتية منكرا مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية، ولو أضيف عم، أو لكان معهودا في إصلاح خاص، فالعموم لا يمكن وقوعه، والمعهود لا يتناول غيره، فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل، وأخبر عنه: بخير، الدال على تحصيل الثواب، لتبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلبا لثواب الله تعالى.
وأبرزت الثانية: شرطية لأنها أتت لجواز الوقوع لا لطلبه وندبته.
ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم، لجواز تعليمه أمر دين وأدب، والاستئجار له على ذلك، وكالإنفاق عليه من ماله، وقبول ما يوهب له، وتزويجهم مؤاجرته، وبيعه ماله لليتيم، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة، ودفعه إلى غيره مضاربة، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح.
171

ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما.
قيل: وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة، فدلت على جواز المباهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار، وهي أن يخرج هذا شيئا من ماله، وهذا شيئا من ماله فيخلط وينفق يأكل الناس، وإن اختلف مقدار ما يأكلون، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز.
ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف: * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * الآية، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها، فمن ذلك: شراء الوصي من مال اليتيم، والمضاربة فيه، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه، وإنكاح اليتيم لابنته، وهذا مذكور في كتب الفقه.
وجعلهم إخوانا لوجهين: أحدهما: أخوة الدين، والثاني: لانتفاعهم بهم، إما في الثواب من الله تعالى وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم، وكل من نفعك فهو أخوك.
وقال الباقر لشخص: رأيتك في قوم لم أعرفهم، فقال: هم إخواني، فقال: أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان؟ قال: لا، قال: إذن لستم بإخوان.
وفي قوله: * (فإخوانكم) * دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام لتسمية الله تعالى إياهم إخوانا لنا.
* (والله يعلم المفسد من المصلح) * جملة معناها التحذير، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح، ومعنى ذلك: أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به، وكثيرا ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير، لأن من علم بالشيء جازى عليه، فهو تعبير بالسبب عن المسبب، و: يعلم، هنا متعد إلى واحد، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضى للتجدد، وإن كان علم الله لا يتحدد، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح، وهما وصفان يتجددان من الموصوف بهما، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما، وتعلق العمل بالمفسد أولا ليقع الامساك عن الإفساد.
ومن، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدى بمن، كأن المعنى: والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد، أي: المفسد في مال اليتيم من المصالح فيه، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب، وجاءت هذه الجملة بهذذا التقسيم لأن المخالطة على قسمين: مخالطة بإفساد، ومخالطة بإصلاح. ولأنه لما قيل: * (قل إصلاح لهم * خير) * فهم مقابله، وهو أن الإفساد شر، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح. ومقابله * (ولو شاء الله لاعنتكم) * أي: لأخرجكم وشدد عليكم قاله ابن عباس، والسدي وغيرهما، أو: لأهلككم، قاله أبو عبيدة، أو: لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقا قاله، ابن عباس، وهو معنى ما قبله، أو: لكلفكم ما يشق عليكم، قاله الزجاج، أو: لآثمككم بمخالطتهم أو: لضيق عليكم الأمر في مخالطتهم، قاله عطاء، أو: لحرم عليكم مخالطتهم، قاله ابن جرير. وهذه أقوال كلها متقاربة.
ومفعول: شاء، محذوف لدلالة الجواب عليه، التقدير: ولو شاء الله إعناتكم، واللام في الفعل الموجب الأكثر في لسان العرب المجيء بها فيه، وقرأ الجمهور لأعنتكم بتخفيف الهمزة، وهو الأصل، وقرأ البزي من طريق أبي ربيعة (بتليين الهمزة) وقرئ بطرح الهمزة والقاء حركتها على اللام كقراءة من قرأ: فلا اثم عليه، بطرح الهمزة.
قال أبو عبد الله نصر بن علي المعروف بابن مريم: لم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف، وابن كثير لم يحذف الهمزة، وإنما لينها وحققها، فتوهموا أنها محذوفة، فإن الهمزة همزة قطع فلا تسقط حالة الوصل كما تسقط همزات الوصل عند الوصل. إنتهى كلامه. فجعل إسقاط الهمزة وهما، وقد نقلها غيره قراءة كماذ كرناه.
وفي هذه الجملة الشرطية إعلام وتذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى، إذ أزال إعناتهم
172

ومشقتهم في مخالطتهم، والنظر في أحوالهم وأموالهم.
* (أن الله عزيز حكيم) * قال الزمخشري: عزيز غالب يقدر على أن يعنت عباده ويحرجهم، لكنه حكيم لا يكلف إلا ما تتسع فيه طاقتهم. وقال ابن عطية: عزيز لا
يرد أمره، وحكيم أي محكم ما ينفذه. إنتهى.
في وصفه تعالى بالعزة، وهو الغلبة والاستيلاء، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبهم على أنهم لا يقهرونهم، ولا يغالبونهم، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر، فإن هذا الوصف لا يكون إلا لله.
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم، فليس لكم نظر إلا بما أذنت فيه لكم الشريعة، واقتضته الحكمة الإلهية. إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع، فالإصلاح لهم ليس راجعا إلى نظركم، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم.
* (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن رواحة، أعتق أمة وتزوجها، وكانت مسلمة، فطعن عليه ناس من المسلمين، فقالوا: نكح أمة، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم، فنزلت. وقال مقاتل: نزلت في أبي مرثد الغنوي، واسمه كناز بن الحصين، وفي قول: إنه مرثد بن أبي مرثد، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوج: عناق، وهي امرأة من قريش ذات حظ من جمال، مشركة، وقال: يا رسول الله إنها تعجبني، وروي هذا السبب أيضا عن ابن عباس بأطول من هذا.
وقيل: نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان، أعتقها وتزوجها، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى حكم اليتامى في المخالطة، وكانت تقتضي المناكحة وغيرها مما يسمى مخالطة. حتى إن بعضهم فسرها بالمصاهرة فقط، ورجح ذلك كما تقدم ذكره، وكان من اليتامى من يكون من أولاد الكفار، نهى الله تعالى عن مناكحة المشركات والمشركين، وأشار إلى العلة المسوغة للنكاح، وهي: الأخوة الدينية، فنهى عن نكاح من لم تكن فيه هذه الأخوة، واندرج يتامى الكفار في عموم من أشرك.
ومناسبة أخرى: أنه لما تقدم حكم الشرب في الخمر، والأكل في الميسر، وذكر حكم المنكح، فكما حرم الخمر من المشروبات، وما يجر إليه الميسر من المأكولات، حرم المشركات من المنكوحات.
وقرأ الجمهور: ولا تنكحوا، بفتح التاء من نكح، وهو يطلق بمعنى العقد، وبمعنى الوطء بملك وغيره؛ وقرأ الأعمش: ولا تنكحوا بضم التاء من انكح، أي: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات. والمشركات هنا: الكفار فتدخل الكتابيات، ومن جعل مع الله إلها آخر وقيل: لا تدخل الكتابيات، والصحيح دخولهن لعبادة اليهود عزيرا، والنصارى عيسى، ولقوله: * (سبحانه وتعالى عما يشركون) * وهذا القول الثاني هو قول جل المفسرين.
وقيل: المراد مشركات العرب، قاله قتادة.
فعلى قول من قال: إنه تدخل فيهن الكتابيات، يحتاج إلى مجوز نكاحهن فروي عن ابن عباس أنه عموم نسخ، وعن مجاهد عموم خص منه الكتابيات، وروي عن ابن عباس: أن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير دين الإسلام، ونكاحهن حرام.
والآية محكمة على هذا، ناسخة لآية المائدة. وآية المائدة متقدمة في النزول على هذه الآية، وإن كانت متأخرة في التلاوة، ويؤكد هذا قول ابن عمر في (الموطأ): ولا أعلم إشراكا أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى. وروي أن طلحة بن عبيد الله نكح يهودية، وأن حذيفة نكح نصرانية، وان عمر غضب عليهما غضبا شديدا حتى هم أن يسطو عليهما، وتزوج عثمان نائله بنت الفرافصة، وكانت نصرانية.
ويجوز نكاح الكتابيات، قال جمهور الصحابة والتابعين، عمر، وعثمان، وجابر، وطلحة، وحذيفة، وعطاء، وابن المسيب، والحسن، وطاووس، وابن جبير، والزهري، وبه قال الشافعي: وعامة أهل المدينة والكوفة، قيل: أجمع علماء الأمصار على جواز تزويج الكتابيات، غير أن مالكا وابن حنبل كرها ذلك مع وجود المسلمات والقدرة على نكاحهن.
واختلف في تزويج المجوسيات، وقد تزوج حذيفة بمجوسية، وفي كونهم أهل كتاب خلاف، وروي عن
173

جماعة أن لهم نبيا يسمى زرادشت، وكتابا قديما رفع، روي حديث الكتاب عن علي، وابن عباس، وذكر لرفعه وتغيير شريعتهم سبب طويل، والله أعلم بصحته.
ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب الفقه، وظاهر النهي في قوله: ولا تنكحوا التحريم، وقيل: هو نهي كراهة حتى يؤمن، غاية للمنع من نكاحهن، ومعنى إيمانهن اقرارهن بكلمتي الشهادة التزام شرائع الإسلام.
* (ولامة مؤمنة خير من مشركة) * الظاهر أنه أريد بالأمة الرقيقة، ومعنى: خير من مشركة، أي: من حرة مشركة، فحذف الموصوف لدلالة مقابله عليه، وهو أمة، وقيل: الأمة هنا بمعنى بالمرأة، فيشمل الحرة والرقيقة، ومنه: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). وهذا قول الضحاك: ولم يذكر الزمخشري غيره، وفي هذا دليل على جواز نكاح الأمة المؤمنة، ومفهوم الصفة يقتضي أنه لا يجوز نكاح الأمة الكافرة، كتابية كانت أو غيرها، وهذا مذهب مالك وغيره؛ وأجاز أبو حنيفة وأصحابه نكاح الأمة المجوسية خلاف: مذهب مالك وجماعة أنه لا يجوز أن توطأ بنكاح ولا ملك، وروي عن عطاء، وعمرو بن دينار أنه لا بأس بنكاحها بملك اليمين، وتأولا: * (ولا تنكحوا المشركات) * على العقد لا على الأمة المشتراة، واحتجا بسبي أوطاس، وأن الصحابة نكحوا الإماء منهم بملك اليمين.
قيل: وفي هذه الآية دليل لجواز نكاح القادر على طول الحرة المسلمة للأمة المسلمة، ووجه الاستدلال أن قوله: * (خير من مشركة) * معناه من: حرة مشركة، وواجد طول الحرة المشركة واجد لطول الحرة المسلمة، لأنه لا يتفاوت الطولان بالنسبة إلى الإيمان والكفر، فقدر المال المحتاج إليه في أهبة نكاحها سواء، فيلزم من هذا أن واجد طول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأمة المسلمة وهذا استدلال لطيف.
وأمة: مبتدأ، أو مسوغ جواز الابتداء الوصف، و: خير، خبر. وقد استدل بقوله: خير، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك، ويكون النهي أولا على سبيل الكراهة، قالوا: والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين، ولا حجة في ذلك، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد. لا على سبيل الوجود، ومنه: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * و: العسل أحلى من الخل؛ وقال عمر، في رسالته لأبي موسى: الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية فقد اشترك النفعان في مطلق النفع أصلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع، ولا يقتضي ذلك الإباحة، وما من شيء محرم إلا يكاد يكون فيه نفع ما.
وهذه التأويلات في أفعل التفضيل هو على مذهب سيبويه والبصريين في أن لفظة: أفعل، التي للتفضيل، لا تصح حيث لا اشتراك، كقولك: الثلج أبرد من النار، والنور أضوأ من المظلمة؛ وقال الفراء وجماعة من الكوفيين: يصح حيث الاشتراك، وحيث لا يكون اشتراك؛ وقال إبراهيم بن عرفة: لفظة التفضيل تجيء في كلام العرب إيجابا للأول، ونفيا عن الثاني، فعلى قول هو لا يصح أن لا يكون خير في المشركة وإنما هو في الأمة المؤمنة.
* (ولو أعجبتكم) * لو: هذه بمعنى إن الشرطية، نحو: (ردوا السائل ولو بظلف شاة محرق). والواو في: ولو، للعطف على حال محذوفة، التقدير: خير من مشركة على كل حال، ولو في هذه الحال، وقد ذكرنا أن هذا يكون لاستقصاء الأحوال، وأن ما بعد لو هذه إنما يأتي وهو مناف لما قبله بوجه ما، فالإعجاب مناف لحكم الخيرية، ومقتض جواز النكاح لرغبة الناكح فيها، وأسند الإعجاب إلى ذات المشركة، ولم يبين المعجب منها، فالمراد مطلق الإعجاب، إما
174

لجمال، أو شرف، أو مال أو غير ذلك مما يقع به الإعجاب.
والمعنى: أن المشركة، وإن كانت فائقة في الجمال والمال والنسب، فالأمة المؤمنة خير منها، لأن ما فاقت به المشركة يتعلق بالدنيا، والإيمان يتعلق بالآخرة، والآخرة خير من الدنيا، فبالتوافق في الدين تكمل المحبة ومنافع الدنيا من الصحبة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد، وبالتباين في الدين لا تحصل المحبة ولا شيء من منافع الدنيا.
* (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) * القراءة بضم التاء إجماع من القراء، والخطاب للأولياء، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ولا تنكحوا المشركين المؤمنات. وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ما، والنهي هنا للتحريم، وقد استدل بهذا الخطاب على الولاية. في النكاح وأن ذلك نص فيها.
* (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) *: الكلام في هذه الجملة كالكلام في الجملة التي قبلها، والخلاف في المراد بالعبد: أهو بمعنى الرقيق أم بمعنى الرجل؟ كهو في الأمة هناك، وهل المعنى: خير من حر مشرك، حتى يقابل العبد؟ أو من مشرك على الإطلاق فيشمل العبد والحر، كما هو في قوله: خير من مشركة؟
* (أولئك يدعون إلى النار) * هذه إشارة إلى الصنفين، المشركات والمشركين، و: يدعون، يحتمل أن يكون الدعاء بالقول، كقول: * (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا) * ويحتمل أن لا يكون القول، بل بسبب المحبة والمخالطة تسرق إليه من طباع الكفار ما يحمله على الموافقة لهم في دينهم، والعياذ بالله، فتكون من أهل النار.
وقيل: معناه يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النار، وتفرق صاحب هذا التأويل بين الذمية وغيرها، فإن الذمية لا يحمل زوجها على المقاتلة.
وقيل: المعنى أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيوافق، فيكون من أهل النار، والذي يدل عليه ظاهر الآية: أن الكفار يدعون إلى النار قطعا، إما بالقول. وأما أن تؤدي إليه الخلطة، والتآلف والتناكح، والمعنى: أن من كان داعيا إلى النار يجب اجتنابه لئلا يستميل بدعائه دائما معاشره فيجيبه إلى ما دعاه، فيهلك.
وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار، لما هم عليه من الالتباس بالمحرمات من: الخمر والخنزير، والانغماس في القاذورات، وتربية النسل وسرقة الطباع من طباعهم، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من المناكحة مطلقا. وسيأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء الله تعالى، ونبدي هناك إن شاء الله كونها لا تعارض هذه.
و: إلى، متعلق بيدعون كقوله: * (والله يدعو إلى دار السلام) * ويتعدى أيضا باللام، كقوله.
دعوت لما نابني مسورا
ومفعول يدعون محذوف: إما اقتصارا إذا المقصود إثبات أن من شأنهم الدعاء إلى النار من غير ملاحظة مفعول خاص، وإما اختصارا، فالمعنى: أولئك يدعونكم إلى النار.
* (والله يدعو إلى * الجنة والمغفرة) * هذا مما يؤكد منع مناكحة الكفار، إذ ذكر قسمان: أحدهما يجب اتباعه، وآخر يجب اجتنابه، فتباين القسمان، ولا يمكن إجابة دعاء الله واتباع ما أمر به إلا باجتناب دعاء الكفار وتركهم رأسا، ودعاء الله إلى اتباع دينه الذي هو سبب في دخول الجنة، فعبر بالمسبب عن السبب لترتبه عليه.
وظاهر الآية الإخبار عن الله تعالى بأنه هو تعالى يدعو إلى الجنة، وقال الزمخشري: يعنى: وأولياء الله وهم المؤمنون يدعون إلى الجنة والمغفرة، وما يوصل إليهما، فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم، وأن يؤثروا على غيرهم. انتهى. وحامله على أن ذلك هو على حذف مضاف طلب المعادلة بين المشركين والمؤمنين في الدعاء، فلما أخبر عن من أشرك أنه يدعو إلى النار، جعل من آمن يدعو إلى الجنة، ولا يلزم ما ذكر، بل إجراء اللفظ على ظاهره من نسبة الدعاء إلى الله تعالى هو آكد في
التباعد من المشركين، حيث جعل موجد العالم منافيا لهم في الدعاء، فهذا أبلغ من المعادلة بين
175

المشركين والمؤمنين.
وقرأ الجمهور: والمغفرة، بالخفض عطفا على الجنة، والمعنى أنه تعالى يدعو إلى المغفرة، أي: إلى سبب المغفرة، وهي التوبة والتزام الطاعات، وتقدم هنا الجنة على المغفرة، وتأخر عنها في قوله: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * وفي قوله: * (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة) * والأصل فيه تقدم المغفرة على الجنة، لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل، وأما هنا، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة، فإن قبله * (أولئك يدعون إلى النار) * فجاء * (والله يدعو إلى * الجنة) * وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله، فأتى بالأشرف للأشرف، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان، وتهيئة سبب دخول الجنة.
وقرأ الحسن: و: المغفرة، بالرفع على الابتداء، والخبر: قوله: * (بإذنه) * متعلقا بقوله: يدعو.
* (ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) * أي: يظهرها ويكشفها بحيث لا يحصل فيها التباس، أي أن هذا التبيين ليس مختصا بناس دون ناس، بل يظهر آياته لكل أحد رجاء أن يحصل بظهور الآيات تذكر واتعاظ، لأن الآية متى كانت جلية واضحة، كانت بصدد أن يحصل بها التذكر، فيحصل الامتثال لما دلت عليه تلك الآيات من موافقة الأمر، ومخالفة النهي. و: للناس، متعلق: بيبين، و: اللام، معناها الوصول والتبليغ، وهو أحد معانيها المذكورة في أول الفاتحة.
* (ويسئلونك عن المحيض) * في صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت امرأة منهم أخرجوها من البيت، ولم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيت، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فانزل الله تعالى هذه الآية.
وقيل: كانت العرب على ما جاء في هذا الحديث، فسأل أبو الدحداح عن ذلك، فقال: كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت.
وقال مجاهد: كانوا يأتون الحيض استنوا سنة بني إسرائيل في تجنب مؤاكلة الحيض ومساكنتها، فنزلت.
وقيل: كانت النصارى يجامعون الحيض ولا يبالون بالحيض واليهود يعتزلونهن في كل شيء، فأمر الله بالاقتصادبين الأمرين.
وقيل: سأل أسيد بن حضير، وعباد بن بشير، عن المحيض فنزلت وقيل كانت اليهود تقول: من أتى امرأة من دبرها، جاء ولده أحول، فامتنع نساء الأنصار من ذلك، وسئل عن إتيان الرجل امرأته وهي حائض، وما قالت اليهود، فنزلت.
والضمير في: ويسألونك، ضمير جمع، فالظاهر أن السائل عن ذلك هو ما يصدق عليه الجمع، لا اثنان ولا واحد، وجاء: ويسألونك، هنا وقبله في * (فى الدنيا والاخرة) * وقبله * (يسئلونك عن الخمر والميسر قل) * بالواو والعاطفة على * (يسئلونك عن الخمر والميسر) * قيل: لأن السؤال عن الثلاثة في وقت واحد، فجىء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: جمعوا لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن كذا وكذا.
وقيل هذه سؤالات ثلاثة بغير واو * (يسئلونك عن الاهلة) * * (يسئلونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم) * * (يسئلونك عن الشهر الحرام) * وثلاثة: * (يسئلونك عن الخمر) * قيل إنها جاءت بغير واو العطف لأن سؤالهم عن تلك الحوادث وقع في أوقات متباينة متفرقة، فلم يؤت فيها بحرف العطف، لأن كلا منها سؤال مبتدأ. انتهى.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما نهى عن مناكحة الكفار، وتضمن مناكحة أهل الإيمان
176

وإيثار ذلك، بين حكما عظيما من أحكام النكاح، وهو حكم النكاح في زمان الحيض. والمحيض، كما قررناه، هو مفعل، هو مفعل من الحيض يصلح من حيث اللغة للمصدر والزمان والمكان، فأكثر المفسرين من الأدباء زعموا أن المراد به المصدر، وكأنه قيل: عن الحيض، وبه فسره الزمخشري؛ وبه بدأ ابن عطية قال: المحيض مصدر كالمحيض، ومثله المقيل من قال يقيل. قال الراعي:
* بنيت مرافقهن فوق مزلة
*
لا يستطيع بها القراد مقيلا
*
وقال الطبري: المحيض اسم الحيض، ومثله قول رؤبة في العيش:
* إليك أشكو شدة المعيش
*
ومر أعوام نتفن ريشي
*
انتهى كلامه. ويظهر منه أنه فرق بين قول: المحيض مصدر كالحيض، وبين قول الطبري: المحيض اسم الحيض، ولا فرق بينهما؛ يقال فيه مصدر، ويقال فيه اسم مصدر، والمعنى واحد. والقول بأن المحيض مصدر مروي عن ابن المسيب؛ وقال ابن عباس: هو موضع الدم، وبه قال محمد بن الحسن، فعلى هذا يكون المراد
منه المكان. ورجح كونه مكان الدم بقوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) * فلو أريد به المصدر لكان الظاهر منع الاستمتاع بها فيما فوق السرة ودون الركبة غير ثابت، لزم القول بتطرق النسخ، أو التخصيص، وذلك خلاف الأصل، فإذا حمل على موضع الحيض كان المعنى: فاعتزلوا النساء في موضع الحيض. قالوا واستعماله في الموضع أكثر وأشهر منه في المصدر انتهى.
ويمكن أن يرجح المصدر بقوله: * (قل هو أذى) *. ومكان الدم نفسه ليس بأذى لأن الأذى كيفية مخصوصة وهو عرض، والمكان جسم، والجسم لا يكون عرضا. وأجيب عن هذا بأنه يكون على حذف إذا أريد المكان، أي: ذو أذى.
والخطاب في: ويسألونك، وفي: قل للنبي صلى الله عليه وسلم)، والضمير في: هو، عائد على المحيض، والمعنى: أنه يحصل نفرة للإنسان واستقذار بسببه.
* (فاعتزلوا النساء في المحيض) * تقدم الخلاف في المحيض أهو موضع الدم أم الحيض؟ ويحتمل أن يحمل الأول على المصدر، والثاني على المكان، وإن حملنا الثاني على المصدر فلا بد من حذف مضاف، أي: فاعتزلوا وطء النساء في زمان الحيض.
واختلف في هذا الاعتزال، فذهب ابن عباس، وشريح، وابن جبير، ومالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وجماعة من أهل العلم إلى أنه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ويعضده ما صح أنها: تشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها.
وذهبت عائشة، والشعبي، وعكرمة، ومجاهد، والثوري، ومحمد بن الحسن، وداود إلى أنه لا يجب إلا اعتزال الفرج فقط، وهو الصحيح من قول الشافعي.
وروي عن ابن عباس وعبيدة السلماني أنه يجب اعتزال الرجل فراش زوجته إذا حاضت، أخذ بظاهر الآية، وهو قول شاذ.
ولما كان الحيض معروفا في اللغة لم يحتج إلى تفسير ولم تتعرض الآية لأقلة ولا لأكثرة، بل دلت على وجوب اعتزال النساء في المحيض، وأقله عند مالك لا حد له، بل الدفعة من الدم عنده حيض، والصفرة والكدرة حيض
177

والمشهور عن أبي حنيفة أن أقله ثلاثة أيام، وبه قال الثوري. وقال عطاء والشافعي: يوم وليلة.
وأما أكثره فقال عطاء، والشافعي: خمسة عشر يوما وقال الثوري: عشرة أيام، وهو المشهور عن أصحاب أبي حنيفة. ومذهب مالك في ذلك كقول عطاء، وخرج من قول نافع سبعة عشر يوما، وقيل: ثمانية عشر يوما. وقال القرطبي: روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا كثيره إلا ما يوجد في النساء عادة. وروي عن الشافعي أن ذلك مردود إلى عرف النساء كقول مالك، وروي عن ابن جبير: الحيض إلى ثلاثة عشر، فإذا زاد فهو استحاضة.
وجميع دلائل هذا، وبقية أحكام الحيض مذكور في كتب الفقه.
ولم تتعرض الآية لما يجب على من وطئ في الحيض، واختلف في ذلك العلماء، فقال أبو حنيفة، ومالك، ويحيى بن سعيد، والشافعي، وداود: يستغفر الله ولا شيء عليه، وقال محمد: يتصدق بنصف دينار، وقال أحمد: يتصدق بدينار أو نصف دينار، واستحسنه الطبري، وهو قول الشافعي ببغداد.
وقالت فرقة من أهل الحديث: إن وطئ في الدم فدينار، أو في انقطاعه فنصفه، ونقل هذا القول ابن عطية عن الأوزاعي، ونقل غيره عن الأوزاعي أنه إن وطئ وهي حائض يتصدق بخمسين دينار. وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا كان دما أحمر فدينار، وإن كان دما أصفر فنصف دينار).
* (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل عنه: يطهرن بتشديد الطاء والهاء والفتح، وأصله: يتطهرن، وكذا هي في مصحف أبي، وعبد الله. وقرأ الباقون من السبعة: يطهرن، مضارع. طهر.
وفي مصحف أنس: ولا تقربوا النساء في محيضهن واعتزلوهن حتى يتطهرن. وينبغي أن يحمل هذا على التفسير لا على أنه قرآن لكثرة مخالفته السواد، ورجح الفارسي: يطهرن، بالتخفيف إذ هو ثلاثي مضاد لطمثت، وهو ثلاثي. ورجح الطبري التشديد، وقال: هي بمعنى تغتسلن لإجماع الجميع على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم حتى تطهر، قال: وإنما الخلاف في الطهر ما هو. انتهى كلامه.
قيل: وقراءة التشديد معناها حتى يغتسلن، وقراءة التخفيف معناها ينقطع دمهن قاله الزمخشري وغيره:
وفي كتاب ابن عطية: كل واحد من القراءتين يحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدم وزوال أذاه، قال: وما ذهب إليه الطبري من أن قراءة تشديد الطاء مضمنها الاغتسال، وقراءة التخفيف مضمنها انقطاع الدم أمر غير لازم، وكذلك ادعاؤه الإجماع أنه لا خلاف في كراهة الوطء قبل الاغتسال. انتهى ما في كتاب ابن عطية.
وقوله: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * هو كناية عن الجماع، ومؤكد لقوله: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) *.
وظاهر الاعتزال والقربان أنهما لا يتماسان، ولكن بينت السنة أنه اعتزال وقربان خاص، ومن اختلافهم في أقل الحيض وأكثره يعرف اختلافهم في أقل الطهر و أكثره.
* (فإذا تطهرن) * أي: اغتسلن بالماء، قال ابن عطية: والخلاف في معناه كما تقدم من التطهير بالماء أو انقطاع الدم، وقال مجاهد وجماعة هنا: إنه أريد الغسل بالماء، ولا بد لقرينة الأمر بالإتيان، وإن كان قربهن قبل الغسل مباحا، لكن لا تقع صيغة الأمر من الله تعالى إلا على الوجه الأكمل، وإذا كان التطهر الغسل بالماء، فمذهب مالك والشافعي وجماعة، أنه كغسل الجنابة، وهو قول ابن عباس، وعكرمة، والحسن؛ وقال طاووس، ومجاهد: الوضوء كاف في إباحة الوطء، وذهب الأوزاعي إلى أن المبيح للوطء: هو غسل محل الوطء بالماء، وبه قال ابن حزم.
وسبب الخلاف أن يحمل التطهر بالماء على التطهر الشرعي أو اللغوي، فمن حمله على اللغوي قال: تغسل مكان الأذى بالماء، ومن حمله على الشرعي حمله على
أخف النوعين، وهو الوضوء، لمراعاة الخفة، أو على أكمل النوعين وهو أن تغتسل كما تغتسل للجنابة إذ به يتحقق البراءة من العهدة. والاغتسال بالماء مستلزم
178

لحصول انقطاع الدم، لأنه لا يشرع إلا بعده.
وإذا قلنا: لا بد من الغسل كغسل الجنابة، فاختلف في الذمية: هل تجبر على الغسل من الحيض؟ فمن رأى أن الغسل عبادة قال لا يلزمها لأن نية العبادة لا تصح من الكافر، ومن لم ير ذلك عبادة، بل الاغتسال من حق الزوج لإحلالها للوطء، قال: تجبر على الغسل.
ومن أوجب الغسل فصفته ما روي في الصحيح عن أسماء بنت عميس أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن غسل الحيضة فقال: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، وتتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب الماء على رأسها وتضغطه حتى يبلغ أصول شعرها، ثم تفيض الماء على سائر بدنها).
* (فئاتوهن) * هذا أمر يراد به الإباحة، كقوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * * (فإذا قضيت الصلواة فانتشروا) * وكثيرا ما يعقب أمر الإباحة التحريم، وهو كناية عن الجماع.
* (من حيث أمركم الله) * حيث: ظرف مكان، فالمعنى من الجهة التي أمر الله تعالى، وهو القبل لأنه هو المنهي عنه في حال الحيض، قاله ابن عباس، والربيع. أو من قبل طهرهن لا من قبل حيضهن، قاله عكرمة، وقتادة، والضحاك، وأبو رزين والسدي.
وروي عن ابن عباس: ويصير المعنى فأتوهن في الطهر لا في الحيض أو من قبل النكاح لا من قبل الفجور، قاله محمد بن الحنيفة، أو: من حيث أحل لكم غشيانهن بأن لا يكن صائمات ولا معتكفات ولا محرمات، قاله الأصم. والأول أظهر، لأن حمل: حيث، على المكان والموضع هو الحقيقة، وما سواه مجاز.
وإذا حمل على الأظهر كان في ذلك رد على من أباح إتيان النساء في أدبارهن. قيل: وقد انعقد الإجماع على تحريم ذلك، وما روي من إباحة ذلك عن أحد من العلماء فهو مختلف غير صحيح، والمعنى، في أمركم الله باعتزالهن وهو الفرج، أو من السرة إلى الركبتين.
* (إن الله يحب التوبين) * أي: الراجعين إلى الخير. وجاء عقب الأمر والنهي إيذانا بقبول توبة من يقع منه خلاف ما شرع له، وهو عام في التوابين من الذنوب.
* (ويحب المتطهرين) * أي: المبرئين من الفواحش، وخصه بعضهم بأنه التائب من الشرك والمتطهر من الذنوب، قاله ابن جبير؛ أو بالعكس، قاله عطاء، ومقاتل؛ وبعضهم خصه بالتائب من المجامعة في الحيض، وقال مجاهد: من إتيان النساء في أدبارهن في أيام حيضهن؛ وقال أبو العالية: التوابين من الكفر المتطهرين بالإيمان. وقال القتاد: التوابين من الكبائر والمتطهرين من الصغائر، وقيل: التوابين من الذنوب والمتطهرين من العيوب. وقال عطاء أيضا: المتطهرين بالماء، وقيل: من أدبار النساء فلا يتلوثون بالذنب بعد التوبة، كأن هذا القول نظير لقوله تعالى، حكاية عن قوم لوط: * (أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) *.
والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية * (يسألونك عن * المحيض) * ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض، من مجامعتهن في الحيض في الفرج، أو في الدبر، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر، ثم أباح الإتيان في بالفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج، وإن كان ليس مأمورا به في لفظ الآية، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء، وأبرز ذلك في صورتين عامتين، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك، فقال تعالى: * (إن الله يحب التوبين) * أي: الراجعين إلى ما شرع * (ويحب المتطهرين) * بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات. وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد.
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله: * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) * وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن السبب الذي أثنى الله به عليهم،
179

فقالوا: كنا نجمع بين الاستجمار واستنجاء بالماء، أو كلاما هذا معناه.
وقرأ طلحة بن مصرف: المطهرين، بإدغاء التاء في الطاء، إذا أصله المتطهرين.
* (نساؤكم حرث لكم) * في البخاري ومسلم: أن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها إن الولد يكون أحول، فنزلت. وقيل: سبب النزول كراهة نساء الأنصار ذلك لما تزوجهم المهاجرون، وكانوا يفعلون ذلك بمكة، يتلذذون بالنساء مقبلات ومدبرات، روى معناه الحاكم في صحيحه، وقيل: سبب ذلك أن بعض الصحابة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم): هلكت فقال: (وما الذي أهلك؟) قال: حولت رجلي الليلة، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، لأنه لما تقدم * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * وكان الإطلالاق يقتضي تسويغ إتيانهن على سائر أحوال الإتيان، أكد ذلك بأن نص بما يدل على سائر الكيفيات، وبين أيضا المحل بجعله حرثا وهو: القبل، والحرث كما تقدم في قصة البقرة: شق الأرض للزرع، ثم سمى بالزرع حرثا * (أصابت حرث قوم) * وسمى الكسب حرثا، قال الشاعر:
* إذا أكل الجراد حروث قوم
*
فحرثى همه أكل الجراد
*
قالوا: يريد فامرأتي، وأنشد أحمد بن يحي:
* إنما الأرحام أرضو
*
ن لنا محترثات
*
فعلينا الزرع فيها، وعلى الله النبات.
وهذه الجملة جاءت بيانا وتوضيحا لقوله: * (فأتوهن من حيث أمركم الله) * وهو المكان الممنوع من استعماله وقت الحيض، ودل ذلك على أن الغرض الأصيل هو طلب النسل: (تناكحوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)، لا قضاء الشهوة فقط، فأتوا النساء من المسلك الذي يتعلق به الغرض الأصلي، وهو القبل.
ونساؤكم: مبتدأ، وحرث لكم: خبر، إما على حذف أداة التشبية، أي: كحرث لكم ويكون نساؤكم على حذف مضاف، أي: وطء نسائكم كالحرث، إذ النطفة كالبذر، والرحم كالأرض، والولد كالنبات، وقيل: هو على حذف مضاف أي: موضع حرث لكم، وهذه الكناية في النكاح من بديع كنايات القرآن، قالوا: وهو مثل قوله تعالى: * (يأكل الطعام) * ومثل قوله: * (وأرضا لم) * على قول من فسره بالنساء، ويحتمل أن يكون: حرث لكم، بمعنى: محروثه لكم، فيكون من باب إطلاق المصدر، ويراد به اسم المفعول. وفي لفظة: حرث لكم، دليل على أنه القبل لا الدبر؟ قال الماتريدي: أي مزدرع لكم، وفيها دليل على النهي عن امتناع وطئ النساء، لأن المزدرع إذا ترك ضاع. ودليل على إباحة الوطىء لطلب النسل والولد، لا لقضاء الشهوة. إنتهى كلامه.
وفرق الراغب بين الحرث والزرع، فقال: الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض، والزرع مراعاته وإنباته، ولذلك قال تعالى * (أفرءيتم ما تحرثون * تزرعونه أم نحن الزرعون * لو) * أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع.
* (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * الإيتان كناية
180

عن الوطىء، وجاء: حرث لكم، نكرة لأنه الأصل في الخبر، ولأنه كان المجهول، فأفادت نسبته إلى المبتدأ جواز الاستمتاع به شرعا، وجاء: فأتوا حرثكم، معرفة لأن في الإضافة حوالة على شيء سبق، واختصاصا بما أضيف إليه، ونظير ذلك أن تقول: زيد مملوك لك فأحسن إلى مملوكك.
وإذا تقدمت نكرة، وأعدت اللفظ، فلا بد أن يكون معرفة: إما بالألف واللام، كقوله: * (فعصى فرعون الرسول) * وإما بالإضافة كهذا.
وأنى: بمعنى: كيف بالنسبة إلى العزل، وترك العزل، قاله ابن المسيب، فتكون الكيفية مقصورة على هذين الحالين، أو بمعنى كيف على الإطلاق في أحوال المرأة، قاله عكرمة، والربيع، فتكون دلت على جواز الوطء للمرأة. في أي حال شاءها، الواطىء مقبلة ومدبرة، على أي شق، وقائمة ومضطجعة وغير ذلك من الأحوال، وذلك في مكان الحرث، أو: بمعنى متى؟ قاله الضحاك، فيكون إذ ذاك ظرف زمان. ويكون المعنى: قأتوا حرثكم في أي زمان أردتم.
وقال جماعة من المفسرين: أنى، بمعنى أي، والمعنى على أي صفة شئتم، فيكون على هذا تخييرا في الخلال والهيئة، أي: أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة، وقد وقع هذا مفسرا في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (ذلك لا يبالي به بعد أن يكون في صمام واحد). والصمام رأس القارورة، ثم استعير. وقالت فرقة: أنى، بمعنى: أين؟ فجعلها مكانا، واستدل بهذا على جواز نكاح المرأة في دبرها، وممن روي عنه إباحة ذلك: محمد بن المنكدر، وابن أبي ملكية، وعبد الله بن عمر، من الصحابة، ومالك، ووقع ذلك في العبية. وقد روي عن ابن عمر تكفير من فعل بذلك وإنكاره، وروي عن مالك إنكار ذلك، وسئل فقيل: يزعمون أنك تبيح إتيان النساء في ادبارهن؟ فقال: معاذ الله، ألم تسمعوا قول الله عز وجل: * (نساؤكم حرث لكم) * وأنى يكون الحرث إلا في موضع البذر؟ ونقل مثل هذا عن الشافعي، وأبي حنيفة، ونقل جواز ذلك عن: نافع، وجعفر الصادق، وهو اختيار المرتضي من أئمة الشيعة، وذكر في (المنتخب) ما استدل به لهذا المذهب وما ورد به، فيطالع هناك، إذ كتابنا هذا ليس موضوعا لذكر دلائل الفقه إلا بمقدار ما يتعلق بالآية.
وقد روى تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) اثنا عشر صحابيا بألفاظ مختلفة كلها تدل على التحريم، ذكرها أحمد في (مسنده) وأو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزي بطرقها في جزء سماه (تحريم المحل المكروه).
قال ابن عطية: ولا ينبعغي لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم، وقال أيضا: أنى شئتم، معناه عند جمهور العلماء من: صحابة، وتابعين، وأئمة: من أي وجه شئتم، معناه: مقبلة ومدبرة على جنب، وأنى: إنما يجيء سؤالا وإخبارطا على أمر له جهات، فهي أعخم في اللغة من: كيف، ومن: أين، ومن: متى. هذا هو الاستعمال العربي.
وقد فسر الناس أنى في هذه الآية بهذه الألفاظ، وفسرها سيبوية بكيف، ومن أين باجتماعهما؟ وقال النحويون: أنى، لتعميم الأحوال، وقد تأتي: أنى، بمعنى: متى، وبمعنى: أين، وتكون استفاما وشرطا، وجعلوها في الشرطية ظرف مكان فقط.
وإذا كان غالب مدلولها في اللغة أنها للأحوال، فلا حجة لمن تعلق بأنها تدل على تعميم مواضع الإتيان، فتكون بمعنى: أين قال الزمخشري وقوله: * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * تمثيل، أي فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها، من أي جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوههن من أي شق أردتم بعد أن يكون المأتى واحدا، وهو موضع الحرث.
* (هو أذى فاعتزلوا النساء) * * (من حيث أمركم الله) * * (فأتوا حرثكم أنى شئتم) * من الكنايات اللطيفة، والتعرضات المستحسنة، فهذه وأشباهها في كلام الله تعالى آداب حسنة، على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدبوا بها، ويتكلفوا مثلها في محاوراتهم ومكاتباتهم انتهى كلامه. وهو حسن.
181

قالوا والعامل في أنى فأتوا، وهذا الذي قالوه لا يصح، لأناقد ذكرنا أنها تكون استفهاما أو شرطا، لا جائز أن تكون هنا شرطا، لأنها إذ ذاك تكون ظرف مكان، فيكون ذلك مبيحا لإتيان النساء في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وعلى تقدير الشرطية يمتنع أن يعمل في الظرف الشرطي ما قبله، لأنه معمول لفعل الشرط، كما أن فعل الشرط معمول له، ولا جائز أن يكون استفاما، لأنها إذا كانت استفهاما اكتفت بما بعدها من فعل كقوله * (أنى يكون لى ولد) * ومن اسم كقوله: * (أنى لك هاذا) * ولا ييفتقر إلى غير ذلك، وهنا يظهر افتقارها وتعلقها بما قبلها.
وعلى تقدير أن يكون استفهاما لا يعمل فيها ما قبلها، وأنها تكون معمولة للفعل بعدها، فتبين على وجهي: أنى، أنها لا تكون معمولة لما قبلها، وهذا من المواضع المشكلة التي تحتاج إلى فكر ونظر.
والذي يظهر، والله أعلم، أنها تكون شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال. كجعل الظروف المكانية، وأجريت مجراها تشبيها للحال بالظرف المكاني، وقد جاء نظير ذلك في لفظ: كيف، خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون أكون، وقال تعالى: * (بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) * فلا يجوز أن تكون هنا استفهاما، وإنما لحظ فيها معنى بالشرط وارتباط الجملة بالأخرى وجواب الجملة محذوف، ويدل عليه ما قبله، تقديره: أنى شئتم فأتوه، وكيف يشاء ينفق، كما حذف جواب الشرط في قولك: أضرب زيدا أنى لقيته، التقدير أنى لقيته فاضربه.
فان قلت: قد أخرجت: أنى، عن الظرفية الحقيقية وأبقيتها لتعميم الأحوال مثل: كيف، وجعلتها مقتضية لجملة أخرى كجملة الشرط، فهل الفعل الماضي الذي هو: شئتم، في موضع جزم كحالها إذا كانت ظرفا؟ أم هو في موضع رفع كهو بعد: كيف، في قولهم: كيف تصنع أصنع؟.
فالجواب أنه يحتمل الأمرين، لكن يرجح أن تكون في موضع جزم لأنه قد استقر الجزم بها إذا كانت ظرفا صريحا، غاية ما في ذلك تشبيه الأحوال بالظروف، وبينهما علاقة واضحة، إذ كل منهما على معنى: في، بخلاف: كيف، فإنه لم يستقر فيها الجزم ومن أجاز الجزم بها، فإنما قاله بالقياس، والمحفوظ عن العرب الرفع في الفعل بعدها، حيث يقتضي جملة أخرى.
* (وقدموا لانفسكم) * مفعول قدموا محذوف، فقيل: التقدير ذكر الله عند القربان، أو: طلب الولد والإفراط شفعاء، قاله ابن عباس، أو: الخير، قاله السدي، أو: قدم صدق، قاله ابن كيسان، أو: الأجر في تجنب ما نهيتم وامتثال ما أمرتم به، قاله ابن عطية، أو: ذكر الله على الجماع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم): (لو أن أحدكم إذا أتى امرأته قال: اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى بينهما ولد لم يضره). أو التسمية على الوطىء، حكاه الزمخشري. أو: ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وهو خلاف ما نهيتكم عنه، قاله الزمخشري، وهو قول مركب من قول: من قبله.
والذي يظهر أن المعنى: وقدموا لأنفسكم طاعة الله، وامتثاله ما أمر، واجتناب ما نهى عنه لأنه تقدم أمر ونهي، وهو الخير الذي ذكره في قوله: * (وما تقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله) * ولذلك جاء بعده * (واتقوا الله) * أي: اتقو الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، وهو تحذير لهم من المخالفة، ولأن العظيم الذي تقدم يحتاج إلى أن يقدم معك ما تقدم به عليه مما لا تفتضح به عنده، وهو العمل الصالح.
* (واعلموا أنكم ملاقوه) * الظاهر أن الضمير المجرور في: ملاقوه، عائد على الله تعالى، وتكون على حذف مضاف، أي: ملاقو جزائه على أفعالكم، ويجوز أن يعود على المفعول المحذوف الذي لقوله: وقدموا، أي: واعلموا أنكم ملاقو ما قدمتم من الخير والطاعة، وهو على حذف مضاف أيضا، أي: ملاقو جزائه، ويجوز أن يعود على الجزاء الدال عليه معمول قدموا المحذوف، وفي ذلك رد على من ينكر البعث والحساب والمعاد، سواء عاد على الله تعالى أو على معمول قدموا، أو على الجزاء.
* (وبشر المؤمنين) * أي:
182

بحسن العاقبة في الآخرة، وفيه تنبيه على وصف الذي به يتقى الله ويقدم الخير، ويستحق التبشير، وهو الإيمان. وفي أمره لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بالتبشير تأنيس عظيم ووعد كريم بالثواب الجزيل، ولم يأت بضمير الغيبة، بل أتى بالظاهر الدال على الوصف، ولكونه مع ذلك فصل آية.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة إخبار الله تعالى عن المؤمنين أنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن الخمر والميسر، فوقع ما أخبر به تعالى، وأمر نبيه أن يخبر من سأله عنهما بأنهما قد اشتملا على إثم كبير، فكان هذا الإخبار مدعاة لتركهما، ودل ذلك على تحريمهما، والمعنى أنه يحصل بشرب الخمر واللعب بالميسر إثم، وما اكتفى بمطلق الإثم حتى وصفه بالكبر في قراءة، وبالكثرة في قراءة، وقد قال تعالى في المحرمات: * (الذين يجتنبون كبائر الإثم) * * (إن تجتنبوا كبائر ما * إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) * فحيث وصف الإثم بالكبير، وكان من أعظم الآثام وأوغلها في التحريم، وأخبر أيضا أن فيهما منافع للناس، من: أخذ الأموال بالتجارة في الخمر، وبالقمر في الميسر، وغير ذلك، لأنه ما من شيء حرم إلا فيه منفعة بوجه ما، خصوصا ما كان الطبع مائلا إليه، أو كان الشخص ناشئا عليه بالطبع. ثم أخبر تعالى أن ضرر الإثم الذي هو جالب إلى النار، أعظم من النفع المنقضي بانقضاء وقته، ليرشد العاقل إلى تجنب ما عذابه دائم ونفعه زائل.
ثم أخبر تعالى أنهم يسألونه عن الشيء الذي ينفقونه؟ فأجيبوا بأن ينفقوا ما سهل عليهم إنفاقه، ويشير * (ما جعل * عليكم فى الدين من حرج) * ثم ذكر تعالى أنه يبين للمؤمنين الآيات بيانا مثل ما بين في أمر الخمر، والميسر، وما ينفقون. ثم ذكر أنه بهذا البيان يحصل الرجاء في تفكر حال الدنيا والآخرة، فإذا فكر فيهما يرجح بالفكر
إيثار الآخرة على الدنيا.
ثم استطرد من هذين السؤالين إلى السؤال عن أمر اليتامى، وما كلفوا في شأنهم، إذ كان اليتامى لا ينهضون بالنظر في أحوال أنفسهم، ولصغرهم ونقص عقولهم، فأجيبوا بأن إصلاحهم خير من إهمالهم للمصلح بتحصيل الثواب وللمصلح بتأديبه وتعليمه وتنمية ماله: (أمتي كالبنيان يشد بعضه بعضا).
ثم أخبر أن مخالطتهم مطلوبة لأنهم إخوانكم في الإسلام، فالإخوة موجبة للنظر في حال الأخ. وأبرز الطلب في صورة شرطية، وأتى الجواب بما يقتضى الخلطة، وهو كونهم إخوانكم.
ولما أمر بالإصلاح لليتامى، ذكر أنه تعالى يعلم المفسد من المصلح، ليحذر من الفساد ويدعو إلى الصلاح، ومعنى علمه هنا أنه مجاز من أفسد، و: من أصلح، بما يناسب فعله، ثم أخبر تعالى أنه لو شاء لكلفكم ما يشق عليكم، فدل على أن التكاليف السابقة من تحريم الخمر والميسر، وتكليف الصدقة، بأن تكون عفوا، وتكليف إصلاح اليتيم ليس فيه مشقة ولا إعنات.
ثم ختم هذا بأنه هو العزيز الذي لا يغالب، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها.
ولما ذكر تعالى تحريم شيء مما كانوا يتلذذون به، وهو شرب الخمر والأكل به، والقمر بالميسر والأكل به، ولما كان النكاح أيضا من أعظم الشهوات والملاذ، استطرد إلى ذكر تحريم نوع منه، وهو نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان، وهو الإشراك الموجب للتنافر والتباعد. والنكاح موجب للخلطة والمودة قال تعالى: * (وجعل بينكم مودة ورحمة) * * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) * لا يتراءى داراهما فنهى فيهن عن نكاح من قام به الوصف المنافي للإيمان، وغيا ذلك بحصول الإيمان، ثم ذكر من كان رقيقا وهو مؤمن، خير من مشرك ولو كان يعجب في حسن أو مال أو رئاسة؛ ونبه على العلة الموجبة للترك، وهو أن من أشرك داع إلى النار، وجر ممن كان معاشر شخص ومخالطه وملابسه، حتى في النكاح الذي هو داع إلى التآلف من كل معاشرة أن يجيبه إذا دعاه لما هو من هواه، وهم كانوا قريبين عهد بالإيمان وحديثه، فمنعوا من ذلك سدا للتطرق إلى النار.
ثم أخبر تعالى أنه هو يدعو إلى الجنة والمغفرة، فهو الناظر بالمصلحة لكم في تحريم ما حرم وإباحة ما أباح، وهو يبين آياته ويوضحها بحيث لا يظهر معها لبس، وذلك لرجاء تذكركم واتعاظكم بالآيات.
ولما ذكر تعالى تحريم نكاح من قام به وصف الإشراك، ذكر تحريم وطء من قام به في الحيض من المؤمنات، وغيا ذلك بالطهر ما قبله بالإيمان، ثم أباح إذا تطهرن لنا الوطء لهن من حيث أمر الله وهو المكان الذي كان مشغولا بالحيض، وأمرنا باجتناب وطئه في وقت الحيض، ثم نبه على مزية التائب والمتطهر بكونه تعالى يحبه، ولم يكتف بذلك في جملة واحدة حتى كرر ذلك في جملتين وأفرد كل وصف بمحبة فقال: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
183

ثم ذكر تعالى إباحة الوطء للمرأة التي ارتفع عنها الحيض على الحالة التي يشاؤها الزوج ويختارها، من كونها مقبلة أو مدبرة، أو مجنبة أو مضطجعة، ومن أي شق شاء، لما في التنقل من مزيد الالتذاذ، والاستمتاع بالنظر إلى سائر بدنها، والهيئات المحركة للباه.
ونبه بالحرث على أنه محل النسل، فدل ذلك على تحريم الوطء في الدبر لأنه ليس محل النسل، وإذا كانوا قد منعوا من وطء الحائض لما اشتمل عليه محل الوطء من الأذى بدم الحيض، فلأن يمنعوا من المحل الذي هو أكثر أذى أولى. وأحرى، ولما كان قدم نهي وأمر في الآيات السابقة وفي هذا، ختم ذلك بالأمر بتقديم العمل الصالح، وأن ما قدمه الإنسان إنما هو عائد على نفع نفسه، ثم أمر بتقوى الله تعالى، وأمر بأن يعلم ويوقن اليقين الذي لا شك فيه أنا ملاقو الله، فيجازينا على أعمالنا، وأمر نبيه أن يبشر المؤمنين، وهم الذين امتثلوا ما أمر به واجتنبوا ما نهى عنه، فكان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى، وتعلق الجمل وتأنق المبنى، من سؤال وجواب، وتحذير من عقاب، وترغيب في ثواب، هدت إلى الصراط المستقيم، وتلقيت من لدن حكيم عليم.
2 (* (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم * لا يؤاخذكم الله باللغو فىأيمانكم ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم * للذين يؤلون من نسآئهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم * والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فىأرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الا خر وبعولتهن أحق بردهن في ذالك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم * الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولائك هم الظالمون) *)) 2
العرضة: فعلة من العرض وهو بمعنى المفعول، كالفرقة والقبضة، يقال: فلان عرضة لكذا والمرأة عرضة للنكاح، أي: معرضة له، قال كعب:
عرضتها طامس الاعلام مجهول
184

وقال حسان:
* وقال الله قد يسرت جندا
*
هم الأنصار) عرضتها اللقاء
*
وقال حبيب:
* متى كان سمعي عرضة للوائمي
*
وكيف صفت للعاذلين عزائمي
*
ويقال جعله عرضة للبلاء أي: معرضا، وقال أوس بن حجر:
* وأدماء مثل الفحل يوما عرضتها
*
لرحلي وفيها جرأة وتقاذف
*
وقيل: هو اسم ما تعرضه دون الشيء، من عرض العود على الإناء، فيعترض دونه، ويصير حاجزا ومانعا. وقيل: أصل العرضة القوة، ومنه يقال للجمل: القوي: هذا عرضة للسفر، أي: قوي عليه، وللفرس الشديد الجري عرضة لارتحالنا.
اليمين: أصلها العضو، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين، وتجمع على، أيمان، وعلى: أيمن، وفي العضو والحلف، وتستعمل: اليمين، للجهة التي تكون للعضو المسمى باليمين، فتنصب على الظرف، تقول: زيد يمين عمرو، وهي في العضو مشتقة من اليمين، ويقال: فلان ميمون الطلعة، وميمون النقيبة، وميمون الطائر.
اللغو: ما يسبق به اللسان من غير قصد، قاله الفراء، وهو مأخوذ من قولهم لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل: ويقال: لغا يلغو لغوا ولغى يلغي لغا، وقال ابن المظفر: تقول العرب: اللغو واللاغية واللواغي واللغوي، وقال ابن الأنباري: اللغو عند العرب ما يطرح من الكلام استغناء عنه، ويقال: هو ما لا يفهم لفظه. يقال: لغا الطائر يلغو: صوت، ويقال: لغا بالأمر لهج به يلغا، ويقال: اشتق من هذا اللغة، وقال ابن عيسى، وقد ذكر أن اللغو ما لا يفيد قال: ومنه اللغة لأنها عند غير أهلها لغو وغلط في هذا الاشتقاق، فإن اللغة إنما اشتقت من قولهم: لغى بكذا إذا أولع به.
الحليم: الصفوح عن الذنب مع القدرة على المؤاخذة به، يقال: حلم الرجل يحلم حلما، وهو حليم، وقال النابغة الجعدي:
* ولا خير في حلم إذا لم يكن له
*
موارد تحمي صفوه أن يكدرا
*
ويقال: حلم الأديم يحلم حلما، إذا تثقب وفسد، قال:
* فإنك والكتاب إلى علي
*
كدابغه وقد حلم الأديم
*
و: حلم في النوم يحلم حلما وحلما، وهو: حالم، * (وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين) *.
الإيلاء:
185

مصدر آلى، أي: حلف، ويقال: تألى وأيتلى، أي: حلف، ويقال للحلف: ألية وألوة وإلوة، وجمع ألية ألايا، كعشية وعشايا. وقيل: تجمع ألوة على ألايا كركوبة وركائب.
التربص: الترقب والانتظار، مصدر: تربص وهو مقلوب التبصر، قال:
* تربص بها ريب المنون لعلها
*
تطلق يوما أو يموت حليلها
*
فاء: يفيء فيأ وفيأة، رجع، عن جانب المشرق إلى المغرب، وهو سريع الفيأة أي: الرجوع، وقال علقمة:
* فقلت لها فيئي فما تستنفزين
*
ذوات العيون والبنان المخضب
*
العزم: ما يعقد عليه القلب ويصمم، ويقال: عزم عليه يعزم عزما وعزما وعزيمة وعزاما، ويقال: أعزم إعزاما، وعزمت عليك لتفعلن: أقسمت.
الطلاق: انحلال عقد النكاح، يقال منه: طلقت تطلق فهي طالق وطالقة، قال الأعشى.
أيا جارتا بيني فإنك طالقه
ويقال: طلقت بضم اللام حكاه أحمد بن يحيى، وأنكره الأخفش.
القرء: أصله في اللغة الوقت المعتاد تردده، وقرء النجم وقت طلوعه ووقت غروبه، ويقال منه: أقرأ النجم أي طلع أو غرب، وقرء المرأة حيضها وطهرها، فهو من الأضداد، قاله أبو عمرو، ويونس، وأبو عبيد؛ ويقال منهما: أقرأت المرأة، وقال أبو عمرو: من العرب من يسمي الحيض مع الطهرر قرءا، وقال بعضهم: القرء ما بين الحيضتين، وقال الأخفش: أقرأت صارت صاحبة حيض، فإذا حاضت قلت قرت بغير ألف. وقيل: القرء أصله الجمع من قولهم، قرأت الماء في الحوض، جمعته، ومنه: ما أقرأت هذه الناقة سلا قط، أي: ما جمعت في بطنها جنينا، فإذا أريد به الحيض: فهو اجتماع الدم في الرحم، أو الطهر، فهو اجتماع الدم في البدن.
الرحم: الفرج من المؤنث، وقد يستعار للقرابة، يقال: بينهما رحم، أي قرابة، ويصل الرحم.
البعل: الزوج يقال منه، بعل يبعل بعولة، أي: صار بعلا، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها، وهي تباعله إذا فعلت ذلك معه، وامرأة حسنة التبعيل إذا كانت تحسن عشرة زوجها، والبعل أيضا الملك، وبه سمي الصنم لأنه المكتفي بنفسه، ومنه بعل النخل. وجمع البعل: بعول وبعولة، كفحل وفحولة، التاء فيه لتأنيث الجمع ولا ينقاس، فلا يقال: في كعوب جمع كعب كعوبة.
الرجل: معروف يجمع على: رجال، وهو مشتق من الرجلة، وهي القوة، يقال: رجل بين الرجولة والرجلة، وهو أرجل الرجلين أي: أقواهما، وفرس رجيل قوي على المشي، ومنه: سميت الرجل لقوتها على المشي، وارتجل الكلام قوي عليه، وترجل النهار قوي ضياؤه، ويقال: رجل ورجلة، كما قالوا:
186

امرؤ وامرأة، وكتبت من خط أستاذنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى:
* كل جار ظل مغتبطا
*
غير جيراني بني جبله
*
* هتكوا جيب فتاتهم
*
لم يبالوا حرمة الرجله
*
الدرجة: المنزلة، وأصله من درجت الشيء وأدرجته: طويته، ودرج القوم فنوا، وأدرجهم الله فهو كطي الشيء منزلة منزلة والدرجة المنزلة من منازل الطي، ومنه الدرجة التي يرتقى إليها.
الإمساك: للشيء حبسه، ومنه اسمان: مسك ومساك، يقال: إنه لذو مسك وميساك إذا كان بخيلا، وفيه مسكة من خير أي: قوة، وتماسك ومسيك بين المساكة.
التسريح: الإرسال، وسرح الشعر خلص بعضه من بعض، والماشية أرسلها لترعى، والسرح الماشية، وناقة مسرح سهلة المسير لانطلاقها فيه.
* (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) * قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن رواحة وختنه بشير بن النعمان، كان بينهما شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ولا يصلح بينه وبين زوجته، وجعل يقول: حلفت بالله، فلا يحل لي إلا بر يميني.
وقال الربيع: نزلت في الرجل يحلف أن لا يصل رحمه ولا يصلح بين الناس؛ وقال ابن جريج: في أبي بكر حين حلف لا ينفق على مسطح حين تكلم في الإفك، وقال المقاتلان ابن حيان وابن سليمان: حلف لا ينفق على ابنه عبد الرحمن حتى يسلم؛ وقيل: حلف أن لا يأكل مع الأضياف حين أخر ولده عنهم العشاء، وغضب هو على ولده.
وقالت عائشة: نزلت في تكرير الأيمان بالله، فنهى أن يحلف به برا، فكيف فاجرا.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما أمر بتقوى بالله تعالى، وحذرهم يوم الميعاد، نهاهم عن ابتذال اسمه، وجعله معرضا لما يحلفون عليه دائما، لأن من يتقي ويحذر تجب صيانة اسمه وتنزيهه عمالا يليق به من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه، من قليل أو كثير، عظيم أو حقير، لأن كثرة ذلك توجب عدم الاكتراث بالمحلوف به.
وقد تكون المناسبة بأنه تعالى لما أمر المؤمنين بالتحرز في أفعالهم السابقة من: الخمر، والميسر، وإنفاق العفو، وأمر اليتامى، ونكاح من أشرك، وحيال وطء الحائض، أمرهم تعالى بالتحرز في أقوالهم، فانتظم بذاك أمرهم بالتحرز في الأفعال والأقوال.
واختلفوا في فهم هذه الجملة من قوله * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) * وهو خلاف مبنى على الاختلاف في اشتقاق العرضة، فقيل: نهوا عن أن يجعلوا الله معدا لايمانهم فيحلفوا به في البر والفجور، فإن الحنث مع الإكثار فيه قلة رعي بحق الله تعالى، كما روي عن عائشة أنها نزلت في تكثير اليمين بالله، نهى أن يحلف الرجل به برا فكيف فاجرا؟ وقد ذم الله من أكثر الحلف بقوله: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * وقال: * (واحفظوا أيمانكم) *. والعرب تمدح بالإقلال من الحلف قال كثير:
* قليل ألا لا يا حافظ ليمينه
*
إذا صدرت منه الألية برت
*
والحكمة في النهي عن تكثير الأيمان بالله أن ذلك لا يبقي لليمين في قلبه وقعا، ولا يؤمن من إقدامه على اليمين الكاذبة، وذكر الله أجل من أن يستشهد به في الأعراض الدنيوية.
وقيل: المعنى: ولا تجعلوا الله قوة لأيمانكم، وتوكيدا لها، وروي عن قريب من هذا المعنى عن: ابن عباس، وإبراهيم، ومجاهد، والربيع، وغيرهم قال: المعنى: فيما تريدون الشدة فيه من ترك صلة الرحم، والبر والإصلاح، وقيل: المعنى: ولا تجعلوا الله حاجزا ومانعا من البر والإصلاح، ويؤكذه
187

قول من قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، أو في أبي بكر على ما تقدم في سبب النزول، فيكون المعنى: أن الرجل كان يحلف على بعض الخيرات من صلة رحم، وإصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد، أو عبادة، ثم يقول: أخاف الله أن أحنث في يميني، فيترك البر في يمينه، فنهوا أن يجعلوا الله حاجزا لما حلفوا عليه.
* (لايمانكم) * تحتمل اللام أن تكون متعلقة، بعرضة، فتكون كالمقوية للتعدي، أو معدا ومرصدا لأيمانكم، ويحتمل أن تكون متعلقة بقوله: * (ولا تجعلوا) * فتكون للتعليل، أي: لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم.
والظاهر أن المراد بالأيمان هنا الاقتسام، لا المقسم عليه، وقال الزمخشري: أي: حاجزا لما حلفتم عليه، وسمي المحلوف عليه يمينا لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم) لعبد الرحمن بن سمرة: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك) أي: على شيء مما يحلف عليه إنتهى كلامه ولا حاجة هنا للخروج عن الظاهر وإنما احتيج في الحديث إلى أنه أطلق اليمين، ويراد بها متعلقها، لأنه قال: إذا حلفت على يمين، فععدى حلفت بعلى، فاحتيج إلى هذا التأويل، وليس في الآية ما يحوج إلى هذا التجويل، لكن الزمخشري لما حمل: عرضة، على أن معناه حاجزا ومانعا، اضطر إلى هذا التأويل.
* (أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس) * قال الزجاج، وتبعه التبريزي: أن تبروا، في موضع رفع بالابتداء، قال الزجاج والمعنى: بركم وتقواكم وإصلاحكم أمثل وأولى، وجعل الكلام منتهيا عند قوله: لأيمانكم، ومعنى الجملة التي فيها النهي عنده أنها في الرجل إذا طلب منه فعل خير ونحوه اعتل بالله، فقال: علي يمين، وهو لم يحلف، وقدر التيريزي خبر المبتدأ المحذوف بأن المعنى: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس خير لكم من أن تجعلوا الله عرضة لأيمانكم، وهذا الذي ذهب إليه الزجاج والتبريزي ضعيف، لأن فيه اقتطاع: أن تبروا، مما قبله، والظلم هو اتصاله به، ولأن فيه حذفا لا دليل عليه وقال الزمخشري: أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، عطف بيان لأيمانكم، أي للأمور المحلوف عليها التي هي: البر والتقوى والإصلاح بين الناس إنتهى كلامه وهو ضعيف، لأن فيه مخالفة للظاهر، لأن الظاهر من الأيمان هي الأقسام، والبر والتقوى والإصلاح هي المقسم عليها، فهما متباينان، فلا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان، لكنه لما تأول الأيمان على أنها المحلوف عليها، ساغ له ذلك، وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الأيمان بالأشياء المحلوف عليها، وعلى مذهبه تكون: أن تبروا، في موضع جر، ولو أدعى أن يكون: أن تبروا، وما بعده بدلا من: أيمانكم، لكان أولى، لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الأعلام.
وذهب الجمهور إلى أن قوله: أن تبروا، مفعول من أجله، ثم اختلفوا في التقدير، فقيل: كراهة أن تبروا، قاله المهدوى، أو لترك أن تبروا، قاله المبرد، وقيل: لأن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا، قال أبو عبيدة، والطبري كقوله:
فخالف فلا والله تهبط تلعة
أي: لا تهبط، وقيل: إرادة تبروا، والتقادير الأول متلاقية حيث المعنى، وروي هذا المعنى عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جريج، وإبراهيم، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج، في آخر من روي عنهم أن المعنى: لا تحلفوا بالله أن لا تبروا، فيتعلق بقوله: ولا تجعلوا، ولا يظهر هذا المعنى لما فيه من تعليل امتناع الحلف بانتفاء البر، بل وقوع الحلف معلل بانتفاء البر، ولا ينعقد منه شرط، وجزاء لو قلت في معنى هذا النهي
188

وعلته: إن حلفت بالله بررت، لم يصح وذلك كما تقول: لا تضرب زيدا لئلا يؤذك، فانتفت الاذاية للامتناع من الضرب، والمعنى: إن لم تضربه لم يؤذيك، وإن ضربته أذاك، فلا يترتب على الامتناع من الحلف انتفاء البر، ولا على وجوده، بل يترتب على الامتناع من الحلف وجود البر، وعلى وقوع الحلف انتفاء البر، وهذا الذي ذكرناه يؤيد القول بان التقدير: إرادة أن تبروا، لأنه لا يعلل الامتناع من الحلف بإرادة وجود البر، ويتعلق منه الشرط والجزاء، تقول: إن حلفت لم تبر، وإن لم تحلف بررت.
وقد شرح بعض العلماء هذا المعنى فقال: إن تبروا وتتقوا وتصلحوا علة لهذا النهي، أي: إرادة أن تبروا، والمعنى إنما نهيكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والإصلاح، فتكونون معاشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين، فإن قلت: كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى واللإصلاح بين الناس؟ قلنا: لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا، إن هذا من أعظم أبواب البر.
وأما معنى التقوى فظاهر، لأنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله تعالى وأما الإصلاح بين الناس، فلأن الناس متى اعتقدوا فيه كونه معظما لله تعالى إلى هذا الحد، محترزا عن الإخلال بواجب حقه، اعتقدوا فيه كونه معظما لله، وكونه صادقا بعيدا من الأغراض الفاسدة، فيتقبلون قوله، فيحصل الصلح يتوسطه إنتهى هذا الكلام.
وفي (المنتخب) وهو بسط ما قاله الزمخشري قال: ومعناها على الأخرى يزيد على أن يكون عرضة، بمعنى معرضا للأمر، قال: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم فتتبذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل فيه: * (ولا تطع كل حلاف مهين) * بأشنع المذام، وجعل الحلاف مقدمتها، وأن تبروا، علة للنهي أي: إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترىء، على الله، غير معظم له، فلا يكون برا متقيا، ولا يثق به الناس، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح بذات بينهم.
وقيل: المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين، لتبروا المحلوف لهم، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روي هذا المعنى عن ابن عباس، فقيد المعلوم بالكذب، وقيد العلة بالناس، والإصلاح بالكذب، وهو خلاف الظاهر.
وقال الزمخشري: ويتعلق: أن تبروا، بالفعل و: بالعرضة، أي: ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. إنتهى. ولا يصح هذا التقدير، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي، لأنه علق: لأيمانكم، بتجعلوا، وعلق: لأن تبروا بعرضة، فقد فصل بين: عرضة، وبين: لأن تبروا بقوله: لأيمانكم، وهو أجنبي منهما، لأنه معمول عنده لتجعلوا، وذلك لا يجوز، ونظير ما أجازه أن تقول: أمرر وأضرب بزيد هندا، فهذا لا يجوز ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي.
والذي يظهر لي أن تبروا، وفي موضع نصب على إسقاط الخافض، والعمل فيه قوله: لأيمانكم، التقدير: لأقسامكم على أن تبروا، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى، وجعله معرضا لأقسامهم على البر و. التقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة، لما نخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساما على ما تنافي البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به، فصار في موضع: أن تبروا، ثلاثة أقوال: الرفع على الابتداء، والخلاف في تقدير الجر، والجر على وجهين: عطف البيان، والبدل والنصب على وجهين: إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره، وإما على أن يكون معمولا: لأيمانكم، على إسقاط الخافض.
* (والله سميع عليم) * ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب، فهو من المعلومات، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة
189

والمعلول، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم، كما قدم الحلف على الإرادة.
* (لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم) * مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضا للأيمان، كان ذلك حتما لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك، لأن العادة جرت لهم بالأيمان، فذكر أن ما كان منها لغوا فهو لا يؤاخذ به، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد.
واختلفت أقوال المفسرين في تفسير لغو اليمين، فقال أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، والسدي عن أشياخه، ومالك في أشهر قوليه، وأبو حنيفة: هو الحلف على غلبة الظن، فيكشف الغيب خلاف ذلك؛ وقالت عائشة، وابن عباس أيضا، وطاووس، والشعبي، ومجاهد، وأبو صالح، والشافعي: هو ما يجرى على اللسان في درج الكلام والاستعجال: لا والله، وبلى والله، من غير قصد لليمين؛ وهو أحد قولي مالك. وقال سعيد بن جبير، وابن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وابنا الزبير عبد الله وعروة: هو الحلف على فعل المعصية، إلا أن ابن جبير قال: لا يفعل ويكفر، وباقيهم قالوا: لا يفعل ولا كفارة عليه، وقال ابن عباس أيضا. وعلي، وطاووس: هو الحلف في حال الغضب. وقال النخعي: هو الحلف على شيء ينساه، وقال ابن عباس أيضا، والضحاك: هو ما تجب فيه الكفارة إذا كفرت سقطت، ولا يؤاخذ الله بتكفيرها، والرجوع إلى الذي هو خير؛ وقال مكحول، وابن جبير أيضا، وجماعة: هو أن يحرم على نفسه ما أحل الله، كقوله: مالي علي حرام إن فعلت كذا، والحلال علي حرام، وقال بهذا القول مالك إلا في الزوجة، فألزم فيها التحريم ألا أن يخرجها الحالف بقلبه، وقال زيد ابن أسلم وابنه: هو دعاء الرجل على نفسه أعمى الله بصره، أذهب الله ماله، هو يهودي، هو مشرك، هو لغية، إن فعل كذا، وقال مجاهد: هو حلف المتبايعين، يقول أحدهما: والله لا أبيعك بكذا، ويقول الآخر: والله ما أشتريه إلا بكذا، وقال مسروق: هو ما لا يلزمه الوقاية، وروي عنه، وعن الشعبي: أنه الحلف على المعصية؛ وقيل: هو يمين المكره، حكاه ابن عبد البر.
وهذه الأقوال يحتملها لفظ اللغو، إلا أن الأظهر هو ما فسرناه أولا، لأنه قابله كسب القلب، وهو تعمده للشيء، فجميع الأقوال غيره ينطبق عليها أنها كسب القلب، لأن للقلب قصدا إليها: ونفي الوحدة يدل على أنه لا إثم ولا كفارة، فيضعف قول من قال: إنها تختص بالإثم، ويفسر اللغو باليمين المكفرة، وسئل الحسن عن اللغو، والمسبية ذات الزوج، فوثب الفرزدق وقال: أما سمعت ما قلت:
* ولست بمأخوذ بشيء تقوله
*
إذا لم تعمد عاقدات العزائم
*
وما قلت:
* وذات حليل أنكحتنا رماحنا
*
حلالا، ولولا سبيها لم تطلق
*
فقال الحسن: ما اذكاك لولا حنثك.
باللغو: متعلق: بيؤاخذكم، والباء سببية، مثلها في * (ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم) * * (فكلا أخذنا بذنبه) *: وفي إيمانكم، متعلق بالفعل، أو بالمصدر، أو بمحذوف، أي: كائنا في أيمانكم، فيكون حالا، ويقر به أنك لو جعلته في صلة: الذي، ووصفت به اللغو لاستقام.
* (ولاكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * أي باليمين التي للقلب فيها كسب، فكل يمين عقدها القلب فهي
190

كسب له؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد، كآية المائدة * (بما عقدتم الايمان) *، وقال ابن عباس، والنخعي: هو أن يحلف كاذبا أو على باطل، وهي الغموس؛ وقال زيد بن أسلم: هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال: هو مشرك، إن فعل كذا، وقال قتادة: بما تعمد القلب من المآثم. وهذا الذي ذكره تعالى: من المؤاخذة، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموسا، أو غير غموس وترك تكفيرها، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر.
واختلفوا في اليمين الغموس، فقال مالك، وجماعة: لا تكفر، وهي أعظم ذنبا من ذلك. وقال عطاء، وقتادة، والربيع،. والشافعي: تكفر، والكفارة مؤاخذة.
والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب، وهي المصبورة، سميت غموسا لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي.
وقسمت الأيمان إلى: لغو ومنعقدة، وغموس، والمنعقدة: هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر، وبينا اللغو والغموس، وقسمت أيضا إلى: حلف على ما من محرم وهي: الكاذبة، ومباح: وهي الصادقة، وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلها معصية أو مكروه، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب، ولكن جرت على اللسان وهي: اللغو، أو تقصدها وهي: المنعقدة، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه: لكن، وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف، وقد تقدم طرف من هذا، وإبدال الهمزة واوا في مثل: يؤاخذ، مقيس، ونحوه: يؤذن، ويؤلف، وفي قوله: * (ولاكن يؤاخذكم بما * بما كسبت قلوبكم) * محذوف تقديره: ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه، و: ما، في قوله: بما، موصولة، والعائد محذوف، ويحتمل أن تكون مصدرية، ويحسنه مقابلته بالمصدر، وهو قوله: باللغو، وجوز أن تكون نكرة موصوفة.
* (والله غفور حليم) * جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة، وإطماع في سعة رحمته، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة، كسائر وعيده تعالى.
* (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * قال ابن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، كان الرجل لا يترك المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره فيحلف أن لا يقربها، فيتركها لا أيما، ولا ذات زوج، فأنزل الله هذه الآية.
وقال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت الله ذلك.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، لأنه تقدم شيء من أحكام النساء، وشئ من أحكام الإيمان، وهذه الآية جمعت بين الشيئين.
وقرأ عبد الله: للذين آلوا، بلفظ الماضي وقرأ أبي، وابن عباس: للذين يقسمون.
والإيلاء، كما تقدم، هو الحلف، وقد ذكرنا الإيلاء من النساء كيف كان في الجاهلية، وأما الإيلاء الشرعي بسبب وطء النساء، فقال ابن عباس: هو الحلف أن لا يطأها أبدا، وقال ابن مسعود، والنخعي، وقتادة، والحكم، وابن أبي ليلى، وحماد بن سليمان، وإسحاق: هو الحلف أن لا يقربها يوما أو أقل أو أكثر، ثم لا يطأها أربعة
أشهر، فتبين منه بالإيلاء.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: هو الحلف أن لا يطأها أربعة أشهر، وبعد مضيها يسقط الإيلاء، ويكون الطلاق، ولا تسقط قبل المضي إلا بالفيء، وهو الجماع في داخل المدة.
وقال الجمهور: هو الحلف أن لا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر، أو ما دونها، فليس بمول، وكانت يمينا محضا، لو وطء في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، وهذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور.
والظاهر من الآية أن الإيلاء هو الحلف على الامتناع من وطء امرأته مطلقا، غير مقيد بزمان، وظاهر قوله: للذين يؤلون، شمول الحر والعبد، والسكران والسفيه،
191

والمولى عليه غير المجنون، والخصي غير المجبوب، ومن يرجى منه الوطء، وكذا الأخرس بما يفهم عنه من كناية أو إشارة.
واختلف في المجبوب فقيل: لا يصح إيلاؤه، وقيل: يصح، وأجل إيلاء العبد كأجل إيلاء الحر لأندراجه في عموم قوله: للذين يؤلون، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن المنذر؛ وقال عطاء، والزهري، ومالك، وإسحاق: أجله شهران؛ وقال الحسن، والنخعي، وأبو حنيفة: إيلاؤه من زوجته الأمة شهران، ومن الحرة أربعة وقال الشعبي: أجل إيلاء الأمة نصف إيلاء الحرة.
وظاهر قوله: يؤلون، مطلق الإيلاء، فيحصل، سواء كان ذلك قصد به إصلاح ولد رضيع، أو لم يقصد، وسواء كان في مغاضبة ومسارة، أو لم يكن، وقال عطاء، ومالك: إذا كان لإصلاح ولد رضيع فليس يلزمه حكم الإيلاء، وروي ذلك عن علي، وبه قال الشافعي في أحد قوليه، والقول الآخر: إنه لا اعتبار برضاع، وبه قال أبو حنيفة.
وقال علي، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، والليث: شرطه أن لا يكون في غضب. وقال ابن مسعود، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، الإيلاء في غضب وغير غضب. قال ابن المنذر: وهو الأصح لعموم الآية، ولإجماعهم على أن الظهار والطلاق وسائر الأيمان سواء في الغضب والرضى، وكذلك الإيلاء، والجمهور حملوا قوله * (للذين يؤلون من نسائهم) * على الحلف على امتناع الوطء فقط؛ وقال الشعبي، والقاسم، وسالم، وابن المسيب: هو الحلف على الامتناع من أن يطأها، أو لا يكلمها، أو أن يضارها، أو يغاضبها. فهذا كله عند هؤلاء إيلاء، إلا أن ابن المسيب قال: إذا حلف لا يكلمها وكان يطأها فليس بإيلاء، وإنما تكون تلك إيلاء إذا اقترن بها الامتناع من الوطء.
وأقوال من ذكر مع ابن المسيب قالوا ما محتمله ما قاله ابن المسيب، وما يحتمله أن فساد العشرة إيلاء، وإلى هذا الاحتمال ذهب الطبري.
وظاهر الآية يدل على مذهب هؤلاء، لأنه قال: * (للذين يؤلون من نسائهم) * فلم ينص على وطء ولا غيره.
و: من، يتعلق بقوله: يؤلون، وآلى لا يتعدى بمن، فقيل: من، بمعنى: على، وقيل: بمعنى في، ويكون ذلك على حذف مضاف، أي: على ترك وطء نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم. وقيل: من، زائدة والتقدير: يؤلون أن يعتزلوا نساءهم. وقيل: يتعلق بمحذوف، والتقدير: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فتتعلق بما تتعلق به لهم المحذوف، قاله الزمخشري، وهذا كله ضعيف ينزه القرآن عنه، وإنما يتعلق بيؤلون على أحد وجهين: إما أن يكون: من، للسبب أي: يحلفون بسبب نسائهم، وإما أن يضمن الإيلاء معنى الامتناع، فيعدى بمن، فكأنه قيل: للذين يمتنعون بالإيلاء من نسائهم، و: من نسائهم، عام في الزوجات من حرة وأمة وكتابية ومدخول بها وغيرها.
وقال عطاء، والزهري، والثوري: لا إيلاء إلا بعد الدخول. وقال مالك، لا إيلاء من صغيرة لم تبلغ، فان آلى منها فبلغت لزم الإيلاء من يوم بلوغها.
وظاهر قوله: للذين يؤلون، عموم الإيلاء بأي يمين كانت، قال الشافعي في (الجديد): لا يقع الإيلاء إلا بالحلف بالله وحده. وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء، وبه قال النخعي، والثوري، وأبو حنيفة، وأهل العراق، ومالك، وأهل الحجاز، وأبو ثور، وأبو عبيد، وابن المنذر، والقاضي أبو بكر ابن العربي، والشافعي في القول الأخير.
وقال أبو حنيفة: إذا قال: أقسم بالله، فهي يمين مطلقا ولا يكون بها موليا، وإن قال: وإن وطئتك فعلي صيام شهر أو سنة فهو مول؛ وقال أبو حنيفة: إن كان ذلك الشهر يمضي قبل الأربعة
192

الأشهر فليس بمول، وكذلك كل ما يلزمه من حج أو طلاق أو عتق أو صلاة أو صدقة، وخالف أبو حنيفة فيما إذا قال: إن وطئتك فعلى أن أصلي ركعتين أنه لا يكون موليا. وقال محمد: يكون موليا.
وذكر بعض المفسرين هنا فروعا كثيرة في الإيلاء، وإنما نذكر نحن ماله بعض تعلق بالقرآن على عادتنا، وليس التفسير موضوعا لاستقراء جزئيات الفروع، وظاهر قوله: للذين يؤلون، حصول اليمين منهم، سواء حلف أن لا يطأ في موضع معين، أو مطلقا، وبه قال ابن أبي ليلى، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأصحابهم، والأوزاعي، وأحمد: لا يكون موليا من حلف أن لا يطأ زوجته في هذا البيت أو في هذه الدار فإن حلف أن لا يطأها في مصره أو بلده فهو مول عند مالك.
ولا يدخل الذمي في قوله: * (للذين يؤلون) * لقوله * (فان * انتهوا فإن الله غفور رحيم) * وبه قال مالك، كما لا يصح ظهار. وقال أبو حنيفة إن حلف باسم من أسماء الله تعالى، أو بصفة من صفاته، أو حلف بما يصح منه كالطلاق، فهو مول؛ ولو استثنى المولي في يمينه فالجمهور على أنه لا يكون موليا كسائر الأيمان
المقرونة بالاستثناء؛ وقال ابن القاسم، عن مالك: يكون موليا، لكنه لو وطئ فلا كفارة عليه، وقاله ابن الماجشون في (المبسوط) عن مالك: لا يكون موليا.
* (تربص أربعة أشهر) * هذا من باب إضافة المصدر إلى ما هو ظرف زمان في الأصل، لكنه اتسع فيه فصير مفعولا به، ولذلك صحت الإضافة إليه، وكان الأصل: تربصهم أربعة أشهر، وليست الإضافة إلى الظرف من غير اتساع، فتكون الإضافة على تقدير: في، خلافا لمن ذهب إلى ذلك.
وظاهر هذا، أن ابتداء أجل الإيلاء من وقت حلف لا من وقت المخاصمة والرفع إلى الحاكم، قيل: وحكمه ضرب أربعة أشهر، لأنه غالب ما تصبر المرأة فيها عن الزوج، وقصة عمر مشهور في سماع المرأة تنشد بالليل:
* ألا طال هذا الليل واسود جانبه
*
وأرقني أن لا حبيب ألاعبه
*
وسؤاله: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقيل له: لا تصبر أكثر من أربعة أشهر. فجعل ذلك أمدا لكل سرية يبعثها.
* (فان) * أي: رجعوا بالوطء، قاله ابن عباس، والجمهور، ويكفي من ذلك عند الجمهور مغيب الحشفة للقادر، فإن كان له عذر أو مرض أو سجن أو شبه ذلك، فارتجاعه صحيح، وهي امرأته، وإن زال عذره فأبى الوطء فرق بينهما إن كانت المدة قد انقضت، قاله مالك في (المدونة) و (المبسوط). وقال الحسن، والنخعي، وعكرمة، والأوزاعي: يجزي المعذور أن يشهد على فيئتيه بقلبه، وقال النخعي أيضا: يصح الفيء بالقول، والإشهاد فقط، ويسقط حكم الإيلاء إذا رأيت أن لم ينتشر، وقيل: الفيء هو الرضى، وقيل: الرجوع باللسان بكل حال، قاله أبو قلابة، وإبراهيم، ومن قال: إن المولي هو الحالف على مساءة زوجته؛ وقال أحمد: إذا كان له عذر يفيء بقلبه، وقال ابن جبير، وابن المسيب، وطائفة: الفيء لا يكون إلا بالجماع في حال القدرة وغيرها، من سجن أو سفر أو مرض وغيره.
وأمال: فاؤوا، جرية بن عائذ لقوله: فئت، وقرأ عبد الله فإن فاؤوا فيهن، وقرأ أبي: فان فاؤوا فيها، وروي عنه: فيهن، كقراءة عبد الله. والضمير عائد على الأشهر، ويؤيد هذه القراءة مذهب أبي حنيفة: بأن الفيئة لا تكون إلا في الأشهر، وإن لم يفيء فيها دخل عليه الطلاق من غير أن يوقف بعد مضي الأربعة الأشهر، وإلى هذا ذهب: ابن مسعود، وابن عباس، وعثمان بن عفان، وعلي، وزيد بن ثابت، وجابر بن زيد، والحسن، ومسروق؛ وقال عمر، وعثمان، وعلي أيضا، وأبو الدرداء، وابن عمر، وابن عامر وابن المسيب،
193

ومجاهد، وطاووس، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: إذا انقضت الأربعة الأشهر وقف، فإما فاء وإلا طلق عليه؛ والقراءة المتواترة: فإن فاؤوا بغيرهن، ولا فيها، فاحتمل أن يكون التقدير: فإن فاؤوا في الأشهر، واحتمل أن يكون: فإن فاؤوا بعد انقضائها.
* (انتهوا فإن الله غفور رحيم) * استدل بهذا من قال: إنه إذا فاء المولى ووطىء فلا كفارة عليه في يمينه، وإلى هذا ذهب الحسن، وإبراهيم؛ وذهب الجمهور مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأصحابهم إلى إيجاب كفارة اليمين على المولي بجماع امرأته، فيكون الغفران هنا إشعارا باسقاط الإثم بفعل الكفارة، وهو قول علي، وابن عباس، وابن المسيب: إنه غفران الإثم، وعليه كفارة، وعلى المذهب الذي قبله يكون بإسقاط الكفارة، وقال أبو حنيفة: ولا كفارة على العاجز عن الوطء إذا فاء، وقال إسحاق: قال بعض أهل التأويل فيمن حلف على بر وتقوى، أو باب من أبواب الخير أن لا يفعله أنه يفعله، ولا كفارة عليه، والحجة له، * (فان * انتهوا فإن الله غفور رحيم) * ولم يذكر كفارة، وقيل: معنى ذلك غفور لمآثم اليمين، رحيم في ترخيص المخرج منها بالتكفير، قاله ابن زياد، وهو راجع للقول الثاني، وقيل: معنى رحيم حيث نظر للمرأة أن لا يضربها زوجها، فيكون وصف الغفران بالنسبة إلى الزوج، وصفة الرحمة بالنسبة إلى الزوجة.
* (وإن عزموا الطلاق) * قرأ ابن عباس: وإن عزموا السراح، وانتصاب الطلاق: إما على إسقاط حرف الجر، وهو على، لأن عزم يتعدى بعلى كما قال:
عزمت على إقامة ذي صباح
وأما إن تضمن: عزم، معنى: نوى، فيتعدى إلى مفعول به.
ومعنى العزم هنا التصميم على الطلاق، ويظهر أن جواب الشرط محذوف، تقديره: فليوقعوه، أي: الطلاق، وفي قوله في هذا التقسيم: * (فان) * و * (ءان * عزموا الطلاق) * دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول، بل لا بد من القول لقوله: عزموا الطلاق، لأن العزم على فعل الشيء ليس فعلا للشيء، ويؤكده: * (فإن الله سميع عليم) * إذ لا يسمع إلا الأقوال، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه، إذ قدرناه: فليوقعوه، أي الطلاق، فجاء: سميع، باعتبار إيقاع الطلاق، لأنه من باب المسموعات، وهو جواب الشرط، وجاء: عليم، باعتبار العزم على الطلاق، لأنه من باب النيات، وهو الشرط، ولا تدرك النيات إلا بالعلم.
وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي، ولأن العلم أعم من السمع، فمتعلقة أعم، ومتعلق السمع أخص، وأبعد من قال: فإن الله سميع لإيلائه، لبعد انتظامه مع الشرط قبله. وقال الزمخشري: فإن قلت ما تقول في قوله: فإن الله سميع عليم؟ وعزمهم الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق، وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله، كما يسمع وسوسة الشيطان. انتهى كلامه.
وقد قدمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى: وإن عزموا الطلاق أوقعوه، أي: الطلاق، والإيقاع لا يكون إلا باللفظ، فهو من باب المسموعات، والصفة تتعلق
بالجواب لا بالشرط، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري.
وفي قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * دلالة مطلق الطلاق، فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعيا أو بائنا، وقد اختلف في الطلاق الداخل على المولي في ذلك، فقال عثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، والنخعي، والأوزاعي، وأبو حنيفة: هي طلقة بائنة لا رجعة له فيها وقال ابن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، ومكحول، والزهري، ومالك، وابن شبرمة: هي رجعية.
وفي الحكم للمولي بأحد الأمرين، إما الفيئة، وإما الطلاق دليل
194

على أنه لا يجوز تقديم الكفارة في الإيلاء قبل الفيء على قول من يوجب الكفارة، لأنه لو جاز ذلك لبطل الإيلاء بغير فيء ولا عزيمة طلاق، لأنه إن حنث لم يلزم بالحنث شيء، ومتى لم يلزم الحالف بالحنث شيء لم يكن موليا، ففي جواز تقديم الكفارة إسقاط حكم الإيلاء، قاله محمد بن الحسن، ومذهب أبي حنيفة ومشهور مذهب مالك: أنه يجوز تقديم الكفارة. وقال الزمخشري: وإن عزموا الطلاق فتربصوا إلى مضي المدة. فإن الله سميع عليم، وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول الشافعي معناه: فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا بعد مضي المدة. انتهى.
وكان قد تقدم في تفسير قوله: فإن فاؤوا، ما نصه فإن فاؤوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد الله، فإن فاؤوا فيهن فإن الله غفور رحيم، يغفر للمؤمنين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء، وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضى منهن، خوفا من طلب ضرار النساء بالإيلاء، وهو الغالب. وإن كان يجوز أن يكون على رضى منهن خوفا على الولد من الغيل، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة، فنزل الزمخشري الآية على مذهب أبي حنيفة، وغاير بين متعلق الفعلين من الطرفين، إذ جعل بعد: فاؤوا، في مدة الأشهر، وبعد: عزموا، بعد مضي المدة، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ أن الفيئة والعزم على الطلاق لا يكونان إلا بعد مضي الأشهر، ولما أحس الزمخشري بهذا اعترض على نفسه فقال: فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدة التربص؟ قلت: موقع صحيح، لأن قوله: فإن فاؤوا، وإن عزموا، تفصيل لقوله: للذين يؤلون من نسائهم، والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر فان أحمدتكم أقمت عندكم، إلى آخره. وإلا لم أقم إلا ريثما أتحول. انتهى كلامه. وليس بصحيح لأن ما مثل به ليس مطابقا لما في الآية، ألا ترى أن المثال فيه إخبار عن المفصل حاله، وهو قوله: أنا نزيلكم هذا الشهر، وما بعد الشرطين مصرح فيه بالجواب الدال على اختلاف متعلق فعل الجزاء، والآية ليس كذلك التركيب فيها، لأن الذين يؤلون ليس مخبرا عنهم، ولا مسندا إليهم حكم، وإنما المخبر عنه هو: تربصهم، فالمعنى تربص المولي أربعة أشر مشروع لهم بعد إيلائهم، ثم قال: فإن فاؤوا، وإن عزموا، فالظاهر أنه يعقب تربص المدة المشروعة بأسرها، لأن الفيئة تكون فيها، والعزم بعدها، لأن هذا التقييد المغاير لا يدل عليه اللفظ، وإنما تطابق الآية أن نقول: للضيف اكرام ثلاثة أيام، فإن أقام فنحن كرماء مؤثرون، وإن عزم على الرحيل فله أن يرحل. فالذي يتبادر إليه الذهن أن الشرطين مقدران بعد إكرامه الثلاثة الأيام، وأما أن يكون المعنى: فإن أقام في مدة الثلاثة الأيام، وإن عزم على الرحيل بعد ذلك، فهذا الاختلاف في الطرفين لا يتبادر إليه الذهن، وإن كان مما يحتمله اللفظ، وفرق بين الظاهر والمحتمل، ولا يفرق بين الآية وتمثيل الزمخشري إلا من ارتاض ذهنه في التراكيب العربية، وعرى من حمل كتاب الله على الفروع المذهبية، باتباعه الحق واجتنابه العصبية.
* (والمطلقات يتربصن بأنفسهن) * ذكر بعضهم في سبب نزول هذه الآية ما لا يعد سببا، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة جدا، لأنه حكم غالب من أحكام النساء، لأن الطلاق يحصل به المنع من الوطء والاستمتاع دائما، وبالإيلاء منع نفسه من الوطء مدة محصورة، فناسب ذكر غير المحصور بعد ذكر المحصور، ومشروع تربص المولي أربعة أشهر، ومشروع تربص هؤلاء ثلاثة قروء، فناسب ذكرها بعقبها، وظاهر: والمطلقات، العموم، ولكنه مخصوص بالمدخول بهن ذوات الأقراء، لأن حكم غير المدخول بها، والحامل، والآيسة منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء.
وروي عن ابن عباس وقتادة أن الحكم كان عاما في المطلقات، ثم نسخ الحكم من
195

المطلقات سوى المدخول بها ذات الإقراء، وهذا ضعيف، وإطلاق العام ويراد به الخاص لا يحتاج إلى دليل لكثرته، ولا أن يجعل سؤالا وجوابا. كما قال الزمخشري، قال: فإن قلت كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضي العموم. قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس، صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. انتهى.
وما ذكره ليس بصحيح، لأن دلالة العام ليست دلالة المطلق، ولا لفظ العام مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، بل هي دلالة على كل فرد فرد، موضوعة لهذا المعنى، فلا يصلح لكل الجنس وبعضه، لأن ما وضع عاما يتناول كل فرد فرد، ويستغرق الأفراد لا يقال فيه: إنه صالح لكله وبعضه، فلا يجيء في أحد ما يصلح له، ولا هو كالاسم المشترك، لأن الاسم المشترك له وضعان وأوضاع بإزاء مدلوليه أو مدلولاته، فلكل مدلول وضع، والعام ليس له إلا وضع واحد على ما أوضحناه، فليس كالمشترك.
* (والمطلقات) * مبتدأ و * (يتربصن) * خبر عن المبتدأ، وصورته صورة الخبر، وهو أمر من حيث المعنى، وقيل: هو أمر لفظا ومعنى على إضمار اللام أي: ليتربصن، وهذا على رأي الكوفيين، وقيل: والمطلقات على حذف مضاف، أي: وحكم المطلقات ويتربصن على حذف: أن، حتى يصح خبرا عن ذلك المضاف المحذوف، التقدير: وحكم المطلقات أن يتربصن، وهذا بعيد جدا.
وقال الزمخشري، بعد أن قال: هو خبر في معنى الأمر، قال: فإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد الأمر وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله،
فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه، موجودا، ونحوه قولهم في الدعاء: رحمه الله، أخرج في صورة الخبر عن الله ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاد فضل تأكيد، ولو قيل: ويتربصن المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. انتهى. وهو كلام حسن، وإنما كانت الجملة الابتدائية فيها زيادة توكيد على جملة الفعل والفاعل لتكرار الاسم فيها مرتين: إحداهما بظهوره، والأخرى بإضماره، وجملة الفعل والفاعل يذكر فيها الاسم مرة واحدة.
وقال في (ري الظمآن) زيد فعل يستعمل في أمرين: أحدهما: تخصيص ذلك الفعل بذكر الأمر، كقولهم: أنا كتبت في المهم الفلاني إلى السلطان، والمراد دعوى الانفراد. الثاني: أن لا يكون المقصود ذلك، بل المقصود أن تقديم المحدث عنه بحديث آكد لإثبات ذلك الفعل له، كقولهم: هو يعطى الجزيل، لا يريد الحصر، بل المراد أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه.
ومعنى يتربصن: ينتظرن ولا يقدمن على تزوج. وقال القرطبي: هو خبر على بابه، وهو خبر عن حكم الشرع، فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع، قيل: وحمله على الخبر هو الأولى، لأن المخبر به لا بد من كونه، وأما الأمر فقد يمتثل، وقد لا يمتثل، ولأنها لا تحتاج إلى نية وعزم وتربص متعد، إذ معناه: انتظر. وجاء في القرآن محذوفا مفعوله، ومثبتا، فمن المحذوف هذا، وقدروه: بتربص التزويج، أو الأزواج، ومن المثبت قوله: * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) * * (نتربص به ريب المنون) *.
و: بأنفسهن، متعلق: بتربص، وظاهر الباء مع تربص أنها للسبب، أي: من أجل أنفسهن، ولا بد أن ذلك من ذكر الأنفس، لأنه لو قيل في الكلام: يتربص بهن لم يجز، لأنه فيه تعدية الفعل الرافع لضمير الاسم المتصل إلى الضمير المجرور، نحو: هند تمر بها، وهو غير جائز، ويجوز هنا أن يكون زائدة للتوكيد، والمعنى: يتربصن أنفسهن، كما تقول: جاء زيد بنفسه، وجاء زيد بعينه، أي: نفسه وعينه، لا يقال: إن التوكيد هنا لا يجوز، لأنه من باب توكيد الضمير المرفوع المتصل، وهو النون التي هي ضمير الإناث في: تربصن، وهو يشترط فيه أن يؤكد بضمير منفصل، وكان يكون التركيب: يتربصن هن بأنفسهن، لأن هذا التوكيد، لما جر بالباء، خرج عن التبعية، وفقدت فيه
196

العلة التي لأجلها امتنع أن يؤكد الضمير المرفوع المتصل، حتى يؤكد بمنفصل، إذا أريد التوكيد للنفس والعين، ونظير جواز هذا: أحسن بزيد وأجمل، التقدير: وأجمل به، فحذف وإن كان فاعلا، هذا مذهب البصريين، ولأنه لما جر بالباء خرج في الصورة عن الفاعل، وصار كالفضلة، فجاز حذفه: هذا على أن الأخفش ذكر في المسائل جواز: قاموا أنفسهم، من غير توكيد، وفائدة التأكيد هنا: أنهن يباشرن التربص، وزوال احتمال أن غيرهن تباشر ذلك بهن، بل أنفسهن هن المأمورات بالتربص، إذ ذاك أدعى لوقوع الفعل منهن، فاحتيج إلى ذلك التأكيد لما في طباعهن من الطموح إلى الرجال والتزويج، فمتى أكد الكلام دل على شدة المطلوبة.
وانتصاب: ثلاثة، على أنه ظرف، إذ قدرنا: تربص، قد أخذ مفعوله، والمعنى: مدة ثلاثة قروء، وقيل: انتصابه على أنه مفعول، أي: ينتظرن معنى ثلاثة قروء، وكلا الإعرابيين منقول.
وتقدم الكلام في مدلول القروء في لسان العرب، واختلف في المراد هنا.
فقال أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبو موسى، وابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعكرمة، والضحاك، ومقاتل، والسدي، والربيع، وأبو حنيفة وأصحابه، وغيرهم من فقهاء الكوفة: هو الحيض.
وقال زيد بن ثابت، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وعائشة، وابن عمر، وابن عباس، والزهري، وأبان بن عثمان، وسليمان بن يسار، والأوزاعي، والثوري، والحسن بن صالح، ومالك، والشافعي، وغيرهم من فقهاء الحجاز: هو الطهر.
وقال أحمد: كنت أقول القرء الطهر، وأنا الآن أذهب إلى أنه الحيض.
وروي عن الشافعي: أن القرء: الانتقال من الطهر إلى الحيض، ولا يرى الانتقال من الحيض إلى الطهر قرءا.
وقد تقدم قول آخر: إنه الخروج من طهر إلى حيض، أو من حيض إلى طهر. ولذكر ترجيح كل قائل ما ذهب إليه مكان غير هذا.
وظاهر قوله: ثلاثة قروء، أن العدة تنقضي بثلاثة القروء، ومن قال: إن القرء الحيض يقول، إذا طلقت في طهر لم توطأ فيه استقبلت حيضة ثم حيضة ثم حيضة ثم تغتسل، فبالغسل تنقضي العدة.
روي عن علي، وابن مسعود، وأبي موسى، وغيرهم من الصحابة: (أن زوجها أحق بردها ما لم تغتسل) حتى قال شريك: لو فرطت في الغسل، فلم تغتسل عشرين سنة، كان زوجها أحق بالرجعة والذي يظهر من الآية أن الغسل لا دخول له في انقضاء العدة.
وروي عن زيد، وابن عمر، وعائشة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا سبيل له عليها، ولا تحل للأزواج حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وذلك أن هؤلاء يقولون بأن القرء هو الطهر، فإذا أطلقت في طهر لم تمس فيه، اعتدت بما بقي منه، ولو ساعة، ثم استقبلت طهرا ثانيا بعد حيضة، ثم ثالثا بعد حيضة ثانية، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة حلت للأزواج وخرجت من العدة بأول نقطة تراها، وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد، وداود.
وقال أشهب: لا تنقطع العصمة والميراث إلا بتحقق أنه دم حيض، لاحتمال أن يكون دفعة دم من غير الحيض، وكل من قال: إن القرء الأطهار، يعتد بالطهر الذي طلقت فيه، وشذا بن شهاب فقال: تعتد بثلاثة أقراء سوى بقية ذلك الطهر، ولا تنقضي العدة حتى تدخل في الحيضة الرابعة، لأن الله تعالى قال: * (ثلاثة قروء) *، ولو، طلقت في الحيض انقضت عدتها بالشروع في الحيضة الرابعة.
وقال أبو حنيفة: لا تنقضي عدتها ما لم تطهر من الحيضة الرابعة، وقال: إذا طهرت لأكثر الحيض انقضت عدتها قبل الغسل أو لأوله، فلا تنقضي حتى تغتسل، أو تتيمم عند عدم الماء، أو يمضي عليها وقت الصلاة.
وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاثة قروء، وبه قال داود، وجماعة أهل الظاهر، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم؛ وروي عن ابن سيرين أنه قال: ما أرى عدة الأمة إلا كعدة الحرة، إلا أن مضت سنة في ذلك، فالسنة أحق أن تتبع وقال الجمهور: عدتها قرءان.
وقرأ الجمهور: وقروء، على وزن فعول؛ وقرأ الزهري: قرو، بالتشديد من غير همز، وروي ذلك عن نافع؛ وقرأ الحسن: قرو بفتح القاف وسكون الراء وواو خفيفة، وتوجيه الجمع للكثرة في هذا المكان، ولم يأت: ثلاثة أقراء، انه من باب التوسع في وضع أحد الجمعين
197

مكان الآخر، أعني: جمع القلة مكان جمع الكثرة، والعكس وكما جاء: بأننفسهن وأن النكاح يجمع النفس على نفوس في الكثرة، وقد يكثر استعمال أحد الجمعين، فيكون ذلك سببا للإتيان به في موضع الآخر ويبقى الآخر قريبا من المهمل، وذلك نحو: شسوع أوثر على أشساع لقلة استعمال أشساع، وإن لم يكن شاذا، لأن شسعا ينقاس فيه أفعال؛ وقيل: وضع بمعنى الكثرة، لأن كل مطلقة تتربص ثلاثة قروء؛ وقيل: أوثر قروء على أقراء لأن واحده قرء، بفتح القاف، وجمع فعل على أفعال شاذ، وأجاز المرد: ثلاثة حمير، وثلاثة كلاب، على إرادة: من كلاب، ومن حمير. فقد يتخرج على ما أجازه: ثلاثة قروء، أي: من قروء.
وتوجيه تشديد الواو، وهو أنه أبدل من الهمزة واوا وأدغمت واو فعول فيها، وهو تسهيل جائز منقاس، وتوجيه قراءة الحسن أنه أضاف العدد إلى اسم الجنس، إذ اسم الجنس يطلق على الواحد وعلى الجمع على حسب ما تريد من المعنى، ودل العدد على أنه لا يراد به الواحد.
* (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله فى أرحامهن) * المنهي عن كتمانه الحيض، تقول لست حائضا وهي حائض، أو حضت وما حاضت، لتطويل العدة واستعجال الفرقة، قال عكرمة، والنخعي، والزهري. أو: الحبل، قاله عمر، وابن عباس. أو الحيض والحبل معا، قاله ابن عمر، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، والربيع، ولهن في كتم ذلك مقاصد، فأخبر الله تعالى أن كتم ذلك حرام؛ ودل قوله: * (ولا يحل لهن أن يكتمن) * أنهن مؤمنات على ذلك، ولو أبيح الاستقصاء لم يمكن الكتم؛ وقال سليمان بن يسار: لم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن وكل ذلك اليهن، إذ كن مؤتمنات. إنتهى. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز أن تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها من حمل ولا حيض، وفيه تغليط، وإنكار.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد: اللاتي تبغين إسقاط ما في بطونهن من الآجنة، فلا يعترفن به، ويجحدنه لذلك فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن اسقاطه. إنتهى كلامه، والآية تحتمله.
قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم قال: إذا قالت المرأة في عشرة أيام حضت إنها لا تصدق، ولا يقبل ذلك منها إلا أن تقول: قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه، واختلفوا في المدة التي تصدق فيها المرأة فقال مالك: إن ادعت الانقضاء في أمد تنقضي العدة في مثله، قبل قولها: أو في مدة تقع نادرا، فقولان، قال في (المدونة) إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر، صدقت إذا صدقها النساء، وبه قال علي وشريح، وقال في كتاب (محمد) لا تصدق إلا في شهر ونصف، ونحو منه قول أبي ثور، أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يوما، وقيل: لا تصدق في أقل من ستين يوما.
وروي عن علي أنه استحلف امرأة لم تستكمل الحيض، وقضى بذلك عثمان.
و: لهن، متعلق: بيحل، واللام للتبليغ، و: ما، في: ما خلق، الأظهر أنها موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، وجوز أن تكون نكرة موصوفة، والعائد محذوف أيضا التقدير: خلقه. و: في أرحامهن، متعلق، بخلق، وجور أن تكون في أرحامهن حالا من المحذوف، قيل: وهي حال مقدرة، لأنه وقت خلقه ليس بشيء حتى يتم خلقه.
وقرأ مبشر بن عبيد: في أرحامهن وبردهن، بضم الهاء فيهما والضم هو الأصل، وإنما كسرت لكسرة ما قبلها.
* (إن كن يؤمن بالله واليوم الاخر) *. هذا شرط جوابه محذوف على الأصح من المذاهب، حذف لدلالة ما قبله عليه، ويقدر هنا من لفظه، أي: إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يحل لهن ذلك والمعنى: أن من اتصف بالإيمان لا يقدم على ارتكاب ما لا يحل له، وعلق ذلك على بهذا الشرط، وإن كان الإيمان حاصلا لهن إيعادا وتعظيما للكتم، وهذا كقولهم: إن كنت مؤمنا فلا تظلم، وإن كنت حرا فانتصر. يجعل ما كان موجودا كالمعدوم، ويعلق عليه، وإن كان موجودا في نفس الأمر.
والمعنى: إن كن مؤمنات فلا يحل لهن الكتم، وأنت مؤمن فلا تظلم، وأنت حر فانتصر، وقيل: في الكلام محذوف: أي، إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان.
وقيل: إن، بمعنى: إذ، وهو ضعيف، وتضمن هذا الكلام الوعيد، فقال
198

ابن عباس: لما استحقه الرجل من الرجعة؛ وقال قتادة: لإلحاق الولد بغيره، كفعل أهل الجاهلية.
* (وبعولتهن أحق بردهن في ذالك) * قرأ مسلمة بن محارب: وبعولتهن، بسكون التاء، فرارا من ثقل توالي الحركات، وهو مثل ما حكى أبو زيد: ورسلنا، بسكون اللام. وذكر أبو عمر، و: أن لغة تميم تسكين المرفوع من: يعلمهم، ونحوه. وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه، أو لأن الرجعية زوجة على ما ذهب إليه بعضهم.
والمعنى أن الأزواج أحق لمراجعتهن.
وقرأ أبي: بردتهن بالتاء بعد الدال، وتتعلق: الباء، وفي، بقوله: أحق، وقيل: تتعلق: في، بردهن؛ وأشار بقوله: في ذلك، إلى الأجل الذي أمرت أت تتربص
فيه، وهو زمان العدة وقيل: في الحمل المكتوم، والضمير في: بعولتهن، عائد على المطلقات، وهو مخصوص بالرجعيات، وفيه دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله ولا يوجب تخصيصه، لأن قوله: والمطلقات، عام في المبتوتات والرجعيات، و: بعولتهن أحق بردهن، خاص في الرجعيات، ونظيره عندهم * (وصينا * الإنسان بوالديه حسنا) * فهذا عموم، ثم قال: * (وإن جاهداك) * وهذا خاص في المشركين.
والأولى عندي أن يكون على حذف مضاف دل عليه الحكم، تقديره: وبعولة رجعياتهن، وأحق، هنا ليست على بابها، لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة العدة، إنما ذلك للزوج ولا حق لها أيضا في ذلك، بل لو أبت كان له ردها، فكأنه قيل: وبعولتهن حقيقون بردهن. ودل قوله: بردهن، على انفصال سابق، فمن قال: إن المطلقة الرجعية محرمة الوطء فالرد حقيقي على بابه، ومن قال: هي مباحة الوطء وأحكامها أحكام الزوجة، فلما كان هناك سبب تعلق به زوال النكاح عند انقضاء العدة، جاز إطلاق الرد عليه، إذ كان رافعا لذلك السبب.
واختلفوا فيما به الرد؛ فقال سعيد، والحسن، وابن سيرين، وعطاء وطاووس، والزهري، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو حنيفة: إذا جامعها فقد راجعها ويشهد؛ وقال الليث، وطائفة من أصحاب مالك: إن وطأه مراجعة على كل حال نواها أو لم ينوها؛ وقال مالك: إن وطئها في العدة يريد الرجعة وجهل أن يشهد فهي رجعة وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد، وبه قال إسحاق: فإن وطئ ولم ينو الرجعة، فقال مالك: يراجع في العدة ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد.
وقال ابن القاسم: فإن انقضت عدتها لم ينكحها هو ولا غيره في مدة بقية الاستبراء، فان فعل فسخ نكاحه ولا يتأبد تحريمها عليه، لأن الماء ماؤه؛ وقال الشافعي: إذا جامعها فليس برجعة نوى بذلك الرجعة أم لا، ولها مهر مثلها. وقال مالك: لا شيء عليه، قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا أوجب عليه مهر المثل غير الشافعي.
قال الشافعي:؛ ولا تصح الرجعة إلا بالقول، وبه قال جابر بن زيد، وأبو قلابة، وأبو ثور؛ قال الباجي في (المنتقى): ولا خلاف في صحة الارتجاع بالقول، ولو قبل أو باشر أثم عند مالك، وليس برجعة. والسنة أن يشهد قبل ذلك؛ وقال أبو حنيفة، والثوري: إن لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة فهو رجعة، ينبغي أن يشهد في قول مالك، والشافعي، وإسحاق وأبي عبيد، وأبي ثور.
وهل يجوز له أن يسافر بها قبل ارتجاعها؟ منعه مالك، والشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه؟ وعن الحسن بن زياد: إن له أن يسافر بها قبل الرجعة.
وهل له أن يدخل عليها ويرى شيئا من محاسنها وتتزين له أو تتشوف؟ أجاز ذلك أبو حنيفة؛ وقال مالك: لا يدخل عليها إلا بإذن، ولا ينظر إليها إلا وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها، ولا بأس أن يؤا كلها إذا كان معها غيرها، ولا يبيت معها في بيت؛ قال ابن القاسم: ثم رجع مالك عن ذلك، فقال: لا يدخل عليها، ولا يرى شعرها، وقال سعيد يستأذن عليها إذا دخل ويسلم، أو يشعرها بالتنحم والتنحنح، وتلبس ما شاءت من الثياب والحلي، فإن لم يكن لها إلا بيت واحد فليجعلا بينهما سترا؛ وقال: الشافعي هي محرمة تحريم المبتوته حتى تراجع بالكلام، كما تقدم.
وأجمعوا على أن المطلق إذا قال بعد انقضاء العدة لامرأته: كنت راجعتك في العدة، وأنكرت إن القول قولها مع يمينها وفيه خلاف لأبي حنيفة، فلو كانت الزوجة أمة، والزوج ادعى الرجعة في العدة بعد انقضائها، فالقول قول الزوجة الأمة، وإن كذبها مولاها هذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي ثور.
وقا أبو يوسف، ومحمد: القول قول المولى وهو أحق بها.
* (إن أرادوا إصلاحا) * هذا شرط آخر حذف جوابة لدلالة ما قبله عليه، وظاهره أن إباحة الرجعة معقودة بشريطة إرادة الإصلاح، ولا خلاف بين أهل
199

العلم أنه إذا راجعها مضارا في الرجعة، مريدا لتطويل العدة عليها أن رجعته صحيحة، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * قالوا: فدل ذلك على صحة الرجعة، وإن قصد الضرر، لأن المراجعة لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالما بفعلها.
قال الماوردي: في الإصلاح المشار إليه وجهان: أحدهما: إصلاح ما بينهما من الفساد بالطلاق؛ الثاني: القيام لما لكل واحد منهما على صاحبه من الحق إنتهى كلامه.
قالوا: ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي، وعن رضاها، وعن تسمية مهر، وعن الإشهاد على الرجعة على الصحيح، ويسقط بالرجعة بقية العدة، ويحل جماعها في الحال، ويحتاج في اثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع، والذي يظهر لي أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل، فلا يجوز له أن تعود إليه، إلا بنكاح ثان، ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها، فإما أن يبقى شيء من عدتها، أو لا يبقى إن بقي شيء من عدتها فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه إن أراد الإصلاح، ومفهوم الشرط أنه إذا أراد غير الإصلاح لا يكون له ذلك، وإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزويجها، وإما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح، فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه، فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع، قلنا به، ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا، وإن ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ يالنزاع فيها، وأن كل حكم يحتاج إلى دليل.
* (ولهن مثل الذى عليهن بالمعروف) * هذا من بديع الكلام، إذ حذف شيئا من الأول أثبت نظيره في الآخر، وأثبت شيئا في الأول حذف نظيره في الآخر، وأصل التركيب ولهن على أزواجهن مثل الذي لأزواجهن عليهن، فحذفت على أزواجهن لإثبات: عليهن، وحذف لأزواجهن لإثبات لهن.
واختلف في هذه المثلية، فقيل: المماثلة في الموافقة والطواعية، وقال معناه الضحاك؛ وقيل: المماثلة في التزين والتصنع، وقاله ابن عباس، وقال: أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية؛ وقيل: المماثلة في تقوى الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم، ولهذا أشار صلى الله عليه وسلم) بقوله: (اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان أي: أسيرات، قاله ابن زيد؛ وقيل: المماثلة معناها أن لهن من النفقة والمهر وحسن العشرة وترك الضرار مثل الذي عليهن من الأمر والنهي
فعلى هذا يكون المماثلة في وجوب ما يفعله الرجل من ذلك، ووجوب امتثال المرأة أمره ونهيه، لا في جنس المؤدي والممتثل، إذ ما ما يفعله الرجل محسوس ومعقول، وما تفعله هي معقول، ولكن اشتركا في الوجوب، فتحققت المثلية وقيل: الآية في جميع حقوق الزوج على الزوجة، وحقوق الزوجة على الزوج.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال: (أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يهجر إلا في البيت) وفي حديث الحج عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال في خطبة يوم عرفة: (اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله تبارك وتعالى، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يواطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)..
ومثل، مبتدأ، و: لهن، هو في موضع الخبر، و: بالمعروف، يتعلق به: لهن، أي: ومثل الذي لأزواجهن عليهن كائن لهن على أزواجهن، وقيل: بالمعروف، هو في موضع الصفة: لمثل، فهو في موضع رفع، وتتعلق إذ ذاك بمحذوف.
ومعنى: بالمعروف أي: بالوجه، الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفا له، بل يقابل كل منهما صاحبه بما يليق به.
* (وللرجال عليهن درجة) * أي: مزية وفضيلة في الحق، أتى بالمظهر عوض المضمر إذ كان لو أتى على المضمر لقال: ولهم عليهن درجة، للتنويه بذكر الرجولية التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء، ولما كان يظهر في الكلام بالإضمار من تشابه الألفاظ، وأنت تعلم ما في ذاك، إذ كان يكون: ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف ولهم عليهن درجة، ولقلق الإضمار حذف مضمران ومضافان من الجملة الأولى.
والدرجة هنا: فضله
200

عليها في الميراث، وبالجهاد، قاله مجاهد، وقتادة: أو: بوجوب طاعتها إياه وليس عليه طاعتها، قاله زيد بن أسلم، وابنه: أو: بالصداق، وجواز ملاعنة إن قذف، وحدها إن قذفت، قال الشعبي، رضي الله تعالى عنه: أو بالقيام عليها بالإنفاق وغيره، وإن اشتركا في الاستمتاع، قاله ابن إسحاق أو: بملك العصمة وإن الطلاق بيده، قاله قتادة، وابن زيد. أو: بما يمتاز منها كاللحية، قاله مجاهد أو: بملك الرجعة أو بالإجابة إلى فراشه إذا دعاها، وهذا داخل في القول الثاني: أو: بالعقل، أو بالديانة، أو بالشهادة، أو بقوة العبادة، أو بالذكورية، أو لكون المرأة خلقت من الرجل، أشار إليه ابن العربي: أو: بالسلامة من أذى الحيض والولادة والنفاس، أو بالتزوج عليها والتسري، وليس لها ذلك، أو بكونه يعقل في الدية بخلافها، أو بكونه إماما بخلافها.
وقال ابن عباس: تلك الدرجة إشارة إلى حض الرجال على حسن العشرة والتوسع للنساء في المال والخلق، أي: إن الأفضل ينبغي أن يتحامل على نفسه. انتهى.
والذي يظهر أن الدرجة هي ما تريده النساء من البر والإكرام والطواعية والتبجيل في حق الرجال، وذلك أنه لما قدم أن على كل واحد من الزوجين للآخر عليه مثل ما للآخر عليه، اقتضى ذلك المماثلة، فبين أنهما، وإن تماثلا في ما على كل واحد منهما للآخر، فعليهن مزيد إكرام وتعظيم لرجالهن، وأشار إلى العلة في ذلك: وهو كونه رجلا يغالب الشدائد والأهوال، ويسعى دائما في مصالح زوجته، ويكفيها تعب الاكتساب، فبازاء ذلك صار عليهن درجة للرجل في مبالغة الطواعية، وفيما يفضي إلى الاستراحة عندها.
وملخص ما قاله المفسرون، يقتضى أن للرجل درجة تقتضي التفضيل.
و: درجة، مبتدأ، و: للرجال، خبره، وهو خبر مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، و: عليهن، متعلق بما تعلق به الخبر من الكينونة والاستقرار، وجوزوا أن يكون: عليهن، في موضع نصب على الحال، لجواز أنه لو تأخر لكان وصفا للنكرة، فلما تقدم انتصب على الحال، فتعلق إذ ذاك بمحذوف وهو غير العامل في الخبر، ونظيره: في الدار قائما رجل، كان أصله: رجل قائم، ولا يجوز أن يكون: عليهن، الخبر، و: للرجال، في موضع الحال، لأن العامل في الحال إذ ذاك معنوي، وقد تقدمت على جزأى الجملة، ولا يجوز ذلك، ونظيره: قائما في الدار زيد. وهو ممنوع لا ضعيف كما زعم بعضهم، فلو توسطت الحال وتأخر الخبر، نحو: زيد قائما في الدار، فهذه مسألة الخلاف بيننا وبين أبي الحسن، أبو الحسن يجيزها، وغيره يمنعها.
* (والله عزيز حكيم) * تقدم تفسير هذين الوصفين، وختم الآية بهما لأنه تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله:
201

يتربصن، والنهي في قول: ولا يحل لهن، والجواز في قوله: وبعولتهن أحق، والوجوب في قوله: ولهن مثل الذي عليهن، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر والغلبة، وهي تناسب التكليف، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي، وهي تناسب التكليف أيضا.
* (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * سبب نزول هذه الآية ما روى هشام بن عروة، عن أبيه: أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثم راجعها قبل انقضاء عدتها، كان له ذلك، ولو طلق ألف ألف مرة، فطلق رجل امرأته، ثم راجعها قبل انقضاء عدتها رجل استبرأ، فحين طلق شارفت انقضاء العدة راجعها، ثم طلقها، ثم قال: والله لا أقربك إلى ولا تخلين مني، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، فنزلت.
ومناسبتها لما قبلها ظاهرة، وهو أنه لما تضمنت الآية قبلها الطلاق الرجعي، وكانوا يطلقون ويراجعون من غير حد ولا عد، بين في هذه الآية، أنه: مرتان، فحصر الطلاق الرجعي في أنه مرتان، أي يملك المراجعة إذا طلقها، ثم يملكها إذا طلق، ثم إذا طلق ثالثة لا يملكها. وهو على حذف مضاف أي: عدد الطلاق الذي يملك فيه الرجعة مرتان، والثالثة لا يملك فيها الرجعة.
فعلى هذا الألف واللام في الطلاق للعهد في الطلاق السابق، وهو الذي تثبت معه الرجعة، وبه قال عروة، وقتادة، وقيل: طلاق السنة المندوب بينه بقوله: الطلاق مرتان، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقيل: المعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثا، وهو يقتضيه اللفظ، لأنه لو طلق مرتين معا في لفظ واحد لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يصدق عليه. هكذا بحثوه في هذا الموضع، وهو بحث صحيح.
وما زال يختلج في خاطري انه لو قال: أنت طالق مرتين أو ثلاثا، أنه لا يقع إلا واحدة، لأنه مصدر للطلاق، ويقتضي العدد، فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجودا، كما تقول: ضربت ضربتين، أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل، فمتى لم يتكرر وجودا استحال أن يكرر مصدره وان يبين رتب العدد، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، فهذه لفظ واحد، ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثا أو اثنين، ونظير هذا أن ينشئ الإنسان بيعا بينه وبين رجل في شيء ثم يقول عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثا، فقوله ثلاثا لغو وغير مطابق لما قبله، والإنشاءات أيضا يستحيل التكرار فيها حتى يصير المجمل قابلا لذلك الإنشاء، وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال: طلقتك مرتين أو ثلاثا، أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثا على ما نذكره.
قالوا: وتشتمل هذه الآية على أحكام.
منها أن مسنون الطلاق التفريق بين أعداد الثلاث إذا أراد أن يطلق ثلاثا، وأن من طلق ثلاثا أو اثنتين في دفعة واحدة كان مطلقا لغير السنة
202

ومنها أن ما دون الثلاث ثبت مع الرجعة، وأنه إذا طلق اثنتين في الحيض وقعتا، وإن نسخ الزيادة على الثلاث.
ولم تتعرض الآية للوقت المسنون فيه إيقاع الطلاق، وسنتكلم على ذلك في مكان ذكره إن شاء الله تعالى، وقسموا هذا الطلاق إلى: واجب، ومحظور، ومسنون، ومكروه، ومباح، وهذا من علم الفقه، فنتكلم عليه في كتبه.
وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق: الحر والعبد، فيكون حكمهما سواء، ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين، ولا يحل له بعدهما إلا بعد زوج، وروي عن ابن عباس ما يخالف شيئا من هذا، وهو أن أمر العبد في الطلاق إلى المولى.
واختلفوا إذا كان أحدهما حرا والآخر رقيقا، فقيل: الطلاق بالنساء، فلو كانت حرة تحت عبد أو حر فطلاقها ثلاث، أو أمة تحت حر أو عبد فطلاقهما تنتان، وبه قال أبو علي، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، والثوري، والحسن بن صالح.
وقيل: الطلاق بالرجال، فلو كانت أمة تحت حر فطلاقها ثلاث، أو حرة تحت عبد فطلاقها ثنتان، وبه قال عمر، وعثمان البتي.
والطلاق مصدر طلقت المرأة طلاقا، ويكون بمعنى التطليق. كالسلام بمعنى التسليم، وهو مبتدأ، ومرتان خبره، وهو على حذف مضاف، أي: عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة، أو الطلاق الشرعي المسنون مرتان، واحتيج إلى تقدير هذا المضاف حتى يكون الخبر هو المبتدأ، و: مرتان، تثنية حقيقة، لأن الطلاق الرجعي أو المسنون، على اختلاف القولين، عدده هو مرتان على التفريق، وقد بينا كونه يكون على التفريق. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين التثنية والتكرار كقوله تعالى: * (ثم ارجع البصر كرتين) * أي: كرة بعد كرة، لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التتالي التي يراد بها التكريرة، قولهم: لبيك، وسعديك، وحنانيك، وهذا ذيك، ودواليك. انتهى كلامه. وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك، ومخالف لما في نفس الأمر.
أما مناقضته فإنه قال في تفسير: الطلاق مرتان، أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق. دون الجمع، والإرسال دفعة واحدة، فقوله: تطليقة بعد تطليقة مناقض في الظاهر لقول: ولم يرد بالمرتين التثنية، لأنك إذا قلت ضربتك ضربة بعد ضربة، إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين، وهو مساو في الدلالة لقولك: ضربتك ضربتين، ولأن قولك: ضربتين، لا يمكن وقوعهما إلا ضربة بعد ضربة.
وأما مخالفته لما في نفس الأمر، فليس هذا من التثنية التي تكون للتكرير، لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتضي بتكريرها ثنتين ولا ثلاث، بل يدل على التكرير مرارا، فقولهم: لبيك، معناه إجابة بعد إجابة فما زاد، وكذلك أخواتها، وكذلك قوله: كرتين، معناه ثم أرجع البصر مرارا كثيرة والتثنية في قوله: * (الطلاق مرتان) * إنما يراد بها شفع الواحد، وهو الأصل في التثنية، ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله: مرتان، ما يزيد على الثنتين لقوله بعد: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * هي الطلقة الثالثة؟ ولذلك جاء بعد: * (فإن طلقها) * أي: فإن سرحها الثالثة، وإذا تقرر هذا، فليس قوله: مرتان دالا على التكرار الذي لا يشفع، بل هو مراد به شفع الواحد، وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التقدير بقوله: الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة، فجعل ذلك من باب التثنية التي لا يشفع الواحد، ومراد بها التكثير. إلا أنه يعكر عليه أن الأصل شفع الواحد، وأن التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث في التكرار، ولما حمل الزمخشري قوله تعالى: مرتين، على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير، احتاج أن يتأول قوله تعالى: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * على أنه تخيير لهم، بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن، وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم.
وتحصل من هذا الكلام أن قوله تعالى: * (الطلاق مرتان) *
203

فيه قولان للسلف.
أحدهما: أنه بيان لعدد الطلاق الذي للزوج أن يرتجع منه دون تجديد مهر وولي، وإليه ذهب عروة، وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أنه تعريف سنة الطلاق، أي: من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما امساكها محسنا عشرتها، وبه قال ابن مسعود
، وابن عباس وغيرهما.
قال ابن عطية: والآية تتضمن هذين المعنيين، والإمساك بالمعروف هو الارتجاع بعد الثانية إلى حسن العشرة، والتزام حقوق الزوجية. انتهى كلامه.
وحكى الزمخشري القول الأول، فقال: وقيل معناه: الطلاق الرجعي مرتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف، أي برجعة، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة، أو بأن لا يراجعها مراجعة، يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها، وقيل: بأن يطلقها الثالثة. وروي أن سائلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أين الثالثة؟ فقال عليه السلام (أو تسريح بإحسان). انتهى كلامه.
وتفسير: التسريح بإحسان، أن لا يراجعها حتى تبين بالعدة، هو قول الضحاك، والسدي. وقوله: أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها، كلام لا يتضح تركيبه على تفسير قوله: أو تسريح بإحسان، لأنه يقتضي أن يراجعها مراجعة حسنة مقصودا بها الإحسان والتآلف والزوجية، فيصير هذا قسيم قوله: * (فإمساك بمعروف) * فيكون المعنى: فامساك بمعروف أو مراجعة مراجعة حسنة. وهذا كلام لا يلتئم أن يفسر به * (أو تسريح بإحسان) * ولو فسر به فإمساك بمعروف لكان صوابا. وأما قوله: وقيل بأن يطلقها الثالثة، فهو قول مجاهد وعطاء وجمهور السلف، وعلماء الأمصار.
قال ابن عطية: ويقوى هذا القول عندي من ثلاثة وجوه.
أولها: أنه روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم): يا رسول الله هذا ذكر الطلقتين، فأين الثالثة؟ فقال عليه السلام: (هي قوله: * (أو تسريح بإحسان) *).
والوجه الثاني: أن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرىء: وان عزموا السراح؟.
والوجه الثالث: أن فعل تفعيلا، هذا التضعيف يعطي أنه أحدث فعلا مكررا على الطلقة الثانية، وليس في الترك إحداث فعل يعبر عنه بالتفعيل. انتهى كلامه. وهو كلام حسن.
والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن: الطلاق، الألف واللام فيه للعهد، وهو الطلاق الذي تقدم قبل قوله: * (وبعولتهن أحق بردهن في ذالك) * وهو ما كان الطلاق رجعيا، وأن قوله: * (مرتان) * بيان لعدد هذا الطلاق، وأن قوله: * (فإمساك بمعروف) * بالفاء التي هي للتعقيب بعد صدور الطلقتين، ووقوعها كناية عن الرد بعد الطلقة الثانية، وفاء التعقيب تقتضي التعدية، وأن قوله: * (أو تسريح بإحسان) * صريح في الطلقة الثالثة، لأنه معطوف على * (فإمساك بمعروف) * وما عطف على المتعقب بعد شيء لزم فيه أن يكون متعقبا لذلك الشيء، فجعل له حالتان بعد الطلقتين، إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يطلق بإحسان. إلا أن العطف بأو ينبو عنه الدلالة على هذا المعنى، لأنه يدل على أحد الشيئين، ويقوي إذ ذاك أن يكون التسريح كناية عن التخلية والترك، لأن المعنى يكون: الطلاق مرتين فبعدهما أحد أمرين: إما الامساك، وهو كناية عن الرد، وإما التسريح، فيكون كناية عن التخلية. واستمرار التسريح لا إنشاء التسريح، وإما أن تدل على إيقاع التسريح بعد الإمساك المعبر به عن الرد، فإن قدر شرط محذوف، وجعل: فإمساك، جوابا لذلك الشرط، وجعل الإمساك كناية عن استمرار الزوجية، أمكن أن يراد بالتسريح إنشاء الطلاق، فيكون التقدير: فإن أوقع التطليقتين ورد الزوجة * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *، لأن الرد يعتقبه أحد هذين، إما الاستمرار على الزوجية، فيكون بمعروف، وإما الطلقة الثالثة ويكون بإحسان.
وقال في (المنختب) ما ملخص منه: الطلاق مرتان، قال قوم هو مبتدأ لا تعلق له بما قبله، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع دفعة واحدة، وهذا تفسير من قال: الجمع بين الثلاث حرام، وهو مذهب أبي، وجماعة من الصحابة. والألف واللام للاستغراق، والتقدير: كل الطلاق مرتان، ومرة
204

ثالثة، وهذا يفيد التفرق لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق الاجتماع، ولفظه خبر، ومعناه الأمر، والقائلون بهذا قالوا: لو طلقها ثلاثا أو اثنتين، اختلفوا فقال كثير من علماء البيت: لا يقع إلا الواحدة، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع إدخال لتلك المفسدة في الوجود، وإنه غير جائز.
وقال أبو حنيفة: يقع ما لفظ به بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
وقال قوم: هو متعلق بما قبله، والمعنى: أن الطلاق الرجعي مرتان، ولا رجعة بعد الثلاث، وهذا تفسير من جوز الجمع بين الثلاث، وهو مذهب الشافعي رحمة الله تعالى، وذلك أن الآية قبلها ذكر فيها أن حق المراجعة ثابت للزوج، ولم يذكر أنه ثابت دائما أو إلى غاية معينة، فكان ذلك كالمجمل المفتقر المبين أو كالعام المفتقر إلى المخصص، فبين ما ثبت فيه الرجعة وهو: أن يوجد طلقتان، وأما الثالثة فلا تثبت الرجعة فالألف واللام في: الطلاق، للمعهود السابق، وهو الطلاق الذي تثبت في الرجعة، ورجح هذا القول بأن قوله:.
* (وبعولتهن أحق بردهن في ذالك) * إن كان عاما في كل الأحوال احتاج إلى مخصص، أو مجملا لعدم بيان شرط تثبت الرجعة عنده افتقر إلى البيان، فجعلها متعلقة بما قبلها محصل للمخصص أو للمبين فهو أولى من أن يكون كذلك، لأن البيان عن وقت الخطاب، وإن كان جائزا تأخيره فالأرجح أن لا يتأخر، وبأن حمله على ذلك يدخل سبب النزول فيه، وحمله على تنزيل حكم آخر أجنبي يخرجه عنه، ولا يجوز أن يكون السبب خارجا عن العموم.
وقال في (المنتخب) أيضا ما ملخص منه: معنى التسريح قبل وقوع الطلقة الثالثة، وقبل ترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة، وهذا هو الأقرب، لأن الفاء في قوله: * (فإن طلقها) * تقتضي وقوع هذه الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح، فلو أريد به الثالثة لكان: فان طلقها طلقة رابعة، وإنه لا يجوز، ولأن بعده ولا يحل لكم أن
تأخذوا، والمراد به الخلع، ومعلوم أنه لا يصح بعد الثلاث، فإن صح تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم) للتسريح هنا أنها الثالثة، فلا مزيد عليه. إنتهى ما قصد تلخيصه من المنتخب.
ولا يلزم بما ذكر أن يكون قوله: فإن طلقها رابعة، كما قال، لأنه فرض التسريح واقعا، وليس كذلك، لأنه ذكر أحد أمرين بعد أن يطلق مرتين: أحدهما أن يرد ويمسك بمعروف، والآخران يسرح بعد الرد بإحسان فالمعنى أن الحكم أحد أمرين، ثم قال: فإن وقع أحد الأمرين: وهو الطلاق، فحكمه كذا، فلا يلزم أن يكون هذا الواقع مغايرا لأحد الأمرين السابقين، كما تقول: الرأي عندي أن تقيم أو ترحل، فإن رحلت كان كذا، فلا يدل قوله: فإن رحلت على أنه رحيل غير المتردد في حصوله، ولا يدل التردد في الحكم بين الإقامة والرحيل على بوقوع الرحيل، لأن المحكوم عليه أحد الأمرين، ولا يلزم أيضا ما ذكر من ترتب الخلع بعد الثلاث، وهو لا يصح لما ذكرناه من أن الحكم هو أحد أمرين، فلا يدل على وقوع الطلاق الثالث، بل ذكر الخلع قبل ذكر وقوع الطلاق الثالث، لأنه بعده، وهو قوله: * (فإن طلقها) * وأيضا لو سلمنا وقوع الطلاق الثالث قبل وقوعه * (ولا يحل لكم أن تأخذوا) * ولم يلزم أن يكون الخلع بعد الطلاق الثالث، لأن الآية جاءت لتبيين حكم الخلع، وإنشاء الكلام فيه، وكونها سيقت لهذا المعنى بعد ذكر الطلاق الثالث في التلاوة لا يدل على الترتيب في الوجود، فلا يلزم ما ذكر إلا بلو صرح بقيد يقتضى تأخر الخلع في الوجود عن وجود الطلاق الثالث، وليس كذلك، فلا يلزم ما ذكره.
وارتفاع قوله: * (فإمساك) * على الابتداء والخبر محذوف قدره ابن عطية متأخرا تقديره: أمثل وأحسن، وقدره غيره متقدما أي: فعليكم إمساك بمعروف، وجوز فيه ابن عطية أن يكون خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فالواجب إمساك، و: بمعروف، وبإحسان، يتعلق كل منهما بما يليه من المصدر، و: الباء، للالصاق، وجوز أن يكون المجرور صفة لما قبله، فيتعلق بمحذوف، وقالوا: يجوز في العربية ولم يقرأ به نصب إمساك، أو تسريح، على المصدر أي: فامسكوهن إمساكا بمعروف، أو سرحوهن تسريحا بإحسان.
* (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا) * الآية. سبب النزول أن جميلة بنت عبد الله بن أبي. كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكانت تبغضه وهو يحبها، فشكته إلى أبيها فلم يشكها، ثم شكته إليه ثانية وثالثة وبها أثر ضرب فلم يشكها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم) وشكته إليه وأرته أثر الضرب، وقالت: لا أنا ولا ثابت لا يجمع رأسي ورأسه شيء، والله لا أعتب عليه في دين ولا خلق، لكني أكره الكفر في الإسلام ما أطيقه بغضا، إني رفعت جانب الخيام فرأيته أقبل في عدة وهو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها، فقال ثابت: ما لي أحب إلى منها بعدك يا رسول الله، وقد أعطيتها حديقة تردها علي،
205

وأنا أخلي سبيلها، ففعلت ذلك فخلى سبيلها، وكان أول خلع في الإسلام، ونزلت الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى الإمساك بمعروف أو التسريح بإحسان، اقتضى ذلك أن من الإحسان أن يأخذ الزوج من امرأته شيئا مما أعطى واستثنى من هذه الحالة قصة الخلع، فأباح للرجل أن يأخذ منها على ما سنبينه في الآية، وكما قاله الله تعالى: * (وإن أردتم استبدال فلا تأخذوا منه شيئا) * الآية، والخطاب في: لكم، وما بعده ظاهره أنه للأزواج، لأن الأخذ والإيتاء من الإزواج حقيقة، فنهوا ان يأخذوا شيئا، لأن العادة جرت بشح النفس وطلبها ما أعطت عند الشقاق والفراق، وجوزوا أن يكون الخطاب للأمة والحكام ليلتئم مع قوله: * (فإن خفتم) * لأنه خطاب لهم لا للأزواج، ونسب الأخذ والايتاء إليهم عند الترافع، لأنهم الذين يمضون ذلك. ومن قال: أنه للأزواج أجاب بأن الخطاب قد يختلف في الجملتين، فيفرد كل خطاب إلى من يليق به ذلك الحكم، ولا يستنكر مثل هذا، ويكون حمل الشيء على الحقيقة إذ ذاك أولى من حمله على المجاز، * (ومما) * ظاهر في عموم وما أتوا على سبيل الصداق أو غيره من هبة، وقد فسره بعضهم بالصدقات، واللفظ عام، * (* وشيئا) * إشارة إلى خطر الأخذ منهن، قليلا كان أو كثيرا، * (* وشيئا) * نكرة في سياق النهي فتعم، و: مما، متعلق بقوله: تأخذوا، أو بمحذوف فيكون في موضع نصب على الحال من قوله: شيئا، لأنه لو تأخر لكان نعتا له.
* (إلا أن يخافا * أن لا * يقيما حدود الله) * الألف في يخافا ويقيما عائد على صنفي الزوجين، وهو من باب الالتفات، لأنه إذا اجتمع مخاطب وغائب، وأسند إليهما حكم كان التغليب للمخاطب، فتقول: أنت وزيد تخرجان، ولا يجوز يخرجان، وكذلك مع التكلم نحو: أنا وزيد نخرج، ولما كان الاستثناء بعد مضى الجملة للخطاب جاز الالتفات، ولو جرى على النسق الأول لكان: إلا أن تخافوا أن لا تقيموا، ويكون الضمير إذ ذاك عائدا على المخاطبين وعلى أزواجهم، والمعنى: إلا أن يخافا أي: صنفا الزوجين، ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من حقوق الزوجية، بما يحدث من بغض المرأة لزوجها حتى تكون شدة البغض سببا لمواقعة الكفر، كما في قصة جميلة مع زوجها ثابت، * (وأن * يخافا) * قيل: في موضع نصب على الحال، التقدير: إلا خائفين، فيكون استثناء من الأحوال، فكأنه قيل: فلا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا في كل حال إلا في حال الخوف أن لا يقيما حدود الله، وذلك أن: أن، مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدر في موضع اسم الفاعل فهو منصوب على الحال، وهذا في إجازته نظر، لأن وقوع المصدر حالا لا ينقاس، فأحرى ما وقع موقعه، وهو: أن الفعل، ويكثر المجاز فإن الحال إذ ذاك يكون: أن والفعل، الواقعان موقع المصدر الواقع موقع اسم الفاعل.
وقد منع سيبويه وقوع: أن والفعل، حالا، نص على ذلك في آخر: هذا باب ما يختار فيه الرفع ويكون فيه الوجه في جميع اللغات، والذي يظهر أنه استثناء من المفعول له، كأنه قيل: ولا يحل لكم أن تأخذوا بسبب من الأسباب إلا بسبب خوف عدم إقامة حدود الله، فذلك هو المبيح لكم الأخذ، ويكون حرف العلة قد حذف مع: أن، وهو جائز فصيحا كثيرا، ولا يجيء هنا، خلاف الخليل وسيبويه أنه إذا حذف حرف الجر من: أن، هل ذلك في موضع نصب أو في موضع جر؟ بل هذا في موضع نصب، لأنه مقدر بالمصدر لو صرح به كان منصوبا، واصلا إليه العامل بنفسه، فكذلك هذا المقدر به، وهذا الذي ذكرناه من أن: أن والفعل، إذا كانا في
موضع المفعول من أجله، فالموضع نصب لا غير، منصوص عليه من النحويين، ووجهه ظاهر.
ومعنى الخوف هنا الإيقان، قاله أبو عبيدة، أو: العلم أي إلا أن يعلما، قاله ابن سلمه، وإياه أراد أبو محجن، بقوله:
206

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ولذلك رفع الفعل بعد: أن، أو: الظن، قاله الفراء، وكذلك قرأ أبي: إلا أن يظنا، وأنشد:
* أتاني كلام من نصيب بقوله
*
وما خفت يا سلام أنك عايبي
*
والأولى بقاء الخوف على بابه، وهو أن يراد به الحذر من الشيء، فيكون المعنى: إلا أن يعلم. أو يظن أو يوقن أو يحذر، كل واحد منهما بنفسه، أن لا يقيم حقوق الزوجية لصاحبه حسبما يجب، فيجوز الأخذ.
وقرأ عبد الله: إلا أن يخافوا أن لا يقيموا حقوق، أي إلا أن يخاف الأزواج والزوجات، وهو من باب الالتفات إذ لو جرى عليه النسق الأول لكان بالتاء، وروي عن عبد الله أنه قرأ أيضا: إلا أن تخافوا بالتاء.
وقرأ حمزة، ويعقوب، ويزيد بن القوقاع؛ إلا أن يخافوا، بضم الياء، مبنيا للمفعول، والفاعل المحذوف: الولاة.
وأن لا يقيما، في موضع رفع بدل من الضمير أي: إلا أن يخاف عدم إقامتهما حدود الله، وهو بد اشتمال، كما تقول: الزيد ان أعجباني حسنهما، والأصل: إلا أن يخافوا، أنها: الولاة، عدم إقامتهما حدود الله.
وقال ابن عطية: في قراءة يخافا بالضم، أنها تعدت خاف إلى مفعولين: أحدهما أسند الفعل إليه، والآخر بتقدير حرف جر بمحذوف، فموضع أن خفض الجار المقدر عند سيبويه، والكسائي، ونصب عند غيرهما، لأنه لما حذف الجار المقدر وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل: استغفر لله ذنبا، وأمرتك الخير. إنتهى كلامه. وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله من كتابه، إلا التنظير باستغفر، وليس بصحيح تنظير ابن عطية خاف باستغفر، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين، كاستغفر الله، ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى إلى اثنين، وأصل أحدهما بحرف الجر، بل إذا جاء: خفت زيدا ضربه عمرا، كان ذلك بدلا، إذ: من ضربه عمرا كان مفعولا من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان، وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه، والذي نقله أبو علي وغيره أن مذهب سيبويه أن الموضع بعد الحذف نصب، وبه قال الفراء، وأن مذهب الخليل أنه جر، وبه قال الكسائي. وقدر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف: على، فقال: والتقدير إلا أن يخافا على أن يقيما، فعلى هذا يمكن أن يصح قول علي وفيه بعد وقد طعن في هذه القراءات من لا يحسن توجيه كلام العرب، وهي قراءة صحيحة مستقيمة في اللفظ وفي المعنى، ويؤيدها قوله بعد: فإن خفتم، فدل على أن الخوف المتوقع هو من غير الأزواج، وقد اختار هذه القراءة أبو عبيد.
قال أبو جعفر الصفار: ما علمت في اختيار حمزة أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن يحتج له بقراءة عبد الله بن مسعود: إلا أن يخافوا أن لا يقيموا، فهو في العربية إذ ذاك لما لم يسم فاعله، فكان ينبغي أن لو قيل إلا أن يخافا أن لا يقيما؟ وقد احتج الفراء لحمزة، وقال: إنه اعتبر قراءة عبد الله: إلا أن يخافوا، وخطأه أبو علي، وقال: لم يصب، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على: أن؛ وفي قراءة حمزة واقع على الرجل والمرأة، وأما اللفظ فإن كان صحيحا فالواجب أن يقال: فإن خيفا، وإن كان على لفظ: فإن، وجب أن يقال إلا أن يخافوا. وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيمتوهن شيئا إلا أن يخاف غيركم، ولم يقل جل وعز: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان، وقد صح عن عمر وعثمان أنهما أجازا الخلع بغير سلطان. إنتهى كلام الصفار، وما ذكره لا يلزم، وتوجيه قراءة الضم ظاهر، لأنه لما قال: ولا يحل لكم وجب على الحكام منه من أراد أن يأخذ شيئا من ذلك، ثم قال: إلا أن يخافا، الضمير للزوجين، والخائف محذوف وهم: الولاة والحكام والتقدير: إلا حين يخاف الأولياء الزوجين أن لا يقيما حدود الله، فيجوز الافتداء، وتقدم تفسير الخوف هنا.
وأما قوله: فوجب أن يقال: فإن خيفا فلا يلزم، لأن هذا من باب الالتفات، وهو في القرآن كثير، وهو من محاسن العربية، ويلزم من فتح الياء أيضا على
207

قول الصفار أن يقرأ: فإن خافا، وإنما هو في القراءتين على الالتفات، وأما تخطئة الفراء فليست صحيحة، لأن قراءة عبد الله: إلا أن يخافوا، دلالة على ذلك، لأن التقدير: إلا أن يخافوهما أن لا يقيما، والخوف واقع في قراءة حمزة على أن، لأنها في موضع رفع على البدل من ضميرهما، وهو بدل الاشتمال كما قررناه قبل، فليس على ما تخيله أبو علي، وذلك كما تقول: خيف زيد شره، وأما قوله: يبعد من جهة المعنى، فقد تقدم الجواب عنه، وهو أن لهما المنع من ذلك، فمتى ظنوا أو أيقنوا ترك إقامة حدود الله، فليس لهم المنع من ذلك، وقد اختار أبو عبيدة قراءة الضم، لقوله تعالى: فإن خفتم، فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا.
وقد قيل: إن قوله: * (ولا يحل لكم) *) * إلى آخره، جملة معترضة بين قوله: * (*) * إلى آخره، جملة معترضة بين قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وبين قوله: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد) *.
* (فإن خفتم) *: الضمير للأولياء أو السلطان، فإن لم يكونوا فلصلحاء المسلمين، وقيل: عائد على المجموع من قام به أجزأ.
* (أن لا * يقيما حدود الله) * وترك إقامة الحدود هو ظهور النشوز وسوء الخلق منها، قاله ابن عباس، ومالك، وجمهور الفقهاء؛ أو عدم طواعية أمره وإبرار قسمه، قاله الحسن، والشعبي: وإظهار حال الكراهة له بلسانها، قاله عطاء. وعلى هذه الأقوال الثلاثة قيل: تكون التثنية أريد بها الواحد، أو كراهة كل منهما صاحبه، فلا يقيم ما أوجب الله عليه من حق صاحبه، قاله طاووس، وابن المسيب. وعلى هذا القول التثنية على بابها.
وروي أن امرأة نشزت على عهد عمر، فبيتها في اصطبل في بيت الزبل ثلاث ليال، ثم دعاها، فقال: كيف رأيت مكانك؛ فقالت ما رأيت ليالي أقر لعيني منها، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلا هذه الليالي. فقال عمر: هذا وأبيكم النشوز، وقال لزوجها إجلعها ولو من قرطها، اختلعها بما دون عقاص رأسها، فلا خير لك فيها.
* (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) * هذا جواب الشرط، قالوا: وهو يقتضي مفهومه أن الخلع لا يجوز إلا بحضور من له الحكم من سلطان أو ولي، وخوفه ترك إقامة حدود الله، وما قالوه من اقتضاء المفهوم وجود الخوف صحيح، أما الحضور فلا.
وظاهر قوله: * (ولا يحل لكم) * إذا كان خطابا للأزواج أنه لا يشترط ذلك، وخص الحسن الخلع بحضور السلطان، والضمير في: عليهما، عائد على الزوجين معا، أي: لا جناح على الزوج فيما أخذ، ولا على الزوجة فيما افتدت به.
وقال الفراء: عليهما، أي: عليه، كقوله: * (يخرج منهما) * أي: المالح * (نسيا حوتهما) * والناسي يوشع قال الشاعر:
* فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر
*
وان تدعاني أحم عرضا ممنعا
*
وظاهر قوله: * (فيما افتدت به) * العموم بصداقها، وبأكثر منه، وبكل مالها قاله عمر، وعثمان، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والنخعي، والحسن، وقبيصة بن ذؤيب، ومالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وأبو ثور، وقضى بذلك عمر؛ وقيل: فيما أفتدت به من الصداق وحده من غير زيادة منه، قاله علي، وطاووس، وعمرو بن شعيب، وعطاء، والزهري، وابن المسيب، والشعبي، والحسن، والحكم، وحماد، وأحمد، وإسحاق، وابن الربيع، وكان يقرأ، هو والحسن: فيما افتدت به منه، بزيادة: منه، يعني مما أتيتموهن، وهو المهر؛ وحكى مكي هذا القول عن أبي حنيفة، وقيل: ببعض صداقها، ولا يجوز بجميعه إذا دخل بها حتى يبقى منه بقية ليكون بدلا عن استمتاعه بها.
وظاهر قوله: * (فإن خفتم * أن لا * يقيما حدود الله) * تشريكهما في ترك إقامة الحدود، وأن جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معا. وقد حرم الله على الزوج أن يأخذ إلا بعد الخوف أن لا يقيما حدود الله، وأكد التحريم بقوله: * (فلا تعتدوها) * ثم توعد على الاعتداء، وأجمع عامة أهل
208

العلم على تحريم أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها، قال ابن المنذر: روينا معنى ذلك عن ابن عباس، والشعبي، ومجاهد، وعطاء، والنخعي، وابن سيرين، والقاسم، وعروة، وحميد بن عبد الرحمن، وقتادة، والثوري، ومالك، وإسحاق، وأبي ثور.
وقال مالك، والشعبي، وغيرهما: إن كان مع فساد الزوجة ونشوزها فساد من الزوج، وتفاقم ما بنيهما، فالفدية جائزة للزوج. قال أبو محمد بن عطية: ومعنى ذلك أن يكون الزوج، لو ترك فساده لم يزل نشوزها هي، وأما إن انفرد الزوج بالفساد فلا أعلم أحدا يجيز له الفدية إلا ما روي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا جاء الظلم والنشوز من قبله، فخالعته، فهو جائز ماض، وهو آثم لا يحل ما صنع، ولا يرد ما أخذ، وبه قال أصحابه: أبو يوسف، ومحمد، وزفر؛ وقال مالك: يمضى الطلاق إذ ذاك، ويرد عليها مالها.
وقال الأوزاعي، في من خالع امرأته وهي مريضة: إن كانت ناشزة كان في ثلثها، أو غير ناشزة رد عليها وله عليها الرجعة، قال: ولو اجتمعا على فسخ النكاح قبل البناء منها، ولم يبن منها نشوز، لم أر بذلك بأسا.
وقال الحسن بن صالح، وعثمان البتي: إن كانت الإساءة من قبله فليس له أن يخلعها، أو من قبلها فله ذلك على ما تراضيا عليه.
وظاهر الآية أنه إذا لم يقع الخوف فلا يجوز لها أن تعطي على الفراق، وشذ بكر بن عبد الله المزني، فقال: لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجته شيئا خلعا، لا قليلا ولا كثيرا، قال: وهذه الآية منسوخة بقوله: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج) * الآية، وضعف قوله باجماع الأمة على إجازة الفدية، وبأن المعنى المقترن بآية الفدية غير المعنى الذي في آية إرادة الاستبدال.
واختلفوا: هل يندرج تحت عموم قوله: * (فيما افتدت به) * الضرر، والمجهول، كالتمر الذي لم يبد صلاحه، والجمل الشارد، والعبد الآبق، والجنين في البطن، وما يثمره نخلها، وما تلده غنمها وإرضاع ولدها منه؟ وكل هذا وما فرعوا عليه مذكور في كتب الفقه. قالوا: وظاهر قوله: * (فيما افتدت به) * أن الخلع فسخ إذا لم ينوبه الطلاق، لقوله بعد * (فإن طلقها) * وأجمعوا على أن هذه هي الثالثة، فلو كان الخلع قبلها طلاقا لكانت رابعة، وهو خلاف الإجماع قاله ابن عباس، وطاووس، وعكرمة، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور.
وروي عن علي، وعثمان، وابن مسعود، وجماعة من التابعين: أنه طلاق، وبه قال الجمهور: مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعي.
ولا يدل ظاهرها على أن الخلع فسخ كما ذكروا، لأن الآية إنما جيء بها لبيان أحكام الخلع من غير تعرض له، أهو فسخ أم طلاق؟ فلو نوى تطليقتين أو ثلاثا فقال مالك: هو ما نوى، وقال أبو حنيفة: إن نوى ثلاثا فثلاثا أو اثنتين فواحدة بائنة.
* (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * إشارة إلى الآيات التي تقدمت من قوله: * (ولا تنكحوا المشركات) * إلى هنا، وإبراز الحدود بالاسم الظاهر، لا بالضمير، دليل على التعظيم لحدود الله تعالى: وفي تكرار الإضافة تخصيص لها وتشريف، ويحسن التكرار بالظاهر كون ذلك في جمل مختلفة.
و: تلك، مبتدأ، أو: حدود الله، الخبر. ومعنى: فلا تعتدوها، أي: لا تجاوزوها إلى ما لم يأمركم به.
* (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * لما نهى عن اعتداء الحدود، وهو تجاوزها، وكان ذلك خطابا لمن سبق له الخطاب قبل ذلك، أتى بهذه الجملة الشرطية العامة الشاملة لكل فرد فرد ممن يتعدى الحدو، وحكم عليهم أنهم الظالمون، والظلم، وهو وضع الشيء في غير موضعه، فشمل بذلك المخاطبين.
قيل: وغيرهم، و: من، شرطية، والفاء في: فأولئك، جواب الشرط، و: حمل، يتعد على اللفظ، فأفرد، و: أولئك، على المعنى. فجمع وأكد بقوله: هم، وأتى في قوله: الظالمون، بالألف واللام التي تفيد الحصر، أو المبالغة في الوصف، ويحتمل: هم، أن تكون فصلا مبتدأ وبدلا.
209

2 (* (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهمآ أن يتراجعآ إن ظنآ أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) *)) 2
* (فإن طلقها) * يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة، وهو راجع إلى قوله: * (أو تسريح بإحسان) * كأنه قال: فإن سرحها التسريحة الثالثة الباقية من عدد الطلاق. قاله ابن عباس: وقتادة، والضحاك، ومجاهد، والسدي. ومن قول ابن عباس أن الخلع فسخ عصمة وليس بطلاق، ويحتج بهذه الآية بذكر الله للطلاقين، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر الثالثة بعد الطلاقين، ولم يك للخلع حكم يعتد به.
وأما من يراه طلاقا فقال: هذا اعتراض بين الطلقتين والثالثة ذكر فيه أنه لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة إلا بالشريطة التي ذكرت، وهو حكم صالح أن يوجد في كل طلقة طلقة وقوع آية الخلع بين هاتين الآيتين حكمية، أن الرجعة والخلع لا يصلحان إلا قبل الثالثة، فأما بعدها فلا يبق شيء من ذلك، وهي كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب.
* (فلا تحل له من بعد) * أي: من بعد هذا الطلاق الثالث * (حتى تنكح زوجا غيره) * والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء، فحمله ابن المسيب، وابن جبير، وذكره النحاس في معاني القرآن له على العقد، وقال: إذا عقد عليها الثاني حلت للأول، وإن لم يدخل بها ولم يصبها، وخالفه الجمهور لحديث امرأة رفاعة المشهور، فقال الحسن: لا يحل إلا الوطء والإنزال، وهو ذوق العسيلة. وقال باقي العلماء: تغييب الحشفة يحل، وقال بعض الفقهاء: التقاء الختانين يحل، وهو راجع للقول قبله، إذ لا يلتقيان إلا مع المغيب الذي عليه الجمهور، وفي قوله: * (حتى تنكح زوجا غيره) * دلالة على أن نكاح المحلل جائز، إذ لم يعني الحل إلا بنكاح زوج، وهذا يصدق عليه أنه نكاح زوج فهو جائز. وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وداود، وهو قول الأوزاعي في رواية، والثوري في رواية. وقول الشافعي في كتابه الجديد المصري إذا لم يشترط التحليل في حين العقد، وقال القاسم، وسالم، وربيعة، ويحيى بن سعد: لا بأس أن يتزوجها ليحللها إذا لم يعلم الزوجان، وهو مأجور، وقال مالك: والثوري، والأوزاعي، والشافعي في القديم، وأبو حنيفة في رواية: لا يجوز، ولا تحل للأول، ولا يقر عليه وسواء علما أم لم يعلما. وعن الثوري أنه لو شرط بطل الشرط، وجاز النكاح، وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وقال الحسن، وإبراهيم: إذا علم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح.
وفي قوله: زوجا غيره، دلالة على أن الناكح يكون زوجا، فلو كانت أمة وطلقت ثلاثا، أو اثنتين على مذهب من يرى ذلك، ثم وطئها سيدها لم تحل للأول، قاله علي، وعبيدة، ومسروق، والشعبي، وجابر، وإبراهيم، وسليمان بن يسار، وحماد، وأبو زياد، وجماعة فقهاء الأمصار. وروي عن عثمان، وزيد بن ثابت، والزبير أنه يحلها إذا غشيها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق.
وفي قوله: زوجا، دلالة أيضا على أنه لو كان الزوج عبدا وهي أمة ووهبها السيد له بعد بت طلاقها، أو اشتراها الزوج بعدما بت طلاقها لم تحل له في الصورتين بملك اليمين حتى تنكح زوجا غيره.
قال أبو عمر: على هذا جماعة العلماء وأئمة الفتوى: مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال ابن عباس، وعطاء، وطاووس، والحسن: تحل بملك اليمين.
وفي قوله: زوجا غيره، دلالة على أنه إذا تزوج الذمية المبتوتة من المسلم بالثلاث ذمي، ودخل بها، وطلقت حلت للأول. وبه قال الحسن، والزهري، والثوري
210

والشافعي، وأبو عبيد، وأصحاب أبي حنيفة؛ وقال مالك، وربيعة: لا يحلها.
وظاهر قوله: حتى تنكح زوجا، أنه بنكاح صحيح، فلو نكحت نكاحا فاسدا لم يحل، وهو قول أكثر العلماء: مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأصحاب أبي حنيفة. وقال الحكم: هو زوج، وأجمعوا على أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت، ودخل على زوجي وصدقها. أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع أن لا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته.
وفي الآية دليل على أن سمي زوج كاف، سواء كان قوي النكاح أم ضعيفه أو صبيا أو مراهقا أو مجبوبا بقي له ما يغيبه كما يغيب، غير الخصي، وسواء أدخله بيده أو
بيدها، وكانت محرمة أو صائمة، وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة وأصحابه، والثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك. وقال مالك في أحد قوليه: لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، ومذهب جمهور الفقهاء أن المطلقة ثلاثا لا تحل لذلك الزوج إلا بخمسة شرائط: تعتد منه، ويعقد للثاني، ويطأها، ثم يطلقها، وتعتد منه.
وكون الوطء شرطا قيل: ثبت بالسنة، وقيل: بالكتاب، وهو قول أبي مسلم، وقيل: هو المختار. لأن أبا علي نقل أن العرب تقول: نكح فلان فلانة بمعنى عقد عليها. ونكح امرأته أو زوجته أي: جامعها. وقد مر لنا طرق من هذا.
قال في (المنتخب): بعد كلام كثير محصوله أن قوله: حتى تنكح زوجا غيره، يدل على ما تقدم الزوجية. وهي العقد الحاصل بينهما، ثم النكاح على من سبقت زوجته، فيتعين أن يراد به الوطء، فيكون قوله: تنكح، دالا على الوطء، و: زوجا: يدل على العقد. ولا يتعين ما قاله، إذ يجوز أن لا يدل على أن تتقدم الزوجية بجعل تسميته زوجا بما تؤول إليه حاله، فيكون التقدير: حتى يعقد على من يكون زوجا. وقال في (المنتخب) أيضا: أما قول من يقول: الآية لا تدل على الوطء، وإنما ثبت بالسنة فضعيف، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدودا إلى غاية، وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته، فيلزم انتفاء الحرمة عند حصول النكاح، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء هذه الحرمة عند حصول العقد، فكان رفعها بالخبر نسخا للقرآن بخبر الواحد، وأنه غير جائز، أما إذا حملنا النكاح على الوطء، وحملنا قوله زوجا على العقد، لم يلزم هذا الإشكال. انتهى.
ولا يلزم ما ذكره من هذا الإشكال وهو أنه يلزم من ذلك نسخ القرآن بخبر الواحد، لأن القائل يقول: لم يجعل نفي الحل منتهيا، إلى هذه الغاية التي هي نكاحها زوجا غيره فقط. وإن كان الظاهر في الآية ذلك، بل ثم معطوفات، قبل الغاية المذكورة في الآية وما بعدها، يدل على إرادتها، وهي غايات أيضا، والتقدير: فلا تحل له من بعد، أي: من بعد الطلاق الثلاث حتى تنقضي عدتها منه، وتعقد على زوج غيره، ويدخل بها، ويطلقها، وتنقضي عدتها منه، فحينئذ تحل للزوج المطلق ثلاثا أن يتراجعا، فقد صارت الآية من باب ما يحتاج بيان الحل فيه إلى تقدير هذه المحذوفات وتبيينها، ودل على إرادتها الكتاب والسنة الثابتة، وإذا كانت كذلك، وبين هذه المحذوفات الكتاب والسنة، فليس ذلك من باب نسخ القرآن بخبر الواحد، ألا ترى أنه يلزم أيضا من حمل النكاح هنا على الوطء أن يضمر قبله: حتى تعقد على زوج ويطأها؟ فلا فرق في الإضمار بين أن يكون مقدما على الغاية المذكورة المراد به الوطء، أو يكون مؤخرا عنها إذا أريد به العقد، فهذا إضمار يدل عليه الكتاب والسنة، فليس من باب النسخ في شيء.
* (فإن طلقها) * قيل: الضمير عائد على: زوج، النكرة، وهو الثاني، وأتى بلفظ: إن، دون إذا تنبيها على أن طلاقه يجب أن يكون على ما يخطر له دون الشرط. انتهى. ومعناه أن: إذا، إنما تأتي للمتحقق، وإن تأتي للمبهم والمجوز وقوعه وعدم وقوعه، أو للمحقق المبهم زمان وقوعه، كقوله تعالى: * (وما جعلنا لبشر من) * والمعنى: فإن طلقها وانقضت عدتها منه * (فلا جناح عليهما) * أي: على الزوج المطلق الثلاث وهذه الزوجة. قاله ابن عباس، ولا خلاف فيه بين أهل العلم على أن اللفظ يحتمل أن يعود على الزوج الثاني والمرأة، وتكون الآية قد أفادت حكمين: أحدهما: أن المبتوتة ثلاثا تحل للأول بعد نكاح زوج غيره
211

بالشروط التي تقدمت، وهذا مفهوم من صدر الآية، والحكم الثاني: أنه يجوز للزوج الثاني الذي طلقها أن يراجعها، لأنه ينزل منزلة الأول، فيجوز لهما أن يتراجعا، ويكون ذلك دفعا لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول، فبكونها حلت له اختصت به، ولا يجوز للثاني أن يردها، فيكون قوله: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * مبينا أن حكم الثاني حكم الأول، وأنه لا يتحتم أن الأول يراجعها، بل بدليل إن انقضت عدتها من الثاني فهي مخيرة فيمن يرتد منهما أن تتزوجه، فإن لم تنقض عدتها، وكان الطلاق رجعيا، فلزوجها الثاني أن يراجعها، وعلى هذا لا يحتاج إلى حذف بين قوله: * (فإن طلقها) * وبين قوله: * (فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * ويحتاج إلى الحذف إذا كان الضمير في: عليهما، عائدا على المطلق ثلاثا وعلى الزوجة، وذلك المحذوف هو، وانقضت عدتها منه، أي: فإن طلقها الثاني وانقضت عدتها منه فلا جناح على المطلق ثلاثا والزوجة أن يتراجعا، وقوله: * (إن ظنا أن يقيما حدود الله) * أي: إن ظن الزوج الثاني والزوجة أن يقيما حدود الله، لأن الطلاق لا يكاد يكون في الغالب إلا عند التشاجر والتخاصم والتباغض، وتكون الضمائر كلها منساقة انسياقا واحدا لا تلوين فيه، ولا اختلاف مع استفادة هذين الحكمين من حمل الضمائر على ظاهرها، وهذا الذي ذكرناه غير منقول، بل الذي فهموه هو تكوين الضمائر واختلافها.
* (أن يتراجعا) * أي: في أن يتراجعا، والضمير في: عليهما، وفي: أن يتراجعا، على ما فسروه، عائد على الزوج الأول والزوجة التي طلقها الزوج الثاني.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه الحر، إذا طلق زوجته ثلاثا. ثم انقضت عدتها، ونكحت زوجا ودخل بها، ثم نكحها الأول، أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات ثم ترجع إلى الأول؛ فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وبه قال أكابر الصحابة: عمر، وعلي، وأبي، وعمران بن حصين، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين: عبيدة السلماني، وابن المسيب، والحسن، ومن الأئمة: مالك، والثوري، وابن أبي ليلى، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وابن نصر.
وقالت طائفة: يكون على نكاح جديد بهدم الزوج الثاني الواحدة والثنتين كما يهدم الثلاث، وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، والنخعي، وشريح، وأصحاب عبد الله إلا عبيدة وهو مذهب أبي حنيفة، وأبي يوسف.
وقيل: قول ثالث إن دخل بها الآخر فطلاق جديد، ونكاح الأول جديد، وإن لم يكن يدخل بها فعلى ما بقي.
* (إن ظنا أن يقيما حدود الله) * أي إن ظن كل واحد منهما أنه يحسن عشرة صاحبه، وما يكون له التوافق بينهما من الحدود التي حدها الله لكل واحد منهما، وقد
ذكرنا طرقا مما لكل واحد منهما على الآخر في قوله: * (ولهن مثل * الذين * عليهن بالمعروف) * وقال ابن خويز: اختلف أصحابنا، يعني أصحاب مالك، هل على الزوجة خدمة أم لا؟ فقال بعضهم: ليس على الزوجة أن تطالب بغير الوطء. وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل، ليسار أبوة أو ترفة، فعليها تدبير أمر المنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها ان تفرش الفراش ونحوه، وإن كانت من نساء الكرد والدين في بلدهن كلفت ما تكلفه نساؤهم، وقد جرى أمر المسلمين في بلدانهم، في قديم الأمر وحديثه، بما ذكرنا. ألا ترى أن نساء الصحابة كن يكلفن الطحن والخبيز والطبيخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك.
و: إن ظنا، شرط جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه، فيكون جواز التراجع موقوفا على شرطين: أحدهما: طلاق الزوج الثاني، والآخر: ظنهما إقامة حدود الله، ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز: إن لم يظنا، ومعنى الظن هنا تغليب أحد الجائزين، وبهذا يتبين أن معنى الخوف في آية الخلع معنى الظن، لأن مساق الحدود مساق واحد.
وقال أبو عبيدة وغيره المعنى: أيقنا، جعل الظن هنا
212

بمعنى اليقين، وضعف قولهم بأن اليقين لا يعلمه إلا الله، إذ هو مغيب عنهما.
قال الزمخشري: ومن فسر العلم هنا بالظن فقدوهم من طريق اللفظ، والمعنى: لأنك لا تقول: علمت أن تقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم زيد، ولأن الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنم يظن ظنا. انتهى كلامه.
وما ذكره من: أنك لا تقول علمت أن يقوم زيد، قد قاله غيره، قالوا: إن أن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعل تحقيق، نحو: العلم واليقين والتحقيق، وإنما يعمل في أن المشددة، قال أبو علي الفارسي في (الإيضاح): ولو قلت علمت أن يقوم زيد، فنصبت الفعل: بأن، لم يجز، لأن هذا من مواضع: أن، لأنها مما قد ثبت واستقر، كما أنه لا يحسن: أرجو انك تقوم، وظاهر كلام أبي علي الفارسي مخالف لما ذكره سيبويه من أن يجوز أن تقول: ما علمت إلا أن يقوم زيد، فأعمل: علمت، في: أن.
قال بعض أصحابنا: ووجه الجمع بينهما أن: علمت، قد تستعمل ويراد بها العلم القطعي، فلا يجوز وقوع: أن، بعدها كما ذكره الفارسي، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي، فيجوز أن يعمل في: أن، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله: * (فإن علمتموهن مؤمنات) * فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي، لأن القطع بإيمانهن غير متوصل إليه وقول الشاعر:
* وأعلم علم حق غير ظن
*
وتقوى الله من خير المعاد
*
فقوله: علم حق، يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذلك قوله: غير ظن، يدل عليه أنه يقال: علمت وهو ظان، ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من أن: علمت، قد يعمل في: أن، إذا أريد بها غير العلم القطعي قول جرير:
* نرضى عن الله أن الناس قد علموا
*
أن لا يدانينا من خلقه بشر
فأتى بأن، الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه.
وثبت بقول جرير وتجويز سيبويه أن: علم، تدخل على أن الناصبة، فليس بوهم، كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ.
وأما قوله: لأن الإنسان لا يعلم ما في غد، وإنما يظن ظنا، ليس كما ذكر، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرة مما يكون في الغد، ويجزم بها ولا يظنها.
والفاء في: فلا تحل، جواب الشرط، وله، ومن بعد، وحتى، ثلاثتها تتعلق بتحل، واللام معناها التبليغ، ومن ابتداء الغاية، وحتى للتعليل. وبني لقطعه عن الإضافة، إذ تقديره من بعد الطلاق الثالث، وزوجا أتى به للتوطئة، أو للتقييد أظهرهما الثاني؛ فإن كان للتوطئة لا للتقييد فيكون ذكره على سبيل الغلبة لأن الإنسان أكثر مما يتزوج الحرائر، ويصير لفظ الزوج كالملغى، فيكون في ذلك دلالة على أن الأمة إذا بت طلاقها ووطئها سيدها حل للأول نكاحها، إذ لفظ الزوج ليس بقيد؛ وإن كان للتقييد، وهو الظاهر، فلا يحللها وطئ سيدها.
والفاء في: فلا جناح، جواب الشرط قبله، وعليهما، في موضع الخبر، أما المجموع: جناح، إذ هو مبتدأ على رأي سيبويه، وإما على أنه خبر: لا، على مذهب أبي الحسن، و: أن يتراجعا، أي: في أن يتراجعا، والخلاف بعد حذف: في، أبقى: أن، مع ما بعدها في موضع نصب، أم في موضع جر، تقدم لنا ذكره، و: أن يقيما، في موضع المفعولين سد مسدهما لجريان المسند والمسند إليه في هذا الكلام على مذهب سيبويه، والمفعول الثاني محذوف على مذهب أبي الحسن، وأبي العباس.
* (وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) * تلك: مبتدأ، و: حدود خبر، و: يبينها يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون في موضع الحال، أي مبينة، والعامل فيها اسم الإشارة، وذو الحال: حدود الله، كقوله تعالى: * (فتلك بيوتهم خاوية) * و: لقوم، متعلق: بيبينها، و: تلك، إشارة إلى ما تقدم من الأحكام، وقرئ: نبينها، بالنون على طريق الالتفات، وهي قراءة تروى عن عاصم.
ومعنى التبين هنا: الإيضاح، وخص المبين لهم بالعلم تشريفا لهم، لأنهم الذين ينتفعون بما بين الله تعالى من نصب دليل
213

على ذلك من قول أو فعل، وإن كان التبين بمعنى خلق البيان، فلا بد من تخصيص المبين لهم الذين يعلمون بالذكر، لأن من طبع على قلبه لا يخلق في قلبه التبيين.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة نهي الله عباده عن ابتذال اسمه تعالى، وجعله كثير الترداد، وعلى ألسنتهم في أقسامهم على بر وتقوى وإصلاح، فدل ذلك على أن مبالغة النهي عن ذلك في أقسامهم على ما ينافي البر والتقوى والصلاح بجهة الأحرى، وألاولى، لأن الإكثار من اليمين بالله تعالى فيه عدم مبالاة واكتراث المقسم به، إذ الأيمان معرضة لحنث الإنسان فيها كثيرا، وقل أن يرى كثير الحلف إلا كثير الحنث. ثم ختم هذه الآية بأنه تعالى سميع لأقوالهم، عليم بنياتهم.
ولما تقدم النهي عن ما ذكرناه، سامحهم الله تعالى بأن ما كان يسبق على ألسنتهم على سبيل اللغو، وعدم القصد لليمين، لا يؤاخذون. به، وإنما يؤاخذ بما انطوى عليه الضمير، وكسبه القلب بالتعهد، ثم ختم هذه الآية بما يدل على المسامحة في لغو اليمين من صفة الغفران والحلم.
ولما تقدم كثير من الأحكام مع النساء ذكر حكم الإيلاء مع النساء، وهو: الحلف على الامتناع من وطئهن، فجعل لذلك مدة، وهو أربعة أشهر أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها غالبا، ثم بعد انتظار هذه المدة وانقضائها إن فاء فإن الله غفور لا يؤاخذه بل يسامحه في تلك اليمين، وإن عزم الطلاق أوقعه.
ولما جرى ذكر الطلاق استطرد إلى ذكر جملة من أحكامه فذكر عدة المطلقة وأنها: ثلاثة قروء، ودل ذكر القرء على أن المراد بالمطلقات هن النساء اللواتي يحضن ويطهرن، ولم يطلقن قبل المسيس ولا هن حوامل، ودل على إرادة هذه المخصصات آيات أخر، وذكر تعالى أنه لا يحل لهن كتمان ما خلق الله في أرحامهن، فعم الدم والولد لأنهن كن يكتمن ذلك لأغراض لهن، وعلق ذلك على الإيمان بالله وهو الخالق ما في أرحامهن، وعلى الإيمان بالله واليوم الآخر وهو الوقت الذي يقع فيه الحساب، والثواب والعقاب على ما يرتكبه الإنسان من تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، ومخالفته فيما شرع.
ثم ذكر تعالى أن أزواجهن الذين طلقوهن أحق بردهن في مدة العدة، وشرط في الأحقية إرادة إصلاح الأزواج، فدل على أنه إذا قصد برجعتها الضرر لا يكون أحق بالرد، ثم ذكر تعالى أن للزوجة حقوقا على الرجل، مثل ما أن للرجل حقوقا على الزوجة، فكل منهما مطلوب بإيفاء ما يجب عليه، ثم ذكر أن للرجل مزيد مزية ودرجة على المرأة، فيكون حق الرجل أكثر، وطواعية المرأة له ألزم، ولم يبين الدرجة ما هي، ويظهر أنها ما يؤلف من كثرة الطواعية، والاهتبال بقدره، والتعظيم له، لأن قبله بالمعروف وهو الشيء الذي عرفه الناس في عوائدهم من كثرة تودد المرأة لزوجها وامتثال ما يأمر به وختم هذه الآية يوصف العزة وهي: الغلبة، والقهر؛ و: الحكمة، وهي وضع الشيء موضع ما يليق به، وهما الوصفان اللذان يحتاج إليهما التكليف.
ثم ذكر تعالى أن الطلاق الذي يستحق فيه الزوج الرجعة في تلك العدة، هو مرتان طلقة بعد طلقة وبعد وقوع الطلقتين، إما أن يردها ويمسكها بمعروف، أو يسرحها بإحسان، ثم ذكر عقب هذا حكم الخلع، لأن مشروعيته لا تكون إلا قبل وجود الطلقة الثالثة، وأما بعدها فلا ينبغي خلع، فلذلك جاء بين الطلاق الذي له فيه رجعة، وبين الطلاق الذي يبت العصمة، وذكر من أحكامه أنه: لا يحل أخذ شيء من مال الزوجة، إلا بشرط أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، ثم أكد ذلك بذكر الخوف أن لا يقيما حدود الله، فجعل ذلك منهما معا، فلو خاف أحدهما لم يجز الخلع، هذا ظاهر الآية.
ثم نهى تعالى عن تعدي حدود الله وتجاوزها، وأخبر أن من تعداها ظالم، قال تعالى * (فإن طلقها) * يعني: ثلاثة، والمعنى، ان أوقع التسريح المردد فيه في قوله: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فهي لا تحل له إلا بعد نكاح زوج غيره، فإن طلقها الزوج الثاني، وأراد الأول أن يراجعها فله ذلك لكنه شرط في هذا التراجع ظنهما إقامة حدود الله، فمتى لم يظنا ذلك لم يجز لهما أن يتراجعا، هذا من الآيات، ولا يتضح له: * (أفمن يعلم أنما * ما أنزل إليك من ربك * الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب) *.
2 (* (وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن
214

ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذالك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمت الله عليكم ومآ أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شىء عليم * وإذا طلقتم النسآء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذالك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الا خر ذالكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون * والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضآر والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذالك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم مآ ءاتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير) *))
) *
بلغ: يبلغ بلوغا، وصل إلى الشيء، قال الشاعر:
* ومجر كغلان الأنيعم بالغ
*
ديارا لعدو ذي زهاء وأركان
*
والبلغة منه، والبلاغ الأصل، يقع على المدة كلها وعلى آخرها.
يقال لعمر الانسان: أجل: وللموت الذي ينتهي: أجل، وكذلك الغاية والأمد.
العضل: المنع، عضل أيمه منعها من الزوج يعضلها بكسر الضاد وضمها، قال ابن هرمة:
* وإن قضاء ئدي لك فاصطنعني
*
كرائم قد عضلن عن النكاح
*
ويقال: دجاج معضل إذا احتبس بيضها، قاله الخليل، وقال:
* ونحن عضلنا بالرماح نساءنا
*
وما فيكم عن حرمة الله عاضل
ويقال: أصله الضيق، عضلت المرأة نشب الولد في بطنها، وعضلت الشاة وعضلت الأرض بالجيش ضاقت بهم؛ قال أوس:
*
ترى الأرض منا بالفضاء مريضة
معضلة منا بجيش عرمرم
*
وأعضل الداء الأطباء أعياهم، وداء عضال ضاق علاجه ولا يطاق، قالت ليلى الأخيلية:
215

* شفاها من الداء العضال الذي بها
*
غلام إذا هز القناة سقاها
وأعضل الأمر اشتد وضاق، وكل مشكل عند العرب معضل، وقال الشافعي رحمة الله عليه:
*
إذا المعضلات تصدينني
كشفت حقائقها بالنظر
*
الرضع: مص الثدي لشرب اللبن، يقال منه: رضع يرضع رضعا ورضاعا ورضاعة، وأرضعته أمه ويقال، للئيم: راضع وذلك لشدة بخله لا يحلب الشاة مخافة أن يسمع منه الحلب، فيطلب منه اللبن، فيرضع ثدي الشاة حتى لا يفطن به.
الحول: السنة وأحول الشيء صار له حول؛ قال الشاعر:
* من القاصرات الطرف لو دب محول
*
من الذر بفوق الأتب منها لأثرا
ويجمع على أحوال، والحول الحيلة، وحال الشيء انقلب وتحول انتقل، ورجل حول كثير التقليب والتصرف، وقد تقدم أن حول يكون ظرف مكان، تقول: زيد حولك وحواليك وحوالك وأحوالك، أي: فيما قرب منك من المكان.
*
الكسوة: اللباس يقال منه كسا يكسو، وفعله يتعدى إلى اثنين تقول: كسوت زيدا ثوبا، وقد جاء متعديا إلى واحد، قال الشاعر:
* واركب في الروع خيفانة
*
كسا وجهها سعف منتشر
*
ضمنه معنى غطاء، فتعدى إلى واحد، ويقال: كسى الرجل فهو كاس، قال الشاعر:
وأن يعرين إن كسي الجواري
وقال:
واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
التكليف: الإلزام وأصله من الكلف، وهو الأثر على الوجه من السواد، فلان كلف بكذا أي مغرى به، وقال الشاعر:
216

* يهدى بها أكلف الخدين مختبر
*
من الجمال كثير اللحم عيثوم
*
الوارث: معروف يقال منه: ورث يرث بكسر الراء، وقياسها في المضارع الفتح، ويقال: أرث وورث، ويقال: الإرث كما يقال ألده في ولده، والأصل الواو.
الفصال: مصدر فصل فصلا وفصالا، وجمع فصيل، وهو المفطوم عن ثدي أمه، وفصل بين الخصمين فرق فانفصلا، وفصلت العير خرجت، والمعنى فارقت مكانها، وفصيلة الرجل أقرب الناس إليه، والفصيلة قطعة من لحم الفخذ، والتفصيل بمعنى التبيين، * (مفصلات فاستكبروا) * وتفصيل كل شيء تبيينه، وهو راجع لمعنى تفريق حكم من حكم، فيحصل به البيين، ومدار هذه اللفظة على التفرقة والتبعيد.
التشاور: في اللغة هو استخراج الرأي، من قولهم: شرت العسل أشوره إذا اجتنيته، والشورة والمشورة، وبضم العين وتنقل الحركة، كالمعونة قال حاتم:
* وليس على ناري حجاب أكفها
*
لمقتبس ليلا ولكن أشيرها
*
وقال أبو زيد: شرت الدابة وشورتها أجريتها لاستخراج جريها، وكان مدار الكلمة على الإظهار، فكأن كل واحد من المشاورين أظهر ما في قلبه للآخر، ومنه الشوار، وهو متاع البيت لظهوره للمناظر، وشارة الرجل هيئته لأنها تظهر من زيه، وتبتدىء من زينته، وأو رد بعضهم عند ذكر المادة هذه الإشارة فقال: والإشارة هي إخراج ما في نفسك وإظهار للمخاطب بالنطق وغيره. إنتهى. فإن كان هذا أراد أنهما يتقاربان من حيث المعنى فصحيح، وإن أراد أنهما مشتركان في المادة فليس بصحيح، وقد جرت هذه المسألة بين الأمير بن أغلب متولي أفريقية وبعض العلماء من أهل بلده، كيف يقال إذا أشاروا إلى الهلال عند طلوعه؟ وبنوا من الإشارة تفاعلنا، فقال ابن الأغلب: تشاورنا، وقال ذلك العالم تشايرنا، وسألوا قتيبة صاحب الكسائي، وكان قد أقدم ابن الأغلب من العراق إلى إفريقية لتعليم أولاده، فقال له: كيف تبني من الإشارة: تفاعلنا؟ فقال: تشايرنا. وأنشد للعرب بيتا شاهدا على ذلك عجزه.
فيا حبذا يا عز ذاك التشاير
فدل ذلك على اختلاف المادتين من ذوات الياء، والمادة الأخرى من ذوات الواو.
* (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) * نزلت في ثابت بن بشار، ويقال أسنان الأنصاري، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدتها يومان أو ثلاثة، وكادت أن تبين راجعها، ثم طلقها ثم راجعها، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارة لها، ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا.
والخطاب في: طلقتم ظاهره أنه للأزواج، وقيل: لثابت بن يسار، خوطب الواحد بلفظ الجمع للاشتراك في الحكم وأبعد من قال: إن الخطاب للأولياء لقوله: * (فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف) * ونسبة الطلاق والإمساك والتسريح للأولياء بعيد جدا.
فبلغن أي: قاربن انقضاء العدة والأجل، هو الذي ضربه الله للمعتدات من الأقراء، والأشهر، ووضع الحمل. وأضاف الأجل إليهم لأنه أمس بهن، ولهذا قيل: الطلاق للرجال والعدة للنساء، ولا يحمل: بلغن أجلهن على الحقيقة، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له، لأنها ليست بزوجة، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها.
* (فأمسكوهن بمعروف) * أي راجعوهن قبل انقضاء العدة، وفسر المعروف بالإشهاد على الرجعة، وقيل: بما يجب لها من حق عليه، قاله بعض العلماء، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن المسيب،
217

ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، ويحيى القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، قالوا: الإمساك بمعروف هو أن ينفق عليها، فإن لم يجد طلقها، فإذا لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر الذي يلحقها بإقامتها عند من لا يقدر على نفقتها، حتى قال ابن المسيب: إن ذلك سنة.
وفي (صحيح) البخاري: تقول المرأة إما أن تطعمني، و إما أن تطلقني وقال عطاء، والزهري، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر
عليه، وتتعلق النفقة بذمته لحكم الحاكم.
والقائلون بالفرقة اختلفوا، فقال مالك: هي طلقة رجعية لأنها فرقة بعد البناء لم يستكمل بها العدد، ولا كانت بعوض، ولا لضرر بالزوج، فكانت رجعية كضرر المولي. وقال الشافعي: هي طلقة بائنة، وقيل: بالمعروف من غير طلب ضراء بالمراجعة.
* (أو سرحوهن بمعروف) * أي: خلوهن حتى تنقضي عدتها، وتبين من غير ضرار، وعبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه، إذ بانقضاء العدة حصلت البينونة.
* (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * هذا كالتوكيد لقوله تعالى: * (فأمسكوهن بمعروف) * نهاهم أن لا يكون الإمساك ضرارا، وحكمة هذا النهي أن الأمر في قوله: * (فأمسكوهن بمعروف) * يحصل بإمساكها مرة بمعروف، هذا مدلول الأمر، ولا يتناول سائر الأوقات وجاء النهي ليتناول سائر الأوقات ليعمها، ولينبه على ما كانوا يفعلونه من الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل الضرار، فنهى عن هذه الفعلة القبيحة يخصوصها، تعظيما لهذا المرتكب الشيء الذي هو أعظم إيذاء النساء، حتى تبقى عدتها في ذوات الأشهر تسعة أشهر.
ومعنى: ضرارا، مضارة وهو مصدر ضار ضرارا ومضارة، وفسر بتطويل العدة، وسوء العشرة، وبتضييق النفقة، وهو أعم من هذا كله، فكل إمساك لأجل الضرر والعدوان فهو منهي عنه.
وانتصب: ضرارا، على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال، أي: مضارين لتعتدوا، أي: لتظلموهن، وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء.
واللام: لام كي، فإن كان ضرارا حالا تعلقت اللام به، أو: بلا تمسكوهن، إن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام به، وكان علة للعلة، تقول: ضربت ابني تأديبا لينتفع، ولا يجوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، لأن الفعل لا يقضي من المفعول من أجله اثنين إلا بالعطف، أو على البدل، ولا يمكن هنا البدل لأجل اختلاف الإعراب، ومن جعل اللام للعاقبة جوز أن يتعلق: بلا تمسكوهن، فيكون الفعل قد تعدى إلى علة وإلى عاقبة، وهما مختلفان.
قوله تعالى * (ومن يفعل ذالك فقد ظلم نفسه) * ذلك إشارة إلى الإمساك على سبيل الضرار
218

والعدوان، وظلم النفس بتعويضها العذاب، أو بأن فوت على نفسه منافع الدين من الثواب الحاصل على حسن العشرة، ومنافع الدنيا من عدم رغبة التزويج به لاشتهاره بهذا الفعل القبيح.
* (ولا تتخذوا آيات الله هزوا) * قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: طلقت وأنا لاعب، ويعتق وينكح ويقول مثل ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقال: (من طلق أو حرر أو نكح فزعم أنه لاعب فهو جد). وقال الزمخشري: أي جدوا في الأخذ بها، والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها وألا فقد اتخذتموها هزوا ولعبا، ويقال لمن لم يجد في الأمر إنما أنت لاعب وهازي. إنتهى كلامه.
وقاله معناه جماعة من المفسرين، وقال ابن عطية، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي، وخصها الكلبي بقوله: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * * (ولا تمسكوهن) *.
وقال الحسن: نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعبا وهازلا، أو راجع كذلك، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح، وأمر الحيض والإيلاء، والطلاق والعدة، والرجعة والخلع، وترك المعاهدة، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج، وله عليها، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن، وكن عندهم أقل من أن يكون لهن أمر أو حق على الزوج، فأنزل الله فيهن ما أنزل من الاحكام، وحد حدودا لا تتعدى، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعد، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء، هزؤا، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد، لأنها من أحكام الله، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه، وبين العبد والناس.
وانتصب: هزؤا، على أنه مفعول ثان: لتتخذوا، وتقول: هزأ به هزءا استخف.
وقرأ حمزة: هزأ، بإسكان الزاي، وإذا وقف سهل الهمزة على مذهبه في تسهيل الهمز، وذكروا في كيفية تسهيله عنده فيه وجوها تذكر في علم القراءات، وهو من تخفيف فعل: كعنق، وقد تقدم الكلام في ذلك. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وثانيه ففيه لغتان: التخفيف والتثقيل.
وقرأ هزوا بضم الزاي وابدال من الهمزة واوا، وذلك لأجل الضم.
وقرأ الجمهور: هزؤا بضمتين والهمز، قيل: وهو الأصل، وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله تعالى: (أتتخذنا هزوا).
* (واذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة) * هذا أمر معطوف على أمر في المعنى، وهو: ولا تتخذوا آيات لله هزوا، والنعمة هنا ليست التاء فيها للوحدة، ولكنها بني عليها المصدر، ويريد: النعم الظاهرة والباطنة، وأجلها ما أنعم به من الإسلام ونبوة محمد علية الصلاة والسلام.
و: ما أنزل عليكم، معطوف على نعمة، وهو تخصيص بعد تعميم، إذ ما أنزل هو من النعمة، وهذا قد ذكرنا أنه يسمى التجريد، كقوله: * (وجبريل) * بعد ذكر الملائكة، وتقدم القول فيه، وأتى: بعليكم، تنبيها للمأمورين وتشريفا لهم، إذ في الحقيقة ما أنزل إلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكنه لما كنا مخاطبين بأحكامه، ومكلفين باتباعه، صار كأنه نزل علينا.
و: الكتاب، القرآن، و: الحكمة، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم)، كما قال تعالى: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحى يوحى) *.
وقيل: وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه، فلا اجتهاد، وذكر: النعم، لا يراد به سردها على اللسان، وإنما المراد بلذكر الشكر عليها، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها، فعبر بالسبب عن المسبب، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون: عليكم، في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة عليكم، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون: عليكم، متعلقا بلفظ النعمة، ويكون إذ ذاك مصدرا من: أنعم، على غير قياس، كنبات من أنبت.
وعليكم، الثانية متعلقة بأنزل، و: من، في موضع الحال، أي: كائنا من الكتاب، ويكون حالا من ما أنزل أو من الضمير العائد على الموصول
219

المحذوف، إذ تقديره: وما أنزل عليكم. ومن أثبت لمن معنى البيان للجنس جوز ذلك هنا، كأنه قيل: وما أنزله عليكم الذي هو الكتاب والسنة.
* (يعظكم به) * يذكركم به، والضمير عائد على: ما، من قوله: وما أنزل، وهي جملة حالية من الفاعل المستكن في: أنزل، والعامل فيها: أنزل، وجوزوا في: ما، من قوله: وما أنزل، أن يكون مبتدأ. و: يعظكم، جمله في موضع الخبر، كأنه قيل: والمنزلة الله من الكتاب والحكمة يعظكم به، وعطفه على النعمة أظهر.
* (واتقوا الله) * لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي، وذلك بسبب النساء اللاتي هن مظنة الإهمال وعدم الرعاية، أمر الله تعالى بالتقوى، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله: * (واعلموا أن الله بكل شىء عليم) * والمعنى: بطلب العلم الديمومة عليه، إذ هم عالمون بذلك، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء، فلا تلبسوا على أنفسكم. وكرر اسم الله في قوله تعالى: * (واتقوا الله) * * (واعلموا أن الله) * لكونه من جملتين، فتكريره أفخم، وترديده في النفوس أعظم.
* (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) * قال ابن عباس، والزهري، والضحاك؛ نزلت في كل من منع امرأة من نسائه عن النكاح بغيره إذا طلقها، وقيل: نزلت في ابنة عم جابر بن عبد الله، طلقها زوجها، وانقضت عدتها فأراد رجعتها، فأتى جابر وقال: طلقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها؟ وكانت المرأة تريد زوجها، فنزلت. وقيل: في معقل بن يسار، وأخته جمل، وزوجها أبي الوليد عاصم بن عدي بن العجلان، جرى لهم ما جرى لجابر في قصته، ذكر معناه البخاري.
فعلى السبب الأول يكون المخاطبون هم الأزواج، وعلى هذا السبب الأولياء، وفيه بعد، لأن نسبة الطلاق إليهم هو مجاز بعيد، وهو أن يكون الأولياء قد تسببوا في الطلاق حتى وقع، فنسب إليهم الطلاق بهذا الاعتبار، ويبعد جدا أن يكون الخطاب في: * (وإذا طلقتم) * للأزواج وفي * (فلا تعضلوهن) * للأولياء، لتنافي التخاطب، ولتنافر الشرط والجزاء، فالأولى، والذي يناسبه سياق الكلام، أن الخطاب في الشرط والجزاء للأزواج، لأن الخطاب من أول الآيات هو مع الأزواج ولم يجر للأولياء ذكر، ولأن الآية قبل هذه خطاب مع الأزواج في كيفية معاملة النساء قبل انقضاء العدة، وهذه الآية خطاب لهم في كيفية معاملتهم معهن بعد انقضاء العدة، ويكون الأزواج المطلقون قد انتهوا عن العضل، إذ كانوا يفعلون ذلك ظلما وقهرا وحمية الجاهلية، لا يتركونهن يتزوجن من شئن من الأزواج، وعلى هذا يكون معنى: * (أن ينكحن أزواجهن) * أي: من يردن أن يتزوجنه، فسموا أزواجا باعتبار ما كانوا عليه، وإن لم يكونوا بعد انقضاء العدة أزواجا حقيقة.
وجهات العضل من الزوج متعددة: بأن يجحد الطلاق، أو يدعي رجعة في العدة، أو يتوعد من يتزوجها، أو يسيء القول فيها لينفر الناس عنها، فنهوا عن العضل مطلقا بأي سبب كان مما ذكرناه ومن غيره.
وقال الزمخشري: والوجه أن يكون خطابا للناس، أي: لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين؛ وصدر بما يقارب هذا المعنى كلامه ابن عطية، فقال: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن) * الآية خطاب للمؤمنين الذين هم الإزواج، ومنهم الأولياء، لأنهم المراد في تعضلوهن. انتهى كلامه. وهذا التوجيه يؤول إلى أن الخطاب في: طلقتم، للأزواج، وفي: فلا تعضلوهن، للأولياء وقد بينا ما فيه من التنافر.
* (أن ينكحن أزواجهن) * هو في موضع نصب على البدل من الضمير بدل اشتمال، أو على أن أصله من أن ينكحن، وينكحن مضارع نكح الثلاثي، وفيه دلالة على أن للمرأة أن تنكح بغير ولي، لأنه لو كان له
220

حق لما نهى عنه، فلا يستدل بالنهي على إثبات الحق، وظاهره العقد.
وظاهر الآية إذا كان الخطاب في: فلا تعضلوهن، للأولياء النهي عن مطلق العضل، فيتحقق بعضلها عن خاطب واحد، وقال مالك: إذا منعها من خاطب أو خاطبين لا يكون بذلك عاضلا.
وقال أبو حنيفة: الثيب تزوج نفسها وتستوفي في المهر ولا اعتراض للولي عليها. وهو قول زفر؛ وإن كان غير كفء جاز، وللأولياء أن يفرقوا بينهما. وعلى جواز النكاح بغير ولي: ابن سيرين، والشعبي، والزهري، وقتادة وقال أبو يوسف: إن سلم الولي نكاحها جاز وإلا فلا، إلا إن كان كفؤا فيجيزه القاضي إن أبى الولي أن يسلم، وهو قول محمد. وروي عن أبي يوسف غير هذا.
وقال الأوزاعي: إذا ولت أمرها رجلا، وكان الزوج كفؤا، فالنكاح جائز، وليس للولي أن يفرق بينهما. وقال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، والثوري، والحسن بن صالح: لا يجوز النكاح إلا بولي، وهو مذهب الشافعي وقال الليث: تزوج نفسها بغير ولي. وقال ابن القاسم، عن مالك: إذا كانت معتقة، أو مسكينة، أو دنيئة، فلا بأس أن تستخلف رجلا يزوجها، وللأولياء فسخ ذلك قبل الدخول، وعنه خلاف بعد الدخول، وإن كانت ذات غنى فلا يجوز أن يزوجها إلا الولي أو السلطان، وحجج هذه المذاهب في كتب الفقه.
* (إذا تراضوا) *: الضمير عائد على الخطاب والنساء، وغلب المذكر، فجاء الضمير بالواو، ومن جعل للأولياء ذكرا في الآية قالوا: احتمل أن يعود على الأولياء
والأزواج.
والعامل في: إذا، ينكحن.
* (بينهم بالمعروف) * الضمير في: بينهم، ظرف مجازي ناصبه: تراضوا، بالمعروف: ظاهره أنه متعلق بتراضوا، وفسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط، وقيل: مهر المثل، وقيل: المهر والإشهاد. ويجوز أن يتعلق: بالمعروف، بينكحن، لا: بتراضوا، ولا يعتقد أن ذلك من الفصل بين العامل والمعمول الذي لا ينتفي، بل هو من الفصل الفصيح، لأنه فصل بمعمول الفعل، وهو قوله: * (إذا تراضوا) * فإذا منصوب بقوله: * (أن ينكحن) * و: بالمعروف، متعلق به، فكلاهما معمول للفعل.
* (ذالك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الاخر) * ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: لكل سامع، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال: منكم، وقيل: ذلك بمعنى: ذلكم، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل، و: ذلك، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب، وهو: هذا، وان كان الحكم قريبا ذكره في الآية، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء، ومعنى: يوعظ به أي يذكر به، ويخوف. و: منكم، متعلق بكان، أو: بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في: يؤمن، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده، الناهي لهم، والآمر. و: اليوم الآخر، لأنه هو الذي يحصل به التخويف، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي. وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلا المؤمن، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى، * (إنما يتذكر أولوا الالباب) *.
* (ذالكم أزكى لكم وأطهر) * أي: التمكن من النكاح أزكى لمن هو بصدد العضل لما له في امتثال أمر الله من الثواب، وأطهر للزوجين لما يخشى عليهما من الريبة إذا منعا من النكاح، وذلك بسبب العلاقات التي بين النساء والرجال.
* (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * أي: يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر، لذلك نهى تعالى عن العضل، قال معناه ابن عباس؛ أو: يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب. أو: يعلم بواطن الأمور ومآلها. وأنتم لا تعلمون ذلك، إنما تعلمون ما ظهر. أو: يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها. ويكون المقصود بذلك: تقرير الوعد والوعيد.
قيل: وتضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة، والبلاغة، من علم البيان.
الأول: الطباق، وهو الطلاق والإمساك، فإنهما ضدان، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك، والعلم وعدم العلم، لأن عدم العلم هو الجهل.
الثاني: المقابلة في * (فأمسكوهن بمعروف) * و * (لا * تمسكوهن ضرارا) * قابل المعروف بالضرار، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية.
الثالث: التكرار في: * (فبلغن أجلهن) * كرر اللفظ لتغيير المعنيين، وهو غاية الفصاحة، إذ
221

اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين.
الرابع: الالتفات في * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن) * ثم التفت إلى الأولياء فقال: * (فلا تعضلوهن) * وفي الآية، في قوله: ذلك، إذ كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم)، ثم التفت إلى الجمع في قوله: منكم.
الخامس: التقديم والتأخير، التقدير، أن ينكحن أزواجهن بالمعروف إذا تراضوا.
السادس: مخاطبة الواحد بلفظ الجمع، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار، أو في أخت جابر، وقيل ابنته.
* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى، لما ذكر جملة في: النكاح، والطلاق، والعدة، والرجعة، والعضل، أخذ يذكر حكم ما كان من نتيجة النكاح، وهو ما شرع من حكم: الإرضاع ومدته، وحكم الكسوة، والنفقة، على ما يقع الكلام فيه في هذه الآية إن شاء الله * (والوالدات) * جمع والدة بالتاء، وكان القياس أن يقال: والد، لكن قد أطلق على الأب والد، ولذلك قيل فيه وفي الأم الوالدات فجاءت التاء في الوالدة للفرق بين المذكر والمؤنث من حيث الإطلاق اللغوي، وكأنه روعي في الإطلاق أنهما أصلان للولد، فأطلق عليهما: والدات.
وظاهر لفظ: الوالدات، العموم، فيدخل فيه الزوجات والمطلقات.
وقال الضحاك، والسدي، وغيرهما: في المطلقات، جعلها الله حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع، فمن دعا منهما إلى إكمال الحولين فذلك له، ورجح هذا القول لأن قوله: والوالدات، عقيب آية الطلاق، فكانت من تتمتها، فشرع ذلك لهن، لأن الطلاق يحصل فيه التباغض، فربما حمل على أذى الولد، لأن إيذائه إيذاء والده، ولأن في رغبتها في التزويج بآخر إهمال الولد.
وقيل: هي في الزوجات فقط، لأن المطلقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة * (يرضعن أولادهن) * صورته خبر محتمل أن يكون معناه خبرا، أي: في حكم الله تعالى الذي شرعه، فالوالدات أحق برضاع أولادهن، سواء كانت في حيالة الزوج أو لم تكن، فإن الإرضاع من خصائص الولادة لا من خصائص الزوجية.
ويحتمل أن يكون معناه الأمر كقوله: * (والمطلقات يتربصن) * لكنه أمر ندب لا إيجاب، إذ لو كان واجبا لما استحق الأجرة. وقال تعالى: * (وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى) * فوجوب الإرضاع إنما هو على الأب لا على الأم، وعليه أن يتخذ له ظئرا إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك، ولا تجبر عليه، فإذا لم يقبل ثديها، أو لم يوجد له ظئرا، وعجز الأب عن الاستئجار وجب عليها إرضاعه، فعلى هذا يكون الأمر للوجوب في بعض الوالدات.
ومذهب الشافعي أن الإرضاع لا يلزم إلا الوالد أو الجد، وإن علا. ومذهب مالك: أنه حق على الزوجة لأنه كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات نسب، فعرفها أن لا ترضع.
وعنه خلاف في بعض مسائل الإرضاع * (حولين كاملين) * وصف الحولين بالكمال دفعا للمجاز الذي يحتمله حولين، إذ يقال: أقمت عند فلان حولين، وإن لم يستكملهما، وهي صفة توكيد كقوله * (عشرة كاملة) * وجعل تعالى هذه المدة حدا عند اختلاف الزوجين في مدة الرضاع، فمن دعا منهما إلى كمال الحولين فذلك له.
وظاهر قوله: أولادهن، العموم، فالحولان لكل ولد، وهو قول الجمهور.
وروي عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة فرضاعه ثلاثة وعشرون، أو: ثمانية، فإثنان وعشرون، أو: تسعة، فأحد وعشرون، وكان هذا القول انبنى على قوله تعالى: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * لأن ذلك حكم على الإنسان عموما.
وفي قوله: يرضعن، دلالة على أن الأم أحق برضاع الولد، وقد تكلم بعض المفسرين هنا في مسائل لا تعلق لها بلفظ القرآن، منها: مدة الرضاع المحرمة، وقدر الرضاع الذي يتعلق به التحريم، والحضانة ومن أحق بها بعد الأم؟ وما الحكم في الولد إذا تزوجت الأم؟ وهل للذمية حق في الرضاعة؟ وأطالوا بنقل الخلاف والدلائل، وموضوع هذا علم الفقه.
* (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * هذا يدل على أن الإرضاع في الحولين ليس بحد لا يتعدى، وإنما ذلك لمن أراد الإتمام، أما من لا يريده فله فطم الولد دون بلوغ ذلك إذا لم يكن فيه ضرر للولد، وروي عن قتادة أنه قال: تضمنت فرض الإرضاع على الوالدات، ثم يسر ذلك وخفف، فنزل: لمن أراد أن يتم الرضاعة) * قال ابن عطية: وهذا قول متداع.
قال الراغب: وفي قوله: * (*) * قال ابن عطية: وهذا قول متداع.
قال الراغب: وفي قوله: * (حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) * تنبيه على أنه لا يجوز
222

تجاوز ذلك، وأن لا حكم للرضاع بعد الحولين، وتقوية لإرضاع بعد الحولين، والرضاعة من المجاعة، ويؤكده أن كل حكم في الشرع علق بعدد مخصوص يجوز الإخلال به في أحد الطرفين لم يجز الإخلال به في الطرف الآخر، كخيار الثلاث، وعدد حجارة الاستنجاء، والمسح على الخفين يوما وليلة وثلاثة أيام، ولما كان الرضاع يجوز الإخلال في أحد الطرفين، وهو النقصان، لم تجز مجاوزته. انتهى كلامه.
وقال غيره: ذكر الحولين ليس على التوقيت الواجب، وإنما هو لقطع المشاجرة بين الوالدين، وجمهور الفقهاء على أنه يجوز الزيادة والنقصان إذا رأيا ذلك.
واللام في: لمن، قيل: متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، وتكون اللام على هذا للتعليل أي: لأجله، فتكون: من واقعة على الأب، كأنه قيل: لأجل من أراد أن يتم الرضاعة على الآباء، وقيل: اللام للتبيين، فيتعلق بمحذوف كهي في قولهم: سقيا لك: وفي قوله تعالى: * (هيت لك) * فاللام لتبيين المدعو له بالسقي، وللمهيت به، وذلك أنه لما قدم قوله: * (يرضعن أولادهن حولين كاملين) * بين أن هذا الحكم إنما هو: لمن يريد أن يتم الرضاعة من الوالدات، فتكون: من، واقعة على الأم، كأنه قيل: * (لمن أراد أن يتم الرضاعة) * من الوالدات. أو تكون، من، واقعة على الوالدات والمولود له، كل ذلك يحتمله اللفظ.
وقرأ الجمهور: أن يتم الرضاعة بالياء من: أتم، ونصب الرضاعة وقرأ مجاهد، والحسن، وحميد، وابن محيض، وأبو رجاء: تتم، بالتاء من تم، ورفع الرضاعة وقرأ أبو حنيفة، وابن أبي عبلة، والجارود بن أبي سبرة كذلك، إلا أنهم كسروا الراء من الرضاعة، وهي لغة: كالحضارة والحضارة، والبصريون يقولون بفتح الراء مع الهاء وبكسرها دون الهاء، والكوفيون يعكسون ذلك، وروى عن مجاهد أنه قرأ: الرضعة، على وزن القصعة، وروي عن ابن عباس أنه قرأ: أن يكمل الرضاعة، بضم الياء، وقرئ: أن يتم، برفع الميم، ونسبها النحويون إلى مجاهد، وقد جاز رفع الفعل بعد أن في كلام العرب في الشعر أنشد الفراء رحمة الله تعالى:
* أن تهبطين بلاد قو
*
م يرتعون من الطلاح
*
وقال الآخر:
* أن تقرآن على أسماء، ويحكما
*
مني السلام، وأن لا تبلغا أحدا
*
وهذا عند البصريين هي الناصبة للفعل المضارع، وترك أعمالها حملا على: ما، أختها في كون كل منهما مصدرية، وأما الكوفيون فهي عندهم المخففة من الثقيلة، وشذ وقوعها موقع الناصبة، كما شذ وقوع الناصبة موقع المخففة في قول جرير:
* ترضى عن الله أن الناس قد علموا
*
أن لا يدانينا من خلقه بشر
*
والذي يظهران أن إثبات النون في المضارع المذكور مع: أن، مخصوص بضرورة الشعر، ولا يحفظ أن غير ناصبة إلا في هذا الشعر، والقراءة المنسوبة إلى مجاهد، وما سبيله هذا، لا تبني عليه قاعدة.
*
* (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) * المولود جنس، واللام فيه موصولة وصلت باسم المفعول و: أل، كمن، و: ما، يعود الضمير على اللفظ مفردا مذكرا، ويجوز أن يعود على المعنى بحسب ما تريده من المعنى من تثنية أو جمع أو تأنيث، وهنا عاد الضمير على اللفظ، فجاء له. ويجوز في العربية أن يعود على المعنى، فكان يكون: لهم، إلا أنه لم يقرأ به، والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور، وحذف الفاعل، وهو: الوالدات، و: المفعول به وهو: الأولاد، وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل، وهذا على مذهب البصريين، أعني: أن يقام الجار
223

مقام الفاعل إذا حذف نحو: مر بزيد.
وذهب الكوفيون إلى أن ذلك لا يجوز إلا فيما حرف الجر فيه زائد، نحو: ما ضرب من أحد، فإن كان حرف الجر غير زائد لم يجز ذلك عندهم، ولا يجوز أن يكون الاسم المجرور في موضع رفع باتفاق منهم.
واختلفوا بعد هذا الاتفاق في الذي أقيم مقام الفاعل، فذهب الفراء إلى أن حرف الجر وحده في موضع رفع، كما أن: يقوم من؟ زيد يقوم. في موضع رفع، وذهب الكسائي وهشام إلى أن مفعول الفعل ضمير مبهم مستتر في الفعل، وإبهامه من حيث، إنه يحتمل أن يراد به ما يدل عليه الفعل من مصدر، أو ظرف زمان، أو ظرف مكان، ولم يقم الدليل على أن المراد به بعض ذلك دون بعض، ومنهم من ذهب إلى أن مرفوع الفعل ضمير عائد على المصدر، والتقدير: سير هو، يريد: أي سير السير، والضمير يعود على المصدر المفهوم من الفعل، وهذا سائغ عند بعض البصريين، وممنوع عند محققي البصريين، والنظر في دلائل هذه المذاهب تصحيحا وإبطالا يذكر في عالم النحو.
وقد وهم بعض كبرائنا، فذكر في كتابه المسمى ب (الشرح لجمل الزجاجي) أن النحويين أجمعوا على جواز إقامة المجرور مقام الفاعل إلا السهيلي، فإنه منع ذلك، وليس كما ذكر، إذ قد ذكرنا الخلاف عن الفراء، والكسائي، وهشام. والتفصيل في المجرور. وممن تبع السهيلي على قوله: تلميذه أبو علي الزيدي شارح (الجمل).
و: المولود له، هو الوالد، وهو الأب، ولم يأت بلفظ الوالد، ولا بلفظ الأب، بل جاء بلفظ: المولود له، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه، إذ اللام في: له، معناها شبه التمليك كقوله تعالى: * (وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة) * وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار، وتجد الولد في الغالب مطيعا لأبيه، ممتثلا ما أمر به، منفذا ما أوصى به، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم، كما أنشد المأمون بن الرشيد، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل، قال:
* فإنما أمهات الناس أوعية
*
مستودعات وللأبناء آباء
*
فلما كان لفظ: المولود، مشعرا بالمنحة وسبه التمليك، أتى به دون لفظ: الوالد، ولفظ: الأب، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الأب، كما قال تعالى: * (لا يجزى والد عن ولده) * وقال: * (لا جناح عليهن فىءابائهن) *.
ولطيفة أخرى في قوله: * (وعلى المولود له) * وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو ولد لك لا لأمه، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق، والكسوة لمرضعته.
وفسر ابن عطية هنا، الرزق، بأنه الطعام الكافي، فجعله اسما للمرزوق. كالطحن والرعي. وقال الزمخشري: فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن، فشرح الرزق: بأن والفعل اللذين ينسبك منهما المصدر، ويحتمل الرزق الوجهين من إرادة المرزوق، وإرادة المصدر.
وقد ذكرنا أن: رزقا بكسر الراء، حكي مصدرا، كرزق بفتحها فيما تقدم، وقد جعله مصدرا أبو علي الفارسي في قوله: * (ما لا يملك لهم رزقا من * السماوات والارض * شيئا) * وقد رد ذلك عليه ابن الطراوة، وسيأتي ذلك في مكانه إن شاء الله تعالى.
ومعنى: بالمعروف، ما جرى به العرف من نفقة وكسوة لمثلها، بحيث لا يكون إكثار ولا إقلال، قاله الضحاك وقال ابن عطية: بالمعروف، يجمع جنس القدر في الطعام، وجودة الاقتضاء له، وحسن الاقتضاء من المرأة. انتهى كلامه.
ولا يدل على حسن الاقتضاء من المرأة، لأن الآية إنما هي فيما يجب على
224

المولود له من الرزق والكسوة، فبالمعروف، يتعلق برزقهن أو بكسوتهن على الإعمال، إما للأول وإما للثاني إن كانا مصدرين، وإن عنى بهما المرزوق، والشأن، فلا بد من حذف مضاف التقدير: إيصال أو دفع، أو ما أشبه ذلك مما يصح به المعنى، ويكون: بالمعروف، في موضع الحال منهما، فيتعلق بمحذوف. وقيل: العامل فيه معنى الاستقرار في: على.
وقرأ طلحة: وكسوتهن، بضم الكاف، وهما لغتان يقال: كسوة وكسوة، بضم الكاف وكسرها.
* (لا تكلف نفس إلا وسعها) * التكليف إلزام ما يؤثر في الكلفة، من: كلف الوجه، وكلف العشق، لتأثيرهما وسعها طاقتها وهو ما يحتمله وقد بين تعالى ذلك في قوله لينفق ذو سعة من سعته الآية وظاهر قوله: * (لا تكلف نفس إلا وسعها) * العموم في سائر التكاليف، قيل: والمراد من الآية: أن والد الصبي لا يكلف من الإنفاق عليه وعلى أمه، إلا بما تتسع به قدرته، وقيل: المعنى لا تكلف المرأة الصبر على التقصير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف، بل يراعى القصد.
وقراءة الجمهور: * (لا تكلف نفس) * مبنى للمفعول، والفاعل هو الله تعالى، وحذف للعلم به. وقرأ أبو رجاء: لا تكلف، بفتح التاء، أي: لا تتكلف، وارتفع نفس على الفاعلية، وحذفت إحدى التاءين على الخلاف الذي بيننا وبين بعض الكوفيين، و: تكلف تفعل، مطاوع فعل نحو: كسرته فتكسر، والمطاوعة أحد المعاني التي جاء لها تفعل.
وروي أبو الأشهب عن أبي رجاء أنه قرأ: لا نكلف نفسا بالنون، مسندا الفعل إلى ضمير الله تعالى، و: نفسا، بالنصب مفعول.
* (لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده) * قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، وأبان، عن عاصم: لا تضار، بالرفع أي: برفع الراء المشددة، وهذه القراءة مناسبة لما قبلها من قوله: * (لا تكلف نفس إلا وسعها) * لاشتراك الجملتين في الرفع، وإن اختلف معناهما، لأن الأولى خبرية لفظا ومعنى، وهذه خبرية لفظا نهيية في المعنى. وقرأ باقي السبعة: لا تضار، بفتح الراء، جعلوه نهيا، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وسكنت الراء الأولى للإدغام، فالتقى ساكنان فحرك الأخير منهما بالفتح لموافقة الألف التي قبل الراء، لتجانس الألف والفتحة، ألا تراهم حين رخموا: أسحارا، وهو اسم نبات، إذا سمي به حذفوتا الراء الأخيرة، وفتحوا الراء الساكنة التي كانت مدغمة في الراء المحذوفة، لأجل الألف قبلها، ولم يكسروها على أصل التقاء الساكنين، فراعوا الألف وفتحوا، وعدلوا عن الكسر وإن كان الأصل؟ وقرأ: لا يضار بكسر الراء المشددة على النهي وقرأ أبو جعفر الصفار: لا تضار، بالسكون مع التشديد، أجرى الوصل مجرى الوقف، وروي عنه: لا تضار، بإسكان الراء وتخفيفها، وهي قراءة الأعرج من ضار يضير، وهو مرفوع أجري الوصل فيه مجرى الوقف. وقال الزمخشري: اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا. انتهى. وهذا على عادته في تغليط القراء وتوهيمهم، ولا نذهب إلى ذلك.
ووجه هذه القراءة بعضهم بأن قال: حذف الراء الثانية فرارا من التشديد في الحرف المكرر، وهو الراء، وجاز أن يجمع بين الساكنين: إما لأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، ولأن مدة الألف تجري مجرى الحركة. انتهى.
وروي عن ابن عباس: لا تضارر، بفك الإدغام وكسر الراء الأول وسكون الثانية. وقرأ ابن مسعود: لا تضارر، بفك الإدغام أيضا وفتح الراء الأولى وسكون الثانية، قيل: ورواها أبان عن عاصم.
والإظهار في نحو هذين المثلين لغة الحجاز، فأما من قرأ بتشديد الراء، مرفوعة أو مفتوحة أو مكسورة، فيحتمل أن يكون الفعل مبنيا للفاعل، ويحتمل أن يكون مبنيا للمفعول كما جاء في قراءة ابن عباس، وفي قراءة ابن مسعود؛ ويكون ارتفاع: والدة ومولود، على الفاعلية إن قدر الفعل مبنيا للفاعل، وعلى المفعولية إن قدر الفعل مبنيا للمفعول، فإذا قدرناه مبنيا للفاعل، فالمفعول محذوف تقديره: لا تضارر والدة زوجها بأن تطالبه بما لا يقدر عليه من رزق وكسوة وغير ذلك من وجوه الضرر، ولا يضارر مولود له زوجته بمنعها ما وجب لها من رزق وكسوة، وأخذ ولدها مع إيثارها إرضاعه، وغير ذلك من وجوه الضرر.
والباء في: بولدها، وفي: بولده، باء السبب.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون يضار بمعنى: تضر، وأن تكون الباء
225

من صلته لا تضر والدة بولدها، فلا تسىء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعدما آلفها، ولا يضر الوالد به بأن ينزعه من يدها، أو يقصر في حقها، فتقصر هي في حق الولد. انتهى كلامه.
ويعني بقوله: أن تكون الباء من صلته، يعنى متعلقة بتضار، ويكون ضار بمعنى أضر، فاعل بمعنى أفعل، نحو: باعدته وأبعدته، وضاعفته وأضعفته، وكون فاعل بمعنى أفعل هو من المعاني التي وضع لها فاعل، تقول: أضر بفلان الجوع، فالجار والمجرور هو المفعول به من حيث المعنى، فلا يكون المفعول محذوفا، بخلاف التوجيه الأول، وهو أن تكون الباء للسبب، فيكون المفعول محذوفا كما قدرناه.
قيل: ويجوز أن يكون الضرار راجعا إلى الصبي، أي: لا يضار كل واحد منهما الصبي، فلا يترك رضاعه حتى يموت، ولا ينفق عليه الأب أو ينزعه من أمه حتى يضر بالصبي، وتكون الباء زائدة معناه: لا تضار والدة ولدها ولا مولود له ولده انتهى. فيكون: ضار، بمعنى: ضر، فيكون مما وافق فيه فاعل الفعل المجرد الذي هو: ضر، نحو قولهم: جاوزت الشيء وجزته، وواعدته ووعدته، وهو أحد المعاني التي جاء لها فاعل.
والظاهر أن الباء للسبب، ويبين ذلك قراءة من قرأ لا تضارر، براءين، الأولى مفتوحة، وهي قراءة عمر بن الخطاب.
وتأويل من تأول في الإدغام أن الفعل مبني للمفعول، فإذا كان الفعل مبنيا للمفعول تعين كون الباء للسبب، وامتنع توجيه الزمخشري أن: ضار به في معنى: أضر به، والتوجيه الآخر أن: ضار به بمعنى: ضره، وتكون الباء زائدة، ولا تنقاس زيادتها في المفعول، مع أن في التوجيهين إخراج فاعل عن المعنى الكثير فيه، وهو كون الاسمين شريكين في الفاعلية والمفعولية من حيث المعنى، وإن كان كل واحد منهما مرفوعا والآخر منصوبا.
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة للفظ ما لا يخفي على من تعاطى علم البيان.
فالجملة الأولى: أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلا لأن الإرضاع مما يتجدد دائما، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيها على شفقتهن على الأولاد، وهزا لهن وحثا على الإرضاع، وقيد الإرضاع بمدة، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام، أو أضيف إلى عام، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى (بالتكميل في شرح التسهيل).
والجملة الثانية: أبرزت أيضا في صورة المبتدأ والخبر، وجعل الخبر جارا ومجرورا بلفظ: على، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الاعتناء به، وجاء الرزق مقدما على الكسوة، لأنه الأهم في بقاء الحياة، والمتكرر في كل يوم.
والجملة الثالثة: أبرزت في صورة الفعل ومرفوعة، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي، فيعم، ويتناول أولا ما سيق لأجله: وهو حكم الوالدات في الإرضاع، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.
والجملة الرابعة: كالثالثة، لأنها في سياق النفي، فتعم أيضا، وهي كالشرح للجملة قبلها، لأن النفس إذا لم تكلف إلا طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت، أتى بالجملتين فعليتين، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو: لا، الموضوع للاستقبال غالبا، وفي قراءة من جزم: لا تضار، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال، ونبه على محل الشفقة بقوله: بولدها، فأضاف الولد إليها، وبقوله: بولده، فأضاف الولد إليه، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات، وثنى بحكم الوالد في قوله: لا تضار، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيد وهند وقامت هند وزيد، ويقوم زيد وهند، وتقوم هند وزيد، إلا إن كان المؤنث مجازيا بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة، كقوله تعالى: * (وجمع الشمس والقمر) *.
* (وعلى الوارث مثل ذالك) * هذا معطوف على قوله: * (وعلى المولود له) * والجملتان قبل هذا كالتفسير لقوله: بالمعروف، اعتراض بهما بين المتعاطفين.
وقرأ يحيى بن يعمر: وعلى الورثة مثل ذلك، بالجمع.
والظاهر في الوارث أنه وارث المولود له لعطفه
226

عليه، ولأن المولود له. وهو الأب هو المحدث عنه في جملة المعطوف عليه، والمعنى: أنه إذا مات المولود له وجب على وارثه ما وجب عليه من رزق الوالدات، وكسوتهن بالمعروف، وتجنب الضرار. وروي هذا عن عمر، والحسن، وقتادة، والسدي: وخصه بعضهم بمن يرث من الرجال يلزمه الإرضاع كما كان يلزم أبا الصبي. لو كان حيا، وقاله مجاهد، وعطاء. وقال سفيان: الوارث هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما، ويرى مع ذلك إن كانت الوالدة هي الباقية أن يشاركها العاصب إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث، كما قال: (واجعله الوارث منا).
وقال قبيصة بن ذؤيب، والضحاك، وبشير بن نصر، قاضي عمر بن عبد العزيز الوارث هو الصبي نفسه، أي: عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه، وقال بعضهم: الوارث الولد تجب عليه نفقة الوالدين الفقيرين، ذكره السجاوندي عن قبيصة بن ذؤى ب.
فعلى هذه الأقوال تكون: الألف واللام في قوله: * (وعلى الوارث) * كأنها نابت عن الضمير العائد على: المولود له، كأنه قيل: وعلى وارث المولود له. وقال عطاء أيضا، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن أبي ليلى، والحسن بن صالح في آخرين: الوارث وارث المولود.
واختلفوا، فقيل: وارث المولود من الرجال والنساء، قاله زيد بن ثابت، وقتادة، وغيرهما، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه.
وقيل: وارثه من عصبته كائنا من كان، مثل: الجد، والأخ، وابن الأخ، والعم، وابن العم. وهذا يروى عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإسحاق، وأحمد، وابن أبي ليلى.
وقيل: من كان ذا رحم محرم، فإن كان ليس بذي رحم محرم لم يلزمه شيء، وبه قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، والشافعي، قال: الأجداد ثم الأمهات مثل ذلك أي: الأجرة والنفقة وترك المضارة.
وعلى هذه الأقوال تكون الألف واللام كأنها نابت عن ضمير يعود على المولود، وكأنه قيل: وعلى وارثه أي وارث المولود.
وقيل: الوارث هنا من يرث الولاية على الرضيع، ينفق من مال الرضيع عليه، مثل ما كان ينفق أبوه.
فتلخص في الوارث ستة أقوال، وفي بعضها تفصيل كما ذكرناه، فيجيء بالتفصيل عشرة أقوال، والإشارة بقوله: ذلك، من قوله: مثل ذلك، إلى ما وجب على الأب
من رزقهن وكسوتهن بالمعروف، على ما شرح في الأقوال في قوله * (وعلى الوارث) * وقاله أيضا ابن عباس، وإبراهيم، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود، والشعبي، والحسن.
وعبر بعضهم عن هذا القول بأن: مثل ذلك، هو: أجرة المثل والنفقة، قال: ويروى ذلك عن عمر، وزيد، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، وقبيصة والسدي.
واختاره ابن قتيبة.
وقال الشعبي أيضا، والزهري، والضحاك، ومالك وأصحابه، وغيرهم: المراد بقوله: مثل ذلك، أن لا يضار، وأما الرزق والكسوة فلا شيء منهما. وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الأمة أن لا يضار الوارث. إنتهى.
وأنى يكون بالإجماع وقد رأيت أقوال العلماء في وجوب ذلك؟
وقيل: مثل ذلك، أجرة المثل والنفقة وترك المضارة، روي ذلك عن ابن جبير، ومجاهد، ومقاتل، وأبي سليمان الدمشقي، واختاره القاضي أبو يعلى، قالوا: ويشهد لهذا القول أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على: المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيكون مثل ذلك، مشيرا إلى جميع ما على المولود له.
* (فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما) * الضمير في: أرادا، عائد على الوالدة والمولود له، والفصال: الفطام قبل تمام الحولين. إذا ظهر استغناؤه عن اللبن، فلا بد من تراضيهما، فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر، قاله مجاهد، وقتادة والزهري، والسدي وابن زيد، وسفيان وغيرهم.
وقيل: الفطام سواء كان في الحولين أو بعد الحولين قاله ابن عباس.
وتحرير هذا القول أنه قبل الحولين لا يكون إلا بتراضيهما، وأن لا يتضرر
227

المولود، وأما بعد تمامهما فمن دعا إلى الفصل فله ذلك إلا أن يلحق المولود بذلك ضرر، وعلى هذين القولين يكون ذلك توسعة بعد التحديد.
وقال ابن بحر: الفصال أن يفصل كل واحد منهما القول مع صاحبه بتسليم الولد إلى أحدهما، وذلك بعد التراضي والتشاور لئلا يقدم أحد الوالدين على ما يضر بالولد، فنبه تعالى على أن ما كان متهم العاقبة لا يقدم عليه إلا بعد اجتماع الآراء.
وقرئ: فإن أرادا، ويتعلق عن تراض، بمحذوف لأنه في موضع الصفة لقوله: فصالا، أي: فصالا كائنا، وقدره الزمخشري صادرا. و: عن، للمجاوزة مجازا، لأن ذلك معنى من المعاني لا جرم، وتراض وزنه تفاعل، وعرض فيه ما عرض في أظب جمع: ظبي، إذ أصله أظبي على: أفعل، فتنقلب الياء واوا الضمة ما قبلها، ثم إنه لا يوجد في لسان العرب اسم آخروه واو قبلها ضمة لغير الجمع، وأنه متى أدى إلى ذلك التصريف قلبت الواو ياء، وحولت الضمة كسرة، وكذلك فعل في تراض. وتفاعل هنا في تراض، وتشاور على الأكثر من معانيه من كونه واقعا من اثنين، وأخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها، و: منهما، في موضع الصفة لتراض، فيتعلق بمحذوف، وهو مراد بعد قوله: وتشاور، أي: منهما، ويحتمل في تشاور أن يكون أحدهما شاور الآخر، أو يكون أحدهما شاور غير الآخر لتجتمع الآراء على المصلحة في ذلك. * (فلا جناح عليهما) * هذا جواب الشرط، وقبل هذا الجواب جملة محذوفة بها يصح المعنى، التقدير: ففصلاه، أو ففعلا ذلك، والمعنى: فلا جناح عليهما في الفصال.
* (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له) * الخطاب للآباء والأمهات وفيه التفات، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب، وتلوين في الضمير، لأن قبله * (فإن أرادا فصالا) * بضمير التثنية، وكأنه رجوع إلى قوله: والوالدات، وعلى المولود له.
و: استرضع، فيه خلاف، هل يتعدى إلى مفعولين بنفسه، أو إلى مفعولين الثاني بحرف جر، قولان.
فالأول: قول الزمخشري، قال: استرضع منقول من أرضع، يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعها الصبي، فتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة. والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة، ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأول. إنتهى كلامه. وهو نقل من نقل، الأصل رضع الولد، ثم تقول: أرضعت المرأة الولد، ثم تقول استرضعت المرأة الولد، واستفعل هنا للطلب أي: طلبت من المرأة إرضاع الولد، كما تقول استسقيت زيدا الماء، واستطعمت عمرا الخبز، أي: طلبت منه أن يسقيني وأن يطعمني، فكما أن الخبز والماء منصوبان وليسا على إسقاط الخافض، كذلك: أولادكم، منصوب لا على إسقاط الخافض.
والثاني: قول الجمهور، وهو أن يتعدى إلى اثنين، الثاني بحرف جر، وحذف من قوله: أولادكم، والتقدير: لأولادكم، وقد جاء استفعل أيضا للطلب معدى بحرف الجر في الثاني، وإن كان في: أفعل، معدى إلى اثنين. تقول: أفهمني زيد المسألة، واستفهمت زيدا عن المسألة، فلم يجيء: استطعمت، ويصير نظير: استغفرت الله من الذنب، ويجوز حذف: من، فتقول: الذنب، وليس في قولهم: كان فلان مسترضعا في بني فلان دليل على أنه مفعول بنفسه، أو بحرف جر.
* (فلا جناح عليكم) * هذا جواب الشرط، وقبله جملة حذفت لفهم المعنى، التقدير: فاسترضعتم أو فعلتم ذلك فلا جناح عليكم في الاسترضاع * (إذا سلمتم) * ما آتيتم، هذا خطاب للرجال خاصة، وهو من تلوين الخطاب. وقيل: هو خطاب للرجال والنساء، ويتضح ذلك في تفسير قوله: * (ما ءاتيتم) *.
* (وإذا * سلمتم) * شرط، قالوا: وجوابه ما يدل عليه الشرط الأول وجوابه، وذلك المعنى هو العامل في: إذا، وهو متعلق بما تعلق به: عليكم. إنتهى.
وظاهر هذا الكلام خطأ لأنه جعل العامل في إذا أولا المعنى الذي يدل عليه الشرط وجوابه، ثم قال ثانيا إن إذا تتعلق بما تعلق به: عليكم، وهذا يناقض ما قبله، ولعل
قوله: وهو متعلق، سقطت منه ألف، وكان: أو هو متعلق، فيصح إذ ذاك المعنى، ولا تكون إذ ذاك شرطا، بل تتمحض للظرفية.
وقرأ ابن كثير: ما أتيتم، بالقصر، وقرأ باقي السبعة بالمد؛ وتوجيه قراءة ابن كثير: أن: أتيتم، بمعنى جئتموه وفعلتموه، يقال: أتى جميلا أي: فعله، وأتى إليه، إحسانا فعله، وقال إن وعده كان مأتيا، أي: مفعولا، وقال زهير:
228

* فما يك من خير أتوه فإنما
*
توارثه آباء آبائهم قبل
وتوجيه المد أن المعنى: ما أعطيتم، و: ما، في الوجهين موصولة بمعنى الذي، والعائد عليها محذوف، وإذا كانت بمعنى أعطى احتيج إلى تقدير حذف ثان، لأنها تتعدى لاثنين أحدهما ضمير: ما، والآخر، الذي هو فاعل من حيث المعنى، والمعنى في: ما آتيتم، أي: ما أردتم إتيانه أو إيتاءه.
*
ومعنى الآية، والله أعلم جواز الاسترضاع للولد غير أمه إذا أرادوا ذلك واتفقوا عليه، وسلموا إلى المراضع أجورهن بالمعروف، فيكون ما سلمتم هو الأجرة على الاسترضاع، قاله السدي، وسفيان. وليس التسليم شرطا في جواز الاسترضاع والصحة، بل ذلك على سبيل الندب، لأن في ايتائها الأجرة معجلا هنيا توطين لنفسها واستعطاف منها على الولد، فتثابر على إصلاح شأنه.
وقيل: سلمتم الأولاد إلى من رضيها الوالدان، قاله قتادة، والزهري، وفيه بعد لإطلاق: ما، الموضوعة لما لا يعقل على العاقل، وقيل: سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع قاله مجاهد.
وقيل: سلمتم ما آتيتم من إرادة الاسترضاع، أي: سلم كل واحد من الأبوين ورضي، وكان عن اتفاق منهما، وقصد خير وإرادة معروف، قاله قتادة.
وأجاز أبو علي: في: ما آتيتم، أن تكون: ما، مصدرية أي: إذا سلمتم الإتيان، والمعنى مع القصر، وكون: ما، بمعنى الذي أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير، وروى شيبان عن عاصم: مبينا للمفعول أي: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوها، قال تعالى: * (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) * ويتعلق: بالمعروف، ب: سلمتم، أي: بالقول الجميل الذي تطيب النفس به، ويعين على تحسين نشأة الصبي. وقيل: تتعلق: بآتيتم.
قالوا: وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك، وهذه كانت سنة جاهلية، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن، والاستصلاح لأبداعنهن، ولاستعجال الولد بحصول الحمل، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه، وجعل الأجرة على الأب بقوله: * (إذا سلمتم) *.
* (واتقوا الله واعلموا أن الله بما * تعلمون * بصير) * لما تقدم أمر ونهي، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقا بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم، حذر وهدد بقوله: * (واعلموا) * وأتى بالصفة التي هي: بصير، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه، كما قال تعالى: * (ولتصنع على عينى) * في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام، إذ كان طفلا.
قالوا: وفي الآية ضروب من البيان والبديع، منها: تلوين الخطاب، ومعدوله في: * (والوالدات يرضعن) * فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر، والتأكيد: بكاملين، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهن، لأنهن سبب توصل ذلك. والإيجاز في: * (وعلى الوارث مثل ذالك) * وتلوين الخطاب: في * (وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم) * فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال: * (إذا سلمتم) * وهو خطاب للآباء خاصة، والحذف في: * (أن تسترضعوا) * التقدير: مراضع للأولاد، وفي قوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) * إنتهى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا انقضاء العدة بإمساكهن، وهو مراجعتهن
229

بمعروف، أو بتخلية سبيلهن بانقضاء العبدة، ثم أكد الأمر بالإمساك بمعروف، بأن نص على النهي عن إمساكهن ضرارا بهن، وجاء النهي على حسب ما كان يقع منهم في الجاهلية من الرجعة، ثم الطلاق، ثم الرجعة، ثم الطلاق على سبيل المضارة للنساء، فنهوا عن هذه الفعلة القبيحة تعظيما لهذا الفعل السيء الذي هو أعظم إيذاء النساء، ثم ذكر تعالى أن من ارتكب ما نهى الله عنه من ذلك فقد ظلم نفسه، أي: إن إمساك النساء على سبيل المضارة، وتطويل عدتهن، إنما وبال ذلك في الحقيقة على نفسه، حيث ارتكب ما نهى الله عنه، ثم نهى تعالى عن اتخاذ آيات الله هزوا، لأنه تعالى قد أنزل آيات في النكاح، والحيض، والإيلاء، والطلاق، والعدة، والرجعة، والخلع، وترك المضارة، وتضمنت أحكاما بين الرجال والنساء، وإيجاب حقوق لهم وعليهم، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء حتى كانوا لا يورثون البنات احتقارا لهن، وذكر قبل هذا أن من تعدى حدود الله فهو ظالم، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله هزوا، بل تؤخذ بجد وقبول، وإن كان فيها ما يخالف عاداتهم، ثم أمرهم بذكر نعمته، تنبها على أن من أنعم عليك فيجب أن يأخذ ما يلقي الله من الآيات بالقبول، ليكون ذلك شكرا لنعمته السابقة، ثم نبه تعالى على أن ما أنزل من الكتاب والحكمة فهو واعظ لكم، فينبغي قبوله والانتهاء عنده، ثم أمر بتقوى الله تعالى، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء عليم، فهو لا يخفي عنه شيء من أفعالكم، وهو يجازيكم عليها.
ثم ذكر تعالى أن الأزواج إذا طلقوا نساءهم وانقضت عدتهن لا تعضلوهن عن تزوج من أردن إذا وقع تراض بين المطلقة وخاطبها، وكان من عادة العرب أن من طلق منهم امرأة وبتها يعضلها عن التزوج بغيره، ثم أشار بقوله: ذلك إلى العضل، وذكر أنه يوعظ به المؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر، لأن من لم يكن مؤمنا لم يزد جر عن ما نهى الله عنه، ونبه على الإيمان باليوم الآخر، لأن ثمرة مخالفة النهي إنما تظهر في الدار الآخرة، ثم أشار بقوله: * (ذالكم أزكى لكم) * إلى التمكين من التزويج وعدم العضل لما في ذلك من الثواب بامتثال أمر الله تعالى، وأطهر لما يخشى من اجتماع الخاطب والمرأة على ريبة إذا منعا من التزويج، ثم نسب العلم إليه تعالى ونفاه عن المخاطبين، إذ هو العالم بخفايا الأمور وبواطنها.
ثم شرع تعالى في ذكر أشياء من نتائج التزويج من إرضاع الوالدات أولادهن، وذكر حد ذلك لمن أراد الإتمام، وما يجب للمرأة على الزوج وعلى وارثه إذا مات الزوج من النفقة والكسوة، وأن ذلك بالمعروف من غير إجحاف لا بالزوج ولا بالزوجة، وذكر جواز فصله وفطامه إذا كان ذلك برضا أبيه وأمه قبل الحولين، وجواز الاسترضاع للأولاد إذا اتفق الرجل والزوجة على ذلك، وأشار إلى تسليم أجر الأظآر تطييبا لأنفسهن وإعانة لهن على محبة الصغير، واشتمالهن عليه حتى ينشأ كأنه قد أرضعته أمه، فإن الإحسان جالب للمحبة، ثم ختم هذه الآية بالأمر بتقوى الله تعالى، وبأن يعلموا أن الله بكل شيء بصير، كما ختم تعالى الآية الأولى بالأمر بالتقوى بالعلم بأن الله بكل شيء عليم، وذلك إشارة إلى المجازاة، وتهديد ووعيد لمن خالف أمره تعالى.
2 (* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فىأنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير * ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء أو أكننتم فىأنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولاكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما فىأنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم * لا جناح عليكم إن طلقتم النسآء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين * وإن
230

طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلاأن يعفون أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير * حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى وقوموا لله قانتين * فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذآ أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون) *))
) *
يذر: معناه يترك، ويستعمل منه الأمر ولا يستعمل منه اسم الفاعل ولا المفعول، وجاء الماضي منه على طريق الشذوذ.
خبير: للمبالغة، من خبرت الشيء علمته، ومنه: قتل ارضا خابرها، وخبرت زيدا اختبرته، ولهذه المادة يرجع الخبر لأنه الشيء المعلم به، والخبار الأرض اللينة.
التعريض: الإشارة إلى الشيء دون تصريح.
الخطبة: بكسر الخاء التماس النكاح، يقال خطب فلان فلانة، أي: سألها خطبة أي: حاجته، فهو من قولهم: ما خطبك؟ أي: ما حاجتك، وأمرك؟ قال الفراء: الخطبة مصدر بمعنى الخطب، وهو من قولك: إنه يحسن القعدة والجلسة، يريد: القعود والجلوس.
والخطبة بضم الخاء الكلام المشتمل على: الزجر، والوعظ، والإذكار، وكلاهما راجع للخطاب الذي هو الكلام، وكانت سجاح يقول لها الرجل: خطب فتقول نكح.
أكن الشيء: أخفاه في نفسه، وكنه: ستره، شيء، والهمزة في أكن للتفرقة بين المعنيين، كأشرقت.
العقدة: في الحبل، وفي الغصن معروفة، يقال: عقدت الحبل والعهد، ويقال: أعقدت العسل، وهو راجع لمعنى الاشتداد، وتعقد الأمر علي اشتد، ومنه القعود.
المقتر: المقل أقتر الرجل وقتر يقتر ويقتر، والقلة معنى شامل لجميع مواقع اشتقاقه، ومنه القتير، وهو مسمار الدرع، والقترة أدنى الغبار، والناموس الصغار، والقتار: ريح القدر قال طرفة:
* حين قال الناس في مجلسهم
*
أقتار ذاك؟ أم ريح قطر؟
*
والقتر: بيوت الصيادين على الماء قال الشاعر:
* رب رام من بني ثعل
*
مثلج كفيه في قتره
*
231

النصف: هو الجزء من اثنين على السواء، ويقال: بكسر النون وضمها، ونضيف: ومنه: ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، أي: نصفه، كما يقال: ثمن وثمين، وعشر وعشير، وسدس وسديس، ومنه قيل: النصف المقنعة التي توضع على رأس المرأة نصيف، وكل شيء بلغ نصف غيره فهو نصف، يقال: نصف النهار ينصف،
ونصف الماء القدح، والإزار الساق، والغلام القرآن، وحكى الفراء في جميع هذا: أنصف.
المحافظة على الشيء: المواظبة عليه، وهو من الحفظ، حفظ المكان حرسه، وحفظ القرآن تذكره غائبا، وهو راجع لمعنى الحراسة، وحفظ فلان: غضب، وأحفظه: أغضبه، ومصدر: حفظ، بمعنى غضب: الحفيظة والحفظ.
الركوب: معروف، وركبان: جمع راكب، وهو صفة استعملت استعمال الأسماء، فحسن أن يجمع جمع الأسماء، ومع ذلك فهو في الأسماء محفوظ قليل، قالوا: حاجر وحجران، ومثل، ركبان: صحبان، ورعيان، جمع صاحب وراع، فإن لم تستعمل الصفة استعمال الأسماء لم يجيء فيها فعلان، لم يرد مثل: ضربان وقتلان في جمع: ضارب وقاتل.
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم ذكر عدة طلاق الحيض، واتصلت الأحكام إلى ذكر الرضاع، وكان في ضمنها قوله * (وعلى الوارث مثل ذالك) * أي: وارث المولود له، ذكر عدة الوفاة إذ كانت مخالفة لعدة طلاق الحيض.
وقرأ الجمهور: يتوفون، بضم الياء مبنيا للمفعول وقرأ علي، والمفضل، عن عاصم: بفتح الياء مبنيا للفاعل، ومعنى هذه القراءة أنهم: يستوفون آجالهم.
وإعراب: الذين، مبتدأ واختلف أنه خبر أم لا؟ فذهب الكسائي والفراء إلى أنه لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهن: بالذين، لأن الحديث معهن في الاعتداد بالأشهر، فجاء الخبر عما هو المقصود، والمعنى: من مات عنها زوجها تربصت، وأنشد الفراء رحمه الله:
* لعلي إن مالت بي الريح ميلة
*
على ابن أبي ذيان أن يتندما
فقال: لعلي، ثم قال: أن يتندما، لأن المعنى: لعل ابن أبي ذيان إن مالت بي الريح ميلة أن يتندما وقال الشاعر:
بني أسد إن ابن قيس، وقتله
بغير دم، دار المذلة حلت
ألغى ابن قيس، وقد ابتدأ بذكره وأخبر عن قتله أنه ذل؛ وتحرير مذهب الفراء أن العرب إذا ذكرت أسماء مضافة إليها، فيها معنى الخبر، أنها تترك الإخبار عن الاسم الأول ويكون الخبر عن المضاف، مثاله: إن زيدا وأخته منطلقة، لأن المعنى: إن أخت زيد منطلقة؛ والبيت الأول ليس من هذا الضرب، وإنما أوردوا مما يشبه هذا الضرب قول الشاعر:
*
فمن يك سائلا عني فإني
وجروة لا ترود ولا تعار
*
والرد على الفراء، وتأويل الأبيات والآية، مذكور في النحو.
وذهب الجمهور إلى أن له خبرا، واختلفوا، فقيل: هو ملفوظ به، وهو: يتربصن، ولا حذف يصحح معنى الخبر، لأنه ربط من جهة المعنى، لأن النون في: يتربصن، عائد، فقيل: على الأزواج الذين يتوفون، فلو صرح بذلك فقيل: يتربصن أزواجهم، لم يحتج إلى حذف، وكان إخبارا صحيحا، فكذلك ما هو بمعناه، وهو قول الزجاج.
وقيل: ثم حذف يصحح معنى الخبرية، واختلفوا في محل الحذف، فقيل: من المبتدأ، والتقدير: وأزواج الذين، ودل على المحذوف قوله: * (ويذرون أزواجا) * وقيل: من الخبر، وتقديره: يتربصن بعدهم، أو: بعد موتهم، قاله الأخفش.
وقيل: من الخبر وهو أن يكون الخبر جملة من مبتدأ محذوف وخبره يتربصن، تقديره: أزواجهم يتربصن، ودل عليه المظهر، قاله المبرد.
وقيل: الخبر بجملته محذوف مقدر قبل المبتدأ تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا.
وقوله: * (يتربصن بأنفسهن) * بيان للحكم المتلو، وهي جملة لا
232

موضع لها من الإعراب، قالوا: وهذا قول سيبويه.
قال ابن عطية: إنما يتجه ذلك إذا كان في الكلام لفظ أمر بعد، مثل قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وهذه الآية فيها معنى الأمر لا لفظه، فيحتاج في هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر، وحسن مجيء الآية هكذا أنها توطئة لقوله: * (فلا جناح عليكم) * إذ القصد بالمخاطبة من أول الآية إلى آخرها للرجال الذين منهم الحكام والنظار عبارة الأخفش والمبرد ما ذكرناه. انتهى كلامه.
وظاهرة قوله: يتربصن، العموم في كل امرأة توفي عنها زوجها، فيدخل فيه الأمة والكتابية والصغيرة.
وروي عن أبي حنيفة أن عدة الكتابية ثلاث حيض إذا توفي عنها زوجها، وروي عنه أن عليها عدة، فإن لم يدخل فلا عدة قولا واحدا، ويتخرج على هذين القولين
الإحداد، وتخصيص الحامل قيل: بقوله * (وأولات الاحمال أجلهن) * الآية، ولم يخصص الشافعي هنا العموم في حق الحامل إلا بالسنة لا بهذه الآية، لأنها وردت عقيب ذكر المطلقات، فيحتمل أن يقال: هي في المطلقة. لا في المتوفي عنها زوجها، ولأن كل واحدة من الآيتين أعم من الأخرى من وجه، وأخص منها من وجه، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى، والتي توفي عنها زوجها قد تكون حاملا وقد لا تكون، فامتنع التخصيص.
وقيل: الآية تتناول أولا الحوامل، ثم نسخ بقوله: * (وأولات الاحمال) * وعدة الحامل وضع حملها عند الجمهور.
وروي عن علي، وابن عباس، وغيرهما: أن تمام عدتها آخر الأجلين، واختاره سحنون، وروي عن ابن عباس أنه رجع عن ذلك.
ومعنى: * (يتربصن بأنفسهن) * أي: ينتظرن. قيل: والتربص هنا الصبر عن النكاح، قاله الحسن، قال: وليس الإحداد بشيء ولها أن تتزين وتتطيب. وضعف قوله، وقيل: ترك التزوج ولزوم البيت والإحداد، وهو أن تمتنع من الزينة، ومن لبس المصبوغ الجميل مثل الحمرة والصفرة والخضرة، والطيب، وما يجرى مجرى ذلك. وهذا قول الجمهور، وليس في الآية نص على الإحداد، بل التربص مجمل بينته السنة، ثبت في حديث الفريعة قوله صلى الله عليه وسلم): (أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله). وكانت متوفى عنها زوجها، قالت: فاعتدد أربعة أشهر وعشرا. وصح أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا، وتلزم المبيت في بيتها). وهذا قول الجمهور، وقال ابن عباس، وأبو حنيفة، وغيرههما: تبيت حيث شاءت، وروي ذلك عن علي، وجابر، وعائشة، وبه قال عطاء، وجابر بن زيد، والحسن، وداود.
قال ابن عباس: قال تعالى: * (يتربصن بأنفسهن) * ولم يقل: يعتددن في بيوتهن، ولتعتد حيث شاءت أربعة أشهر وعشرا، قالوا: معناه وعشر ليال، ولذلك حذف التاء وهي قراءة ابن عباس. والمراد عشر ليال بأيامها، فيدخل اليوم العاشر، قيل:.
وغلب حكم الليالي إذ الليالي أسبق من الأيام، والأيام في ضمنها، وعشر أخف في اللفظ، ولا تنقضي عدتها إلا بانقضاء اليوم العاشر، هذا قول الجمهور.
وقال الأوزاعي، وأبو بكر الأحم: ليس اليوم العاشر من العدة، بل تنقضي بتمام عشر ليال. وقال المبرد: معناه وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة، تقول العرب: سرنا خمسا، أي: بين يوم وليلة قال الشاعر:
* فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
*
وكان النكيرات تضيف وتجأرا
*
وقال الزمخشري: وقيل عشر إذهابا إلى الليالي والأيام داخلة معها، ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام، تقول: صمت عشرا، ولو ذكرت خرجت من كلامهم، ومن البين فيه * (إن لبثتم إلا عشرا) * * (إن لبثتم إلا يوما) * انتهى كلامه
233

ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء، ولا إلى تأويلها بمدد، كما ذهب إليه المبرد، بل الذي نقل أصحابنا أنه: إذا كان المعدود مذكرا وحذفته، فلك فيه وجهان.
أحدهما، وهو الأصل: أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود، فتقول: صمت خمسة. تريد: خمسة أيام، قالوا: وهو الفصيح، قالوا: ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمسا. ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام، واليوم مذكر وكذلك قوله:
* وإلا فسيري مثل ما سار راكب
*
يتمم خمسا ليس في سيره أمم
يريد خمسة أيام، وعلى ذلك ما جاء في الحديث، ثم أتبعه بست من شوال، وإذا تقرر هذا فجاء قوله: عشرا على أحد الجائزين، وحسنه هنا أنه مقطع كلام، فهو شبيه بالفواصل، كما حسن قوله: * (إن لبثتم إلا عشرا) * كونه فاصلة، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين، فقوله: ولو ذكرت لخرجت عن كلامهم، ليس كما ذكر، بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا عليه أنه الفصيح، إذ حاله عندهم محذوفا كحاله مثبتا في الفصيح، وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه، وقوله: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه، كما ذكر، بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه. كما ذكرنا. وقوله: ومن البين فيه * (إن لبثتم إلا عشرا) * قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه، وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة، وقوله: * (إن لبثتم إلا يوما) * فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلة معها، فأتى بقوله: إلا يوما، للدلالة على ذلك، وهذا عندنا يدل على أن قوله: عشرا، إنما يريد بها الأيام، لأنهم اختلفوا في مدة اللبث، فقال قوم: عشر، وقال، أمثلهم: طريقة يوم، فقوله: إلا يوما، مقابل لقولهم إلا عشرا، ويبين أنه أريد بالعشر الأيام، إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم: عشر ليال، ويقول: بعض: يوما.
*
وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر، فلو وجبت العدة مع رؤية الهلال لاعتدت بالأهلة، كان الشهر تاما أو ناقصا. وإن وجبت في بعض شهر، فقيل:
تستوفي مائة وثلاثين يوما، وقيل: تعتد بما يمر عليها من الأهلة شهورا، ثم تكمل الأيام الأول، وكلا القولين عن أبي حنيفة.
ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك، فتعتد إثر الوفاة، جاء الفعل مسندا: إليهن، وأكد بقوله: بأنفسهن، فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة، وقامت على ذلك البينة، ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة، فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة، وبه قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وجابر، وعطاء والأسود بن يزيد، وفقهاء الأمصار.
وقال علي، والحسن البصري، وخلاس بن عمرو، وربيعة: من يوم يأتيها الخبر.
وكأنهم جعلوا في إسناد التربص إليهن تأثيرا في العدة. وروي عن سعيد بن المسيب، والشافعي: أنهما قالا: إذا قامت البينة فالعدة من يوم يموت، وإن لم تقم بينة فمن يوم يأتيها الخبر.
وروي عن الشافعي مثل قول الجمهور، وأجمعوا على أن المعتدة، لو كانت حاملا لا تعلم بوفاة الزوج حتى وضعت الحمل، أن عدتها منقضية، ولم تتعرض الآية في المتوفي عنها زوجها إلا لأن تتربص تلك المدة، فلا نفقة لها في مدة العدة من رأس المال، ولو كانت حاملا، قاله جابر، وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، وعبد الملك بن يعلى، ويحيى الأنصاري،
234

وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وابن المنذر، وروي عن أبي حنيفة.
وقيل: لها النفقة من جميع المال، وروي ذلك عن علي، وعبد الله بن عرم، وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وأبي العالية، والنخعي، وخلاس بن عمرو، وحماد بن أبي سليمان، وأيوب السختياني، والثوري، وأبي عبيد.
وظاهر قوله * (يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * أنه إذا تربصت هذه المدة ليس عليها أكثر من ذلك، وإن كانت ممن تحيض فلم تحض فيها، وقيل: لا تبرأ إلا بحيضة تأتي بها في المدة، وإلا فهي مستريبة، فتمكث حتى تزول ريبتها.
وأجمع الفقهاء على أن هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وهذا من غرائب النسخ، فإن الحكم الثاني ينسخ الأول، وقيل: إن الحول لم ينسخ، وإنما هو ليس على وجه الوجوب، بل هو على الندب، فأربعة أشهر وعشرا، أقل ما تعتد به المتوفى عنها زوجها، والحول هو الأكمل والأفضل.
وقال قوم: ليس في هذا نسخ، وإنما هو نقصان من الحول: كصلاة المسافر لما نقصت من الأربع إلى الاثنين لم يكن ذلك نسخا، بل كان تخفيفا.
قالوا: واختص هذا العدد في عدة المتوفى عنها زوجها استبراء للحمل فقد روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (يكون خلق أحدكم نطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة أربعين يوما، ثم ينفخ فيه الروح، أربعة أشهر وزاد الله العشر لأنها مظنة لظهور حركة الجنين، أو مراعاة لنقص الشهور وكمالها، أو استظهارا لسرعة ظهور الحركة أو بطئها في الجنين). قال أبو العالية وغيره: إنما زيدت العشر لأن نفخ الروح يكون فيها، وظهور الحمل في الغالب. وقال الأصمعي: ولد كل عامل يركض في نصف حمله، وقال الراغب: ذكر الأطباء أن الولد في الأكثر، إذا كان ذكرا يتحرك بعد ثلاثة أشهر، وإذا كان أنثى بعد أربعة أشهر، وزيد على ذلك عشرا استظهارا.
قال وخصت العشرة لزيادة لكونها أكمل الأعداد وأشرفها لما تقدم في: * (تلك عشرة كاملة) *.
قال القشيري: لما كان حق الميت أعظم، لأن فراقه لم يكن بالاختيار، كانت مدة وفاته أطول، وفي ابتداء الإسلام كانت عدة الوفاة سنة، ثم ردت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتخفيف براءة الرحم عن ماء الزوج، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوج آخر، إذ الموت لا يستديم موافاة إلى آخر عمر أحد. كما قيل:
* وكما تبلى وجوه في الثرى
*
فكذا يبلى عليهن الحزن
*
* (فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى * والاقربين بالمعروف) *. بلوغ أجلهن هو انقضاء المدة المضروبة في التربص، والمخاطبون: بعليكم، الأولياء، أو الآئمة والحكام والعلماء، إذ هم الذين يرجع إليهم في الوقائع، أو عامة المؤمنين. أقوال، ورفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن لأنهم هم الذين ينكرون عليهن، ويأخذونهن بأحكام العدد، أو لأنهم إذ ذاك يسوغ لهم نكاحهن، إذ كان ذلك في العدة حراما، فزال الجناح بعد انقضاء العدة.
والذي فعلن بأنفسهن: النكاح الحلال، قاله مجاهد، وابن شهاب، أو: الطيب، والتزين، والنقلة من مسكن إلى مسكن، قاله أبو جعفر الطبري، ومعنى: بالمعروف أي: بالإشهاد، وقيل: ما أذن فيه الشرع مما يتوقف النكاح عليه، وقال الزمخشري: * (فيما فعلن فى أنفسهن) * من التعرض للخطاب، بالمعروف: بالوجه الذي لا ينكره الشرع، والمعنى: أنهن لو فعلن ما هو منكر كان على الأئمة أن يكفوهن، وإن فرطوا كان عليهم الجناح. إنتهى كلامه. وهو حسن.
* (والله بما * تعلمون * خبير) * وعيد يتضمن التحذير، وخبير للمبالغة، وهو العلم بما لطف والتقصي له.
* (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم فى أنفسكم) * نفى الله الحرج في التعريض بالخطبة، وهو: إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإن من عزمي أن أتزوج؛ وإني فيك لراغب، وما أشبه ذلك، أو: أريد النكاح
235

وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها، قاله ابن عباس. أو: إنك لنافقة، وإن قضي شيء سيكون، قاله الشعبي. أو: يصف لها نفسه، وفخره، وحسبه، ونسبه، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة، أو يقول لوليها: لا تسبقني بها، كما قال صلى الله عليه وسلم) لفاطمة بنت قيس: (كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك). وقد أول هذا على أنه منه صلى الله عليه وسلم) لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها، لا أنه أرادها لنفسه، ولذلك كره مجاهد أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ورآه من المواعدة سرا، أو يقول: ما عليك تأيم، ولعل الله يسوق إليك خيرا، أو رب رجل يرغب فيك، أو: يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها.
قال إبراهيم: أو يقول كل ما سوى التصريح، قاله ابن زيد، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج، ولا التنبيه عليه، ولا الرفث، وذكر الجماع، والتحريض عليه. وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد، فكما خالف نهي حكمي التعريض والتصريح في الخطبة، فكذلك في القذف.
* (أو أكننتم فى أنفسكم) * أي: أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرحوا بذكر، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفي عنهما، وقيل: المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة، فأباح الله التعريض، وحرم التصريح في الحال، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالا من ميل القلب.
* (علم الله أنكم ستذكرونهن) * هذا عذر في التعريض، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه، فأسقط الله الحرج في ذلك، وفيه طرف من التوبيخ، كقوله: * (علم الله أنكم كنتم تختانون) * وجاء الفعل بالسين التي تبدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت، وتتوق إليهن الأنفس، ويتمنى نكاحهن.
وقال الحسن، معنى: ستذكرونهن، كأنه قال: إن لم تنهوا. إنتهى.
وقوله: ستذكرونهن، شامل لذكر اللسان وذكر القلب، فنفى الحرج عن التعريض، وهو كسر اللسان، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.
* (ولاكن لا تواعدوهن سرا) * هذا الاستدراك من الجملة التي قبله، وهو قوله: ستذكرونهن، والذكر يقع على أنحاء وأوجه، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه لا لدراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه، وهو نظير قولك: زيد سيلقى خالدا ولكن لا يواجهه بشر، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء، وإن من أحواله المواجهة بالشر، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها، لكن يحتاج ما بعد: لكن، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء.
قال الزمخشري، فإن قلت، أين المستدرك بقوله: * (ولاكن لا تواعدوهن) *. قلت، هو محذوف لدلالة: * (ستذكرونهن) * عليه * (علم الله أنكم ستذكرونهن) * فاذكروهن * (ولاكن لا تواعدوهن سرا) * إنتهى كلامه.
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن، بل الاستدراك جاء من قبل قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء، لا على طريق الوجوب، ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير: فاذكروهن، على ما قررناه قبل قولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال: ولكن لا تخف مني.
والسر ضد الجهر، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه، لكنه في سر، وقد يعبر به عن العقد، لأنه سبب فيه، وقد فسر: السر، هنا: بالزنا الحسن،
236

وجابر بن زيد، وأبو مجلز، والضحاك، والنخعي. ومما جاء: السر، في الوطء الحرام، قوله الحطيئة:
* ويحرم سر جارتهم عليهم
*
ويأكل جارهم أنف القصاع
*
وقال الأعشى:
* ولا تقربن جارة إن سرها
*
عليك حرام فانكحن أو تأبدا
*
وقال ابن جبير: السر، هنا النكاح. وقال ابن زيد معنى، ذلك: لا تنكحوهن وتكتمون ذلك، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن، فسمى العقد عليهم مواعدة، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة.
قال بعضهم: جماعا وهو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت وكيت، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف. وقال ابن عباس، وابن جبير أيضا، والشعبي، ومجاهد،
وعكرمة، والسدي، ومالك، وأصحابه، والجمهور: المعنى: لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية.
فعلى هذا القول، والقول الذي قبله، ينتصب، سرا، على الحال، أي: مستسرين. وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول، وإذا انتصب على الحال كان مفعول: فواعدوهن محذوفا، تقديره: النكاح، وقيل: انتصب على أنه نعت مصدر محذوف، تقديره: مواعدة سرا. وقيل التقدير في: وانتصب انتصاب الظرف، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به، والذي تدل عليه الآية أنهم: نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج، وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها، وأما إطلاق المواعدة سرا على النقد فبعيد أيضا، وأيد قول الجمهور فبعيد أيضا، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سرا وجهرا، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر.
* (إلا أن تقولوا قولا معروفا) *. هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت: سرا، من قوله: * (ولاكن لا تواعدوهن سرا) * على أي تفسير فسرته، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض، وقال الضحاك: من القول المعروف أن تقول للمعتدة: احبسى علي نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي: وأنا مثل ذلك.
قال ابن عطية: وهذا عندي مواعدة.
وإنما لتعريض قول الرجل إنكن لإماء كرام، وما قدر كان، وإنك المعجبة ونحو هذا.
وقال الزمخشري: * (إلا أن تقولوا قولا معروفا) * وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا.
فان قلت: بم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهن، أي: لا تواعدوهن مواعدة قط
237

إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو: لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا، أي: لا تواعدوهن إلا بالتعريض، ولا يجوز أن يكون استثناء من سرا، لأدائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض إنتهى كلام الزمخشري. ويحتاج إلى توضيح، وذلك أنه جعله استثناء متصلا باعتبار أنه استثناء مفرغ، وجعل ذلك على وجهين.
أحدهما: أن يكون استثناء من المصدر المحذوف، وهو الوجه الأول الذي ذكره، وقدره: لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، فكأن المعنى: لا تقولوا لهن قولا تعدونهن به إلا قولا معروفا، فصار هذا نظير: لا تضرب زيدا ضربا شديدا.
والثاني: أن يكون استثناء مفرغا من مجرور محذوف، وهو الوجه الثاني الذي ذكره، وقدره: إلا بأن تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلا بالتعريض، فكان المعنى: لا تواعدوهن سرا، أي نكاحا بقول من الأقوال، إلا بقول معروف، وهو التعريض. فحذف: من أن، حرف الجر، فيبقى منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي تقدم في نظائره.
والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو: الباء، التي للسبب.
قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من سرا لأدائه إلى قوله: لا تواعدوهن إلا التعريض، والتعريض ليس مواعد، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل، وهذا عنده على أن يكون منقطعا نظير: ما رأيت أحدا إلا حمارا. لكن هذا يصح فيه: ما رأيت إلا حمارا، وذلك لا يصح فيه، لا تواعدوهن إلا التعريض، لأن التعريض لا يكون مواعدا بل مواعدا به النكاح، فانتصاب: سرا، على أنه مفعول، فكذلك ينبغي أن يكون: أن تقولوا، مفعولا، ولا يصح ذلك فيه، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعا. هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعا.
وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين.
أحدهما: ما ذكره الزمخشري، وهو: أن يتسلط العامل على ما بعد؛ إلا، كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحدا إلا حمارا. و: ما في الدار أحد إلا حمارا.
وهذا النوع فيه خلاف عن العرب، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلا، فتقول: ما رأيت إلا حمارا، وما في الدار إلا حمار. ويصح في الكلام: ما لهم به إلا اتباع الظن.
والقسم الثاني: من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلا، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة، ومن ذلك: ما زاد إلا ما نقص، وما نفع إلا ما ضر. فما بعد إلا لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص، بل يقدر المعنى: ما زاد، لكن النقص حصل له، وما نفع لكن الضرر حصل، فاشترك هذا القسم مع الأول في تقدير إلا بلكن، لكن الأول يمكن تسليط ما قبله عليه، وهذا لا يمكن.
وإذا تقرر هذا فيكون قوله: * (إلا أن تقولوا) * استثناء منقطعا من هذا القسم الثاني، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل، والتقدير: لكن التعريض سائغ لكم، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلا، فلذلك منعه، والله أعلم.
وظاهر النهي في قوله * (لا تواعدوهن سرا) * التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه، فيمن واعد في العدة ثم تزوجها بعد العدة، قال: فراقها أحب إلي دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب وروي أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما. وقال ابن القاسم: وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم. وقال الشافعي: لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلا بعد انقضاء العدة صح النكاح، والتصريح بهما مكروه. وقال ابن عطية: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة.
* (ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) * نهوا عن العزم على عقدة النكاح، وإذا كان العزم منهيا عنه فأحرى أن ينهي عن العقدة.
وانتصاب: عقدة، على المفعول به لتضمين: تعزموا، معنى ما يتعدى بنفسه، فضمن معنى: تنووا، أو معنى: تصمموا، أو معنى: توجبوا، أو معنى: تباشروا،
أو معنى: تقطعوا، أي: تبتوا.
238

وقيل: انتصب عقدة على المصدر، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل: انتصب على إسقاط حرف الجر، وهو على هذا التقدير: ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر:
* ولقد أبيت على الطوى وأظله
*
حتى أنال به كريم المأكل
*
الأصل وأظل عليه، فحذف: على، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدى بعلى، قال الشاعر:
* عزمت على إقامة ذي صباح
*
لأمر ما يسود من يسود
*
وقد تقدم الكلام على نظير هذا في قوله: * (وإن عزموا الطلاق) * وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك، ولذلك قال ابن عطية: عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي. ولم ينقل عن أحد خلافه، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدة.
والكتاب هنا هو المكتوب أي: حتى يبلغ ما كتب، وأوجب من العدة أجله أي: وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن، وهو على حذف مضاف، التقدير: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، وهو ما فرض بالكتاب من العدة، فإذا انقضت العدة جاز الإقدام على التزوج، وهذا النهي معناه التحريم، فلو عقد عليها في العدة فسخ الحاكم النكاح، فإن كان ذلك قبل الدخول بها، فقال عمر، والجمهور: لا يتأبد التحريم. وقال مالك، وابن القاسم، في المدونة: ويكون خاطبا من الخطاب وحكى ابن الجلاب عن مالك: أنه يتأبد، وإن عقد عليها في العدة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء، قال قوم: يتأبد، وقال قوم: لا يتأبد، والقولان عن مالك، ولو عقد عليها في العدة، ودخل بها في العدة، فقال عمر، ومالك، وأصحابه، والأوزاعي، والليث، وأحمد وغيرهم: يتأبد التحريم.
وقال مالك، والليث: ولا تحل له بملك اليمين، وقال علي، وابن مسعود، وإبراهيم، وأبو حنيفة، والشافعي: وعبد العزيز بن أبي سلمة، وجماعة: لا يتأبد، بل يفسخ بينهما، ثم تعتد منه ويكون خاطبا من الخطاب.
قال الحسن، وأبو حنيفة، والليث، وأحمد، وإسحاق، والمدنيون غير مالك: تعتد من الأول، فإذا انقضت العدة فلا بأس أن يتزوجها الآخر.
وقال مالك، وأصحاب الرأي، والأوزاعي والثوري: عدة واحدة تكفيهما جميعا، سواء كانت بالحمل، أم بالإقراء، أم بالأشهر.
* (واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه) * قيل: المعنى ما في أنفسكم من هواهن، وقيل: من الوفاء والإخلاف، قاله ابن عباس: فاحذروه، الهاء تعود على الله تعالى، أي: فاحذروا عقابه.
وقال الزمخشري: يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. انتهى. فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم، أي فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه، فتكون الهاء في: فاحذروه ولا تعزموا عليه، عائدة على شيء واحد، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله، والهاء في: عليه، على ما لا يجوز، فيختلف ما تعود عليه الهاءان، ولما هددهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم، وحذرهم منه، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل
239

عنهم بعض روع التهديد والوعيد، والتحذير من عقابه، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات، وإن كان من صفات الفعل.
قيل: وتضمنت هذه الآيات ضروبا من البديع.
منها: معدول الخطاب، وهو أن الخطاب بقوله: * (والذين يتوفون) * الآية عام والمعنى على الخصوص. ومنها: النسخ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين. ومنها: الاختصاص، وهو أن يخص عددا فلا يكون ذلك إلا لمعنى، وذلك في قوله: * (أربعة أشهر وعشرا) * ومنها: الكناية، في قوله: * (ولاكن لا تواعدوهن سرا) * كنى بالسر عن النكاح، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها: التعريض، في قوله: * (يعلم ما فى أنفسكم) * ومنها: التهديد، بقوله * (فاحذروه) * ومنها: الزيادة في الوصف، بقوله: * (غفور حليم) *.
* (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) * نزلت في أنصارى تزوج حنيفية ولم يسم مهرا، ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله
عليه وسلم): (متعها ولو بقلنسوتك): فذلك قوله: * (لا جناح عليكم) * الآية.
ومناسبتها لما قبلها أنه: لما بين تعالى حكم المطلقات المدخول بهن، والمتوفى عنهن أزواجهن، بين حكم المطلقة غير المدخول بها، وغير المسمى لها مدخولا بها، أو غير ذلك.
والمطلقات أربع: مدخول بها مفروض لها، ونقيضتها، ومفروض لها غير مدخول بها، ونقيضتها.
والخطاب في قوله: * (لا جناح عليكم) * للأزواج، ومعنى نفي الجناح هنا هو أنه: لما نهى عن التزوج بمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج طلبا للعصمة والثواب، ودوام الصحبة، وقع في بعض نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء يكون قد أوقع جزءا من هذا المكروه، فرفع الله الجناح في ذلك، إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.
* (ما لم تمسوهن) * قرأ حمزة والكسائي: تماسوهن، مضارع ما من، فاعل. وقرأ باقي السبعة مضارع مسست، وفاعل. يقتضى اشتراك الزوجين في المسيس، ورجح أبو علي قراءة: تمسوهن، بأن أفعال هذا الباب جاءت ثلاثية، نحو: نكح، وسفد، وفزع، ودقط، وضرب الفحل، والقرابان حسنتان، والمس هنا والمماسة: الجماع، كقوله: * (ولم يمسسنى بشر) * و: ما، في قوله: * (ما لم تمسوهن) * الظاهر أنها ظرفية مصدرية، التقدير: زمان عدم المسيس كقوله الشاعر:
* إني بحبلك واصل حبلي
*
وبريش نبلك رائش نبلي
*
* ما لم أجدك على هدى أثر
*
يقرو مقصك قائف قبلي
وهذه ما، الظرفية المصدرية، شبيهة بالشرط، وتقتضي التعميم نحو: أصحبك ما دمت لي محسنا، فالمعنى: كل وقت دوام إحسان. وقال بعضهم: ما، شرطية، ثم قدرها بأن، وأراد بذلك، والله أعلم، تفسير المعنى، و: ما إذا كانت شرطا تكون اسما
240

غير ظرف زمان ولا مكان، ولا يتأتى هنا أن تكون شرطا بهذا المعنى.
*
وزعم ابن مالك أن: ما، تكون شرطا ظرف زمان؛ وقد رد ذلك عليه ابنه بدر الدين محمد في بعض تعاليقه، وتأول ما استدل به والده، وتأولنا نحن بعض ذلك، بخلاف تأويل ابنه، وذلك كله ذكرناه في كتاب (التكميل) من تأليفنا. على أن ابن مالك ذكر أن ما ذهب إليه لا يقوله النحويون، وإنما استنبط هو ذلك من كلام الفصحاء على زعمه.
وزعم بعضهم أن: ما، في قوله * (ما لم تمسوهن) * اسما موصولا والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن، فلا يكون لفظ. ما، شرطا، وهذا ضعيف، لأن: ما، إذ ذاك تكون وصفا للنساء، إذ قدرها بمعنى اللاتي، و: ما، من الموصولات التي لا يوصف بها بخلاف الذي والتي.
وكنى بالمسيس عن المجامعة تأديبا لعباده في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون.
* (أو تفرضوا لهن فريضة) * الفريضة هنا هو الصداق، وفرضه تسميته.
و: أو، على بابها من كونها تأتي لأحد الشيئين، أو لأشياء، والفعل بعدها معطوف على: تمسوهن، فهو مجزوم، أو معطوف على مصدر متوهم، فهو منصوب على إضمار أن بعد أو، بمعنى إلا. التقدير: ما لم تمسوهن إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو معطوف على جملة محذوفة التقدير: فرضتم أو لم تفرضوا، أو بمعنى الواو والفعل مجزوم معطوف على: تسموهن، أقوال أربعة.
الأول: لابن عطية وغيره والثاني: للزمخشري والثالث: لبعض أهل العلم ولم يسم والرابع: للسجاوندي وغيره.
فعلى القول الأول: ينتفي الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين: إما الجماع، وإما تسمية المهر، أما عند انتفاء الجماع فصحيح، وأما عند انتفاء تسمية المهر فالحكم ليس كذلك، لأن المدخول بها التي لم يسم لها مهر، وهي المفوضة، إذا طلقها زوجها لا ينتفي الجناح عنه.
وعلى القول الثاني: ينتفي الجناح عند انتفاء الجماع إلا إن فرض لها مهر، فلا تنتفي الجناح، وإن انتفى الجماع، لأنه استثنى من الحالات التي ينتفي فيها الجناح حالة فرض الفريضة، فيثبت فيها الجناح.
وعلى القول الثالث: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع فقط، سواء فرض أم لم يفرض، وقالوا: المراد هنا بالجناح لزوم المهر، فينتفي ذلك بالطلاق قبل الجماع، فرض مهرا أو لم يفرض، لأنه إن فرض انتقل إلى النصف، وإن لم يفرض، فاختلف في ذلك، فقال حماد بن أبي سليمان: إذا طلقها ولم يدخل بها، ولم يكن فرض لها، أجبر على نصف صداق مثلها، وقال غيره: ليس لها نصف مهر المثل، ولكن المتعة.
وفي هذا القول الثالث حذف جملة، وهي قوله: فرضتم، وإضمار: لم، بعد: أو، وهذا لا يجوز إلا إذا عطف على مجزوم، نحو: لم أقم وأركب، على مذهب من يجعل العامل في المعطوف مقدرا بعد حرف العطف.
وعلى القول الرابع: ينتفي الجناح بانتفاء الجماع، وتسمية المهر معا، فإن وجد الجماع وانتفت التسمية فلها مهر مثلها، وإن انتفى الجماع ووجدت التسمية فنصف المسمى، فيثبت الجناح إذ ذاك في هذين الوجهين، وينتفى بانتفائهما، ويكون الجناح إذ ذاك يطلق على ما يلزم المطلق باعتبار هاتين الحالتين.
وهذه الآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء، وأجمعوا على جواز ذلك، والظاهر جواز طلاق الحائض غير المدخول بها، لأن الآية دلت على انتفاء الحرج في طلاقهن عموما، سواء كن حيضا أم لا، وهو قول أكثر العلماء ومشهور مذهب مالك، ولمالك قول يمنع من طلاق الحائض مدخولا بها أو غير مدخول بها، وموت الزوج قبل البناء، وقبل الفرض ينزل منزلة طلاقه قبل البناء وقبل الفرض، فليس لها مهر ولا ميراث، قاله مسروق، وهو مخالف للأصول.
وقال علي، وزيد، وابن عباس، وابن عمر، والزهري، والأوزاعي، ومالك. والشافعي: لها الميراث، ولا صداق لها. وعليها العدة.
وقال عبد الله بن مسعود، وجماعة من الصحابة، وأبو حنيفة، والثوري، وأحمد، وإسحاق: لها صداق مثل نسائها، وعليها العدة، ولها الميراث.
وظاهر الآية يدل على صحة نكاح التفويض، وهو جائز عند فقهاء الأمصار، لأنه تعالى قسم حال المطلقة إلى قسمين: مطلقة لم يسم لها، ومطلقة سمي لها، فإن لم يفرض لها، ووقع الطلاق قبل الدخول، لم يجب لها صداق إجماعا. قاله القاضي أبو بكر بن العربي، وقد تقدم خلاف حماد بن أبي
241

سليمان في ذلك، وأن لها نصف صداق مثلها، وإن فرض لها بعد العقد أقل من مهر مثلها لم يلزمها تسليم نفسها، أو مهر مثلها لزمها التسليم، ولها حبس نفسها حتى تقبض صداقها.
وقال أبو بكر الأصم، وأبو إسحاق الزجاج: هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير مهر جائز، وقال القاضي: لا تدل على الجواز، لكنها تدل على الصحة، أما دلالتها على الصحة فلأنه لو لم يكن صحيحا لم يكن الطلاق مشروعا، ولم تكن النفقة لازمة، وأما أنها لا تدل على الجواز، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام، ومع ذلك هو واقع صحيح.
* (ومتعوهن) * أي: ملكوهن ما يتمتعن به، وذلك الشيء يسمى متعة. وظاهر هذا الأمر الوجوب، وروي ذلك عن: علي، وابن عمر، والحسن، وابن جبير، وأبي قلابة، وقتادة، والزهري، والضحاك بن مزاحم؛ وحمله على الندب: شريح، والحكم، وابن أبي ليلى، ومالك، والليث، وأبو عبيد.
والضمير الفاعل في * (ومتعوهن) * للمطلقين، والضمير المنصوب ضمير المطلقات قبل المسيس، وقبل الفرض، فيجب لهن المتعة، وبه قال ابن عباس، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي. وتندب في حق غيرهن من المطلقات.
وروي عن: علي والحسن، وأبي العالية، والزهري: لكل مطلقة متعة، فإن كان فرض لها وطلقت قبل المسيس، فقال ابن عمر، وشريح، وإبراهيم، ومحمد بن علي: لا متعة لها، بل حسبها نصف ما فرض لها؛ وقال أبو ثور: لها المتعة، ولكل مطلقة.
واختلف فقهاء الأمصار، فقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، وزفر، ومحمد: المتعة واجبة لغير المدخول بها ولم يسم لها، وإن دخل بها متعها، ولا يجبر عليها، وهو قول الثوري، والحسن بن صالح، والأوزاعي، إلا أن الأوزاعي يزعم أن أحد الزوجين، إذا كان مملوكا لم تجب المتعة، وإن طلقها قبل الدخول.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو الزناد: المتعة غير واجبة، ولم يفرقا بين المدخول بها وبين من سمي لها ومن لم يسم لها.
وقال مالك: المتعة لكل مطلقة مدخول بها وغير بمدخول، إلا الملاعنة والمختلعة والمطلقة قبل الدخول، وقد فرض لها.
وقال الشافعي: المتعة لكل مطلقة إذا كان الفراق من قبله، إلا التي سمى لها وطلق قبل الدخول.
وقال أحمد: يجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهر، فإن دخل بها فلا متعة، ولها مهر المثل.
وروي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة، وقال عطاء، والنخعي، والترمذي أيضا: للمختلعة متعة، وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة، وقال ابن القاسم: لا متعة في نكاح منسوخ، قال ابن المواز: ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه.
وروى ابن وهب عن مالك: أن المخيرة لها المتعة، بخلاق الأمة، تعتق تحت العبد، فتختار، فهذه لا متعة لها.
وظاهر الآية: أن المتعة لا تكون إلا لإحدى مطلقتين: مطلقة قبل الدخول، سواء فرض لها، أو لم يفرض. ومطلقة قبل الفرض، سواء دخل بها أو لم يدخل. وسيأتي الكلام على قوله: * (وللمطلقات متاع بالمعروف) * إن شاء الله تعالى.
* (على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) * هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة، إذ أتى بعد الأمر الذي هو ظاهر في الوجوب بلفظة: على، التي تستعمل في الوجوب، كقوله: * (وعلى المولود له رزقهن) * * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * والموسع: الموسر، والمقتر: الضيق الحال، وظاهره اعتبار حال الزوج، فمن اعتبر ذلك بحال الزوج والزوجة، فهو مخالف للظاهر، وقد جاء هذا القدر مبهما، فطريقة الاجتهاد وغلبة الظن إذ لم يأت فيه بشيء مؤقت.
ومعنى: قدره، مقدار ما يطيقه الزوج، وقال ابن عمر أدناها ثلاثون درهما أو شبهها، وقال ابن عباس: أرفعها خادم ثم كسوة ثم نفقة، وقال عطاء: من أوسط
242

ذلك درع وخمار وملحفة، وقال الحسن: يمتع كل على قدره هذا بخادم، وهذا بأثواب، وهذا بثوب، وهذا بنفقة، وهذا قول مالك؛ ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل، ومتع عائشة الخثعمية بعشرة آلاف، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق، ومتع شريح بخمسمائة درهم.
وقال ابن مجيز: على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وقال ابن المسيب: أفضل المتعة خمار، وأوضعها ثوب. وقال حماد: يمتعها بنصف مهر مثلها.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم) أنه قال لرجل من الأنصار، تزوج امرأة ولم يسم لها مهر، ثم طلقها قبل أن يمسها: (أمتعتها) قال: لم يكن عندي شيء قال: (متعها بقلنسوتك). وعند أبي حنيفة لا تنقص عن خمسة دراهم، لأن أقل المهر عنده عشرة دراهم، فلا ينقص من نصفها. وقد متع عبد الرحمن بن عوف زوجه أم أبي سلمة ابنه بخادم سوداء، وهذه المقادير كلها صدرت عن اجتهاد رأيهم، فلم ينكر بعضهم على بعض ما صار إليه، فدل على أنها موضوعة عندهم على ما يؤدي إليه الاجتهاد، وهي بمنزلة تقويم المتلفات وأروش الجنايات التي ليس لها مقادير معلومة، وإنما ذلك على ما يؤدي إليه الإجتهاد، وهي من مسألة تقويم المتلفات.
وقرأ الجمهور: على الموسع، اسم فاعل من أوسع؛ وقرأ أبو حيوة: الموسع، بفتح الواو والسين وتشديدها، اسم مفعول من وسع؛ وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وأبو بكر: قدره، بسكوت الدال في الموضعين؛ وقرأ حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص، ويزيد، وروح: بفتح الدال فيهما، وهما لغتان فصيحتان، بمعنى حكاهما أبو زيد، والأخفش وغيرهما، ومعناه: ما يطيقه الزوج، وعلى أنهما بمعنى واحد أكثر أئمة العربية، وقيل: الساكن مصدر، والمتحرك اسم: كالعد والعدد، والمد والمدد.
وكان القدر بالتسكين الوسع، يقال: هو ينفق على قدره، أي: وسعه، قال أبو جعفر: وأكثر ما يستعمل بالتحريك إذا كان مساويا للشيء يقال: هذا على قدر هذا.
وقرئ: قدره، بفتح الراء، وجوزوا في نصبه وجهين: أحدهما: أنه انتصب على المعنى، لأن معنى: * (* متعوهن) * ليؤد كل منكم قدر وسعه. والثاني: على إضمار فعل، التقدير: وأوجبوا على الموسع قدره.
وفي السجاوندي: وقرى ابن أبي عبلة: قدره، أي قدره الله. إنتهى. وهذا يظهر أنه قرأ بفتح الدال والراء، فتكون، إذ ذاك فعلا ماضيا، وجعل فيه ضميرا مستكنا يعود على الله، وجعل الضمير المنصوب عائدا على الإمتاع الذي يدل عليه قوله: * (فريضة ومتعوهن) *.
والمعنى: أن الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر.
وفي الجملة ضمير محذوف تقديره: على الموسع منكم، وقد يقال إن الألف واللام نابت عن الضمير، أي: على موسعكم وعلى مقتركم، وهذه الجملة تحتمل أن تكون مستأنفة بينت حال المطلق في المتعة بالنسبة إلى إيساره وإقتاره، ويحتمل أن تكون في موضع نصب على الحال، وذو الحال هو الضمير المرفوع وفي قوله: * (ومتعوهن) * والرابط هو ذلك الضمير المحذوف الذي قدرناه: منكم.
* (متاعا بالمعروف) * قالوا: انتصب متاعا على المصدر، وتحريره أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسم له، ثم أطلق على المصدر على سبيل المجاز، والعامل فيه * (ومتعوهن) * ولو جاء على أصل مصدر * (ومتعوهن) * لكان تمتيعا، وكذا قدره الزمخشري، وجوز وافيه أن يكون منصوبا على الحال، والعامل فيها ما يتعلق به الجار والمجرور، وصاحب الحال الضمير المستكن في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقر عليه في حال كونه متاعا، وبالمعروف يتعلق بقوله: ومتعوهن، أو: بمحذوف، فيكون صفة لقوله: متاعا، أي
243

ملتبسا بالمعروف، والمعروف هو المألوف شرعا ومروءة، وهو ما لا حمل له فيه على المطلق ولا تكلف.
* (حقا على المحسنين) * هذا يؤكد أيضا وجوب المتعة، والمراد إحسان الإيمان والإسلام. وقيل: المراد إحسان العشرة، فيكون الله سماهم محسنين قبل الفعل، باعتبار ما يؤولون إليه من الإحسان، نحو: (من قتل قتيلا فله سلبه).
وانتصاب حقا على أنه صفة لمتاعا أي: متاعا بالمعروف واجبا على المحسنين، أو بإضمار فعل تقديره: يحق ذلك حقا، أو حالا مما كان حالا منه متاعا، أو من قوله: بالمعروف، أي: بالذي عرف في حال كونه على المحسنين.
* (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة) * لما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض، والمراد بالمسيس الجماع، وبالفريضة الصداق، والجملة من قوله: * (وقد فرضتم) * في موضع الحال، ويشمل الفرض المقارن للعقد، والفرض بعد العقد، وقبل الطلاق، فلو كان فرض لها بعد العقد، ثم طلق بعد الفرض، فنصف الصداق بالطلاق لعموم الآية، خلافا لأبي حنيفة، إذ لا يتنصف عنده، لأنه لم يجب بالعقد، فلها مهر مثلها كقول مالك، والشافعي، ثم رجع إلى قول صاحبيه، وجواب الشرط * (فنصف ما فرضتم) *، وارتفاع نصف على الابتداء وقدر الخبر: فعليكم نصف ما فرضتم، أو: فلهن نصف ما فرضتم، ويجوز أن يقدر مؤخرا، ويجوز أن يكون خبرا، أي: فالواجب نصف ما فرضتم.
وقرأت فرقة: فنصف، بفتح الفاء أي: فادفعوا نصف ما فرضتم، وظاهر قوله: ما فرضتم، أنه إذا أصدقها عرضا، وبقي إلى وقت الطلاق وزاد أو نقص، فنماؤه ونقصانه لهما ويتشطر، أو عينا ذهبا أو ورقا فاشترت به عرضا، فنما أو نقص، فلا يكون له إلا نصف ما أصدق من العين لا من العرض، لأن العرض ليس هو المفوض. وقال مالك: هذا العرض كالعين، أصل ثمنه يتشطر، وهذا تفريع على أنه هل يتبين بقاء ملكه على نصفه أو يرجع إليه بعد أن ملكته؟.
وظاهر الآية يدل على أنه لا يتشطر إلا المفروض فلو كان نحلها شيئا في العقد، أو قبله لأجله، فلا يتشطر. وقيل: هو في معنى الصداق.
وظاهر الآية أن الطلاق قبل الجماع وبعد الفرض يوجب تشطير الصداق، سواء خلابها أم قبلها، أم عانقها، أم طال المقام معها، وبه قال: الشافعي، والحسن بن صالح، ولا عدة عليها؛ وروري عن علي، وعمرو بن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وعلي بن الحسن، وإبراهيم: أن لها بالخلوة جميع المهر. وقال مالك: إن خلابها وقبلها أو كشفها، وكان ذلك قريبا، فلها نصف الصداق، وإن طال فلها المهر، إلا أن يضع منه، وقال الثوري: إذا خلابها ولم يدخل عليها، وكان ذلك من
جهته، فلها المهر كاملا، وإن كانت رتقاء فلها شطر المهر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر: الخلوة الصحيحة تمنع سقوط شيء من المهر بعد الطلاق، وطئ أو لم يطأ، وهو أن لا يكون أحدهما محرما أو مريضا، أو لم تكن حائضة أو صائمة في رمضان، أو رتقاء، فإنه إذا كان كذلك ثم طلقها وجب لها نصف المهر إذا لم يطأها.
والعبدة واجبة في هذه الوجوه كلها إن طلقها فعليها العدة.
وقال الأوزاعي: إذا دخل بها عند أهلها، قبلها أو لمسها، ثم طلقها ولم يجامعها، وكان أرخى عليها سترا أو أغلق بابا فقد تم الصداق. وقال الليث: إذا أرخى عليها سترا فقد وجب الصداق.
وقرأ الجمهور: فنصف بكسر النون وضم الفاء، وقرأ السلمى بضم النون، وهي قراءة على والأصمعي عن أبي عمرو، وفي جميع القرآن. وتقدم أن ذلك لغة، والاقتصار على قوله: * (فنصف ما فرضتم) * يدل على أن المطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، ليس لها إلا النصف. وكذلك قال مالك وغيره: إن هذه الآية مخرجة للمطلقة بعد الفرض وقبل المسيس من حكم التمتيع، إذ كان قد تناولها قوله: * (ومتعوهن) *.
وقال ابن المسيب: نسخت هذه الآية آية الأحزاب، وقال قتادة: نسخت الآية التي قبلها، وزعم زيد بن أسلم أنها منسوخة، وقال فريق من العلماء، منهم أبو ثور: بينت هذه الآية أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض، ولم تتعرض الآية لإسقاط متعتها بل لها المتعة ونصف المفروض، وقد تقدم الكلام على شيء من هذا.
* (إلا أن يعفون) * نص ابن عطيه وغيره على أن هذا استثناء منقطع، قاله ابن عطية، لأن
244

عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. إنتهى.
وقيل: وليس على ما ذهبوا إليه، بل هو استثناء متصل، لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم، معناه: عليكم نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن عنكم، فلا يجب، وإن كان التقدير: فلهن نصف فالواجب ما فرضتم، فكذلك أيضا وكونه استثناء من الأحوال ظاهر، ونظيره: * (لتأتننى به إلا أن يحاط بكم) * إلا أن سيبويه منع أن تقع أن وصلتها حالا، فعلى قول سيبويه يكون: * (إلا أن يعفون) * استثناء منقطعا.
وقرأ الحسن: إلا أن يعفونه، والهاء ضمير النصف، والأصل: يعفون عنه، أي: عن النصف، فلا يأخذنه. وقال بعضهم: الهاء للاستراحة، كما تأول ذلك بعضهم في قول الشاعر:
* هم الفاعلون الخير والآمرونه
*
على مدد الأيام ما فعل البر
وحركت تشبيها بهاء الضمير. وهو توجيه ضعيف.
*
وقرأ ابن أبي إسحاق: إلا أن تعفون، بالتاء بثنتين من أعلاها، وذلك على سبيل الالتفات، إذ كان ضميرهن غائبا في قوله: لهن، وما قبله فالتفت إليهن وخاطبهن، وفي خطابه لهن، وجعل ذلك عفوا ما يدل على ندب ذلك واستحبابه.
وفرق الزمخشري بين قولك: الرجال يعفون، والنساء يعفون، بأن الواو في الأول ضمير، والنون علامة الرفع، والوا في الثاني لام الفعل والنون ضميرهن، والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل. إنتهى. فرقه، وهذا من النحو الجلي الذي يدرك بأدنى قراءة في هذا العلم، ونقصه أن يبين أن لازم الفعل في الرجال: يعفون، حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الضمير، وأن يذكر خلافا في نحو النساء يعفون، فذهب ابن درستويه من المتقدمين، والسهيلي من المتأخرين، إلى أن الفعل إذا اتصلت به نون الإناث معرب لا مبني، وينسب ذلك إلى كلام سيبويه. والكلام على هذه المسألة موضح في علم النحو.
وظاهر قوله: * (إلا أن يعفون) * العموم في كل مطلقة قبل المسيس، وقد فرض لها، فلها أن تعفو. قالوا: وأريد هنا بالعموم الخصوص، وكل امرأة تملك أمر نفسها لها أن تعفو، فأما من كانت في حجاب أو وصي فلا يجوز لها العفو، وأما البكر التي لاولي لها، فقال ابن عباس، وجماعة من التابعين والفقهاء: يجوز ذلك لها، وحكى سحنون، عن ابن القاسم: أنه لا يجوز ذلك لها.
* (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * وهو: الزوج، قاله علي، وابن عباس وجبير بن مطعم، وشريح رجع إليه، وابن جبير، ومجاهد، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن بشرمة، وأبو حنيفة، وذكر ذلك عن الشافعي.
وعفوه أن يعطيها المهر كله، وروي أن جبير بن مطعم تزوج وطلق قبل الدخول، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحق بالعفو.
وسمي ذلك عفوا إما على طريق المشاكلة، لأن قبله * (إلا أن يعفون) * أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم) لعلي كرم الله وجهه: (فأين درعك الحطيمة) يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه.
وروي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاووس، والشعبي، وإبراهيم، ومجاهد، وشريح، وأبي صالح، وعكرمة، والزهري، ومالك، والشافعي، وغيرهم: أنه الولي الذي المرأة في حجره، فهو: الأب في ابنته التي لم تملك أمرها، والسيد في أمته؛ وجوز شريح عفو الأخ عن نصف المهر، وقال: أنا أعفو عن مهور
بني مرة وإن كرهن، وقال عكرمة: يجوز أن يعفو عما كان أو أخا أو أبا، وإن كرهت، ويكون دخول أو: هنا للتنويع في العفو، * (إلا أن يعفون) * إن كن ممن يصح العفو منهن، أو يعفو وليهن، إن كن لا يصح العفو منهن، أو للتخيير، أي: هن خيرات بين أن يعفون، أو يعفو وليهن.
ورجح كونه الولي بأن الزوج المطلق يبعد فيه أن يقال بيده عقدة النكاح، وأن يجعل تكميله الصداق عفوا، وأن يبهم أمره حتى يبقى كالملبس، وهو قد أوضح بالخطاب في قوله: * (فنصف ما فرضتم) * فلو جاء على مثل هذا التوضيح لكان: إلا أن يعفون أو تعفوا أنتم ولا تنسوا الفضل بينكم، فدل هذا على أنها درجة ثالثة، إذ ذكر الأزواج، ثم الزوجات، ثم
245

الأولياء.
وأجيب عن الأول: بأن * (بيده عقدة النكاح) * من حيث كان عقدها قبل، فعبر بذلك عن الحالة السابقة، وللنص الذي سبق في قوله: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * والمراد به خطاب الأزواج.
وعن الثاني: أنه على سبيل المشاكلة، أو لكونه قد ساق الصداق إليها، وقد تقدم ذكر ذلك.
وعن الثالث: أنه لا إلباس فيه، وهو من باب الالتفات، إذ فيه خروج من خطاب إلى غيبة، وإنما قلنا: لا إلباس فيه، وأنه يتعين أن يكون الزوج، لإجماع أهل العلم على أنه لا يجوز للأب أن يهب شيئا من مال بنته لا لزوج ولا لغيره، فكذلك المهر، إذ لا فرق.
ويحتمل أن يكون قوله: * (بيده عقدة النكاح) * على حذف مضاف أي: بيده حل عقدة النكاح، كما قالوا في قوله: * (ولا تعزموا عقدة النكاح) * أي: على عقدة النكاح.
ولو فرضنا أن قوله: * (أو يعفوا الذى بيده عقدة النكاح) * من المتشابه، لوجب رده إلى المحكم. قال الله تعالى: * (وءاتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شىء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * وقال تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وءاتيتم) * وقال: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما ءاتيتموهن شيئا إلا أن يخافا) * الآية. فهذه الآية محكمة تدل ععلى أن الولي لا دخول له في شيء من أخذ مال الزوجة، ورجح أيضا أنه الزوج بأن عقدة النكاح كانت بيد الولي فصارت بيد الزوج، وبأن العفو يطلق على ملك الانسان وعفو الولي عفو عما لا يملك، وبأن قوله: * (ولا تنسوا الفضل) * يدل على أن الفضل في هبة الإنسان مال نفسه لا مال غيره.
وقرأ الحسن: أو يعفو، بتسكين الواو، فتسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها، فإذا وقف أثبتها، وفعل ذلك استثقالا للفتحة في حرف العلة، فتقدر الفتحة فيها كما تقدر في الألف في نحو: لن يخشى، وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو: لن يرمي ولن يغزو، وحتى إن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة، وقال:
* فما سودتني عامر عن وراثة
*
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
*
قال ابن عطية والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب، وقد قال الخليل، رحمه الله: لم يجيء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم: عفوة، وهو جمع: عفو، وهو ولد الحمار، وكذلك الحركة ما كانت قبل الواو مفتوحة، فإنها ثقيلة. إنتهى كلامه.
وقوله: لقلة مجيئها في كلام العرب، يعني مفتوحة مفتوحا ما قبلها، هذا الذي ذكر فيه تفصيل، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، إن كانت ضمة فإما أن يكون ذلك في فعل أو اسم، إن كان في فعل فليس ذلك بقليل، بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب، أو لحقه نون التوكيد، على ما أحكم في بابه، ظهرت الفتحة فيه نحو: لن يغزو، وهل يغزون، والأمر نحو: اغزون، وكذلك الماضي على فعل نحو: سرو الرجل، حتى ما بنى من ذوات الياء على فعل تقول فيه: لقضو الرجل، ولرموت اليد، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه؛ وإن كان في اسم فإما أن يكون مبنينا على هاء التأنيث، أو لا. إن كان مبنيا على هاء التأنيث فجاء كثيرا نحو: عرقوة، وترقوه، وقمحدوه، وعنصوة، وتبنى عليه المسائل في علم التصريف، وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل، كما ذكره الخليل، وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء، نحو الغازي، والغازية، والقريقية، وشذ من ذلك: أقروه جمع قرو، وهي ميلغة الكاب، و: سواسوة وهم: المستوون في الشر، و: مقاتوه جمع مقتو، وهو السايس الخادم.
والألف واللام في النكاح للعهد أي عقدة لها، قال المغربي: وهذا على طريقة البصريين، وقال غيره الألف واللام بدل الإضافة أي: نكاحه، قال الشاعر:
* لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم
*
من الناس والأحلام غير عوازب
*
أي: وأحلامهم، وهذا على طريقة الكوفيين.
* (وأن تعفوا أقرب للتقوى) *. هذا خطاب للزوج والزوجة، وغلب
246

المذكر، قاله ابن عباس. وقال ابن عطية: خاطب تعالى الجميع تأدبا بقوله: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * أي: يا جميع الناس. إنتهى كلامه.
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط، وقاله الشعبي، إذ هم الخاطبون في صدر الآية، فيكون ذلك من الالتفات، إذ رجع من ضمير الغائب، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردها إليه، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.
وقرأ الشعبي، وأبو نهيك: وأن يعفوا، بالياء باثنيتين من تحتها، جعله غائبا، وجمع على معنى: الذي بيده عقدة النكاح، لأنه للجنس لا يراد به واحد، وقيل: هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج، قيل: والعفوا أقرب لا تقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. وقيل: لاتقاء معاصي الله.
و: أقرب، يتعدى باللام كهذه، ويتعدى بإلى كقوله: * (ونحن أقرب إليه) * ولا يقال: إن اللام بمعنى إلى، ولا إن اللام للتعليل، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية، وقد قيل: بأن اللام بمعنى إلى، فيكون ذلك من تضمين الحروف، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضا: إن اللام للتعليل، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه، والمفضل عليه في القرب محذوف، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبرا للمبتدأ، والتقدير: والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو.
* (ولا تنسوا الفضل بينكم) * الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله: * (وأن تعفوا) *.
والنسيان هنا الترك مثل: * (نسوا الله فنسيهم) * والفضل: هو فعل ما ليس بواجب من البر، فهو من الزوج تكميل المهر، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها، قاله مجاهد، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص، فعرض عليه بنتا له، فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملا، فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده، قيل: فلم بعثت بالصداق كاملا؟ قال: فأين الفضل؟.
وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناس لا نسيان إلا على التشبيه. إنتهى.
وقرأ يحيى بن يعمر: ولا تنسوا الفضل، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، تشبيها للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى: * (لو استطعنا) * كما شبهوا: واو: لو، بواو الضمير، فضموها، قرأ * (لو استطعنا) * بضم الواو.
وانتصاب: بينكم، بالفعل المنهي عنه و: بين، مشعر بالتخلل والتعارف، كقوله: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهرا بينهم، قد تواطؤوا عليه وعلموا به، لأن ما تخلل أقواما يكون معروفا عندهم.
* (إن الله بما تعملون بصير) * ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهن الصداق، هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.
ولما كان آخر قوله: * (والذين يتوفون منكم) * الآية قوله: * (فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن) * مما يدرك بلطف وخفاء، ختم ذلك بقوله: * (والله بما تعملون خبير) * وفي ختم هذه الآية بقوله: * (إن الله بما تعملون بصير) * وعد جميل للمحسن وحرمان لغير المحسن.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة والتي قبلها أنواعا من الفصاحة، وضروبا من علم البيان والبلاغة.
الكناية في: أن تمسوهن، والتجنيس المغاير، في: فرضتم لهن فريضة، والطباق في: الموسع والمقتر والتأكيد بالمصدرين في: متاعا وحقا، والاختصاص: في: حقا على المحسنين، ويمكن أن يكون من: التيمم، لما قال: حقا، أفهم الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم المعنى، وبين أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب، فلما قال: على المحسنين تمم التعميم، وبين أنه من باب التفضل والإحسان، لا من باب الإيجاب؛
247

والالتفات: في: وأن تعفوا، ولا تنسوا؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في: الذي بيده عقدة النكاح، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر.
* (حافظوا على الصلوات) * قالوا: هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها، والمطلقات، وهي متقدمة عليهن في النزول، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف، وشبهوها بقوله: * (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) * وبقوله: * (وإذ قتلتم نفسا) * قالوا: فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف، قالوا: وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا، زعموا أن قوله تعالى: * (ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب) * ردا لقوله: * (وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) * قالوا: وأبعد منه: * (سأل سائل بعذاب واقع) * راجع إلى قوله: * (وإذا * قالوا اللهم إن كان هاذا هو الحق من عندك) * الآية قالوا: أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات.
قالوا: ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات، على قوله بعد هذه الآية: * (وقاتلوا في سبيل الله) * وهذه كلها أقوال كما ترى.
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات، وأحكامهم في النكاح والوطء، والإيلاء والطلاق، والرجعة، والإرضاع والنفقة والكسوة، والعدد والخطبة، والمتعة والصداق والتشطر، وغير ذلك، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت، ويبلغ منه الجهد، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلا لمن وفقه الله تعالى، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق، ولذلك جاء: (فدين الله أحق أن يقضى) فكأنه قيل: لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهن عن أداء ما فرض الله عليكم، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة، حتى في حالة الخوف، فلا بد من أدائها رجالا وركبانا، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جدا لا بد معها من الصلاة، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء.
وقيل: مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر، فيكون ذلك عونا لهم على امتثالها، وصونا لهم عن مخالفتها، وقيل: وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله: * (ولا * تنسوا الفضل بينكم) * ناسب يأمر بالمحافظة على حقوق الحق، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة، وقد ذكره، ومنا ما يتعلق بالممات، ذكره بعده، في قوله: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية) * الآية.
والخطاب: * (* يحافظوا) * لجميع المؤمنين، وهل يعم الكافرين؟ فيه خلاف. و: حافظوا، من باب: طارقت النعل، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب، كأنه قيل: احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها، ومعنى المحافظة هنا: دوام ذكرها، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها، أو: إكمال فروضها وسننها، أو جميع ما تقدم. أقوال أربعة.
والألف واللام فيها للعهد، وهي: الصلوات الخمس. قالوا: وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة، فالمراد بها الصلوات الخمس.
* (بصير حافظوا على) * الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم):
* يا أوسط الناس طرا في مفاخرهم
*
وأكرم الناس أما برة وأبا
248

وهو خيار الشيء وأعدله، كما يقال: فلان من واسطة قومه، أي: من أعيانهم، وهل سميت: الوسطى، لكونها بين شيئين من: وسط فلان يسط، إذا كان وسطا بين شيئين؟ أو: من وسط قومه إذا أفضلهم؟ فيه قولان، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل، كالبيت الذي أنشدناه: يا أوسط الناس، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص، وكذلك فعل التعجب، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس؟ ولا: ما أموت زيدا؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطا بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل، لأنه لا تفاضل فيه، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها، تنبيها على فضلها على غيرها من الصلوات، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) * وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله: * (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح) * الآية، وعلى فضل النخل والرمان في قوله: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله: * (وملئكته ورسله وجبريل وميكال) *.
*
وكثر اختلاف العلماء، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم، في المراد بالصلاة الوسطى، ولهذا قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه.
والذي تلخص فيه أقوال:
أحدها: أنها العصر، قاله علي، وابن مسعود، وأبو أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبو هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبو سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن بن المسيب، وابن جبير، وعطاء في رواية، وطاووس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن حميد، وذر بن حبيش، وقتادة، وأبو حنيفة، وأحمد، والشافعي في قول، وعبد الملك بن حبيب، من أصحاب مالك، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى (بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس) واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا). وقال علي: كنا نراها الصبح حتى قال رسل الله صلى الله عليه وسلم) ذلك، فعرفنا أنها العصر.
وروى أبو مالك الأشعري، وسمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر، وفي مصحف عائشة، وإملاء حفصة؛
والصلاة الوسطى وهي العصر، ومن روى: وصلاة العصر، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى.
وقرأ أبي، وابن عباس، وعبيد بن عمير: والصلاة الوسطى، صلاة العصر، على البدل.
الثاني: أنها الفجر، روي ذلك عن عمر، وعلي في رواية، وأبي موسى ومعاذ، وجابر، وأبي أمامة، وابن عمر. في رواية مجاهد، وأنس، وجابر بن زيد، وعطاء وعكرمة، وطاووس في رواية ابنه، ومجاهد، وعبد الله بن شداد، ومالك، والشافعي في قول: وقد قال أبو العالية: صليت مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) الغداة، فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال: صلى بنار رسول الله صلى الله عليه وسلم) صلاة الغداة، فقنت فيها قبل الركوع، ورفع يديه، فلما فرع قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين.
الثالث: أنها الظهر، روي ذلك عن ابن عمر، وزيد، وأسامة، وأبي سعيد، وعائشة. وفي رواية قالوا: وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم) كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك. فانزل الله تعالى: * (حافظوا على) * يريد الظهر، وقد روي أنه لا
249

يكون وراءه إلا الصف والصفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم) فنزلت هذه الآية: * (حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى) *.
الرابع: أنها المغرب، روي ذلك عن ابن عباس، وقبيصة ابن ذؤيب.
الخامس: أنها العشاء الآخرة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقه.
السادس: أنها الصلوات الخمس، قاله معاذ بن جبل.
السابع: أنها احدى الصلوات الخمس، لا بعينها. وبه قال: سعيد بن المسيب، وأبو بكر بالوراق، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء، وساعة الإجابة في يوم الجمعة، وقد رواه نافع عن ابن عمر، وقاله الربيع بن خيثم، وقد روي أنه نزلت: والصلاة الوسطى، صلاة العصر، ثم نسخت فنزلت: * (حافظوا على الصلوات والصلواة الوسطى) * فيلزم من هذا نسخ تعييينها، وأبهمت بعد أن عينت. قال القرطبي المفسر: وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح، فلم يبق إلا المحافظة على جميعها وأدائها.
الثامن: أنها الجمعة، وفي سائر الأيام الظهر. روي ذلك عن علي، ذكره ابن حبيب.
التاسع: أنها العتمة والصبح، قاله عمر وعثمان.
العاشر: أنها الصبح والعصر معا، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية.
ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها: أن الوسطى هي كذا، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة، ورجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا، ولا حجة في شيء من ذلك، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله: * (حافظوا على) * ولأن كونها وسطا بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل، كما بيناه قبل.
وقد صنف شيخنا الإمام المحدث، أوحد زمانه وحافظ أوانه، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتابا في هذا المعنى سماه (كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى) قرأناه عليه، ورجح فيه أنها صلاة العصر، وأن ذلك مروي نصا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، روى ذلك عنه: علي بن أبي طالب، واستفاض ذلك عنه، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وسمرة بن جيدب، وعبد الله بن عمر، وأبو هريرة، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها، وزاد سبعة أقاويل:
أحدها: أنها الجمعة خاصة. الثاني: أنها الجماعة في جميع الصلوات. الثالث: أنها صلاة الخوف. الرابع: أنها الوتر، واختاره أبو الحسن علي بن محمد السخاوي النحوي المقري. الخامس: أنها صلاة عيد الأضحى. السادس: أنها صلاة العيد يوم الفطر. السابع: أنها صلاة الضحى، حكاه بعضهم وتردد فيه.
فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولا، والذي ينبغي أن نعول عليه منها هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو: أنها صلاة العصر، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد، رحمه الله، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر إسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر، حرسها الله، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري، قال: أخبرنا فقيه الحرم: أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي، قال: أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي (ح).
وأخبرنا أستادنا العلامة أبو جعفر، أحمد بن إبراهيم بن الزبير بالثقفي، بقراءتي عليه بغرناطة، من جزيرة الأندلس، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي، قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث (ح).
وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي، وهو آخر من
250

حدث عنه، ولم يحدثنا عنه من شيوخنا غيره، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي، وهو آخر من حدث عنه عن أبي العباس بن دلهاث، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا، أعني عبد الغفار، وابن مندار: أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي، قال: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم
بن محمد ابن سفيان الفقيه، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، قال: وحدثنا عون بن سلام الكوفي، حدثنا محمد بن طلحة اليامي، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس، أو اصفرت، فقال رسو الله صلى الله عليه وسلم): (شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا)، أو: (حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا)..
وقرأ عبد الله،: * (وعلى * الصلواة * الوسطى) * بإعادة الجار على سبيل التوكيد، وقرأت عائشة: والصلاة، بالنصب، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص، ويحتمل أن يراعى موضع: على الصلاة، لأنه نصب كما تقول: مررت بزيد وعمرا، وروي عن قالون أنه قرأ: الوسطى، بالصاد أبدلت السين صادا المجاورة الطاء، وقد تقدم الكلام على هذا في قوله: الصراط.
* (وقوموا لله قانتين) * أي: مطيعين قاله الشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، والحسن. أو: خاشعين، قاله مجاهد، أو: مطيلين القيام، قاله ابن عمر، والربيع. أو: داعين، قاله ابن عباس، أو: ساكتين، قاله السدي، أو: عابدين، أو: مصلين، أو: قارئين، روي هذا عن ابن عمر، أو: ذاكرين الله في القيام، قاله الزمخشري أو: راكدين كافي الأيدي والأبصار، قاله مجاهد، وهو الذي بعبر عنه قبل بالخشوع.
والأظهر بحمله على السكوت، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة، حتى نزلت: * (وقوموا لله قانتين) * فأمروا بالسكوت. والمعنى: وقوموا في الصلاة.
وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره، أو يلتفت، أو يقلب الحصا، أو يحدث نفسه بشيء من أمور الدنيا، وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث، فأجمعوا على أنه: لو تكلم عامدا وهو يعلم أنه في الصلاة، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته، فسدت صلاته إلا ما روي عن الأوزاعي: أن الكلام لإحياء نفس، أو مثل ذلك من الأمور الجسام، لا يفسد الصلاة.
أو: ساهيا، فقال مالك والشافعي: لا تفسد، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه، وقال أبو حنيفة، والثوري: تفسد كالعمد، لإصلاح صلاة كان أو لغيره، وهو قول النخعي، وعطاء، والحسن، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان.
واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة، ونقل الأثرم عنه: إن تكلم لإصلاحها لم تفسد، أو لغيره فسدت، وهذا قول مالك.
وفي قوله: * (وقوموا لله قانتين) * دليل على مطلوبية القيام، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه، كان منفردا أو إماما؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعدا ولا يستطيع القيام، فأجاز ذلك جمهور العلماء: جابر بن زيد، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وأبو أيوب، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو خيثمة، وابن أبي شيبة، ومحمد بن إسماعيل، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل: محمد بن نصر، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة: فيصلي وراءه جالسا على مذهب هؤلاء، وأفتى به من الصحابة: جابر، وأبو هريرة، وأسيد بن حضير، وقيس بن فهر وروي هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم): أنس، وعائشة، وأبو هريرة، وجابر، وابن عمر، وأبو أمامة الباهلي.
وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعدا، وإلى هذا ذهب: الشافعي، وداوود، وزفر، وجماعة بالمدينة، وهي رواية غريبة عنه. والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالسا، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلا، فتصح صلاته وتفسد صلاتهم، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن، قال أبو حاتم محمد بن
251

حبان البستي: وأول من أبطل صلاة المأموم قاعدا إذا صلى إمامه جالسا المغيرة بن مقسم صاحب النخعي، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة، وتبعه عليه من بعده من أصحابه.
* (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * لما ذكر المحافظة على الصلوات، وأمر بالقيام فيها قاتنين، كان مما يعرض للمصلين حالة يخافون فيها، فرخص لهم في الصلاة ماشين على الأقدام، وراكبين.
والخوف يشمل الخوف من: عدو، وسبع، وسيل وغير ذلك، فكل أمر يخاف منه فهو مبيح ما تضمنته الآية هذه.
وقال مالك: يستحب في غير خوف العدو الإعادة في الوقت إن وقع الأمن، وأكثر الفقهاء على تساوي الخوف.
و: رجالا، منصوب على الحال، والعامل محذوف، قالوا تقديره: فصلوا رجالا، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول، أي: فحافظوا عليها رجالا، ورجالا جمع راجل، كقائم وقيام، قال تعالى: * (وأذن فى الناس بالحج يأتوك رجالا) * وقال الشاعر:
* وبنو غدانة شاخص أبصارهم
*
يمشون تحت بطونهن رجالا
*
والمعنى: ماشين على الأقدام، يقال منه: رجل يرجل رجلا، إذا عدم المركوب، ومشى على قدميه، فهو راجل ورجل ورجل، على وزن رجل مقابل امرأة. وهي لغة أهل الحجاز، يقولون: مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا، ويقال رجلان ورجيل ورجل، قال الشاعر:
* علي إذا لاقيت ليلى بخلوة
*
أن ازدار بيت الله رجلان حافيا
*
قالوا: ويجمع على: رجال ورجيل ورجالى ورجالى ورجالة ورجلان ورجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل؛ قرأ عكرمة، وأبو مجلز: فرجالا، بضم الراء وتشديد الجيم، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء، وقرئ: فرجلا، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف؛ وقرئ: فرجلا، بفتح الراء وسكون الجيم.
وقرأ بديل بن ميسرة: فرجالا فركبانا بالفاء، وهو جمع راكب. قال الفضل: لا يقال راكب إلا لصاحب الجمل، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس، ولراكب الحمار حمار، ولراكب البغل بغال، وقيل: الأفصح أن يقال: صاحب بغل، وصاحب حمار.
وظاهر قوله: * (فإن خفتم) * حصول مطلق الخوف، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين.
وقالوا: هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه، وأما صلاة الخوف بالإمام، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية.
وقيل: فرجالا، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف، أو ركبانا أي: وجدانا بالإيماء.
وظاهر قوله: فرجالا، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون، فيصلون على كل حال، والركب يوميء ويسقط عنه التوجه إي القبلة، وهو قول الشافعي؛ وقال أبو حنيفة: لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف.
ولم تتعرض الآية لعدد الركعات في هذا الخوف، والجمهور أنها لا تقصر الصلاة عن عدد صلاة المسافر إن كانوا في سفر تقصر فيه، وقال الحسن، وقتادة، وغيرهما: تصلى ركعة إيماء. وقال الضحاك بن مزاحم: تصلي في المسايفة وغيرها ركعة، فإن لم يقدر فليكبر تكبيرتين. وقال إسحاق: فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه، ولو رأوا سوادا فظنوه عدوا ثم تبين أنه ليس بعدو، فقال أبو حنيف: يعيدون.
وظاهر الآية: أنه متى عرض له الخوف فله أن يصلي على هاتي الحالتين، فلو صلى بركعة آمنا ثم طرأ له الخوف ركب وبنى، أو عكسه: أتم وبنى، عند مالك، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال المزني.
وقال أبو حنيفة: إذا استفتح آمنا ثم خاف، استقبل ولم يبن فإن صلى خائفا ثم أمن بنى؛ وقال أبو يوسف: لا يبنى في شيء من هذا كله.
وتدل هذه الآية على
252

عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها.
* (فإذا أمنتم) * قال مجاهد أي: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة، ورده الطبري، قيل: ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن، فكان السفر مظنة الخوف، كما أن دار الإقامة محل الأمن. وقيل: معنى فإذا أمنتم أي: زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذة الصلاة. وقيل: فإذا كنتم آمنين، أي: متى كنتم على أمن قبل أو بعد..
* (فاذكروا الله) * بالشكر والعبادة * (كما علمكم) * أي: أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمن.
و: ما، مصدرية، و: الكاف، للتشبيه.
أمر أن يذكروا الله تعالى ذكرا يعادل ويوازي نعمة ما علمهم، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك.
ومعنى: كما علمكم، كما أنعم عليكم فعلمكم، فعبر بالمسبب عن السبب، لأن التعليم ناشيء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له.
وقد تكون الكاف للتعلي، أي: فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي: يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم.
* (ما لم تكونوا تعلمون) * ما: مفعول ثان لعلمكم، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد، وفي قوله: * (ما لم تكونوا تعلمون) * إفهام أنكم علمتم شيئا لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه، أي: أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا.
وحكى النقاش وغيره أن معنى: * (فاذكروا الله) * أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها، أي: صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون: ما، في: * (كما علمكم) * موصولة أي: فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين: الصلاة التي كانت أولا قبل الخوف، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن.
قال ابن عطية: وعلى هذا التأويل: * (ما لم تكونوا) * بدل من: ما، التي في قوله: كما، وإلا لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن، وأحسن منه أن يكون بدلا من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما، إذ التقدير علمكموه، أي: علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقد أجاز النحويون: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك، على البدل من الضمير المحذوف.
2 (* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فى ما فعلن فيأنفسهن من معروف والله عزيز حكيم * وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين * كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) *)) 2
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فى ما) *.
* (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لازواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج) * الجمهور على أنها منسوخة بالآية المتقدمة المنصوص فيها على عدة الوفاة أنها أربعة أشهر وعشر، وقال مجاهد: هي محكمة، والعدة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشرا، ثم جعل الله لهن وصية منه: سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت سكنت في وصيتها، وان شاءت خرجت. حكى ذلك عنه الطبري، وهو قوله: * (غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم) *.
وقال ابن عطية: الألفاظ التي حكاها الطبري عن مجاهد لا تدل على أن الآية محكمة، ولا نص مجاهد على ذلك، وقال السدي: كان
253

ذلك، ثم نسخ بنزول الفرائض، فأخذت ربعها أو ثمنها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة، وصارت الوصايا لمن لا يرث.
ونقل القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي، وأبو محمد بن عطية الإجماع على نسخ الحول باللآية التي قبل هذه. وروى بالبخاري عن ابن الزبير، قال: قلت لعثمان: هذه الآية في البقرة * (والذين يتوفون منكم * وخلقناكم أزواجا) * إلى قوله: * (غير إخراج) * قد نسخت الأخرى فلم تكتبها. قال: ندعها يا ابن أخي، لا أغير شيئا من مكانه. إنتهى. ويعني عثمان: من مكانه الذي رتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه، لأن ترتيب الآية من فعله صلى الله عليه وسلم) لا من اجتهاد الصحابة.
واختلفوا هل الوصية كانت واجبة من الله بعد وفاة الزوج؟ فقال ابن عباس، وعطاء، وقتادة، والضحاك، وان زيد: كان لها بعد وفاته السكنى والنفقة حولا في ماله ما لم تخرج برأيها، ثم نسخت النفقة بالربع أو الثمن، وسكنى الحول بالأربعة الأشهر والعشر. أم كانت على سبيل الندب؟ ندبوا بأن يوصوا للزوجات بذلك، فيكون يتوفون على هذا يقاربون. وقاله قتادة أيضا، والسددي، وعليه حمل الفارسي الآية في الحجة له.
وقرأ الحرميان، والكسائي، وأبو بكر: وصية بالرفع، وباقي السبعة، بالنصب وارتفاع: والذين، على الابتداء. ووصية بالرفع على الابتداء وهي نكرة موصوفة في المعنى، التقدير: وصية منهم أو من الله، على اختلاف القولين في الوصية، أهي على الايجاب من الله؟ أو على الندب للأزواج؟ وخبر هذا المبتدأ هو قوله: لأزواجهم، والجملة: من وصية لأزواجهم، في موضع الخبر عن: بالذين، وأجازوا أن يكون: وصية، مبتدأ و: لأزواجهم، صفة. والخبر محذوف تقديره: فعليهم وصية لأزواجهم.
وحكي عن بعض النحاة أن: وصية، مرفوع بفعل محذوف تقديره: كتب عليهم وصية، قيل: وكذلك هي في قراءة عبد الله، وينبغي أن يحمل ذلك على أنه تفسير معنى لا تفسير إعراب، إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.
وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير: ووصية الذين يتوفون، أو: وحكم الذين يتوفون وصية لأزواجهم، فيكون ذلك مبتدأ على بحذف مضاف، وأجاز أيضا أن يكون التقدير: والذين يتوفون أهل وصية، فجعل المحذوف من الخبر، ولا ضرورة تدعو بنا إلى بادعاء بهذا الحذف، وانتصاب وصية على إضمار فعل، التقدير: والذين يتوفون، فيكون: والذين، مبتدأ و: يوصون المحذوف، هو الخبر، وقدره ابن عطية: ليوصوا، وأجاز الزمخشري ارتفاع: والذين، على أنه مفعول لم يسم فاعله على إضمار فعل، وانتصاب وصية على أنه مفعول ثان، التقدير: وألزم الذين يتوفون منكم وصية، وهذا ضعيف، إذ ليس من مواضع إضمار الفعل، ومثله في الضعف من رفع: والذين، على إضمار: وليوص، الذين يتوفون، وبنصب وصية على المصدر، ووفي حرف ابن مسعود: الوصية لأزواجهم، وهو مرفوع بالابتداء و: لأزواجهم الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف أي: عليهم الوصية.
وانتصب متاعا إما على إضمار فعل من لفظه أي: متعوهن متاعا، أو من غير لفظه أي: جعل الله لهن متاعا، أو بقوله: وصية أهو مصدر منون يعمل، كقوله:
* فلولا رجاء النصر منك ورهبة
*
عقابك قد كانوا لنا كالموارد
*
ويكون الأصل: بمتاع، ثم حذف حرف الجر؟ فإن نصبت: وصية فيجوز أن ينتصب متاعا بالفعل الناصب لقوله: وصية، ويكون انتصابه على المصدر، لأن معنى: يوصي به بمتع بكذا، وأجازوا أن يكون متاعا صفة لوصية، وبدلا وحالا من الموصين، أي: ممتعين، أو ذوى متاع، ويجوز أن ينتصب حالا من أزواجهم، أي: ممتعات أو ذوات متاع، ويكون حالا مقدرة إن كانت الوصية من الأزواج.
وقرأ أبي: متاع لأزواجهم متاعا إلى الحول، وروي عنه: فمتاع، ودخول الفاء في خبر: والذين، لأنه موصول ضمن معنى الشرط، فكأنه قيل: ومن يتوف، وينتصب: متاعا إلى الحول، بهذا المصدر، إذ معناه التمتيع، كقولك: أعجبني ضرب لك زيدا ضربا شديدا.
وانتصب: غير إخراج، صفة لمتاعا، أو بدلا من متاع أو حالا من الأزواج أي: غير مخرجات، أو: من الموصين أي: غير مخرجين، أو مصدرا مؤكدا، أي: لا إخراجا، قاله الأخفش.
* (فإن خرجن فلا جناح عليكم * فيما فعلن فى أنفسهن من معروف) * منع من له الولاية عليهن من إخراجهن، فإن خرجن مختارات للخروج ارتفع الحرج عن الناظر في أمرهن، إذ خروجهن مختارات جائز لهن، وموضح انقطاع تعلقهن بحال الميت، فليس له منعهن
254

مما يفعلن في أنفسهن من: تزويج، وترك إحداد، وتزين، وخروج، وتعرض للخطاب، إذا كان ذلك بالمعروف شرعا.
ويتعلق: فيما فعلن، بما يتعلق به، عليكم أي: فلا جناح يستقر عليكم فيما فعلن.
وما، موصولة، والعائد محذوف، أي: فعلنه، و: من معروف، في موضع الحال من الضمير المحذوف في: فعلن، فيتعلق بمحذوف أي فعلنه كائنا من معروف.
وجاء هنا: من معروف، نكرة مجرورة بمن، وفي الآية الناسخة لها على قول الجمهور، جاء: بالمعروف، معرفا مجرورا بالباء.
والألف واللام فيه نظيرتها في قولك: لقيت رجلا، ثم تقول: الرجل من وصفه كذا وكذا، وكذلك: إن الآية السابقة متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل، وهذه بعكسها، ونظير ذلك * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم) * على ظاهر ما نقل مع قوله: * (قد نرى تقلب وجهك في السماء) *.
* (والله عزيز حكيم) * ختم الآية بهاتين الصفتين، فقوله: عزيز، إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور، أو أخرجهن وهن لا يخترن الخروج، ومشعر بالوعيد على ذلك. وقوله: حكيم، إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جار على الحكمة والإتقان، ووضع الأشياء مواضعها.
قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلا ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري. إنتهى كلامه.
وقد تقدم أول الآي ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة، وهو قول ابن عطية في ذلك.
* (وللمطلقات متاع بالمعروف) * ظاهره العموم كما ذهب إليه أبو ثور، وقد تقدم في قوله: * (ومتعوهن) * اختلاف العلماء فيما يخصص به العموم، فأغنى عن إعادته، وتعلق: بالمعروف، بما تعلق به للمطلقات، وقيل بقوله: متاع، وقيل: المراد بالمتاع هنا نفقة العدة.
* (حقا على المتقين) *. قال ابن زيد: نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة، لأنه نزل قبل: * (حقا على المحسنين) * فقال رجل: فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع، فنزلت * (حقا على المتقين) *.
وإعراب: حقا، هنا كإعراب: حقا على المحسنين، وظاهر: المتقين: من يتصف بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك، وخصوا بالذكر تشريفا لهم، أو لأنهم أكثر الناس وقوفا، والله أسرعهم لامتثال أمر الله، وقيل: على المتقين أي: متقي الشرك.
* (كذلك يبين الله لكم آياته) * أي مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد.
* (لعلكم تعقلون) * ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات، فإن العقل يرتبك فيها، ولا يكاد يحصل منها على طائل.
قيل: وفي هذه الآيات من بدائع البديع، وصنوف الفصاحة: النقل من صيغة: افعلوا، إلى: فاعلوا، للمبالغة وذلك في: حافظوا، والاختصاص بالذكر في: والصلاة الوسطى، والطباق المعنوي في: فإن خفتم.
لأن التقدير في: حافظوا، وهو مراعاة أوقاتها وهيآتها إذا كنتم آمنين، والحذف في: فإن خفتم، العدو، أو ما جرى مجراه. وفي: فرجالا، أي: فصلوا رجالا، وفي: وصية لأزواجهم، سواء رفع أم نصب، وفي: غير إخراج، أي: لهن من مكانهن الذي يعتدون فيه، وفي: فإن خرجن من بيوتهن من غير رضا منهن، وفي: فيما فعلن في أنفسهن، أي: من ميلهن إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدة وفي: بالمعروف، أي: عادة أو شرعا وفي: عزيز، أي: انتقامه، وفي: حكيم، في أحكامه. وفي قوله: حقا، أي: حق ذلك حقا، وفي: على المتقين، أي عذاب الله والتشبيه: في: كما عملكم، والتجنيس المماثل: وهو أن يكون بفعلين أو بأسمين، وذلك في: علمكم ما لم تكونوا تعلمون، والتجنيس المغاير: في غير إخراج فان خرجهن، والمجاز في: يتوفون، أي يقاربون الوفاة، والتكرار: في متاعا إلى الحول، ثم قال: وللمطلقات متاع، فيكون للتأكيد إن كان إياه ولاختلاف المعنيين إن كان غيره.
255

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة حكم المتوفى عنها زوجها، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر وأنهن إذا انقضت عدتهن لا حرج على من كان متوليا أمرهن من ولي أوحاكم فيما فعلن من: تعرض لخطبة، وتزين، وترك إحداد، وتزوج وذلك بالمعروف شرعا، وأعلم تعالى أنه خبير بما يصدر منا، وأنه لا جناح على من عرض بالخطبة أو أكن بالخطبة أو أكن التزويج في نفسه، وأفهم ذلك أن التصريح فيه الجناح، ثم، إنه تعالى عذر في التعريض بأن النفوس تتوق إلى التزوج وذكر النساء، ونهى تعالى عن مواعدة السر وهو النكاح، وأباح قولا معروفا من التنبيه به على أن المرأة مرغوب فيها، فإن في ذلك جبرا لها وبعض تأنيس منه لها بذلك. ثم نهى عن بت النكاح قبل انقضاء العدة، وأعلم أن ما في نفس الإنسان يعلمه الله، وأمر بأن يحذر، ولما كان الأمر بالحذر يستدعي مخوفا، أعلم أنه غفور يستر الذنب، حليم يصفح عن المسئ، ليتعادل خوف المؤمن ورجاؤه، ثم ذكر رفع الحرج عن من طلق المرأة قبل المسيس، أو قبل أن يفرض لها الصداق، إذ كان يتوهم أن الطلاق قبل الدخول بها لا يباح، ثم أمر بالتمتيع ليكون ذلك عوضا لغير المدخول بها مما كان فاتها من الزوج، ومن نصف الصداق الذي تشطر بالطلاق، وجبرا لها بذلك ولغير المفروض لها، وأن ذلك التمتيع على حسب وجد الزوج وإقتاره، ولم يعين المقدار، بل قال: إن ذلك بالمعروف، وهو الذي ألف عادة وشرعا، وأن ذلك حق على من كان محسنا. ثم ذكر أنه إذا اطلق قبل المسيس وبعد الفرض فإنه يتشطر المسمى، فيجب لها نصف الصداق إلا إن عفت المرأة فلم تأخذ منه شيئا، أو عفا الزوج فأدى إليها الصداق كاملا إذا كان الطلاق إنما كان من جهته، ثم ذكر أن العفو من أي جهة كان منهما أقرب لتحصيل التقوى للعافي، إذ هو: إما بين تارك حقه، أو باذل فوق الحق. ثم نهى عن نسيان الفضل، ففي هذا النهي الأمر بالفضل.
ثم ختم ذلك بأنه بصير بجميع أعمالهم، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ولما ذكر تعالى أحكام النكاح، وكادت تستغرف المكلف، نبه تعالى على أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى المكلف، وأمر بالمحافظة عليها وهي: الصلوات، وخص الوسطى منها بالذكر تنبيها على فضلها، ومن تسميتها بالوسطى تبين تمييزها على غيرها، وهي بلا شك صلاة العصر، ثم أمر بالقيام لله متلبسين بطاعته، ثم للمبالغة في توكيد إيجاب الصلوات لم يسامح بتركها حالة الخوف، بل أمر أن تؤدى في تلك الحال، سواء كان الخائف ماشيا أو راكبا، وإن كان في ذلك بعض اختلال لشروطها؛ ثم أمر أن تؤدي على حالها الأول من إتمام شروطها، وهيآتها إذا أمن الخائف، وأن يؤديها على الحالة التي علمه الله في أدائها قبل الخوف.
وذكر أن اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن لهن وصية بتمتيع إلى انقضاء حول من وفاة الأزواج، وأنهن لا يخرجن من بيوتهن في ذلك الحول، فإن اخترن الخروج فخرجن، فلا جناح على متولي أمرها فيما فعلت في نفسها، ثم أعلم أنه عزيز لا يغلب و يقهر، حكيم بوضع الأشياء مواضعها.
ثم ذكر تعالى أن للمطلقات متاعا مما عرف شرعا وعادة، واقتضى ذلك عموم كل مطلقة، وأن ذلك المتاع حق على من اتقى.
ولما كان تعالى قد بين عدة أحكام فيما تقدم من الآيات، أحال على ذلك التبيين، وشبه التبيين الذي قد يأتي لسائر الآيات بالتبيين الذي سبق. وان التبيين هو لرجائكم أن تتعقلوا عن الله أحكامه فتجنبوا ما نهى تعالى عنه، وتمتثلوا ما به أمر تعالى.
2 (* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولاكن أكثر الناس لا يشكرون * وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم * من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون * ألم تر إلى الملإ من بنىإسرءيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله قال
256

هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنآ ألا نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين * وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتى ملكه من يشآء والله واسع عليم) *))
) *
الألف: عدد معروف وجمعه في القلة آلاف وفي الكثرة ألوف، ويقال: آلفت الدراهم وآلفت هي، وقيل: ألوف جمع آلف كشاهد وشهود.
القرض: القطع بالسن ومنه سمى المقراض لأنه يقطع به، ويقال: انقرض القوم أي ماتوا، وانقطع خبرهم، ومنه: أقرضت فلانا أي قطعت له؛ قطعة من المال، وقال الأخفش: تقول العرب: لك عندي قرض صدق وقرض سوء، لأمر تأتي مسرته ومساءته؛ وقال الزجاج: القرض: البلاء الحسن والبلاء السيء؛ وقال الليث: القرض: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، يقال: أقرض فلان فلانا، أعطاه ما يتجازاه منه. والاسم منه: القرض، وهو ما أعطيته لتكافىء عليه؛ وقال ابن كيسان: القرض: أن تعطي شيئا ليرجع إليك مثله، ويقال: تقارضا الثناء أثنى كل واحد منهما على صاحبه، ويقال قارضه الود والثناء؛ وحكى بالكسائي: القرض بالكسر، والأشهر بفتح القاف.
الضعف: مثل قدرين متساويين، ويقال مثل الشيء في المقدار، وضعف الشيء مثله ثلاث مرات إلا أنه إذا قيل ضعفان فقد يطلق على الاثنين المثلين في القدر من حيث إن كل واحد يضعف الآخر، كما يقال: الزوجان لكل واحد منهما زوجا للآخر، وفرق بعضهم بين: يضاعف ويضعف، فقال: التضعيف: لما جعل مثلين، والمضاعفة لما زيد عليه أكثر من ذلك.
القبض: ضم الشيء والجمع عليه والبسط ضده، ومنه قول أبي تمام:
* تعود بسط الكف حتى لو أنه
*
دعاها لقبض لم تجبه أنامله
*
الملأ: الأشراف من الناس، وهو اسم جمع، ويجمع على أملاء، قال الشاعر:
* وقال لها الأملاء من كل معشر
*
وخير أقاويل الرجال سديدها
وسموا بذلك لأنهم يملؤون العيون هيبة، أو المكان إذا حضروه، أو لأنهم مليئون بما يحتاج إليه. وقال الفراء: الملأ
257

الرجال في كل القرآن لا تكون فيهم امرأة، وكذلك: القوم، والنفر، والرهط؛ وقال الزجاج: الملأ: هم الوجوه وذوو الرأي.
طالوت: اسمه بالسريانية، سايل، وبالعبرانية ساول بن قيس، من أولاد بنيامين بن يعقوب، وسمي طالوت. قالوا: لطوله، وكان أطول من كل أحد برأسه ومنكبيه، فعلى بهذا يكون وزنه: فعلوتا، كرحموت وملكوت، فتكون ألفه منقلبة عن واو، إلا أنه يعكر على هذا الاشتقاق منعه الصرف، إلا أن يقال: إن هذا التركيب مفقود في اللسان العربي، ولم يوجد إلا في اللسان العجمي. وقد اتفقت اللغتان في مادة الكلمة، كما زعموا في: يعقوب، أنه مشتق من العقب، لكن هذا التركيب بهذا المعنى
مفقود في اللسان العربي.
الجسم: معروف، وجمع في الكثرة على: جسوم إذا كان عظيم الجسم.
* (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئا من الأحكام التكليفية، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع، فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم، ثم أحياهم في الدنيا، فكما كان قادرا على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة، فيجازي كلا منهم بما عمل. ففي هذه القصة تنبيه على المعاد، وأنه كائن لا محالة، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده: بأن يحافظ على عبادة ربه، وأن يوفي في حقوق عباده.
وقيل: لما بين تعالى حكم النكاح، بين حكم القتال، لأن النكاح تحصين للدين، والقتال تحصين للدين والمال والروح، وقيل: مناسبة هذه الآية لما قبلها: هو أنه لما ذكر: * (كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون) * ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته، وبدائع قدرته.
وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام تقريرا، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه الصفة قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية، ومعناه التنبيه والتعجب من حال هؤلاء، والرؤية هنا علمية، وضمنت معنى ما يتعدى بإلى، فلذلك لم يتعد إلى مفعولين، وكأنه قيل: ألم ينته علمك إلى كذا.
وقال الراغب: رأيت، يتعدى بنفسه دون الجار، لكن لما استعير قولهم: ألم تر المعنى: ألم تنظر، عدي تعديته، وقلما يستعمل ذلك في غير التقرير، ما يقال: رأيت إلى كذا. إنتهى.
و: ألم تر، جرى مجرى التعجب في لسانهم، كما جاء في الحديث: (ألم تر إلى مجزز) وذلك في رؤيته أرجل زيد وابنه أسامة، وكان أسود، فقال هذه الأقدام بعضها من بعض، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم) على بعض نسائه، فقال على سبيل التعجب: (ألم تر إلى مجزز الحديث.
وقد جاء هذا اللفظ في القرآن: * (ألم تر إلى الذين نافقوا) * * (ألم تر إلى الذين تولوا قوما * كتب الله عليهم) * * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * وقال الشاعر:
* ألم ترياني كلما جئت طارقا
*
وجدت بها طيبا وإن لم تطيب
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، ويجوز أن يكون لكل سامع.
*
وقرأ السلمي: تر، بسكون الراء، قالوا: على توهم أن الراء آخر الكلمة، قال الراجز:
* قالت سليمى اشتر لنا سويقا
*
واشتر فعجل خادما لبيقا
*
ويجوز أن يكون من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقد جاء في القرآن: كإثبات ألف: * (الظنونا) * * (* والسبيلا) * * (* والرسولا) * في الوصل.
وهؤلاء الذين خرجوا قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد، فخافوا القتل، فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك، فأماتهم الله ليعرفهم أنه لا ينجيهم من الموت شيء، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد بقوله: * (تفلحون وقاتلوا في سبيل الله) * الآية.
وقيل: قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا فرارا منه، فأماتهم الله فبنى عليهم سائر بني إسرائيل حائطا حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فدعا الله فأحياهم له. حكى هذا قوم من اليهود لعمر بن الخطاب.
وقال السدي: هم أمة كانت قبل واسط في قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون، فهربوا منه، فأماتهم الله،
258

ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أن لا مفر من قضاء الله. وقيل: مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم، وتفرقت أوصالهم، فلوى شدقه وأصابعه تعجبا مما رأى أي. فأوحى إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن الله. فنادى، فنظر إليهم قياما يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله لا أنت. وممن قال فروا من الطاعون: الحسن، وعمار بن دينار.
وقيل: فروا من الحمى، حكاه النقاش.
وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص، والله أعلم بصحة ذلك، ولا تعارض بين هذه القصص، إلا أن عين أن * (الذين خرجوا من ديارهم) * هم من ذكر في القصة لا غير، وإلا فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال، إذ لا يمتنع أن يفر ناس من الجهاد، وناس من الطاعون، وناس من الحمى، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك، ويعتبر من يأتي بعدهم، وليعلموا جميعا أن الإماتة والإحياء بيد الله، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدر، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء
الله.
* (وهم) * في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية. وهي جملة حالية، وألوف جمع ألف جمع كثرة، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف، فقيل: ستمائة ألف. وقال عطاء: تسعون، وقيل: ثمانون، وقال عطاء أيضا سبعون وقال ابن عباس: أربعون. وقال أيضا: بضع وثلاثون. وقال أبو مالك: ثلاثون، يعنون ألفا.
وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل، فقال أبو روق: عشرة آلاف، وقال الكلبي ومقاتل: ثمانية، وقال أبو صالح: سبعة، وقال ابن عباس، وابن جبير: أربعة وقال عطاء الخراساني: ثلاثة آلاف.
وقال البغوي: ألاولى قول من قال: إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف، لأن ألوفا جمع الكثير، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف. انتهى. وهذا ليس كما ذكر، فقد يستعار أحد الجمعين للآخر، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه.
وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها، ولفظ القرآن: * (ديارهم وهم ألوف) * لم ينص على عدد معين، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف، بل يكون ذلك المراد منه التكثير، كأنه قيل: خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون، لا يكادون يحصيهم عاد، فعبر عن هذا المعنى بقوله: وهم ألوف، كما يصح أن تقول: جئتك ألف مرة، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مرارا كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ونظير ذلك قول الشاعر:
* هو المنزل الآلاف من جو ناعط
*
بني أسد حزنا من الأرض أوعرا
ولعل من كان معه لم يكن ألوفا، فضلا عن أن يكونوا آلافا، ولكنه أراد بذلك التكثير، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه، والجمهور على أن قوله: وهم ألوف، جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات، وقال ابن زيد: ألوف جمع آلف. كقاعد وقعود. أي: خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم، بل ائتلفوا، فخالفت هذه الفرقة، فخرجت فرارا من الموت وابتغاء الحياة، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. وقال الزمخشري: وهذا من بدع التفاسير، وهو كما قال.
*
وقال القاضي: كونه جمع ألف من العدد أولى، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير.
* (حذر الموت) * هذا علة لخروجهم، لما غلب على ظنهم الموت بالطاعون أو بالجهاد، حملهم على الخروج ذلك، وهو مفعول من أجله، وشروط
259

المفعول له موجودة فيه من كونه مصدرا متحد الفاعل والزمان.
* (فقال لهم الله موتوا) * ظاهره أن ثم قولا لله، فقيل: قال لهم ذلك على لسان الرسول الذي أذن له في أن يقول لهم ذلك عن الله، وقيل: على لسان الملك. وحكي: أن ملكين صاحا بهم: موتوا، فماتوا. وقيل: سمعت الملائكة ذلك فتوفتهم، وقيل: لا قول هناك، وهو كناية عن قابليتهم الموت في ساعة واحدة وموتهم كموتة رجل واحد، والمعنى: فأماتهم، لكن أخرج ذلك مخرج الشخص المأمور بشيء، المسرع الامتثال من غير توقف، ولا امتناع، كقوله تعالى: * (كن فيكون) *.
وفي الكلام حذف، التقدير: فماتوا، وظاهر هذا الموت مفارقة الأرواح الأجساد، فقيل: ماتوا ثمانية أيام ثم أحياهم بعد، بدعاء حزقيل؛ وقيل: سبعة أيام، وقد تقدم في بعض القصص أنه عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم، وهذا لا يكون في العادة في ثمانية أيام، وهذا الموت ليس بموت الآجال، بل جعله الله في هؤلاء كمرض وحادث مما يحدث على البشر، كحال * (الذى مرج * على قرية) * المذكورة بعد هذا.
* (ثم أحياهم) * العطف بثم يدل على تراخي الأحياء عن الإماتة، قال قتادة: أحياهم ليستوفوا آجالهم.
وظاهره أن الله هو الذي أحياهم بغير واسطة، وقال مقاتل: كانوا قوم حزقيل، فخرج فوجدهم موتى، فأوحى الله إليه: إني جعلت حياتهم إليك، فقال لهم: أحيوا. وقال ابن عباس: النبي شمعون، وريح الموتى توجد في أولادهم. وقيل: النبي يوشع بن نون، وقال وهب: اسمه شمويل وهو ذو الكفل، وقال مجاهد: لما أحيوا رجعوا إلى قومهم يعرقون، لكن سحنة الموت على وجوههم ولا يلبس أحد منهم ثوبا إلا عاد كفنا دسما، حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم، وقيل: معنى إماتتهم تذليلهم تذليلا يجري مجرى الموت، فلم تغن، عنهم كثرتهم وتظاهرهم من الله شيئا، ثم أعانهم وخلصهم ليعرفوا قدرة الله في أنه يذل من يشاء، ويعز من يشاء، وقيل: عنى بالموت: الجهل، وبالحياة: العلم، كما يحيا الجسد بالروح.
وأتت هذه القصة بين يدي الأمر بالقتال تشجيعا للمؤمنين، وحثا على الجهاد والتعريض للشهادة، وإعلاما أن لا مفر مما قضى الله تعالى: * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) * واحتجاجا على اليهود، والنصارى بإنبائه صلى الله عليه وسلم) بما لا يدفعون صحته، مع كونه أميا لم يقرأ كتابا، ولم يدارس أحدا، وعلى مشركي العرب إذ من قرأ الكتب يصدقه في إخباره بما جاء به مما هو في كتبهم.
* (إن الله لذو فضل على الناس) * أكد هذه الجملة: بأن، واللام، وأتى الخبر: لذو، الدالة على الشرف، بخلاف صاحب، و: الناس، هنا عام، لأن كل أحد لله
عليه فضل أي فضل، وخصوصا هنا، حيث نبههم على ما به يستبصرون ويعتبرون على النشأة الآخرة، وأنها ممكنة عقلا، كائنة بإخباره تعالى: إذ أعاد إلى الأجسام البالية المشاهدة بالعين الأرواح المفارقة، وأبقاها فيها الأزمان الطويلة إلى أن قبضها ثانية، وأي فضل أجل من هذا الفضل، إذ تتضمن جميع كليات العقائد المنجية وجزئياتها: ويجوز أن يراد: بالناس، ههنا الخصوص، وهم هؤلاء الذين تفضل عليهم بالنعم، وأمرهم بالجهاد ففروا منه خوفا من الموت، فأماتهم، ثم تفضل عليهم بالإحياء وطول لهم في الحياة ليستيقنوا أن لا مفر من القدر، ويستدركوا ما فاتهم من الطاعات، وقص الله علينا ذلك تنبيها على أن لا نسلك مسلكهم بل نمتثل ما يأمر به تعالى.
* (ولاكن أكثر الناس لا يشكرون) * تقدم فضل الله على جميع الناس بالإيجاد والرزق، وغير ذلك، فكان المناسب لهم أنهم يشكرون الله على ذلك، وهذا الاستدراك: بلكن، مما تضمنه قوله: * (إن الله لذو فضل على الناس) * والتقدير: فيجب عليهم أن يشكروا الله على فضله، فاستدرك بأن أكثرهم لا يشكرون، ودل على أن الشاكر قليل، كقوله: * (وقليل من عبادى الشكور) * ويخص: الناس، الثاني بالمكلفين.
* (وقاتلوا في سبيل الله) * هذا خطاب لهذه الأمة بالجهاد في سبيل الله، وتقدمت تلك القصة، كما قلنا، تنبيها لهذه الأمة أن لا تفر من الموت كفرار أولئك، وتشجيعا لها، وتثبيتا. وروي عن ابن عباس، والضحاك: أنه أمر لمن أحياهم الله بعد موتهم بالجهاد، أي: وقال لهم قاتلوا في سبيل الله. وقال الطبري: لا وجه لهذا القول. انتهى.
والذي يظهر القول الأول، وأن هذه الآية ملتحمة بقوله: * (حافظوا على الصلوات) * وبقوله
260

* (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * لأن في هذا إشعارا بلقاء العدو، ثم ما جاء بين هاتين الآيتين جاء كالاعتراض، فقوله: * (وللمطلقات متاع بالمعروف * في الدنيا والاخرة وما لهم من ناصرين * ألم تر إلى الذين) * اعتبار بمن مضى ممن فر من الموت، فمات، أن لا ننكص ولا نحجم عن القتال، وبيان المقاتل فيه، وأنه سبيل الله فيه حث عظيم على القتال، إذ كان الإنسان يقاتل للحمية، ولنيل عرض من الدنيا، والقتال في سبيل الله مورث للعز الأبدي والفوز السرمدي.
* (واعلموا أن الله سميع عليم) * يسمع ما يقوله المتخلفون عن القتال والمتبادرون إليه، ويعلم ما انطوت عليه النيات، فيجازي على ذلك.
* (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) * هذا على سبيل التأسيس والتقريب للناس بما يفهمونه والله هو الغني الحميد، شبه تعالى عطاء المؤمن في الدنيا بما يرجو ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في الجنة بالبيع والشراء.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما أمر بالقتال في سبيل الله، وكان ذلك مما يفضي إلى بذل النفوس والأموال في إعزاز دين الله، أثنى على من بذل شيئا من ماله في طاعة الله، وكان هذا أقل حرجا على المؤمنين، إذ ليس فيه إلا بذل المال دون النفس، فأتى بهذه الجملة الإستفهامية المتضمنة معنى الطلب.
قال ابن المغربي: انقسم الخلق حين سمعوا هذه الآية إلى فرق ثلاثة.
الأولى: اليهود، قالوا: إن رب محمد يحتاج إلينا ونحن أغنياء، وهذه جهالة عظيمة، ورد عليهم بقوله: * (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) *.
والثانية: آثرت الشح والبخل، وقدمت الرغبة في المال.
الثالثة: بادرت إلى الامتثال، كفعل أبي الدحداح وغيره. انتهى.
و: من، استفهامية في موضع رفع على الابتداء، وخبره: ذا، و: الذي، نعت: لذا، أو: بدل منه، ومنع أبو البقاء أن تكون: من، وذا، بمنزلة اسم واحد، كما كانت: ما، مع: ذا، قال: لأن: ما، أشد إبهاما من: من، إذا كانت: من، لمن يعقل. وأصحابنا يجيزون تركيب: من، مع: ذا، في الاستفهام وتصيرهما كاسم واحد، كما يجيزون ذلك في: ما، و: ذا، فيجيزون في: من ذا عندك، أن يكون: من وذا، بمنزلة اسم الاستفهام.
وانتصب لفظ الجلالة: بيقرض، وهو على حذف مضاف أي: عباد الله المحاويج، أسند الاستقراض إلى الله وهو المنزه عن الحاجات، ترغيبا في الصدقة، كما أضاف الإحسان إلى المريض والجائع والعطشان إلى نفسه تعالى في قوله، جل وعلا: (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني واستطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني). الحديث خرجه مسلم، والبخاري.
وانتصب: قرضا، على المصدر الجاري على غير الصدر، فكأنه قيل: إقراضا، أو على أنه مفعول به، فيكون بمعنى: مقروض، أي: قطعة من المال، كالخلق بمعنى المخلوق.
وانتصب: حسنا، على أن يكون صفة لقوله: قرضا، وهو الظاهر، أو على أن يكون نعتا لمصدر محذوف إذا أعربنا قرضا مفعولا به، أي: إقراضا حسنا، ووصفه بالحسن لكونه طيب النية خالصا لله، قاله ابن المبارك. أو: لكونه يحتسب عند الله ثوابه، أو: لكونه جيدا كثيرا، أو: لكونه بلا من ولا أذى، قاله عمرو بن عثمان، أو: لكونه لا يطلب به عوضا، قاله سهيل بن عبد الله القشيري التستري.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر: فيضعفه، بالتشديد من ضعف، والباقون: فيضاعفه، من ضاعف، وقد تقدم أنهما بمعنى. وقيل: معناهما مختلف، وقد ذكرنا ذلك عند الكلام على المفردات.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، بنصب الفاء، والباقون بالرفع على العطف على صلة الذي، وهو قوله: يقرض، أو على الاستئناف، أي: فهو يضاعفه، والأول أحسن،
لأنه لا حذف فيه، والنصب على أن يكون جوابا للاستفهام على المعنى، لأن الاستفهام، وإن كان عن المقرض، فهو عن الإقراض في المعنى فكأنه قيل: أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ وقال أبو علي: الرفع أحسن، وذهب بعض النحويين إلى أنه: إذا كان الاستفهام عن المسند إليه الحكم، لا عن الحكم، فلا يجوز النصب بإضمار أن بعد الفاء في الجواب، فهو محجوج بهذه القراءة المتواترة، وقد جاء في الحديث: (من يدعوني فأستجيب له، من يستغفرني فأغفر له). وكذلك سائر أدوات الاستفهام الإسمية والحرفية.
وانتصب: أضعافا، على الحال من الهاء في: يضاعفه، قيل: ويجوز أن ينتصب على أنه مفعول به، تضمن معنى فيضاعفه: فيصيره. ويجوز أن ينتصب على المصدر باعتبار أن يطلق الضعف، وهو المضاعف أو المضعف، بمعنى المضاعفة أو التضعيف، كما أطلق العطاء وهو اسم
261

المعطى بمعنى الإعطاء، وجمع لاختلاف جهات التضعيف باعتبار الإخلاص، وهذه المضاعفة غير محدودة لكنها كثيرة.
قال الحسن، والسدي: لا يعلم كنه التضعيف إلا الله تعالى: وهو قول ابن عباس، وقد رويت مقادير من التضعيف، وجاء في القرآن: * (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * ثم قال: * (والله يضاعف لمن يشاء) *.
قيل والآية عامة في سائر وجوه البر من: صدقة، وجهاد، وغير ذلك، وقيل: خاصة بالنفقة في الجهاد، وقيل: بالصدقة وإنفاق المال على الفقراء المحتاجين.
* (والله يقبض ويبسط) * أي: يسلب قوما ويعطي قوما، أو: يقتر ويوسع، قاله الحسن، أو: يقبض الصدقات ويخلف البذل مبسوطا، أو: يقبض أي: يميت لأن من أماته فقد قبضه، ويبسط أي: يحييه، لأن من مد له في عمره فقد بسطه، أو: يقبض بعض القلوب فلا تنبسط، ويبسط بعضها فيقدم خيرا لنفسه، أو: يقبض بتعجيل الأجل، ويبسط بطول الأمل، أو: يقبض بالخطر ويبسط بالإباحة، أو: يقبض الصدر ويوسعه، أو يقبض يد من يشاء بالإنفاق في سبيله، يبسط يد من يشاء بالإنفاق؛ قاله أبو سليمان الدمشقي وغيره، أو: يقبض الصدقة ويبسط الثواب، قاله الزجاج. وهشام، وقنبل، والنقاش، عن الأخفش هنا، وأبو قرة عن نافع: يبسط بالسين، وخير الحلواني، عن قالون، عن نافع، والباقون: بالصاد.
* (وإليه ترجعون) * خبر معناه الوعيد أي: فيجازيكم بأعمالكم.
قيل: وتضمنت هذه الآية الكريمة من ضروب علم البيان، وصنوف البلاغة: الاستفهام الذي أجرى مجرى التعجب في قوله: * (ألم تر إلى الذين) * والحذف بين: موتوا ثم أحياهم، أي: فماتوا ثم أحياهم، وفي قوله تعالى: فقال لهم الله، أي: ملك الله بإذنه، وفي لا يشكرون أي: لا يشكرونه، وفي قوله: سميع لأقوالكم عليم باعمالكم، وفي قوله: ترجعون، فيجازي كلا بما عمل. والطباق في قوله: موتوا ثم أحياهم، وفي: يقبض ويبسط؛ والتكرار في: على الناس، ولكن أكثر الناس؛ والالتفات في: وقاتلوا في سبيل الله؛ والتشبيه بغير أداته في: قرضا حسنا، شبه قبوله تعالى إنفاق العبد في سبيله ومجازاته عليه بالقرض الحقيقي، فأطلق اسم القرض عليه، والاختصاص بوصفه بقوله: حسنا؛ والتجنيس المغاير في قوله: فيضاعفه له أضعافا. * (ألم تر إلى الملإ من بنى إسرءيل من بعد موسى إذ قالوا لنبى لهم ابعث لنا ملكا نقاتل فى) * مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل الله، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، إما بالقتال أو بالطاعون، على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين، والإعلام بأنه: لا ينجي حذر من قدر، أردف ذلك بأن القتال كان مطلوبا مشروعا في الأمم السابقة، فليس من الأحكام التي خصصتم بها، لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الانفراد، وتقدم الكلام على قوله: ألم تر، فأغنى عن إعادته، والملأ هنا، قال ابن عطية: جميع القوم، قال: لأن المعنى يقتضيه، وهذا هو أصل وضع اللفظة. وتسمي الأشراف الملأ تشبيها. إنتهى. يعني: والله أعلم تشبيها بجميع القوم. وقد تقدم تفسير الملأ في الكلام على المفرات.
* (من بنى إسراءيل) * في موضع الحال، فيتعلق بمحذوف أي: كائنين من بني إسرائيل وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ، لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز عندهم أن يكون موصولا، كما زعموا ذلك في قوله:
لعمري لأنت البيت أكرم أهله
فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب، كذلك: من بني إسرائيل، العامل فيه لا موضع له من الإعراب.
* (من بعد موسى) * متعلق بما تعلق به: * (من بنى إسراءيل) * هو كائنين، وتعدى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى
262

فمن الأولى تبعيضية و: من، الثانية لابتداء الغاية، إذ العامل في هذا الظرف، قالوا: تر، وقالوا: هو بدل من: بعد، لأنهما زمانان لبني إسرائيل، ولا كلاهما لا يصح.
أما الأول: فإن ألم تر تقرير، والمعنى: قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا، وليس انتهاء عليه إليهم، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم: * (ابعث لنا ملكا) * وإذا لم يكن ظرفا للإنتهاء، ولا للنظر، فكيف يكون معمولا لهما، أو لأحدهما؟ هذا ما لا يصح.
وأما الثاني: فبعيد جدا، لأنه لو كان بدلا من: بعد، لكان على تقدير العامل، وهو لا يصح دخوله عليه، أعنى: من، الداخلة على: بعد، لا تدخل على: إذ، لا تقول: من إذ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها: من، كوقت وحين، لم يصح المعنى أيضا، لأن: من، بعد: موسى، حال، كما قررناه. إذا العامل فيه: كائنين، ولو قلت: كائنين من حين قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا، لما صح هذا المعنى، وإذا بطل هذان الوجهان، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى، وقد وجدناه، وهو: أن يكون ثم محذوف به يصح المعنى، وهو العامل، وذلك المحذوف تقديره: ألم تر إلى قصة الملأ، أو: حديث الملأ، وما في معناه. لأن الذوات لا يتعجب
منها، وانما يتعجب مما جرى لهم، فصار المعنى: ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى، إذ قالوا؟ فالعامل في: إذ، هو ذلك المحذوف، والمعنى على تقديره، وتعلق قوله: لنبي، بقالوا، واللام فيه كما تقدم للتبليغ، واسم هذا النبي: شمويل بن بالي، قاله ابن عباس ووهب بن منبه، أو: شمعون، قاله السدي، أو يوشع بن نون، وقال المحاسبي اسمه عيسى، وضعف قول من قال: إنه يوشع بأن يوشع هو فتى موسى عليه السلام، وبينه وبين داود قرون كثيرة، وقد طول المفسرون في هذه ونحن نلخصها فنقول:
لما مات موسى عليه السلام، خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوراة، ثم قبض فخلف حزقيل، ثم قبض ففشت فهم الأحداث، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم إلياس، ثم من بعده اليسع، ثم قبض، فعظمت فيهم الأحداث، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت، كانوا سكان ساحل بحر الروم، بين مصر وفلسطين، وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيرا، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم، وسألوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه، وكان سبط النبوة هلكوا إلا امرأة حبلى دعت الله أن يرزقها غلاما، فرزقها شمويل، فتعلم التوراة في بيت المقدس، وكفله شيخ من علمائهم؛ وتبناه فلما بلغ النبوة، أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ، وكان لا يأمن عليه، فدعاه بلحن الشيخ: يا شمويل، فقام فزعا، وقال: يا أبت دعوتني، فكره أن يقول له: لا، فيفزع، فقال: يا بني نم، فجرى بذلك له مرتين، فقال له: إن دعوتك الثالثة فلا تجبني، فظهر له جبريل، فقال له إذهب فبلغ قومك رسالة ربك، قد بعثك نبيا فأتاهم فكذبوه، وقالوا إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك، وكان الملك يسير بالجموع، والنبي يسدده ويرشده وقال وهب: بعث شمويل نبيا فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال، وكان الله أسقط عنهم الجهاد إلا من قاتلهم، فلما كتب عليهم القتال تولوا، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان.
ومعنى: ابعث لنا ملكا: انهض لنا من نصدر عنه في تدبير بالحرب، وننتهي إبلي أمره، وانجزم: نقاتل، على جواب الأمر.
وقرأ الجمهور بالنونن والجزم، والضحاك، وابن أبي عبلة بالياء ورفع اللام على الصفة للملك؛ وقرئ بالنون ورفع اللام على بالحال من المجرور وقرئ بالياء والجزم على جواب الأمر.
* (قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال * أن لا * تقاتلوا) * لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكا، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا وكانوا قد ذلوا، وسبي ملوكهم، فأخذتهم الأنفة، ورغبوا في الجهاد، أراد أن يسثبت ما طلبوه من الجهاد، وأن يتعرف ما انطوت عليه
263

بواطنهم، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم، فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال، فقالوا: * (وما لنا * أن لا * نقاتل فى سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) * أي هذه حال من يبادر إلى القتال، لأنه طالب ثأر، ومترج أن يكون له الظفر من الله تعالى، لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم، فلم أقلعوا وتابوا، ورجعوا لطوع الأنبياء، قويت آمالهم بالنصر والظفر، قيل: وكان النبي قد ظن منهم الجبن والفشل في القتال، فلذلك استفهم، وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم، وكان كما توقع.
وقرأ نافع: عسيتم، بكسر السين هنا وفي سورة القتال، وقرأ الباقون بفتحها.
وقد تقدم الكلام على: عسى، قال أبو علي: الأكثر فتح السين، وهو المشهور، ووجه الكسر قول العرب: هو عس بذلك، مثل: حروشج، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم، أن يقال: عسي زيد، مثل: رضي، فإن قيل: فهو القياس وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى، كما فعل ذلك بغيره. إنتهى. والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلا مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث، نحو: عسيت، وعسين، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب، ولا يسوغ الكسر نحو: عسى زيد والزيدان عسيا، والزيدون عسوا، والهندان عسيا، وعساك، وعاساني، وعساه. وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره: إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة، وإذا قيل: عسى زيد فليس إلا الفتح، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه. وقال أبو عبيد: لو كان عسيتم بكسر السين لقرىء: عسي ربكم وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة، ودخول: هل، على: عسيتم، دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج، فهي نظيرة لعل، ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول، لا يجوز أمن تقول: جاءني الذي عسى أن يحسن إلي وقد خالف في هذه المسألة هشام فأجاز وصل الموصول بها، ووقوعها خبرا لأن، دليل على أنها فعل خبري، وهو جائز. قال الراجز:
لا تلحني إني عسيت صائما
إلا إن قيل: إن ذلك على إضمار القول، كما قيل في قوله:
* إن الذين قتلتم أمس سيدهم
*
لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
لأن: إن وأخواتها لا يجوز أن تقع خبرا لها من الجمل، إلا الجمل الخبرية، وهي التي تحتمل الصدق والكذب، هذا على الصحيح، وفي ذلك خلاف ضعيف.
*
وجواب الشرط الذي هو: إن كتب عليكم القتال، محذوف للدلالة عليه، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه، كما توسط في قوله: * (وإنا إن شاء الله لمهتدون
) * وخبر عسيتم: أن لا تقاتلوا، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر، فيكون: أن، زيدت في الخبر، إذ: عسى للتراخي، ومن ذهب إلى أن: عسى، يتعدى إلى مفعول، جعل: أن لا تقاتلوا، هو المفعول، و: أن، مصدرية، والواو في: ومالنا، لربط هذا الكلام بما قبله، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعا عنه، وهو استفهام في اللفظ، وانكار في المعنى، و: أن لا نقاتل، أي: في ترك القتال، حذف الجر المتعلق بما تعلق به: لنا، الواقع خبرا لما الاستفهامية إذ هي مبتدأ، و: أن لا نقاتل، في موضع نصب، أو: في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل و: ذهب أو الحسن إلى أن: أن، زائدة، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر، والجملة
264

حال، أي: ومالنا غير مقاتلين، فيكون مثل قوله تعالى: * (مالك * لا تأمنا على يوسف) * * (ما لكم لا ترجون لله وقارا) * * (وما لكم لا تؤمنون بالله) * وكقول العرب: مالك قائما؟ وقال تعالى: * (فما لهم عن التذكرة معرضين وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من: أن لا نقاتل، والتقدير: وما لنا ولأن لا نقاتل؟ قال: كما تقول: إياك أن تتكلم، بمعنى إياك وأن تتكلم، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل، ولا نذهب إليهما إلا لضرورة، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف، وأما: إياك أن تتكلم، فليس على حذف حرف العطف، بل: إياك، مضمن معنى إحذر. فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل: احذر التكلم، وقد أخرجنا جملة حالية: أنكروا ترك القتال، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم، والقائل هذا لم يخرج، لكنه أخرج مثله، فكان ذلك إخراجا له، ويمكن حمله على الظاهر، لأن كثيرا منهم استولي على بلادهم، وأسر أبناؤهم، فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها، كما مر في قصتهم.
وقرأ عبيد بن عمير: وقد أخرجنا، أي العدو، والمعنى. في: وأبنائنا، أي: من بين أبنائنا، وقيل: هو على القلب أي: وأخرج منا أبناؤنا، ويحتمل أن يكون الفاعل: بأخرجنا، على قراءة عبيد المذكور ضميرا يعود على الله، أي: وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا، ويجمع بيننا وبين أبنائنا، كما تقول: ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على مصعيته؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني، قال القشيري: أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذبا عن أموالهم ومنازلهم حيث * (قالوا ما لنا ان لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) * فلذلك لم يتم قصدهم، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم، ولو أنهم قالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله، لأنه قد أمرنا، وأوجب علينا، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا.
* (فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم) * هذا شأن المترف المنعم، متى كان متلبسا بالنعمة قوي عزمه وأنف، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب.
وذل التولي: حقيقة هو عند المباشرة للحرب، ومعناه هنا: صرف عزائمهم عن ما سألوه من القتال، وانتصب: قليلا، على الاستثناء المتصل، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما، لو قلت: ضربت القوم إلا رجالا، لم يصح، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف، ولتقييده بقوله: منهم، ولم يبين هنا عدة هذا القليل، وبينته السنة، صح أن النبي صلى الله عليه وسلم) لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال: (ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة قوم طالوت)، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم.
وقرأ أبي: تولوا إلا أن يكون قليل منهم، وهو استثناء منقطع، لأن الكون معنى من المعاني، والمستثنى منهم جثث. وتقول العرب: قام القوم إلا أن يكون زيد، وزيدا، بالرفع والنصب، فالرفع على أن يكون تامة، والنصب على أنها ناقصة، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله، التقدير: إلا أن يكون هو، أي: بعضهم زيدا، والمعنى قام القوم إلا كون زيد في القائمين، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائما، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلا زيدا، وبين قام القوم إلا أن يكون زيد أو زيدا.
* (والله عليم بالظالمين) * فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته، وأن الإعراض عما أوجب الله على العبد ظلم، إذا الظلم وضع الشيء في غير موضعه.
* (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * قول النبي لهم: إن الله قد بعث، لا يكون إلا بوحي، لأنهم سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتل في سبيل الله، فأخبر ذلك النبي أن الله قد بعثه، فيحتمل أن يكون ذلك بسؤال من النبي الله أن يبعثه ويحتمل أن يكون ذلك بغير سؤاله، بل لما علم حاجتهم إليه بعثه.
وقال المفسرون: إنه سأل الله أن يبعث لهم ملكا، فأتى بعصا وقرن فيه دهن القدس وقيل: الذي يكون ملكا طوله طول هذه العصا، وقيل: للنبي. أنظر القرن فإذا دخل رجل فنش الدهن الذي هو فيه فهو ملك بني إسرائيل، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان: طالوت سقاء على ماء، قاله السدي، أو: دباغا على
265

ما قاله وهب، أو مكاريا، وضاع حمار له، أو حمر لأهله، فاجتمع بالنبي ليسأله عن ما ضاع له ويدعو الله له، فبينا هو عنده نش ذلك القرن، وقاسه النبي بالعصا، فكان طولها، فقال له: قرب رأسك فقربه ودهنه بدهن القدس، وقال: أمرني الله أن أملكك على بني إسرائيل. فقال طالوت: أنا؟ قال: نعم. قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ قال: بلى، قال: أفما علمت أن بيتي أدنى بيوت بني إسرائيل؟ قال: بلى. قال: فبآية انك ترجع وقد وجد أبوك حمره. وكان كذلك.
وانتصب: ملكا على الحال: والظاهر أنه ملكه الله عليهم، وقال مجاهد: معناه أميرا على الجيش.
* (قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال) * هذا كلام من تعنت وحاد عن أمر الله، وهي عادة بني إسرائيل، فكان ينبغي لهم إذ قال لهم النبي عن الله * (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * أن يسلموا الأمر لله، ولا تنكره قلوبهم، ولا يتعجبوا من ذلك، ففي المقادير أسرار لا تدرك، فقالوا: كيف يملك علينا من هو دوننا. ليس من بيت الملك الذي هو سبط يهودا. ومنه داود وسليمان؟ وليس من بيت النبوة الذي هو سبط لاوي ومنه موسى وهارون؟ قال ابن
السائب: وكان سبط طالوت قد عملوا ذنبا عظيما، نكحوا النساء نهارا على ظهر الطريق، فغضب الله عليهم، فنزع النبوة والملك منهم، وكانوا يسمون سبط الإثم.
وفي قولهم: * (أنى يكون له الملك علينا) * إلى آخره ما يدل على أنه مركوز في الطباع أن لا يقدم المفضول على الفاضل، واستحقار من كان غير موسع عليه، فاستبعدوا أن يتملك عليهم من هم أحق بالملك منه، وهو فقير والملك يحتاج إلى أصالة فيه، إذ يكون أعظم في النفوس، وإلى غنى يستعبد به الرجال، ويعينه على مقاصد الملك، لم يعتبروا السبب الأقوى، وهو: قضاء الله وقدره: * (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء) * واعتبروا السبب الأضعف، وهو: النسب والغنى * (رحيم يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *) وقال الله تعالى * (ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) * قال الشاعر:
* وأعجب شيء إلى عاقل
*
فتو عن المجد مستأخره
*
* إذا سئلوا ما لهم من علا؟
*
أشاروا إلى أعظم ناخره
*
و: أنى، هنا بمعنى: كيف؟ وهو منصوب على الحال، و: يكون، الظاهر أنها ناقصة، و: له، في موضع الخبر، فيتعلق بمحذوف وهو العامل في: أنى، و: علينا، متعلق: بالملك، على معنى الاستعلاء، تقول: فلان ملك على بني فلان، وقيل: علينا، حال من: الملك.
ويجوز أن تكون تامة و: له، متعلق، بيكون، أي: كيف يقع؟ أو: يحدث له الملك علينا ونحن أحق؟ جملة حالية اسمية عطف عليها جملة فعلية، وهي * (لم يؤت * سعة من المال) * والمعطوف على الحال حال، والمعنى: أن من اجتمع فيه هذان الوصفان، وجود من هو أحق منه، وفقره، لا يصلح للملك. ويعلق: بالملك، و: منه، بأحق، وتعلق: من المال، بيؤت، وفتحت سين السعة لفتحها في المضارع، إذ هو محمول عليه، وقياسها الكسر، لأنه كان أصله، يوسع، كوثق يثق، وإنما فتح عين طالمضارع لكون لامه حرف حلق، فهذه فتحة أصلها الكسر، ولذلك حذفت الواو، لوقوعها في يسع بين ياء وكسرة، لكن فتح لما ذكرناه، ولو كان أصلها الفتح لم يجز حذف الواو، ألا ترى ثبوتها في يوجل؟ لأنها لم تقع بين كسرة وياء، فالمصدر والأمر في الحذف محمولان على المضارع، كما حملوا: عدة وعد على يعد.
* (قال إن الله اصطفاه عليكم) * أي: اختاره صفوة، إذ هو أعلم تعالى بالمصالح، فلا تعترضوا على الله.
* (وزاده بسطة في العلم والجسم) * قيل: في العلم بالحروب، والظاهر علم الديانات والشرائع، وقيل: قد أوحي إليه ونبيء، وأما البسطة في الجسم فقيل: أريد بذلك معاني: الخير، والشجاعة، وقهر الأعداء، والظاهر أنه: الامتداد، والسعة في الجسم.
قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم رجل في بني إسرائيل، وأجمله وأتمه،
266

وقد تقدم قول المفسرين في طوله، ونبه على استحقاق طالوت للملك باصطفاء الله له على بني إسرائيل * (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) * وبما أعطاه من السعة في العلم، وهو الوصف الذي لا شيء أشرف منه: * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) * أنا أعلمكم بالله ومن بسطة الجسم، فإن لذلك عظما في النفوس وهيبة وقوة، وكثيرا ما تمدحت العرب بذلك قال الشاعر:
* فجاءت به سبط العظام كأنما
*
عمامته بين الرجال لواء
*
وقال:
* بطل كأن ثيابه في سرحة
*
يحذى نعال السبت ليس بتوأم
*
وقال:
* تبين لي أن القماءة ذلة
*
وان أعزاء الرجال طيالها
*
وقالوا في المدح: طويل النجاد رفيع العماد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذا ماشى الطوال طالهم. قال ابن زيد: كانت هذه الزيادة بعد الملك، وقال وهب، والسدي، قبل الملك، فالمعنى: وزاده على غيره من الناس بسطة، بالسين، أبو عمرو، وابن كثير، و: بالصاد نافع، وابن كثير، رواية النقاش، وزرعان، والشموني. وزاد: لئن بصطت، وبباصط، وكباصط، ومبصوطتان، ولا تبصطها كل البصط، وأوصط، وفما اصطاعوا: ويصطون، والقصطاس، وروى نحوه: أبو نشيط عن قالون.
* (والله يؤتى ملكه من يشاء والله واسع عليم) * ظاهره أنه من معمول قول النبي لهم، لما علم بغيتهم في مسائلهم ومجادلتهم في الحجج التي تبديها، أتم كلامه بالأمر القطعي، وهو أن الله هو الفاعل المختار، يفعل ما يشاء. ولما قالوا: * (ونحن أحق بالملك منه) * فكان في قولهم ادعاء الأحقية في الملك، حتى كأن الملك هو في ملكهم، أضاف الملك إلى الله في قوله: ملكا، فالملك ملكه يتصرف فيه كما أراد، فلستم بأحق فيه، لأنه ملك الله يؤتيه من يشاء، وقيل: هاتان الجملتان ليستا داخلتين في قول النبي، بل هي إخبار من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم)، فهي معترضة في هذه القصة، جاءت للتشديد والتقوية لمن يؤتيه الله الملك، أي: فإذا كان الله تعالى هو المتصرف في ملكه فلا اعتراض عليه * (لا يسأل عما يفعل) * وختم بهاتين الصفتين، إذ تقدم دعواهم أنهم أهل الملك، وأنهم الأغنياء، وأن طالوت ليس من بيت الملك، وأنه فقير فقال تعالى: إنه واسع، يوسع فضله على الفقير، عليم بمن هو أحق بالملك، فيضعه فيه ويختاره له.
وفي قصة طالوت دلالة على أن الإمامة ليست وراثة، لإنكار الله عليهم ما أنكروه من التمليك عليهم من ليس من أهل النبوة والملك، وبين أن ذلك مستحق بالعلم والقوة لا بالنسب، ودل أيضا على أنه لاحظ للنسب مع العلم، وفضائل النفس، وأنها مقدمة عليه لاختيار الله طالوت عليهم، لعلمه وقدرته، وإن كانوا أشرف منه نسبا.
وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة الإخبار بقصة الخارجين من ديارهم، وهم عالم لا يحصون، فرارا من الموت، إما بالقتل إذ فرض عليهم القتال، وإما بالوباء، فأماتهم الله ثم أحياهم ليعلموا أنه لا مفر مما قدره الله تعالى، وذلك لئلا نسلك ما سلكوه، فنحجم عن القتال، فأتت هذه الآية مثبتة لمن جاهد في سبيله، وذكر تعالى أنه ذو فضل على الناس، وذلك بإحيائهم والإحسان إليهم، ومع ذلك فأكثرهم لا يؤدي شكر الله. ثم أمر بالقتال في سبيل الله، وبأن نعلم أنه سميع لأقوالنا، عليم بنياتنا، ثم ذكر أن من أقرض الله فالله يضاعفه حيث يحتاج إليه، ثم ذكر أن
267

بيده القبض والبسط، وأن مرجع الكل إليه، ثم أخبر تعالى بقصة الملأ من بني إسرائيل، وذلك لنعتبر بها ونقتدي منها بما كان من أحوالهم حسنا، ونجتنب ما كان قبيحا. وهذه الحكمة في قصص الأولين علينا لنعتبر بها، وأنهم حين استولى عليهم العدو، فملك بلادهم وأسر أبناءهم، ولم يكن لهم ملك يسوسهم في أمر الحرب، إذ هي محتاجة إلى من يصدر عن أمره ويجتمع عليه، فسألوا نبيهم أن ينهض. لهم ملكا برسم الجهاد في سبيل الله، فتوقع النبي منهم أنه لو فرض عليهم القتال نكصوا عنه، فأجابوه: بأنا قد وترنا، وأخرجنا من ديارنا، وأبنائنا، وهذا أصعب شيء على النفوس، وهو أن يخرج من مسكن ألفه، ويفرق بينه وبين أبنائه، ولهذا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اللهم حبب لنا المدينة كحبنا مكة أو أكثر). وكثيرا ما بكى الشعراء المساكن والمعاهد، ألا ترى إلى قول بلال:
* ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
*
بواد وحولي إذ حر وجليل
وكان قتيبة بن سعيد المحدث قد رزق من النصيب في الدنيا والجلالة، وحمل الناس العلم عنه، وكان ببغداد، فعبر مرة على مكان مولده ومنشئه صغيرا ببغلان، قيل: وهي ضيعة من أصغر الضياع، فتمنى أن لو كان مقيما بها، ويترك رئاسة بغداد، دار الخلافة، وذلك نزوع إلى الوطن، وذكر تعالى أنه لما فرض القتال عليهم: أعرضوا عن قبوله إلا قليلا فإنه أخذ أمر الله بالقبول، ثم عرض تعالى بالظالمين، وهم: الذين لم يقبلوا أمر الله بعد أن كانوا طلبوه، فهو يجازيهم على ظلمهم، ثم أخبر تعالى عن نبيهم أنه قال لهم عن الله إنه قد بعث طالوت ملكا عليهم، ولم يكن عندهم من أنفسهم ولا أشرفهم منصبا، إذ ليس من سبط النبوة، ولا من سبط الملك، فلم يأخذوا ما أخبرهم عن الله بالقبول، وشرعوا يتعنتون على عادتهم مع أنبيائهم، فاستبعدوا تمليكه عليهم، لأن فيهم من هو أحق بالملك منه على زعمهم، إذ لم يسبق له أن يكون من آبائه ملك فيعظم عند العامة، ولأنه فقير، وهاتان الخلتان هما يضعفان الملك، إذ سابق الرئاسة والجاه والملاءة بالأموال مما يستتبع الرجال، ويستعبد الأحرار، وما علموا أن عناية المقادير تجعل المفضول فاضلا. فأخبرهم نبيهم، أن الله تعالى قد اختاره عليكم، وشرفه بخصلتين: هما في ذاته: إحداهما: الخلق العظيم، والأخرى: المعرفة التي هي الفضل الجسيم، واستغنى بهذين الوصفين الذاتيين عن الوصفين الخارجين عن الذات، وهما الفخر: بالعظم الرميم، والاستكثار بالمال الذي مرتعه وخيم. ثم أخبر أن الله تعالى يعطى ملكه من أراد، وأنه الواسع الفضل، العالم بمصالح العباد، فلا اعتراض عليه.
(* (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون تحمله الملئكة إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين * فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه منىإلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين
ءامنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين * ولما برزوا لجالوت وجنوده
268

قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داوود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشآء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولاكن الله ذو فضل على العالمين * تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *))
) *
التابوت: معروف وهو الصندوق، وفي التابوت قولان.
أحدهما: أن وزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ولغة فيه التابوه، بالهاء آخرا، ويجوز أن تكون الهاء بدلا من التاء كما أبدلوها منها في الوقت، في مثل: طلحة فقالوا: طلحه، ولا يجوز أن يكون: فعلوتا كملكوت، من: تاب يتوب، لفقدان معنى الاشتقاق فيه.
والقول الآخر: أنه فعلوت من التوب، وهو الرجوع لأنه ظرف، وضع فيه الأشياء وتودعه فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه، وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته قاله الزمخشري. قال: ولا يكون فاعولا لقلة نحو سلس، وقلق، ولأنه تركيب غير معروف فلا يجوز ترك المعروف إليه، وأما بالهاء ففاعول إلا فيمن جعل هتاءه من التاء لاجتماعهما في الهمس، وأنهما من حروف الزيادة، ولذلك أبدلت من تاء التأنيث.
السكينة: فعيله من السكون، وهو الوقار تقول: في فلان سكينة أي: وقار وثبات.
هارون: أسم أعجمي يمنع الصرف للعلمية والعجمة.
الجنود: جمع جند، وهو معروف، واشتقاقه من الجند وهو: الغليظ من الأرض إذ بعضهم يعتصم ببعض.
الغرفة: بضم الغين اسم للقدر المغترف من الماء، كالأكلة للقدر الذي يؤكل، وبفتح الغين مصدر للمرة الواحدة نحو: ضربت ضربة والاغتراف والغرف معروف، والغرفة البناء العالي المشرف.
جاوز: وجاز المكان قطعه.
جالوت: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعجمة والعلمية، كان ملك العمالقة، ويقال إن البربر من نسله.
الفئة: القطعة من الناس، وقيل: هو مأخوذ من فاء يفيء إذا رجع، فيكون المحذوف عين الكلمة، أو من فأوت رأسه: كسرته: فيكون المحذوف لام الكلمة قولا.
غلب: غلبا وغلبة: قهر، والأغلب القوي الغليظ، والأنثى غلبى.
برز: يبرز بروزا، ظهر، وامرأة برزة أخذ منها السن، فلم تستر وجهها، ومن ذلك البراز والمتبرز.
أفرغ: صب وفرغ من كذا، خلا منه.
ثبت: استقر ورسخ، وثبته أقره ومكنه بحيث لا يتزحزح.
القدم: يالرجل وهي مؤنثة تقول في تصغيرها: قديمة، والاشتقاق في هذه الكلمة يرجع لمعنى التقدم.
هزم: كسر الشيء ورد بعضه على بعض، وتقول العرب: هزمت على زيد: عطفت عليه. قال الشاعر:
* هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك
*
فجودي علينا بالنوال وأنعمي
269

داود: اسم أعجمي منع الصرف للعملية والعجمة، وهو هنا: أبو سليمان، على نبينا وعليهما السلام، وهو داود بن إيسا، بكسر الهمزة، ويقال داود بن إسحاق ابن إبراهيم، على نبينا وعليهم السلام.
*
الدفع: الصرف: دفع يدفع دفعا، ودافع مدافعة ودفاعا.
* (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه أن يأتيكم التابوت) * ظاهر هذه الآية وما قبلها يدل على أنهم كانوا مقرين بنبوة هذا النبي الذي كان معهم، ألا ترى إلى قولهم: * (ابعث لنا ملكا نقاتل فى سبيل الله) *.
ولكن لما أخبرهم الله: * (بأن الله * قد بعث * لهم * طالوت ملكا) * أراد أن يعلمهم بآية تدل على ملكه على سبيل التغبيط والتنبيه على هذه النعمة التي قرنها الله بملك طالوت وجعلها آية له. وقال الطبري، وحكى معناه عن ابن عباس والسدي، وابن زيد: تعنت بنو إسرائيل، وقالوا لنبيهم: وما آية ملك طالوت؟ وذلك على وجه سؤال الدلالة على صدق نبيهم في قوله: * (إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا) * وهذا القول أشبه من الأول بأخلاق بني إسرائيل، وتكذيبهم وتعنتهم لأنبيائهم، وقيل: خيرهم النبي في آية، فاختاروا التابوت، ولا يكون إتيان التابوت آية إلا إذا كان يقع على وجه يكون خارقا للعادة، فيكون ذلك آية على صدق الدعوى، فيحتمل أن يكون مجيئه هو المعجزة، ويحتمل أن يكون ما فيه هو المعجز، وهو سبب لاستقرار قلوبهم، واطمئنان نفوسه؛ ونسبة الاتيان إلى التابوت مجاز لأن التابوت لا يأتي، إنما
يؤتى به، كقوله: * (فإذا عزم الامر) * * (فما ربحت تجارتهم) *.
وقرأ الجمهور: بالتابوت بالتاء؛ وقرأ أبي وزيد: بالهاء، وهي لغة الأنصار، وقد تقدم الكلام في هذه الهاء أهي بدل من التاء؟ أم أصل؟ قال ابن عباس، وابن السائب: كان التابوت من عود الشمشار، وهو خشب تعمل منه الأمشاط، وعليه صفائح الذهب، وقيل: كانت الصفائح مموهة بالذهب، وكان طوله ثلاثة أذرع في ذراعين، وقد كثر القصص في هذا التابوت والاختلاف في أمره، والذي يظهر أنه تابوت معروف حاله عند بني إسرائيل، كانوا قد فقدوه وهو مشتمل على ما ذكره الله تعالى مما أبهم حله، ولم ينص على تعيين ما فيه، وأن الملائكة تحمله، ونحن نلم بشيء مما قاله المفسرون والمؤرخون على سبيل الإيجاز، فذكروا: أن الله تعالى أنزل تابوتا على آدم فيه صور الأنبياء، وبيوت بعددهم، وآخره بيت محمد صلى الله عليه وسلم)، فتناقله بعد، أولاده شيث فمن بعده إلى إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم عند ابنه قيدار، فنازعه إياه بنو عمه أولد إسحاق، وقالوا له: وقد صرفت النبوة عنكم إلا هذا النور الواحد، فامتنع عليهم، وجاء يوما يفتحه فتعسر، فناداه مناد من السماء لا يفتحه إلا نبي، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب، فحمله على ظهره إلى كنعان، فدفعه ليعقوب، فكان في بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام، فوضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، ثم توارثها أنبياء بني إبسرائيل إلى أن وصل إلى شمويل، فكان فيه ما ذكره الله في كتابه.
وقيل: اتخذ موسى التابوت ليبجمع فيه رضاض الألواح.
والسكينة: هي الطمأنينة ولما كانت حاصلة بإتيان التابوت، جعل التابوت ظرفا لها، وهذا من المجاز الحسن، وهو تشبيه المعاني بالأجرام، وجاء في حديث عمران بن حصين أنه كان يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوطة، فغشيته سحابة، فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم)، فذكر ذلك له فقال: (تلك السكينة تنزلت للقرآن).
وفي حديث أسيد بن حضير، بينما هو ليلة يقرأ في مربده الحديث، وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (تلك الملائكة كانت تسمع لذلك، ولو قرأت لأصبحت تراها الناس ما تستتر منهم). فأخبر صلى الله عليه وسلم) عن نزول السكينة مرة، ومرة عن نزول الملائكة، ودل حديث أسيد على أن نزول السكينة في حديث عمران هو على حذف مضاف، أي: تلك أصحاب السكينة، وهم الملائكة المخبر
270

عنهم في حديث أسيد، وجعلوا ذوي السكينة لأن إيمانهم في غاية الطمأنينة، وطواعيتهم دائمة لا يعصون الله ما أمرهم، وقد جاء في (الصحيح): (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة. وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده).
فنزول السكينة عليهم كناية عن التباسهم بطمأنينة الإيمان، واستقرار ذلك في قلوبهم، لأن من تلا كتاب الله وتدارسه يحصل له بالتدبر في معانيه. والتفكر في أساليبه، ما يطمئن إليه قلبه، وتستقر له نفسه، وكأنه كان قبل التلاوة له والدراسة خاليا من ذلك، فحين تلا نزل ذلك عليه.
وقد قال بهذا المعنى بعض المفسرين، قال قتادة السكينة هنا الوقار. وقال عطاء: ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، وقال نحوه الزجاج.
وقال الزمخشري: التابوت صندوق التوراة، كان موسى عليه السلام إذا قاتل قدمه فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، والسكينة: السكون والطمأنينة، وذكر عن علي أن السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة، وقيل: السكينة صورة من زبرجد أو ياقوت، لها رأس كرأس الهر، وذنب كذنبه، وجناحان، فتئن فيزف التابوت نحو العدو، وهم يمضون معه، فإذا استقر ثبتت وسكنوا، ونزل النصر. وقيل: بالسكينة بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء، فإن الله ينصر طالوت وجنوده، ويقال: جعل تعالى سكينة بني إسرائيل في التابوت الذي فيه رضاض الألواح، والعصا، وآثار أصحاب نبوتهم، وجعل تعالى سكينة هذه الآمة في قلوبهم، وفرق بين مقر تداولته الأيدي، قد فر مرة، وغلب عليه مرة، وبين مقربين إصبعين من أصابع الرحمن.
وقرأ أبو السماك: سكينة، بتشديد الكاف وارتفاع سكينة، بقوله: فيه، وهو في موضع الحال، أي: كائنا فيه سكينة. و: من، لابتداء الغاية، أي: كائنة من ربكم، فهو في موضع الصفة، أو متعلقا بما تعلق به قوله: فيه، ويحتمل أن يكون للتبعيض على تقدير حذف مضاف، أي: من سكينات ربكم.
والبقية؛ قيل: رضاض الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قاله عكرمة. وقيل: عصا موسى قاله وهب وقيل: عصا موسى وهارون وثيابهما ولوحان من التوراة المن، قاله أبو صالح. وقيل: العلم والتوراة قاله مجاهد، وعطاء وقيل: رضاض الألواح وطست من ذهب وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل وقيل: ققيز من من ورضاض الألواح حكاه سفيان الثوري وقيل: العصا والنعلان، حكاه الثوري أيضا، وقيل: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك. وقيل: التوراة ورضاض الألواح قاله السدي. وقيل: لوحان من التوراة، وثياب موسى وهارون وعصواهما، وكلمة الله: لا إله إلا الله الحكيم الكريم، وسبحان الله رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، وقيل: عصا موسى وأمور من التوراة، قاله الربيع. ويحتمل أن يكون مجموع ما ذكر في التابوت، فأخبر كل قائل عن بعض ما فيه، وانحصر بهذه الأقوال ما في التابوت من البقية.
* (مما ترك) * في موضع الصفة لبقية، و: من، للتبعيض.
و: * (وقال لهم نبيهم إن) * هم من الأنبياء، إليهما من قرابة أو شريعة، والذي يظهر أن آل موسى وآل هارون هم الأنبياء الذين أتوا بعدهما، فإنهم كانوا يتوارثون ذلك إلى أن فقد. ونذكر كيفية فقده إن شاء الله.
وقال الزمخشضري: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، والآل مقحم لتفخيم شأنهما. إنتهى. وقال غيره: آل هنا زائدة، والتقدير: مما ترك موسى وهارون، ومنه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى آل أبي أوفى، يريد نفسه، ولقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود، أي: من مزامير داود ومنه قول جميل:
271

* بثينة من آل النساء وإنما
*
يكن لأدنى، لا وصال لغائب
*
أي: من النساء. إنتهى. ودعوى الإقحام والزيادة في الأسماء لا يذهب إليه نحوي محقق، وقول الزمخشري: والآل مقحم لتفخيم شأنهما ان عنى بالإقحام ما يدل عليه أول كلامه في قوله: ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون، فلا أدري كيف يفيد زيادة آل تفخيم شأن موسى وهارون؟ وإن عنى بالآل الشخص، فإنه يطلق على شخص الرجل آله، فكأنه قيل: مما ترك موسى وهارون أنفسهما، فنسب تلك الأشياء العظيمة التي تضمنها التابوت إلى أنها من بقايا موسى وهارون شخصيهما، أي أنفسهما لا من بقايا غيرهما، فجرى آل هنا مجرى التوكيد الذي يراد به: أن المتروك من ذلك الخير هو منسوب لذات موسى وهارون، فيكون في التنصيص عليهما ذاتهما تفخيم لشأنهما، وكان ذلك مقحما لأنه لو قيل: مما ترك موسى وهارون لاكتفى، وكان ظاهر ذلك أنهما أنفسهما، تركا ذلك وورث عنهما.
* (تحمله الملائكة) * وقرأ مجاهد: يحمله، بالياء من أسفل، والضمير يعود على التابوت، وهذه الجملة حال من التابوت، أي حاملا له الملائكة، ويحتمل الاستئناف، كأنه قيل: ومن يأتي به وقد فقد؟ فقال: * (تحمله الملائكة) * استعظاما لشأن هذه الآية العظيمة، وهو أن الذي يباشر إتيانه إليكم الملائكة الذين يكونون معدين للأمور العظام، ولهم القوة والتمكينه والاطلاع بأقدار الله لهم على ذلك، ألا ترى إلى تلقيهم الكتب الإلهية وتنزيلهم بها على من أوحي إليهم، وقلبهم مدائن العصاة، وقبض الأرواح، وإرجاء السحاب، وحمل العرش، وغير ذلك من الأمور الخارقة، والمعنى: تحمله الملائكة إليكم.
قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض، وهم ينظرون إليه حتى وضعته عند طالوت.
قال وهب: قالوا لنبيهم: انعت وقتا تأتينا به فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم حتى سمعوا حفيف الملائكة بين السماء والأرض.
وقال قتادة: كان التابوت في التيه خلفه موسى عند يوشع، فبقي هناك ولم يعلم به بنو إسرائيل، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت، فأقروا بملكه. قال ابن زيد: غير راضين، وقيل: سبى التابوت أهل الأردن، قرية من قرى بفلسطين، وجعلوه في بيت صنم لهم تحت الصنم، فأصبح الصنم تحت التابوت، فسمروا قدمي الصنم على التابوت، فأصبح وقد قطعت يداه ورجلاه ملقى تحت التابوت، وأصنامهم منكسة، فوضعوه في ناحية من مدينتهم فأخذ أهلها وجع في أعناقهم وهلك أكثرهم، فدفنوه بالصحراء في متبرز لهم، فكان من تبرزب هناك أخذه الناسور والقولنج، فتحيروا، وقالت امرأة من أولا الأنبياء من بني إسرائيل: ما تزالوا ترون ما تكرهون ما دام هذا التابوت فيكم فأخرجوه عنكم فحملوا التابوت على عجلة، وعلقوا بها ثورين أو بقرتين، وضربوا جنوبهما، فوكل الله أربعة من الملائكة يسوقونهما، فما مر التابوت بشيء من الأرض إلا كان مقدسا إلى أرض بني إسرائيل، وضع التابوت في أرض فيها حصاد بني إسرائيل، ورجعا إلى أرضهما، فلم يرع بني إسرائيل إلا التابوت، فكبوا وحمدوا الله على تمليك طالوت، فذلك قوله: * (تحمله الملائكة) *.
وقال ابن عباس: إن التابوت والعصا في بحيرة طبرية يخرجان قبل يوم القيامة، وقيل يوم القيامة، وقيل: عند نزول عيسى على نبينا وعليه السلام.
* (إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) * قيل: الإشارة إلى التابوت، والأحسن أن يعود على الإتيان أي: إتيان التابوت على الوصف المذكور ليناسب أول الآية آخرها، لأن أولها * (وقال لهم نبيهم إن ءاية ملكه) * والمعنى لآية لكم على ملكه واختياره لكم، وقيل: علامة لكم على نصركم على عدوكم، لأنهم كانوا يستنصرون بالتابوت أينما توجهوا، فينصرون.
و: إن، قيل على حالها من وضعها للشرط. أي: ذلك آية لكم على تقدير إيمانكم لأنهم قيل: صاروا كفرة بإنكارهم على نبيهم. وقيل: إن كان من شأنكم وهممكم الإيمان بما تقوم به الحجة عليكم، وقيل: إن كنتم مصدقين بأن الله قد جعل لكم طالوت ملكا. وقيل: مصدقين بأن وعد الله حق. وقيل: إن، بمعنى: إذ، ولم يسألوا تكذيبا لنبيهم، وإنما سألوا تعرفا لوجه الحكمة، والسؤال عن الكيفية لا يكون انكارا كليا.
* (فلما فصل طالوت بالجنود) * بين هذه الجملة والجملة قبلها محذوف تقديره: فجاءهم التابوت، وأقروا له بالملك، وتأهبوا للخروج، فلما فصل طالوت، أي: انفصل من مكان اقامته، يقال: فصل عن الموضع
272

انفصل، وجاوزه. قيل: وأصله فصل نفسه، ثم كثر، فحذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي: كانفصل، والباء في، بالجنود، للحال، أي: والجنود مصاحبوه، وكان عددهم سبعين ألفا، قاله ابن عباس. أو ثمانين ألفا قاله عكرمة. أو مائة ألف، قاله مقاتل. أو ثلاثين ألفا.
قال عكرمة: لما رأى بنو إسرائيل التابوت سارعوا إلى طاعته والخروج معه، فقال لهم طالوت: لا يخرج معي من بنى بناء لم يفرغ منه، ولا من تزوج امرأة لم يدخل بها، ولا صاحب زرع لم يحصده، ولا صاحب تجارة لم يرحل بها، ولا من له أو عليه دين، ولا كبير، ولا عليل. فخرج معه من تقدم الاختلاف في عددهم على شرطه، فسار بهم، فشكوا قلة الماء وخوف العطش، وكان الوقت قيظا، وسلكوا مفازة، فسألوا الله أن يجري لهم نهرا.
* (قال إن الله مبتليكم بنهر) * قال وهب: هو الذي اقترحوه. وقال ابن عباس، وقتادة: هو نهر بين الأردن وفلسطين. وقيل: نهر فلسطين، قاله السدي، وابن عباس، أيضا.
وقرأ الجمهور: بنهر، بفتح الهاء. وقرأ مجاهد، وحميد الأعرج، وأبو السماك، وغيرهم: باسكان الهاء في جميع القرآن.
وظاهر قول طالوت: ان الله يوحي، إمالة على قول من قال: إنه نبي، أو يوحي إلى نبيهم، وإخبار النبي طالوت بذلك قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون هذا مما ألهم الله طالوت إليه، فجرت به جنده، وجعل الإلهام ابتلاء من الله لهم، ومعنى هذا الابتلاء اختبارهم، فمن ظهرت طاعته في ترك الماء علم أنه يطيع، فيما عدا ذلك، ومن غلبته شهوته في الماء، وعصى الأمر فهو بالعصيان في الشدائد أحرى. انتهى كلامه. وبعد أن يخبر طالوت عن ما خطر بباله بأنه قول الله، على طريق الجزم عن الله.
* (فمن شرب منه فليس مني) * أي: ليس من أتباعي في هذه الحرب، ولا أشياعي، ولم يخرجهم بذلك عن الإيمان نحو: (من غشنا فليس منا)، (ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود)، أو: ليس بمتصل بي ومتحد معي، من قولهم: فلان مني كأني بعضه، لاختلاطهما واتحادهما قال النابغة:
* إذا حاولت في أسد فجورا
*
فإني لست منك ولست مني
*
* (ومن لم يطعمه فإنه منى) * أي: من لم يذقه، وطعم كل شيء ذوقه، ومنه التطعم، يقال: تطعمت منه أي: ذقته، وتقول العرب لمن لا تميل نفسه إلى مأكول، تطعم منه يسهل أكله، قال ابن الأنباري: العرب تقول: أطعمتك الماء تريد أذقتك، وطعمت الماء أطعمه بمعنى ذقته قال الشاعر:
* فإن شئت حرمت النساء عليكم
*
وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ: العذب، والبرد: النوم، ويقال: ما ذقت غماضا. وفي حديث أبي ذر. (في ماء زمزم. طعام طعم) وفي الحديث: (ليس لنا طعام إلا الأسودين: التمر والماء). والطعم يقع على الطعام والشراب، واختير هذا اللفظ لأنه أبلغ، لأن نفي الطعم يستلزم نفي الشرب، ونفي الشرب لا يستلزم نفي الطعم، لأن الطعم ينطلق على الذوق، والمنع من الطعم أشق في التكليف من المنع من الشرب، إذ يحصل بإلقائه في الفم، وإن لم يشربه، نوع راحة.
*
وفي قوله: * (ومن لم يطعمه) * دلالة على أن الماء طعام، وقد تقدم أيضا ما يدل على ذلك.
واختلف في جريان الربا فيه، فقال الشافعي: لا يجوز بيع الماء بالماء متفاضلا، ولا يجوز فيه الأجل وقال مالك، وأبو حنيفة، وأبو يوسف: يجوز ذلك. وحكى ابن العربي: أن الصحيح من
273

مذهب مالك جريان الربا فيه. وقال محمد بن الحسن: هو مما يكال ويوزن، فعلى هذا لا يجوز عنده التفاضل.
وكأن قوله: * (فمن شرب منه) * يدل ظاهره على مباشرة الشرب من النهر، حتى لو أخذ بالكوز وشربه، لا يكون داخلا في من شرب منه، إذا لم يباشر الشرب من النهر، وفي مذهب أبي حنيفة، رحمه الله تعالى، أنه إن قال إن شربت من القربة فعبدي حر، يحمل على الكروع، وإن اغترف منه، أو شرب بإنا لم يحنث. قالوا: لأنه تعالى حظر الشرب من النهر، وحظر مع ذلك أن يطعم منه، واستثنى من الطعم منه الاغتراف، فحظر الشرب ماق، ودل على أن الاغتراف ليس بشرب، وأتى بقوله: * (ومن لم) * معدى لضمير الماء، لا إلى النهر، ليزيل ذلك الإبهام، وليعلم أن المقصود هو المنع من وصولهم إلى الماء من النهر، بمباشرة الشرب منه، أو بواسطة.
قال ابن عطية: وفي قوله: * (ومن لم يطعمه فإنه منى) * سد الذرائع، لأن أدنى الذوق يدخل في لفظ الطعم، فإذا وقع النهي عن الطعم فلا سبيل إلى وقوع الشرب ممن يتجنب الطعم، ولهذه المبالغة، لم يأت الكلام: ومن لم يشرب منه، انتهى كلامه.
* (إلا من اغترف غرفة بيده) * هذا استثناء من الجملة الأولى، وهي قوله: * (فمن شرب منه فليس مني) * والمعنى: أن من اغترف غرفة بيده دون الكروع فهو مني، والاستثناء إذا اعتقب جملتين، أو جملا، يمكن عوده إلى كل واحدة منها، فإنه يتعلق بالأخيرة، وهذا على خلاف في هذه المسألة مذكور في علم أصول الفقه، فإن دل دليل على تعلقها ببعض الجمل كان الاستثناء منه، وهنا دل الدليل على تعلقها بالجملة الأولى، وإنما قدمت الجملة الثانية على الاستثناء من الأولى لأن الجملة الثانية تدل عليها الأولى بالمفهوم، لأنه حين ذكر أن الله يبتليهم بنهر، وأن من شرب منه فليس منه، فهم من ذلك أن من لم يشرب منه فإنه منه، فصارت الجملة الثانية كلا فصل بين الأولى والاستثناء منها إذا دلت عليها الأولى، حتى إنها لو لم يكن مصرحا بها لفهمت من الجملة الأولى، وقد وقع في بعض التصانيف ما نصه: إلا من اغترف. استثناء من الأولى، وإن شئت جعلته استثناء من الثانية. انتهى. ولا يظهر كونه استثناء من الجملة الثانية لأنه حكم على أن: من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه، والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه، وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها أن: من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن: من اغترف غرفة بيده منه فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك، وهكذا الاستثناء يكون من النفي إثباتا، ومن الاثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسألة. وفي الاستثناء محذوف تقديره: إلا من اغترف غرفة بيده فشربها، أو للشرب.
وقرأ الحرميان، وأبو عمر، و: غرفة، بفتح الغين وقرأ الباقون بضمها، فقيل: هما بمعنى المصدر، وقيل: هما بمعنى
274

المغروف، وقيل: الغرفة بالفتح المرة، وبالضم ما نخمله اليد، فإذا كان مصدرا فهو على غير الصدر، إذ لو جاء على الصدر لقال: اغترافة، ويكون مفعول اغترف محذوفا، أي: ماء، وإذا كان بمعنى المغروف كان مفعولا به، قال ابن عطية: وكان أبو علي يرجح ضم الغين، ورجحه الطبري أيضا: أن غرفة بالفتح إنما هو مصدر على غير اغتراف. انتهى.
وهذا الترجيح الذي يذكره المفسرون والنحويون بين القراءتين لا ينبغي، لأن هذه القراءات كلها صحيحة ومروية ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكل منها وجه ظاهر حسن في العربية، فلا يمكن فيها ترجيح قراءة على قراءة.
ويتعلق: بيده، بقوله: اغتراف. قيل: ويجوز أن يكون نعتا لغرفة، فيتعلق بالمحذوف. وظاهر: غرفة بيده، الاقتصار على غرفة واحدة، وأنها تكون باليد، قال ابن عباس، ومقاتل: كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ويحمل منها، قال مقاتل: ويملأ منها قربته، قيل: فيجعل الله فيها البركة حتى تكفي لكل هؤلاء، وكان هذا معجزة لنبي ذلك الزمان قال بعض المفسرين: لم يرد غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك، وهذا الابتلاء الذي ابتلى الله به جنود طالوت ابتلاء عظيم، حيث منعوا من الماء مع وجوده وكثرته في شدة الحر والقيظ، وأن من أبيح له شيء منه فإنما هو مقدار ما يغرف بيده، فأين يصل منه ذلك؟ وهذا أشد في التكليف مما ابتلى به أهل أيلة من ترك الصيد يوم السبت، مع إمكان ذلك فيه، وكثرة ما يرد إليهم فيه من الحيتان.
* (فشربوا منه إلا قليلا منهم) * أي: كرعوا فيه، ظاهره أن الأكثر شربوا، وإن القليل لم يشربوا، ويحمل الشرب الذي وقع من أكثرهم، على أنه الشرب الذي لم يؤذن فيه، ووقع به المخالفة، ويكون الاستثناء على أن ذلك القليل لم يشربوا ذلك الشرب الذي لم يؤذن فيه، فبقي تحت القليل قسمان: أحدهما: لم يطعمه البتة والثانية: الذين: اغترفوا بأيديهم، وهذا التقسيم روي معناه عن ابن عباس، أن الأكثر شربوا على قدر يقينهم، فشرب الكفار شرب الهيم، وشرب العاصون دون ذلك، وانصرف من القوم ستة وسبعون ألفا، وبقي بعض المؤمنين لم يشرب شيئا، وأخذ بعضهم الغرفة. فأما من شرب فلم يرو، بل برح به العطش، وأما من ترك الماء فحسنت حاله، وكان أجدر ممن أخذ الغرفة. وقيل: الذين شربوا وخالفوا أمر الله اسودت وجوههم وشفاههم، فلم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا عن لقاء العدو، فلم يجاوزوا ولم يشهدوا الفتح. وقيل: بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلا القليل الذين لم يشربوا. والقليل المستثنى أربعة آلاف، قاله عكرمة، والسدي، وقيل: ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وقرأ عبد الله، وأبي والأعمش: إلا قليل، بالرفع قال الزمخشري: وهذا من ميلهم مع المعنى، والإعراض عن اللفظ جانبا، وهو باب جليل من علم العربية، فلما كان معنى: فشربوا منه، في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزذق:
* وعض زمان يا بن مروان) لم يدع
*
من المال إلا مسحتا أو مجلف
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت، أو مجلف انتهى كلامه.
والمعنى أن هذا الموجب الذي هو: فشربوا منه، هو في معنى المنفي، كأنه قيل: فلم يطيعوه، فارتفع: قليل، على هذا المعنى، ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد: إلا، فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى، فالموجب فيه كالمنفي، وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد: إلا، على التأويل هنا، دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب، فلذلك تأوله.
ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد: إلا، وجهان
275

أحدهما: النصب على الاستثناء وهو الأفصح: والثاني: أن يكون ما بعد: إلا، تابعا لإعراب المستثنى منه، إن رفعا فرفع، أو نصبا فنصب، أو جرا فجر، فتقول: قام القوم إلا زيد، ورأيت القوم إلا زيدا، ومررت بالقوم إلا زيد: وسواء كان ما قبل: إلا، مظهرا أو مضمرا. واختلفوا في إعرابه، فقيل: هو تابع على أنه نعت لما قبله، فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة. وقال: ينعت بما بعد: إلا، الظاهر والمضمر، ومنهم من قال: لا ينعت به إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإن كان معرفة بالإضافة نحو: قام اخوتك، أو بالألف واللام للعهد، أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس، فلا يجوز الاتباع، ويلزم النصب على الاستثناء. ومنهم من قال: إن النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان، ومن الاتباع بعد الموجب قوله:
* وكل أخ مفارقه أخوه
*
لعمر أبيك إلا الفرقدان
*
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو.
وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا نضطر إليه، وأنه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب.
* (فلما فصل طالوت بالجنود قال إن) * ظاهره أنه ما جاز النهر إلا هو والمؤمنون، وكذلك روي عن ابن عباس، والسدي: أن الذين شربوا وخالفوا انحرفوا، ولم يجاوزوا، وقيل: بل كلهم جاوز لكن لم يحضر القتال إلا القليل.
وجاوز: فاعل فيه بمعنى فعل، أي جاز. والذين آمنوا معه: عدة أهل بدر وقال ابن عباس، والسدي: جاز معه أربعة آلاف. قال ابن عباس: منهم من شرب، قالا: فلما نظروا إلى جالوت وجنوده، قالوا لا طاقة لنا اليوم، ورجع منهم ثلاثة آلاف وستمائة وبضعة وثمانون، وأكثر المفسرين على أنه إنما جاوز النهر من لم يشرب إلا غرفة. ومن لم يشرب جملة. ثم اختلفت بصائر هؤلاء، فبعض كع، وقليل صم، و: هو، توكيد للضمير المستكن في جاوزه، و: الذين، يحتمل أن يكون معطوفا على الضمير المستكن، ويحتمل أن تكون الواو للحال ويلزم من الحال أن يكونوا جاوزوا معه، والأظهر أن يكون للعطف وإدغام جاوزه في هو ضعيف، ولا يستحسن، إلا إن كانت الهاء مختلسة لا إمالة لها.
* (قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * قائل ذلك الكفرة الذين انخزلوا، وهو الفاعل في شربوا، قاله ابن عباس والسدي. وقيل: من قلت بصيرته من المؤمنين، وهم الذين جاوزوا النهر وهم القليل، قاله الحسن، وقتادة، والزجاج.
طاقة: من الطوق، وهو القوة، وهو من: أطاق، كأطاع طاعة، وأجاب جابة، وأغار غارة. ويتعلق: لنا، بمحذوف إذ هو في موضع الخبر، ولا يجوز أن يتعلق: بطاقة، لأنه كان يكون طاقة مطولا، فيلزم تنوين، واليوم منصوب بما تعلق به لنا وبجالوت: متعلق به. وأجاز بعضهم أن يكون: بجالوت، في موضع الخبر، وليس المعنى على ذلك.
* (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا * الله) * يحتمل أن يكون الظن على بابه، ومعنى: ملاقو الله، أي يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال، وتصميمهم على لقاء أعدائهم، كما جرى لعبد الله بن حزام في أحد، وغيره قاله الزجاج في آخرين. وقيل: ملاقو ثواب الله بسبب الطاعة. لأن كل أحد لا يعلم عاقبة أمره فلا بد من أن يكون ظانا، وقيل: ملاقو طاعة الله، لأنه لا يقطع أن عمله هذا إطاعة، لأنه ربما شابه شيء من الرياء والسمعة، وقيل: ملاقو وعد الله إياهم بالنصر، لأنه وإن كان مقطوعا به فهو مظنون في المرة الأولى، ويحتمل أن يكون الظن بمعنى الإيقان: أي: يوقنون بالبعث والرجوع إلى الله قاله السدي في آخرين.
* (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) *. هذا القول تحريض من العازمين على القتال وحض عليه، واستشعار للصبر واقتداء بمن صدق الله.
276

والمعنى: أنا لا نكترث بجالوت وجنوده وإن كثروا، فإن الكثرة ليست سببا للانتصار، فكثيرا ما انتصر القليل على الكثير؛ ولما كان قد سبق ذلك في الأزمان الماضية وعلموا بذلك، أخبروا بصيغة: كم، المقتضية للتكثير. وقرأ أبي وكأين، وهو مرادفة: لكم، في التكثير، ولم يأت تمييزها في القرآن إلا مصحوبا بمن، ولو حذفت: من، لأنجر تمييز: كم، الخبرية بالإضافة، وقيل بإضمار: من، ويجوز نصبه حملا على: كم، الإستفامية، وانتصب تمييز: كأين، فتقول كأين رجلا جاءك. قال الشاعر:
* أطرد اليأس بالرجا فكأين
*
أملا حم يسره بعد عسر
*
و: كم؛ في موضع رفع على الابتداء، و: من فئة، قيل زائدة، وليس من مواضع زيادتها، وقيل: في موضع الصفة لكم، و: فئة، هنا مفرد في معنى الجمع، كأنه قيل: كثير من فئات قليلة غلبت. وقرأ الأعشى فيه بابدال الهمزة ياء، نحو: ميرة في: مئرة، وهو ابدال نفيس، وخبر: كم، قوله: غلبت، ومعنى: بإذن الله، بتمكينه وتسويفه الغلبة.
وفي هذه الآية دليل على جواز قتال الجمع القليل للجمع الكثير، وإن كانوا أضعاف أضعافهم، إذا علموا أن في ذلك نكاية لهم، وأما جواز الفار من الجمع الكثير إذا زادوا عن ضعفهم فسيأتي بيانه في سورة الأنفال إن شاء الله تعالى.
* (والله مع الصابرين) *، تحريض على الصبر في القتال، فإن الله مع من صبر لنصرة دينه، ينصره ويعينه ويؤيده، ويحتمل أن يكون من تمام كلامهم، ويحتمل أن يكون استئنافا من الله، قاله القفال.
* (ولما برزوا لجالوت وجنوده) * صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى، والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه قرنه، وكان جنود طالوت ثلاثمائة ألف فارس، وقيل: مائة ألف، وقال عكرمة: تسعين ألفا.
* (قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا) * الصبر: هنا حبس النفس للقتال، فزعوا إلى الدعاء لله تعالى فنادوا بلفظ الرب الدال على الإصلاح وعلى الملك، ففي ذلك إشعار بالعبودية. وقولهم: أفرغ علينا صبرا سؤال بأن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعليا عليهم، ويكون لهم كالظرف وهم كالمظروفين فيه.
* (وثبت أقدامنا) * فلا تزل عن مداحض القتال، وهو كناية عن تشجيع قلوبهم وتقويتها، ولما سألوا ما يكون مستعليا عليهم من الصبر سألوا تثبيت أقدامهم وإرساخها.
* (وانصرنا على القوم الكافرين) * أي: أعنا عليهم، وجاؤوا بالوصف المقتضي لخذلان أعدائهم، وهو الكفر، وكانوا يعبدون الأصنام، وفي قولهم: ربنا، إقرار لله تعالى بالوحدانية، وقرار له بالعبودية.
* (فهزموهم بإذن الله) * أي: فغلبوهم بتمكين الله.
* (وقتل داوود جالوت) * طول المفسورن في قصة كيفية قتل داود لجالوت، ولم ينص الله على شيء من الكيفية، وقد اختصر ذلك السجاوندي اختصارا يدل على المقصود، فقال: كان أصغر بنيه، يعني بني إيشا، والد داود، الثلاثة عشر. وكان مخلفا في الغنم، وأوحى إلى نبيهم أن قاتل جالوت من استوت عليه من ولد إيشا درع عند طالوت، فلم تستو إلا على داود، وقيل: لما برز جالوت نادى طالوت: من قتل جالوت أشاطره ملكي وأزوجه بنتي، فبرز داود ورماه بحجر في قذافة فنفذ من بين عينيه إلى قفاه وأصاب عسكره، فقتل جماعة وانهزموا، ثم ندم طالوت من شرطه بعد الوفاء، وهم بقتل داود، ومات تائبا قاله الضحاك. وقال وهب: ندم قبل الوفاء ومات عاصيا، وقيل: أصاب
277

داود موضع أنف جالوت، وقيل: تفتت الحجر حتى أصاب كل من في العسكر شيء منه، كالقبضة التي رمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم) يوم حنين.
وقال الزمخشري: كان أبو داود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه، وكان داود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم، فأوحى إلى شمويل أن داود بن إيشا يقتل جالوت، فطلبه من أبيه، فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة أحجار دعاه كل واحد منها أن يحمله، وقالت له: إنك تقتل بنا جالوت، فحملها في مخلاته، ورمى بها جالوت فقتله، وزوجه طالوت بنته، وروي أنه حسده وأراد قتله، ثم تاب. إنتهى. وروي: أن داود كان من أرمى الناس بالمقلاع، وروي: أن الأحجار التأمت في المخلاة فصارت حجرا واحدا.
* (وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء) * روي أن طالوت تخلى لداود عن الملك، فصار الملك. وروي: أن بني إسرائيل غلبت طالوت على ذلك بسبب قتل داود جالوت، وروي أن طالوت أخاف داود فهرب منه، فكان في جبل إلى أن مات طالوت، فملكته بنو إسرائيل، قال الضحاك، والكلبي: ملك داود بعد قتل جالوت سبع سنين، فلم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلا على داود.
واختلف أكان داود نبيا عند قتل جالوت أم لا؟ فقيل: كان نبيا، لأن خوارق العادات لا تكون إلا من الأنبياء. وقال الحسن: لم يكن نبيا لأنه لا يجوز أن يتولى من ليس بنبي على نبي، والحكمة وضع الأمور مواضعها على الصواب، وكمال ذلك إنما يحصل بالنبوة، ولم يكن ذلك لغيره قبله، كان الملك في سبط والنبوة في سبط، فلما مات شمويل وطالوت اجتمع لداود الملك والنبوة.
وقال مقاتل: الحكمة الزبور، وقيل: العدل في السيرة؟ وقيل: الحكمة العلم والعمل به.
وقال الضحاك: هي سلسلة كانت متدلية من السماء لا يمسكها ذو عاهة إلا برئ، يتحاكم إليها، فمن كان محقا تمكن منها حتى إن رجلا كانت عنده درة لرجل، فجعلها في عكازته ودفعها إليه أن احفظها حتى أمس السلسلة، فتمكن منها لأنه ردها، فرفعت لشؤم احتياله.
وإذا كانت الحكمة كان ذكر الملك قبلها. والنبوة بعده من باب الترقي.
* (وعلمه مما يشاء) * قيل: صنعة الدروع، وقيل: منطق الطير وكلامه للنحل والنمل، وقيل: الزبور، وقيل: الصوت الطيب والألحان، قيل: ولم يعط الله. أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور تدنو الوحوش حتى يأخذ بأعناقها، وتظله الطير مصيخة له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الريح، وما صنعت المزامير والصنوج إلا على صوته.
وقيل: * (مما يشاء) * فعل الطاعات والأمر بها، واجتناب المعاصي. والضمير الفاعل في: يشاء عائد على داود أي: مما يشاء داود.
* (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الارض) * قرأ نافع، ويعقوب، وسهل: ولولا دفاع، وهو مصدر دفع، نحو: كتب كتابا أو مصدر دافع بمعنى دفع. قال أبو ذؤيب:
* ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
*
فإذا المنية أقبلت لا تدفع
*
وقرأ الباقون: دفع، مصدر دفع، كضرب ضربا. والمدفوع بهم جنود المسلمين، والمدفوعون المشركون، ولفسدت الأرض بقتل المؤمنين وتخريب البلاد والمساجد، قال معناه ابن عباس، وجماعة من المفسرين. أو الأبدال وهم أربعون، كلما مات واحد أقام الله واحدا بدل آخر، وعند القيامة يموتوت كلهم: اثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق.
وروى حديث الأبدال عن علي وأبي الدرداء، ورفعا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم). أو المذكورون في حديث: (لولا عباد ركع، وأطفال رضع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صبا) أو: من يصلي ومن يزكي ومن يصوم يدفع بهم عمن لا يفعل ذلك، أو: المؤمن يدفع به عن الكافر كما يبتلى المؤمن بالكافر، قاله قتادة، أو: الرجل الصالح يدفع به عن ما به من أهل بيته وجيرانه البلاء، أو: الشهود الذين يستخرج بهم الحقوق، قاله الثوري، أو: السلطان، أو: الظالم يدفع يد الظالم، أو: داود دفع به عن طالوت
278

ولولا ذلك غلبت العمالقة على بني إسرائيل، فيكون: الناس، عاما والمراد الخصوص.
والذي يظهر: أن المدفوع بهم هم المؤمنون، ولولا ذلك لفسدت الأرض، لأن الكفر كان يطبقها ويتمادى في جميع أقطارها، ولكنه تعالى لا يخلي زمانا من قائم يقوم بالحق ويدعو إلى الله تعالى، إلى أن جعل ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال الزمخشري: لولا أن الله يدفع بعض الناس ببعض، ويكف بهم فسادهم، لغلب المفسدون، وفسدت الأرض، وبطلت منافعها، وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وسائر ما يعمر الأرض. إنتهى. وهو كلام حسن، والذي قبله كلام ابن عطية.
والمصدر الذي هو: دفع، أو: دفاع، مضاف إلى الفاعل، وبعضهم بدل من الناس، وهو بدل بعض من كل، والباء في: ببعض، متعلق بالمصدر والباء فيه للتعدية فهو مفعول ثان للمصدر، لأن دفع يتعدى إلى واحد ثم عدى إلى ثان بالباء، وأصل التعدية بالباء، أن يكون ذلك في الفعل اللازم: نحو: * (لذهب بسمعهم) * فإذا كان متعديا فقياسه أن يعدى بالهمزة، تقول: طعم زيد اللحم، ثم تقول أطعمت زيدا اللحم، ولا يجوز أن تقول: طعمت زيدا باللحم، وإنما جاء ذلك قليلا بحيث لا ينقاس، من ذلك: دفع، وصك، تقول: صك الحجر الحجر، وتقول: صككت الحجر بالحجر، أي جعلته يصكه. وكذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر نظير: * (دفع الله الناس بعضهم ببعض) * فالباء للتعدية كالهمزة.
قال سيبوية، وقد ذكر التعدية بالهمزة والتضعيف ما نصه: وعلى ذلك دفعت الناس بعضهم ببعض، على حد قولك: ألزمت، كأنك قلت في التمثيل: أدفعت، كما أنك تقول: أذهبت به، وأذهبته من عندنا، وأخرجته، وخرجت به معك، ثم قال سيبوية: صككت الحجرين أحدهما بالآخر على أنه مفعول من قولك: اصطك الحجران أحدهما بالأخر، ومثل ذلك: ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض. إنتهى كلام سيبوية.
ولا يبعد في قولك: دفعت بعض الناس ببعض، أن تكون الباء للآلة، فلا يكون المجرور بها مفعولا به في المعنى، بل الذي يكون مفعولا به هو المنصوب، وعلى قول سيبويه يكون المنصوب مفعولا به في اللفظ فاعلا من جهة المعنى وعلى أن تكون الباء للآلة يصح نسبة الفعل إليها على سبيل المجاز، كما أنك تقول في: كتبت بالقلم، كتبت القلم.
وأسند الفساد إلى الأرض حقيقة: بالخراب، وتعطيل المنافع، أو مجازا: والمراد أهلها.
* (ولاكن الله * أم كنت من العالين) * وجه الاستدراك هنا هو أنه لما قسم الناس إلى مدفوع، وانه بدفعه بعضهم ببعض امتنع فساد ارض، فيهجس في نفس من غلب وقهر عن ما يريد من الفساد في الأرض أن الله تعالى، غير متفضل عليه، إذ لم يبلغه مقاصده ومآربه، فاستدرك أنه، وإن لم يبلغ مقاصده هذا الطالب للفساد أن الله لدو فضل عليه، ويحسن إليه. واندرج في عموم العالمين، وقال تعالى: * (إن الله لذو فضل على الناس) * وما من أحد إلا ولله عليه فضل، ولو لم يكن إلا فضل الاختراع.
وهذا الذي أبديناه من فائدة الاستدراك هو على ما قرره أهل العلم باللسان من أن: لكن، تكون بين متنافيين بوجه ما ويتعلق على العالمين بفضل، لأن فعله يتعدى: بعلى، فكذلك المصدر، وربما حذفت: على، مع الفعل، تقول: فضلت فلانا أي على فلان، وجمع بين الحذف والإثبات في قول الشاعر:
* وجدنا نهشلا فضلت فقيما
*
كفضل ابن المخاض على الفصيل
*
وإذا عدى إلى مفعول به بالتضعيف لزمت عليه، كقوله: * (فضل الله المجاهدين على القاعدين) *.
* (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) * تلك إشارة للبعيد، وآيات الله قيل: هي القرآن، والأظهر أنها الآيات التي تقدمت في القصص السابق من خروج أولئك الفارين من الموت، وإمامة الله لهم دفعة واحدة، ثم أحياهم إحياءة واحدة، وتمليك طالوت على بني إسرائيل وليس من أولاد ملوكهم، والإتيان بالتابوت بعد فقده مشتملا على بقايا من إرث آل موسى
279

وآل هارون، وكونه تحمله الملائكة معاينة على ما نقل عن ترجمان القرآن ابن عباس، وذلك الابتلاء العظيم بالنهر في فصل القيظ والسفر، وإجابة من توكل على الله في النصرة، وقتل داود جالوت، وإيتاء الله إياه الملك والحكمة، فهذه كلها آيات عظيمة خوارق، تلاها الله على نبيه بالحق أي مصحوبة، بالحق لا كذب فيها ولا انتحال، ولا بقول كهنة، بل مطابقا لما في كتب بني إسرائيل. ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم) من هذا القصص الحظ الأوفر في الاستنصار بالله والإعداد للكفار، وأن كثرة العدد قد يغلبها المقل، وأن الوثوق بالله والرجوع إليه هو الذي يعول عليه في الملمات، ولما ذكر تعالى أنه تلا الآيات على نبيه، أعلم أنه من المرسلين، وأكد ذلك بأن واللام حيث أخبر بهذه الآية، من غير قراءة كتاب، ولا مدارسة أحبار، ولا سماع أخبار.
وتضمنت الآيات الكريمة أخبار بني إسرائيل حيث استفيدوا تمليك طالوت عليهم أن لذلك آية تدل على تملكيه، وهو أن التابوت الذي فقد تموه يأتيكم مشتملا على ما كان فيه من السكينة والبقية المخلفة عن آل موسى وآل هارون، وأن الملائكة تحمله، وإن في ذلك آية أى آية لمن كان مؤمنا، لأن هذا خارق عظيم. وفصل طالوت بالجنود وتبريزه بهم من ديارهم للقاء العدو يدل على أنهم ملكوه وانقادوا له، وأخبرهم عن الله مبتليهم بنهر فاحتمل أن يكون الله نبأه، واحتمل أن يكون ذلك بإخبار نبيهم له عن الله، وأن من شرب منه كرعا فليس منه إلا من اغترف غرفة بيده، وأن من لم يطعمه فإنه منه، وأخبر الله أنهم قد خالف أكثرهم فشربوا منه، ولما عبروا النهر ورأوا ما
هو فيه جالوت من العدد والعدد أخبروا أنهم لا طاقة لهم بذلك، فأجابهم من أيقن بلقاء الله: بأن الكثرة لا تدل على الغلبة، فكثيرا ما غلب القليل الكثير بتمكين الله وإقداره، وأنه إذا كان الله مع الصابرين فهم المنصورون، فحضوا على التصابر عند لقاء العدو، وحين برزوا لأعدائهم، ووقعت العين على العين لجؤوا إلى الله تعالى بالدعاء والاستغاثة، وسألوا منه الصبر على القتال وتثبيت الأقدام عند المداحض، والنصر على من كفر به، وكانت نتيجة هذا القول وصدق القتال أن مكنهم من أعدائهم وهزموهم وقتل ملكهم، وإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، وأعطى الله داود ملك بني إسرائيل والنبوة وهي: الحكمة، وعلمه مما أراد أن يعلمه من: الزبور، وصنعة اللبوس، وغير ذلك مما علمه. ثم ذكر تعالى أن إصلاح الأرض هو بدفع بعض بعضا، فلولا أن دفع الله عن بني إسرائيل بهزيمة قوم جالوت وقتل داود جالوت، لغلب عليهم أعداؤهم واستؤصلوا قتلا ونهب وأسرا، وكذلك من جرى مجراهم، ولكن فضل الله هو السابق، حيث لم يمكن منهم أعداءهم، ومكنهم منهم.
ثم أخبر تعالى أن هذه الآيات التي تضمنت هذه العبر وهذه الخوارق تلاها الله على نبيه بالحق الذي لا شك فيه، ثم أخبره أنه مرسل من جملة المرسلين الذين تقدموه في الزمان، والرسالة فوق النبوة، ودل على رسالته إخباره بهذا القصص المتضمن للآيات الباهرة الدالة على صدق من أخبر بها، من غير أن يعلمه بها معلم إلا الله.
(* (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وءاتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شآء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جآءتهم البينات ولاكن اختلفوا فمنهم من ءامن ومنهم من كفر ولو شآء الله ما اقتتلوا ولاكن الله يفعل ما يريد * ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون * الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الا رض من ذا الذى يشفع عنده إلا
280

بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شآء وسع كرسيه السماوات والا رض ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم * لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم * الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) *))
) *
البيع: معروف، والفعل منه باع يبيع، ومن قال: أباع في معنى باع أخطأ.
الخلة: الصداقة كأنها تتخلل الأعضاء أي: تدخل خلالها، والخلة الصديق، قال الشاعر:
* وكان لها في سالف الدهر خلة
*
يسارق بالطرف الخباء المسترا
*
السنة والوسن: قيل: النعاس، وهو الذي يتقدم النوم من الفتور قال الشاعر:
* وسنان أقصده النعاس فرنقت
*
في عينه سنة وليس بنائم
*
ويبقى مع السنة بعض الذهن، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن، وهذا البيت يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم. وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله، وهذا الذي قاله، ابن زيد ليس بمفهوم من كلام العرب؛ قال المفضل: السنة ثقل في الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.
الكرسي: آلة من الخشب أو غيره معلومة، يقعد عليها، والياء فيه كالياء في: قمري، ليست للنسب، وجمعه كراسي، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى. آده الشيء يؤوده: أثقله، وتحمل منه مشقة قال الشاعر:
* ألا ما لسلمى اليوم بت جديدها
*
وضنت، وما كان النوال يؤودها
*
الغي: مقابل الرشد، يقال غوى الرجل يغوى أي: ضل في معتقد أو رأي، ويقال: أغوى الفصيل إذا بشم، وإذا جاع على الضد.
الطاغوت: بناء مبالغة من طغى يطغى، وحكى الطبري يطغو إذا جاوز الحد بزيادة عليه، ووزنه الأصلي: فعلوت، قلب إذ أصله: طغووت، فجعلت اللام مكان العين، والعين مكان اللام، فصار: طوغوت، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا، فصار: طاغوت، ومذهب أبي علي أنه مصدر: كرهبوت
281

وجبروت، وهو يوصف به الواحد والجمع. ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه أسم جنس يقع للكثير والقليل، وزعم أبو العباس أنه جمع، وزعم بعضهم أن التاء في طاغوت بدل من لام الكلمة، ووزنه: فاعول.
العروة: موضع الإمساك وشد الأيدي والتعلق، والعروة شجرة تبقى على الجذب لأن الإبل تتعلق بها في الخصب من: عروته: ألممت به متعلقا، واعتراه ألم: تعلق به.
الانفصام: الانقطاع، وقيل الانكسار من غير بينونة، والقصم بالقاف الكسر ببينونة، وقد يجيء الفصم بالفاء في معنى البينونة.
* (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر اصطفاء طالوت على بني إسرائيل، وتفضل داود عليهم بايتائه الملك والحكمة وتعليمه، ثم خاطب نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)، بأنه من المرسلين، وكان ظاهر اللفظ يقتضى التسوية بين المرسلين، بين بأن المرسلين متفاضلون أيضا، كما كان التفاضل بين غير المرسلين: كطالوت وبني إسرائيل.
و: تلك، مبتدأ وخبره: الرسل، و: فضلنا، جملة حالية، وذو الحال: الرسل، والعامل فيه اسم الإشارة. ويجوز أن يكون: الرسل، صفة لاسم الإشارة، أو عطف بيان، وأشار بتلك التي للبعيد لبعد ما بينهم من الأزمان وبين النبي صلى الله عليه وسلم)، قيل الإشارة إلى الرسل الذين ذكروا في هذه السورة، أو للرسل التي ثبت علمها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم)، والأولى أن تكون إشارة إلى المرسلين في قوله: * (وإنك لمن المرسلين) * ولا يلزم من ذلك علمه صلى الله عليه وسلم) بأعيانهم، بل أخبر أنه من جملة المرسلين، وأن المرسلين فضل الله بعضهم على بعض، وأتى: بتلك، التي للواحدة المؤنثة، وإن كان المشار إليه جمعا، لأنه جمع تكسير، وجمع التكسير حكمه حكم الواحدة المؤنثة في الوصف، وفي عود الضمير، وفي غير ذلك، وكان جمع تكسير هنا لاختصار اللفظ، ولإزالة قلق التكرار، لأنه لو جاء: أولئك المرسلون فضلنا، كان اللفظ فيه طول، وكان فيه التكرار والالتفات في: نتلوها، وفي: فضلنا، لأنه خروج إلى متكلم من غائب، إذ قبله ذكر لفظ: الله، وهو لفظ غائب.
والتضعيف في: فضلنا، للتعدية، و: على بعض، متعلق بفضلنا، قيل: والتفضيل بالفضائل بعد الفرائض أو الشرائع على غير ذي الشرائع، أو بالخصائص كالكلام.
وقال الزمخشري: * (فضلنا بعضهم على بعض) * لما أوجب ذلك من تفاضلهم في الحسنات. انتهى. وفيه دسيسه اعتزالية.
ونص تعالى في هذه الآية على تفضيل بعض الأنبياء على بعض في الجملة دون تعيين مفضول. وهكذا جاء في الحديث: (أنا سيد ولد آدم). وقال: (لا تفضلوني على موسى) وقال: (لا ينبغي لأحد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى).
* (منهم من كلم الله) * قرأ الجمهور بالتشديد ورفع الجلالة، والعائد على: من، محذوف تقديره من كلمه وقرئ بنصب الجلالة والفاعل مستتر في: كلم، يعود على: من، ورفع الجلالة أتم في التفضيل من النصب، إذ الرفع يدل على الحضور والخطاب منه تعالى للمتكلم، والنصب يدل على الحضور دون الخطاب منه وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهشل، وابن السميفع: كالم الله بالألف ونصب الجلالة من المكالمة، وهي صدور الكلام من اثنين، ومنه قيل: كليم الله أي، مكالمه فعيل بمعنى مفاعل: كجليس وخليط. وذكر التفضيل بالكلام وهو من أشرف تفضيل حيث جعله محلا لخطابه ومناجاته من غير سفير، وتضافرت نصوص المفسرين هنا على أن المراد بالمكلم هنا هو موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم) عن آدم: أنبي مرسل؟ فقال: (نعم نبي مكلم). وقد صح في حديث الإسراء حيث ارتقي رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى مقام تأخر عنه فيه جبريل، أنه جرت بينه صلى الله عليه وسلم) وبين ربه تعالى مخاطبات ومحاورات، فلا يبعد أن يدخل تحت قوله: * (منهم من كلم الله) *: موسى وآدم ومحمد صلى الله عليه وسلم)، لأنه قد ثبت تكليم الله لهم.
وفي قوله: * (كلام الله) * إلفتات، إذ هو خروج إلى ظاهر غائب من ضمير متكلم، لما في ذكر هذا الاسم العظيم من التفخيم والتعظيم، ولزوال قلق تكرار ضمير المتكلم، إذ كأن يكون: فضلنا، وكلمنا، ورفعنا، وآتينا.
* (ورفع بعضهم
282

درجات) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، أو إبراهيم، أو إدريس صلى الله عليهم، ثلاثة أقوال، قالوا: والأول أظهر، وهو قول مجاهد. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا للأول. انتهى. ويعنى أنه توكيد لقوله * (فضلنا بعضهم على بعض) *. وقال الزمخشري: * (ورفع بعضهم درجات) * أي ومنهم من رفعه على سائر الأنبياء، فكان بعد تفاوتهم في الفضل أفضل منهم بدرجات كثيرة، والظاهر أنه أراد محمدا صلى الله عليه وسلم)، لأنه هو المفضل عليهم، حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثرة المرتقية إلى ألف آية وأكثر، ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكفى به فضلا منيفا على سائر ما أوتي الأنبياء، لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر دون سائر المعجزات.
وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله، وإعلاء قدره ما لا يخفى، لما فيه من الشهادة على أنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس، ويقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم، أو بعضكم يريد به الذي تعورف واشتهر بنحوه من الأفعال، فيكون، أفخم من التصريح به، وأنوه بصاحبه.
وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر، زهيرا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث. أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي، لم يفخم أمره.
ويجوز أن يريد: إبراهيم ومحمدا وغيرهما من أولى العزم من الرسل. انتهى كلام الزمخشري. وهو كلام حسن.
وقال غيره: وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنه بعث إلى الناس كافة، وأعطي الخمس التي لم يعطها أحد، وهو أعظم الناس أمة، وختم به باب النبوات إلى غير
ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه، ومن معجزاته، وباهر آياته. وقال بعض أهل العلم: إنه أوتى صلى الله عليه وسلم) ثلاثة آلاف معجزة وخصيصة، وما أوتي نبي معجزة إلا أوتي محمد صلى الله عليه وسلم) مثلها وزاد عليهم بآيات.
وانتصاب: درجات، قيل على المصدر، لأن الدرجة بمعنى الرفعة، أو على المصدر الذي في موضع الحال، أو على الحال على حذف مضاف، أي: ذوي درجات، أو على المفعول الثاني لرفع على طريق التضمين لمعن: بلغ، أو على إسقاط حرف الجر، فوصل الفعل وحرف الجر، إما: على، أو: في، أو: إلى. ويحتمل أن يكون بدل اشتمال، أي: ورفع درجات بعضهم، والمعنى على درجات بعض.
* (ولقد ءاتينا ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) * تقدم الكلام على تفسير هذه الجملة بعد قوله: * (ولقد ءاتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل) * فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وخص من كلمه الله وعيسى من بين الأنبياء لما أوتيا من الآيات العظيمة، والمعجزات الباهرة، ولأن آيتيهما موجودتان، فتخصيصهما بالذكر طعن على تابعيهما حيث لم ينقادوا لهذين الرسولين العظيمين، ووقع منهم المنازعة والخلاف.
ونص هنا لعيسى على الآيات البينات تقبيحا لأفعال اليهود حيث أنكروا نبوته مع ما ظهر على يديه من الآيات الواضحة، ولما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) هو الذي أوتي ما لم يؤته أحد من كثرة المعجزات وعظمها، وكان المشهود له بإحراز قصبات السبق، حف ذكره بذكر هذين الرسولين العظيمين، ليحصل لكل منهما بمجاورة ذكره الشرف، إذ هو بينهما واسطة عقد النبوة، فينزل منهما منزلة واسطة العقد التي يزدان بها ما جاورها من اللآليء، وتنوع هذا التقسيم ولم يرد على أسلوب واحد، فجاءت الجملة الأولى من مبتدأ وخبر مصدرة بمن الدالة على التقسيم، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير اسم الله، لا لفظه، لقربه، إذ لو أسند إلى الظاهر لكان منهم من كلم الله، ورفع الله، فكان يقرب التكرار، فكان الإضمار أحسن.
وفي الجملتين: المفضل منهم لا معين بالأسم، لكن يعين الأول صلة الموصول، لأنها معلومة عند السامع، ويعين الثاني ما أخبر به عنه، وهو أنه مرفوع على غيره من الرسل بدرجات، وهذه الرتبة ليست إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم)، وجاءت الثانية فعلية مسندة لضمير المتكلم على سبيل الالتفات، إذ قبله غائب، وكل هذا يدل على التوسع في افانين البلاغة وأساليب الفصاحة.
* (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من
283

بعد ما جاءتهم البينات) * قيل: في الكلام حذف، التقدير: فاختلف أممهم واقتتلوا. ولو شاء الله، ومفعول شاء محذوف تقديره: أن لا تقتتلوا، وقيل: أن لا يأمر بالقتال، قاله الزجاج وقال مجاهد: أن لا تختلفوا الاختلاف الذي هو سبب القتال، وقيل: ولو شاء الله أن يضطرهم إلى الإيمان فلم يقتتلوا، وقال أبو علي بأن يسلبهم القوى والعقول التي يكون بها التكليف، ولكن كلفهم فاختلفوا بالكفر والإيمان. وقال علي بن عيسى: هذه مشيئة القدرة، مثل: * (ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا) * ولم يشأ ذلك، وشاء تكليفهم فاختلفوا وقال الزمخشري: ولو شاء الله مشيئة إلجاء وقسر، وجواب: لو ما اقتتل، وهو فعل منفي بما، فالفصيح أن لا يدخل عليه اللام كما في الآية، ويجوز في القليل أن تدخل عليه اللام، فتقول: لو قام زيد لما قام عمرو، و: من بعدهم صلة للذين، فيتعلق بمحذوف أي: الذين كانوا من بعدهم، والضمير عائد على الرسل، وقيل: عائد على موسى وعيسى وأتباعهما.
وظاهر الكلام أنهم القوم الذين كانوا من بعد جميع الرسل، وليس كذلك، بل المراد: ما اقتتل الناس بعد كل نبي، فلف الكلام لفا لم يفهمه السامع وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، وإن كنت قد اشتريتها فرسا فرسا وبعته، وكذلك هذا، إنما اختلف بعد كل نبي، و: من بعد، قيل: بدل من بعدهم، والظاهر أنه متعلق بقوله ما اقتتل، إذ كان في البينات، وهي الدلائل الواضحة، ما يفضى إلى الاتفاق وعدم التقاتل، وغنية عن الاختلاف الموجب للتقاتل.
* (ولاكن اختلفوا) * هذا الاستدراك واضح لأن ما قبلها ضد لما بعدها، لأن المعنى: لو شاء الاتفاق لا تفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا.
* (فمنهم من ءامن ومنهم من كفر) * من آمن بالتزامه دين الرسل واتباعهم، ومن كفر باعراضه عن اتباع الرسل حسدا وبغيا واستئثارا بحطام الدنيا.
* (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * قيل: الجملة تكررت توكيدا للأولى، قاله الزمخشري. وقيل: لا توكيد لاختلاف المشيئتين، فالأولى: ولو شاء الله أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، والثانية: ولو شاء الله أن يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن أمر وشاء أن يقتتلوا، وتعلق بهذه الآية مثبتو القدر ونافوه، ولم يزل ذلك مختلفا فيه حتى كان الأعشى في الجاهلية نافيا حيث قال:
* استأثر الله بالوفاء وبالعد
*
ل وولى الملامة الرجلا
*
وكان لبيد مثبتا حيث قال:
* من هداه سبل الخير اهتدى
*
ناعم البال ومن شاء أضل
*
* (ولاكن الله يفعل ما يريد) * هذا يدل على أن ما أراد الله فعله فهو كائن لا محالة، وإن إرادة غيره غير مؤثرة، وهو تعالى المستأثر بسر الحكمة فيما قدر وقضى من خير وشر، وهو فعله تعالى. وقال الزمخشري: ولكن الله يفعل ما يريد من الخذلان والعصمة، وهذا على طريقة الاعتزالية.
قيل: وتضمنت هذه الآية الكريمة من أنواع البلاغة: التقسيم، في قوله: * (منهم من كلم الله) * بلا واسطة، ومنهم من كلمه بواسطة، وهذا التقسيم اقتضاه المعنى، وفي قوله * (فمنهم من ءامن ومنهم من كفر) * وهذا التقسيم ملفوظ به. و: الاختصاص، مشارا إليه ومنصوبا عليه، و: التكرار، في لفظ البينات، وفي * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * على أحد التأويلين. و: الحذف، في قوله * (منهم من كلم الله) * أي كفاحا وفي قوله * (يفعل ما يريد) * يعني من هداية من شاء وضلالة من شاء.
* (يريد يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم) * مناسبة هذه الآية لما قبلها
284

هو أنه لما ذكر أن الله تعالى أراد الاختلاف إلى مؤمن وكافر، وأراد الاقتتال، وأمر به المؤمنين، وكان الجهاد يحتاج صاحبه إلى الإعانة عليه، أمر تعالى بالنفقة من بعض ما رزق، فشمل النفقة في الجهاد، وهي، وإن لم ينص عليها، مندرجة في قوله: أنفقوا، وداخلة فيها دخولا أوليا، إذ جاء الأمر بها عقب ذكر المؤمن والكافر واقتتالهم، قال ابن جريج، والأكثرون: الآية عامة في كل صدقة واجبة أو تطوع وقال الحسن: هي في الزكاة، والزكاة منها جزء للمجاهدين، وقاله الزمخشري، قال: أراد الإنفاق الواجب لاتصال الوعيد به * (من قبل أن يأتى يوم) * لا تقدرون فيه على تدارك ما فاتكم من الإنفاق، لأنه لا بيع فيه حتى تبتاعوا ما تنفقونه، ولا خلة حتى تسامحكم أخلاؤكم به، وإن أردتم أن يحط عنكم ما في ذمتكم من الواجب لم تجدوا شفيعا يشفع لكم في حط الواجبات، لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير، * (والكافرون هم الظالمون) * أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، فقال: والكافرون، للتغليظ، كما قال في آخر آية الحج. ومن كفر مكان: ومن لم يحج، ولأنه جعل ترك الزكاة من صفات الكفار، في قوله * (وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكواة) * انتهى كلامه.
ورد قوله بأنه ليس في الآية وعيد، فكأنه قيل: حصلوا منافع الآخرة حين تكون في الدنيا، فإنكم إذا خرجتم من الدنيا لا يمكنكم تحصيلها واكتسابها في الآخرة، وقول الزمخشري: لأن الشفاعة ثم في زيادة الفضل لا غير، هو قول المعتزلة، لأن عندهم أن الشفاعة لا تكون للعصاة، فلا يدخلون النار، ولا للعصاة الذين دخلوا النار، فلا يخرجون منها بالشفاعة.
وقيل: المراد منه الإنفاق في الجهاد، ويدل عليه أنه مذكور بعد الأمر بالجهاد، فكأن المراد منه الأنفاق في الجهاد، وهو قول الأصم.
قال ابن عطية: وظاهر هذه الآية أنها مراد بها جميع وجوه البر من سبيل خير، وصلة رحم، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال، وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين، يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوي ذلك قوله في آخر الآية * (والكافرون هم الظالمون) * أي: فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال. انتهى كلامه.
وندب تعالى العبد إلى أن ينفق مما رزقه، والرزق، وإن تناول غير الحلال، فالمراد منه هنا الحلال، و: مما رزقناكم، متعلق بقوله: أنفقوا، و: ما، موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: رزقناكموه، وقيل: ما مصدرية أي: من رزقنا إياكم، و: من قبل، متعلق: بأنفقوا، أيضا، واختلف في مدلول: من: فالأولى: للتبعيض، والثانية: لابتداء الغاية، وزعم بعضهم أنها تتعلق: برزقناكم.
* (من قبل أن يأتى يوم) * حذر تعالى من الإمساك قبل أن يأتي هذا اليوم، وهو يوم القيامة.
* (لا بيع فيه) * أي: لا فدية فيه لأنفسكم من عذاب الله، وذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة وأخذ البدل، وقيل: لافداء عما منعتم من الزكاة تبتاعونه تقدمونه عن الزكاة يومئذ. وقيل: لا بيع فيه للأعمال فتكتسب.
* (ولا خلة) * أي: لا صداقة تقتضي المساهمة، كما كان ذلك في الدنيا، والمتقون بينهم في ذلك اليوم خلة، لكن لا نحتاج إليها، وخلة غيرهم لا تغني من الله شيئا.
* (ولا شفاعة) * اللفظ عام والمراد الخصوص، أي: ولا شفاعة للكفار، وقال تعالى: * (لنا من شافعين ولا صديق حميم) * أو: ولا شفاعة إلا بإذن الله، قال تعالى: * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * وقال: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * فعلى الخصوص بالكفار لا شفاعة لهم ولا منهم، وعلى تأويل الإذن: لا شفاعة للمؤمنين إلا بإذنه. وقيل: المراد العموم، والمعنى أن انتداب الشافع وتحكمه على كره المشفوع عنده لا يكون يوم القيام البتة، وأما الشفاعة التي توجد بالإذن من الله تعالى فحقيقتها رحمة الله، لكن شرف تعالى الذي أذن له في أن يشفع.
وقد تعلق بقوله: ولا
285

شفاعة منكرو الشفاعة، واعتقدوا أن هذا نفي لأصل الشفاعة، وقد أثبتت الشفاعة في الآخرة مشروطة بإذن الله ورضاه، وصح حديث الشفاعة الذين تلقته الأمة بالقبول، فلا التفات لمن أنكر ذلك.
وقرأ ابن كثير، ويعقوب، وأبو عمرو: بفتح الثلاثة من غير تنوين، وكذلك: * (لا بيع فيه ولا خلال) * في إبراهيم و: * (لا لغو فيها ولا تأثيم) * في الطور وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، وقد تقدم الكلام على إعراب الاسم بعد: لا، مبنيا على الفتح، ومرفوعا منونا، فأغنى ذلك بمن إعادته.
والجملة من قوله: لا بيع، في موضع الصفة، ويحتاج إلى إضمار التقدير: ولا شفاعة فيه، فحذف لدلالة: فيه، الأولى عليه.
والكافرون هم الظالمون) * يعني الجائزين الحد، و: هم، يحتمل أن يكون بدلا من: الكافرون، وأن يكون مبتدأ، وأن يكون فصلا. قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: والكافرون، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم، وهو من يضع الشيء في غير موضعه، بالكفر، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلا من عصمه الله من العصيان.
* (*) * يعني الجائزين الحد، و: هم، يحتمل أن يكون بدلا من: الكافرون، وأن يكون مبتدأ، وأن يكون فصلا. قال عطاء بن دينار: الحمد لله الذي قال: والكافرون، ولم يقل: والظالمون هم الكافرون، ولو نزل هكذا لكان قد حكم على كل ظالم، وهو من يضع الشيء في غير موضعه، بالكفر، فلم يكن ليخلص من الكفر كل عاص إلا من عصمه الله من العصيان.
* (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها، وثبت في (صحيح مسلم) من حديث أبي أنها أعظم آية، وفي (صحيح البخاري) من حديث أبي هريرة: أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، وورد أنها تعدل ثلث القرآن، وورد أنا ما قرئت في دار إلا اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوما، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوما، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره، والأبيات حوله، وورد: أن سيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه، وذكر صفاته العلا، ولا مذكور أعظم من الله، فذكره أفضل من كل ذكر.
قال الزمخشري: وبهذا يعلم: أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف:
إن العرانين تلقاها محسدة
انتهى كلامه. وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات:
* إن أنصر التوحيد والعدل في
*
كل مقام باذلا جهدي
*
وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به، وإن لم يكن مكانه.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض، وأن منهم من كلمه، وفسر بموسى عليه السلام، وأنه رفع بعضهم درجات، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم)، ونص على عيسى عليه السلام، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعا في أديانهم وعقائدهم، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم) بعث إلى الناس كافة، فكان منهم العرب، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى الله عليه وسلم) على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية، والمتضمنة صفاته العلا من: الحياة، والاستبداد بالملك، واستحالة كونه محلا للحوادث، وملكه لما في السماوات والأرض، وامتناع الشفاعة عنده إلا باذنه، وسعة علمه، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلا بإرادته، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد، وعلى طرح ما سواها.
وتقدم الكلام على لفظة: الله، وعلى قوله: لا إله إلا هو، فأغنى عن
286

إعادته.
الحي: وصف وفعله حي، قيل: وأصله: حيو، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، وأدغمت في الياء، وقيل: أصله فيعل، فخفف كميت في ميت، ولين في لين، وهو وصف لمن قامت به الحياة، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول، وفسر هنا بالباقي، قالوا: كما في قول لبيد:
* فاما تريني اليوم أصبحت سالما
*
فلست بأحيا من كلاب وجعفر
*
أي: فلست بأبقى، وحكى الطبري عن قوم أنه، يقال: حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه، وحكي أيضا عن قوم: أنه حي لا بحياة، وهو قول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري. الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر. انتهى كلامه، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين.
وقرأ الجمهور: القيوم، على وزن فيعول، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود، وابن عمر
، وعلقمة، والنخعي والأعمش: القيام وقرأ علقمة أيضا: القيم، كما تقول: ديور وديار وقال أمية:
* لم تخلق السماء والنجوم
*
والشمس معها قمر يعوم
*
* قدرها المهيمن القيوم
*
والحشر والجنة والنعيم
*
إلا لأمر شأنه عظيم
ومعناه: أنه قائم على كل شيء بما يجب له، بهذا فسره مجاهد، والربيع، والضحاك. وقال ابن جبير: الدائم الوجود وقال ابن عباس: الذي لا يزول ولا يحول، وقال قتادة: القائم بتدبير خلقه. وقال الحسن: القائم على كل نفس بما كسبت. وقيل: العالم بالأمور، من قولهم: فلان يقوم بهذا الكتاب أي: يعلم ما فيه. وقيل: هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق: الذي لا يبلى وقال الزمخشري: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه. وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضا.
وقالوا: فيعول، من صيغ المبالغة، وجوزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو: الله، أو على أنه خبر بعد خبر، أو على أنه بدل من: هو، أو من: الله تعالى، أو: على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو، أو: على أنه مبتدأ والخبر: لا تأخذه، وأجودها الوصف، ويدل عليه قراءة من قرأ: الحي القيوم بالنصب، فقطع على إضمار: أمدح، فلو لم يكن وصفا ما جاز فيه القطع، ولا يقال: في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر، لأن ذلك جائز حسن، تقول: زيد قائم العاقل.
* (لا تأخذه سنة ولا نوم) * يقال: وسن سنة ووسنا، والمعنى: أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير: معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع،
287

وهذا هو مفهوم الخطاب، كما قال تعالى: * (ولا * تقل لهما أف) * وقيل: نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة. وقيل: المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه، وفي المثل: النوم سلطان قال الزمخشري: وهو تأكيد للقيوم، لأن من جاز علمه ذلك استحال أن يكون قيوما. ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية: أينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثا ولا تتركوه ينام. ثم قال: خذ بيدك قارورتين مملوؤتين، فأخذهما، وألقى الله عليه، النعاس، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا، ثم أوحى إليه: قل لهؤلاء إني أمسك السماوات والأرض بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزلتا. انتهى. هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر، وفيه أنه سأل الملائكة، وكان ذلك يعني السؤال من قومه، كطلب الرؤية، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل، كما استحال النوم في حقه تعالى، وهذا من عادته في نصرة مذهبه، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة.
وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر، قال وقع في نفس موسى: هل ينام الله؟ وساق الخبر قريبا من معنى ما ذكره الزمخشري.
قال بعض معاصرينا: هذا حديث وضعه الحشوية، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام، فكيف الرسل؟ انتهى كلامه.
وفائدة تكرار: لا، في قوله: ولا نوم، انتفاؤهما على كل حال، إذ لو أسقطت، لا: لااحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع، تقول: ما قام زيد وعمرو، بل أحدهما، ولا يقال: ما قام زيد ولا عمرو، بل أحدهما.
وتقدم قول من جعل هذه الجملة خبرا لقوله: الحي، على أن يكون: الحي، مبتدأ، ويجوز أن يكون خبرا عن الله، فيكون قد أخبره بعده إخبارا، على مذهب من يجيز ذلك، وجوز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم، أي: قيوم بأمر الخلق غير غافل.
* (له ما في السماوات وما في الارض) * يصح أن يكون خبرا بعد خبر، ويصح أن يكون استئناف خبر، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها. و: ما، للعموم تشمل كل موجود، و: اللام، للملك أخبر تعالى أن مظروف السماوات والأرض ملك له تعالى، وكرر: ما، للتوكيد. وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السماوات: كالشمس، والقمر، والشعرى؛ والأشخاص الأرضية: كالأصنام، وبعض بني آدم، كل منهم ملك لله تعالى، مربوب مخلوق.
وتقدم أنه تعالى خالق السماوات والأرض، فلم يذكرهما كونه مالكا لهما استغناء بما تقدم.
* (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) * كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله، وكانوا يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى. وفي هذه الآية أعظم
دليل على ملكوت الله، وعظم كبريائه، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلا باذن منه تعالى، كما قال تعالى: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان) * ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى، والإذن هنا معناه الأمر، كما ورد: إشفع تشفع، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر.
و: من، رفع على الابتداء، وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت: إلا، في قوله: إلا بإذنه، وخبر المبتدأ قالوا: ذا، ويكون الذي نعتا لذا، أو بدلا منه، وعلى هذا الذي قالوا يكون: ذا، اسم إشارة، وفي ذلك بعد، لأن: ذا، إذا كان اسم إشارة وكان خبرا عن: من، استقلت بهما الجملة، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها.
والذي يظهر أن: من، الإستفهامية ركب معها: ذا، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن: ذا، لغو، فيكون: من ذا، كله في موضع رفع بالابتداء، والموصول بعدهما هو الخبر، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية، و: عنده، معمول: ليشفع، وقيل: يجوز أن يكون حالا من الضمير في يشفع، فيكون التقدير: يشفع مستقرا عنده، وضعف بأن المعنى
288

على يشفع إليه. وقيل: الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه، فشفاعة غيره أبعد، و: بإذنه، متعلق: بيشفع، والباء للمصاحبة، وهي التي يعبر عنها بالحال، أي: لا أحد يشفع عنده إلا مأذونا له.
* (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * الضمير يعود على: ما وهم الخلق، وغلب من يعقل، وقيل: الضميران في: أيديهم وخلفهم، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: * (له ما في السماوات وما في الارض) * قاله ابن عطية، وججوز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه: من ذا، من الملائكة والأنبياء. وقيل: على الملائكة، قاله مقاتل، و: ما بين أيديهم، أمر الآخرة، و: ما خلفهم، أمر الدنيا. قاله ابن عباس، وقتادة، أو العكس قاله مجاهد، وابن جريح، والحكم بن عتبة، والسدي وأشياخه.
و: ما بين أيديهم، هو ما قبل خلقهم، و: ما خلفهم، هو ما بعد خلقهم، أو: ما بين أيديهم، ما أظهروه، و: ما خلفهم، ما كتموه. قاله الماوردي، أو: ما بين أيديهم، من السماء إلى الأرض، و: ما خلفهم، ما في السماوات. أو: ما بين أيديهم، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم، و: ما خلفهم، ما سيكون. أو: عكسه، ذكر هذين القولين تاج القراء في تفسيره.
أو: ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد. أو ما فعلوه وما هم فاعلوه، قاله مقاتل.
والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به، كما تقول: ضرب زيد الظهر والبطن، وأنت تعني بذلك جميع جسده، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات، لا يعزب عنه شيء، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين. كما ذهبوا إليه.
* (ولا يحيطون بشيء من علمه) * الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته، والاشتمال عليه، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض، كما جاء في حديث موسى والخضر: ما نقص علمي وعلمك من علمه إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات، وقالوا: اللهم اغفر علمك فينا، أي معلومك، والمعنى: لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئا إلا ما شاء أن يعلمهم، قاله الكلبي. وقال الزجاج: إبلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتا لنبوتهم.
و: بشيء وبما شاء، متعلقان: بيحيطون، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل، نحو قولك: لا أمر بأحد إلا بزيد، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به، لدلالة قوله: ولا يحيطون على ذلك.
* (وسع كرسيه السماوات والارض) * قرأ الجمهور وسع بكسر السين، وقرئ شاذا بسكونها، وقرئ أيضا شاذا وسع بسكونها وضم العين، والسماوات والأرض بالرفع مبتدأ، وخبرا، والكرسي: جسم عظيم يسع السماوات والأرض، فقيل: هو نفس العرش، قاله الحسن. وقال غيره: دون العرش وفوق السماء السابعة، وقيل: تحت الأرض كالعرش فوق السماء، عن السدي وقيل: الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم، أو: ملك آخر عظيم القدر. وقيل: السلطان والقدرة، والعرب تسمى أصل كل شيء الكرسي، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز. قال الشاعر:
* قد علم القدوس مولى القدس
*
أن أبا العباس أولى نفس
*
289

في معدن الملك القديم الكرسي
وقيل: الكرسي العلم. لأن موضع العالم هو الكرسي، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المحاز، ومنه يقال للعلماء: كراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، ومنه الكراسة، وقال الشاعر:
* تحف بهم بيض الوجوه وعصبة
*
كراسي بالأحداث حين تنوب
*
أي: ترجع، وقيل: الكرسي السر قال الشاعر:
* مالي بأمرك كرسي أكاتمه
*
ولا بكرسي علم الله مخلوق
*
وقيل: الكرسي: ملك من الملائكة يملأ السماوات والأرض، وقيل: قدرة الله، وقيل: تدبير الله، حكاهما الماوردي، وقال: هو الأصل المعتمد عليه. قال المغربي: من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض، وأكرسته أنا، قال العجاج:
* يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
*
قال نعم أعرفه وأكرسا
*
وقال آخر:
* نحن الكراسي لا تعدهوازن
*
أمثالنا في النائبات ولا الأشد
*
وقال الزمخشري: وفي قوله: * (وسع كرسيه) * أربعة أوجه: أحدها: أن كرسيه لم يضق عن السماوات والأرض لبسطته وسعته، وما هو إلا تصوير لعظمته وتخييل فقط، ولا كرسي ثم، ولا قعود، ولا قاعد، لقوله: * (وما قدروا الله حق قدره والارض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه) * من غير تصور قبضه وطى ويمين، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه، وتمثيل حسي. ألا ترى إلى قوله: * (وما قدروا الله حق قدره) *؟ انتهى ما ذكره في هذا الوجه.
واختار القفال معناه قال: المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم.
وقيل: كرسي لؤلؤ، طول القائمة سبعمائة سنة، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون. ذكره ابن عساكر في تاريخه، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قاله.
قال ابن عطية: والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس). وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض). وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله. إنتهى كلامه.
* (ولا يؤوده حفظهما) * قرأ الجمهور: يؤوده بالهمز، وقرئ شاذا بالحذف، كما حذفت همزة أناس، وقرئ أيضا: يووده، بواو منضمومة على البدل من الهمزة أي: لا يشقه، ولا يثقل عليه، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم. وقال أبان بن تغلب: لا يتعاظمه حفظهما، وقيل: لا يشغله حفظ السماوات عن حفظ الأرضين، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السماوات.
والهاء
290

تعود على الله تعالى، وقيل: تعود على يالكرسي، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي.
* (وهو العلى العظيم) * علي في جلاله، عظيم في سلطانه. وقال ابن عباس: الذي كمل في عظمته، وقيل: العظيم المعظم، كما يقال: العتيق في المعتق، قال الأعشى:
* وكأن الخمر العتيق من الاس
*
فنط ممزوجة بماء زلال
*
وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ، فلا يجوز هذا القول. وقيل: والجواب أنها صفة فعل: كالخلق والرزق، فلا يلزم ما قالوه. وقيل: العلى الرفيع فوق خلقه، المتعالي عن الأشباه والأنداد، وقيل: العالي من: علا يعلو: ارتفع، أي: العالي على خلقه بقدرته، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. قال الماوردي: وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان: أحدهما: ان العالي هو الموجود في محل العلو، والعلي هو مستحق للعلو. الثاني: أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعلي لا بالعالي، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما، وقيل: العلي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا غلبه وقهره. قال الشاعر:
* فلما علونا واستوينا عليهم
*
تركناهم صرعى لنسر وكاسر
*
ومنه * (إن فرعون علا فى الارض) * وقال الزمخشري: العلي الشأن العظيم الملك والقدرة. إنتهى. وقال قوم: العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه أن لا يحكى. وقال أيضا: العلي يراد به علو القدر والمنزلة، لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز. إنتهى.
قال الزمخشري: * (فان * قلت) * كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف؟
* (قلت) * ما منها جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبين، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول اعرب: بين العصا ومحائها، فالأولى: بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه؛ والثانية: لكونه مالكا لما يدبره. والثالثة: لكبرياء شأنه، والرابعة: لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والخامسة: لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها، أو: يجلاله وعظيم قدره. إنتهى كلامه.
وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات، منها: الوحدانية، بقوله: لا إله إلا هو، والحياة، الدالة على البقاء بقوله: الحي، و: القدرة، بقول ه: القيوم، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السماوات والأرض، إذ الملك آثار القدرة، إذ للمالك التصرف في المملوك. و: الإرادة، بقوله: * (من ذا الذى يشفع عنده إلا بإذنه) * فهذا دال على الاختيار والإرادة، و: العلم بقوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * ثم سلب عنهم العلم إلا إن أعلمهم هو تعالى، فلما تكملت صفات الذات العلا، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلا للحوادث، ختم ذلك بكونه: العلي القدر العظيم الشأن.
* (لا إكراه فى الدين) * ذكر في سبب نزولها أقوال مضمون أكثرها: أن بعض أولاد الأنصار تنصر، وبعضهم تهود، فأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت. وقال أنس: نزلت فيمن قال له
291

رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أسلم). فقال: أجدني كارها.
واختلف أهل العلم في هذه الآية: أهي منسوخة؟ أم ليست بمنسوخة؟ فقيل: هي منسوخة، وهي من آيات الموادعة التي نسختها آية السيف، وقال قتادة، والضحاك: هي محكمة خاصة في أهل الكتاب الذين يبذلون الجزية، قالا: أمر بقتال أهل الأوثان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ثم أمر فيمن سواهم أن يقبل الجزية. ومذهب مالك: أن الجزية تقبل من كل كافر سوى قريش، فتكون الآية خاصة فيمن أعطى الجزية من الناس كلهم، غ لا يقف ذلك على أهل الكتاب. وقال الكلبي: لا إكراه بعد إسلام العرب، ويقبل الجزية. وقال الزجاج: لا تنسبوا إلى الكراهة من أسلم مكرها، يقال: أكفره نسبه إلى الكفر. قال الشاعر:
* وطائفة قد أكفروني بحبهم
*
وطائفة قالوا: مسيء ومذنب
*
وقيل: لا يكره على الإسلام من خرج إلى غيره. وقال أبو مسلم، والقفال: معناه أنه ما بني تعالى أمر الإيمان على الإجبار والقسر، وإنما بناه على التمكن والاختيار، ويدل على هذا المعنى أنه لما بين دلائل التوحيد بيانا شافيا، قال بعد ذلك: لم يبق عذر في الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه، وهذا ما لا يجوز في دار الدنيا التي هي دار الابتلاء، إذ في القهر والإكراه على الدين بطلان معنى الابتلاء. ويؤكد هذا قوله بعد: * (قد تبين الرشد من الغي) * يعني: ظهرت الدلائل ووضحت البينات، ولم يبق بعدها إلا طريق القسر والإلجاء وليس بجائز لأنه ينافي التكليف، وهذا الذي قاله أبو مسلم والقفال لائق بأصول المعتزلة، ولذلك قال الزمخشري: لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر، ولكن على التمكين والاختيار، ونحوه قوله: * (ولو شاء ربك لآمن من فى الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * أي: لو شاء لقسرهم على الإيمان، ولكنه لم يفعل، وبنى الأمر على الاختيار.
والدين هنا ملة الإسلام واعتقاده، والألف واللام للعهد، وقيل: بدل من الإضافة أي: في دين الله.
* (قد تبين الرشد من الغي) * أي: استبان الإيمان من الكفر، وهذا يبين أن الدين هو معتقد الإسلام.
وقرأ الجمهور: الرشد، على وزن القفل، والحسن: الرشد، على وزن العنق وأبو عبد الرحمن: الرشد، على وزن الجبل، ورويت هذه أيضا عن الشعبي، والحسن ومجاهد. وحكى ابن عطية عن أبي عبد الرحمن: الرشاد، بالألف.
والجمهور على إدغام دال، قد، في: تاء، تبين. وقرئ شاذا بالإظهار، وتبين الرشد، بنصب الأدلة الواضحة وبعثة الرسول الداعي إلى الإيمان، وهذه الجملة كأنها كالعلة لانتفاء الإكراه في الدين، لأن وضوح الرشد واستبانته تحمل على الدخول في الدين طوعا من غير إكراه، ولا موضع لها من الإعراب.
* (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى) * الطاغوت: الشيطان. قاله عمر، ومجاهد، والشعبي، والضحاك، وقتادة، والسدي. أو: الساحر، قاله ابن سيرين، وأبو العالية. أو: الكاهن، قاله جابر، وابن جبير، ورفيع، وابن جريح. أو: ما عبد من دون الله ممن يرضى ذلك: كفرعون، ونمروذ، قاله الطبري. أو: الأصنام، قاله بعضهم.
وينبغي أن تجعل هذه الأقوال كلها تمثيلا، لأن الطاغوت محصور في كل واحد منها.
قال ابن عطية وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت. إنتهى.
وناسب ذلك أيضا اتصاله بلفط الغي، ولأن الكفر بالطاغوت متقدم على الإيمان بالله، لأن الكفر بها هو رفضها، ورفض عبادتها، ولم يكتف بالجملة الأولى لأنها لا تستلزم الجملة الثانية، إذ قد يرفض عبادتها ولا يؤمن بالله، لكن الإيمان يستلزم الكفر بالطاغوت، ولكنه نبه بذكر الكفر بالطاغوت على
292

الانسلاخ بالكلية، مما كان مشتبها به، سابقا له قبل الإيمان، لأن في النصية عليه مزيد تأكيد على تركه.
وجواب الشرط: فقد استمسك، وأبرز في صورة الفعل الماضي المقرون بقد الدالة في الماضي على تحقيقه، وإن كان مستقبلا في المعنى لأنه جواب الشرط، إشعارا بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتيب الجزاء على الشرط، وأنه كائن لا محالة لا يمكن أن يتخلف عنه، و: بالعروة، متعلق باستمسك، جعل ما تمسك به من الإيمان عروة، وهي في الأجرام موضع الإمساك وشد الأيدي شبه الإيمان بذلك. قال الزمخشري: وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر، والاستدلال بالمشاهد المحسوس، حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده والتيقن.
والمشبه بالعروة الإيمان، قاله: مجاهد. أو: الإسلام قاله السدي أو: لا إله إلا الله، قاله ابن عباس، وابن جبير، والضحاك، أو: القرآن، قاله السدي أيضا، أو: السنة، أو: التوفيق. أو: العهد الوثيق. أو: السبب الموصل إلى رضا الله وهذه أقوال متقاربة.
* (لا انفصام لها) * لا انكسار لها ولا انقطاع، قال الفراء: الانفصام والانقصام هما لغتان، وبالفاء أفصح، وفرق بعضهم بينهما، فقال: الفصم انكسار بغير بينونة، والقصم انكسار ببينونة.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من العروة، وقيل: من الضمير المستكن في الوثقى، ويجوز أن يكون خبرا مستأنفا من الله عن العروة، و: لها، في موضع الخبر، فتتعلق بمحذوف أي: كائن لها.
* (والله سميع عليم) * أتى بهذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده الجنان، فناسب هذا ذكر هذين الوصفين لأن الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وقيل: سميع لدعائك يا محمد، عليم بحرصك واجتهادك.
* (الله ولي الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) * الولي، هنا الناصر والمعين أو المحب أو متولى أمورهم، ومعنى: آمنوا، أرادوا أن يؤمنوا، والظلمات: هنا الكفر، والنور الإيمان، قاله قتادة، والضحاك، والربيع. قيل: وجمعت الظلمات لاختلاف الضلالات، ووحد النور لأن الإيمان واحد.
والإخراج هنا إن كان حقيقة فيكون مختصا بمن كان كافرا ثم آمن، وإن كان مجازا فهو مجاز عن منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات قال الحسن: معنى يخرجهم يمنعهم، وإن لم يدخلوا، والمعنى أنه لو خلا عن توفيق الله لوقع في الظلمات، فصار توفيقه سببا لدفع تلك الظلمة، قالوا: ومثل هذه الاستعارة شائع سائغ في كلامهم، كما قال طفيل الغنوي:
* فإن تكن الأيام أحسن مرة
*
إلي فقد عادت لهن ذنوب
*
قال الواقدي: كل شيء في القرآن من الظلمات والنور فإنه أراد به الكفر والإيمان غير التي في الأنعام، وهو: * (وجعل الظلمات والنور) * فإنه أراد به الليل والنهار.
وقال الواسطي: يخرجهم من ظلمات نفوسهم إلى آدابها: كالرضا والصدق والتوكل والمعرفة والمحبة.
وقال أبو عثمان: يخرجهم من ظلمات الوحشة والفرقة إلى نور الوصلة والإلفة.
وقال الزمخشري: آمنوا أرادوا أن يؤمنوا، تلطف بهم حتى يخرجهم بلطفه وتأييده من الكفر إلى الإيمان، أو: الله ولي المؤمنين يخرجهم من الشبه في الدين إن وقعت
لهم، بما يهديهم ويوفقهم لها من حلها، حتى يخرجوا منها إلى نور اليقين.
293

انتهى. فيكون على هذا القول: آمنوا على حقيقته.
* (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات) * قال مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، نزلت في قوم آمنوا بعيسى، فلما جاء محمد عليه السلام كفروا به، فذلك إخراجهم من النور إلى الظلمات.
وقال الكلبي يخرجونهم من إيمانهم بموسى عليه السلام واستفتاحهم بمحمد صلى الله عليه وسلم) إلى كفرهم به، وقيل: من فطرة الإسلام، وقيل: من نور الإقرار بالميثاق، وقيل: من الإقرار باللسان إلى النفاق. وقيل: من نور الثواب في الجنة إلى ظلمة العذاب في النار. وقيل: من نور الحق إلى ظلمة الهوى. وقيل: من نور العقل إلى ظلمة الجهل.
وقال الزمخشري: من نور البينات التي تظهر لهم إلى ظلمات الشك والشبهة.
وقال ابن عطية: لفظ الآية مستغن عن التخصيص، بل هو مترتب في كل أمة كافرة آمن بعضها كالعرب، وذلك أن كان من آمن منهم فالله وليه، أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، ومن كفر بعد وجود الداعي، النبي المرسل، فشيطانه ومغويه كأنه أخرجه من الإيمان، إذ هو معد، وأهل للدخول فيه، وهذا كما تقول لمن منعك الدخول في أمر: أخرجتني يا فلان من هذا الأمر، وإن كنت لم تدخل فيه البتة. انتهى.
والمراد بالطاغوت: الصنم، لقوله: * (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) * وقيل: الشياطين والطاغوت اسم جنس.
وقرأ الحسن: الطواغيت بالجمع.
وقد تباين الإخبار في هاتين الجملتين، فاستفتحت آية المؤمنين باسم الله تعالى، وأخبر عنه بأنه ولي المؤمنين تشريفا لهم إذ بدى في جملتهم باسمه تعالى، ولقربه من قوله: * (والله سميع عليم) * واستفتحت آية الكافرين بذكرهم نعيا عليهم، وتسمية لهم بما صدر منهم من القبيح ثم أخبر عنهم بأن أولياءهم الطاغوت، ولم يصدر الطاغوت استهانة به، وأنه مما ينبغي أن لا يجعل مقابلا لله تعالى، ثم عكس الإخبار فيه فابتدىء بقوله: أولياؤهم، وجعل الطاغوت خبرا. كأن الطاغوت هو مجهول. أعلم المخاطب بأن أولياء الكفار هو الطاغوت، والأحسن في: يخرجهم ويخرجونهم أن لا يكون له موضع من الإعراب، لأنه خرج مخرج التفسير للولاية، وكأنه من حيث إن الله ولي المؤمنين بين وجه الولاية والنصر والتأييد، بأنها آخراجهم من الظلمات إلى النور، وكذلك في الكفار.
وجوزوا أن يكون: يخرجهم، حالا والعامل فيه: ولي، وأن يكون خبرا ثانيا، وجوزوا أن يكون: يخرجونهم، حالا والعامل فيه معنى الطاغوت. وهو نظير ما قاله أبو علي: من نصب: نزاعة، على الحال، والعامل فيها: لظى، وسنذكره في موضعه إن شاء الله و: من، و: إلى، متعلقان بيخرج.
* (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
وذكروا في هذه الآيات أنواعا من الفصاحة وعلم البيان، منها في آية الكرسي: حسن الافتتاح لأنها افتتحت بأجل أسماء الله تعالى، وتكرار اسمه في ثمانية عشر موضعا، وتكرير الصفات، والقطع للجمل بعضها عن بعض، ولم يصلها بحرف العطف. والطباق: في قوله * (الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) * فإن النوم موت وغفلة، والحي القيوم يناقضه. وفي قوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون) * والتشبيه: في قراءة من قرأ * (وسع كرسيه السماوات والارض) * أي كوسع، فإن كان الكرسي جرما فتشبيه محسوس بمحسوس، أو معنى فتشبيه معقول بمحسوس.
ومعدول الخطاب في * (لا إكراه فى الدين) * إذا كان المعنى لا تكرهوا على الدين أحدا. والطباق: أيضا في قوله * (قد تبين الرشد من الغي) * وفي قوله: * (ءامنوا * وكفروا) * وفي قوله * (من الظلمات إلى النور) * والتكرار: في
294

الإخراج لتباين تعليقهما، والتأكيد: بالمضمر في قوله: * (هم فيها خالدون) *.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة الإشارة إلى الرسل المذكورين في قوله: * (وإنك لمن المرسلين) * وأخبر تعالى أنه فضل بعضهم على بعض، فذكر أن * (منهم من كلم الله) * وفسر بموسى عليه السلام، وبدىء به لتقدمه في الزمان، وأخبر أنه * (رفع * بعضهم درجات) * وفسر برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وذكر ثالثا عيسى بن مريم، فجاء ذكر رسولالله صلى الله عليه وسلم) وسطا بين هذين النبيين العظيمين، فكان كواسطة العقد، ثم ذكر تعالى أن اقتتال المتقدمين بعد مجيء البينات هو صادر عن مشيئته.
ثم ذكر اختلافهم وانقسامم إلى مؤمن وكافر، وأنه تعالى يفعل ما يريد، ثم أمر المؤمنين بالإنفاق مما رزقهم من قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه توسيل بصداقة ولا شفاعة.
ثم ذكر أن الكافرين هم المجاوزون الحد الذي حده الله تعالى، ثم ذكر تعالى أنه هو المتوحد بالإلهية، وذلك عقيب ذكر الكافرين. وذكرا أتباع موسى عليهما السلام.
ثم سرد صفاته العلا وهي التي يجب أن تعتقد في الله تعالى من كونه واحدا حيا قائما بتدبير الخلق، لا يلحقه آفة، مالكا للسموات والأرض، عالما بسرائر المعلومات، لا يعلم أحد شيئا من علمه إلا بما يشاء هو تعالى، وذكر عظيم مخلوقاته، وأن بعضها، وهو الكرسي، يسع السماوات والأرض، ولا يثقل ولا يشق عليه حفظ السماوات والأرض.
ثم ذكر أنه بعد وضوح صفاته العلا ف * (لا إكراه فى الدين) * إذ قد تبينت طرق الرشاد من طرق الغواية، ثم ذكر أن من كفر بالطاغوت وآمن بالله فهو مستمسك بالعروة الوثقى، عروة الإيمان، ووصفها بالوثقى لكونها لا تنقطع ولا تنفصم، واستعار للإيمان عروة إجراء للمعقول مجرى المحسوس، ثم ذكر تعالى أنه ولي المؤمنين
أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وأن الكافرين أولياؤهم الأصنام والشياطين، وهم على العكس من المؤمنين، ثم أخبر عن الكفار أنهم أصحاب النار وأنهم مخلدون فيها والحالة هذه، والله أعلم بالصواب.
2 (* (ألم تر إلى الذى حآج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين * أو كالذى مر على قرية وهى خاوية على عروشها قال أنى يحى هاذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءاية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير * وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولاكن ليطمئن قلبى قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) *)) 2
بهت: تحير ودهش، ويكون متعديا على وزن فعل، ومنه: فتبهتهم، ولازما على وزن فعل كظرف وفعل
295

كدهش، والأكثر في اللازم الضم وحكي عن بعض العرب: بهت بفتح الهاء لازما، ويقال بهته وباهته واجهه بالكذب، وفي الحديث أن اليهود قوم بهت.
الخاوي: الخالي، خوت الدار تخوى خوى غير ممدود، وخويا، والأولى أفصح، ويقال خوى البيت انهدم لأنه بتهدمه يخلو من أهله، والخوى: الجوع: لخلو البطن من الغذاء، وخوت المرأة وخويت خلا جوفها عند الولادة، وخويت لها تخوية علمت لها خوية تأكلها، وهي طعام. والخوي على وزن فعيل: البطن السهل من الأرض، وخوي البعير جافى بطنه عن الأرض في مبركه، وكذلك الرجل في سجوده قال الراجز:
* خوى على مستويات خمس
*
كركرة وثفنات ملس
*
العرش: سقف البيت، وكل ما يهيأ ليظل أو يكن فهو عريش الدالية، وقال تعالى: * (ومما يعرشون) * وفي الحديث لما أمر ببناء المسجد قالوا: نبنيه لك بنيانا قال: (لا بل عرش كعرش أخي موسى) فوضعوا النخل على الحجارة وغشوه بالجريد وسعفه، وقيل: العرش البنيان قال الشاعر:
* إن يقتلونك فقد ثللث عروشهم
*
بعتيبة بن الحارث بن شهاب
*
مائة: اسم لرتبة من العدد معروفة، ويجمع على مئات ومئين، وهي مخففة محذوفة اللام، ولا مهاياء، فالأصل مئية، ويقال: أمأيت الدراهم إذا صيرتها، وأمأت هي، أي: صارت مائة.
العام: مدة من الزمان معروفة، وألفه منقلبة عن واو، لقولهم: العويم والأعوام. وقال النقاش: العام مصدر كالعوم، سمي به هذا القدر من الزمان لأنها عومة من الشمس في الفلك، والعوم كالسبح، وقال تعالى * (وكل فى فلك يسبحون) * والعام على هذا: كالقول والقال.
اللبث: المكث والإقامة.
يتسنه: إن كانت الهاء أصلية فهو من السنة على من يجعل لامها المحذوف هاء، قالوا في التصغير: سنيهة، وفي الجمع سنهات. وقالوا: سانهت وأسنهت عند بني فلان، وهي لغة الحجاز وقال الشاعر:
* وليست بسنهاء ولا رجبية
*
ولكن عرايا في السنين الجوائح
*
وإن كانت الهاء للسكت، وهو اختيار المبرد، فلام الكلمة محذوفة للجازم، وهي ألف منقلبة عن واو على من يجعل
296

لام سنة المحذوف واوا. لقولهم: سنية وسنوات، واشتق منه الفعل، فقيل: سانيت وأسنى وأسنت. أبدل من الواو تاء، أو تكون الألف منقلبة عن ياء مبدلة من نون، فتكون من المسنون أي: المتغير، وأبدلت كراهة اجتماع الأمثال، كما قالوا: تظني، ويتلع الأصل تطنن ويتلعع، قاله أبو عرم، وخطأه الزجاج. قال: لأن المسنون: المصبوب على سنة الطريق وصوبه وقال النقاش: هو من قوله من ماء غير آسن ورد النجاة عليه هذا القول لأنه لو كان من أسن الماء لجاء لم يتأسن، لأنك لو بنيت تفعل من الأكل لقلت تأكل، ويحتمل ما قاله النقاش على اعتقاد القلب، وجعل فاء الكلمة مكان اللام، وعينها مكان الفاء، فصار: تسنأ، وأصله تأسن، ثم أبدلت الهمزة كما قالوا في: هدأ وقرأ واستقرأ، هذا وقرا واستقرا.
الحمار: هو الحيوان المعروف، ويجمع في القلة على: أفعلة قالوا: أحمرة، وفي الكثرة على: فعل، قالوا: حمر وعلى: فعيل، قالوا: حمير.
أنشر: الله الموتى، ونشرهم، ونشر الميت حيي قال الشاعر:
* حتى يقول الناس مما رأوا
*
يا عجبا للميت الناشر
*
وأما: أنشز، بالزاي فمن النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، ومعن: أنشز الشيء جعله ناشزا، أي: مرتفعا، ومنه: انشزوا فانشزوا، وامرأة ناشز، أي: مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج.
الطمأنينة: مصدر اطمأن على غير القياس، والقياس الاطمئنان، وهو: السكون، وطامنته أسكنته، وطامنته فتطامن: خفضته فانخفض، ومذهب سيبويه في اطمأن أنه مما قدمت فيه الميم على الهمزة، فهو من باب المقلوب، ومذهب الجرمي: أن الأصل في اطمأن كاطأمن، وليس من المقلوب، والترجيح بين المذهبين مذكور في علم التصريف.
الطير: اسم جمع: كركب وسفر، وليس بجمع خلافا لأبي الحسن.
صار: يصور قطع وأنصار: انقطع، وصرته أصوره: أملته، ويقال أيضا في القطع والإمالة: صاره يصيره، قاله أبو علي، وقال الفراء: الضم في الصاد يحتمل الإمالة والتقطيع، والكسر فيها لا يحتمل إلا القطع، وقال أيضا: صاره مقلوب صراه عن كذا، أي: قطعه، وقال غيره: الكسر بمعنى القطع، والضم بمعنى الإمالة.
الجبل: معروف ويجمع في القلة على: أجبال وأجبل، وفي الكثرة على: جبال.
الجزء: من الشيء، القطعة منه وجزأ الشيء جعله قطعا.
* (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك) * مناسبة هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه، وانه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه، إذ كان الله وليه، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت: * (ألا إن حزب الله هم * الغالبون) * * (ألا إن حزب الله هم المفلحون) * فصارت هذه القصة مثلا للمؤمن والكافر اللذين تقدم ذكرهما، وتقدم الكلام على قوله: * (ألم تر إلى الذين) * فأغنى عن إعادته.
وقرأ علي بن أبي طالب: ألم تر، بسكون الراء، وهو من إجراء الوصل مجرى الوقف، والذي حاج إبراهيم: هو نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح، ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة، قاله مجاهد، وقتادة، والربيع، والسدي، وابن إسحاق، وزيد بن أسلم، وغيرهم. وقال ابن جريج: هو أول ملك في الأرض، ورده ابن عطية.
297

وقال قتادة: هو أول من تجبر، وهو صاحب الصرح ببابل. قيل: إنه ملك الدنيا بأجمعها ونفذت فيها طينته، وقال مجاهد: ملك الأرض مؤمنان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمروذ وبخت نصر. وقيل: هو نمروذ بن يجاريب بن كوش بن كنعان ابن سام بن نوح. وقيل: نمروذ بن فايخ بن عابر بن سايخ بن ارفخشده بن سام بن نوح. وحكى السهيلي أنه: النمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكا على السودان، وكان ملكه الضحاك الذي يعرف بالازدهاق، واسمه اندراوست بن اندرشت، وكان ملك الأقاليم كلها، وهو الذي قتله أفريدون بن أهبان، وفيه يقول أبو تمام حبيب في قصيد مدح به الأفشين، وذكر أخذه بابك الخرمي:
* بل كان كالضحاك في فتكاته
*
بالعالمين، وأنت أفريدون
*
وهو أول من صلب وقطع الأيدي والأرجل، وملك نمروذ أربعمائة عام فيما ذكروا: وله ابن يسمى نمروذا الأصغر ملك عاما واحدا.
ومعنى: * (حاج إبراهيم فى ربه) * أي: عارض حجته بمثلها، أو: أتى على الحجة بما يبطلها، أو: أظهر المغالبة في الحجة. ثلاثة أقوال.
واختلفوا في وقت الحاجة، فقيل: خرجوا إلى عيد لهم، فدخل إبراهيم على أصنامهم فكسرها، فلما رجعوا قال: أتعبدون ما تنحتون؟ فقال له: فمن تعبد؟ قال: أعبد * (ربي الذى يحى) * وقيل: كان نمروذ يحتكر، فإذا احتاجوا اشتروا منه الطعام، فإذا دخلوا عليه سجدوا له، فلما دخل إبراهيم لم يسجد له، فقال: مالك لم تسجد لي؟ فقال: أنا لا أسجد إلا لربي فقال له نمروذ: من ربك؟ قال: * (إبراهيم ربي الذى يحى ويميت) *.
وفي قوله: إنه كان كلما جاء قوم قال من ربكم وإلهكم؟ فيقولون: أنت، فيقول: ميروهم وجاء إبراهيم يمتار، فقال له: من ربك وإلهك؟ فقال: * (ربي الذى يحى ويميت) *.
وقيل: كانت الحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمروذ، وذكروا أنه لما لم يمره النمروذ، مر على رمل أعفر، فأخذ منه وأتى أهله ونام، فوجدوه أجود طعام، فصنعت منه وقربته له، فقال: من أين هذا؟ قالت من الطعام الذي جئت به فعرف أن الله رزقه، فحمد الله.
وقيل: مر على رملة حمراء، فأخذ منها، فوجدوها حنطة حمراء، فكان إذا زرع منها جاء سنبله من أصلها إلى فرعها حبا متراكبا.
في: ربه، يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم، وأن يعود على النمروذ، والظاهر الأول.
* (أن آتاه الله الملك) * الظاهر أن الضمير في: آتاه، عائد على: الذي حاج، وهو قول الجمهور، و: أن آتاه، مفعول من أجله على معنيين: أحدهما: أن الحامل له على المحاجة هو ايتاؤه الملك، أبطره وأورثه الكبر، والعتو، فحاج لذلك. والثاني: أنه وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على ايتائه الملك، كما تقول: عاداني فلان لأني أحسنت إليه، تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان. ومنه: * (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) * وأجاز الزمخشري أن يكون التقدير: حاج وقت أن يكون التقدير: حاج وقت أن آتاه الله الملك، فإن عنى أن ذلك على حذف مضاف، فيمكن ذلك على أن فيه بعدا من جهة أن المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك. إلا أن يجوز في الوقت، فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء الله الملك له، ألا ترى أن إيتاء الله الملك إياه سابق على الحاجة وإن عنى أن: أن والفعل، وقعت موقع المصدر الواقع موقع ظرف الزمان؟ كقولك: جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك؟ فلا يجوز ذلك، لأن النحويين مضوا على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه، فلا يجوز: أجىء أن يصيح الديك، ولا جئت أن صاح الديك. وقال المهدوي: يحتمل أن يعود الضمير على إبراهيم: أي آتاه ملك النبوة. قال ابن عطية: وهذا تحامل من التأويل. إنتهى. وما ذكره المهدوي
298

احتمالا هو قول المعتزلة، قالوا: الهاء كناية عن إبراهيم لا عن الكافر الذي حاجه، لأن الله تعالى قال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * والملك عهد منه، وقال تعالى: * (ما ءاتاهم الله من فضله فقد ءاتينا ءال إبراهيم الكتاب والحكمة وءاتيناهم ملكا عظيما * الحكمة * أم يحسدون الناس) * ورد قول المعتزلة بأن إبراهيم ما عرف بالملك، وبقول الكافر: أنا أحيي وأميت، ولو كان إبراهيم الملك لما كان يقدر على محاجته في مثل هذه الحالة، وبأنه لما قال: أنا أحيي وأميت، جاء برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر، ولو لم يكن ملكا لم يقتل بين يدي إبراهيم بغير إذنه، إذ كان إبراهيم هو الملك، ولا يرد على المعتزلة بهذه الأوجه، لأن إثبات ملك النبوة لإبراهيم لا ينافي ملك الكافر، لأنهما ملكان: أحدهما: بفضل الشرف في الدين كالنبوة والإمامة. والآخر: بفضل المال والقوة والشجاعة والقهر والغلبة والاتباع. وحصول الملك للكافر بهذا المعنى يمكن، بل هو واقع مشاهد.
وقال الزمخشري: * (فان * قلت) *: كيف جاز أن يؤتى الله الملك الكافر؟
* (قلت) *: فيه قولان: آتاه ما غلب به وتسلط من المال والخدم والأتباع، وأما التغليب والتسليط فلا، وقيل: ملكة امتحانا لعباده. إنتهى. وفيه نزغة اعتزالية، وهو قوله: وأما التغليب والتسليط فلا، لأنه عندهم هو الذي تغلب وتسلط، فالتغليب والتسليط فعله لا فعل الله عندهم.
* (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى) * هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر، وهو أن قال: من ربك؟ وقد تقدم في قصته شيء من هذ، وإلا فلا يببتدأ كلام بهذا.
واختص إبراهيم من آيات الله بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها، وأدلها على تمكن القدرة، والعامل في إذ حاج، وأجاز الزمخشري أن يكون بدلا من: أن آتاه، إذا جعل بمعنى يالوقت، وقد ذكرنا ضعف ذلك، وأيضا فالظرفان مختلفان إذ وقت إيتاء الملك ليس وقت قوله: * (ربي الذى يحى ويميت) * وفي قول إبراهيم: * (ربي الذى يحى ويميت) * تقوية لقول من قال إن الضمير في قوله: في ربه، عائد على إبراهيم.
وربي الذي يحيي ويميت، مبتدأ وخبر، وفيه إشارة إلى أنه هو الذي أوجد الكافر ويحييه ويميته، كأنه قال: ربي الذي يحيي ويميت هو متصرف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه أنت ولا أشباهك من هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم اللذين لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء، وفيه إشارة أيضا إلى المبدأ والمعاد وفي قوله: * (ألم تر إلى) * دليل على الاختصاص لأنهم قد ذكروا أن الخبر، إذا كان بمثل هذا، دل على الاختصاص، فتقول: زيد الذي يصنع كذا، أي: المختص بالصنع.
* (قال إبراهيم ربي) * لما ذكر إبراهيم أن ربه الذي يحيي ويميت عارضه الكافر بأنه بحيي ويميت، ولم يقل: أنا الذي يحيي ويميت، لأنه كان يدل على الاختصاص، وكان الحس يكذبه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا، وإنما أراد أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك، بل أنا مشاركه في ذلك. قيل: أحضر رجلين، قتل أحدهما وأرسل الآخر، وقيل: أدخل أربعة نفر بيتا حتى جاعوا، فأطعم اثنين فحييا، وترك اثنين فماتا، وقيل: أحيا بالمباشرة وإلقاء النطفة، وأمات بالقتل.
وقرأ نافع باثبات ألف: أنا إذا كان بعدها همزة مفتوحة أو مضمر. وروى أبو نشيط إثباتها مع الهمزة المكسورة. وقرأ الباقون بحذف الألف، وأجمعوا على إثباتها في الوقف، وإثبات الألف وصلا ووقفا لغة بني تميم، ولغة غيرهم حذفها في الوصل، ولا تثبت عند غير بني تميم وصلا إلا في ضرورة الشعر نحو قوله:
* فكيف أنا وانتحالي القوافي
*
بعد المشيب كفى ذاك عارا
*
299

والأحسن أن تجعل قراءة نافع على لغة بني تميم. لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف على ما تأوله عليه بعضهم، قال: وهو ضعيف جدا، وليس هذا مما يحسن الأخذ
به في القرآن. إنتهى. فإذا حملنا ذلك على لغة تميم كان فصيحا.
* (وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته، فإنه عارض اللفظ بمثله، ولم يتدبر اختلاف الوصفين، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه، ولا يغالط فيه، واختلف المفسرون هل ذلك انتقال من دليل إلى دليل؟ أو هو دليل واحد والانتقال فيه من مثال إلى مثال أوضح منه؟ وإلى القول الأول ذهب الزمخشري. قال: وكان الاعتراض عتيدا، ولكن إبراهيم لما سمع جوابه الأحمق لم يحاجه فيه، ولكن انتقل إلى ما لا يقدر فيه على نحو ذلك الجواب ليبهته أول شيء، وهذا دليل على جواز الانتقال من حجة إلى حجة. إنتهى كلامه.
ومعنى قول الزمخشري: وكان الاعتراض عتيدا: أي من إبراهيم، لو أراد أن يعترض عليه بأن يقول له: أحي من أمت، فكان يكون في ذلك نصرة الحجة الأولى، وقد قيل: إنه قال له ذلك، فانقطع به، وأردفه إبراهيم بحجة ثانية، فحاجه من وجهين، وكان ذلك قصدا لقطع المحاجة، لا عجزا عن نصرة الحجة الأولى، وقيل: كان نمروذ يدعي الربوبية، فلما قال له: * (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه وأميت) * أي: الذي يفعل ذلك أنا لا من نسبت ذلك إليه، فلما سمع إبراهيم افتراءه العظيم، ودعاءه الباطل تمويها وتلبيسا، اقترح عليه، فقال: * (فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) * فافحم وبان عجزه وظهر كذبه.
وقيل: لما قال: * (ربي الذى يحى * ويميت) * قال له النمروذ: وأنت رأيت هذا؟ فلما لم يكن رآه مع علمه أن الله قادر عليه انتقل إلى ما هو واضح عنده وعند غيره، وقيل: انتقل لأنهم كانوا يعظمون الشمس، فأشار إلى أنها لله عز وجل مقهورة.
وأما القول الئاني: وهو أنه ليس انتقالا من دليل إلى دليل، بل الدليل واحد في الموضعين، فهذا قول المحققين، قالوا: وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى ولها أمثلة: منها: الإحياء والإماتة. ومنها: السحاب والرعد والبرق. ومنها: حركات الأفلاك والكواكب. والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل، فكان ما فعله إبراهيم عليه السلام من باب ما يكون الدليل واحدا لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر، وليس من باب ما قع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادعى الكافر الربوبية، * (قال إبراهيم ربي الذى يحى ويميت) * فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال: * (فإن الله يأتى بالشمس من المشرق) * قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر، ولم يقل: فإن ربي يأتي بالشمس، ليبين أن إله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلا إلهم.
ومجئ الفاء في: فإن، يدل على جملة محذوفة قبلها، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل أفاء، وكأن التركيب قال إبراهيم: إن الله يأتي بالشمس، وتقدير الجملة، والله أعلم؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، و: الباء، في بالشمس للتعدية، تقول: أتت الشمس، وأتى بها الله، أي أحياها، و: من، لابتداء الغاية.
* (فبهت الذى كفر) * قراءة الجمهور مبنيا لما لم يسم فاعله، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه، ويحتمل أن يكونه الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من: قال، أي: فحيره قول إبراهيم وبهته.
وقرأ ابن السميفع: فبهت، بفتح الباء والهاء، والظاهر أنه متعد كقراءة الجمهور فبهت مبينا للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل: المعنى، فبهت الكافر إبراهيم، أي: سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة، ويحتمل أن يكون لازما ويكون الذي كفر فاعلا، والمعنى:: بهت أو أتى بالبهتان.
وقرأ أبو حيوة: فبهت، بفتح الباء وضم الهاء. وقرئ فيما حكاه الأخفش:
300

فبهت بكسر الهاء.
* (والله لا يهدى القوم الظالمين) * إخبار من الله تعالى بأن الظالم لا يهديه، وظاهره العموم، والمراد هداية خاصة، أو ظالمون مخصوصون، فما ذكر في الهداية الخاصة أنه لا يرشدهم في حجتهم، وقيل: لا يهديهم إلى الثواب في الآخرة ولا إلى الجنة، وقيل: لا يلطف بهم ولا يلهم ولا يوفق، وخص الظالمون بمن يوافي ظالما أي كافرا.
والذي يظهر أن هذا إخبار من الله بأن من حكم عليه، وقضى بأن يكون ظالما أي كافرا وقدر أن لا يسلم، فإنه لا يمكن أن يقع هداية من الله له * (فمن * حقت عليه * كلمة العذاب أفأنت تنقذ من فى النار) *.
ومناسبة هذه الآية بهذا الإخبار ظاهرة، لأنه ذكر حال مدع شركة الله في الإحياء والإماتة، مموها بما فعله أنه إحياء وإماتة، ولا أحد أظلم ممن يدعي ذلك، فأخبر الله تعالى: أن من كان بهذه الصفة من الظلم لا يهديه الله إلى اتباع الحق، ومثل هذا محتوم له عدم الهداية، مختوم له بالكفر، لأن مثل هذه الدعوى ليست مما يلتبس على مدعيها، بل ذلك من باب الزندقة والفلسفة والسفسطة، فدعيها إنما هو مكابر مخالف للعقل، وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادعاء الإحياء والإماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه. وهل المسألتان إلا سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر؟ ولكن الله تعالى جعله بهوتا دهشا متحيرا منقطعا إكراما لنبيه إبراهيم، وإظهارا لدينه.
وقيل: إنما لم يدع أنه هو الذي يأتي بها من المشرق، لظهور كذبه لأهل مملكته، إذ يعلمون أنه محدث، والشمس كانت تطلع من المشرق قبل حدوثه، ولم يقل: أنا آتي
بها من المغرب لعلمه بعجزه، فلما رأى أنه لا مخلص له سكت وانقطع.
* (أو كالذى مر على قرية) * قرأ الجمهور: أو، ساكنة الواو، قيل: ومعناها التفصيل، وقيل: التخيير في التعجيب من حال من ينشأ منهما.
وقرأ أبو سفيان بتن حسين: أو، كالذي، بفتح الواو، وهي حرف عطف دخل عليها ألف التقرير، والتقدير: وأرأيت مثل الذي؛ ومن قرأ: أو، بحرف العطف فجمهور المفسرين أنه معطوف على قوله: * (ألم تر إلى الذى حاج) * على المعنى، إذ معنى: ألم تر إلى الذي؟ أرأيت كالذي حاج؟ فعطف قوله: أو كالذي مر، على هذا المعنى، والعطف على المعنى موجود في لسان العرب قال الشاعر:
* تقي نقي لم يكثر غنيمة
*
بنهكة ذي قربى ولا بحقلد
*
المعنى في قوله: لم يكثر: ليس بمكثر: ولذلك راعى هذا المعنى فعطف عليه قوله: ولا بحقلد وقال آخر:
* أجدك لن ترى بثعيلبات
*
أولاء بيداء ناحية ذمولا
*
* ولا متدارك والليل طفل
*
ببعض نواشع الوادي حمولا
*
المعنى: أجدك لست برآء، ولما راعى هذا المعنى عطف عليه قوله: ولا متدارك، والعطف على المعنى نصوا على أنه لا ينقاس.
وقال الزمخشري، أو كالذي: معناه أورأيت مثل الذي؟ فحذف لدلالة: ألم تر؟ عليه لأن كلتيهما كلمة تعجيب. انتهى. هو تخريج حسن، لأن إضمار الفعل لدلالة المعنى عليه أسهل من العطف على مراعاة المعنى، وقد جوز الزمخشري الوجه الأولى.
وقيل: الكاف زائدة، فيكون: الذي، قد عطف على: الذي، التقدير: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم؟ أو الذي مر على قرية؟ قيل: كما زيدت في قوله تعالى: * (ليس كمثله شىء وهو السميع * العليم) * وفي قوله الراجز.
301

فصيروا مثل كعصف مأكول
ويحتمل أن لا يكون ذلك على حذف فعل، ولا على العطف على المعنى، ولا على زيادة الكاف، بل تكون الكاف اسما على ما يذهب إليه أبو الحسن، فتكون الكاف في موضع جر، معطوفة على الذي، التقدير: * (ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم) * أو إلى مثل * (الذى مرج * على قرية) *؟ ومجئ الكاف اسما فاعلة، ومبتدا ومجرورة بحرف الجر ثابت في لسان العرب، وتأويلها بعيد، فألاولى هذا الوجه الأخير، وإنما عرض لهم الإشكال من حيث اعتقاد حرفية الكاف، حملا على مشهور مذهب البصريين، والصحيح ما ذهب إليه أبو الحسن، ألا ترى في الفاعلية لمثل في قول الشاعر:
* وإنك لم يفخر عليك كفاخر
*
ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب؟
*
والكلام على الكاف يذكر في علم النحو.
والذي مر على قرية هو عزير، قاله علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وقتادة، والربيع، والضحاك، والسدي، ومقاتل، وسليمان بن بريدة، وناجية بن كعب، وسالم الخواص.
وقيل: أرمياء، قاله وهب، ومجاهد، وعبد الله بن عبيد بن عمير، وبكر بن مضر وقال ابن إسحاق: و أرمياء، وهو الخضر، وحكاه النقاش عن وهب.
قال ابن عطية: وهذا كما نراه إلا أن يكون إسما وافق اسما، لأن الخضر معاصر لموسى، وهذا الذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب.
قال بعض شيوخنا، يحتمل أن يكون الخضر بعينه ويكون من المعمرين، فيكون أدرك زمان خراب القرية، وهو إلى الآن باق على قول أكثر العلماء. انتهى كلامه.
وقيل: على كافر مر على قرية وكان على حمار ومعه سلة تين، قاله الحسن. وقيل: رجل من بني إسرائيل غير مسمى، قاله مجاهد فيما حكاه مكي. وقيل: غلام
لوط عليه السلام، وقيل: شعياء.
والذي أحياها بعد خرابها: لو سك الفارسي، حكاه السهيلي عن القتيبي.
والقريبة: بيت المقدس، قاله وهب، وقتادة، والضحاك، وعكرمة، والربيع. أو: قرية العنب، وهي على فرسخين من بيت المقدس، أو: الأرض المقدسة، قاله الضحاك، أو: المؤتفكة، قاله قوم، أو: القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد، أو: دير هرقل، قاله ابن عباس. أو: شابور أباد، قاله الكلبي، أو: سلماياذ، قاله السدي.
* (وهى خاوية على عروشها) * قيل: المعنى خاوية من أهلها ثابتة على عروشها، فالبيوت قائمة. وقال السدي. ساقطة متهدمة جدرانها على سقوفها بعد سقوط السقوف، وقيل: على، بمعنى: مع، أي: مع أبنيتها، والعروش على هذه الأبنية.
وهذه الجملة في موضع الحال من الفاعل الذي في: مر، أو: من قرية، والحال من النكرة إذا تأخرت تقل، وقيل: الجملة في موضع الصفة للقرية، ويبعد هذا القول الواو، و: على، متعلقة بمحذوف إذا كان المعنى: خاوية من أهلها، أي: مستقرة على عروشها، أو: بخاوية إذا كان المعنى ساقطة. وقيل: على عروشها بدل من قوله: قرية، أي: مر على عروشها، وقيل: في موضع الصفة لقرية، أي: مر على قرية كائنة على عروشها وهي خاوية.
* (قال أنى يحى هاذه الله
302

بعد موتها) * قيل: لما خرب بخت نصر البابلي بيت المقدس، حين أحدثت بنو إسرائيل الأحداث، وقف أرمياء، أو عزير، على القرية وهي كالتل العظيم وسط بيت المقدس، لأن بخت نصر أمر جنده بنقل التراب إليه حتى جعله كالجبل، فقال هذا الكلام.
قال الزمخشري: والماركان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمروذ في سلك، ولكلمة الاستبعاد التي هي: أنى يحيي، وقيل: عزير، أو: الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم. انتهى.
وقال أبو علي: لا يجوز أن يكون نبيا لأن مثل هذا الشك لا يقع للأنبياء. والإحياء والإماتة هنا مجازان، عبر بالإحياء عن العمارة، وبالموت عن الخراب. وقيل: حقيقتان فيكون ثم مضاف محذوف تقديره: أنى يحيي أهل هذه القرية، أو يكون هذه إشارة إلى ما دل عليه المعنى من عظام أهلها البالية، وجثثهم المتمزقة، وأوصالهم المتفرقة، فعلى القول بالمجاز يكون قوله: أنى يحيي على سبيل التلهف من الواقف المعتبر على مدينته التي عهد فيها أهله وأحبته، وضرب له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه، وعلى القول الثاني يكون قوله: أنى يحيي اعترافا بالعجز عن معرفة طريقة الإحياء واستعظاما لقدرة المحيي، وليس ذلك على سبيل الشك. وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه.
* (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) * أي أحياه وجعل له الحركة والانتقال. قيل: لما مر سبعون سنة من موته، وقد منعه من السباع والطير، ومنع العيون أن تراه، أرسل الله ملكا إلى ملك من ملوك فارس عظيم يقال له لوسك، فقال له: إن الله يأمرك أن تنفر بقوم؛ فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أحسن ما كانت، فانتدب الملك قيل ثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان ألف عامل، وجعلوا يعمرونها، وأهلك الله بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه، ونجى الله من بقي من بني إسرائيل وردهم إلى بيت المقدس ونواحيه فعمروها ثلاثين سنة، وكثر واحتى كانوا كأحسن ما كانوا عليه.
* (قال كم لبثت) *. الظاهر أن القائل هو الله تعالى لقوله: * (كيف ننشزها) * وقيل: هاتف من السماء، وقيل: جبريل، وقيل: نبي، وقيل: رجل مؤمن شاهده حين مات وعمر إلى حين إحيائه.
وعلى اختيار الزمخشري لم يكن بعد البعث كافرا، فلذلك ساغ أن يكلمه الله. انتهى. ولا نص في الآية على أن الله كلمه شفاها.
و: كم، ظرف أي: كم مدة لبثت؟ أي: لبثت ميتا وهو سؤال على سبيل التقرير.
* (قال لبثت يوما أو بعض يوم) * قال ابن جريج، وقتادة، والربيع: أماته الله غدوة يوم ثم بعثه قبل الغروب بعد مائة سنة، فقال: قبل النظر إلى الشمس: يوما، ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم، فكان قوله: يوما على سبيل الظن، ثم لما تحقق أنه لم يكمل اليوم، قال؛ أو بعض يوم.
والأولى أن لا تكون، أو، هنا للترديد، بل تكون للإضراب، كأنه قال: بل بعض يوم، لما لاحت له الشمس أضرب عن الإخبار الأول الذي كان على طريق الظن، ثم أخبر بالثاني على طريق التيقن عنده.
وفي قوله: أو بعض يوم، دليل على أنه يطلق لفظ بعض على أكثر الشيء.
* (قال بل لبثت مائة عام) * بل، لعطف هذه الجملة على الجملة محذوفة التقدير، قال: ما لبثت هذه المدة بل: لبثت مائة عام.
وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم باظهار التاء في: لبثت وقرأ الباقون بالإدغام، وذلك في جميع القرآن.
وذكر تعيين المدة هنا في قوله: بل لبثت مائة عام، ولم يذكر تعيينها في قوله: * (قال إن لبثتم إلا قليلا) * وإن اشتركوا في جواب: * (لبثنا يوما أو بعض يوم) * لأن المبعوث في البقرة واحد فانحصرت مدة إماتة الله إياه، وأولئك متفاوتو اللبث تحت الأرض نحو من مات في أول الدنيا، ومن مات في آخرها، فلم ينحصروا تحت عدد مخصوص، فلذلك أدرجوا تحت قوله: إلا قليلا، لأن مدة الحياة الدنيا بالنسبة إلى حياة الآخرة قليلة، والله تعالى محيط علمه بمدة لبث كل واحد واحد، فلو ذكر مدة كل واحد واحد لاحتيج في عدة ذلك إلى أسفار كثيرة.
* (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) * في قصة عزير أنه لما نجا من بابل ارتحل على حمار له حتى نزل دير هرقل
303

على شط دجلة، فطاف في القرية فلم ير فيها أحدا، وعامة شجرها حامل، فأكل من الفاكهة واعتصر من العنب فشرب منه، وجعل فضل الفاكهة في سلة وفضل العنب في زق، فلما رأى خراب القرية وهلاك أهلها قال: أنى يحيي؟ على سبيل التعجب، لا شكا في البعث، وقيل: كان شرابه لبنا. قيل: وجد التين والعنب كما تركه جنيا، والشراب على حاله.
وقرأ حمزة، والكسائي بحذف الهاء في الوصل على أنها هاء السكت، وقرأ باقي السبعة بإثبات الهاء في الوصل والوقف، والأظهر أن تكون الهاء أصلية، ويحتمل أن يكون ذلك من إجراء الوصل مجرى الوقف، وقد تقدم الكلام على هذه اللفظة في الكلام على المفردات، وقرأ أبي: لم يسنه، بادغام التاء في السين، كما قرىء: لا يسمعون، والأصل: لا يتسمعون، وقرأ طلحة بن مصرف وغيره: لمائة سنة، مكان: لم يتسنه. وقرأ عبد الله: وهذا شرابك لم يتسنه، والضمير في: يتسنه مفرد، فيحتمل أن يكون عائدا على الشراب خاصة، ويكون قد حذف مثل هذه الجملة الحالية من الطعام لدلالة ما بعده عليه، ويحتمل أن يكون الطعام والشراب أفرد ضميرهما لكونهما متلازمين، فعوملا معاملة المفرد، أو لكونهما في معنى الغذاء، فكأنه قيل: وانظر إلى غذائك لم يتسنه وقال الشاعر في المتلازمين:
* وكأن في العينين حب قرنفل
*
أو سنبلا كحلت به فانهلت
*
والجملة من قوله: لم يتسنه، في موضع الحال، وهي منفية: بلم، وزعم بعض أصحابنا أن إثبات الواو في الجملة المنفية بلم هو المختار، كما قال الشاعر:
* بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
*
ولم تكثر القتلى بها حين سلت
وزعم بعضهم أنه إذا كان منفيا فالأولى أن ينفي: بلما، نحو: جاء زيد ولما يضحك، قال: وقد تكون منفية: بلم وما، نحو: قام زيد ولم يضحك، أو: ما يضحك، وذلك قليل جدا. انتهى كلامه. وليس إثبات: الواو، مع: لم، أحسن من عدمها، بل يجوز إثباتها وحذفها فصيحا، وقد جاء ذلك في القرآن في مواضع، قال تعالى: * (فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء) * وقال تعالى: * (أو قال أوحى إلى ولم يوح إليه شىء) * ومن قال: إن النفي بلم قليل جدا فغير مصيب، وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في باب: الحال، في (منهج السالك على شرح ألفية ابن مالك) من تأليفنا.
*
* (وانظر إلى حمارك) * قيل: لما مضت المائة أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت، ثم أحيا جسده وهو ينظر. ثم نظر إلى حماره، فإذا عظامه متفرقة بيض تلوح، فسمع صوتا من السماء: أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع بعضها على بعض، واتصلت، ثم نودي: إن الله يأمرك أن تكتسي لحما وجلدا، فكان كذلك. وروي أنه حين أحياه الله نهق، وقيل: رد الله الحياة في عينيه وأخر جسده ميتا، فنظر إلى إيلياء وما حولها وهي تعمر وتجدد، ثم نظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير، نظر إلى حماره واقفا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى، ونظر إلى الجبل وهو لم يتغير وقد أتى عليه ريح مائة عام ومطرها وشمسها وبردها. وقال وهب، والضحاك: وانظر إلى حمارك قائما في مربطه لم يصبه شيء مائة سنة.
قال الزمخشري: وذلك من أعظم الآيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء، كما حفظ طعامه وشرابه من التغير.
304

* (ولنجعلك ءاية للناس) * قيل: الواو، مقحمة أي: لنجعلك آية، وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف مقدر تقديره أي: أريناك ذلك لتعلم قدرتنا، ولنجعلك آية للناس. وقيل: بفعل محذوف مقدر تأخيره، أي: ولنجعلك آية للناس فعلنا ذلك، يريد إحياءه بعد الموت وحفظ ما معه. وقال الأعمش: كونه آية هو أنه جاء شابا على حاله يوم مات، فوجد الحفدة والأبناء شيوخا. وقال عكرمة: جاء وهو ابن أربعين سنة كما كان يوم مات، ووجد بنيه قد ينوفون على مائة سنة، وقيل: كونه آية هو أنه جاء وقد هلك كل من يعرف، وكان آية لمن كان حيا من قومه، إذ كانوا موقنين بحاله سماعا، وقيل: أتى قومه راكب حماره، وقال: أنا عزير، فكذبوه، فقال: هاتوا التوراة، فأخذ يهذهذ عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب، فما خرم حرفا، فقالوا هو: ابن الله. ولم يقرأ التوراة ظاهرا أحد قبل عزير، فذلك كونه آية. وفي إماتته هذه المدة ثم إحيائه أعظم آية، وأمره كله آية للناس غابر الدهر لا يحتاج إلى تخصيص بعض دون بعض.
والألف واللام في: للناس، للعهد إن غنى به من بقي من قومه، أو من كان في عصره. أو للجنس إذ هو آية لمن عاصره ولمن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة.
* (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * يعني، بالعظام عظام نفسه، قاله قتادة، والضحاك، والربيع، وابن زيد. أو: عظام حماره، أو عظامهما. زاد الزمخشري: أو عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم، وهذا فيه بعد، لأنهم لم يحيوا له في الدنيا، ولا يمكن أن يكون يقال له في الآخرة * (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) * وإنما هذا قيل له في الدنيا، فلا يمكن حمله إلا على عظامه، أو عظام حماره، أو عظامهما. والأظهر أن يراد عظام الحمار، والتقدير: إلى العظام منه، أو، على رأى الكوفيين، أن الألف واللام عوض من الضمير، أي: إلى عظامه، لأنه قد أخبر أنه بعثه، ثم أخبر بمحاورته تعالى له في السؤال عن مقدار ما أقام ميتا، ثم أعقب
الأمر بالنظر بالفاء، فدل على أن إحياءه تقدم على المحاورة وعلى الأمر بالنظر.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو: ننشرها، بضم النون والراء المهملة، وقرأ ابن عباس، والحسن، وأبو حيوة، وأبان عن عاصم: بفتح النون والراء المهملة، وهما من أنشر ونشر بمعنى: أحياء ويحتمل نشر أن يكون ضد الطي، كأن الموت طي العظام والأعضاء، وكأن جمع بعضها إلى بعض نشر وقرأ باقي السبعة: ننشزها، بضم النون والزاي المعجمة وقرأ النخعي: بفتح النون، وضم الشين والزاي، وروي ذلك عن ابن عباس، وقتادة، قاله ابن عطية. وقال السجاوندي، عن النخعي أنه قرأ بفتح الياء وضمها مع الراء والزاي.
ومعنى: ننشزها، بالزاي: نحركها، أو نرفع بعضها إلى بعض للتركيب للإحياء، يقال: نشز وأنشزته. قال ابن عطية: وتعلق عندي أن يكون معنى النشوز رفع العظام بعضها إلى بعض، وإنما النشوز الارتفاع قليلا، فكأنه وقف على نبات العظام الرفات، وخرج ما يوجد منها عند الاختراع. وقال النقاشي: ننشزها معناه ننبتها، وانظر استعمال العرب تجده على ما ذكرت لك، ومن ذلك: نشز ناب البعير، والنشز من الأرض على التشبيه بذلك، ونشزت المرأة، كأنها فارقت الحال التي ينبغي أن تكون عليها، وأنشزوا فأنشزوا أي ارتفعوا شيئا فشيئا كنشوز الناب، فبذلك تكون التوسعة، فكأن النشوز ضرب من الارتفاع. ويبعد في الاستعمال لمن ارتفع في حائط أو غرفة: نشز. انتهى كلامه.
وقرأ أبي: كيف ننشيها، بالياء أي نخلقها. وقال بعضهم: العظام لا تحيا على الانفراد حتى ينضم بعضها إلى بعض، فالزاي أولى بهذا المعنى، إذ هو بمعنى الانضمام دون الإحياء، فالموصوف بالإحياء الرجل دون العظام. ولا يقال: هذا عظم حي. فالمعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء. انتهى.
والقراءة بالراء متواترة، فلا تكون قراءة الزاي أولى.
و: كيف، منصوبة بننشرها نصب الأحوال، وذو الحال مفعول ننشرها، ولا يجوز أن يعمل فيها: انظر، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وأعربوا: كيف ننشرها، حالا من العظام، تقديره: وانظر إلى العظام محياة، وهذا ليس بشيء، لأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا، وإنما تقع حالا: كيف، وحدها نحو: كيف ضربت زيدا؟ ولذلك تقول: قائما أم قاعدا؟ فتبدل منها الحال.
والذي يقتضيه النظر أن هذه الجملة
305

في موضع البدل من العظام، وذلك أن: انظر، البصرية تتعدى بإلى، ويجوز فيها التعليق، فتقول: انظر كيف يصنع زيد، قال تعالى: * (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض) * فتكون هذه الجملة في موضع نصب على المفعول: بانظر، لأن ما يتعدى بحرف الجر، إذا علق صار يتعدى لمفعول، تقول: فكرت في أمر زيد، ثم تقول: فكرت هل يجيء زيد؟ فيكون: هل يجيء زيد، في موضع نصب على المفعول بفكرت، فكيف، ننشرها بدل من العظام على الموضع، لأن موضعه نصب، وهو على حذف مضاف أي: فأنظر إلى حال العظام كيف ننشزها، ونظير ذلك قول العرب: عرقت زيدا أبو من هو: على أحد الأوجه فالجملة من قولك: أبو من هو في موضع البدل من قوله زيدا مفعول عرفت، وهو على حذف مضاف، التقدير: عرفت قصة زيد أبو من. وليس الاستفهام في باب التعليق مرادا به معناه، بل هذا من المواضع التي جرت في لسان العرب مغلبا عليها أحكام اللفظ دون المعنى، ونظير ذلك: أي، في باب الاختصاص. في نحو قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، غلب عليها أكثر أحكام النداء وليس المعنى على النداء، وقد تقدم من قولنا، إن كلام العرب على ثلاثة أقسام: قسم يكون فيه اللفظ مطابقا للمعنى، وهو أكثر كلام العرب. وقسم يغلب فيه أحكام اللفظ كهذا الاستفهام الواقع في التعليق، والواقع في التسوية. وقسم يغلب فيه أحكام المعنى نحو: أقائم الزيدان. وقد أمعنا الكلام على مسألة الاستفهام الواقع في التعليق في كتابنا الكبير المسمى (بالتذكرة) وهي إحدى المسائل التي سألني عنها قاضي القضاة تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي القشيري، عرف بابن دقيق العيد؛ وسألني أن أكتب له فيها، وكان سؤاله في قوله عليه السلام: (فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده).
* (ثم نكسوها لحما) * الكسوة حقيقة هي ما وارى الجسد من الثياب، واستعارها هنا لما أنشأ من اللحم الذي غطى به العظم. كقوله: * (فكسونا العظام لحما) * وهي استعارة في غاية الحسن، إذ هي استعارة عين لعين، وقد جاءت الاستعارة في المعنى للجرم قال النابغة:
* الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
*
حتى اكتسيت من الإسلام سربالا
*
وروي أنه كان يشاهد اللحم والعصب والعروق كيف تلئم وتتواصل، والذي يدل عليه ظاهر اللفظ: أن قول الله له كان بعد تمام بعثه، لا أن القول كان بعد إحياء بعضه.
والتعقيب بالفاء في قوله: فانظر إلى آخره، يدل على أن العظام لا يراد بها عظام نفسه، وتقدم ذكر شيء من هذا، إلا إن كان وضع: ننشرها، مكان: أنشرتها، و: نكسوها، مكان: كسوتها، فيحتمل. وتكرر الأمر بالنظر إلى الطعام والشراب في الثلاث الخوارق، ولم ينسق نسق المفردات، لأن كل واحد منها خارق عظيم، ومعجز بالغ، وبدأ أولا بالنظر إلى العظام والشراب حيث لم يتغيرا على طول هذه المدة، لأن ذلك أبلغ، إذ هما من الأشياء التي يتسارع إليها الفساد، إذ ما قام به الحياة وهو الحمار يمكن بقاؤه الزمان الطويل، ويمكن أن يحتش بنفسه ويأكل ويرد المياه. كما قال صلى الله عليه وسلم) في ضالة الإبل: (معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء
وتأكل الشجر حتى يأتيها ربها). ولما أمر بالنظر إلى الطعام والشراب، وبالنظر إلى الحمار، وهذه الأشياء هي التي كانت صحبته، وقال تعالى: * (ولنجعلك ءاية * الناس) * أي فعلنا ذلك: ولما كان قوله: * (وانظر إلى حمارك) * كالمجمل، بين له جهة النظر بالنسبة إلى الحمار، فجاء النظر الثالث توضيحا للنظر الثاني، من أي جهة ينظر إلى الحمار، وهي جهة إحيائه وارتفاع عظامه شيئا فشيئا عند التركيب وكسوتها اللحم، فليس نظرا مستقلا، بل هو من تمام النظر الثاني، فلذلك حسن الفصل بين النظرين بقوله: * (ولنجعلك ءاية للناس) *.
وليس في الكلام تقديم وتأخير كما زعم بعضهم، وأن الأنظار منسوق بعضها على بعض، وأن قوله
306

* (ولنجعلك ءاية للناس) * الخ وهو مقدم في اللفظ، مؤخر في الرتبة.
وفي هذه الآية أقوى دليل على البعث إذ وقعت الإماتة والإحياء في دار الدنيا مشاهدة.
* (فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) * قرأ الجمهور: تبين، مبنيا للفاعل، وقرأ ابن عباس: تبين له، مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن السميفع: بيه له، بغير تاء مبنيا لما لم يسم فاعله، فعلى قراءة الجمهور الظاهر أن تبين فعل لازم والفاعل مضمر يدل عليه المعنى، وقدره الزمخشري: فلما تبين له ما أشكل عليه، يعني أمر إحياء الموتى، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى؛ وتفسير الإعراب أن يقدر مضمرا يعود على كيفية الإحياء التي استغربها بعد الموت. وقال الطبري: لما اتضح له عيانا ما كان مستنكرا في قدرة الله عنده قبل إعادته. قال ابن عطية: وهذا خطأ، لأنه ألزم ما لا يقتضيه، وفسر على القول الشاذ، والاحتمال الضعيف ما حكى الطبري عن بعضهم أنه قال: كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء، ولذلك ضرب له المثل في نفسه. إنتهى.
وقال الزمخشري وبدأ به ما نصه: وفاعل تبين مضمر تقديره: فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير، قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قولهم: ضربني وضربت زيدا. إنتهى كلامه. فجعل ذلك من باب الإعمال، وهذا ليس من باب الإعمال، لأنهم نصوا على أن العاملين في هذا الباب لا بد أن يشتركا، وأدى ذلك بحرف العطف حتى لا يكون الفصل معتبرا، ويكون العامل الثاني معمولا للأول، وذلك نحو قولك: جاءني يضحك زيد. فجعل في جاءني ضميرا أو في يضحك، حتى لا يكونه هذا الفعل فاصلا، ولا يرد على هذا جعلهم * (اتونى أفرغ عليه قطرا) * ولا * (هاؤم اقرؤا كتابيه) * ولا * (تعالوا يستغفر لكم رسول الله) * ولا * (يستفتونك قل الله يفتيكم فى الكلالة) * من الإعمال لأن هذه العوامل مشتركة بوجه ما من وجوه الاشتراك، ولم يحصل الاشتراك في العطف ولا العمل، ولتقرير هذا بحث يذكر في النحو. فإذا كان على ما نصوا فليس العامل الثاني مشركا بينه وبين: تبين، الذي هو العامل الأول بحرف عطف، ولا بغيره، ولا هو معمول: لتبين، بل هو معمول: لقال، وقال جواب، لما أن قلنا: إنها حرف وعاملة في، لما أن قلنا إنها ظرف، و: تبين، على هذا القول في موضع خفض بالظرف، ولم يذكر النحويون في مثل هذا الباب: لو جاء قتلت زيدا، ولا: لما متى جاء قتلت زيدا، ولا: إذا جاء ضربت خالدا. ولذلك حكى النحويون أن العرب لا تقول: أكرمت أهنت زيدا.
وقد ناقض الزمخشري في قوله: فإنه قال: وفاعل تبين مضمر، ثم قدره، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال أعلم. إلى آخره، قال: فحذف الأول لدلالة الثاني عليه، كما في قولهم: ضربني وضربت زيدا، والحذف ينافي الإضمار للفاعل، وهذا عند البصريين إضمار يفسره ما بعده، ولا يجيز البصريون في مثل هذا الباب حذف الفاعل أصلا، فإن كان أراد بالإضمار الحذف فقد خرج إلى قول الكسائي من أن الفاعل في هذا الباب لا يضمر، لأنه يؤدي إلى الإضمار قبل الذكر، بل يحذف عنده الفاعل، والسماع يرد عليه. قال الشاعر:
* هو يتني وهويت الخرد العربا
*
أزمان كنت منوطا بي هوى وصبا
وأما على قراءة ابن عباس فالجار والمجرور هو المفعول الذي لم يسم فاعله، وأما في قراءة ابن السميفع فهو مضمر: أي: بين له هو، أي: كيفية الإحياء.
*
وقرأ الجمهور و: قال مبنيا للفاعل، على قراءة جمهور السبعة: أعلم، مضارعا ضميره يعود على المار، وقال ذلك على سبيل الاعتبار، كما أن الانسان إذا رأى شيئا غريبا قال: لا إله إلا الله.
وقال أبو علي: معناه أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته، يعني يعلم عيانا ما كان يعلمه غيبا. وأما على قراءة
307

أبي رجاء، وحمزة، والكسائي إعلم، فعل أمر من علم، فالفاعل ضمير يعود على الله تعالى، أو على الملك القائل له عن الله، ويناسب هذا الوجه الأوامر السابقة من قوله: وانظر، فقال له: إعلم، ويؤيده قراءة عبد الله والأعمش: قيل، اعلم، فبنى: قيل، لما لم يسم فاعله، والمفعول الذي لم يسم فاعله ضمير القول لا الجملة، وقد تقدم الكلام على ذلك أول هذه السورة مشبعا فأغنى عن إعادته هنا.
وجوزوا أن يكون الفاعل ضمير المار، ويكون نزل نفسه منزلة المخاطب الأجنبي، كأنه قال لنفسه: إعلم، ومنه: ودع هريرة، وألم تغتمض عيناك، وتطاول ليلك، وإنما يخاطب نفسه، نزلها منزلة الأجنبي.
وروى الجعبي عن أبي بكر قال: اعلم، أمرا من أعلم، فالفاعل بقال يظهر أنه ضمير يعود على الله، أمره أن يعلم غيره بما شاهد من قدرة الله، وعلى ما جوزوا في:
اعلم الأمر، من علم يجوز أن يكون الفاعل ضمير المار.
* (وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحى الموتى) * مناسبة هذة الآية لما قبلها في غاية الظهور، إذ كلاهما أتى بها دلالة على البعث المنسوب إلى الله تعالى، في قول إبراهيم أراه ذلك في غيره، وقدمت آية المار على آية إبراهيم، وإن كان إبراهيم مقدما في الزمان على المار، لأنه تعجب من الإحياء بعد الموت، وإن كان تعجب اعتبار فأشبه الإنكار، وإن لم يكن إنكارا فكان أقرب إلى قصة النمروذ وإبراهيم، وأما إن كان المار كافرا فظهرت المناسبة أقوى ظهور. وأما قصة إبراهيم فهي سؤال لكيفية إراءة الإحياء، ليشاهد عيانا ما كان يعلمه بالقلب، وأخبر به نمروذ.
والعامل في: إذ، على ما قالوا محذوف، تقديره: واذكر إذ قال، وقيل: العامل مذكور وهو: ألم تر، المعنى: ألم تر إذ قال، وهو مفعول: بتر. والذي يظهر أن العامل في: إذ، قوله * (قال أوحى * لم تؤمنوا) * كما قررنا ذلك في قوله * (وإذ قال ربك للملائكة) * وفي افتتاح السؤال بقوله: رب، حسن استلطاف واستعطاف للسؤال، وليناسب قوله لنمروذ * (ربي الذى يحى ويميت) * لأن الرب هو الناظر في حاله، والمصلح لأمره، وحذفت ياء الإضافة اجتزاء، بالكسرة، وهي اللغة الفصحى في نداء المضاف لياء المتكلم، وحذف حرف النداء للدلالة عليه. و: أرني، سؤال رغبة، وهو معمول: لقال، والرؤية هنا بصرية، دخلت على رأى همزة النقل، فتعدت لاثنين: أحدهما ياء المتكلم، والآخر الجملة الاستفهامية. فقول * (كيف تحى * الموتى) * في موضع نصب، وتعلق العرب رأى البصرية من كلامهم، أما ترى، أي برق هاهنا. كما علقت: نظر، البصرية. وقد تقرر.
وعلم أن الأنبياء، عليهم السلام، معصومون من الكبائر والصغائر التي فيها رذيلة إجماعا، قاله ابن عطية، والذي اخترناه أنهم معصومون من الكبائر والصغائر على الإطلاق، وإذا كان كذلك، فقد تكلم بعض المفسرين هنا في حق من سأل الرؤية هنا بكلام ضربنا عن ذكره صفحا، ونقول: ألفاظ الآية لا تدل على عروض شيء يشين المعتقد، لأن ذلك سؤال أن يريه عيانا كيفية إحياء الموتى، لأنه لما علم ذلك بقلبه وتيقنه، واستدل به على نمروذ في قوله * (ربي الذى يحى ويميت) * طلب من الله تعالى رؤية ذلك، لما في معاينة ذلك من رؤية اجتماع الأجزاء المتلاشية، والأعضاء المتبددة، والصور المضمحلة، واستعظام باهر قدرته تعالى. والسؤال عن الكيفية يقتضي تيقن ما سأل عنه: وهو الإحياء وتقرره، والإيمان به، وأنه مما انطوى الضمير على اعتقاده. وأماما ذكره الماوردي عن بعض أهل المعاني: أن إبراهيم سأل من ربه كيف يحيي القلوب، فتأويل ليس بشيء قالوا في سبب سؤاله أقوال أحدهما: أنه رأى دابة قد توزعتها السباع والحيتان لأنها كانت على حاشية البحر، قاله ابن زيد. أو: الفكر في الحقيقة والمجاز لما قاله نمروذ: * (ألم تر إلى) * قاله ابن إسحاق، أو: التجربة للخلة من الله إذ بشر بها، لأن الخليل يدل بما لا يدل غيره، قاله ابن جبير.
* (قال أوحى * لم تؤمنوا) * الضمير في: قال، عائد على الرب، والهمزة للتقرير، كقوله.
308

ألستم خير من ركب المطايا
وقوله تعالى: * (ألم نشرح لك صدرك) * المعنى: أنتم خير، وقد شرحنا لك صدرك، وكذلك هذا معناه: قد آمنت بالإحياء. قال ابن عطية، إيمانا مطلقا دخل فيه فعل إحياء الموتى، والواو: واو حال، دخلت عليها ألف التقرير. انتهى كلامه. وكون الواو هنا للحال غير واضح، لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب، وإذ ذاك لا بد لها من عامل، فلا تكون الهمزة للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية، إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها وعلى ذي الحال، ويصير التقدير: أسألت ولم تؤمن؟ أي: أسألت في هذه الحال؟.
والذي يظهر أن التقرير إنما هو منسحب على الجملة المنفية، وأن: الواو، للعطف، كما قال: * (أو لم * يروا أنا جعلنا حرما ءامنا) * ونحوه. واعتنى بهمزة الاستفهام، فقدمت. وقد تقدم لنا الكلام في هذا، ولذلك كان الجواب: ببلى، في قوله * (قال بلى) * وقد تقرر في علم النحو أن جواب التقرير المثبت، وإن كان بصورة النفي، تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض، فتجيبه على صورة النفي، ولا يلتفت إلى معنى الإثبات، وهذا مما قررناه، أن في كلام العرب ما يلحظ في اللفظ دون المعنى، ولذلك علة ذكرت في علم النحو، وعلى ما قاله ابن عطية من أن: الواو، للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال بقوله: بلى، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه، فالجواب إنما يكون في التصديق: بنعم، وفي غير التصديق: بلا، أما أن يجاب: ببلى، فلا يجوز، وهذا على ما تقرر في علم النحو.
* (قال بلى ولاكن ليطمئن قلبى) *. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال: أو لم تؤمن، وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا؟.
قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين، و: بلى، إيجاب لما بعد النفي، معناه: بلى آمنت، ولكن ليطمئن قلبي، ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدال. وتظاهر الأدلة أسكن للقلوب، وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك، بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. انتهى كلامه. وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال، بل منه ما يجوز معه التشكيك. أما إذا كان عن مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك، كعلمنا بحدوث العالم، وبوحدانية الموجد، فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك.
وقال ابن عطية: ليطمئن، معناه: ليسكن عن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، بل هي فكر فيها عبر، إذ حركه إلى ذلك، أما أمر الدابة المأكولة، وأما قول النمروذ * (ألم تر * أو * وأميت) *. انتهى كلامه. وهو حسن.
واللام في قوله: ليطمئن، متعلقة بمحذوف بعد لكن، التقدير: ولكن سألت مشاهدة الكيفية لإحياء الموتى ليطمئن قلبي، فيقتضي تقدير هذا المحذوف تقدير محذوف آخر قبل لكن حتى يصح الاستدراك، التقدير: قال: بلى أي آمنت، وما سألت عن غير إيمان، ولكن سألت ليطمئن قلبي.
وروي عن: ابن جبير، وإبراهيم، وقتادة: ليزداد يقينا، وعن بعضهم: لأزداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر، وإلا فاليقين لا يتبعض انتهى.
وقال النصراباذي: حن الخليل إلى صنع خليله ولم يتهمه في أمره، فكأنه قوله الشوق: أرني، كما قال موسى عليه السلام، ثم تعلل برؤية الصنع له تأدبا. وحكى القشيري أنه قيل: استجلب خطابا بهذه القالة، حتى قال له الحق: أو لم تؤمن؟ قال: بلى آمنت، ولكن اشتقت إلى قولك: أو لم تؤمن؟ فإني بقولك: أو لم تؤمن؟ يطمئن قلي. والمحب أبدا يجتهد في أن يجد خطاب حبيبه على أي وجه أمكنه.
* (قال فخذ أربعة من الطير) * لما سأل رؤية كيفية إحياء الموتى إجابة تعالى لذلك، وعلمه كيف يصنع أولا، فأمره أن يأخذ أربعة من الطير، ولم يذكر الله تعالى تعيين الأربعة من أي جنس هي من الطير، فيحتمل أن يكون المأمور به معينا، وما ذكر تعيينه،
309

ويحتمل أن يكون أمر بأخذ أربعة، أي أربعة كانت من غير تعيين، إذ لا كبير علم في ذكر التعيين.
وقد احتلفوا فيما أخذ، فقال ابن عباس: أخذ طاووسا ونسرا وديكا وغرابا. وقال مجاهده، وعكرمة، وعطاء، وابن جريج، وابن زيد: كذلك، إلا أنهم جعلوا حمامة بدل النسر. وقال ابن عباس أيضا، فيما روى عبد الرحمن بن هبيرة عنه: أخذ حمامة وكركيا وديكا وطاووسا. وقال في رواية الضحاك: أخذ طاووسا وديكا ودجاجة سندية وأوزة. وقال في رواية أخرى عن الضحاك: أنه مكان الدجاجة السندية: الرأل، وهو فرخ النعام. وقال مجاهد فيما روى ليث: ديك وحمامة وبطة وطاووس. وقال: ديك وحمامة وبطة وغراب.
وزاد عطاء الخراساني وصفا في هذه الأربعة فقال: ديك أحمر، وحمامة بيضاء، وبطة خضراء، وغراب أسود.
وقال أبو عبد الله: طاووس وحمامة وديك وهدهد، ولما سأل ربه أن يريه كيفية إحياء الموتى، وكان لفظ الموتى جمعا، أجيب بأن يأخذ ما مدلوله جمع، لا أن يأخذ واحدا. قيل: وخص هذا العدد بعينه إشارة إلى الأركان الأربعة التي في تركيب أبدان الحيوانات والنباتات، وكانت من الطير، قيل لأن الطير همته الطيران في السماء والارتفاع، والخليل عليه السلام كانت همته العلو والوصول إلى الملكوت، فجعلت معجزته مشاكلة لهمته، وعلى القول الأول في تعيين الأربعة بما عين قيل: خص الطاووس إشارة إلى شدة الشغف بالأكل وطول الأمل، والديك إشارة إلى شدة الشغف بقضاء شهوة النكاح، والغراب إشارة إلى شدة الحرص والطلب. وما أبدوه في تخصيص الأربعة وفي تعيينها لا تكاد تظهر حكمته فيما ذكروه، وما أجراه الله تعالى لأنبيائه من الخوارق مختلف، وحكمة اختصاص كل نبي بما أجرى الله له منها مغيبة عنا. ألا ترى خرق العادة لموسى في أشياء، ولعيسى في أشياء غيرها، ولرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم) وعليهم في أشياء لا يظهر لنا سر الحكمة في ذلك؟ فكذلك كون هذه الأربعة من الطير، لا يظهر لنا سر حكمته في ذلك.
وأمره بالأخذ للطيور وهو: إمساكها بيده ليكون أثبت في المعرفة بكيفية الإحياء، لأنه يجتمع عليه حاسة الرؤية، وحاسة اللمس.
والطير اسم جمع لما لا يعقل، يجوز تذكيره وتأنيثه، وهنا أتى مذكرا لقوله تعالى * (وخذ * أربعة من الطير) * وجاء على الأفصح في اسم الجمع في العدد حيث فصل: بمن، فقيل: أربعة من الطير يجوز الإضافة، كما قال تعالى: * (تسعة رهط) * ونص بعض أصحابنا على أن الإضافة لاسم الجمع في العدد نادرة لا يقاس عليها، ونص بعضهم على أن اسم الجمع لما لا يعقل مؤنث، وكلا القولين غير صواب.
* (فصرهن إليك) * أي قطعهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وابن إسحاق. وقال ابن عباس: هي بالنبطية. وقال أبو الأسود: هي بالسريانية، وقال أبو عبيدة: قطعهن. وأنشد للخنساء:
* فلو يلاقي الذي لاقيته حضن
*
لظلت الشم منه وهي تنصار
*
أي تتقطع. وقال قتادة: فصلهن، وعنه: مزقهن وفرقهن. وقال عطاء بن أبي رباح: اضممهن إليك. وقال ابن زيد: إجمعهن. وقال ابن عباس أيضا، أوثقهن. وقال الضحاك: شققهن، بالنبطية. وقال الكسائي: أملهن.
وإذا كان: فصرهن، بمعنى الإمالة فتتلعق إليك به، وإذا كان بمعنى التقطيع تعلق بخذ.
وقرأ حمزة، ويزيد، وخلف، ورويس، بكسر الصاد، وباقي السبعة بالضم. وهما لغتان، كما تقدم: صار يصور ويصير، بمعنى أمال. وقرأ ابن عباس وقوم
310

فصرهن، بتشديد الراء وضم الصاد وكسرها من صره يصره ويصره، إذا جمعه، نحو: ضره يضره ويضره، وكونه مضاعفا متعديا جاء على يفعل بكسر العين قليل، وعنه: فصرهن، بفتح الصاد وتشديد الراء وكسرها من التصرية، ورويت هذه القراءة عن عكرمة. وعنه أيضا: فصرهن إليك، بضم الصاد وتشديد الراء.
وإذا تؤول: فصرهن، بمعنى القطع فلا حذف، أو بمعنى: الإمالة فالحذف، وتقديره: وقطعهن واجعلهن أجزاء، وعلى تفسير: فصرهن بمعنى أملهن وضمهن إلى نفسك، فإنما كان ذلك ليتأمل أشكالها وهيئاتها وحلاها لئلا يلتبس عليه بعد الإحياء ولا يتوهم أنها غير تلك.
* (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا) * العموم في كل جبل مخصص بوصف محذوف أي: يليك، أو: بحضرتك، دون مراعاة عدد. قاله مجاهد. وروي عن ابن
عباس أنه أمر أن يجعل على كل ربع من أرباع الدنيا، وهو بعيد. وخصصت الجبال بعدد الأجزاء، فقيل: أربعة، قاله قتادة، والربيع، وقيل: سبعة، قاله السدي، وابن جريج، قيل: عشرة، قاله أبو عبد الله الوزير المغربي، وقال عنه في رجل أوصى بجزء من ماله: إنه العشر، إذ كانت أشلاء الطيور عشرة.
والظاهر أنه أمر أن يجعل على كل جبل ثلاثة مما يشاهده بصره، بحيث يرى الأجزاء، وكيف تلتئم إذا دعا الطيور.
وقرأ الجمهور جزءا باسكان الزاي وبالهمز، وضم أبو بكر: الزاي، وقرأ أبو جعفر، جزا، بحذف الهمزة وتشديد الزاي، ووجهه أنه حين حذف ضعف الزاي، كما يفعل في الوقف، كقولك: هذا فرج. ثم أجرى مجرى الوقف.
و: اجعل، هنا يحتمل أن تكون بمعنى: ألق، فيتعدى لواحد، ويتعلق على كل جبل. باجعل، ويحتمل أن يكون بمعنى: صير، فيتعدى إلى اثنين، ويكون الثاني على كل جبل، فيتعلق بمحذوف.
* (ثم ادعهن يأتينك سعيا) * أمره بدعائهن أموات، ليكون أعظم له في الآية، ولتكون حياتها متسببة عن دعائه، ولذلك رتب على دعائه إياهن إتياهن إليه، والسعي هو الإسراع في الشيء.
وقال الخليل: لا يقال سعى الطائر، يعنى على سبيل المجاز، فيقال: وترشيحه هنا هو أنه لما دعاهن فأتينه تنزلن منزلة العاقل الذي يوصف بالسعي، وكان إتيانهن مسرعات في المشي أبلغ في الآية، إذ اتيانهن إليه من الجبال يمشين مسرعات هو على خلاف المعهود لهن من الطيران، وليظهر بذلك عظم الآية، إذ أخبره أنهن يأتين على خلاف عادتهن من الطيران، فكان كذلك. وجعل سيرهن إليه سعيا، إذ هو مشية المجد الراغب فيما يمشي إليه، لإظهار جدها في قصد إبراهيم، وإجابة دعوته.
وانتصاب: سعيا، على أنه مصدر في موضع الحال من ضمير الطيور، أي: ساعيات، وروي عن الخليل: أن المعنى يأتينك وأنت تسعى سعيا. فعلى هذا يكون مصدر الفعل محذوف، هو في موضع الحال من الكاف، وكان المعنى: يأتينك وأنت ساع إليهن، أي يكون منهن إتيان
إليك، ومنك سعي إليهن، فتلتقي بهن. والوجه الأول أظهر، وقيل: انتصب: سعيا، على أنه مصدر مؤكد لأن السعي والإتيان متقاربان. وروي في قصص الآية أن إبراهيم أخذ هذه
311

الطيور وذكاها وقطعها قطعا صغارا، وجمع ذلك مع الدم والريش، وجعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى الأجزاء، وأمسك رؤوس الطير في يده ثم قال: تعالين بأذن الله فتطايرت. تلك الأجزاء وصار الدم إلى الدم، والريش إلى الريش، حتى التأمت كما كانت أولا، بقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها، وطارت بإذن الله.
زاد النحاس: أن إبراهيم: كان إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب منه حتى لقي كل طائر رأسه. وقال أبو عبد الله: ذبحهن ونحز أجزاءهن في المنحاز، يعني الهاون إلا رؤوسهن، وجعل ذلك المختلط عشرة أجزاء على عشرة جبال، ثم جعل مناقيرهن بين أصابعه، ثم دعاهن فأتين سعيا يتطاير اللحم إلى اللحم، والريش إلى الريش، والجلد إلى الجلد، بقدرة الله تعالى.
وأجمع أهل التفسير أن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها، وأنكر ذلك أبو مسلم، وقال: لما طلب إبراهيم احياء الميت من الله، أراه مثالا قرب به الأمر عليه، والمراد: يصرهن إليك: أملهن، ومر بهن على الإجابة بحيث يصرن إذا دعوتههن أجبنك، فإذا صرن كذلك فاجعل على كل جبل منهن واحدا منها حال حياته، ثم ادعهن يأتينك سعيا.
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، وأنكر القول بالتقطيع، قال: لأن المشهور في اللغة في: فصرهن، أملهن وأما التقطيع والذبح، فليس في اللفظ ما يدل عليه، وبأنه لو كان المعنى: قطعهن، لم يقل: إليك، وتعليقه: بخذ، خلاف الظاهر، وبأن الضمير في ثم ادعهن، وفي يأتينك عائد إليها لا إلى الأجزاء وعودة على الاجزاء المتفرقة خلاف الظاهر، ولا دليل فيما ذكر، واحتج الأول بإجماع المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم على التقطيع، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم، فلا مزية له. وبأنه سأله أن يريه كيف يحي الموتى، ولا إراءة فيما ذكره أبو مسلم.
واحتج للقول الأول باجماع المفسرين الذين كانوا قبل ذلك.
والظاهر أنه أجيب بأن ظاهر: ثم اجعل، على كل جبل منهن جزى، يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا، لأن الواحد منها سمي جزءا، وجعل كل واحد على جبل.
* (واعلم أن الله عزيز حكيم) * عزير لا يمتنع عليه ما يريد، حكيم فيما يريد ويمثل، والعزة تتضمن القدرة، لأن الغلبة تكون عن العزة. وقيل: عزيز منتقم ممن ينكر بعث الأموات، حكيم في نشر العظام الرفات.
وقد تضمنت هذه القصص الثلاث، من فصيح المحاورة بذكر: قال، سؤالا وجوابا، وغير ذلك من غير عطف، إذ لا يحتاج إلى التشريك بالحرف إلا إذا كان الكلام بحيث لو لم يشرك لم يستقل، فيؤتى بحرف التشريك ليدل على معناه. أما إذا كان المعنى يدل على ذلك، فالأحسن ترك الحرف إذا كان أخذ بعضه بعنق بعض، ومرتب بعضه من حيث المعنى على بعض، وقد أشرنا إلى شيء من هذا في قوله: * (وإذ قال ربك للملائكة إنى * جاعل فى الارض خليفة) * ومما جاء ذلك كثيرا محاورة موسى وفرعون في سورة الشعراء وسيأتي تفسير ذلك إن شاى الله تعالى.
2 (* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشآء والله واسع عليم * الذين ينفقون أموالهم فى
سبيل الله ثم لا يتبعون مآ أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعهآ أذى والله غنى حليم * ياأيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والا ذى كالذى ينفق ماله رئآء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الا خر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا
312

يقدرون على شىء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين * ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغآء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير * أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجرى من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفآء فأصابهآ إعصار فيه نار فاحترقت كذالك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون * ياأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وممآ أخرجنا لكم من الا رض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بأخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد * الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشآء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب * ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين من أنصار * إن تبدوا الصدقات فنعما هى وإن تخفوها وتؤتوها الفقرآء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) *))
) *
الحبة: اسم جنس لكل ما يزرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر، وكثيرا ما يراد بالحب. ومنه قول المتلمس:
* آليت حب العراق الدهر أطعمه
*
والحب يأكله في القرية السوس
*
وحبة القلب سويداؤه، والحبة بكسر الحاء بذور البقل مما ليس بقوت، والحبة بالضم الحب والحب الحبيب.
الإنبات: الإخراج على سبيل التولد.
السنبلة: معروفة، ووزنها فنعله، فالنون زائدة بذلك على قولهم: أسبل الزرع أرسل ما فيه كما ينسبل الثوب، وحكى بعض اللغويين سنبل الزرع. قال بعض أصحابنا النون أصلية، ووزنه فعلل، لأن فنعل لم يثبت فيكون مع أسبل كسبط وسبطر.
المن: ما يوزن به، والمن قدر الشيء ووزنه، والمن والمنة النعمة، من عليه أنعم. ومن أسمائه تعالى: المنان، والمن النقص من الحق والبخس له، ومنه المن المذموم، وهو ذكر المنة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه بذلك، والاعتداد عليه باحسانه، وأصل المن القطع، لأن المنعم يقطع قطعة من ماله لمن ينعم عليه.
الغني: فعيل للمبالغة من غنى وهو الذي لا حاجة له إلى أحد كما قال الشاعر:
كلانا غني عن أخيه حياته
ويقال غني أقام بالمكان، والغانية هي التي غنيت بحسنها عن التحسن.
الرئاء: فعال مصدر من راء من الرؤية، ويجوز إبدال همزته ياء لكسرة ما قبلها، وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه بذلك لا نية له غير ذلك.
الصفوان: الحجر الكبير الأملس، وتحريك فائه بالفتح لغة، وقيل: هو اسم جنس واحده
313

صفوانة. وقال الكسائي: الصفوان واحده صفي، وانكره المبرد، وقال: صفي جمع صفا نحو: عصا وعصي، وقفا وقفي. وقال الكسائي أيضا: صفوان واحد، وجمعه صفوان بكر الصاد. وقاله النحاس: يجوز أن يكون المكسور الصاد واحدا. وما قاله الكسائي غير صحيح، بل صفوان جمع لصفا. كورل وورلان، وأخ وإخوان. وكرى وكروان.
التراب: معروف ويقال فيه توراب، وترب الرجل افتقر، واترب استغنى، الهمزة فيه للسلب، أي: زال عنه الترب وهو القر، وإذا زال عنه كان غنيا.
الوابل: المطر الشديد، وبلت السماء تبل، والأرض موبولة. وقال النضر: أول ما يكون المطر رشا، ثم طسا، ثم طلا، ورذاذا، ثم نضحا وهو قطرتين قطرتين، ثم هطلا وتهتانا ثم وابلا وجودا. والوبيل: الوخيم، والوبيل: العصا الغليظة، والوبيلة حزمة الحطب.
الصلد: الأجرد الأملس النقي من التراب الذي كان عليه، ومنه صلد جبين الأصلع برق. يقال: صلد يصلد صلدا. بتحريك اللام فهو صلد بالإسكان. وقال النقاش: الصلد الأجرد بلغة هذيل. وحكى أبان بن تغلب: أن الصلد هو اللين من الحجارة. وقال علي بن عيسى: الصلد، الخالي من الخير من الحجارة والأرضين وغيرهما، ومنه: قدر صلود: بطيئة الغليان.
الربوة: قال الخليل: أرض مرتفعة طيبة، ويقال فيها: الرباوة، وتثلث الراء في اللغتين، ويقال: رابية. قال الشاعر:
* وغيث من الوسمي جو تلاعه
*
أجابت روابيه النجا وهواطله
*
وقال الأخفش: ويختار الضم في ربوة لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الربا، وأصله من ربا الشيء زاد وارتفع. وتفسير السدي بأنها: ما انخفض من الأرض ليس بشيء.
الطل: المستدق من القط الخفيف، هذا مشهور اللغة. وقال قوم، منهم مجاهد: الطل الندى، وهذا تجوز. وفي (الصحاح): الطل أضعف المطر، والجمع طلال، يقال: طلت الأرض وهو مطلوب. قال الشاعر:
ولما نزلنا منزلا طله الندى
ويقال أيضا: أطلها الندى، والطلة الزوجة.
النخيل: اسم جمع أو جمع تكسير، كنخل اسم الجنس، كما قالوا كلب وكليب. قال الراغب: سمي بذلك لأنه منخول الأشجار وصفوها، وذلك أنه أكرم ما ينبت، لكونه مشبها للحيوان في احتياج الأنثى منه إلى الفحل في التذكير. أي التلقيح، وأنه إذا قطع رأسه لم يثمر.
العنب: ثمر الكرم، وهو اسم جنس، واحده عنبة، وجمع على أعناب. ويقال: عنباء بالمدغير منصرف على وزن سيراء في معنى العنب.
الإعصار: ريح شديدة ترتفع فيرتفع معها غبار إلى السماء يسميها العامة الزوبعة، قاله الزجاج، وقيل: الريح السموم
314

التي تقتل، سميت بذلك لأنها تعصر السحاب، وجمعها أعاصير.
الاحتراق: معروف وفعله لا يتعدى، ومتعديه رباعي، تقول: أحرقت النار الحطب والخبز، وحرق ناب الرجل ثلاثي لازم إذا احتك بغيره غيظا، ومتعد تقول: حرق الرجل نابه، حكه بغيره من الغيظ. قال الشاعر:
* أبى الضيم والنعمان يحرق نابه
*
عليه فأفضى والسيوف معاقله
*
قرأناه برفع الناب ونصبه.
* (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) * مناسبة هذه الأية لما قبلها هي أنه لما ذكر قصة المار على قرية وقصة إبراهيم، وكانا من أدل دليل على البعث، ذكر ما ينتفع به يوم البعث، وما يجد جدواه هناك. وهو الإنفاق في سبيل الله، كما أعقب قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بقوله: * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا) * وكما أعقب قتل داود جالوت، وقوله: * (ولو شاء الله ما اقتتلوا) * بقوله: * (ما يريد يأيها الذين ءامنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم) * فكذلك أعقب هنا ذكر الإحياء والإماتة بذكر النفقة في سبيل الله، لأن ثمرة النفقة في سبيل الله إنما تظهر حقيقة يوم البعث: * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) * واستدعاء النفقة في سبيل الله مذكر بالبعث، وخاض على اعتقاده، لأنه لو لم يعتقد وجوده لما كان ينفق في سبيل الله، وفي تمثيل النفقة بالحبة المذكورة إشارة أيضا إلى البعث، وعظيم القدرة، إذ حبة واحدة يخرج الله منها سبعائة حبة، فمن كان قادرا على مثل هذا الأمر العجاب، فهو قادر على إحياء الموات، وبجامع ما اشتركا فيه من التغذية والنمو.
ويقال: لما ذكر المبدأ والمعاد، ودلائل صحتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع والأحكام والتكاليف، فبدأ بإنفاق الأموال في سبيل الله، وأمعن في ذلك، ثم انتقل إلى كيفية تحصيل الأموال بالوجه الذي جوز شرعا. ولما أمل في ذكر التضعيف في قوله: * (أضعافا كثيرة) * وأطلق في قوله: * (أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتى يوم) * فصل في هذه الآية، وقيد بذكر المشبه به، وما بين الآيات دلالة على قدرته على الإحياء والإماتة، إذا لولا ذلك لم يحسن التكليف كما ذكرناه، فهذه وجوه من المناسبة والمثل هنا الصفة، ولذك قال: * (كمثل حبة) * أي كصفة حبة، وتقدير زيادة الكاف، أو زيادة مثل. قول بعيد. وهذه الآية شبيهة في تقدير الحذف بقوله: * (ومثل الذين كفروا كمثل الذى ينعق) * فيحتمل أن يكون الحذف من الأول، أي: مثل منفق الذين، أو من الثاني: أي كمثل زارع حتى يصح التشبيه، أو من الأول ومن الثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ومنفقهم. كمثل حبة وزارعها. وقد تقدم الكلام في تقرير هذا الوجه في قصة الكافر والناعق، فيطالع هناك.
وهذا المثل يتضمن التحريض على الإنفاق في سبيل الله جميع ما هو طاعة، وعائد نفعه على المسلمين، وأعظمها وأغناها الجهاد لإعلاء كلمة الله وقيل: المراد: بسبيل الله، هنا الجهاد خاصة، وظاهر الإنفاق في سبيل الله يقتفي الفرض والنفل، ويقتضي الإنفاق على نفسه في الجهاد وغيره، والإنفاق على غيره ليتقوى به على طاعة من جهاد أو غيره. وشبه الإنفاق بالزرع، لأن الزرع لا ينقطع.
وأظهر تاء التأنيث عند السين: الحرميان، وعاصم، وابن ذكوان، وأدغم الباقون. ولتقارب السين من التاء أبدلت منها: النات، والأكيات في: الناس، والأكياس.
ونسب الإنبات إلى الحبة على سبيل المجاز، إذ كانت سببا للإنبات، كما ينسب ذلك إلى الماء والأرض والمنبت هو الله، والمعنى: أن الحبة خرج منها ساق، تشعب منها سبع شعب، في كل شعبة سنبلة، في كل سنبلة مائة حبة، وهذا التمثيل تصوير للأضعاف كأنها ماثلة بين عيني الناظر، قالوا: والممثل به موجود، شوهد ذلك في
سنبلة الجاورس. وقال الزمخشري: هو موجود في الدخن والذرة وغيرهما، وربما فرخت ساق
315

البرة في الأراضي القوية المغلة، فبلغ حبها هذا المبلغ، ولم لم يوجد لكان صححيحا في سبيل الفرض والتقدير؛ إنتهى كلامه.
وقال ابن عيسى: ذلك يتحقق في الدخن، على أن التمثيل يصح بما يتصور، وإن لم يعاين. كما قال الشاعر:
* فما تدوم على عهد تكون به
*
كما تلون في أثوابها الغول
إنتهى كلامه. وكما قال امرؤ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
*
وخص سبعا من العدد لأنه كما ذكر، وأقصى ما تخرجه الحبة من الأسؤق. وقتال ابن عطية: قد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، وأما في سائر الحبوب فأكثر، ولكن المثال وقع بمائة، وقد ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشرة أمثالها، واقتضت هذه الأية أن نفقة الجهاد بسبعمائة ضعف، ومن ذلك الحديث الصحيح. إنتهى ما ذكره.
وقيل: واختص هذا العدد لأن السبع أكثر أعداد العشرة، والسبعين أكثر أعداد المائة، وسبع المائة أكثر أعداد الألف، والعرب كثيرا ما تراعي هذه الأعداد. قال تعالى: * (سبع سنابل) * و * (سبع ليال) * و * (سبع * سنبلات) * و * (سبع بقرات) * و * (سبع سماوات) * و * (سبع سنين) * و * (ءان * تستغفر لهم سبعين مرة) * * (ذرعها سبعون ذراعا) * وفي الحديث: (إلى سبطعمائة ضعف)، (إلى سبعة آلاف) (إلى ما لا يحصي عدده إلا الله وأتى التميير هنا بالجمع الذي لا نظير له في الآحاد، وفي سورة يوسف بالجمع بالألف والتاء في قوله: * (وسبع سنبلات خضر) *.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: * (سبع * سنبلات) * على حقه من التمييز لجمع القلة، كما قال: * (وسبع سنبلات خضر) *؟
قلت: هذا لما قدمت عند قوله: * (ثلاثة قروء) * من وقوع أمثلة الجمع متعاورة مواقعها إنتهى كلامه. فجعل هذا من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز، إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع، لأن السبع من أقل العدد، وهذا الذي قاله الزمخشري ليس على إطلاقه، فنقول جمع السلامة بالواو والنون، أو بالألف والتاء، لا يميز به من ثلاثة إلى عشرة إلا إذا لم يكن لذلك المفرد جمع غير هذا الجمع، أو جاور ما أهمل فيه هذا الجمع، وإن كان المجاور لم يهمل فيه هذا الجمع.
فمثال الأول: قوله تعالى: * (سبع سماوات) * فلم يجمع سماء هذه المظلة تسوى هذا الجمع وأما قوله:
فوق سبع سمائيا
فنصوا على شذوذه، وقوله تعالى: * (سبع بقرات) * * (عليهم ءايات) * وخمس صلوات لأن البقرة والآية والصلاة ليس لها سوى هذا الجمع، ولم يجمع على غيره.
ومثال الثاني: قوله تعالى: * (وسبع سنبلات خضر) * لما عطف على: * (سبع بقرات) * وجاوره حسن فيه جمعه بالألف والتاء، ولو كان لم يعطف ولم يجاور لكان: * (سبع سنابل) *، كما في هذه الآية، ولذلك إذا عرى عن المجاور جاء على مفاعل في الأكثر، وألاولى، وإن كان يجمع بالألف والتاء، مثال ذلك قوله تعالى: * (سبع طرائق) * و * (سبع
316

والزراعة من فروض الكفاية، فيجبر عليها بعض الناس إذا اتفقوا على تركها.
* (والله يضاعف لمن يشاء) * أي هذا التضعيف إذ لا تضعيف فوق سبعمائة، وقيل: يضاعف أكثر من هذا العدد وروي عن ابن عباس: أن التضعيف ينتهي لمن شاء الله إلى ألفي ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الإسناد عنه. انتهى. وقال الضحاك: يضاعف إلى ألوف الألوف، وخرج أبو حاتم في صحيحه المسمى (بالتقاسيم والأنواع) عن ابن عمر قال: لما نزلت * (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) * الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (رب زد أمتي). فنزلت * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * وفي (سنن النسائي) قريب من هذا، إلا أنه ذكر بين الآيتين نزول. * (من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) *.
وقوله: * (لمن يشاء) * أي: لمن يشاء التضعيف. وفيه دلالة على حذف، ذلك بمشيئة الله تعالى وارادته. وقال الزمخشري: أي يضاعف تلك المضاعفة لا لكل منفق، لتفاوت أحوال المنفقين، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافا لمن يستوجب ذلك. انتهى. فقوله: لمن يستوجب ذلك، فيه دسيسه الاعتزال.
* (والله واسع عليم) * أي: واسع بالعطاء، عليم بالنية. وقيل: واسع القدرة على المجازاة، عليم بمقادير المنفقات وما يرتب عليها من الجزاء.
* (الذين ينفقون أموالهم فى سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) *. قيل: نزلت في عثمان، وقيل: في علي، وقيل: في عبد الرحمن بن عوف وعثمان،
جاء ابن عوف في غزوة تبوك بأربعة آلاف درهم وترك عنده مثلها، وجاء عثمان بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدق برمة ركية كانت له تصدق بها على المسلمين. وقيل: جاء عثمان بألف دينار فصبها في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم) لما شبه تعالى صفة المنفق في سبيل الله بزارع الحبة التي أنجبت في تكثير حسناته ككثرة ما أخرجت الحبة، وكان ذلك على العموم بين في هذه الآية أن ذلك إنما هو لمن لا يتبع إنفاقه منا ولا أذى، لأنهما مبطلان للصدقة، كما أخبر تعالى في الآية بعد هذا، بل يراعى جهة الاستحقاق لاجزاء من المنفق عليه ولا شكرا له، فيكون قصده خالصا لوجه الله تعالى، فإذا التمس بإنفاقه الشكر والثناء كان صاحب سمعة ورياء، وإن التمس الجزاء كان تاجرا مربحا لا يستحق حمدا ولا شكرا. والمن من الكبائر ثبت في (صحيح مسلم) وغيره أنه أحد. (الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم). وفي النسائي: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمان بما أعطى..
وفي قوله: * (ثم لا يتبعون) * بعد قوله: * (فى سبيل الله) * دلالة على أن النفقة تمضي في سبيل الله، ثم يتبعها ما يبطلها، وهو المن والأذى، وقد تبين ذلك في الآية بعدها، فهي موقوفة، أعني: قبولها على شريطة، وهو أن لا يتبعها منا ولا أذى.
وظاهر الآية يدل على أن المن والأذى يكونان من المنفق على المنفق عليه، سواء كان ذلك الإنفاق في الجهاد على سبيل التجهيز أو الإعانة فيه، أم كان في غير الجهاد. وسواء كان المنفق مجاهدا أم غير مجاهد.
وقال ابن زيد: هي في الذين لا يخرجون إلى الجهاد، بل ينفقون وهم قعود. والآية قبلها في الذين يخرجون بأنفسهم وأموالهم، ولذلك شرط على هؤلاء ولم يشرط على الأولين.
والأذى يشمل المن وغيره، ونص على المن وقدم لكثرة وقوعه من المتصدق، فمن المن أن يقول: قد أحسنت إليه ونعشتك، وشبهه. أو يتحدث
318

بما أعطى، فيبلغ ذلك المعطى، فيؤذيه. ومن الأذى أن يسب المعطى، أو يشتكي منه، أو يقول: ما أشد إلحاحك، و: خلصنا الله منك، و: أنت أبدا تجيئني، أو يكلفه الاعتراف بما أسدى إليه. وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال زيد بن أسلم: إن ظننت أن سلامك يثقل على من أنفقت عليه، تريد وجه الله، فلا تسلم عليه. وقالت له: امرأة يا أبا اسامة؟ دلني على رجل يخرج في سبيل الله حقا، فإنهم إنما يخرجون الفواكه، فإن عندي أسهما وجيعة. فقال لها: لا بارك الله في أسهمك وجيعتك، فقد آذيتهم قبل أن تعطيهم.
* (لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته.
و * (الذين ينفقون) * مبتدأ والجملة من قوله: * (لهم أجرهم) * خبر، ولم يضمن المبتدأ معنى اسم الشرط، فلم تدخل الفاء في الخبر، وكان عدم التضمين هنا لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها، والجملة التي قبلها أخرجت مخرج الشيء الثابت المفروغ منه، وهو نسبة إنفاقهم بالحبة الموصوفة، وهي كناية عن حصول الأجر الكثير، فجاءت هذه الجملة، كذلك أخرج المبتدأ والخبر فيهما مخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع ما قبله، بخلاف ما إذا دخلت الفاء فإنها مشعرة بترتب الخبر على المبتدأ، واستحقاقه به.
وقيل: * (الذين ينفقون) * خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم الذين ينفقون * (ولهم * أجرهم) * في موضع الحال، وهذا ضعيف، أعنى: جعل لهم أجرهم في موضع الحال، بل الأولى إذا أعرب: الذين، خبر مبتدأ محذوف أن يكون: لهم أجرهم، مستأنفا وكأنه جواب لمن قال: هل لهم أجر؟ وعند من أجرهم؟ فقيل * (لهم أجرهم عند ربهم) * وعطف: بثم، التي تقتضي المهلة، لأن من أنفق في سبيل الله ظاهر ألا يحصل منه غالبا المن والأذى، بل إذا كانت بنية غير وجه الله تعالى، لا يمن ولا يؤذي على الفور، فذلك دخلت: ثم، مراعاة للغالب. وإن حكم المن والأذى المعتقبين للإنفاق، والمقارنين له حكم المتأخرين.
وقال الزمخشري: ومعنى: ثم، إظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وأن تركهما خير من نفس الإنفاق، كما جعل الإستقامة على الإيمان خيرا من الدخول فيه بقوله: * (ثم استقاموا) * انتهى كلامه.
وقد تكرر للزمخشري ادعاء هذا المعنى لثم، ولا أعلم له في ذلك سلفا، وقد تكلمنا قبل هذا معه في هذا المعنى، و: ما، من * (ما أنفقوا) * موصول عائده محذوف، أي: أنفقوه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: إنفاقهم، وثم محذوف، أي: منا على المنفق عليه، ولا أذى له، وبعد ما قاله بعضهم من أن ولا أذى من صفة المعطي، وهو مستأنف، وكأنه قال: الذين ينفقون ولا يمنون ولا يتأذون بالإنفاق، وكذلك يبعد ما قاله بعضهم من أن قوله: * (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * لا يراد به في الآخرة، وأن المعنى: إن حق المنفق في سبيل الله أن يطيب به نفسه، وأن لا يعقبه المن، وأن لا يشفق من فقر يناله من بعد، بل يثق بكفاية الله ولا يحزن إن ناله فقر.
* (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) * أي: رد جميل من المسؤول، وعفو من السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول من إلحاح أو سب أو تعريض بسبب، كما يوجد في كثير من المستعطين، وقيل: معنى و: مغفرة، أي: نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل. وقيل: ومغفرة، أي عفو من جهة السائل، لأنه إذا رده ردا جميلا عذره. وقيل: قول معروف، هو الدعاء والتأسي والترجئة بما عند الله، وقيل: الدعاء لأخيه بظهر الغيب، وقيل: الأمر بالمعروف خير ثوابا عند الله من صدقة يتبعها أذى. وقيل: التسبيحات والدعاء والثناء والحمد لله والمغفرة، أي: الستر على نفسه والكف عن إظهار ما ارتكب من المآثم خير، أي: أخف على البدن من صدقة يتبعها أذى. وقيل: المغفرة الاقتصار على القول الحسن، وقيل: المغفرة أن يسأل الله الغفران لتقصير في عطاء وسد خلة، وقيل: المغفرة هنا ستر خلة المحتاج، وسوء حاله. قاله ابن جرير، وقيل، لأعرابي سأل بكلام فصيح، ممن الرجل؟
319

فقال اللهم غفرا سوء الاكتساب يمنع من الانتساب، وقيل: أن يستر على السائل سؤاله وبذل وجهه له ولا يفضحه، وقيل: معناه السلامة من المعصية، وقيل: القول المعروف أن تحث غيرك على إعطائه. وهذا كله على أن يكون الخطاب مع المسؤول لأن الخطاب في الآية قبل هذا، وفي الآية بعد هذا، إنما هو مع المتصدق، وقيل: الخطاب للسائل، وهو حث له على إجمال الطلب، أي يقول قولا حسنا من تعريض بالسؤال أو إظهار للغنى حيث لا ضرورة، ويكسب خير من مثال صدقة يتبعها أذى، واشترك القول المعروف والمغفرة مع الصدقة التي يتبعها أذى في مطلق الخيرية، وهو: النفع، وإن اختلفت جهة النفع، فنفع القول المعروف والمغفرة باق، ونفع تلك الصدقة فان، ويحتمل أن يكون الخيرية هنا من باب قولهم: شيء خير من لا شيء. وقال الشاعر:
* ومنعك للندى بجميل قول
*
أحب إلي من بذل ومنه
*
وقال آخر فأجاد:
* إن لم تكن ورق يوما أجود بها
*
للمعتفين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي
إما نوالي وإما حسن مردود
وارتفاع: قول، على أنه مبتدأ، وسوغ الابتداء بالنكرة وصفها، ومغفرة معطوف على المبتدأ، فهو مبتدأ ومسوغ جواز الابتداء به وصف محذوف أي: ومغفرة من المسؤول، أو: من السائل. أو: من الله، على اختلاف الأقوال. و: خير، خبر عنهما.
وقال المهدوي وغيره: هما جملتان، وخبر: قول، محذوف، التقدير: قول معروف أولى ومغفرة خير. قال ابن عطية: وفي هذا ذهاب تزويق المعنى، وإنما يكون المقدر كالظاهر. إنتهى. وما قاله حسن، وجوز أن يكون: قول معروف، خبر مبتدأ محذوف تقديره: المأمور به قول معروف، ولم يحتج إلى ذكر المن في قوله:
320

تفاوت ما بين الضدين، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن. ولما وصف صاحب النفقة بوصفين، قابل ذلك هنا بوصفين، فقوله: * (ابتغاء * مرضات * الله) * مقابل لقوله: * (رئاء الناس) * وقوله: * (وتثبيتا من أنفسهم) * مقابل لقوله: * (ولا يؤمن بالله واليوم الاخر) * لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده، ولا يكون إلا عن يقين بالآخرة. والتقادير الثلاثة التي في قوله: * (مثل الذين * ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) * جارية هنا، أي: ومثل المنافقين كمثل غارس حبة، أو: مثل نفقتهم كحبة، أو: مثل المنفقين ونفقتهم كمثل حبة وغارسها. وجوزوا في: ابتغاء أن يكون مصدرا في موضع الحال. أي: مبتغين، وأن يكون مفعولا من أجله، وكذلك: وتثبيتا.
قال ابن عطية: ولا يصح أن يكون ابتغاء مفعولا من أجله، لعطف، وتثبيتا عليه، ولا يصح في: وتثبيتا أنه مفعول من أجله، لأن الإنفاق ليس من أجل التثبيت.
وقال مكي في (المشكل): كلاهما مفعول من أجله، وهو مردود بما بيناه. إنتهى كلامه.
وتثبيت، مصدر: ثبت، وهو متعد، ويحتمل أن يكون المفعول محذوفا تقديره الثواب من الله تعالى، أي: وتثبيتا وتحصيلا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة، فيكون إذ ذاك تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا على الإنفاق في سبيل الله. ومن قدر المفعول غير ذلك أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، وجعله من أنفسهم على أن تكون: من، بمعنى: اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: فعلت ذلك كسرا من شهوتي، أي: لشهوتي، فلا يتضح فيه أن ينتصب على المفعول له. قال الشعبي، وقتادة، والسدي، وأبو صالح، وابن زيد: معناه وتيقنا، أي: أن نفوسهم لها بصائر متأكدة، فهي تثبتهم على الإنفاق ويؤكده قراءة من قرأ: أو تبيينا من أنفسهم، وقال قتادة أيضا: وأحتسابا من أنفسهم. وقال الشعبي أيضا والضحاك، والكلبي: وتصديقا، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم. وقال ابن جبير، وأبو مالك: تحقيقا في دينهم. وقال ابن كيسان: إخلاصا وتوطيدا لأنفسهم على طاعة الله في نفقاتهم. وقال الزجاج: ومقرين حين ينفقون أنها مما يثيب الله عليها. وقال الشعبي أيضا: عزما. وقال يمان أيضا: بصيرة. وقال مجاهد، والحسن: معناه أنهم يثبتون، أي يضعون صدقاتهم. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان ذلك لله أمضاه، وإن خالطه شك أمسك.
وقد أجاز بعض المصريين أن يكون قوله: وتثبيتا. بمعنى: تثبتا، فيكون لازما. قال: والمصادر قد تختلف، ويقع بعضها موقع بعض، ومنه قوله: * (وتبتل إليه تبتيلا) * أي تبتلا ورد هذا القول بأن ذلك لا يكون بالفعل المتقدم على المصدر نحو الآية، أما أن يأتي بالمصدر من غير بنائه على فعل مذكور فلا يحمل على غير فعله الذي له في الأصل، تقول: إن ثبت فعل لازم معناه: تمكن، ورسخ، وتحقق. وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه: مكن، وحقق. قال ابن رواحة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم):
* فثبت الله ما آتاك من حسن
*
تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا
فالمعنى، والله أعلم، أنهم يثبتون من أنفسهم على الإيمان بهذا العمل الذي هو إخراج المال الذي هو عديل الروح في سبيل الله ابتغاء رضا، لأن مثل هذا العمل شاق على النفس، فهم يعملون لتثبيت النفس على الإيمان، وما ترجو من الله بهذا العمل الصعب، لأنها إذا ثبتت على الأمر الصعب انقادت وذلت له.
*
وإذا كان التثبيت مسندا إليهم كانت: من، في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: هز من عطفه، و: حرك من نشاطه، وإن كان التثبيت مسندا في المعنى إلى أنفسهم كانت: من، في موضع نصب أيضا صفة للمصدر تقديره: كائنا من أنفسهم.
قال الزمخشري
323

فإن قلت: فما معنى التبعيض؟
قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل ماله وروحه معا فهو الذي ثبتها كلها * (وتجاهدون فى سبيل الله بأموالكم وأنفسكم) * إنتهى. والظاهر أن نفسه هي التي تثبته وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلا هي، لما اعتقدته من الإيمان وجزيل الثواب، فهي الباعثة له على ذلك، والمثبتة له بحسن إيمانها وجليل اعتقادها.
وقرأ عاصم الجحدري * (كمثل حبة) * بالحاء والباء في: بربوة، ظرفية، وهي في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف. وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها. كما قال الشاعر، وهو الخليل بن أحمد، رحمه الله تعالى:
* ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت
*
عن المعاطش واستغنت بسقياها
شع فمال بالخوخ والرمان أسفلها
واعتم بالنخل والزيتون أعلاها
تفسير ابن عباس: الربوة، بالمكان المرتفع الذي لا يجرى فيه الأنهار، إنما يريد المذكورة لقوله: * (أصابها وابل) * فدل على أنها ليس فيها ماء جار، ولم يرد أن جنس الربوة لا يجرى فيها ماء، ألا ترى قوله تعالى: * (إلى ربوة ذات قرار ومعين) * وخصت بأن سقياها الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيرا.
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي: المفسرون قالوا: البستان إذا كان في ربوة كان أحسن، وأكثر ريعا، وفيه لي أشكال، لأنه يكون فوق الماء، ولا ترتفع إليه الأنهار، وتضربه الرياح كثيرا، فلا يحسن ريعه. وإذا كان في وهدة انصبت إليه المياء، ولا تصل إليه آثار الرياح، فلا يحسن أيضا ريعه، وإنما يحسن ريعه في أرض مستوية، فالمراد بالربوة ليس ما ذكروه، وإنما هو كون الأرض طيبة بحيث إذا نظر نزول المطر عليها انتفخت وربت، فيكثر ريعها، وتكمل الأشجار فيها. ويؤيده: * (وترى الارض هامدة) * الآية. وأنه في مقابلة المثل الأول، والأول لا يؤثر فيه المطر، وهو: الصفوان. انتهى كلامه. وفيه بعض تلخيص، وما قاله قاله قبله الحسن. الربوة الأرض المستوية التي لا تعلو فوق الماء. وقال الشاعر في رياض الحزن:
* ما روضة من رياض الحزن معشبة
*
خضراء جاد عليها وابل هطل
ولا يراد: برياض الحزن، رياض الربا، كما زعم الطبري، بل: رياض الحزن هي المنسوبة إلى نجد، ونجد يقال لها: الحزن، وإنما نسبت الروضة إلى الحزن وهو نجد، لأن نباته أعطر، ونسيمه أبرد، وأرق. فهي خير من رياض تهامة.
*
وقرأ ابن عامر، وعاصم بفتح الراء، وباقي السبعة بالضم. وكذلك خلافهم في * (قد أفلح) * وقرأ ابن عباس بكسر الراء وقرأ أبو جعفر، وأبو عبد الرحمن: برباوة، على وزن: كراهة. وأبو الأشهب العقيلي: برباوة، على وزن رسالة.
* (أصابها وابل) * جملة في موضع الصفة لجنة، وبدىء بالوصف بالمجرور، ثم بالوصف بالجملة، وهذا الأكثر في لسان العرب، وبدىء بالوصف الثابت، وهو: كونها بربوة، ثم بالوصف العارض، وهو * (أصابها وابل) * وجاء في وصف صفوان قوله: عليه تراب، ثم عطف عليه بالفاء، وهنا لم يعطف، بل أخرج صفة، وينظر ما الفرق بين الموضعين، وجوز أن يكون: * (أصابها وابل) * حالا من جنة. لأنها نكرة، وقد وصفت حالا من الضمير في الجار والمجرور.
* (فأتت أكلها ضعفين) * آتت بمعنى: أعطت، والمفعول الأول محذوف، التقدير: فآتت صاحبها، أو: أهلها أكلها. كما حذف في قوله * (كمثل جنة) * أي:
صاحب أو: غارس جنة، ولأن المقصود ذكر ما يثمر لا لمن تثمر، إذ هو معلوم، ونصب: ضعفين، على الحال، ومن زعم أن: ضعفين، مفعول ثان: لآتت، فهو ساه، وليس المعنى عليه، وكذلك قول من زعم إن آتت بمعنى أخرجت، وأنها تتعدى لواحد، إذ لا يعلم ذلك في لسان العرب، ونسبة الإيتاء إليها مجاز، والأكل بضم الهمزة الشيء
324

المأكول، وأريد هنا الثمر، وإضافته إلى الجنة إضافة اختصاص، كسرج الدابة، إذ ليس الثمر مما تملكه الجنة.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو بضم الهمزة، وإسكان الكاف، وكذا كل مضاف إلى مؤنث. ونقل أبو عمرو فيما أضيف إلى غير مكني، أو إلى مكني مذكر، والباقون بالتثقيل.
ومعنى: ضعفين: مثلا ما كانت تثمر بسبب الوابل، وبكونه في ربوة، لأن ريع الربا أكثر، ومن السيل والبرد أبعد، وقيل: ضعفي غيرها من الأرضين، وقيل: أربعة أمثالها، وهذا مبني على أن ضعف الشيء مثلاه.
وقال أبو مسلم: ثلاثة أمثالها، قال تاج القراء. وليس لهذا في العربية وجه، وإيتاء الضعفين هو في حمل واحد وقال عكرمة، وعطاء: معنى ضعفين أنها حملت في السنة مرتين. ويحتمل عندي أن يكون قوله: ضعفين، مما لا يزاد به شفع الواحد، بل يكون من التشبيه الذي يقصد به التكثير. وكأنه قيل: فآتت أكلها ضعفين، ضعفا بعد ضعف أي: أضعافا كثيرة، وهذا أبلغ في التشبيه للنفقة بالجنة، لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين، بل جاء تضاعف أضعافا كثيرة، وعشر أمثالها، وسبع مائة وأزيد.
* (فإن لم يصبها وابل فطل) * قال ابن عيسى: فيه إضمار، التقدير: فإن لم يكن يصيبها وابل كما قال الشاعر:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة
أي: لم تكن تلدني، والمعنى: أن الطل يكفيها وينوب مناب الوابل في إخراج الثمرة ضعفين، وذلك أكرم الأرض وطيبها، فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر. وقيل: المعنى فإن لم يصبها وابل فيتضاعف ثمرها، وأصابها طل فأخرجت دون ما تخرجه بالوابل، فهي على كل حال لا تخلو من أن تثمر. قال الماوردي: زرع الطل أضعف من زرع المطر وأقل ريعا، وفيه: وإن قل تماسك ونفع. انتهى.
ودعوى التقديم والتأخير في الآية، على ما قاله بعضهم، من أن المعنى أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل، فآتت أكلها ضعفين حتى يجعل ايتاؤها الأكل ضعفين على الحالين من الوابل والطل، لا حاجة إليها. والتقديم والتأخير من ضرورات الشعر، فينزه القرآن عن ذلك.
قال زيد بن أسلم: المضروب به المثل أرض مصر، إن لم يصبها مطر زكت، وإن أصابها مطر أضعفت.
قال الزمخشري: مثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة بالوابل والطل، فكما أن كل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة، فكذلك نفقتهم كثيرة، كانت أو قليلة، بعد أن يطلب بها وجه الله ويبذل فيها الوسع، زاكية عند الله، زائدة في زلفاهم وحسن حالهم عنده. انتهى كلامه.
وقال الماوردي قريبا من كلام الزمخشري، قال: أراد بضرب هذا المثل أن كثير البر مثل زرع المطر، كثير النفع، وقليل البر مثل زرع الطل، قليل النفع. فلا يدع قليل البر إذا لم يفعل كثيره، كما لا يدع زرع الطل إذا لم يقدر على زرع المطر. انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: شبه نمو نفقات هؤلاء المخلصين الذين يربي الله صدقاتهم كتربية الفصيل والفلو، بنمو نبات هذه الجنة بالربوة الموصوفة، بخلاف الصفوان الذي انكشف عنه ترابه فبقي صلدا.
وقال ابن الجوزي: معنى الآية أن صاحب هذه الجنة لا يخيب فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. انتهى.
وقوله: فطل جواب للشرط، فيحتاج إلى تقدير بحيث تصير جملة، فقدره المبرد مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، أي: فطل يصيبها، وابتدىء بالنكرة لأنها جاءت في جواب الشرط. وذكر بعضهم أن هذا من مسوغات جواز الابتداء بالنكرة، ومثله ما جاء في المثل: إن ذهب عير فعير في الرباط. وقدره غير المبرد: خبر مبتدأ محذوف. أي: فالذي يصيبها، أو: فمصيبها طل، وقدره بعضهم فاعلا، أي فيصيبها طل، وكل هذه التقادير سائغة. والآخر يحتاج فيه إلى
325

حذف الجملة الواقعة جوابا، وإبقاء معمول لبعضها، لأنه متى دخلت الفاء على المضارع فإنما هو على إضمار مبتدأ، كقوله تعالى * (ومن عاد فينتقم الله منه) * أي فهو ينتقم، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في التقديرين السابقين فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة، ونظير ما في الآية قوله:
* ألا إن لا تكن إبل فمعزى
*
كأن قرون جلتها العصي
*
* (والله بما تعملون بصير) * قرأ الزهري، بالياء، فظاهره أن الضمير يعود على المنافقين، ويحتمل أن يكون عاما فلا يختص بالمنافقين، بل يعود على الناس أجمعين.
وقرأ الجمهور بالتاء، على الخطاب، وفيه التفات. والمعنى: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من الأعمال والمقاصد من رياء وإخلاص، وفيه وعد ووعيد.
* (أيود أحدكم أن تكون له جنة) * لما تقدم النهي عن إبطال الصدقة بالمن والأذى، وشبه فاعل ذلك بالمنفق رئاء، ومثل حاله بالصفوان المذكور، ثم مثل حال من أنفق ابتغاء وجه الله، أعقب ذلك كله بهذه الآية، فقال السدي: هذا مثل آخر للمرائي وقال ابن زيد: هو مثل للمان في الصدقة، وقال مجاهد، وقتادة، والربيع، وغيرهم: للمفرط في الطاعة. وقال ابن جريج: لمن أعطي الشباب والمال، فلم يعمل حتى سلبا وقال ابن عباس: لمن عمل أنواع الطاعات كجنة فيها من كل الثمرات، فختمها بإساءة كإعصار، فشبه تحسره حين لا عود، بتحسر كبير هلكت جنته أحوج ما كان إليها، وأعجز عن عمارتها، وروي نحو من هذا عن عمر وقال الحسن: هذا مثل قل والله من يعقله: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه، أفقر ما كان إلى جنته، وأن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا.
والهمزة للاستفهام، والمعنى على التبعيد والنفي، أي: ما يود أحد ذلك؟ و: أحد، هنا ليس المختص بالنفي وشهبه، وإنما المعنى: أيود واحد منكم؟ على طريق البدلية.
وقرأ الحسن: جنات، بالجمع.
* (من نخيل وأعناب) * لما كان النخيل والأعناب أكرم الشجر وأكثرها منافع، خصا بالذكر، وجعلت الجنة منهما، وإن كان في الجنة غيرهما، وحيث جاء في القرآن ذكر هذا، نص على النخيل دون الثمرة. وعلى ثمرة الكرم دون الكرم، وذلك لأن أعظم منافع الكرم هو ثمرته دون أصله، والنخيل كله منافعه عظيمة، توازي منفعة ثمرته من خشبه وجريده وليفه وخوصه، وسائر ما يشتمل عليه، فلذلك، والله أعلم، اقتصر على ذكر النخيل وثمرة الكرم.
* (تجرى من تحتها الانهار) * تقدم شرح هذا في أول هذه السورة.
* (له فيها من كل الثمرات) * هذا يدل على أنه فيه أشجار غير النخيل والكرم، كما ذكرنا قبل هذا الظاهر، وأجاز الزمخشري أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيها.
وهذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر، فعلى مذهب الأخفش: من، زائدة التقدير: له فيها كل الثمرات، على إرادة التكثير. بلفظ العموم، لا أن العموم مراد، ولا يجوز أن تكون زائدة على مذهب الكوفيين، لأنهم شرطوا في زيادتها أن يكون بعدها نكرة، نحو: قد كان من مطر، وأما على مذهب جمهور البصريين، فلا يجوز زيادتها، لأنهم شرطوا أن يكون قبلها غير موجب، وبعدها نكرة، ويحتاج هذا إلى تقييد، قد ذكرناه في كتاب (منهج السالك) من تأليفنا. ويتخرج مذهب جمهور البصريين على حذف المبتدأ المحذوف تقديره، له فيها رزق، أو: ثمرات من كل الثمرات. ونظيره في الحذف قول الشاعر:
326

* كأنك من جمال بني أقيش
*
تقعقع خلف رجليه بشن
*
التقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش، حذف: جمل، لدلالة: من جمال، عليه، كما حذف ثمرات لدلالة: من كل الثمرات، عليه وكذلك قوله تعالى * (وما منا إلا له مقام معلوم) * أي: وما أحد منا، فأحد مبتدأ محذوف، و: منا، صفة، وما بعد إلا جملة خبر عن المبتدأ.
* (وأصابه الكبر) * الظاهر أن الواو للحال، وقد مقدرة أي وقد أصابه الكبر، كقوله: * (وكنتم أمواتا فأحياكم) * * (وقعدوا لو أطاعونا) * أي: وقد كنتم، و: قد قعدوا، وقيل: معناه. ويصيبه، فعطف الماضي على المضارع لوضعه موضعه وقال الفراء: يجوز ذلك في: يود، لأنه يتلقى مرة بأن، ومرة بأو، فجاز أن يقدر أحدهما مكان الآخر قال الزمخشري: وقيل، يقال: وددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى، كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة، وأصابه الكبر؟ انتهى.
وظاهر كلامه أن يكون: وأصابه، معطوفا على متعلق: أيود، وهو: أن تكون، لأنه في معنى: لو كانت، إذ يقال: أيود أحدكم لو كانت؟ وهذا ليس بشيء، لأنه ممتنع من حيث: أن يكون، معطوفا على: كانت، التي قبلها لو، لأنه متعلق الود، وأما: وأصابه الكبر، فلا يمكن أن يكون متعلق الود، لأن إصابة الكبر لا يوده أحد، ولا يتمناه، لكن يحمل قول الزمخشري على أنه: لما كان: أيود، استفهاما، معناه الإنكار، جعل متعلق الودادة الجمع بين الشيئين، وهما كون جنة له، وأصابة الكبر إياه، لا أن كل واحد منهما يكون مودودا على انفراده، وإنما أنكر وداده الجمع بينهما، وفي لفظ الإصابة معنى التأثير، وهو أبلغ من: وكبر، وكذلك بربوة أصابها وابل، وعليه تراب فأصابه وابل، ولم يأت: وبلت، ولا توبل.
والكبر الشيخوخة، وعلو السن.
* (وله ذرية ضعفاء) * وقرئ: ضعاف، وكلاهما جمع: ضعيف، كظريف وظرفاء. وظراف، والمعنى ذرية صبية صغار، ويحتمل أن يراد بضعفاء: محاويج.
* (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) * قال فيه، فأتى بالضمير مذكرا، لأن الإعصار مذكر من سائر أسماء الرياح، وارتفاع: نار، على الفاعلية بالجار قبله، أو: كائن فيه نار، وفي العطف بالفاء في قوله: فأصابها إعصار، دليل على أنها حين أزهت وحسنت للانتفاع بها أعقبها الإعصار.
* (فاحترقت) * هذا فعل مطاوع لأحرق، كأنه قيل: فيه نار أحرقتها فاحترقت، كقوله: أنصفته فانتصف، وأوقدته فاتقد. وهذه المطاوعة هي انفعال في المفعول
يكون له قابلية للواقع به، فيتأثر له.
والنار التي في الإعصار هي السموم التي تكون فيها. وقال ابن مسعود: السموم التي خلق الله منها الجان جزء من سبعين جزءا من النار، يعني، نار الآخرة، وقد فسر أنها هلكت بالصاعقة. وقال الحسن، والضحاك. إعصار فيه نار، أي: ريح فيها صر برد.
* (كذالك يبين الله لكم الآيات) * أي: مثل هذا البيان تصرف الأمثال المقربة الأشياء للذهن، يبين لكم العلامات التي يوصل بها إلى اتباع الحق.
* (لعلكم تتفكرون) * أي: تعلمون أفكاركم فيما يفنى ويضمحل من الدنيا، وفيما هو باق لكم في الآخرة، فتزهدون في الدنيا، وترغبون في الآخرة.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من ضروب الفصاحة وصنوف البلاغة أنواعا: من الانتقال من الخصوص إلى العموم، ومن الإشارة، ومن التشبيه، ومن الحذف، ومن الاختصاص، ومن الأمثال، ومن المجاز. وكل هذا قد نبه عليه غضون تفسير هذه الآيات.
327

(سقط: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبيتم ووما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم باخذيه إلا أن تغمضوا فيه وأعلموا أن الله غني حميد، الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة ومنه وفضلا والله واسع عليم، يؤتى الحكمة من يشاء ومن أوتى الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب، وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وما للظالمين منأنصار، إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم والله بما تعملون خبير،) 2 (* (ليس عليك هداهم ولاكن الله يهدى من يشآء وما تنفقوا من خير فلانفسكم وما تنفقون إلا ابتغآء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون * للفقرآء الذين أحصروا فى سبيل الله لا يستطيعون ضربا فى الا رض يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) *)) 2
التيمم: القصد يقال أم كرد. وأمم كأخر، وتيمم بالتاء والياء، وتأمم بالتاء والهمزة، وكلها بمعنى. وقال الخليل أممته قصدت أمامه، ويممته قصدته من أي جهة كانت.
الخبيث: الرديء وهو ضد الطيب اسم فاعل من خبث.
الإغماض: التساهل يقال: أغمض في حقه تساهل فيه ورضى به، والإغماض تغميض العين، وهو كالإغضاء. وأغمض الرجل أتى غامضا من الأمر، كما يقال: أعمن وأعرق وأنجد، أي: أتى عمان والعراق ونجدا، وأصل هذه الكلمة من الغموض وهو: الخفاء، غمض الشيء يغمض غموضا خفي، وإطباق الجفن إخفاء للعين، والغمض المتطامن الخفي من الأرض.
الحميد: المحمود فعيل بمعنى مفعول، ولا ينقاس، وتقدمت أقسام فعيل في أول هذه السورة. وتفسير الحمد في أول سورته.
النذر: تقدمت مادته في قوله: * (أم لم تنذرهم لا) * وهو عقد الإنسان ضميره على فعل شيء والتزامه. وأصله من الخوف، والفعل منه. نذر ينذر وينذر، بضم الذال وكسرها، وكانت النذور من سيرة العرب يكثرون منها فيما يرجون وقوعه، وكانوا أيضا ينذرون قتل أعدائهم كما قال الشاعر:
* الشاتمي عرضي، ولم أشتمهما
*
والناذرين إذ لقيتهما دمي
*
328

وأما على ما ينطلق شرعا فسيأتي بيانه إن شاء الله.
نعم: أصلها نعم، وهي مقابلة بئس، وأحكامها مذكورة في النحو، وتقدم القول في: بئس، في قوله: * (بئسما اشتروا به أنفسهم) *.
التعفف: تفعل من العفة، عف عن الشيء أمسك عنه، وتنزه عن طلبه، من عشق فعف فمات مات شهيدا. أي: كف عن محارم الله تعالى، وقال رؤبة بن العجاج:
* فعف عن أسرارها بعد الغسق
*
ولم يدعها بعد فرك وعشق
*
السيما: العلامة، ويمد ويقال: بالسيمياء، كالكيمياء. قال الشاعر:
* غلام رماه الله بالحسن يافعا
*
له سيمياء لا تشق على البصر
*
وهو من الوسم، والسمة العلامة، جعلت فأؤه مكان عينه، وعينه مكان فائه، وإذا مد: سيمياء، فالهمزة فيه للإلحاق لا للتأنيث.
الإلحاف: الإلحاح واللجاج في السؤال، ويقال: ألحف وأحفى، واشتقاق: الإلحاف، من اللحاف، لأنه يشتمل على وجوه الطلب في كل حال، وقيل: من: ألحف
الشيء إذا اغطاه وعمه بالتغطية، ومنه اللحاف. ومنه قول أبن أحمر:
* يظل يحفهن بقفقفيه
*
ويلحفهن هفهافا ثخينا
*
يصف ذكر النعام يحضن بيضا بجناحيه، ويجعل جناحه كاللحاف. وقال الشاعر:
* ثم راحوا عبق المسك بهم
*
يلحفون الأرض هداب الأزر
*
أي: يجعلونها كاللحاف للأرض، أي يلبسونها إياها. وقيل: اشتقاقه من لحف الجبل لما فيه من الخشونة، وقيل: من قولهم: لحفني من فضل لحافه، أي: أعطاني من فضل ما عنده.
* (تتفكرون يأيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * تظافرت النصوص في الحديث على أن سبب نزول هذه الآية هو أنهم لما أمروا بالصدقة كانوا يأتون بالأقناء من التمر فيعلقونها في المسجد ليأكل منها المحاويج، فجاء بعض الصحابة بحشف، وفي بعض الطرق: بشيص، وفي بعضها: برديء، وهو يرى أن ذلك جائز، فنزلت. وهذا الخطاب بالأمر بالإنفاق عام لجميع هذه الأمة. قال علي، وعبيدة السلماني، وابن سيرين: هي في الزكاة المفروضة، وأنه كما يجوز التطوع بالقليل فله أن يتطوع بنازل في القدر، ودرهم زائف خير من تمرة، فالأمر
329

على هذا للوجوب.
والظاهر من قول البراء بن عازب، والحسن، وقتادة: أنها في التطوع، وهو الذي يدل عليه سبب النزول ندبوا إلى أن لا يتطوعوا إلا بجيد مختار.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما ذكر فضل النفقة في سبيل الله وحث عليها، وقبح المنة ونهى عنها، ثم ذكر القصد فيها من الرياء وابتغاء رضا الله، ذكر هنا وصف المنفق من المختار، وسواء كان الأمر للوجوب أو للندب.
والأكثرون على أن: * (طيبات ما كسبتم) * هو الجيد المختار، وأن الخبيث هو الرديء. وقال ابن زيد: من طيبات، أي: الحلال والخبيث الحرام، وقال علي: هو الذهب والفضة. وقال مجاهد: هو أموال التجارة.
قال ابن عطية قوله: * (من طيبات) * يحتمل أن لا يقصد به لا الحل ولا الجيد، لكن يكون المعنى كأنه قال: أنفقوا مما كسبتم، فهو حض على الإنفاق فقط، ثم دخل ذكر الطيب تبيينا لصفة حسنه في المكسوب عاما، وتقريرا للنعمة. كما تقول: أطعمت فلانا من مشبع الخبز، وسقيته من مروي الماء، والطيب على هذه الجهة يعم الجودة، والحل، ويؤيد هذا الاحتمال أن عبد الله بن مغفل قال: ليس في مال المؤمن من خبيث. إنتهى كلامه.
وظاهر قوله: * (ما كسبتم) * عموم كل ما حصل بكسب من الإنسان المنفق، وسعاية وتحصيل بتعب ببدن، أو بمقاولة في تجارة. وقيل: هو ما استقر عليه الملك من حادث أو قديم، فيدخل فيه المال الموروث لأنه مكسوب للموروث عنه.
الضمير في كسبتم إنما هو لنوع الإنسان أو المؤمنين، وهو الظاهر.
وقال الراغب: تخصيص المكتسب دون الموروث لأن الإنسان بما يكتسبه أضن به مما يرثه، فاذن الموروث معقول من فحواه. إنتهى. وهو حسن.
و: من، للتبعيض، وهي في موضع المفعول، و: ما، في * (ما كسبتم) * موصولة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية، فيحتاج أن يكون المصدر مؤولا بالمفعول، تقديره: من طيبات كسبكم، أي: مكسوبكم.
وظاهر الآية يدل على أن الأمر بالإنفاق عام في جميع أصناف الأموال الطيبة، مجمل في المقدار الواجب فيها، مفتقر إلى البيان بذكر المقادير، فيصح الإحتجاج بها في إيجاب الحق فيما وقع الخلاف فيه، نحو: أموال التجارة، وصدقة الخيل، وزكاة مال الصبي، والحلي المباح اللبس غير المعد للتجارة، والعروض، والغنم، والبقر المعلوفة، والدين، وغير ذلك مما اختلف فيه.
وقال خويزمنداذ: في الآية دليل على بجواز أكل الوالد من مال الولد، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (أولادكم من طيب أكسابكم فكلوا من مال أولادكم هنيأ) إنتهى.
وروت عائشة عنه صلى الله عليه وسلم): (أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه).
* (ومما أخرجنا لكم من الارض) * يعني من أنواع الحبوب والثمار والمعادن والركاز، وفي قوله: أخرجنا لكم، امتنان وتنبيه على الإحسان التام كقوله: * (هو الذى خلق لكم ما فى الارض جميعا) * والمراد: من طيبات ما أخرجنا، فحذف لدلالة ما قبله. وما بعده عليه، وكرر حرف الجر على سبيل التوكيد، أو إشعارا
بتقدير عامل آخر، حتى يكون الأمر مرتين.
وفي قوله: * (ومما أخرجنا لكم من الارض) * دلالة على وجوب الزكاة فيما تخرجه الأرض من قليل وكثير من سائر الأصناف لعموم الآية، إذ قلنا إن الأمر للوجوب، وبين العلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرجت الأرض تذكر في كتب الفقه.
* (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * هذا مؤكد للأمر، إذ هو مفهوم من قوله: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * وفي هذا طباق بذكر الطيبات والخبيث.
وقرأ البزي: ولا تمموا، بتشديد التاء، أصله: تتيمموا، فأدغم التاء في التاء، وذلك في مواضع من القرآن، وقد حصرتها في قصيدتي في القراءات المسماة (عقدة اللآلىء) وذلك في أبيات وهي:
* تولوا بأنفال وهود هما معا
*
ونور وفي المحنة بهم قد توصلا
*
330

عموم نفي الأخذ بأي طريق أخذ الخبيث، من أخذ حق، أوهبة.
والهاء في: بآخذيه، عائدة على الخبيث، وهي مجرورة بالإضافة، وأن كانت من حيث المعنى مفعوله. قال بعض المعربين: والهاء في موضع نصب: بآخذين، والهاء والنون لا يجتمعان، لأن النون زائدة، وهاء الضمير زائدة ومتصلة كاتصال النون، فهي لا تجتمع مع المضمر المتصل. إنتهى كلامه. وهو قول الأخفش: أن التنوين والنون قد تسقطان للطافة الضمير لا للإضافة، وذلك في نحو: ضاربك، فالكاف ضمير نصب، ومذهب الجمهور أنه لا يسقط شيء منها للطافة الضمير، وهذا مذكور في النحو. وقد أجاز هشام: ضاربنك، بالتنوين، ونصب الضمير، وقياسه جواز إثبات النون مع الضمير، ويمكن أن يستدل له بقوله:
هم الفاعلون الخير والآمرونه
وقوله:
ولم يرتفق والناس محتضرونه
* (إلا أن تغمضوا فيه) * موضع أن نصب أو خفض عند من قدره إلا بأن تغمضوا، فحذف الحرف، إذ حذف جائز مطرد، وقيل: نصب بتغمضوا، وهو موضع الحال، وقد قدمنا قبل، أن سيبويه لا يجيز انتصاب أن والفعل مقدرا بالمصدر في موضع الحال، وقال الفراء: المعنى معنى الشرط والجزاء، لأن معناه إن أغمضتم أخذتم، ولكن إلا وقعت على أن ففتحتها، ومثله: (الا أن يخافه) و * (إلا أن يعفون) * هذا كله جزاء، وأنكر أبو العباس وغيره قول الفراء، وقالوا: أن، هذه لم تكن مكسورة قط، وهي التي تتقدر، هي وما بعدها، بالمصدر، وهي مفتوحة على كل حال، والمعنى: إلا بإغماضكم.
وقرأ الجمهور: تغمضوا، من أغمض، وجعلوه مما حذف مفعوله، أي: تغمضوا، بضم التاء وفتح الغين وكسر الميم مشدودة، ومعناه معنى قراءة الجمهور. وروى عنه: تغمضوا، بفتح التاء وسكون الغين وكسر الميم، مضارع: غمض، وهي لغة في أغمض، ورويت عن اليزيدي: تغمضوا، بفتح وضم الميم، ومعناه: إلا أن يخفي عليكم رأيكم فيه. وروي عن الحسن: تغمضوا مشددة الميم مفتوحة. وقرأ قتادة تغمضوا، بضم التاء وسكون الغين وفتح الميم مخففا، ومعناه: إلا أن يغمض لكم.
وقال أبو الفتح: معناه إلا أن توجدوا قد أغمصتم في الأمر بتأولكم أو بتساهلكم، كما تقول: أحمد الرجل أصيب محمودا، وقيل: معنى قراءة قتادة: إلا أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه.
* (واعلموا أن الله غني حميد) * أي: غني عن صدقاتكم، وإنما هي أعمالكم ترد عليكم، حميد أي: محمود على كل حال، إذ هو مستحق للحمد.
وقال الحسن: يستحمد إلى خلقه، أي: يعطيهم نعما يستدعي بها حمدهم. وقيل: مستحق للحمد على ما تعبدكم به.
* (الشيطان يعدكم الفقر) * أي: يخوفكم بالفقر، يقول للرجل أمسك فإن تصدقت افتقرت وروى أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ: الفقر، بضم الفاء، وهي لغة. وقرئ: الفقر، بفتحتين.
* (ويأمركم بالفحشاء) * أي: يغريكم بها إغراء الآمر، والفحشاء: البخل وترك الصدقة، أو المعاصي مطلقا، أو الزنا، أقوال. ويحتمل أن تكون الفحشاء: الكلمة السيئة، كما قال الشاعر:
* ولا ينطق الفحشاء من كان منهم
*
إذا جلسوا منا ولا من سوائنا
وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق، ويأمره، إذ منع، بالرد القبيح على السائل، وبخه وأقهره بالكلام السيء.
*
وروي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم)، أنه قال: (إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجد ذلك فليتعوذ. وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير، فمن وجد ذلك فليحمد الله). ثم قرأ عليه السلام: * (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء) * الآية.
وتقدم وعد الشيطان على أمره، لأنه بالوعد يحصل
332

المحذوف، وحذف ذلك للعلم به، ولدلالة ما في قوله: وما أنفقتم، عليه، كما حذف ذلك في قوله:
* أمن يهجو رسول الله منكم
*
ويمدحه وينصره سواء؟
*
التقدير: ومن يمدحه، فحذفه لدلالة: من، المتقدمة عليه، وعلى هذا الذي تقرر من حذف الموصول، فجاء الضمير مفردا في قوله: فإن الله يعلمه، لأن العطف بأو، وإذا كان العطف بأو كان الضمير مفردا، لأن المحكوم عليه هو أحدهما، وتارة يراعى به الأول في الذكر، نحو: زيد أو هند منطلق، وتارة يراعى به الثاني نحو: زيد أو هند منطلقة. وأما أن يأتي مطابقا لما قبله في التثنية أو الجمع فلا، ولذلك تأول النحويون قوله تعالى: * (إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما) * بالتأويل المذكور في علم النحو، وعلى المهيع الذي ذكرناه، جاء قوله تعالى: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها) * وقوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا) * كما جاء في هذه الآية * (فإن الله يعلمه) * ولما عزبت معرفة هذه الأحكام عن جماعة ممن تكلم في تفسير هذه الآية، جعلوا إفراد الضمير مما يتأول، فحكي عن النحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقة فان الله يعلمها، أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه. ثم حذف قال، وهو مثل قوله: * (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) * وقوله * (واستعينوا بالصبر والصلواة وإنها لكبيرة) * وقول الشاعر:
* نحن بما عندنا، وأنت بما
*
عندك راض، والرأي مختلف
*
وقول الآخر:
* رماني بأمر كنت منه، ووالدي
*
بريئا ومن أجل الطوي رماني
*
التقدير: نحن بما عندنا راضون، وكنت منه بريئا، ووالدي بريئا. انتهى. فأجرى أو مجرى الواو في ذلك. قال ابن عطية: ووحد الضمير في يعلمه، وقد ذكر شيئين من حيث أراد ما ذكر أو نص. انتهى.
وقال القرطبي: وهذا حسن، فإن الضمير يراد به جميع المذكور، وإن كثر انتهى. وقد تقدم لنا ذكر حكم أو، وهي مخالفة للواو في ذلك، ولا يحتاج لتأويل ابن عطية لأنه جاء على الحكم المستقر في لسان العرب في: أو.
* (وما للظالمين من أنصار) * ظاهره العموم، فكل ظالم لا يجد له من ينصره ويمنعه من الله، وقال مقاتل: هم المشركون. وقال أبو سليمان الدمشقي: هم المنفقون بالمن والأذى والرياء، والمبذورن في المعصية. وقيل: المنفقو الحرام.
والأنصار: الأعوان جمع نصير، كحبيب وأحباب، وشريف وأشراف. أو: ناصر، كشاهدو أشهاد، وجاء جمعا باعتبار أن ما قبله جمع، كما جاء: * (وما لهم من ناصرين) * والمفرد يناسب المفرد نحو: * (مالك * من الله من ولي ولا نصير) * لا يقال: انتفاء الجمع لا يدل على انتفاء المفرد، لأن ذلك في معرض نفي النفع والإغناء، وحصول الاستعانة، فإذا لم يجد الجمع ولم يغن، فأحرى أن لا يجدي ولا يغني الواحد.
ولما بين تعالى فضل الإنفاق في سبيله وحث عليه، وحذرنا من الجنوح إلى نزغات الشيطان، وذكرنا بوعد الله الجامع لسعادة الآخرة
336

أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون وإخفاء حركة العين، وقد روي عنهم الإسكان، والأول أقيس وأشهر، ووجه الإخفاء طلب الخفة، وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد، وقال: الإسكان، فيما يروي، لغة النبي صلى الله عليه وسلم) في هذا اللفظ، قال لعمرو ابن العاص: (نعما المال الصالح للرجل الصالح). وانكر الإسكان أبو العباس، وأبو إسحاق، وأبو علي لأن فيه جمعا بين ساكنين على غير حده.
وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه. وقال أبو إسحاق: لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث، وقال أبو علي: لعل أبا عمرو أخفى، فظنه السامع إسكانا وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع، وفي بعض تاءات البزي، وفي: اسطاعوا وفي: يخصمون
. إنتهى ما لخص من كلامهم.
وإنكار هؤلاء فيه نظر، لأن أئمة القراءة لم يقرؤوا إلا بنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا، تطرق إليهم فيما سواه، والذي نختاره ونقوله: إن نقل القراءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه.
* (وإن تخفوها) * الضمير المنصوب في: تخفوها، عائد على الصدقات، لفظا ومعنى، بأي تفسير فسرت الصدقات، وقيل: الصدقات المبداة هي الفريضة، والمخفاة هي التطوع، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظا لا معنى، فيصير نظير: عندي درهم ونصفه، أي: نصف درهم آخر، كذلك: وان تخفوها، تقديره: وان تخفوا الصدقات غير الأولى، وهي صدقة التطوع، وهذا خلاف الظاهر، والأكثر في لسان العرب، وإنما احتجنا في: عندي درهم ونصفه، إلى أن نقول: إن الضمير عائد على الدرهم لفظا لا معنى لأضطرار المعنى إلى ذلك، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهما ونصف هذا الدرهم الذي عنده. وكذل قول الشاعر:
* كأن ثياب راكبه بريح
*
خريق وهي ساكنة الهبوب
*
يريد: ريحا أخرى ساكنة الهبوب.
* (أنتم الفقراء) * فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء.
* (فهو خير لكم) * الفاء جواب الشرط، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: * (وإن تخفوها) * التقدير: فالإخفاء خير لكم، ويحتمل أن يكون: خير، هنا أريد به خير من الخيور، و: لكم، في موضع الصفة، فيتعلق بمحذوف.
والظاهر أنه أفعل التفضيل، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه وهو الإبداء، والتقدير: فهو خير لكم من إبدائها.
وظاهر الآية: أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل، سواء كانت فرضا أو نقلا، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدق فيها عن الرياء والمن والأذى، ولو لم يعلم الفقير بنفسه، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك.
قال بعض الحكماء: إذا اصطنعت المعروف فاستره، وإذا اصطنع إليك فانشره. وقال العباس بن عبد المطلب: لا يتم المعروف إلا بثلاث خصال: تعجيله، وتصغيره في نفسك، وستره. فإذا عجلته هنيته، وإذا صغرته عظمته، وإذا استرته أتممته. وقال سهل بن هارون:
* يخفي صنائعه والله يظهرها
*
إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
*
وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي، وفي قوله: وتؤتوها الفقراء طباق معنوي، لأنه لا يؤتى الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الصدقات الأغنياء وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه.
* (ويكفر عنكم من) * قرأ بالواو الجمهور في: ويكفر، وباسقاطها وبالياء والتاء والنون، وبكسر الفاء وفتحها، وبرفع الراء وجزمها ونصبها، فاسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء، ووجه أن بدل على الموضع من قوله: فهو خير لكم لأنه في جزم، وكأن المعنى: يكن لكم الإخفاء خيرا من الإبداء، أو على إضمار حرف العطف: أي ويكفر.
وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء. وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء. وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء،
338

وكذلك قرأ عكرمة إلا أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله. وقرأ ابن هرمز، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء، وحكي عن عكرمة، وشهر بن حوشب: بالتاء ونصب الراء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون والجزم، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء.
فالأظهر أن الفعل مسند إلى الله تعالى، كقراءة من قرأ: ونكفر، بالنون فإنه ضمير لله تعالى بلا شك، وقيل: يعود على الصرف، أي صرف الصدقات، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي: ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف، أي: ونحن نكفر، أي: وهو يكفر، أي: الله. أو الإخفاء أي: وهي تكفر أي: الصدقة.
ويحتمل أن يكون مستأنفا لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام، ويحتمل أن يكون معطوفا على محل ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعا، كقوله: * (سلف ومن عاد فينتقم الله منه) * ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء، إذ هي في موضع جزم، كقوله: * (ومن يضلل الله * فلا هادي) *.
ونذرهم، في قراءة من جزم، ونذرهم، ومن نصب الراء فبإضمار: أن، وهو عطف على مصدر متوهم، ونظيره قراءة من قرأ * (يحاسبكم به الله فيغفر) * بنصب الراء، إلا أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله: فهو خير لكم، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله: يحاسبكم، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران.
وقال الزمخشري: ومعناه: وإن تخفوها يكن خيرا لكم، وأن نكفر عنكم. إنتهى.
وظاهر كلامه هذا أن تقديره؛ وأن نكفر، يكون مقدرا بمصدر، ويكون معطوفا على: خيرا، خبر يكن التي قدرها كأنه قال: يكن الإخفاء خيرا لكم وتكفيرا، فيكون: أن يكفر في موضع نصب.
والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع، تقديره من المعنى، فإذا قلت: ما تأتينا فتحدثنا، فالتقدير: ما يكون منك إتيان فحديث، وكذلك إن تجيء وتحسن إلى أحسن إليك، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك. وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط. كالتقدير الذي قدرناه في: يحاسبكم به الله، في قراءة من نصب، فيغفر، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير.
وقال المهدوي: في نصب الراء: هو مشبه بالنصب في جواب الإستفام، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام.
وقال ابن عطية: بالجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء، وكونه مشروطا إن وقع الإخفاء، وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى. إنتهى.
ونقول: إن الرفغ أبلغ وأعم، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني، والرفع بدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات، أبديت أو أخفيت، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله، ولا يختص التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصصه به، ولا يمكن أن يقال: إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته، فقد صار التكفير شاملا للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها، وإن كان الإخفاء خيرا من الإبداء.
و: من، في قوله: من سيئاتكم، للتبغيض، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات. وحكى الطبري عن فرقة قالت: من، زائدة في هذا الموضع. قال ابن عطية وذلك منهم خطأ، وقول من جعلها سببية وقدر: من أجل ذنوبكم ضعيف.
* (والله بما تعملون خبير) * ختم الله بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الأشياء وخفي، فناسب الإخفاء ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي، والله أعلم.
* (ليس عليك هداهم ولاكن الله يهدى من يشاء) * اختلف النقل في سبب نزول هذه الآية، ومضمونها أن من أسلم كره أن يتصدق على قريبه المشرك، أو على المشركين، أو
339

نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم) من التصدق عليهم، أو امتنع هو من ذلك، وقد سأله يهودي، فنزلت هذه الآية.
وظاهر الهدى أنه مقابل الضلال، وهو مصدر مضاف للمفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، أي: خلق الهدى في قلوبهم، وأما الهدى بمعنى الدعاء فهو عليه، وليس بمراد هنا. وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم)، وهو نظير: * (إن عليك إلا البلاغ) * فالمعنى: ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعه الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدق عليهم لوجه الله، هداهم ليس إليك. وجعل الزمخشري هنا الهدى ليس مقابلا للضلال الذي يراد به الكفر، فقال: لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغيره، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب، ويبعد ما قاله الزمخشري قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * فظاهره أنه يراد به هدى الإيمان. وقال الزمخشري قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * تلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه، فينتهي عما نهى عنه. إنتهى. فلم يحمل الهدى في الموضعين على الإيمان المقابل للضلال، وإنما حمله على هدى خاص، وهو خلاف الظاهر، كما قلنا. وقيل: الهداية هنا الغنى أي: ليس عليك أن تغنيهم، وإنما عليك أن تواسيهم، فإن الله يغني من يشاء. وتسمية الغنى: هداية، على طريقة العرب من نحو قولهم: رشدت واهتديت، لمن ظفر، وغويت لمن خاب وخسر وعلى هذا قول الشاعر:
* فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره
*
ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وتفسير الهدى بالغنى أبعد من تفسير الزمخشري، وفي قوله: هداهم، طباق معنوي، إذ المعنى: ليس عليك هدى الضالين، وظاهر الخطاب في: ليس عليك، أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم).
*
ومناسبة تعلق هذه الجملة بما قبلها أنه لما ذكر تعالى قوله: * (يؤتى الحكمة من يشاء) * الآية اقتضى انه ليس كل أحد آتاه الله الحكمة، فانقسم الناس من مفهوم هذا إلى قسمين: من آتاه الله الحكمة فهو يعمل بها، ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال. فنبه بهذه الآية أن هذا القسم ليس عليك هداهم، بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إلى الله تعالى، ليتسلى بذلك في كون هذا القسم لم يحصل له السعادة الأبدية، ولينبه على أنهم وإن لم يكونوا مهتدين، تجوز الصدقة عليهم. وقيل: المعنى في: * (ليس عليك هداهم) * هو ليس عليك أن تلجئهم إلى الهدى بواسطة أن تقف صدقتك على إيمانهم، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به، بل المطلوب منهم
الإيمان على سبيل الطوع والاختيار. وفي قوله: * (ولاكن الله يهدى من يشاء) * رد على القدرية، وتجنيس مغاير إذ: هداهم اسم، ويهدي فعل.
* (وما تنفقوا من خير فلانفسكم) * أي: فهو لأنفسكم، لا يعود نفعه ولا جدواه إلا عليكم، فلا تمنوا به، ولا تؤذوا الفقراء، ولا تبالوا بمن صادفتم من مسلم أو كافر، فإن ثوابه إنما هو لكم. وقال سفيان بن عيينة: معنى: فلأنفسكم، فلأهل دينكم، كقوله تعالى: * (فسلموا على أنفسكم) * * (ولا تقتلوا أنفسكم) * أي: أهل، دينكم، نبه على أن حكم الفرض من الصدقة بخلاف حكم التطوع، فإن الفرض لأهل دينكم دون الكفار.
وحكي عن بعض أهل العلم أنه كان يصنع كثيرا من المعروف، ثم يحلف أنه ما فعل مع أحد خيرا قط، فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت مع نفسي، ويتلو هذه الآية.
وروي عن علي، كرم الله وجهه، أنه كان يقول: ما أحسنت إلى أحد قط، ولا أسأت له ثم يتلو: * (وأن *
340

أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها) *.
* (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله) * أي: وما تنفقون النفقة المعتد لكم قبولها إلا ما كان إنفاقه لابتغاء وجه الله، فإذا عريت من هذا القصد فلا يعتد بها فهذا خبر شرط فيه محذوف أي: وما تنفقون النفقة المعتدة القبول، فيكون هذا الخطاب للأمة. وقيل: هو خير من الله أن نفقتهم أي: نفقة الصحابة، رضي الله عنهم، ما وقعت إلا على الوجه المطلوب من ابتغاء وجه الله، فتكون هذه شهادة لهم من الله بذلك، وتبشيرا بقبولها، إذ قصدوا بها وجه الله تعالى، فخرج هذا الكلام مخرج المدح والثناء، فيكون هذا الخطاب خاصا بالصحابة.
وقال الزمخشري: وليست نفقتكم إلا لابتغاء وجه الله، ولطلب ما عنده، فما لكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وهذا فيه إشارة إلى مذهب المعتزلة، من أن الصدقة وقعت صحيحة، ثم عرض لها الإبطال. بخلاف قول غيرهم: إن المن والأذى قارنها. وقيل: هو نفي معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله، ومجازه أنه: لما نهى عن أن يقع الإنفاق إلا لوجه الله، حصل الامتثال، وإذا حصل الامتثال، فلا يقع الإنفاق إلا لإبتغاء وجه الله، فعبر عن النهي بالنفي لهذا المعنى.
وانتصاب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وقيل: هو مصدر في موضع الحال تقديره: مبتغين، وعبر بالوجه عن الرضا، كما قال: ابتغاء مرضاة الله، وذلك على عادة العرب، وتنزه الله عن الوجه بمعنى: الجارحة، تقدم الكلام على نسبة الوجه إلى الله في قوله: * (فثم وجه الله) * مستوفي، فأغنى عن إعادته.
* (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * أي: يوفر عليكم جزاؤه مضاعفا، وفي هذا، وفيما قبله، قطع عذرهم في عدم الإنفاق، إذ الذي ينفقونه هو لهم حيث يكونون محتاجين إليه، فيوفون كاملا موفرا، فينبغي أن يكون إنفاقهم على أحسن الوجوه وأفضلها، وقد جاء قوله تعالى: * (ويربى الصدقات) * وقوله / صلى الله عليه وسلم) في حديث أبي هريرة: (إذا تصدق العبد بالصدقة وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، أو فصيله، حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد). والضمير في: يوف، عائد على: ما، ومعنى توفيته: إجزال ثوابه.
* (وأنتم لا تظلمون) * جملة حالية، العامل فيها يوف. والمعنى: أنكم لا تنفقون شيئا من ثواب إنفاقكم.
* (للفقراء الذين أحصروا فى سبيل الله) * قال ابن عباس، ومقاتل: هم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، وكانوا نحوا من أربعمائة. وقال مجاهد: هم فقراء المهاجرين من قريش، ثم يتناول من كان بصفة الفقر، وقال سعيد بن جبير: هم قوم أصابتهم جراحات مع النبي صلى الله عليه وسلم)، فصاروا زمنى، واختار هذا الكسائي، وقال: أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس من العدو لقال: حصروا، وقد تقدم الكلام على الإحصار والحصر في قوله: * (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى) * وثبت من اللغة هناك أنه يقال في كل منهما أحصر وحصر، وحكاه ابن سيده.
وقال السدي: أحصروا من خوف الكفار، إذ أحاطوا بهم، وقال قتادة: حبسوا أنفسهم للغزو، ومنعهم الفقر من الغزو، وقال محمد بن الفضل: منعهم علو همتهم عن رفع حاجتهم إلا إلى الله. وقال الزمخشري: أحصرهم الجهاد، لا يستطيعون لاشتغالهم به ضربا في الأرض للكسب. إنتهى.
و: للفقراء، في موضع الخبر مبتدأ محذوف، وكأنه جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: لمن هذه الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل: للفقراء، أي: هي للفقراء. فبين مصرف النفقة. وقيل: تتعلق اللام بفعل محذوف، تقديره: أعجبوا للفقراء، أو اعمدوا للفقراء، واجعلوا ما تنفقون للفقراء، وأبعد القفال في تقدير: إن تبدوا الصدقات للفقراء، وكذلك من علقه بقوله: * (وما تنفقوا من خير) * وكذلك من جعل: للفقراء، بدلا من قوله: فلأنفسكم، لكثرة الفواصل المانعة من ذلك.
* (لا يستطيعون ضربا فى الارض) * أي تصرفا فيها، إما لزمنم وإما لخوفهم من العدو لقلتهم، فقلتهم
341

تمنعهم من الاكتساب بالجهاد، وانكار الكفار عليهم إسلامهم يمنعهم من التصرف في التجارة، فبقوا فقراء.
وهذه الجملة المنفية في موضع الحال، أي: أحصروا عاجزين عن التصرف. ويجوز أن تكون مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب.
* (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) *. قرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين حيث وقع، وهو القياس، لأن ماضيه على فعل بكسر العين. وقرأ باقي السبعة بكسرها، وهو مسموع في ألفاظ، منها: عمد يعمدو يعمد، وقد ذكرها النحويون، والفتح في السين لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، والمعنى: أنهم لفرط انقباضهم، وترك المسألة، واعتماد التوكل على الله تعالى، يحسبهم من جهل أحوالهم أغنياء، و: من، سببية، أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم، لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف، ولا يسأل، ويتعلق، يحسبهم وجر المفعول له هناك بحرف السبب، لانخرام شرط من شروط المفعول له من أجله وهو اتحاد الفاعل، لأن فاعل يحسب هو: الجاهل، وفاعل التعفف هو: الفقراء. وهذا الشرط هو على الأصح، ولو لم يكن هذا الشرط منخرما لكان الجر بحرف السبب أحسن في هذا
المفعول له، لأنه معرف بالألف واللام، وإذا كان كذلك فالأكثر في لسان العرب أن يدخل عليه حرف السبب، وإن كان يجوز نصبه، لكنه قليل كما أنشدوا.
لا أقعد الجبن عن الهيجاء
أي: للجبن، وإنما عرف المفعول له، هنا لأنه سبق منهم التعفف مرارا، فصار معهودا منهم. وقيل: من، لابتداء الغاية، أي من تعففهم ابتدأت محسبتته، لأن الجاهل بهم لا يحسبهم أغنياء غنى تعفف، وإنما يحسبهم أغنياء مال، فمحسبته من التعفف ناشئة، وهذا على أنهم متعففون عفة تامة من المسألة، وهو الذي عليه جمهور المفسرين، وكونها للسبب أظهر، ولا يجوز أن تتعلق: من، بأغنياء، لأن المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أن المعنى: حالهم يخفى على الجاهل به، فيظن أنهم أعنياء، وعلى تعليق: من، بأغنياء يصير المعنى: أن الجاهل يظن أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغني بالتعفف فقير من المال، وأجاز ابن عطية أن تكون: من، لبيان الجنس، قال: يكون التعفف داخلا في المحسبة، أي: أنهم لا يظهر لهم سؤال، بل هو قليل. وبإجمال فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة. فمن، لبيان الجنس على هذا التأويل. إنتهى. وليس ما قاله من أن: من، هذه في هذا المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس، لأن لها إعتبارا عند من قال بهذا المعنى لمن يتقدر بموصول، وما دخلت عليه يحصر خبر مبتدأ محذوف، نحو: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان) * التقدير: فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. ولو قلت هنا: * (يحسبهم الجاهل أغنياء الذي هو التعفف، لم يصح هذا التقدير، وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بينت بأي جنس وقع غناهم بالتعفف، لا غنى بالمال. فتسمى: من، الداخلة على ما يبين جهة الغنى لبيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أن من سببية، لكنها تتعلق: بأغنياء، لا: بيحسبهم، ويحتمل أن يكون: يحسبهم، جملة حالية، ويحتمل أن يكون مستأنفة.
* (تعرفهم بسيماهم) * الخطاب يحتمل أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، والمعنى: أنك تعرف أعيانهم بالسيما التي تدل عليهم، ويحتمل أن يكون المعنى: تعرف فقرهم بالسيما التي تدل على الفقر، من: رثاثة الأطمار، وشحوب الألوان لأجل الفقر. وقال مجاهد: السيما الخشوع والتواضع، وقال السدي: الفاقة، والجوع في وجوههم، وقلة النعمة. وقال ابن زيد: رثاثة أثوابهم، وصفرة وجوههم. وقيل: أثر السجود، واستحسنه ابن عطية، قال: لأنهم كانوا متفرغين للعبادة، فكان الأغلب عليهم الصلاة.
وقال القرطبي: هذا مشترك بين الصحابة كلهم لقوله تعالى في حقهم: * (سيماهم فى وجوههم من أثر السجود) * إلا إن كان
342

يكون أثر السجود في هؤلاء أكثر، وأما من فسر السيما بالخشوع، فالخشوع محله القلب، ويشترك فيه الغني والفقير، والذي يفرق بين الغني والفقير ظاهرا إنما هو: رثاثة الحال، وشحوب الألوان. وللصوفية في تفسير السيما مقالات. قال المرتعش: عزتهم على الفقر، وقال الثوري: فرحهم بالفقر، وقال أبو عثمان: إيثار ما عندهم مع الحاجة، إليه وقيل: تيههم على الغني، وقيل: طيب القلب وبشاشة الوجه.
والباء متعلقة: بتعرفهم، وهي للسبب، وجوزوا في هذه الجملة ما جوزوا في الجمل قبلها، من الحالية، ومن الاستئناف.
وفي هذه الآية طباق في موضعين: أحدهما: في قوله: أحصروا وضربا في الأرض، والثاني: في قوله: للفقراء وأغنياء.
* (لا يستطيعون ضربا فى) * إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد، فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم، ونفي الإلحاح أي: وإن وقع منهم سؤال، فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح، ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد، فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الإلحاح، فلا يكون النفي على هذا منصبا على القيد فقط.
قال ابن عباس: لا يسألون إلحافا ولا غير إلحاف، ونظير هذا: ما تأتينا فتحدثنا. فعلى الوجه الأول: ما تأتينا محدثا، إنما تأتي ولا تحدث، وعلى الوجه الثاني: ما يكون منك إتيان فلا يكون حديث، وكذلك هذا لا يقع منهم سؤال البتة فلا يقع إلحاح. ونبه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده ووجود غيره، لأنه كان يصير المعنى الأول وإنما يراد بنفي مثل هذا الوصف نفي المترتبات على المنفي الأول لأنه نفى الأول على سبيل العموم، فتنفى مترتباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان فانتفى الحديث، انتفت جميع مترتبات الإتيان من: المجالسة والمشاهدة والكينونة في محل واحد، ولكنه نبه بذكر مترتب واحد لغرض ما عن سائر المترتبات، وتشبيه الزجاج هذا المعنى في الآية، بقول الشاعر:
على لاحب لا يهتدى بمناره
إنما هو مطلق انتفاء الشيئين، أي لا سؤال ولا إلحاف. وكذلك: هذا لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصية النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصح: لا إلحاف فلا سؤال، لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدي معنى النفي على طريقة النفي في البيت أن لو كان التركيب: لا يلحفون الناس سؤالا، لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العام يدل على نفي الخاص، فتلخص من هذا كله: أن نفي الشيئين تارة يدخل حرف النفي على شيء فتنتفي جميع عوارضه، ونبه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتراه يدخل حرف النفي على عارض من عوارضه، والمقصود نفيه، فينتفي لنفيه عوارضه.
وقال ابن عطية: تشبيهه، يعني الزجاج، الآية ببيت امرئ القيس غير صحيح، ثم بين أن انتفاء صحة التشبيه من جهة أنه ليس مثله في خصوصية النفي، لأن انتفاء المنار في البيت يدل على انتفاء الهداية، وليس انتفاء الإلحاح يدل على انتفاء السؤال، وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وقد بينا أن تشبيه الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، وقررنا ذلك.
وقيل: معنى إلحافا أنه السؤال الذي يستخرج به المال لكثرة تلطفه، أي: لا يسألون الناس بالرفق والتلطف، وإذا لم يوجد هذا، فلأن لا يوجد بطريق العنف أولى، وقيل: معنى إلحافا أنهم يلحفون على أنفسهم في ترك السؤال، أي: لا يسألون لإلحاحهم على أنفسهم في: تركهم، السؤال، ومنعهم ذلك بالتكليف الشديد، وقيل: من سأل، فلا بد أن يلح، فنفي الإلحاح عنهم مطلقا موجب لنفي السؤال مطلقا. وقيل: هو كناية عن عدم إظهار آثار الفقر، والمعنى: أنهم لا يضمون إلى السكون من رثاثة الحال والانكسار، وما يقوم مقام السؤال الملح، ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالا، وأن تكون مستأنفة. ومن جوز الحال في هذه الجمل وذو الحال واحد، إنما هو على مذهب من يجيز تعدد الحال الذي حال، وهي
343

مسألة خلاف وتفصيل مذكور في علم النحو.
وجوزوا في إعراب: إلحافا أن يكون مفعولا من أجله، وأن يكون مصدرا لفعل محذوف دل عليه: يسألون، فكأنه قال: لا يلحفون. وأن يكون مصدرا في موضع الحال تقديره: لا يسألون ملحفين.
* (وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم) * تقدم: * (وما تنفقوا من خير فلانفسكم) * * (وما تنفقوا من خير يوف إليكم) * وليس على سبيل التكرار، والتأكيد بل كل منهما مقيد بغير قيد الآخر فالأول: ذكر أن الخير الذي يعلمه مع غيره إنما هو لنفسه، وأنه عائد إليه جزاؤه، والثاني: ذكر أن ذلك الجزاء الناشئ عن الخير يوفاه كاملا من غير نقص ولا بخس، والثالث: ذكر أنه تعالى عليم بما ينفقه الإنسان من الخير، ومقداره، وكيفية جهاته المؤثرة في ترتب الثواب، فأتى بالوصف المطلع على ذلك وهو: العلم.
2 (* (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) *)) 2
* (الذين ينفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية) * قال أبو ذر، وأبو الدرداء، وابن عباس، وأبو أمامة، وعبد الله بن بشر الغافقي، ومكحول، ورباح بن بريد، والأوزاعي: هي في علف الخيل المرتبطة في سبيل الله، ومرتبطها. وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية.
وقال ابن عباس أيضا، والكلبي: نزلت في علي، كانت عنده أربعة دراهم، قال الكلبيب، لم يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا وبدرهم سرا، بدرهم علانية.
وقال ابن عباس أيضا: نزلت في علي بعث بوسق تمر إلى أهل الصفة ليلا، وفي عبد الرحمن بن عوف بعث إليهم بدراهم كثيرة نهارا.
وقال قتادة: نزلت في المنفقين من غير تبذير ولا تقتير. إنتهى. وقيل: نزلت في أبي بكرب، تصدق بأربعين ألف دينار: عشرة بالليل، وعشرة بالأنهار وعشرة في السر، وعشرة في الجهر.
والآية، وإن نزلت على سبب خاص، فهي عامة في جميع ما دلت عليه ألفاظ الآية، والمعنى أنهم فيما قال الزمخشري: يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة لحرصهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها، ولم يؤخروه، ولم يتعللوا بوقت ولا حال. إنتهى.
ولم يبين في هذه الآية أفضلية الصدقة في أحد الزمانين، ولا في إحدى الحالتين اعتمادا على الآية قبلها، وهي: * (إن تبدوا الصدقات) * أو جاء تفصيلا على حسب الواقع من صداقة أبي بكر، وصدقة علي، وقد يقال: إن تقديم الليل على النهار، والسر على العلانية يدل على تلك الأفضلية، والليل مظنة صدقة السر، فقدم الوقت الذي كانت الصدقة فيه أفضل، والحال التي كانت فيها أفضل.
والباء في: بالليل، ظرفية، وانتصاب: سرا وعلانية، على أنهما مصدران في موضع الحال أي: مسرين ومعلنين، أو: على أنهما حالان من ضمير الإنفاق على مذهب سيبوية، أو: نعتان لمصدر محذوف أي: إنفاقا سرا، على مشهور الإغراب في: قمت طويلا، أي قياما طويلا.
* (فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * تقدم تفسير بهذا فلا نعيده، ودخلت: الفاء في فلهم، لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه.
قال ابن عطية: وإنما يوجد الشبه، يعنى بين الموصول واسم الشرط، إذا كان: الذي، موصولا بفعل، وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير معناه. إنتهى. فحصر الشبه فيما إذا كان: الذي، موصولا بفعل
344

وهذا كلام غير محرر، إذ ما ذكره له قيود.
أولها: أن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء.
الثاني: قوله موصولا بفعل، فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يكون قابلا لأداة الشرط، فلو قلت: الذي يأتيني، أو: لما يأتيني، أو: ما يأتيني، أو: ليس يأتيني، فله درهم، لم يجز لأداة الشرط، لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك، وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك، بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك، فمتى كانت الصلة واحدا منهما جاز دخول الفاء. وقوله: وإذا لم يدخل على: الذي، عامل يغير عبارة غير مخلصة، لأن العامل الداخل عليه كائنا ما كان لا يغير معنى الموصول، إنما ينبغي أن يقول: معنى جملة الابتداء في الموصول، وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من: تمن، أو تشبيه، أو ظن، أو غير ذلك. لو قلت: الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز، وكان ينبغي أيضا لابن عطية أن يذكر أن شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقا بالصلة، نحو ما جاء في الآية، لأن ترتب الأجر إنما هو على الإنفاق. ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ يستدعي كلاما طويلا، وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل، قد ذكرنا ذلك
في كتاب (لتذكرة) من تأليفنا.
2 (* (الذين يأكلون الربواا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربواا وأحل الله البيع وحرم الربواا فمن جآءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربواا ويربى الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) *)) 2
الربا: الزيادة يقال: ربا يربو وأرباه، غيره: وأربى الرجل، عامل بالربا، ومنه الربوة والرابي. وقال حاتم:
* وأسمر خطيا كأن كعوبه
*
نوى القشب قد أربى ذراعا على العشر
*
وكتب في القرآن بالواو والألف بعدها، ويجوز أن يكتب بالياء للكسرة، وبالألف. وتبدل الباء ميما قالوا: الرما، كماغ أبدلوها في كتب قالوا: كتم، ويثنى: ربوان، بالواو عند البصريين، لأن ألفه منقلبة عنها. وقال الكوفيون: ويكتب بالياء، وكذلك الثلاثي المضموم الأول نحو: ضحى، فتقول: ربيان وضحيان، فإن كان مفتوحا نحو: صفا، فاتفقوا على الواو.
وأما الربا الشرعي فهو محدود في كتب الفقهاء على حسب اختلاف مذاهبهم.
تخبط: تفعل من الخبط وهو الضرب على غير استواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، ويقال للذي يتصرف ولا يهتدي: خبط عشواء، وتورط في عمياء وقول علقمة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
345

أي: أعطيت من أردت بلا تمييز كرما.
سلف: مضى وانقضى، ومنه سالف الدهر أي ماضيه.
عاد عودا: رجع، وذكر بعضهم أنها تكون بمعنى صار، وأنشد:
* تعد فيكم جزر الجزور رماحنا
*
ويرجعن بالأسياف منكسرات
*
المحق: نقصان الشيء حالا بعد حال. ومنه: المحاق في الهلال، يقال: محقه الله فانمحق وامتحق أنشد الليث:
* يزداد حتى إذا ما تم أعقبه
*
كر الجديدين نقصا ثم ينمحق
*
* (الذين يأكلون الربواا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب، ولا يكون من الخبيث. فذكر نوع غالب عليهم في الجاهلية، وهو: خبيث، وهو: الربا، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا، وأيضا فتظهر مناسبة أخرى، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال، والربا فيه زيادة مال، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه، كقوله: * (طلعها كأنه * رءوس * الشياطين) * وقول الشاعر:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وقل الآخر:
خيلا كأمثال السعالي شربا
وقل الآخر:
بخيل عليها جنة عبقرية
والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل، وأن الخبر: عنهم، مختص بالآكل الربى، وقيل: عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل، لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه، كما قال تعالى: * (وأخذهم الربا) * وقيل: الربا هنا كناية عن الحرام، لا يخص الربا الذي في الجاهلية، ولا الربا الشرعي. وفرأ العدوي: الربو، بالواو وقيل: وهي لغة الحيرة، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو، فقال: هذه أفعو،
فأجرى هذا القارئ الوصل إجراء الوقف.
وحكى أبو زيد: أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة، وهي قراءة بعيدة، لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة كسرة، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال: في أفعى: أفعو، في الوقف. وأن القارئ إما أنه لم يضبط حركة الباء، أو سمى قربها من الضمة ضما.
و: لا يقومون، خبر عن: الذين، ووقع في بعض التصانيف أنها جملة
346

حالية، وهو بعيد جدا، إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه. وظاهر هذا الإخبار أنه عن الذين يأكلون الربا، وقيل: هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك، بدليل قولهم: * (إنما البيع مثل) * وقوله: * (الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) * وقوله: * (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر، وهذا القيام الذي في الآية قيل هو يوم القيامة.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وجبير، والضحاك، والربيع، والسدي، وابن زيد: معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلا كالمجانين، عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها، ويقوي بهذا التأويل قراءة عبد الله: لا يقومون يوم القيامة.
وقال بعضهم: يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا، فجوزي في الآخرة بمثل فعله. وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) رأى أكلة الربا، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم.
قال ابن عطية: وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره قد جن. هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله:
* وتصبح عن غب السرى وكأنها
*
ألم بها من طائف الجن أولق
لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل. إنتهى كلامه. وهو حسن، إلا كما يقوم الكاف في موضع الحال، أو نعتا لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبوية وغيره، وتقدم في مواضع.
*
و: ما، الظاهر أنها مصدرية، أي: كقيام الذي، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره إلا كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان. قيل: معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهرا لبطن، ونسبه إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
وظاهر الآية أن الشيطان يتخبط الإنسان، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس، وليس يفي العقل ما يمنع من ذلك، وقيل: ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه، فنسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم، وقيل: أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخيبط الإنسان فيصرعه، فورد على ما كانوا يعتقدون، يقولون: رجل ممسوس، وجن الرجل.
قال الزمخشري: ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات. إنتهى.
وتخبط هنا: تفعل، موافق للمجرد، وهو خبط، وهو أحد معاني: تفعل، نحو: تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه.
من المس، المس الجنون يقال: مس فهو ممسوس وبه مس. أنشد ابن الأنباري، رحمة الله تعالى:
* أعلل نفسي بما لا يكون
*
كذي المس جن ولم يخنق وأصله من المس باليد، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه، وسمي الجنون مسا كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله، فسمي الجنون خبطة، فالتخبط بالرجل والمس باليد، ويتعلق: من المس، بقوله: يتخبطه، وهو على سبيل التأكيد، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلا من المس، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي، فأزال قوله: من المس، هذا الاحتمال. وقيل: يتعلق: بيقوم، أي: كما يقوم من جنونه المصروع.
*
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق قوله: من المس؟.
قلت: بلا يقومون، أي: لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم
347

المصروع. إنتهى.
وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون، وهو الذي ذهب إليه في تعلق: من المس، بقوله: لا يقومون، ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنه قد شرح المس بالجنون، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلا في الآخرة، وهناك ليس بهم جنون ولا مس، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدينا، فيكون المعنى: لا يقومون يوم القيامة. أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع.
والوجه الثاني: أن: ما، بعد: إلا، لا يتعلق بما قبلها، إلا إن كان في حيز الاستثناء، وهذا ليس في حيز الاستثناء، ولذلك منعوا أن يتعلق * (بالبينات والزبر) * بقوله: * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) * وان التقدير: ما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا.
* (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل) * الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة، ويكون مبتدأ، والمجرور الخبر، أي: ذلك القيام كائن بسبب أنهم، وقيل: خبر مبتدأ محذوف تقديره: قيامهم ذلك إلا أن في هذا الوجه فصلا بين المصدر ومتعلقه الذي هو: بأنهم، على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر، وقدره الزمخشري: ذلك العقاب بسبب أنهم، والعقاب بسبب أنهم، والعقاب هو ذلك القيام، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا، أي ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا، أي: مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم، ولم يعكسوا تنزيلا لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع، وهذا من عكس التشبيه، وهو موجود في كلام العرب. قاله ذو الرمة:
ورمل كأروال العذارى قطعته
وهو كثير في أشعار المولدين، كما قال أبو القاسم بن هانيء:
* كأن ضياء الشمس غرة جعفر
*
رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
*
وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه، فيقول: زدني في الأجل وأزيدك في المال، فيفعلان ذلك ويقولان: سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح، أو عند المحل لأجل التأخير، فكذبهم الله تعالى. وقيل: كانت ثقيف أكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه قالوا: إنما هو مثل البيع.
* (الربواا وأحل الله البيع وحرم الربواا) *. ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم، وفي ذلك رد عليهم إذ ساووا بينهما، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح، إذ جعل الدليل في إبطال قولهم هو: أن الله أحل البيع وحرم الربا. وقال بعض العلماء: قياسهم فاسد، لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه، والربا فيه التغابن وأكل المال البطل، لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها، بخلاف البيع، فإن الثمن مقابل بالمثمن..
قال جعفر الصادق: حرم الله الربا ليتقارض الناس، وقيل: حرم لأنه متلف للأموال، مهلك للناس. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون: * (وأحل الله البيع وحرم الربواا) * من كلامهم، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم، فكان ذلك كفرا منهم.
والظاهر: عموم البيع والربا في كل بيع، وفي كل ربا، إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا، وقيل: هما مجملان، فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان، وهذا فرق ما بين العام والمجمل، وقيل: هو عموم دخله التخصيص، ومجمل دخله التفسير، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه.
والظاهر أن الآية كما قالوا في
348

الكفار، لقوله: * (فله ما سلف) * لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف، بل ينقض ويرد فعله، وإن كان جاهلا بالتحريم، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية.
* (فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) * حذف تاء التأنيث من: جاءته، للفصل، ولأن تأنيث الموعظة مجازي. وقرأ أبي، والحسن: فمن جاءته بالتاء على الأصل، وتلث عائشة هذه الآية حين سألتها العالية بنت أبقع، زوج أبي إسحاق السبيعي عن شرائها جارية بستمائة درهم نقدا من زيد بن أرقم، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه، فقالت عائشة: بئسما شريت وما اشتريت، فابلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلا أن يتوب، فقالت العالية: أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي؟ فتلت الآية عائشة. والموعظة: التحريم، أو: الوعيد، أو: القرآن، أقوال. ويتعلق: من ربه، بجاءته، أو: بمحذوف، فيكون صفة لموعظة، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه، الناظر له في مصالحه، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة. إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده، فانتهى تبع النهي، ورجع عن المعاملة بالربا، أو عن كل محرم من الاكتساب * (فله ما سلف) * أي ما تقدم له أخذه من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف، ومن كان يتجر هنالك. وهذا على قول من قال: الآية مخصوصة بالكفار، ومن قال: إنها عامة فمعناه: فله ما سلف، قبل التحريم.
* (وأمره إلى الله) * الظاهر أن الضمير في: أمره، عائد على المنتهي، إذ سياق الكلام معه، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير، كما تقول: أمره إلى طاعة وخير، وموضع رجاء، والأمر هنا ليس في الربا خاصة، بل وجملة أموره، وقيل: في الجزاء والمحاسبة، وقيل: في العفو والعقوبة، وقيل: أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة، لا إلى الذين عاملهم، فلا يطالبونه بشيء، وقيل: المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة، قال الحسن.
وقيل: الضمير يعود على: ما سلف، أي في العفو عنه، وإسقاط التبعة فيه، وقيل: يعود على ذي الربا، أي: في أن يثبته على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية. قاله ابن جبير، ومقاتل، وقيل: يعود على الربا أي في إمرار تحريمه، أو غير ذلك، وقيل: في عفو الله من شاء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
* (ومن عاد) * إلى فعل الربا، والقول بأن البيع مثل الربا، قال سفيان: ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود * (فأولائك أصحاب النار هم فيها خالدون) * تقدم تفسير هذه الجملة الواقعة خبرا: لمن، وحمل فيها على المعنى بعد الحمل على اللفظ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأبيد.
وقال الزمخشري: وهذا دليل بين على تخليد الفساق. إنتهى. وهو جار على مذهبه الاعتزالي في: أن الفاسق يخلد في النار أبدا ولا يخرج منها، وورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات، وروي عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه: أن رسول الله لعن آكل الربا ومؤكله، وسأل مالكا رحمه الله رجل رأى سكران يتقافز، يريد أن يأخذ القمر، فقال: امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر، أتطلق امرأته؟ فقال له مالك، بعد أن رده مرتين: امرأتك طالق، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا، لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب.
* (يمحق الله الربواا) * أي: يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير؛ وعن ابن مسعود: أن الربا وإن كثر، فعاقبته إلى قل. وروى الضحاك عن ابن عباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقة وصلة رحم وجهاد ونحو ذلك.
* (ويربى الصدقات) * قيل: الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة،
349

وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة، وقيل: الزيادة معنوية، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث.
وقرأ ابن الزبير، ورويت عن النبي صلى الله عليه وسلم): يمحق ويربي، من: محق وربى مشددا.
وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير.
* (والله لا يحب كل كفار أثيم) * فيه تغليط أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم، وإن كان تعالى لا يحب الكافر، تنبيها على عظم أمر الربا ومخالفة الله وقولهم: * (إنما البيع مثل الربواا) * وأنه لا يقول ذلك، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلا مبالغ في الكفر، مبالغ في الإثم. وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان. وقال ابن فورك: ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في: كفار، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. إنتهى. وهذا فيه بعد، إطلاق القرآن: الكافر، والكافرون، والكفار، إنما هو على من كفر بالله، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية، كقوله: * (كمثل غيث أعجب الكفار نباته) *.
وقال ابن فورك: ومعنى الآية: * (والله لا يحب كل كفار أثيم) * محسنا صالحا، بل يريده مسيئا فاجرا، ويحتمل أن يريد: والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.
وقال ابن عطية: وهذه تأويلات مستكرهة: أما الأول فأفرط في تعدية الفعل، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب، ولطف به، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه، نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن. إنتهى كلامه.
والحب حقيقة، وهو الميل الطبيعي، منتف عن الله تعالى، وابن فورك جعله بمعنى الإرادة، فيكون صفة ذات، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهر الدلائل، فيكون صفة فعل وقد تقدم الكلام على ذلك.
(* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلواة وآتوا الزكواة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون * ياأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربواا إن كنتم مؤمنين * فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون * وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون * واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) *))
) *
* (إن الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلواة وآتوا الزكواة لهم أجرهم عند ربهم * ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * مناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة، وذلك أنه لما ذكر حال آكل الربا، وحال من عاد بعد مجيء الموعظة، وأنه كافر أثيم، ذكر ضد هؤلاء ليبين فرق ما بين الحالين.
وظاهر الآية العموم، وقال مكي: معناه أن الذين تابوا من أكل الربا وآمنوا ما أنزل عليهم، وانتهوا عما نهوا عنه وعملوا الصالحات. إنتهى. ونص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإن كانا مندرجين في عموم الأعمال البدنية والمالية، وألفاظ الآية تقدم تفسيرها.
* (يحزنون يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربواا إن كنتم مؤمنين) * قيل: نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف، كانت لهم ديون ربا على بني
المغيرة من بني مخزوم، وقيل: في
350

عباس، وقيل: في عثمان، وقال السدي: في عباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا، وملخصه أنهم أرادوا أن يتقاضوا رباهم، فنزلت. ولما تقدم قوله: * (فله ما سلف) * وكان المعنى: فله ما سلف قبل التحريم، أي: لا تبعة عليه فيما أخذه قبل التحريم، واحتمل أن يكون قوله: ما سلف، أي: ما تقدم العقد عليه، فلا فرق بين المقبوض منه وبين ما في الذمة، وإنما يمنع إنشاء عقد ربوي بعد التحريم، أزال تعالى هذا الاحتمال بأن أمر بترك ما بقي من الربا في العقود السابقة، قبل التحريم، وأن ما بقي في الذمة من الربا هو كالمنشأ بعد التحريم، وناداهم باسم الإيمان تحريضا لهم على قبول الأمر بترك ما بقي من الربا، وبدأ أولا بالأمر بتقوى الله، إذ هي أصل كل شيء، ثم أمر ثانيا بترك ما بقي من الربا.
وفتحت عين: وذروا، حملا على: دعوا، وفتحت عين: دعوا، حملا على: يدع، وفتحت في يدع، وقياسها الكسر، إذ لامه حرف حلق وقرأ الحسن: ما بقا، بقلب الياء ألفا، وهي لغة لطيء، ولبعض العرب. وقال علقمة بن عبدة التميمي:
* زها الشوق حتى ظل إنسان عينه
*
يفيض بمغمور من الماء متأق
*
وروي عنه أيضا أنه قرأ: ما بقي، باسكان الياء وقال الشاعر:
* لعمرك ما أخشى التصعلك ما بقي
*
على الأرض قيسي يسوق الأباعرا
*
وقال جرير:
* هو الخليفة فارضوا ما رضى لكم
*
ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
*
* (إن كنتم مؤمنين) * تقدم أنهم مؤمنون بخطاب الله تعالى لهم: * (ذلك بأن الذين كفروا) * وجمع بينهما بأنه شرط مجازي على جهة المبالغة، كما تقول لمن تريد إقامة نفسه: إن كنت رجلا فافعل كذا قاله ابن عطية، أو بأن المعنى: إن صح إيمانكم، يعني أن دليل صحة الإيمان وثباثه امتثال ما أمرتم به من ذلك، قاله الزمخشري، وفيه دسيسه اعتزال، لأنه إذا توقفت صحة الإيمان على ترك هذه المعصية فلا يجامعها الصحة مع فعلها، وإذا لم يصح إيمانه لم يكن مؤمنا، وهو قول البعض النحويين، أن: إن، تكون بمعنى: إذ، وهو ضعيف مردود ولا يثبت في اللغة، وقيل: هو شرط يراد به الاستدامة، وقيل: يراد به الكمال، وكأن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة، وإنما يصير مؤمنا بالإطلاق إذا اجتنب الكبائر، هذه وإن كانت الدلائل قد قامت على أن حقيقة الإيمان لا يدخل العمل في مسماها، وقيل: الإيبمان متغاير بحسب متعلقه، فمعنى الأول: * (ذلك بأن الذين كفروا) * بألسنتهم. ومعنى الثاني: * (إن كنتم مؤمنين) * بقلوبكم.
وقيل: يحتمل أن يريد: يا أيها الذي آمنوا بمن قبل، محمد صلى الله عليه وسلم) من الأنبياء، ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بمحمد، إذ لا ينفع الأول إلا بهذا، قاله ابن فورك.
قال ابن عطية: وهو مردود بما روي في سبب الآية. إنتهى. يعني أنها نزلت في عباس، وعثمان، أو في عباس، وخالد، أو فيمن أسلم من ثقيف ولم يكونوا هؤلاء قبل الإيمان آمنوا بأنبياء، وقيل: هو شرط محض في ثقيف على بابه، لأنه كان في أول دخولهم في الإسلام. إنتهى. وعلى هذا ليس بشرط صحيح إلا على تأويل استدامة الإيمان، وذكر ابن عطية: أن أبا السماك، وهو العدوي، قرأ هنا: من
351

الربو، بكسر الراء المشددة وضم الباء وسكون الواو، وقد ذكرنا قراءته كذلك في قوله: * (الذين يأكلون الربواا) * وشيئا من الكلام عليها.
وقال أبو الفتح: شذ هذا الحرف في أمرين، أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازما، والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو: يغزو، ويدعو.
وأماذو، الطائية بمعنى: الذي فشاذة جدا، ومنهم من يغير واوها إذا فارق الرفع، فتقول: رأيت ذاقام. وجه القراءة أنه فخم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة وهي بالجملة قراءة شاذة. إنتهى كلام أبي الفتح.
ويعني بقوله: بناء لازما، أنه قد يكون ذلك عارضا نحو: الحبك، فكسرة الحاء ليست لازمة، ومن قولهم الردؤ، في الوقف، فضمة الدال ليست لازمة، ولذلك لم
يوجد في أبنية كلامهم فعل لا في اسم ولا فعل، وأما قوله: وهذا شيء لم يأت إلا في الفعل، نحو: يغزو، فهذا كما ذكر إلا أنه جاء ذلك في الأسماء الستة في حالة الرفع، فله أن يقول: لما لم يكن ذلك لازما في النصب والجر، لم يكن ناقصا لما ذكروا، ونقول: إن الضمة التي فيما قبل الآخر إما هي للاتباع، فليس ضمة تكون في أصل بنية الكلمة كضمة تغزو.
* (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ظاهره: فإن لم تتركوا ما بقي من الربا، وسمي الترك فعلا، وإذا أمروا بترك ما بقي من الربا من ذلك الأمر بترك إنشاء الربا على طريق الأولى والأحرى. وقال الرازي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه فأذنوا بحرب من الله ورسوله، ومن ذهب إلى هذا قال: فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام خرج من الملة كما لو كفر بجميعها.
وقرأ حمزة، وأبو بكر في غير رواية البرجمي، وابن غالب عنه: فأذنوا، أمر من: آذن الرباعي بمعنى: أعلم، مثل قوله: * (فقل ءاذنتكم على سواء) *.
وقرأ باقي السبعة: فأذنوا، أمر من: أذن، الثلاثي، مثل قوله: * (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان) *.
وقرأ الحسن: فأيقنوا بحرب.
والظاهر أن الخطاب في قوله: * (فإن لم تفعلوا) * هو لمن صدرت الآية بذكره، وهم المؤمنون، وقيل: الخطاب للكفار الذين يستحلون الربا، فعلى هذا المحاربه ظاهرة، وعلى الأول فالإعلام أو العلم بالحرب جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب، كما جاء: (من أهان لي وليا فقد آذنني بالمحاربة). وقيل: المراد نفس الحرب.
ونقول: الإصرار على الربا إن كان ممن يقدر عليه الإمام، قبض عليه الإمام وعزره وحبسه إلى أن يظهر منه التوبة، أو ممن لا يقدر عليه، حاربه كما تحارب الفئة الباغية.
وقال ابن عباس: من عامل بالربا يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
ويحمل قوله هذا على من يكون مستبيحا للربا، مصرا على ذلك، ومعنى الآية: فإن لم تنتهوا حاربكم النبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: المعنى: فأنتم حرب الله ورسوله، أي: أعداء. والحرب داعية القتل، وقالوا: حرب الله النار، وحرب رسوله السيف.
وروي عن ابن عباس أنه: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب. والباء في بحرب على قراءة القصر للإاصاق، تقول: أذن بكذا، أي: علم، وكذلك قال ابن عباس وغيره: المعنى فاستيقنوا بحرب من الله.
وقال الزمخشري: وهو من الأذن، وهو الاستماع، لأنه من طريق
352

العلم. إنتهى.
وقراءة الحسن تقوي قراءة الجمهور بالقصر. وقال ابن عطية: هي عندي من الإذن، وإذا أذن المرء في شيء فقد قرره وبني مع نفسه عليه، فكأنه قيل لهم: قرروا الحرب بينكم وبين الله ورسوله.
ويلزمهم من لفظ الآية أنهم مستدعو الحرب والباغون، إذ هم الآذنون فيها، وبها، ويندرج في هذا علمهم بأنه حرب الله، وتيقنهم لذلك. إنتهى كلامه. فيظهر منه ان الباء في: * (بحرب) * ظرفية. أي: فاذنوا في حرب، كما تقول أذن في كذا، ومعناه أنه سوغه ومكن منه.
قال أبو علي: ومن قرأ فآذنوا بالمد، فتقديره: فأعلموا من لم بنته عن ذلك بحرب، والمفعول محذوف، وقد ثبت هذا المعفول في قوله تعالى: * (فقل ءاذنتكم على سواء) * وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم لا محالة، قال: ففي إعلامهم علمهم، وليس في علمهم إعلامهم غيرهم.
فقراءة المد أرجح، لأنها أبلغ وآكد.
وقال الطبري: قراءة القصر أرجح لأنها تختص بهم، وإنما أمروا على قراءة المد بإعلام غيرهم، وقال ابن عطية: والقراءتان عندي سواء، لأن المخاطب محصور، لأنه كل من لم يذر ما بقي من الربا، فإن قيل: فآذنوا، فقد عمهم الأمر. وإن قيل: فآذنوا، بالمد فالمعنى: أنفسكم، أو: بعضكم بعضا. وكأن هذه القراءة تقتضي فسحا لهم في الارتياء والتثبت، فأعلموا نفوسكم هذا، ثم انظروا في الأرجح لكم: ترك الربا أو الحرب إنتهى.
وروي: أنها لما نزلت قالت ثقيف: لا يدلنا بحرب الله ورسوله.
ومن، في قوله: من الله، لابتداء الغاية، وفيه تهويل عظيم، إذا الحرب من الله تعالى ومن نبيه صلى الله عليه وسلم) لا يطيقه أحد، ويحتمل أن تكون للتبعيض على حذف مضاف، أي: من حروب الله.
قال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل بحرب الله ورسوله؟ قلت: كان هذا أبلغ لأن المعنى: فأذنوا بنوع من الحرب عظيم من عند الله ورسوله. إنتهى. وإنما كان أبلغ لأن فيها نصا بأن الحرب من الله لهم، فالله تعالى هو الذي يحاربهم، ولو قيل: بحرب الله، لاحتمل أن تكون الحرب مضافة للفاعل، فيكون الله هو المحارب لهم، وأن تكون مضافة للمفعول، فيكونوا هم المحاربين الله. فكون الله محاربهم أبلغ وأزجر في الموعظة من كونهم محاربين الله.
* (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب) * أي: إن تبتم من الربا ورؤوس الأموال: أصولها، وأما الأرباح فزوائد وطوارىء عليها. قال بعضهم: إن لم يتوبوا كفروا برد حكم الله واستحلال ما حرم الله، فيصير مالهم فيئا للمسلمين، وفي الاقتصار على رؤوس الأموال مع ما قبله دليل واضح على أنه ليس لهم إلا ذلك، ومفهوم الشرط أنه: إن
لم يتوبوا فليس لهم رؤوس أموالهم، وتسمية أصل المال رأسا مجاز.
* (لا تظلمون ولا تظلمون) * قرأ الجمهر الأول مبنيا للفاعل، والثاني مبنيا للمفعول، أي: لا تظلمون الغريم بطلب زيادة على رأس المال، ولا تظلمون أنتم بنقصان رأس المال، وقيل: بالمطل. وقرأ أبان، والمفضل، عن عاصم الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبينا للفاعل ورجح أبو علي قراءة الجماعة بأنها تناسب قوله: وإن تبتم، في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون بفتح التاء أشكل بما قبله.
والجملة يظهر أنها مستأنفة وإخبار منه تعالى أنهم إذا اقتصروا على رؤوس الأموال كان ذلك نصفة، وقيل: الجملة حال من المجرور في: لكم، والعامل في الحال ما في حرف الجر من شوب الفعل، قاله الأخفش
353

* (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا: أخرونا إلى أن تدرك الغلات، فأبوا أن يؤخروا، فنزلت. قيل: هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر بدين، وقيل: أمر به في صدر الإسلام، فإن ثبت هذا فهو نسخ، وإلا فليس بنسخ والعسرة ضيق الحال من جهة عدم المال، ومنه: جيش العسرة، والنظرة: التأخير، والميسرة: اليسر.
وقرأ الجمهور: ذو عسرة، على أن: كان، تامة، وهو قول سيبوية، وأبي علي، وإن ورقع غريم من غرمائكم ذو عسرة، وأجاز بعض الكوفيين أن تكون: كان، ناقصة هنا. وقدر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة فحذف المجرور الذي هو الخبر، وقدر أيضا: وإن ذو عسرة لكم عليه حق، وحذف خبر كان لا يجوز عند أصحابنا، لا إقتصارا ولا اختصارا لعلة ذكروها في النحو.
وقرأ أبي، وابن مسعود، وعثمان، وابن عباس: ذا عسرة. وقرأ الأعمش: معسرا. وحكى الداني عن أحمد بن موسى أنها كذلك في مصحف أبي علي إن في كان اسمها ضميرا تقديره: هو، أي: الغريم، يدل على إضماره ما تقدم من الكلام، لأن المرابي لا بد له ممن يرابيه.
وقرئ: ومن كان ذا عسرة، وهي قراءة أبان بن عثمان. وحكى المهدوي أن في مصحف عثمان: فإن كان، بالفاء، فمن نصب ذا عسرة أو قرأ معسرا، وذلك بعد: إن كان، فقيل: يختص بأهل الربا. ومن رفع فهو عام في جميع من عليه دين وليس بلازم، لأن الآية إنما سيقت في أهل الربا، وفيهم نزلت.
وقيل: ظاهر الآية يدل على أن الأصل الإيسار، وأن العدم طارىء جاذب يحتاج إلى أن يثبت.
* (فنظرة إلى ميسرة) * قرأ الجمهور: فنظرة، على وزن نبقة. وقرأ أبو رجاء، ومجاهد، والحسن، والضحاك، وقتادة: بسكون الظاء وهي لغة تميمية، يقولون في: كبد كبد. وقرأ عطاء: فناظرة، على وزن: فاعله وخرجه الزجاج على أنها مصدر كقوله تعالى: * (ليس لوقعتها كاذبة) * وكقوله: * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * وكقوله: * (يعلم خائنة الاعين) * وقال: قرأ عطاء: فناظره، بمعنى: فصاحب الحق ناظره، أي: منتظره، أو: صاحب نظرته، على طريقة النسب، كقولهم: مكان عاشب، وبأقل، بمعنى: ذو عشب وذو بقل. وعنه: فناظره، على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها. إنتهى. ونقلها ابن عطية. وعن مجاهد: جعلاه أمرا، والهاء ضمير الغريم. وقرأ عبد الله: فناظروه، أي: فأنتم ناظروه. أي: فأنتم منتظروه.
فهذه ست قراآت، ومن جعله اسم مصدر أو مصدرا فهو يرتفع على أنه خبر مبتدأ
354

محذوف تقديره: فالأمر والواجب على صاحب الدين نظرة منه لطلب الدين من المدين إلى ميسرة منه.
وقرأ نافع وحده: ميسرة، بضم السين، والضم لغة أهل الحجاز، وهو قليل؛ كمقبرة، ومشرفة، ومسر به. والكثير مفعلة بفتح العين. وقرأ الجمهور بفتح السين على اللغة الكثيرة، وهي لغة أهل نجد. وقرأ عبد الله: إلى ميسوره، على وزن مفعول مضافا إلى ضمير الغريم، وهو عند الأخفش مصدر كالمعقول والمجلود في قولهم: ماله معقول ولا مجلود، أي: عقل وجلد، ولم يثبت سيبوية مفعولا مصدرا، وقرأ عطاء ومجاهد: إلى ميسره، بضم السين وكسر الراء بعدها ضمير الغريم. وقرئ كذلك بفتح السين، وخرج ذلك على حذف التاء لأجل الإضافة. كقوله:
واخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي: عدة، وهذا أعني حذف التاء لأجل الإضافة، هو مذهب الفراء وبعض المتأخرين، وأداهم إلى هذا التأويل: أن مفعلا ليس في الأسماء المفردة، فأما في الجمع فقد ذكروا ذلك في قول عدي بن زيد:
* أبلغ النعمان عنى مألكا
*
أنه قد طال حبسي وانتظار
*
وفي قول جميل:
* بثين الزمي لا إن لا إن لزمته
*
على كثرة الواشين أي معون
فمألك ومعون جمع مألكة ومعونة. وكذلك قوله:
ليوم روع أو فعال مكرم
*
هذا تأويل أبي علي، وتأول أبو الفتح على أنها مفردة حذف منها التاء. وقال سيبوية: ليس في الكلام مفعل، يعني في الآحاد، كذا قال أبو علي، وحكي عن سيبوية: مهلك، مثلث اللام. وأجاز الكسائي أن يكون: مفعل، واحدا ولا يخالف قول سيبويه، إذ يقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء منه حرف أو حرفان، كأنه لا يعتد بالقليل، ولا يجعل له حكم.
وتقدم شيء من الإشارة إلى الخلاف: أهذا الإنظار يختص بدين الربا؟ وهو قول ابن عباس، وشريح، أم ذلك عام في كل معسر بدين ربا أو غيره؟ وهو قول أبي هريرة، والحسن، وعطاء، والضحاك، والربيع بن خيثم، وعامة الفقهاء.
355

وقد جاء في فضل إنظار المعسر أحاديث كثيرة، منها: (من أنظر معسرا، ووضع عنه، أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله). ومنها: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول: يا رب ما عملت لك خيرا قط أريدك به إلا أنك رزقتني مالا فكنت أوسع على المقتر، وأنظر المعسر، فيقول الله عز وجل: أنا أحق بذلك منك. فتجاوزوا عن عبدي).
* (وأن تصدقوا خير لكم) * أي: تصدقوا على الغريم برأس المال أو ببعضه خير من الإنظار، قاله الضحاك والسدي، وابن زيد، والجمهور. وقيل: وان تصدقوا فالإنظار خير لكم من المطالبة، وهذا ضعيف، لأن الإنظار للمعسر واجب على رب الدين، فالحمل على فائدة جديدة أولى. ولأن: أفعل التفضيل باقية على أصل وصفها، والمراد بالخير: حصول الثناء الجميل في الدنيا والأجر الجزيل في الآخرة. وقال قتادة: ندبوا إلى أن يتصدقوا برؤوس أموالهم على الغني والفقير.
وقرأ الجمهور: وأن تصدقوا، بادغام التاء في الصاد، وقرأ عاصم: تصدقوا، بحذف التاء. وفي مصحف عبد الله: تتصدقوا، بتاءين وهو الأصل، والإدغام تخفيف. والحذف أكثر تخفيفا.
* (إن كنتم تعلمون) *: يريد العمل، فجعله من لوازم العلم، وقيل: تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض، وقيل: تعلمون أن ما أمركم به ربكم أصلح لكم.
قيل: آخر آية نزلت آية الربا، قاله عمر، وابن عباس، ويحمل على أنها من آخر ما نزل، لأنه الجمهور قالوا: آخر آية نزلت: * (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) * فقيل: قبل موته بتسع ليال، ثم لم ينزل شيء. وروي: بثلاث ساعات، وقيل: عاش بعدها صلى الله عليه وسلم) أحدا وثمانين يوما. وقيل: أحدا وعشرين يوما. وقيل: سبعة أيام. وروي أنه قال: (أجعلوها بين آية الربا وآية الدين). وروي أنه قال عليه السلام: جاءني جبريل فقال: إجعلها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة.
وتقدم الكلام على: واتقوا يوما، في قوله: * (واتقوا يوما) *.
وقرأ يعقوب، وأبو عمرو: ترجعون، مبنيا للفاعل، وخبر عباس عن أبي عمرو وقرأ باقي السبعة منبيا للمفعول وقرأ الحسن: يرجعون، على معنى يرجع جميع الناس، وهو من باب الالتفات. قال ابن جني: كان الله تعالى رفق بالمؤمنين عن أن يواجههم بذكر الرجعة إذ هي مما تتفطر له القلوب، فقال لهم: واتقوا، ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رفقا بهم. انتهى.
وقرأ أبي: تردون، بضم التاء، حكاه عنه ابن عطية وقال الزمخشري: وقرأ عبد الله: يردون. وقرأ أبي: تصيرون. انتهى.
قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة، وقال قوم: هو يوم الموت، والأول أظهر لقوله: * (ثم * الله كل نفس ما كسبت) * والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه.
* (ثم توفى كل نفس) * أي تعطى وافيا جزاء * (ما كسبت) * من خير وشر، وفيه نص على تعلق الجزاء بالكسب، وفيه رد على الجبرية.
* (وهم لا يظلمون) * أي: لا ينقصون مما يكون جزاء العمل الصالح من الثواب، ولا يزادون على جزاء العمل السيء من العقاب، وأعاد الضمير أولا في: كسبت، على لفظ: النفس، وفي قوله: وهم لا يظلمون، على المعنى لأجل فاصلة الآي، إذ لو أتى وهي لا تظلم لم تكن فاصلة، ومن قرأ: يرجعون، بالياء فتجيء: وهم، عليه غائبا مجموعا لغائب مجموع.
(* (ياأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذى عليه
356

الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهدآء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الا خرى ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذالكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضآر كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم * وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه والله بما تعملون عليم * لله ما في السماوات وما فى الا رض وإن تبدوا ما فيأنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشآء ويعذب من يشآء والله على كل شيء قدير * ءامن الرسول بمآ أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من
رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير * لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنآ إن نسينآ أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينآ إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنآ أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) *))
) *
تداين: تفاعل من الدين، يقال: داينت الرجل عاملته بدين معطيا أو آخذا، كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك قال رؤبة:
* داينت أروى والديون تقضى
*
فمطلت بعضا وأدت بعضا
*
ويقال: دنت الرجل إذا بعته بدين، وادنت أنا أي: أخذت بدين.
أمل وأملى لغتان: الأولى لأهل الحجاز
357

وبني أسد، والثانية لتميم، يقال: أمليت وأمللت على الرجل أي: ألقيت عليه ما يكتبه، وأصله في اللغة الإعادة مرة بعد أخرى قال الشاعر:
* ألاياديار الحي بالسبعان
*
أمل عليها بالبلى الملوان
*
وقيل: الأصل أمللت، أبدل من اللام ياء لأنها أخف.
البخس: النقص، يقال منه: بخس يبخس، ويقال بالصاد، والبخس: إصابة العين، ومنه: استعير بخس حقه، كقولهم: عور حقه، وتباخسوا في البيع تغابنوا، كان كل واحد يبخس صاحبه عن ما يريده منه باحتياله.
السأم والسآمة: الملل من الشيء والضجر منه، يقال منه: سئم يسأم.
الصغير: اسم فاعل من صغر يصغر، ومعناه قلة الجرم، ويستعمل في المعاني أيضا.
القسط: بكسر القاف: العدل، يقال منه: أقسط الرجل أي عدل، وبفتح القاف: الجور، ويقال منه: قسط الرجل أي جار، والقسط بالكسر أيضا: النصيب.
الرهن: ما دفع إلى الدائن على استيثاق دينه، ويقال: رهن يرهن رهنا، ثم أطلق المصدر على المرهون، ويقال: رهن الشيء دام قال الشاعر:
* اللحم والخبز لهم راهن
*
وقهوة راووقها ساكب
*
وأرهن لهم الشراب: دام، قال ابن سيده: ورهنه، أي: أدامه، ويقال: أرهن في السلعة إذا غالى بها حتى أخذها بكثير الثمن قال الشاعر:
* يطوى ابن سلمى بها من راكب بعرا
*
عيدية أرهنت فيها الدنانير العيد: بطن من مهر، وإبل مهرة موصوفة بالنجابة، ويقال، من الرهن الذي هو من التوثقة: أرهن إرهانا قال همام بن مرة:
*
فلما خشيت أظافيرهم
نجوت وأرهنتهم مالكا
*
وقال ابن الأعرابي، والزجاج: يقال في الرهن رهنت وأرهنت وقال الأعشى:
* حتى يقيدك من بنيه رهينة
*
نعش ويرهنك السماك الفرقدا
*
وتقول: رهنت لساني بكذا، ولا يقال فيه: أرهنت، ولما أطلق الرهن على المرهون صار إسما، فكسر تكسير
358

الأسماء وانتصب بفعله نصب المفاعيل، فرهنت رهنا كرهنت ثوبا.
الإصر: الامر الغليظ الصعب، والآصرة في اللغة: الأمر الرابط من ذمام، أو قرابة، أو عهد، ونحوه. والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها، يقال: أصر يأصر أصرا، والإصر، بكسر الهمزة الاسم من ذلك، وروي ألاصر بضمها وقد قرىء به قال الشاعر:
* يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم
*
والحامل الإصر عنهم بعدما عرقوا
*
* (يظلمون يأيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * قال ابن عباس: نزلت في السلم خاصة، يعنى: أن سلم أهل المدينة كان السبب، ثم هي تتناول جميع الديون بالإجماع.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما أمر بالنفقة في سبيل الله، وبترك الربا، وكلاهما يحصل به تنقيص المال، نبه على طريق حلال في تنمية المال وزيادته، وأكد في كيفية حفظه، وبسط في هذه الآية وأمر فيها بعدة أوامر على ما سيأتي بيانه.
وذكر قوله؛ بدين، ليعود الضمير عليه في قوله: فاكتبوه، وإن كان مفهوما من: تداينتم، أو لإزالة اشتراك: تداين، فإنه يقال؛ تداينوا، أي جازى بعضهم بعضا، فلما قال: بدين، دل على غير هذا المعنى. أو للتأكيد، أو ليدل على أي دين كان صغيرا أو كبيرا، وعلى أي وجه كان من سلم أو بيع.
* (إلى أجل مسمى) * ليس هذا الوصف احترازا من أن الدين لا يكون إلى أجل مسمى، بل لا يقع الدين إلا إلى أجل مسمى، فأما الآجال المجهولة فلا يجوز، والمراد بالمسمى الموقت المعلوم، نحو التوقيت بالنسبة والأشهر والأيام، ولو قال: إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو رجوع الحاج، لم يجز لعدم التسمية، و: إلى أجل، متعلق: بتداينتم، أو في موضع الصفة لقوله: بدين، فيتعلق بمحذوف.
* (فاكتبوه) * أمر تعالى بكتابته لأن ذلك أوثق وآمن من النسيان، وأبعد من الجحود.
وظاهر الأمر الوجوب، وقد قال بعض أهل العلم، منهم الطبري، وأهل الظاهر. وقال الجمهور: هو أمر ندب يحفظه له المال، وتزال به الريبة، وفي ذلك حث على الاعتراف به وحفظه، فإن الكتاب خليفة اللسان، واللسان خليفة القلب.
وروي عن أبي سعيد الخدري، وابن زيد، والشعبي، وابن جريج أنهم كانوا يرون أن قوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * ناسخ لقوله: * (فاكتبوه) * وقال الربيع وجب بقوله: فاكتبوه، ثم خفف بقوله: فإن أمن.
* (وليكتب بينكم كاتب بالعدل) * وهذا الأمر قيل: على الوجوب على الكفاية كالجهاد، قال عطاء، وغيره: يجب على الكاتب أن يكتب على كل حال، وقال الشعبي، أيضا: إذا لم يوجد كاتب سواه فواجب عليه أن يكتب، وقال السدي: هو واجب مع الفراغ. واختار الراغب أن الصحيح كون الكتابة فرضا على الكفاية، وقال: الكتابة فيما بين المتبايعين، وإن لم تكن واجبة، فقد تجب على الكتابة إذا أتوه، كما أن الصلاة النافلة، وإن لم تكن واجبة على فاعلها، فقد يجب على العالم تبيينها إذا أتاه مستفت.
ومعنى: بينكم، أي: بين صاحب الدين والمستدين، والبائع والمشترى، والمقرض والمستقرض، والتثنية تقتضي أن لا ينفرد أحد المتعاملين لأن يتهم في الكتابة، فإذا كانت واقعة بينهما كان كل واحد منهما مطلعا على ما سطره الكاتب.
ومعنى: بالعدل، أي: بالحق والإنصاف بحيث لا يكون في قلبه ولا في قلمه ميل لأحدهما على الآخر.
واختلف فيما يتعلق به: بالعدل، فقال الزمخشري: بالعدل، متعلق بكاتب صفة له، أي: بكاتب مأمون على ما يكتب، يكتب بالسوية والاحتياط، لا يزيد على ما يجب أن يكتب،
359

ولا ينقص. وفيه أن يكون الكاتب فقيها عالما بالشروط، حتى يجيء مكتوبه معدلا بالشرع، وهو أمر للمتداينين بتخير الكاتب، وأن لا يستكتبوا إلا فقيها دينا.
وقال ابن عطية: والباء متعلقة بقوله تعالى: وليكتب، وليست متعلقة بكاتب، لأنه كان يلزم أن لا يكتب وثيقة إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصبي والعبد والمتحوط إذا أقاموا فقهها، أما أن المنتخبين لكتبها لا يجوز للولاة أن يتركوهم إلا عدولا مرضيين، وقيل: الباء زائدة، أي فليكتب بينكم كاتب العدل.
وقال القفال في معنى * (بالعدل) *: أن يكون ما يكتبه متفقا عليه بين أهل العلم، لا يرفع إلى قاض فيجد سبيلا إلى إبطاله بألفاظ لا يتسع فيها التأويل، فيحتاج الحاكم إلى التوقف.
وقرأ الحسن: وليكتب، بكسر لام الأمر، والكسر الأصل.
* (يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله) * نهى الكاتب عن الامتناع من الكتابة. و: كاتب، نكرة في سياق النهي، فتعم. وأن يكتب مفعول، ولا يأب، ومعنى: كما علمه الله، أي: مثل ما علمه الله من كتابة الوثائق، لا يبدل ولا يغير، وفي ذلك حث على بذل جهده في مراعاة شروطه مما قد لا يعرفه المستكتب، وفيه تنبيه على
المنة بتعليم الله إياه.
وقيل: المعنى كما أمره الله به من الحق، فيكون: علم، بمعنى: أعلم، وقيل: المعنى كما فضله الله بالكتاب، فتكون الكاف للتعليل، أي: لأجل ما فضله الله، فيكون كقوله * (وأحسن كما أحسن الله إليك) * أي: لأجل إحسان الله إليك. والظاهر تعلق الكاف بقوله: أن يكتب، وقيل: تم الكلام عند قوله: أن يكتب، وتتعلق الكاف بقوله: فليكتب، وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلقا بقوله: فليكتب، لكان النظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخر في المعنى.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون: كما، متعلقا بما في قوله: ولا يأب، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه. انتهى. وهو خلاف الظاهر. وتكون الكاف في هذا القول للتعليل، وإذا كان متعلقا بقوله: أن يكتب، كان قوله: ولا يأب، نهيا عن الامتناع من الكتابة المقيدة، ثم أمر بتلك الكتابة، لا يعدل عنها، أمر توكيد. وإذا كان متعلقا بقوله: فليكتب، كان ذلك نهيا عن الامتناع من الكتابة على الإطلاق، ثم أمر بالكتابة المقيدة.
وقال الربيع، والضحاك: ولا يأب، منسوخ بقوله: * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) *.
* (فليكتب وليملل الذى عليه الحق) * أي: فليكتب الكاتب، وليملل من وجب عليه الحق، لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمته، والمستوثق منه بالكتابة.
* (وليتق الله ربه) *، فيما يمليه ويقربه، وجمع بين اسم الذات وهو: الله، وبين هذا الوصف الذي هو: الرب، وإن كان اسم الذات منطوقا على جميع الأوصاف. ليذكره تعالى كونه مربيا له، مصلحا لأمره، باسطا عليه نعمه. وقدم لفظ: الله، لأن مراقبته من جهة العبودية والألوهية أسبق من جهة النعم.
* (ولا يبخس منه شيئا) * أي: لا ينقص بالمخادعة أو المدافعة، والمأمور بالإملال هو المالك لنفسه. وفك المضاعفين في قوله: وليملل، لغة الحجاز، وذلك في ماسكن آخره بجزم، نحو، هذا، أو وقف نحو: أملل، ولا يفك في رفع ولا نصب وقرئ: شيئا، بالتشديد.
* (فإن كان الذى عليه الحق سفيها) * قال مجاهد، وابن جبير: هو الجاهل بالأمور والإملاء. وقال الحسن: الصبي والمرأة، وقال الضحاك، والسدي: الصغير. وضعف هذا لأنه قد يصدق السفيه على الكبير، وذكر القاضي أبو يعلى: أنه المبذر. وقال الشافعي: المبذر لماله المفسد لدينه وروي عن السدي: أنه الأحمق، وقيل: الذي
360

يجهل قدر المال فلا يمتنع من تبذيره ولا يرغب في تثميره. وقال ابن عباس: الجاهل بالاسلام.
* (أو ضعيفا) * قال ابن عباس: وابن جبير: إنه العاجز، والأخرس، ومن به حمق. وقال مجاهد، والسدي: الأحمق. وذكر القاضي أبو يعلى، وغيره: أنه الصغير. وقيل: المدخول العقل، الناقص الفطرة. وقال الشيخ: الكبير، وقال الطبري: العاجز عن الإملاء لعي أو لخرس.
* (أو لا يستطيع أن يمل هو) * قال أبن عباس: لعي أو خرس أو غيبة، وقيل: بجنون، وقيل: بجهل بما له أو عليه. وقيل: لصغر. والذي يظهر تباين هؤلاء الثلاثة، فمن زعم زيادة: أو، في قوله: أو ضعيفا، أو زيادتها في هذا، وفي قوله: أو لا يستطيع، فقوله ساقط، إذ: أو لا، تزاد، وأن السفه هو تبذير المال والجهل بالتصرف، وأن الضعف هو في البدن لصغر أو إفراط شيخ ينقص معه التصرف، وأن عدم استطاعته الإملاء لعي أو خرس، لأن الاستطاعة هي القدرة على الإملاء. وهذا الشرح أكثره عن الزمخشري.
وقال ابن عطية: ذكر تعالى ثلاثة أنواع تقع نوازلهم في كل زمان، ويترتب الحق لهم في كل جهات سوى المعاملات: كالمواريث إذا قسمت. وغير ذلك. والسفيه المهلهل الرأي في المال الذي لا يحسن الأخذ والاعطاء، وهذه الصفة لا تخلو من حجر ولي أو وصي، وذلك وليه. والضعيف المدخول العقل الناقص الفطرة، ووليه وصي أو أب، والذي لا يستطيع أن يمل هو الغائب عن موضع الإشهاد إما لمرض أو لغير ذلك، ووليه وكيله، والأخرس من الضعفاء، والأولى أنه ممن لا يستطيع، وربما اجتمع اثنان أو الثلاثة في شخص. انتهى. وفيه بعض تلخيص، وهو توكيد الضمير المستكن في: أن يمل، وفيه من الفصاحة ما لا يخفى، لأن في التأكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه.
وقرئ شاذا بإسكان هاء: هو، وإن كان قد سبقها ما ينفصل، إجراء للمنفصل مجرى المتصل بالواو والفاء واللام، نحو: وهو، فهو، لهو. وهذا أشذ من قراءة من قرأ: ثم هو يوم القيامة، لأن ثم شاركت في كونه للعطف، وأنها لا يوقف عليها فيتم المعنى.
* (فليملل وليه بالعدل) *. الضمير في وليه عائد على أحد هؤلاء الثلاثة، وهو الذي عليه الحق، وتقدم تفسير ابن عطية للولي. وقال الزمخشري: الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو صبيا، أو وكيل إن كان غير مستطيع، أو ترجمان يمل عنه. وهو يصدقه. وذهب الطبري إلى أن الضمير في وليه يعود على الحق، فيكون الولي هو الذي له الحق. وروي ذلك عن ابن عباس والربيع.
قال ابن عطية: ولا يصح عن ابن عباس، وكيف تشهد البينة على شيء ويدخل مالا في ذمة السفيه، بإملاء الذي له الدين، هذا شيء ليس في الشريعة.
قال الراغب: لا يجوز أن يكون ولي الحق كما قال بعضهم، لأن قوله لا يؤثر إذ هو مدع.
و: بالعدل، متعلق بقوله: فليملل، ويحتمل أن تكون الباء للحال، وفي قوله: بالعدل، حث على تحريه لصاحب الحق، والمولى عليه، وقد استدل بهذه الآية على جواز الحجر على الصغير، واستدل بها على جواز تصرف السفيه، وعلى قيام ولاية التصرفات له في نفسه وأمواله.
* (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) * أي: اطلبوا للإشهاد شهيدين، فيكون استفعل للطلب، ويحتمل أن يكون موافقة أفعل أي: وأشهدوا، نحو: استيقن موافق أيقن، واستعجله بمعنى أعجله. ولفظ: شهيد، للمبالغة، وكأنهم أمروا بأن يستشهدوا من كثرت منه الشهادة، فهو عالم بمواقع الشهادة وما يشهد فيه لتكرر ذلك منه، فأمروا
بطلب الأكمل، وكان في ذلك إشارة إلى العدالة، لأنه لا يتكرر ذلك من الشخص عند الحكام إلا وهو مقبول عندهم.
من رجالكم، الخطاب للمؤمنين، وهم المصدر بهم الآية، ففي قوله: من رجالكم،
361

دلالة على أنه لا يستشهد الكافر، ولم تتعرض الآية لشهادة الكفار بعضهم على بعض، وأجاز ذلك أبو حنيفة. وإن اختلفت مللهم، وفي ذلك دلالة على اشتراط البلوغ، واشتراط الذكورة في الشاهدين.
وظاهر الآية أنه: يجوز شهادة العبد، وهو مذهب شريح، وابن سيرين، وابن شبرمة، وعثمان البتي، وقيل عنه: يجوز شهادته لغير سيده. وروي عن علي أنه كان يقول: شهادة العبد على العبد جارية جائزة. وروي المغيرة عن إبراهيم أنه كان يجيز شهادة المملوك في الشيء التافه. وروي عن أنس أنه قال: ما أعلم أن أحدا رد شهادة العبد. وقال الجمهور: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وابن شبرمة في إحدى الروايتين، ومالك، وابن صالح، وابن أبي ليلى، والشافعي: لا تقبل شهادة العبد في شيء. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، والحسن.
وظاهر الآية يدل على أن شهادة الصبيان لا تعتبر، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه الثلاثة، وابن شبرمة، والشافعي. وروي ذلك عن: عثمان، وابن عباس، وابن الزبير. وقال ابن أبي ليلى: تجوز شهادة بعضهم على بعض، وروي ذلك عن علي، قال مالك: تجوز شهادتهم في الجراح وحدها بشروط ذكرت عنه في كتب الفقه.
وظاهر الآية اشتراط الرجولية فقط في الشاهدين.
فلو كان الشاهد أعمى، ففي جواز شهادته خلاف. ذهب أبو حنيفة، ومحمد إلى أنه لا يجوز بحال. وروي ذلك عن علي، والحسن، وابن جبير، وإياس ابن معاوية. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، والشافعي: إذا علم قبل العمى جازت، أو بعده فلا. وقال زفر: لا يجوز إلا في النسب يشهد أن فلان، وقال شريح والشعبي شهادته جائزة، وقال مالك يجوز وإن علمه حال العمى إذا عرف الصوت في الطلاق والإقرار ونحوه، وإن شهد بزنا أو حد قذف لم تقبل شهادته.
ولو كان الشاهد أخرس، فقيل: تقبل شهادته بإشارة، وسواء كان طارئا أم أصليا، وقيل: لا تقبل.
وإن كان أصم، فلا تقبل في الأقوال، وتقبل فيما عدا ذلك من الحواس.
ولو شهد بدوي على قروي، فروى ابن وهب عن مالك أنها لا تجوز إلا في الجراح. وروى ابن القاسم عنه: لا تجوز في الحضر إلا في وصية القروي في السفر في البيع.
* (فإن لم يكونا رجلين) * الضمير عائد على الشهيدين أي: فإن لم يكن الشهيدان رجلين، والمعنى أنه: إن أغفل ذلك صاحب الحق، أو قصد أن لا يشهد رجلين لغرض له، وكان على هذا التقدير ناقصة. وقال قوم: بل المعنى: فإن لم يوجد رجلان، ولا يجوز استشهاد المرأتين إلا مع عدم الرجال، وهذا لا يتم إلا على اعتقاد أن الضمير في: يكونا، عائد على: شهيدين، بوصف الرجولية، وتكون: كان، تامة، ويكون: رجلين، منصوبا على الحال المؤكد، كقوله: * (فإن كانتا اثنتين) * على أحسن الوجهين.
* (فرجل وامرأتان) * ارتفاع رجل على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: فالشاهد، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: فرجل وامرأتان يشهدون، أو: فاعل، أي فليشهد رجل، أو: مفعول لم يسم فاعله، أي فليستشهد، وقيل: المحذوف فليكن، وجوز أن تكون تامة، فيكون رجل فاعلا، وأن تكون ناقصة، ويكون خبرها محذوفا وقد ذكرنا أن أصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان لا اقتصارا ولا اختصارا. وقرئ شاذا: وامرأتان، بهمزة
362

ساكنة، وهو على غير قياس، ويمكن أن سكنها تخفيفا لكثرة توالي الحركات وجاء نظير تخفيف هذه الهمزة في قول الشاعر:
* يقولون جهلا ليس للشيخ عيل
*
لعمري لقد أعيلت وأن رقوب
*
يريد: وأنا رقوب، قيل: خفف الهمزة بإبدالها ألفا ثم همزة بعد ذلك، قالوا: الخأتم، والعأم.
وظاهر الآية يقتضي جواز شهادة المرأتين مع الرجل في سائر عقود المداينات، وهي كل عقد وقع على دين سواء كان بدلا أم بضعا، أم منافع أم دم عمد، فمن ادعى خروج شيء من العقود من الظاهر لم يسلم له ذلك إلا بدليل.
وقال الشافعي: لا تجوز شهادة النساء مع الرجال في غير الأموال، ولا يجوز في الوصية إلا الرجل، ويجوز في الوصية بالمال.
وقال الليث: تجوز شهادة النساء في الوصية والعتق، ولا تجوز في النكاح ولا الطلاق ولا قتل العمد الذي يقاد منه.
وقال الأوزاعي: لا تجوز شهادة رجل وامرأتين في نكاح. وقال الحسن بن حي: لا تجوز شهادتهن في الحدود. وقال الثوري: تجوز في كل شيء إلا الحدود.
وقال مالك لا تجوز في الحدود ولا القصاص، ولا الطلاق ولا النكاح، ولا الأنساب ولا الولاء ولا الإحصان، وتجوز في الوكالة والوصية إذا لم يكن فيها عتق. وقال الحسن، والضحاك: لا تجوز شهادتهن إلا في الدين. وقال عمر، وعطاء، والشعبي: تجوز في الطلاق. وقال شريح: تجوز في العتق، وقال عمر، وابنه عبد الله:
تجوز شهادة الرجل والمرأتين في النكاح. وقال علي تجوز في العقد. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، وعثمان البتي: لا تقبل شهادة النساء مع الرجال في الحدود والقصاص، وتقبل فيما سوى ذلك من سائر الحقوق. وأدلة هذه الأقوال مذكورة في كتب الفقه.
وأما قبول شهادتهن مفردات فلا خلاف في قبولها في: الولادة، والبكارة، والإستهلال، وفي عيوب النساء الإماء وما يجري مجرى ذلك مما هو مخصوص بالنساء. وأجاز أبو حنيفة شهادة الواحدة العدلة في رؤية الهلال إذ هو عنده من باب الإخبار، وكذلك شهادة القابلة مفردة.
* (ممن * ترضون من الشهداء) * قيل: هذا في موضع الصف لقوله: * (فرجل وامرأتان) * وقيل: هو بدل من قوله: رجالكم، على تكرير العامل، وهما ضعيفان، لأن الوصف يشعر باختصاصه بالموصوف، فيكون قد انتفى هذا الوصف عن شهيدين، ولأن البدل يؤذن بالاختصاص بالشهيدين الرجلين، فعري عنه: رجل وامرأتان، والذي يظهر أنه متعلق بقوله: واستشهدوا، أي: واستشهدوا ممن ترضون من الشهداء، ليكون قيدا في الجميع، ولذلك جاء متأخرا بعد ذكر الجميع، والخطاب في ترضون ظاهره أنه للمؤمنين، وفي ذلك دلالة على أن في الشهود من لا يرضى، فيدل على هذا على أنهم ليسوا محمولين على العدالة حيث تثبت لهم. وقال ابن بكير وغيره: الخطاب للحكام، والأول أولى لأنه الظاهر، وإن كان المتلبس بهذه القضايا هم الحكام، ولكن يجيء الخطاب عاما ويتلبس به بعض الناس، وقيل: بالخطاب لأصحاب الدين.
واختلفوا في تفسير قوله: * (ممن ترضون) * فقال ابن عباس: من أهل الفضل والدين والكفاءة. وقال الشعبي: ممن لم يطعن في فرج ولا بطن، وفسر قوله بأنه لم يقذف امرأة ولا رجلا، ولم يطعن في نسب. وروي: من لم يطعن عليه في فرج ولا بطن، ومعناه: لا ينسب إلى ريبة، ولا يقال إنه ابن زنا. وقال الحسن: من لم تعرف له خربة. وقال النخعي: من لا ريبة فيه. وقال الخصاف: من غلبت حسناته سيآته مع اجتناب الكبائر.
وقيل: المرضي من الشهود من اجتمعت فيه عشر خصال: أن يكون حرا، بالغا، مسلما، عدلا، عالما بما يشهد به،
363

لا يجر بشهادته منفعة لنفسه، ولا يدفع بها عن نفسه مضرة، ولا يكون معروفا بكثرة الغلط، ولا بترك المروءة، ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة.
وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف: أن من سلم من الفواحش التي يجب فيها الحدود، وما يجب فيها من العظائم، وأدى الفرائض وأخلاق البر فيه أكثر من المعاصي الصغار، قبلت شهادته، لأنه لا يسلم عبد من ذنب، ولا تقبل شهادة من ذنوبه أكثر من أخلاق البر، ولا من يلعب بالشطرنج يقامر عليها، ولا من يلعب بالحمام ويطيرها، ولا تارك الصلوات الخمس في جماعة استخفافا أو مجانة أو فسقا، لا أن تركها على تأويل، وكان عدلا، ومن يكثر الحلف بالكذب، ولا مداوم على ترك ركعتي الفجر، ولا معروف بالكذب الفاحش، ولا مظهر شتيمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولا شتام الناغس والجيران، ولا من اتهمه الناس بالفسق والفجور، ولا متهم بسب الصحابة حتى يقولوا: سمعناه يشتم.
وقال ابن أبي ليلى، وأبو حنيفة، وأبو يوسف: تقبل شهادة أهل الأهواء العدول، إلا صنفا من الرافضة وهم الخطابية. وقال محمد: لا أقبل شهادة الخوارج، وأقبل شهادة الحرورية، لأنهم لا يستحلون أموالنا، فإذا خرجوا استحلوا. وروي عن أبي حنيفة أنه: لا يجوز شهادة البخيل. وعن إياس بن معاوية لا يجيز شهادة الأشراف بالعراق ولا البخلاء، ولا التجار الذين يركبون البحر، وعن بلال بن أبي بردة، وكان على البصرة، أنه لا يجيز شهادة من يأكل الطين وينتف لحيته. ورد عمر بن عبد العزير شهادة من ينتف عنفقته ويخفي لحيته. ورد شريح شهادة رجل اسمه ربيعة ويلقب بالكويفر، فدعي: يا ربيعة، فلم يجب، فدعي: يا ربيعة الكويفر، فأجاب، فقال له شريح: دعيت باسمك فلم تجب، فلما دعيت بالكفر أجبت فقال: أصلحك الله إنما هو لقب. فقال له: قم، وقال لصاحبه: هات غيره. وعن أبي هريرة: لا يجوز شهادة أصحاب الحمر، يعني: النخاسين. وعن شريح: لا يجيز شهادة صاحب حمام، ولا حمال، ولا ضيق كم القباء، ولا من قال: أشهد بشهادة الله عز وجل، وعن محمد: لا تقبل شهادة من ظهرت منه مجانة، ولا شهادة مخنث، ولا لاعب بالحمام يطيرهن، ورد ابن أبي ليلى شهادة الفقير، وقال: لا يؤمن أن يحمله فقره على الرغبة في المال.
وقال مالك: لا تجوز شهادة السؤال في الشيء الكثير، وتجوز في الشيء التافه. وعن الشافعي: إذا كان الأغلب من حاله المعصية وعدم المروءة ردت شهادته، وعنه: إذا كان أكثر أمره الطاعة، ولم يقدم على كبيرة، فهو عدل، وينبغي أن تفسر المروءة بالتصاون، والسمت الحسن، وحفظ الحرمة، وتجنب السخف، والمجون، لا تفسر بنظافة الثوب، وفراهة المركوب، وجودة الآلة، والشارة الحسنة. لأن هذه ليست من شرائط الشهادة عند أحد من المسلمين.
واختلفوا في حكم من لم تظهر منه ريبة، هل يسأل عنه الحاكم إذا شهد؟ ففي كتاب عمر لأبي موسى: والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد، أو مجربا عليه شهادة زور، أو ظنينا أو قرابة. وكان الحسن، لما ولي القضاء، يجيز شهادة المسلمين إلا أن يكون الخصم يجرح الشاهد. وقال ابن شبرمة: إن طعن المشهود عليه فيهم سألت عنهم في السر والعلانية. وقال محمد، وأبو يوسف: يسأل عنهم، وإن لم يطعن فيهم في السر والعلانية، وقال مالك: لا يقضي بشهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر. وقال الليث: إنما كان الوالي يقول للخصم
364

إن كان عندك من يخرج شهادتهم فأت به، وإلا أجزنا شهادتهم عليك. وقال الشافعي: يسأل عنه في السر، فإذا عدل سأل عن تعديله في العلانية.
وأما ما ذكر من اعتبار نفي التهمة عن الشاهد إذا كان عدلا، فاتفق فقهاء الأمصار على بطلان شهادة الشاهد لولده ووالده إلا ما حكي عن البتي، قال: تجوز شهادة الولد لوالديه، والأب لابنه وامرأته، وعن إياس بن معاوية أنه أجاز شهادة رجل لابنه. وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد، وزفر، ومالك، والأوزاعي، والليث إلى أنه: لا يجوز شهادة أحد الزوجين للآخر. وعن أبي حنيفة: لا تجوز شهادة الأجير الخاص لمستأجره، وتجوز شهادة الأجير المشترك له. وقال مالك: لا تجوز
شهادة أجير لمن استأجره إلا أن يكون مبرزا في العدالة. وقال الأوزاعي: لا تجوز مطلقا. وقال الثوري: تجوز إذا كان لا يجر إلى نفسه منفعة.
ومن وردت شهادته لمعنى، ثم زال ذلك المعنى، فهل تقبل تلك المشهادة فيه؟
قال أبو حنيفة، وأصحابه: لا تقبل إذا ردت لفسق أو زوجية، وتقبل إذا ردت لرق أو كفر أو صبي. وقال مالك: لا تقبل إن ردت لرق أو صبي. وروي عن عثمان بن عفان مثل هذا.
وظاهر الآية: أن الشهود في الديون رجلان، أو رجل وامرأتان، ممن ترضون، فلا يقضي بشاهد واحد ويمين، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وابن شبرمة، والثوري والحكم، والأوزاعي. وبه قال عطاء، وقال: أول من قضى به عبد الملك ابن مروان، وقال الحكم: أول من حكم به معاوية.
واختلف عن الزهري، فقيل، قال: هذا شيءأحدثه الناس لا بد من شهيدين، وقال أيضا: ما أعرفه، وإنها البدعة، وأول من قضاه معاوية، وروي عنه أنه أول ما ولي القضاء حكم بشاهد ويمين وقال مالك، والشافعي وأتباعهما، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد: يحكم به في الأموال خاصة، وعليه الخلفاء الأربعة وهو عمل أهل المدينة، وهو قول أبي بن كعب، ومعاوية، وأبي سلمة، وأبي الزياد، وربيعة.
* (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى) * قرأ الأعمش، وحزة: إن تضل بكسر الهمزة، جعلها حرف شرط فتذكر، بالتشديد ورفع الراء وجعله جواب الشرط.
وقرأ الباقون بفتح همزة: أن، وهي الناصبة، وفتح راء فتذكر عطفا على: أن تضل وسكن الذال وخفف الكاف ابن كثير، وأبو عمرو. وفتح الذال، وشدد الكاف الباقون من السبعة.
وقرأ الجحدري وعيسى بن عمران: تضل، بضم التاء وفتح الضاد مبنيا للمفعول، بمعنى: تنسى، كذا حكى عنهما الداني. وحكى النقاش عن الجحدري: أن تضل، بضم التاء وكسر الضاد، بمعنى أن تضل الشهادة، تقول: أضللت الفرس والبعير إذا ذهبا فلم تجدهما.
وقرأ حميد بن عبد الرحمن، ومجاهد: فتذكر، بتخفيف الكاف المكسورة، ورفع الراء، أي فهي: تذكر وقرأ زيد بن أسلم: فتذاكر، من الذاكرة.
والجملة الشرطية من قوله * (أن تضل إحداهما فتذكر) * على قراءة الأعمش وحمزة قال ابن عطية: في موضع رفع بكونه صفة للمذكر، وهما المرأتان. انتهى. كان قد قدم أن قوله * (ممن ترضون من الشهداء) * في موضع الصفة لقوله * (فرجل وامرأتان) * فصار نظير: جاءني رجل وامرأتان عقلاء حبليان، وفي جواز مثل هذا التركيب نظر، بل الذي تقتضيه الأقيسة تقديم حبليان على عقلاء، وأما على قول من أعرب: ممن ترضون، بدلا من: رجالكم، وعلى ما اخترناه من تعلقه بقوله: واستشهدوا، فلا يجوز أن تكون جملة الشرط صفة لقوله: وامرأتان، للفصل بين الموصوف والصفة بأجنبي، وأما: أن تضل، بفتح الهمزة، فهو في موضع المفعول من أجله، أي لأن تضل على تنزيل السبب، وهو الإضلال منزلة المسبب عنه، وهو الإذكار، كما ينزل المسبب منزلة السبب لالتباسهما واتصالهما، فهو كلام محمول على المعنى، أي: لأن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت، ونظيره: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، وأعددت السلاح أن يطرق العدو فأدفعه، ليس إعداد الخشبة لأجل الميل إنما إعدادها لإدعام الحائط إذا مال، ولا يجوز أن يكون التقدير: مخالفة أن تضل، لأجل عطف فتذكر عليه.
وقال النحاس: سمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس أن التقدير: كراهة أن تضل، قال أبو جعفر: وهذا غلط، إذ يصير المعنى كراهة أن تذكر. ومعنى الضلال هنا هو عدم الاهتداء للشهادة لنسيان أو غفلة، ولذلك قوبل بقوله: فتذكر، وهو من الذكر، وأما ما روي عن أبي عمرو بن العلاء، وسفيان بن عيينة من أن قراءة التخفيف، فتذكر، معناه: تصيرها ذكرا في
365

الشهادة، لأن شهادة امرأة نصف شهادة، فإذا شهدتا صار مجموع شهادتها كشهادة ذكر، فقال الزمخشري: من بدع التفاسير.
وقال ابن عطية: هذا تأويل بعيد غير صحيح، ولا يحسن في مقابله الضلال إلا الذكر. انتهى.
وما قالاه صحيح، وينبو عنه اللفظ من جهة اللغة ومن جهة المعنى، أما من جهة اللغة فإن المحفوظ أن هذا الفعل لا يتعدى، تقول: أذكرت المرأة فهي مذكر إذا ولدت الذكور، وأما: أذكرت المرأة، أي: صيرتها كالذكر، فغير محفوظ. وأما من جهة المعنى، فإن لو سلم أن: أذكر، بمعنى صيرها ذكرا فلا يصح، لأن التصيير ذكرا شامل للمرأتين، إذ ترك شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر فليست إحداهما أذكرت الأخرى على هذا التأويل، إذ لم تصير شهادتهما وحدها بمنزلة شهادة ذكر.
ولما أبهم الفاعل في: أن تضل، بقوله: إحداهما، أبهم الفاعل في: فتذكر، بقوله: إحداهما، إذ كل من المرأتين يجوز عليها الضلال، والإذكار، فلم يرد: بإحداهما، معينة. والمعنى: إن ضلت هذه أذكرتها هذه، وإن ضلت هذه أذكرتها هذه، فدخل الكلام معنى العموم، وكأنه قيل: من ضل منهما أذكرتها الأخرى، ولو لم يذكر بعد: فتذكر، الفاعل مظهرا للزم أن يكون أضمر المفعول ليكون عائدا على إحداهما الفاعل بتضل، ويتعين أن يكون: الأخرى، هو الفاعل، فكان يكون التركيب: فتذكرها الأخرى. وأما على التركيب القرآني فالمتبادر إلى الذهن أن: إحداهما، فاعل تذكر، والأخرى هو المفعول، ويراد به الضالة، لأن كلا من الإسمين مقصور، فالسابق هو الفاعل، ويجوز أن يكون: إحداهما، مفعولا، والفاعل هو الأخرى لزوال اللبس، إذ معلوم أن المذكرة ليست الناسية، فجاز أن يتقدم المفعول ويتأخر الفاعل، فيكون نحو: كسر العصا موسى، وعلى هذا الوجه يكون قد وضع الظاهر موضع المضمر المفعول، فيتعين إذ ذاك أن يكون الفاعل هو: الأخرى، ومن قرأ: أن، بفتح الهمزة و: فتذكر، بالرفع على الاستئناف، قيل: وقال: إن تضل إحداهما، المعنى: أن النسيان غالب على طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان عن المرأة الواحدة، فأقيمت المرأتان مقام الرجل، حتى إن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى، وفيه دلالة على تفضيل الرجل على المرأة.
و: تذكر، يتعدى لمفعولين، والثاني محذوف، أي: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة، وفي قوله * (فتذكر إحداهما الاخرى) * دلالة على أن من شرط جواز إقامة الشهادة ذكر الشاهد لها، وأنه لا يجوز الاقتصار فيها على الخط، إذ الخط والكتابة مأمور ربه لتذكر الشهادة، ويدل عليه قوله: * (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) * وإذا لم يذكرها فهو غير عالم بها.
وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف، والشافعي: إذا كتب خطه بالشهادة فلا يشهد حتى يذكرها، وقال محمد بن أبي ليلى، إذا عرف خطه وسعه أن يشهد عليها. وقال الثوري: إذا ذكر أنه شهد، ولا يذكر عدد الدراهم، فإنه لا يشهد.
* (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) * قال قتادة: سبب نزولها أن الرجل كان يطوف في الحراء العظيم، فيه القوم، فلا يتبعه منهم أحد، فأنزلها الله.
وظاهر الآية: أن المعنى: ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة إذا ما دعوا لها، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع وغيرهم. وهذا النهي ليس نهي تحريم، فله أن يشهد، وله أن لا يشهد. قاله عطاء، والحسن وقال الشعبي: إن لم يوجد غيره تعين عليه أن يشهد، وإن وجد فهو مخير، وقيل: المعنى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا لأداء الشهادة إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك، قاله مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وإبراهيم، ولاحق بن حميد، وابن زيد. وروى النقاش: هكذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولو صح هذا
366

عنه، عليه السلام، لم يعدل عنه فيكون نهي تحريم.
وقال ابن عباس أيضا، والحسن، والسدي: هي في التحمل والإقامة إذا كان فارغا، وقال ابن عطية: والآية كما قال الحسن، جمعت الأمرين، والمسلمون مندوبون إلى معاونة إخوانهم، فإذا كانت الفسحة في كثرة الشهود، والأمن من تعطيل الحق، فالمدعو مندوب، وله أن يتخلف لأدنى عذر وأن يتخلف لغير عذر، ولا إثم عليه. وإذا كانت الضرورة، وخيف تعطيل الحق أدنى خوف، قوي الندب وقرب من الوجوب. وإذا علم أن الحق يذهب ويتلف بتأخر الشاهد عن الشهادة، فواجب عليه القيام بها، لا سيما إن كانت محصلة. وكان الدعاء إلى أدائها، فإن هذا الطرف آكد، لأنها قلادة في العنق وأمانة تقتضي الأداء انتهى.
* (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب) * لما نهى عن امتناع الشهود إذا ما دعوا للشهادة، نهى أيضا عن السآمة في كتابة الدين، كل ذلك ضبط لأموال الناس، وتحريض على أن لا يقع النزاع، لأنه متى ضبط بالكتابة والشهادة قل أن يحصل وهم فيه أو إنكار، أو منازعة في مقدار أو أجل أو وصف، وقدم الصغير اهتماما به، وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى. ونص على الأجل للدلالة على وجوب ذكره، فكتب كما يكتب أصل الدين ومحله إن كان مما يحتاج فيه إلى ذكر المحل، ونبه بذكر الأجل على صفة الدين ومقداره، لأن الأجل بعض أوصافه، والأجل هنا هو الوقت الذي اتفق المتداينان على تسميته.
وقال الماتريدي: فيه دلالة على جواز السلم في الثياب، لأن ما يؤكل أو يوزن لا يقال فيه الصغير والكبير، وإنما يقال ذلك في العددي والذرعي. انتهى.
ولا يظهر ما قال: إذ الصغر، والكبر هنا لا يراد به الجرم، وإنما هو عبارة عن القليل والكثير، فمن أسلم في مقدار رويبة، أو في مقدار عشرين أردبا، صدق على الأول أنه حق صغير ودين صغير، وعلى الثاني انه دين كبير وحق كبير.
قيل: ومعنى: ولا تسأموا، أي لا تكسلوا، وعبر بالسأم عن الكسل، لأن الكسل صفة المنافق، ومنه الحديث: (لا يقل المؤمن كسلت)، وكأنه من الوصف الذي نسبه الله إليهم في قوله: * (إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم) * وقيل: معناه لا تضجروا، و: أن تكتبوا، في موضع نصب على المفعول به، لأن سئم متعد بنفسه. كما قال الشاعر:
* سئمت تكاليف الحياة ومن يعي
*
ثمانين عاما لا أبك لك يسأم
وقيل: يتعدى سئم بحرف جر، فيكون: أن تكتبوه، في موضع نصب على إسقاط الحرف، أو في موضع جر على الخلاف الذي تقدم بين سيبويه والخليل، ومما يدل على أن سئم يتعدى بحرف جر قوله:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
*
وضمير النصب في: تكتبوه، عائد على الدين، لسبقه، أو على الحق لقربه، والدين هو الحق من حيث المعنى، وكان من كثرت ديونه يمل من الكتابة، فنهوا عن ذلك.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للكتاب، و: أن تكتبوه، مختصرا أو مشبعا، ولا يخل بكتابته. انتهى. وهذا الذي قاله فيه بعد.
وقرأ السلمي: ولا يسأموا، بالياء وكذلك: أن يكتبوه، والظاهر في هذه القراءة أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الشهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود على المتعاملين أو على الكتاب. وانتصاب: صغيرا أو كبيرا، على الحال من الهاء في: أن تكتبوه، وأجاز السجاوندي نصب: صغيرا، على أن يكون خبرا لكان مضمرة، أي: كان صغيرا، وليس موضع إضمار كان، ويتعلق: إلى أجله، بمحذوف لا تكتبوه لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس
نظير: سرت إلى الكوفة، والتقدير: أن
367

تكتبوه مستقرا في الذمة إلى أجل حلوله.
* (ذالكم أقسط عند الله) * الإشارة إلى أقرب مذكور وهو الكتابة، وقيل الكتابة والاستشهاد وجميع ما تقدم مما يحصل به الضبط، و: أقسط، أعدل قيل: وفيه شذوذ، لأنه من الرباعي الذي على وزن: أفعل، يقال: أقسط الرجل أي عدل، ومنه وأقسطوا، وقد راموا خروجه عن الشذوذ الذي ذكروه، بأن يكون: أقسط، من قاسط على طريقة النسب بمعنى: ذي قسط، قاله الزمخشري.
وقال ابن عطية: انظر هل هو من قسط بضم السين، كما تقول: أكرم من كرم. انتهى. وقيل: من القسط بالكسر، وهو العدل، وهو مصدر لم يشتق منه فعل، وليس من الإقساط، لأن أفعل لا يبنى من الأفعال.
وقال الزمخشري: فإن قلت: مم بنى فعلا التفضيل. أعني: أقسط. وأقوم.
قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقام. انتهى.
لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل. بني من أفعل، إنما يؤخذ ذلك بالاستدلال، لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب يكون من: فعل وفعل وفعل وأفعل، فظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبني من أفعل، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبني منه أفعل التفضيل، فما انقاس في التعجب: انقاس في التفضيل، وما شذ فيه شد فيه.
وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب على ثلاثة مذاهب: الجواز، والمنع، والتفصيل. بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يبني منه أفعل للتعجب، أو لا تكون للنقل، فيبنى منه. وزعم أن هذا مذهب سيبويه، وتؤول قوله: وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل، ومن منع ذلك مطلقا ضبط قول سيبويه. وأفعل على أنه على صيغة الأمر، ويعني أنه يكون فعل التعجب على أفعل، وبناؤه من: فعل وفعل وفعل وعلى أفعل وحجج هذه المذاهب مستوفاة في كتب النحو.
والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنيا من قسط الثلاثي بمعنى عدل قال ابن السيد في (الاقتضاب) ما نصبه: حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة: قسط جار، وقسط عدل، وأقسط بالألف عدل لا غير. وقال ابن القطاع: قسط قسوطا وقسطا، جار وعدل ضد، فعلى هذا لا يكون شاذا.
ومعنى: أقسط عند الله. أعدل في حكم الله أن لا يقع التظالم.
* (وأقوم للشهادة) * إن كان من أقام ففيه شذوذ على قول بعضهم، ومن جعله مبنيا من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ فيه، وتقدم قول الزمخشري إنه جائز على مذهب سيبويه أن يكون من أقام، وقال أيضا: يجوز أن يكون على معنى النسب من قويم. انتهى.
وعد بعض النحويين في التعجب ما أقومه في الشذوذ، وجعله مبنيا من استقام، ويتعلق: للشهادة، بأقوم، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول: زيد أضرب لعمرو من خالد، ولا يجوز حذف هذه اللام والنصب إلا في الشعر كما قال الشاعر.
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
وقد تؤول على إضمار فعل أي: تضرب القوانس ومعنى: أقوم للشهادة، أثبت وأصح.
* (وأدنى * أن لا * ترتابوا) * أي أقرب لانتفاء الريبة وقرأ السلمي: أن لا يرتابوا بالياء، والمفضل عليه محذوف، وحسن حذفه كونه أفعل الذي للتفضيل وقع خبرا للمبتدأ، وتقديره: الكتب أقسط وأقوم وأدنى لكذا من عدم الكتب، وقدر: أدنى، لأن: لا ترتابوا، وإلى أن لا ترتابوا، و: من أن لا ترتابوا. ثم حذف حرف الجر فبقي منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي سبق.
ونسق هذه الإخبار في غاية الحسن، إذ بدىء أولا بالأشرف، وهو قوله * (أقسط عند الله) * أي: في حكم الله، فينبغي أن يتبع ما أمر به، إذ اتباعه هو متعلق الدين الإسلامي، وبنى لقوله: * (وأقوم للشهادة) * لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة، وجاء بالياء. و * (أدنى أن * لا) * لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله في الكتابة والإشهاد، فعنهما تنشأ أقربية انتفاء الريبة، إذ ذلك هو الغاية في أن لا يقع ريبة، وذلك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا، فيثلج الصدر بما كتب،
368

وأشهد عليه.
و: ترتابوا، بني افتعل من الريبة، وتقدم تفسيرها في قوله * (القيامة لا ريب فيه) * قيل: والمعنى: أن لا ترتابوا بمن عليه الحق أن ينكر، وقيل: أن لا ترتابوا بالشاهد أن يضل، وقيل: في الشهادة ومبلغ الحق والأجل، وقيل: المعنى أقرب لنفي الشك للشاهد والحاكم والمتعاملين، وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك ولا لبس ولا نزاع.
* (إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح * أن لا * تكتبوها) * في التجارة الحاضرة قولان: أحدهما: ما يعجل ولا يدخله أجل من بيع وثمن؛ والثاني: ما يجوزه المشتري من العروض المنقولة، وذلك في الأغلب إنما هو في قليل: كالمطعوم، بخلاف الأملاك. ولهذا قال السدي، والضحاك: هذا فيما إذا كان يدا بيد تأخذه وتعطي. وفي معنى الإدارة، قولان: أحدهما: يتناولونها من يد إلى يد. والثاني: يتبايعونها في كل وقت، والإدارة تقتضي التقابض والذهاب بالمقبوض، ولما كانت الرباع والأرض، وكثير من الحيوان لا تقوى البينونة، ولا يعاب عليها حسن الكتب والإشهاد فيها، ولحقت بمبايعة الديون، ولما كانت الكتابة في التجارة
الحاضرة الدائرة بينهم شاقة، رفع الجناح عنهم في تركها، ولأن ما بيع نقدا يدا بيد لا يكاد يحتاج إلى كتابة، إذ مشروعية الكتابة إنما هي لضبط الديون، إذ بتأجيلها يقع الوهم في مقدارها وصفتها وأجلها، وهذا مفقود في مبايعة التاجر يدا بيد. وهذا الاستثناء في قوله: إلا أن تكون، منقطع لأن ما بيع لغير أجل مناجزة لم يندرج تحت الديون المؤجلة. وقيل: هو استثناء متصل، وهو راجع إلى قوله * (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) * إلا أن يكون الأجل قريبا. وهو المراد من التجارة الحاضرة. وقيل: هو متصل راجع إلى قوله: * (ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب) * وقرأ عاصم: تجارة حاضرة، بنصبهما على أن كان ناقصة، التقدير إلا أن تكون هي أي التجارة. وقرأ الباقون برفعهما على أن يكون: تكون، تامة. و: تجارة، فاعل بتكون، وأجاز بعضهم أن تكون ناقصة وخبرها الجملة من قوله: تديرونها بينكم. ونفي الجناح هنا معناه لا مضرة عليكم في ترك الكتابة، هذا على مذهب أكثر المفسرين، إذا الكتابة عندهم ليست واجبة، ومن ذهب إلى الوجوب فمعني: لا جناح، لا إثم.
* (وأشهدوا إذا تبايعتم) * هذا أمر بالإشهاد على التبايع مطلقا، ناجزا أو كالئا، لأنه أحوط وأبعد مما عسى أن يقع في ذلك من الاختلاف، وقيل: يعود إلى التجارة الحاضرة، لما رخص في ترك الكتابة أمروا بالإشهاد.
قيل: وهذه الآية منسوخة بقوله: * (فإن أمن بعضكم بعضا) * روي ذلك عن الجحدري، والحسن، وعبد الرحمن بن يزيد، والحكم. وقيل: هي محكمة، والأمر في ذلك على الوجوب قال ذلك أبو موسى الأشعري، وابن عمر، والضحاك، وابن المسيب، وجابر بن زيد، ومجاهد، وعطاء، وإبراهيم، والشعبي، والنخعي، وداود بن علي، وابنه أبو بكر، والطبري.
قال الضحاك: هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل وقال عطاء: أشهد إذا بعت أو اشتريت بدرهم، أو نصف درهم، أو ثلاث دراهم، أو أقل من ذلك وقال الطبري: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل. وذهب الحسن وجماعة إلى أن هذا الأمر على الندب والإرشاد لا على الحتم قال ابن العربي: وهذا قول الكافة.
* (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * هذا نهي، ولذلك فتحت الراء لأنه مجزوم.
369

والمشدد إذا كان مجزوما كهذا كانت حركته الفتحة لخفتها، لأنه من حيث أدغم لزم تحريكه، فلو فك ظهر فيه الجزم.
واحتمل هذا الفعل أن يكون مبنيا للفاعل فيكون الكاتب والشهيد قد نهيا أن يضارا أحدا بأن يزيد الكاتب في الكتابة، أو يحرف. وبأن يكتم الشاهد الشهادة، أو يغيرها أو يمتنع من أدائها قال معناه الحسن، وطاووس، وقتادة، وابن زيد واختاره: الزجاج لقوله بعد: * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * لأن اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، ويمتنع من الشهادة، حتى يبطل الحق بالكلية أولى منه بمن أبرم الكاتب والشهيد، ولأنه تعالى قال، فيمن يمتنع من أداء الشهادة * (ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) * والآثم والفاسق متقاربان وقال ابن عباس، ومجاهد، وعطاء: بأن يقولا: علينا شغل ولنا حاجة.
واحتمل أن يكون مبنيا للمفعول، فنهى أن يضارهما أحد بأن يعنتا، ويشق عليهما في ترك أشغالهما، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة قال معناه أيضا ابن عباس، ومجاهد، وطاووس، والضحاك، والسدي.
ويقوي هذا الاحتمال قراءة عمر: ولا يضار، بالفك وفتح الراء الأولى. رواها الضحاك عن ابن مسعود، وابن كثير عن مجاهد، واختاره الطبري لأن الخطاب من أول الآيات إنما هو للمكتوب له، وللمشهود له، وليس للشاهد والكاتب خطاب تقدم، إنما رده على أهل الكتابة والشهادة، فالنهي لهم أبين أن لا يضار الكاتب والشهيد فيشغلونهما عن شغلهما، وهم يجدون غيرهما. ورجح هذا القول بأنه لو كان خطابا للكاتب والشهيد لقيل: وإن تفعلا فإنه. فسوق بكما، وإذا كان خطابا للمداينين فالمنهيون عن الضرار هم، وحكى أبو عمرو الذاني عن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق: أن الراء الأولى مكسورة، وحكى عنهم أيضا فتحها، وفك الفعل. والفك لغة الحجاز، والإدغام لغة تميم.
وقرأ ابن القعقاع، وعمرو بن عبيد: ولا يضار، بجزم الراء، وهو ضعيف لأنه في التقدير جمع بين ثلاث سواكن، لكن الألف لمدها يجري مجرى المتحرك، فكأنه بقي ساكنان، والوقف عليه ممكن. ثم أجريا الوصل مجرى الوقف.
وقرأ عكرمة: ولا يضارر، بكسر الراء الأولى والفك، كاتبا ولا شهيدا بالنصب أي: لا يبدأهما صاحب الحق بضرر.
ووجوه المضارة لا تنحصر، وروي مقسم عن عكرمة أنه قرأ: ولا يضار، بالإدغام وكسر الراء لالتقاء الساكنين.
وقرأ ابن محيصن: ولا يضار، برفع الراء المشددة، وهي نفي معناه النهي. وقد تقدم تحسين مجيء النهي بصورة النفي، وذلك أن النهي إنما يكون عن ما يمكن وقوعه، فإذا برز في صورة النفي كان أبلغ، لأنه صار مما لا يقع، ولا ينبغي أن يقع.
* (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * ظاهره أن مفعول: تفعلوا، المحذوف راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: ولا يضار، وإن تفعلوا لمضارة أو الضرار فإنه، أي الضرار، فسوق بكم أي: ملتبس بكم، أو تكون الباء ظرفية، أي: فيكم، وهذا أبلغ، إذ جعلوا محلا للفسق.
والخطاب في: تفعلوا، عائد الكاتب والشاهد، إذ كان قوله: ولا يضار، قد قدر مبنيا للفاعل، وأما إذا قدر مبنيا للمفعول فالخطاب للمشهود لهم. وقيل: هو راجع إلى ما وقع النهي عنه، والمعنى وإن تفعلوا شيئا مما نهيتكم عنه، أو تتركوا شيئا مما أمرتكم به، فهو عام في جميع التكاليف، فإنه فسوق بكم، أي: خروج عن أمر الله وطاعته.
* (واتقوا الله) * أي: في ترك الضرار، أو: في جميع أوامره ونواهيه، ولما كان قوله * (وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) * خطابا على سبيل الوعيد، أمر بتقوى الله حتى لا يقع في الفسق.
* (ويعلمكم الله) * هذه جملة تذكر بنعم الله التي أشرفها: التعليم للعلوم، وهي جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب، وقيل: هي في موضع نصب على الحال من الفاعل في: واتقوا، تقديره: واتقوا الله مضمونا لكم التعليم والهداية. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالا مقدرة. انتهى. وهذا القول، أعني: الحال، ضعيف جدا، لأن المضارع الواقع حالا، لا يدخل عليه واو الحال إلا فيما شذ من نحو: قمت وأصك عينه. ولا ينبغي أن يحمل القرآن على الشذوذ.
* (والله بكل شيء عليم) * إشارة إلى احاطته تعالى بالمعلومات، فلا يشذ عنه منها شيء. وفيها
370

إشعار بالمجازاة للفاسق والمتقي، وأعيد لفظ الله في هذه الجمل الثلاث على طريق تعظيم الأمر، جعلت كل جملة منها مستقلة بنفسها لا تحتاج إلى ربط بالضمير، بل اكتفي فيها بربط حرف العطف، وليست في معنى واحد، فالأولى: حث على التقوى، والثانية: تذكر بالنعم، والثالثة: تتضمن الوعد والوعيد. وقيل: معنى الآية الوعد، فإن من اتقى علمه الله، وكثيرا ما يتمثل بهذه بعض المتطوعة من الصوفية الذين يتجافون عن الاشتغال بعلوم الشريعة، من الفقه وغيره، إذا ذكر له العلم، والاشتغال به، قالوا: قال الله: واتقوا الله ويعلمكم الله، ومن أين تعرف التقوى؟ وهل تعرف إلا بالعلم؟.
* (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) *. مفهوم الشرط يقتضي امتناع الاستيثاق بالرهن، وأخذه في الحضر، وعند وجدان الكاتب، لأنه تعالى علق جواز ذلك على وجود السفر وفقدان الكاتب، وقد ذهب مجاهد، والضحاك: إلى أن الرهن والائتمان إنما هو في السفر، وأما في الحضر فلا ينبغي شيء من ذلك، ونقل عنهما أنهما لا يجوزان الارتهان إلا في حال السفر، وجمهور العلماء على جواز الرهن في الحضر، ومع وجود الكاتب، وأن الله تعالى ذكر السفر على سبيل التمثيل للإعذار، لأنه مظنة فقدان الكاتب، وإعواز الإشهاد، فأقام التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة، ونبه بالسفر على كل عذر، وقد يتعذر الكاتب في الحضر؛ كأوقات الاشتغال والليل وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) رهن درعه في الحضر، فدل ذلك على أن الشرط لا يراد مفهومه.
وقرأ الجمهور: كاتبا، على الإفراد وقرأ أبي، ومجاهد، وأبو العالية: كاتبا على أنه مصدر، أو جمع كاتب. كصاحب وصحاب. ونفي الكاتب يقتضي نفي الكتابة، ونفي الكتابة يقتضي أيضا نفي الكتب.
وقرأ ابن عباس والضحاك: كتابا، على الجمع اعتبارا بأن كل نازلة لها كاتب، وروي عن أبي العالية: كتبا جمع كتاب، وجمع اعتبارا بالنوازل أيضا.
وقرأ الجمهور: فرهان، جمع رهن نحو: كعب وكعاب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: فرهن، بضم الراء والهاء. وروي عنهما تسكين الهاء. وقرأ بكل واحدة منهما جماعة غيرهما، فقيل: هو جمع رهان، ورهان جمع رهن، قاله الكسائي، والفراء. وجمع الجمع لا يطرد عند سيبويه، وقيل: هو جمع رهن، كسقف، ومن قرأ بسكون الهاء فهو تخفيف من رهن، وهي لغة في هذا الباب، نحو: كتب في كتب، واختاره أبو عمرو بن العلاء وغيره، وقال أبو عمرو بن العلاء: لا أعرف الرهان إلا في الخيل لا غير، وقال يونس: الرهن والرهان عربيان، والرهن في الرهن أكثر، والرهان في الخيل أكثر. انتهى. وجمع فعل على فعل قليل، ومما جاء فيه: رهن قول الأعشى:
* آليت لا يعطيه من أبنائنا
*
رهنا فيفسدهم كرهن أفسدا
*
وقال بكسر: رهن، على أقل العدد لم أعلمه جاء، وقياسه: أفعل، فكأنهم استغنوا بالكثير عن القليل. انتهى.
والظاهر من قوله: مقبوضة، اشتراط القبض. وأجمع الناس على صحة قبض المرتهن، وقبض وكيله، وإما قبض عدل يوضع الرهن على يديه، فقال الجمهور به وقال عطاء، وقتادة، والحكم، وابن أبي ليلى: ليس بقبض، فإن وقع الرهن بالإيجاب والقبول، ولم يقع القبض، فالظاهر من الآية أنه لا يصح إلا بالقبض، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة، وقالت المالكية: يلزم الرهن بالعقد، ويجبر الراهن على دفع الرهن ليحوزه المرتهن، فالقبض عند مالك شرط في كمال فائدته، وعند أبي حنيفة والشافعي شرط في صحته، وأجمعوا على أنه لا يتم إلا بالقبض.
واختلفوا في استمراره، فقال مالك: إذا رده بعارية أو غيرها بطل وقال أبو حنيفة: إن رده بعارية أو وديعة لم يبطل. وقال الشافعي: يبطل برجوعه إلى يد الراهن
371

مطلقا.
والظاهر من اشتراط القبض أن يكون المرهون ذاتا متقومة يصح بيعها وشراؤها، ويتهيأ فيها القبض أو التخلية. فقال الجمهور: لا يجوز رهن ما في الذمة. وقالت المالكية: يجوز، وقال الجمهور: لا يصح رهن الغرر، مثل: العبد الآبق، والبعير الشارد، والأجنة في بطون أمهاتها، والسمك في الماء، والثمرة قبل بدو صلاحها وقال مالك: لا بأس بذلك.
واختلفوا في رهن المشاع، فقال مالك، والشافعي: يصح فيما يقسم وفيما لا يقسم. وقال أبو حنيفة: لا يصح مطلقا. وقال الحسن بن صالح: يجوز فيما لا يقسم، ولا يجوز فيما يقسم.
ومعنى: على سفر، أي: مسافرين، وقد تقدم الكلام على مثله في آية الصيام.
ويحتمل قوله: ولم تجدوا، أن يكون معطوفا على فعل الشرط، فتكون الجملة في موضع جزم، ويحتمل أن تكون الواو للحال، فتكون الجملة في موضع نصب. ويحتمل أن يكون معطوفا على خبر كان، فتكون الجملة في موضع نصب، لأن المعطوف على الخبر خبر، وارتفاع: فرهان، على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: فالوثيقة رهان مقبوضة.
* (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذى اؤتمن أمانته) * أي: إن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن، فليؤد الغريم أمانته، أي ما ائتمنه عليه رب المال وقرأ أبي: فإن أومن، رباعيا مبنيا للمفعول، أي: آمنه الناس، هكذا نقل هذه القراءة عن أبي الزمخشري، وقال السجاوندي: وقرأ أبي: فإن ائتمن، افتعل من الأمن، أي: وثق بلا وثيقة صك، ولا رهن.
والضمير في: أمانته، يحتمل أن يعود إلى رب الدين، ويحتمل أن يعود إلى الذي اؤتمن. والأمانة: هو مصدر أطلق على الشيء الذي في الذمة، ويحتمل أن يراد به نفس المصدر، ويكون على حذف مضاف، أي: فليؤد دين أمانته. واللام في: فليؤد، للأمر، وهو للوجوب. وأجمعوا على وجوب أداء الديون، وثبوت حكم الحاكم به وجبره الغرماء عليه، ويجوز إبدال همزة: فليؤد، واوا نحو: يوجل ويوخر ويواخذ، لضمة ما قبلها.
وروى أبو بكر عن عاصم: الذي اؤتمن، برفع الألف، ويشير بالضمة إلى الهمزة. قال ابن مجاهد: وهذه الترجمة غلط. وروي سليم عن حمزة إشمام الهمزة الضم، وفي الإشارة والإشمام المذكورين نظر.
وقرأ ابن محيصن، وورش بإبدال الهمزة ياء، كما أبدلت في بئر وذئب، وأصل هذا الفعل: أؤتمن، بهمزتين: الأولى همزة الوصل، وهي مضمومة. والثاني: فالكلمة، وهي ساكنة، فتبدل هذه واوا لضمة ما قبلها، ولاستثقال اجتماع الهمزتين، فإذا اتصلت الكلمة بما قبلها رجعت الواو إلى أصلها من الهمزة، لزوال ما أوجب إبدالها. وهي همزة الوصل، فإذا كان قبلها كسرة جاز، إبدالها ياء لذلك.
وقرأ عاصم في شاذه: اللذتمن، بإدغام التاء المبدلة من الهمزة قياسا على: اتسر، في الافتعال من اليسر قال الزمخشري: وليس بصحيح، لأن التاء منقلبة عن الهمزة في حكم الهمزة، واتزر عامي، وكذلك ريا في رؤيا. انتهى. كلامه.
وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح، وأن اترز عامي يعني: أنه من إحداث العامة، لا أصل له في اللغة، قد ذكره غيره، أن بعضهم أبدل وأدغم، فقال: اتمن واتزر، وذكر أن ذلك لغة رديئة. وأما قوله: وكذلك ريا في رؤيا، فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله: واترز عامي، فيكون إدغام ريا عاميا. وإما أن يعود إلى قوله: فليس بصحيح، أي: وكذلك إدغام: ريا، ليس بصحيح. وقد حكى الإدغام في ريا الكسائي.
* (وليتق الله
372

ربه) * أي عذاب الله في أداء ما ائتمنه رب المال، وجمع بين قوله: الله ربه، تأكيدا الأمر التقوى في أداء الدين كما جمعهما في قوله: * (وليملل الذى عليه الحق) * فأمر بالتقوى حين الإقرار بالحق، وحين أداء ما لزمه من الدين، فاكتنفه الأمر بالتقوى حين الأخذ وحين الوفاء.
* (ولا تكتموا الشهادة) * هذا نهي تحريم، ألا ترى إلى الوعيد لمن كتمها؟ وموضع النهي حيث يخاف الشاهد ضياع الحق. وقال ابن عباس: على الشاهد أن يشهد حيث ما استشهد، ويخبر حيث ما استخبر. ولا تقل: أخبر بها عن الأمير، بل أخبره بها لعله يرجع ويرعوي.
وقرأ السملي: ولا يكتموا، بالياء على الغيبة.
* (ومن يكتمها فإنه ءاثم قلبه) * كتم الشهادة هو إخفاؤها بالامتناع من أدائها، والكتم من معاصي القلب، لأن الشهادة علم قام بالقلب، فلذلك علق الإثم به. وهو من التعبير بالبعض عن الكل: إلا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب. وإسناد الفعل إلى الجارحة التي يعمل بها أبلغ وآكد، ألا ترى أنك تقول: أبصرته عيني؟ وسمعته أذني؟ ووعاه قلبي؟ فأسند الإثم إلى القلب إذ هو متعلق الإثم، ومكان اقترافه، وعنه يترجم اللسان. ولئلا يظن أن الكتمان من الآثام المتعلقة باللسان فقط، وأفعال القلوب أعظم من أفعال سائر الجوارح، وهي لها كالأصول التي تتشعب منها، لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وقراءة الجمهور: آثم، اسم فاعل من: أثم قلبه، و: قلبه، مرفوع به على الفاعلية، و: آثم، خبر: إن، وجوز الزمخشري أن يكون: آثم، خبرا مقدما، و: قلبه، مبتدأ. والجملة في موضع خبر: إن، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.
وقال ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني: آثم ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن. انتهى. وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين، لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان؟ وأقائم الزيدون؟ وما قائم الزيدان؟ لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن، إذ يجيز: قائم الزيدان؟ فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون: قلبه، بدلا على بدل بعض من كل، يعنى: أن يكون ب لا من الضمير المرفوع المستكن في: آثم، والإعراب الأول هو الوجه.
وقرأ قوم: قلبه، بالنصب، ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة. وقال: قال مكي: هو على التفسير يعنى التمييز، ثم ضعف من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة. وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به، نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه ومثله ما أنشد الكسائي رحمه الله تعالى:
* أنعتها إني من نعاتها
*
مدارة الأخفاف مجمراتها
*
* غلب الدفار وعفر يناتها
*
كوم الذرى وادقة سراتها
*
وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام، ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم إن بدل بعض من كل، ولا مبالاة بالفصل بين البدل والمبدل منه بالخبر، لأن ذلك جائز. وقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف، نحو: زيد منطلق العاقل، نص عليه سيبويه، مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد، فأحرى في البدل، لأن الأصح أن العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه.
ونقل الزمخشري وغيره: أن ابن أبي عبلة قرأ: أثم قلبه، بفتح الهمزة والثاء والميم وتشديد الثاء، جعله فعلا ماضيا. وقلبه بفتح الباء نصبا على
373

المفعول بأثم، أي: جعله آثما.
* (والله بما تعملون عليم) * بما تعملون عام في جميع الأعمال، فيدخل فيها كتمان الشهادة وأداؤها على وجهها. وفي الجملة توعد شديد لكاتم الشهادة، لأن علمه بها يترتب عليه المجازاة، وإن كان لفظ العلم يعم الوعد والوعيد.
وقرأ السلمي: بما يعملون، بالياء جريا على قراءته، و: لا يكتموا، بالياء على الغيبة.
وقد تضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة.
التجنيس المغاير في قوله: إذا تداينتم بدين، وفي قوله: وليكتب بينكم كاتب. وفي قوله: ولا يأب كاتب أن يكتب. وفي قوله: ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم. وفي قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم. وفي قوله: أؤتمن أمانته.
والتجنيس المماثل في قوله: ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها.
والتأكيد في قوله: تداينتم بدين، وفي قوله: وليكتب بينكم كاتب، إذ يفهم من قوله: تداينتم، قوله: بدين، ومن قوله: فليكتب، قوله: كاتب.
والطباق في قوله: أن تضل إحداهما فتذكر، لأن الضلال هنا بمعنى النسيان. وفي قوله: صغيرا أو كبيرا.
والتشبيه في قوله: أن يكتب كما علمه الله.
والاختصاص في قوله: كاتب بالعدل. وفي قوله: فليملل وليه بالعدل، وفي قوله: أقسط عند الله وأقوم للشهادة. وفي قوله: تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
والتكرار في قوله: فاكتبوه وليكتب، وأن يكتب كما علمه الله، فليكتب، ولا يأب كاتب، وفي قوله: فليملل الذي عليه الحق، فإن كان الذي عليه الحق. كرر الحق للدعاء إلى اتباعه، وأتى بلفظة على للإعلام أن لصاحب الحق مقالا واستعلاء، وفي قوله: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى. وفي قوله: واتقوا الله، ويعلمكم الله، والله.
والحذف في قوله: يا أيها الذين آمنوا، حذف متعلق الإيمان. وفي قوله: مسمى، أي بينكم فليكتب الكاتب، أن يكتب الكتاب كما علمه الله الكتابة والخط، فليكتب كتاب الذي عليه الحق ما عليه من الدين، وليتق الله ربه في املائه سفيها في الرأي أو ضعيفا في البينة، أو لا يستطيع أن يمل هو لخرس أو بكم فليملل الدين وليه على الكاتب، واستشهدوا إذا تعاملتم من رجالكم المعينين للشهادة المرضيين، فرجل مرضي وامرأتان مرضيتان من الشهداء المرضيين فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة، ولا يأب الشهداء من تحمل الشهادة أو من أدائها عند الحاكم إذا ما دعوا أي دعائهم صاحب الحق للتحمل، أو للأداء إلى أجله المضروب بينكم، ذلكم الكتاب أقسط وأقوم للشهادة المرضية أن لا ترتابوا في الشهادة تديرونها بينكم، ولا تحتاجون إلى الكتب والإشهاد فيها، وأشهدوا إذا تبايعتم شاهدين، أو رجلا وامرأتين، ولا يضار كاتب ولا شهيد أي صاحب الحق، أو: لا يضار صاحب الحق كاتبا ولا شهيدا، ثم حذف وبنى للمفعول، وأن تفعلوا الضرر، واتقوا عذاب الله، ويعلمكم الله الصواب، وإن كنتم على سبيل سفر ولم تجدوا كاتبا يتوثق بكتابته، فالوثيقة رهن أمن بعضكم بعضا، فأعطاه مالا بلا إشهاد ولا رهن أمانته من غير حيف ولا مطل، وليتق عذاب الله، ولا تكتموا الشهادة عن طالبها.
وتلوين الخطاب، وهو الانتقال من الحضور إلى الغيبة، في قوله: فاكتبوه، وليكتب، ومن الغيبة إلى الحضور في قوله: ولا يأب كاتب، وأشهدوا. ثم انتقل إلى الغيبة بقوله: ولا يضار، ثم إلى الحضور بقوله: ولا تكمتوا الشهادة، ثم إلى الغيبة بقوله: ومن يكتمها، ثم إلى الحضور بقوله: بما تعملون.
والعدول من فاعل إلى فعيل، في قوله: شهيدين، ولا يضار كاتب ولا شهيد.
والتقديم والتأخير في قوله: فليكتب، وليملل، أو الإملال، بتقديم الكتابة قبل، ومن ذلك: ممن ترضون من الشهداء، التقدير واستشهدوا ممن ترضون، ومنه وأشهدوا إذا تبايعتم.
انتهى ما لخصناه مما ذكر في هذه الآية. من أنواع الفصاحة. وفيها من التأكيد في حفظ الأموال في المعاملات ما لا يخفي: من الأمر بالكتابة للمتداينين، ومن الأمر للكاتب بالكتابة بالعدل، ومن النهي عن الامتناع من الكتابة، ومن أمره ثانيا بالكتابة، ومن الأمر لمن عليه الحق بالإملال إن أمكن، أو لوليه إن لم يمكنه، ومن الأمر بالاستشهاد، ومن الاحتياط في من يشهد وفي وصفه، ومن النهي للشهود عن الامتناع من الشهادة إذا ما دعوا إليها، ومن النهي عن الملل في كتابة الدين وإن كان حقيرا، ومن الثناء على الضبط بالكتابة، ومن الأمر بالإشهاد عند التبايع، ومن النهي للكاتب والشاهد عن ضرار من يشهد له ويكتب، ومن التنبيه على أن الضرار في مثل هذا هو فسوق، ومن الأمر بالتقوى، ومن الإذكار بنعمة التعلم، ومن التهديد بعد ذلك، ومن الاستيثاق في السفر وعدم الكاتب بالرهن المقبوض، ومن الأمر بأداء
374

أمانة من لم يستوثق بكاتب وشاهد ورهن، ومن الأمر لمن استوثق بتقوى الله المانعة من الإخلال بالأمانة، ومن النهي عن كتم الشهادة، ومن التنبيه على أن كاتمها مرتكب الإثم، ومن التهديد آخرها بقوله: * (والله بما تعملون عليم) * فانظر إلى هذه المبالغة والتأكيد في حفظ الأموال وصيانتها عن الضياع، وقد قرنها رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنفوس والدماء، فقال: (من قتل دون ماله فهو شهيد). وقال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم). ولصيانتها والمنع من إضاعتها، ومن التبذير فيها كان حجر الإفلاس، وحجر الجنون، وحجر الصغر، وحجر الرق، وحجر المرض، وحجر الإرتداد.
* (لله ما فى * السماوات وما في الارض) * قال الشعبي، وعكرمة: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها، ورواه مجاهد ومقسم عن ابن عباس، قال مقاتل، والواقدي: نزلت فيمن يتولى الكافرين من المؤمنين.
ومناسبتها ظاهرة، لأنه لما ذكر أن من كتم الشهادة فإن قلبه آثم، ذكر ما انطوى عليه الضمير، فكتمة أو أبداه، فإن الله يحاسبه به، ففيه وعيد وتهديد لمن كتم الشهادة، ولما علق الإثم بالقلب ذكر هنا الأنفس، فقال: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * وناسب ذكر هذه الآية خاتمة لهذه السورة لأنه تعالى ضمنها أكثر علم الأصول والفروع من: دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد، والصلاة، والزكاة، والقصاص، والصوم، والحج، والجهاد، والحيض، والطلاق، والعدة، والخلع، والإيلاء، والرضاعة، والربا، والبيع، وكيفية المداينة. فناسب تكليفه إيانا بهذه الشرائع أن يذكر أنه تعالى مالك لما في السماوات وما في الأرض، فهو يلزم من شاء من مملوكاته بما شاء من تعبداته وتكليفاته.
ولما كانت هذه التكاليف محل اعتقادها إنما هو الأنفس، وما تنطوي عليه من النيات، وثواب ملتزمها وعقاب تاركها إنما يظهر في الدار الآخرة، نبه على صفة العلم التي بها تقع المحاسبة في الدار الآخررة بقوله: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * فصفة الملك تدل على القدرة الباهرة، وذكر المحاسبة يدل على العلم المحيط بالجليل والحقير، فحصل بذكر هذين الوصفين غاية الوعد للمطيعين، وغاية الوعيد للعاصين.
والظاهر في: اللام، أنها للملك، وكان ملكا له لأنه تعالى هو المنشيء له، الخالق. وقيل: المعنى لله تدبير ما في السماوات وما في الأرض، وخص السماوات والأرض لأنها أعظم ما يرى من المخلوقات، وقدم السماوات لعظمها، وجاء بلفظ: ما، تغليبا لما لا يعقل على من يعقل، لأن الغالب فيما حوته إنما هو جماد وحيوان، لا يعقل، وأجناس ذلك كثيرة. وأما العاقل فأجناسه قليلة إذ هي ثلاثة: إنس وجن وملائكة.
* (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) * ظاهر: ما، العموم، والمعنى: أن الحالتين من الإخفاء والإبداء بالنسبة إليه تعالى سواء، وإنما يتصف بكونه إبداء وإخفاء بالنسبة إلى المخلوقين لا إليه تعالى، لأن علمه ليس ناشئا عن وجود الأشياء، بل هو سابق بعلم الأشياء قبل الإيجاد، وبعد الإيجاد، وبعد الإعدام. بخلاف علم المخلوق، فإنه لا يعلم الشيء إلا بعد إيجاده، فعلمه محدث. وقد خصص هذا العموم فقال ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، واختاره ابن جرير: هو في معنى الشهادة أعلم في هذه الآية أن الكاتم لها المخفي ما في نفسه محاسب، وقيل: من الاحتيال للربا، وقال مجاهد: من الشك واليقين، ومما يدل على أن الله تعالى يؤاخذ بما تجن القلوب، قوله: * (واعلموا أن الله يعلم ما فى أنفسكم فاحذروه) *.
وبعد فإن المحبة والإرادة والعلم والجهل أفعال القلب وهي من أعظم أفعال العباد وقال القاضي عبد الجبار بين أن أفعال القلوب كأفعال الجوارح في أن الوعيد يتناولها، ويعني ما يلزم إظهاره إذا خفي، وما يلزم كتماته إذا ظهر مما يتعلق به الحقوق، ولم يرد بذلك ما يخطر بالقلب مما قد رفع فيه المأثم. انتهى كلامه. وإلى ما يهجس في النفس أشار، والله أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم) بقوله: (إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ولم تعمل به وتكلم) وقال: إن تظهروا العمل أو تسروه.
وقال أبو علي: يحاسب عباده على ما يخفون من أعمالهم وعلى ما يبدونه، فيغفر للمستحق ويعذب المستحق ودلت على أن الثواب
375

والعقاب يستحقان بالعزم وسائر أفعال القلوب إذا كانت طاعة أو معصية.
وقال الزمخشري: من السوء وهذا حسن لأنه جاء بعد ذلك ذكر الغفران والتعذيب، لكن ذيل ذلك الزمخشري بقوله: فيغفر لمن يشاء، لمن استوجب المغفرة بالتوبة مما أظهر منه، أو أضمر. ويعذب من يشاء من استوجب العقوبة بالإصرار. انتهى. وهذه نزعة اعتزالية، وأهل السنة يقولون: إن الغفران قد يكون من الله تعالى لمن مات مصرا على المعصية ولم يتب، فهو في المشيئة، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) *.
ثم قال الزمخشري: ولا يدخل فيما يخفيه الإنسان الوسواس، وحديث النفس، لأن ذلك مما ليس في وسعه الخلو منه، ولكن ما اعتقده وعزم عليه. وعن عبد الله بن عمر، أنه تلاها فقال: لئن أخذنا الله بهذا لنهلكن، ثم بكى حتى سمع نشجه، فذكر لابن عباس فقال: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: في أنفسكم، يقتضي قوة اللفظ أنه ما تقرر في النفس واعتقد واستصحب الفكر فيه، وأما الخواطر التي لا يمكن دفعها فليست في النفس إلا على تجوز. انتهى.
وقال بعضهم: إن هذه الآية مسنوخة بقوله: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * وينبغي أن يجعل هذا تخصيصا إذا قلنا: إن الوسوسة والهواجس مندرجة تحت ما في قوله: * (ما في أنفسكم) * والأصح أنها محكمة، وأنه تعالى يحاسبهم على ما علموا وما لم يعملوا مما ثبت في نفوسهم ونووه وأرادوه، فيغفر للمؤمنين، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق، وقيل: العذاب الذي يكون جزاء للخواطر هو مصائب الدنيا وآلامها وسائر مكارهها وروي هذا المعنى عن عائشة.
ولما كان اللفظ مما يمكن أن يدخل فيه الخواطر، أشفق الصحابة، فبين الله ما أراد بها وخصصها، ونص على حكمه أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليس دفعها في الوسع، وكان في هذا فرجهم وكشف كربهم.
والآية خبر، والنسخ لا يدخل الأخبار، وانجزم: يحاسبكم، على أنه جواب الشرط، وقيل: عبر عن العلم بالمحاسبة إذ من جملة تفاسير الحسيب: العالم، فالمعنى: أنه يعلم ما في السرائر والضمائر، وقيل: الجزاء مشروط بالمشيئة أو بعدم المحاسبة، ويكون التقدير: يحاسبكم إن شاء أو يحاسبكم إن لم يسمح.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، ويزيد، ويعقوب، وسهل: فيغفر لمن يشاء ويعذب، بالرفع فيهما على القطع، ويجوز على وجهين: أحدهما: أن يجعل الفعل خبر مبتدأ محذوف. والآخر: أن يعطف جملة من فعل وفاعل على تقدم وقرأ باقي السبعة بالجزم عطفا على الجواب وقرأ ابن عباس، والأعرج، وأبو حيوة بالنصب فيهما على إضمار: أن، فينسبك منها مع ما بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم من الحساب، تقديره: يكن محاسبة فمغفرة وتعذيب، وهذه الأوجه قد جاءت في قول الشاعر:
* فان يهلك أبو قابوس يهلك
*
ربيع الناس والشهر الحرام
*
* ونأخذ بعده بذناب عيش
*
أجب الظهر ليس له سنام
*
يروى بجزم: ونأخذ، ورفعه ونصبه وقرأ الجعفي، وخلاد، وطلحة بن مصرف: يغفر لمن يشاء، ويروى أنها كذلك في مصحف عبد الله. قال ابن جني: هي على البدل من: يحاسبكم، فهي تفسير للمحاسبة. انتهى. وليس بتفسير، بل هما مترتبان على المحاسبة، ومثال الجزم على البدل من الجزاء قوله * (ومن يفعل ذالك يلق أثاما * يضاعف له العذاب) *.
376

وقال الزمخشري: ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، لأن التفصيل أوضح من المفصل، فهو جار مجرى بدل البعض من الكل، أو بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيدا رأسه. وأحب زيدا عقله، وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. انتهى كلامه. وفيه بعض مناقشة.
أولا: فلقوله: ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب، وليس الغفران والعذاب تفصيلا لجملة الحساب، لأن الحساب إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها، بحيث لا يشذ شيء منها، والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة، فليست المحاسبة تفصل الغفران والعذاب.
وأما الثانية: فلقوله بعد ان ذكر بدل البعض والكل: وبدل الاشتمال هذا البدل وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الاشتمال فهو يمكن، وقد جاء لأن الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس، وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل، إذ الفعل لا يقبل التجزيء، فلا يقال في الفعل: له كل وبعض إلا بمجاز بعيد، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى، إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض.
قال الزمخشري، وقد ذكر قراءة الجزم: فإن قلت: كيف يقرأ الجازم؟.
قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لاحن مخطىء خطأ فاحشا، وراويه عن أبي عمرو مخطىء مرتين، لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم، والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة، والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. انتهى كلامه. وذلك على عادته في الطعن على القراء.
وأما ما ذكر أن مدغم الراء في اللام لا حن مخطىء خطأ فاحشا إلى آخره، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون، فذهب الخليل، وسيبويه وأصحابه: إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها، ولا في النون قال أبو سعيد. ولا نعلم أحدا خالفه إلا يعقوب الحضرمي، وإلا ما روي عن أبي عمرو، وأنه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركا ما قبلها، نحو: * (يغفر لمن) * * (العمر لكيلا) * * (واستغفر لهم الرسول) * فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في
موضع الضم والكسر، نحو * (الانهار لهم) * و * (النار * ليجزى) * فإن انفتحت وكان ما قبلها حرف مد ولين أو غيره لم يدغم نحو * (من مصر لامرأته) * * (الابرار لفى نعيم) * * (ولن * تبور * ليوفيهم) * * (والحمير لتركبوها) * فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه، عن اليزيدي، عنه: أنه أظهرها، وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين، والمتقاربين المتحركين لا غير، على أن المعمول في مذهبه بالوجهين جميعا على الإدغام نحو * (ويغفر لكم) * انتهى. وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعا، ووافقهما على سماعه رواية وإجازة أبو جعفر الرواسي، وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين، وقد وافقهم أبو عمرو على الإدغام رواية وإجازة، كما ذكرناه، وتابعه يعقوب كما ذكرناه، وذلك من رواية الوليد بن حسان. والإدغام وجه من القياس، ذكرناه في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) من تأليفنا، وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الإدغام الذي منعه البصريون يكون ذلك إخفاء لا إدغاما، وذلك لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا، وما ضبطوا، ولا فرقوا بين الإخفاء والإدغام، وعقد هذا الرجل بابا قال: هذا باب يذكر فيه ما أدغمت القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه، وهذا لا ينبغي، فإن لسان العرب ليس
377

محصورا فيما نقله البصريون فقط، والقراءات لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه، بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة، وقد اتفق على نقل إدغام الراء في اللام كبير البصريين ورأسهم: أبو عمرو بن العلاء، ويعقوب الحضرمي. وكبراء أهل الكوفة: الرواسي، والكسائي، والفراء، وأجازوه ورووه عن العرب، فوجب قبوله والرجوع فيه إلى علمهم ونقلهم، إذ من علم حجة على من لم يعلم.
وأما قول الزمخشري: إن راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين، فقد تبين أن ذلك صواب، والذي روي ذلك عنه الرواة، ومنهم: أبو محمد اليزيدي وهو إمام في النحو إمام في القراءات في اللغات.
قال النقاش: يغفر لمن ينزع عنه، ويعذب من يشاء إن أقام عليه.
وقال الثوري: يغفر لمن يشاء العظيم، ويعذب من يشاء على الصغير.
وقد تعلق قوم بهذه الآية في جواز تكليف ما لا يطاق، وقالوا: كلفوا أمر الخواطر، وذلك مما لا يطاق.
قال ابن عطية: وهذا غير بين، وإنما كان من الخواطر تأويلا تأوله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)، ولم يثبت تكليفا.
* (والله على كل شيء قدير) *. لما ذكر المغفرة والتعذيب لمن يشاء، عقب ذلك بذكر القدرة، إذ ما ذكر جزء من متعلقات القدرة.
* (الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل) * سبب نزولها أنه لما نزل: * (وإن تبدوا ما في أنفسكم) * الآية أشفقوا منها، ثم تقرر الأمر على أن * (قالوا سمعنا وأطعنا) * فرجعوا إلى التضرع والاستكانة، فمدحهم الله وأثنى عليهم، وقدم ذلك بين يدي رفقه بهم، وكشفه لذلك الكرب الذي أوجبه تأولهم، فجمع لهم تعالى التشريف بالمدح والثناء ورفع المشقة في أمر الخواطر، وهذه ثمرة الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى، كما جرى لبني إسرائيل ضد ذلك من: ذمهم وتحميلهم المشقات من الذلة والمسكنة والجلاء، إذ * (قالوا سمعنا وعصينا) * وهذه ثمرة العصيان والتمرد على الله، أعاذنا الله تعالى من نقمه. انتهى هذا، وهو كلام ابن عطية.
وظهر بسبب النزول مناسبة هذه الآية لما قبلها، ولما كان مفتتح هذه السورة بذكر الكتاب المنزل، وأنه هدى للمتقين الموصوفين بما وصفوا به من الإيمان بالغيب، وبما أنزل إلى الرسول وإلى من قبله، كان مختتمها أيضا موافقا لمفتتحها.
وقد تتبعت أوائل السور المطولة فوجدتها يناسبها أواخرها، بحيث لا يكاد ينخرم منها شيء، وسأبين ذلك إن شاء الله في آخر كل سورة سورة، وذلك من أبدع الفصاحة، حيث يتلاقى آخر الكلام المفرط في الطول بأوله، وهي عادة للعرب في كثير من نظمهم، يكون أحدهم آخذا في شيء، ثم يستطرد منه إلى شيء آخر، ثم إلى آخر، هكذا طويلا، ثم يعود إلى ما كان آخذا فيه أولا. ومن أمعن النظر في ذلك سهل عليه مناسبة ما يظهر ببادىء النظم أنه لا مناسبة له، فبين تعالى في آخر هذه السورة أن أولئك المؤمنين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم).
قال المروزي: * (الرسول بما) * قال الحسن، ومجاهد، وابن سيرين، وابن عباس في رواية: أن هاتين الآيتين لم ينزل بهما جبريل، وسمعهما صلى الله عليه وسلم) ليلة المعراج بلا واسطة، والبقرة مدنية إلا هاتين الآيتين.
وقال ابن عباس في رواية أخرى، وابن جبير، والضحاك، وعطاء: إن جبريل نزل عليه بهما بالمدينة، وهي رد على من يقول: إن شاء الله في إيمانه، لأن الله تعالى شهد بإيمان المؤمنين، فالشك فيه شك في علم الله تعالى. انتهى كلامه.
والألف واللام في: الرسول، هي للعهد، وهو رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم)، وقد كثر في القرآن تسميته من الله بهذا الاسم الشريف، وما أنزل إليه من ربه شامل لجميع ما أنزل إليه من الله تعالى: من العقائد، وأنواع الشرائع، وأقسام الأحكام في القرآن، وفي غيره. آمن بأن ذلك وحي من الله وصل إليه، وقدم الرسول لأن إيمانه هو المتقدم وإيمان المؤمنين متأخر عن إيمانه، إذ هو المتبوع وهم التابعون في ذلك.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لما نزلت عليه، قال: (يحق له أن يؤمن).
والظاهر أن يكون قوله: والمؤمنون، معطوفا على قوله: الرسول، ويؤيده قراءة علي، وعبد الله: وآمن المؤمنون، فأظهر الفعل الذي أضمره غيره من القراء، فعلى هذا يكون: كل، لشمول الرسول والمؤمنين، وجوزوا أن يكون الوقف تم عند قوله: من ربه، ويكون: المؤمنون، مبتدأ، و: كل
378

مبتدأ ثان لشمول المؤمنين خاصة. و: آمن بالله، جملة في موضع خبر: كل، والجلمة، من: كل وخبره، في موضع خبر المؤمنين، والرابط لهذه الجملة بالمبتدأ
الأول محذوف، وهو ضمير مجرور تقديره: كل منهم آمن، كقولههم: السمن منوان بدرهم، يريدون: منه بدرهم، والإيمان بالله هو: التصديق به، وبصفاته، ورفض الأصنام، وكل معبود سواه. والإيمان بملائكته هو اعتقاد وجودهم، وأنهم عباد الله، ورفض معتقدات الجاهلية فيهم، والإيمان بكتبه هو التصديق بكل ما أنزل على الأنبياء الذين تضمنهم كتاب الله، وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم) من ذلك، والإيمان برسله هو التصديق بأن الله أرسلهم لعباده.
وهذا الترتيب في غاية الفصاحة، لأن الإيمان بالله هو المرتبة الأولى، وهي التي يستبد بها العقل إذ وجود الصانع يقربه كل عاقل، والإيمان بملائكته ههي المرتبة الثانية، لأنهم كالوسائط بين الله وعباده، والإيمان بالكتب ههو الوحي الذي يتلقنه الملك من الله، يوصله إلى البشر، هي المرتبة الثالثة، والإيمان بالرسل الذين يقتبسون أنوار الوحي فهم متأخرون في الدرجة عن الكتب، هي المرتبة الرابعة وقد تقدم الكلام على شيء من هذا الترتيب في قوله: * (من كان عدوا لله وملئكته ورسله) * وقيل: الكلام في عرفان الحق لذاته، وعرفان الخير للعمل به واستكمال القوة النظرية بالعلم والقوة العملية، بفعل الخيرات، والأولى أشرف، فبدىء بها، وهو: الإيمان المذكور، والثانية هي المشار إليها بقوله * (سمعنا وأطعنا) * وقيل: للإنسان مبدأ وحال ومعاد، فالإيمان إشارة إلى المبدأ، و: سمعنا وأطعنا إشارة إلى الحال، و: غفرانك، وما بعده إشارة إلى المعاد.
وقرأ حمزة، والكسائي: وكتابه، على التوحيد، وباقي السبعة: وكتبه، على الجمع. فمن وحد أراد كل مكتوب، سمي المفعول بالمصدر، كقولهم: نسج اليمين أي: منسوجه قال أبو علي: معناه أن هذا الإفراد ليس كإفراد المصادر، وإن أريد بها الكثير، كقوله * (وادعوا ثبورا كثيرا) * ولكنه، كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة، نحو: كثر الدينار والدرهم، ومجيئها بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة، ومن الإضافة * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * وفي الحديث: (منعت العراق درهمها وقفيزها). يراد به: الكثير، كما يراد بما فيه لام التعريف. انتهى ملخصا. ومعناه أن المفرد المحلى بالألف واللام يعم أكثر من المفرد المضاف.
وقال الزمخشري: وقرأ ابن عباس: وكتابه، يريد القرآن. أو الجنس، وعنه: الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟.
قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية، قائمة في وحدان الجنس كلها، لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى كلامه. وليس كما ذكر، لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاما، ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد، فلو قال: أعتقت عبيدي، يشمل ذلك كل عبد عبد، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد، سواء كانت فيه الألف واللام أم الإضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية، كأن يستثني منه، أو يوصف بالجمع، نحو: * (إن الإنسان * لفى * خسر * إلا الذين ءامنوا) * و: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، أو قرينة معنوية نحو: نية المؤمن أبلغ من علمه، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذا أربد به العموم، وحمل على اللفظ في قوله: آمن، فأفرد كقوله * (قل كل يعمل على شاكلته) *.
وقرأ يحيي بن يعمر: وكتبه ورسله، بإسكان التاء والسين، وروي ذلك عن نافع وقرأ الحسن: ورسله، بإسكان السين، وهي رواية عن أبي عمرو وقرأ عبد الله: وكتابه ولقائه ورسله.
* (لا نفرق بين أحد من رسله) * قرأ الجمهور بالنون، وقدره: يقولون لا نفرق، ويجوز أن يكون التقدير: يقول لا نفرق، لأنه يخبر عن نفسه. وعن غيره، فيكون: يقول، على اللفظ، و: يقولون، على المعنى بعد الحمل على اللفظ، وعلى كلا التقديرين فموضع هذا المقدر نصب على الحال، وجوز الحوفي وغيره أن يكون خبرا بعد خبر لكل.
وقرأ ابن جبير، وابن يعمر، وأبو زرعة بن
379

عمرو بن جرير، ويعقوب، ونص رواة أبي عمر: ولا يفرق، بالياء على لفظ: كل.
قال هارون: وهي في مصحف أبي، وابن مسعود: لا يفرقون، حمل على معنى: كل بعد الحمل على اللفظ، والمعنى: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
والمقصود من هذا الكلام إثبات النبوة، وهو ظهور المعجزة على وفق الدعوى فاختصاص بعض دون بعض متناقض، لا ما ادعاه بعضهم من أن المقصود هو عدم التفضيل بينهم، و: أحد، هنا هي المختصة بالنفي، وما أشبهه؟ فهي للعموم، فلذلك دخلت: من، عليها كقوله تعالى: * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * والمعنى بين آحادهم قال الشاعر:
* إذا أمور الناس ديكت دوكا
*
لا يرهبون أحدا رأوكا
*
قال بعضهم: وأحد، قيل: إنه بمعنى جميع، والتقدير: بين جميع رسله، ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرقين بين بعض الرسل. والمقصود بالنفي وهذا، لأن اليهود والنصارى ما كانوا يفرقون بين كل الرسل، بل البعض، وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، فثبت أن التأويل الذي ذكره باطل، بل معنى الآية: لا يفرق أحد من رسله وبين غيره في النبوة. انتهى. وفيه بعض تلخيص. ولا يعني من فسرها: بجميع، أو قال: هي في معنى الجميع، إلا أنه يريد بها العموم نحو: ما قام أحد، أي: ما قام فرد فرد من الرجال، مثلا، ولا فرد فرد من النساء، لا أنه نفي القيام عن الجميع، فيثبت لبعض، ويحتمل عندي أن يكون مما حذف فيه
المعطوف لدلالة المعنى عليه، والتقدير: لا يفرق بين أحد من رسله وبين أحد، فيكون أحد هنا بمعنى واحد، لا أنه اللفظ الموضوع للعموم في النفي. ومن حذف المعطوف: سرابيل تقيكم الحر أي والبرد وقول الشاعر:
* فما كان بين الخير لو جاء سالما
*
أبو حجر إلا ليال قلائل أي: بين الخير وبيني، فحذف، وبيني، لدلالة المعنى عليه.
*
* (وقالوا سمعنا وأطعنا) * أي: سمعنا قولك وأطعنا أمرك، ولا يراد مجرد السماع، بل القبول والإجابة. وقدم: سمعنا، على: وأطعنا، لأن التكليف طريقه السمع، والطاعة بعده، وينبغي للمؤمن أن يكون قائلا هذا دهره.
* (غفرانك ربنا) * أي: من التقصير في حقك، أو لأن عبادتنا، وإن كانت في نهاية الكمال، فهي بالنسبة إلى جلالك تقصير.
* (وإليك المصير) * إقرار بالمعاد. أي: وإلى جزائك المرجع، وانتصاب: غفرانك، على المصدر، وهو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمرا، التقدير عند سيبويه: اغفر لنا غفرانك، قال السجاوندي: ونسبه ابن عطية للزجاج، وقال الزمخشري: غفرانك منصوب بإضمار فعله، يقال: غفرانك لاكفرانك، أي: نستغفرك ولانكفرك. فعلى التقدير الأول: الجملة طلبية، وعلى الثاني: خبرية.
واضطرب قول ابن عصفور فيه، فمرة قال: هو منصوب بفعل يجوز إظهاره، ومرة قال: هو منصوب يلتزم إضماره. وعده مع: سبحان الله، وأخواتها. وأجاز بعضهم انتصابه على المفعول به، أي: نطلب، أو: نسأل غفرانك. وجوز بعضهم الرفع فيه على أن يكون مبتدأ، أي: غفرانك بغيتنا.
والمصير: اسم مصدر من صار يصير، وهو مبني على: مفعل، بكسر العين، وقد اختلف النحويون في بناء المفعل مما عينه ياء نحو: يبيت، ويعش، ويحيض، ويقيل، ويصير، فذهب بعضهم إلى أنه كالصحيح، نحو: يضرب، يكون للمصدر بالفتح، وللمكان والزمان نحو
380

* (وجعلنا النهار معاشا) * أي: عيشا، فيكون: المحيض بمعنى الحيض، والمصير بمعنى الصيرورة، على هذا شاذا. وذهب بعضهم إلى التخيير في المصدر بين أن تبنيه على مفعل بكسر العين، أو: مفعل بفتحها، وأما الزمان والمكان فبالكسر. ذهب إلى ذلك الزجاج، ورده عليه أبو علي، وذهب بعضهم إلى الاقتصار على السماع، فحيث بنت العرب المصدر على مفعل أو مفعل اتبعناه، وهذا المذهب أحوط.
* (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * ظاهره أنه استئناف، خبر من الله تعالى أخبر به أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب والجوارح إلا ما هو في وسع المكلف، ومقتضى إدراكه وبنيته، وانجلى بهذا أمر الخواطر الذي تأوله المسلمون في قوله: * (إن تبدوا) * الآية، وظهر تأويل من يقول: إنه لا يصح تكليف ما لا يطاق، وهذه الآية نظير. * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * * (وما جعل عليكم فى الدين من حرج) * * (فاتقوا الله ما استطعتم) *.
وقال الزمخشري: أي ما يكلفها إلا ما يتسع فيه طوقها، ويتيسر عليها دون مدى الطاقة والمجهود، وهذا إخبار عن عدله ورحمته، لقوله * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * لأنه كان في إمكان الإنسان وطاقته أن يصلي أكثر من الخمس، ويصوم أكثر من الشهر، ويحج أكثر من حجة. وقيل: هذا من كلام الرسول والمؤمنين، أي: وقالوا * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * والمعنى: أنهم لما قالوا * (سمعنا وأطعنا) * قالوا: كيف لا نسمع ذلك، ولا نطيع؟ وهو تعالى لا يكلفنا إلا ما في وسعنا؟ والوسع دون المجهود في المشقة، وهو ما يتسع له قدرة الإنسان.
وانتصابه على أنه مفعول ثان ليكلف وقال ابن عطية: يكلف، يتعدى إلى مفعولين. أحدهما محذوف تقديره: عبادة أو شيئا. انتهى. فإن عنى أن أصله كذا، فهو صحيح، لأن قوله: إلا وسعها، استثناء مفرغ من المفعول الثاني، وإن عنى أنه محذوف في الصناعة، فليس كذلك. بل الثاني هو وسعها، نحو: ما أعطيت زيدا إلا درهما، ونحو: ما ضربت إلا زيدا. هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما. و: ما ضربت أحدا إلا زيدا.
وقرأ ابن أبي عبلة: * (إلا وسعها) * جعله فعلا ماضيا. وأولوه على إضمار: ما، الموصولة، وعلى هذا يكون الموصول المفعول الثاني ليكلف، كما أن وسعها في قراءة الجمهور هو المفعول الثاني، وفيه ضعف من حيث حذف الموصول دون أن يدل عليه موصول آخر يقابله، كقول حسان:
* فمن يهجو رسول الله منكم
*
ويمدحه وينصره سواء
*
أي: ومن ينصره، فحذف: من، لدلالة: من، المتقدمة. وينبغي أن لا يقاس حذف الموصول، لأنه وصلته كالجزء الواحد، ويجوز أن يكون مفعول: يكلف، الثاني محذوفا، لفهم المعنى، ويكون: وسعها، جملة في موضع الحال، التقدير: لا يكلف الله نفسا شيئا إلا وسعها، أي: وقد وسعها، وهذا التقدير أولى من حذف الموصول.
قال ابن عطية: وهذا يشير إلى قراءة ابن أبي عبلة، فيه تجوز لأنه مقلوب، وكان وجه اللفظ: إلا وسعته. كما قال: * (وسع كرسيه السماوات والارض) * * (
وسع كل شىء علما) * ولكن يجيء هذا من باب: أدخلت القلنسوة في رأسي، وفمي في الحجر. انتهى.
وتكلم ابن عطية هنا في تكليف ما لا يطاق، وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين، والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه غير واقع.
* (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) *. أي: ما كسبت من الحسنات واكتسبت من السيئات، قاله السدي، وجماعة المفسرين، لا خلاف في ذلك. والخواطر ليست من كسب الإنسان، والصحيح عند أهل اللغة أن الكسب والاكتساب واحد، والقرآن ناطق بذلك. قال الله تعالى * (كل نفس بما كسبت رهينة) * وقال: * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * وقال: * (بل * من كسب سيئة وأحاطت به * خطيئة) * وقال: * (بغير ما اكتسبوا) *.
ومنهم من فرق فقال: الاكتساب أخص من الكسب، لأن الكسب ينقسم إلى كسب لنفسه ولغيره، والاكتساب
381

لا يكون إلا لنفسه. يقال: كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله قال الشاعر:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
وقال الزمخشري: ينفعها ما كسبت من خير، ويضرها ما اكتسبت من شر، لا يؤاخذ غيرها بذنبها ولا يثاب غيرها بطاعتها.
فإن قلت لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب.
قلت: في الاكتساب إعتمال، فاما كان الشر مما تشتهيه النفس، وهي منجذبة إليه، وأمارة به، كانت في تحصيله أعمل وأجد، فجعلت لذلك مكتسبة فيه. ولما لم تكن كذلك في باب الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال. انتهى كلامه.
وقال ابن عطية: وكرر فعل الكسب، فخالف بين التصريف حسنا لنمط الكلام، كما قال: * (فمهل الكافرين أمهلهم رويدا) * هذا وجه، والذي يظهر لي في هذا أن الحسنات هي مما تكتسب دون تكلف، إذ كاسبها على جادة أمر الله ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة إذ كاسبها يتكلف في أمرها خرق حجاب نهى الله تعالى، ويتخطاه إليها، فيحسن في الآية مجيء التصريفين احترازا لهذا المعنى. انتهى كلامه.
وحصل من كلام الزمخشري، وابن عطية: أن الشر والسيئات فيها اعتمال، لكن الزمخشري قال: إن سبب الاعتمال هو اشتهاء النفس وانجذابها إلى ما تريده، وابن عطية قال: إن سبب ذلك هو أنه متكلف، خرق حجاب نهي الله تعالى، فهو لا يأتي المعصية إلا بتكلف، ونحا السجاوندي قريبا من منحى ابن عطية، وقال: الافتعال الالتزام، وشره يلزمه، والخير يشرك فيه غيره بالهداية والشفاعة.
والافتعال. الإنكماش، والنفس تنكمش في الشر انتهى. وجاء: في الخير، باللام لأنه مما يفرح به ويسر، فأضيف إلى ملكه. وجاء: في الشر، بعلى من حيث هو أوزار وأثقال، فجعلت قد علته وصار تحتها، يحملها. وهذا كما تقول لي مال وعلى دين.
* (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) * هذا على إضمار القول، أي: قولوا في دعائكم: ربنا لا تؤاخذنا، والدعاء مخ العبادة، إذ الداعي يشاهد نفسه في مقام الحاجة والذلة والافتقار، ويشاهد ربه بعين الاستغناء والإفضال، فلذلك ختمت هذه الصورة بالدعاء والتضرع، وافتتحت كل جملة منها بقولهم: ربنا، إيذانا منهم بأنهم يرغبون من ربهم الذي هو مربيهم، ومصلح أحوالهم، ولأنهم مقرون بأنهم مربوبون داخلون تحت رق العبودية والافتقار، ولم يأت لفظ: ربنا، في الجمل الطلبية أخيرا لأنها نتائج ما تقدم من الجمل التي دعوا فيها: بربنا، وجاءت مقابلة كل جملة من الثلاث السوابق جملة، فقابل * (لا تؤاخذنا) * بقوله * (واعف عنا) * وقابل * (ولا تحمل علينا إصرا) *. بقوله: * (واغفر لنا) * وقابل قوله * (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * بقوله: * (وارحمنا) * لأن من آثار عدم المؤاخذة بالنسيان والخطأ العفو، ومن آثار عدم حمل الإصر عليهم المغفرة، ومن آثار عدم تكليف ما لا يطاق الرحمة.
ومعنى: المؤاخذة، العاقبة. وفاعل هنا بمعنى الفعل المجرد، نحو: أخذ، لقوله: * (فكلا أخذنا بذنبه) * وهو أحد المعاني التي جاءت لها فاعل، وقيل: جاء بلفظ المفاعلة، وهو فعل واحد، لأن المسئ قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله، فصار من يعاقب تذنبه كالمعين لنفسه في إيذائها، وقيل إنه تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة، والمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والتكرم، إذ لا يجد من يخلصه من عذاب الله إلا هو تعالى، فلذلك يتمسك العبد عند الخوف منه به، فعبر عن كل واحد بلفظ المؤاخذة والنسيان الذي هو: عدم الذكر، والخطأ موضوعان عن المكلف لا يؤاخذ بهما، فقال عطاء: نسينا: جهلنا، وأخطأنا:
382

تعمدنا، وقال قطرب، والطبري: نسينا تركنا، وأخطأنا. قال الطبري: قصدنا. وقال قطرب: أخطأنا في التأويل. قال الأصمعي: يقال أخطأ: سها وخطىء تعمد قال الشاعر:
* والناس يلحون الأمير إذا هم
*
خطئوا الصواب ولا يلام المرشد
*
ومن المفسرين من حمل النسيان هنا والأخطاء على ظاهرهما، وهما اللذان لا يؤاخذ المكلف بهما، وتجوز عنهما إن صدرامنه، وإياه أجاز الزمخشري في آخر كلامه في هذه الآية، واختاره ابن عطية قال الزمخشري: ذكر النيسان والخطأ والمراد بهما ما هما منسيان عنه من التفريط والإغفال ألا ترى إلى قوله * (وما أنسانيه إلا الشيطان) *؟ والشيطان لا يقدر على فعل النسيان، وإنما يوسوس، فتكون وسوسته سببا للتفريط الذي منه النسيان، ولأنهم كانوا متقين لله حق تقاته، فما كانت تفرط
منهم فرطة إلا على وجه النسيان والخطأ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان، ويجوز أن يدعو الإنسان بما علم أنه حاصل له قبل الدعاء من فضل الله، لاستدامته والاعتداد بالنعمة فيه. انتهى كلامه.
قال ابن عطية ذهب كثير من العلماء إلى أن الدعاء في هذه الآية إنما هو في النسيان الغالب والخطأ عن المقصود، وهذا هو الصحيح.
قال قتادة في تفسير الآية: بلغني أن النبي عليه السلام قال: (إن الله تجاوز لأمتي عن نسيانها وخطئها) وقال السدي: لما نزلت هذه الآية تغالوا قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم): قد فعل الله ذلك يا محمد.
فظاهر قوليهما، يعني قتادة والسدي ما صححته. وذلك أن المؤمنين لما كشف عنهم ما خافوه في قوله تعالى: * (يحاسبكم به الله) * أمروا بالدعاء في دفع ذلك النوع الذي ليس من طاقة الإنسان دفعه، وذلك في النسيان والخطأ. انتهى كلامه.
وقيل: النسيان فيه ومنه ما لا يعذر فالأول، كنسيان النجاسة في الثوب بعد العلم بها، فمثل هذا هو المطلوب عدم المؤاخذة به، وهو ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب الذكر، وقيل: هذا دعاء على سبيل التقدير، فكأنهم قالوا: إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذ به، وقيل: المؤاخذة به غير ممتنعة عقلا، وذلك أن الإنسان إذا علم أنه مؤاخذ به استدام التذكر، فحينئذ لا يصدر عنه إلا استدامة التذكر، وذلك فعل شاق على النفس، فحسن الدعاء بترك المؤاخذة به.
وقد استدل بهذه الآية على جواز تكليف ما لا يطاق، وقيل: في الآية دليل على حصول العفو لأصحاب الكبائر، لأن حمل النسيان والخطأ على ما لا يؤاخذ به قبيح طلبه والدعاء به، فتعين أن يحمل على ما كان فيه العمد إلى المعصية، فيكون النسيان ترك الفعل، والخطأ الفعل. وقد أمر تعالى المؤمنين بطلب عدم المؤاخذة بهما، فهو أمر منه لهم أن يطلبوا منه أن لا يعذبهم على المعاصي، وهذا دليل على إعطائه إياهم هذا المطلوب.
* (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن جريج، والربيع، وابن زيد: الإصر: العهد والميثاق الغليظ وقال ابن زيد أيضا: الإصر: الذنب الذي لا كفارة فيه ولا توبة
383

منه وقال مالك: الإصر: الأمر الغليظ الصعب وقال عطاء: الإصر: المسخ قردة وخنازير، وقيل: الإثم. حكاه ثعلب. وقيل: فرض يصعب أداؤه، وقيل: تعجيل العقوبة. روي ذلك عن قتادة. وقال الزجاج: محنة تفتننا كالقتل والجرح في بني إسرائيل، والجعل لمن يكفر سقفا من فضة. وقال الزمخشري: العبء الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه مكانه لا يستقل به، استعير للتكليف الشاق من نحو: قتل النفس، وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب، وغير ذلك. انتهى.
قال القفال: من نظر في السفر الخامس منالتوراة التي يدعيها هؤلاء اليهود، وقف على ما أخذ عليهم من غليظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة.
وقرأ أبي: ولا تحمل، بالتشديد، و: آصارا، بالجمع. وروي عن عاصم أنه قرأ: أصرا، بضم الهمزة. و: الذين من قبلنا، المراد به اليهود. وقال الضحاك: والنصارى.
* (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) * قال قتادة: لا تشدد علينا كما شددت على من كان قبلنا وقال الضحاك: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق. وقال نحوه ابن زيد. وقال ابن جريج: لا تمسخنا قردة وخنازير، وقال مكحول، وسلام بن سابور: الذي لا طاقة لنا به الغلمة، وحكاه النقاش عن مجاهد، وعطاء، ومكحول. وروي أن أبا الدرداء كان يقول في دعائه. وأعوذ بك من غلمة ليس لها عدة. وقال النخعي: الحب. وقال محمد بن عبد الوهاب: العشق، وقيل: القطيعة. وقيل: شماتة الأعداء. روى وهب أن أيوب، على نبينا وعليه السلام، قيل له: ما كان أشق عليك في بلائك: قال شماتة الأعداء قال الشاعر:
* أشمت بي الأعداء حين هجرتني
*
والموت دون شماتة الأعداء
*
وقال السدي: التغليظ والأغلال التي كانت على بني إسرائيل من التحريم. وقيل: عذاب النار. وقيل: وساوس النفس.
وينبغي أن تحمل هذه التفاسير على أنها على سبيل التمثيل، لا على سبيل تخصيص العموم.
و: ما، في، قوله * (ما لا طاقة لنا به) * عام، وهذا أعم من الذي قبله في الآية، لأنه قال في تلك: * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * فشبه الإصر بالإصر الذي حمله على من قبلهم، وهنا سألوا أن لا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وهو أعم من الإصر السابق لتخصيصه بالتشبيه. وعموم هذا، والتشديد في: ولا تحملنا، للتعدية. وفي قراءة أبي في قوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) * للتكثير في حمل: كجرحت زيدا وجرحته، وقيل: ما لا طاقة لنا به من العقوبات النازلة بمن قبلنا، طلبوا أولا أن يعفيهم من التكاليف الشاقة بقوله: * (ولا تحمل علينا إصرا) * ثم ثانيا طلبوا أن يعفيهم عما نزل على أولئك من العقوبات على تفريطهم في المحافظة عليها. انتهى.
والطاقة القدرة على الشيء، وهي مصدر جاء على غير قياس المصادر، والقياس طاقة، فهو نحو: جابة، من أجاب، و: غارة، من أغار. في ألفاظ سمعت لا يقاس عليها. فلا يقال: أطال طالة، وهذا يحتمل وجهين.
أحدهما: أن يعني بما لا طاقة، ما لا قدرة لهم عليه البتة، وليس في وسعهم، وهو المعنى الذي وقع فيه الخلاف.
والثاني: أن يعني بالطاقة ما فيه المشقة الفادحة، وإن كان مستطاعا حملها.
فبالمعنى الأول يرجع إلى
384

العقوبات. وما أشبهها. وبالمعنى الثاني يرجع إلى التكاليف قال ابن الأنباري: المعنى لا تحملنا حملا يثقل علينا أداؤه، وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه. خاطب العرب على حسب ما يعقل فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليه، وهو مطيق للنظر إليه لكنه يثقل عليه، ومثله * (ما كانوا يستطيعون السمع) *.
* (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا) * تقدم تفسير العفو والغفران والرحمة، طلبوا العفو وهو الصفح عن الذنب: وإسقاط العقاب، ثم ستره عليهم صونا لهم من عذاب التخجيل، لأن العفو عن الشيء لا يقتضي ستره فيقال: عفا عنه إذا وقفه على الذنب ثم أسقط عنه عقوبة ذلك الذنب، فسألوا الإسقاط للعقوبة أولا لأنه الأهم، إذ فيه التعذيب الجسماني والنعيم الروحاني بتجلى البارىء تعالى لهم وقال الراغب: العفو إزالة الذنب بترك عقوبته، والغفران ستر الذنب وإظهار الإحسان بدله، فكأنه جمع بين تغطية ذنبه، وكشف الإحسان الذي غطى به. والرحمة إفاضة الإحسان إليه، فالثاني أبلغ من الأول، والثالث أبلغ من الثاني. انتهى. وقيل: واعف عنا من المسخ، واغفر لنا عن الخسف من القذف، وقيل: اعف عنا من الأفعال، واغفر لنا من الأقوال، وارحمنا بثقل الميزان. وقيل: واعف عنا في سكرات الموت، واغفر لنا في ظلمة القبر، وارحمنا في أهوال يوم القيامة. وكل هذه الأقوال تخصيصات لا دليل عليها.
* (أنت مولانا) * المولى مفعل من ولي يلي، يكون للمصدر والزمان والمكان. أما إذا أريد به مالك التدبير والتصريف في وجوه الضر والنفع، أو السيد، أو الناصر، أو ابن العم أو غير ذلك من محامله، فأصله المصدر، سمي به وغلبت عليه الإسمية، ووليته العوامل.
* (فانصرنا على القوم الكافرين) * أدخل الفاء إيذانا بالسببية. لأن كونه تعالى مولاهم، ومالك تدبيرهم، وأمرهم، ينشأ عن ذلك النصرة لهم على أعدائهم، كما تقول: أنت الشجاع فقاتل، وأنت الكريم فجد علي. أي: أظهرنا عليهم بما تحدث في قلوبنا من الجرأة والقوة، وفي قلوبهم من الخور والجبن.
وتضمنت هذه الآية من أنواع الفصاحة وضروب البلاغة أشياء، منها: الطباق في * (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) * والطباق المعنوي في: * (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) * لأن: لها، إشارة إلى ما يحصل به نفع، و: عليها، إشارة إلى ما يحصل به ضرر. والتكرار في قوله: * (وما فى الارض) * كرر: ما، تنبيها وتوكيدا. وفي قوله: * (بين أحد من رسله) * وفي قوله: ما كسبت وما اكتسبت. إذا قلنا إنهما بمعنى واحد، إذ كان يعني: لها ما كسبت. والتجنيس المغاير في: * (من * والمؤمنون) *. والحذف في عدة مواضع. والله أعلم.
385

1 (* (سورة * ءال * عمران) *) 1
* (بسم الله الرحمان الرحيم) *
2 (* (ألم * الله لاإلاه إلا هو الحى القيوم * نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بأيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام * إن الله لا يخفى عليه شىء في الا رض ولا فى السمآء * هو الذي يصوركم في الا رحام كيف يشآء لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم * هو الذىأنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغآء الفتنة وابتغآء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب * ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنآ إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد * إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولائك هم وقود النار * كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم كذبوا بأياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب) *)) 2
التوراة: اسم عبراني، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق، وأنها لا توزن، يعنون اشتقاقا عربيا. فأما اشتقاق: التوراة، ففيه قولان: أحدهما: إنها من: ورى الزند يري، إذا قدح وظهر منه النار، فكأن التوراة ضياء من الظلال، وهذا الاشتقاق قول الجمهور. وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من: ورى، كما روي أنه صلى الله عليه وسلم) كان إذا أراد سفرا ورى بغيره، لأن أكثر التوراة تلويح
386

وأما وزنها فذهب الخليل، وسيبويه، وسائر البصريين إلى أن وزنها: فوعلة، والتاء بدل من الواو، كما أبدلت في: تولج، فالأصل فيها ووزنه: وولج، لأنهما من ورى، ومن ولج. فهي: كحوقلة، وذهب الفراء إلى أن وزنها: تفعلة، كتوصية. ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا. كما قالوا في: ناصية، وجارية: ناصاه وجاراه.
وقال الزجاج: كأنه يجيز في توصية توصاه، وهذا غير مسموع وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها: تفعلة، بفتح العين من: وريت بك زنادي، وتجوز إمالة التوراة.
وقد قرىء بذلك على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
الإنجيل: اسم عبراني أيضا، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق، وأنه لا يوزن، وقد قالوا: وزنه فعيل. كإجفيل، وهو مشتق من النجل، وهو الماء الذي ينز من الأرض. قال الخليل: استنجلت الأرض نجالا، وبها نجال، إذا خرج منها الماء. والنجل أيضا: الولد والنسل، قاله الخليل، وغيره. ونجله أبوه أي: ولده. وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره: أن الولد يقال له: نجل، وأن اللفظة من الأضداد، والنجل أيضا: الرمي بالشيء.
وقال الزجاج: الإنجيل مأخوذ من النجل، وهو الأصل، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي.
قال أبو الفتح: فهو من نجل إذا ظهر والده، أو من ظهور الماء من الأرض، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ، وإما من التوراة. وقيل: هو مشتق من التناجل، وهو التنازع، سمي بذلك لتنازع الناس فيه.
وقال الزمخشري: التوراة والإنجيل اسمان أعجميان، وتكلف أشتقاقهما من الوري والنجل، ووزنهما متفعلة وإفعيل: إنما يصحح بعد كونهما عربيين. إنتهى. وكلامه صحيح، إلا أن في كلامه إستدراكا في قوله: متفعلة، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها: فوعلة، ولم ينبه في: تفعلة، على أنها مكسورة العين، أو مفتوحتها.
وقيل: هو مشتق من نجل العين، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة.
الانتقام: افتعال من النقمة، وهو السطوة والأنتصار. وقيل: هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك، ويقال: نقم ونقم إذا أنكر، وانتقم عاقب.
صور: جعل له صورة. قيل: وهو بناء للمبالغة من صار يصور، إذا أمال، وثنى إلى حال، ولما كان التصوير إمالة إبلي حال وإثباتا فيها، جاء بناؤه على المبالغة. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف. وقال المروزي: التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله.
الزيغ: الميل، ومنه: زاغت الشمس * (لاولى الابصار) *. وقال الراغب: الزيغ: الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغ وزال وما يتقارب، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل.
التأويل: مصدر أول، ومعناه: آخر الشيء ومآله، قاله الراغب. وقال غيره: التأويل المرد والمرجع. قال:
* أؤول الحكم على وجهه
*
ليس قضاى بالهوى الجائر
*
الرسوخ: الثبوت. قال:
* لقد رسخت في القلب مني مودة
*
لليلى أبت أيامها أن تغيرا
*
الهبة: العطية المتبرع بها، يقال: وهب يهب هبة، وأصله: أن يأتي المضارع على يفعل، بكسر يا لعين. ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة، وهو نحو: وضع يضع، إلا أن
387

هذا فتح لكون لامه حرف حلق، والأصل فيهما: يوهب ويوضع. ويكون: وهب، بمعنى جعل، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، تقول العرب: وهبني الله فداك، أي: جعلني الله فداك. وهي في هذا الوجه لا تتصرف، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلا الفعل الماضي خاصة.
لدن: ظرف، وقل أن تفارقها: من، قاله ابن جني، ومعناها: ابتداء الغاية في زمان أو مكان، أو غيره من الذوات غير المكانية، وهي مبنية عند أكثر العرب، وإعرابها لغة قيسية، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون، فمن بناها قيل: فلشبها بالحروف في لزوم استعمال واحد، وامتناع الإخبار بها، بخلاف: عند، ولدي. فإنهما يكونان لابتداء الغاية، وغير ذلك، ويستعملان فضلة وعمدة، فالفضلة كثير، ومن العمدة * (وعنده مفاتح الغيب) * * (ولدينا كتاب ينطق بالحق) * وأوضح بعضهم علة البناء فقال: علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها. بخلاف: عند، فإنها لا تختص بالملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلا على القرب. ومثله: ثم، و: هنا. لأنهما بنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة.
من أعربها، وهم قيس، فتشبيها: بعند، لكون موضعها صالحا لعند، وفيها تسع لغات غير الأولى: لدن، ولدن، ولدن، ولدن، ولدن، ولد ولد، ولد ولت. بإبدال الدال تاء، وتضاف إلى المفرد لفظا كثيرا، وإلى الجملة قليلا. فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر:
* صريع غوان راقهن ورقنه
*
لدن شب حتى شاب سود الذوائب
*
قوال الآخر:
* لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم
*
فلا يك منكم للخلاف جنوح
*
ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر:
* تذكر نعماه لدن أنت يافع
*
إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى: أن والفعل، قال:
وليت فلم يقطع لدن أن وليتناقرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو.
*
الإغناء: الدفع والنفع، وفلان عظيم الغنى، أي: الدفع والنفع.
الدأب: العادة. دأب على كذا: واظب عليه وأدمن. قال زهير:
* لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن
*
إلى الليل إلا أن يعرجني طفل
*
388

الذنب: التلو، لأن العقاب يتلوه، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب.
* (بسم الله الرحمان الرحيم ألم * الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * هذه السورة، سورة آل عمران، وتسمى: الزهراء، والأمان، والكنز، والمعينة، والمجادلة، وسورة الاستغفارد وطيبة. وهي: مدنية الآيات، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور: أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفد نصاري نجران، وكانوا ستين راكبا، فيهم أربعة عشر من أشرافهم، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم، أميرهم: العاقب عبد المسيح، وصاحب رحلهم: السيد الأيهم، وعالمهم: أبو حارثة بن علقمة، أحد بني بكر بن وائد. وذكر من جلالتهم، وحسن شارتهم وهيئتهم. وأقاموا بالمدينة أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم) في عيسى، ويزعمون تارة أنه الله، وتارة ولد الإله، وتارة: ثالث ثلاثة. ورسول الله صلى الله عليه وسلم) يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى، وانتفاءها عن عيسى، وهم يوافقونه على ذلك، ثم أبوا إلا جحودا، ثم قالوا: يا محمد ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ قال: (بلى). قالوا: فحسبنا. فأنزل الله فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها، إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم) إبلي الابتهال.
وقال مقاتل: نزلت في اليهود المبغضين لعيسى، القاذفين لأمه، المنكرين لما أنزل الله عليه من الإنجيل.
ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه، لما ذكر آخر البقرة * (أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) * ناسب أن يذكر نصرة الله تعالى على الكافرين، حيث ناظرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ورد عليهم بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، فقص تعالى أحوالهم، ورد عليهم في اعتقادهم، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما رد عليهم، ولما كان متفتح آية آخر البقرة * (الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) * فكأن في ذلك الإيمان بالله وبالكتب، ناسب ذكر أوصاف الله تعالى، وذكر ما أنزل على رسوله، وذكر المنزل على غيره صلى الله عليهم.
قرأ السبعة: ألم الله، بفتح الميم، وألف الوصل ساقطة. وروى أبو بكر في بعض طرقه، عن عاصم: سكون الميم، وقطع الألف. وذكرها الفراء عن عاصم، ورويت هذه القراءة عن الحسن، وعمرو بن عبيد، والرؤاسي، والأعمش، والبرجمي، وابن القعقاع: وقفوا على الميم، كما وقفوا على الألف واللام، وحقها ذلك، وأن يبدأ بعدها كما تقول: واحد اثنان.
وقرأ أبو حيوة بكسر الميم، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد، وقال: توهم التحريك لالتقاء الساكنين، وما هي بمقبولة، يعني: هذه القراءة. إنتهى.
وقال غيره: ذلك رديء، لأن الياء تمنع من ذلك، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس. إنتهى.
وقال الأخفش: يجوز: ألم الله، بكسر الميم لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله.
واختلفوا في فتحة الميم: فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين، كما حركوا: من الله، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو: من الرجل، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء، كما قالوا: أين؟ كيف؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء، فزال الثقل. وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل، لأن حروف الهجاء ينوي بها الوقف، فينوي بما بعدها الاستئناف. فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو:
* لتسمعن وشيا في دياركم
*
الله أكبر: يا ثارات عثمانا
*
389

وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل. وما يسقط لا تلقى حركته، قاله أبو علي. وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري، وأورد أسئلة وأجاب عنها.
فقال: فإن قلت: كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟
قلت: ليس هذا بدرج، لأن ميم في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت. وإنما حذفت تخفيفا، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها، ونظيره قولهم: واحد اثنان، بالقاء حركة الهمزة على الدال. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وليس جوابه بشيء، لأنه ادعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها. وأن ذلك ليس بدرج، بل هو وقف، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك البتة، سواء كانت حركته إعرابية، أو بنائية، أو نقلية، أو لإلتقاء الساكنين، أو للحكاية، أو للاتباع. فلا يجوز في: قد أفلح، إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال: قد، أن تقف على دال: قد، بالفتحة، بل تسكنها قولا واحدا.
وأما قوله: ونظير ذلك قولهم: واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه، ولم يحك الكسر لغة. فإن صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه، كما زعم الزمخشري، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل، ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان، دال، واحد، و: ثاء، اثنين، فكسرت الدال لإلتقائهما، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل. وأما ما استدل به الفراء من قولهم: ثلاثة أربعة، بإلقائهم الهمزة على بالهاء، فلا دلالة فيه، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها، وليس كذلك همزة الوصل نحو: من الله، وأيضا، فقولهم: ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتبارا بما آلت إليه في حال ما، لا أنها موقوف عليها.
ثم أورد الزمخشري سؤالا ثانيا. فقال:
فإن قلت: هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين؟.
قلت: لأن التقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف، وذلك كقولك: هذا إبراهيم، وداود، وإسحاق. ولو كان لإلتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لإلتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن آخر. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وهو سؤال صحيح، وجواب صحيح، لكن الذي قال: إن الحركة هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف، وإنما عنى التقاء الساكنين اللذين هما: ميم ميم الأخيرة. و: لام التعريف، كالتقاء نون: من، ولام: الرجل، إذا قلت: من الرجل.
ثم أورد الزمشخري سؤالا ثالثا، فقال:
فإن قلت: إنما لم يحركوا لإلتقاء الساكنين في ميم، لأنهم أرادوا الوقف، وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا؟
قلت: الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا: واحد اثنان، بسكون الدال مع طرح الهمزة، فجمعوا بين ساكنين، كما قالوا: أصيم ومديق، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير،
390

وليست لالتقائ الساكنين. إنتهى هذا السؤال وجوابه. وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين؟ ويعني بالساكنين: الياء والميم في ميم، وحيئذ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، يعني الياء والميم، ثم قال: فإن جاء بساكن ثالث، يعني لام التعريف، لم يمكن إلا التحريك، يعني في الميم، فحركوا يعني: الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن. هذا شرح السؤال.
وأما جواب الزمخشري عن سؤاله، فلا يطابق، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: واحد اثنان، بأن يسكنوا الدال، والثاء ساكنة، وتسقط الهمزة. فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال، وهذه مكابرة في المحسوس، لا يمكن ذلك أصلا، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء، وطرح الهمزة.
وأما قوله: فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع كما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أصيم ومديق، فهذا ممكن كما هو في: راد وضال، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو، فأمكن النطق به، وليس مثل: واحد اثنان. لأن الساكن الأول ليس حرف علة، ولا الثاء في مدغم، فلا يمكن الجمع بينهما.
وأما قوله: فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وليست لالتقاء الساكنين، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن، وحركة ا التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ، ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك، فإن صح كسر الدال، كما نقل هذا الرجل، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل، وقد رد قول الفراء، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل: لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها، لما في ذلك من الفساد والتدافع، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل، ونية الوصل توجب حذف الهمزة، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها، وهذا متناقض. إنتهى. وهو رد صحيح.
والذي تحرر في هذه الكلمات: أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلا ووقفا، فلوا التقى آخر مسكن منها، بساكن آخر، حرك لالتقاء الساكنين. فهذه الحركة التي في ميم: ألم الله، هي حركة التقاء الساكنين.
والكلام على تفسير: * (ألم) *، تقدم في أول البقرة، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة.
والكلام على: * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * تقدم في آية * (وإلاهكم إلاه واحد لا إلاه إلا * الله) * وفي أول آية الكرسي، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون * (ألم) * إشارة إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروف كتابك، أو نحو هذا.
* (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم * نزل عليك الكتاب) * على ما ترك ذكره، مما هو خبر عن الحروف، قال: وذلك في نظمه مثل قوله: * (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه) * ترك الجواب لدلالة قوله * (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) * عليه، تقديره: كمن قسا قبله ومنه قول الشاعر:
* فلا تدفنوني، إن دفني محرم
*
عليكم، ولكن خامري أم عامر
*
أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها: خامري أم عامر.
قال ابن عطية: يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله: الله، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني،
391

وفيه نظر، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الآبرع في نظم الآية أن يكون * (ألم) * لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * كلاما مبتدأ جزما، جملة رادة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فحاجوه في عيسى بن مريم، وقالوا: إنه الله. إنتهى كلامه.
قال ابن كيسان: موضع: ألم، نصب، والتقدير: قرؤوا ألم، و: عليكم ألم. ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى: هذا ألم، و: ذلك ألم.
وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ، والخبر محذوف، أي: هذه الحروف كتابك.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود، وعلقمة بن قيس: القيام. وقال خارجه في مصحف عبد الله: القيم، وروي هذا أيضا عن علقمة.
* (الله) * رفع على الابتداء، وخبره: * (لا إلاه إلا هو) * و * (نزل عليك الكتاب) * خبر بعد خبر، ويحتمل أن يكون: نزل، هو الخبر، و: لا إله إلا هو، جملة اعترض.
وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب: * (لا إلاه إلا هو الحى القيوم) * فأغنى عن إعادته هنا.
وقال الرازي: مطلع هذه السورة عجيب، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل: إما أن تنازعوا في معرفة الله، أو في النبوة، فإن كان الأول فهو باطل، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه: حي قيوم، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد، وإن كان في الثاني فهو باطل، لأن الطريق الذي عرفتم أن الله تعالى أنزل التوراة والإنجيل، هو يعينه قائم هنا، وذلك هو المعجزة.
* (نزل عليك الكتاب بالحق) * الكتاب هنا: القرآن، باتفاق المفسرين، وتكرر كثيرا، والمراد القرآن، فصار علما. بالغلبة. وقرأ الجمهور: نزل، مشددا و: الكتاب، بالنصب، وقرأ النخعي، والأعمش، وابن أبي عبلة: نزل، مخففا، و: الكتاب، بالرفع، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين: أحدهما: أن تكون منقطعة. والثاني: أن تكون متصلة بما قبلها، أي: نزل الكتاب عليك من عنده، وأتى هنا بذكر المنزل عليه، وهو قوله: عليك، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة، ولا المنزل عليه الإنجيل، تخصيصا له وتشريفا بالذكر، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة، وأتى بلفظة: على، لما فيها من الاستعلاء. كأن الكتاب تجلله وتغشاه / صلى الله عليه وسلم).
ومعنى: بالحق: بالعدل، قاله ابن عباس، وفيه وجهان: أحدهما: العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة. الثاني: بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة.
وقيل: بالصدق فيما اختلف فيه، قاله محمد بن جرير وقيل: بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية وقيل: بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية.
وقيل: معنى بالحق: بالحجج والبراهين القاطعة.
والباء: تحتمل السببية أي: بسبب إثبات الحق، وتحتمل الحال، أي: محقا نحو: خرج زيد بسلاحه، أي متسلحا.
* (مصدقا لما بين يديه) * أي: من كتب الأنبياء، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقا، وهو يدل على صحة القرآن، لأنه لو كان من عند غير الله لم يوافقها، قاله أبو مسلم وقيل: المراد منه أنه لم يبعث نبيا قط، إلا بالدعاء إلى توحيده، والإيمان، وتنزيهه عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك، والقرآن، وإن كان ناسخا لشرائع أكثر الكتب، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم)، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن. فقد وافقت القرآن، وكان
مصدقا لها، ن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف.
وانتصاب: مصدقا، على الحال من الكتاب، وهي حال مؤكدة، وهي لازمة، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه، فهو كما قال
392

* أنا ابن دارة معروفا به نسبي
*
وهل بدارة يا للناس من عار؟ وقيل: انتصاب: مصدقا، على أنه بدل من موضع: بالحق، وقيل: حال من الضمير المجرور. و: لما، متعلق بمصدقا، واللام لتقوية التعدية، إذ: مصدقا، يتعدى بنفسه، لأن فعله يتعدى بنفسه. والمعنى هنا بقوله * (لما بين يديه) * المتقدم في الزمان. وأصل هذا أن يقال لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه. كالشئ الذي يحتوي عليه، ويقال: هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.
*
* (وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل) * فخم راء التوراة: ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وأضجعها: أبو عمرو، والكسائي. وقرأها بين اللفظين: حمزة، ونافع وروي المسيبي عن نافع فتحها.
وقرأ الحسن: والأنجيل، بفتح الهمزة، وهذا يدل على أنه أعجمي، لأن أفعيلا ليس من أبنية كلام العرب، بخلاف إفعيل، فإنه موجود في أبنيتهم: كإخريط، وإصليت.
وتعلق: من قبل، بقوله: وأنزل، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور، أي: من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل: التقدير من قبلك، فيكون المحذوف ضمير الرسول. وغاير بين نزل وأنزل، وإن كانا بمعنى واحد، إذ التضعيف للتعدية، كما أن الهمزة للتعدية.
وقال الزمخشري فإن قلت لم قيل: نزل الكتاب، وأنزل التوراة والإنجيل؟.
قلت لأن القرآن نزل منجما، ونزل الكتابان جملة. انتهى. وقد تقدم الرد على هذا القول. وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا التنجيم، وقد جاء في القرآن: نزل وأنزل، قال تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر) * و * (وأنزل * عليك الكتاب) * ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان: ممن ينزل، مشددا بالتخفيف، إلا ما استثني، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة، لتناقض الإخبار. وهو محال.
* (هدى للناس) * قيل: هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل. والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل، ولم يثن لأنه مصدر. وقيل: هو قيد في الإنجيل وحده، وحذف من التوراة، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل: تم الكلام عند قوله * (من قبل) * ثم استأنف فقال * (هدى للناس وأنزل الفرقان) * فيكون الهدى للفرقان فحسب، ويكون على هذا الفرقان القرآن، وهذا لا يجوز، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولا لقوله: وأنزل الفرقان هدى، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه، لو قلت: ضربت زيدا، مجردة و: ضربت هندا، تريد، وضربت هندا مجردة لم يجز، وانتصابه على الحال. وقيل: هو مفعول من أجله، والهدى: هو البيان، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل، فيكون الناس هنا مخصوصا، إذا لم تقع الهداية لكل الناس، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدى في ذاتهما، وأنهما داعيان للهدى، فيكون الناس عاما، أي: هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل: الناس قوم موسى وعيسى وقيل: نحن متعبدون بشرائع من قبلنا، فالناس عام. قال الكعبي: هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر، وليس هدى له، ويدل على أن معنى * (وهو عليهم عمى) * أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز، لقوله نوح، * (فلم يزدهم دعائى إلا فرارا) * انتهى.
قيل: وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا، وإن كان القرآن هدى، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن، بل
393

وصف بأنه حق في نفسه، قبلوه أو لم يقبلوه، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى.
قال ابن عطية: قال هنا للناس، وقال في القرآن هدى للمتقين، لأن هذا خبر مجرد، و: هدى للمتقين، خبر مقترن به الاستدعاء، والصرف إلى الإيمان، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء، أو الهدى الذي هو في نفسه معد أن يهتدي به الناس، فسمي هدى بذلك.
قال ابن فورك: التقدير هنا: هدى للناس المتقين، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص، وفي هذا نظر. انتهى كلام ابن عطية. وملخصه: أنه غاير بين مدلولي الهدى، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون، وحيث كان بمعنى الدعاء، أو بمعنى أنه هدى في ذاته، ذكر العام.
وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله * (ذالك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) * وبين قوله: * (وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدى للناس) *.
* (وأنزل الفرقان) * الفرقان: جنس الكتب السماوية، لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل، من كتبه أو من هذه الكتب، أو أراد الكتاب الرابع، وهو الزبور. كما قال تعالى: * (وءاتينا * داوود * زبورا) * أو الفرقان: القرآن، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقا بين الحق والباطل، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه، واظهارا لفضله. واختار هذا القول الأخير ابن عطية. قال محمد بن جعفر: فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد. وقال قتادة، والربيع، وغيرهما: فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع، وفي الحلال والحرام، ونحوه وقيل: الفرقان: كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم
وحدث، فدخل في هذا التأويل: طوفان نوح، وفرق البحر لغرق فرعون، ويوم بدر، وسائر أفعال الله المفرقة بين الحق والباطل وقيل: الفرقان: النصر. وقال الرازي: المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها الله بالإنزال هذه الكتب، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند الله افتقروا إلى، تصحيح دعواهم بالمعجزات، وكانت هي الفرقان، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب، فلما ذكر أنه أنزلها، أنزل معها ما هو الفرقان. وقال ابن جرير: أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل. وقيل: الفرقان: هنا الأحكام التي بينها الله ليفرق بها بين الحق والباطل.
فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان. والفرقان مصدر في الأصل، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل، أي: الفارق، ويجوز أن يراد به المفعول أي: المفروق. قال تعالى: * (وقرءانا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) *.
* (إن الذين كفروا بأيات الله لهم عذاب شديد) * لما قرر تعالى أمر الإلهية، وأمر النبوة بذكر الكتب المنزلة، توعد من كفر بآيات الله من كتبه المنزلة، وغيرها، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا، كالقتل، والأسر. والغلبة، وعذاب الآخرة: كالنار.
و * (الذين كفروا) * عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم، وهم نصارى وفد نجران. وقال النقاش: إشارة إلى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، وبني أخطب وغيرهم.
* (والله عزيز ذو انتقام) * أي: ممتنع أو غالب لم لا يغلب، أو منتصر ذو عقوبة، وقد تقدم أن الوصف: بذو، أبلغ من الوصف بصاحب، ولذلك لم يجيء في صفات الله صاحب، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات، وأشار بذي انتقام، إلى كونه فاعلا للعقاب، وهي من صفات الفعل.
قال الزمخشري: * (ذو انتقام) * له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم. انتهى.
394

ولا يدل على هذا الوصف لفظ: ذو انتقام، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ.
* (إن الله لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء * هو الذي يصوركم في الارحام كيف يشاء) * شيء نكرة في سياق النفي، فتعم، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء، إذ هما أعظم ما نشاهده، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم، وفي ذلك رد على النصارى، إذ شبهتهم في ادعاء إلهية عيسى كونه: يخبر بالغيوب، وهذا راجع إلى العلم، وكونه: يحيي الموتى، وهو راجع إلى القدرة. فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء، فلا يخفي عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى عالما ببعض المغيبات أن يكون إلها، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالما بجميع المعلومات، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة، فلا يمتنع عليه شيء، ولا يلزم من كون عيسى قادرا على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلها، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادرا على تركيب الصور وإحيائها، بل إنباؤه ببعض المغيبات، وخلقه وأحياؤه بعض الصور، إنما كان ذلك بإنباء الله له على سبيل الوحي، وإقداره تعالى له على ذلك، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها، وأمثالها، على أيدي رسله.
وفي الذكر التصوير في الرحم رد على من زعم أن عيسى إله، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم.
وقيل: في قوله * (لا يخفى عليه شىء) * تحذير من مخالفته سرا وجهرا، ووعيد بالمجازاة وقيل: المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام. وقال الزمخشري: مطلع على كفر من كفر، وإيمان من آمن، وهو مجازيهم عليه. وقال الماتريدي: لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق، فكيف تخفي عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم؟ وكل هذه تخصيصات. واللفظ عام، فيندرج فيه هذا كله. وقال الراغب: لا يخفى عليه شيء، أبلغ من: يعلم في الأصل، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحدا.
وقال محمد بن جعفر بن الزبير، والربيع، في قوله: * (هو الذي يصوركم) * رد على أهل الطبيعة، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف يشاء. قال الماتريدي: فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور؟ انتهى.
والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة، فتكون الأولى: إخبارا عنه تعالى بالعلم التام، والثانية: إخبارا بالقدرة التامة وبالإرادة. والثالثة: بالانفراد بالإلهية، ويحتمل أن يكون خبرا عن: أن.
وقال الراغب، هنا: يصوركم، بلفظ الحال، وفي موضع آخر: فصوركم، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات، وأيضا: فصوركم، إنما هو على نسبة التقدير، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه. ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالا فحالا. انتهى.
وقرأ طاووس: تصوركم، أي صوركم لنفسه ولتعبده. كقولك: أثلت مالا، أي: جعلته أثلة. أي: أصلا. وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي: تفعل، بمعنى: فعل، نحو: تولى، بمعنى: ولي.
ومعنى * (كيف يشاء) * أي: من الطول والقصر، واللون، والذكورة والأنوثة، وغير ذلك من الاختلافات. وفي قوله: * (كيف يشاء) * إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط.
و: كيف، هنا للجزاء، لكنها لا تجزم. ومفعول: يشاء، محذوف لفهم المعنى، التقدير: كيف يشاء أن يصوركم. كقوله * (ينفق كيف يشاء) * أي: كيف يشاء أن
ينفق، و: كيف، منصوب: بيشاء، والمعنى: على أي حال شاء أن يصوركم صوركم، ونصبه على الحال، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه، نحو قولهم: أنت ظالم إن فعلت، التقدير: أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى، فتعلقها كتعلق إن فعلت، كقوله: أنت ظالم.
وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه، لا يهتدى له إلا بعد تمرن في الإعراب، واستحضار للطائف النحو.
وقال بعضهم * (كيف يشاء) * في موضع الحال، معمول: يصوركم؛ ومعنى الحال
395

أي: يصوركم في الأرحام قادرا على تصوريكم مالكا ذلك وقيل: التقدير في هذه الحال: يصوركم على مشيئته، أي مريدا، فيكون حالا من ضمير اسم الله، ذكره أبو البقاء، وجوز أن يكون حالا من المفعول، أي: يصوركم منقلبين على مشيئته.
وقال الحوفي: يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة، وكما يشاء.
* (لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم) * كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى، وانحصارها فيه، توكيدا لما قبلها من قوله * (لا إلاه إلا هو) * وردا على من ادعى إلهية عيسى، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة، إذ من هذان الوصفان له، هو المتصف بالإلهية لا غيره، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير، والحكمة الموجبة لتصوير الإشياء على الإتقان التام.
* (هو الذى أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) * مناسبة هذا لما قبله أنه: لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة، وهذا أمر جسماني، استطرد إلى العلم، وهو أمر روحاني. وكان قد جرى لوفد نجران أن من شبههم قوله * (وروح منه) * فبين أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال، ومنه متشابه، وهو ما احتمل وجوها.
ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابه.
وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة، بمعنى كونه كاملا، ولفظه أفصح، ومعناه أصح، لا يساويه في هذين الوصفين كلام، وجاء وصفه بالتشابه بقوله: * (كتابا متشابها) * معناه يشبه بعضه بعضا في الجنس والتصديق. وأما هنا فالتشابه ما احتمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما، نحو: * (إن البقر تشابه علينا) * * (وأتوا به متشابها) * أي: مختلف الطعوم متفق المنظر، ومنه: اشتبه الأمران، إذا لم يفرق بينهما. ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وتقول: الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص، أو يحتمل راجحا أحد الاحتمالين على الآخر، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر، وإلى المرجوح مؤول، أو يحتمل من غير رجحان، فمشترك بالنسبة إليهما، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما. والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم، والمشترك بين المجمل والمؤول هو المتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين.
قال ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. وقال مجاهد، وعكرمة: المحكم: ما بين تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه، والمتشابه: ما اشتبهت معانيه. وقال جعفر بن محمد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والشافعي: المحكم ما لا يتحمل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها. وقال ابن زيد: المحكم: ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه: ما تكررت. وقال جابر بن عبد الله، وابن دئاب، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما: المحكم ما فهم العلماء تفسيره، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه: كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغر بها، وخروج عيسى.
وقال أبو عثمان: المحكم، الفاتحة. وقال
396

محمد بن الفضل: سورة الإخلاص، لأن ليس فيها إلا التوحيد فقط. وقال محمد بن إسحاق: المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف. وقال مقاتل: المحكمات خمسمائة آية، لأنها تبسط معانيها، فكانت أم فروع قيست عليها وتولدت منها، كالأم يحدث منها الولد، ولذلك سماها: أم الكتاب، والمتشابه: القصص والأمثال.
وقال يحي بن يعمر: المحكم الفرائض، والوعد والوعيد؛ والمتشابه: القصص والأمثال. وقيل: المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال. والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة، كأعداد الصلوات، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان. وقيل: المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد، والمتشابه ما اختلف لفظه، كقوله: * (فإذا هى حية تسعى) * * (فإذا هى ثعبان مبين) * و * (قلنا احمل) * و * (فاسلك) *.
وقال أبو فاختة: المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور: كألم والمر. وقيل: المتشابه فواتح السور، بعكس الأول. وقيل: المحكمات: التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث، والمتشابهات: آلم وآلمر، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها، حين سمعوا: آلم، فقالوا: هذه بالجمل: أحد وسبعون، فهو غاية أجل هذه الأمة، فلما سمعوا: ألر، وغيرها، اشتبهت عليهم. أو: ما اشتبه من النصارى من قوله: * (وروح منه) *.
وقيل: المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته، كصفة الوجه، واليدين، واليد، والاستواء.
وقيل: المحكم ما أمر الله به في كل كتاب أنزله، نحو قوله: * (قل تعالوا أتل) * الآيات و * (قضى * ربك) * الآيات وما سوى المحكم متشابه.
وقال أكثر الفقهاء: المحكمات التي أحكمت بالإبانة، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها، لأنها ظاهرة بينه، والمتشابهات: ما خالفت ذلك. وقال بن أبي نجيح: المحكم ما فيه الحلال والحرام. وقال ابن خويز منداذ: المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها، علي وابن عباس يقولان: تعتد أقصى الأجلين، وعمر، وزيد، وابن مسعود يقولون: وضع الحمل. وخلافهم في النسخ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا. ونحو تعارض
الآيتين: أيهما أولى أن يقدم إذا لم يعرف النسخ؟ نحو: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين * (وأن تجمعوا بين الاختين إلا ما قد سلف) * يمنع من ذلك؟
ومعنى: أم الكتاب، معظم الكتاب، إذ المحكم في آيات الله كثير قد فصل. وقال يحي بن يعمر: هذا كما
397

يقال لمكة: أم القرى، ولمرو: أم خراسان، و: أم الرأس: لمجتمع الشؤون، إذ هو أخطر مكان.
وقال ابن زيد: جماع الكتاب، ولم يقل: أمهات، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر، وأحدهما أم للآخر، ونظيره * (وجعلنا ابن مريم وأمه ءاية) * ولم يقل: اثنين، ويحتمل أن يكون: هن، أي كل واحدة منهن، نحو: * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * أي كل واحد منهم. قيل: ويحتمل أن إفراد في موضع الجمع. نحو: * (وعلى سمعهم) * وقال الزمخشري: أم الكتاب أي أصل الكتاب، تحمل المتشابهات عليها، وترد إليها. ومثال ذلك: * (لا تدركه الابصار) * * (إلى ربها) * * (الله لا يأمر بالفحشاء) * * (أمرنا مترفيها) * إنتهى. وهذا على مذهبه الاعتزالي في أن الله لا يرى، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار. والمتشابه قوله: * (إلى ربها ناظرة) *.
وأهل السنة يعكسون هذا، أو يفرقون بين الإدراك والرؤية. وذكر من المحكم: * (وما كان ربك نسيا) * * (لا يضل ربى ولا ينسى) * ومتشابهه: * (نسوا الله فنسيهم) * ظاهر النسيان ضد العلم، ومرجوحه الترك. وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم، وما خالف فهو متشابه. فقوله: * (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * عند المعتزلة محكم * (وما * تشاءون إلا أن يشاء الله) * متشابه. وغيرهم بالعكس.
وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوحي لا بد فيه من دليل منفصل، فإن كان لفظيا فلا يتم إلا بحصول التعارض، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس، ولا قطع في الدليل اللفظي، سواء كان نصا وأرجح لتوقفه على أمور ظنية، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية. فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز، وتأويل على تأويل.
ومن الملاحدة من طعن في القرآن إلى يوم القيامة، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة) * * (وجعلنا على قلوبهم) *. والقدري يقول: هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله: * (وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفىءاذاننا وقر) * وفي موضع آخر: * (قولوا * قلوبنا غلف) *.
ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله: * (إلى ربها) * والآخرون، بقوله: * (وكيل لا تدركه الابصار) *. ومثبتو الجهة بقوله: * (يخافون ربهم من فوقهم) * وبقوله: * (على العرش استوى) * والآخرون بقوله: * (ليس كمثله شىء) * فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا؟ إنتهى كلام الفخر الرازي. وبعضه ملخص.
وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري. قاله:
فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكما؟
قلت: لو كان كله محكما لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في استخراج معانيه، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة، والعلوم الجمة، ونيل الدرجات عند الله، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض
398

في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره، ففتح الله عليه، وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده، وقوة في اتقانه. إنتهى كلام الزمخشري، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن.
ولما ذكر تعالى أول السورة * (الله لا إلاه إلا هو الحى القيوم * نزل عليك الكتاب) * ذكر هنا كيفية الكتاب، وأتى بالموصول، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق، وعهد فيه. وقوله: * (منه آيات محكمات) * إلى آخره، في موضع الحال، أي: تركه على هذين الوجهين محكما ومتشابها، وارتفع: آيات، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد، ويجوز ارتفاعه على الابتداء، والجملة حالية. ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة، وأما قوله: * (وأخر متشابهات) * فأخر صفة لآيات محذوفة، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر، لو قلت: وأخرى متشابهة لم يصح إلا بمعنى أن بعضها يشبه بعضا، وليس المراد هنا هذا المعنى، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلا بين اثنين فصاعدا، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك، فهو نظير، رجلين يقتتلان، وإن كان لا يقال: رجل يقتتل.
وتقدم الكلام على أخر في قوله: * (فعدة من أيام أخر) * فأغنى عن إعادته هنا.
وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة: أخر، وأفسد كلام سيبوية، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي.
* (فأما الذين في قلوبهم زيغ) * هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى، قاله الربيع. أو: اليهود، قاله ابن عباس، والكلبي، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ: عنادهم.
وقال الطبري: هو الأشبه. وذكر محاورة حي بن أخطب وأصحابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم) في مدة ملته، واستخراج ذلك من الفواتح، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا: خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل؟ ونحن لا نؤمن بهذا. فأنزل الله تعالى: * (هو الذى أنزل عليك الكتاب) * الآية، وفسر الزيغ: بالميل عن الهدى، ابن مسعود، وجماعة من الصحابة، ومجاهد، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وغيرهم.
وقال قتادة: هم منكرو البعث، فإنه قال في آخرها * (وما يعلم تأويله إلا الله) * وما ذاك إلا يوم القيامة، فإنه أخفاه عن جميع الخلق. وقال قتادة أيضا: هم الحرورية، و: هم الخوارج. ومن تأول آية لا في محلها. وقال أيضا: إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية، فلا أدرى من هم.
وقال ابن جريح: هم المنافقون. وقيل: هم جميع المبتدعة.
وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص، فالعبرة لعموم اللفظ.
* (فيتبعون ما تشابه منه) * قال القرطبي: متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير، وإما طالبو ظواهر المتشابه: كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم، وصورة ذات وجه، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع. وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن، مما ظاهرها التعارض، نحو: * (ولا يتساءلون) * و * (أقبل * بعضهم على بعض يتساءلون) * * (ولا يكتمون الله حديثا) * * (والله ربنا ما كنا مشركين) * ونحو ذلك. وأجابه ابن عباس بما أزال عنه
399

التعارض، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت، كما جرى لأصيبغ مع عمر، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه. إنتهى كلامه ملخصا.
* (ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) * علل اتباعهم للمتشابه بعلتين:
إحداهما: ابتغاء الفتنة. قال السدي، وربيع، ومقاتل، وابن قتيبة: هي الكفر. وقال مجاهد: الشبهات واللبس. وقال الزجاج: إفساد ذات البين. وقيل: الشبهات التي حاج بها وفد نجران.
والعلة الثانية: ابتغاء التأويل. قال ابن عباس: ابتغوا معرفة مدة النبي صلى الله عليه وسلم). وقيل: التأويل: التفسير، نحو * (سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا) * وقال ابن عباس أيضا: طلبوا مرجع أمر المؤمنين، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم، والعاقبة المنتظرة. وقال الزجاج: طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم تعالى: أن تأويل ذلك، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب، يقول الذين نسوه، أي تركوه: قد جاءت رسل ربنا، أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وقال السدي: أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء. وقيل: تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه. وقال الفخر الرازي كلاما ملخصه: إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه، مثل: متى الساعة؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف؟
وقال الزمخشري: * (الذين في قلوبهم زيغ) * هم أهل البدع، فيتبعون ما تشابه منه، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق، ابتغاء الفتنة: طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم، وابتغاء تأويله: طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشهونه. إنتهى كلامه. وهو كلام حسن.
* (وما يعلم تأويله إلا الله والرسخون في العلم يقولون ءامنا به) * تم الكلام عند قوله: إلا الله، ومعناه إن الله استأثر بعلمه تأويل المتشابه، وهو قول ابن مسعود، وأبي، وابن عباس، وعائشة، والحسن، وعروة، وعمر بن عبد العزيز، وأبي نهيك الأسدي، ومالك بن أنس، والكسائي، والفراء، ولجلبائي، والأخفش، وأبي عبيد. واختاره: الخطابي والفخر الرازي.
ويكون قوله * (والرسخون) * مبتدأ و * (يقولون) * خبر عنه وقيل: والراسخون، معطوف على الله، وهم يعلمون تأويله، و: يقولون، حال منهم أي: قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضا، ومجاهد والربيع بن أنس، ومحمد بن جعفر بن الزبير، وأكثر المتكلمين. ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات، وليس الترجيح لبعض إلا بالأدلة اللفظية، وهي ظنية، والظن لا يكفي في القطعيات، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه، ولو كان جائزا لما ذم بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات، وهو ترك للظاهر، ولا يجوز، ولأنه مدح الراسخين في
400

العلم بأنهم قالوا * (به إنه) * ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح، لأن من علم شيئا على التفصيل لا بد أن يؤمن به، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى، وقطعوا أنه الحق، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان، ولأنه لو كان: الراسخون، معطوف على: الله، للزم أن يكون: يقولون، خبر مبتدأ وتقديره: هؤلاء، أو: هم، فيلزم الإضمار، أو حال والمتقدم: الله والراسخون، فيكون حالا من الراسخين فقط، وفيه ترك للظاهر. ولأن قوله: * (كل من عند ربنا) * يقتضي فائدة، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير لا يقع جهله، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، تعالى.
وسئل مالك، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. انتهى ما رجح به القول الأول، وفي ذلك نظر، ويؤيد هذا القول قراءة أبي، وابن عباس، فيما رواه طاووس عنه: إلا الله ويقول الراسخون في العلم آمنا به. وقراءة عبد الله: وابتغاء تأويله إن تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون.
ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك، وفي قوله صلى الله عليه وسلم) لابن عباس: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ما يبين ذلك، أي: علمه معاني كتابك. وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب الله يستدعيه ويقول له: غص غواص. ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب.
وقال ابن عطية: إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر، ولا لبس فيه، ويستوى فيه الراسخ وغيره. والمتشابه منه ما لا يعلمه إلا الله، كأمر الروح، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها، وغير ذلك. ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى * (وروح منه) * إلى غير ذلك. ولا يسمى راسخا إلا من يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له، وإلا فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ.
فقوله * (إلا الله) * مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعا، والراسخون يعلمون النوع الثاني، والكلام مستقيم على فصاحة العرب. ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول: ما قام لنصري إلا فلان وفلان، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك، والآخر أعانك بكلام فقط.
وإن جعلنا * (والرسخون) * مبتدأ مقطعوعا مما قبله، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع؟ وما الرسوخ إلا المعرفة بتصاريف الكلام، وموارد الأحكام، ومواقع المواعظ؟.
وإعراب: الراسخين، يحتمل الوجهين، ولذلك قال ابن عباس بهما.
ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر الله بعلمه فقط، فتفسيره غير صحيح، لأنه تخصيص لبعض المتشابه. انتهى. وفيه بعض تلخيص، وفيه اختياره أنه معطوف على: الله، وإياه اختار الزمخشري. قال: لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم، أي ثبتوا فيه وتمكنوا، وعضوا فيه بضرس قاطع. ويقولون، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين، بمعنى: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به، أي: بالمتشابه. انتهى كلامه.
وتلخص في إعراب * (والرسخون) * وجهان:.
أحدهما: أنه معطوف على قوله: الله، ويكون في إعراب: يقولون، وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف. والثاني: أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين، كما تقول: ما قام إلا زيد وهند ضاحكة.
والثاني: من إعراب: والراسخون، أن يكون مبتدأ، ويتعين أن يكون: يقولون، خبرا عنه، ويكون من عطف الجمل.
وقيل: * (الراسخون فى العلم) * مؤمنو أهل الكتاب: كعبد الله بن سلام
401

وأصحابه، بدليل * (لاكن الراسخون فى العلم منهم) * يعنى الراسخين في علم التوراة، وهذا فيه بعد، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم، كقول نافع: الراسخ المتواضع لله، وكقول مالك: الراسخ في العلم العامل بما يعلم، المتبع.
* (كل من عند ربنا) * هذا من المقول، ومفعول: يقولون قوله: * (به كل من عند ربنا وما) * وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة، نحو قوله:
* كيف أصحبت؟ كيف أمسيت؟ مما
*
يزرع الود في فؤاد الكريم؟ كأنه قال: هذا الكلام مما يزرع الود. والضمير في: به، يحتمل أن يعود على المتشابه، وهو الظاهر، ويحتمل أن يعود على الكتاب. والتنوين في: كل، للعوض من المحذوف، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب، أي: كله من عند ربنا، ويحتمل أن يكون التقدير: كل واحد من المحكم والمتشابه من عند الله، وإذا كان من عند الله فلا تناقض ولا اختلاف، وهو حق يجب أن يؤمن به. وأضاف العندية إلى قوله: ربنا، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى، ولجعل كتابه كله محكما.
*
* (وما يذكر إلا أولوا * الالباب) * أي: وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلا أصحاب العقول، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء، ووضع الكلام مواضعه، ونبه بذلك على أن ما أشتبه من القرآن، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزا لإدراك: الواجب، والجائز، والمستحيل، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى، ولا إلى ما شرع من أحكامه، ما لا يجوز في العقل.
وقال ابن عطية: أي، ما يقول هذا ويؤمن به، ويقف حيث وقف، ويدع اتباع المتشابه إلا ذولب.
وقال الزمخشري: مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل.
* (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي: يقولون ربنا، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ، ومتذكر مؤمن، دعوا الله تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء، والتقدير: قولوا ربنا.
ومعنى الإزاغة هنا الضلالة. وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم: إن الله لا يضل، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله.
وقال الزجاج: لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا، وهذا القول فيه التحفظ من خلق الله الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد.
وقال ابن كيسان: سألوا أن لا يزيغوا، فيزيغ الله قلوبهم، نحو: * (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) * أي: ثبتنا على هدايتك، وأن لا نزيغ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا. وهذه نزغة اعتزالية، كما قال الجبائي: لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان. ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك، جاز أن يقال: أزاغهم، ويدل عليه: فلما زاغوا. وقال الجبائي أيضا: لا تزغنا عن جنتك وثوابك.
وقال أبو مسلم: أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ.
وقال
402

الزمخشري: لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا، أو: لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا. انتهى.
وهذه مسألة كلامية: هل الله تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر؟ أو لا يخلق الشر؟ فالأول: قول أهل السنة. والثاني: قول المعتزلة. وكل يفسر على مذهبه.
وقرأ الصديق، وأبو قائله، والجراح: لا تزغ قلوبنا، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم: لا يزغ بالياء مفتوحة، ورفع باء قلوبنا، جعله من زاغ، وأسنده إلى القلوب. وظاهره نهي القلوب عن الزيغ، وإنما هو من باب: لا أرينك ههنا.
ولا أعرفن ربربا حورا مدامعه
أي: لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا. ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل: بعد إذ هديتنا للعلم بالمحكم، والتسليم للمتشابه من كتابك، و: إذ، أصلها أن تكون ظرفا، وهنا أضيف إليها: بعد، فصارت إسما غير ظرف، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة، وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم. ألا ترى إلى قوله تعالى: * (هاذا يوم ينفع الصادقين) *؟ * (يوم لا تملك) * في قراءة من رفع يوم؟ وقول الشاعر.
* على حين عاتبت المشيب على الصبا
*
على حين من تكتب عليه ذنوبه
على حين الكرام قليل
ألا ليت أيام الصفاء جديد
*
كيف خرج الظرف هنا عن بابه، واستعمل خبرا ومجرورا بحرف الجر، واسم ليت، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة؟.
* (وهب لنا من لدنك رحمة) * سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة، لأن الهبة كذلك تكون، وخصوها بأنها من عنده، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة، بل يكون المعنى: نعيما، أو ثوابا صادرا عن الرحمة. ولما كان المسؤول صادرا عن الرحمة، صح أن يسألوا الرحمة إجراء للسبب مجرى المسبب وقيل: معنى رحمة توفيقا وسدادا وتثبيتا لما نحن عليه من الإيمان والهدى.
* (إنك أنت الوهاب) * هذا كالتعليل لقولهم: وهب لنا، كقولك: حل هذا المشكل أنك أنت العالم بالمشكلات، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال، وإن كانوا قد قالوا: وهاب، لمناسبة رؤوس الآي، ويجوز في: أنت، التوكيد للضمير، والفصل، والابتداء.
* (ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه) * لما سألوه
403

تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة، والبعث فيه للمجازاة، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم. ومعنى: ليوم لا ريب فيه، أي: لجزاء يوم، ومعنى: لا ريب فيه، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
وقيل: الللام، بمعنى: في، أي: في يوم، ويكون المجموع لأجله لم يذكر، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم: جامع الناس، بالتنوين، ونصب: الناس.
وقيل: معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية، أي: جامعهم في القبور إلى يوم القيامة، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان، إذ من الناس من مات، ومنهم من لم يمت، فنسب الجمع إلى الله من غير اعتبار الزمان، واالضمير في: فيه، عائد على اليوم، إذ الجملة صفة له، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع، أو على الجزاء الدال عليه المعنى، فقد أبعد.
* (إن الله لا يخلف الميعاد) * ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين الداعين.
قال الزمخشري: معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد، كقولك: إن الجواد لا يخيب سائله، والميعاد: الموعد. انتهى كلامه، وفيه دسيسه الاعتزال بقوله: إن الإلهية تنافي خلف الميعاد. وقد استدل الجبائي بقوله * (إن الله لا يخلف الميعاد) * على القطع بوعيد الفساق مطلقا، وهو عندنا مشروط بعدم العفو، كما اتفقنا نحن وهم على
أنه مشروط بعدم التوبة، والشرطان يثبتان بدليل منفصل، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد.
وقال الواحدي: يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب، ولذلك يمدحون به قال الشاعر:
* إذا وعد السراء أنجز وعده
*
وإن وعد الضراء فالعفو مانعه
*
ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين، ويكون ذلك من باب الالتفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم: ربنا، أخبروا عن الله تعالى بأنه الوفي بالوعد. وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث، والمجازاة، والإيفاء بما وعد تعالى.
* (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * قيل: المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال. وقيل: الإشارة إلى معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم). قال ابن عباس: قريظة، والنضير. وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم، وهي عامة تتناول كل كافر.
ومعنى: من الله، أي: من عذابه الدنيوي والأخروي، ومعنى: أغنى عنه، دفع عنه ومنعه، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد، قدم في هذه الآية، وفي قوله: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى * وفى * قوله * إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * وفي قوله: * (وتكاثر فى الاموال والاولاد) * وفي قوله: * (لا ينفع مال ولا بنون) * بخلاف قوله تعالى: * (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة) * إلى آخرها، فإنه ذكر هنا حب الشهوات، فقدم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال. وسيأتي
404

الكلام على ذلك إن شاء الله.
وقرأ أبو عبد الرحمن: لن يغني، بالياء على تذكير العلامة. وقرأ علي: لن يغني، بسكون الياء. وقرأ الحسن: لن يغني بالياء أولا وبالياء منالساكنة آخرا، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع. وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة، وينبغي أن لا يخص بها، إذ كثر ذلك في كلامهم.
و: من، لابتداء الغاية عند اعبد، وبمعنى: عند، قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: * (الذى أطعمهم من جوع وءامنهم من) * قال: معناه عند جوع وعند خوف، وكون: من، بمعنى: عند، ضعيف جدا.
وقال الزمشخري: قوله: من الله، مثله في قوله: * (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) * والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعة الله شيئا، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق. ومنه: ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي: لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك، أي: بدل طاعتك وعبادتك. وما عندك. وفي معناه قوله تعالى: * (وما أموالكم ولا أولادكم بالتى تقربكم عندنا زلفى) * إنتهى كلامه.
وإثبات البدلية: لمن، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه، وغيرهم قد أثبته، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل. واستدل بقوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا ما لكم) * * (لجعلنا منكم ملئكة) * أي: بدل الآخرة وبدلكم. وقال الشاعر:
* أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
*
ظلما ويكتب للأمير إفيلا
*
أي بدل الفصيل، وشيئا ينتصب على أنه مصدر، كما تقول ضربت شيئا من الضرب، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به، لأن معنى: لن تغني، لن تدفع أو تمنع، فعلى هذا يجوز أن يكون: من، في موضع الحال من شيئا، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها، فلما تقدم انتصب على الحال. وتكون: من إذ ذاك للتبعيض.
فتلخص في: من، أربعة أقوال: ابتداء الغاية، وهو قول المبرد، والكلبي. و: كونها بمعنى: عند، وهو قول أبي عبيدة. و: البدلية، وهو قول الزمخشري، و: التبعيض، وهو الذي قررناه.
* (وأولئك هم وقود النار) * لما قدم: إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم، ولا تناصر أولادهم، أخبر بمآلهم. وأن غاية من كفر، ومنتهى من كذب بآيات الله النار، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر: إن، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى، وأشار: بأولئك، إلى بعدهم. وأتى بلفظ: هم، المشعرة بالاختصاص، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم، وتقدم الكلام في الوقود في قوله: * (وقودها الناس والحجارة) *.
وقرأ الحسن، ومجاهد، وغيرهما: وقود، بضم الواو، وهو مصدر: وقدت النار تقد وقودا، ويكون على حذف مضاف، أي: أهل وقود النار، أو: حطب وقود، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة، كما تقول: زيد رضا.
وقد قيل في المصدر أيضا: وقود، بفتح الواو، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو، وتقدم ذكر ذلك، و:
405

هم، يحتمل أن يكون مبتدأ، ويحتمل أن يكون فصلا.
* (كدأب ءال فرعون) * لما ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار، ولن يغني عنه ماله ولا ولده، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، وترتب العذاب على كفرهم، كشأن من تقدم من كفار الأمم، أخذوا بذنوبهم، وعذبوا عليها، ونبه على آل فرعون، لأن الكلام مع بني إسرائيل، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخرا إلى النار، وظهور بني إسرائيل عليهم، وتوريثهم أماكن ملكهم، ففي هذا كله بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولمن آمن به. أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال، وفي الآخرة إلى النار، كما جرى لآل فرعون، أهلكوا في الدنياد وصاروا إلى النار.
واختلفوا في إعراب: كدأب، فقيل: هو خبر مبتدأ محذوف، فهو في موضع رفع، التقدير: دأبهم كدأب، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية.
وقيل: هو في موضع نصب بوقود، أي: توقد النار بهم، كما توقد بآل فرعون. كما تقول: إنك لتثلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشري.
وقيل: يفعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابن عطية. وقيل: من معناه أي عذبوا تعذيبا كدأب آل فرعون. ويدل عليه وقود النار.
وقيل: بلن تغني، أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، قاله الزمخشري. وهو ضعيف، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي: * (أولائك هم * وقود النار) * على أي التقديرين اللذين قدرناهما، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن، أو على الجملة المؤكدة بأن، فان قدرتها اعتراضية، وهو بعيد، جاز ما قاله الزمخشري.
وقيل: بفعل منصوب من معنى: لن تغني، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلانا كعادة آل فرعون.
وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره: كفرا كدأب والعامل فيه: كفروا، قاله الفراء وهو خطأ، لأنه إذا كان معمولا للصلة كان من الصلة، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها، وهنا قد أخبر، فلا تجوز أن يكون معمولا لما في الصلة.
وقيل: بفعل محذوف يدل عليه: كفروا، التقدير: كفروا كفرا كعادة آل فرعون.
وقيل: العامل في الكاف كذبوا بآياتنا، والضمير في: كذبوا، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: كذبوا تكذيبا كعادة آل فرعون.
وقيل: يتعلق بقوله: * (فأخذهم الله بذنوبهم) * أي: أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون، وهذا ضعيف، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها.
وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا: زيدا قمت فضربت، فعلى هذا يجوز هذا القول.
فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف.
قال ابن عطية: والدأب، بسكون الهمزة وفتحها، مصدر دأب يدأب، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه، ويقال للعادة: دأب. وقال أبو حاتم: وسمعت يعقوب يذكر: كدأب، بفتح الهمزة، وقال لي: وأنا غليم على أي شيء يجوز كدأب؟ فقلت له: أظنه من: دئب يدأب دأبا، فقبل ذلك مني، وتعجب من جودة تقديري على صغري، ولا أدري: أيقال أم لا؟ قال النحاس: لا يقال دئب البتة، وإنما يقال: دأب يدأب دؤبا هكذا حكى النحويون، منهم الفراء، حكاه في كتاب (المصادر صلى الله عليه وسلم).
وآل فرعون: أشياعه وأتباعه..
* (والذين من قبلهم) * هم كفار الأمم السالفة، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب، وغيرهم. فالضمير على هذا عائد على آل فرعون، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصر ورسول الله صلى الله عليه وسلم)، وموضع: والذين، جر عطفا على: آل فرعون.
* (كذبوا بئاياتنا) * بهذه الجملة تفسير للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا؟ وما فعلوا بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتنا، فهي كأنها جواب سؤال مقدر، وجوزوا أن تكون في موضع الحال، أي: مكذبين، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله: * (كدأب ءال فرعون) * ثم ابتدأ فقال: * (والذين من قبلهم كذبوا) * فيكون: الذين، مبتدأ، و: كذبوا خبره وفي قوله: بآياتنا، التنفات، إذ قبله من الله، فهو اسم غيبة، فانتقل منه إلى التكلم.
و: الآيات، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب الله، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد الله وصدق أنبيائه
406

* (فأخذهم الله بذنوبهم) * رجع من التكلم إلى الغيبة، ومعنى الأخذ بالذنب: العقاب عليه، والباء في: بذنوبهم، للسبب.
* (والله شديد العقاب) * تقدم تفسير مثل هذا، وفيه إشارة إلى سطوة الله على من كفر بآياته وكذب بها.
قيل: وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة.
حسن الإبهام، وهو فيما افتتحت به، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام.
ومجاز التشبيه في مواضع منها * (نزلت * عليك الكتاب) * وحقيقة النزول طرح جرم من علو إلى أسفل، والقرآن مثمبت في اللوح الحفوظ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله: * (لما بين يديه) * القرآن مصدق لما تقدمه من الكتب، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئا فشيئا وفي قوله: * (وأنزل التوراة * الإنجيل * من قبل هدى * الناس * وأنزل الفرقان) * أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل، فجعل التوراة
كالرجل الذي يوري عنك أمرا، أي: يستره لما فيها من المعاني الغامضة، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين، وفي قوله: * (عذاب شديد) * شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه، وفي قوله: * (يصوركم) * شبه أمره بقوله: كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصور يمثل شيئا، فيضم جرما إلى جرم، ويصور منه صورة وفي قوله: * (منه آيات محكمات) * جعل ما اتضح من معاني كتابه، وظهرت آثار الحكمة عليه محكما، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرع منها فروع متعددة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرع من نسلها ويؤمونها، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح، والألفاظ المحتملة معاني شتى، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه؛ وفي قوله: * (في قلوبهم زيغ) * شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه، وفي قوله: * (وهب لنا من لدنك رحمة) * شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير، بالمحسوس من الإجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله: * (وقود النار) * شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلا في الوقود. وقال تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم) * والحصب الحطب بلغة الحبشة، وفي قوله: * (فأخذهم الله بذنوبهم) * شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ.
وقيل: هذه كلها استعارات، ولا تشبيه فيها إلا * (كدأب ءال فرعون) * فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه.
والاختصاص في مواضع، منها في قوله: * (نزل عليك الكتاب) * إلى * (وأنزل الفرقان) * على من فسره بالزبور، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك: المؤمنون، واليهود، والنصارى، وفي قوله: * (لا يخفى عليه شىء في الارض ولا فى السماء) * خصمهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا، ولأنهما محلان للعقلاء، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده. وفي قوله: * (والرسخون) * اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم؛ وفي قوله: * (أولو الالباب) * لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز، والنظر، والاعتيار. وفي قوله: * (لا تزغ قلوبنا) * اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده، وليس كذلك بقية الأعضاء، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك، وفي قوله: * (إنك جامع الناس ليوم) * وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياء وفي بطنها أمواتا، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر، وهو الحشر، ولا يكون إلا في ذلك اليوم، ولا جامع إلا هو تعالى. وفي قوله: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم) * اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة، وتنفعهم أولادهم في الآخرة، يسقونهم ويكونون لهم حجابا من النار، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغارا، وينفعونهم بالدعاء الصالح كبارا. وكل هذا ورد به الحديث الصحيح.
وفي قوله: * (كدأب ءال فرعون) * خصهم بالذكر، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغيانا، وأعظمهم تعنتا على أنبيائهم، فكانوا أشد الناس عذابا.
والحذف في مواضع، في قوله: * (لما بين يديه) * أي: من الكتب و * (أنزل * التوراة والإنجيل) * أي: وأنزل الإنجيل، لأن الإنزالين في زمانين * (هدى للناس) * أي: الدين أراد هداهم: عذاب شديد، أي يوم القيامة،. * (ذو انتقام) * أي ممن أراد عقوبته * (في الارض ولا فى السماء) * أي ولا في غيرهما * (العزيز) * أي: في ملكه. * (الحكيم) * أي في صنعه * (وأخر) * أي: آيات أخر * (زيغ) *
407

أي عن الحق * (ابتغاء الفتنة) * أي: لكم * (وابتغاء تأويله) * أي: على غير الوجه المراد منه * (وما يعلم تأويله) * أي: على الحقيقة المطلوبة * (ربنا) * أي يا ربنا * (لا تزغ قلوبنا) * أي: عن الحق * (بعد إذ هديتنا) * أي: إليه * (كذبوا بئاياتنا) * أي: المنزلة على الرسل، أو المنصوبات علما على التوحيد * (بذنوبهم) * أي السالفة.
والتكرار: نزل عليك الكتاب، وأنزل التوراة، وأنزل الفرقان. كرر لاختلاف الإنزال، وكيفيته، وزمانه، بآيات الله، والله. كرر اسمه تعالى تفخيما، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر. لا إله إلا هو الحي القيوم، لا إله إلا هو العزيز. كرر الجملة تنبيها على استقرار ذلك في النفوس، وردا على من زعم أن معه إلها غيره. ابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله. كرر لاختلاف التأويلين، أو للتفخيم لشأن التأويل. ربنا لا تزغ، ربنا إنك. كرر الدعاء تنبيها على ملازمته، وتحذيرا من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار.
والتقديم والتأخير، وذلك في ذكر إنزال الكتب، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان، إذ التوراة أولا، ثم الزبور، ثم الإنجيل، ثم القرآن. وقدم القرآن لشرفه، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم، وبقائه، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان. وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة، والقصص، وخفايا الاستنباط.
ورواها من: أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقا، ثم ثلث بالإنجيل، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور، وفي قوله: * (في الارض ولا فى السماء) * قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم، وأكبر في الأجرام، وأكبر في الدلائل والآيات، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها، بخلاف سكان الأرض، ليعلمهم، اطلاعه على خفايا أمورهم، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم، لأنه إذا أنبه على أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره، استحيا منه.
والالتفات * (ربنا إنك جامع) * ثم قال * (إن الله) * وفي قوله: * (كذبوا بئاياتنا) * ثم قال * (والله شديد العقاب) *.
والتأكيد: * (وأولئك هم وقود النار) * فاكد بلفظة: هم، وأكد بقوله: * (هو الذي يصوركم) * قوله * (لا إلاه إلا هو) * وأكد بقوله * (هو الذى أنزل عليك الكتاب) * قوله * (نزل عليك الكتاب) *.
والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله: هدى، والفرقان، أي: هاديا، والفارق. وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله: من الله، أي: عند الله، على قول من أول: من، بمعنى: عند.
والتجنيس المغاير في قوله: وهب، والوهاب.
2 (* (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد * قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين والله يؤيد بنصره من يشآء إن فى ذالك لعبرة لاولى الا بصار * زين للناس حب الشهوات من النسآء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذالك متاع الحيواة الدنيا والله عنده حسن المأب) *)) 2
العبرة: الاتعاظ يقال: منه اعتبر، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه، واشتقاقها من العبور، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء، ومنه: عبر النهر، وهو شطه، والمعبر: السفينة، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني، وعبرت الرؤيا مخففا ومثقلا: نقلت ما
408

عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل: وكان الاعتبار انتقالا عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم، ومنه، العبرة، وهي الدمع، لأنها تجاوز العين.
الشهوة: ما تدعو النفس إليه، والفعل منه: اشتهى، ويجمع بالألف والتاء فيقال: شهوات، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على: شهى، نحو: نزوة ونزى، و: كوة وكوى، على قول من زعم أن: كوى، جمع كوة بفتح الكاف، وهذا مع: قرية وقرى، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام، وجمع على فعل، واستدركت أنا: شهى، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية:
* فلولا الشهى والله كنت جديرة
*
بأن أترك اللذات في كل مشهد
*
القنطار: فنعال نونه زائدة، قاله ابن دريد، فيكون وزنه: فنعالا من: قطر يقطر وقيل: أصل ووزن فعلال، وفيه خلاف: أهو واقع على عدد مخصوص؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد، ويأتي ذلك في التفسير، إن شاء الله تعالى.
ويقال منه: قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير، أو قنطار من المال وقال الزجاج: هو مأخوذ من: قنطرت الشيء، عقدته وأحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل: قنطرته: عبيته شيئا على شيء، ومنه سمي القنطرة. فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة.
الذهب: معروف، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب. وقيل: الذهب جمع ذهبية.
والفضة: معروفة، وجمعها قضض، فالذهب مشتق من الذهاب، والفضة من انفض الشيء: تفرق، ومنه: فضضت القوم.
الخيل: جمع لا واحد له من لفظه، بل واحدة: فرس. وقيل: واحده خايل، كراكب وركب، قاله أبو عبيدة. سميت بذلك لاختيالها في مشيها. وقيل: اشتقاقه من التخيل، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه. وقيل: الاختيال مأخوذ من التخيل.
النعم: الإبل فقط، قال الفراء: وهو مذكر ولا يؤنث، يقولون هذا نعم وارد. وقال الهروي: النعم، يذكر ويؤنث، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم. وقال ابن قتيبة: الأنعام: الإبل والبقر والغنم، واحدها نعم، وهو جمع لا واحد له من لفظه، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها، ومنه: الناعم، والنعامة، والنعامي الجنوب، سميت بذلك للين هبوبها.
المآب: مفعل من آب يؤوب إيابا. أي: رجع، يكون للمصدر والمكان والزمان.
* (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد) * سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر، إن قريشا كانوا أغمارا، ولو حاربتنا لرأيت رجالا. وقيل: نزلت في قريش قبل بدر بسنتين، فحقق الله تعالى ذلك وقيل: لما غلب قريشا ببدر، قالت اليهود: هو النبي المبعوث الذي في كتابنا، لا تهزم له راية. فقالت لهم شياطينهم: لا تعجلوا حتى
409

نرى أمره في وقعة أخرى. فلما كانت أحد كفروا جميعهم، وقالوا: ليس بالنبي المنصور.
وقيل: في أبي سفيان وقومه، جمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم) بعد بدر، فنزلت. ولما أخبر تعالى قيل: * (إن الذين كفروا لن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم * وإنهم * وقود النار) * ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق، وهو كالتوكيد لما قبله، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقودا.
وقرأ حمزة، والكسائي: سيغلبون ويحشرون، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة: بالتاء، خطابا، فتكون الجملة معمولا للقول. ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير: للذين كفروا، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل، بل محكية بقول آخر، التقدير: قل لهم قولي سيغلبون، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة. كما قال تعالى: * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون، وأجاز بعضهم، وهو: الفراء، وأحمد بن يحيى، وأورده ابن عطية، إحتمالا أن يعود الضمير في: سيغلبون، في قراءة التاء على قريش، أي: قل لليهود ستغلب قريش،
وفيه بعد.
والظاهر أن: الذين كفروا، يعم الفريقين المشركين واليهود، وكل قد غلب بالسيف، والجزية، والذلة، وظهور الدلائل والحجج، وإلى معناها الغاية، وإن جهنم منتهى حشرهم، وأبعد من ذهب إلى أن: إلى، في معنى: في، فيكون المعنى: إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد، يحتمل أن يكون من جملة المقول، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى، قاله الراغب؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: وبئس المهاد جهنم. وكثيرا ما يحذف لفهم المعني، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه: أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها، وذلك لا يجوز، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة. وأما من جعل: المهاد، ما مهدوا لأنفسهم، أي: بئسما مهدوا لأنفسهم، وكان المعنى عنده، و: بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم، ففيه بعد، ويروى عن مجاهد.
* (قد كان لكم ءاية في فئتين التقتا) * قال في (ري الظمآن): أجمع المفسرون على أنهها وقعة بدر، والخطاب للمؤمنين، قاله ابن مسعود، والحسن. فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين، كما قال: من قال يوم الخندق: يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب، وكما قال عدي بن حاتم، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم) بالأمنة التي تأتي، فقلت في نفسي: فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد؟ الحديث بكماله.
وقيل: الخطاب للكافرين، وهو ظاهر، ولا سيما على قراءة من قرأ: ستغلبون، بالتاء. ويخرج ذلك من قول ابن عباس، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم، وإعلاما بأن الله سينصر دينه. وقد أراكم في ذلك مثالا بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر.
وقيل: الخطاب لليهود، قاله الفراء، وابن الأنباري وابن جرير، وعلى هذا يكون ذلك تخويفا لهم، كأنه قيل: لا تغتروا بدربتكم في الحرب، ومنعة حصونكم، ومجالبتكم لمشركي قريش، فإن الله غالبكم، وقد علمتم ما حل بأهل بدر، ولم يلحق التاء. كان، وإن كان قد أسند إلى مؤنث، وهو الآية، لأجل أنه تأنيث مجازي. وازداد حسنا بالفصل، وإذا كان الفصل حسنا في المؤنث الحقيقي، فهو أولى في المؤنث المجازي، ومن كلامهم: حضر القاضي امرأة وقال:
* إن امرأ غره منكن واحدة
*
بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور
*
410

وقيل: ذكر لأن معنى الآية البيان، فهو كما قال:
* برهرهة رودة رخصة
*
كخرعوبة البانة المنفطر
*
ذهب إلى القضيب، وفي قوله * (في فئتين) * محذوف تقديره في: قصة فئتين، ومعنى: التقتا، أي للحرب والقتال.
* (فئة تقاتل فى سبيل الله وأخرى كافرة) * أي: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى، فذكر في الأولى لازم الإيمان، وهو القتال في سبيل الله. وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان، وهو الكفر.
والجمهور برفع: فئة، على القطع، التقدير: إحداهما، فيكون: فئة، على هذا خبر مبتدأ محذوف، أو التقدير: منهما، فيكون مبتدأ محذوف الخبر.
وقيل: الرفع على البدل من الضمير في التقتا.
وقرأ مجاهد، والحسن، والزهري وحميد: فئة، بالجر على البدل التفصيلي، وهو بدل كل من كل، كما قال:
* وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
*
ورجل رمي فيها الزمان فشلت
*
ومنهم من رفع: كافرة، ومنهم من خفضها على العطف، فعلى هذه القراءة تكون: فئة، الأولى بدل بعض من كل، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي: فئة منهما تقاتل في سبيل الله، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الابتداء وإما على الخبر.
وقرأ ابن السميفع، وابن أبي عبلة: فئة، بالنصب. قالوا: على المدح، وتمام هذا القول: إنه انتصب الأول على المدح، والثاني على الذم، كأنه قيل: أمدح فئة تقاتل في سبيل الله، وأذم أخرى كافرة.
وقال الزمخشري: النصب في: فئة، على الاختصاص وليس بجيد، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما، وأجاز هو، وغيره قبله كالزجاج: أن ينتصب على الحال من الضمير في: التقتا، وذكر: فئة، على سبيل التوطئة.
وقرأ الجمهور: تقاتل، بالتاء على تأنيث الفئة، وقرأ مجاهد، ومقاتل: يقاتل بالياء على التذكير، قالوا: لأن معنى الفئة القوم فرد إليه، وجرى على لفظه.
* (يرونهم مثليهم رأى العين) * قرأ نافع، ويعقوب، وسهل، ترونهم، بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس، وطلحة: ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب، فيكون الضمير في: لكم، للمؤمنين، والضمير المرفوع في: ترونهم، للمؤمنين أيضا. وضمير النصب في: ترونهم، وضمير الجر في: مثليهم، عائد على الكافرين، والتقدير: ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد، فيكون ذلك أبلغ في الآية، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم، ومع ذلك نصرهم الله عليهم، وأوقع المسلمون بهم. وهذه حقيقة التأييد بالنصر، كقوله تعالى * (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) * واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية، وآية الأنفال، قصة واحدة، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين، والضمير المنصوب في: ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين. والتقدير: ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون: ترونهم مثليكم.
وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة، كقوله تعالى: * (حتى إذا كنتم فى الفلك وجرين بهم بريح طيبة) * ويحتمل أن يعود الضمير في: مثليهم، على الفئة المقاتلة في سبيل الله، أي: ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله وهم أنفسهم. والمعنى: ترونهم مثليكم، وهذا تقليل، إذا كانوا نيفا على ألف، والمسلمون في تقدير ثلث.
411

منهم، فأرى الله المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله: * (إن يكن منكم * مائة صابرة يغلبوا مائتين) * لتجترئوا عليهم.
وإذن كان الضمير في: لكم، للكافرين وفي: ترونهم، الخطاب لهم، والمنصوب والمجرور للمؤمنين. والتقدير: ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم.
ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائدا على الفئة الكافرة، أي: مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم، فيكون الله تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم، وكانت تلك الرؤية مددا من الله للمؤمنين، كما أمدهم تعالى بالملائكة، فإن كانت هذه، وآية الأنفال في قصة واحدة، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين، قللوا أولا في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا، كقوله: * (وقفوهم إنهم) * * (فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان) * وأما من قرأ بالياء المفتوحة. فالظاهر أن الجملة صفة لقوله: وأخرى كافرة، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى، إذ لو عاد على اللفظ لكان: تراهم، وضمير النصب عائد على: فئة تقاتل في سبيل الله، وضمير الجر في: مثليهم، عائد على فئة أيضا، وذلك على معنى الفئة، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب: تراها مثليها، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة في مثلي عدد نفسها. أي: ستمائة ونيف وعشرين، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة، أي ألفين، أو قريبا من ألفين.
ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائدا على الفئة المؤمنة على المعنى، والضمير المنصوب والمجرور عائدا على الفئة الكافرة على المعنى، أي: ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها.
ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة، أي: مثلي الفئة الكافرة. والجملة إذ ذاك صفة لقوله: وأخرى كافرة، ففي الوجه الأول الرابط الواو، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب. وإذا كان الضمير في: لكم، لليهود؛ فالآية كما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم) أن يقوله لهم احتجاجا عليهم، وتثبيتا لصورة الوعد السابق من أن الكفار: سيغلبون.
فمن قرأ بالتاء كان معناه: لو حضرتم، أو إن كنتم حضرتم، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه، ووقوع اليقين به، لكل إنسان في ذلك العصر، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل.
والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدى لواحد، وانتصب: مثليهم، على الحال. قاله أبو علي، ومكي، والمهدوي. ويقوي ذلك ظاهر قوله: رأي العين، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد.
قال الزمخشري: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات. وقيل: الرؤية هنا من رؤية القلب، فيتعدى لاثنين، والثاني هو: مثليهم. ورد هذا بوجهين: أحدهما: قوله تعالى: رأي العين، والثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يعلم الشيء شيئين.
وأجيب عن الأول: بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي، أي: رأيا مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به. وعن الثاني: بأن معنى الرؤية هنا الاعتقاد، فلا يكون ذلك محالا. وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الاعتقاد دون اليقين، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى. قال تعالى: * (فإن علمتموهن مؤمنات) * أي فإن اعتقدتم إيمانهن، ويدل على هذا قراءة من قرأ: ترونهم، بضم التاء، أو الباء. قالوا: فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخمينا وظنا، لا يقينا. فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك، وذلك أن: أري، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر، وإذا كان كذلك، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين، لأنه كما لا يقع: العلم غير مطابق للمعلوم، كذلك لا يقع: النظر البصري مخالفا للمنظور إليه، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم.
شبه برؤية العين، والرأي مصدر: رأى، يقال: رأى رأيا ورؤية ورؤيا، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة، ورأيا في الاعتقاد، يقال: هذا رأي فلان، قال
412

* رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه
*
خوارج تراكين قصد المخارج
*
ومعنى: مثليهم، قدرهم مرتين. وزعم الفراء أن معنى: يرونهم مثليهم، ثلاثة أمثالهم كقول القائل: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها. وغلطه الزجاج. وقال: إنما مثل الشيء مساو له. ومثلاه مساويه مرتين.
وقال ابن كيسان: أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد، وليس المعنى عليه، وإنما المعنى أراهم الله على غير عدتهم بجهتين: إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك. والأخرى: أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم). انتهى كلام ابن كيسان.
وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة، والمؤمنين ثلاثمائة وأربعة عشر. وقيل: وثلاثة عشرة، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع، وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين، فذكر الله المثلين، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد. وحكي عن ابن عباس: أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (يوم بدر القوم ألف). وقال ابن عباس: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدا. وقال في رواية: لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. فأسرنا منهم رجلا فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفا. ونقل أن المشركين لما أسروا، قالوا للمسلمين: كم كنتم؟ قالوا: كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة، قالوا: ما كنا نراكم إلا تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز، فلا يمتنع.
* (والله يؤيد بنصره من يشاء) * أي: يقويه بعونه. وقيل: النصر الحجة. ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون، ومفعول: من يشاء، محذوف أي: من يشاء نصره.
* (إن فى ذلك) * أي: النصر. وقيل: رؤية الجيش مثليهم * (لعبرة) * أي اتعاظا ودلالة. * (لاولى الابصار) * إن كانت الرؤية بصرية، فالمعنى: للذين أبصروا الجمعين، وإن كانت اعتقادية، فالمعنى: لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار.
* (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين) * قرأ الجمهور: زين مبنيا للمفعول، والفاعل محذوف، فقيل: هو الله تعالى، قاله عمر، لأنه قال حين نزلت: الآن يا رب حين زينتها، فنزلت * (قل أؤنبئكم) * الآية، ومعنى التزيين: خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه، وهذا كقوله: * (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم) * فزينها تعالى للابتلاء، ويدل عليه قراءة: زين للناس حب، مبنيا للفاعل، وهو الضمير العائد على الله في قوله: * (والله يؤيد) *.
وقيل: المزين الشيطان، وهو ظاهر قول الحسن، قال: من زينها: ما أحد أشد ذما لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى الله تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة، وتحصيلها من غير وجهها. وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم) من اليهود وغيرهم، المفتونين بالدنيا، وأضاف المصدر إلى المفعول، وهو الكثير في القرآن، وعبر عن المشتهيات: بالشهوات، مبالغة. إذ جعلها نفس الأعيان، وتنبيها على خستها، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم، وناهيك لها ذما قوله صلى الله عليه وسلم): (حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره) وأتى بذكر الشهوات أولا مجموعة على
413

سبيل الإجمال، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلا شهوة دنيوية لا غير، فيكون في ذلك تنفير عنها، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند الله، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم، بدأ بالنساء لأنهن حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجا: (ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء) (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن). ويقال؛ فيهن فتنتان: قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال.
وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء، وفروع عنهن، وشقائق النساء في الفتن، الولد مبخلة مجبنة:
* وإنما أولادنا بيننا
*
أكبادنا تمشي على الأرض
*
* لو هبت الريح على بعضهم
*
لامتنعت عيني من الغمض
*
وقدموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة. قدمت الأموال على الأولاد.
وظاهر قوله: والبنين، الذكران. وقيل يشمل: الإناث، وغلب التذكير.
* (والقناطير المقنطرة) * ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة، ولأنه يحصل به غالب الشهوات، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد.
واختلف في: القنطار، أهو عدد مخصوص، أم ليس كذلك؟ فقيل: ألف ومائتا أوقية، وقيل: اثنا عشر ألف أوقية، وقيل: ألف ومائتا دينار. وكل هذه رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم): الأول: رواه أبي، وقال به معاذ، وابن عمر، وعاصم بن أبي النجود، والحسن في رواية. والثاني: رواه أبو هريرة وقال به. والثالث: رواه الحسن، ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقيل: اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار ذهبا، وروي عن ابن عباس، وعن الحسن، والضحاك.
وقال ابن المسيب: ثمانون ألفا. وقال مجاهد، وروي عن ابن عمر: سبعون ألف دينار. وقال السدي: ثمانية آلاف مثقال، وهي مائة رطل. وقال الكلبي: ألف مثقال ذهب أو فضة. وقال قتادة: مائة رطل من الذهب، أو ثمانون ألف درهم من الفضة. وقال سعيد بن جبير، وعكرمة: مائة ألف، ومائة من، ومائة رطل، ومائة مثقال، ومائة درهم. ولقد جاء الإسلام يوم جاء، وبمكة مائة رجل قد قنطروا. وقيل: أربعون أوقية من ذهب أو فضة، ذكره مكي، وقاله ابن سيده في (المحكم). وقيل: ثمانية آلاف مثقال، وهي مائة رطل. وقال ابن سيده في (المحكم) القنطار: بلغة بربر: ألف مثقال. وروى أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم) في تفسير: * (وإن أردتم استبدال) * قال: ألف دينار. وحكى الزجاج أنه قيل: إن القنطار هو رطل ذهبا أو فضة. قال ابن عطية، وأظنه وهما، وإن القول مائة رطل، فسقطت مائة للناقل. انتهى. وقال أبو حمزة الثمالي: القنطار بلسان أفريقية والأندلس: ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول.
وأما الآن فهو عندنا: مائة
414

رطل، والرطل عندنا، ستة عشر أوقية. وقال أبو بصرة، وأبو عبيدة: ملء مسك ثور ذهبا. قال ابن سيده: وكذا هو بالسريانية. وقال ابن الكلبي: وكذا هو بلغة الروم. وقال الربيع بن أنس: المال الكثير بعضه على بعض. وقال ابن كيسان: المال العظيم. وقال أبو عبيدة: القنطار عند العرب وزن لا يحد، وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال ابن عطية: القنطار معيار يوزن به، كما أن الرطل معيار.
ويقال: لما بلغ ذلك الوزن قنطارا. أي يعدل القنطار، وأصح الأقوال الأول، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية. انتهى.
والمقنطرة: مفعللة، أو مفيعلة من القنطار. ومعناه المجتمعة، كما يقول: الألوف المؤلفة، والبدرة المبدرة. اشتقوا منها وصفا للتوكيد. وقيل: المقنطرة المضعفة، قاله قتادة والطبري.
وقيل: المقنطرة تسعة قناطير، لأنه جمع جمع، قاله النقاش. وهذا غير صحيح. وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقل من تسعة. وقال الفراء: لا تكون أكثر من تسعة، وهذا كله تحكم. وقال السدي: المقنطرة المضروبة دنانير، أو دراهم. وقال الربيع والضحاك المنضد: الذي بعضه فوق بعض، وقيل: المخزونة المدخورة. وقال يمان: المدفونة المكنوزة. وقيل: الحاضرة العتيدة، قاله ابن عطية..
وقال مروان بن الحكم، ما المال إلا ما حازته العيان * (من الذهب والفضة) * تبيين للقناطير، وهو في موضع الحال منها، أي كائنا من الذهب * (والخيل المسومة) * أي: الراعية في المروج، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي: أي غاية جهدها، ولم تقصر على حال دون حال، فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف، كما عدى بالهمزة في قولهم: أسمتها، قاله ابن عباس، وابن جبير، والحسن، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، ومجاهد، والربيع. وروي عن مجاهد: أنها المطهمة الحسان. وقال السدي: هي الرائقة من سيما الحسن. وقال عكرمة: سومها الحسن، واختاره النحاس.
من قولهم: رجل وسيم، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين، إلا إن ادعى القلب. وقال أبو عبيدة، والكسائي: المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس، وهو من السومة، وهي العلامة قال أبو طالب:
* أمين محب للعباد مسوم
*
بخاتم رب طاهر للخواتم
*
قال أبو زيد: أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى: وقال ابن فارس في (المجمل) المسومة: هي المرسل عليها ركبانها. وقال ابن زيد: المعدة للجهاد. وقال ابن المبرد: المعروفة في البلدان. وقال ابن كيسان: البلق. وقيل: ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل. وقيل: هي الهماليج.
* (والانعام والحرث) * يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله: والقناطير، إلى آخرها. غير ما أتى تبيينا معطوفا على الشهوات، أي: وحب القناطير وكذا وكذا. ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: من النساء، فيكون مندرجا في الشهودات. ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل. وقيل: يراد به المفعول، وتقدم الكلام فيه عند قوله * (ولا تسقى الحرث) *.
* (ذالك متاع الحيواة الدنيا) * أشار: بذلك، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة، لأنه أراد ذلك المذكور، أو المتقدم ذكره. والمعنى: تحقير أمر الدنيا، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها، وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء: والحرث، في: ذال: ذلك، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء.
* (والله عنده حسن المأب) * أي: المرجع، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع.
ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة، فالنساء والبنون فيهم النفقة، وباقيها فيها الصدقة، قاله الماتريدي.
وذكروا في هذه الآية أنواعا من الفصاحة والبلاغة: الخطاب العام: ويراد به الخاص في قوله: * (للذين كفروا) * على قول عامة المفسرين هم اليهود، وهذا من تلوين الخطاب. والتجنيس المغاير: في * (ترونهم * مثليهم رأى العين) * والاحتراس: في
415

* (رأى العين) * قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب، فهو من باب الحزر وغلبة الظن. والإبهام: في * (زين للناس) *. والتجنيس المماثل: في * (والقناطير المقنطرة) *. والحذف: في مواضع، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف.
2 (* (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الا نهار خاالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد * الذين يقولون ربنآ إننآ ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار * الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالا سحار * شهد الله أنه لا إلاه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قآئما بالقسط لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم) *)) 2
الرضوان: مصدر رضي، وكسر رائه لغة الحجاز، وضمها لغة تميم وبكر، وقيس، وغيلان. وقيل: الكسر للأسم، ومنه: رضوان خازن الجنة، والضم للمصدر.
السحر: بفتح الحاء وسكونها، قال قوم منهم الزجاج: الوقت قبل طلوع الفجر، ومنه يقال: تسحر أكل في ذلك الوقت، واستحر: سار فيه قال.
* بكرن بكورا واستحرت بسحرة
*
فهن لوادي الرس كاليد للفم
*
واستحر الطائر صالح وتحرك فيه قال:
* يعل به برد أنيابها
*
إذا غرد الطائر المستحر
*
وأسحر الرجل واسثحر دخل في السحر قال:
* وأدلج من طيبة مسرعا
*
فجاء إلينا وقد أسحرا
*
وقال بعض اللغويين السحر: من ثلث الليل الآخر إلى الفجر، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر. وقيل: السحر عند العرب بكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الإسفار. وأصل السحر الخفاء للطفة، ومنه السحر والسحر.
* (قل أؤنبئكم بخير من ذالكم) * نزلت حين قال عمر عندما نزل: * (زين للناس) * يا رب الآن حين زينتها. ولما ذكر تعالى أن * (عنده حسن المأب) * ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا، لأنه خير خال من شوب المضار، وباق لا ينقطع. والهمزة في: أؤنبئكم، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة وقرئ في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير ادخال ألف بينهما، وبتحقيقهما، وادخال ألف بينهما، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما. ونقل ورش الحركة إلى اللام، وحذف الهمزة. وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما
416

وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ولما قال: ذلك متاع، فأفرد، جاء: بخير من ذلكم، فأفرد
اسم الإشارة، وإن كان هناك مشارا به إلى ما تقدم ذكره، وهو كثير. فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك، و: خير، هنا أفعل التفضيل، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور، ويكون: من ذلكم، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضا مما هدوا فيه.
* (للذين اتقوا عند ربهم جنات تجرى من تحتها الانهار) * يحتمل أن يكون للذين متعلقا بقوله: بخير من ذلكم، و: جنات، خبر مبتدأ محذوف أي: هو جنات، فتكون ذلك تبيينا لما أبهم في قوله: بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب: جنات، بالجر بدلا من: بخير، كما تقول: مررت برجل زيد، بالرفع و: زيد بالجر، وجوز في قراءة يعقوب أن يكون: جنات، منصوبا على إضمار: أعني، ومنصوبا على البدل على موضع بخير، لأنه نصب. ويحتمل أن يكون: للذين، خبرا لجنات، على أن تكون مرتفعة على الابتداء، ويكون الكلام تم عند قوله: بخير من ذلكم، ثم بين ذلك الخير لمن هو، فعلى هذا العامل في: عند ربهم، العامل في: للذين، وعلى القول الأول العامل فيه قوله: بخير.
* (خاالدين فيها وأزواج مطهرة) * تقدم تفسير هذا وما قبله.
* (ورضوان من الله) * بدأ أولا بذكر المقر، وهو الجنات التي قال فيها * (وفيها ما تشتهيه الانفس وتلذ الاعين) * (فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التام من الأزواج المطهرة، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا الله عنهم، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني، حيث علم برضا الله عنه، كما جاء في الحديث أنه تعالى: (يسأل أهل الجنة هل رضيم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.
ففي هذه الآية الإنتقال من عال إلى أعلى منه، ولذلك جاء في سورة براءة، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال: * (ورضوان من الله أكبر) * يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن. وقال الماتريدي: أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء، وهم خلقوا للبقاء، وخص النساء بالطهر لما فيهن في الدنيا من فضل المعايب والأذى.
وقال أبو بكر: ورضوان، بالضم حيث وقع إلا في ثاني العقود، فعنه خلاف. وباقي السبعة بالكسر، وقد ذكرنا أنهما لغتان.
* (والله بصير بالعباد) * أي بصير بأعمالهم، مطلع عليها، فيجازي كلا بعمله، فتضمنت الوعد والوعيد. ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا.
* (الذين يقولون ربنا إننا ءامنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار) * لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئا من صفاتهم، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان، وأكد الجملة بأن مبالغة في الإخبار، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتبا ذلك على مجرد الإيمان، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات، كما يذهب إليه بعضهم، لأن من تاب وأطاع الله لا يدخله النار بوعده الصادق، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي، ونظيرها، * (بنا * إننا سمعنا مناديا) * الآية، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات. وقال الماتريدي: مدحهم تعالى بهذا القول، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان، والله تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات، كما قال تعالى: * (فلا تزكوا أنفسكم) * فلو كان الإيمان اسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان، كما لم يرضها بسائر الطاعات، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيماغن باطل، لأنه رضيه منهم دون استثناء. إنتهى.
قيل: ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء، لأن قولهم: آمنا، هو اعتراف بما أمروا به، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء، لا فيما هو متصف به، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه، فإن ذلك محال عقلا.
وأعرب: الذين يقولون، صفة وبدلا ومقطوعا لرفع أو لنصب، ويكون ذلك من توابع: * (الذين اتقوا) * أو من توابع: العباد، والأول أظهر.
* (الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين
417

والمستغفرين بالاسحار) * لما ذكر الإيمان بالقول، أخبر بالوصف الدال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف، فصبروا على أداء الطاعة، وعن اجتناب المحارم، ثم بالوصف الدال على مطابقة الاعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم: * (ربنا إننا ءامنا) * وفي جميع ما يخبرون.
وقيل: هم الذين صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية، وهذا راجع للقول الذي قبله، ثم بوصف القنوت، وتقدم تفسيره في قوله: * (كل له قانتون) * فأغنى عن إعادته، ثم بوصف الإنفاق، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره، وهو الإنفاق، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها، فالمعنى: الصابرين على تكاليف ربهم، والصادقين في أقوالهم، والقانتين لربهم، والمنفقين أموالهم في طاعته، والمستغفرين الله لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى، أخبر أيضا عنهم، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة، هم مستغفرون بالأسحار، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة، وخص السحر بالذكر، وإن كانوا مستغفرين دائما، لأنه مظنة الإجابة، كما صح في الحديث: (أنه تعالى، تنزه عن سمات الحدوث، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر). وكانت الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها، وكان السحر
مستحبا فيه الاستغفار لأن العبادة فيه أشق، ألا تراهم يقولون: إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم؟ ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى، والبدن أقل تعبا، والذهني أرق وأحد، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه، وترك فكرة بانغماره في وارد النوم.
وقال الزمخشري: إنهم كانوا يقدمون قيام الليل، فيحسن طلب الحاجة فيه * (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) * إنتهى. ومعناه، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم: المؤمنون، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة، إذ ليست في معنى واحد، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت.
وقال الزمخشري: والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها. إنتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال.
قال المفسرون في الصابرين: صبروا عن المعاصي. وقيل: ثبتوا على العهد الأول. وقيل: هم الصائمون.
قالوا في الصادقين: في الأقوال. وقيل: في القول والفعل والنية. وقيل: في السر والعلانية.
قالوا في القانتين: الحافظين للغيب. وقال الزجاج: القائمين على العبادة. وقيل: القائمين بالحق. وقيل: الداعين المتضرعين. وقيل: الخاشعين. وقيل: المصلين.
وقالوا في المنفقين: المخرجين المال على وجه مشروع. وقيل: في الجهاد. وقيل: في جميع أنواع البر. وقال ابن قتيبة: في الصدقات.
قالوا في المستغفرين السائلين قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وان عمر وأنس وقتادة
418

السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشفال، وقال قتادة أيضا: المصلين بالأسحار. وقال زيد بن أسلم: المصلين الصبح في جماعة.
وهذا الذي فسروه كله متقارب.
* (شهد الله أنه لا إلاه إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) *.
سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة، فقال أحدهما للآخر: ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان، ثم عرفا رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنعت، فقالا: أنت محمد؟ قال: (نعم). فقالا: أنت أحمد؟ فقال: (نعم). فقالا: نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا. فقال: (سلاني فقال أحدهما: أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب الله، فنزلت وأسلما.
وقال ابن جبير: كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا.
وقيل: نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى.
وقيل: في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية.
وقيل: إنهم قالوا: ديننا أفضل من دينك، فنزلت.
وأصل: شهد، حضر، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره. فقيل: معنى: شهد، هنا: أعلم. قاله المفضل وغيره، وقال الفراء، وأبو عبيدة: قضى، وقال مجاهد: حكم، وقيل: بين. وقال ابن كيسان: شهد بإظهار صنعه.
* وفي كل شيء له آية
*
تدل على أنه الواحد
*
قال الزمخشري: شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص، وآية الكحرسي وغيرهما. بشهادة الشاهد في البيان والكشف، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك، واحتجاجهم عليه. إنتهى. وهو حسن.
وقال المروزي: ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده، كقوله: * (قل الانفال) * إنتهى.
ومشاركة الملائكة وأولي العلم لله تعالى في الشهادة. من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام، أو صحة نسبة الإظهار والبيان، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل، والرسل لأولي العلم.
وقال الواحدي: شهادة الله بيانه وإظهاره، والشاهد هو العالم الذي بين ما علمه، والله تعالى بين دلالات التوحيد بجميع ما خلق، وشهادة الملائكة بمعنى بالإقرار كقوله: * (هاذا قالوا شهدنا على أنفسنا) * أي: أقررنا. فنسق شهادة الملائكة على شهادة الله، وإن اختلفت معنى، لتماثلهما لفظا. كقوله: * (إن الله وملائكته يصلون على النبى) * لأنها من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار والدعاء وشهادة أولي العلم يحتمل الإقرار ويحتمل التبيين، لأنهم أقروا وبينوا. إنتهى.
وقال المؤرخ: شهد الله، بلغة قيس بن غيلان.
و * (أولوا * العلم) * قيل: هم الأنبياء. وقيل: العلماء وقيل
419

مؤمنو أهل الكتاب. وقيل: المهاجرون والأنصار. وقيل: علماء المؤمنين. وقال الحسن: المؤمنون.
والمراد بأولي العلم: من كان من البشر عالما، لأنهم ينقسمون إلى: عالم وجاهل، بخلاف الملائكة. فإنهم في العلم سواء.
و * (وأنه * لا إلاه إلا هو) *: مفعول: شهد، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين، بحيث لا ينسقان متجاورين. وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى، وعلمهم كله ضروري، بخلاف البشر، فإن علمهم ضروري وإكتسابي.
وقرأ أبو الشعثاء: شهد، بضم الشين مبنيا للمفعول، فيكون: أنه، في موضع البدل أي: شهد وحدانية الله وألوهيته. وارتفاع: الملائكة، على هذه القراءة على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: والملائكة وأولو العلم يشهدون. وحذف الخبر لدلال المعنى عليه، ويحتمل أن يكون فاعلا بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنيا للفاعل، والتقدير: وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم.
وقرأ أبو المهلب، عم محارب بن دثار: شهداء الله، على وزن: فعلاء، جمعا منصوبا.
قال ابن جني: على الحال من الضمير في المستغفرين. وقيل: نصب على المدح، وهو جمع شهداء، وجمع شاهد: كظرفاء وعلماء. وروي عنه، وعن أبي نهيك: شهداء الله، بالرفع أي: هم شهداء الله. وفي القراءتين: شهداء، مضاف إلى اسم الله.
وروي عن أبي المهلب: شهد بضم الشين والهاء، جمع: شهيد، كنذير ونذر، وهو منصوب على الحال، واسم الله منصوب. وذكر النقاش: أنه قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافا لام الله في القراءتين.
وذكر الزمخشري، أنه قرىء: شهداء لله، برفع الهمزة ونصبها، وبلام الجر داخلة على اسم الله، فوجه النصب على الحال من المذكورين، والرفع على إضمارهم، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفا على الضمير المستكن في شهداء، وأجاز ذلك الوقوع الفاصل بينهما. وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية، وإما على الابتداء.
وقرأ أبو عمر وبخلاف عنه بإدغام: واو، وهو في: واو، والملائكة. وقرأ ابن عباس: * (أنه لا إلاه إلا هو) * بكسر الهمزة في: أنه، وخرج ذلك على أنه أجرى: شهد، مجرى: قال، لأن الشهادة في معنى القول، فلذلك كسر إن، أو على أن معمول: شهد، هو إن الدين عند الله الإسلام) * ويكون قوله: * (*) * ويكون قوله: * (أنه لا إلاه إلا هو) * جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية، هكذا خرجوه والضمير في: أنه، يحتمل أن يكون عائدا على: الله، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن، ويؤيد هذا قراءة عبد الله * (شهد الله أنه * لا إلاه إلا هو) * ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلا ضرورة، وإذا عملت فيه لزم حذفه.
قالوا: وانتصب: * (قائما بالقسط) * على الحال من اسم الله تعالى، أو من: هو، أو من الجميع، على اعتبار كل واحد واحد، أو على المدح، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو. أو: على القطع، لأن أصله: القائم، وكذا قرأ ابن مسعبود، فيكون كقوله: * (وله الدين واصبا) * أي الواصب.
وقرأ أبو حنيفة: قيما، وانتصابه على ما ذكر. وذكر السجاوندي: أن قراءة عبد الله: قائم، فأما انتصابه على الحال من اسم الله فعالمها شهد، إذ هو العامل في الحال، وهي في هذا الوجه حال لازمة، لأن القيام بالقسط وصف ثابت لله تعالى.
وقال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه، أي: من الله،
420

كقوله * (وهو الحق مصدقا) *. انتهى. وليس من الحال المؤكدة، لأنه ليس من باب: * (ويوم يبعث حيا) * ولا من باب: أنا عبد الله شجاعا. فليس * (قائما بالقسط) * بمعنى: شهد، وليس مؤكدا مضمون الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعا، وهو زيد شجاعا. لكن في هذا التخريج قلق في التركيب، إذ يصير كقولك: أكل زيد طعاما وعائشة وفاطمة جائعا. فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو: هو، فجوزه الزمخشري وابن عطية.
قال الزمخشري: فإن قلت: قد جعلته حالا من فاعل: شهد، فهل يصح أن ينتصب حالا من: هو، في: * (لا إلاه إلا هو) *؟
قلت: نعما لأنها حال مؤكدة، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها، كقوله: أنا عبد الله شجاعا. انتهى. ويعني. أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئا من الجملة السابقة قبلها، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره: أحق، أو نحوه مضمرا بعد الجملة، وهذا قول الجمهور. والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم، أو شبيه بالملازم، فإن كان المتكلم بالجملة مخبرا عن نفسه، فيقدر الفعل: أحق، مبنيا للمفعول، نحو: أنا عبد الله شجاعا، أي: أحق شجاعا. وإن كان مخبرا عن غيره نحو: هو زيد شجاعا، فتقديره: أحقه شجاعا.
وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه. وأما من جعله حالا من الجميع، على ما ذكر، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكبا، أي: كل واحد منهم. وهذا لا تقوله العرب.
وأما انتصابه على المدح، فقال الزمخشري: فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمد لله الحميد، (إنا معشر الأنبياء لا نورث).
* إنا بني نهشل لا ندعى لأب؟
*
قلت: قد جاء نكرة في قول الهذلي:
* ويأوي إلى نسوة عطل
*
وشعثا مراضيع مثل السعالي
*
421

انتهى سؤاله وجوابه. وفي ذلك تخليط، وذلك أنه لم يفرق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمهما واحدا، وأورد مثالا من المنصوب على المدح وهو: الحمد لله الحميد، ومثالين في المنصوب على الاختصاص وهما: (إنا معشر الأنبياء لا نورث).
* إنا بني نهشل لا ندعى لأب والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعا لها، وقد لا يصلح، وقد يكون نكرة كذلك، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتا لها نحو قول النابغة:
*
* أقارع عوف لا أحاول غيرها
*
وجوه قرود يبتغي من يخادع
*
فانتصب: وجوه قرود، على الذم. وقبله معرفة وهو قوله: أقارع عوف.
وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهما، ولا يكون إلا معرفا بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلمية، أو بأي، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب. وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري.
فإن قلت: هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل: لا إله قائما بالقسط إلا هو؟
قلت: لا يبعد، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف، ثم قال: وهو أوجه من انتصابه عن فاعل: شهد، وكذلك انتصابه على المدح. انتهى. وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلا عبد الله شجاعا. ويعني أن انتصاب: قائما، على أنه صفة لقوله: إله، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل: شهد، وهو الله. وهذا الذي ذكره لا يجوز، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي، وهو المعطوفان اللذان هما: الملائكة وأولو العلم، وليسا معمولين من جملة * (لا إلاه إلا الله) * بل هما معمولان: لشهد، وهو نظير: عرف زيد أن هندا خارجة وعمرو وجعفر ا لتميمية. فيفصل بين هندا والتميمية بأجنبي ليس داخلا فيما عمل فيها، وفي خبرها بأجنبي وهما: عمرو وجعفر، المرفوعان بعرف، المعطوفان على زيد.
وأما المثال الذي مثل به وهو: لا رجل إلا عبد الله شجاعا، فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك: إلا عبد الله، يدل على الموضع من: لا رجل، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي. على أن في جواز هذا التركيب نظرا، لأنه بدل، و: شجاعا، وصف، والقاعدة أنه: إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح، فصار من جملة أخرى على المذهب.
وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلا على مذهب الكوفيين، وقد أبطله البصريون.
والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوبا على الحال من اسم الله، والعامل فيه: شهد، وهو قول الجمهور.
وأما قراءة عبد الله: القائم بالقسط، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم بالقسط. قال الزمخشري وغيره: إنه بدل من: هو، ولا يجوز ذلك، لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي. وهو المعطوفان، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضا، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك، لم يجز. إنما الكلام: جاء زيد أخوك وعائشة.
422

وقال الزمخشري فإن قلت: لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه، ولو قلت: جاءني زيد وعمر وراكبا لم يجز؟
قلت: إنما جاز هذا لعدم الإلباس، كما جاز في قوله: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) * إن انتصب: نافلة، حالا عن: يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكبا، جاز لتميزه بالذكورة. انتهى كلامه.
وما ذكر من قوله في: جاءني زيد وعمرو راكبا، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، بل هذا جائز، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قيدا فإنه يحمل على أقرب مذكور، ويكون راكبا حالا مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة، لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل. لكان: الطويل، صفة: لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا، وهو جائز فكذلك الحال.
وأما قوله: في: نافلة، إنه انتصب حالا عن: يعقوب، فلا يتعين أن يكون حالا عن: يعقوب، إذ يحتمل أن يكون: نافلة، مصدرا كالعافية والعاقبة. ومعناه: زيادة، فيكون ذلك شاملا لإسحاق ويعقوب، لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره، إذ كان إنما جاء له إسحاق على الكبر، وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة، وأولاد إبراهيم غير إسماعيل وإسحاق مديان، ويقال: مدين، ويشتاق، وشواح، وهو خاضع، ورمران وهو محدان، ومدن، ويقشان وهو مصعب، فهؤلاء ولد إبراهيم لصلبه. والعقب الباقي منهم لإسماعيل وإسحاق لا غير.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما المراد بأولي العلم، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله؟
قلت: هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وهم علماء العدل والتوحيد. انتهى.
ويعني بعلماء العدل والتوحيد: المعتزلة، وهم يسمون أنفسهم بهذا الاسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله بقراءتي عليه قال: أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه:
* لولا ثلاث لم أخف صرعتي
*
ليست كما قال فتى العبد
*
* أن أنصر التوحيد والعدل في
*
كل مقام باذلا جهدي
*
* وأن أناجي الله مستمتعا
*
بخلوة أحلى من الشهد
*
* وأن أتيه الدهر كبرا على
*
كل لئيم أصعر الخد
*
* لذاك أهوى لا فتاة ولا
*
خمر ولا ذي ميعة نهد
*
* (لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم) * كرر التهليل توكيدا وقيل: الأول شهادة الله، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا بعيد جدا لأنه يؤدي إلى قطع الملائكة عن العطف على الله تعالى، وعلى إضمار فعل رافع، أو على جعلهم مبتدأ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي، وهو قوله: * (قائما بالقسط) *.
وقيل: الأول جار مجرى الشهادة، والثاني جار مجرى الحكم وقيل: هذا الكلام ينطوي على مقدمتين، وهذا هو نتيجتهما، فكأنه قال: شهد الله والملائكة وأولو العلم وما
423

شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق، فحذف إحدى المقدمتين للدلالة عليها، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ.
وقال الراغب: إنما كرر * (لا إلاه إلا هو) * لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد، فيصح وصفهم بها، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر، وأبلغ ما وصف به من التنزيه: لا إله إلا الله، فتكريره هنا لأمرين: أحدهما: لكون الثاني قطعا للحكم، كقولك: أشهد أن زيدا خارج، وهو خارج. والثاني: لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى.
وقال الزمخشري: صفتان مقررتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله. انتهى. وهو تحويم على مذهب المعتزلة.
وارتفع: العزيز، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: والعزيز، على الاستئناف قيل: وليس بوصف، لأن الضمير لا يوصف، وليس هذا بالجمع عليه، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف.
وجوزوا في إعراب: العزيز، أن يكون بدلا من: هو. وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد، فقرأ هذه الآية، ثم قال: وأنا أشهد بما شهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة، إن الدين عند الله الإسلام قالها مرارا، فسئل، فقال: حدثني أبو وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى، أدخلوا عبدي الجنة).
وقال أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي: العزيز، إشارة إلى كمال القدرة، و: الحكيم، إشار، إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما، لأن كونه * (قائما بالقسط) * لا يتم إلا إذا كان عالما بمقادير الحاجات، فكان قادرا على تحصيل المهمات، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادرا متقدم على العلم بكونه عالما في طريق المعرفة الاستدلالية، وهذا الخطاب مع المستدل. انتهى كلامه.
(* (إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جآءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حآجوك فقل أسلمت وجهى لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والا ميين ءأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد * إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم * أولائك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والا خرة وما لهم من ناصرين) *))
) *
* (إن الدين عند الله الإسلام) * أي الملة والشرع، والمعنى: إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر.
قرأ الجمهور: إن، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس، والكسائي، ومحمد بن عيسى الأصبهاني: أن، بالفتح، وتقدمت قراءة ابن عباس: شهد الله إنه، بكسر الهمزة، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف، وهي مؤكدة للجملة الأولى.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة هذا التوكيد؟
قلت: فائدته أن قوله: لا إله إلا هو توحيد، وقوله: قائما بالقسط، تعديل، فإذا أردفه قوله: إن الدين عند الله الإسلام، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه، أو ما يؤدي إليه، كإجازة الرؤية، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور، لم يكن على دينا لله الذي هو الإسلام، وهذا بين جلي كما ترى. انتهى كلامه. وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية، وقولهم: إن أفعال العبد مخلوقة له لا لله تعالى.
وأما قراءة لكسائي ومن وافقه في نصب: أنه، وأن، فقال أبو علي الفارسي: إن شئت جعلته من بدل
424

الشيء من الشيء وهو هو، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل. وقال: وإن شئت جعلته بدلا من القسط، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضا من بدل الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات أبي علي، وهو معتزلي، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو، خرجه غيره أيضا وليس بجيد، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب، وهو: عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو، و: بنو تميم، وبنو دارم ملاقيا للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي، إن الخصلة الحميدة هي البسالة. وتقريب هذا المثال: ضرب زيد عائشة، والعمران حنقا أختك. فحنقا: حال من زيد، وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف، وهو لا يجوز. وبالحال لغير المبدل منه، وهو لا يجوز، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل. وخرجها الطبري على حذف حرف العطف، التقدير: وأن الدين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، ولم يبين وجه ضعفه، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية، وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو: أكل زيد خبزا وعمرو وسمكا. وأصل التركيب: أكل زيد وعمرو خبرا وسمكا. فإن فصلنا بين قولك: وعمرو، وبين قولك: وسمكا، يحصل شنع التركيب. وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح.
وقال الزمخشري: وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والبدل هو المبدل منه في المعنى، فكان بيانا صريحا، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل. إنتهى. وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء.
وأما قراءة ابن عباس فخرج على * (إن الدين عند الله الإسلام) * هو معمول: شهد، ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو * (أنه لا إلاه إلا هو) * والثاني: بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو * (لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم) * وإذا أعربنا: العزيز، خبر مبتدأ محذوف، كان ذلك ثلاث اعتراضات، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب، وإنما حمل على ذلك العجمة، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب، وحفظ أشعارها.
وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب: أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بد من الاطلاع على كلام العرب، والتطبع بطباعها، والاستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة: أن الدين، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول: للحكيم، على إسقاط حرف الجر، أي: بأن، لأن الحكيم فعيل للمبالغة: كالعليم والسميع والخبير، كما قال تعالى * (من لدن حكيم خبير) * وقال * (من لدن حكيم عليم) * والتقدير: لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدين عند الله الإسلام. ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم، حكم أن الدين المقبول عند الله هو الإسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه * (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الاخرة من الخاسرين) * وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة، ولمناسبة العزيز، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام، إذ حكم في كل شريعة بذلك.
فإن قلت: لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة، وهلا جعلته فعيلا بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم، كما قالوا في: أليم، إنه بمعنى مؤلم،
وفي سميع من قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي السميع
425

أي المسمع؟
فالجواب: إنا لا نسلم أن فعيلا يأتي بمعنى مفعل، وقد يؤول: أليم وسميع، على غير مفعل، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحول من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جدا، خارج عن الحصر: كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ، في ألفاظ لا تحصى، وأيضا فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلا أنه محول للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله * غفور رحيم) * أنكد أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق: والله غفور رحيم فقيل له التلاوة: * (والله عزيز حكيم) * فقال: هكذا يكون عز فحكم، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه، وهذا تخريج سهل سائغ جدا، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب الله عنها.
وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل: أن الدين معمولا: لشهد، كما فهموا، وأن: أنه لا إله إلا هو، اعتراض، وأنه بين المعطوف والحال وبين: أن الدين، اعتراض آخر، أو اعتراضان، بل نقول: معمول: شهد، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراء لها مجرى القول، أو نقول: إنه معمولها، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتا، فإنك تقول: شهدت إن زيدا لمنطلق، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت: شهدت أن زيدا منطلق، فمن قرأ بفتح: أنه، فإنه لم ينو التعليق، ومن كسر فإنه نوى التعليق. ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا.
والإسلام: هنا الإيمان والطاعات، قاله أبو العالية، وعليه جمهور المتكلمين، وعبر عنه قتادة، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال. وقرأ عبد الله: إن الدين عند الله الحنيفية.
قال ابن الإنباري: ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى الله عليه وسلم) على جهة التفسير، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات، وقد تقدم الكلام في الإسلام والإيمان: أهما شيء واحد أهم هما مختلفان؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل.
* (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) * أي: اليهود والنصارى، أو هما والمجوس، أقوال ثلاثة:
فعلى أنهم اليهود، وهو قول الربيع بن أنس، الذين اختلفوا فيه التوراة. قال: لما حضرة موسى عليه السلام الوفاة، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء، واستخلف يوشع، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم.
وقيل: الذين اختلفوا فيه
426

نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم)، فقال بعضهم: بعث إلى العرب خاصة، وقال بعضهم: ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق.
وعلى أنهم النصارى، وهو قول محمد بن جعفر الزبير، فالذي اختلفوا فيه: دينهم، أو أمر عيسى، أو دين الإسلام. ثلاثة أقوال.
وقال الزمخشري: هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه، فثلثت النصارى * (وقالت اليهود * عزيز * ابن الله) *، وقالوا: كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أميون، ونحن أهل كتاب، وهذا تجوير لله تعالى. إنتهى.
ثم قال: وقيل: اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام، حيث آمن به بعض وكفر بعض، وقيل: اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى، ومنهم من آمن بعيسى. إنتهى.
والذي يظهر أن اللفظ عام في * (الذين أوتوا الكتاب) * وأن المختلف فيه هو: الإسلام، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام، ثم قال: * (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) * أي: في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان.
* (إلا من بعد ما جاءهم العلم) * الذي هو سبب لاتباع الإسلام، والاتفاق على اعتقاده، والعمل به، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد، والاسئثار بالرياسة، وذهاب كل منهم مذهبا يخالف الإسلام حتى يصير رأسا يتبع فيه، فكانوا ممن ضل على علم. وقد تقدم ما يشبه هذا من قوله * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات) *.
* (بغيا بينهم) * وإعراب: بغيا، فإنه أتى بعد إلا شيئان ظاهرهما أنهما مستثنيان، وتخريج ذلك: فأغنى عن إعادته هنا.
* (ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) * هذا عام في كل كافر بآيات الله، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم.
وآياته، هنا قيل: حججه، وقيل: التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى الله عليه وسلم). وقيل: القرآن، وقال الماتريدي: أي من المختلفين.
وتقدم تفسير: سريع الحساب، فأغنى عن إعادته، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على اسم الشرط محذود تقديره: سريع الحساب له.
* (فإن حاجوك فقل أسلمت وجهى لله) * الضمير في: حاجوك، ابلظاهر أنه يعود على * (الذين أوتوا الكتاب) * وقال أبو مسلم: يعود على جميع الناس، لقوله بعد * (وقل للذين أوتوا الكتاب والاميين) * وقيل: يعود على نصارى نجران، قدموا المدينة للمحاجة. وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام، لأنه السابق. وجواب الشرط هو: * (فقل أسلمت وجهى لله) * والمعنى: انقدت وأطعت وخضعت لله وحده، وعبر: بالوجه، عن جميع ذاته، لأن الوجه أشرف الأعضاء، وإذا خضع
الوجه فما سواه أخضع وقال الزوزي، وسبقه الفراء إلى معناه: معنى أسلمت وجهي، أي: ديني، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل، وجاء في التفسير أقوال: أقول لكم، كما قال ابن نعيم: وقد أجمعتم على أنه محق * (قال ياءادم * قوم * إنى برىء مما تشركون * إنى وجهت وجهى للذى فطر * السماوات والارض * حنيفا وما أنا من المشركين) *.
وقال الزمخشري: وأسلمت وجهي، أي: أخلصت نفسي وعملي لله وحده، لم أجعل له شريكا بأن أعبده وأدعوا إلها معه، يعني: أن ديني التوحيد، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته، كما ثبت عندي. وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه، ونحوه * (قل ياأهل * أهل الكتاب * تعالوا إلى كلمة) * الآية، فهو دفع للمجادلة. إنتهى.
وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معا، إلا إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ، فيسوغ له ذلك.
وقال الرازي: في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان:
الأول: أنه إعراض عن المحاجة، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقة قبل نزول هذه الآية، فإن هذه السورة مدنية، وذلك بإظهار بالمعجزات بالقرآن وغيره، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله: * (الحى القيوم) * على فساد قول النصارى في إلهية عيسى، وبقوله * (نزل عليك الكتاب) * على صحة نبوته، وذكر شبه القوم وأجاب عنها، وذكر معجزات
427

أخرى، وهي ما شاهدوه يوم بدر، بين القول بالتوحيد بقوله: شهد الله.
والطريق الثاني: أنه إظهار للدليل، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال: أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه، والخلف فيما وراءه، وعلى المدعي الإثبات. وأيضا كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقا، وقد أمر أن يتبع ملته، وهنا أمر أن يقول كقوله، فيكون هذا من باب الإلزام، أي: أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق، وهذا قاله أبو مسلم، وأيضا لما تقدم أن الدين هو الإسلام، قيل له: إن نازعوك فقل: الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل الإسلام، وأيضا فالآية مناسبة لقول إبراهيم * (لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر) * أي: لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعا وضارا وقادرا على جميع الأشياء، وعيسى ليس كذلك، وأيضا فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه: أسلم قال أسلمت لرب العالمين) * وروي هذا عن ابن عباس. إنتهى ما لخص من كلام الرازي. وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها.
وفتح الياء: من: وجهي، هنا، وفي الأنعام نافع، وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون.
* (*) * وروي هذا عن ابن عباس. إنتهى ما لخص من كلام الرازي. وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها.
وفتح الياء: من: وجهي، هنا، وفي الأنعام نافع، وابن عامر، وحفص، وسكنها الباقون.
* (ومن اتبعن) * قيل: من، في موضع رفع، وقيل: ي موضع نصب على أنه مفعول معه، وقيل: في موضع خفض عطفا على اسم الله.
ومعناه: جعلت مقصدي بالإيمان به، والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له، والتحفي بتعلمه، وصحته.
فأما الرفع فعطفا على الفاعل في: أسلمت، قاله الزمخشري، وبدأ به قال: وحسن للفاصل، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلا في الشعر، على رأي البصريين. إلا أنه فصل بين الضمير والمعطوف، فيحسن. وقاله ابن عطية أيضا، وبدأ به. ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو: أكلت رغيفا وزيد، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى الله عليه وسلم) وجهه لله، وإنما المعنى: أنه صلى الله عليه وسلم) أسلم وجهه لله، وهم أسلموا وجوههم لله، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول: أسلمت، التقدير: ومن اتبعني وجهه.
أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه، ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: وعمرو كذلك. أي: قضى نحبه.
ومن الجهة التي امتنع عطف. ومن، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل، يمتنع كون: من، منصوبا على أنه مفعول معه، لأنك إذا قلت: أكلت رغيفا وعمرا، أي: مع عمرو، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية.
وأثبت ياء: اتبعني، في الوصل أبو عمرو، ونافع، وحذفها الباقون، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف، ولأنها رأس آية كقوله: أكرمن وأهانن، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر:
* وهل يمنعني ارتياد البلا
*
د من حذر الموت أن يأتين
*
428

* (وقل للذين أوتوا الكتاب) * هم: اليهود والنصارى باتفاق * (والاميين) * هم مشركو العرب، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له * (ءأسلمتم) * تقدير في ضمنه الأمر. وقال الزجاج: تهدد. قال ابن عطية: وهذا أحسن، لأن المعنى: أأسلمتم له أم لا؟ وقال الزمخشري: يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة، ولم تبق من طرق البيان والكشف طريقا إلا سلكته، هل فهمتها لا أم لك؟ ومنه قوله عز وعلا: * (فهل أنتم منتهون) * بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسدادا بينه وبين الإذعان، وكذلك في: هل فهمتها؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة، وفي * (فهل أنتم منتهون) * بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه. انتهى كلامه. وهو حسن، وأكثره من باب الخطابة.
* (فإن أسلموا فقد اهتدوا) * أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى، ومن الظلمة إلى النور. انتهى.
* (وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) * أي: هم لا يضرونك بتوليهم، وما عليك أنت إلا تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة الله وحده، وقيل: إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات، وهو وفود وفد نجران، فيكون المعنى: فإنما عليك البلاغ بقتال وغيره.
* (والله بصير بالعباد) *. وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام، ووعد بالخير لمن أسلم، إذ معناه: إن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.
* (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين) * الآية هي في اليهود والنصارى، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات:
إحداهما: كفره بآيات الله وهم مقرون بالصانع، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع، أو يجعل: بآيات الله، مخصوصا بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم).
الثانية: قتلهم الأنبياء، وقد تقدمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله * (ويقتلون النبيين بغير الحق) * والألف واللام في: النبيين، للعهد.
والثالثة: قتل من أمر بالعدل.
فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم، وبما هو سبب للآخر: فأولها: الكفر بآيات الله، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة، وثانيها: قتل من أظهر آيات الله واستدل بها. والثالث: قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وهذه الآية جاءت وعيدا لمن كان في زمانه صلى الله عليه وسلم)، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل، ودخلت الفاء في خبر: أن، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك، نسب إليهم ذلك، ولأنهم أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم)، فقتل أتباعه
429

فأطلق ذلك عليهم مجازا أي: من شأنهم وإرادتهم ذلك. ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم.
والمعنى: إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم، فإنهم لم يكونوا على حق. فذكر تقبيح الأوصاف، والتوعد عليها بالعقاب، مما ينفر عنها، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات الله وإجلال رسله وأتباعهم.
وقرأ الحسن: ويقتلون النبيين، بالتشديد، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة، وجماعة من غير السبعة: ويقاتلون الثاني. وقرأها الأعمش: وقاتلوا الذين، وكذا هي في مصحف عبد الله وقرأ أبي: يقتلون النبيين والذين يأمرون، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع، لأن كل جملة مستقلة بنفسها، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان.
وقيل: يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الروح، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر، فيكونان إذ ذاك مختلفين.
وجاء في هذه السورة * (بغير حق) * بصيغة التنكير، وفي البقرة * (بغير الحق) * بصيغة التعريف، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط، وهو عام لا يتخصص، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين، وذلك قوله * (ذالك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) * فناسب أن يأتي بصيغة التعريف، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفا، كقوله * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) * فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف، بخلاف ما في هذه السورة.
وقد تقدم في البقرة أن قوله: * (بغير الحق) * هي حال مؤكدة، إذ لا يقع قتل نبي إلا بغير الحق، وأوضحنا لك ذلك. فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا.
ومعنى: من الناس، أي: غير الأنبياء، إذ لو قال: ويقتلون الذين يأمرون بالقسط، لكان مندرجا في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم، فجاء من الناس بمعنى: من غير
الأنبياء. قال الحسن: تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء. وعن أبيه عبيدة بن الجراح، قلت يا رسول الله: أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: (رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر). ثم قرأها. ثم قال: (يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار).
* (فبشرهم بعذاب أليم) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازا لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه.
وهذه الجملة هي خبر: إن، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدمناه، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء، أعني: إن.
ومع ذلك في المسألة خلاف: الصحيح جواز دخول الفاء في خبر: إن، إذا كان اسمها مضمنا معنى الشرط، وقد تقدمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ، وتلك الشروط معتبرة هنا، ونظير هذه الآية في دخول الفاء * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) * * (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم) * * (إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم) *.
ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة، ولم يقس زيادتها. وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار، فإذا استعملت مع ما ليس بسار، فقيل: ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله:
430

تحية بينهم ضرب وجيع
أي: القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل: هو على معنى تأثر البشرة من ذلك، فلم يؤخذ فيه قيد السرور، بل لوحظ معنى الاشتقاق.
* (أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والاخرة) *. تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن * (يرتدد منكم عن دينه) * فأغنى عن إعادته.
وقرأ ابن عباس، وأبو السمال: حبطت، بفتح الباء وهي لغة.
* (وما لهم من ناصرين) * مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد، لأنه رأس آية، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين، أي: ليس لهم كأمثال هؤلاء، والمعنى: بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أولى، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة، ليقابل كل وصف بمناسبة، ولما كان الكفر بآيات الله أعظم، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق، وفي الآخرة بالعقاب الدائم، وقابل قتل الآمرين بالقسط، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب.
وفي قوله: أولئك، إشارة إلى من تقدم موصوفا بتلك الأوصاف الذميمة، وأخبر عنه: بالذين، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل، ولأن فيه نوع انحصار، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع، معهودة عنده، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول، بخلاف الإخبار بالفعل، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه، ولا يكون ذلك الفعل معلوما عنده، فإن كان معلوما عنده جعلته صلة، وأخبرت بالموصول عن الاسم.
قيل وجمعت هذه الآيات ضروبا من الفصاحة والبلاغة. أحدهما: التقديم والتأخير في: * (إن الدين عند الله الإسلام) * قال ابن عباس التقدير: شهد الله أن الدين عند الله الاسلام، أنه لا إله إلا هو، ولذلك قرأ إنه، بالكسر: وأن الدين، بالفتح.
وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله * (من * بعدما * جاءهم العلم) * عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى الله عليه وسلم)، على الخلاف الذي سبق.
وإسناد الفعل إلى غير فاعله في: * (حبطت أعمالهم) * وأصحاب النار
431

والإيماء في قوله: * (بغيا بينهم) * فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم، وكل فرقة منهم تجاذب طرفا منه.
والتعبير ببعض عن كل في: * (أسلمت وجهى) *.
والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله * (ءأسلمتم) *.
والطباق المقدر في قوله: * (فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ) * ووجهه: أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام، والإقبال عليه، والتولي ضد الإقبال. والتقدير: وإن تولوا فقد ضلوا، والضلالة ضد الهداية.
والحشو الحسن في قوله * (بغير حق) * فإنه لم يقتل قط نبي بحق، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء، ويعظم أمره في قلب العازم عليه.
والتكرار في * (ويقتلون الذين) * تأكيدا لقبح ذلك الفعل.
والزيادة في * (فبشرهم) * زاد الفاء إيذانا بأن الموصول ضمن معنى الشرط.
والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق.
2 (* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون * ذالك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات
وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون * فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون * قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير * تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى وترزق من تشآء بغير حساب * لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذالك فليس من الله في شىء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير * قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما فى السماوات وما فى الا رض والله على كل شىء قدير * يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد * قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم * قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) *)) *
432

غر، يغر، غرورا: خدع والغر: الصغير، والغريرة: الصغيرة، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة، والغرة منه يقال: أخذه على غرة، أي: تغفل وخداع، والغرة: بياض في الوجه، يقال منه: وجه أغر، ورجل أغر، وامرأة غراء. والجمع على القياس فيهما غر. قالوا: وليس بقياس وغران. قال الشاعر:
* ثياب بني عوف طهارى نقية
*
وأوجههم عند المشاهد غران
*
نزع ينزع: جذب، وتنازعنا الحديث تجاذبناه، ومنه: نزاع الميت، ونزع إلى كذا: مال إليه وانجذب، ثم يعبر به عن الزوال، يقال: نزع الله عنه الشر: أزاله.
ولج يلج ولوجا ولجة وولجا، وولج تولجا وأتلج إتلاجا قال الشاعر:
* فإن القوافي يتلجن موالجا
*
تضايق عنها أن تولجها الإبر
*
الأمد: غاية الشيء، ومنتهاه، وجمعه آماد.
اللهم: هو الله إلا أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء، ولذلك لا تدخل عليه إلا في الضرورة. وعند الفراء: هي من قوله: يا الله أمنا بخير، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها: أل، فقالوا: لا هم، بمعنى: اللهم. قال الزاجر:
* لا هم إني عامر بن جهم
*
أحرم حجا في ثياب دسم
*
وخففت ميمها في بعض اللغات قال:
* كحلقه من أبي رياح
*
يسمعها اللهم الكبار
*
الصدر: معروف، وجمعه: صدور.
* (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) * قال السدي: دعا النبي صلى الله عليه وسلم) اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أبي أوفى: هلم نخاصمك إلى الأحبار. فقال: (بل إلى كتاب الله). فقال: بل إلى الأحبار. فنزلت.
وقال ابن عباس: دخل صلى الله عليه وسلم) إلى المدارس على اليهود، فدعاهم إلى الله، فقال نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على
433

أي دين أنت يا محمد؟ فقال: (على ملة إبراهيم). قالا: إن إبراهيم كان يهوديا. فقال صلى الله عليه وسلم): (فهلموا إلى التوراة). فأبيا عليه، فنزلت.
وقال الكلبي: زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تخفيفا للزانيين لشرفهما، فقال صلى الله عليه وسلم): (إنما أحكم بكتابكم). فأنكروا الرجم، فجيء بالتوراة، فوضع حبرهم، ابن صوريا، يده على آية الرجم، فقال عبد الله بن سلام: جاوزها يا رسول الله، فأظهرها فرجما.
وقال النقاش: نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوته، فقال لهم: (هلموا إلى التوراة ففيها صفتي).
وقال مقاتل: دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام، فقالوا: نحن أحق بالهدى منك، وما أرسل الله نبيا إلا من بين إسرائيل، قال: (فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي) فأبوا، فنزلت * (والذين أوتوا * نصيبا من الكتاب) * هم: اليهود، والكتاب: التوراة.
وقال مكي وغيره: اللوح المحفوظ، وقيل: * (من الكتاب) * جنس للكتب المنزلة، قاله ابن عطية، وبدأ به الزمخشري و: من، تبعيض.
وفي قوله: نصيبا، أي: طرفا، وظاهر بعض الكتاب، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه.
* (يدعون إلى كتاب الله) * هو: التوراة، وقال الحسن، وقتادة، وابن جريح: القرآن. و: يدعون، في موضع الحال من الذين، والعامل: تر، والمعنى: ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب الله؟ أي: في حال أن يدعوا إلى كتاب الله * (ليحكم بينهم) * أي: ليحكم الكتاب. وقرأ الحسن، وأبو جعفر، وعاصم الجحدري: ليحكم، مبينا للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول.
* (ثم يتولى فريق منهم) * هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب الله واجب، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره.
* (وهم معرضون) * جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض، أو مبينة لكون التولي عن الداعي، والإعراض عما دعا إليه، فيكون المتعلق مختلفا، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم، قاله ابن الأنباري. أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم، وفي قوله: * (بينهم) * دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعا لا بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول، فإن صح سبب منها كان المعنى: ليحكم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم، ليحكم بين المحق والمبطل، فتولى من لم يسلم.
قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لأنهم ولولا علمهم بما ادعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه. وفيا دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله، ويعضده: * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) *.
قال القرطبي: وإذا دعي إلى كتاب الله وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالف، والمخالف. وهذا الحكم جار عندنا بالأندلس وبلاد المغرب، وليس بالديار المصرية.
قال ابن خويزمنداد المالكي: واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق.
* (ذالك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * الإشارة بذلك إلى التولي، أي: ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل.
وقال الزمخشري: كما طمعت الجبرية والحشوية.
* (وغرهم فى
434

دينهم ما كانوا يفترون) * من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، كما غرى أولئك بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم) في كبائرهم. إنتهى كلامه. وهو على عادته من اللهج بسب أهل السنة والجماعة، ورميهم بالتشبيه، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه.
وتقدم تفسير هذه: الأيام المعدودات، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا، إلا أنه جاء هناك: معدودة، وهنا: معدودات، وهما طريقان فصيحان تقول: جبال شامخة، وجبال شامخات. فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة، وتارة لصفة المؤنثات. فكما تقول: نساء قائمات، كذلك تقول: جبال راسيات، وذلك مقيس مطرد فيه.
* (وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون) * قال مجاهد: الذي افتروه هو قولهم: * (لن تمسنا النار إلا أياما معدودات) * وقال قتادة: بقولم: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقيل: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *. وقيل: مجموع هذه الأقوال.
وارتفع: ذلك، بالابتداء، و: بأنهم، هو الخبر، أي: ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول، وهو قولهم: إنهم لا تمسهم النار إلا أياما قلائل، يحصرها العدد. وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي: شأنهم ذلك، أي التولي والإعراض، قاله الزجاج. وعلى هذا يكون: بأنهم، في موضع الحال، أي: مصحوبا بهذا القول، و: ما في: ما كانوا، موصولة، أو مصدرية.
* (فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه) * هذا تعجيب من حالهم، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم، وظهر كذب دعواهم، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه، كما قال تعالى: * (تلك أمانيهم) * هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء، فكيف إذا توفتهم الملائكة؟ وقال الشاعر:
* فكيف بنفس، كلما قلت: أشرفت
*
على البرء من دهماء، هيض اندمالها
*
وقال:
* فكيف؟ وكل ليس يعدو حمامه
*
وما لامرىء عما قضى الله مرحل
وانتصاب: فكيف، قيل على الحال، والتقدير: كيف يصنعون؟ وقدره الحوفي: كيف يكحون حالهم؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى: التقدير: كيف حالهم؟ والعامل في: إذا، ذلك الفعل الذي قدره، والعامل في: كيف، إذا كانت خبرا عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف، فيكون العامل في: إذا، المبتدأ الذي قدرناه، أي: فكيف حالهم في ذلك الوقت؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب، وكذا أككثر استفهامات القرآن، لأنها من عالم الشهادة، وإنما استفهامه تعالى تقريع.
*
واللام، تتعلق: بجمعناهم، والمعنى: لقضاء يوم وجزائه كقوله: * (إنك جامع الناس ليوم) * قال النقاش: اليوم، هنا الوقت، وكذلك: * (أياما معدودات) * و * (فى يومين) * و * (فى أربعة أيام) * إنما هي عبارة عن أوقات، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا.
وقال ابن عطية: الصحيح في يوم القيامة أنه يومك، لأنه قبله ليلة وفيه شمس.
ومعنى: * (لا ريب فيه) * أي في نفس الأمر، أو عند المؤمن، أو عند المخبر عنه، أو حين يجمعهم فيه، أو معناه: الأمر خمسة أقوال.
* (ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون) * تقدم تفسير مثل يهذا في البقرة، آخر آيات الربا.
* (قل اللهم مالك
435

الملك) * قال الكلبي: ظهرت صخرة في الخندق، فضربها صلى الله عليه وسلم)، فبرق برق فكبر، وكذا في الثانية والثالثة، فقال صلى الله عليه وسلم): (في الأولى: قصور العجم، وفي الثانية: قصور الروم. وفي الثالثة: قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام: أن أمتي ظاهرة على الكل). فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقا، ويتمنى ملك فارس والروم، فنزلت. اختصره السجاوندي هكذا، وهو سبب مطول جد.
وقال ابن عباس: لما فتحت مكة، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم، فقال عبد الله بن أبي: هم أعز وأمنع، فنزلت.
وقال ابن عباس، وأنس: لما فتح صلى الله عليه وسلم) مكة، وعد أمته ملك فارس والروم، فنزلت.
وقيل: بلغ ذلك اليهود فقالوا: هيهات هيهات فنزلت، فذلوا وطلبوا المواصمة. وقال الحسن: سأل صلى الله عليه وسلم) ملك فارس والروم لأمته، فنزلت على لفظ النهي. وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك. وقال أبو مسلم الدمشقي: قالت اليهود: والله لا نطيع رجلا جاء بنقل النبوة من بني إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت.
وقيل: نزلت ردا على نصارى نجران في قولهم: إن عيسى هو الله، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف.
والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول. وقال مجاهد: الملك النبوة، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول. وقيل: المال والعبيد، وقيل: الدنيا والآخرة.
وقال الزجاج: مالك العباد وما ملكوا. وقال الزمخشري: أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون. وقال معناه ابن عطية، وقد تكلم في لفظة: اللهم، من جهة النحو، فقال: أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى. إنتهى. وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات، قال: وأنشد بعضهم:
* كحلفة من أبي رياح
*
يسمعها اللهم الكبار
*
قال الراد عليه: تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصا عند الفراء، لأن عنده هي التي في أمنا، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمنا. قال: والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار. إنتهى. وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلا بالفعل الذي قبله؟ قال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم تجمع سبعين اسما من أسمائه وقال النضر بن شميل: من قال اللهم فقد دعا الله بجيع أسمائه كلها. وقال الحسن: اللهم مجمع الدعاء. ومعنى قول النضر: إن اللهم هو الله زيدت فيه الميم، فهو الاسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات، لأنك إذا قلت: جاء زيد، فقد ذكرت الاسم الخاص،
فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة، أو اضدادها وما أشبه ذلك.
وانتصاب: مالك الملك، على أنه منادى ثان أي: يا مالك الملك، ولا يوصف اللهم عند سيبويه، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه، فهو عندهما صفة للأهم، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو.
* (تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) * الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة، كما أن ظاهر الملك الأول كذلك، فيكون الأول عاما، وهذان
436

خاصين. والمعنى: إنك تعطي من شئت قسما من الملك، وتنزع ممن شئت قسما من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوة أيضا، ولا يتأتى هذا التفسير في: تنزع الملك، لأن الله لم يؤت النبوة لأحد ثم نزعها منه إلا أن يكون تنزع مجازا بمعنى: تمنع النبوة ممن تشاء، فيمكن.
وقال أبو بكر الوراق: هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى. وقيل: العافية، وقيل: القناعة. وقيل: الغلبة بالدين والطاعة. وقيل: قيام الليل. وقال الشبلي: هو الاستغناء بالمكون عن الكونين. وقال عبد العزيز بن يحيى: هو قهر إبليس كما كان يفر من ظل عمر، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم. وقيل: ملك المعرفة بلا علة، كما أتى سحرة فرعون، ونزع من بلعام. وقال أبو عثمان: هو توفيق الإيمان.
وإذا حملناه على الأظهر: وهو السلطنة والغلبة، وكون المؤتى هو الآمر المتبع، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى الله عليه وسلم) وأمته، والمنزوع منهم فارس والروم. وقيل: المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش. وقيل: العرب وخلفاء الإسلام وملوكه، والمنزوع فارس والروم. وقال السدي: الأنبياء أمر الناس بطاعتهم، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم. وقيل: داود عليه السلام، والمنزوع منه طالوت. وقيل: صخر، والمنزوع منه سليما أيام محنته. وقيل: المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء. وقيل: الملك العزلة والانقطاع، وسموه الملك المجهول.
وهذه أقوال مضطربة، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد.
* (وتعز من تشاء وتذل من تشاء) * قيل: محمد صلى الله عليه وسلم) وأصحابه، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفا ك ظاهرين عليها، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب. وقيل: بالتوفيق والعرفان، وتذل بالخذلان. وقال عطاء: المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم. وقيل: بالطاعة وتذل بالمعصية. وقيل: بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية. وقيل: بالإخلاص وتذل بالرياء. وقيل بالغنى وتذل بالفقر. وقيل: بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار، قاله الحسن بن الفضل. وقيل: بقهر النفس وتذل باتباع الخزي، قاله الوراق. وقيل: بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان إياه، قاله الكتاني. وقيل: بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع.
ينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة، قال الكعبي: تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به، ولا تنزعه إلا ممن فسق، يدل عليه * (لا ينال عهدي الظالمين) * * (إن الله اصطفاه عليكم) * جعل الاصطفاء سببا للملك، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه، فصح أن الملوك العادلين
437

هم المخصوصون بايتاء الله الملك، وأما الظالمون فلا.
أما النزع فبخلافه، فكما ينزعه من العادل لمصلحة، فقد ينزعه من الظالم.
وقال القاضي عبد الجبار: الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة. وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان، وأذل الأشياء الموجبة للذلة هو الكفر، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز الله إياه وإذلاله، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه، وهو باطل قطعا.
وقال الجبائي: يذل أعداءه في الدنيا والآخرة، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعا. قال: ووصف الفقر بكونه ذلا مجازا، كقوله أذلة على المؤمنين) * وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن، وخذلانهم بالحجة والنصرة، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة، وبعقوبتهم في الآخرة.
* (*) * وإذلال الله المبطل بوجوه بالذم واللعن، وخذلانهم بالحجة والنصرة، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة، وبعقوبتهم في الآخرة.
* (بيدك الخير) * أي: بقدرتك وتصديقك وقع الخير، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحة لله تعالى.
قيل: المعنى والشر، نحو: تقيكم الحر، أي والبرد. وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه، والإعزاز والإذلال، وذلك خير لناس وشر لآخرين، فلذلك كان التقدير: بيدك الخير والشر، ثم ختمها بقوله * (إنك على كل شىء قدير) * فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة، وجمع الخيور والشرور، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال.
وقال الزمخشري. فإن قلت: كيف قال * (بيدك الخير) * فذكر الخير دون الشر؟
قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين، وهو الذي أنكرته الكفرة، فقال: * (بيدك الخير) * تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك، ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله. انتهى كلامه، وهو يدافع آخره أوله، لأنه ذكر في السؤال؛ لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر؟
وأجاب بالجواب الأول، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين، فناسب
الاقتصار على ذكر الخير فقط.
وأجاب بالجواب الثاني: وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر، وهذا الجواب يناقض الأول.
وقال ابن عطية: خص الخير بالذكر، وهو تعالى بيده كل شيء، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكان المعنى: * (بيدك الخير) * فأجزل حظي منه.
وقال الراغب: لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه.
وقال الرازي: الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم، وتقديم: بيدك، يدل على الحصر، فدل على أن لا خير إلا بيده، وأفضل الخيرات الإيمان، فوجب أن يكون بخلق الله. ولأن فاعل الأشرف أشرف، والإيمان أشرف.
* (تولج اليل فى النهار وتولج النهار فى اليل) * قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي، وابن زيد: المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار، دأبا كل فصل من السنة، قيل: حتى يصير الناقص تسع ساعات، والزائد خمس عشرة ساعة. وذكر بعض معاصرينا: أجمع أرباب علم الهيئة على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار يأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة، وكذلك العكس.
وذكر الماوردي: أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل، وتغطية النهار بالليل، إذا أقبل، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه، وأورد هذا القول احتمالا ابن عطية، فقال: ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر.
* (وتخرج الحى من الميت وتخرج الميت من الحى) * معنى الإخراج التكوين هنا، والإخراج حقيقة هو إخراج الشيء من الظرف قال ابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، وإبراهيم، والسدي، وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم، وعبد الرحمن بن زيد. تخرج
438

الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي، فعلى هذا يكون الموت مجازا إذ النطفة لم يسبق لها حياة، ويكون المعنى: وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي، والإخراج عبارة عن تغير الحال.
وقال عكرمة، والكلبي: أي الفرخ من البيضة، والبيضة من الطير، والموت أيضا هنا مجاز والإخراج حقيقة.
وقال أبو مالك: النخلة من النواة، والسنبلة من الحبة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والموت والحياة في هذا مجاز.
وقال الحسن، وروى نحوه عن سامان الفارسي: تخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، وهما أيضا مجاز. وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال: (سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت). وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافرا وهي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث.
وقال الزجاج: يخرج النبات الغض الطري من الحب، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي.
وقيل: الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب وقال الماوردي: ويحتمل يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز، والعكس، لأن الفطنة حياة الحس والبلادة موته. وقيل: يخرج الحكمة من قلب الفاجر لأنها لا تستقر فيه، والسقطة من لسان العارف وهذه كلها مجازات بعيدة.
والأظهر في قوله * (الحى من الميت) * تصور اثنين وقيل: عنى بذلك شيئا واحدا يتغير به الحال، فيكون ميتا ثم يحيا، وحيا ثم يموت. نحو قولك: جاء من فلان أسد وقال ابن عطية: ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به، وذكر قول ابن مسعود وقول عكرمة المتقدمين، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلا، وكذلك في الموت، وشدد حفص، ونافع، وحمزة، والكسائي: الميت، في هذه الآية. وفي الأنعام، والأعراف، ويونس، والروم، وفاطر زاد نافع تشديد الياء في: * (أو من كان ميتا فأحييناه) * وفي الأنعام و * (الارض الميتة) * في يس و * (لحم أخيه ميتا) * في الحجرات. وقرأ الباقون بتخفيف ذلك، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال، كما تقول: لين ولين وهين وهين. ومن زعم أن المخفف لما قد مات، والمشدد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل.
* (وترزق من تشاء بغير حساب) * تقدم تفسير نظيره في قوله * (والله يرزق من يشاء بغير حساب * كان الناس أمة واحدة) * فأغنى ذلك عن اعادته هنا وقال الزمخشري: ذكر قدرته الباهرة، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم، ويؤتيه العرب ويعزهم. انتهى. وهو حسن.
قيل: وتضمنت هذه الآيات أنواعا من: الفصاحة، والبلاغة، والبديع.
الاستفهام الذي معناه التعجب في * (ألم تر إلى الذين) *. والإشارة في * (نصيبا من الكتاب) * فإدخال: من، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علما ولا حفظا، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم
439

وتنقيص قدرهم وذمهم، إذ يزعمون أنهم أخياروهم بخلاف ذلك، وفي قوله * (ذلك بأنهم) * إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم، وفي * (ووفيت كل نفس) * إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء.
والتكرار في * (علم من الكتاب) * * (يدعون إلى كتاب الله) * إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحدا، وإما في اللفظ إن كان مختلفا. وفي التولي والإعراض
إن كانا بمعنى واحد. وفي: * (مالك الملك) * * (تؤتى الملك) * * (وتنزع الملك) * وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحدا، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط، وتكرار * (من تشاء) * وفي * (تولج) * وفي * (تخرج) * وفي متعلقيهما. والاتساع في جعل: في، بمعنى: على، على قول من زعم ذلك في قوله * (تولج اليل فى النهار) * أي على النهار، * (وتولج النهار فى اليل) * أي على الليل. وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية.
والنفي المتضمن الأمر في * (لا ريب فيه) * على قول الزجاج، أي لا ترتابوا فيه، والتجنيس المماثل في * (مالك الملك) * والطباق: في: تؤتي وتنزع، وتعز وتذل، وفي الليل والنهار، وفي الحي والميت. ورد العجز على الصدر في: تولج، وما بعده، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها. كقوله * (تؤتى الملك من تشاء) * أي من تشاء أن تؤتيه. والإسناد المجازي في * (ليحكم بينهم) * أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث: (إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم: قل اللهم مالك الملك إلى بغير حساب. ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني. فلو كان ملء الأرض ذهبا لأداه الله).
* (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين) * قيل: نزلت في عبادة بن الصامت، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل: في عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل: في قوم من اليهود، وهم: الحجاح بن عمر، وكهمس بن أبي الحقيق، وقيس بن يزيد، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا: اجتنبوا هؤلاء اليهود، فأبوا، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس. وقيل: في حاطب بن بلتعة، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش، فنزلت.
ومعنى: اتخاذهم أولياء: اللطف بهم في المعاشرة، وذلك لقرابة أو صداقة. قبل الإسلام، أو يد سابقة أو غير ذلك، وهذا فيما
440

يظهر نهوا عن ذلك، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم، واللطف عام في جميع الأعصار، وقد تكرر هذا في القرآن. ويكفيك من ذلك قوله تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله) * الآية، والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين.
وقرأ الجمهور: لا يتخذ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي، والمراد به النهي، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك.
وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيدا، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل، والأرفع بالأوضع، والنكاح فيهم. فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه، ولسنا ممنوعين منه، فالنهي ليس على عمومه.
* (من دون المؤمنين) * تقدم تفسير: من دون، في قوله * (وادعوا شهداءكم من دون الله) * فأغنى عن إعادته.
و: يتخذ، هنا متعدية إلى اثنين، و: من دون، متعلقة بقوله: لا يتخذ، و: من، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى: أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.
* (ومن يفعل ذالك فليس من الله في شىء) * ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من الله، وفي الكلام مضاف محذوف أي: فليس من ولاية الله في شيء وقيل: من دينه وقيل: من عبادته وقيل: من حزبه. وخبر: ليس، هو ما استقلت به الفائدة، وهي: في شيء، و: من الله، في موضع نصب على الحال، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء، والتقدير: فليس في شيء من ولاية الله. و: من، تبعيضية نفي ولاية الله عن من اتخذ عدوه وليا، لأن الولايتين متنافيتان، قال:
* تود عدوي ثم تزعم أنني
*
صديقك، ليس النوك عنك بعازب
*
وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة:
* إذا حاولت في أسد فجورا
*
فإني لست منك ولست مني
*
ليس بجيد، لأن: منك ومني، خبر ليس، وتستقل به الفائدة. وفي الآية الخبر قوله: في شيء، فليس البيت كالآية.
قال ابن عطية * (فليس من الله في شىء) * معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم): (من غشنا فليس منا). وفي
الكلام حذف مضاف تقديره: فليس من التقرب إلى الله والتزلف. ونحو هذا مقولة: في شيء، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله: * (ليس من * الله في شىء) *. انتهى كلامه. وهو كلام مضطرب، لأن تقديره: فليس من التقرب إلى الله، يقتضي أن لا يكون من الله خبرا لليس، إذ لا يستقل. فقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبرا، فيبقى: ليس، على قوله لا يكون لها خبر، وذلك لا يجوز. وتشبيهه بقوله عليه السلام: (من غشنا فليس منا) ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية.
* (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * هذا استثناء مفرع من المفعول له، والمعنى لا يتخذوا كافرا وليا لشيء من الأشياء إلا لسبب التقية، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون
441

ما ينعقد عليه القلب والضمير، ولذلك قال ابن عباس: التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال: يكون مع الكفار أو بين أظهرهم، فيتقيهم بلسانه، ولا مودة لهم في قلبه.
وقال قتادة: إذا كان الكفار غالبين، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعا للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان.
وقال ابن مسعود: خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون، ودينكم فلا تثلموه وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد: خالص المؤمن وخالق الكافر، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن.
وقال الصادق: التقية واجبة، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال: الرياء مع المؤمن شرك، ومع المنافق عبادة.
وقال معاذ بن جبل، ومجاهد: كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين، فأما اليوم فقد أعز الله المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم.
وقال الحسن: التقية جائزة إلى يوم القيامة، ولا تقية في القتل وقال مجاهد: إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا.
وفي قوله * (إلا أن تتقوا) * التفات، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب، ولو جاء على نظم الأول لكان: إلا أن يتقوا، بالياء المعجمة من أسفل، وهذا النوع في غاية الفصاحة، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز، جعل ذلك في اسم غائب، فلم يواجهوا بالنهي، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذانا بلطف الله بهم، وتشريفا بخطابه إياهم.
وقرأ الجمهور: تقاة، وأصله: وقية، فأبدلت الواو تاء، كما أبدلوها في: تجاه وتكاه، وانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وهو مصدر على فعلة: كالتؤدة والتخمة، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلا. وجاء مصدرا على غير الصدر، إذ لو جاء على المقيس لكان: اتقاء ونظير وقوله تعالى: * (وتبتل إليه تبتيلا) * وقول الشاعر:
* ولاح بجانب الجبلين منه
*
ركام يحفر الأرض احتفارا
*
والمعنى: إلا أن تخافوا منهم خوفا. وأمال الكسائي: تقاة، وحق تقاته، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين، وفتح الباقون.
وقال الزمخشري: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه وقرئ: تقية. وقيل: للمتقي تقاة وتقية، كقولهم: ضرب الأمير لمضروبه. انتهى فجعل: تقاة، مصدرا في موضع اسم المفعول، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر، ولذلك قدره إلا أن تخافوا أمرا.
وقال أبو علي: يجوز أن يكون: تقاة، مثل: رماة، حالا من: تتقوا، وهو جمع فاعل، وإن كان لم يستعمل منه فاعل، ويجوز أن يكون جمع تقي. انتهى كلامه.
وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله * (إلا أن تتقوا منهم) * وتجويز كونه جمعا ضعيف جدا، ولو كان جمع: تقي، لكان أتقياء، كغني وأغنياء، وقولهم: كمي وكماة، شاذ فلا يخرج عليه، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى: * (اتقوا الله حق تقاته) * المعنى حق اتقائه،
442

وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثيا أنهم قد حذفوا: اتقى، حتى صار: تقي يتقي، تق الله فصار كأنه مصدر لثلاثي.
وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة، والضحاك، وأبو حيوة، ويعقوب، وسهل، وحميد ابن قيس، والمفضل عن عاصم: تقية على وزن مطية وجنية، وهو مصدر على وزن: فعيلة، وهو قليل نحو: النميمة. وكونه من افتعل نادر.
وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية، إذ لها تعلق بالآية، فقالوا: أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه؟ وفيما يبيحها؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه، فيدخل في ذلك: الكفار، وجورة الرؤساء، والسلابة، وأهل الجاه في الحواضر. قال مالك: وزوج المرأة قد يكره؛ وأما ما يببحها: فالقتل، والخوف على الجوارح، والضرب بالسوط، والوعيد، وعداوة أهل الجاه الجورة. وأما بأي شيء تكون من الأقوال؟ فبالكفر فما دونه من: بيع، وهبة، وغير ذلك. وأما من الأفعال: فكل محرم.
وقال مسروق: إن لم يفعل حتى مات دخل النار، وهذا شاذ.
وقال جماعة من أهل العلم: التقية تكون في الأقوال دون الأفعال، روي ذلك عن ابن عباس، والربيع، والضحاك.
وقال أصحاب أبي حنيفة: التقية رخصة من الله تعالى، وتركها أفضل، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة. قال أحمد بن حنبل، وقد قيل له: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا. وقال: إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟ والذي نقل إلينا خلفا عن سلف أن الصحابة، وتابعيهم، بذلوا أنفسهم في ذات الله. وأنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم.
وقال الرازي: إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير: كالقتل، والزنا، وغصب الأموال، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة.
وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي: أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس، وهي جائزة لصون النفس والمال. إنتهى.
قيل: وفي الآية دلالة على أنه لا دلالة لكافر على مسلم في شيء، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوج ولا غيره.
قيل: وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة.
* (ويحذركم الله نفسه) * قال ابن عباس: بطشه، وقال الزجاج: نفسه أي: إياه تعالى، كما قال الأعشى:
* يوما بأجود نائلا منه إذا
*
نفس الجبان تجهمت سؤالها
*
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله. قال ابن عغطية: وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات. وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه. فقال ابن عباس، والحسن: ويحذركم الله عقابه. إنتهى كلامه.
ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال: * (وإلى الله المصير) * أي: صيرورتكم ورجوعكم، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي. وفي ذلك تهديد وعيد شديد.
* (قل إن تخفوا ما فى صدوركم أو تبدوه يعلمه الله) * تقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة، وهناك قدم الإبداء على الإخفاء، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء، وجعل محلهما ما في الصدور، وأتى جواب الشرط قوله: * (يعلمه الله) * وذلك من التفنن في الفصاحة. والمفهوم أن
443

الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة، وتحذير من ذلك.
* (ويعلم ما فى * السماوات وما في) * هذا دليل على سعة علمه، وذكر عموم بعد خصوص، فصار علمه بما في صدورهم مذكورا مرتين على سبيل التوكيد، أحدهما: بالخصوص، والآخر: بالعموم، إذ هم ممن في الأرض.
* (يشاء والله على كل شيء قدير) * فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم.
وقال الزمخشري: وهذا بيان لقوله * (ويحذركم الله نفسه) * لأن نفسه، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور، فهي قادرة على المقدورات كلها، فكان حقها أن تحذر وتتقي، فلا يجسر أحد على قبيح، ولا يقصر عن واجب، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة، فلا حق به العذاب. إنتهى. وهو كلام حسن، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم، والقدرة لله تعالى، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات.
* (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا) * اختلف في العامل في: يوم، فقال الزجاج: العامل فيه: ويحذركم، ورجحه. وقال أيضا: العامل فيه: المصير. وقال مكي بن أبي طالب: العامل فيه: قدير، وقال أيضا: فيه مضمر تقديره اذكر. وقال ابن جرير: تقديره: اتقوا، ويضعف نصبه بقوله: ويحذركم، لطول الفصل. هذا من جهة اللفظ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود، واليوم موعود، فلا يصح له العمل فيه، ويضعف انتصابه: بالمصير، للفصل بين المصدر ومعموله، ويضعف نصبه: بقدير، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائما. وأما نصبه باضمار فعل، فالإضمار على خلاف الأصل.
وقال الزمخشري: * (يوم تجد) * منصوب: بتود، والضمير في: بينه، ليوم القيامة، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا. إنتهى هذا التخريأ.
والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين، وهي: إذا كان الفاعل ضميرا عائدا على شيء اتصل بالمعمول للفعل، نحو: غلام هند ضربت، وثوبي أخويك يلبسان، ومال زيد أخذ، فذهب الكسائي، وهشام، وجمهور البصريين: إلى جوزاز هذه المسائل. ومنها الآية على تخريج الزمخشري، لأن الفاعل: بتود، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول: تود، وهو: يوم، لأن:
يوم، مضاف إلى: تجد كل نفس، والتقدير: يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود.
وذهب الفراء، وأبو الحسن الأخفش، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز، لأن هذا المعمول فضلة، فيجوز الاستغناء عنه، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به، ولهذه العلة امتنع: زيدا ضرب، وزيدا ظن قائما. والصحيح جواز ذلك قال الشاعر:
* أجل المرء يستحث ولا يد
*
ري إذا يبتغي حصول الأماني
*
أي: المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر.
و: تجد، الظاهر أنها متعدية إلى واحد وهو: ما عملت، فيكون بمعنى نصيب، ويكون: محضرا، منصوبا على الحال. وقيل: تجد، هنا بمعنى: تعلم، فتتعدى إلى اثنين،
444

وينتصب: محضرا على أنه مفعول ثان لها، وما، في: ما عملت، موصولة، والعائد عليها من الصلة محذوف، ويجوز أن تكون مصدرية أي: عملها، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول، أي: معمولها، فقوله: ما عملت، هو على حذف مضاف أي: جزاء ما عملت وثوابه.
قيل: ومعنى: محضرا على هذا موفرا غير مبخوس. وقيل: ترى ما عملت مكتوبا في الصحف محضرا إليها تبشيرا لها، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل.
وقرأ الجمهور: محضرا، بفتح الضاد، اسم مفعول. وقرأ عبيد بن عمير: محضرا بكسر الضاد، أي محضرا الجنة أو محضرا مسرعا به إلى الجنة من قولهم: أحضر الفرس، إذا جرى وأسرع.
وما عملت من سوء، يجوز أن تكون في موضع نصب، معطوفا على: ما عملت من خير، فيكون المفعول الثاني إن كان: تجد، متعدية إليهما، أو الحال إن كان يتعدى إلى واحد محذوفا، أي: وما عملت من سوء محضرا. وذلك نحو: ظننت زيدا قائما وعمرا، إذا أردت: وعمرا قائما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون: تود، مستأنفا. ويجوز أن يكون: تود، في موضع الحال أي: وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء، فيكون الضمير في بينه عائدا على ما عملت من سوء، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو: الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر، فتود تباعدة لتسلم من الشر، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى: عوده على: ما عملت من السوء، لأنه أقرب مذكور، لأن المعنى: أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه، وإلى عطف: ما عملت من سوء، على: ما عملت من خير، وكون، تود، في موضع الحال ذهب إليه الطبري، ويجوز أن يكون: وما عملت من سوء، موصولة في موضع رفع بالابتداء و: تود، جملة في موضع الخبر: لما، التقدير: والذي عملته من سبوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون: وما عملت من سوء، شرطا. قال الزمخشري: لارتفاع: تود. وقال ابن عطية: لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه، اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف، أي: فهي تود، وفي ذلك ضعف. إنتهى كلامه. وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع: تود، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي، رحمه الله، واستشسكل قول الزمخشري. وقال: ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير:
* وإن أتاه خليل يوم مسألة
*
يقول: لا غائب مالي ولا حرم
وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى: (بالتذكرة)، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك، بعد أن نقدم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضيا، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء، جاز في ذلك المضارع الجزم، وجاز فيه الرفع، مثال ذلك: إن قام زيد يقوم عمرو، وان قام زيد يقم عمرو. فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط، ولا تعلم في جواز ذلك خلافا، وأنه فصيح، إلا ما ذكره صاحب كتاب (الإعراب) عن بعض النحويين أنه: لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع: كان، لقوله تعالى * (من كان يريد الحيواة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) * لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها.
*
وظاهر كلام سيبويه، ونص الجماعة، أنه لا يختص ذلك بكان، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان، وأنشد سيبويه للفرزدق:
445

دست رسولا بأن القوم إن قدروا
وقال أيضا:
* تعال فإن عاهدتني لا تخونني
*
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
*
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير. وقال بعض أصحابنا: وهو أحسن من الجزم، ومنه بين زهير السابق إنشاده، وهو قوله أيضا:
* وإن سل ريعان الجميع مخافة
*
يقول جهارا: ويلكم لا تنفروا
*
وقال أبو صخر:
* ولا بالذي إن بان عنه حبيبه
*
يقول ويخفي الصبر: إني لجازع
*
وقال الآخر:
* وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه
*
تشوف أهل الغائب بالمتنظر
*
وقال الآخر:
* وإن كان لا يرضيك حتى تردني
*
إلى قطري لا إخالك راضيا
*
وقال الآخر:
* إن يسألوا الخير يعطوه، وإن خبروا
*
في الجهد أدرك منهم طيب إخبار
*
هذا الرفع، كما رأيت كثير، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره. وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي، وهو مصنف (وصف المباني) رحمه الله: لا أعلم منه شيئا جاء في الكلام،
446

وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع، تقدم الماضي أو تأخر، وتأول هذا المسموع على إضمار الفاء، وجعله مثل قول الشاعر:
إنك إن يصرغ أخوك تصرغ.
على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة.
وأما المقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم. وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده.
وذهب الكوفيون، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط، لكونه ماضيا، ضعف عن العمل في فعل الجواب، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء، ولا على نية التقديم، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان.
وتلخص من هذا الذي قلناه: أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا، لكن امتنع أن يكون: وما عملت، شرطا لعلة أخرى، لا لكون: تود، مرفوعا، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم، ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: إذا كان: تود، منويا به كالتقديم أدى إلى تقدم
المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية. ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي هو: ما، فيصير التقدير: تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء؟ فيلزم من هذا التقدير تقدم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز.
فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله، وذلك نظير: ضرب زيدا غلامه، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير.
فالجواب: إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب. وإذا كان كذلك تدافع الأمر، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها، فتدافعا. وهذا بخلاف: ضرب زيدا غلامه، هي جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هندا، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل، وامتنع: ضرب غلامها جار هند، لعدم الاشتراك في العامل، فهذا فرق ما بين المسألتين. ولا يحفظ من لسان العرب: أودلو أني أكرمه أيا ضربت هند، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون، فلذلك لا يجوز تأخيره.
وقرأ عبد الله، وابن أبي عبلة: من سوء ودت لو أن، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون: ما، شرطية في موضع نصب، فعملت. أو في موضع رفع على إضمار الهاء في: عملت، على مذهب الفراء، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام، وتكون: ودت، جزاء الشرط.
قال الزمخشري: لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت لموافقة قراءة العامة. انتهى.
و: لو، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف، ومفعول: تود، محذوف، والتقدير: تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في: لو، و: أن، وما بعدها في موضع مبتدا على مذهب سيبويه، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس.
وأما على قول من يذهب إلى أن: لو، بمعنى: أن، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية، ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا
447

قليلا، كقوله تعالى * (مثل ما أنكم تنطقون) * والذي يقتضيه المعنى أن: لو أن، وما يليها هو معمول: لتود، في موضع المفعول به. قال الحسن: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا، ذلك معناه.
ومعنى أمدا بعيدا: غاية طويلة، وقيل: مقدار أجله، وقيل: قدر ما بين المشرق والمغرب.
* (ويحذركم الله نفسه) *. كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه.
* (والله رءوف بالعباد) * لما ذكر صفة التخويف وكررها، كان ذلك مزعجا للقلوب، ومنبها على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه، وليبسط الرجاء في أفضاله، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر، ذكر ما يدل على سعة الرحمة، كقوله تعالى: * (إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله، وجاء المحذر مخصوصا بالمخاطب فقط، وهذه الجملة جاءت اسمية، فتكرر فيها اسم الله، إذا لوصف محتمل ضميره تعالى، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو: رؤوف، وجاء متعلقة عاما ليشمل المخاطب وغيره، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر، إذ هو ملكه.
قالوا: ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير، أي: إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه. وعن الحسن: من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، وقال الحوفي: جعل تحذيرهم نفسه إياه، وتخويفهم عقابه رأفة بهم، ولم يجعلهم في عمى من أمرهم. وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضا، والكلام محتمل لذلك، لكن الأظهر الأول، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن.
* (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) *. نزلت في اليهود، قالوا: * (نحن أبناء الله وأحباؤه) * أو: في قول المشركين * (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) * قالوا ذلك، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم) وكلا هذين القولين عن ابن عباس.
وقال الحسن، وابن جريج: في قوم قالوا: إنا لنحب ربنا حبا شديدا. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: في وفد نجران حيث قالوا: إنا نعظم المسيح حبا لله. انتهى.
ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله، فمحبة العبد لله عبارة عن عن ميل قلبه إلى ما حده له تعالى وأمره به، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة، ومحبته تعالى للعبد تقدم الكلام عليها، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل، فأغنى عن إعادته. رتب تعالى على محتبهم له واتباع رسوله محبته لهم، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه، فإنه هو المبين عن الله، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام اا في العبادات ولا في غيرها، بل رسوله صلى الله عليه وسلم) هو الموضح لذلك، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى.
وقرأ الجمهور: تحبون، ويحببكم، من أحب. وقرأ أبو رجاء العطاردي: تحبون ويحببكم، بفتح التاء والياء من حب، وهما لغتان وقد تقدم ذكرهما. وذكر الزمخشري
أنه قرىء: يحبكم، بفتح الياء والإدغام.
وقرأ الزهري: فاتبعوني، بتشديد النون، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية، ولم يحذف الواو شبها: بأتحاجوني، وهذا توجيه شذوذ. قال
448

الزمخشري: أراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل، فمن أدعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب، وكتاب الله يكذبه.
ثم ذكر من يذكر محبة الله، ويصفق بيديه مع ذكرها، ويطرب وينعر ويصفق، وقبح من فعله هذا، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه.
وروي عن أبي عمر إدغم: راء، و: يغفر لكم، في لام: لكم، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك، وذكرنا أن رؤساء الكوفة: أبا جعفر الرواسي، والكسائي، والفراء رووا ذلك عن العرب، ورأسان من البصريين وهما: أبو عمرو، ويعقوب قرآ بذلك وروياه، فلا التفات لمن خالف في ذلك.
* (قل أطيعوا الله والرسول) * هذا توكيد لقوله: فاتبعوني، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) * قال عبد الله بن أبي لأصحابه: إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم، فنزل * (قل أطيعوا الله) *.
* (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * يحتمل أن يكون: تولوا، ماضيا. ويحتمل أن يكون مضارعا حذفت منه التاء، أي: فإن تتولوا، والمعنى: فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافرا. وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافرا، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية، فالمؤمن من العاصي لا يندرج في ذلك.
قيل: وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص. وفي قوله * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين) * والتكرار، في قوله: المؤمنون من دون المؤمنين، وفي قوله: من الله، ويحذركم الله نفسه، وإلى الله، وفي: يعلمه الله، ويعلم، وفي قوله: يعلمه الله، والله علي، وفي قوله: ما عملت، وما عملت، وفي قوله: الله نفسه، والله، وفي قوله: ويحذركم الله، والله روؤف، وفي قوله: تحبون الله، يحببكم الله، والله غفور، قل أطيعوا الله، فإن الله.
والتجنيس المماثل في: تحبون ويحببكم، والتجنيس المغاير، في: تتقوا منهم تقاه، وفي يغفر لكم وغفور.
والطباق في: تخفوا وتبدوه، وفي: من خير ومن سوء، وفي: محضرا وبعيدا.
والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله: ما في صدوركم، عبر بها عن القلوب، قال تعالى: * (فإنها لا تعمى الابصار) * الآية.
والإشارة في قوله: ومن يفعل ذلك، الآية. أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله.
والاختصاص في قوله: ما في صدوركم، وفي قوله: ما في السماوات وما في الأرض.
والتأنيس بعد الإيحاش في قوله: والله روؤف بالعباد، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير.
2 (* (إن الله اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتهآ أنثى والله أعلم بما وضعت وليس
449

الذكر كالا نثى وإنى سميتها مريم وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم * فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هاذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشآء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعآء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر قال كذالك الله يفعل ما يشآء * قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشى والإبكار) *))
) *
نوح: اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو: العلمية والعجمة الشخصية، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثيا ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلا ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم، فيمكن ذلك. ويسمى: آدم الثاني واسمه السكن، قاله غير واحد، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن أخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم.
عمران: اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة، ولو كان عربيا لامتنع أيضا للعلمية، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحا.
محررا: اسم مفعول من حرر، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية، والتحرير: العتق، وهو تصيير المملوك حرا.
الوضع: الحط والإلقاء، تقول: وضع يضع وضعا وضعة، ومنه الموضع.
الأنثى والذكر: معروفان، وألف أنثى للتأنيث، وجمعت على إناث، كربى ورباب، وقياس الجمع: أناثى، كحبلى وحبالى. وجمع الذكر: ذكور وذكران.
مريم: اسم عبراني، وقيل عربي جاء شاذا: كمدين، وقياسه: مرام كمنال، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان، قال الراجز:.
قلت لزيد لم تصله مريمه
عاذ بكذا: اعتصم به، عوذا وعياذ أو معاذ أو معاذة ومعناه: التجأ واعتصم وقيل: اشتقاقه من العوذ وهو: عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح.
رجم: رمى وقذف، ومنه * (رجما بالغيب) * أي: رميا به من غير تيقن، والحديث المرجم هو: المظنون ليس فيه يقين.
والرجيم: يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم، ويحتمل أن يكون بمعنى: مرجوم، أي يرجم بالشهب أو يبعد ويطرد.
الكفالة: الضمان، يقال: كفل يكفل فهو كافل وكفيل، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء.
زكريا: أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور، ولذلك يمتنع صرفه نكرة، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز، ولو كان امتناعه للعلمية
450

والعجمة انصرف نكرة. وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم، وهو غلط منه، ويقال: ذكرى بحذف الألف، وفي آخره ياء كياء بحتى، منونة فهو منصرف، وهي لغة نجد، ووجهه فيما قال أبو علي؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه، ولو كانت الياءان هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف. انتهى كلامه. وقد حكي: ذكر على وزن: عمر، وحكاها الأخفش.
المحراب: قال أبو عبيدة: سيد المجالس وأشرفها ومقدمها، وكذلك هو من المسجد، وقال الأصمعي: الغرفة وقال:
* وماذا عليه إن ذكرت أوانسا
*
كغزلان رمل في محاريب أقتال
*
شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج: الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء: القصر، لشرفه وعلوه وقيل: المسجد وقيل: محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه، وهو مقام الإمام من المسجد.
هنا: اسم إشارة للمكان القريب، والتزم فيه الظرفية إلا أنه يجر بحرف الجر، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد. وبنو تميم تقول: هناك، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام، وقد يراد بها ظرف الزمان.
النداء: رفع الصوت، وفلان أندى صوتا، أي أرفع، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه، ويقال: نادى مناداة ونداء ونداء، بكسر النون وضمها قيل: فبالكسر المصدر، وبالضم اسم، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم: كالدعاء والرغاء والصراخ وقال يعقوب: يمد مع كسر النون، ويقصر مع ضمها. والندي: المطر، يقال منه ندى يندى ندى.
يحيي: اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية، وقيل: هو عربي، وهو فعل مضارع من: حي، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل، وعلى القولين يجمع على: يحيون، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل، وسيبويه ونقل عن الكوفيين: إن كان عربيا فتحت الياء، وإن كان أعجميا ضمت الياء.
سيد: فيعل من: ساد، أي: فاق في الشرف، وتقدم الكلام في نظير هذا، وجمعه على: فعلة، فقالوا: سادة، شاذ وقال الراغب: هو السايس بسواد الناس، أي: معظمهم، ولهذا يقال: سيد العبد، ولا يقال سيد الثوب. انتهى.
الحصور: فعول من الحصر، وهو للمبالغة من حاصر وقيل: فعول بمعنى مفعول، أي محصور، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء.
الغلام: الشاب من الناس، وهو الذي طر شاربه، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية:
* شفاها من الداء العضال الذي بها
*
غلام إذا هز القناة سقاها
*
تسمية بما كان عليه قبل الكهولة، وهو من الغلمة والاغتلام، وذلك شدة طلب النكاح. ويقال: اغتلم الفحل: هاج من شدة شهوة الضراب، واغتلم البحر: هاج وتلاطمت أمواجه، وجمعه على، غلمة، شاذ وقياسه في القلة: أغلمة، وجمع في الكثرة على: غلمان، وهو قياسه: الكبر، مصدر: كبر يكبر من السن قال:
* صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا
*
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
*
451

العاقر: من لا يولد له من رجل أو امرأة، وفعله لازم، والعاقر اسم فاعل من عقر أي: قتل، وهو متعد.
الرمز: الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز.
العشي: مفرد عشية، كركي. وركية والعشية: أواخر النهار، ولامها واو، فهي كمطي.
الإبكار: مصدر أبكر، يقال أبكر: خرج بكرة.
* (إن الله اصطفى آدم ونوحا وءال إبراهيم وءال عمران على العالمين) * قال ابن عباس: قالت اليهود: نحن أبناء إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب. ونحن على دينهم، فنزلت. وقيل: في نصارى نجران لما غلوا في عيسى، وجعلوه، ابن الله تعالى، واتخذوه إلها، نزلت ردا عليهم، وإعلاما أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه، ثم إلى ولادته هو، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها. وأيضا. لما قدم قبل: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله) * ووليه * (قل أطيعوا الله والرسول) * وختمها بأنه * (لا يحب الكافرين) * ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم، فبدأ أولا بأولهم وجودا وأصلهم، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلا من نسله، ثم أتى ثالثا بآل إبراهيم، فاندرج فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، المأمور باتباعه وطاعته، وموسى عليه السلام، ثم أتى رابعا بآل عمران، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم، فذكر تعالى جعل هؤلاء صفوة، أي مختارين نقاوة. والمعنى أنه نقاهم من الكدر. وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس..
واصطفاء آدم بوجوه.
منها خلقة أول هذا الجنس الشريف، وجعله خليفة في الأرض، وإسجاد الملائكة له، واسكانه جنته، إلى غير ذلك مما شرفه به.
واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء، منها: أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم: البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوة والكتاب. قال ابن عباس، والحسن: آل إبراهيم من كان على دينه. وقال مقاتل: آله إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. وقيل: المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه. وتقدم لناشىء من الكلام على ذلك في قوله: * (وبقية مما ترك ءال موسى وءال هارون) *.
وعمران هذا المضاف إليه
452

آل، قيل هو: عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام، قاله: الحسن ووهب. وقيل: هو عمران أبو موسى وهارون، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل. فعلى الأول آله عيسى، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون، قاله مقاتل. وقيل: المراد بآل عمران عمران نفسه، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد * (إذ قالت امرأت عمران) * فذكر قصة مريم وابنها عيسى، ونص على أن الله اصطفاها بقوله * (إذ قالت الملئكة يامريم * مريم * إن الله اصطفاك) * فقوله: * (إذ قالت امرأت عمران) * كالشرح لكيفية الاصطفاء، لقوله: وآل عمران، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول، نحو: أكرم زيدا رجل صالح. وإذا كان المراد بالثاني غير الأول، كان في ذلك إلباس على السامع. وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيرا في الذكر، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون، وإن كانت له بنت تسمى مريم، وكانت أكبر من موسى وهارون سنا، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة. قيل: بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة.
والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها الله تعالى فيهم.
وذهب قاضي القضاة بالأندلس: أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي، رحمه الله ورضى عنه، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما، وأن الآل الأتباع، فالمعنى أن الله اصطفى المؤمنين على الكافرين، وخص هؤلاء بالذكر تشريفا لهم، ولأن الكلام في قصة بعضهم. إنتهى ما قال ملخصا، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف، أي: أن الله اصطفى دين آدم.
وروي معناه عن ابن عباس، قال: المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان، واختاره الفراء. وقال التبريزي: هذا ضعيف، لأنه لو كان ثم مضاف محذوف لكان: ونوح مجرورا، لأن آدم محله الجر بالإضافة، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته. لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف، فيلزم جر ما عطف عليه، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف. ألا ترى إلى قوله واسأل القرية؟ وأما إقراره مجرورا فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو.
* (على العالمين) * متعلق باصطفى، ضمنه معنى فضل، فعداه بعلى. ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن. قيل: والمعنى على عالمي زمانهم، واللفظ عام، والمراد به الخصوص كما قال جرير:
ويضحى العالمون له عيالا
وقال الحطيئة:
أراح الله منك العالمينا
وكما تؤول في * (وأنى فضلتكم على العالمين) *.
وقال القتبي: لكل دهر عالم، ويمكن أين يخص بمن
453

سوى هؤلاء، ويكون قد اندرج في قوله: وآل إبراهيم محمد صلى الله عليه وسلم)، فيكون المعنى: أن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين. واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل، كما تقول: زيد وعمر وخال أغنياء، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى، وإذا حملنا: العالمين، على من سوى هؤلاء، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين، وقد استدل بالآية على ذلك. ولا يمكن حمل: العالمين، على عمومه لأجل التناقض، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر، وهو محال.
وقرأ عبد الله: وآل محمد على العالمين.
* (ذرية بعضها من بعض) * أجازوا في نصب: ذرية، وجهين:.
أحدهما: أن يكون بدلا. قال الزمخشري * (من ءال * إن الله اصطفى) * يعني أن الآلين ذرية واحدة، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون بدلا من آدم لأنه ليس بذرية انتهى. وقال ابن عطية: لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده. وقال الراغب: الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل. كقوله: * (حملنا ذريتهم) * أي آباءهم، ويقال للنساء: الذراري. وقال صاحب النظم: الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء، والأبناء ذرية للآباء، وجاز ذلك لأنه من ذرأ الله الخلق، فالأب ذرىء منه الولد، والولد ذرىء من الأب. وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم، يجوز أن يكون: ذرية، بدلا من: آدم، ومن عطف عليه.
وأجازوا أيضا نصب: ذرية، على الحال، وهو الوجه الثاني من الوجهين، ولم يذكره الزمخشري، وذكره ابن عطية. وقال: وهو أظهر من البدل.
وتقدم الكلام على ذرية دلالة واشتقاقا ووزنا، فأغنى عن إعادته.
وقرأ زيد بن ثابت والضحاك: ذرية، بكسر الذال، والجمهور بالضم.
* (بعضها من بعض) * جملة في موضع الصفة لذرية و: من، للتبعيض حقيقة أي: متشعبة بعضها من بعض في التناسل، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه، وهو من يصهر، ويصهر من قاهث، وقاهث من لاوي، ولاوى من يعقوب، ويعقوب من إسحاق، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام. وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عمران بن ماثان، وهو من ولد سليمان بن داود، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقيل: من، للتبعيض مجازا أي: من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوة، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن، قال: من بعض في تناصر الدين، وقال أبورون: بعضها على دين بعض. وقال قتادة: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد.
* (والله سميع عليم) * أي سميع لما يقوله الخلق، عليم بما بضمرونه. أو: سميع لما تقوله امرأة عمران، عليم بما تقصد. أو: سميع لما تقوله الذرية، عليم بما تضمره. ثلاثة أقوال.
وقال الزمشخري: عليم بمن يصلح للاصطفاء، أو: يعلم أن بعضهم من بعض في الدين. إنتهى.
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله * (والله سميع عليم) * مناسب لقوله * (إبراهيم الكتاب * إن الله) * لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله: * (ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع) * بقوله: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات) * وحمد ربه تعالى فقال: * (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق) * وقال مخبرا عن ربه: * (إن ربى لسميع الدعاء) * ثم دعا ربه بأنه يجعله مقيم الصلاة وذريته، وقال حين بنى هو وإسماعيل الكعبة * (ربنا تقبل منا) * إلى سائر ما دعا به حتى قوله: * (وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك) * ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (أنا دعوة إبراهيم). فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته، ناسب أن يختم بقوله: * (والله سميع عليم) * وكذلك آل عمران، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى، فناسب أيضا ذكر الوصفين، ولذلك حين ذكرت النذر
454

ودعت بتقبله، أخبرت عن ربها بأنه * (السميع العليم) * أي: السميع لدعائها، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها الله تعالى.
* (إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك) * الآية، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران، ذكر ابتداء حال آل عمران، وامرأة عمران اسمها: حنة، بالحاء المهملة والنون المشددة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث، وهو اسم عبراني، وهي حنة بنت فاقود، ودير حنة بالشام معروف، وثم دير آخر يعرف بدير حنة، وقد ذكر أبو نواح دير حنة في شعره فقال:
* يا دير حنة من ذات الاكيداح
*
من يصح عنك فاني لست بالصاح
وقبر حنة، جدة عيسى، بظاهر دمشق. وقال القرطبي: لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ: حنة أم عمر ويروي حديها ابن جريج.
ويستفاد حنة مع: حبة، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل، و: حية، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل، وهما اسمان لناس، ومع: خبة، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي، أم محمد بن نصر، ومع: جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر، لا نعرف سواه.
ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ، وخاطبت به الله تعالى، وقدمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب. الذي هو مالكها ومالك كل شيء، وتقدم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر. وقيل: ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة. قال الشاعر:
* فليت رجالا فيك قد نذروا دمي
*
وهموا بقتلي يا بثين لفوني
و: لك، اللام فيه لام السبب، وهو على حذف التقدير: لخدمة بيتك، أو للاحتباس على طاعتك.
*
* (ما في بطني) * جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكرا، أو لرجاء منها أن يكون ذكرا.
* (محررا) * معناه عتيقا من كل شغل من أشغال الدنيا، فهو من لفظ الحرية. قال محمد بن جعفر بن الزبير: أو خادما للبيعة. قاله مجاهد، أو: مخلصا للعبادة، قاله الشعبي. ورواه خصيف عن عكرمة، ومجاهد، وأتى بلفظ: ما، دون: من، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل، أو لأن: ما، مبهمة تقع على كل شيء، فيجوز أن تقع موقع: من. ونسب هذا إلى سيبويه.
* (فتقبل مني) * دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به، وأصله المقابلة بالجزاء، و: تقبل، هنا بمعنى: قبل، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد، كقولهم: تعدى الشيء وعداه، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل.
* (إنك أنت السميع العليم) * ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر، وعقدته بنيتها، وتلفظت به، ودعت بقبوله. فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين.
والعامل في: إذ، مضمر تقديره: إذكر، قاله الأخفش، والمبرد، أو معنى الاصطفاء، التقدير: واصطفى آل عمران. قاله الزجاج، وعلى هذا يجعل * (إن الله) * من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء، وزمان قول امرأة عمران، فلا يصح عمله فيه.
وقال الطبري ما معناه: إن العامل فيه: سميع، وهو ظاهر قول الزمخشري، أو: سميع عليم، لقول امرأة عمران ونيتها، و: إذ، منصوب به. انتهى. ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما ان يكون خبرا بعد خبر، أو وصفا لقوله: سميع، فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما، وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل: سميع، في الظرف، لأنه قد
455

وصف. اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك، ولأن اتصافه تعالى: بسميع عليم، لا يتقيد بذلك الوقت.
وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة، المعنى: قالت امرأة عمران. وتقدم له نظير هذا القول في: مواضع، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو.
وانتصب محررا، على الحال. قيل: من ما، فالعامل: نذرت وقيل من الضمير الذي في: استقر، العامل في الجار والمجرور، فالعامل في هذا: استقر، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره: غلاما محررا. وقال ابن عطية: وفي هذا نظر، يعني أن: نذر، قد أخذ مفعوله، وهو: ما في بطني، فلا يتعدى إلى آخره، ويحتمل أن ينتصب: محررا، على أن يكون مصدرا في معنى: تحريرا، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة، كما قال الشاعر:
* ألم تعلم مسرجي القوافي
*
فلاعيا بهن ولا اجتلابا
*
التقدير: تسريجي القوافي، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف، أي: نذر تحرير، أو على أنه مصدر من معنى: نذرت، لأن معنى: * (نذرت لك ما في بطني) * حررت لك بالنذر ما في بطني. والظاهر القول الأول، وهو أن يكون حالا من: ما، ويكون، إذ ذاك حالا مقدرة إن كان المراد بقوله: محررا، خادما للكنيسة، وحالا مصاحبة إن كان المراد عتيقا، لأن عتق ما في البطن يجوز.
وكتبوا: امرأة عمران، بالتاء لا بالهاء، وكذلك امرأة العزيز في موضعين، وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون. سبعة مواضع، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعا لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت، بالتاء. ووقف أبو عمرو، والكسائي: بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك، وهي لغة أكثر العرب، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقرا، وكانوا أهل بيت لهم عند الله مكانة، فبينا هي يوما في ظل شجرة
نظرت إلى طائر يذق فرخا له، فتحركت به نفسها للولد، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولدا. فحملت. ومات عمران زوجها وهي حامل، فحسبت الحمل ولدا فنذرته لله حبيسا لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم، ولم يكن أحد منهم إلا ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان، وكانت الجارية لا تصلح لذلك، وكان جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ، فيخير، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها، وليس له الخروج بعد ذلك، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا ومن نسله محرر لبيت المقدس.
* (فلما وضعتها قالت رب إنى وضعتها أنثى) * أنث الضمير في وضعتها حملا على المعنى في: ما، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال ابن عطية: حملا على الموجدة، ورفعا للفظ: ما، في قولها: ما في بطني. وقال الزمخشري: أو على تأويل الجبلة، أو النفس، أو النسمة. جواب: لما، هو: قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها، وخلاف ما قدرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرا يصلح للخدمة، ولذلك نذرته محررا. وجاء في قوله: * (إنى وضعتها) * الضمير مؤنثا، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر، إذ تكون الحال في قوله: أنثى، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث.
456

وقال الزمخشري: فإ قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالا من الضمير في وضعتها؛ وهو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟.
قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال، وذا الحال شيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: * (فإن كانتا اثنتين) *. إنتهى. وآل قوله إلى أن: أنثى، تكون حالا مؤكدة، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة. وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمك، حيث عاد الضمير على معنى: من، فليس ذلك نظير: وضعتها أنثى، لأن ذلك حمل على معنى: من، إذ المعنى: أية امرأة، كانت امك، أي: كانت هي أي المرأة أمك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى: من، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير: وضعتها أنثى، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى، فإنه لمجرد التأكيد.
وأما تنظيره بقوله: * (فإن كانتا اثنتين) * فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر، والكلام عليه يأتي في مكانه، فإنه من المشكلات، فالأحسن أن يجعل الضمير في: وضعتها أنثى، عائدا على النسمة، أو النفس، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة.
وقيل: خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم.
وقيل: كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهن.
* (والله أعلم بما وضعت) * قرأ ابن عامر، وأبو بكر، ويعقوب: بضم التاء، ويكون ذلك وما بعده من كلام أم مريم، وكأنها خاطبت نفسها بقولها: والله أعلم. ولم تأت على لفظ: رب، إذ لو أتت على لفظه لقالت: وأنت أعلم بما وضعت. ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر، وأن علم الله وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها. ولعل هذه الأنثى تكون خيرا من الذكر، إذ أرادهنا الله، سلت بذلك نفسها.
وتكون: الألف واللام في: الذكر، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة الله على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكرا، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية، لأن الذكر يصلح للتحرير، والاستمرار على خدمة موضع العبادة، ولأنه أقوى على الخدمة، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة.
قال ابن عطية: كالأنثى، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان؟ قاله قتادة، والربيع، والسدي، وعكرمة، وغيرهم. وبدأت بذكر الأهم في نفسها، وإلا فسياق الكلام أن تقول: وليست الأنثى كالذكر، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. إنتهى. وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في: الذكر، للجنس.
وقرأ باقي السبعة: بما وضعت، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من الله بأنه أعلم بالذي وضعته. أي: بحاله، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى، فإن قولها: وضعتها أنثى، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلا على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور، إذ جعلها وابنها آية للعالمين. ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا. وقرأ ابن عباس: بما وضعت، بكسر تاء الخطاب، خاطبها الله بذلك أي: إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة، وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلو قدرها.
و: ما، موصولة بمعنى: الذي، أو: التي، وأتى بلفظ: ما، كما في قوله: * (نذرت لك ما في بطني) * والعائد عليها محذوف على كل قراءة.
* (وإنى سميتها مريم) * مريم في لغتهم معناه: العابدة، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير، والتقرب إلى الله تعالى، والتضرع إليه بأن يكون فعلها مطابقا
457

لاسمها، وأن تصدق فيها ظنها بها. ألا ترى إلى إعاذتها بالله وإعاذة ذريتها من الشيطان؟ وخاطبت الله بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات، كما نقل أنه مات وهي حامل، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبد الأم بالتسمية لكراهة الرجال البنات، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة، وفي الحديث: (ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم). وفي الحديث أنه: (يعق عن المولود في السابع ويسمى).
وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ: بما وضعت، بضم التاء. وأما من قرأ: بما وضعت، بسكون التاء أو بالكسر. فقال الزمخشري: هي معطوفة على: إني وضعتها أنثى، وما بينهما جملتان معترضان، كقوله: * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) *. إنتهى كلامه. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان، لأنه يحتمل أن يكونه * (وليس الذكر كالانثى) * في هذه القراءة من كلامها، ويكون المعترض جملة واحدة، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ: وضعت، بضم التاء، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، لأن في اعتراض جملتين خلافا مذهب أبي علي: أنه لا يعترض جملتان وقد تقدم لنا الكلام على ذلك.
وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله: * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) * ليس تشبيها مطابقا للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم الذي هو: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * وجوابه الذي هو: * (إنه لقرءان كريم) * بجملة واحدة وهي قوله: * (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) * لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض، اعتراض بجملة وهي قوله: * (لو تعلمون) * اعترض به بين المنعوت الذي هو: لقسم، وبين نعته الذي هو: عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض، فليس فصلا بجملتي اعتراض لقوله: * (والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالانثى) * وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها، وإلى آخر بحرف الجر، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل، يقول سميت ابني بزيد، وسميته زيدا. قال:
* وسميت كعبا بشر العظام
*
وكان أبوك يسمى الجعل
*
أي: وسميت بكعب، ويسمى: بالجعل، وهو باب مقصور على السماع، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير، وتحرير ذلك في علم النحو.
* (وإنى أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم) * أتى خبر: إن، مضارعا وهو: أعيذها، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة، والتكرار بخلاف: وضعتها، وسميتها، فإنهما ماضيان قد انقطعا، وقدمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها، ومناجاتها الله بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة، كما يقدم الانسان بين يدي مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود، وورد في الحديث، من رواية أبي هريرة: (كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان، وبها يستهل الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها، فإن أمها قالت حين وضعتها: واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب).
وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق، والمعنى واحد. وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث، قال: لأنه خبر واحد على خلاف
458

الدليل، فوجب رده، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير، والصبي ليس كذلك، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث.
وقال الزمخشري: وما يروي في الحديث: (ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها). فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه: أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلا مريم وابنها، فإنهما كانا معصومين. وكذلك كل من كان صفتهما لقوله: * (لاغوينهم * أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) * واستهلاله صارخا من مسه، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول: هذا ممن أغويه، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي:
* لما تؤذن الدنيا به من صروفها
*
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخا وعياطا مما يبلونا به من نخسه. إنتهى كلامه. وهو جار على طريقة أهل الاعتزال، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله: * (كالذى * يتخبطه الشيطان من المس) *.
*
* (فتقبلها ربها بقبول حسن) * قال الزجاج: الأصل فتقبلها بتقبل حسن، ولكن قبول محمول على: قبلها قبولا، يقال: قبل الشيء قبولا والقياس فيه الضم: كالدخول والخروج، ولكنه جاء بالفتح، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف، ونقلها ابن الأعرابي فقال: قبلته قبولا وقبولا. وقال ابن عباس: معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم: تكفل بتربيتها والقيام بشأنها. وقال الحسن: معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل، فيكون تفعل بمعنى استفعل، أي: استقبلها ربها، نحو: تعجلت الشيء فاستعجلته، وتقصيت الشيء واستقصيته، من قولهم: استقبل الأمر أي أخذه بأوله. قال:
* وخير الأمر ما استقبلت منه
*
وليس ببأن تتبعه اتباعا
*
أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت. وقيل: المعنى فقبلها أي: رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسني لها الأمل في ذلك، وقبل دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك، ويكون: تفعل، بمعنى الفعل المجرد نحو: تعجب وعجب، وتبرأ وبرئ.
والباء في: بقبول، قيل: زائدة، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر، وقيل: ليست بزائدة.
والقبول اسم لما يقبل به الشيء: كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد، وهو اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكر في النذر، أو: مصدر على تقدير حذف مضاف أي: بذي قبول حسن، أي: بأمر ذي قبول
459

حسن، وهو الاختصاص.
* (وأنبتها نباتا حسنا) * عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق، فأنشأها على يالطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار. وقيل: لم تجر عليها خطيئة. قال قتادة: حدثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم. وقيل: معنى * (وأنبتها نباتا حسنا) * أي: جعل ثمرتها مثل عيسى.
وانتصب: نباتا، على أنه مصدر على غير الصدر، أو مصدر لفعل محذوف أي: فنبتت نباتا حسنا، ويقال: القبول الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا الله في جميع الأوقات.
* (وكفلها زكريا) * قال قتادة: ضمها إليه. وقال أبو عبيدة: ضمن القيام بها، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبيا. أوحى الله إلى داود عليه السلام: إذا رأيت لي طالبا فكن له خادما.
وقرأ الكوفيون: وكفلها، بتشديد الفاء، وباقي السبعة بتخفيفها. وأبي: وأكفلها، ومجاهد: فتقبلها بسكون اللام ربها، بالنصب على النداء، و: أبنتها، بكسر الباء وسكون التاء، و: كفلها، بكسر الفاء مشددة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم. وقرأ عبد الله المزني: وكفلها، بكر الفاء وهي لغة يقال: كفل يكفل وكفل يكفل، كعلم يعلم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص: زكريا، مقصورا وباقي السبعة ممدودا. وتقدم ذكر اللغات فيه.
روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، فقالت لهم: دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم، وصاحب قربانهم، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها، عندي خالتها. فقالوا: لا، حتى نقترع عليها. فانطلقوا، وكانوا سبعة وعشرين، إلى نهر. قيل: هو نهر الأردن وهو قول الجمهور. وقيل: في عين ماء كانت هناك، فألقوا فيه أقلامهم، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها. قيل: واسترضع لها. وقال الحسن: لم تلتقم ثديا قط. وقال عكرمة: ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء. وقيل: عامت مع الماء معروضة، وبقي قلم زكريا واقفا كأنما ركز في طين، قال ابن إسحاق: إن زكريا كان تزوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكريا يحيى، وولدت امرأة عمران مريم. وقال السدي، وغيره: كان زكريا تزوج ابنة أخرى لعمران. ويعضد هذا القول قول صلى الله عليه وسلم) في يحيى وعيسى: ابنا الخالة. وقيل: إنما كفلها لأن أمها هلكت، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمها. وقيل: كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته. وقال ابن إسحاق: ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة، فقال لهم زكريا: أني قد عجزت عن إنفاق مريم، فاقترعوا على من يكفلها، ففعلوا، فخرج إليهم رجل يقال له جريح، فجعل ينفق عليها، وهذا استهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها، والأول المراد منه: أخذها، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها، وكان زكريا أولى بكفالتها، لأنه من أقربائها من جهة أبيها، ولأن خالتها أو أختها تحته، على اختلاف القولين، ولأنه كان نبيا، فهو أولى بها لعصمته.
وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة: أن يحيى بن زكريا، واليسع، والياس، والعزير من ولد هارون أخي موسى، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان، ولا يكون ابن عم مريم، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام، وسليمان من يهوذا بن يعقوب، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب.
قال ابن إسحاق: ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محرابا في المسجد، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلا بسلم، مثل باب الكعبة، ولا يصعد إليها غيره. وقيل: كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا
460

خرج قال مقاتل: كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحدا، فإذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل: كانت مطهرة من الحيض.
* (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) *. قال مجاهد، والضحاك، وقتادة، والسدي: وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في
الشتاء وقال الحسن: تكلمت في المهد ولم تلقم ثديا قط، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة.
والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة: عيسى، وصاحب جريج، وابن المرأة وورد من طريق شاذ: صاحب الأخدود. والأغرب أن مريم منهم.
وقيل: كان جريج النجار، واسمه يوسف بن يعقوب، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه، فيزكو ذلك الطعام ويكثر، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج، فيسألها. وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب.
وقيل: كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس: كان عنبا في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب، وقاله ابن جبير، ومجاهد وقيل: كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره، فإن الله تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف.
و: كلما، تقتضي التكرار، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها. ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها، والمعنى: أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها، ولم يوجهه هو. وأبعد من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من الله من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي، فسماه رزقا قال الراغب: واللفظ محتمل، انتهى، وهذا شبيه بتفسير الباطنية.
* (قال ياءادم * مريم * إنى لك * هاذا قالت هو من عند الله) * استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها، وكيف أتى هذا الرزق؟ و: أنى، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان، والأظهر أنه سؤال عن الجهة، فكأنه قال: من أي جهة لك هذا الرزق؟ ولذلك قال أبو عبيدة: معناه من أين؟ ولا يبعد أن يكون سؤالا عن الكيفية، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك؟ وقال الكميت:
* أنى ومن أين أتاك الطرب
*
من حيث لا صبوة ولا طرب
وجوابها سؤاله بأنه * (من عند الله) * ظاهره أنه لم: يأت به آدمي البتة، بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى. وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقا، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدمت، فتجيبه بأنه من عند الله، وتحيله على مسبب الأسباب، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم، وبكونه يشهد مقاما شريفا، واعتناء لطيفا بمن اختارها الله تعالى بأن جعلها في كفالته.
*
وهذا الخارق العظيم قيل: هو بدعوة زكريا لها بالرزق، فيكون من خصائص زكريا وقيل: كان تأسيسا لنبوة ولدها
461

عيسى. وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي، إلا إن كان ذلك في زمان نبي، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي.
والظاهر أنها كرامة خص الله بها مريم، ولو كان خارقا لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى، فهو كان لم يخلق بعد.
قال الزجاج: وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى: * (وجعلناها وابنها ءاية للعالمين) * وقال الجبائي: يجوز أن يكون من معجزات زكريا، دعا لها على الإجمال. لأن يوصل لها رزقها، وربما غفل عن تفاصيل ذلك، فلما رأى شيئا معينا في وقت معين، سأل عنه، فعلم أنه معجزة، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنسانا، فأخبرته أنه * (من عند الله) * ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي.
* (إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * تقدم تفسير هذه الجملة، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري: ليس من كلام مريم، وأنه خبر من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم)..
وروى جابر حديثا مطولا فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فسألها: من أين لك هذا؟ فقالت: هو من عند الله. فحمد الله، وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل.
قيل: وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة. العموم الذي يراد به الخصوص في قوله: على العالمين، والاختصاص في قوله: آدم، ونوحا، وآل إبراهيم، وآل عمران. وإطلاق اسم الفرع على الأصل والمسبب على السبب، في قوله: ذرية، فيمن قال المراد الآدباء، والإبهام في قوله: ما في بطني، لما تعذر عليها الاطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ: ما، الذي يصدق على الذكر والأنثى، والتأكيد في قوله: * (إنك أنت السميع العليم) * والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها: وضعتها أنثى، والاعتراض في قوله: والله أعلم بما وضعت، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله: والله أعلم بما وضعت، في قراءة من كسر التاء، خرج من خطاب الغيبة في قولها: فلما وضعتها، إلى خطاب المواجهة في قوله: بما وضعت والتكرار في: وأنى، وفي: زكريا، وزكريا، وفي: من عند الله، إن الله والتجنيس المغاير في: فتقبلها ربها بقبول، وأنبتها نباتا، وفي: رزقا ويرزق والإشارة، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي، في قوله: هو من عند الله، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلا الله. وفي قوله: رزقا، أتى به منكرا مشيرا إلى أنه ليس من جنس واحد، بل من أجناس كثيرة، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة. والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها.
* (هنالك دعا زكريا ربه) * أصل: هنالك، أن يكون إشارة للمكان، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية، أي في ذلك المكان دعا زكريا، أو: في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق
462

العظيم لمريم، وأنها ممن اصطفاها الله، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب، كما قصه تعالى في سورة مريم، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقرا، إذ رأى من حال مريم أمرا خارجا عن العادة، فلا يبعد أن يرزقه الله ولدا مع كون امرأته كانت عاقرا، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد.
وانتصاب: هنالك، بقوله: دعا، ووقع في تفسير السجاوندي: أن هناك في المكان، وهنالك في الزمان، وهو وهم، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا. وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان، كما أن أصل: عند، أن يكون للمكان، ثم يتجوز بها للزمان، كما تقول: آتيك عند طلوع الشمس.
قيل: واللام في: هنالك، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة. وقيل: دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقا للعادة، كما أدخل اللام في قوله: * (ذالك الكتاب) * لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه. وقال الماتريدي: كانت نفسه تحدثه بأن يهب الله له ولدا يبقى به الذكر إلى يوم القيامة، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلا فيما هو معتاد الوجود وإن كان الله قادرا على كل شيء، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد. انتهى.
وقوله: كانت تحدثه نفسه بذلك، يحتاج إلى نقل. وفي قوله: * (هنالك دعا) * دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة.
* (قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة) * هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له، وناداه بلفظ: رب، إذ هو مربيه ومصلح حاله، وجاء الطلب بلفظ: هب، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضا للواهب، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه: لا من الوالد لكبر سنة، ولا من الوالدة لكونها عاقرا لا تلد، فكان وجوده كالوجود بغير سبب، أتى هبة محضة منسوبة إلى الله تعالى بقوله: من لدنك، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب.
وتقدم أن: لدن، لما قرب، و: عند، لما قرب ولما بعد، وهي أقل إبهاما من: لدن، ألا ترى أن: عند، تقع جوابا لأين، ولا تقع له جوابا: لدن؟.
* (ومن * لدنك) * متعلق: بهب، وقيل: في موضع الحال من: ذرية، لأنه لو تأخر لكان صفة، فعلى هذا تتعلق بمحذوف، والذرية جنس يقع على واحد، فأكثر. وقال الطبري: أراد بالذرية هنا واحدا دليل ذلك طلبه: وليا، ولم يطلب: أولياء. قال ابن عطية: وفيما قاله الطبري تعقب، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب زكريا. انتهى.
وفسر: طيبة، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية. وقال الراغب: صالحة، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح. وقيل: أراد: بطيبة، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوة، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس، ولم يقيد بالوحدة، فوصفها: بطيبة، واضح وإن كان أراد ذكرا واحدا، فأنث لتأنيث اللفظ، كما قال:
* أبوك خليفة ولدته أخرى
*
سكات إذا ما عض ليس بأدردا
*
وكما قال:
* أبوك خليفة ولدته أخرى
*
وأنت خليفة ذاك الكمال
*
وفي قوله: * (هب لى) * دلالة على طلب الولد الصالح، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين.
463

* (إنك سميع الدعاء) * لما دعا ربه بأنه يهب له ولدا صالحا، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء. وليس المعنى على السماع المعهود، بل مثل قوله: سمع الله لمن حمده. عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال: * (الحمد لله الذى وهب لى على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء) * فأجاب الله دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر، وكان قد تعود من الله إجابة دعائه. ألا ترى إلى قوله: * (ولم أكن بدعائك رب شقيا) *؟.
قيل: وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ: أحدها: هذا، والثاني: * (إنى وهن العظم منى) * إلى آخره. والثالث: * (رب لا تذرنى فردا وأنت خير الوارثين) * فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زمانا. انتهى. ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء، كما قيل: لأنه
حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله * (رب لا تذرنى فردا) * على سبيل الإيجاز، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب، وفي هذه السورة على سبيل التوسط.
وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى، إذ لم يكن لسانهم عربيا، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله: * (فنادته الملئكة) * وفي قوله: * (فاستجبنا له ووهبنا له * يحى) * وظاهر قوله في مريم: * (رضيا يازكريا إنا نبشرك) * اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه..
* (فنادته الملئكة) * قيل: النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به، فلم يكن هذا إخبارا من الملائكة على عرف الوحي، بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري: كعب بن مالك، من أعلى الجبل. قاله ابن عطية، وغيره. ولا يظهر ذلك، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك، كما جاء. (يا أهل النار خلود بلا موت) وجاء: * (فرعون ياهامان ابن لى صرحا) * وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم * (إن الله يبشرك) * لا إن لفظ نادته يدل على ذلك، لا بالوضع ولا بالاستعمال. ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي، أي: أوحي إليهم بأن ينادوه، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم، كما يقال لك: بلغ زيدا كذا وكذا، فتقول له: يا زيد جرى كذا وكذا. وهما قولان للمفسرين.
وفي الكلام حذف تقديره: فتقبل الله دعاءه، ووهب له يحيى، وبعث إليه الملائكة بذلك، فنادته. وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له أربعون سنة، والظاهر خلاف ذلك.
والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة.
وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده، ويؤيده قراءة عبد الله ومصحفه: فناداه جبريل وهو قائم. وقال الزمخشري: وإنما قيل الملائكة على قولهم: فلان يركب الخيل، يعني: إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة، لا يريد خصوصية الجمع، كما أن قولهم: فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس. وخرج عليه الذين قال لهم الناس، وهو نعيم بن مسعود. وقال الفضل: الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه، المتفرقة في غيره. فعبر عنه بالكثرة لذلك. قيل: وجبريل رئيس الملائكة.
وقرأ حمزة، والكسائي: فناداه، ممالة وباقي السبعة: فنادته، بتاء التأنيث و: الملائكة، جمع تكسير، فيجوز أن يلحق العلامة، وإن لا يلحق. تقول: قام الرجال، وقامت الرجال. وإلحاق العلامة قيل. أحسن، ألا ترى: إذ قالت الملائكة؟ ولما جاءت رسلنا؟ ومحسن الحذف هنا الفصل بالمفعول.
* (وهو قائم يصلى فى المحراب) * ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان، ويفتح باب المذبح، فلا يدخلون حتى يؤذن. فبينما هو قائم يصلي في المحراب، يعنى المسجد عند المذبح، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول، إذا هو برجل عليه ثياب بيض، ففزع منه، فناداه، وهو جبريل: يا زكريا إن الله يبشرك. وقيل: المحراب موقف
464

الإمام من المسجد، وهو قول جمهور المفسرين. وقيل: القبلة. والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب) * ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة، فيه دعا، وفيه جاءته البشارة. وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم.
وقيل: الصلاة هنا الدعاء، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته.
وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول، أو من الملائكة، و: يصلي، يحتمل أن يكون صفة: لقائم، ويحتمل أن يكون حالا من الضمير المستكن في: قائم، أو: من ضمير المفعول، على مذهب من جوز حالين من ذي حال واحد، ويحتمل أن يكون خبرا ثانيا: لهو، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد، وإن لم تكن في معنى خبر واحد.
ويتعلق: في المحراب، بقوله: يصلي، ولا يجوز أن يتعلق: بقائم، في وجه من احتمالات إعراب: يصلي، إلا في وجه واحد، وهو أن يكون: يصلي، حالا من الضمير الذي استكن في: قائم، فيجوز. لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي: يصلى، وهو: قائم، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو: قائم، إذ هو العامل في ذي الحال، وبه يتعلق المجرور.
وفي قوله: * (قائم يصلى فى المحراب) * قالوا: دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه، وقد كرهه أبو حنيفة، وقال: كان ذلك شرعا لمن قبلنا.
ورقق ورش راء: المحراب، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت: المحراب، مجرورا ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر. ولم يقيد بالجر.
* (أن الله يبشرك بيحيى) * قرأ ابن عامر، وحمزة: إن الله، بكسر الهمزة. فعند البصريين الكسر على إضمار القبول، أي: وقالت. وعند الكوفيين لا إضمار، لأن غير القول مما هو في معناه: كالنداء والدعاء، يجري مجرى القول في الحكاية، فكسرت بنادته، لأن معناه قالت له.
وقرأ الباقون بفتح الهمزة، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل، أي بتبشير:
وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب.
وقرأ عبد الله: يا زكريا إن الله. فقوله: يا زكرياء، هو معمول النداء. فهو في موضع نصب، ولا يجوز فتح: إن، على هذه القراءة، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه، وهما: الضمير والمنادى. وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول، بل من المرسل. ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله: يبشرك؟ وقد قال في سورة مريم: * (رضيا يازكريا إنا نبشرك) * فأسند ذلك إليه تعالى. وقرأ حمزة، والكسائي: يبشرك، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم، وفي الإسراء، وفي الكهف، وفي الشورى، من: بشر، مخففا. وافقهما ابن كثير، وأبو عمر، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر: ألا فبم تبشرون، ومريم وقرأ
الباقون: يبشر، من بشر المضعف العين وقرأ عبد الله يبشر في جميع القرآن من أبشر، وهي لغى ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر:
* بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة
*
أتتك من الحجاج يتلى كتابها
*
وقال الآخر:
* يا بشر حق لوجهك التبشير
*
هلا غضبت لنا وأنت أمير
*
بيحيى، متعلق بقوله: نبشرك، والمعنى: بولادة يحيى منك ومن امرأتك، فإن كان أعجميا فمنع صرفه للعلمية والعجمة، وإن كان عربيا فللعلمية ووزن الفعل، كيعمر. وقد ذكرنا هذا.
وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه
465

معنى الاشتقاق من الحياة.
قال قتادة: سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان. وقال الحسن بن المفضل: حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب: سمي يحيى لأنه استشهد، والشهداء أحياء روي في الحديث: (من هوان الدنيا على الله أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة) وقال مقاتل: سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج: حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها وقال ابن عباس: إن الله أحيا به عقر أمه وقيل: معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلا، كالمفازة والسليم وقيل: لأن الله أحيا به الناس بالهدى.
* (مصدقا بكلمة من الله) * الجمهور على أن الكلمة هو عيسى، وسيأتي لم سمي كلمة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والسدي وغيرهم. قال الربيع، وغيره: كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من الله، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر، قاله الأكثرون وقيل: بثلاث سنين، وقتل قبل رفع عيسى، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني لأجد الذي في بطني يتحرك، وفي رواية: يسجد، وفي رواية: يومي برأسه لما في بطنك، فذلك تصديقه، وهو أول التصديق.
وقال أبو عبيدة، وغيره * (بكلمة من الله) * أي: بكتاب من الله التوراة والإنجيل وغيرهما، أوقع المفرد موقع الجمع، فالكلمة اسم جنس، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان، فقال: لعن الله كلمته، أي قصيدته. وفي الحديث: (أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
* ألاكل شيء ما خلا الله باطل
*
وكل نعيم لا محالة زائل)
*
وقيل معنى: * (بكلمة من الله) * هنا أي: بوعد من الله، وقرأ أبو السمال العدوي: بكلمة، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن، وهي لغة فصيحة مثل: كتف وكتف، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها، فيقل اجتماع كسرتين، فسكن العين. ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالا للكسرة في العين.
وانتصب: مصدقا، على الحال قال ابن عطية: وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
* (وسيدا) * قال ابن عباس: السيد الكريم وقال قتادة: الحليم، ومنه قول الشاعر:
* سيد لا تحل حبوته
*
بوادر الجاهلين إن جهلوا
*
وقال عكرمة: من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك: الحسن الخلق وقال سالم: التقي وقال ابن زيد: الشريف وقال ابن المسيب: الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم: الراضي بقضاء الله وقال الخليل: المطاع الفائق أقرانه وقال أبو بكر الوراق: المتوكل وقال الترمذي: العظيم الهمة وقال الثوري: السيد من لا يحسد من قولهم: الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق: السيد الذي يفوق في الخير قومه. وقال بعض أهل اللغة: السيد المالك الذي
466

تجب طاعته. ولهذا قيل للزوج: سيد وقيل: سيد الغلام، وقال سلمة عن الفراء: السيد المالك، والسيد الرئيس، والسيد الحكيم، والسيد السخي.
وجاء في الحديث: (السيد من أعطى مالا ورزق سماحا، فأدنى الفقراء، وقلت شكايته في الناس). وفي معناه: من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني
سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجد بن قيس على بخله فقال عليه السلام: (وأي داء أدوى من البخل؟ سيدكم عمرو بن الجموح). وسمي أيضا سعد بن معاذ سيدا في قوله: (قوموا إلى سيدكم). أي رئيسكم والمطاع فيكم. وسمي الحسن بن علي: سيدا. في قوله: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
وقال الزمخشري: السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف. وكان يحيى قائما لقومه، قائما للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط، ويا لها من سيادة؟ انتهى كلامه.
وقال ابن عطية ما ملخصه: خصه الله بذكر السؤدد، وهو الإعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل، وتفضيله: بذل الندى وهو الكرم، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات. وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال، وقد يوجد من يبرز فيها، فيسمى سيدا وإن قصر في مندوب، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة.
وقال ابن عمر: ما رأيت أسود من معاوية؟ قيل له: وأبو بكر وعمر؟ قال: هما خير منه، ومعاوية أسود منهما انتهى كلامه.
وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيرا في وصف يحيى عليه السلام، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون.
وفي قوله: وسيدا، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة، وهو من أوصاف المدح. ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر.
وورد النهي: (لا تقولوا للمنافق سيدا)، وما جاء من قوله * (أطعنا سادتنا) * فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم.
قيل: وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم): أنت سيدنا وذو الطول علينا، فقال صلى الله عليه وسلم): (السيد هو الله، تكلموا بكلامكم)، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر، وقد سمى هو الحسن بن علي سيدا، وكذلك سعد بن معاذ، وعمرو بن الجموح.
* (وحصورا) * هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطاء، وأبو الشعثاء، والحسن، والسدي، وابن زيد، قال الشاعر:
* وحصورا لا يريد نكاحا
*
لا ولا يبتغي النساء الصباحا
*
وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وقيل: الحاضر نفسه عن الشهوات وقيل: عن معاصي
467

الله وقيل: الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضا، وابن عباس أيضا، والضحاك، والمسيب: هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل.
وإيراد الحصور وصفا في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك.
قال مجاهد: كان طعام يحيي العشب، وكان يبكي من خشية الله حتى لو كان القار على عينيه لخرقه، وكان الدمع اتخذ مجرى في وجهه.
قيل: ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا.
وقيل: الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر. قال الأخطل:
* وشارب مربح بالكأس نادمني
*
لا بالحصور ولا فيها بسآر
*
فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللهو.
وقد روي أنه: مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للعب خلقت. والحصور والحصر كما تم السر قال جرير:
* ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا
*
حصرا بسرك يا أميم ضنينا
*
وجاء في الحديث عن ابن العاصي، ما معناه: أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلا مثل هذا العود، يشير إلى عويد صغير. وفي رواية أبي هريرة: كان ذكره مثل هذه
القذاة، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها. وقد استدل بقوله * (وحصورا) * من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح، وهو مذهب الجمهور خلافا لمذهب أبي حنيفة، فإنه بالعكس.
* (ونبيا) * هذا الوصف الأشرف، وهو أعلى الأوصاف، فذكر أولا الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده، وهو: التصديق الذي هو الإيمان، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه، ثم ذكر الزهادة وخصوصا فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء، ثم ذكر الرتبة العليا وهي: رتبة النبوة. وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف. مريم عليها السلام، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة، وما خصها الله تعالى به من الخوارق للعادة، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، فأجابة إلى ذلك، ووهب له يحيى على وفق. ما طلب، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة، وكان يحيى سيدا، فاشتركا في هذا الوصف. وكانت مريم عذراء بتولا لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء. وكانت مريم أتاها الملك رسولا من عند الله وحاوراها عن الله بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية، وكان يحيى نبيا، وحقيقة النبوة هو أن يوحي الله إليه، فقد اشتركا في هذا الوصف.
* (من الصالحين) * يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء، كما قال: * (ذرية بعضها من بعض) * ويحتمل أن يكون المعنى: وصالحا من جملة الصالحين. كما قال تعالى في وصف إبراهيم * (وإنه فى الاخرة لمن الصالحين) * قال ابن الأنباري: معناه من صالحي الحال عند الله قال الكرماني: خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج: الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم. انتهى.
468

وقد قال سليمان بعد حصول النبوة له * (وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين) * قيل: وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدرا من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر، فمن كان أكثر نصيبا من الصلاح كان أعلى قدرا.
وقال الماتريدي: الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه، وفي غيرهم لا يتحقق إلا بعضها، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه، وفي غيرههم من بعضها، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوة في مطلق المؤمنين، فكان تقييده باسم الصلاح مفيدا.
وقيل: من الصالحين في الدنيا والآخرة، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان، والأمن من خوف الخاتمة.
* (قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر) * كان قد تقدم سؤاله به: * (رب هب لى من لدنك ذرية طيبة) * فلا شك في إمكانية ذلك، وجوازه: وإذا كان ذلك ممكنا وبشرته به الملائكة، فما وجه هذا الاستفهام؟.
وأجيب بوجوه:.
أحدهما: أنه سؤال عن الكيفية، والمعنى: أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقرا؟ أي بلغت سن من لا تلد، وكان قد بلغ تسعا وتسعين سنة، وامرأته بلغت ثمانيا وتسعين سنة وقال ابن عباس: كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي: ابن اثنتين وتسعين سنة.
أم أعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له؟ فأجيب: بأنه يولد له على هذه الحال. قال معناه: الحسن، والأصم.
الثاني: أنه لما بشر بالولد استعلم: أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه؟.
الثالث: أنه كان نسي السؤال، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة.
الرابع: أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة الله تعالى، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم: إن ذلك من شدة الفرح، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبدا له عادة.
الخامس: إنما سأل لأنه كان عاجزا عن الجماع لكبر سنه، فسأل ربه: هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر؟
السادس: سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها.
السابع: أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه، فقال له: هل تدري من ناداك؟ قال: ملائكة ربي قال له: بل ذلك الشيطان، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك، فخالطت قلبه وسوسة، فقال: * (أنى يكون لي غلام) * ليبين الله له من الوحي، قاله عكرمة، والسدي. قال القاضي: لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع.
وأجيب: بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة، فيبقى الاحتمال، فيطلب زواله.
وقال الزمخشري: استبعاد من حيث العادة. كما قالت مريم. إنتهى. وعلى ما قاله: لو كان استبعادا لما سأله بقوله: * (هب لى من لدنك ذرية طيبة) * لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكنا لا سيما
469

الأنبياء، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع.
و: يكون، يجوز أن تكون تامة وفاعلها غلام، أي: أني يحدث لي غلام؟ ويجوز أن تكون ناقصة، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الاسم، لأنه قيل: دخول كان مصحح لجواز الابتداء بالنكرة، إذ تقدم أداة الاستفهام مسوغ لجواز الابتداء بالنكرة، والجملتان بعد كل منهما حال، والعامل فيهما: يكون، إن كانت تامة، أو العامل في: لي، إن كانت ناقصة.
وقيل: * (وامرأتى عاقر) * حال من المفعول في: بلغني، والعامل بلغني، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدد شيئا فشيئا، فلم يكن وصفا لازما، وكانت الثانية اسمية والخبر: عاقر، لأنه كونها عاقرا أمر لازم لها لم يكن وصفا طارئا عليها، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية، ومعنى: بلغني الكبر، أثر في: وحقيقة البلوغ في الأجرام، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه.
وأسند البلوغ إلى الكبر توسعا في الكلام، كأن الكبر طالب له، لأن الحوادث طارئة على الإنسان، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب، وقيل: هو من المقلوب، كما جاء: * (وقد بلغت من الكبر عتيا) * وكما قال:
* مثل القنافذ هداجون قد بلغت
*
نجران أو بلغت سوءاتهم هجر
*
وقال الراغب: إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر. إنتهى. وهنا قدم حال نفسه وأخر حال امرأته، وفي مريم عكس، فقال الماتريدي: لا تراعي الألفاظ في الحكاية إنما تراعي المعاني المدرجة في الألفاظ.
وقال غيره: صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا، لأنه قدم: أنه وهن العظم منه، * (واشتعل الرأس شيبا) *. وقال: * (وإني خفت الموالى من ورائى وكانت امرأتى عاقرا) *، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتيا روؤس الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى، والعطف هنا بالواو، فليس التقديم والتأخير مشعرا بتقدم زمان، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام.
* (قال كذالك الله يفعل ما يشاء) * الكاف: للتشبيه، وذلك: إشارة إلى الفعل، أي: مثل ذلك الفعل، وهو تكون الولد بين الفاني والعاقر، يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا من الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة: سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف، أي: فعلا مثل ذلك الفعل، أو على أنها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف: من يفعل، وذكل على مذهب سيبويه، وقد تقدم لنا مثل هذا، ويحتمل أن يكون كذلك الله مبتدأ وخبرا، وذلك على حذف مضاف، أي صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، ويكون * (يفعل ما يشاء) * شرحا للإبهام الذي في اسم الإشارة، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة: الله، قال: * (ويفعل * ما يشاء) * بيان له، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات. إنتهى.
وقال ابن عطية: أي: كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله. إنتهى.
وعلى هذا الاحتمال، تكون الكاف في موضع رفع، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة. قال ابن عطية وغيره: واللفظ لابن عطية: ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته، كأنه قال: رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له: كما أنتما يكحون لكما الغلام. والكلام تام على هذا التأويل. في قوله: كذلك وقوله: الله يفعل ما يشاء. جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب. إنتهى كلامه. فيكون: كذلك، متعلقا بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال: يهب لك الولد وأنت بحالتك.
470

والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول.
* (قال رب اجعل لىءاية قال ءايتك * أن لا * تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * قال الربيع، والسدي، وغيرهما: هن زكريا قال: يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك، والبشارة حق، فاجعل لي آية، علامة أعرف بها صحة ذلك فعوقب على هذا الشك في أمر الله بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس. وقالت فرقة من المفسرين: لم يشك قط زكريا، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد، وتتم به البشارة، فلما قيل له:.
* (كذالك الله يفعل ما يشاء) * سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.
واختلفوا في منعه الكلام: هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة؟ فقال جبير بن نفير: ربا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاث. وقال الربيع، وغيره: أخذ الله عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة. وقالت طائفة: لم تكن آفة، ولكنه منع مجاورة الناس، فلم يقدر عليها، وكان يقدر على ذكر الله. قاله الطبري، وذكر نحوه عن محمد بن كعب، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر الله لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له: آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر.
وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال، ومنتزعا منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر الله، وعجزه عن تكليم الناس، مع سلامة البنية واعتدال المزاج، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الأخبار.
وقيل: أمر أن يصوم ثلاثة أيام، وكانوا لا يتكلمون في صومهم. وقال أبو مسلم: يحتمل أن يكون معناه: آيتك أن تصير مأمورا بأن لا تكلم الخلق، وأن تشتغل بالذكر شكرا على إعطاء هذه الموهبة، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب. قيل: فسأل الله أن يفرض عليه فرضا يجعله شكرا لذلك.
والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلا رمزا، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به، أو بملزومه في شريعتهم، وهو الصوم، وقد يكون لمنع قهري مدة معينة لآفة تعرض في الجارحة، أو لغير آفة، قالوا: مع قدرته على الكلام بذكر الله. قال الزمخشري: ولذلك قال: * (واذكر ربك) * إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس، وهي من الآيات الباهرة. إنتهى.
ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء، ولأن الأمر بالذكحر والتسبيح ليس مقيدا بالزمان الذي لا يكلم الناس، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام، وظاهر: جعل، هنا أنها بمعنى صير، فتتعدى لمفعولين: الأول آية، والثاني المجرور، قبله وهو: لي، وهو يتعين تقديمه، لأنه قبل دخول: اجعل، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة.
وقرأ ابن أبي عبلة: أن لا تكلم، برفع الميم على أن: أن، هي المخففة من الثقيلة، أي أنه لا تكلم، واسمها محذوف ضمير الشأن، أو على إجراء: أن، مجرى: ما المصدرية، وانتصاب: ثلاثة أيام، على الظرف خلافا للكوفيين، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل، فليس بظرف، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو: صمت يوما، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعا في جميع الثلاثة، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه. والمراد: ثلاثة أيام بلياليها، يدل على ذلك قوله في سورة مريم: * (قال رب * أن لا * تكلم الناس ثلاث ليال سويا) * وهذا يضعف تأويل من قال: أمر بالصوم ثلاثة أيام، وكانوا لا يتكلمون في صومهم، والليالي تبعد مشروعية صومها، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام، بل أطلق فقال: ثلاثة أيام، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولا إلى اختياره، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب.
قيل: وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة، وأن شرعه شرع لنا وإن نسخه قوله صلى الله عليه وسلم): لا صمت يوم إلى الليل.
وقد ذهب كثير من العلماء
471

إلى أن معناه: لا صمت يوم، أي عن ذكر الله، وأما الصمت عما لا منفعة فيه، فحسن.
واستثناء الرمز، قيل: هو استثناء منقطع، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلا على مذهبه. ولذلك أنشد النحويون:
* أرادت كلاما فاتقت من رقيبها
*
فلم يك إلا ومؤها بالحواجب
*
وقال:
* إذا كلمتني بالعيون الفواتر
*
رددت عليها بالدموع البوادر
واستعمل المولدون هذا المعنى. قال حبيب:
كلمته بجفون غير ناطقة
فكان من رده ما قال حاجبه وكونه استثناء متصلا بدأ به الزمخشري. قال: لما أدى مؤدي الكلام، وفهم منه ما يفهم منه، سمي كلاما.
*
وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعا. قال: والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء أنه منقطع، وبدأ به أولا، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا، والرمز هنا: تحريك بالشضفتين، قاله مجاهد. أو: إشارة باليد والرأس، قاله الضحاك، والسدي، وعبد الله بن كثير. أو: إشارة باليد، قاله الحسن. أو: إيماء، قاله قتادة. فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار. وروي عن قتادة: إشارة باليد أو إشارة بالعين، روي ذلك عن الحسن.
وقيل: رمزه الكتابة على الأرض. وقيل: الإشارة بالإصبع المسبحة. وقيل: باللسان. ومنه قول الشاعر:
* ظل أياما له من دهره
*
يرمز الأقوال من غير خرس
*
وقيل: الرمز الصوت الخفي.
وقرأ علقمة بن قيس، ويحيى بن وثاب: رمزا، بضم الراء والميم، وخرج على أنه جمع رموز، كرسل ورسول، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر.
وقرأ الأعمش: رمزا، بفتح الراء والميم، وخرج على أنه جمع رامز، كخادم وخدم، وانتصابه إذا كان جمعا على الحال من الفاعل، وهو الضمير في تكلم، ومن المفعول وهو: الناس. كما قال الشاعر:
* فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
*
أيى وأيك فارس الأحزاب
*
أي: إلا مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه.
وفي قوله: * (إلا رمزا) * دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام، وذلك موجود في كثير من السنة. وفي الحديث: (أين الله). فأشارت برأسها إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة). فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات، وهو
472

قول عامة الفقهاء.
* (واذكر ربك كثيرا) * قيل: الذكر هنا هو بالقلب، لأنه منع من الكلام. وقيل: باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر. وقيل: هو على حذف مضاف، أي: واذكر عطاء ربك وإجابته دعائك. وقال محمد بن كعب القرظي: لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا، وللرجل في الحرب. وقد قال تعالى: * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا) * وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر الله له بنعمه وألطافه، كما قال تعالى: * (فاذكرونى أذكركم) *.
وانتصاب: كثيرا، على أنه نعت لمصدر محذوف، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه: اذكروا، على مذهب سيبويه.
* (وسبح بالعشى والإبكار) * أي: نزه الله عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك: سبحان الله. وقيل: معنى وسبح وصل، ومنه: كان يصلي سبحة الضحى أربعا، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين.
والظاهر أنه أمر بتسبيح الله في هذين الوقتين: أول الفجر، ووقت ميل الشمس للغروب، قاله مجاهد وقال غيره: يحتمل أن يكون أراد بالعشي الليل، وبالإبكار النهار، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته، وهو مجاز حسن.
ومفعول: وسبح، محذوف للعلم به، لأن قبله: * (واذكر ربك كثيرا) * أي: وسبح ربك. و: الباء في: بالعشي، ظرفية أي: في العشي.
وقرئ شاذا والإبكار، بفتح الهمزة، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف، تقول: أتيتك بكرا، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره: سحر وأسحار، وجبل وأجبال. وهذه القراءة مناسبة للعيش على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية، وكذلك هي مناسبة إذا كان العيش مفردا، وكانت الألف واللام فيه للعموم، كقوله: * (إن الإنسان * لفى * خسر) * وأهلك الناس الدينار الصفر.
وأما على قراءة الجمهور: والإبكار، بكسر الهمزة، فهو مصدر، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت، بالمصدر، فيحتاج إلى حذف أي: بالعشي ووقت الإبكار. والظاهر في: بالعشي والإبكار، أن الألف واللام فيهما للعموم، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها.
وقال الراغب: لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط، بل إدامة العبادة في هذه الأيام. وقال غيره: يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة، ذكره العشي وازبكار فكأنه قال: اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي، وصل طرفي النهار. إنتهى.
ويتعلق: بالعشي، بقوله: وسبح، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى، إذ لو كان متعلقا بقوله: واذكر ربك، لأضمر في الثاني، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة.
قيل: أو في قليل من الكلام، ويحتمل أن يكون من باب الإعمال، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين.
قيل: وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعا: الزيادة في البناء في قوله: هنالك، وقد ذكرت فائدته و: التكرار، في ربه: قال رب، وفي أن الله يبشرك، وبكلمة من الله. وفي آية قال: آيتك، وفي: يكون لي غلام كانت وتأنيث المذكر حملا على اللفظ. وفي: ذرية طيبة، و: الإسناد المجازي في: وقد بلغني الكبر، والسؤال والجواب: قال رب أني؟ قال كذلك قال رب، اجعل لي آية. قال: آيتك.
قال أرباب الصناعة: أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة والحذف في مواضع.
473

2 (* (وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نسآء العالمين * يامريم اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين * ذالك من أنبآء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والا خرة ومن المقربين * ويكلم الناس فى المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر قال كذالك الله يخلق ما يشآء إذا
قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بنىإسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنىأخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الا كمه والا برص وأحى الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولا حل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بأية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربى وربكم فاعبدوه هاذا صراط مستقيم) *)) 2
القلم: معروف وهو الذي يكتب به، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به، وهو فعل بمعنى مفعولا لأنه يقلم أي: يبرى ويسوى وقيل: هو مشتق من القلامة، وهي نبت ضعيف لترقيقه، والقلامة أيضا ما سقط من الظفر إذا قلم، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير:
* لدى أسد شاكي السلاح مقذف
*
له لبد أظفاره لم تقلم
*
وقال بعض المولدين:
* يشبه بالهلال وذاك نقص
*
قلامة ظفره شبه الهلال
*
الوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله: * (وأوحى * ربك إلى النحل) * وبالإشارة كقوله.
لأوحت إلينا والأنامل رسلها
* (فأوحى إليهم أن سبحوا) * وبالكتابة: قال زهير:
* أتى العجم والآفاق منه قصائد
*
بقين بقاء الوحي في الحجر ألاصم
474

والوحي: الكتاب قال:
*
فمدافع الريان عرى رسمها
خلقا كما ضمن الوحي سلامها
*
وقيل: الوحي جمع: وحي، وأما الفعل فيقال أوحى ووحى.
المسيح: عبراني معرب، وأصله بالعبراني مشيحا، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى، فقيل: موسى، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري: ومعناه المبارك، كقوله * (وجعلنى مباركا * أينما * كنت) * وهو من الألقاب المشرفة، كالصديق، والفاروق، انتهى. وقيل: المسيح عربي، واختلف: أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلا؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلا؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك.
الكهل: الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون وقيل: خمسون وقيل: اثنان وخمسون، ثم يدخل سن الشيخوخة.
واختلف في أولها فقيل: ثلاثون وقيل: اثنان وثلاثون وقيل: ثلاثة وثلاثون. وقيل: خمسة وثلاثون وقيل: أربعون عاما.
وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا، ومنه: الكاهل، وقال ابن فارس: اكتهل الرجل وخطه الشيب، من قولهم: اكتهلت الروضة إذا عمها النور، ويقال للمرأة: كهلة. انتهى.
ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله: أنه في الرحم: جنين، فإذا ولد: فوليد، فإذا لم يستتم الأسبوع: فصديع، وإذا دام يرضع: فرضيع، وإذا فطم: ففطيم، وإذا لم يرضع: فجحوش، فإذا دب ونما: فدارج، فإذا سقطت رواضعه: فمثغور، فإذا نبتت بعد السقوط: فمتغر، بالتاء والثاء. فإذا كان يجاوز العشر: فمترعرع وناشيء، فإذا كان يبلغ الحلم: فيافع، ومراهق، فإذا احتلم: فمحزور، وهو في جميع هذه الأحوال: غلام. فإذا اخضر شاربه وسال عذاره: فباقل، فإذا صار ذاقنا: ففتى وشارخ، فإذا كملت لحيته: فمجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين: فهو شاب، ثم هو كهل: إلى أن يستوفي الستين. هذا هو المشهور عند أهل اللغة.
الطين: معروف، ويقال طانه الله على كذا، وطامه بابدال النون ميما، جبله وخلقه على كذا، ومطين لقب لمحدث معروف.
الهيئة: الشكل والصورة، وأصله مصدر يقال: هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال ما، وتعديه بالتضعيف، فتقول: هيأته، قال * (الله لكم) *.
النفخ: معروف.
الإبراء: إزالة العلة والمرض، يقال: برئ الرجل وبرأ من المرض، وأما من الذنب ومن الدين فبريء.
الكمه: العمى يولد به الإنسان وقد يعرض، يقال: كمه يكمه كمها: فهو أكمه. وكمهتها أنا أعميتها قال سويد:.
كمهت عيناه حتى ابيضتا
475

وقال رؤبة.
فارتد عنها كارتداد الأكمه
البرص: داء معروف وهو بياض يعتري الجلد، يقال منه: برص فهو أبرص، ويسمى القمر أبرص لبياضه، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده.
ذخر: الشيء يذخره خبأه، والذخر المذخور قال:
* لها أشارير من لخم تثمره
*
من الثعالي وذخر من أرانبها
*
* (وإذ قالت الملئكة يامريم * مريم * إن الله اصطفاك) * لما فرغ من قصة زكريا، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها، رجع إلى قصة مريم، وهكذا عادة أساليب العرب، متى ذكروا شيئا استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلها، فذكر ولادته.
وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل: المراد جبريل ومن معه من الملائكة، لأنه نقل أنه: لا ينزل لأمر إلا ومعه جماعة من الملائكة وقيل: جبريل وحده.
وقرأ ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو: وإذ قال الملائكة، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة: بأن.
والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري: روي أنهم كلموها شفاها معجزة لزكريا، أو إرهاصا لنبوة عيسى. انتهى. يعني: بالارهاص التقدم، والدلالة على نبوة عيسى وهذا مذهب المعتزلة، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلا إن كان في وقته نبي، أو انتظر بعث نبي، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي.
* (وطهرك) * التطهير هنا من الحيض، قاله ابن عباس قال السدي: وكانت مريم لا تحيض. وقال قوم: من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس: من مس الرجال وعن مجاهد: عما يصم النساء في خلق وخلق ودين، وعنه أيضا: من الريب والشكوك.
* (واصطفاك على نساء العالمين) * قيل: كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل: لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل: الاصطفاء الأول: اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء، والثاني: اصطفاء على نساء العالمين. وقيل: لما أطلق الاصطفاء الأول بين بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري: اصطفاك أولا حين تقبلك من أمك ورباك، واختصك بالكرامة السنية، وطهرك مما يستقذر من الأفعال، ومما قذفك به اليهود، واصطفاك آخرا على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب، ولم يكن ذلك لأحد من النساء. انتهى. وهو كلام حسن، ويكون: نساء العالمين، على قوله عاما، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل: هو خدمة البيت وقيل: التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل: سلامتهها من نخس الشيطان وقيل: نبوتها، فإنه قيل إنها نبئت، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة الله لها، وكان زكريا يسمع
476

ذلك، فيقول: إن لمريم لشأنا. والجمهور على أنه لم ينبأ امرأة، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل: نساء العالمين، خاص بنساء عالم زمانها، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاما، قاله ابن جريج.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (خير نساء الجنة مريم بنت عمران). وروي: (خير نسائها مريم بنت عمران) وروي: (خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد) وروي: (فضلت خديجة على نساء أمتي كما فضلت مريم على نساء العالمين) وروي: أنها من الكاملات من النساء.
وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا: والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء، أنهم ينقلون عن أشياخهم: أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
* (العالمين يامريم اقنتى لربك) * لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدم ذكرهم على الخلاف المذكور، والمراد بالقنوت هنا: العبادة، قاله الحسن، وقتادة. أو: طول القيام في الصلاة، قاله مجاهد، وابن جريج، والربيع، أو: الطاعة، أو: الإخلاص، قاله ابن جبير.
وفي قوله: لربك، إشارة إلى أن تفرده بالعبادة وتخصصه بها، والجمهور على ما قاله مجاهد، وهو المناسب في المعنى لقوله: * (واسجدى واركعى) * وروي مجاهد أنها: لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها. وقال الأوزاعي: قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها. وروي: أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جمادا لسكونها في طول قيامها.
* (واسجدى واركعى مع الركعين) * أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو، والواو لا ترتب، فلا يسأل لم قدم
477

السجود على الركوع إلا من جهة علم البيان.
والجواب: أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى الله قدم، وإن كانت متأخرا في الفعل على الركوع، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف. وقيل: كان السجود مقدما على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم، ذكره أبو موسى الدمشقي. وقيل: في كل الملل إلا ملة الإسلام، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع، فيكون إذ ذاك التقديم زمانيا من حيث الوقوع، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون، وكذلك التقديم الذي قبله، وتوارد الزمخشري، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات.
فقال الزمخشري: أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها، ثم قيل لها * (واركعى مع الركعين) * المعنى: ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين، وكوني معهم وفي عدادهم، ولا تكون في عداد غيرهم.
وقال ابن عطية: القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة، وهما: طول القيام والسجود، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة. وهذان يختصان بصلاتها منفردة، وإلا فمن يصلي وراء إمام لا يقال له: أطل قيامك، ثم أمرت بعد بالصلاة في الجماعة، فقيل لها: * (واركعى مع الركعين) * وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ. ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة. انتهى كلامه. ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره.
وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع، وقد استشكل ابن عطية هذا، فقال: وهذه الآية أشد إشكالا من قولنا: قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمر وليس له رتبة معلومة، وقد علم أن السجود بعد الركوع، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية؟ انتهى. وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق.
وذكر الزمخشري توجيها آخر في تأخير الركوع عن السجود، فقال: ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع، وفيه من يركع، فأمرت بأن تركع مع الراكعين، ولا تكون مع من لا يركع. انتهى. فكأنه قيل: لا تقتصري على القيام والسجود، بل أضيفي إلى ذلك الركوع.
وقيل: المراد: باقنتي: أطيعي، وباسجدي: صلي، ومنه * (وأدبار السجود) * أي: الصلوات، و: باركعي: أشكري مع الشاكرين، ومنه: * (وخر راكعا وأناب) * ويقوي هذا المعنى، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلا والركوع فيها مقدم على السجود، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوها من الركوع، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم.
و: مع، في قوله: مع الراكعين، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة، ويحتمل أن يتجوز في: مع، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع، أي: إفعلي كفعلهم، وإن لم توقعي الصلاة معهم، فإنها كانت تصلي في محرابها. وجاء: مع الراكعين، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعم إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة.
قال الماتريدي: ولم تكره لها الصلاة في الجماعة، وإن كانت شابة، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها. انتهى.
* (ذالك من * من أنباء الغيب نوحيه إليك) * الإشارة إلى ما تقدم من قصص امرأة عمران، وبنتها مريم، وزكريا، ويحيى، والمعنى: أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب، ولا
478

صحب من يعرف ذلك، وهو من قوم أميين، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند الله كما قال في الآية الأخرى، وقد ذكر قصة أبعد الناس زمانا من زمانه / صلى الله عليه وسلم). وهو نوح عليه السلام، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها * (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هاذا) * وفي هذا دليل على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم) إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلا من شاهدها، أو: من قرأها في الكتب السابقة، أو: من أوحي الله إليه بها. وقد انتفى العيان والقراءة، فتعين الثالث وهو الوحي من الله تعالى.
والكاف في: ذلك، و: إليك، خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، والأحسن في الإعراب أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من أنباء الغيب، خبره. وأن يكون: نوحيه، جملة مستأنفة، ويكون الضمير في: نوحيه، عائدا على الغيب، أي: شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به، ولذلك أتى بالمضارع، ويكون أكثر فائدة من عوده على: ذلك، إذ يشتمل ما تقدم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل، إذ يصير نظير: زيد يطعم المساكين، فيكون إخبارا بالحالة الدائمة. والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع، وإذ يلزم من عوده على: ذلك، أن يكون: نوحيه، بمعنى: أوحيناه إليك، لأن الوحي به قد وقع وانفصل، فيكون أبعد في المجاز منه إذا
كان شاملا لهذه القصص وغيرها مما سيأتي، وجوزوا أن يكون: نوحيه، خبرا: لذلك، و: من أنباء، حال من: الهاء، في: نوحيه، أو متعلقا: بنوحيه.
* (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) * هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى، والمعلم به قصتان: قصة مريم، وقصة زكريا. فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولا، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد، ولأندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل، فما خلت من تنبيه على قصة.
ومعنى: * (ما كنت * لديهم) * أي: ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم. ونفي المشاهدة، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من الله تعالى إليه، ونظيره في قصة موسى: * (وما كنت بجانب الغربى) * * (وما كنت بجانب الطور) * وفي قصة يوسف * (ما كنت * لديهم إذ أجمعوا أمرهم) *.
والضمير، في: لديهم، عائد على غير مذكور، بل على ما دل عليه المعنى، أي: وما كنت لدى المتنازعين، كقوله: * (فأثرن به نقعا) * أي: بالمكان.
والعامل في: إذ، العامل في: لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في: إذ، كنت. إنتهى. ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة. لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا، فكيف يعمل في ظرف؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه، والمضارع بعد: إذ، في معنى الماضي، أي: إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة. وقيل: كانوا يكتبون بها التوراة، فاختاروها للقرعة تبركا بها. وقيل: الأقلام هنا الأزلام، وهي: القداح، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه، ولا كيفية حال الإلقاء، كيف خرج قلم زكريا. وقد ذكرنا فيما سبق شيئا من ذلك عن المفسرين، والله أعلم بالصحيح منها. وقال أبو مسلم: كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة، فمن خرج له السهم سلم له الأمر، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بهال الجزور.
وارتفع * (أيهم يكفل مريم) * على الابتداء والخبر، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف، أي: يقولون أيهم يكفل، ودل على المحذوف: * (يلقون أقلامهم) * وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه.
* (وما كنت لديهم إذ يختصمون) * أي: بسبب مريم، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع، وأن يكون اختصاما آخر بعده، والمقصود شدة رغبتهم في التكفل بشأنها. والعامل في: إذ، العامل في: لديهم، أو، كنت، على قول أبي علي في: إذ يلقون
479

وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة: التكرار في: اصطفاك، وفي: يا مريم، وفي: ما كنت لديهم. قيل: والتقديم والتأخير في: واسجدي واركعي، على بعض الأقوال. والأشتعارة، فيمن جعل القنوعت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة، والإشارة بذلك من أنباء الغيب، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين، والتشبيه في أقلامهم، إذا قلنا إنه أراد القداح. والحذف على عدة مواضع.
* (إذ قالت الملئكة يامريم * مريم * إن الله يبشرك بكلمة منه) * العامل في: إذا، اذكر أو: يختصمون، أو إذ، بدل من إذ، في قوله: إذ يختصمون، أو من: وإذ قالت الملائكة، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة، وهو بعيد، وهو قول الزجاج. ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه. والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ.
والخلاف في الملائكة: أهم جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من الله، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشضير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها، ولا يجري لامرأة بعدها، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها، وكان جرى ذلك الخارق من رزق الله لها أيضا تأنيسا لهذا الخارق.
وقرأ ابن مسعود، وابن عمر: وإذ قال الملائكة.
والكلمة من الله هو عيسى عليه السلام، سمي كلمة لصدوره بكلمة: كن، بلا أب. قاله قتادة. وقيل: لتسميته المسيح، وهو كلمة من الله أي: من كلام الله. وقيل: لوعد الله به في كتابه التوراة والكتب السابقة. وفي التوراة: أتانا الله من سيناء، وأشرق من ساعر، واستعلن من جبال فاران. وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح. وقيل: لأن الله يهدي بكلمته. وقيل: لأنه جاء على وفق كلمة جبريل، وهو: * (إنما أنا رسول ربك لاهب لك غلاما زكيا) * فجاء على الصفة التي وصف. وقيل: سماه الله بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء، فيكون على هذا علما موضوعا له لم تلحظ فيه جهة مناسبة. وقيل: الكلمة هنا لا يراد بها عيسى، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى. وقيل: بشارة النبي لها.
* (اسمه المسيح عيسى * ابن مريم) * الضمير في اسمه، عائد على: الكلمة، على معنى: نبشرك بمكون منه، أو بموجود من الله. وسمي: المسيح، لأنه مسح بالبركة، قاله الحسن، وسعيد، وشمر. أو: بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، خرج من بطن أمه ممسوحا به، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي. أو: بالتطهير من الذنوب، أو: بمسح جبريل له بجناحه أو: لمسح رجليه فليس فيهما خمص، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له. قال الشاعر:
480

* بات يقاسيها غلام كالزلم
*
خدلج الساقين ممسوح القدم
*
أو: لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه، كما قال الشاعر:
على وجه مي مسحة من ملاحة
أو: لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس. أقوال سبعة، ويكون: فعيل، فيها بمعنى مفعول، والألف واللام في: المسيح، للغلبة مثلها في: الدبران والعيوق. وقال ابن عباس: سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إبلا بريء، فعلى هذا يكون: فعيل، مبنيا للمبالغة: كعليم، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة. وقيل: من المساحة، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها. وقيل: هو مفعل من ساح يسيح من السياحة. وقال مجاهد، والنخعي: المسيح: الصديق. وقال ابن عباس، وابن جبير: المسيح: الملك، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات. وقال أبو عبيد: أصله بالعبرانية مشيحا، فغير، فعلى هذا يكون اسما مرتجلا ليس هو مشتقا من المسح ولا من السياحة * (عيسى ابن مريم) * الأبناء ينسبون إلى الآباء، ونسب إليها. وإن كان الخطاب لها إعلاما أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها.
والظاهر أن اسمه: المسيح، فيكون: اسمه المسيح، مبتدأ وخبرا، و: عيسى، جوزوا فيه أن يكون خبرا بعد خبر، وأن يكون بدلا، وأن يكون عطف بيان. ومنع بعض النحويين أن يكون خبرا بعد خبر، وقال: كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى، أو أسماها على لفظ الكلمة، ويجوز أن يكون: عيسى، خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هو عيسى ابن مريم. قال ابن عطية: ويدعو إلى هذا كون قوله: ابن مريم، صفة: لعيسى، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف. وأما على البدل، أو عطف البيان، فلا يجوز أن يكون: ابن مريم، صفة: لعيسى، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظر. إنتهى كلامه.
وقال الزمخشري فإن قلت لم قيل: * (اسمه المسيح عيسى * ابن مريم) * وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها: عيسى، وأما: المسيح و: الأبن، فلقب وصفة؟.
قلت: الاسم للمسمى علامة يعرف بها، ويتميز من غيره، فكأنه قيل: الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة. إنتهى كلامه. ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة، فتكون الثلاثة أخبارا عن قوله: اسمه، ويكون من باب: هذا حلو حامض، و: هذا أعسر يسر. فلا يكون أحدها على هذا مستقلا بالخبرية. ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر:
481

* كيف أصبحت كيف أمسيت مما
*
يزرع الود في فؤاد الكريم؟
*
أي: مجموع هذا مما يزرع الود، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع، كذلك يجوز في الخبر. وأجاز أبو البقاء أن يكون: ابن مريم، خبر مبتدأ محذوف أي: هو ابن مريم، ولا يجوز أن يكون بدلا مما قبله، ولا صفة لأن: ابن مريم، ليس باسم. ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو إلا إذا كان علما عليه؟ إنتهى.
قال بعضهم: ومن قال إن المسيح صفة لعيسى، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره: اسمه عيسى المسيح، لأن الصفة تابعة لموصوفها. إنتهى. ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة، لأن المخبر به على هذا اللفظ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال، إذ لفظ عيسى ليس المسيح.
ومن قال: إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته. قال ابن الأنباري: وإنما بدأ بلقبه لأن: المسيح، أشهر من: عيسى، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه، وعيسى قد يقع على عدد كثير، فقدمه لشهرته. ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم؟ وهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب لا اسم.
قال الزجاج: وعيسى معرب من: ايسوع، وإن جعلته عربيا لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث، ويكون مشتقا من: عاسه يعوسه، إذا ساسه وقام عليه.
وقال الزبمخشري: مشتق من العيس كالرقم في الماء.
* (وجيها في الدنيا والاخرة) * قال ابن قتيبة: الوجيه ذو الجاه، يقال: وجه الرجل يوجه وجاهة. وقال ابن دريد: الوجيه المحب المقبول. وقال الأخفش: الشريف ذو القدر والجاه. وقيل: الكريم على من يسأله، لأنه لا يرده لكرم وجهه.
ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته، وفي الآخرة بعلو درجته. وقيل: في بالدنيا بالطاعة، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل: في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص، وفي الآخرة بالشفاعة. وقيل: في الدنيا كريما لا يرد وجهه، وفي الآخرة في علية المرسلين. وقال الزمشخري: الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة. وقال ابن عطية: وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته.
* (ومن المقربين) * معناه من الله تعالى. وقال الزمخشري: وكونه من المقربين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة. وقال قتادة: ومن المقربين عند الله يوم القيامة. وقيل: من الناس بالقبول والإجابة، قاله الماوردي. وقيل: معناه: المبالغ في تقريبهم، لأن فعل من صغ المبالغة، فقال: قربه يقربه إذا بالغ في تقريبه إنتهى. وليس
فعل هنا من صبغ المبالغة، لأن التضعيف هنا للتعدية، إنما يكون للمبالغة في نحو: جرحت زيدا و: موت الناس.
* (ومن المقربين) * معطوف على قوله: وجيها، وتقديره: ومقربا من جملة المقربين.
أعلم تعالى أن ثم مقربين، وأن عيسى منهم. ونظير هذا العطف قوله تعالى: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل) * فقوله: وبالليل، جار ومجرور في موضع الحال، وهو معطوف على: مصبحين، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل، فلو جاء: ومقربا، لم تكن فاصلة، وأيضا فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين، والتقريب صفة جليلة عظيمة. ألا ترى إلى قوله: * (ولا الملئكة المقربون) *؟ وقوله: * (فأما إن كان من المقربين * فروح) * وهو تقريب من الله تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة.
* (ويكلم الناس فى المهد وكهلا) * وعطف: ويكلم، وهو حال أيضا على: وجيها، ونظيره: * (إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن) * أي: وقابضات. وكذلك: ويكلم، أي: ومكلما. وأتى في الحال الأولى بالاسم لأن الاسم
482

هو للثبوت، وجاءت الحال الثانية جارا ومجرورا لأنه يقد بالأسم. وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة. ألا ترى في الحال وصف في المعنى؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. كقوله تعالى: * (وقال رجل مؤمن من ءال فرعون يكتم إيمانه) * فكذلك الحال، بدىء بالأسم، ثم الجار والمجرور، ثم بالجملة. وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد، كما أن الاسم يشعر بالثبوت، ويتعلق: في المهد، بمحذوف إذ هو في موضع الحال، التقدير: كائنا في المهد وكهلا، معطوف على هذه الحال، كأنه قيل: طفلا وكهلا، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال. ونظيره عكسا: * (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وباليل) * ومن زعم أن: وكهلا، معطوف على: وجيها، فقد أببعد.
والمهد: مقر الصبي في رضاعه، وأصله مصدر سمي به يقال: مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها، أي: وطأت، ويقال: أمهد الشيء ارتفع.
وتقدم تفسير: الكهل لغة. وقال مجاهد: الكهل الحليم، وهذا تفسير باللازم غالبا، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته، فلا يكون في ذلك كالشارخ، والعرب تتمدح الكهولة، قال:
* وما ضر من كانت بقاياه مثلنا
*
شباب تسامى للعلى وكهول
ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي، وفي قوله: وكهلا، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة، قاله الربيع، ويقال: إن مريم ولدته لثمانية أشهر، ومن ولد لذلك لم يعش، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن. وقيل: كانت العادة أن من تكلم في المهدمات، وفي قوله: * (فى المهد وكهلا) * إشارة إلى تقلب الأحوال عليه، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته. وقال ابن كيسان: ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاما به أنه يكتهل، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب. واختلف في كلامه: في المهد، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق؟ أو كان يتكلم دائما في المهد حتى بلغ إبان الكلام؟ قولان: الأول: عن ابن عباس.
*
ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبيا لقوله: * (قال إنى عبد الله ءاتانى الكتاب وجعلنى) * ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها. وقيل: لم يكن نبيا في ذلك الوقت، وإنما كان الكلام تأسيسا لنبوته، فيكون قوله: * (وجعلنى نبيا) * إخبارا عما يؤول إليه بدليل قوله: * (وجعلنى مباركا أين) * ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلا، فقيل: كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة.
وقيل: ينزل من السماء كهلا ابن ثلاث وثلاثين سنة، فيقول لهم: إني عبد الله، كما قال في المهد، وهذه فائدة قوله: وكهلا، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلا، قاله ابن زيد. وقال الزمشخري: معناه: ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل، وينبأ فيها الأنبياء. إنتهى.
قيل: وتكلم في المهد سبعة: عيسى، ويحيى، وشاهد يوسف، وصاحب جريج. وصبي ماشطة امرأة فرعون، وصاحب الجبار، وصاحب الأخدود، وقصص هؤلاء مروية، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعا في ثلاثة، لأن ذلك كان إخبارا قبل أن يعلم بالباقين، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولا، ثم أعلم بالباقين.
* (ومن الصالحين) * أي: وصالحا من جملة الصالحين، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء.
وانتصاب: وجيها، وما عطف عليه على الحال من قوله: بكلمة منه، وحسن ذلك، وإن كان نكرة، كونه وصف بقوله: منه، وبقوله: منه، وبقوله: اسمه المسيح.
* (قالت رب أنى يكون لى ولد ولم يمسسنى بشر) * لما أخبرتها الملائكة أن الله بشرها بالمسيح، نادت ربها، وهو الله، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب، وهذه القضية أعجب
483

من قضية زكريا، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر، ولذلك قالت: * (ولم يمسسنى بشر) *.
وقيل: استفهمت عن الكيفية، كما سأل زكريا عن الكيفية، تقديره: هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء؟ أم بأمر من قدرة الله؟.
وقال الأنباري: لما خاطبها جبريل ظنته آدميا يريد بها سوءا، ولهذا قالت: * (إنى أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا) * فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك، فقال: * (رب أنى يكون لى ولد) *؟
ومن ذهب إلى أن قولها: رب، وقول زكريا: رب، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما، ومعناه: يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري: هو من بدع التفاسير، و: يكون، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة، كما سبق في قصة زكريا. و: لم يمسسني بشر، جملة حالية، والمسيس هنا كناية عن الوطء، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوج أو غيره، والبشر يطلق على الواحد والجمع، والمراد هنا النفي العام، وسمي بشرا لظهور بشرته وهو جلده، وبشرت الأديم قشرت وجهه، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره.
* (قال كذالك الله يخلق ما يشاء) * تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا، إلا أن في قصته * (يفعل ما يشاء) * من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف، وإن قل، وفي قصة مريم: يخلق، لأنه لا يتعارف مثله، وهو وجود ولد من غير والد، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي، فلذلك جاء بلفظ: يخلق، الدال على هذا المعنى.
وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال:
* ألا رب مولود وليس له أب
*
وذي ولد لم يلده أبوان يريد: عيسى وآدم.
*
* (إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون) * تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة: لغة وتفسيرا وقراءة وإعرابا، فأغنى ذلك عن إعادته.
* (ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل) * الكتاب: هنا مصدر، أي: يعلمه الخط باليد، قاله ابن عباس، وابن جريج وجماعة وقيل: الكتاب هو كتاب غير معلوم، علمه الله عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل: كتب الله المنزلة. والألف واللام للجنس وقيل: هو التوراة والإنجيل.
قالوا: وتكون الواو في: والتوراة، مقحمة، والكتاب عبار عن المكتوب، وتعليمه إياها قيل: بالإلهام، وقيل: بالوحي، وقيل: بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة. تقدم تفسيرها، وفسرت هنا: بسنن الأنبياء، وبما شرعه من الدين، وبالنبوة، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل، وبأنواع العلم. وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة.
روي أن عيسى كان يستظهر التوراة، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير: موسى، ويوشع، وعزير، وعيسى.
وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتابا مذكورا عند الأنبياء والعلماء، وأنه سينزل.
وقرأ نافع، وعاصم، ويعقوب، وسهل: ويعلمه، بالياء وقرأ الباقون: بالنون، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة، وذلك إن قوله: قال كذلك، الضمير في: قال، عائد على الرب، والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ الله مبتدأ، وخبره فيما قبله، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في: * (قال كذالك الله يفعل ما يشاء) * فيكون هذا من المقول لمريم، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده الله منها، ويجوز أن يكون معطوفا على: يخلق، سواء كانت خبرا عن الله أم تفسيرا لما قبلها، إذا أعربت لفظ: الله مبتدأ وما قبله الخبر، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء.
484

وأما على قراءة النون، فيكون من باب الالتفات، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة.
وقال أبو علي: وجوزه الزمخشري، وغيره عطف: ويعلمه، على: يبشرك، وهذا بعيد جدا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفا على: ويكلم، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفا على: وجيها، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال. وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن، وهذا القولان بعيدان أيضا لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثله في لسان العرب.
وقال بعضهم: ونعلمه، بالنون حمله على قوله * (نوحيه إليك) * فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري: أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفا على شيء من هذه التي ذكرت، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله، على اختلاف القراءتين، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفا على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يدعى زيادة الواو في: ويعلمه، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام، وإن عنى أنه ليس معطوفا على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك.
وقال الطبري: قراءة الياء عطف على قوله * (يخلق ما يشاء) * وقراءة النون عطف على قوله * (نوحيه إليك) * قال ابن عطية: وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى. انتهى. ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على: نوحيه، من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط، وتعقيد التركيب، وتنافر الكلام. وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران، وولادتها لمريم، وكفالة زكريا، وقصته في ولادة يحيى له، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير، كل ذلك من أخبار الغيب، نعلمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله.
وأما قراءة الياء وعطف: ويعلمه، على: يخلق، فليست مفسدة للمعنى، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف: ويعلمه، لقرب لفظه وصحة معناه. وقد ذكرنا
جوازه قبل، ويكون الله قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجر بها عادة، مثل ما خلق لك ولدا من غير أب، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبها أولاد الناس من بني إسرائيل، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه تعالى من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف: ويعلمه.
* (ورسولا إلى بنى إسراءيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم) * اختلفوا في: رسولا، هنا فقيل: هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل: هو مصدر بمعنى رسالة، إذ قد ثبت أن رسولا يكون بمعنى رسالة، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي، وأبو البقاء، وقالا: هو معطوف على الكتاب، أي: ويعلمه رسالة إلى بني إسرائيل، فتكون: رسالة، داخلا في ما يعلمه الله عيسى. وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدرا في موضع الحال. وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه، وجوها.
485

أحدها: أن يكون منصوبا بإضمار فعل تقديره: ويجعله رسولا إلى بني إسرائيل، قالوا: فيكون مثل قوله:
* يا ليت زوجك قد غدا
*
متقلدا سيفا ورمحا
*
أي: ومعتقلا رمحا. لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو: يعلمه، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى، قاله ابن عطية وغيره.
الثاني: أن يكون معطوفا على: ويعلمه، فيكون: حالا، إذ التقدير: ومعلما الكتاب، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله: وجيها، قاله الزمخشري، وثنى به ابن عطية، وبدأ به وهو مبني على إعراب: ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول: إن: ويعلمه، معطوف على: وجيها، للفصل المفرط بين المتعاطفين.
الثالث: أن يكون منصوبا على الحال من الضمير المستكن في: ويكلم، فيكون معطوفا على قوله: وكهلا، أي: ويكلم الناس طفلا وكهلا ورسولا إلى بني إسرائيل، قاله ابن عطية، وهو بعيد جدا لطول الفصل بين المتعاطفين.
الرابع: أن تكون الواو زائدة، ويكون دالا من ضمير: ويعلمه، قاله الأخفش، وهو ضعيف لزيادة الواو، لا يوجد في كلامهم: جاء زيد وضاحكا، أي: ضاحكا.
الخامس: أن يكون منصوبا على إضمار فعل من لفظ رسول، ويكون ذلك الفعل معمولا لقول من عيسى، التقدير: وتقول أرسلت رسولا إلى بني إسرائيل، واحتاج إلى هذا التقدير كله، لقوله: * (أنى قد جئتكم) * وقوله: * (ومصدقا لما بين يدي) *، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر، لأن ما قبله ضمير غائب، وهذان ضمير متكلم، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى. قاله الزمخشري، وقال: هو من المضايق، يعني من المواضع التي فيها إشكال. وهذا الوجه ضعيف، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو: أرسلت، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة، إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة.
فهذه خمسة أوجه في إعراب: ورسولا، أولاها الأول، إذ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى، أي: ويجعله رسولا، ويكون قوله * (أنى قد جئتكم) * معمولا لرسول، أي ناطقا بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور، ومعمولا لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة، وهي قراءة شاذة، أي: قائلا إني قد جئتكم، ويحتمل أن يكون محكيا بقوله: ورسولا، لأنه في معنى القول، وذلك على مذهب الكوفيين.
وقرأ اليزيدي: ورسول، بالجر، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على: بكلمة منه، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف.
وأرسل عيسى إلى بني إسرائيل مبينا حكم التوراة، وداعيا إلى العمل بها، ومحللا أشياء مما حرم فيها: كالثروب، ولحوم الإبل، وأشياء من الحيتان. والطير، وكان عيسى قد هربت به أمه من قومها إلى مصرحين عزلوا أولادهم، ونهوهم عن مخالطته، وحبسوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا: ليسوا ها هنا، فقال ما في هذا البيت؟ قالوا: خنازير، قال: كذلك يكونون، ففتحوا عنهم
486

فإذا هم خنازير. ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهموا به، فهربت به أمه إلى أرض مصر. فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى الله إليها: أن انطلقي إلى الشام، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين، فكانت نبوته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه. وكأن أول أنبياء بني إسرائيل: يوسف، وقيل: موسى، وآخرهم عيسى.
والظاهر أن قوله: * (أنى قد جئتكم بآية) * إلى قوله * (مستقيم) * متعلق بقوله * (ورسولا إلى بنى إسراءيل) * ومعمول له، فيكون ذلك مندرجا تحت القول السابق. والخطاب لمريم بقوله: قال كذلك الله، فتكون مريم قد بشرت بأشياء مما يفعلها الله لولدها عيسى: من تعليمه ما ذكر، ومن جعله رسولا ناطقا بما يكون منه إذا أرسل: من مجيئه بالآيات، وإظهار الخوارق على يديه، وغير ذلك مما ذكر إلى قوله: مستقيم. ويكون بعد قوله: مستقيم.
وقيل: قوله: فلما أحس، محذوف يدل عليه وتضطرء إلى تقديره، المعنى، تقديره: فجاء عيسى بني إسرائيل ورسولا، فقال لهم ما تقدم ذكره، وأتى بالخوارق التي قالها، فكفروا به وتمالؤوا على قتله وإذايته، فلما أحس عيسى منهم الكفر.
وقيل: يحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله * (ورسولا إلى بنى إسراءيل) * ولا يكون * (أنى قد جئتكم) * متعلقا بما قبله، ولا داخلا تحت القول والخطاب لمريم،
ويكون المحذوف هنا: لا بعد قوله: مستقيم، والتقدير: فجاء عيسى كما بشر الله رسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم.
وقرأ الجمهور: بأنه، على الإفراد، وكذلك في * (وجئتكم بأية من ربكم) * وفي مصحف عبد الله: بآيات، على الجمع في الموضعين. ويجوز أن يكون: من ربكم، في موضع الصفة، لأنه يتعلق بمحذوف، ويجوز أن يتعلق: بجئتكم، أي: جئتكم من ربكم بآية.
* (أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله) * قرأ الجمهور: أني أخلق، بفتح الهمزة على أن يكون بدلا من: آية، فيكون في موضع جر، أو بدلا من قوله: أني قد جئتكم، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي، أي: الآية أني أخلق، فيكون في موضع رفع. وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف، أو على إضمار القول، أو على التفسير للآية. كما فسر المثل في قوله: * (كمثل ءادم) * بقوله: * (خلقه من تراب) * ومعنى: أخلق: أقدر وأهيء، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود. وهذا لا يكون إلا لله تعالى. ويكون بمعنى: التقدير والتصوير، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه: الخالق، لأنه يقدر، وأصله في الإجرام، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى * (وتخلقون إفكا) * ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى: * (فتبارك الله أحسن الخالقين) * أي المقدرين. وقال الشاعر:
* ولأنت تتفري ما خلقت
*
وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
واللام في: لكم، معناها التعليل، و: من الطين، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة.
وقرأ الجمهور: كهيئة، على وزن: جيئة، وقرأ الزهري: كهية، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث، و: الكاف، من: كهيئة، اسم على مذهب أبي الحسن، فهي مفعولة: بأخلق، وعلى قول الجمهور: يكون، صفة لمفعول محذوف تقديره: هيئة مثل هيئة، ويكون: هيئة، مصدرا في معنى المفعول، أي: مثالا مهيأ مثل.
وقرأ الجمهور: الطير، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: كهيئة الطائر، والمراد به الجنس: فأنفخ فيه الضمير في: فيه، يعود على: الكاف، أو على
487

موصوفها على القولين المذكورين. وقرأ بعض القراء: فأنفخها، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة، إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو: على الكاف على المعنى، إذ هي بمعنى: مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله: * (فتنفخ فيها) * ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر. كما قال:
* ما شق جيب ولا قامتك نائحة
*
ولا بكتك جياد عند إسلاب
يريد: ولا قامت عليك، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء. وقال النابغة:
كالهبرقي تنحى ينفخ الفحماء
*
فعدى: نفخ، لمنصوب، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر، ويمكن أن يكون على التضمين، أي: يضرم بالنفخ الفحم، فيكون هنا ناقصة على بابها، أو بمعنى: تصير.
وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة: طائرا، وقرأ الباقون: طيرا، وانتصابه على أنه خبر: يكون، ومن جعل: يكون، هنا تامة، و: طائرا، حالا فقد أبعد. وتعلق بإذن الله، قيل: بيكون. وقيل: بطائر، ومعنى: بإذن الله، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة، وتوضيح أنها من قبله، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن الله وحده.
وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم، بل هذه الخوارق جاءت تفسيرا لقوله: * (أنى قد جئتكم بآية من ربكم) * وقيل: كان ذلك باقتراح منهم، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشا على سبيل التعنت جريا على عاداتهم مع أنبيائهم، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق، وهو أكمل الطير خلقا، له: ثدي، وأسنان، وآذان، وضرع، يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل، إنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جدا، ويضحك كما يضحك الإنسان، ويطير بغير ريش، وتحيض أنثاه وتلد.
روي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: الخفاش. فسألوه أشد الطير خلقا لأنه يطير بغير ريش، ويقال: ما صنع غير الخفاش، ويقال: فعل ذلك أولا وهو مع معلمه في الكتاب، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى: هذا ساحر.
* (وأبرىء الاكمه والابرص) * تقدم تفسيرهما في المفردات. وقال مجاهد: الأكمه هو الأعشى. وقال عكرمة: هو الأعمش. وقال الزمخشري: هو الذي ولد أعمى. وقيل: هو الممسوح العين، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير. وقال ابن عباس، والحسن، والسدي: هو الأعمى على
الإطلاق. وحكى النقاش: أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يفهم، الميت الفؤاد، وقال ابن عباس أيضا، وقتادة: هو الذي يولد
488

أعمى مضموم العينين.
قيل: وقد كان عيسى يبرئ بدعائه، والمسح بيده، كل علة. ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلا بالإبراء من العلل التي يعجز عن إبرائها الأطباء، حتى يكون فعله ذلك خارقا للعادات. والإبراء من العشي والعمش ليس بخارق، وأما العمى فالأبلغ الإبراء من عمى الممسوح العين.
روي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، ومن لم يطق أتاه عيسى، وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده، وخص بالذكر الكمه والبرص لأنهما داءان معضلان لا يقدر على الإبراء منهما، إلا الله تعالى، وكان الغالب على زمان عيسى الطب، فأراهم الله المعجزة في جنس علمهم، كما أرى قوم موسى، إذ كان الغالب عليهم السحر، المعجزة بالعصا واليد البيضاء، وكما أرى العرب، إذ كان الغالب عليهم البلاغة، المعجزة بالقرآن.
روي أن جالينوس كان في زمان عيسى، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه، فمات في طريقه.
* (وأحى الموتى بإذن الله) * نقل أئمة التفسير أنه أحيا أربعة: عاذر، وكان صديقا له، بعد ثلاثة أيام. فقام من قبره يقطر ودكه، وبقي إلى أن ولد له. و: ابن العجوز، وهو على سريره، فنزل عن أعناق الرجال وحمل سريره وبقي إلى أن ولد له، و: بنت العاشر، متعث بولدها بعد ما حييت، وسألوه أن يحيى سام بن نوح ليخبرهم عن حال السفينة، فخرج من قبره فقال: أقد قامت الساعة؟ وقد شاب نصف رأسه، وكان شابا ابن خمسمائة، فقال: شيبني هول يوم القيامة.
وروي أنه في إحيائه الموتى كان يضرب بعصاه الميت، أو القبر، أو الجمجمة، فيحيي الإنسان ويكلمه ويعيش. وقيل: تموت سريعا.
وروي عن الزهري أنه قال: بلغني أن عيسى خرج هو ومن معه من حوارييه حتى بلغ الأندلس، وذكر قصة فيها طول، مضمونها: أنه أحيا بها ميتا، وسألوه فإذا هو من قوم عاد. ووردت قصص في إحياء خلق كثير على يد عيسى، وذكروا أشياء مما كان يدعو بها إذا أحيا، الله أعلم بصحتها.
* (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون فى بيوتكم) * قال السدي، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، وابن إسحاق: كان عيسى من لدن طفوليته، وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم، وبما يؤكل من الطعام، وما يدخر إلى أن نبىء، ويقول لمن سأله: أكلت البارحة كذا، وادخرت. وقيل: كان ذلك بعد النبوة لما أحيا لهم الموتى، طلبوا منه آية أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل وما ندخر للغد، فأخبرهم. وقال قتادة: كان ذلك في نزول المائدة، عهد إليهم أن يأكلوا منها ولا يخبؤوا ولا يدخروا، فخالفوا، فكان عيسى يخبرهم بما أكلوه وما ادخروا في بيوتهم، وعوقبوا على ذلك.
وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد، والحالة الدائمة: وبدأ بالخلق إذ هو أعظم في الإعجاز، وثنى بإبراء الأكمه والأبرص، وأتى ثالثا بإحياء الموتى، وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن الله تعالى، وكرر: بإذن الله، دفعا لمن يتوهم فيه الآلوهية، وكان، بإذن الله، عقب قوله: أني أخلق، وعطف عليه: وأبرىء الأكمه والأبرص، ولم يذكر: بإذن الله، اكتفاء به في الخارق الأعظم، وعقب قوله: وأحيى الموتى، بقوله: بإذن الله، وعطف عليه: وأنبئكم، ولم يذكر فيه، بإذن الله، لأن إحياء الأموات أعظم من الإخبار بالمغيبات، فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضا، فكل واحد من
489

الخارقين الأعظمين قيد بقوله: بإذن الله، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن الله.
و: ما، في: ما تأكلون وما تدخرون، موصولة اسمية، وهو الظاهر. وقيل: مصدري.
وقرأ الجمهور: تدخرون، بدال مشددة، وأصله: إذتخر، من الذخر، أبدلت التاء دالا، فصار: إذدخر، ثم أدغمت الذال في الدال، فقيل: ادخر، كما قيل: ادكره. وقرأ مجاهد، والزهري، وأيوب السختياني، وأبو السمال: تذخرون، بذال ساكنة وخاء مفتوحة. وقرأ أبو شعيب السوسي، في رواية عنه: وما تذدخرون، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام، وهذا الفك جائز. وقراءة الجمهور بالإدغام أجود، ويجوز جعل بالدال ذالا، والإدغام فتقول: اذخر، بالذال المعجمة المشددة.
* (إن في ذالك لأية لكم إن كنتم مؤمنين) * ظاهر هذه الجملة أنها من كلام عيسى لاحتفافها بكلامه من قبلها ومن بعدها، حكاه الله عنه. وقيل: هو من كلام الله تعالى، استئناف صيغته صيغة الخبر، ومعناه التوبيخ والتقريع، وأشير بذلك إلى ما تقدم من جعل الطين طائرا، والإبراء والإحياء والإنباء.
وتقدم أن في مصحف ابن مسعود: آيات، على الجمع، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير، ويعين المراد القرائن: اللفظية، والمعنوية، والحالية، ومن جمع فعلى الأصل، إذ هي: آيات، وهي: آية في نفسها، آمنوا أو كفروا، فيحتمل أن يكون ثم صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشر، أي: لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم، ويكون خطابا لمن لم يؤمن بعد، وإن كان خطابا لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها. كما تقول لابنك: أطعني إن كنت ابني، ومعلوم أنه ابنك، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق. ذكر ما جعل معلقا به ما قبله على سبيل أن يحصل.
* (ومصدقا لما بين يدي من التوراة) * عطف و: مصدقا، على قوله: بآية إذ الباء فيه للحال، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى، فالمعنى: وجئتكم مصحوبا بآية من ربكم، ومصدقا لما بين يدي. ومنعوا أن يكون: ومصدقا، معطوفا على: رسولا إلى بني إسرائيل، ولا على: وجيها، لما يلزم من كون الضمير في قوله: لما بين يدي، غائبا. فكان يكون: لما بين يديه، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله: ورسولا، أن يكون منصوبا بإضمار فعل، أي: وأرسلت رسولا، فعلى هذا التقدير يكون: ومصدقا، معطوفا على: ورسولا. ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء. قال وهب بن منبه: كان يسبت ويستقبل بيت المقدس.
* (ولاحل لكم بعض الذي حرم عليكم) * قال ابن جريج: أحل لهم لحوم الإبل والشحوم. وقال الربيع: وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير، وكان ذلك في التوراة محرما.
وقال بعض المفسرين: حرم عليكم، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه، فكأن عيسى رد أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند الله. إنتهى كلامه.
واختلفوا في إحلاله لهم السبت. وقرأ عكرمة: ما حرم عليكم، مبنيا للفاعل، والفاعل ضمير يعود على: ما، من قوله: لما بين يدي، أو يعود على: الله، منزل التوراة، أو على: موسى، صاحب التوراة. والظاهر الأول لأنه مذكور. وقرأ: حرم، بوزن: كرم، إبراهيم النخعي، والمراد ببعض مدلولها المتعارف، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم: القتل، والزنا، والسرقة، لأن ذلك محرم عليهم، واستدلاله على أن: بعضا، تأتي بمعنى: كل، بقول لبيد:
490

* تراك أمكنة إذا لم أرضها
*
أو ترتبط بعض النفوس حمامها
*
ليس بصحيح، لأن بعضا على مدلوله، إذ يريد نفسه، فهو تبعيض صحيح، وكذلك استدلال من استدل بقوله:
* إن الأمور إذا الأحداث دبرها
*
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
لصحة التبعيض، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل. وقال بعضهم: لا يقوم: بعض، مقام: كل إلا إذل دلت قرينة على ذلك، نحو قوله:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد: بعض الشر أهون من كله. إنتهى. وفي ذكل نظر.
واللام في: ولأحل لكم، لام كي، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ، فقيل: هو معطوف على المعنى، إذ المعنى في: ومصدقا، أي: لأصدق ما بين يدي من التوراة، ولأحل لكم. وهذا هو العطف على التوهم، وليس هذا منه، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحدا في المعطوف والمعطوف عليه. ألا ترى إلى قوله: فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض؟ وكذلك قوله:
* تقي نقي لم يكثر غنيمة
*
بنكهة ذي قربى ولا بحفلد
*
كيف اتحد معنى النفي في قوله: لم يكثر، ولا في قوله: ولا بحفلد؟ أي: ليس بمكثر ولا بحفلد. وكذلك ما جاء من هذا النوع. وقيل: اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى: أي وجئتكم لأحل لكم. وقيل: تتعلق اللام بقوله: وأطيعون، والمعنى: واتبعون لأحل لكم، وهذا بعيد جدا. وقال أبو البقاء: هو معطوف على محذوف تقديره: لأخفف عنكم، أو نحو ذلك.
وقال الزمخشري: ولأحل، رد على قوله: بآية من ربكم، أي: جئتكم بآية من ربكم، لأن: بآية، في موضع حال، و: لأحل، تعليل، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعول به، أو ظرف، أو حال، أو تعليل، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف.
* (وجئتكم بأية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربى وربكم فاعبدوه) * ظاهر اللفظ أن يكون قوله: * (وجئتكم بأية من ربكم) * للتأسيس لا للتوكيد، لقوله: قد جئتكم بآية من ربكم، وتكون هذه الآية قوله: * (إن الله ربى وربكم فاعبدوه) * لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القول آية وعلامة، لأنه رسول كسائر الرسل، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والاستدلال. وكسر: إن، على هذا القول لأن: قولا، قبلها محذوف، وذلك القول بدل من الآية، فهو معمول للبدل. ومن قرأ بفتح: أن، فعلى جهة البدل من: آية، ولا تكون
491

الجملة من قوله: إن، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول، ويكون قوله: * (فاتقوا الله وأطيعون) * جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه.
وقيل: الآية الأولى في قوله: * (قد جئتكم بآية) * هي معجزة. وفي قوله: * (وجئتكم بأية) * هي الآية من الإنجيل، فاختلف متعلق المجيء، ويجوز أن يكون * (وجئتكم بأية من ربكم) * كررت على سبيل التوكيد، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من: خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات، وبغيره من ولادتي من غير أب، ومن كلامي في المهد، وسائر الآيات. فعلى بهذا من كسر: إن، فعلى الأستئناف، ومن فتح فقيل التقدير، لأن الله ربي وربك فاعبدوه، فيكون متعلقا بقوله: فاعبدوه، كقوله: * (لإيلاف قريش) * ثم قال: * (فليعبدوا) * فقدم: أن، على عاملها. ومن جوز: أن تتقدم: أن، ويتأخر عنها العامل في نحو
هذا غير مصيب، لا يجوز: أن زيدا منطلق عرفت، نص على ذلك سيبويه وغيره، ويجوز أن يكون المعنى: وجئتكم بآية على أن الله ربي وربكم، وما بينهما اعتراض. وقال ابن عطية: التقدير: أطيعون لأن الله ربي وربكم. إنتهى. وليس قوله بظاهر.
والأمر بالتقوى والطاعة تحذير ودعاء، والمعنى أنه: تظاهر بالحجج والخوارق في صدقه، فاتقوا الله في خلافي، وأطيعون في أمري ونهيي. وقيل: اتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم.
وتكرار: ربي وربكم، أبلغ في التزام العبودية من قوله: ربنا، وأدل على التبري من الربوبية.
* (هاذا صراط مستقيم) * أي: طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه، والإشارة بهذا إلى قوله: * (إن الله ربى وربكم فاعبدوه) * أي إفراد الله وحده بالعبادة هو الطريق المستقيم، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات.
وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع: إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله، في قوله: إن الله يبشرك، إذ هم المشافهون بالبشارة، والله الآمر بها. ومثله: نادى السلطان في البلد بكذا، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله: بكلمة منه، على الخلاف الذي في تفسير: كلمة.
والاحتراس: في قوله: وكهلا، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش.
والكناية: في قوله: ولم يمسسني بشر، كنت بالمس عن الوطء، كما كنى عنه: بالحرث، واللباس، والمباشرة.
والسؤال والجواب في: قالت الملائكة وفي أنى يكون؟ والتكرار: في: جئتكم بآية. وفي: أنى أخلق لكم. و، في: الطير، وفي: بإذن الله، وفي: ربي وربكم، وفي: ما، في قوله: بما تأكلون وما.
والتعبير عن الجمع بالمفرد في: الآية، وفي: الأكمة والأبرص، وفي: إذا قضى أمرا.
والطباق في: وأحيي الموتى، وفي: لأحل وحرم والالتفات في: ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في: من قال: الكتاب مبهم غير معين، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع.
492

2 (* (فلمآ أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارىإلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ءامنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنآ ءامنا بمآ أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين * ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين * إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلى ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والا خرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين * ذالك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين) *)) 2
الإحساس: الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي: السمع والبصر والشم والذوق واللمس. يقال: أحسست الشيء، وحسست به. وتبدل سينه ياء فيقال: حسيت به، أو تحذف أولى سنييه في أحسست فيقول: أحست. قال:
* سوى ان العتاق من المطايا
*
أحسن به فهن إليه شوس
*
وقال سيبويه: وما شذ من المضاعف، يعني في الحذف، فشبيه بباب: أقمت، وذلك قولهم: أحست وأحسن يريدون: أحسست، وأحسسن، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة، فإذا قلت لم أحس لم تحذف.
الحواري: صفوة الرجل وخاصته. ومنه قيل: الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن قال أبو جلذة اليشكري:
* فقل للحواريات تبكين غيرنا
*
ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
*
ومثله في الوزن: الحوالي، للكثير الحيل، وليست الياء فيهما للنسب، وهو مشتق من: الحور، وهو البياض. حورت الثوب بيضته.
المكر: الخداع والخبث وأصله الستر، يقال: مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملتف، فكأن
493

الممكور به يلتف به المكر، ويشتمل عليه، ويقال: امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق. والمكر: ضرب من النبات.
تعالى: تفاعل من العلو، وهو فعل، لاتصال الضمائر المرفوعة به، ومعناه: استدعاء المدعو من مكانه إلى مكان داعيه، وهي كلمة قصد بها أولا تحسين الأدب مع
المدعو، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدوه ولبهيمته ونحو ذلك.
الابتهال: قوله بهلة الله على الكاذب، والبهلة بالفتح والضم: اللعنة، ويقال بهله الله: لعنه وأبعده، من قولك أبهله إذا أهمله، وناقة باهلة لا ضرار عليها، وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه، وإن لم يكن التعانا. وقال لبيد:
* من قروم سادة من قومهم
*
نظر الدهر إليهم فابتهل
*
* (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * تقدم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام، وهل الحذف بعد قوله * (صراط مستقيم) * أو بعد قوله: * (ورسولا إلى بنى إسراءيل) * وذلك عند تفسير * (ورسولا إلى بنى إسراءيل) *.
قال مقاتل: أحس، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء: أحس وجد وقال أبو عبيدة: عرف. وقيل: علم وقيل: خاف.
والكفر: هنا جحود نبوته وإنكار معجزاته، و: منهم، متعلق بأحس قيل: ويجوز أن يكون حالا من الكفر.
* (قال من أنصارى إلى الله) * لما أرادوا قتله استنصر عليهم، قال مجاهد وقال غيره: إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل: استنصرهم لإقامة الحق.
قال المغربي: إنما قال عيسى: * (من أنصارى إلى الله) * بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض، وجمع الحواريين الاثني عشر، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جدا، لم يذكره غيره بل المنقول. والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء.
قال السدي: من أعواني مع الله وقال الحسن: من أنصاري في السبيل إلى الله وقال أبو علي الفارسي معنى: إلى الله: لله، كقوله: * (يهدى إلى الحق) * أي للحق وقيل: من ينصرني إلى نصر الله. وقيل: من ينقطع معي إلى الله، قاله ابن بحر وقيل: من ينصرني إلى أن أبين أمر الله وقال أبو عبيدة: من أعواني في ذات الله؟ وقال ابن عطية: من أنصاري إلى الله. عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين، ويؤمن بالشرع ويحميه، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم) يعرض نفسه على القبائل، ويتعرض للأحياء في المواسم. انتهى وقال الزمخشري وإلى الله من صلة أنصاري؟ مضمنا معنى الإضافة، كأنه قيل: من الذين يضيفون أنفسهم إلى الله ينصرونني كما ينصرني؟ أو يتعلق بمحذوف حالا من الياء، أي: من أنصاري ذاهبا إلى الله ملتجئا إليه؟ انتهى.
* (قال الحواريون) * أي أصفياء عيسى. قاله ابن عباس. أو: خواصه، قاله الفراء. أو: البيض الثياب، رواه ابن جبير عن ابن عباس. أو: القصارون، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب، أي يبيضونها، قاله الضحاك، ومقاتل. أو: المجاهدون، أو
494

الصيادون، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام: ألا تمشون معي تصطادون الناس لله؟ فأجابوا. قال مصعب: كانوا اثني عشر رجلا يسيحون معه، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض، فقالوا: من أفضل منا؟ نأكل من أين شئنا. فقال عيسى: من يعمل بيده؟ ويأكل من كسبه؟ فصاروا قصارين وحكى ابن الأنباري: الحواريون: الملوك وقال الضحاك، وأبو أرطاة: الغسالون وقال ابن المبارك: الحوار النور، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء: الحواري: الصديق.
قيل: لما أراهم الآيات وضع لهم ألوانا شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه وقرأ الجمهور: الحواريون، بتشديد الياء. وقرأ إبراهيم النخعي، وأبو بكر الثقفي، بتخفيف الياء في جميع القرآن، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل: القاضيون، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها، فكان القياس على هذا أن يقال: الحوارون، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في: يستهزئون، إذ أبدل الهمزة ياء، وحملت الضمة تذكرا لحال الهمزة المراد فيها.
* (نحن أنصار الله) * أي: أنصار دينه وشرعه. والداعي إليه.
* (بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا) * لما ذكروا أنهم أنصار الله ذكروا مستند لإيمانهم، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم، وعليهم. ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام، برأه الله من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله: * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) * الآية، ويحتمل أن يكون: واشهد، خطابا لله تعالى أي: واشهد يا ربنا، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران، إذ حكى الله مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى، فليس كمقالهم فيه، ودعوى الإلهية له.
* (ربنا ءامنا بما أنزلت) * أي: من الآيات الدالة على صدق أنبيائك، أو: بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل.
* (واتبعنا الرسول) * هو: عيسى على قول الجمهور.
* (فاكتبنا مع الشاهدين) * هم: محمد صلى الله عليه وسلم) وأمته، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ، ومحمد صلى الله عليه وسلم) يشهد لهم بالصدق. روى ذلك عكرمة عن ابن عباس، أو: من آمن قبلهم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. أو: الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمته. أو: الصادقون، قاله مقاتل. أو: الشاهدون
للأنبياء بالتصديق، قاله الزجاج. أو: الشاهدون لنصرة رسلك، أو: الشاهدون بالحق عندك، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم، وعبروا عن فعل الله ذلك بهم بلفظ: فاكتبنا، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال.
* (ومكروا ومكر الله) * الضمير في: مكروا، عائد على من عاد عليه الضمير في: * (فلما أحس عيسى منهم الكفر) * وهم: بنو إسرائيل، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه، إن شاء الله.
* (ومكر الله) * مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكرا، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر، كقوله: * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وقوله * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) * وكثيرا ما تسمى العقوبة باسم الذنب، وإن لم تكن في معناه.
وقيل: مكر الله بهم هو ردهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى
495

قتل.
وقال الأصم: مكر الله بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق: أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى، فأخذوهم وعذبوهم، فسمع بذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانيا، ولم يظهر ذلك. ثم ولي ملك آخر بعد وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فلم يترك فيه حجرا على آخر، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز.
وقال المفضل: ودبروا ودبر الله، والمكر لطف التدبير وقال ابن عيسى: المكر قبيح، وإنما جاز في صفة الله تعالى على مزاوجة الكلام وقيل: مكر الله بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل، ومكرهم لزومهم إبطال دينه. والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية، وذلك غير ممتنع وقيل: المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه، وسأل رجل الجنيد، فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره؟ فقال: لا أدري ما تقول، ولكن أنشدني فلان الظهراني:
* ويقبح من سواك الفعل عندي
*
فتفعله فيحسن منك ذاكا
*
ثم قال: قد أجبتك إن كنت تعقل.
* (والله خير الماكرين) * معناه أي: المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل، لأنه فاعل حق في ذلك، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب، وقال تعالى: * (والله أشد بأسا وأشد تنكيلا) *.
وقيل: خير، هنا ليست للتفضيل، بل هي: كهي في قوله: * (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا) * وقال حسان.
فشركما لخيركما الفداء
وفي هذه الآية من ضروب البلاغة: الاستعارة في: أحس، إذ لا يحس إلا ما كان متجسدا، والكفر ليس بمحسوس، وإنما يعلم ويفطن به، ولا يدرك بالحس إلا إن كان أحس، بمعنى رأى، أو بمعنى: سمع منهم كلمة الكفر، فيكون: أحس، لا استعارة فيه، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر، أو بحاسة الأذن، وتسمية الشيء باسم ثمرته.
قال الجمهور: أحس منهم القتل، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر.
والسؤال والجواب في: قال * (من أنصارى إلى الله قال الحواريون) * والتكرار في: من أنصاري إلى الله، وأنصار الله، وآمنا بالله، وآمنا بما أنزلت، ومكروا ومكر الله، والماكرين، وفي هذا التجنيس المماثل، والمغاير، والحذف، في مواضع.
* (إذ قال الله ياعيسى * عيسى * إني متوفيك) * العامل في: إذ، ومكر الله قاله الطبري، أو: اذكر، قاله بعض النحاة، أو: خير الماكرين، قاله الزمخشري. وهذا القول هو بواسطة الملك، لأن عيسى ليس
496

بمكلم، قاله ابن عطية:.
و: متوفيك، هي وفاة يوم رفعه الله في منامه، قاله الربيع من قوله: * (وهو الذى يتوفاكم باليل) * أي: ورافعك وأنت نائم، حتى لا يلحقك خوف، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب. أو: وفاة موت، قاله ابن عباس. وقال وهب: مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك في السماء، وفي بعض الكتب: سبع ساعات.
وقال الفراء: هي وفاة موت، ولكن المعنى: متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال، وفي الكلام تقديم وتأخير.
وقال الزمخشري: مستوفي أجلك، ومعناه أي: عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم. وقيل: متوفيك: قابضك من الأرض من غير موت، قاله الحسن، والضحاك، وابن زيد، وابن جريج، ومطر الوراق، ومحمد بن جعفر ابن الزبير، من: توفيت مالي على فلان إذا
استوفيته.
وقيل: أجعلك كالمتوفى، لأنه بالرفع يشبهه وقيل: آخذك وافيا بروحك وبدنك وقيل: متوفيك: متقبل عملك، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي: متوفيك عن شهواتك.
قال ابن عطية: وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من: (أن عيسى في السماء حي، وأنه ينزل في آخر الزمان، فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويقتل الدجال، ويفيض العدل، وتظهر به الملة، ملة محمد صلى الله عليه وسلم)، ويحج البيت، ويعتمر، ويبقى في الأرض أربعا وعشرين سنة) وقيل: أربعين سنة. انتهى.
* (ورافعك إلى) * الرفع نقل من سفل إلى علو؛ و: إلي، إضافة تشريف. والمعنى: إلى سمائي ومقر ملائكتي. وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل: إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلا أنا، بخلاف الأرض، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهرا وقيل: إلى محل ثوابك.
قال ابن عباس: رفعه إلى السماء، سماء الدنيا، فهو فيها يسبح مع الملائكة، ثم يهبطه الله عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل: كان عيسى على طور سيناء، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه الله في هرولته، وعليه مدرعة من شعر.
وقال الزجاج: كان عيسى في بيت له كوة، فدخل رجل ليقتله، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت، فقتلوه.
وروي أبو بكر بن أبي شيبة، عن ابن عباس قال: رفع الله عيسى من روزنة كانت في البيت.
* (ومطهرك من الذين كفروا) * جعل الذين كفروا دنسا ونجسا فطهره منهم، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب، والمعنى: أنه تعالى يخلصه منهم، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير، وهو: الذين كفروا، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر، كما قال: * (إنما المشركون نجس) * وكما جاء في الحديث: (المؤمن لا ينجس) فجعله علة تطهيره الإيمان.
وقيل: مطهرك من أذى الكفرة. وقيل: من الكفر والفواحش. وقيل: مما قالوه فيك وفي أمك. وقيل: ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان.
وقال الراغب: متوفي: آخذك عن هواك، ورافعك إلي عن شهواتك، ولم يكن ذلك رفعا مكانيا وإنما هو رفعة المحل، وإن كان قدر رفع إلى السماء، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم. وقيل: تخليصه من قتلهم، لأن ذلك نجس طهره الله منه. قال أبو مسلم: التخليص والتطهير واحد، إلا أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب، كما أن الشهود والحضور واحد، وفي الشهود رفعة. ولهذا ذكره الله في المؤمني، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين.
* (وجاعل الذين اتبعوك) * الكاف: ضمير عيسى كالكاف السابقة. وقيل: هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، وهو من تلوين الخطاب. إنتهى هذا القول، ولا يظهر. ومعنى اتبعوك: أي في الدين والشريعة، وهم المسلمون. لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع.
* (فوق الذين كفروا) * معلونهم بالحجة، وفي أكثر بالأحوال بها
497

وبالسيف، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى، قاله الزمخشري، بتقديم وتأخير في كلامه.
فالفوقية هنا بالحجة والبرهان، قاله الحسن. أو: بالعز والمنعة، قاله ابن زيد. فهم فوق اليهود، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى. فالآية، على قوله، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين، وجعله حكما دنيويا لأفضلية فيه للمتبعين الكفار، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود.
وقال الجمهور: بعموم المتبعين، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم)، نص عليه قتادة، وبعموم الكافرين.
والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره، وهم الحواريون، جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم، وأبقى لهم في الصالحين ذكرا، فهم فوقهم بالحجة والبرهان، وما ظهر عليهم من رضوان الله.
وقيل: فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة، إذ هم في الغرفات، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات.
وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام، فيكون عاما في المسلمين، وعاما في الكافرين، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته، وإن لم يتبعوها حقيقة، يكون الكافرون خاصا باليهود، أو متبعوه هم الحواريون، والكافرون: من كفر به. وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار، وإما مجازا أي: بالحجة والبرهان، فيكون ذلك دينيا، و: إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيويا، وإما بهما.
* (إلى يوم القيامة) * الظاهر أن: إلى، تتعلق بمحذوف، وهو العامل في: فوق، وهو المفعول الثاني: لجاعل، إذ معنى جاعل هنا مصير، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة، وهذا على أن الفوقية مجاز، وأما إن كانت الفوقية حقيقة، وهي الفوقية بالجنة، فلا تتعلق: إلى، بذلك المحذوف، بل بما تقدم من: متوفيك، أو من: رافعك، أو من: مطهرك، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها، أما برافعك أو مطهرك، فظاهر. وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال. وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة، بدأ أولا: بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه، ثم بشره ثانيا: برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته
فيها، وطول عمره في عبادة ربه. ثم ثالثا: برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولا وآخرا. ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان، بدىء بهما. ولما كان التطهير عاما يشمل سائر الأزمان أخر عنهما، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث، وهو أوصاف له في نفسه، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر، لتقر بذلك عينه، ويسر قلبه.
ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا، ليكمل بذلك سروره بما أوتيهن، وأوتى تابعوه من الخير.
* (ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) * هذا إخبار بالحشر والبعث، والمعنى ثم إلى حكمي، وهذا عندي من الالتفات، لأنه سبق ذكر مكذبيه: وهم اليهود، وذكر من آمن به؛ وهم الحواريون. وأعقب ذلك قوله: * (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا) * فذكر متبعيه والكافرين، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب: ثم إلي مرجعهم، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد، وأشد زجرا لمن يزدجر.
ثم ذكر لفظة: إلي، ولفظة: فأحكم، بضمير المتكلم، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم، وأتى بالحكم مبهما، ثم فصل المحكوم بينهم إلى: كافر ومؤمن، وذكر جزاء كل واحد منهم.
وقال ابن عطية: مرجعكم، الخطاب لعيسى، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر، فلذلك جاء اللفظ عاما من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده، فخاطبه كما يخاطب الجماعة، إذ هو أحدها، وإذ هي مرادة في المعنى. إنتهى كلامه.
والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته.
* (فأما الذين كفروا) * قيل: يحتمل أن يكون خاصا، أي: كفروا بك وجحدوا نبوتك، والظاهر العموم، ويجوز أن يكون الذين، مبتدأ
498

ويجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الاشتغال.
* (فأعذبهم عذابا شديدا) * وصف العذاب بالشدة لتضاعفه وازدياده. وقيل: لاختلاف أجناسه.
* (فى الدنيا) * بالأسر والقتل والجزية والذل، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه.
* (والاخرة) * بعذاب النار. وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه.
* (وما لهم من ناصرين) * تقدم تفسير هذه الجملة في هذه السورة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
* (وأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم) * بدأ أولا بقسم الكفار، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار، والإخبار بجزائهم، فناسبت البداءة بهم، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله: * (فوق الذين كفروا) * وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله، ثم أتى ثانيا بذكر المؤمنين، وعلق هناك العذاب على مجرد الكفر، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيها على درجة الكمال في الإيمان، ودعاء إليها.
والتوفية: دفع الشيء وافيا من غير نقص، والأجور: ثواب الأعمال، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله. وتوفية الأجور هي: قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى، وفي الآية قبلها قال: * (فأعذبهم) * أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده، وذلك ليطابق قوله: * (فأحكم بينكم) * وفي هذه الآية قال: فيوفيهم، بالياء على قراءة حفص، ورويس، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور: فنوفيهم، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن، كما خالف في الفعل، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة.
ويجوز أن يكون: الذين آمنوا، مبتدأ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده، ويكون ذلك من باب الاشتغال، كقوله: * (وأما ثمود فهديناهم) * فيمن نصب الدال.
* (والله لا يحب الظالمين) * تقدم تفسير ما يشبه هذا، وهو قوله: * (فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين) * واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص، فيقال: أحب زيدا، ولا يقال: أريده، وأما الأفعال فهما فيها واحد، فقوله: لا يحب: لا يريد ظلم الظالمين، هكذا قرره عبد الجبار، وعند أصحابنا المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير له، فهو تعالى، وإن أراد كفر الكافر، لا يريد إيصال الثواب إليه.
* (ذالك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) * ذلك: إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما، و: نتلوه، نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفا له، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر، وفي: نتلوه، التفات، لأن قبله ضمير غائب في قوله: لا يحب، ونتلوه: معناه تلوناه، كقوله: * (واتبعوا ما تتلوا * الشياطين) * ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها، ويكون: ذلك، بمعنى: هذا.
والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات، أي: نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا، وبسبب تلاوتنا، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب، فهي آيات لنبوتك. قالن ابن عباس، والجمهور: والذكر: القرآن والحكيم أي: الحاكم، أتى بصيغة المبالغة فيه، ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى، أو: كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه. قال الزجاج: لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم، قاله الجمهور، أحكم عن طرق
الخلل، ومنه قوله: * (الر كتاب) * ويكون: فعيل، بمعنى: مفعل، وهو قليل، ومنه: أعقدت العسل فهو معقد وعقيد، وأحبست فرسا في سبيل الله فهو محبس وحبيس.
وقيل: المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب الله المنزلة على الأنبياء، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك.
و: ذلك، مبتدأ، و: نتلوه، خبر و: من الآيات، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال، أي: كائنا من الآيات. و: من، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر، وجوزوا أن يكون: من
499

الآيات، خبرا بعد خبر، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف، إذا كان لمبتدأ واحد، ولم يكن في معنى خبر واحد، وجوزوا أن يكون: من، لبيان الجنس، وذلك على رأي من يجيز أن تكون: من، لبيان الجنس. ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلا بمجاز، لأن تقدير: من، البيانية بالموصول. ولو قلت: ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم، لاحتيج إلى تأويل، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات، والذكر هو الآيات، والذكر على سبيل المجاز.
وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس: أبو محمد بن عطية، وبدأ به، ثم قال: ويجوز أن تكون للتبعيض وجوزوا أن يكون ذلك منصوبا بفعل محذوف يفسره ما بعده، فيكون من باب الاشتغال، أي: نتلو ذلك نتلوه عليك، والرفع على الابتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الاشتغال؛ فزيد ضربته، أفصح من: زيدا ضربته، وإن كان عربيا، وعلى هذا الإعراب يكون: نتلوه، لا موضع له من الإعراب، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف، ويكون: من الآيات، حالا من ضمير النصب في: نتلوه.
وأجاز الزمخشري أن يكون: ذلك، بمعنى: الذي، و: نتلوه، صلته. و: الآيات، الخبر. وقاله الزجاج قبله، وهذه نزعة كوفية، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة، ولا يجوز ذلك عند البصريين، إلا في: ذا، وحدها إذا سبقها: ما، الإستفهامية باتفاق، أو: من، الإستفهامية باختلاف. وتقرير هذا في علم النحو.
وجوزوا أيضا أن يكون: ذلك، مبتدأ و: من الآيات، خبر. و: نتلوه، حال. وأن يكون: ذلك، خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك. و: نتلوه، حال.
والظاهر في قوله: * (والذكر الحكيم) * أنه معطوف على الآيات، ومن جعلها للقسم وجواب القسم: * (إن مثل عيسى) * فقد أبعد.
* (إن مثل عيسى عند الله كمثل ءادم) * قال ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والسدي وغيرهم: جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم) في أمر عيسى، وقالوا: بلغنا أنك تشتم صاحبنا، وتقول: هو، عبد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (وما يضر ذلك عيسى، أجل هو عبد الله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه). فقالوا: فهل رأيت بشرا قط جاء من غير فحل أو سمعت به؟ فخرجوا، فنزلت.
وفي بعض الروايات أنهم قالوا: فإن كنت صدقا فأرنا مثله فنزلت.
وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال: جاء راهبا نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما: قد أسلمنا قبلك، فقال: (كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث: عبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير، وقولكما لله ولد. قالا: من أبو عيسى؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه. فأنزل * (إن مثل عيسى) * وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم: * (مثلهم كمثل الذى استوقد نارا) *.
وقال الزمخشري: إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال. وهو راجع لقول من قال: المثل هنا الصفة: كقوله: * (مثل الجنة) * وفي هذا إقرار الكاف في قوله: * (كمثل ءادم) * على معناها التشبيهي.
وقال ابن عطية: في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه: وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام، وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول، من عيسى فهو كالمتصور من آدم، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل. وكذلك * (مثل الجنة) * عبارة عن المتصور منها.
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى. والكاف في * (كمثل ءادم) * اسم على ما ذكرناه من المعنى. إنتهى كلامه.
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال. أو بمعنى الصفة، وفي (ري الظمآن) قيل: المثل بمعنى الصفة، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد، على هذا جل اللغويين والمفسرين، وخالف أبو علي الفارسي الجميع، وقال: المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة، إنما المثل الشبه.
على هذا تدور تصاريف الكلمة، ولا معنى للوصفية في التشابه. والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور، ويقابل بها الأحوال. إنتهى.
ومن جعل
500

المثل هنا مرادفا للمثل، كالشبه: والشبه. قال: جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه، والتنبيه على عظم خطره وقدره.
وقال بعض هؤلاء: الكاف زائدة. وقال بعضهم: مثل زائدة، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال. وقال: العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب، لأنه خالف المعروف، ضرب الله المثل بآدم الذي استقر في الأذهان. وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أم، كذلك خلق عيسى بلا أب، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل، وبين من ضرب له المثل، من وجه واحد، أو من وجوه لا يشترط الاشتراك في سائر الصفات. والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب. وقال بعض أهل العلم: المشاركة بين (آدم وعيسى في خمسة عشر وصفا: في التكوين، و: في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا. وفي العبودية، وفي النبوة. وفي المحنة: عيسى باليهود، وآدم بإبليس، وفي: أكلهما الطعام
والشراب، وفي الفقر إلى الله. وفي الصورة، وفي الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض، وفي الإلهام، عطس آدم فألهم، فقال الحمد لله. وألهم عيسى، حين أخرج من بطن أمة فقال: * (إنى عبد الله) * وفي العلم، قال: * (وعلم ءادم الاسماء) * وقال: * (ويعلمه الكتاب والحكمة) * وفي نفخ الروح فيهما * (ونفخت فيه من روحى) * * (فنفخنا فيه من روحنا) * وفي الموت، وفي فقد الأب، ومعنى: عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر، وكيف هو. أي: هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه.
والعامل في: عند، العامل في: كاف التشبيه، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدم، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلا منهما أوجده الله خارجا عما استقروا واستمر في العادة من خلق الإنسان متولدا من ذكر وأنثى، كما قال تعالى: * (رحيم يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) * والوجود من غير أب وأم أغرب في العادة من وجود من غير أب، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أب له. قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له. قالوا: كان يحيي الموتى. قال: فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف. فقالوا: كان يبريء الأكمه والأبرص. قال: فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق، ثم قام سالما. إنتهى.
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) رد عين قتادة بعد ما قلعت، ورد الله نورها، وصح أن أعمى دعا له فرد الله له بصره.
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به، فصار يبرئ الأكمه والأبرص، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه، وكان أعمى، فرد الله عليه بصره.
* (خلقه من تراب) * هي من تسمية الشئ باسم أصله. كقوله * (الله الذى خلقكم من * تراب ثم من نطفة) * كان ترابا ثم صار طينا وخلق منه آدم. كما قال: * (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) * وقال تعالى: * (إنى خالق بشرا من طين) * وقال: * (قال أءسجد لمن خلقت طينا) *.
والضمير المنصوب في: خلقه، عائد على آدم، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم، فلا موضع لها من الإعراب. وقيل: هي في موضع الحال، وقدر مع خلقه مقدرة، والعامل فيها معنى التشبيه. قال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالا منه. قال الزجاج: إذ الماضي لا يكون حالا أنت فيها، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل. إنتهى كلامه. وفيه نظر، والمعنى: قدره جسدا من طين * (ثم قال له كن) * أي أنشأه بشرا، قاله الزمشخري، وسبقه إلى معناه أبو مسلم. قلنا: ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء. لا بمعنى التقدير، لم يأت بقوله: * (ثم قال له كن) * لأن ما خلق لا يقال له: كن، ولا ينشأ إلا إن كان معنى * (ثم قال له كن) * عبارة عن نفخ
501

الروح فيه، وقاله عبد الجبار. فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدره. قيل: أو يكون: كن، عبارة عن كونه لحما ودما، وقوله: فيكون، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة، وإنما ذلك على سبيل التمثيل، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر.
و: ثم، قيل لترتيب الخبر، لأن قوله: كن، لم يتأخر عن خلقه، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي: أنشأه أولا من طين، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحما ودما على من قال ذلك.
وقال الراغب: ومعنى: كن. بعد: خلقه من تراب: كن إنسانا حيا ناطقا، وهو لم يكن كذلك، بل كان دهرا ملقى لا روح فيه، ثم جعل له الروج. وقوله: كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنسانا. إنتهى.
والضمير في: له، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن، وهو قول الحوفي.
* (الحق من ربك) * جملة من مبتدأ وخبر، أخبر تعالى أن الحق، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك، فجميع ما أنبأك به حق، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى، ويجوز أن يكون: الحق، خبر مبتدأ محذوف، أي: هو. أي: خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق، و: من ربك، حال أو: خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق. ومع كونها حقا فهي إخبار صادر عن الله.
* (فلا تكن من الممترين) * قيل: الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى، والأخبار الواردة من الله تعالى. وقيل: المراد به أمة من ظاهر الخطاب له. قال الزمخشري: ونهيه عن الامتراء وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم) أن يكون ممتريا، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة، وأن يكون لطفا لغيره. وقال الراغب: الامتراء استخراج الرأي للشك العارض، ويجعل عبارة عن الشك، وقال: فلا تكن من الممترين ولم يكن ممتريا ليكون فيه ذم من شك في عيسى.
* (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) * أي: من نازعك وجادلك، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين، وكان الأمر كذلك بينه صلى الله عليه وسلم) وبين وفد نجران.
والضمير في: فيه، عائد على عيسى، لأن المنازعة كانت فيه، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله: * (إن مثل عيسى) * وما بعده جاء من تمام أمره، وقيل: يعود على الحق، وظاهر من العموم في كل من يحاج في أمر عيسى. وقيل: المراد وفد نجران.
و: من، يصح أن تكون موصولة، ويصح أن تكون شرطية، و: العلم هنا: الوحي الذي جاء به جبريل، وقيل: الآيات المتقدمة في أمر عيسى، الموجبة للعمل. و: ما، في: ما جاءك، موصولة بمعنى: الذي، وفي: جاءك، ضمير الفاعل يعود عليها. و: من العلم، متعلق بمحذوف في موضع الحال، أي: كائنا من العلم. وتكون: من، تبعيضية. ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك، قال بعضهم، ويخرج على قول الأخفش: أن تكون: ما، مصدرية، و: من، زائدة
، والتقدير: من بعد مجيء العلم إياك.
* (فقل تعالوا) * قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس، إذا التقدير تفاعل، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو، فإذا أمرت الواحد قلت: تعال، كما تقول: إخش واسع. وقرأ الحسن، وأبو واقد، وأبو السمال: بضم اللام، ووجههم أن أصله: تعاليوا، كما تقول: تجادلوا، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين، وهذا تعليل شذوذ.
* (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * أي: يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة. وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب: بقل: وبين من حاجه، وفسر على هذا الوجه: الأبناء بالحسن والحسين، و: بنسائه: فاطمة، و: الأنفس بعلى. قال الشعبي: ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم) مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: لما نزلت هذه الآية: * (تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم): فاطمة وحسنا وحسينا، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي).
وقال قوم: المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته، ولو عزم نصارى
502

نجران على المباهلة وجاؤا لها، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم) المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته.
وقيل: المراد: بأنفسنا، الإخوان، قاله ابن قتتيبة. قال تعالى: * (ولا تلمزوا أنفسكم) * أي: إخوانكم. وقيل: أهل دينه، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقيل: الأزواج، وقيل: أراد القرابة القريبة، ذكرهما علي بن أحمد النيسابوري.
* (ثم نبتهل) * أي: ندع بالالتعان. وقيل: نتضرع إلى الله، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: نخلص في الدعاء. وقال الكلبي: نجهد في الدعاء. وقيل: نتداعى بالهلاك.
* (فنجعل لعنت الله على الكاذبين) * أي: يقول كل منا: لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره، وقد لعن صلى الله عليه وسلم) اليهود. قال أبو بكر الرازي: وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال أبو أحمد بن علان: كانا إذ ذاك مكلفين، لأن المباهلة عنده لا تصح إلا من مكلف.
وقد طول المفسرون بما رووا في قصة المباهلة، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي إلى الميعاد، وأنهم كفوا عن ذلك، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدوا الجزية، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا، وأخبر هو صلى الله عليه وسلم) أنهم إن باهلوا عذبوا، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوته شاهد عظيم على صحة نبوته.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا لتبيين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟.
قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل، وألصقهم بالقلوب. وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق، وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم، وقرب منزلتهم، وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس يفدون بها، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام، وفيه برهان واضح على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم)، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك. إنتهى كلامه.
وقال ابن عطية: وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوته أحج لنا على سائر الكفرة، وأليق بحال محمد صلى الله عليه وسلم)، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة الله أو لغضبه على المبطلين، وظاهر الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم) جاءهم بما يخصه، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط. إنتهى.
وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس، ومن أغرب الاستدلال ما استدل به من الآية محمد بن علي الحمصي. وكان متكلما على طريق الإثنى عشرية. على: أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم). قال: وذلك أن قوله تعالى: * (وأنفسنا وأنفسكم) * ليس المراد نفس محمد صلى الله عليه وسلم)، لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد غيره. وأجمعوا على أن الذي هو غيره: علي، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول، ولا يمكن أن يكون عينها، فالمراد مثلها، وذلك يقتضي العموم إلا أنه ترك في حق النبوة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى الله عليه وسلم) أفضل من سائر الأنبياء، فلزم أن يكون علي كذلك.
قال: ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف: (من أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحا في طاعته، وإبراهيم في حلمه، وموسى في قومه، وعيسى في صفوته فلينظر إلى علي بن أبي طالب). فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقا فيهم.
قال: وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة.
503

وأجاب الرازي: بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى الله عليه وسلم) أفضل ممن ليس بنبي، وعلي لم يكن نبيا، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء.
وقال الرازي: استدلال الحمصي فاسد من وجوه.
منها قوله: إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه، تقول العرب: دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد.
ومنها قوله: وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو علي، ليس بصحيح، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله: وأنفسنا.
ومنها قوله: فيكون نفسه مثل نفسه، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء، بل تكفي المماثلة في شيء ما، هذا الذي عليه أهل اللغة، لا الذي يقوله المتكلمون: من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس، هذا اصطلاح منهم لا لغة. فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة، وهي كونه من بني هاشم، والعرب تقول: هذا من أنفسنا، أي: من قبيلتنا. وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له. وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى الله عليه وسلم)، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية، ووسع المجال فيها، فزعم أن الولي أفضل من النبي، ولم يقصر ذلك على ولي واحد، كما قصر ذلك الحمصي، بل زعم: أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة. قال: لأن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، والنبي يأخذ عن الله بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة. وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام. نعوذ بالله من ذلك، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن الله بغير واسطة، لقد يقشعر المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين، إلى أنه من أهل الصلاح، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه، فسئل عنه. فقال: فيه ما أخذته عن رسول الله، وفيه ما أخذته عن الله شفاها، أو شافهني به، الشك من السامع. فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على الله حيث ادعى مقام من كلمه الله: كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء
قيل: وفي هذه الآية ضروب من البلاغة: منها إسناد الفعل إلى غير فاعله، وهو: * (إذ قال الله ياعيسى * عيسى) * والله لم يشافهه بذلك، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة. والاستعارة في: * (متوفيك) * وفي: * (فوق الذين كفروا) * والتفصيل لما أجمل في: * (إلي مرجعكم فأحكم) * بقوله: فأما، وأما، والزيادة لزيادة المعنى في * (من ناصرين) * أو: المثل في قوله * (إن مثل عيسى) *. والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله * (نتلوه) * وفي * (فيكون) * وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في * (كمثل ءادم) * وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في * (خلقه من تراب) *. وخطاب العين، والمراد به غيره، في * (فلا تكن من) *. والعام يراد به الخاص في * (تعالوا ندع أبناءنا) * الآية
504

والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال، والحذف في مواضع كثيرة.
2 (* (إن هاذا لهو القصص الحق وما من إلاه إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين * قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سوآء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون * ياأهل الكتاب لم تحآجون فىإبراهيم ومآ أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * هاأنتم هاؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحآجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهاذا النبى والذين ءامنوا والله ولى المؤمنين) *)) 2
* (إن هاذا لهو القصص الحق) * هذا خبر من الله جزم مؤكد فصل به بين المختصمين، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى، وكونه مخلوقا من غير أب، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، وغيرهم. أي: هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلها أو ابن الله، ولا ما تدعيه اليهود فيه، وقيل: هذا إشارة إلى ما بعده من قوله * (وما من إلاه إلا الله) * ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله: وما قال بعضهم إلا إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق أنه ما من إله إلا الله. انتهى. لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في: لهو، دخلت على الفصل. والقصص خبر إن، والحق صفة له، والقصص مصدر، أو فعل بمعنى مفعول، أي: المقصوص كالقبض، بمعنى المقبوض، ويجوز أن يكون: هو، مبتدأ و: القصص، خبره، والجملة، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران، وغيرهم، في أمر عيسى وإلا هيته.
* (وما من إلاه إلا الله) * أي: المختص بالإلهية هو الله وحده، وفيه رد على الثنوية والنصارى، وكل من يدعي غير الله إلها.
و: من، زائدة لاستغراق الجنس، و: إله، مبتدأ محذوف الخبر، و: الله، بدل منه على الموضع، ولا يجوز البدل على اللفظ، لأنه يلزم منه زيادة: من، في الواجب، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد: إلا، نحو ما من شجاع إلا زيدا، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية، وإن كان جائزا في العربية النصب على الاستثناء.
* (وإن الله لهو العزيز الحكيم) * إشارة إلى وصفي الإلهية وهما: القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع، فلا يخفي عنه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى.
ويجوز في: لهو، من الإعراب ما جاز في: لهو القصص، وتقديم ذكر فائدة الفصل.
* (فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين) * قال مقاتل: فإن تولوا عن الملاعنة. وقال الزجاج: عن البيان الذي أبانه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقال أبو سليمان الدمشقي: عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسي: عن هذا الذكر وقيل: عن الإيمان.
و: تولوا، ماض أو مضارع حذفت تاؤه، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله: * (فإن الله عليم بالمفسدين) *، والمعنى: ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم، ونبه على العلة التي
505

توجب العقاب، وهي الإفساد، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير، وأتى به جمعا ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم، ولكونه رأس آية، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب * تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * نزلت في وفد نجران، قاله الحسن، والسدي، ومحمد بن جعفر بن الزبير قال ابن زيد: لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة، دعوا إلى أيسر من ذلك، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان، بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم) إلى جعفر وأصحابه بالحبشة، فقرأها جعفر، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة، والربيع، وابن جريج: في يهود المدينة، وهم الذين حاجوا في إبراهيم. وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، قالوا: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير؟
ولفظ: يا أهل الكتاب، يعم كل من أوتي كتابا، ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم) اليهود بالآية، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم، والمباهلة معهم، وخاطبهم: بيا أهل الكتاب، هزا لهم في استماع ما يلقى إليهم، وتنبيها على أن من كان أهل كتاب من الله ينبغي أن يتبع كتاب الله، ولما قطعهم بالدلال الواضحة فلم يذعنوا، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا، عدل إلى نوع من التلطف، وهو: دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم.
وقرأ أبو السمال: كلمة، كضربة، و: كلمة، كسدرة، وتقدم هذا عند قوله: * (مصدقا بكلمة) * والكلمة هي ما فسرت به بعد. وقال أبو العالية: * (لا إلاه إلا الله) *، وهذا تفسير المعنى.
وعبر بالكلمة عن الكلمات، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام، وإلى هذا ذهب الزجاج، إما لوضع المفرد موضع الجمع، كما قال:
* بها جيف الحسرى، فأما عظامها
*
فبيض، وأما جلدها فصليب
*
وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختل جزء منها اختلت الكلمة، لأن كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في الله إلا بمجموعها.
وقرأ الجمهور: سواء، بالجر على الصفة. وقرأ الحسن: سواء، بالنصب، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر. قال الزمخشري: بمعنى استوت استواء، فيكون: سواء، بمعنى استواء، ويجوز أن ينتصب على الحال من: كلمة، وإن كان نكرة
506

ذو الحال، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل، وإلى تأويل: سواء، بمعنى: استواء، والأشهر استعمال: سواء، بمعنى اسم الفاعل، أي: مستو، وقد تقدم الكلام على سواء في أول سورة البقرة، وقال قتادة، والربيع، والزجاج: هنا يعني بالسواء العدل، وهو من: استوى الشيء، وقال زهير:
* أروني خطة لا ضيم فيها
*
يسوي بيننا فيها السواء
*
والمعنى: إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم. وقال أبو عبيدة: تقول العرب: قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه. وفي مصحف عبد الله: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم. وقال ابن عباس: أي كلمة مستوية، أي مستقيمة. وقيل: إلى كلمة قصد. قال ابن عطية: والذي أقوله في لفظة: سواء، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون، صغيرهم وكبيرهم، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا، فلم يكونوا على استواء حال، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر: هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة: العدل، أنك لو دعوت أسيرا عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل، على هذا الحد جاءت لفظة: سواء، في قوله تعالى * (فانبذ إليهم على سواء) * على بعض التأويلات، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرا مقاسما لك. في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال، وهو عندي حسن، لأن النفوس تألفه، والله الموفق للصواب. انتهى كلامه، وهو تكثير لا طائل تحته، والظاهر انتصاب الظرف بسواء.
* (أن لا * نعبد إلا الله) * موضع: أن، جر على البدل من: كلمة، بدل شيء من شيء، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف، أي: هي أن لا نعبد إلا الله. وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله: سواء، وارتفاع: أن لا نعبد، على الابتداء والخبر قوله: بيننا
507

وبينكم. قالوا: والجملة صفة للكلمة، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف، وجوزوا أيضا ارتفاع: أن لا نعبد، بالظرف، ولا يصح إلا على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد، والبصريون يمنعون ذلك، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير: إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها
الامتناع من عبادة غير الله، فعلى هذا يكون: أن لا نعبد، في موضع رفع على الفاعل بسواء، إلا أن فيه إضمار الرابط، وهو فيها، وهو ضعيف.
والمعنى: أن نفرد الله وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئا، أي: لا نجعل له شريكا. وشيئا يحتمل أن يكون مفعولا به، ويحتمل أن يكون مصدرا أي شيئا من الإشراك، والفعل في سياق النفي، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة.
* (ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) * أي لا نتخذهم أربابا فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك: كعزير وعيسى، قاله مقاتل، والزجاج، وعكرمة.
وقيل عنه: إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعا. قاله ابن جريج، كقوله تعالى * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح * ابن مريم) * وعن عدي بن حاتم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال: (أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون فتأخذون بقولهم)؟ قال: نعم. قال: (هو ذاك).
وفي قوله: بعضنا بعضا، إشارة لطيفة، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية، وما كان مثلك استحال أن يكون إلها، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوة في قولهم: * (إن أنتم إلا بشر مثلنا) * * (إن نحن إلا بشر مثلكم) * * (أنؤمن لبشرين مثلنا) * فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعادا: وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى، يؤكد بعضها بعضا، إذ اختصاص الله بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون الله، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير الله، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة: عبدوا عيسى، وأشركوا بقولهم: ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أربابا في الطاعة لهم في تحليل وتحريم وفي السجود لهم.
قال الطبري: في قوله: * (أربابا من دون الله) * أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه الله، ولم يحله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، كتقديرات دون مستند، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي، كما ذهب إليه الروافض. انتهى. وفيه بعض اختصار.
* (فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) * أي: فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها، وهذا مبالغة في المباينة لهم، أي: إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة، فإنا قابلون لها ومطيعون. وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود، وهو المحضر في الحس. قال ابن عطية: هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون. انتهى.
وقال الزمخشري: أي لزمتكم الحجة، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع، أو غيرهما: اعترف بأني أنا الغالب، وسلم لي الغلبة، ويجوز أن يكون من باب التعريض، ومعناه: اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره. انتهى.
وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول الله صلى الله عليه وسلم) دحية إلى عظيم بصرى، فدفعه إلى هرقل.
* (قل ياأهل * أيها * الكتاب لم تحاجون فى إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون
508

عن ابن عباس وغيره. أن اليهود قالوا: كان إبراهيم يهوديا، وأن النصارى قالوا: كان نصرانيا. فأنزلها الله منكرا عليهم. وقال ابن عباس، والحسن: كان إبراهيم سأل الله أن يجعل له * (لسان صدق فى الاخرين) * فاستجاب الله دعاءه حتى ادعته كل فرقة.
و: ما، في قوله: لم، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر، ولذلك علة ذكرت في النحو، وتتعلق: اللام بتحاجون، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار، ومعنى: في إبراهيم، في شرعه ودينه وما كان عليه، ومعنى: المحاجة، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك، فرد الله عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم، وهو متقدم عليهما، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر، ولظهور فساد هذه الدعوى قال: * (أفلا تعقلون) * أي: هذا كلام من لا يعقل، إذ العقل يمنع من ذلك. ولا يناسب أن يكون موافقا لهم، لا في العقائد ولا في الأحكام.
أما في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه الله، أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة. وادعاء اليهود أن عزيرا ابن الله، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم.
وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم، ومن ذلك قوله * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم) * وقوله: * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * وغير ذلك فلا يمكن أن يكون إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله.
ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان. وروي أبو صالح عن ابن عباس: أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنان وثلاثون سنة.
وقال ابن إسحاق: كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون.
والواو في: * (وما أنزلت التوراة) * لعطف جملة على جملة، هكذا ذكروا. والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى: * (لم تكفرون بأيات الله وأنتم تشهدون) * وقوله * (لم تلبسون) * ثم قال * (وأنتم تعلمون) * وقوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم) * أنكر عليهم ادعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها؟
وأما الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق، ولذلك قال تعالى: * (إن الدين عند الله الإسلام) * إذ الحنيف هو المائل للحق، والمسلم هو المستسلم للحق، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم * (كان حنيفا مسلما) *.
وفي قوله: * (أفلا تعقلون) * توبيخ على استحالة مقالتهم، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم.
* (تعقلون هأنتم هاؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم) * الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه، ليس موجودا في كتبهم، ولا أتتهم به أنبياؤهم، ولا شاهدوه فيعلموه. قاله قتادة، والسدي، والربيع، وغيرهم. وهو الظاهر لما حف به من قبله، ومن بعده من الحديث في إبراهيم، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية، وقال: ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة، لأنهم يجدونه عند محمد صلى الله عليه وسلم) كما كان هنالك على حقيقته.
وقيل: الذي لهم به علم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم)، لأنهم وجدوا نعته في
509

كتبهم، فجادلوا بالباطل. والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم.
والظاهر في قوله: * (فيما لكم به علم) * إثبات العلم لهم. وقال ابن عطية: فيما لكم به علم على زعمكم، وإنما المعنى: فيما يشبه دعواكم، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم. وقال قتادة أيضا: حاججتم فيما شهدتم ورأيتم، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا؟ وقال الرازي: * (ثم أنتم هاؤلاء) * الآية. أي: زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به؟ وهو ادعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم)؟
ويحتمل أن يكون قوله * (لكم به علم) * أي: تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به البتة.
وقرأ الكوفيون، وابن عامر، والبزي: ها أنتم، بألف بعد الهاء بعدها همزة: أنتم، محققة. وقرأ نافع، وأبو عمرو، ويعقوب: بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفا محضة لورش: ها، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولا بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام، وأصلها أن تباشر اسم الإشارة، لكن اعتني بحرف التنبيه، فقدم، وذلك نحو قول العرب: ها أنا ذا قائما، و: ها أنت ذا تصنع كذا. و: ها هوذا قائما. ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون، ولم ترد به التوراة والإنجيل، فتقول لهم: هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة، فلم تحتجون فيما ليس كذلك؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم، وعلى هذا يكون: ها، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيدا، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف: ها، كما حذفها من وقف على: * (أيه الثقلان) * يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس. وقال أبو عمرو ابن العلاء، وأبو الحسن الأخفش: الأصل في: ها أنتم. فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء. لأنها أختها. واستحسنه النحاس. وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام، لا يحفظ من كلامهم: هتضرب زيدا، بمعنى: زيدا إلا في بيت نادر جاءت فيه: ها، بدل همزة الاستفهام، وهو:
* وأتت صواحبها وقلن هذا الذي
*
منح المودة غيرنا وجفانا
*
ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام، وهمزة: أنت، لا يناسب، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى: هاء، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو: أريقه، إذ أصله: أأريقه؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا، بل قالوا: أهريقه.
وقد وجهوا قراءة قنبل على أن: الهاء، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها، وعلى هذا من أثبت الألف، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام، وبين همزة: أنتم، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم، وأما من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في: هيأه. وأما تحقيقها فهو الأصل، وأما إبدالها ألفا فقد تقدم الكلام في ذلك في قوله * (أم لم تنذرهم لا) *.
و: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء. الخبر. و: حاججتم، جملة حالية. كقول: ها أنت ذا قائما. وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها، كقوله: * (ثم أنتم هاؤلاء تقتلون) * على أحسن الوجوه في إعرابه.
وقال الزمخشري: أنتم، مبتدأ، و: هؤلاء، خبره، و: حاججتم، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقي، وبيان حماقتكم، وقلة عقولكم، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم؟ انتهى.
وأجازوا أن يكون: هؤلاء، بدلا، وعطف بيان، والخبر: حاججتم، وأجازوا أن يكون
510

هؤلاء، موصولا بمعنى الذي، وهو خبر المبتدأ، أو: حاججتم، صلته. وهذا على رأي الكوفيين. وأجازوا أيضا أن يكون منادي أي: يا هؤلاء، وحذف منه حرف النداء، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين، ويجوز على مذهب الكوفيين، وقد جاء في الشعر حذفه، وهو قليل، نحو قول رجل من طيء:
* إن ألالى وصفوا قومي لهم فهم
*
هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا
*
وقال:
* لا يغرنكم أولاء من القو
*
م جنوح للسلم فهو خداع
*
يريد: يا هذا اعتصم، و: يا أولاء.
* (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) * أي: يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه، وكيف حال الشرائع في الموافقة. والمخالفة، وأنتم لا تعلمون ذلك، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم، وفي قوله: والله يعلم، استدعاء لهم أن يسمعوا، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه: إسمع فإني أعلم ما لا تعلم.
* (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) * أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان، وبدأ بانتفاء اليهودية، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى، وكرر، لا، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين، ثم استدرك ما كان عليه بقوله * (ولكن كان حنيفا مسلما) * ووقعت لكن هنا أحسن موقعها، إذ هي واقعة بين النقضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل.
ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين، وهم: عبدة الأصنام، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم، وكالمجوس عبدة النار، وكالصابئة عبدة الكواكب، ولم ينص على تفصيلهم، لأن الإشراك يجمعهم.
وقيل: أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيرا والمسيح، فتكون هذه الجملة توكيدا لما قبلها من قوله * (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا) * وجاء: من المشركين، ولم يجئ: وما كان مشركا، فيناسب النفي قبله، لأنها رأس آية.
وقال ابن عطية: نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية. وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفي نفس الملل، وقرر الحال الحسنة، ثم نفي نفيا بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك، وهذا كما تقول: ما أخذت لك مالا، بل حفظته. وما كنت سارقا، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ. انتهى كلامه.
وتلخص بما تقدم أن قوله. * (وما كان من المشركين) * ثلاثة أقوال: أحدهما: أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني: أنهم اليهود والنصارى والثالث: عبدة الأوثان واليهود والنصارى.
وقال عبد الجبار: معنى * (ما كان يهوديا ولا نصرانيا) * لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون. وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة.
وقال علي بن عيسى: لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهوديا ولا نصرانيا لأنهما صفتا دم لاختصاصهما بفرقتين ضالتين، وهما طريقان محرفان عن دين موسى وعيسى، وكونه مسلما لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)، بل كان على جهة الإسلام.
والحنيف: اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة، ويحج إليها، ويضحي
511

ويختتن. ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفا. انتهى.
وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل: أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين، وأنه لقي عالما من اليهود، ثم عالما من النصارى، فقال له اليهودي: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. وقال له النصراني: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. فقال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ومن لعنته. فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا؟ قالا: ما نعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، وكان لا يعبد إلا الله وحده، فلم يزل رافعا يديه إلى السماء. وقال: اللهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم.
وقال الرازي ما ملخصه: إن النفي إن كان في الأصول، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ونصاراه. لأنهم غيروا فقالوا: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله. لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول، وإن كان في الفروع فلأن الله نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى، وأما موافقته لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم) فإن كان في الأصول فظاهر، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة.
* (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهاذا النبى والذين ءامنوا والله ولى * المؤمنون) * قال ابن عباس: قالت رؤساء اليهود: والله يا محمد، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وإنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد. فنزلت.
وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه، وعمرو بن العاص، وأصحابه. بالنجاشي، وفيه: أن النجاشي قال: لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. أي: لا
خوف ولا تبعة، فقال عمرو: من حزب إبراهيم؟ فقال النجاشي: هؤلاء الرهط وصاحبهم، يعني: جعفرا وأصحابه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي، وخليل ربي إبراهيم). ثم قرأ هذه الآية. ومعنى: أولى الناس: أخصهم به وأقربهم منه من الولي، وهو القرب. والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات. وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته.
وقال علي بن عيسى: أحقهم بنصرته أي: بالمعونة وبالحجة، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته. ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقا سالما من المطاعن، وهذا النبي: يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم)، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة، كقوله * (وجبريل وميكال) *.
* (والذين ءامنوا) * قيل: آمنوا من أمة محمد، وخصوا أيضا بالذكر تشريفا لهم، إذ هم أفضل الأتباع للرسل، كما أن رسولهم أفضل الرسل. وقيل: المؤمنون في كل زمان وعطف * (وهاذا النبى) * على خبر إن، ومن أعرب * (وهاذا النبى والذين ءامنوا * معه) * مبتدأ والخبر: هم المتبعون له، فقد تكلف إضمارا لا ضرورة تدعو إليه.
وقرئ: وهذا النبي، بالنصب عطفا على: الهاء، في اتبعوه، فيكون متبعا لا متبعا: أي: أحق الناس بإبراهيم من اتبعه، ومحمدا صلى الله عليهما وسلم، ويكون: والذين آمنوا، عطفا على خبر: إن، فهو في موضع رفع.
وقرئ: وهذا النبي، بالجر، ووجه على أنه عطف على: إبراهيم، أي: إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم. و: النبي، قالوا: بدل من هذا، أو: نعت، أو: عطف بيان. ونبه على الوصف الذي يكون به الله وليا لعباده، وهو: الإيمان. فقال: ولي المؤمنين، ولم يقل: وليهم. وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا، وبالفوز في الآخرة. وهذا كما قال تعالى: * (الله ولي الذين ءامنوا) *.
قيل: وجمعت هذه الآيات من البلاغة:
512

التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد، وبالفصل في قوله: * (إن هاذا لهو القصص الحق) * وفي: * (وإن الله لهو العزيز) * والاختصاص في: * (عليم بالمفسدين) * وفي: * (ولى المؤمنين) * والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في: * (إلى كلمة سواء) * وباطلاق اسم الجنس على نوعه في: * (من أهل الكتاب) * إذا فسر باليهود. والتكرار في: إلا الله، و: إن الله، وفي: يا أهل الكتاب تعالوا، يا أهل الكتاب لم. وفي: إبراهيم، و: ما كان إبراهيم، و: إن أولى الناس بإبراهيم. والتشبيه في: أربابا، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم، وأذعنوا إليهم أطلقب عليه: أربابا تشبيها بالرب المستحق للعبادة والربوبية، والإجمال في الخطاب في: يا أهل الكتاب، تعالوا يا أهل الكتاب، لم تحاجون، كقول إبراهيم: يا أبت. وكقول الشاعر:
* مهلا بني عمنا مهلا موالينا
*
لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
*
وقول الآخر:
* بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا
*
فكم من رماد صار منه لهيب والتجنيس المماثل في: أولى وولي
*.
2 (* (ودت طآئفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون * ياأهل الكتاب لم تكفرون بأيات الله وأنتم تشهدون * ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) *)) 2
* (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم) * أجمع المفسرون على أنها نزلت في: معاذ، وحذيفة، وعمار. دعاهم يهود: بني النضير، وقريظة، وقينقاع، إلى دينهم. وقيل: دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس: هم اليهود، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد، فنزلت. وقيل: عيرتهم اليهود بوقعة أحد.
وقال أبو مسلم الأصبهاني: ود بمعنى: تمنى، فتستعمل معها: لو، و: أن، وربما جمع بينهما، فيقال: وددت أن لو فعل، ومصدره: الودادة، والأسم منه: ود، وقد يتداخلان في المصدر والأسم. قال الراغب: إذا كان: ود، بمعنى أحب لا يجوز إدخال: لوغ فيه أبدا. وقال علي بن عيسى: إذا كان: ود، بمعنى: تمنى، صلح للماضي والحال والمستقبل، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل. وإذا كان للحال والمستقبل جاز: أن ولو، وإذا كان للماضي لم يجز: أن، لأن: أن، للمستقبل. وما قال فيه نظر، ألا ترى أن: أن، توصل بالفعل الماضي نحو: سرني أن قمت؟.
* (من أهل الكتاب) * في موضع الصفة لطائفة، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم. وقال ابن عطية: ويحتمل: من، أن تكون لبيان الجنس، وتكون الطائفة جميع أهل
الكتاب، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ، ولو، هنا قالوا بمعنى: أن فتكون مصدرية، ولا يقول بذلك جمهور البصريين، والأولى إقرارها على وضعها. ومفعول: ود، محذوف، وجواب: لو، محذوف، حذف من كل من الجملتين ما يدل المعنى عليه، التقدير: ودوا إضلالكم لو يضلونكم لسروا بذلك، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعا في قوله: * (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) * فيطالع هناك.
ومعنى: يضلونكم، يردونكم إلى كفركم، قاله ابن عباس. وقيل: يهلكونكم، قاله ابن جرير، والدمشقي. قال ابن عطية: واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير
513

* كنت القذى في موج أخضر مزيد
*
قذف الأتى به فضل ضلالا
*
وبقول النابغة:
* فآب مضلوه بعين جلية
*
وغودر بالجولان حزم ونائل
*
وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة، وإنما اطرد له، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك، وأما أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم. إنتهى.
وقال غير ابن عطية أضل الضلال في اللغة الهلاك من قولهم: ضل اللبن في الماء، إذا صار مستهلكا فيه. وقيل: معناه يوقعونكم في الضلال، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم، قاله أبو علي.
* (وما يضلون إلا أنفسهم) * إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط الله وغضبه، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وتغيير صفته صاروا بذلك كفارا، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى. وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل.
وقال ابن عطية: إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم، وأنه يبعدهم عن الإسلام. وقال الزمخشري: وما يعود وبال الضلال إلا عليهم، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم، أو: وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم. إنتهى.
* (وما يشعرون) * إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي: لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم. ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلا كان ضالا، أو * (وما يشعرون) * أنهم لا يصلون إلى إضلالكم، أو: لا يفطنون بصحة الإسلام، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج، ذكره القرطبي. أو: ما يشعرون أن الله يدل المسلمين على حالهم، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم، ذكره ابن الجوزي.
وفي قوله: ما يشعرون، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
* (قل ياأهل * أهل الكتاب لمن * تكفرون بئيات الله) * قال ابن عباس: هي التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم)، والإيمان به، كما بين في قوله: * (يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل) * قاله قتادة، والسدي، والربيع، وابن جريح. أو: القرآن من جهة قولهم: * (إنما يعلمه) * * (كفروا إن هاذا إلا إفك) * * (أساطير الاولين) * والآيات التي أظهرها على يديه من: انشقاق القمر، وحنين الجذع، وتسبيح الحصى، وغير ذكل. أو: محمد والإسلام، قاله قتادة، أو: ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم، قاله ابن بحر أو: كتب الله، أو: الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى الله عليه وسلم)، وصحة نبوته، وأمروا فيها باتباعه، قاله أبو علي.
* (وأنتم تشهدون) * جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات الله وهم يشهدون أنها آيات الله، ومتعلق الشهادة محذوف، يقدر على حسب تفسير الآيات، فيقدر بما يناسب ما فسرت
514

به، فلذلك قال قتادة، والسدي، والربيع: وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة.
وقيل: تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها، وقيل: بما عليكم فيه من الحجة. وقيل: إن كتبكم حق، ولا تتبعون ما أنزل فيها. وقيل: بصحتها إذا خلوتم.
فيكون: تشهدون، بمعنى: تقرون وتعترفون. وقال الراغب: أو عنى ما يكون من شهادتهم * (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم) *.
وقيل: تكفرون بآيات الله: تنكرون كون القرآن معجزا، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز.
* (تشهدون ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * تقدم تفسير مثل هذا في قوله: * (ولا تلبسوا الحق بالباطل) * وفسر: اللبس، بالخلط والتغطية، وتكلم المفسرون هنا، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه: قال معناه الحسن، وابن زيد.
وقيل: إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية، قال قتادة، وابن جرير والثعلبي. وقيل: الإيمان بموسى وعيسى، والكفر بالرسول. وقال أبو علي: يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم) على خلاف تأويلها، ليظهر منها للعوام خلاف ما هي عليه، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون.
وقيل: هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله: * (بالذي أنزل على) * وقيل: إقرارهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم). والباطل: كتمانهم لبعض أمره، وهذان القولان عن ابن عباس. وقيل: إقرارهم بنبوته ورسالته، والباطل قول أحبارهم: ليس رسولا ألينا، بل شريعتنا مؤبدة.
وقرأ يحيى بن وثاب: تلبسون، بفتح الباء مضارع: لبس، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه، والباء في: بالباطل، للحال أي: مصحوبا بالباطل.
وقرأ أبو مجلز: تلبسون، بضم التاء وكسر الباء المشددة، والتشديد هنا للتكثير، كقولهم: جرحت وقتلت، وأجاز الفراء، والزجاج في: ويكتمون، النصب، فتسقط النون من حيث العربية على قولك: لم تجمعون ذاوذا؟ فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين، وبإضمار: أن، في قول البصريين. وأنكر ذلك أبو علي، وقال: الاستفهام وقع على اللبس فحسب.
وأما: يكتمون، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على: تلبسون، بل هو استئناف، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق، وقال ابن عطية: قال أبو علي: الصرف ها هنا يقبح، وكذلك إضمار: أن، لأن: يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة، قولك: أتقوم فأقوم؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب، إلا في ضرورة شعر، كما روي:
والحق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه: في قولك: أسرت حتى تدخلها، الا يجوز إلا النصب، في: تدخل، لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلها، رفعت، لأن السير موجب، والاستفهام إنما وقع عن غيره. إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي.
والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله، لأن ما قبله فيه: أن الاستفهام وقع على اللبس فحسب، وأما: يكتمون، فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أن: يكتمون، معطوف على موجب مقرر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطف على
515

اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون: ويكتمون، إخبارا محضا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه، تبعه في ذلك ابن مالك. فقال في (التسهيل) حين عد ما يضمر: أن، لزوما في الجواب، فقال: أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده، نحو: لم ضربت زيدا، فيجازيك؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله، إما لكونه ليس ثم فعل، ولا ما في معناه ينسبك منه، وإما لاستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى، فإذا قال: لم ضربت زيدا فأضربك. أي: ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا، وما رد به أبو علي على أبي إسحاق ليس بمتجه. لأن قوله: * (لم تلبسون) * ليس نصا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله. ولو فرضنا أنه ماض حقيقة، فلا رد فيه على أبي إسحاق، لأنه كما قررنا قبل: إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة، سبكناه من لازم الجملة.
وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع، نحو: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك في: كم مالك فنعرفه؟ و: من أبوك فنكرمه؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير: ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا. و: ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا. و: ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له.
وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما، قالوا: وذلك جزم، قالوا: ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق: لم بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي: ولا وجه له إلا أن: لم، تجزم الفعل عند قوم كلم. إنتهى. والثابت في لسان العرب أن: لم، لا ينجزم ما بعدها، ولم أر أحدا من النحويين ذكر أن لم تجري مجرى: لم في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع، وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا، وذلك في قراءة أبي عمر، ومن بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهران، تتشديد الطاء، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون، وأما في النظم، فنحو: قول الراجز:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد: وتبيتين تدلكين. وقال:
* فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو
*
ستحتلبوها لاقحا غير باهل
والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل، وكتم الحق، وكأن الحق منقسم إلى قسمين: قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر.
* (وأنتم تعلمون) * جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه، أي: لا يناسب من علم الحق أن يكتمه، ولا أن يخلطه بالباطل، والسؤال
عن السبب سؤال عن المسبب، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب، وختمت الآية قبل هذه بقوله: * (وأنتم تشهدون) * وهذه بقوله: * (وأنتم تعلمون) * لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات الله، وهي أخص من الحق، لأن آيات الله بعض الحق، والشهادة أخص من العلم، فناسب الأخص الأخص، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها، والعلم أعم من الشهادة، فناسب الأعم الأعم. وقالوا في
516

قوله: * (وأنتم تعلمون) * أي: أنه نبي حق، وأن جاء به من عند الله حق. وقيل: قال: * (وأنتم تعلمون) * ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف، ويقوم عليهم به الحجة. وقيل: * (وأنتم تعلمون) * الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم.
وفي هذه الآيات أنواع من البديع. الطباق في قوله: الحق بالباطل، والطباق المعنوي في قوله: لم تكفرون وأنتم تشهدون، لأن الشهادة إقرار وإظهار، والكفر ستر. والتجنيس المماثل في: يضلونك وما يضلون والتكرار في: أهل الكتاب والحذف في مواضع قد بينت.
2 (* (وقالت طآئفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذيأنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون * ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل مآ أوتيتم أو يحآجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشآء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشآء والله ذو الفضل العظيم) *)) 2
* (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار واكفروا ءاخره لعلهم يرجعون) * قال الحسن، والسدي: تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عرينة، وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، واكفروا به في آخر النهار، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا، وشاورنا علماءنا، فوجدنا محمدا ليس كذلك، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: هم أهل الكتاب فهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت.
وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: هذا في شأن القبلة، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه: صلوا إليها أول النهار، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره، فنزلت.
وقال ابن عباس، ومجاهد: صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم) صلاة الصبح، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتها ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه، فنزلت.
وقال السدي: قالت اليهود لسفلتهم: آمنوا بمحمد أول النهار، فإذا كان بالعشي قولوا: قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء، فنزلت.
وحكى ابن عطية، عن الحسن: أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة. انتهى. جعلت اليهود هذا سببا إلى خديعة المسلمين.
والمقول لهم محذوف، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة، والمراد: بآمنوا، أظهروا الإيمان، ولا يمكن أن يراد به التصديق، وفي قوله: * (بالذي أنزل على الذين ءامنوا) * حذف أي: على زعمهم، وإلا فهم يكذبون، ولا يصدقون أن الله أنزل شيئا على المؤمنين.
وانتصب: وجه النهار، على الظرف ومعناه: أول النهار، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه.
وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي:
* من كان مسرورا بمقتل مالك
*
فليأت نسوتنا بوجه نهار
*
والضمير في: آخره، عائد على النهار، أي: آخر النهار.
والناصب للظرف الأول: آمنوا، وللآخر: اكفروا. وقيل: الناصب لقوله: وجه النهار، أنزل. أي: بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار، والضمير في: آخره، يعود على الذي
517

أنزل، أي: واكفروا آخر المنزل، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول، ومتعلق الرجوع محذوف أي: يرجعون عن دينهم.
وظاهر الآية الدلالة على هذا القول، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه، وأسباب النزول تدل على وقوعه، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به، أو يقول قائلهم: هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والاطلاع، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه، وفيه تثبيت أيضا لضعفائهم على دينهم.
* (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * اللام في: لمن، قيل: زائدة للتأكيد، كقوله * (عسى أن يكون ردف لكم) * أي ردفكم، وقال الشاعر:
* ما كنت أخدع للخليل بخلة
*
حتى يكون لي الخليل خدوعا
*
أراد: ما كنت أخدع الخليل، والأجود أن لا تكون: اللام، زائدة بل ضمن، آمن معنى: أقر واعترف، فعدى باللام. وقال أبو علي: وقد تعدى آمن باللام في قوله *
(فما ءامن لموسى إلا ذرية) * * (وءامنتم * له) * * (ويؤمن بالله * ويؤمن للمؤمنين) * انتهى. والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود، لأنه معطوف على كلامهم، ولذلك قال ابن عطية: لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة. انتهى. وليس كذلك، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام الله، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف، ولا شك أن قوله: * (قل إن الهدى هدى الله) * من كلام الله مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم)، وما بعده يظهر أنه من كلام الله، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله، وتقدير الكلام: قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا: إن الهدى هدى الله، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة، وذاك الفعل، لمخافة * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) * قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة، أي: فعلتم ذلك حسدا وخوفا من أن تذهب رئاستكم، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم، أو يحاجوكم عند ربكم، أي: يقيمون الحجة عليكم عند الله إذ كتابكم طافح، بنبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه، ويؤيد هذا المعنى قوله: * (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) * إلى آخره، ويؤيد هذا المعنى أيضا قراءة ابن كثير أن يؤتي على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى، أي ألمخافة أن يؤتى أحد. مثل ما أوتيتم؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه؟ ويكون: أو يحاجوكم، معطوفا على: يؤتى، وأو: للتنويع، وأجازوا أن يكون: هدى الله، بدلا من: الهدى. لا خبرا لأن. والخبر قوله: * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * أي أن هدى الله إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم، ويكون: أو يحاجوكم، منصوبا بإضمار: أن، بعد أو بمعنى: حتى، أي: حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي، ولا يكون: أو يحاجوكم، معطوفا على:
518

يؤتى، وداخلا في خبر إن، و: أحد، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصا به، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي، أو في خبر نفي، بل: أحد، هنا بمعنى: واحد، وهو مفرد، إذ عنى به الرسول صلى الله عليه وسلم)، وإنما جمع الضمير في: يحاجوكم، لأنه عائد على الرسول وأتباعه، لأن الرسالة تدل على الأتباع. وقال بعض النحويين: إن، هنا للنفي بمعنى: لا، التقدير: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ونقل ذلك أيضا عن الفراء، وتكون: أو، بمعنى إلا، والمعنى إذ ذاك: لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا أن يحاجوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم، لأن من آتاه الله الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه، فقوله: أو يحاجوكم، حال من جهة المعنى لازمة، إذ لا يوحي الله إلى رسول إلا وهو محاج مخالفيه. وفي هذا القول يكون، أحد، هو الذي للعموم. لتقدم النفي عليه، وجمع الضمير في: يحاجوكم، حملا على معنى: أحد، كقوله تعالى * (فما منكم من أحد عنه حاجزين) * جمع حاجزين حملا على معنى: أحد، لا على لفظه، إذ لو حمل على لفظه لأفرد.
لكن في هذا القول القول بأن: أن، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب. والخطاب في: أو يتتم، وفي: يحاجوكم، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة، القائلة: * (بالذي أنزل على) * وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى: أن لا يؤتى أحد، وحذفت: لا، لأن في الكلام دليلا على الحذف. قال كقوله: * (يبين الله لكم أن تضلوا) * أي: لا تضلوا. ورد ذلك أبو العباس، وقال: لا تحذف: لا، وإنما المعنى: كراهة أن تضلوا، وكذلك هنا: كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم، أي: ممن خالف دين الإسلام، لأن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، فهدى الله بعيد من غير المؤمنين.
والخطاب في: أوتيتم، و: يحاجوكم، لأمة محمد صلى الله عليه وسلم)، فعلى هذا: أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه، ويصعب تقديره، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله: أن يؤتى، بدلا من قوله: هدى الله، ويكون المعنى: قل إن الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن. ويكون قوله: أو يحاجوكم، بمعنى: أو فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم. انتهى هذا القول. وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلا في الضرورة.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب: أن يؤتى، بفعل مضمر يدل عليه قوله * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * كأنه قيل: * (قل إن الهدى هدى الله) * فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله، ولم يحفظ ذلك من لسانهم. وأجازوا أن يكون قوله * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) * ليس داخلا تحت قوله: قل، بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * ويكون قوله: * (هل أنبئكم * الهدى هدى الله) * جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها.
ويحتمل هذا القول وجوها:
أحدهما: أن يكون المعنى: ولا تصدقوا تصديقا صحيحا وتؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم، مخافة أن يؤتى أحد من النبوة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه، وهذا القول، على هذا المعنى، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم).
الثاني: أن يكون التقدير: أن لا يؤتى، فحذفت: لا، لدلالة الكلام، ويكون ذلك منتفيا داخلا في حيز: إلا، لا مقدرا دخوله قبلها، والمعنى: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينكم، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي: إلا بانتفاء كذا.
الثالث: أن يكون التقدير: بأن يؤتى، ويكون متعلقا بتؤمنوا، ولا يكون داخلا في حيز إلا، والمعنى: ولا تؤمنوا بأن
519

يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، وجاء بمثله، وعاضدا له، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم. ويكون معنى: * (أو يحاجوكم عند ربكم) * بمعنى: إلا أن يحاجوكم، كما تقول: أنا لا أتركك أو تقضيني حقي، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى الله عليه وسلم)، على اعتقاد أن النبوة لا تكون إلا في بني إسرائيل
.
الرابع: أن يكون المعنى: لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوته إذ قد علمتم صحتها إلا لليهود الذين هم منكم، و * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * صفة لحال محمد صلى الله عليه وسلم)، فالمعنى: تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم، أو فإنهم يعنون العرب، يحاجونكم بالإقراب عند ربكم. وقال الزمخشري في هذا الوجه، وبدأ به ما نصه: ولا تؤمنوا، متعلق بقوله: أن يؤتى أحد، و: ما بينهما اعتراض، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، أرادوا: أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين، لئلا يزتدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام: * (أو يحاجوكم عند ربكم) * عطف على * (أن يؤتى) * والضمير في: يحاجوكم، لأحد لأنه في معنى الجميع بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق، ويغالبونكم عند الله بالحجة. انتهى كلامه.
وأما: أحد، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم، وكان ما قبله مقدرا بالنفي، كقول بعضهم إن المعنى: لا يؤتى، أو: إن المعنى: أن لا يؤتى أحد، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلا في النفي أو ما أشبه النفي: كالنهي، وإن كان الفعل مثبتا يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام، كما دخلت من في قوله: * (أن ينزل عليكم من خير) * للنفي قبله في قوله: * (ما يود) *.
ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم: * (بالذي أنزل على) * الآية، لا يجدي شيئا، ولا يصد عن الإيمان من أراد الله إيمانه، لأن الهدى هو هدى الله، فليس لأحد أن يحصله لأحد، ولا أن ينفيه عن أحد.
وقرأ ابن كثير: أن يؤتى أحد؟ بالمد على الاستفهام، وخرجه أبو علي على أنه من قول الطائفة، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل، لأن الاستفهام قاطع، فيكون في موضع رفع على الابتداء وخبره محذوف تقديره تصدقون به، أو تعترفون، أو تذكرونه لغيركم، ونحوه مما يدل عليه الكلام. و: يحاجوكم، معطوف على: أن يؤتى.
قال أبو علي: ويجوز أن يكون موضع: أن، نصبا، فيكون المعنى: أتشيعون، أو: أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟ ويكون بمعنى: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمدا نبي مبعوث، ويكون: أو يحاجوكم، في تأويل نصب أن بمعنى: أو تريدون أن يحاجوكم؟.
قال أبو علي وأحد، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة، وقد منع الاستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام، فلم يبق إلا أنه: أحد، الذي في قولك: أحد وعشرون، وهو يقع في الإيجاب، لأنه في معنى: واحد، وجمع ضميره في قوله: أو يحاجوكم، حملا على المعنى، إذ: لأحد، المراد بمثل النبوة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو علي: وهذا موضع ينبغي أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة. انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله: أن يؤتيى، مفعولا من أجله، على أن يكون داخلا تحت القول من قول الطائفة، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة.
وقد اختلف السلف في هذه الآية، فذهب السدي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله: * (قل إن الهدى هدى الله) * إلى آخر الآية مما أمر الله به محمدا صلى الله عليه وسلم) أن يقوله لأمته.
وذهب قتادة، والربيع: إلى أن هذا كله من قول الله، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت: * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم) * كله من قول الطائفة لأتباعهم، وقوله * (قل إن الهدى هدى الله) * اعتراض بين ما قبله وما بعده من
520

قول الطائفة لأتباعهم. وذهب ابن جريج إلى أن قوله: * (أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم) * داخل تحت الأمر الذي هو: قل، يقوله الرسول لليهود، وتم مقولة في قوله: أوتيتم. وأما قوله: * (أو يحاجوكم عند ربكم) * فهو متصل بقول الطائفة * (ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم) * وعلى هذه، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة.
وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي يؤتى، بكسر الهمزة بمعنى: لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطابا من الطائفة القائلة؟ ويكون قولها: أو يحاجوكم، بمعنى: أو، فليحاجوكم، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى، أو يكون بمعنى: إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز: أن يؤتى، أحد ذلك إذا قامت الحجة له. هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة، وهذا على أن يكون من قول الطائفة.
وقال أيضا في تفسيرها: كأنه صلى الله عليه وسلم) يخبر أمته أن الله لا يعطي أحدا، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمة محمد من كونها وسطا، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم) لأمته، ومندرج تحت: قل.
وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري، قال: وقرئ: إن يؤتى أحد على: إن، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، أي: ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم.
قال ابن عطية: وقرأ الحسن: ان يؤتى أحد، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى: أحد، والمعنى أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطابا من محمد صلى الله عليه وسلم) لأمته، والمفعول محذوف تقديره: ان يؤتى أحد أحدا. انتهى. ولم يتعرض ابن عطية للفظ: ان، في هذه القراءة: أهي بالكسر أم بالفتح.
وقال السجاوندي: وقرأ الأعمش: ان يؤتى، و: الحسن: ان يؤتى أحدا، جعلا: أن، نافية، وإن لم تكن بعد إلا كقوله تعالى: * (فيما إن مكناكم * كم * فيه) * و: أو، بمعنى: إلا إن، وهذا يحتمل قول الله عز وجل، ومع اعتراض: قل، قول اليهود. انتهى.
وفي معنى: الهدى، هنا قولان: أحدهما: ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول الله صلى الله عليه وسلم). والثاني: التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم، أو يثبت على الإسلام.
ويحتمل: عند ربكم، وجهين: أحدهما: أن ذلك في الآخرة. والثاني: عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفا، وكان المعنى: أو يحاجوكم عند الحق، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين.
* (قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) * هذا توكيد لمعنى * (قل إن الهدى هدى الله) * وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالوا: شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتى الله أحدا مثل ما أوتي بنو إسرائل من النبوة، فالفضل هو بيد الله. أي: متصرف فيه كالشئ في اليد، وهذه كناية عن قدرة التصرف والتمكن فيها والباري تعالى منزه عن الجارحة. ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد، فاختصاصه بالفضل من شاء، إنما سببه الإرادة فقط، وفسر: الفضل، هنا بالنبوة دهواكم والنبوة أشرف أفراده.
* (والله واسع عليم) * تقدم تفسيره.
* (يختص برحمته من يشاء) * قال الحسن، ومجاهد، والربيع: يفرد بنبوته من يشاء. وقال ابن جريج: بالإسلام والقرآن. وقال ابن عباس، ومقاتل: الإسلام. وقيل: كثرة الذكر لله تعالى.
* (والله ذو الفضل العظيم) * تقدم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية: * (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب) * وتضمنت هذه الآيات من البديع: التجنيس المماثل، والتكرار في: آمنوا وآمنوا، وفي الهدى، هدى الله
521

وفي: يؤتى وأوتيتم، وفي: ان أفضل، وذو الفضل والتكرار أيضا في: اسم الله، في أربعة مواضع. والطباق: في آمنوا واكفروا، وفي وجه النهار وفي آخره، والاختصاص. في: وجه النهار، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار، والحذف في مواضع.
2 (* (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قآئما ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين * إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولائك لا خلاق لهم فى الا خرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم * وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون * ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله ولاكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) *)) 2
الدينار: معروف وهو أربعة وعشرون قيراما، والقيراط: ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه: اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. وفاؤه بدل من نون، يدل على ذلك الجمع، قالوا: دنانير، وأصله: دنار، أبدل من أول المثلين، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياء في: تظنيت. أصله تظننت، لأنه من الظن، وهو بدل مسموع، والدينار: لفظ أعجمي تصرفت فيه العرب وألحقته بمفردات كلامها.
دام: ثبت، والمضارع: يدوم، فوزنه، فعل نحو قال: يقول، قال الفراء: هذه لغة الحجاز وتميم، تقول: دمت، بكسر الدال. قال: ويجتمعون في المضارع، يقولون: يدوم. وقال أبو إسحاق يقول: دمت تدام، مثل: نمت تنام، وهي لغة، فعلى هذا يكون وزن دام، فعل بكسر العين، نحو: خاف يخاف. والتدويم الاستدارة حول الشيء. ومنه قول ذي الرمة:
والشمس حيرى لها في الجو تدويم
وقال علقمة في وصف خمر:
* تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
*
ولا يخالطها في الرأس تدويم
*
والدوام: الدوار، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به. وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار
522

ومنه: الماء الدائم، كأنه يستدير حول مركزه.
لوى الحبل والتوى: فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات، ومنه: ليان الغريم: وهو دفعه ومطله، ومنه: خصم ألوى: شديد الخصومة، شبهت المعاني بالأجرام.
اللسان: الجارحة المعروفة. قال أبو عمرو: اللسان يذكر ويؤنث، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أجمعه ألسنا. وقال الفراء: اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلا مذكرا. انتهى. ويعبر باللسان عن الكلام، وهو أيضا يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك.
الرباني: منسوب إلى الرب، وزيدت الألف والنون مبالغة. كما قالوا: لحياني، وشعراني، ورقباني. فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة. وقال قوم: هو منسوب إلى ربان، وهو معلم الناس وسائسهم، والألف والنون فيه كهي في: غضبان وعطشان، ثم نسب إليه فقالوا: رباني، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف، كما قالوا: أحمري في أحمر، و: دواري في دوار، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه.
درس الكتاب يدرسه: أدمن قراءته وتكريره، ودرس المنزل: عفا، وطلل دارس: عاف.
* (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما) * الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر الله تعالى بذم الخونة منهم، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون. وقيل: أهل الكتاب عنى به أهل القرآن، قاله ابن جريج. وهذا ضعيف حدا لما يأتي بعده من قولهم: * (ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الاميين سبيل) * وقيل: المراد بأهل الكتاب: اليهود، لأن هذا القول * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * لم يقله ولا يعتقده إلا اليهود.
وقيل: * (من إن تأمنه بقنطار) * هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم. و: * (من إن تأمنه بدينار) * هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم. وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه. وقيل: * (من إن تأمنه بقنطار) * هم من أسلم من أهل الكتاب. و: * (من إن تأمنه بدينار) * من لم يسلم منهم.
وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم، وقالوا: قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم، وفي كتابنا: لا حرمة لأموالكم، فكذبهم الله تعالى. قيل: وهذا سبب نزول هذه الآية.
وعن ابن عباس: * (من إن تأمنه بقنطار يؤده) * هو عبد الله بن سلام، استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا، فأداه إليه. و: * (من إن تأمنه بدينار) * فنحاص بن عازوراء، استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. انتهى. ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت: من. ألا ترى كيف جمع في قوله: * (ذالك بأنهم قالوا ليس علينا) * قالوا والمخاطب بقوله: تأمنه، هو النبي صلى الله عليه وسلم) بلا خلاف، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام، وبينه قولهم: * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * فجمع الأميين وهم اتباع النبي الأمي.
وقرأ أبي بن كعب: تأمنه، في الحرفين، و: تئمنا، في يوسف. وقرأ ابن مسعود، والأشهب العقيلي، وابن وثاب: تيمنه، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها، قال الداني: وهي لغة تميم. وأما إبدال الهمزة ياء في: تئمنه، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر.
وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من: ي فعل، ومن: ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله * (نستعين) * فأغنى عن إعادته.
وقال: ابن عطية، حين ذكر قراءة أبي: وما أراها إلا لغة: قرشية، وهي كسر نون الجماعة: كنستعين، وألف المتكلم، كقول ابن عمر: لا إخاله، وتاء الخاطب كهذه الآية، ولا يكسرون الياء في الغائب، وبها قرأ أبي في: تئمنه. انتهى. ولم يبين ما يكسر فيه حروف
523

المضارعة بقانون كلي، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظن. وقد بينا ذلك في * (نستعين) * وتقدم تفسير: القنطار، في قوله: * (والقناطير المقنطرة) *.
وقرأ الجمهور: يؤده، بكسر الهاء ووصلها بياء. وقرأ قالون باختلاس الحركة، وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر، وحمزة، والأعمش بالسكون. قال أبو إسحاق: وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بين، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل. وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة، فغلطب عليه كما غلط عليه في: بارئكم، وقد حكى عنه سيبويه، وهو ضابط لمثل هذا، أنه كان يكسر كسرا خفيفا. انتهى كلام ابن إسحاق. وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء، إذ هي قراءة في السبعة، وهي متواترة، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء. فإنه عربي صريح، وسامع لغة، وإمام في النحو، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا.
وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة. وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع.
وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب: أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك، وأنهم يسكنون أيضا. قال الكسائي: سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون: * (لربه لكنود) * بالجزم، و: لربه لكنود، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في: له، وشبهه إلا في ضرورة نحو قوله.
له زجل كأنه صوت حاد
وقال:
إلا لأن عيونه سيل واديها
ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع، ويجوز الاختلاس، ويجوز السكون. وأبو إسحاق الزجاج، يقال عنه: إنه لم يكن إماما في اللغة، ولذلك أنكد على ثعلب في كتابه: (الفصيح) مواضع زعم أن العرب لا تقولها، ورد الناس على أبي إسحاق في إنكاره، ونقلوها من لغة العرب. وممن رد عليه: أبو منصور الجواليقي، وكان ثعلب إماما في اللغة وإماما في النحو على مذهب الكوفيين، ونقلوا أيضا قراءتين: إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو، وهي قراءة الزهري، والأخرى: ضمها دون وصل، وبها قرأ سلام.
والباء في: بقنطار، وفي: بدينارد قيل: للإلصاق. وقيل: بمعنى على، إذا الأصل أن تتعدى بعلى، كما قال مالك: * (لا تأمنا على يوسف) * وقال: * (هل
امنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه) * وقيل: بمعنى في أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار. والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل، فيدخل أكثر من القنطار وأقل. وفي الدينار أقل منه.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلا في دينار فما زاد، ولم يعن بذكر الخائنين في: أقل، إذ هم طغام حثالة. انتهى.
ومعنى: * (إلا ما دمت عليه قائما) * قال قتادة، ومجاهد، والزجاج، والفراء، وابن قتيبة: متقاضيا بأنواع التقاضي من: الخفر، والمرافعة إلى الحكام، فليس المراد هيئة القيام، إنما هو من قيام المرء على أشغاله: أي اجتهاده فيها.
وقال السدي وغيره: قائما على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر، لأن معنى ذلك الخفر، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله. وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء، وانتزعوا من الآية جواز السجن، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن. وقيل: قائما بوجهك فيها بك ويستحي منك. وقيل: معنى: دمت عليه قائما، أي: مستعليا، فإن استلان جانبك لم يؤد إليك أمانتك.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وابن
524

أبي ليلى، والفياض بن غزوان، وطلحة، وغيرهم: دمت بكسر الدال، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه.
و: ما، في: ما دمت، مصدرية ظرفية. و: دمت، ناقصة فخبرها: قائما، وأجاز أبو البقاء أن تكون: ما، مصدرية فقط لا ظرفية، فتتقدر بمصدر، وذلك المصدر ينتصب على الحال، فيكون ذلك استثناء من الأحوال لا من الأزمان. قال: والتقدير: إلا في حال ملازمتك له. فعلى هذا يكون: قائما، منصوبا على الحال، لا خبرا لدام، لأن شرط نقص: دام، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية.
* (ذالك بأنهم قالوا ليس علينا فى الاميين سبيل) * روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال. العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية مانعة من ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي، إلا الأمانة فإنها مؤادة إلى البر والفاجر. (والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده، أي: كونهم لا يؤدون الأمانة كان بسبب قولهم.
والضمير في: بأنهم، قيل: عائد على اليهود وقيل: عائد على لفيف بني إسرائيل. والأظهر أنه عائد على: من، في قوله: * (من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك) * وجمع حملا على المعنى، أي: ترك الأداء في الدينا فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن: * (ليس علينا فى الاميين) * وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب، وهم العرب. وتقدم كونهم سموا أميين في سورة البقرة.
والسبيل، قيل: العتاب والذم وقيل: الحجة على، نحو قول حميد بن ثور:
* وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة
*
من السرح موجود علي طريق
وقوله: فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل: السبيل هنا الفعل المؤدي إلى الإثم. والمعنى: ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأميين.
*
قال: وسبب استباحتهم لأموال الأميين أنهم عندهم مشركون، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي صلى الله عليه وسلم) وقيل: لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم، فصاروا كالمحاربين، فاستحلوا أموالهم وقيل: لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم.
وقال الكلبي: قالت اليهود: الأموال كلها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وأنهم ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة، أن رجلا قال لابن عباس: أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة: الشاة والدجاجة، ويقولون: ليس علينا بذلك بأس، فقال له: هذا كما قال أهل الكتاب: * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * أنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم. وذكر هذا الأثر الزمخشري، وابن عطية، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة، قال: فيقولون ماذا قال؟ يقول: ليس علينا في ذلك بأس.
* (ويقولون على الله الكذب) * أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم أن ذلك في كتابهم. قال السدي، وابن جريج، وغيرهما: ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالا لهم أموال الأميين كذبا منها وهي عالمة بكذبها، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل. والظاهر أنه أعم من هذا، فيندرج هذا
525

فيه، أي: هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.
وجوزوا أن يكون: علينا، خبر: ليس، وأن يكون الخبر: في الأميين، وذهب قوم إلى عمل: ليس، في الجار، فيجوز على هذا أن يتعلق بها.
قيل: ويجوز أن يرتفع: سبيل، بعلينا، وفي: ليس، ضمير الأمر، ويتعلق: على الله، بيقولون بمعنى: يفترون.
قيل: ويجوز أن يكون حالا من الكذب مقدما عليه ولا يتعلق بالكذب.
قيل: لأن الصلة لا تتقدم على الموصول.
* (وهم يعلمون) * جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب، أي: إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل، إنما هو عن علم.
* (بلى) * جواب لقولهم: * (ليس علينا فى الاميين سبيل) * وهذا مناقض لدعواهم، والمعنى: بلى عليهم في الأميين سبيل، وقد تقدم القول في: بلى، في قوله * (بلى من كسب سيئة) * فأغنى عن إعادته هنا.
* (من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين) * أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى الله في نقضه فهو محبوب عند الله وقال ابن عباس: اتقى هنا معناه اتقى الشرك، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى، و: من، يحتمل أن تكون موصولة، والأظهر أنها شرطية، و: أوفى، لغة الحجاز و: وفى، خفيفة لغة نجد و: وفى، مشددة لغة أيضا. وتقدم ذكر هذه اللغات.
والظاهر في: بعهده، أن الضمير عائد على: من وقيل: يعود على الله تعالى، ويدخل في الوفاء بالعهد، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم)، سواء أضيف العهد إلى: من، أو: إلى الله، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين، أو ما قبله، فرد من أفراده، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفا لدلالة المعنى عليه، التقدير: يحبه الله، ثم قال * (فإن الله يحب المتقين) * وأتى بلفظ: المتقين، عاما تشريفا للتقوى وحظا عليها.
* (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * نزلت في أحبار اليهود: أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قاله عكرمة. أو: فيمن حرف نعته صلى الله عليه وسلم) من اليهود، قاله الحسن. أو: في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي، أو مع بعض قرابته. أو: في رجل حلف على سلعة مساء لأعطي بها أول النهار كذا، يمينا كاذبة، قاله مجاهد، والشعبي.
والإضافة في * (بعهد الله) * إما للفاعل وإما للمفعول، أي: بعهد الله إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدقا لما معهم، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه، أو بعهد الله. والاشتراء هنا مجاز، والثمن القليل: متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها.
* (أولائك * ليس لهم فى الاخرة) * أي: لا نصيب لهم في الآخرة، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي، ونعني: لا نصيب له من الخير، نفي نصيب الخير عنه.
* (ولا يكلمهم الله) * قال الطبري: أي بما يسرهم وقال غيره: لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة، قاله الزجاج. وقال قوم: هو عبارة عن الغضب، أي: لا يحفل بهم، ولا يرضى عنهم، وقاله ابن بحر. وقد تقدم في البقرة شرح: * (ولا يكلمهم الله) *.
* (ولا ينظر إليهم يوم القيامة) * قال الزمخشري: ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم، تقول: فلان لا ينظر إلى فلان، يريد نفي اعتداده به، واحسانه إليه.
فإن قلت أي فرق بين استعماله
526

فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه.
قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان، وإن لم يكن ثم نظر، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. انتهى كلامه. وقال غيره: ولا ينظر أي: لا يرحم قال:
* فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم
*
لذي غلة صديان قد شفه الوجد
*
* (ولا يزكيهم) * ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم، فهي تنمية لهم، أو لا يطهرهم من الذنوب. أقوال ثلاثة، وتقدم شرحه في البقرة.
* (ولهم عذاب أليم) * تقدم شرحه أيضا.
* (وإن منهم لفريقا) * أي: من اليهود، قاله الحسن: أو: من أهل الكتابين، قاله ابن عباس. وعن ابن عباس أيضا: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة. وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم.
* (يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب) * أي: يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف، قاله الزمخشري وقال ابن عطية: يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها، ومثال ذلك قولهم: راعنا، وأسمع غير مسمع، ونحو ذلك وليس التبديل المحض. انتهى.
والذي يظهر أن اللي وقع بالكتاب أي: بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ، والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة
علم يقينا أن التبديل في الألفاظ والمعاني، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند الله، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الإخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم. وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها، فضلا عن منصب النبوة.
وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي، رحمه الله تعالى، كتابا في (السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه) ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها، هذا مع خلوها من ذكر: الآخرة، والبعث، والحشر، والنشر، والعذاب والنعيم الأخرويين، والتبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وأين هذا من قوله تعالى * (الذين يتبعون الرسول النبى الامى الذى يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم) * وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته. * (ذلك مثلهم فى التوراة) *.
وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة، قال تعالى: * (قل من أنزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) * وقال تعالى * (يصنعون يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب) * فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل.
وقرأ الجمهور: يلوون، مضارع: لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح، وأبو حاتم عن نافع: يلوون بالتشديد، مضارع: لوى، مشددا. ونسبها الزمخشري لأهل المدينة، والتضعيف للمبالغة والتكتير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد: يلون، بضم اللام، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد، وابن كثير، ووجهت على أن الأصل: يلوون، ثم أبدلت الواو همزة، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها، وحذفت هي.
والكتاب: هنا التوراة، والمخاطب في:
527

لتحسبوه، المسلمون وقرئ: ليحسبوه، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم، أي: ليحسبه المسلمون، والضمير المفعول في: ليحسبوه، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب.
ويحتمل أن يكون قوله: بالكتاب، على حذف مضاف أي: يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف، كقوله تعالى: * (أو كظلمات فى بحر لجى يغشاه) * أي: أو كذي ظلمات، فأعاد المفعول في: يغشاه، على: ذي، المحذوف.
* (وما هو من الكتاب) * أي: وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة.
* (ويقولون هو من عند الله) * تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب، وافتراء عظيم على الله، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون، ولا يودون في ذلك، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا، وقد أنزله الله على موسى كذلك، وذلك لفرط جرأتهم على الله ويأسهم من الآخرة.
* (وما هو من عند الله) * رد عليهم في إخبارهم بالكذب، وهذا تأكيد لقوله * (وما هو من الكتاب) * نفي أولا أخص، إذ التعليل كان لأخص، ونفي هنا أعم، لأن الدعوى منهم كانت الأعم، لأن كونه من عند الله أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها.
قال أبو بكر الرازي: هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى الله تعالى نفيا عاما لكون المعاصي من عنده. انتهى. وهذا مذهب المعتزلة، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم.
وقال ابن عطية * (وما هو من عند الله) * نفي أن يكون منزلا كما ادعوا، وهو من عند الله بالخلق والاختراع والإيجاد، ومنهم بالتكسب. ولم تعن الآية إلا معنى التنزيل، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله: * (وما هو من عند الله) *.
* (ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * تقدم تفسير مثل هذا آنفا.
* (ما كان لبشر أن * يأتيه * الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لى من دون الله) * روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى الله عليه وسلم)، حين اجتمت الأحبار من يهود، والوفد من نصارى نجران: يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران: أو ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم): (معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت)، فنزلت.
وقيل: قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: (لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله).
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله: * (ما كان لبشر) * فقال ابن عباس، والربيع، وابن جريج، وجماعة: الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم)، وذكروا سبب النزول المذكور.
وقال النقاش، وغيره: الإشارة إلى عيسى، والآية رادة على النصارى الذين قالوا: عيسى إله، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره، ومعنى * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله) * وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون، والمراد نفي الخبر، وذلك على قسمين.
أحدهما: أن يكون الانتفاء من حيث العقل، ويعبر عنه بالنفي التام، ومثاله قوله: * (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) * * (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) *.
والثاني: أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء، ويعبر عنه بالنفي غير التام، ومثاله قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم أن يصلى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه، وهذه الآية من القسم الأول، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكذبة والمدعين النبوة، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام.
والكتاب: هنا اسم جنس، والحكم: قيل بمعنى الحكمة، ومنه: (إن من الشعر لحكما). وقيل: الحكم هنا السنة، يعنون لمقابلته الكتاب، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس، وهذا من باب الترقي، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوة وهي مجمع الخير، ثم يقول للناس.
أتى بلفظ: ثم، التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى، أي: إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم.
* (كونوا عبادا لى من دون
528

الله) * عبادا جمع عبد. قال ابن عطية: ومن جموعه: عبيد وعبدي. قال بعض اللغويين: هذه الجموع كلها بمعنى. وقال قوم: العباد لله والعبيد للبشر. وقال قوم: العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد، كأنه مبالغة تقتضى الاستغراق في العبودية.
والذي استقرئت في لفظة: العباد، أنه جمع عبد، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى: * (والله رءوف بالعباد) * * (وعباد * مكرمون) * * (قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم) * وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض * (إن تعذبهم فإنهم عبادك) *.
وأما: العبيد، فيستعمل في التحقير، ومنه قول امرئ القيس:
* قولا لدودان عبيد العصا
*
ما غركم بالأسد الباسل
*
ومنه قول حمزة بن عبد المطلب: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، ومنه * (وما ربك بظلام للعبيد) * لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة، لم يقع هنا، ولذلك أنس بها في قوله: * (قل ياأهل * عبادى * الذين أسرفوا على أنفسهم) * فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة، ومعنى قوله: * (كونوا عبادا لى من دون الله) * اعبدوني واجعلوني إلها. انتهى كلام ابن عطية. وفيه بعض مناقشة.
أما قوله: ومن جموعه: عبيد وعبدي، أما عبيد فالأصح أنه جمع. وقيل: اسم جمع، و: أما عبدبي فاسم جمع، وألفاء للتأنيث. وأما ما استقرأه أن عبادا يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد، وقوله: وأما العبيد فيستعمل في تحقير، وأنشد بيت أمرىء القيس، وقول حمزة وقوله تعالى * (بظلام للعبيد) * فليس باستقراء صحيح، وإنما كثر استعمال: عباد، دون: عبيد، لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد، وجمع فعل على فعيل لا يطرد.
قال سيبويه: وربما جاء فعيلا وهو قليل، نحو: الكليب والعبيد. انتهى.
فلما كان فعال هو المقيس في جمع: عبد، جاء: عباد، كثيرا. وأما * (وما ربك بظلام للعبيد) * فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيسا أنه جاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله * (أولئك ينادون من مكان بعيد) * وبعده * (قالوا ءاذناك ما منا من شهيد) * فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين، ونظير هذا قوله في سورة ق: * (وما أنا بظلام للعبيد) * لأن قبله * (قال لا تختصموا لدى قدمت إليكم بالوعيد) * وبعده * (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) * وأما مدلوله فمدلول: عباد، سواء.
وأما بيت امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ: عبيد، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين.
وقرأ الجمهور: ثم يقول، بالنصب عطفا على: أن يؤتيه، وقرأ شبل عن ابن كثير، ومحبوب عن أبي عمرو: بالرفع على القطع أي: ثم هو يقول. وقرأ الجمهور: عبادا لي، بتسكين ياء الإضافة. وقرأ عيسى بن عمر: بفتحها.
* (ولاكن كونوا) * هذا على إضمار القول تقديره: ولكن يقول كونوا ربانيين، والرباني الحكيم العالم، قاله قتادة، وأبو رزين. أو: الفقيه، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد. أو: العالم الحليم، قاله قتادة وغيره. أو: الحكيم الفقيه، قاله ابن عباس. أو: الفقيه العالم، قاله الحسن، والضحاك. أو: والي الأمر يربيهم
ويصلحهم، قاله ابن زيد.
529

أو: الحكيم التقي، قاله ابن جبير. أو: المعلم، قاله الزجاج. أو: العالم، قاله المبرد. أو: التائب لربه، قاله المؤرج. أو: الشديد التمسك بدين الله وطاعته، قاله الزمخشري. أو: العالم الحكيم الناصح لله في خلقه، قاله عطاء. أو: العالم العامل بعلمه، قاله ابن جبير. أو: العالم المعلم، قاله بعضهم. وهذه أقوال متقاربة.
وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه، وقال مجاهد: الرباني فوق الحبر، لأن الحبر هو العالم، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم. وفي البخاري: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
قال ابن عطية: فجملة ما يقال في الرباني: إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى. ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الآمة.
* (ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) * الباء للسبب، و: ما، الظاهر أنها مصدرية، و: تعلمون، متعد لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤوا بالتخفيف مضارع علم، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة، فيتعدى إلى اثنين، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد، وأول المفعولين محذوف تقديره: تعلمون الناس الكتاب. وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى، وقد تقدم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح، لأنها كلها منقولة متواترة قرآنا، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى.
وقرأ مجاهد، والحسن: تعلمون، بفتح التاء والعين واللام المشددة، وهو مضارع حذفت منه التاء، التقدير: تتعلمون، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما.
وقرأ أبو حيوة: تدرسون بكسر الراء. وروي عنه: تدرسون، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي: تدرسون غيركم العلم، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية. وقرئ: تدرسون، منن أدرس بمعنى درس نحو: أكرم وكرم، و: أنزل نزل، وقال الزمخشري: أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم والدراسة، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها، ثم قال أيضا، بعد أسطر: وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من الله في شيء، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته. انتهى كلامه. وفيه دسيسة الاعتزال، وهو أنه: لا يكون مؤمنا عالما إلا بالعمل، وأن العمل شرط في صحة الإيمان.
2 (* (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) *)) 2
* (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا) * قرأ الحرميان، والنحويان، والأعشى والبرجمي: برفع الراء على القطع، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على الله، قاله سيبويه، والزجاج. وقال ابن جريج: عائد على: بشر، الموصوف بما سبق، وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، والمعنى على هذه القراءة: أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه ربا فيعبد، ولا هو أيضا يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أربابا، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره. وإن كان الضمير عائدا على الله فيكون إخبارا من الله أنه لم يأمر بذلك، فانتفى أمر الله بذلك، وأمر أنبيائه.
وقرأ عاصم وابن عامر، وحمزة ولا يأمركم، بنصب الراء، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى: ولا له أن يأمركم، فقدروا: أن، مضمرة بعد: لا، وتكون: لا، مؤكدة معنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام. وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، فلا للتوكيد في النفي السابق، وصار المعنى: ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام.
وقال الطبري قوله: ولا يأمركم، بالنصب معطوف على
530

قوله: ثم يقول: قال ابن عطية: وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى. انتهى كلامه. ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفا على: ثم يقول، وكانت لا لتأسيس النفي، فلا يمكن إلا أن يقدر العامل قبل: لا، وهو: أن، فينسبك من: ان، والفعل المنفي مصدر منتف فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له الثبوت، فصار آمرا باتخاذهم أربابا وهو خطأ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحبا على المصدرين المقدر ثبوتهما، فينتفي قوله: * (كونوا عبادا لى) * وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا، ويوضح هذا المعنى وضع: غير، موضع: لا، فإذا قلت: ما لزيد فقه ولا نحو، كانت: لا، لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت: لا، لتأسيس النفي كانت بمعنى: غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له، إذ لو قلت: ما لزيد فقه وغير نحو، كان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ماله غير نحو. ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زاد، كان المعنى: جئت بغير زاد، وإذا قلت: ما جئت بغير زاد، معناه: أنك جئت بزاد؟ لأن: لا، هنا لتأسيس النفي، وأن يكون من عطف المنفي بلا على الثبت الداخل عليه النفي، نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم.
وأجاز الزمخشري أن أن تكون: لا، لتأسيس النفي، فذكر أولا كونها زائدة لتأكيد معنى النفي، ثم قال: والثاني أن يجعل: لا، غير مزيده، والمعنى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربا، قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء.
قال: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، وينصرها قراءة عبد الله: ولن يأمركم، انتهى كلام الزمخشري.
* (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر، ومعناه: أنه لا يأمر بكفر لا بعد الإسلام ولا قبله، سواء كان الآمر الله أم الذي استنبأه الله.
وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أربابا ثم الصابئة وعبدة الأوثان، والذين اتخذوا النبيين أربابا هم اليهود والنصارى والمجوس، ومع هذا الاختلاف سمى الله الجميع: كفرا. و: بعد، ينتصب بالكفر، أو: بيأمركم، وإذ، مضافة للجملة الإسمية كقوله: * (واذكروا إذ أنتم قليل) * وأضيف إليها: بعد، ولا يضاف إليها إلا ظرف زمان.
(* (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جآءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) *))
) *
* (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه) * مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى: لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم، وكان مما ذكر أخيرا اشتراءهم بآيات الله ثمنا قليلا، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة، وإن منهم من بدل في كتابه وغير، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم) ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره، بل تفرد بالله تعالى بالعبادة، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوته ودينه، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم)، والتصديق له، والقيام بنصرته، وإقرارهم بذلك، وشهادتهم على أنفسهم،
531

وشهادته تعالى عليهم بذلك، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم.
وقرأ أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، بدل: النبيين، وكذا هو في مصحفيهما. وروي عن مجاهد أنه قال: هكذا هو القرآن، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ: النبيين كعبد الله بن كثير وغيره، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان.
والخطاب بقوله: وإذ أخذ، يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم)، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك، وعلى هذين التقديرين يكون العامل: أذكر، أو: أذكروا، ويجوز أن يكون العامل في: إذ، قال من قوله: * (قال ءأقررتم) * وهو حسن، إذ لا تكلف فيه.
قيل: ويجوز أن يكون معطوفا على ما تقدم من لفظ إذ، والعامل فيها: اصطفى، وهذا بعيد جدا.
وظاهر الكلام يدل على أن الله هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن علي، وابن عباس، وطاووس، والحسن، والسدي: أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم، أخذ عليهم أن يصدق بعضهم بعضا، وأن ينصر بعضهم بعضا، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه. وينبو عن هذا المعنى لفظ: * (ثم جاءكم رسول) * إلى آخر الكلام.
وقال ابن عباس أيضا فيما روى عنه: أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم) ونصره، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء، ويدل عليه قول علي كرم الله وجهه: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم)، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه. وروي عن ابن عباس أيضا: أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم). وعلى هذين القولين يكون قوله: * (ثم جاءكم رسول) * عني به واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم)، ولا يكون جنسا. ويبعد قول ابن عباس: أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر.
قرأ حمزة: لما آتيناكم، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة. و: ميثاق، مضاف إلى النبيين، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله: * (ما كان لبشر أن يؤتيه الله) * الآية وما بعدها من قوله: * (ومن * يبتغ غير الإسلام دينا) * أن المراد بقوله * (ثم جاءكم رسول) * هو محمد صلى الله عليه وسلم)، ولذلك جاء مصدقا لما معكم. وكثيرا ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم)، ألا ترى إلى قوله * (ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق) *؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي: وإذ أخذ الله ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب، أو ميثاق أولاد النبيين، فيوافق صدر الآية ما بعدها، وجعل ذلك ميثاقا للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدرا بعد النبيين، التقدير: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم. ويبين هذا التأويل قراءة أبي، وعبد الله: ميثاق الذين أوتوا الكتاب، ويبين أيضا أن الميثاق كان على الأمم قوله: * (فمن تولى بعد ذالك فأولئك هم الفاسقون) * ومحال هذا الفرض في حق النبيين، وإنما ذلك في حق الأتباع.
وقرأ جمهور السبعة: لما، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة: لما، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير، والحسن: لما، بتشديد الميم.
فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال.
أحدهما: أن: ما، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها، واللام قبلها موطئة لمجيء: ما، بعدها جوابا باللقسم، وهو أخذ الله ميثاق. و: من، في قوله: من
كتاب، كهي، في قوله: * (ما ننسخ من ءاية) * والفعل بعد: ما، ماض معناه الاستقبال لتقدم، ما، الشرطية عليه. وقوله: ثم جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، فهو في حيز الشرط، ويلزم أن يكون في قوله: ثم جاءكم، رابط يربطها بما عطفت عليه، لأن: جاءكم، معطوف على الفعل بعد: ما، و: لتؤمنن به، جواب لقوله * (أخذ الله ميثاق النبيين) * ونظيره من الكلام في التركيب: أقسم لأيهم صحبت، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي. فلأحسنن جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة
532

جواب القسم عليه، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، والضمير في: به، عائد على: رسول، وهذا القول، وهو أن: ما، شرطية هو قول الكسائي.
وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه: ما، ههنا بمنزلة: الذي، ودخلت اللام كما دخلت على: إن، حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام في: ما، كهذه التي في: أن، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه: ومثل ذلك * (لمن تبعك منهم لاملان جهنم) * إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى.
وقال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: بمنزلة الذي أنها موصولة، بل أنها اسم، كما أن الذي اسم وأقر أن تكون حرفا كما جاءت حرفا: * (وإن كلا لما ليوفينهم) * وفي قوله: * (وإن كل ذلك لما متاع) * انتهى. وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن: ما، في: لما أتيتكم، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء: كالمازني، والزجاج، وأبي علي، والزمخشري، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدا، وهو أنه: إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفا لدلالة جواب القسم عليه، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت، ومتعلقاته متعلقاته، فإذا قلت: والله لمن جاءني لأكرمنه، فجواب: من، محذوف، التقدير: من جاءني أكرمه. وفي الآية اسم الشرط: ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم، وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير: ما، المقدر، فجواب: ما، المقدر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك، لأنه تعد. والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلا إذا كان من جنس جواب القسم؟ ألا ترى أنك لو قلت: والله لئن ضربني زيد لأضربنه؟ فكيف تقدره: إن ضربني زيد أضربه؟ ولا يجوز أن يكون التقدير: والله إن ضربني زيد أشكه لأضربنه، لأن: لأضربنه، لا يدل على: أشكه، فهذا ما يرد على قول من خرج: ما، على أنها شرطية.
وأما قول الزمخشري: ولتؤمنن، ساد مسد جواب القسم، والشرط جميعا فقول ظاهره مخالف لقول من جعل: ما، شرطية، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، اللهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما، فيمكن أن يقال؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح، لأن كلا منهما، أعني: الشرط والقسم، يطلب جوابا على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولا عليهما، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه، فيكون في موضع جزم، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه، فلا موضع له من الإعراب. ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب.
والقول الثاني: قاله أبو علي الفارسي وغيره، وهو: أن تكون: ما، موصولة مبتدأة، وصلتها: آتيناكم، والعائد محذوف تقديره: آتيناكموه، و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره: ثم جاءكم رسول به، فحذف لدلالة المعنى عليه، هكذا خرجوه، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه، وخرجوه على مذهب الأخفش: أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله: لما معكم، لأنه هو الموصول، فكأنه قيل: ثم جاءكم رسول مصدق له، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير، إلا أنه قليل: روي من كلامهم: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، يريدون: رويت عنه وقال:
* فيا رب ليلى أنت في كل موطن
*
وأنت الذي في رحمة الله أطمع
*
يريد في رحمته أطمع.
وخبر المبتدأ، الذي هو: ما، الجملة من القسم المحذوف وجوابه، وهو: لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على الموصول المبتدأ، ولا يعود على: رسول، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبرا عن المبتدأ من رابط يربطها به،
533

والجملة الابتدائية التي هي: لما آتيناكم، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم، وهو قوله: * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين) *.
والقول الثالث: قاله بعض أهل العلم، وهو: أن تكون: ما، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم، التقدير: لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة، قال: إلا أنه حذف: لتبلغن، لدلالة عليه، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف، ثم قال تعالى: * (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * وهو محمد صلى الله عليه وسلم) * (لتؤمنن به ولتنصرنه) * وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، انتهى. ويعني: يكون: لتؤمنن به، جواب قسم محذوف، وهذا بعيد جدا لا يحفظ من كلامهم، والله لزيدا تريد ليضربن زيدا.
والقول الرابع: قاله ابن أبي إسحاق، وهو: أن يكون: لما، تخفيف لما، والتقدير: حين آتيناكم، ويأتي توجيه قراءة التشديد.
وأما توجيه قراءة حمزة: فاللام هي للتعليل، و: ما، موصولة: بآتيناكم، والعائد محذوف. و: ثم جاءكم، معطوف على الصلة، والرابط لها بالموصول إما إضمار: به، على ما نسب إلى سيبويه، وإما هذا الظاهر الذي هو: لما معكم، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن.
وقول الزمخشري: فجواب: أخذ الله ميثاق النبيين هو لتؤمنن به، والضمير في: به، عائد على رسول، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، لو قلت: أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه، جاز. وأجاز الزمخشري، في قراءة حمزة، أن تكون: ما، مصدرية، وبدأ به في توجيه هذه القراءة، قال: ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به، على أن: ما، مصدرية، والفعلان معها أعني: آتيناكم وجاءكم، في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل على معنى: أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى كلامه. إلا أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره، وهذا التقدير الذي قدره، أنه تعليل للفعل المقسم عليه، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلا لأخذ الميثاق لا لمتعلقة، وهو الإيمان. فاللام متعلقة بأخذ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. تقول: والله لأضربن زيدا، فلا يجوز: والله زيدا لأضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في: لما، بقوله: لتؤمنن به.
وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب، إذا كان ظرفا أو مجرورا، تقدمه، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق، وقوله تعالى: * (عما قليل ليصبحن نادمين) * فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله: لتؤمنن به، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو.
وذكر السجاوندي، عن صاحب النظم: أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى: بعد، كقول النابغة:
* توهمت آيات لها فعرفتها
*
لستة أعوام وذا العام سابع
*
فعلى ذا لا تكون اللام في: لما، للتعليل.
وأما توجيه قراءة سعيد بن جبير، والحسن: لما، فقال أبو إسحاق: أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق، وتكون: لما، تؤول إلى الجزاء كما تقول: لما جئتني أكرمتك. انتهى كلامه.
قال ابن عطية: ويظهر أن: لما، هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق، إذ على القادة يؤخذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة.
وقال الزمخشري: لما، بالتشديد بمعنى: حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته. انتهى. فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن: لما
534

ظرفية، واختلفا في تقدير الجواب العامل في: لما، على زعمهما. فقدره ابن عطية من القسم، وقدره الزمخشري من جواب القسم، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في: لما، المقتضية جوابا، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب، وليست ظرفية بمعنى: حين، ولا بمعنى غيره، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي.
وقد تكلمنا على ذلك كلاما مشبعا في كتاب (التكميل لشرح التسهيل) وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه.
وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها: لمن ما، وزيدت: من، في الواجب على مذهب الأخفش، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا، فجاء: لمما، فثقل اجتماع ثلاث ميمات، فحذفت الميم الأولى فبقي: لما.
قال ابن عطية: وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير: لما، بفتح الميم مخففة، وقد تقدم. انتهى.
وظاهر كلامه أن: من، في قوله: لمن ما، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة: لما، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد، فقال: وقيل أصله: لمن ما، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي: الميمان والنون المنقلبة ميما بإدغامها في الميم، فحذفوا إحداها، فصارت: لما، ومعناه: لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى. انتهى كلامه. وهو مخالف لكلام ابن جني في: من، المقدر دخولها على: ما، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة، لأنه جعلها للتعليل.
وفي قول الزمخشري: فحذفوا إحداهما، إبهام في المحذوف، وقد عينها ابن جني: بأن المحذوفة هي الأولى، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله، فكيف كلام الله تعالى؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب. ويلزم في: لما، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في: لمن ما آتيناكم، زائدة، ولا تكون اللام الموطئة، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر، لو قلت: أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمرا، لم
يجز، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جوابا للشرط للقسم، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفا لدلالة جواب القسم عليه.
وقرأ نافع: آتيناكم، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع، وقرأ الجمهور: آتيتكم، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده، إذ تقدمه * (وإذ أخذ الله) * وجاء بعده * (إصرى) *.
وقرأ عبد الله: رسول مصدقا، نصبه على الحال، وهو جائز من النكرة، وإن تقدمت النكرة. وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى، لأن المعني به محمد صلى الله عليه وسلم) على قول الجمهور، وقوله: لما آتيتكم، إن أريد جميع الأنبياء، وهو ظاهر اللفظ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه، ويكون التعميم في الأنبياء مجازا، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعيا إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء، ويكون التعميم حقيقة. وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز، وهو: أممهم، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هاديا لهم وداعيا.
* (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم) * أي: ثم جاء في زمانكم. ومعنى التصديق كونه موافقا في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول: رسول، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الانقياد لأمر الله، وفي قوله: * (مصدق لما معكم) * دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء، فهذان الوجهان محتملان، وأوجب الإيمان أولا، والنصرة ثانيا، وهو ترتيب ظاهر.
* (قال ءأقررتم وأخذتم على ذالكم إصرى) * ظاهره أن الضمير في: قال، عائد على الله تعالى، وفي: أقررتم، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف، أهو على ظاهره؟ أم هو على حذف مضاف؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له.
قيل: ويحتمل أن يكون الضمير في: قال، على كل فرد فرد من النبين، أي: قال كل نبي لأمته: أأقررتم، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم، بل طالبوهم بالإقرار بالقول.
ويكون: إصري، على الظاهر مضافا إلى الله تعالى، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافا إلى النبي والإصر: العهد لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. وقرئ بضم الهمزة، وهي مروية
535

عن أبي بكر عن عاصم، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في: اصر، كما قالوا: اناقة أسفار عبر، وعبر أسفار، وهي المعدة للأسفار. ويحتمل أن يكون جمعا لإصار، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا: القبول.
* (قالوا أقررنا) * معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته، وقبلنا ذلك والتزمناه. وثم جملة محذوفة أي: أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها.
* (قال فاشهدوا) * الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق: فاشهدوا، ومعناه من الشهادة أي: ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر، قاله مقاتل. وقيل: فاشهدوا هو خطاب لملائكة، قاله ابن المسيب. وقيل: معنى: فاشهدوا، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به، وأصله: أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى، قاله الزجاج، ويكون: اشهدوا، بمعنى: أدوا، لا يمعنى: تحملوا. وقيل: معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له، قاله ابن عباس. وقيل: فاشهدوا، خطاب للأنبياء إذا قلنا: إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم، وروي هذا عن علي بن أبي طالب.
وعلى القول: بأن المعنى في: قال أأقررتم، أي: قال كل نبي، يكون المعنى على بكل نبي لأمته فاشهدوا، أي: ليشهد بعضكم على بعض. وقوله: فاشهدوا، معطوف على محذوف التقدير، قال: أأقرتم فاشهدوا، فالفاء دخلت للعطف. ونظير ذلك قوله: ألقيت زيدا؟ قال: فأحسن إليه. التقدير: لقيت زيدا فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء، ألا ترى قال: أأقررتم، وقوله: قالوا أقررنا؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء.
* (وأنا معكم من الشاهدين) * يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد، ويحتمل أن يكون جملة حالية
2 (* (فمن تولى بعد ذالك فأولائك هم الفاسقون) *)) 2
* (فمن تولى بعد ذالك فأولئك هم الفاسقون) * أي: من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد، قاله علي بن أبي طالب وغيره. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق، على أن قوله تعالى: فاشهدوا، أمر بالأداء.
و: من، الظاهر أنها شرط، والجملة من: فأولئك وما بعده جزاء، ويحتمل أن تكون موصولة، وأعاد الضمير في: تولى، مفردا على لفظ: من وجمع في: فأولئك، حملا على المعنى، وهذه: ذلك الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع الأنبياء، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك، وهذا الحكم لا يليق إلا بأمم الأنبياء، وأيضا فالأنبياء، عليهم السلام، كانوا أمواتا عند مبعثه صلى الله عليه وسلم)، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم.
وذكروا في هذه الآية أنواعا من الفصاحة. منها: الطباق: في: بقنطار وبدينار، إذ أريد بهما القليل والكثير، وفي: يؤده ولا يؤده، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع، وهما ضدان، وفي قوله: بالكفر ومسلمون، والتجنيس المغاير في: اتقى والمتقين، وفي: فاشهدوا والشاهدين، والتجنيس المماثل في: ولا يأمركم أيأمركم، وفي: أقررتم وأقررنا. والإشارة في قوله: ذلك بأنهم، وفي أولئك لا خلاق لهم. والسؤال والجواب، وهو في: قال أأقررتم؟ ثم: قالوا أقررنا. والاختصاص في: يحب المتقين، وفي يوم القيامة، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال. والتكرار في: يؤده ولا يؤده، وفي اسم الله في مواضع، وفي: من الكتاب
وما هو من الكتاب. والاستعارة في: يشترون بعهد الله. والالتفات في: لما آتيتكم، وهو خطاب بعد قوله: النبيين، وهو لفظ غائب. والحذف في عدة مواضع تقدمت.
536

2 (* (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من فى السماوات والا رض طوعا وكرها وإليه يرجعون * قل ءامنا بالله ومآ أنزل علينا ومآ أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والا سباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الا خرة من الخاسرين * كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجآءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين * أولائك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون * إلا الذين تابوا من بعد ذالك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم * إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولائك هم الضآلون * إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الا رض ذهبا ولو افتدى به أولائك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين) *)) 2
الملء: مقدار ما يملأ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال: ملء القدح، وملآه، وثلاثة أملائه، وبفتح الميم المصدر، يقال: ملأت الشيء املأه ملأ، والملاءة التي تلبس، وهي الملحفة بضم الميم والهمز. وتقدمت هذه المادة في شرح: الملأ.
* (أفغير دين الله يبغون) * روي عن ابن عباس: اختصم أهل الكتاب فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم، فغضبوا. وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك. فنزلت هذه الآية.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهر جدا.
والهمزة في: أفغير؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض، وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق، ومعنى: تبغون، تطلبون، وهو هنا بمعنى: تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين الله لا طالبوه، وعبر بالطلب إشعارا بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه.
وقال الماتريدي: فإن قيل كل عاقل يبتغي دين الله ويدعي أن الذي هو عليه دين الله.
قيل: الجواب من وجهين.
أحدهما: أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين الله، إذ لو كان باغيا لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه، فكأنه ليس باغيا من حيث المعنى، ولكنه من حيث الصورة.
والثاني: أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات، ولكن أبى إلا العناد، فهو باغ غير دين الله، فتكون الآية في المعاندين. انتهى كلامه.
وقرأ أبو عمرو، وحفص، وعياش، ويعقوب، وسهل: يبغون، بالياء على الغيبة، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو، وعاصم بكماله. وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب، فالياء على نسق: هم الفاسقون، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام. والتقدير: فأغير؟ وجوز
537

هذا الوجه الزمخشري، وهو قول جميع النحاة قبله. قال: ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دين الله يبغون. انتهى. وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك، وأمعنا الكلام عليه في كتاب (التكميل) من تأليفنا.
وانتصب: غير، على أنه مفعول يبغون، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل، قاله الزمخشري. ولا تحقيق فيه، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع، وشبه: يبغون، بالفاصلة بآخر الفعل.
* (وله أسلم من فى * السماوات والارض * طوعا وكرها) * أسلم عند الجمهور: استسلم وانقاد، قال ابن عباس: أسلم طوعا بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه، وكرها عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام. وقال مجاهد: سجود ظل المؤمن طائعا وسجود ظل الكافر كاره. كما قال تعالى: * (ولله يسجد من فى * السماوات والارض * طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال) * وقال مجاهد أيضا، وأبو العالية، والشعبي: ما يقار معناه: أسلم أقر بالخالقية والعبودية، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة، فمن أشرك أسلم كرها. ومن أخلص أسلم طوعا. وقال الحسن: أسلم قوم طوعا وقوم خوف السيف. وقال مطر الوراق: أسلم من في السماوات طوعا وكذلك الأنصار، وبنو سليم، وعبد القيس، وأسلم سائر الناس كرها حذر القتال والسيف. وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان. وقال قتادة: الإسلام كرها هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه. وقال ابن عطية: ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك، وهذا غير موجود إلا في أفراد. انتهى. وقال عكرمة: طوعا باضطرار الحجة. وقال الزمخشري: طوعا بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه، وكرها و بالسيف، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل، وإدراك الغرق فرعون، والإشفاء على الموت * (فلما رأوا بأسنا قالوا ءامنا بالله وحده) *. انتهى. فلفق الزمخشري تفسير: طوعا، من قول عكرمة وتفسير قوله: وكرها، من قول مطر الوراق وقول قتادة. وقال الكلبي: طوعا بالولادة على الإسلام، وكرها بالسيف.
وقال ابن كيسان: المعنى: وله خضع من في السماوات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه، رضوا بذلك أو سخطوه؛ وهذا معنى قول الزجاج: إن الإسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في
السماوات، وخصوص من في الأرض.
والطوع هو الذي لا تكلف فيه، والكره ما فيه مشقة، فإسلام من في السماوات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة، وإسلام من في الأرض، من كان منهم معصوما كان طوعا، ومن كان غير معصوم كان كرها، بمعنى أنه في مشقة، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية، فلو لم يأت رسول من الله مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئا من التكاليف.
وهذه الأقوال لا تخرج: أسلم، فيها عن أن يحمل على الاستسلام، وعلى الاعتقاد، وعلى الإقرار باللسان، وعلى التزام الأحكام. وقد قيل بهذا كله.
والجملة من قوله: * (وله أسلم) * حالية. و: طوعا وكرها، مصدران في موضع الحال، أي: طائعين وكارهين. وقيل: هما مصدران على خلاف الصدر.
538

وقرأ الأعمش: كرها، بضم الكاف، والجمهور بفتحها.
* (وإليه يرجعون) * تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين الله، وتقدم معنى الرجوع إليه، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله: * (وله أسلم) * فيكون مشاركا له في الحالية، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون كلهم ومن إليه مرجعهم، فيجازيهم على أعمالهم. والمعنى: أن من كان بهاتين الصفتين لا يبتغي دينا غير دينه، ويحتمل أن يكون اسئتنافا وإخبارا بأنه تعالى إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم.
وقرأ حفص، وعباس، ويعقوب، وسهل: يرجعون، بالياء على الغيبة، فيحتخمل أن يكون عائدا على من أسلم، ويحتمل أن يكون عائدا على غير ضمير يبغون، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ: تبغون، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة. وقرأ الباقون: بالتاء، فإن عاد الضمير على من كان التفاتا، أو على ضمير: تبغون، كان التفاتا على قراءة من قرأ: يبغون، بالياء، أو يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب.
* (قل ءامنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والاسباط وما أوتى موسى وعيسى والنبيون) * هذه الآية موافقة لما في البقرة إلا في: قل، وفي: علينا، وفي: عيسى والنبيون، وقد تقدم شرح ما في البقرة فأغنى عن إعادته هنا، إلا ما وقع فيه الخلاف، فنقول: الظاهر في: قل، أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم)، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله: آمنا به، ويقوي أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيرا: ونحن له مسلمون. وأفرده بالخطاب بقوله: قل، لأنه تقدم ذكره في أخذ الميثاق في قوله: ثم جاءكم رسول، فعينه في هذا التكليف ليظهر فيه كونه مصدقا لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق. وقال: آمنا، تنبيها على أن هذا التكليف ليس من خواصه، بل هو لازم لكل المؤمنين. قال تعالى:، كل آمن بالله) * بعد قوله: * (*) * بعد قوله: * (الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل) *.
قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالا من الله لقدر نبيه وقال ابن عطية: المعنى قل يا محمد، أنت وأمتك: آمنا بالله، فيظهر من كلام ابن عطية أن ثم معطوفا حذف، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم) وأمته.
وأما تعدية أنزل، هنا: بعلى، وفي البقرة بإلى فقال ابن عطية: الإنزال على نبي الأمة إنزال عليها.
وقال الزمخشري: فإن قلت لم عدى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء، وفيما تقدم من مثلها بحرف الانتهاء؟.
قلت لوجود المعنيين جميعا، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر.
وقال الراغب: إنما قال هنا: على، لأن ذلك لما كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم)، وكان واصلا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص بالعلو أولى به، وهناك، لما كان خطابا للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى الله عليه وسلم)، كان لفظ: إلى، المختص بالإيصال أولى، ويجوز أن يقال: أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره، وأنزل إليه على ما خص به في نفسه. وإليه نهاية الإنزال، وعلى ذلك قال: * (أو لم * يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم) * وقال: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * خص هنا: بإلى، لما كان مخصوصا بالذكر الذي هو بيان المنزل، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب. انتهى كلامه.
وذكر الزمخشري أن: من قال هذا الفرق فقد تعسف، قال: ألا ترى إلى قوله: * (بما أنزل إليك) * * (وأنزلنا إليك الكتاب) * وإلى قوله: * (وقالت طائفة من أهل الكتاب ءامنوا) *؟ انتهى.
وأما إعادة لفظ: وما أوتي، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاما، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز، ولما كان الخطاب هنا خاصا اكتفى فيه بالإيجاز.
* (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) * الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى الله والتفويض إليه، وهو
539

مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد، وإسلام الوجه لله.
وقيل: المراد بالإسلام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم)، بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء.
قيل: وعن ابن عباس لما نزلت: * (إن الذين ءامنوا والذين هادوا والنصارى) * الآية أنزل الله بعدها: * (ومن يبتغ) * الآية. وهذا إشارة إلى نسخ * (إن الذين ءامنوا) *. وعن عكرمة: لما نزلت قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم): قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون، فقال الله له: حجهم يا محمد، وأنزل * (ولله على الناس حج البيت) * فحج المسلمون وقعد الكفار.
وقيل: نزلت في الحارث بن سويد، وستأتي قصته بعد هذا. وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه.
وانتصب: دينا على التمييز: لغير، لأن: غير، مبهمة، ففسرت بدين، كما أن مثلا مبهمة فتفسر أيضا. وهذا كقولهم: لنا غيرها إبلا وشاء، ومفعول: يبتغ هو: غير، وقيل: دينا، مفعول، و: غير، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتا وقيل: دينا، بدل من: غير، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام.
* (وهو فى الاخرة من الخاسرين) * الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام دينا عدم القبول والخسران، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة.
و: في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده، أي: وهو خاسر في الآخرة، أو: بإضمار أعني، أو: بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف، كهي في: الرجل، أو: به على أنها موصولة، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، وكل منقول، وقد تقدم لنا نظير.
* (كيف يهدى الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدى القوم الظالمين) * نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم)، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوته، قاله الحسن وروى عطية قريبا منه عن ابن عباس وقال مقاتل: في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري، فندم ورجع، ورواه أبو صالح عن ابن عباس، وذكر مجاهد، والسدي: أن الحارث كان يظهر الإسلام، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه، وقتل زيد بن قيس، وارتد ولحق بالمشركين، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم) عمر أن يقتله إن ظفر به، ففاته، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة، فنزلت إلى قوله: * (إلا الذين تابوا) * فكتب بها قومه، إليه فرجع تائبا.
ورواه عكرمة عن ابن عباس، ولم يسمه، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولا وقيل: لحق بالروم وقيل: ارتد الحارث في أحد عشر رجلا، وسمى منهم الزمخشري: طعمة بن أبيرق، والحارث بن سويد بن الصامت، ووحوح بن الأسلت، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر، وسمى منهم: أبا عامر الراهب، والحارث ووجوها.
وقال النقاش: نزلت في طعمة بن أبيرق. ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم. وقيل: هي في عامة المشركين وقال مجاهد: حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث: إنك والله ما علمت لصدوق، وإن رسول الله لأصدق منك، وإن الله تعالى لأصدق
540

الثلاثة. قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه.
كيف: سؤال عن الأحوال، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان، أي: كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدة الجرائم، كما قال صلى الله عليه وسلم): (كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها)؟.
وقال الزمخشري: كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم الله من تصميمهم على كفرهم؟ انتهى. وهذه نزعة اعتزالية، إذ ليس المعنى عنده: إن الله يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم، بل هما مخلوقان للعبد.
وقيل: الاستفهام هنا يراد به الجحد، والمعنى: ليس يهدي، ونظيره قول الشاعر:
* فهذي سيوف، يا صدي بن مالك
*
كثير، ولكن: أين بالسيف ضارب؟
*
وقول الآخر:
* كيف نومي على الفراش ولما
*
يشمل الشام غارة شعواء؟
*
والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق، وأبعد من زعم أن المعنى: لا يهديهم إلى الجنة إلا إن تجوز، فأطلق المسبب على السبب، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان، فيعود إلى القول الأول.
وشهدوا: ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا، وبه قال الحوفي، وابن عطية، ورده مكي وقال: لا يجوز عطف: شهدوا، على: كفروا، لفساد المعنى، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى، وكأنه توهم الترتيب، فلذلك فسد المعنى عنده وقال ابن عطية: المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر، و: الواو، لا ترتب، وأجاز قوم منهم: مكي، والزمخشري: أن يكون معطوفا على: ما في إيمانهم، من معنى الفعل، إذ المعنى: بعد أن آمنوا وشهدوا. وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون: الواو، للحال
لا للعطف، التقدير: كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا، والعامل فيه: كفروا.
والرسول هنا: محمد صلى الله عليه وسلم)، قاله الجمهور، وجوز أن يكون الرسول هنا بمعنى الرسالة، وفيه بعد.
والبينات: هي شواهد القرآن، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء.
* (والله لا يهدى القوم الظالمين) * أي: لا يخلق في قلوبهم الهداية. و: الظالمين، عام معناه الخصوص أي: لا يهدي من قضى عليه بأنه يموت على الكفر قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من الله، فتجيء الآية عامة تامة العموم. انتهى. وهذا المعنى الذي ذكره ينبو عنه لفظ الآية وقال الزمخشري: الظالمين، المعاندين الذين علم الله أن اللطف لا ينفعهم. انتهى. وتفسيره على طريقته الإعتزالية.
* (أولئك جزآؤهم أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين * خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون) * تقدم تفسير مثل هذه الجملة. وتوجيه قراءة الحسن: والناس أجمعون، في سورة البقرة، فأغنى عن إعادته، إلا أن هنا * (أولئك جزآؤهم) * أي: جزاء كفرهم، وهناك * (أولئك عليهم لعنة الله) *، لأن هناك جاء الإخبار عن من مات كافرا، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم، وهنا ليس كذلك، ألا ترى إلى سبب النزول؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله: * (إلا الذين تابوا من بعد ذالك) * وهو استثناء متصل، ولذلك قال * (من بعد ذالك) * أي: من بعد ذلك الكفر العظيم.
* (وأصلحوا) * أي: ما أفسدوا، أو: دخلوا في الصلاح، كما تقول: أمسى زيد أي: دخل في المساء وقيل: معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال، وتقدم تفسير هذه اللفظة في البقرة في قوله * (إلا الذين تابوا وأصلحوا
541

وبينوا) *.
* (فإن الله غفور رحيم) * غفور أي لكفرهم، رحيم لقبول توبتهم، وهما صيغتان مبالغة دالتان على سعة رحمته.
* (إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون) * نزلت في اليهود، كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم) بعد إيمانهم بنعته، قاله قتادة، والحسن وقيل: في اليهود كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم) بعد إيمانهم بصفاته، وإقرارهم أنها في التوراة، ثم ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى الله عليه وسلم) من الافتراء والبهت والسعي على الاسلام، قاله أبو العالية. أو: معنى: ثم ازدادوا كفرا، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به، فيدخل فيه اليهود والمرتدون، قاله مجاهد، وقال نحوه السدي وقيل: نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد، فإنهم قالوا: نقيم ببكة ونتربص بمحمد صلى الله عليه وسلم) ريب المنون، قاله الكلبي.
ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر، وهو بحسب متعلقاته، إذ الإيمان والكفر في التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات، فينسب ذلك إليهما على سبيل المجاز. وازدادوا افتعلوا من الزيادة، وانتصاب: كفرا، على التمييز المنقول من الفاعل، المعني: ثم ازداد كفرهم، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال.
ويحتمل قوله * (لن تقبل توبتهم) * وجهين:.
أحدهما: أنه تكون منهم توبة ولا تقبل، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر بعد إيمان وازداد كفرا، أم كان كافرا أول مرة. فاجتيج في ذلك إلى تخصيص، فقال الحسن، وقتادة، ومجاهد، والسدي: نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة قال النحاس: وهذا قول حسن، كقوله: * (وليست التوبة للذين يعملون السيئات) * الآية. وقال أبو العالية: لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم). وقال ابن عباس: لن تقبل توبتهم لأنها توبة غير خالصة، إذ هم مرتدون، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم وفي ضمائرهم الكفر وقال مجاهد: لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر وقيل: لن تقبل توبتهم التي تابوها قبل أن كفروا، لأن الكفر قد أحبطها. وقيل: لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر، وإنما تقبل إذا تابوا إلى الاسلام. وفاصل هذا التخصيص أنه تخصيص بالزمان، أو يوصف في التوبة.
والوجه الثاني: أن يكون المعنى: لا توبة لهم فتقبل، فنفى القبول، والمراد نفي التوبة فيكون من باب قوله.
على لا حب لا يهتدي لمناره
أي: لا منار له فيهتدي به، ويكون ذلك في قوم بأعيانهم، حتم الله عليهم بالكفر أي: ليست لهم توبة فهم لا محالة يموتون على الكفر. وقد أشار إلى هذا المعنى الزمخشري، وابن عطية.
ولم تدخل: الفاء، في: لن تقبل، هنا، ودخلت في: فلن تقبل، لأن الفاء مؤذنة بالاستحقاق بالوصف السابق، وهناك قال: وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد.
وقال الزمخشري: فإن قلت فحين كان معنى: * (لن تقبل توبتهم) * بمعنى الموت على الكفر فهلا جعل الموت على الكفر مسببا عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب، وركوب الرين، وجره إلى الموت على الكفر؟.
قلت لأنه: كم من مرتد ازداد الكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر؟.
فإن قلت: فأي فائدة في هذه الكناية: أعني: إن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة؟.
قلت الفائدة فيها جليلة، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار، وإبراز حالهم
542

في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال، وأشدها. ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة؟ انتهى كلامه.
وقرأ عكرمة: لن تقبل، بالنون، توبتهم، بالنصب، والضالون المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة، أو: الها لكون، من: ضل اللبن في الماء إذا صار هالكا. والواو في: وأولئك، للعطف إما على خبر إن، فتكون الجملة في موضع رفع، وإما على الجملة من: إن ومطلوبيها، فلا يكون لها موضع من الأعراب.
وذكر الراغب قولا: إن الواو في: وأولئك، واو الحال، والمعنى: لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان. انتهى هذا القول. وينبوعن هذا المعنى هذا التركيب، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة، ويجوز في: هم، الفصل، والابتداء، والبدل.
* (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا) * قرأ عكرمة: فلن نقبل، بالنون و: ملء، بالنصب. وقرئ: فلن يقبل بالياء مبنيا للفاعل، أي فلن يقبل الله. و: ملء، بالنصب. وقرأ أبو جعفر، وأبو السمال: مل الأرض، يدون همز. ورويت عن نافع، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل، وهو اللام، وحذفت الهمزة، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا، وأتى بلفظ: أحدهم، ولم يأت بلفظ: منهم، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود، إذ كان: منهم، يحتمل أن يكون يفيد الجميع.
وانتصاب: ذهبا، على التمييز، وفي ناصب التمييز خلاف، وسماه الفراء: تفسيرا، لأن المقدار معلوم، والمقدر به مجمل. وقال الكسائي: نصب على إضمار: من، أي: من ذهب، كقوله: * (أو عدل ذالك صياما) * أي: من صيام. وقرأ الأعمش: ذهب، بالرفع. قال الزمخشري: رد على: ملء، كما يقال عندي عشرون نفسا رجال. انتهى. ويعني بالرد: البدل، ويكون من بدل النكرة من المعرفة، لأن: ملء الأرض، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله: لك الحمد ملء السماوات والأرض بالرفع على بالصفة للحمد، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة.
* (ولو افتدى به) * قرأ ابن أبي عبلة: لو افتدى به، دون واو، و: لو، هنا هي بمعنى: إن، الشرطية لا: لو، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره، لأن: لو، هنا معلقة بالمستقبل، وهو: فلن يقبل، وتلك معلقة بالماضي. فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطا في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول، وأما قراءة الجمهور بالواو، فقيل: الواو زائدة، وهو ضعيف، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة. وقيل: ليست بزائدة.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف موقع قوله * (لو * افتدى به) *؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. انتهى. وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله، والذي يقتضيه هذا التركيب، وينبغي أن يحمل عليه، أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها، ولو في حالة افتداء به من العذاب، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن: لو، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله: (أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق) كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهبا، لكنه لا يقبل. ونظيره قوله تعالى: * (وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين) * لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال، حتى في حالة صدقهم، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها. فلفظ: ولو، هنا لتعميم النفي والتأكيد له. وقد ذكرنا فائدة مجيئها.
وذهب الزجاج إلى أن المعنى: لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا، ولو أنفق ملء الأرض ذهبا، ولو افتدى أيضا به في الآخرة لم يقبل منه. قال: فأعلم الله أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب. قال ابن عطية: وهذا قول
543

حسن. انتهى.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد: فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهبا كان قد تصدق به، ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. انتهى. وهذا معنى قول الزجاج، إلا أنه لم يقيد الافتداء بالآخرة.
وحكى صاحب (ري الظمآن) وغيره عن الزجاج أنه قال: معنى الآية: لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على بالكفر لن يقبل منه، والذي يظهر أن انتفاء القبول، ولو على سبيل الفدية، إنما يكون ذلك في الآخرة. وبينه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم) قال: (يحاسب الكافر يوم القيامة، فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت أيسر من ذلك). وهذا الحديث يبين أن قوله: * (فلن يقبل من أحدهم ملء الارض ذهبا ولو افتدى به) * هو على سبيل الفرض والتقدير أي: لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بذله، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذا الله. والمعنى: أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب. فهو نظير * (ولو أن للذين ظلموا ما فى الارض جميعا) * الآيتين، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى: أنهم لو أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهبا لم يقبل ذلك، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة.
وافتدى: افتعل من الفدية. قيل: وهو بمعنى فعل، كشوى واشتوى، ومفعوله محذوف، ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب، والضمير في: به، عائد على: ملء الأرض، وهو: مقدار ما يملؤها، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على: الملء، أو: على الذهب. فقيل: على الذهب غلط.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد: ولو افتدى بمثله، لقوله: * (فى ما كانوا فيه يختلفون ولو أن للذين ظلموا ما فى الارض جميعا ومثله معه) * والمثل يحذف كثيرا في كلامهم، كقولك: ضربت ضرب زيد، تريد: مثل ضربه، وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد: مثله.
ولا هيثم الليلة للمطي
و: قضية ولا أبا حسن لها تريد: ولا هيثم، و: لا مثل أبي حسن، كما أنه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد: أنت: وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد. انتهى كلامه.
ولا حاجة إلى تقدير: مثل، في قوله * (ولو افتدى به) * وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به، فاحتاج إلى إضمار: مثل، حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به، وليس كذلك، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض، والتقدير: إذ لا يمكن عادة أن أحدا يملك ملء الأرض ذهبا بحيث لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه، بل لو كان ذلك ممكنا لم يحتج إلى تقدير مثل، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر. وأما فيما مثل به من: ضربت ضرب زيد، وأبو يوسف أبو حنيفة، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير: مثل، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة. وأما:
لا هيثم الليلة للمطي.
يدل على حذف: مثل ما تقرر في اللغة العربية أن: لا، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها، فاحتاج إلى إضمار: مثل، لتبقى على ما تقرر فيها، إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس، لأن العلمية تنافي عموم الجنس. وأما قوله: كما أن يزاد في: مثلك لا يفعل كذا، تريد، أنت، فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا.
* (أولئك لهم عذاب أليم) * هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر، لما بين تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه، بين في هذا الإخبار ما له من العذاب
544

الموصوف بالمبالغة في الآلام له، إذ الافتداء، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدى من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء. كما قال: * (يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه) * الآية، وارتفاع: عذاب، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله، لأنه قد اعتمد على أولئك، لكونه خبرا عنه ويجوز ارتفاعه على الابتداء.
* (وما لهم من ناصرين) * تقدم تفسير مثل هذه الجملة، وهذا إخبار ثالث لما بين أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال، بين أيضا أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة، واندرج فيها النصرة بالمغالبة، والنصرة بالشفاعة.
وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع: الطباق: في قوله: طوعا وكرها. وفي: كفروا بعد إيمانهم في موضعين. والتكرار: في: يهدي ولا يهدي. وفي: كفروا بعد إيمانهم. والتجنيس المغاير: في كفروا وكفروا. والتأكيد: بلفظ: هم، في قوله: وأولئك هم الضالون. قيل: والتشبيه في: ثم ازدادوا كفرا، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس. والعدول من مفعل إلى فعيل، في: عذاب أليم، لما في: فعيل، من المبالغة. والحذف في مواضع.
2 (* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شىء فإن الله به عليم) *)) 2
النيل: حوق الشيء وإدراكه، الفعل منه: نال ينال. قيل: والنيل: العطية.
الوضع: الإلقاء. وضع الشيء ألقاه، ووضعت ما في بطنها ألقته، والفعل: وضع يضع وضعا وضعة، والموضع: محل إلقاء الشيء. وفلان يضع الحديث أي: يلقيه من قبل نفسه من غير نقل، يختلفه..
بكة: مرادف لمكة، قاله مجاهد، والزجاج. والعرب تعاقب بين الباء والميم، قالوا: لازم، وراتم. والنميط، وبالباء فيها. وقيل: اسم لبطن مكة، قاله أبو عبيدة. وقيل: اسم لمكان البيت، قاله النخعي
545

وقيل: اسم للمسجد خاصة، قاله ابن شهاب. قيل: ويدل عليه أن البك هو دفع الناس بعضهم بعضا وازدحامهم، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع، وسيأتي الكلام على لفظ مكة إن شاء الله.
البركة: الزيادة، والفعل منه: بارك، وهو متعد، ومنه * (أن بورك من فى النار) * ويضمن معنى ما تعدى بعلى، لقوله: وبارك على محمد، و: تبارك، لازم.
العوج: الميل، قال أبو عبيدة: في الدين والكلام والعمل. وبالفتح في: الحائط والجذع. وقال الزجاج بمعناه. قال: فيما لا نرى له شخصا، وبالفتح فيما له شخص. قال ابن فارس: بالفتح في كل منتصب كالحائط. والعوج: ما كان في بساط أو دين وأرض أو معاش.
العصم: المنع، واعتصم واستعصم: امتنع، واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به، وكل متمسك بشئ معتصم، وكل مانع شيء عاصم، ويرجع لهذا المعنى: الأعصم، والمعصم، والعصام. ويسمى الخبز عاصما لأنه يمنع من الجوع.
* (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافرا أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا، أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق، حض المؤمن على الصدقة وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب.
والبر هنا. قال ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والسدي، وعمرو بن ميمون: البر الجنة. وقال الحسن، والضحاك: الصدقة المفروضة. وقال أبو روف: الخير كله. وقيل: الصدق. وقيل: أشرف الدين، قاله عطاء. وقال ابن عطية: الطاعة. وقال مقاتل بن حيان: التقوى. وقال الزجاج: كل ما تقرب به إلى الله من
عمل خير. وقال معناه ابن عطية. قال أبو مسلم: وله مواضع، فيقال: الصدق البر، ومنه: صدقت وبررت، وكرام بررة، والإحسان: ومنه بررت والدي، واللطف والتعاهد: ومنه يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم، والهبة والصدقة: برة بكذا إذا وهبه له.
وقال: ويحتمل لن تنالوا بر الله بكم أي، رحمته ولطفه. انتهى. وهو قول أبي بكر الوراق، قال: معنى الآية لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم. وروي نحوه على ابن جرير. ويحتمل أن يريد: لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبرارا إلا بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم، قاله ابن عطية. وقد تقدم شرح البر في قوله: * (أتأمرون الناس بالبر) * ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع.
و: من، في: مما تحبون، للتبعيض، ويدل على ذلك قراءة عبد الله: حتى تنفقوا بعض ما تحبون. و: ما، موصولة، والعائد محذوف.
والظاهر: أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق، ولذلك فسره الحسن، والضحاك:: بأنه محبوب المال، كقوله: * (ويطعمون الطعام على حبه) * لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدقوا بأحب شيء إليهم، فتصدق أبو طلحة ببير حاء، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه، وأبو ذر يفحل خير إبله وببرنس على مقرور، وتلا الآية، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له، وأعتق عمر جارية أعجبته، وابنه عبد الله جارية كانت أعجب شيء إليه.
وقيل: معنى مما تحبون، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه. وقيل: ما يكون محتاجا إليه. وقيل: كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله.
ولفظة: تحبون، تنبو عن هذه الأقوال، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة، لأن الترغيب في الندب لوجه الله لا ينافي الزكاة. قال بعضهم: وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعرا بأشياء، منها: قصد المتكلم إلى أن يكون شعرا، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل، يسمى المجزؤ والمسبع، وهو:
546

* يا خليلي أربعا واستخبر ال
*
منزل الدارس عن حي حلال
*
رسما بعسفان
ولا يجوز أن يقال: إن في القرآن شعرا.
* (وما تنفقوا من شىء فإن الله * عليم) * تقدم تفسير مثل هذا.
547