الكتاب: التسهيل لعلوم التنزيل
المؤلف: الغرناطي الكلبي
الجزء: ٢
الوفاة: ٧٤١
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق:
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: ١٤٠٣ - ١٩٨٣م
المطبعة: لبنان - دار الكتاب العربي
الناشر: دار الكتاب العربي
ردمك:
ملاحظات:

2
الجزء الثاني
1

سورة الأنعام
قال كعب أول الأنعام هو أول التوراة * (وجعل الظلمات والنور) * جعل هنا بمعنى خلق والظلمات الليل والنور النهار والضوء الذي في الشمس والقمر وغيرهما وإنما أفرد النور لأنه أراد الجنس وفي الآية رد على المجوس في عبادتهم للنار وغيرها من الأنوار وقولهم إن الخير من النور والشر من الظلمة فإن المخلوق لا يكون إلها ولا فاعلا لشيء من الحوادث * (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) * أي يسوون ويمثلون من قولك عدلت فلانا بفلان إذا جعلته نظيره وقرينه ودخلت ثم لتدل على استبعاد أن يعدلوا بربهم بعد وضوح آياته في خلق السماوات والأرض والظلمات والنور وكذلك قوله ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعد ما ثبت أنه أحياهم وأماتهم وفي ضمن ذلك تعجيب من فعلهم وتوبيخ لهم والذين كفروا هنا عام في كل مشرك وقد يختص بالمجوس بدليل الظلمات والنور وبعبدة الأصنام لأنهم المجاورون للنبي صلى الله عليه وسلم وعليهم يقع الرد في أكثر القرآن * (خلقكم من طين) * أي خلق أباكم آدم من طين * (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) * الأجل الأول الموت والثاني يوم القيامة وجعله عنده لأنه استأثر بعلمه وقيل الأول النوم والثاني الموت ودخلت ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب الوقوع لأن القضاء متقدم على الخلق * (وهو الله في السماوات وفي الأرض) * يتعلق في السماوات بمعنى اسم الله فالمعنى كقوله وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله كما يقال أمير المؤمنين الخليفة في المشرق والمغرب ويحتمل أن يكون المجرور في موضع الخبر فيتعلق باسم فاعل محذوف والمعنى على هذا قريب من الأول وقيل المعنى أنه في السماوات والأرض بعلمه كقوله وهو معكم أينما كنتم والأول أرجح وأفصح لأن اسم الله جامع للصفات كلها من العلم والقدرة والحكمة وغير ذلك فقد جمعها مع الإيجاز ويترجح الثاني بأن سياق الكلام في اطلاع الله تعالى وعلمه لقوله بعدها يعلم سركم وجهركم وقيل يتعلق بمحذوف تقديره المعبود في السماوات وفي الأرض وهذا المحذوف صفة لله واسم الله على هذا القول وعلى الأول هو خبر المبتدأ وأما إذا كان المجرور الخبر فاسم الله بدل من الضمير " وما تأتيهم من
2

آية من آيات ربهم) من الأولى زائدة والثانية للتبعيض أو لبيان الجنس * (بالحق) * يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم * (فسوف يأتيهم) * الآية وعيد بالعذاب والعقاب على استهزائهم * (ألم يروا كم أهلكنا) * حض للكفار على الاعتبار بغيرهم والقرن مائة سنة وقيل سبعون وقيل أربعون * (مكناهم في الأرض) * الضمير عائد على القرن لأنه في معنى الجماعة * (ما لم نمكن لكم) * الخطاب لجميع أهل ذلك العصر من المؤمنين والكافرين * (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) * السماء هنا المطر والسحاب أو السماء حقيقة ومدرارا بناء مبالغة وتكثير من قولك در المطر إذا غزر * (فأهلكناهم بذنوبهم) * التقدير فكفروا وعصوا فأهلكناهم وهذا تهديد للكفار أن يصيبهم مثل ما أصاب هؤلاء على حال قوتهم وتمكينهم * (ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس) * الآية إخبار أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم أوضح الآيات والمراد بقوله فلمسوه بأيديهم لو بالغوا في تمييزه وتقليبه ليرتفع الشك لعاندوا بذلك يشبه أن يكون سبب هذه الآية قول بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا أومن بك حتى تأتي بكتاب من السماء يأمرني بتصديقك وما أراني مع هذا أصدقك * (وقالوا لولا أنزل عليه ملك) * حكاية عن طلب بعض العرب وروي أن العاصي بن وائل والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود والأسود بن عبد يغوث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم يا محمد لو كان معك ملك * (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر) * قال ابن عباس المعنى لو أنزلنا ملكا فكفروا بعد ذلك لعجل لهم العذاب ففي الكلام على هذا حذف وقضي الأمر على هذا تعجيل أخذهم وقيل المعنى لو أنزلنا ملكا لماتوا من هول رؤيته فقضي الأمر على هذا موتهم * (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) * أي لو جعلنا الرسول ملكا لكان في صورة رجل لأنهم لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته * (وللبسنا عليهم ما يلبسون) * أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم وعلى ضعفائهم فإنهم لو رأوا الملك في صورة إنسان قالوا هذا إنسان وليس بملك * (ولقد استهزئ برسل من قبلك) * الآية إخبار قصد به تسلية النبي النبي صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه * (فحاق) * أي أحاط بهم وفي هذا الإخبار تهديد للكفار * (قل سيروا في الأرض) * الآية حض على الاعتبار بغيرهم إذا رأوا منازل الكفار الذين هلكوا قبلهم * (ثم انظروا) * قال الزمخشري إن قلت أي فرق بين قوله فانظروا وبين قوله ثم انظروا قلت جعل النظر سببا عن السير في قوله فانظروا كأنه قال سيروا لأجل النظر وأما قوله فسيروا
3

في الأرض ثم انظروا فمعناه إباحة السير للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في الهالكين رتبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح * (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) * القصد بالآية إقامة البرهان على صحة التوحيد وإبطال الشرك وجاء ذلك بصفة الاستفهام لإقامة الحجة على الكفار فسأل أولا لمن ما في السماوات والأرض ثم أجاب عن السؤال بقوله قل لله لأن الكفار يوافقون على ذلك بالضرورة فيثبت بذلك أن الإله الحق هو الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وإنما يحسن أن يكون السائل مجيبا عن سؤاله إذا علم أن خصمه لا يخالفه في الجواب الذي به يقيم الحجة عليه * (كتب على نفسه الرحمة) * أي قضاها وتفسير ذلك بقول النبي صلى صلى الله عليه وسلم إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض وفيه إن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية تغلب غضبي * (ليجمعنكم) * مقطوع مما قبله وهو جواب لقسم محذوف وقيل هو تفسير الرحمة المذكورة تقديره أن يجمعكم وهذا ضعيف لدخول النون الثقيلة في غير موضعها فإنها لا تدخل إلا في القسم أو في غير الواجب * (إلى يوم القيامة) * قيل هنا إلى بمعنى في وهو ضعيف والصحيح أنها للغاية على بابها * (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * الذين مبتدأ وخبره لا يؤمنون ودخلت الفاء لما في الكلام من معنى الشرط قاله الزجاج وهو حسن وقال الزمخشري الذين نصب على الذم أو رفع بخبر ابتداء مضمر وقيل هو بدل من الضمير في ليجمعنكم وهو ضعيف وقيل منادى وهو باطل * (وله ما سكن في الليل والنهار) * عطف على قوله قل لله ومعنى سكن حل فهو من السكنى وقيل هو من السكون وهو ضعيف لأن الأشياء منها ساكنة ومتحركة فلا يعم والمقصود عموم ملكه تعالى لكل شيء * (قل أغير الله أتخذ وليا) * إقامة حجة على الكفار ورد
عليهم بصفات الله الكريم التي لا يشاركه غيره فيها * (أول من أسلم) * أي من هذه الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته إلى الإسلام * (ولا تكونن) * في الكلام حذف تقديره وقيل لي ولا تكونن من المشركين أو يكون معطوفا على معنى أمرت فلا حذف وتقديره أمرت بالإسلام ونهيت عن الإشراك * (من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه) * أي من يصرف عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه الله وقرئ يصرف بفتح الياء وفاعله الله * (وذلك) * إشارة إلى صرف العذاب أو إلى الرحمة * (وإن يمسسك الله بضر) * معنى يمسسك يصبك والضر مرض وغيره على العموم في جميع المضرات والخير العافية وغيرها على العموم أيضا والآية برهان على الوحدانية لانفراد الله تعالى
4

بالضر والخير وكذلك ما بعد هذا من الأوصاف براهين ورد على المشركين " قل أي شئ أكبر شهادة " سؤال يقتضي جوابا ينبني عليه المقصود وفيه دليل على أن الله يقال فيه شيء لكن ليس كمثله شيء * (قل الله شهيد بيني وبينكم) * يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله مبتدأ وشهيد خبره والآخر أن يكون تمام الجواب عند قوله قل الله بمعنى أن الله أكبر شهادة ثم يبتدئ على تقدير هو شهيد بيني وبينكم والأول أرجح لعدم الإضمار والثاني أرجح لمطابقته للسؤال لأن السؤال بمنزلة من يقول من أكبر الناس فيقال في الجواب فلان وتقديره فلان أكبر والمقصود بالكلام استشهاد بالله الذي هو أكبر شهادة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهادة الله بهذا هي علمه بصحة نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإظهار معجزته الدالة على نبوته * (ومن بلغ) * عطف على ضمير المفعول في لأنذركم والفاعل يبلغ ضمير القرآن والمفعول محذوف يعود على من تقديره ومن بلغه والمعنى أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به المخاطبين وهم أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم إلى يوم القيامة قال سعيد ابن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المعنى ومن بلغ الحلم وهو بعيد " قل أئنكم لتشهدون " الآية تقرير للمشركين على شركهم ثم تبرأ من ذلك بقوله لا أشهد ثم شهد الله بالوحدانية وروي انها نزلت بسبب قوم من الكفار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا محمد ما تعلم مع الله إلها آخر * (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) * تقدم في البقرة * (الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون) * الذين مبتدأ وخبره فهم لا يؤمنون وقيل الذين نعت للذين آتيناهم الكتاب وهو فاسد لأن الذين أوتوا الكتاب ما استشهد بهم هنا إلا ليقيم الحجة على الكفار * (ومن أظلم) * لفظه استفهام ومعناه لا أحد أظلم * (ممن افترى على الله) * وذلك تنصل من الكذب على الله وإظهار لبراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما نسبوه إليه من الكذب ويحتمل أن يريد بالافتراء على الله ما نسب إليه الكفار من الشركاء والأولاد " أوكذب بآياته " أي علاماته وبراهينه * (أين شركاؤكم) * يقال لهم ذلك على وجه التوبيخ * (تزعمون) * أي تزعمون أنهم آلهة فحذفه لدلالة المعنى عليه والعامل في يوم نحشرهم محذوف * (ثم لم تكن فتنتهم) * الفتنة هنا تحتمل أن تكون بمعنى الكفر أي لم تكن عاقبة كفرهم إلا جحوده والتبرؤ منه وقيل فتنتهم معذرتهم وقيل كلامهم وقرئ فتنتهم بالنصب على خبر كان واسمها أن قالوا وقرئ بالرفع على اسم كان وخبرها أن قالوا * (والله ربنا ما كنا مشركين) * جحود لشركهم فإن قيل كيف يجحدونه وقد قال الله ولا يكتمون الله حديثا فالجواب أن ذلك يختلف باختلاف طوائف الناس واختلاف المواطن فيكتم قوم ويقر آخرون ويكتمون في موطن ويقرون في موطن آخر لأن يوم القيامة طويل وقد قال ابن عباس لما سئل عن هذا السؤال إنهم جحدوا طمعا في النجاة فختم الله على أفواههم وتكلمت جوارحهم فلا يكتمون الله حديثا " ومنهم من
5

يستمع إليك) الضمير عائد على الكفار وأفرد يستمع وهو فعل جماعة حملا على لفظ من * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) * أكنة جمع كنان وهو الغطاء وأن يفقهوه في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن يفقهوه ومعنى الآية أن الله حال بينهم وبين فهم القرآن إذا استمعوه وعبر بالأكنة والوقر مبالغة وهي استعارة * (أساطير الأولين) * أي قصصهم وأخبارهم وهو جمع أسطار وأسطورة قال السهيلي حيث ما ورد في القرآن أساطير الأولين فإن قائلها هو النضر بن الحارث وكان قد دخل بلد فارس وتعلم أخبار ملوكهم فكان يقول حديثي أحسن من حديث محمد * (وهم ينهون عنه وينأون عنه) * هم عائد على الكفار والضمير في عنه عائد على القرآن والمعنى وهم ينهون الناس عن الإيمان وينأون هم عنه أن يبعدون والنأي هو البعد وقيل الضمير في عنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ومعنى ينهون عنه ينهون الناس عن إذايته وهم مع ذلك يبعدون عنه والمراد بالآية على هذا أبو طالب ومن كان معه يحمي النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسلم وفي قوله ينهون وينأون ضرب من ضروب التجنيس * (ولو ترى إذ وقفوا على النار) * جواب لو محذوف هنا وفي قوله ولو ترى إذ وقفوا على ربهم وإنما حذف ليكون أبلغ ما يقدره السامع أي لو ترى لرأيت أمرا شنيعا هائلا ومعنى وقفوا حبسوا قاله ابن عطية ويحتمل أن يريد بذلك إذا دخلوا النار وإذا عاينوها وأشرفوا عليها ووضع إذ موضع إذا لتحقيق وقوع الفعل حتى به ماض * (يا ليتنا نرد ولا نكذب) * قرئ برفع نكذب ونكون على الاستئناف والقطع على التمني ومثله سيبويه بقولك دعني ولا أعود أي وأنا لا أعود ويحتمل أن يكون حالا تقديره نرد غير مكذبين أو عطف على نرد وقرئ بالنصب بإضمار أن بعد الواو في جواب التمني * (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل) * المعنى ظهر لهم يوم القيامة في صحائفهم ما كانوا يخفون في الدنيا من عيوبهم وقبائحهم وقيل هي في أهل الكتاب أي بدا لهم ما كانوا يخفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هي في المنافقين أي بدا لهم ما كانوا يخفون من الكفر وهذان القولان بعيدان فإن الكلام أوله ليس في حق المنافقين ولا أهل الكتاب وقيل إن الكفار كانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يشعر بها أتباعهم فظهر لهم ذلك يوم القيامة * (ولو ردوا لعادوا) * إخبار بأمر لا يكون لو كان كيف كان يكون وذلك مما انفرد الله بعلمه * (وإنهم لكاذبون) * يعني في قولهم ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ولا يصح أن يرجع إلى قولهم يا ليتنا نرد لأن التمني لا يحتمل الصدق ولا الكذب * (وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا) * حكاية عن قولهم في إنكار البعث الأخروي " قال أليس
6

هذا بالحق) تقريرا لهم وتوبيخ * (قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) * الضمير فيها للحياة الدنيا لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يجر لها ذكر وقيل الساعة أي فرطنا في شأنها والاستعداد لها والأول أظهر * (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم) * كناية عن تحمل الذنوب وقال على ظهورهم لأن العادة حمل الأثقال على الظهور
وقيل إنهم يحملونها على ظهورهم حقيقة وروي في ذلك أن الكافر يركبه عمله بعد أن يتمثل له في أقبح صورة وأن المؤمن يركب عمله بعد أن يتصور له في أحسن صورة * (ألا ساء ما يزرون) * إخبار عن سوء ما يفعلون من الأوزار * (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون) * قرأ نافع يحزن حيث وقع بضم الياء من أحزن إلى قوله لا يحزنهم الفزع الأكبر وقرأ الباقون بفتح الياء من حزن الثلاثي وهو أشهر في اللغة والذي يقولون قولهم إنه ساحر شاعر كاهن * (فإنهم لا يكذبونك) * من قرأ بالتشديد فالمعنى لا يكذبونك معتقدين لكذبك وإنما هم يجحدون بالحق مع علمهم به ومن قرأ بالتخفيف فقيل معناه لا يجدونك كاذبا يقال أكذبت فلانا إذا وجدته كاذبا كما يقال أحمدته إذا وجدته محمودا وقيل هو بمعنى التشديد يقال كذب فلان فلانا وأكذبه بمعنى واحد وهو الأظهر لقوله بعد هذا يجحدون ويؤيد هذا ما روي أنها نزلت في أبي جهل فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا لا نكفر بك ولكن نكذب ما جئت به وأنه قال للأخنس بن شريق والله إن محمدا الصادق ولكني أحسده على الشرف * (ولكن الظالمين) * أي ولكنهم ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظلموا في جحودهم * (ولقد كذبت رسل من قبلك) * الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وحض له على الصبر ووعد له بالنصر * (ولا مبدل لكلمات الله) * أي لمواعيده لرسله كقوله ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وفي هذا تقوية للوعد " ولقد جاءك من نبإى المرسلين " أي من أخبارهم ويعني بذلك صبرهم ثم نصرهم وهذا أيضا تقوية للوعد والحض على الصبر وفاعل جاءك محذوف تقديره نبأ أو خلاف وقيل هو المجرور * (وإن كان كبر عليك إعراضهم) * الآية مقصودها حمل النبي صلى الله عليه وسلم على الصبر والتسليم لما أراد الله بعباده من إيمان أو كفر فإنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فقيل له إن استطعت أن تدخل في الأرض أو تصعد إلى السماء فتأتيهم بآية يؤمنون بسببها فافعل وأنت لا تقدر على ذلك فاستسلم لأمر الله والنفق في الأرض معناه منفذ تنفذ منه إلى ما تحت الأرض وحذف جواب إن لفهم المعنى * (ولو شاء الله لجمعهم على الهدى) * حجة لأهل السنة على القدرية * (فلا تكونن من الجاهلين) * أي من الذين يجهلون أن الله
7

لو شاء لجمعهم على الهدى * (إنما يستجيب الذين يسمعون) * المعنى إنما يستجيب لك الذين يسمعون فيفهمون ويعقلون * (والموتى يبعثهم الله) * فيها ثلاث تأويلات أحدهما أن الموتى عبارة عن الكفار بموت قلوبهم والبعث يراد به الحشر يوم القيامة فالمعنى أن الكفار في الدنيا كالموت في قلة سمعهم وعدم فهمهم فيبعثهم الله في الآخرة وحينئذ يسمعون والآخر أن الموتى عبارة عن الكفار والبعث عبارة عن هدايتهم للفهم والسمع والثالث أن الموتى على حقيقته والبعث على حقيقته فهو إخبار عن بعث الموتى يوم القيامة " وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه " الضمير في قالوا للكفار ولولا عرض والمعنى أنهم طلبوا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بآية على نبوته فإن قيل فقد أتى بآية ومعجزاته كثيرة فلم طلبوا آية فالجواب من وجهين أحدهما أنهم لم يعتدوا بما أتى به وكأنه لم يأت بشيء عندهم لعنادهم وجحدهم والآخر أنهم إنما طلبوا آية تضطرهم إلى الإيمان من غير نظر ولا تفكر * (قل إن الله قادر على أن ينزل آية) * جواب على قولهم وقد حكى هذا القول عنهم في مواضع من القرآن وأجيب عليه بأجوبة مختلفة منها ما يقتضي الرد عليهم في طلبهم الآيات فإنه قد أتاهم بآيات وتحصيل الحاصل لا ينبغي كقوله قد بينا الآيات وكقوله أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ومنها ما يقتضي الإعراض عنهم لأن الخصم إذا تبين عناده سقطت مكالمته ويحتمل أن يكون من هذا قوله إن الله قادر على أن ينزل آية ويحتمل أيضا أن يكون معناه قادر على أن ينزل آية تضطرهم إلى الإيمان * (ولكن أكثرهم لا يعلمون) * حذف مفعول يعلمون وهو يحتمل وجهين أحدهما لا يعلمون أن الله قادر والآخر لا يعلمون أن الله إنما منع الآيات التي تضطرهم إلى الإيمان لمصالح العباد فإنهم لو رأوها ولم يؤمنوا لعوقبوا بالعذاب * (بجناحيه) * تأكيد وبيان وإزالة للاستعارة المتعاهدة في هذه اللفظة فقد يقال طائر للسعد والنحس * (أمم أمثالكم) * اي في الخلق والرزق والحياة والموت وغير ذلك ومناسبة ذكر هذا لما قبله من وجهين أحدهما أنه تنبيه على مخلوقات الله تعالى فكأنه يقول تفكروا في مخلوقاته ولا تطلبوا غير ذلك من الآيات والآخر تنبيه على البعث كأنه يقول جميع الدواب والطير يحشر يوم القيامة كما تحشرون أنتم وهو أظهر لقوله بعده ثم إلى ربهم يحشرون " ما فرطنا في الكتاب من شئ " أي ما غفلنا والكتاب هنا هو اللوح المحفوظ والكلام على هذا عام وقيل هو القرآن والكلام على هذا خاص أي ما فرطنا فيه من شئ فيه هدايتكم والبيان لكم * (ثم إلى ربهم يحشرون) * أي تبعث الدواب والطيور يوم القيامة للجزاء والفصل بينهما * (والذين كذبوا) * الآية لما ذكر قدرته على بعث الخلق كلهم أتبعه بأن وصف من كذب بذلك بالصمم والبكم وقوله في الظلمات
8

يقوم مقام الوصف بالعمى * (قل أرأيتكم) * معناه أخبروني والضمير الثاني للخطاب ولا محل له من الإعراب وجواب الشرط محذوف تقديره إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة من تدعون ثم وقفهم على أنهم لا يدعون حينئذ إلا الله ولا يدعون آلهتهم والآية احتجاج عليهم وإثبات للتوحيد وإبطال للشرك * (إن شاء) * استثناه أي يكشف ما نزل بكم إن أراد ويصيبكم به إن أراد * (وتنسون ما تشركون) * يحتمل أن يكون من النسيان أو الترك * (فأخذناهم بالبأساء والضراء) * كان ذلك على وجه التخفيف والتأديب * (فلولا) * هذا عرض وتحضيض وفيه دليل على نفع التضرع حين الشدائد * (فلما نسوا) * الآية أي لما تركوا الاتعاظ بما ذكروا به من الشدائد فتح عليهم أبواب الرزق والنعم ليشكروا عليها فلم يشكروا فأخذهم الله * (مبلسون) * آيسون من الخير * (دابر القوم) * آخرهم وذلك عبارة عن استئصالهم بالكلية * (والحمد لله) * شكر على هلاك الكفار فإنه نعمة على المؤمنين وقيل إنه إخبار على ما تقدم من الملاطفة في أخذه لهم بالشر ليزدجروا أو بالخير ليشكروا حتى وجب عليهم العذاب بعد الإنذار والإعذار * (قل أرأيتم) * الآية احتجاج على الكفار أيضا * (يأتيكم به) * الضمير عائد على المأخوذ * (يصدفون) * أي يعرضون * (قل أرأيتكم) * الآية وعيد وتهديد والبغتة ما لم يتقدم لهم شعور به والجهرة ما بدت لهم مخايله وقيل بغتة بالليل وجهرة بالنهار * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله) * الآية أي لا أدعي شيئا منكرا ولا يستبعد إنما أنا نبي رسول كما كان غيري من الرسل * (الأعمى والبصير) * مثال للضال والمهتدي * (وأنذر به الذين يخافون) * الضمير في به يعود على ما يوحى والإنذار عام لجميع الناس وإنما خصص هنا بالذين يخافون لأنه قد تقدم في الكلام ما يقتضي اليأس من إيمان غيرهم فكأنه يقول أنذر الخائفين لأنه ينفعهم الإنذار وأعرض عمن تقدم ذكره من الذين لا يسمعون ولا يعقلون
9

* (ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع) * في موضع الحال من الضمير في يحشروا واستئناف إخبار * (لعلهم يتقون) * يتعلق بأنذر * (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) * الآية نزلت في ضعفاء المؤمنين كبلال وعمار ابن ياسر وعبد الله بن مسعود وخباب وصهيب وأمثالهم وكان بعض المشركين من قريش قد قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا يمكننا أن نختلط مع هؤلاء لشرفنا فلو طردتهم لاتبعناك فنزلت هذه الآية * (بالغداة والعشي) * قيل هي الصلاة بمكة قبل فرض الخمس وكانت غدوة وعشية وقيل هي عبارة عن دوام الفعل ويدعون هنا من الدعاء وذكر الله أو بمعنى العبادة * (يريدون وجهه) * إخبار عن إخلاصهم لله وفيه تزكية لهم " ما عليك من حسابهم من شئ " الآية قيل الضمير في حسابهم للذين يدعون وقيل للمشركين والمعنى على هذا لا تحاسب عنهم ولا يحاسبون عنك فلا تهتم بأمرهم حتى تطرد هؤلاء من أجلهم والأول أرجح لقوله وما أنا بطارد الذين آمنوا وقوله إن حسابهم إلا على ربي والمعنى على هذا أن الله هو الذي يحاسبهم فلأي شيء تطردهم * (فتطردهم) * هذا جواب النفي في قوله ما عليك * (فتكون من الظالمين) * هذا جواب النهي في قوله ولا تطرد أو عطف على فتطردهم * (وكذلك فتنا بعضهم ببعض) * أي ابتلينا الكفار بالمؤمنين وذلك أن الكفار كانوا يقولون أهؤلاء العبيد والفقراء من الله عليهم بالتوفيق للحق والسعادة دوننا ونحن أشراف أغنياء وكان هذا الكلام منهم على وجه الاستبعاد بذلك * (أليس الله بأعلم بالشاكرين) * رد على الكفار في قولهم المتقدم * (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم) * هم الذين نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن طردهم أمر بأن يسلم عليهم إكراما لهم وأن يؤنسهم بما بعد هذا * (كتب ربكم على نفسه الرحمة) * أي حتمها وفي الصحيح إن الله كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي * (أنه من عمل منكم سوءا) * الآية وعد بالمغفرة والرحمة لمن تاب وأصلح وهو خطاب للقوم المذكورين قبل وحكمها عام فيهم وفي غيرهم والجهالة قد ذكرت في النساء وقيل نزلت بسبب أن عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد الضعفاء عسى أن يسلم الكفار فلما نزلت لا تطرد ندم عمر على قوله وتاب منه فنزلت الآية وقرئ أنه بالفتح على البدل من الرحمة وبالكسر على الاستئناف وكذلك فإنه غفور رحيم بالكسر على الاستئناف وبالفتح خبر ابتداء مضمر تقديره فأمره أنه غفور رحيم وقيل تكرار للأولى لطول الكلام * (وكذلك نفصل) * الإشارة إلى ما تقدم من النهي عن الطرد وغير ذلك وتفصيل الآيات شرحها وبيانها * (ولتستبين سبيل المجرمين) * بتاء الخطاب ونصب السبيل على أنه مفعول به وقرئ بتاء التأنيث ورفع السبيل على أنه فاعل مؤنث بالياء والرفع على تذكير
10

السبيل لأنه يجوز فيه التذكير والتأنيث * (الذين تدعون) * أي تعبدون * (قد ضللت إذا) * أي إن اتبعت أهواءكم ضللت * (على بينة) * أي على أمر بين من معرفة ربي والهاء في بينة للمبالغة أو للتأنيث * (وكذبتم به) * الضمير عائد على الرب أو على البينة * (ما عندي ما تستعجلون به) * أي العذاب الذي طلبوه في قولهم فأمطر علينا حجارة من السماء وقيل الآيات التي اقترحوها والأول أظهر * (يقص الحق) * من القصص وقرئ يقضي بالضاد المعجمة من القضاء وهو أرجح لقوله * (وهو خير الفاصلين) * أي الحاكمين * (قل لو أن عندي ما تستعجلون به لقضي الأمر) * أي لو كان عندي العذاب على التأويل الأول والآيات المقترحة على التأويل الآخر لوقع الانفصال وزال النزاع لنزول العذاب أو لظهور الآيات * (مفاتح الغيب) * استعارة وعبارة عن التوصل إلى الغيب كما يتوصل بالمفاتح إلى ما في الخزائن وهو جمع مفتح بكسر الميم بمعنى مفتاح ويحتمل أن يكون جمع مفتح بالفتح وهو المخزن * (ولا حبة في ظلمات الأرض) * تنبيه بها على غيرها لأنها أشد تغييبا من كل شيء * (في كتاب مبين) * اللوح المحفوظ وقيل علم الله * (يتوفاكم بالليل) * أي إذا نمتم وفي ذلك اعتبار واستدلال على البعث الأخروي * (ما جرحتم) * أي ما كسبتم من الأعمال * (يبعثكم فيه) * أي يوقظكم من النوم والضمير عائد على النهار لأن غالب اليقظة فيه وغالب النوم بالليل * (أجل مسمى) * أجل الموت * (حفظه) * جمع حافظ وهم الملائكة الكاتبون * (توفته رسلنا) * أي الملائكة الذين مع ملك الموت * (ثم ردوا) * خروج من الخطاب إلى الغيبة والضمير لجميع الخلق * (قل من ينجيكم) * الآية إقامة حجة وظلمات البر والبحر عبارة عن شدائدهما وأهوالهما كما يقال لليوم الشديد مظلم * (عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم) * قيل الذي من فوق إمطار الحجارة ومن تحت الخسف وقيل من فوقكم تسليط أكابركم ومن تحت أرجلكم تسليط سفلاتكم وهذا بعيد * (أو يلبسكم شيعا) *
11

أي يخلطكم فرقا مختلفين * (ويذيق بعضكم بأس بعض) * بالقتال واختلف هل الخطاب بهذه الآية للكفار أو المؤمنين وروي أنه لما نزلت أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهه فلما نزلت من تحت أرجلكم قال أعوذ بوجهك فلما نزلت أو يلبسكم شيعا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا أهون فقضى الله على هذه الأمة بالفتن والقتال إلى يوم القيامة * (وكذب به قومك) * الضمير عائد على القرآن أو على الوعيد المتقدم وقومك هم قريش " لست عليهم بوكيل " أي بحفيظ ومتسلط وفي ذلك متاركة نسختها آية القتال * (لكل نبإ مستقر) * أي في غاية يعرف عندها صدق من كذبه * (يخوضون في آياتنا) * في الاستهزاء بها والطعن فيها * (فأعرض عنهم) * أي قم ولا تجالسهم * (وإما ينسينك الشيطان) * إما مركبة من إن الشرطية وما الزائدة والمعنى إن أنساك الشيطان النهي عن مجالستهم فلا تقعد بعد أن تذكر النهي " وما على الذين يتقون من حسابهم من شئ " الذين يتقون هم المؤمنون والضمير في حسابهم للكفار والمستهزئين والمعنى ليس على المؤمنين شيء من حساب الكفار على استهزائهم وإضلالهم وقيل إن ذلك يقتضي إباحة جلوس المؤمنين مع الكافرين لأنهم شق عليهم النهي عن ذلك إذ كانوا لا بد لهم من مخالطتهم في طلب المعاش وفي الطواف بالبيت وغير ذلك ثم نسخت بآية النساء وهي وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله الآية وقيل إنها لا تقتضي إباحة القعود (ولكن ذكرى لعلهم يتقون) فيه وجهان أحدهما أن المعنى ليس على المؤمنين حساب الكفار ولكن عليهم تذكيرا لهم ووعظ وإعراب ذكرى على هذا نصب على المصدر وتقديره يذكرونهم ذكرى أو رفع على المبتدأ تقديره عليهم ذكرى والضمير في لعلهم عائد على الكفار أي يذكرونهم رجاء أن يتقوا أو عائد على المؤمنين أي يذكرونهم ليكون تذكيرهم ووعظهم تقوى الله الوجه الثاني أن المعنى ليس نهى المؤمنين عن القعود مع الكافرين بسبب أن عليهم من حسابهم شيء وإنما هو ذكرى للمؤمنين وإعراب ذكرى على هذا خبر ابتداء مضمر تقديره ولكن نهيهم ذكرى أو مفعول من أجله تقديره إنما نهوا ذكرى والضمير في لعلهم على هذا للمؤمنين لا غير * (وذر الذين) *
قيل إنها متاركة منسوخة بالسيف وقيل بل هي تهديد فلا متاركة ولا نسخ فيها * (اتخذوا دينهم لعبا ولهوا) * أي اتخذوا الدين الذي كان ينبغي لهم لعبا ولهوا لأنهم سخروا منا واتخذوا الدين الذي يعتقدونه لعبا ولهوا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فهم يلعبون ويلهون * (وذكر به) * الضمير عائد على الدين أو على القرآن * (أن تبسل) * قيل معناه أن تحبس وقيل تفضح وقيل تهلك وهو في موضع مفعول من أجله أي ذكر به كراهة أن تبسل نفس * (وإن تعدل كل عدل) * أي وإن تعط كل فدية
12

لا يؤخذ منها " قل أندعوا من دون الله " الآية إقامة حجة وتوبيخ للكفار * (ونرد على أعقابنا) * أي نرجع من الهدى إلى الضلال وأصل الرجوع على العقب في المشي ثم استعير في المعاني وهذه جملة معطوفة على أندعوا والهمزة فيه للإنكار والتوبيخ * (كالذي استهوته الشياطين) * الكاف في موضع نصب على الحال من الضمير في نرد أي كيف نرجع مشبهين من استهوته الشياطين أو نعت لمصدر محذوف تقديره ردا كرد الذي ومعنى استهوته الشياطين ذهبت به في مهامه الأرض وأخرجته عن الطريق فهو استفعال من هوى يهوي في الأرض إذا ذهب فيها وقال الفارسي استهوى بمعنى أهوى ومثل استذل بمعنى أذل * (حيران) * أي ضال عن الطريق وهو نصب على الحال من المفعول في استهوته * (له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا) * أي لهذا المستهوى أصحاب وهم رفقة يدعونه إلى الهدى أي إلى أن يهدوه إلى الطريق يقولون له ائتنا وهو قد تاه وبعد عنهم فلا يجيبهم وهذا كله تمثيل لمن ضل في الدين عن الهدى وهو يدعى إلى الإسلام فلا يجيب وقيل نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كان أبوه يدعوه إلى الإسلام ويبطل هذا قول عائشة ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي * (وأن أقيموا) * عطف على لنسلم أو على مفعول أمرنا * (قوله الحق) * مرفوع بالابتداء وخبره يوم يقول وهو مقدم عليه والعامل فيه معنى الاستقرار كقولك يوم الجمعة القتال واليوم بمعنى الحين وفاعل يكون مضمر وهو فاعل كن أي حين يقول لشيء كن فيكون ذلك الشيء * (يوم ينفخ في الصور) * ظرف لقوله له الملك كقوله لمن الملك اليوم وقيل في إعراب الآية غير هذا مما هو ضعيف أو تخليط * (عالم الغيب والشهادة) * خبر ابتداء مضمر * (لأبيه آزر) * هو اسم أبي إبراهيم فإعرابه عطف بيان أو بدل ومنع من الصرف للعجمة والعلمية لا للوزن لأن وزنه فاعل نحو عابر وشالح وقرئ بالرفع على النداء وقيل إنه اسم صنم لأنه ثبت أن اسم أبي إبراهيم تارخ فعلى هذا يحتمل أن يكون لقب به لملازمته له أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وذلك بعيد ولا يبعد أن يكون له اثنان * (نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض) * قيل إنه فرج الله السماوات والأرض حتى رأى ببصره الملك الأعلى والأسفل وهذا يحتاج إلى صحة نقل وقيل رأى ما يراه الناس من الملكوت ولكنه وقع له بها من الاعتبار والاستدلال ما لم يقع لأحد من أهل زمانه * (وليكون) * متعلق بمحذوف تقديره وليكون من الموقنين فعلنا به ذلك * (فلما جن عليه الليل) * أي ستره يقال جن عليه الليل وأجنه
13

* (رأى كوكبا قال هذا ربي) * يحتمل أن يكون هذا الذي جرى لإبراهيم في الكوكب والقمر والشمس أن يكون قبل البلوغ والتكليف وقد روي أن أمه ولدته في غار خوفا من نمروذ إذ كان يقتل الأطفال لأن المنجمين أخبروه أن هلاكله على يد صبي ويحتمل أن يكون جرى له ذلك بعد بلوغه وتكليفه وأنه قال ذلك لقومه على وجه الرد عليهم والتوبيخ لهم وهذا أرجح لقوله بعد ذلك " إني برئ مما تشركون " ولا يتصور أن يقول ذلك وهو منفرد في الغار لأن ذلك يقتضي محاجة وردا على قومه وذلك أنهم كانوا يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن يبين لهم الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى أن هذه الأشياء لا يصح أن يكون واحدا منها إلها لقيام الدليل على حدوثها وأن الذي أحدثها ودبر طلوعها وغروبها وأفولها هو الإله الحق وحده وقوله هذا ربي قول من ينصف خصمه مع علمه أنه مبطل لأن ذلك أدعى إلى الحق وأقرب إلى رجوع الخصم ثم أقام عليهم الحجة بقوله لا أحب الآفلين أي لا أحب عبادة المتغيرين لأن التغير دليل على الحدوث والحدوث ليس من صفة الإله ثم استمر على ذلك المنهاج في القمر وفي الشمس فلما أوضح البرهان وأقام عليهم الحجة جاهرهم بالبراءة من باطلهم فقال إني بريء مما تشركون ثم أعلن لعبادته لله وتوحيده له فقال إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ووصف الله تعالى بوصف يقتضي توحيده وانفراده بالملك فإن قيل لم احتج بالأفول دون الطلوع وكلاهما دليل على الحدوث لأنهما انتقال من حال إلى حال فالجواب أنه أظهر في الدلالة لأنه انتقال مع اختفاء واحتجاب * (أتحاجوني في الله) * أي في الإيمان بالله وفي توحيده والأصل أتحاجونني بنونين وقرئ بالتشديد على إدغام أحدهما في الآخر وبالتخفيف على حذف أحدهما واختلف هل حذفت الأولى أو الثانية * (ولا أخاف ما تشركون به) * ما هنا بمعنى الذي ويريد بها الأصنام وكانوا قد خوفوه أن تصيبه أصنامهم بضر فقال لا أخاف منهم لأنهم لا يقدرون على شيء * (إلا أن يشاء ربي شيئا) * استثناء منقطع بمعنى لكن أي إنما أخاف من ربي إن أراد بي شيئا * (وكيف أخاف ما أشركتم) * أي كيف أخاف شركاءكم الذين لا يقدرون على شيء وأنتم لا تخافون ما فيه كل خوف وهو إشراككم بالله وأنتم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع الخوف ثم أوقفهم على ذلك بقوله فأي الفريقين أحق بالأمن يعني فريق المؤمنين وفريق الكافرين ثم أجاب عن السؤال بقوله * (الذين آمنوا) * الآية وقيل إن الذين
14

آمنوا استئناف وليس من كلام إبراهيم * (ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * لما نزلت هذه الآية أشفق منها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا وأينا لم يظلم نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذلك كما قال لقمان لابنه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم * (وتلك حجتنا) * إشارة إلى ما تقدم من استدلاله واحتجاجه * (ومن ذريته) * الضمير لإبراهيم أو لنوح عليهما السلام والأول هو الصحيح لذكر لوط وليس من ذرية إبراهيم * (داود) * عطف على نوحا أي وهدينا داود * (وعيسى) * فيه دليل على أن أولاد البنات يقال فيهم ذرية لأن عيسى ليس له أب فهو ابن ابنة نوح * (ومن آبائهم) * في موضع نصب عطف على كلا أي وهدينا بعض آبائهم * (فإن يكفر بها هؤلاء) * أي أهل مكة * (وكلنا بها قوما) * هم الأنبياء المذكورون وقيل الصحابة وقيل كل مؤمن والأول أرجح لدلالة ما بعده على ذلك ومعنى توكيلهم بها توفيقهم للإيمان بها والقيام بحقوقها * (أولئك الذين هدى الله) * إشارة إلى الأنبياء المذكورين * (فبهداهم اقتده) * استدل به من قال إن شرع من قبلنا شرع لنا فأما أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فاتفقت فيه جميع الأمم والشرائع وأما الفروع ففيها وقع الاختلاف بين
الشرائع والخلاف هل يقتدي النبي صلى الله عليه وسلم فيها بمن قبله أم لا والهاء في اقتده للوقف فينبغي أن تسقط في الوصل ولكن من أثبتها فيه راعى ثبوتها في خط المصحف * (وما قدروا الله حق قدره) * أي ما عرفوه حق معرفته في اللطف بعباده والرحمة لهم إذ أنكروا بعثه للرسل وإنزاله للكتب والقائلون هم اليهود بدليل ما بعده وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وروي أن الذي قالها منهم مالك بن الضيف فرد الله عليهم بأن ألزمهم ما لا بد لهم من الإقرار به وهو إنزال التوراة على موسى وقيل القائلون قريش ولزموا ذلك لأنهم كانوا مقرين بالتوراة * (وعلمتم ما لم تعلموا) * الخطاب لليهود أو لقريش على وجه إقامة الحجة والرد عليهم في
15

قولهم ما أنزل الله على بشر من شيء فإن كان لليهود فالذي علموه التوراة وإن كان لقريش فالذي علموه ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم * (قل الله) * جواب من أنزل واسم الله مرفوع بفعل مضمر تقديره أنزله الله أو مرفوع بالابتداء * (ولتنذر) * عطف على صفة الكتاب * (أم القرى) * مكة وسميت أم القرى لأنها مكان أول بيت وضع للناس ولأنه جاء أن الأرض دحيت منها ولأنها يحج إليها أهل القرى من كل فج عميق * (أو قال أوحي إلي) * هو مسيلمة وغيره من الكذابين الذين ادعوا النبوة * (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) * هو النضر بن الحرث لأنه عارض القرآن واللفظ عام فيه وفي غيره من المستهزئين * (ولو ترى) * جوابه محذوف تقديره لرأيت أمرا عظيما والظالمون من تقدم ذكره من اليهود والكذابين والمستهزئين فتكون اللام للعهد وأعم من ذلك فتكون للجنس * (باسطوا أيديهم) * أي تبسط الملائكة أيديهم إلى الكفار يقولون لهم أخرجوا أنفسكم وهذه عبارة عن التعنيف في السياق والشدة في قبض الأرواح * (اليوم تجزون) * يحتمل أن يريد ذلك الوقت بعينه أو الوقت الممتد من حينئذ إلى الأبد * (الهون) * الذلة * (فرادى) * منفردين عن أموالكم وأولادكم أو عن شركائهم والأول يترجح لقوله تركتم ما خولناكم أي ما أعطيناكم من الأموال والأولاد ويترجح الثاني بقوله وما نرى معكم شفعاءكم * (تقطع بينكم) * تفرق شملكم ومن قرأه بالرفع أسند الفعل إلى الظرف واستعمله استعمال الأسماء ويكون البين بمعنى الفرقة أو بمعنى الوصل ومن قرأه بالنصب فالفاعل مصدر الفعل أو محذوف تقديره تقطع الاتصال بينكم * (فالق الحب والنوى) * أي يفلق الحب تحت الأرض لخروج النبات منها ويفلق النوى لخروج الشجر منها وقيل أراد الشقين الذين في النواة والحنطة والأول أرجح لعمومه في أصناف الحبوب * (يخرج الحي) * تقدم في آل عمران * (ومخرج الميت من الحي) * معطوف على فالق * (فالق الإصباح) * أي الصبح فهو مصدر سمي به الصبح ومعنى فلقه أخرجه من الظلمات وقيل إن الظلمة هي التي تنفلق عن الصبح فالتقدير فالق ظلمة الإصباح * (سكنا) * أي يسكن فيه عن الحركات ويستراح * (حسبانا) * أي يعلم بهما حساب الأزمان والليل والنهار * (ذلك تقدير العزيز العليم) * ما أحسن ذكر هذين الإسمين هنا لأن العزيز يغلب كل شيء
16

ويقهره وهو قد قهر الشمس والقمر وسخرهما كيف شاء والعليم لما في تقدير الشمس والقمر والليل والنهار من العلوم والحكمة العظيمة وإتقان الصنعة * (في ظلمات البر والبحر) * أي في ظلمات الليل في البر والبحر وأضاف الظلمة إليها لملابستها لهما أو شبه الطرق المشتبهة بالظلمات * (فمستقر ومستودع) * من كسر القاف من مستقر فهو اسم فاعل ومستودع اسم مفعول والتقدير فمنكم مستقر ومستودع ومن فتحها فهو اسم مكان أو مصدر ومستودع مثله والتقدير على هذا لكم مستقر ومستودع والاستقرار في الرحم والاستيداع في الصلب وقيل الاستقرار فوق الأرض والاستيداع تحتها * (فأخرجنا به) * الضمير عائد على الماء * (فأخرجنا منه) * الضمير عائد على النبات * (خضرا) * أي أخضر غصا وهو يتولد من أصل النبات من الفراخ * (نخرج منه) * الضمير عائد على الخضر * (حبا متراكبا) * يعني السنبل لأن حبه بعضه على بعض وكذلك الرمان وشبهه * (قنوان) * جمع قنو وهو العنقود من التمر وهو مرفوع بالابتداء وخبره من النخل ومن طلعها بدل والطلع أول ما يخرج من التمر في أكمامه * (دانية) * أي قريبة سهلة التناول وقيل قريبة بعضها من بعض * (وجنات من أعناب) * بالنصب عطف على نبات كل شيء وقرئ في غير السبع بالرفع عطف على قنوان * (مشتبها وغير متشابه) * نصب على الحال من الزيتون والرمان أو من كل ما تقدم من النبات والمشتبه والمتشابه بمعنى واحد أي من النبات ما يشبه بعضه بعضا في اللون والطعم والصورة ومنه ما لا يشبه بعضه بعضا وفي ذلك دليل قاطع على الصانع المختار القدير العليم المريد * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) * أي انظروا إلى ثمره أول ما يخرج ضعيفا لا منفعة فيه ثم ينتقل من حال إلى حال حتى ينيع أي ينضج ويطيب * (شركاء الجن) * نصب الجن على أنه مفعول أول لجعلوا وشركاء مفعول ثان وقدم لاستعظام الإشراك أو شركاء مفعول أول والله في موضع المفعول الثاني والجن بدل من شركاء والمراد بهم هنا الملائكة وذلك ردا على من عبدهم وقيل المراد الجن والإشراك بهم طاعتهم * (وخلقهم) * الواو للحال والمعنى الرد عليهم أي جعلوا لله شركاء وهو خلقهم والضمير عائد على الجن أو على الجاعلين والحجة قائمة على الوجهين * (وخرقوا له بنين وبنات) * أي اختلقوا وزوروا والبنين قول النصارى في المسيح واليهود في عزير والبنات قول العرب في الملائكة * (بغير علم) * أي قالوا ذلك بغير دليل ولا حجة بل مجرد افتراء * (بديع) * ذكر معناه في البقرة ورفعه على أنه خبر ابتداء مضمر أو مبتدأ وخبره أنى يكون وفاعل تعالى والقصد به الرد على من نسب لله البنين والبنات وذلك من وجهين أحدها أن
17

الولد لا يكون إلا من جنس والده والله تعالى متعال عن الأجناس لأنه مبدعها فلا يصح أن يكون له ولد والآخر أن الله خلق السماوات والأرض ومن كان هكذا فهو غني عن الولد وعن كل شيء * (فاعبدوه) * مسبب عن مضمون الجملة أي من كان هكذا فهو المستحق للعبادة وحده * (لا تدركه الأبصار) * يعني في الدنيا وأما في الآخرة فالحق أن المؤمنين يرون ربهم بدليل قوله إلى ربها ناظرة وقد جاءت في ذلك أحاديث صحيحة صريحة لا تحتمل التأويل وقال الأشعرية إن رؤية الله تعالى في الدنيا جائزة عقلا لأن موسى سألها من الله ولا يسأل موسى ما هو محال وقد اختلف الناس هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لا * (وهو يدرك الأبصار) * قال بعضهم الفرق بين الرؤية والإدراك أن الإدراك يتضمن الإحاط بالشيء والوصول إلى غايته فلذلك نفى أن تدرك أبصار الخلق ربهم ولا يقتضي ذلك نفي الرؤية وحسن على هذا قوله وهو يدرك الأبصار لإحاطة علمه تعالى بالخفيات * (اللطيف الخبير) * أي لطيف عن أن تدركه الأبصار وهو الخبير بكل شيء وهو
يدرك الأبصار * (قد جاءكم بصائر) * جمع بصيرة وهو نور القلب والبصر نور العين وهذا الكلام على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وما أنا عليكم بحفيظ * (وليقولوا) * متعلق بمحذوف تقديره ليقولوا صرفنا الآيات * (درست) * بإسكان السين وفتح التاء درست العلم وقرأته ودارست بالألف أي دارست العلم وتعلمت منه ودرست بفتح السين وإسكان التاء بمعنى قدمت هذه الآيات ودبرت * (ولنبينه) * الضمير للآيات وجاء مذكرا لأن المراد بها القرآن * (وأعرض عن المشركين) * إن كان معناه أعرض عما يدعونك إليه أو عن مجادلتهم فهو محكم وإن كان عن قتالهم وعقابهم فهو منسوخ وكذلك ما أنا عليكم بحفيظ وبوكيل * (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله) * أي لا تسبوا آلهتهم فيكون ذلك سببا لأن يسبوا الله واستدل المالكية بهذا على سد الذرائع * (قل إنما الآيات عند الله) * أي هي بيد الله لا بيدي * (وما يشعركم) * أي ما يدريكم وهو من الشعور بالشيء وما نافية أو استفهامية * (أنها إذا جاءت لا يؤمنون) * من قرأ بفتح أنها فهو معمول يشعركم أي ما يدريكم أن الآيات إذا جاءتهم لا يؤمنون بها نحن نعلم ذلك وأنتم لا تعلمونه وقيل لا زائدة والمعنى ما يشعركم أنهم يؤمنون وقيل أن هنا بمعنى لعل فمن قرأ بالكسر فهي استئناف إخبار وتم الكلام في قوله وما يشعركم أي ما يشعركم ما يكون منهم فعلى القراءة بالكسر يوقف على ما يشعركم وأما على القراءة
18

بالفتح فإن كانت مصدرية لم يوقف عليه لأنه عامل فيها وإن كانت بمعنى لعل فأجاز بعض الناس الوقف ومنعه شيخنا أبو جعفر بن الزبير لما في لعل من معنى التعليل * (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم) * أي نطبع عليها ونصدها عن الفهم فلا يفهمون * (كما لم يؤمنوا) * الكاف للتعليل أي نطبع على أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم على أنهم لا يؤمنون به أول مرة ويحتمل أن تكون للتشبيه أي نطبع عليها إذا رأوا الآيات مثل طبعنا عليها أول مرة * (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة) * الآية رد عليهم في قسمهم أنهم لو جاءتهم آية ليؤمنون بها أي لو أعطيناهم هذه الآيات التي اقترحوها وكل آية لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله * (قبلا) * بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة فنصبه على الحال وقرئ بضمتين ومعناه مواجهة كقوله قدمن قبل وقيل هو جمع قبيل بمعنى كفيل أي كفلا بتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم * (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا) * الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي لغيره * (شياطين الإنس والجن) * أي المتمردين من الصنفين ونصب شياطين على البدل من عدوا إذ هو بمعنى الجمع أو مفعول أول وعدوا مفعول ثان * (يوحي بعضهم إلى بعض) * أي يوسوس ويلقي الشر * (زخرف القول غرورا) * ما يزينه من القول * (ولو شاء ربك ما فعلوه) * الضمير عائد على وحيهم أو على عداوة الكفار * (فذرهم) * وعيد * (وما يفترون) * ما في موضع نصب على أنها مفعول معه أو عطف على الضمير * (ولتصغى) * أي تميل وهو متعلق بمحذوف واللام لام الصيرورة * (إليه) * الضمير لوحيهم * (وليقترفوا) * يكتسبوا * (أفغير الله) * معمول لقول محذوف أي قل لهم * (وتمت كلمة ربك) * أي صحت والكلمات ما نزل على عباده من كتبه * (صدقا وعدلا) * أي صدقا فيما أخبر وعدلا فيما حكم * (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) * القصد بهذا الأمر إباحة ما ذكر اسم الله عليه والنهي عما ذبح للنصب وغيرها وعن الميتة وهذا النهي يقتضيه دليل الخطاب من الأمر ثم صرح به في قوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقد استدل بذلك من أوجب التسمية على الذبيحة وإنما جاء الكلام في سياق تحريم الميتة وغيرها
19

فإن حملناه على ذلك لم يكن فيه دليل على وجوب التسمية في ذبائح المسلمين وإن حملناه على عمومه كان فيه دليل على ذلك وقال عطاء وهذه الآية أمر بذكر الله على الذبح والأكل والشرب * (وما لكم ألا تأكلوا) * المعنى أي غرض لكم في ترك الأكل مما ذكر اسم الله عليه وقد بين لكم الحلال من الحرام * (إلا ما اضطررتم إليه) * استثناء بما حرم (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) لفظ يعم أنواع المعاصي لأن جميعها إما باطن وإما ظاهر وقيل الظاهر الأعمال والباطن الاعتقاد * (وإنه لفسق) * الضمير لمصدر لا تأكلوا * (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) * سببها أن قوما من الكفار قالوا إنا نأكل ما قتلناه ولا نأكل ما قتل الله يعنون الميتة * (أو من كان ميتا فأحييناه) * الموت هنا عبارة عن الكفر والإحياء عبارة عن الإيمان والنور نور الإيمان والظلمات الكفر فهي استعارات وفي قوله ميتا فأحييناه مطابقة وهي من أدوات البيان ونزلت الآية في عمار بن ياسر وقيل في عمر بن الخطاب والذي في الظلمات أبو جهل ولفظها أعم من ذلك * (كمن مثله) * مثل هنا بمعني صفة وقيل زائدة والمعنى كمن هو * (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر) * أي كما جعلنا في مكة أكابرها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية وإنما ذكر الأكابر لأن غيرهم تبع لهم والمقصود تسلية النبي صلى الله عليه وسلم * (مجرميها) * إعرابه مضاف إليه عند الفارسي وغيره وقال ابن عطية وغيره إنه مفعول أول بجعلنا وأكابر مفعول ثان مقدم وهذا جيد في المعنى ضعيف في العربية لأن أكابر جمع أكبر وهو من أفعل فلا يستعمل إلا بمن أو بالإضافة * (وقالوا لن نؤمن) * الآية قائل هذه المقالة أبو جهل وقيل الوليد بن المغيرة لأنه قال أنا أولى بالنبوة من محمد * (الله أعلم حيث يجعل رسالته) * رد عليهم فيما طلبوه والمعنى أن الله علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم أهل للرسالة فخصه بها وعلم أنهم لبسوا بأهل لها فحرمهم إياها وفي الآية من أدوات البيان الترديد لكونه ختم كلامهم باسم الله ثم رده في أول كلامه * (صغار) * أي ذلة * (يشرح صدره للإسلام) * شرح الصدر وضيقه وحرجه ألفاظ مستعارة ومن قرأ حرجا بفتح الراء فهو مصدر وصف به * (كأنما يصعد في السماء) * أي كأنما يحاول الصعود إلى السماء وذلك غير ممكن فكذلك يصعب عليه الإيمان وأصل يصعد المشدد يتصعد وقرئ بالتخفيف
20

* (دار السلام) * الجنة والسلام هنا يحتمل أن يكون اسم الله فأضافها إليه لأنها ملكه وخلقه أو بمعنى السلامة والتحية * (ويوم نحشرهم) * العامل في يوم محذوف تقديره اذكر وتقديره قلنا ويكون على هذا عاملا في يوم وفي * (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) * أي أضللتم منهم كثيرا وجعلتموهم أتباعكم كما تقول استكثر الأمير من الجيش * (استمتع بعضنا ببعض) * استمتاع الجن بالإنس طاعتهم لهم واستمتاع الإنس بالجن كقوله وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فإن الرجل كان إذا نزل واديا قال أعوذ بصاحب هذا الوادي يعني كبير الجن * (وبلغنا أجلنا) * هو الموت وقيل الحشر * (إلا ما شاء الله) * قيل الاستثناء من الكاف والميم في مثواكم فما بمعنى من لأنها وقعت على صنف من الجن والإنس والمستثنى على هذا من آمن منهم وقيل الاستثناء من مدة الخلود وهو الزمان الذي بين حشرهم إلى دخول النار وقيل الاستثناء من النار وهو دخولهم الزمهرير وقيل ليس المراد هنا بالاستثناء الإخراج وإنما هو على وجه الأدب مع الله وإسناد الأمور إليه * (نولي
بعض الظالمين بعضا) * أي نجعل بعضهم وليا لبعض وقيل يتبع بعضهم بعضا في دخول النار وقيل نسلط بعضهم على بعض * (ألم يأتكم رسل) * تقرير للجن والإنس فقيل إن الجن بعث فيهم رسل منهم لظاهر الآية وقيل إنما الرسل من الإنس خاصة وإنما قال رسل منكم لأنه جمع الثقلين في الخطاب * (وشهدوا على أنفسهم) * لا تنافي بينه وبين قولهم ما كنا مشركين لما تقدم هناك فإن قيل لم كرر شهادتهم على أنفسهم فالجواب أن قولهم شهدنا على أنفسنا قول قالوه هم وقوله شهدوا على أنفسهم ذلهم وتقبيح لحالهم * (ذلك) * خبر ابتداء مضمر تقديره الأمر ذلك أو مفعول لفعل مضمر تقديره فعلنا ذلك والإشارة إلى بعث الرسل * (إن لم يكن) * تعليل لبعث الرسل وهو في موضع مفعول من أجله أو بدل من ذلك * (بظلم) * فيه وجهان أحدهما أن الله لم يكن ليهلك القرى دون بعث الرسل إليهم فيكون إهلاكهم ظلما إذ لم ينذرهم فهو كقوله وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا والآخر أن الله لا يهلك القرى بظلمهم إذا ظلموا دون أن ينذرهم ففاعل الظلم على هذا أهل القرى وغفلتهم عدم إنذارهم حكى الوجهين ابن عطية والزمخشري والوجه الأول صحيح على مذهب المعتزلة ولا يصح على مذهب أهل السنة لأن الله لو أهلك عباده بغير
21

ذنب لم يكن ظالما عندهم * (ولكل درجات) * منازل في الجزاء على أعمالهم من الثواب والعقاب * (من ذرية قوم) * أي من ذرية أهل سفينة نوح أو من كان قبلهم إلى آدم * (اعملوا على مكانتكم) * الأمر هنا للتهديد والمكانة التمكن * (فسوف تعلمون) * تهديد * (من تكون له) * يحتمل أن تكون من موصولة في موضع نصب على المفعولية أو استفهامية في موضع رفع بالابتداء * (عاقبة الدار) * أي الآخرة أو الدنيا والأول أرجح لقوله عقبى الدار جنات عدن * (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا) * الضمير في جعلوا لكفار العرب قال السهيلي هم حي من خولان يقال لهم الأديم كانوا يجعلون من زروعهم وثمارهم ومن أنعامهم نصيبا لله ونصيبا لأصنامهم ومعنى ذرأ خلق وأنشأ ففي ذلك رد عليهم لأن الله الذي خلقها وذرأها هو مالكها لا رب غيره * (بزعمهم) * أي بدعواهم وقولهم من غير دليل ولا شرع وأكثر ما يقال الزعم في الكذب وقرئ بفتح الزاي وضمها وهما لغتان * (فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله) * الآية كانوا إذا هبت لريح فحملت شيئا من الذي لله إلى الذي للأصنام أقروه وإن حملت شيئا من الذي للأصنام إلى الذي لله ردوه وإذا اصابتهم سنة أكلوا نصيب الله وتحاموا نصيب شركائهم * (وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم) * كانوا يقتلون أولادهم بالوأد ويذبحونهم قربانا إلى الأصنام وشركاؤهم هنا هم الشياطين أو القائمون على الأصنام وقرأ الجمهور بفتح الزاي من زين على البناء للفاعل ونصب قتل على أنه مفعول وخفض أولادهم بالإضافة ورفع شركاؤهم على أنه فاعل بزين والشركاء على هذه القراءة هم الذين زينوا القتل وقرأ ابن عباس بضم الزاي على البناء للمفعول ورفع قتل على أنه مفعول لم يسم فاعله ونصب أولادهم على أنه مفعول بقتل وخفض شركائهم على الإضافة إلى قتل إضافة المصدر إلى فاعله وفصل بين المضاف والمضاف إليه بقوله أولادهم وذلك ضعيف في العربية وقد سمع في الشعر والشركاء على هذه القراءة هم القاتلون للأولاد * (ليردوهم) * أي ليهلكوهم وهو من الردى بمعنى الهلاك * (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر) * أي حرام وهو فعل بمعنى مفعول نحو ذبح فيستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع * (لا يطعمها إلا من نشاء) * أي لا يأكلها إلا من شاؤوا وهم القائمون على الأصنام والرجال دون النساء * (وأنعام حرمت ظهورها) * أي لا تركب وهي السائبة وأخواتها " وأنعام
22

لا يذكرون اسم الله عليها) قيل معناه لا يحج عليها فلا يذكر اسم الله بالتلبية وقيل لا يذكر اسم الله عليها إذا ذبحت * (افتراء عليه) * كانوا قد قسموا أنعامهم على هذه الأقسام ونسبوا ذلك إلى الله افتراء وكذبا ونصب على الحال أو مفعول من أجله أو مصدر مؤكد * (وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة) * الآية كانوا يقولون في أجنة البحيرة والسائبة ما ولد منها حيا فهو للرجال خاصة ولا يأكل منها النساء وما ولد منها ميتا اشترك فيه الرجال والنساء وأنث خالصة للحمل على المعنى وهي الأجنة وذكر محرم حملا على لفظ ما ويجوز أن تكون التاء للمبالغة * (وحرموا ما رزقهم الله) * أي البحيرة والسائبة وشبهها * (جنات معروشات) * مرفوعات على دعائم وشبهها * (وغير معروشات) * متروكات على وجه الأرض وقيل المعروشات ما غرسه الناس في العمران وغير معروشات ما أنبته الله في الجبال والبراري * (مختلفا أكله) * في اللون والطعم والرائحة والحجم وذلك دليل على أن الخالق مختار مريد * (وآتوا حقه يوم حصاده) * قيل حقه هنا الزكاة وهو ضعيف لوجهين أحدهما أن الآية مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة والآخر أن الزكاة لا تعطى يوم الحصاد وإنما تعطى يوم ضم الحبوب والثمار وقيل حقه ما يصدق به على المساكين يوم الحصاد وكان ذلك واجبا ثم نسخ بالعشر وقيل هو ما يسقط من السنبل والأمر على هذا للندب * (حمولة وفرشا) * عطف على جنات والحمولة الكبار والفرش الصغار كالعجاجيل والفصلان وقيل الحمولة الإبل لأنها يحمل عليها والفرش الغنم لأنها تفرش للذبح ويفرش ما ينسج من صوفها * (ثمانية أزواج) * بدل من حمولة وفرشا وسماها أزواجا لأن الذكر زوج للأنثى والأنثى زوج للذكر * (من الضأن اثنين) * يريد الذكر والأنثى وكذلك فيما بعده * (قل آلذكرين) * يعني الذكر من الضأن والذكر من المعز ويعني بالأنثيين الأنثى من الضأن والأنثى من المعز وكذلك فيما بعده من الإبل والبقر والهمزة للإنكار " نبؤني بعلم " تعجيز وتوبيخ * (افترى على الله كذبا) * يعني في تحريم ما لم يحرم الله وذلك إشارة إلى العرب في
23

تحريمهم أشياء كالبحيرة وغيرها * (قل لا أجد) * الآية تقتضي حصر المحرمات فيما ذكر وقد جاء في السنة تحريم أشياء لم تذكر هنا كلحوم الحمر فذهب قوم إلى أن السنة نسخت هذا الحصر وذهب آخرون إلى أن الآية وردت على سبب فلا تقتضي الحصر وذهب آخرون إلى أن ما عدا ما ذكر إنما نهى عنه على وجه الكراهة لا على وجه التحريم * (أو فسقا) * معطوف على المنصوبات قبله وهو ما أهل به لغير الله سماه فسقا لتوغله في الفسق وقد تقدم الكلام على هذه المحرمات في البقرة * (كل ذي ظفر) * هو ماله أصبع من دابة وطائر قاله الزمخشري وقال ابن عطية يراد به الإبل والإوز والنعام ونحوه من الحيوان الذي هو غير منفرج الأصابع أو له ظفر وقال الماوردي مثله وحكى النقاش عن ثعلب أن كل ما لا يصيد فهو ذو ظفر وما يصيد فهو ذو مخلب وهذا غير مطرد لأن الأسد ذو ظفر * (إلا ما حملت ظهورهما) * يعني ما في الظهور والجنوب من الشحم * (أو الحوايا) * هي المباعر وقيل المصارين والحشوة ونحوهما مما يتحوى في البطن وواحد حوايا حوية على وزن فعلية
فوزن حوايا على هذا فعائل كصحيفة وصحائف وقيل واحدها حاوية على وزن فاعلة فحوايا على هذا فواعل كضاربة وضوارب وهو معطوف على ما في قوله إلا ما حملت ظهورهما فهو من المستثنى من التحريم وقيل عطف على الظهور فالمعنى إلا ما حملت الظهور أو حملت الحوايا وقيل عطف على الشحوم فهو من المحرم * (أو ما اختلط بعظم) * يريد ما في جميع الجسد * (وإنا لصادقون) * أي فيما أخبرنا به من التحريم وفي ذلك تعريض بكذب من حرم ما لم يحرم الله * (فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة) * أي إن كذبوك فيما أخبرت به من التحريم فقل لهم ربكم ذو رحمة واسعة إذ لا يعاجلكم بالعقوبة على شدة جرمكم وهذا كما تقول عند رؤية معصية ما أحلم الله تريد لإمهاله عن مثل ذلك ثم أعقب وصفه بالرحمة الواسعة بقوله * (ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين) * أي لا تغتروا بسعة رحمته فإنه لا يرد بأسه عن مثلكم إما في الدنيا أو في الآخرة * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا) * الآية معناها أنهم يقولون إن شركهم وتحريمهم لما حرموا كان بمشيئة الله ولو شاء الله أن لا يفعلوا ذلك ما فعلوه فاحتجوا على ذلك بإرادة الله له وتلك نزغة جبرية ولا حجة لهم في ذلك لأنهم مكلفون مأمورون ألا يشركوا بالله ولا يحللوا ما حرم الله ولا يحرموا ما حلل الله والإرادة خلاف التكليف ويحتمل عندي أن يكون قولهم * (لو شاء الله) * قولا يقولونه في الآخرة على وجه التمني أن ذلك لم يكن كقولك إذا ندمت على شيء لو شاء الله ما كان هذا أي يتمنى أن ذلك لم يكن ويؤيد هذا أنه حكى قوله بأداة الاستقبال وهي السين فذلك دليل على أنهم يقولونه في المستقبل وهي الآخرة " قل هل
24

عندكم من علم) توقيف لهم وتعجيز * (قل فلله الحجة البالغة) * لما أبطل حجتهم أثبت حجة الله ليظهر الحق ويبطل الباطل * (هلم) * قيل هي بمعنى هات فهي متعدية وقيل بمعنى أقبل فهي غير متعدية وهي عند بعض العرب فعل يتصل به ضمير الاثنين والجماعة والمؤنث وعند بعضهم اسم فعل فيخاطب بها الواحد والاثنان والجماعة والمؤنث على حد سواء ومقصود الآية تعجيزهم عن إقامة الشهداء * (فإن شهدوا فلا تشهد معهم) * أي إن كذبوا في شهادتهم وزوروا فلا تشهد بمثل شهادتهم * (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) * أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله عليهم وذكر في هذه الآيات المحرمات التي أجمعت عليها جميع الشرائع ولم تنسخ قط في ملة وقال ابن عباس هي الكلمات العشر التي أنزل الله على موسى * (ألا تشركوا به شيئا) * قيل أن هنا حرف عبارة وتفسير فلا موضع لها من الإعراب ولا ناهية جزمت الفعل وقيل أن مصدرية في موضع رفع تقديره الأمر ألا تشركوا فلا على هذا نافية وقيل أن في موضع نصب بدلا من قوله ما حرم ولا يصح ذلك إلا إن كانت لا زائدة وإن لم تكن زائدة فسد المعنى لأن الذي حرم على ذلك يكون ترك الإشراك والأحسن عندي أن تكون أن مصدرية في موضع نصب على البدل ولا نافية ولا يلزم ما ذكر من فساد المعنى لأن قوله ما حرم ربكم معناه ما وصاكم به ربكم بدليل قوله في آخر الآية ذلكم وصاكم به فضمن التحريم معنى الوصية والوصية في المعنى أعم من التحريم لأن الوصية تكون بتحريم وبتحليل وبوجوب وندب ولا ينكر أن يريد بالتحريم الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص وتريد به العموم كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص إذ تقرر هذا فتقدير الكلام قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم ثم أبدل منه على وجه التفسير له والبيان فقال أن لا تشركوا به شيئا أي وصاكم ألا تشركوا به شيئا ووصاكم بالإحسان بالوالدين ووصاكم أن لا تقتلوا أولادكم فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين وما بعد ذلك ويؤيد هذا التأويل الذي تأولنا أن الآيات اشتملت على أوامر كالإحسان بالوالدين وقول العدل والوفاء في الوزن وعلى نواهي كالإشراك وقتل النفس وأكل مال اليتيم فلا بد أن يكون اللفظ المقدم في أولها لفظا يجمع الأوامر والنواهي لأنها أجملت فيه ثم فسرت بعد ذلك ويصلح لذلك لفظ الوصية لأنه جامع للأمر والنهي فلذلك جعلنا التحريم بمعنى الوصية ويدل على ذلك ذكر لفظ الوصية بعد ذلك وإن لم يتأول على ما ذكرناه لزم في الآية إشكال وهو عطف الأوامر النواهي وعطف على النواهي على الأوامر فإن الأوامر طلب فعلها والنواهي طلب تركها وواو العطف تقتضي الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه ولا يصح ذلك إلا على الوجه الذي تأولناه من عموم الوصية للفعل والترك وتحتمل الآية عندي تأويلا آخر وهو أن يكون لفظ التحريم على ظاهره ويعم فعل المحرمات وترك
25

الواجبات لأن ترك الواجبات حرام * (ولا تقتلوا أولادكم من إملاق) * الإملاق الفاقة ومن هنا للتعليل تقديره من أجل إملاق وإنما نهى عن قتل الأولاد لأجل الفاقة لأن العرب كانوا يفعلون ذلك فخرج مخرج الغالب فلا يفهم منه إباحة قتلهم بغير ذلك الوجه * (ما ظهر منها وما بطن) * قيل ما ظهر الزنا وما بطن اتخاذ الأخدان والصحيح أن ذلك عموم في جميع الفواحش * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * فسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل نفس بغير نفس * (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) * النهي عن القرب يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة لأنه إذا نهى عن أن يقرب المال فالنهي عن أكله أولى وأحرى والتي هي أحسن منفعة اليتيم وتثمير ماله * (حتى يبلغ أشده) * هو البلوغ مع الرشد وليس المقصود هنا السن وحده وإنما المقصود معرفته بمصالحه * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * لما أمر بالقسط في الكيل والوزن وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج ولا يتحقق الوصول إليه أمر بما في الوسع من ذلك وعفا عما سواه * (ولو كان ذا قربى) * أي ولو كان المقول له أو عليه في شهادة أو غيرها من أهل قرابة القائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص بل يعدل * (وأن هذا صراطي مستقيما) * الإشارة بهذا إلى ما تقدم من الوصايا أو إلى جميع الشريعة وأن بفتح الهمزة والتشديد عطف على ما تقدم أو مفعول من أجله أي فاتبعوه لأن هذا صراطي مستقيما وقرئ بالكسر على الاستئناف وبالفتح والتخفيف على العطف وهي على هذا مخففة من الثقيلة * (ولا تتبعوا السبل) * الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان الباطلة ويدخل فيه أيضا البدع والأهواء المضلة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال هذا سبيل الله ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ثم قال هذه كلها سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه * (فتفرق بكم عن سبيله) * أي تفرقكم عن سبيل الله والفعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة ولذلك شدده البزي * (ثم آتينا) * معطوف على وصاكم به فإن قيل فإن إيتاء موسى الكتاب متقدم على هذه الوصية فكيف عطفه عليها بثم فالجواب أن هذه الوصية قديمة لكل أمة على لسان نبيها فصح الترتيب وقيل إنها هنا لترتيب الاخبار والقول لا لترتيب
الزمان * (تماما على الذي أحسن) * فيه ثلاث تأويلات أحدها أن المعنى تماما للنعمة على الذي أحسن من قوم موسى ففاعل أحسن ضمير يعود على الذي والذي أحسن يراد به جنس المحسنين والآخر أن المعنى تماما أي تفضلا أو جزاء على ما أحسن موسى عليه السلام من طاعة ربه
26

وتبليغ رسالته فالفاعل على هذا ضمير موسى عليه السلام والذي صفة لعمل موسى والثالث تماما أي إكمالا على ما أحسن الله به إلى عباده فالعامل على هذا ضمير الله تعالى * (أن تقولوا) * في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تقولوا * (على طائفتين) * أهل التوراة والإنجيل * (وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * أي لم ندرس مثل دراستهم ولم نعرف ما درسوا من الكتب فلا حجة علينا وأن هنا مخففة من الثقيلة * (فقد جاءكم بينة) * إقامة حجة عليهم * (صدف) * أي أعرض * (هل ينظرون) * الآية تقدمت نظيرتها في البقرة * (بعض آيات ربك) * أشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها فحينئذ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة عاص فقوله لا ينفع نفسا إيمانها يعني أن إيمان الكافر لا ينفعه حينئذ وقوله * (أو كسبت في إيمانها خيرا) * يعني أن من كان مؤمنا ولم يكسب حسنات قبل ظهور تلك الآيات ثم تاب إذا ظهرت لم ينفعه لأن باب التوبة يغلق حينئذ * (قل انتظروا) * وعيد * (إن الذين فرقوا دينهم) * هم اليهود والنصارى وقيل أهل الأهواء والبدع وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قيل يا رسول الله ومن تلك الواحدة قال من كان على ما أنا وأصحابي عليه وقرئ فارقوا أي تركوا * (وكانوا شيعا) * جمع شيعة أي متفرقين كل فرقة تتشيع لمذهبها " لست منهم في شئ " أي أنت بريء منهم * (عشر أمثالها) * فضل عظيم على العموم في الحسنات وفي العاملين وهو أقل التضعيف للحسنات فقد تنتهي إلى سبعمائة وأزيد * (دينا قيما) * بدل من موضع إلى صراط مستقيم لأن أصله هداني صراطا بدليل اهدنا الصراط والقيم فيعل من القيام وهو أبلغ من قائم وقرئ قيما بكسر القاف وتخفيف الياء وفتحها وهو على هذا مصدر وصف به * (ملة إبراهيم) * بدل من دينا أو عطف بيان * (ونسكي) * أي عبادتي وقيل ذبحي للبهائم وقيل حجي والأول أعم وأرجح
27

* (ومحياي ومماتي) * أي أعمالي في حين حياتي وعند موتي * (لله) * أي خالصا لوجهه وطلب رضاه ثم أكد ذلك بقوله لا شريك له أي لا أريد بأعمالي غير الله فيكون نفيا للشرك الأصغر وهو الرياء ويحتمل أن يريد لا أعبد غير الله فيكون نفيا للشرك الأكبر * (وبذلك أمرت) * إشارة إلى الإخلاص الذي تقتضيه الآية قبل ذلك * (وأنا أول المسلمين) * لأنه صلى الله عليه وسلم سابق أمته * (قل أغير الله أبغي ربا) * تقرير وتوبيخ للكفار وسببها أنهم دعوه إلى عبادة آلهتهم " وهو رب كل شئ " برهان على التوحيد ونفي الربوبية عن غير الله * (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) * رد على الكفار لأنهم قالوا له اعبد آلهتنا ونحن نتكفل لك بكل تباعة تتوقعها في دنياك وأخراك فنزلت هذه الآية أي ليس كما قلتم وإنما كسب كل نفس عليها خاصة * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * أي لا يحمل أحد ذنوب أحد وأصل الوزر الثقل ثم استعمل في الذنوب * (خلائف) * جمع خليفة أي يخلف بعضكم بعضا في السكنى في الأرض أو خلائف عن الله في أرضه والخطاب على هذا لجميع الناس وقيل لأمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم خلفوا الأمم المتقدمة * (ورفع بعضكم) * عموم في المال والجاه والقوة والعلوم وغير ذلك مما وقع فيه التفضيل بين العباد " ليبلوكم فيما آتاكم... " ليختبر شكركم على ما أعطاكم وأعمالكم فيما مكنكم فيه * (إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم) * جمع بين التخويف والترجية وسرعة عقابه تعالى إما في الدنيا بمن عجل أخذه أو في الآخرة لأن كل آت قريب ونسأل الله أن يغفر لنا ويرحمنا بفضله ورحمته
سورة الأعراف
* (المص) * تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة * (حرج منه) * أي ضيق من تبليغه مع تكذيب قومك وقيل الحرج هنا الشك فتأويله كقوله فلا تكن من الممترين " لتنذر " متعلق بأنزل * (وذكرى) * منصوب على المصدرية بفعل مضمر تقديره لتنذر وتذكر ذكرى لأن الذكر بمعنى التذكير أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر أو مخفوض عطفا على موضع لتنذر أي للإنذار والذكرى * (قليلا ما تذكرون) * انتصب قليلا بتذكرون أي تذكرون تذكرا
28

قليلا وما زائدة للتوكيد * (هلكناها فجاءها بأسنا) * قيل إنه من المقلوب تقديره جاءها بأسنا فأهلكناها وقيل المعنى أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا لأن مجىء البأس قبل الإهلاك فلا يصح عطفه عليه بالفاء ويحتمل أن فجاءها بأسنا استئنافا على وجه التفسير للإهلاك فلا يحتاج إلى تكلف والمراد أهلكنا أهلها فجاءهم ثم حذف المضاف بدليل أو هم قائلون " بيانا أو هم قائلون " بياتا مصدر في موضع الحال بمعنى بائتين أي بالليل وقائلون من القائلة أي بالنهار وقد أصاب العذاب بعض الكفار المتقدمين بالليل وبعضهم بالنهار وأو هنا للتنويع * (دعواهم) * أي ما كان دعاؤهم واستغاثتهم إلا للاعتراف بأنهم ظالمون وقيل المعنى أن دعواهم هنا ما كانوا يدعونه من دينهم فاعترفوا لما جاءهم العذاب أنهم كانوا ظالمين في ذلك * (أرسل إليهم) * أسند الفعل إلى الجار والمجرور ومعنى الآية أن الله يسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم ويسأل الرسل عما أجيبوا به * (فلنقصن عليهم) * أي على الرسل والأمم * (والوزن) * يعني وزن الأعمال * (يومئذ) * أي يوم يسئل الرسل وأممهم وهو يوم القيامة * (بآياتنا يظلمون) * أي يكذبون بهاظلما * (خلقناكم ثم صورناكم) * قيل المعنى أردنا خلقكم وتصويركم * (ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * وقيل خلقنا أباكم آدم ثم صورناه وإنما احتيج إلى التأويل ليصح العطف * (ألا تسجد) * لا زائدة للتوكيد * (إذ أمرتك) * استدل به بعض الأصوليين على أن الأمر يقتضي الوجوب والفور ولذلك وقع العقاب على ترك المبادرة بالسجود * (قال أنا خير منه) * تعليل علل به إبليس امتناعه من السجود وهو يقتضي الاعتراض على الله تعالى في أمره بسجود الفاضل للمفضول على زعمه وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود * (فاهبط منها) * أي من السماء * (قال فبما أغويتني) * الفاء للتعليل وهي تتعلق بفعل قسم محذوف تقديره أقسم بالله بسبب إغوائك لي لأغوين بني آدم وما مصدرية وقيل استفهامية ويبطله ثبوت الألف في ما مع حرف الجر * (صراطك) * يريد طريق الهدى والخير وهو منصوب على الظرفية * (ثم لآتينهم من بين أيديهم) * الآية أي من الجهات الأربع وذلك عبارة عن تسليطه على بني آدم كيفما أمكنه وقال ابن عباس
من بين أيديهم الدنيا ومن خلفهم الآخرة وعن أيمانهم
29

الحسنات وعن شمائلهم السيئات " مذءوما " من ذأمه بالهمز إذا ذمه * (مدحورا) * أي مطرودا حيث وقع * (فوسوس) * إذا تكلم كلاما خفيا يكرره فمعنى وسوس لهما ألقى لهما هذا الكلام * (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) * أي ليظهر ما ستر من عوراتهما واللام في قوله ليبدي للتعليل إن كان في انكشافهما غرض لإبليس أو للصيرورة إن وقع ذلك بغير قصد منه إليه * (الشجرة) * ذكرت في البقرة * (إلا أن تكونا ملكين) * أي كراهة أن تكونا ملكين واستدل به من قال إن الملائكة أفضل من الأنبياء وقرئ ملكين بكسر اللام ويقوي هذه القراءة قوله وملك لا يبلى * (وقاسمهما) * أي حلف لهما إنه لمن الناصحين وذكر قسم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين الاثنين لأنه اجتهد فيه أو لأنه أقسم لهما وأقسما له أن يقبلا نصيحته * (فدلاهما) * أي أنزلهما إلى الأكل من الشجرة * (بغرور) * أي غرهما بحلفه لهما لأنهما ظنا أنه لا يحلف كاذبا * (بدت لهما سوآتهما) * أي زال عنهما اللباس وظهرت عوراتهما وكان لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وقيل كان لباسهما نور يحول بينهما وبين النظر * (يخصفان عليهما من ورق الجنة) * أي يصلان بعضه ببعض ليستترا به * (وناداهما ربهما) * يحتمل أن يكون هذا النداء بواسطة ملك أو بغير واسطة * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * اعتراف وطلب للمغفرة والرحمة وتلك هي الكلمات التي تاب الله عليه بها * (اهبطوا) * وما بعده مذكور في البقرة * (فيها تحيون) * أي في الأرض * (لبأسا) * أي الثياب التي تستر ومعنى أنزلنا خلقنا وقيل المراد أنزلنا ما يكون عنه اللباس وهو المطر واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على وجوب ستر العورة * (ريشا) * أي لباس الزينة وهو مستعار من ريش الطائر * (ولباس التقوى) * استعار للتقوى لباسا كقولهم ألبسك الله قميص تقواه وقيل لباس التقوى ما يتقي به في الحرب من الدروع وشبهها وقرئ بالرفع على الابتداء أو خبره الجملة وهي ذلك خير * (ذلك من آيات الله) * الإشارة إلى ما أنزل من اللباس وهذه الآية واردة على
30

وجه الاستطراد عقيب ما ذكر من ظهور السوآت وخصف الورق عليها ليبين إنعامه على ما خلق من اللباس * (ينزع عنهما لباسهما) * أي كان سببا في نزع لباسهما عنهما * (من حيث لا ترونهم) * يعني في غالب الأمر وقد استدل به من قال إن الجن لا يرون وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة فتحمل الآية على الأكثر جمعا بينها وبين الأحاديث * (وإذا فعلوا فاحشة) * قيل هي ما كانت العرب تفعله من الطواف بالبيت عراة الرجال والنساء ويحتمل العموم في الفواحش * (قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها) * اعتذروا بعذرين باطلين أحدهما تقليد آبائهم والآخر افتراؤهم على الله * (وأقيموا وجوهكم) * قيل المراد إحضار النية والإخلاص لله وقيل فعل الصلاة والتوجه فيها * (عند كل مسجد) * أي في كل مكان سجود أو في وقت كل سجود والأول أظهر والمعنى إباحة الصلاة في كل موضع كقوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا * (كما بدأكم تعودون) * احتجاج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى * (فريقا) * الأول منصوب بهدى والثاني منصوب بفعل مضمر يفسره ما بعده * (خذوا زينتكم) * قيل المراد به الثياب الساترة واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة وقيل المراد به الزينة زيادة على الستر كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب * (وكلوا واشربوا) * الأمر فيهما للإباحة لأن بعض العرب كانوا يحرمون أشياء من المآكل * (ولا تسرفوا) * أي لا تكثروا من الأكل فوق الحاجة وقال الأطباء إن الطب كله مجموع في هذه الآية وقيل لا تسرفوا بأكل الحرام * (قل من حرم زينة الله) * إنكار لتحريمها وهو ما شرعه الله لعباده من الملابس والمآكل وكان بعض العرب إذا حجوا يجردون الثياب ويطوفون عراة ويحرمون الشحم واللبن فنزل ذلك ردا عليهم * (خالصة يوم القيامة) * أي الزينة والطيب في الدنيا للذين آمنوا ولغيرهم وفي الآخرة خالصة لهم دون غيرهم وقرئ خالصة بالنصب على الحال والرفع على أنه خبر بعد خبر أو خبر ابتداء مضمر * (والإثم) * عام في كل ذنب * (وأن تقولوا على الله) *
31

أي تفتروا عليه في التحريم وغيره * (فإما يأتينكم) * هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد ولزمتها النون الشديدة المؤكدة وجواب الشرط فمن اتقى الآية * (فمن أظلم) * ذكر في الأنعام * (ينالهم نصيبهم من الكتاب) * أي يصل إليهم ما كتب لهم من الأرزاق وغيرها * (ضلوا عنا) * أي غابوا * (ادخلوا في أمم) * أي ادخلوا النار في جملة أمم أو مع أمم * (اداركوا) * تلاحقوا واجتمعوا * (قالت أخراهم لأولاهم) * المراد بأولاهم الرؤساء والقادة وأخراهم الأتباع والسفلة والمعنى أن أخراهم طلبوا من الله أن يضاعف العذاب لأولاهم لأنهم أضلوهم وليس المعنى أنهم قالوا لهم ذلك خطابا لهم إنما هو كقولك قال فلان لفلان كذا أي قاله عنه وإن لم يخاطبه به * (وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل) * أي لم يكن لكم علينا فضل في الإيمان والتقوى يوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم بل نحن وأنتم سواء * (فذوقوا العذاب) * من قول أولاهم لأخراهم أو من قول الله تعالى لجميعهم * (لا تفتح لهم أبواب السماء) * فيه ثلاثة أقوال أحدهما لا يصعد عملهم إلى السماء والثاني لا يدخلون الجنة فإن الجنة في السماء والثالث لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا كما تفتح لأرواح المؤمنين * (حتى يلج الجمل في سم الخياط) * أي حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة والمعنى لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا فلا يدخلونهما أبدا * (مهاد) * فراش * (غواش) * أغطية * (لا نكلف نفسا إلا وسعها) * جملة اعتراض بين المبتدأ والخبر ليبين أن ما يطلب من الأعمال الصالحة ما في الوسع والطاقة * (ونزعنا ما في صدورهم من غل) * أي من كان في صدره غل لأخيه في الدنيا ننزعه منه
32

في الجنة وصاروا إخوانا أحبابا وإنما قال نزعنا بلفظ الماضي وهو مستقبل لتحقق وقوعه في المستقبل حتى عبر عنه بما يعبر عن الواقع وكذلك كل ما جاء بعد هذا من الأفعال الماضية في اللفظ وهي تقع في الآخرة كقوله نادى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف ونادى أصحاب النار وغير ذلك * (هدانا لهذا) * إشارة إلى الجنة أو إلى ما أوجب من الإيمان والتقوى * (أن تلكم الجنة) * وأن قد وجدنا وأن لعنة وأن سلام يحتمل أن يكون أن في كل واحدة منها مخففة من الثقيلة فيكون فيها ضميرا أو حرف عبارة وتفسير المعنى القول * (ما وعدنا ربنا حقا) * حذف مفعول وعد استغناء عنه بمفعول وعدنا أو لإطلاق الوعد فيتناول الثواب والعقاب * (أذن مؤذن) *
أي أعلم معلم وهو ملك * (وبينهما حجاب) * أي بين الجنة والنار أو بين أصحابهما وهو أرجح لقوله فضرب بينهم بسور * (الأعراف) * قال ابن عباس هو تل بين الجنة والنار وقيل سور الجنة * (رجال) * هم أصحاب الأعراف ورد في الحديث أنهم قوم من بني آدم استوت حسناتهم وسيئاتهم فلم يدخلوا الجنة ولا النار وقيل هم قوم خرجوا إلى الجهاد بغير إذن آبائهم فاستشهدوا فمنعوا من الجنة لعصيان آبائهم ونجوا من النار للشهادة * (يعرفون كلا بسيماهم) * أي يعرفون أهل الجنة بعلامتهم من بياض وجوههم ويعرفون أهل النار بعلامتهم من سواد وجوههم أو غير ذلك من العلامات * (ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم) * أي سلام أصحاب الأعراف على أهل الجنة * (لم يدخلوها وهم يطمعون) * أي أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون في دخولها من بعد * (وإذا صرفت أبصارهم) * الضمير لأصحاب الأعراف أي إذا رأوا أصحاب النار دعوا الله أن لا يجعلهم معهم * (ونادى أصحاب الأعراف رجالا) * يعني من الكفار الذين في النار قالوا لهم ذلك على وجه التوبيخ * (جمعكم) * يحتمل أن يكون أراد جمعهم للمال أو كثرتهم * (وما كنتم تستكبرون) * أي استكباركم على النار أو استكباركم على الرجوع إلى الحق فما ها هنا مصدرية وما في قوله ما أغنى استفهامية أو نافية * (أهؤلاء الذين أقسمتم) * من كلام أصحاب الأعراف خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أهل الجنة وذلك أن الكفار كانوا في الدنيا يقسمون أن الله لا يرحم المؤمنين ولا يعبأ بهم فظهر خلاف ما قالوا وقيل هي من كلام الملائكة خطابا لأهل النار والإشارة بهؤلاء إلى أصحاب
33

الأعراف * (ادخلوا الجنة) * خطابا لأهل الجنة إن كان من كلام أصحاب الأعراف تقديره قد قيل لهم ادخلوا الجنة أو خطابا لأهل الأعراف إن كان من كلام الملائكة * (أن أفيضوا علينا من الماء) * دليل على أن الجنة فوق النار * (أو مما رزقكم الله) * من سائر الأطعمة والأشربة * (فاليوم ننساهم) * أي نتركهم * (كما نسوا) * الكاف للتعليل * (وما كانوا) * عطف على كما نسوا أي لنسيانهم وجحودهم * (جئناهم بكتاب) * يعني القرآن * (فصلناه على علم) * أي علمنا كيف نفصله * (إلا تأويله) * أي هل ينتظرون إلا عاقبة أمره وما يؤول إليه أمره بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد * (قد جاءت رسل ربنا بالحق) * أي قد تبين وظهر الآن أن الرسل جاؤوا بالحق * (استوى على العرش) * حيث وقع حمله قوم على ظاهره منهم ابن أبي زيد وغيره وتأوله قوم بمعنى قصد كقوله ثم استوى إلى السماء ولو كان كذلك لقال ثم استوى إلى العرش وتأولها الأشعرية أن معنى استوى استولى بالملك والقدرة والحق الإيمان به من غير تكييف فإن السلامة في التسليم ولله در مالك بن أنس في قوله للذي سأله عن ذلك الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والسؤال عن هذا بدعة وقد روي مثل قول مالك عن أبي حنيفة وجعفر الصادق والحسن البصري ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء بل أمسكوا عنه ولذلك قال مالك السؤال عنه بدعة * (يغشي الليل النهار) * أي يلحق الليل بالنهار ويحتمل الوجهين هكذا قال الزمخشري وأصل اللفظة من الغشاء أي يجعل أحدهم غشاء للآخر يغطيه فتغطي ظلمة الليل ضوء النهار * (يطلبه حثيثا) * أي سريعا والجملة في موضع الحال من الليل أي يطلب الليل النهار فيدركه * (ألا له الخلق والأمر) * قيل الخلق المخلوقات والأمر مصدر أمر يأمر وقيل الخلق مصدر خلق والأمر واحد الأمور كقوله إلى الله تصير الأمور والكل صحيح * (تبارك) * من البزكة وهو فعل غير منصرف ولم تنطق له العرب بمضارع * (تضرعا وخفية) * مصدر في موضع الحال وكذلك خوفا وطعما وخفية من الإخفاء وقرئ خيفة من الخوف * (المعتدين) * المجاوزين للحد وقيل هنا هو رفع الصوت بالدعاء والتشطط
34

فيه * (وادعوه خوفا وطمعا) * جمع الله الخوف والطمع ليكون العبد خائفا راجيا كما قال الله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه فإن موجب الخوف معرفة سطوة الله وشدة عقابه وموجب الرجاء معرفة رحمة الله وعظيم ثوابه قال تعالى * (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) * ومن عرف فضل الله رجاه ومن عرف عذابه خافه ولذلك جاء في الحديث ولو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا إلا أنه يستحب أن يكون العبد طول عمره يغلب عليه الخوف ليقوده إلى فعل الطاعات وترك السيئات وأن يغلب عليه الرجاء عند حضور الموت لقوله صلى الله عليه وسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى واعلم أن الخوف على ثلاث درجات الأولى أن يكون ضعيفا يخطر على القلب ولا يؤثر في الباطن ولا في الظاهر فوجود هذا كالعدم والثانية أن يكون قويا فيوقظ العبد من الغفلة ويحمله على الاستقامة والثالثة أن يشتد حتى يبلغ إلى القنوط واليأس وهذا لا يجوز وخير الأمور أوسطها والناس في الخوف على ثلاث مقامات فخوف العامة من الذنوب وخوف الخاصة من الخاتمة وخوف خاصة الخاصة من السابقة فإن الخاتمة مبنية عليها والرجاء على ثلاث درجات الأولى رجاء رحمة الله مع التسبب فيها بفعل طاعة وترك معصية فهذا هو الرجاء المحمود والثانية الرجاء مع التفريط والعصيان فهذا غرور والثالثة أن يقوي الرجاء حتى يبلغ الأمن فهذا حرام والناس في الرجاء على ثلاث مقامات فمقام العامة رجاء ثواب الله ومقام الخاصة رجاء رضوان الله ومقام خاصة الخاصة رجاء لقاء الله حبا فيه وشوقا إليه " إن رحمت الله قريب من المحسنين " حذفت تاء التأنيث من قريب وهو خبر عن الرحمة على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم أو العفو أو لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي أو لأنه صفة موصوف محذوف وتقديره شيء قريب أو على تقدير النسب أي ذات قرب وقيل قريب هنا ليس خبر عن الرحمة وإنما هو ظرف لها * (الرياح بشرا) * قرئ الرياح بالجمع لأنها رياح المطر وقد اضطرد في القرآن جمعها إذا كانت للرحمة وإفرادها إذا كانت للعذاب ومنه ورد في الحديث اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا وقرئ بالإفراد والمراد الجنس وقرئ نشرا بفتح النون وإسكان الشين وهو على هذا مصدر في موضع الحال وقرئ بضمها وهو جمع نشر وقيل جمع منشور وقرئ بضم النون وإسكان الشين وهو تخفيف من الضم كرسل ورسل وقرئ بالباء في موضع النون وهو من البشارة * (بين يدي رحمته) * أي قبل المطر * (أقلت) * حملت * (سحابا ثقالا) * لأنها تحمل الماء فتثقل به * (سقناه) * الضمير للسحاب * (لبلد ميت) * يعني لا نبات فيه من شدة القحط وكذلك معناه حيث وقع * (فأنزلنا به الماء) * الضمير للسحاب أو البلد على أن تكون الباء ظرفية * (كذلك نخرج الموتى) * تمثيل لإخراج الموتى من القبور وبإخراج الزرع من الأرض وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها كذلك النشور وكذلك الخروج * (والبلد الطيب) * هو الكريم من الأرض الجيد التراب * (والذي خبث) * بخلاف ذلك كالسبخة ونحوها * (بإذن ربه) * عبارة عن السهولة والطيب والنكد
35

بخلاف ذلك فيحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر أو تكون تمثيلا للقلوب فقيل على هذا الطيب قلب المؤمن والخبيث قلب الكافر وقيل هما للفهيم والبليد * (من إله غيره) * قرأ الكسائي بالخفض حيث وقع على اللفظ وقرأ غيره بالرفع على الموضع * (عذاب يوم عظيم) * يعني يوم القيامة أو يوم هلاكهم * (الملا) * أشراف الناس * (ليس بي ضلالة) * إنما قال ضلالة ولم يقل ضلال لأن الضلالة أخص من الضلال كما إذا قيل لك عندك تمر فنقول ما عندي تمرة فتعم بالنفي * (أبلغكم) * قرئ بالتشديد والتخفيف والمعنى واحد وهو في موضع رفع صفة لرسول أو استئناف * (أعلم من الله ما لا تعلمون) * أي من صفاته ورحمته وعذابه " أو عجبتم " الهمزة للإنكار والواو للعطف والمعطوف عليه محذوف كأنه قال أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم أي على لسان رجل منكم * (في الفلك) * متعلق بمعه والتقدير استقروا معه في الفلك ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه * (عمين) * جمع أعمى وهو من عمى القلب * (أخاهم) * أي واحد من قبيلتهم وهو عطف على نوحا وهودا بدل منه أو عطف بيان وكذلك أخاهم صالحا وما بعده وما هو مثله حيث وقع * (الملأ الذين كفروا) * قيد هنا بالكفر لأن في الملأ من قوم هود من آمن وهو مرثد بن سعيد بخلاف قوم نوح فإنهم لم يكن فيهم مؤمن فأطلق لفظ الملأ (أمين) يحتمل أن يريد أمانته على الوحي أو أنهم قد كانوا عرفوه بالأمانة والصدق * (خلفاء من بعد قوم نوح) * أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا * (وزادكم في الخلق بسطة) * كانوا عظام الأجسام فكان أقصرهم ستون ذراعا وأطولهم مائة ذراع " ءآلاء الله " نعمه حيث وقع * (قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده) * استبعدوا توحيد
36

الله مع اعترافهم بربوبيته ولذلك قال لهم هود * (قد وقع عليكم) * أي حق عليكم ووجب عذاب من ربكم وغضب * (أتجادلونني في أسماء سميتموها) * يعني الأصنام أي تجادلونني في عبادة مسميات أسماء ففي الكلام حذف وأراد بقوله سميتموها أنتم وآباؤكم جعلتم لها أسماء فدل ذلك على أنها محدثة فلا يصح أن تكون آلهة أو سميتموها آلهة من غير دليل على أنها ى لهة فقولكم باطل فالجدال على القول الأول في عبادتها وعلى القول الثاني في تسميتها آلهة والمراد بالأسماء على القول الأول المسمى وعلى القول الثاني التسمية * (دابر) * ذكر في الأنعام * (بينة من ربكم) * أي آية ظاهرة وهي الناقة وأضيفت إلى الله تشريفا لها أو لأنه خلقها من غير فحل وكانوا قد اقترحوا على صالح عليه السلام أن يخرجها لهم من صخرة وعاهدوه أن يؤمنوا به إن فعل ذلك فانشقت الصخرة وخرجت منها الناقة وهم ينظرون ثم نتجت ولدا فآمن به قوم منهم وكفر به آخرون * (لكم آية) * أي معجزة تدل على صحة نبوة صالح والمجرور في موضع الحال من آية لأنه لو تأخر لكان صفة * (ولا تمسوها بسوء) * أي لا تضربوها ولا تطردوها * (وبوأكم في الأرض) * كانت أرضهم بين الشام والحجاز وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال لهم عليه الصلاة والسلام لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا وأنتم باكون مخافة أن يصيبكم مثل الذي أصابهم * (تتخذون من سهولها قصورا) * أي تبنون قصورا في الأرض البسيطة * (وتنحتون الجبال بيوتا) * أي تتخذون بيوتا في الجبال وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء وانتصب بيوتا على الحال وهو كقولك خطت هذا الثوب قميصا * (لمن آمن منهم) * بدل من الذين استضعفوا * (إنا بالذي آمنتم به كافرون) * إنما لم يقولوا إنا بما أرسل به كما قال الآخرون لئلا يكون اعترافا برسالته * (فعقروا الناقة) * نسب العقر إلى جميعهم لأنهم رضوا به وإن لم يفعله إلا واحد منهم وهو الأحيمر * (الرجفة) * الصيحة حيث وقعت وذلك أن الله أمر جبريل فصاح صيحة بين السماء والأرض
37

فماتوا منها * (جاثمين) * حيث وقع أي قاعدين لا يتحركون * (فتولى عنهم) * الآية يحتمل أن يكون توليه عنهم وقوله لهم حين عقروا الناقة قبل نزول العذاب بهم لأنه روي أنه خرج حينئذ من بين أظهرهم أو أن يكون ذلك بعد أن هلكوا وهو ظاهر الآية وعلى هذا خاطبهم بعد موتهم على وجه التفجع عليهم وقوله لا تحبون الناصحين حكاية حال ماضية * (إذ قال لقومه) * العامل في إذ أرسلنا المضمر أو يكون بدلا من لوط * (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) * أي لم يفعلها أحد من العالمين قبلكم ومن الأولى زائدة والثانية للتبعيض أو للجنس * (فما كان جواب قومه) * الآية أي أنهم عدلوا عن جوابه على كلامه إلى الأمر بإخراجه وإخراج أهله * (أناس يتطهرون) * أي يتنزهون عن الفاحشة * (من الغابرين) * أي من الهالكين وقيل من الذين غبروا في ديارهم فهلكوا أو من الباقين من أترابها يقال غير بمعنى مضى وبمعنى بقي وإنما قال من الغابرين بجمع المذكر تغليبا للرجال الغابرين * (وأمطرنا عليهم مطرا) * يعني الحجارة أصيب بها من كان منهم خارجا عن بلادهم وقلبت البلاد بمن كان فيها * (بينة من ربكم) * أي آية ظاهرة ولم تعين في القرآن آية شعيب * (فأوفوا الكيل والميزان) * كانوا ينقصون في الكيل والوزن فبعث شعيب ينهاهم عن ذلك والكيل هنا بمعنى المكيال الذي يكال به مناسبة للميزان كما جاء في هود المكيال والميزان ويجوز أن يكون الكيل والميزان مصدرين * (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) * قيل هي هو نهي عن السلب وقطع الطريق وكان ذلك من فعلهم وكانوا يقعدون على الطريق يردون الناس عن اتباع شعيب ويوعدونهم إن اتبعوه * (وتصدون) * أي تمنعون الناس عن سبيل الله وهو الإيمان والضمير في به للصراط أو لله * (تبغونها عوجا) * ذكر في آل عمران * (أو لتعودن في ملتنا) * أي
38

ليكونن أحد الأمرين إما إخراجهم أو عودهم إلى ملة الكفر فإن قيل إن العود إلى الشيء يقتضي أنه قد كان فعل قبل ذلك فيقتضي قولهم لتعودن في ملتنا أن شعيبا ومن كان معه كانوا أولا على ملة قومهم ثم خرجوا منها فطلب قومهم أن يعودوا إليها وذلك محال فإن الأنبياء معصومون من الكفر قبل النبوة وبعدها فالجواب من وجهين أحدهما قاله ابن عطية وهو أن عاد قد تكون بمعنى صار فلا يقتضي تقدم ذلك الحال الذي صار اليه والثاني قاله الزمخشري وهو أن المراد بذلك الذين آمنوا بشعيب دون شعيب وإنما أدخلوه في الخطاب معهم بذلك كما أدخلوه في الخطاب معهم في قولهم لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك فغلبوا في الخطاب بالعود الجماعة على الواحد وبمثل ذلك يجاب عن قوله إن عدنا في ملتكم وما يكون لنا أن نعود فيها * (قال أولو كنا كارهين) * الهمزة للاستفهام والإنكار والواو للحال تقديره أنعود في ملتكم ويكون لنا أن نعود فيها ونحن كارهون * (قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم) * أي إن عدنا فيها فقد وقعنا في أمر عظيم من الافتراء على الله وذلك تبرأ من العود فيها * (وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا) * هذا استسلام لقضاء الله على وجه التأدب مع الله وإسناد الأمور إليه وذلك أنه لما تبرأ من ملتهم أخبر أن الله يحكم
عليهم بما يشاء من عود وتركه فإن القلوب بيده يقلبها كيف يشاء فإن قلت إن ذلك يصح في حق قومه وأما في حق نفسه فلا فإنه معصوم من الكفر فالجواب أنه قال ذلك تواضعا وتأدبا مع الله تعالى واستسلاما لأمره كقول نبينا صلى الله عليه وسلم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك مع أنه قد علم أنه يثبته * (ربنا افتح بيننا) * أي احكم * (كأن لم يغنوا فيها) * أي كأن لم يقيموا في ديارهم * (فكيف آسى على قوم كافرين) * أي كيف أحزن عليهم وقد استحقوا ما أصابهم من العذاب بكفرهم * (بالبأساء والضراء) * قد تقدم * (بدلنا مكان السيئة الحسنة) * أي أبدلنا البأساء والضراء بالنعيم اختبارا لهم في الحالتين * (حتى عفوا) * أي كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم * (قالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء) * أي قد جرى ذلك لآبائنا ولم يضرهم فهو بالاتفاق لا بقصد الاختبار * (بركات من السماء والأرض) * أي بالمطر والزرع " أوأمن " من
39

قرأ بإسكان الواو فهي أو العاطفة ومن قرأ بفتحها فهي واو العطف دخلت عليها همزة التوبيخ كما دخلت على الفاء في قوله أفأمنوا مكر الله أي استدراجه وأخذه للعبد من حيث لا يشعر * (أولم يهد) * أي أولم يتبين * (للذين يرثون الأرض) * أي يسكنوها * (أن لو نشاء) * هو فاعل أولم يهد ومقصود الآية الوعيد * (ونطبع على قلوبهم) * عطف على أصبناهم لأنه في معنى المستقبل أو منقطع على معنى الوعيد وأجاز الزمخشري أن يكون عطفا على يرثون الأرض أو على ما دل عليه معنى أولم يهد كأنه قال يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم * (وما وجدنا لأكثرهم من عهد) * الضمير لأهل القرى والمعنى وجدناهم ناقضين للعهود " حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق " من قرأ علي بالتشديد على أنها ياء المتكلم فالمعنى ظاهر وهو أن موسى قال حقيق عليه أن لا يقول على الله إلا الحق وموضع أن لا أقول على هذا رفع على أنه خبر حقيق وحقيق مبتدأ أو بالعكس ومن قرأ علي بالتخفيف فموضع أن لا أقول خفض بحرف الجر وحقيق صفة لرسول وفي المعنى على هذا وجهان أحدهما أن علي بمعنى الباء فمعنى الكلام رسول حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق والثاني أن معنى حقيق حريص ولذلك تعدى بعلى * (قد جئتكم ببينة من ربكم) * أي بمعجزة تدل على صدقي وهي العصا أو جنس المعجزات * (فأرسل معي بني إسرائيل) * أي خلهم يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم وذلك أنه لما توفي يوسف عليه السلام غلب فرعون على بني إسرائيل واستبعدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى أربعمائة عاما * (ونزع يده فإذا هي بيضاء) * وكان موسى عليه السلام شديد الأدمة فأظهر يده لفرعون ثم أدخلها في جيبه ثم أخرجها وهي بيضاء شديدة البياض كاللبن أو أشد بياضا وقيل إنها كانت منيرة شفافة كالشمس وكانت ترجع بعد ذلك إلى لون بدنه * (للناظرين) * مبالغة في وصف يده بالبياض وكان الناس يجتمعون للنظر إليها والتعجب منها " قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر
40

عليم) حكي هذا الكلام هنا عن الملأ وفي الشعراء عن فرعون كأنه قاله هو وهم أو قاله هو ووافقوه عليه كعادة جلساء الملوك في اتباعهم لما يقول الملك * (يريد أن يخرجكم من أرضكم) * أي يخرجكم منها بالقتال أو بالحيل وقيل المراد إخراج بني إسرائيل وكانوا خداما لهم فتخرب الأرض بخروج الخدام والعمار منها * (فماذا تأمرون) * من قول الملأ أو من قول فرعون وهو من معنى المؤامرة أي المشاورة أو من الأمر وهو ضد النهي * (أرجه) * من قرأه بالهمزة فهو من أرجأت الرجل إذا أخرته فمعناه أخرهما حتى ننظر في أمرهما وقيل المراد بالإرجاء هنا السجن ومن قرأ بغير همز فتحتمل أن تكون بمعنى المهموز وسهلت الهمزة أو يكون بمعنى الرجاء أي أطمعه وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان وإما إسكانها فلعله أجرى فيها الوصل مجرى الوقف * (حاشرين) * يعني الشرطة أي جامعين للسحرة * (وجاء السحرة فرعون) * قيل هنا محذوف يدل عليه سياق الكلام وهو أنه بعث إلى السحرة * (إن لنا لأجرا) * من قرأه بهمزتين فهو استفهام ومن قرأه بهمزة واحدة فيحتمل أن يكون خبرا أو استفهاما حذفت منه الهمزة والأجر هنا الأجرة طلبوها من فرعون إن غلبوا موسى فأنعم لهم فرعون بها وزادهم التقريب منه والجاه عنده * (وإنكم لمن المقربين) * عطف على معنى نعم كأنه قال نعطيكم أجرا ونقربكم واختلف في عدد السحرة اختلافا متباينا من سبعين رجلا إلى سبعين ألفا وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل * (إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين) * خيروا موسى بين أن يبدأ بالإلقاء أو يبدؤا هم بإلقاء سحرهم فأمرهم أن يلقوا وانظر كيف عبروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقاء أنفسهم بالجملة الإسمية إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه * (واسترهبوهم) * أي خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر * (أن ألق عصاك) * لما ألقاها صارت ثعبانا عظيما على قدر الحبل وقيل إنه طال حتى جاوز الفيل * (تلقف) * أي تبتلع * (ما يأفكون) * أي ما صوروا من إفكهم وكذبهم وروي أن الثعبان أكل ملء الوادي من حبالهم وعصيهم ومد موسى يده إليه فصار عصا كما كان فعلم السحرة أن ذلك ليس من السحر وليس في قدرة البشر فآمنوا بالله وبموسى عليه السلام * (لأقطعن أيديكم) * الآية
41

وعيد من فرعون للسحرة وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك لكن روي أنه أنفذه عن ابن عباس وغيره وقد ذكر معنى من خلاف في العقود * (قالوا إنا إلى ربنا منقلبون) * أي لا نبالي بالموت لانقلابنا إلى ربنا " وما تنتقم منا إلا أن آمنا " أي ما تعيب منا إلا إيماننا * (ليفسدوا في الأرض) * أي يخربوا ملك فرعون وقومه ويخالفوا دينه * (ويذرك) * معطوف على ليفسدوا أو منصوب بإضمار أن بعد الواو * (وآلهتك) * قيل إن فرعون كان قد جعل للناس أصناما يعبدونها وجعل نفسه الإله الأكبر فلذلك قال أنا ربكم الأعلى فآلهتك على هذا هي تلك الصنام وقرأ علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباس وإلهتك أي عبادتك والتذلل لك * (إن الأرض لله) * تعليل للصبر ولذا أمرهم به يعني أرض الدنيا هنا وفي قوله * (ويستخلفكم في الأرض) * وقيل يعني أرض فرعون فأشار لهم موسى أولا بالنصر في قوله يورثها من يشاء من عباده ثم صرح في قوله عسى ربكم الآية * (فينظر كيف تعملون) * حض على الاستقامة والطاعة بالسنين أي الجدب والقحط * (فإذا جاءتهم الحسنة) * الآية إذا جاءهم الخصب والرخاء قالوا هذه لنا وبسعدنا ونحن مستحقون له وإذا جاءهم الجدب والشدة تطيروا بموسى أي قالوا هذه بشؤمه فإن قيل لم قال إذا جاءتهم الحسنة بإذا وتعريف الحسنة وإن تصبهم سيئة بأن وتنكير السيئة فالجواب أن وقوع الحسنة كثير والسيئة وقوعها نادر فعرف الكثير الوقوع باللام التي للعهد وذكره بإذا لأنها تقتضي التحقيق
وذكر السيئة بأن لأنها تقتضي الشك ونكرها للتعليل * (ألا إنما طائرهم عند الله) * أي إنما حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله وهو مأخوذ من زجر الطير ثم سمى به ما يصيب الإنسان ومقصود الآية الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم مهما هي ما الشرطية ضمت إليها ما الزائدة نحو أينما ثم قلبت الألف هاء وقيل هي اسم بسيط غير مركب والضمير في به يعود على مهما وإنما قالوا من ى ية على تسمية موسى لها آية أو على وجه التهكم * (فأرسلنا عليهم الطوفان) * روي أنه كان مطرا شديدا دائما مع فيض النيل حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون وامتنعوا من الزراعة وقيل هو الطاعون * (والجراد) * هو المعروف أكل زروعهم وثمارهم حتى أكل ثيابهم
42

وأبوابهم وسقف بيوتهم * (والقمل) * قيل هي صغار الجراد وقيل البراغيث وقيل السوس وقرئ القمل بفتح القاف والتخفيف فهي على هذا القمل المعروف وكانت تتعلق بلحومهم وشعورهم * (والضفادع) * هي المعروفة كثرت عندهم حتى امتلأت بها فرشهم وأوانيهم وإذا تكلم أحدهم وثبت الضفدع إلى فمه * (والدم) * صارت مياههم دما فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيخرج ما يلي القبطي دما وما يلي الإسرائيلي ماء * (ولما وقع عليهم الرجز) * أي العذاب وهي الأشياء المتقدمة وكانوا مهما نزل بهم أمر منها عاهدوا موسى على أن يؤمنوا به إن كشفه عنهم فلما كشفه عنهم نقضوا العهد وتمادوا على كفرهم * (بما عهد عندك) * بدعائك إليه ووسائلك والباء تحتمل أن تكون للقسم وجوابه لنؤمنن لك أو يتعلق بادع لنا أي توسل إليه بما عهد عندك * (في اليم) * البحر حيث وقع * (القوم الذين كانوا يستضعفون) * هم بنو إسرائيل * (مشارق الأرض ومغاربها) * الشام ومصر * (باركنا فيها) * أي بالخصب وكثرة الأرزاق * (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل) * أي تمت لهم واستقرت والكلمة هنا ما قضى لهم في الأزل وقيل هي قوله ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض * (وما كانوا يعرشون) * أي يبنون وقيل هي الكروم وشبهها فهو على الأول من العرش وعلى الثاني من العريش * (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها) * أي اجعل لنا صنما نعبده كما يعبد هؤلاء أصنامهم ولما تم خبر موسى مع فرعون ابتدأ خبره مع بني إسرائيل من هنا إلى قوله وإذ نتقنا الجبل * (متبر) * من التبار وهو الهلاك * (وهو فضلكم على العالمين) * وما بعده مذكور في البقرة * (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة) * روي أن الثلاثين هي شهر ذي القعدة والعشر بعدها هي العشر الأول من ذي الحجة وذلك تفصيل الأربعين المذكورة في البقرة * (ميقات ربه) * أي ما وقت له من الوقت لمناجاته
43

في الطور * (اخلفني) * أي كن خليفتي على بني إسرائيل مدة مغيبي * (قال رب أرني) * لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته فسألها كما قال الشاعر
(وأفرح ما يكون الشوق يوما
* إذا دنت الديار من الديار)
واستدلت الأشعرية بذلك على أن رؤية الله جائزة عقلا وأنها لو كانت محالا لم يسألها موسى فإن الأنبياء عليهم السلام يعلمون ما يجوز على الله وما يستحيل وتأول الزمخشري طلب موسى المروية بوجهين أحدهما أنه إنما سأل ذلك تبكيتا لمن خرج معه من بني إسرائيل الذين طلبوا الرؤية فقالوا أرنا الله جهرة فقال موسى ذلك ليسمعوا الجواب بالمنع فيتأولوا والآخر أن معنى أرني أنظر إليك عرفني نفسك تعريفا واضحا جليا وكلا الوجهين بعيد والثاني أبعد وأضعف فإنه لو لم يكن المراد الرؤية لم يقل له انظر إلى الجبل الآية * (قال لن تراني) * قال مجاهد وغيره إن الله قال لموسى لن تراني لأنك لا تطيق ذلك ولكن سأتجلى للجبل الذي هو أقوى منك وأشد فإن استقر وأطاق الصبر لهيبتي أمكن أن تراني أنت وإن لم يطق الجبل فأحرى ألا تطيق أنت فعلى هذا إنما جعل الله الجبل مثالا لموسى وقال قوم المعنى سأتجلى لك على الجبل وهذا ضعيف يبطله قوله فلما تجلى ربه للجبل فإذا تقرر هذا فقوله تعالى لن تراني نفي الرؤية وليس فيه دليل على أنها محال فإنه إنما جعل علة النفي عدم إطاقة موسى الرؤية لاستحالتها ولو كانت الرؤية مستحيلة لكان في الجواب زجر وإغلاظ كما قال الله لنوح فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين فهذا المنع من رؤية الله إنما هو في الدنيا لضعف البنية البشرية عن ذلك وأما في الآخرة فقد صرح بوقوع الرؤية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينكرها إلا مبتدع وبين أهل السنة والمعتزلة في مسئلة الرؤية تنازع طويل وفي هذه القصة قصص كثيرة تركتها لعدم صحتها ولما فيه من الأقوال الفاسدة * (جعله دكا) * أي مدكوكا فهو مصدر بمعنى مفعول كقولك ضربت الأمير والدك والدق أخوان وهو التفتت وقرئ دكاء بالمد والهمز أي أرضا دكا وقيل ذهب أعلى الجبل وبقي أكثره وقيل تفتت حتى صار غبارا وقيل ساخ في الأرض وأفضى إلى البحر * (وخر موسى صعقا) * أي مغشيا عليه * (تبت إليك) * معناه تبت من سؤال الرؤية في الدنيا وأنا لا أطيقها * (وأنا أول المؤمنين) * أي أول قومه أو أهل زمانه أو على وجه المبالغة في السبق إلى الإيمان * (اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) * هو عموم يراد به الخصوص فإن جميع الرسل قد شاركوه في الرسالة واختلف هل كلم الله غيره من الرسل أم لا والصحيح أنه كلم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء * (فخذ ما آتيتك) * تأديبا أي اقنع بما أعطيتك من رسالتي وكلامي ولا تطلب غير ذلك * (وكتبنا له في الألواح) * أي ألواح التوراة وكانت سبعة وقيل عشرة
44

وقيل اثنان وقيل كانت من زمردة وقيل من ياقوت وقيل من خشب " من كل شئ " عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجون إليه في دينهم وكذلك تفصيلا لكل شيء وموضع كل شيء نصب على أنه مفعول كتبنا وموعظة بدل منه * (فخذها بقوة) * أي بجد وعزم والضمير للتوراة * (يأخذوا بأحسنها) * أي فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو وكذلك سائر المباحات مع المندوبات * (سأريكم دار الفاسقين) * أي دار فرعون وقومه وهو مصر ومعنى أريكم كيف أقفرت منهم لما هلكوا وقيل منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم المتقدمة ليعتبروا بها وقيل جهنم وقرأ ابن عباس سأورثكم بالثاء المثلثة من الوراثة وهي على هذا مصدر لقوله وأورثناها بني إسرائيل * (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض) * الآيات يحتمل هنا أن يراد بها القرآن وغيره من الكتب أو العلامات والبراهين والصرف يراد به حدهم عن فهمها وعن الإيمان بها عقوبة لهم على تكبرهم وقيل الصرف منعهم من إبطالها * (ولقاء الآخرة) * يجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول به أي ولقاؤهم الآخرة أو
من إضافة المصدر إلى الظرف * (واتخذ قوم موسى) * هم بنو إسرائيل * (من بعده) * أي من بعد غيبته في الطور * (من حليهم) * بضم الحاء والتشديد جمع حلي نحو ثدي وثدى وقرئ بكسر الحاء للاتباع وقرئ بفتح الحاء وإسكان اللام والحلي هو اسم ما يتزين به من الذهب والفضة * (جسدا) * أي جسما دون روح وانتصابه على البدل * (له خوار) * الخوار هو صوت البقر وكان السامري قد قبض قبضة من تراب أثر فرس جبريل يوم قطع البحر فقذفه في العجل فصار له خوار وقيل كان إبليس يدخل في جوف العجل فيصيح فيه فيسمع له خوار * (ألم يروا أنه لا يكلمهم) * رد عليهم وإبطال لمذهبهم الفاسد في عبادته * (اتخذوه) * أي اتخذوه إلها فحذف المفعول الثاني للعلم به وكذلك حذف من قوله واتخذ قوم موسى * (سقط في أيديهم) * أي ندموا يقال سقط في يد فلان إذا عجز عما يريد أو وقع فيما يكره * (أسفا) * شديد الحزن على ما فعلوه وقيل شديد الغضب كقوله فلما آسفونا * (بئسما خلفتموني) * أي قمتم مقامي وفاعل بئس مضمر يفسره ما واسم المذموم محذوف والمخاطب بذلك إما القوم الذين عبدوا العجل مع السامري حيث عبدوا غير الله في غيبة موسى عنهم أو رؤساء بني إسرائيل كهارون عليه السلام حيث لم يكفوا الذين
45

عبدوا العجل * (أعجلتم أمر ربكم) * معناه أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حتى يرجع من الطور فإنهم لما رأوا أن الأمر قد تم ظنوا أن موسى عليه السلام قد مات فعبدوا العجل * (وألقى الألواح) * طرحها لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله من عبادة العجل * (وأخذ برأس أخيه) * أي شعر رأسه * (يجره إليه) * لأنه ظن أنه فرط في كف الذين عبدوا العجل * (ابن أم) * كان هارون شقيق موسى وإنما دعاه بأمه لأنه أدعى إلى العطف والحنو وقرئ ابن أم بالكسر على الإضافة إلى ياء المتكلم وحذفت الياء بالفتح تشبيها بخمسة عشر جعل الاسمان اسما واحدا فبنى * (ولا تجعلني مع القوم الظالمين) * أي لا تظن أني منهم أو لا تجد علي في نفسك ما تجد عليهم يعني أصحاب العجل * (غضب من ربهم وذلة) * أي غضب في الآخرة وذلة في الدنيا * (ولما سكت عن موسى الغضب) * أي سكن وكذلك قرأ بعضهم وقال الزمخشري قوله سكت مثل كأن الغضب كان يقول له ألق الألواح وجر برأس أخيك ثم سكت عن ذلك * (وفي نسختها) * أي فيما ينسخ منها والنسخة فعلة بمعنى مفعول * (لربهم يرهبون) * أي يخافون ودخلت اللام لتقدم المفعول كقوله للرؤيا تعبرون وقال المبرد تتعلق بمصدر تقديره رهبتهم لربهم * (واختار موسى قومه) * أي من قومه * (سبعين رجلا) * حملهم معه إلى الطور يسمعون كلام الله لموسى فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الرجفة عقابا لهم على قولهم وقيل إنما أخذتهم الرجفة لعبادتهم العجل أو لسكوتهم على عبادته والأول أرجح لقوله فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ويحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء والأول أظهر لقوله ثم بعثناكم من بعد موتكم * (لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي) * يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك وأنت تفعل ما تشاء ويحتمل أن يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا) * أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين
46

طلبوا الرؤية والذين عبدوا العجل فمعنى هذا إدلاء بحجته وتبرؤ من فعل السفهاء ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة * (إن هي إلا فتنتك) * أي الأمور كلها بيدك * (تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) * ومعنى هذا اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته * (إنا هدنا إليك) * أي تبنا وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه ولا يقتضي شيئا مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافا لله وبراءة من فعل السفهاء * (قال عذابي أصيب به من أشاء) * قيل الإشارة بذلك إلى الذين أخذتهم الرجفة والصحيح أنه عموم يندرجون فيه مع غيرهم وقرئ من أساء بالسين وفتح الهمزة من الإساءة وأنكرها بعض المقرئين وقال إنها تصحيف " ورحمتي وسعت كل شيء " يحتمل أن يريد رحمته في الدنيا فيكون خصوصا في الرحمة وعموما في كل شيء لأن المؤمن والكافر والمطيع والعاصي تنالهم رحمة الله ونعمته في الدنيا ويحتمل أن يريد رحمة الآخرة فيكون خصوصا في كل شيء لأن الرحمة في الآخرة مختصة بالمؤمنين ويحتمل أن يريد جنس الرحمة على الإطلاق فيكون عموما في الرحمة وفي كل شيء * (فسأكتبها للذين يتقون) * إن كانت الرحمة المذكورة رحمة الآخرة فهي بلا شك مختصة بهؤلاء الذين كتب بها الله لهم وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كانت رحمة الدنيا فهي أيضا مختصة بهم لأن الله نصرهم على جميع الأمم وأعلا دينهم على جميع الأديان ومكن لهم في الأرض ما لم يمكن لغيرهم وإن كانت على الإطلاق فقوله سأكتبها تخصيص للإطلاق * (والذين هم بآياتنا يؤمنون) * أي يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء وليس ذلك لغير هذه الأمة * (الذين يتبعون الرسول) * هذا الوصف خصص أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال بعضهم لما قال الله ورحمتي وسعت كل شيء طمع فيها كل أحد حتى إبليس فلما قال فسأكتبها للذين يتقون فيئس إبليس لعنه الله وبقيت اليهود والنصارى * (النبي الأمي) * أي الذي لا يقرأ ولا يكتب وذلك من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم كأنه أتى بالعلوم الجمة من غير قراءة ولا كتابة ولذلك قال تعالى " وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " قال بعضهم الأمي منسوب إلى الأم وقيل إلى الأمة * (الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل) * ضمير الفاعل في يجدونه لبني إسرائيل وكذلك الضمير في عندهم ومعنى يجدونه يجدون نعته وصفته ولنذكر هنا ما ورد في التوراة والإنجيل وأخبار المتقدمين من ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
فمن ذلك ما ورد في البخاري وغيره أن في التوراة من صفة النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي أسميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لا تجزي بالسيئة السيئة ولكن تعفو وتصفح ولن أقبضه حتى أقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح به عيونا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا
47

ومن ذلك ما في التوراة مما أجمع عليه أهل الكتاب وهو باق بأيديهم إلى الآن إن الملك نزل على إبراهيم فقال له في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق فقال إبراهيم يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك فقال الله لإبراهيم ذلك لك قد استجيب لك في إسماعيل وأنا أباركه وأنميه وأكبره وأعظمه بماذ ماذ وتفسير هذه الحروف محمد
ومن ذلك في التوراة إن الرب تعالى جاء في طور سيناء وطلع من ساعد وظهر من جبال فاران ويعني بطور سيناء موضع مناجاة موسى عليه السلام وساعد موضع عيسى وفاران هي مكة موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومعنى ما ذكر من مجىء الله وطلوعه وظهوره هو ظهور دينه على يد الأنبياء الثلاثة المنسوبين لتلك المواضع وتفسير ذلك ما في كتاب شعيا خطابا لمكة قومي فأزهري مصباحك فقد دنا وقتك وكرامة الله طالعة عليك فقد تخلل الأرض الظلام وعلا على الأمم المصاب والرب يشرق عليك إشراقا ويظهر كرامة عليك تسير الأمم إلى نورك والملوك إلى ضوء طلوعك ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي فإنهم مستجمعون عندك وتحج إليك عساكر الأمم وفي بعض كتبهم لقد تقطعت السماء من بهاء محمد المحمود وامتلأت الأرض من حمده لأنه ظهر بخلاص أمته
ومن ذلك في التوراة أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة تراء لها ملك فقال لها يا هاجر أين تريدين ومن اين أقبلت فقالت أهرب من سيدتي سارة فقال لها ارجعي إلى سارة وستحبلين وتلدين ولدا اسمه إسماعيل وهو يكون عين الناس وتكون يده فوق الجميع وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع ووجه دلالة هذا الكلام على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا الذي وعدها به الملك من أن يد ولدها فوق الجميع وأن يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع إنما ظهرت بمبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم وظهور دينه وعلو كلمته ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره قبل محمد صلى الله عليه وسلم
ومن ذلك أيضا في التوراة أن الرب يقيم لهم نبيا من إخوتهم وأي رجل لم يسمع ذلك الكلام الذي يؤديه ذلك النبي عن الله فينتقم الله منه ودلالة هذا الكلام ظاهرة بأن أولاد إسماعيل هم إخوة أولاد إسحاق وقد انتقم الله من اليهود الذين لم يسمعوا كلام محمد صلى الله عليه وسلم كبني قريظة وبني قينقاع وغيرهم
ومن ذلك في التوراة إن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام وقد أجبت دعاءك في إسماعيل وباركت عليه وسيلد اثني عشر عظيما وأجعله لأمة عظيمة
ومن ذلك في الإنجيل أن المسيح قال للحواريين إني ذاهب عنكم وسيأتيكم الفار قليط الذي لا يتكلم من قبل نفسه إنما يقول كما يقال له وبهذا وصف الله سبحانه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في قوله * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * وتفسير الفار قليط أنه مشتق من الحمد واسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم محمد وأحمد وقيل معنى الفار قليط الشافع المشفع
ومن ذلك في التوراة مولده بمكة أو مسكنه بطيبة وأمته الحمادون وبيان ذلك أن أمته يقرؤن الحمد لله في صلاتهم مرارا كثيرة في كل يوم وليلة وعن شهر بن حوشب مثل ذلك في إسلام كعب الأحبار وهو من اليمن من حمير أن كعبا أخبره بأمره وكيف كان ذلك وقيل كان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من عظمائهم وخيارهم قال كعب وكان من أعلم الناس بما
48

أنزل الله على موسى من التوراة وبكتب الأنبياء ولم يكن يدخر عني شيئا مما كان يعلم فلما حضرته الوفاة دعاني فقال يا بني قد علمت أني لم أكن أدخر عنك شيئا مما كنت أعلم إلا أني حبست عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يبعث وقد أظل زمانه فكرهت أن أخبرك بذلك فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه وقد قطعتهما من كتابك وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى وطينت عليهما فلا تتعرض لهما ولا تنظرهما زمانك هذا وأقرهما في موضعهما حتى يخرج ذلك النبي فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما فإن الله يزيدك بهذا خيرا فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين فلما انقضى المأتم فتحت الكوة ثم استخرجت الورقتين فإذا فيهما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبييي لا نبي بعده مولده بمكة ومهاجره بطيبة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يجزي بالسيئة الحسنة ويعفو ويغفر ويصفح أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال وتتذلل بالتكبير ألسنتهم وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه يغسلون فروجهم بالماء ويأتزرون على أوساطهم وأناجيلهم في صدورهم ويأكلون قربانهم في بطونهم ويؤدرون عليها وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم وهم السابقون المقربون والشافعون المشفع لهم فلما قرأت هذا قلت في نفسي والله ما علمني شيئا خيرا لي من هذا فمكثت ما شاء الله حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وبيني وبينه بلاد بعيدة منقطعة لا أقدر على إتيانه وبلغني أنه خرج في مكة فهو يظهر مرة ويستخفي مرة فقلت هو هذا وتخوفت ما كان والدي حذرني وخوفني من ذكر الكذابين وجعلت أحب أن أتبين وأتثبت فلم أزل بذلك حتى بلغني أنه أتى المدينة فقلت في نفسي إني لأرجو أن يكون إياه وجعلت ألتمس السبيل إليه فلم يقدر لي حتى بلغني أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت في نفسي لعله لم يكن الذي كنت أظن ثم بلغني أن خليفة قام مقامه ثم لم ألبث إلا قليلا حتى جاءتنا جنوده فقلت في نفسي لا أدخل في هذا الدين حتى أعلم أهم الذين كنت أرجو وأنتظر وأنظر كيف سيرتهم وأعمالهم وإلى ما تكون عاقبتهم فلم أزل أدفع ذلك وأؤخره لأتبين وأتثبت حتى قدم علينا عمر بن الخطاب فلما رايت صلاة المسلمين وصيامهم وبرهم ووفاءهم بالعهد وما صنع الله لهم على الأعداء علمت أنهم هم الذين كنت أنتظر فحدثت نفسي بالدخول في دين الإسلام فوالله إني ذات ليلة فوق سطح إذا برجل من المسلمين يتلو كتاب الله حتى أتى على هذه الآية * (يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا) * فلما سمعت هذه الآية خشيت الله ألا أصبح حتى يحول وجهي في قفاي فما كان شيء أحب إلي من الصباح فغدوت على عمر فأسلمت حين أصبحت وقال كعب لعمر عند انصرافهم إلى الشام يا أمير المؤمنين إنه مكتوب في كتاب الله إن هذه البلاد التي كان فيها بنو إسرائيل وكانوا أهلها مفتوحة على يد رجل من الصالحين رحيم بالمؤمنين شديد على الكافرين سره مثل علانيته وعلانيته مثل سره وقوله لا يخالف فعله والقريب والبعيد عنده في الحق سواء وأتباعه رهبان بالليل وأسد بالنهار متراحمون متواصلون متبادلون فقال له عمر ثكلتك أمك أحق ما تقول قال إي والذي أنزل التوراة على موسى والذي يسمع ما تقول إنه لحق فقال عمر الحمد لله الذي أعزنا وشرفنا وأكرمنا ورحمنا
بمحمد صلى الله عليه وسلم برحمته التي وسعت كل شيء ومن ذلك كتاب فروة بن عمر الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من ملوك العرب
49

بالشام فكتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد رسول الله من فروة بن عمر إني مقر بالإسلام مصدق أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم عليه السلام فأخذه هرقل لما بلغه إسلامه وسجنه فقال والله لا أفارق دين محمد أبدا فإنك تعرف إنه النبي الذي بشر به عيسى ابن مريم ولكنك حرصت على ملكك وأحببت بقاءه فقال قيصر صدق والإنجيل يشهد لهذا ما خرجه البخاري ومسلم من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وسؤال هرقل عن أحواله وأخلاقه صلى الله عليه وسلم فلما أخبر بها علم أنه رسول الله وقال إنه يملك موضع قدمي ولو خلصت إليه لغسلت قدميه ومن حديث زيد بن أسلم عن أبيه وهو عندنا بالإسناد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج زمان الجاهلية مع ناس من قريش في التجارة إلى الشام قال فإني لفي سوق من أسواقها إذا أنا ببطريق قد قبض على عنقي فذهبت أنازعه فقيل لي لا تفعل فإنه لا نصيف لك منه فأدخلني كنيسة فإذا تراب عظيم ملقى فجاءني بزنبيل ومجرفة فقال لي أنقل ما ههنا فجعلت أنظر كيف أصنع فلما كان من الهاجرة وافاني وعليه ثوب أرى سائر جسده منه فقال أئنك على ما أرى ما نقلت شيئا ثم جمع يديه فضرب بهما دماغي فقلت واثكل أمك يا عمر أبلغت ما أرى ثم وثبت إلى المجرفة فضربت بها هامته فنشرت دماغه ثم واريته في التراب وخرجت على وجهي لا أدري أين أسير فسرت بقية يومي وليلتي من العد إلى الهاجرة فانتهيت إلى دير فاستظللت بفنائه فخرج إلي رجل منه فقال لي يا عبد الله ما يقعدك هنا فقلت أضللت أصحابي فقال لي ما أنت على طريق وإنك لتنظر بعيني خائف فادخل فأصب من الطعام واسترح فدخلت فأتاني بطعام وشراب وأطعمني ثم صعد في النظر وصوبه فقال قد علم والله أهل الكتاب أنه ما على الأرض أعلم بالكتاب مني وإني لأرى صفتك الصفة التي تخرجنا من هذا الدير وتغلبنا عليه فقلت يا هذا لقد ذهبت بي في غير مذهب فقال لي ما اسمك فقلت عمر ابن الخطاب فقال أنت والله صاحبنا فاكتب لي على ديري هذا وما فيه فقلت يا هذا إنك قد صنعت إلي صنيعة فلا تكررها فقال إنما هو كتاب في رق فإن كنت صاحبنا فذلك وإلا لم يضرك شيء فكتب له على ديره وما فيه فأتاني بثياب ودراهم فدفعها إلي ثم أو كف أتانا فقال لي أتراها فقلت نعم قال سر عليها فإنك لا تمر بقوم إلا سقوها وعلفوها وأضافوك فإذا بلغت مأمنك فاضرب وجهها مدبرة فإنهم يفعلون بها كذلك حتى ترجع إلي قال فركبتها فكان كما قال حتى لحقت بأصحابي وهم متوجهون إلى الحجاز فضربتها مدبرة وانطلقت معهم فلما وافى عمر الشام في زمان خلافته جاءه ذلك الراهب بالكتاب وهو صاحب دير العرس فلما رآه عرفه فقال قد جاء مالا مذهب لعمر عنه ثم أقبل على أصحابه فحدثهم بحديثه فلما فرغ منه اقبل على الراهب فقال هل عندكم من نفع للمسلمين قال نعم يا أمير المؤمنين قال إن أضفتم المسلمين ومرضتموهم وأرشدتموهم فعلنا ذلك قال نعم يا أمير المؤمنين فوفى له عمر رضي الله عنه ورحمه وعن سيف يرفعه إلى سالم بن عبد الله قال لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق فقال السلام عليك يا فاروق أنت صاحب إيلياء والله لا ترجع حتى يفتح الله إيلياء
ومن ذلك أن عمرو بن العاص قدم المدينة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسله إلى عمان واليا عليها فجاءه يوما يهودي من يهود عمان فقال له أنشدك بالله من أرسلك إلينا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي والله إنك لتعلم أنه
50

رسول الله قال عمرو اللهم نعم فقال اليهودي لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم فلما سمع عمرو ذلك جمع أصحابه وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهودي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات فيه ثم خرج فأخبر بموت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق ووجده قد مات في ذلك اليوم صلى الله عليه وسلم وبارك وشرف وكرم ومن ذلك أن وفد غسان قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيهم أبو بكر الصديق فقال لهم من أنتم قالوا رهط من غسان قدمنا على محمد لنسمع كلامه فقال لهم انزلوا حيث تنزل الوفود ثم ائتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه فقالوا وهل نقدر على كلامه كما أردنا فتبسم أبو بكر وقال إنه ليطوف بالأسواق ويمشي وحده ولا شرطة معه ويرغب من يراه منه فقالوا لأبي بكر من أنت أيها الرجل فقال أنا أبو بكر بن أبي قحافة فقالوا أنت تقوم بهذا الأمر بعده فقال أبو بكر الأمر إلى الله فقال لهم كيف تخدعون عن الإسلام وقد أخبركم أهل الكتاب بصفته وأنه آخر الأنبياء ثم لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا * (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) * يحتمل أن يكون هذا من وصف النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة فتكون الجملة في موضع الحال من ضمير المفعول في يجدونه أو تفسير لما كتب من ذكره أو يكون استئناف وصف من الله تعالى غير مذكور في التوراة والإنجيل * (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) * مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال وأن الخبائث هي الحرام ومذهب الشافعي أن الطيبات هي المستلذات إلا ما حرمه الشرع منها كالخمر والخنزير وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب وغيرها * (ويضع عنهم إصرهم) * وهو مثل لما كلفوا في شرعهم من المشقات كقتل الأنفس في التوبة وقطع موضع النجاسة من الثوب وكذلك الأغلال عبارة عما منعت منه شريعتهم كتحريم الشحوم وتحريم العمل يوم السبت وشبه ذلك * (وعزروه) * أي منعوه بالنصر حتى لا يقوى عليه عدو * (واتبعوا النور الذي أنزل معه) * هو القرآن أو الشرع كله ومعنى معه مع بعثه ورسالته * (إني رسول الله إليكم جميعا) * تفسيره قوله صلى الله عليه وسلم وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة فإعراب جميعا حال من الضمير في إليكم * (الذي له ملك السماوات والأرض) * نعت لله أو منصوب على المدح بإضمار فعل أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر * (يؤمن بالله وكلماته) * هي الكتب التي أنزلها الله عليه وعلى غيره من الأنبياء * (ومن قوم موسى أمة) * هم الذين ثبتوا حين تزلزل غيرهم في عصر موسى أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في عصره * (وقطعناهم) * أي فرقناهم * (أسباطا) * السبط في بني إسرائيل كالقبيلة في العرب وانتصابه على البدل من اثنتي عشرة لا على التمييز فإن تمييز اثنتي عشرة
51

لا يكون إلا مفردا وقال الزمخشري على التمييز لأن كل قبيلة أسباطا لا سبط * (فانبجست) * أي انفجرت إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار وقال القزويني الانبجاس أول الانفجار * (وظللنا عليهم الغمام) * وما بعده إلى قوله بما كانوا يظلمون مذكور في البقرة تنبيه وقع الاختلاف في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين
سورة البقرة في قوله انفجرت وانبجست وقوله وإذ قلنا ادخلوا وإذ قيل لهم اسكنوا وقوله وكلوا بالواو وفكلوا بالفاء فقال الزمخشري لا بأس باختلاف العبارتين إذا لم يكن هنالك تناقض وعللها شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير في كتاب ملاك التأويل وصاحب الدرة بتعليلات منها قوية وضعيفة وفيها طول فتركناها لطولها " واسئلهم " أي اسأل اليهود على جهة التقرير والتوبيخ * (عن القرية) * قيل هي إيلياء وقيل هي طبرية وقيل مدين * (حاضرة البحر) * قريبة منه أو على شاطئه * (إذ يعدون في السبت) * أي يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم يوم السبت وقد نهوا عنه وموضع إذ بدل من القرية والمراد أهلها وهو بدل اشتمال أو منصوب بكانت أو بحاضرة * (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) * كانت الحيتان تخرج من البحر يوم السبت حتى تصل إلى بيوتهم ابتلاء لهم إذ كان صيدها عليهم حراما في يوم السبت وتغيب عنهم في سائر الأيام وسبتهم مصدر من قولك سبت اليهودي يسبت إذا عظم يوم السبت ومعنى شرعا ظاهرة قريبة منهم يقال شرع منا فلان إذا دنا وإذ في قوله إذ تأتيهم منصوب بيعدون أو بدل من إذ يعدون " وإذ قالت أمة منهم لم تعدون قوما " للآية افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق فرقة عصت يوم السبت بالصيد وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص وأن هذه الفرقة لما رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية قالوا للفرقة الناهية لم تعظون قوما يريد الله أن يهلكهم أو يعذبهم فقالت الناهية ننهام معذرة إلى الله ولعلهم يتقون فهلكت الفرقة العاصية ونجت الناهية واختلف في الثالثة هل هلكت لسكوتها أو نجت لاعتزالها وتركها العصيان * (بعذاب بئيس) * أي شديد وقرئ بالهمز وتركه وقرئ على وزن فعيل وعلى وزن فيعل وكلها من معنى البؤس " فلما عتوا عما نهوا عنه " أي لما تكبروا عن ما نهوا عنه " قلنا لهم كونوا قردة
52

خاسئين) ذكر في البقرة والمعنى أنهم عذبوا أولا بعذاب شديد فعتوا بذلك فمسخوا قردة وقيل فلما عتوا تكرار لقوله فلما نسوا والعذاب البئيس هو المسخ * (تأذن ربك) * عزم وهو من الإيذان بمعنى الإعلام * (ليبعثن عليهم) * الآية أي يسلط عليهم ومن ذلك أخذ الجزية وهو أنهم في جميع البلاد * (وقطعناهم في الأرض) * أي فرقناهم في البلاد ففي كل بلدة فرقة منهم فليس لهم إقليم يملكونه * (منهم الصالحون) * هم من أسلم كعبد الله بن سلام أو من كان صالحا من المتقدمين منهم * (بالحسنات والسيئات) * أي بالنعم والنقم * (فخلف من بعدهم خلف) * أي حدث بعدهم قوم سوء والخلف بسكون اللام ذم وبفتحها مدح والمراد من حدث من اليهود بعد المذكورين وقيل المراد النصارى * (يأخذون عرض هذا الأدنى) * أي عرض الدنيا * (ويقولون سيغفر لنا) * ذلك اغترار منهم وكذب * (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه) * الواو للحال يرجون المغفرة وهم يعودون إلى مثل فعلهم " ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق " إشارة إلى كذبهم في قولهم سيغفر لنا وإعراب ألا يقولوا عطف بيان على ميثاق الكتاب أو تفسير له أو تكون أن حرف عبارة وتفسير * (والذين يمسكون بالكتاب) * قرئ بالتشديد والتخفيف وهما بمعنى واحد وإعراب الذين عطف على الذين يتقون أو مبتدأ وخبره إنا لا نضيع أجر المصلحين وأقام ذكر المصلحين مقام الضمير لأن المصلحين هم الذين يمسكون بالكتاب * (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) * أي اقتلعنا الجبل ورفعناه فوق بني إسرائيل وقلنا لهم خذوا التوراة حين أبوا من أخذها وقد تقدم في البقرة تفسير الظلة وخذوا ما آتيناكم بقوة * (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم) * الآية في معناها قولان أحدهما أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه وهم مثل الذر وأخذ عليهم العهد بأنه ربهم فأقروا بذلك والتزموه روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق كثيرة وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم والثاني أن ذلك من باب التمثيل وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا وأما إشهادهم فمعناه أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته فشهدت بها عقولهم فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقال لهم ألست بربكم وكأنهم قالوا بلسان الحال بلى أنت ربنا والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به إلا أن ألفاظ الآية لا تطابقه بظاهرها فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر وإنما تطابقه بتأويل وذلك أن أحد الذرية إنما كان من صلب آدم ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم والجمع
53

بينهما أنه ذكر بني آدم في الآية والمراد آدم كقوله ولقد خلقناكم ثم صورناكم الآية وعلى تأويل لقد خلقنا أباكم آدم من صورته وقال الزمخشري إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وفي الصحيح المشهور أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه * (قالوا بلى شهدنا) * قولهم بلى إقرار منهم بأن الله ربهم فإن تقديره أنت ربنا فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية لو قالوا نعم لكفروا وأما قولهم شهدنا فمعناه شهدنا بربوبيتك فهو تحقيق لربوبية الله وأداء لشهادتهم بذلك عند الله وقيل إن شهدنا من قول الله والملائكة أي شهدنا على بني آدم باعترافهم * (أن تقولوا يوم القيامة) * في موضع مفعول من أجله أي فعلنا ذلك كراهية أن تقولوا فهو من قول الله لا من قولهم وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم وبالياء على الإخبار عنهم * (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) * قل ابن مسعود هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين داعيا إلى الله فرشاه الملك وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى ويتابع الملك على دينه ففعل وأضل الناس بذلك وقال ابن عباس هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعوراء كان عنده اسم الله الأعظم فلما أراد موسى قتال الكنعانيين وهم الجبارون سألوا من بلعم أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى وعسكره فأبى فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة ودعا عليه موسى فالآيات التي أعطيها على هذا القول هي اسم الله الأعظم وعلى قول ابن مسعود هي ما علمه موسى من الشريعة وقيل كان عنده من صحف إبراهيم وقال عبد الله بن عمرو بن العاص هو أمية بن أبي الصلت وكان قد أوتي علما وحكمة وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر ثم رجع عن ذلك ومات كافرا وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم فالآية على هذا ما كان عنده من العلم والانسلاخ عبارة عن البعد والانفصال منها كالانسلاخ من الثياب والجلد * (ولو شئنا لرفعناه بها) * أي لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده * (ولكنه أخلد إلى الأرض) * عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله * (فمثله كمثل الكلب) * أي صفته كصفة الكلب وذلك غاية في الخسة والرداءة * (إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) * اللهث هو تنفس بسرعة وتحريك أعضاء الفم وخروج اللسان وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر والتعب وهي حالة دائمة للكلب ومعنى إن تحمل عليه إن تفعل معه ما يشق عليه من
طرد أو غيره أو تتركه دون أن تحمل عليه فهو يلهث على كل حال ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال فضلالته على كل حال
54

كما أن لهث الكلب على كل حال وقيل إن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره فصار مثل الكلب في صورته ولهثه حقيقة * (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) * أي صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه وكصفة الرجل المشبه به لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا وإن تركوا لم يهتدوا وشبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات والمعجزات فلم تنفعهم كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات " ساء مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم " الآية قدم هذا المفعول للاختصاص والحصر * (كثيرا من الجن والإنس) * هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم فأخبر أنه خلقهم لذلك كما جاء في قوله هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي * (لا يبصرون بها) * ليس المعنى نفي السمع والبصر جملة وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين * (ولله الأسماء الحسنى) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة وسبب نزول الآية أن أبا جهل لعنه الله سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة والرحمن أخرى فقال يزعم محمد أن الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة فنزلت الآية مبينة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد والحسنى مصدر وصف به أو تأنيث أحسن وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد * (فادعوه بها) * أي سموه بأسمائه وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى فأما ما ورد منها في القرآن أو الحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعا وأما ما لم يرد وفيه مدح لا تتعلق به شبهة فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث وقد ورد في كتاب الترمذي عدتها أعني تعيين التسعة والتسعين واختلف المحدثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوفة على أبي هريرة وإنما الذي ورد في الصحيح كونها تسعة وتسعين من غير تعيين * (وذروا الذين يلحدون في أسمائه) * قيل معنى ذروا اتركوهم لا تحاجوهم ولا تتعرضوا لهم فالآية على هذا منسوخة بالقتال وقيل معنى ذروا الوعيد والتهديد كقوله وذرني والمكذبين وهو الأظهر لما بعده وإلحادهم في أسماء الله هو ما قال أبو جهل فنزلت الآية بسببه وقيل تسميته بما لا يليق وقيل تسمية الأصنام باسمه كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز * (وممن خلقنا أمة) * الآية روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه الآية لكم وقد تقدم مثلها لقوم موسى * (سنستدرجهم) * الاستدراج استفعال من الدرجة أي نسوقهم إلى الهلاك شيئا بعد شيء وهم لا يشعرون
55

والإملاء هو الإمهال مع إرادة العقوبة * (إن كيدي متين) * سمى فعله بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد في أن ظاهره إحسان وباطنه خذلان " أو لم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة " يعني بصاحبهم النبي صلى الله عليه وسلم فنفى عنه ما نسب له المشركون من الجنون ويحتمل أن يكون قوله ما بصاحبهم من جنة معمولا لقوله أو لم يتفكروا فيوصل به والمعنى أو لم يتفكروا فيعلمون أن ما بصاحبهم من جنة ويحتمل أن يكون الكلام قد تم في قوله أو لم يتفكروا ثم ابتدأ إخبار استئنافا لقوله ما بصاحبهم من جنة والأول أحسن " أو لم ينظروا " يعني نظر استدلال * (ما خلق الله) * عطف على الملكوت ويعني بقوله من شيء جميع المخلوقات إذ جميعها دليل على وحدانية خالقها * (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) * أن الأولى مخففة من الثقيلة وهي عطف على الملكوت وأن الثانية مصدرية في موضع رفع بعسى وأجلهم يعني موتهم والمعنى لعلهم يموتون عن قريب فينبغي لهم أن يسارعوا إلى النظر فيما يخلصهم عند الله قبل حلول الأجل * (فبأي حديث بعده) * الضمير للقرآن * (يسألونك عن الساعة) * السائلون اليهود أو قريش وسميت القيامة ساعة لسرعة حسابها كقوله وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب * (أيان مرساها) * معنى أيان متى ومرساها وقوعها وحدوثها وهي من الإرساء بمعنى الثبوت * (قل إنما علمها عند ربي) * أي استأثر الله بعلم وقوعها ولم يطلع عليه أحد * (لا يجليها لوقتها إلا هو) * معنى يجلبها يظهرها فهو من الجلاء ضد الخفاء واللام في لوقتها ظرفية أي عند وقتها والمعنى لا يظهر الساعة عند مجيء وقتها إلا الله * (ثقلت في السماوات والأرض) * في معناه ثلاثة أقوال الأول ثقلت على أهل السماوات والأرض لهيبتها عندهم وخوفهم منها والثاني ثقلت على أهل السماوات والأرض أنفسها لتفطر السماء فيها وتبديل الأرض والثالث معنى ثقلت أي ثقل علمها أي خفي * (يسألونك كأنك حفي عنها) * الحفي بالشيء هو المهتبل به المعتني به والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي بعلمها وقيل المعنى يسألونك عنها كأنك حفي بهم لقرابتك منهم فعنها على هذين القولين يتعلق بيسئلونك وقيل المعنى يسألونك كأنك حفي بالسؤال عنها * (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) * براءة من علم الغيب واستدلال على عدم علمه * (وما مسني السوء) * عطف على لاستكثرت من الخير أي لو علمت الغيب لاستكثرت من الخير واحترست من السوء ولكن لا أعلمه فيصبني ما قدر لي من الخير والشر وقيل إن قوله وما مسني السوء استئناف إخبار والسوء على هذا هو الجنون واتصاله بما قبله أحسن * (لقوم يؤمنون) * يجوز أن يتعلق ببشير ونذير معا أي أبشر المؤمنين
56

وأنذرهم وخص بهم البشارة والنذارة لأنهم هم الذين ينتفعون بها ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها ويكون المتعلق بنذير محذوف أي نذير للكافرين والأول أحسن * (من نفس واحدة) * يعني آدم * (زوجها) * يعني حواء * (ليسكن إليها) * يميل إليها ويستأنس بها * (تغشاها) * كناية عن الجماع * (حملت حملا خفيفا) * أي خف عليها ولم تلق منه ما يلقى بعض الحوامل من حملهن من الأذى والكرب وقيل الحمل الخفيف المني في فرجها * (فمرت به) * قيل معناه استمرت به إلى حين ميلاده وقيل معناه قامت وقعدت * (فلما أثقلت) * أي ثقل حملها وصارت به ثقيلة * (لئن آتيتنا صالحا) * أي ولدا صالحا سالما في بدنه * (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما) * أي لما آتاهما ولدا صالحا كما طلبا جعل أولادهما له شركاء فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه وكذلك فيما آتاهما أي فيما آتى أولادهما وذريتهما وقيل إن حواء لما حملت جاءها إبليس وقال لها إن أطعتيني وسميت ما في بطنك عبد الحارث فسأخلصه لك وكان اسم إبليس الحارث وإن عصيتيني في ذلك قتلته فأخبرت بذلك آدم فقال لها إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة فلما ولدت مات الولد ثم حملت مرة أخرى فقال لها إبليس مثل ذلك فعصته فمات الولد ثم حملت مرة ثالثة فسمياه عبد الحارث طمعا في حياته فقوله جعلا له شركاء فيما آتاهما أي في التسمية لا غير لا في عبادة غير الله والقول الأول أصح لثلاثة أوجه أحدها أنه يقتضي براءة آدم وزوجه من قليل الشرك وكثيره وذلك هو حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والثاني أنه يدل على أن الذين أشركوا هم أولاد آدم وذريته لقوله تعالى * (
فتعالى الله عما يشركون) * بضمير الجمع والثالث أن ما ذكروا من قصة آدم وتسمية الولد عبد الحارث يفتقر إلى نقل بسند صحيح وهو غير موجود في تلك القصة وقيل من نفس واحدة وهو قصي بن كلاب وزوجته وجعلا له شركاء أي سموا أولادهما عبد العزى وعبد الدار وعبد مناف وهذا القول بعيد لوجهين أحدهما أن الخطاب على هذا خاص بذرية قصي من قريش والظاهر أن الخطاب عام لبني آدم والآخر أن قوله وجعل منها زوجها فإن هذا يصح في حواء لأنها خلقت من ضلع آدم ولا يصح في زوجة قصي * (أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون) * هذه الآية رد على المشركين من بني آدم والمراد بقوله ما لا يخلق شيئا الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله والمعنى أنها مخلوقة غير خالقة والله تعالى خالق غير مخلوق فهو الإله وحده * (ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون) * يعني أن الأصنام لا ينصرون من عبدهم ولا ينصرون أنفسهم فهم في غاية العجز والذلة فكيف يكونون آلهة * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم) * يعني أن الأصنام لا تجيب إذا دعيت إلى أن تهدي أو إلى أن تهدى لأنها جمادات * (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) * تأكيد وبيان لما قبلها فإن قيل لم قال أم أنتم صامتون فوضع الجملة الإسمية موضع الجملة الفعلية وهلا قال أو صمتم فالجواب إن صمتم عن دعاء الأصنام كانت حالة مستمرة فعبر هنا
57

بجملة اسمية لتقتضي الاستمرار على ذلك * (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) * رد على المشركين بأن آلهتهم عباد فكيف يعبد العبد مع ربه * (فادعوهم فليستجيبوا) * أمر على جهة التعجيز " أم لهم أرجل يمشون بها " وما بعده معناه أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة والقدرة ومن كان كذلك لا يكون إلها فإن من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي ولا تبطش ولا تبصر ولا تسمع فلزمته الحجة والهمزة في قوله * (الهم) * للاستفهام مع التوبيخ وأم في المواضع الثلاثة تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل وليست عاطفة * (قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون) * المعنى استنجدوا أصنامكم لمضرتي والكيد علي ولا تؤخروني فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي ومقصد الآية الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة وفيها إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده وأن غيره لا يقدر على شيء ثم أفصح بذلك في قوله * (إن وليي الله) * الآية أي هو حافظي وناصري منكم فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم على مضرتي ثم وصف الله بأنه الذي أنزل الكتاب وبأنه يتولى الصالحين وفي هذين الوصفين استدلال على صدق النبي صلى الله عليه وسلم بإنزال الكتاب عليه وبأن الله تولى حفظه ومن تولى حفظه فهو من الصالحين والصالح لا بد أن يكون صادقا في قوله ولا سيما فيما يقوله عن الله * (والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم) * الآية رد على المشركين وقد تقدم معناه * (وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا) * يحتمل أن يريد الأصنام فيكون تحقيرا لهم وردا على من عبدها فإنها جمادات لا تسمع شيئا فيكون المعنى كالذي تقدم أو يريد الكفار ووصفهم بأنهم لا يسمعون يعني سماعا ينتفعون به لإفراط نفورهم أو لأن الله طبع على قلوبهم * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * إن كان هذا من وصف الصنام فقوله ينظرون مجاز وقوله لا يبصرون حقيقة لأن لهم صورة الأعين وهم لا يرون بها شيئا وإن كان من وصف الكفار فينظرون حقيقة ولا يبصرون مجازا على وجه المبالغة كما وصفهم بأنهم لا يسمعون * (خذ العفو) * فيه قولان أحدهما أن المعنى خذ من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما تيسر لا ما يشق عليهم لئلا ينفروا فالعفو على هذا بمعنى السهل والصفح عنهم وهو ضد الجهل والتكليف كقول الشاعر
(خذي العفو مني تستديمي مودتي
*
والآخر أن المعنى خذ من الصدقات ما سهل على الناس في أموالهم أو ما فضل لهم وذلك قبل فرض الزكاة فالعفو على هذا بمعنى السهل أو بمعنى الكثرة * (وأمر بالعرف) * أي بالمعروف وهو فعل الخير وقيل العفو الجاري بين الناس من العوائد واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعوائد * (وأعرض عن الجاهلين) * أي لا تكافئ السفهاء بمثل قولهم أو فعلهم واحلم عنهم ولما نزلت هذه الآية سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
58

جبريل عنها فقال لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال يا محمد إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وعن جعفر الصادق أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بمكارم الأخلاق وهي على هذا ثابتة الحكم وهو الصحيح وقيل كانت مداراة للكفار ثم نسخت بالقتال * (وإما ينزغنك من الشيطان نزغ) * نزغ الشيطان وسوسته بالتشكيك في الحق والأمر بالمعاصي أو تحريك الغضب فأمر الله بالاستعاذة منه عند ذلك كما ورد في الحديث أن رجلا اشتد غضبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما به نعوذ بالله من الشيطان الرجيم * (طائف من الشيطان) * معناه لمة منه كما جاء إن للشيطان لمة وللملك لمة ومن قرأ طائف بالألف فهم اسم فاعل ومن قرأ طيف بياء ساكنة فهو مصدر أو تخفيف من طيف المشدد كميت وميت * (تذكروا) * حذف مفعوله ليعم كل ما يذكر من خوف عقاب الله أو رجاء ثوابه أو مراقبته والحياء منه أو عداوة الشيطان والاستعاذة منه والنظر والاعتبار وغير ذلك * (فإذا هم مبصرون) * هو من بصيرة القلب * (وإخوانهم يمدونهم في الغي) * الضمير في إخوانهم للشياطين وأريد بقوله طائف من الشيطان الجنس ولذلك أعيد عليه ضمير الجماعة وإخوانهم هم الكفار ومعنى يمدونهم يكونون مددا لهم يعضدونهم وضمير المفعول في يمدونهم للكفار وضمير الفاعل للشيطان ويحتمل أن يريد بالإخوان الشياطين ويكون الضمير في إخوانهم للكفار والمعنى على الوجهين أن الكفار يمدهم الشيطان وقرئ يمدونهم بضم الياء وفتحها والمعنى واحد وفي الغي يتعلق بيمدونهم وقيل يتعلق بإخوانهم كما تقول إخوة في الله أو في الشيطان * (ثم لا يقصرون) * أي لا يقصر الشياطين عن إمداد إخوانهم الكفار أو لا يقصر الكفار عن غيهم وفي الآية من إدراك البيان لزوم ما لا يلزم بالالتزام الصاد قبل الراء في مبصرون ولا يقصرون * (وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها) * الضمير في لم تأتهم للكفار ولولا هنا عوض وفي معنى اجتبيتها قولان أحدهما اخترعتها من قبل نفسك فالآية على هذا من القرآن وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأخر عنه الوحي أحيانا فيقول الكفار هلا جئت بقرآن من قولك والآخر معناه طلبتها من الله
وتخيرتها عليه فالآية على هذا معجزة أي يقولون اطلب المعجزة من الله * (قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي) * معناه لا أخترع القرآن على القول الأول ولا أطلب آية من الله على القول الثاني * (هذا بصائر) * أي علامات هدى والإشارة إلى القرآن * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الإنصات المأمور به هو لقراءة الإمام في الصلاة والثاني أنه الإنصات للخطبة والثالث أنه الإنصات لقراءة القرآن على الإطلاق وهو الراجح لوجهين أحدهما أن اللفظ عام ولا دليل على تخصيصه والثاني أن الآية مكية والخطبة إنما
59

شرعت بالمدينة * (لعلكم ترحمون) * قال بعضهم الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية * (واذكر ربك في نفسك) * يحتمل أن يريد الذكر بالقلب دون اللسان أو الذكر باللسان سرا فعلى الأول يكون قوله ودون الجهر من القول عطف متغاير أي حالة أخرى وعلى الثاني يكون بيانا وتفسيرا للأول * (بالغدو والآصال) * أي في الصباح والعشي والآصال جمع أصل والأصل جمع أصيل قيل المراد صلاة الصبح والعصر وقيل فرض الخمس والأظهر الإطلاق * (إن الذين عند ربك) * هم الملائكة عليهم السلام وفي ذكرهم تحريض للمؤمنين وتعريض للكفار * (وله يسجدون) * قدم المجرور لمعنى الحصر أي لا يسجدون إلا لله والله أعلم
سورة الأنفال
نزلت هذه السورة في غزوة بدر وغنائمها * (يسألونك عن الأنفال) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والسائلون هم الصحابة والأنفال هي الغنائم وذلك أنهم كانوا يوم بدر ثلاث فرق فرقة مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش تحرسه وفرقة اتبعوا المشركين فقتلوهم وأسروهم وفرقة أحاطوا بأسلاب العدو وعسكرهم لما انهزموا فلما انجلت الحرب واجتمع الناس رأت كل فرقة أنها أحق بالغنيمة من غيرها واختلفوا فيما بينهم فنزلت الآية ومعناها يسئلونك عن حكم الغنيمة ومن يستحقها وقيل الأنفال هنا ما ينفله الإمام لبعض الجيش من الغنيمة زيادة على حظه وقد أختلف الفقهاء هل يكون ذلك التنفيل من الخمس وهو قول مالك أو من الأربعة الأخماس أو من رأس النغمة قبل إخراج الخمس * (قل الأنفال لله والرسول) * أي الحكم فيهما لله والرسول لا لكم * (وأصلحوا ذات بينكم) * أي اتفقوا وائتلفوا ولا تنازعوا وذات هنا بمعنى الأحوال قاله الزمخشري وقال ابن عطية يراد بها في هذا الموضع نفس الشيء وحقيقته وقال الزبيري إن إطلاق الذات على نفس الشيء وحقيقته ليس من كلام العرب * (وأطيعوا الله ورسوله) * يريد في الحكم في الغنائم قال عبادة بن الصامت نزلت فينا أصحاب بدر حين اختلفنا وساءت أخلاقنا فنزع الله الأنفال من أيدينا وجعلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها على السواء فكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين * (إنما المؤمنون) * الآية أي الكاملون الإيمان فإنما هنا للتأكيد والمبالغة والحصر * (وجلت قلوبهم) * أي خافت وقرأ أبي بن كعب فزعت * (زادتهم إيمانا) * أي قوي تصديقهم ويقينهم
60

خلافا لمن قال إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإن زيادته إنما هي بالعمل * (لهم درجات) * يعني في الجنة * (كما أخرجك ربك) * فيه ثلاث تأويلات أحدها أن تكون الكاف في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هذه الحال كحال إخراجك يعني أن حالهم في كراهة تنفيل الغنائم كحالهم في حالة خروجك للحرب والثاني أن يكون في موضع الكاف نصب على أنه صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله الأنفال لله والرسول أي استقرت الأنفال لله والرسول استقرارا مثل استقرار خروجك والثالث أن تتعلق الكاف بقوله يجادلونك * (من بيتك) * يعني مسكنه بالمدينة إذ أخرجه الله لغزوة بدر * (وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * أي كرهوا قتال العدو وذلك أن عير قريش أقبلت من الشام فيها أموال عظيمة ومعها أربعون راكبا فأخبر بذلك جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فخرج بالمسلمين فسمع بذلك أهل مكة فاجتمعوا وخرجوا في عدد كثير ليمنعوا عيرهم فنزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله قد وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقالوا العير أحب إلينا من لقاء العدو فقال إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقال له سعد بن عبادة امض لما شئت فإنا متبعوك وقال سعد بن معاذ والذي بعثك بالحق لو خضت هذا البحر لخضناه معك فسر بنا على بركة الله * (يجادلونك في الحق بعد ما تبين) * كان جدالهم في لقاء قريش بإيثارهم لقاء العير إذ كانت أكثر أموالا وأقل رجالا وتبين الحق هو إعلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم ينصرون * (كأنما يساقون إلى الموت) * تشبيه لحالهم في إفراط جزعهم من لقاء قريش * (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين) * يعني قريش أو عيرهم والعامل في إذ محذوف تقديره اذكروا * (أنها لكم) * بدل من إحدى الطائفتين * (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم) * الشوكة عبارة عن السلاح سميت بذلك لحدتها والمعنى تحبون أن تلقوا الطائفة التي لا سلاح لها وهي العير * (أن يحق الحق) * يعني يظهر الإسلام بقتل الكفار وإهلاكهم يوم بدر * (ليحق الحق) * متعلق بمحذوف تقديره ليحق الحق ويبطل الباطل فعل ذلك وليس تكرارا للأول لأن الأول مفعول يريد وهذا تعليل لفعل الله تعالى ويحتمل أن يريد بالحق الأول الوعد بالنصرة وبالحق الثاني الإسلام فيكون المعنى أن نصرهم ليظهر الإسلام ويؤيد هذا قوله ويبطل الباطل أي يبطل الكفر * (إذ تستغيثون ربكم) * إذ بدل من إذ يعدكم وقيل يتعلق بقوله ليحق الحق أو بفعل مضمر واستغاثتهم دعاؤهم بالغوث والنصر * (ممدكم) * أي مكثركم * (مردفين) * من قولك ردفه إذا تبعه وأردفته إياه إذا أتبعته إياه والمعنى يتبع بعضهم بعضا فمن قرأه بفتح الدال فهو اسم مفعول ومن قرأه بالكسر فهو
61

اسم فاعل وصح معنى القراءتين لأن الملائكة المنزلين يتبع بعضهم بعضا فمنهم تابعون ومتبوعون * (وما جعله الله) * الضمير عائد على الوعد أو على الإمداد بالملائكة * (إذ يغشيكم النعاس) * إذ بدل من إذ يعدكم أو منصوب بالنصر أو بما عند الله من معنى النصر أو بإضمار فعل تقديره اذكر ومن قرأ يغشاكم بضم الياء والتخفيف فهو من أغشى ومن قرأ بالضم والتشديد فهو من غشي المشدد وكلاهما يتعدى إلى مفعولين فنصب النعاس على أنه المفعول والثاني والمعنى يغطيكم به فهو استعارة من الغشاء ومن قرأ بفتح الياء والشين فهو من غشى المتعدي إلى واحد أي ينزل عليكم النعاس * (أمنة منه) * أي أمنا والضمير المجرور يعود على الله تعالى وانتصاب أمنة على أنه مفعول من أجله قال ابن مسعود النعاس عند حضور القتال علامة أمن من العدو * (وينزل عليكم من السماء ماء) * تعديد لنعمة أخرى وذلك أنهم عدموا الماء في غزوة بدر قبل وصولهم إلى بدر وقيل بعد وصولهم فأنزل الله لهم المطر حتى سالت الأودية * (ليطهركم به) * كان منهم من أصابته جنابة فتطهر بماء المطر وتوضأ به
سائرهم وكانوا قبله ليس عندهم ماء للطهر ولا للوضوء * (ويذهب عنكم رجز الشيطان) * كان الشيطان قد ألقى في نفوس بعضهم وسوسة بسبب عدم الماء فقالوا نحن أولياء الله وفينا رسوله فكيف نبقى بلا ماء فأنزل الله المطر وأزال عنهم وسوسة الشيطان " وليربط على قلوبكم " أي يثبتها بزوال ما وسوس لها الشيطان وبتنشيطها وإزالة الكسل عنها * (ويثبت به الأقدام) * الضمير في به عائد على الماء وذلك أنهم كانوا في رملة دهمة لا يثبت فيها قدم فلما نزل المطر تلبدت وتدقت الطريق وسهل المشي عليها والوقوف وروى أن ذلك المطر بعينه صعب الطريق على المشركين فتبين أن ذلك من لطف الله * (إذ يوحي) * يحتمل أن يكون ذلك بدلا من إذ المتقدمة كما أنها بدل من التي قبلها أو يكون العامل فيه يثبت * (فثبتوا الذين آمنوا) * يحتمل أن يكون التثبيت بقتال الملائكة مع المؤمنين أو بأقوال مؤنسة مقوية للقلب قالوها إذا تصوروا بصور بني آدم أو بإلقاء الأمن في نفوس المؤمنين * (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) * يحتمل أن يكون من خطاب الله للملائكة في شأن غزوة بدر تكميلا لتثبيت المؤمنين أو استئناف إخبار عما يفعله الله في المستقبل * (فاضربوا فوق الأعناق) * يحتمل أيضا أن يكون خطابا بالملائكة أو للمؤمنين ومعنى فوق الأعناق أي على الأعناق حيث المفصل بين الرأس والعنق لأنه مذبح والضرب فيها يطير الرأس وقيل المراد الرؤوس لأنها فوق الأعناق وقيل المراد الأعناق وفوق زائدة * (كل بنان) * قيل هي المفاصل وقيل الأصابع وهو الأشهر في اللغة وفائدة ذلك أن المقاتل إذا ضربت أصابعه تعطل عن القتال فأمكن أسره وقتله * (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) * الإشارة إلى ما أصاب
62

الكفار يوم بدر والباء للتعليل وشاقوا من الشقاق وهو العداوة والمقاطعة * (ذلكم فذوقوه) * الخطاب هنا للكفار وذلكم مرفوع تقديره ذلكم العقاب أو العذاب ويحتمل أن يكون منصوبا بقوله فذوقوه كقولك زيدا فاضربه * (وأن للكافرين) * عطف على ذلكم على تقدير رفعه أو نصبه أو مفعول معه والواو بمعنى مع * (زحفا) * حال من الذين كفروا أو من الفاعل في لقيتم ومعناه متقابلي الصفوف والأشخاص وأصل الزحف الاندفاع * (فلا تولوهم الأدبار) * نهى عن الفرار مقيدا بأن يكون الكفار أكثر من مثلي المسلمين حسبما يذكره في موضعه * (ومن يولهم يومئذ) * أي يوم اللقاء في أي عصر كان * (إلا متحرفا لقتال) * هو الكر بعد الفر ليرى عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه وذلك من الخداع في الحرب * (أو متحيزا إلى فئة) * أي منحازا إلى جماعة من المسلمين فإن كانت الجماعة حاضرة في الحرب فالتحيز إليها جائز باتفاق واختلف في التحيز إلى المدينة والإمام والجماعة إذا لم يكن شيئا من ذلك حاضرا ويروى عن عمر بن الخطاب أنه قال أنا فئة لكل مسلم وهذا إباحة لذلك والفرار من الذنوب الكبائر وانتصب قوله متحرفا على الاستثناء من قوله ومن يولهم وقال الزمخشري انتصب على الحال وإلا لغو ووزن متحيز متفيعلا ولو كان على متفعل لقال متحوز لأنه من حاز يحوز * (فلم تقتلوهم) * أي لم يكن قتلهم في قدرتكم لأنهم أكثر منكم وأقوى ولكن الله قتلهم بتأييدكم عليهم وبالملائكة * (وما رميت إذ رميت) * كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ يوم بدر قبضة من تراب وحصى ورمى بها وجوه الكفار فانهزموا فمعنى الآية أن ذلك من الله في الحقيقة * (بلاء حسنا) * يغني الأجر والنصر والغنيمة * (موهن) * من الوهن وهو الضعف وقريء بالتشديد والتخفيف وهو بمعنى واحد * (إن تستفتحوا) * الآية خطاب لكفار قريش وذلك أنهم كانوا قد دعوا الله أن ينصر أحب الطائفتين إليه وروي أن الذي دعا بذلك أبو جهل فنصر الله المؤمنين وفتح لهم ومعنى إن تستفتحوا تطلبوا الفتح ويحتمل أن يكون الفتح الذي طلبوه بمعنى النصر أو بمعنى الحكم وقيل إن الخطاب للمؤمنين * (فقد جاءكم الفتح) * أن كان الخطاب للكفار فالفتح هنا بمعنى النصر أو بمعنى الحكم أي قد جاءكم الحكم الذي حكم الله عليكم بالهزيمة والقتل والأسر وإن كان الخطاب للمؤمنين فالفتح هنا يحتمل أن يكون بمعنى الحكم لأن الله حكم لهم أو بمعنى النصر * (وإن تنتهوا) * أي ترجعوا عن الكفر وهذا يدل على أن الخطاب للكفار * (وإن تعودوا نعد) * أي إن تعودوا إلى الاستفتاح أو القتال نعد لقتالكم والنصر عليكم * (ولا تولوا عنه) * الضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للأمر
63

بالطاعة * (وأنتم تسمعون) * أي تسمعون القرآن والمواعظ * (كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) * هم الكفار سمعوا بآذانهم دون قلوبهم فسماعهم كلا سماع * (إن شر الدواب) * أي كل من يدب والمقصود أن الكفار شر الخلق قال ابن قتيبة نزلت هذه الآية في بني عبد الدار فإنهم جدوا في القتال مع المشركين * (لما يحييكم) * أي للطاعة وقيل للجهاد لأنه يحيا بالنصر * (يحول بين المرء وقلبه) * قيل يميته وقيل يصرف قلبه كيف يشاء فينقلب من الإيمان إلى الكفر ومن الكفر إلى الإيمان وشبه ذلك * (فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * أي لا تصيب الظالمين وحدهم بل تصيب معهم من لم يغير المنكر ولم ينه عن الظلم وإن كان لم يظلم وحكى الطبري أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وطلحة والزبير وأن الفتنة ما جرى لهم يوم الجمل ودخلت النون في تصيبن لأنه بمعنى النهي * (إذ أنتم قليل) * الآية أي حين كانوا بمكة وآواكم بالمدينة وأيدكم بنصره في بدر وغيرها * (لا تخونوا الله) * نزلت في قصة أبي لبابة حين أشار إلى بني قريظة أن ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح وقيل المعنى لا تخونوا بغلول الغنائم ولفظها عام * (وتخونوا أماناتكم) * عطف على لا تخونوا أو منصوب * (يجعل لكم فرقانا) * أي تفرقة بين الحق والباطل وذلك دليل على أن التقوى تنور القلب وتشرح الصدر وتزيد في العلم والمعرفة * (وإذ يمكر بك الذين كفروا) * عطف على إذ أنتم قليل أو استئناف وهي إشارة إلى اجتماع قريش بدار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي الحديث بطوله * (ليثبتوك) * أي ليسجنونك * (قالوا قد سمعنا) * قيل نزلت في النضر بن الحارث كان قد تعلم من أخبار فارس والروم فإذا سمع القرآن وفيه أخبار الأنبياء قال لو شئت لقلت مثل هذا وقيل هي في سائر قريش * (أساطير الأولين) * أي أخبارهم المسطورة * (وإذ قالوا اللهم) * الآية قالها النضر بن الحارث أو سائر قريش لما كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم دعوا على أنفسهم إن كان أمره
64

هو الحق والصحيح أن الذي دعا بذلك أو جهل رواه البخاري ومسلم في كتابيهما وانتصب الحق لأنه خبر كان وقال الزمخشري معنى كلامهم جحود أي إن كان هذا هو الحق فعاقبنا على إنكاره ولكنه ليس بحق فلا نستوجب عقابا وليس مرادهم الدعاء على أنفسهم إنما مرادهم نفي العقوبة عن أنفسهم * (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) * إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم * (وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون) * أي لو آمنوا واستغفروا فإن الاستغفار أمان من العذاب قال بعض السلف كان لنا أمانان من
العذاب وهما وجود النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الأمان الواحد وبقي الآخر وقيل الضمير في يعذبهم للكفار وفي وهم يستغفرون للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم * (وما لهم ألا يعذبهم الله) * المعنى أي شيء يمنع من عذابهم وهم يصدون أي يمنعون المؤمنين من المسجد الحرام والجملة في موضع الحال وذلك من الموجب لعذابهم * (وما كانوا أولياءه) * الضمير للمسجد الحرام أو لله تعالى * (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية) * المكاء التصفير بالفم والتصدية التصفيق باليد وكانوا يفعلونهما إذا صلى المسلمون ليخلطوا عليهم صلاتهم * (ينفقون أموالهم) * الآية نزلت في اتفاق قريش في غزوة أحد وقيل إنها نزلت في أبي سفيان بن حرب فإنه استأجر العير من الأحباش فقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد * (تكون عليهم حسرة) * أي يتأسفون على انفاقها من غير فائدة أو يتأسفون في الآخرة * (ثم يغلبون) * إخبار بالغيب * (ليميز الله الخبيث من الطيب) * معنى يميز يفرق بين الخبيث والطيب والخبيث هنا الكفار والطيب المؤمنون وقيل الخبيث ما أنفقه الكفار والطيب ما أنفقه المؤمنون واللام في ليميز على هذا تتعلق بيغلبون وعلى الأول بيحشرون * (فيركمه) * أي يضمه ويجعل بعضه فوق بعض * (إن ينتهوا) * يعني عن الكفر إلى الإسلام لأن الإسلام يجب ما قبله ولا تصح المغفرة إلا به * (وإن يعودوا) * يعني إلى القتال * (فقد مضت سنة الأولين) * تهديد بما جرى لهم يوم بدر وبما جرى للأمم السالفة * (حتى لا تكون فتنة) * الفتنة هنا الكفر فالمعنى قاتلوهم حتى لا يبقى كافر وهو كقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " واعلموا
65

أنما غنمتم من شئ) لفظه عام يراد به الخصوص لأن الأموال التي تؤخذ من الكفار منها ما يخمس وهو ما أخذ على وجه الغلبة بعد القتال ومنها ما لا يخمس بل يكون جميعه لمن أخذه وهو ما أخذه من كان ببلاد الحرب من غير إيجاف وما طرحه العدو خوف الغرق ومنها ما يكون جميعه للإمام يأخذ منه حاجته ويصرف سائره في مصالح المسلمين وهي الفيء الذي لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب * (فأن لله خمسه) * الآية اختلف في قسم الخمس على هذه الأصناف فقال قوم يصرف على ستة أسهم سهم لله في عمارة الكعبة وسهم للنبي صلى الله عليه وسلم في مصالح المسلمين وقيل للوالي بعده وسهم لذوي القربى الذين لا تحل لهم الصدقة وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل وقال الشافعي على خمسة أسهم ولا يجعل لله سهما مختصا وإنما بدأ عنده بالله لأن الكل ملكه وقال أبو حنيفة على ثلاثة أسهم لليتامى والمساكين وابن السبيل وقال مالك الخمس إلى اجتهاد الإمام يأخذ منه كفايته ويصرف الباقي في المصالح * (إن كنتم آمنتم بالله) * راجع إلى ما تقدم والمعنى إن كنتم مؤمنين فاعلموا ما ذكر الله لكم من قسمة الخمس واعملوا بحسب ذلك ولا تخالفوه * (وما أنزلنا على عبدنا) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم والذي أنزل عليه القرآن والنصر * (يوم الفرقان) * أي التفرقة بين الحق والباطل وهو يوم بدر * (التقى الجمعان) * يعني المسلمين والكفار * (إذ أنتم بالعدوة الدنيا) * العامل في إذ التقى والعدوة شفير الوادي وقرئ بالضم والكسر وهما لغتان والدنيا القريبة من المدينة والقصوى البعيدة * (والركب أسفل منكم) * يعني العير التي كان فيها أبو سفيان وكان قد نكب عن الطريق خوفا من النبي صلى الله عليه وسلم وكان جمع قريش المشركين قد حال بين المسلمين وبين العير * (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) * أي لو تواعدتم مع قريش ثم علمتم كثرتهم وقلتكم لاختلفتم ولم تجتمعوا معهم أو لو تواعدتم لم يتفق اجتماعكم مثل ما اتفق بتيسير الله ولطفه * (ليهلك من هلك عن بينة) * أي يموت من مات ببدر عن إعذار وإقامة الحجة عليه ويعيش من عاش بعد البيان له وقيل ليهلك من يكفر ويحيى من يؤمن وقرئ من حيى بالإظهار والإدغام وهما لغتان * (إذ يريكهم الله) * الآية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى الكفار في نومه قليلا فأخبر بذلك أصحابه فقويت أنفسهم * (لفشلتم) * أي جبنتم عن اللقاء * (وإذ يريكموهم) * الآية معناها أن الله أظهر كل طائفة قليلة في عين الأخرى ليقع التجاسر على القتال * (ريحكم) *
66

أي قوتكم ونشاطكم وذلك استعارة * (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم) * يعني كفار قريش حين خرجوا لبدر * (بطرا) * أي عتوا وتكبرا * (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) * الآية لما خرجت قريش إلى بدر تصور لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك فقال لهم إني جار لكم من قومي وكانوا قد خافوا من قومه ووعدهم بالنصر * (نكص) * أي رجع إلى وراء * (إني أرى ما لا ترون) * رأى الملائكة تقاتل * (يقول المنافقون) * الذين كانوا بالمدينة وقيل الذين كانوا مع الكفار وهم نفر من قريش منهم قيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس ابن الفاكه بن المغيرة والحارث بن ربيعة بن الأسود وعلي بن أمية بن خلف والعاصي بن أمية بن الحجاج وكانوا قد أسلموا ولم يهاجروا وخرجوا يوم بدر مع الكفار فقالوا هذه المقالة * (غر هؤلاء دينهم) * أي اغتر المسلمون بدينهم فأدخلوا أنفسهم فيما لا طاقة لهم به * (ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة) * ذلك فيمن قتل يوم بدر * (وأدبارهم) * أي إستاههم وقيل ظهورهم * (وذوقوا) * هذا من قول الملائكة لهم تقديره ويقولون لهم ذوقوا والقول المحذوف معموله معطوف على يضربون ويحتمل أن يكون ما بعده من قول الملائكة أو يكون مستأنفا * (ذلك بأن الله) * تقديره عند سيبويه الأمر ذلك والباء سببية والمعنى أن الله لا يغير نعمة على عبيده حتى يغيروا هم بالكفر والمعاصي * (كدأب) * ذكر في آل عمران * (الذين عاهدت منهم) * يريد بني قريظة * (فشرد بهم من خلفهم) * أي افعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم * (وإما تخافن من قوم خيانة) * أي نقضا للعهد * (فانبذ إليهم) * أي رد العهد الذي بينك وبينهم والمفعول محذوف تقديره فانبذ إليهم عهدهم * (على سواء) *
67

أي على معادلة وقيل معناه إن تستوي معهم في العلم بنقض العهد " ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا " أي لا تظن أنهم فاتوا ونجوا بأنفسهم * (إنهم لا يعجزون) * أي لا يفوتون في الدنيا ولا في الآخرة * (وأعدوا لهم) * الضمير للذين ينبذ لهم العهد أو للذين لا يعجزون وحكمه عام في جميع الكفار * (من قوة) * قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن القوة الرمي * (ومن رباط الخيل) * قال الزمخشري الرباط اسم للخيل التي تربط في سبيل الله وقال ابن عطية رباط الخيل جمع ربط أو مصدر * (عدو الله وعدوكم) * يعني الكفار * (وآخرين) * يعني المنافقين وقيل بني قريظة وقيل الجن لأنها تنفر من صهيل الخيل وقيل فارس والأول أرجح لقوله مردوا على النفاق * (لا تعلمونهم الله يعلمهم) * قال السهيلي لا ينبغي أن يقال فيهم شيء لأن الله تعالى قال لا تعلمونهم فكيف يعلمهم أحد وهذا لا يلزم لأن معنى قوله لا تعلمونهم
لا تعرفونهم أي لا تعرفون آحادهم وأعيانهم وقد يعرف صنفهم من الناس ألا ترى أنه قال مثل ذلك في المنافقين * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * السلم هنا المهادنة والآية منسوخة بآية القتال في براءة لأن مهادنة كفار العرب لا تجوز * (وألف بين قلوبهم) * قيل المراد بين قلوب الأوس والخزرج إذ كانت بينهما عداوة فذهبت بالإسلام واللفظ عام * (ومن اتبعك من المؤمنين) * عطف على اسم الله وقال الزمخشري مفعول معه والواو بمعنى مع أي حسبك وحسب من اتبعك الله * (إن يكن منكم عشرون صابرون) * الآية إخبار يتضمن وعدا بشرط الصبر ووجود ثبوت الواحد للعشرة ثم نسخ بثبوت الواحد للاثنين * (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) * أي يقاتلون على غير دين ولا بصيرة فلا يثبتون * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * لما أخذ الأسرى يوم بدر أشار أبو بكر بحياتهم وأشار عمر بقتلهم فنزلت الآية عتابا على استبقائهم * (حتى يثخن في الأرض) * أي يبايع في القتال * (تريدون عرض الدنيا) * عتاب لمن رغب في فداء الأسرى * (لولا كتاب من الله سبق) * الكتاب ما قضاه الله في الأزل من العفو عنهم وقيل ما قضاه الله
68

من تحليل الغنائم لهم * (فيما أخذتم) * يريد به الأسرى وفداؤهم ولما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو نزل عذاب ما نجا منه غيرك يا عمر * (فكلوا مما غنمتم) * إباحة للغنائم ولفداء الأسارى * (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) * أي إن علم في قلوبكم إيمانا جبر عليكم ما أخذ منكم من الفدية قال العباس في نزلت وكان قد افتدى يوم بدر ثم أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال ما لا يقدر أن يحمله فقال قد أعطاني الله خيرا مما أخذ مني وأنا أرجو أن يغفر لي * (وإن يريدوا خيانتك) * الآية تهديدا لهم * (إن الذين آمنوا) * إلى آخر السورة مقصدها بيان منازل المهاجرين والأنصار والذين آمنوا ولم يهاجروا والذين هاجروا بعد الحديبية فبدأ أولا بالمهاجرين ثم ذكر الأنصار وهم الذين آووا ونصروا وأثبت الولاية بينهم وهي ولاية التعاون ثم نسخت بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض * (وإن استنصروكم) * لما نفى الولاية بين المؤمنين والتناصر وقيل هي ولاية الميراث الذين هاجروا وبين المؤمنين الذين لم يهاجروا أمر بنصرهم إن استنصروا بالمؤمنين إلا إذا استنصروا على قوم بينهم وبين المؤمنين عهد فلا ينصرونهم عليهم * (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض) * إلا هنا مركبة من إن الشرطية ولا النافية والضمير في تفعلوه لولاية المؤمنين ومعاونتهم أو لحفظ الميثاق الذي في قوله إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق أو النصر الذي في قوله فعليكم النصر والمعنى إن لم تفعلوا ذلك تكن فتنة * (والذين آمنوا وهاجروا) * الآية ثناء على المهاجرين والأنصار ووعد لهم والرزق الكريم في الجنة * (والذين آمنوا من بعد) * يعني الذين هاجروا بعد الحديبية وبيعة الرضوان " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض " قيل هي ناسخة للتوارث بين المهاجرين والأنصار قال مالك ليست في الميراث وقال أبو حنيفة هي في الميراث وأوجب بها ميراث الخال والعمة وغيرهما من ذوي الأرحام * (في كتاب الله) * أي القرآن وقيل اللوح المحفوظ
69

سورة براءة
وتسمى سورة التوبة وتسمى أيضا الفاضحة لأنها كشفت أسرار المنافقين واتفقت المصاحف والقراء على إسقاط البسملة من أولها واختلف في سبب ذلك فقال عثمان بن عفان اشتبهت معانيها بمعاني الأنفال وكانت تدعى القرينتين في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك قرنت بينهما فوضعتهما في السبع الطوال وكان الصحابة قد اختلفوا هل هما سورتان أو سورة واحدة فتركت البسملة بينهما لذلك وقال علي بن أبي طالب البسملة أمان وبراءة نزلت بالسيف فلذلك لم تبدأ بالأمان * (براءة من الله ورسوله) * المراد بالبراءة التبرؤ من المشركين وارتفاع براءة على أنه خبر ابتداء أو مبتدأ * (إلى الذين عاهدتم من المشركين) * تقدير الكلام براءة واصلة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فمن وإلى يتعلقان بمحذوف لا ببراءة وإنما أسند العهد إلى المسلمين في قوله عاهدتم لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين فكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عاهد المشركين إلى آجال محدودة فمنهم من وفى فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ومنهم من نقض أو قارب النقض فجعل له أجل أربعة أشهر وبعدها لا يكون له عهد * (فسيحوا في الأرض) * أي سيروا آمنين أربعة أشهر وهي الأجل الذي جعل لهم واختلف في وقتها فقيل هي شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن السورة نزلت حينئذ وذلك عام تسعة وقيل هي من عيد الأضحى إلى تمام العشر الأول من ربيع الآخر لأنهم إنما علموا بذلك حينئذ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث تلك السنة أبا بكر الصديق يحج بالناس ثم بعث بعده علي بن أبي طالب فقرأ على الناس سورة براءة يوم عرفة وقيل يوم النحر * (غير معجزي الله) * أي لا تفوتونه * (وأذان) * أي إعلام بتبرئ الله تعالى ورسوله من المشركين * (إلى الناس) * جعل البراءة مختصة بالمعاهدين من المشركين وجعل الإعلام بالبراءة عاما لجميع الناس من عاهد ومن لم يعاهد والمشركين وغيرهم * (الحج الأكبر) * هو يوم عرفة أو يوم النحر وقيل أيام الموسم كلها وعبر عنها بيوم كقولك يوم صفين والجمل وكانت أياما كثيرة " أن الله بريء من المشركين " تقديره أذان بأن الله بريء وحذفت الباء تخفيفا وقرئ إن الله بالكسر لأن الأذان في معنى القول * (ورسوله) * ارتفع بالعطف على الضمير في برئ أو بالعطف على موضع اسم إن أو بالابتداء وخبره محذوف وقرء بالنصب عطف على اسم إن وأما الخفض فلا يجوز فيه العطف على المشركين لأنه معنى فاسد ويجوز على الجوار أو القسم وهو مع ذلك بعيد والقراءة به شاذة * (فإن تبتم) * يعني التوبة من الكفر " إلا الذين
70

عاهدتم) يريد الذين لم ينقضوا العهد * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * يعني الأشهر الأربعة التي جعلت لهم فمن قال إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فهي الحرم المعروفة زاد فيها شوال ونقص رجب وسميت حرما تغليبا للأكثر ومن قال إنها إلى ربيع الثاني فسميت حرما لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * ناسخة لكل موادعة في القرآن وقيل إنها نسخت أيضا فإما منا بعد وإما فداء وقيل بل نسختها هي فيجوز المن والفداء * (وخذوهم) * معناه الأسر والأخيذ هو الأسير * (كل مرصد) * كل طريق ونصبه على الظرفية * (فإن تابوا) * يريد من الكفر ثم قرن بالإيمان الصلاة والزكاة فذلك دليل على قتال تارك الصلاة والزكاة كما فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه والآية في معنى قوله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا
الزكاة * (فخلوا سبيلهم) * تأمين لهم * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) * هو من الجوار أي استأمنك فأمنه حتى يسمع القرآن ليرى هل يسلم أم لا * (ثم أبلغه مأمنه) * أي إن لم يسلم فرده إلى موضعه وهذا الحكم ثابت عند قوم وقال قوم نسخ بالقتال * (كيف يكون للمشركين عهد) * لفظ استفهام ومعناه استنكار واستبعاد * (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) * قيل المراد قريش وقيل قبائل بني بكر * (فما استقاموا) * ما ظرفية * (كيف) * تأكيد للأولى وحذف الفعل بعدها للعلم به تقديره كيف يكون لهم عهد * (لا يرقبوا) * أي لا يراعوا * (إلا ولا ذمة) * الإل القرابة وقيل الحلف والذمة العهد * (وأكثرهم فاسقون) * استثنى من قضى له بالإيمان * (أئمة الكفر) * أي رؤساء أهله قيل إنهم أبو جهل لعنه الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو وحكى ذلك الطبري وهو ضعيف لأن أكثر هؤلاء كان قد مات قبل نزول هذه السورة والأحسن أنها على العموم " لا أيمان
71

لهم) أي لا أيمان لهم يوفون بها وقرئ لا إيمان بكسر الهمزة * (لعلهم ينتهون) * يتعلق بقاتلوا * (وهموا بإخراج الرسول) * قيل يعني إخراجه من المدينة حين قاتلوه بالخندق وأحد وقيل يعني إخراجه من مكة إذا تشاوروا فيه بدار الندوة ثم خرج هو بنفسه " وهم بدءوكم أول مرة " يعني إذايتهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمكة * (يعذبهم الله بأيديكم) * يريد بالقتل والأسر وفي ذلك وعد للمسلمين بالظفر * (قوم مؤمنين) * قيل إنهم خزاعة والإطلاق أحسن * (ويتوب الله) * استئناف إخبار فإن الله يتوب على بعض هؤلاء الكفار فيسلم * (أم حسبتم) * الآية معناها أن الله لا يتركهم دون تمحيص يظهر فيه الطيب من الخبيث وأم هنا بمعنى بل والهمزة * (يعلم الله) * أي يعلم ذلك موجبا لتقوم به الحجة * (وليجة) * أي بطانة * (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) * أي ليس لهم ذلك بالحق والواجب وإن كانوا قد عمروها تغليبا وظلما ومن قرأ مساجد بالجمع أراد جميع المساجد ومن قرأ بالتوحيد أراد المسجد الحرام * (شاهدين على أنفسهم بالكفر) * أي أن أحوالهم وأقوالهم تقتضي الإقرار بالكفر وقيل الإشارة إلى قولهم في التلبية لا شريك لك إلا شريك هو لك * (أجعلتم سقاية الحاج) * الآية سببها أن قوما من قريش افتخروا بسقاية الحاج وبعمارة المسجد الحرام فبين الله أن الجهاد أفضل من ذلك ونزلت الآية في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن منبه افتخروا فقال أنا صاحب البيت وعندي مفاتحه وقال العباس أنا صاحب السقاية وقال علي لقد أسلمت قبل الناس وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم * (لا تتخذوا آباءكم) * الآية قيل نزلت فيمن ثبط عن الهجرة
72

ولفظها عام وكذلك حكمها * (فتربصوا) * وعيد لمن آثر أهله أو ماله أو مسكنه على الهجرة والجهاد * (بأمره) * قيل يعني فتح مكة وقيل هو إشارة إلى عذاب أو عقاب * (ويوم حنين) * عطف على مواطن أو منصوب بفعل مضمر وهذا أحسن لوجهين أحدهما أن قوله إذ أعجبتكم كثرتكم مختص بحنين ولا يصح في غيره من المواطن فيضعف عطف يوم حنين على المواطن للاختلاف الذي بينهما في ذلك والآخر أن المواطن ظرف مكان ويوم حنين ظرف زمان فيضعف عطف أحدهما على الآخر إلا أن يريد بالمواطن الأوقات وحنين اسم علم لموضع عرف برجل اسمه حنين وانصرف لأنه مذكر * (إذ أعجبتكم كثرتكم) * كانوا يومئذ اثنا عشر ألفا فقال بعضهم لن نغلب اليوم من قلة فأراد الله إظهار عجزهم فقر الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بقي على بغلته في نفر قليل ثم استنصر بالله وأخذ قبضة من تراب فرمى بها وجوه الكفار وقال شاهت الوجوه ونادى بأصحابه فرجعوا إليه وهزم الله الكفار وقصة حنين مذكورة في السير * (بما رحبت) * أي ضاقت على كثرة اتساعها وما هنا مصدرية * (وأنزل جنودا لم تروها) * يعني الملائكة * (ثم يتوب الله) * إشارة إلى إسلام هوازن الذين قاتلوا المسلمين بحنين * (إنما المشركون نجس) * قيل إن نجاستهم بكفرهم وقيل بالجنابة * (فلا يقربوا المسجد الحرام) * نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام فأجمع العلماء على ذلك وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد فمنع جميع الكفار من جميع المساجد وجعلها الشافعي عامة في الكفار خاصة بالمسجد الحرام فمنع جميع الكفار دخول المسجد الحرام خاصة وأباح لهم دخول غيره وقصرها أبو حنيفة على موضع النص فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام خاصة وأباح لهم دخول سائر المساجد وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره * (بعد عامهم هذا) * يريد عام تسعة من الهجرة حين حج أبو بكر بالناس وقرأ عليهم على سورة براءة * (وإن خفتم عيلة) * أي فقرا كان المشركون يجلبون الأطعمة إلى مكة فخاف الناس قلة القوت بها إذ منع المشركون منها فوعدهم الله بأن يغنيهم من فضله فأسلمت العرب كلها وتمادى جلب الأطعمة إلى مكة ثم فتح الله سائر الأمصار * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * أمر بقتال أهل الكتاب ونفى عنهم الإيمان بالله لقول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى
73

المسيح ابن الله ونفى عنهم الإيمان باليوم الآخر لأن اعتقادهم فيه فاسد فإنهم لا يقولون بالمعاد والحساب * (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله) * لأنهم يستحلون الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك * (ولا يدينون دين الحق) * أي لا يدخلون في الإسلام * (من الذين أوتوا الكتاب) * بيان للذين أمر بقتالهم وحين نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك لقتال النصارى * (حتى يعطوا الجزية) * اتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى ويلحق بهم المجوس لقوله صلى الله عليه وسلم سنوا بهم سنة أهل الكتاب واختلفوا في قبولها من عبدة الأوثان والصابئين ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين وقدرها عند مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق ويؤخذ ذلك من كل رأس * (عن يد) * فيه تأويلان أحدهما دفع الذمي لها بيده لا يبعثها مع أحد ولا يمطل بها كقولك يدا بيد الثاني عن استسلام وانقياد كقولك ألقى فلان بيده * (وهم صاغرون) * أذلاء * (وقالت اليهود عزير ابن الله) * قال ابن عباس إن هذه المقالة قالها أربعة من اليهود وهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف وقيل لم يقلها إلا فنحاص ونسب ذلك إلى جميعهم لأنهم متبعون لمن قالها والظاهر أن جماعتهم قالوها إذ لم ينكروها حين نسبت إليهم وكان سبب قولهم ذلك أنهم فقدوا التوراة فحفظها عزيرا وحده فعلمها لهم فقالوا ما علم الله عزيرا التوراة إلا أنه ابنه وعزير مبتدأ وابن الله خبره ومنع عزير التنوين لأنه أعجمي لا ينصرف وقيل بل هو منصرف وحذف التنوين لالتقاء الساكنين وهذا ضعيف وأما من نونه فجعله عربيا * (وقالت
النصارى المسيح ابن الله) * قال أبو المعالي أطبقت النصارى على أن المسيح إله وابن إله وذلك كفر شنيع * (بأفواههم) * يتضمن معنيين أحدهما إلزامهم هذه المقالة والتأكيد في ذلك والثاني أنهم لا حجة لهم في ذلك وإنما هو مجرد دعوى كقولك لمن تكذبه هذا قول بلسانك * (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) * معنى يضاهئون يشابهون فإن كان الضمير لليهود والنصارى فالإشارة بقوله الذين كفروا من قبل للمشركين من العرب إذ قالوا الملائكة بنات الله وهم أول كافر أو للصابئين أو لأمم متقدمة وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون * (قاتلهم الله) * دعاء عليهم وقيل معناه لعنهم الله * (أنى يؤفكون) * تعجب كيف يصرفون عن الحق والصواب * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا) * أي أطاعوهم كما يطاع الرب وإن كانوا لم يعبدوهم * (والمسيح) * معطوف على الأحبار والرهبان * (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا) * أي أمرهم بذلك عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم " يريدون أن يطفؤا نور الله " أي يريدون أن يطفئوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عبادة الله وتوحيده * (بأفواههم) * إشارة
74

إلى أقوالهم كقولهم ساحر وشاعر وفيه أيضا إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا * (ليظهره على الدين) * الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أو للدين وإظهاره جعله أعلى الأديان وأقواها حتى يعم المشارق والمغارب وقيل ذلك عند نزول عيسى ابن مريم حتى لا يبقى إلا دين الإسلام * (ليأكلون أموال الناس بالباطل) * هو الرشا على الأحكام وغير ذلك * (والذين يكنزون الذهب والفضة) * ورد في الحديث أن كل من أديت زكاته فليس بكنز وما لم تؤد زكاته فهو كنز وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد كلما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز * (ولا ينفقونها) * الضمير للأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى وقيل هي الفضة واكتفى في ذلك عن الذهب إذ الحكم فيهما واحد * (يوم يحمى) * العامل في الظرف أليم أو محذوف * (عليها) * الضمير يعود على ما يعود عليه ضمير ينفقونها * (اثنا عشر شهرا) * هي الأشهر المعروفة أولها المحرم وآخرها ذو الحجة وكان الذي جعل المحرم أول شهر من العام عمر بن الخطاب رضي الله عنه * (في كتاب الله) * أي في اللوح المحفوظ وقيل في القرآن والأول أرجح لقوله يوم خلق السماوات والأرض * (منها أربعة حرم) * هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم * (ذلك الدين القيم) * يعني أن تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل وكانت العرب قد تمسكت به حتى غيره بعضهم * (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) * الضمير في قوله فيهن للأشهر الحرم تعظيما لأمرها وتغليظا للذنوب فيها وإن كان الظلم ممنوعا في غيرها وقيل الضمير للاثني عشر شهرا أو الزمان كله والأول أظهر * (وقاتلوا المشركين كافة) * أي قاتلوهم في الأشهر الحرم فهذا نسخ لتحريم القتال فيها وكافة حال من الفاعل أو المفعول " إنما النسيء " وهو تأخير حرمة الشهر إلى الشهر الآخر وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم فيشق عليهم تركها فيجعلونها في شهر حرام ويحرمون شهرا آخر بدلا منه وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر حتى تكمل في العام أربعة أشهر محرمة * (يحلونه عاما ويحرمونه عاما) * أي تارة يحلون وتارة يحرمون ولم يرد العام حقيقة * (ليواطئوا عدة ما حرم الله) * أي ليوافقوا عدد الأشهر الحرم وهي أربعة * (فيحلوا ما حرم الله) * يعني إحلالهم القتال في الأشهر الحرم " ما لكم إذا قيل لكم
75

انفروا) عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك * (اثاقلتم إلى الأرض) * عبارة عن تخلفهم وأصل اثاقلتم تثاقلتم * (إلا تنفروا يعذبكم) * شرط وجزاء وهو العذاب في الدنيا والآخرة * (إلا تنصروه فقد نصره الله) * شرط وجواب والضمير لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل كيف ارتبط هذا الشرط مع جوابه فالجواب أن المعنى إن لم تنصروه أنتم فسننصره الله الذي نصره حين كان ثاني اثنين فدل بقوله نصره الله على نصره في المستقبل * (إذ أخرجه الذين كفروا) * يعني خروجه من مكة مهاجرا إلى المدينة وأسند إخراجه إلى الكفار لأنهم فعلوا معه من الأذى ما اقتضى خروجه * (ثاني اثنين) * هو أبو بكر الصديق * (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) * يعني أبا بكر * (إن الله معنا) * يعني بالنصر واللطف * (فأنزل الله سكينته عليه) * الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل لأبي بكر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل معه السكينة ويضعف ذلك بأن الضمائر بعدها للرسول عليه السلام * (وأيده بجنود لم تروها) * يعني الملائكة يوم بدر وغيره * (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) * يريد إذلالها ودحضها * (وكلمة الله هي العليا) * قيل هي لا إله إلا الله وقيل الدين كله * (انفروا خفافا وثقالا) * أمر بالتنفير إلى الغزو والخفة استعارة لمن يمكنه السفر بسهولة والثقل من يمكنه بصعوبة وقال بعض العلماء الخفيف الغني والثقيل الفقير وقيل الخفيف الشاب والثقيل الشيخ وقيل الخفيف النشيط والثقيل الكسلان وهذه الأقوال أمثلة في الثقل والخفة وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله ليس على الضعفاء ولا على المرضى الآية * (لو كان عرضا قريبا) * الآية نزلت هي وكثير مما بعدها في هذه السورة في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وذلك أنها كانت إلى أرض بعيدة وكانت في شدة الحر وطيب الثمار والظلال فثقلت عليهم فأخبر الله في هذه الآية أن السفر لو كان لعرض من الدنيا أو إلى مسافة قريبة لفعلوه * (بعدت عليهم الشقة) * أي الطريق والمسافة * (وسيحلفون بالله) * إخبار بغيب وهو أنهم يعتذرون بأعذار كاذبة يحلفون * (يهلكون أنفسهم) * أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذبة أو تخلفهم عن الغزو * (عفا الله عنك لم أذنت لهم) * الآية كان بعض المنافقين قد استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن غزوة تبوك فأذن لهم فعاتبه الله تعالى على إذنه له وقدم العفو على العتاب إكراما له صلى الله عليه وسلم وقيل إن قوله عفا الله عنك ليس لذنب ولا عتاب ولكنه استفتاح كلام كما يقول أصلحك الله * (حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) * كانوا قد قالوا استأذنوه في العقود فإن أذن لنا قعدنا وإن لم يأذن لنا قعدنا وإنما كان يظهر الصدق من الكذب لو لم يأذن لهم فحينئذ كان يقعد
76

العاصي والمنافق ويسافر المطيع * (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) * الآية لا يستأذنك في التخلف عن الغزو لغير عذر من يؤمن بالله واليوم الآخر * (وارتابت قلوبهم) * أي شكت ونزلت الآية في عبد الله بن أبي بن سلول والجد بن قيس * (ولو أرادوا الخروج) * الآية أي لو كانت لهم نية في الغزو والاستعداد له قبل أوانه * (انبعاثهم) * أي خروجهم * (فثبطهم) * أي كسر عزمهم وجعل في قلوبهم الكسل * (وقيل اقعدوا) * يحتمل أن يكون القائل لهم اقعدوا هو الله تعالى وذلك عبارة عن قضائه عليهم بالقعود ويحتمل أن يكون ذلك من قول بعضهم لبعض * (مع القاعدين) * أي مع النساء والصبيان وأهل الأعذار وفي ذلك ذم لهم لاختلاطهم في القعود مع
هؤلاء * (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) * أي شرا وفسادا * (ولأوضعوا) * أي أسرعوا السير والإيضاع سرعة السير والمعنى أنهم يسرعون للفساد والنميمة * (خلالكم) * أي بينكم * (يبغونكم الفتنة) * أي يحاولون أن يفتنوكم * (سماعون لهم) * وقيل يسمعون أخبارهم وينقلونها إليهم * (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) * أي طلبوا الفساد وروي أنها نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين * (وقلبوا لك الأمور) * أي دبروها من كل وجه فأبطل الله سعيهم * (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) * لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك قال الجد بن قيس وكان من المنافقين ائذن لي في القعود ولا تفتني برؤية بني الأصفر فإني لا أصبر عن النساء * (ألا في الفتنة سقطوا) * أي وقعوا في الفتنة التي فروا منها * (إن تصبك حسنة تسؤهم) * الحسنة هنا النصر والغنيمة وشبه ذلك * (يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل) * أي قد حذرنا وتأهبنا من قبل * (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) * أي ما قدر وقضى وهذا رد على المنافقين * (قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) * أي هل تنظرون بنا إلا إحدى أمرين إما الظفر والنصر وإما الموت في سبيل الله وكل واحد من الخصلتين حسن * (بعذاب من عنده) * المصائب وما ينزل من السماء أو عذاب الآخرة * (أو بأيدينا) * يعني القتل * (فتربصوا) * تهديد * (قل أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم) * تضمن الأمر هنا معنى الشرط
77

فاحتاج إلى جواب والمعنى لن يتقبل منكم سواء أنفقتم طوعا أو كرها والطوع والكره عموم في الإنفاق أي لن يتقبل على كل حال * (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا) * تعليل لعدم قبول نفقاتهم بكفرهم ويحتمل أن يكون إنهم كفروا فاعل ما منعهم أو في موضع مفعول من أجله والفاعل الله * (إنما يريد الله ليعذبهم بها) * قيل العذاب في الدنيا بالمصائب وقيل ما ألزموا من أداء الزكاة * (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) * إخبار بأنهم يموتون على الكفر * (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) * أي من المؤمنين * (يفرقون) * يخافون * (لو يجدون ملجأ) * أي ما يلجأ إليه من المواضع * (أو مغارات) * هي الغيران في الجبال * (أو مدخلا) * وزنه مفتعل من الدخول ومعناه نفق أو سرب في الأرض * (يجمحون) * أي يسارعون * (ومنهم من يلمزك في الصدقات) * أي يعيبك على قسمتها والآية في المنافقين كالتي قبلها وبعدها وقيل في ذي الخويصرة الذي قال اعدل يا محمد فإنك لم تعدل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلك إن لم أعدل فمن يعدل الحديث * (ولو أنهم رضوا) * الآية ترغيب لهم فيما هو خير لهم وجواب لو محذوف تقديره لكان ذلك خيرا لهم * (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) * الآية إنما هنا نقتضي حصر الصدقات وهي الزكاة في هذه الأصناف الثمانية فلا يجوز أن يعطى منها غيرهم ومذهب مالك أن تفريقها في هؤلاء الأصناف إلى اجتهاد الإمام فله أن يجعلها في بعض دون بعض ومذهب الشافعي أنه يجب أن تقسم على جميع هذه الأصناف بالسواء واختلف العلماء هل الفقير أشد حاجة من المسكين أو بالعكس فقيل هما سواء وقيل الفقير الذي يسأل الناس ويعلم حاله والمسكين ليس كذلك * (والعاملين عليها) * أي الذين يقبضونها ويفرقونها * (والمؤلفة قلوبهم) * كفار يعطون ترغيبا في الإسلام وقيل هم مسلمون يعطون ليتمكن إيمانهم واختلف هل بقي حكمهم أو سقط للاستغناء عنهم * (وفي الرقاب) * يعني العبيد يشترون ويعتقون * (والغارمين) * يعني من عليه دين ويشترط أن يكون استدان في غير فساد ولا سرف * (وفي سبيل الله) * يعني الجهاد فيعطى منها المجاهدون ويشترى منها آلات الحرب واختلف هل تصرف في بناء الأسوار وإنشاء الأساطيل * (وابن السبيل) * هو الغريب المحتاج * (فريضة) * أي
78

حقا محدودا ونصبه على المصدرف فإن قيل لم ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين فالجواب أنه حصر مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله ومنهم من يلمزك في الصدقات الآية * (ومنهم الذين يؤذون النبي) * يعني من المنافقين وإذايتهم للنبي صلى الله عليه وسلم بالأقوال والأفعال * (ويقولون هو أذن) * أي يسمع كل ما يقال له ويصدقه ويقال إن قائل هذه المقالة هو نبيل بن الحارث وكان من مردة المنافقين وقيل عتاب بن قيس * (قل أذن خير لكم) * أي يسمع الخير والحق * (ويؤمن للمؤمنين) * أي يصدقهم يقال آمنت لك إذا صدقتك ولذلك تعدى هذا الفعل بإلى وتعدى يؤمن بالله بالباء * (ورحمة) * بالرفع عطف على أذن وبالخفض على خير * (يحلفون) * يعني المنافقين * (والله ورسوله أحق أن يرضوه) * تقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فهما جملتان حذف الضمير من الثانية لدلالة الأولى عليها وقيل إنما وحد الضمير لأن رضا الله ورسوله واحد. * (من يحادد الله) * يعني من يعادي ويخالف * (فأن له) * إن هنا مكررة تأكيدا للأولى وقيل بدل منها وقيل التقدير فواجب أن له فهي في موضع خبر مبتدأ محذوف * (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم) * يعني في شأنهم سورة على النبي صلى الله عليه وسلم والضمائر في عليهم وتنبئهم وقلوبهم تعود على المنافقين وقال الزمخشري إن الضمير في عليهم وتنبئهم للمؤمنين وفي قلوبهم للمنافقين والأول أظهر " قل استهزؤا " تهديد * (إن الله مخرج ما تحذرون) * صنع ذلك بهم في هذه السورة لأنها فضحتهم * (إنما كنا نخوض ونلعب) * نزلت في وديعة بن ثابت بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هذا يريد أن يفتح قصور الشام هيهات هيهات فسأله عن ذلك فقال إنما كنا نخوض ونلعب * (إن نعف عن طائفة منكم) * كان رجل منهم اسمه مخشن تاب ومات شهيدا * (بعضهم من بعض) * نفي لأن يكونوا من المؤمنين * (ويقبضون أيديهم) * كناية عن البخل * (نسوا الله) * أي غفلوا عن ذكره * (فنسيهم) * تركهم من رحمته وفضله * (وعد الله المنافقين) * الأصل في الشر أن يقال أوعد وإنما يقال فيه وعد إذا صرح بالشر * (والكفار) * يعني المجاهرين بالكفر * (كالذين من قبلكم) * خطاب للمنافقين والكاف في موضع نصب والتقدير فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم أو في موضع خبر مبتدأ تقديره أنتم كالذين
79

من قبلكم * (وخضتم) * أي خلطتم وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يقال إلا في الباطل من الكلام * (كالذي خاضوا) * تقديره كالخوض الذي خاضوا أو قيل كالذين خاضوا فالذي هنا على هذا بمعنى الجميع * (ألم يأتهم) * الآية تهديد لهم بما أصاب الأمم المتقدمة * (والمؤتفكات) * يعني مدائن قوم لوط * (بالبينات) * أي بالمعجزات * (بعضهم أولياء بعض) * في مقابلة قوله المنافقون بعضهم من بعض ولكنه خص المؤمنين بالوصف بالولاية * (جنات عدن) * قيل عدن هي مدينة
الجنة وأعظمها وقال الزمخشري هو اسم علم * (ورضوان من الله أكبر) * أي رضوان من الله أكبر من كل ما ذكر وذلك معنى ما ذكر في الحديث إن الله تعالى يقول لأهل الجنة أتريدون شيئا أزيدكم فيقولون يا ربنا أي شيء تزيدنا فيقول رضواني فلا أسخط عليكم أبدا * (جاهد الكفار والمنافقين) * جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان ما لم يظهر ما يدل على كفرهم فإن ظهر منهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق وقد اختلف هل يقتل أم لا * (واغلظ عليهم) * الغلظة ضد الرحمة والرأفة وقد تكون بالقول والفعل وغير ذلك * (يحلفون بالله ما قالوا) * نزلت في الجلاس بن سويد فإنه قال إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه عليه فحلف أنه ما قاله * (ولقد قالوا كلمة الكفر) * يعني ما تقدم من قول الجلاس لأن ذلك يقتضي التكذيب * (وكفروا بعد إسلامهم) * لم يقل بعد إيمانهم لأنهم كانوا يقولون بألسنتهم آمنا ولم يدخل الإيمان في قلوبهم * (وهموا بما لم ينالوا) * هم الجلاس بقتل من بلغ تلك الكلمة عنه وقيل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الآية نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول وكلمة الكفر التي قالها قوله سمن كلبك يأكلك وهمه بما لم يناله قوله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله) * أي ما عابوا إلا الغنى الذي كان حقه أن يشكروا عليه وذلك في الجلاس أو في عبد الله بن أبي * (فإن يتوبوا) * فتح الله لهم باب التوبة فتاب
80

الجلاس وحسن حاله * (ومنهم من عاهد الله) * الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب وذلك أنه قال يا رسول الله ادع الله أن يكثر مالي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه فأعاد عليه حتى دعا له فكثر ماله فتشاغل به حتى ترك الصلوات ثم امتنع من أداء الزكاة فنزلت فيه الآية فجاء بزكاته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ولم يأخذها منه وقال إن الله أمرني أن لا آخذ زكاتك ثم لم يأخذها منه أبو بكر ولا عمر ولا عثمان * (بخلوا به) * إشارة إلى منعه الزكاة * (فأعقبهم نفاقا) * عقوبة على العصيان بما هو أشد منه * (إلى يوم يلقونه) * حكم بوفاته على النفاق * (الذين يلمزون المطوعين) * نزلت في المنافقين حين تصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقالوا ما هذا إلا رياء وأصل المطوعين المتطوعين والمراد به هنا من تصدق بكثير * (والذين لا يجدون إلا جهدهم) * هم الذين لا يقدرون إلا على القليل فيتصدقون به نزلت في أبي عقيل تصدق بصاع من تمر فقال المنافقون إن الله غني عن صدقة هذا * (فيسخرون منهم) * أي يستخفون بهم * (سخر الله منهم) * تسمية للعقوبة باسم الذنب * (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) * يحتمل معنيين أحدهما أن يكون لفظه أمر ومعناه الشرط ومعناه إن استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) كما جاء في سورة المنافقين والآخر أن يكون تخيير كأنه قال إن شئت فاستغفر لهم وإن شئت فلا تستغفر لهم ثم أعلمه الله أنه لا يغفر لهم وهذا أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله خيرني فاخترت وذلك حين قال عمر أتصلي على عبد الله بن أبي وقد نهاك الله عن الصلاة عليه * (سبعين مرة) * ذكرها على وجه التمثيل للعدد الكثير * (فرح المخلفون) * أي الذين خلفهم الله عن بدر وأقعدهم عنه وفي هذا تحقير وذم لهم ولذلك لم يقل المتخلفون * (بمقعدهم) * أي بقعودهم * (خلاف رسول الله) * أي بعده حين خرج إلى تبوك فخلاف على هذا ظرف وقيل هو مصدر من خلف فهو على هذا مفعول من أجله * (وقالوا لا تنفروا في الحر) * قائل هذه المقالة رجل من بني سلمة ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر * (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) * أمر بمعنى الخبر فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها وبكاؤهم الكثير في الآخرة وقيل هو بمعنى الأمر أي يجب أن يكونوا يضحكون قليلا ويبكون كثيرا
81

في الدنيا لما وقعوا فيه * (إلى طائفة منهم) * إنما لم يقل إليهم لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف * (لن تخرجوا معي أبدا) * عقوبة لهم فيها خزي وتوبيخ * (أول مرة) * يعني في غزوة تبوك * (فاقعدوا مع الخالفين) * أي مع القاعدين وهم النساء والصبيان * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) * نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سلول وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه حين مات وروي أنه صلى عليه فنزلت الآية وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل فجبذ ثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا الآية فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصل عليه * (وإذا أنزلت سورة) * قيل يعني براءة والأرجح أنه على الإطلاق * (إن آمنوا) * أن هنا مفسرة " استأذنك أولو الطول منهم " أي أولوا الغنى والمال الكثير * (لكن الرسول) * الآية أي إن تخلف هؤلاء فقد جاهد الرسول ومن معه * (الخيرات) * تعم منافع الدارين وقيل هي الحور العين لقوله خيرات حسان * (وجاء المعذرون) * هم المعتذرون ثم أدغمت التاء في الذال ونقلت حركتها إلى العين واختلف هل كانوا في اعتذارهم صادقين أو كاذبين وقيل هم المقصرون من عذر في الأمر إذا قصر فيه ولم يجد فوزنه على هذا المفعلون وروي أنها نزلت في قوم من غفار * (وقعد الذين كذبوا الله ورسوله) * هم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا عن تخلفهم فكذبوا في دعواهم الإيمان * (سيصيب الذين كفروا منهم) * أي من المعذرين * (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) * هذا رفع للحرج عن أهل الأعذار الصحيحة من ضعف البدن والفقر إذا تركوا الغزو وقيل إن الضعفاء هنا هم النساء والصبيان وهذا بعيد * (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون) * قيل نزلت في بني مقرن وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وقيل في عبد الله بن مغفل المزني * (إذا نصحوا لله) * يعني بنياتهم وأقوالهم وإن لم يخرجوا
82

للغزو * (ما على المحسنين من سبيل) * وصفهم بالمحسنين لأنهم نصحوا لله ورسوله ورفع عنهم العقوبة والتعنيف واللوم * (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) * قيل هم بنو مقرن وقيل ابن مغفل وقيل سبعة نفر من بطون شتى وهم البكاؤن ومعنى لتحملهم على الإبل وجواب إذا يحتمل أن يكون قلت * (لا أجد ما أحملكم) * أو تولوا إذا رجعتم يعني من غزوة تبوك * (لن نؤمن لكم) * لن نصدقكم * (من أخباركم) * نعت لمحذوف وهو المفعول الثاني تقديره قد نبأنا الله جملة من أخباركم * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا) * هم أهل البوادي من العرب " وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله " يعني أنهم أحق أن لا يعلموا الشرائع لبعدهم عن الحاضرة ومجالس العلم * (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما) * أي تثقل عليهم الزكاة والنفقة في سبيل الله ثقل المغرم الذي ليس بحق عليه * (ويتربص بكم الدوائر) * أي ينتظر بكم مصائب الدنيا * (عليهم دائرة السوء) * خبر أو دعاء * (وصلوات الرسول) * أي دعواته لهم وهو عطف على قربات أي يقصدون بنفقاتهم التقرب إلى الله
واغتنام دعاء الرسول لهم وقيل نزلت في بني مقرن * (والسابقون الأولون) * قيل هم من صلى للقبلتين وقيل من شهد بدرا وقيل من حضر بيعة الرضوان * (والذين اتبعوه) * سائر الصحابة ويدخل في ذلك التابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة بشرط الإحسان " مردوا على النفاق أي اجترؤا عليه وقيل أقاموا عليه " سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " العذاب العظيم هو عذاب النار وأما المرتان قبله فالثانية منهما عذاب القبر والأولى عذابهم بإقامة الحدود عليهم وقيل بفضيحتهم بالنفاق " وآخرون
83

اعترفوا بذنوبهم) الآية قيل إنها نزلت في أبي لبابة فعمله الصالح الجهاد وعمله السيء نصيحته لبني قريظة وقيل هو لمن تخلف عن تبوك من المؤمنين فعملهم الصالح ما سبق لهم وعملهم السيء تخلفهم عن تبوك وروي أنهم ربطوا أنفسهم إلى سواري المسجد وقالوا لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل هي عامة في الأمة إلى يوم القيامة قال بعضهم ما في القرآن آية أرجى لهذه أمة من هذه الآية * (خذ من أموالهم صدقة) * قيل نزلت في المتخلفين الذين ربطوا أنفسهم لما تاب الله عليهم قالوا يا رسول الله إنا نريد أن نتصدق بأموالنا فنزلت هذه الآية وأخذ ثلث أموالهم وقيل هي الزكاة المفروضة فالضمير على العموم لجميع المسلمين * (تطهرهم وتزكيهم بها) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في موضع صفة لصدقة أو حال من الضمير في خذ * (وصل عليهم) * أي ادع لم * (سكن لهم) * أي تسكن به نفوسهم فهو عبارة عن صحة الاعتقاد أو عن طمأنينة نفوسهم إذا علموا ان الله تاب عليهم * (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده) * الضمير في يعلموا للتائبين من التخلف وقيل للذين تخلفوا ولم يتوبوا وقيل عام وفائدة الضمير المؤكد تخصيص الله تعالى بقبول التوبة دون غيره * (ويأخذ الصدقات) * قيل معناه يأمر بها وقيل يقبلها من عباده * (وآخرون مرجون لأمر الله) * قيل هم الثلاثة الذين خلفوا قبل أن يتوب الله عليهم وقيل هم الذين بنوا مسجدا الضرار وقرئ مرجئون بالهمز وتركه وهما لغتان ومعناه التأخير * (والذين اتخذوا مسجدا) * قرئ الذين بغير واو صفة لقوله وآخرون مرجون أو على تقديرهم الذين وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجون لأمر الله هم أهل مسجد الضرار وقرئ والذين بالواو عطف على آخرون مرجون وهذه القراءة جارية على قول من قال في المرجئين أنهم الثلاثة الذين خلفوا * (ضرارا وكفرا) * كانوا بنو عمرو بن عوف من الأنصار وقد بنوا مسجد قباء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه ويصلي فيه فحسدهم على ذلك قومهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف فبنوا مسجدا آخر مجاورا له ليقطعوا الناس عن الصلاة في مسجد قباء وذلك هو الضرار الذي قصدوا وسألوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه ويصلي لهم فيه فنزلت عليه فيه هذه الآية * (وتفريقا بين المؤمنين) * أرادوا أن يتفرق المؤمنون عن مسجد قباء * (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) * أي انتظارا لمن حارب الله ورسوله وهو أبو عامر الراهب الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق وكان من أهل المدينة فلما قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاهد بالكفر والنفاق ثم خرج إلى مكة
84

فحزب الأحزاب من المشركين فلما فتحت مكة خرج إلى الطائف فلما اسلم أهل الطائف خرج إلى الشام ليستنصر بقيصر فهلك هناك وكان أهل مسجد الضرار يقولون إذا قدم أبو عامر المدينة يصلي في هذا المسجد والإشارة بقوله من قبل إلى ما فعل معه الأحزاب * (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) * أي الخصلة الحسنى وهي الصلاة وذكر الله فأكذبهم الله في ذلك * (لا تقم فيه أبدا) * نهي عن إتيانه والصلاة فيه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمر بطريقه * (لمسجد أسس على التقوى) * قيل هو مسجد قباء وقيل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم * (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) * كانوا يستنجون بالماء ونزلت في الأنصار على قول من قال إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد المدينة ونزلت في بني عمرو بن عوف خاصة على قول من قال إن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد قباء " أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار " الآية استفهام بمعنى التقرير والذي أسس على التقوى والرضوان مسجد المدينة أو مسجد قباء والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار وتأسيس البناء على التقوى والرضوان هو بحسن النية فيه وقصد وجه الله وإظهار شرعه والتأسيس على شفار جرف هار هو بفساد النية وقصد الرياء والتفريق بين المؤمنين فذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البديع ومعنى شفا جرف طرفه ومعنى هار ساقط أو واهي بحيث أشفى على السقوط واصل هار هائر فهو من المقلوب لأن لامه جعلت في موضع العين * (فانهار به في نار جهنم) * أي طاح في جهنم وهذا ترشيح للمجاز فإنه لما شبه بالجرف وصف بالانهيار الذي هو من شأن الجرف وقيل إن ذلك حقيقة وأنه سقط في نار جهنم وخرج الدخان من موضعه والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بهدمه فهدم * (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) * أي لا يزال في قلوب أهل مسجد الضرار ريبة من بنيانه أي شك في الإسلام بسبب بنيانه لاعتقادهم صواب فعلهم أو غيظ بسبب هدمه * (إلا أن تقطع قلوبهم) * أي إلا أن يموتوا * (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) * قيل إنها نزلت في بيعة العقبة وحكمها عام في كل مؤمن مجاهد في سبيل الله إلى يوم القيامة قال بعضهم ما أكرم الله فإن أنفسنا هو خلقها وأموالنا هو رزقها ثم وهبها لنا ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي فإنها لصفقة رابحة * (يقاتلون في سبيل الله) * جملة في موضع الحال بيان للشراء * (فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به) * قال بعضهم ناهيك عن بيع البائع فيه
85

رب العلا والثمن جنة المأوى والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم * (التائبون) * وما بعده أوصاف للمؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم تقديره التائبون * (السائحون) * قيل معناه الصائمون ويقال ساح في الأرض أي ذهب * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) * نزلت في شأن أبي طالب فإنه لما امتنع أن يقول لا إله إلا الله عند موته قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فكان يستغفر له حتى نزلت هذه الآية وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأمه فنزلت الآية وقيل إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم المشركين فنزلت الآية * (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة) * المعنى لا حجة لكم أيها المؤمنون في استغفار إبراهيم لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم وهو قوله سأستغفر لك ربي * (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) * قيل تبين له ذلك بموت أبيه على الكفر وقيل لأنه نهى عن الاستغفار له * (لأواه) * قيل كثير الدعاء وقيل موقن وقيل فقيه وقيل كثير الذكر لله وقيل كثير التأوه
من خوف الله * (وما كان الله ليضل قوما) * الآية نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن فخافوا على أنفسهم من ذلك فنزلت الآية تأنيسا لهم أي ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يبين لكم المنع من ذلك * (في ساعة العسرة) * يعني حين محاولة غزوة تبوك والساعة هنا بمعنى الحين والوقت وإن كان مدة والعسرة الشدة وضيق الحال * (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) * يعني تزيغ عن الثبات على الإيمان أو عن الخروج في تلك الغزوة لما رأوا من الضيق والمشقة وفي كاد ضمير الأمر والشأن أو ترتفع بها القلوب * (ثم تاب عليهم) * يعني على هذا الفريق أي رجع بهم عما كادوا يقعون فيه * (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) * هم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ومن غير نفاق ولا قصد للمخالفة فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم وأمر أن لا يكلمهم أحد وأمرهم أن يعتزلوا نساءهم فبقوا على ذلك مدة إلى أن أنزل الله توبتهم وقد روي حديثهم في البخاري ومسلم والسير ومعنى خلفوا هنا أي عن الغزوة وقال كعب بن مالك معناه
86

خلفوا عن قبول الضر وليس بالتخلف عن الغزو يقوي ذلك كونه جعل إذا ضاقت غاية للتخلف * (ضاقت عليهم الأرض) * عبارة عما أصابهم من الغم والخوف من الله * (ثم تاب عليهم ليتوبوا) * أي رجع بهم ليستقيموا على التوبة * (وكونوا مع الصادقين) * يحتمل أن يريد صدق اللسان إذا كانوا هؤلاء الثلاثة قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب فنفعهم الله بذلك ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان وهو الصدق في الأقوال والأفعال والمقاصد والعزائم والمراد بالصادقين المهاجرون لقول الله في الحشر للفقراء المهاجرين إلى قوله هم الصادقون وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة فقال نحن الصادقون وقد أمركم الله أن تكونوا معنا أي تابعين لنا * (ما كان لأهل المدينة) * الآية عتاب لمن تخلف عن غزوة تبوك من أهل يثرب ومن جاورها من قبائل العرب * (ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) * أي لا يمتنعوا من اقتحام المشقات التي تحملها هو صلى الله عليه وسلم * (ذلك بأنهم لا يصيبهم) * تعليل لما يجب من عدم التخلف * (ظمأ) * أي عطش * (ولا نصب) * أي تعب * (ولا مخمصة) * أي جوع * (ولا يطؤون) * أي بأرجلهم أو بدوابهم * (ولا ينالون من عدو نيلا) * عموم في كل ما يصيب الكفار * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * قال ابن عباس هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا أي لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم وهذه في السرايا التي كان يبعثها وقيل هي ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع فهو دليل على أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين وقيل هي في طلب العلم ومعناها أنه لا تجب الرحلة في طلب العلم على الجميع بل على البعض لأنه فرض كفاية * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * تحضيض على نفر بعض المؤمنين للجهاد أو لطلب العلم * (ليتفقهوا في الدين) * إن قلنا إن الآية في الخروج إلى طلب العلم فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تنفر أي ترحل وكذلك الضمير في ينذروا وفي رجعوا أي ليعلموا قومهم إذا رجعوا إليهم من الرحلة وإن قلنا إن الآية في السرايا فالضمير في يتفقهوا للفرقة التي تقعد في المدينة ولا تخرج مع السرايا وأما الضمير في رجعوا فهو للفرقة التي خرجت مع السرايا * (لعلهم يحذرون) * الضمير للقوم * (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) * أمر بقتال الأقرب فالأقرب على تدريج وقيل إنها إشارة إلى قتال الروم بالشام لأنهم كانوا أقرب الكفار إلى أرض العرب وكانت أرض العرب قد
87

عمها الإسلام وكانت العراق حينئذ بعيدة * (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) * أي من المنافقين من يقول بعضهم لبعض أيكم زادته هذه إيمانا على وجه الاستخفاف بالقرآن كأنهم يقولون أي عجب في هذا وأي دليل في هذا * (فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) * وذلك لما يتجدد عندهم من البراهين والأدلة عند نزول كل سورة * (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم) * المرض عبارة عن الشك والنفاق والمعنى زادتهم رجسا إلى رجسهم أو زادتهم كفرا ونفاقا إلى كفرهم ونفاقهم * (يفتنون في كل عام) * قيل يفتنون أي يختبرون بالأمراض والجوع وقيل بالأمر بالجهاد واختار ابن عطية أن يكون المعنى يفضحون بما يكشف من سرائرهم * (نظر بعضهم إلى بعض) * أي تغامزوا وأشار بعضهم إلى بعض على وجه الاستخفاف بالقرآن ثم قال بعضهم لبعض هل يراكم من أحد كأن سبب خوفهم أن ينقل عنهم ذلك وقيل معنى نظر بعضهم إلى بعض على وجه التعجب مما ينزل في القرآن من كشف أسرارهم ثم قال بعضهم لبعض * (هل يراكم من أحد) * أي هل رأى أحوالكم فنقلها عنكم أو علمت من غير نقل فهذا أيضا على وجه التعجب * (ثم انصرفوا) * يحتمل أن يراد الانصراف بالأبدان أو الانصراف بالقلوب عن الهدى * (صرف الله قلوبهم) * دعاء أو خبر * (بأنهم قوم لا يفقهون) * تعليل لصرف قلوبهم * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) * يعني النبي صلى الله عليه وسلم والخطاب للعرب أو لقريش خاصة أي من قبيلتكم حيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته أو لبني آدم كلهم أي من جنسكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم * (عزيز عليه ما عنتم) * أي يشق عليه عنتكم والعنت هو ما يضرهم في دينهم أو دنياهم وعزيز صفة للرسول وما عنتم فاعل بعزيز وما مصدرية أو ما عنتم مصدر وعزيز خبر مقدم والجملة في موضع الصفة * (حريص عليكم) * أي حريص على إيمانكم وسعادتكم " بالمؤمنين رؤوف رحيم " سماه الله هنا باسمين من أسمائيه * (فإن تولوا فقل حسبي الله) * أي إن أعرضوا عن الإيمان فاستعن بالله وتوكل عليه وقيل إن هاتين الآيتين نزلتا بمكة
88

سورة يونس عليه السلام
* (الر) * تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء التي في أوائل السور * (تلك آيات الكتاب) * إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب هنا القرآن * (الحكيم) * من الحكمة أو من الحكم أو من الأحكام للأمر أي أحكمه الله * (أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس) * الهمزة للإنكار وعجبا خبر كان وأن أوحينا اسمها وأن أنذر تفسير للوحي والمراد بالناس هنا كفار قريش وغيرهم وإلى رجل هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الآية الرد على من استبعد النبوة أو تعجب من أن يبعث الله رجلا * (قدم صدق) * أي عمل صالح فرموه وقال ابن عباس السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ " قال الكافرون إن هذا لسحر مبين "
يعنون ما جاء به من القرآن وقرئ لساحر يعنون به النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون كلامهم هذا تفسير لما ذكر قبل من تعجبهم من النبوة ويكون خبرا مستأنفا * (إن ربكم الله) * تعريف بالله وصفاته ليعبدوه ولا يشركوا به وفيه رد على من أنكر النبوة كأنه يقول إنما أدعوكم إلى عبادة ربكم الذي خلق السماوات والأرض فكيف تنكرون ذلك وهو الحق المبين * (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) * أي ما يشفع إليه أحد إلا بعد أن يأذن هو له في الشفاعة وفي هذا رد على المشركين الذين يزعمون أن الأصنام تشفع لهم * (وعد الله حقا) * نصب وعد على المصدر المذكور المؤكد للرجوع إلى الله ونصب حقا على المصدر المؤكد لوعد الله * (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) * أي يبدؤه في الدنيا ويعيده بعد الموت في الآخرة والبداءة دليل على العودة * (ليجزي) * تعليل للعودة وهي البعثة * (بالقسط) * أي بعدله في جزائهم أو بقسطهم في أعمالهم الصالحة * (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا) * وصف أفعال الله وقدرته وحكمته والضياء أعظم من النور * (وقدره منازل) * الضمير للقمر والمعنى قدر سيره في منازل * (والحساب) * يعني حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي * (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) * أي
89

ما خلقه عبثا والإشارة بذلك إلى ما تقدم من المخلوقات * (إن الذين لا يرجون لقاءنا) * قيل معنى يرجون هنا يخافون وقيل لا يرجون حسن لقاءنا فالرجاء على أصله وقيل لا يرجون لا يتوقعون أصلا ولا يخطر ببالهم * (ورضوا بالحياة الدنيا) * أي قنعوا أن تكون حظهم ونصيبهم * (واطمأنوا بها) * أي سكنت أنفسهم عن ذكر الانتقال عنها * (والذين هم عن آياتنا غافلون) * يحتمل أن تكون هي الفرقة الأولى فيكون من عطف الصفات أو تكون غيرها * (يهديهم ربهم بإيمانهم) * أي يسددهم بسبب إيمانهم إلى الاستقامة أو يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة وهو أرجح لما بعده * (دعواهم فيها) * أي دعاؤهم * (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم) * أي لو يعجل الله للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعا ونزلت الآية عند قوم في دعاء الإنسان على نفسه وماله وولده وقيل نزلت في الذين قالوا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء * (وإذا مس الإنسان الضر دعانا) * عتاب في ضمنه نهي لمن يدعو الله عند الضر ويغفل عنه عند العافية * (لجنبه) * أي مضطجعاوروي انها نزلت في أبي حذيفة بن المغيرة لمرض كان به * (ولقد أهلكنا القرون) * إخبار ضمنه وعيد للكفار * (لننظر) * معناه ليظهر في الوجود فتقوم عليكم الحجة به * (وإذا تتلى عليهم) * يعني على قريش * (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم) * أي ما تلوته إلا بمشيئة الله لأنه من عنده وما هو من عندي * (ولا أدراكم به) * أي ولا أعلمكم به * (فقد لبثت فيكم عمرا من قبله) * أي بقيت بينكم أربعين سنة قبل البعث ما تكلمت في هذا حتى جاءني من عند الله * (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) *
90

تنصل من الافتراء على الله وبيان لبراءته صلى الله عليه وسلم مما نسبوه إليه من الكذب وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له * (أو كذب بآياته) * بيان لظلمهم في تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم) * الضمير في يعبدون لكفار العرب وما لا يضرهم ولا ينفعهم هي الأصنام * (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) * كانوا يزعمون أن الأصنام تشفع لهم " قل أتنبؤن الله بما لا يعلم " رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام والمعنى أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هو عالم بما في السماوات والأرض وكل ما ليس بمعلوم لله فهو عدم محض ليس بشيء فقوله أتنبئون الله تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم أي كيف تعلمون الله بما لا يعلم * (وما كان الناس إلا أمة واحدة) * تقدم في البقرة في قوله كان الناس أمة واحدة * (ولولا كلمة سبقت) * يعني القضاء * (ويقولون لولا أنزل عليه آية) * كانوا يطلبون آية من الآيات التي اقترحوها ولقد نزل عليه آيات عظام فما اعتدوا بها لعنادهم وشدة ضلالهم * (قل إنما الغيب لله) * إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل لا يطلع على ذلك أحد * (فانتظروا) * أي انتظروا نزول ما اقترحتموه * (إني معكم من المنتظرين) * أي منتظر لعقابكم على كفركم * (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء) * هذه الآية في الكفار وتضمنت النهي لمن كان كذلك من غيرهم والمكر هنا الطعن في آيات الله وترك شكره ومكر الله الموصوف بالسرعة هو عقابه لهم سماه مكرا مشاكلة لفعلهم وتسمية للعقوبة باسم الذنب * (وجرين بهم) * الضمير المؤنث في جرين للفلك والضمير في بهم للناس وفيه الخروج من الخطاب إلى الغيبة وهو يسمى الالتفات وجواب إذا كنتم قوله جاءتها ريح عاصف وقوله دعوا الله قال الزمخشري هو بدل من ظنوا ومعناه دعوا الله وحده وكفروا بمن دونه * (متاع الحياة الدنيا) * رفع على أنه خبر ابتداء مضمر تقديره وذلك
91

متاع أو يكون خبر إنما بغيكم ويختلف الوقف باختلاف الإعراب * (إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء) * معنى الآية تحقير الدنيا وبيان سرعة فنائها وشبهها بالمطر الذي يخرج به النبات ثم تصيب ذلك النبات آفة عند حسنه وكماله * (مما يأكل الناس) * كالزرع والفواكه * (والأنعام) * يعني المرعى التي ترعاها من العشب وغيره * (أخذت الأرض زخرفها) * تمثيل بالعروس إذا تزينت بالحلي والثياب * (قادرون عليها) * أي متمكنون من الانتفاع بها * (أتاها أمرنا) * أي بعض الجوائح كالريح والصر وغير ذلك فجعلناه حصيدا) أي جعلنا زرعها كالذي حصد وإن كان لم يحصد * (كأن لم تغن) * كأن لم تنعم " والله يدعوا إلى دار السلام " إلى الجنة وسميت دار السلام أي دار السلامة من العناء والتعب وقيل السلام هنا اسم الله أي يدعو إلى داره * (ويهدي من يشاء) * ذكر الدعوة إلى الجنة عامة مطلقة والهدايا خاصة بمن يشاء * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * الحسنى الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله وقيل الحسنى جزاء الحسنة بعشر أمثالها والزيادة التضعيف فوق ذلك إلى سبعمائة والأول أصح لوروده في الحديث وكثرة القائلين به * (قتر) * أي غبار يغير الوجه * (والذين كسبوا السيئات) * مبتدأ على حذف مضاف تقديره جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها أو على تقدير لهم جزاء سيئة بمثلها أو معطوفا على الذين أحسنوا ويكون جزاء سيئة مبتدأ وخبره بمثلها * (ما لهم من الله من عاصم) * أي لا يعصمهم أحد من عذاب الله * (قطعا من الليل مظلما) * من قرأ بفتح الطاء فهو جمع قطعة وإعراب مظلما على هذه القراءة حال من الليل ومن قرأ قطعا بإسكان الطاء فمظلما صفة له أو حال من الليل * (مكانكم) * تقديره الزموا مكانكم أي لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل الله بكم * (فزيلنا بينهم) * أي فرقنا * (تبلو كل نفس ما أسلفت) * أي تختبر بما قدمت من الأعمال وقرئ تتلو بتاءين بمعنى تتبع أو تقرأه في المصاحف * (قل من يرزقكم) * الآية احتجاج على الكفار بحجج
كثيرة واضحة
92

لا محيص لهم عن الإقرار بها * (يخرج الحي من الميت) * مذكور في آل عمران * (ربكم الحق) * أي الثابت الربوبية بخلاف ما تعبدون من دونه * (فماذا بعد الحق إلا الضلال) * أي عبادة غير الله ضلال بعد وضوح الحق وتدل الآية على أنه ليس بين الحق والباطل منزلة في علم الاعتقادات إذ الحق فيها في طرف واحد بخلاف مسائل الفروع " كذلك حقت كلمت ربك على الذين فسقوا " المعنى كما حق الحق في الاعتقادات كذلك حقت كلمة ربك على الذين عتوا وتمردوا في كفرهم أنهم لا يؤمنون والكلمات يراد بها القدر والقضاء " قل هل من شركائكم من يبدؤا الخلق ثم يعيده " الآية احتجاج على الكفار فإن قيل كيف يحتج عليهم بإعادة الخلق وهم لا يعترفون بها فالجواب أنهم معترفون أن شركاءهم لا يقدرون على الابتداء ولا على الإعادة وفي ذلك إبطال لربوبيتهم وأيضا فوضعت الإعادة موضع المتفق عليه لظهور برهانها " أمن لا يهدي " بتشديد الدال معناه لا يهتدي في نفسه فكيف يهدي غيره وقرئ بالتخفيف بمعني يهدي غيره والقراءة الأولى أبلغ في الاحتجاج * (فما لكم) * ما استفهامية معناها تقرير وتوبيخ ولكم خبرها ويوقف عليه * (كيف تحكمون) * أي تحكمون بالباطل في عبادتكم لغير الله * (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا) * أي غير تحقيق لأنه لا يستند إلى برهان * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * ذلك في الاعتقادات إذ المطلوب فيها اليقين بخلاف الفروع * (تصديق الذي بين يديه) * مذكور في البقرة * (أم يقولون) * أم هنا بمعنى بل والهمزة * (فأتوا بسورة) * تعجيز لهم وإقامة حجة عليهم * (من استطعتم) * يعني من شركائكم وغيرهم من الجن والإنس * (من دون الله) * أي غير الله * (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) * أي سارعوا إلى التكذيب بما لم يفهموه ولم يعلموا تفسيره * (ولما يأتهم تأويله) * أي علم تأويله ويعني بتأويله الوعيد الذي لهم فيه * (ومنهم من يؤمن به) * الآية فيها قولان أحدهما إخبار بما يكون منهم في المستقبل وأن بعضهم يؤمن وبعضهم يتمادى على الكفر والآخر أنها إخبار عن حالهم أن منهم من هو مؤمن به ويكتم إيمانه ومنهم من هو مكذب * (فقل لي عملي) * الآية موادعة منسوخة بالقتال * (من يستمعون إليك) *
93

أي يستمعون القرآن وجمع الضمير بالحمل على معنى من * (أفأنت تسمع الصم) * المعنى أتريد أن تسمع الصم وذلك لا يكون لا سيما إذا انضاف إلى الصمم عدم العقل * (أفأنت تهدي العمي) * المعنى أتريد ان تهدي العمي وذلك لا يكون لا سيما إذا انضاف إلى عدم البصر عمى البصرة والصمم والعمي عبارة عن قلة فهمهم * (لم يلبثوا إلا ساعة) * تقليل لمدة بقائهم في الدنيا أو في القبور " ويتعارفون بينهم " يعني يوم الحشر فهو على هذا حال من الضمير في يلبثوا * (وإما نرينك) * شرط جوابه وإلينا مرجعهم والمعنى إن أريناك بعض عذابهم في الدنيا فذلك وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا مرجعهم * (ثم الله شهيد) * ذكرت ثم لترتب الأخبار لا لترتيب الأمر قاله ابن عطية وقال الزمخشري ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها وهو العقاب فالترتيب على هذا صحيح * (فإذا جاء رسولهم) * قيل مجيئه في الآخرة للفصل وقيل مجيئه في الدنيا وهو بعثه * (ويقولون متى هذا الوعد) * كلام فيه استبعاد واستخفاف * (بياتا) * أي بالليل * (ماذا يستعجل منه المجرمون) * المعنى أي شيء يستعجلون من العذاب وهو ما لا طاقة لكم به وقوله ماذا جواب إن أتاكم والجملة متعلقة بأرأيتم * (أثم إذا ما وقع آمنتم به) * دخلت همزة التقرير على ثم العاطفة والمعنى إذا وقع العذاب وعاينتموه آمنتم به الآن وذلك لا ينفعكم لأنكم كنتم تستعجلونه ومكذبين به * (ويستنبئونك أحق هو) * أي يسألونك هل الوعيد حق أو هل الشرع والدين حق والأول أرجح لقوله وما أنتم بمعجزين أي لا تفوتون من الوعيد * (قل أي) * أي نعم * (ظلمت) * صفة لنفس أي لو ملك الظالم الدنيا لاافتدى بها من عذاب الآخرة * (وأسروا الندامة) * أي أخفوها
94

في نفوسهم وقيل اظهروها * (موعظة من ربكم) * يعني القرآن * (وشفاء لما في الصدور) * أي يشفي ما فيها من الجهل والشك * (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) * يتعلق بفضل بقوله فليفرحوا وكرر الباء في قوله فبذلك تأكيدا والمعنى الأمر أن يفرحوا بفضل الله وبرحمته لا بغيرهما والفضل والرحمة عموم وقد قيل الفضل الإسلام والرحمة القرآن * (هو خير مما يجمعون) * أي فضل الله ورحمته خير ممايجمعون من حطام الدنيا * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق) * الآية مخاطبة لكفار العرب الذين حرموا البحيرة والسائبة وغير ذلك * (قل آلله أذن لكم) * متعلق بأرأيتم وكرر قل للتأكيد ولما قسم الأمر إلى إذن الله لهم وافترائهم ثبت افتراؤهم لأنهم معترفون أن الله لم يأذن لهم في ذلك * (وما ظن) * وعيد للذين يفترون * (يوم القيامة) * ظرف منصوب بالظن والمعنى أي شيء يظنون أن يفعل بهم في ذلك اليوم * (وما تكون في شأن) * الشأن الأمر والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وجميع الخلق ولذلك قال في آخرها وما تعلمون من عمل بمخاطبة الجماعة ومعنى الآية إحاطة علم الله بكل شيء " وما تتلوا منه من قرآن " الضمير عائد على القرآن وإن لم يتقدم ذكره لدلالة ما بعده عليه كأنه قال ما تتلوا شيئا من القرآن وقيل يعود على الشأن والأول أرجح لأن الإضمار قبل الذكر تفخيم للشيء * (إذ تفيضون فيه) * يقال أفاض الرجل في الأمر إذا أخذ فيه بجد * (وما يعزب) * ما يغيب * (مثقال ذرة) * وزنها والذرة صغار النمل قال الزمخشري إن قلت لم قدمت الأرض على السماء بخلاف سورة سبأ فالجواب أن السماء تقدمت في سبأ لأن حقها التقديم وقدمت الأرض هنا لما ذكرت الشهادة على أهل الأرض * (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) * من قرأهما بالفتح فهو عطف على لفظ مثقال ومن قرأهما بالرفع فهو عطف على موضعه أو رفع بالابتداء أولياء الله اختلف الناس في معنى الولي اختلافا كثيرا والحق فيه ما فسره الله بعد هذا بقوله الذين آمنوا وكانوا يتقون فمن جمع بين الإيمان والتقوى فهو الولي وإعراب الذين آمنوا صفة للأولياء أو منصوب على التخصيص أو مرفوع بإضمارهم الذين ولا يكون ابتداء مستأنفا لئلا ينقطع مما قبله " لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة " أما بشرى الآخرة فهي الجنة اتفاقا وأما بشرى الدنيا فهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل محبة الناس للرجل الصالح وقيل ما بشر به في القرآن من الثواب * (لا تبديل لكلمات الله) *
95

أي لا تغيير لأقواله ولا خلف لمواعيده وقد استدل ابن عمر على أن القرآن لا يقدر أحد أن يبدله * (ولا يحزنك قولهم) * يعني ما يقوله الكفار من التكذيب * (إن العزة لله) * إخبار في ضمنه وعد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنصر وتسلية له * (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن) * فيها وجهان أحدهما أن
تكون ما نافية وأوجبت بقوله إلا الظن وكرر إن يتبعون توكيدا والمعنى ما يتبع الكفار إلا الظن والوجه الثاني أن تكون ما استفهامية ويتم الكلام عند قوله شركاء والمعنى أي شيء يتبعون على وجه التحقير لما يتبعونه ثم ابتدأ الإخبار بقوله إن يتبعون إلا الظن والعامل في شركاء على الوجهين يدعون * (لتسكنوا فيه) * من السكون وهو ضد الحركة * (والنهار مبصرا) * أي مضيئا تبصرون فيه الأشياء * (قالوا اتخذ الله ولدا) * الضمير للنصارى ولمن قال إن الملائكة بنات الله * (هو الغني) * وصف يقتضي نفي الولد والرد على من نسبه إليه لأن الغني المطلق لا يفتقر إلى اتخاذ ولد * (له ما في السماوات وما في الأرض) * بيان وتأكيد للغني وباقي الآية توبيخ للكفار ووعيد لهم * (متاع في الدنيا) * تقديره لهم متاع في الدنيا * (نوح) * روي أن اسمه عبد الغفار وإنما سمي نوحا لكثرة نوحه على نفسه من خوف الله * (كبر عليكم) * أي صعب وشق * (مقامي) * أي قيامي لوعظكم والكلام معكم وقيل معناه مكاني يعني نفسه كقولك فعلت ذلك لمكان فلان " فأجمعوا بقطع الهمزة من أجمع الأمر إذا عزم عليه وقرئ بألف وصل من الجمع " وشركاؤكم " أي ما تعبدون من دون الله وإعرابه مفعول معه أو مفعول بفعل مضمر تقديره ادعوا شركاءكم وهذا على القراءة بقطع الهمزة وأما على الوصل فهو معطوف " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " أي لا يكون قصدكم إلى هلاكي مستورا ولكن مكشوفا تجاهرونني به وهو من قولك غم الهلال إذا لم يظهر والمراد بقوله أمركم في الموضعين إهلاككم لنوح عليه السلام أي لا تقصروا في إهلاكي إن قدرتم على ذلك " ثم اقضوا إلى " أي انفذوا فيما تريدون ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه إن صعب عليكم دعائي لكم إلى الله فاصنعوا بي غاية ما تريدون وإني لا أبالي بكم لتوكلي
96

على الله وثقتي به سبحانه * (وجعلناهم خلائف) * أي يتخلفون من هلك بالغرق * (ثم بعثنا من بعده رسلا) * يعني هودا وصالحا وإبراهيم وغيرهم * (أسحر هذا) * قيل إنه معمول أتقولون فهو من كلام قوم فرعون وهذا ضعيف لأنهم كانوا يصممون على أنه سحر لقولهم إن هذا لسحر مبين فكيف يستفهمون عنه وقيل إنه من كلام موسى تقريرا وتوبيخا لهم فيوقف على قوله أتقولون للحق لما جاءكم ويكون معمول أتقولون محذوف تقديره أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر ويدل على هذا المحذوف ما حكى عنهم من قولهم إن هذا لسحر مبين فلما تم الكلام ابتدأ موسى توبيخهم بقوله أسحر هذا ولا يفلح الساحرون وهذا هو اختيار شيخنا الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير رحمه الله * (لتلفتنا) * أي لتصرفنا وتردنا عن دين آبائنا * (وتكون لكما الكبرياء) * أي الملك والخطاب لموسى وأخيه عليهما السلام * (ما جئتم به السحر) * ما موصولة مرفوعة بالابتداء والسحر الخبر وقرئ آلسحر بالاستفهام فما على هذا استفهامية والسحر خبر ابتداء مضمر * (ويحق الله الحق) * يحتمل أن يكون من كلام موسى أو إخبار من الله تعالى * (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) * الضمير عائد على موسى ومعنى الذرية شبان وفتيان من بني إسرائيل آمنوا به على خوف من فرعون وقيل إن الضمير عائد على فرعون فالذرية على هذا من قوم فرعون وروي في هذا أنها امرأة فرعون وخازنته وامرأة خازنة وهذا بعيد لأن هؤلاء لا يقال لهم ذرية ولأن الضمير ينبغي أن يعود على أقرب مذكور * (على خوف من فرعون وملئهم) * الضمير يعود على الذرية أي آمنت الذرية من بني إسرائيل على خوف من فرعون وملإ من بني إسرائيل لأن الأكابر من بني إسرائيل كانوا يمنعون أولادهم من الإيمان خوفا من فرعون وقيل يعود على فرعون بمعنى آل فرعون كما يقال ربيعة ومضر أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له * (أن يفتنهم) * بدل من فرعون * (لعال في الأرض) * أي
97

متكبر قاهر * (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) * أي لا تمكنهم من عذابنا فيقولون لو كان هؤلاء على الحق ما عذبناهم فيفتنون بذلك " أن تبؤآ لقومكما بمصر بيوتا " أي اتخذ لهم بيوتا للصلاة والعبادة وقيل إنه أراد الإسكندرية * (واجعلوا بيوتكم قبلة) * أي مساجد وقيل موجهة إلى جهة القبلة فإن قيل لم خص موسى وهارون بالخطاب في قوله أن تبؤآ ثم خاطب معهما بنو إسرائيل في قوله واجعلوا فالجواب أن قوله تبؤآ من الأمور التي يختص بها الأنبياء وأولوا الأمر * (وبشر المؤمنين) * أمر لموسى عليه السلام وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم * (ربنا ليضلوا عن سبيلك) * دعاء بلفظ الأمر وقيل اللام لام كي وتتعلق بقوله آتيت * (اطمس على أموالهم) * أي أهلكها * (واشدد على قلوبهم) * أي اجعلها شديدة القسوة * (فلا يؤمنوا) * جواب للدعاء الذي هو اشدد ودعاء بلفظ النفي * (قال قد أجيبت دعوتكما) * الخطاب لموسى وهارون على أنه لم يذكر الدعاء إلا عن موسى وحده لكن كان موسى يدعو وهارون يؤمن على دعائه * (فاستقيما) * أي اثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الله * (فأتبعهم فرعون) * أي لحقهم يقال تبعه حتى أتبعه هكذا قال الزمخشري وقال ابن عطية أتبع بمعنى تبع وأما اتبع بالتشديد فهو طلب الأثر سواء أدرك أو لم يدرك " لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل " يعني الله عز وجل وفي لفظ فرعون مجهلة وتعنت لأنه لم يصرح باسم الله * (آلآن وقد عصيت قبل) * أي قيل له أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار وذلك لا يقبل منك * (ننجيك) * أي نبعدك مما جرى لقومك من الوصول إلى قعر البحر وقيل نلقيك على نجوة من الأرض أي على موضع مرتفع * (ببدنك) * أي بجسدك جسدا بدون روح وقيل بدرعك وكانت له درع من ذهب يعرف بها والمحذوف في موضع الحال والباء للمصاحبة * (لتكون لمن خلفك آية) * أي لمن وراءك آية وهم بنو إسرائيل * (مبوأ صدق) * منزلا حسنا وهو مصر والشام * (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) * قيل يريد اختلافهم في دينهم وقيل اختلافهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم
98

* (فإن كنت في شك) * قيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقيل ذلك كقول القائل لابنه إن كنت ابني فبرني مع أنه لا يشك أنه ابنه ولكن من شأن الشك أن يزول بسؤال أهل العلم فأمره بسؤالهم قال ابن عباس لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل وقال الزمخشري إن ذلك على وجه الفرض والتقدير أي إن فرضت أن تقع في شك فاسأل * (مما أنزلنا إليك) * قيل يعني القرآن أو الشرع بحملته وهذا أظهر وقيل يعني ما تقدم من أن بني إسرائيل ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم الحق " فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك " يعني الذين يقرؤن التوراة والإنجيل قال السهيلي هم عبد الله بن سلام ومخيرق ومن أسلم من الأحبار وهذا بعيد لأن الآية مكية وإنما أسلم هؤلاء بالمدينة فحمل الآية على الإطلاق أولى * (فلا تكونن) * خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره * (حقت كلمة ربك) * أي قضى أنهم لا يؤمنون * (فلولا كانت قرية آمنت) * لولا هنا للتحضيض بمعنى هلا وقرئ في الشاذ هلا والمعنى هلا كانت قرية من القرى المتقدمة آمنت قبل نزول
العذاب فنفعها إيمانها إذ لا ينفع الإيمان بعد معاينة العذاب كما جرى لفرعون * (إلا قوم يونس) * استثناء من القرى لأن المراد أهلها وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم العذاب ويجوز أن يكون متصلا والجملة في معنى النفي كأنه قال ما آمنت قرية إلا قوم يونس وروى في قصصهم أن يونس عليه السلام أنذرهم بالعذاب فلما رأوه قد خرج من بين أظهرهم علموا أن العذاب ينزل بهم فتابوا وتضرعوا إلى الله تعالى فرفعه عنهم * (ومتعناهم إلى حين) * يريد إلى آجالهم المكتوبة في الأزل * (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) * الهمزة للإنكار أي أتريد أنت أن تكره الناس في إدخال الإيمان في قلوبهم وتضطرهم إلى ذلك وليس ذلك إليك إنما هو بيد الله وقيل المعنى أفأنت تكره الناس بالقتال حتى يؤمنوا أو كان هذا في صدر الإسلام قبل الأمر بالجهاد ثم نسخت بالسيف * (انظروا) * أمر بالاعتبار والنظر في آيات الله * (وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) * يعني من قضى الله عليه انه لا يؤمن وما نافية أو استفهامية يراد بها النفي * (فهل ينتظرون) * الآية تهديد * (حقا علينا) * اعتراض بين العامل
99

ومعموله له وهما كذلك وننج المؤمنين * (وأن أقم وجهك) * الوجه هنا بمعنى القصد والدين * (وما أنا عليكم بوكيل) * منسوخ بالقتال وكذلك قوله واصبر حتى يحكم الله وعد بالنصر والظهور على الكفار
سورة هود عليه السلام
* (الر) * * (كتاب) * يعني القرآن وهو خبر ابتداء مضمر * (أحكمت) * أي أتقنت فهو من الإحكام للشيء * (ثم فصلت) * قيل معناه بينت وقيل قطعت سورة سورة وثم هنا ليست للترتيب في الزمان وإنما هي لترتيب الأحوال كقولك فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل * (ألا تعبدوا إلا الله) * أن مفسرة وقيل مصدرية في موضع مفعول من أجله أو بدل من الآيات أو يكون كلاما مستأنفا منقطعا عما قبله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك قوله إنني لكم منه نذير وبشير * (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * أي أستغفروا مما تقدم من الشرك والمعاصي ثم ارجعوا إليه بالطاعة والاستقامة عليها * (يمتعكم متاعا حسنا) * أي ينفعكم في الدنيا بالأرزاق والنعم والخيرات وقيل هو طيب عيش المؤمن برجائه في الله ورضاه بقضائه لأن الكافر قد يتمتع في الدنيا بالأرزاق * (إلى أجل مسمى) * يعني إلى الموت * (ويؤت كل ذي فضل فضله) * أي يعطي في الآخرة كل ذي عمل جزاء عمله والضمير يحتمل أن يعود على الله تعالى أو على ذي فضل * (وإن تولوا) * خطاب
100

للناس وهو فعل مستقبل حذفت منه إحدى التاءين * (عذاب يوم كبير) * يعني يوم القيامة أو غيره كيوم بدر * (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) * قيل كان الكفار إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يردون إليه ظهورهم لئلا يرونه من شدة البغض والعداوة والضمير في منه على هذا يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إن ذلك عبارة عما تنطوي عليه صدورهم من البغض والغل وقيل هو عبارة عن إعراضهم لأن من أعرض عن شيء انثنى عنه وانحرف والضمير في منه على هذا يعود على الله تعالى أي يريدون أن يستخفوا من الله تعالى فلا يطلع رسوله ولا المؤمنون على ما في قلوبهم * (ألا حين يستغشون ثيابهم) * أي يجعلونها أغشية وأغطية كراهية لاستماع القرآن والعامل في حين يعلم ما يسرون وقيل المعنى يريدون أن يستخفوا حين يستغشون ثيابهم فيوقف عليه على هذا ويكون يعلم استئنافا * (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) * وعد وضمان صادق فإن قيل كيف قال على الله بلفظ الوجوب وإنما هو تفضل لأن الله لا يجب عليه شيء فالجواب أنه ذكره كذلك تأكيدا في الضمان لأنه لما وعد به صار واقعا لا محالة لأنه لا يخلف الميعاد * (ويعلم مستقرها ومستودعها) * المستودع صلب الأب والمستقر بطن المرأة وقيل المستقر المكان في الدنيا والمستودع القبر * (وكان عرشه على الماء) * دليل على أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السماوات والأرض * (ليبلوكم) * أي ليختبركم اختبارا تقوم به الحجة عليكم لأنه كان عالما بأعمالكم قبل خلقكم ويتعلق ليبلوكم بخلق * (سحر مبين) * يحتمل أن يشيروا إلى القرآن أو إلى القول بالبعث يعنون أنه باطل كبطلان السحر * (ولئن أخرنا عنهم العذاب) * يحتمل أن يريد عذاب الدنيا أو الآخرة * (إلى أمة معدودة) * أي إلى وقت محدود * (ليقولن ما يحبسه) * أي أي شيء يمنع هذا العذاب الموعود به وقولهم ذلك على وجه التكذيب والاستخفاف * (ولئن أذقنا) * الآية ذم لمن يقنط عند الشدائد ولمن يفتخر ويتكبر عند النعم والرحمة هنا والنعماء يراد بهما الخيرات الدنيوية والإنسان عام يراد به الجنس والاستثناء على هذا متصل وقيل المراد بالإنسان الكافر فالاستثناء منقطع * (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) *
101

الآية كان الكفار يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بكنز أو يأتي معه ملك وكانوا يستهزؤن بالقرآن فقال الله تعالى له فلعلك تارك أن تلقى إليهم بعض ما أنزل إليك ويثقل عليك تبليغهم من أجل استهزائهم أو لعلك يضيق صدرك من أجل أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك والمقصود بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن قولهم حتى يبلغ الرسالة ولا يبالي بهم وإنما قال ضائق ولم يقل ضيق ليدل على اتساع صدره عليه السلام وقلة ضيقه * (إنما أنت نذير) * أي ليس عليك إلا الإنذار والتبليغ والله هو الوكيل الذي يقضى بما شاء من إيمانهم أو كفرهم * (أم يقولون افتراه) * أم هنا منقطعة بمعنى بل والهمزة والضمير في افتراه لما يوحى إليه * (قل فأتوا بعشر سور مثله) * تحداهم أولا بعشر سور فلما بان عجزهم تحداهم بسورة واحدة فقال فأتوا بسورة من مثله والمماثلة المطلوبة في فصاحته وعلومه * (مفتريات) * صفة لعشر سور وذلك مقابلة لقولهم افتراه وليست المماثلة في الافتراء * (وادعوا من استطعتم) * أي استعينوا بمن شئتم * (فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله) * فيها وجهان أحدهما أن تكون مخاطبة من الله للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين أي إن لم يستجب الكفار إلى ما دعوتموهم إليه من معارضة القرآن فاعلموا أنه من عند الله وهذا على معنى دوموا على علمكم بذلك أو زيدوا يقينا به والثاني أن يكون خطابا من النبي صلى الله عليه وسلم للكفار أي إن لم يستجب من تدعونه من دون الله إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليه فاعلموا أنه من عند الله وهذا أقوى من الأول لقوله فهل أنتم مسلمون ومعنى بعلم الله بإذنه
أو بما لا يعلمه إلا الله من الغيوب وقوله فهل أنتم مسلمون لفظه استفهام ومعناه استدعاء إلى الإسلام وإلزام للكفار أن يسلموا لما قام الدليل على صحة الإسلام لعجزهم عن الإتيان بمثل القرآن * (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) * الآية نزلت في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يريدون الآخرة إذ هم لا يصدقون بها وقيل نزلت في أهل الربا من المؤمنين الذين يريدون بأعمالهم الدنيا حسبما ورد في الحديث في القارئ والمنفق والمجاهد الذين أرادوا أن يقال لهم ذلك إنهم أول من تسعر بهم النار والأول أرجح لتقدم ذكر الكفار المناقضين للقرآن فإنما قصد بهذه الآية أولئك * (نوف إليهم أعمالهم فيها) * نوف إليهم أجور أعمالهم بما يغبطهم فيها من الصحة والرزق والضمير في فيها يعود على الدنيا والمجرور متعلق بقوله نوف أو بأعمالهم * (وحبط ما صنعوا فيها) * الضمير في فيها هنا يعود على الآخرة إن تعلق المجرور بحبط ويعود على الدنيا إن تعلق بصنعوا * (أفمن كان على بينة من ربه) * الآية معادلة لما تقدم والمعنى أفمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه والمراد بمن كان على بينة من ربه للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون لقوله بعد ذلك أولئك يؤمنون به ومعنى البينة البرهان العقلي والأمر
102

الجلي * (ويتلوه شاهد منه) * الضمير في يتلوه للبرهان وهو البينة ولمن كان على بينة من ربه والضمير في منه للرب تعالى ويتلوه هنا بمعنى يتبعه والشاهد يريد به القرآن فالمعنى يتبع ذلك البرهان شاهد من الله وهو القرآن فيزيد وضوحه وتعظم دلالته وقيل إن الشاهد المذكور هنا هو علي بن أبي طالب * (ومن قبله كتاب موسى) * أي ومن قبل ذلك الكتاب الشاهد كتاب موسى وهو أيضا دليل آخر متقدم وقد قيل أقوال كثيرة في معنى هذه الآية وأرجحها ما ذكرنا " ومن الأحزاب " أي من أهل مكة * (ويقول الأشهاد) * جمع شاهد كأصحاب ويحتمل أن يكون من الشهادة فيراد به الملائكة والأنبياء أو من الشهود بمعنى الحضور فيراد به كل من حضر الموقف * (ويبغونها عوجا) * أي يطلبون اعوجاجها أو يصفونها بالإعوجاج * (لم يكونوا معجزين) * أي لا يفلتون * (يضاعف لهم العذاب) * إخبار عن تشديد عذابهم وليس بصفة لأولياء * (ما كانوا يستطيعون السمع) * الآية ما نافية والضمير للكفار والمعنى وصفهم بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون كقوله ختم الله على قلوبهم الآية وقيل غير ذلك وهو بعيد * (لا جرم) * أي لا بد ولا شك * (أخبتوا) * أي خشعوا وقيل أنابوا * (مثل الفريقين) * يعني المؤمنين والكافرين * (كالأعمى والأصم والبصير والسميع) * شبه الكفار بالأعمى والأصم وشبه المؤمنين بالبصير والسميع فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثالين وتمثيل للكافرين بمثالين وقيل التقدير كالأعمى والأصم والبصير والسميع قالوا ولعطف الصفات فهو على هذا تمثيل للمؤمنين بمثال واحد وهو من جمع بين السمع والبصر وتمثيل للكفار بمثال واحد وهو من جمع بين العمى والصم * (عذاب يوم أليم) * وصف اليوم بالأليم على وجه المجاز لوقوع الألم فيه * (أراذلنا) * جمع أرذل وهم سفلة الناس وإنما وصفوهم بذلك لفقرهم جهلا منهم واعتقاد أن الشرف هو بالمال
103

والجاه وليس الأمر كما اعتقدوا بل المؤمنون كانوا أشرف منهم على حال فقرهم وخمولهم في الدنيا وقيل إنهم كانوا حاكة وحجامين واختار ابن عطية أنهم أرادوا أنهم أراذل في أفعالهم لقول نوح وما علمي بما كانوا يعملون * (بادي الرأي) * أي أول الرأي من غير نظر ولا تدبير وبادي منصوب على الظرفية أصله وقت حدوث أول رأيهم والعامل فيه اتبعوك على أصح الأقوال والمعنى اتبعك الأراذل من غير نظر ولا تشبث وقيل هو صفة لبشرا مثلنا أي غير مثبت في الرأي * (وما نرى لكم علينا من فضل) * أي من مزية وشرف والخطاب لنوح عليه السلام ومن معه * (على بينة من ربي) * أي على برهان وأمر جلي وكذلك في قصة صالح وشعيب * (وآتاني رحمة من عنده) * يعني النبوة * (فعميت عليكم) * أي خفيت عليكم والفاعل على هذا البينة أو الرحمة * (أنلزمكموها) * أي أنكرهكم على قبولها قهرا وهذا هو جواب أرأيتم ومعنى الآية أن نوحا عليه السلام قال لقومه أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم له كارهون * (لا أسألكم عليه مالا) * الضمير في عليه عائد على التبليغ * (وما أنا بطارد الذين آمنوا) * يقتضي أنهم طلبوا منه طرد الضعفاء * (إنهم ملاقوا ربهم) * المعنى أنه يجازيهم على إيمانهم * (من ينصرني من الله إن طردتهم) * أي من يدفع عني عقاب الله إن ظلمتهم بالطرد * (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) * الآية أي لا أدعي ما ليس لي فتنكرون قولي * (تزدري) * أي تحتقر من قولك زريت الرجل إذا قصرت به والمراد بالذين تزدري أعينهم ضعفاء المؤمنين * (إني إذا لمن الظالمين) * أي إن قلت للمؤمنين لن يؤتيهم الله خيرا والخير هنا يحتمل أن يريد به خير الدنيا والآخرة * (جادلتنا) * الجدال هو المخاصمة والمراجعة في الحجة * (فأتنا بما تعدنا) * أي بالعذاب * (ولا ينفعكم نصحي) * الآية جزاء قوله إن أردت أن أنصح لكم هو ما دل عليه قوله نصحي وجزاء قوله إن كان الله يريد أن يغويكم هو ما دل عليه قوله لا ينفعكم نصحي فتقديرها إن أراد الله أن يغويكم لن ينفعكم نصحي إن نصحت لكم ثم استأنف قوله هو ربكم ولا يجوز أن يكون ربكم هو جواب الشرط * (أم يقولون افتراه) * الآية الضمير في يقولون لكفار قريش وفي افتراه لمحمد صلى الله عليه وسلم هذا قول جميع المفسرين واختار
104

ابن عطية أن تكون في شأن نوح عليه السلام فيكون الضمير في يقولون لقوم نوح وفي افتراه لنوح لئلا يعترض ما بين قصة نوح بغيرها وهو بعيد * (إجرامي) * أي ذنبي * (فلا تبتئس) * أي فلا تحزن * (واصنع الفلك بأعيننا) * أي تحت نظرنا وحفظنا * (ووحينا) * أي وتعليمنا لك كيف تصنع الفلك * (ولا تخاطبني في الذين ظلموا) * أي لا تشفع لي فيهم فإني قد قضيت عليهم بالغرق * (كلما) * يحتمل أن يكون جوابها سخروا منه أو قال إن تسخروا * (فسوف تعلمون) * تهديد ومن يأتيه منصوب بتعلمون * (عذاب يخزيه) * هو الغرق والعذاب المقيم عذاب النار * (حتى إذا جاء أمرنا) * غاية لقوله ويصنع الفلك * (وفار التنور) * أي فار بالماء وجعل الله تلك العلامة لنوح ليركب حينئذ في السفينة والمراد بالتنور الذي يوقد فيه عند ابن عباس وغيره وروى أنه كان تنور آدم خلص إلى نوح وقيل التنور وجه الأرض * (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) * المراد بالزوجين الذكر والأنثى من الحيوان وقرئ من كل بغير تنوين فعمل احمل في اثنين ومن قرأ بالتنوين عمل احمل في زوجين وجعل اثنين نعت له على جهة التأكيد * (وأهلك) * أي قرابتك وهو معطوف على ما عمل فيه احمل * (إلا من سبق عليه القول) * أي من قضى عليه بالعذاب فهو مستثنى من أهله والمراد بذلك ابنه الكافر وامرأته * (ومن آمن) * معطوف على أهلك أي احمل أهلك ومن آمن من غيرهم * (وما آمن معه إلا قليل
) * قيل كانوا ثمانين وقيل عشرة وقيل ثمانية * (وقال اركبوا فيها) * الضمير في قال لنوح والخطاب لمن كان معه والضمير في فيها للسفينة وروى أنهم ركبوا فيها أول يوم من رجب واستقرت على الجودي يوم عاشوراء * (بسم الله مجراها ومرساها) * اشتقاق مجراها من الجري واشتقاق مرساها من الإرساء وهو الثبوت أو من وقوف السفينة ويمكن أن يكونا ظرفين للزمان أو المكان أو مصدرين ويحتمل الإعراب من وجهين أحدهما أن يكون اسم الله في موضع الحال من الضمير في اركبوا والتقدير اركبوا متبركين باسم الله أو قائلين بسم الله فيكون مجراها ومرساها على هذا ظرفين للزمان بمعنى وقت إجرائها وإرسائها أو ظرفين للمكان ويكون العامل فيه ما في قوله بسم الله من معنى الفعل في موضع خبر ويكون قوله بسم الله متصلا مع ما قبله والجملة كلام واحد والوجه الثاني أن يكون كلامين فيوقف على اركبوا فيها ويكون بسم الله في موضع خبر ومجراها ومرساها مبتدأ بمعنى المصدر أي إجراؤها وإرساؤها ويكون بسم الله على هذا مستأنفا غير متصل بما قبله ولكنه من كلام نوح حسبما روى أن نوحا كان إذا أراد أن يجري بالسفينة قال بسم الله فتجري وإذا أراد وقوفها قال بسم الله فتقف * (وهي تجري بهم في موج كالجبال) * روى أن الماء طبق ما بين السماء والأرض فصار الكل
105

كالبحر قال ابن عطية وهذا ضعيف وأين كان الموج كالجبال على هذا وصوبه الزمخشري وقال كانت تجري في موج كالجبال قبل التطبيق وقبل أن يغمر الماء الجبال * (ونادى نوح ابنه) * كان اسمه كنعان وقيل يام وكان له ثلاث بنون سواه وهم سام وحام ويافث ومنهم تناسل الخلق * (في معزل) * أي في ناحية * (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) * يحتمل أربعة أوجه أحدها أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم كذلك بمعنى الراحم فالمعنى لا عاصم إلا الراحم وهو الله تعالى والثاني أن يكون عاصم بمعنى ذي عصمة أي معصوم ومن رحم بمعنى مفعول أي من رحم الله فالمعنى لا معصوم إلا من رحمه الله والاستثناء على هذين الوجهين متصل والثالث أن يكون عاصم اسم فاعل ومن رحم بمعنى المفعول والمعنى لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله فهو المعصوم والرابع عكسه والاستثناء على هذين منقطع * (ابلعي ماءك) * عبارة عن جفوف الأرض من الماء * (أقلعي) * أي أمسكي عن المطر وروى أنها أمطرت من كل موضع منها * (وغيض الماء) * أي نقص * (وقضي الأمر) * أي تم وكمل * (واستوت على الجودي) * أي استقرت السفينة على الجودي وهو جبل بالموصل * (وقيل بعدا) * أي هلاكا وانتصب على المصدر * (ونادى نوح ربه) * يحتمل أن يكون هذا النداء قبل الغرق فيكون العطف من غير ترتيب أو يكون بعده * (قال رب إن ابني من أهلي) * أي وقد وعدتني أن تنجي أهلي * (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) * أي ليس من أهلك الذين وعدتك بنجاتهم لأنه كافر وقال الزمخشري لم يكن ابنه ولكنه خانته أمه وكان لغير رشده وهذا ضعيف لأن الأنبياء عليهم السلام قد عصمهم الله من أن تزني نساؤهم ولقوله ونادى نوح ابنه * (إنه عمل غير صالح) * فيه ثلاث تأويلات على قراءة الجمهور أحدها أن يكون الضمير في إنه لسؤال نوح نجاة ابنه والثاني أن يكون الضمير لابن نوح وحذف المضاف من الكلام تقديره إنه ذو عمل غير صالح والثالث أن يكون الضمير لابن نوح وعمل مصدر وصف به مبالغة كقولك رجل صوم وقرأ الكسائي عمل بفعل ماض غير صالح بالنصب والضمير على هذا لابن نوح بلا إشكال * (فلا تسألن ما ليس لك به علم) * أي لا تطلب مني أمرا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب حتى تقف على كنهه فإن قيل لم سمي نداءه سؤالا ولا سؤال فيه فالجواب أنه تضمن السؤال وإن لم يصرح به * (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) * أن في موضع مفعول من أجله تقديره أعظك كراهة أن تكون من الجاهلين وليس في ذلك وصف له بالجهل بل فيه
106

ملاطفة وإكرام * (اهبط بسلام منا) * أي اهبط من السفينة بسلامة * (وعلى أمم ممن معك) * أي ممن معك في السفينة واختار الزمخشري أن يكون المعنى من ذرية من معك ويعني به المؤمنين إلى يوم القيامة فمن على هذا لابتداء الغاية والتقدير على أمم ناشئة ممن معك وعلى الأول تكون من لبيان الجنس * (وأمم سنمتعهم) * يعني نمتعهم متاع الدنيا وهم الكفار إلى يوم القيامة * (تلك من أنباء الغيب) * إشارة إلى القصة وفي الآية دليل على أن القرآن من عند الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم ذلك قبل الوحي * (إن أنتم إلا مفترون) * يعني في عبادتهم لغير الله * (يرسل السماء عليكم مدرارا) * السماء هنا المطر ومدرارا بناء تكثير من الدر يقال در المطر واللبن وغيره وفي الآية دليل على أن الاستغفار والتوبة سبب لنزول الأمطار وروى أن عادا كان حبس عنهم المطر ثلاث سنين فأمرهم بالتوبة والاستغفار ووعدهم على ذلك بالمطر والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الكفر ثم عن الذنوب لأن التوبة من الذنوب لا تصح إلا بعد الإيمان * (قالوا يا هود ما جئتنا ببينة) * أي بمعجزة وذلك كذب منهم وجحود أو يكون معناه بآية تضطرنا إلى الإيمان بك وإن كان قد أتاهم بآية نظرية * (عن قولك) * أي بسبب قولك * (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) * معناه ما نقول إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لما سببتها ونهيتنا عن عبادتها * (فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون) * هذا أمر بمعنى التعجيز أي لا تقدرون أنتم ولا آلهتكم على شيء ثم ذكر سبب قوته في نفسه وعدم مبالاته بهم فقال إني توكلت على الله الآية * (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) * أي هي في قبضته وتحت قهره والأخذ بالناصية تمثيل لذلك وهذه الجملة تعليل لقوة توكله على الله وعدم مبالاته بالخلق * (إن ربي على صراط مستقيم) * يريد أن أفعال الله جميلة وقوله صدق ووعده حق فالاستقامة تامة * (فإن تولوا فقد أبلغتكم) * أصل تولوا هنا تتولوا لأنه فعل مستقبل حذفت منه تاء المضارعة فإن قيل كيف وقع الإبلاغ جوابا للشرط وقد كان الإبلاغ قبل التولي فالجواب أن المعنى إن تتولوا فلا عتب علي لأني قد أبلغتكم رسالة ربي * (ولا تضرونه شيئا) * أي لا تنقصونه شيئا أي إذا أهلككم واستخلف غيركم * (ولما جاء أمرنا) * إن قيل
107

لم قال هنا وفي قصة شعيب ولما بالواو وقال في قصة صالح ولوط فلما بالفاء فالجواب على ما قال الزمخشري أنه وقع ذلك في قصة صالح ولوط بعد الوعيد فجيء بالفاء التي تقتضي التسبيب كما تقول وعدته فلما جاء الميعاد بخلاف قصة هود وشعيب فإنه لم يتقدم ذلك فيهما فعطف بالواو * (ونجيناهم من عذاب غليظ) * يحتمل أن يريد به عذاب الآخرة ولذلك عطفه على النجاة الأولى التي أراد بها النجاة من الريح ويحتمل أن يريد بالثاني أيضا الريح وكرره إعلاما بأنه عذاب غليظ وتعديدا للنعمة في نجاتهم * (وعصوا رسله) * في جميع الرسل هنا وجهان أحدهما أن من عصى رسولا واحدا لزمه عصيان جميعهم فإنهم متفقون على الإيمان بالله وعلى توحيده والثاني
أن يراد الجنس كقولك فلان يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا * (ألا إن عادا كفروا ربهم) * هذا تشنيع لكفرهم وتهويل بحرف التنبيه وبتكرار اسم عاد * (ألا بعدا) * أي هلاكا وهذا دعاء عليهم وانتصابه بفعل مضمر فإن قيل كيف دعا عليهم بالهلاك بعد أن هلكوا فالجواب أن المراد أنهم أهل لذلك * (لعاد قوم هود) * بيان لأن عادا اثنان إحداهما قوم هود والأخرى إرم * (هو أنشأكم من الأرض) * لأن آدم خلق من تراب * (واستعمركم فيها) * أي جعلكم تعمرونها فهو من العمران للأرض وقيل هو من العمر نحو استبقاكم من البقاء * (قد كنت فينا مرجوا) * أي كنا نرجو أن ننتفع بك حتى قلت ما قلت وقيل المعنى كنا نرجو أن تدخل في ديننا * (في داركم) * أي بلدكم * (ثلاثة أيام) * قيل إنها الخميس والجمعة والسبت لأنهم عقروا الناقة يوم الأربعاء وأخذهم العذاب يوم الأحد " ومن خزي يؤمئذ " معطوف على نجينا أي نجيناهم من خزي يومئذ * (جاثمين) * ذكر في الأعراف * (كأن لم يغنوا فيها) * أي كأن لم يقيموا فيها والضمير للدار وكذلك في قصة شعيب * (ولقد جاءت رسلنا) * الرسل هنا الملائكة * (إبراهيم بالبشرى) *
108

بشروه بالولد * (قالوا سلاما) * نصب على المصدر والعامل فيه فعل مضمر تقديره سلمنا عليكم سلاما * (قال سلام) * تقديره عليكم سلام وسلام عليكم وهذا على أن يكون بمعنى التحية وإنما رفع جوابه ليدل على إثبات السلام فيكون قد حياهم بأحسن مما حيوه ويحتمل أن يكون السلام بمعنى السلامة ونصب الأول لأنه بمعنى الطلب ورفع الثاني لأنه في معنى الخبر * (فما لبث أن جاء) * أي ما لبث مجيئه بل عجل وما نافية وأن جاء فاعل لبث * (بعجل حنيذ) * أي مشوي وفعيل هنا بمعنى مفعول * (نكرهم) * أي أنكرهم ولم يعرفهم يقال نكر وأنكر بمعنى واحد * (وأوجس منهم خيفة) * قيل إنه لم يعرفهم فخاف منهم لما لم يأكلوا طعامه وقيل عرف أنهم ملائكة ولكن خاف أن يكونوا أرسلوا بما يخاف فأمنوه بقولهم لا تخف * (وامرأته قائمة) * قيل قائمة خلف الستر وقيل قائمة في الصلاة وقيل قائمة تخدم القوم واسمها سارة * (فضحكت) * قيل معناه حاضت وهو ضعيف وقال الجمهور هو الضحك المعروف واختلفوا من أي شيء ضحكت فقيل سرورا بالولد الذي بشرت به ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير وقيل سرورا بالأمن بعد الخوف وقيل سرورا بهلاك قوم لوط * (فبشرناها بإسحاق) * أسند البشارة إلى ضمير الله تعالى لأنها كانت بأمره * (ومن وراء إسحاق يعقوب) * أي من بعده وهو ولده وقيل الوراء ولد الولد ويعقوب بالرفع مبتدأ وبالفتح معطوف على إسحاق " قالت يا ويلتا " الألف فيه مبدلة من ياء المتكلم وكذلك في يا لهفي ويا أسفي ويا عجبا ومعناه التعجب من الولادة وروى أنها كانت حينئذ بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم ابن مائة سنة * (رحمة الله وبركاته عليكم) * يحتمل الدعاء والخبر * (أهل البيت) * أي أهل بيت إبراهيم وهو منصوب بفعل مضمر على الاختصاص أو منادى * (حميد) * أي محمود * (مجيد) * من المجد وهو العلو والشرف " أيجادلنا " هو جواب لما على أن يكون المضارع في موضع الماضي أو على تقدير ظل أو أخذ يجادلنا ويكون يجادلنا مستأنفا والجواب محذوف ومعنى جداله كلامه مع الملائكة في رفع العذاب عن قوم لوط وقد ذكر في اللغات * (حليم) * وفي براءة أواه * (يا إبراهيم أعرض عن هذا) * أي قلنا يا إبراهيم أعرض عن هذا يعني عن المجادلة فيهم فقد نفذ القضاء بعذابهم " ولما جاءت رسلنا لوطا سئ بهم " الرسل هم الملائكة ومعنى سئ بهم أصابه سوء وضجر لما ظن أنه من بني آدم وخاف عليهم من قومه " يوم عصيب " أي شديد " وجاء قومه يهرعون إليه " أي يسرعون وكانت امرأة لوط قد أخبرتهم بنزول الأضياف عنده فأسرعوا ليعملوا بهم عملهم الخبيث " من قبل كانوا يعملون السيئات " أي كانت عادتهم إتيان الفواحش في الرجال " قال يا قوم هؤلاء بناتي " المعنى فتزوجوهن
109

وإنما قال ذلك لبقي أضيافه ببناته وقيل اسم بناته الواحدة رئيا والأخرى غوثا وأن اسم امرأته الهالكة والهة واسم امرأة نوح والقة " قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق " أي مالنا فيهم أرب " وإنك لتعلم ما نريد " يعنون نكاح الذكور " قال لو أن لي بكم قوة " جواب لو محذوف تقديره لو كانت لي قدرة على دفعكم لفعلت ويحتمل أن تكون لو للتمني " أو آوى إلى ركن شديد " معنى آوى ألجأ والمراد بالركن الشديد ما يلجأ إليه من عشيرة وأنصار يحمونه من قومه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يرحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد يعني إلى الله والملائكة " قالوا يا لوط إنا رسل ربك " الضمير في قالوا للملائكة والضمير في لن يصلوا لقوم لوط وذلك أن الله طمس على أعينهم حينئذ " فأسر بأهلك " أي اخرج بهم بالليل فإن العذاب ينزل بأهل هذه المدائن وقرئ فاسر بوصل الألف وقطعها وهما لغتان يقال سرى وأسرى " بقطع من الليل " أي قطعة منه " ولا يلتفت منكم أحد " نهوا عن الالتفات لئلا تتفطر أكبادهم على قريتهم وقيل يلتفت معناه يلتوي " إلا امرأتك " قريء بالنصب والرفع فالنصب استثناء من قوله فأسر بأهلك فيقتضي هذا أنه لم يخرجها مع أهله والرفع بدل من ولا يلتفت منكم أحد وروى على هذا أنه أخرجها معه وأنها التفتت وقالت يا قوماه فأصابها حجر فقتلها " إن موعدهم الصبح " أي وقت عذابهم الصبح " أليس الصبح بقريب " ذكر أنهم لما قالوا إن موعدهم الصبح قال لهم لوط هلا عذبوا الآن فقالوا له أليس الصبح بقريب " جعلنا عاليها سافلها " الضمير للمدائن روى أن جبريل أدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط واقتلعها فرفعها حتى سمع أهل السماء صراخ الديكة ونباح الكلاب ثم أرسلها مقلوبة " وأمطرنا عليها حجارة " أي على المدائن والمراد أهلها روى أنه من كان منهم خارج المدائن أصابته حجارة من السماء وأما من كان في المدائن فهلك لما قلبت " من سجيل " قبل معناه من ماء وطين وإنما كان من الآجر المطبوخ وقيل من سجله إذا أرسله وقيل هو لفظ أعجمي " منضود " أي مضموم بعضه فوق بعض " مسومة عند ربك " معناه معلمة بعلامة روى أنه كان فيها بياض وحمرة وقيل كان في كل حجر اسم صاحبه " وما هي من الظالمين ببعيد " الضمير للحجارة والمراد بالظالمين كفار قريش فهذا تهديد لهم أي ليس الرمي بالحجارة ببعيد منهم لأجل كفرهم وقيل الضمير للمدائن فالمعنى ليست ببعيدة منهم أفلا يعتبرون بها كقوله * (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء) * وقيل إن الظالمين على العموم " إني أراكم بخير " يعني رخص الأسعار وكثرة الأرزاق " عذاب
110

يوم محيط) يوم القيامة أو يوم عذابهم في الدنيا " بقيت الله خير لكم " أي ما أبقاه الله لكم من رزقه ونعمته " أصلاتك تأمرك " الصلاة هي المعروفة ونسب الأمر إليها مجاز كقوله * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * والمعنى أصلاتك تأمرك أن ترك عبادة الأوثان وإنما قال الكفار هذا على وجه الاستهزاء " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " يعنون ما كانوا عليه من بخس المكيال والميزان وأن نفعل عطف على أن نترك " إنك لأنت الحليم الرشيد " قيل إنهم قالوا ذلك على وجه التهكم
والاستهزاء وقيل معناه الحليم الرشيد عند نفسك " ورزقني منه رزقا حسنا " أي سالما من الفساد الذي أدخلتم أنتم في أموالكم وجواب أرأيتم محذوف يدل عليه المعنى وتقديره أرأيتم إن كنت على بينة من ربي أيصلح لي ترك تبليغ رسالته " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " يقال خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده " ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح " أي لا يكسبنكم عداوتي أن يصيبكم مثل عذاب الأمم المتقدمة وشقاقي فاعل وأن يصيبكم مفعول " وما قوم لوط منكم ببعيد " يعني في الزمان لأنهم كانوا أقرب الأمم الهالكين إليهم ويحتمل أن يراد ببعيد في البلاد " ما نفقه " أي ما نفهم " وإنا لنراك فينا ضعيفا " أي ضعيف الانتصار والقدرة وقيل نحيل البدن وقيل أعمى " ولولا رهطك لرجمناك " الرهط القرابة والرجم بالحجارة أو بالسب " أرهطي أعز عليكم من الله " هذا توبيخ لهم فإن قيل إنما وقع كلامهم فيه وفي رهطه وأنهم هم الأعزة دونه فكيف طابق جوابه كلامهم فالجواب أن تهاونهم به وهو رسول الله تهاون بالله فلذلك قال أرهطي أعز عليكم من الله " واتخذتموه وراءكم ظهريا " الضمير في اتخذتموه لله تعالى أو لدينه وأمره والظهري ما يطرح وراء الظهر ولا يعبأ به وهو منسوب إلى الظهر بتغيير النسب * (اعملوا على مكانتكم) * تهديد ومعنى مكانتكم تمكنكم في الدنيا وعزتكم فيها * (من يأتيه عذاب يخزيه) * عذاب الدنيا والآخرة " وارتقبوا " تهديد " ولقد أرسلنا موسى بآياتنا " أي
111

بالمعجزات " وسلطان مبين " أي برهان بين " يقدم قومه " أي يتقدم قدامهم في النار كما كانوا في الدنيا يتبعونه على الضلال والكفر " فأوردهم النار " الورود هنا بمعنى الدخول وذكره بلفظ الماضي لتحقق وقوعه * (ويوم القيامة) * عطف على في هذه فإن المراد به في الدنيا " بئس الرفد المرفود " أي العطية المعطاة " قائم وحصيد " باق وداثر " فما أغنت عنهم آلهتهم " حجة على التوحيد ونفي الشريك " تتبيب " أي تخسير " يوم مجموع له الناس " أي يجمعون فيه للحساب والثواب والعقاب وإنما عبر باسم المفعول دون الفعل ليدل على ثبوت الجمع لذلك اليوم لأن لفظ مجموع أبلغ من لفظ يجمع " يوم مشهود " أي يحضره الأولون والآخرون * (يوم يأت) * العامل في الظرف لاتكلم أو فعل مضمر وفاعل يأت ضمير يعود على يوم مشهود وقال الزمخشري يعود على الله تعالى كقوله * (أو يأتي ربك) * ويعضده عود الضمير عليه في قوله بإذنه " فمنهم شقي وسعيد " الضمير يعود على أهل الموقف الذين دل عليهم قوله لا تكلم نفس " زفير وشهيق " الزفير إخراج النفس والشهيق رده وقيل الزفير صوت المحزون والشهيق صوت الباكي وقيل الزفير من الحلق والشهيق من الصدر " خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض " فيه وجهان أحدهما أن يراد به سماوات الآخرة وأرضها وهي دائمة أبدا والآخر أن يكون عبارة عن التأبيد كقول العرب ما لاح كوكب وما ناح الحمام وشبه ذلك مما يقصد به الدوام " إلا ما شاء ربك " في هذا الاستثناء ثلاثة أقوال قيل إنه على طريق التأدب مع الله كقولك إن شاء الله وإن كان الأمر واجبا وقيل المراد به زمان خروج المذنبين من النار ويكون الذين شقوا على هذا يعم الكفار والمذنبين وقيل استثنى مدة كونهم في الدنيا وفي البرزخ وأما الاستثناء في أهل الجنة فيصح فيه القول الأول والثالث دون الثاني " غير مجذوذ " أي غير مقطوع " فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء " المرية الشك والإشارة إلى عبدة
112

الأصنام أي لا تشك في فساد دين هؤلاء " ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم " أي هم متبعون لآبائهم تقليدا من غير برهان " وإنا لموفوهم نصيبهم " يعني من العذاب * (كلمة سبقت) * يعني القدر وذلك أن الله قضى أن يفصل بينهم يوم القيامة فلا يفصل في الدنيا " وإن كلا " قرئ بتشديد إن وبتخفيفها وإعمالها عمل الثقيلة والتنوين في كل عوضا من المضاف إليه يعني كلهم واللام في لما موطئة للقسم وما زائدة وليوفينهم خبر إن وقرئ لما بالتشديد على أن تكون إن نافية ولما بمعنى إلا " ليوفينهم ربك أعمالهم " أي جزاء أعمالهم " ولا تركنوا إلى الذين ظلموا " يعني الكفار وقيل إنهم الظلمة من الولاة وغيرهم " ثم لا تنصرون " مستأنف غير معطوف وإنما قال ثم لبعد النصرة " وأقم الصلاة " الآية يراد بها الصلوات المفروضة فالطرف الأول الصبح والطرف الثاني الظهر والعصر والزلف من الليل المغرب والعشاء " إن الحسنات يذهبن السيئات " لفظه عام وخصصه أهل التأويل بأن الحسنات الصلوات الخمس ويمكن أن يكون ذلك على وجه التمثيل روى أن رجلا قبل امرأة ثم ندم فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلى معه الصلاة فنزلت الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم أين السائل فقال ها أنذا فقال قد غفر لك فقال الرجل ألي خاصة أو للمسلمين عامة فقال بل للمسلمين عامة والآية على هذا مدنية وقيل إن الآية كانت قبل ذلك ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلا بها فالآية على هذا مكية كسائر السورة وإنما تذهب الحسنات عند الجمهور الصغائر إذا اجتنبت الكبائر * (ذلك) * إشارة إلى الصلوات أو إلى كل ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد * (فلولا) * تحضيض بمعنى هلا " أولو بقية " أي أولو خير ودين بقي لهم دون غيرهم " إلا قليلا ممن أنجينا منهم " استثناء منقطع معناه ولكن قليلا ممن أنجينا من القرون ينهون عن الفساد في الأرض وقيل هو متصل فإن الكلام الذي قبله في حكم النفي كأنه قال ما كان فيهم من ينهى عن الفساد في الأرض إلا قليلا على أن الوجه في مثل هذا البدل ويجوز فيه النصب * (الذين ظلموا) * يعني الذين لم ينهوا عن الفساد * (بظلم) * هذا المجرور في موضع الحال من ربك والمعنى أنه لا يهلك أهل القرى ظالما لهم تعالى الله عن ذلك " ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة " يعني مؤمنة لا خلاف
113

بينهم في الإيمان " ولا يزالون مختلفين " يعني في الأديان والملل والمذاهب " ولذلك خلقهم " قيل الإشارة إلى الاختلاف وقيل إلى الرحمة وقيل إليهما " وكلا نقص " انتصب كلا بنقص وما بدل من كلا " وجاءك في هذه الحق " الإشارة إلى السورة " اعملوا وانتظروا " تهديد لهم وإقامة حجة عليهم
سورة يوسف عليه السلام
* (الكتاب المبين) * يعني القرآن والمبين يحتمل أن يكون بمعنى البين فيكون غير متعد أو يكون متعديا بمعنى أنه أبان الحق أي أظهره * (لعلكم) * يتعلق بأنزلناه أو بعربيا * (أحسن القصص) * يعني قصة يوسف أو قصص الأنبياء على الإطلاق والقصص يكون مصدرا أو اسم مفعول بمعنى المقصوص فإن أريد به هنا المصدر فمفعول نقص محذوف لأن ذكر القرآن يدل عليه * (وإن كنت من قبله لمن الغافلين) * الضمير في قبله للقصص أي من الغافلين عن معرفته وفي هذا احتجاج على أنه
من عند الله لكونه جاء به من غير تعليم * (إذ قال) * العامل فيه اذكر المضمر أو القصص * (يا أبت) * أي يا أبي والتاء للمبالغة وقيل للتأنيث وكسرت دلالة على ياء المتكلم والتاء عوض من ياء المتكلم * (رأيتهم لي ساجدين) * كرر الفعل لطول الكلام وأجرى الكواكب والشمس والقمر مجرى العقلاء في ضمير الجماعة لما وصفها بفعل من يعقل وهو السجود وتأويل الكواكب في المنام إخوته والشمس والقمر أبواه وسجودهم له تواضعهم له ودخولهم تحت كنفه وهو ملك * (لا تقصص رؤياك على إخوتك) * إنما قال ذلك لأنه علم أن تأويلها ارتفاع منزلته فخاف عليه من الحسد * (يجتبيك) * يختارك * (ويعلمك من تأويل الأحاديث) * قيل هي عبارة الرؤيا واللفظ أعم من ذلك * (آل يعقوب) *
114

يعني ذريته * (آيات للسائلين) * أي لمن سأل عنها روى أن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف أو أمروا قريشا أن يسألوه عنها فهم السائلون على هذا واللفظ أعم من ذلك * (ليوسف وأخوه) * هو بنيامين وهو أصغر من يوسف ويقال إنه شقيق يوسف وكان أصغر أولاد يعقوب * (ونحن عصبة) * أي جماعة نقدر على النفع والضر بخلاف الصغيرين والعصبة العشرة فما فوقها إلى الأربعين * (إن أبانا لفي ضلال مبين) * أي خطأ وخروج عن الصواب بإفراط حبه ليوسف وأخيه * (يخل لكم وجه أبيكم) * أي لا يشارككم غيره في محبته لكم وإقباله عليكم * (قوما صالحين) * أي بالتوبة والاستقامة وقيل هو صلاح حالهم مع أبيهم * (قال قائل منهم) * هو يهوذا وقيل روبيل " غيابت الجب " غوره وما غاب منه * (السيارة) * جمع سيار وهم القوم الذين يسيرون في الأرض للتجارة وغيرها * (إن كنتم فاعلين) * أي هذا هو الرأي إن فعلتموه " مالك لا تأمنا على يوسف " أي لم تخاف عليه منا وقرأ السبع تأمنا بالإدغام والإشمام لأن أصله بضم النون الأولى * (يرتع) * من قرأه بكسر العين فهو من الرعي أي من رعى الإبل أو من رعى بعضهم لبعض وحراسته ومن قرأه بالإسكان فهو من الرتع وهو الإقامة في الخصب والتنعم والتاء على هذا أصلية ووزن الفعل يفعل ووزنه على الأول نفتعل ومن قرأ يرتع ويلعب بالياء فالضمير ليوسف ومن قرأ بالنون فالضمير للمتكلمين وهم إخوته وإنما قالوا نلعب لأنهم لم يكونوا حينئذ أنبياء وكان اللعب من المباح للتعلم كالمسابقة بالخيل * (وأجمعوا) * أي عزموا وجواب لما محذوف وقيل إنه أجمعوا أو وأوحينا على زيادة الواو * (وأوحينا) * يحتمل أن يكون هذا الوحي بواسطة ملك أو بإلهام والضمير في إليه ليوسف وقيل ليعقوب والأول هو الصحيح * (وهم لا يشعرون) * في موضع الحال من لتنبئنهم أي لا يشعرون حين تنبئهم فيكون خطابا ليوسف عليه السلام أو من أوحينا أي لا يشعرون حين أوحينا إليه فيكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم * (نستبق) * أي نجري على أقدامنا لننظر أينا يسبق * (وما أنت بمؤمن لنا) * أي بمصدق لمقالتنا * (ولو كنا صادقين) * أي لا تصدقنا ولو كنا عندك من أهل الصدق فكيف وأنت تتهمنا وقيل معناه لا تصدقنا وإن
115

كنا صادقين في هذه المقالة فذلك على وجه المغالطة منهم والأول أظهر " وجاؤا على قميصه بدم كذب " أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة وروي أنهم لطخوا قميصه بدم جدي وقالوا ليعقوب هذا دمه في قميصه فقال لهم مال الذئب أكله ولم يخرق قميصه فاستدل بذلك على كذبهم * (سولت) * أي زينت * (فصبر جميل) * وعد من نفسه بالصبر وارتفاعه على أنه مبتدأ تقديره صبر جميل أمثل أو خبر مبتدأ تقديره شأني صبر جميل * (وجاءت سيارة) * روي أن هؤلاء السيارة من مدين وقيل هم أعراب * (واردهم) * الوارد هو الذي يستقي الماء لجماعة ونقل السهيلي أن اسم هذا الوارد مالك بن دعر من العرب العاربة ولم يكن له ولد فسأل يوسف أن يدعو له بالولد فدعا له فرزقه الله اثني عشر ولدا أعقب كل واحد منهم قبيلة " قال يا بشراي " أي نادى بالبشرى كقولك يا حسرة وأضافها إلى نفسه وقرئ يا بشرى بحذف ياء المتكلم والمعنى كذلك وقيل على هذه القراءة نادى رجلا منهم اسمه بشرى وهذا بعيد ولما أدلى الوارد الحبل في الجب تعلق به يوسف فحينئذ قال يا بشراي هذا غلام * (وأسروه بضاعة) * الضمير الفاعل للسيارة والضمير المفعول ليوسف أي أخفوه من الرفقة أو قالوا لهم دفعه لنا قوم لنبيعه لهم بمصر * (وشروه) * أي باعوه والضمير أيضا للذين أخذوه وقيل الضمير لإخوة يوسف وأنهم رجعوا إليه فقالوا للسيارة هذا عبدنا * (بثمن بخس) * أي ناقص عن قيمته وقيل البخس هنا الظلم * (دراهم معدودة) * عبارة عن قلتها * (وكانوا) * الضمير للذين أخذوه أو لإخوته * (وقال الذي اشتراه) * يعني العزيز وكان حاجب الملك وخازنه وقال السهيلي اسمه قطفير * (من مصر) * هو البلد المعروف ولذلك لم ينصرف وكان يوسف قد سبق إلى مصر فنودي عليه في السوق حتى بلغ ثمنه ووزنه ذهبا وقيل فضة فاشتراه العزيز * (تأويل الأحاديث) * قد تقدم * (والله غالب على أمره) * في عود الضمير وجهان أحدهما أن يعود على الله فالمعنى أنه يفعل ما يشاء لا راد لأمره والثاني أنه يعود على يوسف أي يدبر الله أمره بالحفظ له والكرامة " بلغ أشده " قيل الأشد البلوغ وقيل ثمان عشرة سنة وقيل ثلاث وثلاثون وقيل أربعون * (حكما) * هي الحكمة والنبوة * (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه) * أي طلبت منه ما يكون من الرجل إلى المرأة وهي زليخا امرأة العزيز * (وغلقت الأبواب) * روي أنها كانت سبعة أبواب * (هيت لك) * اسم فعل معناه تعال وأقبل وقرئ بفتح الهاء وكسرها وبفتح التاء وضمها والمعنى في ذلك كله واحد وحركة التاء للبناء وأما من قرأ بالهمز فهو فعل من تهيأت كقولك جئت
116

* (معاذ الله) * منصوب على المصدرية والمعنى أعوذ بالله * (إنه ربي) * يحتمل أن يكون الضمير لله تعالى أو للذي اشتراه لأن السيد يقال له رب فالمعنى لا ينبغي لي أن أخونه * (إنه لا يفلح الظالمون) * الضمير للأمر والشأن ويحتمل ذلك في الأول أي الضمير * (ولقد همت به وهم بها) * أكثر الناس الكلام في هذه الآية حتى ألفوا فيها التآليف فمنهم مفرط ومفرط وذلك أن منهم من جعل هم المرأة وهم يوسف من حيث الفعل الذي أرادته وذكروا في ذلك روايات من جلوسه بين رجليها وحله التكة وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله ومنهم من جعل أنها همت به لتضربه على امتناعه وهم بها ليقتلها أو يضربها ليدفعها وهو بعيد يرده قوله * (لولا أن رأى برهان ربه) * ومنهم من جعل همها به من حيث مرادها وهمه به ليدفعها وهذا أيضا بعيد لاختلاف سياق الكلام والصواب إن شاء الله أنها همت به من حيث مرادها وهم بها كذلك لكنه لم يعزم على ذلك ولم يبلغ إلى ما ذكر من حل التكة وغيرها بل كان همه خطرة خطرت على قلبه لم يطعها ولم يتابعها
ولكنه بادر بالتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة حتى محاها من قلبه لما رأى برهان ربه ولا يقدح هذا في عصمة الأنبياء لأن الهم بالذنب ليس بذنب ولا نقص عليه في ذلك فإنه من هم بذنب ثم تركه كتبت له حسنة * (لولا أن رأى برهان ربه) * جوابه محذوف تقديره لولا أن رأى برهان ربه لخالطها وإنما حذف لأن قوله هم بها يدل عليه وقد قيل إن هم بها هو الجواب وهذا ضعيف لأن جواب لولا لا يتقدم عليها واختلف في البرهان الذي رآه فقيل ناداه جبريل يا يوسف أتكون في ديوان الأنبياء وتفعل فعل السفهاء وقيل رأى يعقوب ينهاه وقيل تفكر فاستبصر وقيل رأى زليخا غطت وجه صنم لها حياء منه فقال أنا أولى أن أستحي من الله * (كذلك لنصرف) * الكاف في موضع نصب متعلقة بفعل مضمر التقدير ثبتناه مثل ذلك التثبيت أو في موضع تقديره الأمر مثل ذلك * (السوء والفحشاء) * خيانة سيده والوقوع في الزنا * (المخلصين) * قرئ بفتح اللام حيث وقع أي الذين أخلصهم الله لطاعته وبالكسر أي الذين أخلصوا دينهم لله * (واستبقا الباب) * معناه سبق كل واحد منهما صاحبه إلى الباب فقصد هو الخروج والهروب عنها وقصدت هي أن ترده فإن قيل كيف قال هنا الباب بالإفراد وقد قال بالجمع وغلقت الأبواب فالجواب أن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار * (وقدت قميصه من دبر) * أي قطعته من وراء وذلك أنها قبضت قميصه من خلفه لترده فتمزق القميص والقد القطع بالطول والقطع بالعرض * (وألفيا سيدها) * أي وجدا زوجها عند الباب * (قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن) * لما رأت الفضيحة عكست القضية وادعت أن يوسف راودها عن نفسها فذكرت جزاء كل من فعل ذلك على العموم ولم تصرح بذكر يوسف لدخوله في العموم وبناء على أن الذنب ثابت عليه بدعواها " وما جزاء " يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية * (قال هي راودتني عن نفسي) * برأ نفسه من دعواها " وشهد
117

شاهد) قيل هو ابن عمها وقيل كان طفلا في المهد فتكلم وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها وأوثق لبراءة يوسف وكونه لم يتكلم قط ثم تكلم بذلك كرامة ليوسف عليه السلام والتقدير شهد شاهد فقال أو ضمنت الشهادة معنى القول * (إن كان قميصه قد من قبل فصدقت) * لأنها كانت تدافعه فتقد قميصه من قبل * (وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت) * لأنها جذبته إلى نفسها حين فر منها فقدت قميصه من دبر * (فلما رأى قميصه قد من دبر) * فاعل رأى زوجها أو الشاهد * (إنه من كيدكن) * الضمير للأمر أو لقولها ما جزاء * (يوسف أعرض عن هذا) * أي اكتمه ولا تحدث به ويوسف منادى حذف منه حرف النداء لأنه قريب وفي حذف الحرف إشارة إلى تقريبه وملاطفته * (واستغفري لذنبك) * خطاب لها وذلك من كلام زوجها أو من كلام الشاهد * (من الخاطئين) * جاء بلفظ التذكير ولم يقل من الخاطئات تغليبا للذكور * (وقال نسوة في المدينة) * أي في مصر روي أنهن خمس نسوة امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن وامرأة الحاجب * (فتاها) * أي خادمها والفتى يقال بمعنى الشاب وبمعنى الخادم * (شغفها) * بلغ شغاف قلبها وهو غلافه وقيل السويداء منه وقيل الشغاف داء يصل إلى القلب * (سمعت بمكرهن) * أي بقولهن وسماء مكرا لأنه كان في خفية وقيل كانت قد استكتمتهن سرها فأفشينه عليها * (وأعتدت لهن متكأ) * أي أعتدت لهن ما يتكأ عليه من الفرش ونحوها وقيل المتكأ طعام وقرئ في الشاذ متكا بسكون التاء وتنوين الكاف وهو الأترج وإعطاؤها السكاكين لهن يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج وقيل كان لحما * (وقالت اخرج عليهن) * أمر ليوسف وإنما أطاعها لأنه كان مملوك زوجها * (أكبرنه) * أي عظمن شأنه وجماله وقيل معنى أكبرن حضن والهاء للسكت وهذا بعيد جدا * (وقطعن أيديهن) * أي اشتغلن بالنظر إليه وبهتن من جماله حتى قطعن أيديهن وهن لا يشعرن كما يقطع الطعام * (حاش لله) * معناه براءة وتنزيه أي تنزيه لله وتعجب من قدرته على خلقه مثله وحاش في باب الاستثناء تخفض على أنها حرف وأجاز المبرد النصب بها على أن تكون فعلا وأما هنا قال أبو علي الفارسي إنها فعل والدليل على ذلك من وجهين أحدهما أنها دخلت على لام الخبر وهو اللام في قوله لله ولا يدخل الحرف على حرف والآخر أنها حذفت منها الألف على قراءة الجماعة والحروف لا يحذف منها شيء وقرأها أبو عمر بالألف على الأصل وإنما تحذف من الأفعال كقولك لم يك ولا أدري والفاعل بحاش ضمير يعود على يوسف تقديره بعد يوسف عن الفاحشة لخوف الله وقال الزمخشري إن حاش وضع موضع المصدر كأنه قال تنزيها ثم قال الله ليبين من ينزه قال وإنما حذف منه
118

التنوين مراعاة لأصله من الحرفية * (ما هذا بشرا) * أخرجنه من البشر وجعلنه من الملائكة مبالغة في وصف الحسن * (إن هذا إلا ملك كريم قالت فذلكن الذي لمتنني فيه) * توبيخ لهن على اللوم * (فاستعصم) * أي طلب العصمة وامتنع مما أرادت منه * (أصب إليهن) * أي أميل وكلامه هذا تضرع إلى الله * (ثم بدا لهم) * أي ظهر والفاعل محذوف تقديره رأي والضمير في لهم لزوجها وأهلها أو من تشاور معه في ذلك * (رأوا الآيات) * أي الأدلة على براءته * (ودخل معه السجن فتيان) * أي شابان وقيل هنا محذوف لا بد منه وهو فسجنوه وكان يوسف قد قال لأهل السجن إني أعبر الرؤيا وكذلك سأله الفتيان عن منامهما وقيل إنهما استعملاها ليجرباه وقيل رأيا ذلك حقا * (أعصر خمرا) * قيل فيه سمى العنب خمرا بما يؤول إليه وقيل هي لغة * (إنا نراك من المحسنين) * قيل معناه في تأويل الرؤيا وقيل إحسانه إلى أهل السجن * (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه) * الآية تقتضي أنه وصف لهما نفسه بكثرة العلم ليجعل ذلك وصلة إلى دعائهما لتوحيد الله وفيه وجهان أحدهما أنه قال يخبرهما بكل ما يأتيهما في الدنيا من طعام قبل أن يأتيهما وذلك من الإخبار بالغيوب الذي هو معجزة الأنبياء والآخر أنه قال لا يأتيكما طعام في المنام إلا أخبرتكما بتأويله قبل أن يظهر تأويله في الدنيا * (ذلكما مما علمني ربي) * روي أنهما قالا له من أين لك هذا العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فقال ذلكما مما علمني ربي * (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) * يحتمل أن يكون هذا الكلام تعليلا لما قبله من قوله علمني ربي أو يكون استئنافا * (يا صاحبي السجن) * نسبهما إلى السجن إما لأنهما سكناه أو لأنهما صاحباه فيه كأنه قال يا صاحبي في السجن " أأرباب متفرقون " الآية دعاهما إلى توحيد الله وأقام عليهما الحجة رغبة في إيمانهما * (ما تعبدون من دونه إلا أسماء) * أوقع الأسماء هنا موقع المسميات والمعنى سميتم ما لا يستحق الألوهية آلهة ثم عبدتموها
119

* (من سلطان) * أي حجة وبرهان * (فيسقي ربه خمرا) * يعني الملك * (وقال للذي ظن أنه ناج منهما) * الظن هنا يحتمل أن يكون بمعنى اليقين لأن قوله قضي الأمر يقتضي ذلك أو يكون على بابه لأن عبارة الرؤيا ظن * (اذكرني عند ربك) * يعني الملك * (فأنساه الشيطان ذكر ربه) * قيل الضمير ليوسف أي نسي في ذلك
الوقت أن يذكر الله ورجا غيره فعاقبه الله على ذلك بأن لبث في السجن وقيل الضمير للذي نجا منهما وهو الساقي أي نسي ذكر يوسف عند ربه فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده والرب على هذا التأويل الملك * (بضع سنين) * البضع من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى التسعة وروي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولا ثم سجن بعد قوله ذلك سبع سنين * (وقال الملك) * هو ملك مصر الذي كان العزيز خادما له واسمه ريان بن الوليد وقيل مصعب بن الريان وكان من الفراعنة وقيل إنه فرعون موسى عمر أربعمائة سنة حتى أدركه موسى وهذا بعيد * (إني أرى سبع بقرات سمان) * يعني في المنام * (عجاف) * أي ضعاف في غاية الهزال * (يا أيها الملأ) * خطاب لجلسائه وأهل دولته * (للرؤيا تعبرون) * أي تعرفون تأويلها يقال عبرت الرؤيا بتخفيف الباء وأنكر بعضهم التشديد وهو مسموع من العرب وأدخلت اللام على المفعول به لما تقدم عن الفعل * (قالوا أضغاث أحلام) * أي تخاليطها وأباطيلها وما يكون منها من حديث نفس ووسوسة شيطان بحيث لا يعبر وأصل الأضغاث ما جمع من أخلاط النبات واحده ضغث فإن قيل لم قال أضغاث أحلام بالجمع وإنما كانت الرؤيا واحدة فالجواب أن هذا كقولك فلان يركب الخيل وإن ركب فرسا واحدا * (وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين) * إما أن يريدوا تأويل الأحلام الباطلة أو تأويل الأحلام على الإطلاق وهو الأظهر * (وقال الذي نجا منهما) * هو ساقي الملك * (وادكر بعد أمة) * أي بعد حين * (يوسف أيها الصديق) * يقدر قبله محذوف لا بد منه وهو فأرسلوه فقال يا يوسف وسماه صديقا لأنه كان قد جرب صدقه في تعبير الرؤيا وغيرها والصديق مبالغة في الصدق * (أفتنا في سبع بقرات) * أي فيمن رأى سبع بقرات وكان الملك قد رأى سبع بقرات سمان أكلتهن سبع عجاف فعجب كيف علتهن وكيف وسعت في بطونهن ورأى سبع سنبلات خضر وقد التفت بها سبع يابسات حتى غطت خضرتها * (تزرعون سبع سنين) * هذا تعبير للرؤيا
120

وذلك أنه عبر البقرات السمان بسبع سنين مخصبة وعبر البقرات العجاف بسبع سنين مجدبة فكذلك السنبلات الخضر واليابسة * (دأبا) * بسكون الهمزة وفتحها مصدر دأب على العمل إذا داوم عليه وهو مصدر في موضع الحال * (فما حصدتم فذروه في سنبله) * هذا رأي أرشدهم يوسف إليه وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين فعلمهم حيلة يبقى بها من السنين المخصبة إلى السنين المجدبة وهي أن يتركوه في سنبله غير مدروس فإن الحبة إذا بقيت في غشائها انحفظت * (إلا قليلا مما تأكلون) * أي لا تدرسوا منه إلا ما يحتاج إلى الأكل خاصة * (سبع شداد) * يعني سبع سنين ذات شدة وجوع * (يأكلن ما قدمتم لهن) * أي تأكلون فيهن ما اخترتم من الطعام في سنبله وأسند الأكل إلى السنين مجازا * (مما تحصنون) * أي تخزنون وتخبئون * (ثم يأتي من بعد ذلك عام) * هذا زيادة على ما تقتضيه الرؤيا وهو الإخبار بالعام الثامن * (يغاث الناس) * يحتمل أن يكون من الغيث أي يمطرون أو من الغوث أي يفرج الله عنهم * (وفيه يعصرون) * أي يعصرون الزيتون والعنب والسمسم وغير ذلك مما يعصر * (وقال الملك ائتوني به) * قيل هنا محذوف وهو فرجع الرسول إلى الملك فقص عليه مقالة يوسف فرأى علمه وعقله فقال ائتوني به * (قال ارجع إلى ربك فاسأله) * لما أمر الملك بإخراج يوسف من السجن وإتيانه إليه أراد يوسف أن يبرئ نفسه مما نسب إليه من مراودة امرأة العزيز عن نفسها وأن يعلم الملك وغيره أنه سجن ظلما فذكر طرفا من قصته لينظر الملك فيها فيتبين له الأمر وكان هذا الفعل من يوسف صبرا وحلما إذ لم يجب إلى الخروج من السجن ساعة دعى إلى ذلك بعد طول المدة ومع ذلك فإنه لم يذكر امرأة العزيز رعيا لذمام زوجها وسترا لها بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن * (قال ما خطبكن) * الآية جمع الملك النسوة وامرأة العزيز معهن فسألهن عن قصة يوسف وأسند المراودة إلى جميعهن لأنه لم يكن عنده علم بأن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها * (قلن حاش لله) * تبرئة ليوسف أو تبرئة لأنفسهن من مراودته وتكون تبرئة ليوسف بقولهن ما علمنا عليه من سوء * (الآن حصحص الحق) * أي تبين وظهر ثم اعترفت على نفسها بالحق * (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) * قيل إنه من كلام امرأة العزيز متصلا بما قبله والضمير في يعلم وأخنه على هذا ليوسف عليه السلام أي ليعلم يوسف أني لم أكذب عليه في حال غيبته والإشارة بذلك إلى توبتها وإقرارها وقيل إنه من كلام يوسف عليه السلام فالضمير للعزيز أي لم أخنه في زوجته في غيبته بل تعففت عنها والإشارة بذلك إلى توقفه عن الخروج من السجن حتى تظهر براءته * (وما أبرئ نفسي) * اختلفت أيضا هل هو من كلام امرأة العزيز أو من كلام يوسف فإن كان من كلامها فهو اعتراف
121

بعد الاعتراف وإن كان من كلامه فهو اعتراف بما هم به على وجه خطوره على قلبه لا على وجه العزم والقصد وقاله في عموم الأحوال على وجه التواضع * (إن النفس لأمارة بالسوء) * النفس هنا للجنس والنفوس ثلاثة أنواع أمارة بالسوء ولوامة وهي التي تلوم صاحبها ومطمئنة * (إلا ما رحم ربي) * استثناء من النفس إذ هي بمعنى النفوس أي الأنفس المرحومة وهي المطمئنة فما على هذا بمعنى الذي ويحتمل أن تكون ظرفية أي إلا حين رحمة الله * (أستخلصه لنفسي) * أي أجعله خاصتي وخلاصتي قال أو لا ائتوني به فلما تبين له حاله قال أستخلصه لنفسي * (فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين) * أي فلما رأى حسن كلامه وعرف وفور عقله وعلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين والمكين من التمكين والأمين من الأمانة * (قال اجعلني على خزائن الأرض) * لما فهم يوسف من الملك أنه يريد تصريفه والاستعانة به قال له ذلك وإنما طلب منه الولاية رغبة منه في العدل وإقامة الحق والإحسان وكان هذا الملك كافرا ويستدل بذلك على أنه يجوز للرجل الفاضل أن يعمل للرجل الفاجر إذا علم أنه يصلح بعض الأحوال وقيل إن الملك أسلم وأراد بقوله خزائن الأرض أرض مصر إذ لم يكن للملك غيرها والخزائن كل ما يخزن من طعام ومال وغير ذلك * (إني حفيظ عليم) * صفتان تعمان وجوه المعرفة والضبط للخزائن وقيل حفيظ للحساب عليم بالألسن واللفظ أعم من ذلك ويستدل بذلك أنه يجوز للرجل أن يعرف بنفسه ويمدح نفسه بالحق إذا جهل أمره وإذا كان في ذلك فائدة * (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض) * الإشارة بذلك إلى ما تقدم من جميل صنع الله به وروي أن الملك ولاه في موضع العزيز وأسند إليه جميع الأمور حتى تغلب على أمره وأن امرأة العزيز شاخت وافترقت فتزوجها يوسف ودعا الله فرد عليها جمالها وشبابها وأنه باع من أهل مصر في أعوام القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق لهم شيء منها ثم بالحلي ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى تملكهم جميعا ثم أعتقهم ورد عليهم أملاكهم * (نصيب برحمتنا من نشاء) * الرحمة هنا يراد بها الدنيا وكذلك الأجر في قوله ولا نضيع أجر المحسنين بدليل قوله بعد ذلك
ولأجر الآخرة خير فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر ومطيع وعاص وأن المحسن لا بد له من أجره في الدنيا فالأول في المشيئة والثاني واقع لا محالة ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله للذين آمنوا وكانوا يتقون وفي الآية إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة * (وجاء إخوة يوسف) * كان سبب مجيئهم أنهم أصابتهم مجاعة في بلادهم فخرجوا إلى مصر ليشتروا بها من الطعام الذي ادخره يوسف * (فعرفهم وهم له منكرون) * إنما أنكروه لبعد العهد به وتغيير سنه أو لأنه كان متلثما روي أنهم دخلوا عليه وهو على هيئة عظيمة من الملك وأنه سألهم
122

عن أحوالهم وأخبروه أنهم تركوا أخا لهم فحينئذ قال لهم ائتوني بأخ لكم من أبيكم وهو بنيامين شقيق يوسف * (ولما جهزهم بجهازهم) * الجهاز ما يحتاج إليه المسافر من زاد وغيره والمراد به هنا الطعام الذي باع منهم * (خير المنزلين) * أي المضيفين * (وإنا لفاعلون) * أي نفعل ذلك لا محالة * (وقال لفتيانه) * جمع فتى وهو الخادم سواء كان حرا أو عبدا * (اجعلوا بضاعتهم في رحالهم) * أمر أن يجعلوا البضاعة التي اشتروا منه بها الطعام في أوعيتهم * (لعلهم يعرفونها) * أي لعلهم يعرفون اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم وليس الضمير للبضاعة * (لعلهم يرجعون) * أي لعل معرفتهم بها تدعوهم إلى الرجوع وقصد برد البضاعة إليهم مع الطعام استئلافهم بالإحسان إليهم * (منع منا الكيل) * إشارة إلى قولهم وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي فهو خوف من المنع في المستقبل * (نكتل) * وزنه نفتعل من الكيل * (ما نبغي) * ما استفهامية ونبغي بمعنى نطلب والمعنى أي شيء نطلبه بعد هذه الكرامة وهي رد البضاعة مع الطعام ويحتمل أن تكون ما نافية ونبغي من البغي أي لا نتعدى على أخينا ولا نكذب على الملك * (ونمير أهلنا) * أي نسوق لهم الطعام * (ونزداد كيل بعير) * يريدون بعير أخيهم إذ كان يوسف لا يعطي إلا كيل بعير من الطعام لإنسان فأعطاهم عشرة أبعرة ومنعهم الحادي عشر لغيبة صاحبه حتى يأتي والبعير الجمل * (ذلك كيل يسير) * إن كانت الإشارة إلى الأحمال فالمعنى أنها قليلة لا تكفيهم حتى يضاف إليها كيل بعير وإن كانت الإشارة إلى كيل بعير فالمعنى أنه يسير على يوسف أي قليل عنده أو سهل عليه فلا يمنعهم منه * (حتى تؤتون موثقا من الله) * أراد أن يحلفوا له ولتأتنني به جواب اليمين * (إلا أن يحاط بكم) * أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقون الإتيان به * (يا بني لا تدخلوا من باب واحد) * خاف عليهم من العين إن دخلوا مجتمعين إذ كانوا أهل جمال وهيبة * (ما كان يغني عنهم) * جواب لما والمعنى أن ذلك
123

لا يدفع ما قضاه الله * (إلا حاجة) * استثناء منقطع والحاجة هنا هي شفقته عليهم ووصيته لهم * (آوى إليه أخاه) * أي ضمه * (قال إني أنا أخوك) * أخبره بأنه أخوه واستكتمه ذلك * (فلا تبتئس) * أي لا تحزن فهو من البؤس * (بما كانوا يعملون) * الضمير لإخوة يوسف ويعني ما فعلوا بيوسف وأخيه ويحتمل أن يكون لفتيانه أي لا تبالي بما تراه من تحيلي في أخذك * (جعل السقاية في رحل أخيه) * السقاية هي الصواع وهي إناء يشرب فيه الملك ويأكل فيه الطعام وكان من فضة وقيل من ذهب وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه إذ كان شرع يعقوب أن من سرق استعبده المسروق له * (ثم أذن مؤذن) * أي نادى مناد * (أيتها العير) * أي أيتها الرفقة * (إنكم لسارقون) * خطاب لإخوة يوسف وإنما استحل أن يرميهم بالسرقة لما في ذلك من المصلحة من إمساك أخيه وقيل إن حافظ السقاية نادى إنكم لسارقون بغير أمر يوسف وهذا بعيد لتفتيش الأوعية * (ولمن جاء به حمل بعير) * أي لمن جبره ورده حمل بعير من طعام على وجه الجعل * (وأنا به زعيم) * أي ضامن لحمل البعير لمن رد الصواع وهذا من كلام المنادي * (قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض) * أي استشهدوا بعلمهم لما ظهر لهم من ديانتهم في دخولهم أرضهم حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم لئلا تنال زروع الناس * (قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين) * أي قال فتيان يوسف ما جزاء آخذ الصواع إن كنتم كاذبين في قولكم وما كنا سارقين فالضمير في قوله جزاؤه يعود على الأخذ المفهوم من الكلام * (قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) * المعنى أن إخوة يوسف أفتوا فيما سئلوا عنه فقالوا جزاء السارق أن يستعبد ويؤخذ في السرقة وأما الإعراب فيحتمل وجهين الأول أن يكون جزاؤه الأول مبتدأ ومن مبتدأ ثان وهي شرطية أو موصولة وخبرها فهو جزاؤه والجملة خبر جزاؤه الأول والوجه الثاني أن يكون من خبر المبتدأ الأول على حذف مضاف وتقديره جزاؤه أخذ من وجد في رحله وتم الكلام ثم قال فهو جزاؤه أي هذا الحكم جزاؤه * (وكذلك نجزي الظالمين) * من كلام إخوة يوسف أي هذا حكمنا في السراق وقد كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ بقطع الأيدي * (فبدأ بأوعيتهم) * هذا تمكين للحيلة ورفع للتهمة * (ثم استخرجها من وعاء أخيه) * ليصح له بذلك إمساكه معه وإنما أنث الصواع في هذا الموضع لأنه سقاية أو لأن الصواع يذكر ويؤنث * (كذلك كدنا ليوسف) * أي صنعنا له هذا الصنع * (ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك) * أي في شرعه أو عادته لأنه إنما كان جزاء السارق عنده أن يضرب ويضاعف عليه الغرم ولكن حكم في هذه القضية آل يعقوب * (نرفع درجات من نشاء) * يعني الرفعة بالعلم بدليل ما بعده * (وفوق كل ذي علم عليم) * أي
124

فوق كل عالم من هو أعلم منه من البشر أو الله عز وجل * (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) * الضمير في قالوا لإخوة يوسف وأشاروا إلى يوسف ومعنى كلامهم إن يسرق بنيامين فقد سرق أخوه يوسف من قبل فهذا الأمر إنما صدر من ابني راحيل لامنا وقصدوا بذلك رفع المعرة عن أنفسهم ورموا بها يوسف وشقيقه واختلف في السرقة التي رموا بها يوسف على ثلاثة أقوال الأول أن عمته ربته فأراد والده أن يأخذه منها وكانت تحبه ولا تصبر عنه فجعلت عليه منطقة لها ثم قالت إنه أخذها فاستبعدته بذلك وبقي عندها إلى أن ماتت والثاني أنه أخذ صنما لجده والد أمه فكسره والثالث أنه كان يأخذ الطعام من دار أبيه ويعطيه المساكين * (فأسرها يوسف في نفسه) * قال الزمخشري الضمير للجملة التي بعد ذلك وهي قوله أنتم شر مكانا والمعنى قال في قوله أنتم شر مكانا وقال ابن عطية الضمير للحرارة التي وجد في نفسه من قولهم فقد سرق أخ له من قبل وأسر كراهية مقالتهم ثم جاهرهم بقوله أنتم شر مكانا أي لسوء أفعالكم * (والله أعلم بما تصفون) * إشارة إلى كذبهم فيما وصفوه به من السرقة * (إن له أبا شيخا كبيرا) * استعطافا وكانوا قد أعلموه بشدة محبة أبيه فيه * (فخذ أحدنا مكانه) * على وجه الضمان والاسترهان والانقياد وهذا هو الأظهر لقوله معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده * (من المحسنين) * أي أحسنت إلينا فيما فعلت معنا من قبل أو على الإطلاق " واستيئسوا " أي يئسوا * (
خلصوا نجيا) * أي انفردوا عن غيرهم يناجي بعضهم بعضا والنجي يكون بمعنى المناجي أو مصدرا * (قال كبيرهم) * قيل كبيرهم في السن وهو روبيل وقيل كبيرهم في الرأي وهو شمعون وقيل يهوذا * (ومن قبل ما فرطتم في يوسف) * تحتمل ما وجوها الأول أن تكون زائدة والثاني أن تكون مصدرية ومحلها الرفع بالابتداء تقديره وقع من قبل تفريطكم في يوسف والثالث أن تكون موصولة ومحلها أيضا الرفع كذلك والأول أظهر * (فلن أبرح الأرض) * يريد الموضع الذي وقعت فيه القصة * (ارجعوا إلى أبيكم) * من قول كبيرهم وقيل من قول يوسف وهو بعيد * (إن ابنك سرق) * قرأ الجمهور بفتح الراء والسين وروي عن الكسائي سرق بضم السين وكسر وتشديد الراء أي نسبت له السرقة * (وما شهدنا إلا بما علمنا) * أي قولنا لك إن ابنك إنما هو شهادة بما علمنا من ظاهر ما جرى * (وما كنا للغيب حافظين) * أي لا نعلم الغيب هل ذلك حق في نفس الأمر أم لا إذ يمكن أن يدس الصواع في رحله من غير علمه وقال الزمخشري المعنى ما شهدنا إلا بما علمنا من سرقته وتيقناه لأن الصواع استخرج من وعائه وما كنا للغيب حافظين
125

أي ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق وقراءة سرق بالفتح تعضد قول الزمخشري والقراءة بالضم تعضد القول الأول * (واسأل القرية) * تقديره واسأل أهل القرية وكذلك أهل العير يعنون الرفقة هذا هو قول الجمهور وقيل المراد سؤال القرية بنفسها والعير بنفسها ولا يبعد أن تخبره الجمادات لأنه نبي والأول أظهر وأشهر على أنه مجاز والقرية هنا هي مصر * (قال بل سولت لكم) * قبله محذوف تقديره فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له هذا الكلام فقال بل سولت الآية * (بهم جميعا) * يعني يوسف وأخاه بنيامين وأخاهم الكبير الذي قال لن أبرح الأرض * (وتولى عنهم) * لما لم يصدقهم أعرض عنهم ورجع إلى التأسف * (وقال يا أسفى على يوسف) * تأسف على يوسف دون أخيه الثاني والثالث الذاهبين لأن حزنه عليه كان أشد لإفراط محبته ولأن مصيبته كانت السابقة * (وابيضت عيناه من الحزن) * أي من البكاء الذي هو ثمرة الحزن فقيل إنه عمي وقيل إنه كان يدرك إدراكا ضعيفا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب حزن حزن سبعين ثكلى وأعطى أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله قط * (فهو كظيم) * قيل إنه فعيل بمعنى فاعل أي كاظم لحزنه لا يظهره لأحد ولا يشكو إلا لله وقيل بمعنى مفعول كقوله إذ نادى وهو مكظوم أي مملوء القلب بالحزن أو بالغيظ على أولاده وقيل الكظيم الشديد الحزن " تالله تفتؤ " أي لا تفتؤ والمعنى لا تزال وحذف حرف النفي لأنه لا يلتبس بالإثبات لأنه لو كان إثباتا لكان مؤكدا باللام والنون * (حرضا) * أي مشرفا على الهلاك * (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) * رد عليهم في تفنيدهم له أي إنما أشكو إلى الله لا إليكم ولا إلى غيركم والبث أشد الحزن * (وأعلم من الله ما لا تعلمون) * أي أعلم من لطفه ورأفته ورحمته ما يوجب حسن ظني به وقوة رجائي فيه * (يا بني اذهبوا) * يعني إلى الأرض التي تركتم بها أخويكم * (فتحسسوا من يوسف وأخيه) * أي تعرفوا خبرهما والتحسس طلب الشيء بالحواس السمع والبصر وإنما لم يذكر الولد الثالث لأنه بقي هناك اختيارا منه ولأن يوسف وأخاه كانا أحب إليه " ولا تيئسوا من روح الله " أي من رحمة الله * (إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) * إنما جعل اليأس من صفة الكافر لأن سببه تكذيب الربوبية أو جهلا بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته * (فلما دخلوا عليه) * أي على يوسف وقيل هذا محذوف تقديره فرجعوا إلى مصر * (الضر) * يريدون به المجاعة أو الهم على إخوتهم * (ببضاعة مزجاة) * يعنون الدراهم التي جاؤوا بها لشراء الطعام والمزجاة القليلة وقيل الرديئة وقيل الناقصة وقيل إن بضاعتهم كانت عروضا
126

فلذلك قالوا هذا * (وتصدق علينا) * قيل يعنون بما بين الدراهم الجياد ودراهمهم وقيل أوف لنا الكيل الذي هو حقنا وزدنا على حقنا وسموا الزيادة صدقة ويقتضي هذا أن الصدقة كانت حلالا للأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل تصدق علينا برد أخينا إلينا * (إن الله يجزي المتصدقين) * قال النقاش هو من المعاريض ذلك أنهم كانوا يعتقدون أنه كافر لأنهم لم يعرفوه فظنوا أنه على دين أهل مصر فلو قالوا إن الله يجزيك بصدقتك كذبوا فقالوا لفظا يوهم أنهم أرادوه وهم لم يريدوه * (قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه) * لما شكوا إليه رق لهم وعرفهم بنفسه وروي أنه كان يكلمهم وعلى وجهه لثام ثم أزال اللثام ليعرفوه وأراد بقوله ما فعلتم بيوسف وأخيه التفريق بينهما في الصغر ومضرتهم ليوسف وإذايتهم أخيه من بعده فإنهم كانوا يذلونه ويشتمونه * (إذ أنتم جاهلون) * اعتذار عنهم فيحتمل أن يريد الجهل بقبح ما فعلوه أو جهل الشباب * (قالوا أئنك لأنت يوسف) * قرئ بالاستفهام والخبر فالخبر على أنهم عرفوه والاستفهام على أنهم توهموا انه هو ولم يحققوه " ومن يتق ويصبر " قيل إنه أراد من يتق في ترك المعصية ويصبر على السجن واللفظ أعم من ذلك * (آثرك الله علينا) * أي فضلك * (لخاطئين) * أي عاصين وفي كلامهم استعطاف واعتراف * (لا تثريب عليكم) * عفو جميل والتثريب التعنيف والعقوبة وقوله اليوم راجع إلى ما قبله فيوقف عليه وهو يتعلق بالتثريب أو بالمقدر في عليكم من معنى الاستقرار قيل إنه يتعلق بيغفر وهذا بعيد لأنه تحكم على الله وإنما يغفر دعاء فكأنه أسقط حق نفسه بقوله لا تثريب عليكم اليوم ثم دعا إلى الله أن يغفر لهم حقه * (اذهبوا بقميصي) * روي أن هذا القميص كان لإبراهيم كساه الله له حين أخرج من النار وكان من ثياب الجنة ثم صار لإسحاق ثم ليعقوب ثم دفعه يعقوب ليوسف وهذا يحتاج إلى سند يوثق به والظاهر أنه كان قميص يوسف الذي بمنزلة قميص كل أحد * (يأت بصيرا) * الظاهر أنه علم ذلك بوحي من الله * (فصلت العير) * أي خرجت من مصر متوجهة إلى يعقوب * (قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف) * كان يعقوب ببيت المقدس ووجد ريح القميص وبينهما مسافة بعيدة * (لولا أن تفندون) * أي تلومونني أو تردون على قولي وقيل معناه تقولون ذهب عقلك لأن الفند هو الخرف * (في ضلالك القديم) * أي ذهابك عن الصواب بإفراط محبتك في يوسف قديما * (فلما أن جاء البشير) * روي أن البشير يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم فقال لإخوته إني ذهبت إليه بقميص القرحة فدعوني أذهب إليه بقميص الفرحة * (قال سوف أستغفر لكم ربي) * وعدهم بالاستغفار لهم فقيل سوفهم إلى السحر لأن
127

الدعاء يستجاب فيه وقيل إلى ليلة الجمعة * (فلما دخلوا على يوسف) * هنا محذوفات يدل عليها الكلام وهي فرحل يعقوب بأهله حتى بلغوا يوسف * (آوى إليه أبويه) * أي ضمهما وأراد بالأبوين أباه وأمه وقيل أباه وخالته لأن أمه كانت قد ماتت وسمى الخالة على هذا أما * (إن شاء الله) * راجع إلى الأمن الذي في قوله آمنين * (
رفع أبويه على العرش) * أي على سرير الملك * (وخروا له سجدا) * كان السجود عندهم تحية وكرامة لا عبادة * (وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل) * يعني حين رأى أخد عشر كوكبا والشمس والقمر يسجدون له وكان بين رؤياه وبين ظهور تأويلها ثمانون عاما وقيل أربعون * (أحسن بي) * يقال أحسن إليه وبه * (أخرجني من السجن) * إنما لم يقل أخرجني من الجب لوجهين أحدهما أن في ذكر الجب خزي لإخوته وتعريفهم بما فعلوه فترك ذكره توقيرا لهم والآخر أنه خرج من الجب إلى الرق ومن السجن إلى الملك فالنعمة به أكثر * (وجاء بكم من البدو) * أي من البادية وكانوا أصحاب إبل وغنم فعد من النعم مجيئهم للحاضرة * (نزغ الشيطان) * أي أفسد وأغوى * (لطيف لما يشاء) * أي لطيف التدبير لما يشاء من الأمور * (من الملك) * من للتبعيض لأنه لم يعطه إلا بعض ملك الدنيا بل بعض ملك مصر * (توفني مسلما) * لما عدد النعم التي أنعم الله بها عليه اشتاق إلى لقاء ربه ولقاء الصالحين من سلفه وغيرهم فدعا بالموت وقيل ليس ذلك دعاء بالموت وإنما دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله * (ذلك من أنباء الغيب) * احتجاج على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بإخباره بالغيوب * (وما كنت لديهم) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم تأكيدا لحجته والضمير لإخوة يوسف * (إذ أجمعوا) * أي عزموا * (وهم يمكرون) * يعني فعلهم بيوسف * (وما أكثر الناس) * عموم لأن الكفار أكثر من المؤمنين وقيل أراد أهل مكة * (ولو حرصت بمؤمنين) * اعتراض أي لا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم " وما تسئلهم عليه من أجر " أي لست تسألهم أجرا على الإيمان فيثقل عليهم بسبب ذلك وهكذا معناه حيث وقع " وكأي من آية " يعني المخلوقات والحوادث الدالة على الله سبحانه * (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) * نزلت في كفار العرب الذين يقرون بالله ويعبدون معه غيره وقيل في أهل الكتاب لقولهم عزير ابن الله والمسيح ابن الله * (غاشية) * هي ما يغشى ويعم " قل هذه
128

سبيلي) إشارة إلى شريعة الإسلام * (أدعو إلى الله على بصيرة) * أي أدعو الناس إلى عبادة الله وأنا على بصيرة من أمري وحجة واضحة * (أنا ومن اتبعني) * أنا تأكيد للضمير في أدعو ومن اتبعني معطوف عليه وعلى بصيرة في موضع الحال وقيل أنا مبتدأ وعلى بصيرة خبره فعلى هذا يوقف على قوله أدعو إلى الله وهذا ضعيف * (وسبحان الله) * تقديره وأقول سبحان الله * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا) * رد على من أنكر أن يكون النبي من البشر وقيل فيه إشارة إلى أنه لم يبعث رسولا من النساء * (من أهل القرى) * أي من أهل المدن لا من أهل البوادي فإن الله لم يبعث رسولا من أهل البادية لجفائهم * (حتى إذا استيأس الرسل) * متصل بالمعنى بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا إلى قوله عاقبة الذين من قبلهم ويأسهم يحتمل أن يكون من إيمان قومهم أو من النصر والأول أحسن * (وظنوا أنهم قد كذبوا) * قرئ بتشديد الذال وتخفيفها فأما التشديد فالضمير في ظنوا وكذبوا للرسل والظن يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين أي علم الرسل أن قومهم قد كذبوهم فيئسوا من إيمانهم وأما التخفيف فالضميران فيه للقوم المرسل إليهم أي ظنوا أن الرسل قد كذبوهم فيما ادعوه من الرسالة أو من النصرة عليهم * (في قصصهم) * الضمير للرسل على الإطلاق أو ليوسف وإخوته * (ما كان حديثا يفترى) * يعني القرآن * (ولكن تصديق الذي بين يديه) * تقدم معناه في البقرة
سورة الرعد
* (تلك آيات الكتاب) * أي آيات هذه السورة ويحتمل أن يريد آيات الكتب على الإطلاق ويحتمل أن يريد القرآن على الإطلاق وهذا بعيد لتكرار القرآن بعد ذلك * (والذي أنزل إليك) * يعني القرآن وإعرابه مبتدأ وخبره الحق * (بغير عمد) * أي بغير شيء تقف عليه إلا قدرة الله * (ترونها) * قيل الضمير للسموات وترونها على هذا في موضع الحال أو استئنافا
129

وقيل الضمير للعمد أي ليس لها عمد مرئية فيقتضي المفهوم من أن لها عمدا لا ترى وقيل إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا وقال الجمهور لا عمد لها البتة فالمراد نفي العمد ونفي رؤيتها * (ثم استوى على العرش) * ثم هنا لترتيب الأخبار لا لترتيب وقوع الأمر فإن العرش كان قبل خلق السماوات وتقدم الكلام على الاستواء في الأعراف * (يدبر الأمر) * يعني أمر الملكوت * (يفصل الآيات) * يعني آيات كتبه * (مد الأرض) * يقتضي أنها بسيطة لا مكورة وهو ظاهر الشريعة وقد يترتب لفظ البسط والمد مع التكوير لأن كل قطعة من الأرض ممدودة على حدتها وإنما التكوير لجملة الأرض * (رواسي) * يعني الجبال الثابتة * (زوجين اثنين) * يعني صنفين من الثمر كالأسود والأبيض والحلو والحامض فإن قيل تقتضي الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين وقد خلق من كثير من الثمرات أصناف كثيرة والجواب أن ذلك زيادة في الاعتبار وأعظم في الدلالة على القدرة فذكر الاثنين لأن دلالة غيرهما من باب أولي وقيل إن الكلام تم في قوله من كل الثمرات ثم ابتدأ بقوله جعل فيها زوجين يعني الذكر والأنثى والأول أحسن * (يغشي الليل النهار) * أي يلبسه إياه فيصير له كالغشاء وذلك تشبيه * (قطع متجاورات) * يعني قطع متلاصقة ومع تلاصقها فإن أرضها تتنوع إلى طيب وردئ وصلب ورخو وغير ذلك وكل ذلك دليل على الصانع المختار المريد القادر * (صنوان وغير صنوان) * الصنوان هي النخلات الكثيرة ويكون أصلها واحد وغير الصنوان المفترق فردا فردا وواحد الصنوان صنو * (يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل) * حجة وبرهان على أنه تعالى قدير ومريد لأن اختلاف مذاقها وأشكالها وألوانها مع اتفاق الماء الذي تسقى به دليل على القدرة والإرادة وفي ذلك رد على القائلين بالطبيعة * (وإن تعجب فعجب قولهم) * أي إن تعجب يا محمد فإن إنكارهم للبعث حقيق أن يتعجب منه فإن الذي قدر على إنشاء ما ذكرنا من السماوات والأرض والثمار قادر على إنشاء الخلق بعد موتهم * (أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد) * هذا هو قول الكفار المنكرين للبعث واختلف القراء في هذا الموضع وفي سائر المواضع التي فيها استفهامان وهي أحد عشر موضعا أولها هذا وفي الإسراء موضعان وفي المؤمنين موضع وفي النمل موضع وفي العنكبوت موضع وفي ألم السجدة موضع وفي الصافات موضعان وفي الواقعة موضع وفي النازعات موضع فمنهم من قرأ بالاستفهام في الأول والثاني ومنهم من قرأ بالاستفهام في الأول فقط وهو نافع ومنهم من قرأ بالاستفهام في الثاني فقط وأصل الاستفهام في المعنى وإنما هو عن الثاني في مثل هذا الموضع فإن همزة الاستفهام معناها الإنكار وإنما أنكروا أن يكونوا خلقا جديدا ولم ينكروا أن يكونوا
ترابا فمن قرأ بالاستفهام في الثاني فقط فهو على الأصل ومن قرأ بالاستفهام في
130

الأول فالقصد بالاستفهام الثاني ومن قرأ بالاستفهام فيهما فذلك للتأكيد * (وأولئك الأغلال في أعناقهم) * يحتمل أن يريد الأغلال في الآخرة فيكون حقيقة أو يريد أنهم ممنوعون من الإيمان كقولك إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فيكون مجازا يجري مجرى الطبع والختم على القلوب * (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) * أي بالنقمة قبل العافية والمعنى أنهم طلبوا العذاب على وجه الاستخفاف * (وقد خلت من قبلهم المثلات) * جمع مثلة على وزن تمرة وهي العقوبة العظيمة التي تجعل الإنسان مثلا والمعنى كيف يطلبون العذاب وقد أصابت العقوبات الأمم الذين كانوا قبلهم أفلا يخافون مثل ذلك * (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * يريد ستره وإمهاله في الدنيا للكفار والعصاة وقيل يريد مغفرته لمن تاب والأول أظهر هنا * (ويقول الذين كفروا) * الآية اقترحوا نزول آية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نزول ملك معه أو شبه ذلك ولم يعتبروا بالقرآن ولا بغيره من الآيات العظام التي جاء بها وذلك منهم معاندة * (إنما أنت منذر) * أي إنما عليك إنذارهم وليس عليك أن تأتيهم بآية إنما ذلك إلى الله * (ولكل قوم هاد) * فيه ثلاثة أقوال أحدها أن يراد بالهادي الله تعالى فالمعنى إنما عليك الإنذار والله هو الهادي لمن يشاء إذا شاء والوجه الثاني أن يريد بالهادي النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى إنما أنت نبي منذر ولك قوم هاد من الأنبياء ينذرهم فليس أمرك ببدع ولا مستنكر الثالث روي أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا المنذر وأنت يا علي الهادي * (الله يعلم ما تحمل كل أنثى) * كقوله يعلم ما في الأرحام وهي من الخمس التي لا يعلمها إلا الله ويعني يعلم هل هو ذكر أو أنثى تام أو خداج أو حسن أو قبيح أو غير ذلك * (وما تغيض الأرحام وما تزداد) * معنى تغيض تنقص ومعنى تزداد من الزيادة وقيل إن الإشارة بدم الحيض فإنه يقل ويكبر وقيل للولد فالغيض السقط أو الولادة لأقل من تسعة أشهر والزيادة إبقاؤه أكثر من تسعة اشهر ويحتمل أن تكون ما في قوله ما تحمل وما تغيض وما تزداد موصولة أو مصدرية * (سواء منكم من أسر القول ومن جهر) * المعنى إن الله يسمع كل شيء فالجهر والإسرار عنده سواء وفي هذا وما بعده تقسيم وهو من أدوات البيان فإنه ذكر أربعة أقسام وفيه أيضا مطابقة * (ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) * المعنى سواء عند الله المستخفي بالليل وهو في غاية الاختفاء مع السارب بالنهار وهو في غاية الظهور ومعنى السارب المتصرف في سربه بالفتح أي في طريقه ووجهه والسارب والمستخفي اثنان قصد التسوية بينهما في اطلاع الله عليهما مع تباين حالهما وقيل إن المستخفي بالليل والسارب بالنهار صفتان لموصوف
131

واحد يستخفي بالليل ويظهر بالنهار ويعضد هذا كونه قال وسارب فعطفه عطف الصفات ولم يقل ومن هو سارب بتكرار من كما قال من أسر القول ومن جهر به إلا أن جعلهما اثنين أرجح ليقابل من أسر القول ومن جهر به فيكمل التقسيم إلى أربعة على هذا ويكون قوله وسارب عطف على الجملة وهو قوله ومن هو مستخف لا على مستخف وحده * (له معقبات) * المعقبات هنا جماعة الملائكة وسميت معقبات لأن بعضهم يعقب بعضا والضمير في له يعود على من المتقدمة كأنه قال لمن أسر ومن جهر ولمن استخفى ومن ظهر له معقبات وقيل يعود على الله وهو قول ضعيف لأن الضمائر التي بعده تعود على العبد باتفاق * (يحفظونه) * صفة للمعقبات وهذا الحفظ يحتمل أن يراد به حفظ أعماله أو حفظه وحراسته من الآفات * (من أمر الله) * صفة للمعقبات أي معقبات من أجل أمر الله أي أمرهم بحفظه وقرئ بأمر الله وهذه القراءة تعضد ذلك ولا يتعلق من أمر الله على هذا ليحفظونه وقيل يتعلق به على أنهم يحفظونه من عقوبة الله إذا أذنب بدعائهم له واستغفارهم * (إن الله لا يغير ما بقوم) * من العافية والنعم * (حتى يغيروا ما بأنفسهم) * بالمعاصي فيقتضي ذلك أن الله لا يسلب النعم ولا يترك النقم إلا بالذنوب * (يريكم البرق خوفا وطمعا) * الخوف يكون مع البرق من الصواعق والأمور الهائلة والطمع في المطر الذي يكون معه " السحاب الثقال " وصفها بالثقل لأنها تحمل الماء " ويسبح الرعد بحمده " الرعد اسم ملك وصوته المسموع تسبيح وقد جاء في الأثر أن صوته زجر للسحاب فعلى هذا يكون تسبيحه غير ذلك " ويرسل الصواعق " قيل إنه إشارة إلى الصاعقة التي نزلت على أربد الكافر وقتله حين هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأخوه عامر بن الطفيل واللفظ أعم من ذلك " وهم يجادلون في الله " يعني الكفار والوار للاستئناف أو للحال " شديد المحال " أي شديد القوة والمحال مشتق من الحيلة فالميم زائدة ووزنه مفعل وقيل معناه شديد المكر من قولك محل بالرجل إذا مكر به فالميم على هذا أصلية ووزنه فعال وتأويل المكر على هذا القول كتأويله في المواضع التي وردت في القرآن " له دعوة الحق " قيل هي لا إله إلا الله والمعنى أن دعوة العباد بالحق لله ودعوتهم بالباطل لغيره " والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء " يعني بالذين ما عبدوا من دون الله من الأصنام وغيرها والضمير في يدعون للكفار والمعنى أن المعبودين لا يستجيبون لمن عبدهم " إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه " شبه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفيه وأشار إليه بالإقبال إلى فيه ولا يبلغ فمه على هذا أبدا لأن الماء جماد لا يعقل المراد فكذلك
132

الأصنام والضمير في قوله وما هو للماء وفي ببالغه للفم " ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها " من لا تقع إلا على من يعقل فهي هنا يراد بها الملائكة والإنس والجن فإذا جعلنا السجود بمعنى الانقياد لأمر الله وقضائه فهو عام في الجميع من شاء منهم ومن أبى ويكون طوعا لمن أسلم وكرها لمن كره وسخط وإن جعلنا السجود هو المعروف بالجسد فيكون لسجود الملائكة والمؤمنين من الإنس والجن طوعا وأما الكره فهو سجود المنافق وسجود ظل االكافر " وظلالهم " معطوف على من والمعنى أن الظلال تسجد غدوة وعشية وسجودها انقيادها للتصرف بمشيئة الله سبحانه وتعالى * (قل لله) * جواب عن السؤال المتقدم وهو من رب السماوات والأرض وإنما جاء الجواب والسؤال من جهة واحدة لأنه أمر واضح لا يمكن جحده ولا المخالفة فيه ولذلك أقام به الحجة على المشركين بقوله أفاتخذتم من دونه أولياء * (قل هل يستوي الأعمى والبصير) * الأعمى تمثيل للكافر والبصير تمثيل للمؤمن * (الظلمات) * الكفر * (والنور) * الإيمان وذلك كله على وجه التشبيه والتمثيل " أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم " أم هنا بمعنى بل والهمزة وخلقوا صفة لشركاء والمعنى أن الله وقفهم هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق الله فحملهم ذلك واشتباهه بما خلق الله على أن جعلوا إلها غير الله ثم أبطل ذلك بقوله " قل الله خالق كل شيء " فحصل الرد عليهم " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " الآية هذا
مثل ضربه الله للحق وأهله والباطل وحزبه فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية وينتفع به أهل الأرض وبالذهب والفضة والحديد والصفر وغيرها من المعادن التي ينتفع بها الناس وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله وزواله بالزبد الذي يرى به السيل ويريد تلك المعادن التي يطفو فوقها إذا أذيبت وليس في الزبد منفعة وليس له دوام " بقدرها " يحتمل أن يريد ما قدر لها من الماء ويحتمل أن يريد بقدر ما تحتمله على قدر صغرها وكبرها " زبدا رابيا " الزبد ما يحمله السيل من غثاء ونحوه والرابي المنتفخ الذي ربى ومنه الربوة " ومما يوقدون " المجرور في موضع خبر المقدم والمبتدأ زبد مثله أي ينشأ من الأشياء التي يوقد عليها زبد مثل زبد السيل " ابتغاء حلية أو متاع " الذي يوقد عليه ابتغاء الحلي هو الذهب والفضة والذي يوقد عليه ابتغاء متاع هو الحديد والرصاص والنحاس والصفر وشبه ذلك والمتاع ما يستمتع به في مرافقهم وحوائجهم " يضرب الله الحق والباطل " أي يضرب أمثال الحق والباطل " جفاء " يجفاه السيل أي يرمي به " وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " يريد الخالص من الماء ومن تلك الأحجار " للذين استجابوا لربهم الحسنى " الذين استجابوا هم المؤمنون وهذا
133

استئناف كلام والحسنى الجنة وإعرابها مبتدأ وخبرها للذين استجابوا وللذين استجابوا مبتدأ وخبره لو أن لهم ما في الأرض الآية فيوقف على الأمثال وعلى الحسنى وقيل للذين استجابوا يتعلق بيضرب والحسنى مصدرمن معنى استجابوا أي استجابوا الاستجابة الحسنى والذين لم يستجيبوا معطوف على الذين استجابوا والمعنى يضرب الله الأمثال للطائفتين وعلى هذا إنما يوقف على والذين لم يستجيبوا له " سوء الحساب " أي المناقشة والاستقصاء " أفمن يعلم " تقرير والمعنى أسواء من آمن ومن لم يؤمن والأعمى هنا من لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأبي جهل لعنه الله " يصلون ما أمر الله به أن يوصل " القرابات وغيرها " ويدرءون بالحسنة السيئة " قيل يدفعون الشرك بقول لا إله إلا الله وقيل يدفعون من أساء إليهم بالتي هي أحسن والأظهر يفعلون الحسنات فيدرؤن بها السيئات كقوله إن الحسنات يذهبن السيئات وقيل إن هذه الآية نزلت في الأنصار ثم هي عامة في كل مؤمن اتصف بهذه الصفات " عقبى الدار " يعني الجنة ويحتمل أن يريد بالدار الآخرة وأضاف العقبى إليها لأنها فيها ويحتمل أن يريد بالدار الدنيا وأضاف العقبى إليها لأنها عاقبتها * (جنات عدن) * بدل من عقبى الدار أو خبر ابتداء مضمر تفسير العقبى الدار " ومن صلح " أي من كان صالحا * (سلام عليكم) * أي يقولون لهم سلام عليكم " بما صبرتم " يتعلق بمحذوف تقديره هذا بما صبرتم ويجوز أن يتعلق بسلام أي ليسلم عليكم بما صبرتم " والذين ينقضون عهد الله " إلى آخر الآية أوصاف مضافة كما تقدم وقيل إنها في الخوارج والأظهر أنها في الكفار " سوء الدار " يحتمل أن يراد بها الدنيا والآخرة " الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر " أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء وهذا تفسيره حيث وقع " وفرحوا بالحياة الدنيا " إخبار في ضمنه ذم وتسفيه لمن فرح بالدنيا لذلك حقرها بقوله وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع أي قليل بالنظر إلى الآخرة " قل إن الله يضل من يشاء " خرج به مخرج التعجب منهم لما طلبوا آية أي قد جاءكم محمد
134

صلى الله عليه وسلم بالقرآن وآيات كثيرة فعميتم عنها وطلبتم غيرها وتماديتم على الكفر لأن الله يضل من يشاء مع ظهور الآيات وقد يهدي من يشاء دون ذلك " الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله " بدل من من أناب أو خبر ابتداء مضمر والذين آمنوا وعملوا الصالحات بدل ثان أو مبتدأ " طوبى " مصدر من طاب كبشرى ومعناها أصابت خيرا وطيبا وقيل هي شجرة في الجنة وإعرابها مبتدأ " كذلك أرسلناك " الكاف تتعلق بالمعنى الذي في قوله يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وهم يكفرون بالرحمن " قيل إنها نزلت في أبي جهل وقيل نزلت في قريش حين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فكتب الكاتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال قائلهم نحن لا نعرف الرحمن وهذا ضعيف لأن الآية نزلت قبل ذلك ولأن تلك القصة إنما أنكروا فيها التسمية فقط ومعنى الآية أنهم يكفرون بالله مع تلاوة القرآن عليهم " متاب " مفعل من التوبة وهو اسم مصدر " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " الآية جواب لو محذوف تقديره لو أن قرآنا على هذه الصفة من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى لم يؤمنوا به فالمعنى كقوله لا يؤمنوا ولو جاءتهم كل آية وقيل تقديره ولو أن قرآنا على هذه الصفة لكان هذا القرآن الذي هو غاية في التذكير ونهاية في الإنذار كقوله لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا وقيل هو متعلق بما قبله والمعنى وهم يكفرون بالرحمن ولو أن قرآنا سيرت به الجبال " أفلم ييأس " معناه أفلم يعلم وهي لغة هوازن " ولا يزال الذين كفروا " يعني كفار قريش " قارعة " يعني مصيبة في أنفسهم وأولادهم وأموالهم أو غزوات المسلمين إليهم " أو تحل " الفاعل ضمير القارعة والمعنى إما أن تصيبهم وإما أن تقرب منهم وقيل التاء للخطاب والفاعل ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم والأول أظهر " حتى يأتي وعد الله " هو فتح مكة وقيل قيام الساعة * (ولقد استهزئ) * الآية مقصدها تأنيس وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا حيث وقع " فأمليت " أي أمهلتهم " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " هو الله تعالى أي حفيظ رقيب على عمل كل أحد والخبر محذوف تقديره أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق أن يعبد أم غيره ويدل على ذلك قوله أم جعلوا لله شركاء " قل سموهم " أي اذكروا أسماءهم " أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض " المعنى أن الله لا يعلم
135

لنفسه شركاء وإذا لم يعلمهم هو فليسوا بشيء فكيف تفترون الكذب في عبادتهم وتعبدون الباطل وذلك كقولك قل لي من زيد أم هو أقل من أن يعرف فهو كالعدم " أم بظاهر من القول " المعنى أتسمونهم شركاء بظاهر اللفظ من غير أن يكون لذلك حقيقة كقوله إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " لهم عذاب في الحياة الدنيا " يعني بالقتل والأسر والخوف وغير ذلك " مثل الجنة " هنا وفي القتال صفتها وليس بضرب مثل لها والخبر عند سيبويه محذوف مقدم تقديره فيما يتلى عليكم صفة الجنة وقال الفراء الخبر مؤخر وهو تجري من تحتها الأنهار " أكلها دائم " يعني ما يؤكل فيها من الثمرات وغيرها والأكل بضم الهمزة المأكول ويجوز فيه ضم الكاف وإسكانها والأكل بفتح الهمزة المصدر " والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك " يعني من أسلم من اليهود والنصارى كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه وقيل يعني المؤمنين والكتاب على هذا القرآن " ومن الأحزاب " قيل هم بنو أمية وبنو المغيرة من قريش والأظهر أنها في سائر كفار العرب وقيل هم اليهود والنصارى لأنهم لا ينكروا القصاص والأشياء التي في كتبهم وإنما ينكرون البعض مما لا يعرفونه أو حرفوه " قل إنما أمرت أن أعبد الله " وجه اتصاله بما قبله أنه جواب المنكرين ورد عليهم كأنه قال إنما
أمرت بعبادة الله وتوحيده فكيف تنكرون هذا * (مآب) * مفعل من الأوب وهو الرجوع أي مرجعي في الآخرة أو مرجعي بالتوبة " وجعلنا لهم أزواجا وذرية " رد على من أنكر أن يكون الرسول من البشر أو يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من النساء والذرية فالمعنى لست ببدع في ذلك بل أنت كمن تقدم من الرسل " وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله " رد على الذين اقترحوا الآيات " لكل أجل كتاب " قال الفراء لكل كتاب أجل بالعكس وهذا لا يلزم بل المعنى صحيح من غير عكس أي لكل اجل كتاب كتبه الله في اللوح المحفوظ " يمحو الله ما يشاء ويثبت " قيل يعني ينسخ ما يشاء من القرآن والأحكام ويثبت منها ما يشاء وقيل هي في آجال بني آدم وذلك أن الله تعالى قدر في ليلة القدر وقيل في ليلة النصف من شعبان بكتب أجل من يموت في ذلك العام فيمحوه من ديوان الأحياء ويثبت من لا يموت في ذلك العام وقيل إن المحو والإثبات على العموم في جميع الأشياء وهذا ترده القاعدة المتقررة أن القضاء لا يبدل وأن علم الله لا يتغير فقال بعضهم المحو والإثبات
136

في كل شيء إلا في السعادة والشقاوة الأخروية والآجال " وعنده أم الكتاب " أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقادير الأشياء كلها " وإن ما نرينك " إن شرط دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فإنما " أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها " الاتيان هنا بالقدرة والأمر والأرض أرض الكفار ونقصها هو بما يفتح الله على المسلمين منها والمعنى أولم يروا ذلك فيخافوا أن نمكنك منهم وقيل الأرض جنس ونقصها بموت الناس وهلاك الثمرات وخراب البلاد وشبه ذلك " لا معقب لحكمه " المعقب الذي يكر على الشيء فيبطله " فلله المكر جميعا " تسمية للعقوبة باسم الذنب " وسيعلم الكافر " تهديد والمراد بالكافر الجنس بدليل قراءة الكفار بالجمع وعقبى الدار الدنيا والآخرة " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " أمره الله أن يستشهد الله على صحة نبوته وشهادة الله له هي علمه بذلك وإظهاره الآيات الدالة على ذلك " ومن عنده علم الكتاب " معطوف على اسم الله على وجه الاستشهاد به وقيل المراد عبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين يعلمون صفته صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل وقيل المراد المؤمنون الذين يعلمون علم القرآن ودلالته على النبوة وقيل المراد الله تعالى فهو الذي عنده علم الكتاب ويضعف هذا لأنه عطف صفة على موصوف ويقويه قراءة ومن عنده بمن الجارة وخفض عنده
سورة إبراهيم عليه السلام
* (لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) * الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والظلمات الكفر والجهل والنور الإيمان والعلم * (بإذن ربهم) * أي بأمره وهو إرساله * (إلى صراط العزيز الحميد) * بدل من إلى النور * (الله) * قرئ بالرفع وهو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر وبالخفض بدل * (يستحبون) * أي يؤثرون * (ويبغونها) * قد ذكر * (بلسان قومه) * أي بلغتهم وكلامهم " أن
137

أخرج) أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن * (وذكرهم بأيام الله) * أي عقوباته للأمم المتقدمة وقيل إنعامه على بني إسرائيل واللفظ يعم النعم والنقم وعبر عنها بالأيام لأنها كانت في أيام وفي ذلك تعظيم لها كقولهم يوم كذا ويوم كذا * (ويذبحون أبناءكم) * ذكر هنا بالواو ليدل على أن سوء العذاب غير الذبح أو أعم من ذلك ثم جر الذبح كقوله وملائكته وجبريل وميكال ذكر في البقرة بغير واو تفسير للعذاب * (وإذ تأذن ربكم) * من كلام موسى وتأذن بمعنى أذن أي أعلم كقولك توعد وأوعد وإعلام الله مقترن بإنفاذ ما أعلم به * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * هذا معمول تأذن لأنه يتضمن معنى قال ويحتمل أن تكون الزيادة من خير الدنيا أو من الثواب في الآخرة أو منهما * (ولئن كفرتم) * يحتمل أن يريد كفر النعم أو الكفر بالإيمان والأول أرجح لمقابلته بالشكر * (لا يعلمهم إلا الله) * عبارة عن كثرتهم كقوله وقرونا بين ذلك كثيرا * (فردوا أيديهم في أفواههم) * فيه ثلاثة أقوال أحدها أن الضمائر لقوم الرسل والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم غيظا من الرسل كقوله عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو استهزاء وضحكا كمن غلبه الضحك فوضع يده على فمه والثاني أن الضمائر لهم والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت والثالث أنهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء تسكيتا لهم وردا لقولهم * (أفي الله شك) * المعنى أفي وجود الله شك أو أفي إلهيته شك وقيل في وحدانيته والهمزة للتقرير والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ولذلك وصفه بعد بقوله فاطر السماوات والأرض * (من ذنوبكم) * قيل إن من زائدة ومنع سيبويه زيادتها في الواجب وهي عنده للتبعيض ومعناه أن يغفر للكافر إذا أسلم ما تقدم من ذنبه قبل الإسلام ويبقى ما يذنب بعده في المشيئة فوقعت المغفرة في البعض ولم يأت في القرآن غفران بعض الذنوب إلا للكافر كهذا الموضع والذي في الأحقاف وسورة نوح وجاء للمؤمنين بغير من كالذي في الصف * (ويؤخركم إلى أجل مسمى) * قال الزمخشري وأهل مذهبه من المعتزلة معناه يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت وهذا بناء على قولهم بالأجلين وأهل السنة يأبون هذا فإن الأجل عندهم واحد محتوم
138

* (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا) * يحتمل أن يكون قولهم استبعادا لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة أو يكون إحالة لنبوة البشر والأول أظهر لطلبهم البرهان في قولهم فأتونا بسلطان مبين ولقول الرسل ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي بالتفضيل بالنبوة * (وما لنا ألا نتوكل على الله) * والمعنى أي شيء يمنعنا من التوكل على الله * (وعلى الله فليتوكل المتوكلون) * إن قيل لم كرر الأمر فالجواب عندي أن قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار بسلطان مبين أي حجة ظاهرة فتوكل الرسل في ورودها على الله وأما قوله فليتوكل المتوكلون فهو راجع إلى قولهم ولنصبرن على ما آذيتمونا أي نتوكل على الله في دفع أذاكم وقال الزمخشري إن هذا الثاني في معنى الثبوت على التوكل * (أو لتعودن في ملتنا) * أو هنا بمعنى إلا أن أو على أصلها لوقوع أحد الشيئين والعود هنا بمعنى الصيرورة وهو كثير في كلام العرب ولا يقتضي أن الرسل كانوا في ملة الكفار قبل ذلك * (خاف مقامي) * فيه ثلاثة أوجه هنا وفي ولمن خاف مقام ربه في الرحمن فالأول أن معناه مقام الحساب في القيامة والثاني أن معناه قيام الله على عباده بأعمالهم والثالث أن معناه خافني وخاف ربه على إقحام المقام أو على التعبير به عن الذات * (واستفتحوا) * الضمير للرسل أي استنصروا بالله وأصله طلب الفتح وهو الحكم * (جبار) * أي قاهر أو متكبر * (عنيد) * مخالف للانقياد * (من ورائه) * في
الموضعين والوراء هنا بمعنى ما يستقبل من الزمان وقيل معناه هنا أمامه وهو بعيد * (ويسقى) * معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى وإنما ذكر هذا السقي تجريدا بعد ذكر جهنم لأنه من أشد عذابها * (يتجرعه ولا يكاد يسيغه) * أي يتكلف جرعه وتصعب عليه إساغته ونفي كاد يقتضي وقوع الإساغة بعد جهد ومعنى يسيغه يبتلعه * (ويأتيه الموت من كل مكان) * أي يجد الماء مثل ألم الموت وكربته من جميع الجهات * (وما هو بميت) * أي لا يراح بالموت * (مثل الذين كفروا) * مذهب سيبويه والفراء فيه كقولهما في مثل الجنة التي في الرعد والقتال والخبر عند سيبويه محذوف تقديره فيما يتلى عليكم والخبر عند الفراء الجملة التي بعده والمثل هنا بمعنى الشبيه * (أعمالهم كرماد) * تشبيها بالرماد في ذهابها وتلاشيها * (في يوم عاصف) * أي شديد الريح والعصوف في الحقيقة من صفة الريح " لا يقدرون مما كسبوا على شيء "
139

أي لا يرون له منفعة * (وبرزوا لله) * أي ظهروا ومعنى الظهور هنا خروجهم من القبور وقيل معناه صاروا بالبراز وهي الأرض المتسعة * (تبعا) * جمع تابع أو مصدر وصف به مبالغة أو على حذف مضاف " من عذاب الله من شيء " من الأولى للبيان والثانية للتبعيض ويجوز أن يكونا للتبعيض معا قاله الزمخشري والأظهر أن الأولى للبيان والثانية زائدة والمعنى هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئا من عذاب الله * (محيص) * أي مهرب حيث وقع ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسم مكان * (وقال الشيطان) * يعني إبليس الأقدم روي أنه يقوم خطيبا بهذا الكلام يوم القيامة أو في النار يقوله لأهلها * (لما قضي الأمر) * إن كان كلام إبليس في القيامة بمعنى قضي الأمر تعين قوم للنار وقوم للجنة وإن كان في النار فمعنى قضي الأمر حصل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة * (إلا أن دعوتكم) * استثناء منقطع * (ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي) * أي ما أنا بمغيثكم وما أنتم فمغيثين لي * (بما أشركتمون) * ما مصدرية أي بإشراككم لي مع الله في الطاعة * (من قبل) * يتعلق بأشركتمون ويحتمل أن يتعلق بكفرتم والأول أظهر وأرجح * (إن الظالمين) * استئناف من كلام الله تعالى ويحتمل أن يكون حكاية عن إبليس * (بإذن ربهم) * يتعلق بأدخل أو بخالدين والأول أحسن * (كلمة طيبة) * ابن عباس وغيره هي لا إله إلا الله وقيل كل حسنة * (كشجرة طيبة) * هي النخلة في قول الجمهور واختار ابن عطية أنها شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بتلك الصفات * (وفرعها في السماء) * أي في الهواء وذلك عبارة عن طولها * (تؤتي أكلها كل حين) * الحين في اللغة وقت غير محدود وقد تقترن به قرينة تحده وقيل في كل حين كل سنة لأن النخلة تطعم في كل سنة وقيل غير ذلك * (ومثل كلمة خبيثة) * هي كلمة الكفر وقيل كل كلمة قبيحة * (كشجرة خبيثة) * هي الحنظلة عند الجمهور واختار ابن عطية أنها غير معينة * (اجتثت) * أي اقتلعت وحقيقة
140

الاجتثاث أخذ الجثة وهذا في مقابلة قوله أصلها ثابت * (بالقول الثابت) * هو لا إله إلا الله والإقرار بالنبوة * (في الحياة الدنيا) * أي إذا فتنوا لم يزلوا * (وفي الآخرة) * هو عند السؤال في القبر عند الجمهور * (بدلوا نعمة الله كفرا) * نعمة الله هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ودينه أنعم الله به على قريش فكفروا النعمة ولم يقبلوها والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا * (وأحلوا قومهم) * أي من أطاعهم واتبعهم * (دار البوار) * فسرها بقوله جهنم * (يقيموا الصلاة وينفقوا) * هي جواب شرط فقد يتضمنه قوله قل تقديره إن تقل لهم أقيموا يقيموا ومعمول القول على هذا محذوف وقيل جزم بإضمار لام الأمر تقديره ليقيموا * (ولا خلال) * من الخلة وهي المودة * (إن الإنسان) * يريد الجنس * (البلد آمنا) * ذكر في البقرة * (واجنبني) * أي امنعني والماضي منه جنب يقال جنب وجنب بالتشديد وأجنب بمعنى واحد * (وبني) * يعني بني من صلبي وفيهم أجيبت دعوته وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام * (ومن عصاني) * يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق * (أسكنت من ذريتي) * يعني ابنه إسماعيل عليه السلام لما ولدته أمه هاجر غارت منها سارة زوجة إبراهيم فحمله مع أمه من الشام إلى مكة * (بواد) * يعني مكة والوادي ما بين جبلين وإن لم يكن فيه ماء * (عند بيتك المحرم) * يعني الكعبة فإما أن يكون البيت أقدم من إبراهيم على ما جاء في بعض الروايات وإما أن يكون إبراهيم قد علم أنه سيبنى هناك بيتا * (ليقيموا الصلاة) * اللام يحتمل أن تكون لام الأمر بمعنى الدعاء أو لام كي وتتعلق بأسكنت وجمع الضمير يدل على أنه قد كان علم أن ابنه يعقوب هناك نسلا * (تهوي إليهم) * أي تسير بجد وإسراع ولهذه الدعوة حبب الله حج البيت إلى الناس على أنه قال من الناس بالتبعيض قال بعضهم لو قال أفئدة الناس لحجته فارس والروم * (وارزقهم من الثمرات) * أي ارزقهم في ذلك الوادي مع أنه غير ذي زرع وأجاب الله دعوته
141

فجعل مكة يجبى إليها ثمرات كل شيء * (وما يخفى على الله) * الآية يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى أو حكاية عن إبراهيم * (وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق) * روي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبع عشرة عاما وروي أقل من هذا وإسماعيل أسن من إسحق * (ربنا وتقبل دعاء) * إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول الاستجابة وإن أراد بالدعاء العبادة فالقبول على حقيقته * (ربنا اغفر لي ولوالدي) * قيل إنما دعا بالمغفرة لأبويه الكافرين بشرط إسلامهما والصحيح أنه دعا لهما قبل أن يتبين له أن أباه عدو لله حسبما ورد في براءة * (ولا تحسبن الله غافلا) * هذا وعيد للظالمين وهم الكفار على الأظهر فإن قيل لمن هذا الخطاب هنا وفي قوله ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله فالجواب أنه يحتمل أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره فإن كان لغيره فلا إشكال وإن كان له فهو مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب أن الله غافلا وتأويل ذلك بوجهين أحدهما أن لمراد الثبوت على علمه بأن الله غير غافل وغير مخلف وعده والآخر أن المراد إعلامه بعقوبة الظالمين فمقصد الكلام الوعيد لهم * (تشخص فيه الأبصار) * أي تحد النظر من الخوف * (مهطعين) * قيل الإهطاع الإسراع وقيل شدة النظر من غير أن يطرف " مقنعي رؤوسهم " قيل الإقناع هو رفع الرأس وقيل خفضه من الذلة * (لا يرتد إليهم طرفهم) * أي لا يطرفون بعيونهم من الحذر والجزع * (وأفئدتهم هواء) * أي منحرفة لا تعي شيئا من شدة الجزع فشبهها بالهواء في تعريفه من الأشياء ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم * (يوم يأتيهم العذاب) * يعني يوم القيامة وانتصاب يوم على أنه مفعول ثان لأنذر ولا يجوز أن يكون ظرفا * (أولم تكونوا) * تقديره يقال لهم أولم تكونوا الآية " مالكم من زوال " هم المقسم عليه
ومعنى من زوال أي من الأرض بعد الموت أي حلفتم أنكم لا تبعثون * (وعند الله مكرهم) * أي جزاء مكرهم * (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) * إن هنا نافية واللام لام الجحود والجبال يراد بها الشرائع والنبوات شبهت بالجبال في ثبوتها والمعنى تحقير مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام ورفع تزول وإن على هذه القراءة مخففة من الثقيلة واللام للتأكيد والمعنى تعظيم مكرهم أي أن مكرهم من شدته تزول منه الجبال ولكن
142

الله عصم ووقى منه * (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) * يعني وعد النصر على الكفار فإن قيل هلا قال مخلف رسله وعده ولم قدم المفعول الثاني على الأول فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلا على الإطلاق ثم قال رسله ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه فقدم الوعد أولا بقصد الإطلاق ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص * (يوم تبدل الأرض غير الأرض) * العامل في الظرف ذوا انتقام أو محذوف وتبديل الأرض بأن تكون يوم القيامة بيضاء عفراء كقرصة النقي هكذا ورد في الحديث الصحيح * (والسماوات) * تبديلها بانشقاقها وانتشار كواكبها وخسوف شمسها وقمرها وقيل تبدل أرضا من فضة وسماء من ذهب وهذا ضعيف * (وترى المجرمين) * يعني الكفار * (مقرنين في الأصفاد) * أي مربوطين في الأغلال * (سرابيلهم) * أي قمصهم والسربال القميص * (من قطران) * متعلق بمحذوف أي جعل الله فيه ذلك وهو الذي تهيأ به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه * (ليجزي) * يتعلق بمحذوف أي فعل الله ذلك ليجزي * (هذا بلاغ) * إشارة إلى القرآن أو إلى ما تضمنته هذه السورة * (ولينذروا) * معطوف على محذوف تقديره لينصحوا به ولينذروا " وليذكرأولو الألباب " أي هذا الذكر لأولي العقول وهم أهل العلم رضي الله عنهم
سورة الحجر
* (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) * يحتمل أن يريد بالكتاب الكتب المتقدمة وعطف القرآن عليها والظاهر أنه القرآن وعطفه عطف الصفات * (ربما) * قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان وما حرف كافة لرب ومعنى رب التقليل وقد تكون للتكثير وقيل إن هذه منه وقيل إنما عبر عن التكثير بأداة التقليل على وجه التهكم كقوله قد نرى تقلب وجهك في السماء وقد يعلم ما أنتم عليه وقيل إن معنى التقليل في هذه أنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه مرارا كثيرة ولا تدخل إلا على الماضي * (يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) * قيل إن ذلك عند الموت وقيل
143

في القيامة وقيل إذا خرج عصاة المسلمين من النار وهذا هو الأرجح لحديث روي في ذلك * (ذرهم) * وما بعده تهديد * (كتاب معلوم) * أي وقت محدود * (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * الضمير في قالوا لكفار قريش وقولهم نزل عليه الذكر يعنون على وجه الاستخفاف أي بزعمك ودعواك * (لو ما تأتينا بالملائكة) * لو ما عرض وتحضيض والمعنى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة معه * (ما ننزل الملائكة إلا بالحق) * رد عليهم فيما اقترحوا والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح التي يريدها الله لا باقتراح مقترح واختيار كافر وقيل الحق هنا العذاب * (وما كانوا إذا منظرين) * إذا حرف جواب وجزاء والمعنى لو أنزل الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار الذين اقترحوا نزولهم لأن من عادة الله أن من اقترح آية فرآها ولم يؤمن أنه يعجل له العذاب وقد علم الله أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ويؤمن أعقابهم فلم يفعل بهم ذلك * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * الذكر هنا هو القرآن وفي قوله إنا نحن نزلنا الذكر ردا لإنكارهم واستخفافهم في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك أكده بنحن واحتج عليه بحفظه ومعنى حفظه حراسته عن التبديل والتغيير كما جرى في غيره من الكتب فتولى الله حفظ القرآن فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان منه ولا تبديله بخلاف غيره من الكتب فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله بما استحفظوا من كتاب الله * (في شيع الأولين) * الشيع جمع شيعة وهي الطائفة التي تتشيع لمذهب أو رجل * (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين) * معنى نسلكه ندخله والضمير في نسلكه يحتمل أن يكون للاستهزاء الذي دل عليه قوله به يستهزؤن أو يكون للقرآن أي نسلكه في قلوبهم فيستهزؤا به ويكون قوله كذلك تشبيها للاستهزاء المتقدم ولا يؤمنون به تفسيرا لوجه إدخاله في قلوبهم والضمير في به للقرآن * (وقد خلت سنة الأولين) * أي تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء حتى هلكوا بذلك ففي الكلام تهديد لقريش * (ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا) * الضمائر لكفار قريش المعاندين المحتوم عليهم بالكفر وقيل الضمير في ظلوا وفي يعرجون للملائكة وفي قالوا للكفار ومعنى يعرجون يصعدون والمعنى أن هؤلاء الكفار لو رأوا أعظم آية لقالوا إنها تخييل أو سحر وقرئ سكرت بالتشديد والتخفيف ويحتمل أن يكون مشتقا من السكر فيكون معناه أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته أو من السكر وهو السد فيكون معناه منعت أبصارنا
144

من النظر * (بروجا) * يعني المنازل الاثني عشر * (إلا من استرق السمع) * استثناء من حفظ السماوات فهو في موضع نصب " من كل شيء موزون " أي مقدر بقدر فالوزن على هذا استعارة وقيل المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والأطعمة والأول أعم وأحسن * (ومن لستم له برازقين) * يعني البهائم والحيوانات ومن معطوف على معايش وقيل على الضمير في لكم وهذا ضعيف في النحو لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض وهو قوي في المعنى أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات " وإن من شيء إلا عندنا خزائنه " قيل يعني المطر واللفظ أعم من ذلك والخزائن المواضع الخازنة وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت وقيل ذلك تمثيل والمعنى وإن من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه * (بقدر معلوم) * أي بمقدار محدود * (وأرسلنا الرياح لواقح) * يقال لقحت الناقة والشجرة إذا حملت فهي لافحة وألقحت الريح الشجر فهي ملقحة ولواقح جمع لاقحة لأنها تحمل الماء أو جمع ملحقة على حذف الميم الزائدة * (ولقد علمنا المستقدمين) * الآية يعني الأولين والآخرين من الناس وذكر ذلك على وجه الاستدلال على الحشر الذي ذكر بعد ذلك في قوله وإن ربك هو يحشرهم لأنه إذا أحاط بهم علما لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم وقيل يعني من استقدم ولادة وموتا ومن تأخر وقيل من تقدم إلى الإسلام ومن تأخر عنه * (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال) * الإنسان هنا هو آدم عليه السلام والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار * (من حمأ مسنون) * الحمأ الطين الأسود والمسنون المتغير المنتن
وقيل إنه من أسن الماء إذا تغير والتصريف يرد هذا القول وموضع من حمأ صفة لصلصال أي صلصال كائن من حمأ * (والجان خلقناه) * يراد به جنس الشياطين وقيل إبليس الأول وهذا أرجح لقوله من قبل وتناسلت الجن من إبليس وهو للجن كآدم للناس * (السموم) * شدة الحر * (خالق بشرا) * يعني آدم عليه السلام * (ونفخت فيه من روحي) * يعني الروح التي في الجسد وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه إضافة ملك إلى مالك أي من الروح
145

الذي هو لي وخلق من خلقي وتقدم الكلام على سجود الملائكة في البقرة * (فأخرج منها) * أي من الجنة أو من السماء * (قال رب) * يقتضي إقراره بالربوبية وأن كفره كان بوجه غير الجحود وهو اعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم * (إلى يوم الوقت المعلوم) * اليوم الذي طلب إبليس أن ينظر إليه هو يوم القيامة وقيل الوقت المعلوم الذي أنظر إليه هو يوم النفخ في الصور النفخة الأولى حين يموت من في السماوات ومن في الأرض وكان سؤال إبليس الانتظار إلى يوم القيامة جهلا منه ومغالطة إذ سأل ما لا سبيل إليه لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبدا لأنه لا يموت أحد بعد البعث فلما سأل ما لا سبيل إليه أعرض الله عنه وأعطاه الانتظار إلى النفخة الأولى * (فبما أغويتني) * الباء للسببية أي لأغوينهم بسبب إغوائك لي وقيل للقسم كأنه قال بقدرتك على إغوائي لأغوينهم والضمير لذرية آدم * (قال هذا صراط علي مستقيم) * القائل لهذا هو الله تعالى والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس وأنه لا يقدر عليهم أو إلى تقسيم الناس إلى غوي ومخلص * (إلا عبادك) * يحتمل أن يريد بالعباد جميع الناس فيكون قوله إلا من اتبعك استثناء متصل أو يريد بالعباد المخلصين فيكون الاستثناء منقطعا * (وإن جهنم لموعدهم) * الضمير للغاوين * (لها سبعة أبواب) * روي أنها سبعة أطباق في كل طبقة باب فأعلاها للمذنبين من المسلمين والثاني لليهود والثالث للنصارى والرابع للصابئين والخامس للمجوس والسادس للمشركين والسابع للمنافقين * (ادخلوها) * تقديره يقال لهم ادخلوها والسلام يحتمل أن يكون التحية أو السلامة * (إخوانا) * يعني أخوة المودة والإيمان * (متقابلين) * أي يقابل بعضهم بعضا على الأسرة * (نصب) * أي تعب * (نبئ عبادي) * الآية أعلمهم والآية آية ترجية وتخويف * (ونبئهم عن ضيف إبراهيم) * ضيف هنا واقع على جماعة وهم الملائكة الذين جاؤوا إلى إبراهيم بالبشرى * (وجلون) * أي خائفون والوجل الخوف * (لا توجل) * أي لا تخف * (إنا نبشرك بغلام عليم) * هو إسحاق * (قال أبشرتموني على أن مسني الكبر) * المعنى ابشرتموني بالولد مع أنني قد كبر سني
146

وكان حينئذ ابن مائة سنة وقيل أكثر * (فبم تبشرون) * قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كبره أو على وجه الاستبعاد ولذلك قرئ تبشرون بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وبالكسر والتخفيف على حذف إحدى النونين وبالفتح وهي نون الجمع * (قالوا بشرناك بالحق) * أي باليقين الثابت فلا تستبعده ولا تشك فيه * (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون) * دليل على تحريم القنوط وقرئ يقنط بفتح النون وكسرها وهما لغتان * (قال فما خطبكم) * أي ما شأنكم وبأي شيء جئتم * (إلى قوم مجرمين) * يعنون قوم لوط * (إلا آل لوط) * يحتمل أن يكون استثناء من قوم لوط فيكون منقطعا لوصف القوم بالإجرام ولم يكن آل لوط مجرمين ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في المجرمين فيكون متصلا كأنه قال إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا * (إلا امرأته) * استثناء من آل لوط فهو استثناء من استثناء وقال الزمخشري إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وذلك هو الذي يقتضيه المعنى * (قدرنا إنها لمن الغابرين) * الغابر يقال بمعنى الباقي وبمعنى الذاهب وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم وهو لله وحده لما لهم من القرب والاختصاص بالله لا سيما في هذه القضية كما تقول خاصة الملك للملك دبرنا كذا ويحتمل أن يكون حكاية عن الله * (قوم منكرون) * أي لا نعرفهم * (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) * أي جئناك بالعذاب لقومك ومعنى يمترون يشكون فيه * (واتبع أدبارهم) * أي كن خلفهم أي في ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد وليكونوا قدامه فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا وراءه لخوفه عليهم " ولا يلتفت منكم أحد " تقدم في هود * (وامضوا حيث تؤمرون) * قيل هي مصر وقيل حيث هنا للزمان إذ لم يذكر مكان * (وقضينا إليه ذلك الأمر) * هو من القضاء والقدر وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا وقيل معناه أعلمناه بذلك الأمر * (أن دابر هؤلاء مقطوع) * هذا تفسير لذلك الأمر ودابر القوم أصلهم والإشارة إلى قوم لوط * (مصبحين) * في الموضعين أي إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح * (وجاء أهل المدينة يستبشرون) * المدينة هي سدوم واستبشار أهلها بالأضياف طمعا أن ينالوا منهم الفاحشة " قالوا أولم ننهك عن العالمين " كانوا قد نهوه أن يضيف أحدا * (قال هؤلاء بناتي) * دعاهم إلى تزويج بناته ليقي بذلك أضيافه * (لعمرك) * قسم والعمر الحياة ففي ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم لأن الله أقسم بحياته أو قيل هو من قول الملائكة للوط وارتفاعه بالابتداء وخبره محذوف تقديره لعمرك قسمي واللام للتوطئة " إنهم لفي
147

سكرتهم يعمهون) الضمير لقوم لوط وسكرتهم ضلالهم وجهلهم ويعمهون أي يتحيرون * (فأخذتهم الصيحة) * أي صيحة جبريل وهي أخذه لهم * (مشرقين) * أي داخلين في الشروق وهو وقت بزوغ الشمس وقد تقدم تفسير ما بعد هذا من قصتهم في هود * (للمتوسمين) * أي للمتفرسين ومنه فراسة المؤمن وقيل للمعتبرين وحقيقة التوسم النظر إلى السيمة * (وإنها لبسبيل مقيم) * أي بطريق ثابت يراه الناس والضمير للمدينة المهلكة * (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين) * أصحاب الأيكة قوم شعيب والأيكة الغيضة من الشجر لما كفروا أضرمها الله عليهم نارا * (وإنهما لبإمام مبين) * الضمير في إنهما قيل إنه لمدينة قوم لوط وقوم شعيب فالإمام على هذا الطريق أي إنهما بطريق واضح يراه الناس وقيل الضمير للوط وشعيب أي إنهما على طريق من الشرع واضح والأول أظهر * (أصحاب الحجر) * هم ثمود قوم صالح والحجر واديهم وهو بين المدينة والشام * (المرسلين) * ذكره بالجمع وإنما كذبوا واحدا منهم وفي ذلك تأويلان أحدهما أن من كذب واحدا من الأنبياء لزمه تكذيب الجميع لأنهم جاءوا بأمر متفق من التوحيد والثاني أنه أراد الجنس كقولك فلانا يركب الخيل وإن لم يركب إلا فرسا واحدا * (وآتيناهم آياتنا) * يعني الناقة وما كان فيها من العجائب * (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا) * النحت النقر بالمعاويل وشبهها في الحجر والعود وشبه ذلك وكانوا ينقرون بيوتهم في الجبال * (أمنين) * يعني آمنين من تهدم بيوتهم لوثاقتها وقيل آمنين من عذاب الله * (إلا بالحق) * يعني أنها لم تخلق عبثا * (فاصفح الصفح الجميل) * قيل إن الصفح الجميل هو الذي ليس معه
عقاب ولا عتاب وفي الآية مهادنة للكفار منسوخة بالسيف * (ولقد آتيناك سبعا من المثاني) * يعني أم القرآن لأنها سبع آيات وقيل يعني السور السبع الطوال وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال مع براءة والأول أرجح لوروده في الحديث والمثاني مشتق من التثنية وهي التكرير لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة ولأن غيرها من السور تكرر فيها القصص وغيرها وقيل هي مشتقة من الثناء لأن فيها ثناء على الله ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو لبيان الجنس وعطف القرآن على السبع المثاني لأنه يعني ما سواها من القرآن فهو عموم بعد الخصوص * (لا تمدن عينيك) * أي لا تنظر إلى ما متعناهم به في الدنيا كأنه يقول قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم فلا تنظر إلى الدنيا فإن الذي أعطيناك أعظم منها * (أزواجا منهم) * يعني أصنافا من الكفار
148

* (ولا تحزن عليهم) * أي لا تتأسف لكفرهم * (واخفض جناحك) * أي تواضع ولن * (للمؤمنين) * والجناح هنا استعارة * (كما أنزلنا على المقتسمين) * الكاف من كما متعلقة بقوله أنا النذير أي أنذر قريشا عذابا مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين وقيل متعلق بقوله ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك كتابا كما أنزلنا على المقتسمين واختلف في المقتسمين فقيل هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه فاقتسموا إلى قسمين وقيل هم قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم فوقف كل واحد منهم على باب يقول أحدهم هو شاعر ويقول الآخر هو ساحر وغير ذلك * (الذين جعلوا القرآن عضين) * أي أجزاء وقالوا فيه أقوالا مختلفة وواحد عضين عضة وقيل هو من العضه وهو السحر والعاضه الساحر والمعنى على هذا أنه سحر والكلمة محذوفة اللام ولامها على القول الأول واو وعلى الثاني هاء " فوربك لنسئلنهم أجمعين " إن قيل كيف يجمع بين هذا وبين قوله فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان فالجواب أن السؤال المثبت هو على وجه الحساب والتوبيخ وأن السؤال المنفي هو على وجه الاستفهام المحض لأن الله يعلم الأعمال فلا يحتاج إلى السؤال عنها * (فاصدع بما تؤمر) * أي صرح به وأنفذه * (إنا كفيناك المستهزئين) * يعني قوما من أهل مكة أهلكهم الله بأنواع الهلاك من غير سعي النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا خمسة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس وقصة هلاكهم مذكورة في السير وقيل الذين قتلوا ببدر كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وعقبة بن معيط أي وغيرهم والأول أرجح لأن الله كفاه إياهم بمكة قبل الهجرة * (ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) * تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتأنيس * (حتى يأتيك اليقين) * أي الموت
سورة النحل
* (أتى أمر الله) * قيل يعني القيامة وقيل النصر على الكفار وقيل عذاب الكفار في الدنيا ووضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما فلما قال
149

* (فلا تستعجلوه) * سكن * (ينزل الملائكة بالروح) * أي بالنبوة وقيل بالوحي * (خلق الإنسان من نطفة) * أي من نطفة المني والمراد جنس الإنسان * (فإذا هو خصيم مبين) * فيه وجهان أحدهما أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه والثاني يخاصم في ربه ودينه وهذا في الكفار والأول أعم * (لكم فيها دفء) * أي ما يتدفأ به يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ويحتمل أن يكون قوله لكم متعلقا بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك * (ومنافع) * يعني شرب ألبانها والحرث بها وغير ذلك * (ومنها تأكلون) * يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمرا زائدا عليها أو يريد بالمنافع الأكل وغيره ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع * (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) * الجمال حسن المنظر وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي وإنما قدم تريحون على تسرحون لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة * (وتحمل أثقالكم) * يعني الأمتعة وغيرها وقيل أجساد بني آدم * (إلى بلد) * أي إلى أي بلد توجهتم وقيل يعني مكة * (بشق الأنفس) * أي بمشقة * (لتركبوها وزينة) * استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير لكونه علل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل ونصب زينة على أنه مفعول من أجله وهو معطوف على موضع لتركبوها * (ويخلق ما لا تعلمون) * عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها وكل ما ذكر في هذه الآية شيئا مخصوصا فهو على وجه المثال * (وعلى الله قصد السبيل) * أي على الله تقويم طريق الهدى بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا الجنس ومعنى القصد القاصد الموصل وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف * (ومنها جائر) * الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به الجنس ومعنى الجائر الخارج عن الصواب أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم * (ماء لكم) * يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب أو صفة لسماء * (ومنه شجر) * يعني ما ينبت بالمطر من الشجر * (فيه تسيمون) * أي ترعون أنعامكم * (وما ذرأ لكم في الأرض) * يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك * (مختلفا ألوانه) * أي
150

أصنافه وأشكاله * (لحما طريا) * يعني الحوت * (حلية تلبسونها) * يعني الجواهر والمرجان " مواخر فيها " جمع ماخرة يقال مخرت السفينة والمخر شق الماء وقيل صوت جرى الفلك بالرياح * (لتبتغوا من فضله) * يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا * (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) * الرواسي الجبال واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت وأن تميد في موضع مفعول من أجله والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة لا يستقر على ظهر هذه أحد فأصبحت وقد أرسيت بالجبال * (وأنهارا) * قال ابن عطية أنهارا منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو خلق أنهارا قال وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار * (وسبلا) * يعني الطرق * (وعلامات) * يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك وهو معطوف على أنهارا وسبلا قال ابن عطية هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون وعلامات أي عبرة وأعلاما * (وبالنجم هم يهتدون) * يعني الاهتداء بالليل في الطرق والنجم هنا جنس وقيل المراد الثريا والفرقدان فإن قيل قوله وبالنجم هم يهتدون مخرج عن سنن
الخطاب وقدم فيه النجم كأنه يقول وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فمن المراد بهم فالجواب أنه أراد قريشا لأنهم كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لمن يكن لغيرهم وكان الاعتبار ألزم لهم فخصصوا قال ذلك الزمخشري " أفمن يخلق كم لا يخلق " تقرير يقتضي الرد على من عبد غير الله وإنما عبر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل أو مشاكلة لقوله أفمن يخلق * (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) * ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعا من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته ولذلك أعقبها بقوله * (أفمن يخلق كمن لا يخلق) * وفيها أيضا تعداد لنعمه على خلقه ولذلك أعقبها بقوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ثم أعقب ذلك بقوله إن الله لغفور رحيم أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه " والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " نفي عن الأصنام صفات الربوبية وأثبت لهم أضدادها وهي أنهم مخلوقون غير خالقين وغير أحياء وغير عالمين بوقت البعث فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال إلهكم إله واحد * (أموات غير أحياء) * أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون وذلك أغرق في موتها ممن تقدمت له حياة ثم مات ثم يعقب موته حياة * (وما يشعرون أيان يبعثون) * الضمير في يشعرون للأصنام وفي يبعثون للكفار الذين عبدوهم وقيل إن الضميرين للكفار * (قلوبهم منكرة) * أي تنكر وحدانية الله عز وجل * (لا جرم) * أي لا بد ولا شك
151

وقيل إن لا نفي لما تقدم وجرم معناه وجب أو حق وأن فاعلة بجرم * (أساطير الأولين) * أي ما سطره الأولون وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ وكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحديثي أجمل من حديثه وماذا يجوز أن يكون اسما واحدا مركبا من ما وذا ويكون منصوبا بأنزل أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء وذا بمعنى الذي وفي أنزل ضمير محذوف * (ليحملوا أوزارهم) * اللام لام العاقبة والصيرورة أي قالوا أساطير الأولين فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ويحتمل أن تكون للأمر * (بغير علم) * حال من المفعول في يضلونهم أو من الفاعل * (فأتى الله بنيانهم من القواعد) * الآية قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ فإنه بنى صرحا ليصعد فيه إلى السماء بزعمه فما علا فيه فرسخين هدمه الله وخر سقفه عليه وقيل المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل * (ويقول أين شركائي) * توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم وفيه تهكم بهم * (الذين كنتم تشاقون فيهم) * أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم * (قال الذين أوتوا العلم) * هم الأنبياء والعلماء من كل أمة وقيل يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك * (ظالمي أنفسهم) * حال من الضمير المفعول في تتوفاهم * (فألقوا السلم) * أي استسلموا للموت * (ما كنا نعمل من سوء) * أي قالوا ذلك ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصاما به كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم فلم يقصدوا الكذب ولكنه كذب في نفس الأمر * (بلي) * من قول الملائكة للكفار أي قد كنتم تعلمون السوء * (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا) * لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين قابل ذلك بمقالة المؤمنين فإن قيل لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم خيرا ورفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين فالجواب أن قولهم خيرا منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيرا ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه ولو كان منصوبا لكان الكلام متناقضا لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله لأن تقديره أنزل فإن قيل يلزم مثل هذا في الرفع لأن تقديره هو أساطير الأولين فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم فالجواب أنهم عدلوا بالجواب
152

عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين ولم ينزله الله * (للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة) * ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره والجملة بدل من خيرا وتفسيرا للخير الذي قالوا وقيل هي استئناف كلام الله تعالى لا من كلام الذين قالوا خيرا * (جنات عدن) * يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر ابتداء مضمر ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره لهم جنات عدن * (هل ينظرون) * أي ينتظرون والضمير للكفار وإلا أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم * (أو يأتي أمر ربك) * يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا * (فأصابهم سيئات ما عملوا) * أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا " وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن " أي أحاط بهم العذاب الذي كانوا به يستهزؤن وهذا تفسيره حيث وقع " وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء " قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والاحتجاج على صحة فعلهم أي أن فعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه والرد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضى على من يشاء من عباده ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن لو تكون للتمني والمعنى على هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها * (فإن الله لا يهدي من يضل) * قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله وقرئ يهدي بفتح الياء وكسر الدال والمعنى على هذا لا يهدي الله من قضى بإضلاله * (وما لهم من ناصرين) * الضمير عائد على من يضل لأنه في معنى الجمع * (بلي) * رد على الذين أقسموا لا يبعث الله من يموت أي أنه يبعثه * (ليبين لهم الذي يختلفون فيه) * اللام تتعلق بما دل عليه بلى أي يبعثهم ليبين لهم وهذا برهان أيضا على
153

البعث فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه " إنما قولنا لشيء " الآية برهان أيضا على البعث لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى * (والذين هاجروا في الله) * يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة لأن الهجرة إلى المدينة كانت بعدها وقيل نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك * (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) * وعد أن ينزلهم بقعة حسنة وهي المدينة التي استقروا بها وقيل إن حسنة صفة لمصدر أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ لنثوبنهم بالثاء من الثواب * (الذين صبروا) * وصف للذين هاجروا ويحتمل إعرابه أن يكون نعتا أو على تقدير هم الذين أو مدح الذين * (إلا رجالا) * رد على من استبعد أن يكون الرسول من البشر * (فاسألوا أهل الذكر) * يعني أحبار اليهود والنصارى أي لأن جميعهم يشهدون أن
الرسول من البشر * (بالبينات والزبر) * يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام أو بأرسلنا مضمرا وبيوحى أو بتعلمون * (وأنزلنا إليك الذكر) * يعني القرآن * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس أو لتبين معانيه بتفسير مشكله فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة * (أفأمن الذين مكروا السيئات) * يعني كفار قريش عند جمهور المفسرين والسيئات تحتمل وجهين أحدهما أن يريد به الأعمال السيئات أي المعاصي فيكون مكروا يتضمن معنى عملوا والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فيكون المكر على بابه * (أو يأخذهم في تقلبهم) * يعني في أسفارهم * (فما هم بمعجزين) * أي بمفلتين حيث وقع * (أو يأخذهم على تخوف) * فيه وجهان أحدهما أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئا بعد شيء حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة ولهذا أشار بقوله فإن ربكم لرؤوف رحيم لأن الأخذ هكذا أخف من غيره وقد كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية حتى قال له رجل من هذيل التخوف التنقص في لغتنا والوجه الثاني أنه من الخوف أي يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا هم ذلك فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه ذلك خلاف قوله وهم لا يشعرون " أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله " معنى الآية اعتبار بانتقال الظل ويعني بقوله ما خلق الله من شيء الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان
154

وغير ذلك وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى ثم يمتد الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس وقوله يتفيؤ من الفيء وهو الظل الذي يرجع بعكس ما كان غدوة وقال رؤبة بن العجاج يقال بعد الزوال ظل وفيء ولا يقال قبله إلا ظل ففي لفظة يتفيؤ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم لأن المقصود الاعتبار من أول النهار إلى آخره فوضع يتفيؤ موضع ينتقل أو يميل والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء * (عن اليمين والشمائل) * يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب واليمين بمعنى الأيمان واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان * (سجدا لله) * حال من الظلال وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله من شيء فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد وقيل هو سجود حقيقة * (وهم داخرون) * أي صاغرون وجمع بالواو لأن الدخور من أوصاف العقلاء * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة) * يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السماوات وما في الأرض معا لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ويحتمل أن يكون بيانا لما في الأرض خاصة وإنما قال ما في السماوات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم ولو قال من في السماوات لم يدخل في ذلك غير العقلاء قاله الزمخشري * (والملائكة) * إن كان قوله من دابة بيانا لما في السماوات والأرض فقد دخل الملائكة في ذلك وكرر ذكرهم تخصيصا لهم بالذكر وتشريفا وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم * (يخافون ربهم من فوقهم) * هذا إخبار عن الملائكة وهو بيان نفي الاستكبارويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها وقيل معناه يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم * (لا تتخذوا إلهين اثنين) * وصف الإلهين باثنين تأكيدا وبيانا للمعنى وقيل إن اثنين مفعول أول وإلهين مفعول ثان فلا يكون في الكلام تأكيد * (فإياي فارهبون) * خرج من الغيبة إلى التكلم لأن الغائب هو المتكلم وإياي مفعول بفعل مضمر ولا يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله * (وله الدين واصبا) * أي واجبا وثابتا وقيل دائما وانتصابه على الحال من الدين * (وما بكم من نعمة فمن الله) * يحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو للحال فيكون الكلام متصلا بما قبله أي كيف تتقون غير الله وما بكم من نعمة فمنه وحده * (فإليه تجأرون) * أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والتضرع * (ليكفروا بما آتيناهم) * اللام لام الأمر على وجه التهديد لقوله بعده فتمتعوا فسوف تعلمون فعلى هذا يبتدئ بها وقيل هي لام العاقبة فعلى هذا توصل بما قبلها لأنها في الأصل لام كي وذلك بعيد في المعنى والكفر هنا يحتمل أن يريد به كفر النعم لقوله بما
155

آتيناهم أو كفر الجحود والشرك لقوله بربهم يشركون * (فتمتعوا) * يريد التمتع في الدنيا وذلك أمر على وجه التهديد * (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) * الضمير في يجعلون لكفار العرب فإنهم كانوا يجعلون للأصنام نصيبا من ذبائحهم وغيرها والمراد بقوله لما لا يعلمون للأصنام والضمير في لا يعلمون للكفار أي لا يعلمون ربوبيتهم ببرهان ولا بحجة وقيل الضمير في لا يعلمون للأصنام أي الأشياء غير عالمة وهذا بعيد * (ويجعلون لله البنات) * إشارة إلى قول الكفار إن الملائكة بنات الله ثم نزه تعالى نفسه عن ذلك بقوله * (سبحانه ولهم ما يشتهون) * المعنى أنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني بذلك الذكور من الأولاد وأما الإعراب فيجوز أن يكون ما يشتهون مبتدأ وخبره المجرور قبله وأن يكون مفعولا بفعل مضمر تقديره ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون وأن يكون معطوفا على البنات على أن هذا يمنعه البصريون لأنه من باب ضربتني وكان يلزم عندهم أن يقال لأنفسهم * (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم) * إخبار عن حال العرب في كراهتهم البنات وظل هنا يحتمل أن تكون على بابها أو بمعنى صار والسواد عبارة عن العبوس والغم وقد يكون معه سواد حقيقة وكظيم قد ذكر في يوسف * (يتوارى من القوم) * أي يستخفي من أجل سوء ما بشر به * (أيمسكه على هون أم يدسه في التراب) * المعنى يدبر وينظر هل يمسك الأنثى التي بشر بها على هوان وذل لها أو يدفنها في التراب حية وهي الموءودة وهذا معنى يدسه في التراب * (مثل السوء) * أي صفة السوء من الحاجة إلى الأولاد وغير ذلك من صفة الافتقار والنقص * (ولله المثل الأعلى) * أي الوصف الأعلى من الغنى عن كل شيء والنزاهة عن صفات المخلوقين * (ولو يؤاخذ) * يعني لو يعاقبهم في الدنيا * (بظلمهم) * أي بكفرهم ومعاصيهم * (ما ترك عليها) * الضمير للأرض * (من دابة) * يعم بني آدم وغيرهم وهذا يقتضي أن تهلك الحيوانات بذنوب بني آدم وقد ورد ذلك في الأثر وقيل يعني بني آدم خاصة * (ويجعلون لله ما يكرهون) * يعني البنات * (أن لهم الحسنى) * أن بدل من الكذب والحسنى هنا قيل هي الجنة وقيل ذكور الأولاد * (وأنهم مفرطون) * بكسر الراء والتخفيف من الإفراط أي متجاوزون الحد في المعاصي أو بفتح الراء والتخفيف من الفرط أي معجلون إلى النار وبكسر الراء والتشديد من
التفريط * (فهو وليهم اليوم) * يحتمل أن يريد باليوم وقت نزول الآية أو يوم القيامة * (وهدى ورحمة) * معطوفان على
156

موضع لنبين وانتصبا على أنهما مفعول من أجله أي لأجل البيان والهدى والرحمة * (نسقيكم) * بفتح النون وضمها لغتان يقال سقى وأسقى * (مما في بطونه) * الضمير للأنعام وإنما ذكر لأنه مفرد بمعنى الجمع كقولهم ثوب أخلاق لأنه اسم جنس وإذا أنث فهو جمع نعم * (من بين فرث ودم) * الفرث هي ما في الكرش من الغدد والمعنى أن الله يخلق اللبن متوسطا بين الفرث والدم يكتنفانه ومع ذلك فلا يغيران له لونا ولا طعما ولا رائحة ومن في قوله مما في بطونه للتبعيض قوله من بين فرث لإبتداء الغاية * (سائغا للشاربين) * يعني سهلا للشرب حتى قيل لم يغص أحد قط باللبن * (ومن ثمرات النخيل والأعناب) * المجرور يتعلق بفعل محذوف تقديره نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها ويدل عليه نسقيكم الأول أو يكون من ثمرات معطوف على مما في بطونها أو يتعلق من ثمرات بتتخذون وكرر منه توكيدا أو يكون تتخذون صفة لمحذوف تقديره شيئا تتخذون * (سكرا) * يعني الخمر ونزل ذلك قبل تحريمها فهي منسوخة بالتحريم وقيل إن هذا على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر ولا تعرض فيها لتحليل ولا تحريم فلا نسخ وقيل السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب والرزق الحسن العنب والتمر والزبيب * (وأوحى ربك إلى النحل) * الوحي هنا بمعنى الإلهام فإن الوحي على ثلاثة أنواع وحي كلام ووحي منام ووحي إلهام * (أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون) * أن مفسرة للوحي الذي أوحى إلى النحل وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع إما في الجبال وكواها وإما في متجوف الأشجار وإما فيما يعرش بني آدم من الأجباح والحيطان ونحوها ومن في المواضع الثلاثة للتبعيض لأن النحل إنما تتخذ بيوتا في بعض الجبال وبعض الشجر وبعض الأماكن وعرش معناه هيأ أو بنى وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الأغصان والخشب * (ثم كلي من كل الثمرات) * عطف كلي على اتخذي ومن للتبعيض وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار وقيل المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها * (فاسلكي سبل ربك) * يعني الطرق في الطيران وأضافها إلى الرب لأنها ملكه وخلقه * (ذللا) * أي مطيعة منقادة ويحتمل أن يكون حالا من السبل قال مجاهد لم يتعرض قط على النحل طريق أو حالا من النحل أي منقادة لما أمرها الله به * (يخرج من بطونها شراب) * يعني العسل * (مختلفا ألوانه) * أي منه أبيض وأصفر وأحمر * (فيه شفاء للناس) * الضمير للعسل لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل كالمعاجين والأشربة النافعة من الأمراض وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء فكأنه أخذه على العموم وعلى ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
157

أن رجلا جاء إليه فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال اسقه عسلا فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع قال فاذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فشفاه الله عز وجل * (إلى أرذل العمر) * أي إلى أخسه وأحقره وهو الهرم وقيل حده خمسة وسبعين عاما وقيل ثمانون والصحيح أنه لا يحصر إلى مدة معينة وأنه يختلف بحسب الناس " لكيلا يعلم بعد علم شيئا " اللام لام الصيرورة أي يصير إذا هرم لا يعلم شيئا بعد أن كان يعلم قبل الهرم وليس المراد نفي العلم بالكلية بل ذلك عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان وقيل المعنى لئلا يعلم زيادة على علمه شيئا * (والله فضل بعضكم على بعض في الرزق) * الآية في معناها قولان أحدهما أنها احتجاج على الوحدانية كأنه يقول أنتم لا تسؤون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق ولا تجعلونهم شركاء لكم فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي والآخر أنها عتاب وذم لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه كما جاء في الحديث أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون والأول أرجح " أبنعمت الله يجحدون " الجحد هنا على المعنى الأول إشارة إلى الإشراك بالله وعبادة غيره وعلى المعنى الثاني إشارة إلى جنس المماليك فيما يجب لهم من الإنفاق * (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا) * يعني الزوجات ومن أنفسكم يحتمل أن يريد من نوعكم وعلى خلقتكم أو يريد أن حواء خلقت من ضلع آدم وأسند ذلك إلى بني آدم لأنهم من ذريته * (وحفدة) * جمع حافد قال ابن عباس هم أولاد البنين وقيل الأصهار وقيل الخدم وقيل البنات إلا أن لفظ الذكور لا يدل عليهم والحفدة في اللغة الخدمة * (ويعبدون من دون الله) * الآية توبيخ للكفار ورد عليهم في عبادتهم للأصنام وهي لا تملك لهم رزقا وانتصب رزقا لأنه مفعول بيملك ويحتمل أن يكون مصدرا أو اسما لما يرزق فإن كان مصدر فإعراب شيئا مفعول به لأن المصدر نصيب المفعول وإن كان اسما فإعراب شيئا بدل منه * (ولا يستطيعون) * الضمير عائد على ما لأن المراد به الإلهية ونفي الاستطاعة بعد نفي الملك لأن نفيها أبلغ في الذم * (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) * الآية مثل لله تعالى وللأصنام فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء والله تعالى له الملك وبيده الرزق ويتصرف فيه كيف يشاء فكيف يسوى بينه وبين الأصنام وإنما قال لا يقدر على شيء لأن بعض العبيد يقدرون على بعض الأمور كالمكاتب والمأذون له * (ومن رزقناه) * من هنا نكرة موصوفة والمراد بها هو من حر قادر كأنه قال وحرا رزقناه ليطلق عبدا ويحتمل أن تكون موصولة " هل
158

يستوون) أي هل يستوي العبيد والأحرار الذين ضرب لهم المثل * (الحمد لله) * شكرا لله على بيان هذا المثال ووضوح الحق * (بل أكثرهم لا يعلمون) * يعني الكفار * (وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم) * الآية مثل لله تعالى وللأصنام كالذي قبله والمقصود منهما إبطال مذاهب المشركين وإثبات الوحدانية لله تعالى وقيل إن الرجل الأبكم أبو جهل والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر والأظهر عدم التعيين * (وهو كل على مولاه) * الكل الثقيل يعني أنه عيال على وليه أو سيده وهو مثل للأصنام والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى * (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) * بان لقدرة الله على إقامتها وأن ذلك يسير عليه كقوله ما خلقتكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة وقيل المراد سرعة إتيانها * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم) * الأمهات جمع أم زيدت فيه الهاء فرقا بين من يعقل ومن لا يعقل وقرئ بضم الهمزة وبكسرها اتباعا للكسرة قبلها * (في جو السماء) * أي في الهواء البعيد من الأرض * (والله جعل لكم من بيوتكم سكنا) * السكن مصدر يوصف به وقيل هو فعل بمعنى مفعول ومعناه ما يسكن فيه كالبيوت أو يسكن إليه * (وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا) * يعني الأدم من القباب وغيرها * (تستخفونها) * أي تجدونها خفيفة * (يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) * يعني في السفر والحضر واليوم هنا بمعنى الوقت ويقال ظعن الرجل إذا رحل وقرئ ظعنكم بفتح العين وإسكانها تخفيفا * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) * الأصواف للغنم والأوبار للإبل والأشعار للمعز والبقر * (أثاثا) * الأثاث متاع البيت من البسط وغيرها وانتصابه على أنه مفعول بفعل مضمر
تقديره جعل * (ومتاعا إلى حين) * أي إلى وقت غير معين ويحتمل أن يريد إلى أن تبلى وتفنى أو إلى أن تموت * (والله جعل لكم مما خلق ظلالا) * أي نعمة عددها الله عليهم بالظل لأن الظل مطلوب في بلادهم محبوب لشدة حرها ويعني بما خلق من الشجر وغيرها * (وجعل لكم من الجبال أكنانا) * الأكنان جمع كن وهو ما بقي من المطر والريح وغير ذلك ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال * (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) * السرابيل هي الثياب من القمص وغيرها وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد لأن وقاية الحر أهم عندهم لحرارة بلادهم وقيل لأن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر * (وسرابيل تقيكم بأسكم) * يعني دروع الحديد " يعرفون نعمت الله "
159

إشارة إلى ما ذكر من النعم من أول السورة إلى هنا والضمير في يعرفون للكفار وإنكارهم لنعم الله إشراكهم به وعبادة غيره وقيل نعمة الله هنا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم * (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا) * أي يشهد عليهم بإيمانهم وكفرهم * (ثم لا يؤذن للذين كفروا) * أي لا يؤذن لهم في الاعتذار * (ولا هم يستعتبون) * أي لا يسترضون وهو من العتبى بمعنى الرضى * (ولا هم ينظرون) * يحتمل أن يكون بمعنى التأخير أو بمعنى النظر أي لا ينظر الله إليهم * (فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون) * الضمير في القول للمعبودين والمعنى أنهم كذبوهم في قولهم أنهم كانوا يعبدونهم كقولهم ما كنتم إيانا تعبدون فإن قيل كيف كذبوهم وهم قد كانوا يعبدونهم فالجواب أنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة ويحتمل أن يكون تكذيبهم لهم في تسميتهم شركاء لله لا في العبادة " وألقوا إلى الله يؤمئذ السلم " أي استسلموا له وانقادوا * (زدناهم عذابا فوق العذاب) * روى أن الزيادة في العذاب هي حيات وعقارب كالبغال تلسعهم * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * يعني بالعدل فعل الواجبات وبالإحسان المندوبات وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين قال ابن مسعود هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى * (وإيتاء ذي القربى) * الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى وقد دخل ذلك في العدل والإحسان ولكنه جرده بالذكر اهتماما به * (وينهى عن الفحشاء) * قيل يعني الزنا واللفظ أعم من ذلك * (والمنكر) * هو أعم من الفحشاء لأنه يعم جميع المعاصي * (والبغي) * يعني الظلم * (ولا تنقضوا الأيمان) * هذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير وأما ما كان تركه أولى فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه كما جاء في الحديث أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره أو معاهدة لغيره * (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) * أي رقيبا ومتكفلا بوفائكم بالعهد وقيل إن هذه الآية نزلت
160

في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية * (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها) * شبه الله من يحلف ولم يف بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلا قويا ثم تنقضه وروى أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ربطة بنت سعد كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة * (أنكاثا) * جمع نكث وهو ما ينكث أي ينقض وانتصابه على الحال * (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) * الدخل الدغل وهو قصد الخديعة * (أن تكون أمة هي أربى من أمة) * أن في موضع المفعول من أجله أي بسبب أن تكون أمة ومعنى أربى أكثر عددا أو أقوى ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى فإذا جاءها قبيلة أقوى منها غدرت بالأولى وحالفت الثانية وقيل الإشارة بالأربى هنا إلى كفار قريش إذ كانوا حينئذ أكثر من المسلمين * (إنما يبلوكم الله به) * الضمير للأمر بالوفاء أو لكون أمة هي أربى من أمة فإن بذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولا * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر وإنما أفرد القدم ونكرها لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة * (وتذوقوا السوء) * يعني في الدنيا * (بما صددتم عن سبيل الله) * يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم * (ولكم عذاب عظيم) * يعني في الآخرة * (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) * الثمن القليل عرض الدنيا وهذا نهي لمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكث لأجل ضعف الإسلام حينئذ وقوة الكفار ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة * (ما عندكم ينفد) * أي يفنى * (فلنحيينه حياة طيبة) * يعني في الدنيا قال ابن عباس هي الرزق الحلال وقيل هي القناعة وقيل هي حياة الآخرة * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * ظاهر اللفظ أن يستعاذ بعد القراءة لأن الفاء تقتضي الترتيب وقد شذ قوم فأخذوا بذلك وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة وتأويل الآية إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله * (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا) * أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم * (إنما سلطانه على الذين يتولونه) * أي يتخذونه وليا * (والذين هم به مشركون) * الضمير لإبليس والباء سببية " وإذا
161

بدلنا آية مكان آية) التبديل هنا النسخ كان الكفار إذا نسخت آية يقولون هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل * (والله أعلم بما ينزل) * جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك * (قل نزله روح القدس) * يعني جبريل * (بالحق) * أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقا أو بمعنى أنه واجب النزول * (أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) * كان بمكة غلام أعجمي اسمه يعيش وقيل كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام فقالت قريش هذان يعلمان محمدا * (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي) * اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ويلحدون من ألحد إذا مال وقرئ بفتح الياء من لحد وهما بمعنى واحد وهذا رد عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه أنه يعلمه أعجمي اللسان وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي * (إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله) * هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون فاللفظ عام يراد به الخصوص كقوله إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم الآية وقال ابن عطية المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر تهكما بتقبيح أفعالهم * (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) * رد على قولهم إنما أنت مفتر يعني إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه " فأولئك هم الكاذبون " الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ويحتمل أن يكون الكذب المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر * (من كفر بالله) * الآية من شرطية في موضع رفع بالابتداء وكذلك من في قوله من شرح لأنه تخصيص من الأول وقوله فعليهم غضب جواب عن الأولى والثانية لأنهما بمعنى واحدا أو يكون جوابا للثانية وجواب الأولى محذوف
يدل عليه جواب الثانية وقيل من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون أو من الخبر * (إلا من أكره) * استثنى من قوله من كفر وذلك أن قوما ارتدوا عن الإسلام فنزلت فيهم الآية وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال فعذرهم الله روى أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تجد قلبك قال أجده مطمئنا بالإيمان قال فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا فأجازه الجمهور ومنعه قوم وكذلك قال مالك لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله ويلزمه ما كان من
162

حقوق الناس ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله * (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا) * الإشارة إلى العذاب والباء للتعليل فعلل عذابهم بعلتين أحدهما إيثارهم الحياة الدنيا والأخرى أن الله لا يهديهم * (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) * قرأه الجمهور فتنوا بضم الفاء أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام وقرأ ابن عامر بفتح الفاء أي عذاب المسلمين فالآية على هذا فيمن عذب المسلمين ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه * (إن ربك من بعدها لغفور رحيم) * كرر إن ربك توكيدا والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الهجرة والجهاد والصبر * (يوم تأتي) * يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو بمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر * (كل نفس) * النفس هنا بمعنى الجملة كقولك إنسان والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك جاء زيد نفسه وعينه * (تجادل عن نفسها) * أي تحتج وتعتذر فإن قيل كيف الجمع بين هذا وبين قوله هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص * (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة) * الآية قيل إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله * (فكفرت بأنعم الله) * يعني بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم وقيل إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلا لمكة وهذا أظهر لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم والضمير في قوله فكفرت وأذاقها يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون * (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف) * الإذاقة هنا واللباس مستعاران أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا حتى صارت كالحقيقة وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب * (ولقد جاءهم رسول منهم) * إن كان المراد بالقرية مكة فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره وإن كانت القرية غير معينة فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما والعذاب ما أصابهم من الهلاك * (فكلوا) * وما بعده مذكور في البقرة * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) * هذه
163

الآية مخاطبة للعرب الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والأنعام ثم يدخل فيها كل من قال هذا حلال أو حرام بغير علم وانتصب الكذب بلا تقولوا أو يكون قوله هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجوز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا * (متاع قليل) * يعني عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم * (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) * يعني قوله في الأنعام حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب * (ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة) * هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة * (إن إبراهيم كان أمة) * فيه وجهان أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر فليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد والآخر أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله إني جاعلك للناس إماما قال ابن مسعود والأمة معلم الناس الخير وقد ذكر معنى القانت والحنيف * (وآتيناه في الدنيا حسنة) * يعني لسان الصدق وأن جميع الأمم متفقون عليه وقيل يعني المال والأولاد * (لمن الصالحين) * أي من أهل الجنة " ولم يكن من المشركين " نفي عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصا للعبادة فرضى بعضهم بذلك وقال أكثرهم بل يكون يوم السبت فألزمهم الله يوم السبت فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم وقيل اختلافهم فيه هو أن منهم من حرم الصيد فيه ومنهم من أحله فعاقبهم الله بالمسخ قردة فالمعنى إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت قاله الزمخشري وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام * (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) * المراد بالسبيل هنا الإسلام والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه والموعظة هي الترغيب والترهيب والجدال هو الرد على المخالف وهذه الأشياء الثلاثة يسميها
164

أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال وهذه الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف وقيل إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس وقال الجمهور إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد قال النبي صلى الله عليه وسلم والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم فنزلت الآية فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام وقد وردت الأحاديث بذلك ويقتضي ذلك أنها مدنية ويحتمل أن تكون الآية عامة ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال وتكون على هذا مكية كسائر السورة واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية ومنعه مالك لقوله صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك * (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة وتركها أفضل والضمير راجع
للصبر ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم أو يراد به المخاطبون كأنه قال خير لكم * (واصبر وما صبرك إلا بالله) * هذا عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في خاصته على الصبر ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت فماذا تصنعون قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله وقد قيل إن ما في هذه الآية من ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ * (ولا تحزن عليهم) * أي لا تتأسف لكفرهم * (ولا تك في ضيق مما يمكرون) * أي لا يضيق صدرك بمكرهم والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت وقرئ بالكسر وهو مصدر ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران * (إن الله مع الذين اتقوا) * يريد أنه معهم بمعونته ونصره * (والذين هم محسنون) * الإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات والمعنى الذي أشار له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وهذا هو الأظهر لأنه رتبة فوق التقوى
165

سورة الإسراء
* (سبحان الذي أسرى بعبده) * معنى سبحان تنزه وهو مصدر غير منصرف وأسرى وسرى لغتان وهو فعل غير متعد واختار ابن عطية أن يكون أسرى هنا متعديا أي أسرى الملائكة بعبده وهو بعيد والعبد هنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإنما وصفه بالعبودية تشريفا له وتقريبا * (ليلا) * إن قيل ما فائدة قوله ليلا مع أن السرى هو السير بالليل فالجواب أنه أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة وذلك أبلغ في الأعجوبة " من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا " يعني بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة وقد روى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيته فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء وسمي الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة واختلف العلماء في كيفية الإسراء فقال الجمهور كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه وقال قوم كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حق فحجة الجمهور أنه لو كان مناما لم تنكره قريش ولم يكن في ذلك ما يكذب به الكفار ألا ترى قول أم هانىء له لا تخبر بذلك فيكذبك قومك وحجة من قال إن الإسراء كان مناما قوله تعالى وما جعلنا الرؤيا التي أريناك وإنما يقال الرؤيا في المنام ويقال فيما يرى بالعين رؤية وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا بين النائم واليقظان وذكر الإسراء وقال في آخر الحديث فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال الإسراء كان مرتين أحدهما بالجسد والآخر بالروح وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس وهو الذي أنكرته قريش وأن الإسراء بالروح كان إلى السماوات السبع ليلة فرضت الصلوات الخمس ولقي الأنبياء في السماوات * (الذي باركنا حوله) * صفة للمسجد الأقصى والبركة حوله بوجهين أحدهما ما كان فيه وفي نواحيه من الأنبياء والآخر كثرة ما فيه من الزروع والأشجار التي خص الله بها الشام * (لنريه من آياتنا) * أي لنري محمدا صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من العجائب فإنه رأى السماوات والجنة والنار وسدرة المنتهى والملائكة والأنبياء وكلمه الله تعالى حسبما ورد في أحاديث الإسراء وهي في مصنفات الحديث فأغنى ذلك عن ذكرها هنا * (وجعلناه هدى) * يحتمل أن يعود الضمير على الكتاب أو على موسى * (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) * أي
166

ربا تكلون إليه أمركم وأن يحتمل أن تكون مصدرية أو مفسرة * (ذرية من حملنا مع نوح) * نداء وفي ندائهم بذلك تلطف وتذكير بنعمة الله وقيل هي مفعول تتخذوا ويتعين معنى ذلك على قراءة من قرأ يتخذ بالياء ويعني بمن حملنا مع نوح أولاده الثلاثة هم سام وحام ويافث ونساؤهم ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان * (إنه كان عبدا شكورا) * أي كثير الشكر كان يحمد الله على كل حال وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوح * (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) * قيل إن قضينا هنا بمعنى علمنا وأخبرنا كما قيل في وقضينا إليه ذلك الأمر والكتاب على هذا التوراة وقيل قضينا إليه من القضاء والقدر والكتاب على هذا اللوح المحفوظ الذي كتبت فيه مقادير الأشياء وإلى بمعنى على * (لتفسدن في الأرض مرتين) * هذه الجملة بيان للمقضي وهي في موضع جواب قضينا إذا كان من القضاء والقدر لأنه جرى مجرى القسم وإن كان بمعنى أعلمنا فهو جواب قسم محذوف تقديره والله لتفسدن والجملة في موضع معمول قضينا والمرتان المشار إليهما إحداهما قتل زكريا والأخرى قتل يحيى عليهما السلام * (ولتعلن علوا كبيرا) * من العلو وهو الكبر والتخيل * (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا) * معناه أنهم إذا أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم عبادا له لينتقم منهم على أيديهم واختلف في هؤلاء العبيد فقيل جالوت وجنوده وقيل بختنصر ملك بابل * (فجاسوا خلال الديار) * أي ترددوا بينهما بالفساد وروي أنهم قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وخربوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفا * (ثم رددنا لكم الكرة عليهم) * أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل واستنقاذ أسراهم وقتل بختنصر وقيل قتل داود لجالوت * (أكثر نفيرا) * أي أكثر عددا وهو مصدر من قولك نفر الرجل إذا خرج مسرعا أو جمع نفر * (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم) * أحسنتم الأول بمعنى الحسنات والثاني بمعنى الإحسان كقولك أحسنت إلى فلان ففيه تجنيس واللام فيه بمعنى إلى وكذلك اللام في قوله وإن أسأتم فلها " فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم " يعني إذا أفسدوا في المرة الأخيرة بعث الله عليهم أولئك العباد للانتقام منهم فالآخرة صفة للمرة ومعنى يسوؤا يجعلونها تظهر فيها آثار الشر والسوء كقوله سيئت وجوه الذين كفروا واللام لام كي وهي تتعلق ببعثنا المحذوف لدلالة الأول عليه وقيل هي لام الأمر * (وليدخلوا المسجد) * يعني بيت المقدس * (وليتبروا) * من التبار وهو الإهلاك وشدة الفساد * (ما علوا) * ما مفعول ليتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد وقيل إن ما ظرفية أي يفسدوا مدة علوهم * (عسى ربكم أن يرحمكم) * خطاب لبني إسرائيل ومعناه ترجية لهم بالرحمة إن تابوا بعد الرحمة الثانية * (وإن عدتم عدنا) * خطاب لبني إسرائيل أي إن عدتم إلى الفساد عدنا إلى
167

عقابكم وقد عادوا فبعث الله عليهم محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة * (حصيرا) * أي سجنا وهو من الحصر وقيل أراد به ما يفرش
ويبسط كالحصير المعروف * (يهدي للتي هي أقوم) * أي الطريقة والحالة التي هي أقوم وقيل يعني لا إله إلا الله واللفظ أعم من ذلك * (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير) * المعنى ذم وعتاب لما يفعله الناس عند الغضب من الدعاء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير في وقت التثبت وقيل إن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية وقد تقدم أن الصحيح في قائلها إنه أبو جهل * (وكان الإنسان عجولا) * الإنسان هنا وفي الذي قبله اسم جنس وقيل يعني هنا آدم وهو بعيد * (فمحونا آية الليل) * فيه وجهان أحدهما أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك مسجد الجامع أي الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار ومحو آية الليل على هذا كونه مظلما والوجه الثاني أن يراد بآية الليل القمر وآية النهار الشمس ومحو آية الليل على هذا كون القمر لم يجعل له ضوء كضوء الشمس * (وجعلنا آية النهار مبصرة) * يحتمل أن يريد النهار بنفسه أو الشمس ومعنى مبصرة تبصر فيها الأشياء * (لتبتغوا فضلا من ربكم) * أي لتتوصلوا بضوء النهار إلى التصرف في معايشكم * (ولتعلموا) * باختلاف الليل والنهار أو بمسير الشمس " والقمر عدد السنين والحساب " الأشهر والأيام " وكل شيء فصلناه تفصيلا " انتصب كل بفعل مضمر والتفصيل البيان * (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه) * انتصب كل بفعل مضمر والطائر هنا العمل والمعنى أن عمله لازم له وقيل إن طائره ما قدر عليه وله من خير وشر والمعنى على هذا أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء وإنما عبر عن ذلك بالطائر لأن العرب كانت عادتها التيمن والتشاؤم بالطير وقوله في عنقه أي هو كالقلادة أو الغل لا ينفك عنه * (كتابا يلقاه منشورا) * يعني صحيفة أعماله بالحسنات والسيئات * (اقرأ كتابك) * تقديره يقال له اقرأ * (حسيبا) * أي محاسبا أو من الحساب بمعنى العدد * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * معناه حيث وقع لا يؤاخذ أحد بذنب أحد والوزر في اللغة الثقل والحمل ويراد به هنا الذنوب ومعنى تزر تحمل وزر أخرى أي وزر نفس أخرى " وما كنا معذبين حتى
168

نبعث رسولا) قيل إن هذا في حكم الدنيا أي أن الله لا يهلك أمة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم وقيل هو عام في الدنيا والآخرة وأن الله لا يعذب قوما في الآخرة إلا وقد أرسل إليهم رسولا فكفروا به وعصوه ويدل على هذا قوله * (كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى) * ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع لا من مجرد العقل * (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها) * في تأويل أمرنا هنا ثلاثة أوجه أحدها أن يكون في الكلام حذف تقديره أمرنا مترفيها بالخير والطاعة فعصموا وفسقوا والثاني أن يكون أمرنا عبارة عن القضاء عليهم بالفسق أي قضينا عليهم بالفسق ففسقوا والثالث أن يكون أمرنا بمعنى كثرنا واختاره أبو علي الفارسي وأما على قراءة آمرنا بمد الهمزة فهو بمعنى كثرنا وأما على قراءة أمرنا بتشديد الميم فهو من الإمارة أي جعلناهم أمراء ففسقوا والمترف الغني المنعم في الدنيا * (فحق عليها القول) * أي القضاء الذي قضاه الله * (وكم أهلكنا من القرون) * القرن مائة سنة وقيل أربعون * (من كان يريد العاجلة) * الآية في الكفار الذين يريدون الدنيا ولا يؤمنون بالآخرة على أن لفظها أعم من ذلك والمعنى أنهم يعجل الله لهم حظا من الدنيا بقيدين أحدهما تقييد المقدار المعجل بمشيئة الله والآخر تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله ولمن نريد بدل من له وهو بدل بعض من كل * (مدحورا) * أي مبعدا أو مهانا * (وسعى لها سعيها) * أي عمل لها عملها * (كلا نمد) * انتصب كلا بنمد وهو من المدد ومعناه نزيدهم من عطائنا * (هؤلاء وهؤلاء) * بدل من كلا والإشارة إلى الفريقين المتقدمين * (من عطاء ربك) * يعني رزق الدنيا وقيل من الطاعات لمن أراد الآخرة ومن المعاصي لمن أراد الدنيا والأول أظهر * (محظورا) * أي ممنوعا * (فضلنا بعضهم على بعض) * يعني في رزق الدنيا * (لا تجعل) * خطاب لواحد والمراد به جميع الخلق لأن المخاطب غير معين * (مذموما) * أي يذمه الله وخيار عباده * (مخذولا) * أي غير منصور * (وقضى ربك) * أي حكم وألزم وأوجب أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود ووصى ربك * (ألا تعبدوا) * أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا * (إما يبلغن عندك) * هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حالة الكبر لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما لضعفهما ومعنى عندك أي في بيتك وتحت كنفك * (أف) * حيث وقعت اسم فعل معناها قول مكروه يقال عند الضجر ونحوه
169

وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك ويجوز في أف الكسر والفتح والضم وهي حركات بناء وأما تنوينها فهو للتنكير * (ولا تنهرهما) * من الانتهار وهو الإغلاظ في القول * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما فهو كقوله اخفض جناحك للمؤمنين وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال الجناح الذليل ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما * (للأوابين) * قيل معناه الصالحين وقيل المسبحين وهو مشتق من الأوبة بمعنى الرجوع فحقيقته الراجعين إلى الله * (وآت ذا القربى حقه) * خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم وقيل هو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يؤتي قرابته حقهم من بيت المال والأول أرجح * (وإما تعرضن) * الآية معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم فقل لهم كلاما حسنا وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه حياء منه فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك والميسور مشتق من اليسر * (ابتغاء رحمة من ربك ترجوها) * مفعول من أجله يحتمل أن يتعلق بقوله وإما تعرضن عنهم والمعنى على هذا أنه يعرض عنهم انتظارا لرزق يأتيه فيعطيه إياهم فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله * (فقل لهم قولا ميسورا) * أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور والرحمة على هذا هي الأجر والثواب * (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) * استعارة في معنى غاية البخل كأن البخيل حبست يده عن الإعطاء وشدت إلى عنقه * (ولا تبسطها كل البسط) * استعارة في معنى غاية الجود فنهى الله عن الطرفين وأمر بالتوسط بينهما كقوله * (إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * * (ملوما) * أي يلومك صديقك عن كثرة عطائك وإضرارك بنفسك أو يلومك من يستحق العطاء لأنك لم تترك ما تعطيه أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء * (محسورا) * أي منقطعا بك لا شيء عندك وهو من قولهم حسر السفر البعير إذا
أتعبه حتى لم تبق له قوة * (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) * أي يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء فلا تهتم بما تراه من ذلك فإن الله أعلم بمصالح عباده * (ولا تقتلوا أولادكم) * ذكر في الأنعام * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * الحق الموجب لقتل النفس هو ما ورد في الحديث من
170

قوله صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس أخرى وتتصل بهذه الأشياء أشياء أخر لأنها في معناها كالحرابة وترك الصلاة ومنع الزكاة * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) * المظلوم هنا من قتل بغير حق والولي هو ولي المقتول وسائر العصبة وليس النساء من الأولياء عند مالك والسلطان الذي جعل الله له هو القصاص أو تخييره بين العفو والقصاص * (فلا يسرف في القتل) * نهى عن أن يسرف ولي المقتول بأن يقتل غير قاتل وليه أو يقتل اثنين بواحد وغير ذلك من وجوه التعدي وقرئ فلا تسرف بالتاء خطابا للقاتل أو لولي المقتول * (إنه كان منصورا) * الضمير للمقتول أو لوليه ونصره هو القصاص * (ولا تقربوا مال اليتيم) * ذكر في الأنعام قال بعضهم لا تقربوا ولا تقتلوا معطوفان على ألا تعبدوا والظاهر أنهما مجزومان بالنهي بدليل قوله بعدها ولا تقف ولا تمش وبصح أن تكون معطوفات إذا جعلنا ألا تعبدوا مجزوما على النهي وأن مفسرة * (وأوفوا بالعهد) * عام في العهود مع الله ومع الناس " إن العهد كان مسؤولا " يحتمل وجهين أحدهما أن يكون في معنى الطلب أي يطلب الوفاء به والثاني أن يكون المعنى يسأل عنه يوم القيامة هل وفى به أم لا * (وزنوا بالقسطاس) * قيل القسطاس الميزان وقيل العدل وقرئ بكسر القاف وهي لغة * (وأحسن تأويلا) * أي أحسن عاقبة ومآلا وهو من آل إذا رجع " ولا تقف ما ليس به علم " المعنى لا تقل ما لا تعلم من ذم الناس وشبه ذلك واللفظ مشتق من قفوته إذا اتبعته " إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا " أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك لأنها حواس لها إدراك والضمير في عنه يعود على كل ويتعلق عنه بمسئولا والمعنى أن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده وقيل الضمير يعود على ما ليس لك به علم والمعنى على هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي التي تسأل عما ليس لها به علم وهذا بعيد * (ولا تمش في الأرض مرحا) * المرح الخيلاء والكبر في المشية وقيل هو إفراط السرور بالدنيا وإعرابه مصدر في موضع الحال * (إنك لن تخرق الأرض) * أي لن تجعل فيها خرقا بمشيك عليها والخرق هو القطع وقيل معناه لا تقدر أن تستوفي جميعها بالمشي والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيلاء أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خرق الأرض ولا على مطاولة الجبال فكيف تتكبر وتختال في مشيك وإنما الواجب عليك التواضع * (كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها) * الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات والمكروه هنا بمعنى الحرام لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام وإعراب مكروها نعت
171

لسيئة أو بدل منها أو خبر ثان لكان * (أفأصفاكم ربكم بالبنين) * خطاب على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله والمعنى كيف يجعل لكم الأعلى من النسل وهو الذكور ويتخذ لنفسه الأدنى وهو البنات ومعنى أصفاكم خصكم * (قولا عظيما) * أي عظيم النكر والشناعة * (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * هذا احتجاج على الوحدانية وفي معناه قولان أحدهما أن المعنى لو كان مع الله آلهة لابتغوا سبيلا إلى التقرب إليه بعبادته وطاعته فيكون من جملة عباده والآخر لابتغوا سبيلا إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته ومعلوم أن ذلك لم يكن فلا إله إلا هو * (تسبح له السماوات السبع والأرض) * الآية اختلف في كيفية هذا التسبيح فقيل هو تسبيح بلسان الحال أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة وقيل إنه تسبيح حقيقة وهذا أرجح لقوله لا تفقهون تسبيحهم * (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) * في معناه قولان أحدهما أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستره من الكفار إذا أرادوا به شرا ويحجبه منهم والآخر أنه يحجب الكفار عن فهم القرآن وهذا أرجح لما بعده والمستور هنا قيل معناه مستور عن أعين الخلق لأنه من لطف الله وكفايته فهو من المغيبات وقيل معناه ساتر * (أكنة أن يفقهوه) * جمع كنان وهو الغطاء وأن يفقهوه مفعول من أجله تقديره كراهة أن يفقهوه وهذه استعارات في إضلالهم * (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) * معناه إذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى فر المشركون من ذلك لما فيه من رفض آلهتهم وذمها ونفورا مصدر في موضع الحال * (نحن أعلم بما يستمعون به) * كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء والضمير في به عائد على ما أي نعلم ما يستمعون به من الاستهزاء * (وإذ هم نجوى) * جماعة يتناجون أو ذو نجوى والنجوى كلام السر * (رجلا مسحورا) * قيل معناه جن فسحر وقيل معناه ساحر وقيل هو من السحر بفتح السين وهي الرئة أي بشر إذا سحر مثلكم وهذا بعيد * (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) * أي مثلوك بالساحر والشاعر والمجنون * (فضلوا) * عن الحق * (فلا يستطيعون سبيلا) * إلى الهدى ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة وأصحابه من الكفار * (وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا) * الآية معناها إنكار للبعث واستبعادهم
172

أن يخلقهم الله خلقا جديدا بعد فنائهم والرفات الذي بلي حتى صار غبارا أو رفاتا وقد ذكر في الرعد اختلاف القراء في الاستفهامين * (قل كونوا حجارة أو حديدا) * المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لقدرنا على بعثكم وإحيائكم مع أن الحجارة والحديد أصلب الأشياء وأبعدها عن الرطوبة التي في الحياة فأولى وأحرى أن يبعث أجسادكم ويحيي عظامكم البالية فذكر الحجارة والحديد تنبيها بهما على ما هو أسهل في الحياة منهما ومعنى قوله كونوا أي كونوا في الوهم والتقدير وليس المراد به التعجيز كما قال بعضهم في ذلك * (أو خلقا مما يكبر في صدوركم) * قيل يعني السماوات والأرض والجبال وقيل بل أحال على فكرتهم عموما في كل ما هو كبير عندهم أي لو كنتم حجارة أو حديدا أو شيئا أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقدرنا على بعثكم " فسينغضون إليك رؤسهم " أي يحركونها تحريك المستبعد للشيء والمستهزئ * (ويقولون متى هو) * أي متى يكون البعث * (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) * الدعاء هنا عبارة عن البعث بالنفخ في الصور والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين وبحمده في موضع الحال أي حامدين له وقيل معنى بحمده بأمره * (وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) * يعني لبثتم في الدنيا أو في القبور * (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن) * العباد هنا المؤمنون أمرهم أن يقول بعضهم لبعض كلاما لينا عجيبا وقيل أن يقولوه للمشركين ثم نسخ بالسيف وإعراب يقولوا كقوله يقيموا الصلاة في إبراهيم وقد ذكر ذلك * (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه) * قيل يعني الملائكة وقيل عيسى وأمه وعزير وقيل نفر من الجن كان العرب يعبدونهم والمعنى أنهم لا
يقدرون على كشف الضر عنكم فكيف تعبدونهم * (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) * المعنى أن أولئك الآلهة الذين تدعون من دون الله يبتغون القربة إلى الله ويرجونه ويخافونه فكيف تعبدونهم معه وإعراب أولئك مبتدأ والذين تدعون صفة له ويبتغون خبره والفاعل في يدعون ضمير للكفار وفي يبتغون للآلهة المعبودين وقيل إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين قيل في قوله ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض والوسيلة هي ما يتوسل به ويتقرب * (أيهم أقرب) * بدل من الضمير في يبتغون أي يبتغي الوسيلة من هو أقرب منهم فكيف بغيره أو ضمن يبتغون معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله
173

بالاجتهاد في طاعته ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يتوسلون بأيهم أقرب إلى الله * (محذورا) * من الحذر وهو الخوف * (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة) * يحتمل هذا الهلاك وجهين أحدهما أن يكون بالموت والفناء الذي لا بد منه والآخر أن يكون بأمر من الله يأخذ المدينة دفعة فيهلكها وهذا أظهر لأن الأول معلوم لا يفتقر إلى الإخبار بة والهلاك والتعذيب المذكوران في الآية هما في الحقيقة لأهل القرى أي مهلكو أهلها أم معذبوهم وروي أن هلاك مكة بالحبشة والمدينة بالجوع والكوفة بالترك والأندلس بالخيل وسئل الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن غرناطة فقال أصابها العذاب يوم قتل الموحدين بها في ثورة ابن هود وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطيطلة وغيرها بأخذ الروم لها * (في الكتاب مسطورا) * يعني اللوح المحفوظ * (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون) * الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار فإذا رأوها ولم يؤمنون أهلكهم الله وسبب الآية أن قريشا اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا وعبر بالمنع عن ترك ذلك وأن نرسل في موضع نصب وأن كذب في موضع رفع ثم ذكر ناقة ثمود تنبيها على ذلك لأنهم اقترحوها وكانت سبب هلاكهم ومعنى مبصرة بينة واضحة الدلالة * (وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) * إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من العذاب العاجل وهو الإهلاك وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفا من عذاب الآخرة ليراها الكافر فيؤمن وقيل المراد بالآيات هنا الرعد والزلازل والكسوف وغير ذلك من المخاوف * (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) * المعنى اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بقتلهم يوم بدر وذلك قوله سيهزم الجمع ويولون الدبر وإنما قال أحاط بلفظ الماضي وهو لم يقع لتحقيقه وصحة وقوعه بعد وقيل المعنى أحاط بالناس في منعك وحمايتك منهم كقوله والله يعصمك من الناس * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * اختلف في هذه الرؤيا فقيل إنها الإسراء فمن قال إنه كان في اليقظة فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعين ومن قال إنه كان في المنام فالرؤيا منامية والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك وارتداد بعض المسلمين حينئذ وقيل إنها رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في منامه هزيمة الكفار وقتلهم ببدر والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك وقيل إنه رأى أنه يدخل مكة فعجل في سنة الحديبية فرد عنها فافتتن بعض المسلمين بذلك وقيل رأى في المنام أن بني أمية يصعدون على منبره فاغتم بذلك * (والشجرة الملعونة في القرآن) * يعني شجرة الزقوم وهي معطوفة على الرؤيا أي جعل الرؤيا والشجرة فتنة للناس وذلك أن قريشا لما سمعوا أن في جهنم شجرة زقوم سخروا من ذلك وقالوا كيف تكون شجرة في النار والنار تحرق الشجر وقال أبو جهل ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد فإن قيل لم لعنت شجرة الزقوم في القرآن فالجواب أن المراد لعنة آكلها وقيل اللعنة بمعنى الإبعاد لأنها في أصل الجحيم * (ونخوفهم) * الضمير لكفار قريش * (طينا) * تمييز أو حال من من أو من مفعول خلقت " قال أرأيتك
174

هذا الذي كرمت علي) الكاف من أرأيتك للخطاب لا موضع لها من الإعراب وهذا مفعول بأرأيت والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته وأنا خير منه فاختصر الكلام بحذف ذلك وقال ابن عطية أرأيتك هذا بمعنى أتأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني * (لأحتنكن ذريته) * معناه لأستولين عليهم ولأقودنهم وهو مأخوذ من تحنيك الدابة وهو أن يشد على حنكها بحبل فتنقاد * (قال اذهب) * قال ابن عطية اذهب وما بعده من الأوامر صيغة أمر على وجه التهديد وقال الزمخشري ليس المراد الذهاب الذي هو ضد المجيء إنما معناه امض لشأنك الذي اخترته خذلانا له وتخلية ويحتمل عندي أن يكون معناه للطرد والإبعاد * (فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم) * كان الأصل أن يقال جزاؤهم بضمير الغيبة ليرجع إلى من اتبعك ولكنه ذكره بلفظ المخاطب تغليبا للمخاطب على الغائب وليدخل إبليس معهم * (جزاء موفورا) * مصدر في موضع الحال والموفور المكمل * (واستفزز) * أي اخدع واستخف * (بصوتك) * قيل يعني الغناء والمزامير وقيل الدعاء إلى المعاصي * (وأجلب عليهم) * أي هول وهو من الجلبة وهي الصياح * (بخيلك ورجلك) * الخيل هنا يراد بها الفرسان الراكبون على الخيل والرجل جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه فقيل هو مجاز واستعارة بمعنى افعل جهدك وقيل إن له من الشيطان خيلا ورجلا وقيل المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر * (وشاركهم في الأموال والأولاد) * مشاركته في الأموال بكسبها من الربا وإنفاقها في المعاصي وغير ذلك ومشاركته في الأولاد هي بالاستيلاد بالزنا وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك " وعدهم " يعني المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وشبه ذلك * (إن عبادي) * يعني المؤمنين الذين يتوكلون على الله بدليل قوله بعد ذلك * (وكفى بربك وكيلا) * ونحوه إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * (يزجي لكم الفلك) * أي يجريها ويسيرها والفلك هنا جمع وابتغاء الفضل في التجارة وغيرها * (الضر في البحر) * يعني خوف الغرق * (ضل من تدعون إلا إياه) * ضل هنا بمعنى تلف وفقد أي تلف عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه إلا الله وحده فلجأتم إليه حينئذ دون غيره فكيف تعبدون غيره وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه * (وكان الإنسان كفورا) *
175

أي كفورا بالنعم والإنسان هنا جنس * (أفأمنتم) * الهمزة للتوبيخ والفاء للعطف أي أنجوتم من البحر فأمنتم الخسف في البر * (حاصبا) * يعني حجارة أو ريحا شديدة ترمى بالحصباء * (وكيلا) * أي قائما بأموركم وناصرا لكم * (قاصفا من الريح) * يعني الذي يقصف ما يلقى أي يكسره * (تبيعا) * أي مطالبا يطالبنا بما فعلنا بكم أي لا تجدون من ينصركم منا كقوله ولا يخاف عقباها * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * يعني فضلهم على الجن وعلى سائر الحيوان ولم يفضلهم على الملائكة ولذلك قال على كثير وأنواع التفضيل كثيرة لا تحصى وقد ذكر المفسرون منها كون الإنسان يأكل بيده وكونه منتصب القامة وهذه أمثلة * (بإمامهم) * قيل يعني
بينهم يقال يا أمة فلان وقيل يعني كتابهم الذي أنزل عليهم وقيل كتابهم الذي فيه أعمالهم * (ولا يظلمون فتيلا) * الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة والمعنى أنهم لا يظلمون من أعمالهم قليلا ولا كثيرا فعبر بأقل الأشياء تنبيها على الأكثر * (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى) * الإشارة بهذه إلى الدنيا والعمى يراد به عمى القلب أي من كان في الدنيا أعمى عن الهدى والصواب فهو في يوم القيامة أعمى أي حيران يائس من الخير ويحتمل أن يريد بالعمى في الآخرة عمى البصر كقوله ونحشره يوم القيامة أعمى وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضل سبيلا لأنه حينئذ لا ينفعه الاهتداء ويجوز في أعمى الثاني أن يكون صفة للأول وأن يكون من الأفعال التي للتفضيل وهذا أقوى لقوله وأضل سبيلا فعطف أضل الذي هو من أفعل من كذا على ما هو شبهه قال سيبويه لا يجوز أن يقال هو أعمى من كذا ولكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر لا في عمى القلب * (وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك) * الآية سببها أن قريشا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اقبل بعض أمرنا ونقبل بعض أمرك وقيل إن ثقيفا طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات والعزى والآية على هذا القول مدنية * (لتفتري علينا غيره) * الافتراء هنا يراد به المخالفة لما أوحي إليه من القرآن وغيره * (وإذا لاتخذوك خليلا) * أي لو فعلت ما أرادوا منك لاتخذوك خليلا * (ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) * لولا تدل على امتناع شيء لوجود غيره فدلت هنا على امتناع مقاربة النبي صلى الله عليه وسلم الركون إليهم لأجل تثبيت الله له وعصمته وكدت تقتضي نفي الركون لأن معنى كاد فلان يفعل كذا أي أنه لم يفعله فانتفى الركون إليهم ومقاربته فليس في ذلك نقض من جانب النبي صلى الله عليه وسلم لأن التثبيت منعه
176

من مقاربة الركون ولو لم يثبته الله لكانت مقاربته للركون إليهم شيئا قليلا وأما منع التثبيت فلم يركن قليلا ولا كثيرا ولا قارب ذلك * (إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) * أي ضعف عذابهما لو فعل ذلك * (وإن كادوا ليستفزونك من الأرض) * الضمير لقريش كانوا قد هموا أن يخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وذلك قبل الهجرة فالأرض هنا يراد بها مكة لأنها بلده " وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا " أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك بمكة إلا قليلا فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة لأجل إذاية قريش له ولأصحابه لم يبقوا بعد ذلك إلا قليلا وقتلوا يوم بدر * (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) * انتصب سنة على المصدر ومعناه العادة أي هذه عادة الله مع رسله * (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر) * هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة فدلوك الشمس زوالها والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر صلاة الصبح وانتصب قرآن الفجر بالعطف على موضع اللام في قوله لدلوك الشمس فإن اللام فيه ظرفية بمعنى علم وقيل هو عطف على الصلاة وقيل مفعول بفعل مضمر تقديره اقرأ قرآن الفجر وإنما عبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر لأن القرآن يقرأ فيها أكثر من غيرها لأنها تصلى بسورتين طويلتين * (إن قرآن الفجر كان مشهودا) * أي تشهده ملائكة الليل والنهار فيجتمعون فيه إذ تصعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) * لما أمر بالفرائض أمر بعدها بالنوافل ومن للتبعيض والضمير في به للقرآن والتهجد السهر وهو ترك الهجود ومعنى الهجود النوم فالتفعل هنا للخروج عن الشيء كالتحرج والتأثم في الخروج عن الإثم والحرج * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * يعني الشفاعة يوم القيامة وانتصب مقاما على الظرف * (وقل رب أدخلني مدخل صدق) * الآية المدخل دخوله إلى المدينة والمخرج خروجه من مكة وقيل المدخل في القبر والمخرج إلى البعث واختار ابن عطية أن يكون على العموم في جميع الأمور * (سلطانا نصيرا) * قيل معناه حجة تنصرني بها وتظهر بها صدقي وقيل قوة ورياسة تنصرني بها على الأعداء وهذا أظهر * (وقل جاء الحق وزهق الباطل) * الحق الإيمان والباطل الكفر * (وننزل من القرآن ما هو شفاء) * من للتبعيض أو لبيان الجنس والمراد بالشفاء أنه يشفي القلوب من الريبة والجهل ويحتمل أن يريد نفعه من الأمراض بالرقيا به والتعويذ * (وإذا أنعمنا على الإنسان) * الآية المراد بالإنسان هنا الجنس لأن ذلك من سجية الإنسان وقيل
177

إنما يراد الكافر لأنه هو الذي يعرض عن الله * (ونأى بجانبه) * أي بعد وذلك تأكيد وبيان للإعراض وقرئ ناء وهو بمعنى واحد * (كل يعمل على شاكلته) * أي مذهبه وطريقته التي تشاكله " ويسئلونك عن الروح " السائلون اليهود وقيل قريش بإشارة اليهود والروح هنا عند الجمهور هو الذي في الجسم وقد يقال فيه النفس وقيل الروح هنا جبريل وقيل القرآن والأول هو الصواب لدلالة ما بعده على ذلك * (قل الروح من أمر ربي) * أي من الأمور التي استأثر الله بها ولم يطلع عليها خلقه وكانت اليهود قد قالت لقريش اسألوه عن الروح فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبي وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه وقال ابن بريدة لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعرف الروح ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح وليس في أقوالهم في ذلك ما يعول عليه * (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) * خطاب عام لجميع الناس لأن علمهم قليل بالنظر إلى علم الله وقيل خطاب لليهود خاصة والأول أظهر لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح * (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) * أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن فمحوناه من الصدور والمصاحف وهذه الآية متصلة المعنى بقوله وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك فلا يبقى عندك شيء من العلم * (وكيلا) * أي من يتوكل بإعادته ورده بعد ذهابه * (إلا رحمة من ربك) * يحتمل أن يكون استثناء متصلا فمعنى أن رحمة ربك ترد القرآن بعد ذهابه لو ذهب أو استثناء منقطعا بمعنى أن رحمة ربك تمسكه عن الذهاب * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) * عجز الخلق عن الإتيان بمثله لما تضمنه من العلوم الإلهية والبراهين الواضحة والمعاني العجيبة التي لم يمكن الناس يعلمونها ولا يصلون إليها ثم جاءت فيه على الكمال وقال أكثر الناس إنهم عجزوا عنه لفصاحته وحسن نظمه ووجوه إعجازه كثيرة قد ذكرنا في غير هذا منها خمسة عشر وجها * (ظهيرا) * أي معينا * (ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) * أي بينا لهم كل شيء من العلوم النافعة والبراهين القائمة والحجج الواضحة وهذا يدل على أن إعجاز القرآن بما فيه من المعاني والعلوم كما ذكرنا * (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) * الكفور الجحود وانتصب بقوله أنى لأنه في معنى النفي * (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) * الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا من خوارق العادات وهي التي ذكرها الله في هذه الآية وقيل إن
الذي قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة وكان ابن عمه النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعد ذلك والينبوع العين قالوا له إن مكة قليلة الماء ففجر لنا فيها عينا من
178

الماء * (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) * إشارة إلى قوله تعالى إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء وكسفا بفتح السين جمع كسفة وهي القطعة وقرئ بالإسكان أي قطعا واحدا * (قبيلا) * قيل معناه مقابلة ومعاينة وقيل ضامنا شاهدا بصدقك والقبالة في اللغة الضمان * (بيت من زخرف) * أي من ذهب * (قل سبحان ربي) * تعجب من اقتراحاتهم أو تنزيه لله عن قولهم تأتي بالله وعن أن يطلب منه هذه الأشياء التي طلبها الكفار لأن ذلك سوء أدب * (هل كنت إلا بشرا رسولا) * أي إنما أنا بشر فليس في قدرتي شيء مما طلبتم وأنا رسول فليس على إلا التبليغ * (إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) * المعنى أن الذي منع الناس من الإيمان إنكارهم لبعث الرسول من البشر * (قل لو كان في الأرض ملائكة) * الآية معناها أنه لو كان أهل الأرض ملائكة لكان الرسول إليهم ملكا ولكنهم بشر فالرسول إليهم بشر من جنسهم ومعنى مطمئنين ساكنين في الأرض " شهيدا بيني وبينكم " ذكر في الأنعام * (عميا وبكما وصما) * قيل هي استعارة بمعنى أنهم يوم القيامة حيارى وقيل هي حقيقة وأنهم يكونون عميا وبكما وصما حين قيامهم من قبورهم * (كلما خبت) * معناه في اللغة سكن لهبا والمراد هنا كلما أكلت لحومهم فسكن لهبا بدلوا أجساد أخر ثم صارت ملتهبة أكثر مما كانت * (وقالوا أئذا كنا عظاما) * استبعاد للحشر وقد تقدم معنى الرفات والكلام في الاستفهامين * (أولم يروا أن الله) * الآية احتجاج على الحشر فإن السماوات والأرض أكبر من الإنسان فكما قدر الله على خلقها فأولى وأحرى أن يقدر على إعادة جسد الإنسان بعد فنائه والرؤية في الآية رؤية قلب * (أجلا لا ريب فيه) * القيامة أو أجل الموت * (قل لو أنتم تملكون) * لو حرف امتناع ولا يليها الفعل إلا ظاهر أو مضمرا فلا بد من فعل يقدر هنا بعدها تقديره تملكون ثم فسره بتملكون الظاهر وأنتم تأكيد للضمير الذي في تملكون المضمر * (خزائن رحمة ربي) * أي الأموال والأرزاق * (إذا لأمسكتم خشية الإنفاق) * أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن الإعطاء خشية الفقر فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق وهو الفقر ومفعول أمسكتم محذوف وقال الزمخشري
179

لا مفعول له لأن معناه بخلتم من قولهم للبخيل ممسك ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح وخوف الفقر بخلاف وصف الله تعالى بالجود والغنى * (تسع آيات) * بينات الخمس منها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والأربع انقلاب العصا حية وإخراج يده بيضاء وحل العقدة من لسانه وفلق البحر وقد عد فيها رفع الطور فوقه وانفجار الماء من الحجر على أن يسقط اثنان من الأخر وقد عد فيها أيضا السنون والنقص من الثمرات روى أن بعض اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال ألا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تمشي ببريء إلى السلطان ليقتله ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا يوم الزحف وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت " فاسئل بني إسرائيل " أي اسأل المعاصرين لك من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقينا والآية على هذا خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال الزمخشري إن المعنى قلنا لموسى اسأل بني إسرائيل من فرعون أي اطلب منه أن يرسلهم معك فهو كقوله أن أرسل معنا بني إسرائيل فلا يرد قوله اسأل لموسى على إضمار القول وقال أيضا يحتمل أن يكون المعنى اسأل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك وهذا أيضا على أن يكون الخطاب لموسى والأول أظهر * (إذ جاءهم) * الضمير لبني إسرائيل والمراد آباؤهم الأقدمون والعامل في إذ على القول الأول آتينا موسى أو فعل مضمر والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف * (مسحورا) * هنا وفي الفرقان أي سحرت واختلط عقلك وقيل ساحر * (لقد علمت) * بفتح التاء خطاب لفرعون والمعنى أنه علم أن الله أنزل الآيات ولكنه كفر بها عنادا كقوله وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم والإشارة بهؤلاء إلى الآيات مبثورا أي مهلوكا وقيل مغلوبا وقيل مصروفا عن الخير قابل موسى قول فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبورا * (فأراد أن يستفزهم من الأرض) * أي أرض مصر * (اسكنوا الأرض) * يعني أرض الشام * (لفيفا) * أي جميعا مختلطين * (وبالحق أنزلناه وبالحق نزل) * الضمير للقرآن وبالحق معناه في الموضعين بالواجب من المصلحة والسداد وقيل معنى الأول كذلك ومعنى الثاني ضد الباطل أي بالحق في إخباره وأوامره ونواهيه * (وقرآنا فرقناه) * انتصب بفعل مضمر يدل عليه فرقناه ومعناه بيناه وأوضحناه * (على مكث) * قيل معناه على تمهل وترتيل في قراءته وقيل على طول مدة نزوله شيئا شيئا من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته وذلك عشرون سنة وقيل ثلاث وعشرون * (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) * أمر باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم كأنه يقول سواء آمنتم أو لم تؤمنوا لكونكم لستم بحجة وإنما الحجة أهلم بالعلم من قبله وهم المؤمنون من أهل الكتاب " إن الذين
180

أوتوا العلم من قبله) يعني المؤمنين من أهل الكتاب وقيل الذين كانوا على الحنيفية قبل البعثة كزيد بن عمرو بن نوفل وورقة بن نوفل والأول أظهر وهذه الجملة تعليل لما تقدم والمعنى إن لم تؤمنوا به أنتم فقد آمن به من هو أعلم منكم * (ويخرون للأذقان) * أي لناحية الأذقان كقولهم خر لليدين وللفم والأذقان جمع ذقن وهو أسفل الوجه حيث اللحية وإنما كرر يخرون للأذقان لأن الأول للسجود والآخر للبكاء * (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن) * سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يا الله يا رحمن فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحد وها هو يدعو إلهين فنزلت الآية مبينة أن قوله الله أو الرحمن اسما لمسمى واحد وأنه مخير في الدعاء بأي الاسمين شاء والدعاء في الآية بمعنى التسمية كقولك دعوت ولدي زيدا لا بمعنى النداء * (أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) * أيا اسم شرط منصوب بتدعوا والتنوين فيه عوض من المضاف إليه وما زائدة للتأكيد والضمير في به لله تعالى وهو المسمى لا الاسم والمعنى أي هذين الاسمين تدعو فحسن لأن الله له الأسماء الحسنى فموضع قوله لله الأسماء الحسنى موضع الحال وهو في المعنى تعليل للجواب لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * المخافتة هي الإسرار وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن في الصلاة فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسط بين الإسرار والجهر ليسمع أصحابه الذين يصلون معه ولا يسمع المشركون وقيل المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها واجعل منها سرا وجهرا حسبما أحكمته السنة وقيل الصلاة هنا الدعاء * (ولم يكن له ولي من الذل) * أي ليس له ناصر يمنعه من الذل لأنه تعالى عزيز لا يفتقر إلى ولي يحميه فنفى الولاية
على هذا المعنى لأنه غني عنها ولم ينف الولاية على وجه المحبة والكرامة لمن شاء من عباده وحكى الطبري أن قوله لم يتخذ ولدا رد على النصارى واليهود والذين نسبوا لله ولدا وقوله ولم يكن له شريك رد على المشركين وقوله ولم يكن به ولي من الذل رد على الصابئين في قولهم لولا أولياء الله لذل الله " تعالى الله عن قولهم " علوا كبيرا * (وكبره) * معطوف على قل ويحتمل هذا التكبير أن يكون بالقلب وهو التعظيم أو باللسان وهو قوله أن يقول الله أكبر مع قوله الحمد لله الذين لم يتخذ ولدا الآية
سورة الكهف
* (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) * العبد هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم ووصفه بالعبودية تشريفا له
181

وإعلاما باختصاصه وقربه والكتاب القرآن * (ولم يجعل له عوجا) * العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها ومعناه عدم الاستقامة وقيل فيه هنا معناه لا تناقض فيه ولا خلل وقيل لم يجعله مخلوقا واللفظ أعم من ذلك * (قيما) * أي مستقيما وقيل قيما على الخلق بأمر الله تعالى وقيل قيما على سائر الكتب بتصديقها وانتصابه على الحال من الكتاب والعامل فيه أنزل ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيما * (لينذر بأسا شديدا) * متعلق بأنزل أو بقيما والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلى الله عليه وسلم والبأس العذاب وحذف المفعول الثاني وهو الناس كما حذف المفعول الآخر من قوله وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف * (من لدنه) * أي من عنده والضمير عائد على الله تعالى * (أجرا حسنا) * يعني الجنة * (ماكثين فيه) * أي دائمين وانتصابه على الحال من الضمير في لهم * (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا) * هم النصارى لقولهم في عيسى واليهود لقولهم في عزير وبعض العرب لقولهم في الملائكة * (وما لهم به من علم) * الضمير عائد على قولهم أو على الولد * (كبرت كلمة) * انتصب على التمييز على الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولدا وعلى هذا يعود الضمير في كبرت * (فلعلك باخع نفسك) * أي قاتلها بالحزن والأسف والمعنى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمانهم * (على آثارهم) * استعارة فصيحة كأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفا عليهم وانتصب أسفا على أنه مفعول من أجله والعامل فيه باخع نفسك * (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) * يعني ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم والأشجار والأنهار وغير ذلك * (لنبلوهم أيهم أحسن عملا) * أي لنختبرهم أيهم أزهد في زينة الدنيا * (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) * المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها والصعيد هو التراب والجرز الأرض التي لا نبات فيها أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء بهجة * (أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) * أم هنا استفهام والمعنى أحسبت أنهم عجب بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب والكهف الغار الواسع والرقيم اسم كلبهم وقيل هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف وقيل كتاب فيه شرعهم ودينهم وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف وقيل الجبل الذي فيه الكهف وقال ابن عباس لا أدري ما الرقيم * (إذ أوى الفتية إلى الكهف) * نذكر من قصتهم على وجه الاختصار ما لا غنى عنه إذ قد أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نقلوا وذلك أنهم كانوا قوما مؤمنين وكان ملك بلادهم كافر يقتل كل مؤمن ففروا بدينهم ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه ويستخفوا من الملك وقومه فأمر الملك بأتباعهم فانتهى المتبعون لهم إلى الغار فوجدوهم وعرفوا الملك بذلك فوقف
182

عليه في جنده وأمر بالدخول إليهم فهاب الرجال ذلك وقالوا له دعهم يموتوا جوعا وعطشا وكان الله قد ألقى عليهم قبل ذلك نوما ثقيلا فبقوا على ذلك مدة طويلة ثم أيقظهم الله وظنوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاما بدراهم كانت لهم فعجب لها البائع وقال هذه الدراهم من عهد فلان الملك في قديم الزمان من أين جاءتك وشاع الكلام بذلك في الناس وقال الرجل إنما خرجت أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهف فقال هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم فمشوا إليهم فوجدوهم موتى وأما موضع كهفهم فقيل إنه بمقربة من فلسطين وقال قوم إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة من جهة غرناطة وفيه موتى ومعهم كلب وقد ذكر ابن عطية ذلك وقال إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد وقريب منهم بناء يقال له الرقيم قد بقي بعض جدرانه وروى أن الملك الذي كانوا في زمانه اسمه دقيوس وفي تلك الجهة آثار مدينة يقال لها مدينة دقيوس والله أعلم ومما يبعد ذلك ما روى أن معاوية مر عليهم وأراد الدخول إليهم ولم يدخل معاوية الأندلس قط وأيضا فإن الموتى التي في غار لوشة يراهم الناس ولم يدرك أحد منهم الرعب الذي ذكر الله في أصحاب الكهف " فضربنا علىءاذانهم في الكهف " عبارة عن إلقاء النوم عليهم وقال الزمخشري المعنى ضربنا على آذانهم حجابا ثم حذف هذا المفعول * (سنين عددا) * أي كثيرة * (ثم بعثناهم) * أي أيقظناهم من نومهم * (لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا) * أي لنعلم علما يظهر في الوجود لأن الله قد كان علم ذلك والمراد بالحزبين الذين اختلفوا في مدة لبثهم فالحزب الواحد أصحاب الكهف والحزب الآخر القوم الذين بعث الله أصحاب الكهف في مدتهم وقيل إن الحزبين معا أصحاب الكهف إذ كان بعضهم قد قال لبثنا يوما أو بعض يوم وقال بعضهم ربكم أعلم بما لبثتم وأحصى فعل ماض وأمدا مفعول به وقيل أحصى اسم للتفضيل وأمدا تمييز وهذا ضعيف لأن أفعل من التي للتفضيل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ * (وربطنا على قلوبهم) * أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر * (إذ قاموا) * يحتمل أن يريد قيامهم من النوم أو قيامهم بين يدي الملك الكافر لما آمنوا ولم يبالوا به * (لقد قلنا إذا شططا) * أي لو دعونا من دونه إلها لقلنا قولا شططا والشطط الجور والتعدي * (لولا يأتون عليهم بسلطان بين) * تحضيض بمعنى التعجيز أنهم لا يأتون بحجة بينة على عبادة غير الله * (وإذ اعتزلتموهم) * خطاب من بعضهم لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم * (وما يعبدون) * عطف على المفعول في اعتزلتموهم أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون * (إلا الله) * أي ما يعبدون من دون الله وإلا هنا بمعنى غير وهذا استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله وفي مصحف ابن مسعود وما يعبدون
183

من دون الله * (فأووا إلى الكهف) * هذا الفعل هو العامل في إذ اعتزلتموهم والمعنى أن بعضهم قال لبعض إذا فارقنا الكفار فلنجعل الكهف لنا مأوى ونتكل على الله فهو يرحمنا ويرفق بنا * (مرفقا) * بفتح الميم وكسرها ما يرتفق به وينتفع * (وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال) *
قيل هنا كلام محذوف تقديره فأوى القوم إلى الكهف ومكثوا فيه وضرب الله على آذانهم ومعنى تزاور تميل وتزوغ ومعنى تقرضهم تقطعهم أي تبعد عنهم وهو بمعنى القطع وذات اليمين والشمال أي جهته ومعنى الآية أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرها فقيل إن ذلك كرامة لهم وخرق عادة وقيل كان باب الكهف شماليا يستقبل بنات نعش فلذلك لا تصيبهم الشمس والأول أظهر لقوله * (ذلك من آيات الله) * * (وهم في فجوة منه) * أي في موضع واسع وذلك مفتح لإصابة الشمس ومع ذلك حجبها الله عنهم * (ذلك من آيات الله) * الإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى امرهم بجملته * (وتحسبهم أيقاظا وهم رقود) * أيقاظا جمع يقظ وهو المنتبه كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون فيحسبهم من يراهم أيقاظا وفي قوله أيقاظا ورقود مطابقة وهي من أدوات البيان * (ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) * أي نقلبهم من جانب إلى جانب ولولا ذلك لأكلتهم الأرض وكان هذا التقليب من فعل الله وملائكته وهم لا ينتبهون من نومهم وروى أنهم كانوا يقلبون مرتين في السنة وقيل من سبع سنين إلى مثلها * (وكلبهم باسط ذراعيه) * قيل إنه كان كلبا لأحدهم يصيد به وقيل كان كلبا لراع فمروا عليه فصحبهم وتبعه كلبه وأعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي لأنه حكاية حال * (بالوصيد) * أي بباب الكهف وقيل عتبته وقيل البناء * (ولملئت منهم رعبا) * ذلك لما ألبسهم الله من الهيبة وقيل لطول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم وقيل لوحشة مكانهم وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف فأراد الدخول إليه فقال له ابن عباس لا تستطيع ذلك قد قال الله لمن هو خير منك * (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا) * فبعث ناسا إليهم فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأحرقتهم * (وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم) * أي كما أنمناهم كذلك بعثناهم ليسأل بعضهم بعضا واللام في ليتساءلوا لام الصيرورة * (قالوا ربكم أعلم بما لبثتم) * هذا قول من استشعر منهم أن مدة لبثهم طويلة فأنكر على من قال يوما أو بعض يوم ولكنه لم يعلم مقدارها فأسند علمها إلى الله * (فابعثوا أحدكم بورقكم) * الورق الفضة وكانت دراهم تزودوها حين خروجهم إلى الكهف ويستدل بذلك على أن التزود للمسافر أفضل من تركه ويستدل ببعث أحدهم على جواز الوكالة فإن قيل كيف
184

اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم فالجواب أنهم كانوا قالوا ربكم أعلم بما لبثتم ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم فابعثوا أحدكم * (إلى المدينة) * قيل إنها طرسوس * (أزكى طعاما) * قيل أكثر وقيل أحل وقيل إنه أراد شراء زبيب وقيل تمر * (وليتلطف) * في اختفائه وتحيله * (إن يظهروا عليكم يرجموكم) * أي إن يظفروا بكم يقتلوكم بالحجارة وقيل المعنى يرجموكم بالقول والأول أظهر * (وكذلك أعثرنا عليهم) * أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا الناس عليهم * (ليعلموا) * الضمير للقوم الذين أطلعهم الله على أصحاب الكهف أي أطلعناهم على حالهم من انتباههم من الرقدة الطويلة ليستدلوا بذلك على صحة البعث من القبور * (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) * العامل في إذ أعثرنا أو مضمر تقديره اذكر والمتنازعون هم القوم الذين كانوا قد تنازعوا فيما يفعلون في أصحاب الكهف أو تنازعوا هل هم أموات أو أحياء وقيل تنازعوا هل تحشر الأجساد أو الأرواح بالأجساد فأراهم الله حال أصحاب الكهف ليعلموا أن الأجساد تحشر * (فقالوا ابنوا عليهم بنيانا) * أي على باب كهفهم إما ليطمس آثارهم أو ليحفظهم ويمنعهم ممن يريد أخذهم أو أخذ تربتهم تبركا وإما ليكون علما على كهفهم ليعرف به * (قال الذين غلبوا على أمرهم) * قيل يعني الولاة وقيل يعني المسلمين لأنهم كانوا أحق بهم من الكفار فبنوا على باب الكهف مسجدا لعبادة الله * (سيقولون) * الضمير لمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود أو غيرهم ممن تكلم في أصحاب الكهف * (رجما بالغيب) * أي ظنا وهو مستعار من الرجم بمعنى الرمي * (سبعة وثامنهم كلبهم) * قال قوم إن الواو واو الثمانية لدخولها هنا وفي قوله سبع ليال وثمانية أيام وفي قوله في أهل الجنة وفتحت أبوابها وفي قوله في براءة والناهون عن المنكر وقال البصريون لا تثبت واو الثمانية وإنما الواو هنا كقوله جاء زيد وفي يده سيف قال الزمخشري وفائدتها التوكيد والدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدقوا وأخبروا بحق بخلاف الذين قالوا ثلاثة ورابعهم كلبهم والذين قالوا خمسة وسادسهم كلبهم وقال ابن عطية دخلت الواو في آخر إخبار عن عددهم لتدل على أن هذا نهاية ما قيل ولو سقطت لصح الكلام وكذلك دخلت السين في قوله سيقولون الأول ولم تدخل في الثاني والثالث استغناء بدخولها في الأول * (ما يعلمهم إلا قليل) * أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس وهم من أهل الكتاب قال ابن عباس أنا من ذلك القليل وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم لأنه قال في الثلاثة والخمسة رجما بالغيب ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم * (فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا) * لا تمار من المراء وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج والمعنى لا تمار أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف إلا مراء ظاهرا أي غير متعمق فيه من غير مبالغة ولا تعنيف في الرد عليهم * (ولا تستفت فيهم منهم أحدا) *
185

أي لا تسأل أحدا من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما يغنيك عن السؤال " ولا تقولون لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله " سببها أن قريشا سألوا اليهود عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول وهم أصحاب الكهف وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو ذو القرنين وعن الروح فإن أجابكم في الاثنين وسكت عن الروح فهو نبي فسألوه فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فأمسك عنه الله الوحي خمسة عشر يوما فأوجف به كفار قريش وتكلموا في ذلك فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاء جبريل بسورة الكهف فقص عليه فيها قصة أصحاب الكهف وذي القرنين وأنزل الله عليه هذه الآية تأديبا لهم وتعليما فأمره بالاستثناء بمشيئة الله في كل أمر يريد أن يفعله فيما يستقبل وقوله غدا يريد به الزمان المستقبل لا اليوم الذي بعد يومه خاصة وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله أو تقول إلا أن يشاء الله والمعنى أن يعلق الأمر بمشيئة الله وحوله وقوته ويبرأ هو من الحول والقوة وقيل إن قوله إلا أن يشاء الله بقوله لا تقولن والمعنى لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه فالمشيئة على هذا راجعة إلى القول لا إلى الفعل ومعناها إباحة القول بالإذن فيه حكى ذلك الزمخشري وحكاه ابن عطية وقال إنه من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكي * (واذكر ربك إذا نسيت) * قال ابن عباس الإشارة بذلك إلى الاستثناء أي استثن بعد مدة إذا نسيت الاستثناء أولا وذلك على مذهبه فإن الاستثناء في اليمين ينفع بعد سنة وأما مذهب مالك والشافعي فإنه لا ينفع إلا إن كان متصلا باليمين وقيل معنى الآية اذكر ربك إذا غضبت وقيل اذكر إذا نسيت شيئا ليذكرك ما نسيت والظاهر أن المعنى اذكر
ربك إذا نسيت ذكره أي ارجع إلى الذكر إذا غفلت عنه واذكره في كل حال ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه * (وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا) * هذا كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف أي عسى الله أن يؤتيني من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوتي من خبر أصحاب الكهف واللفظ يقتضي أن المعنى عيني أن يوفقني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خير أصحاب أهل الكهف وأقرب إلى الله وقيل إن الإشارة بهذا إلى المنسي أي إذا نسيت شيئا فقل عسى أن يهديني الله إلى شيء آخر هو أرشد من المنسي * (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا) * في هذا قولان أحدهما أنه حكاية عن أهل الكتاب يدل على ذلك ما في قراءة ابن مسعود وقالوا لبثوا في كهفهم وهو معطوف على سيقولون ثلاثة فقوله * (قل الله أعلم بما لبثوا) * رد عليهم في هذا العدد المحكي عنهم والقول الثاني أنه من كلام الله تعالى وأنه بيان لما أجمل في قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ومعنى قوله قل الله أعلم بما لبثوا على هذا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم وقد أخبر بمدة لبثهم فإخباره هو الحق لأنه أعلم من الناس وكان قوله قل الله أعلم احتجاجا على صحة ذلك
186

الإخبار وانتصب سنين على البدل من ثلاثمائة أو عطف بيان أو على التمييز وذلك على قراءة التنوين في ثلاثمائة وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد * (أبصر به وأسمع) * أي ما أبصره وما أسمعه لأن الله يدرك الخفيات كما يدرك الجليات * (ما لهم) * الضمير لجميع الخلق أو للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم * (ولا يشرك في حكمه أحدا) * هو خبر عن القراءة بالياء والرفع وقرئ بالتاء والجزم على النهي * (لا مبدل لكلماته) * يحتمل أن يراد بالكلمات هنا القرآن فالمعنى لا يبدل أحد القرآن ولا يغيره ويحتمل أن يريد بالكلمات القضاء والقدر * (ملتحدا) * أي ملجأ تميل إليه * (واصبر نفسك) * أي احبسها صابرا * (مع الذين يدعون ربهم) * هم فقراء المسلمين كبلال وخباب وصهيب وكان الكفار قد قالوا له اطرد هؤلاء نجالسك نحن فنزلت الآية * (بالغداة والعشي) * قيل المراد الصلوات الخمس وقيل الدعاء على الإطلاق * (ولا تعد عيناك عنهم) * أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا وقال الزمخشري يقال عداه إذا جاوزه فهذا الفعل يتعدى بنفسه دون حرف وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمن معنى نبت عينه عن الرجل إذا احتقره * (تريد زينة الحياة الدنيا) * جملة في موضع الحال فهي متصلة بما قبلها وهي في معنى تعليل الفعل المنهي عنه في قوله ولا تعد عيناك عنهم أي لا تبعد عنهم من أجل إرادتك لزينة الدنيا * (أغفلنا قلبه) * أي جعلناه غافلا أو وجدناه غافلا وقيل يعني أنه عيينة بن حصين الفزاري والأظهر أنها مطلقة من غير تقييد * (فرطا) * من التفريط والتضييع أو من الإفراط والإسراف * (وقل الحق من ربكم) * أي هذا هو الحق * (فمن شاء فليؤمن) * لفظه أمر وتخيير ومعناه أن الحق قد ظهر فليختر كل إنسان لنفسه إما الحق الذي ينجيه أو الباطل الذي يهلكه ففي ضمن ذلك تهديد * (سرادقها) * السرادق في اللغة ما أحاط بالشيء كالسور والجدار وأما سرادق جهنم فقيل حائط من نار وقيل دخان * (كالمهل) * وهو دردي الزيت إذا انتهى حره روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل ما أذيب من الرصاص وشبهه * (مرتفقا) * أي شيء يرتفق به فهو من الرفق وقيل يرتفق عليه فهو من الارتفاق بمعنى الاتكاء * (أولئك لهم) * خبر إن وإنا لا نضيع اعتراض ويجوز أن يكونا خبرين أو يكون إنا لا نضيع الخبر وأولئك استئناف ويقوم العموم في قوله من أحسن مقام الضمير الرابط أو يقدر من أحسن عملا منه وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان
187

وعلي رضي الله عنهم * (أساور) * جمع أسوار وسوار وهو ما يجعل في اليد وقيل أساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار * (من سندس وإستبرق) * السندس رقيق الديباج والإستبرق الغليظ منه * (الأرائك) * الأسرة والفرش * (واضرب لهم) * الضمير للكفار الذين قالوا أطرد فقراء المسلمين وللفقراء الذين أرادوا طردهم أي مثل هؤلاء وهؤلاء كمثل هذين الرجلين وهما أخون من بني إسرائيل أحدهما مؤمن والآخر كافر ورثا مالا عن أبيهما فاشترى الكافر بماله جنتين وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله حتى افتقر فعير الكافر بفقره فأهلك الله مال الكافر وروي أن اسم المؤمن تمليخا واسم الكافر فطروس وقيل كانا شريكين اقتسما المال فاشترى أحدهما بماله جنتين وتصدق الآخر بماله * (أكلها) * بضم الهمزة اسم لما يؤكل ويجوز ضم الكاف وإسكانها * (ولم تظلم) * أي لم تنقص * (وكان له ثمر) * بضم الثاء والميم أصناف المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك قاله ابن عباس وقتادة وقيل هو الذهب والفضة خاصة وهو من ثمر ماله إذا أكثره ويجوز إسكان الميم تخفيفا وأما بفتح الثاء والميم فهو المأكول من الشجر ويحتمل المعنى الآخر * (وهو يحاوره) * أي يراجعه في الكلام * (وأعز نفرا) * يعني الأنصار والخدم * (ودخل جنته) * أفرد الجنة هنا لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين إذ لا يمكن دخول الجنتين دفعة واحدة * (وهو ظالم لنفسه) * إما بكفره وإما بمقابلته لأخيه فإنها تتضمن الفخر والكبر والاحتقار لأخيه " وقال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " يحتمل أن تكون الإشارة إلى السماوات والأرض وسائر المخلوقات فيكون قائلا ببقاء هذا الوجود كافرا بالآخرة أو تكون الإشارة إلى جنته فيكون قوله إفراطا في الاغترار وقلت التحصيل * (ولئن رددت إلى ربي) * إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي لأجدن في الآخرة خيرا من جنتي في الدنيا وقرئ خيرا منهما بضمير الاثنين للجنتين وبضمير الواحد للجنة * (منقلبا) * أي مرجعا * (أكفرت بالذي خلقك من تراب) * أي خلق منه أباك آدم وإنما جعله كافرا لشكه في البعث * (سواك رجلا) * كما تقول سواك إنسانا ويحتمل أن يقصد الرجولية على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى " لكنا هو الله ربي " قرأ الجمهور بإثبات الألف في الوقف وحذفها في الوصل والأصل على هذا لكن أنا ثم ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت ثم أدغمت النون في النون وقرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والوقف ويتوجه ذلك بأن تكون لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ثم أدغمت النون في النون " ولولا
188

إذ دخلت جنتك) الآية وصية من المؤمن للكافر ولولا تحضيض * (فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك) * يحتمل أن يريد في الدنيا أو الآخرة * (حسبانا) * أي أمرا مهلكا كالحر والبرد ونحو ذلك * (صعيدا زلقا) * الصعيد وجه الأرض والزلق الذي لا يثبت فيه قدم يعني أنه تذهب أشجاره ونباته " وغورا " أي غائرا ذاهبا وهو مصدر وصف به * (وأحيط بثمره) * عبارة عن هلاكها * (يقلب كفيه) * عبارة عن تلهفه وتأسفه وندمه * (وهي خاوية على عروشها) * يريد أن السقف وقعت
وهي العروش ثم تهدمت الحيطان عليها والحيطان على العروش وقيل إن كرومها المعروشة سقطت على عروشها ثم سقطت الكروم عليها * (ويقول يا ليتني لم أشرك) * قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه أو على وجه التوبة من الشرك * (هنالك) * ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصرا أو يكون في موضع خبر * (الولاية لله) * بكسر الواو بمعنى الرياسة والملك وبفتحها من الموالاة والمودة * (وخير عقبا) * أي عاقبة * (فاختلط) * الباء سببية والمعنى صار به النبات مختلطا أي ملتفا بعضه ببعض من شدة تكاثفه * (فأصبح هشيما) * أي متفتتا وأصبح هنا بمعنى صار * (تذروه الرياح) * أي تفرقه ومعنى المثل تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضرته * (المال والبنون) * الآية هذا من الجمع بين شيئين في خبر واحد وذلك من أدوات البيان وقرئ زينتا بالتثنية لأنه خبر عن اثنين وأما قراءة الجمهور فأفردت فيه الزينة لأنها مصدر * (والباقيات الصالحات) * هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا قول الجمهور وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل الصلوات الخمس وقيل الأعمال الصالحات على الإطلاق * (نسير الجبال) * أي نحملها ومنه قوله وهي تمر مر السحاب وبعد ذلك تصير هباء * (وترى الأرض بارزة) * أي ظاهرة لزوال الجبال عنها * (وحشرناهم) * قال الزمخشري إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله نسير للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال * (فلم نغادر) * أي لم نترك * (صفا) * أي صفوفا فهو إفراد تنزل منزلة الجمع وقد جاء في الحديث إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا " لقد جئتمونا " يقال هذا للكفار على وجه التوبيخ * (كما خلقناكم) * أي حفاة عراة
189

غرلا * (ووضع الكتاب) * يعني صحائف الأعمال فالكتاب اسم جنس * (كان من الجن) * كلام مستأنف جرى مجرى التعليل لإباية إبليس عن السجود وظاهر هذا الموضع يقتضي أن إبليس لم يكن من الملائكة وأن استثناءه منهم استثناء منقطع فإن الجن صنف غير الملائكة وقد يجيب عن ذلك من قال إنه كان من الملائكة بأن كان هنا بمعنى صار أي خرج من صنف الملائكة إلى صنف الجن أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن وهم الذين خلقوا من نار * (ففسق عن أمر ربه) * أي خرج عن ما أمر به والفسق في اللغة الخروج * (أفتتخذونه وذريته أولياء) * هذا توبيخ ووعظ وذرية إبليس هم الشياطين واتخاذهم أولياء بطاعتهم في عصيان الله والكفر به * (ما أشهدتهم) * الضمير للشياطين على وجه التحقير بهم أو للكفار أو لجميع الخلق فيكون فيه رد على المنجمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرصة * (وما كنت متخذ المضلين عضدا) * أي معينا ومعنى المضلين الذين يضلون العباد وذلك يقوي أن المراد الشياطين * (ويوم يقول نادوا شركائي) * يقول هذا للكفار على وجه التوبيخ لهم وأضاف تعالى الشركاء إلى نفسه على زعمهم وقد بين هذا بقوله الذين زعمتم * (موبقا) * أي مهلكا وهو اسم موضع أو مصدر من وبق الرجل إذا هلك وقد قيل إنه واد من أودية جهنم والضمير في بينهم للمشركين وشركائهم * (فظنوا أنهم مواقعوها) * الظن هنا بمعنى اليقين * (مصرفا) * أي معدلا ينصرفون إليه * (جدلا) * أي مخاصمة ومدافعة بالقول ويقتضي سياق الكلام ذم الجدل وسببها فيما قيل مجادلة النضر بن الحارث على أن الإنسان هنا يراد به الجنس * (وما منع الناس أن يؤمنوا) * الآية معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سنة الأمم المتقدمة وهي الإهلاك في الدنيا أو يأتيهم العذاب يعني عذاب الآخرة ومعنى قبلا معاينة وقرئ بضمتين وهو جمع قبيل أي أنواعا من العذاب * (ليدحضوا) * أي ليبطلوا * (وما أنذروا هزوا) * يعني العذاب وما موصولة والضمير محذوف تقديره أنذروه أو مصدرية
190

* (إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) * هذه عقوبة على الإعراض المحكي عنهم أو تعليل لهم والأكنة جمع كنان وهو الغطاء والوقر الصمم وهما على وجه الاستعارة في قلة فهمهم للقرآن وعدم استجابتهم للإيمان * (فلن يهتدوا إذا أبدا) * يريد به من قضى الله أنه لا يؤمن * (لو يؤاخذهم) * الضمير لكفار قريش أو لسائر الناس لقوله ولو يؤاخذ الله الناس والجملة خبر المبتدأ والغفور ذو الرحمة صفتان اعترضتا بين المبتدأ والخبر توطئة لما ذكر بعد من ترك المؤاخذة ويحتمل أن يكون الغفور هو الخبر ويؤاخذهم بيان لمغفرته ورحمته والأول أظهر * (بل لهم موعد) * قيل هو الموت وقيل عذاب الآخرة وقيل يوم بدر * (موئلا) * أي ملجأ يقال وئل للرجل إذا لجأ * (وتلك القرى) * يعني عادا وثمود وغيرهم من المتقدمين والمراد هنا أهل القرى ولذلك قال أهلكناهم وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش * (وجعلنا لمهلكهم موعدا) * أي وقتا معلوما والمهلك هنا بضم الميم وفتح اللام اسم مصدر من أهلك فالمصدر على هذا مضاف للمفعول لأن الفعل متعدي وقرئ بفتح الميم من هلك فالمصدر على هذا مضاف للفاعل * (وإذ قال موسى لفتاه) * هذا ابتداء قصة موسى مع الخضر وهو موسى ابن عمران نبي الله وقال قوم هو موسى آخر وذلك باطل رده ابن عباس وغيره ويدل الحديث على بطلانه وفتاه هو يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وهو من ذرية يوسف عليه السلام والفتى هنا بمعنى الخديم وسبب القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن موسى عليه السلام خطب يوما في بني إسرائيل فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك فقال لا فأوحى الله إليه أن بل عبدنا الخضر أعلم منك فقال يا رب دلني على السبيل إلى لقائه فأوحى الله إليه أن يحمل حوتا في مكتل ويسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مجمع البحرين فإذا فقد الحوت فإن الخضر هناك ففعل موسى ذلك حتى لقيه * (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين) * قال موسى هذا الكلام وهو سائر أي لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين فحذف خبر لا أبرح اختصارا لدلالة المعنى عليه ومعنى لا أبرح هنا لا أزال لأن حقيقة لا أبرح تقتضي الإقامة في الموضع وكان موسى حين قالها على سفر لا يريد إقامة ومجمع البحرين عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه وهو بحر الأندلس وقيل هو مجمع بحر فارس وبحر الروم في المشرق * (أو أمضي حقبا) * أي زمانا طويلا والحقب بضم القاف وإسكانها ثمانون سنة وقيل زمان غير محدود وقيل هي جمع حقبة وهي السنة " فلما بلغ مجمع بينهما " الضمير في بلغا لموسى وفتاه والضمير في بينهما للبحرين * (نسيا حوتهما) * نسب النسيان إليهما وإنما كان النسيان من الفتى وحده كما تقول فعل بنو فلان كذا إذا فعله واحد منهم وقيل نسي الفتى أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه
191

بشيء * (فاتخذ سبيله في البحر سربا) * فاعل اتخذ الحوت والمعنى أنه سار في البحر فقيل إن الحوت كان ميتا مملوحا ثم صار حيا بإذن الله ووقع في الماء فسار فيه
وقال ابن عباس إنما حيي الحوت لأنه مسه ماء عين يقال لها عين الحياة ما مست قط شيئا إلا حيي وفي الحديث أن الله أمسك جرية الماء عن الحوت فصار مثل السراب وهو المسلك في جوف الأرض وذلك معجزة لموسى عليه السلام وقيل اتخذ الحوت سبيله في البحر سربا حتى وصل إلى البحر فعام على العادة ويرد هذا ما ورد في الحديث * (فلما جاوزا) * أي جاوزا الموضع الذي وصف له وهو الصخرة التي نام عندها فسار الحوت في البحر بينما كان موسى نائما وكان ذهاب الحوت أمارة لقائه للخضر فلما استيقظ موسى أصابه الجوع فقال لفتاه آتنا غداءنا * (نصبا) * أي تعبا * (قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة) * قال الزمخشري أرأيت هنا بمعنى أخبرني ثم قال فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له فالجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه فدهش ففلق يسأل موسى عن سبب ذلك فكأنه قال أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف بعض الكلام * (نسيت الحوت) * أي نسيت أن أذكر لك ما رأيت من ذهابه في البحر وتقديره نسيت ذكر الحوت * (أن أذكره) * بدل من الهاء في أنسانيه وهو بدل اشتمال * (واتخذ سبيله في البحر عجبا) * يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع أي اتخذ الحوت سبيله في البحر عجبا للناس أو اتخذ موسى سبيل الحوت عجبا أي تعجب هو منه وإعراب عجبا مفعول ثان لاتخذ مثل سربا وقيل إن الكلام تم عند قوله في البحر ثم ابتدأ التعجب فقال عجبا وذلك بعيد * (قال ذلك ما كنا نبغ) * أي فقد الحوت هو ما كنا نطلب لأنه أمارة على وجدان الرجل * (فارتدا على آثارهما قصصا) * أي رجعا في طريقهما يقصان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق * (فوجدا عبدا من عبادنا) * هو الخضر * (آتيناه رحمة) * يعني النبوة على قول من قال إن الخضر نبي وقيل إنه ليس بنبي ولكنه ولي وتظهر نبوته من هذه القصة أنه فعل أشياء لا يعملها إلا بوحي واختلف أيضا هل مات أو هو حي إلى الآن ويذكر كثيرا من الصلحاء أنهم يرونه ويكلمهم * (وعلمناه من لدنا علما) * في الحديث أن موسى وجد الخضر مسحى بثوبه فقال له السلام عليك فرفع رأسه وقال وأني بأرضك السلام قال له من أنت قال أنا موسى قال موسى بني إسرائيل قال نعم قال أولم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا قال بلى ولكني أحببت لقاءك وأن أتعلم منك قال إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه أنا " قاله موسى هل أتبعك " الآية مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه * (رشدا) * قرىء بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها والمعنى واحد وانتصب على أنه مفعول ثان بتعلمني أو حال من الضمير في أتبعك * (فانطلقا) * الضمير
192

لموسى والخضر وفي الحديث أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر حتى مرت بهما سفينة فعرفها الخضر فحمل فيها بغير نوال أي بغير أجرة * (خرقها) * روي أن الخضر أزال لوحين من ألواحها * (شيئا إمرا) * أي عظيما وقيل منكرا * (فانطلقا) * يعني بعد نزولهما من السفينة فمرا بغلمان يلعبون وفيهم غلام وضيء الصورة فاقتلع الخضر رأسه وقيل ذبحه وقيل أخذ صخرة فضرب بها رأسه والأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح وروي أن اسم الغلام جيسورا بالجيم وقيل بالحاء المهملة قال الزمخشري إن قلت لم قال خرقها بغير فاء وقال فقتله بالفاء والجواب أن خرقها جواب الشرط وقتله من جملة الشرط معطوف عليه والخبر قال أقتلت نفسا فإن قيل لم خولف بينهما فالجواب أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام * (نفسا زكية) * قيل إنه كان لم يبلغ فمعنى زكية ليس له ذنب وقيل إنه كان بالغا ولكنه لم ير له الخضر ذنبا * (بغير نفس) * يقتضي أنه لو كان قد قتل نفسا لم يكن بقتله بأس على وجه القصاص وهذا يدل على أن الغلام كان بالغا فإن غير البالغ لا يقتل وإن قتل نفسا * (شيئا نكرا) * أي منكرا وهو أبلغ من قوله إمرا ويجوز ضم الكاف وإسكانها * (قال ألم أقل لك) * بزيادة لك فيه من الزجر والإغلاظ ما ليس في قوله أولا ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا * (بعدها) * الضمير للقصة وإن لم يتقدم لها ذكر ولكن سياق الكلام يدل عليها * (قد بلغت من لدني عذرا) * أي قد أعذرت إلي فأنت معذور عندي وفي الحديث كانت الأولى من موسى نسيانا * (أتيا أهل قرية) * قيل هي أنطاكية وقيل برقة وقال أبو هريرة وغيره هي بالأندلس ويذكر أنها الجزيرة الخضراء وذلك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة * (استطعما أهلها) * أي طلبا منهم طعاما * (جدارا يريد أن ينقض) * أن يسقط وإسناده الإرادة إلى الجدار مجاز ومثل ذلك كثير في كلام العرب وحقيقته أنه قارب أن ينقض ووزن ينقض ينفعل وقيل يفعل بالتشديد كيحمر * (فأقامه) * قيل إنه هدمه ثم بناه وقيل مسحه بيده وأقامه فقام " لو شئت لتخذت عليه اجرا " أي قال موسى للخضر لو شئت لاتخذت عليه أجرا أي طعاما نأكله * (قال هذا فراق بيني وبينك) * إنما قال له هذا لأجل شرطه في قوله " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني " على أن قوله * (لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * ليس بسؤال ولكن في ضمنه أمر بأخذ الأجرة عليه لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام والبين هنا ليس بظرف وإنما معناه الوصلة والقرب وقال الزمخشري الأصل هذا فراق
193

بيني وبينك بتنوين فراق ونصب بيني على الظرفية ثم أضيف المصدر إلى الظرف والإشارة بقوله هذا إلى السؤال الثالث الذي أوجب الفراق * (أما السفينة فكانت لمساكين) * قيل إنهم تجار ولكنه قال فيهم مساكين على وجه الإشفاق عليهم لأنهم كانوا يغصبون سفينتهم أو لكونهم في لجج البحر وقيل كانوا إخوة عشرة منهم خمسة عالمون بالسفينة وخمسة ذوو عاهات لا قدرة لهم وقرئ مساكين بتشديد السين أي يمسكون السفينة * (وكان وراءهم) * قيل معناه قدامهم وقرأ ابن عباس أمامهم وقال ابن عطية إن وراءهم على بابه ولكن روعي به الزمان فالوراء هو المستقبل والأمام هو الماضي * (كل سفينة غصبا) * عموم معناه الخصوص في الجياد والصحاح من السفن ولذلك قرأ ابن مسعود يأخذ كل سفينة صالحة وقيل إن اسم هذا الملك هدد بن يدد وهذا يفتقر إلى نقل صحيح وفي الكلام تقديم وتأخير لأن قوله * (فأردت أن أعيبها) * مؤخر في المعنى عن ذكر غصبها لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها وإنما قدم للعناية به * (وأما الغلام) * روي أنه كان كافرا وروي أنه كان يفسد في الأرض * (فخشينا أن يرهقهما) * المتكلم بذلك الخضر وقيل إنه من كلام الله وتأويله على هذا فكر هنا وقال ابن عطية إنه من نحو ما وقع في القرن من عسى ولعل وإنما هو في حق المخاطبين ومعنى يرهقهما طغيانا وكفرا يكلفهما ذلك والمعنى أن يحملهما حبه على اتباعها أو يضر بهما لمخالطته مع مخالفته لهما * (خيرا منه) * أي غلاما آخر خيرا من الغلام المذكور المقتول * (زكاة) * أي طهارة وفضيلة في دينه * (وأقرب رحما) * أي رحمة وشفقة فقيل المعنى أن يرحمهما وقيل يرحمانه *
(لغلامين يتيمين) * اليتيم من فقد أبويه قبل البلوغ وروي أن اسم الغلامين أصرم وصريم واسم أبيهما كاشح وهذا يحتاج إلى صحة نقل * (كنز لهما) * قيل مال عظيم وقيل كان علما في صحف مدفونة والأول أظهر * (وكان أبوهما صالحا) * قيل إنه الأب السابع وظاهر اللفظ أنه الأقرب * (فأراد ربك) * أسند الإرادة هنا إلى الله لأنها في أالله وأسند الخضر إلى نفسه في قوله فأردت أن أعيبها لأنها لفظة عيب فتأدب بأن لا يسندها إلى الله وذلك كقول إبراهيم عليه السلام * (وإذا مرضت فهو يشفين) * فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تأدبا واختلف في قوله فأردنا أن يبدلهما هل هو مسند إلى ضمير الخضر أو إلى الله * (وما فعلته عن أمري) * هذا دليل على نبوة الخضر لأن المعنى أنه فعل بأمر الله أو بوحي " ويسئلونك عن ذي القرنين " السائلون اليهود أو قريش بإشارة اليهود وذو القرنين هو الإسكندر الملك وهو يوناني وقيل رومي وكان رجلا صالحا وقيل كان نبيا وقيل كان ملكا بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف
194

لم سمي ذو القرنين فقيل كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه فسمي بذلك وقيل لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا * (إنا مكنا له في الأرض) * التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم " آتيناه من كل شيء سببا " أي علما وفهما يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك * (فأتبع سببا) * أي طريقا يوصله * (وجدها تغرب في عين حمئة) * قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء على وزن فاعلة وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال أما العربية فأنتما أعلما بها مني ولكن أجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى حامية حارة ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين وقد قيل يمكن أن يكون فيها حمئة وتكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين ويجتمع معنى القراءتين * (قلنا يا ذا القرنين) * استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبي لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته * (إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا) * كانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل أو يدعوهم إلى الإسلام فيحسن إليهم وقيل الحسن هناهو الأسر وجعله حسنا بالنظر إلى القتل * (قال أما من ظلم فسوف نعذبه) * اختار أن يدعوهم إلى الإسلام فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم أحسن إليه والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله عذابا نكرا عذاب الآخرة * (فله جزاء الحسنى) * المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة * (وسنقول له من أمرنا يسرا) * وعدهم بأن ييسر عليهم * (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا) * هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت الأرض وقال ابن عطية الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب * (كذلك) * أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيما لأمره وقيل إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم سترا كما جعلنا لكم من المباني والثياب وقيل المعنى وجد عندها قوما كذلك أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله * (بين السدين) * أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض وقرئ بالفتح والضم وهما بمعنى واحد وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح * (وجد من دونهما قوما) * قيل هم الترك * (لا يكادون يفقهون قولا) * عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس فهم لا يفقهون القول
195

إلا بالإشارة أو نحوها * (يأجوج ومأجوج) * قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه منهم مفرط الطول ومفرط القصر * (مفسدون في الأرض) * لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشر وقيل كانوا يأكلون بني آدم * (فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا) * هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة والخرج الجباية ويقال فيه خراج وقد قرئ بهما فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالا ليقيم بها السد * (قال ما مكني فيه ربي خير) * أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي * (ردما) * أي حاجزا حصيبا والردم أعظم من السد * (ساوى بين الصدفين) * أي بين الجبلين * (قال انفخوا) * يريد نفخ الكير أي أوقدوا النار على الحديد * (قطرا) * أي نحاسا مذابا وقيل هو الرصاص وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من زبر الحديد حتى ملأ به ما بين الجبلين ثم افرغ عليه النحاس المذاب * (فما اسطاعوا أن يظهروه) * أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفا والضمير في يظهروه للسد ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السد لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته * (قال هذا رحمة من ربي) * القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم * (فإذا جاء وعد ربي) * يعني القيامة جعله دكا أي مبسوطا مسوى بالأرض * (وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض) * الضمير في تركنا لله عز وجل ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد والضمير في قوله بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج والأول أرجح لقوله بعد ذلك ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم * (ونفخ في الصور) * الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور * (وعرضنا جهنم) * أي أظهرناها * (كانت أعينهم في غطاء) * عبارة عن عمي بصائرهم وقلوبهم وكذلك لا يستطيعون سمعا * (أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) * يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء كما حكى عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم والعباد هنا من عبد مع الله ممن لا يريد ذلك كالملائكة وعيسى ابن مريم * (اعتدنا) * أي يسرنا * (نزلا) * ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله * (كانت لهم جنات الفردوس نزلا) * ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول * (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا) * الآية في كفار العرب كقوله كفروا بآيات ربهم
196

ولقائه وقيل في الرهبان لأنهم يتعبدون ويظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم وفي قوله يحسبون أنهم يحسنون تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف * (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت * (جنات الفردوس) * هي أعلا الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب * (حولا) * أي تحولا وانتقالا * (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي) * الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي
المعلومات فمعنى الآية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفذ البحر ولم ينفذ علم الله وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناه وعلم الله غير متناه * (بمثله مددا) * أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر * (فمن كان يرجو لقاء ربه) * إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه * (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعا إلى قوله يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أو يريد الرياء لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث
وأوله سورة مريم
197