الكتاب: تفسير ابن كثير
المؤلف: ابن كثير
الجزء: ٣
الوفاة: ٧٧٤
المجموعة: مصادر التفسير عند السنة
تحقيق: تقديم : يوسف عبد الرحمن المرعشلي
الطبعة:
سنة الطبع: ١٤١٢ - ١٩٩٢ م
المطبعة:
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنضيد الجديد وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق بدار المعرفة

تفسير القران العظيم
عماد الدين، أبو الفداء إسماعيل بن كثير
القرشي الدمشقي المتوفى سنة 774 ه‍
قدم له
الدكتور يوسف عبد الرحمن المرعشلي
أستاذ التفسير بالعهد العالي للدراسات الاسلامية
الجزء الثاني
دار المعرفة
بيروت.
لبنان
1

تمتاز هذه الطبعة بالمراجعة والتنقيح والتنصد الجديد وقد قام بفهرسة الأحاديث النبوية مكتب التحقيق
بدار المعرفة
طبع فهرس الأحاديث النبوية الشريفة في مجلد
يمكن الحصول عليه مستقل
جميع الا حقوق محفوظة للناشر
1991 م - 1412 ه‍
دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
2

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الإسراء
قال الامام الحافظ المتقن أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شعبة عن أبي
إسحاق قال سمعت عبد الرحمن بن يزيد سمعت ابن مسعود رضي الله عنه قال في بني إسرائيل والكهف ومريم:
إنهن من العتاق الأول وهن من تلادى. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا حماد بن زيد عن مروان عن
أبي لبابة سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول ما يريد أن يفطر ويفطر حتى نقول ما يريد
أن يصوم وكان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحن الله الذي اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من ايتنا إنه هو
السميع البصير (1)
يمجد تعالى نفسه ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره ولا رب سواه " الذي
أسرى بعبده " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " ليلا " أي في جنح الليل " من المسجد الحرام " وهو مسجد مكة " إلى
المسجد الأقصى " وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا جمعوا
له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم فدل على أنه هو الامام الأعظم والرئيس المقدم صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين. وقوله تعالى " الذي باركنا حوله " أي في الزروع والثمار " لنريه " أي محمدا " من
آياتنا " أي العظام كما قال تعالى " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " وسنذكر من ذلك ما وردت به السنة من
الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى " إنه هو السميع البصير " أي السميع لأقوال عباده مؤمنهم وكافرهم مصدقهم
ومكذبهم البصير بهم فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة.
" ذكر الأحاديث الواردة في الاسراء: رواية أنس بن مالك رضي الله عنه "
قال الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني عبد العزيز بن عبد الله حدثنا سليمان - هو ابن بلال عن شريك بن
عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن
يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام فقال أولهم أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا
خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء
3

تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما
بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ثم أتى بطست من ذهب
فيه نور من ذهب محشو إيمانا وحكمة فحشا به صدره ولغا ديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى
السماء الدنيا فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال جبريل قالوا ومن معك؟ قال معي
محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قالوا فمرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد
الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلم عليه
ورد عليه آدم فقال مرحبا وأهلا بابني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان فقال " ما هذان
النهران يا جبريل؟ " قال هذان النيل والفرات عنصرهما ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من
لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر فقال " ما هذا يا جبريل " قال هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم
عرج به إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا
ومن معك؟ قال محمد صلى الله عليه وسلم قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قالوا مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له
مثل ما قالت الأولى والثانية ثم عرج به إلى السماء الرابعة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء الخامسة فقالوا
له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السادسة فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة فقالوا له مثل ذلك
كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة وآخر في الخامسة لم أحفظ
اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى فقال موسى رب لم أظن أن ترفع علي
أحدا ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عز وجل حتى جاء سدرة المنتهى ودنا الجبار رب العزة فتدلى،
حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ثم هبط به
حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال يا محمد ماذا عهد إليك ربك؟ قال " عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة "
قال إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في
ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى وتقدس فقال وهو في مكانه " يا رب خفف عنا
فإن أمتي لا تستطيع هذا " فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه
حتى صارت إلى خمس صلوات ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي
على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا فأرجع فليخفف عنك
ربك كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال " يا رب إن
أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم فخفف عنا " فقال الجبار تبارك وتعالى: " يا محمد قال
لبيك وسعديك " قال إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب فكل حسنة بعشر أمثالها
فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال كيف فعلت؟ فقال " خفف عنا أعطانا بكل
حسنة عشر أمثالها " قال موسى قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه فارجع إلى ربك فليخفف
عنك أيضا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا موسى قد والله استحييت من ربي عز وجل مما أختلف إليه " قال فاهبط باسم
الله قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد ورواه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم
وعلى آله وسلم عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه أبي بكر عبد الحميد عن سليمان بن بلال. ورواه مسلم عن
هارون بن سعيد عن ابن وهب عن سليمان قال فزاد ونقص وقدم وأخر وهو كما قال مسلم فإن شريك بن
عبد الله بن أبي نمر اضطرب في هذا الحديث وساء حفظه ولم يضبطه كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الأحاديث
الاخر ومنهم من يجعل هذا مناما توطئة لما وقع بعد ذلك والله أعلم. وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي في حديث
شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى عز وجل يعني قوله " ثم دنا " الجبار رب العزة " فتدلى فكان
4

قاب قوسين أو أدنى " قال وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل أصح
وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق فإن أبا ذر قال يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال
" نور أنى أراه " وفي رواية " رأيت نورا " أخرجه مسلم وقوله " ثم دنا فتدلى " إنما هو جبريل عليه السلام كما
ثبت ذلك في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين وعن ابن مسعود وكذلك هو في صحيح مسلم عن أبي هريرة
ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا وقال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا
حماد بن سلمة أخبرنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق
الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة
التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت
اللبن فقال جبريل: أصبت الفطرة قال ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال
جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل وقد أرسل إليه؟ قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي
بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل
وقد أرسل إليه؟ قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا
إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل له من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل وقد أرسل إليه؟
قال قد أرسل إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن فرحب بي ودعا لي بخير
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل فقيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد
أرسل إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بي ودعا لي بخير ثم يقول الله تعالى " ورفعناه مكانا
عليا " ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة قال جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل فقيل ومن معك؟ قال محمد
فقيل قد أرسل إليه؟ قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء
السادسة فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد بعث إليه؟ قال قد بعث
إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى عليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل
فقيل من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد فقيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا
بإبراهيم عليه السلام وإذا هو مستند إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون
إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشها
تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها قال فأوحى الله إلي ما أوحى، وقد فرض علي
في كل يوم وليلة خمسين صلاة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة
في كل يوم وليلة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فإن أمتك لا تطيق ذلك وإني قد بلوت بني إسرائيل
وخبرتهم قال فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن أمتي فحط عني خمسا فنزلت حتى انتهيت إلى موسى
فقال ما فعلت فقلت قد حط عني خمسا فقال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك قال
فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحط عني خمسا خمسا حتى قال: يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم
وليلة بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت عشرا ومن
هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة. فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع
إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فإن أمتك لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد رجعت إلى ربي حتى
استحييت " ورواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة بهذا السياق وهو أصح من سياق شريك. قال
البيهقي وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس
وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة
5

عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مسرجا ملجما ليركبه فاستصعب عليه فقال له جبريل ما يحملك
على هذا فوالله ما ركبك قط أكرم على الله منه قال فارفض عرقا ورواه الترمذي عن إسحاق بن منصور عن عبد
الرزاق وقال غريب لا نعرفه إلا من حديثه. وقال أحمد أيضا حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثني راشد بن
سعيد وعبد الرحمن بن جبير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما عرج بي إلى ربي عز وجل مررت بقوم لهم
أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم
الناس ويقعون في أعراضهم " وأخرجه أبو داود من حديث صفوان بن عمرو به ومن وجه آخر ليس فيه أنس فالله
أعلم. وقال أيضا حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن سليمان التيمي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مر رت ليلة
أسري بي على موسى عليه السلام قائما يصلي في قبره " ورواه مسلم من حديث حماد بن سلمة عن سليمان بن
طرخان التيمي وثابت البناني كلاهما عن أنس قال النسائي هذا أصح من رواية من قال سليمان عن ثابت عن
أنس. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد عن التيمي عن أنس قال
أخبرني بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر على موسى وهو يصلي في قبره وقال أبو يعلى
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا معتمر عن أبيه قال سمعت أنسا أن النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به مر بموسى
وهو يصلي في قبره قال أنس ذكر أنه حمل على البراق فأوثق الدابة أو قال الفرس قال أبو بكر صفها لي فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي كذه وذه " فقال أشهد أنك رسول الله وكان أبو بكر رضي الله عنه قد رآها وقال الحافظ أبو
بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا سعيد بن منصور حدثنا الحارث بن عبيد عن أبي
عمران الجوني عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام
فوكز بين كتفي فقمت إلى شجرة فيها كوكري الطير فقعد في أحدهما وقعدت في الآخر فسمت وارتفعت حتى
سدت الخافقين وأنا أقلب طرفي ولو شئت أن أمس السماء لمسست فالتفت إلى جبريل كأنه حلس لاط فعرفت
فضل علمه بالله علي وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم وإذا دون الحجاب رفرف الدر والياقوت
وأوحى إلي ما شاء الله أن يوحي " ثم قال ولا نعلم روى هذا الحديث الا انس ولا نعلم رواه عن أبي عمران
الجوني إلا الحارث بن عبيد وكان رجلا مشهورا من أهل البصرة. ورواه الحافظ البيهقي الدلائل عن أبي بكر
القاضي عن أبي جعفر محمد بن علي بن دحيم عن محمد بن الحسين بن أبي الحسين عن سعيد بن منصور فذكره
بسنده مثله ثم قال وقال غيره في هذا الحديث في آخره ولط دوني أو قال دون الحجاب رفرف الدر والياقوت ثم قال
هكذا رواه الحارث بن عبيد ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن محمد بن عمير بن عطارد أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان في ملا من أصحابه فجاءه جبريل فنكت في ظهره فذهب به إلى الشجرة وفيها مثل وكري الطير فقعد في
أحدهما وقعد جبريل في الآخر " فنشأت بنا حتى بلغت الأفق فلو بسطت يدي إلى السماء لنلتها فدلي بسبب وهبط
إلي النور فوقع جبريل مغشيا عليه كأنه حلس فعرفت فضل خشيته على خشيتي فأوحي إلي: نبيا ملكا أو نبيا عبدا
وإلى الجنة ما أنت فأومأ إلي جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال قلت لا بل نبيا عبدا " قلت وهذا إن صح يقتضي
أنها واقعة غير ليلة الاسراء فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء فهي كائنة غير ما نحن فيه والله
أعلم. وقال البزار أيضا حدثنا عمرو بن عيسى حدثنا أبو بحر حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى
ربه عز وجل وهذا غريب. وقال أبو جعفر بن جرير حدثنا يونس حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا يعقوب بن عبد
الرحمن الزهري عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال: لما جاء
جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها فقال لها جبريل مه يا براق فوالله ما ركبك مثله وسار رسول
الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال " ما هذه يا جبريل؟ قال سر يا محمد قال فسار ما شاء الله أن
يسير فإذا شئ يدعوه متنحيا عن الطريق فقال هلم يا محمد فقال له جبريل سر يا محمد فسار ما شاء الله أن
6

يسير قال، فلقيه خلق من خلق الله فقالوا السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر،
فقال له جبريل أردد السلام يا محمد فرد السلام ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى ثم الثالثة كذلك حتى
انتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الخمر والماء واللبن فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن فقال له جبريل أصبت الفطرة
ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك ثم بعث له آدم فمن دونه من
الأنبياء عليهم السلام فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ثم قال له جبريل: أما العجوز التي رأيت على جانب
الطريق فلم يبق من الدنيا إلا كما بقي من عمر تلك العجوز وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس
أراد أن تميل إليه وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وهكذا رواه الحافظ البيهقي
في دلائل النبوة من حديث ابن وهب وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة " طريق أخرى " عن أنس بن مالك وفيها
غرابة ونكارة جدا وهي في سنن النسائي المجتبى ولم أرها في الكبير قال: حدثنا عمرو بن هشام حدثنا مخلد هو
ابن الحسين عن سعيد بن عبد العزيز حدثنا يزيد بن أبي مالك حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتيت
بدابة فوق الحمار ودون البغل خطوها عند منتهى طرفها فركبت ومعي جبريل عليه السلام فسرت فقال انزل فصل
فصليت فقال أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين
صليت؟ صليت بطور سيناء حيث كلم الله موسى ثم قال انزل فصل فصليت فقال أتدري أين صليت،
صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى عليه السلام ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني
جبريل عليه السلام حتى أممتهم ثم صعد بي إلى السماء الدنيا فإذا فيها آدم عليه السلام ثم صعد بي إلى
السماء الثانية فإذا فيها ابنا الخالة عيسى ويحيى عليهما السلام ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فإذا فيها يوسف
عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فإذا فيها هارون عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فإذا
فيها إدريس عليه السلام ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها موسى عليه السلام ثم صعد بي إلى
السماء السابعة فإذا فيها إبراهيم عليه السلام ثم صعد بي فوق سبع سماوات وأتيت سدرة المنتهى فغشتني ضبابة
فخررت ساجدا فقيل لي إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت
وأمتك فرجعت بذلك حتى أمر بموسى عليه السلام فقال ما فرض ربك على أمتك؟ قلت خمسين صلاة قال
فإنك لا تستطيع أن تقوم بها لا أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فرجعت إلى ربي فخفف عني
عشرا ثم أتيت موسى فأمرني بالرجوع فرجعت فخفف عني عشرا ثم ردت إلى خمس صلوات قال فارجع
إلى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما فرجعت إلى ربي عز وجل فسألته
التخفيف فقال إني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمس صلوات فخمس بخمسين فقم
بها أنت وأمتك قال فعرفت أنها من الله عز وجل صري فرجعت إلى موسى عليه السلام فقال ارجع فعرفت أنها
من الله عز وجل صري - يقول أي حتم - فلم أرجع " " طريق أخرى " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام
ابن عمار حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما كان ليلة أسري
برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس أتاه جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل حمله جبريل عليها ينتهي خفها حيث
ينتهي طرفها فلما بلغ بيت المقدس وبلغ المكان الذي يقال له باب محمد صلى الله عليه وسلم أتى إلى الحجر الذي ثمة فغمزه
جبريل بأصبعه فثقبه ثم ربطها ثم صعد فلما استويا في صرحة المسجد قال جبريل يا محمد هل سألت ربك أن
يريك الحور العين؟ فقال " نعم " فقال فانطلق إلى أولئك النسوة فسلم عليهن وهن جلوس عن يسار الصخرة
قال " فأتيتهن فسلمت عليهن فرددن علي السلام فقلت: من أنتن؟ فقلن نحن خيرات حسان نساء قوم أبرار نقوا
فلم يدرنوا وأقاموا فلم يظعنوا وخلدوا فلم يموتوا قال ثم انصرفت فلم ألبث إلا يسيرا حتى اجتمع ناس كثير
ثم أذن مؤذن وأقيمت الصلاة قال فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا فأخذ بيدي جبريل عليه السلام فقدمني فصليت
7

بهم فلما انصرفت قال جبريل يا محمد أتدري من صلى خلفك؟ قال قلت: لا قال صلى خلفك كل نبي بعثه
الله عز وجل قال ثم أخذ بيدي جبريل فصعد بي إلى السماء فلما انتهينا إلى الباب استفتح فقالوا من أنت؟ قال
أنا جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم قال ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك
قال فلما استوى على ظهرها إذا فيها آدم فقال لي جبريل يا محمد ألا تسلم على أبيك آدم؟ قال قلت بلى فأتيته
فسلمت عليه فرد علي وقال مرحبا بابني الصالح والنبي الصالح قال ثم عرج بي إلى السماء الثانية فاستفتح فقالوا
من أنت؟ قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحبا بك
وبمن معك فإذا فيها عيسى وابن خالته يحيى عليهما السلام قال ثم عرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قالوا
من أنت؟ قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحبا بك
وبمن معك فإذا فيها يوسف عليه السلام ثم عرج بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا من أنت؟ قال جبريل
قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا وقد بعث إليه قال نعم؟ قال ففتحوا وقالوا له مرحبا بك وبمن معك فإذا فيها
إدريس عليه السلام قال فعرج بي إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك
قال محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قال ففتحوا وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها هارون عليه
السلام ثم عرج بي إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال
محمد قالوا وقد بعث إليه؟ قال نعم قال ففتحوا وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها موسى عليه السلام
ثم عرج بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقالوا من أنت قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا وقد
بعث إليه؟ قال نعم ففتحوا له وقالوا مرحبا بك وبمن معك وإذا فيها إبراهيم عليه السلام فقال جبريل يا محمد ألا
تسلم على أبيك إبراهيم؟ قلت بلى فأتيته فسلمت عليه فرد علي السلام وقال مرحبا بابني الصالح والنبي
الصالح ثم انطلق بي على ظهر السماء السابعة حتى انتهى بي إلى نهر عليه خيام اللؤلؤ والياقوت والزبرجد
وعليه طير خضر أنعم طير رأيت فقلت يا جبريل إن هذا الطير لناعم قال يا محمد آكله أنعم منه ثم قال يا
محمد أتدري أي نهر هذا؟ قال قلت لا قال هذا الكوثر الذي أعطاك الله إياه فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجري
على رضراض من الياقوت والزمرد دماؤه أشد بياضا من اللبن قال فأخذت من آنيته آنية من الذهب فاغترفت من
ذلك الماء فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك ثم انطلق بي حتى انتهيت إلى الشجرة
فغشيتني سحابة فيها من كل لون فرفضني جبريل وخررت ساجدا لله عز وجل فقال الله لي: يا محمد إني يوم
خلقت السماوات والأرض افترضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فقم بها أنت وأمتك. قال ثم انجلت عني
السحابة فأخذ بيدي جبريل فانصرفت سريعا فأتيت على إبراهيم فلم يقل لي شيئا فأتيت على موسى فقال ما
صنعت يا محمد؟ فقلت فرض ربي علي وعلى أمتي خمسين صلاة قال فلن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى
ربك فاسأله أن يخفف عنك فرجعت سريعا حتى انتهيت إلى الشجرة فغشيتني السحابة ورفضني جبريل وخررت
ساجدا وقلت رب إنك فرضت علي وعلى أمتي خمسين صلاة ولن أستطيعها أنا ولا أمتي فخفف عنا قال قد
وضعت عنكم عشرا قال ثم انجلت عني السحابة وأخذ بيدي جبريل قال فانصرفت سريعا حتى أتيت على إبراهيم
فلم يقل لي شيئا ثم أتيت على موسى فقال لي ما صنعت يا محمد؟ فقلت وضع عني ربي عشرا قال فأربعون
صلاة لن تستطيعها أنت ولا أمتك فارجع إلى ربك فاسأله أن يخفف عنكم - فذكر الحديث كذلك إلى خمس
صلوات وخمس بخمسين ثم أمره موسى أن يرجع فيسأله التخفيف - فقلت إني قد استحييت منه تعالى " قال ثم
انحدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل " ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي وضحكوا لي غير رجل واحد فسلمت
عليه فرد علي السلام ورحب بي ولم يضحك لي " قال يا محمد ذاك مالك خازن جهنم لم يضحك منذ خلق ولو
ضحك إلى أحد لضحك إليك قال ثم ركب منصرفا فبينا هو في بعض الطريق مر بعير لقريش تحمل طعاما منها
8

جمل عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت وصرع ذلك البعير وانكسر
ثم إنه مضى فأصبح فأخبر عما كان فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا يا أبا بكر هل لك في صاحبك؟
يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر ورجع في ليلته فقال أبو بكر رضي الله عنه إن كان قاله فقد صدق وإنا
لنصدقه فيما هو أبعد من هذا لنصدقه على خبر السماء فقال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما علامة ما تقول قال " مررت
بعير لقريش وهي في مكان كذا وكذا فنفرت الإبل منا واستدارت وفيها بعير عليه غرارتان غرارة سوداء وغرارة بيضاء
فصرع فانكسر " فلما قدمت العير سألوهم فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ذلك سمي أبو بكر
أبو بكر الصديق وسألوه وقالوا هل كان فيمن حضر معك موسى وعيسى؟ قال " نعم " قالوا فصفهم لنا قال " نعم أما
موسى فرجل آدم كأنه من رجال أزد عمان وأما عيسى فرجل ربعة سبط تعلوه حمرة كأنما يتحادر من شعره
الجمان " هذا سياق فيه غرائب عجيبة. " رواية أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة " قال الإمام أحمد حدثنا
عفان حدثنا همام قال سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك أن مالك بن صعصعة حدثه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم
عن ليلة أسري به قال " بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجعا إذ أتاني آت فجعل يقول
لصاحبه الأوسط بين الثلاثة قال فأتاني فقد - وسمعت قتادة يقول فشق - ما بين هذه إلى هذه " وقال قتادة فقلت
للجارود وهو إلى جنبي ما يعني قال من ثغرة نحره إلى شعرته وقد سمعته يقول من قصته إلى شعرته قال
" فاستخرج قلبي - قال فأتيت بطست من ذهب مملوء إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد ثم أتيت بدابة
دون البغل وفوق الحمار أبيض " قال فقال الجارود هو البراق يا أبا حمزة؟ قال نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه قال
" فحملت عليه فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل
قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم فقيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء قال ففتح لنا فلما خلصت
فإذا فيها آدم عليه السلام قال هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي
الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا فقال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد
أرسل إليه؟ قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا
الخالة قال هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما قال فسلمت فردا السلام ثم قالا مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح
ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد أرسل
إليه؟ قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء قال ففتح لنا فلما خلصت إذا يوسف عليه السلام قال هذا يوسف
قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة
فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قيل مرحبا به
ولنعم المجئ جاء قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام قال هذا إدريس قال فسلمت عليه فرد
السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح قال ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح فقيل من هذا
قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل أو قد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء ففتح لنا فلما
خلصت فإذا هارون عليه السلام قال هذا هارون فسلم عليه قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالأخ
الصالح والنبي الصالح قال ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قيل ومن
معك؟ قال محمد قيل أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء ففتح لنا فلما خلصت فإذا أنا
بموسى عليه السلام قال هذا موسى عليه السلام فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح
والنبي الصالح قال فلما تجاوزته بكى قيل له ما يبكيك قال أبكي لان غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته
أكثر مما يدخلها من أمتي. قال ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك
قال محمد قيل أو قد بعث إليه قال نعم قيل مرحبا به ولنعم المجئ جاء قال ففتح لنا فلما خلصت فإذا إبراهيم
9

عليه السلام فقال هذا إبراهيم فسلم عليه قال فسلمت عليه فرد السلام ثم قال مرحبا بالابن الصالح والنبي
الصالح قال ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل آذان الفيلة فقال هذه سدرة
المنتهى قال وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران فقلت ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران في
الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات قال ثم رفع إلى البيت المعمور " قال قتادة وحدثنا الحسن عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفا ثم لا يعودون فيه ثم رجع إلى حديث أنس قال " ثم
أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل - قال - فأخذت اللبن قال هذه الفطرة أنت عليها وأمتك - قال - ثم
فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم - قال - فنزلت حتى أتيت موسى فقال ما فرض ربك على أمتك؟
قال فقلت خمسين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني
إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك قال فرجعت فوضع عني عشرا قال فرجعت إلى
موسى فقال بم أمرت؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم قال إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم وإني قد خبرت
الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك قال فرجعت فوضع
عني عشرا أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت فقلت أمرت بثلاثين صلاة
قال إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف
لامتك قال فرجعت فوضع عني عشرا أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ قلت بعشرين صلاة كل يوم فقال
إن أمتك لا تستطيع لعشرين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع
إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك قال فرجعت فوضع عني عشرا أخر فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ فقلت
أمرت بعشر صلوات كل يوم فقال إن أمتك لا تستطيع لعشر صلوات كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت
بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك قال فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم
فرجعت إلى موسى فقال بم أمرت فقلت أمرت بخمس صلوات كل يوم فقال إن أمتك لا تستطيع لخمس صلوات
كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك
قال قلت قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم فنفذت فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن
عبادي " وأخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة بنحوه. " رواية أنس عن أبي ذر " قال البخاري حدثنا يحيى بن
بكير حدثنا الليث عن يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فرج
عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة
وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء قال جبريل
لخازن السماء افتح قال من هذا قال جبريل قال هل معك أحد قال نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم فقال أرسل إليه؟ قال نعم
فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر
قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال قلت لجبريل من هذا قال هذا آدم وهذه الأسودة عن
يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار فإذ ا نظر عن يمينه
ضحك وإذا نظر عن شماله بكى ثم عرج بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها افتح فقال له خازنها مثل ما قال له
الأول ففتح " قال أنس فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كيف منازلهم غير
أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة قال أنس فلما مر جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس قال
" مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا قال إدريس ثم مر بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ
الصالح فقلت من هذا قال هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا؟
قال هذا عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا قال هذا إبراهيم ". قال
10

الزهري فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال النبي صلى الله عليه وسلم " ثم عرج بي حتى ظهرت
لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام " قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ففرض الله على أمتي خمسين
صلاة فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام فقال ما فرض الله على أمتك؟ قلت فرض خمسين
صلاة قال موسى فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت وضع
شطرها فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه فقال ارجع إلى ربك فإن
أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقا ل هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي فرجعت إلى موسى فقال ارجع إلى
ربك قلت قد استحييت من ربي ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي
ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك " وهذا لفظ البخاري في كتاب الصلاة ورواه في ذكر بني
إسرائيل وفي الحج وفي أحاديث الأنبياء من طرق أخرى عن يونس به ورواه مسلم في صحيحه في كتاب الايمان
عن حرملة عن ابن وهب عن يونس به نحوه.
وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
لسألته قال وما كنت تسأله! قال كنت أسأله هل رأى ربه فقال إني قد سألته فقال: " قد رأيته نورا أنى أراه " هكذا
قد وقع في رواية الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن يزيد بن إبراهيم
عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك قال: " نور أنى أراه " وعن
محمد بن بشار عن معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن عبد الله بن شقيق قال قلت لأبي ذر لو رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم لسألته فقال عن أي شئ كنت تسأله؟ قال كنت أسأله هل رأيت ربك قال أبو ذر قد سألت فقال " رأيت نورا ".
" رواية أنس عن أبي بن كعب الأنصاري رضي الله عنه " قال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا محمد بن إسحاق بن
محمد بن المسيني حدثنا أنس بن عياض حدثنا يونس بن يزيد قال: قال ابن شهاب قال أنس بن مالك كان أبي بن
كعب يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله من ماء
زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى
السماء فلما جاء السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه تبسم وإذا نظر قبل
يساره بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال قلت لجبريل من هذا؟ قال هذا آدم وهذه الأسودة التي
عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل يمينه هم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله هم أهل النار فإذا نظر قبل يمينه
ضحك وإذا نظر قبل يساره بكى قال ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها افتح فقال له
خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح له " قال أنس فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى
وإبراهيم وعيسى ولم يثبت لي كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم عليه السلام في السماء الدنيا وإبراهيم في
السماء السادسة قال أنس فلما مر جبريل عليه السلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ
الصالح قال " قلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا إدريس قال ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح
والأخ الصالح فقلت من هذا قال هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت
من هذا قال هذا عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا
قال هذا إبراهيم " قال ابن شهاب وأخبر ني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع صريف الأقلام " قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" فرض الله على أمتي خمسين صلاة قال فرجعت بذلك حتى أمر على موسى فقال لي موسى ماذا فرض ربك على
أمتك؟ قلت فرض عليهم خمسين صلاة فقال موسى راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي
فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فقال هي خمس
11

فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فرجعت فقال هي خمس
وهي خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال ثم
انطلق بي حتى أتى سدرة المنتهى قال فغشيها ألوان ما أدرى ما هي قال ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ
وإذا ترابها المسك " هكذا رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه وليس هو في شئ من الكتب الستة وقد تقدم
في الصحيحين من طريق يونس عن الزهري عن أنس عن أبي ذر مثل هذا السياق سواء فالله أعلم.
" رواية بريدة بن الحصيب الأسلمي " قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عبد الرحمن بن المتوكل ويعقوب بن
إبراهيم واللفظ له قالا: حدثنا أبو نميلة حدثنا الزبير بن جنادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لما كان ليلة أسري بي - قال - فأتى جبريل الصخرة التي ببيت المقدس قال فوضع أصبعه فيها فخرقها فشد
بها البراق " ثم قال البزار: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو نميلة ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة وقد
رواه الترمذي في التفسير من جامعه عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي به وقال غريب " رواية جابر بن عبد الله
رضي الله عنه " قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة
سمعت جابر بن عبد الله يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت
في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه " أخرجاه في الصحيحين من طرق
عن حديث الزهري به وقال البيهقي حدثنا أحمد بن الحسن القاضي حدثنا أبو العباس الأصم حدثنا العباس بن
محمد الدوري حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال سمعت سعيد بن
المسيب يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى وإنه أتي بقدحين
قدح من لبن وقدح من خمر فنظر إليهما ثم أخذ قدح اللبن فقال جبريل أصبت هديت للفطرة لو أخذت الخمر
لغوت أمتك ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه. وقال ابن
شهاب قال أبو سلمة بن عبد الرحمن فتجهز أو كلمة نحوها ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا هل لك في
صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة فقال أبو بكر أو قال ذلك؟ قالوا
نعم قال فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا فتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى
مكة قبل أن يصبح؟ قال نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء. قال أبو سلمة فبها سمي أبو بكر
الصديق قال أبو سلمة سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لما
كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن
آياته وأنا أنظر إلي " " رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنه " قال الإمام أحمد ثنا أبو النضر ثنا سليمان عن شيبان
عن عاصم عن زر بن حبيش قال أتيت على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو يحدث عن ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم
وهو يقول: فانطلقا حتى أتينا بيت المقدس فلم يدخلاه قال قلت بل دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ وصلى فيه
قال ما اسمك يا أصلع؟ فأنا أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك قال قلت أنا زر بن حبيش قال فما علمك بأن
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه ليلتئذ قال قلت القرآن يخبرني بذلك قال فمن تكلم بالقرآن فلج اقرأ قال فقلت " سبحان
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " قال يا أصلع هل تجد صلى فيه؟ قلت لا قال
والله ما صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتئذ ولو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه كما كتب عليكم صلاة في البيت
العتيق والله ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء فرأيا الجنة والنار ووعد الآخرة أجمع ثم عادا عودهما
على بدئهما قال ثم ضحك حتى رأيت نواجذه. قال ويحدثون أنه ربطه لا يفر منه وإنما سخره له عالم الغيب
والشهادة قلت أبا عبد الله أي دابة البراق؟ قال دابة أبيض طويل هكذا خطوه مد البصر. ورواه أبو داود الطيالسي
عن حماد بن سلمة عن عاصم به ورواه الترمذي والنسائي في التفسير من حديث عاصم وهو ابن أبي النجود به
وقال الترمذي حسن وهذا الذي قاله حذيفة رضي الله عنه نفى ما أثبته غيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربط الدابة
12

بالحلقة ومن الصلاة ببيت المقدس مما سبق وما سبق مقدم على قوله والله أعلم بالصواب " رواية أبي سعيد
سعد بن مالك بن سنان الخدري " قال الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب دلائل النبوة حدثنا أبو عبد الله محمد بن
عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أبو بكر يحيى بن أبي طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء
حدثنا أبو محمد راشد الحماني عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال له أصحابه يا رسول الله أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها قال قال الله عز وجل " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا "
الآية قال فأخبرهم قال " فبينما أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آت فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئا
فإذا أنا بكهيئة خيال فأتبعته بصري حتى خرجت من المسجد الحرام فإذا أنا بدابة أدنى شبها بدوابكم
هذه بغالكم هذه غير أنه مضطرب الاذنين يقال له البراق وكانت الأنبياء تركبه قبلي يقع حافره عند مد بصره فركبته فبينما
أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يميني يا محمد انظرني أسألك يا محمد انظرني أسألك يا محمد انظرني أسألك
فلم أجبه ولم أقم عليه فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يساري يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم
عليه فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله فقالت يا محمد انظرني أسألك
فلم ألتفت إليها ولم أقم عليها حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها بها
ثم أتاني جبريل عليه السلام بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن فشربت اللبن وأبيت الخمر فقال جبريل أصبت الفطرة
أما إنك لو أخذت الخمر غوت أمتك فقلت الله أكبر الله أكبر فقال جبريل ما رأيت في وجهك هذا؟ قال فقلت
بينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يميني يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه قال ذاك داعي اليهود أما
إنك لو أجبته أو وقفت عليه لتهودت أمتك. قال فبينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يساري قال يا محمد انظرني
أسألك فلم ألتفت ولم أقم عليه قال ذاك داعي النصارى أما إنك لو أجبته لتنصرت أمتك قال فبينما أنا أسير إذا
أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله يا محمد انظرني أسألك فلم أجبها ولم أقم عليها قال
تلك الدنيا أما إنك لو أجبتها أو قمت عليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة. قال ثم دخلت أنا وجبريل بيت
المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين ثم أتيت بالمعراج الذي كانت تعرج عليه أرواح الأنبياء فلم ير الخلائق
أحسن من المعراج أما رأيت الميت حين يشق بصره طامحا إلى السماء فإنما يشق بصره طامحا إلى السماء عجبه
بالمعراج قال فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب السماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف
ملك مع كل ملك جنوده مائة ألف ملك قال: قال الله عز وجل " وما يلم جنود ربك إلا هو " قال فاستفتح
جبريل باب السماء قيل من هذا؟ قال جبريل ومن معك؟ قال محمد قيل أو قد بعث إليه؟ قال نعم فإذا أنا
بآدم كهيئته يوم خلقه الله عز وجل على صورته؟ فإذا هو تعرض عليه أرواح ذريته من المؤمنين فيقول روح طيبة
ونفس طيبة اجعلوها في عليين ثم تعرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في
سجين فمضيت هنيهة فإذا أنا بأخونة عليها لحما مشرح ليس يقربها أحد وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح
وأنتن عندها أناس يأكلون منها قلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء من أمتك يأتون الحرام ويتركون الحلال
قال ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل قال فتفتح أفواههم فيلقمون من ذلك الجمر ثم يخرج
من أسافلهم فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء من أمتك " الذين يأكلون
أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا " قال ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بنساء تعلقن
بثديهن فسمعتهن يضججن إلى الله عز وجل قلت يا جبريل من هؤلاء النساء؟ قال هؤلاء الزناة من أمتك. قال
13

ثم مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام بطونهم أمثال البيوت كلما نهض أحدهم خر فيقول اللهم لا تقم الساعة قال وهم
على سابلة آل فرعون قال فتجئ السابلة فتطؤوهم قال فسمعتهم يضجون إلى الله قال قلت يا جبريل من هؤلاء؟
قال هؤلاء من أمتك " الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " قال ثم
مضيت هنيهة فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقمونه فيقال له كل كما كنت تأكل من لحم أخيك قلت يا
جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون قال ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل
أحسن ما خلق الله عز وجل قد فضل الناس في الحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت يا جبريل من
هذا؟ قال هذا أخوك يوسف ومعه نفر من قومه فسلمت عليه فرد علي ثم صعدنا إلى السماء الثالثة واستفتح فإذا
أنا بيحيى وعيسى عليهما السلام ومعهما نفر من قومهما فسلمت عليهما وسلما علي ثم صعدنا إلى السماء الرابعة
فإذا أنا بإدريس قد رفعه الله مكانا عليا فسلمت عليه فسلم علي قال ثم صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا أنا
بهارون ونصف لحيته بيضاء ونصفها سوداء تكاد لحيته تصيب سرته من طولها قلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا
المحبب في قومه هذا هارون بن عمران ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي ثم صعدت إلى السماء
السادسة فإذا أنا بموسى بن عمران رجل آدم كثير الشعر لو كان عليه قميصان لنفذ شعره دون القميص فإذا هو يقول
يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا بل هذا أكرم على الله مني قال قلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا أخوك
موسى بن عمران عليه السلام ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي ثم صعدت إلى السماء السابعة فإذا أنا
بأبينا إبراهيم خليل الرحمن ساند ظهره إلى البيت المعمور كأحسن الرجال قلت يا جبريل من هذا؟ قال هذا أبوك
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ومعه نفر من قومه فسلمت عليه فسلم علي وإذا أنا بأمتي شطرين شطر عليهم
ثياب بيض كأنها القراطيس وشطر عليهم ثياب رمد قال فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب
البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب الرمد وهم على خير فصليت أنا ومن معي. في البيت المعمور ثم
خرجت أنا ومن معي قال والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة قال
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا كل ورقة منها تكاد تغطي هذه الأمة: وإذا فيها عين تجري يقال لها سلسبيل
فينشق منها نهران " أحدهما " الكوثر " والآخر " يقال له نهر الرحمة فاغتسلت فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما
تأخر. ثم إني رفعت إلى الجنة فاستقبلتني جارية فقلت لمن أنت يا جارية؟ قالت لزيد بن حارثة وإذا بأنهار من
ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى وإذا رمانها
كالدلاء عظما وإذا أنا بطيرها كأنها بختكم هذه فقال عندها صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال ثم عرضت علي النار فإذا فيها غضب الله وزجر ه ونقمته
ولو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني ثم إني رفعت إلى سدرة المنتهى فتغشاني فكان بيني
وبينه قاب قوسين أو أدنى قال وينزل على كل ورقة منها ملك من الملائكة قال وفرضت علي خمسون صلاة
وقال لك بكل حسنة عشر فإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتب لك حسنة فإذا عملتها كتبت لك عشرا وإذا
هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شئ. فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة ثم رجعت إلى موسى
فقال بما أمرك ربك؟ فقلت بخمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فإن أمتك لا تطيق ذلك
ومتى لا تطيقه تكفر. فرجعت إلى ربي فقلت يا رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم فوضع عني عشرا وجعلها
أربعين فما زلت أختلف بين موسى وربي كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته حتى رجعت إليه فقال لي بم أمرت
فقلت أمرت بعشر صلوات قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فرجعت إلى ربي فقلت أي رب خفف عن
أمتي فإنها أضعف الأمم فوضع عني خمسا وجعلها خمسا فناداني ملك عندها تممت فريضتي وخففت عن عبادي
وأعطيتهم بكل حسنة عشر أمثالها ثم رجعت إلى موسى فقال بم أمرت؟ فقلت بخمس صلوات قال ارجع إلى
14

ربك فإنه لا يؤوده شئ فاسأله التخفيف لامتك فقلت رجعت إلى ربي حتى استحييت ثم أصبح بمكة يخبرهم
بالأعاجيب: إني أتيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا وكذا فقال أبو جهل يعني ابن هشام
ألا تعجبون مما قال محمد؟ يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس ثم أصبح فينا وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهرا
ومقفلة شهرا فهذه مسيرة شهرين في ليلة واحدة قال فأخبرتهم بعير لقريش لما كنت في مصعدي رأيتها في مكان كذا
وكذا وأنها نفرت فلما رجعت وجدتها عند العقبة وأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا ومتاعه كذا وكذا فقال أبو
جهل يخبرنا بأشياء فقال رجل منهم أنا أعلم الناس ببيت المقدس وكيف بناؤه وهيئته وكيف قربه من الجبل فإن
يك محمد صادقا فسأخبركم وإن يك كاذبا فسأخبركم فجاء ذلك المشرك فقال يا محمد أنا أعلم الناس ببيت
المقدس فأخبرني كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل قال فرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس من مقعده
فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته قال بناؤه كذا وكذا وهيئته كذا وكذا وقربه من الجبل كذا وكذا فقال الآخر صدقت
فرجع إليهم فقال صدق محمد فيما قال أو نحوا من هذا الكلام وكذا رواه الإمام أبو جعفر بن جرير بطوله عن
محمد بن عبد الاعلى عن محمد بن ثور عن معمر عن أبي هارون العبدي وعن الحسن بن يحيى عن عبد الرزاق
عن معمر عن أبي هارون العبدي به ورواه أيضا من حديث ابن إسحاق حدثني روح بن القاسم عن أبي هارون
به نحو سياقه المتقدم ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أحمد بن عبدة عن أبي عبد الصمد عبد العزيز بن عبد
الصمد عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري فذكره بسياق طويل حسن أنيق أجود مما ساقه غيره على
غرابته وما فيه من النكارة ثم ذكره البيهقي أيضا من رواية روح بن قبس الحدائي وهشيم ومعمر عن أبي هارون
العبدي واسمه عمارة بن جوين وهو مضعف عند الأئمة وإنما سقنا حديثه ههنا لما فيه من الشواهد لغيره ولما
رواه البيهقي أخبرنا الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن أنبأنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن إبراهيم البزار
حدثنا أبو حامد بن بلال حدثنا أبو الأزهر يزيد بن أبي حكيم قال: رأيت في النوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت يا رسول الله
رجل من أمتك يقال له سفيان الثوري لا بأس به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا بأس به " حدثنا عن أبي هارون العبدي
عن أبي سعيد الخدري عنك يا رسول الله ليلة أسري بك قلت رأيت في السماء فحدثه بالحديث فقال لي " نعم "
فقلت له يا رسول الله إن ناسا من أمتك يحدثون عنك في السرى بعجائب؟ فقال لي " ذاك حديث القصاص "
" رواية شداد بن أوس " قال الإمام أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء
ابن الضحاك الزبيدي حدثنا عمرو بن الحارث عن عبد الله بن سالم الأشعري عن محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي
حدثنا أبو الوليد بن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثنا شداد بن أوس قال: قلنا يا رسول الله كيف أسري بك؟
قال " صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتما فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض أو قال بيضاء فوق الحمار
ودون البغل فقال اركب فاستصعب علي فرازها بأذنها ثم حملني عليها فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى
طرفها حتى بلغنا أرضا ذات نخل فأنزلني فقال صل فصليت ثم ركبت فقال أتدري أين صليت؟ قلت الله أعلم
قال صليت بيثرب صليت بطيبة فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها عند منتهى طرفها ثم بلغنا أرضا قال انزل ثم قال
صل فصليت ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت؟ قلت الله أعلم قال صليت بمدين عند شجرة موسى ثم
انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ثم بلغنا أرضا بدت لنا قصور فقال انزل فنزلت فقال صل فصليت
ثم ركبنا فقال أتدري أين صليت؟ قلت الله أعلم قال صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ابن مريم ثم انطلق بي
حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس
والقمر فصليت من المسجد حيث شاء الله وأخذني من العطش أشد ما أخذني فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي
الآخر عسل أرسل إلي بهما جميعا فعدلت بينهما ثم هداني الله عز وجل فأخذت اللبن فشربت حتى عرقت به
جبيني وبين يدي شيخ متكئ على مثوات له فقال أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى ثم انطلق بي حتى أتينا
15

الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي " (1) قلت يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال " وجدتها مثل
الحمة السخنة ثم انصرف بي فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيرا لهم قد جمعه فلان فسلمت
عليهم فقال بعضهم هذا صوت محمد ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة فأتاني أبو بكر رضي الله عنه فقال يا
رسول الله أين كنت الليلة فقد التمستك في مظانك فقال علمت أني أتيت بيت المقدس الليلة فقال يا رسول
الله إنه مسيرة شهر فصفه لي قال ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شئ إلا أنبأته به فقال أبو بكر
أشهد أنك لرسول الله وقال المشركون انظروا إلى ابن أبي كبشة يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة؟ قال فقال إن
من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا وقد أضلوا بعيرا لهم فجمعه لهم فلان وإن مسيرهم
ينزلون بكذا ثم بكذا ويأتونكم يوم كذا وكذا يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان " فلما كان ذلك
اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريبا من نصف النهار حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه
رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا رواه البيهقي من طريقين عن أبي إسماعيل الترمذي به ثم قال بعد تمامه هذا إسناد
صحيح وروى ذلك مفرقا من أحاديث غيره ونحن نذكر من ذلك إن شاء الله ما حضرنا ثم ساق أحاديث كثيرة في
الاسراء كالشاهد لهذا الحديث وقد روى هذا الحديث عن شداد بن أوس بطوله الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن
أبي حاتم في تفسيره عن أبيه عن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي به ولا شك أن هذا الحديث أعني
الحديث المروي عن شداد بن أوس مشتمل على أشياء منها ما هو صحيح كما ذكره البيهقي ومنها ما هو منكر
كالصلاة في بيت لحم. وسؤال الصديق عن نعت بيت المقدس وغير ذلك والله أعلم. " رواية عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما " قال الإمام أحمد حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن قابوس عن أبيه قال حدثنا ابن عباس قال:
ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الجنة فسمع في جانبها وخشا (2) فقال " يا جبريل ما هذا " قال هذا بلال المؤذن
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء إلى الناس " قد أفلح بلال رأيت له كذا وكذا " قال فلقيه موسى عليه السلام فرحب به
وقال مرحبا بالنبي الأمي قال وهو رجل آدم طويل سبط شعره مع أذنيه أو فوقهما " من هذا يا جبريل " قال هذا
موسى قال فمضى فلقيه شيخ جليل متهيب فرحب به وسلم عليه وكلهم يسلم عليه قال " من هذا يا جبريل "
قال هذا أبوك إبراهيم قال ونظر في النار فإذا قوم يأكلون الجيف قال " من هؤلاء يا جبريل " قال هؤلاء الذين
يأكلون لحوم الناس ورأى رجل أحمر أزرق جدا قال " من هذا يا جبريل " قال هذا عاقر الناقة قال فلما أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الأقصى قام يصلي فإذا النبيون أجمعون يصلون معه فلما انصرف جئ بقدحين
أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال في أحدهما لبن وفي الآخر عسل فأخذ اللبن فشرب منه فقال الذي كان
معه القدح أصبت الفطرة إسناد صحيح ولم يخرجوه. " طريق أخرى " قال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ثابت
أبو زيد حدثنا هلال حدثني عكرمة عن ابن عباس قال: أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ثم جاء من ليلته
فحدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبعيرهم فقال ناس نحن لا نصدق محمدا بما يقول فارتدوا كفارا فضرب
الله رقابهم مع أبي جهل وقال أبو جهل يخوفنا محمد بشجرة الزقوم هاتوا تمرا وزبدا فتزقموا ورأى الدجال في
صورته رؤيا عين ليس برؤيا منام وعيسى وموسى وإبراهيم وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الدجال فقال " رأيته فيلمانيا أقمر
هجان إحدى عينيه قائمة كأنها كوكب دري كأن شعر رأسه أغصان شجرة ورأيت عيسى عليه السلام أبيض
جعد الرأس حديد البصر ومبطن الخلق ورأيت موسى عليه السلام أسحم آدم كثير الشعر شديد الخلق
ونظرت إلى إبراهيم عليه السلام فلم أنظر إلى أرب منه إلا نظرت إليه مني حتى كأنه صاحبكم قال جبريل سلم
(1) في نسخة الأزهر، والأميرية: الزرابي، وكذا في الخصايص.
(2) في النسخ كلها وخشا: وهو تصحيف، والرجس بالجيم والسين الصوت الخفي.
16

على أبيك فسلمت عليه " ورواه النسائي من حديث أبي زيد: ثابت بن زيد عن هلال وهو ابن حبان به وهو إسناد
صحيح.
" طريق أخرى " قال البيهقي أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر الشافعي أنبأنا إسحاق بن الحسن حدثنا الحسين
ابن محمد حدثنا شيبان عن قتادة عن أبي العالية قال حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى
ابن مريم عليه السلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس " وأرى مالكا خازن جهنم والدجال في آيات
أراهن الله إياه قال " فلا تكن في مرية من لقائه " فكان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى عليه السلام
" وجعلناه هدى لبني إسرائيل " قال جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل رواه مسلم في الصحيح عن عبد بن حميد
عن يونس بن محمد عن شيبان وأخرجاه من حديث شعبة عن قتادة مختصرا. " طريق أخرى " وقال البيهقي
أخبرنا علي بن أحمد بن عبد الله أنا أحمد بن عبيد الستار ثنا دبيس المعدل ثنا عفان قال ثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن
السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة فقلت ما
هذه الرائحة؟ قال ماشطة بنت فرعون وأولادها سقط المشط من يدها فقالت بسم الله فقالت بنت فرعون أبي
قالت ربي وربك ورب أبيك قالت أو لك رب غير أبي؟ قالت نعم ربي وربك ورب أبيك الله. قال فدعا ها فقال
ألك رب غيري؟ قالت نعم ربي وربك الله عز وجل. قال فأمر ببقرة من نحاس فأحميت ثم أمر بها أن تلقى فيها
قالت إن لي إليك حاجة قال ما هي؟ قال تجمع عظامي وعظام ولدي في موضع قال ذاك لك لما لك علينا من
الحق قال فأمر بهم فألقوا واحدا واحدا حتى بلغ رضيعا فيهم فقال يا أمه قعي ولا تقاعسي فإنك على الحق ". قال
وتكلم أربعة في المهد وهم صغار هذا وشاهد يوسف وصاحب جريج وعيسى ابن مريم عليه السلام إسناد لا
بأس به ولم يخرجوه. " طريق أخرى " قال الإمام أحمد أيضا حدثنا محمد بن جعفر وروح بن المعين قالا حدثنا
عوف عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت
وعرفت أن الناس مكذبي " فقعد معتزلا حزينا فمر به عدو الله أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ
هل كان من شئ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " قال وما هو؟ قال " إني أسري بي الليلة " قال إلى أين؟ قال " إلى بيت
المقدس " قال ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال " نعم " قال فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه
إليه فقال أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم " فقال يا معشر بني كعب بن
لؤي قال فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال حدث قومك بما حدثتني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني
أسري بي الليلة " فقالوا إلى أين؟ قال " إلى بيت المقدس " قالوا ثم أصبحت بين ظهرانينا قال " نعم " قال فمن
بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب قالوا وتستطيع أن تنعت لنا المسجد وفيهم من قد سافر
إلى ذلك البلد ورأى المسجد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت قال فجئ
بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعته وأنا أنظر إليه قال وكان مع هذا نعت لم أحفظ قال
فقال القوم أما النعت فوالله لقد أصاب فيه ". وأخرجه النسائي من حديث عوف بن أبي جميلة وهو الاعرابي به
ورواه البيهقي عن حديث النضر بن شميل وهوذة عن عوف وهو ابن أبي جميلة الاعرابي أحد الأئمة الثقات " رواية
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " قال الحافظ ابن بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الله
الحافظ حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب حدثنا السري بن خزيمة حدثنا يوسف بن بهلول حدثنا عبد الله بن نمير عن مالك بن مغول عن
الزبير بن عدي عن طلحة بن مصرف عن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم
فانتهى إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يصعد به حتى يقبض منها وإليها ينتهي ما
يهبط به من فوقها حتى يقبض " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال غشيها فراش من ذهب وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم
17

الصلوات الخمس وخواتيم سورة البقرة وغفر لمن لا يشرك بالله شيئا المقحمات يعني الكبائر. ورواه مسلم في
صحيحه عن محمد بن عبد الله بن نمير وزهير بن حرب كلاهما عن عبد الله بن نمير به ثم قال البيهقي وهذا
الذي ذكره عبد الله بن مسعود طرف من حديث المعراج وقد رواه أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن
النبي صلى الله عليه وسلم ثم عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم رواه مرة مرسلا من دون ذكر هما ثم إن البيهقي ساق الأحاديث الثلاثة
كما تقدم. قلت وقد روي عن ابن مسعود بأبسط من هذا وفيه غرابة وذلك فيما رواه الحسن بن عرفة في جزئه
المشهور: حدثنا مروان بن معاوية عن قتادة بن عبد الله التيمي حدثنا أبو ظبيان الجنبي قال: كنا جلوسا عند
أبي عبيدة بن عبد الله يعني ابن مسعود ومحمد بن سعد بن أبي وقاص وهما جالسان فقال محمد بن سعد لأبي عبيدة
حدثنا عن أبيك ليلة أسري بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لا بل حدثنا أنت عن أبيك فقال محمد لو سألتني قبل أن
أسألك لفعلت قال فأنشأ أبو عبيدة يحدث يعني عن أبيه كما سئل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل عليه
السلام بدابة فوق الحمار ودون البغل فحملني عليه ثم انطلق يهوي بنا كلما صعد عقبة استوت رجلاه كذلك مع
يديه وإذا هبط استوت يداه مع رجليه حتى مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة فيرفع صوته يقول
أكرمته وفضلته قال فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال من هذا معك يا جبريل؟ قال هذا أحمد، قال مرحبا
بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لامته قال ثم اندفعنا فقلت من هذا يا جبريل؟ قال هذا
موسى بن عمران قال قلت ومن يعاتب قال يعاتب ربه فيك قلت ويرفع صوته على ربه قال إن الله قد عرف له
حدته. قال ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرح تحتها شيخ وعياله قال فقال لي جبريل اعمد إلى أبيك
إبراهيم فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال إبراهيم من هذا معك يا جبريل؟ قال هذا ابنك أحمد قال فقال
مرحبا بالنبي الأمي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لامته يا بني إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن
استطعت أن تكون حاجتك أو جلها في أمتك فافعل. قال ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت
فربطت الدابة في الحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من
بين قائم وراكع وساجد قال ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن فأخذت اللبن فشربت فضرب جبريل عليه السلام
منكبي وقال أصبت الفطرة ورب محمد قال ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ثم انصرفنا فأقبلنا " إسناد غريب ولم
يخرجوه فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه عليه السلام ابتداء ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه والمشهور في
الصحاح كما تقدم أن جبريل كان يعلمه بهم أولا ليسلم عليهم سلام معرفة وفيه أنه اجتمع بالأنبياء عليهم السلام
قبل دخوله المسجد الأقصى والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السماوات ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيا وهم معه
وصلى بهم فيه ثم إنه ركب البراق وكر راجعا إلى مكة والله أعلم " طريق أخرى " قال الإمام أحمد حدثنا هشيم
حدثنا العوام عن جبلة بن سحيم عن مرثد بن جنادة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لقيت ليلة أسري بي
إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فتذاكروا أمر الساعة قال فردوا أمرهم إلى إبراهيم عليه السلام فقال لا علم
لي بها فردوا أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا
الله عز وجل وفيما عهد إلي ربي أن الدجال خارج قال ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال
فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال فيهلكهم الله ثم يرجع
الناس إلى بلادهم وأوطانهم قال فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم فلا
يأتون على شئ إلا أهلكوه ولا يمرون على ماء إلا شربوه قال ثم يرجع الناس إلي فيشكونهم فأدعو الله عليهم
فيهلكهم ويميتهم حتى تجوى الأرض من نتن ريحهم أي تنتن قال فينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى
يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى
تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا ". وأخرجه ابن ماجة عن بندار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب رواية عبد
18

الرحمن بن قرط أخي عبد الله بن قرط الثمالي قال سعيد بن منصور حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة
حدثني عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى من بين زمزم والمقام جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السماوات العلى فلما رجع
قال " سمعت تسبيحا في السماوات العلى مع تسبيح كثير سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات من ذوي
العلو بما علا سبحان العلي الاعلى سبحانه وتعالى ". ونذكر ههنا الحديث عند قوله تعالى من هذه السورة " تسبح
له السماوات السبع والأرض " الآية.
" رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه " قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن أبي سنان
عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان بالجابية فذكر فتح بيت المقدس قال: قال
أبو سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب أين ترى أن أصلي؟ فقال
إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر رضي الله عنه ضاهيت اليهودية
ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس
الناس فلم يعظم الصخرة تعظيما يصلي وراءها وهي بن يديه كما أشار كعب الأحبار وهو من قوم يعظمونها حتى
جعلوها قبلتهم ولكن من الله عليه بالاسلام فهدي إلى الحق ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين عمر
ضاهيت اليهودية ولا أهانها إهانة النصارى الذين كانوا قد جعلوها مزبلة من أجل أنها قبلة اليهود ولكن أماط عنها
الأذى وكنس عنها الكناسة بردائه وهذا شبيه بما جاء في صحيح مسلم عن أبي مرثد الغنوي قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها ".
" رواية أبي هريرة وهى مطولة جدا وفيها غرابة " قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير سورة سبحان حدثنا علي
ابن سهل ثنا حجاج ثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره شك أبو
جعفر في قول الله عز وجل " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " الآية قال جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل
فقال جبرائيل لميكائيل ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر قلبه وأشرح له صدره قال فشق عنه بطنه فغسله ثلاث
مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم فشرح صدره فنزع ما كان فيه من غل وملاه علما وحلما
وإيمانا ويقينا وإسلاما وختم بين كفيه بخاتم النبوة ثم أتاه بفرس فحمله عليه كل خطوة منه منتهى بصره أو أقصى
بصره قال فسار وسار معه جبريل عليهما السلام قال فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا
عاد كما كان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " يا جبريل ما هذا؟ " قال هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة
بسبعمائة ضعف وما أنفقوا من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر
كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال " ما هؤلاء يا جبريل؟ " قال هؤلاء الذين
تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع يسرحون كما تسرح
الإبل والنعم ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها " قال فما هؤلاء يا جبريل؟ " قال هؤلاء الذين لا
يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله تعالى شيئا وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج
في قدر ولحم نئ في قدر خبيث فجعلوا يأكلون من اللحم النئ الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال " ما
هؤلاء يا جبريل؟ " فقال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها
حتى يصبح والمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي رجلا خبيثا فتبيت معه حتى تصبح قال ثم أتى على
خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شئ إلا خرقته قال ما هذا يا جبريل؟ قال هذا مثل أقوام من
أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونها ثم تلا " ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون " الآية قال ثم أتى على
19

رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال " ما هذا يا جبريل؟ " قال هذا الرجل من أمتك
يكون عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم
بمقاريض من حديد كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شئ فقال " ما هذا يا جبريل؟ " فقال
هؤلاء خطباء الفتنة ثم أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا
يستطيع فقال " ما هذا ما جبريل؟ " فقال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها
ثم أتى على واد فوجد ريحا طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتا فقال: " يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة وما
هذا المسك وما هذا الصوت؟ " قال هذا صوت الجنة تقول يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي وإستبرقي
وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وأكؤسي وعسلي ومائي
ولبني وخمري فائتني بما وعدتني فقال لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحا
ولم يشرك بي شيئا ولم يتخذ من دوني أندادا ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته
ومن توكل علي كفيته إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد وقد أفلح المؤمنون وتبارك الله أحسن
الخالقين قالت قد رضيت. قال ثم أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا خبيثة فقال: " ما هذه الريح يا
جبريل وما هذا الصوت؟ " فقال هذا صوت جهنم تقول يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي
وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي وقد بعد قعري واشتد حري فائتني بما وعدتني قال لك كل مشرك
ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب قالت قد رضيت. قال ثم سار
حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى الصخرة ثم دخل فصلى مع الملائكة فلما قضيت الصلاة قالوا يا
جبريل من هذا معك قال محمد صلى الله عليه وسلم قالوا أو قد أرسل إليه قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ
ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد
لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني ملكا عظيما وجعلني أمة قانتا يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها علي بردا
وسلاما. ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال الحمد لله الذي كلمني تكليما وجعل هلاك آل فرعون
ونجاة بني إسرائيل على يدي وجعل من أمتي قوما يهدون بالحق وبه يعدلون. ثم إن داود عليه السلام أثنى على
ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير
وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب. ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي
الرياح وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات وعلمني
منطق الطير وآتاني من كل شئ فضلا وسخر لي جنود الشياطين والانس والطير وفضلني على كثير من عباده
المؤمنين وآتاني ملكا عظيما لا ينبغي لاحد من بعدي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس فيه حساب. ثم إن عيسى
عليه السلام أثنى على ربه عز وجل فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته وجعل مثلي كمثل آدم خلقه من تراب ثم
قال له كن فيكون وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه
فيكون طيرا بإذن الله وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأمي من
الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيلا. قال ثم إن محمدا صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل فقال " كلكم أثنى
على ربه وإني مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيرا ونذيرا وأنزل علي
الفرقان فيه بيان لكل شئ وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس وجعل أمتي أمة وسطا وجعل أمتي هم الأولين
وهم الآخرين وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما " فقال إبراهيم عليه
السلام بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم قال أبو جعفر الرازي خاتم بالنبوة فاتح بالشفاعة يوم القيامة. ثم أتي بآنية ثلاثة
مغطاة أفواهها فأتي بإناء منها فيه ماء فقيل له اشرب فشرب منه يسيرا ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له اشرب
20

فشرب منه حتى روي ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له اشرب فقال " لا أريده قد رويت " فقال له جبريل أما
إنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل قال ثم صعد به إلى السماء فاستفتح فقيل
من هذا يا جبريل فقال محمد فقالوا أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ
ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء ففتح لهما فدخل فإذا هو برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شئ كما ينقص
من خلق الناس عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه
ضحك واستبشر وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن فقلت " يا جبريل من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص
من خلقه شئ وما هذان البابان " فقال هذا أبوك آدم وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة فإذا نظر إلى من يد خل الجنة من
ذريته ضحك واستبشر والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن ثم صعد به جبريل
إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل من هذا معك؟ فقال محمد رسول الله قالوا أو قد أرسل
إليه؟ قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال فدخل فإذا
هو بشابين فقال " يا جبريل من هذان الشابان " قال هذا عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة عليهما السلام
قال فصعد به إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا من هذا؟ قال جبريل قالوا ومن معك قال محمد قالوا أو قد أرسل
إليه قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال فدخل فإذا هو
برجل قد فضل على الناس في الحسن كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قال " من هذا يا جبريل
الذي قد فضل على الناس في الحسن " قال هذا أخوك يوسف عليه السلام قال ثم صعد به إلى السماء الرابعة
فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قالوا حياه
الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال فدخل فإذا هو برجل قال " من هذا
يا جبريل " قال هذا إدريس عليه السلام رفعه الله مكانا عليا ثم صعد به إلى السماء الخامسة فاستفتح فقالوا من
هذا؟ قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن
خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال فدخل فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم قال
" من هذا يا جبريل ومن هؤلاء حوله " قال هذا هارون المحبب وهؤلاء بنو إسرائيل ثم صعد به إلى السماء
السادسة فاستفتح فقيل من هذا قال جبريل قالوا ومن معك؟ قال محمد قالوا أو قد أرسل إليه؟ قال نعم قالوا
حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ جاء قال فدخل فإذا هو برجل جالس
فجاوزه فبكى الرجل فقال " يا جبريل من هذا " قال موسى قال " فما باله يبكي " قال يزعم بنو إسرائيل أني أكرم
بني آدم على الله عز وجل وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع
كل نبي أمته قال ثم صعد به إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال
محمد قالوا أو قد أرسل إليه قال نعم قالوا حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجئ
جاء قال فدخل فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي وعنده قوم جلوس بيض الوجوه أمثال
القراطيس وقوم في ألوانهم شئ فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شئ فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد
خلص من ألوانهم شئ ثم دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شئ ثم دخلوا نهرا
آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلصت ألوانهم فصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى أصحابهم فقال " يا
جبريل من هذا الأشمط؟ ثم من هؤلاء البيض الوجوه؟ ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شئ وما هذه الأنهار التي
دخلوا فيها فجاءوا وقد صفت ألوانهم " قال هذا أبوك إبراهيم أول من شمط على وجه الأرض وأما هؤلاء البيض
الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شئ فقوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا
فتابوا فتاب الله عليهم وأما الأنهار فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شرابا طهورا قال ثم
21

انتهى إلى السدرة فقيل له هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك. فإذا هي شجرة يخرج من
أصلها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل
مصفى وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها والورقة منها تغطي الأمة كلها قال فغشيها نور
الخلاق عز وجل وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة من حب الرب تبارك وتعالى قالوا
فكلمه الله عند ذلك فقال له سل فقال إنك اتخذت إبراهيم خليلا وأعطيته ملكا عظيما وكلمت موسى تكليما
وأعطيت داود ملكا عظيما وألنت له الحديد وسخرت له الجبال وأعطيت سليمان ملكا وسخرت له الجن والإنس
والشياطين وسخرت له الرياح وأعطيت له ملكا لا ينبغي لاحد من بعده وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته
يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذنك وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان عليهما سبيل
فقال له الرب عز وجل وقد اتخذتك خليلا - وهو مكتوب في التوراة حبيب الرحمن - وأرسلتك إلى الناس كافة بشيرا
ونذيرا وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي
وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلت أمتك أمة وسطا وجعلت أمتك هم الأولين وهم الآخرين
وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي وجعلت من أمتك أقواما قلوبهم أنا جيلهم
وجعلتك أول النبيين خلقا وآخرهم بعثا وأولهم يقضي له وأعطيتك سبعا من الثماني لم يعطها نبي قبلك
وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبيا قبلك وأعطيتك الكوثر وأعطيتك ثمانية أسهم
الاسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلتك فاتحا
خاتما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " فضلني ربى بست: أعطاني فواتح الكلام وخواتيمه وجوامع الحديث وأرسلني إلى
الناس كافة بشيرا ونذيرا وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لاحد
قبلي وجعلت لي الأرض كلها طهورا ومسجدا قال وفرض عليه خمسين صلاة فلما رجع إلى موسى قال بم
أمرت يا محمد قال بخمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فقد لقيت من
بني إسرائيل شدة قال فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا ثم رجع إلى موسى
فقال له بكم أمرت قال بأربعين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني
إسرائيل شدة قال فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى فقال بكم أمرت
قال أمرت بثلاثين. فقال له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني
إسرائيل شدة، قال فرجع إلى ربه فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى عليه السلام فقال بكم
أمرت بعشرين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة، قال
فرجع إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف فوضع عنه عشرا فرجع إلى موسى فقال بكم أمرت قال أمرت بعشر، قال
ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال فرجع على حياء
من ربه فسأله التخفيف فوضع عنه خمسا فرجع إلى موسى عليه السلام فقال بكم أمرت؟ قال أمرت بخمس قال
ارجع إلى ربك فسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم وقد لقيت من بني إسرائيل شدة قال قد رجعت إلى ربي
حتى استحييت فما أنا براجع إليه قيل أما إنك كما صبرت نفسك على خمس صلوات فإنهم يجزين عنك
خمسين صلاة فإن كل حسنة بعشر أمثالها قال فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا قال وكان موسى عليه السلام من
أشدهم عليه حين مر به وخيرهم له حين رجع إليه. ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبيد الله عن أبي النضر هاشم
ابن القاسم عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية أو غيره شك أبو جعفر عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الماليني عن ابن عدي عن محمد بن الحسن
السكوني البالسي بالرملة حدثنا علي بن سهل فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد
الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني عن جده عن إبراهيم بن حمزة الزبيري عن حاتم
22

ابن إسماعيل حدثني عيسى بن ماهان يعني أبا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وقال ابن أبي حاتم ذكر أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا
عيسى بن عبد الله التيمي عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس البكري عن أبي العالية أو غيره شك عيسى عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام " فذكر الحديث
بطوله كنحو مما سقناه " قلت " وأبو جعفر الرازي قال فيه الحافظ أبو زرعة الرازي يهم في الحديث كثيرا وقد
ضعفه غيره أيضا ووثقه بعضهم والظاهر أنه سئ الحفظ ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه
غرابة ونكارة شديدة وفيه شئ من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري ويشبه
أن يكون مجموعا من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الاسراء والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق أنبأنا معمر عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام - فنعته فإذا رجل حسبته قال -
مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة قال ولقيت عيسى - فنعته النبي صلى الله عليه وسلم قال - ربعة أحمر كأنما خرج من
ديماس - يعني حمام قال - ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به قال وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر
قيل لي خذ أيهما شئت فأخذت اللبن فشر بت فقيل لي هديت الفطرة أو أصبت الفطرة أما إنك لو أخذت الخمر
غوت أمتك " وأخرجاه من وجه آخر عن الزهري به نحوه. وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن الحجين بن
المثنى عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد رأيتني في الحجرة وقريش تسألني عن مسراي فسألوني عن أشياء من بيت
المقدس لم أثبتها فكربت كربا ما كربت مثله قط فرفعه الله إلي أنظر إليه ما سألوني عن شئ إلا أنبأتهم به وقد رأيتني
في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم
يصلي أقرب الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم - يعني
نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت قال قائل يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت إليه فبدأني بالسلام "
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة فنظرت فوق فإذا رعد
وبرق وصواعق. قال وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحياة ترى من خارج بطونهم فقلت من هؤلاء يا
جبريل؟ قال هؤلاء آكلوا الربا فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات
فقلت من هؤلاء يا جبريل؟ قال هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السماوات
والأرض ولولا ذلك لرأوا العجائب " ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان كلاهما عن حماد بن سلمة به ورواه
ابن ماجة من حديث حماد به " رواية جماعة من الصحابة ممن تقدم وغيرهم " قال الحافظ البيهقي حدثنا أبو عبد الله
يعني الحاكم حدثنا عبد الله بن يزيد بن يعقوب الدقاق الهمذاني حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني حدثنا أبو
محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا عمر بن سعد النضري من بني نضرة بن معين حدثني عبد العزيز
وليس بن أبي سليم وسليمان الأعمش وعطاء بن السائب بعضهم يزيد في الحديث على بعض عن علي بن أبي
طالب وعبد الله بن عباس وعن محمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن ابن عباس وعن سليم بن مسلم العقيلي
عن عامر الشعبي عن عبد الله بن مسعود وجويبر عن الضحاك بن مزاحم قالوا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانئ
راقدا وقد صلى العشاء الآخرة قال أبو عبد الله الحاكم قال لنا هذا الشيخ وذكر الحديث فكتبت المتن من نسخة
مسموعة منه فذكر حديثا طويلا يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شئ منها في قدرة الله إن
صحت الرواية. قال البيهقي فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الاسراء والمعراج كفاية وبالله
23

التوفيق " قلت " وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين " رواية
عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها " قال البيهقي أخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني مكرم بن أحمد القاضي حدثني
إبراهيم بن الهيثم البكري حدثني محمد بن كثير الصنعاني حدثنا معمر بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة
قالت لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به
وصدقوه وسعوا بذلك إلى أبي بكر فقالوا هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس فقال
أو قال ذلك؟ قالوا نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل
أن يصبح؟ قال نعم إني لاصدقه فيما هو أبعد من ذلك أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو
بكر الصديق " رواية أم هانئ بنت أبي طالب " قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن محمد بن السائب الكلبي
عن أبي صالح باذان عن أم هانئ بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى العشاء الآخرة ثم نام ونمنا فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما
صلى الصبح وصلينا معه قال " يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي ثم جئت بيت
المقدس فصليت فيه ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين " الكلبي متروك بمرة ساقط لكن رواه أبو يعلى
في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح
عن أم هانئ بأبسط من هذا السياق فليكتب ههنا وروى الحافظ أ بو القاسم الطبراني من حديث عبد الاعلى
بن أبي المساور عن عكرمة عن أم هانئ قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي ففقدته من الليل فامتنع
مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي
فأخرجني فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس
فأراني إبراهيم عليه السلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه وأراني موسى آدم طويلا سبط الشعر شبهته برجال
أزد شنوءة وأراني عيسى ابن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة شبهته بعروة بن مسعود الثقفي وأراني
الدجال ممسوح العين اليمنى شبهته بقطن بن عبد العزى - قال - وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت "
فأخذت بثوبه فقلت إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبونك وينكرون مقالتك فأخاف أن يسطوا بك قالت: فضرب
ثوبه من يدي ثم خرج إليهم فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني فقام جبير بن مطعم فقال: يا محمد أن لو كنت
لك شأن كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم يا محمد هل مررت بإبل لنا
في مكان كذا وكذا؟ قال " نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيرا لهم فهم في طلبه " قال هل مررت بإبل لبني
فلان؟ قال " نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء وعندهم قصعة من ماء فشربت ما
فيها " قالوا فأخبرنا عدتها وما فيها من الرعاة قال " قد كنت عن عدتها مشغولا " فقام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما
فيها من الرعاة ثم أتى قريشا فقال لهم " سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة فلان وفلان
وسألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان وهي تصبحكم بالغداة
على الثنية " قال فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال فاستقبلوا الإبل فسألوهم هل ضل لكم بعير؟ فقالوا
نعم فسألوا الآخر هل انكسرت لكم ناقة حمراء قالوا نعم قالوا فهل كانت عندكم قصعة قال أبو بكر أنا والله
وضعتها فما شربتها أحد ولا أهراقوه في الأرض فصدقه أبو بكر وآمن به فسمي يومئذ الصديق.
" فصل " وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها، فحصل مضمون ما اتفقت
عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة. وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه أو
زاد بعضهم فيه أو نقص منه فإن الخطأ جائز على من عبارات الرواة في أدائه
أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية
24

خالفت الأخرى مرة على حدة فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على
مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط ومرة من
مكة إلى السماء فقط ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشئ يخلص به
من الاشكالات وهذا بعيد جدا ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد لاخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته
ولنقله الناس على التعدد والتكرر. قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان الاسراء قبل الهجرة بسنة وكذا قال
عروة وقال السدي بستة عشر شهرا والحق أنه عليه السلام أسرى به يقظة لا مناما من مكة إلى بيت المقدس راكبا
البراق. فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ثم أتى
بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السماوات السبع فتلقاه من كل
سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم حتى مر بموسى الكليم في
السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء حتى انتهى إلى مستوى
يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القد ر بما هو كائن ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة
من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفا
أخضر قد سد الأفق. ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه لأنه الكعبة
السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفا من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة
والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفا بعباده وفي هذا اعتناء
عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة.
ويحتمل أنها الصبح من يومئذ ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت
المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم،
جعل يسأل عنهم جبريل واحدا واحدا وهو يخبره بهم وهذا هو اللائق لأنه كان أولا مطلوبا إلى الجناب العلوي
ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر
شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت
المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل أو
اللبن والخمر أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون
ههنا وههنا لأنه كالضيافة للقادم والله أعلم ثم اختلف الناس هل كان الاسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه
فقط على قولين فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناما ولا ينكرون أن يكون رسول الله
صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك منام ثم رآه بعده يقظة لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، والدليل
على هذا قوله تعالى " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا
حوله " فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام فلو كان مناما لم يكن فيه كبير شئ ولم يكن مستعظما ولما بادرت
كفار قريش إلى تكذيبه ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم وأيضا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد
وقد قال " أسرى بعبده ليلا " قال تعالى " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " قال ابن عباس هي رؤيا
عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم. رواه البخاري وقال تعالى " ما زاغ
البصر وما طغى " والبصر من آلات الذات لا الروح وأيضا فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان
وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم. وقال آخرون بل
أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة حدثني يعقوب بن عتبة
بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله
25

صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله ولكن أسري بروحه. قال
ابن إسحاق فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الآية نزلت " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس " ولقول الله في الخبر عن إبراهيم " إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى " قال ثم مضى على
ذلك فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظا ونياما فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تنام عيناي وقلبي يقظان " والله
أعلم أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائما أو يقظانا كل ذاك حق وصدق
انتهى كلام ابن إسحاق. وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والانكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر
سياق القرآن وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم والله أعلم " فائدة حسنة جليلة " روى الحافظ أبو نعيم
الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمر بن
عبد الله عن محمد بن كعب القرظي قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر فذكر وروده عليه وقدومه
إليه. وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل ثم استدعى من بالشام من التجار فجئ بأبي سفيان صخر
بن حرب وأصحابه فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه وجعل أبو
سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني من أن أقول عليه
قولا أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شئ. قال حتى ذكرت قوله
ليلة أسري به قال فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟ قال وما هو قال قلت إنه يزعم لنا أنه
خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال
وبطريق إيلياء عند رأس قيصر فقال بطريق إيلياء قد علمت تلك الليلة قال فنظر إليه قيصر وقال وما علمك بهذا؟
قال إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني
فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم معالجة فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلا فدعوت إليه
النجاجرة فنظروا إليه فقالوا إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من
أين أتى. قال فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد
مثقوب وإذا فيه أثر مربط الدابة قال فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي وقد صلى الليلة في
مسجدنا وذكر تمام الحديث: " فائدة " قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه " التنوير في مولد السراج
المنير " وقد ذكر حديث الاسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث
الاسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس
وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر
وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الرومي وأم هانئ وعائشة وأسماء
ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في
المسانيد وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة فحديث الاسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه
الزنادقة والملحدون " يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ".
وآتينا موسى الكتب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا (2) ذرية من حملنا مع نوح
إنه كان عبدا شكورا (3)
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضا فإنه تعالى كثيرا ما يقرن
بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام وبين ذكر التوراة والقرآن، ولهذا قال بعد ذكر الاسراء
26

" وآتينا موسى الكتاب " يعني التوراة " وجعلناه " أي الكتاب " هدى " أي هاديا " لبني إسرائيل أن لا تتخذوا " أي لئلا
تتخذوا " من دوني وكيلا " أي وليا ولا نصيرا ولا معبودا دوني لان الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده
وحده لا شريك له ثم قال " ذرية من حملنا مع نوح " تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح فيه تهييج وتنبيه على
المنة أي يا سلالة من نجينا فحلمنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم " إنه كان عبدا شكورا " فاذكروا أنتم
نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمدا صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحا
عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله. فلهذا سمي عبدا شكورا. قال الطبراني حدثني
علي بن عبد العزيز حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن أبي حصين عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي
قال: إنما سمي نوح عبدا شكورا لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو أسامة حدثنا
زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله
ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من
طريق أبي أسامة به وقال مالك عن زيد بن أسلم كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري هنا حديث
أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة - بطوله وفيه - فيأتون نوحا فيقولون: يا
نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا فاشفع لنا إلى ربك " وذكر الحديث
بكامله.
وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا (4) فإذا جاء وعد أولهما
بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلل الديار وكان وعدا مفعولا (5) ثم رددنا لكم الكرة عليهم
وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا (6) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد
الآخرة ليسئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا (7) عسى ربكم أن
يرحمكم وإن عدتم عدنا عليكم وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا (8)
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم
أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس كقوله تعالى " وقضينا
إليه ذلك الامر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به. وقوله " فإذا جاء وعد
أولاهما " أي أولى الإفسادتين " بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد " أي سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي
بأس شديد أي قوة وعدة وعدد وسلطنة شديدة " فجاسوا خلال الديار " أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم
أي بينها ووسطها وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا وكان وعدا مفعولا. وقد اختلف المفسرون من السلف
والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة أنه جالوت الجزري وجنوده سلط عليهم أولا
ثم أديلوا عليه بعد ذلك. وقتل داود جالوت ولهذا قال " ثم رددنا لك الكرة عليهم ". وعن سعيد بن جبير
أنه ملك الموصل سنجاريب وجنوده وعنه أيضا وعن غيره أنه بختنصر ملك بابل. وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة
عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال إلى أن ملك البلاد وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا يستعطي الناس
ويستطعمهم ثم آل به الحال إلى ما آل وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل، وقد
روى ابن جرير في هذا المكان حديثا أسنده عن حذيفة مرفوعا مطولا وهو حديث موضوع لا محالة لا يستريب في
27

ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث والعجب كل العجب كيف راج عليه مع جلالة قدره وإمامته وقد صرح شيخنا
الحافظ العلامة أبو الحجاج المزي رحمه الله بأنه موضوع مكذوب. وكتب ذلك على حاشية الكتاب. وقد وردت
في هذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرها لان منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ومنها ما
قد يحتمل أن يكون صحيحا ونحن في غنية عنها ولله الحمد. وفيما قص الله علينا في كتابه غنية عما سواه من
بقية الكتب قبله ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم. وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم
عدوهم فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا وما ربك بظلام للعبيد فإنهم كانوا قد
تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء. وقد روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني
سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت
المقدس وقتلهم ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا فسألهم ما هذا الدم: فقالوا أدركنا آباءنا على هذا
وكلما ظهر عليه الكبا ظهر قال فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم فسكن وهذا صحيح إلى
سعيد بن المسيب وهذا هو المشهور وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة وأخذ معه منهم
خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه
لجاز كتابته وروايته والله أعلم.
قوله تعالى " إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها " أي فعليها كما قال تعالى " من عمل صالحا
فلنفسه ومن أساء فعليها " وقوله " فإذا جاء وعد الآخرة " أي الكرة الآخرة أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء
أعداؤكم ليسوءوا وجوهكم " أي يهينوكم ويقهروكم " وليدخلوا المسجد " أي بيت المقدس " كما دخلوه
أول مرة " أي في التي جاسوا فيها خلال الديار " وليتبروا " أي يدمروا ويخربوا " ما علوا " أي ما ظهروا عليه
" تتبيرا * عسى ربكم أن يرحمكم " أي فيصرفهم عنكم " وإن عدتم عدنا " أي متى عدتم إلى الافساد
" عدنا " إلى الادالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال، ولهذا قال " وجعلنا
جهنم للكافرين حصيرا " أي مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه وقال ابن عباس: حصيرا أي سجنا وقال
مجاهد: يحصرون فيها وكذا قال غيره وقال الحسن فراشا ومهادا وقال قتادة قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم
هذا الحي محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون.
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا (9) وأن الذين لا
يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما (10)
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن بأنه يهدي لاقوم الطرق وأوضح السبل ويبشر
المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه. " أن لهم أجرا كبيرا " أي يوم القيامة. " وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة "
أي ويبشر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن لهم عذابا أليما أي يوم القيامة كما قال تعالى " فبشرهم بعذاب أليم ".
ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا (11)
يخبر تعالى عن عجلة الانسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر أي بالموت أو الهلاك
والدمار واللعنة ونحو ذلك فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه كما قال تعالى " ولو يعجل الله للناس الشر " الآية
وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة وقد تقدم في الحديث " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا
28

من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " وإنما يحمل ابن أدم على ذلك قلقه وعجلته ولهذا قال تعالى " وكان الانسان
عجولا " وقد ذكر سلمان الفارسي وابن عباس ههنا قصة آدم عليه السلام حين هم بالنهوض قائما قبل أن تصل
الروح إلى رجليه وذلك أنه جاءته النفخة من قبل رأسه فلما وصلت إلى دماغه عطس فقال الحمد لله فقال الله
" يرحمك ربك يا آدم " فلما وصلت إلى عينيه فتحهما فلما سرت إلى أعضائه وجسده جعل ينظر إليه ويعجبه فهم
بالنهوض قبل أن تصل إلى رجليه فلم يستطيع وقال يا رب عجل قبل الليل.
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد
السنين والحساب وكل شئ فصلنه تفصيلا (12)
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش
والصنائع والأعمال والاسفار وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون
والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك لهذا قال " لتبتغوا فضلا من ربكم " أي في معايشكم وأسفاركم
ونحو ذلك " ولتعلموا عدد السنين والحساب " فإنه لو كان الزمان كله نسقا واحدا وأسلوبا متساويا لما عرف شئ
من ذلك كما قال تعالى " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا
تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه
أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون " وقال تعالى
" تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد
أن يذكر أو أراد شكورا " وقال تعالى " وله اختلاف الليل والنهار " وقال " يكور الليل على النهار ويكور النهار
على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار " وقال تعالى " فالق الاصباح
وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم " وقال تعالى " وآية لهم الليل نسلخ منه
النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم " ثم إنه تعالى جعل الليل آية أي
علامة يعرف بها وهي الظلام وظهور القمر فيه وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه وفاوت بين نور
القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا كما قال تعالى " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل
لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق " إلى قوله " لآيات لقوم يتقون " وقال تعالى
" يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج " الآية قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله
" فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة " قال ظلمة الليل وسدف النهار وقال ابن جريج عن مجاهد الشمس
آية النهار والقمر آية الليل " فمحونا آية الليل " قال: السواد الذي في القمر وكذلك خلقه الله تعالى وقال ابن
جريج قال ابن عباس: كان القمر يضئ كما تضئ الشمس والقمر آية الليل والشمس آية النهار فمحونا آية الليل
السواد الذي في القمر وقد روى أبو جعفر بن جرير من طرق متعددة جيدة أن ابن الكواء سأل أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين ما هذه اللطخة التي في القمر؟ فقال ويحك أما تقرأ القرآن؟ فمحونا آية
الليل فهذه محوه. وقال قتادة في قوله " فمحونا آية الليل " كنا نحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي
فيه وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس
" وجعلنا الليل والنهار آيتين " قال ليلا ونهارا كذلك خلقهما الله عز وجل.
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيمة كتبا يلقه منشورا (13) اقرأ كتبك كفى بنفسك
29

اليوم عليك حسيبا (14)
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " وطائره هو ما
طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما من خير وشر ويلزم به ويجازى عليه " فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقال تعالى " عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه
رقيب عتيد " وقال " وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون " وقال " إنما تجزون ما كنتم
تعملون " وقال " من يعمل سوءا يجز به " والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ويكتب عليه ليلا
ونهارا صباحا ومساء.
وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لطائر كل
إنسان في عنقه " قال ابن لهيعة يعني الطيرة وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث غريب جدا والله
أعلم. وقوله " ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا " أي نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة إما
بيمينه إن كان سعيدا أو بشماله إن كان شقيا منشور ا أي مفتوحا يقرؤه هو وغيره فيه جميع عمله من أول عمره إلى
آخره " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر * بل الانسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره ". ولهذا قال تعالى
" اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا " أي إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلا ما عملت لأنك
ذكرت جميع ما كان منك ولا ينسى أحد شيئا مما كان منه وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي وقوله " ألزمناه طائره
في عنقه " إنما ذكر العنق لأنه عضو من الأعضاء لا نظير له في الجسد ومن ألزم بشئ فيه فلا محيد له عنه كما
قال الشاعر
اذهب بها اذهب بها طوقتها طوق الحمام
قال قتادة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا عدوى ولا طيرة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " كذا
رواه ابن جرير وقد رواه الامام عبد بن حميد في مسنده متصلا فقال: حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة
عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طير كل عبد في عنقه ".
وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق حدثنا عبد الله حدثنا ابن لهيعة حدثني يزيد أن أبا الخير حدثه أنه سمع
عقبة بن عامر رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه فإذا مرض المؤمن
قالت الملائكة يا ربنا عبدك فلان قد حبسته فيقول الرب جل جلاله اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت "
إسناده جيد قوي ولم يخرجوه وقال معمر عن قتادة " ألزمناه طائره في عنقه " قال عمله " ونخرج له يوم القيامة "
قال نخرج ذلك العمل " كتابا يلقاه منشورا " قال معمر وتلا الحسن البصري " عن اليمين وعن الشمال قعيد " يا
ابن آدم بسطت لك صحيفتك وكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك فأما الذي عن
يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت
طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتابا تلقاه منشورا اقرأ كتابك الآية فقد
عدل والله من جعلك حسيب نفسك هذا من أحسن كلام الحسن رحمه الله.
من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولا (15)
30

يخبر تعالى أن " من اهتدى " واتبع الحق واقتفى أثر النبوة فإنما يحمل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه " ومن ضل " أي
عن الحق وزاغ عن سبيل الرشاد فإنما يجني على نفسه وإنما يعود وبال ذلك عليه ثم قال " ولا تزر وازرة وزر
أخرى " أي لا يحمل أحد ذنب أحد ولا يجني جان إلا على نفسه كما قال تعالى " وإن تدع مثقلة إلى حملها لا
يحمل منه شئ " ولا منافاة بين هذا وبين قوله " وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم " وقوله " ومن أوزار الذين
يضلونهم بغير علم " فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا من غير أن
ينقص من أوزار أولئك ولا يحمل عنهم شيئا. وهذا من عدل الله ورحمته بعباده وكذا قوله تعالى " وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا " إخبار عن عدله تعالى وأنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيا م الحجة عليه بإرسال الرسول
إليه كقوله تعالى " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله
من شئ إن أنتم إلا في ضلال كبير " وكذا قوله " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت
أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن
حقت كلمة العذاب على الكافرين " وقال تعالى " وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا
نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير " إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه ومن ثم طعن جماعة من العلماء
في اللفظة التي جاءت معجمة في صحيح البخاري عند قوله تعالى " إن رحمة الله قريب من المحسنين ".
حدثنا عبد الله بن سعيد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن الأعرج بإسناده إلى أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " اختصمت الجنة والنار " فذكر الحديث إلى أن قال " وأما الجنة فلا يظلم الله من خلقه أحدا وإنه
ينشئ للنار خلقا فيلقون فيها فتقول هل من مزيد؟ ثلاثا " وذكر تمام الحديث فهذا إنما جاء في الجنة لأنها دار
فضل وأما النار فإنها دار عدل لا يدخلها أحد إلا بعد الاعذار إليه وقيام الحجة عليه وقد تكلم جماعة
من الحفاظ في هذه اللفظة وقالوا لعله انقلب على الراوي بدليل ما أخرجاه في الصحيحين واللفظ للبخاري من حديث
عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " تحاجت الجنة والنار " فذكر الحديث إلى أن
قال " فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه فتقول قط قط فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ولا يظلم
الله من خلقه أحدا وأما الجنة فإن الله ينشئ لها خلقا ".
بقي ههنا مسألة قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديما وحديثا وهي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم
كفار ماذا حكمهم وكذا المجنون والأصم الشيخ الخرف ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته وقد ورد في
شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه ثم نذكر فصلا ملخصا من كلام الأئمة والله المستعان " فالحديث
الأول " عن الأسود بن سريع قال الإمام أحمد حدثنا علي بن عبد الله حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي عن قتادة عن
الأحنف بن قيس عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أربعة يحتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع
شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم رب قد جاء الاسلام وما أسمع
شيئا وأما الأحمق فيقول رب قد جاء الاسلام والصبيان يحذفوني بالبعر وأما الهرم فيقول رب لقد جاء الاسلام
وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم
أن ادخلوا النار فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " وبالاسناد عن قتادة عن الحسن
عن أبي رافع عن أبي هريرة مثله غير أنه قال في آخره فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها يسحب
إليها " وكذا رواه إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام ورواه البيهقي في كتاب الاعتقاد من حديث أحمد بن
إسحاق عن علي بن عبد الله المديني به وقال هذا إسناد صحيح وكذا رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن
31

أبي رافع عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربعة كلهم يدلي على الله بحجة " فذكر نحوه ورواه ابن
جرير من حديث معمر عن همام عن أبي هريرة فذكره مرفوعا ثم قال أبو هريرة فاقرأوا إن شئتم " وما كنا معذبين
حتى نبعث رسولا " وكذا رواه معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة موقوفا.
" الحديث الثاني " عن أنس بن مالك قال أبو داود الطيالسي حدثنا الربيع عن يزيد هو ابن أبان قال: قلنا لأنس
يا أبا حمزة ما تقول في أطفال المشركين؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لم يكن لهم سيئات فيعذبوا بها فيكونوا من
أهل النار ولم يكن لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من أهل الجنة ".
" الحديث الثالث " عن أنس أيضا. قال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو خيثمة حدثنا جرير عن ليث عن عبد الوارث
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الفاني
الهم كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من النار أبرز ويقول لهم إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا
من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم ادخلوا هذه قال: فيقول من كتب عليه الشقاء يا رب أنى ندخلها ومنها كنا
نفر؟ قال: ومن كتب عليه السعادة يمضي فيقتحم فيها مسرعا قال: فيقول الله تعالى أنتم لرسلي أشد تكذيبا
ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار " وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البزار عن يوسف بن موسى عن جرير بن
عبد الحميد بإسناده مثله " الحديث الرابع " عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال الحافظ أبو يعلى الموصلي
في مسنده أيضا حدثنا قاسم بن قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين قال " هم مع آبائهم " وسئل عن أولاد المشركين فقال " هم مع
آبائهم " فقيل يا رسول الله ما يعملون؟ قال " الله أعلم بهم " ورواه عمر بن ذر عن يزيد بن أمية عن رجل عن
البراء عن عائشة فذكره " الحديث الخامس " عن ثوبان قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار
في مسنده حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا ريحان بن سعيد حدثنا عباد بن منصور عن أيوب عن أبي قلابة
عن أبي أسماء عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم عظم شأن المسألة قال " إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون
أوزارهم على ظهورهم فسألهم ربهم فيقولون ربنا لم ترسل إلينا رسولا ولم يأتنا لك أمر ولو أرسلت إلينا رسولا لكنا
أطوع عبادك فيقول لهم ربهم: أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون نعم فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم
فيدخلوها فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظا وزفيرا فرجعوا إلى ربهم فيقولون ربنا أخرجنا أو أجرنا منها
فيقول لهم ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم فيقول اعمدوا إليها فادخلوها
فينطلقون حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا فقالوا ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها فيقول ادخلوها داخرين "
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم " لو دخلوها أول مرة كانت عليهم بردا وسلاما " ثم قال البزار ومتن هذا الحديث غير معروف إلا
من هذا الوجه لم يروه عن أيوب إلا عباد ولا عن عباد إلا ريحان بن سعيد قلت وقد ذكره ابن حبان في ثقاته
وقال يحيى بن معين والنسائي لا بأس به ولم يرضه أبو داود وقال أبو حاتم شيخ لا بأس به يكتب حديثه ولا
يحتج به " الحديث السادس " عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري: قال الإمام محمد بن يحيى
الذهلي حدثنا سعيد بن سليمان عن فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الهالك
في الفترة والمعتوه والمولود: يقول الهالك في الفترة لم يأتني كتاب ويقول المعتوه رب لم تجعل لي عقلا أعقل
به خيرا ولا شرا ويقول المولود رب لم أدرك العقل فترفع لهم نار فيقال لهم ردوها قال فيردها من كان في علم
الله سعيدا لو أدرك العمل ويمسك عنها من كان في علم الله شقيا لو أدرك العمل فيقول إياي عصيتم فكيف لو
أن رسلي أتتكم؟ " وكذا رواه البزار عن محمد بن عمر بن هياج الكوفي عن عبيد الله بن موسى عن فضيل بن
مرزوق به ثم قال لا يعرف من حديث أبي سعيد إلا من طريقه عن عطية عنه وقال في آخره " فيقول الله إياي
32

عصيتم فكيف برسلي بالغيب " " الحديث السابع " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال هشام بن عمار ومحمد بن
المبارك الصوري حدثنا عمرو بن واقد عن يونس بن جليس عن أبي إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل عن نبي الله
صلى الله عليه وسلم قال " يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ يا رب لو آتيتني
عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد مني " وذكر في الهالك في الفترة والصغير نحو ذلك " فيقول الرب عز وجل إني
آمركم فتطيعوني؟ فيقولون نعم فيقول اذهبوا فأدخلوا النار قال: ولو دخلوها ما ضرتهم فتخرج عليهم قوابص
فيظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله من شئ فيرجعون سراعا ثم يأمرهم الثانية فيرجعون كذلك يقول الرب عز
وجل قبل أن أخلقكم علمت ما أنتم عاملون وعلى علمي خلقتكم وإلى علمي تصيرون ضميهم فتأخذهم
النار " " الحديث الثامن " عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه. قد تقدم روايته مندرجة مع رواية الأسود بن
سريع رضي الله عنه وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " كل مولود يولد على
الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ " وفي
رواية قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيرا؟ قال " الله أعلم بما كانوا عاملين ". وقال الإمام أحمد حدثنا
موسى بن داود حدثنا عبد الرحمن بن ثابت عن عطاء بن ضمرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أعلم شك موسى قال " ذر اري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام " وفي صحيح
مسلم عن عياض بن حماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل أنه قال " إني خلقت عبادي حنفاء " وفي رواية لغيره
" مسلمين " " الحديث التاسع " عن سمرة رضي الله عنه رواه الحافظ أبو بكر البرقاني في كتابه المستخرج على
البخاري من حديث عوف الاعرابي. عن أبي رجاء العطاردي عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل مولود
يولد على الفطرة " فناداه الناس يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال " وأولاد المشركين " وقال الطبراني: حدثنا
عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم الضبي عن عيسى بن شعيب عن عباد بن منصور عن أبي رجاء عن سمرة
قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين قال " هم خدم أهل الجنة ".
" الحديث العاشر " عن عم خنساء. قال أحمد حدثنا روح حدثنا عوف عن خنساء بنت معاوية من بني صريم
قالت حدثني عمي قال: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال " النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في
الجنة والوئيد في الجنة " فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث ومنهم من جزم لهم بالجنة
لحديث سمرة بن جندب في صحيح البخاري أنه عليه السلام قال في جملة ذلك المنام حين مر على
ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان فقال له جبريل: هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد
المشركين قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال " نعم وأولاد المشركين " ومنهم من جزم لهم بالنار لقوله عليه
السلام " هم مع آبائهم ". ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات فمن أطاع دخل الجنة
وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة ومن عصى دخل النار داخرا وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا
القول يجمع بين الأدلة كلها وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو
الذي حكاه الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري عن أهل السنة والجماعة وهو الذي نصره الحافظ أبو
بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد وكذلك غيره من محققي العلماء أحاديث الامتحان ثم قال: وأحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة وأهل
العلم ينكرونها لان الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء فكيف يكلفون دخول النار وليس ذلك في وسع
المخلوقين والله لا يكلف نفسا إلا وسعها " والجواب " عما قال إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد
نص على ذلك كثير من أئمة العلماء ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف يقوى بالصحيح والحسن وإذا كانت
أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها وأما قوله إن الدار الآخرة
33

دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو
الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنة والجماعة من امتحان الأطفال وقد قال تعالى " يوم يكشف عن ساق
ويدعون إلى السجود " الآية وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة وأن المنافق لا
يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقا واحدا كلما أراد السجود خر لقفاه. وفي الصحيحين في الرجل
الذي يكون آخر أهل النار خروجا منها أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ويتكرر ذلك مرارا
ويقول الله تعالى: " يا ابن آدم ما أغدرك " ثم يأذن له في دخول الجنة وأما قوله فكيف يكلفهم الله دخول النار
وليس ذلك في وسعهم فليس هذا بمانع من صحة الحديث فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط
وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح
وكأجاويد الخيل والركاب ومنهم الساعي ومنهم الماشي ومنهم من يحبو حبوا ومنهم المكدوش على وجهه في
النار وليس ما ورد في أولئك بأعظم من هذا بل هذا أطم وأعظم وأيضا فقد ثبتت السنة بأن الدجال يكون معه
جنة ونار وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه بردا
وسلاما فهذا نظير ذاك وأيضا فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم فقتل بعضهم بعضا حتى قتلوا فيما
قيل في غداة واحدة سبعين ألفا يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم وذلك عقوبة لهم
على عبادتهم العجل وهذا أيضا شاق على النفوس جدا لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور والله أعلم.
" فصل " إذا تقرر هذا فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال " إحداها " أنهم في الجنة واحتجوا
بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين وبما تقدم في رواية
أحمد عن خنساء عن عمها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " والمولود في الجنة " وهذا استدلال صحيح ولكن أحاديث
الامتحان أخص منه. فمن علم الله منه أنه يطيع جعل روحه في البرزخ مع إبراهيم وأولاد المسلمين الذين ماتوا
على الفطرة ومن علم منه أنه لا يجيب فأمره إلى الله تعالى ويوم القيامة يكون في النار كما دلت عليه أحاديث
الامتحان ونقله الأشعري عن أهل السنة ثم إن هؤلاء القائلين بأنهم في الجنة منهم من يجعلهم مستقلين فيها
ومنهم من يجعلهم خدما لهم كما جاء في حديث علي بن زيد عن أنس عند أبي داود الطيالسي وهو ضعيف والله
أعلم.
" والقول الثاني " أنهم مع آبائهم في النار واستدل الطيالسي وهو ضعيف والله
أعلم.
" والقول الثاني " أنهم مع آبائهم في النار واستدل عليه بما رواه الإمام أحمد بن حنبل عن أبي المغيرة حدثنا عتبة
بن ضمرة بن حبيب حدثني عبد الله بن أبي قيس مولى غطيف أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري رسول الله بلا أعمال؟ فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " وأخرجه أبو
داود من حديث محمد بن حرب عن محمد بن زياد الالهاني سمعت عبد الله بن أبي قيس سمعت عائشة تقول
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذراري المؤمنين قال " هم مع آبائهم " قلت فذراري المشركين؟ قال " هم مع آبائهم "
فقلت بلا عمل؟ قال " الله أعلم بما كانوا عاملين " ورواه أحمد أيضا عن وكيع عن أبي عقيل يحيى بن المتوكل
وهو متروك عن مولاته بهية عن عائشة أنها ذكرت أطفال المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إن شئت أسمعتك
تضاغيهم في النار " وروى عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن محمد بن فضيل بن غزوان عن
محمد بن عثمان عن زاذان عن علي رضي الله عنه قال: سألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ولدين لها ماتا في
الجاهلية فقال " هما في النار " قال فلما رأى الكراهية في وجهها فقال " لها لو رأيت مكانهما لأبغضتهما " قالت
فولدي منك؟ قال " إن المؤمنين وأولا دهم في الجنة وإن المشركين وأولادهم في النار - ثم قرأ " والذين آمنوا واتبعتهم
ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم " وهذا حديث غريب فإن في إسناده محمد بن عثمان مجهول الحال وشيخه
زاذان لم يدرك عليا والله أعلم. وروى أبو داود من حديث ابن أبي زائدة عن أبيه عن الشعبي قال: قال رسول الله
34

صلى الله عليه وسلم " الوائدة والموؤدة في النار " ثم قال الشعبي حدثني به علقمة عن أبي وائل عن ابن مسعود وقد رواه جماعة
عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن سلمة بن قيس الأشجعي قال: أتيت أنا وأخي النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا إن
أمنا ماتت في الجاهلية وكانت تقري الضيف وتصل الرحم وأنها وأدت أختا لنا في الجاهلية لم تبلغ الحنث فقال
" الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الاسلام فتسلم " وهذا إسناد حسن.
" والقول الثالث " التوقف فيهم واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم " الله أعلم بما كانوا عاملين " وهو في الصحيحين من
حديث جعفر بن أبي أياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين قال " الله
أعلم بما كانوا عاملين " وكذلك هو في الصحيحين من حديث الزهري عن عطاء بن يزيد وعن أبي سلمة عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أطفال المشركين فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " ومنهم من جعلهم من
أهل الأعراف وهذا القول يرجع إلى قول من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة لان الأعراف ليس دار قرار ومآل
أهلها إلى الجنة كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف والله أعلم.
" فصل " وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء كما
حكاه القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي عن الإمام أحمد أنه قال: لا يختلف فيهم أنهم من أهل الجنة وهذا هو
المشهور بين الناس وهو الذي نقطع به إن شاء الله عز وجل. فأما ما ذكره الشيخ أبو عمر بن قال أبو عمر بن عبد البر عن بعض
العلماء أنهم توقفوا في ذلك وأن الولدان كلهم تحت المشيئة، قال أبو عمر ذهب إلى هذا القول جماعة من أهل
الفقه والحديث منهم حماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه وغيرهم قال وهو يشبه ما
رسم مالك في موطئه في أبواب القدر وما أورده من الأحاديث في ذلك وعلى ذلك أكثر أصحابه وليس عن مالك
فيه شئ منصوص إلا أن المتأخرين من أصحابه ذهبوا إلى أن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال المشركين خاصة
في المشيئة انتهى كلامه وهو غريب جدا. وقد ذكر أبو عبد الله القرطبي في كتاب التذكرة نحو ذلك أيضا والله
أعلم. وقد ذكروا في ذلك أيضا حديث عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين قالت: دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى
جنازة صبي من الأنصار فقلت يا رسول الله طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال
" أو غير ذلك يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا
وهم في أصلاب آبائهم " رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة.
ولما كان الكلام في هذه المسألة يحتاج إلى دلائل صحيحة جيدة وقد يتكلم فيها من لا علم عنده عن الشارع كره
جماعة من العلماء الكلام فيها روي ذلك عن ابن عباس والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد
بن الحنفية وغيرهم. وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم سمعت أبا رجاء العطاردي سمعت
ابن عباس رضي الله عنهما وهو على المنبر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزال أمر هذه الأمة مواتيا أو مقاربا ما لم
يتكلموا في الولدان والقدر " قال ابن حبان يعني أطفال المشركين وهكذا رواه أبو بكر البزار من طريق جرير
ابن حازم به ثم قال وقد رواه جماعة عن أبي رجاء عن ابن عباس موقوفا.
وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا (16)
اختلف القرا ء في قراءة قوله " أمرنا " فالمشهور قراءة التخفيف واختلف المفسرون في معناها فقيل معناه أمرنا
مترفيها ففسقوا فيها أمرا قدريا كقوله تعالى " أتاها أمرنا ليلا أو نهارا " إن الله لا يأمر بالفحشاء قالوا معناه أنه
سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب وقيل معناه أمرناهم بالطاعات ففعلوا الفواحش فاستحقوا العقوبة.
رواه ابن جريج عن ابن عباس وقاله سعيد بن جبير أيضا وقال ابن جرير يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء
35

قلت إنما يجئ هذا على قراءة من قرأ " أمرنا مترفيها " قال علي بن طلحة عن ابن عباس قوله " أمرنا مترفيها
ففسقوا فيها " يقول سلطنا أشرارها فعصوا فيها فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب وهو قوله " وكذلك جعلنا في
كل قرية أكابر مجرميها " الآية وكذا قال أبو العالية ومجاهد والربيع بن أنس وقال العوفي عن ابن عباس
" وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " يقول أكثرنا عددهم وكذا قال عكرمة والحسن والضحاك
وقتادة وعن مالك عن الزهري " أمرنا مترفيها " أكثرنا وقد استشهد بعضهم بالحديث الذي رواه الإمام أحمد
حيث قال: حدثنا روح بن عبادة حدثنا أبو نعيم العدوي عن مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة " قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله
في كتابه الغريب المأمورة كثيرة النسل والسكة الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة من التأبير وقال بعضهم إنما
جاء هذا متناسبا كقوله " مأزورات غير مأجورات ".
وكم أهلكنا من القرون من بعد قوم نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا (17)
يقول تعالى منذرا كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بأنه قد أهلك أمما من المكذبين للرسل من بعد
نوح ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الاسلام كما قاله ابن عباس كان بين آدم ونوح عشرة
قرون كلهم على الاسلام. ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم
الخلائق فعقوبتكم أولى وأحرى. وقوله " وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا " أي هو عالم بجميع أعمالهم
خيرها وشرها لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى.
من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلها مذموما مدحورا (18) ومن أراد
الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء وهذه
مقيدة لاطلاق ما سواها من الآيات فإنه قال " عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم " أي في الدار الآخرة
" يصلاها " أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه " مذموما " أي في حال كونه مذموما على سوء تصرفه
وصنيعه إذ أختار الفاني على الباقي " مدحورا " مبعدا مقصيا حقيرا ذليلا مهانا. روى الإمام أحمد حدثنا
حسين حدثنا رويد عن أبي إسحاق عن زرعة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الدنيا دار من
لا دار له ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له " وقوله " ومن أراد الآخرة " أي أراد الدار الآخرة وما
فيها من النعيم والسرور " وسعى لها سعيها " أي طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم " وهو مؤمن "
أي قلبه مؤمن أي مصدق موقن بالثواب والجزاء " فأولئك كان سعيهم مشكورا ".
كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا (20) انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض
وللآخرة أكبر درجت وأكبر تفضيلا (21)
يقول تعالى " كلا " أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة نمدهم فيما فيه " من
عطاء ربك " أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور فيعطي كلا ما يستحقه من السعادة والشقاوة فلا راد لحكمه
ولا مانع لما أعطى ولا مغير لما أراد ولهذا قال " وما كان عطاء ربك محظورا " أي لا يمنعه أحد ولا يرده راد
36

قال قتادة " وما كان عطاء ربك محظورا " أي منقوصا وقال الحسن وغيره أي ممنوعا. ثم قال تعالى " انظر كيف
فضلنا بعضهم على بعض " أي في الدنيا فمنهم الغني والفقير وبين ذلك والحسن والقبيح وبين ذلك ومن
يموت صغيرا ومن يعمر حتى يبقى شيخا كبيرا وبين ذلك " وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا " أي
ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ومنهم
من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه كما أن أهل الدرجات
يتفاوتون فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض. وفي الصحيحين " إن أهل الدرجات
العلى ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء " ولهذا قال تعالى " وللآخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيلا ". وفي الطبراني من رواية زاذان عن سلمان مرفوعا " ما من عبد يريد أن يرتفع في الدنيا درجة فارتفع إلا
وضعه الله في الآخرة أكبر منها " ثم قرأ " وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ".
لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا (22)
يقول تعالى والمراد المكلفون من الأمة لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكا " فتقعد مذموما " أي
على إشراكك " مخذولا " لان الرب تعالى لا ينصرك بل يكلك إلى الذي عبدت معه وهو لا يملك لك ضرا ولا
نفعا لان مالك الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له. وقد قال الإمام أحمد حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا بشير
ابن سليمان عن سيار أبي الحكم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أصابته
فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن أنزلها بالله أرسل الله له بالغنى إما آجلا وإما غنى عاجلا " ورواه أبو داود
والترمذي من حديث بشير بن سليمان به وقال الترمذي حسن صحيح غريب.
* وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسنا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف
ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (23) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا (24)
يقول تعالى آمرا بعباد ته وحده لا شريك له فإن القضاء ههنا بمعنى الامر قال مجاهد " وقضى " يعني وصى
وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود والضحاك بن مزاحم " ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " ولهذا قرن بعبادته بر
الوالدين فقال " وبالوالدين إحسانا " أي وأمر بالوالدين إحسانا كقوله في الآية الأخرى " أن اشكر لي ولوالديك
إلي المصير " وقوله " إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف " أي لا تسمعهما قولا سيئا
حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السئ " ولا تنهرهما " أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح كما قال
عطاء بن أبي رباح في قوله " ولا تنهرهما " أي لا تنفض يدك عليهما ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح
أمره بالقول الحسن والفعل الحسن فقال " وقل لهما قولا كريما " أي لينا طيبا حسنا بتأدب وتوقير وتعظيم
" واخفض لهما جناح الذل من الرحمة " أي تواضع لهما بفعلك " وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " أي في
كبرهما وعند وفاتهما قال ابن عباس ثم أنزل الله " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية وقد
جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر ثم قال
" آمين آمين آمين " قيل يا رسول الله علام ما أمنت؟ قال " أتاني جبريل فقال يا محمد رغم أنف رجل ذكرت عنده
فلم يصل عليك قل آمين فقلت آمين ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل
آمين فقلت آمين ثم قال رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل آمين فقلت آمين "
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا هشيم حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن الحارث عن
37

رجل منهم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " من ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه وجبت
له الجنة البتة ومن أعتق امرأ مسلما كان فكاكه من النار يجزى بكل عضو منه عضوا منه " ثم قال: حدثنا محمد
بن جعفر حدثنا شعبة سمعت علي بن زيد فذكر معناه إلا أنه قال عن رجل عن قومه يقال له مالك أو ابن مالك وزاد
" ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فأبعده الله " " حديث آخر " وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان عن حماد
ابن سلمة حدثنا علي بن زيد عن زرارة بن أوفى عن مالك بن عمرو القشيري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار فإن كل عظم من عظامه محررة بعظم من عظامه ومن أدرك أحد
والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل ومن ضم يتيما من أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله
وجبت له الجنة " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة عن قتادة سمعت
زرارة بن أوفى يحدث عن أبي مالك القشيري قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار
من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " ورواه أبو داود الطيالسي عن شعبة به وفيه زيادات أخر " حديث آخر " قال الإمام أحمد
: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رغم
أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولم يدخل الجنة " صحيح من هذا
الوجه ولم يخرجوه سوى مسلم من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال عن سهيل به. " حديث آخر " قال
الإمام أحمد: حدثنا ربعي بن إبراهيم قال أحمد وهو أخو إسماعيل بن علية وكان يفضل على أخيه عن عبد الرحمن
ابن أبي إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم
يصل علي ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر
فلم يدخلاه الجنة قال ربعي ولا أعلمه إلا قال " أو أحدهما " ورواه الترمذي عن أحمد بن إبراهيم الدورقي عن
ربعي بن إبراهيم ثم قال غريب من هذا الوجه. " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا محمد حدثنا
عبد الرحمن بن الغسيل حدثنا أسيد بن علي عن أبيه عن أبي عبيد عن أبي أسيل وهو مالك بن ربيعة الساعدي
قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال يا رسول الله هل بقي علي من بر أبوي
شئ بعد موتهما أبرهما به؟ قال نعم خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام
صديقهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما " ورواه أبو داود
وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن سليمان وهو ابن الغسيل به " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا روح
حدثنا ابن جريج أخبرني محمد بن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك فقال " فهل لك من أم؟ " قال نعم قال " فالزمها
فإن الجنة عند رجليها " ثم الثانية ثم الثالثة في مقاعد شتى كمثل هذا القول ورواه النسائي وابن ماجة من حديث
ابن جريج به. " حديث آخر " قال الإمام أحمد حدثنا خلف بن الوليد حدثنا ابن عياش عن يحيى بن سعد عن
خالد بن معدان عن المقدام بن معديكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله يوصيكم بآبائكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن
الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بأمهاتكم إن الله يوصيكم بالأقرب فالا قرب " وأخرجه ابن ماجة من حديث
عبد الله بن عياش به.
" حديث آخر " قال أحمد حدثنا يونس حدثنا أبو عوانة عن أشعث بن سليم عن أبيه عن رجل من بني يربوع قال
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول " يد المعطي العليا أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك ".
" حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده: حدثنا إبراهيم بن المستمر
العروقي حدثنا عمرو بن سفيان حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن ليث بن أبي سليم عن علقمة بن مرثد عن
سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال " لا
38

ولا بزفرة واحد ة " أو كما قال ثم قال البزار لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه. قلت والحسن بن أبي جعفر ضعيف
والله أعلم
ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا (25)
قال سعيد بن جبير هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به وفي رواية لا يريد إلا
الخير بذلك فقال " ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين " وقوله " فإنه كان للأوابين غفورا " قال
قتادة للمطيعين أهل الصلاة وعن ابن عباس المسبحين وفي رواية عنه المطيعين المحسنين وقال بعضهم هم
الذين يصلون بين العشاءين وقال بعضهم هم الذين يصلون الضحى وقال شعبة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن
المسيب في قوله " فإنه كان للأوابين غفورا " قال الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون ويصيبون الذنب ثم يتوبون،
وكذا رواه عبد الرزاق عن الثوري ومعمر عن يحيى بن سعيد عن ابن المسيب بنحوه وكذا رواه الليث وابن جرير
عن ابن المسيب به وقال عطاء بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد هم الراجعون إلى الخير وقال مجاهد عن
عبيد بن عمير في الآية هو الذي إذا ذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها ووافقه مجاهد في ذلك وقال عبد
الرزاق حدثنا محمد بن مسلمة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير في قوله " فإنه كان للأوابين غفورا " قال كنا
نعد الأواب الحفيظ أن يقول اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا. قال ابن جرير والأولى في ذلك قول من
قال هو التائب من الذنب الرجاع من المعصية إلى الطاعة مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه وهذا الذي قاله هو
الصواب لان الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع يقال آب فلان إذا رجع قال تعالى " إن إلينا إيابهم " وفي
الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال " آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون ".
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا (26) إن المبذرين كانوا إخوان الشيطين وكان الشيطان
لربه كفورا (27) وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا (28)
لما ذكر تعالى بر الوالدين عطف بذكر الاحسان إلى القرابة وصلة الأرحام وفي الحديث " أمك وأباك ثم أدناك
أدناك " وفي رواية " ثم الأقرب فالأقرب " وفي الحديث " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل
رحمه " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عباد عن يعقوب حدثنا أبو يحيى التيمي حدثنا فضيل بن مرزوق عن
عطية البزار حدثنا عباد عن يعقوب حدثنا أبو يحيى التيمي حدثنا فضيل بن مرزوق عن
عطية عن أبي سعيد قال لما نزلت " وآت ذا القربى حقه " دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة فأعطاها فدك ثم قال لا نعلم
حدث به عن فضيل بن مرزوق إلا أبو يحيى التيمي وحميد بن حماد بن الخوار وهذا الحديث مشكل لو صح
إسناده لان الآية مكية وفدك إنما فتحت مع خيبر سنة سبع من الهجرة فكيف يلتئم هذا مع هذا؟ فهو إذا حديث
منكر الأشبه أنه من وضع الرافضة والله أعلم. وقد تقدم الكلام على المساكين وأبناء السبيل في سورة براءة بما
أغنى عن إعادته ههنا قوله " ولا تبذر تبذيرا " لما أمر بالانفاق نهى عن الاسراف فيه بل يكون وسطا كما قال
في الآية الأخرى " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا " الآية ثم قال منفرا عن التبذير والسرف " إن
المبذرين كانوا إخوان الشياطين " أي أشباههم في ذلك. قال ابن مسعود التبذير الانفاق في غير حق وكذا قال ابن
عباس وقال مجاهد لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق مدا في غير حق كان مبذرا. وقال
قتادة: التبذير النفقة في معصية الله تعالى وفي غير الحق والفساد. وقال الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم
حدثنا الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: أتى رجل من
بني تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني ذو مال كثير وذو أهل وولد وحاضرة فأخبرني كيف أنفق وكيف
39

أصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تخرج الزكاة من مالك إن كان فإنها طهرة تطهرك وتصل أقرباءك وتعرف حق السائل
والجار والمسكين " فقال يا رسول الله أقلل لي؟ قال " فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا "
فقال حسبي يا رسول الله إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله وإلى رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم
إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدلها " وقوله: " إن المبذرين كانوا إخوان
الشياطين " أي في التبذير والسفه وترك طاعة الله وارتكاب معصيته ولهذا قال " وكان الشيطان لربه كفورا " أي
جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه ولم يعمل بطاعته بل أقبل على معصيته ومخالفته، وقوله: " وإما تعرضن عنهم
ابتغاء رحمة من ربك " الآية أي إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شئ وأعرضت عنهم لفقد
النفقة " فقل لهم قولا ميسورا " أي عدهم وعدا بسهولة ولين إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله هكذا فسر قوله
" فقل لهم قولا ميسورا " بالوعد: مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغير واحد.
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (29) إن ربك يبسط الرزق لمن
يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (30)
يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذاما للبخل ناهيا عن السرف " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك " أي لا
تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا كما قالت اليهود عليهم لعائن الله يد الله مغلولة أي نسبوه إلى البخل تعالى
وتقدس الكريم الوهاب وقوله: " ولا تبسطها كل البسط " أي ولا تسرف في الانفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج
أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا وهذا من باب اللف والنشر أي فتقعد إن بخلت ملوما يلومك الناس
ويذمونك ويستغنون عنك كما قال زهير بن أبي سلمى في المعلقة.
ومن كان ذا مال فيبخل بماله على قومه يستغن عنه ويذمم
ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شئ تنفقه فتكون كالحسير وهو الدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت
ضعفا وعجزا فإنها تسمى الحسير وهو مأخوذ من الكلال كما قال " فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع
البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " أي كليل عن أن يرى عيبا هكذا فسر هذه الآية بأن المراد هنا
البخل والسرف: ابن عباس والحسن وقتادة وابن جريج وابن زيد وغيرهم وقد جاء في الصحيحين من حديث
أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما
جبتان من حديد من ثدييهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه
وتعفو أثره وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئا إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع " هذا لفظ البخاري
في الزكاة وفي الصحيحين من طريق هشام بن عروة عن زوجته فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء بنت أبي بكر
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ولا توعي فيوعي الله عليك ولا توكي فيوكي الله عليك "
وفي لفظ " ولا تحصي فيحصي الله عليك " وفي صحيح مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قال أنفق أنفق عليك " وفي الصحيحين من طريق معاوية بن أبي
مزرد عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا
وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " وروى
مسلم عن قتيبة عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا " ما نقص مال من صدقة وما زاد
الله عبدا أنفق إلا عزا ومن تواضع لله رفعه الله " وفي حديث أبي كثير عن عبد الله بن عمر مرفوعا " إياكم والشح
40

فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا " وروى البيهقي
من طريق سعدان بن نصر عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يخرج رجل صدقة
حتى يفك لحي سبعين شيطانا ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا سكين بن عبد العزيز حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي
الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما عال من اقتصد ". وقوله: " إن ربك يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر " إخبار أنه تعالى هو الرزاق القابض الباسط المتصرف في خلقه بما يشاء فيغني من يشاء
ويفقر من يشاء لما له في ذلك من الحكمة ولهذا قال " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " أي خبيرا بصيرا بمن يستحق
الغنى ومن يستحق الفقر كما جاء في الحديث " إن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه
دينه وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه " وقد يكون الغنى في حق بعض
الناس استدراجا والفقر عقوبة عياذا بالله من هذا وهذا.
ولا تقتلوا أولدكم خشية املاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا (31)
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنه نهى عن قتل الأولاد كما أوصى الآباء
بالأولاد في الميراث وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته فنهى الله
تعالى عن ذلك وقال " ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق " أي خوف أن تفتقروا في ثاني الحال ولهذا قدم
الاهتمام برزقهم فقال " نحن نرزقهم وإياكم " وفي الانعام " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " أي من فقر " نحن
نرزقكم وإياهم " وقوله " إن قتلهم كان خطئا كبيرا " أي ذنبا عظيما وقرأ بعضهم " كان خطأ كبيرا " وهو بمعناه.
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك -
قلت ثم أي؟ قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك - قلت ثم أي؟ قال أن تزاني بحليلة جارك ".
ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا (32)
يقول تعالى ناهيا عباده عن الزنا وعن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة " أي ذنبا
عظيما " وساء سبيلا " أي وبئس طريقا ومسلكا.
وقد قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون حدثنا جرير حدثنا سليم بن عامر عن أبي أمامة أن فتى شابا أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه فقال " ادنه " فدنا منه قريبا فقال
" اجلس " فجلس فقال " أتحبه لامك "؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال " أفتحبه
لابنتك "؟ قال لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لبناتهم قال " أفتحبه لأختك "؟ قال لا
والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لأخواتهم قال " أفتحبه لعمتك "؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا
الناس يحبونه لعماتهم قال " أفتحبه لخالتك "؟ قال لا والله جعلني الله فداك قال ولا الناس يحبونه لخالاتهم قال
فوضع يده عليه وقال " اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه " قال فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شئ
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا عمار بن نضر حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له ".
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطنا فلا يسرف في القتل إنه
41

كان منصورا (33)
يقول تعالى ناهيا عن قتل النفس بغير حق شرعي كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل دم
امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والزاني المحصن
والتارك لدينه المفارق للجماعة " وفي السنن " لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم " وقوله: " ومن قتل
مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا " أي سلطة على القاتل فإنه بالخيار فيه إن شاء قتله قودا وإن شاء عفا عنه على
الدية وإن شاء عفا عنه مجانا كما ثبتت السنة بذلك. وقد أخذ الامام الحبر ابن عباس من عموم هذه الآية الكريمة
ولاية معاوية السلطنة أنه سيملك لأنه كان ولي عثمان وقد قتل عثمان مظلوما رضي الله عنه وكان معاوية يطالب عليا
رضي الله عنه أن يسلمه قتلته حتى يقتص منهم لأنه أموي وكان علي رضي الله عنه يستمهله في الامر حتى يتمكن
ويفعل ذلك ويطلب علي من معاوية أن يسلمه الشام فيأبى معاوية ذلك حتى يسلمه القتلة وأبى أن يبايع عليا هو
وأهل الشام ثم مع المطاولة تمكن معاوية وصار الامر إليه كما قاله ابن عباس واستنبطه من هذه الآية الكريمة وهذا
من الامر العجب وقد روى ذلك الطبراني في معجمه حيث قال حدثنا يحيى بن عبد الباقي حدثنا أبو عمير بن
النحاس حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شودب عن مطر الوراق عن زهدم الجرمي قال: كنا في سمر ابن عباس
فقال إني محدثكم بحديث ليس بسر ولا علانية إنه لما كان من أمر هذا الرجل ما كان يعني عثمان قلت لعلي
اعتزل فلو كنت في حجر طلبت حتى تستخرج فعصاني وأيم الله ليتأمرن عليكم معاوية وذلك أن الله يقول
" ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " الآية وليحملنكم قريش على سنة فارس والروم
وليقيمن عليكم النصارى واليهود والمجوس فمن أخذ منكم يومئذ بما يعرف نجا ومن ترك وأنتم تاركون كنتم
كقرن من القرون هلك فيمن هلك وقوله " فلا يسرف في القتل " قالوا معناه فلا يسرف الولي في قتل القاتل
بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل وقوله: " إنه كان منصورا " أي أن الولي منصور على القاتل شرعا وغالبا
وقدرا.
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا (34) وأوفوا
الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا (35)
يقول تعالى " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلا
بالغبطة " ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " وقد
جاء في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب لك ما أحب لنفسي لا
تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم " وقوله " وأوفوا بالعهد " أي الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي
تعاملونهم بها فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه " إن العهد كان مسؤولا " أي عنه. وقوله " وأوفوا
الكيل إذا كلتم " أي من غير تطفيف لا تبخسوا الناس أشياءهم " وزنوا بالقسطاس " قرئ بضم القاف وكسرها
كالقرطاس وهو الميزان قال مجاهد هو العدل بالرومية وقوله " المستقيم " أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف
ولا اضطراب " ذلك خير " أي لكم في معاشكم ومعادكم ولهذا قال " وأحسن تأويلا " أي مآلا ومنقلبا
في آخرتكم. قال سعيد عن قتادة " ذلك خير وأحسن تأويلا " أي خير ثوابا وأحسن عاقبة. وابن عباس كان يقول يا
معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم هذا المكيال وهذا الميزان قال وذكر لنا أن نبي الله عليه
42

الصلاة والسلام كان يقول " لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا
قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ".
ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا (36)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول لا تقل وقال العوفي عنه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقال
محمد بن الحنفية يعني شهادة الزور وقال قتادة لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم فإن
الله تعالى سائلك عن ذلك كله ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو
التوهم والخيال كما قال تعالى: " اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم " وفي الحديث " إياكم والظن فإن
الظن أكذب الحديث " وفي سنن أبي داود " بئس مطية الرجل زعموا " وفي الحديث الآخر " إن أفرى الفرى أن
يرى الرجل عينيه ما لم تريا " وفي الصحيح " من تحلم حلما كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل "
وقوله " كل أولئك " أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد " كان عنه مسؤولا " أي سيسأل العبد عنها يوم
القيامة وتسأل عنه وعما عمل فيها ويصح استعمال أولئك مكان تلك كما قال الشاعر:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا (37) كل ذلك كان سيئة عند ربك
مكروها (38)
يقول تعالى ناهيا عباده عن التجبر والتبختر في المشية " ولا تمش في الأرض مرحا " أي متبخترا متمايلا مشي
الجبارين " إنك لن تخرق الأرض " أي لن تقطع الأرض بمشيك قاله ابن جرير واستشهد عليه بقول رؤبة بن
العجاج:
* وقاتم الأعماق خاوي المخترقن *
وقوله: " ولن تبلغ الجبال طولا " أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك بل قد يجازى
فاعل ذلك بنقيض قصده كما ثبت في الصحيح " بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان
يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه
خرج على قومه في زينته وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض. وفي الحديث " من تواضع لله رفعه الله
فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير ومن استكبر وضعه الله في نفسه كبير وعند الناس حقير حتى لهو
أبغض إليهم من الكلب والخنزير " وقال أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع: حدثنا أحمد بن
إبراهيم بن كثير حدثنا حجاج بن محمد بن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهيم
يريد المنصور وعليه جباب خز قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر إذ نظر
إليه الحسن نظرة فقال: أف أف شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق ينظر في
عطفه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدى حق الله منها والله أن يمشي
أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة وللشيطان به لعنة فسمعه ابن الأهتم فرجع يعتذر
إليه فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قول الله تعالى: " ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق
الأرض ولن تبلغ الجبال طولا " ورأى البختري العابد رجلا من آل علي يمشي وهو يخطر في مشيته فقال له يا
هذا: إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته قال فتركها الرجل بعد. ورأى ابن عمر رجلا يخطر في مشيته فقال
إن للشياطين إخوانا وقال خالد بن معدان: إياكم والخطر فإن الرجل يده من سائر جسده رواهما ابن أبي الدنيا
43

وقال ابن أبي الدنيا حدثنا خلف بن هشام البزار حدثنا حماد بن يزيد عن يحيى عن سعيد عن محسن قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض " وقوله " كل ذلك كان
سيئه عند ربك مكروها " أما من قرأ " سيئة " أي فاحشة فمعناه عنده كل هذا الذي نهينا عنه من قوله: " ولا تقتلوا
أولادكم خشية إملاق " إلى هنا فهو سيئة مؤاخذ عليها مكروها عند الله لا يحبه ولا يرضاه وأما من قرأ " سيئه " على
الإضافة فمعناه عنده كل هذا الذي ذكرناه من قوله: " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه " إلى هنا فسيئه أي
فقبيحه مكروه وعند الله هكذا وجه ذلك ابن جرير رحمه الله.
ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا (39)
يقول تعالى هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة مما أوحينا إليك يا محمد
لتأمر به الناس " ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما " أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق
" مدحورا " أي مبعدا من كل خير قال ابن عباس وقتادة مطرودا والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول
صلى الله عليه وسلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.
أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما (40)
يقول تعالى رادا على المشركين الكاذبين الزاعمين عليهم لعائن الله أن الملائكة بنات الله فجعلوا الملائكة الذين
هم عباد الرحمن إناثا ثم ادعوا أنهم بنات الله ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيما فقال
تعالى منكرا عليهم " أفأصفاكم ربكم بالبنين " أي خصصكم بالذكور " واتخذ من الملائكة إناثا " أي واختار
لنفسه على زعمكم البنات ثم شدد الانكار عليهم فقال " إنكم لتقولون قولا عظيما " أي في زعمكم أن لله ولدا
ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد فتلك إذا قسمة ضيزى وقال تعالى:
" وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا *
أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن
عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ".
ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا (41)
يقول تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل " أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه
من الحجج والبينات والمواعظ فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك " وما يزيدهم " أي الظالمين منهم إلا
" نفورا " أي عن الحق وبعدا منه.
قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (42) سبحانه وتعلى عما يقولون علوا كبيرا (43)
يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكا من خلقه العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفى لو
كان الامر كما تقولون وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه
ويبتغون إليه الوسيلة والقربة فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ولا حاجة لكم إلى معبود يكون
واسطة بينكم وبينه فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه
ثم نزه نفسه الكريمة وقدسها فقال " سبحانه وتعالى عما يقولون " أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في
44

زعمهم أن معه آلهة أخرى " علوا كبيرا " أي تعاليا كبيرا بل هو الله الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد.
تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان
حليما غفورا (44)
يقول تعالى تقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن أي من المخلوقات وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول
هؤلاء المشركون وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته.
ففي كل شئ له آية تدل على أنه واحد
كما قال تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن شئ له آية تدل على أنه واحد
كما قال تعالى: " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " وقال أبو
القاسم الطبراني حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا سعيد بن منصور حدثنا سليمان بن ميمون مؤذن مسجد الرملة
حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى كان بين
المقام وزمزم وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره فطارا به حتى بلغ السماوات السبع فلما رجع قال " سمعت
تسبيحا في السماوات العلى مع تسبيح كثير سبحت السماوات العلى من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما
علا سبحان العلي الاعلى سبحانه وتعالى " وقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " أي وما من شئ من
المخلوقات إلا يسبح بحمد الله " ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس لأنها بخلاف
لغاتكم وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات وهذا أشهر القولين كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن
مسعود أنه قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع
لهن تسبيح كحنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وهو حديث مشهور في المسانيد
وقال الإمام أحمد: حد ثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس عن أبيه رضي الله
عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم " اركبوها سالمة ودعوها
سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكرا لله منه " وفي
سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال " نقيقها تسبيح " وقال قتادة
عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الاخلاص التي لا يقبل الله من
أحد عملا حتى يقولها وإذا قال الحمد لله فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها وإذا قال الله
أكبر فهي تملأ ما بين السماء والأرض وإذا قال سبحان الله فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحدا من خلقه
إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قال أسلم عبدي واستسلم. وقال الإمام أحمد:
حدثنا ابن وهب حدثنا جرير حدثنا أبي سمعت مصعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن
عبد الله بن عمرو قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج: أو مزورة بديباج فقال: إن
صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع ويضع كل رأس بن رأس فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضبا فأخذ بمجامع جبته
فاجتذبه فقال " لا أرى عليك ثياب من لا يعقل " ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس فقال " إن نوحا عليه السلام لما
حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين أنهاكما عن الشرك بالله
والكبر وآمركما بلا إله إلا الله فإن السماوات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان ووضعت لا إله إلا الله
في الكفة الأخرى كانت أرجح ولو أن السماوات والأرض كانتا حلقة فوضعت لا إله إلا الله عليهما لقصمتهما أو
لفصمتهما وآمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شئ وبها يرزق كل شئ " ورواه الإمام أحمد أيضا عن
45

سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به وقال ابن جرير حدثني
نصر بن عبد الرحمن الأودي حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبركم بشئ أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا عليه السلام قال لابنه يا بني
آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق وبها يرزق الخلق " قال الله تعالى " وإن من شئ إلا
يسبح بحمده " إسناده فيه ضعف فإن الأودي ضعيف عند الأكثرين وقال عكرمة في قوله تعالى " وإن من شئ إلا
يسبح بحمده " قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح - الأسطوانة السارية - وقال بعض السلف صرير الباب تسبيحه
وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " وقال سفيان الثوري عن منصور عن
إبراهيم قال الطعام يسبح ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج وقال آخرون إنما يسبح من كان فيه روح يعنون
من حيوان ونبات قال قتادة في قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " قال كل شئ فيه روح يسبح من شجر
أو شئ فيه وقال الحسن والضحاك في قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " قالا كل شئ فيه الروح.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب قالا حدثنا جرير أبو الخطاب قال كنا
مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعد يسبح هذا الخوان؟ فقال
كان يسبح مرة - قلت الخوان هو المائدة من الخشب - فكأن الحسن رحمه الله ذهب إلى أنه لما كان حيا فيه خضرة
كان يسبح فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مر بقبرين فقال: " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان
يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال " لعله يخفف عنهما ما لم
ييبسا " أخرجاه في الصحيحين قال بعض من تكلم على هذا الحديث من العلماء إنما قال ما لم ييبسا لأنهما
يسبحان ما دام فيهما خضرة فإذا يبسا انقطع تسبيحهما والله أعلم وقوله: " إنه كان حليما غفورا " أي إنه لا
يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر كما جاء في
الصحيحين " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذ ه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ
القرى وهي ظالمة " الآية وقال تعالى: " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة " الآية وقال " وكأين من قرية
أهلكناها وهي ظالمة " الآيتين ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ورجع إلى الله وتاب إليه تاب عليه كما قال
تعالى: " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله " الآية وقال ههنا " إنه كان حليما غفورا " كما قال في
آخر فاطر " إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما
غفورا " إلى أن قال " ولو يؤاخذ الله الناس " إلى آخر السورة.
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (45) وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه
وفئ اذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبرهم نفورا (46)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم " وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن جعلنا بينك وبينهم حجابا
مستورا ". قال قتادة وابن زيد هو الأكنة على قلوبهم كما قال تعالى " وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي
آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب " أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شئ وقوله " حجابا مستورا " بمعنى
ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم لأنه من يمنهم وشؤمهم وقيل مستورا عن الابصار فلا تراه وهو مع ذلك
حجاب بينهم وبين الهدى ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمه الله وقال لحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا أبو موسى
الهروي إسحاق بن إبراهيم حدثنا سفيان عن الوليد بن كثير عن يزيد بن تدرس عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى
46

عنها قالت لما نزلت " تبت يدا أبي لهب " جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمما
أتينا - أو أبينا - قال أبو موسى الشك مني ودينه قلينا وأمره عصينا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه
فقال أبو بكر رضي الله عنه لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا اعتصم به منها
" وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا " قال فجاءت حتى قامت على أبي
بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر لا ورب هذا البيت ما هجاك قال
فانصرفت وهى تقول لقد علمت قريش أني بنت سيدها. وقوله " وجعلنا على قلوبهم أكنة " وهي جمع كنان
الذي يغشى القلب " أن يفقهوه " أي لئلا يفهموا القرآن " وفي آذانهم وقرا " وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع
القرآن سماعا ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده " أي إذا وحدت الله في
تلاوتك وقلت لا إله إلا الله " ولوا " أي أدبروا راجعين " على أدبار هم نفورا " ونفور جمع نافر كقعود جمع قاعد
ويجوز أن يكون مصدرا من غير الفعل والله أعلم كما قال تعالى " وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا
يؤمنون بالآخرة " الآية قال قتادة في قوله " وإذا ذكرت ربك في القرآن " الآية أن المسلمين لما قالوا لا إله إلا
الله أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضافها إبليس وجنوده فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها
على من ناوأها إنها كلمة من خاصم بها فلح ومن قاتل بها نصر إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي
يقطعها الراكب في ليال قلائل ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها. " قول آخر في الآية "
روى ابن جرير حدثني الحسين بن محمد الذارع حدثنا روح بن المسيب أو رجاء الكلبي حدثنا عمرو بن مالك
عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله " وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا " هم الشياطين
وهذا غريب جدا في تفسيرها وإلا فالشياطين إذا قرئ القرآن أو نودي بالاذان أو ذكر الله انصرفوا.
نحن أعلم بما يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (47)
انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (48)
يخبر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بما يتناجى به رؤساء كفار قريش حين جاءوا يستمعون قراءته صلى الله عليه وسلم سرا من قومهم بما
قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على المشهور أو من السحر وهو الرئة أي إن تتبعون إن اتبعتم محمدا إلا
بشرا يأكل كما قال الشاعر:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال الراجز: يسحر بالطعام وبالشراب. أي يغذى وقد صوب هذا القول ابن جرير وفيه نظر لانهم أرادوا ههنا أنه
مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه ومنهم من قال شاعر ومنهم من قال كاهن ومنهم من قال
مجنون ومنهم من قال ساحر. ولهذا قال تعالى " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " أي فلا
يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصا قال محمد بن إسحاق في السيرة حدثني محمد بن مسلم بن شهاب
الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي
حليف ابن زهرة خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلى بالليل في بيته فأخذ كل واحد منهم مجلسا يستمع فيه
وكل لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال
بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لا وقعتم في نفسه شيئا ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية
عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض
ما قال أول مرة ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا
47

طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا
فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال أخبرني يا أبا حنظلة
عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء
ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس وأنا والذي حلفت به. قال ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل
فدخل عليه بيته فقال يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال ماذا سمعت؟ قال تنازعنا نحن وبنو عبد
مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان
قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. قال فقام عنه الأخنس وتركه.
وقالوا أإذا كنا عظما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (49) * قل كونوا حجارة أو حديدا (50) أو خلقا مما يكبر
في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى
أن يكون قريبا (51) يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا (52)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك " أئذا كنا عظاما ورفاتا "
أي ترابا قاله مجاهد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما غبارا " أئنا لمبعوثون خلقا
جديدا " أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر كما أخبر عنهم في الموضع الآخر " يقولون أئنا
لمردودون في الحافرة * أئذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة " وقوله تعالى " وضرب لنا مثلا ونسي
خلقه " الآيتين فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم. فقال " قل كونوا حجارة أو حديدا " إذ هما أشد امتناعا
من العظام والرفات. " أو خلقا مما يكبر في صدور كم " قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد سألت ابن
عباس عن ذلك فقال: هو الموت وروى عطية عن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية لو كنتم موتى لأحييتكم.
وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم
إلى الموت الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء فإنه لا يمتنع عليه شئ إذا أراده.
وقد ذكر ابن جرير ههنا حديثا " يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ثم يقال يا أهل
الجنة أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم: ثم يقال يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون نعم فيذبح بين الجنة والنار
ثم يقال يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت " وقال مجاهد " أو خلقا مما يكبر في
صدوركم " يعني السماء والأرض والجبال وفي رواية: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم وقد وقع في
التفسير المروي عن الامام مالك عن الزهري في قوله " أو خلقا مما يكبر في صدوركم " قال النبي صلى الله عليه وسلم قال مالك
ويقولون هو الموت. وقوله تعالى " فسيقولون من يعيدنا " أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر
شديدا " قل الذي فطركم أول مرة " أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا ثم صرتم بشرا تنتشرون فإنه قادر
على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " الآية وقوله تعالى
" فسينغضون إليك رؤوسهم " قال ابن عباس وقتادة يحركونها استهزاء وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من
لغاتها لان الانغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل ومنه قيل للظليم وهو ولد النعامة
نغضا لأنه إذا مشى عجل بمشيته وحرك رأسه ويقال نغضت سنه إذا تحركت وارتفعت من منبتها. وقال الراجز: ونغضت من هرم أسنانها.
48

وقوله " ويقولون متى هو " إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك كما قال تعالى " ويقولون متى هذا الوعد إن
كنتم صادقين " وقال تعالى " يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها " وقوله " قل عسى أن يكون قريبا " أي احذروا
ذلك فإنه قريب إليكم سيأتيكم لا محالة فكل ما هو آت آت. وقوله تعالى " يوم يدعوكم " أي الرب تبارك
وتعالى " إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون " أي إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالف ولا يمانع بل
كما قال تعالى " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " وقوله
" فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة " أي إنما هو أمر واحد بانتهار فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض
إلى ظاهرها كما قال تعالى " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أي تقولون كلكم إجابة لامره وطاعة لإرادته. قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس فتستجيبون بحمده أي بأمره وكذا قال ابن جريج وقال قتادة بمعرفته وطاعته
وقال بعضهم " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده " أي وله الحمد في كل حال. وقد جاء في الحديث " ليس
على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن
رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله وفي رواية يقولون " الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " وسيأتي في سورة
فاطر. وقوله تعالى " وتظنون " أي يوم تقومون من قبوركم " إن لبثتم " أي في الدار الدنيا " إلا قليلا " وكقوله
تعالى " كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها " وقال تعالى " يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين
يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما "
وقال تعالى " ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون " وقال تعالى " قال كم
لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم
تعلمون ".
وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان كان للانسان عدوا مبينا (53)
يأمر تبارك وتعالى عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن
والكلمة الطيبة فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم وأخرج الكلام إلى الفعال ووقع الشر والمخاصمة
والمقاتلة فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم وعداوته ظاهرة بينة ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى
أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزغ في يده أي فربما أصابه بها.
وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار "
أخرجاه من حديث عبد الرزاق. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا حماد أنبأنا علي بن زيد عن الحسن قال
حدثني رجل من بني سليط قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في رفلة من الناس فسمعته يقول " المسلم أخو المسلم لا
يظلمه ولا يخذله التقوى ههنا " قال حماد وقال بيده إلى صدره " وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلا حدث
يحدثه أحدهما والمحدث شر والمحدث شر والمحدث شر ".
ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك عليهم وكيلا (54) وربك أعلم بمن في السماوات
والأرض ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا (55)
يقول تعالى " ربكم أعلم بكم " أيها الناس أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق " إن يشأ
يرحمكم بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه " أو إن يشأ يعذبكم وما أرسلناك " يا محمد " عليهم وكيلا " أي إنما
49

أرسلناك نذيرا فمن أطاعك دخل الجنة ومن عصاك دخل النار. وقوله " وربك أعلم بمن في السماوات
والأرض " أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " وكما قال تعالى " تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات " وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تفضلوا بين الأنبياء " فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية لا
بمقتضى الدليل فإذا دل الدليل على شئ وجب اتباعه ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء وأن أولي
العزم منهم أفضلهم وهم الخمسة المذكورون نصا في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب " وإذ أخذنا من النبيين
ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم " وفي الشورى في قوله " شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك مريم " وفي الشورى في قوله " شرع لكم من الدين ما
وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " ولا خلاف
أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضلهم ثم بعده إبراهيم ثم موسى ثم عيسى عليهم السلام على المشهور وقد بسطناه بدلائله في
غير هذا الموضع والله الموفق وقوله تعالى " وآتينا داود زبورا " تنبيه على فضله وشرفه. قال البخاري حدثنا
إسحاق بن نصر أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خفف
على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ " يعني القرآن.
قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا (56) أولئك الذين يدعون يبتغون إلى
ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)
يقول تعالى " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله " ادعوا الذين زعمتم من دونه " من الأصنام
والأنداد فارغبوا إليهم " ف‍ " إنهم " لا يملكون كشف الضر عنكم " أي بالكلية " ولا تحويلا " أي بأن يحولوه
إلى غيركم والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والامر. قال العوفي عن
ابن عباس في قوله " قل ادعوا الذين زعمتم " الآية قال كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا
وهم الذين يدعون يعني في الملائكة والمسيح وعزيرا.
وقوله تعالى " أولئك الذين يدعون " الآية روى البخاري من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن إبراهيم عن
أبي معمر عن عبد الله في قوله " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة " قال ناس من الجن كانوا يعبدون
فأسلموا وفي رواية قال كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم وقال
قتادة عن معبد بن عبد الله الرماني عن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود في قوله " أولئك الذين
يدعون " الآية قال نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والانس الذين كانوا
يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم فنزلت هذه الآية وفي رواية عن ابن مسعود كانوا يعبدون صنفا من الملائكة يقال
لهم الجن فذكره وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله " أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم
الوسيلة أيهم أقرب " قال عيسى وأمه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم كان ابن عباس يقول: في هذه الآية هم
عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد عيسى والعزير والملائكة واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله
" يبتغون إلى ربهم الوسيلة " وهذا لا يعبر به عن الماضي فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة وقال والوسيلة
هي القربة كما قال قتادة ولهذا قال " أيهم أقرب " وقوله تعالى " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " لا تتم العبادة
إلا بالخوف والرجاء فبالخوف ينكف عن المناهي وبالرجاء يكثر من الطاعات وقوله تعالى " إن عذاب ربك كان
محذورا " أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله عياذا بالله منه.
وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيمة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتب مسطورا (58)
50

هذا إخبار من الله عز وجل بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ أنه ما من قرية إلا سيهلكها
بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم " عذابا شديدا " إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم
وخطاياهم كما قال تعالى عن الأمم الماضين " وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم " وقال تعالى " فذاقت وبال
أمرها وكان عاقبة أمر ها خسرا " وقال " وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله " الآيات.
وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا
تخويفا (59)
قال سنيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك
أنبياء فمنهم من سخرت له الريح ومنهم من كان يحيي الموتى فإن سرك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن
يكون لنا الصفا ذهبا فأوحى الله إليه " إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئت أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل
العذاب فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة وإن شئت أن نستأني بقومك استأنيت بهم قال " يا رب أستأن بهم "
وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما وروى الإمام أحمد حدثنا عثمان بن محمد حدثنا جرير عن الأعمش عن
جعفر بن إياس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي
الجبال عنهم فيرعووا فقيل له إن شئت أن نستأني بهم وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا فإن كفروا هلكوا كما
أهلكت من كان قبلهم من الأمم قال " لا بل استأن بهم " وأنزل الله تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن
كذب بها الأولون " الآية ورواه النسائي من حديث جرير به وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن
سلمة بن كهيل عن عمران بن حكيم عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا
ذهبا ونؤمن بك قال " وتفعلون؟ " قالوا نعم قال فدعا فأتاه جبريل فقال إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك إن
شئت أصبح لهم الصفا ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت لهم
أبواب التوبة والرحمة فقال " بل باب التوبة والرحمة " وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا محمد بن
إسماعيل بن علي الأنصاري حدثنا خلف بن تميم المصيصي عن عبد الجبار بن عمر الابلي عن عبد الله بن
عطاء بن إبراهيم عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير يقول لما نزلت " وأنذر عشيرتك
الأقربين " صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس " يا آل عبد مناف إني نذير " فجاءته قريش فحذرهم
وأنذرهم فقالوا تزعم أنك نبي يوحى إليك وأن سليمان سخر له الريح والجبال وأن موسى سخر له البحر وأن
عيسى كان يحيي الموتى فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ويفجر لنا الأرض أنهارا فتتخذ محارث فنزرع ونأكل
وإلا فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا وإلا فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت
منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم. قال: فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي فلما
سري عنه قال " والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة "
فيؤمن مؤمنكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد فاخترت باب
الرحمة فيؤمن مؤمنكم وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين " ونزلت
" وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " وقرأ ثلاث آيات ونزلت " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو
قطعت به الأرض أو كلم به الموتى " الآية ولهذا قال تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات " أي نبعث الآيات
ونأتي بها على ما سأل قومك منك فإنه سهل علينا يسير لدينا إلا أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها وجرت
سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها كما قال الله تعالى في المائدة " قال الله إني
منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين " وقال تعالى عن ثمود حين سألوا
51

آية ناقة تخرج من صخرة عينوها فدعا صالح عليه السلام ربه فأخرج لهم منها ناقة على ما سألوا فلما ظلموا بها أي
كفروا بمن خلقها وكذبوا رسوله وعقروها فقال " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب " ولهذا قال
تعالى " وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها " أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله الذي أجيب دعاؤه
فيها " فظلموا بها " أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز
مقتدر وقوله تعالى " وما نرسل بالآيات إلا تخويفا " قال قتادة إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات
لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال يا أيها
الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات
فقال عمر أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن. وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه " إن الشمس
والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل يخوف بهما عباده فإذا
رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو
تزني أمته يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ".
وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن
ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغينا كبيرا (60)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرضا له على إبلاغ رسالته ومخبرا له بأنه قد عصمه من الناس فإنه القادر عليهم وهم في
قبضته وتحت قهره وغلبته. قال مجاهد وعروة بن الزبير والحسن وقتادة وغيرهم في قوله " وإذ قلنا لك إن ربك
أحاط بالناس " أي عصمك منهم وقوله " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " الآية قال ا البخاري حدثنا
علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة
للناس " قال هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به " والشجرة الملعونة في القرآن " شجرة الزقوم
وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة به وكذا رواه العوفي عن ابن عباس. وهكذا فسر ذلك
بليلة الاسراء مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد وغير واحد. وقد
تقدمت أحاديث الاسراء في أول السورة مستقصاة ولله الحمد والمنة. وتقدم أن ناسا رجعوا عن دينهم بعد ما كانوا
على الحق لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا لآخرين
ولهذا قال " إلا فتنة " أي اختبارا وامتحانا وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل
يأكل من هذا بهذا ويقول تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا حكى ذلك ابن عباس ومسروق وأبو مالك والحسن
البصري وغير واحد وكل من قال إنها ليلة الاسراء فسره كذلك بشجرة الزقوم وقيل المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية
وهو غريب ضعيف وقال ابن جرير حدثت عن محمد بن الحسن بن زبالة حدثنا عبد المهيمن بن عباس بن
سهل بن سعيد حدثني أبي عن جدي قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القرود فساءه ذلك
فما استجمع ضاحكا حتى مات قال وأنزل الله في ذلك " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس " الآية وهذا
السند ضعيف جدا فإن محمد بن الحسن بن زبالة متروك وشيخه أيضا ضعيف بالكلية ولهذا اختار ابن جرير أن
المراد بذلك ليلة الاسراء وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم قال لاجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك أي
في الرؤيا والشجرة وقوله " ونخوفهم " أي الكفار بالوعيد والعذاب والنكال " فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " أي
تماديا فيما هم فيه من الكفر والضلال وذلك من خذلان الله لهم.
52

وإذ قلنا للملكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا (61) قال أرأيتك هذا الذي
كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيمة لاحتنكن ذريته إلا قليلا (62)
يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله لآدم وذريته وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم فإنه تعالى أمر الملائكة
بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخارا عليه واحتقارا له " قال أسجد لمن
خلقت طينا " كما قال في الآية الأخرى " أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " وقال أيضا أرأيتك يقول
للرب جراءة وكفرا والرب يحلم وينظر. " قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي " الآية قال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس يقول لأستولين على ذريته إلا قليلا وقال مجاهد لأحتوين وقال ابن زيد لأضلنهم وكلها متقاربة والمعنى
أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته علي لئن أنظرتني لأ ضلن ذريته إلا قليلا منهم.
قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (63) واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب
عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا (64) إن عبادي ليس
لك عليهم سلطن وكفى بربك وكيلا (65)
لما سأل إبليس النظرة قال الله له " اذهب " فقد أنظرتك كما قال في الآية الأخرى قال " فإنك من المنظرين إلى
يوم الوقت المعلوم " ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم " قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم "
أي على أعمالكم " جزاء موفورا " قال مجاهد وافرا وقال قتادة موفورا عليكم لا ينقص لكم منه. وقوله تعالى
" واستفزز من استطعت منهم بصوتك " قيل هو الغناء قال مجاهد باللهو والغناء أي استخفهم بذلك وقال
ابن عباس في قوله " واستفزز من استطعت منهم بصوتك " قال كل داع دعا إلى معصية الله عز وجل وقال قتادة
واختاره ابن جرير وقوله تعالى " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " يقول واحمل عليهم بجنودك خيالتهم ورجلتهم
فإن الرجل جمع راجل كما أن الركب جمع راكب وصحب جمع صاحب ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه
وهذا أمر قدري كقوله تعالى " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا " أي تزعجهم إلى المعاصي
إزعاجا وتسوقهم إليها سوقا وقال ابن عباس ومجاهد في قوله " وأجلب عليهم بخيلك ورجلك " قال كل راكب
وماش في معصية الله وقال قتادة: إن له خيلا ورجالا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه تقول العرب أجلب
فلان على فلان إذا صاح عليه ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ومنه اشتقاق الجلبة وهي ارتفاع
الأصوات وقوله تعالى " وشاركهم في الأموال والأولاد " قال ابن عباس ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق
الأموال في معاصي الله تعالى وقال عطاء: هو الربا وقال الحسن: هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام
وكذا قال قتادة وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما أما مشاركته إياهم في أموالهم فهو ما حرموه من
أنعامهم يعني من البحائر والسوائب ونحوها وكذا قال الضحاك وقتادة وقال ابن جرير والأولى أن يقال إن الآية
تعم ذلك كله وقوله " والأولاد " قال العوفي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك يعني أولاد الزنا وقال علي
ابن أبي طلحة عن ابن عباس هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفها بغير علم وقال قتادة عن الحسن البصري: قد
والله شاركهم في الأموال والأولاد مجسوا وهودوا ونصروا وصبغوا غير صبغة الاسلام وجزءوا من أموالهم جزءا
للشيطان وكذا قال قتادة سواء وقال أبو صالح عن ابن عباس هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس
وعبد فلان. قال ابن جرير وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصى الله فيه بتسميته بما يكرهه
الله أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله أو بالزنا بأمه أو بقتله أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله
53

بفعله به أو فيه فقد دخل في مشاركة إبليس فيه من ولد ذلك الولد له أو منه لان الله لم يخصص بقوله " وشاركهم
في الأموال والأولاد " معنى الشركة فيه بمعنى دون معنى فكل ما عصى الله فيه أو به أو أطيع الشيطان فيه أو به
فهو مشاركة وهذا الذي قاله متجه وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة فقد ثبت في صحيح مسلم
عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين
فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم " وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أن أحدهم إذا
أراد أن يأتي أهله قال بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم
يضره الشيطان أبدا " وقوله تعالى " وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا " كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول
إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق " إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم " الآية. وقوله تعالى " إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان " إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان
الرجيم ولهذا قال تعالى " وكفى بربك وكيلا " أي حافظا ومؤيدا ونصيرا وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا
ابن لهيعة عن موسى بن وردان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن المؤمن لينض شياطينه
كما ينض أحدكم بعيره في السفر " ينض أي يأخذ بناصيته ويقهره.
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما (66)
ويخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده لابتغائهم من فضله في
التجارة من إقليم إلى إقليم ولهذا قال " إنه كان بكم رحيما " أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته
بكم.
وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الانسان كفورا (67)
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوه منيبين إليه مخلصين له الدين ولهذا قال تعالى " وإذا مسكم
الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى كما اتفق لعكرمة
ابن أبي جهل لما ذهب فارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة فذهب هاربا فركب في البحر ليدخل الحبشة فجاءتهم
ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعو الله وحده فقال عكرمة في نفسه والله إن كان
لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره اللهم لك علي عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد
محمد فلأجدنه رؤوفا رحيما فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه.
وقوله تعالى " فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر وأعرضتم عن دعائه وحده
لا شريك له " وكان الانسان كفورا " أي سجيته هذا ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله.
أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا (68)
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم
حاصبا وهو المطر الذي فيه حجارة قاله مجاهد وغير واحد كما قال تعالى " إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط
نجيناهم بسحر نعمة من عندنا " وقد قال في الآية الأخرى " وأمطرنا عليهم حجارة من طين " وقال " أمنتم من
في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور * أم أمنتم من في السماء أن ير ل عليكم حاصبا فستعلمون
كيف نذير " وقوله " ثم لا تجدوا لكم وكيلا " أي ناصرا يرد ذلك عنكم وينقذكم منه.
أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (69)
54

يقول تبارك وتعالى " أم أمنتم " أيها المعرضون عنا بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر وخرجوا إلى البر " أن
يعيدكم " في البحر مرة ثانية " فيرسل عليكم قاصفا من الريح " أي يقصف الصواري ويغرق المراكب قال
ابن عباس وغيره: القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها وقوله " فيغرقكم بما كفرتم " أي بسبب
كفركم وإعراضكم عن الله تعالى وقوله " ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا " قال ابن عباس نصيرا وقال مجاهد
نصيرا ثائرا أي يأخذ بثأركم بعدكم. وقال قتادة ولا نخاف أحدا يتبعنا بشئ من ذلك.
ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (70)
ويخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى " لقد
خلقنا الانسان في أحسن تقويم " أن يمشي قائما منتصبا على رجليه ويأكل بيديه وغيره من الحيوانات يمشي
على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها
وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية " وحملناهم في البر " أي على الدواب من الانعام والخيل والبغال
وفي البحر أيضا على السفن الكبار والصغار " ورزقناهم من الطيبات " أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر
أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر لحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها
وألوانها والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها
وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي " وفضلناهم على كثير
ممن خلقنا تفضيلا " أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات، وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية
جنس البشر على جنس الملائكة. قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم قال: قالت الملائكة يا ربنا
إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون منها ويتنعمون ولم تعطنا ذلك فأعطنا الآخرة فقال الله تعالى " وعزتي
وجلالي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت فكان " وهذا الحديث مرسل من هذا الوجه، وقد
روي من وجه آخر متصلا. وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن محمد بن صدقة البغدادي حدثنا
إبراهيم بن عبد الله بن خارجة المصيصي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا محمد أبو غسان محمد بن مطرف عن
صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الملائكة قالت يا ربنا أعطيت بني
آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو فكما جعلت لهم الدنيا
فاجعل لنا الآخرة قال " لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان " وقد روى ابن عساكر من
طريق محمد بن أيوب الرازي حدثنا الحسن بن علي بن خلف الصيدلاني حدثنا سليمان بن عبد الرحمن حدثني
عثمان بن حصن بن عبيدة بن علاق سمعت عروة بن رويم اللخمي حدثني أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إن الملائكة قالوا ربنا خلقتنا وخلقت بني آدم وجعلتهم يأكلون الطعام ويشربون الشراب ويلبسون الثياب
ويتزوجون النساء ويركبون الدواب ينامون ويستريحون ولم تجعل لنا من ذلك شيئا فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة
فقال الله عز وجل " لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان " وقال الطبراني حدثنا
عبدان بن أحمد حدثنا عمر بن سهل حدثنا عبد الله بن تمام عن خالد الحذاء عن بشر بن شغاف عن أبيه عن عبد الله
ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما شئ أكرم على الله يوم القيامة من ابن آدم " قيل يا رسول الله ولا الملائكة
قال " ولا الملائكة، الملائكة مجبورون بمنزلة الشمس والقمر " وهذا حديث غريب جدا.
يوم ندعوا كل أناس بأممهم فمن أوتي كتبه بيمينه فأولئك يقرءون كتبهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن
في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (72)
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة أي
55

بنبيهم وهذا كقوله تعالى " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط " الآية وقال بعض السلف هذا
أكبر شرف لأصحاب الحديث لان إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن زيد بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع
واختاره ابن جرير، وروي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال: بكتبهم فيحتمل أن يكون أراد هذا وأن يكون
أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أي بكتاب أعمالهم وكذا قال أبو
العالية والحسن والضحاك وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " وقال تعالى
" ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه " الآية ويحتمل أن المراد بإمامهم أي كل قوم بمن يأتمون به
فأهل الايمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم كما قال " وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار "
وفي الصحيحين " لتتبع كل أمة ما كانت تعبد فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت " الحديث وقال تعالى
" وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون * هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون " وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهدا على
أمته بأعمالها كقوله تعالى " وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " وقوله تعالى
" فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " ولكن المراد ههنا بالامام هو كتاب الأعمال ولهذا
قال تعالى " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم " أي من فرحته وسروره
بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته كقوله " فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه - إلى
قوله - وأما من أوتي كتابه بشماله " الآيات وقوله تعالى " ولا يظلمون فتيلا " قد تقدم أن الفتيل هو الخيط
المستطيل في شق النواة. وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا في هذا فقال: حدثنا محمد بن يعمر ومحمد
بن عثمان بن كرامة قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل عن السدي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " قال " يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ويمد له
في جسمه ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون اللهم
آتنا بهذا وبارك لنا في هذا فيأتيهم فيقول لهم أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا، وأما الكافر فيسود وجهه
ويمد له في جسمه ويراه أصحابه فيقولون نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا اللهم لا تأتنا به فيأتيهم فيقولون اللهم
اخزه فيقول أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا " ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه، وقوله تعالى
" ومن كان في هذه أعمى " الآية، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد " ومن كان في هذه " أي في الحياة
الدنيا " أعمى " أي عن حجة الله وآياته وبيناته " فهو في الآخرة أعمى " أي كذلك يكون " وأضل سبيلا "
أي وأضل منه كما كان في الدنيا عياذا بالله من ذلك.
وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا (73) ولولا أن ثبتناك لقد
كدت تركن إليهم شيئا قليلا (74) إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا (75)
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار وأنه
تعالى هو المتولي أمره ونصره وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره ومظهر
دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا (76) سنة من قد أرسلنا
قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا (77)
56

قيل نزلت في اليهود إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء وترك سكنى المدينة. وهذا القول
ضعيف لأن هذه الآية مكية وسكنى المدينة بعد ذلك وقيل إنها نزلت بتبوك وفي صحته نظر. روى البيهقي عن
الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار العطاردي عن يونس بن بكير عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر
ابن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي
فالحق بالشام فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ
تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعدما ختمت السورة " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك
منها إلى قوله " تحويلا " فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث. وفي هذا
الاسناد نظر والأظهر أن هذا ليس بصحيح فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود وإنما غزاها امتثالا لقوله تعالى
" يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار " ولقوله تعالى " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم
صاغرون " وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة من أصحابه والله أعلم ولو صح هذا لحمل عليه الحديث
الذي رواه الوليد بن مسلم عن عقير بن معدان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة مكة والمدينة والشام " قال الوليد يعني بيت المقدس وتفسير الشام بتبوك أحسن
مما قال الوليد إنه بيت المقدس والله أعلم. وقيل نزلت في كفار قريش هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين
أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الآية وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرا، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد
هجرته من بين أظهرهم بعدما اشتد أذاهم له إلا سنة ونصف حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد فأمكنه
منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ولهذا قال تعالى " سنة من قد أرسلنا " الآية أي
هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ولولا أنه صلى الله
تعالى عليه وعلى آله وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لاحد به، ولهذا قال تعالى " وما
كان الله ليعذبهم وأنت فيهم " الآية.
أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرءان الفجر كان مشهودا (78) ومن الليل فتهجد به
نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا (79)
يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها " أقم الصلاة لدلوك الشمس " قيل
لغروبها قاله ابن مسعود ومجاهد وابن زيد وقال هشيم عن مغيرة عن الشعبي عن ابن عباس: دلوكها زوالها ورواه
نافع عن ابن عمر ورواه مالك في تفسيره عن الزهري عن ابن عمر وقاله أبو برزة الأسلمي وهو رواية أيضا عن
ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن والضحاك وأبو جعفر الباقر وقتادة واختاره ابن جرير ومما استشهد عليه ما
رواه عن ابن حميد عن الحكم بن بشير حدثنا عمرو بن قيس عن ابن أبي ليلى عن رجل عن جابر بن عبد الله قال:
دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثم خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال
" اخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس " ثم رواه عن سهل بن بكار عن أبي عوانة عن الأسود بن قيس عن
نبيح العنزي عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس فمن
قوله " لدلوك الشمس إلى غسق الليل " وهو ظلامه وقيل غروب الشمس أخذ منه الظهر والعصر والمغرب
والعشاء وقوله " وقرآن الفجر " يعني صلاة الفجر وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترا من أفعاله وأقواله
بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الاسلام اليوم مما تلقوه خلفا عن سلف وقرنا بعد قرن كما هو مقرر في
مواضعه ولله الحمد " إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود وعن أبي صالح عن
57

أبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال تشهده
ملائكة الليل وملائكة النهار. وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن
أبي سلمة وسعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فضل صلاة الجميع على صلاة
الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " يقول أبو هريرة: اقرأوا إن
شئتم " وقر آن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا الأعمش عن
أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا " قال " تشهده
ملائكة الليل وملائكة النهار " ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة ثلاثتهم عن عبيد بن أسباط بن محمد عن أبيه به
وقال الترمذي حسن صحيح. وفي لفظ في الصحيحين من طريق مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر،
فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم كيف تركتم عبادي؟ فيقولون أتيناهم وهم يصلون وتركناهم
وهم يصلون " وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء. وكذا قال
إبراهيم النخعي ومجاهد وقتادة وغير واحد في تفسير هذه الآية. وأما الحديث الذي رواه ابن جرير ههنا من
حديث الليث بن سعد عن زيادة عن محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول: من يستغفرني أغفر له، من يسألني أعطيه، من يدعني فأستجيب له
حتى يطلع الفجر فلذلك يقول " وقرآن الفجر إن قر آن الفجر كان مشهودا " فيشهده الله وملائكة الليل وملائكة
النهار فإنه تفرد به زيادة، وله بهذا حديث في سنن أبي داود. وقوله تعالى: " ومن الليل فتهجد به نافلة لك "
أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة كما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة
أفضل بعد المكتوبة؟ قال " صلاة الليل " ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل فإن التهجد ما كان
بعد نوم. قاله علقمة والأسود وإبراهيم النخعي وغير واحد، وهو المعروف في لغة العرب وكذلك ثبتت
الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه عن ابن عباس وعائشة وغير واحد من الصحابة رضي الله عنهم
كما هو مبسوط في موضعه ولله الحمد والمنة، وقال الحسن البصري هو ما كان بعد العشاء ويحمل على ما كان
بعد النوم، واختلف في معنى قوله تعالى: " نافلة لك " فقيل معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك فجعلوا
قيام الليل واجبا في حقه دون الأمة. رواه العوفي عن ابن عباس وهو أحد قولي العلماء وأحد قولي الشافعي رحمه
الله اختاره ابن جرير وقيل إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما
تأخر وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه. قال مجاهد: وهو في المسند عن أبي
أمامة الباهلي رضي الله عنه. وقوله " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك
يوم القيامة مقاما محمودا يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى. قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل
ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظم ما هم فيه من شدة ذلك
اليوم " ذكر من قال ذلك " حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن
حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم
نفس إلا بإذنه ينادى يا محمد فيقول " لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهدي من
هديت، وعبدك بين يديك ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت "
فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل ثم رواه عن بندار عن غندر عن شعبة عن أبي إسحاق به، وكذا
رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري عن أبي إسحاق به وقال ابن عباس هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا
58

قال ابن أبي نجيح عن مجاهد وقاله الحسن البصري، وقال قتادة هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول
شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا "
قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد فهو أول من تنشق عنه
الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر وله اللواء الذي آدم فمن دونه لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر
واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق وذلك بعد ما تسأل الناس آدم ثم نوحا
ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى فكل يقول لست لها حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول " أنا لها، أنا لها " كما سنذكر
ذلك مفصلا في هذا الموضع إن شاء الله تعالى، ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها
وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته وأولهم إجازة على الصراط بأمته وهو أ ول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح
مسلم. وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم
كلهم، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا
تليق إلا له، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا
يعلم عدتهم إلا الله تعالى ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك، وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب
السيرة في باب الخصائص ولله الحمد والمنة، ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله
المستعان. قال البخاري حدثنا إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي سمعت ابن عمر يقول: إن
الناس يصيرون يوم القيامة جثاء كل أمة تتبع نبيها يقولون يا فلان اشفع يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى
محمد صلى الله عليه وسلم فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا. ورواه حمزة بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا شعيب بن الليث ثنا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال:
سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الشمس لتدنو حتى
يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك،
ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا " وهكذا رواه
البخاري في الزكاة عن يحيى بن بكير وعلقمة عن عبد الله بن صالح كلاهما عن الليث بن سعد به. وزاد فيومئذ
يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم. قال البخاري: وحدثنا علي بن عياش حدثنا شعيب بن أبي
حمزة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال حين يسمع النداء: اللهم رب
هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته. حلت له
شفاعتي يوم القيامة " انفرد به دون مسلم. " حديث أبي بن كعب " قال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر الأزد ي حدثنا
زهير بن محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان
يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر " وأخرجه الترمذي من حديث أبي عامر عبد
الملك بن عمرو العقدي وقال حسن صحيح. وابن ماجة من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به، وقد قدمنا
في حديث أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف قال صلى الله عليه وسلم في آخره " فقلت اللهم اغفر لامتي اللهم
اغفر لامتي وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم عليه السلام ". " حديث أنس بن مالك " قال
الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا سعيد بن أبي عروبة حدثنا قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يجتمع
المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون يا آدم
أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شئ فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من
مكاننا هذا. فيقول لهم آدم لست هناكم ويذكر ذنبه الذي أصاب فيستحيي ربه عز وجل من ذلك ويقول ولكن ائتوا
نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس
59

له به علم فيستحيي ربه من ذلك ويقول ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتونه فيقول لست هناكم ولكن
ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس
فيستحيي ربه من ذلك ويقول ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى فيقول لست هناكم
ولكن ائتوا محمدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني - قال الحسن هذا الحرف - فأقوم فأمشي بين
سماطين من المؤمنين - قال أنس - حتى استأذن على ربي فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجدا لربي
فيدعني ما شاء الله أن يدعني - قال - ثم يقال ارفع محمد قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه فأرفع رأسي فأحمده
بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قال ثم أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت -
ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي
فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قال ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت - أو
خررت - ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع
فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول يا رب ما بقي
إلا من حبسه القرآن " فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه
من الخير ما يزن شعيرة ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ثم يخرج من
النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " أخرجاه من حديث سعيد به وهكذا رواه الإمام أحمد
عن عفان بن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بطوله. وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد حدثنا
حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس عن أنس قال حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إني لقائم
أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ جاءني عيسى عليه السلام فقال هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون - أو قال
يجتمعون إليك - ويدعون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله لغم ما هم فيه فالخلق ملجمون
بالعرق فأما المؤمن فهو عليه كالزكمة وأما الكافر فيغشاه الموت فقال: انتظر حتى أرجع إليك فذهب نبي الله
صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى ولا نبي مرسل فأوحى الله عز وجل إلى جبريل أن اذهب إلى
محمد وقل له ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانا واحدا
فما زلت أتردد إلى ربي عز وجل فلا أقوم منه مقاما إلا شفعت حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال يا محمد
أدخل من أمتك من خلق الله عز وجل من شهد أن لا إله إلا الله يوما واحدا مخلصا ومات على ذلك " " حديث
بريدة رضي الله عنه " قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر أخبرنا أبو إسرائيل عن الحارث بن حضيرة
عن ابن بريدة عن أبيه أنه دخل على معاوية فإذا رجل يتكلم فقال بريدة: يا معاوية تأذن لي في الكلام؟ فقال نعم
وهو يرى أنه سيتكلم بمثل ما قال الآخر فقال بريدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة
عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة " قال فترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي رضي الله عنه.
" حديث ابن مسعود " قال الإمام أحمد: حدثنا عارم بن الفضل حدثنا سعيد بن الفضل حدثنا سعيد بن زيد حدثنا
علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقالا: إن أمنا تكرم الزوج وتعطف على الولد قال وذكر الضيف غير أنها كانت وأدت في الجاهلية فقال
" أمكما في النار " قال فأدبرا والسوء يرى في وجهيهما فأمر بهما فردا فرجعا والسرور يرى في وجهيهما رجاء أن
يكون قد حدث شئ فقال " أمي مع أمكما " فقال رجل من المنافقين وما يغني هذا عن أمه شيئا ونحن نطأ
عقبيه. فقال رجل من الأنصار ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه يا رسول الله هل وعدك ربك فيها أو فيهما. قال
فظن أنه من شئ قد سمعه فقال " ما شاء الله ربي وما أطعمني فيه وإني لاقوم المقام المحمود يوم القيامة " فقال
الأنصاري يا رسول الله وما ذاك المقام المحمود؟ قال: " ذاك إذا جئ بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى
60

إبراهيم عليه السلام فيقول اكسوا خليلي فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش ثم أوتي
بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقاما لا يقومه أحد فيغبطني فيه الأولون والآخرون " قال: ويفتح لهم من الكوثر
إلى الحوض فقال المنافق إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " حاله المسك
ورضراضه اللؤلؤ " فقال المنافق لم أسمع كاليوم فإنه قلما جرى ماء على حال أو رضراض إلا كان له نبت؟ فقال
الأنصاري: يا رسول الله هل له نبت؟ فقال: " نعم قضبان الذهب " قال المنافق لم أسمع كاليوم فإنه قلما ينبت
قضيب إلا أورق وإلا كان له ثمر قال الأنصاري يا رسول الله هل له ثمرة؟ قال: " نعم ألوان الجوهر وماؤه أشد
بياضا من اللبن وأحلى من العسل من شرب منه شربة لا يظمأ بعده ومن حرمه لم يرو بعده " وقال أبو داود
الطيالسي: حدثنا يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي الزعراء عن عبد الله قال: ثم يأذن الله عز وجل في
الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل ثم يقوم إبراهيم خليل الله ثم يقوم عيسى أو موسى قال أبو الزعراء لا أدري
أيهما قال. ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعا فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع وهو المقام المحمود الذي قال الله عز
وجل " عسى أن يبعثك رب مقاما محمودا ".
" حديث كعب بن مالك رضي الله عنه " قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا محمد بن حرب حدثنا
الزبيدي عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي عز وجل حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء
الله أن أقول فذلك المقام المحمود " " حديث أبي الدرداء رضي الله عنه " قال الإمام أحمد: حدثنا حسن حدثنا
ابن لهيعة حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنا أول
من يؤذن له بالسجود يوم القيامة وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين
الأمم ومن خلفي مثل ذلك وعن يميني مثل ذلك وعن شمالي مثل ذلك " فقال رجل يا رسول الله كيف تعرف أمتك
من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال " هم غر محجلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم وأعرفهم
أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم ".
" حديث أبي هريرة رضي الله عنه " قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا أبو حيان حدثنا أبو
زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع
وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال " أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين
والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا
يطيقون ولا يحتملون فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم ألا تنظرون من يشفع لكم إلى
ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله
بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟
فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنه قد
نهاني عن الشجرة
فعصيت نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح فيأتون نوحا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى
أهل الأرض وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح:
إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله قط وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على
قومي نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله
من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم
غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله فذكر كذباته نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى
موسى فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس
61

اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم
يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسا لم أومر بقتلها نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري
اذهبوا إلى عيسى فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت
الناس في المهد صبيا فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى إن ربي قد
غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري
اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما
تقدم من ذنبك وما تأخر فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش فأقع
ساجدا لربي عز وجل ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتح على أحد قبلي
فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب أمتي يا رب؟
فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما
سوى ذلك من الأبواب ثم قال والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة
وهجر أو كما بين مكة وبصرى " أخرجاه في الصحيحين وقال مسلم رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى حدثنا
هقل بن زياد عن الأوزاعي حدثني أبو عمار حدثني عبد الله بن فروخ حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة وأول شافع وأول مشفع " وقال ابن جرير: حدثنا
أبو كريب حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عسى أن
يبعثك ربك مقاما محمودا " سئل عنها فقال: هي الشفاعة " رواه الإمام أحمد عن وكيع عن محمد بن عبيد عن
داود عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: " عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا " قال: " هو
المقام الذي أشفع لامتي فيه " وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه قال النبي
صلى الله عليه وسلم - فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى والله ما رآه قبلها فأقول أي رب إن هذا أخبرني
أنك أرسلته إلي فيقول الله عز وجل: صدق ثم أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال فهو
المقام المحمود " وهذا حديث مرسل.
وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطنا نصيرا (80) وقل جاء الحق
وزهق البطل إن البطل كان زهوقا (81)
قال الإمام أحمد: حدثنا جرير عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر
بالهجرة فأنزل الله " وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا "
وقال الترمذي: حسن صحيح وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية: إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول
الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد الله قتال أهل مكة أمره أن يخرج إلى المدينة فهو الذي قال الله عز وجل
" وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق " الآية وقال قتادة " وقل رب أدخلني مدخل صدق "
يعني المدينة " وأخرجني مخرج صدق " يعني مكة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهذا القول هو
أشهر الأقوال وقال العوفي عن ابن عباس: " أدخلني مدخل صدق " يعني الموت " وأخرجني مخرج صدق "
يعني الحياة بعد الموت وقيل غير ذلك من الأقوال والأول أصح وهو اختيار ابن جرير. وقوله: " واجعل لي
من لدنك سلطانا نصيرا " قال الحسن البصري في تفسيرها: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس وليجعلنه
له وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له وقال قتادة فيها: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الامر إلا بسلطان
62

فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله ولحدود الله ولفرائض الله ولإقامة دين الله فإن السلطان رحمة من الله جعله
بين أظهر عباده ولولا ذلك لاغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم قال مجاهد: " سلطانا نصيرا " حجة
بينة واختار ابن جرير قول الحسن وقتادة وهو الأرجح لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه ولهذا يقول
تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات - إلى قوله - وأنزلنا الحديد " الآية. وفي الحديث " إن الله ليزع بالسلطان ما
لا يزع بالقرآن " أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من
الوعيد الأكيد والتهديد الشديد وهذا هو الواقع. وقوله: " وقل جاء الحق وزهق الباطل " الآية: تهديد ووعيد
لكفار قريش فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ولا قبل لهم به وهو ما بعثه الله به من القرآن والايمان
والعلم النافع وزهق باطلهم أي اضمحل وهلك فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء " بل نقذف بالحق
على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق " وقال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد
عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب فجعل يطعنها
بعود في يده ويقول " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد " وكذا
رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من طرق عن سفيان بن عيينة به وكذا
رواه عبد الرزاق عن ابن أبي نجيح به.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا زهير حدثنا شبابة حدثنا المغيرة حدثنا أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنما تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على
وجوهها وقال " جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ".
وننزل من القرء ان ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا (82)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه تنزيل من حكيم حميد إنه " شفاء ورحمة للمؤمنين " أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق
وشرك وزيغ وميل فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمة يحصل فيها الايمان والحكمة وطلب الخير والرغبة
فيه وليس هذا إلا لمن آمن به وصدقه واتبعه فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة وأما الكافر الظالم نفسه بذلك فلا
يزيده سماعه القرآن إلا بعدا وكفرا والآفة من الكافر لا من القرآن كقوله تعالى " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " وقال تعالى " وإذا ما أنزلت
سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا * فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في
قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون " والآيات في ذلك كثيرة قال قتادة في قوله
" وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه " ولا يزيد الظالمين إلا
خسارا " أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر كان يؤسا (83) قل كل يعمل على شاكلته فبربكم
أعلم بمن هو أهدى سبيلا (84)
يخبر تعالى عن نقص الانسان من حيث هو إلا من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء فإنه إذا أنعم الله
عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ونال ما يزيد أعرض عن طاعة الله وعبادته ونأى بجانبه قال مجاهد: بعد عنا
قلت وهذا كقوله تعالى " فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه " وقوله " فلما نجاكم إلى البر
63

أعرضتم " وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب والحوادث والنوائب " كان يؤسا " أي قنط أن يعود يحصل له بعد
ذلك خير كقوله تعالى " ولئن أذقنا الانسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور * ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء
مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور * إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر
كبير " وقوله تعالى " قل كل يعمل على شاكلته " قال ابن عباس: على ناحيته. وقال مجاهد: على حدته
وطبيعته. وقال قتادة: على نيته. وقال ابن زيد: دينه وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى. وهذه الآية والله أعلم
تهديد للمشركين ووعيد لهم كقوله تعالى " وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم " الآية. ولهذا قال " قل
كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " أي منا ومنكم وسيجزى كل عامل بعمله فإنه لا تخفي عليه خافية.
ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا (85)
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه
قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة وهو متوكئ على عسيب فمر من اليهود فقال بعضهم
لبعض سلوه عن الروح: وقال بعضهم لا تسألوه. قال فسألوه عن الروح فقالوا يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا
على العسيب قال فظننت أنه يوحى إليه فقال " ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم
إلا قليلا " قال: فقال بعضهم لبعض قد قلنا لكم لا تسألوه. وهكذا رواه البخاري ومسلم من حديث الأعمش به
ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الآية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في
حرث وهو متوكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه على الروح فقال ما رابكم إليه وقال
بعضهم لا يستقبلنكم بشئ فقال بعضهم لبعض سلوه على الروح فقال ما رابكم إليه وقال
بعضهم لا يستقبلنكم بشئ تكرهونه. فقالوا سلوه فسألوه عن الروح فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئا
فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي فلما نزل الوحي قال " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " الآية
وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن
السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك
أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه وهي هذه الآية " ويسئلونك عن الروح "
ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة حدثنا يحيى بن زكريا عن داود عن عكرمة
عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت
" ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " قالوا أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة
ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا قال وأنزل الله " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر " الآية.
وقد روى ابن جرير عن محمد بن المثنى عن عبد الاعلى عن داود عن عكرمة قال سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الروح فأنزل الله " ويسألونك عن الروح " الآية فقالوا تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة
وهي الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا " قال فنزلت " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر " الآية قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار فهو كثير طيب وهو في علم
الله قليل.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا "
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول " وما أوتيتم من
العلم إلا قليلا " أفعنيتنا أم عنيت قومك فقال " كلا قد عنيت " فقالوا إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل
شئ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم " وأنزل الله " ولو أن ما
64

في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ".
وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال أحدها أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن
ابن عباس في قوله " ويسألونك عن الروح " الآية وذلك أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الروح وكيف تعذب
الروح التي في الجسد وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شئ فلم يجر إليهم شيئا فأتاه جبريل فقال له
" قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقالوا من جاءك بهذا قال جاءني
به جبريل من عند الله فقالوا له والله ما قاله لك إلا عدونا فأنزل الله " قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك
بإذن الله مصدقا لما بين يديه " وقيل المراد بالروح ههنا جبريل قاله قتادة قال وكان ابن عباس يكتمه وقيل المراد
به ههنا ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " ويسألونك عن الروح "
يقول الروح ملك. وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله بن عرس المصري حدثنا وهب بن روق بن هبيرة
حدثنا بشر بن بكر حدثنا الأوزاعي حدثنا عطاء عن عبد الله بن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن لله ملكا
لو قيل له التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة واحدة لفعل تسبيحه سبحانك حيث كنت " وهذا حديث غريب
بل منكر. وقال أبو جعفر بن جرير رحمه الله: حدثني علي حدثني عبد الله حدثني أبو مروان يزيد بن سمرة
صاحب قيسارية عمن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال في قوله " ويسألونك عن الروح " قال:
هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح
الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة. وهذا أثر غريب
عجيب والله أعلم. وقال السهيلي روي عن علي أنه قال: هو ملك له مائة ألف رأس لكل رأس مائة ألف وجه
في كل وجه مائة ألف فم في كل فم مائة ألف لسان يسبح الله تعالى بلغات مختلفة. قال السهيلي: وقيل المراد
بذلك طائفة من الملائكة على صور بني آدم وقيل طائفة يرون الملائكة ولا تراهم فهم للملائكة كالملائكة لبني
آدم وقوله " قل الروح من أمر ربي " أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم ولهذا قال " وما أوتيتم من العلم إلا
قليلا " أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل فإنه لا يحيط أحد بشئ من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى
والمعنى أن علمكم في علم الله قليل وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه
كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر
إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة أي شرب منه بمنقاره فقال: يا موسى ما علمي وعلمك
وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه ولهذا قال
تعالى " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " وقال السهيلي قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا لانهم سألوا على
وجه التعنت وقيل أجابهم وعول السهيلي على أن المراد بقوله " قل الروح من أمر ربي " أي من شرعه أي
فأدخلوا فيه وقد علمتم ذلك لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة وإنما ينال من جهة الشرع وفي هذا
المسلك الذي طرقه وسلكه نظر والله أعلم. ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو
غيرها وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر وقرر أن الروح التي ينفخها
الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم فهي إما نفس مطمئنة أو
أمارة بالسوء قال كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسما خاصا فإذا اتصل
بالعنبة وعصر منها صار ماء مصطارا أو خمرا ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز وكذا لا يقال
للنفس روح إلا على هذا النحو وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه فحاصل ما نقول إن الروح هي
أصل النفس ومادتها والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن فهي هي من وجه لا من كل وجه وهذا معنى حسن
والله أعلم. قلت: وقد تكلم الناس في ماهية الروح وأحكامها وصنفوا في ذلك كتبا ومن أحسن من تكلم على
65

ذلك الحافظ ابن منده في كتاب سمعناه في الروح.
ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا (86) إلا رحمة من ربك إن فضله كان
عليك كبيرا (87) قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض
ظهيرا (88) ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا (89)
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه يطرق الناس ريح حمراء
يعني في آخر الزمان من قبل الشام فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية ثم قرأ ابن مسعود " ولئن شئنا
لنذهبن بالذي أوحينا إليك " الآية. ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن
كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ولو تعاونوا وتساعدوا
وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن هذه الآية
نزلت في نفر من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له إنا نأتيك بمثل ما جئتنا به فأنزل الله هذه الآية. وفي هذا
نظر لأن هذه السورة مكية وسياقها كله مع قريش واليهود إنما اجتمعوا به في المدينة فالله أعلم. وقوله " ولقد
صرفنا للناس " الآية أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ومع هذا " فأبى
أكثر الناس إلا كفورا " أي جحودا للحق وردا للصواب.
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا (90) أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهر خللها
تفجيرا (91) أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا (92) أو يكون لك بيت من زخرف
أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتبا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا (93)
قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق حدثني شيخ من أهل مصر قدم منذ بضع
وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بني عبد الدار وأبا
البختري أخا بني أسد والأسود بن المطلب بن أسد وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن علي
وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا أو من اجتمع منهم بعد غروب
الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه أن
أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء
وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا يا محمد: إنا قد بعثنا إليك لنعذر
فيك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين
وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما
جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا
سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك -
وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك
عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالات ربي ونصحت
66

لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لام الله حتى يحكم الله بيني
وبينكم " أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما فقالوا يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه
ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير
عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى
من آبائنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟
فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم
في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ
لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزا وقصورا من
ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضل
منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما
بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه
علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم " قالوا فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك فإنا
لن نؤمن لك إلا أن تفعل. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك " فقالوا يا محمد أما
علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به
ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له
الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو
تهلكنا وقال قائلهم نحن نعبد الملائكة وهي بنات الله وقال قائلهم لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة
قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر
ابن مخزوم وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم
سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب
فوالله لا أو من بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصحيفة منشورة
ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك ثم
انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين
دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه وهكذا رواه زياد بن عبد الله البكائي عن ابن إسحاق حدثني بعض أهل العلم عن
سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس فذكر مثله سواء. وهذا المجلس الذي اجتمع هؤلاء له لو علم الله منهم
أنهم يسألون ذلك استرشادا لأجيبوا إليه ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفرا وعنادا فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن
شئت أعطيناهم ما سألوا فإن كفروا عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة
والرحمة. فقال " بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة " كما تقدم ذلك في حديثي ابن عباس والزبير بن العوام
أيضا عند قوله تعالى " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ". وقال تعالى " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل
إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا
مسحورا * انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا * تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك
جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا * بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " وقوله
تعالي " حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " الينبوع: العين الجارية سألوه أن يجري لهم عينا معينا في أرض
67

الحجاز ههنا وههنا وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ولكن علم
أنهم لا يهتدون كما قال تعالى " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا
العذاب الأليم " وقال تعالى " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شئ قبلا وما كانوا
ليؤمنوا " الآية. وقوله تعالى " أو تسقط السماء كما زعمت " أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء
وتهي وتدلي أطرافها فجعل ذلك في الدنيا وأسقطها كسفا أي قطعا كقولهم " اللهم إن كان هذا هو الحق من
عندك فأمطر علينا حجارة من السماء " الآية وكذلك سأل قوم شعيب منه فقالوا " أسقط علينا كسفا من السماء
إن كنت من الصادقين " فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم وأما نبي الرحمة ونبي التوبة
المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا
وكذلك وقع فإن من هؤلاء الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى عبد الله بن أبي أمية الذي تبع النبي
صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال أسلم إسلاما تاما وأناب إلى عز وجل. وقوله تعالى " أو يكون لك بيت من زخرف " قال
ابن عباس ومجاهد وقتادة هو الذهب وكذلك هو في قراءة ابن مسعود أو يكون لك بيت من ذهب " أو ترقى في
السماء " أي تصعد في سلم ونحن ننظر إليك " ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " قال مجاهد أي
مكتوب فيه إلى كل واحد واحد صحيفة هذا كتاب من الله لفلان بن فلان تصبح موضوعة عند رأسه وقوله تعالى
" قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أي سبحانه وتعالي وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور
سلطانه وملكوته بل هو الفعال لما يشاء إن شاء أجابكم إلى ما سألتم وإن شاء لم يجبكم وما أنا إلا رسول إليكم
أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وقد فعلت ذاك وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل.
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا علي بن إسحاق حدثنا ابن المبارك حدثنا يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن زجر
عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عرض علي ربي عز وجل ليجعل إلي بطحاء مكة
ذهبا فقلت لا يا رب ولكن أشبع يوما وأجوع يوما - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك وإذا
شبعت حمدتك وشكرتك " ورواه الترمذي في الزهد عن سويد بن نصر عن ابن المبارك به وقال هذا حديث حسن
وعلي بن يزيد يضعف في الحديث.
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا (94) قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون
مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (95)
يقول تعالى " وما منع الناس " أي أكثرهم " أن يؤمنوا " ويتابعوا الرسل إلا استعجابهم من بعثه البشر رسلا
كما قال تعالى " أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق
عند ربهم " وقال تعالى " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا " الآية وقال فرعون وملؤه
" أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون " وكذلك قالت الأمم لرسلهم " إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن
تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين " والآيات في هذا كثيرة ثم قال تعالى منبها على لطفه ورحمته
بعباده أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ولو بعث إلى
البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الاخذ عنه كما قال تعالى " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث
فيهم رسولا من أنفسهم " وقال تعالى " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " وقال تعالى " كما أرسلنا فيكم رسولا
منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم
وأشكر وا لي ولا تكفرون " ولهذا قال ههنا " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين " أي كما أنتم فيها
68

" لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أي من جنسهم ولما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا
ورحمة.
قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا (96)
يقول تعالى مرشدا نبيه صلى الله عليه وسلم إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به إنه شاهد علي وعليكم عالم بما جئتكم
به فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني أشد الانتقام كما قال تعالى " ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين
ثم لقطعنا منه الوتين " وقوله " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " أي عليما بهم بمن يستحق الانعام والاحسان
والهداية ممن يستحق الشقاء والاضلال والإزاغة ولهذا قال:
ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيمة على وجوههم عميا
وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا (97)
يقول تعالى مخبرا عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له ومن يضلل فلن
تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم كما قال " من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا "
وقوله: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نمير حدثنا إسماعيل عن نفيع قال
سمعت أنس بن مالك يقول: قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال " الذي أمشاهم على
أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم " وأخرجاه في الصحيحين وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا الوليد
ابن جميع القرشي عن أبيه عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد قال: قام أبو ذر فقال يا بني غفار قولوا
ولا تحلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج فوج راكبين طاعمين كاسين
وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار فقال قائل منهم هذان قد
عرفناهما فما بال الذين يمشون ويسعون؟ قال " يلقي الله عز وجل الآفة على الظهر حتى لا يبقى ظهر حتى إن
الرجل لتكون له الحديقة المعجبة فيعطيها بالشارف ذات القتب فلا يقدر عليها " وقوله " عميا " أي لا يبصرون
" وبكما " يعني لا ينطقون " وصما " لا يسمعون وهذا يكون في حال دون حال جزاء لهم كما كانوا في الدنيا بكما
وعميا وصما عن الحق فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه " مأواهم " أي منقلبهم ومصيرهم
" جهنم كلما خبت " قال ابن عباس سكنت وقال مجاهد طفئت " زدناهم سعيرا " أي لهبا ووهجا وجمرا كما
قال " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ".
ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآيتنا وقالوا أإذا كنا عظما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا (98) * أو لم يروا أن الله
الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا (99)
يقول تعالى هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه لانهم كذبوا
" بآياتنا " أي بأدلتنا وحجتنا واستبعدوا وقوع البعث " وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا " أي بالية نخرة " أإنا لمبعوثون
خلقا جديدا " أي بعدما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟
فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السماوات والأرض فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك
كما قال " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " وقال " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات
والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى " الآية وقال " أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر
69

على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " إلى آخر السورة
لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائص فقال " وقل الحمد
لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك " بل هو الله الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له
كفوا أحد. وقال ههنا " أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم " أي يوم القيامة يعيد
أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم وقوله " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " أي جعل لاعادتهم وإقامتهم من
قبورهم أجلا مضروبا ومدة مقدرة لابد من انقضائها كما قال تعالى " وما نؤخره إلا لأجل معدود " وقوله " فأبى
الظالمون " أي بعد قيام الحجة عليهم " إلا كفورا " إلا تماديا في باطلهم وضلالهم.
قل لو أنتم تملكون خزائن ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا (100)
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله
لامسكتم خشية الانفاق قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر أي خشية أن تذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا لان
هذا من طباعكم وسجاياكم ولهذا قال " وكان الانسان قتورا " قال ابن عباس وقتادة أي بخيلا منوعا وقال الله
تعالى " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا " أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله لما أعطوا أحدا
شيئا ولا مقدار نقير والله تعالى يصف الانسان من حيث هو إلا من وفقه الله وهداه فإن البخل والجزع والهلع صفة
له كما قال تعالى " إن الانسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين " ولهذا نظائر
كثيرة في القرآن العزيز ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه وقد جاء في الصحيحين " يد الله ملاى لا يغيضها نفقة
سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه ".
ولقد آتينا موسى تسع آيات بينت فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى
مسحورا (101) قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يفرعون مثبورا
(102) فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا (103) وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض
فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا (104)
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن
أرسله إلى فرعون وهي العصا واليد والسنين والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات قاله
ابن عباس وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا والخمس في الأعراف والطمس والحجر وقال ابن عباس أيضا
ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة هي يده وعصاه والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع
والدم وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي وجعل الحسن البصري السنين ونقص الثمرات واحدة وعنده أن
التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون " فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين " أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها كفروا
بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا وما نجعت فيهم فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك
ما سألوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا إلى آخرها لما استجابوا ولا
آمنوا إلا أن يشاء الله كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات
" إني لأظنك يا موسى مسحورا " قيل بمعنى ساحر والله تعالى أعلم فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة
70

هي المرادة ههنا وهي المعنية في قوله تعالى " وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا
موسى لا تخف - إلى قوله في تسع آيات - إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين " فذكر هاتين الآيتين العصا
واليد وبين الآيات الباقيات في سورة الأعرف وتفصلها وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة منها ضربه
الحجر بالعصا وخروج الماء منه ومنها تظليلهم بالغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد
مفارقتهم بلاد مصر ولكن ذكر ههنا التسع آيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر فكانت حجة عليهم
فخالفوها وعاندوها كفرا وجحودا فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة
قال: سمعت عبد الله بن سلمة يحدث عن صفوان بن عسال المرادي رضي الله عنه قال: قال يهودي لصاحبه:
اذهب بنا إلى هذا النبي حتى نسأله عن هذه الآيات " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " فقال لا تقل له نبي فإنه
لو سمعك لصارت له أربع أعين فسألاه فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس
التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة - أو
قال لا تفروا من الزحف شعبة الشاك - وأنتم يا يهود عليكم خاصة أن لا تعدوا في السبت " فقبلا يديه ورجليه وقالا
نشهد أنك نبي قال " فما يمنعكما أن تتبعاني؟ " قالا لان داود عليه السلام دعا أن لا يزال من ذريته في نبي وإنا
نخشى إن أسلمنا أن تقتلنا يهود. فهذا حديث رواه هكذا الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير في تفسيره من
طرق عن شعبة بن الحجاج به وقال الترمذي حسن صحيح. وهو حديث مشكل وعبد الله بن سلمة في حفظه شئ
وقد تكلموا فيه ولعله اشتبه عليه التسع الآيات بالعشر الكلمات فإنها وصايا في التوراة لا تعلق لها بقيام الحجة
على فرعون والله أعلم. ولهذا قال موسى لفرعون. " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض
بصائر " أي حججا وأدلة على صدق ما جئتك به " وإني لأظنك يا فرعون مثبورا " أي هالكا قاله مجاهد وقتادة
وقال ابن عباس ملعونا " وقال أيضا هو والضحاك " مثبورا " أي مغلوبا والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله
قال الشاعر:
إذ أباري الشيطان في سنن الغي - ومن مال ميله مثبور
وقرأ بعضهم برفع التاء من قوله علمت وروي ذلك عن علي بن أبي طالب ولكن قراءة الجمهور بفتح التاء على
الخطاب لفرعون كما قال تعالى " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم
ظلما وعلوا " الآية فهذا كله مما يدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين
ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه وخوارق
ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله وليس المراد منها كما ورد في هذا الحديث فإن
هذ ه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وقومه وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين على فرعون؟ وما جاءهم
هذا الوهم إلا من قبل عبد الله بن سلمة فإن له بعض ما ينكر والله أعلم ولعل ذينك اليهوديين إنما سألا عن
العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات فحصل وهم في ذلك والله أعلم. وقوله " فأراد أن يستفزهم من
الأرض " أي يخليهم منها ويزيلهم عنها " فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض "
وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة وكذلك وقع فإن أهل مكة هموا بإخراج
الرسول منها كما قال تعالى " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها " الآيتين ولهذا أورث الله رسوله
مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون
من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال كذل
وأورثناها بني إسرائيل. وقال ههنا " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم
71

لفيفا " أي جميعكم أنتم وعدوكم قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: لفيفا أي جميعا.
وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا (105) وقرآنا فرقناه لتقرأه على مكث
ونزلناه تنزيلا (106)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد أنه بالحق نزل أي متضمنا للحق كما قال تعالى " لكن الله
يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون " أي متضمنا علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه
وأمره ونهيه وقوله " وبالحق نزل " أي ونزل إليك يا محمد محفوظا محروسا لم يشب بغيره ولا زيد فيه ولا
نقص منه بل وصل إليك بالحق فإنه نزل به شديد القوى الأمين المكين المطاع في الملا الاعلى وقوله " وما
أرسلناك " أي يا محمد " إلا مبشرا ونذيرا " مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين ونذيرا لمن عصاك من الكافرين.
وقوله " وقرآنا فرقناه " أما قراءة من قرأ بالتخفيف فمعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء
الدنيا ثم نزل مفرقا منجما على الوقائع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاث وعشرين سنة قاله عكرمة عن ابن عباس.
وعن ابن عباس أيضا أنه قرأ فرقناه بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبينا مفسرا ولهذا قال: " لتقرأه على الناس " أي
لتبلغه الناس وتتلوه عليهم أي " على مكث " أي مهل " ونزلناه تنزيلا " أي شيئا بعد شئ.
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله
إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا (107) ويقولون سبحن ربنا
إن كان وعد ربنا لمفعولا (108) ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم " آمنوا به أو لا
تؤمنوا " أي سواء آمنتم به أم لا فهو حق في نفسه أنزله الله ونوه بذكره في سالف الأزمان في كتبه المنزلة على
رسله ولهذا قال " إن الذين أوتوا العلم من قبله " أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ويقيمونه
ولم يبدلوه ولا حرفوه " إذا يتلى عليهم " هذا القرآن " يخرون للأذقان " جمع ذقن وهو أسفل الوجه " سجدا "
أي لله عز وجل شكرا على ما أنعم به عليهم من جعله إياهم أهلا إن أدركوا هذا الرسول الذي أنزل عليه هذا
الكتاب. ولهذا يقو لون " سبحان ربنا " أي تعظيما وتوقيرا على قدرته التامة وأنه لا يخلف الميعاد الذي وعدهم
على ألسنة الأنبياء المتقدمين عن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا قالوا " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ". وقوله
" ويخرون للأذقان يبكون " أي خضوعا لله عز وجل وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله " ويزيدهم خشوعا " أي
إيمانا وتسليما كما قال " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " وقوله " ويخرون " عطف صفة على
صفة لا عطف السجود على السجود كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم
قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك
سبيلا (110) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111)
72

يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عز وجل المانعين من تسميته بالرحمن
" ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى " أي لا فرق بين دعائكم له باسم الله أو باسم
الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى كما قال تعالى " هو الله الذي لا إله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن
الرحيم - إلى أن قال - له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض " الآية وقد روى مكحول أن رجلا
من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده " يا رحمن يا رحيم " فقال إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو
اثنين فأنزل الله هذه الآية وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير وقوله " ولا تجهر بصلاتك " الآية.
قال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم
متوار بمكة " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك
المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به قال: فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ولا تجهر بصلاتك " أي
بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن " ولا تخافت بها " عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك
" وابتغ بين ذلك سبيلا " أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس به وكذا رواه الضحاك عن
ابن عباس وزاد فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك يفعل أي ذلك شاء وقال محمد بن إسحاق: حدثني داود
بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن
يسمعوا منه فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلى استرق السمع دونهم فرقا
منهم فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين
يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله " ولا تجهر بصلاتك " فيتفرقوا عنك " ولا تخافت بها " فلا يسمع من أراد
أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم فلعله يرعو ي إلى بعض ما يسمع فينتفع به " وابتغ بين ذلك سبيلا " وهكذا قال
عكرمة والحسن البصري وقتادة نزلت هذه الآية في القراءة في الصلاة وقال شعبة عن أشعث بن سليم عن
الأسود بن هلال عن ابن مسعود " ولا تخافت بها " من أسمع أذنيه قال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية
عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته وأن عمر كان
يرفع صوته فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال أناجي ربي عز وجل وقد علم حاجتي فقيل أحسنت. وقيل لعمر لم
تصنع هذا؟ قال أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان قيل أحسنت فلما نزلت " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ
بين ذلك سبيلا " قيل لأبي بكر ارفع شيئا وقيل لعمر اخفض شيئا وقال أشعث بن سوار عن عكرمة عن ابن
عباس: نزلت في الدعاء وهكذا روى الثوري ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها
نزلت في الدعاء وكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير وأبو عياض ومكحول وعروة بن الزبير وقال الثوري عن ابن
عياش العامري عن عبد الله بن شداد قال كان أعرابي من بني تميم إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارزقني إبلا
وولدا: قال فنزلت هذه الآية " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ". " قول آخر " قال ابن جرير حدثنا أبو السائب
حدثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها نزلت هذه الآية في التشهد " ولا
تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " وبه قال حفص عن أشعث بن سوار عن محمد بن سيرين مثله " قول آخر " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال لا تصل مراءاة للناس ولا
تدعها مخافة الناس وقال الثوري عن منصور عن الحسن البصري " ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها " قال لا
تحسن علانيتها وتسئ سريرتها وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر عن الحسن به وهشام عن عوف عنه به وسعيد عن
قتادة عنه كذلك. " قول آخر " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وابتغ بين ذلك سبيلا " قال أهل
الكتاب يخافتون ثم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح به ويصيحون هم به وراءه فنهاه أن يصيح كما يصيح هؤلاء وأن
يخافت كما يخافت القوم ثم كان السبيل الذي بين ذلك الذي سن له جبريل من الصلاة. وقوله " وقل الحمد لله
73

الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل " أي ليس بدليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي أو وزير أو مشير بل هو تعالى
خالق الأشياء وحده لا شريك له ومدبرها ومقدرها بمشيئته وحده لا شريك له قال مجاهد في قوله " ولم يكن له
ولي من الذل " لم يحالف أحدا ولم يبتغ نصر أحد " وكبره تكبيرا " أي عظمه وأجله عما يقول الظالمون
المعتدون علوا كبيرا قال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني أبو صخر عن القرظي أنه كان يقول
في هذه الآية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية قال إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت
العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وقال الصابئون والمجوس: لولا أولياء الله لذل
فأنزل الله هذه الآية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل
وكبره تكبيرا " وقال أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله هذه
الآية " الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا " الآية الصغير من أهله والكبير. قلت: وقد جاء في حديث أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة والله أعلم
وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا بشر بن سيحان البصري حدثنا حرب بن ميمون حدثنا موسى بن عبيدة الزبيدي عن
محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ويده في يدي أو يدي في يده فأتى على
رجل رث الهيئة فقال " أي فلان ما بلغ بك ما أرى؟ " قال السقم والضر يا رسول الله قال " ألا أعلمك كلمات
تذهب عنك السقم والضر؟ " قال بلى ما يسرني إن شهدت بها معك بدرا أو أحدا قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال " وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقير القانع؟ " قال فقال أبو هريرة يا رسول الله إياي فعلمني قال
" فقل يا أبا هريرة توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في
الملك ولم يكن ولي من الذل وكبره تكبيرا " قال فأتى علي رسول صلى الله عليه وسلم وقد حسنت حالي قال: فقال لي " مهيم "
قال: قلت يا رسول الله لم أزل أقول الكلمات التي علمتني، إسناده ضعيف وفي متنه نكارة والله أعلم. آخر تفسير سورة سبحان ولله الحمد والمنة.
سورة الكهف " ذكر ما ورد في فضلها والعشر الآيات من أولها وآخرها وأنها عصمة من الدجال " قال الإمام أحمد: حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت البراء يقول: قرأ رجل الكهف وفي الدار دابة فجعلت
تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال " اقرأ فلان فإنها السكينة تنزل عند القرآن أو
تنزلت للقرآن " أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة به وهذا الرجل الذي كان يتلوها هو أسيد بن الحضير كما
تقدم في تفسير سورة البقرة. وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد أخبرنا همام بن يحيى عن قتادة عن سالم بن أبي
الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف
عصم من الدجال " رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث قتادة به ولفظ الترمذي " من حفظ ثلاث
آيات من أول الكهف " وقال حسن صحيح " طريق أخرى " قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج حدثنا شعبة عن
قتادة سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معدان عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ العشر الأواخر من
سورة الكهف عصم من فتنة الدجال " ورواه مسلم أيضا والنسائي من حديث قتادة به وفي لفظ النسائي " من قرأ
عشر آيات من الكهف " فذكره. " حديث آخر " وقد رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الاعلى عن
خالد عن شعبة عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من قرأ العشر الأواخر من
74

سورة الكهف فإنه عصمة له من الدجال " فيحتمل أن سالما سمعه من ثوبان ومن أبي الدرداء وقال أحمد: حدثنا
حسين حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قدمه إلى رأسه ومن قرأها كلها كانت له نورا ما بين السماء
والأرض " انفرد به أحمد ولم يخرجوه وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره بإسناد له غريب عن خالد بن
سعيد بن أبي مريم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له
نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضئ له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين " وهذا الحديث في رفعه نظر
وأحسن أحواله الوقف. وهكذا روى الامام سعيد بن منصور في سننه عن هشيم بن بشير عن أبي هاشم عن أبي
مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له
من النور ما بينه وبين البيت العتيق هكذا وقع موقوفا وكذا رواه الثوري عن أبي هاشم به من حديث أبي سعيد
الخدري وقد أخرجه الحاكم في مستدر كمه عن أبي بكر محمد بن المؤمل حدثنا الفضيل بن محمد الشعراني حدثنا
نعيم بن حماد حدثنا هشيم حدثنا أبو هاشم عن أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين الجمعتين " ثم قال هذا حديث صحيح الاسناد
ولم يخرجاه وهكذا رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في سننه عن الحاكم ثم قال البيهقي ورواه يحيى بن كثير عن
شعبة عن أبي هاشم بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قرأ سورة الكهف كما نزلت كانت له نورا يوم القيامة " وفي
المختارة للحافظ الضياء المقدسي عن عبد الله بن مصعب عن منظور بن زيد بن خالد الجهني عن علي بن الحسين
عن أبيه عن علي مرفوعا: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ثمانية أيام من كل فتنة وإن خرج الدجال عصم منه ".
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين
الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتحذ الله ولدا (4) ما لهم
به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا (5)
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتمها فإنه المحمود على كل حال وله
الحمد في الأولى والآخرة ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد صلوات الله وسلامه
عليه فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور حيث جعله كتابا مستقيما
لا اعوجاج فيه ولا زيغ بل يهدي إلى صراط مستقيم واضحا بينا جليا نذيرا للكافرين بشيرا للمؤمنين ولهذا قال
" ولم يجعل له عوجا " أي لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما ولهذا قال
قيما أي مستقيما لينذر بأسا شديدا من لدنه أي لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به ينذره بأسا شديدا عقوبة عاجلة
في الدنيا وآجلة في الآخرة من لدنه أي من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد
" ويبشر المؤمنين " أي بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح أن لهم أجرا حسنا أي مثوبة عند
الله جميلة. " ماكثين فيه " في ثوابهم عند الله وهو الجنة خالدين فيه " أبدا " دائما لا زوال له ولا انقضاء. وقوله
" وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا " قال ابن إسحاق وهم مشركوا العرب في قولهم نحن نعبد الملائكة وهم بنات
الله " ما لهم به من علم " أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه " ولا لآبائهم " أي لاسلافهم " كبرت كلمة "
75

نصب على التمييز تقديره كبرت كلمتهم هذه وقيل على التعجب تقديره أعظم بكلمتهم كلمة كما تقول أكرم بزيد
رجلا قاله بعض البصريين وقرأ ذلك بعض قراء مكة كبرت كلمة كما يقال عظم قولك وكبر شأنك والمعنى
على قراءة الجمهور أظهر فإن هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم ولهذا قال " كبرت كلمة تخرج من
أفواههم " أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ولهذا قال " إن يقولون إلا
كذبا " وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة فقال: حدثني شيخ من أهل مصر قدم علينا منذ
بضع وأربعين سنة عن عكرمة عن ابن عباس قال: بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار
يهود بالمدينة فقالوا لهم سلوهم عن محمد وصفوا لهما صفته وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما
ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى أتيا المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض
قوله وقالا: إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا قال: فقالوا لهم سلوه عن ثلاث نأمركم بهن
فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإلا فرجل متقول فتروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان
من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه
وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعوه وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما
بدا لكم فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين
محمد قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور فأخبروهم بها فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا فسألوه
عما أمروهم به فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخبركم غدا عما سألتم عنه " ولم يستثن فانصرفوا عنه ومكث رسول الله
صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيا ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام حتى أرجف أهل مكة وقالوا:
وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشئ عما سألناه عنه وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكث الوحي عنه وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ثم جاءه جبرائيل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب
الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطواف وقول الله عز وجل
" ويسألونك عن الروح قل الروح " الآية.
فلعلك باخع نفسك على اثرهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا (6) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم
أيهم أحسن عملا (7) وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا (8)
يقول تعالى مسليا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الايمان وبعدهم عنه كما قال
تعالى " فلا تذهب نفسك عليهم حسرات " وقال " ولا تحزن عليهم " وقال " لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا
مؤمنين " باخع أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ولهذا قال " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا
الحديث " يعني القرآن أسفا يقول لا تهلك نفسك أسفا قال قتادة: قاتل نفسك غضبا وحزنا عليهم وقال
مجاهد جزعا والمعنى متقارب أي لا تأسف عليهم بل أبلغكم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل
عليها ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارا فانية مزينة بزينة زائلة وإنما
جعلها دار اختبار لا دار قرار. فقال " إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا "
قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها
فناظر ما ذا تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء " ثم أخبر تعالى بزوالها
وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها فقال تعالى " وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " أي وإنا لمصيروها
بعد الزينة إلى الخراب والدمار فنجعل كل شئ عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به كما قال العوفي عن
ابن عباس في قوله تعالى وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا يقول يهلك كل شئ عليها ويبيد وقال مجاهد:
76

صعيدا جرزا بلقعا وقال قتادة: الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات وقال ابن زيد: الصعيد الأرض
التي ليس فيها شئ ألا ترى إلى قوله تعالى " أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل
منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون " وقال محمد بن إسحاق وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا يعني
الأرض وأن ما عليها لفان وبائد وأن المرجع لإلى الله فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى.
أم حسبت أن أصحب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (9) إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا
من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا (10) فضربنا على اذانهم في الكهف سنين عددا (11) ثم بعثناهم لنعلم
أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا (12)
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الاجمال والاختصار ثم بسطها بعد ذلك فقال " أم
حسبت " يعني يا محمد " أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " أي ليس أمرهم عجيبا في قدرتنا
وسلطاننا فإن خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من
الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شئ أعجب من أخبار أصحاب
الكهف كما قال ابن جريج عن مجاهد " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا " يقول قد
كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك وقال العوفي عن ابن عباس " أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا
من آياتنا عجبا " يقول الذي آتيك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم وقال
محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم وأما الكهف
فهو الغار في الجبل وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد
قريب من هؤلاء الفتية المذكورون وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو واد
قريب من أيلة وكذا قال عطية العوفي وقتادة. وقال الضحاك أما الكهف فهو غار الوادي والرقيم اسم الوادي وقال
مجاهد الرقيم كتاب بنياتهم ويقول بعضهم هو الوادي الذي فيه كهفهم وقال عبد الرزاق: أخبرنا الثوري عن
سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله الرقيم كان يزعم كعب أنها القرية وقال ابن جريج عن ابن عباس:
الرقيم الجبل الذي فيه الكهف وقال ابن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: اسم
ذلك الجبل بنجلوس وقال ابن جريج: أخبرني وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي أن اسم جبل الكهف
بنجلوس واسم الكهف حيزم والكلب حمران وقال عبد الرزاق: أنبأنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن
ابن عباس قال: القرآن أعلمه الا حنانا والاواه والرقيم وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة
يقول قال ابن عباس ما أدري ما الرقيم؟ كتاب أم بنيان؟ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الرقيم
الكتاب وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب
الكهف.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الرقيم الكتاب ثم قرأ كتاب مرقوم وهذا هو الظاهر من الآية وهو اختيار
ابن جرير قال الرقيم فعيل بمعنى مرقوم كما يقول للمقتول قتيل وللمجروح جريح والله أعلم. وقوله " إذ أوى
الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا " يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين
فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم فقالوا حين دخلوا
سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم " ربنا آتنا من لدنك رحمة " أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها
وتسترنا عن قومنا " وهئ لنا من أمرنا رشدا " أي وقدر لنا من أمرنا رشدا هذا أي اجعل عاقبتنا رشدا كما جاء في
الحديث " وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدا " وفي المسند من حد ث بسر بن أرطاة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
77

أنه كان يدعو " اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة " وقوله " فضربنا على
آذانهم في الكهف سنين عددا " أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة " ثم بعثناهم "
أي من رقدتهم تلك وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله ولهذا قال
" ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين " أي المختلفين فيهم " أحصى لما لبثوا أمدا " قيل عددا وقيل غاية فإن
الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم قتيبة آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا
رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا (14) هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة
لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا (15) وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى
الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا (16)
من ههنا شرع في بسط القصة وشرحها فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب وهم أقبل للحق أهدى للسبيل من
الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شبابا وأما
المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل. هكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف
أنهم كانوا فتية شبابا وقال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم
وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلا هو " وزدناهم هدى " استدل بهذه الآية
وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الايمان وتفاضله وأنه يزيد وينقص ولهذا قال
تعالى " وزدناهم هدى " كما قال " والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " وقال " فأما الذين آمنوا فزادتهم
إيمانا وهم يستبشرون " وقال ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. وقد ذكر
أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم فالله أعلم والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية فإنهم لو
كانوا على دين النصرانية لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم لمباينتهم لهم وقد تقدم عن ابن عباس أن
قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر
هؤلاء وعن خبر ذي القرنين وعن الروح فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب وأنه متقدم على
دين النصرانية والله أعلم. وقوله " وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض " يقول تعالى
وصبرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة فإنه قد ذكر غير
واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد
قومهم وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها
وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له دقيانوس وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه فلما خرج الناس
لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم عرفوا أن هذا
الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض فجعل كل
واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز منهم ويتبرز عنهم ناحية فكان أول من جلس منهم وحده أحدهم جلس تحت
ظل شجرة فجاء الآخر فجلس إليها عنده وجاء الآخر فجلس إليهما وجاء الآخر فجلس إليهم وجاء الآخر وجاء
الاخر ولا يعرف واحد منهم الآخر وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الايمان كما جاء في الحديث الذي
رواه البخاري تعليقا من حديث يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
78

" الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف " وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث سهيل
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يقولون الجنسية علة الضم: والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو
عليه عن أصحابه خوفا منهم ولا يدري أنهم مثله حتى قال أحدهم: تعلمون والله يا قوم إنه ما أخرجكم من قومكم
وأفردكم عنهم إلا شئ فليظهر كل واحد منكم بأمره فقال آخر: أما أنا فإني والله رأيت ما قومي عليه فعرفت أنه
باطل وإنما الذي يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به شيئا هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وقال
الآخر: وأنا والله وقع لي كذلك وقال الآخر كذلك حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة فصاروا يدا واحدة
وإخوان صدق فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم فاستحضرهم بين
يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عز وجل ولهذا أخبر تعالى عنهم: بقوله
" وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها " ولن لنفي التأبيد أي لا
يقع منا هذا أبدا لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا ولهذا قال عنهم " لقد قلنا إذا شططا " أي باطلا وكذبا وبهتانا
" هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين " أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلا
واضحا صحيحا " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " يقولون: بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك فيقال
إن ملكهم لما دعوه إلى الايمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من
زينة قومهم وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه وكان هذا من لطف الله بهم
فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس
أن يفر العبد منهم خوفا على دينه كما جاء في الحديث " يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف
الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن " ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها لما يفوت
بها من ترك الجماعات والجمع فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر
عنهم بذلك. في قوله " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله " أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم
غير الله ففارقوهم أيضا بأبدانكم " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته " أي يبسط عليكم رحمة يستركم
بها من قومكم " ويهئ لكم من أمركم " الذي أنتم فيه " مرفقا " أي أمرا ترتفقون به فعند ذلك خرجوا هرابا
إلى الكهف فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهر هم وتطلبهم الملك فيقال إنه لم يظفر بهم وعمى الله عليه
خبرهم كما فعل بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق حين لجأ إلى غار ثور وجاء المشركون من قريش في الطلب فلم
يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه وعندها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جزع الصديق في قوله: يا رسول الله لو أن
أحدهم نظر إلى موضع قدميه لابصرنا فقال " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " وقد قال تعالى " إلا تنصروه
فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله
سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " فقصة
هذا الغار أشرف وأجل و أعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف وقد قيل إن قومهم ظفروا ووقفوا على باب
الغار الذي دخلوه فقالوا ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا
مكانهم ففعلوا ذلك وفي هذا نظر والله أعلم فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة
وعشيا كما قال تعالى.
وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه
ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا (17)
فهذا فيه دليل على أن باب هذا الكهف كان من نحو الشمال لأنه تعالى أخبر أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها
79

تزاور عنه " ذات اليمين " أي يتقلص الفئ يمنة كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة " تزاور " أي تميل
وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شئ عند الزوال في مثل ذلك
المكان ولهذا قال " وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية
المشرق فدل على صحة ما قلناه وهذا بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب.
وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شئ عند الغروب ولو كان من ناحية القبلة لما دخل
منها شئ عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفئ يمينا ولا شمالا ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت
الطلوع بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب فتعين ما ذكرناه ولله الحمد وقال ابن عباس ومجاهد
وقتادة: " تقرضهم " تتركهم وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في
أي البلاد من الأرض إذ لا فائدة لنا فيه ولا قصد شرعي وقد تكلف بعض المفسرين فذكروا فيه أقوالا فتقدم عن
ابن عباس أنه قال هو قريب من أيلة وقال ابن إسحاق: هو عند نينوى وقيل ببلاد الروم وقيل ببلاد البلقاء والله
أعلم بأي بلاد الله هو، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه فقد قال صلى الله عليه وسلم " ما تركت شيئا
يقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به " فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال " وترى
الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم " قال مالك عن زيد بن أسلم: تميل " ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات
الشمال وهم في فجوة منه " أي في متسع منه داخلا بحيث لا تصيبهم إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم قاله
ابن عباس " ذلك من آيات الله " حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل
عليهم فيه لتبقي أبدانهم ولهذا قال تعالى " ذلك من آيات الله " ثم قال " من يهد الله فهو المهتد " الآية أي
هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم فإنه من هداه الله اهتدى ومن أضله فلا هادي له.
وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم بسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم
لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا (18)
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى فإذا بقيت
ظاهرة للهواء كان أبقى لها ولهذا قال تعالى " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق
عينا ويفتح عينا ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد كما قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وقوله تعالى " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " قال بعض السلف: يقلبون في العام مرتين قال ابن عباس: لو
لم يقلبوا لأكلتهم الأرض وقوله " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة
الوصيد الفناء وقال ابن عباس بالباب وقيل بالصعيد وهو التراب والصحيح أنه بالفناء وهو الباب ومنه قوله تعالى
" إنها عليهم مؤصدة " أي مطبقة مغلقة ويقال وصيد وأصيد ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة
الكلاب قال ابن جريج: يحرس عليهم الباب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم وكان
جلوسه خارج الباب لان الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب كما ورد في الصحيح ولا صورة ولا جنب ولا كافر كما
ورد به الحديث الحسن. وشملت كلبهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال وهذا فائدة
صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن وقد قيل إنه كان كلب صيد لأحدهم وهو الأشبه وقيل كلب
طباخ الملك وقد كان وافقهم على الدين وصحبه كلبه فالله أعلم وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة همام
ابن الوليد الدمشقي: حدثنا صدقة بن عمر الغساني حدثنا عباد المنقري سمعت الحسن البصري يقول: كان اسم
80

كبش إبراهيم عليه الصلاة والسلام جرير واسم هدهد سليمان عليه السلام عنفز واسم كلب أصحاب الكهف
قطمير واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه به موت. وهبط آدم عليه السلام بالهند وحواء بجدة وإبليس بدست
بيسان والحية بأصفهان وقد تقدم عن شعيب الجبائي أنه سماه حمران واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها
ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها بل هي مما ينهى عنه فإن مستندها رجم بالغيب وقوله تعالى " لو
اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد
عليهم إلا هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب أجله
وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة.
وكذلك بعثناهم ليتسائلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا
أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما لكم فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا (19)
إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا (20)
يقول تعالى كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئا وذلك
بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين ولهذا تساءلوا بينهم " كم لبثتم " أي كم رقدتم " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " لأنه
كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار واستيقاظهم كان في آخر نهار ولهذا استدركوا فقالوا " أو بعض يوم قالوا
ربكم أعلم بما لبثتم " أي الله أعلم بأمركم وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم ثم عدلوا إلى
الأهم في أمرهم إذ ذاك وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا " فابعثوا أحدكم بورقكم " أي فضتكم هذه
وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها فتصدقوا منها وبقي منها فلهذا قالوا
" فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة " أي مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد " فلينظر أيها
أزكى طعاما " أي أطيب طعاما كقوله " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " وقوله " قد
أفلح من تزكى " ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره وقيل أكثر طعاما ومنه زكاة الزرع إذا كثر قال الشاعر:
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة وللسبع أزكى من ثلاث وأطيب
والصحيح الأول لان مقصودهم إنما هو الطيب الحلال سواء كان كثيرا أو قليلا وقوله " وليتلطف " أي في
خروجه وذهابه وشرائه وإيابه يقولون وليختف كل ما يقدر عليه " ولا يشعرن " أي ولا يعلمن " بكم أحدا * إنهم
إن يظهروا عليكم يرجموكم " أي إن علموا بمكانكم " يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم " يعنون أصحاب
دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي
هم عليها أو يموتوا وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا قال " ولن
تفلحوا إذا أبدا "
وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا
عليهم بنينا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا (21)
يقول تعالى " وكذلك أعثرنا عليهم " أي اطلعنا عليهم الناس " ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب
فيها " ذكر غير واحد من السلف أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة وقال عكرمة:
كان منهم طائفة قد قالوا تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك
81

وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شئ لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير
الجادة حتى انتهى إلى المدينة وذكر وا أن اسمها دقسوس وهو يظن أنه قريب العهد بها وكان الناس قد تبدلوا قرنا
بعد قرن وجيلا بعد جيل وأمة بعد أمة وتغيرت البلاد ومن عليها كما قال الشاعر:
أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله
فجعل لا يرى شيئا من معالم البلد التي يعرفها ولا يعرف أحدا من أهلها لا خواصها ولا عوامها فجعل يتحير في
نفسه ويقول: لعل بي جنونا أو مسا أو أنا حالم ويقول: والله ما بي شئ من ذلك وإن عهدي بهذه البلدة عشية
أمس على غير هذه الصفة ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لاولى لي ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام
فدفع إليه ما معه من النفقة وسأله أن يبيعه بها طعاما فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها فدفعها إلى جاره
وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون لعل هذا وجد كنزا فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة لعله وجدها من كنز
وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس فنسبوه إلى الجنون فحملوه
إلى ولي أمرهم فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره وهو متحير في حاله وما هو فيه فلما أعلمهم بذلك قاموا
معه إلى الكهف - ملك البلد وأهلها - حتى انتهى بهم إلى الكهف فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول
لاعلم أصحابي فدخل فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه وأخفى الله عليهم خبرهم ويقال بل دخلوا عليهم
ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم وكان مسلما فيما قيل واسمه يندوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام ثم ودعوه
وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم وتوفاهم الله عز وجل فالله أعلم. قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن
مسلمة فمروا بكهف في بلاد الروم فرأوا فيه عظاما فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس: لقد
بليت عظامهم من أكثر من ثلثمائة سنة رواه ابن جرير وقوله " وكذلك أعثرنا عليهم " أي كما أرقدنا هم وأيقظناهم
بهيئاتهم أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان " ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم
أمرهم " أي في أمر أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم
أمرهم " أي في أمر القيامة فمن مثبت لها ومن منكر فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم
" فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم " أي سدوا عليهم باب كهفهم وذروهم على حالهم " قال الذين غلبوا
على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين " أحدهما " إنهم المسلمون منهم
" والثاني " أهل الشرك منهم فالله أعلم والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ ولكن هل هم
محمودون أم لا؟ فيه نظر لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم
مساجد " يحذر ما فعلوا وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في
زمانه بالعراق أمر أن يخفى عن الناس وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده فيها شئ من الملاحم وغيرها.
سيقولون ثلثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل
ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا (22)
يقول تعالى مخبرا عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف فحكى ثلاثة أقوال فدل على أنه لا قائل برابع
ولما ضعف القولين الأولين بقوله " رجما بالغيب " أي قولا بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد
يصيب وإن أصاب فبلا قصد ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله " وثامنهم كلبهم " فدل على صحته
وأنه هو الواقع في نفس الامر. وقوله " قل ربي أعلم بعدتهم " إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد
العلم إلى الله تعالى إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلا وقفنا
وقوله " ما يعلمهم إلا قليل " أي من الناس. قال قتادة قال ابن عباس أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل
82

كانوا سبعة وكذا روى ابن جرير عن عطاء الخراساني عنه أنه كان يقول أنا ممن استثنى الله عز وجل ويقول عدتهم
سبعة. وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس
" ما يعلمهم إلا قليل " قال أنا من القليل كانوا سبعة فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو
موافق لما قدمناه.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد قال: لقد حدثت أنه كان على بعضهم من
حداثة سنه وضح الورق. قال ابن عباس: فكانوا كذلك ليلهم ونهارهم في عبادة الله يبكون ويستغيثون بالله وكانوا
ثمانية نفر: مكسلمينا وكان أكبرهم وهو الذي كلم الملك عنهم ويمليخا ومرطونس وكسطونس وبيرونس ودنيموس
ويطبونس وقالوش هكذا وقع في هذه الرواية ويحتمل أن هذا من كلام ابن إسحاق ومن بينه وبينه فإن الصحيح عن
ابن عباس أنهم كانوا سبعة وهو ظاهر الآية وقد تقدم عن شعيب الجبائي أن اسم كلبهم حمران وفي تسميتهم بهذه
الأسماء واسم كلبهم نظر في صحته والله أعلم فإن غالب ذلك متلقى من أهل الكتاب وقد قال تعالى " فلا تمار
فيهم إلا مراء ظاهرا " أي سهلا هينا فإن الامر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة " ولا تستفت فيهم منهم
أحدا " أي فإنهم لا علم لهم بذلك الا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجما بالغيب أي من غير استناد إلى كلام
معصوم وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لاشك فيه ولا مرية فيه فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من
الكتب والأقوال.
ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا (23) إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي
لأقرب من هذا رشدا (24)
هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شئ ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى
مشيئة الله عوجل علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون كما ثبت في
الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " قال سليمان بن داود لأطوفن الليلة على
سبعين امرأة - وفي رواية تسعين امرأة وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله فقيل له -
وفي رواية قال له الملك - قل إن شاء الله فلم يقل فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركا لحاجته " وفي رواية " ولقاتلوا في سبيل
الله فرسانا أجمعين " وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة
أصحاب الكهف " غدا أجيبكم " فتأخر الوحي خمسة عشر يوما وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن
إعادته. وقوله " واذكر ربك إذا نسيت " قيل معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له قاله أبو العالية والحسن
البصري وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس في الرجل يحلف قال له أن يستثني ولو إلى سنة
وكان يقول " واذكر ربك إذا نسيت ": ذلك قيل للأعمش سمعته عن مجاهد فقال حدثني به ليث بن أبي سليم
يرى ذهب كسائي هذا ورواه الطبراني من حديث أبي معاوية عن الأعمش به. ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني
ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه وفي كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة فال سنة له أن يقول ذلك ليكون
آتيا بسنة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث قال ابن جرير رحمه الله: ونص على ذلك لا أن يكون رافعا لحنث
اليمين ومسقطا للكفارة وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه
والله أعلم وقال عكرمة " واذكر ربك إذا نسيت " إذا غضبت وقال الطبراني: حدثنا محمد بن الحارث الجبلي
حدثنا صفوان بن صالح حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد العزيز بن حصين عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن
83

عباس في قوله " ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله * واذكر ربك إذا نسيت " أن تقول إن شاء
الله وروى الطبراني أيضا عن ابن عباس في قوله " واذكر ربك إذا نسيت " الاستثناء فاستثن إذا ذكرت وقال
هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لاحد منا أن يستثني إلا في صلة من يمينه ثم قال انفرد به الوليد عن عبد
العزيز بن الحصين ويحتمل في الآية وجه آخر وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشئ في كلامه إلى
ذكر الله تعالى لان النسيان منشؤه من الشيطان كما قال فتى موسى وما " أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " وذكر الله
تعالى يطرد الشيطان فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان فذكر الله سبب للذكر ولهذا قال " واذكر ربك إذا نسيت "
وقوله " وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا " أي إذا سئلت عن شئ لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه
وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك وقيل في تفسيره غير ذلك والله أعلم.
ولبثوا في كهفهم ثلث مائة سنين وازدادوا تسعا (25) قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به
وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا (26)
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم منذ أرقدهم إلى بعثهم الله وأعثر
عليهم أهل الزمان وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية وهي ثلاثمائة سنة بالشمسية فإن تفاوت
ما بين كل ثلثمائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين فلهذا قال بعد الثلثمائة وازدادوا تسعا وقوله " قل الله
أعلم بما لبثوا " أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشئ بل
قل في مثل هذا " الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض " أي لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه عليه من
خلقه وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد وغير واحد من السلف والخلف وقال قتادة في
قوله " ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين " الآية هذا قول أهل الكتاب وقد رده الله تعالى بقوله " قل الله أعلم بما
لبثوا " قال وفي قراءة عبد الله وقالوا ولبثوا يعني أنه قاله الناس وهكذا قال قتادة ومطرف بن عبد الله وفي هذا الذي
زعمه قتادة نظر فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلثمائة سنة من غير تسع يعنون بالشمسية ولو كان الله قد
حكى قولهم لما قال " وازدادوا تسعا " والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم وهذا اختيار ابن
جرير رحمه الله ورواية قتادة قراءة ابن مسعود منقطعة ثم هي شاذة بالنسبة إلى قراءة الجمهور فلا يحتج بها والله
أعلم وقوله " أبصر به وأسمع " أي أنه لبصير بهم سميع لهم. قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في
المدح كأنه قيل ما أبصره وأسمعه وتأويل الكلام ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه من
ذلك شئ. ثم روى عن قتادة في قوله " أبصر به وأسمع " فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع وقال ابن زيد
" أبصر به وأسمع " يرى أعمالهم ويسمع ذلك منهم سميعا بصيرا. وقوله " ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك
في حكمه أحدا " أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والامر الذي لا معقب لحكمه وليس له وزير ولا نصير ولا
شريك ولا مشير تعالى وتقدس.
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلمته ولن تجد من دونه ملتحدا (27) واصبر نفسك مع الذين يدعون
ربهم بالغدوة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا (28)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس " لا مبدل لكلماته " أي لا مغير لها ولا محرف
84

ولا مزيل. وقوله " ولن تجد من دونه ملتحدا " عن مجاهد ملتحدا قال ملجأ وعن قتادة وليا ولا مولى قال ابن
جرير: يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى " يا
أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " وقال " إن
الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد " أي سائلك عما فرض عليك من إبلاغ الرسالة. وقوله " واصبر نفسك مع
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويهللونه ويحمدونه
ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشيا من عباد الله سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء يقال إنها
نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه كبلال
وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود وليفرد أولئك بمجلس على حدة فنهاه الله عن ذلك فقال " ولا تطرد الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي " الآية وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء فقال " واصبر نفسك مع الذين
يدعون ربهم بالغداة والعشي " الآية وقال مسلم في صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن
عبد الله الأسدي عن إسرائيل عن المقدام بن شريح عن أبيه عن سعد هو ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل
وبلال ورجلان نسيت أسميهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل
" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري. وقال الإمام أحمد
: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي التياح قال سمعت أبا الجعد يحدث عن أبي أمامة قال: خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص فأمسك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قص فلان أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس أحب
إلي من أن أعتق أربع رقاب " وقال أحمد أيضا: حدثنا هاشم ثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة قال سمعت
كردوس بن قيس وكان قاص العامة بالكوفة يقول: أخبرني رجل من أصحاب بدر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لان
أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب " قال شعبة فقلت أي مجلس قال كان قاصا وقال أبو
داود الطيالسي في مسنده: حدثنا محمد حدثنا يزيد بن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لان أجالس قوما
يذكرون الله من صلاة الغداة إلى طلوع الشمس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ولان أذكر الله من صلاة العصر
إلى غروب الشمس أحب إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا " فحسبنا
دياتهم ونحن في مجلس أنس فبلغت ستة وتسعين ألفا وههنا من يقول أربعة من ولد إسماعيل والله ما قال إلا ثمانية
دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفا وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا أبو أحمد
الزبيري حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم وهو الكوفي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يقرأ
سورة الكهف فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " هكذا
رواه أبو أحمد عن عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر مرسلا وحدثنا يحيى بن المعلى عن منصور حدثنا
محمد بن الصلت حدثنا عمرو بن ثابت عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا:
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجل يقرأ سورة الحج أو سورة الكهف فسكت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي
أمرت أن أصبر نفسي معهم وقال الإمام أحمد ثنا محمد بن بكير ثنا ميمون المرئي ثنا ميمون بن سياه عن أنس
ابن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مامن قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا
ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفورا لكم قد بدلت سيئاتكم حسنات " تفرد به أحمد رحمه الله. وقال الطبراني
ثنا إسماعيل بن الحسن ثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب عن أسامة بن زيد عن أبي حازم عن عبد الرحمن بن سهل
ابن حنيف قال: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة
والعشي " الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوما يذكرون الله تعالى منهم ثائر الرأس وجاف الجلد وذو الثوب الواحد
85

فلما رآهم جلس معهم وقال " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم " عبد الرحمن هذا
ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة وأما أبوه فمن سادات الصحابة رضي الله عنهم وقوله " ولا تعد عيناك
عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " قال ابن عباس: ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف
والثروة " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا " وكان أمره فرطا " أي
أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ولا تكن مطيعا له ولا محبا لطريقته ولا تغبطه بما هو فيه كما قال " ولا تمدن
عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى ".
وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن
يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا (29)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا
شك " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ولهذا قال " إنا أعتدنا " أي
أرصدنا " للظالمين " وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه " نارا أحاط بهم سرادقها " أي سورها قال الإمام أحمد
حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال " لسرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة " وأخرجه الترمذي في صفة النار
وابن جرير في تفسيره من حديث دراج أبي السمح به.
وقال ابن جريج قال ابن عباس " أحاط بهم سرادقها " قال حائط من نار وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن نصر
والعباس بن محمد قالا: حدثنا أبو عاصم عن عبد الله بن أمية حدثني محمد بن حيي بن يعلى عن صفوان بن يعلى
عن يعلى بن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البحر هو جهنم " قال فقيل له كيف ذلك؟ فتلا هذه الآية أو قرأ هذه
الآية " نارا أحاط بهم سرادقها " ثم قال " والله لا أخلها أبدا أو ما دمت حيا لا تصيبني منها قطرة ". وقوله
" وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه " الآية قال ابن عباس. المهل الماء الغليظ مثل دردي الزيت
وقال مجاهد: هو كالدم والقيح وقال عكرمة: هو الشئ الذي انتهى حره وقال آخرون: هو كل شئ أذيب.
وقال قتادة: أذاب ابن مسعود شيئا من الذهب في أخدود فلما انماع وأزبد قال: هذا أشبه شئ بالمهل. وقال
الضحاك: ماء جهنم أ سود وهي سوداء وأهلها سود وهذه الأقوال ليس شئ منها ينفي الاخر فإن المهل يجمع
هذه الأوصاف الرذيلة كلها فهو أسود منتن غليظ حار ولهذا قال " يشوي الوجوه " أي من حره إذا أراد الكافر أن
يشربه وقربه من وجهه شواه حتى تسقط جلدة وجهه فيه كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد بإسناده
المتقدم في سرادق النار عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ماء كالمهل " قال كعكر الزيت فإذا
قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه وهكذا رواه الترمذي في صفة النار من جامعه من حديث رشدين بن سعد عن
عمرو بن الحارث عن دراج به ثم قال: لا نعرفه إلا من حديث رشدين وقد تكلم فيه من قبل حفظه هكذا قال:
وقد رواه الإمام أحمد كما تقدم عن حسن الأشيب عن ابن لهيعة عن دراج والله أعلم. وقال عبد الله بن المبارك
وبقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو عن عبد الله بن بشر عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ويسقى من ماء
صديد يتجرعه " قال " يقرب إليه فيتكرهه فإذا قرب منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع أمعاءه
يقول الله تعالى " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب " وقال سعيد بن جبير: إذا جاع
أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها فاختلبت جلود وجوههم فلو أن مارا مر بهم يعرفهم لعرف
جلود وجوههم فيها ثم يصب عليم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل وهو الذي قد انتهى حره فإذا أدنوه
86

من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب
بهذه الصفات الذميمة القبيحة " بئس الشراب " أي بئس هذا الشراب كما قال في الآية الأخرى " وسقوا ماء
حميما فقط مع أمعاءهم " وقال تعالى " تسقى من عين آنية " أي حارة كما قال تعالى " وبين حميم آن "
" وساءت مرتفقا " أي وساءت النار منزلا ومقيلا ومجتمعا وموضعا للارتفاق كما قال في الآية الأخرى " إنها
ساءت مستقرا ومقاما ".
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا (30) أولئك لهم جنت عدن تجري من تحتهم الانهر
يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم
الثواب وحسنت مرتفقا (31)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاء وا به وعملوا بما أمروهم
به من الأعمال الصالحة فلهم جنات عدن والعدن الإقامة " تجري من تحتهم الأنهار " أي من تحت غرفهم
ومنازلهم. قال فرعون وهذه الأنهار تجري من تحتي الآية " يحلون " أي من الحلية " فيها من أساور من
ذهب " وقال في المكان الآخر " ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " وفصله ههنا فقال " ويلبسون ثيابا خضرا من
سندس وإستبرق " فالسندس ثياب رفاع رقاق كالقمصان وما جرى مجراها. وأما الاستبرق فغليظ الديباج وفيه
بريق وقوله " متكئين فيها على الأرائك " الاتكاء قيل الاضطجاع وقيل التربع في الجلوس وهو أشبه بالمراد ههنا
ومنه الحديث الصحيح " أما أنا فلا آكل متكئا " فيه القولان. والأرائك جمع أريكة وهي السرير تحت الحجلة
والحجلة كما يعرفه الناس في زماننا هذا بالبشخانة والله أعلم. قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة " على
الأرائك " قال هي الحجال قال معمر وقال غيره السرر في الحجال. وقوله " نعم الثواب وحسنت مرتفقا " أي
نعمت الجنة ثوابا على السرر في الحجال. وقوله " نعم الثواب وحسنت مرتفقا " أي
نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم وحسنت مرتفقا أي حسنت منزلا ومقيلا ومقاما كما قال في النار " بئس الشراب
وساءت مرتفقا " وهكذا قابل بينهما في سورة الفرقان في قوله " إنها ساءت مستقرا ومقاما " ثم ذكر صفات
المؤمنين فقال " أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ".
واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا (32) كلتا الجنتين
أتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا (33) وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا
وأعز نفرا (34) ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا (35) وما أظن الساعة قائمة ولئن
رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا (36)
يقول تعالى بعد ذكره المشركين المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين وافتخروا عليهم
بأموالهم وأحسابهم فضرب لهم ولهم مثلا برجلين جعل الله لأحدهما جنتين أي بستانين من أعناب محفوفتين
بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة ولهذا
قال: " كلتا الجنتين آتت أكلها " أي أخرجت ثمرها " ولم تظلم منه شيئا " أي ولم تنقص منه شيئا " وفجرنا
خلالهما نهرا " أي والأنهار متفرقة فيهما ههنا وهنها. " وكان له ثمر " قيل المراد به الماء روي عن ابن عباس
ومجاهد وقتادة وقيل الثمار وهو أظهر ههنا ويؤيده القراءة الأخرى " وكان له ثمر " بضم الثاء وتسكين الميم
فيكون جمع ثمرة كخشبة وخشب. وقرأ آخرون ثمر بفتح الثاء والميم فقال أي صاحب هاتين الجنتين لصاحبه وهو
يحاوره أي يجادله ويخاصمه يفتخر عليه ويترأس " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " أي أكثر خدما وحشما وولدا
87

قال قتادة تلك والله أمنية الفاجر كثرة المال وعزة النفر وقوله " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه " أي بكفره وتمرده
وتكبره وتجبره وإنكاره المعاد قال " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وذلك اغترار منه لما رأى فيها من الزروع والثمار
والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف وذلك لقلة عقله
وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها وكفره بالآخرة ولهذا قال " وما أظن الساعة قائمة " أي كائنة
" ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا " أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكونن لي هناك أحسن
من هذا الحظ عند ربي ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا كما قال في الآية الأخرى " ولئن رجعت إلى ربي إن
لي عنده للحسنى " وقال " أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا " أي في الدار الآخرة تألى على الله
عز وجل. وكان سبب نزولها في العاص بن وائل كما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان.
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا (37) لكنا الله هو ربي ولا
أشرك بربي أحدا (38) ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا (39)
فعسى ربي إن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا (40) أو يصبح ماؤها غورا
فلن تستطيع له طلبا (41)
يقول تعالى مخبرا عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظا له وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار " أكفرت
بالذي خلقك من تراب " الآية وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه وابتدأ خلق الانسان من
طين وهو آدم ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين كما قال تعالى: " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم "
الآية أي كيف تجحدون ربكم ودلالته عليكم ظاهرة جلية كل أحد يعلمها من نفسه فإنه ما من أحد من المخلوقات
إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شئ من المخلوقات لأنه بمثابته فعلم
إسناد إيجاده إلى خالقه وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شئ ولهذا قال المؤمن. " لكنا هو الله ربي " أي لكن أنا
لا أقول بمقالتك بل أعترف لله بالوحدانية والربوبية " ولا أشرك بربي أحدا " أي بل هو الله المعبود وحده لا
شريك له. ثم قال " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل
منك مالا وولدا " هذا تحضيض وحث على ذلك أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمد ت الله على ما
أنعم به عليك وأعطاك من المال أو لولد ما لم يعطه غيرك وقلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ولهذا قال بعض
السلف: من أعجبه شئ من حاله أو ماله أو ولده فليقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله وهذا مأخوذ من هذه الآية
الكريمة وقد روي فيه حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا جراح بن مخلد حدثنا
عمر بن يونس حدثنا عيسى بن عون حدثنا عبد الملك بن زرارة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله فيرى فيه آفة دون الموت "
وكان يتأول هذه الآية " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " قال الحافظ أبو الفتح الأزدي
عيسى بن عون عن عبد الملك بن زرارة عن أنس لا يصح حديثه. وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر
حدثنا شعبة وحجاج حدثني شعبة عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي رهم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " تفرد به أحمد وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " وقال الإمام أحمد: حدثنا
بكير بن عيسى حدثنا أبو عوانة عن أبي بلخ عن عمرو بن ميمون قال: قال أبو هريرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا
هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش "؟ قال قلت فداك أبي وأمي قال " أن تقول لا قوة إلا بالله "
88

قال أبو بلخ وأحسب أنه قال " فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم " قال فقلت لعمرو قال أبو بلخ قال عمرو قلت
لأبي هرير ة لا حول ولا قوة إلا بالله فقال لا إنها في سورة الكهف " ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة
إلا بالله ". وقوله: " فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك " أي في الدار الآخرة " ويرسل عليها " أي على
جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى " حسبانا من السماء " قال ابن عباس والضحاك وقتادة ومالك
عن الزهري أي عذابا من السماء والظاهر أنه مطر عظيم مزعج يقلع زرعها وأشجارها ولهذا قال " فتصبح صعيدا
زلقا " أي بلقعا ترابا أملس لا يثبت فيه قدم وقال ابن عبا أأسجد: كالجرز الذي لا ينبت شيئا وقوله: " أو يصبح
ماؤها غورا " أي غائرا في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى
" قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين " أي جار وسائح وقال ههنا " أو يصبح ماؤها غورا
فلن تستطيع له طلبا " والغور مصدر بمعنى غائر وهو أبلغ منه كما قال الشاعر:
تظل جياده نوحا عليه تقلده أعنتها صفوفا
بمعنى نائحات عليه
وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا (42)
ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا (43) هنالك الولية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا (44)
يقول تعالى " وأحيط بثمره " بأمواله أو بثماره على القول الآخر والمقصود أنه وقع بهذا الكافر ما كان يحذر مما
خوفه به المؤمن من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وآلهته عن الله عز وجل " فأصبح يقلب كفيه على ما
أنفق فيها " وقال قتادة يصفق كفيه متأسفا متلهفا على الأموال التي أذهبها عليها " ويقول يا ليتني لم أشرك بربي
أحدا * ولم تكن له فئة " أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا *
هنالك الولاية لله الحق " اختلف القراء ههنا فمنهم من يقف على قوله " وما كان منتصرا هنا لك " أي في ذلك
الموطن الذي حل به عذاب الله فلا منقذ له منه ويبتدئ بقوله: " الولاية لله الحق " ومنهم من يقف على " وما
كان منتصرا ويبتدئ بقوله هنالك الولاية لله الحق ثم اختلفوا في قراءة الولاية فمنهم من فتح الواو من
الولاية فيكون المعنى هنالك الموالاة لله أي هنا لك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له
إذا وقع العذاب كقوله " فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين " وكقوله إخبارا عن فرعون
" حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين * الآن وقد عصيت
قبل وكنت من المفسدين " ومنهم من كسر الواو من الولاية أي هنالك الحكم لله الحق ثم منهم من رفع الحق
على أنه نعت للولاية كقوله تعالى " الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " ومنهم من
خفض القاف على أنه نعت لله عز وجل كقوله: " ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق " الآية ولهذا قال تعالى " هو
خير ثوابا " أي جزاء " وخير عقبا " أي الأعمال التي تكون لله عزو جل ثوابها خير وعاقبتها حميدة رشيدة كلها
خير.
واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الريح
وكان الله على كل شئ مقتدرا (45) المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير
أملا (46)
يقول تعالى " واضرب " يا محمد للناس " مثل الحياة الدنيا " في زوالها وفنائها وانقضائها " كماء أنزلناه من
السماء فاختلط به نبات الأرض " أي ما فيها من الحب فشب وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة ثم بعد هذا كله
89

" أصبح هشيما " يابسا " تذروه الرياح " أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال " وكان الله على كل شئ
مقتدرا " أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال وكثيرا ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما قال تعالى
في سورة يونس " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والانعام "
الآية وقال في الزمر " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا
ألوانه " الآية وقال في سورة الحديد " اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال
والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته " الآية وفي الحديث الصحيح " الدنيا خضرة حلوة ". وقوله: " المال
والبنون زينة الحياة الدنيا " كقوله: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من
الذهب الآية وقال تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " أي الاقبال عليه والتفرغ لعبادته
خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم ولهذا قال " والباقيات الصالحات خير عند
ربك ثوابا وخير أملا " قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف: الباقيات الصالحات الصلوات
الخمس وقال عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير عن ابن عباس: الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا
إله إلا الله والله أكبر وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن الباقيات الصالحات ما هي؟ فقال: هي لا
إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم رواه الإمام أحمد حدثنا أبو
عبد الله المقري حدثنا حياة حدثنا أبو عقيل أنه سمع الحارث مولى عثمان رضي الله عنه يقول: جلس عثمان يوما
وجلسنا معه فجاءه المؤذن فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مد فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ
وضوئي هذا ثم قال " من توضأ وضوئي هذا ثم قام فصلى صلاة الظهر غفر له ما كان بينها وبين الصبح ثم صلى العصر
غفر له ما بينها وبين الظهر ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين العصر ثم صلى العشاء غفر له ما بينها
وبين المغرب ثم لعله يبيت يتمرغ ليلته ثم إن قام فتوضأ وصلى صلاة الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء
وهن الحسنات يذهبن السيئات " قالوا هذه الحسنات فما الباقيات الصالحات يا عثمان؟ قال: هي لا إله إلا الله
وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تفرد به وروى مالك عن عمارة بن
عبد الله بن صياد عن سعيد بن المسيب قال: الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال محمد بن عجلان عن عمارة قال: سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات
الصالحات فقلت: الصلاة والصيام فقال: لم تصب فقلت الزكاة والحج فقال لم تصب ولكنهن الكلمات الخمس
لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقال ابن جريج أخبرني عبد الله بن
عثمان بن خيثم عن نافع عن سرجس أنه أخبره أنه سأل ابن عمر عن الباقيات الصالحات قال: لا إله إلا الله والله
أكبر وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال ابن جريج وقال عطاء بن أبي رباح مثل ذلك وقال مجاهد:
الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن الحسن
وقتادة في قوله: " والباقيات الصالحات " قال: لا إله إلا الله والله أكبر والحمد لله وسبحان الله هن الباقيات
الصالحات قال ابن جرير: وجدت في كتابي عن الحسن بن الصباح البزار عن أبي نصر التمار عن عبد
العزيز بن مسلم عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " هن الباقيات الصالحات قال: وحدثني يونس أخبرنا ابن وهب
أخبرنا عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن ابن الهيثم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" استكثروا من الباقيات الصالحات " قيل وما هن يا رسول الله؟ " قال الملة " قيل وما هي يا رسول الله؟ قال
" التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله " وهكذا رواه أحمد من حديث دراج به.
قال وهب أخبرني أبو صخر أن عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله حدثه قال: أرسلني سالم إلى
90

محمد بن كعب القرظي في حاجة فقال: قل له القني عند زاوية القبر فإن لي إليك حاجة قال: فالتقيا فسلم
أحدهما على الآخر ثم قال سالم ما تعد الباقيات الصالحات؟ فقال لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله ولا حول
ولا قوة إلا بالله فقال له سالم: متى جعلت فيها لاحول ولا قوة إلا بالله؟ قال: ما زلت أجعلها قال فراجعه
مرتين أو ثلاثا فلم ينزع قال فأبيت؟ قال سالم أجل فأبيت فإن أبا أيوب الأنصاري حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقول: " عرج بي إلى السماء فرأيت إبراهيم عليه السلام فقال يا جبريل من هذا الذي معك؟ فقال محمد
فرحب بي وسهل ثم قال مر أمتك فلتكثر من غراس الجنة فإن تربتها طيبة وأرضها واسعة فقلت وما غراس الجنة
قال لا حول ولا قوة إلا بالله ".
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن يزيد عن العوام حدثني رجل من الأنصار من آل النعمان بن بشير قال خرج علينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في المسجد بعد صلاة العشاء فرفع بصره إلى السماء ثم خفض حتى ظننا أنه قد حدث في
السماء شئ ثم قال: " أما أنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم
فليس مني ولست منه ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه. ألا وإن سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هن الباقيات الصالحات ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبان حدثنا يحيى بن أبي كثير عن زيد عن أبي سلام عن مولى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بخ بخ لخمس ما أثقلهن في الميزان: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله
والحمد لله والولد الصالح يتوفى فيحتسبه والده - وقال - بخ بخ لخمس من لقي الله مستيقنا بهن دخل الجنة:
يؤمن بالله واليوم الآخر وبالجنة وبالنار وبالبعث بعد الموت وبالحساب ". وقال الإمام أحمد: حدثنا روح حدثنا
الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: كان شداد بن أوس رضي الله عنه في سفر فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا
بالشفرة نعبث بها فأنكر عليه فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه فلا
تحفظوها علي واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا أنتم
هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الامر والعزيمة على الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسن
عبادتك وأسألك قلبا سليما وأسألك لسانا صادقا وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم
وأستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب " ثم رواه أيضا النسائي من وجه آخر عن شداد بنحوه. وقال
الطبراني: حدثنا عبد الله بن ناجية حدثنا محمد بن سعد العوفي حدثني أبي حدثنا عمر بن الحسين عن يونس بن
نفيع الجدلي عن سعد بن جنادة رضي الله عنه قال: كنت في أول من أتى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف فخرجت من
أعلى الطائف من السراة غدوة فأتيت منى عند العصر فتصاعدت في الجبل ثم هبطت فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت
وعلمني " قل هو الله أحد " و " إذا زلزلت " وعلمني هؤلاء الكلمات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر وقال " هن الباقيات الصالحات " وبهذا الاسناد " من قام من الليل فتوضأ ومضمض فاه ثم قال سبحان الله
مائة مرة والحمد لله مائة مرة والله أكبر مائة مرة ولا إله إلا الله مائة مرة غفرت ذنوبه إلا الدماء فإنها لا تبطل " وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: " والباقيات الصالحات " قال: هي ذكر الله قول لا إله إلا الله والله
أكبر وسبحان الله والحمد لله وتبارك الله ولا حول ولا قوة إلا بالله واستغفر الله وصلى على رسول الله والصيام
والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات وهن الباقيات الصالحات التي تبقى
لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض. وقال العوفي عن ابن عباس: هي الكلام الطيب. وقال عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم: هي الأعمال الصالحة كلها واختاره ابن جرير رحمه الله.
ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47) وعرضوا على ربك صفا لقد
جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا (48) ووضع الكتب فترى المجرمين مشفقين
91

مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم
ربك أحدا (49)
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظام كما قال تعالى: " يوم تمور السماء مورا *
وتسير الجبال سيرا " أي تذهب من أماكنها وتزول كما قال تعالى " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر
مر السحاب " وقال تعالى " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " وقال " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي
نسفا * فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " يذكر تعالى بأنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد وتبقى
الأرض قاعا صفصفا أي سطحا مستويا لا عوج فيه ولا أمتا أي لا وادي ولا جبل ولهذا قال تعالى " وترى الأرض
بارزة " أي بادية ظاهرة ليس فيها معلم لاحد ولا مكان يواري أحدا بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه
منهم خافية. قال مجاهد وقتادة " وترى الأرض بارزة " لا حجر فيها ولا غيابة قال قتادة: لأبناء ولا شجر.
وقوله " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " أي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين فلم نترك منهم أحدا لا صغيرا
ولا كبيرا كما قال " قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " وقال " ذلك يوم مجموع له
الناس وذلك يوم مشهود ". وقوله " وعرضوا على ربك صفا " يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون
بين يدي الله صفا واحدا كما قال تعالى " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال
صوابا " ويحتمل أنهم يقومون صفوفا صفوفا كما قال " وجاء ربك والملك صفا صفا " وقوله " لقد جئتمونا كما
خلقناكم أول مرة " هذا تقريع للمنكرين للمعاد، وتوبيخ لهم على رؤوس الاشهاد، ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم
" بل زعمتم أن لن نجعل لكم لهم على رؤوس الاشهاد ولهذا قال تعالى مخاطبا لهم
" بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا " أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ولا أن هذا كائن.
وقوله " ووضع الكتاب " أي كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير والفتيل والقطمير والصغير والكبير " فترى
المجرمين مشفقين مما فيه " أي من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ويقولون يا ويلتنا أي يا حسرتنا وويلنا
على ما فرط في أعمارنا " ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " أي لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا
ولا عملا وإن صغر إلا أحصاها أي ضبطها وحفظها. وروى الطبراني بإسناده المتقدم في الآية قبلها إلى سعد
ابن جنادة قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين نزلنا قفرا من الأرض ليس فيه شئ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اجمعوا
من وجد عودا فليأت به ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به " قال فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" أترون هذا؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة
فإنها محصاة عليه ". وقوله " ووجدوا ما عملوا حاضرا " أي من خير وشر كما قال تعالى " يوم تجد كل نفس ما
عملت من خير محضرا " الآية وقال تعالى " ينبأ الانسان يومئذ بما قدم وأخر " وقال تعالى " يوم تبلى السرائر "
أي تظهر المخبآت والضمائر قال الإمام أحمد: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن ثابت عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به " أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ " يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه
بقدر غدرته يقال هذه غدرة فلان بن فلان " وقوله " ولا يظلم ربك أحدا " أي فيحكم بين عباده في أعمالهم
جميعا ولا يظلم أحدا من خلقه بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله ويملا
النار من الكفار وأصحاب المعاصي ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين وهو الحاكم الذي لا يجور ولا
يظلم قال تعالى " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها " الآية وقال " ونضع الموازين القسط
ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا - إلى قوله - حاسبين " والآيات في هذا كثيرة وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد
أخبرنا همام بن يحيى عن القاسم بن عبد الواحد المكي عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه سمع جابر بن عبد الله
يقول: بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعير ثم شددت عليه رحلا فسرت عليه شهرا حتى
92

قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب قل له جابر على الباب فقال ابن عبد الله: قلت نعم فخرج
يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته فقلت حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن
تموت أو أموت قبل أن أسمعه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال
العباد - عراة غرلا بهما " قلت وما بهما؟ قال " ليس معهم شئ ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من
قرب: أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لاحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى
أقضيه منه ولا ينبغي لاحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقضيه منه حتى
اللطمة قال: قلنا كيف وإنما نأتي الله عز وجل حفاة عراة غرلا بهما؟ قال " بالحسنات والسيئات " وعن شعبة عن
العوام بن مزاحم عن أبي عثمان عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الجماء لتقتص من
القرناء يوم القيامة " رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر وقد ذكرناها عند قوله تعالى " ونضع
الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " وعند قوله تعالى " إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من
شئ ثم إلى ربهم يحشرون ".
وإذ قلنا للملكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء
من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50)
يقول تعالى منبها بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ومقرعا لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه
وهو الذي أنشأه وابتدأه وبألطافه رزقه وغذاه ثم بعد هذا كله والى إبليس وعادى الله فقال تعالى " وإذ قلنا
للملائكة " أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة " اسجدوا لآدم " أي سجود تشريف
وتكريم وتعظيم كما قال تعالى " وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون * فإذا سويته
ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " وقوله " فسجدوا إلا إبليس كان من الجن " أي خانه أصله فإنه خلق
من مارج من نار وأصل خلق الملائكة من نور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال " خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم فعند الحاجة نضح
كل وعاء بما فيه وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك فلهذا
دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة " ونبه تعالى ههنا على أنه من الجن أي على أنه خلق من نار كما قال " أنا
خير منه خلقتني من نار وخلقتني من طين " قال الحسن البصري: ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه
لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر رواه ابن جرير بإسناد صحيح عنه وقال الضحاك عن
ابن عباس: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان اسمه
الحارث وكان خازنا من خزان الجنة وخلقت الملائكة من نور غير هذا الحي قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في
القرآن من مارج من نار وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت وقال الضحاك أيضا عن ابن عباس: كان
إبليس من أشرف الملائكة وأكرمهم قبيلة وكان خازنا على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض
وكان مما سولت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء فوقع من ذلك في قلبه كبر لا
يعلمه إلا الله واستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لآدم " فاستكبر وكان من الكافرين " قال ابن عباس
قوله " كان من الجن " أي من خزان الجنان كما يقال للرجل مكي ومدني وبصري وكوفي وقال ابن جريج عن
ابن عباس نحو ذلك وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هو من خزان الجنة وكان يدبر أمر السماء الدنيا
رواه ابن جرير من حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد به وقال سعيد بن المسيب كان رئيس
93

ملائكة سماء الدنيا وقال ابن إسحاق عن خلاد بن عطاء عن طاوس عن ابن عباس قال: كان إبليس قبل أن
يركب المعصية من الملائكة اسمه عزازيل وكان من سكان الأرض وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما
فذلك دعاه إلى الكبر وكان من حي يسمون جنا. وقال ابن جريج عن صالح مولى التوأمة وشريك بن أبي نمر
أحدهما أو كلاهما عن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة من الجن وكان إبليس منها وكان يسوس ما بين
السماء والأرض فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما لعنه الله ممسوخا قال: وإذا كانت خطيئة الرجل في
كبر فلا ترجه وإذا كانت في معصية فارجه وعن سعيد بن جبير أنه قال: كان من الجنانين الذين يعملون في
الجنة وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها والله أعلم بحال كثير
منها ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته الحق الذي بأيدينا وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة
لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان وقد وضع فيها أشياء كثيرة وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون
عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء والسادة والأتقياء والبررة والنجباء من
الجهابذة النقاد والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث وحرروه وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه من منكره
وموضوعه ومتروكه ومكذوبه وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من أصناف الرجال كل ذلك صيانة
للجناب النبوي والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر صلى الله عليه وسلم أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه
فرضي الله عنهم وأرضاهم وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل وقوله " ففسق عن أمر ربه " أي فخرج عن
طاعة الله فإن الفسق هو الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها وفسقت الفأرة من جحرها إذا خرجت
منه للعيث والفساد ثم قال تعالى مقرعا وموبخا لمن اتبعه وأطاعه " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني " الآية أي
بدلا عني ولهذا قال " بئس للظالمين بدلا " وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين
السعداء والأشقياء في سورة يس " وامتازوا اليوم أيها المجرمون - إلى قوله - أفلم تكونوا تعقلون ".
ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51)
يقول تعالى: هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم لا يملكون شيئا لا أشهدتهم خلق السماوات
والأرض ولا كانوا إذ ذاك موجودين، يقول تعالى: أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ومدبرها ومقدرها وحدي ليس
معي في ذلك شريك ولا وزير ولا مشير ولا نظير كما قال " قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال
ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن
أذن له " الآية ولهذا قال " وما كنت متخذ المضلين عضدا قال مالك: أعوانا.
ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52) ورأى المجرمون
النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53)
يقول تعالى مخبرا عما يخاطب به المشركين يوم القيامة على رؤوس الاشهاد تقريعا لهم وتوبيخا " نادوا شركائي
الذين زعمتم " أي في دار الدنيا ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه كما قال تعالى " ولقد جئتمونا فرادى كما
خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد
تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " وقوله " فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " كما قال " وقيل ادعوا شركاءكم
فدعوهم فلم يستجيبوا لهم " الآية وقال " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له " الآيتين وقال
تعالى " واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " وقوله
94

" وجعلنا بينهم موبقا " قال ابن عباس وقتادة وغير واحد مهلكا وقال قتادة: ذكر لنا أن عمرا البكالي حدث عن
عبد الله بن عمر وقال: هو واد عميق فرق به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة وقال قتادة: موبقا واديا في
جهنم.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سنان القزاز حدثنا عبد الصمد حدثنا يزيد بن زريع سمعت أنس بن مالك يقول
في قول الله تعالى " وجعلنا بينهم موبقا " قال واد في جهنم من قيح ودم وقال الحسن البصري: موبقا عداوة
والظاهر من السياق ههنا أنه المهلك ويجوز أن يكون واديا في جهنم أو غيره والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل
لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة فلا
خلاص لاحد من الفريقين إلى الآخر بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير. وأما إن جعل الضمير في قوله
" بينهم " عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به فهو كقوله
تعالى " ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون " وقال " يومئذ يصدعون " وقال تعالى " وامتازوا اليوم أيها المجرمون "
وقال تعالى " ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم إلى قوله -
وضل عنهم ما كانوا يفترون " وقوله " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " أي
أنهم لما عاينوا جهنم حين جئ بها تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك " فإذا رأى المجرمون
النار " تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم فإن توقع العذاب والخوف
منه قبل وقوعه عذاب ناجز وقوله " ولم يجدوا عنها مصرفا أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولا بد لهم
منها.
قال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة " وقال الإمام أحمد:
حدثنا حسن حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ينصب الكافر مقدار
خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا وإن الكافر ليرى جهنم ومظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة ".
ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا (54)
يقول تعالى ولقد بينا للناس في هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها كيلا يضلوا عن الحق ويخرجوا عن طريق
الهدى ومع هذا البيان وهذا الفرقان الانسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل إلا من هدى الله
وبصره لطريق النجاة.
قال الإمام أحمد حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني علي بن الحسين أن حسين بن علي أخبره أن
علي بن أبي طالب أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال " ألا تصليان " فقلت يا
رسول الله إنما أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئا ثم سمعته وهو
مول يضرب فخذه ويقول " وكان الانسان أكثر شئ جدلا " أخرجاه في الصحيحين.
وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55)
95

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجدل الذين كفروا بالبطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا
هزوا (56)
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات
والدلالات الواضحات وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلا طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عيانا كما قال
أولئك لنبيهم " فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين " وآخرون قالوا " ائتنا بعذاب الله إن كنت
من الصادقين " وقالت قريش " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم " وقالوا " يا أيها الذي نزل عليك الذكر إنك لمجنون لوما تأتينا بالملائكة إن كنت من
الصادقين " إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك ثم قال " إلا أن تأتيهم سنة الأولين " من غشيانهم بالعذاب
وأخذهم عن آخرهم " أو يأتيهم العذاب قبلا " أي يرونه عيانا مواجهة ومقابلة ثم قال تعالى " وما نرسل
المرسلين إلا مبشر بن ومنذرين " أي قبل العذاب مبشرين من صدقهم وآمن بهم ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم ثم
أخبر عن الكفار بأنهم " يجادلون بالباطل ليدحضوا به " أي ليضعفوا به الحق الذي جاءتهم بالرسل وليس ذلك
بحاصل لهم " واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا " أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها
الرسل وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب " هزوا " أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب.
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي
آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا
لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا
لمهلكهم موعدا (59)
يقول تعالى وأي عباد الله أظلم ممن ذكر بآيات الله فأعرض عنها أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ولا ألقى
إليها بالا " ونسي ما قدمت يداه " أي من الأعمال السيئة والافعال القبيحة " إنا جعلنا على قلوبهم " أي قلوب
هؤلاء " أكنة " أي أغطية وغشاوة " أن يفقهوه " أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان " وفي آذانهم وقرا " أي
صمما معنويا عن الرشاد " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " وقوله " وربك الغفور ذو الرحمة " أي
ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب " كما قال " ولو يؤاخذ الله
الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة " وقال " وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ون ربك لشديد
العقاب " والآيات في هذا كثيرة شتى ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد
ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها ولهذا قال " بل لهم موعد لن يجدوا من
دونه موئلا " أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ولا معدل وقوله " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " أي الأمم
السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم " وجعلنا لمهلكهم موعدا " أي جعلناه إلى مدة معلومة
ووقت معين لا يزيد ولا ينقص أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف
رسول وأعظم نبي ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذر.
وإذ قال موسى لفته لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا (60) فلما بلغ مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ
96

سبيله في البحر سربا (61) فلما جاوزا قال لفته آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62) قال أرأيت إذ
أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63)
قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64) فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65)
سبب قول موسى لفتاه وهو يشوع بن نون هذا الكلام أنه ذكر له أن عبدا من عباد الله بمجمع البحرين عنده من
العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه وقال لفتاه ذلك " لا أبرح " أي لا أزال سائرا " حتى أبلغ مجمع
البحرين " أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين قال الفرزدق:
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
قال قتادة وغير واحد: هما بحر فارس مما يلي المشرق وبحر الروم مما يلي المغرب. وقال محمد بن كعب
القرظي مجمع البحرين عند طنجة يعنى في أقصى بلاد المغرب فالله أعلم وقوله " أو أمضي حقبا " أي ولو
أني أسير حقبا من الزمان. قال ابن جرير رحمه الله: ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب أن الحقب في لغة قيس
سنة ثم قد روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال الحقب ثمانون سنة وقال مجاهد سبعون خريفا وقال علي
ابن أبي طلحة عن ابن عباس قوله " أو أمضي حقبا " قال دهرا وقال قتادة وابن زيد مثل ذلك وقوله " فلما
بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما " وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو
ثمة فسارا حتى بلغا مجمع البحرين وهناك عين يقال لها عين الحياة فناما هنالك وأصاب الحوت من رشاش
ذلك الماء فاضطرب وكان في مكتل مع يوشع عليه السلام وطفر من المكتل إلى البحر فاستيقظ يوشع عليه السلام
وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ولهذا قال تعالى " واتخذ سبيله
في البحر سربا " أي مثل السرب في الأرض قال ابن جرير قال ابن عباس صار أثره كأنه حجر. وقال العوفي عن
ابن عباس جعل الحوت لا يمس شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة وقال محمد بن إسحاق عن الزهري
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك ما انجاب
ماء منذ كان الناس غير مسير مكان الحوت الذي فيه فانجاب كالكوة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه فقال
" ذلك ما كنا نبغ " وقال قتادة سرب من البحر حتى أفضى إلى البحر ثم سلك فيه فجعل لا يسلك فيه طريقا إلا
صار ماء جامدا وقوله " فلما جاوزا " أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو
الذي نسيه كقوله تعالى " يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان " وإنما يخرج من المالح على أحد القولين فلما ذهبا عن
المكان الذي نسياه فيه بمرحلة " قال " موسى " لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا " أي الذي جاوزا
فيه المكان " نصبا " يعني تعبا قال " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن
أذكره " قال قتادة وقرأ ابن مسعود أن أذكركه ولهذا قال " فاتخذ سبيله " أي طريقه " في البحر عجبا قال ذلك ما
كنا مسعود أن أذكركه ولهذا قال " فاتخذ سبيله " أي طريقه " في البحر عجبا قال ذلك ما
كنا نبغ " أي هذا هو الذي نطلب " فارتدا " أي رجعا " على آثارهما " أي طريقهما " قصصا " أي يقصان
آثار مشيهما ويقفوان أثرهما " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " وهذا هو
الخضر عليه السلام كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال البخاري: حدثنا الحميدي حدثنا
سفيان حدثنا عمرو بن دينار أخبرني سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس إن نوفا البكالي يزعم أن
موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا
97

أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي الناس
أعلم؟ قال أنا. فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو
أعلم منك. قال موسى يا رب وكيف لي به؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم " فأخذ
حوتا فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما
واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله عن الحوت
جرية الماء فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى
إذا كان من الغد قال موسى لفتاه " آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا " ولم يجد موسى النصب حتى جاوز
المكان الذي أمره الله به قال له فتاه " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن
أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا " قال فكان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا فقال " ذلك ما كنا نبغ فارتدا
على آثارهما قصصا " قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى
فقال الخضر وأنى بأرضك السلام. فقال أنا موسى. فقال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم قال أتيتك لتعلمني مما
علمت رشدا " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت
على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. فقال موسى " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " قال
له الخضر " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا " فانطلقا يمشيان على ساحل البحر
فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر
قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق
أهلها؟ لقد جئت شيئا إمرا " قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا: قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني
من أمري عسرا " قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكانت الأولى من موسى نسيانا " قال: وجاء عصفور فوقع على
حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا
العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع
الغلمان فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله فقال له موسى " أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا "
قال " ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " قال وهذه أشد من الأولى " قال إن سألتك عن شئ بعدها
فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا
فيها جدارا يريد أن ينقض " أي مائلا فقال الخضر بيده " فأقامه " فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم
يضيفونا " لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا "
فقال رسول الله " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما " قال سعيد بن جبير: كان
ابن عباس يقرأ " وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا " وكان يقرأ " وأما الغلام فكان كافرا وكان
أبواه مؤمنين " ثم رواه البخاري عن قتيبة عن سفيان بن عيينة فذكر نحوه وفيه فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن
نون ومعهما الحوت حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها قال فوضع موسى رأسه فنام قال سفيان: وفي حديث
عن عمر فال وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شئ إلا حيي فأصاب الحوت من ماء
تلك العين فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر فلما استيقظ قال موسى لفتاه " آتنا غداءنا " قال وساق
الحديث ووقع عصفور على حرف السفينة فغمس منقاره في البحر فقال الخضر لموسى ما علمي وعلمك وعلم
الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه وقال البخاري أيضا: حدثنا
إبراهيم بن موسى حدثنا هشام بن يوسف أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار عن
سعيد بن جبير يزيد أحدهما على صاحبه وغيرهما قد سمعته يحدث عن سعد بن جبير: قال إنا لعند ابن عباس
98

في بيته إذ قال سلوني فقلت أي أبا عباس جعلني الله فداك بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى
بني إسرائيل أما عمرو فقال لي قال كذب عدو الله وأما يعلى فقال لي: قال ابن عباس حدثني أبي بن كعب قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " موسى رسول الله ذكر الناس يوما حتى إذا فاضت العيون ورقت القلوب ولى فأدركه رجل
فقال أي رسول الله هل في الأرض أحد أعلم منك؟ قال لا: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إلى الله قيل بلى، قال
أي رب وأين؟ قال بمجمع البحرين قال أي رب اجعل لي علما أعلم ذلك به قال لي عمر قال: حيث
يفارقك الحوت وقال لي يعلى خذ حوتا ميتا حيث ينفخ فيه الروح فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه لا أكلفك
إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت قال ما كلفت كبيرا فذلك قوله " وإذ قال موسى لفتا ه " يوشع بن نون ليست
عند سعيد بن جبير قال فبينا هو في ظل صخرة في مكان ثريا ن إذ يضرب الحوت وموسى نائم فقال فتاه لا أوقظه
حتى إذا استيقظ نسي أن يخبره ويضرب الحوت حتى دخل في البحر فأمسك الله عنه جرية الماء حتى كأن أثره في
حجر قال: فقال لي عمرو هكذا كأن أثره في حجر وحلق بين إبهاميه واللتين تليهما قال " لقد لقينا من سفرنا هذا
نصبا " قال وقد قطع الله عنك النصب ليست هذه عند سعيد بن جبير أخبره فرجعا فوجا خضرا قال: قال عثمان
ابن أبي سليمان على طنفسة خضراء على كبد البحر قال سعد بن جبير مسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه
وطرفه تحت رأسه فسلم عليه موسى فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضي من سلام؟ من أنت؟ قال أنا موسى،
قال موسى بني إسرائيل؟ قال نعم قال فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلمني مما علمت رشدا قال أما يكفيك أن
التوراة بيديك وأن الوحي يأتيك؟ يا موسي إن لي علما لا ينبغي لك أن تعلمه وإن لك علما لا ينبغي لي أن
أعلمه فأخذ طائر بمنقاره من البحر فقال والله ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا الطائر بمنقاره
من البحر حتى إذا ركبا في السفينة وجدا معابر صغارا تحل أهل هذا الساحل إلى هذا الساحل الآخر عرفوه فقالوا
عبد الله الصالح قال فقلنا لسعيد بن جبير خضر قال: نعم لا نحمله بأجر فخرقها ووتد فيها وتدا قال موسى
" أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " قال مجاهد منكرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا؟ كانت
الأولى نسيانا والثانية شرطا والثالثة عمدا قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا فانطلقا حتى لقيا
غلاما فقتله قال يعلي قال سعيد وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما كافرا ظريفا فاضجعه ثم ذبحه بالسكين فقال أقتلت
نفسا زكية لم تعمل الحنث؟ وابن عباس قرأها زكية زاكية مسلمة كقولك غلاما زكيا فانطلقا فوجدا جدارا يريد أن
ينقض فأقامه قال بيده: هكذا ودفع بيده فاستقام قال: لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال يعلى: حسبت أن سعيدا
قال فمسحه بيده فاستقام قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا قال سعيد أجرا نأكله وكان وراءهم ملك وكان
أمامهم قرأها ابن عباس أمامهم ملك يزعمون عن غير سعيد أنه هدد بن بدد والغلام المقتول اسمه يزعمون
حيسور ملك يأخذ كل سفينة غصبا فأردت إذا هي مرت به أن يدعها بعيبها فإذا جاوزوا أصلحوها فانتفعوا بها
منهم من يقول سدوها بقارورة ومنهم من يقول بالقار كان أبواه مؤمنين وكان هو كافرا فخشينا أن يرهقهما طغيانا
وكفرا أن يحملهما حبه على أن يتابعاه على دينه فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة كقوله " أقتلت نفسا زكية "
وقوله " وأقرب رحما " هما به أرحم منهما بالأول الذي قتل خضر وزعم غير سعيد بن جبير أنهما أبدلا جارية
وأما داود بن أبي عاصم فقال عن غير واحد إنها جارية.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال خطب موسى عليه السلام
بني إسرائيل فقال: ما أحد أعلم بالله وبأمره مني فأمر أن يلقى هذا الرجل فذكر نحو ما تقدم بزيادة ونقصان والله
أعلم. وقال محمد بن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن سعيد بن جبير قال: جلست عند
ابن عباس وعنده نفر من أهل الكتاب فقال بعضهم يا أبا العباس إن نوفا بن امرأة كعب يزعم عن كعب أن موسى
النبي الذي طلب العلم إنما هو موسى بن ميشا قال سعيد فقال ابن عباس أنوف يقول هذا يا سعيد؟ قلت له
99

نعم أنا سمعت نوفا يقول ذلك قال أنت سمعته يا سعيد قال قلت نعم قال كذب نوف. ثم قال ابن عباس حدثني
أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى بني إسرائيل سأل ربه فقال أي رب إن كان في عبادك أحد هو أعلم مني
فدلني عليه؟ فقال له نعم في عبادي من هو أعلم منك ثم نعت له مكانه وأذن له في لقيه خرج موسى ومعه فتاه
ومعه حوت مليح قد قيل له إذا حيي هذا الحوت في مكان فصاحبك هنالك وقد أدركت حاجتك فخرج
موسى ومعه فتاه ومعه ذلك الحوت يحملانه فسار حتى جهده السير وانتهى إلى الصخرة وإلى ذلك الماء وذلك
الماء ماء الحياة من شرب منه خلد ولا يقاربه شئ ميت إلا حيي فلما نزلا ومس الحوت الماء حيي فاتخذ سبيله في
البحر سربا فانطلقا فلما جاوزا النقلة قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال الفتى وذكر " أرأيت
إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكر ه وا تخذ سبيله في البحر عجبا " قال
ابن عباس: فظهر موسى على الصخرة حتى إذا انتهيا إليها فإذا رجل متلفف في كساء له فسلم موسى عليه فرد
عليه السلام ثم قال له: ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل قال له موسى جئتك لتعلمني مما علمت رشدا
قال إنك لن تستطيع معي صبرا وكان رجلا يعلم علم الغيب قد علم ذلك فقال موسى بلى قال " وكيف تصبر على
ما لم تحط به خبرا " أي إنما تعرف ظاهر ما ترى من العدل ولم تحط من علم الغيب بما أعلم " قال ستجدني
إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " وإن رأيت ما يخالفني قال " فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ " وإن
أنكرته " حتى أحدث لك منه ذكرا " فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرضان الناس يلتمسان من يحملهما حتى
مرت بهما سفينة جديدة وثيقة لم يمر بهما من السفن شئ أحسن ولا أجمل ولا أوثق منها فسأل أهلها أن يحملوهما
فحملوهما فلما اطمأنا فيها ولجت بهما مع أهلها أخرج منقارا له ومطرقة ثم عمد إلى ناحية منها فضرب فيها بالمنقار
حتى خرقها ثم أخذ لوحا فطبقه عليها ثم جلس عليها يرقعها فقال له موسى ورأى أمرا أفظع به " أخرقتها لتغرق
أهلها لقد جئت شيئا إمرا قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال لا تؤاخذني بما نسيت " أي بما
تركت من عهدك " ولا ترهقني من أمري عسرا " ثم خرجا من السفينة فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية فإذا غلمان
يلعبون خلفها فيهم غلام ليس في الغلمان غلام أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه فأخذه بيده وأخذ حجرا فضرب
به رأسه حتى دمغه فقتله قال فرأى موسى أمرا فظيعا لا صبر عليه صبي صغير قتله لا ذنب له قال " أقتلت
نفسا زكية " أي صغيرة " بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا * قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا * قال إن
سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " أي قد أعذرت في شأني " فانطلقا حتى إذا أتيا
أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " فهدمه ثم قعد يبنيه فضجر
موسى مما يراه يصنع من التكليف وما ليس عليه صبر فأقامه قال " لو شئت لاتخذت عليه أجرا " أي قد
استطعمنا هم فلم يطعمونا وضفناهم فلم يضيفونا ثم قعدت تعمل من غير صنيعة ولو شئت لأعطيت عليه أجرا في
عمله قال " هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا أما السفينة فكانت لمساكين يعملون
في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا " وفي قراءة أبي بن كعب " كل سفينة صالحة "
وإنما عبتها لأرده عنها فسلمت منه حين رأى العيب الذي صنعت بها " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا ان
يرهقهما طغيانا وكفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما منه زكاة وأقرب رحما وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في
المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما
فعلته عن أمري " أي ما فعلته عن نفسي " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " فكان ابن عباس يقول ما كان
الكنز إلا علما وقال العوفي عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه مصر فلما استقرت
بهم الدار أنزل الله أن ذكرهم بأيام الله فخطب قومه فذكر ما آتاهم الله من الخير والنعمة وذكرهم إذ نجاهم الله من
100

آل فرعون وذكرهم هلاك عدوهم وما استخلفهم الله في الأرض وقال كلم الله نبيكم تكليما واصطفاني لنفسه وأنزل
علي محبة منه وآتاكم الله من كل ما سألتموه فنبيكم أفضل أهل الأرض وأنتم تقرأون التوراة فلم يترك نعمة أنعم
الله عليهم إلا وعرفهم إياها. فقال له رجل من بني إسرائيل هم كذلك يا نبي الله قد عرفنا الذي تقول فهل على
الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله؟ قال لا فبعث الله جبرائيل إلى موسى عليه السلام فقال إن الله يقول وما
يدريك أين أضع علمي بلى إن لي على شط البحر رجلا هو أعلم منك. قال ابن عباس: هو الخضر فسأل
موسى ربه أن يريه إياه فأوحى إليه أن ائت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتا فخذه فادفعه إلى فتاك ثم الزم
شاطئ البحر فإذا نسيت الحوت وهلك منك فثم تجد العبد الصالح الذي تطلب فلما طال سفر موسى نبي الله
ونصب فيه سأل فتاه عن الحوت فقال له فتاه وهو غلامه " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما
أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " لك قال الفتى لقد رأيت الحوت حين اتخذ سبيله في البحر سربا فأعجب ذلك
فرجع موسى حتى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى وجعل موسى يقدم
عصاه يفرج بها عنه الماء يتبع الحوت وجعل الحوت لا يمس شيئا من البحر الا يبس عنه الماء حتى يكون صخرة
فجعل نبي الله يعجب من ذلك حتى انتهى به الحوت جزيرة من جزائر البحر فلقي الخضر بها فسلم عليه فقال
الخضر وعليك السلام وأنى يكون السلام بهذه الأرض ومن أنت؟ قال أنا موسى. قال الخضر: صاحب بني
إسرائيل؟ قال نعم فرحب به وقال ما جاء بك؟ قال جئتك " على أن تعلمن مما علمت رشدا * قال إنك لن
تستطيع معي صبرا " يقول لا تطيق ذلك قال " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " قال فانطلق به
وقال له: لا تسألني عن شئ أصنعه حتى أبين لك شأنه فذلك قوله " حتى أحدث لك منه ذكرا " وقال الزهري
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري في
صاحب موسى فقال ابن عباس هو خضر فمر بهما أبي بن كعب فدعاه ابن عباس فقال إني تماريت أنا وصاحبي
هذا في صاحب موسى الذي سئل السبيل إلى لقيه فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه قال إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول " بينا موسى في ملا من بني إسرائيل إذ جاءه رجل فقال تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال لا
، فأوحى الله إلى موسى بلى عبدنا خضر فسأل موسى السبيل إلى لقيه فجعل الله له الحوت آية وقيل له إذا فقدت
الحوت فارجع فإنك ستلقاه فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر فقال فتى موسى لموسى: أرأيت إذ أوينا إلى
الصخرة فإني نسيت الحوت قال موسى " ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا " فوجدا عبدنا خضرا فكان
من شأنهما ما قص الله في كتابه.
هل أتبعك على إن تعلمن مما علمت رشدا (66) قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67) وكيف تصبر
على ما لم تحط به خبرا (68) قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا (69) قال فأن اتبعتني فلا
تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70)
يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام لذلك الرجل العالم وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى
كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر " قال له موسى هل أتبعك " سؤال تلطف لا على وجه الالزام
والاجبار وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم وقوله " أتبعك " أي أصحبك وأرافقك " على أن
تعلمن مما علمت رشدا " أي مما علمك الله شيئا أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح فعندها
" قال " الخضر لموسى " إنك لن تستطيع معي صبرا " أي أنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من
الافعال التي تخالف شريعتك لاني على علم من علم الله ما علمكه الله وأنت على علم من علم الله ما علمنيه
101

الله فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه وأنت لا تقدر على صحبتي " وكيف تصبر على ما لم تحط به
خبرا " فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعت
أنا عليها دونك " قال " أي موسى " ستجدني إن شاء الله صابرا " أي على ما أرى من أمورك " ولا أعصي لك
أمرا " أي ولا أخالفك في شئ فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام " قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ "
أي ابتداء " حتى أحدث لك منه ذكرا " أي حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جرير: حدثنا حميد بن جابر حدثنا يعقوب عن هارون عن عبيدة عن أبيه عن ابن عباس قال سأل موسى
عليه السلام ربه عز وجل فقال أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عبادك
أقضى؟ قال الذي يقض بالحق ولا يتبع الهوى قال أي رب أي عبادك أعلم؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى
علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى قال أي رب هل في أرضك أحدا أعلم مني؟ قال
نعم قال فمن هو؟ قال الخضر قال وأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت قال
فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله وانتهى موسى إليه عند الصخرة فسلم كل واحد منهما على صاحبه فقال له
موسى إني أحب أن أصحبك قال إنك لن تطيق صحبتي قال بلى فال فإن صحبتني " فلا تسألني عن شئ حتى
أحدث لك منه ذكرا " قال صحبتي قال بلى فال فإن صحبتني " فلا تسألني عن شئ حتى
أحدث لك منه ذكرا " قال فسار به في البحر حتى انتهى إلى مجمع البحرين وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه
قال وبعث الله الخطاف فجعل يستقي منه بمنقاره فقال لموسى كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء قال: ما
أقل ما رزأ قال يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء وكان موسى قد
حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به فمن ثم أمر أن يأتي الخضر وذكر تمام الحديث في خرق السفينة
وقتل الغلام وإصلاح الجدار وتفسيره له ذلك.
فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا (71) قال ألم أقل إنك لن
تستطيع معي صبرا (72) قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا (73)
يقول تعالى مخبرا عن موسى وصاحبه وهو الخضر أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا واشترط عليه أن لا يسأله عن
شئ أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه فركبا في السفينة وقد تقدم في الحديث كيف
ركبا في السفينة وأنهم عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول يعني بغير أجرة تكرمة للخضر فلما استقلت بهم السفينة
في البحر ولججت أي دخلت اللجة قام الخضر فخرقها واستخرج لوحا من ألواحها ثم رقعها فلم يملك موسى
عليه السلام نفسه أن قال منكرا عليه " أخرقتها لتغرق أهلها " وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل كما قال
الشاعر: * لدوا للموت وابنوا للخراب * " لقد جئت شيئا إمرا " قال مجاهد منكرا وقال قتادة عجبا فعندها قال
له الخضر مذكرا بما تقدم من الشرط " ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " يعني وهذا الصنيع فعلته قصدا وهو
من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها لأنك لم تحط بها خبرا ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه
أنت " قال " أي موسى لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا " أي لا تضيق علي ولا تشدد علي
ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " كانت الأولى من موسى نسيانا ".
فانطلقا حتى إذا لقيا غلما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74) * قال ألم أقل لك
إنك لن تستطيع معي صبرا (75) قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصحبني قد بلغت من لدني عذرا (76)
102

يقول تعالى " فانطلقا " أي بعد ذلك " حتى إذا لقيا غلاما فقتله " وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية
من القرى وأنه عمد إليه من بينهم وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله وروي أنه احتز رأسه وقيل رضخه
بحجر وفي رواية اقتلعه بيده والله أعلم فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول وبادر فقال
" أقتلت نفسا زكية " أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثما بعد فقتلته " بغير نفس " أي بغير مستند لقتله
" لقد جئت شيئا نكرا " أي ظاهر النكارة " قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " فأكد أيضا في التذكار
بالشرط الأول فلهذا قال لموسى " إن سألتك عن شئ " بعدها أي إن اعترضت عليك بشئ بعد هذه المرة
" فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " أي قد أعذرت إلي مرة بعد مرة قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن
زياد حدثنا حجاج بن محمد عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحدا فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم " رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع
صاحبه لأبصر العجب ولكنه قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا " مثقلة.
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو
شئت لاتخذت عليه أجرا (77) قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78)
يقول تعالى مخبرا عنهما أنهما " انطلقا " بعد المرتين الأولتين حتى إذا أتيا أهل قرية روى ابن جريج عن
ابن سيرين أنها الأيلة وفي الحديث " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاما " أي بخلاء " فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها
جدارا يريد أن ينقض " إسناد الإرادة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة فإن الإرادة في المحدثات بمعنى
الميل والانقضاض هو السقوط وقوله " فأقامه " أي فرده إلى حالة الاستقامة وقد تقدم في الحديث أنه رده
بيده ودعمه حتى رد ميله وهذا خارق فعند ذلك قال موسى " له لو شئت لاتخذت عليه أجرا " أي لأجل أنهم لم
يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجانا " قال هذا فراق بيني وبينك " أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن
سألتني عن شئ بعدها فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك " سأنبئك بتأويل " أي بتفسير " ما لم تستطع عليه
صبرا ".
أما السفينة فكانت لمسكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79)
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام ما كان أنكر ظاهره وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على
حكمة باطنة فقال: إن السفينة إنما خرقتها لا عيبها لانهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة " يأخذ كل
سفينة " صالحة أي جيدة " غصبا " فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم
يكن لهم شئ ينتفعون به غيرها وقد قيل إنهم أيتام وروى ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبائي
أن اسم ذلك الملك هدد بن بدد وقد تقدما أيضا في رواية البخاري وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص
بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوراة والله أعلم.
وأما الغلم فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة
وأقرب رحما (81)
وقد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه حيثور وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
103

" الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به،
ولهذا قال " فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر قال
قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ولو بقي لكان فيه هلاكهما فليرضى امرؤ بقضاء الله فإن قضاء
الله للمؤمن فما يكره خير له من قضائه فيما يحب وصح في الحديث " لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيرا
له " وقال تعالى " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم " وقوله " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب
رحما " أي ولدا أزكى من هذا وهما أرحم به منه قاله ابن جريج وقال قتادة: أبر بوالديه وقد تقدم أنهما بدلا
جارية وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم قاله ابن جريح.
وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صلحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما
ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82)
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة لأنه قال أولا " حتى إذا أتيا أهل قرية " وقال ههنا " فكان
لغلامين يتيمين في المدينة " كما قال تعالى " فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك " " وقالوا
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " يعني مكة والطائف ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته
لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما قال عكرمة وقتادة وغير واحد كان تحته مال مدفون لهما
وهو ظاهر السياق من الآية وهو اختيار ابن جرير رحمه الله وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم وكذا
قال سعيد بن جبير وقال مجاهد صحف فيها علم وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو
بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا بشر بن
المنذر حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغساني عن أبي حجيرة عن أبي ذر رفعه قال:
إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب وعجبت
لمن ذكر النار لم ضحك وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله. وبشر بن المنذر هذا
يقال له قاضي المصيصة قال الحافظ أبو جعفر العقيلي: في حديثه وهم وقد روي في هذا آثار عن السلف فقال
ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من
جلساء الحسن قال: سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله " وكان تحته كنز لهما " قال لوح من ذهب
مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف
يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا ومقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله إلا الله محمد رسول الله. وحدثني يونس
أخبرنا ابن وهب أخبرني عبد الله بن عباس عن عمر مولي غفرة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر
فيها الكهف " وكان تحته كنز لهما " قال كان لوحا من ذهب مصمت مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم
عجب لمن عرف النار ثم ضحك عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن أشهد أن لا
إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحدثني أحمد بن حازم الغفاري حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت
سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى " وكان تحته كنز
لهما " قال سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للمؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت للمؤمن بالحساب كيف
يغفل وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح. وقد قال الله " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين "
قالت وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء
وكان نساجا وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به الحديث المتقدم وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالا لانهم
104

ذكروا أنه كان لوحا من ذهب وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعا فيه علم وهو حكم ومواعظ والله أعلم.
وقوله " وكان أبوهما صالحا " فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا
والآخرة بشفاعته فيهم ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة لتقر عينه بهم كما جاء في القرآن ووردت به
السنة. قال سعيد بن جبير: عن ابن عباس حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر لهما صلاحا وتقدم أنه كان الأب السابع
فالله أعلم. وقوله " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما " ههنا أسند الإرادة إلى الله تعالى لان
بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله وقال في الغلام " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة " وقال في السفينة
فأردت أن أعيبها فالله أعلم. وقوله تعالى " رحمة من ربك وما فعلته عن أمري " أي هذا الذي فعلته في
هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح وما
فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله
" فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " وقال آخرون كان رسولا وقيل بل كان ملكا
نقله الماوردي في تفسيره وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبيا بل كان وليا فالله أعلم. وذكر ابن قتيبة في المعارف
أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام قالوا وكان يكنى
أبا العباس ويلقب بالخضر وكان من أبناء الملوك ذكره النووي في تهذيب الأسماء وحكى هو وغيره في كونه باقيا
إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولين ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه وذكروا في ذك حكايات وآثارا عن السلف
وغيرهم وجاء ذكره في بعض الأحاديث ولا يصح شئ من ذلك وأشهرها حديث التعزية وإسناده ضعيف ورجح
آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك واحتجوا بقوله تعالى " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " وبقول النبي
صلى الله عليه وسلم يوم بدر " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر
عنده ولا قاتل معه ولو كان حيا لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنه عليه السلام كان مبعوثا إلى جميع الثقلين
الجن والإنس وقد قال " لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي " وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى
ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف إلى غير ذلك من الدلائل. قال الإمام أحمد:
حدثنا يحيى بن آدم حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في
الخضر قال " إنما سمي خضرا لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من تحته خضراء " ورواه أيضا عن عبد
الرزاق وقد ثبت أيضا في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إنما سمي الخضر لأنه
جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء " والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات،
قاله عبد الرزاق. وقيل المراد بذلك وجه الأرض وقوله " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " أي هذا تفسير ما
ضقت به ذرعا ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال " تسطع "
وقبل ذلك كان الاشكال قويا ثقيلا فقال " سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " فقابل الأثقل بالأثقل والأخف
كما قال " فما اسطاعوا أن يظهروه " وهو الصعود إلى أعلاه " وما استطاعوا له نقبا " وهو أشق من ذلك فقابل
كلا بما يناسبه لفظا ومعنى والله أعلم. فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟
فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما وفتى موسى معه تبع وقد
صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى
عليه السلام؟ وهذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثنا ابن حميد حدثنا سلمة
حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر
حديث وقد كان معه قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى قال شرب الفتى من الماء فخلد فأخذه
العالم فطابق به سفينة ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه
105

فشرب إسناده ضعيف والحسن متروك وأبوه غير معروف.
ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شئ سببا (84)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم " ويسئلونك " يا محمد " عن ذي القرنين " أي عن خبره. وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة
إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا سلوه عن رجل طواف في الأرض وعن فتية
ما يدرى ما صنعوا وعن الروح فنزلت سورة الكهف وقد أورد ابن جرير ههنا والأموي في مغازيه حديثا أسنده
وهو ضعيف عن عقبة بن عامر أن نفرا من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين فأخرهم بما جاءوا له
ابتداء فكان فيما أخبرهم به أنه كان شابا من الروم وأنه بنى الإسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى
السد ورأى أقواما وجوههم مثل وجوه الكلاب وفيه طول ونكارة ورفعه لا يصح وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني
إسرائيل والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة وذلك غريب منه وفيه
من النكارة أنه من الروم وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني وهو ابن فيليس المقدوني الذي تؤرخ به
الروم فأما الأول (1) فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به
واتبعه وكان وزيره الخضر عليه السلام وأما الثاني فهو إسكندر بن فيليس المقدوني اليوناني وكان وزيره
ارسطاطاليس الفيلسوف المشهور والله أعلم وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم وقد كان قبل المسيح عليه السلام
بنحو من ثلثمائة سنة فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل كما ذكره الأزرقي وغيره وأنه طاف مع
الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام وقرب إلى الله قربانا وقد ذكرنا طرفا صالحا من
أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية ولله الحمد. وقال وهب بن منبه: كان ملكا وإنما سمي ذا القرنين
لان صفحتي رأسه كانتا من نحاس قال: وقال بعض أهل الكتاب لأنه ملك الروم وفارس وقال بعضهم كان
في رأسه شبه القرنين وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي رضي الله
عنه عن ذي القرنين فقال كان عبدا ناصحا لله فناصحه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا
قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فسمي ذا القرنين وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل
سمع عليا يقول ذلك ويقال إنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس
ويغرب، وقوله " إنا مكنا له في الأرض " أي أعطيناه ملكا عظيما ممكنا فيه من جميع ما يؤتى الملوك من
التمكين والجنود وآلات الحرب والحصارات ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ودانت له البلاد وخضعت
له ملوك العباد وخدمته الأمم من العرب والعجم ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني
الشمس مشرقها ومغربها وقو له " وآتيناه من كل شئ سببا " قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة
والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم يعني علما وقال قتادة أيضا في قوله " وآتيناه من كل شئ سببا " قال: منازل
الأرض وأعلامها وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وآتيناه من كل شئ سببا " قال تعليم الألسنة
قال كان لا يغزو قوما إلا كلمهم بلسانهم وقال ابن لهيعة: حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال
أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا؟ فقال له كعب إن
كنت قلت ذلك فإن الله قال " وآتيناه من كل شئ سببا " وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب
الأحبار هو الصواب والحق مع معاوية في ذلك الانكار فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب
- (1) قوله فأما الأول الخ كذا وفي العبارة شبه تكرار فحرر اه‍.
106

يعني فيما ينقله لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها
مبدل مصحف محرف مختلق ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شئ منها بالكلية فإنه دخل منها
على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله " وآتيناه من كل شئ سببا " واستشهاده في ذلك على
ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق فإنه لا سبيل للبشر إلى شئ من ذلك ولا
إلى الترقي في أسباب السماوات وقد قال الله في حق بلقيس " وأوتيت من كل شئ " أي مما يؤتى مثلها من
الملوك وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي
وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شئ مما يحتاج إليه مثله سببا والله أعلم.
وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماد
قال: كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال سبحان الله
سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.
فأتبع سببا (85) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين
إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا (86) قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا (87)
وأما من آمن وعمل صلحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا (88)
قال ابن عباس " فأتبع سببا " يعني بالسبب المنزل، وقال مجاهد " فأتبع سببا " منزلا وطريقا ما بين المشرق
والمغرب وفي رواية عن مجاهد " سببا " قال طرفي الأرض، وقال قتادة أي أتبع منازل الأرض ومعالمها،
وقال الضحاك " فأتبع سببا " أي المنازل وقال سعيد بن جبير في قوله: " فأتبع سببا " قال علما وهكذا قال
عكرمة وعبيد بن يعلى والسدي وقال مطر: معالم وآثار كانت قبل ذلك.
وقوله: " حتى إذا بلغ مغرب الشمس " أي فسلك طريقا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من
ناحية المغرب وهو مغرب الأرض وأما الوصول إلى مغرب الشمس من الأرض من
ناحية المغرب وهو مغرب الأرض وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر وما يذكره أصحاب القصص
والاخبار من أنه سار في الأرضي مدة والشمس تغرب من ورائه فشئ لا حقيقة له وأكثر ذلك من خرافات أهل
الكتاب واختلاف زنادقتهم وكذبهم وقوله: " وجدها تغرب في عين حمئة " أي رأى الشمس في منظره تغرب في
البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله يراها كأنها تغرب فيه وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي
مثبتة فيه لا تفارقه والحمأة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين كما قال تعالى: " إني خالق بشرا
من صلصال من حمإ مسنون " أي طين أملس وقد تقدم بيانه وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب
أنبأنا نافع بن أبي نعيم سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول كان ابن عباس يقول في عين حمئة ثم فسرها ذات حمأة
قال نافع: وسئل عنها كعب الأحبار فقال أنتم أعلم بالقرآن مني ولكن أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء،
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وغير واحد: وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا محمد بن دينار
عن سعد بن أوس عن مصدع عن ابن عباس عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه حمئة وقال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة وكذا قال الحسن البصري وقال ابن جرير: والصواب
أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب قلت ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها
وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حامل وحمأة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره. وقال
ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا العوام حدثني مولى لعبد الله بن عمرو عن عبد الله
قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت فقال: " في نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما
107

على الأرض " قلت ورواه الإمام أحمد عن يزيد بن هارون وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ولعله من كلام
عبد الله بن عمرو من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا حجاج بن حمزة
حدثنا محمد يعني ابن بشر حدثنا عمرو بن ميمون أنبأنا ابن حاضر أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان
قرأ الآية التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها إلا حمئة فسأل معاوية
عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها فقال عبد الله كما قرأتها قال ابن عباس فقلت لمعاوية في بيتي نزل القرآن فأرسل
إلى كعب فقال له أين تجد الشمس تغرب في التوراة؟ فقال له كعب سل أهل العربية فإنهم أعلم بها وأما أنا
فإني أجد الشمس تغرب في التوراة في ماء وطين وأشار بيده إلى المغرب قال ابن حاضر لو أني عندك أفدتك
بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة قال ابن عباس وإذا ما هو قلت فيما يؤثر من قول تبع فيما ذكر به ذا القرنين في
تخلقه بالعلم واتباعه إياه
بلغ المشارق والمغارب يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط حرمد
فقال ابن عباس ما الخلب قلت الطين بكلامهم قال فما الثاط قلت الحمأة قال فما الحرمد قلت الأسود قال فدعا
ابن عباس رجلا أو غلاما فقال اكتب ما يقول هذا الرجل وقال سعيد بن جبير بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ
" وجدها تغرب في عين حمئة " فقال كعب والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدا يقرؤها كما أنزلت في التوراة
غير ابن عباس فإنا نجدها في التوراة تغرب في مدرة سوداء وقال أبو يعلى الموصلي حدثنا إسحاق بن أبي
إسرائيل حدثنا هشام بن يوسف قال في تفسير ابن جريج " ووجد عندها قوما " قال مدينة لها اثنا عشر ألف باب
لولا أصوات أهلها لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب وقوله: " ووجد عندها قوما " أي أمة من الأمم
ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم وقوله " قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " معنى
هذا أن الله تعالى مكنه منهم وحكمه فيهم وأظفره بهم وخيره إن شاء قتل وسبى وإن شاء من أو فدى فعرف عدله
وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه في قوله " أما من ظلم " أي استمر على كفره وشركه بربه " فسوف نعذبه " قال قتادة
بالقتل وقال السدي كان يحمي لهم بقر النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا وقال وهب بن منبه كان يسلط الظلمة
فتدخل أجوافهم وبيوتهم وتغشاهم من جميع جهاتهم والله أعلم، وقوله " ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " أي
شديدا بليغا وجيعا أليما وفي هذا إثبات المعاد والجزاء. وقوله: " وأما من آمن " أي تابعنا على ما ندعوه إليه
من عبادة الله وحده لا شريك له " فله جزاء الحسنى " أي في الدار الآخرة عند الله عز وجل " وسنقول له من
أمرنا يسرا " قال مجاهد معروفا.
ثم أتبع سببا (89) حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا (90) كذلك
وقد أحطنا بما لديه خبرا (91)
يقول تعالى ثم سلك طريقا فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها وكان كلما مر بأمة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله
عز وجل فإن أطاعوه وإلا أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه
على قتال الإقليم المتاخم لهم، وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفا وستمائة سنة يجوب الأرض طولها
والعرض حتى بلغ المشارق والمغارب ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال تعالى " وجدها تطلع
على قوم " أي أمة " لم نجعل لهم من دونها سترا " أي ليس لهم بناء يكنهم ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر
الشمس قال سعيد بن جبير كانوا حمرا قصارا مساكنهم الغيران أكثر معيشتهم من السمك.
108

وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا سهل بن أبي الصلت سمعت الحسن وسئل عن قول الله تعالى " لن نجعل لهم
من دونها سترا " قال إن أرضهم لا تحمل البناء فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه فإذا غربت خرجوا يتراعون
كما ترعى البهائم قال الحسن هذا حديث سمرة وقال قتادة ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئا فهم إذا طلعت
الشمس دخلوا في أسراب حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم وعن سلمة بن كهيل أنه قال:
ليست لهم أكنان إذا طلعت الشمس طلعت عليهم فلأحدهم أذنان يفرش إحداهما ويلبس الأخرى. قال عبد
الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: " وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا " قال هم
الزنج وقال ابن جرير في قوله " وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا " قال لم يبنوا فيها بناء قط
ولم يبن عليهم فيها بناء قط كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسرابا لهم حتى تزول الشمس أو دخلوا البحر وذلك أن
أرضهم ليس فيها جبل. جاءهم جيش مرة فقال لهم أهلها: لا تطلعن عليكم الشمس وأنتم بها قالوا لا نبرح
حتى تطلع الشمس ما هذه العظام؟ قالوا هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا، قال فذهبوا هاربين
في الأرض وقوله " كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا " قال مجاهد والسدي: علما أي نحن مطلعون على جميع
أحواله وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شئ وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض فإنه تعالى " لا يخفى عليه
شئ في الأرض ولا في السماء ".
ثم أتبع سببا (92) حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا (93) قالوا يا ذا
القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا (94) قال ما
مكني فيه ربي فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما (95) آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين
قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا (96)
يقول تعالى مخبرا عن ذي القرنين " ثم أتبع سببا " أي ثم سلك طريقا من مشارق الأرض حتى إذا بلغ بين
السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك فيعيثون فيها فسادا ويهلكون
الحرث والنسل ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في الصحيحين " إن الله تعالى يقول: يا
آدم فيقول لبيك وسعديك فيقول ابعث بعث النار فيقول وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون
إلى النار وواحد إلى الجنة فحينئذ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها فقال إن فيكم أمزتين ما كانتا في
شئ إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج " وقد حكى النووي رحمه الله في شرح مسلم عن بعض الناس أن يأجوج ومأجوج
خلقوا من مني خرج من آدم فاختلط بالتراب فخلقوا من ذلك فعلى هذا يكونون مخلوقين من آدم وليسوا من
حواء وهذا قول غريب جدا لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز الاعتماد ههنا على ما يحكيه بعض أهل
الكتاب لما عندهم من الأحاديث المفتعلة والله أعلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ولد نوح ثلاثة: سام أبو العرب وحام أبو السودان
ويافث أبو الترك " قال بعض العلماء هؤلاء من نسل يافث أبي الترك وقال إنما سمي هؤلاء تركا لانهم تركوا من
وراء السد من هذه الجهة وإلا فهم أقرباء أولئك لكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة وقد ذكر ابن جرير ههنا
عن وهب بن منبه أثرا طويلا عجيبا في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم
وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح
أسانيدها والله أعلم. وقوله " وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا " أي لاستعجام كلامهم وبعدهم عن
109

الناس. " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا " قال ابن جريج عن
عطاء عن ابن عباس أجرا عظيما يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم ما لا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم
سدا فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير. " ما مكني فيه ربي خير " أي إن الذي أعطاني الله من
الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه كما قال سليمان عليه السلام " أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما
آتاكم " الآية وهكذا قال ذو القرنين الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات
البناء. " أجعل بينكم وبينهم ردما آتوني زبر الحديد " والزبر جمع زبرة وهي القطعة منه قاله ابن عباس ومجاهد
وقتادة وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه " حتى إذا ساوى بين الصدفين " أي وضع
بعضه على بعض من الأساس حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولا وعرضا واختلفوا في مساحة عرضه وطوله
على أقوال " قال انفخوا " أي أجج عليه النار حتى صار كله نارا " قال آتوني أفرغ عليه قطرا " قال ابن عباس
ومجاهد وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي هو النحاس زاد بعضهم المذاب ويستشهد بقوله تعالى " وأسلنا له عين
القطر ولهذا يشبه بالبرد المحبر قال ابن جرير: حدثنا بشر بن يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال: ذكر لنا أن
رجلا قال يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال " انعته لي " قال كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة
حمراء قال " قد رأيته " هذا حديث مرسل. وقد بعث الخليفة الواثق في دولته بعض أمرائه وجهز معه جيشا سرية
لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتوه له إذا رجعوا فتوصلوا من بلاد إلى بلاد ومن ملك إلى ملك حتى وصلوا إليه
ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس وذكروا أنهم رأوا فيه بابا عظيما وعليه أقفال عظيمه ورأوا بقية اللبن والعمل في
برج هناك وأن عنده حرسا من الملوك المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق لا يستطاع ولا ما حوله من الجبال ثم
رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين وشاهدوا أهوالا وعجائب ثم قال الله تعالى.
فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا (97) قال هذا رحمه من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكا وكان وعد
ربي حقا (98) * وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا (99)
يقول تعالى مخبرا عن يأجوج ومأجوج أنهم ما قدروا على أن يصعدوا من فوق هذا السد ولا قدروا على نقبه من
أسفله ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه فقال " فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له
نقبا " وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شئ منه. فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا
روح حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حدثنا أبو رافع عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن يأجوج
ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا
فيعودون إليه كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع
الشمس قال إلي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه
ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع
وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله عليهم نغفا في رقابهم فيقتلهم بها قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم ودمائهم " ورواه أحمد
أيضا عن حسن هو ابن موسى الأشهب عن سفيان عن قتادة به وكذا رواه ابن ماجة عن أزهر بن مروان عن عبد
الاعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال حدث أبو رافع وأخرجه الترمذي من حديث أبي عوانة عن قتادة ثم
قال غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لان ظاهر الآية يقتضي أنهم لم
يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لاحكام بنائه وصلابته وشدته ولكن هذا قد روي عن كعب الأحبار أنهم قبل
خروجهم يأتونه فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون غدا نفتحه فيأتون من الغد وقد عاد كما كان
110

فيلحسونه حتى لا يبقى منه إلا القليل فيقولون كذلك فيصبحون وهو كما كان فيلحسونه ويقولون غدا نفتحه
ويلهمون أن يقولوا إن شاء الله فيصبحون وهو كما فارقوه فيفتحونه وهذا متجه ولعل أبا هريرة تلقاه من كعب فإنه
كان كثيرا ما كان يجالسه ويحدثه فحدث به أبو هريرة فتوهم بعض الرواة عنه أنه مرفوع فرفعه والله أعلم.
ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ولا نقب شئ منه ومن نكارة هذا المرفوع قول الإمام أحمد حدثنا
سفيان عن الزهري عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة
عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال سفيان أربع نسوة - قالت: استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه
وهو يقول " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وحلق قلت
يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبيث " هذا حديث صحيح اتفق البخاري ومسلم على
إخراجه من حديث الزهري ولكن سقط في رواية البخاري ذكر حبيبة وأثبتها مسلم وفيه أشياء عزيزة نادرة قليلة
الوقوع في صناعة الاسناد منها رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان ومنها اجتماع أربع نسوة في سنده كلهن يروي
بعضهن عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم ثنتان ربيبتان وثنتان زوجتان وقد روي نحو هذا عن
أبي هريرة أيضا فقال البزار حدثنا محمد بن مرزوق حدثنا مؤمل بن إسماعيل حدثنا وهب عن ابن طاوس عن أبيه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا " وعقد التسعين وأخرجه
البخاري ومسلم من حديث وهب به. وقوله: " قال هذا رحمة من ربي " أي لما بناه ذو القرنين " قال هذا
رحمة من ربي " أي بالناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلا يمنعهم من العبث في الأرض والفساد
" فإذا جاء وعد ربي " أي إذا اقترب الوعد الحق " جعله دكاء " أي ساواه بالأرض تقول العرب ناقة دكاء إذا
كان ظهرها مستويا لا سنام لها وقال تعالى: " فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا " أي مساويا للأرض. وقال
عكرمة في قوله: " فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء " قال طريقا كما كان " وكان وعد ربي حقا " أي كائنا لا
محالة. وقوله: " وتركنا بعضهم " أي الناس يومئذ أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس
ويفسدون على الناس أموالهم ويتلفون أشياءهم وهكذا قال السدي في قوله " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في
بعض " قال ذاك حين يخرجون على الناس وهذا كله قبل يوم القيامة وبعد الدجال كما سيأتي بيانه عند قوله
" حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق " الآية وهكذا قال ههنا
" وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " قال هذا أول يوم القيامة " ثم نفخ في الصور " على أثر ذلك
" فجمعناهم جمعا " وقال آخرون بل المراد بقوله " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " قال إذا ماج الجن والإنس
يوم القيامة يختلط الإنس والجن وروى ابن جرير عن محمد بن حميد عن يعقوب القمي عن هارون بن
عنترة عن شيخ من بني فزارة في قوله " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " قال إذا ماج الإنس والجن قال
إبليس: أنا أعلم لكم علم هذا الامر فيظعن إلى المشرق فيجد الملائكة قد قطعوا الأرض ثم يظعن إلى المغرب
فيجد الملائكة قد بطنوا الأرض فيقول ما من محيص ثم يظعن يمينا وشمالا إلى أقصى الأرض فيجد الملائكة قد
بطنوا الأرض فيقول ما من محيص فبينما هو كذلك إذ عرض له طريق كالشراك فأخذ عليه هو وذريته فبينما هم عليه
إذ هجموا على النار فأخرج الله خازنا من خزان النار فقال: يا إبليس ألم تكن لك المنزلة عند ربك ألم تكن في
الجنان؟ فيقول ليس هذا يوم عتاب لو أن الله فرض علي فريضة لعبدته فيها عبادة لم يعبده مثلها أحد من خلقه
فيقول: فإن الله قد فرض عليك فريضة فيقول ما هي فيقول يأمرك أن تدخل النار فيتلكأ عليه فيقول به وبذريته
بجناحيه فيقذفهم في النار فتزفر النار زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثى لركبتيه، وهكذا رواه ابن
أي حاتم من حديث يعقوب القمي به ثم رواه من وجه آخر عن يعقوب عن هارون عن عنتر عن أبيه عن ابن
عباس " وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " قال الإنس والجن يموج بعضهم في بعض.
111

وقال الطبراني: حدثنا عبد الله بن محمد بن العباس الأصبهاني حدثنا أبو مسعود أحمد بن الفرات حدثنا أبو داود
الطيالسي حدثنا المغيرة بن مسلم عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم ولن يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته
ألفا فصاعدا وإن من ورائهم ثلاث أمم تأويل وتايس ومنسك " هذا حديث غريب بل منكر ضعيف. وروى
النسائي من حديث شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبيه عن جده أوس بن أبي أوس مرفوعا " إن
يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا وشجر يلقحون ما شاءوا ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفا
فصاعدا " وقوله " ونفخ في الصور " والصور كما جاء في الحديث قرن ينفخ فيه والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه
السلام كما قد تقدم في الحديث بطوله والأحاديث فيه كثيرة. وفي الحديث عن عطية عن ابن عباس وأبي سعيد
مرفوعا " كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته واستمع متى يؤمر " قالوا كيف نقول قال " قولوا
حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا " وقوله " فجمعناهم جمعا " أي أحضرنا الجميع للحساب " قل إن
الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم " " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ".
وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (100) الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا (101)
أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا (102)
يقول تعالى مخبرا عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض أحدا ".
يقول تعالى مخبرا عما يفعله بالكفار يوم القيامة أنه يعرض عليهم جهنم أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من
العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك " ثم قال مخبرا
عنهم " الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري " أي تغافلوا وتعاموا وتصامموا عن قبول الهدى واتباع الحق كما
قال: " وما يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " وقال هنا " وكانوا لا يستطيعون سمعا " أي
لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ثم قال: " أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء " أي اعتقدوا
أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به " كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا " ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد
أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلا.
قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104)
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعملهم فلا نقيم لهم يوم القيمة وزنا (105) ذلك جزاؤهم
جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106)
قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي
يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا " أهم الحرورية قال: لا هم اليهود
والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب والحرورية
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين وقال علي بن أبي طالب
والضحاك وغير واحد: هم الحرورية ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية
كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء بل هي أعم من هذا فإن
هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى وقبل وجود الخوارج بالكلية وإنما هي عامة في كل من عبد الله على
112

غير طريقة مرضية بحسب أنه مصيب فيها وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود كما قال تعالى " وجوه يومئذ
خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية " وقال تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " وقال
تعالى " والذين كفروا بربهم أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " وقال في هذه
الآية الكريمة " قل هل ننبئكم " أي نخبركم " بالأخسرين أعمالا " ثم فسرهم فقال " الذين ضل سعيهم في
الحياة الدنيا " أي عملوا أعمالا باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعا " أي يعتقدون أنهم على شئ وأنهم مقبولون محبوبون، وقوله: " أولئك الذين كفروا بآيات ربهم
ولقائه " أي جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله وكذبوا بالدار الآخرة " فلا
نقيم لهم يوم القيامة وزنا " أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير قال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله
حدثنا سعيد بن أبي مريم أخبرنا المغيرة حدثني أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرءوا إن شئتم " فلا نقيم لهم يوم
القيامة وزنا " وعن يحيى بن بكير عن مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد مثله هكذا ذكره عن يحيى بن بكير
معلقا وقد رواه مسلم عن أبي بكر محمد بن إسحاق عن يحيى بن بكير به وقال أبي حاتم: حدثنا أبي
حدثنا أبو الوليد حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بالرجل الأكول الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها " قال وقرأ " فلا نقيم لهم يوم القيامة
وزنا " وكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي الصلت عن أبي الزناد عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة
مرفوعا فذكره بلفظ البخاري سواء. وقال أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار حدثنا العباس بن محمد حدثنا
عون بن عمارة حدثنا هاشم بن حسان عن واصل عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل
رجل من قريش يخطر في حلة له فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة
وزنا " ثم قال تفرد به واصل مولى أبي عنبسة وعون بن عمار وليس بالحافظ ولم يتابع عليه. وقد قال ابن جرير:
حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن الأعمش عن سمرة عن أبي يحيى عن كعب قال يؤتى
يوم القيامة برجل عظيم طويل فلا يزن عند الله جناح بعوضة اقرءوا " فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ". وقوله:
" ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا " أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا
استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا (107) خالدين فيها لا يبغون عنها حولا (108)
يخبر تعالى عن عباده السعداء وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به أن لهم جنات
الفردوس قال مجاهد الفردوس هو البستان بالرومية وقال كعب والسدي والضحاك هو البستان الذي فيه شجر
الاعناب وقال أبو أمامة: الفردوس سرة الجنة وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وقد روى
هذا مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " الفردوس ربوة الجنة أوسطها
وأحسنها " وهكذا رواه إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن سمرة مرفوعا وروي عن قتادة عن أنس بن مالك مرفوعا
بنحوه روى ذلك كله ابن جرير رحمه الله وفي الصحيحين " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى
الجنة وأوسط الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة " وقوله تعالى " نزلا " أي ضيافة فإن النزل الضيافة. وقوله " خالدين
فيها " أي مقيمين ساكنين فيها لا يظعنون عنها أبدا " لا يبغون عنها حولا " أي لا يختارون عنها غيرها ولا يحبون
سواها كما قال الشاعر:
فحلت سويدا القلب لا أنا باغيا سواها ولا عن حبها أتحول
113

وفي قوله " لا يبغون عنها حولا " تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان
دائما أنه قد يسأمه أو يمله فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولا ولا
انتقالا ولا ظعنا ولا رحلة ولا بدلا.
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنقد كلمت ربي ولو جئنا بمثله مددا (109)
يقول تعالى: قل يا محمد لو كان ماء البحر مدادا للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة لنفد البحر
قبل أن يفرغ كتابة ذلك " ولو جئنا بمثله " أي بمثل البحر آخر ثم آخر وهلم جرا بحور تمده ويكتب بها لما نفدت
كلمات الله كما قال تعالى " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت
كلمات الله إن الله عزيز حكيم " وقال الربيع بن أنس إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء
البحور كلها وقد أنزل الله ذلك " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " يقول
لو كانت تلك البحور مدادا لكلمات الله والشجر كله أقلام لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر وبقيت كلمات الله
قائمة لا يفنيها شئ لان أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو الذي يثني على
نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال
الأرض كلها.
قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم أله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صلحا ولا
يشرك بعبادة ربه أحدا (110)
روى الطبراني من طريق هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن قيس الكوفي أنه سمع معاوية بن أبي
سفيان أنه قال هذه آخر آية أنزلت يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه " قل " لهؤلاء المشركين
المكذبين برسالتك إليهم " إنما أنا بشر مثلكم " فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به فإني لا أعلم الغيب
فيما أخبرتكم به من الماضي عما سألتم من قصة أصحاب الكهف وخبر ذي القرنين مما هو مطابق في نفس الامر
لولا ما أطلعني الله عليه وإنما أخبركم " أنما إلهكم " الذي أدعوكم إلى عبادته " إله واحد " لا شريك له " فمن كان
يرجو لقاء ربه " أي ثوابه وجزاءه الصالح " فليعمل عملا صالحا " ما كان موافقا لشرع الله " ولا يشرك بعبادة
ربه أحدا " وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون خالصا لله
صوابا على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى ابن أبي حاتم من حديث معمر عن عبد الكريم الجزري عن طاوس
قال: قال رجل يا رسول الله إني أقف المواقف أريد وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيئا حتى نزلت هذه الآية " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " وهكذا
أرسل هذا مجاهد وغير واحد وقال الأعمش: حدثنا حمزة أبو عمارة مولى بني هاشم عن شهر بن حوشب
قال جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فقال أنبئني عما أسألك عنه: أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن
يحمد ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويحج ويبتغي وجه
الله ويحب أن يحمد فقال عبادة ليس له شي إن الله تعالى يقول: أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو
له كله لا حاجة لي فيه وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير حدثنا كثير بن زيد عن ربيح بن عبد
الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن جده قال كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنبيت عنده تكون له الحاجة أو
يطرقه أمر من الليل فيبعثنا فكثر المحبوسون وأهل النوب فكنا نتحدث فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما هذه
114

النجوى؟ " قال فقلنا تبنا إلى الله أي نبي الله إنما كنا في ذكر المسيح وفرقنا منه فقال " ألا أخبركم بما هو أخوف
عليكم من المسيح عندي "؟ قال قلنا بلى فال " الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل ". وقال
الإمام أحمد: حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد يعني ابن بهرام قال: قال شهر بن حوشب قال ابن غنم لما
دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج
يمشي بيننا ونحن نتناجى والله أعلم بما نتناجى به فقال عبادة بن الصامت: إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما
لتوشكان أن تريا الرجل من ثبج المسلمين يعني من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه وأحل
حلاله وحرم حرامه ونزله عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت. قال فبينما نحن كذلك إذ
طلع شداد بن أوس رضي الله عنه وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شداد إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من الشهوة الخفية والشرك " فقال عبادة بن الصامت وأبو الدرداء: اللهم غفرا ألم
يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب أما الشهوة الخفية فقد عرفناها
هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ فقال شداد: أرأيتكم لو رأيتم
رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك؟ قالوا نعم والله إن من صلى أو صام أو
تصدق له لقد أشرك فقال شداد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد
أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك " قال عوف بن مالك عند ذلك أفلا يعمد الله إلى ما ابتغي به وجهه من ذلك
العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به فقال شداد عند ذلك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله
يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي من أشرك بي شيئا فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني "
" طريق أخرى لبعضه " قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثني عبد الواحد بن زياد أخبرنا عبادة بن نسي
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى فقيل ما يبكيك؟ قال شئ سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني، سمعت
رسول الله يقول " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " قلت يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال " نعم
أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراءون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم
صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه " ورواه ابن ماجة من حديث الحسن بن ذكوان عن عبادة بن نسي
به وعبادة فيه ضعف وفي سماعه من شداد نظر. " حديث آخر " قال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن
علي بن جعفر الأحمر حدثنا علي بن ثابت حدثنا قيس بن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله يوم القيامة أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كله " وقال الإمام أحمد: حدثنا
محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت العلاء يحدث عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عز وجل أنه
قال " أنا خير الشركاء فمن عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا برئ منه وهو للذي أشرك " تفرد به من هذا الوجه.
" حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا يونس حدثنا الليث عن يزيد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال
" الرياء يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس - بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل
تجدون عندهم جزاء ". " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكير أخبرنا عبد الحميد يعني ابن
جعفر أخبرني أبي عن زياد بن ميناء عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة أنه قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله
أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " وأخرجه الترمذي وابن ماجة من حديث
محمد وهو البرساني به " حديت آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عبد الملك حدثنا بكار حدثني أبي -
يعني عبد العزيز بن أبي بكرة - عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمع سمع الله به ومن
115

راءى راءى الله به " وقال الإمام أحمد حدثنا معاوية حدثنا شيبان عن فراس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من يرائي يرائي الله به ومن يسمع يسمع الله به " " حديث آخر " قال الإمام أحمد: حدثنا
يحيى بن سعيد عن شعبة حدثني عمرو بن مرة قال سمعت رجلا في بيت أبي عبيدة أنه سمع عبد الله بن عمرو
يحدث ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من سمع الناس بعمله سمع الله به مسامع خلقه وصغره وحقره "
فذرفت عينا عبد الله وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا عمرو بن يحيي الأيلي حدثنا الحارث بن غسان حدثنا
أبو عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل
يوم القيامة في صحف مختمة فيقول الله ألقوا هذا واقبلوا هذا فتقول الملائكة يا رب والله ما رأينا منه إلا خيرا
فيقول إن عمله كان لغير وجهي ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي " ثم قال: الحارث بن غسان روى
عنه وهو ثقة بصري ليس به بأس وقال وهب: حدثني يزيد بن عياض عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله بن
قيس الخزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قام رياء وسمعة لم يزل في مقت الله حتى يجلس " وقال أبو يعلى:
حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا محمد بن دينار عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عوف بن مالك عن ابن
مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك
استهانة استهان بها ربه عز وجل " وقال ابن جرير: حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني حدثنا هشام بن
عمار حدثنا ابن عياش حدثنا عمرو بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان تلا هذه الآية " فمن كان يرجوا
لقاء ربه " الآية وقال إنها آخر آية نزلت من القرآن وهذا أثر مشكل فإن هذه الآية آخر سورة الكهف والكهف كلها
مكية ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها بل هي مثبتة محكمة فاشتبه ذلك على بعض
الرواة فروى بالمعنى على ما فهمه والله أعلم.. وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن
شقيق حدثنا النضر بن شميل حدثنا أبو قرة عن سعيد بن المسبب عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
قرأ في ليلة " فمن كان يرجوا لقاء ربه " كان له من النور من عدن أبين إلى مكة حشو ذلك النور الملائكة "
غريب جدا. آخر تفسير سورة الكهف.
سورة مريم:
وقد روى محمد بن إسحاق في السيرة من حديث أم سلمة وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى
أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه.
بسم الله الرحمن الرحيم
كهيعص (1) ذكر رحمت ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداءا خفيا (3) قال رب إني وهن العظم
مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا (4) وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب
لي من لدنك وليا (5) يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا (6)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة، وقوله " ذكر رحمت ربك " أي هذا ذكر رحمة
الله بعبده زكريا وقرأ يحيى بن يعمر " ذكر رحمت ربك عبده زكرياء " وزكريا يمد ويقصر قراءتان مشهورتان.
116

وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل وفي صحيح البخاري أنه كان نجارا يأكل من عمل يده في النجارة
وقوله " إذ نادى ربه ندا ء خفيا " قال بعض المفسرين إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة
لكبره. حكاه الماوردي وقال آخرون إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله كما قال قتادة في هذه الآية " إذ نادى ربه نداء
خفيا " إن الله يعلم القلب التقي ويسمع الصوت الخفي وقال بعض السلف قام من الليل عليه السلام وقد نام
أصحابه فجعل يهتف بربه يقول خفية يا رب يا رب يا رب فقال الله له: لبيك لبيك لبيك قال رب إني وهن
العظم مني أي ضعفت وخارت القوى " واشتعل الرأس شيبا " أي اضطرم المشيب في السواد كما قال ابن
دريد في مقصورته:
أما ترى رأسي حاكى لونه * طرة صبح تحت أذيال الدجا
واشتعل المبيض في مسوده * مثل اشتعال النار في جمر الغضا
والمراد من هذا الاخبار عن الضعف والكبر ودلائله الظاهرة والباطنة وقوله " ولم أكن بدعائك رب شقيا " أي
ولم أعهد منك إلا الإجابة في الدعاء ولم تردني قط فيما سألتك وقوله " وإني خفت الموالي من ورائي " قرأ
الأكثرون بنصب الياء من الموالي على أنه مفعول وعن الكسائي أنه سكن الياء كما قال الشاعر:
كأن أيد يهن في القاع القرق * أيدي جوار يتعاطين الورق
وقال الآخر:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها * أو القمر الساري لألقى المقالدا
ومنه قول أبي تمام حبيب بن أوس الطائي:
تغاير الشعر منه إذ سهرت له * حتى ظننت قوافيه ستقتتل
وقال مجاهد وقتادة والسدي: أراد بالموالي العصبية وقال أبو صالح الكلالة وروي عن أمير المؤمنين عثمان بن
عفان رضي الله عنه أنه كان يقرؤها " وإني خفت الموالي من ورائي " بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي
وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من
بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحى إليه فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله فإن النبي أعظم منزلة وأجل
قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا وحده وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه
دونهم هذا وجه. " الثاني " أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع مالا
ولا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شئ في الدنيا. " الثالث " أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " لا نورث ما تركنا صدقة " وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح " نحن معشر الأنبياء لا نورث "
وعلى هذا فتعين حمل قوله " فهب لي من لدنك وليا يرثني " على ميراث النبوة ولهذا قال " ويرث من آل
يعقوب " كقوله " وورث سليمان داود " أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ولما
كان في الاخبار بذلك كبير فائدة إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه فلولا أنها
وراثة خاصة لما أخبر بها وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو
صدقة " قال مجاهد في قوله " يرثني ويرث من آل يعقوب " كان وراثته علما وكان زكريا من ذرية يعقوب وقال
هشيم أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله " يرثني ويرث من آل يعقوب " قال يكون نبيا كما
كانت آباؤه أنبياء وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن يرث نبوته وعلمه وقال السدي يرث نبوتي
ونبوة آل يعقوب وعن مالك عن زيد بن أسلم " ويرث من آل يعقوب " قال نبوتهم وقال جابر بن نوح
117

ويزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله " يرثني ويرث من آل يعقوب " قال:
يرث ما بي من يرث من آل يعقوب النبوة وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " يرحم الله زكريا وما كان عليه من وراثة ماله ويرحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد ".
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب حدثنا جابر بن نوح عن مبارك هو ابن فضالة عن الحسن قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " رحم الله أخي زكريا ما كان عليه من وراثة ماله حين قال " هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل
يعقوب " وهذه مرسلات لا تعارض الصحاح والله أعلم، وقوله " واجعله رب رضيا " أي مرضيا عندك وعند
خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه.
يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا (7)
هذا الكلام يتضمن محذوفا وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى "
كما قال تعالى " هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة
وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين "
وقوله " لم نجعل له من قبل سميا ". قال قتادة وابن جريج وابن زيد: أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم واختاره
ابن جرير رحمه الله وقال مجاهد " لم نجعل له من قبل سميا " أي شبيها أخذه من معنى قوله " فاعبده واصطبر
لعبادته هل تعلم له سميا " أي شبيها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي لم تلد العواقر قبله مثله وهذا
دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له وكذلك امرأته كانت عاقرا من أول عمرها بخلاف إبراهيم وسارة
عليهما السلام فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما لا لعقرهما ولهذا قال " أبشرتموني على أن مسني
الكبر فبم تبشرون " مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة وقالت امرأته " يا ويلتي أألد وأنا عجوز
وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب * قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد
مجيد ".
قال رب أنى يكون لي غلم وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا (8) قال كذلك قال ربك هو علي
هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9)
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل وبشر بالولد ففرح فرحا شديدا وسأل عن كيفية ما يولد له
والوجه الذي يأتيه منه الولد مع أن امرأته كانت عاقرا لم تلد من أول عمرها مع كبرها ومع أنه قد كبر وعتا أي عسا
عظمه ونحل ولم يبق فيه لقاح ولا جماع والعرب تقول للعود إذا يبس عتيا يعتو عتيا وعتوا وعسا يعسو عسوا
وعسيا، وقال مجاهد: عتيا يعني قحول العظم وقال ابن عباس وغيره: عتيا يعني الكبر والظاهر أنه أخص من
الكبر وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا هشيم أخبرنا حصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لقد علمت السنة
كلها غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا؟ ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف
" وقد بلغت من الكبر عتيا " أو عسيا، ورواه الإمام أحمد عن شريح بن النعمان وأبو داود عن زياد بن أيوب
كلاهما عن هشيم به " قال " أي الملك مجيبا لزكريا عما استعجب منه " كذلك قال ربك هو علي هين "
أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها " هين " أي يسير سهل على الله ثم ذكر له ما هو أعجب
مما سأل عنه فقال " وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " كما قال تعالى " هل أتى على الانسان حين من الدهر
لم يكن شيئا مذكورا ".
118

قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا (10) فخرج على قومه من المحراب فأوحى
إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا (11)
يقول تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام أنه " قال رب اجعل لي آية " أي علامة ودليلا على وجود ما وعدتني
لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني كما قال إبراهيم عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أول لم
تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي " " قال آيتك " أي علامتك " أن لا تكلم الناس ثلاث ليال سويا " أي أن
تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح تكلم الناس ثلاث ليال سويا " أي أن
تحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال وأنت صحيح سوي من غير مرض ولا علة. قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة
ووهب والسدي وقتادة وغير واحد اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة قال ابن زيد بن أسلم كان يقرأ ويسبح ولا
يستطيع أن يكلم قومه إلا إشارة وقال العوفي عن ابن عباس " ثلاث ليال سويا " أي متتابعات والقول الأول عنه
وعن الجمهور أصح كما قال تعالى في آل عمران " قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار " وقال مالك عن زيد بن أسلم " ثلاث ليال سويا " من غير
خرس وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها " إلا رمزا " أي إشارة ولهذا قال
في هذه الآية الكريمة " فخرج على قومه من المحراب " أي الذي بشر فيه بالولد " فأوحى إليهم " أي أشار إشارة
خفية سريعة " أن سبحوا بكرة وعشيا " أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله
على ما أولاه. قال مجاهد " فأوحى إليهم " أي أشار وبه قال وهب وقتادة وقال مجاهد في رواية عنه " فأوحى
إليهم " أي كتب لهم في الأرض وكذا قال السدي.
يحيى خذ الكتب بقوة وآتيناه الحكم صبيا (12) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا (13) وبرا بوالديه ولم
يكن جبارا عصيا (14) وسلم عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا (15)
وهذا أيضا تضمن محذوفا تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام وأن الله علمه الكتاب وهو
التوراة التي كانوا يتدارسونها بينهم ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار، وقد كان سنه
إذ ذاك صغيرا فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال " يا يحيى خذ الكتاب بقوة " أي تعلم الكتاب
بقوة أي بجد وحرص واجتهاد " وآتيناه الحكم صبيا " أي الفهم والعلم والجد والعزم والاقبال على الخير
والإكباب عليه والاجتهاد فيه وهو صغير حدث قال عبد الله بن المبارك قال معمر قال الصبيان ليحيى بن زكريا
اذهب بنا نلعب فقال ما للعب خلقنا قال فلهذا أنزل الله " وآتيناه الحكم صبيا " وقوله " وحنانا من لدنا " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " وحنانا من لدنا " يقول ورحمة من عندنا وكذا قال عكرمة وقتادة والضحاك
وزاد لا يقدر عليها غيرنا وزاد قتادة رحم الله بها زكريا وقال مجاهد " وحنانا من لدنا " وتعطفا من ربه عليه وقال
عكرمة " وحنانا من لدنا " قال محبة عليه وقال ابن زيد أما الحنان فالمحبة وقال عطاء بن أبي رباح " وحنانا من
لدنا " قال تعظيما من لدنا وقال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة عن ابن عباس أنه قال: لا
والله ما أدري ما حنانا وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير: عن منصور سألت سعيد بن جبير عن قوله
" وحنانا من لدنا " فقال سألت عنها ابن عباس فلم يجد فيها شيئا والظاهر من السياق أن قوله وحنانا معطوف على
قوله " وآتيناه الحكم صبيا " أي وآتيناه الحكم وحنانا وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة فالحنان هو المحبة في
شفقة وميل كما تقول العرب حنت الناقة على ولدها وحنت المرأة على زوجها ومنه سميت المرأة حنة من الحنية
وحن الرجل إلى وطنه ومنه التعطف والرحمة كما قال الشاعر:
119

تعطف علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا
وفي المسند للإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه قال " يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة يا
حنان يا منان " وقد يثني ومنهم من يجعل ما ورد من ذلك لغة بذاتها كما قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقوله وزكاة معطوف على وحنانا فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب وقال قتادة الزكاة العمل الصالح
وقال الضحاك وابن جريج العمل الصالح الزكي وقال العوفي عن ابن عباس " وزكاة " قال بركة " وكان تقيا "
طهر فلم يعمل بذنب، وقوله " وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا " لما ذكر تعالى طاعته لربه وأنه خلقه ذا رحمة
وزكاة وتقى عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ومجانبته عقوقهما قولا وفعلا أمرا ونهيا ولهذا قال " ولم يكن جبارا
عصيا " ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم
يبعث حيا " أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال وقال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن
يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر
عظيم قال فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه " وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا "
رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة
في قوله " جبارا عصيا " قال كان ابن المسيب يذكر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أحد يلقى الله يوم القيامة إلا
ذا ذنب إلا يحيى بن زكريا " قال قتادة: ما أذنب ولا هم بامرأة مرسل وقال محمد بن إسحاق عن يحيى بن سعيد
عن سعيد بن المسيب حدثني ابن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان
من يحيى بن زكريا " ابن إسحاق مدلس وقد عنعن هذا الحديث فالله أعلم وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان
حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من أحد من ولد
آدم إلا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا وما ينبغي لاحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وهذا أيضا
ضعيف لان علي بن زيد بن جدعان له منكرات كثيرة والله أعلم وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن الحسن
قال: إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني فقال له الآخر أنت خير مني
فقال له عيسى أنت خير مني سلمت على نفسي وسلم الله عليك فعرف والله فضلهما.
واذكر في الكتب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا (16) فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا
فتمثل لها بشرا سويا (17) قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا (18) قال إنما أنا رسول ربك لأهب
لك غلما زكيا (19) قالت أنى يكون لي غلم ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا (20) قال كذلك قال ربك هو علي هين
ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا (21)
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولدا زكيا طاهرا مباركا عطف بذكر
قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ولهذا ذكرهما في
آل عمران وههنا وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى ليدل عباده على قدرته وعظمة
سلطانه وأنه على ما يشاء قادر فقال " واذكر في الكتاب مريم " وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام
وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران وأنها نذرتها
120

محررة أي تخدم مسجد بيت المقدس وكانوا يتقربون بذلك " فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا " ونشأت
في بني إسرائيل نشأة عظيمة فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب
وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ورأى لها زكريا
من الكرامات الهائلة ما بهره " كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت
هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف
في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة أن يوجد منها عبده
ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " أي اعتزلتهم
وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس قال السدي لحيض أصابها وقيل لغير ذلك قال أبو كدينة عن
قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه وما
صرفهم عنه إلا قول ربك " فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا " قال خرجت مريم مكانا شرقيا فصلوا قبل مطلع
الشمس رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن جرير أيضا: حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا خالد بن عبد الله
عن داود عن عامر عن ابن عباس قال: إني لاعلم خلق الله لأي شئ اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله
تعالى " فانتبذت من أهلها مكانا شرقيا " واتخذوا ميلاد عيسى قبلة وقال قتادة " مكانا شرقيا " شاسعا متنحيا
وقال محمد بن إسحاق ذهبت بقلتها لتستقي الماء وقال نوف البكالي اتخذت لها منزلا تتعبد فيه فالله أعلم وقوله
" فاتخذت من دونهم حجابا " أي استترت منهم وتوارت فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام " فتمثل لها
بشرا سويا " أي على صورة إنسان تام كامل قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في
قوله " فأرسلنا إليها روحنا " يعني جبرائيل عليه السلام وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن فإنه تعالى قد قال في
الآية الأخرى " نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس
عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في
زمان آدم عليه السلام وهو الذي تمثل لها بشرا سويا أي روح عيسى فحملت الذي خاطبها وحل في فيها وهذا
في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي " قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " أي لما تبدى لها الملك في
صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها فقالت " إني أعوذ
بالرحمن منك إن كنت تقيا " أي إن كنت تخاف الله تذكيرا له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل
فالأسهل فخوفته أولا بالله عز وجل قال ابن جرير: حدثني أبو كريب حدثنا أبو بكر عن عاصم قال قال أبو وائل
وذكر قصة مريم فقال قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت " إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا
رسول ربك " أي فقال لها الملك مجيبا لها ومزيلا لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين
ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقا وعاد إلى هيئته وقال
" إنما أنا رسول ربك ليهب لك غلاما زكيا " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء وقرأ الآخرون
" لأهب لك غلاما زكيا " وكلا القراءتين له وجه حسن ومعنى صحيح وكل تستلزم الأخرى " قالت أنى يكون لي
غلام " أي فتعجبت مريم من هذا وقالت كيف يكون لي غلام أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست
بذات زوج ولا يتصور منى الفجور ولهذا قالت " ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " والبغي هي الزانية ولهذا جاء
في الحديث النهي عن مهر البغي " قال كذلك قال ربك هو على هين " أي فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت
إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاما وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة فإنه على ما يشاء قادر ولهذا قال
" ولنجعله آية للناس " أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم فخلق أباهم آدم
من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى فإنه أوجده من أنثى
121

بلا ذكر فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه وقوله " ورحمة
منا " أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله نبيا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده كما قال تعالى في
الآية الأخرى " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا
والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم حدثنا مروان حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن
مجاهد قال: قالت مريم عليها السلام كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس
سبح في بطني وكبر وقوله " وكان أمرا مقضيا " يحتمل أن هذا من كلام جبريل لمريم يخبرها أن هذا أمر مقدر
في علم الله تعالى وقدره ومشيئته ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن
النفخ في فرجها كما قال تعالى " ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا " وقال " والتي
أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا " قال محمد بن إسحاق " وكان أمرا مقضيا " أي إن الله قد عزم على هذا
فليس منه بد واختار هذا أيضا ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره والله أعلم.
فحملته فانتبذت به مكانا قصيا (22) فأجائها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت
نسيا منسيا (23)
يقول تعالى مخبرا عن مريم أنها لما قال لها جبريل عن الله تعالى ما قال إنها استسلمت لقضاء الله تعالى فذكر غير
واحد من علماء السلف أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها فنزلت النفخة
حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد بإذن الله تعالى فلما حملت به ضاقت ذرعا ولم تدر ماذا تقول للناس فإنها تعلم أن
الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا وذلك أن زكريا عليه
السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك فحملت امرأته فدخلت عليها مريم فقامت إليها فاعتنقتها وقالت
أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم وهل علمت أيضا أني حبلى وذكرت لها شأنها وما كان من خبرها
وكانوا بيت إيمان وتصديق ثم كانت امرأة زكريا بعد ذلك إذا واجهت مريم تجد الذي في
بطنها يسجد للذي في بطن مريم أي يعظمه ويخضع له فإن السجود كان في ملتهم عند السلام مشروعا كما سجد ليوسف أبواه وإخوته
وكما أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم عليه السلام ولكن حرم في ملتنا هذه تكميلا لتعظيم جلال الرب تعالى
قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين قال قرئ على الحارث بن مسكين وأنا أسمع أخبرنا عبد الرحمن بن
القاسم قال: قال مالك رحمه الله بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة وكان حملهما
جميعا معا فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك قال مالك أرى ذلك
لتفضيل عيسى عليه السلام لان الله جعله يحي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ثم اختلف المفسرون في مدة
حمل عيسى عليه السلام فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر وقال عكرمة ثمانية أشهر قال ولهذا لا
يعيش ولد الثمانية أشهر وقال ابن جريج أخبرني المغيرة بن عتبة بن عبد الله الثقفي سمع ابن عباس وسئل عن
حمل مريم قال لم يكن إلا أن حملت فوضعت وهذا غريب وكأنه مأخوذ من ظاهر قوله تعالى " فحملته فانتبذت به
مكانا قصيا، فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة " فالفاء وإن كانت للتعقيب لكن تعقيب كل شئ بحسبه كقوله
تعالى " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة
مضغة فخلقنا المضغة عظاما " فهذه الفاء للتعقيب بحسبها وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل صفتين أربعين
يوما وقال تعالى " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة " فالمشهور الظاهر والله على كل
شئ قدير أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها وكان معها في المسجد
122

رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس يقال له يوسف النجار فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من
أمرها ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمر ها يجوس في فكره لا
يستطيع صرفه عن نفسه فحمل نفسه على أن عرض لها في القول فقال يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي
علي. قالت وما هو؟ قال هل يكون قط شجر من غير حب وهل يكون زرع من غير بذر وهل يكون ولد من غير
أب. فقالت نعم وفهمت ما أشار إليه. أما قولك هل يكون شجر من غير حب وزرع من غير بذر فإن الله قد خلق
الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر وهل يكون ولد من غير أب فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير
أب ولا أم فصدقها وسلم لها حالها ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة انتبذت منهم مكانا قصيا أي
قاصيا منهم بعيدا عنهم لئلا تراهم ولا يروها قال محمد بن إسحاق: فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت
استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم وتغير اللون حتى فطر لسانها فما
دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل فقالوا إنما صاحبها يوسف ولم يكن
معها في الكنيسة غيره وتوارت من الناس واتخذت من دونهم حجابا فلا يراها أحد ولا تراه وقوله " فأجاءها
المخاض إلى جذع النخلة " أي فاضطرها وألجأها الطلق إلى جذع نخلة في المكان الذي تنحت إليه وقد اختلفوا
فيه فقال السدي كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس وقال وهب بن منبه ذهبت هاربة فلما
كانت بين الشام وبلاد مصر ضربها الطلق وفي رواية عن وهب كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس في
قرية هناك يقال لها بيت لحم قلت وقد تقدم في أحاديث الاسراء من رواية النسائي عن أنس رضي عنه والبيهقي
عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن ذلك ببيت لحم فالله أعلم، وهذا هو المشهور الذي تلقاه الناس بعضهم عن
بعض ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم وقد تلقاه الناس وقد ورد به الحديث إن صح وقوله تعالى إخبارا عنها
" قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا " فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة فإنها عرفت أنها
ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها وبعد ما كانت
عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية فقالت " يا ليتني مت قبل هذا " أي قبل هذا الحال
" وكنت نسيا منسيا " أي لم أخلق ولم أك شيئا قاله ابن عباس وقال السدي قالت وهي تطلق من الحبل
استحياء من الناس يا ليتني مت قبل هذا الكرب الذي أنا فيه والحزن بولادتي المولود من غير بعل " وكنت نسيا
منسيا " نسي فترك طلبه كخرق الحيض إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر وكذلك كل شئ نسي وترك فهو
نسي وقال قتادة " وكنت نسيا منسيا " أي شيئا لا يعرف ولا يذكر ولا يدري من أنا وقال الربيع بن أنس
" وكنت نسيا منسيا " هو السقط، وقال ابن زيد لم أكن شيئا قط وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن
تمني الموت إلا عند الفتنة عند قوله " توفني مسلما وألحقني بالصالحين ".
فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا (24) وهزي إليك بجذع النخلة تسقط عليك رطبا جنيا
(25) فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا (26)
قرأ بعضهم من تحتها بمعنى الذي تحتها وقرأ الآخرون من تحتها على أنه حرف جر واختلف المفسرون في
المراد بذلك من هو؟ فقال العوفي وغيره عن ابن عباس " فناداها من تحتها " جبريل ولم يتكلم عيسى حتى أتت
به قومها وكذا قال سعيد بن جبير والضحاك وعمرو بن ميمون والسدي وقتادة إنه الملك جبرائيل عليه الصلاة
والسلام أي ناداها من أسفل الوادي وقال مجاهد " فناداها من تحتها " قال عيسى ابن مريم وكذا قال عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال الحسن هو ابنها وهو إحدى الروايتين عن سعيد بن جبير أنه ابنها قال أو لم
123

تسمع الله يقول " فأشارت إليه " واختاره ابن زيد وابن جرير في تفسيره وقوله: " أن لا تحزني " أي ناداها
قائلا لا تحزني " قد جعل ربك تحتك سريا " قال سفيان الثوري وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب
" قد جعل ربك تحتك سريا " قال الجدول وشعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب
" قد جعل ربك تحتك سريا " قال الجدول وكذا قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: السري النهر وبه قال
عمرو بن ميمون نهر تشرب منه وقال مجاهد هو النهر بالسريانية وقال سعيد بن جبير السري النهر الصغير
بالنبطية وقال الضحاك هو النهر الصغير بالسريانية وقال إبراهيم النخعي هو النهر الصغير وقال قتادة هو الجدول بلغة
أهل الحجاز وقال وهب بن منبه: السري هو ربع الماء وقال السدي هو النهر واختار هذا القول ابن جرير وقد
ورد في ذلك حديث مرفوع فقال الطبراني حدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي حدثنا أيوب بن
نهيك سمعت عكرمة مولى ابن عباس سمعت ابن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن السري الذي قال
الله لمريم " قد جعل ربك تحتك سريا " نهر أخرجه الله لتشرب منه " وهذا حديث غريب جدا من هذا الوجه
وأيوب بن نهيك هذا هو الحبلي قال فيه أبو حاتم الرازي ضعيف وقال أبو زرعة منكر الحديث وقال أبو الفتح
الأزدي متروك الحديث وقال آخرون المراد بالسري عيسى عليه السلام وبه قال الحسن والربيع بن أنس
ومحمد بن عباد بن جعفر وهو إحدى الروايتين عن قتادة وقول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والقول الأول أظهر
ولهذا قال بعده " وهزي إليك بجذع النخلة " أي وخذي إليك بجذع النخلة قيل كانت يابسة قاله ابن عباس
وقيل مثمرة قال مجاهد كانت عجوة وقال الثوري عن أبي داود نفيع الأعمى كانت صرفانة والظاهر أنها كانت
شجرة ولكن لم تكن في إبان ثمرها قاله وهب بن منبه ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاما وشرابا فقال
" تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا " أي طيبي نفسا ولهذا قال عمرو بن مون: ما من شئ
خير للنفساء من التمر والرطب ثم تلا هذه الآية الكريمة وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا شيبان
حدثنا مسرور بن سعيد التميمي حدثنا عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن عروة بن رويم عن علي بن أبي طالب
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم عليه السلام وليس من
الشجر شئ يلقح غيرها " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أطعموا نساءكم الولد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر وليس من
الشجر شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران " هذا حديث منكر جدا ورواه أبو يعلى عن
شيبان به وقرأ بعضهم " تساقط " بتشديد السين وآخرون بتخفيفها وقرأ أبو نهيك " تسقط عليك رطبا جنيا "
وروى أبو إسحاق عن البراء أنه قرأها " يساقط " أي الجذع والكل متقارب.
وقوله: " فإما ترين من البشر أحدا " أي مهما رأيت من أحد " فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم
إنسيا " المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك لا أن المراد به القول اللفظي لئلا ينافي " فلن أكلم اليوم إنسيا "
قال أنس بن مالك في قوله " إني نذرت للرحمن صوما " قال صمتا وكذا قال ابن عباس والضحاك وفي رواية
عن أنس: صوما وصمتا وكذا قال قتادة وغيرهما والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام
والكلام نص على ذلك السدي وقتادة وعبد الرحمن بن زيد. قال ابن إسحاق عن حارثة قال: كنت عند ابن
مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر فقال ما شأنك؟ قال أصحابه حلف أن لا يكلم الناس اليوم
فقال عبد الله بن مسعود كلم الناس وسلم عليهم فإن تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير
زوج يعني بذلك مريم عليها السلام ليكون عذرا لها إذا سئلت ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله وقال
عبد الرحمن بن زيد لما قال عيسى لمريم " لا تحزني " قالت وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة
أي شئ عذري عند الناس؟ يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا قال لها عيسى أنا أكفيك الكلام " فإما ترين
من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " قال هذا كله من كلام عيسى لامه وكذا قال
وهب.
124

فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك
بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتب وجعلني
نبيا (30) وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا (31) وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا
شقيا (32) والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا (33)
يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك وأن لا تكلم أحدا من البشر فإنها ستكفي أمرها ويقام
بحجتها فسلمت لأمر الله عز وجل واستسلمت لقضائه فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله فلما رأوها كذلك
أعظموا أمرها واستنكروه جدا و " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أي أمرا عظيما قاله مجاهد وقتادة والسدي
وغير واحد وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد حدثنا شيبان حدثنا جعفر بن سليمان حدثنا أبو
عمران الجوني عن نوف البكالي قال: وخرج قومها في طلبها قال وكانت من أهل بيت نبوة وشرف فلم يحسوا منها
شيئا فلقوا راعي بقر فقالوا رأيت فتاة كذا وكذا نعتها قال لا ولكني رأيت الليلة من بقري ما لم أره منها قط قالوا وما
رأيت قال رأيتها الليلة تسجد نحو هذا الوادي قال عبد الله بن أبي زياد وأحفظ عن شيبان أنه قال رأيت نورا
ساطعا فتوجهوا حيث قال لهم فاستقبلتهم مريم فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها في حجرها فجاءوا حتى قاموا عليها
" وقالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا " أمرا عظيما " يا أخت هارون " أي شبيهة هارون في العبادة " ما كان أبوك
امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة فكيف صدر هذا
منك. قال علي بن أبي طلحة والسدي قيل لها " يا أخت هارون " أي أخي موسى وكانت من نسله كما يقال
للتميمي يا أخا تميم وللمصري يا أخا مضر وقيل نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون. فكانت تقاس به
في الزهادة والعبادة وحكى ابن جرير عن بعضهم أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم يقال له هارون ورواه ابن
أبي حاتم عن سعيد بن جبير وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين الهجستاني حدثنا
ابن أبي مريم حدثنا المفضل يعني ابن أبي فضالة حدثنا أبو صخر عن القرظي في قول الله عز وجل " يا أخت
هارون " قال هي أخت هارون لأبيه وأمه وهي أخت موسى أخي هارون التي قصت أثر موسى " فبصرت به عن
جنب وهم لا يشعرون " وهذا القول خطأ محض فإن الله تعالى قد ذكر في كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل فدل
على أنه آخر الأنبياء بعثا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليهما ولهذا ثبت في صحيح البخاري عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي " ولو كان
الامر كما زعم محمد بن كعب القرظي لم يكن متأخرا عن الرسل سوى محمد ولكان قبل سليمان وداود فإن الله
قد ذكر أن داود بعد موسى عليهما السلام وفي قوله تعالى: " ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ
قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله " وذكر القصة إلى أن قال " وقتل داود جالوت " الآية والذي
جرأ القرظي على هذه المقالة ما في التوراة بعد خروج موسى وبني إسرائيل من البحر وإغراق فرعون وقومه قال
وقامت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين تضرب بالدف هي والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما
أنعم به على بني إسرائيل فاعتقد القرظي أن هذه هي أم عيسى وهذه هفوة وغلطة شديدة بل هي باسم هذه وقد
كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم كما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن إدريس سمعت أبي يذكره عن
سماك عن علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا أرأيت ما تقرؤون
" يا أخت هارون " وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا
أخبرتهم أنهم كانوا يسمو ن بالأنبياء والصالحين قبلهم " انفرد بإخراجه مسلم والترمذي والنسائي من حديث
125

عبد الله بن إدريس عن أبيه عن سماك به وقال الترمذي حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن
إدريس وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن سعيد بن أبي صدقة عن محمد بن سيرين قال أنبئت
أن كعبا قال إن قوله: " يا أخت هارون " ليس بهارون أخي موسى قال فقالت له عائشة كذبت قال يا أم
المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة قال فسكتت وفي هذا التاريخ
نظر.
وقال ابن جرير أيضا: حدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قوله: " يا أخت هارون " الآية قال كانت من
أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به وآخرون يعرفون
بالفساد ويتوالدون به وكان هارون مصلحا محببا في عشيرته وليس بهارون أخي موسى ولكنه هارون آخر قال وذكر
لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل وقوله " فأشارت إليه قالوا كيف
نكلم من كان في المهد صبيا " أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها وقالوا لها ما قالوا معرضين
بقذفها ورميها بالفرية وقد كانت يومها ذلك صائمة صامتة فأحالت الكلام عليه وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه
فقالوا متهكمين بها ظانين أنها تزدري بهم وتلعب بهم " كيف نكلم من كان في المهد صبيا " قال ميمون بن
مهران " فأشارت إليه " قالت كلموه فقالوا على ما جاءت به من الداهية تأمرنا أن نكلم كان في المهد صبيا
وقال السدي لما " أشارت إليه " غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها " قالوا
كيف نكلم من كان في المهد صبيا " أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره كيف يتكلم؟ " قال إني
عبد الله " أول شئ تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد وأثبت لنفسه العبودية لربه وقوله: " آتاني
الكتاب وجعلني نبيا " تبرئة لامه مما نسبت إليه من الفاحشة قال نوف البكالي لما قالوا لامه ما قالوا كان يرتضع
ثديها فنزع الثدي من فمه واتكأ على جنبه الأيسر وقال " إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا - إلى قوله - ما
دمت حيا " وقال حماد بن سلمة عن ثابت البناني رفع أصبعه السبابة فوق منكبه وهو يقول: " إني عبد الله آتاني
الكتاب وجعلني نبيا " الآية وقال عكرمة " آتاني الكتاب " أي قضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد المصفى حدثنا يحيى بن سعيد هو العطار عن عبدا لعزيز بن زياد عن أنس بن
مالك رضي الله عنه قال: كان عيسى ابن مريم قد درس التوراة وأحكمها وهو في بطن أمه فذلك قوله: " إني
عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا " يحيى بن سعيد العطار الحمصي متروك وقوله " وجعلني مباركا أينما كنت
" قال مجاهد وعمرو بن قيس والثوري وجعلني معلما للخير وفي رواية عن مجاهد نفاعا وقال ابن جرير: حدثني
سليمان بن عبد الجبار حدثنا محمد بن يزيد بن خنيس المخزومي سمعت وهيب بن الورد مولى بني مخزوم قال
لقي عالم عالما هو فوقه في العلم فقال له: يرحمك الله ما الذي أعلن من عملي؟ قال الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه إلى عباده وقد أجمع الفقهاء على قول الله " وجعلني مباركا أينما
كنت " وقيل ما بركته؟ قال الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما كان وقوله " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت
حيا " كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم " وأعبد ربك حتى يأتيك اليقين " وقال عبد الرحمن بن القاسم عن مالك بن
أنس في قوله " وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا " قال أخبره بما هو كائن من أمره إلى أن يموت ما أثبتها
لأهل القدر. وقوله " وبرا بوالدتي " أي وأمرني ببر والدتي ذكره بعد طاعة ربه لان الله تعالى كثيرا ما يقرن بين
الامر بعبادته وطاعة الوالدين كما قال تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقال " أن اشكر
لي ولوالديك إلي المصير " وقوله " ولم يجعلني جبارا شقيا " أي ولم يجعلني جبارا مستكبرا عن عبادته
وطاعته وبر والدتي فأشقى بذلك: قال سفيان الثوري: الجبار الشقي الذي يقتل على الغضب وقال بعض
السلف لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا ثم قرأ " وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا " قال ولا
126

تجد سئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا ثم قرأ " وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا "
وقال قتادة ذكر لنا أن امرأة رأت ابن مريم يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات سلطه الله عليهن وأذن له
فيهن فقالت طوبى للبطن الذي حملك وطوبى للثدي الذي أرضعت به فقال نبي الله عيسى عليه السلام يجيبها
طوبى لمن تلا كتاب الله فاتبع ما فيه ولم يكن جبارا شقيا وقوله " والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث
حيا " إثبات منه لعبوديته لله عز وجل وأنه مخلوق من خلق الله يحيى ويمات ويبعث كسائر الخلائق ولكن له
السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد صلوات الله وسلامه عليه.
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون (34) ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول
له كن فيكون (35) وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم (36) فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين
كفروا من مشهد يوم عظيم (37)
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام " قول الحق
الذي فيه يمترون " أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ولهذا قرأ الأكثرون قول الحق برفع قول
وقرأ عاصم وعبد الله بن عامر قول الحق وعن ابن مسعود أنه قرأ ذلك عيسى ابن مريم قال الحق والرفع أظهر
إعرابا ويشهد له قوله تعالى: " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبدا نبيا نزه
نفسه المقدسة فقال: " ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه " أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون
علوا كبيرا " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " أي إذا أراد شيئا فإنما يأمر به فيصير كما يشاء كما قال " إن
مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين " وقوله
" وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهد ه أن أخبرهم إذ ذاك
أن الله ربه وربهم وأمرهم بعبادته فقال " فاعبدوه هذا صراط مستقيم " أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط
مستقيم أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى. وقوله: " فاختلف الأحزاب من بينهم " أي
اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله وأنه عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح
منه فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله على أنه ولد زنية، وقالوا كلامه هذا سحر، وقالت
طائفة أخرى إنما تكلم الله وقال آخرون بل هو ابن الله وقال آخرون ثالث ثلاثة وقال آخرون بل هو عبد الله
ورسوله وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين وقد روي نحو هذا عن عمرو بن ميمون وابن جريج
وقتادة وغير واحد من السلف والخلف. قال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله " ذلك عيسى ابن مريم
قول الحق الذي فيه يمترون " قال اجتمع بنو إسرائيل فأخرجوا منهم أربعة نفر أخرج كل قوم عالمهم فامتروا في
عيسى حين رفع فقال بعضهم هو الله هبط إلى الأرض فأحيا من أحيا وأمات من أمات ثم صعد إلى السماء وهم
اليعقوبية فقال الثلاثة كذبت ثم قال اثنان منهم للثالث قل أنت فيه قال هو ابن الله وهم النسطورية فقال الاثنان
كذبت ثم قال أحد الاثنين للآخر قل فيه فقال هو ثالث ثلاثة الله إله وهو إله وأمه إله وهم الإسرائيلية ملوك
النصارى عليهم لعائن الله قال الرابع كذبت بل هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته وهم المسلمون. فكان لكل
رجل منهم أتباع على ما قالوا فاقتتلوا وظهر على المسلمين، وذلك قول الله تعالى " ويقتلون الذين يأمرون
بالقسط من الناس " قال قتادة وهم الذين قال الله " فاختلف الأحزاب من بينهم " قال اختلفوا فيه فصاروا
أحزابا، وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك، وقد ذكر
غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن قسطنطين جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة
127

المشهورة عندهم فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين ومائة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام
اختلافا متباينا جدا فقالت كل شرذمة فيه قولا فمائة تقول فيه شيئا
وسبعون تقول فيه قولا آخر وخمسون تقول شيئا آخر ومائة وستون تقول شيئا ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال
إليهم الملك وكان فيلسوفا فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة
ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعا كثيرة وحرفوا دين المسيح وغيروه فابتنى لهم حينئذ
الكنائس الكبار في مملكته كلها بلاد الشام والجزيرة والروم فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف
كنيسة وبنت أمه هيلانة قمامة على المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي يزعم اليهود أنه المسيح وقد كذبوا بل
رفعه الله إلى السماء وقوله " فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله
وافترى وزعم أن له ولدا ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة وأجلهم حلما وثقة بقدرته عليهم فإنه الذي لا يعل
على من عصاه كما جاء في الصحيحين " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
" وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " وفي الصحيحين أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
قال " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " وقد قال الله تعالى
" وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير " وقال تعالى " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل
الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار " ولهذا قال ههنا " فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم " أي
يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله
وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ".
أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلل مبين (38) وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر
وهم في غفلة وهم لا يؤمنون (39) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون (40)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار يوم القيمة أنهم يكونون أسمع شئ وأبصره كما قال تعالى " ولو ترى إذ المجرمون
ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " الآية أي يقولون ذلك حين لا ينفعهم ولا يجدي عنهم شيئا ولو كان
هذا قبل معاينة العذاب لكان نافعا لهم ومنقذا من عذاب الله ولهذا قال " أسمع بهم وأبصر " أي ما أسمعهم
وأبصرهم " يوم يأتوننا " يعني يوم القيامة " لكن الظالمون اليوم " أي في الدنيا " في ضلال مبين " أي لا
يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ثم
قال تعالى " وأنذرهم يوم الحسرة " أي أنذر الخلائق يوم الحسرة " إذ قضي الامر " أي فصل بين أهل الجنة
وأهل النار وصار كل إلى ما صار إليه مخلدا فيه " وهم " أي اليوم " في غفلة " عما أنذروا به يوم الحسرة
والندامة " وهم لا يؤمنون " أي لا يصدقون به. قال الإمام أحمد: أنذروا به يوم الحسرة والندامة
" وهم لا يؤمنون " أي لا يصدقون به قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبي
صالح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار يجاء بالموت كأنه كبش
أملح فيوقف بين الجنة والنار فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا
الموت - قال - فيقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال فيشرئبون وينظرون ويقولون نعم هذا الموت - قال - فيؤمر به
فيذبح قال ويقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت " ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " وأنذرهم يوم
الحسرة إذ قضي الامر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون " وأشار بيده ثم قال " أهل الدنيا في غفلة الدنيا " هكذا رواه
الإمام أحمد وقد خرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث الأعمش به ولفظهما قريب من ذلك وقد
روى هذا الحديث الحسن بن عرفة حدثني أسباط بن محمد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا
128

مثله وفي سنن ابن ماجة وغيره من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة نحوه وهو في الصحيحين عن
ابن عمر ورواه ابن جريج قال: قال ابن عباس فذكر من قبله نحوه ورواه أيضا عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير
يقول في قصصه يؤتى بالموت كأنه دابة فيذبح والناس ينظرون وقال سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا أبو
الزعراء عن عبد الله هو ابن مسعود في قصة ذكرها قال فليس نفس إلا وهي تنظر إلى بيت في الجنة وبيت في النار
وهو يوم الحسرة فيرى أهل النار البيت الذي في الجنة ويقال لهم لو علمتهم فتأخذهم الحسرة قال: ويرى أهل
الجنة البيت الذي في النار فيقال لهم لولا أن الله من عليكم وقال السدي عن زياد عن زر بن حبيش عن ابن
مسعود في قوله " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر " قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار أتي
بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ثم ينادي مناد يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت
الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في أهل عليين ولا في أسفل درجة في الجنة إلا نظر إليه ثم ينادي مناد يا أهل النار
هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درك من جهنم إلا
نظر إليه ثم يذبح بين الجنة والنار ثم ينادى يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين ويا أهل النار هو الخلود أبد
الآبدين فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتا من فرح ماتوا ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتا من شهقة
ماتوا فذلك قوله تعالى " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر " يقول إذا ذبح الموت رواه ابن أبي حاتم في
تفسيره وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " وأنذرهم يوم الحسرة " من أسماء يوم القيامة عظمه الله
وحذره عباده وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وأنذرهم يوم الحسرة " قال يوم القيامة وقرأ " أن
تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله " وقوله: " إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون "
يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ولا أحد يدعي ملكا
ولا تصرفا بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم الحاكم فيهم فلا تظلم نفس شيئا ولا جناح بعوضة ولا مثقال
ذرة قال ابن أبي حاتم ذكر هدبة بن خالد القيسي حدثنا حزم بن أبي حزم القطعي قال: كتب عمر بن عبد العزيز
إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن صاحب الكوفة: أما بعد فإن الله كتب على خلقه حين خلقهم الموت فجعل
مصيرهم إليه وقال فيما أنزل في كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه وأشهد ملائكته على حفظه أنه يرث الأرض ومن
عليها وإليه يرجعون.
واذكر في الكتب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يأبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني
عنك شيئا (42) يأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يأبت لا تعبد الشيطان
إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يأبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " واذكر في الكتاب إبراهيم " واتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام واذكر
لهم ما كان من خبر إبراهيم خليل الرحمن الذين هم من ذريته ويدعون أنهم على ملته وقد كان صديقا نبيا مع أبيه
كيف نهاه عن عبادة الأصنام فقال " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا " أي لا ينفعك ولا
يدفع عنك ضررا " يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك " يقول وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك
لاني ولدك فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ولا اطلعت عليه ولا جاءك بعد " فاتبعني
أهدك صراطا سويا " أي طريقا مستقيما موصلا إلى نيل المطلوب والنجاة من المرهوب " يا أبت لا تعبد
الشيطان " أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام إنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى " ألم أعهد
إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين " وقال " إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا
129

شيطانا مريدا " وقوله " إن الشيطان كان للرحمن عصيا " أي مخالفا مستكبرا عن طاعة ربه فطرده وأبعده فلا
تتبعه تصر مثله " يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن " أي على شركك وعصيانك لما آمرك به
" فتكون للشيطان وليا " يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصرا ولا مغيثا إلا إبليس وليس إليه ولا إلى غيره من الامر
شئ بل اتباعك له موجب لاحاطة العذاب بك كما قال تعالى " تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم
الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم ".
قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلم عليك سأستغفر لك ربي إنه
كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48)
يقول تعالى مخبرا عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه أنه قال " أراغب أنت عن آلهتي يا
إبراهيم " إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها فانته عن سبها وشتمها وعيبها فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك
وسببتك وهو قوله " لأرجمنك " قاله ابن عباس والسدي وابن جريج والضحاك وغيرهم وقوله
" واهجرني مليا " قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق يعني دهرا وقال الحسن البصري زمانا
طويلا وقال السدي " واهجرني مليا " قال أبدا. وقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس " واهجرني
مليا " قال سويا سالما قبل أن تصيبك مني عقوبة وكذا قال الضحاك وقتادة وعطية الجدلي ومالك وغيرهم واختاره
ابن جرير فعندها قال إبراهيم لأبيه " سلام عليك " كما قال تعالى في صفة المؤمنين " وإذا خاطبهم الجاهلون
قالوا سلاما " وقال تعالى " وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي
الجاهلين " ومعنى قول إبراهيم لأبيه " سلام عليك " يعني أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة
الأبوة " سأستغفر لك ربي " ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك " إنه كان بي حفيا " قال ابن عباس
وغيره لطيفا أي في أن هداني لعبادته والاخلاص له وقال قتادة ومجاهد وغيرهما إنه كان بي حفيا قال عوده
الإجابة. وقال السدي الحفي الذي يهتم بأمره وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة وبعد أن هاجر إلى الشام
وبنى المسجد الحرام وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله " ربنا اغفر لي ولوالدي
وللمؤمنين يوم يقوم الحساب " وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الاسلام وذلك
اقتداء بإبراهيم الخليل في ذلك حتى أنزل الله تعالى " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا
لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله - إلى قوله - إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من
الله من شئ " الآية يعني إلا في هذا القول فلا تتأسوا به ثم بين تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه
فقال تعالى " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين - إلى قوله - وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن
موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لاواه حليم " وقوله " وأعتزلكم وما تدعون من دون
الله وأدعوا ربي " أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله " وأدعوا ربي " أي وأعبد ربي
وحده لا شريك له " عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا " وعسى هذه موجبة لا محالة فإنه عليه السلام سيد
الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه سلم.
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا (49) ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا
لهم لسان صدق عليا (50)
يقول تعالى فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله أبدله الله من هو خير منهم ووهب له إسحاق ويعقوب يعني ابنه
130

وابن إسحاق كما قال في الآية الأخرى " ويعقوب نافلة " وقال " ومن وراء إسحاق يعقوب " ولا خلاف أن
إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة " أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما
تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " ولهذا إنما ذكر ههنا إسحاق ويعقوب
أي جعلنا له نسلا وعقبا أنبياء أقر الله بهم عينه في حياته ولهذا قال " وكلا جعلنا نبيا " فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبئ في
حياة إبراهيم لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف فإنه نبي أيضا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على
صحته حين سئل عن خير الناس فقال " يوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل
الله " وفي اللفظ الآخر " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم "، وقوله " ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
يعني الثناء الحسن وكذا قال السدي ومالك بن أنس وقال ابن جرير إنما قال عليا لان جميع الملل والأديان يثنون
عليهم ويمدحونهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
واذكر في الكتب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا (51) وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا (52)
ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا (53)
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه عطف بذكر الكليم فقال " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا "
قرأ بعضهم بكسر اللازم من الاخلاص في العبادة قال الثوري عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي لبابة قال: قال
الحواريون يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله قال الذي يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس وقرأ الآخرون
بفتحها بمعنى أنه كان مصطفى كما قال تعالى " إني اصطفيتك على الناس " " وكان رسولا نبيا " جمع الله له بين
الوصفين فإنه كان من المرسلين الكبار أولي العزم الخمسة وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله
وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين، وقوله " وناديناه من جانب الطور " أي الجانب " الأيمن " من موسى حين
ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه غربية عند شاطئ الوادي
فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه روى ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى هو القطان حدثنا سفيان عن
عطاء بن يسار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " وقربناه نجيا " قال أدني حتى سمع صريف القلم وهكذا قال
مجاهد وأبو العالية وغيرهم يعنون صريف القلم بكتابة التوراة وقال السدى " وقربناه نجيا " قال أدخل في السماء
فكلم وعن مجاهد نحوه وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة " وقربناه نجيا " قال نجا بصدقه وروى ابن أبي
حاتم حدثنا عبد الجبار بن عاصم حدثنا محمد بن سلمة الحراني عن أبي واصل عن شهر بن حوشب عن عمرو
ابن معد يكرب قال لما قرب الله موسى نجيا بطور سيناء قال: يا موسى إذا خلقت لك قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا
وزوجة تعين على الخير فلم أخزن عنك من الخير شيئا ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئا وقوله
" ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبيا كما قال في الآية
الأخرى " وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " وقال " وقد
أوتيت سؤلك يا موسى " وقال " فأرسل إلى هارون ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " ولهذا قال بعض السلف
ما شفع أحد في أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبيا قال الله تعالى " ووهبنا له
من رحمتنا أخاه هارون نبيا " قال ابن جرير: حدثنا يعقوب حدثنا ابن علية عن داود عن عكرمة قال: قال
ابن عباس قوله " ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا " قال كان هارون أكبر من موسى ولكن أراد وهب له نبوته
وقد ذكره ابن أبي حاتم معلقا عن يعقوب وهو ابن إبراهيم الدورقي به.
131

واذكر في الكتب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا (54) وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند
ربه مرضيا (55)
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان
صادق الوعد. قال ابن جريج لم يعد ربه عدة إلا أنجزها يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل حدثه أن إسماعيل
النبي عليه السلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه فيه فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد
فقال ما برحت من ههنا؟ قال لا قال إني نسيت قال لم أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك " كان صادق الوعد " وقال
سفيان الثوري بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره حولا حتى جاءه وقال ابن شوذب: بلغني أنه اتخذ ذلك
الموضع مسكنا وقد رواه أبو داود في سننه وأبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي في كتابه مكارم الأخلاق من طريق
إبراهيم بن طهمان عن عبد الله بن ميسرة عن عبد الكريم يعني ابن عبد الله بن شقيق عن أبيه عن عبد الله بن أبي
الحمساء قال بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له علي بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك قال فنسيت
يومي والغد فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي " يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث
أنتظرك " لفظ الخرائطي وساق آثارا حسنة في ذلك ورواه ابن منده أبو عبد الله في كتاب معرفة الصحابة بإسناده
عن إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الكريم به وقال بعضهم إنما قيل له " صادق الوعد " لأنه
قال لأبيه " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " فصدق في ذلك فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أن
خلفه من الصفات الذميمة قال الله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا
ما لا تفعلون " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان " ولما
كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل
بصدق الوعد وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلا وفى له به وقد أثنى على أبي
العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال " حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي " ولما توفي النبي صلى الله عليه وسلم قال الخليفة أبو
بكر الصديق: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة أو دين فليأتني أنجز له فجاءه جابر بن عبد الله فقال إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد قال " لو قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا " يعني ملء كفيه فلما جاء مال البحرين أمر
الصديق جابرا فغرف بيده من المال ثم أمره بعده فإذا هو خمسمائة درهم فأعطاه مثليها معها وقوله " وكان رسولا
نبيا " في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة
فقط وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل " وذكر
تمام الحديث فدل على صحة ما قلناه وقوله " وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا " هذا أيضا
من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة حيث كان صابرا على طاعة ربه عز وجل آمرا بها لأهله كما قال
تعالى لرسوله " وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها " الآية وقال " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا
وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " أي مروهم
بالمعروف وانهوهم عن المنكر ولا تدعوهم هملا فتأكلهم النار يوم القيامة وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء،
ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء " أخرجه أبو داود وابن
ماجة. وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته
فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة واللفظ له.
132

واذكر في الكتب إدريس إنه كان صديقا نبيا (56) ورفعناه مكانا عليا (57)
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه بأنه كان صديقا نبيا وأن الله رفعه مكانا عليا وقد تقدم في الصحيح أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم مر به في ليلة الاسراء وهو في السماء الرابعة. وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا فقال: حدثني
يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن وهب أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن شمر بن عطية عن هلال
ابن يساف قال سأل ابن عباس كعبا وأنا حاضر فقال له ما قول الله عز وجل لإدريس " ورفعناه مكانا عليا " فقال
كعب أما إدريس فإن الله أوحى إليه أنى أرفع لك كل يوم مثل عمل جميع بني آدم فأحب أن يزداد عملا فأتاه خليل
له من الملائكة فقال له إن الله أوحى إلي كذا وكذا فكلم لي ملك الموت فليؤخرني حتى أزداد عملا فحمله بين
جناحيه حتى صعد به إلى السماء فلما كان في السماء الرابعة تلقاهم ملك الموت منحدرا فكلم ملك الموت في
الذي كلمه فيه إدريس فقال وأين إدريس؟ فقال هو ذا على ظهري قال ملك الموت العجب بعثت وقيل لي اقبض
روح إدريس في السماء الرابعة فجعلت أقول كيف أقبض روحه في السماء الرابعة وهو في الأرض فقبض روحه
هناك فذلك قول الله تعالى " ورفعناه مكانا عليا " هذا من أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات وفي بعضه نكارة
والله أعلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس أنه سأل كعبا فذكر نحو ما تقدم غير أنه قال لذلك الملك هل
لك أن تسأله يعني ملك الموت كم بقي من أجلي لكي أزداد من العمل وذكر باقيه وفيه أنه لما سأله عما بقي من
أجله قال لا أدري حتى أنظر فنظر ثم قال إنك تسألني عن رجل ما بقي من عمره إلا طرفة عين فنظر الملك تحت
جناحه فإذا هو قد قبض عليه السلام وهو لا يشعر به ثم رواه من وجه آخر عن ابن عباس أن إدريس كان خياطا
فكان لا يغرز إبرة إلا قال سبحان الله فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل عملا منه وذكر بقيته
كالذي قبله أو نحوه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله " ورفعناه مكانا عليا " قال إدريس رفع ولم يمت كما
رفع عيسى وقال سفيان عن منصور عن مجاهد " ورفعناه مكانا عليا " قال السماء الرابعة، وقال العوفي عن
ابن عباس " ورفعناه مكانا عليا " قال رفع إلى السماء السادسة فمات بها وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال
الحسن وغيره في قوله " ورفعناه مكانا عليا " قال الجنة.
أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن
هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن - خروا سجدا وبكيا (58)
يقول تعالى هؤلاء النبيون وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط بل جنس الأنبياء عليهم السلام استطرد من
ذكر الاشخاص إلى الجنس " الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم " الآية قال السدي وابن جرير رحمه
الله فالذي عنى به من ذرية آدم إدريس والذي عنى به من ذرية من حملنا مع نوح إبراهيم والذي عنى به من ذرية
إبراهيم إسحاق ويعقوب وإسماعيل والذي عنى به من ذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى
ابن مريم قال ابن جرير ولذلك فرق أنسابهم وإن كان يجمع جميعهم آدم لان فيهم من ليس من ولد من كان مع
نوح في السفينة وهو إدريس فإنه جد نوح " قلت " هذا هو الاظهر أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام،
وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل أخذا من حديث الاسراء حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبا بالنبي
الصالح والأخ الصالح ولم يقل والولد الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام وروى ابن أبي حاتم حدثنا
يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب عن عبد الله بن عمر أن إدريس أقدم من نوح فبعثه الله
133

إلى قومه فأمرهم أن يقولوا لا إله إلا الله ويعملوا ما شاءوا فأبوا فأهلكهم الله عز وجل، ومما يؤيد أن المراد بهذه
الآية جنس الأنبياء أنها كقوله تعالى في سورة الأنعام " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من
نشاء إن ربك حكيم عليم * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان
وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين *
وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم
وهديناهم إلى صراط مستقيم - إلى قوله - أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " وقال سبحانه وتعالى " منهم من
قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " وفي صحيح البخاري عن مجاهد أنه سأل ابن عباس أفي ص
سجدة؟ فقال نعم ثم تلا هذه الآية " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " فنبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم قال
وهو منهم يعني داود. وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة " إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا "
أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة حمدا وشكرا على ما
هم فيه من النعم العظيمة والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود ههنا اقتداء بهم واتباعا
لمنوالهم. قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي معمر قال قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه
سورة مريم فسجد وقال هذا السجود فأين البكى يريد البكاء. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وسقط من روايته ذكر
أبي معمر فيما رأيت فالله أعلم.
فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا (59) إلا من تاب وآمن وعمل صلحا
فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا (60)
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين
فرائض الله التاركين لزواجره، ذكر أنه " خلف من بعدهم خلف " أي قرون أخر " أضاعوا الصلاة " وإذا
أضاعوها فهم لما سواها من الواجبات أضيع لأنها عماد الدين وقوامه وخير أعمال العباد وأقبلوا على شهوات
الدنيا وملاذها ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها فهؤلاء سيلقون غيا أي خسارا يوم القيامة، وقد اختلفوا في المراد
بإضاعة الصلاة ههنا فقال قائلون: المراد بإضاعتها تركها بالكلية قاله محمد بن كعب القرظي وابن زيد بن أسلم
والسدي واختاره ابن جرير ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو المشهور عن الإمام أحمد،
وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة للحديث " بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " والحديث الآخر " العهد
الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " وليس هذا محل بسط هذه المسألة. وقال الأوزاعي عن موسى بن
سليمان عن القاسم بن مخيمرة في قوله " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة " قال إنما أضاعوا المواقيت
ولو كان تركا كان كفرا وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم بن عبد الرحمن والحسن بن سعيد عن ابن مسعود
أنه قيل له إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن " الذين هم عن صلاتهم ساهون " و " على صلاتهم دائمون "
و " على صلاتهم يحافظون " فقال ابن مسعود على مواقيتها قالوا ما كنا نرى ذلك إلا على الترك قال ذلك
الكفر وقال مسروق: لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين وفي إفراطهن الهلكة
وإفراطهن إضاعتهن عن وقتهن وقال الأوزاعي عن إبراهيم بن يزيد أن عمر بن عبد العزيز قرأ " فخلف من
بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " ثم قال لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا
الوقت وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " قال عند
قيام الساعة وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلام ينزو بعضهم على بعض في الأزقة وكذا روى ابن جريج عن مجاهد
134

مثله وروى جابر الجعفي عن مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح أنهم من هذه الأمة يعنون في آخر الزمان،
وقال ابن جرير حدثني الحارث حدثنا الحسن الأشيب حدثنا شريك عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد " فخلف
من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات " قال هم في هذه الأمة يتراكبون تراكب الانعام والحمر في
الطرق لا يخافون الله في السماء ولا يستحيون من الناس في الأرض وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان
الواسطي حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا حياة حدثنا بشير بن أبي عمرو الخولاني أن الوليد بن قيس حدثه أنه
سمع أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يكون خلف بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا
الشهوات فسوف يلقون غيا ثم يكون خلف يقرأون القرآن لا يعدو تراقيهم ويقرأ القرآن ثلاثة مؤمن ومنافق
وفاجر " وقال بشير قلت للوليد ما هؤلاء الثلاثة؟ قال المؤمن مؤمن به والمنافق كافر به والفاجر يأكل به، وهكذا
رواه أحمد عن أبي عبد الرحمن المقري وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثني أبي حدثنا إبراهيم
ابن موسى أنبأنا عيسى بن يونس حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن وهب عن مالك عن أبي الرجال أن عائشة كانت
ترسل بالشئ صدقة لأهل الصفة وتقول لا تعطوا منه بربريا ولا بربرية فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " هم
الخلف الذين قال الله تعالى فيهم فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة " هذا حديث غريب وقال أيضا حدثني
أبي حدثنا عبد الرحمن بن الضحاك حدثنا الوليد بن جرير عن شيخ من أهل المدينة أنه سمع محمد بن كعب
القرظي يقول في قول الله " فخلف من بعدهم خلف " الآية قال هم أهل الغرب يملكون وهم شر من ملك،
وقال كعب الأحبار والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عز وجل شرابين للقهوات تراكين للصلوات لعابين
بالكعبات رقادين عن العتمات مفرطين في الغدوات تراكين للجمعات قال ثم تلا هذه الآية " فخلف من بعدهم
خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا " وقال الحسن البصري: عطلوا المساجد ولزموا
الضيعات وقال أبو الأشهب العطاردي: أوحى الله إلى داود عليه السلام يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل
الشهوات فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر
شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي وقال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب حدثنا أبو زيد التميمي عن أبي
قبيل أنه سمع عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن " (1) أما اللبن
فيتبعون الزيف ويتبعون الشهوات ويتركون الصلاة وأما القرآن فيتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين ورواه عن
حسن بن موسى عن ابن لهيعة حدثنا أبو قبيل عن عقبة به مرفوعا بنحوه تفرد به وقوله " فسوف يلقون غيا " قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " فسوف يلقون غيا " أي خسرانا وقال قتادة شرا وقال سفيان الثوري وشعبة
ومحمد بن إسحاق عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود " فسوف يلقون غيا " قال واد
في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم وقال الأعمش عن زياد عن أبي عياض في قوله " فسوف يلقون غيا " قال واد
في جهنم من قيح ودم وقال الإمام أبو جعفر بن جرير حدثني عباس بن أبي طالب حدثنا محمد بن زياد حدثنا
شرقي بن قطامي عن لقمان بن عامر الخزاعي قال: جئت أبا أمامة صدي بن عجلان الباهلي فقلت حدثنا حديثا
سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بطعام ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه " لو أن صخرة زنة عشر أواق قذف بها من شفير
جهنم ما بلغت قعرها خمسين خريفا ثم تنتهي إلى غي وآثام " قال قلت ما غي وآثام قال: قال " بئران في أسفل
جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار " وهما اللذان ذكرهما الله في كتابه " أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف
يلقون غيا " وقوله في الفرقان " ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما " هذا حديث غريب ورفعه منكر، وقوله
" إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " أي إلا من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات فإن الله يقبل توبته ويحسن
- (1) كذا في النسخة المكية وفي الأميرية: الكنى، بدل اللبن.
135

عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم ولهذا قال " فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا " وذلك لان التوبة تجب ما
قبلها وفي الحديث الآخر " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي
عملوها شيئا ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لان ذلك ذهب هدرا وترك نسيا وذهب مجانا
من كرم الكريم وحلم الحليم وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر
ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - إلى قوله - وكان الله غفورا رحيما ".
جنت عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب إنه كان وعده مأتيا (61) لا يسمعون فيها لغوا إلا سلما ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا (62) تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا (63)
يقول تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم هي جنات عدن أي إقامة التي وعد الرحمن عباده بظهر الغيب
أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم وقوله " إنه كان وعده مأتيا " تأكيد
لحصول ذلك وثبوته واستقراره فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله كقوله " كان وعده مفعولا " أي كائنا لا
محالة وقوله ههنا " مأتيا " أي العباد صائرون إليه وسيأتونه ومنهم من قال " مأتيا " بمعنى آتيا لان كل ما أتاك
فقد أتيته كما تقول العرب: أتت علي خمسون سنة وأتيت على خمسين سنة كلاهما بمعنى واحد، وقوله " لا
يسمعون فيها لغوا " أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له كما قد يوجد في الدنيا وقوله " إلا
سلاما " استثناء منقطع كقوله " لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " وقوله " ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا " أي في مثل وقت البكرات ووقت العشيات لا أن هناك ليلا ونهارا ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون
مضيها بأضواء وأنوار كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يتمخطون
فيها ولا يتغوطون آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الالوة ورشحهم المسك ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ
ساقها من وراء اللحم من الحسن لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة
وعشيا " أخرجاه في الصحيحين من حديث معمر به وقال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق
حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد الأنصاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا " تفرد به أحمد من
هذا الوجه وقال الضحاك عن ابن عباس " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " قال مقادير الليل والنهار وقال ابن
جرير حدثنا علي بن سهل حدثنا الوليد بن مسلم قال سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى " ولهم رزقهم فيها
بكرة وعشيا " قال: ليس في الجنة ليل هم في نور أبدا ولهم مقدار الليل والنهار يعرفون مقدار الليل بإرخاء
الحجب وإغلاق الأبواب ويعرفون مقدار النهار برفع الحجب وبفتح الأبواب وبهذا الاسناد عن الوليد بن مسلم
عن خليد عن الحسن البصري وذكر أبواب الجنة فقال أبواب يرى ظاهرها من باطنها فتكلم وتكلم فتفهم انفتحي
انغلقي فتفعل وقال قتادة في قوله " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " فيها ساعتان بكرة وعشي ليس ثم ليل ولا
نهار وإنما هو ضوء ونور. وقال مجاهد ليس بكرة ولا عشي ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا وقال
الحسن وقتادة وغيرهما كانت العرب الأنعام فيهم من يتغدى ويتعشى فنزل القرآن على ما في أنفسهم من النعيم
فقال تعالى " ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا " وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن هشام عن الحسن " ولهم
رزقهم فيها بكرة وعشيا " قال: البكور يرد على العشي والعشي يرد على البكور ليس فيها ليل وقال ابن أبي
حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا سليمان بن منصور بن عمار حدثني أبي حدثني محمد بن زياد قاضي أهل
136

شماط عن عبد الله بن حدير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من غداة من
غدوات الجنة وكل الجنة غدوات إلا أنه يزف إلى ولي الله فيها زوجة من الحور العين أدناهن التي خلقت من
الزعفران " قال أبو محمد هذا حديث غريب منكر، وقوله " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " أي
هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين وهم المطيعون لله عز وجل في السراء
والضراء والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس وكما قال تعالى في أول سورة المؤمنون " قد أفلح المؤمنون الذين
هم في صلاتهم خاشعون " إلى أن قال " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ".
وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا (64) رب السماوات
والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبدته هل تعلم له سميا (65)
قال الإمام أحمد: حدثنا يعلى ووكيع قالا حدثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرائيل " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ " قال فنزلت " وما نتنزل إلا بأمر ربك " إلى آخر
الآية. انفرد بإخراجه البخاري فرواه عند تفسير هذه الآية عن أبي نعيم عن عمر بن ذر به ورواه ابن أبي حاتم وابن
جرير من حديث عمر بن ذر به وعندهما زيادة في آخر الحديث فكان ذلك الجواب لمحمد صلى الله عليه وسلم وقال العوفي عن
ابن عباس احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن فأتاه جبرائيل وقال يا محمد
" وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآية. وقال مجاهد لبث جبرائيل عن محمد صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة ليلة ويقولون أقل فلما
جاءه قال يا جبرائيل لقد رثت علي حتى ظن المشركون كل ظن " فنزلت " وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآية. قال
وهذه الآية كالتي في الضحى وكذلك قال الضحاك بن مزاحم وقتادة والسدي وغير واحد أنها نزلت في احتباس
جبرائيل وقال الحكم بن أبان عن عكرمة قال أبطأ جبرائيل النزول على النبي صلى الله عليه وسلم أربعين يوما ثم نزل فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم " ما نزلت حتى اشتقت إليك " فقال له جبريل بل أنا كنت إليك أشوق ولكني مأمور فأوحى الله إلى
جبرائيل أن قل له " وما نتنزل إلا بأمر ربك " الآية رواه ابن أبي حاتم رحمه الله وهو غريب، وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال أبطأت الرسل على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه جبريل
فقال له " ما حبسك يا جبريل؟ " فقال له جبريل وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم ولا تنقون براجمكم ولا
تأخذون شواربكم ولا تستاكون؟ ثم قرأ " وما نتنزل إلا بأمر ربك " إلى آخر الآية. وقد قال الطبراني حدثنا أبو
عامر النحوي حدثنا محمد بن إبراهيم الصوري حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي حدثنا إسماعيل بن عياش
أخبرني ثعلبة بن مسلم عن أبي كعب مولى ابن عباس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبرائيل أبطأ عليه فذكر
له ذلك فقال وكيف وأنتم لا تستنون ولا تقلمون أظفاركم ولا تقصون شواربكم ولا تنقون براجمكم؟ وهكذا رواه
الإمام أحمد عن أبي اليمان عن إسماعيل بن عياش عن ابن عباس بنحوه وقال الإمام أحمد حدثنا سيار حدثنا
جعفر بن سليمان حدثنا المغيرة بن حبيب عن مالك بن دينار حدثني شيخ من أهل المدينة عن أم سلمة قالت قال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أصلحي لنا المجلس فإنه ينزل ملك إلى الأرض لم ينزل إليها قط " وقوله " له ما بين أيدينا
وما خلفنا " قيل المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا وما خلفنا أمر الآخرة " وما بين ذلك " ما بين النفختين هذا قول
أبي العالية وعكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة في رواية عنهما والسدي والربيع بن أنس وقيل " ما بين أيدينا "
ما يستقبل من أمر الآخرة " وما خلفنا " أي ما مضى من الدنيا " وما بين ذلك " أي ما بين الدنيا والآخرة،
ويروى نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن جريج والثوري واختاره ابن جرير أيضا والله
أعلم. وقوله " وما كان ربك نسيا " قال مجاهد والسدي: معناه ما نسيك ربك وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله
" والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى " وقال ابن أبي حاتم حدثنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد
137

الدمشقي حدثنا محمد بن عثمان يعني أبا الجماهر حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عاصم بن رجاء بن حياة عن
أبيه عن أبي الدرداء يرفعه قال " ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا
من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا " ثم تلا هذه الآية " وما كان ربك نسيا " وقوله " رب السماوات
والأرض وما بينهما " أي خالق ذلك ومدبره والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه " فاعبده واصطبر
لعبادته هل تعلم له سميا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هل تعلم للرب مثلا أو شبيها وكذلك قال مجاهد
وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج وغيرهم وقال عكرمة عن ابن عباس ليس أحد يسمى الرحمن غيره تبارك
وتعالى وتقدس اسمه.
ويقول الانسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67)
فوربك لنحشرنهم والشيطان ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (68) ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن
عتيا (69) ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى صليا (70)
يخبر تعالى عن الانسان أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته كما قال تعالى " وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا
ترابا أئنا لفي خلق جديد " وقال " أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا
ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " وقال ههنا
" ويقول الانسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا * أو لا يذكر الانسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا " يستدل
تعالى بالبداءة على الإعادة يعني أنه تعالى قد خلق الانسان ولم يك شيئا أفلا يعيده وقد صار شيئا كما قال تعالى
" وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " وفي الصحيح " يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن
يكذبني وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق
بأهون علي من آخره وأما أذاه إياي فقوله إن لي ولدا وأنا الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا
أحد " وقوله " فوربك لنحشرنهم والشياطين " أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة أنه لا بد أن يحشرهم
جميعا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله " ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا " قال العوفي عن ابن عباس
يعني قعودا كقوله " وترى كل أمة جاثية " وقال السدي في قوله العوفي عن ابن عباس
يعني قعودا كقوله " وترى كل أمة جاثية " وقال السدي في قوله جثيا يعني قياما، وروي عن مرة عن ابن مسعود
مثله. وقوله " ثم لننزعن من كل شيعة " يعني من كل أمة قاله مجاهد " أيهما أشد على الرحمن عتيا " قال
الثور ي عن علي بن الأقمر عن ابن الأحوص عن ابن مسعود قال: يحبس الأول على الآخر حتى إذا تكاملت
العدة أتاهم جميعا ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرما وهو قوله " ثم لنزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا "
وقال قتادة " ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا " قال ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم
ورؤساءهم في الشر وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف وهذا كقوله تعالى " حتى إذا اداركوا فيها جميعا
قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار - إلى قوله - بما كنتم تكسبون " وقوله " ثم
لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا " ثم ههنا لعطف الخبر على الخبر والمراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من
العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة قال لكل
ضعف ولكن لا تعلمون ".
وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (71) ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا (72)
قال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن حرب حدثنا خالد بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سمية قال
138

اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن وقال بعضهم يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا فلقيت
جابر بن عبد الله فقلت له إنا اختلفنا في الورود فقال يردونها جميعا وقال سليمان بن مرة يدخلونها جميعا وأهوى
بأصبعيه إلى أذنيه وقال صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون
على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر
الظالمين فيها جثيا " غريب ولم يخرجوه وقال الحسن بن عرفة حدثنا مروان بن معاوية عن بكار بن أبي مروان
عن خالد بن معدان قال: قال أهل الجنة بعد ما دخلوا الجنة ألم يعدنا ربنا الورود على النار؟ قال قد مررتم عليها
وهي خامدة، وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال كان
عبد الله بن رواحة واضعا رأسه في حجر امرأته فبكى فبكت امرأته قال ما يبكيك؟ قالت رأيتك تبكي فبكيت قال
إني ذكرت قول الله عز وجل " وإن منكم إلا واردها " فلا أدري أنجو منها أم لا - وفي رواية - وكان مريضا. وقال
ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا ابن يمان عن مالك بن مغول عن أبي إسحاق كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه
قال يا ليت أمي لم تلدني ثم يبكي فقيل له ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون
عنها وقال عبد الله بن المبارك عن الحسن البصري قال: قال رجل لأخيه هل أتاك أنك وارد النار قال نعم قال
فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال لا قال ففيم الضحك؟ قال فما رئي ضاحكا حتى لحق بالله. وقال عبد الرزاق
أيضا أخبرنا ابن عيينة عن عمرو أخبرني من سمع ابن عباس يخاصم نافع بن الأزرق فقال ابن عباس: الورود
الدخول فقال نافع لا، فقرأ ابن عباس " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " وردوا أم
لا وقال " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " أوردها أم لا أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا
وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك فضحك نافع. وروى ابن جريج عن عطاء قال قال أبو راشد الحروري وهو
نافع بن الأزرق " لا يسمعون حسيسها " فقال ابن عباس ويلك أمجنون أنت أين قوله: " يقدم قومه يوم القيامة
فأوردهم النار " " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " " وإن منكم إلا واردها " والله إن كان دعاء من مضى: اللهم
أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما، وقال ابن جرير حدثني محمد بن عبيد المحاربي حدثنا أسباط
عن عبد الملك عن عبيد الله عن مجاهد قال كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد وهو نافع بن الأزرق
فقال له يا ابن عباس أرأيت قول الله " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " قال أما أنا وأنت يا أبا
راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا وقال أبو داود الطيالسي قال شعبة أخبرني عبد الله بن السائب عمن
سمع ابن عباس يقرؤها " وإن منهم إلا واردها " يعني الكفار وهكذا روى عمرو بن الوليد البستي أنه سمع
عكرمة يقرؤها كذلك " وإن منهم إلا واردها " قال وهم الظلمة كذلك كنا نقرؤها رواه ابن أبي حاتم وابن
جرير وقال العوفي عن ابن عباس قوله " وإن منكم إلا واردها " يعني البر والفاجر ألا تسمع إلى قول الله
لفرعون " يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار " الآية " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " فسمى الورود على
النار دخولا وليس بصادر. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن عن إسرائيل عن السدي عن مرة عن عبد الله
هو ابن مسعود " وإن منكم إلا واردها " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم " ورواه
الترمذي عن عبد بن حميد عن عبيد الله عن إسرائيل عن السدي به ورواه من طريق شعبة عن السدي عن مرة
عن ابن مسعود مرفوعا هكذا وقع هذا الحديث ههنا مرفوعا، وقد رواه أسباط عن السدي عن مرة عن عبد الله بن
مسعود قال: يرد الناس جميعا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم فمنهم من
يمر مثل البرق ومنهم من يمر مثل الريح ومنهم من يمر مثل الطير ومنهم من يمر كأجود
الخيل ومنهم من يمر كأجود الإبل ومنهم من يمر كعدو الرجل حتى إن آخرهم مرا رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط
والصراط دحض مزلة عليه حسك كحسك القتاد حافتاه ملائكة معهم كلاليب من النار يختطفون بها الناس. وذكر
139

تمام الحديث رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا خلاد بن أسلم حدثنا النضر حدثنا إسرائيل أخبرنا أبو
إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قوله " وإن منكم إلا واردها " قال الصراط على جهنم مثل حد السيف فتمر
الطبقة الأولى كالبرق والثانية كالريح والثالثة كأجود الخيل والرابعة كأجود البهائم ثم يمرون والملائكة يقولون اللهم
سلم سلم، ولهذا شواهد في الصحيحين وغيرهما من رواية أنس وأبي سعيد وأبي هريرة وجابر وغيرهم من
الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن جرير حدثني يعقوب حدثنا ابن علية عن الجريري عن أبي السليك عن
غنيم بن قيس قال ذكروا ورود النار فقال كعب: تمسك النار الناس كأنها متن إهالة حتى يستوي عليها أقدام
الخلائق برهم وفاجرهم ثم يناديها مناد أن أمسكي أصحابك ودعي أصحابي قال فتخسف بكل ولي لها هي أعلم
بهم من الرجل بولده ويخرج المؤمنون ندية ثيابهم قال كعب ما بين منكبي الخازن من خزنتها مسيرة سنة مع كل
واحد منهم عمود ذو شعبتين يدفع به الدفع فيصرع به في النار سبعمائة ألف وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر عن حفصة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لأرجو أن لا يدخل
النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية " قالت فقلت أليس الله يقول " وإن منكم إلا واردها " قالت: فسمعته
يقول " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " وقال أحمد أيضا حدثنا ابن إدريس حدثنا الأعمش عن
أبي سفيان عن جابر عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقال: " لا يدخل
النار أحد شهد بدرا والحديبية " قالت حفصة أليس الله يقول "
وإن منكم إلا واردها " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم
ننجي الذين اتقوا " الآية وفي الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يموت لاحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم ".
وقال عبد الرزاق قال معمر أخبرني الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات له ثلاثة
لم تمسه النار إلا تحلة القسم " يعني الورود، وقال أبو داود الطيالسي حدثنا زمعة عن الزهري عن سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم
" قال الزهري كأنه يريد هذه الآية " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " وقال ابن جرير
حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا أبو المغيرة حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حدثنا إسماعيل بن عبيد الله
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلا من أصحابه وعك وأنا معه ثم قال " إن الله تعالى
قول هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه.
وحدثنا أبو كريب حدثنا أبو اليمان عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال الحمى حظ كل مؤمن من النار ثم قرأ
" وإن منكم إلا واردها " وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ
ابن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له
قصرا في الجنة " فقال عمر إذا نستكثر يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أكثر وأطيب " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا إن
شاء الله ومن حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجر سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم " قال
الله تعالى: " وإن منكم إلا واردها " وإن الذكر في سبيل الله يضاعف فوق النفقة بسبعمائة ضعف، وفي رواية
بسبعمائة ألف ضعف، وروى أبو داود عن أبي الطاهر عن ابن وهب وعن يحيى بن أيوب كلاهما عن زبان عن
سهل عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الصلاة علي والصيام والذكر يضاعف على النفقة في سبيل الله بسبعمائة
ضعف " وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قوله " وإن منكم إلا واردها " قال هو الممر عليها: وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " وإن منكم إلا واردها " قال ورود المسلمين المرور على الجسر بين
ظهرانيها وورود المشركين أن يدخلوها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم " الزالون والزالات يومئذ كثير وقد أحاط بالجسر يومئذ
140

سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلم سلم " وقال السدي عن مرة عن ابن مسعود في قوله " كان على ربك
حتما مقضيا " قال قسما واجبا: وقال مجاهد حتما قال قضاء وكذا قال ابن جريج وقوله: " ثم ننجي الذين
اتقوا " أي إذا مر الخلائق كلهم على النار وسقط فيها من سقط من الكفار والعصاة ذوي المعاصي بحسبهم نجى
الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في
الدنيا ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيخرجون خلقا كثيرا قد
أكلتهم النار إلا دارات وجوههم وهي مواضع السجود وإخراجهم إياهم من النار بحسب ما في قلوبهم من الايمان
فيخرجون أولا من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم الذي يليه حتى يخرجون من
كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ثم يخرج الله من النار من قال يوما من الدهر لا إله إلا الله وإن لم
يعمل خيرا قط ولا يبقى في النار إلا من وجب عليه الخلود كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ".
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا (73) وكم اهلكنا
قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورؤيا (74)
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان أنهم يصدون
ويعرضون عن ذلك ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل
بأنهم " خير مقاما وأحسن نديا " أي أحسن منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وهو مجتمع الرجال للحديث أي
ناديهم أعمر وأكثر واردا وطارقا يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل وأولئك الذين هم مختفون
مستترون في دار الأرقم بن أبي الأرقم ونحوها من الدور على الحق كما قال تعالى مخبرا عنهم " وقال الذين كفروا
للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه " وقال قوم نوح " أنؤمن لك واتبعك الأرذلون " وقال تعالى
" وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين " ولهذا قال تعالى
رادا عليهم شبهتهم " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " أي وكم من أمة وقرن من المكذبين قد أهلكناهم بكفرهم
" هم أحسن أثاثا ورئيا " أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالا وأمتعة ومناظر وأشكالا قال الأعمش عن أبي ظبيان عن
ابن عباس " خير مقاما وأحسن نديا " قال المقام المنزل والندي المجلس والأثاث المتاع والرئي المنظر، وقال
العوفي عن ابن عباس المقام المسكن والندي المجلس والنعمة والبهجة التي كانوا فيها وهو كما قال الله لقوم
فرعون حين أهلكهم وقص شأنهم في القرآن " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم " فالمقام المسكن
والنعيم والندي المجلس والمجمع الذي كانوا يجتمعون فيه وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط
" وتأتون في ناديكم المنكر " والعرب تسمي المجلس النادي وقال قتادة لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في
عيشهم خشونة وفيهم قشافة فعرض أهل الشرك ما تسمعون " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا " وكذا قال
مجاهد والضحاك ومنهم من قال في الأثاث هو المال ومنهم من قال الثياب ومنهم من قال المتاع والرئي المنظر كما
قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد وقال الحسن البصري يعني الصور وكذا قال مالك " أثاثا ورئيا " أكثر أموالا
وأحسن صورا والكل متقارب صحيح.
قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب وإما الساعة فسيعلمون من هو
شر مكانا وأضعف جندا (75)
141

يقول تعالى " قل " يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل " من كان في
الضلالة " أي منا ومنكم " فليمدد له الرحمن مدا " أي فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله
" إما العذاب " يصيبه " وإما الساعة " بغتة تأتيه " فسيعلمون " حينئذ " من هو شر مكانا وأضعف جندا " في
مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي قال مجاهد في قوله " فليمدد له الرحمن مدا " فليدعه الله
في طغيانه هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما
هم فيه كما ذكر تعالى مباهلة اليهود في قوله " يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا
الموت إن كنتم صادقين " أي ادعوا بالموت على المبطل منا أو منكم إن كنتم تدعون أنكم على الحق فإنه لا
يضركم الدعاء فنكلوا عن ذلك وقد تقدم تقدير ذلك في سورة البقرة مبسوطا ولله الحمد وكما ذكر تعالى المباهلة
مع النصارى في سورة آل عمران حين صمموا على الكفر واستمروا على الطغيان والغلو في دعواهم أن عيسى ولد
الله وقد ذكر الله حججه وبراهينه على عبودية عيسى وأنه مخلوق كآدم قال تعالى بعد ذلك " فمن حاجك فيه من
بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله
على الكاذبين " فنكلوا أيضا عن ذلك.
ويزيد الله الذين اهتدوا هدى والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا (76)
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه وزيادته على ما هو عليه أخبر بزيادة المهتدين هدى كما قال
تعالى " وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا " الآيتين. وقوله: " والباقيات الصالحات "
قد تقدم تفسيرها والكلام عليها وإيراد الأحاديث المتعلقة بها في سورة الكهف " خير عند ربك ثوابا " أي جزاء
" وخير مردا " أي عاقبة ومردا على صاحبها، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر بن راشد عن يحيى بن أبي كثير عن
أبي سلمة بن عبد الرحمن قال جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عودا يابسا فحط ورقه ثم قال: " إن قول لا إله
إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح خذهن يا أبا الدرداء
قبل أن يحال بينك وبينهن هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة " قال أبو سلمة فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا
الحديث قال لأهللن الله ولأكبرن الله ولا سبحن الله حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون وهذا ظاهره أنه مرسل
ولكن قد يكون من رواية أبي سلمة عن أبي الدرداء والله أعلم، وهكذا وقع في سنن ابن ماجة من حديث أبي
معاوية عن عمر بن راشد عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي الدرداء فذكر نحوه.
أفرأيت الذي كفر بآيتنا وقال لأوتين مالا وولدا (77) أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا (78) كلا سنكتب
ما يقول ونمد له من العذاب مدا (79) ونرثه ما يقول ويأتينا فردا (80)
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خباب بن الأرت قال كنت رجلا قينا
وكان لي على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه منه فقال لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقلت لا والله لا
أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى تموت ثم تبعث قال فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيتك فأنزل الله
" أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا - إلى قوله - ويأتينا فردا " أخرجه صاحبا الصحيح وغيرهما من غير
وجه عن الأعمش به وفي لفظ البخاري كنت قينا بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفا فجئت أتقاضاه فذكر
الحديث، وقال " أم اتخذ عند الرحمن عهدا " قال موثقا.
وقال عبد الرزاق أخبرنا الثوري عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: قال خباب بن الأرت كنت قينا
142

بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل فاجتمعت لي عليه دراهم فجئت لا تقاضاه فقال لي لا أقضيك حتى تكفر
بمحمد فقلت لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث قال فإذا بعثت كان لي مال وولد قال فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فأنزل الله " أفرأيت الذي كفر بآياتنا " الآيات وقال العوفي عن ابن عباس إن رجالا من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون العاص بن وائل السهمي بدين فأتوه يتقاضونه فقال ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا
ومن كل الثمرات؟ قالوا بلى قال فإن موعدكم الآخرة فوالله لأوتين مالا وولدا ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به
فضرب الله مثله في القرآن فقال " أفرأيت الذي كفر بآياتنا - إلى قوله - ويأتينا فردا " وهكذا قال مجاهد وقتادة
وغيرهم إنها نزلت في العاص بن وائل وقوله " لأوتين مالا وولدا " قرأ بعضهم بفتح الواو من ولدا وقرأ آخرون
بضمها وهو بمعناه قال رؤبة:
الحمد لله العزيز فردا لم يتخذ من ولد شئ ولدا
وقال الحارث بن حلزة:
ولقد رأيت معاشرا قد ثمروا مالا وولدا
وقال الشاعر:
فليت فلانا كان في بطن أمه وليت فلانا كان ولد حمار
وقيل إن الولد بالضم جمع والولد بالفتح مفرد وهي لغة قيس والله أعلم، وقوله " أطلع الغيب " إنكار على هذا
القائل " لأوتين مالا وولدا " يعني يوم القيامة أي أعلم ما له في الآخرة حتى تألى وحلف على ذلك " أم اتخذ
عند الرحمن عهدا " أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق وقال الضحاك عن ابن
عباس " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " قال لا إله إلا وقال الضحاك عن ابن
عباس " أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا " قال لا إله إلا الله فيرجو بها وقال محمد بن كعب القرظي
" إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال شهادة أن لا إله إلا الله ثم قرأ " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " وقوله
" كلا " هي حرف ردع لما قبلها وتأكيد لما بعدها " سنكتب ما يقول " أي من طلبه ذلك وحكم لنفسه بما
يتمناه وكفره بالله العظيم " ونمد له من العذاب مدا " أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا
" ونرثه ما يقول " أي من مال وولد نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالا وولدا زيادة على الذي
له في الدنيا بل في الآخرة يسلب من الذي كان له في الدنيا ولهذا قال تعالى " ويأتينا فردا " أي من المال
والولد قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ونرثه ما يقول " قال نرثه وقال مجاهد " ونرثه ما يقول " ماله
وولده وذلك الذي قال العاص بن وائل. وقال عبد الرازق عن معمر عن قتادة " ونرثه ما يقول " قال ما عنده وهو
قوله " لأوتين مالا وولدا " وفي حرف ابن مسعود ونرثه ما عنده وقال قتادة " ويأتينا فردا " لا مال له ولا ولد
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " ونرثه ما يقول " قال ما جمع من الدنيا وما عمل فيها قال " ويأتينا فردا "
قال فردا من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير.
واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا (81) كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا (82) ألم تر أنا
أرسلنا الشيطين على الكافرين تؤزهم أزا (83) فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا (84)
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون تلك الآلهة " عزا " يعتزون بها
ويستنصرونها ثم أخبر أنه ليس الامر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا قال " كلا سيكفرون بعبادتهم " أي يوم القيامة
" ويكونون عليهم ضدا " أي بخلاف ما ظنوا فيهم كما قال تعالى " ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا
143

يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين "
وقرأ أبو نهيك " كل سيكفرون بعبادتهم " وقال السدي " كلا سيكفر ون بعبادتهم " أي بعبادة الأوثان وقوله
" ويكونون عليهم ضدا " أي بخلاف ما رجوا منهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ويكونون عليهم
ضدا " قال أعوانا قال مجاهد عونا عليهم تخاصمهم وتكذبهم وقال العوفي عن ابن عباس " ويكونون عليهم
ضدا " قال قرناء وقال قتادة قرناء في النار يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض وقال السدي " ويكونون
عليهم ضدا " قال الخصماء الأشداء في الخصومة وقال الضحاك " ويكونون عليهم ضدا " قال أعداء وقال ابن
زيد: الضد البلاء وقال عكرمة: الضد الحسرة. وقوله: " ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم
أزا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس تغويهم إغواء وقال العوفي عنه تحرضهم على محمد وأصحابه،
وقال مجاهد تشليهم إشلاء وقال قتادة تزعجهم إزعاجا إلى معاصي الله وقال سفيان الثوري تغريهم إغراء
وتستعجلهم استعجالا وقال السدي تطغيهم طغيانا وقال عبد الرحمن بن زيد هذا كقوله تعالى " ومن يعش
عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " وقوله " فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عدا " أي لا تعجل يا
محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم " إنما نعد لهم عدا " أي إنما نؤخرهم لأجل معدود مضبوط وهم
صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله وقال " ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون " الآية " فمهل
الكافرين أمهلهم رويدا " " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " " نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " " قل
تمتعوا فإن مصيركم إلى النار " وقال السدي إنما نعد لهم عدا: السنين والشهور والأيام والساعات، وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس " إنما نعد لهم عدا " قال نعد أنفاسهم في الدنيا.
يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا (85) ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (86) لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ
عند الرحمن عهدا (87)
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا واتبعوا رسله وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما
أمروهم به وانتهوا عما عنه زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة وفدا إليه والوفد هم القادمون ركبانا ومنه الوفود
وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه
وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفا إلى النار " وردا " عطاشا قاله عطاء وابن
عباس ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد وههنا يقال " أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا ابن خالد عن عمرو بن قيس الملائي عن ابن مرزوق " يوم نحشر
المتقين إلى الرحمن وفدا " قال يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحا فيقول من
أنت فيقول أما تعرفني؟ فيقول لا إلا أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك. فيقول أنا عملك الصالح وهكذا
كنت في الدنيا حسن العمل طيبه فطالما ركبتك في الدنيا فهلم اركبني فيركبه فذلك قوله " يوم نحشر المتقين إلى
الرحمن وفدا " وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال ركبانا،
وقال ابن جرير حدثني ابن المثنى حدثنا ابن مهدي عن سعيد عن إسماعيل عن رجل عن أبي هريرة " يوم نحشر
المتقين إلى الرحمن وفدا " قال على الإبل وقال ابن جريج على النجائب وقال الثوري على الإبل النوق، وقال
قتادة " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال إلى الجنة، وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه حدثنا
سويد بن سعيد أخبرنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق حدثنا النعمان بن سعيد قال كنا جلوسا عند علي
رضي الله عنه فقرأ هذه الآية " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " قال لا والله ما على أرجلهم يحشرون ولا
144

يحشر الوفد على أرجلهم ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها رحائل من ذهب فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب
الجنة وهكذا رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث عبد الرحمن بن إسحاق المدني به وزاد عليها رحائل
الذهب وأزمتها الزبرجد والباقي مثله، ورو ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريبا جدا مرفوعا عن علي فقال حدثنا أبي
حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي حدثنا مسلمة بن جعفر البجلي سمعت أبا معاذ البصري قال إن عليا
كان ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ هذه الآية " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا " فقال ما أظن الوفد إلا
الركب يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إنهم إذا خرجوا من قبورهم يستقبلون أو يؤتون بنوق
بيض لها أجنحة وعليها رحال الذهب شرك نعالهم نور يتلألأ كل خطوة منها مد البصر فينتهون إلى شجرة ينبع من
أصلها عينان فيشربون من إحداهما فتغسل ما في بطونهم من دنس ويغتسلون من الأخرى فلا تشعث أبشارهم ولا
أشعارهم بعدها أبدا وتجري عليهم نضرة النعيم فينتهون أو فيأتون باب الجنة فإذا حلقة من ياقوتة حمراء على
صفائح الذهب فيضربون بالحلقة على الصفحة فيسمع لها طنين - يا علي - فيبلغ كل حوراء أن زوجها قد أقبل
فتبعث قيمها فيفتح له فإذا رآه خر له - قال مسلمة أراه قال ساجدا - فيقول ارفع رأسك فإنما أنا قيمك وكلت بأمرك
فيتبعه ويقفو أثره فتستخف الحوراء العجلة فتخرج من خيام الدر والياقوت حتى تعتنقه ثم تقول أنت حبي وأنا حبك
وأنا الخالدة التي لا أموت وأنا الناعمة التي لا أبأس وأنا الراضية التي لا أسخط وأنا المقيمة التي لا أظعن فيدخل
بيتا من أسه إلى سقفه مائة ألف ذراع بناؤه على جندل اللؤلؤ طرائق أحمر وأصفر وأخضر ليس منها طريقة تشاكل
صاحبتها وفي البيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون حشية على كل حشية سبعون زوجة على كل
زوجة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الحلل يقضي جماعها في مقدار ليلة من لياليكم هذه، الأنهار من تحتهم
تطرد أنهار من ماء غير آسن قال صاف لا كدر فيه وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ولم يخرج من ضروع الماشية
وأنهار من خمر لذة للشاربين لم يعتصرها الرجال بأقدامهم وأنهار من عسل مصفى لم يخرج من بطون النحل
فيستجلي الثمار فإن شاء أكل قائما وإن شاء قاعدا وإن شاء متكئا ثم تلا " ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها
تذليلا " فيشتهي الطعام فيأتيه طير أبيض وربما قال أخضر فترفع أجنحتها فأكل من جنوبها أي الألوان شاء ثم
تطير فتذهب فيدخل الملك فيقول سلام عليكم " تلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون " ولو أن شعرة من
شعر الحوراء وقعت لأهل الأرض لاضاءت الشمس معها سواد في نور " هكذا وقع في هذه الرواية مرفوعا وقد
رويناه في المقدمات من كلام علي رضي الله عنه بنحوه وهو أشبه بالصحة والله أعلم وقوله " ونسوق المجرمين
إلى جهنم وردا " أي عطاشا " لا يملكون الشفاعة " أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم
لبعض كما قال تعالى مخبرا عنهم " فمالنا من شافعين ولا صديق حميم " وقوله " إلا من اتخذ عند الرحمن
عهدا " هذا استثناء منقطع بمعنى لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهو شهادة أن لا إله إلا الله والقيام بحقها،
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " قال العهد شهادة أن لا إله إلا الله ويبرأ
إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عز وجل، وقال ابن أبي حاتم حدثنا عثمان بن خالد الواسطي حدثنا
محمد بن الحسن الواسطي عن المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن الأسود بن يزيد قال قرأ عبد الله
يعني ابن مسعود هذه الآية " إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا " ثم قال اتخذوا عند الله عهدا فإن الله يقول يوم
القيامة من كان له عند الله عهد فليقم قالوا يا أبا عبد الرحمن فعلمنا قال قولوا: اللهم فاطر السماوات والأرض
عالم الغيب والشهادة فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أن لا تكلني إلى عمل يقربني من الشر ويباعدني من
الخير وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهدا تؤديه إلي يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد. قال
المسعودي فحدثني زكريا عن القاسم بن عبد الرحمن أخبرنا ابن مسعود وكان يلحق بهن خائفا مستجيرا مستغفرا
راهبا راغبا إليك. ثم رواه من وجه آخر عن المسعودي بنحوه.
145

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا (88) لقد جئتم شيئا إدا (89) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
هدا (90) أن دعوا للرحمن ولدا (91) وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا (92) إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي
الرحمن عبدا (93) لقد أحصهم وعدهم عدا (94) وكلهم آتيه يوم القيامة فردا (95)
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام وذكر خلقه من مريم بلا أب شرع في مقام
الانكار على من زعم أن له ولدا تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علوا كبيرا فقال " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد
جئتم " أي في قولكم هذا " شيئا إدا " قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ومالك أي عظيما ويقال إدا بكسر الهمزة
وفتحها ومع مدها أيضا ثلاث لغات أشهرها الأولى وقوله " تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال
هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجرة بني آدم إعظاما للرب
وإجلالا لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلا هو وأنه لا شريك له ولا نظير له ولا ولد له ولا
صاحبة له ولا كف ء له بل هو الاحد الصمد
وفي كل شئ له آية تدل على أنه الواحد
قال ابن جرير: حدثني علي حدثنا عبد الله حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس في قوله " تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا " قال إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض
والجبال وجميع الخلائق إلا الثقلين وكادت أن تزول منه لعظمة الله وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك
نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله فمن قالها عند موته
وجبت له الجنة " فقالوا يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال " تلك أوجب وأوجب " ثم قال: " والذي نفسي بيده
لو جئ بالسموات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلا
الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن " هكذا رواه ابن جرير ويشهد له حديث البطاقة والله أعلم، وقال الضحاك
" تكاد السماوات يتفطرن منه " أي يتشققن فرقا من عظمة الله، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وتنشق الأرض
أي غضبا له عز وجل وتخر الجبال هدا قال ابن عباس هدما، وقال سعيد بن جبير هدا ينكسر بعضها على بعض
متتابعات وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن سويد المقبري حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا مسعر عن
عون بن عبد الله قال: إن الجبل لينادي الجبل باسمه يا فلان هل مر بك اليوم ذكر الله عز وجل؟ فيقول نعم
ويستبشر قال عون لهي للخير أسمع أفيسمعن الزور والباطل إذا قيل ولا يسمعن غيره ثم قرأ " تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا "، وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا
المنذر بن شاذان حدثنا هوذة حدثنا عوف عن غالب بن عجرد حدثني رجل من أصل الشام في مسجد منى قال
بلغني أن الله لما خلق الأرض وخلق ما فيها من الشجر لم يكن في الأرض شجرة يأتيها بنو آدم إلا أصابوا منها
منفعة - أو قال - كان لهم فيها منفعة ولم تزل الأرض والشجر بذلك حتى تكلم فجرة بني آدم بتلك الكلمة العظيمة
قولهم اتخذ الرحمن ولدا فلما تكلموا بها اقشعرت الأرض وشاك الشجر. وقال كعب الأحبار غضبت الملائكة
واستعرت جهنم حين قالوا ما قالوا. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سعيد بن جبير عن أبي
عبد الرحمن السلمي عن أبي موسى رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله
أن يشرك به ويجعل له ولد وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم " أخرجاه في الصحيحين وفي لفظ " أنهم يجعلون له
ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم " وقوله " وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا " أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله
وعظمته لأنه لا كف ء له من خلقه لان جميع الخلائق عبيد له ولهذا قال " إن كل من في السماوات والأرض إلا آت
الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا " أي قد علم عددهم منذ خلقهم إلى يوم القيامة ذكرهم وأنثاهم
146

وصغيرهم وكبيرهم " وكلهم آتيه يوم القيامة فردا " أي لا ناصر له ولا مجير إلا الله وحده لا شريك له فيحكم في
خلقه بما يشاء وهو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحدا.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا (96) فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما
لدا (97) وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا (98)
يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل لمتابعتها
الشريعة المحمدية - يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة وهذا أمر لا بد منه ولا محيد عنه وقد وردت
بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه قال الإمام أحمد: حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله إذا أحب عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أحب
فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل قال ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلانا فأحبوه قال فيحبه أهل السماء ثم
يوضع له القبول في الأرض وإن الله إذا أبغض عبدا دعا جبريل فقال يا جبريل إني أبغض فلانا فأبغضه قال فيبغضه
جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله يبغض فلانا فأبغضوه قال فيبغضه أهل السماء ثم يوضع له البغضاء في
الأرض " ورواه مسلم من حديث سهيل ورواه أحمد والبخاري من حديث ابن جريج عن موسى بن عتبة عن نافع
ملى ابن عمر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن بكر حدثنا
ميمون أبو محمد المرائي حدثنا محمد بن عباد المخزومي عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العبد
ليلتمس مرضات الله عز وجل فلا يزال كذلك فيقول الله عز وجل لجبريل إن فلانا عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن
رحمتي عليه فيقول جبريل: رحمة الله على فلان ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم حتى يقولها أهل
السماوات السبع ثم يهبط إلى الأرض " غريب ولم يخرجوه من هذا الوجه وقال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر
حدثنا شريك عن محمد بن سعد الواسطي عن أبي ظبية عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المقة من
الله - قال شريك هي المحبة - والصيت من السماء فإذا أحب الله عبدا قال لجبريل عليه السلام إني أحب فلانا
فينادي جبريل إن ربكم يمق - يعني يحب - فلانا فأحبوه - أرى شريكا قد قال فتنزل له المحبة في الأرض - وإذا
أبغض عبدا قال لجبريل إني أبغض فلانا فأبغضه قال فينادي جبريل إن ربكم يبغض فلانا فأبغضوه - أرى شريكا
قال - فيجري له البغض في الأرض " غريب ولم يخرجوه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو داود الحفري حدثنا عبد العزيز - يعني ابن محمد - وهو الدراوردي عن
سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني
قد أحببت فلانا فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض فذلك قول الله عز وجل " إن الذين
آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " " ورواه مسلم والترمذي كلاهما عن عبد الله عن قتيبة عن
الدراوردي به وقال الترمذي حسن صحيح وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " سيجعل لهم
الرحمن ودا " قال حبا وقال مجاهد عنه " سيجعل لهم الرحمن ودا " قال محبة في الناس في الدنيا وقال سعيد بن
جبير عنه يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين كما قال مجاهد أيضا والضحاك وغيرهم وقال العوفي عن ابن
عباس أيضا: الود من المسلمين في الدنيا والرزق الحسن واللسان الصادق وقال قتادة " إن الذين آمنوا وعملوا
الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " أي والله في قلوب أهل الايمان، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول ما
أقبل عبد بقلبه إلى الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم، وقال قتادة وكان عثمان بن
عفان رضي الله عنه يقول ما من عبد يعمل خيرا أو شرا إلا كساه الله عز وجل رداء عمله، وقال ابن أبي حاتم
147

رحمه الله حدثنا أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الربيع بن صبيح عن الحسن البصري رحمه الله
قال: قال رجل والله لاعبدن الله عبادة أذكر بها فكان لا يرى في حين صلاة إلا قائما يصلي وكان أول داخل إلى
المسجد وآخر خارج فكان لا يعظم فمكث بذلك سبعة أشهر وكان لا يمر على قوم إلا قالوا انظروا إلى هذا
المرائي فأقبل على نفسه فقال لا أراني أذكر إلا بشر لأجعلن عملي كله لله عز وجل فلم يزد على أن قلب نيته ولم
يزد على العمل الذي كان يعمله فكان يمر بعد بالقوم فيقولون رحم الله فلانا الآن وتلا الحسن " إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا " وقد روى ابن جرير أثرا أن هذه الآية نزلت في هجرة عبد
الرحمن بن عوف وهو خطأ فإن هذه السورة بكمالها مكية لم ينزل منها شئ بعد الهجرة ولم يصح سند ذلك والله
أعلم، وقوله " فإنما يسرناه " يعني القرآن " بلسانك " أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل
" لتبشر به المتقين " أي المستجيبين لله المصدقين لرسوله " وتنذر به قوما لدا " أي عوجا عن الحق مائلين إلى
الباطل وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد قوما لدا لا يستقيمون، وقال الثوري عن إسماعيل وهو السدي عن أبي
صالح " وتنذر به قوما لدا " عوجا عن الحق، وقال الضحاك الألد الخصم. وقال القرظي الألد الكذاب، وقال
الحسن البصري " قوما لدا " صما وقال غيره صم آذان القلوب، وقال قتادة قوما لدا يعني قريشا، وقال العوفي
عن ابن عباس " قوما لدا " فجارا وكذا روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد: وقال ابن زيد الألد الظلوم وقرأ قوله
تعالى " وهو ألد الخصام " مجاهد: وقال ابن زيد الألد الظلوم وقرأ قوله
تعالى " وهو ألد الخصام " وقوله " وكم أهلكنا قبلهم من قرن " أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله " هل
تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا " أي هل ترى منهم أحدا أو تسمع لهم ركزا قال ابن عباس وأبو العالية
وعكرمة والحسن البصري وسعيد بن جبير والضحاك وابن زيد يعني صوتا، وقال الحسن وقتادة هل ترى عينا أو
تسمع صوتا والركز في أصل اللغة هو الصوت الخفي، قال الشاعر:
فتوحشت ركز الأنيس فراعها عن ظهر غيب والأنيس سقامها
آخر تفسير سورة مريم ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة طه ولله الحمد.
سورة طه:
روى إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتاب التوحيد عن زياد بن أيوب عن إبراهيم بن المنذر الحزامي
حدثنا إبراهيم بن مهاجر بن مسمار عن عمر بن حفص بن ذكوان عن مولى الحرقة - يعني عبد الرحمن بن يعقوب -
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام فلما سمعت الملائكة
قالوا طوبى لامة ينزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسن تتكلم بهذا " هذا حديث غريب وفيه
نكارة وإبراهيم بن مهاجر وشيخه تكلم فيهما.
بسم الله الرحمن الرحيم
طه (1) ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (2) إلا تذكرة لمن يخشى (3) تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات
العلى (4) الرحمن على العرش استوى (5) له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى (6) وإن تجهر
بالقول فإنه يعلم السر وأخفى (7) الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى (8)
148

قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته، وقال ابن أبي حاتم حدثنا
الحسين بن محمد بن شيبة الواسطي حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - أنبأنا إسرائيل عن سالم الأفطس عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس قال: طه يا رجل وهكذا روى عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء محمد بن كعب
وأبي مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى أنهم قالوا: طه بمعنى يا رجل، وفي رواية
عن ابن عباس وسعيد بن جبير والثوري أنها كلمة بالنبطية معناها يا رجل، وقال أبو صالح هي معربة وأسند
القاضي عياض في كتابه الشفاء من طريق عبد بن حميد في تفسيره حدثنا هاشم بن القاسم عن ابن جعفر عن
الربيع بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى فأنزل الله تعالى " طه " يعني طأ
الأرض يا محمد " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " ثم قال ولا يخفى ما في هذا من الاكرام وحسن المعاملة وقوله
" ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " قال جويبر عن الضحاك لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه
فقال المشركون من قريش ما أنزل هذا القرآن على محمد إلا ليشقى فأنزل الله تعالى " طه ما أنزلنا عليك القرآن
لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى فليس الامر كما زعمه المبطلون بل من آتاه الله العلم فقد أراد به خيرا كثيرا كما
ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وما أحسن
الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال حدثنا أحمد بن زهير حدثنا العلاء بن سالم
حدثنا إبراهيم الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سفيان عن سماك بن حرب عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم
إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " إسناده جيد وثعلبة بن الحكم هذا هو الليثي ذكره أبو عمر
في استيعابه وقال نزل البصرة ثم تحول إلى الكوفة وروى عنه سماك بن حرب، وقال مجاهد في قوله " ما
أنزلنا عليك القرآن لتشقى " هي كقوله " فاقرءوا ما تيسر منه " وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة وقال
قتادة " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " لا والله ما جعله شقاء ولكن جعله رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة " ألا تذكرة
لمن يخشى " إن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده لتذكر ذاكر وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله
وهو ذكر أنزل الله فيه حلاله وحرامه، وقوله " تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى " أي هذا القرآن الذي
جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك رب كل شئ ومليكه القادر على ما يشاء الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها
وخلق السماوات العلى في ارتفاعها ولطافتها وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره أن سمك كل
سماء مسيرة خمسمائة عام وبعد ما بينها والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديث
الأوعال من رواية العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه. وقوله " الرحمن على العرش استوى " تقدم الكلام
على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضا وأن المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف إمرار ما جاء
في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، وقوله " له ما في
السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " أي الجميع ملكه وفي قبضته وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته
وحكمه وهو خالق ذلك ومالكه وإلهه لا إله سواه ولا رب غيره وقوله وما تحت الثرى قال محمد بن كعب
أي ما تحت الأرض السابعة وقال الأوزاعي إن يحيى بن أبي كثير حدثه أن كعبا سئل فقيل له: ما تحت هذه
الأرض؟ فقال الماء. قيل: وما تحت
الماء؟ قال الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال الماء، قيل: وما تحت الماء؟ قال الأرض، قيل: وما
تحت الأرض؟ قال الماء، قيل: وما تحت الماء؟ قال الأرض، قيل: وما تحت الأرض؟ قال صخرة قيل:
وما تحت الصخرة؟ قال: ملك قيل: و ما تحت الملك؟ قال حوت معلق طرفاه بالعرش، قيل: وما تحت
الحوت؟ قال الهواء والظلمة وانقطع العلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبيد الله بن أخي بن وهب حدثنا عمي
149

حدثنا عبد الله بن عياش حدثنا عبد الله بن سلمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد الله بن عمرو
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الأرضين بين كل أرض والتي تليها مسيرة خمسمائة عام والعليا منها على ظهر حوت
قد التقى طرفاه في السماء والحوت على صخرة والصخرة بيد الملك والثانية سجن الريح والثالثة فيها حجارة
جهنم والرابعة فيها كبريت جهنم والخامسة فيها حياة جهنم والسادسة فيها عقارب جهنم والسابعة فيها سقر وفيها إبليس
مصفد بالحديد أمامه ويد خلفه فإذا أراد الله أن يطلقه لما يشاء أطلقه " وهذا حديث غريب جدا ورفعه فيه نظر،
وقال الحافظ أبو يعلى في مسنده حدثنا أبو موسى الهروي عن العباس بن الفضل قال: قلت ابن الفضل
الأنصاري؟ قال نعم عن القاسم بن عبد الرحمن عن محمد بن علي عن جابر بن عبد الله قال كنت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأقبلنا راجعين في حر شديد فنحن متفرقون بين واحد واثنين منتشرين قال وكنت في أول
العسكر إذ عارضنا رجل فسلم ثم قال أيكم محمد ومضى أصحابي ووقفت معه فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل في
وسط العسكر على جمل أحمر مقنع بثوبه على رأسه من الشمس فقلت أيها السائل هذا رسول الله قد أتاك فقال
أيهم هو؟ فقلت صاحب البكر الأحمر فدنا منه فأخذ بخطام راحلته فكف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنت محمد؟
قال " نعم " قال إني أريد أن أسألك عن خصال لا يعلمهن أحد من أهل الأرض إلا رجل أو رجلان فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " سل عما شئت " قال يا محمد أينام النبي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تنام عيناه ولا ينام قلبه " قال صدقت ثم
قال يا محمد من أين يشبه الولد أباه وأمه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فأي
الماءين غلب على الآخر نزع الولد " فقال صدقت فقال ما للرجل من الولد وما للمرأة منه فقال " للرجل العظام
والعروق والعصب وللمرأة اللحم والدم والشعر " قال صدقت ثم قال يا محمد ما تحت هذه يعني الأرض فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق " فقال فما تحتهم؟ قال " أرض " قال فما تحت الأرض؟ قال " الماء " قال فما تحت
الماء؟ قال " ظلمة " قال فما تحت الظلمة قال " الهواء " قال فما تحت الهواء؟ قال " الثرى " قال فما تحت
الثرى؟ ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء وقال " انقطع علم الخلق عند علم الخالق أيها السائل ما المسؤول
عنها بأعلم من السائل " قال فقال صدقت أشهد أنك رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس هل تدرون من
هذا؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال " هذا جبريل عليه السلام " هذا حديث غريب جدا وسياق عجيب تفرد به
القاسم بن عبد الرحمن هذا وقد قال فيه يحيى بن معين ليس يساوي شيئا وضعفه أبو حاتم الرازي، وقال
ابن عدي لا يعرف قلت وقد خلط في هذا الحديث ودخل عليه شئ في شئ وحديث في حديث وقد يحتمل أنه تعمد ذلك
أو أدخل عليه فيه والله أعلم وقوله " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " أي أنزل هذا القرآن الذي خلق
الأرض والسماوات العلى الذي يعلم السر وأخفى كما قال تعالى " قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض
إنه كان غفورا رحيما " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعلم السر وأخفى قال السر ما أسره ابن آدم في
نفسه " وأخفى " ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه فالله يعلم ذلك كله فعلمه فيما مضى من
ذلك وما بقي علم واحد وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة وهو قوله " ما خلقكم ولا بعثكم إلا
كنفس واحدة " وقال الضحاك يعلم السر وأخفى قال السر ما تحدث به نفسك وأخفى ما لم تحدث به نفسك
بعد وقال سعيد بن جبير أنت تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غدا والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غدا، وقال
مجاهد " وأخفى " يعني الوسوسة وقال أيضا هو وسعيد بن جبير وأخفى أي ما هو عامله مما لم يحدث به
نفسه، وقوله " الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى " أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو ذو
الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف
ولله الحمد والمنة.
وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني انست نارا لعلي أتاكم بقبس أو أجد على النار
150

هدى (10)
من ههنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى وكيف كان ابتداء الوحي إليه وتكليمه إياه وذلك بعد ما قضى
موسى الاجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم وسار بأهله قيل قاصدا بلاد مصر بعدما طالت الغيبة عنها
أكثر من عشر سنين ومعه زوجته فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية ونزل منزلا بين شعاب وجبال في برد وشتاء
وسحاب وظلام وضباب وجعل يقدح بزند معه ليوري نارا كما جرت له العادة به فجعل لا يقدح شيئا ولا يخرج منه
شرر ولا شئ فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نارا أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن
يمينه فقال لأهله يبشرهم " إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس " أي شهاب من نار وفي الآية الأخرى
" أو جذوة من النار " وهي الجمر الذي معه لهب " لعلكم تصطلون " دل على وجود البرد وقوله " بقبس " دل
على وجود الظلام وقوله " أو أجد على النار هدى " أي من يهديني الطريق دل على أنه قد تاه عن الطريق كما
قال الثوري عن أبي سعد الأعور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " أو أجد على النار هدى " قال من يهديني
إلى الطريق وكانوا شاتين وضلوا الطريق فلما رأى النار قال إن لم أجد أحدا يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون
بها.
فلما أتاها نودي (11) إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى (12) وأنا اخترتك فاستمع
لما يوحى (13) إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري (14) إن الساعة آتية أكاد أخفيها
لتجزى كل نفس يقول تعالى " فلما أتاها " أي النار واقترب منها " نودي يا موسى " وفي الآية الأخرى " نودي من شاطئ
الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله " وقال ههنا " إني أنا ربك " أي الذي
يكلمك ويخاطبك " فاخلع نعليك " قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد، من السلف كانتا من جلد
حمار غير ذكي وقيل إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبيعة وقال سعيد بن جبير كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه
إذا أراد أن يدخل الكعبة وقيل ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل وقيل غير ذلك والله أعلم. وقوله
" طوى " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو اسم للوادي وكذا قال غير واحد فعلى هذا يكون عطف
بيان وقيل عبارة عن الامر بالوطئ بقدميه، وقيل لأنه قدس مرتين وطوى له البركة وكررت والأول أصبح كقوله " إذ
ناداه ربه بالواد المقدس طوى " وقوله " وأنا اخترتك " كقوله " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي "
أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه وقد قيل إن الله تعالى قال يا موسى أتدري لم خصصتك بالتكليم
من بين الناس؟ قال لا قال لاني لم يتواضع إلي أحد تواضعك، وقوله " فاستمع لما يوحى " أي استمع الآن ما
أقول لك وأوحيه إليك " إنني أنا الله لا إله إلا أنا " هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله
وحده لا شريك له. وقوله " فاعبدني " أي وحدني وقم بعبادتي من غير شرك " وأقم الصلاة لذكري " قيل معناه
صل لتذكرني وقيل معناه وأقم الصلاة عند ذكرك لي ويشهد لهذا الثاني ما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن
ابن مهدي حدثنا المثنى بن سعيد عن قتادة عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل
عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال وأقم الصلاة لذكري " وفي الصحيحين عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك " وقوله " إن الساعة آتية " أي
قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها وقوله " أكاد أخفيها " قال الضحاك عن ابن عباس إنه كان يقرؤها أكاد أخفيها من
151

نفسي يقول لأنها لا تخفى من نفس الله أبدا وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس من نفسه وكذا قال مجاهد وأبو
صالح ويحيى بن رافع وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " أكاد أخفيها " يقول لا أطلع عليها أحدا غيري
وقال السدي ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلا قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة وهي في قراءة ابن مسعود إني
أكاد أخفيها من نفسي يقول كتمتها عن الخلائق حتى لو استطعت أن أكتمها من نفسي لفعلت. وقال قتادة أكاد
أخفيها وهي في بعض القراءات أخفيها من نفسي ولعمري لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء
والمرسلين قلت وهذا كقوله تعالى " قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله " وقال " ثقلت في
السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة " أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو
زرعة حدثنا منجاب حدثنا أبو نميلة حدثني محمد بن سهل الأسدي عن ورقاء قال أقرأنيها سعيد بن جبير أكاد
أخفيها يعني بنصب الألف وخفض الفاء يقول أظهرها ثم قال أما سمعت قول الشاعر:
داب شهرين ثم شهرا دميكا بأربكين يخفيان غميرا
قال السدي الغمير نبت رطب ينبت في خلال يبس والأربكين موضع والدميك الشهر التام وهذا الشعر لكعب
ابن زهير. وقوله سبحانه وتعالى " لتجزى كل نفس بما تسعى " أي أقيمها لا محالة لأجزي كل عامل بعمله
" فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " " وإنما تجزون ما كنتم تعملون " وقوله " فلا
يصدنك عنها من لا يؤمن بها " الآية المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة
وأقبل على ملاذه في دنياه وعصى مولاه واتبع هواه فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر " فتردى " أي تهلك
وتعطب قال الله تعالى " وما يغني عنه ماله إذا تردى ".
وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى (18) قال ألقها
يا موسى (19) فألقها فإذا هي حية تسعى (20) قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى (21)
هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دل على أنه لا يقدر على مثل هذا
إلا الله عز وجل وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل وقوله " وما تلك بيمينك يا موسى " قال بعض المفسرين إنما قال
له ذلك على سبيل الايناس له وقيل إنما قال له ذلك على وجه التقرير أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي
تعرفها فسترى ما نصنع بها الآن " وما تلك بيمنك يا موسى " استفهام تقرير " قال هي عصاي أتوكأ عليها "
أي أعتمد عليها في حال المشي " وأهش بها على غنمي " أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي، قال
عبد الرحمن بن القاسم عن الامام مالك: الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه
وثمره ولا يكسر العود فهذا الهش ولا يخبط وكذا قال ميمون بن مهران أيضا وقوله " ولي فيها مآرب أخرى "
أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك وقد تكلف بعضهم لذكر شئ من تلك المآرب التي أبهمت فقيل
كانت تضئ له بالليل وتحرس له الغنم إذا نام ويغرسها فتصير شجرة تظله وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة،
والظاهر أنها لم تكن كذلك ولو كانت كذلك لما استنكر موسى عليه الصلاة والسلام صيرورتها ثعبانا فما كان يفر
منها هاربا ولكن كل ذلك من الاخبار الإسرائيلية وكذا قول بعضهم إنها كانت لآدم عليه الصلاة والسلام وقول
الآخر إنها هي الدابة التي تخرج قبل يوم القيامة وروي عن ابن عباس أنه قال كان اسمها ما شاء والله أعلم
بالصواب. وقوله تعالى " قال ألقها يا موسى " أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها " فألقاها فإذا هي
حية تسعى " أي صارت في الحال حية عظيمة ثعبانا طويلا يتحرك حركة سريعة فإذا هي تهتز كأنها جان وهو
أسرع الحيات حركة ولكنه صغير فهذه في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة " تسعى " أي تمشي وتضطرب قال
152

ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حفص بن جميع حدثنا سماك عن عكرمة عن ابن عباس
" فألقاها فإذا هي حية تسعى " ولم تكن قبل ذلك حية فمرت بشجرة فأكلتها ومرت بصخرة فابتلعتها فجعل موسى
يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبرا ونودي أن يا موسى خذها فلم يأخذها ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف
فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين فأخذها. وقال وهب بن منبه في قوله " فألقاها فإذا هي حية تسعى " قال
فألقاها على وجه الأرض ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون يدب يلتمس كأنه يبتغي شيئا يريد
أخذه يمر بالصخرة مثل الخلفة من الإبل فيلتقمها ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها،
عيناه تتقدان نارا وقد عاد المحجن منها عرفا قيل شعر مثل النيازك وعاد الشعبتان فما مثل القليب الواسع فيه
أضراس وأنياب لها صريف فلما عاين ذلك موسى ولى مدبرا ولم يعقب فذهب حتى أمعن ورأى أنه قد أعجز الحية
ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال " خذها "
بيمينك " ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى " وعلى موسى حينئذ مدرعة من صوف فدخلها بخلال من عيدان فلما أمره
بأخذها لف طرف المدرعة على يده فقال له ملك: أرأيت يا موسى لو أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني
عنك شيئا قال لا ولكني ضعيف ومن ضعف خلقت فكشف عن يده ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس
الأضراس والأنياب ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها إذا توكأ بين
الشعبتين ولهذا قال تعالى " سنعيدها سيرتها الأولى " أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك.
واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى (22) لنريك من آياتنا الكبرى (23) اذهب إلى
فرعون إنه طغى (24) قال رب اشرح لي صدري (25) ويسر لي أمري (26) واحلل عقدة من لساني (27) يفقهوا
قولي (28) واجعل لي وزيرا من أهلي (29) هارون أخي (30) اشدد به أزري (1 3) وأشركه في أمري (32) كي نسبحك
كثيرا (33) ونذكرك كثيرا (34) إنك كنت بنا بصيرا (35)
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى وههنا
عبر عن ذلك الله أمره أن يدخل يده في جيبه كما صرح به في الآية الأخرى وههنا
عبر عن ذلك بقوله " واضمم يدك إلى جناحك " وقال في مكان آخر " واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك
برهانان من ربك إلى فرعون وملئه " وقال مجاهد واضمم يدك إلى جناحك كفك تحت عضدك وذلك أن موسى
عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر وقوله " تخرج بيضاء من غير
سوء " أي من غير برص ولا أذى ومن غير شين قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك والسدي
وغيرهم وقال الحسن البصري أخرجها والله كأنها مصباح فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل ولهذا قال تعالى
" لنريك من آياتنا الكبرى " وقال وهب قال له ربه: أدنه فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر
وذهبت عنه الرعدة وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه وقوله " اذهب إلى فرعون إنه طغى " أي اذهب إلى
فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه وهاربا فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك وأمره فليحسن إلى بني
إسرائيل ولا يعذبهم فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الاعلى. قال وهب بن منبه " قال الله لموسى
انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني وإن معك يدي وبصري وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة
في أمري فأنت جند عظيم من جندي بعثتك إلى خلق ضعيف من خلق بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا عني
حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي
لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار فإن أمرت السماء حصبته وإن أمرت
الأرض بلعته وإن أمرت الجبال دمرته وإن أمرت البحار غرقته ولكنه هان علي وسقط من عيني ووسعه حلمي
153

واستغنيت بما عندي وحقي أني أنا الغني لا غني غيري فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي وذكره
أيامي وحذره نقمتي وبأسي وأخبره أنه لا يقوم شئ لغضبي وقل له فيما بين ذلك قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى
وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا فإن ناصيته
بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني وقل له أجب ربك فإنه واسع المغفرة وقد أمهلك أربعمائة سنة
في كلها أنت مبارزه بالمحاربة تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله وهو يمطر عليك السماء وينبت لك الأرض لم
تسقم ولم تهرم ولم تفتقر ولم تغلب ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل ولكنه ذو أناة وحلم عظيم وجاهده
بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها لفعلت ولكن ليعلم هذا العبد
الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة ولا قليل مني تغلب الفئة الكثيرة بإذني وتعجبكما زينته
ولا ما متع به ولا تمدا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ولو شئت أن أزينكما من الدنيا
بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك وأزويه
عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديما ما جرت عادتي في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها كما يذود الراعي
الشفيق إبله عن مبارك الغرة وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم في دار كرامتي سالما موفرا لم تكلمه
الدنيا واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا فإنها زينة المتقين عليهم منها
لباس يعرفون به من السكينة والخشوع وسيماهم في وجوههم من أثر السجود أولئك أوليائي حقا حقا، فإذا لقيتهم
فاخفض لهم جناحك وذلل قلبك ولسانك واعلم أنه من أهان لي وليا أو أخافه فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرض
لي نفسه ودعاني إليها وأنا أسرع شئ إلى نصرة أوليائي أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي أم يظن الذي
يعاديني أن يعجزني أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة لا أكل
نصرتهم إلى غيري. رواه ابن أبي حاتم " قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري " هذا سؤال من موسى عليه
السلام لربه عز وجل أن يشرح له صدره فيما بعثه به فإنه قد أمره بأمر عظيم وخطب جسيم: بعثه إلى أعظم ملك
على وجه الأرض إذ ذاك وأجبرهم وأشدهم كفرا وأكثرهم جنودا وأعمرهم ملكا وأطغاهم وأبلغهم تمردا بلغ من
أمره أن ادعى أنه لا يعرف الله ولا يعلم لرعاياه إلها غيره، وهذا وقد مكث موسى في داره مدة وليدا عندهم في
حجر فرعون على فراشه ثم قتل منهم نفسا فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم هذه المدة بكمالها ثم بعد هذا بعثه ربه
عز وجل إليهم نذيرا يدعوهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له ولهذا قال " رب اشرح لي صدري
ويسر لي أمر " أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلا فلا طاقة لي بذلك " واحلل عقدة من
لساني يفقهوا قولي " وذلك لما كان أصابه من اللثغ حين عرض عليه التمرة والجمرة فأخذ الجمرة فوضعها على
لسانه كما سيأتي بيانه وما سأل أن يزول ذلك بالكلية بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر
الحاجة، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بحسب الحاجة ولهذا بقيت بقية قال الله تعالى إخبارا
عن فرعون أنه قال " أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين " أي يفصح بالكلام، وقال الحسن
البصري واحلل عقدة من لساني قال حل عقدة واحدة ولو سأل أكثر من ذلك أعطي وقال ابن عباس شكا
موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام
وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه سؤله فحل عقدة من
لسانه وقال ابن أبي حاتم ذكر عن عمر بن عثمان حدثنا بقية عن أرطاة بن المنذر حدثني بعض أصحاب محمد
ابن كعب عنه قال أتاه ذو قرابة له فقال له ما بك بأس لولا أنك تلحن في كلامك ولست تعرب في قراءتك فقال
القرظي يا ابن أخي ألست أفهمك إذا حدثتك. قال نعم. قال فإن موسى عليه السلام إنما سأل ربه أن يحلل
عقدة من لسانه كي يفقه بنو إسرائيل كلامه ولم يزد عليها هذا لفظه، وقوله " واجعل لي وزيرا من أهلي هارون
154

أخي " وهذا أيضا سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه وهو مساعدة أخيه هارون له. قال الثوري
عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: نبئ هارون ساعتئذ حين نبئ موسى عليهما السلام وقال
ابن أبي حاتم ذكر عن ابن نمير حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها خرجت فيما كانت
تعتمر فنزلت ببعض الاعراب فسمعت رجلا يقول أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا لا ندري قال أنا والله
أدري؟ قالت فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه قال موسى حين
سأل لأخيه النبوة فقلت صدق والله قلت ومن هذا قال الله تعالى في الثناء على موسى عليه السلام " وكان عند
الله وجيها " وقوله " واشدد به أزري " قال مجاهد ظهري " وأشركه في أمري " أي في مشاورتي " كي نسبحك كثيرا
ونذكرك كثيرا " قال مجاهد لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا،
وقوله " إنك كنت بنا بصيرا " أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون فلك الحمد
على ذلك.
قال قد أوتيت سؤلك يا موسى (36) ولقد مننا عليك مرة أخرى (37) إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى (38) أن اقذفيه
في التابوت فاقذفيه في اليم فيلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على
عيني (39) إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن
وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتنك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى (40)
هذا إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام فيما سأل من ربه عز وجل وتذكير له بنعمه السالفة عليه فيما كان من
أمر أمه حين كانت ترضعه وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها
الغلمان فاتخذت له تابوتا فكانت ترضعه ثم تضعه فيه وترسله في البحر وهو النيل وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت
مرة لتربط الحبل فانفلت منها وذهب به البحر فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله " وأصبح فؤاد
أم موسى فارغا إن كانت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها " فذهب به البحر إلى دار فرعون " فالتقطه آل فرعون
ليكون لهم عدوا وحزنا " أي قدرا مقدورا من الله حيث كانوا هم يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذرا من وجود
موسى فحكم الله وله السلطان العظيم والقدرة التامة أن لا يربى إلا على فراش فرعون ويغذى بطعامه وشرابه مع
محبته وزوجته له هذا إجابة من الله وشرابه مع محبته وزوجته له ولهذا قال الله تعالى " يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني " أي عند عدوك جعلته
يحبك قال سلمة بن كهيل وألقيت عليك محبة مني قال حببتك إلى عبادي " ولتصنع على عيني " قال أبو
عمران الجوني تربى بعين الله وقال قتادة تغذى على عيني وقال معمر بن المثنى " ولتصنع على عيني " بحيث
أرى وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف وغذاؤه عندهم غذاء الملك
فتلك الصنعة. وقوله " إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها " وذلك أنه
لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها قال الله تعالى " وحرمنا عليه المراضع من قبل " فجاءت
أخته وقالت " هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون " تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم
بالاجرة فذهبت به وهم معها إلى أمه فعرضت عليه ثديها فقبله ففرحوا بذلك فرحا شديدا واستأجروها على إرضاعه
فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة أعظم وأجزل، ولهذا جاء في الحديث " مثل الصانع الذي
يحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها " وقال تعالى ههنا " فرجعناك إلى أمك كي تقر
عينها ولا تحزن " أي عليك " وقتلت نفسا " يعني القبطي " فنجيناك من الغم " وهو ما حصل له بسبب عزم آل
فرعون على قتله ففر منهم هاربا حتى ورد ماء مدين وقال له ذلك الرجل الصالح " لا تخف نجوت من القوم
155

الظالمين ". وقوله " وفتناك فتونا " قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي رحمه الله في كتاب
التفسير من سننه قوله " وفتناك فتونا " (حديث الفتون) حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا أصبغ
ابن زيد حدثنا القاسم بن أبي أيوب أخبرني سعيد بن جبير قال: سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عز وجل
لموسى عليه السلام " وفتناك فتونا " فسألته عن الفتون ما هو فقال استأنف النهار يا ابن جبير فإن لها حديثا طويلا
فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لإنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون فقال تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان
الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذمته أبناء وملوكا فقال بعضهم إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون
فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب فلما هلك قالوا ليس هكذا كان وعد إبراهيم فقال فرعون كيف
ترون فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل فلا يجدون مولودا ذكرا
إلا ذبحوه ففعلوا ذلك فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم والصغار يذبحون قالوا ليوشكن أن تفنوا
بني إسرائيل فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم فاقتلوا عاما كل مولود ذكرا واتركوا بناتهم
ودعوا عاما فلا تقتلوا منهم أحدا فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار فإنهم لن يكثروا بمن تستحيون منهم
فتخافوا مكاثرتهم وإياكم ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم فأجمعوا أمرهم على ذلك فحملت أم موسى بهارون
في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان فولدته علانية آمنة فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها
الهم والحزن وذلك من الفتون يا ابن جبير ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به فأوحى الله إليها أن لا تخافي
ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم فلما ولدت
فعلت ذلك فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان فقالت في نفسها ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان
أحب إلي من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فرضة مستقي جواري امرأة
فرعون فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت فقال بعضهن إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة
الملك بما وجدنا فيه فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئا حتى دفعنه إليها فلما فتحته رأت فيه غلاما فألقى الله عليه
منها محبة لم يلق منها على أحد قط وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شئ إلا من ذكر موسى فلما سمع
الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت لهم أقروه فإن هذا
الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتي فرعون فأستوهبه منه فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم وإن أمر
بذبحه لم ألمكم فأتت فرعون فقالت قرة عين لي ولك فقال فرعون يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " والذي يحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن حرمه
ذلك " فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها لان تختار له ظئرا فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل
على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع
الناس ترجو أن تجد له ظئرا تأخذه منها فلم يقبل وأصبحت أم موسى والها فقالت لأخته قصي أثره واطلبيه هل
تسمعين له ذكرا أحي ابني أم قد أكلته الدواب ونسيت ما كان الله وعدها فيه فبصرت به أخته عن جنب وهم لا
يشعرون، والجنب أن يسمو بصر الانسان إلى شئ بعيد وهو إلى جنبه وهو لا يشعر به فقالت من الفرح حين أعياهم
الظؤرات أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فأخذوها فقالوا ما يدريك ما نصحهم له هل
تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك وذلك من الفتون يا ابن جبير فقالت نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر
الملك ورجاء منفعة الملك فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر فجاءت أمه فلما وضعته في حجرها نزا إلى
ثديها فمصه حتى امتلا جنباه ريا وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرا فأرسلت إليها
فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت امكثي ترضعي ابني هذا فإني لم أحب شيئا حبه قط قالت أم موسى لا
أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيرا
156

فإني غير تاركة بيتي وولدي، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه فتعاسرت على امرأة فرعون وأيقنت أن الله
منجز وعده فرجعت به إلى بيتها من يومها وأنبته الله نباتا حسنا وحفظه لما قد قضى فيه فلم يزل بنو إسرائيل وهم
في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لام موسى أزيريني ابني
فدعتها يوما تزيرها إياه فيه، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني
اليوم بهدية وكرامة لارى ذلك وأنا باعثة أمينا يحصي ما يصنع كل إنسان منكم فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل
تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به
ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ثم قالت لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه فلما دخلت به عليه جعله في حجره
فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض فقال الغواة من أعداء الله لفرعون ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه
أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه وذلك من الفتون يا ابن جبير بعد كل بلاء ابتلي
به وأريد به فتونا فجاءت امرأة فرعون فقالت ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال ألا ترينه يزعم أنه
يصرعني ويعلوني فقالت اجعل بيني وبينك أمرا يعرف الحق به ائت بجمرتين ولؤلؤتين فقدمهن إليه فإن بطش
باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحدا لا يؤثر
الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين، فانتزعهما منه مخافة أن
يحرقا يده، فقالت المرأة: ألا ترى فصرفه الله عنه بعدما كان قد هم به وكان الله بالغا فيه أمره فلما بلغ أشده وكان من الرجال لم
يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع
فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي فاستغاثه
الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضبا شديدا لأنه تناوله وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم لا
يعلم الناس إلا إنما ذلك من الرضاع إلا أم موسى إلا أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه
غيره فوكز موسى الفرعوني فقتله وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي فقال موسى حين قتل الرجل هذا
من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين ثم قال " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم "
فأصبح في المدينة خائفا يترقب الاخبار فأتي فرعون فقيل له إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا
بحقنا ولا ترخص لهم فقال ابغونى قاتله ومن يشهد عليه فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقيد
بغير بينة ولا ثبت فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتا إذا بموسى من الغد قد
رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى فندم على
ما كان منه وكره الذي رأى فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس
واليوم إنك لغوي مبين فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال له ما قال فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل
فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعدما قال له إنك لغوي مبين أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني
فخاف الإسرائيلي وقال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى
ليقتله فتتاركا وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول يا موسى أتريد أن تقتلني كما
قتلت نفسا بالأمس فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على
هينتهم يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا حتى
سبقهم إلى موسى فأخبره وذلك من الفتون يا ابن جبير، فخرج موسى متوجها نحو مدين ولم يلق بلاء قبل ذلك
وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل فإنه قال " عسى ربي أن يهديني سواء السبيل، ولما ورد ماء
مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان " يعني بذلك حابستين غنمهما فقال لهما ما
خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا ليس لنا قوة نزاحم القوم وإنما نسقي من فضول حياضهم فسقى لهما
157

فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا حتى كان أول الرعاء فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى عليه السلام
فاستظل بشجرة وقال " ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير " واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حفلا
بطانا فقال إن لكما اليوم لشأنا فأخبرتاه بما صنع موسى فأمر إحداهما أن تدعوه فأتت موسى فدعته فلما كلمه قال لا
تخف نجوت من القوم الظالمين ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته فقالت إحداهما " يا أبت
استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " فاحتملته الغيرة على أن قال لها ما يدريك ما قوته وما أمانته فقالت أما
قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه وأما الأمانة فإنه نظر إلي حين
أقبلت إليه وشخصت له فلما علم أني امرأة صوب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ثم قال لي امشي خلفي
وانعتي لي الطريق فلم يفعل هذا إلا وهو أمين فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت فقال له هل لك " أن
أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك
ستجدني إن شاء الله من الصالحين " ففعل فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة وكانت سنتان عدة منه
فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرا، قال سعيد وهو ابن جبير: فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال
هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت لا وأنا يومئذ لا أدري فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك، فقال أما
علمت أن ثمانيا كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئا ويعلم أن الله كان قاضيا عن موسى
عدته التي كان وعده فإنه قضى عشر سنين فلقيت النصراني فأخبرته ذلك فقال الذي سألته فأخبرك أعلم منك
بذلك، قلت أجل وأولى، فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن فشكا
إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام
وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءا ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، فآتاه الله سؤله وحل عقدة
من لسانه وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام، فانطلقا
جميعا إلى فرعون فأقاما على بابه حينا لا يؤذن لهما ثم أذن لهما بعد حجاب شديد فقالا " إنا رسولا ربك " قال
فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن، قال فما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت قال
أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل، فأبى عليه وقال ائت بآية إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا
هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون فلما رآها فرعون قاعدة إليه خافها فاقتحم عن سريره
واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء يعني من غير برص ثم ردها
فعادت إلى لونها الأول فاستشار الملا حوله فيما رأى فقالوا له هذان ساحران يريدان أن يخرجاكما من أرضكم
بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش وأبوا على موسى أن يعطوه شيئا مما طلب
وقالوا له أجمع لهما السحرة فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما فأرسل إلى المدائن فحشر له كل
ساحر متعالم، فلما أتوا فرعون قالوا بما يعمل هذا الساحر؟ قالوا يعمل بالحيات، قالوا فلا والله ما أحد في
الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبنا؟ قال لهم أنتم أقاربي
وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شئ أحببتم فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى قال سعيد بن جبير
حدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء. فلما
اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض انطلقوا فلنحضر هذا الامر " لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم
الغالبين " يعنون موسى وهارون استهزاء بهما، " فقالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين * قال
بل ألقوا فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون "، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في
نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيمة فاغرة فاها فجعلت العصي تلتبس بالحبال
حتى صارت جرزا إلى الثعبان تدخل فيه حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته. فلما عرف السحرة ذلك قالوا لو
158

كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ولكن هذا أمر من الله عز وجل آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله
ونتوب إلى الله مما كنا عليه، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون
" فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين " وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه فمن
رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى، فلما طال
مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا مضت أخلف موعده
وقال هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات
مفصلات كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل فإذا كف
ذلك أخلف موعده ونكث عهده حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى
أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين فتبعه بجنود عظيمة كثيرة وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى
بعصاه فانفلق اثني عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه، فنسي
موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا
لله. فلما تراءى الجمعان وتقاربا قال أصحاب موسى إنا لمدركون افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم
تكذب. قال وعدني ربي إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة حتى أجاوزه ثم ذكر بعد ذلك العصى فضرب
البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى، فلما
أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم البحر كما أمر فلما جاوز موسى البحر
قال أصحابه إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم " قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم
تجهلون * إن هؤلاء متبر ما هم فيه " الآية. قد رأيتم من العبر وسمعتم ما يكفيكم ومضى فأنزلهم موسى منزلا
وقال أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم فيها، فلما
أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوما وقد صامهن ليلهن ونهارهن وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم
فتناول موسى من نبات الأرض شيئا فمضغه فقال له ربه حين أتاه لم أفطرت وهو أعلم بالذي كان، قال يا رب إني
كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح قال أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح
المسك ارجع فصم عشرا ثم ائتني ففعل موسى عليه السلام ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في
الاجل ساءهم ذلك وكان هارون قد خطبهم وقال إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع
ولكم فيهم مثل ذلك فإني أرى أنكم تحتسبون مالكم عندهم ولا حل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا
برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن
يقذفوه في ذلك الحفير ثم أوقد عليه النار فأحرقته فقال لا يكون لنا ولا لهم وكان السامري من قوم يعبدون البقر
جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا فقضى له أن رأى أثرا
فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون يا سامري ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه
أحد طول ذلك فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ولا ألقيها لشئ إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها
أن يجعلها ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال أريد أن يكون عجلا فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو
حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح وله خوار، قال ابن عباس لا والله ما كان له صوت قط
إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه وكان ذلك الصوت من ذلك فتفرق بنو إسرائيل فرقا فقالت فرقة يا
سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة لا نكذب بهذا حتى يرجع
إلينا موسى فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة
159

هذا من عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في
العجل وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فأتبعوني وأطيعوا أمري "
قالوا فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا، هذه أربعون يوما قد مضت، وقال سفهاؤهم أخطأ ربه فهو يطلبه
يتبعه، فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا "
فقال لهم ما سمعتم في القرآن وأخذ برأس أخيه يجره إليه وألقى الألواح من الغضب ثم إنه عذر أخاه بعذره
واستغفر له وانصرف إلى السامري فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال " قبضت قبضة من أثر الرسول "
وفطنت لها وعميت عليكم " فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس
وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " ولو كان إلها
لم يخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون فقالوا لجماعتهم
يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فيكفر عنا ما عملنا فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك لا
يألو الخير خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل فانطلق بهم يسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض فاستحيا
نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل
السفهاء منا " وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به فلذلك رجفت بهم
الأرض فقال " ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون، الذين
يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل " فقال يا رب سألتك التوبة لقومي
فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة فقال له إن
توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف ولا يبالي من قتل في ذلك الموطن وتاب
أولئك الذين كان خفى على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل
والمقتول ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب
فأمرهم بالذي أمرهم به أن يبلغهم من الوظائف فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة
ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم
وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون
خلقهم خلق منكر وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها فقالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين لا طاقة لنا بهم ولا
ندخلها ما داموا فيها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون قيل ليزيد هكذا قرأت قال نعم من
الجبارين آمنا بموسى وخرجا إليه قالوا نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا
قلوب لهم ولا منعة عندهم فأدخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ويقول أناس إنهم من قوم موسى فقال
الذين يخافون بنو إسرائيل " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا
قاعدون " فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى من المعصية وإساءتهم
حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض
يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى وجعل لهم ثيابا
لا تبلى ولا تتسخ وجعل بين ظهرانيهم حجرا مربعا وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل
ناحية ثلاثة أعين وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلا وجدوا ذلك الحجر بينهم
بالمكان الذي كان فيه بالأمس. رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي أن معاوية سمع
ابن عباس يحدث هذا الحديث فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل فقال
كيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك فغضب ابن عباس فأخذ بيد
160

معاوية وانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري فقال له يا أبا إسحاق هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل
موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال إنما أفشى عليه الفرعوني بما
سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره وهكذا رواه النسائي في السنن الكبرى وأخرجه أبو جعفر بن
جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس وليس فيه
مرفوع إلا قليل منه وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره
والله أعلم وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضا، وقوله عز وجل:
واصطنعتك لنفسي (41) اذهب أنت وأخوك بآيتي ولا تنيا في ذكري (42) اذهبا إلى فرعون إنه طغى (43)
فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى (44)
يقول تعالى مخاطبا لموسى عليه السلام إنه لبث مقيما في أهل مدين فارا من فرعون وملئه يرعى على صهره حتى
انتهت المدة وانقضى الاجل ثم جاء موافقا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد والامر كله لله تبارك وتعالى وهو المسير
عباده وخلقه فيما يشاء ولهذا قال " ثم جئت على قدر يا موسى " قال مجاهد أي على موعد، وقال عبد الرزاق
عن معمر عن قتادة في قوله " ثم جئت على قدر يا موسى " قال على قدر الرسالة والنبوة. وقوله " واصطنعتك
لنفسي " أي اصطفيتك واجتبيتك رسولا لنفسي أي كما أريد وأشاء وقال البخاري عند تفسيرها حدثنا الصلت
ابن محمد حدثنا مهدي بن ميمون حدثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " التقى آدم وموسى
فقال موسى أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك
لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال نعم قال فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني قال نعم فحج آدم موسى " أخرجاه
وقوله " اذهب أنت وأخوك بآياتي " أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي " ولا تنأيا في ذكرى " قال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس لا تبطئا، وقال مجاهد عن ابن عباس لا تضعفا والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل
يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عونا لهما عليه وقوة لهما وسلطانا كاسرا له كما جاء في
الحديث " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه ". وقوله " اذهبا إلى فرعون إنه طغى " أي تمرد
وعتا وتجبر على الله وعصاه " فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون
في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة
واللين كما قال يزيد الرقاشي عند قوله " فقولا له قوله لينا ".
يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟
وقال وهب بن منبه قولا له إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة وعن عكرمة في قوله " فقولا له قولا لينا " قال لا
إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد عن الحسن البصري " فقولا له قولا لينا " اعذرا إليه قولا له إن لك
ربا ولك معادا وأن بين يديك جنة ونارا، وقال بقية عن علي بن هارون عن رجل عن الضحاك بن مزاحم عن
النزال بن سبرة عن علي في قوله " فقولا له قولا لينا " قال كنه وكذا روى عن سفيان الثوري كنه بأبي مرة
والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع كما
قال تعالى " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن " وقوله " لعله يتذكر أو
يخشى " أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة أو يخشى أي يوجد طاعة من خشية ربه كما قال تعالى
" لمن أراد أن يذكر أو يخشى " فالتذكر الرجوع عن المحذور والخشية تحصيل الطاعة، وقال الحسن البصري
" لعله يتذكر أو يخشى " يقول: لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه، وههنا نذكر شعر
161

زيد بن عمرو بن نفيل ويروى لامية بن أبي الصلت فيما ذكره ابن إسحاق.
وأنت الذي من فضل من ورحمة * بعثت إلى موسى رسولا مناديا
فقلت له فاذهب وهارون فادعوا * إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له هل أنت سويت هذه * بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له أأنت رفعت هذه * بلا عمد أرفق إذن بك بانيا
وقولا له أأنت سويت وسطها * منيرا إذا ما جنه الليل هاديا
قولا له من يخرج الشمس بكرة * فيصبح ما مست من الأرض ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى * فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه * ففي ذاك آيات لمن كان واعيا
وقوله عز وجل: قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى (45) قال لا تخافا إنني معكما أسمع وارى (46) قأتياه فقولا إنا رسولا
ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئنك بآية من ربك والسلم على من اتبع الهدى (47) إنا قد
أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى (48)
يقول تعالى إخبارا عن موسى وهارون عليهما السلام أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه " إننا نخاف أن
يفرط علينا أو أن يطغى " يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك. قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن يفرط يعجل وقال مجاهد يبسط علينا وقال الضحاك عن ابن عباس أو أن يطغى:
يعتدي " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه وأرى
مكانكما ومكانه لا يخفى علي من أمركم شئ واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلا بإذني
وبعد أمري وأنا معكما بحفظي ونصري وتأييدي وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي
حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال لما بعث الله عز وجل موسى إلى
فرعون فقال رب أي شئ أقول قال قل هيا شراهيا قال الأعمش فسر ذلك أنا الحي قبل كل شئ والحي بعد كل
شئ إسناده جيد وشئ غريب " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس أنه قال
مكثا على بابه حينا لا يؤذن لهما حتى أذن لهما بعد حجاب شديد، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار أن موسى
وأخاه هارون خرجا فوقفا بباب فرعون يلتمسان الاذن عليه وهما يقولان إنا رسولا رب العالمين فآذنوا بنا هذا الرجل
فمكثا فيما بلغني سنتين يغدوان ويروحان لا يعلم بهما ولا يجترئ أحد على أن يخبره بشأنهما حتى دخل عليه
بطال له يلاعبه ويضحكه فقال له أيها الملك إن على بابك رجلا يقول قولا عجيبا يزعم أن له إلها غيرك أرسله
إليك، قال ببابي؟ قال نعم قال أدخلوه فدخل ومعه أخوه هارون وفي يده عصا فلما وقف على فرعون قال إني
رسول رب العالمين فعرفه فرعون، وذكر السدي أنه لما قدم بلاد مصر ضاف أمه وأخاه وهما لا يعرفانه وكان
طعامهما ليلتئذ الطفيل وهو اللفت ثم عرفاه وسلما عليه فقال له موسى يا هارون إن ربي قد أمرني أن آتي هذا
الرجل فرعون فأدعوه إلى الله وأمرك أن تعاونني قال افعل ما أمرك ربك فذهبا وكان ذلك ليلا فضرب موسى باب
القصر بعصاه فسمع فرعون فغضب وقال من يجترئ على هذا الصنيع الشديد فأخبره السدنة والبوابون بأن ههنا
رجلا مجنونا يقول إنه رسول الله فقال علي به فلما وقفا بين يديه قالا وقال لهما ما ذكر الله في كتابه وقوله " قد
162

جئناك بآية من ربك " أي بدلالة ومعجزة من ربك " والسلام على من اتبع الهدى " أي والسلام عليك إن اتبعت
الهدى ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتابا كان أوله " بسم الله الرحمن الرحيم من محمد
رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام فأسلم تسلم يؤتك
الله أجرك مرتين " وكذلك لما كتب مسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا صورته من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول
الله سلام عليك أما بعد فإني قد أشركتك في الامر فلك المدر ولي الوبر ولكن قريش قوم يعتدون. فكتب إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض لله يورثها
من يشأ من عباده والعاقبة للمتقين " ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون " والسلام على من اتبع
الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم
أن العذاب متحمض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته كما قال تعالى " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا * فإن
الجحيم هي المأوى " وقال تعالى " فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى " وقال
تعالى " فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى " أي كذب بقلبه وتولى بفعله.
قال فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى (50) قال فما بال القرون الأولى (51) قال
علمها عند ربي في كتب لا يضل ربي ولا ينسى (52)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى منكرا وجود الصانع الخالق إله كل شئ وربه ومليكه قال " فمن
ربكما يا موسى " أي الذي بعثك وأرسلك من هو فإني لا أعرفه وما علمت لكم من إله غيري قوله " قال ربنا الذي
أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يقول خلق لكل شئ زوجه وقال الضحاك
عن ابن عباس جعل الانسان إنسانا والحمار حمارا والشاة شاة وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد اعطى كل شئ
صورته وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد سوى خلق كل دابه وقال سعيد بن جبير في قوله " اعطى كل شئ خلقه ثم
هدى " قال أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه ولم يجعل للانسان من خلق الدابة ولا للدابة من خلق الكلب
ولا للكلب من خلق الشاة وأعطى كل شئ ما ينبغي له من النكاح وهيأ كل شئ على ذلك ليس شئ منها يشبه
شيئا من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح، وقال بعض المفسرين أعطى كل شئ خلقه ثم هدى كقوله تعالى
" الذي قدر فهدى " أي قدر قدرا وهدى الخلائق إليه أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق ثم الخلائق ماشون على
ذلك لا يحيدون عنه ولا يقدر أحد على الخروج منه، يقول ربنا الذي خلق الخلق وقدر القدر وجبل الخليقة على
ما أراد " قال فما بال القرون الأولى " أصح الأقوال في معنى ذلك أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله
هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى شرع يحتج بالقرون الأولى أي الذين لم يعبدوا الله أي فما بالهم إذا كان الامر
كذلك لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره فقال له موسى في جواب ذلك هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط
عليهم وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار " لا يضل ربي ولا ينسى " أي لا يشذ
عنه شئ ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئا يصف علمه تعالى بأنه بكل شئ محيط وأنه لا ينسى شيئا تبارك
وتعالى وتقدس وتنزه فإن علم المخلوق يعتريه نقصانين أحدهما عدم الإحاطة بالشئ والآخر نسيانه بعد علمه فنزه
نفسه عن ذلك.
الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات
شتى (53) كلوا وارعوا أنعمكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى (54) * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها
163

نخرجكم تارة أخرى (55) ولقد أرينه آياتنا كلها فكذب وأبى (56)
هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عز وجل حين سأله فرعون عنه فقال " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم
هدى " ثم اعترض الكلام بين ذلك ثم قال " الذي جعل لكم الأرض مهدا " وفي قراءة بعضهم مهدا أي قرارا
تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها " وسلك لكم فيها سبلا " أي جعل لكم طرقا تمشون
في مناكبها كما قال تعالى " وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون " " وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من
نبات شتى " أي من أنواع النباتات من زروع وثمار ومن حامض وحلو ومر وسائر الأنواع " كلوا وارعوا انعامكم "
أي شئ لطعامكم وفاكهتكم وشئ لانعامكم لأقواتها خضرا ويبسا " إن في ذلك لآيات " أي لدلالات وحجج وبراهين
" لاولي النهي " أي لذوي العقول السليمة المستقيمة على أنه لا إله إلا الله ولا رب سواه " منها خلقناكم وفيها
نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " أي من الأرض مبدؤكم فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض
وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ومنها نخرجكم تارة أخرى " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون
إن لبثتم إلا قليلا " وهذه الآية كقوله تعالى " قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون " وفي الحديث الذي
في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حضر جنازة فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر وقال منها خلقناكم
ثم أخذ أخرى وقال وفيها نعيدكم ثم أخرى وقال ومنها نخرجكم تارة أخرى وقوله " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب
وأبى " يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفرا وعنادا
وبغيا كما قال تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " الآية
قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه
نحن ولا أنت مكانا سوى (58) قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى وهى إلقاء عصاه فصارت ثعبانا عظيما ونزع
يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء فقال هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس
فيتبعونك وتكاثرنا بهم ولا يتم هذا معك فإن عندنا سحرا مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه " فاجعل بيننا وبينك
موعدا " أي يوما نجتمع نحن وأنت فيه فنعارض ما جئت به بما عندك من السحر في مكان معين ووقت معين فعند
ذلك " قال " لهم موسى " موعدكم يوم الزينة " وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم واجتماع
جميعهم ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ومعجزات الأنبياء وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية
ولهذا قال " وأن يحشر الناس " أي جميعهم " ضحى " أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح،
وهكذا شأن الأنبياء كل أمرهم بين واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج ولهذا لم يقل ليلا ولكن نهارا ضحى قال
ابن عباس وكان يوم الزينة يوم عاشوراء وقال السدي وقتادة وابن زيد كان يوم عيدهم وقال سعيد بن جبير كان يوم
سوقهم ولا منافاة قلت وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده كما ثبت في الصحيح وقال وهب بن منبه قال فرعون يا
موسى اجعل بيننا وبينك أجلا ننظر فيه قال موسى لم أؤمر بهذا إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت
إليك فأوحى الله إلى موسى أن اجعل بينك وبينه أجلا وقل له أن يجعل هو قال فرعون اجعله إلى أربعين يوما ففعل
وقال مجاهد وقتادة مكانا سوى منصفا وقال السدي عدلا وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مكانا سوى مستو بين
الناس وما فيه لا يكون صوت ولا شئ يتغيب بعض ذلك عن بعض مستوحين يرى.
فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من
164

افترى (61) فتنرعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم
بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64)
يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه لما تواعد هو وموسى إلى وقت ومكان معلومين تولى أي شرع في
جمع السحرة من مدائن مملكته كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان وقد كان السحر فيهم كثيرا نافقا جدا كما
قال تعالى " وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم " ثم أتي أي اجتمع الناس لميقات يوم معلوم وهو يوم الزينة
وجلس فرعون على سرير مملكته واصطف له أكابر دولته ووقفت الرعايا يمنة ويسرة وأقبل موسى عليه الصلاة
والسلام متوكئا على عصاه ومعه أخوه هارون ووقف السحرة بين يدي فرعون صفوفا وهو يحرضهم ويحثهم
ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم يقولون " أئن لنا لاجرا إن كنا نحن
الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " " قال موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا " أي لا تخيلوا للناس
بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها وإنها مخلوقة وليست مخلوقة فتكونون قد كذبتم على الله " فيسحتكم بعذاب "
أي يهلككم بعقوبة هلاكا لا بقية له " فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى * فتنازعوا أمرهم بينهم " قيل معناه أنهم تشاجروا فيما
بينهم فقائل يقول ليس هذا بكلام ساحر إنما هذا كلام نبي وقائل يقول بل هو ساحر وقيل غير هذا والله أعلم.
وقوله " وأسروا النجوى " أي تناجوا فيما بينهم " قالوا إن هذان لساحران " وهذه لغة لبعض العرب جاءت هذه
القراءة على إعرابها ومنهم من قرأ إن هذين لساحران وهذه اللغة المشهورة وقد توسع النحاة في الجواب عن
القراءة الأولى بما ليس هذا موضعه والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم: تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون
موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على
الناس وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه ويخرجاكم من أرضكم. وقوله " ويذهبا بطريقتكم
المثلى " أي ويستبدأ بهذه الطريقة وهي السحر فإنهم كانوا معظمين بسببها لهم أموال وأرزاق عليها يقولون إذا
غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم، وقد تقدم في حديث
الفتون أن ابن عباس قال في قوله " ويذهبا بطريقتكم المثلى " يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش. وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن عبد الرحمن بن إسحاق سمع الشعبي يحدث عن علي في
قوله ويذهبا بطريقتكم المثلى قال يصرفان وجوه الناس إليهما، وقال مجاهد " ويذهبا بطريقتكم المثلى " قال
أولو الشرف والعقل والأسنان. وقال أبو صالح بطريقتكم المثلى أشرافكم وسرواتكم وقال عكرمة بخيركم، وقال
قتادة وطريقتهم المثلى يومئذ بنو إسرائيل وكانوا أكثر القوم عددا وأموالا فقال عدو الله يريدان أن يذهبا بها لأنفسهما
وقال عبد الرحمن بن زيد بطريقتكم المثلى بالذي أنتم عليه، وقوله " فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا " أي اجتمعوا
كلكم صفا واحدا وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة لتبهروا الابصار وتغلبوا هذا وأخاه " وقد أفلح اليوم من استعلى "
أي منا ومنه أما نحن فقد وعدنا هذا الملك العطاء الجزيل وأما هو فينال الرياسة العظيمة.
قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من
سحرهم أنها تسعى (66) فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى (68) وألق ما في
يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد سحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا
برب هارون وموسى (70)
165

يقول تعالى مخبرا عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى " إما أن تلقي " أي أنت
أولا " وإما أن نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا " أي أنتم أولا لنرى ماذا تصنعون من السحر وليظهر للناس جلية
أمرهم " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا " قالوا بعزة
فرعون إنا لنحن الغالبون " وقال تعالى " سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم " وقال ههنا " فإذا
حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه
وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها وإنما كانت حيلة وكانوا جما غفيرا وجمعا كثيرا فألقى كل
منهم عصا وحبلا حتى صار الوادي ملآن حياة يركب بعضها بعضا، وقوله " فأوجس في نفسه خيفة موسى " أي
خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ويغتروا بهم قبل أن يلقى ما في يمينه، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة
الراهنة أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا وذلك أنها صارت تنينا عظيما هائلا ذا قوائم
وعنق ورأس وأضراس فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئا إلا تلقفته والسحرة والناس ينظرون
إلى ذلك عيانا جهرة نهارا ضحوة فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر ولهذا قال تعالى
" إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن موسى
الشيباني حدثنا حماد بن خالد حدثنا ابن معاذ - أحسبه الصائغ - عن الحسن عن جندب بن عبد الله البجلي قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أخذتم - يعني الساحر - فاقتلوه ثم قرأ ولا يفلح الساحر حيث أتى قال لا يؤمن حيث
وجد " وقد روى أصله الترمذي موقوفا ومرفوعا فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ولهم خبرة بفنون السحر وطرقه
ووجوهه علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حق لا مرية فيه ولا يقدر
على هذا إلا الذي يقول للشئ كن فيكون فعند ذلك وقعوا سجدا لله وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون
ولهذا قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة، وقال محمد بن كعب
كانوا ثمانين ألفا وقال القاسم بن أبي بزة كانوا سبعين ألفا وقال السدي بضعة وثلاثين ألفا، وقال الثوري عن
عبد العزيز بن رفيع عن أبي تمامة كان سحرة فرعون تسعة عشر ألفا وقال محمد بن إسحاق كانوا خمسة عشرة
ألفا وقال كعب الأحبار كانوا اثني عشر ألفا وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن علي
ابن حمزة حدثنا علي بن الحسين بن واقد عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس كانت السحرة
سبعين رجلا أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح بمكة حدثنا
ابن المبارك قال: قال الأوزاعي لما خر السحرة سجدا رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، قال وذكر عن سعيد
ابن سلام حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن سلمان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قوله " ألقي السحرة سجدا "
قال رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة.
قال آمنتم قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلف
ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي
فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا (72) إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطينا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73)
يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وعناده وكذا قال عكرمة والقاسم بن أبي بزة.
يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وعناده وبغيه ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة والآية
العظيمة ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم وغلب كل الغلب شرع في المكابرة والبهت
166

وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم وقال " آمنتم له " أي صدقتموه " قبل أن آذن
لكم " أي وما أمرتكم بذلك وافيتم علي في ذلك وقال قولا يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب
" إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " أي أنتم إنما أخذتم السحر عن موسى واتفقتم أنتم وإياه علي وعلى رعيتي
لتظهروه كما قال تعالى في الآية الأخرى " إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون "
ثم أخذ يهددهم فقال " لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل " أي لأجعلنكم مثلة
ولأقتلنكم ولأشهرنكم قال ابن عباس فكان أول من فعل ذلك، رواه ابن أبي حاتم. وقوله " ولتعلمن أينا أشد
عذابا وأبقى أي أنتم تقولون إني وقومي على ضلالة وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون
له العذاب ويبقى فيه فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل و " قالوا لن نؤثرك
على ما جاءنا من البينات " أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين " والذي فطرنا " يحتمل أن يكون
قسما ويحتمل أن يكون معطوفا على البينات يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم
المبتدي خلقنا من الطين فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت " فاقض ما أنت قاض " أي فافعل ما شئت وما
وصلت إليه يدك " إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " أي إنما لك تسلط في هذه الدار وهي دار الزوال ونحن قد رغبنا
في دار القرار " إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا " أي ما كان منا من الآثام خصوصا ما أكرهتنا عليه من
السحر لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا نعيم بن حماد حدثنا سفيان بن عيينة
عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى " وما أكرهتنا عليه من السحر " قال أخذ فرعون أربعين
غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء وقال علموهم تعليما لا يعلمه أحد في الأرض، قال
ابن عباس فهم من الذين آمنوا بموسى وهم من الذين قالوا " آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من
السحر " وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقوله " والله خير وأبقى " أي خير لنا منك " وأبقى " أي أدوم
ثوابا مما كنت وعدتنا ومنيتنا وهو رواية عن ابن إسحاق رحمه الله، وقال محمد بن كعب القرظي " والله خير " أي
لنا منك إن أطيع " وأبقى " أي منك عذابا إن عصي، وروى نحوه عن ابن إسحاق أيضا، والظاهر أن فرعون لعنه
الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف أصبحوا سحرة وأمسوا
شهداء.
إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك
لهم الدرجات العلى (75) جنت عدن تجري من تحتها الانهر خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76)
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي
ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد فقالوا " إنه من يأت ربه مجرما " أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم " فإن له
جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " كقوله " لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل
كفور " وقال " ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيى " وقال تعالى " ونادوا يا مالك
ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون " وقال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا إسماعيل أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي
نضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا
يحيون ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم فتميتهم إماتة حتى إذا صاروا فحما أذن في الشفاعة جئ بهم ضبائر
ضبائر فبثوا على أنها ر الجنة فيقال يا أهل الجنة أفيضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل " فقال
رجل من القوم كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية وهكذا أخرجه مسلم في كتابه الصحيح من رواية شعبة وبشر
ابن المفضل كلاهما عن أبي سلمة سعيد بن يزيد به وقال ابن أبي حاتم ذكر عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد
167

الوارث قال حدثنا أبي حدثنا حبان سمعت سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب
فأتى على هذه الآية " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " قال النبي صلى الله عليه وسلم " أما أهلها
الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تمسهم ثم يقوم الشفعاء
فيشفعون فتجعل الضبائر فيؤتى بهم نهرا يقال له الحياة أو الحيوان فينبتون كما ينبت العشب في حميل السيل "
وقوله تعالى " ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات " أي ومن لقي ربه يوم المعاد مؤمن القلب قد صدق ضميره
بقوله وعمله " فأولئك لهم الدرجات العلى " أي الجنة ذات الدرجات العاليات والغرف الأمنات والمساكن
الطيبات. قال الإمام أحمد حدثنا عفان أنبأنا همام حدثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبادة بن الصامت
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها
تخرج الأنهار الأربعة والعرش فوقها فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " ورواه الترمذي من حديث يزيد بن هارون
عن همام به، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي أخبرنا خالد بن يزيد بن أبي
مالك عن أبيه قال كان يقال الجنة مائة درجة في كل درجة مائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض
فيهن الياقوت والحلي في كل درجة أمير يرون له الفضل والسودد وفي الصحيحين " إن أهل عليين ليرون من
فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء لتفاضل ما بينهم - قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء قال - بلى
والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين " وفي السنن إن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما وقوله " جنات
عدن " أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى " تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها " أي ماكثين أبدا " وذلك
جزاء من تزكى " أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك وعبد الله وحده لا شريك له واتبع المرسلين فيما جاءوا
به من خير وطلب.
ولقد أوحينا إلى إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخف دركا ولا تخشى (77) فأتبعهم
فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) وأضل فرعون قومه وما هدى (79)
يقول تعالى مخبرا أنه أمر موسى حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل
ويذهب بهم من قبضة فرعون وقد بسط الله هذا المقام في غير هذه السورة الكريمة وذلك أن موسى لما خرج ببني
إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا داع ولا مجيب فغضب فرعون غضبا شديدا وأرسل في المدائن حاشرين أي
من يجمعون له الجند من بلدانه ورساتيقه يقول إن هؤلاء لشرذمة قليلون وإنهم لنا لغائظون ثم لما جمع جنده
واستوثق له جيشه ساق في طلبهم فأتبعوهم مشرقين أي عند طلوع الشمس " فلما تراءى الجمعان " أي نظر كل
من الفريقين إلى الآخر " قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معي ربي سيهدين " ووقف موسى ببني
إسرائيل البحر أمامهم وفرعون وراءهم فعند ذلك أوحى الله إليه " أن اضرب لهم طريقا في البحر يبسا " فضرب
البحر بعصاه وقال انفلق علي بإذن الله فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم فأرسل الله الريح على
أرض البحر فلفحته حتى صار يابسا كوجه الأرض فلهذا قال " فاضرب لهم طريقا يبسا لا تخاف دركا " أي من
فرعون " ولا تخشى " يعني من البحر أن يغرق قومك ثم قال تعالى " فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم " أي
البحر ما غشيهم أي الذي هو معروف ومشهور وهذا يقال عند الامر المعروف المشهور كما قال تعالى
" والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى " وقال الشاعر:
* أنا أبو النجم وشعري شعري *
أي الذي يعرف وهو مشهور وكما تقدمهم فرعون فسلك بهم في اليم فأضلهم وما هداهم إلى سبيل الرشاد كذلك
168

يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود.
يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) كلوا من
طيبت ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحل عليه غضبي فقد هوى (81) وإني لغفار لمن تاب
وآمن وعمل صلحا ثم اهتدى (82)
يذكر تعالى نعمه على بني إسرائيل العظام ومننه الجسام حيث أنجاهم من عدوهم فرعون وأقر أعينهم منه وهم
ينظرون إليه وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة لم ينج منهم أحد كما قال " وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون "
وقال البخار ي حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا روح بن عبادة حدثنا شعبة حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء فسألهم فقالوا هذا اليوم الذي أظفر الله
فيه موسى على فرعون فقال " نحن أولى بموسى فصوموه " رواه مسلم أيضا في صحيحه، ثم إنه تعالى واعد
موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون إلى جانب الطور الأيمن وهو الذي كلمه الله تعالى عليه وسأل فيه الرؤية
وأعطاه التوراة هنالك وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل كما يقصه الله تعالى قريبا، وأما المن والسلوى فقد
تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها فالمن حلوى كانت تنزل عليه من السماء والسلوى طائر يسقط
عليهم فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفا من الله ورحمة بهم وإحسانا إليهم ولهذا قال تعالى " كلوا من
طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي " أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ولا تطغوا في رزقي
فتأخذوه من غير حاجة وتخالفوا ما أمرتكم به " فيحل عليكم غضبي " أي أغضب عليكم " ومن يحلل عليه غضبي
فقد هوى " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي فقد شقي وقال شفي بن مانع إن في جهنم
قصرا يرمى الكافر من أعلاه فيهوي في جهنم أربعين خريفا قبل أن يبلغ الصلصال وذلك قوله " ومن يحلل عليه
غضبي فقد هوى " رواه ابن أبي حاتم وقوله " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا " أي كل من تاب إلي تبت
عليه من أي ذنب كان حتى إنه تاب تعالى على من عبد العجل من بني إسرائيل وقوله تعالى " تاب " أي رجع
عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق وقوله " وآمن " أي بقلبه " وعمل صالحا " أي بجوارحه، وقوله
" ثم اهتدى " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي ثم لم يشكك، وقال سعيد بن جبير " ثم اهتدى " أي
استقام على السنة والجماعة، وروي نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف وقال قتادة " ثم اهتدى "
أي لزم الاسلام حتى يموت، وقال سفيان الثوري " ثم اهتدى " أي علم أن لهذا ثوابا، وثم ههنا لترتيب الخبر
على الخبر كقوله " ثم كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ".
وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) قال فإنا قد فتنا قومك
من بعدك وأضلهم السامري (85) فرجع موسى إلى قومه غضبن أسفا قال يقوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا
أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا
ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا
هذا إلهكم وإله موسى فنسى (88) أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا (89)
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون " وأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فقالوا يا
169

موسى اجعل لنا إلاها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون "
وواعده ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشرا فتمت أربعين ليلة أي يصومها ليلا ونهارا وقد تقدم في حديث الفتون بيان
ذلك فسارع موسى عليه السلام مبادرا إلى الطور واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ولهذا قال تعالى " وما
أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري " أي قادمون ينزلون قريبا من الطور " وعجلت إليك رب
لترضى " أي لتزداد عني رضا " قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " أخبر تعالى نبيه موسى بما
كان بعده من الحدث في بني إسرائيل وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري. وفي الكتب الإسرائيلية
أنه كان اسمه هارون أيضا وكتب الله تعالى له في هذه المدة الألواح المتضمنة للتوراة كما قال تعالى " وكتبنا له
في الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها سأريكم دار
الفاسقين " أي عاقبة الخارجين عن طاعتي المخالفين لامري، وقوله " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا " أي
بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم هو فيما هو فيه من الاعتناء بأمرهم وتسلم التوراة التي
فيها شريعتهم وفيها شرف لهم وهم قوم قد عبدوا غير الله ما يعلم كل عاقل له لب وحزم بطلان ما هم فيه وسخافة
عقولهم وأذهانهم ولهذا قال رجع إليهم غضبان أسفا والأسف شدة الغضب وقال مجاهد غضبان أسفا أي جزعا
وقال قتادة والسدي أسفا حزينا على ما صنع قومه من بعده " قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا " أي أما
وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم
عليه وغير ذلك من أيادي الله " أفطال عليكم العهد " أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه وما
بالعهد من قدم " أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم " أم ههنا بمعنى بل وهي للاضراب عن الكلام الأول
وعدول إلى الثاني كأنه يقول بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي قالوا أي بنو
إسرائيل في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم " ما أخلفنا موعدك بملكنا " أي عن قدرتنا واختيارنا، ثم شرعوا
يعتذرون بالعذر البارد يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين
خرجوا من مصر فقذفناها أي ألقيناها عنا وقد تقدم في حديث الفتون أن هارون هو الذي كان أمرهم
بإلقاء الحلي في حفرة فيها نار وهي في رواية السدي عن أبي مالك عن ابن عباس إنما أراد هارون أن يجتمع
الحلي كله في تلك الحفيرة ويجعل حجرا واحدا حتى إذا رجع موسى رأى فيه ما يشاء ثم جاء ذلك
السامري فألقى عليها تلك القبضة التي أخذها من أثر الرسول وسأل من هارون أن يدعو الله أن يستجيب له في
دعوة فدعا له هارون وهو لا يعلم ما يريد فأجيب له فقال السامري عند ذلك أسأل الله أن يكون عجلا فكان عجلا
له خوار أي صوت استدراجا وإمهالا ومحنة واختبارا ولهذا قال " فكذلك ألقى السامري، فأخرج لهم عجلا
جسدا له خوار " وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبادة بن البختري حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حماد عن
سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل فقال له ما تصنع فقال أصنع ما
يضر ولا ينفع فقال هارون اللهم أعطه ما سأل على ما في نفسه ومضى هارون وقال السامري اللهم إني أسألك أن
يخور فخار فكان إذا خار سجدوا له وإذا خار رفعوا رؤوسهم. ثم رواه من وجه آخر عن حماد وقال أعمل ما ينفع
ولا يضر وقال السدي كان يخور ويمشي فقالوا أي الضلال منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه " هذا إلهكم وإله
موسى فنسي " أن نسيه ههنا وذهب يتطلبه كذا تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس وبه قال مجاهد وقال سماك
عن عكرمة عن ابن عباس فنسي أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم وقال محمد بن إسحاق عن حكيم بن
جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " فقال هذا إلهكم وإله موسى " قال فعكفوا عليه وأحبوه حبا لم يحبوا شيئا
قط يعني مثله يقول الله " فنسي " أي ترك ما كان عليه من الاسلام يعني السامري قال الله تعالى ردا عليهم
وتقريعا لهم وبيانا لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه " أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم
170

ضرا ولا نفعا " أي العجل أفلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ولا إذا خاطبوه ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا أي
في دنياهم ولا في أخراهم قال ابن عباس رضي الله عنهما لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره
فيخرج من فمه فيسمع له صوت وقد تقدم في حديث الفتون عن الحسن البصري أن هذا العجل اسمه به موت
وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير
وفعلوا الامر الكبير كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم
البعوض إذا أصاب الثوب يعني هل يصلي فيه أم لا فقال ابن عمر رضي الله عنهما انظروا إلى أهل العراق قتلوا
ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني الحسين وهم يسألون عن دم البعوضة.
ولقد قال لهم هارون من قبل يقوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري (90) قالوا لن نبرح
عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91)
يخبر تعالى عما كان من نهي هارون لهم عن عبادتهم العجل وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم وإن
ربكم الرحمن الذي خلق كل شئ فقدره تقديرا، ذو العرش المجيد الفعال لما يريد " فاتبعوني وأطيعوا أمري "
أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه " قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " أي لا نترك عبادته
حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك وحاربوه وكادوا أن يقتلوه.
قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) ألا تتبعن أفعصيت أمري (93) قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي
إني خشيت أن تقول فرقت بيني بني إسرائيل ولم ترقب قولي (94)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه فرأى ما قد حدث فيهم من الامر العظيم فامتلأ عند ذلك
غضبا وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد قدمنا في سورة الأعراف بسط ذلك
وذكرنا هناك حديث " ليس الخبر كالمعاينة " وشرع يلوم أخاه هارون فقال " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعن "
أي فتخبرني بهذا الامر أول ما وقع " أفعصيت أمري " أي فما كنت قدمت إليك وهو قوله " اخلفني في قومي
وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " قال " يا ابن أم " ترفق له بذكر الام مع أنه شقيقه لأبويه لان ذكر الام ههنا
أرق وأبلغ في الحنو والعطف ولهذا قال " يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " الآية. هذا اعتذار من هارون
عند موسى في سبب تأخره عنه حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم " قال إني خشيت " أن
أتبعك فأخبرك بهذا فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم " ولم ترقب قولي " أي وما راعيت ما أمرتك به
حيث استخلفتك فيهم قال ابن عباس وكان هارون هائبا مطيعا له.
قال فما خطبك يا سامري (95) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك
سولت لي نفسي (96) قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك
الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل
شئ علما (98)
يقول موسى عليه السلام للسامري ما حملك على ما صنعت وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت قال
171

محمد بن إسحاق عن حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان السامري رجلا من أهل باجرما
وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه وكان قد أظهر الاسلام مع بني إسرائيل وكان اسمه
موسى بن ظفر وفى رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان وقال قتادة كان من قرية سامرا " قال بصرت بما لم
يبصروا به " أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون " فقبضت قبضة من أثر الرسول " أي من أثر فرسه هذا هو
المشهور عند كثير من المفسرين أو أكثرهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث أخبرنا
عبيد الله بن موسى أخبرنا إسرائيل عن السدي عن أبي بن عمارة عن علي رضي الله عنه قال إن جبريل عليه السلام
لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس قال:
وحمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الألواح وهو يسمع صرير
الأقلام في الألواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده قال نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه، غريب، وقال
مجاهد فقبضت قبضة من أثر الرسول قال من تحت حافر فرس جبريل، قال والقبضة ملء الكف والقبضة
بأطراف الأصابع قال مجاهد نبذ السامري أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل فأنسبك عجلا جسدا
له خوار حفيف الريح فيه فهو خواره، وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن يحيى أخبرنا علي بن المديني حدثنا
يزيد بن زريع حدثنا عمارة حدثنا عكرمة أن السامري رأى الرسول فألقى في روعه إنك إن أخذت من أثر هذا
الفرس قبضة فألقيتها في شئ فقلت له كن فكان فقبض قبضة من أمر الرسول فيبست أصابعه على القبضة، فلما
ذهب موسى للميقات وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلي آل فرعون فقال لهم السامري إنما أصابكم من أجل هذا
الحلي فاجمعوا فجمعوه فأوقدوا عليه فذاب فرآه السامري فألقى في روعه أنك لو قذفت هذه القبضة في هذه فقلت
كن فكان فقذف القبضة وقال كن فكان عجلا جسدا له خوار فقال " هذا إلهكم وإله موسى " ولهذا قال
فنبذتها أي ألقيتها مع من ألقى " وكذلك سولت لي نفسي " أي حسنته وأعجبها إذ ذاك " قال فاذهب فإن
لك في الحياة أن تقول لا مساس " أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول فعقوبتك
في الدنيا أن تقول لا مساس أي لا تماس الناس ولا يمسونك " وإن لك موعدا " أي يوم القيامة " لن تخلفه "
أي لا محيد لك عنه وقال قتادة أن تقول لا مساس قال عقوبة لهم وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس. وقوله
" وإن لك موعدا لن تخلفه " قال الحسن وقتادة وأبو نهيك لن تغيب عنه وقوله " وانظر إلى إلهك " أي معبودك
" الذي ظلت عليه عاكفا " أي أقمت على عبادته يعني العجل " لنحرقنه " قال الضحاك عن ابن عباس والسدي
سحله بالمبارد وألقاه على النار، وقال قتادة استحال العجل من الذهب لحما ودما فحرقه بالنار ثم ألقى رماده في
البحر ولهذا قال " ثم لننسفنه في اليم نسفا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء أنبأنا إسرائيل
عن أبي إسحاق عن عمارة بن عبد الله وأبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه قال: إن موسى ما تعجل إلى
ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي نساء بني إسرائيل ثم صوره عجلا قال فعمد موسى إلى العجل
فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شط نهر فلم يشرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفر
وجهه مثل الذهب فقالوا لموسى ما توبتنا؟ قال يقتل بعضكم بعضا وهكذا قال السدي وقد تقدم في تفسير سورة
البقرة ثم في حديث الفتون بسط ذلك، وقوله تعالى " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما "
يقول لهم موسى عليه السلام ليس هذا إلهكم إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو أي لا يستحق ذلك على العباد إلا
هو ولا تنبغي العبادة إلا له فإن كل شئ فقير إليه عبد له وقوله " وسع كل شئ علما " نصب على التميز أي هو
عالم بكل شئ أحاط بكل شئ علما وأحصى كل شئ عددا فلا يعزب عنه مثقال ذرة، وما تسقط من ورقة
إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وما من دابة في الأرض إلا على
الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " والآيات في هذا كثيرة جدا.
172

كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيمة
وزرا (100) خالدين فيه وساء لهم يوم القيمة حملا (101)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كما قصصنا عليك خبر موسى وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والامر الواقع
كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زياد ولا نقص، هذا وقد آتيناك من لدنا أي من عندنا ذكرا
وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد الذي لم يعط نبي من
الأنبياء منذ بعثوا إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم كتابا مثله ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن وحكم
الفصل بين الناس منه، قال تعالى " من أعرض عنه " أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمرا وطلبا وابتغى
الهدى من غيره فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ولهذا قال " من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا "
أي إثما كما قال تعالى " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده " وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب
والعجم أهل الكتاب وغيرهم كما قال " لأنذركم به ومن بلغ " فكل من بلغه القرآن فهو نذير له وداع فمن اتبعه
هدي ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا والنار موعده يوم القيامة ولهذا قال " من أعرض عنه فإنه يحمل
يوم القيامة وزرا خالدين فيه " أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك " وساء لهم يوم القيامة حملا " أي بئس الحمل
حملهم.
يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا (103) نحن أعلم بما يقولون
إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104)
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال " قرن ينفخ فيه " وقد جاء في حديث الصور من رواية
أبي هريرة أنه قرن عظيم الدائرة منه بقدر السماوات والأرض ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام وجاء في الحديث
" كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له " فقالوا يا رسول الله كيف نقول؟ قال
" قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا "، وقوله " ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " قيل معناه زرق العيون
من شدة ما هم فيه من الأهوال " يتخافتون بينهم " قال ابن عباس يتساورون بينهم أي يقول بعضهم لبعض " إن
لبثتم إلا عشرا " أي في الدار الدنيا لقد كان لبثكم فيها قليلا عشرة أيام أو نحوها قال الله تعالى " نحن أعلم بما
يقولون " أي في حال تناجيهم بينهم " إذ يقول أمثلهم طريقة " أي العاقل الكامل فيهم " إن لبثتم إلا يوما " أي
لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد لان الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها
يوم واحد ولهذا يستقصر الكافرون مدة الحياة الدنيا يوم القيامة وكان غرضهم في ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر
المدة ولهذا قال تعالى " يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة - إلى قوله - ولكنكم كنتم لا
تعلمون " وقال تعالى " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير " الآية وقال تعالى " كم لبثتم في
الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوم أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون "
أي إنما كان لبثكم فيها قليلا لو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف قدمتم
الحاضر الفاني على الدائم الباقي.
ويسئلونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) فيذرها قاعا صفصفا (106) لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107)
يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108)
173

يقول تعالى " ويسألونك عن الجبال " أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ " فقل ينسفها ربي نسفا " أي يذهبها
عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييرا " فيذرها " أي الأرض " قاعا صفصفا " أي بساطا واحدا والقاع هو
المستوي من الأرض والصفصف تأكيد لمعنى ذلك وقيل الذي لا نبات فيه والأول أولى وإن كان الآخر مرادا أيضا
باللازم ولهذا قال " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا
مرتفعا كذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن البصري والضحاك وقتادة وغير واحد من السلف " يومئذ
يتبعون الداعي لا عوج له " أي يوم يرون هذه الأحوال والأهوال يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا
بادروا إليه ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ولكن حيث لا ينفعهم كما قال تعالى " أسمع بهم وأبصر يوم
يأتوننا " وقال " مهطعين إلى الداعي " وقال محمد بن كعب القرظي يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة
ويطوي السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه، فذلك قوله
" يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " وقال قتادة لا عوج له لا يميلون عنه وقال أبو صالح لا عوج له لا عوج عنه
وقوله " وخشعت الأصوات للرحمن " قال ابن عباس سكنت وكذا قال السدي " فلا تسمع إلا همسا " قال
سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني وطئ الاقدام وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وقتادة وابن
زيد وغيرهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " فلا تسمع إلا همسا " الصوت الخفي وهو رواية عن عكرمة
والضحاك وقال سعيد بن جبير " فلا تسمع إلا همسا " الحديث وسره ووطئ الاقدام فقد جمع سعيد كلا القولين
وهو محتمل أما وطئ الاقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر وهو مشيهم في سكون وخضوع، وأما الكلام
الخفي فقد يكون في حال دون حال فقد قال تعالى " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد ".
يومئذ لا تنفع الشفعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون
به علما (110) * وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (12 1)
يقول تعالى يومئذ أي يوم القيامة لا تنفع الشفاعة أي عنده " إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا "
كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقوله " وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد
أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى " وقال " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " وقال " ولا تنفع
الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " وقال " يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال
صوابا " وفي الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وأكرم الخلائق على الله عز وجل أنه
قال " آتي تحت العرش وأخر لله ساجدا ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول
يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع - قال - فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود " فذكر أربع مرات
صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء. وفي الحديث أيضا " يقول تعالى أخرجوا من النار من كان في قلبه
مثقال حبة من إيمان فيخرجوا خلقا كثيرا ثم يقول أخرجوا من النار من كان في قلبه نصف مثقال من إيمان،
أخرجوا من النار من كان في قلبه ما يزن ذرة من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان " الحديث، وقوله
" يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " أي يحيط علما بالخلائق كلهم " ولا يحيطون به علما " كقوله " ولا
يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " وقوله " وعنت الوجوه للحي القيوم " قال ابن عباس وغير واحد خضعت
وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام وهو قيم على كل شئ يدبره
ويحفظه فهو الكامل في نفسه الذي كل شئ فقير إليه لا قوام له إلا به، وقوله " وقد خاب من حمل ظلما " أي
174

يوم القيامة فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء، وفي الحديث " يقول
الله عز وجل وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم " وفي الصحيح " إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم
القيامة والخيبة كل الخيبة من لقي الله وهو به مشرك فإن الله تعالى يقول " إن الشرك لظلم عظيم " وقوله " ومن
يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما " لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم
وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم قاله ابن عباس ومجاهد
والضحاك والحسن وقتادة وغير واحد فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره والهضم النقص.
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113) فتعالى الله الملك
الحق ولا تعجل بالقرءان من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما (114)
يقول تعالى ولما كان يوم المعاد والجزاء بالخير والشر واقع لا محالة أنزلنا القرآن بشيرا ونذيرا بلسان عربي مبين
فصيح لا لبس فيه ولا عي " وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون " أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش " أو
يحدث لهم ذكرا " وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات " فتعالى الله الملك الحق " أي تنزه وتقدس الملك الحق
الذي هو حق ووعده حق ووعيده حق ورسله حق والجنة حق والنار حق وكل شئ منه حق وعدله تعالى أن لا يعذب
أحدا قبل الانذار وبعثة الرسل والاعذار إلى خلقه لئلا يبقى لاحد حجة ولا شبهة وقوله " ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه " كقوله تعالى في سورة لا أقسم بيوم القيامة " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا
جمعه وقرآنه * فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه " وثبت في الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يعالج من الوحي شدة فكان مما يحرك به لسانه فأنزل الله هذه الآية يعني أنه كان إذا جاءه جبريل
بالوحي كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل
والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه " أي أن نجمعه في
صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا " فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه " وقال في هذه
الآية " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه " أي بل أنصت فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه
بعده " وقل رب زدني علما " أي زدني منك علما، قال ابن عيينة رحمه الله ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله
عز وجل ولهذا جاء في الحديث " إن الله تابع الوحي على رسوله حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم " وقال ابن ماجة حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني
علما والحمد لله على كل حال " وأخرجه الترمذي عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير به وقال غريب من هذا
الوجه، ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي عاصم عن موسى بن عبيدة به وزاد في آخره " وأعوذ بالله
من حال أهل النار ".
ولقد عهدنا إلئ ادم من قبل فنسى ولم نجد له عزما (115) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس
أبى (116) فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117) إن لك ألا تجوع فيها
ولا تعرى (118) وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى (119) فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد
وملك لا يبلى (120) فأكلا منها فبدت لهما سوأتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى (121)
175

ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122)
قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: إنما سمي الانسان لأنه عهد إليه فنسي وكذا رواه علي بن أبي طلحة عنه، وقال مجاهد والحسن ترك،
وقوله " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم " يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق
تفضيلا وقد تقدم الكلام على هذه القصة في سورة البقرة وفي الأعراف في الحجر والكهف وسيأتي في آخر
سورة " ص " يذكر تعالى فيها خلق آدم وأمره الملائكة بالسجود له تشريفا وتكريما ويبين عداوة إبليس لبني آدم ولأبيهم
قديما ولهذا قال تعالى " فسجدوا إلا إبليس أبى " أي امتنع واستكبر " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك "
يعني حواء عليهما السلام " فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " أي إياك أن تسعى في إخراجك منها فتتعب وتعنى
وتشقى في طلب رزقك فإنك ههنا في عيش رغيد هنئ بلا كلفة ولا مشقة " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى "
إنما قرن بين الجوع والعري لان الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر " وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وهذان
أيضا متقابلان فالظمأ حر الباطن وهو العطش والضحى حر الظاهر. وقوله " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل
أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " قد تقدم أنه دلاهما بغرور " وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين " وقد
تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة فلم يزل
بهما إبليس حتى أكلا منها وكانت شجرة الخلد يعني التي من أكل منها خلد ودام مكثه، وقد جاء في الحديث ذكر
شجرة الخلد فقال أبو داود الطيالسي حدثنا شعبة عن أبي الضحى سمعت أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن
في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد "، ورواه الإمام أحمد، وقوله
" فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما " قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن أشكاب حدثنا علي بن عاصم
عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم رجلا
طوالا كثير شعر الرأس كأنه نخلة سحوق فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته فلما نظر إلى
عورته جعل يشتد في الجنة فأخذت شعره شجرة فنازعها فناداه الرحمن يا آدم مني تفر فلما سمع كلام الرحمن قال
يا رب لا ولكن استحياء أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال نعم " فذلك قوله " فتلقى آدم من ربه
كلمات فتاب عليه " وهذا منقطع بين الحسن وأبي بن كعب فلم يسمعه منه وفي رفعه نظر أيضا. وقوله " وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة " قال مجاهد يرقعان كهيئة الثوب، وكذا قال قتادة والسدي، وقال ابن أبي حاتم
حدثنا جعفر بن عون حدثنا سفيان عن ابن أبي ليلى عن المنهال عن سعد بن جبير عن ابن عباس " وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة " قال ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما وقوله " وعصى آدم ربه فغوى *
ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا أيوب بن النجار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي
سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " حاج موسى آدم فقال له أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك
وأشقيتهم؟ قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله علي قبل أن
يخلقني أو قدره الله علي قبل أن يخلقني - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فحج آدم موسى " وهذا الحديث له طرق في
الصحيحين وغيرهما من المسانيد. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني
أنس بن عياض عن الحارث بن أبي ذئاب عن يزيد بن هرمز قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى قال موسى أنت الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد
لك ملائكته وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك؟ قال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله
برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شئ وقربك نجيا فبكم اصطفاك الله
برسالته وكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شئ وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال
موسى بأربعين عام قال آدم فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا
176

كتب الله علي أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فحج آدم موسى " قال الحارث وحدثني
عبد الرحمن بن هرمز بذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123)
ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت
بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126)
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس اهبطوا منها جميعا أي من الجنة كلكم، وقد بسطنا ذلك في سورة البقرة
" بعضكم لبعض عدو " قال آدم وذريته وإبليس وذريته، وقوله: " فإما يأتينكم مني هدى " قال أبو العالية:
الأنبياء والرسل والبيان " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " قال ابن عباس لا يضل في الدنيا ولا يشقى في
الآخرة " ومن أعرض عن ذكري " أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي أعرض عنه وتناساه وأخذ من غيره هداه
" فإن له معيشة ضنكا " أي ضنك في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره بل صدره ضيق حرج لضلاله وإن
تنعم ظاهره ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق
وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد فهذا من ضنك المعيشة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " فإن له معيشة
ضنكا " قال الشقاء وقال العوفي عن ابن عباس فإن له معيشة ضنكا قال كلما أعطيته عبدا من عبادي قل أو
كثر لا يتقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة، وقال أيضا إن قوما ضلالا أعرضوا عن الحق وكانوا في
سعة من الدنيا متكبرين فكانت معيشتهم ضنكا وذلك أنهم كانوا يرون أن الله ليس مخلفا لهم معايشهم من سوء
ظنهم بالله والتكذيب فإذا كان العبد يكذب بالله ويسئ الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك،
وقال الضحاك هو العمل السئ والرزق الخبيث وكذا قال عكرمة ومالك بن دينار وقال سفيان بن عيينة عن أبي
حازم عن أبي سلمة عن أبي سعيد في قوله " معيشة ضنكا " قال يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه، قال
أبو حاتم الرازي: النعمان بن أبي عياض يكنى أبا سلمة وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا
الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل
" فإن له معيشة ضنكا " قال " ضمة القبر له " والموقوف أصح. وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا الربيع بن سليمان
حدثنا أسد بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح عن ابن حجيرة واسمه عبد الرحمن عن أبي هريرة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعا وينور له قبره كالقمر
ليلة البدر أتدرون فيما أنزلت هذه الآية " فإن له معيشة ضنكا " أتدرون ما المعيشة الضنك؟ " قالوا الله ورسوله
أعلم قال " عذاب الكافر في قبره والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، أتدرون ما التنين؟ تسعة
وتسعون حية لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون " رفعه منكر جدا وقال
البزار حدثنا محمد بن يحيى الأزدي حدثنا بن عمرو حدثنا هشام بن سعد عن سعيد بن أبي هلال عن ابن
حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عز وجل " فإن له معيشة ضنكا " قال " المعيشة الضنك الذي
قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمه حتى تقوم الساعة ". وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا أبو
الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن له معيشة
ضنكا " قال " عذاب القبر " إسناد جيد وقوله " ونحشره يوم القيامة أعمى " قال مجاهد وأبو صالح والسدي لا
حجة له وقال عكرمة عمي عليه كل شئ إلا جهنم ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى
البصر والبصيرة أيضا كما قال تعالى " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم " الآية.
177

ولهذا يقول " رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا " أي في الدنيا " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك
اليوم تنسى " أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت
عنها وأغفلتها كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك " فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا " فإن الجزاء من
جنس العمل. فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص وإن كان
متوعدا عليه من جهة أخرى فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك، قال الإمام أحمد حدثنا
خلف بن الوليد حدثنا خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن رجل عن سعيد بن عبادة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم " ثم رواه الإمام أحمد من
حديث يزيد بن أبي زياد عن عيسى بن فائد عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله سواء.
وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى (127)
يقول تعالى وهكذا نجازي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة " لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب
الآخرة أشق وما لهم من الله من واق " ولهذا قال " ولعذاب الآخرة أشد وأبقى " أي أشد ألما من عذاب الدنيا
وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين " إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ".
أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن في ذلك لآيات لاولي النهى (128) ولولا
كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129) فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130)
يقول تعالى أفلم يهد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم
فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية التي خلفوهم فيها يمشون فيها " إن
في ذلك لآيات لاولي النهى " أي العقول الصحيحة والالباب المستقيمة كما قال تعالى " أفلم يسيروا في الأرض
فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور "
وقال في سورة ألم السجدة " أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " الآية ثم قال
تعالى " ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب
أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم
العذاب بغتة ولهذا قال لنبيه مسليا له " فاصبر على ما يقولون " أي من تكذيبهم لك " وسبح بحمد ربك قبل طلوع
الشمس " يعني صلاة الفجر وقبل غروبها يعني صلاة العصر كما جاء في الصحيحين عن جرير بن عبد الله
البجلي رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال " إنكم سترون ربكم كما
ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها
فافعلوا " ثم قرأ هذه الآية، وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن عمارة بن رؤيبة
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " رواه مسلم من حديث
عبد الملك بن عمير به وفي المسند والسنن عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أدنى أهل الجنة منزلة من
ينظر في ملكه مسيرة ألف سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في
اليوم مرتين " وقوله " ومن آناء الليل فسبح " أي من ساعاته فتهجد به وحمله بعضهم على المغرب والعشاء
178

" وأطراف النهار " في مقابلة آناء الليل " لعلك ترضى " كما قال تعالى " ولسوف يعطيك ربك فترضى " وفي
الصحيح " يقول الله تعالى يا أهل الجنة فيقولون لبيك ربنا وسعديك فيقول هل رضيتم فيقولون ربنا وما لنا لا
نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول إني أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون وأي شئ أفضل من
ذلك؟ فيقول أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا " وفي الحديث الآخر " يا أهل الجنة إن لكم عند
الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون وما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويزحزحنا عن النار ويدخلنا الجنة
فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم خيرا من النظر إليه وهي الزيادة ".
ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى
(131) وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعقبة للتقوى (132)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم فإنما هو زهرة زائلة
ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور، وقال مجاهد " أزواجا منهم " يعني الأغنياء فقد آتاك خيرا
مما آتاهم كما قال في الآية الأخرى " ولقد آتينا ك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك " وكذا ما
ادخره الله تعالى لرسوله في الآخرة أمر عظيم لا يحد ولا يوصف كما قال تعالى " ولسوف يعطيك ربك
فترضى " ولهذا قال " ورزق ربك خير وأبقى " وفي الصحيح أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في
تلك المشربة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهم فرآه متوسدا مضطجعا على رمال حصير وليس في
البيت إلا صبرة من قرظ واهية معلقة فابتدرت عينا عمر بالبكاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يبكيك يا عمر؟ " فقال
يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه فقال " أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟
أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا " فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له
ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ولم يدخر لنفسه شيئا لغد، قال ابن أبي حاتم أنبأنا يونس أخبرني ابن وهب
أخبرني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أن أخوف ما أخاف
عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا " قالوا وما زهرة الدنيا يا رسول الله قال " بركات الأرض " وقال قتادة
والسدي: زهرة الحياة الدنيا يعني زينة الحياة الدنيا وقال قتادة " لنفتنهم فيه " لنبتليهم وقوله " وأمر أهلك بالصلاة
واصطبر عليها " أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها كما قال تعالى " يا أيها الذين
آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أخبرني
هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ وكان له ساعة من الليل
يصلي فيها فربما لم يقم فنقول لا يقوم الليلة كما كان يقوم وكان إذا استيقظ أقام يعني أهله وقال " وأمر أهلك
بالصلاة واصطبر عليها " وقوله " لا نسألك رزقا نحن نرزقك " يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا
تحتسب كما قال تعالى " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " وقال تعالى " وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون " إلى قوله " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ولهذا قال " لا نسألك رزقا نحن
نرزقك " وقال الثوري " لا نسألك رزقا " أي لا نكلفك الطلب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا
حفص بن غياث عن هشام عن أبيه أنه كان إذا دخل على أهل الدنيا فرأى من دنياهم طرفا فإذا رجع إلى أهله
فدخل الدار قرأ " ولا تمدن عينيك - إلى قوله - نحن نرزقك " ثم يقول الصلاة الصلاة رحمكم الله وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطراني حدثنا سيار حدثنا جعفر عن ثابت قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه
خصاصة نادى أهله " يا أهلاه صلوا صلوا " قال ثبت وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة وقد روى
الترمذي وابن ماجة من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
179

" يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملا صدرك غنى وأسد فقرك وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا ولم
أسد فقرك " وروى ابن ماجة من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول " من جعل
الهموم هم واحدا هم المعاد كفاه الله هم دنياه ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته
هلك " وروى أيضا من حديث شعبة عن عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما
كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة " وقوله " والعاقبة
للتقوى " أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن اتقى الله وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" رأيت الليلة كأنا في دار عقبة بن رافع وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب فأولت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا
والرفعة وأن ديننا قد طاب ".
وقالوا لولا يأتينا باية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى (133) ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من
أصحب الصراط السوي ومن اهتدى (135)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار في قولهم " لولا " أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه أي بعلامة دالة على صدقه في أنه
رسول الله؟ قال الله تعالى " أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى " يعني القرآن الذي أنزله عليه الله وهو أمي لا
يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب، وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور بما يوافقه
عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها فإن القرآن مهيمن عليها يصدق الصحيح ويبين خطأ المكذوب فيها وعليها
وهذه الآية كقوله تعالى في سورة العنكبوت " وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا
نذير مبين * أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون " وفي
الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه قال " ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي
أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " وإنما ذكر ههنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه
السلام وهو القرآن وإلا فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر كما هو مودع في كتبه ومقرر في مواضعه ثم قال
تعالى " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا " أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل
أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا " ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا "
قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه كما قال " فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " يبين تعالى أن هؤلاء المكذبين
متعنتون معاندون لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم كما قال تعالى " وهذا كتاب أنزلناه
مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون - إلى قوله - بما كانوا يصدفون " وقال " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم
نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم " الآية وقال " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها "
الآيتين، ثم قال تعالى " قل " أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده " كل متربص " أي منا
ومنكم " فتربصوا " أي فانتظروا " فستعلمون من أصحاب الصراط السوي " أي الطريق المستقيم " ومن اهتدى "
إلى الحق وسبيل الرشاد، وهذا كقوله تعالى " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا " وقال
" سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ".
آخر تفسير سورة طه ولله الحمد والمنة ويتلوه إن شاء الله تفسير سورة الأنبياء ولله الحمد.
180

سورة الأنبياء:
قال البخاري حدثنا محمد بن بشار ثنا غندر ثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت عبد الرحمن بن زيد عن عبد الله
قال بنو إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون (1) ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون (2)
لاهية قلوبهم وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون (3) قل
ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم (4) بل قالوا أضغث أحلم بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا
بآية كما أرسل الأولون (5) ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون (6)
هذا تنبيه من الله عز وجل على اقتراب الساعة ودنوها وأن الناس في غفلة عنها أي لا يعملون لها ولا يستعدون من
أجلها وقال النسائي حدثنا أحمد بن نصر حدثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي حدثنا أبو معاوية حدثنا
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم " في غفلة معرضون " قال " في الدنيا " وقال تعالى " أتى أمر
الله فلا تستعجلوه " وقال " اقتربت الساعة وانشق القمر * وإن يروا آية يعرضوا " الآية، وقد روى الحافظ
ابن عساكر في ترجمة الحسن بن هانئ أبي نواس الشاعر أنه قال: أشعر الناس الشيخ الطاهر أبو العتاهية حيث
يقول:
الناس في غفلاتهم ورحا المنية تطحن
فقيل له من أين أخذ هذا؟ قال من قول الله تعالى " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " وروى (1) في
ترجمة عامر بن ربيعة من طريق موسى بن عبيد الآمدي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عامر
ابن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه الرجل فقال إني استقطعت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم واديا في العرب وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر لا حاجة
لي في قطيعتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا " اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون " ثم أخبر
تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال
" ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث " أي جديد إنزاله " إلا استمعوه وهم يلعبون " كما قال ابن عباس: ما لكم
تسألون أهل الكتب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرأونه
محضا لم يشب رواه البخاري بنحوه، وقوله " وأسروا النجوى الذين ظلموا " أي قائلين فيما بينهم خفية " هل هذا
إلا بشر مثلكم " يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبيا لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم ولهذا قال
" أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر فقال تعالى مجيبا لهم
عما افتروه واختلقوه من الكذب " قال ربي يعلم القول في السماء والأرض " أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه
(1) هذا الخبر غير موجود في النسخة المكية.
181

خافية وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا
الذي يعلم السر في السماوات والأرض وقوله " وهو السميع العليم " أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وفي
هذا تهديد لهم ووعيد وقوله " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه " هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم
فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه فتارة يجعلونه سحرا وتارة يجعلونه شعرا وتارة يجعلونه أضغاث
أحلام وتارة يجعلونه مفترى كما قال " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " وقوله " فليأتنا
بآية كما أرسل الأولون " يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى وقد قال الله " وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن
كذب بها الأولون " الآية، ولهذا قال تعالى " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " أي ما آتينا قرية من
القرى الذي بعث فيهم الرسل آية على يدي نبيها فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو
رأوها دون فآمنوا بها بل كذبوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو
رأوها دون أولئك؟ كلا بل " إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب
الأليم " هذا كله وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قال
ابن أبي حاتم رحمه الله ذكر عن زيد بن الحباب حدثنا ابن لهيعة حدثنا الحارث بن زيد الحضرمي عن علي
ابن رباح اللخمي حدثني من شهد عبادة بن الصامت يقول: كنا في المسجد ومعنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه
يقرأ بعض القرآن فجاء عبد الله بن أبي ابن سلول ومعه نمرقة وزربية فوضع واتكأ وكان صبيحا فصيحا جدلا فقال يا
أبا بكر قل لمحمد يأتينا بآية كما جاء الأولون؟ جاء موسى بالألواح وجاء داود بالزبور وجاء صالح بالناقة وجاء
عيسى بالإنجيل وبالمائدة. فبكى أبو بكر رضي الله عنه فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر قوموا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم نستغيث به من هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنه لا يقام لي إنما يقام لله عز وجل " فقلنا يا رسول الله: إنا
لقينا من هذا المنافق فقال: " إن جبريل قال لي اخرج فأخبر بنعم الله التي أنعم بها عليك وفضيلته التي فضلت
بها فبشرني أني بعثت إلى الأحمر والأسود وأمرني أن أنذر الجن وآتاني كتابه وأنا أمي وغفر ذنبي ما تقدم وما تأخر
وذكر اسمي في الاذان وأمدني بالملائكة وآتاني النصر وجعل الرعب أمامي وآتاني الكوثر وجعل حوضي من أكثر
الحياض يوم القيامة ووعدني المقام المحمود والناس مهطعون مقنعوا رؤوسهم وجعلني في أول زمرة تخرج من
الناس وأدخل في شفاعتي سبعين ألفا من أمتي الجنة بغير حساب وآتاني السلطان والملك وجعلني في أعلى غرفة
في الجنة في جنات النعيم فليس فوقي أحد إلا الملائكة الذين يحملون العرش وأجل لي ولامتي الغنائم ولم تحل
لاحد كان قبلنا " وهذا الحديث غريب جدا.
وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (7) وما جعلناهم جسدا لا يأكلون
الطعام وما كانوا خالدين (8) ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين (9)
يقول تعالى رادا على من أنكر بعثة الرسل من البشر " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " أي جميع الرسل
الذين تقدموا كانوا رجالا من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة كما قال في الآية الأخرى " وما أرسلنا قبلك إلا
رجلا نوحي إليهم من أهل القرى " وقال تعالى " قل ما كنت بدعا من الرسل " وقال تعالى حكاية عمن تقدم من
الأمم لانهم أنكروا ذلك فقالوا " أبشر يهدوننا " ولهذا قال تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " أي
اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف هل كان الرسل الذين آتوهم بشرا أو ملائكة وإنما
كانوا بشرا وذلك من تمام نعمة الله على خلقه إذ بعث فيهم رسلا منهم يتمكنون من تناول البلاغ منهم والاخذ
عنهم، وقوله " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام " أي بل قد كانوا أجسادا يأكلون الطعام كما قال تعالى " وما
أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " أي قد كانوا بشرا من البشر يأكلون
182

ويشربون مثل الناس ويدخلون الأسواق للتكسب والتجارة وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئا كما توهمه
المشركون في قولهم " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا * أو
يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " الآية، وقوله " وما كانوا خالدين " أي في الدنيا بل كانوا يعيشون ثم
يموتون " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عز وجل تنزل عليهم الملائكة عن
الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه، وقوله " ثم صدقناهم الوعد " أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن
الظالمين صدقهم الله وعده وفعل ذلك ولهذا قال " فأنجيناهم ومن نشاء " أي أتباعهم من المؤمنين " وأهلكنا
المسرفين " أي المكذبين بما جاءت به الرسل.
لقد أنزلنا إليكم كتبا فيه ذكركم أفلا تعقلون (10) وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما
آخرين (11) فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون (12) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم
لعلكم تسئلون (13) قالوا يولينا إنا كنا ظالمين (14) فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين (15)
يقول تعالى منبها على شرف القرآن ومحرضا لهم على معرفة قدره " لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم " قال
ابن عباس شرفكم وقال مجاهد حديثكم وقال الحسن دينكم " أفلا تعقلون " أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول كما
قال تعالى " وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " وقوله " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة " هذه صيغة تكثير
كما قال " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " وقال تعالى " وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية
على عروشها " الآية. وقوله " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " أي أمة أخرى بعدهم " فلما أحسوا بأسنا " أي تيقنوا أن
العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم " إذا هم منها يركضون " أي يفرون هاربين " لا تركضوا وارجعوا إلى
ما أترفتم فيه ومساكنكم " هذا تهكم بهم نزرا أي قيل لهم نزرا لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما
كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة، قال قتادة استهزاء بهم " لعلكم تسئلون " أي عما كنتم
فيه من أداء شكر النعم " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين " اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك " فما زالت تلك
دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين " أي ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هجيراهم حتى
حصدناهم حصدا وخمدت حركاتهم وأصواتهم خمودا.
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين (16) لو أردنا أن نتخذ لهوا لأتخذنه من لدنا إن كنا فعلين (17)
بل نقذف بالحق على البطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18) وله من في السماوات
والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20)
يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق أي بالعدل والقسط ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين
أحسنوا بالحسنى والله لم يخلق ذلك عبثا ولا لعبا كما قال " وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن
الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار " وقوله تعالى " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين "
قال ابن أبي نجيح عن مجاهد " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " يعني من عندنا، يقول وما خلقنا جنة
ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا، وقال الحسن وقتادة وغيرهما " لو أردنا أن نتخذ لهوا " اللهو المرأة بلسان أهل
اليمن وقال إبراهيم النخعي " لاتخذناه " من الحور العين، وقال عكرمة والسدي: المراد باللهو ههنا الولد
وهذا والذي قبله متلازمان وهو كقوله تعالى " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله
183

الواحد القهار " فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقا ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير
أو الملائكة " سبحان الله عما يقولون علوا كبيرا " وقوله " إن كنا فاعلين " قال قتادة والسدي وإبراهيم النخعي
ومغيرة بن مقسم أي ما كنا فاعلين وقال مجاهد: كل شئ في القرآن إن فهو إنكار، وقوله " بل تقذف بالحق
على الباطل " أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال " فيدمغه فإذ هو زاهق " أي ذاهب مضمحل " ولكم
الويل " أي أيها القاتلون لله ولد " مما تصفون " أي تقولون وتفترون، ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له
ودأبهم في طاعته ليلا ونهارا فقال " وله من في السماوات والأرض ومن عنده " يعني الملائكة " لا يستكبرون عن
عبادته " أي لا يستنكفون عنها كما قال " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون * ومن
يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " وقوله " ولا يستحسرون " أي لا يتعبون ولا يملون
" يسبحون الليل والنهار لا يفترون " فهم دائبون في العمل ليلا ونهارا مطيعون قصدا وعملا قادرون عليه كما قال
تعالى " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن أبي دلامة البغدادي أنبأنا
عبد الوهاب بن عطاء حدثنا سعيد عن قتادة عن صفوان بن محرز عن حكيم بن حزام قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين
أصحابه إذ قال لهم " هل تسمعون ما أسمع " قالوا ما نسمع من شئ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لاسمع أطيط
السماء وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم " غريب ولم يخرجوه ثم رواه أعني
ابن أبي حاتم من طريق يزيد بن أبي زريع عن سعيد عن قتادة مرسلا، وقال محمد بن إسحاق عن حسان
بن مخارق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام فقلت له أرأيت قول الله
تعالى للملائكة " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل. فقال من
هذا الغلام؟ فقالوا من بني عبد المطلب، قال فقبل رأسي ثم قال: يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم
النفس أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟
أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون (21) لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحن الله رب العرش عما
يصفون (22) لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23)
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: " أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون " أي أهم يحيون الموتى
وينشرونهم من الأرض أي لا يقدرون على شئ من ذلك فكيف جعلوها لله ندا وعبدوها معه، ثم أخبر تعالى أنه
لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات والأرض فقال " لو كان فيهما آلهة " أي في السماوات والأرض
" لفسدتا " كقوله تعالى " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على
بعض سبحان الله عما يصفون " وقال ههنا " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " أي عما يقولون إن له ولدا أو
شريك سبحانه وتعالى وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علوا كبيرا. وقوله " لا يسئل عما يفعل وهم
يسئلون " أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته
وعدله ولطفه " وهم يسئلون " أي وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا
يعملون " وهذا كقوله تعالى " وهو يجير ولا يجار عليه ".
أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون
الحق فهم معرضون (24) وما أرسلنا من قلبك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25)
يقول تعالى " أم اتخذوا من دونه آلهة قل " يا محمد " هاتوا برهانكم " أي دليلكم على ما تقولون " هذا ذكر
184

من معي " يعني القرآن " وذكر من قبلي " يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون فكل كتاب أنزل
على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه ولهذا
قال " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " كما قال " واسأل من أرسلنا من
قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون " وقال " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا
الطاغوت " فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له والفطرة شاهدة بذلك أيضا والمشركون لا
برهان لهم وحجتهم داحضة عند ربهم وعليم غضب ولهم عذاب شديد.
وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) يعلم ما بين
أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) * ومن يقل منهم إني إله من دونه
فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29)
يقول تعالى رادا على من زعم أن له تعالى وتقدس ولدا من الملائكة كمن قال ذلك من العرب إن الملائكة بنات
الله فقال " سبحانه بل عباد مكرمون " أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية وهم له
في غاية الطاعة قولا وفعلا " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما
أمرهم به بل يبادرون إلى فعله وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليهم منه خافية " يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم " وقوله " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " كقوله " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " وقوله " ولا تنفع
الشفاعة عنده إلا لمن أذن له " في آيات كثيرة في معنى ذلك " وهم من خشيته " أي من خوفه ورهبته
" مشفقون * ومن يقل منهم إني إله من دونه " أي من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله " فذلك نجزيه
جهنم كذلك نجزي الظالمين " أي كل من قال ذلك وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه كقوله " قل إن كان
للرحمن ولد فأنا أول العابدين " وقوله " لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ".
أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا
يؤمنون (30) وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) وجعلنا
السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32) وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في
فلك يسبحون (33)
يقول منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال " أو لم ير
الذين كفروا " أي الجاحدون لإلاهيته العابدون معه غيره ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير
فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه ألم يروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا أي كان الجميع
متصلا بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الامر ففتق هذه من هذه فجعل السماوات سبعا
والأرض سبعا وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ولهذا قال " وجعلنا من
الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون " أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئا فشيئا عيانا وذلك كله دليل على
وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.
ففي كل شئ له آية تدل عل أنه واحد
185

قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال سئل ابن عباس: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال أرأيتم السماوات
والأرض حين كانتا رتقا هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا إبراهيم بن أبي حمزة حدثنا حاتم عن حمزة بن أبي محمد عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رجلا
أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما. قال اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله. ثم تعال فأخبرني بما قال لك،
قال فذهب إلى ابن عباس فسأله فقال ابن عباس نعم كانت السماوات رتقا لا تمطر وكانت الأرض رتقا لا تنبت فلما
خلق للأرض أهلا فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره فقال ابن عمر الآن قد
علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علما صدق هكذا كانت قال ابن عمر قد كنت أقول ما يعجبني جراءة
ابن عباس على تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتي في القرآن علما وقال عطية العوفي كانت هذه رتقا لا تمطر
فأمطرت وكانت هذه رتقا لا تنبت فأنبتت، وقال إسماعيل بن أبي خالد سألت أبا صالح الحنفي عن قوله " أن
السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " قال كانت السماء واحدة ففتق منها سبع سماوات وكانت الأرض واحدة
ففتق منها سبع أرضين وهكذا قال مجاهد وزاد ولم تكن السماء والأرض متماستين وقال سعيد بن جبير بل كانت
السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال
الحسن وقتادة كانتا جميعا ففصل بينهما بهذا الهواء وقوله " وجعلنا من الماء كل شئ حي " أي أصل كل
الاحياء. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن أبي ميمونة عن أبي
هريرة أنه قال يا نبي الله إذا رأيتك قرت عيني وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شئ قال " كل شئ خلق من ماء ".
وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله إني إذا
رأيتك طابت نفسي وقرت عيني فأنبئني عن كل شئ قال " كل شئ خلق من ماء " قال قلت أنبئني عن أمر إذا
عملت به دخلت الجنة قال " أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة
بسلام " ورواه أيضا عبد الصمد وعفان وبهز عن همام تفرد به أحمد وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا
ميمونة من رجال السنن واسمه سليم والترمذي يصح له وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا والله
أعلم. وقوله " وجعلنا في الأرض رواسي " أي جبالا أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس أي
تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد
أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات. ولهذا قال " أن تميد بهم " أي لئلا تميد بهم،
وقوله " وجعلنا فيها فجاجا سبلا " أي ثغرا في الجبال يسلكون فيها طرقا من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم كما
هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلا بين هذه البلاد وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها
من ههنا إلى ههنا ولهذا قال " لعلهم يهتدون " وقوله " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " أي على الأرض وهي
كالقبة عليها كما قال " والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون " وقال " والسماء وما بناها " " أفلم ينظروا إلى السماء
فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج " والبناء هو نصب القبة كما قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " " بني الاسلام على
خمس " أي خمسة دعائم وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب " محفوظا " أي عاليا محروسا أن ينال
وقال مجاهد مرفوعا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي حدثني
أبي عن أبيه عن أشعث يعني ابن إسحاق القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
رجل يا رسول الله ما هذه السماء قال " موج مكفوف عنكم " إسناده غريب وقوله " وهم عن آياتها معرضون "
كقوله " وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها
من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس
التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليلة فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها. وقد ذكر
186

ابن أبي الدنيا رحمه الله في كتابه التفكر والاعتبار: أن بعض عباد بني إسرائيل تعبد ثلاثين سنة وكان الرجل منهم
إذا تعبد ثلاثين سنة أظلته غمامة فلم ير ذلك الرجل شيئا مما كان يحصل لغيره فشكى ذلك إلى أمه فقالت له يا
بني فلعلك أذنبت في مدة عبادتك هذه فقال لا والله ما أعلمه قالت فلعلك هممت قال لا ولا هممت قالت فلعلك
رفعت بصرك إلى السماء ثم رددته بغير فكر فقال نعم كثيرا قالت فمن ههنا أتيت ثم قال منبها على بعض آياته
" وهو الذي خلق الليل والنهار " أي هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى
وعكسه الآخر " والشمس والقمر " هذه لها نور يخصها وفلك بذاته وزمان على حدة وحركة وسير خاص وهذا
بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر " وكل في فلك يسبحون " أي يدورون قال ابن عباس يدورون كما
يدور المغزل الفلكة قال مجاهد فلا يدور المغزل إلا بالفلكة ولا الفلكة إلا بالمغزل كذلك النجوم والشمس
والقمر لا يدورون إلا به ولا يدور إلا كما قال تعالى " فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر
حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم ".
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة
وإلينا ترجعون (35)
يقول تعالى " وما جعلنا لبشر من قبلك " أي يا محمد " الخلد " أي في الدنيا بل " كل من عليها فان ويبقى
وجه ربك ذو الجلال والاكرام " وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر عليه السلام
مات وليس بحي إلى الآن لأنه بشر سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا وقد قال تعالى " وما جعلنا لبشر من قبلك
الخلد " وقوله " أفإن مت " أي يا محمد " فهم الخالدون " أي يؤملون أن يعيشوا بعدك لا يكون هذا بل كل
إلى الفناء ولهذا قال تعالى " كل نفس ذائقة الموت " وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين
كل نفس ذائقة الموت " وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين
البيتين:
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى تهيأ لاخرى مثلها فكأن قد
وقوله " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " أي نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى فننظر من يشكر ومن يكفر ومن
يصبر ومن يقنط كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " ونبلوكم " يقول نبتليكم " بالشر والخير فتنة "
بالشدة والرخاء والصحة والسقم والغنى والفقر والحلال والحرام والطاعة والمعصية والهدى والضلال وقوله " وإلينا
ترجعون " أي فنجازيكم بأعمالكم.
وإذا رأك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) خلق
الانسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون (37)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه " إذا رآك الذين كفروا " يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه " إن
يتخذونك إلا هزوا " أي يستهزئون بك وينتقصونك يقولون " أهذا الذي يذكر آلهتكم " يعنون أهذا الذي يسب
آلهتكم ويسفه أحلامكم قال تعالى " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزءون
برسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الآية الأخرى " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا * إن كاد
ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا " وقوله " خلق الانسان
187

من عجل " كما قال في الآية الأخرى " وكان الانسان عجولا " أي في الأمور، قال مجاهد خلق الله آدم بعد كل
شئ من آخر النهار من يوم خلق الخلائق فلما أحيا الروح عينيه ولسانه ورأسه ولم يبلغ أسفله قال يا رب استعجل
بخلقي قبل غروب الشمس وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا محمد بن
علقمة بن وقاص الليثي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم
الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط منها وفيه تقوم الساعة وفيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي -
وقبض أصابعه يقللها - فسأل الله خيرا إلا أعطاه إياه " قال أبو سلمة فقال عبد الله بن سلام قد عرفت تلك الساعة
هي آخر ساعات النهار من يوم الجمعة وهي التي خلق الله فيها آدم قال الله تعالى " خلق الانسان من عجل
سأريكم آياتي فلا تستعجلون " والحكمة في ذكر عجلة الانسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله
وسلامه عليه وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك فقال الله تعالى خلق الانسان من عجل لأنه
تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته يؤجل ثم يعجل وينظر ثم لا يؤخر ولهذا قال " سأريك آياتي " أي
نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني " فلا تستعجلون ".
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار
ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40)
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضا بوقوع العذاب بهم تكذيبا وجحودا وكفرا وعنادا واستبعادا فقال
" ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " قال الله تعالى " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم
النار ولا عن ظهورهم " أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا به ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من
فوقهم ومن تحت أرجلهم " لهم من فوقهم ظل من النار ومن تحتهم ظلل " " لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم
غواش " وقال في هذه الآية " حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " وقال " سرابيلهم من قطران
وتغشى وجوههم النار " فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم " ولا هم ينصرون أي لا ناصر لهم كما قال
" ومالهم من الله من واق " وقوله " بل تأتيهم بغتة " أي " تأتيهم النار بغتة " أي فجأة " فتبهتهم " أي
تذعرهم فيستسلمون لها حائرين لا يدرون ما يصنعون " فلا يستطيعون ردها " أي ليس له حيلة في ذلك " ولا
هم ينظرون " أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة.
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون (41) قل من يكلؤكم باليل والنهار
من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصرا أنفسهم ولا هم
منا يصحبون (43)
يقول تعالى مسليا لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق
بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءون " يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه كما قال تعالى " ولقد
كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله * ولقد جاءك من نبأ
المرسلين " ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام
فقال " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن " أي بدل الرحمن يعني غيره كما قال الشاعر:
جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا
188

أي لم تذق بدل البقول الفستق وقوله تعالى " بل هم عن ذكر ربهم معرضون " أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم
وإحسانه إليهم بل يعرضون عن آياته وآلائه ثم قال " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا " استفهام إنكار وتقريع
وتوبيخ، أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الامر كما توهموا لا، ولا كما زعموا ولها قال " لا
يستطيعون نصر أنفسهم " أي هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم وقوله " ولا هم منا
يصحبون " قال العوفي عن ابن عباس " لا هم منا يصحبون " أي يجارون وقال قتادة لا يصحبون من الله بخير
وقال غيره ولا هم منا يصحبون يمنعون.
بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون
قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا
إنا كنا ظالمين (46) ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا
بها وكفى بنا حاسبين (47)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال أنهم متعوا في الحياة الدنيا
ونعموا وطال عليهم العمر فيما هم فيه فاعتقدوا أنهم على شئ ثم قال واعظا لهم " أفلا يرون أنا نأتي الأرض
ننقصها من أطرافها " اختلف المفسرون في معناه وقد أسلفناه في سورة الرعد وأحسن ما فسر بقوله تعالى " ولقد
أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون " وقال الحسن البصري يعني بذلك ظهور الاسلام على
الكفر والمعنى أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده
المؤمنين ولهذا قال " أفهم الغالبون " يعني بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون وقوله " قل إنما
أنذركم بالوحي " أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ليس ذلك إلا عما أوحاه الله إلي
ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ولهذا قال " ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما
ينذرون " وقوله " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ولينا إنا كنا ظالمين " أي ولئن مس هؤلاء
المكذبين أدنى شئ من عذاب الله ليعترفون بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمي أنفسهم في الدنيا وقوله " ونضع
الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة، الأكثر على أنه إنما هو
ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه، وقوله " فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من
خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " كما قال تعالى " ولا يظلم ربك أحدا " وقال " إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن
تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما " وقال لقمان " يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في
صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير " وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان
الله العظيم " وقال الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن ليث بن سعد عن
عامر بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلا كل سجل
مد البصر لم يقول أتنكرن هذا شيئا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال لا يا رب قال أفلك عذر أو حسنة؟ قال
فبهت الرجل فيقول لا يا رب فيقول بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله فيقول أحضروه فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟
فيقول إنك لا تظلم قال فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة قال فطاشت السجلات ونقلت البطاقة قال ولا
189

يثقل شئ مع بسم الله الرحمن الرحيم (1) " ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد وقال الترمذي حسن
غريب وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن يحيى عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن
عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله " صلى الله عليه وسلم " توضع الموازين يوم القيامة فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة
ويوضع ما أحصي عليه فيما يل به الميزان قال فيبعث به إلى النار قال فإذا أدبر به إذا صائح من عند الرحمن عز
وجل يقول لا تعجلوا فإنه قد بقي له فيؤتى ببطاقة فيها لا إله إلا الله فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به
الميزان " وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو نوح مرارا أنبأنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن
عروة عن عائشة أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني
ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يحسب ما خانوك وعصوك
وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون
ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك " فجعل الرجل
يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويهتف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما له لا يقرأ كتاب الله " ونضع الموازين القسط ليوم
القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " " فقال الرجل يا رسول الله ما
أجد شيئا خيرا من فراق هؤلاء - يعني عبيده - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم.
ولقد آتينا موسى وهرون الفرقان وضياءا وذكرا للمتقين (48) الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49)
وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون (50)
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما
ولهذا قال " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان " قال مجاهد يعني الكتاب وقال أبو صالح التوراة
وقال قتادة التوراة حلالها وحرامها وما فرق الله بين الحق والباطل وقال ابن زيد يعني النصر وجامع القول في ذلك أن الكتب
السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل والهدى والضلال والغي والرشاد والحلال والحرام وعلى ما يحصل
نورا في القلوب وهداية وخوف وإنابة وخشية ولهذا قال " الفرقان وضياء وذكرا للمتقين " أي تذكيرا لهم وعظة،
ثم وصفهم فقال " الذين يخشون ربهم بالغيب " كقوله " من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب " وقوله
" إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " " وهم من الساعة مشفقون " أي خائفون وجلون، ثم
قال تعالى " وهذا ذكر مبارك أنزلناه " يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل
من حكيم حميد " أفأنتم له منكرون " أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟
* ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به علمين (51) إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عكفون (52) قالوا وجدنا آبائنا لها عبدين (53) قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) قالوا أجئتنا
بالحق أم أنت من اللاعبين (55) قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من
الشاهدين (56)
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه كما
قال تعالى " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " وما يذكر من الاخبار عنه في إدخال أبيه له في السرب وهو
(1) هكذا في الأصل ورواية الترمذي فلا يثقل مع اسم الله شئ اه‍.
190

رضيع وأنه خرج بعد أيام فنظر إلى الكوكب والمخلوقات فتبصر فيها وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم فعامتها
أحاديث بني إسرائيل فما وافق منها الحق مما بأيدينا عن المعصوم قبلناه لموافقته الصحيح وما خالف شيئا من ذلك
رددناه وما ليس فيه موافقة ولا مخالفة لا نصدقه ولا نكذبه بل نجعله وفقا وما كان من هذا الضرب منها فقد رخص
كثير من السلف في روايته وكثير من ذلك ما لا فائدة فيه ولا حاصل له مما ينتفع به في الدين، ولو كانت فائدته
تعود على المكلفين في دينهم لبينته هذه الشريعة الكاملة الشاملة والذي نسلكه في هذا التفسير الاعراض عن
كثير من الأحاديث الإسرائيلية لما فيها من تضييع الزمان ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم
فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها كما حرره الأئمة الحفاظ المتقنون من هذه الأمة. والمقصود ههنا أن
الله تعالى أخبر أنه قد آتي إبراهيم رشده من قبل أي من قبل ذلك وقوله " وكنا به عالمين " أي وكان أهلا لذلك،
ثم قال " إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الانكار
على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عز وجل فقال " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " أي معتكفون
على عبادتها قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا أبو معاوية الضرير حدثنا سعيد بن طريف
عن الأصبغ بن نباته قال: مر علي - رضي الله عنه - على قوم يلعبون بالشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها
عاكفون؟ لان يمس أحدكم جمرا حتى يطفأ خير له من أن يمسها " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " لم يكن لهم
حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ولهذا قال " لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " أي الكلام مع آبائكم الذين
احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم فلما سفه أحلامهم وضلل
آباءهم واحتقر آلهتهم " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " يقولون هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعبا أو
محقا فيه فإنا لم نسمع به قبلك " قال بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن " أي ربكم الذي لا إله غيره
وهو الذي خلق السماوات والأرض وما حوت من المخلوقات الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء " وأنا
على ذلكم من الشاهدين " أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه.
وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) قالوا من
فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) قالوا فأتوا به على أعين
الناس لعلهم يشهدون (61) قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) قال فعله كبيرهم هذا
فسئلوهم إن كانوا ينطقون (63)
ثم أقسم الخليل قسما أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم أي ليحرضن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا
مدبرين أي إلى عيدهم وكان لهم عيد يخرجون إليه، قال السدي: لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه يا بني لو
خرجت معنا إلى عيدك لأعجبك ديننا فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال إني
سقيم فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون: مه فيقول إني سقيم فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم قال " تالله
لأكيدن أصنامكم " فسمعه أولئك وقال ابن إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى
عيدهم مروا عليه فقالوا يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال إني سقيم وقد كان بالأمس قال " تالله لأكيدن أصنامكم
بعد أن تولوا مدبرين " فسمعه ناس منهم، وقوله " فجعلهم جذاذا " أي حطاما كسرها كلها إلا كبيرا لهم يعني إلا
الصنم الكبير عندهم كما قال " فراغ عليهم ضربا باليمين " وقوله " لعلهم إليه يرجعون " ذكروا أنه وضع القدوم
في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها " قالوا من
فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم من الإهانة والاذلال الدال
191

على عدم إلهيتها لا وعلى سخافة عقول عابديها " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " أي في صنيعه هذا
" قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم سمعنا فتى أي شابا يذكرهم
يقال له إبراهيم، قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف حدثنا سعيد بن منصور حدثنا جرير بن عبد الحميد عن
قابوس عن أبيه عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبيا إلا شابا ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب وتلا هذه الآية
" قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم ". وقوله " قالوا فأتوا به على أعين الناس " أي على رؤوس الاشهاد
في الملا الأكبر بحضرة الناس كلهم وكان هذا هو المقصود الأكبر لإبراهيم عليه السلام أن يبين في هذا المحفل
العظيم كثرة جهلهم وقلة عقلهم في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تملك لها نصرا فكيف
يطلب منها شئ من ذلك؟ " قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم * قال بل فعله كبيرهم هذا " يعني الذي تركه
لم يكسره " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون وأن
هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد. وفي الصحيحين من حديث هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث: ثنتين في ذات الله قوله " بل فعله
كبيرهم هذا " وقوله " إني سقيم " قال وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه سارة إذ نزل منزلا فأتى
الجبار رجل فقال إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس، فأرسل إليه فجاء فقال ما هذه المرأة
منك؟ قال أختي. قال فاذهب فأرسل بها إلي فانطلق إلى سارة فقال إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك
أختي فلا تكذبيني عنده فإنك أختي في كتاب الله وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك فانطلق بها إبراهيم
ثم قام يصلي فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأخذ أخذا شديدا فقال ادعي الله لي ولا أضرك،
فدعت له فأرسل فأهوى إليها فتناولها فأخذ بمثلها أو أشد ففعل ذلك الثالثة فأخذ فذكر مثل المرتين الأوليين فقال
ادعي الله فلا أضرك فدعت له فأرسل ثم دعا أدنى حجابه فقال إنك لم تأتني بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان أخرجها
وأعطها هاجر، فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته وقال مهيم؟ قالت
كفى الله كيد الكافر الفاجر وأخذ مني هاجر " قال محمد بن سيرين فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال تلك
أمكم يا بني ماء السماء.
فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) قال
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67)
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال " فرجعوا إلى أنفسهم " أي بالملامة في عدم احترازهم
وحراستهم لآلهتهم فقالوا " إنكم أنتم الظالمون " أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها " ثم نكسوا على
رؤوسهم " أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " قال قتادة أدركت القوم حيرة سوء
فقالوا " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " وقال السدي " ثم نكسوا على رؤوسهم " أي في الفتنة، وقال ابن زيد
أي في الرأي وقول قتادة أظهر في المعنى لانهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزا ولهذا قالوا له " لقد علمت ما هؤلاء
ينطقون " فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون وأنت تعلم أنها لا تنطق فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا
بذلك " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فلم
تعبدونها من دون الله " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال
والكفر الغليظ الذي لا يروح إلا على جاهل ظالم فاجر، فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى " وتلك
حجتنا آتينا إبراهيم على قومه " الآية.
الحجة وألزمهم بها ولهذا قال تعالى " وتلك
حجتنا آتينا إبراهيم على قومه " الآية.
قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فعلين (68) قلنا ينار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا
192

فجعلناهم الأخسرين (70)
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق اندفع الباطل عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم فقالوا " حرقوه
وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " فجمعوا حطبا كثيرا جدا قال السدي حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن
عوفيت أن تحمل حطبا لحريق إبراهيم ثم جعلوه في جوبة من الأرض وأضرموها نارا فكان لها شرر عظيم ولهب
مرتفع لم توقد نار قط مثلها وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من
الأكراد، قال شعيب الجبائي اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة فلما ألقوه قال:
حسبي الله ونعم الوكيل كما رواه البخاري عن ابن عباس أنه قال حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي
في النار وقالها محمد عليه الصلاة والسلام حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله
ونعم الوكيل وروى الحافظ أبو يعلى حدثنا ابن هشام حدثنا إسحاق بن سليمان عن أبي جعفر عن عاصم عن
أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما ألقى إبراهيم عليه السلام في النار قال الله إنك في
السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك " ويروى أنه لما جعلوا يوثقونه قال: لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد
ولك الملك لا شريك لك وقال شعيب الجبائي كان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة فالله أعلم وذكر بعض السلف
أنه عرض له جبريل وهو في الهواء فقال ألك حاجة فقال أما إليك فلا وأما من الله فبلى، وقال سعيد بن جبير،
ويروى عن ابن عباس أيضا قال لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول متى أو مر بالمطر فأرسله قال فكان أمر الله
أسرع من أمره قال الله " يا نار كونى بردا وسلاما على إبراهيم " قال لم يبق نار في الأرض إلا طفئت وقال كعب
الأحبار لم ينتفع أحد يومئذ بنار ولم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه وقال الثوري عن الأعمش عن شيخ عن
علي بن أبي طالب " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " قال لا تضر به وقال ابن عباس وأبو العالية لولا
أن الله عز وجل قال " وسلاما " لآذى إبراهيم بردها وقال جويبر عن الضحاك " كوني بردا وسلاما على
إبراهيم " قالوا صنعوا له حظيرة من حطب جزل وأشعلوا فيه النار من كل جانب فأصبح ولم يصبه منها شئ حتى
أخمدها الله قال ويذكرون أن جبريل كان معه يمسح وجهه من العرق فلم يصبه منها شئ غير ذلك وقال السدي
كان معه فيها ملك الظل.
وقال علي بن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا يوسف بن موسى حدثنا مهران حدثنا إسماعيل بن أبي خالد
عن المنهال بن عمرو قال أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار قال فكان فيها إما خمسين وإما أربعين قال ما كنت أياما
وليالي قط أطيب عيشا إذ كنت فيها وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها، وقال أبو زرعة
ابن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال إن أحسن شئ قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح
جبينه قال عند ذلك نعم الرب ربك يا إبراهيم وقال قتادة لم يأت يومئذ دابة إلا أطفأت عنه النار، إلا الوزغ،
وقال الزهري أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقا. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عبيد الله بن أخي ابن وهب حدثني عمي
حدثنا جرير بن حازم أن نافعا حدثه قال حدثتني مولاة الفاكه بن المغيرة المخزومي قالت دخلت على عائشة فرأيت
في بيتها رمحا فقلت: يا أم المؤمنين ما تصنعين بهذا الرمح؟ فقالت نقتل به هذه الأوزاغ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم "
فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، وقوله " وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين " أي المغلوبين الأسفلين لانهم أرادوا
بنبي الله كيدا فكادهم الله ونجاه من النار فغلبوا هنالك، وقال عطية العوفي لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم
لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه فأحرقته مثل الصوفة.
ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين (71) ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72)
193

وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عبدين (73)
ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74)
وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75)
يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم إنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام إلى
الأرض المقدسة منها. قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قوله " إلى الأرض التي باركنا
فيها للعالمين " قال الشام وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة وكذا قال أبو العالية أيضا وقال قتادة كان
بأرض العراق فأنجاه الله إلى الشام وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة وما نقص من الأرض زيد في الشام وما
نقص من الشام زيد في فلسطين وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام
وبها يهلك المسيح الدجال وقال كعب الأحبار في قوله " إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين " إلى حران وقال
السدي انطلق إبراهيم ولوط قبل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حران وقد طعنت على قومها في دينهم
فتزوجها على أن يفر بها، رواه ابن جرير وهو غريب والمشهور أنها ابنة عمه وأنه خرج بها مهاجرا من بلاده، وقال
العوفي عن ابن عباس إلى مكة ألا تسمع إلى قوله " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين
فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا " وقوله " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " قال عطاء ومجاهد
عطية، وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عيينة النافلة ولد الولد يعني أن يعقوب ولد إسحاق كما قال " فبشرناها
بإسحاق ومن وراء إسحق يعقوب " وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم سأل واحدا فقال " رب هب لي من
الصالحين " فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة " وكلا جعلنا صالحين " أي الجميع أهل خير وصلاح
" وجعلناهم أئمة " أي يقتدى بهم " يهدون بأمرنا " أي يدعون إلى الله بإذنه ولهذا قال " وأوحينا إليهم فعل
الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " من باب عطف الخاص على العام " وكانوا لنا عابدين " أي فاعلين لما
يأمرون الناس به ثم عطف بذكر لوط وهو بن هاران بن آزر كان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر
معه كما قال تعالى " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي " فآتاه الله حكما وعلما وأوحى إليه وجعله نبيا وبعثه
إلى سدوم وأعمالها فخالفوه وكذبوه فأهلكهم الله ودمر عليهم كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز،
ولهذا قال " ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين * وأدخلناه في رحمتنا إنه من
الصالحين ".
ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) ونصرناه من القوم الذين كذبوا
بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين (77)
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه " فدعا ربه أني مغلوب
فانتصر " وقال نوح " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا " ولهذا قال ههنا " إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله " أي الذين آمنوا به كما قال " وأهلك إلا من
سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل " وقوله " من الكرب العظيم " أي من الشدة والتكذيب والأذى فإنه
لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل فلم يؤمن به منهم إلا القليل وكانوا يتصدون لاذاه
ويتواصون قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل على خلافه، وقوله " ونصرناه من القوم " أي ونجيناه وخلصناه منتصرا من
القوم " الذين كذبوا بآياتنا إنهم كا نوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين " أي أهلكهم الله بعامة ولم يبق على وجه
الأرض منهم أحد كما دعا عليهم نبيهم.
194

وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) ففهمناها سليمان
وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فعلين (79) وعلمنه صنعة لبوس لكم
لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم تشكرون (80) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها
وكنا بكل شئ علمين (81) ومن الشيطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82)
قال ابن إسحاق عن مرة عن ابن مسعود كان ذلك الحرث كرما قد تدلت عناقيده، وكذا قال شريح وقال ابن عباس
النفش الرعي وقال شريح والزهري وقتادة: النفش لا يكون إلا بالليل زاد قتادة والهمل بالنهار وقال ابن جرير
حدثنا أبو كريب وهارون بن إدريس الأصم قالا حدثنا المحاربي عن أشعث عن أبي إسحق عن مرة عن ابن مسعود
في قوله " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " قال كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته قال
فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان غير هذا يا نبي الله قال وما ذ ك؟ قال تدفع الكرم إلى صاحب
الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان
دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها فذلك قوله " ففهمناها سليمان " وكذا روى العوفي عن
ابن عباس. وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد حدثني خليفة عن ابن عباس قال قضى داود بالغنم لأصحاب
الحرث فخرج الرعاء معهم الكلاب فقال لهم سليمان كيف قضى بينكم فأخبروه فقال لو وليت أمركم لقضيت بغير
هذا فأخبر بذلك داود فد عاه فقال كيف تقضي بينهم؟ قال أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له أولادها
وألبانها وسلاؤها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم فإذا بلغ الحرث الذي كان عليه أخذه
أصحاب الحرث وردوا الغنم إلى أصحابها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا خديج عن
أبي إسحاق عن مرة عن مسروق قال الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرما فلم تدع فيه ورقة ولا عنقودا من
عنب إلا أكلته فأتوا داود فأعطاهم رقابها فقال سليمان لا بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم فيكون لهم لبنها
ونفعها ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ثم يعطى أهل الغنم
غنمهم وأهل الكرم كرمهم. وهكذا قال شريح ومرة ومجاهد وقتادة وابن زيد وغير واحد وقال ابن جرير حدثنا
ابن أبي زياد حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل عن عامر قال جاء رجلان إلى شريح فقال أحدهما إن شياه هذا
قطعت غزلا لي فقال شريح نهارا أم ليلا؟ فإن كان نهارا فقد برئ صاحب الشياه وإن كان ليلا ضمن ثم قرأ
" وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث " الآية وهذا الذي قاله شريح شبيه بما رواه الإمام أحمد وأبو داود
وابن ماجة من حديث الليث بن سعد عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت
حائطا فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الحوائط حفظها بالنهار وما أفسدت المواشي بالليل ضامن على
أهلها وقد علل هذا ا لحديث وقد بسطنا الكلام عليه في كتاب الأحكام وبالله التوفيق، وقوله " ففهمناها سليمان
وكلا آتينا حكما وعلما " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى إسماعيل حدثنا حماد عن حميد أن إياس
ابن معاوية لما استقضى أتاه الحسن فبكى فقال ما يبكيك؟ قال يا أبا سعيد بلغني أن القضاة رجل اجتهد فأخطأ
فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة فقال الحسن البصري: إن فيما
قص الله من نبأ داود وسليمان عليه الصلاة والسلام والأنبياء حكما يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم قال الله تعالى " وداود
وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " فأثنى الله على سليمان ولم يذم
داود ثم قال يعني الحسن إن الله اتخذ على الحكام ثلاثا لا يشتروا به ثمنا قليلا ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه
أحدا ثم تلا " يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل
195

الله " وقال " فلا تخشوا الناس واخشون " وقال " ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا " قلت أما الأنبياء عليهم السلام
فكلهم معصومون مؤيدون من الله عز وجل وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء المحققين من السلف والخلف وأما
من سواهم فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمرو بن العاص أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " فهذا الحديث يرد نصا ما توهمه إياس من أن القاضي إذا اجتهد
فأخطأ فهو في النار، والله أعلم وفي السنن: القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار، رجل علم الحق
وقضى به فهو في الجنة ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في
النار وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال حدثنا علي بن حفص
أخبرنا ورقاء عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ
جاء الذئب فأخذ أحد الابنين فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى فخرجتا فدعاهما سليمان فقال هاتوا السكين
أشقه بينكما فقالت الصغرى يرحمك الله هو ابنها لا تشقه فقضى به للصغرى " وأخرجه البخاري ومسلم في
صحيحيهما وبوب عليه النسائي في كتاب القضاة " باب الحاكم يوهم خلاف الحكم ليستعلم الحق " وهكذا القصة
التي أوردها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة سليمان عليه السلام من تاريخه عن طريق الحسن بن سفيان
عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشر عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس فذكر قصة مطولة
ملخصها أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم فامتنعت على كل منهم
فاتفقوا فيما بينهم عليها فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلبا لها قد عودته ذلك منها فأمر
برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان واجتمع معه ولدان مثله فانتصب حاكما وتزيا أربعة منهم بزي
أولئك وآخر بزي المرأة وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلبا فقال سليمان فرقوا بينهم فسأل أولهم ما كان لون
الكلب فقال أسود فعزله واستدعى الآخر فسأله عن لونه فقال أحمر وقال الآخر أغبش وقال الآخر أبيض فأمر عند
ذلك بقتلهم فحكي ذلك لداود عليه السلام فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب
فاختلفوا عليه فأمر بقتلهم وقوله " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير " الآية وذلك لطيب صوته بتلاوة كتابه
الزبور وكان إذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه وترد عليه الجبال تأويبا ولهذا لما مر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي
موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل وكان له صوت طيب جدا فوقف واستمع لقراءته وقال: لقد أوتي هذا
مزمارا من مزامير آل داود " قال يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا وقال أبو عثمان النهدي ما
سمعت صوت صنج ولا بربط ولا مزمار مثل صوت أبي موسى رضي الله عنه ومع هذا قال عليه الصلاة والسلام
" لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود " وقوله " وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم " يعني صنعة
الدروع قال قتادة إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقا كما قال تعالى " وألنا له الحديد أن
اعمل سابغات وقدر في السرد " أي لا توسع الحلقة فتقلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ولهذا
قال " لتحصنكم من بأسكم " يعني في القتال " فهل أنتم شاكرون " أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه
ذلك من أجلكم وقوله " ولسليمان الريح عاصفة " أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة " تجري بأمره إلى الأرض
التي باركنا فيها " يعني أرض الشام " وكنا بكل شئ عالمين " وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما
يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمله
وترفعه وتسير به وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض فينزل وتوضع آلاته وحشمه قال الله تعالى " فسخرنا
له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب " وقال تعالى " غدوها شهر ورواحها شهر " قال ابن أبي حاتم ذكر عن
سفيان بن عيينة عن أبي سنان عن سعيد بن جبير قال كان يوضع لسليمان ستمائة الف كرسي فيجلس مما يليه
مؤمنو الانس ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ثم يأمر الطير فتظلهم ثم يأمر الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم وقال عبد الله
196

ابن عبيد بن عمير كان سليمان يأمر الريح فتجتمع كالطود العظيم كالجبل ثم يأمر بفراشه فيوضع على أعلى مكان
منها ثم يدعو بفرس من ذوات الأجنحة فترتفع حتى يصعد على فراشه ثم يأمر الريح فترتفع به كل شرف دون
السماء وهو مطأطئ رأسه ما يلتفت يمينا ولا شمالا تعظيما لله عز وجل وشكرا لا يعلم من صغر ما هو فيه في
ملك الله عز وجل حتى تضعه الريح حيث شاء أن تضعه وقوله " ومن الشياطين من يغوصون له " أي في الماء
يستخرجون اللآلئ والجواهر وغير ذلك " ويعملون عملا دون ذلك " أي غير ذلك كما قال تعالى " والشياطين كل
بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد " وقوله " وكنا لهم حافظين " أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين
بسوء بل كل في قبضته وتحت قهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه بل هو يحكم فيهم إن شاء
أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء ولهذا قال " وآخرين مقرنين في الأصفاد ".
وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله
ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعبدين (84)
يذكر تعالى عن أيوب ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده وذلك أنه كان له من الدواب
والانعام والحرث شئ كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره ثم أبتلي في جسده
يقال بالجذام في سائر بدنه ولم يبق منه سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل حتى عافه الجليس وأفرد
في ناحية من البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجته كانت تقوم بأمره ويقال إنها احتاجت فصارت
تخدم الناس من أجله وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل " وفي الحديث
الآخر " يبتلى الرجل على قدر دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه " وقد كان نبي الله أيوب عليه السلام غاية
في الصبر وبه يضرب المثل في ذلك. وقال يزيد بن ميسرة لما ابتلى الله أيوب عليه السلام بذهاب الأهل والمال
والولد ولم يبق شئ له أحسن الذكر ثم قال: أحمدك رب الأرباب الذي أحسنت إلي أعطيتني المال والولد فلم
يبق من قلبي شعبة آلا قد دخله ذلك فأخذت ذلك كله مني وفرغت قلبي فليس يحول بيني وبينك شئ لو يعلم
عدوي إبليس بالذي صنعت حسدني. قال فلقي إبليس من ذلك منكرا قال وقال أيوب عليه السلام يا رب إنك
أعطيتني المال والولد فلم يقم على بابي أحد يشكوني لظلم ظلمته وأنت تعلم ذلك وإنه كان يوطأ لي الفراش
فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس إنك لم تخلقي لوطئ الفراش ما تركت ذلك إلا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتم
وقد روي عن وهب بن منبه في خبره قصة طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه وذكرها غير واحد من
متأخري طويلة ساقها ابن جرير وابن أبي حاتم بالسند عنه وذكرها غير واحد من
متأخري المفسرين وفيها غرابة تركناها لحال لطول وقد روى أنه مكث في البلاء مدة طويلة ثم اختلفوا في
السبب المهيج له على هذا الدعاء فقال الحسن وقتادة ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين وأشهرا ملقى على كناسة
بني إسرائيل تختلف الدواب في جسده ففرج الله عنه وأعظم له الاجر وأحسن عليه الثناء. وقال وهب بن منبه
مكث في البلاء ثلاث سنين لا يزيد ولا ينقص وقال السدي: تساقط لحم أيوب حتى لم يبق إلا العصب والعظام
فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالرماد يكون فيه فقالت له امرأته لما طال وجعه يا أيوب لو دعوت ربك يفرج عنك
فقال قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة فجزعت من ذلك فخرجت فكانت تعمل
للناس بالاجر وتأتيه بما تصيب فتطعمه وإن إبليس انطلق إلى رجلين من أهل فلسطين كانا صديقين له وأخوين
فأتاهما فقال أخوكما أيوب أصابه من البلاء كذا وكذا فاتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما فإنه إن شرب
منه برئ فأتياه فلما نظرا إليه بكيا فقال من أنتما فقالا نحن فلان وفلان فرحب بهما وقال مرحبا بمن لا يجفوني
عند البلاء فقالا يا أيوب لعلك كنت تسر شيئا وتظهر غيره فلذلك ابتلاك الله فرفع رأسه إلى السماء فقال: هو
يعلم ما أسررت شيئا أظهرت غيره ولكن ربي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع فقالا له يا أيوب اشرب من خمرنا فإنك
197

إن شربت منه برأت قال فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما علي حرام
فقاما من عنده وخرجت امرأته تعمل للناس فخبزت لأهل بيت لهم صبي فجعلت لهم قرصا وكان ابنهم نائما
فكرهوا أن يوقظوه فوهبوه لها فأتت به إلى أيوب فأنكره وقال ما كنت تأتيني بهذا فما بالك اليوم فأخبرته الخبر قال
فلعل الصبي قد استيقظ فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله فانطلقي به إليه فأقبلت حتى بلغت درجة
القوم فنطحتها شاة لهم فقالت تعس أيوب الخطاء فلما صعدت وجدت الصبي فد استيقظ وهو يطلب القرص
ويبكي على أهله لا يقبل منهم شيئا غيره فقالت: رحمه الله يعني أيوب فدفعت إليه القرص ورجعت ثم إن إبليس
أتاها في صورة طبيب فقال لها إن زوجك قد طال سقمه فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابا فليذبحه باسم صنم بني فلان
فإنه يبرأ ويتوب بعد ذلك فقالت ذلك لأيوب فقال قد أتاك الخبيث لله علي إن برأت أن أجلدك مائة جلدة فخرجت
تسعى عليه فحظر عنها الرزق فجعلت لا تأتى أهل بيت فيريدونها فلما اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع
حلقت من شعرها قرنا فباعته من صبية من بنات الاشراف فأعطوها طعاما طيبا كثيرا فأتت به أيوب فلما رآه أنكره
وقال من أين لك هذا قالت عملت لأناس فأطعموني فأكل منه فلما كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد
فحلقت أيضا قرنا فباعته من تلك الجارية فأعطوها أيضا من ذلك الطعام فأتت به أيوب فقال والله لا أطعمه حتى
أعلم من أين هو فوضعت خمارها فلما رأى رأسها محلوقا جزع جزعا شديدا فعند ذلك دعا الله عز وجل فقال
" رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا
حماد حدثنا أبو عمر ان الجوني عن نوف البكالي أن الشيطان الذي عرج في أيوب كان يقال له مبسوط قال وكانت
امرأة أيوب تقول ادع الله فيشفيك فجعل لا يدعو حتى مر به نفر من بني إسرائيل فقال بعضهم لبعض ما أصابه ما
أصابه إلا بذنب عظيم أصابه فعند ذلك قال " رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " وحدثنا أبي حدثنا أبو
سلمة حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال كان لأيوب عليه السلام أخوان فجاءا يوما فلم يستطيعا
أن يدنوا منه من ريحه فقاما من بعيد فقال أحدهما للآخر لو كان الله علم من أيوب خيرا ما ابتلاه بهذا فجزع أيوب
من قولهما جزعا لم يجزع من شئ قط فقال: اللهم إن كنت تعلم أني لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان
جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال: اللهم إن كنت تعلم أني لم يكن لي قميصان قط وأنا
أعلم مكان جائع فصدقني فصدق من السماء وهما يسمعان ثم قال: اللهم بعزتك ثم خر ساجدا فقال اللهم بعزتك
لا أرفع رأسي أبدا حتى تكشف عني فما رفع رأسه حتى كشف عنه، وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر مرفوعا
ينحو هذا فقال أخبرنا يونس بن عيد الاعلى أخبرنا ابن وهب أخبر نافع بن يزيد عن عقيل عن الزهري عن أنس
ابن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين
من إخوانه كانا من أخص إخوانه له كانا يغدوان إليه فقال ويروحان فقال أحدهما لصاحبه تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبا
ما أذنبه أحد من العالمين فقال له صاحبه وما ذاك؟ قال منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما
راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له فقال أيوب عليه السلام ما أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني
كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، قال
وكان يخرج في حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبل فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى
أيوب في مكانه " أن اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب " رفع هذا الحديث غريب جدا. وروى ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس
قال: وألبسه الله حلة من الجنة فتنحى أيوب فجلس في ناحية وجاءت امرأته فلم تعرفه فقالت يا عبد الله أين ذهب
هذا المبتلى الذي كان ههنا لعل الكلاب ذهبت به أو الذئاب فجعلت تكلمه ساعة. فقال ويحك أنا أيوب قالت
أتسخر مني يا عبد الله؟ فقال ويحك أنا أيوب قد رد الله علي جسدي وبه قال ابن عباس ورد عليه ماله وولده
198

عيانا ومثلهم معهم، وقال وهب بن منبه أوحى الله إلى أيوب قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معه فاغتسل
بهذا الماء فإن فيه شفاءك وقرب عن صحابتك قربانا واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، رواه ابن أبي حاتم.
وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن مرزوق حدثنا همام عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لما عافى الله أيوب أمطر عليه جرادا من ذهب فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه
قال فقيل له يا أيوب أما تشبع؟ قال يا رب ومن يشبع من رحمتك؟ " أصله في الصحيحين وسيأتي في موضع
آخر. وقوله " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قد تقدم عن ابن عباس أنه قال ردوا عليه بأعيانهم وكذا رواه العوفي عن
ابن عباس أيضا وروى عن ابن مسعود ومجاهد وبه قال الحسن وقتادة وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته رحمة فإن
كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النجعة وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب وصح ذلك عنهم فهو مما لا
يصدق ولا يكذب، وقد سماها ابن عساكر في تاريخه رحمه الله تعالى قال ويقال اسمها ليا بنت ميشا بن يوسف
ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم قال ويقال ليا بنت يعقوب عليه السلام زوجة أيوب كانت معه بأرض الثنية،
وقال مجاهد قيل له يا أيوب إن أهلك لك في الجنة فإن شئت أتيناك بهم وإن شئت تركناهم لك في الجنة
وعوضناك مثلهم قال لا بل أتركهم في الجنة فتركوا له في الجنة وعوض مثلهم في الدنيا، وقال حماد بن زيد عن
أبي عمران الجوني عن نوف البكالي قال أوتي أجرهم في الآخرة وأعطي مثلهم في الدنيا قال فحدثت به مطرفا
فقال ما عرفت وجهها قبل اليوم وكذا روي عن قتادة والسدي وغير واحد من السلف والله أعلم وقوله " رحمة من
عندنا " أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به " وذكرى للعابدين " أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء إنما
فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة
البالغة في ذلك.
وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصبرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86)
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل " وقد تقدم ذكره في سورة مريم وكذا إدريس عليه السلام
وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي وقال آخرون إنما كان رجلا صالحا وكان
ملكا عادلا وحكما مقسطا، وتوقف ابن جرير في ذلك والله أعلم قال ابن جريج عن مجاهد في قوله " وذا الكفل "
قال رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل ففعل ذلك فسمى ذا
الكفل وكذا روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أيضا، وروى ابن جرير حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عفان حدثنا
وهيب حدثنا داود عن مجاهد قال لما كبر اليسع قال لو أني استخلفت رجلا على الناس يعمل عليهم في حياتي
حتى أنظر كيف يفعل فجمع الناس فقال من يتقبل مني بثلاث استخلفه فيصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب قال
فقام رجل تزدريه الأعين فقال أنا، فقال أن تصوم النهار وتقوم الليل ولا تغضب؟ قال نعم، قال فرده ذلك اليوم
وقال مثلها في اليوم الآخر فسكت الناس. وقام ذلك الرجل فقال أنا فاستخلفه قال فجعل إبليس يقول للشياطين
عليكم بفلان فأعياهم ذلك فقال دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ كبير فقير فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة - وكان
لا ينام الليل والنهار إلا تلك النومة - فدق الباب فقال من هذا؟ قال شيخ كبير مظلوم، قال فقام ففتح الباب فجعل
يقص عليه فقال إن بيني وبين قومي خصومة وإنهم ظلموني وفعلوا بي وفعلوا وجعل يطول عليه حتى حضر
الرواح وذهبت القائلة فقال إذا رحت فأتني آخذ لك حقك فانطلق وراح فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى
الشيخ فلم يره فقام يتبعه فلما كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه فلما رجع إلى القائلة فأخذ
مضجعه أتاه فدق الباب فقال من هذا؟ قال الشيخ الكبير المظلوم ففتح له فقال ألم أقل لك إذا قعدت فأتني قال
إنهم أخبث قوم إذا عرفوا أنك قاعد قالوا نحن نعطيك حقك وإذا قمت جحدوني قال فانطلق فإذا رحت فائتني قال
199

ففاتته القائلة فراح فجعل ينتظره ولا يراه وشق عليه النعاس فقال لبعض أهله لا تدع أحدا يقرب هذا الباب حتى أنام
فإني قد شق علي النوم فلما كان تلك الساعة جاء فقال له الرجل: وراءك وراءك قال إني قد أتيته أمس وذكرت له
أمري فقال لا والله لقد أمرنا أن لا ندع أحدا يقربه فلما أعياه نظر فرأى كوة في البيت فتسور منها فإذا هو في البيت
وإذا هو يدق الباب من داخل قال واستيقظ الرجل فقال يا فلان ألم آمرك قال أما من قبلي والله فلم تؤت فانظر من
أين أتيت قال فقام إلى الباب فإذا هو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فعرفه فقال أعدو الله؟ قال نعم
أعيتني في كل شئ ففعلت ما ترى لأغضبك فسماه الله ذا الكفل لأنه تكفل بأمر فوفى به. وهكذا رواه ابن أبي
حاتم من حديث زهير بن إسحاق عن داود عن مجاهد بمثله وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يونس
حدثنا أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن مسلم قال: قال ابن عباس كان قاض في بني إسرائيل فحضره الموت
فقال من يقوم مقامي على أن لا يغضب قال: فقال رجل: أنا فسمي ذا الكفل قال فكان ليله جميعا يصلي ثم
يصبح صائما فيقضي بين الناس قال وله ساعة يقيلها قال فكان كذلك فأتاه الشيطان عند نومته فقال له أصحابه
ما لك؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق وقد غلبني عليه قالوا كما أنت حتى يستيقظ قال وهو فوق نائم قال
فجعل يصيح عمدا حتى يوقظه قال فسمع فقال ما لك؟ قال إنسان مسكين له على رجل حق قال فاذهب فقل له
يعطيك قال قد أبى قال اذهب أنت إليه فذهب ثم جاء من الغد فقال ما لك؟ قال ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسا
قال اذهب إليه فقل له يعطيك حقك فذهب ثم جاء من الغد حين قال: قال فقال له أصحابه أخرج فعل الله
بك تجئ كل يوم حين ينام لا تدعه ينام قال فجعل يصيح من أجل أني مسكين لو كنت غنيا قال فسمع أيضا
فقال ما لك؟ قال ذهبت إليه فضربني قال امش حتى أجئ معك قال فهو ممسك بيده فلما رآه ذهب معه نشر يده
منه ففر. وهكذا روي عن عبد الله بن الحارث ومحمد بن قيس وأبي حجيرة الأكبر وغيرهم من السلف نحو هذه
القصة والله أعلم، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر أخبرنا سعيد بن بشير حدثنا قتادة عن كنانة
ابن الأخنس قال سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان - يعني في بني
إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة فتكفل له ذو الكفل من بعده فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي
ذا الكفل وقد رواه ابن جرير من حديث عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: قال أبو موسى الأشعري فذكره
منقطعا والله أعلم، وقد روى الإمام أحمد حديثا غريبا فقال حدثنا أسباط بن محمد حدثنا الأعمش عن عبد الله ابن عبد الله
عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين
حتى عد سبع مرات ولكن قد سمعته أكثر من ذلك قال " كان الكفل من بني إسرائيل لا يتورع من ذنب عمله فأتته
امرأة فأعطاها ستين دينارا على أن يطأها فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته أرعدت وبكت فقال ما يبكيك
أكرهتك؟ قالت لا ولكن هذ ا عمل لم أعمله قط وإنما حملني عليه الحاجة قال فتفعلين هذا ولم تفعليه قط ثم
نزل فقال اذهبي بالدنانير لك ثم قال: " والله لا يعصي الله الكفل أبدا فمات من ليلته فأصبح مكتوبا على بابه قد غفر
الله للكفل " هكذا وقع في هذه الرواية الكفل من غير إضافة والله أعلم وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب
الكتب الستة وإسناده غريب، وعلى كل تقدير فلفظ الحديث إن كان الكفل ولم يقل ذو الكفل فلعله رجل آخر
والله أعلم.
وذا النون إذ ذهب مغضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين (87) فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88)
هذه القصة مذكورة ههنا وفي سورة الصافات وفي سورة ن، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام بعثه الله إلى أهل
قرية نينوى وهي قرية من أرض الموصل فدعاهم إلى الله تعالى فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم فخرج من بين
200

أظهرهم مغاضبا لهم ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب خرجوا إلى
الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأمهات وأولادها ثم تضرعوا إلى الله عز وجل وجأروا إليه ورغت
الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها، فرفع الله عنهم العذاب قال الله تعالى " فلولا
كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى
حين "
وأما يونس فإنه ذهب فركب قوم في سفينة فلججت بهم وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه
من بينهم يتخففون منه فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه ثم أعادوها فوقعت عليه أيضا فأبوا ثم أعادوها
فوقعت عليه أيضا قال الله تعالى " فساهم فكان من المدحضين " أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام
وتجرد من ثيابه ثم ألقى نفسه في البحر وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتا يشق
البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحما ولا
تهشم له عظما فإن يونس ليس لك رزقا وإنما بطنك تكون له سجنا، وقوله " وذا النون " يعني الحوت صحت
الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله " إذ ذهب مغاضبا " قال الضحاك لقومه " فظن أن لن نقدر عليه " أي نضيق عليه
في بطن الحوت. يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله
تعالى " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها * سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقال
عطية العوفي أي فظن أن لن نقدر عليه أي نقضي عليه كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير فإن العرب تقول قدر وقدر
بمعنى واحد، وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يكن ذلك الامر
ومنه قوله تعالى " فالتقى الماء على أمر قد قدر " أي قدر وقوله " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك
إني كنت من الظالمين " قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل وكذا روي عن ابن عباس
وعمرو بن ميمون وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وقتادة، وقال سالم بن أبي الجعد: ظلمة
حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار
يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره فعند ذلك وهنالك قال " لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين " وقال عوف الاعرابي لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات ثم حرك
رجليه فلما تحركت سجد مكانه ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يبلغه أحد من الناس، وقال
سعيد بن أبي الحسن البصري مكث في بطن الحوت أربعين يوما رواهما ابن جرير وقال محمد بن إسحاق بن يسار
عمن حدثه عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أراد الله حبس
يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحما ولا تكسر له عظما فلما انتهى به إلى
أسفل البحر سمع يونس حسا فقال في نفسه ما هذا؟ فأوحى الله إليه وهو في بطن الحوت إن هذا تسبيح دواب
البحر قال وسبح وهو في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة
قال ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر قالوا العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في
كل يوم وليلة عمل صالح؟ قال نعم قال فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله تعالى
" وهو سقيم " رواه ابن جرير ورواه البزار في مسنده من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة
فذكره بنحوه ثم قال لا نعلمه يروى عن النبي إلا من هذا الوجه بهذا الاسناد. وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو
عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثنا عمي حدثني أبو صخر أن يزيد الرقاشي حدثه قال سمعت أنس
بن مالك ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يونس النبي عليه السلام حين بدأ له أن يدعو
201

بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت قال: اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فأقبلت هذه
الدعوة تحت العرش فقالت الملائكة يا رب صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة فقال أما تعرفون ذاك؟ قالوا لا يا
رب ومن هو؟ قال عبدي يونس قالوا عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مجابة قالوا يا رب أولا
ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء قال بلى فأمر الحوت فطرحه في العراء، وقوله " فاستجبنا له
ونجيناه من الغم " أي أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات " وكذلك ننجي المؤمنين " أي إذا كانوا في
الشدائد ودعونا منيبين إلينا ولا سيما إذا دعوا بهذا الدعاء في حال البلاء فقد جاء الترغيب في الدعاء به عن سيد
الأنبياء، قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن عمير حدثنا يونس بن أبي إسحاق الهمداني حدثنا إبراهيم بن محمد
ابن سعد حدثني والدي محمد عن أبيه سعد هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال مررت بعثمان بن عفان رضي الله
عنه في المسجد فسلمت عليه فملا عينيه مني ثم لم يرد علي السلام فأتيت عمر بن الخطاب فقلت يا أمير
المؤمنين هل حدث في الاسلام شئ مرتين قال لا وما ذاك قلت لا إلا أني مررت بعثمان آنفا في المسجد
فسلمت عليه فملا عينيه مني ثم لم يرد علي السلام قال فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال ما منعك أن لا تكون
رددت على أخيك السلام قال ما فعلت قال سعد قلت بلى حتى حلف وحلفت قال ثم إن عثمان ذكر فقال بلى
وأستغفر الله وأتوب إليه إنك مررت بي آنفا وأنا أحدث نفسي بكلمة سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا والله ما ذكرتها
قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة قال سعد فأنا أنبئك بها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر لنا أول دعوة ثم جاء أعرابي
فشغله حتى قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض فالتفت إلي رسول
الله فقال " من هذا أبو إسحاق " قال قلت نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فمه " قلت لا والله إلا أن ذكرت لنا أول دعوة ثم
جاء هذا الاعرابي فشغلك قال " نعم دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من
الظالمين " فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شئ قط إلا استجاب له " ورواه الترمذي والنسائي في اليوم والليلة من
حديث إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه سعد به، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد
الأحمر عن كثير بن زيد عن المطلب بن حنطب قال أبو خالد أحسبه عن مصعب يعني ابن سعد عن سعد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعا بدعاء يونس استجيب له " قال أبو سعيد يريد به " وكذلك ننجي المؤمنين " وقال
ابن جرير حدثني عمران بن بكار الكلاعي حدثنا يحيى بن صالح حدثنا أبو يحيى بن عبد الرحمن حدثني بشر
ابن منصور عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول " اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى " قال قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ليونس
خاصة أم لجماعة المسلمين قال " ليونس بن متى خاصة ولجماعة المؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول
الله عز وجل " فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين * فاستجبنا له ونجيناه من الغم
وكذلك ننجي المؤمنين " فهو شرط من الله لمن دعاه به " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي شريح
حدثنا داود بن المحبر بن محذم المقدسي عن كثير بن معبد قال سألت الحسن فقلت يا أبا سعيد اسم الله الأعظم
الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى؟ قال ابن أخي أما تقرأ القرآن قول الله تعالى " وذا النون إذ ذهب
مغاضبا - إلى قوله - وكذلك ننجي المؤمنين " ابن أخي هذا اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به
أعطى.
وزكريا إذ نادى رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا
له زوجه إنهم كانوا يسرعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90)
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولدا يكون من بعده نبيا وقد تقدمت القصة مبسوطة في أول
202

سورة مريم وفي سورة آل عمران أيضا وههنا أخصر منها " إذا نادى ربه " أي خفية عن قومه " رب لا تذرني
فردا " أي لا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس " وأنت خير الوارثين " دعاء وثناء مناسب للمسألة قال الله
تعالى " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " أي امرأته قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير كانت
عاقرا لا تلد فولدت وقال عبد الرحمن بن مهدي عن طلحة بن عمرو عن عطاء كان لسانها طول فأصلحها الله
وفي رواية كان في خلقها شئ فأصلحها الله وهكذا قال محمد بن كعب والسدي، والأظهر من السياق الأول
وقوله " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات " أي في عمل القربات والطاعات " ويدعوننا رغبا ورهبا " قال الثوري
رغبا فيما عندنا ورهبا مما عندنا " وكانوا لنا خاشعين " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي مصدقين بما
أنزل الله وقال مجاهد مؤمنين حقا وقال أبو العالية خائفين وقال أبو سنان الخشوع هو الخوف اللازم للقلب لا
يفارقه أبدا وعن مجاهد أيضا خاشعين أي متواضعين وقال الحسن وقتادة والضحاك خاشعين أي متذللين لله عز
وجل وكل هذه الأقوال متقاربة، وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا محمد بن
فضيل حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن حكيم قال خطبنا أبو بكر رضي الله عنه
ثم قال أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وتثنوا عليه بما هو له أهل وتخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الالحاف
بالمسألة فإن الله عز وجل أثنى على زكريا وأهل بيته فقال " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين ".
والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين (91)
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى فيذكر أولا
قصة زكريا ثم يتبعها بقصة مريم لان تلك مربوطة بهذه فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ومن امرأة
عجوز عاقر لم تكن تلد في حال شبابها ثم يذكر قصة مريم وهي أعجب فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر هكذا
وقع في سورة آل عمران وفي سورة مريم وههنا ذكر قصة زكريا ثم أتبعها بقصة مريم بقوله " والتي أحصنت
فرجها " يعني مريم عليها السلام كما قال في سورة التحريم " ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه
من روحنا " وقوله " وجعلناها وابنها آية للعالمين " أي دلالة على أن الله على كل شئ قدير وأنه يخلق ما يشاء
وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وهذا كقوله " ولنجعله آية للناس " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا عمر بن علي حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مجلد عن شعيب يعني ابن بشير عن عكرمة عن ابن عباس في
قوله " للعالمين " قال العالمين الجن والإنس.
إن هذه أمتكم أمة واحده وأنا ربكم فاعبدون (92) وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) فمن يعمل
من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94)
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله " إن هذه أمتكم أمة
واحدة " يقول دينكم دين واحد وقال الحسن البصري في هذه الآية يبين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال " إن هذه
أمتكم أمة واحدة " أي سنتكم سنة واحدة فقوله " إن هذه " إن واسمها و " أمتكم " خبر إن أي هذه شريعتكم التي
بينت لكم ووضحت لكم وقوله أمة واحدة نصب على الحال ولهذا قال " وأنا ربكم فاعبدون " وكما قال " يا
أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا - إلى قوله - وأنا ربكم فاتقون " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن معاشر
الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله كما قال
تعالى " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " وقوله " وتقطعوا أمرهم بينهم " أي اختلفت الأمم على رسلها فمن
بين مصدق لهم ومكذب ولهذا قال " وكل إلينا راجعون " أي يوم القيامة فيجازى كل بحسب عمله إن خيرا فخير
203

وإن شرا فشر ولهذا قال " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " أي قلبه مصدق وعمل عملا صالحا " فلا
كفران لسعيه " كقوله: " إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا " أي لا يكفر سعيه وهو عمله بل يشكر فلا يظلم
مثقال ذرة ولهذا قال " وإنا له كاتبون " أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شئ.
وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96) واقترب
الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصر الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97)
يقول تعالى " وحرام على قرية " قال ابن عباس وجب يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى
الدنيا قبل يوم القيامة، هكذا صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد، وفي رواية عن ابن عباس
أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون والقول الأول أظهر والله أعلم، وقوله " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج " قد قدمنا
أنهم من سلالة آدم عليه السلام بل هم من نسل نوح أيضا من أولاد يافث أي أبي الترك والترك شرذمة منهم تركوا
من وراء السد الذي بناه ذو القرنين وقال " هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا *
وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض " الآية وقال في هذه الآية الكريمة " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم
من كل حدب ينسلون " أي يسرعون في المشي إلى الفساد، والحد ب هو المرتفع من الأرض قاله ابن عباس
وعكرمة وأبو صالح والثوري وغيرهم، وهذه صفتهم في حال خروجهم كأن السامع مشاهد لذلك " ولا ينبئك مثل
خبير " هذا إخبار عالم ما كان وما يكون الذي يعلم غيب السماوات والأرض لا إله إلا هو. وقال ابن جرير حدثنا
محمد بن مثنى حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عبد الله بن يزيد قال: رأى ابن عباس صبيانا ينزو بعضهم
على بعض يلعبون فقال ابن عباس: هكذا يخرج يأجوج ومأجوج وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من
السنة النبوية. (فالحديث الأول) قال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن عاصم بن
عمرو بن قتادة عن محمود بن لبيد عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " تفتح يأجوج ومأجوج
فيخرجون على الناس كما قال الله عز وجل " وهم من كل حدب ينسلون " فيغشون الناس وينحاز المسلمون
عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ويشربون مياه الأرض حتى أن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون
ما فيه حتى يتركوه يابسا حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول قد كان ههنا ماء مرة حتى إذا لم يبق من الناس
أحد إلا أحد في حصن أو مدينة قال قائلهم هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء، قال ثم يهز
أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دما للبلاء والفتنة فبينما هم على ذلك بعث الله عز وجل
دودا في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس فيقول المسلمون ألا
رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو، قال فينحدر رجل منهم محتسبا نفسه قد أوطنها على أنه مقتول
فينزل فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عز وجل قد كفاكم عدوكم
فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما
شكرت عن شئ من النبات أصابته قط " ورواه ابن ماجة من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق به، (الحديث
الثاني) قال الإمام أحمد أيضا حدثنا الوليد بن مسلم أبو العباس الدمشقي حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثني يحيى بن جابر
الطائي قاضي حمص حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه أنه سمع
النواس بن سمعان الكلابي قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في ناحية النخل
فقال " غير الدجال أخوفني عليكم فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم وإن يخرج ولست فيكم فكل امرئ
حجيج نفسه والله خليفتي على كل مسلم وإنه شاب جعد قطط عينه طافية وإنه يخرج من خلة بين الشام والعراق فعاث
يمينا وشمالا يا عباد الله أثبتوا - قلنا يا رسول الله ما لبثه في الأرض؟ - قال أربعون يوما يوم كسنة ويوم كشهر ويوم
204

كجمعة وسائر أيامه كأيامكم " قلنا يا رسول الله فذاك اليوم الذي هو كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم وليلة قال " لا
اقدروا له قدره " قلنا يا رسول الله فما إسراعه في الأرض قال " كالغيث استدبرته الريح قال فيمر بالحي فيدعوهم
فيستجيبون له فيأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت وتروح عليهم سارحتهم وهي أطول ما كانت ذرى وأمده خواصر
وأسبغه ضروعا ويمر بالحي فيدعوهم فيردون عليه قوله فتتبعه أموالهم فيصبحون ممحلين ليس لهم من أموالهم
شئ، ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل - قال - ويأمر برجل فيقتل فيضربه
بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ثم يدعوه فيقبل إليه فينما هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل المسيح
ابن مريم فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا يديه على أجنحة ملكين فيتبعه فيدركه فيقتله
عند باب لد الشرقي - قال - فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عز وجل إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد
أخرجت عبادا من عبادي لا يدان لك بقتالهم فحرر عبادي إلى الطور فيبعث الله عز وجل يأجوج ومأجوج كما قال
تعالى: " وهم من كل حدب ينسلون " فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل عليهم نغفا في رقابهم
فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة فيهبط عيسى وأصحابه فلا يجدون في الأرض بيتا إلا قد ملاه زهمهم ونتنهم
فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله "
قال ابن جابر فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال فتطرحهم بالمهيل: قال ابن جابر فقلت يا
أبا يزيد وأين المهيل قال مطلع الشمس قال " ويرسل الله مطرا لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوما فيغسل
الأرض حتى يتركها كالزلقة ويقال للأرض أنبتي ثمرك ودري بركتك قال فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون
بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة فيومئذ يأكل النفر من الرمانة فيستظلون
بقحفها ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر تكفي الفخذ، والشاة
من الغنم تكفي أهل البيت، قال فبينا هم على ذلك إذ بعث الله عز وجل ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض
روح كل مسلم - أو قال مؤمن - ويبقى سرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة " انفرد بإخراجه
مسلم دون البخاري ورواه مع بقية أهل السنن من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به وقال الترمذي حسن صحيح.
الحديث الثالث: قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن بشر حدثنا محمد بن عمرو عن ابن حرملة عن خالته قالت:
خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب أصبعه من لدغة عقرب فقال: " إنكم تقولون لا عدو لكم لأنكم لا تزالون
تقاتلون عدوا حتى يأتي يأجوج ومأجوج عراض الوجوه صغار العيون صهب الشعاف من كل حدب ينسلون كأن
وجوههم المجان المطرقة " وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث محمد بن عمرو عن خالد بن عبد الله بن حرملة
المدلجي عن خالة له عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره مثله سواء.
الحديث الرابع: قد تقدم في آخر تفسير سورة الأعراف من رواية الإمام أحمد عن هشيم عن العوام عن جبلة بن
سحيم عن مرثد بن عمارة عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لقيت ليلة أسري بي إبراهيم
وموسى وعيسى " - قال - فتذاكروا أمر الساعة فردوا أمرهم إلى إبراهيم فقال لا علم لي بها، فردوا
أمرهم إلى موسى فقال لا علم لي بها فردوا أمرهم إلى عيسى فقال أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله وفيما عهد
إلي ربي أن الدجال خارج ومعي قضيبان فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص قال فيهلكه الله إذا رآني حتى أن
الحجر والشجر يقول يا مسلم إن تحتي كافرا فتعال فاقتله قال فيهلكهم الله ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم،
- قال - فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيطأون بلادهم ولا يأتون على شئ إلا أهلكوه
ولا يمرون على ماء إلا شربوه - قال - ثم يرجع الناس إلى أوطانهم يشكونهم فأدعو الله عليهم فيهلكهم ويميتهم حتى
تجوى الأرض من نتن ريحهم وينزل الله المطر فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في البحر ففيما عهد إلي ربي أن
ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها ليلا أو نهارا " ورواه ابن ماجة
عن محمد بن بشار عن يزيد بن هارون عن العوام بن حوشب به نحوه وزاد قال العوام ووجد تصديق ذلك في
205

كتاب الله عز وجل " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون " ورواه ابن جرير ههنا من
حديث جبلة به والأحاديث في هذا كثيرة جدا والآثار عن السلف كذلك، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من
حديث معمر عن غير واحد عن حميد بن هلال عن أبي الصيف قال: قال كعب إذا كان عند خروج يأجوج
ومأجوج حفروا حتى يسمع الذين يلونهم قرع فؤوسهم فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول نجئ
غدا فنخرج فيعيده الله كما كان، فيجيئون من الغد فيجدونه قد أعاده الله كما كان، فيحفرونه حتى يسمع
الذين يلونهم قرع فؤوسهم، فإذا كان الليل ألقى الله على لسان رجل منهم يقول: نجئ غدا فنخرج
إن شاء الله فيجيئون من الغد فيجدونه كما ترموه فيحفرون حتى يخرجوا فتمر الزمرة الأولى بالبحيرة
فيشربون ماءها ثم تمر الزمرة الثانية فيلحسون طينها ثم تمر الزمرة الثالثة فيقولون قد كان ههنا مرة ماء فيفر الناس
منهم فلا يقوم له شئ ثم يرمون بسهامهم إلى السماء فترجع إليهم مخضبة بالدماء فيقولون غلبنا أهل الأرض
وأهل السماء فيدعو عليهم عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول اللهم لا طاقة ولا يدي لنا بهم فاكفناهم بما شئت
فيسلط الله عليهم دودا يقال له النغف فيفرس رقابهم ويبعث الله عليهم طيرا تأخذهم بمناقيرها فتلقيهم في البحر
ويبعث الله عينا يقال لها الحياة يطهر الله الأرض وينبتها حتى أن الرمانة ليشبع منها السكن قيل وما السكن يا
كعب؟ قال أهل البيت قال فبينما الناس كذلك إذ أتاهم الصريخ أن ذا السويقتين يريده قال فيبعث عيسى ابن مريم
طليعة سبعمائة أو بين السبعمائة والثمانمائة حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله ريحا يمانية طيبة فيقبض فيها
روح كل مؤمن ثم يبقى عجاج الناس فيتسافدون كما تتسافد البهائم فمثل الساعة كمثل رجل يطيف حول فرسه
متى تضع قال كعب فمن قال بعد قولي هذا شيئا أو بعد علمي هذا شيئا فهو المتكلف، وهذا من أحسن سياقات
كعب الأحبار لما شهد له من صحيح الاخبار، وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق،
وقال الإمام أحمد حدثنا سليمان بن داود حدثنا عمران عن قتادة عن عبد الله بن أبي عتبة عن أبي سعيد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج " انفرد بإخراجه البخاري وقوله " واقترب
الوعد الحق " يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل أزفت الساعة واقتربت فإذا كانت
ووقعت قال الكافر ون هذا يوم عسر، ولهذا قال تعالى " فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا " أي من شدة ما
يشاهدونه من الأمور العظام " يا ويلنا " أي يقولون يا ويلنا " قد كنا في غفلة من هذا " أي في الدنيا " بل كنا
ظالمين " يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك.
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خلدون
(99) لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100) إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101) لا يسمعون
حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خلدون (102) لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون (103)
يقول تعالى مخاطبا لأهل مكة من مشركي قريش ومن دان بدينهم من عبدة الأوثان " إنكم وما تعبدون من دون الله
حصب جهنم " قال ابن عباس أي وقودها يعني كقوله " وقودها الناس والحجارة " وقال ابن عباس أيضا حصب
جهنم يعني شجر جهنم، وفي رواية قال " حصب جهنم " يعني حطب جهنم بالزنجية وقال مجاهد وعكرمة
وقتادة حطبها وهي كذلك في قراءة علي وعائشة وقال الضحاك جهنم أي ما يرمي به فيها
وكذا قال غيره والجميع قريب وقوله " أنتم لها واردون " أي داخلون " لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها " يعني لو
كانت هذه الأصنام والأنداد التي اتخذتموها من دون الله آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها " وكل فيها
خالدون " أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون " لهم فيما زفير " كما قال تعالى " لهم فيها زفير وشهيق "
206

والزفير خروج أنفاسهم والشهيق ولوج أنفاسهم " وهم فيها لا يسمعون ".
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا ابن فضيل حدثنا عبد الرحمن يعني
المسعودي عن أبيه قال: قال ابن مسعود إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار
فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ثم تلا عبد الله " لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون " ورواه ابن جرير
من حديث حجاج بن محمد عن المسعودي عن يونس بن حبان عن ابن مسعود فذكره، وقوله " إن الذين سبقت
لهم منا الحسنى " قال عكرمة الرحمة وقال غيره السعادة " أولئك عنها مبعدون " لما ذكر تعالى أهل النار
وعذابهم بسبب شركهم بالله عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة
وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا كما قال تعالى " للذين أحسنوا الحسنى وزيادة " وقال " هل جزاء الاحسان
إلا الاحسان " فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل
الثواب فقال " أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها " أي حريقها في الأجساد، وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا محمد بن عمار حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن أبيه عن أبي عثمان الحريري أبي عثمان " لا
يسمعون حسيسها " قال حياة على الصراط تلسعهم فإذا لسعتهم قال حس حس وقوله " وهم فيما اشتهت
أنفسهم خالدون " فسلمهم من المحذور والمرهوب وحصل لهم المطلوب والمحبوب قال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا أحمد بن أبي شريح حدثنا محمد بن الحسن بن أبي زيد الهمداني عن ليث بن أبي سليم عن ابن عم
النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال وسمر مع علي ذات ليلة فقرأ " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك
عنها مبعدون " قال أنا منهم وعمر منهم وعثمان منهم والزبير منهم وطلحة منهم وعبد الرحمن منهم أو قال سعد
منهم قال وأقيمت الصلاة فقام وأظنه يجر ثوبه وهو يقول " لا يسمعون حسيسها " وقال شعبة عن أبي بشر عن
يوسف المكي عن محمد بن حاطب قال سمعت عليا يقول في قوله " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " قال
عثمان وأصحابه، ورواه ابن أبي حاتم أيضا ورواه ابن جرير من حديث يوسف بن سعد وليس بابن ماهك عن
محمد بن حاطب عن علي فذكره ولفظه عثمان منهم وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " إن
الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرا هو أسرع من البرق
ويبقى الكفار فيها جثيا فهذا مطابق لما ذكرناه، وقال آخرون بل نزلت استثناء من المعبود ين وخرج منهم عزير
والمسيح كما قال حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وعثمان عن عطاء عن ابن عباس " إنكم وما
تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " ثم استثنى فقال " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " فيقال
هم الملائكة وعيسى ونحو ذلك مما يعبد من دون الله عز وجل وكذا قال عكرمة والحسن وابن جريج وقال الضحاك
عن ابن عباس في قوله " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " قال نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما
والسلام، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبو زهير حدثنا سعد بن طريف
عن الأصبغ عن علي في قوله " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " قال كل شئ يعبد من دون الله في النار إلا
الشمس والقمر وعيسى ابن مريم إسناده ضعيف. وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد " أولئك عنها مبعدون " قال
عيسى وعزير والملائكة وقال الضحاك عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر وكذا روي عن سعيد بن جبير وأبي
صالح وغير واحد وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا غريبا جدا فقال حدثنا الفضل بن يعقوب المرخاني
حدثنا سعد بن مسلمة بن عبد الملك حدثنا الليث بن أبي سليم عن مغيث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
" إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " قال عيسى وعزير والملائكة " وذكر بعضهم قصة بن
الزبعرى ومناظرة المشركين قال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن علي بن سهل حدثنا محمد بن حسن الأنماطي
حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرعرة حدثنا بن أبي حكيم حدثنا الحكم يعني ابن عكرمة عن ابن عباس
207

قال: جاء عبد الله الزبعرى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تزعم أن الله أنزل عليك هذه الآية " إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " فقال ابن الزبعرى قد عبدت الشمس والقمر والملائكة وعزير وعيسى
ابن مريم كل هؤلاء في النار مع آلهتنا؟ فنزلت " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير
أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون " ثم نزلت " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها
مبعدون " رواه الحافظ أبو عبد الله في كتابه الأحاديث المختارة، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا قبيصة بن
عقبة حدثنا سفيان يعني الثوري عن الأعمش عن أصحابه عن ابن عباس قال لما نزلت " إنكم وما تعبدون من
دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون " قال المشركون فالملائكة وعزير وعيسى يعبدون من دون الله فنزلت " لو
كان هؤلاء آلهة ما وردوها " الآلهة التي يعبدون " وكل فيها خالدون " وروي عن أبي كدينة عن عطاء بن السائب
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثل ذلك وقال فنزلت " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون "
وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله في كتاب السيرة وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوما مع الوليد بن
المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المسجد غير واحد من رجال قريش فتكلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرض له النضر بن الحارث فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه وتلا عليه وعليهم " إنكم وما تعبدون
من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون - إلى قوله - وهم فيها لا يسمعون " ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل
عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس معهم فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى: والله ما قام النضر بن
الحارث لابن عبد المطلب أنفا ولا قعد وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم، فقال عبد الله بن
الزبعرى أما والله لو وجدته لخصمته فسلوا محمدا كل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده فنحن نعبد
الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من
قول عبد الله بن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كل من أحب أن يعبد من
دون الله فهو مع من عبده إنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته " وأنزل الله " إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى أولئك عنها مبعدون * لا يسمعون حسيسها وهم فيها اشتهت أنفسهم خالدون " أي عيسى وعزير ومن عبدوا
من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله ونزل فيما
يذكرون أنهم يعبدون الملائكة وأنهم بنات الله " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون - إلى قوله -
ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " ونزل فيما ذكر من أمر عيسى وأنه
يعبد من دون الله وعجب الوليد ومن حضره من حجته وخصومته " ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه
يصدون * وقالوا آلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه
مثلا لبني إسرائيل * ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون * وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها " أي ما
وضعت على يديه من الآيات من إحياء الموتى لابراء الأسقام فكفى به دليلا على علم الساعة يقول " فلا تمترن بها
واتبعون هذا صراط مستقيم " وهذا الذي قاله ابن الزبعرى خطأ كبير لان الآية إنما نزلت خطابا لأهل مكة في
عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ليكون ذلك تقريعا وتوبيخا لعابديها ولهذا قال " إنكم وما تعبدون من دون
الله حصب جهنم " فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده
وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن ما لما لا يعقل عند العرب وقد أسلم عبد الله بن الزبعرى بعد
ذلك وكان من الشعراء المشهورين، وقد كان يهاجي المسلمين أولا ثم قال معتذرا
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أجاري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور
وقوله " لا يحزنهم الفزع الأكبر " قيل المراد بذلك الموت رواه عبد الرزاق عن يحيى بن ربيعه عن عطاء وقيل
208

المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور قاله العوفي عن ابن عباس وأبو سنان سعيد بن سنان الشيباني واختاره ابن
جرير في تفسيره وقيل حين يؤمر بالعبد إلى النار قاله الحسن البصري وقيل حين تطبق النار على أهلها قاله سعيد
ابن جبير وابن جريح وقيل حين يذبح الموت بين الجنة والنار قاله أبو بكر الهذلي فيما رواه ابن أبي حاتم عنه،
وقوله " وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون " يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا
خرجوا من قبورهم " هذا يومكم الذي كنتم توعدون " أي فأملوا ما يسركم.
يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فعلين (104)
يقول تعالى هذا كائن يوم القيامة " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب " كما قال تعالى " وما قدروا الله حق
قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون " وقد قال البخاري
حدثنا مقدم بن محمد حدثني عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه " انفرد به من هذا الوجه البخاري رحمه الله. وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي حدثنا محمد بن سلمة عن أبي الواصل عن أبي
المليح الأزدي عن أبي الجوزاء الأزدي عن ابن عباس قال: يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة
والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزله خردلة، وقوله " كطي
السجل للكتب " قيل المراد بالسجل الكتاب، وقيل المراد بالسجل ههنا ملك من الملائكة، قال ابن أبي حاتم
حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن العلاء حدثنا يحيى بن يمان حدثنا أبو الوفاء الأشجعي عن أبيه عن
ابن عمر في قوله تعالى " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب " قال السجل ملك فإذا صعد بالاستغفار قال
اكتبها نورا وهكذا رواه ابن جرير عن أبي كريب عن ابن يمان به، قال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي جعفر
محمد بن علي بن الحسين أن السجل ملك، وقال السدي في هذه الآية السجل ملك موكل بالصحف فإذا مات
الانسان رفع كتابه إلى السجل فطواه ورفعه إلى يوم القيامة، وقيل المراد به اسم رجل صحابي كان يكتب للنبي
صلى الله عليه وسلم الوحي، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا نوح بن قيس عن عمرو
ابن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب " قال السجل هو الرجل، قال
نوح وأخبرني يزيد بن كعب هو العوذي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: السجل كاتب
للنبي صلى الله عليه وسلم وهكذا رواه أبو داود والنسائي كلاهما عن قتيبة بن سعيد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو
ابن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس " قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ورواه ابن جرير عن نصر
ابن علي الجهضمي كما تقدم ورواه ابن عدي من رواية يحيى بن عمرو بن مالك النكري عن أبيه عن أبي الجوزاء
عن ابن عباس قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يسمى السجل وهو قوله " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب "
قال كما يطوي السجل الكتاب كذلك تطوى السماء ثم قال وهو غير محفوظ. وقال الخطيب البغدادي في تاريخه
أنبأنا أبو بكر البرقاني أنبأنا محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي أنبأنا أحمد بن الحسين الكرخي أن حمدان
ابن سعد حدثهم عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: السجل كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم وهذا
منكر جدا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلا وكذلك ما تقدم عن ابن عباس من رواية أبي داود وغيره لا
يصح أيضا، وقد صرح جماعة من الحفاظ بوضعه وإن كان في سنن أبي داود منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو
الحجاج المزي فسح الله في عمره ونسأ في أجله، وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على
حدته ولله الحمد. وقد تصدى الإمام أبو جعفر بن جرير للانكار على هذا الحديث ورده أتم رد وقال: لا يعرف
في الصحابة أحد جعفر بن جرير للانكار على هذا الحديث ورده أتم رد وقال: لا يعرف
في الصحابة أحد اسمه السجل وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل، وصدق
209

رحمه الله في ذلك وهو من أقوى الأدلة على نكارة هذا الحديث، وأما من ذكره في أسماء الصحابة فإنما اعتمد
على هذا الحديث لا على غيره والله أ علم، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة قاله علي بن أبي
طلحة والعوفي عنه ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة فعلى هذا
يكون معنى الكلام يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب أي على الكتاب بمعنى المكتوب كقوله " فلما
أسلما وتله للجبين " أي على الجبين، وله نظائر في اللغة والله أعلم. وقوله " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا
علينا إنا كنا فاعلين " يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقا جديدا كما بدأهم هو القادر على إعادتهم
وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ولهذا قال " إنا كنا
فاعلين " وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع أبو جعفر وعبيدة العمى قالوا حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال " إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة
غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " وذكر تمام الحديث أخرجاه في الصحيحين من حديث
شعبة ذكره البخاري عند هذه الآية في كتابه، وقد روى ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عائشة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نحو ذلك، وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " كما بدأنا أول خلق نعيده " قال: يهلك كل شئ كما كان
أول مرة.
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون (105) إن في هذا لبلاغا لقوم عبدين (106)
وما أرسلناك إلا رحمة للعلمين (107)
يقول تعالى مخبرا عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا
والآخرة كقوله تعالى " إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " وقال " إنا لننصر رسلنا والذين
آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " وقال " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في
الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " وأخبر تعالى أن هذا مسطور في
الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محاله ولهذا قال تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " قال الأعمش:
سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر " فقال الزبور: التوراة والإنجيل
والقرآن، وقال مجاهد الزبور الكتاب، وقال ابن عباس والشعبي والحسن وقتادة وغير واحد: الزبور الذي أنزل
على داود والذكر التوراة وعن ابن عباس الذكر القرآن، وقال سعيد بن جبير الذكر الذي في السماء، وقال مجاهد
الزبور الكتب بعد الذكر والذكر أم الكتاب عند الله واختار ذلك ابن جرير رحمه الله وكذا قال زيد بن أسلم هو
الكتاب الأول، وقال الثوري هو اللوح المحفوظ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الزبور الكتب التي أنزلت
على الأنبياء والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أخبر الله
سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض،
ويدخلهم الجنة وهم الصالحون. وقال مجاهد عن ابن عباس " إن الأرض يرثها عبادي الصالحون " قال أرض
الجنة وكذا قال أبو العالية ومجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وأبو صالح والربيع بن أنس والثوري،
وقال أبو الدرداء، نحن الصالحون وقال السدي هم المؤمنون، وقوله " إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين " أي إن في
هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم لبلاغا لمنفعة وكفاية لقوم عابدين وهم الذين عبدوا الله بما شرعه
وأحبه ورضيه وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم وقوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " يخبر
تعالى أن الله جعل محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم فمن قبل الرحمة وشكر هذه النعمة سعد
في الدنيا والآخرة ومن ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة كما قال تعالى " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا
210

وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار " وقال تعالى في صفة القرآن " قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء
والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد " وقال مسلم في صحيحه حدثنا
ابن أبي عمر حدثنا مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن ابن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قيل يا رسول الله
أدع على المشركين قال " إني لم أبعث لعانا وإنما بعثت رحمة " انفرد بإخراجه مسلم وفي الحديث الآخر " إنما
أنا رحمة مهداة " رواه عبد الله بن أبي عوانة وغيره عن وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا.
قال إبراهيم الحربي وقد رواه غيره عن وكيع فلم يذكر أبا هريرة. وكذا قال البخاري وقد سئل عن هذا الحديث
فقال كان عند حفص بن غياث مرسلا. قال الحافظ ابن عساكر وقد رواه مالك بن سعيد بن الخمس عن الأعمش
عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا ثم ساقه من طريق أبي بكر بن المقري وأبي أحمد الحاكم كلاهما عن بكر
ابن محمد بن إبراهيم الصوفي حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري عن أبي أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن
قيس بن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " إنما أنا رحمة مهداة " ثم أورده من طريق الصلت
ابن مسعود عن سفيان بن عيينة عن مسعر عن سعيد بن خالد عن رجل عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
الله بعثني رحمة مهداة بعثت برفع قوم وخفض آخرين ". قال أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن محمد بن نافع
الطحان حدثنا أحمد بن صالح قال وجدت كتابا بالمدينة عن عبد العزيز الدراوردي وإبراهيم بن محمد بن عمر
ابن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن عمرو بن عوف عن محمد بن صالح التمار عن ابن شهاب عن محمد بن جبير
ابن مطعم عن أبيه قال: قال أبو جهل حين قدم مكة منصرفه عن خمره يا معشر قريش إن محمدا نزل يثرب وأرسل
طلائعه وإنما يريد أن يصيب منكم شيئا فاحذروا أن تمروا طريقه أو مقاربوه فإنه كالأسد الضاري إنه حنق عليكم
لأنكم نفيتموه نفي القردان عن المناسم والله إن له لسحرة ما رأيته قط ولا أحدا من أصحابه إلا رأيت معهم
الشياطين وإنكم قد عرفتم عداوة ابني قيلة يعني الأوس والخزرج فهو عدو استعان بعدو فقال له مطعم بن عدي: يا
أبا الحكم والله ما رأيت أحدا أصدق لسانا ولا أصدق موعدا من أخيكم الذي طردتم وإذ فعلتم الذي فعلتم فكونوا
أكف الناس عنه قال أبو سفيان بن الحارث كونوا أشد ما كنتم عليه إن ابني قيلة إن ظفروا بكم لم يرقبوا فيكم إلا
ولا ذمة وإن أطعتموني ألجأتموهم حير كنانة أو تخرجوا محمدا من بين ظهرانيهم فيكون وحيدا مطرودا، وأما ابنا
قيلة فوالله ما هما وأهل دهلك في المذلة إلا سواء وسأكفيكم حدهم وقال:
سأمنح جانبا مني غليضا * على ما كان من قرب وبعد
رجال الخزرجية أهل ذل * إذا ما كان هزل بعد جد
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " والذي نفسي بيده لأقتلنهم ولأصلبنهم ولأهدينهم وهم كارهون إني رحمة بعثني الله
ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه، لي خمسة أسماء أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا
الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب " وقال أحمد بن صالح أرجو أن يكون الحديث صحيحا. وقال
الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثني عمرو بن قيس عن عمرو بن أبي قرة الكندي قال كان
حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حذيفة إلى سلمان فقال سلمان يا حذيفة إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خطب فقال " أيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة فإنما أنا رجل من ولد آدم أغضب كما تغضبون وإنما
بعثني الله رحمة للعالمين فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة " ورواه أبو داود عن أحمد بن يونس عن زائدة، فإن قيل
فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير حدثنا إسحاق بن شاهين حدثنا إسحاق
الأزرق عن المسعودي عن رجل يقال له سعيد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله " وما أرسلناك إلا رحمة
للعالمين " قال من آمن بالله واليوم الآخر كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما
أصاب الأمم من الخسف والقذف وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث المسعودي عن أبي سعد وهو سعيد
211

بن المرزبان البقال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكره بنحوه والله أعلم، وقد رواه أبو القاسم الطبراني عن
عبدان بن أحمد عن عيسى بن يونس الرملي عن أيوب بن سويد عن المسعودي عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " قال من تبعه كان له رحمة في الدنيا والآخرة ومن لم
يتبعه عوفي مما كان يبتلى به سائر الأمم من الخسف والمسخ والقذف.
قل إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108) فإن تولوا فقل أذنتكم على سواء وإن أدرى
أقريب أم بعيد ما توعدون (109) إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتع إلى
حين (111) قل رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112)
يقول تعالى آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين " إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل
أنتم مسلمون " أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له " فإن تولوا " أي تركوا ما دعوتهم إليه " فقل آذنتكم
على سواء " أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي برئ منكم كما أنتم برآء مني كقوله " فإن كذبوك
فقل لي عملي ولكم أعمالكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون " وقال " وإما تخافن من قوم خيانة
فانبذ إليهم على سواء " أي لكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء وهكذا ههنا " فإن تولوا فقل آذنتكم على
سواء " أي أعلمكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك. وقوله " وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون "
أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده " إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون " أي إن الله
يعلم الغيب جميعه ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون، يعلم الظواهر والضمائر ويعلم السر وأخفى ويعلم ما العباد
عاملون في إجهارهم وإسرار هم وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل. وقوله " وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى
حين " أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين قال ابن جرير لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى
أجل مسمى وحكاه عون عن ابن عباس فالله أعلم. " قال رب احكم بالحق " أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين
بالحق قال قتادة كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " وأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك وعن مالك عن زيد بن أسلم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال " رب احكم
بالحق " وقوله " وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون " أي على ما يقولون ويفترون من الكذب ويتنوعون في
مقامات التكذيب والإفك والله المستعان عليكم في ذلك. آخر تفسير سورة الأنبياء عليهم السلام ولله الحمد
والمنة.
سورة الحج:
بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم (1) يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت
وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد (2)
يقول تعالى آمرا عباده بتقواه ومخبرا لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وزلازلها وأحوالها، وقد اختلف
المفسرون في زلزلة الساعة، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة أو ذلك عبارة
212

عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم كما قال تعالى " إذا زلزلت الأرض زلزالها " " وأخرجت الأرض
أثقالها " وقال تعالى " وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة - فيومئذ وقعت الواقعة " الآية، وقال تعالى " إذا
رجت الأرض رجا - وبست الجبال بسا " الآية فقال قائلون هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال
الساعة، وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة في قوله
" إن زلزلة الساعة شئ عظيم " قال قبل الساعة، ورواه ابن أبي حاتم من حديث الثوري عن منصور والأعمش
عن إبراهيم عن علقمة فذكره، قال وروي عن الشعبي وإبراهيم وعبيد بن عمير نحو ذلك. وقال أبو كدينة عن
عطاء عن عامر الشعبي " يا آيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم " قال هذا في الدنيا قبل يوم
القيامة، وقد أورد الإمام أبو جعفر بن جرير مستند من قال ذلك في حديث الصور من رواية إسماعيل بن رافع
قاضي أهل المدينة عن يزيد بن أبي زياد عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب القرظي عن رجل عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل فهو
واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر " قال أبو هريرة يا رسول الله وما الصور؟ قال قرن قال
فكيف هو؟ قال " قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات الأولى نفخة الفزع والثانية نفخة الصعق والثالثة نفخة القيام
لرب العالمين يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول انفخ نفخة الفزع فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من
شاء الله ويأمره فيمدها ويطولها ولا يفتر وهي التي يقول الله تعالى " وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة مالها من
فواق " فتسير الجبال فتكون ترابا وترج الأرض بأهلها رجا وهي التي يقول الله تعالى " يوم ترجف الراجفة تتبعها
الرادفة قلوب يومئذ واجفة " فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها وكالقنديل
المعلق بالعرش ترجحه الأرواح فيمتد الناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان وتطير
الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم
بعضا وهي التي يقول الله تعالى " يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من
هاد " فبينما هم على ذلك إذا تصدعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمرا عظيما فأخذهم لذلك من الكرب ما الله
أعلم به ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل، ثم خسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " والأموات لا يعلمون بشئ من ذلك " قال أبو هريرة فمن استثنى الله حين يقول " ففزع من في
السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله " قال " أولئك الشهداء وإنما يصل الفزع إلى الاحياء أولئك أحياء عند
ربهم يرزقون ووقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه وهو الذي يقول الله " يا أيها
الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل
حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " وهذا الحديث قد رواه الطبراني وابن جرير
وابن أبي حاتم وغير واحد مطولا جدا والغرض منه أنه دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة أضيفت إلى
الساعة لقربها منها كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم، وقال آخرون بل ذلك هول وفزع وزلزال وبلبال
كائن يوم القيامة في العرصات بعد القيامة من القبور واختار ذلك ابن جرير واحتجوا بأحاديث: " الأول " قال الإمام أحمد
حدثنا يحيى عن هشام حدثنا قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو في بعض
أسفاره وقد تقارب من أصحاب السير رفع بهاتين الآيتين صوته: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ
عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
ولكن عذاب الله شديد " فلما سمع أصحابه بذلك حثوا المطي وعرفوا أنه عند قول يقوله فلما دنوا حوله قال
" أتدرون أي يوم ذلك ذاك يوم ينادى آدم عليه السلام فيناديه ربه عز وجل فيقول يا آدم ابعث بعثك إلى النار فيقول
يا رب وما بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة " قال فأبلس أصحابه
213

حتى ما أوضحوا أيضا حكمه فلما رأى ذلك قال " أبشروا واعملوا فوالذي نفس محمد بيده إنكم لمع خلقتين ما كانتا
مع شئ قط إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج ومن هلك من بني آدم وبني إبليس " قال فسري عنهم ثم قال " اعملوا
وأبشروا فوالذي نفس محمد بيده ما أنتم في الناس إلا كالشامة في جنب البعير أو الرقمة في ذراع الدابة " وهكذا
رواه الترمذي والنسائي في كتاب التفسير من سننيهما عن محمد بن بشار عن يحيى وهو القطان عن هشام وهو
الدستوائي عن قتادة به بنحوه وقال الترمذي حسن صحيح.
" طريق آخر " لهذا الحديث: قال الترمذي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا ابن جدعان عن
الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت " يا أيها الناس اتقوا ربكم - إلى قوله - ولكن عذاب الله
شديد " قال نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر فقال " أتدرون أي يوم ذلك؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال - ذلك يوم
يقول الله لآدم ابعث بعث النار قال يا رب وما بعث النار؟ قال تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى
الجنة " فأنشأ المسلمون يبكون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية
قال فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين وما مثلكم ومثل الأمم إلا كمثل الرقمة في
ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبروا ثم قال - إني لأرجو
أن تكونوا ثلث أهل الجنة - فكبروا ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة " فكبروا ثم قال ولا أدري أقال
الثلثين أم لا وكذا رواه الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة به ثم قال الترمذي أيضا هذا حديث صحيح وقد روى عن
عروة عن الحسن عن عمران بن الحصين وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
الحسن والعلاء بن زياد العدوي عن عمر ان بن الحصين فذكره وهكذا روى ابن جرير عن بندار عن غندر عن عوف
عن الحسن قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة العسرة ومعه أصحابه بعد ما شارف المدينة قرأ " يا أيها
الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شئ عظيم " وذكر الحديث فذكر نحو سياق ابن جدعان والله أعلم، " الحديث
الثاني " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن الطباع حدثنا أبو سفيان يعني المعمري عن معمر عن قتادة عن
أنس قال نزلت " إن زلزلة الساعة شئ عظيم " وذكر يعني نحو سياق الحسن عن عمران غير أنه قال ومن هلك من
كثرة الجن والإنس، ورواه ابن جرير بطوله من حديث معمر. " الحديث الثالث " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد يعني ابن العوام حدثنا هلال بن حباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: تلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فذكر نحوه، وقال فيه " إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - ثم قال - إني لأرجو أن
تكونوا ثلث أهل الجنة - ثم قال - إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة " ففرحوا وزاد أيضا " وإنما أنتم جزء من
ألف جزء " " الحديث الرابع " قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش
حدثنا أبو صالح عن أبي سعيد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى يوم القيامة يا آدم فيقول لبيك ربنا وسعديك
فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار قال يا رب وما بعث النار قال من كل ألف - أراه
قال - تسعمائة وتسعة وتسعون له فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد " وترى الناس سكارى وما هم بسكارى
ولكن عذاب الله شديد " " فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم قال النبي صلى الله عليه وسلم " من يأجوج ومأجوج تسعمائة
وتسعة وتسعون ومنكم واحد أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب
الثور الأسود إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة - فكبرنا ثم قال - ثلث أهل الجنة - فكبرنا ثم قال - شطر أهل
الجنة " فكبرنا وقد رواه البخاري أيضا في غير هذا الموضع ومسلم والنسائي في تفسيره من طرق عن الأعمش
به " الحديث الخامس " قال الإمام أحمد حدثنا عمارة بن محمد ابن أخت سفيان الثوري وعبيدة العمي كلاهما عن
إبراهيم بن مسلم عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم " إن الله يبعث
214

يوم القيامة مناديا يا آدم إن الله يأمرك أن تبعث بعثا من ذريتك إلى النار فيقول آدم يا رب من هم فيقال له من كل
مائة تسعة وتسعون " فقال رجل من القوم من هذا الناجي منا بعد هذا يا رسول الله قال " هل تدرون ما أنتم في
الناس إلا كالشامة في صدر البعير " انفرد بهذا السند وهذا السياق الإمام أحمد.
" الحديث السادس " قال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن حاتم بن أبي صفيرة حدثنا ابن أبي مليكة أن القاسم
بن محمد أخبره عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلا " قالت عائشة يا
رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض قال يا عائشة إن الامر أشد من أن يهمهم ذاك " أخرجاه في
الصحيحين " الحديث السابع " قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران
عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال " يا عائشة أما
عند ثلاث فلا أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله
فلا، وحين يخرج عنق من النار فيطوي عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق: وكلت بثلاثة وكلت بثلاثة وكلت
بثلاثة، وكلت بمن ادعى مع الله إلها آخر، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب، ووكلت بكل جبار عنيد - قال -
فينطوي عليهم ويرميهم في غمرات جهنم ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب وحسك
يأخذان من شاء الله والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب والملائكة يقولون: يا رب
سلم سلم، فناج مسلم ومخدوش مسلم، ومكور في النار على وجهه " والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار
كثيرة جدا لها موضع آخر ولهذا قال تعالى " إن زلزلة الساعة شئ عظيم " أي أمر عظيم، وخطب جليل،
وطارق مفظع، وحادث هائل، وكائن عجيب، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع كما قال تعالى
" هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا " ثم قال تعالى " يوم ترونها " هذا من باب ضمير الشأن ولهذا
قال مفسرا له " تذهل كل مرضعة عما أرضعت " أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها والتي هي أشفق
الناس عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له ولهذا قال " كل مرضعة " ولم يقل مرضع وقال " عما أرضعت "
أي عن رضيعها فطامه، وقوله " وتضع كل ذات حمل حملها " أي قبل تمامه لشدة الهول " وترى الناس
سكارى " وقرئ " سكرى " أي من شدة الامر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم، وغابت أذهانهم فمن
رآهم حسب أنهم سكارى " وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ".
ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ويتبع كل شيطن مريد (3) كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى
عذاب السعير (4)
يقول تعالى ذاما لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى معرضا عما أنزل الله على أنبيائه متبعا في
قوله وإنكاره وكفره كل شيطان مريد من الإنس والجن وهذا حال أهل البدع والضلال المعرضين عن الحق
المتبعين للباطل يتركون ما أنزل الله على رسوله من الحق المبين، ويتبعون أقوال رؤوس الضلالة الدعاة إلى
البدع بالأهواء والآراء ولهذا قال في شأنهم وأشباههم " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " أي علم صحيح
" ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه " قال مجاهد يعني الشيطان كتب عليه كتابة قدرية " أنه من تولاه " أي
اتبعه وقلده " فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " أي يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير وهو
الحار المؤلم المقلق المزعج، وقد قال السدي عن أبي مالك نزلت هذه الآية في النضر بن لحارث وكذلك قال
ابن جريج. وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن مسلم البصري حدثنا عمرو بن البختري أبو قتادة حدثنا المعتمر
حدثنا أبو كعب المكي قال: قال خبيث من خبثاء قريش أخبرنا عن ربكم من ذهب هو أو من فضة هو أو من
نحاس هو؟ فتقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب الرعد - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه، وقال
215

لي ابن أبي سليم عن مجاهد: جاء يهودي فقال يا محمد أخبر نا عن ربك من أي شئ هو من در أم من ياقوت؟
قال فجاءت صاعقة فأخذته.
يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من مضغة مخلقة وغير
مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من
يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج (5) ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شئ قدير (6)
وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور (7)
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد بما يشاهد من بدئه
للخلق فقال " يا أيها الناس إن كنتم في ريب " أي في شك " من البعث " وهو المعاد، وقيام الأرواح والاجساد، يوم
القيامة " فإنا خلقناكم من تراب " أي أصل برئه لكم من تراب وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام " ثم من
نطفة " أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " ثم من علقة ثم من مضغة " وذلك أنه إذا استقرت النطفة في
رحم المرأة مكثت أربعين يوما كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله فتمكث كذلك
أربعين يوما ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فيما ولا تخطيط ثم يشرع في التشكيل والتخطيط
فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان ورجلان وسائر الأعضاء، فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل
والتخطيط وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ولهذا قال تعالى " ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة " أي
كما تشاهدونها " لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى " أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة
ولا تسقطها كما قال مجاهد في قوله تعالى " مخلقة وغير مخلقة " قال هو السقط مخلوق وغير مخلوق فإذا مضى
عليها أربعون يوما وهي مضغة أرسل الله تعالى إليها ملكا فنفخ فيها الروح وسواها كما يشاء الله عز وجل من حسن
وقبح وذكر وأنثى وكتب رزقها وأجلها وشقي أو سعيد كما ثبت في الصحيحين من حديث الأعمش عن زيد بن
وهب عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين
ليلة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه
وعمله وأجله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح ".
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال: النطفة إذا
استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه فقال يا رب مخلقة أو غير مخلقة فإن قيل غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها
الأرحام دما وإن قيل مخلقة قال أي رب ذكرا أو أنثى شقي أو سعيد ما الاجل وما الأثر وبأي أرض يموت. قال
فيقال للنطفة من ربك؟ فتقول الله فيقال من رازقك؟ فتقول الله فيقال له اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه فصه
هذه النطفة قال فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك ثم تلا
عامر الشعبي " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة مخلقة وغير مخلقة " فإذا بلغت مضغة نكست في الخلق الرابع فكانت نسمة وإن كانت غير مخلقة قذفتها
الأرحام دما وإن كانت مخلقة نكست نسمة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري حدثنا
سفيان عن عمرو بن دينار عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال " يدخل الملك على النطفة
بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوما أو خمس وأربعين فيقول أي رب أشقي أم سعيد فيقول الله ويكتبان فيقول
216

أذكر أم أنثى فيقول الله ويكتبان ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ثم تطوى الصحف فلا يزاد على ما فيها ولا
ينتقص " ورواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة ومن طريق آخر عن أبي الطفيل بنحو معناه، وقوله " ثم
نخرجكم طفلا " أي ضعيفا في بدنه وسمعه وبصره وحواسه وبطشه وعقله ثم يعطيه الله القوة شيئا فشيئا ويلطف به
ويحنن عليه والديه في آناء الليل وأطراف النهار ولهذا قال " ثم لتبلغوا أشدكم " أي يتكامل القوي ويتزايد ويصل
إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر " ومنكم من يتوفى " أي في حال شبابه وقواه " ومنكم من يرد إلى أرذل
العمر " وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخوف وضعف الفكر ولهذا قال
" لكيلا يعلم من بعد علم شيئا " كما قال تعالى " الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل
من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير " وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى
الموصلي في مسنده حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا خالد الزيات حدثني داود أبو سليمان عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رفع الحديث قال " المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل
من حسنة كتبت لوالده أو لوالديه وما عمل من سيئة لم تكتب عليه ولا على والديه فإذا بلغ الحنث أجرى الله عليه
القلم أمر الملكان اللذان كانا معه أن يحفظا وأن يشددا فإذا بلغ أربعين سنة في الاسلام أمنه الله من البلايا
الثلاث: الجنون والجذام والبرص فإذا بلغ الخمسين خفف الله عنه حسابه فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه بما
أحب فإذا بلغ السبعين أحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ التسعين غفر
الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه في أهل بيته وكتب أمين الله وكان أسير الله في أرضه فإذا بلغ أرذل العمر
لكيلا يعلم من بعد علم شيئا كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير فإذا عمل سيئة لم تكتب عليه "
هذا حديث غريب جدا وفيه نكارة شديدة ومع هذا قد رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده موقوفا ومرفوعا فقال:
حدثنا أبو النضر حدثنا الفرج حدثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله العاملي عن عمرو بن جعفر عن أنس قال
" إذا بلغ الرجل المسلم أربعين سنة أمنه الله من أنواع البلايا من الجنون والبرص والجذام، فإذا بلغ الخمسين
لين الله حسابه، وإذا بلغ الستين رزقه الله إنابة يحبه الله عليها، وإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء،
وإذا بلغ الثمانين تقبل الله حسناته ومحا عنه سيئاته، وإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي
أسير الله في أرضه وشفع في أهله " ثم قال حدثنا هشام حدثنا الفرج حدثني محمد بن عبد الله العامري عن
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، ورواه الإمام أحمد أيضا
حدثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن
مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما من معمر يعمر في الاسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء:
الجنون والبرص والجذام " وذكر تمام الحديث كما تقدم سواء ورواه الحافظ أبو بكر البزار عن عبد الله بن شبيب
عن أبي شيبة عن عبد الله بن عبد الملك عن أبي قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يعمر في الاسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواع من البلاء، الجنون
والجذام والبرص فإذا بلغ خمسين سنة لين الله له الحساب فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة إليه بما يحب فإذا
بلغ سبعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله وأحبه أهل السماء فإذا بلغ الثمانين تقبل الله
منه حسناته وتجاوز عن سيئاته فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وسمي أسير الله في أرضه
وشفع في أهل بيته.
وقوله " وترى الأرض هامدة " هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى كما يحي الأرض الميتة الهامدة
وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شئ. وقال قتادة غبراء متهشمة. وقال السدي ميتة " فإذا أنزلنا عليها الماء
اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " أي فإذا أنزل الله عليها المطر اهتزت أي تحركت بالنبات وحيت بعد
217

موتها وربت أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى ثم أنبتت ما فيها من الألوان والفنون من ثمار وزروع وأشتات النباتات
في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ولهذا قال تعالى " وأنبتت من كل زوج بهيج " أي حسن
المنظر طيب الريح. وقوله " ذلك بأن الله هو الحق " أي الخالق المدبر الفعال بما يشاء " وأنه يحيي الموتى "
أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع " إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شئ قدير "
" إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " " وأن الساعة آتية لا ريب فيها " أي كائنة لا شك فيها ولا مرية
" وأن الله يبعث من في القبور " أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمما ويوجدهم بعد العدم كما قال تعالى
" وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم؟ قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق
عليم، الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون " والآيات في هذا كثيرة. وقال الإمام أحمد
حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال أنبأنا يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدي عن عمه أبي رزين العقيلي واسمه
لقيط بن عامر أنة قال يا رسول الله أكلنا يرى ربه عز وجل يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أليس كلكم ينظر إلى القمر مخليا به؟ " قلنا بلى قال " فالله أعظم " قال قلت يا رسول الله كيف يحيي الله
الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال " أما مررت بوادي أهلك ممحلا؟ " قال بلى قال " ثم مررت به يهتز خضرا "
قال بلى قال " فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه " ورواه أبو داود وابن ماجة من حديث حماد بن سلمة
به ثم رواه الإمام أحمد أيضا حدثنا علي بن إسحاق أنبأنا ابن المبارك أنبأنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن
سليمان بن موسى عن أبي رزين العقيلي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟
قال " أمررت بأرض من أرض قومك مجدبة ثم مررت بها مخصبة؟ " قال نعم قال " كذلك النشور " والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عيسى بن مرحوم حدثنا بكير بن السميط عن قتادة عن أبي الحجاج عن
معاذ بن جبل قال: من علم أن الله هو الحق المبين وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور
دخل الجنة.
ومن الناس من يجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتب منير (8) ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له
في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق (9) ذلك بما قدمت يداه وأن لله ليس بظلام للعبيد (10)
لما ذكر تعالى حال الضلال الجهال المقلدين في قوله " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ويتبع كل شيطان
مريد " ذكر في هذه الدعاة إلى الضلالة من رؤوس الكفر والبدع فقال " ومن الناس من يجادل في الله بغير
علم ولا هدى ولا كتاب منير " أي بلا عقل صحيح، ولا نقل صريح، بل بمجرد الرأي والهوى، وقوله " ثاني
عطفه " قال ابن عباس وغيره مستكبر عن الحق إذا دعى إليه، وقال مجاهد وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم
" ثاني عطفه " أي لاوي عطفه وهي رقبته يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق ويثني رقبته استكبارا كقوله تعالى
" وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه " الآية وقال تعالى " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما
أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " وقال تعالى " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم
رسول الله لووا رؤوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون " وقال لقمان لابنه " ولا تصعر خدك للناس " أي
تميله عنهم استكبارا عليهم، وقال تعالى " وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا " الآية. وقوله " ليضل عن سبيل
الله " قال بعضهم هذه " لام العاقبة " لأنه قد لا يقصد ذلك، ويحتمل أن تكون " لام التعليل ". ثم إما أن يكون المراد
بها المعاندون أو يكون المراد بها أن هذا الفاعل لهذا إنما جبلناه على هذا الخلق الدنئ لنجعله ممن يضل عن
سبيل الله. ثم قال تعالى " له في الدنيا خزي " وهو الإهانة والذل كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقاه الله المذلة
في الدنيا وعاقبه فيها قبل الآخرة لأنها أكبر همه ومبلغ علمه " ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق * ذلك بما قدمت
218

يداك " أي يقال له هذا تقريعا وتوبيخا " وأن الله ليس بظلام للعبيد " كقوله تعالى " خذوه فاعتلوه إلى سواء
الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن الصباح حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا هشام عن الحسن قال بلغني أن
أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة.
ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا
والآخرة ذلك هو الخسران المبين (11) يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلل البعيد (12)
يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير (13)
قال مجاهد وقتادة وغيرهما على حرف على شك وقال غيرهم على طرف ومنه حرف الحبل أي طرفه أي دخل
في الدين على طرف فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر. وقال البخاري حدثنا إبراهيم بن الحارث حدثنا
يحيى بن أبي بكير حدثنا إسرائيل عن أبي الحصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " ومن الناس من يعبد الله
على حرف " قال كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلام ونتجت خيله قال هذا دين صالح. وإن لم تلد
امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق
القمي عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان ناس من الاعراب يأتون النبي صلى
الله عليه وآله وسلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا إن
ديننا هذا لصالح تمسكوا به وإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا ما في ديننا هذا خير فأنزل الله
على نبيه " ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به " الآية. وقال العوفي عن ابن عباس:
كان أحدهم إذا قدم المدينة وهم أرض دونه فإن صح بها جسمه ونتجت فرسه مهرا حسنا وولدت امرأته غلاما
رضي به واطمأن إليه وقال ما أصبت منذ كنت على ديني هذا إلا خيرا " وإن أصابته فتنة " والفتنة البلاء أي وإن
أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية أصابته فتنة " والفتنة البلاء أي وإن
أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وتأخرت عنه الصدقة أتاه الشيطان فقال والله ما أصبت منذ كنت على
دينك هذا إلا شرا، وذلك الفتنة، وهكذا ذكر قتادة والضحاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه
الآية وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة وإن فسدت عليه دنياه
وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح من دنياه فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختيار أو ضيق ترك دينه
ورجع إلى الكفر، وقال مجاهد في قوله " انقلب على وجهه " أي ارتد كافرا وقوله " خسر الدنيا والآخرة " أي
فلا هو حصل من الدنيا على شئ وأما الآخر فقد كفر بالله العظيم فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة، ولهذا قال
تعالى " ذلك هو الخسران المبين " أي هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة وقوله " يدعو من دون الله ما
لا يضره وما لا ينفعه " أي من الأصنام والأنداد يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره " ذلك
هو الضلال البعيد "، وقوله " يدعو لمن ضره أقرب من نفعه " أي ضرره في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه
فيها وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن وقوله " لبئس المولى ولبئس العشير " قال مجاهد يعني الوثن يعني بئس
هذا الذي دعاه من دون الله مولى يعني وليا وناصرا " وبئس العشير " وهو المخالط والمعاشر واختار ابن جرير أن
المراد لبئس ابن العم والصاحب " من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على
وجهه " وقول مجاهد أن المراد به الوثن أولى وقرب إلى سياق الكلام والله أعلم.
219

إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت تجري من تحتها الانهر إن الله يفعل ما يريد (14)
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم فعملوا
الصالحات من جميع أنواع القربات وتركوا المنكرات فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات
الجنات، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال " إن الله يفعل ما يريد ".
من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده
ما يغيظ (15) وكذلك أنزلناه آيات بينت وأن الله يهدي من يريد (16)
قال ابن عباس من كان يظن أن لن ينصر الله، محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب
أي بحبل " إلى السماء " أي سماء بيته " ثم ليقطع " يقول ثم ليختنق به وكذا قال مجاهد وعكرمة وعطاء وأبو
الجوزاء وقتادة وغيرهم، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " فليمدد بسبب إلى السماء " أي ليتوصل إلى بلوغ
السماء فإن النصر إنما يأتي محمدا من السماء " ثم ليقطع " ذلك عنه إن قدر على ذلك وقول ابن عباس
وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى من كان يظن أن الله ليس بناصر محمدا وكتابه ودينه
فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محاله قال الله تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في
الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " الآية ولهذا قال: " فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " قال السدي يعني من شأن
محمد صلى الله عليه وسلم وقال عطاء الخراساني فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ وقوله " وكذلك أنزلناه " أي
القرآن " آيات بينات " أي واضحات في لفظها ومعناها حجة من الله على الناس " وأن الله يهدي من يريد " أي
يضل من يشاء ويهدى من يشاء وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك " لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون "
أما هو فلحكمته ورحمته وعدله وعلمه وقهره وعظمته لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة
إن الله على كل شئ شهيد (17)
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ومن سواهم من اليهود والصابئين وقد قدمنا في سورة
البقرة التعريف بهم واختلاف الناس فيهم والنصارى والمجوس والذين أشركوا فعبدوا مع الله غيره فإنه تعالى
" يفصل بينهم يوم القيامة " ويحكم بينهم بالعدل فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار فإنه تعالى شهيد على
أفعالهم حفيظ لأقوالهم عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم.
ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير
من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18)
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له فإنه يسجد لعظمته كل شئ طوعا وكرها وسجود كل شئ مما
يختص به كما قال تعالى " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم
داخرون " وقال ههنا " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض " أي من الملائكة في أقطار
السماوات والحيوانات في جميع الجهات من الإنس والجن والدواب والطير " وإن من شئ إلا يسبح بحمده "
وقوله " والشمس والقمر والنجوم " إنما ذكر هذه على التنصيص لأنها قد عبدت من دون الله فبين أنها تسجد
220

لخالقها وأنها مربوبة مسخرة " لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن " الآية وفي الصحيحين عن
أبي ذر رضي الله عنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال
" فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت " وفي المسند وسنن أبي
داود والنسائي وابن ماجة في حديث الكسوف " إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله وإنهما لا ينكسفان لموت
أحد ولا لحياته ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشئ من خلقه خشع له " وقال أبو العالية ما في السماء نجم ولا
شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجدا حين يغيب ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى
مطلعه. وأما الجبال والشجر فسجودهما يفئ ظلالهما عن اليمين والشمائل وعن ابن عباس قال جاء رجل فقال يا
رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي
تقول: اللهم أكتب لي بها عندك أجرا وضع عني بها وزرا واجعلها لي عندك ذخرا وتقبلها مني كما تقبلتها من
عبدك داود قال ابن عباس فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول
الشجرة. رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وقوله " والدواب " أي: الحيوانات كلها وقد جاء في
الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر فرب مركوبة خيرا أو أكثر ذكرا لله
تعالى من راكبها وقوله: " وكثير من الناس " أي يسجد لله طوعا مختارا متعبدا بذلك " وكثير حق عليه العذاب " أي
ممن امتنع وأبى واستكبر " ومن يهن الله فماله من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد
ابن شيبان الرملي حدثنا القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي قال قيل لعلى إن ههنا رجلا يتكلم في
المشيئة فقال له علي يا عبد الله خلقك الله كما يشاء أو كما شاء قال بل كما شاء قال فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت
قال بل إذا شاء قال فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت قال بل إذا شاء قال فيدخلك حيث شئت أو حيث شاء قال بل
حيث يشاء قال والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قرأ
ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت
فلي النار " رواه مسلم. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم وأبو عبد الرحمن المقري قالا: حدثنا
ابن لهيعة قال حدثنا مشرح بن هاعان أبو مصعب المعافري قال سمعت عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله
أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين قال " نعم فمن لم يسجد بهما فلا يقرأهما " ورواه أبو داود
والترمذي من حديث عبد الله بن لهيعة به وقال الترمذي ليس بقوي وفي هذا نظر فإن ابن لهيعة قد صرح فيه
بالسماع وأكثر ما نقموا عليه تدليسه وقد قال أبو داود في المراسيل حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح أنبأنا ابن وهب
أخبرني معاوية بن صالح عن عامر بن جشب عن خالد بن معدان رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فضلت سورة
الحج على سائر القرآن بسجدتين " ثم قال أبو داود وقد أسند هذا يعني من غير هذا الوجه ولا يصح، وقال
الحافظ أبو بكر الإسماعيلي حدثني ابن أبي داود حدثنا يزيد بن عبد الله حدثنا الوليد حدثنا أبو عمرو حدثنا حفص
ابن غياث حدثني نافع قال: حدثني أبو الجهم أن عمر سجد سجدتين في الحج وهو بالجابية وقال إن هذه فضلت
بسجدتين وروى أبو داود وابن ماجة من حديث الحارث بن سعيد العتقي عن عبد الله بن منين عن عمرو
ابن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجده في القرآن منها ثلاث في المفصل وفي سورة الحج
سجدتان، فهذه شواهد يشد بعضها بعضا.
* هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم
الحميم (19) يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) ولهم مقامع من حديد (21) كلما أرادوا أن يخرجوا منها
من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22)
221

ثبت في الصحيح من حديث أبي مجلز عن قيس بن عباد عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية " هذان
خصمان اختصموا في ربهم " نزلت في حمزة وصاحبيه وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر. لفظ البخاري عند
تفسيرها، ثم قال البخاري حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا المعتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن
قيس بن عباد عن علي بن أبي طالب أنه قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة قال
قيس: وفيهم نزلت " هذان خصمان اختصموا في ربهم " قال هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة وشيبة
ابن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. انفرد به البخاري.
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله " هذان خصمان اختصموا في ربهم " قال اختصم المسلمون وأهل
الكتاب فقال أهل الكتاب نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون كتابنا يقضي
على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء فنحن أولى بالله منكم فأفلج الله الاسلام على من ناوأه وأنزل " هذان خصمان
اختصموا في ربهم " وكذا روى العوفي عن ابن عباس، وقال شعبة عن قتادة في قوله " هذان خصمان اختصموا
في ربهم " قال مصدق ومكذب، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في هذه الآية مثل الكافر والمؤمن اختصما في
البعث، وقال في رواية هو وعطاء في هذه الآية هم المؤمنون والكافرون، وقال عكرمة " هذان خصمان
اختصموا في ربهم " قال هي الجنة والنار، قالت النار اجعلني للعقوبة وقالت الجنة اجعلني للرحمة، وقول
مجاهد وعطاء أن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها فإن
المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل والكافرون يريدون إطفاء نور الايمان وخذلان الحق وظهور الباطل وهذا
اختيار ابن جرير وهو حسن ولهذا قال " فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار " أي فصلت لهم مقطعات من
النار، قال سعيد بن جبير من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي " يصب من فوق رؤوسهم الحميم * يصهر
به ما في بطونهم والجلود " أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرارة، وقال سعيد
ابن جبير هو النحاس المذاب أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير
وغيرهم وكذلك تذوب جلودهم وقال ابن عباس وسعيد تساقط.
وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى حدثني إبراهيم أبو إسحاق الطالقاني حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن يزيد
عن أبي السمح عن ابن حجيرة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفد
الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه وهو الصهر ثم يعاد كما كان " ورواه
الترمذي من حديث ابن المبارك وقال حسن صحيح وهكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن أبي نعيم عن
ابن المبارك به ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال سمعت عبد الله
ابن السري قال: يأتيه الملك يحمل الاناء بكلبتين من حرارته فإذا أدناه من وجهه تكرهه قال فيرفع مقمعة معه
فيضرب بها رأسه فيفرغ دماغه ثم يفرغ الاناء من دماغه فيصل إلى جوفه من دماغه فذلك قوله " يصهر به ما في
بطونهم والجلود "، وقوله " ولهم مقامع من حديد " قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا
دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أن مقمعا من حديد وضع في الأرض فاجتمع له
الثقلان ما أقلوه من الأرض " وقال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان، ولو
أن دلوا من غساق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا " وقال ابن عباس في قوله " ولهم مقامع من حديد " قال
يضربون بها فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور، وقوله " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها "
قال الأعمش عن أبي ظبيان عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضئ لهبها ولا جمرها ثم قرأ " كلما أرادوا أن
يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها " وقال زيد بن أسلم في هذه الآية " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا
222

فيها " قال بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون، وقال الفضيل بن عياض: والله ما طمعوا في الخروج إن
الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها، وقوله " وذوقوا عذاب الحريق " كقوله
" وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون " ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.
إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنت تجري من تحتها الانهر يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا
ولباسهم فيها حرير (23) وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24)
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار عياذا بالله من حالهم وما هم فيه من العذاب والنكال والحريق والأغلال وما أعد
لهم من الثياب من النار ذكر حال أهل الجنة نسأل الله من فضله وكرمه فقال " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار " أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها وتحت أشجارها وقصورها
يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا " يحلون فيها " من الحلية " من أساور من ذهب ولؤلؤا " أي في أيديهم كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " وقال كعب الأحبار: إن في
الجنة ملكا لو شئت أن أسميه لسميته يصوغ لأهل الجنة الحلي منذ خلقه الله إلى يوم القيامة لو أبرز قلب منها -
أي سوار منها - لرد شعاع الشمس كما ترد الشمس نور القمر، وقوله " ولباسهم فيها حرير " في مقابلة ثياب أهل
النار التي فصلت لهم لباس هؤلاء من الحرير إستبرقه وسندسه كما قال " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق
وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " وفي الصحيح
" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " قال عبد الله بن الزبير من لم يلبس
الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة قال الله تعالى " ولباسهم فيها حرير " وقوله " وهدوا إلى الطيب من القول "
كقوله تعالى " وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم تحيتهم
فيها سلام " وقوله " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " وقوله " لا
يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما " فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب وقوله
" ويلقون فيها تحية وسلاما " لا كما يهان أهل النار بالكلام الذي يوبخون به ويقرعون به يقال لهم " ذوقوا عذاب
الحريق " وقوله " وهدوا إلى صراط الحميد " أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم
به وأسداه إليهم كما جاء في الحديث الصحيح " إنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس " وقد قال
بعض المفسرين في قوله " وهدوا إلى الطيب من القول " أي القرآن وقيل لا إله إلا الله وقيل الاذكار المشروعة
" وهدوا إلى صراط الحميد " أي الطريق المستقيم في الدنيا وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه والله أعلم.
إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلنه للناس سواء العكف فيه والباد ومن يرد فيه
بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم (25)
يقول تعالى منكرا على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ودعواهم أنهم
أولياؤه " وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون " الآية وفي هذه الآية دليل على أنها مدنية كما قال في سورة
البقرة " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام
وإخراج أهله منه أكبر عند الله " وقال ههنا " إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام " أي ومن
وصفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من
المؤمنين الذين هم أحق الناس به في نفس الامر وهذا الترتيب في هذه الآية كقوله تعالى " الذين آمنوا وتطمئن
223

قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " أي ومن صفتهم أنهم تطمئن قلوبهم بذكر الله " وقوله " الذي جعلناه
للناس سواء العاكف فيه والباد " أي يمنعون الناس عن الوصول إلى المسجد الحرام وقد جعله الله شرعا سواء لا
فرق فيه بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه " سواء العاكف فيه والباد " ومن ذلك استواء الناس في رباع
مكة وسكناها كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله " سواء العاكف فيه والباد " قال ينزل أهل مكة
وهم في المسجد الحرام وقال مجاهد " سواء العاكف فيه والباد " أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل وكذا
قال أبو صالح وعبد الرحمن بن سابط وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة سواء
فيه أهله وغير أهله هذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحق بن راهويه بمسجد الخيف وأحمد
ابن حنبل حاضر أيضا فذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر واحتج بحديث الزهري عن
علي بن الحسن عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله أننزل غدا في دارك بمكة؟ فقال
" وهل ترك لنا عقيل من رباع " ثم قال " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " وهذا الحديث مخرج في
الصحيحين وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم
وبه قال طاوس وعمرو بن دينار وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنها لا تورث ولا تؤجر وهو مذهب طائفة من السلف
ونص عليه مجاهد وعطاء واحتج إسحاق بن راهويه بما رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عيسى
ابن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حياة عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن، وقال عبد الرزاق بن مجاهد
عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أنه قال لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها وقال أيضا عن ابن جريج كان عطاء ينهى عن
الكراء في الحرم وأخبرني أن عمر بن الخطاب كان ينهى عن تبويب دور مكة لان ينزل الحاج في عرصاتها فكان
أول من بوب داره سهيل بن عمرو فأرسل إليه عمر بن الخطاب في ذلك فقال أنظرني يا أمير المؤمنين إني كنت
امرأ تاجرا فأردت أن أتخذ بابين يحبسان لي ظهري قال فلك ذلك إذا. وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن
مجاهد أن عمر بن الخطاب قال يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث يشاء قال وأخبرنا معمر
عمن سمع عطاء يقول " سواء العاكف فيه والباد " قال ينزلون حيث شاءوا، وروى الدارقطني من حديث ابن أبي
نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا " حيث شاءوا، وروى الدارقطني من حديث ابن أبي
نجيح عن عبد الله بن عمرو موقوفا " من أكل كراء بيوت مكة أكل نارا " وتوسط الإمام أحمد فقال تملك وتورث ولا
تؤجر جمعا بين الأدلة والله أعلم، وقوله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " قال بعض المفسرين من
أهل العربية الباء ههنا زائدة كقوله " تنبت بالدهن " أي تنبت الدهن وكذا قوله " ومن يرد فيه بإلحاد " تقديره
إلحادا وكما قال الأعشى:
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا بين المراجل والصريح الأجرد
وقال الآخر:
بواد يمان ينبت العشب صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم ولهذا عداه بالباء فقال " ومن يرد فيه بالحاد " أي يهم فيه بأمر فظيع من
المعاصي الكبار وقوله " بظلم " أي عامدا قاصدا أنه ظلم ليس بمتأول كما قال ابن جريج عن ابن عباس هو
التعمد.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بظلم بشرك، وقال مجاهد أن يعبد فيه غير الله، وكذا قال قتادة وغير
واحد، وقال العوفي عن ابن عباس بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم من لا
يظلمك وتقتل من لا يقتلك فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم وقال مجاهد بظلم يعمل فيه عملا سيئا وهذا
من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه كما قال ابن أبي حاتم في تفسيره
224

حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا شعبة عن السدي أنه سمع مرة يحدث عن عبد الله يعني ابن
مسعود في قوله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال لو أن رجلا أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لاذاقه الله من
العذاب الأليم قال شعبة هو رفعه لنا وأنا لا أرفعه لكم، قال يزيد هو قد رفعه، ورواه أحمد عن يزيد بن هارون
به، قلت هذا الاسناد صحيح على شرط البخاري، ووقفه أشبه من رفعه، ولهذا صمم شعبة على وقفه من كلام
ابن مسعود، وكذلك رواه أسباط وسفيان الثوري عن السدي عن مرة عن ابن مسعود موقوفا والله أعلم، وقال
الثوري عن السدي عن مرة عن عبد الله قال ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ولو أن رجلا بعدن أبين هم أن يقتل
رجلا بهذا البيت لاذاقه الله من العذاب الأليم، وكذا قال الضحاك بن مزاحم، وقال سفيان الثوري عن منصور
عن مجاهد إلحاد فيه لا والله وبلى والله، وروي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو مثله، وقال سعيد بن جبير شتم
الخادم ظلم فما فوقه، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن عطاء عن ميمون بن مهران عن ابن عباس في قوله
" ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال تجارة الأمير فيه وعن ابن عمر بيع الطعام بمكة إلحاد، وقال حبيب بن أبي ثابت
" ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال المحتكر بمكة وكذا قال غير واحد.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن إسحاق الجوهري أنبأنا أبو عاصم عن جعفر بن يحيى عن عمه
عمارة بن ثوبان حدثني موسى بن باذان عن علي بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " احتكار الطعام بمكة إلحاد "
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثنا ابن لهيعة حدثنا عطاء بن دينار حدثني
سعيد بن جبير قال قال ابن عباس في قول الله " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " قال نزلت في عبد الله بن أنيس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار فافتخروا في الأنساب فغضب عبد الله بن أنيس
فقتل الأنصاري ثم ارتد عن الاسلام ثم هرب إلى مكة فنزلت فيه " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم " يعني من لجأ إلى
الحرم بإلحاد يعني بميل عن الاسلام وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الالحاد ولكن هو أعم من
ذلك بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم طيرا
أبابيل " ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول " أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالا لكل من أراده بسوء
ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف
بأولهم وآخرهم " الحديث وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن كناسة حدثنا إسحاق بن سعيد عن أبيه قال أتى
عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير فقال يا ابن الزبير إياك والالحاد في حرم الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" إنه سيلحد فيه رجل من قريش لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت " فانظر لا تكن هو، وقال أيضا في مسند
عبد الله بن عمرو بن العاص حدثنا هاشم حدثنا إسحاق بن سعيد حدثنا سعيد بن عمرو قال أتى عبد الله بن عمر،
عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال يا ابن الزبير إياك الالحاد في الحرم فإني أشهد لسمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " يحلها ويحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها " قال فانظر لا تكن هو، لم
يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذين الوجهين.
وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود (26) وأذن
الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27)
هذا فيه تقريع وتوبيخ لمن عبد غير الله وأشرك به من قريش في البقعة التي أسست من أول يوم على توحيد الله
وعبادته وحده لا شريك له فذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت أي أرشده إليه وسلمه له وأذن له في بنائه،
واستدل به كثير ممن قال إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله كما ثبت في
الصحيح عن أبي ذر قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال " المسجد الحرام " قلت ثم أي؟ قال " بيت
225

المقدس " قلت كم بينهما؟ قال " أربعون سنة " وقد قال الله تعالى " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا "
الآيتين وقال تعالى " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " وقد قدمنا
ذكر ما ورد بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته ههنا وقال تعالى ههنا " أن لا تشرك بي شيئا "
أي ابنه على اسمي وحدي " وطهر بيتي " قال قتادة ومجاهد من الشرك " للطائفين والقائمين والركع السجود " أي
اجعله خالصا لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له فالطائف به معروف وهو أخص العبادات عند البيت فإنه
لا يفعل ببقعة من الأرض سواها " والقائمين " أي في الصلاة ولهذا قال " والركع السجود " فقرن الطواف
بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت فالطواف عنده والصلاة إليه في غالب الأحوال إلا ما استثني من
الصلاة عند اشتباه القبلة وفي الحرب وفي النافلة في السفر والله أعلم، وقوله " وأذن في الناس بالحج " أي ناد
في الناس بالحج داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذكر أنه قال يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا
ينفذهم فقال ناد وعلينا البلاغ فقام على مقامه وقيل على الحجر وقيل على الصفا وقيل على أبي قبيس وقال: يا
أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه فيقال إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض وأسمع من في
الأرحام والأصلاب وأجابه كل شئ سمعه من حجر ومدر وشجر ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم
لبيك هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم.
وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة، وقوله " يأتوك رجالا وعلى كل ضامر " الآية قد يستدل بهذه الآية من
ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشيا لمن قدر عليه أفضل من الحج راكبا لأنه قدمهم في الذكر فدل على الاهتمام
بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم وقال وكيع عن أبي العميس عن أبي حلحلة عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال
ما أساء علي شئ إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا لان الله يقول " يأتوك رجالا " والذي عليه الأكثرون أن
الحج راكبا أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه حج راكبا مع كمال قوته عليه السلام، وقوله " يأتين من كل فج "
يعني طريق كما قال " وجعلنا فيها فجاجا سبلا " وقوله " عميق " أي بعيد قاله مجاهد وعطاء والسدي وقتادة ومقاتل
ابن حيان والثوري وغير واحد وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن إبراهيم حيث قال في دعائه " فاجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم " فليس أحد من أهل الاسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف والناس يقصدونها من
سائر الجهات والاقطار.
ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس
الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29)
قال ابن عباس " ليشهدوا منافع لهم " قال منافع الدنيا والآخرة: أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى، وأما منافع
الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات
وكذا قال مجاهد وغير واحد إنها منافع الدنيا والآخرة
كقوله " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وقوله " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم
من بهيمة الأنعام " قال شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد عن ابن عباس رضي الله عنهما: الأيام المعلومات
أيام العشر وعلقه البخاري عنه بصيغة الجزم به وروي مثله عن أبي موسى الأشعري ومجاهد قتادة وعطاء
وسعيد بن جبير والحسن والضحاك وعطاء الخراساني وإبراهيم النخعي وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد
ابن حنبل، وقال البخاري حدثنا محمد بن عرعرة حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما العمل في أيام أفضل منها في هذه " قالوا ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال
ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وما له فلم يرجع بشئ " رواه الإمام أحمد وأبو داود
226

والترمذي وابن ماجة بنحوه وقال الترمذي حديث حسن غريب صحيح، وفي الباب عن ابن عمر وأبي هريرة
وعبد الله بن عمرو وجابر، قلت وقد تقصيت هذه الطرق وأفردت لها جزأ على حدة فمن ذلك ما قال الإمام أحمد
حدثنا عثمان أنبأنا أبو عوانة عن يزيد بن أبي زياد مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من أيام
أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " وروي
من وجه آخر مجاهد عن ابن عمر بنحوه، وقال البخاري وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في
أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما وقد روى أحمد عن جابر مرفوعا أن هذا هو العشر الذي أقسم الله به في
قوله " والفجر وليال عشر " وقال بعض السلف إنه المراد بقوله " وأتممناها بعشر " وفي سنن أبي داود أن رسول
الله كان يصوم هذا العشر، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة الذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة قال
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال أحتسب على الله أن يكفر به السنة الماضية والآتية ويشتمل على يوم
النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه
أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث، وفضله كثير على عشر رمضان الأخير لان هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك
من صلاة وصيام وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه وقيل ذاك أفضل لاشتماله على ليلة
القدر التي هي خير من ألف شهر وتوسط آخرون فقالوا أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل وبهذا يجتمع شمل الأدلة
والله أعلم " قول ثان " في الأيام المعلومات قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس الأيام المعلومات يوم النحر
وثلاثة أيام بعده، ويروى هذا عن ابن عمر وإبراهيم النخعي وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه. " قول
ثالث " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن المديني حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا ابن عجلان حدثني نافع
أن ابن عمر كان يقول: الأيام المعلومات المعدودات هن جميعهن أربعة أيام فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان
بعده، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر هذا إسناد صحيح إليه، وقاله السدي وهو مذهب الامام مالك بن
أنس ويعضد هذا القول والذي قبله قوله تعالى " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني به ذكر الله عند ذبحها " قول
رابع " إنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده وهو مذهب أبي حنيفة، وقال ابن وهب حدثني ابن زيد بن أسلم عن أبيه
أنه قال المعلومات يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق وقوله " على ما رزقهم من بهيمة الأنعام " يعني الإبل والبقر
والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام " ثمانية أزواج " الآية " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " استدل
بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الاكل من الأضاحي وهو قول غريب والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو
الاستحباب كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ فأكل من لحمها وحسا من
مرقها. قال عبد الله بن وهب قال لي مالك أحب أن يأكل من أضحيته لان الله يقول " فكلوا منها " قال ابن وهب
وسألت الليث فقال لي مثل ذلك وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم " فكلوا منها " قال كان المشركون لا
يأكلون من ذبائحهم فرخص للمسلمين فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل، وروي عن مجاهد وعطاء نحو ذلك.
قال هشيم عن حصين عن مجاهد في قوله " فكلوا منها " قال هي كقوله " فإذا حللتم فاصطادوا " " فإذا قضيت
الصلاة فانتشروا في الأرض " وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره، واستدل من نصر القول بأن الأضاحي يتصدق
منها بالنصف بقوله في هذه الآية " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " فجزأها نصفين نصف للمضحي ونصف
الفقراء، والقول الآخر أنها تجزأ ثلاثة أجزاء ثلث له وثلث يهديه وثلث يتصدق به لقوله تعالى في الآية الأخرى
" فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " وسيأتي الكلام عليها عندها إن شاء الله وبه الثقة، وقوله " البائس
الفقير " قال عكرمة هو المضطر الذي عليه البؤس وهو الفقير المتعفف، وقال مجاهد هو الذي لا يبسط يده،
وقال قتادة هو الزمن، وقال مقاتل بن حيان هو الضرير وقوله " ثم ليقضوا تفثهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس هو وضع الاحرام من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظافر ونحو ذلك وهكذا روى عطاء ومجاهد عنه
227

وكذا قال عكرمة ومحمد بن كعب القرظي وقال عكرمة عن ابن عباس " ثم ليقضوا تفثهم " قال التفث المناسك
وقوله " وليوفوا نذورهم " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني نحر ما نذر من أمر البدن، وقال ابن أبي
نجيح عن مجاهد " وليوفوا نذورهم " نذر الحج والهدي وما نذر الانسان من شئ يكون في الحج، وقال
إبراهيم بن ميسرة عن مجاهد " وليوفوا نذورهم " قال الذبائح. وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد " وليوفوا
نذورهم " كل نذر إلى أجل. وقال عكرمة " وليوفوا نذورهم " قال حجهم، وكذا روى الإمام أحمد وابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان في قوله " وليوفوا نذورهم " قال نذور الحج فكل من دخل
الحج فعليه من العمل فيه الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة وعرفة ومزدلفة ورمي الجمار على ما أمروا به،
وروي عن مالك نحو هذا وقوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال مجاهد يعني الطواف الواجب يوم النحر. وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أبي حمزة قال: قال لي ابن عباس أتقرأ سورة
الحج يقول الله تعالى " وليط وفوا بالبيت العتيق " فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق: قلت وهكذا صنع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ برمي الجمرة فرماها بسبع حصيات ثم نحر هديه وحلق رأسه
ثم أفاض فطاف بالبيت، وفي الصحيحين عن ابن عباس أنه قال أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف
إلا أنه خفف عن المرأة الحائض، وقوله " بالبيت العتيق " فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء
الحجر لأنه من أصل البيت الذي بناه إبراهيم وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت حين قصرت بهم النفقة،
ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحجر وأخبر أن الحجر من البيت ولم يستلم الركنين الشاميين لأنهما لم يتمما
على قواعد إبراهيم العتيقة، ولهذا قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر العدني حدثنا سفيان عن
هشام بن حجر عن رجل عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية " وليطوفوا بالبيت العتيق " طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم
من ورائه، وقال قتادة عن الحسن البصري في قوله " وليطوفوا بالبيت العتيق " قال لأنه أول بيت وضع للناس
وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وعن عكرمة أنه قال إنما سمي البيت العتيق لأنه أعتق يوم الغرق زمان
نوح، وقال خصيف إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط، وقال ابن أبي نجيح وليث عن مجاهد
أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه وكذا قال قتادة وقال حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن بن مسلم عن مجاهد
لأنه لم يرده أحد بسوء إلا هلك، وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن ابن الزبير قال إنما سمي البيت
العتيق لان الله أعتقه من الجبابرة، وقال الترمذي حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد حدثنا عبد الله بن صالح
أخبرني الليث عن عبد الرحمن بن خالد عن ابن شهاب عن محمد بن عروة عن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار " وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن سهل المحاربي عن
عبد الله بن صالح به وقال إن كان صحيحا، وقال الترمذي هذا حديث حسن غريب ثم رواه من وجه آخر عن
الزهري مرسلا.
ذلك ومن يعظم حرمت الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس
من الأوثان واجتنبوا قول الزور (30) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه
الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (31)
يقول تعالى هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسك وما يلقى عليها من الثواب الجزيل " ومن يعظم حرمات
الله " أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ويكون ارتكابها عظيما في نفسه " فهو خير له عند ربه " أي فله على
228

ذلك خير كثير وثواب جزيل فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل كذلك على ترك المحرمات واجتناب
المحظورات.
قال ابن جريج قال مجاهد في قوله " ذلك ومن يعظم حرمات الله " قال الحرمة مكة والحج والعمرة وما نهى الله
عنه من معاصيه كلها وكذا قال ابن زيد. قوله " وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم " أي أحللنا لكم جميع
الانعام ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة لا وصيلة ولا حام، وقوله: " " إلا ما يتلى عليكم " أي من تحريم
الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة الآية قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة، وقوله
" فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " من ههنا لبيان الجنس أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان
وقرن الشرك بالله بقول الزور كقوله " قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق
وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " ومنه شهادة الزور، وفي الصحيحين عن
أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " قلنا: بلى يا رسول الله قال " الاشراك بالله وعقوق
الوالدين - وكان متكئا فجلس فقال - ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور " فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت، وقال
الإمام أحمد حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنبأنا سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم قال قام
رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال: " أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله، ثلاثا ثم قرأ " فاجتنبوا الرجس من
الناس عدلت شهادة الزور إشراكا بالله، ثلاثا ثم قرأ " فاجتنبوا الرجس من
الأوثان واجتنبوا قول الزور " " وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع عن مروان بن معاوية به ثم قال غريب إنما
نعرفه من حديث سفيان بن زياد وقد اختلف عنه رواية هذا الحديث ولا نعرف لايمن بن خريم سماعا من النبي
صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا محمد بن عبيد حدثنا سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان الأسدي
عن خريم بن فاتك الأسدي قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فلما انصرف قام قائما فقال: " عدلت شهادة الزور
الاشراك بالله عز وجل " ثم تلا هذه الآية: " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين
به " وقال سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن وائل بن ربيعة عن ابن مسعود أنه قال: تعدل شهادة الزور
الاشراك بالله ثم قرأ هذه الآية، وقوله " حنفاء لله " أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصدا إلى الحق
ولهذا قال " غير مشركين به " ثم ضرب للمشرك مثلا في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى فقال " ومن يشرك بالله
فكأنما خر من السماء " أي سقط منها " فتخطفه الطير " أي تقطعه الطيور في الهواء " أو تهوى به الريح في مكان
سحيق " أي بعيد مهلك لمن هوى فيه ولهذا جاء في حديث البراء أن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه
إلى السماء فلا تفتح له أبواب السماء بل تطرح روحه طرحا من هناك ثم قرأ هذه الآية وقد تقدم الحديث في سورة
إبراهيم بحروفه وألفاظه وطرقه. وقد ضرب تعالى للمشركين مثلا آخر في سورة الأنعام وهو قوله " قل أندعوا من
دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له
أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى " الآية.
ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت
العتيق (33)
يقول تعالى هذا " ومن يعظم شعائر الله " أي أوامره " فإنها من تقوى القلوب " ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن
كما قال الحكم عن مقسم عن ابن عباس تعظيمها استسمانها واستحسانها. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد
الأشج حدثنا حفص بن غياث عن ابن أبي ليلى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس " ذلك ومن يعظم
شعائر الله " قال: الاستسمان والاستحسان والاستعظام، وقال أبو أمامة عن سهل: كنا نسمن الأضحية بالمدينة
وكان المسلمون يسمنون. رواه البخاري. وعن أبي هريرة أن رسول الله " صلى الله عليه وسلم " قال: " دم عفراء أحب إلى الله من
229

دم سوداوين " رواه أحمد وابن ماجة قالوا والعفراء هي البيضاء بياضا ليس بناصع فالبيضاء أفضل من غيرها وغيرها
يجزئ أيضا لما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، وعن أبي
سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن كحيل يأكل في سواد وينظر في سواد ويمشي في سواد، رواه أهل
السنن وصححه الترمذي - أي فيه نكتة سوداء في هذه الأماكن، وفي سنن ابن ماجة عن أبي رافع أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين وكذا روى أبو داود وابن ماجة عن جابر ضحى رسول
الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أقرنين أملحين موجوءين: قيل هما الخصيان وقيل اللذان رض خصياهما ولم يقطعهما والله
أعلم، وعن علي رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والاذن وأن لا نضحي بمقابلة ولا
مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. ورواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي، ولهم عنه، قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نضحي بأعضب القرن والاذن، قال سعيد بن المسيب: العضب النصف فأكثر، وقال بعض أهل اللغة: إن كسر
قرنها الاعلى فهي قصماء فأما العضب فهو كسر الأسفل وعضب الاذن قطع بعضها، وعند الشافعي أن الأضحية
بذلك مجزئة لكن تكره وقال أحمد لا تجزئ الأضحية بأعضب القرن والاذن لهذا الحديث، وقال مالك: إن
كان الدم يسيل من القرن لم يجزئ وإلا أجزأ والله أعلم. وأما المقابلة فهي التي قطع مقدم أذنها والمدابرة من
مؤخر أذنها والشرقاء هي التي قطعت أذنها طولا. قاله الشافعي والأصمعي وأما الخرقاء فهي التي خرقت السمة
أذنها خرقا مدورا والله أعلم، وعن البراء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربع لا تجوز في الأضاحي العوراء البين عورها
والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تنقى " رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي
وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي لان الشاء يسبقونها إلى المرعى فلهذا لا تجزئ
التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة كما هو ظاهر الحديث، واختلف قول الشافعي في المريضة مرضا
يسيرا على قولين وروى أبو داود عن عتبة بن عبد السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المصفرة والمستأصلة
والبخقاء والمشيعة والكسيرة فالمصفرة قبل الهزيلة وقيل المستأصلة الاذن والمستأصلة مكسورة القرن والبخقاء هي
العوراء والمشيعة هي التي لا تزال تشيع خلف الغنم ولا تتبع لضعفها والكسيرة العرجاء فهذه العيوب كلها مانعة
من الاجزاء، فإن طرأ العيب بعد تعيين الأضحية فإنه لا يضر عند الشافعي خلافا لأبي حنيفة، وقد روى الإمام أحمد
عن أبي سعيد قال: اشتريت كبشا أضحي به فعدا الذئب فأخذ الآية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ضح به "
ولهذا جاء في الحديث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والاذن أي أن تكون الهدية والأضحية سمينة حسنة
كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر قال أهدى عمر نجيبا فأعطي بها ثلثمائة دينار فأتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله إني أهديت نجيا فأعطيت بها ثلثمائة دينار أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا قال لا " انحرها إياها "
وقال الضحاك عن ابن عباس البدن من شعائر الله وقال محمد بن أبي موسى الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي
والحلق والبدن من شعائر الله، وقال ابن عمر أعظم الشعائر البيت، وقوله " لكم فيها منافع " أي لكم في البدن
منافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى، قال مقسم عن ابن عباس في قوله " لكم
فيها منافع إلى أجل مسمى " قال ما لم تسم بدنا وقال مجاهد في قوله " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى " قال
الركوب واللبن والولد فإذا سميت بدنة أو هديا ذهب ذلك كله وكذا قال عطاء والضحاك وقتادة وعطاء الخراساني
وغيرهم، وقال آخرون بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدي إذا احتاج إلى ذلك كما ثبت في الصحيحين عن أنس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسوق بدنة قال " اركبها " قال إنها بدنة قال " اركبها ويحك " في الثانية أو الثالثة وفي
رواية لمسلم عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها " وقال شعبة عن زهير عن أبي
ثابت الأعمى عن المغيرة بن أبي الحر عن علي أنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال لا تشرب من لبنها إلا
ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها وقوله " ثم محلها إلى البيت العتيق " أي محل الهدي
230

وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة كما قال تعالى " هديا بالغ الكعبة " وقال " والهدي معكوفا أن يبلغ
محله " وقد تقدم الكلام على معنى البيت العتيق قريبا ولله الحمد، وقال ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن
عباس يقول كل من طاف بالبيت فقد حل قال الله تعالى " ثم محلها إلى البيت العتيق ".
ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر
المخبتين (34) الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم
ينفقون (35)
يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل، وقال علي بن أبي
طلحة عن ابن عباس " ولكل أمة جعلنا منسكا " قال عيدا وقال عكرمة ذبحا، وقال زيد بن أسلم في قوله " ولكل
أمة جعلنا منسكا " إنها مكة لم يجعل الله لامة قط منسكا غيرها، وقوله " ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من
بهيمة الأنعام " كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فسمى وكبر
ووضع رجله على صفاحهما، قال الإمام أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا سلام بن مسكين عن عائذ الله
المجاشعي عن أبي داود - وهو نفيع بن الحارث - عن زيد بن أرقم قال قلت أو قالوا يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟
قال " سنة أبيكم إبراهيم " قالوا ما لنا منها؟ قال: " بكل شعرة حسنة " قال فالصوف؟ قال " بكل شعرة من
الصوف حسنة " وأخرجه الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد ابن ماجة في سننه من حديث سلام بن مسكين به.
وقوله " فإلهكم إله واحد فله أسلموا " أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعض فالجميع
يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا
فاعبدون " ولهذا قال " فله أسلموا " أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته " وبشر المخبتين " قال مجاهد
المطمئنين وقال الضحاك وقتادة المتواضعين وقال السدي الوجلين وقال عمرو بن أوس: المخبتين الذين لا
يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا، وقال الثوري " وبشر المخبتين " قال المطمئنين الراضين بقضاء الله
المستسلمين له وأحسن بما يفسر بما بعده هو قوله " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم " أي خافت منه قلوبهم
" والصابرين على ما أصابهم " أي من المصائب، قال الحسن البصري والله لنصبرن أو لنهلكن " والمقيمي
الصلاة " قرأ الجمهور بالإضافة السبعة وبقية العشرة أيضا، وقرأ ابن السميفع " والمقيمين الصلاة " بالنصب
وعن الحسن البصري " والمقيمي الصلاة " وإنما حذف النون ههنا تخفيفا ولو حذفت للإضافة لوجب خفض
الصلاة ولكن على سبيل التخفيف فنصبت أي المؤدين حق الله فما أوجب عليهم من أداء فرائضه " ومما رزقناهم
ينفقون " أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ويحسنون إلى
الخلق مع محافظتهم على حدود الله، وهذه بخلاف صفات المنافقين فإنهم بالعكس من هذا كله كما تقدم تفسيره
في سورة براءة.
والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا
منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36)
يقول تعالى ممتنا على عبيده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره وهو أنه جعلها تهدي إلى بيته الحرام بل
هي أفضل ما يهدى إليه كما قال تعالى " لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين
231

البيت الحرام " الآية، قال ابن جريج قال عطاء في قوله " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله " قال البقرة والبعير
وكذا روي عن ابن عمر وسعيد بن المسيب والحسن البصري، وقال مجاهد إنما البدن من الإبل. (قلت) أنما
إطلاق البدنة على البعير فمتفق عليه واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين أصحهما أنه يطلق
عليها ذلك شرعا كما صح الحديث، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة كما
ثبت به الحديث عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي البدنة عن
سبعة والبقرة عن سبعة، وقال إسحاق بن راهويه وغيره بل تجزئ البقرة والبعير عن عشرة وقد ورد به حديث في
مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وغيرهما فالله أعلم. وقوله " لكم فيها خير " أي ثواب في الدار الآخرة، وعن
سليمان بن يزيد الكعبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما عمل ابن آدم يوم النحر
عمل أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها وإن الدم ليقع من الله بمكان
قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا " رواه ابن ماجة والترمذي وحسنه. وقال سفيان الثوري كان أبو حازم
يستدين ويسوق البدن فقيل له تستدين وتسوق البدن؟ فقال إني سمعت الله يقول " لكم فيها خير " وعن ابن
عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنفقت الورق في شئ أفضل من نحيرة في يوم عيد " رواه الدارقطني في سننه،
وقال مجاهد " لكم فيها خير " قال أجر ومنافع، وقال إبراهيم النخعي يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها. وقوله
" فاذكروا اسم الله عليها صواف " وعن المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
عيد الأضحى فلما انصرف أتي بكبش فذبحه فقال: " بسم الله والله أكبر اللهم هذا عني وعمن لم يضح من
أمتي " رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن عباس عن جابر
قال ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض
حنيفا وما أنا من المشركين إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا
أول المسلمين اللهم منك ولك عن محمد وأمته " ثم سمى الله وكبر وذبح " وعن علي بن الحسين عن أبي رافع أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين فإذا صلى وخطب الناس أتي بأحدهما وهو
قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول: " اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد وشهد لي
بالبلاغ " ثم يؤتي بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول " هذا عن محمد وآل محمد " فيطعمها جميعا للمسلمين ويأكل
هو وأهله منهما رواه أحمد وابن ماجة. وقال الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله " فاذكروا اسم الله
عليها صواف " قال قيام على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول بسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك
ولك: وكذلك روي عن مجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس نحو هذا. وقال ليث عن مجاهد إذا
عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث، وروى ابن أبي نجيح عنه، نحوه وقال الضحاك يعقل رجلا فتكون على
ثلاث. وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة
سنة أبي القاسم وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي
من قوائمها رواه أبو داود وقال ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار أن سالم بن عبد الله قال لسليمان بن عبد الملك قف
من شقها الأيمن وانحر من شقها الأيسر، وفي صحيح مسلم عن جابر في صفة حجة الوداع قال فيه فنحر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بيده ثلاثا وستين بدنة جعل يطعنها بحربة في يده، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة قال في حرف
ابن مسعود " صوافن " أي معقلة قياما وقال سفيان الثوري عن منصور عن مجاهد من قرأها صوافن قال معقولة
ومن قرأها صواف قال تصف بين يديها وقال طاوس والحسن وغيرهما " فاذكروا اسم الله عليها صوافي " يعني
خالصة لله عز وجل وكذا رواه مالك عن الزهري، وقال عبد الرحمن بن زيد صوافي ليس فيها شرك كشرك
الجاهلية لأصنامهم وقوله " فإذا وجبت جنوبها " قال ابن أبي نجيح عن مجاهد يعني سقطت إلى الأرض وهو
232

رواية عن ابن عباس وكذا قال مقاتل بن حيان، وقال العوفي عن ابن عباس فإذا وجبت جنوبها يعني نحرت، وقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فإذا وجبت جنوبها يعني ماتت وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد فإنه لا يجوز
الاكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها، وقد جاء في حديث مرفوع " لا تعجلوا النفوس أن تزهق "
وقد رواه الثوري في جامعه عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير قرافصة الحنفي عن عمر بن الخطاب أنه قال ذلك
ويؤيده حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم " إن الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " وعن أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، وقوله " فكلوا منها وأطعموا
القانع والمعتر " قال بعض السلف قوله: " فكلوا منها " أمر إباحة، وقال مالك يستحب ذلك وقال غيره يجب
وهو وجه لبعض الشافعية، واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر فقال العوفي عن ابن عباس القانع المستغني بما
أعطيته وهو في بيته والمعتر الذي يتعرض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل وكذا قال مجاهد ومحمد بن
كعب القرظي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس القانع المتعفف والمعتر السائل وهذا قول قتادة وإبراهيم
النخعي ومجاهد في رواية عنه، وقال ابن عباس وعكرمة وزيد بن أسلم والكلبي والحسن البصري ومقاتل بن
حيان ومالك بن أنس القانع هو الذي يقنع إليك ويسألك والمعتر الذي يعتريك يتضرع ولا يسألك وهذا لفظ
الحسن وقال سعيد بن جبير القانع هو السائل قال أما سمعت قول الشماخ:
لمال المرء يصلحه فيغني مفاقره أعف من القنوع
قال يغني من السؤال وبه قال ابن زيد وقال يد بن أسلم القانع المسكين الذي يطوف والمعتر الصديق والضعيف
الذي يزور وهو رواية عن ابنه عبد الرحمن بن زيد أيضا وعن مجاهد أيضا القانع جارك الغني الذي يبصر ما
يدخل بيتك والمعتر الذي يعتزل من الناس، وعنه أن القانع هو الطامع والمعتر هو الذي يعتر بالبدن من غني أو
فقير وعكرمة نحوه وعنه القانع أهل مكة، واختار ابن جرير أن القانع هو السائل لأنه من أقنع بيده إذا رفعها
للسؤال والمعتر من الاعتراء وهو الذي يتعرض لاكل اللحم، وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء
إلى أن الأضحية تجزأ ثلاثة أجزاء فثلث لصاحبها يأكله وثلث يهديه لأصحابه وثلث يتصدق به على الفقراء لأنه
تعالى قال " فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس " إني كنت
نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم " وفي رواية " فكلوا وادخروا وتصدقوا "
وفي رواية " فكلوا وأطعموا وتصدقوا ". والقول الثاني: أن المضحي يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله في
الآية المتقدمة " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " ولقوله في الحديث " فكلوا وادخروا وتصدقوا " فإن أكل الكل
فقيل لا يضمن شيئا وبه قال ابن سريج من الشافعية وقال بعضهم يضمنها كلها بمثلها أو قيمتها وقيل يضمن نصفها
وقيل ثلثها وقيل أدنى جزء منها وهو المشهور من مذهب الشافعي، وأما الجلود ففي مسند أحمد عن قتادة
ابن النعمان في حديث الأضاحي " فكلوا وتصدقوا واستمتعوا بجلودها ولا تبيعوها " ومن العلماء من رخص في
بيعها ومنهم من قال يقاسم الفقراء فيها والله أعلم " مسألة " عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول
ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم
قدمه لأهله ليس من النسك في شئ " أخرجاه فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء إن أول وقت ذبح الأضاحي
إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين زاد أحمد وأن يذبح الامام بعد ذلك لما جاء في
صحيح مسلم وأن لا تذبحوا حتى يذبح الامام، وقال أبو حنيفة أما أهل السواد من القرى ونحوها فلهم أن يذبحوا
بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم وأما أهل الأمصار فلا فلهم أن يذبحوا
بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الامام والله أعلم،
ثم قيل لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده وفي يوم النحر لأهل الأمصار لتيسر الأضاحي عندهم وأما أهل القرى
233

فيوم النحر وأيام التشريق بعده وبه قال سعيد بن جبير وقيل يوم النحر ويوم بعده للجميع وقيل ويومان بعده وبه قال
الإمام أحمد وقيل يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده وبه قال الشافعي لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " أيام التشريق كلها ذبح " رواه أحمد وابن حبان وقيل إن وقت الذبح يمتد إلى آخر ذي الحجة، وبه قال
إبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وهو قول غريب وقوله " كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون " يقول
تعالى من أجل هذا " سخرناها لكم " أي ذللناها لكم وجعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم وإن شئتم
حلبتم وإن شئتم ذبحتم كما قال تعالى " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون - إلى
قوله - فلا يشكرون " وقال في هذه الآية الكريمة " كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون ".
لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم وبشر
المحسنين
يقول تعالى إنما شرع لكم نحر هذه الهدايا الضحايا لتذكروه عند ذبحها فإنه الخالق الرازق لا يناله شئ
من لحومها ولا دمائها فإنه تعالى هو الغني عما سواه وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من لحوم
قرا بينهم ونضحوا عليها من دمائها فقال تعالى " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي
ابن الحسين حدثنا محمد بن أبي حماد حدثنا إبراهيم بن المختار عن ابن جريج قال كان أهل الجاهلية ينضحون
البيت بلحوم الإبل ودمائها فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله " لن ينال الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " أي يتقبل ذلك ويجزي عليه كما جاء في الصحيح " إن الله لا ينظر إلى صوركم
ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " وجاء في الحديث " إن الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع
في يد السائل إن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض " كما تقدم في الحديث رواه ابن ماجة
والترمذي وحسنه عن عائشة مرفوعا فمعناه أنه سيق لتحقيق القبول من الله لمن أخلص في عمله وليس له معنى
يتبادر عند العلماء المحققين سوى هذا والله أعلم، وقال وكيع عن يحيى بن مسلم بن الضحاك سألت عامرا
الشعبي عن جلود الأضاحي فقال " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها " إن شئت فبع وإن شئت فأمسك وإن شئت
فتصدق وقوله " كذلك سخرها لكم " أي من أجل ذلك سخر لكم البدن " لتكبروا الله على ما هداكم " أي
لتعظموه كما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه وقوله " وبشر المحسنين " أي
وبشر يا محمد المحسنين أي في عملهم القائمين بحدود الله المتبعين ما شرع له المصدقين الرسول فيما أبلغهم
وجاءهم به من عند ربه عز وجل (مسألة) وقد ذهب أبو حنيفة ومالك والثوري إلى القول بوجوب الأضحية على
من ملك نصابا وزاد أبو حنيفة اشتراط الإقامة أيضا واحتج لهم بما وراه أحمد وابن ماجة بإسناد رجاله كله ثقات
عن أبي هريرة مرفوعا " من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا " على أن فيه غرابة واستنكره أحمد بن حنبل
وقال ابن عمر: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يضحي رواه الترمذي وقال الشافعي وأحمد لا تجب الأضحية بل
هي مستحبة لما جاء في الحديث " ليس في المال حق سوى الزكاة " وقد تقدم أنه عليه الصلاة والسلام ضحى عن
أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم، وقال أبو سريحة كنت جارا لأبي بكر وعمر فكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي
الناس بهما وقال بعض الناس الأضحية سنة كفاية إذا قام بها واحد من أهل دار أو محلة أو بيت سقطت عن
الباقين لان المقصود إظهار الشعار: وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن وحسنه الترمذي عن محنف بن سليم أنه
سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعرفات " على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة، هل تدرون ما العتيرة؟ هي
التي تدعونها الرجبية " وقد تكلم في إسناده، وقال أبو أيوب كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحي بالشاة
الواحدة عنه وعن أهل بيته فيأ كلون ويطعمون حتى تباهى الناس فصار كما ترى رواه الترمذي وصححه وابن ماجة،
234

وكان عبد الله بن هشام يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله رواه البخاري، وأما مقدار سن الأضحية فقد روى
مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن " ومن
ههنا ذهب الزهري إلى أن الجذع لا يجزئ وقابله الأوزاعي فذهب إلى أن الجذع يجزئ من كل جنس وهما
غريبان، والذي عليه الجمهور إنما يجزئ الثني من الإبل والبقر والمعز أو الجذع من الضأن، فأما الثني من
الإبل فهو الذي له خمس سنين ودخل في السادسة، ومن البقر ما له سنتان ودخل في الثالثة، وقيل ما له ثلاث
ودخل في الرابعة ومن المعز ما له سنتان، وأما الجذع من الضأن فقيل ما له سنة وقيل عشرة أشهر، وقيل ثمانية،
وقيل ستة أشهر وهو أقل ما قيل في سنه وما دونه فهو حمل والفرق بينهما أن الحمل شعر ظهره قائم، والجذع
شعر ظهره نائم قد انفرق صدغين والله أعلم.
* إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور (38)
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم
كما قال تعالى " أليس الله بكاف عبده " وقال " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل
شئ قدرا " وقوله " إن الله لا يحب كل خوان كفور " أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا وهو الخيانة في
العهود والمواثيق لا يفي بما قال، والكفر الجحد للنعم فلا يعترف بها.
أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير (39) الذين أخرجوا من ديرهم بغير حق إلا أن يقولوا
ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومسجد يذكر فيها اسم الله كثيرا
ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40)
قال العوفي عن ابن عباس نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من
السلف كابن عباس وعروة بن الزبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة وغيرهم هذه أول آية نزلت في
الجهاد واستدل بهذه الآية بعضهم على أن السورة مدنية، وقال ابن جرير حدثني يحيى بن داود الواسطي حدثنا
إسحاق بن يوسف عن سفيان عن الأعمش عن مسلم هو البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أخرج
النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، قال ابن عباس فأنزل الله عز وجل
" أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه فعرفت أنه سيكون
قتال. ورواه الإمام أحمد عن إسحاق بن يوسف الأزرق به، وزاد قال ابن عباس وهي أول آية نزلت في القتال.
رواه الترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما وابن أبي حاتم من حديث إسحاق بن يوسف زاد الترمذي ووكيع
كلاهما عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حديث حسن وقد رواه غير واحد عن الثوري وليس فيه ابن عباس وقوله
" وإن الله على نصرهم لقدير " أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ولكن هو يريد من عباده أن
يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما
منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أو زارها ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض، والذين
قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم " وقال تعالى " قاتلوهم
يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين، ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على
من يشاء والله عليم حكيم " وقال " أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله
ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون " وقال " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين
جاهدوا منكم ويعلم الصابرين " وقال " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " والآيات
235

في هذا كثيرة، ولهذا قال ابن عباس في قوله " وإن الله على نصرهم لقدير " وقد فعل، وإنما شرع تعالى الجهاد
في الوقت الأليق به لانهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عددا فلو أمر المسلمون وهم أقل من العشر بقتال
الباقين لشق عليهم ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفا وثمانين قالوا: يا رسول الله ألا
نميل على أهل الوادي يعنون أهل ليالي مني فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لم أؤمر بهذا " فلما بغى
المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم وهموا بقتله وشردوا أصحابه شذر مذر فذهب منهم طائفة إلى
الحبشة وآخرون إلى المدينة، فلما استقروا بالمدينة وافاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه وقاموا بنصره وصارت
لهم دار إسلام ومعقلا يلجئون إليه شرع الله جهاد الأعداء فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك فقال تعالى " أذن
للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق " قال العوفي عن
ابن عباس أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق يعني محمدا وأصحابه " إلا أن يقولون ربنا الله " أي ما كان لهم
إلى قومهم إساءة ولا كان لهم ذنب إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له وهذا استثناء منقطع بالنسبة إلى ما في
نفس الامر، وأما عند المشركين فإنه أكبر الذنوب كما قال تعالى " يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم "
وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود " وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " ولهذا لما كان
المسلمون يرتجزون في بناء الخندق ويقولون: لا هم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الاقدام إن لاقينا
إن الالى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا
فيوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقوم معهم آخر كل قافية فإذا قالوا إذا أرادوا فتنة أبينا يقول " أبينا " يمد بها صوته ثم قال
تعالى " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض " أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم بما
يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ولأهلك القوي الضعيف " لهدمت صوامع " وهي المعابد الصغار
للرهبان قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والضحاك وغيرهم وقال قتادة هي معابد الصابئين وفي رواية
عنه صوامع المجوس وقال مقاتل بن حيان هي البيوت التي على الطرق " وبيع " وهي أوسع منها وأكثر عابدين فيها
وهي للنصارى أيضا قاله أبو العالية وقتادة والضحاك وابن صخر ومقاتل بن حيان وخصيف وغيرهم، وحكى
ابن جبير عن مجاهد وغيره أنها كنائس اليهود، وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس أنها كنائس اليهود
ومجاهد إنما قال هي الكنائس والله أعلم، وقوله " وصلوات " قال العوفي عن ابن عباس الصلوات الكنائس، وكذا
قال عكرمة والضحاك وقتادة: إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات. وحكى السدي عمن حدثه عن ابن عباس
أنها كنائس النصارى، وقال أبو العالية وغيره الصلوات معابد الصابئين، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد الصلوات
مساجد لأهل الكتاب ولأهل الاسلام بالطرق وأما المساجد فهي للمسلمين. وقوله " يذكر فيها اسم الله كثيرا " فقد
قيل الضمير في قوله يذكر فيها عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات، وقال الضحاك الجميع يذكر فيها اسم الله
كثيرا، وقال ابن جرير الصواب لهدمت صوامع الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد
المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا لان هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب. وقال بعض العلماء
هذا ترق من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد وهي أكثر عمارا وأكثر عبادا وهم ذوو القصد الصحيح،
وقوله " ولينصرن الله من ينصره " كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم والذين
كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم " وقوله " إن الله لقوي عزيز " وصف نفسه بالقوة والعزة فبقوته خلق كل شئ
فقدره تقديرا وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب بل كل شئ ذليل لديه فقير إليه ومن كان القوي العزيز ناصره
فهو المنصور وعدوه هو المقهور قال الله تعالى " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن
236

جندنا لهم الغالبون " وقال تعالى " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوي عزيز ".
الذين إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عقبة
الأمور (41)
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الربيع الزهراني حدثنا حماد بن زيد عن أيوب وهشام عن محمد قال: قال
عثمان بن عفان فينا نزلت " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن
المنكر " فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله ثم مكنا في الأرض فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة وأمرنا
بالمعروف ونهينا عن المنكر ولله عاقبة الأمور فهي لي ولأصحابي وقال أبو العالية هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقال
الصباح بن سواده الكندي سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول " الذين إن مكناهم في الأرض " الآية ثم
قال ألا إنها ليست على الوالي وحده ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم
وبما للوالي عليكم منه إن لكم على الوالي من ذلكم أن يأخذكم بحقوق الله عليكم وأن يأخذ لبعضكم من بعض
وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكره بها ولا المخالف
سرها علانيتها، وقال عطية العوفي هذه الآية كقوله " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في
الأرض " وقوله " ولله عاقبة الأمور " كقوله تعالى والعاقبة للمتقين وقال زيد بن أسلم ولله عاقبة الأمور وعند الله
ثواب ما صنعوا.
وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود (42) وقوم إبراهيم وقوم لوط (43) وأصحاب مدين
وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير (44) فكأين من قرية أهلكناها وهي
ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد (45) أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها
أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور (46)
يقول تعالى مسليا لنبيه محمد في تكذيب من خالفه من قومه " وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح - إلى أن
قال - وكذب موسى " أي مع ما جاء به من الآيات البينات والدلائل الواضحات. " فأمليت للكافرين " أي أنظرتهم
وأخرتهم " ثم أخذتهم فكيف كان نكير " أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف أنه
كان بين قول فرعون لقومه أنا ربكم الاعلى وبين إهلاك الله له أربعون سنة وفي الصحيحين عن أبي موسى رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله ليملي لظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم قرأ " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ
القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد " ثم قال تعالى " فكأين من قرية أهلكناها " أي كم من قرية أهلكتها " وهي
ظالمة " أي مكذبة لرسلها " فهي خاوية على عروشها " قال الضحاك سقوفها أي قد خربت منازلها وتعطلت
حواضرها " وبئر معطلة " أي لا يستقي منها ويردها أحد بعد كثرة وارديها والازدحام عليها " وقصر مشيد " قال
عكرمة يعني المبيض بالجص وروي عن علي بن أبي طالب ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير وأبي المليح
والضحاك نحو ذلك، وقال آخرون هو المنيف المرتفع وقال آخرون المشيد المنيع الحصين وكل هذه الأقوال
متقاربة. ولا منافاة بينها فإنه لم يحم أهله شدة بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم
كما قال تعالى " أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة " وقوله " أفلم يسيروا في الأرض "
أي بأبدانهم وبفكرهم أيضا وذلك كاف كما قال ابن أبي الدنيا في كتاب التفكر والاعتبار حدثنا هارون بن عبد الله
حدثنا سيار حدثنا جعفر حدثنا مالك بن دينار: قال أوحى الله تعالى إلى موسى بن عمران عليه السلام أن: يا
237

موسى اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض ثم اطلب الآثار والعبر حتى يتخرق النعلان وتنكسر
العصا. وقال ابن أبي الدنيا قال بعض الحكماء أحي قلبك بالمواعظ ونوره بالتفكر وموته بالزهد وقوه باليقين وذلله
بالموت وقدره بالفناء وبصره فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الأيام واعرض عليه أخبار الماضين
وذكره ما أصاب من كان قبله وسيره في ديارهم وآثارهم وانظر ما فعلوا وأين حلوا وعم انقلبوا. أي فانظروا ما حل
بالأمم المكذبة من النقم والنكال " فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها " أي فيعتبرون بها " فإنها لا
تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " أي ليس العمى عمى البصر وإنما العمى عمى البصيرة وإن
كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في هذا
المعنى وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن حيان الأندلسي الشنتريني وقد كانت وفاته سنة سبع عشرة وخمسمائة
يا من يصيخ إلى داعي الشقاء وقد * نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكرى ففيم ترى * في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل * لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى ولا الدنيا ولا الفلك * الاعلى ولا النيران الشمس والقمر
ليرحلن عن الدنيا وإن كرها فراقها * الثاويان البدن والحضر
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون (47) وكأين من قرية
أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير (48)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه " ويستعجلونك بالعذاب " أي هؤلاء الكفار الملحدون المكذبون بالله
وكتابه ورسوله واليوم الآخر كما قال تعالى " وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم " " وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب " وقوله " ولن يخلف الله وعده " أي الذي
وعد من إقامة الساعة والانتقام من أعدائه، والاكرام لأوليائه، قال الأصمعي كنت عند أبي عمرو بن العلاء فجاءه
عمرو بن عبيد فقال يا أبا عمرو هل يخلف الله الميعاد؟ فقال لا، فذكر آية وعيد فقال له أمن العجم أنت؟ إن
العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الايعاد كرما أما سمعت قول الشاعر:
ليرهب ابن العم والجار سطوتي * ولا أنثني عن سطوة المتهدد
فإني وإن أوعدته أو وعدته * لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
وقوله " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون " أي هو تعالى لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم
واحد عنده بالنسبة إلى حكمه لعلمه بأنه على الانتقام قادر وأنه لا يفوته شئ وإن أجل وأنظر وأملى ولهذا قال بعد
هذا " وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير " قال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة
حدثني عبدة بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يدخل فقراء
المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام " ورواه الترمذي والنسائي من حديث الثوري عن محمد
ابن عمرو به وقال الترمذي حسن صحيح، وقد رواه ابن جرير عن أبي هريرة موقوفا فقال: حدثني يعقوب ثنا
ابن علية ثنا سعيد الجريري عن أبي نضرة عن سمير بن نهار قال: قال أبو هريرة: يدخل فقراء المسلمين الجنة
قبل الأغنياء بمقدار نصف يوم، قلت وما مقدار نصف يوم؟ قال أو ما تقرأ القرآن، قلت بلى؟ قال " وإن يوما عند
ربك كألف سنة مما تعدون " وقال أبو داود في آخر كتاب الملاحم من سننه حد ثنا عمرو بن عثمان حدثنا أبو
المغيرة حدثنا صفوان عن شريح بن عبيد عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني لأرجو أن لا تعجز
238

أمتي عند ربها أن يؤخرهم نصف يوم " قيل لسعد وما نصف يوم؟ قال خمسمائة سنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أحمد بن سنان حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس " وإن يوما عند
ربك كألف سنة مما تعدون " قال من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض. ورواه ابن جرير عن ابن بشار
عن ابن المهدي، وبه قال مجاهد وعكرمة ونص عليه أحمد بن حنبل في كتاب الرد على الجهمية، وقال مجاهد
هذه الآية كقوله " يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون " وقال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا عارم بن محمد بن الفضل حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن محمد بن
سيرين عن رجل من أهل الكتاب أسلم قال: إن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام " وإن يوما عند
ربك كألف سنة مما تعدون " وجعل أجل الدنيا ستة أيام وجعل الساعة في اليوم السابع " وإن يوما عند ربك
كألف سنة مما تعدون " فقد مضت الستة أيام وأنتم في اليوم السابع فمثل ذلك كمثل الحامل إذا دلت شهرها
ففي أية لحظة ولدت كان تماما.
قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين (49) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم (50) والذين
سعوا فئ ايتنا معجزين أولئك أصحب الجحيم (51)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به " قل يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين "
أي إنما أرسلني الله إليكم نذيرا لكم بين يدي عذاب شديد وليس إلي من حسابكم من شئ أمركم إلى الله إن
شاء عجل لكم العذاب وإن شاء أخره عنكم، وإن شاء تاب على من يتوب إليه، وإن شاء أضل من كتب عليه
الشقاوة وهو الفعال لما يشاء ويريد ويختار " لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب " و " إنما أنا لكم نذير مبين *
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم " لهم مغفرة ورزق كريم " أي مغفرة
لما سلف من سيئاتهم ومجازاة حسنة على القليل من حسناتهم، قال محمد بن كعب القرظي إذا سمعت الله تعالى
يقول " ورزق كريم " فهو الجنة. وقوله " والذين سعوا في آياتنا معاجزين " قال مجاهد يثبطون الناس عن متابعة
النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال عبد الله بن الزبير مثبطين، وقال ابن عباس معاجزين مراغمين " أولئك أصحاب الجحيم " وهي
النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها أجارك الله منها، قال الله تعالى " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله
زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ".
وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم
الله آياته والله عليم حكيم (52) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن
الظالمين لفي شقاق بعيد (35) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله
لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم (54)
قد ذكر كثير من المفسرين ههنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن
مشركي قريش قد أسلموا ولكنها من طرق كلها مرسلة ولم أرها مسندة من وجه صحيح والله أعلم، قال ابن أبي
حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمكة النجم فلما بلغ هذا الموضع " أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى " قال فألقى الشيطان على
لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى، قالوا ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فأنزل الله
عز وجل هذه الآية " ومن أرسلنا من قبلك رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما
239

يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم " ورواه ابن جرير عن بندار عن غندر عن شعبة به بنحوه وهو
مرسل، وقد رواه البزار في مسنده عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة النجم حتى انتهى إلى " أفرأيتم
اللات والعزى " وذكر بقيته، ثم قال البزار لا نعلمه يروي متصلا إلا بهذا الاسناد تفرد بوصله أمية بن خالد وهو
ثقة مشهور، وإنما يروي هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ثم رواه ابن أبي حاتم عن أبي
العالية وعن السدي مرسلا وكذا رواه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس مرسلا أيضا، وقال
قتادة كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام إذ نعس فألقى الشيطان على لسانه وإن شفاعتها لترتجي وإنها لمع
الغرانيق العلى فحفظها المشركون وأجرى الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها فذلت بها ألسنتهم فأنزل الله " وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي " الآية فدحر الله الشيطان، ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا موسى بن أبي موسى الكوفي
حدثنا محمد بن إسحاق الشيبي حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: أنزلت سورة النجم
وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، ولكنه لا يذكر من خالف دينه من
اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من
أذاهم وتكذيبهم وأحزنه ضلالهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال " أفرأيتم اللات والعزى ومناة
الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى " ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الله الطواغيت فقال وإنهن لهن
الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجى، وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في
قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه، فلما
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر النجم سجد وسجد كل من حضره من مسلم أو مشرك غير أن الوليد بن المغيرة كان رجلا
كبيرا فرفع ملء كفه تراب فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما
المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان
في مسامع المشركين فاطمأنت أنفسهم لما ألقى الشيطان في أمنية رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثهم به الشيطان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قد قرأها في السورة فسجدوا لتعظيم آلهتهم ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض
الحبشة ومن بها من المسلمين عثمان بن مظعون وأصحابه وتحدثوا أن أهل مكة قد أسلموا كلهم وصلوا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة على التراب على كفه وحدثوا أن المسلمين قد أمنوا بمكة فأقبلوا سراعا
وقد نسخ الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته وحفظه من القرية، وقال الله " وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا
نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل
ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد " فلما بين الله قضاءه
وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بضلالتهم وعداوتهم المسلمين واشتدوا عليهم وهذا أيضا مرسل، وفي
تفسير ابن جرير عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام نحوه، وقد رواه الحافظ أبو بكر
البيهقي في كتابه دلائل النبوة فلم يجز به موسى بن عقبة ساقه من مغازيه بنحوه قال وقد روينا عن أبي إسحاق هذه
القصة (قلت) وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم، وقد
ساقها البغوي في تفسره مجموعة من كلام ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما بنحو من ذلك ثم سأل
ههنا سؤالا كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه، ثم حكى
أجوبة عن الناس من ألطفها أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس
كذلك في نفس الامر بل إنما كان من صنيع الشيطان لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
وهكذا تنوعت أجوبة المتكلمين عن هذا بتقدير صحته، وقد تعرض القاضي عياض رحمه الله في كتاب الشفاء
240

لهذا وأجاب بما حاصله أنها كذلك لثبوتها وقوله " إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " هذا فيه تسلية من الله
لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أي لا يهيدنك فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء، قال
البخاري قال ابن عباس " في أمنيته " إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان " ثم يحكم
الله آياته " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته " يقول إذا حدث ألقى
الشيطان في حديثه، وقال مجاهد " إذا تمنى " يعني إذا قال ويقال أمنيته قراءته " إلا أماني " يقرءون ولا
يكتبون قال البغوي وأكثر المفسرين قالوا معنى قوله " تمنى " أي تلا وقرأ كتاب الله " ألقى الشيطان في أمنيته "
أي في تلاوته قال الشاعر في عثمان حين قتل: تمنى كتاب الله أول ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك " إذا تمنى " إذا تلا قال ابن جرير هذا القول أشبه بتأويل الكلام، وقوله " فينسخ الله ما يلقي
الشيطان " حقيقة النسخ لغة: الإزالة والرفع، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أي فيبطل الله سبحانه وتعالى
ما ألقى الشيطان، وقال الضحاك نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته، وقوله " والله عليم "
أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية " حكيم " أي في تقديره وخلقه وأمره له. الحكمة التامة
والحجة البالغة ولهذا قال " ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض " أي شك وشرك وكفر ونفاق
كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان. قال ابن جريج " الذين
في قلوبهم مرض " هم المنافقون " والقاسية قلوبهم " هم المشركون. وقال مقاتل بن حيان هم اليهود " وإن
الظالمين لفي شقاق بعيد " أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب " وليعلم الذين أوتوا العلم
أنه الحق من ربك فيؤمنوا به " أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل والمؤمنون
بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه وحرسه أن يختلط به غيره بل هو كتاب
عزيز " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " وقوله " فيؤمنوا به " أي يصدقوه
وينقادوا له " فتخبت له قلوبهم " أي تخضع وتذل له قلوبهم " وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم "
أي في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه وفي الآخرة
يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات.
ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم (55) الملك يومئذ لله يحكم
بينهم فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنت النعيم (56) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا فأولئك لهم عذاب
مهين (57)
يقول تعالى مخبرا عن الكفار أنهم لا يزالون في مرية أي في شك من هذا القرآن قاله ابن جريج واختاره ابن
جرير، وقال سعيد بن جبير وابن زيد " منه " أي مما ألقى الشيطان " حتى تأتيهم الساعة بغتة " قال مجاهد فجأة،
وقال قتادة " بغتة " بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه
لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون وقوله " أو يأتيهم عذاب يوم عقيم " قال مجاهد قال أبي بن كعب هو يوم بدر،
وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد واختاره ابن جرير، قال عكرمة ومجاهد في رواية عنهما
هو يوم القيامة لا ليل له وكذا قال الضحاك والحسن البصري وهذا القول هو الصحيح، وإن كان يوم بدر من جملة
ما أو عدوا به لكن هذا هو المراد ولهذا قال " الملك يومئذ لله يحكم بينهم " كقوله " مالك يوم الدين " وقوله
" الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " " فالذين آمنوا وعملوا الصالحات " أي آمنت
241

قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله وعملوا بمقتضى ما علموا وتوافق قلوبهم وأقوالهم وأعمالهم " في جنات النعيم " أي
لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد " والذين كفروا وكذبوا بآياتنا " أي كفرت قلوبهم بالحق
وجحدته وكذبوا به وخالفوا الرسل واستكبروا عن اتباعهم " فأولئك له عذاب مهين " أي مقابلة استكبارهم
وإبائهم عن الحق كقوله تعالى " إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " أي صاغرين.
والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين (58) ليدخلنهم مدخلا
يرضونه وإن الله لعليم حليم (59) * ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو
غفور (60)
يخبر تعالى من خرج مهاجرا في سبيل الله ابتغاء مرضاته وطلبا لما عنده وترك الأوطان والاهلين والخلان وفارق
بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله ثم قتلوا أي في الجهاد أو ماتوا أي حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم فقد
حصلوا على الاجر الجزيل والثناء الجميل كما قال تعالى " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه
الموت فقد وقع أجره على الله " وقوله " ليرزقنهم رزقا حسنا " أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما
تقر به أعينهم " وإن الله لهو خير الرازقين * ليدخلنهم مدخلا يرضونه " أي الجنة كما قال تعالى " فأما إن كان
من المقربين فروح وريحان وجنة ونعيم " فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم كما قال ههنا
" ليرزقنهم الله رزقا حسنا " ثم قال " ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم " أي بمن يهاجر ويجاهد في
سبيله وبمن يستحق ذلك " حليم " أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ويكفرها عنهم بهجرتهم إليه وتوكلهم
عليه، فأما من قتل في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فإنه حي عند ربه يرزق كما قال تعالى " ولا تحسبن
الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون " والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم، وأما من توفي
في سبيل الله من مهاجر أو غير مهاجر فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه
وعظيم إحسان الله إليه، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا المسيب بن واضح حدثنا ابن المبارك عن عبد
الرحمن بن شريح عن ابن الحارث - يعني عبد الكريم - عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال: قال شرحبيل بن
السمط: طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه فقال: إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الاجر وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين
واقرأوا إن شئتم " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا وإن الله لهو خير الرازقين *
ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم " وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا زيد بن بشر أخبرني همام أنه
سمع أبا قبيل وربيعة بن سيف المعافري يقولان كنا برودس ومعنا فضالة بن عبيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمر بجنازتين إحداهما قتيل والاخرى متوفى فمال ألنا أأسجد على القتيل فقال فضالة ما لي أرى الناس مالوا مع هذا
وتركوا هذا؟ فقالوا هذا القتيل في سبيل الله فقال والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اسمعوا كتاب الله " والذين
هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا " حتى بلغ آخر الآية وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان أنبأنا
ابن المبارك أنبأنا ابن لهيعة حدثنا سلامان بن عامر الشيباني أن عبد الرحمن بن جحدم الخولاني حدثه أنه حضر
فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى
فقيل له تركت الشهيد فلم تجلس عنده فقال ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت إن الله يقول " والذين هاجروا في
سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا " الآيتين فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت
رزقا حسنا والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت. ورواه ابن جرير عن يونس بن عبد الاعلى عن ابن وهب أخبرني
242

عبد الرحمن بن شريح عن سلامان بن عامر قال كان فضالة برودس أميرا على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما
قتيل والآخر متوفى فذكر نحو ما تقدم وقوله " ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به " الآية ذكر مقاتل بن حيان وابن
جرير أنها نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم
في الشهر الحرام فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم فقاتلهم المسلمون فنصرهم الله عليهم " إن الله لعفو
غفور ".
ذلك بأن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وأن الله سميع بصير (61) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما
يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير (62)
يقول تعالى منبها على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء كما قال " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من
تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شئ قدير * تولج الليل في
النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب "
ومعنى إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل إدخاله من هذا في هذا ومن هذا في هذا فتارة يطول الليل ويقصر
النهار كما في الشتاء وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف وقوله وأن الله سميع بصير " أي سميع
بأقوال عباده بصير بهم لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ولما تبين أنه المتصرف في
الوجود الحاكم الذي لا معقب لحكمه قال " ذلك بأن الله هو الحق " أي الاله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له
لأنه ذو السلطان العظيم الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وكل شئ إليه فقير، ذليل لديه " وأن ما يدعون من
دونه هو الباطل " أي من الأصنام والأنداد والأوثان وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا
وقوله " وأن الله هو العلي الكبير " كما قال " وهو العلي العظيم " وقال وهو الكبير المتعال " فكل شئ
تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه لأنه العظيم الذي لا أعظم منه العلي الذي لا أعلى منه،
الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عز وجل عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير (63) له ما في السماوات وما في
الأرض وإن الله لهو الغني الحميد (64) ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره
يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم (65) وهو الذي أحياكم ثم
يميتكم ثم يحييكم أن الانسان لكفور (66)
وهذا أيضا من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه وأنه يرسل الرياح فتثير سحابا فتمطر على الأرض الجرز التي لا
نبات فيها وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " وقوله: " فتصبح الأرض
مخضرة " الفاء ههنا للتعقيب وتعقيب كل شئ بحسبه كما قال تعالى " ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة
مضغة " الآية وقد ثبت في الصحيحين أن بين كل شيئين أربعين يوما ومع هذا هو معقب بالفاء وهكذا ههنا، قال
" فتصبح الأرض مخضرة " أي خضراء بعد يباسها (1) ومحولها. وقد ذكر عن بعض أهل الحجاز أنها تصبح عقب
المطر خضراء فالله أعلم وقوله " إن الله لطيف خبير " أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها من الحب
وإن صغر لا يخفي عليه خافية فيوصل إلى كل منه قسطه من الماء فينبته به كما قال لقمان " يا بني إنها إن تك
مثقال حبة من خردل قسطه من الماء فينبته به كما قال لقمان " يا بني إنها إن تك
مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله إن الله لطيف خبير وقال: " ألا
(1) المناسب يبسها لأنه يقال أرضي يباس أي يابسة.
243

يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض " وقال تعالى " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في
ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وقال " وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا
في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " ولهذا قال أمية بن أبي الصلت أو زيد بن عمرو بن
نفيل في قصيدته:
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه في رؤوسه ففي ذلك آيات لمن كان واعيا
وقوله " له ما في السماوات وما في الأرض " أي ملكه جميع الأشياء وهو غني عما سواه وكل شئ فقير إليه عبد
لديه وقوله " ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض " أي من حيوان وجماد وزروع وثمار كما قال " وسخر لكم
ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه " أي من إحسانه وفضله وامتنانه " والفلك تجري في البحر بأمره " أي
بتسخيره وتسيره أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج تجري الفلك بأهلها بريح طيبة ورفق وتؤدة فيحملون فيها ما
شاءوا من تجائر وبضائع ومنافع من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر ويأتون بما عند أولئك إلى هؤلاء كما ذهبوا بما عند
هؤلاء إلى أولئك مما يحتاجون إليه ويطلبونه ويريدونه " ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه " أي لو
شاء لاذن للسماء فسقطت على الأرض فهلك من فيها ولكن من لطفه ورحمته وقدرته يمسك السماء أن تقع على
الأرض إلا بإذنه ولهذا قال " إن الله بالناس لرءوف رحيم " أي مع ظلمهم كما قال في الآية الأخرى " وإن ربك
لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب " وقوله " وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن
الانسان لكفور " كقوله " كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " وقوله
" قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه " وقوله " قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا
اثنتين " ومعنى الكلام كيف تجعلون لله أندادا وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف " وهو
الذي أحياكم " أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر فأوجدكم " ثم يميتكم ثم يحييكم " أي يوم القيامة " إن
لانسان لكفور " أي جحود
لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينزعنك في الامر وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم (67)
وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون (68) الله يحكم بينكم يوم القيمة فيما كنتم فيه تختلفون (69)
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكا قال ابن جرير يعني لكل أمة نبي منسكا قال: وأصل المنسك في كلام العرب
هو الموضع الذي يعتاده الانسان ويتردد إليه إما لخير أو شر قال ولهذا سميت مناسك الحج بذلك لترداد الناس
إليها وعكوفهم عليها فإن كان كما قال من أن المراد لكل أمة نبي جعلنا منسكا فيكون المراد بقوله " فلا ينازعك
في الامر " أي هؤلاء المشركون وإن كان المراد " لكل أمة جعلنا منسكا " جعلا قدريا كما قال " ولكل وجهة هو
موليها " ولهذا قال ههنا " هم ناسكوه " أي فاعلوه فالضمير ههنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق أي
هؤلاء إنما يفعلون هذا عن قدر الله وإرادته فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ولهذا
قال " وادع إلى ربك إنك لعلى هدى مستقيم " أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود وهذه كقوله " ولا
يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ". وقوله " وإن جادلوك فقل الله أعلم بما تعملون "
كقوله " وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون " وقوله " الله أعلم
بما تعملون " تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله " هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم " ولهذا قال
" الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون " وهذه كقوله تعالى " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا
تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب " الآية.
244

ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتب أن ذلك على الله يسير (70)
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض فلا يعز عنه مثقال ذرة في الأرض
ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في كتابه اللوح
المحفوظ كما ثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل
خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء " وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أول ما خلق الله القلم قال له اكتب قال وما أكتب؟ قال اكتب ما هو كائن فجرى القلم بما
هو كائن إلي يوم القيامة " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا ابن بكير حدثني عطاء بن دينار حدثني
سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: " خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق
وهو على العرش تبارك وتعالى اكتب فقال القلم وما أكتب قال علمي في خلقي إلى يوم الساعة فجرى القلم بما
هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة " فذلك قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض " وهذا
من تمام علمه تعالى أنه علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضا فما العباد عاملون قد علمه تعالى قبل ذلك على
الوجه الذي يفعلونه فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره وكتب ذلك عنده وأحاط بكل
شئ علما وهو سهل عليه يسير لديه ولهذا قال تعالى " إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ".
ويعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطنا وما ليس لهم به علم وما للظالمين من نصير (71) وإذا تتلى عليهم
آياتنا بينت تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير (72)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين فيما جهلوا وكفروا وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطانا يعني حجة وبرهانا
كقوله " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " ولهذا قال ههنا
" ما لم ينزل به سلطانا وما ليس لهم به علم " أي ولا علم لهم فيما اختلقوه وائتفكوه وإنما هو أمر تلقوه عن
آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة وأصله مما سول لهم الشيطان زينه لهم ولهذا توعدهم تعالى بقوله " وما
للظالمين من نصير " أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال ثم قال " وإذا تتلى عليهم
آياتنا بينات " أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل الواضحات على توحيد الله وأنه لا إله إلا هو وأن
رسله الكرام حق وصدق " يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا " أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم
بالدلائل الصحيحة من القرآن ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء " قل " أي يا محمد لهؤلاء " أفأنبئكم
بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا " أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق وأطم وأعظم مما تخوفون به
أولياء الله المؤمنين في الدنيا، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم
وإرادتكم وقوله " وبئس المصير " أي وبئس النار مقيلا ومنزلا ومرجعا وموئلا ومقاما " إنها ساءت مستقرا
ومقاما ".
يا أيها الناس ضرب مثل فاسمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم
الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74)
يقول تعالى منبها على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها " يا أيها الناس ضرب مثل " أي لما يعبده الجاهلون
بالله المشركون به " فاستمعوا له " أي أنصتوا وتفهموا " إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا
245

له " أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد على أن يقدروا على خلق ذباب واحد ما
قدروا على ذلك
كما قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا شريك عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة مرفوعا
قال " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا مثل خلقي ذرة أو ذبابة أو حبة " وأخرجه صاحبا الصحيح من
طريق عمارة عن أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق
كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة " ثم قال تعالى أيضا " وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه " أي هم
عاجزون عن خلق ذباب واحد بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه لو سلبها شيئا من الذي عليها
من الطيب ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ولهذا
قال " ضعف الطالب والمطلوب " قال ابن عباس: الطالب الصنم والمطلوب الذباب واختاره ابن جرير وهو ظاهر
السياق وقال السدي وغيره " الطالب " العابد " والمطلوب " الصنم ثم قال " ما قدروا الله حق قدره " أي ما عرفوا
قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها " إن الله لقوي عزيز " أي هو
القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شئ " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " " إن بطش ربك
لشديد إنه هو يبدئ ويعيد " " إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " وقوله " عزيز " أي قد عز كل شئ فقهره وغلبه
فلا يمانع ولا يغالب لعظمته وسلطانه وهو الواحد القهار.
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله
ترجع الأمور (76)
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلا فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لابلاغ رسالاته " إن الله سميع
بصير " أي سميع لأقوال عباده بصير بهم عليم بمن يستحيي ذلك منهم كما قال " الله أعلم حيث يجعل رسالته "
وقوله " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور " أي يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به فلا يخفى
عليه شئ من أمورهم كما قال " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا " - إلى قوله - وأحصى كل شئ عددا " فهو
سبحانه رقيب عليهم شهيد على ما يقال لهم حافظ لهم ناصر لجنابهم " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
وإن تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " الآية.
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون (77) وجهدوا في الله حق جهاده
هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون
الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم
المولى ونعم النصير (78)
اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه السجدة الثانية من سورة الحج هل هو مشروع السجود فيها أم لا؟ على قولين
وقد قدمنا عند الأولى حديث عقبه بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم " فصلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا
يقرأهما " وقوله " وجاهدوا في الله حق جهاده " أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم كما قال تعالى " اتقوا الله حق
تقاته " وقوله " هو اجتباكم " أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم وفضلكم وشرفكم وخصكم
بأكرم رسول وأكمل شرع " وما جعل عليكم في الدين من حرج " أي ما كلفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشئ
يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجا ومخرجا، فالصلاة التي أكبر أركان الاسلام بعد الشهادتين تجب في
الحضر أربع وفي السفر تقصر إلى اثنتين وفي الخوف يصليها بعض الأئمة ركعة كما ورد به الحديث وتصلى رجالا
وركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها وكذا في الناقلة في السفر إلى القبلة وغيرها والقيام فيها يسقط لعذر المرض
246

فيصليها المريض جالسا فإن لم يستطع فعلى جنبه إلى غير ذلك من الرخص والتخفيفات في سائر الفرائض
والواجبات ولهذا قال عليه السلام " بعثت بالحنيفية السمحة " وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى
اليمن " بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا " والأحاديث في هذا كثيرة ولهذا قال ابن عباس في قوله " وما جعل عليكم
في الدين من حرج " يعني من ضيق، وقوله " ملة أبيكم إبراهيم " قال ابن جرير نصب على تقدير " ما جعل
عليكم في الدين من حرج " أي من ضيق بل وسعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم، قال ويحتمل أنه منصوب على
تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم. (قلت) وهذا المعنى في هذه الآية كقوله " قل إنني هداني ربي إلى صراط
مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا " الآية وقوله " هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " قال الامام عبد الله
ابن المبارك عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس في قوله " هو سماكم المسلمين من قبل ": قال الله عز وجل.
وكذا قال مجاهد وعطاء والضحاك والسدي ومقاتل ابن حيان وقتادة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم " هو سماكم
المسلمين من قبل " يعني إبراهيم وذلك لقوله " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " قال
ابن جرير وهذا لا وجه له لأنه من المعلوم أن إبراهيم لم يسم هذه الأمة في القرآن مسلمين وقد قال الله تعالى " هو
سماكم المسلمين من قبل وفي هذا " قال مجاهد: الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر
" وفي هذا " يعني القرآن وكذا قال غيره. (قلت) وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال " هو اجتباكم وما جعل
عليكم في الدين من حرج " ثم حثهم وأغراهم إلى ما جاء به الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة أبيهم الخليل ثم ذكر
منته تعالى على هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها في سالف الدهر وقديم الزمان في كتب الأنبياء يتلى على
الأحبار والرهبان فقال " هو سماكم المسلمين من قبل " أي من قبل هذا القرآن " وفي هذا " روى النسائي عند
تفسيره هذه الآية أنبأنا هشام بن عمار حدثنا محمد بن شعيب أنبأنا معاوية بن سلام أن أخاه زيد بن سلام أخبره عن
أبي سلام أنه أخبره قال أخبرني الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي
جهنم " قال رجل يا رسول الله وإن صام وصلى قال " نعم وإن صام وصلى " فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها
المسلمين المؤمنين عباد الله، وقد قدمنا هذ الحديث بطوله عند تقسيم قوله " يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون " من سورة البقرة ولهذا قال " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء
على الناس " أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطا عدولا خيارا مشهودا بعدالتكم عند جميع الأمم لتكونوا يوم القيامة
" شهداء على الناس " لان جميع الأمم معترفة يومئذ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها فلهذا تقبل شهادتهم
عليهم يوم القيامة في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلغها ذلك وقد تقدم الكلام
على هذا عند قوله " وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " وذكرنا
حديث نوح وأمته بما أغنى عن إعادته، وقوله " فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام
بشكرها فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض وطاعة ما أوجب وترك ما حرم ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء
الزكاة وهو الاحسان إلى خلق الله بما أوجب للفقير على الغني من إخراج جزء نزر من ماله في السنة للضعفاء
والمحاويج كما تقدم بيانه وتفصيله في آية الزكاة من سورة التوبة وقوله " واعتصموا بالله " أي اعتضدوا بالله
واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به " هو مولاكم " أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم " فنعم المولى
ونعم النصير " يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء قال وهيب بن الورد " يقول الله تعالى: " ابن آدم اذكرني إذا
غضبت أذكرك إذا غضبت فلا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت فاصبر وارض بنصرتي فإن نصرتي لك خير من
نصرتك لنفسك " رواه ابن أبي حاتم والله أعلم. آخر تفسير سورة الحج ولله الحمد والمنة.
سورة المؤمنون:
247

بسم الله الرحمن الرحيم
قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم في صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين
هم للزكوة فعلون (4) والذين هم لفروجهم حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم
غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم
على صلوا تهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثون الفردوس هم فيها خلدون (11)
قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرني يونس بن سليم قال أملى علي يونس بن يزيد الأيلي عن ابن شهاب عن
عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال سمعت عمر بن الخطاب يقول كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال " اللهم زدنا ولا تنقصنا وأكرمنا
ولا تهنا وأعطنا ولا تحرمنا وآثرنا ولا تؤثر علينا وارض عنا وأرضنا - ثم قال - لقد أنزل علي عشر آيات من أقامهن
دخل الجنة " ثم قرأ " قد أفلح المؤمنون " حتى ختم العشر، ورواه الترمذي في تفسيره والنسائي في الصلاة من
حديث عبد الرزاق به، وقال الترمذي منكر لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم ويونس لا نعرفه، وقال
النسائي في تفسيره أنبأنا قتيبة بن سعيد حدثنا جعفر عن أبي عمران عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة أم
المؤمنين كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فقرأت " قد أفلح المؤمنون -
حتى انتهت إلى - والذين هم على صلواتهم يحافظون " قالت هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن كعب
الأحبار ومجاهد وأبي العالية وغيرهم لما خلق الله جنة عدن وغرسها بيده نظر إليها وقال لها تكلمي فقالت " قد
أفلح المؤمنون " قال كعب الأحبار لما أعد لهم من الكرامة فيها وقال أبو العالية فأنزل الله ذلك في كتابه، وقد
روي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا فقال أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى حدثنا المغيرة بن مسلمة
حدثنا وهيب عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وغرسها
وقال لها تكلمي فقالت " قد أفلح المؤمنون " فدخلتها الملائكة فقالت طوبى لك منزل الملوك، ثم قال وحدثنا
بشر بن آدم وحدثنا يونس بن عبيد الله العمري حدثنا عدي بن الفضل حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خلق الله الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها المسك - قال البزار ورأيت في موضع آخر
في هذا الحديث - حائط الجنة لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك فقال لها تكلمي فقالت " قد أفلح المؤمنون "
فقالت الملائكة طوبى لك منزل الملوك " ثم قال البزار لا نعلم أحدا رفعه إلى عدي بن الفضل وليس هو بالحافظ
وهو شيخ متقدم الموت، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا أحمد بن علي حدثنا هشام بن خالد حدثنا بقية
عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما خلق الله جنة عدن خلق فيها ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم قال لها تكلمي فقالت " قد أفلح المؤمنون " بقية عن الحجازيين
ضعيف، وقال الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث حدثنا حماد بن عيسى
العبسي عن إسماعيل السدي عن أبي صالح عن ابن عباس يرفعه " لما خلق الله جنة عدن بيده ودلى فيها ثمارها
وشق فيها أنهارها ثم نظر إليها فقال " قد أفلح المؤمنون " قال وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل "، وقال أبو
بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البزار حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا يعيش بن حسين عن سعيد
ابن أبي عروبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة
بيضاء ولبنة من ياقوتة حمراء ولبنة من زبرجدة خضراء ملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ وحشيشها الزعفران ثم
قال لها انطقي قالت " قد أفلح المؤمنون " فقال الله وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " وقوله تعالى " قد أفلح المؤمنون " أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا
248

على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس " خاشعون " خائفون ساكنون، وكذا روي عن مجاهد والحسن وقتادة والزهري، وعن علي بن أبي
طالب " الخشوع خشوع القلب وكذا قال إبراهيم النخعي، وقال الحسن البصري كان خشوعهم في
قلوبهم فغضوا بذلك أبصارهم وخفضوا الجناح، وقال محمد بن سيرين كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون
أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزلت هذه الآية " قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون "
خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم، قال محمد بن سيرين وكانوا يقولون لا يجاوز بصره مصلاه فإن
كان قد اعتاد النظر فليغمض، رواه ابن جرير وابن حاتم، ثم روى ابن جرير عنه وعن عطاء بن أبي
رباح أيضا مرسلا أن رسول الله كان يفعل ذلك حتى نزلت هذه الآية، والخشوع في الصلاة إنما يحصل
لمن فرغ قلبه لها واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها وحينئذ تكون راحة له وقرة عين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في
الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حبب إلي الطيب والنساء وجعلت
قرة عيني في الصلاة ". وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا مسعر عن عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن
رجل من أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا بلال أرحنا بالصلاة " وقال الإمام أحمد أيضا ثنا عبد الرحمن بن مهدي
ثنا إسرائيل عن عثمان بن المغيرة عن سالم ابن أبي الجعد أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا
من الأنصار فحضرت الصلاة فقال يا جارية ائتني بوضوء لعلي أصلي فأستريح فرآنا أنكرنا عليه ذلك فقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قم يا بلال فأرحنا بالصلاة "، وقوله " والذين هم عن اللغو معرضون " أي عن الباطل وهو
يشتمل الشرك كما قاله بعضهم والمعاصي قاله آخرون وما لا فائدة فيه من الأقوال والافعال كما قال تعالى
" وإذا مروا باللغو مروا كراما " قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك. وقوله " والذين هم للزكاة
فاعلون " الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال مع أن هذه الآية مكية وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في
سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة وإلا فالظاهر أن
أصل الزكاة كان واجبا بمكة قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية " وآتوا حقه يوم حصاده " وقد يحتمل أن يكون
المراد بالزكاة ههنا زكاة النفس من الشرك والدنس كقوله " قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها " وكقوله " وويل
للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة " على أحد القولين في تفسيرهما، وقد يحتمل أن يكون كلا الامرين مرادا وهو زكاة
النفوس وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفس والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. وقوله
" والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون " أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط،
لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم أو ما ملكت أيمانهم من السراري ومن تعاطي ما أحله الله له فلا لوم
عليه ولا حرج ولهذا قال " فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك " أي غير الأزواج والإماء " فأولئك هم
العادون " أي المعتدون. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الاعلى حدثنا سعيد بن قتادة: أن امرأة
اتخذت مملوكها وقالت تأولت آية من كتاب الله " أو ما ملكت أيمانهم " فأتي بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه
وقال له ناس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها قال فضرب العبد وجز رأسه
وقال أنت بعده حرام على كل مسلم. هذا أثر غريب منقطع ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة وهو ههنا
أليق وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها والله أعلم. وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن
وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة " والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم " قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين وقد قال الله تعالى " فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون " وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت
249

الجزري عن مسلمة بن جعفر عن حسان بن حميد عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبعة لا ينظر الله إليهم
يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العالمين ويدخلهم النار في أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله
عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه
حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره " هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. وقوله
" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون " أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا
أوفوا بذلك لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد
أخلف، وإذا اؤتمن خان " وقوله " والذين هم على صلواتهم يحافظون " أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال
ابن مسعود سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال " الصلاة على وقتها " قلت ثم
أي؟ قال " بر الوالدين " قلت ثم أي؟ قال " الجهاد في سبيل الله " أخرجاه في الصحيحين، وفي مستدرك
الحاكم قال " الصلاة في أول وقتها " وقال ابن مسعود ومسروق في قوله " والذين هم على صلواتهم يحافظون "
يعني مواقيت الصلاة، وكذا قال أبو الضحى وعلقمة بن قيس وسعيد بن جبير وعكرمة، وقال قتادة: على مواقيتها
وركوعها وسجودها، وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها كما قال
رسول الله " استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن " ولما
وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والافعال الرشيدة " قال أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم
فيها خالدون " وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى
الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان
حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما منكم من
أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله " فذلك قوله
" أولئك هم الوارثون " وقال ابن جريج عن الليث عن مجاهد " أولئك الوارثون " قال ما من عبد إلا وله منزلان
منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ويهدم بيته الذي في النار، وأما الكافر
فيهدم بيته الذي في الجنة ويبني بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك فالمؤمنون يرثون منازل
الكفار لانهم خلقوا لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة
وترك أولئك ما أمروا به مما خلقوا له أحرز هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل بل أبلغ من هذا
أيضا وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يجئ ناس يوم
القيامة من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى " وفي لفظ له قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقال هذا فكاكك من النار " فاستحلف عمر
ابن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال فحلف له،
قلت وهذه الآية كقوله تعالى " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا " وكقوله " وتلك الجنة التي أورثتموها
بما كنتم تعملون " وقد قال مجاهد وسعيد بن جبير الجنة بالرومية هي الفردوس، وقال بعض السلف لا يسمى
البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب فالله أعلم.
ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين (12) ثم جعله نطفة في قرار مكين (13) ثم خلقنا النطفة علقة
فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن
الخلقين (14) ثم إنكم بعد ذلك لميتون (15) ثم إنكم يوم القيمة تبعثون (16)
يقول تعالى مخبرا عن ابتداء خلق الانسان من سلالة من طين وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ
250

مسنون وقال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن أبي يحيى عن ابن عباس " من سلالة من طين " قال من صفوة
الماء، وقال مجاهد من سلالة أي من من آدم، وقال ابن جرير: إنما سمي آدم طين لأنه مخلوق منه، وقال قتادة
استل آدم من الطين وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب وهو
الصلصال من الحمأ المسنون وذلك مخلوق من التراب كما قال تعالى " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم
بشر تنتشرون " وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا أسامة بن زهير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على ظهر الأرض جاء منهم الأحمر والأبيض
والأسود وبين ذلك والخبيث والطيب وبين ذلك " وقد رواه أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الاعرابي به نحوه
وقال الترمذي حسن صحيح " ثم جعلناه نطفة " هذا الضمير عائد على جنس الانسان كما قال في الآية الأخرى
" وبدأ خلق الانسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين " أي ضعيف كما قال " ألم نخلقكم من ماء
مهين فجعلناه في قرار مكين " يعني الرحم معد لذلك مهيأ له " إلى قدر معلوم فقدرنا فنعم القادرون " أي مدة
معلومة وأجل معين حتى استحكم ونقل من حال إلى حال وصفة إلى صفة ولهذا قال ههنا " ثم خلقنا النطفة
علقة " أي ثم صيرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره وترائب المرأة وهي عظام
صدري ما بين الترقوة إلى السرة فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة قال عكرمة وهي دم " فخلقنا
العلقة مضغة " وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط " فخلقنا المضغة عظاما " يعني شكلناها
ذات رأس ويدين ورجلين عظامها وعصبها وعروقها، وقرأ آخرون " فخلقنا المضغة عظما " قال ابن عباس وهو
عظم الصلب وفي الصحيح من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل جسد
ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب " " فكسونا العظام لحما " أي جعلنا على ذلك ما يستره ويشده
ويقويه " ثم أنشأناه خلقا آخر " أي ثم نفخا فيه الروح فتحرك وصار خلقا آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة
واضطراب " فتبارك الله أحسن الخالقين "، وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا جعفر بن مسافر
حدثنا يحيى بن حسان حدثنا النضر يعني ابن كثير مولى بني هاشم حدثنا زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: إذا أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليها ملكا فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث
فذلك قوله " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني نفخنا فيه الروح، وروى عن أبي سعيد الخدري أنه نفخ الروح قال
ابن عباس " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني نفخنا فيه الروح، وكذا قال مجاهد وعكرمة والشعبي والحسن وأبو
العالية والضحاك والربيع بن أنس والسدي وابن زيد واختاره ابن جرير، وقال العوفي عن ابن عباس " ثم أنشأناه
خلقا آخر " يعني فنقله من حال إلى حال إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرا ثم احتلم ثم صار شابا ثم كهلا ثم
شيخا ثم هرما. وعن قتادة والضحاك نحو ذلك، ولا منافاة فإنه من ابتداء نفخ الروح فيه شرع في هذه التنقلات
والأحوال والله أعلم، قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله -
هو ابن مسعود رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن
أمه أربعين يوما (1) ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر
بأربع كلمات: رزقه وأجله وعمله وهل هو شقي أو سعيد. فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل
بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها " أخرجاه
من حديث سليمان بن مهران الأعمش وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن
أبي خيثمة قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر فتمكث
(1) زاد في بعض الروايات (*)
251

أربعين يوما ثم تعود في الرحم فتكون علقة. وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا حسن بن الحسن حدثنا أبو كدينة عن
عطاء بن السائب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث
أصحابه فقالت قريش يا يهودي إن هذا يزعم أنه نبي فقال لأسألنه عن شئ لا يعلمه إلا نبي قال فجاءه حتى جلس
فقال يا محمد مم يخلق الانسان؟ فقال " يا يهودي من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة
الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم " فقال هكذا كان يقول
من قبلك " وقال الإمام أحمد حدثنا سفيان بن عمرو عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة فيقول يا رب ماذا؟ شقي أو
سعيد أذكر أم أنثى؟ فيقول الله فيكتبان ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها
ولا ينقص " وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث سفيان بن عيينة عن عمرو هو ابن دينار به نحوه، ومن طريق
أخرى عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة بن أسيد عن أبن شريحة الغفاري بنحوه والله أعلم. وقال الحافظ
أبو بكر البزار حدثنا أحمد بن عبدة حدثنا حماد بن زيد حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" إن الله وكل بالرحم ملكا فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة فإذا أراد الله خلقها قال أي رب ذكر أو
أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ قال فذلك يكتب في بطن أمه " أخرجاه في الصحيحين من حديث
حماد بن زيد به وقوله " فتبارك الله أحسن الخالقين " يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال
إلى حال وشكل إلى شكل حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الانسان السوي الكامل الخلق قال " فتبارك الله
أحسن الخالقين " قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد
عن أنس قال قال عمر يعني ابن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي في أربع نزلت هذه الآية " ولقد خلقنا
الانسان من سلالة من طين " الآية قلت أنا فتبارك الله أحسن الخالقين فنزلت " فتبارك الله أحسن الخالقين " وقال
أيضا حدثنا أبي حدثنا آدم بن أبي إياس حدثنا شيبان عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن زيد بن ثابت
الأنصاري: قال أملى علي رسول الله هذه الآية " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين - إلى قوله - خلقا آخر "
فقال معاذ " فتبارك الله أحسن الخالقين " فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ مم تضحك يا رسول الله؟ فقال
" بها ختمت فتبارك الله أحسن الخالقين " وفي إسناده جابر بن زيد الجعفي ضعيف جدا وفي خبره هذا نكارة
شديدة وذلك أن هذه السورة مكية وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة وكذلك إسلام معاذ بن جبل إنما كان
بالمدينة أيضا فالله أعلم. وقوله " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى
الموت " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " يعني النشأة الآخرة ثم الله ينشئ النشأة الآخرة يعني يوم المعاد، وقيام
الأرواح إلى الأجساد، فيحاسب الخلائق ويوافي كل عامل عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين (17)
لما ذكر تعالى خلق الانسان عطف بذكر خلق السماوات السبع، وكثيرا ما يذكر تعالى خلق السماوات والأرض مع
خلق الانسان كما قال تعالى " لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس " وهكذا في أول " آلم " السجدة التي
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها صبيحة يوم الجمعة في أولها خلق السماوات والأرض ثم بيان خلق الانسان من سلالة
من طين وفيها أمر المعاد والجزاء وغير ذلك من المقاصد. وقوله " سبع طرائق " قال مجاهد يعني السماوات
السبع وهذه كقوله تعالى " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن " " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات
طباقا " " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير
وأن الله قد أحاط بكل شئ علما " وهكذا قال ههنا " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين "
أي ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما
252

تعلمون بصير، وهو سبحانه لا يحجب عنه سماء سماء ولا أرض أرضا، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره، ولا بحر
إلا يعلم ما في قعره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار " وما تسقط من ورقة إلا
يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ".
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون (18) فأنشأنا لكم به
جنت من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون (19) وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن
وصبغ للآكلين (20) وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون
وعليها وعلى الفلك تحملون (22)
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر أي بحسب الحاجة لا كثيرا
فيفسد الأرض والعمران ولا قليلا فلا يكفي الزروع والثمار بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به
حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيرا لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى
كما في أرض مصر ويقال لها الأرض الجرز يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في
زمان أمطارها فيأتي الماء يحمل طينا أحمر فيسقي أرض مصر ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه لان أرضهم
سباخ يغلب عليها الرمال فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور، وقوله " فأسكناه في الأرض " أي جعلنا الماء
إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض، وجعلنا في الأرض قابلية له وتشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى.
وقوله " وإنا على ذهاب به لقادرون " أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ
والبراري والقفار لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه أجاجا لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه لا ينزل في
الأرض بل ينجر على وجهها لفعلنا، ولو شئنا لجعلناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا ينتفعون به
لفعلنا ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم الماء من السحاب عذبا فراتا زلالا فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في
الأرض فيفتح العيون والأنهار ويسقي به الزروع والثمار تشربون منه ودوابكم وأنعامكم وتغتسلون منه وتتطهرون منه
وتتنظفون فله الحمد والمنة. وقوله " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من
السماء جنات أي بساتين وحدائق " ذات بهجة " أي ذات منظر حسن. وقوله " من نخيل وأعناب " أي فيها نخيل
وأعناب وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشئ وبين نظيره وكذلك في حق كل أهل أقليم عندهم من
الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره. وقوله " لكم فيها فواكه كثيرة " أي من جميع الثمار كما
قال " ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات " وقوله " ومنها تأكلون " أنه معطوف على
شئ مقدر تقديره تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون، وقوله " وشجرة تخرج من طور سيناء " يعني الزيتونة،
والطور هو الجبل وقال بعضهم إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر فإن عري عنها سمي جبلا لا طورا والله أعلم،
وطور سيناء هو طور سينين وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسي بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي
فيها شجر الزيتون، وقوله " تنبت بالدهن " قال بعضهم الباء زائدة وتقديره تنبت الدهن كما في قول العرب ألقى
فلان بيده أي يده وأما على قول من يضمن الفعل فتقديره تخرج بالدهن أو تأتي بالدهن ولهذا قال " وصبغ " أي
أدم قاله قتادة " للآكلين " أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ كما قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن عبد الله
ابن عيسى عن عطاء الشامي عن أبي أسيد واسمه مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " وقال عبد بن حميد في مسنده وتفسيره حدثنا عبد
الرزاق أنا معمر عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من
شجرة مباركة " ورواه الترمذي وابن ماجة من غير وجه عن عبد الرزاق. قال الترمذي ولا يعرف إلا من حديثه وكان
253

يضطرب فيه فربما ذكر فيه عمر وربما لم يذكره. قال أبو القاسم الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا
أبي حدثنا سفيان بن عيينة حدثني الصعب بن حكيم بن شريك بن نميلة عن أبيه عن جده قال: ضفت عمر بن
الخطاب رضي الله عنه ليلة عاشوراء فأطعمني من رأس بعير بارد وأطعمنا زيتا وقال هذا الزيت المبارك الذي قال
الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها
وعلى الفلك تحملون " يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الانعام من المنافع وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة
من بين فرث ودم ويأكلون من حملانها ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ويركبون ظهورها ويحملونها
الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم كما قال تعالى " وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس
إن ربكم لرءوف رحيم " وقال تعالى " أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وذللناها
لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون ".
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (23) فقال الملأ الذين
كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في
آبائنا الأولين (24) إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين (25)
يخبر تعالى عن نوح حين بعثه إلى قومه لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد وانتقامه ممن أشرك به
وخالف أمره وكذب رسله " فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون " أي ألا تخافون من الله في
إشراككم به؟ فقال الملا وهم السادة والأكابر منهم " ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم " يعنون يترفع
عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة وهو بشر مثلكم فكيف أوحي إليه دونكم " ولو شاء الله لأنزل ملائكة " أي لو أراد
أن يبعث نبيا لبعث ملكا من عنده ولم يكن بشرا ما سمعنا بهذا أي ببعثة البشر في آبائنا الأولين يعنون بهذا
أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية. وقوله " إن هو إلا رجل به جنة " أي مجنون فيما يزعمه من أن الله
أرسله إليكم واختصه من بينكم بالوحي " فتربصوا به حتى حين " أي انتظروا به ريب المنون واصبروا عليه مدة
حتى تستريحوا منه.
قال رب انصرني بما كذبون (26) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها
من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون (27) فإذا
استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجنا من القوم الظالمين (28) وقل رب أنزلني منزلا مباركا
وأنت خير المنزلين (29) إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين (30)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه كما قال تعالى مخبرا عنه في الآية الأخرى
" فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " وقال ههنا " رب انصرني بما كذبون " فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة
وإحكامها وإتقانها وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين أي ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار
وغير ذلك وأن يحمل فيها أهله " إلا من سبق عليه القول منهم " أي من سبق عليه القول من الله بالهلاك وهم
الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته والله أعلم، وقوله " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " أي
عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم وطمع في تأخيرهم لعلهم يؤمنون فإني قد
قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن
254

إعادة ذلك ههنا وقوله " فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين "
كما قال " وجعل لكم من الفلك والانعام ما تركبون * لتستووا عل ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه
وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا إلى ربنا لمنقلبون " وقد امتثل نوح عليه السلام هذا
كما قال تعالى " وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها " فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه وقال
تعالى " وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين " وقوله " إن في ذلك لآيات " أي إن في هذا الصنيع
وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين لآيات أي لحجج ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن
الله تعالى وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شئ عليم بكل شئ وقوله " وإن كنا لمبتلين " أي لمختبرين
للعباد بإرسال المرسلين.
ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (31) فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون (32)
وقال الملا من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفنهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل
مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (33) ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون (34) أيعدكم أنكم إذا
متم وكنتم ترابا وعظما أنكم مخرجون (35) هيهات هيهات لما توعدون (36) إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت
ونحيا وما نحن بمبعوثين (37) إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا وما نحن له بمؤمنين (38) قال رب انصرني بما
كذبون (39) قال عما قليل ليصبحن نادمين (40) فأخذتهم الصيحة بالحق فجعلناهم غثاء فبعدا للقوم الظالمين (41)
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرنا آخرين قيل المراد بهم عاد فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم، وقيل المراد
بهؤلاء ثمود لقوله " فأخذتهم الصيحة بالحق " وأنه تعالى أرسل فيهم رسولا منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا
شريك له فكذبوه وخالفوه وأبوا عن اتباعه لكونه بشرا مثلهم واستنكفوا عن اتباع رسول بشري وكذبوا بلقاء الله في
القيامة وأنكروا المعاد الجثماني وقالوا " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون * هيهات هيهات
لما توعدون " أي بعد بعد ذلك " إن هو إلا رجل افتري على الله كذبا " أي فيما جاءكم به من الرسالة والنذارة
والاخبار بالمعاد " وما نحن له بمؤمنين * قال رب انصرني بما كذبون " أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه
عليهم فأجاب دعاءه " قال عما قليل ليصبحن نادمين " أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به " فأخذتهم الصيحة
بالحق " أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر
العاصف القوي البارد " تدمر كل شئ بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم " وقوله " فجعلناهم غثاء " أي
صرعى هلكى كغثاء السيل وهو الشئ الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشئ منه " فبعدا للقوم الظالمين "
كقوله " وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين " أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله، فليحذر السامعون أن
يكذبوا رسولهم.
ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين (42) ما تسبق من إمة أجلها وما يستأخرون (43) ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء
أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون (44)
يقول تعالى " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين " أي أمما وخلائق " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون "
يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه قبل كونهم أمة بعد أمة وقرنا بعد قرن
وجيلا بعد جيل وخلفا بعد سلف " ثم أرسلنا رسلنا تترى " قال ابن عباس يعني يتبع بعضهم بعضا وهذا كقوله
255

تعالى " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه
الضلالة " وقوله " كلما جاء أمة رسولها كذبوه " يعني جمهورهم وأكثر هم كقوله تعالى " يا حسرة على العباد ما
يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " وقوله " فأتبعنا بعضهم بعضا " أي أهلكناهم كقوله " وكم أهلكنا من
القرون من بعد نوح " وقوله " وجعلناهم أحاديث " أي أخبارا وأحاديث للناس كقوله " فجعلناهم أحاديث
ومزقناهم كل ممزق ".
ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآيتنا وسلطن مبين (45) إلى فرعون وملأه فاستكبروا وكانوا قوما عالين (46) فقالوا
أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عبدون (47) فكذبوهما فكانوا من المهلكين (48) ولقد آتينا موسى الكتب
لعلهم يهتدون (49)
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى وأخاه هارون إلى فرعون وملئه بالآيات والحجج الدامغات والبراهين
القاطعات وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لامرهما لكونهما بشرين كما أنكرت الأمم الماضية
بعثة الرسل من البشر تشابهت قلوبهم فأهلك الله فرعون وملئه وأغرقهم في يوم واحد أجمعين وأنزل على موسى
الكتاب وهو التوراة فيها أحكامه وأوامره ونواهيه وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط وأخذهم أخذ عزيز مقتدر
وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين كما قال تعالى " ولقد آتينا موسى
الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ".
وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين (50)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه جعلهما آية للناس أي حجة قاطعة على
قدرته على ما يشاء فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم وخلق حواء من ذكر بلا أنثى وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر
وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى، وقوله " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال الضحاك عن ابن عباس:
الربوة المكان المرتفع من الأرض وهو أحسن ما يكون فيه النبات وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وقتادة،
قال ابن عباس: وقوله " ذات قرار " يقول ذات خصب " ومعين " يعني ماء ظاهرا وكذا قال مجاهد وعكرمة
وسعيد بن جبير وقتادة وقال مجاهد ربوة مستوية، وقال سعيد بن جبير " ذات قرار ومعين " استوى الماء فيها وقال
مجاهد وقتادة " ومعين " الماء الجاري. ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة من أي أرض هي؟ فقال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ليس الربى إلا بمصر والماء حين يسيل يكون الربي عليها القرى ولولا الربي
غرقت القرى، وروي عن وهب بن منبه نحو هذا وهو بعيد جدا. وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب في
قوله " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال هي دمشق قال وروي عن عبد الله بن سلام والحسن وزيد بن
أسلم وخاله بن معدان نحو ذلك. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا وكيع عن إسرائيل عن سماك
عن عكرمة عن ابن عباس " ذات قرار ومعين " قال: أنهار دمشق وقال ليث بن أبي سليم عن مجاهد
" وآويناهما إلى ربوة " قال عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها وقال عبد الرزاق عن بشر بن
رافع عن أبي عبد الله بن عم أبي هريرة قال سمعت أبا هريرة يقول: في قول الله تعالى " إلى ربوة ذات قرار
ومعين " قال هي الرملة من فلسطين، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي
حدثنا رواد بن الجراح حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة بن يوسف الفريابي
حدثنا رواد بن الجراح حدثنا عبد الله بن عباد الخواص أبو عتبة حدثنا الشيباني عن ابن وعلة عن كريب السحولي
عن مرة البهذي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرجل " إنك تموت بالربوة " فمات بالرملة وهذا حديث غريب
جدا وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال
المعين الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى " قد جعل ربك تحتك سريا " وكذا قال الضحاك وقتادة
256

" إلى ربوة ذات قرار ومعين " هو بيت المقدس فهذا والله أعلم هو الاظهر لأنه المذكور في الآية الأخرى والقرآن
يفسر بعضه بعضا وهذا أولى ما يفسر به ثم الأحاديث الصحيحة ثم الآثار.
يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صلحا إني بما تعملون عليم (51) وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم
فاتقون (52) فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون (53) فذرهم في غمرتهم حتى حين (54)
أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (56)
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالاكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال فدل هذا
على أن الحلال عون على العمل الصالح فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام وجمعوا بين كل خير قولا
وعملا ودلالة ونصحا فجزاهم الله عن العباد خيرا. قال الحسن البصري في قوله " يا أيها الرسل كلوا من
الطيبات " قال أما والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم ولكن قال انتهوا إلى الحلال
منه، وقال سعيد بن جبير والضحاك " كلوا من الطيبات " يعني الحلال، وقال أبو إسحاق السبيعي عن أبي
ميسرة عمرو بن شرحبيل كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه، وفي الصحيح " وما من نبي إلا رعى الغنم - قالوا
وأنت يا رسول الله؟ - قال نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " وفي الصحيح " إن داود عليه السلام كان
يأكل من كسب يده " وفي الصحيحين " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود وأحب القيام إلى الله قيام داود، كان
ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقي " وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب أن أم عبد الله بنت شداد بن
أوس قالت بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم وذلك في أول النهار وشدة الحر فرد إليها رسولها
أنى كانت لك الشاة؟ فقالت اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله بنت شداد فقالت
يا رسول الله بعثت إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر فرددت إلي الرسول فيه، فقال لها " بذلك
أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا " وقد ثبت في صحيح مسلم وجامع الترمذي ومسند الإمام أحمد
واللفظ له من حديث فضيل بن مرزوق عن عدي بن ثابت عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال
" يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم " وقال " يا أيها الذين آمنوا كلوا من
طيبات ما رزقناكم " ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام يمد
يديه إلى السماء يا رب يا رب فأنى يستجاب لذلك " وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث فضيل بن
مرزوق. وقوله " وإن هذه أمتكم أمة واحدة " أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد وملة واحدة وهو الدعوة إلى
عبادة الله وحده لا شريك له ولهذا قال " وأنا ربكم فاتقون " وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأنبياء، وإن
قوله " أمة واحدة " منصوب على الحال وقوله " فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا " أي الأمم الذين بعثت إليهم الأنبياء
" كل حزب بما لديهم فرحون " أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لانهم يحسبون أنهم مهتدون ولهذا قال متهددا
لهم ومتواعدا " فذرهم في غمرتهم " أي في غيهم وضلالهم " حتى حين " أي إلى حين حينهم وهلاكهم كما
قال تعالى " فمهل الكافرين أمهلهم رويدا " وقال تعالى " ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون "
وقوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون " يعني أيظن هؤلاء
المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا كلا ليس الامر كما يزعمون في قولهم
" نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين " لقد أخطئوا في ذلك وخاب رجاؤهم بل إنما نفعل بهم ذلك
استدراجا وإنظارا وإملاء ولهذا قال " بل لا يشعرون " كما قال تعالى " فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد
257

الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا " الآية. وقال تعالى " إنما نملي لهم ليزدادوا إثما " وقال تعالى " فذرني ومن
يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم " الآية وقال " ذرني ومن خلقت وحيدا -
إلى قوله - عنيدا " وقال تعالى " وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا "
الآية. والآيات في هذا كثيرة، قال قتادة في قوله " أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين * نسارع لهم في
الخيرات بل لا يشعرون " قال مكر والله بالقوم في أموالهم وأولادهم، يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم
وأولادهم ولكن اعتبرهم بالايمان والعمل الصالح. وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد حدثنا أبان بن إسحاق
عن الصباح بن محمد عن مرة الهمداني حدثنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله
قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا
لمن أحب فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا
يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه " قالوا وما بوائقه يا رسول الله؟ قال " غشمه وظلمه، ولا يكسب عبد من مالا من حرام
فينفق منه فيبارك فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار إن الله لا يمحوا السئ
بالسئ ولكن يمحو السئ بالحسن إن الخبيث لا يمحو الخبيث ".
إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون (57) والذين هم بآيات ربهم يؤمنون (58) والذين هم بربهم لا يشركون (59)
والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون (60) أولئك يسرعون في الخيرات وهم لها
سابقون (61)
يقول تعالى " إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون " أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح مشفقون
من الله خائفون منه وجلون من مكره بهم كما قال الحسن البصري: إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة وإن ا لكافر
جمع إساءة وأمنا " والذين هم بآيات ربهم يؤمنون " أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية كقوله تعالى إخبارا عن
مريم عليها السلام " وصدقت بكلمات ربها وكتبه " أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه وما شرعه
الله فهو إن كان أمرا فمما يحبه ويرضاه وإن كان نهيا فهو مما يكرهه ويأباه، وإن كان خيرا فهو حق كما قال الله
" والذين هم بربهم لا يشركون " أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحدا صمدا لم
يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له ولا كف ء له. وقوله " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم
راجعون " أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط
الاعطاء وهذا من باب الاشفاق والاحتياط كما قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن آدم حدثنا مالك بن مغول حدثنا
عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة أنها قالت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي
يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عز وجل؟ قال " لا يا بنت الصديق ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق
وهو يخاف الله عز وجل " وهكذا رواه الترمذي وابن أبي حاتم من حديث مالك بن مغول به بنحوه وقال " لا يا ابنة
الصديق ولكنهم الذين يصلون ويصومون ويتصدقون وهم يخافون ألا يتقبل منهم " " أولئك يسارعون في
الخيرات " وقال الترمذي وروى هذا الحديث من حديث عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا وهكذا قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي والحسن البصري في تفسير هذه الآية وقد قرأ
آخرون هذه الآية " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة " أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون، وروي هذا مرفوعا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا صخر بن جويرية حدثنا إسماعيل المكي حدثنا
أبو خلف مولى بني جمح أنه دخل مع عبيد بن عمير على عائشة رضي الله عنها فقالت مرحبا بأبي عاصم ما
يمنعك أن تزورنا أو تلم بنا؟ فقال أخشى أن أملل فقالت: ما كنت لتفعل؟ قال جئت لأسألك عن آية من كتاب
الله عز وجل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها؟ قالت أية آية؟ قال " الذين يؤتون ما آتوا " " والذين يأتون ما
258

أتوا " فقالت أيتهما أحب إليك؟ فقلت والذي نفسي بيده لأحدهما أحب إلي من الدنيا جميعا أو الدنيا وما فيها
قالت وما هي؟ فقلت " الذين يأتون ما أتوا " فقالت أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يقرؤها وكذلك أنزلت
ولكن الهجاء حرف. فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف، والمعنى على القراءة الأولى وهي قراءة
الجمهور السبعة وغيرهم أظهر، لأنه قال " أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " فجعلهم من السابقين
ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لاوشك أن لا يكونوا من السابقين بل من المقتصدين أو المقصرين والله أعلم.
ولا نكلف نفسا إلا وسعها ولدينا كتب ينطق بالحق وهم لا يظلمون (62) بل قلوبهم في غمرة من هذا ولهم
أعمل من دون ذلك هم لها عاملون (63) حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون (64) لا تجأروا اليوم
إنكم منا لا تنصرون (65) قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقبكم تنكصون (66) مستكبرين به سمرا
تهجرون (67)
يقول تعالى مخبرا عن عدله في شرعه على عبادة في الدنيا أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي إلا ما تطيق حمله
والقيام به وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شئ ولهذا قال
" ولدينا كتاب ينطق بالحق " يعني كتاب الأعمال " وهم لا يظلمون " أي لا يبخسون من الخير شيئا، وأما
السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين ثم قال منكرا على الكفار والمشركين من قريش " بل قلوبهم
في غمرة " أي في غفلة وضلالة من هذا أي القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وقوله " ولهم أعمال من دون ذلك
هم لها عاملون " قال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس " ولهم أعمال " أي سيئة من دون ذلك يعني
الشرك " هم لها عاملون " قال لا بد أن يعملوها كذا روي عن مجاهد والحسن وغير واحد، وقال آخرون " ولهم
أعمال من دون ذلك هم لها عاملون " أي قد كتبت عليهم أعمال سيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة لتحق
عليهم كلمة العذاب، وروي نحو هذا عن مقاتل بن حيان والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ظاهر قوي
حسن، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود " فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه
وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " وقوله " حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا
هم يجأرون " يعني حتى إذا جاء مترفيهم وهم المنعمون في الدنيا عذاب الله وبأسه ونقمته بهم " إذا هم
يجأرون " أي يصرخون ويستغيثون كما قال تعالى " وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلا إن لدينا أنكالا
وجحيما " الآية وقال تعالى " وكم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص " وقوله " لا تجأروا اليوم
إنكم منا لا تنصرون " أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر لزم
الامر ووجب العذاب ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال " قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون " أي
إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم " ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله العلي
الكبير " وقوله " مستكبرين به سامرا تهجرون " في تفسيره قولان (أحدهما) أن مستكبرين حال منهم حين
نكوصهم عن الحق وإبائهم إياه استكبارا عليه واحتقارا له ولأهله فعلى هذا الضمير في به فيه ثلاثة أقوال (أحدها)
أنه الحرم أي مكة ذموا لانهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام. (الثاني): أنه ضمير للقرآن كانوا يسمرون
ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام: إنه سحر إنه شعر إنه كهانة إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة. (والثالث): أنه
محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ويضربون له الأمثال الباطلة من أنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو
كذاب أو مجنون فكل ذلك باطل بل هو عبد الله ورسوله الذي أظهره الله عليهم وأخرجهم من الحرم صاغرين أذلاء
وقيل المراد بقوله " مستكبرين به " أي بالبيت يفتخرون به معتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به كما قال النسائي في
259

التفسير من سننه أخبرنا أحمد بن سليمان أخبرنا عبد الله عن إسرائيل عن عبد الاعلى أنه سمع سعيد بن جبير
يحدث عن ابن عباس أنه قال: إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية " مستكبرين به سامرا تهجرون " فقال
مستكبرين بالبيت يقولون نحن أهله سامرا قال كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه، وقد أطنب ابن
أبي حاتم ههنا بما هذا حاصله.
أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آبائهم الأولين (68) أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون
به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) ولو اتبع أهواءهم لفسدت السماوات والأرض
ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون (71) أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير
الرازقين (72) وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم (73) وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون (74) ولو
رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون (75)
يقول تعالى منكرا على المشركين في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وتدبرهم له وإعراضهم عنه مع أنهم قد خصوا
بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول أكمل منه ولا أشرف لا سيما آباؤهم الذين ماتوا في الجاهلية حيث لم
يبلغهم كتاب ولا أتاهم نذير، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها والقيام بشكرها
وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار كما فعله النجباء منهم ممن أسلم واتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ورضي
عنهم. وقال قتادة " أفلم يدبروا القول " إذا والله يجدون في القرآن زاجرا عن معصية الله لو تدبره القوم وعقلوه
ولكنهم أخذوا بما تشابه به فهلكوا عند ذلك. ثم قال منكرا على الكافرين من قريش " أم لم يعرفوا رسولهم فهم
له منكرون " أي أفهم لا يعرفون محمدا وصدقه وأمانته وصيانته التي نشأ بها فيهم أي أفيقدرون على إنكار ذلك
والمباهتة فيه، ولهذا قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: أيها الملك إن الله بعث فينا
رسولا نعرف نسبه وصدقه وأمانته، وهكذا قال المغيرة بن شعبة لنائب كسرى حين بارزهم، وكذلك قال أبو سفيان
صخر بن حرب لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته، وكانوا بعد
كفارا لم يسلموا، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك. وقوله " أم يقولون به جنة " يحكي قول
المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقول القرآن أي افتراه من عنده أو أن به جنونا لا يدري ما يقول، وأخبر عنهم أن
قلوبهم لا تؤمن به وهم يعلمون بطلان ما يقولونه في القران فإنه أتاهم من كلام الله ما لا يطاق ولا يدافع وقد
تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ولهذا قال " بل جاءهم بالحق
وأكثرهم للحق كارهون " يحتمل أن تكون هذه جملة حالية أي في حالة كراهة أكثرهم للحق ويحتمل أن تكون
خبرية مستأنفة والله أعلم.
وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا " فقال له أسلم " فقال الرجل إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره فقال
نبي الله صلى الله عليه وسلم " وإن كنت كارها " وذكر لنا أنه لقي رجلا فقال له " أسلم " فتصعده ذلك وكبر عليه فقال له نبي الله
صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث فلقيت رجلا تعرف وجهه وتعرف نسبه فدعاك إلى طريق واسع سهل
أكنت تتبعه؟ " قال نعم: قال " فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه وإني
لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه " وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلا فقال له " أسلم " فتصعده ذلك فقال له
نبي الله صلى الله عليه وسلم " أرأيت لو كان لك فتيان أحدهما إذا حدثك صدقك، وإذا ائتمنته أدى إليك أهو أحب إليك أم فتاك
الذي إذا حدثك كذبك وإذا ائتمنته خانك؟ " قال بل فتاي الذي إذا حدثني صدقني وإذا ائتمنته أدى إلي فقال نبي
الله صلى الله عليه وسلم " كذاكم أنتم عند ربكم ". وقوله " ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن " قال
260

مجاهد وأبو صالح والسدي: الحق هو الله عز وجل والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى وشرع الأمور
على وفق ذلك لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافها كما أخبر عنهم في قولهم " لولا
نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ثم قال " أهم يقسمون رحمة ربك " وقال تعالى " قل لو أنتم
تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق " الآية، وقال " أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون
الناس نقيرا " ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته
وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس فلا إله غيره ولا رب سواه، ولهذا قال " بل أتيناهم
بذكرهم " أي القرآن " فهم عن ذكرهم معرضون " وقوله " أم تسألهم خرجا " قال الحسن أجرا، وقال قتادة جعلا
" فخراج ربك خير " أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلا ولا شيئا على دعوتك إياهم إلى الهدى بل أنت في ذلك
تحتسب عند الله جزيل ثوابه كما قال " قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله " وقال " قل ما
أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين " وقال " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " وقال " وجاء
من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا " وقوله " وإنك لتدعوهم إلى
صراط مستقيم * وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى
حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما
يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا
ومثل أمته، فقال إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة
ولا ما يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال أرأيتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضا رواء
تتبعوني؟ فقالوا نعم، قال فانطلق بهم وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم ألم
ألقاكم على تلك الحال فجعلت لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا بلى، قال فإن
بين أيديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا هي أروى من هذه فاتبعوني قال فقالت طائفة صدق والله لنتبعه وقالت
طائفة قد رضينا بهذا نقيم عليه، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا زهير حدثنا يونس بن محمد حدثنا يعقوب
ابن عبد الله الأشعري حدثنا حفص بن حميد عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تتقاحمون فيها تقاحم الفراش
والجنادب فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون علي معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم
كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم رب العالمين أي
رب قومي أزي رزب أمتي، فيقال يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على
أعقابهم، فلأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك من الله
شيئا قد بلغت، ولاعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل بعيرا له رغاء ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا أملك لك
شيئا قد بلغت، ولاعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل فرسا لها حمحمة فينادي يا محمد يا محمد فأقول لا
أملك لك شيئا قد بلغت، ولاعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل سقاء من أدم ينادي يا محمد يا محمد فأقول لا
أملك لك شيئا قد بلغت " وقال علي بن المديني هذا حديث حسن الاسناد إلا أن حفص بن حميد مجهول لا أعلم
روى عنه غير يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي. (قلت) بل قد روى عنه أيضا أشعث بن إسحاق، وقال فيه
يحيى بن معين: صالح ووثقه النسائي وابن حبان وقوله " وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون " أي
لعادلون جائرون منحرفون تقول العرب نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها " ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر
للجوا في طغيانهم يعمهون " يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا
له ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم كما قال تعالى " ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا
261

وهم معرضون " وقال " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين *
بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه - إلى قوله - بمبعوثين " فهذا من باب علمه
تعالى بما لا يكون لو كان كيف يكون، قال الضحاك عن ابن عباس: كل ما فيه (لو) فهو مما لا يكون أبدا.
ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون (76) حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه
مبلسون (77) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصر والأفئدة قليلا ما تشكرون (78) وهو الذي ذرأكم في
الأرض وإليه تحشرون (79) وهو الذي يحي ويميت وله اختلف الليل والنهار أفلا تعقلون (80) بل قالوا
مثل ما قال الأولون (81) قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظما أإنا لمبعوثون (82) لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل
إن هذا إلا أساطير الأولين (83)
يقول تعالى " ولقد أخذناهم بالعذاب " أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد " فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " أي
فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة بل استمروا على غيهم وضلالهم " فما استكانوا " أي ما خشعوا
" وما يتضرعون " أي ما دعوا كما قال تعالى " فلولا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم " الآية، وقال
ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن حمزة المروزي حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبي عن يزيد -
يعني النحوي - عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله
والرحم فقد أكلنا العلهز - يعني الوبر والدم - فأنزل الله " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا " الآية، وكذا رواه
النسائي عن محمد بن عقيل عن علي بن الحسين عن أبيه به، وأصله في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على
قريش حين استعصوا فقال " اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين
حدثنا سلمة بن شبيب حدثنا عبد الله بن إبراهيم عن عمر بن كيسان حدثني وهب بن عمر بن كيسان قال: حبس
وهب بن منبه فقال له رجل من الأبناء ألا أنشدك بيتا من شعر يا أبا عبد الله؟ فقال وهب: نحن في طرف من
عذاب الله والله يقول " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون " قال وصام وهب ثلاثا متواصلة
فقيل له ما هذا الصوم يا أبا عبد الله؟ قال أحدث لنا فأحدثنا: يعني أحدث لنا الحبس فأحدثنا زيادة عبادة. وقوله
" حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون " أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة
فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون فعند ذلك أبلسوا من كل خير وأيسوا من كل راحة وانقطعت آمالهم
ورجاؤهم. ثم ذكر تعالى نعمه على عباده أن جعل لهم السمع والابصار والأفئدة وهي العقول والفهوم التي
يذكرون بها الأشياء ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله وأنه الفاعل المختار لما يشاء.
وقوله " قليلا ما تشكرون " أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم كقوله " وما أكثر الناس ولو حرصت
بمؤمنين " ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض على
اختلاف أناسهم ولغاتهم وصفاتهم ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم، فلا يترك
منهم صغيرا ولا كبيرا ولا ذكرا ولا أنثى ولا جليلا ولا حقيرا إلا أعاده كما بدأه ولهذا قال " وهو الذي يحيي
ويميت " أي يحيي الرمم، ويميت الأمم " وله اختلاف الليل والنهار " أي وعن أمره تسخير الليل والنهار كل
منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما كقوله " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك
القمر ولا الليل سابق النهار " الآية. وقوله " أفلا تعقلون " أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي
قد قهر كل شئ وعز كل شئ وخضع له كل شئ، ثم قال مخبرا عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من
262

المكذبين " بل قالوا مثل ما قال الأولون * قالوا أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون " يعني يستبعدون وقوع
ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى " لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل، إن هذا إلا أساطير الأولين " يعنون الإعادة
محال إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم، وهذا الانكار التكذيب منهم كقوله إخبارا عنهم
" أئذا كنا عظاما نخرة * قالوا تلك إذا كرة خاسرة * فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة " وقال تعالى " أو لم ير
الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم *
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " الآيات.
قل لمن في الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون (84) سيقولون لله قل أفلا تذكرون (85) قل من رب السماوات السبع ورب
العرش العظيم (86) سيقولون لله قل أفلا تتقون (87) قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه
إن كنتم تعلمون (88) سيقولون لله قل فأنى تسحرون (89) بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون (90)
يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك ليرشد إلى أنه الله الذي لا إله إلا هو ولا تنبغي العبادة إلا
له وحده لا شريك له ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره المعترفين به بالربوبية وأنه
لا شريك له فيها مع هذا فقد أشركوا معه في الإلهية فعبدوا غيره معه مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون
شيئا ولا يملكون شيئا ولا يستبدون بشئ بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى " ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله
زلفى " فقال " قل لمن الأرض ومن فيها " أي من مالكها الذي خلقها ومن فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات
وسائر صنوف المخلوقات " إن كنتم تعلمون سيقولون لله " أي فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا
كان ذلك " قل أفلا تذكرون " أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره " قل من رب السماوات السبع ورب
العرش العظيم " أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات والملائكة الخاضعين له في سائر
الأقطار منها والجهات، ومن هو رب العرش العظيم يعني الذي هو سقف المخلوقات كما جاء في الحديث الذي
رواه أبو داود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا " وأشار بيده مثل
القبة، وفي الحديث الآخر " ما السماوات السبع والأرضون السبع وما بينهن وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة
بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة ". ولهذا قال بعض السلف: إن
مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيره خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة
خمسين ألف سنة، وقال الضحاك عن ابن عباس: إنما سمي عرشا لارتفاعه. وقال الأعمش عن كعب الأحبار:
إن السماوات والأرض في العرش كالقنديل المعلق بين السماء والأرض، وقال مجاهد: ما السماوات والأرض في
العرش إلا كحلقة في أرض فلاة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا العلاء بن سالم حدثنا وكيع حدثنا سفيان الثوري عن
عمار الذهبي عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر قدره أحد. وفي رواية:
إلا الله عز وجل، وقال بعض السلف: العرش من ياقوتة حمراء ولهذا قال ههنا " ورب العرش العظيم " أي
الكبير وقال في آخر السورة " رب العرش الكريم " أي الحسن البهي فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع
والعلو والحسن الباهر ولهذا قال من قال إنه من ياقوتة حمراء، وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا
نهار، نور العرش من نور وجهه. وقوله " سيقولون لله قل أفلا تتقون " أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السماوات
ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به. قال أبو بكر عبد الله
ابن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب التفكر والاعتبار: حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبيد الله بن جعفر أخبرني
عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل
263

معها ابن لها يرعى غنما فقال لها ابنها يا أمه من خلقك؟ قالت: الله قال فمن خلق أبي؟ قالت الله قال فمن
خلقني؟ قالت: الله قال فمن خلق السماوات؟ قالت الله قال فمن خلق الأرض؟ قالت الله قال فمن خلق الجبل؟
قالت الله قال فمن خلق هذه الغنم؟ قالت الله قال فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع. قال
ابن عمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحدثنا هذا الحديث قال عبد الله بن دينار كان ابن عمر كثيرا ما يحدثنا بهذا
الحديث قلت في إسناده عبيد الله بن جعفر المديني والد الإمام علي بن المديني وقد تكلموا فيه فالله أعلم. " قل
من بيده ملكوت كل شئ " أي بيده الملك " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها " أي متصرف فيها وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " لا والذي نفسي بيده " وكان إذا اجتهد في اليمين قال " لا ومقلب القلوب " فهو سبحانه الخالق المالك
المتصرف " وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون " كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدا لا يخفر في
جواره وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه ولهذا قال الله " وهو يجير ولا يجار عليه " أي وهو السيد
العظيم الذي لا أعظم منه الذي له الخلق والامر ولا معقب لحكمه الذي لا يمانع ولا يخالف وما شاء كان وما لم
يشأ لم يكن. وقال الله " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " أي لا يسأل عما يفعل لعظمته وكبريائه وغلبته وقهره
وعزته وحكمته وعدله فالخلق كلهم يسألون عن أعمالهم كما قال تعالى " فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا
يعملون " وقوله " سيقولون لله " أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا
شريك له " قل فأنى تسحرون " أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك ثم
قال تعالى " بل أتيناهم بالحق " وهو الاعلام بأنه لا إله إلا الله وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك
" وإنهم لكاذبون " أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك كما قال في آخر السورة " ومن يدع مع الله
إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون " فالمشركون لا يفعلون ذلك عن دليل قادهم
إلى ما هم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال كما قال الله عنهم
" إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ".
ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحن الله
عما يصفون (91) علم الغيب والشهدة فتعالى عما يشركون (92)
ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة فقال تعالى " ما اتخذ الله من ولد وما
كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " أي لو قدر تعدد الآلهة لا نفرد كل منهم بما
خلق فما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه
ببعض في غاية الكمال " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو
بعضهم على بعض والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا
فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين والواجب لا يكون
عاجزا ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالا فأما إن حصل مراد
أحدهما دون الآخر كان الغالب هو الواجب والآخر المغلوب ممكنا لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا،
ولهذا قال تعالى " ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون " أي عما يقول الظالمون المعتدون في
دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا " عالم الغيب والشهادة " أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه
" فتعالى عما يشركون " أي تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل عما يقول الظالمون والجاحدون.
قل رب إما تريني ما يوعدون (93) رب فلا تجعلني في القوم الظالمين (94) وإنا على أن نريك ما نعدهم
264

لقادرون (95) ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون (96) وقل رب أعوذ بك من همزات الشيطين (97)
وأعوذ بك رب أن يحضرون (98)
يقول تعالى آمرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم " رب إما تريني ما يوعدون " أي إن عاقبتهم
وأنا أشاهد ذلك فلا تجعلني فيهم كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه " وإذا أردت
بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون " وقوله تعالى " وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون " أي لو شئنا لأريناك ما
نزل بهم من النقم والبلاء والمحن. ثم قال تعالى مرشدا له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الاحسان
إلى من يسئ إليه ليستجلب خاطره فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة فقال تعالى " ادفع بالتي هي أحسن السيئة "
وهذا كما قال في الآية الأخرى " ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما
يلقاها إلا الذين صبروا " الآية أي وما يلهم هذه الوصية أو هذه الخصلة أو الصفة " إلا الذين صبروا " أي على
أذى الناس فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح " وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " أي في الدنيا والآخرة
وقوله تعالى " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين " أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لانهم لا تنفع معهم
الحيل ولا ينقادون بالمعروف، وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " أعوذ بالله السميع العليم من
الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " وقوله تعالى " وأعوذ بك رب أن يحضرون " أي في شئ من أمري ولهذا
أمر بذكر الله في ابتداء الأمور وذلك لطرد الشيطان عند الاكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور، ولهذا روى
أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " اللهم إني أعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك من الهدم ومن الغرق، وأعوذ بك
أن يتخبطني الشيطان عند الموت " وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع " بسم الله أعوذ بكلمات الله
التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون " قال فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من
بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه. ورواه أبو
داود والترمذي والنسائي من حديث محمد بن إسحاق وقال الترمذي حسن غريب.
حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون (99) لعلي أعمل صلحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن
ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون (100)
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى وقيلهم عند ذلك وسؤالهم
الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ولهذا قال " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت
كلا " كما قال تعالى " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت - إلى قوله - والله خبير بما تعملون "
وقال تعالى " وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب - إلى قوله - ما لكم من زوال " وقال تعالى " يوم يأتي تأويله يقول
الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل "
وقال تعالى " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا
موقنون " وقال تعالى " ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا - إلى قوله - وإنهم
لكاذبون " وقال تعالى " وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل " وقال تعالى " قالوا ربنا
أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل " والآية بعدها. وقال تعالى " وهم
يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير
فذوقوا فما للظالمين من نصير " فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ويوم النشور ووقت
265

العرض على الجبار وحين يعرضون على النار وهم في غمرات عذاب الجحيم. وقوله ههنا " كلا إنها كلمة هو
قائلها " كلا حرف ردع وزجر أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه. وقوله تعالى " إنها كلمة هو قائلها " قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم، ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله
كلا أي لأنها كلمة أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه وقول لا عمل معه ولو رد لما عمل صالحا ولكان
يكذب في مقالته هذه كما قال تعالى " ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون " قال قتادة: والله ما تمنى أن
يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عز
وجل فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار، وقال محمد بن كعب القرظي " حتى إذا
جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت " قال فيقول الجبار " كلا إنها كلمة هو
قائلها " وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة: إذا قال الكافر " رب ارجعون لعلي أعمل صالحا " يقول الله تعالى
كلا كذبت، وقال قتادة في قوله تعالى " حتى إذا جاء أحدهم الموت " قال كان العلاء بن زياد يقول: لينزلن
أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى. وقال قتادة: والله ما تمنى إلا أن
يرجع فيعمل بطاعة الله فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله. وعن محمد بن كعب القرظي
نحوه. وقال محمد بن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن يوسف حدثنا فضيل - يعني ابن عياض - عن ليث عن
طلحة بن مصرف عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: إذا وضع - يعني الكافر - في قبره فيرى مقعده من النار قال
فيقول رب ارجعون أتوب وأعمل صالحا قال فيقال قد عمرت ما كنت معمرا، قال فيضيق عليه قبره ويلتئم فهو
كالمنهوش ينام ويفزع تهوي إليه هو أم الأرض وحياتها وعقاربها.
وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمر بن علي حدثني سلمة بن تمام حدثنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور تدخل عليهم في قبورهم حياة سود أو
دهم، حية عند رأسه وحيه عند رجليه يقرصانه حتى يلتقيا في وسطه فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى
" ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ". وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى " ومن ورائهم " يعني أمامهم.
وقال مجاهد: البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة. وقال محمد بن كعب: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ليسوا
مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجاوزون بأعمالهم. وقال أبو صخر: البرزخ المقابر لا هم في
الدنيا ولا هم في الآخرة فهم مقيمون إلى يوم يبعثون. وفي قوله تعالى " ومن ورائهم برزخ " تهديد لهؤلاء
المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ كما قال تعالى " من ورائهم جهنم " وقال تعالى " ومن وراءه عذاب
غليظ " وقوله تعالى " إلى يوم يبعثون " أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث " فلا يزال
معذبا فيها " أي في الأرض.
فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (101) فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (102)
ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون (103) تلفح وجوههم النار وهم فيها كلحون (104)
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور " فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون "
أي لا تنفع الأنساب يومئذ ولا يرثي والد لولده ولا يلوي عليه، قال الله تعالى " ولا يسأل حميم حميما
يبصرونهم " أي لا يسأل القريب عن قريبه وهو يبصره ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره وهو كان أعز الناس
عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة قال الله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه
وصاحبته وبنيه " الآية وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من
كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه - قال - فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان
266

صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله قال الله تعالى " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون "
رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عبد الله بن جعفر حدثتنا أم بكر بنت المسور بن مخرمة عن
عبد الله بن أبي رافع عن المسور - هو ابن مخرمة - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاطمة بضعة مني
يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري " وهذا الحديث
له أصل في الصحيحين عن المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني
ما آذاها " وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر حدثنا زهير عن عبد الله بن محمد عن حمزة بن أبي سعيد الخدري عن
أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر " ما بال رجال يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع
قومه؟ بلى والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة وإني أيها الناس فرط لكم إذا جئتم " قال رجل يا رسول الله
أنا فلان بن فلان " فأقول لهم: أما النسب فقد عرفت ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقرى " وقد ذكرنا في
مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي
طالب رضي الله عنهما قال: أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم
القيامة إلا سببي ونسبي " رواه الطبراني والبزار الهيثم بن كليب والبيهقي والحافظ الضياء في المختارة، وذكر أنه
أصدقها أربعين ألفا إعظاما وإكراما رضي الله عنه، فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع
زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي القاسم البغوي حدثنا سليمان بن عمر بن الاقطع حدثنا إبراهيم بن عبد
السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل نسب
وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري " وروي فيها من طريق عمار بن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عبد الله بن عمرو مرفوعا " سألت ربي عز وجل أن لا أتزوج إلى أحد من أمتي ولا يتزوج إلى أحد منهم إلا كان
معي في الجنة فأعطاني ذلك " ومن حديث عمار بن سيف عن إسماعيل عن عبد الله بن عمرو، وقوله تعالى
" فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون " أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة، قاله ابن عباس
" فأولئك هم المفلحون " أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة، وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا
بما طلبوا، ونجو من شر ما منه هربوا " ومن خفت موازينه " أي ثقلت سيئاته على حسناته " فأولئك الذين
خسروا أنفسهم " أي خابوا وهلكوا وفازوا بالصفقة الخاسرة، وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إسماعيل بن أبي
الحارث حدثنا داود بن المحبر حدثنا صالح المري عن ثابت البناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان عن أنس بن
مالك يرفعه قال: إن لله ملكا موكلا بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان فإن ثقل ميزانه نادى ملك
بصوت يسمعه الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق
شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدا، إسناده ضعيف فإن داود بن المحبر ضعيف متروك ولهذا قال تعالى " في
جهنم خالدون " أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون " تلفح وجوههم النار " كما قال تعالى " وتغشى
وجوههم النار " وقال تعالى " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " الآية
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا محمد بن سليمان الأصبهاني عن أبي سنان
ضرار بن مرة عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن جهنم لما سيق لها أهلها تلقاهم
لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يبق لهم لحم إلا سقط على العرقوب " وقال ابن مردويه حدثنا أحمد بن محمد بن
يحيى القزاز حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان حدثنا عمرو بن أبي الحارث بن الخضر القطان حدثنا سعيد بن
سعيد المقبري عن أخيه عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى
" تلفح وجوههم النار " قال تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم، وقوله تعالى " وهم فيها كالحون " قال
267

علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني عابسون، وقال الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن
مسعود " وهم فيها كالحون " قال ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه. وقال الإمام أحمد
أخبرنا علي بن إسحاق أخبرنا عبد الله هو ابن المبارك رحمه الله أخبرنا سعيد بن يزيد عن أبي السمح عن
أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " وهم فيها كالحون " قال - تشويه النار فتقلص شفته
العليا حتى تبلغ وسط رأسه. وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته " ورواه الترمذي عن سويد بن نصر عن
عبد الله بن المبارك به وقال حسن غريب.
ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون (105) قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين (106) ربنا
أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون (107)
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك
فقال تعالى " ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون " أي قد أرسلت إليكم الرسل وأنزلت عليكم الكتب
وأزلت شبهكم ولم يبق لكم حجة كما قال تعالي " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " وقال تعالى
" وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير - إلى قوله -
فسحقا لأصحاب السعير " ولهذا قالوا " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين " أي قد قامت علينا الحجة
ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها فضللنا عنها ولم نرزقها. ثم قالوا " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا
ظالمون " أي ارددنا إلى الدنيا فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة كما قال " فاعترفنا
بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل * - إلى قوله - فالحكم لله العلي الكبير " أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم
تشركون بالله إذا وحده المؤمنون.
قال اخسئوا فيها ولا تكلمون (108) إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين
(109) فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري وكنتم منهم تضحكون (110) إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون (111)
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار والرجعة إلى هذه الدار. يقول " اخسئوا فيها " أي
امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء " ولا تكلمون " أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي. قال
العوفي عن ابن عباس: " اخسئوا فيها ولا تكلمون " قال هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه. وقال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبدة بن سليمان المروزي حدثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة
عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يرد عليهم إنكم
ماكثون قال هانت دعوتهم والله على مالك ورب مالك، ثم يدعون ربهم فيقولون " ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا
قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " قال فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ثم يرد عليهم " اخسئوا
فيها ولا تكلمون " قال فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم قال
فتشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق، وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أحمد بن سنان حدثنا
عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل حدثنا أبو الزعراء قال: قال عبد الله بن مسعود إذا أراد الله
تعالى أن لا يخرج منهم أحدا يعني من ج هنم غير وجوههم وألوانهم فيجئ الرجل من المؤمنين فيشفع فيقول يا
رب فيقول الله من عرف أحدا فليخرجه فيجئ الرجل من المؤمنين فينظر فلا يعرف أحدا فيناديه الرجل يا فلان أنا
فلان فيقول ما أعرفك قال فعند ذلك يقولون " ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون " فعند ذلك يقول الله تعالى
" اخسئوا فيها ولا تكلمون " فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد
ثم قال تعالى مذكرا لهم
268

بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه فقال تعالى " إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا
آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين * فاتخذتموهم سخريا " أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم
إلي " حتى أنسوكم ذكري " أي حملكم بغضهم علي أن نسيتم معاملتي " وكنتم منهم تضحكون " أي من
صنيعهم وعبادتهم كما قال تعالى " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون وإذا مروا بهم يتغامزون " أي
يلمزونهم استهزاء ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين فقال تعالى " إني جزيتهم اليوم بما
صبروا " أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم " أنهم هم الفائزون " بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار.
قل كم لبثتم في الأرض عدد سنين (112) قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فسئل العادين (113) قل إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم
كنتم تعلمون (114) أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون (115) فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو
رب العرش الكريم (116)
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ولو صبروا في
مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون " قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين " أي كم كانت إقامتكم
في الدنيا " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين " أي الحاسبين " قال إن لبثتم إلا قليلا " أي مدة يسيرة
على كل تقدير " لو أنكم كنتم تعلمون " أي لما آثرتم الفاني على الباقي ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف
السئ ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل
المؤمنون لفزتم كما فازوا، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن يونس حدثنا الوليد حدثنا صفوان عن
أيفع بن عبد الكلاعي أنه سمعه يخطب الناس فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل
النار النار قال يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قال لنعم ما اتجرتم في
يوم أو بعض يوم رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين، ثم قال يا أهل النار كم لبثتم في الأرض
عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما النار كم لبثتم في الأرض
عدد سنين؟ قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ناري وسخطي امكثوا فيها
خالدين مخلدين ". وقوله تعالى " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا " أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثا بلا قصد ولا
إرادة منكم ولا حكمة لنا، وقيل للعبث أي لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب وإنما خلقناكم
للعبادة وإقامة أوامر الله عز وجل " وأنكم إلينا لا ترجعون " أي لا تعودون في الدار الآخرة كما قال تعالى
" أيحسب الانسان أن يترك سدى " يعني هملا، وقوله " فتعالى الله الملك الحق " أي تقدس أن يخلق شيئا
عبثا فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك " لا إله إلا هو رب العرش الكريم " فذكر العرش لأنه سقف جميع
المخلوقات ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل كما قال تعالى " وأنبتنا فيها من كل زوج كريم ".
قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا إسحاق بن سليمان شيخ من أهل
العراق أنبأنا شعيب بن صفوان عن رجل من آل سعيد بن العاص قال: كان آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز
أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإن لكم معادا
ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته وحرم جنة عرضها
السماوات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدا إلا من حذر هذا اليوم وخافه وباع نافدا بباق وقليلا بكثير وخوفا
بأمان، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين سيكون من بعدكم الباقين حتى تردون إلى خير الوارثين؟ ثم إنكم
في كل يوم تشيعون غاديا ورائحا إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض
في بطن صدع غير ممهد ولا موسد قد فارق الأحباب وباشر التراب، ووجه الحساب، مرتهن بعمله غني عما
269

ترك فقير إلى ما قدم، فاتقوا الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم، ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى
وأبكى من حوله. وقال ابن أبي حاتم حدثنا يحيى بن نصير الخولاني ثنا ابن وهب أخبرني ابن لهيعة عن أبي
هبيرة عن حسن بن عبد الله أن رجلا مصابا مر به على عبد الله بن مسعود فقرأ في أذنه هذه الآية " أفحسبتم أنما
خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق " حتى ختم السورة فبرأ فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " بماذا قرأت في أذنه "؟ فأخبره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده لو أن رجلا موقنا قرأها
على جبل لزال " وروى أبو نعيم من طريق خالد بن نزار عن سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن محمد بن
إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا
" أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون " قال فقرأناها فغنمنا وسلمنا. وقال ابن أبي حاتم أيضا
حدثنا إسحاق بن وهب العلاف الواسطي حدثنا أبو المسيب سالم بن سلام حدثنا بكر بن حبيش عن نهشل بن
سعيد عن الضحاك بن مزاحم عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا
السفينة: بسم الله الملك الحق، وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات
يمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ".
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهن له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون (117) وقل
رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين (118)
يقول تعالى متوعدا من أشرك به غيره وعبد معه سواء ومخبرا أن من أشرك بالله لا برهان له أي لا دليل له على قوله
فقال تعالى " ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به " وهذه جملة معترضة وجواب الشرط في قوله " فإنما
حسابه عند ربه " أي الله يحاسبه على ذلك، ثم أخبر " إنه لا يفلح الكافرون " أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم
ولا نجاة. قال قتادة ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل " ما تعبد؟ " قال أ عبد الله وكذا وكذا حتى عد أصناما فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟ " قال: الله عز وجل. قال " فأيهم إذا كانت لك
حاجة فدعوته أعطاكها؟ " قال: الله عز وجل. قال " فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب
عليه " قال: أردت شكره بعبادة هؤلاء معه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تعلمون ولا يعلمون " فقال الرجل بعد ما أسلم
لقيت رجلا خصمني. هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روى أبو عيسى الترمذي في جامعه مسندا عن عمران بن
الحصين عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ذلك. وقوله تعالى " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين " هذا
إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء، فالغفر إذا أطلق معناه محو الذنب وستره عن الناس، والرحمة معناها أن
يسدده ويوفقه في الأقوال والافعال. آخر تفسير سورة المؤمنون.
سورة النور:
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينت لعلكم تذكرون (1) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما
مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين (2)
270

يقول تعالى هذه " سورة أنزلناها " فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها " وفرضناها " قال مجاهد
وقتادة: أي بينا الحلال والحرام والامر والنهي والحدود. وقال البخاري: ومن قرأ فرضناها يقول فرضناها عليكم
وعلى من بعدكم " وأنزلنا فيها آيات بينات " أي مفسرات واضحات " لعلكم تذكرون " ثم قال تعالى " الزانية
والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة " يعنى هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد، وللعلماء فيه
تفصيل ونزاع فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكرا وهو الذي لم يتزوج، أو محصنا وهو الذي قد وطئ في نكاح
صحيح وهو حر بالغ عاقل، فأما إذا كان بكرا لم يتزوج فإن حده مائه جلدة كما في الآية ويزاد على ذلك أن
يغرب عاما عن بلده عند جمهور العلماء خلافا لأبي حنيفة رحمه الله فإن عنده أن التغريب إلى رأي الامام إن شاء
غرب وإن شاء لم يغرب، وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
أحدهما: يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفا - يعني أجيرا - على هذا فزنى بامرأته فافتديت ابني منه بمائة شاة
ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا: الرجم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك مائة
جلدة وتغريب عام. واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها " فغدا عليها فاعترفت
فرجمها. وفى هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكرا لم يتزوج، فأما إذا كان محصنا وهو الذي
قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل فإنه يرجم كما قال الامام مالك حدثني ابن شهاب أخبرنا
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن عباس أخبره أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد
أيها الناس فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها
ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل لا نجد آية الرجم في
كتاب الله فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله، فالرجم في كتاب الله حق على من زني إذا أحصن من الرجال ومن
النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف. أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك مطولا، وهذه قطعة منه
فيها مقصودنا ههنا. وروى الإمام أحمد عن هشيم عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس حدثني عبد
الرحمن بن عوف أن عمر بن الخطاب خطب الناس فسمعته يقول: ألا وإن ناسا يقولون ما الرجم في كتاب الله
وإنما فيه الجلد وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله
ما ليس منه لأثبتها كما نزلت به. وأخرجه النسائي من حديث عبيد الله بن عبد الله به، وقد روى الإمام أحمد أيضا
عن هشيم عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال خطب عمر بن الخطاب فذكر
الرجم فقال: إنا لا نجد من الرجم بدا فإنه حد من حدود الله تعالى، ألا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا
بعده، ولولا أن يقول قائلون إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف، وشهد عمر بن
الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم ورجمنا بعده، ألا إنه سيكون قوم من
بعدكم يكذبون بالرجم وبالشفاعة وبعذاب القبر وبقوم يخرجون من النار بعدما امتحشوا. وروى أحمد أيضا عن
يحيي الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم " الحديث رواه
الترمذي من حديث سعيد عن عمر وقال صحيح، وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا عبيد الله بن عمر
القواريري حدثنا يزيد بن زريع حدثنا أبو عون عن محمد هو ابن سيرين قال ابن عمر: نبئت عن كثير بن الصلت قال
كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، قال مروان ألا
كتبتها في المصحف؟ قال ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال أنا أشفيكم من ذلك قال قلنا فكيف؟ قال جاء
رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال " لا أستطيع الآن "
271

هذا أو نحو ذلك. وقد رواه النسائي من حديث محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة عن قتادة عن يونس بن جبير
عن كثير بن الصلت عن زيد بن ثابت به، وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة
فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولا به والله أعلم.
وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة وهي زوجة الرجل الذي استأجر الأجير لما زنت مع الأجير ورجم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية وكل هؤلاء لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلدهم قبل الرجم وإنما وردت الأحاديث
الصحيحة المتعاضدة المتعددة الطرق والألفاظ بالاقتصار على رجمهم وليس فيها ذكر الجلد ولهذا كان هذا مذهب
جمهور العلماء وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله، وذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنه يجب أن
يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة كما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أنه لما أتي بسراجة وكانت قد زنت وهي محصنة فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة فقال جلدتها
بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن الأربعة ومسلم من حديث قتادة عن
الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا عني خذوا عني قد
جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ". وقوله تعالى " ولا
تأخذكم بهما رأفة في دين الله " أي في حكم الله أي لا ترأفوا بهما في شرع الله وليس المنهي عنه الرأفة الطبيعية
على ترك الحد وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك قال مجاهد: " ولا تأخذكم
بهما رأفة في دين الله " قال: إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل وكذا روي عن سعيد بن جبير
وعطاء بن أبي رباح وقد جاء في الحديث: " تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب " وفي الحديث
الآخر: " لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " وقيل المراد " ولا تأخذكم بهما رأفة في
دين الله " فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم وليس المراد الضرب المبرح. قال عامر
الشعبي " ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قال: رحمة في شدة الضرب وقال عطاء ضرب ليس بالمبرح، وقال
سعيد بن أبي عروبة عن حماد بن أبي سليمان يجلد القاذف وعليه ثيابه والزاني تخلع ثيابه ثم تلا " ولا تأخذكم
بهما رأفة في دين الله " فقلت هذا في الحكم قال هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة
الضرب وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن عبد الله الأودي حدثنا وكيع عن نافع عن ابن عمرو عن ابن أبي
مليكة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها قال نافع أراه قال ظهرها قال قلت
" ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله " قال يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن
أجعل جلدها في رأسها وقد أوجعت حين ضربتها. وقوله تعالى " إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر " أي فافعلوا
ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب ولكن ليس مبرحا ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك، وقد
جاء في المسند عن بعض الصحابة أنه قال: يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها فقال " ولك في ذلك
أجر ".
وقوله تعالى " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بحضرة الناس فإن ذلك
يكون أبلغ في زجرهما وأنجع في ردعهما فإن في ذلك تقريعا وتوبيخا وفضيحة إذا كان الناس حضورا. قال
الحسن البصري في قوله " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " يعني علانية ثم قال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " الطائفة الرجل فما فوقه وقال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إلى
الألف، وكذا قال عكرمة ولهذا قال أحمد: إن الطائفة تصدق على واحد، وقال عطاء بن أبي رباح اثنان، وبه قال
إسحاق بن راهويه وكذا قال سعيد بن جبير " طائفة من المؤمنين " قال: يعني رجل فصاعدا، وقال
الزهري: ثلاث نفر فصاعدا، وقال عبد الرزاق حدثني ابن وهب عن الامام مالك في قوله " وليشهد عذابهما طائفة
272

من المؤمنين " قال الطائفة أربعة نفر فصاعدا لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعدا وبه قال
الشافعي وقال ربيعة: خمسة، وقال الحسن البصري: عشرة، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من
المؤمنين أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيي بن
عثمان حدثنا بقية قال سمعت نصر بن علقمة يقول في قوله تعالى " وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين " قال
ليس ذلك للفضيحة إنما ذلك ليدعى الله تعالى لهما بالتوبة والرحمة.
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين (3)
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو
مشركة لا ترى حرمة ذلك وكذلك " الزانية لا ينكحها إلا زان " أي عاص بزناه " أو مشرك " لا يعتقد تحريمه قال
سفيان الثوري عن حبيب ابن أبي عمره عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه " الزاني لا ينكح إلا زانية
أو مشركة " قال ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلا زان أو مشرك وهذا إسناد صحيح عنه، وقد روي
عنه من غير وجه أيضا، وقد روي عن مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير والضحاك ومكحول ومقاتل
ابن حيان وغير واحد نحو ذلك. وقوله تعالى " وحرم ذلك على المؤمنين " أي تعاطيه والتزويج بالبغايا أو تزويج
العفائف بالرجال الفجار. وقال أبو داود الطيالسي حدثنا قيس عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
" وحرم ذلك على المؤمنين " قال حرم الله الزنا على المؤمنين وقال قتادة ومقاتل بن حيان: حرم الله على المؤمنين
نكاح البغايا وتقدم ذلك فقال " وحرم ذلك على المؤمنين " وهذه الآية كقوله تعالى " محصنات غير
مسافحات ولا متخذات أخدان " وقوله " محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان " الآية ومن ههنا ذهب
الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك
حتى تستتاب فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر
المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى " وحرم ذلك على المؤمنين " وقال الإمام أحمد حدثنا عارم
حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال أبي حدثنا الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو
رضي الله عنهما أن رجلا من المؤمنين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح
وتشترط له أن تنفق عليه قال فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها قال فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " الزاني
لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " وقال النسائي
أخبرنا عمرو بن عدي حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله
ابن عمرو قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها
فأنزل الله عز وجل " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على
المؤمنين " قال الترمذي حدثنا عبد بن حميد حدثنا روح بن عبادة عن عبيد الله بن الأخنس أخبرني عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الاسرى من مكة حتى يأتي بهم
المدينة قال وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه واعد رجلا من أسارى مكة يحمله قال
فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة قال فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت
الحائط فلما انتهيت إلى عرفتني فقالت: مرثد؟ فقلت: مرثد فقالت مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال فقلت
يا عناق حرم الله الزنا فقالت: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم قال فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة فانتهيت
إلى غار أو كهف فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي فبالوا فظل بولهم على رأسي فأعماهم الله عني قال ثم
رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته وكان رجلا ثقيلا حتى انتهيت إلى الإذخر ففككت عنه أحبله فجعلت أحمله
273

ويعينني حتى أتيت به المدينة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أنكح عناقا أنكح عناقا - مرتين؟ - فأمسك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي شيئا حتى نزلت " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو
مشرك وحرم ذلك على المؤمنين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها "
ثم قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقد رواه أبو داود والنسائي في كتاب النكاح
من سننهما من حديث عبيد الله بن الأخنس به، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا مسدد أبو الحسن حدثنا عبد
الوارث عن حبيب المعلم حدثني عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " وهكذا أخرجه أبو داود في سننه عن مسدد وأبى معمر عن
عبد الله بن عمرو كلاهما عن عبد الوارث به. وقال الإمام أحمد حدثنا يعقوب حدثنا عاصم بن محمد (1) زيد
ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أخيه عمر بن محمد عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال اشهد لسمعت
سالما يقول: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق
لوالديه والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال والديوث. وثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن
الخمر، والمنان بما أعطى " ورواه النسائي عن عمرو بن علي الفلاس عن يزيد بن زريع عن عمر بن محمد
العمري عن عبد الله بن يسار به. وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا يعقوب حدثنا أبي حدثنا الوليد بن كثير عن قطن
ابن وهب عن عويمر بن الأجدع عمن حدثه عن سالم بن عبد الله بن عمر قال حدثني عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: " ثلاثة حرم الله عليهم الجنة مدمن الخمر والعاق لوالديه والذي يقر في أهله الخبث " وقال أبو داود
الطيالسي في مسنده حدثني شعبة حدثني رجل من آل سهل بن حنيف عن محمد بن عمار عن عمار بن ياسر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل الجنة ديوث " يستشهد به لما قبله من الأحاديث وقال ابن ماجة حدثنا هشام بن عمار
حدثنا سلام بن سوار حدثنا كثير بن سليم عن الضحاك بن مزاحم سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول " من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر " في إسناده ضعف. وقال الإمام أبو نصر
إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه الصحاح في اللغة: الديوث القنزع وهو الذي لا غيرة له، فأما الحديث
الذي رواه الإمام أبو عبد الرحمن النسائي في كتاب النكاح من سننه أخبرنا محمد بن إسماعيل بن علية عن يزيد
ابن هارون عن حماد بن سلمة وغيره عن هارون بن رياب عن عبد الله بن عبيد بن عمير وعبد الكريم عن عبد الله
ابن عبيد بن عمير عن ابن عباس عبد الكريم رفعه إلى ابن عباس وهارون لم يرفعه قالا جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال إن عندي امرأة من أحب الناس إلي وهي لا تمنع يد لامس قال: " طلقها " قال لا صبر لي عنها قال
" استمتع بها " ثم قال النسائي هذا الحديث غير ثابت وعبد الكريم ليس بالقوي وهارون أثبت منه وقد أرسل
الحديث وهو ثقة وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم قلت وهو ابن أبي المخارق البصري المؤدب
تابعي ضعيف الحديث وقد خالفه هارون بن رياب وهو تابعي ثقة من رجال مسلم فحديثه المرسل أولى كما قال
النسائي لكن قد رواه النسائي في كتاب الطلاق عن إسحاق بن راهويه عن النضر بن شميل عن حماد بن سلمة عن
هارون بن رياب عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن ابن عباس مسندا فذكره بهذا الاسناد فرجاله على شرط مسلم إلا
أن النسائي بعد روايته له قال هذا خطأ والصواب مرسل. ورواه غير النضر على الصواب وقد رواه النسائي أيضا
وأبو داود عن الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى أخبرنا الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن
عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وهذا الاسناد جيد. وقد اختلف الناس في هذا الحديث ما بين مضعف
له كما تقدم عن النسائي ومنكر كما قال الإمام أحمد: هو حديث منكر، وقال ابن قتيبة: إنما أراد أنها سخية لا تمنع
سائلا وحكاه النسائي في سننه عن بعضهم فقال وقيل سخية تعطي، ورد هذا بأنه لو كان المراد لقال لا ترد يد
ملتمس، وقيل: المراد إن سجيتها لا ترد يد لامس لا أن المراد أن هذا واقع منها وأنها تفعل الفاحشة فإن رسول الله
(1) الصواب يعني ابن كما في
274

صلى الله عليه وسلم لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها فإن زوجها والحالة هذه يكون ديوثا وقد تقدم الوعيد على ذلك، ولكن لما
كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد أمره رسول صلى الله عليه وسلم بفراقها فلما ذكر أنه
يحبها أباح له البقاء معها لان محبته لها محققة ووقوع الفاحشة منها متوهم فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم
الآجل والله سبحانه وتعالى أعلم، قالوا فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج كما قال الإمام أبو محمد بن أبي
حاتم رحمه الله حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن ابن أبي ذئب قال سمعت شعبة مولى ابن عباس رضي
الله عنه قال سمعت ابن عباس وسأله رجل فقال له إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عز وجل علي فرزق
الله عز وجل من ذلك توبة فأردت أن أتزوجها فقال أناس إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة. فقال ابن عباس
ليس هذا في هذا، انكحها فما كان من إثم فعلي. وقد ادعى طائفة آخرون من العلماء أن هذه الآية منسوخة،
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن يحيي بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال ذكر عنده
" الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك " قال كان يقال نسختها التي بعدها
" وأنكحوا الايامي " منكم قال كان يقال الايامي من المسلمين، وهكذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب
الناسخ والمنسوخ له عن سعيد بن المسيب ونص على ذلك أيضا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي.
والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمنين جلدة ولا تقبلوا لهم شهدة أبدا وأولئك
هم الفاسقون (4) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم (5)
هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة فإذا كان المقذوف رجلا
فكذلك يجلد قاذفه أيضا وليس فيه نزاع بين العلماء فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله درأ عنه الحد ولهذا قال
تعالى " ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون " فأوجب
على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام (أحدها) أن يجلد ثمانين جلدة (الثاني) أنه ترد
شهادته أبد ا (الثالث) أن يكون فاسقا ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس، ثم قال تعالى " إلا الذين تابوا من بعده
ذلك وأصلحوا " الآية. واختلف العلماء في هذا الاستثناء هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط فترفع التوبة الفسق
فقط ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضي سواء
تاب أو أصر وإلا حكم له بعد ذلك بلا خلاف فذهب الامام مالك وأحمد والشافعي إلى أنه إذا قبلت شهادته
وارتفع عنه حكم الفسق ونص عليه سعيد بن المسيب سيد التابعين وجماعة من السلف أيضا، وقال الإمام أبو
حنيفة إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبدأ وممن ذهب إليه
من السلف القاضي شريح وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد بن جابر. وقال
الشعبي والضحاك لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته والله
أعلم.
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن
الصدقين (6) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين (7) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع
شهادات بالله إنه من الكاذبين (8) والخمسة أن غضب الله عليها إن كان من الصدقين (9) ولولا فضل
الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم (10)
275

هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما
أمر الله عز وجل وهو أن يحضرها إلى الامام فيدعي عليها بما رماها به فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة
أربعة شهداء إنه لمن الصادقين أي فيما رماها به من الزنا " والخامسة أن لعنة الله عليها إن كان من الكاذبين " فإذا
قال ذلك بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء وحرمت عليه أبدا ويعطيها مهرها ويتوجه
عليها حد الزنا، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين أي فيما رماها به
" والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " ولهذا قال " ويدرأ عنها العذاب " يعني الحد " أن تشهد
أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " فخصها بالغضب كما
أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلا وهو صادق معذور وهي تعلم صدقه فيما رماها به
ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه، ثم ذكر
تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق فقال تعالى
" ولولا فضل الله عليكم ورحمته " أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم " وأن الله تواب " أي على عباده،
وإن كان ذلك بعد الحلف والايمان المغلظة " حكيم " فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهي عنه، وقد وردت الأحاديث
بمقتضي العمل بهذه الآية وذكر سبب نزولها وفيمن نزل فيه من الصحابة. قال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا
عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء
فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه أهكذا
أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ " فقالوا يا رسول الله لا
تلمه فإنه رجل غيور والله ما تزوج امرأة قط إلا بكرا وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته،
فقال سعد والله يا رسول الله إني لاعلم إنها لحق وإنها من الله ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعا قد تفخذها
رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته - قال فما
لبثوا إلا يسيرا - حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله
رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني جئت على
أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت
عليه الأنصار وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في
الناس فقال هلال والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا. وقال هلال يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد
عليك مما جئت به واله يعلم أني لصادق. فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذ أنزل الله على رسوله
صلى الله عليه وسلم الوحي وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي فنزلت
" والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله " الآية فسري عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا " فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عز
وجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أرسلوا إليها " فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة
أشد من عذاب الدنيا فقال هلال: والله يا رسول الله لقد صدقت عليها فقالت: كذب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاعنوا
بينهما " فقيل لهلال: اشهد فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فلما كانت الخامسة قيل له يا هلال اتق الله
فإن عذاب الدنيا أهون من الآخرة وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال والله لا يعذبني الله عليها
كما لم يجلدني عليها فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة اشهدي أربع
شهادات بالله إنه لمن الكاذبين وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن
هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت في
276

الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعي ولدها لأب ولا
يرمي ولدها ومن رماها أو رمي ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يفترقان
من غير طلاق ولا متوفى عنها وقال " إن جاءت به أصيهب أريشح حمش الساقين فهو لهلال وإن جاءت به أورق
جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو الذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين سابغ
الأليتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان لي ولها شأن " قال عكرمة فكان بعد ذلك أميرا على مصر وكان
يدعي لامه " ولا يدعي لأب، ورواه أبو داود عن الحسن بن علي عن يزيد بن هارون به نحوه مختصرا، ولهذا
الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة. فمنها ما قال البخاري: حدثني محمد ببشار حدثنا
ابن أبي عدي عن هشام بن حسان حدثني عكرمة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم
بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد في ظهرك " فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا
ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول " البينة وإلا حد في ظهرك " فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق
ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه " والذين يرمون أزواجهم - فقرأ حتى بلغ - إن كان
من الصادقين " فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله يعلم أن أحدكما
كاذب فهل منكما تائب " ثم قامت فشهدت، فلما كان في الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس
فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أبصروها فإن
جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء " فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم
" لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " انفرد به البخاري من هذا الوجه، وقد رواه من غير وجه عن
ابن عباس وغيره. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور الزيادي حدثنا يونس بن محمد حدثنا صالح وهو
ابن عمر حدثنا عاصم يعني ابن كليب عن أبيه حدثني ابن عباس قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى امرأته
برجل فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يردده حتى أنزل الله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " فقرأ حتى فرغ من
الآيتين فأرسل إليهما فدعاهما فقال " إن الله تعالى قد أنزل فيكما " فدعا الرجل فقرأ عليه فشهد أربع شهادات
بالله إنه لمن الصادقين ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه فقال له " كل شئ أهون عليه من لعنة الله " ثم أرسله
فقال " لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين " ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين ثم أمر
بها فأمسك على فيها فوعظها وقال " ويحك كل شئ أهون من غضب الله " ثم أرسلها فقالت: غضب الله
عليها إن كان من الصادقين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما والله لأقضين بينكما قضاء فصلا قال فولدت فما رأيت
مولودا بالمدينة أكثر منه فقال " إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا " فجاءت به
يشبه الذي قذفت به. وقال الإمام أحمد حدثنا يحيي بن سعيد حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: سمعت
سعيد بن جبير قال سئلت عن المتلاعنين أيفرق بينهما في إمارة ابن الزبير فما دريت ما أقول فقمت من مكاني إلى
منزل ابن عمر فقلت يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما؟ فقال سبحان الله إن أول من سأل عن ذلك فلان
ابن فلان فقال يا رسول الله أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تكلم تكلم بأمر عظيم وإن سكت سكت على
مثل ذلك فسكت فلم يجبه فلما كان بعد ذلك أتاه فقال الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله تعالى هذه الآيات
في سورة النور " والذين يرمون أزواجهم " حتى بلغ " أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين " فبدأ بالرجل
فوعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال والذي بعثك بالحق ما كذبت ثم ثنى بالمرأة
فوعظها وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت المرأة والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. قال
فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ثم ثنى
بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم
277

فرق بينهما رواه النسائي في التفسير من حديث عبد الملك بن أبي سليمان به وأخرجاه في الصحيحين من حديث
سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقال الإمام أحمد حدثنا يحيي بن حماد حدثنا أبو عوانة عن الأعمش عن إبراهيم
عن علقمة عن عبد الله قال: كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار: أحدنا إذا رأى مع
امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ والله لان أصبحت صحيحا لاسألن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فسأله فقال يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلد تموه،
وإن سكت سكت على غيظ اللهم احكم قال فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به. انفرد
بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن سليمان بن مهران الأعمش به وقال الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو كامل حدثنا
إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن سهل بن سعد قال جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال له سل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسائل قال فلقيه عويمر فقال: ما صنعت؟ قال ما صنعت إنك لم تأتني بخير، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب
المسائل فقال عويمر: والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيها قال: فدعا بهما ولاعن
بينهما قال عويمر إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها، قال: ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصارت سنة المتلاعنين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العنين عظيم الأليتين فلا أراه
إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه. أخرجاه في
الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي، ورواه البخاري أيضا من طرق عن الزهري به فقال حدثنا سليمان بن داود
أبو الربيع حدثنا فليح عن الزهري عن سهل بن سعد أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت رجلا
رأى مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فأنزل الله تعالى فيهما ما ذكر في القرآن من التلاعن فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد قضى فيك وفي امرأتك " قال فتلاعنا وأنا شاهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ففارقها فكانت سنة أن يفرق
بين المتلاعنين، وكانت حاملا فأنكر حملها وكان ابنها يدعي إليها، ثم جرت السنة في الميراث أن يرثها وترث
منه ما فرض الله لها. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا إسحاق بن الضيف حدثنا النضر بن شميل حدثنا يونس
ابن أبي إسحاق عن أبيه عن زيد بن بتيع عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر " لو رأيت مع
أم رومان رجلا ما كنت فاعلا؟ " قال كنت والله فاعلا به شرا. قال " فأنت يا عمر؟ " قال كنت والله فاعلا كنت
أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث. قال فنزلت " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " ثم قال
لا نعلم أحدا أسنده إلا النضر بن شميل عن يونس بن إسحاق ثم رواه من حديث الثوري عن أبي إسحاق عن زيد
ابن بتيع مرسلا فالله أعلم، قال الحافظ أبو يعلى حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجرمي حدثنا مخلد بن الحسين عن
هشام عن ابن سيرين عن أنس بن مالك " قال: لأول لعان كان في الاسلام أن شريك بن سحماء قذفه
هلال بن أمية بامرأته فرفعته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أربعة شهود وإلا فحد في ظهرك " فقال يا
رسول الله إن الله يعلم أني لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد فأنزل الله آية اللعان " والذين
يرمون أزواجهم " إلى آخر الآية قال فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال " اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا "
فشهد بذلك أربع شهادات ثم قال له في الخامسة " ولعنه الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا "
ففعل ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا فشهدت بذلك
أربع شهادات ثم قال لها في الخامسة " وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا " قال فلما
كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت
على القول ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال " انظروا فإن جاءت به جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء وإن
جاءت به أبيض سبطا قصير العينين فهو لهلال بن أمية، فجاءت به جعدا حمش الساقين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا
278

ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن ".
إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرى منهم ما اكتسب من الاثم
والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم (11)
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين رماها أهل الإفك والبهتان من
المنافقين بما قالوه من الكذب البحت والفرية التي غار الله عز وجل لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه فأنزل الله
تعالى براءتها صيانة لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم " أي جماعة منكم
يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة فكان المقدم في هذه اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين فإنه كان
يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين فتكلموا به وجوزه آخر ون منهم وبقي الامر كذلك
قريبا من شهر حتى نزل القرآن، وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة، وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا
معمر عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة
ابن مسعود عن حديث (1) عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله تعالى، وكلهم قد حدثني
بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض وأثبت له اقتصاصا، وقد وعيت عن كل رجل منهم
الحديث الذي حدثني عن عائشة وبعض حديثهم يصدق بعضا: ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم
قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه
قالت عائشة رضي الله عنها فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما
نزل الحجاب فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من
المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى
رحلي فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار فد انقطع فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه وأقبل
الرهط الذين كانوا يرحلونني فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعير الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه، قالت
وكان النساء إذا ذاك خفافا لم يثقلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج
حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت
منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي، فبينا
أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء
الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وكان قد رآني قبل الحجاب
فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه
حين أناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر
الظهيرة، فهلك من هلك من شأني وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت
حين قدمناها شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشئ من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أرى
من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول " كيف تيكم؟ "
فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ولا
نخرج إلا ليلا إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا
(1) كذا في الأميرية، وفي البغوي عن عائشة.
279

نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف وأمها ابنة
صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم
مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئسما قلت تسبين
رجلا شهد بدرا؟ فقالت أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت: وماذا قال؟ قالت فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت
مرضا إلى مرضي فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: " كيف تيكم؟ " فقلت له: أتأذن لي أن
آتي أبوي، قالت وأنا حينئذ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي فقلت لامى يا
أمتاه ما يتحدث الناس به (1)؟ فقالت: أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها
ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت فقلت: سبحان الله أو قد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت
لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي، قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد
حين استلبث الوحي يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله قالت فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي
يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود، فقال أسامة يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلا خيرا. وأما
علي بن أبي طالب فقال يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر،
قالت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال " أي بريرة هل رأيت من شئ يريبك من عائشة " فقالت له بريرة: والذي
بعثك بالحق إن رأيت منها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي
الداجن فتأكله. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول، قالت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
على المنبر " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا
ولقد ذكروا ر جلا ما علمت عليه إلا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي
الله عنه فقال أنا أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا
ففعلنا بأمرك. قالت فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد
ابن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير
وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافق، فتثاور
الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى
سكتوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق
كبدي قالت فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذ استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي
فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس، قالت ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل، وقد
لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني شئ قالت فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثم قال " أما بعد يا عائشة فإنه قد
بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا
اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه " قالت فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة فقلت
لأبي أجب عني رسول الله فقال والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت لأمي أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت والله
ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن والله لقد علمت لقد
سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم أني بريئة لا
تصدقونني ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لا تصدقونني فوالله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف
" فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " قالت ثم تحولت فاضطجعت لي فراشي قالت وأنا والله أعلم
(1) عبارة أحمد في المسند 6 / 195: (ما يتحدث الناس).
280

حينئذ أني بريئة وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان
أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله
بها قالت فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله تعالى على نبيه فأخذه ما
كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق وهو في يوم شات من ثقل القول
الذي أنزل عليه. قالت فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك فكان أول كلمة تكلم بها أن قال " أبشري يا عائشة
أما الله عز وجل فقد برأك " قالت فقالت لي أمي قومي إليه فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عز وجل هو
الذي أنزل براءتي وأنزل الله عز وجل " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم " العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله
هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره والله لا أنفق عليه شيئا
أبدا بعد الذي قال لعائشة فأنزل الله تعالى " ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى - إلى قوله -
ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " فقال أبو بكر بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح
النفقة التي كان ينفق عليه. وقال والله لا أنزعها منه أبدأ: قالت عائشة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل زينب بنت
جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري فقال: " يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ " فقالت يا رسول الله: أحمي سمعي
وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى
بالورع، وطفقت أختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك. قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من
أمر هؤلاء الرهط أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث الزهري. وهكذا رواه ابن إسحاق عن الزهري
كذلك قال: وحدثني يحيي بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها وحدثني عبد الله بن أبي
بكر بن محمد بن عمرو بن حزم لأنصاري عن عمرة عن عائشة بنحو ما تقدم والله أعلم. ثم قال البخاري وقال أبو
أسامة عن هشام بن عروة قال أخبرني أبي عن عائشة رضي الله عنها قالت لما ذكر من شأني الذي ذكر وما علمت
به، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطيبا فتشهد فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال " أما بعد أشيروا على في أناس
أبنوا أهلي وأيم الله ما علمت على أهلي إلا خيرا وما علمت على أهلي من سوء وأبنوهم بمن والله ما علمت عليه
من سوء قط ولا يدخل بيتي قط إلا وأنا حاضر، ولا غبت في سفر إلا غاب معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري
فقال: يا رسول الله ائذن لنا أن نضرب أعناقهم فقام رجل من الخزرج وكانت أم حسان بن ثابت من رهط ذلك
الرجل فقال كذبت أما والله لو كانوا من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم حتى كاد أن يكون بين الأوس
والخزرج شر في المسجد وما علمت فلما كان مساء ذلك اليوم خرجت لبعض حاجتي ومعي أم مسطح فعثرت
فقالت تعس مسطح فقلت لها أي أم تسبين ابنك؟ فسكتت ثم عثرت الثانية فقالت تعس مسطح فقلت لها أي أم
تسبين ابنك؟ ثم عثرت الثالثة فقالت تعس مسطح فانتهرتها فقالت والله ما أسبه إلا فيك فقلت في أي شأني؟
قالت فبقرت لي الحديث فقلت وقد كان هذا؟ قالت نعم والله فرجعت إلى بيتي كأن الذي خرجت له لا أجد منه
قليلا ولا كثيرا ووعكت وقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إلى بيت أبي فأرسل معي الغلام فدخلت الدار فوجدت أم
رومان في السفل وأبا بكر فوق البيت يقرأ فقالت أم رومان ما جاء بك يا بنية فأخبرتها وذكرت لها الحديث وإذا هو
لم يبلغ منها مثل الذي بلغ مني فقالت يا بنية خففي عليك الشأن فإنه والله لقل ما كانت امرأة قط حسناء عند رجل
يحبها لها ضرائر إلا حسدنها، وقيل فيها فقلت وقد علم به أبي؟ قالت نعم قلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم
ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعبرت وبكيت فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فنزل فقال لأمي ما شأنها قالت بلغها
الذي ذكر من شأنها ففاضت عيناه رضي الله عنه فقال أقسمت عليك يا بنية إلا رجعت إلى بيتك فرجعت، ولقد
جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيتي فسأل عني خادمتي فقالت يا رسول الله لا والله ما علمت عليها عيبا إلا أنها كانت ترقد حتى
تدخل الشاة فتأكل خميرها أو عجينها، وانتهرها بعض أصحابه فقال اصدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسقطوا لها به
281

فقالت سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، وبلغ الامر ذلك الرجل الذي
قيل له، فقال سبحان الله والله ما كشفت كنف أنثى قط. قالت عائشة رضي الله عنها فقتل شهيدا في سبيل الله
قالت وأصبح أبواي عندي فلم يزالا حتى دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلى العصر ثم دخل وقد اكتنفني أبواي
عن يميني وعن شمالي فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال " أما بعد يا عائشة إن كنت قارفت سوءا أو ظلمت فتوبي
إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده " قالت وقد جاءت امرأة من الأنصار فهي جالسة بالباب فقلت ألا تستحي من
هذه المرأة أن تذكر شيئا فوعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فالتفت إلى أبي فقلت له أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فماذا أقول؟
فالتفت إلى أمي فقلت أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ماذا أقول؟ فلما لم يجيباه تشهدت فحمدت الله وأثنيت عليه بما
هو أهله ثم قلت أما بعد فوالله إن قلت لكم إني لم أفعل والله عز وجل يشهد أني لصادقة ما ذاك بنافعي عندكم لقد
تكلمت به وأشربته قلوبكم، وإن قلت لكم إني قد فعلت والله يعلم أني لم أفعل لتقولن قد باءت به على نفسها
وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا - والتمست اسم يعقوب فلم أقدر عليه - إلا أبا يوسف حين قال " فصبر جميل
والله المستعان على ما تصفون " وأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من ساعته فسكتنا فرفع عنه وإني لا تبين السرور في
وجهه وهو يمسح جبينه ويقول " أبشرى يا عائشة فقد أنزل الله براءتك " قالت وكنت أشد ما كنت غضبا فقال لي
أبواي قومي إليه فقلت لا والله لا أقوم إليه ولا أحمده ولا أحمدكما ولكن أحمد الله الذي أنزل براءتي لقد سمعتموه
فما أنكرتموه ولا غيرتموه، وكانت عائشة تقول: أما زينب بنت جحش فعصمها الله بدينها فلم تقل إلا خيرا، وأما
أختها حمنة بنت جحش فهلكت فيمن هلك
وكان الذين يتكلم فيه مسطح وحسان بن ثابت والمنافق عبد الله
ابن أبي بن سلول وهو الذي كان يستوشيه ويجمعه وهو الذي تولى كبره منهم هو وحمنة، قالت فحلف أبو بكر أن
لا ينفع مسطحا بنافعة أبدا فأنزل الله تعالى " ولا يأتل أولوا الفضل منكم " يعني أبا بكر " والسعة أن يؤتوا أولى
القربى والمساكين " يعني مسطحا إلى قوله " ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم " فقال أبو بكر: بلى والله
يا ربنا إنا لنحب أن تغفر لنا، وعاد له بما كان يصنع. هكذا رواه البخاري من هذا الوجه معلقا بصيغة الجزم عن
أبي أسامة حماد بن أسامة أحد الأئمة الثقات. وقد رواه ابن جرير في تفسيره عن سفيان بن وكيع عن أبي أسامة
مطولا به مثله أو نحوه، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن أبي أسامة ببعضه. وقال الإمام أحمد حدثنا
هشيم أخبرنا عمرو بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت لما نزل عذري من السماء جاءني النبي
صلى الله عليه وسلم فأخبرني بذلك فقلت بحمد الله لا بحمدك. وقال الإمام أحمد حدثنا ابن عدي عن محمد بن إسحاق عن
عبد الله بن أبي بكر عن عمرة أيضا عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن فلما
نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدهم ورواه أهل السنن الأربعة. وقال الترمذي هذا حديث حسن ووقع عند أبي
داود تسميتهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. فهذه طرق متعددة عن أم المؤمنين عائشة
رضي الله عنها في المسانيد والصحاح والسنن وغيرها، وقد روي من حديث أمها أم رومان رضي الله عنها فقال
الإمام أحمد حدثنا علي بن عاصم أخبرنا حصين عن أبي وائل عن مسروق عن أم رومان قالت بينا أنا عند عائشة
إذ دخلت علينا امرأة من الأنصار فقالت: فعل الله بابنها وفعل، فقالت عائشة ولم؟ قالت إنه كان فيمن حدث
الحديث قالت وأي الحديث؟ قالت كذا وكذا قالت وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم قالت وبلغ أبا بكر؟ قالت
نعم فخرت عائشة رضي الله عنها مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض قالت فقمت فدثرتها قالت فجاء
النبي صلى الله عليه وسلم قال " فما شأن هذه؟ " قلت يا رسول الله أخذتها حمى بنافض قال " فلعله في حديث تحدث به " قالت
فاستوت عائشة قاعدة فقالت والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني فمثلي ومثلكم
كمثل يعقوب وبنيه حين قال " فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون " قالت فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله
عذرها فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فدخل فقال يا عائشة " إن الله تعالى قد أنزل عذرك " فقالت بحمد الله لا
282

بحمدك فقال لها أبو بكر تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت نعم قالت وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان
يعوله أبو بكر فحلف أن لا يصله فأنزل الله " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة " إلى آخر الآية فقال أبو بكر بلى
فوصله. تفرد به البخاري دون مسلم من طريق حصين وقد رواه البخاري عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة
وعن محمد بن سلام عن محمد بن فضيل كلاهما عن حصين به وفي لفظ أبي عوانة حدثتني أم رومان وهذا صريح
في سماع مسروق منها وقد أنكر ذلك جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادي وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها
ماتت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قال الخطيب وقد كان مسروق يرسله فيقول سئلت أم رومان ويسوقه فلعل بعضهم كتب
سئلت بألف اعتقد الراوي أنها سألت فظنه متصلا قال الخطيب وقد رواه البخاري كذلك ولم تظهر له علته كذا قال
والله أعلم. ورواه بعضهم عن مسروق بن عبد الله بن مسعود عن أم رومان فالله أعلم، فقوله تعالى " إن الذين
جاءوا بالإفك " أي الكذب والبهت والافتراء " عصبة " أي جماعة منكم " لا تحسبوه شرا لكم " أي يا آل أبي بكر
" بل هو خير لكم " أي في الدنيا والآخرة لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة وإظهار شرف لهم باعتناء
الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم الذي " لا يأتيه الباطل من
بين يديه ولا من خلفه " الآية ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت قال لها
أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يحبك، ولم يتزوج بكرا غيرك، ونزلت براءتك من السماء. وقال ابن جرير
في تفسيره حدثني محمد بن عثمان الواسطي حدثنا جعفر بن عون عن المعلي بن عرفان عن محمد بن عبد الله
ابن جحش قال: تفاخرت عائشة وزينب رضي الله عنهما فقالت زينب أنا التي نزل تزويجي من السماء وقالت
عائشة أنا التي نزل عذري في كتاب الله حين حملني صفوان بن المعطل على الراحلة فقالت لها زينب يا عائشة ما
قلت حين ركبتيها؟ قالت حسبي الله ونعم الوكيل، قالت قلت كلمة المؤمنين. وقوله تعالى " لكل امرئ منهم ما
اكتسب من الاثم " أي لكل من تكلم في هذه القضية ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشئ من الفاحشة
نصيب عظيم من العذاب " والذي تولى كبره منهم " قيل ابتدأ به وقيل الذي كان يجمعه ويستوشيه ويذيعه ويشيعه
" له عذاب عظيم " أي على ذلك، ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي بن سلول قبحه الله
ولعنه وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث وقال ذلك مجاهد وغير واحد، وقيل بل المراد به حسان بن ثابت
وهو قول غريب ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان لايراده كبير فائدة فإنه من
الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره وهو الذي قال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم " هاجهم وجبريل معك " وقال الأعمش عن ابن الضحى عن مسروق قال: كنت عند عائشة رضي الله
عنها فدخل حسان بن ثابت فأمرت فألقي له وسادة فلما خرج قلت لعائشة ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك
وفي رواية قيل لها أتأذنين لهذا يدخل عليك وقد قال الله " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " قالت وأي
عذاب أشد من العمي وكان قد ذهب بصره لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ثم قالت إنه كان ينافح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعر يمتدحها به فقال: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثي من لحوم الغوافل
فقالت أما أنت فلست كذلك، وفي رواية: لكنك لست كذلك، وقال ابن جرير حدثنا الحسن بن قزعة حدثنا
سلمة بن علقمة حدثنا داود عن عامر عن عائشة أنها قالت ما سمعت بشعر أحسن من شعر حسان ولا تمثلت به إلا
رجوت له الجنة قوله لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.
هجوت محمدا فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
فإن أبي ووالده وغرضي لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفء؟ فشركما لخيركما الفداء
283

لساني صارم لا عيب فيه وبحري لا تكدره الدلاء
فقيل يا أم المؤمنين أليس هذا لغوا؟ قالت لا إنما اللغو ما قيل عند النساء، قيل أليس الله يقول " والذي تولى
كبره منهم له عذاب عظيم " قالت أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف؟ تعني الضربة التي ضربه إياها صفوان
ابن المعطل السلمي حين بلغه عنه أنه يتلكم في ذلك فعلاه بالسيف وكاد أن يقتله.
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين (12) لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء
فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون (13)
هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السوء وما
ذكر من شأن الإفك فقال تعالى " لولا " يعني هلا " إذ سمعتموه " أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين
رضي الله عنها " ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا " أي قاسوا ذلك الكلام علي أنفسهم فإن كان لا يليق
بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى. وقد قيل إنها نزلت في أبي أيوب خالد بن زيد
الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما قال الإمام محمد بن إسحاق بن يسار عن أبيه عن بعض رجال بني النجار
أن أبا أيوب خالد بن زيد الأنصاري قالت له امرأته أم أيوب يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي
الله عنها؟ قال نعم وذلك الكذب أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت لا والله ما كنت لافعله قال فعائشة والله خير
منك، قال فلما نزل القرآن ذكر الله عز وجل من قال في الفاحشة ما قال من أهل الإفك " إن الذين جاءوا بالإفك
عصبة منكم " وذلك حسان وأصحابه الذين قالوا ما قالوا، ثم قال تعالى " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون " الآية
أي كما قال أبو أيوب وصاحبته. وقال محمد بن عمر الواقدي حدثني ابن أبي حبيب عن داود بن الحصين عن أبي
سفيان عن أفلح مولى أبي أيوب أن أم أيوب قالت لابن أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال بلى
وذلك الكذب أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ قالت لا والله قال فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن وذكر أهل
الإفك قال الله عز وجل " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين " يعني أبا
أيوب حين قال لام أيوب ما قال - ويقال إنما قالها أبي بن كعب، وقوله تعالى " ظن المؤمنون " ألخ أي هلا ظنوا
الخير فإن أم المؤمنين أهله وأولى به، هذا ما يتعلق بالباطن. وقوله " وقالوا " أي بألسنتهم " هذا إفك مبين " أي
كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها فإن الذي وقع لم يكن ريبة وذلك أن مجئ أم المؤمنين راكبة جهرة
على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ولو
كان هذا الامر فيه ريبة لم يكن هذا جهرة ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الاشهاد بل كان هذا يكون لو
قدر خفية مستورا، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت والقول الزور
والرعونة الفاحشة الفاجرة، والصفقة الخاسرة، قال الله تعالى " لولا " أي هلا " جاءوا عليه " أي على ما قالوه
" بأربعة شهداء " يشهدون على صحة ما جاءوا به " فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " أي في
حكم الله كاذبون فاجرون.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم (14) إذ تلقونه
بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم (15)
يقول تعالى " لولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة " أيها الخائضون في شأن عائشة بأن قبل توبتكم
وإنابتكم إليه في الدنيا وعفا عنكم لايمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة " لمسكم فيما أفضتم فيه " من قضية الإفك
" عذاب عظيم " وهذا فيمن عنده إيمان يقبل الله بسببه التوبة كمسطح وحسان وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت
284

جحش، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه فليس أولئك مرادين في هذه الآية
لأنه ليس عندهم من الايمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه، وهكذا شأن ما يرد من الوعيد على فعل
معين يكون مطلقا مشروطا بعدم التوبة أو ما يقابله من عمل صالح يوازنه أو يرجح عليه. ثم قال تعالى " إذ تلقونه
بألسنتكم " قال مجاهد وسعيد بن جبير أي يرويه بعضكم عن بعض يقول هذا سمعته من فلان وقال فلان كذا
وذكر بعضهم كذا، وقرأ آخرون " إذ تلقونه بألسنتكم " وفي صحيح البخاري عن عائشة أنها كانت تقرؤها كذلك
وتقول هي من ولق اللسان يعني الكذب الذي يستمر صاحبه عليه، تقول العرب ولق فلان في السير إذا استمر
فيه، والقراءة الأولى أشهر وعليها الجمهور ولكن الثانية مروية عن أم المؤمنين عائشة، قال ابن أبي حاتم حدثنا
أبو سعيد الأشج حدثنا أبو أسامة عن نافع عن ابن عمر عن عائشة أنها كانت تقرأ " إذ تلقونه " وتقول هي ولق
القول قال ابن أبي مليكة: هي أعلم به من غيرها. وقوله تعالى " وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم " أي
تقولون ما لا تعلمون. ثم قال تعالى " وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم " أي تقولون ما تقولون في شأن أم
المؤمنين وتحسبون ذلك يسيرا سهلا ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هينا فكيف وهي زوجة النبي الأمي خاتم
الأنبياء وسيد المرسلين فعظيم عند الله أن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا
وهو سبحانه وتعالى لا يقدر على زوجة نبي من الأنبياء ذلك حاشا وكلا، ولما لم يكن ذلك فكيف يكون هذا في
سيدة نساء الأنبياء وزوجه سيد ولد آدم على الاطلاق في الدنيا والآخرة ولهذا قال تعالى " وتحسبونه هينا وهو عند
الله عظيم " وفي الصحيحين " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد
مما بين السماء والأرض " وفي رواية " لا يلقي لها بالا ".
ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم (16) يعظكم الله أن تعودوا لمثله
أبدا إن كنتم مؤمنين (17) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (18)
هذا تأديب آخر بعد الأول الآمر بظن الخير أي إذا ذكر ما لا يليق من القول في شأن الخيرة فأولى ينبغي الظن بهم
خيرا. وأن لا يشعر نفسه سوى ذلك ثم إن علق بنفسه شئ من ذلك وسوسة أو خيالا فلا ينبغي أن يتكلم به فإن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل " أخرجاه في
الصحيحين، وقال الله تعالى " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا " أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا
الكلام ولا نذكره لاحد " سبحانك هذا بهتان عظيم " أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله وحليلة
خليله، ثم قال تعالى " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدأ " أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا أبدا أي
فيما يستقبل ولهذا قال " إن كنتم مؤمنين " أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم فأما من كان
متصفا بالكفر فله حكم آخر، ثم قال تعالى " ويبين الله لكم الآيات " أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم
القدرية " والله عليم حكيم " أي عليم بما يصلح عباده حكيم في شرعه وقدره.
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون (19)
هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئا من الكلام السئ فقام بذهنه شئ منه وتكلم فلا يكثر منه ولا يشيعه ويذيعه فقد
قال تعالى " إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم " أي يختارون ظهور الكلام عنهم
بالقبيح " لهم عذاب أليم في الدنيا " أي بالحد، وفي الآخرة بالعذاب الأليم " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " أي
فردوا الأمور إليه ترشدوا وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن بكير حدثنا ميمون بن موسى المرئي حدثنا محمد
ابن عباد المخزومي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من
285

طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته ".
ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم (20) يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان
ومن يتبع خطوات الشيطان فأنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من
أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم (21)
يقول الله تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم " أي لولا هذا لكان أمر آخر ولكنه تعالى
رؤوف بعباده رحيم بهم فتاب على من تاب إليه من هذه القضية وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم ثم
قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان " يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به " ومن يتبع خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر " هذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها، قال علي
ابن أبي طلحة عن ابن عباس " خطوات الشيطان " عمله وقال عكرمة نزغاته وقال قتادة كل معصية فهي من خطوات
الشيطان، وقال أبو مجلز النذور في المعاصي من خطوات الشيطان، وقال مسروق سأل رجل ابن مسعود فقال:
إني حرمت أن آكل طعاما وسماه فقال هذا من نزعات الشيطان كفر عن يمينك وكل، وقال الشعبي في رجل نذر
ذبح ولده هذا من نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشا، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا حسان بن عبد الله
المصري حدثنا السري بن يحيي عن سليمان التيمي عن أبي رافع قال: غضبت على امرأتي فقالت هي يوما
يهودية ويوما نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك، فأتيت عبد الله بن عمر فقال: إنما هذه من نزغات
الشيطان وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة بالمدينة وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك. ثم
قال تعالى " ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا " أي لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع
إليه ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا
خيرا " ولكن الله يزكي من يشاء " أي من خلقه ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي، وقوله " والله
سميع " أي سميع لأقوال عباده " عليم " بمن يستحق منهم الهدى والضلال.
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمسكين والمهجرين في سبيل الله ولعفوا
ولصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22)
يقول تعالى " ولا يأتل " من الالية وهي الحلف أي لا يحلف " أولو الفضل منكم " أي الطول والصدقة والاحسان
" والسعة " أي الجدة " أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله " أي لا تحلفوا أن لا تصلوا
قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ولهذا قال تعالى " وليعفوا
وليصفحوا " أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى. وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم
لأنفسهم، وهذه الآية نزلت في الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعدما قال
في عائشة ما قال كما تقدم في الحديث، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وطابت النفوس المؤمنة واستقرت
وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه - شرع تبارك وتعالى وله الفضل
والمنة يعطف الصديق على قريبه ونسيبه وهو مسطح بن أثاثة فإنه كان ابن خاله الصديق وكان مسكينا لا مال له إلا
ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها، وضرب
الحد عليها. وكان الصديق رضي الله عنه معروفا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب فلما
نزلت هذه الآية إلى قوله " ألا تحبون أن يغفر الله لكم " الآية فإن الجزاء من جنس العمل فكما تغفر ذنب من
286

أذنب إليك يغفر الله لك وكما تصفح يصفح عنك، فعند ذلك قال الصديق: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا
ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال: والله لا
أنفعه بنافعة أبدا. فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته.
إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23) يوم
تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24) يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن
الله هو الحق المبين (25)
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات خرج مخرج الغالب فأمهات المؤمنين أولى
بالدخول في هذا من كل محصنة ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما.
وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في هذه
الآية فإنه كافر لأنه معاند للقرآن، وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي والله أعلم، وقوله تعالى
" لعنوا في الدنيا والآخرة ". الآية كقوله " إن الذين يؤذون الله ورسوله " الآية. وقد ذهب بعضهم إلى أنها
خاصة بعائشة رضي الله عنها فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عبد الله بن حراش عن العوام عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " قال نزلت في عائشة
خاصة وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان. وقد ذكره ابن جرير عن عائشة فقال حدثنا أحمد بن عمدة الضبي
حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: رميت بما رميت به وأنا غافلة
فبلغني بعد ذلك، قالت فبينا رسول الله جالس عندي إذ أوحي إليه قالت وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات
وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي ثم استوي جالسا يمسح على وجهه وقال " يا عائشة أبشري " قالت فقلت بحمد
الله لا بحمدك فقرأ " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - حتى بلغ - أولئك مبرؤون مما يقولون،
لهم مغفرة ورزق كريم " هكذا أورده وليس فيه أن الحكم خاص بها وإنما فيه أنها سبب النزول دون غيرها وإن
كان الحكم يعمها كغيرها ولعله مراد ابن عباس ومن قال كقوله والله أعلم. وقال الضحاك وأبو الجوزاء وسلمة
ابن نبيط: المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية " إن الذين
يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " الآية يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رماهن أهل النفاق فأوجب الله لهم اللعنة
والغضب وباءوا بسخط من الله فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزل بعد ذلك " والذين يرمون المحصنات ثم لم
يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - فإن الله غفور رحيم " فأنزل الله الجلد والتوبة فالتوبة تقبل والشهادة ترد. وقال
ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا هشيم أخبرنا العوام بن حوشب عن شيخ من بني أسد عن ابن عباس
قال فسر سورة النور فلما أتي على هذه الآية " إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات " الآية قال في
شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي مبهمة وليست لهم توبة ثم قرأ " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا " الآية قال فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لمن قذف
أولئك توبة قال فهم بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور، فقوله وهي مبهمة أي
عامة في تحريم قذف كل محصنة ولعنته في الدنيا والآخرة وهكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هذا في عائشة
ومن صنع مثل هذا أيضا اليوم في المسلمات فله ما قال الله تعالى ولكن عائشة كانت أما في ذلك. وقد اختار
ابن جرير عمومها وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ابن
أخي وهب حدثني عمي حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
287

قال عن ثور بن زيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اجتنبوا السبع الموبقات " قيل وما هن يا رسول الله؟ قال " الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق. وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " أخرجاه في
الصحيحين من حديث سليمان بن بلال به، وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عمر أبي خالد
الطائي المحرمي حدثني أبي وحدثنا أبو شعيب الحراني حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب حدثني موسي بن أعين
عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة "
وقوله تعالى " يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون " قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد
الأشج حدثنا أبو يحيي الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن مطرف عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
قال: إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة قالوا تعالوا حتى نجحد فيجحدون فيختم على
أفواههم وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا حدثنا يونس بن عبد
الاعلى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فيجحد ويخاصم فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول كذبوا فيقال أهلك
وعشيرتك فيقول كذبوا فيقال احلفوا فيحلفون ثم يصمهم الله فتشهد عليه أيديهم وألسنتهم ثم يدخلهم النار "
وقال ابن أبي حاتم أيضا حدثنا أبو شيبة إبراهيم عن عبد الله بن أبن شيبة الكوفي حدثنا منجاب بن الحارث التميمي
حدثنا أبو عامر الأسدي حدثنا سفيان بن عبيد المكتب عن فضيل بن عمرو الفقيمي عن الشعبي عن أنس بن مالك
قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا الله ورسوله أعلم قال
" من مجادلة العبد لربه يقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى فيقول لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي
فيقول كفي بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام عليك شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بعمله ثم
يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " وقد رواه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر
ابن أبي النضر عن أبيه عن عبد الله الأشجعي عن سفيان الثوري به، ثم قال النسائي لا أعلم أحدا روى هذا الحديث
عن سفيان الثوري غير الأشجعي وهو حديث غريب والله أعلم هكذا قال وقال قتادة بن أدم: والله إن عليك لشهودا
غير متهمة من بذلك فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك فإنه لا يخفى عنه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده
علانية فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلا بالله. وقوله تعالى " يومئذ يوفيهم الله دينهم
الحق " قال ابن عباس " دينهم " أي حسابهم وكل ما في القرآن دينهم أي حسابهم، وكذا قال غير واحد، ثم إن
قراءة الجمهور بنصب الحق على أنه صفة لدينهم، وقرأ مجاهد بالرفع على أنه نعت الجلالة، وقرأها بعض
السلف في مصحف أبي بن كعب: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق " وقوله " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " أي
وعده ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم
مغفرة ورزق كريم (26)
قال ابن عباس: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات
من القول للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من القول - قال - ونزلت في عائشة وأهل الإفك وهكذا
روي عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وحبيب بن أبي ثابت والضحاك واختاره ابن
جرير ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس فما
288

نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم ولهذا قال تعالى " أولئك
مبرؤون مما يقولون " وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال والخبيثون
من الرجال للخبيثات من النساء والطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من
النساء وهذا أيضا يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ولو كانت خبيثة لما صلحت له لا شرعا ولا قدرا ولهذا قال تعالى
" أولئك مبرؤون مما يقولون " أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان " لهم مغفرة " أي بسبب ما قيل فيهم
من الكذب " ورزق كريم " أي عند الله في جنات النعيم، وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة،
قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن مسلم حدثنا أبو نعيم حدثنا عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرحمن عن
الحكم بإسناده إلى يحيي بن الجزار قال: جاء أسير بن جابر إلى عبد الله فقال لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم
اليوم بكلام أعجبني فقال عبد الله إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما يستقر حتى
يلفظها فيسمعها الرجل عنده يتلها فيضمها إليه، وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الخبيثة تتجلجل في
صدره ما تستقر حتى يلفظها فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه ثم قرأ عبد الله " الخبيثات للخبيثين
والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " الآية ويشبه هذا ما رواه الإمام أحمد في المسند مرفوعا
" مثل الذي يسمع الحكمة ثم لا يحدث إلا بشر ما سمع كمثل رجل جاء إلى صاحب غنم فقال أجزر لي شاة فقال
اذهب فخذ بأذن أيها شئت فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم " وفي الحديث الآخر " الحكمة ضالة المؤمن حيث
وجدها أخذها ".
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذالكم خير لكم لعلكم
تذكرون (27) فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم
والله بما تعملون عليم (28) ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونه فيها متع لكم والله يعلم ما تبدون
وما تكتمون (29)
هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين وذلك في استئذان أمرهم أن لا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى
يستأنسوا أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات فإن أذن له وإلا انصرف كما ثبت
في الصحيح أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف ثم قال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله
ابن قيس يستأذن؟ ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب فلما جاء بعد ذلك قال ما أرجعك؟ قال إني استأذنت ثلاثا
فلم يؤذن لي وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف " فقال عمر لتأتيني
على هذا بينة وإلا أوجعتك ضربا، فذهب إلى ملا من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر فقالوا: لا يشهد لك إلا
أصغرنا فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك فقال ألهاني عنه الصفق بالأسواق. وقال الإمام أحمد حدثنا
عبد الرزاق أخبرنا عمر عن ثابت عن أنس أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على سعد بن عبادة فقال " السلام عليك
ورحمة الله " فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثا ورد عليه سعد ثلاثا ولم
يسمعه فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلا وهى بأذني، ولقد
رددت عليك ولم أسمعك وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيب فأكل نبي الله
فلما فرغ قال " أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون " وقد روى أبو داود
289

والنسائي من حديث أبي عمرو الأوزاعي سمعت يحيي بن أبي كثير يقول: حدثني محمد بن عبد الرحمن
ابن سعد بن زرارة عن قيس بن سعد هو ابن عبادة قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال " السلام عليكم ورحمة
الله " فرد سعد ردا خفيا قال قيس: فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال دعه يكثر علينا من السلام فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " السلام عليكم ورحمة الله " فرد سعد ردا خفيا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السلام عليكم ورحمة الله " ثم رجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه سعد فقال: يا رسول الله إني كنت أسمع تسليمك وأرد عليك ردا خفيا لتكثر علينا من السلام،
قال فانصرف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر له سعد بغسل فاغتسل ثم ناوله خميصة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها
ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وهو يقول " اللهم اجعل صلاتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة " قال ثم أصاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الطعام فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حمارا قد وطئ عليه بقطيفة فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال سعد: يا قيس اصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قيس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اركب " فأبيت فقال " إما أن تركب وإما
أن تنصرف " قال فانصرفت وقد روي هذا من وجوه أخر فهو حديث جيد قوي والله أعلم. ثم ليعلم أنه ينبغي
للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره لما رواه أبو داود:
حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني في آخرين قالوا حدثنا بقية حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بشر قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ويقول
" السلام عليكم، السلام عليكم " وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور، انفرد به أبو داود. وقال أبو داود أيضا
حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير حينئذ قال أبو داود حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن الأعمش عن
طلحة عن هزيل قال جاء رجل قال عثمان: سعد، فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام على الباب قال عثمان
مستقبل الباب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر " وقد رواه أبو داود الطيالسي
عن سفيان الثوري عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل عن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود من حديثه،
وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " لو أن امرأ اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان
عليك من جناح " وأخرج الجماعة من حديث شعبة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين
كان على أبي فدققت الباب فقال " من ذا؟ " فقلت أنا قال " أنا أنا؟ " كأنه كرهه وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا
يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هو مشهور بها وإلا فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا فلا يحصل بها
المقصود من الاستئذان الذي هو الاستئناس المأمور به في الآية، وقال العوفي عن ابن عباس الاستئناس
الاستئذان، وكذا قال غير واحد، وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا " قال إنما هي
خطأ من الكتاب حتى تستأذنوا وتسلموا وهكذا رواه هشيم عن أبي بشر وهو جعفر بن إياس عن سعيد عن
ابن عباس بمثله، وزاد وكان ابن عباس، يقرأ " حتى تستأذنوا وتسلموا " وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب رضي
الله عنه. وهذا غريب جدا عن ابن عباس وقال هشيم أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال في مصحف ابن مسعود حتى
تسلموا على أهلها وتستأذنوا، وهذا أيضا رواية عن ابن عباس وهو اختيار ابن جرير، وقد قال الإمام أحمد حدثنا
روح حدثنا ابن جريج أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن أبي صفوان أخبره أن كلدة بن الحنبل أخبره أن
صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ وجدابة وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي قال فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم ولم
أسلم ولم أستأذن. فقال صلى الله عليه وسلم " ارجع فقل السلام عليكم أأدخل " وذلك بعدما أسلم صفوان، ورواه أبو داود
والترمذي والنسائي من حديث ابن جريج به، وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وروى أبو داود
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال أتى رجل من بني عامر استأذن على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فقال أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه " اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام
290

عليكم أأدخل؟ فسمعه الرجل فقال السلام عليكم أأدخل فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل. وقال هشيم أخبرنا منصور عن
ابن سيرين وأخبرنا يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أألج أو أنلج؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لامة له يقال لها روضة " قومي إلى هذا فعلميه فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول السلام عليكم
أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل فقال " ادخل ". وقال الترمذي حدثنا الفضل بن الصباح حدثنا
سعيد بن زكريا عن عنبسة بن عبد الرحمن عن محمد بن زاذان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " السلام قبل الكلام " ثم قال الترمذي عنبسة ضعيف الحديث ذاهب ومحمد بن زاذان في إسناده
نكارة وضعف، وقال هشيم قال مغيرة قال مجاهد جاء ابن عمر من حاجة وقد أذاه الرمضاء فأتي فسطاط امرأة من
قريش فقال السلام عليكم أأدخل؟ قالت ادخل بسلام فأعاد فأعاد ت وهو يراوح بين قدميه قال قولي ادخل قالت
ادخل فدخل. ولابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو نعيم الأحول حدثني خالد بن إياس حدثتني
جدتي أم إياس قالت: كنت في أربع نسوة نستأذن على عائشة فقلن ندخل؟ فقالت لا، قلن لصاحبتكن تستأذن
فقالت السلام عليكم أندخل؟ قالت ادخلوا ثم قالت " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا
وتسلموا على أهلها " الآية. وقال هشيم أخبرنا أشعث بن سوار عن كردوس عن ابن مسعود قال عليكم أن تستأذنوا
على أمهاتكم وأخواتكم، وقال أشعث عن عدي بن ثابت إن امرأة من الأنصار قالت يا رسول الله إني أكون في
منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها لا والد ولا ولد وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا
على تلك الحال. قال فنزلت " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا " الآية وقال ابن جريج سمعت عطاء بن أبي
رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال: ثلاث آيات جحدهن الناس. قال الله تعالى: " إن أكرمكم عند الله
أتقاكم " قال ويقولون إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتا قال والأدب كله قد جحده الناس قال قلت أستأذن على
أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى فقال تحب أن تراها عريانه؟
قلت لا قال فاستأذن قال فراجعته أيضا فقال: أتحب أن تطيع الله؟ قال قلت نعم قال فاستأذن. قال ابن جريج
وأخبرني ابن طاوس عن أبيه قال: ما من امرأة أكره إلى أن أرى عورتها من ذات محرم قال: وكان يشدد في
ذلك وقال ابن جريج عن الزهري سمعت هزيل بن شرحبيل الأودي الاعمي أنه سمع ابن مسعود يقول عليكم
الاذن على أمهاتكم، وقال ابن جريج قلت لعطاء أيستأذن الرجل على امرأته قال لا وهذا محمول على عدم
الوجوب وإلا فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها. وقال
أبو جعفر بن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا محمد بن حازم بن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيي
ابن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن زينب رضي رضي الله عنها قالت: كان عبد الله إذا جاء من حاجة
فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهة أن يهجم منا علي أمر يكرهه، إسناده صحيح. وقال ابن أبي حاتم حدثنا
أحمد بن سنان الواسطي حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة قال كان عبد الله إذا
دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته، وقال مجاهد " حتى تستأنسوا قال تنحنحوا أو تنخموا.
وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه ولهذا
جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقا، وفي رواية ليلا يتخونهم، وفي
الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهارا فأناخ بظاهرها وقال " انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر
النهار - حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا
عبد الرحمن بن سليمان عن واصل بن السائب حدثني أبو ثورة ابن أخي أبي أيوب عن أبي أيوب قال: قلت يا رسول
الله هذا السلام فما الاستئناس؟ قال " يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت "
هذا حديث غريب، وقال قتادة في قوله: " حتى تستأنسوا " هو الاستئذان ثلاثا فمن لم يؤذن له منهم فليرجع
291

أما الأولى فليسمع الحي، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا ولا تقفن على
باب قوم ردوك عن بابهم فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بالعذر. وقال مقاتل بن حيان في قوله " يا
أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " كان الرجل في الجاهلية إذا لقي
صاحبه لا يسلم عليه ويقول حييت صباحا وحييت مساء وكان ذلك تحية القوم بينهم وكان أحدهم ينطلق إلى
صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول قد دخلت ونحو ذلك فيشق ذلك على الرجل ولعله يكون مع أهله فغير الله
ذلك كله في ستر وعفة وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن فقال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا
غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها " الآية وهذا الذي قاله مقاتل حسن ولهذا قال تعالى " ذلكم خير
لكم " يعني الاستئذان خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت " لعلكم تذكرون " وقوله
تعالى " فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم " وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه
فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم " أي إذا ردوكم من الباب قبل الاذن
أو بعده " فارجعوا هو أزكى لكم " أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر " والله بما تعلمون عليم " وقال قتادة: قال
بعض المهاجرين لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فأرجع وأنا
مغتبط " وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم " وقال سعيد بن جبير في الآية أي لا
تقفوا على أبواب الناس. " وقوله تعالى " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونه " الآية الكريمة أخص من
التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن كالبيت
المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى. قال ابن جريج قال ابن عباس " لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم " ثم
نسخ واستثنى فقال تعالى " ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونه فيها متاع لكم " وكذا روي عن عكرمة
والحسن البصري وقال آخرون: هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الاسفار وبيوت مكة وغير ذلك واختار ذلك ابن
جرير وحكاه عن جماعة والأول أظهر والله أعلم، وقال مالك عن زيد بن أسلم هي بيوت الشعر.
قل للمؤمنين يغضوا من أبصرهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون (30)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر
إليه وأن يغمضوا أبصارهم عن حرم عليهم فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر
إليه وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه
سريعا كما رواه مسلم في صحيحه من حديث يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير
عن جده جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف
بصري. وكذا رواه الإمام أحمد عن هشيم عن يونس بن عبيد به ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من حديثه أيضا
وقال الترمذي حسن صحيح، وفي رواية لبعضهم فقال " أطرق بصرك " يعنى انظر إلى الأرض، والصرف أعم فإنه
قد يكون إلى الأرض وإلى جهة أخرى والله أعلم. وقال أبو داود حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري حدثنا شريك
عن أبي ربيعة الأيادي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى " يا علي لا تتبع النظرة النظرة
فإن لك الأولى وليس لك الآخرة " ورواه الترمذي من حديث شريك وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وفي
الصحيح عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إياكم والجلوس على الطرقات " قالوا يا رسول الله لا بد لنا من
مجالسنا نتحدث فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ". قالوا وما حق الطريق يا رسول الله؟ -
قال: " غض البصر وكف الأذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهي عن المنكر " وقال أبو القاسم البغوي حدثنا
طالوت بن عباد حدثنا فضيل بن حسين سمعت أبا أمامة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اكفلوا لي بست أكفل
لكم بالجنة، إذا حدث أحدكم فلا يكذب، وإذا أؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف، وغضوا أبصاركم وكفوا أيديكم
واحفظوا فروجكم " وفي صحيح البخاري " من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه أكفل له الجنة " وقال عبد
292

الرزاق أنبأنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال كل ما عصي الله به فهو كبيرة، وقد ذكر الطرفين فقال
" قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب كما قال بعض السلف: النظر سهم
سم إلى القلب. ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الابصار التي هي بواعث إلى ذلك فقال تعالى " قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنا كما قال تعالى " والذين
هم لفروجهم حافظون " الآية وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن
" احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " " ذلك أزكى لهم " أي أطهر لقلوبهم واتقى لدينهم كما قيل
من حفظ بصره أورثه الله نورا في بصيرته، ويروى في قلبه. وروى الإمام أحمد حدثنا عتاب حدثنا عبد الله بن
المبارك أخبرنا يحيي بن أيوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها " وروي
هذا مرفوعا عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف إلا أنها في الترغيب ومثله
يتسامح فيه، وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن يزيد عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا
" لتغضن أبصاركم ولتحفظن فروجكم ولتقيمن وجوهكم أو لتكسفن وجوهكم " وقال الطبراني حدثنا أحمد بن زهير
التستري قال: قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقري حدثنا يحيي بن أبي بكير حدثنا هريم بن سفيان
عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوتها في قلبه "
وقوله تعالى " إن الله خبير بما يصنعون " كما قال تعالى " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " وفى الصحيح
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة فزنا
العينين النظر، وزنا اللسان النطق، وزنا الاذنين الاستماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطى، والنفس تمنى
وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " رواه البخاري تعليقا ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما ذكر. وقد قال
كثير من السلف إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل نظره إلى الامرد وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك وحرمه
طائفة من أهل العلم لما فيه من الافتتان وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا. وقال ابن أبي الدنيا حدثنا أبو سعيد
المدني حدثنا عمر بن سهل المازني حدثني عمر بن محمد بن صهبان عن صفوان بن سليم عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله وعينا سهرت في سبيل الله
وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله عز وجل ".
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على
جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو
بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل
الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه
المؤمنون لعلكم تفلحون (31)
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية
وفعال المشركات. وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره مقاتل بن حيان قال: بلغنا والله أعلم أن جابر بن عبد الله
الأنصاري حدث أن أسماء بنت مرثد كان في محل لها في بنى حارثه فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات
293

فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء: ما أقبح هذا فأنزل الله تعالى " وقل
للمؤمنات يغضضن من أبصارهن " الآية، فقوله تعالى " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن " أي عما حرم
الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن، ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال
الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلا، واحتج كثير منهم بما رواه أبو داود والترمذي من حديث الزهري عن نبهان
مولى أم سلمة أنه حدثه أن أم سلمة حدثته أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونه قالت: فبينما نحن عنده أقبل ابن
أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب فقال رسول الله " احتجبا منه " فقلت يا رسول الله أليس هو
أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أو عمياوان أنتما؟ أو ألستما تبصرانه؟ " ثم قال الترمذي هذا
حديث حسن صحيح وذهب آخرون من العلماء إلي جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة كما ثبت في الصحيح
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد وعائشة أم المؤمنين تنظر
إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملت ورجعت، وقوله " ويحفظن فروجهن " قال سعيد بن جبير: عن
الفواحش وقال قتادة وسفيان عما لا يحل لهن وقال مقاتل عن الزنا، وقال أبو العالية: كل آية نزلت في القرآن يذكر
فيها حفظ الفروج فهو من الزنا إلا هذه الآية " ويحفظن فروجهن " أن لا يراها أحد، وقوله تعالى " ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها " أي لا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه: قال ابن مسعود كالرداء
والثياب يعني على ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج
عليها فيه لان هذا لا يمكنها إخفاؤه ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه وقال بقول ابن
مسعود الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم، وقال الأعمش عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس: " ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها " قال وجهها وكفيها والخاتم. وروي عن ابن عمر وعطاء وعكرمة
وسعيد بن جبير وأبي الشعثاء والضحاك وإبراهيم النخعي وغيرهم نحو ذلك وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة
التي نهين عن إبدائها كما قال أبو إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص عن عبد الله قال في قوله " ولا يبدين
زينتهن " الزينة القرط والدملوج والخلخال والقلادة، وفي رواية عنه بهذا الاسناد قال: الزينة زينتان فزينة لا
يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار وزينة يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب وقال الزهري: لا يبدين لهؤلاء الذين
سمى الله ممن لا يحل له إلا الأسورة والأخمرة والأقرطة من غير حسر وأما عامة الناس فلا يبدو منها إلا الخواتم،
وقال مالك عن الزهري " إلا ما ظهر منها " الخاتم والخلخال، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما
ظهر منها بالوجه والكفين وهذا هو المشهور عند الجمهور ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود في سننه حدثنا
يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن الفضل الحراني قالا: حدثنا الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن
دريك عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها
وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا " وأشار إلى وجهه وكفيه لكن قال أبو
داود وأبو حاتم الرازي هو مرسل. خالد بن دريك لم يسمع من عائشة رضي الله عنها والله أعلم. وقوله تعالى
" وليضربن بخمرهن على جيوبهن " يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتواري ما تحتها من
صدرها وترائبها ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية فإنهن لم يكن يفعلن ذلك بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال
مسفحة بصدرها لا يواريه شئ وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطة آذانها فأمر الله المؤمنات أن يستترن في
هيئاتهن وأحوالهن كما قال تعالى " يا أيها النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن
ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين " وقال في هذه الآية الكريمة " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " والخمر جمع
خمار وهو ما يخمر به أي يغطي به الرأس وهي التي تسميها الناس المقانع. قال سعيد بن جبير " وليضربن "
وليشددن " بخمرهن على جيوبهن " يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شئ وقال البخاري حدثنا أحمد بن شبيب حدثنا أبي
294

عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله " وليضربن
بخمرهن على جيوبهن " شققن مروطهن فاختمرن بها. وقال أيضا حدثنا أبو نعيم حدثنا إبراهيم بن
نافع عن الحسن بن مسلم عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الآية
" وليضربن بخمرهن على جيوبهن " أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثني الزنجي بن خالد حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية
بنت شيبة قالت: بينا نحن عند عائشة قالت فذكرن نساء قريش وفضلهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن لنساء
قريش لفضلا وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقا لكتاب الله ولا إيمانا بالتنزيل لقد أنزلت
سورة النور " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ويتلو
الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به
تصديقا وإيمانا بما أنزل الله من كتابه فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رؤوسهن الغربان. ورواه أبو
داود من غير وجه عن صفية بن شيبة به، وقال ابن جرير حدثنا يونس أخبرنا ابن وهب أن قرة بن عبد الرحمن
أخبره عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله " وليضربن
بخمرهن على جيوبهن " شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها. ورواه أبو داود من حديث ابن وهب به وقوله تعالى
" ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن " أي أزواجهن " أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو
إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن " كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ولكن من غير تبرج
وقد روى ابن المنذر حدثنا موسى يعني ابن هارون حدثنا أبو بكر يعني ابن أبي شيبة حدثنا عفان حدثنا حماد بن
سلمة أخبرنا داود عن الشعبي وعكرمة في هذه الآية " ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن "
حتى فرغ منها وقال لم يذكر العم ولا الخال لأنهما ينعتان لأبنائهما ولا تضع خمارها عند العم والخال، فأما الزوج
فإنما ذلك كله من أجله فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره. وقوله " أو نسائهن " يعني تظهر بزينتها أيضا للنساء
المسلمات دون نساء أهل الذمة لئلا تصفهن لرجالهن وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء إلا أنه في نساء
أهل الذمة أشد فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها " أخرجاه في الصحيحين عن ابن مسعود وروى
سعيد بن منصور في سننه حدثنا إسماعيل بن عياش عن هشام بن الغازي عن عبادة بن نسي عن أبيه عن الحارث بن
قيس أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات
مع نساء أهل الشرك فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلي عورتها إلا أهل ملتها.
وقال مجاهد في قوله " أو نسائهن " قال نساؤهن المسلمات ليس المشركات من نسائهن وليس للمرأة المسلمة
أن تنكشف بين يدي مشركة، وروى عبد الله في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس " أو نسائهن "
قال: هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلا محرم، وروى
سعيد حدثنا جرير عن ليث عن مجاهد قال: لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لان الله تعالى يقول " أو
نسائهن " فليست من نسائهن وعن مكحول وعبادة بن نسي أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية
المسلمة، فأما ما رواه ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمير حدثنا ضمرة قال: قال ابن عطاء عن
أبيه قال: لما قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس كان قوابل نسائهن اليهوديات والنصرانيات فهذا إن صح
فمحمول على حال الضرورة أو أن ذلك من باب الامتهان ثم إنه ليس فيه كشف عورة ولا بد والله أعلم. وقوله
تعالى: " أو ما ملكت أيمانهن " قال ابن جرير يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها، وإن
كانت مشركة لأنها أمتها وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وقال الأكثرون: بل يجوز لها أن تظهر على رقيقها من
295

الرجال والنساء واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود ثنا محمد بن عيسى حدثنا أبو جميع سالم بن دينار عن ثابت
عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي فاطمة بعبد قد وهبه لها قال وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا
غطت به رجليها لم يبلغ رأسها فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك ".
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية أن عبد الله بن مسعدة الفزاري كان
أسود شديد الأدمة وأنه قد كان النبي صلى الله عليه وسلم وهبه لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم قد كان بعد ذلك كله برز مع معاوية أيام
صفين وكان من أشد الناس على علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وروى الإمام أحمد حدثنا سفيان بن عيينة عن
الزهري عن نبهان عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي
فلتحتجب منه " ورواه أبو داود عن مسدد عن سفيان به وقوله تعالى " أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال "
يعني كالاجراء والاتباع الذين ليسوا بأكفاء وهم مع ذلك في عقولهم وله وحوب، ولا همة لهم إلى النساء ولا
يشتهونهن. قال ابن عباس هو المغفل الذي لا شهوة له. وقال مجاهد هو الأبله، وقال عكرمة هو المخنث الذي
لا يقوم ذكره وكذلك قال غير واحد من السلف وفي الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن
مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة يقول
إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن
عليكم " فأخرجه فكان بالبيداء يدخل يوم كل جمعة ليستطعم. وروى الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا
هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمه عن أم سلمة أنها قالت: دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها
مخنث وعندها عبد الله بن أبي أمية يعني أخاها والمخنث يقول: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فعليك
بابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان قال فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لام سلمة " لا يدخلن هذا عليك " أخرجاه
في الصحيحين من حديث هشام ابن عروة. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن
عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث وكانوا يعدونه من
غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت
أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخلن عليكم هذا " فحجبوه ورواه مسلم وأبو داود
والنسائي من طريق عبد الرزاق به عن أم سلمة وقوله تعالى " أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء "
يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهم الرحيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن
فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء فأما إن كان مراهقا أو قريبا منه بحيث يعرف ذلك
ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء فلا يمكن من الدخول على النساء، وقد ثبت في الصحيحين عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إياكم والدخول على النساء " قيل يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: " الحمو الموت "
وقوله تعالى " ولا يضربن بأرجلهن " الآية كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها
خلخال صامت لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك، وكذلك
إذا كان شئ من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهى لقوله تعالى " ولا يضربن
بأرجلهن " إلى آخره. ومن ذلك أنها تنتهي عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها فقد قال
أبو عيسى الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن ثابت بن عمارة الحنفي عن غنيم بن
قيس عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كل عين زانية والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس
فهي كذا وكذا " يعني زانية وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حسن صحيح ورواه أبو داود والنسائي من حديث
ثابت بن عمارة به. وقال أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن عاصم بن عبيد الله عن عبيد مولى أبي
رهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لقيته امرأة شم منها ريح الطيب ولذيلها إعصار فقال يا أمية الجبار جئت
296

من المسجد؟ قالت نعم قال لها: تطيبت؟ قالت نعم قال: إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول " لا يقبل
الله صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة " ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي
شيبة عن سفيان هو ابن عيينة به. وروى الترمذي أيضا من حديث موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن ميمونه
بنت سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها " ومن ذلك
أيضا أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج. قال أبو داود حدثنا التغلبي حدثنا عبد العزيز
يعني ابن محمد عن ابن أبي اليمان عن شداد بن أبي عمرو بن حماس عن أبيه عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن
أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال رسول الله للنساء
" استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق، عليكن بحافات الطريق " فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن
ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به. وقوله تعالى " وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " أي
افعلوا ما آمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق
والصفات الرذيلة فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه والله تعالى هو المستعان.
وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم
(32) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن
أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم (32) ولقد أنزلنا
إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين (34)
اشتملت هذه الآيات الكريمات المبينة على جمل من الاحكام المحكمة والأوامر المبرمة فقوله تعالى " وأنكحوا
الأيامى منكم " إلى آخره هذا أمر بالتزويج. وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه
واحتجوا بظاهر قوله " عليه السلام " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود، وقد جاء في
السنن من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تزوجوا الولود تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة " وفي رواية " حتى
بالسقط " الأيامى جمع أيم ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها وللرجل الذي لا زوجة له وسواء كان قد تزوج ثم
فارق أو لم يتزوج واحد منهما حكاه الجوهري عن أهل اللغة، يقال رجل أيم وامرأة أيم. وقوله تعالى " إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " الآية قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رغبهم الله في التزويج وأمر به
الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى فقال " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا محمود بن خالد الأزرق حدثنا عمر بن عبد الواحد عن سعيد - يعني ابن عبد العزيز - قال بلغني أن أبا بكر
الصديق رضي الله عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى قال تعالى " إن
يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " وعن ابن مسعود التمسوا الغنى في النكاح.
يقول الله تعالى " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " رواه ابن جرير وذكر البغوي عن عمر نحوه. وعن الليث
عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة حق على الله
عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله " رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي
وابن ماجة، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد ومع هذا
297

فزوجه بتلك المرأة وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن. والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه
ما فيه كفاية لها وله، وأما ما يورده كثير من الناس على أنه حديث (تزوجوا فقراء يغنكم الله) فلا أصل له ولم أره
بإسناد قوي ولا ضعيف إلى الآن وفي القرآن غنية عنه وكذا هذه الأحاديث التي أوردناها ولله الحمد والمنة، وقوله
تعالى " وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنهم الله من فضله " هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجا
بالتعفف عن الحرام كما قال صلى الله عليه وسلم " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن
للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " الحديث، وهذه الآية مطلقة والتي في سورة النساء أخص
منها وهي قوله " ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات - إلى قوله - وأن تصبروا خير لكم " أي صبركم
عن تزوج الإماء خير لكم لان الولد يجئ رقيقا " والله غفور رحيم " قال عكرمة في قوله " وليستعفف الذين لا
يجدون نكاحا " قال هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها، وإن
لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى يغنيه الله. وقوله تعالى " والذين يبتغون الكتاب مما
ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن
يكاتبوهم بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه، وقد ذهب كثير من
العلماء إلى أن هذا الامر أمر إرشاد واستحباب لا أمر تحتم وإيجاب بل السيد مخير إذا طلب منه عبده الكتابة إن
شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، قال الثوري عن جابر عن الشعبي إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه، وكذا روى
ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن رجل عن عطاء بن أبي رباح إن يشأ كاتبه وإن يشأ لم يكاتبه وكذا قال مقاتل
ابن حيان والحسن البصري، وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما
طلب أخذا بظاهر هذا الامر. وقال البخاري وقال روح عن ابن جريج قلت لعطاء أواجب علي إذا علمت له مالا
أن أكاتبه؟ قال ما أراه إلا واجبا، وقال عمرو بن دينار قلت لعطاء أتأثره عن أحد؟ قال لا، ثم أخبرني أن موسى
ابن أنس أخبره أن سيرين سأل أنسا المكاتبة وكان كثير المال فأبي فانطلق إلى عمر رضي الله عنه فقال: كاتبه فأبى
فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " فكاتبه هكذا ذكره البخاري معلقا، ورواه
عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج قال قلت لعطاء: أواجب علي إذا علمت له مالا أن أكاتبه؟ قال ما أراه إلا واجبا.
وقال ابن جرير حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن بكر حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك أن سيرين أراد
أن يكاتبه فتلكأ عليه فقال له عمر لتكاتبنه إسناد صحيح، وروى سعيد بن منصور حدثنا هشيم بن جويبر عن
الضحاك قال هي عزمة وهذا هو القول القديم من قولي الشافعي وذهب في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه
السلام " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس " وقال ابن وهب قال مالك: الامر عندنا أنه ليس على سيد
العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ولم أسمع أحدا من الأئمة أكره أحدا على أن يكاتب عبده، قال مالك وإنما ذلك أمر
من الله تعالى وإذن منه للناس وليس بواجب، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم
واختار ابن جرير قول الوجوب لظاهر الآية، وقوله تعالى " إن علمتم فيهم خيرا " قال بعضهم أمانه وقال بعضهم
صدقا، وقال بعضهم مالا، وقال بعضهم حيلة وكسبا، وروى أبو داود في المراسيل عن يحيي بن أبي كثير قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا " قال " إن علمتم لم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس ".
وقوله تعالى " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " اختلف المفسرون فيه فقال بعضهم معناه اطرحوا لهم من الكتابة
بعضها ثم قال بعضهم مقدار الربع وقيل الثلث، وقيل النصف، وقيل جزء من الكتابة من غير حد، وقال آخرون
بل المراد من قوله " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة وهذا قول
الحسن وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وأبيه ومقاتل بن حيان واختاره ابن جرير، وقال إبراهيم النخعي في قوله
" وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال حث الناس عليه مولاه وغيره، وكذا قال بريدة بن الحصيب الأسلمي
298

وقتادة، وقال ابن عباس أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب، وقد تقدم في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" ثلاثة حق على الله عونهم " فذكر منهم المكاتب يريد الأداء والقول الأول أشهر، وقال ابن أبي حاتم حدثنا
محمد بن إسماعيل حدثنا وكيع عن ابن شبيب عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية
فجاء بنجمه حين حل فقال: يا أبا أمية اذهب فاستعن به في مكاتبتك فقال يا أمير المؤمنين لو تركته حتى يكون من
آخر نجم؟ قال أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ " فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم "
قال عكرمة فكان أول نجم أدي في الاسلام. وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة
عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: كان ابن عمر إذا كاتب مكاتب لم يضع عنه شيئا من أول نجومه مخافة
أن يعجز فترجع إليه صدقته، ولكنه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحب، وقال علي بن أبي طلحة عن
ابن عباس في الآية " وآتوهم من مال الله الذي آتاكم " قال ضعوا عنهم من مكاتبتهم، وكذا قال مجاهد وعطاء
والقاسم بن أبي بزة وعبد الكريم بن مالك الجزري والسدي، وقال محمد بن سيرين في الآية كان يعجبهم أن يدع
الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته، وقال ابن أبي حاتم أخبرنا الفضل بن شاذان المقري أخبرنا إبراهيم بن موسى
أخبرنا هشام بن يوسف عن ابن جريج أخبرني عطاء بن السائب أن عبد الله بن جندب أخبره عن علي رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ربع الكتابة " وهذا حديث غريب ورفعه منكر والأشبه أنه موقوف على علي رضي الله عنه
كما رواه عنه أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله.
وقوله تعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " الآية كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل
عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت فلما جاء الاسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك وكان سبب نزول هذه الآية
الكريمة فيما ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف في شأن عبد الله بن أبي بن سلول فإنه كان له إماء
فكان يكرههن على البغاء طلبا لخراجهن ورغبة في أولادهن ورياسة منه فيما يزعم. (ذكر الآثار الواردة في ذلك)
قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار رحمه الله في مسنده حدثنا أحمد بن داود الواسطي حدثنا
أبو عمرو اللخمي يعني محمد بن الحجاج حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري قال كانت جارية لعبد الله بن أبي
ابن سلول يقال لها معاذة يكرهها على الزنا فلما جاء الاسلام نزلت " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء " الآية، وقال
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر في هذه الآية قال نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مسيكة كان
يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى فأنزل الله هذه الآية " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء - إلى قوله -
ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وروى النسائي من حديث ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر
نحوه، وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عمر بن علي حدثنا علي بن سعيد حدثنا الأعمش حدثني أبو سفيان عن
جابر قال كان لعبد الله بن أبي بن سلول جارية يقال لها مسيكة وكان يكرهها على البغاء فأنزل الله " ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء - إلى قوله - ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " صرح الأعمش بالسماع من
أبي سفيان بن طلحة بن نافع فدل على بطلان قول من قال لم يسمع منه إنما هو صحيفة حكاه البزار، وروى أبو داود
الطيالسي عن سليمان بن معاذ عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في
الجاهلية فولدت أولادا من الزنا فقال لها مالك لا تزنين قالت والله لا أزني فضربها فأنزل الله عز وجل " ولا تكرهوا
فتياتكم على البغاء ". وروى البزار أيضا حدثنا أحمد بن داود الواسطي حدثنا أبو عمرو اللخمي يعني محمد
ابن الحجاج حدثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال: كانت جارية لعبد الله بن أبي يقال
لها معاذة يكرهها على الزنا فلما جاء الاسلام نزلت " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا - إلى قوله -
ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أن رجلا من قريش
أسر يوم بدر وكان عند عبد الله بن أبي أسيرا وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها معاذة وكان القرشي الأسير
299

يريدها على نفسها وكانت مسلمة، وكانت تمتنع منه لاسلامها، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها
رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده فقال تبارك وتعالى " ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن
تحصنا ". وقال السدي أنزلت هذه الآية الكريمة في عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين وكانت له جارية
تدعى معاذة وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر
رضي الله عنه فشكت إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا
على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا، وقال مقاتل بن حيان بلغني والله أعلم أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا
يكرهان أمتين لهما إحداهما اسمها مسيكة وكانت للأنصار، وكانت أميمة أم مسيكة لعبد الله بن أبي وكانت معاذة
وأروى بتلك المنزلة فأتت مسيكة وأمها النبي صلى الله عليه وسلم فذكرتا ذلك له فأنزل الله في ذلك " ولا تكرهوا فتياتكم على
البغاء " يعنى الزنا، وقوله تعالى " إن أردن تحصنا " هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، وقوله تعالى " لتبتغوا
عرض الحياة الدنيا " أي من خراجهن ومهورهن أولادهن وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ومهر البغي
وحلوان الكاهن، وفي رواية " مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث " وقوله تعالى " ومن
يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم " أي لهن كما تقدم في الحديث عن جابر، وقال ابن أبي طلحة عن
ابن عباس فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم وإثمهن على من أكرههن، وكذا قال مجاهد وعطاء الخراساني
والأعمش وقتادة: وقال أبو عبيد حدثني إسحاق الأزرق عن عوف عن الحسن في هذه الآية " فإن الله من بعد
إكراههن غفور رحيم " قال لهن والله لهن والله: وعن الزهري قال غفور لهن ما أكرهن عليه وعن زيد بن أسلم قال
غفور رحيم للمكرهات، حكاهن ابن المنذر في تفسيره بأسانيده، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى
ابن عبد الله حدثني ابن لهيعة حدثني عطاء عن سعيد بن جبير قال في قراءة عبد الله بن مسعود " فإن الله من بعد
إكراههن غفور رحيم " لهن وإثمهن على من أكرههن، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى " ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات " يعني القرآن في
آيات واضحات مفسرات " ومثلا من الذين خلوا من قبلكم " أي خبرا عن الأمم الماضية وما حل بهم في
مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى " فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين " أي زاجرا عن ارتكاب المآثم
والمحارم " وموعظة للمتقين " أي لمن اتقى الله وخافه. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن:
فيه حكم ما بينكم وخبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وهو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى
الهدى من غيره أضله الله.
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد
من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره
من يشاء ويضرب الله الأمثل للناس والله بكل شئ عليم (35)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " الله نور السماوات والأرض " يقول هادي أهل السماوات والأرض.
قال ابن جريج قال مجاهد وابن عباس في قوله " الله نور السماوات والأرض " يدبر الامر فيهما نجومهما وشمسهما
وقمرهما وقال ابن جرير حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقي حدثنا وهب بن راشد عن فرقد أن أنس بن مالك
قال: إن الله يقول نوري هدى واختار هذا القول ابن جرير وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي
العالية عن أبي بن كعب في قوله تعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره " قال هو المؤمن الذي جعل الله
300

الايمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال " الله نور السماوات والأرض " فبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن
فقال مثل نور من آمن به، قال فكان أبي بن كعب يقرؤها (مثل نور من آمن به) فهو المؤمن جعل الايمان
والقرآن في صدره وهكذا رواه سعيد بن جبير وقيس بن سعد عن ابن عباس أنه قرأها كذلك (مثل نور من آمن
بالله) وقرأ بعضهم (الله منور السماوات والأرض) وقال الضحاك (الله نور السماوات والأرض) وقال السدي في قوله
" الله نور السماوات والأرض " فبنوره أضاءت السماوات والأرض وفى الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق في
السيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في دعائه يوم آذاه أهل الطائف " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات
وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بي غضبك أو ينزل بي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا
بالله " وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول " اللهم لك
الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن " الحديث
وعن ابن مسعود قال إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار نور العرش من نور وجهه وقوله تعالى " مثل نوره " في هذا
الضمير قولان (أحدهما) أنه عائد إلى الله عز وجل أي مثل هداه في قلب المؤمن قاله ابن عباس " كمشكاة "
والثاني أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة،
فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه كما قال تعالى
" أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج
الشفاف الجوهري وما يستمد به من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا
انحراف فقوله " كمشكاة " قال ابن عباس ومجاهد ومحمد بن كعب وغير واحد: هو موضع الفتيلة من القنديل هذا
هو المشهور ولهذا قال بعده " فيها مصباح " وهو الزبالة التي تضئ. وقال العوفي عن ابن عباس قوله " الله نور
السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " وذلك أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم كيف يخلص نور الله من دون
السماء؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره فقال تعالى " الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة " والمشكاة كوة في
البيت قال وهو مثل ضربه الله لطاعته فسمى الله طاعته نورا ثم سماها أنواعا شتى، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد
هي الكوة بلغة الحبشة وزاد بعضهم فقال المشكاة الكوة التي لا منفذ لها وعن مجاهد المشكاة الحدائد التي يعلق
بها القنديل والقول الأول أولى وهو أن المشكاة هو موضع الفتيلة من القنديل ولهذا قال " فيها مصباح " وهو النور
الذي في الزبالة، قال أبي بن كعب المصباح النور وهو القرآن والايمان الذي في صدره وقال السدي هو السراج
" المصباح في زجاجة " أي هذا الضوء والايمان الذي في صدره وقال السدي: هو السراج
" المصباح في زجاجة " أي هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية، وقال أبي بن كعب وغير واحد وهي نظير قلب
المؤمن " الزجاجة كأنها كوكب دري " قرأ بعضهم بضم الدال من غير همزة من الدر أي كأنها كوكب من در. وقرأ
آخرون درئ ودرئ، بكسر الدال وضمها مع الهمزة من الدرء وهو الدفع، وذلك أن النجم إذا رمي به يكون
أشد استنارة من سائر الأحوال، والعرب تسمي ما لا يعرف من الكواكب دراري، وقال أبي بن كعب: كوكب
مضئ، وقال قتادة مضئ مبين ضخم " يوقد من شجرة مباركة " أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة
" زيتونه " بدل أو عطف بيان " لا شرقية ولا غربية " أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول
النهار ولا في غربها فيقلص عنها الفئ قبل الغروب بل هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى
آخره فيجئ زيتها صافيا معتدلا مشرقا، وروى ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار قال حدثنا عبد الرحمن
ابن عبد الله بن سعد أخبرنا عمرو بن أبي قيس عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " زيتونه لا
شرقية ولا غربية " قال هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ولا يواريها شئ وهو أجود لزيتها
وقال يحيي بن سعيد القطان عن عمران بن حدير عن عكرمة في قوله تعالى " لا شرقية ولا غربية " قال هي
بصحراء ذلك أصفى لزيتها، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا عمرو بن فروخ عن حبيب
301

ابن الزبير عن عكرمة وسأله رجل عن قوله تعالى " زيتونه لا شرقية ولا غربية " قال تلك زيتونة بأرض فلاة إذا
أشرقت الشمس أشرقت عليها فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت. وقال مجاهد في قوله
تعالى " لا شرقية ولا غربية " قال ليست بشرقية لا تصيبها الشمس إذا غربت ولا غربية لا تصيبها الشمس إذا
طلعت ولكنها شرقية وغربية تصيبها إذا طلعت وإذا غربت.
وعن سعيد بن جبير في قوله " زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ " قال هو أجود الزيت قال إذا
طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق فإذا أخذت في الغروب أصابتها الشمس، فالشمس تصيبها بالغداة
والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية. وقال السدي قوله " زيتونة لا شرقية ولا غربية " يقول ليست بشرقية
يحوزها المشرق ولا غربية يحوزها المغرب دون المشرق ولكنها على رأس جبل أو في صحراء تصيبها الشمس
النهار كله. وقيل المراد بقوله تعالى " لا شرقية ولا غربية " أنها في وسط الشجر ليست بادية للمشرق ولا
للمغرب، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى " زيتونة
لا شرقية ولا غربية " قال هي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أي حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت قال
فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يصيبه شئ من الفتن وقد يبتلى بها فيثبته الله فيها فهو بين أربع خلال، إن
قال صدق، وإن حكم عدل، وإن ابتلي صبر، وإن أعطي شكر، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في
قبور الأموات، قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد
ابن جبير في قوله " زيتونه لا شرقية ولا غربية " قال هي وسط الشجر لا تصيبها الشمس شرقا ولا غربا، وقال عطية
العوفي " لا شرقية ولا غربية " قال هي شجرة في موضع من الشجر يرى ظل ثمرها في ورقها وهذه من الشجر لا
تطلع عليها الشمس ولا تغرب، وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار حدثنا عبد الرحمن الدشتكي حدثنا
عمرو بن أبي قيس عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى " لا شرقية ولا
غربية " ليست شرقية ليس فيها غرب ولا غربية ليس فيها شرق ولكنها شرقية غربية، وقال محمد بن كعب
القرظي " لا شرقية ولا غربية " قال هي القبلية وقال زيد بن أسلم " لا شرقية ولا غربية " قال الشام وقال الحسن
البصري لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية، ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره، وقال
الضحاك عن ابن عباس " توقد من شجرة مباركة " قال رجل صالح " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال لا يهودي ولا
نصراني، وأولى هذه الأقوال القول الأول وهو أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس
تقرعه من أول النهار إلى آخره ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف كما قال غير واحد ممن تقدم ولهذا قال تعالى
" يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يعني كضوء إشراق الزيت، وقوله تعالى
" نور على نور " قال العوفي عن ابن عباس يعني بذلك إيمان العبد وعمله، وقال مجاهد والسدي يعني نور النار
ونور الزيت، وقال أبي بن كعب " نور على نور " فهو يتقلب في خمسة من النور، فكلامه نور، وعمله نور،
ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة، وقال شمر بن عطية جاء ابن عباس إلى
كعب الأحبار فقال حدثني عن قول الله تعالى " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " قال يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين
للناس ولو لم نتكلم أنه نبي كما يكاد ذلك الزيت أنه يضئ. وقال السدي في قوله " نور على نور " قال نور النار
ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضئ واحد بغير صاحبه كذلك نور القرآن ونور الايمان حين اجتمعا فلا يكون
واحد منهما إلا بصاحبه. وقوله تعالى " يهدي الله لنوره من يشاء " أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره كما جاء
في الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري حدثنا الأوزاعي
حدثني ربيعة بن زيد عن عبد الله الديلمي عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله تعالى خلق
خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذ فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأه ضل فلذلك أقول جف
302

القلم على علم الله عز وجل (طريق أخري عنه) قال البزار حدثنا أيوب عن سويد عن يحيي بن أبي عمرو
الشيباني عن أبيه عن عبد الله بن عمرو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله خلق خلقه في ظلمة فألقى عليهم نورا
من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل " ورواه البزار عن عبد الله بن عمرو من طريق آخر بلفظه
وحروفه. وقوله تعالى " ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم " لما ذكر تعالى هذا مثلا لنور هداه في
قلب المؤمن ختم الآية بقوله " ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم " أي هو أعلم بمن يستحق الهداية
ممن يستحق الاضلال. قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا أبو معاوية حدثنا شيبان عن ليث عن عمرو بن مرة
عن أبي البحتري عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج
يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه
فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأما القلب
المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الايمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة
يمدها الدم والقيح. فأي المدتين غلبت على لاخرى غلبت عليه " إسناده جيد ولم يخرجوه.
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع
عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصر (37) ليجزيهم الله أحسن ما
عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب (38)
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت
طيب وذلك كالقنديل مثلا ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض وهي بيوته
التي يعبد فيها ويوحد فقال تعالى " في بيوت أذن الله أن ترفع " أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس
واللغو والأقوال والافعال التي لا تليق فيها، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة " في
بيوت أذن الله أن ترفع " قال نهى الله سبحانه عن اللغو فيها وكذا قال عكرمة وأبو صالح والضحاك ونافع بن جبير
وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة وسفيان بن حسين وغيرهم من العلماء المفسرين. وقال قتادة هي هذه
المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها. وقد ذكر لنا أن كعبا كان يقول: مكتوب في
التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ثم زارني في بيتي أكرمته وحق على المزور
كرامة الزائر. رواه عبد الرحمن ابن أبي حاتم في تفسيره. وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها
وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها وذلك له محل مفرد يذكر فيه وقد كتبت في ذلك جزءا على حدة ولله الحمد والمنة.
ونحن بعون الله تعالى نذكر هنا طرفا من ذلك إن شاء الله تعالى وبه الثقة وعليه التكلان، فعن أمير المؤمنين
عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بني الله له مثله
في الجنة " أخرجاه في الصحيحين وروى ابن ماجة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة " وللنسائي عن عمر بن عنبسة مثله والأحاديث في هذا
كثيرة جدا وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب. رواه
أحمد وأهل السنن إلا النسائي، ولأحمد وأبي داود عن سمرة بن جندب نحوه وقال البخاري قال عمر: ابن للناس
ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس، وروى ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ساء عمل قوم قط إلا
زخرفوا مساجدهم " وفي إسناده ضعف. وروى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أمرت بتشييد
المساجد " قال ابن عباس أزخرفها كما زخرفت اليهود والنصارى. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
303

صلى الله عليه وسلم " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " رواه أحمد وأهل السنن إلا الترمذي. وعن بريدة أن رجلا
أنشد في المسجد فقال من دعا إلى الجمل الأحمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا وجدت إنما بنيت المساجد لما بنيت له "
رواه مسلم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع والابتياع وعن تناشد
الاشعار في المساجد. رواه أحمد وأهل السنن وقال الترمذي حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في
المسجد فقولوا لا ردها الله عليك " رواه الترمذي وقال حسن غريب، وقد روى ابن ماجة وغيره من حديث ابن عمر
مرفوعا قال: " خصال لا تنبغي في المسجد: ولا يتخذ طريقا ولا يشهر فيه سلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه
نبل ولا يمر فيه بلحم نئ ولا يضرب فيه حد ولا يقتص فيه أحد ولا يتخذ سوقا " وعن واثلة بن الأسقع عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم وخصوماتكم ورفع أصواتكم وإقامة حدودكم
وسل سيوفكم واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع " ورواه ابن ماجة أيضا وفي إسنادهما ضعف، أما
أنه لا يتخذ طريقا فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلا لحاجة إذا وجد مندوحة عنه، وفي الأثر إن الملائكة
لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه، وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل
فلما يخشي من إصابة بعض الناس به لكثرة المصلين فيه، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر رجل بسهام أن يقبض
على نصالها لئلا يؤذي أحدا كما ثبت ذلك في الصحيح. وأما النهي عن المرور باللحم النئ فيه فلما يخشي من
تقاطر الدم منه كما نهيت الحائض عن المرور فيه إذا خافت التلويث، وأما أنه لا يضرب فيه حد ولا يقتص منه
فلما يخشي من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع، وأما أنه لا يتخذ سوقا فلما تقدم من النهي عن
البيع والشراء فيه فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الاعرابي الذي بال في طائفة المسجد
" إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها " ثم أمر بسجل من ماء فأهريق على بوله وفي
الحديث الثاني " جنبوا مساجدكم صبيانكم " وذلك لانهم يلعبون فيه ولا يناسبهم. وقد كان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إذا رأى صبيانا يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا
يترك فيه أحدا " ومجانينكم " يعني لأجل ضعف عقولهم وسخر الناس بهم فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشي من
تقذيرهم المسجد ونحو ذلك " وبيعكم وشراءكم " كما تقدم " وخصوماتكم " يعني التحاكم والحكم فيه، ولهذا
نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد بل يكون في موضع غيره لما فيه من
كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه، ولهذا قال بعده " ورفع أصواتكم ".
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا يحيي بن سعيد حدثنا الجعد بن عبد الرحمن قال: حدثني يزيد بن
حفصة عن السائب بن يزيد الكندي قال: كنت قائما في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا عمر بن الخطاب
فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما فقال من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف. قال: لو كنتما
من أهل البلد لأوجعتكما ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال النسائي: حدثنا سويد بن نصر عن
عبد الله بن المبارك عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر
صوت رجل في المسجد فقال أتدري أين أنت؟ وهذا أيضا صحيح وقوله: " وإقامة حدودكم وسل سيوفكم "
تقدما وقوله " واتخذوا على أبوابها المطاهر " يعنى المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة. وقد
كانت قريبا من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار (1) يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وغير ذلك. وقوله
" وجمروها في الجمع " يعني بخروها في أيام الجمع لكثرة اجتماع الناس يومئذ، وقد قال الحافظ أبو يعلي
(1) في النسخة المكية: أباريق.
304

الموصلي حدثنا عبيد الله حد ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كان
يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة إسناده حسن لا بأس به والله أعلم. وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا " وذلك أنه إذا
توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها
خطيئة، فإذا صلي لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه. ولا يزال
في صلاة ما انتظر الصلاة. وعند الدارقطني مرفوعا " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد " وفي السنن " بشر
المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة " ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى وأن
يقول كما ثبت في صحيح البخاري (1) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل
المسجد يقول " أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم " قال فإذا قال ذلك
قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم. وروى مسلم بسنده عن أبي حميد أو أبي أسيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك. وإذا خرج فليقل: اللهم افتح لي أبواب فضلك "
ورواه النسائي عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل أحدكم
المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل:
اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم " ورواه ابن ماجة وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وقال الإمام أحمد
حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن أبي سليم عن عبد الله بن حسين عن أمه فاطمة بنت حسين عن جدتها
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال " اللهم
اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك " وإذا خرج خرج صلى على محمد وسلم ثم قال " اللهم اغفر لي ذنوبي
وافتح لي أبواب فضلك " ورواه الترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن وإسناده ليس بمتصل لان
فاطمة بنت حسين الصغرى لم تدرك فاطمة الكبرى فهذا الذي ذكرناه مع ما تركناه من الأحاديث الواردة في ذلك
كله محاذرة الطول داخل في قوله تعالي " في بيوت أذن الله أن ترفع " وقوله " ويذكر فيها اسمه " أي اسم الله
كقوله " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد " وقوله " وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له
الدين " وقوله " وأن المساجد لله " الآية. وقوله تعالى " ويذكر فيها اسمه " قال ابن عباس يعني يتلى كتابه،
وقوله تعالى " يسبح له فيها بالغدو والآصال " أي في البكرات والعشيات. والآصال جمع أصيل وهو آخر
النهار. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن هو الصلاة وقال علي بن أبي طلحة عن ابن
عباس: يعني بالغدو صلاة الغداة ويعني بالآصال صلاة العصر وهما أول ما افترض الله من الصلاة فأحب أن
يذكرهما وأن يذكر بهما عبادة. وكذا قال الحسن والضحاك " يسبح له فيها بالغدو والآصال " يعني الصلاة، ومن
قرأ من القراء (يسبح له فيها بالغدو والآصال) بفتح الباء من (يسبح) على أنه مبني لما لم يسم فاعله وقف
على قوله " والآصال " وقفا تاما وابتدأ بقوله " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " وكأنه مفسر للفاعل
المحذوف كما قال الشاعر:
ليبك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
كأنه قال: من يبكيه قال هذا يبكيه، وكأنه قيل من يسبح له فيها؟ قال رجال. وأما على قراءة من قرأ " يسبح "
بكسر الباء فجعله فعلا وفاعله " رجال " فلا يحسن الوقف إلا على الفاعل لأنه تمام الكلام فقوله تعالى
" رجال " فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية التي بها صاروا عمارا للمساجد التي هي بيوت الله
(1) هو في أبي داود.
305

في أرضه ومواطن عبادته وشكره وتوحيده وتنزيهه كما قال تعالى " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله
عليه " الآية وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في
بيتها ".
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيي بن غيلان حدثنا رشدين حدثني عمرو عن أبي السمح عن السائب مولى أم سلمة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خير مساجد النساء قعر بيوتهن " وقال أحمد أيضا: حدثنا هارون أخبرني عبد الله
ابن وهب حدثنا داود بن قيس عن عبد لله بن سويد الأنصاري عن عمته أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها
جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال: " قد علمت أنك تحبين الصلاة معي،
وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك
في دارك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك
في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي " قال
فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى، لم يخرجوه. هذا
ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب كما ثبت في
الصحيح عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " رواه البخاري
ومسلم، ولأحمد وأبي داود " وبيوتهن خير لهن " وفي رواية " وليخرجن وهن تفلات " أي لا ريح لهن. وقد ثبت
في صحيح مسلم عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا شهدت إحداكن المسجد فلا
تمس طيبا " وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس، وفي الصحيحين عنها أيضا أنها قالت: لو أدرك رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل. وقوله تعالى " رجال لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله " كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله " الآية وقوله
تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع " الآية يقول تعالى لا
تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها ورجحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم والذين يعلمون أن
الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم لان ما عندهم ينفذ وما عند الله باق، ولهذا قال تعالى " لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم،
قال هشيم عن شيبان قال حدثت عن ابن مسعود أنه رأى قوما من أهل السوق حيث نودي للصلاة المكتوبة تركوا
بياعتهم ونهضوا إلى الصلاة فقال عبد الله بن مسعود هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه " رجال لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله " الآية وهكذا روى عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد فقال ابن عمر فيهم نزلت " رجال لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن
عبد الله بن بكير الصنعاني حدثنا أبو سعيد مولى بن هاشم حدثنا عبد الله بن بجير حدثنا أبو عبد ربه قال: قال أبو
الدرداء رضي الله عنه إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه أربح كل يوم ثلثمائة دينار أشهد الصلاة في كل يوم في
المسجد أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم " رجال لا تلهيهم
تجارة ولا بيع عن ذكر الله ". وقال عمرو بن دينار الأعور كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا
بسوق المدينة وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس معها أحد فتلا سالم هذه الآية
" رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " ثم قال هم هؤلاء، وكذا قال سعيد بن أبي الحسن والضحاك لا
تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها. وقال مطر الوراق كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا
306

سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " لا تلهيهم تجارة
ولا بيع عن ذكر الله " يقول عن الصلاة المكتوبة، وكذا قال مقاتل بن حيان والربيع بن أنس وقال السدي عن
الصلاة في جماعة. وقال مقاتل بن حيان لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله وأن
يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها. وقوله تعالى " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " أي يوم
القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والابصار أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال كقوله " وأنذرهم يوم الآزفة " الآية
وقوله " إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار " وقال تعالى " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا *
إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوم عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر
ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا " وقوله تعالى ههنا " ليجزيهم الله أحسن ما
عملوا " أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم وقوله " ويزيدهم من فضله " أي يتقبل منهم
الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى " إن الله لا يظلم مثقال ذرة " الآية وقال تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر
أمثالها " الآية وقال " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا " الآية وقال " والله يضاعف لمن يشاء " وقال ههنا
" والله يرزق من يشاء بغير حساب " وعن ابن مسعود أنه جئ بلبن فعرضه على جلسائه واحدا واحدا فكلهم لم
يشربه لأنه كان صائما فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطرا ثم تلا قوله " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب
والابصار " رواه النسائي وابن أبي حاتم من حديث الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه. وقال أيضا حدثنا أبي
حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت
يزيد بن السكن قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع
الخلائق سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل ثم
يحاسب سائر الخلائق " وروى الطبراني من حديث بقية عن إسماعيل بن عبد الله الكندي عن الأعمش عن أبي
وائل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله " قال أجورهم يدخلهم الجنة
ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا.
والذين كفروا أعملهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفه
حسابه والله سريع الحساب (39) أو كظلمات في بحر لجي يغشه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمت
بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور (40)
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار كما ضرب للمنافقين في أول البقرة مثلين ناريا ومائيا وكما ضرب لما
يقر في القلوب من الهدى والعلم في سورة الرعد مثلين مائيا وناريا، وقد تكلمنا على كل منهما في موضعه بما
أغنى عن إعادته ولله الحمد والمنة. فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون
أنهم علي شئ من الأعمال والاعتقادات وليسوا في نفس الامر على شئ فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى
في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحر طام، والقيعة جمع قاع كجار وجيرة، والقاع أيضا واحد القيعان كما
يقال جار وجيران وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار
وأما الآل فإنما يكون أول النهار يرى كأنه ماء بن السماء والأرض فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء
يحسبه ماء قصده ليشرب منه فلما إنتهى إليه " لم يجده شيئا " فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد
حصل شيئا فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئا بالكلية قد قبل إما لعدم
الاخلاص أو لعدم سلوك الشرع كما قال تعالى " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " وقال ههنا
" ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " وهكذا روي عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة
307

وغير واحد. وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون؟ فيقولون كنا نعبد عزير ابن الله. فيقال
كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون يا رب عطشنا فاسقنا فيقال ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها
سرب يحطم بعضها بعضا فينطلقون فيتهافتون فيها، وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب فأما أصحاب الجهل
البسيط وهم الطماطم الأغشام المقلدون لائمة الكفر الصم البكم الذي لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى " أو
كظلمات في بحر لجي " قال قتادة " لجي " هو العميق " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات
بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها " أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام فهذا مثل قلب الكافر
الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب بل كما يقال في المثل للجاهل أين
تذهب؟ قال معهم قيل فإلى أين يذهبون؟ قال لا أدري. وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما " يغشاه
موج " الآية يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر وهي كقوله " ختم الله على قلوبهم وعلى
سمعهم وعلى أبصارهم " الآية وكقوله " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه
وجعل على بصره غشاوة " الآية، وقال أبي بن كعب في قوله تعالى " ظلمات بعضها فوق بعض " فهو يتقلب
في خمسة من الظلم فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى
الظلمات إلى النار، وقال السدي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضا، وقوله تعالى " ومن لم يجعل الله له نورا فما
له من نور " أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر كقوله " من يضلل الله فلا هادي له " وهذا في
مقابلة ما قال في مثل المؤمنين " يهدي الله لنوره من يشاء " فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نورا وعن
أيماننا نورا وعن شمائلنا نورا وأن يعظم لنا نورا.
ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صفت كل قد علم صلاته وتسبيحة والله عليم بما
يفعلون (41) ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير (42)
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السماوات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد كما
قال تعالى " تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن " الآية وقوله تعالى " والطير صافات " أي في حال
طيرانها تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة ولهذا قال تعالى " كل قد علم
صلاته وتسبيحه " أي كل قد أرشده إلي طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل. ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا
يخفى عليه من ذلك شئ ولهذا قال تعالى " والله عليم بما يفعلون ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات
والأرض فهو الحاكم المتصرف الاله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له ولا معقب لحكمه " وإلى الله المصير "
أي يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاء " ليجزي الذين أساءوا بما عملوا " الآية فهو الخالق المالك الاله الحكم في
الدنيا والاخرى وله الحمد في الأولى والآخرة.
ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلله وينزل من السماء من جبال
فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار (43) يقلب الله الليل
والنهار إن في ذلك لعبرة لاولي الأبصار (44)
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الازجاء " ثم يؤلف بينه " أي يجمعه بعد
تفرقه " ثم يجعله ركاما " أي متراكما أي يركب بعضه بعضا " فترى الودق " أي المطر " يخرج من خلاله "
أي من خلله وكذا قرأها ابن عباس والضحاك، قال عبيد بن عمير الليثي يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قما ثم
308

يبعث الله الناشئة فتنشئ السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب. رواه
ابن أبي حاتم وابن جرير رحمهما الله، وقوله " وينزل من السماء من جبال فيما من برد " قال بعض النحاة
" من " الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض والثالثة لبيان الجنس. وهذا إنما يجئ على قول من ذهب من
المفسرين إلى أن قوله " من جبال فيها من برد " معناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد، وأما من جعل
الجبال ههنا كناية عن السحاب فإن من الثانية عند هذا لابتداء الغاية أيضا لكنها بدل من الأولى والله أعلم وقوله
تعالى " فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء " يحتمل أن يكون المراد بقوله " فيصيب به " أي بما ينزل من
السماء من نوعي المطر والرد فيكون قوله " فيصيب به من يشاء " رحمة لهم " ويصرفه عمن يشاء " أي يؤخر
عنهم الغيث ويحتمل أن يكون المراد بقوله " فيصيب به " أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من نثر ثمارهم
وإتلاف زروعهم وأشجارهم ويصرفه عمن يشاء رحمة بهم وقوله " يكاد سنا برقه يذهب بالابصار " أي يكاد ضوء
برقه من شدته يخطف الابصار إذا أتبعته وتراءته. وقوله تعالى " يقلب الليل والنهار " أي يتصرف فيهما فيأخذ
من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيرا ويقصر الذي كان طويلا
والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه " إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار " أي لدليلا على عظمته
تعالى كما قال تعالى " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لاولي الألباب " وما بعدها
من الآيات الكريمات.
والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع
يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير (45)
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها
وسكناتها من ماء واحد " فمنهم من يمشي على بطنه " كالحية وما شاكلها " ومنهم من يمشي على رجلين "
كالانسان والطير " ومنهم من يمشي على أربع " كالانعام وسائر الحيوانات ولهذا قال " يخلق الله ما يشاء " أي
بقدرته لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ولهذا قال " إن الله على كل شئ قدير ".
لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (46)
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والحكم والامثال البينة المحكمة كثيرا جدا وأنه يرشد إلى تفهمها
وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهي ولهذا قال " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ".
ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين (47) وإذا دعوا إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون (48) وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين (49) أفي
قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون (50) إنما كان قول
المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51) ومن
يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون (52)
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون يقولون قولا بألسنتهم " آمنا بالله وبالرسول
وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون ولهذا قال تعالى
309

" وما أولئك بالمؤمنين " وقوله تعالى " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " الآية أي إذا طلبوا إلى اتباع
الهدى فيما أنزل الله إلى رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن أتباعه وهذه كقوله تعالى " ألم تر إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك - إلى قوله - رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا "
وفي الطبراني من حديث روح بن عطاء عن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا " من دعي إلى
سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له " وقوله تعالى " وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين " أي وإذا كانت
الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله " مذعنين " وإذا كانت الحكومة عليه
أعرض ودعا إلى غير الحق وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله، ثم فإذعانه أولا لم يكن عن
اعتقاد منه أن ذلك هو الحق بل لأنه موافق لهواه ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره ولهذا
قال تعالى " أفي قلوبهم مرض " الآية يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها أو قد
لها شك في الدين أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم. وأياما كان فهو كفر محض والله عليم
بكل منهم وما هو منطو عليه من هذه الصفات. وقوله تعالى " بل أولئك هم الظالمون " أي بل هم الظالمون
الفاجرون، والله ورسوله مبرءان مما يظنون ومتوهمون من الحيف والجور تعالى الله ورسوله عن ذلك. قال
ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا مبارك حدثنا الحسن قال: كان الرجل إذا كان بينه
الرجل منازعة فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق، وإذا أراد أن يظلم
فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض وقال أنطلق إلى فلان فأنزل الله هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من كان بينه وبين أخيه
شئ فدعي إلى حكم من أحكام المسلمين فأبى أن يجيب فهو ظالم لا حق له " وهذا حديث غريب وهو مرسل،
ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله فقال
" إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " أي سمعا وطاعة،
ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب فقال تعالى " وأولئك هم المفلحون " وقال
قتادة في هذه الآية " أيقولوا سمعنا وأطعنا " ذكر لنا أن عبادة بن الصامت وكان عقبيا بدريا أحد نقباء الأنصار
أنه لما حضره الموت قال لابن أخيه جنادة بن أبي أمية: ألا أنبئك بماذا عليك وبماذا لك؟ قال بلى قال فإن
عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك، وعليك أن تقيم لسانك بالعدل، وأن لا
تنازع الامر أهله إلا أن يأمروك بمعصية الله بواحا فما أمرت به من شي يخالف كتاب الله فاتبع كتاب الله. وقال
قتادة: ذكر لنا أن أبا الدرداء قال: لا إسلام إلا بطاعة الله، ولا خير إلا في جماعة والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة
وللمؤمنين عامة، قال وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: عروة الاسلام شهادة أن لا إله
إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين. رواه ابن أبي حاتم والأحاديث والآثار في
وجوب الطاعة لكتاب الله وسنة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا
المكان.
وقوله " ومن يطع الله ورسوله " قال قتادة: يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه ويخش الله فيما مضى
من ذنوبه ويتقه فيما يستقبل. وقوله " فأولئك هم الفائزون " يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في
الدنيا والآخرة.
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون (53) قل أطيعوا
الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلغ
المبين (54)
310

يقول تعالى مخبرا عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن، قال
الله تعالى " قل لا تقسموا " أي لا تحلفوا، وقوله " طاعة معروفة " قيل معناه طاعتكم طاعة معروفة أي قد علم
طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه وكلما حلفتم كذبتم كما قال تعالى " يحلفون لكم لترضوا عنهم " الآية. وقال
تعالى " اتخذوا أيمانهم جنة " الآية فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه كما قال تعالى " ألم تر إلى
الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا
وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون * لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن
نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون " وقيل المعنى في قوله " طاعة معروفة " أي ليكن أمركم طاعة معروفة أي
بالمعروف من غير حلف ولا أقسام كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف ولا أقسام فكونوا أنتم مثلهم " إن
الله خبير بما تعلمون " أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، فالحلف وإظهار الطاعة والباطن بخلافه وإن
راج على المخلوق فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى لا يروج عليه شئ من التدليس بل هو خبير بضمائر عباده وإن
أظهروا خلافها ثم قال تعالى " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " أي اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله. وقوله تعالى
" فإن تولوا " أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به " فإنما عليه ما حمل " أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة " وعليكم ما
حملتم " أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه " وإن تطيعوه تهتدوا " وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم
" صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض " الآية وقوله تعالى " وما على الرسول إلا البلاغ المبين "
كقوله تعالى " فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " وقوله " فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر " قال وهب
بن منبه أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء أن قم في بني إسرائيل فإني سأطلق لسانك
بوحي فقام فقال: يا سماء اسمعي ويا أرض انصتي فإن الله يريد أن يقضي شأنا ويدبر أمرا هو منفذه إنه يريد أن
يحول الريف إلى الفلاة والآجام في الغيطان والأنهار في الصحاري والنعمة في الفقراء والملك في الرعاة ويريد أن
يبعث أميا من الأميين ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق لو يمر على السراج لم يطفئه من سكينته ولو
يمشي على القصب واليابس لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه بشيرا ونذيرا لا يقول الخنى أفتح به أعينا عميا وآذانا
صما وقلوبا غلفا، وأسدده بكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل عميا وآذانا
صما وقلوبا غلفا، وأسدده بكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى
ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته والعدل سيرته،
والهدى إما مه، والاسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به من الجهالة، وأرفع به بعد
الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به
بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتتة، وأستنفذ به فئاما من الناس عظيما من الهلكة، وأجعل أمته خير
أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين بما جاءت به
الرسل. رواه ابن أبي حاتم.
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم
دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك
هم الفاسقون (55)
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة
عليهم 7 وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا وحكما فيهم وقد فعله تبارك
وتعالى وله الحمد والمنة: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض
311

اليمن بكمالها وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر
وإسكندرية وهو المقوقس، وملوك عمان والنجاشي ملك الحبشة الذي تملك بعد أصحمة رحمه الله وأكرمه. ثم لما
مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأختار الله له ما عنده من الكرامة قام بالامر بعده خليفته أبو بكر الصديق فلم شعث ما وهى
بعد موته صلى الله عليه وسلم وأخذ جزيرة العرب ومهدها وبعث جيوش الاسلام إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد رضي الله
عنه ففتحوا طرفا منها وقتلوا خلقا من أهلها. وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة رضي الله عنه ومن أتبعه من الامراء إلى
أرض الشام، وثالثا صحبة عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه
بصرى ودمشق ومخاليفهما من بلاد حوران وما والاها وتوفاه الله عز وجل واختار له ما عنده من الكرامة. ومن على
أهل الاسلام بأن
ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالامر بعده قياما تاما لم يدر الفلك بعد الأنبياء على
مثله في قوة سيرته وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم
فارس. وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته وقصر قيصر. وانتزع يده عن بلاد الشام
وانحدر إلى القسطنطينية، وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به رسول الله، عليه من ربه أتم
سلام وأزكى صلاة، ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الاسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها،
ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط
ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد لصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان
والأهواز وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان، وجبي الخراج من
المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه
الأمة على حفظ القرآن، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها
ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها " فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله فنسأل الله
الايمان به وبرسوله والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا.
قال الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه: حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن جابر
ابن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقو: " لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا " ثم تكلم النبي
صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال قال " كلهم من قريش " ورواه البخاري من
حديث شعبة عن عبد الملك بن عمير به، وفي رواية لمسلم أنه قال ذلك عشية رجم ماعز بن مالك وذكر معه
أحاديث أخر وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادل وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني
عشر فإن كثيرا من أولئك لم يكن لهم من الامر شئ، فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون وقد
وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ثم لا يشترط أن يكون متتابعين بل يكون وجودهم في الأمة متتابعا
ومتفرقا، وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ثم كانت بعدهم
فترة ثم وجد منهم من شاء الله، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى، ومنهم المهدي
الذي أسمه يطابق أسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنيته كنيته يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما وقد روى الإمام أحمد
وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث سعيد بن جهمان عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا عضوضا " وقال الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله " وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم
الذين ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا " الآية قال كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحوا من عشر سنين
يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سرا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى
المدينة فقدموها فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح فصبروا على
312

ذلك ما شاء الله ثم إن رجلا من الصحابة قال يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن
فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملا العظيم
محتبيا ليست فيه حديدة " وأنزل الله هذه الآية فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فآمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن
الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل
عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فغير بهم وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية، وقال البراء بن عازب نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد، وهذه الآية
الكريمة كقوله تعالى " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض - إلى قوله - لعلكم تشكرون " وقوله تعالى
" كما استخلف الذين من قبلهم " كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه " عسى ربكم أن يهلك
عدوكم ويستخلفكم في الأرض " الآية وقال تعالى " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض " الآيتين.
وقوله " وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم " الآية كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه
" أتعرف الحيرة؟ " قال لم أعرفها ولكن قد سمعت بها قال " فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الامر حتى تخرج
الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز " قلت كسرى بن هرمز؟
قال " نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد " قال عدي بن حاتم فهذه الظعينة تخرج من الحيرة
فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن أبي سلمة عن الربيع بن أنس
عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بشر هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في
الأرض فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب " وقوله تعالى " يعبدونني لا يشركون بي
شيئا " قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا همام حدثنا قتادة عن أنس أن معاذ بن جبل حدثه قال: بينا أنا رديف
النبي صلى الله عليه وسلم على حمار ليس بيني وبينه إلا آخرة الرحل قال " يا معاذ " قلت لبيك يا رسول ل الله وسعديك قال: ثم
سار ساعة ثم قال " يا معاذ بن جبل " قلت لبيك يا رسول الله وسعديك ثم سار ساعة ثم قال " يا معاذ بن جبل "
قلت لبيك يا رسول الله وسعديك قال " هل تدري ما حق الله على العباد " قلت الله ورسوله أعلم، قال " حق الله
على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا " قال ثم سار ساعة ثم قال " يا معاذ بن جبل " قلت لبيك يا رسول الله
وسعديك قال " فهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ " قال قلت الله ورسوله أعلم قال " فإن حق
العباد على الله أن لا يعذبهم " أخرجاه في الصحيحين من حديث قتادة وقوله تعالى " ومن كفر بعد ذلك فأولئك
هم الفاسقون " أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنبا عظيما، فالصحابة
رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأوامر الله عز وجل وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم أظهروا
كلمة الله في المشارق والمغارب وأيدهم تأييدا عظيما وحكموا في سائر العباد والبلاد، ولما قصر الناس بعدهم
في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم
ولكن قد ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية -
حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك - وفي رواية - حتى يقاتلون الدجال - وفي رواية - حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم
ظاهرون " وكل هذه الروايات صحيحة ولا تعارض بينها.
وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون (56) لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم
النار ولبئس المصير (57)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بإقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة وهي الاحسان إلى
313

المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي سالكين وراءه فيما به أمرهم،
وترك ما عنه زجرهم، لعل الله يرحمهم بذلك، ولا شك أن من فعل هذا أن الله سيرحمه كما قال تعالى في الآية
الأخرى " أولئك سيرحمهم الله ". " لا تحاسبن " أي لا تظن يا محمد أن " الذين كفروا " أي خالفوك
وكذبوك " معجزين في الأرض " أي لا يعجزون الله بل الله قادر عليها وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ولهذا
قال تعالى " ومأواهم " أي في الدار الآخرة " النار ولبئس المصير " أي بئس المآل مآل الكافرين، وبئس القرار
وبئس المهاد.
يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث مرات من قبل صلاة
الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح
بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم (58) وإذا بلغ الأطفال منكم
الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلكم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم (59) والقواعد من
النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن
والله سميع عليم (60)
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان
الأجانب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين
لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال (الأول) من قبل صلاة الغداة لان الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم
" وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة " أي في وقت القيلولة لان الانسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله
" ومن بعد صلاة العشاء " لأنه وقت النوم، فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال
لما يخشى أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال ولهذا قال " ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا
عليهم جناح بعدهن " أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم ولا عليهم إن
رأوا شيئا من غير تلك الأحوال لأنه قد أذن لهم في الهجوم ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك.
ويغتفر في الطوافين ما لا يغتفر في غيرهم ولهذا روى الامام مالك وأحمد بن حنبل وأهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
في الهرة " إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم أو والطوافات ". ولما كانت هذه الآية محكمة ولم تنسخ
بشئ وكان عمل الناس بها قليلا جدا أنكر عبد الله بن عباس ذلك على الناس كما قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو
زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني عبد الله بن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: قال
ابن عباس ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " إلى آخر
الآية والآية التي في سورة النساء " وإذا حضر القسمة أولوا القربى " الآية، والآية التي في الحجرات " إن
أكرمكم عند الله أتقاكم " وفي لفظ له أيضا من حديث إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عن عمرو بن دينار عن عطاء
ابن أبي رباح عن ابن عباس قال: غلب الشيطان الناس على ثلاث آيات فلم يعملوا بهن " يا أيها الذين آمنوا
ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " إلى آخر الآية. وروى أبو داود حدثنا ابن الصباح وابن سفيان وابن عبدة وهذا
حديثه أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول: لم يؤمن بها أكثر الناس آية الاذن وإني لآمر
جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس يأمر به، وقال الثوري عن موسى بن أبي
عائشة سألت الشعبي " ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم " قال: لم تنسخ قلت فإن الناس لا يعملون بها فقال:
314

الله المستعان. وقال ابن أبي حاتم حدثنا الربيع بن سليمان حدثنا ابن وهب أخبرنا سليمان بن بلال عن عمرو
ابن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في الثلاث عورات التي أمر الله بها في
القرآن فقال ابن عباس: إن الله ستير يحب الستر، كان الناس ليس لهم سطور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم
فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي
سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن
ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به. وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه أبو داود عن القعنبي عن
الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو به: وقال السدي كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يواقعوا
نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا
عليهم في تلك الساعات إلا بإذن، وقال مقاتل بن حيان بلغنا والله أعلم أن رجلا من الأنصار وامرأته أسماء بنت
مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فجعل الناس يدخلون بغير إذن: فقالت أسماء يا رسول الله ما أقبح هذا إنه ليدخل
على المرأة وزوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن فأنزل الله في ذلك " يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين
ملكت أيمانكم " إلى آخرها، ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله " كذلك يبين الله لكم الآيات والله حكيم عليم
" ثم قال تعالى " وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم " يعني إذا بلغ
الأطفال منكم الحلم الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم وجب عليهم أن يستأذنوا
على كل حال يعني بالنسبة إلى أجانبهم وإلى الأحوال التي يكون الرجل على امرأته، وإن لم يكن في الأحوال
الثلاث.
قال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير إذا كان الغلام رباعيا فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ
الحلم فليستأذن على كل حال. وهكذا قال سعيد بن جبير. وقال في قوله " كما استأذن الذين من قبلهم " يعني
كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه، وقوله " والقواعد من النساء " قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان
والضحاك وقتادة هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويأسن من الولد " اللاتي لا يرجون نكاحا " أي لم يبق لهن
تشوف إلى التزوج " فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة " أي ليس عليهم من الحجر في
التستر كما على غيرهن من النساء. قال أبو داود حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن الحسين بن واقد
عن أبيه عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن " الآية فنسخ من ذلك
واستثنى من ذلك القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا الآية. قال ابن مسعود في قوله " فليس عليهن جناح
أن يضعن ثيابهن " قال الجلباب أو الرداء وكذلك روي عن ابن عباس وابن عمر ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي
الشعثاء وإبراهيم النخعي والحسن وقتادة والزهري والأوزاعي وغيرهم، وقال أبو صالح تضع الجلباب وتقوم بين
يدي الرجل في الدرع والخمار وقال سعيد بن جبير وغيره في قراءة عبد الله بن مسعود (أن يضعن من ثيابهن) وهو
الجلباب من فوق الخمار فلا بأس أن يضعن عند غريب أو غيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق. وقال سعيد
ابن جبير في الآية " غير متبرجات بزينة " يقول لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة. وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن عبد الله حدثنا ابن المبارك حدثني سوار بن ميمون حدثنا طلحة بن عاصم عن أم
المصاعن (1) أنها قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض
والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق فقالت: يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة أحل الله
لكن الزينة غير متبرجات، أي لا يحل لكن أن يروا منكن محرما. وقال السدي كان شريك لي يقال له مسلم،
(1) لم نر هذا الاسم في كتب أسماء الرواة وفي النسخة الأميرية أم الضاء
315

وكان مولى لامرأة حذيفة بن اليمان فجاء يوما إلى السوق وأثر الحناء في يده فسألته عن ذلك فأخبرني أنه خضب
رأس مولاته وهي امرأة حذيفة فأنكرت ذلك فقال إن شئت أدخلتك عليها فعلت نعم فأدخلني عليها فإذا هي امرأة
جليلة فقلت لها إن مسلما حدثني أنه خضب رأسك فقالت نعم يا بني إني من القواعد اللاتي لا يرجون نكاحا وقد
قال الله تعالى في ذلك ما سمعت. وقوله " وأن يستعففن خير لهن " أي وترك وضعهن لثيابهن، وإن كان جائزا
خير وأفضل لهن والله سميع علم.
ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو
بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمتكم أو
بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه أو صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا فإذا
دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون (61)
اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي رفع لأجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض ههنا فقال عطاء
الخراساني وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقال إنها نزلت في الجهاد وجعلوا هذه الآية ههنا كالتي في سورة الفتح
وتلك في الجهاد لا محالة أي أنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم وكما قال تعالى في سورة براءة
" ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على
المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه - إلى
قوله - أن لا يجدوا ما ينفقون " وقيل المراد ههنا أنهم كانوا يتحرجون من الاكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما
فيه من الطيبات فربما سبقه غيره إلى ذلك ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيقتات عليه جليسه والمريض
لا يستوفي من الطعام كغيره فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك وهذا قول
سعيد بن جبير ومقسم، وقال الضحاك كانوا قبل البعثة يتحرجون من الاكل مع هؤلاء تقذرا وتعززا ولئلا يتفضلوا
عليهم فأنزل الله هذه الآية، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى " ليس
على الأعمى حرج " الآية قال كان الرجل يذهب بالأعمى أو بالأعرج أو بالمريض إلى بيت أبيه أو أخيه أو بيت
أخته أو بيت عمته أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت عشيرتهم فنزلت
هذه الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون إنما يذهبون بنا إلى بيوت عشيرتهم فنزلت
هذه الآية رخصة لهم، وقال السدي كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشئ من الطعام فلا
يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثم فقال الله تعالى " ليس على الأعمى حرج " الآية وقوله تعالى " ولا على
أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم " إنما ذكر هذا وهو معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ وليساوي به ما بعده في
الحكم وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزله مال
أبيه، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أنت ومالك لأبيك " وقوله " أو بيوت
آبائكم أو بيوت أمهاتكم - إلى قوله - أو ما ملكتم مفاتحه " هذا ظاهر وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب
بعضهم على بعض كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما، وأما قوله " أو ما ملكتم
مفاتحه " فقال سعيد بن جبير والسدي: هو خادم الرجل من عبد وقهرمان فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام
بالمعروف، وقال الزهري: عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يذهبون في النفير مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه فكانوا يقولون إنه لا
يحل لنا أن نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم، وإنما نحن أمناء فأنزل الله " أو ما ملكتم مفاتحه " وقوله
" أو صديقكم " أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الاكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم
316

ولا يكرهون ذلك، وقال قتادة إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه وقوله " ليس عليكم جناح أن
تأكلوا جميعا أو أشتاتا " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وذلك لما أنزل الله " يا أيها الذين
آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل " قال المسلمون إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام من
أفضل الأموال فلا يحل لاحد منا أن يأكل عند أحد فكف الناس عن ذلك فأنزل الله " ليس على الأعمى حرج -
إلى قوله - أو صديقكم " وكانوا أيضا يأنفون ويتحرجون إن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص
الله لهم في ذلك فقال: " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " وقال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة
يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى
يجد من يؤاكله ويشاربه فأنزل الله " ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا " فهذه رخصة من الله تعالى في
أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة وإن كان الاكل مع الجماعة أبرك وأفضل كما رواه الإمام أحمد حدثنا يزيد بن
عبد ربه حدثنا الوليد بن مسلم عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إنا نأكل ولا نشبع،
قال: " لعلكم تأكلون متفرقين، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه " ورواه أبو داود وابن ماجة
من حديث الوليد بن مسلم به، وقد روى ابن ماجة أيضا من حديث عمرو بن دينار القهرماني عن سالم عن أبيه
عن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة مع الجماعة " وقوله " فإذا دخلتم بيوتا
فسلموا على أنفسكم " قال سعيد بن جبير والحسن البصري وقتادة والزهري يعني فليسلم بعضكم على بعض،
وقال ابن جريج أخبرني أبو الزبير سمعت جابر بن عبد الله يقول: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند
الله مباركة طيبة قال ما رأيته إلا يوجبه، قال ابن جريج وأخبرني زياد عن ابن طاوس أنه كان يقول: إذا دخل
أحدكم بيته فليسلم. قال ابن جريج قلت لعطاء أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال لا ولا أوثر
وجوبه عن أحد ولكن هو أحب إلي وما أدعه إلا ناسيا. وقال مجاهد: إذا دخلت المسجد فقل السلام على رسول
الله، وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين، وروى الثوري عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل بسم الله والحمد
لله، السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقال قتادة: إذا دخلت على أهلك فسلم
عليهم، وإذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا
أن الملائكة ترد عليه وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عويد بن أبي عمران الجوني عن
أبيه عن أنس قال: أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال قال: " يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من
لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى
فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس أرحم الصغير ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة ". وقوله " تحية من عند
الله مباركة طيبة " قال محمد بن إسحاق حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول: ما
أخذت التشهد إلا من كتاب الله سمعت الله يقول " فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة
طيبة " فالتشهد في الصلاة: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ثم
يدعو لنفسه ويسلم، وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث ابن إسحاق، والذي في صحيح مسلم عن ابن عباس
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف هذا والله أعلم وقوله " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون " لما ذكر تعالى ما في
السورة الكريمة من الاحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بيانا
شافيا ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون.
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين
317

يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله
إن الله غفور رحيم (62)
وهذا أيضا أدب أرشد الله عباده المؤمنين إليه فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول كذلك أمرهم بالاستئذان عند
الانصراف لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه من صلاة جمعة أو عيد جماعة أو
اجتماع في مشورة ونحو ذلك أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلا بعد استئذانه ومشاورته، وإن من
يفعل ذلك فإنه من المؤمنين الكاملين ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن
يأذن له إن شاء ولهذا قال " فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم " الآية. وقد قال أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل
ومسدد قالا حدثنا بشر هو ابن المفضل عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة "
وهكذا رواه الترمذي والنسائي من حديث محمد بن عجلان به وقال الترمذي حديث حسن.
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن
أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)
قال الضحاك عن ابن عباس كانوا يقولون يا محمد يا أبا القاسم فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم قال
فقولوا يا نبي الله يا رسول الله. وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير. وقال قتادة: أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن
يبجل وأن يعظم وأن يسود. وقال مقاتل في قوله " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " يقول لا
تسموه إذا دعوتموه يا محمد ولا تقولوا يا ابن عبد الله ولكن شرفوه فقولوا يا نبي الله يا رسول الله. وقال مالك عن
زيد بن أسلم في قوله " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " قال أمرهم الله أن يشرفوه هذا قول
وهو الظاهر من السياق كقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا " إلى آخر الآية وقوله " يا أيها الذين آمنوا لا
ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا
تشعرون - إلى قوله - إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون * ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم
لكان خيرا لهم " الآية فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصدقة
قبل مناجاته. والقول الثاني في ذلك أن المعنى في " لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا " أي لا
تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره فإن دعاءه مستجاب فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتم
عن ابن عباس والحسن البصري وعطية العوفي والله أعلم. وقوله " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " قال
مقاتل ابن حيان هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة ويعني بالحديث الخطبة فيلوذون ببعض
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى يخرجوا من المسجد وكان لا يصح للرجل أن يخرج من المسجد إلا بإذن من النبي صلى الله عليه وسلم
في يوم الجمعة بعدما يأخذ في الخطبة وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيأذن له من غير
أن يتكلم الرجل لان الرجل منهم كان إذا تكلم والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بطلت جمعته وقال السدي: كانوا إذا كانوا معه
في جماعة لاذ بعضهم ببعض حثى يتغيبوا عنه فلا يراهم، وقال قتادة في قوله " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم
لواذا " يعني لواذا عن نبي الله وعن كتابه، وقال سفيان " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " قال من
الصف. وقال مجاهد في الآية " لواذا " خلافا. وقوله " فليحذر الذين يخالفون عن أمره " أي عن أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله فما وافق ذلك قبل وما خالفه
318

فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من عمل
عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطنا وظاهرا " أن تصيبهم فتنة " أي
في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة " أو يصيبهم عذاب أليم " أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك
كما روى الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال هذا ما حدثنا عن أبي هريرة قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثلكم كمثل رجل استوفد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي
يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها - قال - فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن
النار هلم عن النار فتغلبوني وتقتحمون فيها ". أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ
عليم (64)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم
فقال " قد يعلم ما أنتم عليه " وقد للتحقيق كما قال قبلها " قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا " وقال تعالى
" قد يعلم الله المعوقين منكم " الآية وقال تعالى " قد سمع الله قول التي تجادلك " الآية وقال " قد نعلم إنه
ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " وقال " قد نرى تقلب وجهك في
السماء " الآية فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد كقول المؤذن تحقيقا وثبوتا: قد قامت الصلاة قد قامت
الصلاة. فقوله تعالى " قد يعلم ما أنتم عليه " أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة كما قال تعالى
" وتوكل على العزيز الرحيم - إلى قوله - إنه هو السميع العليم " وقوله " وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن
ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في
السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين " وقال تعالى " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " أي
هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر، وقال تعالى " ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما
يعلنون " وقال تعالى " سواء منكم من أسر القول ومن جهر به " الآية وقال تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على
الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين " وقال " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في
البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين "
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدا. وقوله " ويوم يرجعون إليه " أي ويوم يرجع الخلائق إلى الله وهو يوم
القيامة " فينبئهم بما عملوا " أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير كما قال تعالى " ينبأ
الانسان يومئذ بما قدم وأخر " وقال " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا
الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا " ولهذا قال ههنا
" ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شئ عليم " والحمد لله رب العالمين ونسأله التمام. آخر تفسير
سورة النور ولله الحمد والمنة.
سورة الفرقان:
بسم الله الرحمن الرحيم
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعلمين نذيرا (1) الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم
319

يكن له شريك في الملك وخلق كل شئ فقدره تقديرا (2)
يقول تعالى حامدا لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم كما قال تعالى " الحمد لله
الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون
الصالحات " الآية وقال ههنا " تبارك " وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة " الذي نزل الفرقان " نزل
فعل من التكرر والتكثر كقوله " والكتاب الذي نزل على رسوله * والكتاب الذي أنزل من قبل " لان الكتب
المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة والقرآن نزل منجما مفرقا مفصلا آيات بعد آيات وأحكاما بعد أحكام وسورا بعد
سور وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه
القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا، ولا يأتونك بمثل إلا جئنا ك بالحق وأحسن تفسيرا "
ولهذا سماه ههنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلال، والغي والرشاد والحلال والحرام وقوله
" على عبده " هذه صفه مدح وثناء لأنه أضافه إلى عبوديته كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الاسراء فقال
" سبحان الذي أسرى بعبده ليلا " وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه " وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون
عليه لبدا " وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا " وقوله " ليكون للعالمين نذيرا " أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي
" لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد " الذي جعله فرقانا عظيما ليخصه بالرسالة إلى
من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء كما قال صلى الله عليه وسلم " بعثت إلى الأحمر والأسود " وقال " إني أعطيت خمسا لم
يعطن أحد من الأنبياء قبلي " فذكر منهن " أنه كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " كما قال
تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " الآية أي الذي أرسلني هو مالك السماوات والأرض الذي
يقول للشئ كن فيكون وهو الذي يحيى ويميت، وهكذا قال ههنا " الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ
ولدا ولم يكن له شريك في الملك " ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك ثم أخبر أنه " خلق كل شئ فقدره تقديرا "
أي كل شئ مما سواه مخلوق مربوب وهو خالق كل شئ وربه ومليكه وإلهه وكل شئ تحت قهره وتدبيره
وتسخيره وتقديره.
واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة
ولا نشورا (3)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله الخالق لكل شئ المالك لازمة الأمور الذي ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لم يقدر على خلق جناح بعوضة بل هم مخلوقون لا
يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فكيف يملكون لعابديهم؟ " ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " أي ليس لهم
من ذلك شئ بل ذلك كله مرجعه إلى الله عز وجل الذي يحيي ويميت وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة
أولهم وآخرهم " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة " كقوله " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " وقوله " فإنما
هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة " " فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم ينظرون - إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم
جميع لدينا محضرون " فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا تنبغي العبادة إلا له لأنه ما شاء كان وما له يشأ
لم يكن، وهو الذي لا ولد له ولا والد ولا عديل ولا بديل ولا وزير ولا نظير، بل هو الاحد الصمد الذي لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا (4) وقالوا أساطير
320

الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا (5) قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا
رحيما (6)
يقول تعالى مخبرا عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن " إن هذا إلا إفك " أي كذب
" افتراه " يعنون النبي صلى الله عليه وسلم " وأعانه عليه قوم آخرون " أي واستعان على جمعه بقوم آخرين فقال الله تعالى " فقد
جاءوا ظلما وزورا " أي فقد افتروا هم قولا باطلا وهم يعلمون أنه باطل ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه " وقالوا
أساطير الأولين اكتتبها " يعنون كتب الأوائل أي استنسخها " فهي تملى عليه " أي تقرأ عليه " بكرة وأصيلا " أي
في أول النهار وآخره وهذا الكلام لسخافته وكذبه وبهته منهم يعلم كل أحد بطلانه فإنه قد علم بالتواتر وبالضرورة
أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئا من الكتابة لا في أول عمره ولا في آخره وقد نشأ بين أظهرهم من
أول مولده إلى أن بعثه الله نحوا من أربعين سنة وهم يعرفون مدخله ومخرجه وصدقه ونزاهته وبره وأمانته وبعده عن
الكذب والفجور وسائر الأخلاق الرذيلة حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره، وإلى أن بعث الأمين، لما يعلمون من
صدقه وبره فلما أكرمه الله بما أكرمه به نصبوا له العداوة ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها وحاروا
فيما يقذفونه به فتارة من إفكهم يقولون ساحر وتارة يقولون شاعر وتارة يقولون مجنون وتارة يقولون كذاب وقال الله
تعالى " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " وقال تعالى في جواب ما عاندوا ههنا وافتروا
" قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض " الآية أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين
إخبارا حقا صدقا مطابقا للواقع في الخارج ماضيا ومستقبلا " الذي يعلم السر " أي الله الذي يعلم غيب
السماوات والأرض، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر، وقوله تعالى " إنه كان غفورا رحيما " دعاء لهم إلى التوبة
والإنابة وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حلمه عظيم، مع أن من تاب إليه تاب عليه، فهؤلاء مع كذبهم
وافترائهم وفجورهم وبهتانهم وكفرهم وعنادهم وقولهم عن الرسول والقرآن ما قالوا يدعوهم إلى التوبة والاقلاع عما
هم فيه إلى الاسلام والهدى كما قال تعالى " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم
ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم " وقال
تعالى " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " قال الحسن
البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو عذاب الحريق " قال الحسن
البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة.
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا (7) أو يلقى
إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا (8) انظر كيف ضربوا لك
الأمثل فضلوا فلا يستطيعون سبيلا (9) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنت تجري من تحتها الانهر
ويجعل لك قصورا (10) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها
تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا
كثيرا (14)
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم وإنما تعللوا بقولهم " ما لهذا
الرسول يأكل الطعام " يعنون كما نأكله ويحتاج إليه كما نحتاج " ويمشي في الأسواق " أي يتردد فيها وإليها طلبا
321

للتكسب والتجارة " لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " يقولون هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون شاهدا
على صدق ما يدعيه.
وهذا كما قال فرعون " فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين " وكذلك قال هؤلاء على
السواء تشابهت قلوبهم ولهذا قالوا " أو يلقى إليه كنز " أي علم كنز ينفق منه " أو تكون له جنة يأكل منها " أي
تسير معه حيث سار، وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك وله الحجة البالغة " وقال
الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " قال الله تعالى " انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا " أي جاءوا بما
يقذفونك به ويكذبون به عليك من قولهم ساحر مسحور مجنون كذاب شاعر وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له
أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ولهذا قال " فضلوا " عن طريق الهدى " فلا يستطيعون سبيلا "
وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيثما توجه لان الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه
بعضا ثم قال تعالى مخبرا نبيه أنه إن شاء لاتاه خيرا مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن فقال " تبارك الذي إن
شاء جعل لك خيرا من ذلك " الآية. قال مجاهد يعني في الدنيا قال وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصرا
كبيرا كان أو صغيرا قال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم إن شئت أن نعطيك خزائن
الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبيا قبلك، ولا نعطي أحدا من بعدك ولا ينقص ذلك مما لك عند الله فقال
" اجمعوها لي في الآخرة " فأنزل الله عز وجل في ذلك " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " الآية وقوله
" بل كذبوا بالساعة " أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيبا وعنادا لا أنهم يطلبون ذلك تبصرا واسترشادا بل تكذيبهم
بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال " وأعتدنا " أي أرصدنا " لمن كذب بالساعة سعيرا " أي
عذابا أليما حارا لا يطاق في نار جهنم قال الثوري عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير " السعير " واد من قيح
جهنم وقوله " إذا رأتهم " أي جهنم " من مكان بعيد " يعني في مقام المحشر. قال السدي من مسيرة مائة عام
" سمعوا لها تغيظا وزفيرا " أي حنقا عليهم كما قال تعالى " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من
الغيظ " أي يكاد ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها على من كفر بالله، وروى ابن أبي حاتم حدثنا إدريس
ابن حاتم بن الأخنف الواسطي أنه سمع محمد بن الحسن الواسطي عن أصبغ بن زيد عن خالد بن كثير عن خالد
ابن دريك بإسناده عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يقل علي ما لم أقل أو ادعى إلى
غير والديه أو انتمى إلى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار - وفي رواية - فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا " قيل يا رسول
الله وهل لها من عينين؟ قال أما سمعتم الله يقول " إذا رأتهم من مكان بعيد " الآية ورواه ابن جرير عن محمد
ابن خداش عن محمد بن يزيد الواسطي به، وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا علي بن محمد الطنافسي حدثنا أبو بكر
ابن عياش عن عيسى بن سليم عن أبي وائل قال خرجنا مع عبد الله يعني ابن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم فمروا
على حداد فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار، ونظر الربيع بن خيثم إليها فتمايل الربيع ليسقط فمر عبد الله
على أتون على شاطئ الفرات فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية " إذا رأتهم من مكان بعيد
سمعوا لها تغيظا وزفيرا " فصعق يعني الربيع وحملوه إلى أهل بيته فرابطه عبد الله إلى الظهر فلم يفق رضي الله
عنه، وحدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن العبد
ليجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف. هكذا رواه ابن أبي حاتم
بإسناده مختصرا، وقد رواه الإمام أبو جعفر بن جرير حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا عبيد الله بن موسى
أخبرنا إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد بإسناده إلى ابن عباس قال: إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض
بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن ما لك؟ قالت إنه يستجير مني فيقول أرسلوا عبدي وإن الرجل ليجر إلى النار
فيقول يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول فما كان ظنك؟ فيقول أن تسعني رحمتك، فيقول أرسلوا عبدي وإن
322

الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف وهذا إسناد
صحيح. وقال عبد الرزاق أخبر معمر عن منصور عن مجاهد عن عبيد بن عمير في قوله " سمعوا لها تغيظا
وزفيرا " قال إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لوجهه ترتعد فرائصه حتى إن إبراهيم
عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: رب لا أسألك اليوم إلا نفسي. وقوله " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين "
قال قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو قال: مثل الزج في الرمح أي من ضيقه. وقال عبد الله بن وهب
أخبرني نافع بن يزيد عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله " وإذا ألقوا منها مكانا
ضيقا مقرنين " قال " والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط " وقوله
" مقرنين " قال أبو صالح يعني مكتفين " دعوا هنالك ثبورا " أي بالويل والحسرة والخيبة " لا تدعوا اليوم ثبورا
واحدا " الآية. روى الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أنس بن مالك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو
ينادي يا ثبوراه وينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم فيقال لهم " لا تدعوا اليوم
ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة، ورواه ابن أبي حاتم عن أحمد
ابن سنان عن عفان به، ورواه ابن جرير من حديث حماد بن سلمة به. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله " لا
تدعوا اليوم ثبورا واحدا " الآية أي لا تدعوا اليوم ويلا واحدا وادعوا ويلا كثيرا، وقال الضحاك الثبور الهلاك
والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار كما قال موسى لفرعون " وإني لأظنك يا فرعون مثبورا "
أي هالكا قال عبيد الله بن الزبعري:
إذ أباري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور
قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا (15) لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على
ربك وعدا مسؤولا (16)
يقول تعالى: يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم فتلقاهم
بوجه عبوس وتغيظ وزفير ويلقون في أماكنها الضيق مقرنين لا يستطيعون حراكا ولا استنصارا ولا فكاكا مما هم فيه
أهذا خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده التي أعدها لهم وجعلها لهم جزاء ومصيرا على ما أطاعوه
في الدنيا وجعل مآلهم إليها " لهم فيها ما يشاءون " من الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب
ومناظر وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد وهم في ذلك خالدون أبدا دائما سرمدا
بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء ولا يبغون عنها حولا وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم
ولهذا قال " كان على ربك وعدا مسؤولا " أي لا بد أن يقع وأن يكون كما حكاه أبو جعفر بن جرير عن بعض
علماء العربية أن معنى قوله " وعدا مسؤولا " أي وعدا واجبا. وقال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس " كان
على ربك وعدا مسؤولا " يقول فسألوا الذي وعدهم وتنجزوه، وقال محمد بن كعب القرظي في قوله " كان على
ربك وعدا مسؤولا " إن الملائكة تسأل لهم ذلك " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم "، وقال أبو حازم إذا
كان يوم القيامة قال الممنون ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله " وعدا مسؤولا " وهذا
المقام في هذه السورة من ذكر النار ثم التنبيه على حال أهل الجنة كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل
الجنة وما فيها من النضرة والحبور ثم قال " أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم * إنا جعلناها فتنة للظالمين * إنها
شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن
لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لألى الجحيم * إنهم ألفوا آباءهم ضالين * فهم على آثارهم يهرعون ".
323

ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل (17) قالوا سبحانك ما
كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآبائهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا (18) فقد
كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا (19)
يقول تعالى مخبرا عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم
فقال " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " قال مجاهد هو عيسى والعزير والملائكة " فيقول أنتم أضللتم
عبادي هؤلاء " الآية أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني أم هم عبدوكم
من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم كما قال الله تعالى " وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس
اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته
تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به " الآية ولهذا قال
تعالى مخبرا عما يجيب به المعبودون يوم القيامة " قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء "
قرأ الأكثرون بفتح النون من قوله " نتخذ من دونك من أولياء " أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحدا سواك لا
نحن ولا هم فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ونحن برآء
منهم ومن عبادتهم كما قال تعالى " ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا
سبحانك " الآية، وقرأ آخرون (ما كان ينبغي لنا أن نتخذ (1) من دونك من أولياء) أي ما ينبغي لاحد أن يعبدنا
فإنا عبيد لك فقراء إليك وهي قريبة المعنى من الأولى " ولكن متعتهم وآباءهم " أي طال عليهم العمر حتى نسوا
الذكر أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك " وكانوا قوما بورا "
قال ابن عباس أي هلكى، وقال الحسن البصري ومالك عن الزهري أي لا خير فيهم. وقال ابن الزبعري حين
أسلم:
يا رسول المليك إن لساني راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور
قال الله تعالى " فقد كذبوكم بما تقولون " أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله فيما زعمتم أنهم لكم أولياء
وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى كقوله تعالى " ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة
وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين " وقوله " فما تستطيعون
صرفا ولا نصرا " أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم " ومن يظلم منكم " أي يشرك
بالله " نذقه عذابا كبيرا ".
وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتبصرون
وكان ربك بصيرا (20)
يقول تعالى مخبرا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به
ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم فإن الله تعالى جعل لهم من السمات
(1) أي بضم النون وفتح الخاء.
324

الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة الظاهرة ما يستدل به كل
ذي لب سليم وبصيرة مستقيمة على صدق ما جاءوا به من الله ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى " وما أرسلنا من
قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى " وقوله: " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام " الآية وقوله
تعالى: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " أي اختبرنا بعضكم ببعض وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع
ممن يعصي ولهذا قال " أتصبرون وكان ربك بصيرا " أي بمن يستحق أن يوحى إليه كما قال تعالى: " الله أعلم
حيث يجعل رسالته " ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ومن لا يستحق ذلك، وقال محمد بن إسحاق في
قوله: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " قال: يقول الله لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون
لفعلت ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى إني مبتليك ومبتلي بك " وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو شئت لا جرى الله معي جبال
الذهب والفضة " وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خير بين أن يكون نبيا ملكا أو عبدا رسولا فاختار
أن يكون عبدا رسولا.
وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا (21)
يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا (22) وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء
منثورا (23) أصحب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا (24)
يقول تعالى مخبرا عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم: " لولا أنزل علينا الملائكة " أي بالرسالة
كما تنزل على الأنبياء كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى " قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله "
ويحتمل أن يكون مرادهم ههنا " لولا أنزل علينا الملائكة " فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله كقولهم
" حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا " وقد تقدم تفسيرها في سورة سبحان ولهذا قالوا: " أو نرى ربنا " ولهذا قال
الله تعالى " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " وقد قال تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم
الموتى " الآية وقوله تعالى: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " أي هم
لا يرون الملائكة في يوم خير لهم بل يوم يرونهم لا بشرى يومئذ لهم وذلك يصدق على وقت الاحتضار حين
تبشرهم الملائكة بالنار، والغضب من الجبار، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه: أخرجي أيتها النفس
الخبيثة في الجسد الخبيث، أخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه
كما قال الله تعالى " ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم " الآية وقال تعالى:
" ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم " أي بالضرب " أخرجوا أنفسكم اليوم
تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " ولهذا قال في هذه الآية
الكريمة " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " وهذا بخلاف حال المؤمنين حال احتضارهم فإنهم
يبشرون بالخيرات، وحصول المسرات، قال الله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم
الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة
ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم " وفي الحديث الصحيح عن البراء بن
عازب: أن الملائكة تقول لروح المؤمن اخرجي أيتها النفس الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه، اخرجي
إلى روح وريحان ورب غير غضبان. وقد تقدم الحديث في سورة إبراهيم عند قوله تعالى: " يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " وقال آخرون: بل المراد
325

بقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى " يعني يوم القيامة. قاله مجاهد والضحاك وغيرهما، ولا منافاة بين هذا
وما تقدم فإن الملائكة في هذين اليومين يوم الممات ويوم المعاد تتجلى للمؤمنين وللكافرين فتبشر المؤمنين
بالرحمة والرضوان، وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران فلا بشرى يومئذ للمجرمين " ويقولون حجرا محجورا "
أي وتقول الملائكة للكافرين حرام محرم عليكم الفلاح اليوم. وأصل الحجر المنع ومنه يقال حجر القاضي على
فلان إذا منعه التصرف إما لفلس أو سفه أو صغر أو نحو ذلك، ومنه سمي الحجر عند البيت الحرام لأنه يمنع
الطواف أن يطوفوا فيه وإنما يطاف من ورائه ومنه يقال للعقل حجر لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق والغرض
أن الضمير في قوله: " ويقولون " عائد على الملائكة هذا قول مجاهد وعكرمة والحسن والضحاك وقتادة وعطية
العوفي وعطاء الخراساني وخصيف وغير واحد واختاره ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو نعيم حدثنا موسى يعني ابن قيس عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري
في الآية " ويقولون حجرا محجورا " قال حراما محرما أن يبشر بما يبشر به المتقون، وقد حكى ابن جرير عن
ابن جريج أنه قال ذلك من كلام المشركين " يوم يرون الملائكة " أي يتعوذون من الملائكة، وذلك أن العرب
كانوا إذا نزل بأحدهم نازلة أو شدة يقول " حجرا محجورا " وهذا القول وإن كان له مأخذ ووجه ولكنه بالنسبة
إلى السياق بعيد لا سيما وقد نص الجمهور على خلافه، ولكن قد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال في
قوله: " حجرا محجورا " أي عوذا معاذا فيحتمل أنه أراد ما ذكره ابن جريج ولكن في رواية ابن أبي حاتم عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه قال " حجرا محجورا " عوذا معاذا الملائكة تقول ذلك فالله أعلم. وقوله تعالى:
" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل " الآية هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر
فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شئ، وذلك لأنها فقدت الشرط
الشرعي إما الاخلاص فيها وإما المتابعة لشرع الله، فكل عمل لا يكون خالصا وعلى الشريعة المرضية فهو
باطل فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين وقد تجمعهما معا فتكون أبعد من القبول حينئذ ولهذا قال
تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال مجاهد والثوري " وقدمنا " أي عمدنا وكذا
قال السدي وبعضهم يقول أتينا عليه. وقوله تعالى: " فجعلناه هباء منثورا " قال سفيان الثوري عن أبي إسحاق
عن الحارث عن علي رضي الله عنه في قوله: " هباء منثورا " قال شعاع الشمس إذا دخل الكوة، وكذا روي من
غير هذا الوجه عن علي، وروي مثله عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي والضحاك
وغيرهم، وكذا قال الحسن البصري هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع. وقال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس " هباء منثورا " قال هو الماء المهراق، وقال أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن الحارث
عن علي " هباء منثورا " قال الهباء وهج الدواب، وروي مثله عن ابن عباس أيضا والضحاك وقاله عبد
الرحمن بن زيد بن أسلم وقال قتادة في قوله: " هباء منثورا " قال أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو
ذلك الورق، وقال عبد الله بن وهب أخبرني عاصم بن حكيم عن أبي سريع الطائي عن عبيد بن يعلى قال وإن
الهباء الرماد إذا ذرته الريح، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية وذلك أنهم عملوا أعمالا اعتقدوا أنها
على شئ، فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحدا إذا إنها لا شئ بالكلية،
وشبهت في ذلك بالشئ التافه الحقير المتفرق الذي لا يقدر صاحبه منه على شئ بالكلية كما قال تعالى: " مثل
الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح " الآية وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم
بالمن والأذى - إلى قوله تعالى - لا يقدرون على شئ مما كسبوا " تبطلوا صدقاتكم
بالمن والأذى - إلى قوله تعالى - لا يقدرون على شئ مما كسبوا " وقال تعالى: " والذين كفروا أعمالهم
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " وتقدم الكلام على تفسير ذلك ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " أي يوم القيامة " لا يستوي أصحاب النار
وأصحاب الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون " وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات والغرفات
326

الآمنات فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام " خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما " وأهل النار يصيرون
إلى الدركات السافلات والحسرات المتتابعات وأنواع العذاب والعقوبات " إنها ساءت مستقرا ومقاما " أي بئس
المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما ولهذا قال تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " أي بما
عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا وصاروا إلى ما صاروا إليه بخلاف أهل النار فإنهم ليس لهم عمل واحد
يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء وأنه لا خير عندهم بالكلية
فقال تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " قال الضحاك عن ابن عباس: إنما هي ساعة
فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين. وقال سعيد بن جبير: يفرغ
الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار قال الله تعالى: " أصحاب الجنة
ويومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " وقال عكرمة: إني لأعرف الساعة التي يدخل فيها أهل الجنة الجنة وأهل النار
النار وهي الساعة التي تكون في الدنيا عند ارتفاع الضحى الأكبر إذا أنقلب الناس إلى أهليهم للقيلولة فينصرف
أهل النار إلى النار، وأما أهل الجنة فينطلق بهم إلى الجنة فكانت قيلولتهم في الجنة وأطعموا كبد حوت فأشبعهم
كلهم وذلك قوله: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " وقال سفيان عن ميسرة عن المنهال عن
أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: لا ينتصف النهار حتى يقبل هؤلاء وهؤلاء ثم قرأ " أصحاب الجنة يومئذ
خير مستقرا وأحسن مقيلا " وقرأ " ثم إن مرجعهم لألى الجحيم " وقال العوفي عن ابن عباس في قوله
" أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " قال قالوا في الغرف من الجنة وكان حسابهم إذ عرضوا على
ربهم عرضة واحدة وذلك الحساب اليسير وهو مثل قوله تعالى: " فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا
يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا " وقال قتادة " خير مستقرا وأحسن مقيلا " مأوى ومنزلا، وقال قتادة وحدث
صفوان بن محرز أنه قال: يجاء برجلين يوم القيامة أحدهما كان ملكا في الدنيا إلى الحمرة والبياض فيحاسب فإذا
عبد لم يعمل خيرا قط فيؤمر به إلى النار والآخر كان صاحب كساء في الدنيا فيحاسب فيقول يا رب ما أعطيتني
من شئ فتحاسبني به فيقول الله: صدق عبدي فأرسلوه فيؤمر به إلى الجنة ثم يتركان ما شاء الله، ثم يدعى
صاحب النار فإذا هو مثل الحممة السوداء فيقال له كيف وجدت؟ فيقول شر مقيل فيقال له عد، ثم يدعى
بصاحب الجنة فإذا هو مثل القمر ليلة البدر فيقال له كيف وجدت؟ فيقول رب خير مقيل فيقال له عد. رواها ابن
أبي حاتم كلها، وقال ابن جرير: حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث أن سعيدا الصواف حدثه
أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنهم يتقلبون في رياض
الجنة حتى يفرغ من الناس وذلك قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ".
ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا (25) الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا
(26) ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا (27) يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا
لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا (29)
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام
وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الابصار ونزول ملائكة السماوات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر ثم
يجئ الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء. قال مجاهد وهذا كما قال تعالى: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في
ظلل من الغمام والملائكة " الآية قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عمار بن الحارث حدثنا مؤمل حدثنا حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل
الملائكة تنزيلا " قال ابن عباس رضي الله عنهما يجمع الله تعالى الخلق يوم القيامة في صعيد واحد الجن
327

والانس والبهائم والسباع والطير وجميع الخلق فتنشق السماء الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر من الجن والإنس ومن
جميع الخلق فيحيطون بالجن والانس وبجميع الخلق ثم تنشق السماء الثانية فينزل أهلها فيحيطون بالملائكة الذين
نزلوا قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلق وهم أكثر من أهل السماء الدنيا ومن جميع الخلق ثم تنشق السماء
الثالثة فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الثانية والسماء الدنيا ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين نزلوا
قبلهم وبالجن والانس وجميع الخلق، ثم كذلك كل سماء على ذلك التضعيف حتى تنشق السماء السابعة فينزل
أهلها وهم أكثر ممن نزل قبلهم من أهل السماوات ومن الجن والإنس ومن جميع الخلق فيحيطون بالملائكة الذين
نزلوا قبلهم من أهل السماوات وبالجن والانس وجميع الخلق كلهم وينزل ربنا عز وجل في ظلل من الغمام وحوله
الكروبيون وهم أكثر من أهل السماوات السبع ومن الجن والإنس، وجميع الخلق لهم قرون كأكعب القنا وهم
تحت العرش لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتقديس لله عز وجل ما بين أخمص قدم أحدهم إلى كعبه مسيرة
خمسمائة عام وما بين كعبه إلى ركبتيه مسيرة خمسمائة عام ما بين ركبته إلى حجزته (1) مسيرة خمسمائة عام وما بين
حجزته إلى ترقوته مسيرة خمسمائة عام وما بين ترقوته إلى موضع القرط مسيرة خمسمائة عام وما فوق ذلك مسيرة
خمسمائة عام وجهنم محسه، هكذا رواه ابن أبي حاتم بهذا السياق وقال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين
حدثني الحجاج عن مبارك بن فضالة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران أنه سمع ابن عباس يقول:
إن هذه السماء إذا انشقت ينزل منها من الملائكة أكثر من الإنس والجن وهو يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء
وأهل الأرض فيقول أهل الأرض جاء ربنا؟ فيقولون لم يجئ وهو آت ثم تنشق السماء الثانية ثم سماء سماء على
قدر ذلك من التضعيف إلى السماء السابعة فينزل منها من الملائكة أكثر من جميع من نزل من السماوات ومن الجن والإنس
. قال فتنزل الملائكة الكروبيون ثم يأتي ربنا في حملة العرش الثمانية بين كعب كل ملك وركبته مسيرة
سبعين سنة، وبين فخذه ومنكبه مسيرة سبعين سنة. قال وكل ملك منهم لم يتأمل وجه صاحبه وكل ملك منهم
واضع رأسه بين ثدييه (1) يقول سبحان الملك القدوس وعلى رؤوسهم شئ مبسوط كأنه القنا والعرش فوق ذلك. ثم
وقف فمداره على علي بن زيد بن جدعان وفيه ضعف في سياقاته غالبا وفيها نكارة شديدة، وقد ورد في حديث
الصور المشهور قريب من هذا والله أعلم، وقد قال الله تعالى: " فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي
يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية " قال شهر بن حوشب حملة العرش
ثمانية أربعة منهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك. وأربعة يقولون:
سبحانك اللهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك رواه ابن جرير عنه وقال أبو بكر بن عبد الله إذا نظر
أهل الأرض إلى العرش يهبط عليهم من فوقهم شخصت إليه أبصارهم ورجفت كلاهم في أجوافهم وطارت قلوبهم
من مقرها من صدورهم إلى حناجرهم. قال ابن جرير حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا المعتمر بن سليمان عن
عبد الجليل عن أبي حازم عن عبد الله بن عمرو قال: يهبط الله عز وجل حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف
حجاب منها النور والظلمة فيضرب الماء في تلك الظلمة صوتا تنخلع له القلوب. وهذا موقوف على عبد الله بن
عمرو من كلامه ولعله من الزاملتين والله أعلم.
وقوله تعالى: " الملك يومئذ الحق للرحمن " الآية كما قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " وفي
الصحيح أن الله تعالى يطوي السماوات بيمينه ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول: أنا الملك أنا الديان أين
ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وقوله: " وكان يوما على الكافرين عسيرا " أي شديدا صعبا
لأنه يوم عدل وقضاء فصل كما قال تعالى: " فذلك يومئذ يوم عسير * على الكافرين غير يسير " فهذا حال
(1) في النسخة المكية أرنبته. (2) في نسخة يديه.
328

الكافرين في هذا اليوم، وأما المؤمنون فكما قال تعالى: " لا يحزنهم الفزع الأكبر " الآية. وروى الإمام أحمد
حدثنا حسين بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال: قيل يا رسول الله
يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " والذي نفسي بيده إنه ليخفف على
المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا " وقوله تعالى: " ويوم يعض الظالم على
يديه " الآية يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله من الحق المبين
الذي لا مرية فيه وسلك طريقا أخرى غير سبيل الرسول فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم وعض على
يديه حسرة وأسفا وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن أبي معيط أو غيره من الأشقياء فإنها عامة في كل ظالم كما
قال تعالى: " يوم تقلب وجوههم في النار " الآيتين فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم، ويعض على يديه
قائلا: " يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " يعني من صرفه عن الهدى
وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة، وسواء في ذلك أمية بن خلف أو أخوه أبي بن خلف أو غيرهما
" لقد أضلني عن الذكر " وهو القرآن " بعد إذ جاءني " أي بعد بلوغه إلي قال الله تعالى " وكان الشيطان
للانسان خذولا " أي يخاذله عن الحق ويصرفه عنه ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه.
وقال الرسول يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (30) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى
بربك هاديا ونصيرا (31)
يقول تعالى مخبرا عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " وذلك أن
المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه كما قال تعالى: " وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا
فيه " الآية فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره حتى لا يسمعونه. فهذا من هجرانه، وترك
الايمان به وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أو امره واجتناب
زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره من
هجرانه فنسأل الله الكريم المنان القادر على ما يشاء أن يخلصنا مما يسخطه، ويستعملنا فيما يرضيه من حفظ
كتابه وفهمه والقيام بمقتضاه آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يحبه ويرضاه إنه كريم وهاب وقوله تعالى:
" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين " أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن
كذلك كان في الأمم الماضين لان الله جعل لكل نبي عدوا من المجرمين يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم كما
قال تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن " الآيتين ولهذا قال تعالى ههنا " وكفى بربك هاديا ونصيرا "
أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة وإنما قال " هاديا
ونصيرا " لان المشركين كانوا يصدون الناس عن اتباع القرآن لئلا يهتدي أحد به ولتغلب طريقتهم طريقة القرآن
فلهذا قال: " وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين " الآية.
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا (32) ولا
يأتونك بمثل إلا جئنك بالحق وأحسن تفسيرا (33) الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا
وأضل سبيلا (34)
يقول تعالى مخبرا عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا: " لولا نزل عليه القرآن
329

جملة واحدة " أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة
كالتوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجما في ثلاث
وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الاحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله: " وقرآنا
فرقناه " الآية، ولهذا قال " لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " قال قتادة بيناه تبيينا. وقال ابن زيد وفسرناه تفسيرا
" ولا يأتونك بمثل " أي بحجة وشبهة " إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " أي ولا يقولون قولا يعارضون به
الحق إلا أجبناهم بما هو الحق في نفس الامر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم، قال سعيد بن جبير عن ابن
عباس " ولا يأتونك بمثل " أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول " إلا جئناك بالحق " الآية أي إلا نزل
جبريل من الله تعالى بجوابهم وما هذا إلا اعتناء وكبير وشرف للرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان يأتيه الوحي من الله عز وجل
بالقرآن صباحا ومساء وليلا ونهارا سفرا وحضرا، وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتاب مما قبله من
الكتب المتقدمة فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين، فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى وقد جمع الله للقرآن الصفتين
معا، ففي الملا الاعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل بعد ذلك
إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث وروى النسائي بإسناده عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملة واحدة
إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة، قال الله تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك
بالحق وأحسن تفسيرا " وقال تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ".
ثم قال تعالى مخبرا عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح
الصفات " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " وفي الصحيح عن أنس أن
رجلا قال يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة فقال " إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه
على وجهه يوم القيامة " وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة وغير واحد من المفسرين.
ولقد آتينا موسى الكتب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا (35) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآيتنا
فدمرناهم تدميرا (36) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما
(37) وعادا وثمودا وأصحب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا (38) وكلا ضربنا الأمثل وكلا تبرنا تتبيرا (39)
ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا (40)
يقول تعالى متوعدا من كذب رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومن خالفه ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه مما
أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيرا أي نبيا موازرا
ومؤيدا وناصرا فكذبهما فرعون وجنوده " فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها " وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا
رسوله نوحا عليه السلام ومن كذب برسول فقد كذب بجميع الرسل، إذ لا فرق بين رسول ورسول ولو فرض أن
الله تعالى بعث إليهم كل رسول فإنهم كانوا يكذبون، ولهذا قال تعالى: " وقوم نوح لما كذبوا الرسل " ولم
يبعث إليهم إلا نوح فقط وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله عز وجل ويحذرهم نقمه " فما
آمن معه إلا قليل " ولهذا أغرقهم الله جميعا ولم يبق منهم أحدا ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى
أصحاب السفينة فقط " وجعلناهم للناس آية " أي عبرة يعتبرون بها كما قال تعالى: " إنا لما طغى الماء
حملناكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية " أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج
330

البحار لتذكروا نعمة الله عليكم من إنجائكم من الغرق وجعلكم من ذرية من آمن به وصدق أمره. وقوله تعالى:
" وعادا وثمودا وأصحاب الرس " قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن
الإعادة وأما أصحاب الرس فقال ابن جريج عن ابن عباس هم أهل قرية من قرى ثمود وقال ابن جريج: قال
عكرمة أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس. وقال قتادة فلج من قرى اليمامة. وقال ابن أبي حاتم بسنده عن
ابن عباس قوله: " وأصحاب الرس " قال بئر بآذربيجان: وقال الثوري عن أبي بكر عن عكرمة: الرس بئر
رسوا فيها نبيهم أي دفنوه فيها. وقال ابن إسحاق عن محمد بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أول الناس
يدخل الجنة يوم القيامة العبد الأسود وذلك أن الله تعالى بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا ذلك
العبد الأسود ثم إن أهل القرية عدوا على النبي فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه بحجر أصم قال فكان
ذلك العبد يذهب فيحتطب على ظهره ثم يأتي بحطبه فيبيعه ويشتري به طعاما وشرابا ثم يأتي به إلى تلك البئر
فيرفع تلك الصخرة ويعينه الله تعالى عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردها كما كانت، قال فكان ذلك ما شاء
الله أن يكون، ثم إنه ذهب يوما يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها فلما أراد أن يحتملها
وجد سنة فاضطجع فنام فضرب الله على أذنه سبع سنين ثم إنه هب فتمطى فتحول لشقه الآخر فاضطجع فضرب
الله على أذنه سبع سنين أخرى ثم إنه هب واحتمل حزمته ولا يحسب إلا أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية
فباع حزمته ثم اشترى طعاما وشرابا كما كان يصنع ثم إنه ذهب إلى الحفيرة موضعها الذي كانت فيه فالتمسه فلم
يجده وكان قد بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه وآمنوا به وصدقوه قال فكان نبيهم يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل
فيقولون له لا ندري حتى قبض الله النبي وهب الأسود من نومته بعد ذلك " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن ذلك الأسود
لأول من يدخل الجنة " وهكذا رواه ابن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب
مرسلا وفيه غرابة ونكارة ولعل فيه إدراجا والله أعلم: وقال ابن جرير لا يجوز أن يحمل هؤلاء على أنهم أصحاب
الرس الذين ذكروا في القرآن لان الله أخبر عنهم أنه أهلكهم وهؤلاء آمنوا بنبيهم إلا أن يكون حدث لهم أحداث
آمنوا بالنبي بعد هلاك آبائهم والله أعلم، واختار ابن جرير أن المراد بأصحاب الرس هم أصحاب الأخدود الذين
ذكروا في سورة البروج فالله أعلم. وقوله تعالى: " وقرونا بين ذلك كثيرا " أي وأمما أضعاف من ذكر أهلكناهم
كثيرة ولهذا قال " وكلا ضربنا له الأمثال " أي بينا لهم الحجج ووضحنا لهم الأدلة كما قال قتادة وأزحنا الاعذار
عنهم " وكلا تبرنا تتبيرا " أي أهلكنا إهلاكا كقوله تعالى: " وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح " والقرن هو
الأمة من الناس كقوله: " ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين " وحده بعضهم بمائه وعشرين سنة وقيل بمائه وقيل
بثمانين وقيل أربعين وقيل غير ذلك، والأظهر أن القرن هو الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد وإذا ذهبوا وخلفهم
جيل فهو قرن آخر كما ثبت في الصحيحين " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " الحديث
" ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء " يعني قرية قوم لوط وهي سدوم التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر
من الحجارة التي من سجيل كما قال تعالى: " وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين " وقال: " وإنكم
لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون " وقال تعالى " وإنها لبسبيل مقيم " وقال: " وإنهما لبإمام
مبين " ولهذا قال تعقلون " وقال تعالى " وإنها لبسبيل مقيم " وقال: " وإنهما لبإمام
مبين " ولهذا قال " أفلم يكونوا يرونها " أي فيعتبروا بما حل بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول
وبمخالفتهم أوامر الله " بل كانوا لا يرجون نشورا " يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون لانهم لا يرجون نشورا
أي معادا يوم القيامة.
وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا (41) إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا (42) أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا (43)
331

أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا (44)
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذ رأوه كما قال تعالى: " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا
هزوا " الآية يعنون بالعيب والنقص، وقال ههنا: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله
رسولا " أي على سبيل التنقص والازدراء فقبحهم الله كما قال " ولقد استهزئ برسل من قبلك " الآية. وقوله
تعالى: " إن كاد ليضلنا عن آلهتنا " يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام لولا أن صبروا وتجلدوا واستمروا
عليها. قال الله تعالى متوعدا لهم ومتهددا " وسوف يعلمون حين يرون العذاب " الآية. ثم قال تعالى لنبيه منبها
أن من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله عز وجل " أرأيت من اتخذ إلهه هواه " أي مهما
استحسن من شئ ورآه حسنا في هوى نفسه كان دينه ومذهبه كما قال تعالى: " أفمن زين له سوء عمله فرآه
حسنا * فإن الله يضل من يشاء " الآية ولهذا قال ههنا " أفأنت تكون عليه وكيلا " قال ابن عباس كان الرجل في
الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زمانا فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول. ثم قال تعالى: " أم تحسب
أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون " الآية أي هم أسوا حالا من الانعام السارحة فإن تلك تفعل ما خلقت له وهؤلاء
خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له فلم يفعلوا وهم يعبدون غيره ويشركون به مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل
إليهم.
ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا (45) ثم قبضنه إلينا قبضا يسيرا
(46) وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا (47)
من ههنا شرع سبحانه وتعالى في بيان الأدلة الدالة على وجوده وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة
فقال تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل "؟ قال ابن عباس وابن عمر وأبو العالية وأبو مالك ومسروق
ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي والضحاك والحسن وقتادة: هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس " ولو شاء
لجعله ساكنا " أي دائما لا يزول كما قال تعالى: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا " الآيات. وقوله
تعالى: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف فإن الضد لا يعرف إلا بضده،
وقال قتادة والسدي دليلا تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله. وقوله تعالى: " ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا " أي الظل
وقيل الشمس " يسيرا " أي سهلا قال ابن عباس سريعا وقال مجاهد خفيا وقال السدي قبضا خفيا حتى لا يبقى
في الأرض ظل إلا تحت سقف أو تحت شجرة وقد أظلت الشمس ما فوقه، وقال أيوب بن موسى في الآية
" قبضا يسيرا " قليلا قليلا، وقوله: " وهو الذي جعل لكم الليل لباسا " أي يلبس الوجود ويغشاه كما قال
تعالى: " والليل إذا يغشى " " والنوم سباتا " أي قاطعا للحركة لراحة الأبدان فإن الأعضاء والجوارح تكل من
كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعاش فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت فحصل النوم الذي
فيه راحة البدن والروح معا " وجعل النهار نشورا " أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم كما قال
تعالى: " ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله " الآية.
وهو الذي أرسل الريح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا (48) لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه
مما خلقنا أنعما وأناسي كثيرا (49) ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا (50)
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أي بمجئ السحاب بعدها،
والرياح أنواع في صفات كثيرة من التسخير فمنها ما يثير السحاب، ومنها ما يحمله ومنها ما يسوقه ومنها ما يكون
332

بين يدي السحاب مبشرا ومنها ما يكون قبل ذلك تقم الأرض ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ولهذا قال تعالى:
" وأنزلنا من السماء ماء طهورا " أي آلة يتطهر بها كالسحور والوجور وما جرى مجراهما، فهذا أصح ما يقال
في ذلك، وأما من قال إنه فعول بمعنى فاعل أو أنه مبني للمبالغة والتعدي فعلى كل منهما إشكالات من حيث
اللغة والحكم ليس هذا موضع بسطها والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي بإسناده إلى حميد الطويل عن
ثابت البناني قال دخلت مع أبي العالية في يوم مطير وطرق البصرة قذرة فصلى فقلت له فقال: " وأنزلنا من
السماء ماء طهورا " قال طهره ماء السماء وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا وهيب عن داود عن سعيد بن
المسيب في هذه الآية قال: أنزله الله طهورا لا ينجسه شئ وعن أبي سعيد قال: قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر
بضاعة وهي بئر يلقى فيها النتن ولحوم الكلاب؟ فقال: " إن الماء طهور لا ينجسه شئ " رواه الشافعي وأحمد
وصححه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي. وروى ابن أبي حاتم بإسناده حدثنا أبي حدثنا أبو الأشعث حدثنا
معتمر سمعت أبي يحدث عن سيار عن خالد بن يزيد قال: كنا عند عبد الملك بن مروان فذكروا الماء فقال
خالد بن يزيد: منه ماء من السماء ومنه ماء يسقيه الغيم من البحر فيذبه الرعد والبرق فأما ما كان من البحر فلا
يكون منه نبات فأما النبات فمما كان من السماء. وروي عن عكرمة قال: ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها
في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة، وقال غيره: في البربر، وفي البحر در. وقوله تعالى: " لنحيي به بلدة
ميتا " أي أرضا قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شئ فلما جاءها الحياء عاشت واكتست رباها
أنواع الأزاهير والألوان كما قال تعالى: " فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت " الآية: " ونسقيه مما خلقنا أنعاما
وأناسي كثيرا " أي وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم
كما قال تعالى: " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا " الآية وقال تعالى: " فانظر إلى آثار رحمة الله كيف
يحيي الأرض بعد موتها " الآية. وقوله تعالى: " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه
وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقا والتي
وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة قال ابن عباس وابن مسعود
رضي الله عنهم ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه كيف يشاء ثم قرأ هذه الآية " ولقد صرفناه بينهم
ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا " أي ليذكروا بإحياء الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام
الرفات أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه. وقال عمر مولى عقبة: كان
جبريل عليه السلام في موضع الجنائز فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا جبريل إني أحب أن أعلم أمر السحاب " قال فقال له
جبريل يا نبي الله هذا ملك السحاب فسله فقال تأتينا صكاك مختمة: اسق بلاد كذا وكذا، كذا وكذا قطرة. رواه
ابن أبي حاتم وهو حديث مرسل وقوله تعالى: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " قال عكرمة يعني الذين
يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وهذا الذي قاله عكرمة كما صح في الحديث المخرج في صحيح مسلم عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل " أتدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال
" قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب،
وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا (51) فلا تطع الكافرين وجهدهم به جهادا كبيرا (52) * وهو الذي مرج
البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا (53) وهو الذي خلق من الماء
بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا (54)
333

يقول تعالى: " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا " يدعوهم إلى الله عز وجل ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى
جميع أهل الأرض وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن " لأنذركم به ومن بلغ " " ومن يكفر به من الأحزاب فالنار
موعده " لتنذر أم القرى ومن حولها " " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " وفي الصحيحين
" بعثت إلى الأحمر والأسود " وفيهما " وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " ولهذا قال
تعالى: " فلا تطع الكافرين وجاهدهم به " يعني بالقرآن قاله ابن عباس: " جهادا كبيرا " كما قال تعالى:
" يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين " الآية وقوله تعالى " وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح
أجاج " أي خلق الماءين الحلو والملح فالحلو كالأنهار والعيون والآبار وهذا هو البحر الحلو العذب الفرات
الزلال، قاله ابن جريج واختاره ابن جرير، وهذا المعنى لا شك فيه فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب
فرات، والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه، فالبحر العذب هو هذا
السارح بن الناس فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه أنهارا وعيونا في كل أرض بحسب حاجتهم وكفايتهم
لأنفسهم وأراضيهم وقوله تعالى: " وهذا ملح أجاج " أي مالح مر زعاق لا يستساغ وذلك كالبحار المعروفة في
المشارق والمغارب: البحر المحيط وما يتصل به من الزقاق وبحر القلزم وبحر اليمن وبحر البصرة وبحر فارس
وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري، ولكن تموج
وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض
فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت
في المد إلى الليلة الرابعة عشرة ثم تشرع في النقص فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو القدرة التامة - العادة
بذلك، فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة لئلا يحصل بسببها نتن الهواء فيفسد الوجود
بذلك، ولئلا تجوي الأرض بما يموت فيها من الحيوان ولما كان ماؤها ملحا كان هواؤها صحيحا وميتتها طيبة
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر أنتوضأ به؟ فقال: " هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " رواه الأئمة
مالك والشافعي وأحمد وأهل السنن بإسناد جيد وقوله تعالى: " وجعل بينهما برزخا وحجرا " أي بين العذب
والمالح " برزخا " أي حاجزا وهو اليبس من الأرض " وحجرا محجورا " أي مانعا من أن يصل أحدهما إلى
الآخر كقوله " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقوله تعالى: " أمن جعل
الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون "
وقوله تعالى: " وهو الذي خلق من الماء بشرا " الآية أي خلق الانسان من نطفة ضعيفة فسواه وعدله وجعله
كامل الخلقة ذكرا وأنثى كما يشاء " فجعله نسبا وصهرا " فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ثم يتزوج فيصير صهرا
يصير له أصهار وأختان وقرابات، وكل ذلك من ماء مهين ولهذا قال تعالى: " وكان ربك قديرا ".
ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا (55) وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا
(56) قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا (57) وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح
بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا (58) الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أد أيام ثم استوى
على العرش الرحمن فسئل به خبيرا (59) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم
نفورا (60)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام التي لا تملك له ضرا ولا نفعا بلا دليل قادهم إلى
334

ذلك ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء، والتشهي والأهواء، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله
ورسوله والمؤمنين فيهم ولهذا قال تعالى: " وكان الكافر على ربه ظهيرا " أي عونا في سبيل الشيطان على
حزب الله وحزب الله هم الغالبون كما قال تعالى " واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم
وهم لهم جند محضرون " أي آلهتهم التي اتخذوها من دون الله لا تملك لهم نصرا، وهؤلاء الجهلة للأصنام
جند محضرون يقاتلون عنهم، ويذبون عن حوزتهم، ولكن العاقبة والنصرة لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا
والآخرة قال مجاهد " وكان الكافر على ربه ظهيرا " قال يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه وقال سعيد بن
جبير " وكان الكافر على ربه ظهيرا " يقول عونا للشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقال زيد بن أسلم " وكان
الكافر على ربه ظهيرا " قال مواليا، ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه " وما أرسلناك إلا مبشرا
ونذيرا " أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين، مبشرا بالجنة لمن أطاع الله ونذيرا بين يدي عذاب شديد لمن
خالف أمر الله " قل ما أسألكم عليه من أجر " أي عن هذا البلاغ وهذا الانذار من أجرة أطلبها من أموالكم وإنما
أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم " " إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا " أي
طريقا ومسلكا ومنهجا يقتدي فيها بما جئت به، ثم قال تعالى " وتوكل على الحي الذي لا يموت " أي في
أمورك كلها كن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبدا الذي هو " الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل
شئ عليم " الدائم الباقي السرمدي الأبدي الحي القيوم رب كل شئ ومليكه اجعله ذخرك وملجأك، وهو الذي
يتوكل عليه ويفزع إليه فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظفرك كما قال تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك
من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ". وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا
عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل قال قرأت على معقل يعني ابن عبيد الله عن عبد الله بن أبي حسين عن شهر بن
حوشب قال: لقي سلمان النبي صلى الله عليه وسلم في بعض فجاج المدينة فسجد له فقال: " لا تسجد لي يا سلمان واسجد
للحي الذي لا يموت " وهذا مرسل حسن وقوله تعالى: " وسبح بحمده " أي أقرن بين حمده وتسبيحه،
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " سبحانك اللهم ربنا وبحمدك " أي أخلص له العبادة والتوكل كما قال تعالى:
" رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " وقال تعالى " فاعبده وتوكل عليه " وقال تعالى: " قل هو
الرحمن آمنا به وعليه توكلنا " وقوله تعالى: " وكفى به بذنوب عباده خبيرا " أي بعلمه التام الذي لا يخفى عليه
خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة. وقوله تعالى: " الذي خلق السماوات والأرض " الآية أي هو الحي الذي لا
يموت وهو خالق كل شئ وربه ومليكه الذي خلق بقدرته وسلطانه السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها
والأرضين السبع في سفولها وكثافتها " في ستة أيام ثم استوى على العرش " أي يدبر الامر ويقضي الحق وهو
خير الفاصلين وقوله: " ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا " أي استعلم عنه من هو خبير به عالم به
فاتبعه واقتد به، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه سيد
ولد آدم على الاطلاق في الدنيا والآخرة الذي لا ينطق عن الهوى " إن هو إلا وحي يوحى " فما قاله فهو الحق
وما أخبره به فهو الصدق، وهو الامام المحكم الذي إذا تنازع الناس في شئ وجب رد نزاعهم إليه فما وافق أقواله
وأفعاله فهو الحق وما خالفها فهو مردود على قائله وفاعله كائنا من كان قال الله تعالى " فإن تنازعتم في شئ "
الآية وقال تعالى " وما اختلفتم فيه من شئ فحكمه إلى الله " وقال تعالى: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا "
أي صدقا في الاخبار وعدلا في الأوامر والنواهي ولهذا قال تعالى " فاسأل به خبيرا " قال مجاهد في قوله:
" فاسأل به خبيرا " قال ما أخبرتك من شئ فهو كما أخبرتك. وكذا قال ابن جريج وقال شمر بن عطية في
قوله: " فاسأل به خبيرا " هذا القرآن خبير به. ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من
الأصنام والأنداد " وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " أي لا نعرف الرحمن وكانوا ينكرون أن
335

يسمى الله باسمه الرحمن كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب " اكتب: بسم الله الرحمن
الرحيم " فقالوا لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم، ولهذا أنزل الله تعالى
" قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى " أي هو الله وهو الرحمن. وقال في هذه الآية
" وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن " أي لا نعرفه ولا نقر به " أنسجد لما تأمرنا " أي لمجرد
قولك " وزادهم نفورا " فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون
له، وقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن هذه السجدة التي في الفرقان مشروع السجود عندها لقارئها ومستمعها
كما هو مقرر في موضعه والله سبحانه وتعالى أعلم.
تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا (61) وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن
أراد أن يذكر أو أراد شكورا (62)
يقول تعالى ممجدا نفسه ومعظما على جميل ما خلق في السماوات من البروج وهي الكواكب العظام في قول
مجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح والحسن وقتادة. وقيل هي قصور في السماء للحرس، يروى هذا عن علي
وابن عباس ومحمد بن كعب وإبراهيم النخعي وسليمان بن مهران الأعمش، وهو رواية عن أبي صالح أيضا
والقول الأول أظهر، اللهم إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان كما قال تعالى " ولقد
زينا السماء الدنيا بمصابيح " الآية ولهذا قال تعالى " تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا " وهي
الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود كما قال تعالى " وجعلنا سراجا وهاجا " " وقمرا منيرا " أي مشرقا
مضيئا بنور آخر من غير نور الشمس كما قال تعالى " وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا " وقال مخبرا عن
نوح عليه السلام أنه قال لقومه " ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس
سراجا " ثم قال تعالى " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة " أي يخلف كل واحد منهما صاحبه يتعاقبان لا يفتران
إذا ذهب هذا جاء هذا وإذا جاء هذا ذهب ذاك كما قال تعالى " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين " الآية وقال
" يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا " الآية وقال " لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر " الآية. وقوله تعالى " لمن
أراد أن يذكر أو أراد شكورا " أي جعلهما يتعاقبان توقيتا لعبادة عباده له عز وجل فمن فاته عمل في الليل
استدركه في النهار ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل، وقد جاء في الحديث الصحيح " إن الله عز وجل
يبسط يده بالليل ليتوب مسئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسئ الليل " وقال أبو داود الطيالسي حدثنا أبو
حمزة عن الحسن أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى فقيل له صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال: إنه بقي
علي من وردي شئ فأحببت أن أتمه أو قال أقضيه وتلا هذه الآية " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد
أن يذكر أو أراد شكورا ". وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول من فاته شئ من الليل أن يعمله
أدركه بالنهار، أو من النهار أدركه بالليل، وكذا قال عكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقال مجاهد وقتادة خلفة أي
مختلفين أي هذا بسواده وهذا بضيائه. وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلما (63) والذين يبيتون لربهم سجدا
وقيما (64) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما (65) إنها ساءت مستقرا ومقاما (66)
والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (67)
هذه صفات عباد الله المؤمنين " الذين يمشون على الأرض هونا " أي بسكينة ووقار من غير جبرية ولا استكبار
336

كقوله تعالى " ولا تمش في الأرض مرحا " الآية فأما هؤلاء فإنهم يمشون من غير استكبار ولا مرح ولا أشر ولا
بطر، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحط من صبب
وكأنما الأرض تطوى له، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع حتى روي عن عمر أنه رأى شابا يمشي
رويدا فقال ما بالك أأنت مريض؟ قال لا يا أمير المؤمنين فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي
رويدا فقال ما بالك أأنت مريض؟ قال لا يا أمير المؤمنين فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي بقوة. وإنما المراد بالهون
هنا السكينة والوقار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وائتوها وعليكم السكينة فما
أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا " وقال عبد الله بن المبارك عن معمر عن عمر بن المختار عن الحسن البصري
في قوله (وعباد الرحمن) الآية قال: إن المؤمنين قوم ذلل ذلت منهم - والله - الاسماع والابصار والجوارح،
حتى يحسبهم الجاهل مرضى وما بالقوم من مرض، وإنهم - والله - لاصحاء ولكنهم دخلهم من الخوف ما لم
يدخل غيرهم ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة فقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن أما والله ما أحزنهم
ما أحزن الناس ولا تعاظم في نفوسهم شئ طلبوا به الجنة ولكن أبكاهم الخوف من النار إنه من لم يتعز
بعزاء الله تقطع نفسه على الدنيا حسرات ومن لم ير لله نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه.
وقوله تعالى (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) أي إذا سفه عليهم الجاهل بالقول السئ لم يقابلوهم عليه
بمثله بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا خيرا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيده شدة الجاهل عليه إلا حلما وكما
قال تعالى (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) الآية وروى الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر حدثنا أبو بكر عن
الأعمش عن أبي خالد الوالبي عن النعمان بن مقرن المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسب رجل رجلا عنده فجعل
المسبوب يقول: عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أما إن ملكا بينكما يذب عنك كلما شتمك هذا قال له بل
أنت وأنت أحق به وإذا قلت له وعليك السلام قال لا بل عليك وأنت أحق به إسناده حسن ولم يخرجوه. وقال
مجاهد (قالوا سلاما) يعني قالوا سدادا وقال سعيد بن جبير ردوا معروفا من القول وقال الحسن البصري قالوا
سلام عليكم إن جهل عليهم حلموا يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون. ثم ذكر أن ليلهم خير ليل فقال
تعالى (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) أي في طاعته وعبادته كما قال تعالى (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون
وبالاسحار هم يستغفرون) وقوله (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآية وقال تعالى (أمن هو قانت آناء الليل
ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) الآية. ولهذا قال تعالى (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم
إن عذابها كان غراما) أي ملازما دائما كما قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يعط * جزلا فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله (إن عذابها كان غراما) كل شئ يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام وإنما الغرام
اللازم ما دامت السماوات والأرض وكذا قال سليمان التيمي. وقال محمد بن كعب (إن عذابها كان غراما) يعني
ما نعموا في الدنيا إن الله تعالى سأل الكفار عن النعمة فلم يردوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار " إنها ساءت مستقرا
ومقاما " أي بئس المنزل منظرا وبئس المقيل مقاما. وقال ابن أبي حاتم عند قوله (إنها ساءت مستقرا ومقاما)
حدثنا أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مالك بن الحارث قال: قال إذا طرح
الرجل في النار هوى فيها إذا انتهى إلى بعض أبوابها قيل له مكانك حتى تتحف قال فيسقى كأسا من سم الأساود
والعقارب قال فيتميز الجلد على حدة والشعر على حدة والعصب على حدة والعروق على حدة. وقال أيضا حدثنا
أبي حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال إن في النار لجبابا
فيها حياة أمثال البخت وعقارب أمثال البغال الدهم فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها فأخذت
بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم فكشطت لحومهم إلى أقدامهم فإذا وجدت حر النار رجعت.
وقال الإمام أحمد حدثنا الحسن بن موسى حدثنا سلام يعني ابن مسكين عن أبي طلال عن أنس بن مالك رضي
337

الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن عبدا في جهنم لينادي ألف سنة يا حنان يا منان فيقول الله عز وجل لجبريل اذهب
فاتني بعبدي هذا فينطلق جبريل فيجد أهل النار مكبين يبكون فيرجع إلى ربه عز وجل فيخبره فيقول الله عز وجل
ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا فيجئ به فيوقفه على ربه عز وجل فيقول له يا عبدي كيف وجدت مكانك
ومقيلك؟ فيقول يا رب شر مكان وشر مقيل فيقول الله عز وجل ردوا عبدي فيقول يا رب ما كنت أرجو إذ أخرجتني
منها أن تردني فيها فيقول الله عز وجل دعوا عبدي " وقوله تعالى (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) الآية أي
ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم بل عدلا
خيارا وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا (وكان بين ذلك قواما) كما قال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى
عنقك ولا تبسطها كل البسط) الآية وقال الإمام أحمد حدثنا عصام بن خالد حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي
تميم الغساني عن ضمرة عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فقه الرجل قصده في معيشته " ولم يخرجوه وقال
الإمام أحمد أيضا حدثنا أبو عبيدة الحداد حدثنا مسكين بن عبد العزيز العبدي حدثنا إبراهيم الهجري عن أبي
الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عال من اقتصد " لم يخرجوه. وقال الحافظ أبو بكر
البزار حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون حدثنا سعد بن حكيم عن مسلم بن حبيب عن بلال
يعني العبسي - عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أحسن القصد في الغنى وما أحسن القصد في الفقر وما
أحسن القصد في العبادة " ثم قال لا نعرفه يروى إلا من حديث حذيفة رضي الله عنه وقال الحسن البصري ليس
في النفقة في سبيل الله سرف وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف. وقال غيره السرف
النفقة في معصية الله عز وجل.
والذين لا يدعون مع الله الها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق
أثاما (68) يضعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا (69) إلا من تاب وآمن وعمل عملا صلحا فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنت وكان الله غفورا رحيما (70) ومن تاب وعمل صلحا فإنه يتوب إلى الله متابا (71)
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله هو ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي
الذنب أكبر؟ قال " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قال ثم أي؟ قال " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قال ثم
أي؟ قال " أن تزاني حليلة جارك " قال عبد الله وأنزل الله تصديق ذلك (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر) الآية
وهكذا رواه النسائي عن هناد بن السري عن أبي معاوية به وقد أخرجه البخاري ومسلم من حديث الأعمش
ومنصور زاد البخاري وواصل ثلاثتهم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل عن
ابن مسعود به فالله أعلم ولفظهما عن ابن مسعود قال: قلت يا رسول الله أي الذنب أعظم الحديث طريق
غريب وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي حدثنا عامر بن مدرك حدثنا السري يعني إسماعيل حدثنا
الشعبي عن مسروق قال: قال عبد الله خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فجلس على نشز من الأرض وقعدت
أسفل منه ووجهي حيال ركبتيه واغتنمت خلوته وقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله أي الذنب أكبر؟ قال " أن تدعو
لله ندا وهو خلقك - قلت ثم مه؟ قال " أن تقتل ولدك كراهية أن يطعم معك " قلت ثم مه؟ قال " أن تزاني حليلة
جارك " ثم قرأ (والذين لا يدعون مع الله) الآية وقال النسائي حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن منصور عن
هلال بن يساف عن سلمة بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " ألا إنما هي أربع " فما أنا بأشح
عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تشركوا بالله شيئا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا
تزنوا ولا تسرقوا ". وقال الإمام أحمد حدثنا علي بن المديني رحمه الله حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان حدثنا
محمد بن سعيد الأنصاري سمعت أبا طيبة الكلاعي سمعت المقداد بن الأسود رضي الله عنه يقول: قال رسول الله
338

صلى الله عليه وسلم لأصحابه " ما تقولون في الزنا؟ " قالوا حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأصحابه " لان يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره " قال: " فما تقولون في السرقة؟ " قالوا
حرمها الله ورسوله فهي حرام قال " لان يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره " وقال
أبو بكر بن أبي الدنيا حدثنا عمار بن نصر حدثنا بقية عن أبي بكر بن أبي مريم عن الهيثم بن مالك الطائي عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له " وقال ابن جريج
أخبرني يعلى عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا ثم
أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزلت (والذين لا يدعون مع
الله إلها آخر) الآية ونزلت (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) الآية وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن عمرو عن أبي فاختة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل " إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق
وتدع الخالق وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك وينهاك أن تزني بحليلة جارك " قال سفيان وهو قوله (والذين
لا يدعون مع الله إلها آخر) الآية. وقوله تعالى (ومن يفعل ذلك يلق أثاما) روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال:
أثاما: واد في جهنم وقال عكرمة " يلق أثاما " أودية في جهنم يعذب فيها الزناة وكذا روي عن سعيد بن جبير
ومجاهد وقال قتادة " يلق أثاما " نكالا: كنا نحدث أنه واد في جهنم.
وقد ذكر لنا أن لقمان كان يقول: يا بني، إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة. وقد ورد في الحديث الذي
رواه ابن جرير وغيره عن أبي أمامة الباهلي موقوفا ومرفوعا أن غيا وأثاما بئران في قعر جهنم. أجارنا الله منهما بمنه
وكرمه. وقال السدي (يلق أثاما) جزاء وهذا أشبه بظاهر الآية وبهذا فسره بما بعده مبدلا منه. وهو قوله تعالى
(يضاعف له العذاب يوم القيامة) أي يكرر عليه ويغلظ " ويخلد فيه مهانا " أي حقيرا ذليلا. وقوله تعالى " إلا
من تاب وآمن وعمل عملا صالحا " أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر (إلا من تاب) أي
في الدنيا إلى الله عز وجل من جميع ذلك فإن الله يتوب عليه وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ولا
تعارض بين هذه وبين آية النساء (ومن يقتل مؤمنا متعمدا) الآية فإن هذه وإن كانت مدنية إلا أنها مطلقة فتحمل
على من لم يتب لأن هذه مقيدة بالتوبة ثم قد قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية قد ثبتت السنة
الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل كما ذكر مقررا من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله
توبته وغير ذلك من الأحاديث وقوله تعالى (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) في معنى
قوله (يبدل الله سيئاتهم حسنات) قولان أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات. قال علي
بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن
السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد
عند هذه الآية:
بدلن بعد حره خريفا * وبعد طول النفس الوجيفا
يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها وقال عطاء بن أبي رباح هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم
يبدله الله بها خيرا. وقال سعيد بن جبير أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن وأبدلهم بقتال المسلمين قتال
المشركين وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات وقال الحسن البصري أبدلهم الله بالعمل السئ العمل
الصالح وأبدلهم بالشرك إخلاصا وأبدلهم بالفجور إحصانا وبالكفر إسلاما وهذا قول أبي العالية وقتادة
وجماعة آخرين (والقول الثاني) أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات وما ذاك إلا لأنه
كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار فيوم القيامة وإن وجده مكتوبا عليه
فإنه لا يضره وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله
339

عنهم (1) فعن أبي ذر رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار وآخر
أهل الجنة دخولا إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول نحوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها قال فيقال له عملت يوم
كذا: كذا وكذا وعملت يوم كذا: كذا وكذا فيقول نعم لا يستطيع، أن ينكر من ذلك شيئا فيقال: فإن لك
بكل سيئة حسنة فيقول يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا " قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، انفرد
بإخراجه مسلم وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا هاشم بن يزيد حدثنا محمد بن إسماعيل حدثني أبي
حدثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نام ابن آدم قال
الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة
الشيطان وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا
وثلاثين تسبيحة فتلك مائة " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة وعارم قالا حدثنا ثابت
يعني ابن يزيد أبو زيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها
فإذا سيئاته فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات، وقال
أيضا حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا سليمان بن موسى الزهري أبو داود حدثنا أبو العنبس عن أبيه عن أبي
هريرة قال: ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات، قيل من هم يا أبا هريرة؟
قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عبد الله ابن أبي زياد حدثنا سيار حدثنا جعفر
حدثنا أبو حمزة عن أبي الصيف - قلت وكان من أصحاب معاذ بن جبل - قال: يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة
أصناف المتقين ثم الشاكرين ثم الخائفين ثم أصحاب اليمين، قلت لم سموا أصحاب اليمين؟ قال لانهم قد
عملوا بالسيئات والحسنات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرأوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين
حسناتنا؟ فعند ذلك محا الله السيئات وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا (هاؤم اقرءوا كتابيه) فهم أكثر أهل
الجنة، وقال علي بن الحسين زين العابدين (يبدل الله سيئاتهم حسنات) قال في الآخرة وقال مكحول يغفرها
لهم فيجعلها حسنات رواهما ابن أبي حاتم وروى ابن جرير عن سعيد بن المسيب مثله. قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولا يحدث قال:
جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلا
اقتطفها بيمينه لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أأسلمت؟ " فقال أما
أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم " فإن الله غافر لك ما كنت
كذلك ومبدل سيئاتك حسنات " فقال يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال " وغدراتك وفجراتك " فولى الرجل
يكبر ويهلل. وروى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة
أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة فهل له من توبة؟ فقال
" أسلمت؟ " فقال نعم؟ قال " فافعل الخيرات واترك السيئات فيجعلها الله لك خيرات كلها " قال وغدراتي
وفجراتي؟ قال " نعم " فما زال يكبر حتى توارى، ورواه الطبراني من طريق أبي فروة الرهاوي عن ياسين الزيات
عن أبي سلمة الحمصي عن يحيى بن جابر عن سلمة بن نفيل مرفوعا وقال أيضا حدثنا أبو زرعة حدثنا إبراهيم
ابن المنذر حدثنا عيسى بن شعيب بن ثوبان عن فليح بن عبيد بن أبي عبيد الشماس عن أبيه عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: جاءتني امرأة فقالت هل لي من توبة؟ إني زنيت وولدت وقتلته فقلت لا ولا نعمت العين ولا
كرامة فقامت وهي تدعو بالحسرة ثم صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقصصت عليه ما قالت المرأة وما قلت لها

(1) قوله فعن أبي ذر الخ في بعض النسخ زيادة السند بما لفظه: قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المعرور بن
سويد عن أبي ذر الخ أ ه‍.
340

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بئسما قلت أما كنت تقرأ هذه الآية؟ " (والذين لا يدعون مع الله إلها آخر - إلى قوله - إلا
من تاب) الآية فقرأتها عليها فخرت ساجدة وقالت الحمد لله الذي جعل لي مخرجا هذا حديث غريب من هذا
الوجه وفي رجاله من لا يعرف والله أعلم، وقد رواه ابن جرير من حديث إبراهيم بن المنذر الحزامي بسنده بنحوه
وعنده فخرجت تدعو بالحسرة وتقول يا حسرتا أخلق هذا الحسن للنار؟ وعنده أنه لما رجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
يطلبها في جميع دور المدينة فلم يجدها فلما كان من الليلة المقبلة جاءته فأخبرها بما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
فخرت ساجدة وقالت الحمد لله الذي جعل لي مخرجا وتوبة مما عملت وأعتقت جارية كانت معها وابنتها وتابت
إلى الله عز وجل ثم قال تعالى مخبرا عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان
جليلا أو حقيرا كبيرا أو صغيرا فقال تعالى (ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا) أي فإن الله يقبل
توبته كما قال تعالى (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) الآية وقال تعالى (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن
عباده) الآية وقال تعالى (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) الآية أي لمن تاب
إليه.
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما (72) والذين إذا ذكروا بأيت ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا
(73) والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (74)
وهذه أيضا من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور قيل هو الشرك وعبادة الأصنام وقيل الكذب والفسق
والكفر واللغو والباطل وقال محمد بن الحنفية هو اللغو والغناء وقال أبو العالية وطاوس وابن سيرين والضحاك
والربيع بن أنس وغيرهم هو أعياد المشركين. وقال عمرو بن قيس هي مجالس السوء والخنا. وقال مالك عن
الزهري: شرب الخمر لا يحضرونه ولا يرغبون فيه كما جاء في الحديث " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا
يجلس على مائدة يدار عليها الخمر " وقيل المراد بقوله تعالى (لا يشهدون الزور) أي شهادة الزور وهي الكذب
متعمدا على غيره كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ " ثلاثا - قلنا
بلى يا رسول الله قال " الشرك بالله وعقوق الوالدين " وكان متكئا فجلس فقال " ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور "
فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه ولهذا قال
تعالى (وإذا مروا باللغو مروا كراما) أي لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشئ ولهذا
قال (مروا كراما) وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو الحسن العجلي عن محمد
ابن مسلم أخبرني إبراهيم بن ميسرة أن ابن مسعود مر بلهو فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أصبح ابن مسعود
وأمسى كريما " وحدثنا الحسين بن محمد بن سلمة النحوي ثنا حبان أنا عبد الله أنا محمد بن مسلم أخبرني ميسرة
قال بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضا فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريما " ثم
تلا إبراهيم بن ميسرة (وإذا مروا باللغو مروا كراما ". وقوله تعالى (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها
صما وعميانا) وهذه أيضا من صفات المؤمنين (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم
إيمانا وعلى ربهم يتوكلون) بخلاف الكافر فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ولا يتغير عما كان عليه بل يبقى
مستمرا على كفره وطغيانه وجهله وضلاله كما قال تعالى (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه
إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم)
فقوله (لم يخروا عليها صما وعميانا) أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله
كأن لم يسمعها أصم أعمى. قال مجاهد قوله (لم يخروا عليها صما وعميانا) قال لم يسمعوا ولم يبصروا ولم
يفقهوا شيئا، وقال الحسن البصري رضي الله عنه: كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم أعمى. وقال قتادة
341

قوله تعالى (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) يقول لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه
فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا
عبد الله بن حمران ثنا ابن عون قال سألت الشعبي قلت الرجل يرى القوم سجودا ولم يسمع ما سجدوا أيسجد
معهم؟ قال فتلا هذه الآية: يعني أنه لا يسجد معهم لأنه لم يتدبر أمر السجود ولا ينبغي للمؤمن أن يكون إمعة
بل يكون على بصيرة في أمره ويقين واضح بين وقوله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة
أعين) يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له. قال ابن
عباس يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة قال عكرمة: لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمال
ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال أن يرى الله العبد المسلم من زوجته
ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله لا والله لا شئ أقر لعين المسلم من أن يرى ولدا أو ولد ولد أو أخا وحميما مطيعا
لله عز وجل قال ابن جريج في قوله (هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) قال يعبدونك فيحسنون عبادتك ولا
يجرون علينا الجرائر، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم
للاسلام وقال الإمام أحمد حدثنا معمر بن بشر حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا صفوان بن عمرو حدثني عبد
الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوما فمر به رجل فقال طوبى لهاتين العينين
اللتين رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت فاستغضب المقداد فجعلت أعجب لأنه ما قال
إلا خيرا، ثم أقبل إليه فقال ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضرا غيبه الله عنه لا يدري لو شهده كيف يكون
فيه والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواما أكبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه أولا
تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم مصدقين بما جاء به نبيكم قد كفيتم البلاء
بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشر حال بعث عليها نبيا من الأنبياء في فترة جاهلية ما يرون أن دينا
أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل وفرق بين الوالد وولده إن كان الرجل ليرى والده
وولده وأخاه كافرا وقد فتح الله قفل قلبه للايمان يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في
النار، وأنها التي قال الله تعالى (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) وهذا إسناد صحيح
ولم يخرجوه وقوله تعالى (واجعلنا للمتقين إماما) قال ابن عباس والحسن والسدي وقتادة والربيع بن أنس أئمة
يقتدى بنا في الخير. وقال غيرهم هداة مهتدين دعاة إلى الخير فأحبوا أن تكون عبادتهم متصلة بعبادة أولادهم
وذرياتهم وأن يكون هداهم متعديا إلى غيرهم بالنفع وذلك أكثر ثوابا، وأحسن مآبا، ولهذا ثبت في صحيح مسلم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح
يدعو له أو علم ينتفع به من بعده أو صدقة جارية ".
أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلما (75) خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما (76) قل ما
يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما (77)
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة والأقوال والافعال الجليلة قال بعد ذلك
كله (أولئك) أي المتصفون بهذه (يجزون) يوم القيامة (الغرفة) وهي الجنة، قال أبو جعفر الباقر وسعيد
ابن جبير والضحاك والسدي سميت بذلك لارتفاعها (بما صبروا) أي على القيام بذلك (ويلقون فيها) أي في
الجنة (تحية وسلاما) أي يبتدرون فيها بالتحية والاكرام، ويلقون التوقير والاحترام، فلهم السلام وعليهم
السلام فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، وقوله تعالى
(خالدين فيها) أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ولا يزولون عنها ولا يبغون عنها حولا كما قال تعالى
342

(وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض) الآية. وقوله تعالى (حسنت مستقرا أو
مقاما) أي. حسنت منظرا وطابت مقيلا ومنزلا. ثم قال تعالى (قل ما يعبأ بكم ربي) أي لا يبالي ولا يكترث بكم
إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلا. قال مجاهد وعمرو بن شعيب (ما
يعبأ بكم ربي) يقول ما يفعل بكم ربي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (قال ما يعبأ بكم ربي)
الآية يقول لولا إيمانكم وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ولو كان له بهم حاجة
لحبب إليهم الايمان كما حببه إلى المؤمنين وقوله تعالى (فقد كذبتم) أيها الكافرون (فسوف يكون لزاما) أي
فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم يعني مفتضيا لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة ويدخل في ذلك يوم
بدر كما فسره بذلك عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ومحمد بن كعب القرظي ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي
وغيرهم وقال الحسن البصري (فسوف يكون لزاما) أي يوم القيامة ولا منافاة بينهما. آخر تفسير سورة الفرقان ولله الحمد والمنة.
سورة الشعراء
(ووقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتها سورة الجامعة)
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتب المبين (2) لعلك بخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين (3) إن نشأ ننزل عليهم
من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين (4) وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين (5)
فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزءون (6) أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم (7)
إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (8) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (9)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول سورة البقرة. وقوله تعالى " تلك آيات
الكتاب المبين " أي هذه آيات القرآن المبين أي البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي
والرشاد. وقوله تعالى " لعلك باخع " أي مهلك " نفسك " أي مما تحرص وتحزن عليهم " أن لا يكونوا
مؤمنين " وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار كما قال تعالى " فلا تذهب
نفسك عليهم حسرات " كقوله " فلعلك باخع نفسك على آثارهم " الآية. قال مجاهد وعكرمة وقتادة وعطية
والضحاك والحسن وغيرهم " لعلك باخع نفسك " أي قاتل نفسك قال الشاعر: ألا أيهذا الباخع الحزن نفسه لشئ نحته عن يديه المقادر
ثم قال تعالى " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم
إلى الايمان قهرا ولكن لا نفعل ذلك لأنا لا نريد من أحد إلا الايمان الاختياري، وقال تعالى " ولو شاء ربك لآمن
من في الأرض كلهم جميعا * أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقال تعالى " ولو شاء ربك لجعل الناس
أمه واحدة " الآية فنفذ قدره ومضت حكمته وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب
عليهم ثم قال تعالى " وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين " أي كلما جاءهم كتاب من
السماء أعرض عنه أكثر الناس كما قال تعالى " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " يا حسرة على
343

العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون " وقال تعالى " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه "
الآية ولهذا قال تعالى ههنا " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون " أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق
فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ثم نبه تعالى على عظمة سلطانه
وجلالة قدره وشأنه الذي اجترؤوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض
وأنبت فيها من كل زوج كريم من زروع وثمار وحيوان، قال سفيان الثوري عن رجل عن الشعبي: الناس من
نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم " إن في ذلك لآية " أي دلالة على قدرة الخالق
للأشياء الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس بل كذبوا به وبرسله وكتبه وخالفوا أمره
وارتكبوا نهيه. وقوله " وإن ربك لهو العزيز " أي الذي عز كل شي وقهره وغلبه " الرحيم " أي بخلقه فلا يعجل
على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال أبو العالية وقتادة والربيع بن أنس وابن إسحاق:
العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره، وقال سعيد بن جبير: الرحيم بمن تاب إليه وأناب.
وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين (10) قوم فرعون ألا يتقون (11) قال رب أني أخاف أن
يكذبون (12) ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون (13) ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون (14) قال كلا
فاذهبا بآيتنا إنا معكم مستمعون (15) فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين (16) أن أرسل معنا بني
إسرائيل (17) قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين (18) وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من
الكافرين (19) قال فعلتها إذا وأنا من الضالين (20) ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني
من المرسلين (21) وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل (22)
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن،
وكلمه ونا جاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه، ولهذا قال تعالى " أن ائت القوم الظالمين قوم
فرعون ألا يتقون * قال رب إني أخاف أن يكذبون * ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هارون * ولهم
على ذنب فأخاف أن يقتلون " هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه كما قال في سورة طه " قال رب اشرح لي
صدري ويسر لي أمري - إلى قوله - قد أوتيت سؤلك يا موسى " وقوله تعالى " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون "
أي بسبب قتل القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر " قال كلا " أي قال الله له لا تخف من شئ من ذلك
كقوله " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا - أي برهانا - فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن أتبعكما
الغالبون " فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون " كقوله " إنني معكما أسمع وأرى " أي إنني معكما بحفظي وكلائتي
ونصري وتأييدي " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين " كقوله في الآية الأخرى " إنا رسولا ربك " أي كل
منا أرسل إليك " أن أرسل معنا بني إسرائيل " أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك فإنهم عباد الله
المؤمنون وحزبه المخلصون وهم معك في العذاب المهين، فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية
ونظر إليه بعين الازدراء والغمص فقال " ألم نربك فينا وليدا " الآية أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى
فراشنا وأنعمنا عليه مدة من السنين ثم بعد هذا قابلت ذلك الاحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلا وجحدت
نعمتنا عليك ولهذا قال " وأنت من الكافرين " أي الجاحدين. قاله ابن عباس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
واختاره ابن جرير " قال فعلتها إذا " أي في تلك الحال " وأنا من الضالين " أي قبل أن يوحى إلي وينعم الله علي
بالرسالة والنبوة. قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والضحاك وغيرهم " وأنا من الضالين " أي
344

الجاهلين، قال ابن جريج وهو كذلك في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " ففررت منكم لما خفتكم " الآية
أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت وإن خالفته عطبت، ثم قال موسى
" وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل
فجعلتهم عبيدا وخدما تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى
مجموعهم أي ليس ما ذكرته شيئا بالنسبة إلى ما فعلت بهم.
قال فرعون وما رب العلمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24) قال لمن حوله ألا
تستمعون (25) قال ربكم ورب آبائكم الأولين (26) قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون (27) قال رب
الشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28)
يقول تعالى مخبرا عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله " وما رب العالمين " وذلك أنه كان يقول لقومه
" ما علمت لكم من إله غيري " " فاستخف قومه فأطاعوه " وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا ويعتقدون أنه لا رب
لهم سوى فرعون، فلما قال له موسى إني رسول رب العالمين قال له فرعون ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين
غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف حتى قال السدي هذه الآية كقوله تعالى " قال فمن ربكما يا موسى
قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد
غلط فإنه لم يكن مقرا بالصانع حتى يسأل عن الماهية بل كان جاحدا له بالكلية فيما يظهر وإن كانت الحجج
والبراهين قد قامت عليه فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين " قال رب السماوات والأرض وما بينهما "
أي خالق جميع ذلك ومالكه والمتصرف فيه وإلهه لا شريك له هو الله الذي خلق الأشياء كلها العالم العلوي وما
فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار وجبال وأشجار وحيوانات
ونبات وثمار وما بين ذلك من الهواء والطير، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون " إن كنتم
موقنين " أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ورؤساء
دولته قائلا لهم على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله " ألا تستمعون " أي ألا تعجبون من هذا
في زعمه أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى " ربكم ورب آبائكم الأولين " أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين
الذي كانوا قبل فرعون وزمانه " قال " أي فرعون لقومه " إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون " أي ليس له
عقل في دعواه أن ثم ربا غيري " قال " أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أو عز من الشبهة فأجاب
موسى بقوله " رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " أي هو الذي جعل المشرق مشرقا تطلع منه
الكواكب، والمغرب مغربا تغرب فيه الكواكب ثوابتها وسياراتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها فإن كان
هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقا فليعكس الامر وليجعل المشرق مغربا والمغرب مشرقا، كما قال تعالى
عن " الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت
قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب " الآية. ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت
حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، وأعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام فقال ما أخبر
الله تعالى عنه: قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين (29) قال أو لو جئتك بشئ مبين (30) قال فأت به
إن كنت من الصدقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين (32) ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين (33)
345

قال للملا خوله إن هذا لساحر عليم (34) يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون (35) قالوا أرجه
وأخاه وابعثه في المدائن حشرين (36) يأتوك بكل سحار عليم (37)
لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه فظن أنه ليس وراء هذا المقام
مقال فقال " لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين " فعند ذلك قال موسى " أو لو جئتك بشئ مبين "
أي ببرهان قاطع واضح " قال فائت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين " أي ظاهر واضح
في غاية الجلاء والوضوح والعظمة ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج " ونزع يده " أي من جيبه " فإذا هي
بيضاء للناظرين " أي تتلألأ كقطعة من القمر فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد فقال للملا حوله " إن هذا
لساحر عليم " أي فاضل بارع في السحر، فروج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم
هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به فقال " يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره " الآية أي أراد أن يذهب
بقلوب الناس معه بسبب هذا فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم فأشيروا علي
فيه ماذا أصنع به؟ " قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين * يأتوك بكل سحار عليم " أي أخره وأخاه حتى
تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحار عليم يقابلونه ويأتون بنظير ما جاء به فتغلبه أنت وتكون لك
النصرة والتأييد، فأجابهم إلى ذلك. وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك ليجتمع الناس في صعيد واحد
وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.
فجمع السحرة لميقات يوم معلوم (38) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون (39) لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين
(40) فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين (41) قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين (42)
قال لهم موسى إلقوا ما أنتم ملقون (43) فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون (44) فألقى
موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون (45) فألقي السحرة ساجدين (46) قالوا آمنا برب العلمين (47) رب موسى
وهرون (48)
ذكر الله تعالى هذه المناظر الفعلية بين موسى عليه السلام والقبط في سورة الأعراف وفي سورة طه وفي هذه
السورة: وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وهذا شأن
الكفر والايمان ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الايمان " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل
مما تصفون " " وقل جاء الحق وزهق الباطل " الآية ولهذا لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر،
وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكان السحرة جمعا كثيرا، وجما غفيرا، قيل كانوا
اثني عشر ألفا وقيل خمسة عشر ألفا، وقيل سبعة عشر ألفا، وقيل تسعة عشر ألفا، وقيل بضعة وثلاثين ألفا، وقيل
ثمانين ألفا. وقيل غير ذلك والله أعلم بعدتهم. قال ابن إسحاق: وكان أمرهم راجعا إلى أربعة منهم وهم
رؤساؤهم وهم: سابور وعاذور وحطحط ومصفى، واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم وقال قائلهم " لعلنا نتبع
السحرة إن كانوا هم الغالبين " ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى بل الرعية على دين ملكهم
" فلما جاء السحرة " أي إلى مجلس فرعون وقد ضربوا له وطاقا وجمع خدمه وحشمه ووزرائه ورؤساء دولته
وجنود مملكته فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الاحسان إليهم والتقرب إليه إن غلبوا أي هذا الذي
جمعتنا من أجله فقالوا " أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين * قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " أي وأخص مما
تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي، فعادوا إلى مقام المناظرة " قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن
346

نكون أول من ألقى * قال بل ألقوا " وقد اختصر هذا ههنا فقال لهم موسى " ألقوا ما أنتم ملقون * فألقوا حبالهم
وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئا هذا بثواب فلان،
وقد ذكر الله تعالى في سورة الأعراف أنهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وقال في سورة
طه " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى - إلى قوله - ولا يفلح الساحر حيث أتى " وقال ههنا
" فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون " أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئا، قال
الله تعالى " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون - إلى قوله - رب موسى وهارون " فكان هذا أمرا عظيما جدا
وبرهانا قاطعا للعذر وحجة دامغة، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غلبوا وخضعوا وآمنوا بموسى
في الساعة الراهنة وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موسى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة، فغلب فرعون
غلبا لم يشاهد العالم مثله وكان وقحا جريئا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فعدل إلى المكابرة والعناد
ودعوى الباطل فشرع يتهددهم ويتوعدهم ويقول " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وقال " إن هذا لمكر
مكرتموه في المدينة " الآية.
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لاقطعن أيديكم وأرجلكم من
خلف ولأصلبنكم أجمعين (49) قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون (50) إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطينا أن
كنا أول المؤمنين (51)
تهددهم فلم ينفع ذلك فيهم وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر
وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهل قومهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر إلا أن يكون الله قد أيده
به وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه، ولهذا لما قال لهم فرعون " آمنتم له قبل أن آذن لكم " أي
كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتاتوا علي في ذلك فإن أذنت لكم فعلتم وإن منعتكم امتنعتم فإني أنا
الحاكم المطاع " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها فإنهم لم يجتمعوا بموسى
قبل ذلك اليوم فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل. ثم توعدهم فرعون بقطع
الأيدي والأرجل والصلب فقالوا " لا ضير " أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به " إنا إلى ربنا منقلبون " أي
المرجع إلى الله عز وجل وهو لا يضيع أجر من أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم
الجزاء ولهذا قالوا " إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا " أي ما قارفناه من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر
" أن كنا أول المؤمنين " أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الايمان، فقتلهم كلهم.
* وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون (52) فأرسل فرعون في المدائن حشرين (53) إن هؤلاء
لشرذمة قليلون (54) وإنهم لنا لغائظون (55) وإنا لجميع حذرون (56) فأخرجناهم من جنت وعيون (57)
وكنوز ومقام كريم (58) كذلك وأورثناها بني إسرائيل (59)
لما طال مقام موسى عليه اللام ببلاد مصر وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه وهم مع ذلك يكابرون
ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر
وأن يمضي بهم حيث يؤمر ففعل موسى عليه السلام ما أمره ربه عز وجل. خرج بهم بعدما استعاروا من قوم
فرعون حليا كثيرا، وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر، وذكر مجاهد رحمه الله
347

أنه كسف القمر تلك الليلة فالله أعلم. وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام فدلته امرأة عجوز
من بني إسرائيل عليه فاحتمل تابوته معهم ويقال إنه هو الذي حمله بنفسه عليهما السلام وكان يوسف عليه السلام
قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوه معهم، وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم رحمه الله
فقال: حدثنا علي بن الحسين حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح حدثنا ابن فضيل عن يونس بن أبي
إسحاق عن ابن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعرابي فأكرمه فقال له رسول الله
" تعاهدنا
" فأتاه الاعرابي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما حاجتك؟ " قال ناقة برحلها وعنز يحتلبها أهلي، فقال " أعجزت
أن تكون مثل عجوز بني إسرائيل؟ " فقال له أصحابه وما عجوز بني إسرائيل يا رسول الله؟ قال " إن موسى عليه
السلام لما أراد أن يسير ببني إسرائيل أضل الطريق فقال لبني إسرائيل ما هذا؟ فقال له علماء بني إسرائيل نحن
نحدثك أن يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ علينا موثقا من الله أن لا نخرج من مصر حتى ننقل تابوته
معنا فقال لهم موسى فأيكم يدري أين قبر يوسف؟ قالوا ما يعلمه إلا عجوز من بني إسرائيل، فأرسل إليها فقال
لها دليني على قبر يوسف، فقالت والله لا أفعل حتى تعطيني حكمي، فقال لها وما حكمك؟ قالت حكمي أن
أكون معك في الجنة، فكأنه ثقل عليه ذلك فقيل له أعطها حكمها، قال فانطلقت معهم إلى بحيرة - مستنقع ماء -
فقالت لهم انضبوا هذا الماء فلما أنضبوه قالت احفروا، فلما حفروا استخرجوا قبر يوسف فلما احتملوه إذا الطريق
مثل ضوء النهار، وهذا حديث غريب جدا والأقرب أنه موقوف والله أعلم: فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا
مجيب غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعا في بلاده
حاشرين أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ونادى فيهم " إن هؤلاء " يعني بني إسرائيل " لشرذمة
قليلون " أي لطائفة قليلة " وإنهم لنا لغائظون " أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا " وإنا لجميع حاذرون " أي
نحن كل وقت نحذر من غائلتهم: وقرأ طائفة من السلف " وإنا لجميع حاذرون " أي مستعدون بالسلاح، وإني
أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم، قال الله تعالى " فأخرجناهم من
جنات وعيون وكنوز ومقام كريم " أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين
والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا " كذلك وأورثناها بني إسرائيل " كما قال تعالى
" وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " الآية وقال تعالى " ونريد أن
نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " الآيتين.
فأتبعوهم مشرقين (60) فلما تراءا الجمعان قال أصحب موسى إنا لمدركون (61) قال كلا إن معي ربي سيهدين (62)
فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (63) وأزلفنا ثم الآخرين
(64) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين (65) ثم أغرقنا الآخرين (66) إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (67)
وإن ربك لهو العزيز الرحيم (68)
ذكر غير واحد من المفسرين أن فرعون خرج في محفل عظيم وجمع كبير هو عبارة عن مملكة الديار المصرية في زمانه أولي
الحل والعقد والدول من الامراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فأما ما ذكره غير واحد من الإسرائيليات من أنه
خرج في ألف ألف وستمائة ألف فارس منها مائة ألف على خيل دهم ففيه نظر: وقال كعب الأحبار فيهم ثمانمائة
ألف حصان أدهم وفي ذلك نظر، والظاهر أن ذلك من مجازفات بني إسرائيل والله سبحانه وتعالى أعلم، والذي
أخبر به القرآن هو النافع ولم يعين عدتهم إذ لا فائدة تحته لانهم خرجوا بأجمعهم " فأتبعوهم مشرقين " أي وصلوا
إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها " فلما تراءى الجمعان " أي رأى كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك " قال
348

أصحاب موسى إنا لمدركون " وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر وهو بحر القلزم فصار أمامهم البحر
وقد أدركهم فرعون بجنوده لهذا قالوا " إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين " أي لا يصل إليكم شئ مما
تحذرون فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير ههنا بكم وهو سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وكان هارون
عليه السلام في المقدمة ومعه يوشع بن نون ومؤمن آل فرعون وموسى عليه السلام في الساقة، وقد ذكر غير واحد
من المفسرين أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون وجعل يوشع بن نون أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى عليه السلام
يا نبي الله ههنا أمرك ربك أن تسير؟ فيقول نعم فاقترب فرعون وجنوده ولم يبق إلا القليل فعند ذلك أمر الله نبييه
موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فضربه وقال انفلق بإذن الله. وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا
صفوان بن صالح حدثنا الوليد حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام لما
انتهى إلى البحر قال: يا من كان قبل كل شئ والمكون لكل شئ، والكائن بعد كل شئ اجعل لنا مخرجا
فأوحى الله إليه " أن اضرب بعصاك البحر " وقال قتادة أوحى الله تلك الليلة إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه
فاسمع له وأطع فبات البحر تلك الليلة وله اضطراب ولا يدري من أي جانب يضربه موسى فلما انتهى إليه موسى
قال له فتاه يوشع بن نون يا نبي الله أين أمرك ربك عز وجل؟ قال أمرني أن أضرب البحر قال فاضربه، وقال محمد
ابن إسحاق أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له قال فبات البحر يضطرب
ويضرب بعضه بعضا فرقا من الله تعالى وانتظارا لما أمره الله، وأوحى الله إلى موسى " أن اضرب بعصاك البحر "
فضربه بها ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق، وذكر واحد أنه جاءه فكناه فقال: أنفق علي أبا خالد بإذن الله.
قال الله تعالى " فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم " أي كالجبل الكبير قاله ابن مسعود وابن عباس ومحمد
ابن كعب والضحاك وقتادة وغيرهم. وقال عطاء الخراساني هو الفج بين الجبلين، وقال ابن عباس صار البحر اثني
عشر طريقا لكل سبط طريق، وزاد السدي وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض وقام الماء على حيلة
كالحيطان وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته فصار يبسا كوجه الأرض قال الله تعالى " فاضرب لهم طريقا في
البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى " وقال في هذه القصة " وأزلفنا ثم الآخرين " أي هنالك قال ابن عباس
وعطاء الخراساني وقتادة والسدي " وأزلفنا " أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وأدنيناهم إليه " وأنجينا موسى ومن
معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين " أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد،
وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلا هلك، وروى ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو بكر
ابن أبي شيبة حدثنا شبابة حدثنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله هو ابن
مسعود أن موسى عليه السلام حين أسرى ببني إسرائيل بلغ فرعون ذلك فأمر بشاة فذبحت، وقال لا والله لا يفرغ
من سلخها حتى يجتمع إلي ستمائة ألف من القبط فانطلق موسى حتى انتهى إلى البحر فقال له انفرق: فقال له
البحر قد استكبرت يا موسى وهل انفرقت لاحد من ولد آدم فأنفرق لك؟ قال ومع موسى رجل على حصان له
فقال له ذلك الرجل أين أمرت يا نبي الله؟ قال: ما أمرت إلا بهذا الوجه يعني البحر فأقحم فرسه فسبح به فخرج
فقال أين أمرت يا نبي الله قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذب ولا كذبت ثم اقتحم الثانية سبح ثم خرج
فقال أين أمرت يا نبي الله؟ قال ما أمرت إلا بهذا الوجه قال والله ما كذب ولا كذبت، قال فأوحى الله إلى موسى
أن اضرب بعصاك البحر، فضربه موسى بعصاه فانفلق فكان فيه اثنا عشر سبطا لكل سبط طريق يتراءون فلما خرج
أصحاب موسى وتتام أصحاب فرعون التقى البحر عليهم فأغرقهم. وفي رواية إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو
ابن ميمون عن عبد الله قال: فلما خرج آخر أصحاب موسى وتكامل أصحاب فرعون انطم عليهم البحر فما رئي
سواد أكثر من يومئذ، وغرق فرعون لعنه الله: ثم قال تعالى " إن في ذلك لآية " أي في هذه القصة وما فيها من
العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة " وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك
349

لهو العزيز الرحيم " تقدم تفسيره.
واتل عليهم نبأ إبراهيم (69) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون (70) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين (71)
قال هل يسمعونكم إذ تدعون (72) أو ينفعونكم أو يضرون (73) قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون (74) قال
أفرءيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العلمين (77)
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء أمر الله تعالى رسوله محمدا
صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الاخلاص والتوكل وعبادة الله وحده لا شريك له والتبري من الشرك وأهله، فإن
الله تعالى آتي إبراهيم رشده من قبل أي من صغره إلى كبره فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام
مع الله عز وجل فقال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ " قالوا نعبد أصناما فنظل
لها عاكفين " أي مقيمين على عبادتها ودعائها " قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل
وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " يعني اعترفوا بأن أصنامهم لا تفعل شيئا من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذلك يفعلون
فهم على آثارهم يهرعون فعند ذلك قال لهم إبراهيم " أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو
لي إلا رب العالمين " أي إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير وتقدر فلتخلص إلي بالمساءة فإني عدو لها لا
أبالي بها ولا أفكر فيها، وهذا كما قال تعالى مخبرا عن نوح عليه السلام " فأجمعوا أمركم وشركاءكم " الآية
وقال هود عليه السلام " إني أشهد الله واشهدوا أني برئ مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني
توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم " وهكذا تبرأ إبراهيم من
آلهتهم فقال " وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله " الآية. وقال تعالى: " قد كانت لكم
أسوة حسنة في إبراهيم " - إلى قوله - " حتى تؤمنوا بالله وحده " وقال تعالى: " وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء
مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة " يعني لا إله إلا الله.
الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين
(81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)
يعني لا أعبد إلا الذي يفعل هذه الأشياء " الذي خلقني فهو يهدين " أي هو الخالق الذي قدر قدرا وهدى
الخلائق إليه فكل يجري على ما قدر له وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء " والذي هو يطعمني
ويسقين " أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية فساق المزن وأنزل الماء وأحيا به
الأرض وأخرج به من كل الثمرات رزقا للعباد وأنزل الماء عذبا زلالا يسقيه مما خلق أنعاما وأناسي كثيرا. وقوله:
" وإذا مرضت فهو يشفين " أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه ولكن أضافه إلى نفسه
أدبا كما قال تعالى آمرا للمصلي أن يقول " اهدنا الصراط المستقيم " إلى آخر السورة فأسند الانعام والهداية إلى
الله تعالى والغضب حذف فاعله أدبا وأسند الضلال إلى العبيد كما قالت الجن " وأنا لا ندري أشر أريد بمن في
الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا " وكذا قال إبراهيم " وإذا مرضت فهو يشفين " أي إذا وقعت في مرض فإنه لا
يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه " والذي يميتني ثم يحيين " أي هو الذي يحيي
ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه فإنه هو الذي يبدئ ويعيد " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "
أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلا هو ومن يغفر الذنوب إلا الله وهو الفعال لما يشاء.
رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين (83) واجعل لي لسان صدق في الآخرين (84) واجعلني من ورثة جنة النعيم (85)
350

واغفر لأبي إنه كان من الضالين (86) ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى
الله بقلب سليم (89)
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكما. قال ابن عباس وهو العلم، وقال عكرمة هو اللب،
وقال مجاهد هو القرآن، وقال السدي هو النبوة. وقوله: " وألحقني بالصالحين " أي اجعلني مع الصالحين في
الدنيا والآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار " اللهم في الرفيق الاعلى " قالها ثلاثا. وفي الحديث في الدعاء
" اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مبدلين " وقوله: " واجعل لي لسان صدق
في الآخرين " أي واجعل لي ذكرا جميلا بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير كما قال تعالى: " وتركنا عليه في
الآخرين * سلام على إبراهيم * كذلك نجزي المحسنين " قال مجاهد وقتادة " واجعل لي لسان صدق في
الآخرين " يعني الثناء الحسن قال مجاهد كقوله تعالى: " وآتيناه في الدنيا حسنة " الآية كقوله: " وآتيناه
أجره في الدنيا " الآية. قال ليث ابن أبي سليم كل ملة تحبه وتتولاه وكذا قال عكرمة. وقوله تعالى:
" واجعلني من ورثة جنة النعيم " أي أنعم علي في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي وفي الآخرة بأن تجعلني من
ورثة جنة النعيم. وقوله: " واغفر لأبي " الآية كقوله: " ربنا اغفر لي ولوالدي " وهذا مما رجع عنه إبراهيم
عليه السلام كما قال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه - إلى قوله - إن إبراهيم
لاواه حليم " وقد قطع تعالى الالحاق في استغفاره لأبيه فقال تعالى: " قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم
والذين معه - إلى قوله - وما أملك لك من الله من شئ " وقوله: " ولا تخزني يوم يبعثون " أي أجرني من
الخزي يوم القيامة ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم. وقال البخاري عند هذه الآية قال إبراهيم بن طهمان عن
ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يلقى
إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة " وفي رواية أخرى حدثنا إسماعيل حد ثنا أخي عن ابن أبي ذئب عن
سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يلقى إبراهيم أباه فيقول يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم
يبعثون فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين " هكذا رواه عند هذه الآية. وفي أحاديث الأنبياء بهذا
الاسناد بعينه منفردا به ولفظه " يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم ألم أقل
لك لا تعصيني فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك فيقول إبراهيم يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي
خزي أخزى من أبي الابعد؟ فيقول الله تعالى إني حرمت الجنة على الكافرين ثم يقول يا إبراهيم انظر تحت
رجلك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار " ورواه عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه
الكبير وقوله: " ولا تخزني يوم يبعثون " أخبرنا أحمد بن حفص بن عبد الله حدثني أبي حدثني إبراهيم بن
طهمان عن محمد بن عبد الرحمن عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " إن إبراهيم رأى أباه يوم القيامة عليه الغبرة والقترة وقال له قد نهيتك عن هذا فعصيتني. قال لكني اليوم لا
أعصيك واحدة، قال يا رب وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فإن أخزيت أباه فقد أخزيت الابعد. قال يا إبراهيم
إني حرمتها على الكافرين فأخذ منه. قال يا إبراهيم أين أبوك؟ قال أنت أخذته مني. قال انظر أسفل منك فنظر
فإذا ذيخ يتمرغ في نتنه فأخذ بقوائمه فألقي في النار " وهذا إسناد غريب وفية نكارة والذيخ هو الذكر من الضباع
كأنه حول آذر إلى صورة ذيخ متلطخ بعذرته فيلقى في النار كذلك. وقد رواه البزار باسناده من حديث حماد بن
سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه غرابة. ورواه أيضا من حديث قتادة عن
جعفر بن عبد الغافر عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وقوله: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " أي لا يقي المرء من
عذاب الله ماله ولو افتدى بملء ء الأرض ذهبا " ولا بنون " أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعا ولا ينفع يومئذ
351

إلا الايمان بالله وإخلاص الدين له والتبري من الشرك وأهله ولهذا قال: " إلا من أتى الله بقلب سليم " أي
سالم من الدنس والشرك قال ابن سيرين القلب السليم أن يعلم أن الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله
يبعث من في القبور، وقال ابن عباس " إلا من أتى الله بقلب سليم " القلب السليم أن يشهد أن لا إله إلا الله،
وقال مجاهد والحسن وغيرهما " بقلب سليم " يعني من الشرك، وقال سعيد بن المسيب القلب السليم هو القلب
الصحيح وهو قلب المؤمن لان قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى: " في قلوبهم مرض " قال أبو عثمان
النيسابوري هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنة.
وأزلفت الجنة للمتقين (90) وبرزت الجحيم للغاوين (91) وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون (92) من دون الله هل
ينصرونكم أو ينتصرون (93) فكبكبوا فيها هم والغاوون (94) وجنود إبليس أجمعون (95) قالوا وهم فيها
يختصمون (96) تالله إن كنا لفي ضلل مبين (97) إذ نسويكم برب العلمين (98) وما أضلنا إلا المجرمون (99) فما
لنا من شفعين (100) ولا صديق ميم (101) فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين (102) إن في ذلك لآية وما كان
أكثرهم مؤمنين (103) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (104)
" وأزلفت الجنة " أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها وهم المتقون الذين رغبوا فيها على ما في
الدنيا وعملوا لها في الدنيا " وبرزت الجحيم للغاوين " أي أظهرت وكشف عنها وبدت منها عنق فزفرت زفرة
بلغت منها القلوب الحناجر وقيل لأهلها تقريعا وتوبيخا " أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو
ينتصرون " أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ولا تدفع
عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون، الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئا ولا تدفع
عن أنفسها فإنكم وإياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون. وقوله: (فكبكبوا فيها هم والغاوون) قال
مجاهد يعني فدهوروا فيها، وقال غيره كبوا فيها والكاف مكررة كما يقال صرصر والمراد أنه ألقي بعضهم على
بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك (وجنود إبليس أجمعون) أي ألقوا فيها عن آخرهم (قالوا
وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين) أي يقول الضعفاء للذين استكبروا
إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ويقولون وقد عادوا على أنفسهم بالملامة (تالله إن كنا لفي
ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) أي نجعل أمركم مطاعا كما يطاع أمر رب العالمين وعبدناكم مع رب العالمين (وما
أضلنا إلا المجرمون) أي ما دعانا إلى ذلك إلا المجرمون (فما لنا من شافعين) قال بعضهم يعني من الملائكة كما
يقولون (فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل) وكذا قالوا: (فمالنا من شافعين *
ولا صديق حميم) أي قريب، قال قتادة يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحا نفع وأن الحميم إذا كان
صالحا شفع. (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) وذلك أنهم يتمنون أن يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة
ربهم فيما يزعمون والله تعالى يعلم أنهم لو ردوا إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وقد أخبر الله
تعالى عن تخاصم أهل النار في سورة ص ثم قال تعالى: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) ثم قال تعالى
(إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) أي أن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد
لآية أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلا الله (وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم).
كذبت قوم نوح المرسلين (105) إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون (106) إني لكم رسول أمين (107) فاتقوا الله
وأطيعون (108) وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين (109) فاتقوا الله وأطيعون (110)
352

هذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله نوح عليه السلام وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد ما
عبدت الأصنام والأنداد فبعثه الله ناهيا عن ذلك ومحذرا من وبيل عقابه فكذبه قومه فاستمروا على ما هم عليه من
الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى، ونزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل فلهذا
قال تعالى: (كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون) أي ألا تخافون الله في عبادتكم
غيره (إني لكم رسول أمين) أي إني رسول من الله إليكم أمين فيما بعثني الله به أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد
فيها ولا أنقص منها (فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر) الآية أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي
لكم بل أدخر ثواب ذلك عند الله (فاتقوا الله وأطيعون) فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني
الله به وائتمنني عليه.
قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111) قال وما علمي بما كانوا يعملون (112) إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون
(113) وما أنا بطارد المؤمنين (114) إن أنا إلا نذير مبين (115)
يقولون لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ولهذا (قالوا
أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون) أي وأي شئ يلزمني من اتباع هؤلاء لي ولو
كانوا على أي شئ كانوا عليه لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي
وأكل سرائرهم إلى الله عز وجل (إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين) كأنهم سألوا
منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك وقال: (وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين) أي إنما
بعثت نذيرا فمن أطاعني وأتبعني وصدقني كان مني وأنا منه سواء كان شريفا أو وضيعا جليلا أو حقيرا.
قالوا لئن لم تنته ينوح لتكونن من المرجومين (116) قال رب إن قومي كذبون (117) فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني
ومن معي من المؤمنين (118) فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون (119) ثم أغرقنا بعد الباقين (120) إن في ذلك
لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (121) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (122)
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا
على الكفر الغليظ والامتناع الشديد وقالوا في الآخر (لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين) أي لئن لم تنته
عن دعوتك إيانا إلى دينك (لتكونن من المرجومين) أي لنرجمنك فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه
فقال (رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا) الآية كما قال في الآية الأخرى (فدعا ربه أني مغلوب
فانتصر) إلى آخر الآية. وقال ههنا (فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين)
والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين أي أنجينا نوحا ومن اتبعه كلهم
وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز
الرحيم).
كذبت عاد المرسلين (123) إذ قال لهم أخوهم هو ألا تتقون (124) إني لكم رسول أمين (125) فاتقوا الله وأطيعون
(126) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين (127) أتبنون بكل ريع آية تعبثون (128)
وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون (129) وإذا بطشتم بطشتم جبارين (130) فاتقوا الله وأطيعون (131) واتقوا الذي
353

أمدكم بما تعلمون (132) أمدكم بأنعم وبنين (133) وجنت وعيون (134) إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (135)
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله هود عليه السلام أنه دعا قومه عادا وكان قومه يسكنون الأحقاف وهي
جبال الرمل قريبا من حضر موت متاخمة بلاد اليمن وكان زمانهم بعد قوم نوح كما قال في سورة الأعراف
(واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة) وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب
والقوة والبطش الشديد والطول المديد والأرزاق الدارة والأموال والجنات والأنهار والأبناء والزروع والثمار وكانوا مع
ذلك يعبدون غير الله معه، فبعث الله هودا إليهم رجلا منهم رسولا وبشيرا ونذيرا فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم
نقمته وعذابه في مخالفته وبطشه فقال لهم كما قال نوح لقومه إلى أن قال: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون)
اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة يبنون هناك بنيانا محكما
هائلا باهرا ولهذا قال: (أتبنون بكل ريع آية) أي معلما بناء مشهورا (تعبثون) أي وإنما تفعلون ذلك عبثا لا
للاحتياج إليه بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ذلك لأنه تضييع للزمان
وإتعاب للأبدان في غير فائدة واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال: (وتتخذون مصانع
لعلكم تخلدون) قال مجاهد والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد، وفي رواية عنه بروج الحمام وقال
قتادة هي مأخذ الماء. قال قتادة وقرأ بعض الكوفيين " وتتخذون مصانع كأنكم خالدون " وفي القراءة المشهورة
(وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون) أي لكي تقيموا فيها أبدا وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم كما زال
عمن كان قبلكم. وروى ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي حدثنا الحكم بن موسى حدثنا الوليد حدثنا ابن
عجلان حدثني عون بن عبد الله بن عتبة أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من
البنيان ونصب الشجر قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق فاجتمعوا إليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال ألا
تستحيون ألا تستحيون تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، إنه قد كانت
قبلكم قرون يجمعون فيوعون ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون فأصبح أملهم غرورا، وأصبح جمعهم
بورا وأصبحت مساكنهم قبورا، ألا إن عادا ملكت ما بين عدن وعمان خيلا وركابا فمن يشتري مني ميراث عاد
بدرهمين؟. وقوله: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت. (فاتقوا الله
وأطيعون) أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم، ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم. فقال: (واتقوا الذي أمدكم بما
تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين * وجنات وعيون * إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم) أي إن كذبتم وخالفتم
فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم. قالوا سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين (136) إن هذا إلا خلق الأولين (137) وما نحن بمعذبين (138)
فكذبوه فأهلكناه إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (139) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (140)
يقول تعالى مخبرا عن جواب قوم هود له بعد ما حذرهم وأنذرهم ورغبهم ورهبهم وبين لهم الحق ووضحه (قالوا
سواء علينا أو عظت أم لم تكن من الواعظين) أي لا نرجع عما نحن عليه (وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما
نحن لك بمؤمنين) وهكذا الامر فإن الله تعالى قال: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا
يؤمنون) وقال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) الآية وقولهم (إن هذا إلا خلق
الأولين) قرأ بعضهم (إن هذا إلا خلق الأولين) بفتح الخاء وتسكين اللام قال ابن مسعود والعوفي عن
عبد الله بن عباس وعلقمة ومجاهد يعنون ما هذا الذي جئتنا به إلا أخلاق الأولين كما قال المشركون من قريش
(وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) وقال: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه
354

وأعانه عليه قوم آخرون * فقد جاءوا ظلما وزورا * وقالوا أساطير الأولين) وقال: (وإذا قيل لهم ماذا أنزل
ربكم قالوا أساطير الأولين) وقرأ آخرون (إن هذا إلا خلق الأولين) بضم الخاء واللام يعنون دينهم وما هم عليه
من الامر هو دين الأولين من الآباء والأجداد ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا
ولا بعث ولا معاد ولهذا قالوا: (وما نحن بمعذبين) قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس (إن هذا إلا
خلق الأولين) يقول دين الأولين وقاله عكرمة وعطاء الخراساني وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختاره
ابن جرير وقوله تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم) أي استمروا على تكذيب نبي الله هود ومخالفته وعناده فأهلكهم
الله وقد بين سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن بأنه أرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية أي ريحا شديدة
الهبوب ذات برد شديد جدا فكان سبب إهلاكهم من جنسهم فإنهم كانوا أعتى شئ وأجبره فسلط الله عليهم ما هو
أعتى منهم وأشد قوة كما قال تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد) وهم عاد الأولى كما قال
تعالى: (وأنه أهلك عادا الأولى) وهم من نسل إرم بن سام بن نوح (ذات العماد) الذين كانوا يسكنون
العمد ومن زعم أن إرم مدينة فإنما أخذ ذلك من الإسرائيليات من كلام كعب ووهب وليس لذلك أصل أصيل
ولهذا قال التي لم يخلق مثلها في البلاد) أي لم يخلق مثل هذه القبيلة في قوتهم وشدتهم وجبروتهم ولو كان
المراد بذلك مدينة لقال التي لم يبن مثلها في البلاد وقال تعالى: (فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق
وقالوا من أشد منا قوة؟ أو لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون) وقد قدمنا أن
الله تعالى لم يرسل عليهم من الريح إلا مقدار أنف الثور عتت على الخزنة فأذن الله لها في ذلك فسلكت
فحصبت بلادهم فحصبت كل شئ لهم كما قال تعالى: (تدمر كل شئ بأمر ربها) الآية وقال تعالى: (وأما
عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية) - إلى قوله حسوما - أي كاملة - (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل
خاوية) أي بقوا أبدانا بلا رؤوس وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ثم تنكسه على
أم رأسه فتشدخ دماغه وتكسر رأسه وتلقيه كأنهم أعجاز نخل منقعر وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف
والمغارات وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئا (إن أجل الله إذا جاء لا
يؤخر) ولهذا قال تعالى: (فكذبوه فأهلكناهم) الآية.
كذبت ثمود المرسلين (141) إذ قال لهم أخوهم صلح ألا تتقون (142) إني لكم رسول أمين (143) فاتقوا الله وأطيعون
(144) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين (145)
وهذا إخبار من الله عز وجل عن عبده ورسوله صالح عليه السلام أنه بعثه إلى قومه ثمود وكانوا عربا يسكنون مدينة
الحجر التي بين وادى القرى وبلاد الشام ومساكنهم معروفة مشهورة وقد قدمنا في سورة الأعراف الأحاديث
المروية في مرور رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم حين أراد غزو الشام فوصل إلى تبوك ثم عاد إلى المدينة ليتأهب لذلك
وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن
يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجرا منهم وإنما يطلب
ثواب ذلك من الله عز وجل ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال.
أتتركون في ما ههنا آمنين (146) في جنت وعيون (147) وزروع ونخل طلعها هضيم (148) وتنحتون من الجبال بيوتا
فرهين (149) فاتقوا الله وأطيعون (150) ولا تطيعوا أمر المسرفين (151) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون (152)
يقول لهم واعظا لهم ومحذرهم نقم الله أن تحل بهم ومذكرا بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة
355

وجعلهم في أمن من المحذورات. وأنبت لهم من الجنات وفجر لهم من العيون الجاريات وأخرج لهم من
الزروع والثمرات ولهذا قال (ونخل طلعها هضيم) قال العوفي عن ابن عباس أينع وبلغ فهو هضيم وقال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (ونخل طلعها هضيم) يقول معشبة وقال إسماعيل بن أبي خالد عن
عمرو بن أبي عمرو - وقد أدرك الصحابة - عن ابن عباس في قوله (ونخل طلعها هضيم) قال إذا رطب
واسترخى رواه ابن أبي حاتم ثم قال: وروي عن أبي صالح نحو هذا وقال أبو إسحاق عن أبي العلاء (ونخل
طلعها هضيم) قال هو المذنب من الرطب وقال مجاهد: هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر. وقال ابن جريج
سمعت عبد الكريم أنبأنا أمية سمعت مجاهدا يقول: (ونخل طلعها هضيم) قال: حين يطلع تقبض عليه
فتهضمه فهو من الرطب الهضيم ومن اليابس الهشيم تقبض عليه فتهشمه وقال عكرمة وقتادة: الهضيم الرطب
اللين وقال الضحاك: إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضا فهو هضيم وقال مرة: هو الطلع حين يتفرق
ويخضر. وقال الحسن البصري هو الذي لا نوى له وقال أبو صخر: ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم فترى
الطلع قد لصق بعضه ببعض فهو الهضيم.
وقوله (وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين) قال ابن عباس وغير واحد يعني حاذقين وفي رواية عنه شرهين
أشرين وهو اختيار مجاهد وجماعة ولا منافاة بينهما فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشرا
وبطرا وعبثا من غير حاجة إلى سكناها وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم.
ولهذا قال (فاتقوا الله وأطيعون) أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة من عبادة ربكم
الذي خلقكم ورزقكم لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلا (ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في
الأرض ولا يصلحون) يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة لهم إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق.
قالوا إنما أنت من المسحرين (153) ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بأية إن كنت من الصدقين (154) قال هذه ناقة
لها شرب ولكم شرب يوم معلوم (155) ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم (156) فعقروها فأصبحوا
نادمين (157) فأخذهم العذاب إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (158) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (159)
يقول تعالى مخبرا عن ثمود في جوابهم لنبيهم صالح عليه السلام حين دعاهم إلى عبادة ربهم عز وجل أنهم
(قالوا إنما أنت من المسحرين) قال مجاهد وقتادة يعنون من المسحورين وروى أبو صالح عن ابن عباس
(من المسحرين) يعني من المخلوقين واستشهد بعضهم على هذا بقول الشاعر:
فإن تسألينا فيم فحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر
يعني الذين لهم سحر والسحر هو الرئة والأظهر في هذا قول مجاهد وقتادة أنهم يقولون إنما أنت في قولك هذا
مسحور لا عقل لك، ثم قالوا (ما أنت إلا بشر مثلنا) يعني فكيف أوحي إليك دوننا كما قالوا في الآية الأخرى
(أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر * سيعلمون غدا من الكذاب الأشر) ثم إنهم اقترحوا عليه آية
يأتيهم بها ليعلموا صدقه بما جاءهم به من ربهم وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه
الصخرة ناقة عشراء - وأشاروا إلى صخرة عندهم - من صفتها كذا وكذا فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح
العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه فأعطوه ذلك فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى
ثم دعا الله عز وجل أن يجيبهم إلى سؤالهم فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة
التي وصفوها فآمن بعضهم وكفر أكثرهم (قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) يعني ترد ماءكم يوما
ويوما تردونه أنتم (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء فمكثت
356

الناقة بين أظهرهم حينا من الدهر ترد الماء وتأكل الورق والمرعى وينفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شربا
وريا فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالؤا على قتلها وعقرها (فعقروها فأصبحوا نادمين فأخذهم
العذاب) وهو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها وأتاهم من الامر
ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو
العزيز الرحيم ".
كذبت قوم لوط المرسلين (160) إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161) إني لكم رسول أمين (162) فاتقوا الله
وأطيعون (163) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين (164)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله لوط عليه السلام وهو لوط بن هاران بن آزار وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه
السلام وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام وكانوا يسكنون سذوم وأعمالها
التي أهلكها الله بها وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس
بينها وبين بلاد الكرك والشوبك فدعاهم إلى الله عز وجل أن يعبدوه وحده لا شريك له وأن يطيعوا رسولهم
الذي بعثه الله إليهم ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم مما لم يسبقهم أحد من
الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث ولهذا قال تعالى.
أتأتون الذكران من العلمين (165) وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون (166) قالوا لئن لم
تنته يلوط لتكونن من المخرجين (167) قال إني لعملكم من القالين (168) رب نجنى وأهلي مما يعملون (169) فنجيناه
وأهله أجمعين (170) إلا عجوزا في الغابرين (171) ثم دمرنا الآخرين (172) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين
(173) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (174) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (175)
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما
كان جوابهم له إلا أن قالوا (لئن لم تنته يا لوط) أي عما جئتنا به (لتكونن من المخرجين) أي ننفيك من بين
أظهرنا كما قال تعالى (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) فلما
رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم تبرأ منهم وقال (إني لعملكم من القالين) أي
المبغضين لا أحبه ولا أرضى به وإني برئ منكم ثم دعا الله عليهم فقال (رب نجني وأهلي مما يعملون) قال
الله تعالى (فنجيناه وأهله أجمعين) أي كلهم (إلا عجوزا في الغابرين) وهي امرأته وكانت عجوز سوء بقيت
فهلكت مع من بقي من قومها وذلك كما أخبر الله تعالى عنهم في سورة الأعراف وهود وكذا في الحجر حين أمره
الله أن يسري بأهله إلا امرأته وأنهم لا يلتفتوا إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه فصبروا لأمر الله واستمروا
وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ولهذا قال تعالى (ثم
دمرنا الآخرين * وأمطرنا عليهم مطرا) - إلى قوله - (وإن ربك لهو العزيز الرحيم).
كذب اصحب الأيكة المرسلين (176) إذ قال لهم شعيب ألا تتقون (177) إني لكم رسول أمين (178) فاتقوا الله
وأطيعون (179) وما أسئلكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين (180)
هؤلاء - يعني أصحاب الأيكة - هم أهل مدين على الصحيح وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل ههنا
357

أخوهم شعيب لانهم نسبوا إلى عبادة الأيكة وهي شجرة وقيل شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها فلهذا لما قال:
كذب أصحاب الأيكة المرسلين لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال (إذ قال لهم شعيب) فقطع نسب
الاخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه وإن كان أخاهم نسبا. ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة فظن أن أصحاب
الأيكة غير أهل مدين فزعم أن شعيبا عليه السلام بعثه الله إلى أمتين ومنهم من قال ثلاث أمم وقد روى
إسحاق بن بشر الكاهلي - وهو ضعيف - حدثني ابن السدي عن أبيه وزكريا بن عمرو عن خصيف عن عكرمة
قالا: ما بعث الله نبيا مرتين إلا شعيبا مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله
تعالى بعذاب يوم الظلة وروى أبو القاسم البغوي عن هدبة عن همام عن قتادة في قوله تعالى (وأصحاب
الرس) قوم شعيب وقوله (وأصحاب الأيكة) قوم شعيب وقاله إسحاق بن بشر. وقال غير جويبر أصحاب
الأيكة ومدين هما واحد والله أعلم. وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة شعيب من طريق محمد بن عثمان بن
أبي شيبة عن أبيه عن معاوية بن هشام عن هشام بن سعيد عن سعيد بن أبي هلال عن ربيعة بن يوسف عن
عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيبا النبي عليه
السلام " وهذا غريب وفي رفعه نظر والأشبه أن يكون موقوفا. والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام
بشئ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء فدل ذلك على أنهما أمة
واحدة.
* أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين (181) وزنوا بالقسطاس المستقيم (182) ولا تبخسوا الناس أشياءهم
ولا تعثوا في الأرض مفسدين (183) واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين (184)
يأمرهم عليه السلام بإيفاء المكيال والميزان وينهاهم عن التطفيف فيهما فقال (أوفوا الكيل ولا تكونوا من
المخسرين) أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصا وتأخذوه إذا كان لكم تاما
وافيا ولكن خذوا كما تعطون وأعطوا كما تأخذون (وزنوا بالقسطاس المستقيم) والقسطاس هو الميزان وقيل
هو القبان قال بعضهم هو معرب من الرومية قال مجاهد القسطاس المستقيم هو العدل بالرومية. وقال قتادة
القسطاس العدل وقوله (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) أي لا تنقصوهم أموالهم (ولا تعثوا في الأرض
مفسدين) يعني قطع الطريق كما قال في الآية الأخرى (ولا تقعدوا بكل صراط توعدون) وقوله (واتقوا الذي
خلقكم والجبلة الأولين) يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل كما قال موسى عليه السلام
(ربكم ورب آباءكم الأولين) قال ابن عباس ومجاهد والسدي وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
(والجبلة الأولين) يقول خلق الأولين وقرأ ابن زيد (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا).
قالوا إنما أنت من المسحرين (185) وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين (186) فأسقط علينا كسفا من
السماء إن كنت من الصدقين (187) قال رب اعلم بما تعملون (188) فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان
عذاب يوم عظيم (189) إن في ذلك لاية وما كان أكثرهم مؤمنين (190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم (191)
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها تشابهت قلوبهم حيث قالوا (إنما أنت من
المسحرين) يعنون من المسحورين كما تقدم (وما أنت إلا بشر مثلنا له إن نظنك لمن الكاذبين) أي تتعمد
الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا (فأسقط علينا كسفا من السماء) قال الضحاك: جانبا من السماء،
وقال قتادة قطعا من السماء وقال السدي عذابا من السماء. وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله
358

تعالى (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا) - إلى أن قالوا - (أو تسقط السماء كما زعمت علينا
كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) وقوله (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء) الآية وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة (فأسقط علينا كسفا من السماء) الآية (قال ربي أعلم بما
تعملون) يقول الله أعلم بكم فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم وهكذا وقع بهم جزاء كما
سألوا جزاء وفاقا ولهذا قال تعالى (فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) وهذا من جنس
ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا
يكنهم منه شئ ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر فلما اجتمعوا
كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شررا من نار ولهبا ووهجا عظيما ورجفت بهم الأرض وجاءتهم صيحة
عظيمة أزهقت أرواحهم ولهذا قال تعالى (إنه كان عذاب يوم عظيم) وقد ذكر الله تعالى صفة إهلاكهم في
ثلاثة مواطن كل موطن بصفة تناسب ذلك السياق ففي الأعراف ذكر أنهم أخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم
جاثمين وذلك لانهم قالوا (لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا) فأرجفوا نبي الله
ومن اتبعه فأخذتهم الرجفة وفي سورة هود قال (فأخذتهم الصيحة) وذلك لانهم استهزءوا بنبي الله في قولهم
(أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لانت الحليم الرشيد) قالوا ذلك على
سبيل التهكم والازدراء فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم فقال (فأخذتهم الصيحة) الآية وههنا قالوا (فأسقط
علينا كسفا من السماء) الآية على وجه التعنت والعناد فناسب أن يحقق عليهم ما استبعدوا وقوعه (فأخذهم
عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) قال قتادة: قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: إن الله سلط عليهم
الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شئ ثم إن الله أنشأ لهم سحابة فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها فأصاب
تحتها بردا وراحة فأعلم بذلك قومه فأتوها جميعا فاستظلوا تحتها فأججت عليهم نارا وهكذا روي عن عكرمة
وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وغيرهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بعث الله إليهم الظلة حتى إذا
اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى وقال
محمد بن كعب القرظي: إن أهل مدين عذبوا بثلاثة أصناف من العذاب: أخذتهم الرجفة في دارهم حتى خرجوا
منها فلما خرجوا منها أصابهم فزع شديد ففرقوا أن يدخلوا إلى البيوت فتسقط عليهم فأرسل الله عليهم الظلة
فدخل تحتها رجل فقال ما رأيت كاليوم ظلا أطيب ولا أبرد من هذا هلموا أيها الناس فدخلوا جميعا تحت الظلة
فصاح بهم صيحة واحدة فماتوا جميعا ثم تلا محمد بن كعب (فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم
عظيم) وقال محمد بن جرير حدثني الحارث حدثني الحسن حدثني سعيد بن زيد أخو حماد بن زيد حدثنا
حاتم بن أبي صغيرة حدثني يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الآية (فأخذهم عذاب يوم الظلة) الآية قال
بعث الله عليهم رعدا وحرا شديدا فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابا إلى البرية فبعث الله عليهم سحابة
فأظلتهم من الشمس فوجدوا لها بردا ولذة فنادى بعضهم بعضا حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم نارا قال
ابن عباس فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن
ربك لهو العزيز الرحيم) أي العزيز في انتقامه من الكافرين الرحيم بعباده المؤمنين.
وإنه لتنزيل رب العلمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي
مبين (195)
يقول تعالى مخبرا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وإنه) أي القرآن الذي تقدم ذكره في
أول السورة في قوله (وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) الآية (لتنزيل رب العالمين) أي أنزله الله عليك
359

وأوحاه إليك (نزل به الروح الأمين) وهو جبريل عليه السلام قاله غير واحد من السلف: ابن عباس ومحمد بن
كعب وقتادة وعطية العوفي والسدي والضحاك والزهري وابن جريج وهذا مما لا نزاع فيه. قال الزهري وهذه كقوله
(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) وقال مجاهد: من كلمه الروح
الأمين لا تأكله الأرض (على قلبك لتكون من المنذرين) أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في
الملا الاعلى (على قلبك) يا محمد سالما من الدنس والزيادة والنقص (لتكون من المنذرين) أي لتنذر به
بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه وتبشر به المؤمنين المتبعين له. وقوله تعالى: (بلسان عربي مبين) أي
هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ليكون بينا واضحا ظاهرا قاطعا للعذر
مقيما للحجة دليلا إلى المحجة. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي حدثنا عباد
بن عباد المهلبي عن موسى بن محمد عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دجن
إذ قال لهم " كيف ترون بواسقها؟ " قالوا ما أحسنها وأشد تراكمها قال: " فكيف ترون قواعدها؟ " قالوا ما
أحسنها وأشد تمكنها قال " فكيف ترون جريها "؟ قالوا ما أحسنه وأشد سواده قال " فكيف ترون رحاها
استدارت؟ " قالوا ما أحسنها وأشد استدارتها قال: " فكيف ترون برقها أو ميض أم خفق أم يشق شقا؟ " قالوا بل
يشق شقا؟ قال: " الحياء الحياء إن شاء الله " قال فقال رجل يا رسول الله بأبي وأمي ما أفصحك ما رأيت الذي هو
أعرب منك قال فقال: حق لي وإنما أنزل القرآن بلساني والله يقول (بلسان عربي مبين) " وقال سفيان
الثوري لم ينزل وحي إلا بالعربية ثم ترجم كل نبي لقومه واللسان يوم القيامة بالسريانية فمن دخل الجنة تكلم
بالعربية رواه ابن أبي حاتم.
وإنه لفى زبر الأولين (196) أو لم يكن لهم آية يعلمه علماء بني إسرائيل (197) ولو نزلناه على بعض الأعجمين
(198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199)
يقول تعالى: وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم الذين بشروا به في
قديم الدهر وحديثه كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيبا في ملئه بالبشارة بأحمد (وإذ قال
عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعد
اسمه أحمد) والزبر ههنا هي الكتب جمع زبرة وكذلك الزبور وهو كتاب داود وقال الله تعالى (وكل شئ
فعلوه في الزبر) أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة ثم قال تعالى (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني
إسرائيل) أي أوليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن
في كتبهم التي يدرسونها والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته
كما أخبر بذلك من آمن منهم كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي عمن أدركه منهم ومن شاكلهم قال الله تعالى
(الذين يتبعون الرسول النبي الأمي) الآية ثم قال تعالى مخبرا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن أنه لو
نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به.
ولهذا قال (ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين) كما أخبر عنهم في الآية الأخرى
(ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا) الآية وقال تعالى (ولو أننا
نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى) الآية وقال تعالى: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون)
الآية.
كذلك سلكنه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201) فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون
360

(202) فيقول هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما
كانوا يوعدون (206) ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207) وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا
ظالمين (209)
يقول تعالى كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد أي أدخلناه في قلوب المجرمين (لا يؤمنون به) أي
بالحق (حتى يروا العذاب الأليم) أي حيث ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. (فيأتيهم
بغتة) أي عذاب الله بغتة (وهم لا يشعرون فقولوا هل نحن منظرون) أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو
أنظروا قليلا ليعلموا في زعمهم بطاعة الله كما قال الله تعالى (وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب - إلى قوله - ما لكم
من زوال) فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته ندم ندما شديدا هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله
(ربنا إنك آتيت فرعون وملئه زينة وأموالا في الحياة الدنيا - إلى قوله - قال قد أجيبت دعوتكما) فأثرت هذه
الدعوة في فرعون فما آمن حتى رأى العذاب الأليم (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو
إسرائيل - إلى قوله - وكنت من المفسدين) وقال تعالى (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده) الآيات وقوله
تعالى (أفبعذابنا يستعجلون) إنكار عليهم وتهديد لهم فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبا واستبعادا: ائتنا بعذاب
الله، كما قال تعالى (ويستعجلونك بالعذاب) الآية ثم قال (أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا
يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون) أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأملينا لهم برهة من الدهر وحينا من الزمان
وإن طال ثم جاءهم أمر الله أي شئ يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم (كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو
ضحاها) وقال تعالى (يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) وقال تعالى:
(وما يغني عنه ماله إذا تردى) ولهذا قال تعالى (ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون).
وفي الحديث الصحيح " يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت خيرا قط؟ هل رأت نعيما
قط؟ فيقول لا والله يا رب ويؤتى بأشد الناس بؤسا كان في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له هل رأيت
بؤسا قط؟ فيقول لا والله يا رب " أي ما كان شيئا كان ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتمثل بهذا
البيت
كأنك لم تؤثر من الدهر ليلة * إذا أنت أدركت الذي أنت تطلب
ثم قال تعالى مخبرا عن عدله في خلقه أنه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الاعذار إليهم والانذار لهم وبعثه
الرسل إليهم وقيام الحجة عليهم ولهذا قال تعالى (وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون * ذكرى وما كنا
ظالمين) كما قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقال تعالى (وما كان ربك مهلك القرى حتى
يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا) - إلى قوله - (وأهلها ظالمون).
وما تنزلت به الشيطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح
الأمين المؤيد من الله (وما تنزلت به الشياطين) ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه أحدها: أنه ما ينبغي لهم أي
ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم لان من سجاياهم الفساد وإضلال العباد وهذا فيه الامر بالمعروف والنهي عن
المنكر ونور وهدى وبرهان عظيم فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى (وما ينبغي لهم) وقوله تعالى
(وما يستطيعون) أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك قال الله تعالى (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا
361

متصدعا من خشية الله) ثم أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك لانهم بمعزل عن استماع القرآن
حال نزوله لان السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله فلم يخلص أحد من الشياطين إلى
استماع حرف ولم يجد منه لئلا يشتبه الامر وهذا من رحمة الله بعباده وحفظه لشرعه وتأييده لكتابه ولرسوله، ولهذا
قال تعالى (إنهم عن السمع لمعزولون) كما قال تعالى مخبرا عن الجن (وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا
شديدا وشهبا * وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا * إلى قوله - أم أراد بهم
ربهم رشدا)
فلا تدع مع الله إلاها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) واخفض جناحك لمن اتبعك
من المؤمنين (215) فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي
يريك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220)
يقول تعالى آمرا بعبادته وحده لا شريك له ومخبرا أن من أشرك به عذبه، ثم قال تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته
الأقربين أي الادنين إليه، وأنه لا يخلص أحدا منهم إلا إيمانه بربه عز وجل، وأمره أن يلين جانبه لمن أتبعه من عباد الله
المؤمنين ومن عصاه من خلق الله كائنا من كان فليتبرأ منه ولهذا قال تعالى (فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون)
وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها كما قال تعالى (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) وقال
تعالى (لتنذر أم القرى ومن حولها) وقال تعالى (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم) وقال تعالى (لتبشر به
المتقين وتنذر به قوما لدا) وقال تعالى (لأنذركم به ومن بلغ) كما قال تعالى (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده)
وفي صحيح مسلم " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار "
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة فلنذكرها " الحديث الأول ": قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا
عبد الله بن نمير عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أنزل الله عز
وجل (وأنذر عشيرتك الأقربين) أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى " يا صباحاه " فاجتمع الناس إليه بين رجل
يجئ إليه وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو
أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ " قالوا نعم قال " فإني نذير لكم بين يدي عذاب
شديد " فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله (تبت يدا أبي لهب وتب) ورواه البخاري ومسلم
والترمذي والنسائي من طرق عن الأعمش به " الحديث الثاني ": قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا هشام عن أبيه عن
عائشة قالت: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا فاطمة ابنة محمد يا صفية ابنة عبد
المطلب يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم " انفرد بإخراجه مسلم " الحديث
الثالث ": قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا زائدة حدثنا عبد الملك بن عمير عن موسى بن طلحة عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فعم وخص فقال " يا
معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم
من النار، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله لا
أملك لكم من الله شيئا إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها " ورواه مسلم والترمذي من حديث عبد الملك بن عمير به، وقال
الترمذي غريب من هذا الوجه، ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا ولم يذكر فيه أبا هريرة، والموصول
هو الصحيح، وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي
هريرة، وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا محمد يعني ابن إسحاق عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله
362

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول
الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله فإني لا أغني عنكما من الله شيئا سلاني من مالي ما شئتما " تفرد به من هذا الوجه. وتفرد
به أيضا عن معاوية عن زائدة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ورواه أيضا عن حسن ثنا
ابن لهيعة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا وقال أبو يعلى حدثنا سويد بن سعيد حدثنا همام بن إسماعيل عن موسى
ابن وردان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " يا بني قصي يا بني هاشم يا بني عبد مناف أنا النذير والموت المغير والساعة
الموعد " (الحديث الرابع): قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد ثنا التيمي عن أبي عثمان عن قبيصة بن مخارق
وزهير بن عمرو قالا: لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر
فجعل ينادي " يا بني عبد مناف إنما أنا نذير إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو فذهب يربأ أهله رجاء أن يسبقوه فجعل
ينادي ويهتف يا صباحاه " ورواه مسلم والنسائي من حديث سليمان بن طرخان التيمي عن أبي عثمان عبد الرحمن
ابن سهل النهدي عن قبيصة وزهير بن عمرو الهلالي به. (الحديث الخامس) قال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر
حدثنا شريك عن الأعمش عن المنهال عن عباد بن عبد الله الأسدي عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية
(وأنذر عشيرتك الأقربين) جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا قال: وقال لهم " من يضمن عني
ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة ويكون خليفتي في أهلي؟ " فقال رجل لم يسمه شريك يا رسول الله أنت كنت
بحري من يقوم بهذا قال ثم قال الآخر - ثلاثا - قال فعرض ذلك على أهل بيته فقال علي أنا (طريق أخرى بأبسط من هذا
السياق) قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا عثمان بن المغيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ماجد عن
علي رضي الله عنه قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم - بني عبد المطلب وهم رهط وكلهم يأكل الجذعة
ويشرب الفرق فصنع لهم مدا من طعام فأكلوا حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس. ثم دعا بعس فشربوا حتى
رووا وبقي الشراب كأنه لم يمس أو لم يشرب وقال " يا بني عبد المطلب إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة فقد
رأيتم من هذه الآية ما رأيتم فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي " قال فلم يقم إليه أحد قال فقمت إليه وكنت
أصغر القوم قال: فقال " اجلس " ثم قال ثلاث مرات كل ذلك أقوم إليه فيقول لي " اجلس " حتى كان في الثالثة ضرب بيده
على يدي " طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر " قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة
أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس بن بكير عن
محمد بن إسحاق قال حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل واستكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي
طالب رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله (وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتبعك
من المؤمنين) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عرفت أني إن بادرت بها قومي رأيت منهم ما أكره فصمت، فجاءني جبريل عليه
السلام فقال يا محمد إنك إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك " قال علي رضي الله عنه فدعاني فقال يا علي " إن الله
تعالى قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أني إن بادرتهم بذلك رأيت منهم ما أكره فصمت عن ذلك ثم جاءني
جبريل فقال يا محمد إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك: فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام وأعد لنا عس لبن
ثم أجمع لي بني عبد المطلب " ففعلت، فاجتمعوا إليه وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فيهم
أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم جذبة
فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال " كلوا بسم الله " فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم والله إن
كان الرجل منهم ليأكل مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسقهم يا علي " فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا
وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهد ما
سحركم صاحبكم فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي عد لنا بمثل الذي
كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم " ففعلت ثم
363

جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه وأيم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أسقهم يا علي " فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعا وأيم الله إن كان الرجل منهم
ليشرب مثله فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب بالكلام فقال، لهد ما سحركم صاحبكم: فتفرقوا ولم
يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام
والشراب فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم " ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه وأيم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها
ويشرب مثلها ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شابا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم
به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة قال أحمد بن عبد الجبار بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار
ابن القاسم أبي مريم عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث.
وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق عن عبد الغفار بن القاسم أبي مريم عن المنهال
ابن عمرو عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب فذكر مثله وزاد بعد قوله " إني جئتكم بخير الدنيا
والآخرة: وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون أخي وكذا وكذا "؟ قال فأحجم القوم
عنها جميعا وقلت - وإني لأحدثهم سنا وأمرصهم عينا وأعظمهم بطنا وأخمشهم ساقا - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه
فأخذ برقبتي ثم قال " إن هذا أخي وكذا وكذا فاسمعوا له وأطيعوا " ثم قال القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب قد أمرك
أن تسمع لابنك وتطيع تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم وهو متروك كذاب شيعي اتهمه علي بن
المديني وغيره بوضع الحديث وضعفه الأئمة رحمهم الله (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي أخبرنا الحسين
عن عيسى بن ميسرة الحارثي حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث
قال: قال علي رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " اصنع لي رجل
شاة بصاع من طعام وإناء لبنا " قال ففعلت ثم قال لي " ادع بني هاشم " قال فدعوتهم وإنهم يومئذ أربعون غير رجل أو أربعون
ورجل قال وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذعة بإدامها قال فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذروتها ثم قال " كلوا "
فأكلوا حتى شبعوا وهي على هيئتها لم يزدردوا منها إلا اليسير قال ثم أتيتهم بالاناء فشربوا حتى رووا قال وفضل فضل
فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم فبدروه الكلام فقالوا ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي
" اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام " فصنعت قال فدعاهم فلما أكلوا وشربوا قال فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي " اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام " فصنعت قال فجمعتهم فلما أكلوا وشربوا بدرهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال " أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي؟ " قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن
يحيط ذلك بماله قال وسكت أنا لسن العباس ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس فلما رأيت ذلك قلت أنا يا رسول الله
قال وإني يومئذ لأسوأهم هيئة وإني لأعمش العينين ضخم البطن خمش الساقين فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن
علي رضي الله عنه ومعنى سؤاله صلى الله عليه وسلم لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه ويخلفوه في أهله يعني إن قتل في سبيل
الله كأنه خشي إذا قام بأعباء الانذار أن يقتل فلما أنزل الله تعالى (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم
تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) فعند ذلك أمن وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية (والله يعصمك
من الناس) ولم يكن أحد في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه ولهذا
بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد هذا والله أعلم دعاؤه الناس جهرة على الصفا وإنذاره لبطون
قريش عموما وخصوصا حتى سمى من سمى من أعمامه وعماته وبناته لينبه بالأدنى على الاعلى أي إنما أنا نذير والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي من طريق عمرو
ابن سمرة عن محمد بن سوقة عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء رضي الله عنه يحدث الناس ويفتيهم
364

وولده إلى جنبه وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون فقيل له ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم وأهل
بيتك جلوس لاهين؟ فقال لاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " أزهد الناس في الدنيا الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون "
وذلك فيما أنزل الله عز وجل قال تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين - إلى قوله - فقل إني برئ مما تعملون)، وقوله تعالى
(وتوكل على العزيز الرحيم) أي في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك وقوله تعالى
(الذي يراك حين تقوم) أي هو معتن بك كما قال تعالى (فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) قال ابن عباس (الذي يراك
حين تقوم) يعني إلى الصلاة وقال عكرمة يرى قيامه وركوعه وسجوده وقال الحسن (الذي يراك حين تقوم) إذا
صليت وحدك وقال الضحاك (الذي يراك حين تقوم) أي من فراشك أو مجلسك. وقال قتادة (الذي يراك) قائما
وجالسا وعلى حالاتك وقوله تعالى (وتقلبك في الساجدين) قال قتادة (الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين)
قال في الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع وهذا قول عكرمة وعطاء الخراساني والحسن البصري وقال مجاهد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه كما يرى من أمامه. ويشهد لهذا ما صح في الحديث " سووا صفوفكم فإني أراكم من وراء
ظهري " وروى البزار وابن أبي حاتم من طريقين عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب
نبي حتى أخرجه نبيا.
وقوله تعالى (إنه هو السميع العليم) أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم كما قال
تعالى (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه) الآية.
هل أنبئكم على من تنزل الشيطين (121) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كذبون (223)
والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)
يقول تعالى مخاطبا لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق وأنه شئ افتعله من تلقاء نفسه أو أنه أتاه
به رئي من الجان فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله وأنه
تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم أمين عظيم وأنه ليس من قبل الشياطين فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم
وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة. ولهذا قال تعالى (هل أنبئكم) أي أخبركم.
(على من تنزل
الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم) أي كذوب في قوله وهو الأفاك (أثيم) وهو الفاجر في أفعاله. فهذا هو الذي تنزل
عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة فإن الشياطين أيضا كذبة فسقة (يلقون السمع) أي
يسترقون السمع من السماء فيسمعون الكلمة من علم الغيب فيزيدون معها مائة كذبة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الانس
فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء كما صح بذلك
الحديث كما رواه البخاري من حديث الزهري أخبرني يحيى بن عروة بن الزبير أنه سمع عروة بن الزبير يقول: قالت
عائشة رضي الله عنها: سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال " إنهم ليسوا بشئ " قالوا يا رسول الله فإنهم يحدثون
بالشئ يكون حقا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج
فيخلطون معها أكثر من مائه كذبة " وروى البخاري أيضا حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمر وقال سمعت عكرمة
سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قضى الله الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها
سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترقوا
السمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض - وصفه سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها
إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها
وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك
الكلمة التي سمعت من السماء " تفرد به البخاري وروى مسلم من حديث الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس
365

عن رجال من الأنصار قريبا من هذا وسيأتي عند قوله تعالى في سبأ (حتى إذا فزع عن قلوبهم) الآية وقال البخاري
وقال الليث حدثني خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن أبا الأسود أخبره عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" إن الملائكة تحدث في العنان - والعنان الغمام - بالامر في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما
تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة " ورواه البخاري في موضع آخر من كتاب بدء الخلق عن سعيد بن أبي زيد عن
الليث عن عبد الله بن أبي جعفر عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة بنحوه. وقوله تعالى
(والشعراء يتبعهم الغاوون) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن وكذا قال
مجاهد رحمه الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهما وقال عكرمة كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من
الناس ولهذا فئام من الناس فأنزل الله تعالى (والشعراء يتبعهم الغاوون). وقال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن
ابن الهاد عن يحنس مولى مصعب بن الزبير عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض
شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وسلم " خذوا الشيطان - أو - أمسكوا الشيطان لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ
شعرا " وقوله تعالى (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في كل لغو يخوضون وقال
الضحاك عن ابن عباس في كل فن من الكلام وكذا قال مجاهد وغيره وقال الحسن البصري قد والله رأينا أوديتهم التي
يخوضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان وقال قتادة: الشاعر يمدح قوما بباطل ويذم قوما بباطل. وقوله
تعالى (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) قال العوفي عن ابن عباس كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار
والآخر من قوم آخرين وأنهما تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء فقال الله تعالى (والشعراء يتبعهم
الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أكثر
قولهم يكذبون فيه وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الامر فإن الشعراء يتبجحون بأقوال
وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم ولهذا اختلف العلماء رحمهم الله فيما إذا اعترف الشاعر في
شعره بما يوجب حدا هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لانهم يقولون ما لا يفعلون؟ على قولين وقد ذكر محمد بن
إسحاق ومحمد بن سعد في الطبقات والزبير بن بكار في كتاب الفكاهة أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
استعمل النعمان بن عدي بن نضلة علي ميسان من أرض البصرة وكان يقول الشعر فقال:
ألا هل أتى الحسناء أن خليلها * بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية * ورقاصة تحنو علي كل مبسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني * ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه * تنادمنا بالجوسق المتهدم
فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال أي والله إنه ليسوءني ذلك ومن لقيه فليخبره أني قد
عزلته وكتب إليه عمر (بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب
شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير) أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يسوءه * تنادمنا بالجوسق المتهدم
وأيم الله إنه ليسوءني وقد عزلتك. فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر فقال والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط وما
ذاك الشعر إلا شئ طفح على لساني فقال عمر أظن ذلك ولكن والله لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت فلم يذكر
أنه حده على الشراب وقد ضمنه شعره لانهم يقولون ما لا يفعلون ولكن ذمه عمر رضي الله عنه ولامه على ذلك وعزله به
ولهذا جاء في الحديث " لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا يريه خير له من أن يمتلئ شعرا " والمراد من هذا أن الرسول
صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذه القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر لان حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة كما قال تعالى (وما علمناه
الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وقال تعالى (إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون *
366

ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين) وهكذا قال ههنا (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح
الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين) - إلى أن قال - (وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما
يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون) - إلى أن قال - (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم *
يلقون السمع وأكثرهم كاذبون * والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا
يفعلون) وقوله (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي
الحسن سالم البراد بن عبد الله مولى تميم الداري قال: لما نزلت (والشعراء يتبعهم الغاوون) جاء حسان بن ثابت
وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون قالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء فتلا
النبي صلى الله عليه وسلم (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال " أنتم " (وذكروا الله كثيرا) قال " أنتم " (وانتصروا من بعد ما
ظلموا) قال " أنتم " رواه ابن أبي حاتم وابن جرير من رواية ابن إسحاق وقد روى ابن أبي حاتم أيضا عن أبي سعيد
الأشج عن أبي أسامة عن الوليد بن أبي كثير عن زيد بن عبد الله عن أبي الحسن مولى بني نوفل أن حسان بن ثابت
وعبد الله بن رواحة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت هذه الآية (والشعراء يتبعهم الغاوون) يبكيان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
يقرؤها عليهما (والشعراء يتبعهم الغاوون - حتى بلغ - إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) قال " أنتم " وقال أيضا حدثنا
أبي حدثنا أبو مسلم حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال: لما نزلت (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى
قوله (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) قال عبد الله بن رواحة يا رسول الله قد علم الله أني منهم فأنزل الله تعالى (إلا الذين
آمنوا وعملوا الصالحات) الآية وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم وغير واحد أن هذا استثناء
مما تقدم. ولا شك أنه استثناء ولكن هذه السورة مكية فكيف يكون سبب نزول هذه الآيات شعراء الأنصار؟ وفي ذلك
نظر ولم يتقدم إلا مرسلات لا يعتمد عليها والله أعلم ولكن هذا الاستثناء يدخل فيه شعراء الأنصار وغيرهم حتى
يدخل فيه من كان متلبسا من شعراء الجاهلية بذم الاسلام وأهله ثم تاب وأناب ورجع وأقلع وعمل صالحا وذكر الله كثيرا
في مقابلة ما تقدم من الكلام السيئ فإن الحسنات يذهبن السيئات وامتدح الاسلام وأهله في مقابلة ما كان يذمه
كما قال عبد الله بن الزبعري حين أسلم:
يا رسول المليك إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشيطان في سنن الغ * ي ومن مال ميله مثبور
وكذلك أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب كان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عمه وأكثرهم له
هجوا فلما أسلم لم يكن أحد أحب إليه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كان يهجوه ويتولاه
بعد ما كان قد عاداه وهكذا روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس أن أبا سفيان صخر بن حرب لما أسلم قال يا
رسول الله ثلاث أعطنيهن قال " نعم " قال: معاوية تجعله كاتبا بين يديك قال " نعم " قال وتؤمرني حتى أقاتل
الكفار كما كنت أقاتل المسلمين قال " نعم " وذكر الثالثة ولهذا قال تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وذكروا الله كثيرا " قيل معناه ذكروا الله كثيرا في كلامهم وقيل في شعرهم وكلاهما صحيح مكفر لما سبق وقوله
تعالى: (وانتصروا من بعد ما ظلموا) قال ابن عباس يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين وكذا
قال مجاهد وقتادة وغير واحد وهذا كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان " اهجهم - أو قال - هاجهم
وجبريل معك " وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن
أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن يجاهد بسيفه
ولسانه والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النبل " وقوله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون) كقوله تعالى: (يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم) الآية وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " قال قتادة بن دعامة في قوله تعالى: (وسيعلم الذين ظلموا أي
367

منقلب ينقلبون) يعني من الشعراء وغيرهم وقال أبو داود الطيالسي حدثنا إياس بن أبي تميمة قال حضرت
الحسن ومر عليه بجنازة نصراني فقال: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) قال عبد الله بن أبي رباح
عن صفوان بن محرز أنه كان إذا قرأ هذه الآية بكى حتى أقول قد اندق قضيب زوره (وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون). وقال ابن وهب أخبرنا شريح الإسكندراني عن بعض المشيخة أنهم كانوا بأرض الروم فبينما هم
ليلة على نار يشتوون عليها أو يصطلون إذا بركبان قد أقبلوا فقاموا إليهم فإذا فضالة بن عبيد فيهم فأنزلوه فجلس
معهم - قال - وصاحب لنا قائم يصلي حتى مر بهذه الآية (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) قال فضالة
ابن عبيد هؤلاء الذين يخربون البيت. وقيل المراد بهم أهل مكة وقيل الذين ظلموا من المشركين. والصحيح أن
هذه الآية عامة في كل ظالم كما قال ابن أبي حاتم: ذكر عن يحيى بن زكريا بن يحيى الواسطي حدثني الهيثم بن
محفوظ أبو سعد النهدي حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن المحبر حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي
الله عنها قالت: كتب أبي في وصيته سطرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به أبو بكر بن أبي قحافة
عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر وينتهي الفاجر ويصدق الكاذب إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب
فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه وإن يجر ويبدل فلا أعلم الغيب (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب
ينقلبون). آخر تفسير سورة الشعراء والحمد لله رب العالمين.
سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم بالآخرة هم يوقنون (3) إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعملهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين
لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6)
قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور وقوله تعالى: (تلك آيات) أي هذه
آيات (القرآن وكتاب مبين) أي بين واضح (هدى وبشرى للمؤمنين) أي إنما تحصل الهداية والبشارة من
القرآن لمن آمن به واتبعه وصدقه وعمل بما فيه وأقام الصلاة المكتوبة وآتى الزكاة المفروضة وأيقن بالدار الآخرة
والبعث بعد الموت والجزاء على الأعمال خيرها وشرها والجنة والنار كما قال تعالى (قل هو للذين آمنوا هدى
وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر) الآية وقال تعالى: (لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) ولهذا قال
تعالى ههنا (إن الذين لا يؤمنون بالآخرة) أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها (زينا لهم أعمالهم فهم
يعمهون) أي حسنا لهم ما هم فيه ومددنا لهم في غيهم فهم يتيهون في ضلالهم وكان هذا جزاء على ما كذبوا
من الدار الآخرة كما قال تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) الآية: (أولئك الذين
لهم سوء العذاب) أي في الدنيا والآخرة (وهم في الآخرة هم الأخسرون) أي ليس يخسر أنفسهم وأموالهم
سواهم من أهل المحشر وقوله تعالى (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) أي (وإنك) يا محمد
(لتلقى) أي لتأخذ (القرآن من لدن حكيم عليم) أي من عند حكيم عليم أي حكيم في أمره ونهيه عليم
بالأمور جليلها وحقيرها فخبره هو الصدق المحض وحكمه هو العدل التام كما قال تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا
وعدلا).
368

إذ قال موسى لأهله إني انست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما
جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العلمين (8) يا موسى إنه أنا الله العزيز
الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدى
المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11) وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من
غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12) فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا
سحر مبين (13) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكرا له ما كان من أمر موسى عليه السلام كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه وأعطاه
من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة وابتعثه إلى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه
والانقياد له. فقال تعالى: (إذ قال موسى لأهله) أي أذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق وذلك في ليل
وظلام فآنس من جانب الطور نارا أي رأى نارا تأجج وتضطرم فقال (لأهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر)
أي عن الطريق (أو آتيكم منها بشهاب قبس لعلكم تصطلون) أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها
بخبر عظيم واقتبس منها نورا عظيما ولهذا قال تعالى (فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها) أي
فلما أتاها ورأى منظرا هائلا عظيما حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقدا ولا
تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء قال ابن عباس وغيره لم تكن نارا وإنما
كانت نورا يتوهج وفي رواية عن ابن عباس نور رب العالمين فوقف موسى متعجبا مما رأى (فنودي أن بورك
من في النار) قال ابن عباس تقدس (ومن حولها) أي من الملائكة قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير
والحسن وقتادة وقال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن حبيب حدثنا أبو داود هو الطيالسي حدثنا شعبة والمسعودي عن
عمرو بن مرة سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله لا ينام ولا
ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل " زاد المسعودي
" وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره " ثم قرأ أبو عبيدة (أن بورك من في
النار ومن حولها) وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة وقوله تعالى: (وسبحان
الله رب العالمين) أي الذي يفعل ما يشاء ولا يشبهه شئ من مخلوقاته ولا يحيط به شئ من مصنوعاته وهو
العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ولا يكتنفه الأرض والسماوات بل هو الاحد الصمد المنزه عن مماثلة
المحدثات.
وقوله تعالى (يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم) أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل
شئ وقهره وغلبه الحكيم في أقواله وأفعاله ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلا واضحا علي أنه الفاعل
المختار القادر على كل شئ فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية
الكبر وسرعة الحركة مع ذلك ولهذا قال تعالى: (فلما رآها تهتز كأنها جان) والجان ضرب من الحيات
أسرعه حركة وأكثره اضطرابا. وفي الحديث نهى عن قتل جنان البيوت فلما عاين موسى ذلك (ولى مدبرا ولم
يعقب) أي لم يلتفت من شدة فرقه (يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون) أي لا تخف مما ترى
فإني أريد أن أصطفيك رسولا وأجعلك نبيا وجيها: وقوله تعالى: (إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني
369

غفور رحيم) هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر وذلك أن من كان على عمل شئ ثم أقلع عنه ورجع
وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه كما قال تعالى: (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) وقال
تعالى: (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه) الآية والآيات في هذا كثيرة جدا. وقوله تعالى (وأدخل يدك في
جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار وصدق من جعل له
معجزة وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها
قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف. وقوله تعالى: (في تسع آيات) أي هاتان ثنتان من تسع آيات
أؤيدك بهن وأجعلهن برهانا لك إلى فرعون وقومه (إنهم كانوا قوما فاسقين) وهذه هي الآيات التسع التي قال
الله تعالى (ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات) كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: (فلما جاءتهم آياتنا
مبصرة) أي بينة واضحة ظاهرة (قالوا هذا سحر مبين) وأرادوا معارضته بسحرهم فغلبوا وانقلبوا صاغرين
(وجحدوا بها) أي في ظاهر أمرهم (واستيقنتها أنفسهم) أي علموا في أنفسهم أنها حق عند الله ولكن
جحدوها وعاندوها وكابروها (ظلما وعلوا) أي ظلما من أنفسهم سجية ملعونة وعلوا أي استكبارا عن اتباع الحق
ولهذا قال تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله
إياهم وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة وفحوى الخطاب يقول إحذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما
جاء به من ربه أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى فإن محمدا صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى وبرهانه
أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله وما سبقه من البشارات من
الأنبياء به وأخذ المواثيق له عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان
داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين (16) وحشر
لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل
ادخلوا مسكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهو لا يشعرون (18) فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن
أشكر نعمتك التي أنعمت على وعلى ولدى وأن أعمل صلحا ترضيه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه داود وابنه سليمان عليهما السلام من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة
والصفات الجميلة وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة والملك والتمكين التام في الدنيا والنبوة والرسالة في
الدين ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده
المؤمنين): قال ابن أبي حاتم ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن هشام أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن
عبد العزيز: إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمه لو كنت لا تعرف ذلك
إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: (ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير
من عباده المؤمنين) فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام وقوله تعالى (وورث سليمان
داود) أي في الملك والنبوة وليس المراد وراثة المال إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد
داود فإنه قد كان لداود مائة امرأة ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر
بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقه " وقال: (يا أيها الناس
علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ) أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين
370

العظيم حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضا وهذا شئ لم يعطه أحد من
البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم
قبل سليمان بن داود كما قد يتفوه به كثير من الناس فهو قول بلا علم ولو كان الامر كذلك لم يكن لتخصيص
سليمان بذلك فائدة إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم ويعرف ما تقول وليس الامر كما زعموا ولا كما قالوا بل لم
تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال ولكن الله
سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها ولهذا
قال تعالى (علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ) أي مما يحتاج إليه الملك (إن هذا لهو الفضل المبين)
أي الظاهر البين لله علينا قال الإمام أحمد حدثنا قتيبة حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو عن
المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة فكان إذا
خرج أغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع قال فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب فأقبلت امرأة
تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله
لنفتضحن بداود. فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود من أنت؟ فقال الذي لا يهاب
الملوك ولا يمتنع من الحجاب فقال داود أنت إذا والله ملك الموت مرحبا بأمر الله فتزمل داود مكانه حتى قبضت
نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس فقال سليمان عليه السلام للطير أظلي داود فظللت عليه الطير حتى
أظلمت عليه الأرض فقال لها سليمان اقبضي جناحا جناحا " قال أبو هريرة يا رسول الله كيف فعلت الطير؟ فقبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية. قال أبو الفرج ابن الجوزي: المضرحية هي النسور الحمراء.
وقوله تعالى: (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون) أي وجمع لسليمان جنوده من
الجن والإنس والطير يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الانس وكانوا هم الذين يلونه والجن وهم بعدهم
في المنزلة والطير ومنزلتها فوق رأسه فإن كان حرا أظلته منه بأجنحتها. قوله: (فهم يوزعون) أي يكف
أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له قال مجاهد جعل على كل صنف وزعة يردون
أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم. وقوله: (حتى إذا أتوا على وادي النمل)
أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل (قالت نملة يا أيها النمل
ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن
سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان وأنها كانت عرجاء
وكانت بقدر الذئب. أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم ففهم
ذلك سليمان عليه السلام منها (فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي
وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه) أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير
والحيوان وعلى والدي بالاسلام لك والايمان بك (وأن أعمل صالحا ترضاه) أي عملا تحبه وترضاه
(وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك والرفيق الاعلى من
أوليائك ومن قال من المفسرين إن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره وإن هذه النملة كانت ذات جناحين
كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل فلا حاصل لها. وعن نوف البكالي أنه قال كان نمل سليمان أمثال الذئاب
هكذا رأيته مضبوطا بالياء المثناة من تحت وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف والله أعلم. والغرض أن
سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكا من ذلك وهذا أمر عظيم جدا. وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا محمد بن بشار حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال خرج
سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول:
371

اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان ارجعوا فقد سقيتم بدعوة
غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: " قرصت نبيا من الأنبياء نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه: أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة
من الأمم تسبح؟ فهلا نملة واحدة "
وتفقد الطير فقال مالى لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه
أو ليأتيني بسلطان مبين (21)
قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس وغيره: كان الهدهد مهندسا يدل سليمان عليه السلام على
الماء إذا كان بأرض فلاة طلبة فنظر له الماء في تخوم الأرض كما يرى الانسان الشئ الظاهر على وجه الأرض
ويعرف كم مساحة بعده من وجه الأرض فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا ذلك المكان حتى
يستنبط الماء من قراره فنزل سليمان عليه السلام يوما بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره (فقال
ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) حدث يوما عبد الله بن عباس بنحو هذا وفي القوم رجل من الخوارج
يقال له نافع بن الأزرق وكان كثير الاعتراض على ابن عباس فقال له قف يا ابن عباس غلبت اليوم قال ولم؟
قال إنك تخبر عن الهدهد أنه يرى الماء في تخوم الأرض وأن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ويحثو على الفخ ترابا
فيجئ الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي فقال ابن عباس لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن
عباس لما أجبته ثم قال له ويحك إنه إذا نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر فقال له نافع: والله لا أجادلك في
شئ من القرآن أبدا وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله البرزي من أهل برزة من غوطة دمشق
وكان من الصالحين يصوم الاثنين والخميس وكان أعور قد بلغ الثمانين فروى ابن عساكر بسنده إلى أبي
سليمان بن زيد أنه سأله عن سبب عوره فامتنع عليه فألح عليه شهورا فأخبره أن رجلين من أهل خراسان نزلا عنده
جمعة في قرية برزة وسألاه عن واد بها فأريتهما إياه فأخرجا مجامر وأوقدا فيها بخورا كثيرا حتى عجعج الوادي
بالدخان فأخذا يعزمان والحيات تقبل من كل مكان إليهما فلا يلتفتان إلى شئ منها حتى أقبلت حية نحو
الذراع وعيناها تتوقدان مثل الدينار فاستبشرا بها عظيما وقالا الحمد لله الذي لم يخيب سفرنا من سنة وكسرا
المجامر وأخذا الحية فأدخلا في عينها ميلا فاكتحلا به فسألتهما أن يكحلاني فأبيا فألححت عليهما وقلت لا بد
من ذلك وتوعدتهما بالدولة فكحلا عيني الواحدة اليمنى فحين وقع في عيني نظرت إلى الأرض تحتي مثل المرآة
أنظر ما تحتها كما ترى المرآة. ثم قالا لي: سر معنا قليلا فسرت معهما وهما يحدثان حتى إذا بعدت عن القرية
أخذاني فكتفاني وأدخل أحدهما يده في عيني ففقأها ورمى بها ومضيا فلم أزل كذلك ملقى مكتوفا حتى مر بي
نفر ففك وثاقي فهذا ما كان من خبر عيني وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا هشام بن عمار حدثنا
صدقة بن عمرو الغساني حدثنا عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن قال: اسم هدهد سليمان عليه السلام عنبر
وقال محمد بن إسحاق: كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير وكان فيما
يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلا الهدهد
(فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) أخطأه بصري من الطير أم غاب فلم يحضر؟ وقوله:
(لأعذبنه عذابا شديدا) قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد عن ابن عباس يعني نتف ريشه وقال
عبد الله بن شداد نتف ريشه وتشميسه وكذا قال غير واحد من السلف إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر
والنمل وقوله (أو لأذبحنه) يعني قتله (أو ليأتيني بسلطان مبين) بعذر بين واضح وقال سفيان بن عيينة
وعبد الله بن شداد: لما قدم الهدهد قالت له الطير ما خلفك فقد نذر سليمان دمك فقال هل استثنى؟ قالوا نعم
372

قال (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) قال نجوت إذا قال مجاهد إنما دفع الله عنه
ببره بأمه.
فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين (22) إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت
من كل شئ ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعملهم
فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض ويعلم ما
تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)
يقول تعالى (فمكث) الهدهد (غير بعيد) أي غاب زمانا يسيرا ثم جاء فقال لسليمان (أحطت بما لم تحط
به) أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك (وجئتك من سبأ بنبأ يقين) أي بخبر صدق حق يقين
وسبأ هم حمير وهم ملوك اليمن، (إني وجدت امرأة تملكهم) قال الحسن البصري وهي بلقيس بنت
شراحيل ملكة سبأ وقال قتادة: كانت أمها جنية وكأن مؤخر قدميها مثل حافر الدابة من بيت مملكة وقال
زهير بن محمد وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان وأمها فارغة الجنية وقال ابن جريج بلقيس بنت ذي
شرخ وأمها بلتعة وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسن حدثنا مسدد حدثنا سفيان بن عيينة عن عطاء بن
السائب عن مجاهد عن ابن عباس قال: كان مع صاحبة سليمان مائة الف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل
وقال الأعمش عن مجاهد: كان تحت يدي ملكة سبأ اثنا عشر ألف قيل تحت كل قيل مائة ألف مقاتل وقال عبد
الرزاق أنبأنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: (إني وجدت امرأة تملكهم) كانت من بيت مملكة وكان أولو
مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلا كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل وكانت بأرض يقال لها مأرب على ثلاثة
أميال من صنعاء وهذا القول هو أقرب على أنه كثير على مملكة اليمن والله أعلم وقوله (وأوتيت من كل
شئ) أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن (ولها عرش عظيم) يعني سرير تجلس عليه عظيم
هائل مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآلئ قال زهير بن محمد كان من ذهب وصفحاته مرمولة بالياقوت
والزبرجد طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا وقال محمد بن إسحاق كان من ذهب مفصص بالياقوت
والزبرجد واللؤلؤ وكان إنما يخدمها النساء ولها ستمائة امرأة تلي الخدمة قال علماء التاريخ: وكان هذا السرير
في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ومثلها من مغربه قد وضع بناؤه
على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحا ومساء. ولهذا (وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل) اي عن طريق الحق
فهم لا يهتدون) وقوله: (ألا يسجدوا لله) معناه (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا
يهتدون ألا يسجدوا الله) أي لا يعرفون سبيل الحق التي هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب
وغيرها كما قال تعالى: (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله
الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون) وقرأ بعض القراء (ألا يا اسجدوا لله) جعلها ألا الاستفتاحية ويا للنداء
وحذف المنادى تقديره عنده ألا يا قوم اسجدوا لله وقوله (الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض) قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس يعلم كل خبيئة في السماء والأرض وكذا قال عكرمة ومجاهد وسعيد بن جبير
وقتادة وغير واحد وقال سعيد بن المسيب الخب ء الماء وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم خب ء السماوات
والأرض ما جعل فيهما من الأرزاق المطر من السماء والنبات من الأرض وهذا مناسب من كلام الهدهد الذي
جعل فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره من أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها وقوله:
373

(ويعلم ما تخفون وما تعلنون) أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والافعال وهذا كقوله تعالى:
(سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار) وقوله: (الله لا إله إلا هو
رب العرش العظيم) أي هو المدعو وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العرش العظيم: أي الذي ليس في
المخلوقات أعظم منه ولما كان الهدهد داعيا إلى الخير وعبادة الله وحده والسجود له نهى عن قتله كما رواه
الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أربع من الدواب: النملة
والنحلة والهدهد والصرد وإسناده صحيح.
* قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) إذهب بكتبي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا
يرجعون (28) قالت يا أيها الملأ إني ألقى إلى كتب كريم (29) إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن
الرحيم (30) ألا تعلوا على وأتوني مسلمين (31)
يقول تعالى مخبرا عن قيل سليمان للهدهد حين أخبره عن أهل سبأ وملكتهم (قال سننظر أصدقت أم كنت من
الكاذبين) أي أصدقت في إخبارك هذا (أم كنت من الكاذبين) في مقالتك لتخلص من الوعيد الذي أو عدتك؟ (اذهب
بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون). وذلك أن سليمان عليه السلام كتب كتابا إلى بلقيس وقومها
وأعطاه ذلك الهدهد فحمله قيل في جناحه كما هي عادة الطير وقيل بمنقاره وجاء إلى بلادهم فجاء إلى قصر بلقيس
إلى الخلوة التي كانت تختلي فيها بنفسها فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها ثم تولى ناحية أدبا ورياسة فتحيرت مما رأت
وهالها ذلك ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته فإذا فيه (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم *
ألا تعلو علي وأتوني مسلمين) فجمعت عند ذلك أمراءها ووزرائها وكبراء دولتها ومملكتها ثم قالت لهم (يا أيها الملا
إني ألقي إلي كتاب كريم) تعني بكرمه ما رأته من عجيب أمره كون طائر ذهب به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدبا وهذا أمر لا
يقدر عليه أحد من الملوك ولا سبيل لهم إلى ذلك ثم قرأته عليهم (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا
تعلوا علي وأتوني مسلمين) فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام وأنه لا قبل لهم به وهذا الكتاب في غاية البلاغة
والوجازة والفصاحة فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها. قال العلماء لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل
سليمان عليه السلام وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثا في تفسيره حيث قال: حدثنا أبي حدثنا هارون بن الفضل
أبو يعلى الخياط حدثنا أبو يوسف عن سلمة بن صالح عن عبد الكريم أبي أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنت أمشي
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني أعلم آية لم تنزل على نبي قبلي بعد سليمان بن داود " قلت يا نبي الله أي آية؟ قال
" سأعلمكها قبل أن أخرج من المسجد " قال فانتهى إلى الباب فأخرج إحدى قدميه فقلت نسي ثم التفت إلي وقال (إنه
من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) هذا حديث غريب وإسناده ضعيف. وقال ميمون بن مهران كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يكتب باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية. فكتب (بسم الله الرحمن الرحيم). وقوله (أن لا تعلوا علي) قال قتادة
يقول لا تجبروا علي (وأتوني مسلمين) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لا تمتنعوا ولا تتكبروا علي وأتوني
مسلمين. قال ابن عباس موحدين وقال غيره مخلصين وقال سفيان بن عيينة طائعين.
قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمرى ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون (32) قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد
والامر إليك فانظري ماذا تأمرين (33) قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك
يفعلون (34) وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون (35)
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها ولهذا قالت (يا أيها الملا أفتوني في أمري ما كنت
374

قاطعة أمرا حتى تشهدون) أي حتى تحضرون وتشيرون (قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد) أي منوا إليها بعددهم
وعددهم وقوتهم ثم فوضوا إليها بعد ذلك الامر فقالوا: (والامر إليك فانظري ماذا تأمرين) أي نحن ليس لنا عاقة ولا بنا
بأس إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه وبعد هذا فالامر إليك مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه قال الحسن
البصري رحمه الله فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأيا منهم وأعلم بأمر
سليمان وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد
أمرا عجيبا بديعا فقالت لهم إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ويخلص إلى وإليكم
الهلاك والدمار دون غيرنا، (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها). قال ابن عباس أي إذا دخلوا بلدا عنوة
أفسدوه أي خربوه (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو
بالأسر قال ابن عباس قالت بلقيس (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة) قال الرب عز وجل
(وكذلك يفعلون) ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة والمخادعة والمصانعة فقالت (وإني مرسلة إليهم
بهدية فناظره بم يرجع المرسلون) أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك فلعله يقبل ذلك منا
ويكف عنا أو يضرب علينا خراجا نحمله إليه في كل عام ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا. قال قتادة رحمه الله: ما
كان أعقلها في إسلامها وشركها علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وقال ابن عباس وغير واحد قالت لقومها إن قبل
الهدية فهو ملك فقاتلوه وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه.
فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتان الله خير مما آتيكم بل أنتم بهديتكم تفرحون (36) أرجع إليهم
فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون (37)
ذكر غير واحد من المفسرين من السلف وغيرهم أنها بعثت إليه بهدية عظيمة من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك وقال
بعضهم أرسلت بلبنة من ذهب والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب: قال مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما أرسلت
جواري في زي الغلمان وغلمان في زي الجواري فقالت إن عرف هؤلاء من هؤلاء فهو نبي قالوا فأمرهم سليمان
فتوضؤا فجعلت الجارية تفرغ على يدها من الماء وجعل الغلام يغترف فميزهم بذلك وقيل بل جعلت الجارية تغسل
باطن يدها قبل ظاهرها والغلام بالعكس وقيل بل جعلت الجواري يغسلن من أكفهن إلى مرافقهن والغلمان من
مرافقهم إلى كفوفهم ولا منافاة بين ذلك كله والله أعلم: وذكر بعضهم أنها أرسلت إليه بقدح ليملأه ماء رواء لا من السماء
ولا من الأرض: فأجرى الخيل حتى عرقت ثم ملاه من ذلك وبخرزة وسلك ليجعله فيها ففعل ذلك والله أعلم أكان
ذلك أم لا وأكثره مأخوذ من الإسرائيليات والظاهر أن سليمان عليه السلام لم ينظر إلى ما جاءوا به بالكلية ولا اعتنى به
بل أعرض عنه وقال منكرا عليهم (أتمدونن بمال) أي أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟ (فما
آتاني الله خير مما آتاكم) أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه (بل أنتم بهديتكم تفرحون)
أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الاسلام أو السيف قال الأعمش عن المنهال بن عمرو
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنه: أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة فلما رأت
رسلها ذلك قالوا ما يصنع هذا بهديتنا وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد (ارجع إليهم) أي
بهديتهم (فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي لا طاقة لهم بقتالهم (ولنخرجنهم منها أذلة) أي ولنخرجنهم من بلدتهم
أذلة (وهم صاغرون) أي مهانون مدحورون فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي
وقومها وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة معظمة لسليمان ناوية متابعته في الاسلام ولما تحقق سليمان عليه
السلام قدومهم ووفودهم إليه فرح بذلك وسره.
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل
375

أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوى أمين (39) قال الذي عنده علم من الكتب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك
طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلوني أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن
كفر فإن ربى غنى كريم (40)
قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال: فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت قد والله عرفت ما هذا
بملك وما لنا به من طاقة وما نصنع بمكابرته شيئا وبعثت إليه إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما تدعونا إليه
من دينك ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ فجعل
في سبعة أبيات بعضها في بعض ثم أقفلت عليه الأبواب ثم قالت لمن خلفت على سلطانها احتفظ بما قبلك وسرير
ملكي فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ولا يرينه أحد حتى آتيك ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من
ملوك اليمن تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة فجعل سليمان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة حتى إذا دنت
جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال " يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " وقال
قتادة لما بلغ سليمان أنها جائية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر وكان مسترا
بالديباج والحرير فكانت عليه تسعة مغاليق فكره أن يأخذه بعد إسلامهم وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم
أموالهم ودماؤهم فقال (يا أيها الملا أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي
وزهير بن محمد (قبل أن يأتوني مسلمين) فتحرم علي أموالهم بإسلامهم (قال عفريت من الجن) قال مجاهد أي
مارد من الجن قال شعيب الجبائي وكان اسمه كوزن وكذا قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان وكذا قال أيضا
وهب بن منبه قال أبو صالح وكان كأنه جبل (أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) قال ابن عباس رضي الله عنه يعني قبل
أن تقوم من مجلسك وقال مجاهد مقعدك وقال السدي وغيره كان يجلس للناس للقضاء والحكومات وللطعام من أول
النهار إلى أن تزول الشمس (وإني عليه لقوي أمين) قال ابن عباس أي قوي على حمله أمين على ما فيه من الجوهر
فقال سليمان عليه الصلاة والسلام أريد أعجل من ذلك ومن ههنا يظهر أن سليمان أراد بإحضار هذا السرير إظهار عظمة
ما وهب الله له من الملك وما سخر له من الجنود الذي لم يعطه أحد قبله ولا يكون لاحد من بعده وليتخذ ذلك حجة
على نبوته عند بلقيس وقومها لان هذا خارق عظيم أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه هذا وقد حجبته
بالاغلاق والاقفال والحفظة فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك (قال الذي عنده علم من الكتاب) قال ابن عباس
وهو آصف كاتب سليمان وكذا روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان أنه آصف بن برخيا وكان صديقا يعلم
الاسم الأعظم وقال قتادة كان مؤمنا من الانس واسمه آصف وكذا قال أبو صالح والضحاك وقتادة إنه كان من الانس
زاد قتادة من بني إسرائيل وقال مجاهد كان اسمه أسطوم قال قتادة في رواية عنه كان اسمه بليخا وقال زهير بن محمد
هو رجل من الانس يقال له ذو النور وزعم عبد الله بن لهيعة أنه الخضر وهو غريب جدا وقوله (أنا آتيك به قبل أن يرتد
إليك طرفك) أي ارفع بصرك وانظر مد بصرك مما تقدر عليه فإنك لا يكل بصرك إلا وهو حاضر عندك وقال وهب
ابن منبه أمدد بصرك فلا يبلغ مداه حتى آتيك به فذكروا أنه أمره أن ينظر نحو اليمن التي فيها هذا العرش المطلوب ثم قام
فتوضأ ودعا الله تعالى قال مجاهد قال يا ذا الجلال والاكرام وقال الزهري قال: يا إلهنا وإله كل شئ إلها واحدا لا إله
إلا أنت ائتني بعرشها قال فمثل بين يديه قال مجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن إسحاق وزهير بن محمد وغيرهم لما
دعا الله تعالى وسأله أن يأتيه بعرش بلقيس وكان في اليمن وسليمان عليه السلام ببيت المقدس غاب السرير وغاص في
الأرض ثم نبع من بين يدي سليمان وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لم يشعر سليمان إلا وعرشها يحمل بين يديه قال
وكان هذا الذي جاء به من عباد البحر فلما عاين سليمان وملاه ذلك ورآه مستقرا عنده (قال هذا من فضل ربي) أي هذا
من نعم الله علي (ليبلوني) أي ليختبرني (أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه) كقوله (من عمل صالحا فلنفسه
376

ومن أساء فعليها) وكقوله (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) وقوله (ومن كفر فإن ربي غني كريم) أي هو غني
عن العباد وعبادتهم كريم أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد وهذا كما قال موسى
(إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) وفي صحيح مسلم " يقول الله تعالى: يا عبادي لو أن
أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم
وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي إنما هي أعمالكم
أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ".
قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدى أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه
هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين (42) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كفرين
(43) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت
رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العلمين (44)
لما جئ سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رويته هل
تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها فقال (نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون) قال
ابن عباس نزع منه فصوصه ومرافقه وقال مجاهد أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر وما كان أصفر جعل أحمر وما
كان أخضر جعل أحمر غير كل شئ عن حاله وقال عكرمة زادوا فيه ونقصوا وقال قتادة جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره
وزادوا فيه ونقصوا (فلما جاءت قيل أهكذا عرشك) أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه فكان فيها
ثبات وعقل ولها لب ودهاء وحزم فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من آثاره وصفاته وإن غير
وبدل ونكر فقالت (كأنه هو) أي يشبهه ويقاربه وهذا غاية في الذكاء والحزم وقوله (وأوتينا العلم من قبلها وكنا
مسلمين) قال مجاهد يقوله سليمان وقوله تعلى (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين) هذا
من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد وسعيد بن جبير رحمهما الله أي قال سليمان (أوتينا العلم من قبلها
وكنا مسلمين) وهى كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده (ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين)
وهذا الذي قاله مجاهد " وسعيد حسن وقاله ابن جرير أيضا، ثم قال ابن جرير ويحتمل أن يكون في قوله " وصدها "
ضمير يعود إلى سليمان أو إلى الله عز وجل تقديره ومنعها (ما كانت تعبد من دون الله) أي صدها عن عبادة غير الله (إنها
كانت من قوم كافرين) قلت ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الاسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي.
وقوله (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته مسبته لجة وكشفت عن ساقيها) وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين
فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير أي من زجاج وأجرى تحته الماء فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ولكن الزجاج يحول
بين الماشي وبينه واختلفوا في السبب الذي دعا سليمان عليه السلام إلى اتخاذه فقيل إنه عزم على تزوجها واصطفائها
لنفسه ذكر له جمالها وحسنها ولكن في ساقيها هلب عظيم ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة. فساءه ذلك فاتخذ هذا ليعلم
صحته أم لا؟ هكذا قول محمد بن كعب القرظي وغيره فلما دخلت وكشفت عن ساقيها رأى أحسن الناس ساقا
وأحسنهم قدما لو كن رأى على رجليها شعرا لأنها ملكة ليس لها زوج فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل له الموسى فقالت
لا أستطيع ذلك. وكره سليمان ذلك وقال للجن اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب به هذا الشعر فصنعوا له النورة وكان أول
من اتخذت له النورة قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن كعب القرظي والسدي وابن جريج وغيرهم وقال
محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم من
سلطانها فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء تخوضه فقيل لها إنه صرح ممرد من قوارير فلما وقفت
على سليمان دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله وقال الحسن البصري: لما رأت العلجة
377

الصرح عرفت والله أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبه
قال: أمر سليمان بالصرح وقد عملته له الشياطين من زجاج كأنه الماء بياضا ثم أرسل الماء تحته ثم وضع له فيه سريره
فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والانس ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكا هو أعز من ملكها وسلطانا هو أعظم
من سلطانها (فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها) لا تشك أنه ماء تخوضه قيل لها (إنه صرح ممرد من قوارير)
فلما وقفت على سليمان دعاها إلى عبادة الله عز وجل وحده وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله فقالت بقول الزنادقة
فوقع سليمان ساجدا إعظاما لما قالت وسجد معه الناس فسقط في يديها حين رأت سليمان صنع ما صنع فلما رفع
سليمان رأسه قال ويحك ماذا قلت؟ قالت أنسيت ما قلت؟ فقالت (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب
العالمين) فأسلمت وحسن إسلامها وقد روى الإمام أبو بكر بن أبي شيبة في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس فقال حدثنا الحسين بن علي
عن زائدة حدثني عطاء بن السائب حدثنا مجاهد ونحن في الأزد قال حدثنا ابن عباس قال: كان سليمان
عليه السلام يجلس على سريره ثم توضع كراسي حوله فيجلس عليها الانس ثم يجلس الجن ثم الشياطين ثم تأتي الريح
فترفعهم ثم تظلهم الطير ثم يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهرا قال فبينما هو ذات يوم في مسير
له إذ تفقد الطير ففقد الهدهد قال (مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني
بسلطان مبين) قال وكان عذابه إياه أن ينتفه ثم يلقيه في الأرض فلا يمتنع من نملة ولا من شئ من هوام الأرض قال
عطاء وذكر سعيد بن جبير عن أبن عباس مثل حديث مجاهد (فمكث غير بعيد - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - سننظر
أصدقت أم كنت من الكاذبين * اذهب بكتابي هذا) وكتب بسم الله الرحمن الرحيم إلى بلقيس (أن لا تعلوا
علي وائتوني مسلمين) فلما ألقى الهدهد الكتاب إليها ألقي في روعها أنه كتاب كريم وأنه من سليمان وأن لا تعلوا
علي وائتوني مسلمين قالوا نحن أولوا قوة قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وإني مرسلة إليهم بهدية فناظره
بم يرجع المرسلون فلما جاءت الهدية سليمان قال أتمدونني بمال ارجع إليهم فلما نظر إلى الغبار أخبرنا
ابن عباس قال وكان بين سليمان وبين ملكة سبأ ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة قال عطاء
ومجاهد حينئذ في الأزد قال سليمان أيكم يأتيني بعرشها؟ قال وبين عرشها وبين سليمان حين نظر إلى الغبار
مسيرة شهرين (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) قال وكان لسليمان مجلس يجلس فيه
للناس كما يجلس الامراء ثم يقوم فقال (أنا آتيك به قبل أن تقوم مقامك) قال سليمان أريد أعجل من
ذلك فقال الذي عنده علم من الكتاب أنا أنظر في كتاب ربي ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قال فنظر إليه
سليمان فلما قطع كلامه رد سليمان بصره فنبع عرشها من تحت قدم سليمان من تحت كرسي كان سليمان يضع
عليه رجله ثم يصعد إلى السرير قال فلما رأى سليمان عرشها قال (هذا من فضل ربي) الآية (قال نكروا
لها عرشها) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو قال فسألته حين جاءته عن أمرين قالت لسليمان أريد
ماء ليس من أرض ولا سماء وكان سليمان إذا سئل عن شئ سأل الانس ثم الجن ثم الشياطين قال فقالت
الشياطين هذا هين أجر الخيل ثم خذ عرقها ثم املا منه الآنية قال فأمر بالخيل فجريت ثم أخذ عرقها فملا منه
الآنية قال وسألت عن لون الله عز وجل قال فوثب سليمان عن سريره فخر ساجدا فقال يا رب لقد سألتني عن
أمر إنه ليتعاظم في قلبي أن أذكره لك فقال ارجع فقد كفيتكم قال فرجع إلى سريره قال ما سألت عنه؟ قالت ما
سألتك إلا عن الماء فقال لجنوده ما سألت عنه؟ فقالوا ما سألتك إلا عن الماء قال ونسوه كلهم قال وقالت
الشياطين إن سليمان يريد أيتخذها لنفسه فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينها ولد لم ننفك من عبوديته فقال فجعلوا
صرحا ممردا من قوارير فيه السمك قال فقيل لها أدخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها فإذا هي
شعراء فقال سليمان هذا قبيح فما يذهبه؟ قالوا يذهبه الموسى فقال أثر الموسى قبيح قال فجعلت الشياطين
النورة قال فهو أول من جعلت له النورة ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة ما أحسنه من حديث (قلت) بل هو منكر
378

غريب جدا ولعله من أوهام عطاء بن السائب على ابن عباس والله أعلم والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة
عن أهل الكتاب مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من
أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن ومما حرف وبدل ونسخ وقد أغنانا الله
سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ولله الحمد والمنة أصل الصرح في كلام العرب هو القصر
وكل بناء مرتفع قال الله سبحانه وتعالى إخبارا عن فرعون لعنه الله أنه قال لوزيره هامان (ابن لي صرحا لعلي
أبلغ الأسباب) الآيات والصرح قصر في اليمن عالي البناء والممرد المبنى بناء محكما أملس (من قوارير) أي
زجاج وتمريد البناء تمليسه ومارد حصن بدومة الجندل والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصرا عظيما
منيفا من زجاج لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه وتبصرت في أمره
انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم وملك عظيم وأسلمت لله عز وجل وقالت (رب إني ظلمت
نفسي) أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله (وأسلمت مع سليمان لله رب
العالمين) أي متابعة لدين سليمان في عبادته لله وحده لا شريك له الذي خلق كل شئ فقدره تقديرا.
ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صلحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون (45) قال يقوم لم تستعجلون
بالسيئة قبل الحسنة لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون (46) قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل
أنتم قوم تفتنون (47)
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها صالح عليه السلام حين بعثه الله إليهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده
لا شريك له (فإذا هم فريقان يختصمون) قال مجاهد: مؤمن وكافر كقوله تعالى (قال الملا الذين استكبروا من
قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه؟ قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين
استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة) أي لم تدعون بحضور
العذاب ولا تطلبون من الله رحمته ولهذا قال (لولا تستغفرون الله لعلكم ترحمون * قالوا اطيرنا بك وبمن معك)
أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيرا وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحدا منهم سوء إلا قال هذا
من قبل صالح وأصحابه قال مجاهد تشاءموا بهم وهذا كما قال الله تعالى إخبارا عن قوم فرعون (فإذا جاءتهم
الحسنة قالوا لنا هذا من قبل صالح وأصحابه، قال مجاهد تشاءموا بهم وهذا كما قال الله تعالى اخبارا عن قوم
فرعون (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه) الآية وقال تعالى (وإن
تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله) أي بقضائه
وقدره وقال تعالى مخبرا عن أهل القرية إذ جاءها المرسلون (قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم
وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم) الآية وقال هؤلاء (اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله)
أي الله يجازيكم على ذلك (بل أنتم قوم تفتنون) قال قتادة تبتلون بالطاعة والمعصية والظاهر أن المراد بقوله
(تفتنون) أي تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال.
وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون (48) قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم
لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49) ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون (50) فانظر
كيف كان عقبة مكرهم إنا دمرناهم وقومهم أجمعين (51) فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لاية لقوم
يعلمون (52) وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون (53)
379

يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح وآل بهم الحال إلى
أنهم عقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضا بأن يبيتوه في أهله ليلا فيقتلوه غيلة ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه أنهم ما علموا
بشئ من أمره وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك فقال تعالى (وكان في المدينة) أي مدينة
ثمود (تسعة رهط) أي تسعة نفر (يفسدون في الأرض ولا يصلحون) وإنما غلب هؤلاء على أمر ثمود لانهم كانوا
كبراءهم ورؤساءهم قال العوفي عن ابن عباس: هؤلاء هم الذين عقروا الناقة أي الذي صدر ذلك عن رأيهم
ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم وقد فعل ذلك وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس: كان أسماء هؤلاء التسعة
دعمى ودعيم وهرما وهريم وداب وصواب ورياب ومسطع وقدار بن سالف عاقر الناقة أي الذي باشر ذلك بيده قال الله
تعالى: (فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر) وقال تعالى (إذ انبعث أشقاها) وقال عبد الرزاق أنبأنا معمر بن ربيعة
الصنعاني سمعت عطاء - هو ابن أبي رباح - يقول: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون)
قال كانوا يقرضون الدراهم يعني أنهم كانوا يأخذون منها وكأنهم كانوا يتعاملون بها عددا كما كان العرب يتعاملون وقال
الامام مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه قال قطع الذهب والورق من الفساد في الأرض وفي
الحديث الذي رواه أبو داود وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس والغرض
أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الافساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها فمنها ما ذكره هؤلاء الأئمة وغير
ذلك. وقوله تعالى: (وقالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله) أي تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح عليه السلام من لقيه ليلا
غيلة فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم قال مجاهد تقاسموا وتحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين،
قال قتادة تواثقوا على أن يأخذوه ليلا فيقتلوه وذكر لنا أنهم بينما هم معانيق إلى صالح ليفتكوا به إذ بعث
الله عليهم صخرة فأهمدتهم قال العوفي عن ابن عباس: هم الذين عقروا الناقة قالوا حين عقروها لنبيتن صالحا وأهله
فنقتله ثم نقول لأولياء صالح ما شهدنا من هذا شيئا وما لنا به من علم فدمرهم الله أجمعين. وقال محمد بن إسحاق قال
هؤلاء التسعة بعد ما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحا فإن كان صادقا عجلناه قبلنا وإن كان كاذبا كنا قد ألحقناه بناقته
فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم منشدخين
قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم والله لا تقتلونه
أبدا وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث فإن كان صادقا فلا تزيدوا ربكم عليكم غضبا وإن كان كاذبا فأنتم من
وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: لما عقروا الناقة قال لهم صالح (تمتعوا
في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) قالوا زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث
وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه فخرجوا إلى كهف أي غار هناك ليلا فقالوا إذا جاء يصلي قتلناه
ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ففرغنا منهم فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم فخشوا أن تشدخهم فتبادروا
فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار فلا يدري قومهم أين هم ولا يدرون ما فعل بقومهم: فعذب الله هؤلاء
ههنا وهؤلاء ههنا وأنجى الله صالحا ومن معه ثم قرأ (ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان
عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية) أي فارغة ليس فيها أحد (بما ظلموا إن في ذلك
لآية لقوم يعلمون * وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون).
ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون (54) أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم
تجهلون (55) * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون (56)
فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين (57) وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين (58)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله لوط عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد
380

من بني آدم وهي إتيان الذكور دون الإناث وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء فقال (أتأتون
الفاحشة وأنتم تبصرون) أي يرى بعضكم بعضا وتأتون في ناديكم المنكر (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء
بل أنتم قوم تجهلون) أي لا تعرفون شيئا لا طبعا ولا شرعا كما قال في الآية الأخرى (أتأتون الذكران من العالمين *
وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون) (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من
قريتكم إنهم أناس يتطهرون) أي يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقراركم على صنيعكم فأخرجوهم من بين أظهركم
فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم فعزموا على ذلك فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها، قال الله تعالى (فأنجيناه
وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي من الهالكين مع قومها لأنها كانت ردءا لهم على دينهم وعلى طريقتهم في
رضاها بأفعالهم القبيحة فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم لا أنها كانت تفعل الفواحش تكرمة لنبي الله صلى الله عليه وسلم لا
كرامة لها وقوله تعالى (وأمطرنا عليهم مطرا) أي حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد
ولهذا قال (فساء مطر المنذرين) أي الذين قامت عليهم الحجة ووصل إليهم الانذار فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا
بإخراجه من بينهم.
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون (59) أمن خلق السماوات والأرض وأنزل
لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلاه مع الله بل هم قوم
يعدلون (60)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول (الحمد لله) أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما
اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه
الكرام عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام هكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيره إن المراد بعباده الذين
اصطفى هم الأنبياء قال وهو كقوله (سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب
العالمين) وقال الثوري والسدي هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين وروي نحوه عن ابن عباس أيضا ولا
منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن
اتبعه بعد ذكره لهم ما فعل بأوليائه من النجاة والنصر والتأييد وما أحل بأعدائه من الخزي والنكال والقهر أن يحمدوه على
جميع أفعاله وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار وقد قال أبو بكر البزار حدثنا محمد بن عمارة بن صبيح حدثنا
طلق بن غنام حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي إن شاء الله عن أبي مالك عن ابن عباس (وسلام على عباده الذين
اصطفى) قال هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم وقوله تعالى (آلله خير أم ما يشركون)
استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى، ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير
دون غيره فقال تعالى: (أمن خلق السماوات) أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وصفائها وما جعل فيها من
الكواكب النيرة والنجوم الزاهرة والأفلاك الدائرة وخلق الأرض في استفالها وكثافتها وما جعل فيها من الجبال والأطواد
والسهول والأوعار والفيافي والقفار والزروع والأشجار والثمار والبحار والحيوان على اختلاف الأصناف
والاشكال والألوان وغير ذلك وقوله تعالى: (وأنزل لكم من السماء ماء) أي جعله رزقا للعباد (فأنبتنا به حدائق)
أي بساتين (ذات بهجة) أي منظر حسن وشكل حسن وشكل بهي (ما كان لكم أن تنبتوا شجرها) أي لم تكونوا
تقدرون على إنبات أشجارها وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق المستقل بذلك المتفرد به دون ما سواه من الأصنام
والأنداد كما يعترف به هؤلاء المشركون كما قال تعالى في الآية الأخرى (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) (ولئن
سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله) أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده
لا شريك له ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق وإنما يستحق أن يفرد بالعبادة. من هو المتفرد
381

بالخلق والرزق ولهذا قال تعالى: (أإله مع الله)؟ أي أإله مع الله يعبد وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به
أيضا أنه الخالق الرازق ومن المفسرين من يقول معنى قوله: (أإله مع الله) فعل هذا وهو يرجع إلى معنى الأول لان
تقدير الجواب أنهم يقولون ليس ثم أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل
المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى (أفمن يخلق كمن لا يخلق) الآية. وقوله تعالى ههنا (أمن خلق
السماوات والأرض) (أمن) في هذه الآيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شئ منها؟ هذا
معنى السياق وإن لم يذكر الآخر لان في قوة الكلام ما يرشد إلى ذلك وقد قال الله تعالى (آلله خير أم ما يشركون) ثم
قال في الآية الأخرى (بل هم قوم يعدلون) أي يجعلون لله عدلا ونظيرا وهكذا قال تعالى (أمن هو قانت آناء الليل
ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال تعالى: (قل هل يستوي
الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل
للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) وقال تعالى (أمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) أي أمن هو
شهيد على أفعال الخلق حركاتهم وسكناتهم يعلم الغيب جليله وحقيره كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه
الأصنام التي عبدوها من دون الله؟ ولهذا قال (وجعلوا لله شركاء قل سموهم) وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها.
أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإلاه مع الله بل
أكثرهم لا يعلمون (61)
يقول تعالى (أمن جعل الأرض قرارا) أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بهم فإنها لو كانت
كذلك لما طاب عليها العيش والحياة بل جعلها من فضله ورحمته مهادا بساطا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك كما قال تعالى في
الآية الأخرى (الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء) (وجعل خلالها أنهارا) أي جعل فيها الأنهار العذبة
الطيبة شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك وسيرها شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بحسب
مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه (وجعل
لها رواسي) أي جبالا شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم (وجعل بين البحرين حاجزا) أي جعل بين المياه
العذبة والمالحة حاجزا أي مانعا يمنعها من الاختلاط لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا فإن الحكمة الإلهية تقتضي بقاء كل
منهما على ضفته المقصودة منه فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس والمقصود منها أن تكون عذبة
زلالا يسقي الحيوان والنبات والثمار منها والبحار المالحة هي المحيطة بالارجاء والاقطار من كل جانب والمقصود منها
أن يكون ماؤها ملحا أجاجا لئلا يفسد الهواء بريحها كما قال تعالى: (وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا
ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا) ولهذا قال تعالى: (أإله مع الله)؟ أي فعل هذا أو يعبد على القول
الأول والآخر؟ وكلاهما متلازم صحيح (بل أكثرهم لا يعلمون) أي في عبادتهم غيره.
أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلاه مع الله قليلا ما تذكرون (62)
ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد المرجو عند النوازل كما قال تعالى: (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من
تدعون إلا إياه) وقال تعالى: (ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون) وهكذا قال ههنا (أمن يجيب المضطر إذا دعاه)
أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه قال الإمام أحمد أنبأنا عفان أنبأنا
وهيب أنبأنا خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من بلهجيم قال قلت يا رسول الله إلى
م تدعو؟ قال " أدعو إلى
الله وحده الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك والذي إن أصابتك
سنة فدعوته أنبت لك " قال قلت أوصني قال " لا تسبن أحدا ولا تزهدن في المعروف ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه
وجهك ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقى واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الازار
382

فإن إسبال الازار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة " وقد رواه الإمام أحمد من وجه آخر فذكر اسم الصحابي فقال:
حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة حدثنا يونس هو ابن عبيد حدثنا عبيدة الهجيمي عن أبيه عن أبي تميمة الهجيمي عن
جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدميه فقلت أيكم محمد رسول
الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه فقلت يا رسول الله أنا من أهل البادية وفي جفاؤهم فأوصني قال " لا تحقرن من المعروف
شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه
بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره وإياك وإسبال الازار فإن إسبال الازار من المخيلة وإن الله لا يحب
المخيلة ولا تسبن أحدا " قال فما سببت بعده أحدا ولا شاة ولا بعيرا وقد روى أبو داود والنسائي لهذا الحديث طرقا
وعندهما طرف صالح منه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن هشام حدثنا عبدة بن نوح عن عمر بن الحجاج
عن عبيد الله بن أبي صالح قال: دخل علي طاوس يعودني فقلت له ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن فقال ادع لنفسك فإنه
يجيب المضطر إذا دعاه. وقال وهب بن منبه قرأت في الكتاب الأول إن الله تعالى يقول: بعزتي إنه من اعتصم بي فإن
كادته السماوات بمن فيهن والأرض بمن فيهن فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من
تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر
محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني
فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق عن طريق غير مسلوكة فقال لي خذ في هذه فإنها أقرب فقلت لا
خيرة لي فيها فقال بل هي أقرب فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة فقال لي أمسك رأس البغل
حتى أنزل فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكينا معه وقصدني ففررت من بين يديه وتبعني فناشدته الله وقلت خذ
البغل بما عليه فقال هو لي وإنما أريد قتلك فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل فاستسلمت بين يديه وقلت إن رأيت أن تتركني
حتى أصلي ركعتين فقال عجل فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد فبقيت واقفا متحيرا وهو
يقول هيه افرغ فأجرى الله على لساني قوله تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) فإذا أنا بفارس قد
أقبل من فم الوادي وبيده حربة فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده فخر صريعا فتعلقت بالفارس وقلت بالله من أنت؟
فقال أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء. قال فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما وذكر في
ترجمة فاطمة بنت الحسن أم أحمد العجيلة قالت هزم الكفار يوما المسلمين في غزاة فوقف جواد جيد بصاحبه وكان من
ذوي اليسار ومن الصلحاء فقال للجواد مالك ويلك إنما كنت أعدك لمثل هذا اليوم فقال له الجواد ومالي لا أقصر وأنت
تكل العلوفة إلى السواس فيظلمونني ولا يطعمونني إلا القليل؟ فقال لك علي عهد الله أني لا أعلفك بعد هذا اليوم إلا
في حجري فجرى الجواد عند ذلك ونجى صاحبه وكان لا يعلفه بعد ذلك إلا في حجره واشتهر أمره بين الناس وجعلوا
يقصدونه ليسمعوا منه ذلك وبلغ ملك الروم أمره فقال ما تضام بلدة يكون هذا الرجل فيها واحتال ليحصله في بلده
فبعث إليه رجلا من المرتدين عنده فلما انتهى إليه أظهر له أنه قد حسنت نيته في الاسلام وقومه حتى استوثق ثم خرجا يوما
يمشيان على جنب الساحل وقد واعد شخصا آخر من جهة ملك الروم ليتساعدا على أسره فلما اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه
إلى السماء وقال اللهم إنه إنما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت قال فخرج سبعان فأخذاهما ورجع الرجل سالما
وقوله تعالى: (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي يخلف قرنا لقرن قبلهم وخلفا لسلف كما قال تعالى: (إن يشأ يذهبكم
ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين) وقال تعالى (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع
بعضكم فوق بعض درجات) وقال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) أي قوما يخلف
بعضهم بعضا كما قدمنا تقريره وهكذا هذه الآية (ويجعلكم خلفاء الأرض) أي أمة بعد أمة وجيلا بعد جيل وقوما بعد
قوم ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين كما خلق
آدم من تراب ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ولكن لا يميت أحدا حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد
383

لكانت تضيق عنهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم ويتضرر بعضهم ببعض ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن
يخلقهم من نفس واحدة ثم يكثرهم غاية الكثرة ويذرأهم في الأرض ويجعلهم قرون بعد قرون وأمما بعد أمم حتى
ينقضي الاجل وتفرغ البرية كما قدر ذلك تبارك وتعالى وكما أحصاهم وعدهم عدا ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله
إذا بلغ الكتاب أجله ولهذا قال تعالى: (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع
الله) أي يقدر على ذلك أو أإله مع الله يعبد؟ وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ (قليلا ما
تذكرون) أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم.
أمن يهديكم في ظلمت البر والبحر ومن يرسل الريح بشرا بين يدي رحمته أإلاه مع الله تعلى الله عما يشركون
يقول تعالى (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر) أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية كما قال تعالى:
(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) وقال تعالى (وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر)
الآية (ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته) أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين
الأزلين القنطين (إله مع الله تعالى الله عما يشركون).
أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإلاه مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده كما قال تعالى في الآية الأخرى (إن بطش ربك لشديد * إنه هو
يبدئ ويعيد) وقال تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) (ومن يرزقكم من السماء والأرض)
أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض كما قال تعالى: (والسماء ذات الرجع * والأرض ذات
الصدع) وقال تعالى (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها) فهو تبارك وتعالى ينزل
من السماء ماء مبارك فيسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به منها أنواع الزروع والثمار والأزاهير وغير ذلك من ألوان شتى
(كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لاولي النهى) ولهذا قال تعالى (أإله مع الله) أي فعل هذا وعلى القول
الآخر بعد هذا (قل هاتوا برهانكم) على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى (إن كنتم صادقين) في ذلك وقد علم
أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح
الكافرون).
قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون إيان يبعثون (65) بل أدرك علمهم في الآخرة
بل هم في شك منها بل هم منها عمون (66)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلما لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله.
وقوله تعالى: (إلا الله) استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلا الله عز وجل فإنه المنفرد بذلك وحده لا شريك له كما
قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية وقال تعالى: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث)
إلى آخر السورة والآيات في هذا كثيرة وقوله تعالى: (وما يشعرون أيان يبعثون) أي وما يشعر الخلائق الساكنون في
السماوات والأرض بوقت الساعة كما قال تعالى (ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة) أي ثقل علمها على
أهل السماوات والأرض وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن الجعد حدثنا أبو جعفر الرازي عن داود بن أبي
هند عن الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت من زعم أنه يعلم - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد فقد
أعظم على الله الفرية لان الله تعالى يقول: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) وقال قتادة إنما جعل
الله هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوما للشياطين فمن تعاطى فيها غير
384

ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به وإن أناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم
كهانة من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ومن ولد بنجم كذا وكذا
كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم وما علم هذا النجم
وهذه الدابة وهذا الطير بشئ من الغيب وقضى الله تعالى أنه (لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله وما
يشعرون أيان يبعثون). رواه ابن أبي حاتم عنه بحروفه وهو كلام جليل متين صحيح وقوله: (بل ادارك علمهم في
الآخرة بل هم في شك منها) أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها وقرأ آخرون (بل أدرك علمهم) أي تساوى
علمهم في ذلك كما في الصحيح لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل وقد سأله عن وقت الساعة " ما المسؤول عنها
بأعلم من السائل " أي تساوى في العجز عن درك ذلك علم المسؤول والسائل. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
(بل ادارك علمهم في الآخرة) أي غاب وقال قتادة (بل ادارك علمهم في الآخرة) يعني بجهلهم بربهم يقول
لم ينفذ لهم علم في الآخرة هذا قول وقال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس (بل ادارك علمهم في
الآخرة) حين لم ينفع العلم وبه قال عطاء الخراساني والسدي أن علمهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا
ينفعهم ذلك كما قال تعالى: (أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين) وقال سفيان عن
عمرو بن عبيد عن الحسن أنه كان يقرأ (بل أدرك علمهم) قال اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة وقوله
تعالى (بل هم في شك منها) عائد على الجنس والمراد الكافرون كما قال تعالى: (وعرضوا على ربك صفا لقد
جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) أي الكافرون منكم وهكذا قال ههنا (بل هم في
شك منها) أي شاكون في وجودها ووقوعها (بل هم منها عمون) أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها.
وقال الذين كفروا أإذا كنا تربا وآباؤنا أئنا لمخرجون (67) لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا
إلا أساطير الأولين (68) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة المجرمين (69) ولا تحزن عليهم ولا
تكن في ضيق مما يمكرون (70)
يقول تعالى مخبرا عن منكري البعث من المشركين أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاما ورفاتا وترابا
ثم قال (لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل) أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا وقوعا
وقولهم (إن هذا إلا أساطير الأولين) يعنون ما هذا الوعد بإعادة الأبدان (إلا أساطير الأولين) أي أخذه قوم عمن
قبلهم من كتب يتلقاه بعض عن بعض وليس له حقيقة، قال الله تعالى مجيبا لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد
(قل) يا محمد لهؤلاء (سيروا في الأرض انظروا كيف كان عاقبة المجرمين) أي المكذبين بالرسل وبما
جاءوهم به من أمر المعاد وغيره كيف حلت بهم نقمة الله وعذابه ونكاله ونجى الله من بينهم رسله الكرام ومن
اتبعهم من المؤمنين فدل ذلك على صدق ما جاءت به الرسل وصحته، ثم قال تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم (ولا تحزن
عليهم) أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات (ولا تكن في ضيق مما
يمكرون) أي في كيدك ورد ما جئت به فإن الله مؤيدك وناصرك ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق
والمغارب.
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (71) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (72)
وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون (73) وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما
يعلنون (74) وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتب مبين (75)
385

يقول تعالى مخبرا عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك (ويقولون متى هذا الوعد إن
كنتم صادقين) قال الله تعالى مجيبا لهم (قل) يا محمد (عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون) قال
ابن عباس أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون وهكذا قال مجاهد والضحاك وعطاء
الخراساني وقتادة والسدي وهذا هو المراد بقوله تعالى (ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا) وقال تعالى
(ويستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وإنما دخلت اللام في قوله (ردف لكم) لأنه ضمن معنى
عجل لكم كما قال مجاهد في رواية عنه (عسى أن يكون ردف لكم) عجل لكم.
ثم قال تعالى (وإن ربك لذو فضل على الناس) أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا
يشكرونه على ذلك إلا القليل منهم (وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون) أي يعلم الضمائر والسرائر
كما يعلم الظواهر (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به) (يعلم السر وأخفى) (ألا حين يستغشون ثيابهم
يعلم ما يسرون وما يعلنون) ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة وهو ما
غاب عن العباد وما شاهدوه فقال تعالى (وما من غائبة) قال ابن عباس يعني وما من شئ (في السماء والأرض
إلا في كتاب مبين) وهذه كقوله (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله
يسير).
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون (76) وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين (77) إن
ربك يقضى بينهم بحكمه وهو العزيز العليم (78) فتوكل على إنك على الحق المبين (79) إنك لا تسمع الموتى
ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهدى العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن
بآياتنا فهم مسلمون (81)
يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من الهدى والبيان والفرقان أنه يقص على بني إسرائيل وهم
حملة التوراة والإنجيل (أكثر الذي هم فيه يختلفون) كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه فاليهود افتروا والنصارى
غلوا فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام عليه أفضل الصلاة
والسلام كما قال تعالى (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) وقوله (وإنه لهدى ورحمة
للمؤمنين) أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم في العمليات. ثم قال تعالى (إن ربك يقضى بينهم) أي
يوم القيامة (بحكمه وهو العزيز) أي في انتقامه (العليم بأفعال عباده وأقوالهم. (فتوكل على الله) أي في جميع
أمورك وبلغ رسالة ربك (إنك على الحق المبين) أي أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ممن كتبت
عليه الشقاوة (حقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية). ولهذا قال تعالى (إنك لا تسمع
الموتى) أي لا تسمعهم شيئا ينفعهم فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر ولهذا قال تعالى
(ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا
فهم مسلمون) أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير السمع والبصر النافع في القلب والبصيرة الخاضع لله ولما
جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم السلام.
* وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون (82)
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق يخرج الله لهم دابة من
الأرض قيل من مكة وقيل من غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فتكلم الناس على ذلك قال ابن عباس
والحسن وقتادة ويروى عن علي رضي الله عنه تكلمهم كلاما أي تخاطبهم مخاطبة وقال عطاء الخراساني تكلمهم
386

فتقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون. ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير وفي هذا القول نظر لا يخفى
والله أعلم وقال ابن عباس في رواية تجرحهم وعنه رواية قال كلا تفعل يعني هذا وهذا وهو قول حسن ولا منافاة
والله أعلم وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان قال الإمام أحمد حدثنا
سفيان عن فرات عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن
نتذاكر أمر الساعة فقال " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات طلوع الشمس من مغربها والدخان والدابة وخروج
يأجوج ومأجوج وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام والدجال وثلاثة خسوف خسف بالمغرب وخسف بالمشرق
وخسف بجزيرة العرب ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث
قالوا " وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من طرق عن فرات القزاز عن أبي الطفيل عامر بن واثلة عن حذيفة مرفوعا
وقال الترمذي حسن صحيح ورواه مسلم أيضا من حديث عبد العزيز بن رفيع عن أبي الطفيل عنه موقوفا فالله
أعلم (طريق أخرى) قال أبو داود الطيالسي عن طلحة بن عمرو وجرير بن حازم فأما طلحة فقال أخبرني عبد الله
ابن عبيد الله بن عمير الليثي أن أبا الطفيل حدثه عن حذيفة بن أسيد الغفاري أبي سريحة وأما جرير فقال
عن عبد الله بن عبيد عن رجل من آل عبد الله بن مسعود وحديث طلحة أتم وأحسن قال ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال
" لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خرجة من أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن زمنا
طويلا ثم تخرج خرجة أخرى دون تلك فيعلو ذكرها في أهل البادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكة - قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين
الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فارفض الناس عنها شتى ومعا وبقيت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم
يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا
ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فيقبل عليها فتسمه
في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطحبون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن
ليقول يا كافر اقضني حقي وحتى إن الكافر ليقول يا مؤمن اقضني حقي " ورواه ابن جرير من طريقين عن حذيفة
ابن أسيد موقوفا والله أعلم ورواه من رواية حذيفة بن اليمان مرفوعا وان ذلك في زمان عيسى ابن مريم وهو
يطوف بالبيت ولكن إسناده لا يصح (حديث آخر) قال مسلم بن الحجاج حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد
ابن بشر عن أبي حيان، عن أبي زرعة عن عبد الله بن عمرو قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا
لم أنسه بعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على
الناس ضحى وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالاخرى على أثرها قريبا " (حديث آخر) روى مسلم في صحيحه من حديث
العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بادروا
بالاعمال ستة: طلوع الشمس من مغربها والدخان والدجال والدابة وخاصة أحدكم وأمر العامة " تفرد به وله من حديث
قتادة عن الحسن عن زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بادروا بالاعمال ستا
الدجال والدخان ودابة الأرض وطلوع الشمس من مغربها وأمر العامة وخويصة أحدكم " (حديث آخر) قال
ابن ماجة حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن
سنان بن سعيد عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بادروا بالاعمال ستا طلوع الشمس من مغربها
والدخان والدابة والدجال وخويصة أحدكم وأمر العامة " تفرد به (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي حدثنا حماد
ابن سلمة عن علي بن زيد عن أويس بن خالد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تخرج دابة
الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام فتحطم أنف الكافر بالعصا وتجلي وجه المؤمن بالخاتم
حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر " ورواه الإمام أحمد عن بهز وعفان ويزيد بن هارون
ثلاثتهم عن حماد بن سلمة به وقال " فتحطم أنف الكافر بالخاتم وتجلو وجه المؤمن بالعصا حتى إن أهل الخوان
387

الواحد ليجتمعون فيقول هذا يا مؤمن ويقول هذا يا كافر " ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يونس
ابن محمد المؤدب عن حماد بن سلمة به (حديث آخر) قال ابن ماجة حدثنا أبو غسان محمد بن عمرو وحدثنا أبو
نميلة حدثنا خالد بن عبيد حدثنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال ذهب بي ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع بالبادية قريب
من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تخرج الدابة من هذا الموضع " فإذا فتر في شبر قال
ابن بريدة فحججت بعد ذلك بسنين فأرانا عصا له فإذا هو بعصاي هذه كذا وكذا. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر
عن قتادة أن ابن عباس قال: هي دابة ذات زغب لها أربع قوائم تخرج من بعض أودية تهامة. وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية قال قال عبد الله تخرج الدابة من صدع من
الصفا كجري الفرس ثلاثة أيام لم يخرج ثلثها وقال محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح قال سئل عبد الله
ابن عمرو عن الدابة فقال الدابة تخرج من تحت صخرة بجياد والله لو كنت معهم أو لو شئت بعصاي الصخرة التي
تخرج الدابة من تحتها قيل فتصنع ماذا يا عبد الله بن عمرو فقال تستقبل المشرق فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل
الشام فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل اليمن فتصرخ صرخة تنفذه ثم
تروح من مكة فتصبح بعسفان قيل ثم ماذا قال ثم أعلم وعن عبد الله بن عمر أنه قال تخرج الدابة ليلة جمع.
رواه ابن أبي حاتم وفي إسناده ابن البيلمان وعن وهب بن منبه أنه حكى من كلام عزير عليه السلام أنه قال
وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها وتضع الحبالى قبل التمام ويعود الماء العذب أجاجا
ويتعادى الأخلاء وتحرق الحكمة ويرفع العلم وتكلم الأرض التي تليها وفي ذلك الزمان يرجو الناس مالا
يبلغون ويتعبون فما لا ينالون ويعملون فيما لا يأكلون رواه ابن أبي حاتم عنه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا أبو صالح كاتب الليث حدثني معاوية بن صالح عن أبي مريم أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول إن
الدابة فيها من كل لون ما بين قرنيها فرسخ للراكب وقال ابن عباس هي مثل الحربة الضخمة وعن
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال إنها دابة لها ريش وزغب وحافر وما لها ذنب ولها لحية
وإنها لتخرج حضر الفرس الجواد ثلاثا وما خرج ثلثها رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جريج عن أبي الزبير أنه
وصف الدابة فقال رأسها رأس ثور وعينها عين خنزير وأذنها أذن فيل وقرنها قرن أبل وعنقها عنق نعامة
وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هر وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل
مفصلين اثنا عشر ذراعا تخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان فلا يبقى مؤمن إلا نكتت في وجهه بعصا موسى
نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة حتى يبيض لها وجهه ولا يبقى كافر إلا نكتت في وجهه نكتة سوداء بخاتم سليمان
فتفشوا تلك النكتة حتى يسود بها وجهه حتى إن الناس يتبايعون في الأسواق بكم ذا يا مؤمن بكم ذا يا كافر؟
وحتى إن أهل البيت يجلسون على مائدتهم فيعرفون مؤمنهم من كافرهم ثم تقول لهم الدابة يا فلان أبشر أنت
من أهل الجنة؟ ويا فلان أنت من أهل النار فذلك قول الله تعالى (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من
الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون).
ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون (83) حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم
تحيطوا بها علما أماذا كنتم تعملون (84) ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون (85) ألم يروا أنا
جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (86)
يقول تعالى مخبرا عن يوم القيامة وحشر الظالمين من المكذبين بآيات الله ورسله إلى بين يدي الله عز وجل
ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا تقريعا وتوبيخا وتصغيرا وتحقيرا فقال تعالى (ويوم نحشر من كل أمة فوجا) أي
من كل قوم وقرن فوجا أي جماعة (ممن يكذب بآياتنا) كما قال تعالى (احشروا الذين ظلموا وأزواجهم) وقال
388

تعالى (وإذا النفوس زوجت) وقوله تعالى (فهم يوزعون) قال ابن عباس رضي الله عنهما: يدفعون وقال قتادة
وزعه ترد أولهم على آخرهم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يساقون (حتى إذا جاءوا) ووفقوا بين يدي
الله عز وجل في مقام المسألة (قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون) أي فيسئلون عن
إعتقادهم وأعمالهم فلما لم يكونوا من أهل السعادة وكانوا كما قال الله عنهم (فلا صدق ولا صلى * ولكن كذب
وتولى) فحينئذ قامت عليهم الحجة ولم يكن لهم عذر يعتذرون به كما قال الله تعالى (هذا يوم لا ينطقون * ولا
يؤذن لهم فيعتذرون) الآية وهكذا قال ههنا (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) أي بهتوا فلم يكن له
جواب لانهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية.
ثم قال تعالى منبها على قدرته التامة وسلطانه العظيم وشأنه الرفيع الذي تجب طاعته والانقياد لأوامره وتصديق
أنبيائه فيما جاءوا به من الحق الذي لا محيد عنه (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) أي في ظلام
الليل لتسكن حركاتهم بسببه وتهدأ أنفاسهم ويستريحون من نصب التعب في نهارهم (والنهار مبصرا) أي منيرا
مشرقا فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب والاسفار والتجارات وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون
إليها (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين (87)
وترى الجبال تحسبها جامدة وهى تمر مر السحاب صنع الله الذي اتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون (88)
من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون (89) ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في
النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون (90)
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور وهو كما جاء في الحديث قرن ينفخ فيه وفي حديث الصور إن
إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى فينفخ فيه أولا نفخة الفزع ويطولها وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم
الساعة على شرار الناس من الاحياء فيفزع من في السماوات ومن في الأرض (إلا من شاء الله) وهم الشهداء
فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون قال الإمام مسلم بن الحجاج حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة
عن النعمان بن سالم سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه
وجاءه رجل فقال ما هذا الحديث الذي تحدث أن الساعة تقوم إلى كذا وكذا؟ فقال سبحان الله؟ أو لا إله إلا الله
أو كلمة نحوهما لقد هممت أن لا أحدث أحدا شيئا أبدا إنما قلت إنكم سترون بعد قليل أمرا عظيما يخرب البيت
ويكون ويكون - ثم قال - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يخرج الدجال في أمتي فيمكث أربعين - لا أدري أربعين يوما أو
أربعين شهرا أو أربعين عاما - فيبعث الله عيسى ابن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه ثم يمكث الناس سبع
سنين ليس بين اثنين عداوة ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال
ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه " قال سمعتها من
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل
لهم الشيطان فيقول ألا تستجيبون فيقولون فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم
ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال
فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله أو قال ينزل الله مطرا كأنه الطل - أو قال الظل شعبة الشاك - فتنبت منه أجساد
الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ثم يقال يا أيها الناس هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسؤولون ثم
يقال أخرجوا بعث النار فيقال من كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال فذلك يوم يجعل الولدان شيبا
وذلك يوم يكشف عن ساق " وقوله ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا الليت هو صفحة
389

العنق أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيدا فهذه نفخة الفزع ثم بعد ذلك نفخة الصعق وهو الموت ثم بعد
ذلك نفخة القيام لرب العالمين وهو النشور من القبور لجميع الخلائق ولهذا قال تعالى (وكل أتوه داخرين)
قرئ بالمد وبغيره على الفعل وكل بمعنى واحد وداخرين أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره كما قال
تعالى (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده) وقال تعالى (ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون) وفي
حديث الصور أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت
الأجساد في قبورها وأماكنها فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج أرواح المؤمنين نورا وأرواح الكافرين ظلمة
فيقول الله عز وجل وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها فتجئ الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما
يدب السم في اللديغ ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم قال الله تعالى (يوم يخرجون من الأجداث سراعا
كأنهم إلى نصب يوفضون) (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) أي تراها كأنها ثابتة
باقية على ما كانت عليه وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها كما قال تعالى (يوم تمور السماء مورا * وتسير
الجبال سيرا) وقال تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا * فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا
ولا أمتا) وقال تعالى (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة) وقوله تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شئ) أي
يفعل ذلك بقدرته العظيمة (الذي أتقن كل شئ) أي أتقن كل ما خلق وأودع فيه من الحكمة ما أودع (إنه خبير
بما يفعلون) أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر وسيجازيهم عليه أتم الجزاء. ثم بين تعالى حال السعداء
والأشقياء يومئذ فقال (من جاء بالحسنة فله خير منها) قال قتادة بالاخلاص وقال زين العابدين هي لا إله إلا الله
وقد بين تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها (وهم من فزع يومئذ آمنون) كما قال في الآية الأخرى (لا
يحزنهم الفزع الأكبر) وقال تعالى (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة) وقال تعالى (وهم في
الغرفات آمنون). وقوله تعالى (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) أي من لقى الله مسيئا لا حسنة له أو قد
رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه ولهذا قال تعالى (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) وقال ابن مسعود
وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم وأنس بن مالك وعطاء وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وإبراهيم النخعي
وأبو وائل وأبو صالح ومحمد ابن كعب وزيد بن أسلم والزهري والسدي والضحاك والحسن وقتادة وابن زيد في
قوله (ومن جاء بالسيئة) يعني بالشرك.
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين (91) وأن
أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين (92) وقل الحمد لله
سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون (93)
يقول تعالى مخبرا رسوله وآمرا له أن يقول (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة حرمها وله كل شئ) كما قال
تعالى (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أ عبد الله الذي
يتوفاكم) وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها كما قال تعالى (فليعبدوا رب هذا البيت
الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف) وقوله تعالى (الذي حرمها) أي الذي إنما صارت حراما شرعا وقدرا
بتحريمه لها كما ثبت الصحيحين عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة " إن هذا البلد حرمه الله
يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته
إلا من عرفها ولا يختلى خلالها " بتمامه وقد ثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من طرق جماعة تفيد القطع
كما هو مبين في موضعه من كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة وقوله تعالى (وله كل شئ) من باب عطف العام
على الخاص أي هو رب هذه البلدة ورب كل شئ ومليكه لا إله إلا هو (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي
390

الموحدين المخلصين المنقادين لامره المطيعين له. وقوله (وأن أتلوا القرآن) أي على الناس أبلغهم إياه كقوله
تعالى (ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم) وكقوله تعالى (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق)
الآية أي أنا مبلغ ومنذر (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي لي أسوة
بالرسل الذين أنذروا قومهم وقاموا بما عليهم من أداء الرسالة إليهم وخلصوا من عهدتهم وحساب أممهم على الله
تعالى كقوله تعالى (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) وقال (إنما أنت نذير والله على كل شئ وكيل). (وقل
الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها) أي لله الحمد الذي لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه والانذار إليه
ولهذا قال تعالى (سيريكم آياته فتعرفونها) كما قال تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم
أنه الحق) وقوله تعالى (وما ربك بغافل عما تعملون) أي بل هو شهيد على كل شئ قال ابن أبي حاتم ذكر
عن أبي عمر الحوضي حفص بن عمر حدثنا أبو أمية بن يعلى الثقفي حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمعت أبا هريرة
يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس لا يغترن أحدكم بالله فإن الله لو كان غافلا شيئا لأغفل البعوضة والخردلة
والذرة " وقال أيضا حدثنا محمد بن يحيى حدثنا نصر بن علي قال أبي أخبرني عن خالد بن قيس عن مطر عن عمر
ابن عبد العزيز قال: فلو كان الله مغفلا شيئا لأغفل ما تعفي الرياح من أثر قدمي ابن آدم وقد ذكر عن الإمام أحمد
رحمه الله تعالى أنه كان ينشد هذين البيتين إما له وإما لغيره
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل * خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة * ولا أن ما يخفى عليه يغيب
آخر تفسير سورة النمل ولله الحمد والمنه.
سورة القصص
قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله حدثنا يحيى بن آدم حدثنا وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق عن معد يكرب قال أتينا
عبد الله فسألناه أن يقرأ علينا طسم المائتين فقال ما هي معي ولكن عليكم بمن أخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم خباب بن الأرت
قال فأتينا خباب بن الأرت فقرأها علينا رضي الله عنه.
بسم الله الرحمن الرحيم
طسم (1) تلك آيات الكتب المبين (2) نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون (3)
إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من
المفسدين (4) ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5) ونمكن لهم
في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون (6)
فقد تقدم الكلام على الحروف المقطعة، وقوله: (تلك) اي هذه (أيات الكتاب المبين) اي الواضح الجلي
الكاشف عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن، وقوله: (نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق) الآية كما
قال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص) أي نذكر لك الامر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر كما قال
تعالى: (إن فرعون علا في الأرض) أي تكبر وتجبر وطغى (وجعل أهلها شيعا) أي أصنافا قد صرف كل صنف
فيما يريد من أمور دولته، وقوله تعالى: (يستضعف طائفة منهم) يعنى بني إسرائيل وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل
391

زمانهم هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العتيد أيستعملهم في أخس الأعمال ويكدهم ليلا ونهارا في أشغاله
وأشغال رعيته ويقتل مع هذا أبناءهم ويستحيي نساءهم إهانة لهم واحتقارا وخوفا من أن يوجد منهم الغلام الذي كان قد
تخوف هو وأهل مملكته منه أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه. وكانت القبط قد تلقوا هذا
من بني إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل عليه السلام حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما
جرى حين أخذ سارة ليتخذها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته وسلطانه فبشر إبراهيم عليه السلام ولده أنه سيولد
من صلبه وذريته من يكون هلاك مصر على يديه فكانت القبط تحدث بهذا عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل
ذكور بني إسرائيل ولن ينفع حذر من قدر لان أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب. ولهذا قال تعالى: (ونريد أن
نمن على الذين استضعفوا في الأرض - إلى قوله - يحذرون) وقد فعل تعالى ذلك بهم كما قال تعالى: (وأورثنا القوم
الذين كانوا يستضعفون - إلى قوله - يعرشون) وقال تعالى: (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) أراد فرعون بحوله وقوته
أن ينجو من موسى فما نفعه من ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي لا يخالف أمره القدري ولا يغلب بل نفذ حكمه وجرى
قلمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفا من
الولدان إنما منشؤه ومرباه على فراشك وفي دارك وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدلله وتتفداه وحتفك وهلاكك وهلاك
جنودك على يديه لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان
وما لم يشأ لم يكن.
وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من
المرسلين (7) فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين (8)
وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون (9)
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل خافت القبط أن يفني بني إسرائيل فيلونهم ما كانوا يلونه من الأعمال
الشاقة فقالوا لفرعون إنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم وغلمانهم يقتلون ونساؤهم لا يمكن أن تقمن
بما تقوم به رجالهم من الأعمال فيخلص إلينا ذلك فأمر بقتل الولدان عاما وتركهم عاما، فولد هارون عليه السلام في
السنة التي يتركون فيها الولدان وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان وكان لفرعون ناس موكلون بذلك
وقوابل يدورون على النساء فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها فإذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلا نساء القبط فإن
ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن وإن ولدت غلاما دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا قبحهم
الله تعالى. فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ولم تفطن لها الدايات ولكن لما
وضعته ذكرا ضاقت به ذرعا وخافت عليه خوفا شديدا وأحبته حبا زائدا وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلا أحبه
فالسعيد من أحبه طبعا وشرعا قال الله تعالى: (وألقيت عليك محبة مني) فلما ضاقت به ذرعا ألهمت في سرها
وألقي في خلدها وأنفث في روعها كما قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا
تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل فاتخذت تابوتا ومهدت
فيه مهدا وجعلت ترضع ولدها فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت وسيرته في البحر وربطته
بحبل عندها فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه فذهبت فوضعته في ذلك التابوت وأرسلته في البحر وذهلت أن
تربطه فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون فالتقطه الجواري فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ولا
يدرين ما فيه وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه
وأبهاه فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها. ولهذا قال
: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) الآية قال محمد بن إسحاق وغيره اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل لانهم
392

لم يريدوا بالتقاطه ذلك ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل لان
معناه أن الله تعالى قيضهم لالتقاطه ليجعله عدوا له وحزنا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه ولهذا قال تعالى: (إن
فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين) وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب كتابا إلى
قوم من القدرية في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن
قال الله تعالى: (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) وقلتم أنتم لو شاء فرعون أن يكون لموسى
وليا وناصرا والله تعالى يقول: (ليكون لهم عدوا وحزنا). وقوله تعالى: (وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك)
الآية يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفا من أن يكون من بني إسرائيل فشرعت امرأته آسية بنت مزاحم تخاصم عنه
وتذب دونه وتحببه إلى فرعون فقالت: (قرة عين لي ولك) فقال فرعون أما لك فنعم وأما لي فلا فكان كذلك
وهداها الله بسببه وأهلكه الله على يديه وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها في رواية ابن عباس
مرفوعا عند النسائي وغيره. وقوله: (عسى أن ينفعنا) وقد حصل لها ذلك وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه.
وقوله: (أو نتخذه ولدا) أي أرادت أن تتخذه ولدا وتتبناه وذلك أنه لم يكن لها ولد منه وقوله تعالى: (وهم لا
يشعرون) أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة.
وأصبح فؤاد أم موسى فرغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين (10) وقالت
لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون (11) وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم
على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون (12) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم إن وعد الله
حق ولكن أكثرهم لا يعلمون (13)
يقول تعالى مخبرا عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغا أي من كل شئ من أمور الدنيا إلا من
موسى قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والضحاك والحسن البصري وقتادة وغيرهم (إن كادت
لتبدي به) أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لتظهر أنه ذهب لها ولد وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها
قال الله تعالى: (لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين * وقالت لأخته قصيه) أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة
تعي ما يقال لها فقالت لها (قصيه) أي اتبعي أثره وخذي خبره وتطلبي شأنه من نواحي البلد فخرجت لذلك (فبصرت
به عن جنب) قال ابن عباس عن جانب. وقال مجاهد بصرت به عن جنب عن بعد.
وقال قتادة جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون وأحبته امرأة الملك
واستطلقته منه عرضوا عليه المراضع التي في دارهم فلم يقبل منها ثديا وأبى أن يقبل شيئا من ذلك فخرجوا به إلى السوق
لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته فلما رأته بأيديهم عرفته ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها. قال الله تعالى: (وحرمنا
عليه المراضع من قبل) أي تحريما قدريا وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه ولان الله سبحانه
وتعالى جعل ذلك سببا إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة بعدما كانت خائفة فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه (قالت
هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) قال ابن عباس فلما قالت ذلك أخذوها وشكوا في أمرها وقالوا
لها وما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته
فأرسلوها فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ذهبوا معها إلى منزلهم فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه ففرحوا
بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى امرأة الملك فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلا وهي لا تعرف
أنها أمه في الحقيقة ولكن لكونه وافق ثديها ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت إن لي بعلا
وأولادا ولا أقدر على المقام عندك ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك وأجرت
393

عليها النفقة والصلاة والكساوي والاحسان الجزيل فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية قد أبدلها الله بعد خوفها أمنا
في عز وجاه ورزق دار ولهذا جاء في الحديث " مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع
ولدها وتأخذ أجرها " ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل يوم وليلة أو نحوه والله أعلم فسبحان من بيده الامر ما شاء
كان وما لم يشأ لم يكن الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجا وبعد كل ضيق مخرجا، ولهذا قال تعالى: (فرددناه
إلى أمه كي تقر عينها) أي به (ولا تحزن) أي عليه (ولتعلم أن وعد الله حق) أي فيما وعدها من رده إليها وجعله
من المرسلين فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعا وشرعا.
وقوله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة التي هو المحمود عليها في الدنيا
والآخرة فربما يقع الامر كريها إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الامر كما قال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا
وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم) وقال تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا).
ولما بلغ أشده واستوى اتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين (14) ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها
فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغثه الذي من شيعته على الذي من عدوه
فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين (15) قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
فغفر له إنه هو الغفور الرحيم (16) قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين (17)
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى آتاه الله حكما وعلما قال مجاهد يعني النبوة.
(وكذلك نجزي المحسنين) ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله
ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين فقال تعالى: (ودخل المدينة على حين غفلة
من أهلها) قال ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس وذلك بين المغرب والعشاء. وقال ابن المنكدر عن
عطاء بن يسار عن ابن عباس كان ذلك نصف النهار وكذا قال سعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة (فوجد فيها رجلين
يقتتلان) أي يتضاربان ويتنازعان (هذا من شيعته) أي إسرائيلي (وهذا من عدوه) أي قبطي قاله ابن عباس
وقتادة والسدي ومحمد بن إسحاق فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس
فعمد إلى القبطي (فوكزه موسى فقضى عليه) قال مجاهد فوكزه أي طعنه بجمع كفه وقال قتادة وكزه بعصا كانت معه
فقضى عليه أي كان فيها حتفه فمات (قال) موسى (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين * قال رب إني
ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم * قال رب بما أنعمت علي) أي بما جعلت لي من الجاه والعز
والنعمة (فلن أكون ظهيرا) أي معينا (للمجرمين) أي الكافرين بك المخالفين لأمرك.
فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال لهم موسى إنك لغوى مبين (18) فلما
أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون
جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين (19)
يقول تعالى مخبرا عن موسى لما قتل ذلك القبطي أنه أصبح (في المدينة خائفا) أي من معرة ما فعل (يترقب) أي
يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الامر فمر في بعض الطرق فإذا ذلك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر
فلما مر عليه موسى استصرخه على الآخر فقال له موسى (إنك لغوي مبين) أي ظاهر الغواية كثير الشر ثم عزم على
البطش بذلك القبطي فاعتقد الإسرائيلي لخوره وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك فقال يدفع
394

عن نفسه (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس) وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى عليه السلام فلما
سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه ثم ذهب بها إلى باب فرعون وألقاها عنده فعلم فرعون بذلك فاشتد حنقه وعزم على
قتل موسى فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.
وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين (20)
قال تعالى: (وجاء رجل) وصفه بالرجولية لأنه خالف الطريق فسلك طريقا أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه فسبق
إلى موسى فقال له يا موسى (إن الملا يأتمرون بك) أي يتشاورون فيك (ليقتلوك فاخرج) أي من البلد (إني لك
من الناصحين).
فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين (21) ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهديني
سواء السبيل (22) ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال
ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير (23) فسقا لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما
أنزلت إلى من خير فقير (24)
لما أخبره ذلك الرجل بما تما لا عليه فرعون دولته في أمره خرج من مصر وحده ولم يألف ذلك قبله بل كان في رفاهية
ونعمة ورياسة (فخرج منها خائفا يترقب) أي يتلفت (قال رب نجني من القوم الظالمين) أي من فرعون وملئه
فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكا على فرس فأرشده إلى الطريق فالله أعلم (ولما توجه تلقاء مدين) أي أخذ
طريقا سالكا مهيعا فرح بذلك (قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) أي الطريق الأقوم ففعل الله به ذلك وهداه إلى
الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة فجعله هاديا مهديا (ولما ورد ماء مدين) أي لما وصل إلى مدين وورد ماءها وكان
لها بئر يرده رعاء الشاء (وجد عليه أمة من الناس يسقون) أي جماعة يسقون (ووجد من دونهم امرأتين تذودان) أي
تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما (قال ما
خطبكما) أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ (قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء) أي لا يحصل لنا سقي إلا بعد
فراغ هؤلاء (وأبونا شيخ كبير) أي فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى قال الله تعالى: (فسقى لهما) قال أبو
بكر بن أبي شيبة حدثنا عبيد الله أنبأنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون قال فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر
ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال فإذا هو بامرأتين تذودان قال ما خطبكما؟ فحدثتاه فأتى الحجر فرفعه ثم لم يستق إلا ذنوبا
واحدا حتى رويت الغنم. إسناد صحيح. وقوله تعالى: (ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير) قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر وكان حافيا فما وصل إلى
مدين حتى سقطت نعل قدميه وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع وإن خضرة
البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة. وقوله: (إلى الظل) قال ابن عباس وابن مسعود والسدي
جلس تحت شجرة وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العنقزي حدثنا أبي حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن
عمرو بن ميمون عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال: حثثت على جمل ليلتين حتى صبحت مدين فسألت عن الشجرة
التي أوى إليها موسى فإذا هي شجرة خضراء ترف فأهوى إليها جملي وكان جائعا فأخذها جملي فعالجها ساعة ثم لفظها
فدعوت الله لموسى عليه السلام ثم انصرفت وفي رواية عن ابن مسعود أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها موسى
كما سيأتي إن شاء الله فالله أعلم وقال السدي كانت الشجرة من شجر السمر وقال عطاء بن السائب لما قال موسى
(رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير) أسمع المرأة.
395

فجاءته إحديهما تمشى على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه
القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين (25) قالت إحديهما يأبت استأجره إن خير من استأجرت
القوى الأمين (26) قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثمني حجج فإن أتممت عشرا
فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين (27) قال ذلك بيني وبينك أيما
الأجلين قضيت فلا عدون على والله على ما نقول وكيل (28)
لما رجعت المرأتان سريعا بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعا فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل
موسى عليه السلام فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها قال الله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) أي
مشي الحرائر كما روي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه قال: جاءت مستترة بكم درعها وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: قال عمر رضي الله عنه جاءت تمشي على
استحياء قائلة بثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء ولاجة خراجة. هذا إسناد صحيح. قال الجوهري:
السلفع من الرجال الجسور ومن النساء الجرية السليطة ومن النوق الشديدة. (قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما
سقيت لنا) وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلبا مطلقا لئلا يوهم ريبة بل قالت: إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت
لنا يعني ليثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا (فلما جاءه وقص عليه القصص) أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له
من السبب الذي خرج من أجله من بلده (قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين) يقول طب نفسا وقر عينا فقد خرجت
من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا ولهذا قال: (نجوت من القوم الظالمين) وقد اختلف المفسرون في هذا الرجل
من هو؟ على أقوال أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين وهذا هو المشهور عند كثير من
العلماء وقد قاله الحسن البصري وغير واحد ورواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز الأزدي حدثنا
مالك بن أنس أنه بلغه أن شعيبا هو الذي قص عليه موسى القصص قال: (لا تخف نجوت من القوم الظالمين) وقد
روى الطبراني عن سلمة بن سعد الغزي أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " مرحبا بقوم شعيب وأختان موسى
هديت " وقال آخرون بل كان ابن أخي شعيب وقيل رجل مؤمن من قوم شعيب وقال آخرون كان شعيب قبل زمان موسى
عليه السلام بمدة طويلة لأنه قال لقومه (وما قوم لوط منكم ببعيد) وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام
بنص القرآن وقد علم أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمائة سنة كما ذكره غير واحد.
وما قيل إن شعيبا عاش مدة طويلة إنما هو والله أعلم احتراز من هذا الاشكال ثم من المقوي لكونه ليس بشعيب أنه لو كان
إياه لاوشك أن ينص على اسمه في القرآن ههنا وما جاء في بعض الأحاديث من التصريح بذكره في قصة موسى لم
يصح إسناده كما سنذكره قريبا إن شاء الله ثم من الموجود في كتب بني إسرائيل أن هذا الرجل اسمه ثيرون والله أعلم
قال أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: ثيرون هو ابن أخي شعيب عليه السلام وعن أبي حمزة عن ابن عباس قال الذي
استأجر موسى يثرى صاحب مدين رواه ابن جرير به ثم قال الصواب أن هذا لا يدرك إلا بخبر ولا خبر تجب به الحجة في
ذلك، وقوله تعالى: (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) أي قالت إحدى ابنتي هذا
الرجل قيل هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام قالت لأبيها (يا أبت استأجره) أي لرعية هذه الغنم قال عمر وابن
عباس وشريح القاضي وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد لما قالت: (إن خير من استأجرت القوى
الأمين) قال لها أبوها وما علمك بذلك؟ قالت له إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال وإني لما جئت
معه تقدمت أمامه فقال لي كوني من ورائي فإذا اختلف علي الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي
إليه. وقال سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله هو ابن مسعود قال: أفرس الناس ثلاثة: أبو بكر
396

حين تفرس في عمر وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه وصاحبة موسى حين قالت: (يا أبت استأجره إن خير من
استأجرت القوى الأمين) قال: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين) أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن
يرعى غنمه ويزوجه إحدى ابنتيه هاتين قال شعيب الجبائي وهما صفوريا وليا وقال محمد بن إسحاق صفوريا وشرفا
ويقال ليا وقد استدل أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على صحة البيع فيما إذا قال بعتك أحد هذين العبدين بمائة فقال
اشتريت أنه يصح والله أعلم وقوله: (على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك) أي على أن ترعى
غنمي ثماني سنين فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك وإلا ففي الثمان كفاية (وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء
الله من الصالحين) أي لا أشاقك ولا أؤذيك ولا أماريك وقد استدلوا بهذه الآية الكريمة لمذهب الأوزاعي فيما إذا قال
بعتك هذا بعشرة نقدا أو بعشرين نسيئة أنه يصح ويختار المشتري بأيهما أخذه صح وحمل الحديث المروي في سنن أبي
داود " من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا " على هذا المذهب وفي الاستدلال بهذه الآية وهذا الحديث
على هذا المذهب نظر ليس هذا موضع بسطه لطوله والله أعلم. ثم قد استدل أصحاب الإمام أحمد ومن تبعهم في
صحة استئجار الأجير بالطعمة والكسوة بهذه الآية واستأنسوا في ذلك بما رواه أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في
كتابه السنن حيث قال باب استئجار الأجير على طعام بطنه حدثنا محمد ثنا محمد بن المصفي الحمصي حدثنا بقية بن
الوليد عن مسلمة بن علي عن سعيد بن أبي أيوب الحارث بن يزيد عن علي بن رباح قال سمعت عتبة بن المنذر
السلمي يقول كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم حتى إذا بلغ قصة موسى قال: (إن موسى آجر نفسه ثماني سنين أو عشرة
سنين على عفة فرجه وطعام بطنه) وهذا الحديث من هذا الوجه ضعيف لان مسلمة بن علي وهو الخشني الدمشقي
البلاطي ضعيف الرواية عند الأئمة ولكن قد روي من وجه آخر وفيه نظر أيضا وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا
صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن علي بن رباح اللخمي قال سمعت
عتبة بن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة
فرجه وطعمة بطنه " وقوله تعالى إخبارا عن موسى: (قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان
علي والله على ما نقول وكيل) يقول إن موسى قال لصهره الامر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين فإن
أتممت عشرا فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط ولهذا قال: (أيما الأجلين
قضيت فلا عدوان علي) أي فلا حرج علي مع أن الكامل وإن كان مباحا لكنه فاضل من جهة أخرى بدليل من خارج كما
قال تعالى: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمزة بن عمرو الأسلمي
رضي الله عنه وكان كثير الصيام وسأله عن الصوم في السفر فقال: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " مع أن فعل الصيام
راجح من دليل آخر هذا وقد دل الدليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما وقال البخاري
حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: قال
سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت على
ابن عباس رضي الله عنه فسألته فقال قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل. هكذا رواه حكيم بن جبير وغيره
عن سعيد بن جبير ووقع في حديث الفتون من رواية القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير أن الذي سأله رجل من
أهل النصرانية والأول أشبه والله أعلم وقد روي من حديث ابن عباس مرفوعا قال ابن جرير حدثنا أحمد بن محمد
الطوسي حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سألت جبريل أي الأجلين قضى موسى قال أتمهما وأكملهما " ورواه ابن أبي حاتم عن
أبيه عن الحميدي عن سفيان وهو ابن عيينة حدثني إبراهيم بن يحيى بن أبي يعقوب وكان من أسناني أو أصغر مني
فذكره. وفي إسناده قلب وإبراهيم هذا ليس بمعروف. ورواه البزار عن أحمد بن أبان القرشي عن سفيان بن عيينة عن
إبراهيم بن أعين عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ثم قال لا نعرفه مرفوعا عن ابن عباس
إلا من هذا الوجه. ثم قال ابن أبي حاتم قرئ على يونس بن عبد الاعلى أنبأنا ابن وهب أنبأنا عمرو بن الحارث عن
397

يحيى بن ميمون الحضرمي عن يوسف بن تيرح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى موسى؟ قال: " لا علم لي "
فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال جبريل لا علم لي فسأل جبريل ملكا فوقه فقال لا علم لي فسأل ذلك الملك ربه عز وجل
عما سأله عنه جبريل عما سأله عنه محمد صلى الله عليه وسلم فقال الرب عز وجل قضى أبرهما وأبقاهما أو قال أزكاهما. وهذا مرسل وقد
جاء مرسلا من وجه آخر وقال سنيد حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال مجاهد إن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل أي الأجلين
قضى موسى؟ فقال سوف أسأل إسرافيل فسأله فقال سوف أسأل الرب عز وجل فسأله فقال أبرهما وأوفاهما (طريق
أخرى مرسلة أيضا) قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب القرظي قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أي الأجلين قضى موسى قال: " أوفاهما وأتمهما " فهذه طرق متعاضدة ثم قد روي هذا مرفوعا من رواية أبي ذر رضي
الله عنه قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا أبو عبيد الله يحيى بن محمد بن السكن حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا عويذ بن أبي
عمران الجوني عن أبيه عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأجلين قضى
موسى؟ قال: " أوفاهما وأبرهما قال وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما " ثم قال البزار لا نعلم يروي عن
أبي ذر إلا بهذا الاسناد. وقد رواه ابن أبي حاتم من حديث عويذ بن أبي عمران وهو ضعيف ثم قد روي أيضا نحوه من
حديث عتبة بن المنذر بزيادة غريبة جدا فقال أبو بكر البزار حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني حدثنا يحيى بن بكير حدثنا
ابن لهيعة حدثنا الحارث بن يزيد عن علي بن رباح اللخمي قال سمعت عتبة بن المنذر يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي
الأجلين قضى موسى قال: " أبرهما وأوفاهما " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن موسى عليه السلام لما أراد فراق شعيب عليه
السلام أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه في ذلك العام من قالب لون قال
فما مرت شاة إلا ضرب موسى جنبها بعصاه فولدت قوالب ألوان كلها وولدت ثنتين وثلاثا كل شاة ليس فيها فشوش ولا
ضبوب ولا كميشة تفوت الكف ولا ثعول " وقال رسول الله: " إذا فتحتم الشام فإنكم ستجدون بقايا منها وهي السامرية "
هكذا أورده البزار وقد رواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا فقال حدثنا أبو زرعة حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير حدثني
عبد الله بن لهيعة ح وحدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان أنبأنا الوليد أنبأنا عبد الله بن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن
علي بن رباح اللخمي قال سمعت عتبة بن المنذر السلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن
موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه فلما وفى الاجل - قيل يا رسول الله أي الأجلين؟ قال - أبرهما
وأوفاهما فلما أراد فراق شعيب أمر امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به فأعطاها ما ولدت غنمه من
قالب لون من ولد ذلك العام وكانت غنمه سوداء حسناء فانطلق موسى عليه السلام إلى عصاه فسماها من طرفها ثم
وضعها في أدنى الحوض ثم أوردها فسقاها ووقف موسى بإزاء الحوض فلم يصدر منها شاة إلا وضرب جنبها شاة شاة قال
فأتأمت وألبنت ووضعت كلها قوالب ألوان إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش قال يحيى ولا ضبون وقال صفوان ولا
صبونب قال أبو زرعة الصواب طنوب ولا عزوز ولا ثعول ولا كميشة تفوت الكف قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو افتتحتم الشام
وجدتم بقايا تلك الغنم وهي السامرية " وحدثنا أبو زرعة أنبأنا صفوان قال سمعت الوليد قال سألت ابن لهيعة ما
الفشوش؟ قال التي تفش بلبنها واسعة الشخب قلت فما الضبوب قال الطويلة الضرع تجره قلت فما العزوز قال ضيقة
الشخب قلت فما الثعول؟ قال التي ليس لها ضرع إلا كهيئة حلمتين قلت فما الكميشة؟ قال التي تفوت الكف كميشة
الضرع صغير لا يدركه الكف مدار. هذا الحديث على عبد الله بن لهيعة المصري وفي حفظه سوء وأخشى أن يكون
رفعه خطأ والله أعلم. وينبغي أن يروى ليس فيها فشوش ولا عزوز ولا ضبوب ولا ثعول ولا كميشة لتذكر منها صفة ناقصة
ما يقابلها من الصفات الناقصة وقد روى ابن جرير من كلام أنس بن مالك موقوفا عليه ما يقارب بعضه بإسناد جيد فقال
حدثنا محمد بن المثنى حدثنا معاذ بن هشام حدثنا أبي حدثنا قتادة حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال لما دعا نبي الله
موسى عليه السلام صاحبه إلى الاجل الذي كان بينهما قال له صاحبه كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها فعمد
موسى فرفع حبالا على الماء فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة فولدن كلهن بلقا إلا شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن
ذلك العام.
398

* فلما قضى موسى الاجل وسار بأهله أنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني انست نارا لعلى
آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (29) فلما آتيها نودي من شطئ الواد الأيمن في البقعة
المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العلمين (30) وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا
ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين (31) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء
واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهان من ربك إلى فرعون وملأه إنهم كانوا قوما فاسقين (32)
قد تقدم في تفسير الآية قبلها أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما وأنقاهما وقد يستفاد
هذا أيضا من الآية الكريمة حيث قال تعالى (فلما قضى موسى الاجل) أي الأكمل منهما والله أعلم وقال ابن أبي نجيح
عن مجاهد قضى عشر سنين وبعدها عشرا أخر وهذا القول لم أره لغيره وقد حكاه عنه ابن أبي حاتم وابن جرير فالله
أعلم وقوله: (وسار بأهله) قالوا كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله فعزم على زيارتهم في خفية من فرعون وقومه
فتحمل بأهله وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة فنزل منزلا فجعل كلما
أورى زنده لا يضئ شيئا فتعجب من ذلك فبينما هو كذلك (آنس من جانب الطور نارا) أي رأى نارا تضئ له على
بعد (فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا) أي حتى أذهب إليها (لعلي آتيكم منها بخبر وذلك لأنه قد أضل الطريق
(أو جذوة من النار) أي قطعة منها (لعلكم تصطلون) أي تستدفئون بها من البرد قال الله تعالى: (فلما أتاها نودي
من شاطئ الوادي الأيمن) أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب كما قال تعالى: (وما
كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر) فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة والجبل الغربي
عن يمينه والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي فوقف باهتا في أمرها فناداه ربه
(من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة) قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو معاوية عن الأعمش
عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: رأيت الشجرة التي نودي منها موسى عليه السلام سمرة خضراء ترف
إسناده مقارب وقال محمد بن إسحاق عن بعض من لا يتهم عن وهب بن منبه قال: شجرة من العليق وبعض أهل
الكتاب يقول إنها من العوسج وقال قتادة هي من العوسج وعصاه من العوسج وقوله تعالى: (أن يا موسى إني أنا الله
رب العالمين) أي الذي يخاطبك ويكلمك هو رب العالمين الفعال لما يشاء لا إله غيره ولا رب سواه تعالى وتقدس
وتنزه عن مماثلة المخلوقات في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله سبحانه. وقوله: (وأن ألق عصاك) أي التي في يدك كما
قرره على ذلك في قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها علي غنمي ولي فيها
مآرب أخرى) والمعنى أما هذه عصاك التي تعرفها (ألقها فألقاها فإذا هي حية تسعى) فعرف وتحقق أن الذي يكلمه
ويخاطبه هو الذي يقول للشئ كن فيكون كما تقدم بيان ذلك في سورة طه: وقال ههنا (فلما رآها تهتز) أي تضطرب
(كأنها جان ولى مدبرا) أي في حركتها السريعة مع عظم خلقتها وقوائمها واتساع فمها واصطكاك أنيابها وأضراسها
بحيث لا تمر بصخرة إلا ابتلعتها تنحدر في فيها تتقعقع كأنها حادرة في واد فعند ذلك (ولى مدبرا ولم يعقب) أي ولم
يكن يلتفت لان طبع البشرية ينفر من ذلك فلما قال الله له (يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين) رجع فوقف في
مقامه الأول ثم قال الله تعالى: (اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) أي إذا أدخلت يدك في جيب درعك
ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ولهذا قال: (من غير سوء) أي من غير برص وقوله
تعالى: (واضمم إليك جناحك من الرهب) قال مجاهد من الفزع وقال قتادة من الرعب وقال عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم وابن جرير مما حصل لك من خوفك من الحية والظاهر أن المراد أعم من هذا وهو أنه أمر عليه السلام إذا
خاف من شئ أن يضم إليه جناحه من الرهب وهو يده فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف وربما إذا استعمل
399

أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده فإنه يزول عنه ما يجده أو يخف إن شاء الله تعالى وبه الثقة. قال ابن
أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا الربيع بن تغلب الشيخ صالح أخبرنا أبو إسماعيل المؤدب عن عبد الله بن مسلم
عن مجاهد قال: كان موسى عليه السلام قد ملئ قلبه رعبا من فرعون فكان إذا رآه قال: اللهم إني أدرأ بك في نحره
وأعوذ بك من شره فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام وجعله في قلب فرعون فكان إذا رآه بال كما يبول
الحمار. وقوله تعالى: (فذانك برهانان من ربك) يعني إلقاء العصا وجعلها حية تسعى وإدخاله يده في جيبه
فتخرج بيضاء من غير سوء دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه
ولهذا قال تعالى: (إلى فرعون وملئه) أي وقومه من الرؤساء والكبراء والاتباع (إنهم كانوا قوما فاسقين) أي
خارجين عن طاعة الله مخالفين لامره ودينه.
قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون (33) وأخي هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي ردءا
يصدقني إني أخاف أن يكذبون (34) قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطنا فلا يصلون اليكما بآياتنا أنتما ومن أتبعكما الغالبون (35)
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون الذي إنما خرج من ديار مصر فرارا منه وخوفا من سطوته (قال رب إني قتلت
منهم نفسا) يعني ذلك القبطي (فأخاف أن يقتلون) أي إذا رأوني (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا) وذلك أن
موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة حين خير بينها وبين التمرة أو الدرة فأخذ الجمرة
فوضعها على لسانه فحصل فيه شدة في التعبير ولهذا قال: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا
من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) أي يؤنسني فيما أمرتني به من هذا المقام العظيم وهو القيام
بأعباء النبوة والرسالة إلى هذا الملك المتكبر الجبار العنيد ولهذا قال: (وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي
ردءا) أي وزيرا ومعينا ومقويا لامري يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عز وجل لان خبر الاثنين أنجع في النفوس من
خبر الواحد ولهذا قال: (إني أخاف أن يكذبون) وقال محمد بن إسحاق (ردءا يصدقني) أي يبين لهم عني ما
أكلمهم به فإنه يفهم عني ما لا يفهمون فلما سأل ذلك موسى قال الله تعالى: (سنشد عضدك بأخيك) أي سنقوي
أمرك ونعز جانبك بأخيك الذي سألت له أن يكون نبيا معك كما في الآية الأخرى (قد أوتيت سؤلك يا موسى) وقال
تعالى: (ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا) ولهذا قال بعض السلف ليس أحد أعظم منة على أخيه من موسى على
هارون عليهما السلام فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه ولهذا قال تعالى في حق موسى
(وكان عند الله وجيها) وقوله تعالى: (ونجعل لكما سلطانا) أي حجة قاهرة (فلا يصلون إليكما بآياتنا) أي لا
سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله كما قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من
ربك - إلى قوله - والله يعصمك من الناس) وقال تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله - إلى قوله وكفى بالله حسيبا)
أي وكفى بالله ناصرا ومعينا ومؤيدا ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة فقال تعالى: (أنتما
ومن أتبعكما الغالبون) كما قال تعالى: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز) وقال تعالى: (إنا لننصر
رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا) إلى آخر الآية ووجه ابن جرير على أن المعنى ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون
إليكما ثم يبتدئ فيقول: (بآياتنا أنتما ومن أتبعكما الغالبون) تقديره أنتما ومن أتبعكما الغالبون بآياتنا ولا شك أن
هذا المعنى صحيح وهو حاصل من التوجيه الأول فلا حاجة إلى هذا والله أعلم.
فلما جاءهم موسى بآياتنا بينت قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا فئ ابائنا الأولين (36) وقال
موسى ربى أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون (37)
400

يخبر تعالى عن مجئ موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة
على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عز وجل من توحيده واتباع أوامره فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه
وأيقنوا أنه من عند الله عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق فقالوا: (ما
هذا إلا سحر مفترى) أي مفتعل مصنوع وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه فما صعد معهم ذلك وقوله: (وما سمعنا
بهذا في آبائنا الأولين) يعنون عبادة الله وحده لا شريك له يقولون ما رأينا أحدا من آبائنا على هذا الدين ولم نر
الناس إلا يشركون مع الله آلهة أخرى. فقال موسى مجيبا لهم (ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده)
يعني مني ومنكم وسيفصل بيني وبينكم ولهذا قال: (ومن تكون له عاقبة الدار) أي من النصرة والظفر والتأييد (إنه
لا يفلح الظالمون) أي المشركون بالله عز وجل.
وقال فرعون يا أيها الملا ما عملت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلى أطلع إلى
إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين (38) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا
يرجعون (39) فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون
إلى النار ويوم القيمة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيمة هم من المقبوحين (42)
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعواه الإلهية لنفسه القبيحة لعنه الله كما قال الله تعالى: (فاستخف
قومه فأطاعوه) الآية وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ولهذا
قال: (يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري) وقال تعالى إخبارا عنه (فحشر فنادى فقال أنا ربكم الاعلى *
فأخذه الله نكال الآخرة والأولى * إن في ذلك لعبرة لمن يخشى) يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحا
لهم بذلك فأجابوه سامعين مطيعين ولهذا انتقم الله تعالى منه فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة وحتى أنه واجه موسى
الكليم بذلك فقال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) وقوله: (فأوقد لي يا هامان على الطين
فاجعل صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى) يعني أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين يعني
يتخذ له آجرا لبناء الصرح وهو القصر المنيف الرفيع العالي كما قال في الآية الأخرى (وقال فرعون يا هامان ابن لي
صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد
عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب) وذلك لان فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه إنما أراد
بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ولهذا قال: (وإني لأظنه من الكاذبين) أي في
قوله إن ثم ربا غيري لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا فإنه قال: (وما رب
العالمين) وقال: (لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) وقال: (يا أيها الملا ما علمت لكم من إله
غيري) وهذا قول ابن جرير. وقوله تعالى: (واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون)
أي طغوا وتجبروا وأكثروا في الأرض الفساد واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد (فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك
لبالمرصاد). ولهذا قال تعالى ههنا (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم) أي أغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم
يبق سهم أحد (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين * وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) أي لمن سلك وراءهم وأخذ
بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع (ويوم القيامة لا ينصرون) أي فاجتمع عليهم خزي الدنيا موصولا بذل
الآخرة كما قال تعالى: (أهلكناهم فلا ناصر لهم). وقوله تعالى: (وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة) أي وشرع الله
لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عباده المتبعين لرسله كما أنهم في الدنيا ملعونون على ألسنة الأنبياء
وأتباعهم كذلك (ويوم القيامة هم من المقبوحين) قال قتادة: وهذه الآية كقوله تعالى: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم
القيامة بئس الرفد المرفود).
401

ولقد آتينا موسى الكتب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم
يتذكرون (43)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم من إنزال التوراة عليه
بعدما أهلك فرعون وملاه. وقوله تعالى: (من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة
بعامة بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين كما قال تعالى: (وجاء فرعون ومن قبله والمؤتفكات
بالخاطئة * فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية) وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن عبد الوهاب قالا
حدثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال ما أهلك الله قوما بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت
التوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى ثم قرأ (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا
القرون الأولى) الآية ورواه ابن أبي حاتم من حديث عوف بن أبي حبيبة الاعرابي بنحوه وهكذا رواه أبو بكر البزار في
مسنده عن عمرو بن علي الفلاس عن يحيى القطان عن عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد موقوفا ثم رواه عن نصر بن
علي عن عبد الاعلى عن عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما أهلك الله قوما بعذاب من
السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى " ثم قرأ: (ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) الآية.
وقوله: (بصائر للناس وهدى ورحمة) أي من العمى والغي وهدى إلى الحق ورحمة أي إرشادا إلى العمل الصالح
(لعلهم يتذكرون) أي لعل الناس يتذكرون به ويهتدون بسببه.
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر وما كنت من الشاهدين (44) ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم
العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا
ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتيهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46) ولولا أن تصيبهم مصيبة بما
قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين (47)
يقول تعالى منبها على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أخبر بالغيوب الماضية خبرا كأن سامعه شاهد وراء لما تقدم وهو رجل
أمي لا يقرأ شيئا من الكتب نشأ بين قوم لا يعرفون شيئا من ذلك كما أنه لما أخبره عن مريم وما كان من أمرها قال
تعالى: (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) الآية أي وما كنت حاضرا
لذلك ولكن الله أوحاه إليك وهكذا لما أخبره عن نوح وقومه وما كان من إنجاء الله له وإغراق قومه ثم قال تعالى:
(تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) الآية وقال في
آخر السورة (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك) وقال بعد ذكر قصة يوسف (ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت
لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون) الآية وقال في سورة طه (كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق) الآية وقال
ههنا بعدما أخبر عن قصة موسى من أولها إلى آخرها وكيف كان ابتداء إيحاء الله إليه وتكليمه له (وما كنت بجانب
الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر) يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلم الله موسى من الشجرة التي
هي شرقية على شاطئ الوادي (وما كنت من الشاهدين) لذلك ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ليكون
حجة وبرهانا على قرون قد تطاول عهدها ونسوا حجج الله عليهم وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى: (وما
كنت ثاويا في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا) أي وما كنت مقيما في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا حين أخبرت عن نبيها
شعيب وما قال لقومه وما ردوا عليه (ولكنا كنا مرسلين) أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك وأرسلناك إلى الناس رسولا.
(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) قال أبو عبد الرحمن النسائي في التفسير من سننه أخبرنا علي بن حجر أخبرنا
عيسى بن يونس عن حمزة الزيات عن الأعمشي عن علي بن مدرك عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه (وما
402

كنت بجانب الطور إذ نادينا) قال نودوا أن: يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأجبتكم قبل أن تدعوني وهكذا رواه
ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث جماعة عن حمزة وهو ابن حبيب الزيات عن الأعمش ورواه ابن جرير من حديث
وكيع ويحيى بن عيسى عن الأعمش عن علي بن مدرك عن أبي زرعة وهو ابن عمرو بن جرير أنه قال ذلك من كلامه والله
أعلم.
وقال مقاتل بن حيان (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) أمتك في أصلاب آبائهم أن يؤمنوا بك إذا بعثت وقال قتادة
(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) موسى وهذا والله أعلم أشبه بقوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى
موسى الامر) ثم أخبر ههنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء كما قال تعالى: (وإذ نادى ربك موسى) وقال
تعالى: (إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى) وقال تعالى: (وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا) وقوله
تعالى: (ولكن رحمة من ربك) أي ما كنت مشاهدا لشئ من ذلك ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه
بك وبالعباد بإرسالك إليهم (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون) أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من
الله عز وجل (ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) الآية أي وأرسلناك إليهم
لتقيم عليهم الحجة ولينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير كما قال
تعالى بعد ذكره إنزال كتابه المبارك وهو القرآن (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم
لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة) وقال تعالى:
(رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وقال تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم
رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير) الآية والآيات في هذا
كثيرة.
فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتى مثل ما أوتى موسى أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل قالوا
سحران تظهرا وقالوا إنا بكل كافرون (48) قل فأتوا بكتب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم
صادقين (49) فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هويه بغير هدى من الله
إن الله لا يهدى القوم الظالمين (50) * ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون (51)
يقول تعالى مخبرا عن القوم الذين لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول أنهم لما جاءهم الحق
من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قالوا على وجه التعنت والعناد والكفر والجهل والالحاد (لولا أوتي مثل ما أوتي موسى)
الآية يعنون والله أعلم من الآيات الكثيرة مثل العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وتنقيص الزروع
والثمار مما يضيق على أعداء الله وكفلق البحر وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة
والحجج القاهرة التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهانا له على فرعون وملئه وبني
إسرائيل ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه بل كفروا بموسى وأخيه هارون كما قالوا لهما (أجئتنا لتلفتنا عما
وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين) وقال تعالى: (فكذبوهما فكانوا من
المهلكين) ولهذا قال ههنا (أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل) أي أو لم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك
الآيات العظيمة (قالوا ساحران تظاهرا) أي تعاونا (وقالوا إنا بكل كافرون) أي بكل منهما كافرون ولشدة التلازم
والتصاحب والمقاربة بين موسى وهارون دل ذكر أحدهما على الآخر كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
403

أي فما أدرى يليني الخير أو الشر. قال مجاهد: أمرت اليهود قريشا أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك فقال الله (أو لم يكفروا بما أوتي
موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا) قال يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم (تظاهرا) أي تعاونا وتناصرا وصدق كل
منها الآخر وبهذا قال سعيد بن جبير وأبو رزين في قوله (ساحران) يعنون موسى وهارون وهذا قول جيد قوي والله أعلم وقال
مسلم بن يسار عن ابن عباس (قالوا ساحران تظاهرا) قال يعنون موسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم وهذا رواية الحسن
البصري. وقال الحسن وقتادة. يعني عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذا فيه بعد لان عيسى لم يجر له ذكر ههنا والله
أعلم. وأما من قرأ (سحران تظاهرا) فقال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس يعنون التوراة والقرآن وكذا قال عاصم
الجندي والسدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال السدي: يعني صدق كل واحد منهما الآخر وقال عكرمة: يعنون
التوراة والإنجيل وهو رواية عن أبي زرعة واختاره ابن جرير. وقال الضحاك وقتادة: الإنجيل والقرآن والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب والظاهر على قراءة (سحران) أنهم يعنون التوراة والقرآن لأنه قال بعده (قل فأتوا بكتاب من
عند الله هو أهدى منهما أتبعه) وكثيرا ما يقرن الله بين التوراة والقرآن كما في قوله تعالى: (قل من أنزل الكتاب الذي
جاء به موسى نورا وهدى للناس - إلى أن قال - وهذا كتاب أنزلناه مبارك) وقال في آخر السورة (ثم آتينا موسى الكتاب
تماما على الذي أحسن) الآية وقال: (وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون) وقالت الجن (إنا
سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه) وقال ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. وقد
علم بالضرورة لذوي الألباب أن الله تعالى لم ينزل كتابا من السماء فيما أنزل من الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا
أشمل ولا أفصح ولا أعظم ولا أشرف من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن وبعده في الشرف والعظمة
الكتاب الذي أنزله على موسى بن عمران عليه السلام وهو الكتاب الذي قال الله فيه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور
يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء)
والإنجيل إنما أنزل متمما للتوراة ومحلا لبعض ما حرم على بني إسرائيل ولهذا قال تعالى: (قل فأتوا بكتاب من عند
الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين) أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل قال الله تعالى: (فإن
لم يستجيبوا لك) أي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق (فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) أي بلا دليل ولا
حجة (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله (إن الله لا يهدي القوم
الظالمين). وقوله تعالى: (ولقد وصلنا لهم القول) قال مجاهد فصلنا لهم القول. وقال السدي بينا لهم القول
وقال قتادة: يقول تعالى أخبرهم كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع (لعلهم يتذكرون) قال مجاهد وغيره (وصلنا
لهم) يعني قريشا وهذا هو الظاهر لكن قال حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة عن رفاعة - رفاعة هذا
هو ابن قرظة القرظي وجعله ابن مندة: رفاعة بن شموال خال صفية بنت حيي وهو الذي طلق تميمة بنت وهب التي
تزوجها بعده عبد الرحمن بن الزبير بن باطا كذا ذكره ابن الأثير - قال نزلت (ولقد وصلنا لهم القول) في عشرة أنا
أحدهم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديثه.
الذين آتيناهم الكتب من قبله هم به يؤمنون (52) وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا
كنا من قبل مسلمين (53) أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم
ينفقون (54) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعملنا ولكم أعملكم سلم عليكم لا نبتغي الجهلين (55)
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن كما قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق
تلاوته أولئك يؤمنون به) وقال تعالى: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين
لله) وقال تعالى: (إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان
وعد ربنا لمفعولا) وقال تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى - إلى قوله - فاكتبنا مع
404

الشاهدين) قال سعيد بن جبير نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم
(يس والقرآن الحكيم) حتى ختمها فجعلوا يبكون وأسلموا ونزلت فيهم هذه الآية الأخرى (الذين آتيناهم الكتاب
من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) يعني من قبل هذا القرآن
كنا مسلمين أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له. قال الله تعالى: (أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا) أي
هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين آمنوا بالكتاب الأول ثم بالثاني ولهذا قال: (بما صبروا) أي على اتباع الحق فإن
تجشم مثل هذا شديد على النفوس. وقد ورد في الصحيح من حديث عامر الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن
بي وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه ورجل كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها ". وقال الإمام أحمد
حدثنا يحيى بن إسحاق السيلحيني حدثنا ابن لهيعة عن سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي أمامة قال:
إني لتحت راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح فقال قولا حسنا جميلا وقال فيما قال: " من أسلم من أهل الكتابين فله أجره
مرتين وله مالنا وعليه ما علينا " وقوله تعالى: (ويدرءون بالحسنة السيئة) أي لا يقابلون السئ بمثله ولكن يعفون
ويصفحون (ومما رزقناهم ينفقون) أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في النفقات الواجبة
لأهليهم وأقاربهم والزكاة المفروضة والمستحبة من التطوعات وصدقات النفل والقربات وقوله تعالى: (وإذا سمعوا
اللغو أعرضوا عنه) أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم بل كما قال تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما) (وقالوا
لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) أي إذا سفه عليهم سفيه وكلمهم بما لا يليق بهم الجواب
عنه أعرضوا عنه ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ولا يصدر عنهم إلا كلام طيب ولهذا قال عنهم إنهم قالوا: (لنا
أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين) أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها. قال محمد بن إسحاق
في السيرة ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من
الحبشة فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة فلما فرغوا من مسألة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم
استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره فلما قاموا عنه أعترضهم أبو جهل بن
هشام في نفر من قريش فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر
الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا لهم فقالوا
لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا. قال ويقال إن النفر النصارى من
أهل نجران فالله أعلم أي ذلك كان. قال ويقال والله أعلم أن فيهم نزلت هذه الآيات (الذين أتيناهم الكتاب من قبله
هم به يؤمنون - إلى قوله - لا نبتغي الجاهلين) قال وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت قال ما زلت أسمع من
علمائنا أنهن في النجاشي وأصحابه رضي الله عنهم والآيات اللاتي في سورة المائدة (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا -
إلى قوله - فاكتبنا مع الشاهدين).
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56) وقالوا إن نتبع الهدى معك
نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شئ رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا
يعلمون (57)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إنك يا محمد (لا تهدي من أحببت) أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء
وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء). وقال تعالى:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وهذه الآية أخص من هذا كله فإنه قال: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله
405

يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها
نزلت في أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في صفه ويحبه حبا شديدا طبعيا لا شرعيا فلما
حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الايمان والدخول في الاسلام فسبق القدر فيه واختطف من يده فاستمر
على ما كان عليه من الكفر ولله الحكمة التامة. قال الزهري حدثني سعيد بن المسيب عن أبيه وهو المسيب بن حزن
المخزومي رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام
وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله " فقال أبو
جهل وعبد الله بن أبي أمية يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان له
بتلك المقالة حتى كان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله
لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " فأنزل الله تعالى: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي
قربى) وأنزل في أبي طالب (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) أخرجاه من حديث الزهري وهكذا
رواه مسلم في صحيحه والترمذي من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: لما حضرت وفاة أبي
طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا عماه قل إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة " فقال لولا أن تعيرني بها قريش
يقولون ما حمله عليه إلا جزع الموت لاقررت بها عينك لا أقولها إلا لأقر بها عينك نزل الله تعالى (إنك لا تهدي من
أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين) وقال الترمذي حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن
كيسان، ورواه الإمام أحمد عن يحيى بن سعيد القطان عن يزيد بن كيسان حدثني أبو حازم عن أبي هريرة فذكره بنحوه
وهكذا قال ابن عباس وابن عمر ومجاهد والشعبي وقتادة إنها نزلت في أبي طالب حين عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول
لا إله إلا الله فأبى عليه ذلك وقال أي ابن أخي ملة الأشياخ وكان آخر ما قاله هو على ملة عبد المطلب، وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة حدثنا عبد الله بن عثمان بن خيثم عن سعيد بن أبي راشد قال كان رسول
قيصر جاء إلي قال كتب معي قيصر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فأتيته فدفعت الكتاب فوضعه في حجره ثم قال: " ممن
الرجل؟ " قلت من تنوخ قال: " هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية؟ " قلت إني رسول قوم وعلى دينهم حتى أرجع
إليهم فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونظر إلى أصحابه وقال: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " وقوله
تعالى: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) يقول تعالى مخبرا عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع
الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا) أي نخشى إن اتبعنا ما جئت به من
الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين أن يقصدونا بالأذى والمحاربة ويتخطفونا أينما كنا قال الله تعالى
مجيبا لهم (أو لم نمكن لهم حرما آمنا) يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل لان الله تعالى جعلهم في بلد أمين
وحرم معظم آمن منذ وضع فكيف يكون هذا الحرم آمنا لهم في حال كفرهم وشركهم ولا يكون آمنا لهم وقد أسلموا
وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى: (يجبى إليه ثمرات كل شئ) أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره وكذلك
المتاجر والأمتعة (رزقا من لدنا) أي من عندنا (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ولهذا قالوا ما قالوا وقد قال النسائي أنبأنا
الحسن بن محمد حدثنا حجاج عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة قال: قال عمرو بن شعيب عن ابن عباس ولم
يسمعه منه أن الحارث بن عامر بن نوفل الذي قال: (إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا).
وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مسكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين (58) وما كان
ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون (59)
يقول تعالى معرضا بأهل مكة في قوله تعالى: (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها) أي طغت وأشرت وكفرت نعمة
الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق كما قال في الآية الأخرى (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا
من كل مكان - إلى قوله - فأخذهم العذاب وهم ظالمون) ولهذا قال تعالى: (فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا
406

قليلا) أي دثرت ديارهم فلا ترى إلا مساكنهم وقوله تعالى: (وكنا نحن الوارثين) أي رجعت خرابا ليس فيها أحد
وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا عن ابن مسعود أنه سمع كعبا يقول لعمر: إن سليمان عليه السلام قال للهامة - يعني البومة -
مالك لا تأكلين الزرع؟ قالت: لأنه أخرج آدم من الجنة بسببه، قال فما لك لا تشربين الماء؟ قالت أن الله تعالى أغرق
قوم نوح به، قال فمالك لا تأوين إلا إلى الخراب؟ قالت لأنه ميراث الله تعالى ثم تلا (وكنا نحن الوارثين) ثم قال
تعالى مخبرا عن عدله وأنه لا يهلك أحدا ظالما له وإنما يهلك من أهلك بعد قيام الحجة عليهم ولهذا قال: (وما كان
ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها) وهي مكة (رسولا يتلوا عليهم آياتنا) فيه دلالة على أن النبي الأمي وهو محمد
صلى الله عليه وسلم المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام كما قال تعالى: (لتنذر أم القرى ومن حولها)
وقال تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) وقال: (لأنذركم به ومن بلغ) وقال: (ومن يكفر به
من الأحزاب فالنار موعده) وتمام الدليل قوله تعالى: (وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا
شديدا) فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة وقد قال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) فجعل
تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها وثبت في الصحيحين عنه
صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: " بعثت إلى الأحمر والأسود " ولهذا ختم به النبوة والرسالة فلا نبي بعده ولا رسول بل
شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة وقيل المراد بقوله: (حتى يبعث في أمها رسولا) أي أصلها وعظيمتها
كأمهات الرساتيق والأقاليم، حكاه الزمخشري وابن الجوزي وغيرهما وليس ببعيد.
وما أوتيتم من شئ فمتع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون (60) أفمن وعدنه وعدا
حسنا فهو لقيه كمن متعناه متع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيمة من المحضرين (61)
يقول تعالى مخبرا عن حقارة الدنيا وما فيها من ا لزينة الدنيئة والزهرة الفانية بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في
الدار الآخرة من النعيم العظيم المقيم كما قال تعالى: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) وقال: (وما عند الله خير
للأبرار) وقال: (وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) وقال تعالى: (بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير
وأبقى) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر ماذا يرجع
إليه " وقوله تعالى: (أفلا تعقلون) أي أفلا يعقل من يقدم الدنيا على الآخرة. وقوله تعالى: (أفمن وعدناه وعدا
حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدينا ثم هو يوم القيامة من المحضرين) يقول تعالى أفمن هو مؤمن مصدق بما
وعده الله على صالح الأعمال من الثواب الذي هو صائر إليه لا محالة كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده فهو
ممتع في الحياة الدنيا أياما قلائل (ثم هو يوم القيامة من المحضرين) قال مجاهد وقتادة من المعذبين ثم قد قيل إنها
نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. وقيل في حمزة وعلي وأبي جهل وكلاهما عن مجاهد والظاهر أنها عامة وهذا
كقوله تعالى إخبارا عن ذلك المؤمن حين أشرف على صاحبه وهو في الدرجات وذاك في الدركات فقال: (ولولا نعمة
ربي لكنت من المحضرين) وقال تعالى: (ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون).
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين تزعمون (62) قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا
أغوينه كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون (63) وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم
ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون (64) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين (65) فعميت عليهم الانباء
يومئذ فهم لا يتساءلون (66) فأما من تاب وآمن وعمل صلحا فعسى أن يكون من المفلحين (67)
يقول تعالى مخبرا عما يوبخ به الكفار المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول: (أين شركائي الذين كنتم
407

تزعمون) يعني أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدار الدنيا من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون،
وهذا على سبيل التقريع والتهديد كما قال تعالى: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم
وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتهم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم
تزعمون). وقوله: (قال الذين حق عليهم القول) يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر (ربنا هؤلاء
الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم ثم تبرؤا
من عبادتهم كما قال تعالى: (واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم
ضدا) وقال تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم
غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين) وقال الخليل عليه السلام لقومه (إنما
اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا)
الآية وقال الله تعالى: (إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب - إلى قوله - وما
هم بخارجين من النار) ولهذا قال: (وقيل ادعوا شركاءكم) أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم
في الدار الدنيا (فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب) أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة. وقوله:
(لو أنهم كانوا يهتدون) أي فودوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدار الدنيا وهذا كقوله تعالى:
(ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا * ورأى المجرمون النار
فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا). وقوله: (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) النداء
الأول عن سؤال التوحيد وهذا فيه إثبات النبوات ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم وكيف كان حالكم معهم وهذا
كما يسأل العبد في قبره. من ربك ومن نبيك وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله وأما الكافر فيقول هاه هاه لا أدري ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكون لان من كان في هذه أعمى
فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا. ولهذا قال تعالى: (فعميت عليهم الانباء يومئذ فهم لا يتساءلون) قال مجاهد
فعميت عليهم الحجج فهم لا يتساءلون بالانساب. وقوله: (فأما من تاب وآمن وعمل صالحا) أي في الدنيا
(فعسى أن يكون من المفلحين) أي يوم القيامة وعسى من الله موجبة فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة.
وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحن الله وتعلى عما يشركون (68) وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون (69) وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم واليه ترجعون (70)
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والاختيار وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء
ويختار) أي ما يشاء فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه. وقوله: (ما كان
لهم الخيرة) نفي على أصح القولين كقوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم) وقد اختار ابن جرير أن (ما) ههنا بمعنى الذي تقديره: ويختار الذي لهم فيه خيرة وقد احتج
بهذا المسلك طائفة المعتزلة على وجوب مراعاة الأصلح والصحيح أنها نافية كما نقله ابن أبي حاتم عن ابن عباس
وغيره أيضا فإن المقام في بيان انفراده تعالى بالخلق والتقدير والاختيار وأنه لا نظير له في ذلك ولهذا قال: (سبحان الله
وتعالى عما يشركون) أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئا ثم قال تعالى: (وربك يعلم ما تكن
صدورهم وما يعلنون) أي يعلم ما تكن الضمائر وما تنطوي عليه السرائر كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر
الخلائق (سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار). وقوله: (وهو الله لا إله
إلا هو) أي هو المنفرد بالإلهية فلا معبود سواه كما لا رب يخلق ما يشاء ويختار سواه (له الحمد في الأولى
والآخرة) أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته (وله الحكم) أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته
408

وحكمته ورحمته (وإليه ترجعون) أي جميعكم يوم القيامة فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر ولا يخفى عليه منهم
خافية في سائر الأعمال.
قل أرءيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (71) قل
أرءيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيمة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا
تبصرون (72) ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (73)
يقول تعالى ممتنا على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما وبين أنه لو جعل الليل دائما عليهم
سرمدا إلى يوم القيامة لاضر ذلك بهم ولسأمته النفوس وانحصرت منه ولهذا قال تعالى: (من إله غير الله يأتيكم
بضياء) أي تبصرون به وتستأنسون بسببه (أفلا تسمعون) ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار سرمدا أي دائما مستمرا
إلى يوم القيامة لاضر ذلك بهم ولتعبت الأبدان وكلت من كثرة الحركات والاشغال ولهذا قال تعالى: (من إله غير الله
يأتيكم بليل تسكنون فيه) أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم (أفلا تبصرون * ومن رحمته) أي بكم (جعل
لكم الليل والنهار) أي خلق هذا وهذا (لتسكنوا فيه) أي في الليل (ولتبتغوا من فضله) أي في النهار بالاسفار
والترحال والحركات والاشغال وهذا من باب اللف والنشر. وقوله: (ولعلكم تشكرون) أي تشكرون الله بأنواع
العبادات في الليل والنهار ومن فاته شئ بالليل استدركه بالنهار أو بالنهار استدركه بالليل كما قال تعالى: (وهو الذي
جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) والآيات في هذا كثيرة.
ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون (74) ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا إن الحق
لله وضل عنهم ما كانوا يفترون (75) *
وهذا أيضا نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد مع الله إلها آخر يناديهم الرب تعالى على رؤوس الاشهاد
فيقول. (أين شركائي الذين كنتم تزعمون) أي في دار الدنيا (ونزعنا من كل أمة شهيدا) قال مجاهد: يعني رسولا
(فقلنا هاتوا برهانكم) أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء (فعلموا أن الحق لله) أي لا إله غيره فلم ينطقوا
ولا يحيروا جوابا (وضل عنهم ما كانوا يفترون) أي ذهبوا فلم ينفعوهم.
إن قرون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ
قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين (76) وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا
وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين (77)
قال الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعد بن جبير عن ابن عباس قال: (إن قارون كان من قوم موسى) قال كان
ابن عمه وهكذا قال إبراهيم النخعي وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسماك بن حرب وقتادة ومالك بن دينار وابن جريج
وغيرهم أنه كان ابن عم موسى عليه السلام. قال ابن جريج هو قارون بن يصهب بن قاهث وموسى بن عمران بن قاهث
وزعم محمد بن إسحاق بن يسار أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام. قال ابن جريج وأكثر أهل العلم على
أنه كان ابن عمه والله أعلم وقال قتادة بن دعامة كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة
ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري فأهلكه البغي لكثرة ماله: وقال شهر بن حوشب زاد في ثيابه شبرا طولا ترفعا على
قومه. وقوله: (وآتيناه من الكنوز) أي الأموال (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) أي ليثقل حملها الفئام من
409

الناس لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود كل مفتاح مثل الإصبع كل مفتاح على خزانة
على حدته فإذا ركب حملت على ستين بغلا أغر محجلا وقيل غير ذلك والله أعلم. وقوله: (إذ قال له قومه لا تفرح إن
الله لا يحب الفرحين) أي وعظه فيما هو فيه صالح قومه فقالوا على سبيل النصح والارشاد: لا تفرح بما أنت فيه يعنون
لا تبطر بما أنت فيه من المال (إن الله لا يحب الفرحين) قال ابن عباس يعني المرحين وقال مجاهد يعني الأشرين
البطرين الذين لا يشكرون الله على ما أعطاهم. وقوله: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا)
أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل
لك بها الثواب في الدنيا والآخرة (ولا تنس نصيبك من الدنيا) أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس
والمساكن والمناكح فإن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا ولزورك عليك حقا فلت كل ذي حق
حقه (وأحسن كما أحسن الله إليك) أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك (ولا تبغ الفساد في الأرض) أي لا
تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسئ إلى خلق الله (إن الله لا يحب المفسدين).
قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبه من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر
جمعا ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون (78)
يقول تعالى مخبرا عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير (قال إنما أوتيته على علم عندي)
أي أنا لا أفتقر إلى ما تقولون فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني أستحقه ولمحبته لي فتقديره إنما
أعطيته لعلم الله في أني أهل له وهذا كقوله تعالى: (وإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما
أوتيته على علم) أي على علم من الله بي وكقوله تعالى (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا
لي) أي هذا أستحقه. وقد روي عن بعضهم أنه أراد (إنما أوتيته على علم عندي) أي أنه كان يعاني علم
الكيمياء وهذا القول ضعيف لان علم الكيمياء في نفسه علم باطل لان قلب الأعيان لا يقدر أحد عليها إلا الله عز
وجل قال الله تعالى: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو
اجتمعوا له) وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة
فليخلقوا شعيرة " وهذا ورد في المصورين الذين يشبهون بخلق الله في مجرد الصورة الظاهرة أو الشكل فكيف
بمن يدعي أنه يحيل ماهية هذه الذات إلى ماهية ذات أخرى هذا زور ومحال وجهل وضلال وإنما يقدرون
على الصبغ في الصورة الظاهرة وهي كذب وزغل وتمويه وترويج أنه صحيح في نفس الامر وليس كذلك قطعا لا
محالة ولم يثبت بطريق شرعي أنه صح مع أحد من الناس من هذه الطريقة التي يتعاطاها هؤلاء الجهلة الفسقة
الأفاكون فأما ما يجريه الله سبحانه من خرق العوائد على يدي بعض الأولياء من قلب بعض الأعيان ذهبا أو فضة أو
نحو ذلك فهذا أمر لا ينكره مسلم ولا يرده مؤمن ولكن هذا ليس من قبيل الصناعات وإنما هذا عن مشيئة رب
الأرض والسماوات واختياره وفعله كما روي عن حياة بن شريح المصري رحمه الله أنه سأله سائل فلم يكن عنده ما
يعطيه ورأى ضرورته فأخذ حصاة من الأرض فأجالها في كفه ثم ألقاها إلى ذلك السائل فإذا هي ذهب أحمر.
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدا يطول ذكرها وقال بعضهم إن قارون كان يعرف الاسم الأعظم فدعا الله به
فتمول بسببه. والصحيح المعنى الأول ولهذا قال الله تعالى رادا عليه فما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من
المال (أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) أي قد كان من هو أكثر
منه مالا وما كان ذلك عن محبة منا له وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ولهذا قال (ولا يسأل عن
ذنوبهم المجرمون) أي لكثرة ذنوبهم. قال قتادة: (على علم عندي) على خير عندي وقال السدي على
علم أني أهل لذلك. وقد أجاد في تفسير هذه الآية الامام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فإنه قال في قوله: (قال
410

إنما أوتيته على علم عندي) قال لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال وقرأ (أولم يعلم أن الله
قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا) الآية. وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع
الله عليه لولا أن يستحق ذلك لما أعطي.
فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يليت لنا مثل ما أوتى قرون إنه لذو حظ عظيم (79)
وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صلحا ولا يلقيها إلا الصابرون (80)
يقول تعالى مخبرا عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة وتجمل باهر من مراكب وملابس عليه
وعلى خدمه وحشمه فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي
أعطي (قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) أي ذو حظ وافر من الدنيا فلما سمع مقالتهم
أهل العلم النافع (ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا) أي جزاء الله لعباده المؤمنين
الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون. كما في الحديث الصحيح " يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة
أعين جزاء بما كانوا يعملون) وقوله " (ولا يلقاها إلا الصابرون) قال السدي ولا يلقى الجنة إلا الصابرون كأنه
جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم قال ابن جرير ولا يلقى هذه الكلمة إلا الصابرون عن محبة الدنيا
الراغبون في الدار الآخرة وكأنه جعل ذلك مقطوعا من كلام أولئك وجعله من كلام الله عز وجل وإخباره بذلك.
فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين (81) وأصبح
الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا
لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون (82)
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم عقب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض كما
ثبت في الصحيح عند البخاري من حديث الزهري عن سالم أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بينما رجل
يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " ثم رواه من حديث جرير بن زيد عن سالم عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وقال الإمام أحمد حدثنا النضر بن إسماعيل أبو المغيرة القاص حدثنا الأعمش عن
عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال
فيهما أمر الله الأرض فأخذته فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة " تفرد به أحمد وإسناده حسن وقال الحافظ أبو
يعلى الموصلي حدثنا أبو خيثمة حدثنا يعلى بن منصور أخبرني محمد بن مسلم سمعت زياد النميري يحدث عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين فاختال فيهما
فأمر الله الأرض فأخذته فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " وقد ذكر الحافظ محمد بن المنذر في كتاب العجائب
الغريبة بسنده عن نوفل بن مساحق قال رأيت شابا في مسجد نجران فجعلت أنظر إليه وأتعجب من طوله وتمامه
وجماله فقال مالك تنظر إلي؟ فقلت أعجب من جمالك وكمالك. فقال إن الله ليعجب مني قال فما زال ينقص
وينقص حتى صار بطول الشبر فأخذه بعض قرابته في كمه وذهب به.
وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام واختلف في سببه فعن ابن عباس والسدي أن
قارون أعطى امرأة بغيا مالا على أن تبهت موسى بحضرة الملا من بني إسرائيل وهو قائم فيهم يتلو عليهم كتاب
الله تعالى فتقول يا موسى إنك فعلت بي كذا وكذا فلما قالت ذلك في الملا لموسى عليه السلام أرعد من الفرق
وأقبل عليها بعدما صلى ركعتين ثم قال أنشدك بالله الذي فرق البحر وأنجاكم من فرعون وفعل كذا وكذا لما
411

أخبرتني بالذي حملك على ما قلت؟ فقالت أما إذا نشدتني فإن قارون أعطاني كذا وكذا على أن أقول ذلك لك
وأنا أستغفر الله وأتوب إليه فعند ذلك خر موسى لله عز وجل ساجدا وسأل الله في قارون فأوحى الله إليه أن قد
أمرت الأرض أن تطيعك فيه فأمر موسى الأرض أن تبتلعه وداره فكان ذلك. وقيل إن قارون لما خرج على قومه
في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة فمر في محفله ذلك على
مجلس نبي الله موسى عليه السلام وهو يذكرهم بأيام الله فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون
إلى ما هو فيه فدعاه موسى عليه السلام وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال يا موسى أما لئن كنت فضلت
علي بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا ولئن شئت لتخرجن فلتدعون علي وأدعو عليك فخرج موسى وخرج قارون
في قومه فقال موسى عليه السلام تدعو وأدعو أنا؟ فقال بل أدعو أنا فدعا قارون فلم يجب له ثم قال موسى أدعو؟
قال نعم فقال موسى اللهم مر الأرض أن تطيعني اليوم فأوحى الله إليه أني قد فعلت فقال موسى يا أرض خذيهم
فأخذتهم إلى أقدامهم. ثم قال خذيهم فأخذتهم إلى ركبهم ثم إلى مناكبهم ثم قال أقبلي بكنوزهم وأموالهم قال
فأقبلت بها حتى نظروا إليها ثم أشار موسى بيده ثم قال اذهبوا بني لاوي فاستوت بهم الأرض وعن ابن عباس
قال: خسف بهم إلى الأرض السابعة وقال قتادة ذكر لنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة فهم يتجلجلون فيها إلى يوم
القيامة وقد ذكر ههنا إسرائيليات غريبة أضربنا عنها صحفا، وقوله تعالى: (فما كان له من فئة ينصرونه من
دون الله وما كان من المنتصرين) أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه ولا دفعوا عنه نقمة الله
وعذابه ونكاله ولا كان - هو في نفسه منتصرا لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره.
وقوله تعالى: (وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس) أي الذين لما رأوه في زينته (قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي
قارون إنه لذو حظ عظيم) فلما خسف به أصبحوا يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر أي
ليس المال بدال على رضا الله عن صاحبه فإن الله يعطي ويمنع ويضيق ويوسع ويخفض ويرفع وله الحكمة
التامة والحجة البالغة وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود " إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم
أرزاقكم وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الايمان إلا من يحب " (لولا أن من الله علينا
لخسف بنا) أي لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله (ويكأنه لا
يفلح الكافرون) يعنون أنه كان كافرا ولا يفلح الكافر عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة وقد اختلف النحاة في
معنى قوله ههنا ويكأن فقال بعضهم معناه ويلك اعلم أن ولكن خفف فقيل ويك ودل فتح أن على حذف اعلم
وهذا القول ضعفه ابن جرير والظاهر أنه قوي ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن،
والكتابة أمر وضعي اصطلاحي والمرجع إلى اللفظ العربي والله أعلم وقيل معناها ويكأن أي ألم تر أن قاله
قتادة وقيل: معناها وي كأن ففصلها وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه وكأن بمعنى أظن وأحتسب. قال ابن
جرير وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة أنها بمعنى ألم تر أن واستشهد بقول الشاعر:
سألتاني الطلاق إذ رأتاني * قل مالي وقد جئتماني بنكر
ويكأن من يكن له نشب يحبب * ومن يفتقر يعش عيش ضر
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعقبة للمتقين (83) من جاء بالحسنة
فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون (84)
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين الذين لا
يريدون علوا في الأرض أي ترفعا على خلق الله وتعاظما عليهم وتجبرا بهم ولا فسادا فيهم كما قال عكرمة العلو:
التجبر. وقال سعيد بن جبير العلو: البغي وقال سفيان بن سعيد الثوري عن منصور عن مسلم البطين العلو في
412

الأرض: التكبر بغير حق والفساد أخذ المال بغير حق وقال ابن جريج (لا يريدون علوا في الأرض) تعظما
وتجبرا (ولا فسادا) عملا بالمعاصي. وقال ابن جرير حدثنا وكيع حدثنا أبي عن أشعث السمان عن أبي سلام
الأعرج عن علي قال: إن الرجل ليعجبه من شراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل في قوله
تعالى (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) وهذا محمول
على ما إذا أراد بذلك الفخر والتطاول على غيره فإن ذلك مذموم كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد " وأما إذا أحب ذلك لمجرد
التأمل فهذا لا بأس به فقد ثبت أن رجلا قال: يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسنا ونعلي حسنة أفمن
الكبر ذلك؟ فقال: " لا إن الله جميل يحب الجمال ". وقال تعالى: (من جاء بالحسنة) أي يوم القيامة
(فله خير منها) أي ثواب الله خير من حسنة العبد فكيف والله يضاعفه أضعافا كثيرة وهذا مقام الفضل ثم قال
(ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون) كما قال في الآية الأخرى (ومن جاء
بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) وهذا مقام الفضل والعدل.
إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربى أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلل مبين (85) وما
كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين (86) ولا يصدنك عن
آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين (87) ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله
إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم واليه ترجعون (88)
يقول تعالى آمرا رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ومخبرا له بأنه سيرده
إلى معاد وهو يوم القيامة فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة ولهذا قال تعالى (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك
إلى معاد) أي افترض عليك أداءه إلى الناس (لرادك إلى معاد) أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك كما قال
تعالى (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) وقال تعالى (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم)
وقال (وجئ بالنبيين والشهداء)
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) يقول لرادك إلى
الجنة ثم سائلك عن القرآن. قاله السدي وقال أبو سعيد مثلها وقال الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس
رضي الله عنهما (لرادك إلى معاد) قال إلى يوم القيامة ورواه مالك عن الزهري وقال الثوري عن الأعمش عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس (لرادك إلى معاد) إلى الموت ولهذا طرق عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي
بعضها لرادك إلى معدنك من الجنة وقال مجاهد يحييك يوم القيامة وكذا روي عن عكرمة وعطاء وسعيد بن جبير
وأبي قزعة وأبي مالك وأبي صالح وقال الحسن البصري أي والله إن له لمعادا فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله
الجنة. وقد روى عن ابن عباس غير ذلك كما قال البخاري في التفسير من صحيحه حدثنا محمد بن مقاتل أنبأنا
يعلى حدثنا سفيان العصفري عن عكرمة عن ابن عباس (لرادك إلى معاد) قال إلى مكة وهكذا رواه النسائي في
تفسير سننه وابن جرير من حديث يعلى وهو ابن عبيد الطنافسي به وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس (لرادك إلى
معاد) أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله (لرادك إلى معاد) إلى
مولدك بمكة. وقال ابن أبي حاتم وقد روي عن ابن عباس ويحيى بن الخراز وسعيد بن جبير وعطية والضحاك
نحو ذلك. وحدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر قال: قال سفيان فسمعناه من مقاتل منذ سبعين سنة عن الضحاك قال
لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله عليه (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى
413

معاد) إلى مكة وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكيا والله أعلم. وقد
قال عبد الرزاق حدثنا معمر عن قتادة في قوله تعالى (لرادك إلى معاد) قال هذه مما كان ابن عباس يكتمها. وقد
روى ابن أبي حاتم بسنده عن نعيم القاري أنه قال في قوله (لرادك إلى معاد) قال إلى بيت المقدس وهذا والله
أعلم يرجع إلى قول من فسر ذلك بيوم القيامة لان بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر والله الموفق للصواب
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس
أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم كما فسر ابن عباس سورة (إذا جاء نصر الله والفتح) إلى آخر السورة أنه أجل
رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى إليه وكان ذلك بحضرة عمر بن الخطاب ووافقه عمر على ذلك وقال: لا أعلم منها غير
الذي تعلم. ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله: (لرادك إلى معاد) بالموت وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد
الموت وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن ولأنه أكمل
خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الاطلاق وقوله تعالى: (قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو
في ضلال مبين) أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل ربي
أعلم بالمهتدي منكم ومني وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة. ثم
قال تعالى مذكرا لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب)
أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك (ولكن رحمة من ربك) أي إنما أنزل الوحي
عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة (فلا تكونن ظهيرا) أي معينا
(للكافرين) ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم (ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك) أي لا تتأثر
لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقك لا تلوي على ذلك ولا تباله فإن الله معل كلمتك ومؤيد دينك ومظهر
ما أرسلك به على سائر الأديان ولهذا قال (وادع إلى ربك) أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له (ولا تكونن
من المشركين) وقوله: (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو) أي لا تليق العبادة إلا له ولا تنبغي الإلهية إلا
لعظمته. وقوله (كل شئ هالك إلا وجهه) إخبار بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا
يموت كما قال تعالى (كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام) فعبر بالوجه عن الذات وهكذا
قوله ههنا (كل شئ هالك إلا وجهه) أي إلا إياه وقد ثبت في الصحيح من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد * ألا كل شئ ما خلا الله باطل * " وقال مجاهد
والثوري في قوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) أي إلا ما أريد به وجهه وحكاه البخاري في صحيحه كالمقرر
له قال ابن جرير: ويستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه * رب العباد إليه الوجه والعمل
وهذا القول لا ينافي القول الأول فإن هذا إخبار عن كل الأعمال بأنها باطلة إلا ما أريد به وجه الله تعالى من
الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة والقول الأول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلا ذاته تعالى وتقدس فإنه
الأول الآخر الذي هو قبل كل شي وبعد كل شئ. قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب التفكر
والاعتبار حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا عمر بن سليم الباهلي حدثنا أبو الوليد
قال: كان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول: أين أهلك؟
ثم يرجع إلى نفسه فيقول (كل شئ هالك إلا وجهه) وقوله: (له الحكم) أي الملك والتصرف ولا معقب
لحكمه (وإليه ترجعون) أي يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم إن كان خيرا فخير وإن شرا فشر.
آخر تفسير سورة القصص ولله الحمد والمنة.
414

سورة العنكبوت
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (2) ولقد فتنا الذين من قبلهم
فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين (3) أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما
يحكمون (4)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في سورة البقرة. وقوله تعالى: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا
آمنا وهم لا يفتنون) استفهام إنكار ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين بحسب ما عندهم
من الايمان كما جاء في الحديث الصحيح " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى
الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء " وهذه الآية كقوله: (أم حسبتم أن تتركوا ولما
يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) ومثلها في سورة براءة وقال في البقرة (أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه
متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) ولهذا قال ههنا (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا
وليعلمن الكاذبين) أي الذين صدقوا في دعوى الايمان ممن هو كاذب في قوله ودعواه والله سبحانه وتعالى
يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة وبهذا يقول
ابن عباس وغيره في مثل قوله (إلا لنعلم) إلا لنرى وذلك لان الرؤية إنما تتعلق بالموجود والعلم أعم من الرؤية
فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود.
وقوله تعالى (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في
الايمان أنهم ويتخلصون من هذه الفتنة والامتحان فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم
ولهذا قال (أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا) أي يفوتونا (ساء ما يحكمون) أي بئس ما يظنون.
من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لات وهو السميع العليم (5) ومن جهد فإنما يجهد لنفسه إن الله لغنى
عن العلمين (6) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا
يعملون (7)
يقول تعالى (من كان يرجو لقاء الله) أي في الدار الآخرة وعمل الصالحات ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل
فإن الله سيحقق له رجاءه ويوفيه عمله كاملا موفرا فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء بصير بكل الكائنات
ولهذا قال تعالى (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم). وقوله تعالى: (ومن جاهد
فإنما يجاهد لنفسه) كقوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه) أي من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على
نفسه فإن الله تعالى غني عن أفعال العباد ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيئا.
ولهذا قال تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) قال الحسن البصري: إن الرجل
ليجاهد وما ضرب يوم من الدهر بسيف. ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ومع بره وإحسانه بهم
يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء وهو أنه يكفر عنهم أسوأ الذين عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن
415

الذي كانوا يعملون فيقبل القليل من الحسنات ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويجزي على
السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح كما قال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه
أجرا عظيما) وقال ههنا: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنه سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا
يعملون).
ووصينا الانسان بولديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلى مرجعكم فأنبئكم
بما كنتم تعملون (8) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين (9)
يقول تعالى آمرا عباده بالاحسان إلى الوالدين بعد الحث على التمسك بتوحيده فإن الوالدين هما سبب وجود الانسان
ولهما عليه غاية الاحسان فالوالد بالانفاق والوالدة بالاشفاق ولهذا قال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما *
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والاحسان
إليهما في مقابلة إحسانهما المتقدم قال: (وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) أي وإن حرصا
عليك أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين فإياك وإياهما فلا تطعهما في ذلك فإن مرجعكم إلي يوم القيامة فأجزيك
بإحسانك إليهما وصبرك على دينك وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك وإن كنت أقرب الناس إليهما في الدنيا
فإن المرء إنما يحشر يوم القيامة مع من أحب أي حبا دينيا. ولهذا قال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم
في الصالحين) وقال الترمذي عند تفسير هذه الآية حدثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن المثنى حدثنا محمد بن جعفر
حدثنا شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال نزلت في أربع آيات فذكر قصته
وقال: قالت أم سعد أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أموت أو تكفر قال فكانوا إذا
أرادوا أن يطعموها شجروا فاها فنزلت (ووصينا الانسان بوالديه حسنا * وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا
تطعهما) الآية وهذا الحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي أيضا وقال الترمذي حسن صحيح.
ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذى في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن
إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العلمين (10) وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنفقين (11)
يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدعون الايمان بألسنتهم ولم يثبت الايمان في قلوبهم بأنهم إذا
جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم فارتدوا عن الاسلام ولهذا قال تعالى: (ومن
الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) قال ابن عباس يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا
أوذي في الله وكذا قال غيره من علماء السلف وهذه الآية كقوله تعالى: (ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن
أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه - إلى قوله - ذلك هو الضلال البعيد) ثم قال عز وجل: (ولئن
جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم) أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد وفتح ومغانم ليقولن هؤلاء لكم إنا
كنا معكم أي إخوانكم في الدين كما قال تعالى: (الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم
وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين) وقال تعالى: (فعسى الله أن يأتي بالفتح أو
أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين) وقال تعالى مخبرا عنهم ههنا (ولئن جاء نصر من ربك ليقولن
إنا كنا معكم) ثم قال الله تعالى: (أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين) أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم
وما تكنه ضمائرهم وإن أظهروا لكم الموافقة؟. وقوله تعالى: (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين) أي
وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء ليتميز هؤلاء من هؤلاء من يطيع الله في الضراء والسراء ومن إنما يطيعه في حظ
416

نفسه كما قال تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) وقال تعالى بعد وقعة أحد
التي كان فيها ما كان من الاختبار والامتحان (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب)
الآية.
وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحملين من خطيهم من شئ إنهم
لكاذبون (12) وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيمة عما كانوا يفترون (13)
يقول تعالى مخبرا عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى: ارجعوا من دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا
(ولنحمل خطاياكم) أي وآثامكم إن كانت لكم آثام في ذلك علينا وفي رقابنا كما يقول القائل افعل هذا وخطيئتك في
رقبتي قال الله تعالى تكذيبا لهم (وما هم بحاملين من خطاياهم من شئ إنهم لكاذبون) أي فيما قالوه إنهم يحتملون
عن أولئك خطاياهم فإنه لا يحمل أحد وزر أحد قال الله تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان
ذا قربى) وقال تعالى: (ولا يسأل حميم حميما يبصرونهم). وقوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم)
إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى بسبب ما أضلوا من الناس من
غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما قال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير
علم) الآية وفي الصحيح " من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من
أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الاثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم
شيئا " وفي الصحيح " ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل " وقوله
تعالى: (وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) أي يكذبون ويختلقون من البهتان وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا
حديثا فقال: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا صدقة حدثنا عثمان بن حفص بن أبي العالية حدثني سليمان بن
حبيب المحاربي عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغ ما أرسل به ثم قال: " إياكم والظلم فإن الله يعزم يوم
القيامة " فيقول: وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من
الحسنات أمثال الجبال فيشخص الناس إليها أبصارهم حتى يقوم بين يدي الرحمن عز وجل ثم يأمر المنادي فينادي من
كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم فيقبلون حتى يجتمعوا قياما بين يدي الرحمن فيقول الرحمن اقضوا عن
عبدي فيقولون كيف نقضي عنه؟ فيقول خذوا لهم من حسناته فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة وقد بقي
من أصحاب الظلامات. فيقول اقضوا عن عبدي فيقولون لم يبق له حسنة فيقول خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه " ثم
نزع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون) وهذا
الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه " إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال وقد ظلم هذا وأخذ
مال هذا وأخذ من عرض هذا فيأخذ هذا من حسناته وهذا من حسناته فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح
عليه ". وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا أبو بشر الحذاء عن أبي حمزة الثمالي عن معاذ بن جبل
رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معاذ إن المؤمن يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى عن كحل عينيه
وعن فتات الطينة بأصبعيه فلا ألفينك تأتي يوم القيامة وأحد أسعد بما آتاك الله منك ".
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون (14) فأنجيناه
وأصحب السفينة وجعلناها آية للعلمين (15)
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة يدعوهم إلى
الله تعالى ليلا ونهارا وسرا وجهارا ومع هذا ما زادهم ذلك إلا فرارا عن الحق وإعراضا عنه وتكذيبا له وما آمن معه منهم
إلا قليل ولهذا قال تعالى: (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون) أي بعد هذه المدة
417

الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والانذار فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بك من قومك ولا تحزن عليهم فإن الله يهدي
من يشاء ويضل من يشاء وبيده الامر وإليه ترجع الأمور (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل
آية) الآية واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ويذل عدوك ويكبتهم ويجعلهم أسفل السافلين. قال حماد بن سلمة
عن علي بن زيد عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: بعث نوح وهو لأربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا
خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا وقال قتادة يقال إن عمره كله ألف سنة إلا خمسين
عاما لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة ودعاهم ثلثمائة سنة ولبث بعد الطوفان ثلاثمائة سنة وخمسين عاما وهذا قول
غريب وظاهر السياق من الآية أنه مكث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما. وقال عون بن أبي شداد
إن الله تعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلثمائة سنة فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ثم عاش بعد ذلك
ثلثمائة وخمسين سنة وهذا أيضا غريب رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وقول ابن عباس أقرب والله أعلم. وقال الثوري عن
سلمة بن كهيل عن مجاهد قال: قال لي ابن عمر كم لبث نوح في قومه؟ قال قلت ألف سنة إلا خمسين عاما قال فإن
الناس لم يزالوا في نقصان من أعمارهم وأحلامهم وأخلاقهم إلى يومك هذا وقوله تعالى: (فأنجيناه وأصحاب
السفينة) أي الذين آمنوا بنوح عليه السلام وقد تقدم ذكر ذلك مفصلا في سورة هود وتقدم تفسيره بما أغنى عن
إعادته: وقوله تعالى: (وجعلناها آية للعالمين) أي وجعلنا تلك السفينة باقية إما عينها كما قال قتادة أنها بقيت إلى
أول الاسلام على جبل الجودي أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان كما قال تعالى:
(وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون - إلى قوله - ومتاعا إلى حين) وقال
تعالى: (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية) وقال ههنا (فأنجيناه
وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين) وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس كقوله تعالى: (ولقد زينا
السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين) أي وجعلنا نوعها رجوما فإن التي يرمى بها ليست هي زينة للسماء
وقال تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) ولهذا نظائر كثيرة وقال ابن جرير
لو قيل إن الضمير في قوله: (وجعلناها) عائد إلى العقوبة لكان وجها والله أعلم.
وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون (16) إنما تعبدون من دون الله أوثانا
وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له.
إليه ترجعون (17) وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلغ المبين (18)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء إنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له والاخلاص له في
التقوى وطلب الرزق منه وحده لا شريك له وتوحيده في الشكر فإنه المشكور على النعم لا مسدي لها غيره فقال لقومه
(اعبدوا الله واتقوه) أي أخلصوا له العبادة والخوف (ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم
الخير في الدنيا والآخرة واندفع عنكم الشر في الدنيا والآخرة ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع
وإنما اختلقتم أنتم لها أسماء فسميتموها آلهة وإنما هي مخلوقة مثلكم هكذا رواه العوفي عن ابن عباس وقال مجاهد
والسدي وروى الوالبي عن ابن عباس وتصنعون إفكا أي تنحتونها أصناما وبه قال مجاهد في رواية وعكرمة والحسن
وقتادة وغيرهم واختاره ابن جرير رحمه الله. وهي لا تملك لكم رزقا (فابتغوا عند الله الرزق) وهذا أبلغ في الحصر
كقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة) ولهذا قال (فابتغوا) أي فاطلبوا (عند الله
الرزق) أي لا عند غيره فإن غيره لا يملك شيئا (واعبدوه واشكروا له) أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده واشكروا له
على ما أنعم به عليكم (إليه ترجعون) أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى: (وإن تكذبوا فقد
كذب أمم من قبلكم) أي فبلغكم ما حل بهم من العذاب والنكال في مخالفة الرسل (وما على الرسول إلا البلاغ
418

المبين) يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فاحرصوا
لأنفسكم أن تكونوا من السعداء وقال قتادة في قوله: (وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) قال يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا
من قتادة يقتضي أنه قد انقطع الكلام الأول وأعترض بهذا إلى قوله: (فما كان جواب قومه) وهكذا نص على ذلك
ابن جرير أيضا والظاهر من السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام يحتج عليهم لاثبات المعاد لقوله
بعد هذا كله (فما كان جواب قومه) والله أعلم.
أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير (19) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ
الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شئ قدير (20) يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون (21)
وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير (22) والذين كفروا بأيت الله
ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم (23)
يقول تعالى مخبرا عن الخليل عليه السلام أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق
الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا ثم وجدوا وصاروا أناسا سامعين مبصرين فالذي بدأ هذا قادر على إعادته فإنه
سهل عليه يسير لديه ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء: السماوات وما
فيها من الكواكب النيرة الثوابت والسيارات والأرضين وما فيها من مهاد وجبال وأودية وبراري وقفار وأشجار
وأنهار وثمار وبحار كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها وعلى وجود صانعها الفاعل المختار الذي يقول للشئ
كن فيكون ولهذا قال: (أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير) كقوله تعالى: (وهو
الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) ثم قال تعالى: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله
ينشئ النشأة الآخرة) أي يوم القيامة (إن الله على كل شئ قدير) وهذا المقام شبيه بقوله تعالى: (سنريهم آياتنا
في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وكقوله تعالى: (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون * أم
خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون). وقوله تعالى (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء) أي هو الحاكم المتصرف
الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون فله الخلق والامر مهما فعل فعدل
لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة كما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل
أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم " ولهذا قال تعالى: (يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون) أي ترجعون يوم
القيامة وقوله تعالى: (وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء) أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه بل هو
القاهر فوق عباده فكل شئ خائف منه فقير إليه وهو الغني عما سواه (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * والذين
كفروا بآيات الله ولقائه) أي جحدوها وكفروا بالمعاد (أولئك يئسوا من رحمتي) أي لا نصيب لهم فيها (وأولئك لهم
عذاب أليم) أي موجع شديد في الدنيا والآخرة.
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لاية لقوم يؤمنون (24) وقال
إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن
بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من نصرين (25)
يقول تعالى مخبرا عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ودفعهم الحق بالباطل أنهم ما كان لهم جواب بعد
مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان (إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه) وذلك لانهم قام عليهم البرهان وتوجهت
419

عليهم الحجة فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم (فقالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم * وأرادوا به كيدا
فجعلناهم الأسفلين) وذلك أنهم حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة وحوطوا حولها ثم أضرموا فيها النار فارتفع
لها لهب إلى عنان السماء ولم توقد نار قط أعظم منها ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق ثم قذفوه
فيها فجعلها الله عليه بردا وسلاما وخرج منها سالما بعد ما مكث فيها أياما ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماما فإنه
بذل نفسه للرحمن وجسده للنيران وسخا بولده للقربان وجعل ماله للضيفان ولهذا اجتمع على محبته جميع
أهل الأديان. وقوله تعالى: (فأنجاه الله من النار) أي سلمه منها بأن جعلها عليه بردا وسلاما (إن في ذلك لآيات
لقوم يؤمنون * وقالوا إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا) يقول لقومه مقرعا لهم وموبخا على
سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض
في الحياة الدنيا وهذا على قراءة من نصب مودة بينكم على أنه مفعول له وأما على قراءة الرفع فمعناه إنما اتخاذكم هذا
لتحصل لكم المودة في الدنيا فقط ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا (ثم يكفر
بعضكم ببعض) أي تتجاحدون ما كان بينكم (ويلعن بعضكم بعضا) أي يلعن الاتباع المتبوعين والمتبوعون الاتباع
(كلما دخلت أمة لعنت أختها) وقال تعالى: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) وقال ههنا (ثم يوم
القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار) الآية أي ومصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى
النار ومالكم من ناصر ينصركم ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله وهذا حال الكافرين وأما المؤمنون فبخلاف ذلك. قال
ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا أبو عاصم الثقفي ثنا الربيع بن إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن
جعدة بن هبيرة المخزومي عن أبيه عن جده عن أم هانئ أخت علي بن أبي طالب قالت قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " أخبرك أن
الله تعالى يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد فمن يدري أين الطرفان؟ قالت الله ورسوله أعلم - ثم
ينادي مناد من تحت العرش يا أهل التوحيد فيشرئبون - قال أبو عاصم يرفعون رؤوسهم ثم ينادي يا أهل التوحيد ثم
ينادي الثالثة يا أهل التوحيد إن الله قد عفا عنكم - قال - فيقول الناس قد تعلق بعضهم ببعض في ظلمات الدنيا - يعني
المظالم - ثم ينادي يا أهل التوحيد ليعف بعضكم عن بعض وعلى الله الثواب ".
فأمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربى إنه هو العزيز الحكيم (26) ووهبنا له إسحق ويعقوب وجعلنا في ذريته
النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (27)
يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه آمن له لوط يقال إنه ابن أخي إبراهيم يقولون هو لوط بن هاران بن آزر يعني ولم
يؤمن به من قومه سواه وسارة امرأة إبراهيم الخليل. لكن يقال كيف الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الوارد في
الصحيح أن إبراهيم حين مر على ذلك الجبار فسأل إبراهيم عن سارة ما هي منه فقال أختي ثم جاء إليها فقال لها إني
قد قلت له إنك أختي فلا تكذبيني فإنه ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك فأنت أختي في الدين. وكأن المراد
من هذا والله أعلم أنه ليس على وجه الأرض زوجان على الاسلام غيري وغيرك فإن لوطا عليه السلام آمن به من قومه
وهاجر معه إلى بلاد الشام ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وأقام بها وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي وقوله
تعالى: (وقال إني مهاجر إلى ربي) يحتمل عود الضمير في قوله: (وقال إني مهاجر) على لوط لأنه هو أقرب
المذكورين ويحتمل عوده إلى إبراهيم. قاله ابن عباس والضحاك وهو المكنى عنه بقوله: (فآمن له لوط) أي من
قومه ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك ولهذا قال: (إنه هو العزيز
الحكيم) أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به الحكيم في أقواله وأفعاله وأحكامه القدرية والشرعية. وقال قتادة هاجرا
جميعا من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى الشام. قال وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنها ستكون هجرة بعد هجرة
ينحاز أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها حتى تلفظهم أرضهم وتقذرهم روح الله عز وجل
420

وتحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتأكل ما سقط منهم " وقد أسند الإمام أحمد
هذا الحديث فرواه مطولا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن
شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية قدمت الشام فأخبرت بمقام يقومه نوف البكالي فجئته إذ جاء رجل
فانتبذ الناس وعليه خميصة فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص فلما رآه نوف أمسك عن الحديث فقال عبد الله: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنها ستكون هجرة بعد هجرة فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها
فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن تحشرهم النار مع القردة والخنازير فتبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا
قالوا وتأكل من تخلف منهم " قال وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق يقرؤون
القرآن لا يجاوز تراقيهم كلما خرج منهم قرن قطع كلما خرج منهم قرن قطع - حتى عدها زيادة على عشرين مرة كلما
خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم " ورواه الإمام أحمد عن أبي داود وعبد الصمد كلاهما عن هشام
الدستوائي عن قتادة به وقد رواه أبو داود في سننه فقال في كتاب الجهاد (باب ما جاء في سكنى الشام) حدثنا
عبيد الله بن عمر حدثنا معاذ بن هشام حدثني عن قتادة عن شهر بن حوشب عن عبد الله بن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول: " ستكون هجرة بعد هجرة وينحاز أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم
أرضهم وتقذرهم نفس الرحمن وتحشرهم النار مع القردة والخنازير " وقال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا أبو جناب
يحيى بن أبي حية عن شهر بن حوشب قال سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد رأيتنا وما صاحب الدينار والدرهم بأحق
به من أخيه المسلم ثم لقد رأيتنا بآخرة الآن والدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم ولقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لئن اتبعتم أذناب البقر وتبايعتم بالعينة وتركتم الجهاد في سبيل الله ليلزمنكم الله مذلة في أعناقكم
لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه وتتوبوا إلى الله تعالى " وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لتكونن هجرة بعد
هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبيت في الأرض إلا شرار أهلها وتلفظهم أرضوهم وتقذرهم روح الرحمن
وتحشرهم النار مع القردة والخنازير تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث يبيتون وما سقط منهم فلها " ولقد سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يخرج قوم من أمتي يسيئون الأعمال يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم - قال يزيد لا أعلمه إلا
قال - يحقر أحدكم علمه مع علمهم يقتلون أهل الاسلام فإذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ثم إذا خرجوا
فاقتلوهم فطوبى لمن قتلهم وطوبى لمن قتلوه كلما طلع منهم قرن قتله الله " فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين مرة أو
أكثر وأنا أسمع وقال الحافظ أبو بكر البيهقي حدثنا أبو الحسن بن الفضل أخبرنا عبد الله بن جعفر حدثنا يعقوب بن سفيان
حدثنا أبو النضر إسحاق بن إبراهيم بن يزيد وهشام بن عمار الدمشقيان قالا حدثنا يحيى بن حمزة حدثنا الأوزاعي عن
نافع وقال أبو النضر عمن حدثه عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سيهاجر أهل الأرض هجرة بعد
هجرة إلى مهاجر إبراهيم حتى لا يبقى إلا شرار أهلها تلفظهم الأرضون وتقذرهم روح الرحمن وتحشرهم النار مع
القردة والخنازير تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا لها ما سقط منهم " غريب من حديث نافع والظاهر أن
الأوزاعي قد رواه عن شيخ له من الضعفاء والله أعلم. وروايته من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أقرب إلى
الحفظ. وقوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) كقوله: (فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له
إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا) أي أنه لما فارق قومه أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي وولد له ولد صالح نبي في حياة
جده وكذلك قال تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة) أي زيادة كما قال تعالى: (فبشرناه بإسحاق ومن وراء
إسحاق يعقوب) أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما تقر به أعينكما وكون يعقوب ولد لإسحاق نص عليه القرآن وثبتت به
السنة النبوية قال الله تعالى: (أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي؟ قالوا نعبد إلهك
وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا) الآية وفي الصحيحين " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن
الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام " فأما ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله:
(ووهبنا له إسحاق ويعقوب) قال هما ولدا إبراهيم فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد فإن هذا الامر لا يكاد يخفى على
421

من هو دون ابن عباس. وقوله تعالى: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه
خليلا وجعله للناس إماما أن جعل في ذريته النبوة والكتاب فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلا وهو من سلالته
فجميع أنبياء بني إسرائيل من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم فقام في ملئهم مبشرا
بالنبي العربي القرشي الهاشمي خاتم الرسل على الاطلاق وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة الذي اصطفاه الله من
صميم العرب العرباء من سلالة إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه عليه
أفضل الصلاة والسلام. وقوله: (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي جمع الله له بين سعادة
الدنيا الموصولة بسعادة الآخرة فكان له في الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب والمورد العذب والزوجة
الحسنة الصالحة والثناء الجميل والذكر الحسن وكل أحد يحبه ويتولاه كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم مع
القيام بطاعة الله من جميع الوجوه كما قال تعالى: (وإبراهيم الذي وفى) أي قام بجميع ما أمر وكمل طاعة ربه ولهذا
قال تعالى: (وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) وكما قال تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله
حنيفا ولم يك من المشركين - إلى قوله - وإنه في الآخرة لمن الصالحين).
ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العلمين (28) أئنكم لتأتون الرجال
وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا آتنا بعذاب الله إن كنت
من الصدقين (29) قال رب انصرني على القوم المفسدين (30)
يقول تعالى مخبرا عن نبيه لوط عليه السلام أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال في
إتيانهم الذكران من العالمين ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم وكانوا مع هذا يكفرون بالله
ويكذبون رسوله ويخالفون ويقطعون السبيل أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم (وتأتون في
ناديكم المنكر) أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال والافعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها لا ينكر بعضهم على
بعض شيئا من ذلك فمن قائل كانوا يأتون بعضهم بعضا في الملا قاله مجاهد ومن قائل كانوا يتضارطون
ويتضاحكون قالته عائشة رضي الله عنها والقاسم ومن قائل كانوا يناطحون بين الكباش ويناقرون بين الديوك وكل
ذلك كان يصدر عنهم وكانوا شرا من ذلك وقال الإمام أحمد حدثنا حماد بن أسامة أخبرني حاتم بن أبي صغيرة
حدثنا سماك بن حرب عن أبي صالح مولى أم هانئ عن أم هانئ قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى:
(وتأتون في ناديكم المنكر) قال: " يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه "
ورواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم من حديث أبي أسامة حماد بن رسامة عن أبي يونس القشيري عن
حاتم بن أبي صغيرة به. ثم قال الترمذي هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم ابن أبي صغيرة عن
سماك وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا محمد بن كثير عن عمرو بن قيس عن الحكم عن مجاهد
(وتأتون في ناديكم المنكر) قال الصفير ولعب الحمام والجلاهق والسؤال في المجلس وحل أزرار القباء
وقوله تعالى: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) وهذا من كفرهم
واستهزائهم وعنادهم ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال: (رب انصرني على القوم المفسدين).
ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين (31) قال إن فيها
لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين (32) ولما أن جاءت رسلنا لوطا سئ
بهم وضاق بهم درعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين (33) إنا منزلون على
422

أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون (34) ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون (35)
لما استنصر لوط عليه السلام بالله عز وجل عليهم بعث الله لنصرته ملائكة فمروا على إبراهيم عليه السلام في هيئة
أضياف فجاءهم بما ينبغي للضيف فلما رأى إبراهيم أنه لا همة لهم إلى الطعام نكرهم وأوجس منهم خيفة فشرعوا
يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة وكانت حاضرة فتعجبت من ذلك كما تقدم بيانه في سورة هود
والحجر فلما جاءت إبراهيم البشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط أخذ يدافع لعلهم ينظرون لعل الله أن
يهديهم ولما قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية (قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجيه وأهله إلا
امرأته كانت من الغابرين) أي من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ودبرهم ثم ساروا من عنده
فدخلوا على لوط في صورة شبان حسان فلما رآهم كذلك (سئ بهم وضاق بهم ذرعا) أي اغتم بأمرهم إن هو
أضافهم خاف عليهم من قومه وإن لم يضفهم خشى عليهم منهم ولم يعلم بأمرهم في الساعة الراهنة (قالوا لا
تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين * إنا منزلون على أهل هده القرية رجزا من
السماء بما كانوا يفسقون) وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء
ثم قلبها عليهم وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد وجعل
الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة وجعلهم عبرة إلى يوم التناد وهم من أشد الناس عذابا يوم المعاد، ولهذا قال
تعالى: (ولقد تركنا منها آية بينة) أي واضحة (لقوم يعقلون) كما قال تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم
مصبحين وبالليل أفلا تعقلون).
وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين (36) فكذبوه
فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (37)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله شعيب عليه السلام أنه أنذر قومه أهل مدين فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له وأن
يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة فقال: (يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر) قال ابن جرير قال
بعضهم معناه واخشوا اليوم الآخر وهذا كقوله تعالى: (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) وقوله: (ولا تعثوا في
الأرض مفسدين) نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد وهو السعي فيها والبغي على أهلها وذلك أنهم كانوا
ينقصون المكيال والميزان ويقطعون الطريق على الناس هذا مع كفرهم بالله ورسوله فأهلكهم الله برجفة عظيمة
زلزلت عليهم بلادهم وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها. وعذاب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها
إنه كان عذاب يوم عظيم وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء وقوله: (فأصبحوا
في دارهم جاثمين) قال قتادة ميتين. وقال غيره قد ألقي بعضهم على بعض.
وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مسكنهم وزين لهم الشيطان أعملهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين
(38) وقرون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سبقين (39) فكلا
أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا
وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (40)
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم وأخذهم بالانتقام منهم فعاد قوم هود
عليه السلام كانوا يسكنون الأحقاف وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن وثمود قوم صالح كانوا يسكنون الحجر
قريبا من وادي القرى. وكانت العرب تعرف مساكنهما جيدا وتمر عليها كثيرا وقارون صاحب الأموال الجزيلة
423

ومفاتيح الكنوز الثقيلة وفرعون ملك مصر في زمان موسى ووزيره هامان القبطيان الكافران بالله تعالى وبرسوله
صلى الله عليه وسلم (فكلا أخذنا بذنبه) أي كانت عقوبته بما يناسبه (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) وهم عاد وذلك أنهم
قالوا من أشد منا قوة فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرد عاتية شديدة الهبوب جدا تحمل عليهم حصباء الأرض
فتلقيها عليهم وتقتلعهم من الأرض فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء ثم تنكسه على أم رأسه
فتشدخه فيبقى بدنا بلا رأس كأنهم أعجاز نخل منقعر (ومنهم من أخذته الصيحة) وهم ثمود قامت عليهم
الحجة وظهرت لهم الدلالة من تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوا سواء بسواء ومع هذا ما آمنوا بل
استمروا على طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبي الله صالحا ومن آمن معه وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم فجاءتهم
صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات (ومنهم من خسفنا به الأرض) وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا
وعصى الرب الاعلى ومشى في الأرض مرحا وفرح ومرح وتاه بنفسه وأعتقد أنه أفضل من غيره واختال في مشيته
فخسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة (ومنهم من أغرقنا) وهو فرعون ووزيره هامان
وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر (وما كان الله ليظلمهم) أي فيما فعل بهم
(ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقا بما كسبت أيديهم وهذا الذي ذكرناه ظاهر
سياق الآية وهو من باب اللف والنشر وهو أنه ذكر الأمم المكذبة ثم قال (فكلا أخذنا بذنبه) أي من هؤلاء
المذكورين وإنما نبهت على هذا لأنه قد روى ابن جريج قال: قال ابن عباس في قوله (فمنهم من أرسلنا عليه
حاصبا) قال قوم لوط (ومنهم من أغرقنا) قال قوم نوح وهذا منقطع عن ابن عباس فإن ابن جريج لم يدركه.
ثم قد ذكر الله في هذه السورة إهلاك قوم نوح بالطوفان وقوم لوط بإنزال الرجز من السماء وأطال السياق والفصل
بين ذلك وبين هذا السياق وقال قتادة (فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا) قال قوم لوط (ومنهم من أخذته
الصيحة) قوم شعيب وهذا بعيد أيضا لما تقدم والله أعلم.
مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا
يعلمون (41) إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شئ وهو العزيز الحكيم (42) وتلك الأمثل نضربها للناس وما
يعقلها إلا العالمون (43)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في
الشدائد فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه فليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلا كمن يتمسك ببيت
العنكبوت فإنه لا يجدي عنه شيئا فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء وهذا بخلاف المسلم المؤمن
قلبه لله وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها ثم
قال تعالى متوعدا لمن عبد غيره وأشرك به أنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد
وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ثم قال تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) أي
وما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى حدثني
ابن لهيعة عن أبي قبيل عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: عقلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف مثل وهذه منقبة
عظيمة لعمرو بن العاص رضي الله عنه حيث يقول الله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا
العالمون) وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين ثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثنا أبي حدثنا ابن سنان عن
عمرو بن مرة قال: ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنني لاني سمعت الله تعالى يقول (وتلك الأمثال
نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون).
424

خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لاية للمؤمنين (44) أتل ما أوحى إليك من الكتب وأقم الصلاة
إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون (45) *
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أنه خلق السماوات والأرض بالحق يعني لا على وجه العبث واللعب
(لتجزى كل نفس بما تسعى) (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) وقوله تعالى
(إن في ذلك لآية للمؤمنين) أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية. ثم قال تعالى
آمرا رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس (وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر
الله أكبر) يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك وقد جاء
في الحديث من رواية عمران وابن عباس مرفوعا " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بعدا ".
(ذكر الآثار الواردة في ذلك)
قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن هارون المخرمي الفلاس حدثنا عبد الرحمن بن نافع أبو زياد حدثنا عمر بن أبي
عثمان حدثنا الحسن عن عمران بن حصين قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء
والمنكر) قال " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له " وحدثنا علي بن الحسين حدثنا يحيى بن
أبي طلحة اليربوعي حدثنا أبو معاوية عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لم تنهه
صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " رواه الطبراني من حديث أبي معاوية. وقال ابن جرير
حدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا خالد بن عبد الله عن العلاء بن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس في قوله
(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) قال فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته
من الله إلا بعدا. فهذا موقوف. قال ابن جرير وحدثنا القاسم حدثنا الحسين حدثنا علي بن هاشم بن البريد عن
جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا صلاة لمن لم يطع الصلاة " وطاعة الصلاة أن تنهاه
عن الفحشاء والمنكر. قال: قال سفيان (قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك) قال فقال سفيان إي والله تأمره وتنهاه.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد عن جويبر عن الضحاك عن عبد الله قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال أبو خالد مرة عن عبد الله " لا صلاة لمن لم يطع الصلاة وطاعة الصلاة تنهاه عن الفحشاء والمنكر "
والموقوف أصح كما رواه الأعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد قال قيل لعبد الله إن فلانا يطيل
الصلاة قال إن الصلاة لا تنفع إلا من أطاعها: وقال ابن جرير حدثنا علي حدثنا إسماعيل بن مسلم عن الحسن
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا " والأصح في
هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة والأعمش وغيرهم والله أعلم. وقال الحافظ أبو بكر
البزار حدثنا يوسف بن موسى أنبأنا جرير - يعني ابن عبد الحميد - عن الأعمش عن أبي صالح قال أراه عن جابر
شك الأعمش قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق قال " سينهاه ما
تقول " وحدثنا محمد بن موسى الجرشي أخبرنا زياد بن عبد الله عن الأعمش عن أبي صالح عن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم بنحوه ولم يشك ثم قال: وهذا الحديث قد رواه عن الأعمش غير واحد واختلفوا في إسناده فرواه غير واحد
عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو غيره وقال قيس عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال جرير وزياد عن عبد الله عن
الأعمش عن أبي صالح عن جابر وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع أخبرنا الأعمش قال أرى أبا
صالح عن أبي هريرة قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق فقال " إنه سينهاه ما
تقول ". وتشتمل الصلاة أيضا على ذكر الله تعالى وهو المطلوب الأكبر ولهذا قال تعالى (ولذكر الله أكبر) أي
أعظم من الأول (والله يعلم ما تصنعون) أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم. وقال أبو العالية في قوله تعالى
(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) قال إن الصلاة فيها ثلاث خصال فكل صلاة لا يكون فيها شئ من
425

هذه الخلال فليست بصلاة. الاخلاص والخشية وذكر الله فالاخلاص يأمره بالمعروف والخشية تنهاه عن المنكر وذكر
الله القرآن يأمره وينهاه وقال ابن عون الأنصاري إذا كنت في صلاة فأنت في معروف وقد حجزتك عن الفحشاء
والمنكر والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر وقال حماد بن أبي سليمان (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر)
يعني ما دمت فيها وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى (ولذكر الله أكبر) يقول ولذكر الله
لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم إياه وكذا روى غير واحد عن ابن عباس وبه قال مجاهد وغيره: وقال ابن أبي
حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا أبو خالد الأحمر عن داود بن أبي هند عن رجل عن ابن عباس (ولذكر الله
أكبر) قال ذكر الله عند طعامك وعند منامك قلت فإن صاحبا لي في المنزل يقول غير الذي تقول قال وأي
شئ يقول؟ قلت قال يقول الله تعالى (فاذكروني أذكركم) فلذكر الله إيانا أكبر من ذكرنا إياه قال: صدق
قال وحدثنا أبي حدثنا النفيلي حدثنا إسماعيل عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (ولذكر الله
أكبر) قال لها وجهان قال ذكر الله عندما حرمه قال وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه وقال ابن جرير حدثني
يعقوب بن إبراهيم أخبرنا هشيم أخبرنا عطاء بن السائب عن عبد الله بن ربيعة قال: قال لي ابن عباس هل تدري ما
قوله تعالى (ولذكر الله أكبر)؟ قال قلت نعم قال فما هو؟ قلت التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة
القرآن ونحو ذلك قال لقد قلت قولا عجيبا وما هو كذلك ولكنه إنما يقول ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه
إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم إياه وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وروي أيضا عن ابن مسعود وأبي
الدرداء وسليمان الفارسي وغيرهم واختاره ابن جرير.
ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم
وإلهنا وإلهكم وحد ونحن له مسلمون (46)
قال قتادة وغير واحد: هذه الآية منسوخة بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة وإنما هو الاسلام أو الجزية أو السيف
وقال آخرون بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه
كما قال تعالى (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) الآية وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما
إلى فرعون (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى) وهذا القول اختاره ابن جرير وحكاه عن ابن زيد. وقوله
تعالى (إلا الذين ظلموا منهم) أي حادوا عن وجه الحق وعموا عن واضح المحجة وعاندوا وكابروا فحينئذ ينتقل
من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم قال الله عز وجل (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد - إلى قوله - إن الله قوي عزيز) قال جابر:
أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف قال مجاهد (إلا الذين ظلموا منهم) يعني أهل الحرب ومن امتنع
منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى (وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم) يعني إذا أخبروا بما لا نعلم
صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا
مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا. قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن بشار
حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصدقوا
أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " وهذا
الحديث تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمرو أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني ابن أبي
نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال يا محمد هل
تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الله أعلم " قال اليهودي أنا أشهد أنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا
حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان
426

باطلا لم تصدقوهم " (قلت) وأبو نملة هذا هو عمارة وقيل عمار وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله
عنه ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان لأنه قد دخلت تحريف وتبديل وتغيير وتأويل وما أقل
الصدق فيه ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا. قال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عاصم أخبرنا سفيان
عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال لا تسألوا أهل
الكتاب عن شئ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فإنه ليس أحد من أهل
الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال وقال البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن
سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: كيف تسألوا أهل الكتاب عن شئ وكتابكم
الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرأونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا
وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟
لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم وقال البخاري وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن
الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن
كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب (قلت) معناه
أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة
لانهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث كثيرة في هذه
الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل ومن منحه الله تعالى علما بذلك كل بحسبه ولله الحمد والمنة.
وكذلك أنزلنا إليك الكتب فالذين آتيناهم الكتب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد
بآياتنا إلا الكافرون (47) وما كنت تتلو من قبله من كتب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون (48) بل هو
آيات بينت في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون (49)
قال ابن جرير يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتاب على من قبلك يا محمد من الرسل كذلك أنزلنا إليك هذا
الكتاب وهذا الذي قاله حسن ومناسبته وارتباطه جيد وقوله تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) أي
الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته من أحبارهم العلماء الأذكياء كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وأشباههما وقوله
تعالى (ومن هؤلاء من يؤمن به) يعني العرب من قريش وغيرهم (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) أي ما
يكذب بها ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل. ويغطي ضوء الشمس بالوصائل وهيهات ثم قال تعالى
(وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك) أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا
القرآن عمرا لا تقرأ كتابا ولا تحسن الكتابة بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب
وهكذا صفته في الكتب المتقدمة كما قال تعالى (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم
في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر) الآية وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما إلى يوم الدين
لا يحسن الكتابة ولا يخط سطرا ولا حرفا بيده بل كان له كتاب يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم.
ومن زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي ومن تابعه أنه عليه السلام كتب يوم الحديبية: هذا ما
قاضى عليه محمد بن عبد الله. فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري: ثم أخذ فكتب. وهذه محمولة
على الرواية الأخرى: ثم أمر فكتب. ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب على من قال يقول الباجي
وتبرؤا منه وأنشدوا في ذلك أقوالا وخطبوا به في محافلهم. وإنما أراد الرجل - أعني الباجي - فيما يظهر عنه أنه
كتب ذلك على وجه المعجزة لا أنه كان يحسن الكتابة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إخبارا عن الدجال " مكتوب بين
عينيه كافر " وفي رواية " ك ف ر يقرؤها كل مؤمن " وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم
427

الكتابة فضعيف لا أصل له قال الله تعالى (وما كنت تتلو) أي تقرأ (من قبله من كتاب) لتأكيد النفي (ولا
تخطه بيمينك) تأكيد أيضا وخرج مخرج الغالب كقوله تعالى (ولا طائر يطير بجناحيه) وقوله تعالى (إذا
لارتاب المبطلون) أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس فيقول إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة
عن الأنبياء مع أنهم قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه
بكرة وأصيلا) قال الله تعالى (قال أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض) الآية وقال ههنا (بل هو آيات
بينات في صدور الذين أوتوا العلم) أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق أمرا ونهيا وخبرا
يحفظه العلماء يسره الله عليهم حفظا وتلاوة وتفسيرا كما قال تعالى (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر)
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من نبي إلا وقد أعطي ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي
فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا " وفي حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم يقول الله تعالى " إني مبتليك ومبتل
بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانا " أي لو غسل الماء المحل المكتوب فيه لما احتيج إلى
ذلك المحل لأنه قد جاء في الحديث الآخر " لو كان القرآن في إهاب ما أحرقته النار " ولأنه محفوظ في الصدور
ميسر على الألسنة مهيمن على القلوب معجز لفظا ومعنى ولهذا جاء في الكتب المقدسة صفة هذه الأمة أناجيلهم
في صدورهم واختار ابن جرير أن المعنى في قوله تعالى (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم)
بل العلم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابا ولا تخطه بيمينك آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم
من أهل الكتاب ونقله عن قتادة وابن جريج وحكى الأول عن الحسن البصري فقط قلت وهو الذي رواه العوفي
عن ابن عباس وقاله الضحاك وهو الاظهر والله أعلم وقوله تعالى (وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون) أي ما
يكذب بها ويبخس حقها ويردها إلا الظالمون أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه كما قال
تعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم).
وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين (50) أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك
الكتب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون (51) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في
السماوات والأرض والذين آمنوا بالبطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون (52)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في تعنتهم وطلبهم آيات يعنون ترشدهم إلى أن محمدا رسول الله كما أتى صالح بناقته
قال الله تعالى قل يا محمد (إنما الآيات عند الله) أي إنما أمر ذلك إلى الله فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى
سؤالكم لان هذا سهل عليه يسر لديه ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان فلا يجيبكم إلى ذلك كما
قال تعالى (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون * وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) وقوله: (وإنما
أنا نذير مبين) أي إنما بعثت نذيرا لكم بين النذارة فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى (ومن يهد الله فهو المهتد ومن
يضلل فلن تجد له وليا مرشدا) وقال تعالى: (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) ثم قال تعالى مبينا
كثرة جهلهم وسخافة عقلهم حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم وقد جاءهم بالكتاب العزيز
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه الذي هو أعظم من كل معجزة إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته بل
عن معارضة عشر سور من مثله بل عن معارضة سورة منه فقال تعالى: (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى
عليهم) أي أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم وحكم ما بينهم
وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب
مما اختلفوا فيه وبالحق الواضح البين الجلي كما قال تعالى (أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل)
428

وقال تعالى (وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) وقال الإمام أحمد حدثنا
حجاج حدثنا ليث حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من
الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو
أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " أخرجاه من حديث الليث. وقد قال الله تعالى (إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم
يؤمنون) أي إن في هذا القرآن لرحمة أي بيانا للحق وإزاحة للباطل وذكرى بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب
بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون.
ثم قال تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ويعلم ما أقول لكم من
إخباري عنه بأنه أرسلني فلو كنت كاذبا عليه لانتقم مني كما قال تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه
باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين) وإنما أنا صادق عليه فيما أخبرتكم به ولهذا أيدني
بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات (يعلم ما في السماوات والأرض) أي لا تخفى عليه خافية (والذين آمنوا
بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا في تكذيبهم
بالحق واتباعهم الباطل كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل فسيجزيهم على
ذلك إنه حكيم عليم.
ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون (53) يستعجلونك
بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين (54) يوم يغشهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا
ما كنتم تعملون (55)
يقول تعالى: مخبرا عن جهل المشركين في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم وبأس الله أن يحل عليهم كما قال تعالى
(وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم) وقال ههنا
(ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب) أي لولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة
لجاءهم العذاب قريبا سريعا كما استعجلوه ثم قال (وليأتينهم بغتة) أي فجأة (وهم لا يشعرون * يستعجلونك
بالعذاب وأن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة قال شعبة عن سماك عن عكرمة
قال في قوله (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) قال البحر وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين. حدثنا عمر بن
إسماعيل بن مجالد حدثنا أبي عن مجاهد عن الشعبي أنه سمع ابن عباس يقول (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) وجهنم
هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه وتكور فيه الشمس والقمر ثم يوقد فيكون هو جهنم وقال الإمام أحمد حدثنا أبو
عاصم أخبرنا عبد الله بن أمية حدثني محمد بن حيي أخبرني صفوان بن يعلى عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " البحر هو
جهنم " قالوا ليعلى فقال: ألا ترون أن الله تعالى يقول (نارا أحاط بهم سرادقها) قال لا والذي نفس يعلى بيده لا
أدخلها أبدا حتى أعرض على الله ولا يصيبني منها قطرة حتى أعرض على الله تعالى هذا تفسير غريب وحديث
غريب جدا والله أعلم ثم قال عز وجل (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) كقوله تعالى (لهم من جهنم
مهاد ومن فوقهم غواش) وقال تعالى (لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل) وقال تعالى (لو يعلم الذين
كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم) الآية فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم وهذا أبلغ في العذاب
الحسي وقوله تعالى (ونقول ذوقوا ما كنتم تعملون) تهديد وتقريع وتوبيخ وهذا عذاب معنوي على النفوس كقوله
تعالى: (يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شئ خلقناه بقدر) وقال تعالى (يوم يدعون
إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم به تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون * اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء
عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون).
429

يا عبادي الذين آمنوا إن أرضى وسعة فإياي فاعبدون (56) كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون (57) والذين آمنوا
وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجرى من تحتها الانهر خالدين فيها نعم أجر العملين (58) الذين صبروا
وعلى ربهم يتوكلون (59) وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم (60)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين إلى أرض الله الواسعة حيث يمكن
إقامة الدين بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم ولهذا قال تعالى: (يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون)
قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن عبد ربه حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي حدثني أبو سعد الأنصاري
عن أبي بحر مولى الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " البلاد بلاد الله والعباد عباد الله
فحيثما أصبت خيرا فأقم " ولهذا لما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على
دينهم هناك فوجدوا خير المنزلين هناك أصحمة النجاشي ملك الحبشة رحمه الله تعالى فآواهم وأيدهم بنصره وجعلهم
سيوما ببلاده ثم بعد ذلك هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة النبوية يثرب المطهرة. ثم قال تعالى: (كل
نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون) أي أينما كنتم يدرككم الموت فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم
فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه ثم إلى الله المرجع والمآب فمن كان مطيعا له جازاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب
ولهذا قال تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوأنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار) أي لنسكننهم
منازل عالية في الجنة تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها من ماء وخمر وعسل ولبن يصرفونها ويجرونها حيث
شاءوا (خالدين فيها) أي ماكثين فيها أبدا لا يبغون عنها حولا (نعم أجر العاملين) نعمت هذه الغرف أجرا على أعمال
المؤمنين (الذين صبروا) أي على دينهم وهاجروا إلى الله ونابذوا الأعداء وفارقوا الأهل والأقرباء ابتغاء وجه الله ورجاء
ما عنده وتصديق موعوده قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا أبي أخبرنا صفوان المؤذن أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا
معاوية بن سلام عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام الأسود حدثني أبو معاوية الأشعري أن أبا مالك الأشعري
حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم
الطعام وأطاب الكلام وتابع الصلاة والصيام وقام بالليل والناس نيام (وعلى ربهم يتوكلون) في أحوالهم كلها في
دينهم ودنياهم. ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا بل كانت
أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والامصار ولهذا
قال تعالى (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئا لغد (الله يرزقها وإياكم) أي
يقيض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض
والطير في الهواء والحيتان في الماء. قال تعالى (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها
كل في كتاب مبين) وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عبد الرحمن الهروي حدثنا يزيد يعني ابن هارون حدثنا
الجراح بن منهال الجزري - هو أبو العطوف - عن الزهري عن رجل عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال لي " يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ " قال قلت لا أشتهيه يا
رسول الله قال (لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك
كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم بضعف اليقين؟ " قال فوالله ما برحنا ولا
رمنا حتى نزلت (وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله عز
وجل لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله ألا وإني لا أكنز دينارا
ولا درهما ولا أخبأ رزقا لغد " هذا حديث غريب وأبو العطوف الجزري ضعيف وقد ذكروا أن الغراب إذا فقس عن فراخه
البيض خرجوا وهم بيض فإذا رآهم أبواهم كذلك نفرا عنهم أياما حتى يسود الريش فيظل الفرخ فاتحا فاه يتفقد
430

أبويه فيقيض الله تعالى طيرا صغارا كالبرغش فيغشاه فيتقوت به تلك الأيام حتى يسود ريشه والأبوان يتفقدانه كل
وقت فكلما رأوه أبيض الريش نفرا عنه فإذا رأوه اسود ريشه عطفا عليه بالحضانة والرزق ولهذا قال الشاعر.
يا رازق النعاب في عشه * وجابر العظم الكسير المهيض
وقد قال الشافعي في جملة كلام له في الأوامر كقول النبي صلى الله عليه وسلم " سافروا تصحوا وترزقوا " قال البيهقي أخبرنا إملاء أبو
الحسن علي بن أحمد بن عبد ان أخبرنا أحمد بن عبيد أخبرنا محمد بن غالب حدثني محمد بن سنان أخبرنا محمد بن
عبد الرحمن بن يزداد شيخ من أهل المدينة حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سافروا
تصحوا وتغنموا " قال ورويناه عن ابن عباس وقال الإمام أحمد حدثنا قبيصة أخبرنا ابن لهيعة عن دراج عن عبد
الرحمن بن حجير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سافروا تربحوا وصوموا تصحوا واغزوا تغنموا " وقد ورد
مثل حديث ابن عمر عن ابن عباس مرفوعا وعن معاذ بن جبل موقوفا وفي لفظ " سافروا مع ذوي الجد والميسرة " قال
ورويناه عن ابن عباس وقوله (وهو السميع العليم) أي السميع لأقوال عباده العليم بحركاتهم وسكناتهم.
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنا يؤفكون (61) الله يبسط الرزق لمن
يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شئ عليم (62) ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من
بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون (63)
يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو لان المشركين الذين يعبدون معه غير معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض
والشمس والقمر وتسخير الليل والنهار وأنه الخالق الرازق لعباده ومقدر آجالهم واختلافها واختلاف أرزاقهم.
فتفاوت بينهم فمنهم الغني والفقير وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى ممن يستحق الفقر فذكر أنه
المستقل بخلق الأشياء المنفرد بتدبيرها فإذا كان الامر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد
في ملكه فليكن الواحد في عبادته وكثيرا ما يقرر تعالى مقام الإلهية بالاعتراف بتوحيد الربوبية وقد كان المشركون
يعترفون بذلك كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون (64) فإذا ركبوا في الفلك دعوا
الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون (65) ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون (66)
يقول تعالى مقررا أنه لا إله إلا هو لان المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقل بخلق السماوات والأرض
الحيوان) أي الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء بل هي مستمرة أبد الآباد وقوله تعالى (لو كانوا
يعلمون) أي لآثروا ما يبقى على ما يفنى ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له
فهلا يكون هذا منهم دائما (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين) كقوله تعالى (وإذا مسكم الضر في
البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم) الآية وقال ههنا (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون)
وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عكرمة بن أبي جهل أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهب فارا منها فلما ركب في البحر
ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة فقال أهلها يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء فإنه لا ينجي ههنا إلا هو فقال عكرمة
والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره اللهم لك علي عهد لئن خرجت لا ذهبن فلأضعن
يدي في يد محمد فلأجدنه رؤوفا رحيما فكان كذلك وقوله تعالى (ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا) هذه اللام يسميها
كثير من أهل العربية والتفسير وعلماء الأصول لام العاقبة لانهم لا يقصدون ذلك ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم وأما
بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله (ليكون لهم
عدوا وحزنا).
431

أو لم يروا إنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون (67) ومن أظلم ممن افترى
على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين (68) والذين جهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين (69)
يقول تعالى ممتنا على قريش فيما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ومن دخله كان آمنا فهم في
أمن عظيم والاعراب حوله ينهب بعضهم بعضا ويقتل بعضهم بعضا كما قال تعالى (لايلاف قريش) إلى آخر السورة.
وقوله تعالى (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا
معه غيره من الأصنام والأنداد و (بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار) فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله فكان
اللائق بهم إخلاص العبادة لله وأن لا يشركوا به وتصديق الرسول وتعظيمه وتوقيره فكذبوه فقاتلوه فأخرجوه من بين
ظهرهم ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم به عليهم وقتل من قتل منهم ببدر ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين
ففتح الله على رسوله مكة وأرغم آنافهم وأذل رقابهم ثم قال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب
بالحق لما جاءه) أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله فقال إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شئ. ومن قال سأنزل
مثل ما أنزل الله وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه فالأول مفتر والثاني مكذب ولهذا قال تعالى
(أليس في جهنم مثوى للكافرين) ثم قال تعالى (والذين جاهدوا فينا) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم
الدين (لنهدينهم سبلنا) أي لنبصرنهم سبلنا أي طرقنا في الدنيا والآخرة. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أحمد بن
أبي الحواري أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا في قول الله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن
الله لمع المحسنين) قال الذين يعملون بما يعلمون يهديهم الله لما لا يعلمون قال أحمد بن أبي الحواري فحدثت به
أبا سليمان يعني الداراني فأعجبه وقال ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر فإذا سمعه
في الأثر عمل به وحمد الله حتى وافق ما في قلبه. وقوله (وإن الله لمع المحسنين) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
عيسى بن جعفر قاضي الري حدثنا أبو جعفر الرازي عن المغيرة عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم عليه السلام إنما
الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ليس الاحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك والله أعلم. آخر تفسير سورة.
العنكبوت ولله الحمد والمنة.
سورة الروم
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) غلبت الروم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين لله الامر من قبل
ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون (4) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم (5) وعد الله لا يخلف الله
وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون (6) يعلمون ظهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غفلون (7)
نزلت هذه الآيات حين غلب سابور ملك الفرس على بلاد الشام وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم فاضطر
هرقل ملك الروم حتى ألجأه إلى القسطنطينية وحاصره فيها مدة طويلة ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. وقال الإمام أحمد
حدثنا معاوية بن عمر وحدثنا أبو إسحاق عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض) قال غلبت وغلبت قال كان
432

المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لانهم أصحاب أوثان. وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس
لانهم أهل الكتاب. فذكر ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنهم سيغلبون " فذكره
أبو بكر لهم فقالوا اجعل بيننا وبينك أجلا فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل أجل خمس
سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ألا جعلتها إلى دون أراه قال العشر - " قال سعيد بن جبير
البضع ما دون العشر ثم ظهرت الروم بعد قال فذلك قوله: (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم
سيغلبون - إلى قوله - وهو العزيز الرحيم) هكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا عن الحسين بن حريث عن معاوية بن
عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان الثوري به وقال الترمذي حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث سفيان عن
حبيب ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن إسحاق الصنعاني عن معاوية بن عمرو به. ورواه ابن جرير حدثنا محمد بن
المثنى حدثنا محمد بن سعيد أو سعيد الثعلبي الذي يقال له أبو سعد من أهل طرسوس حدثنا أبو إسحاق الفزاري
فذكره وعندهم قال سفيان فبلغني أنهم غلبوا يوم بدر (حديث آخر) قال سليمان بن مهران الأعمش عن مسلم عن
مسروق قال: قال عبد الله خمس قد مضين: الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم أخرجاه. وقال ابن جرير
حدثنا ابن وكيع حدثنا المحاربي عن داود بن أبي هند عن عامر - هو الشعبي - عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:
كانت فارس ظاهرة على الروم وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم. وكان المسلمون يحبون أن تظهر
الروم على فارس لانهم أهل كتاب. وهم أقرب إلى دينهم فلما نزلت (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد
غلبهم سيغلبون في بضع سنين) قالوا يا أبا بكر إن صاحبك يقول إن الروم تظهر على فارس في بضع سنين: قال صدق
قالوا هل لك أن نقامرك فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع ولم يكن شئ ففرح المشركون بذلك
فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: " ما بضع سنين عندكم؟ " قالوا دون العشر قال: " اذهب فزايدهم
وازدد سنتين في الاجل " قال فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ففرح المؤمنون بذلك
وأنزل الله تعالى: (ألم * غلبت الروم - إلى قوله تعالى - وعد الله لا يخلف الله وعده). (حديث آخر) قال ابن أبي
حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عمر الوكيعي حدثنا مؤمن عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن البراء قال لما
نزلت (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون) قال المشركون لأبي بكر ألا ترى إلى ما يقول
صاحبك يزعم أن الروم تغلب فارس قال صدق صاحبي قالوا هل لك أن نخاطرك فجعل بينه وبينهم أجلا فحل الاجل قبل
أن تغلب الروم فارس فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وساءه ذلك وكرهه وقال لأبي بكر " ما دعاك إلى هذا؟ " قال تصديقا لله
ولرسوله قال: " تعرض لهم وأعظم لهم الخطر واجعله إلى بضع سنين " فأتاهم أبا بكر فقال هل لكم في العود فإن العود
أحمد؟ قالوا نعم فلم تمض تلك السنين حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فجاء أبو
بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هذا السحت قال " تصدق به " (حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي حدثنا محمد بن إسماعيل
حدثنا إسماعيل بن أبي أويس أخبرني ابن أبي الزناد عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت (ألم *
غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين
للروم وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لانهم وإياهم أهل كتاب وفي ذلك قوله تعالى: (يومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) وكانت قريش تحب ظهور فارس لانهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب
ولا إيمان يبعث فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر يصيح في نواحي مكة (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من
بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) فقال ناس من قريش لأبي بكر فذاك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب
فارس في بضع سنين أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا
الرهان وقالوا لأبي بكر كم نجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين فسم بيننا وبينك وسطا ننتهي إليه قالوا فسموا بينهم
ست سنين قال فمضت ست السنين قبل أن يظهروا فأخذ المشركون رهن أبي بكر فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم
على فارس قال فعاب المسلمون على أبي بكر تسميته ست سنين قال لان الله يقول في بضع سنين قال فأسلم عند ذلك
433

ناس كثير. هكذا ساقه الترمذي ثم قال هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد
وقد روي نحو هذا مرسلا عن جماعة من التابعين مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وقتادة والسدي والزهري وغيرهم ومن
أغرب هذه السياقات ما رواه الامام سنيد بن داود في تفسيره حيث قال حدثني حجاج عن أبي بكر عن عكرمة قال: كان
في فارس امرأة لا تلد إلا الملوك والابطال فدعاها كسرى فقال إني أريد أن أبعث إلى الروم جيشا وأستعمل عليه رجلا من
بنيك فأشيري علي أيهم أستعمل؟ فقالت هذا فلان وهو أروغ من ثعلب وأحذر من صقر وهذا فرخان وهو أنفذ من
سنان وهذا شهريراز وهو أحلم من كذا تعني أولادها الثلاثة فاستعمل أيهم شئت قال فإني استعملت الحليم
فاستعمل شهريراز فسار إلى الروم بأهل فارس فظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم قال أبو بكر بن
عبد الله فحدث بهذا الحديث عطاء الخراساني فقال أما رأيت بلاد الشام؟ قلت لا قال أما إنك لو رأيتها لرأيت
المدائن التي خربت والزيتون الذي قطع فأتيت الشام بعد ذلك فرأيته قال عطاء الخراساني حدثني يحيى بن يعمر أن
قيصر بعث رجلا يدعى قطمة بجيش من الروم وبعث كسرى شهريراز فالتقيا بين أذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إليكم
فلقيت فارس الروم فغلبتهم فارس ففرحت بذلك كفار قريش وكرهه المسلمون قال عكرمة: ولقي المشركون أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل
الكتاب وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم فأنزل الله تعالى: (ألم * غلبت الروم في أدنى الأرض - إلى قوله - ينصر من
يشاء) فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم
فوالله ليظهرن الله الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقام إليه أبي بن خلف فقال كذبت يا أبا فضيل فقال له أبو بكر: أنت
أكذب يا عدو الله فقال أناحبك عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت
فارس غرمت إلى ثلاث سنين ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: " ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث
إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الاجل " فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال لعلك ندمت؟ فقال لا تعال أزايدك في
الخطر وأمادك في الاجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال قد فعلت فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم
المسلمون. قال عكرمة لما أن ظهرت فارس على الروم جلس فرخان يشرب وهو أخو شهريراز فقال لأصحابه لقد رأيت
كأني جالس على سرير كسرى فبلغت كسرى فكتب كسرى إلى شهريراز إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرخان فكتب
إليه شهريراز أيها الملك إنك لن تجد مثل فرخان له نكاية وصوت في العدو فلا تفعل فكتب إليه إن في رجال فارس
خلفا منه فعجل إلي برأسه. فراجعه فغضب كسرى فلم يجبه وبعث بريدا إلى أهل فارس إني قد نزعت عنكم شهريراز
واستعملت عليكم فرخان ثم رفع إلى البريد صحيفة لطيفة صغيرة فقال إذا ولى فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطه هذه
فلما قرأ شهريراز الكتاب قال سمعا وطاعة ونزل عن سريره وجلس عليه فرخان ورفع إليه الصحيفة اللطيفة فلما قرأها قال
ائتوني بشهريراز وقدمه ليضرب عنقه فقال شهريراز لا تعجل حتى أكتب وصيتي قال نعم فدعا بالسفط فأعطاه
الصحائف فقال كل هذا راجعت فيك كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد فرد الملك إلى أخيه شهريراز وكتب
شهريراز إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ولا تحملها الصحف فالقني ولا تلقني إلا في خمسين
روميا فإني لا ألقاك إلا في خمسين فارسيا. فأقبل قيصر في خمسمائة رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق
وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه بأنه ليس معه إلا خمسون رجلا ثم بسط لهما والتقيا في قبة ديباج ضربت
لهما مع كل واحد منهما سكين فدعيا ترجمانا بينهما فقال شهريراز إن الذين خربوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن
كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي فأبيت ثم أمر أخي أن يقتلني فقد خلعنا جميعا فنحن نقاتله معك. قال قد أصبتما ثم
أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا قال أجل فقتلا الترجمان جميعا بسكينيهما فأهلك الله
كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ففرح والمسلمون معه. فهذا سياق غريب وبناء عجيب. ولنتكلم
على كلمات هذه الآيات الكريمات فقوله تعالى: (ألم * غلبت الروم) قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في
أوائل السور في أول سورة البقرة وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم وهم أبناء عم بني إسرائيل
434

ويقال لهم بنو الأصفر وكانوا على دين اليونان واليونان من سلالة يافث بن نوح أبناء عم الترك وكانوا يعبدون الكواكب
السيارة السبعة ويقال لها المتحيرة ويصلون إلى القطب الشمالي وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها وفيه محاريب إلى
جهة الشمال فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة
يقال له قيصر فكان أول من دخل في دين النصارى من ملوك الروم قسطنطين بن قسطس وأمه مريم الهيلانية الغندقانية
من أرض حران كانت قد تنصرت قبله فدعته إلى دينها وكان قبل ذلك فيلسوفا فتابعها يقال تقية واجتمعت به النصارى
وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس واختلفوا اختلافا كثيرا منتشرا متشتتا لا ينضبط إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلثمائة
وثمانية عشر أسقفا فوضعوا لقسطنطين العقيدة وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة وإنما هي الخيانة الحقيرة ووضعوا له
القوانين يعنون كتب الاحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك مما يحتاجون إليه وغيروا دين المسيح عليه السلام وزادوا
فيه ونقصوا من فصلوا إلى المشرق واعتاضوا عن السبت بالأحد وعبدوا الصليب وأحلوا الخنزير واتخذوا أعيادا
أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعابين وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ثم البتاركة
ثم المطارنة ثم الأساقفة والقساقسة ثم الشمامسة وابتدعوا الرهبانية وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد وأسس
المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية يقال إنه بنى في أيامه اثنى عشر ألف كنيسة وبنى بيت لحم بثلاث محاريب
وبنت أمه القمامة وهؤلاء هم الملكية يعنون الذين هم على دين الملك ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب
الإسكاف ثم النسطورية أصحاب نسطورا وهم فرق وطوائف كثيرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنهم افترقوا على اثنتين
وسبعين فرقة " والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما هلك قيصر خلفه آخر بعده حتى كان آخرهم هرقل وكان من
عقلاء الرجال ومن أحزم الملوك وأدهاهم وأبعدهم غورا وأقصاهم رأيا فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة فناوأه
كسرى ملك الفرس وملك البلاد كالعراق وخراسان والري وجميع بلاد العجم وهو سابور ذو الأكتاف وكانت مملكته
أوسع من مملكة قيصر وله رياسة العجم وحماقة الفرس وكانوا مجوسا يعبدون النار فتقدم عن عكرمة أنه قال بعث إليه
نوابه وجيشه فقاتلوه والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة
قسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه وكانت النصارى تعظمه تعظيما زائدا ولم يقدر كسرى على فتح
البلد ولا أمكنه ذلك لحصانتها لان نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر فكانت تأتيهم الميرة والمدد من
هنالك فلما طال الامر دبر قيصر مكيدة ورأى في نفسه خديعة فطلب من كسرى أن يقلع من بلاده على مال يصالحه عليه
ويشترط عليه ما شاء فأجابه إلى ذلك وطلب منه أموالا عظيمة لا يقدر عليها أحد من ملوك الدنيا من ذهب وجواهر وأقمشة
وجوار وخدام وأصناف كثيره فطاوعه قيصر وأوهمه أن عنده جميع ما طلب واستقل عقله لما طلب منه ما طلب ولو
اجتمع هو وإياه لعجزت قدرتهما عن جمع عشره وسأل من كسرى أن يمكنه من الخروج إلى بلاد الشام وأقاليم مملكته
ليسعى في تحصيل ذلك من ذخائره وحواصله ودفائنه فأطلق سراحه فلما عزم قيصر على الخروج من مدينة قسطنطينية
جمع أهل ملته وقال: إني خارج في أمر قد أبرمته في جند قد عينته من جيشي فإن رجعت إليكم قبل الحول فأنا ملككم
وإن لم أرجع إليكم قبلها فأنتم بالخيار إن شئتم استمررتم على بيعتي وإن شئتم وليتم عليكم غيري فأجابوه بأنك ملكنا ما
دمت حيا ولو غبت عشرة أعوام فلما خرج من القسطنطينية خرج جريدة في جيش متوسط هذا وكسرى مخيم على
القسطنطينية ينتظره ليرجع فركب قيصر من فوره وسار مسرعا حتى انتهى إلى بلاد فارس فعاث في بلادهم قتلا لرجالها
ومن بها من المقاتلة أولا فأولا ولم يزل يقتل حتى انتهى إلى المدائن وهي كرسي مملكة كسرى فقتل من بها وأخذ جميع
حواصله وأمواله وأسر نساءه وحريمه وحلق رأس ولده وركبه على حمار وبعث معه من الأساورة من قومه في غاية الهوان
والذلة وكتب إلى كسرى يقول هذا ما طلبت فخذه فلما بلغ ذلك كسرى أخذه من الغم ما لا يحصيه إلا الله تعالى واشتد
حنقه على البلد فجد في حصارها بكل ممكن فلم يقدر على ذلك فلما عجز ركب ليأخذ عليه الطريق من مخاضة
جيحون التي لا سبيل لقيصر إلى القسطنطينية إلا منها فلما علم قيصر بذلك احتال بحيلة عظيمة لم يسبق إليها وهو أنه
أرصد جنده وحواصله التي معه عند فم المخاضة وركب في بعض الجيش وأمر بأحمال من التبن والبعر والروث فحملت
435

معه وسار إلى قريب من يوم في الماء مصعدا ثم أمر بإلقاء تلك الأحمال في النهر فلما مرت بكسرى وجنده ظن أنهم قد
خاضوا من هنالك فركبوا في طلبهم فشغرت المخاضة عن الفرس وقدم قيصر فأمرهم بالنهوض والخوض فخاضوا
وأسرعوا السير ففاتوا كسرى وجنوده ودخلوا القسطنطينية فكان ذلك يوما مشهودا عند النصارى وبقي كسرى وجيوشه
حائرين لا يدرون ماذا يصنعون لم يحصلوا على بلاد قيصر وبلادهم قد خربتها الروم وأخذوا حواصلهم وسبوا ذراريهم
ونساءهم فكان هذا من غلب الروم لفارس وكان ذلك بعد تسع سنين من غلب فارس للروم وكانت الوقعة الكائنة بين
فارس والروم حين غلبت الروم بين أذرعات وبصرى على ما ذكره ابن عباس وعكرمة وغيرهما وهي طرف بلاد الشام مما
يلي بلاد الحجاز وقال مجاهد كان ذلك في الجزيرة وهي أقرب بلاد الروم من فارس فالله أعلم. ثم كان غلب الروم
لفارس بعد بضع سنين وهي تسع فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع. وكذلك جاء في الحديث الذي
رواه الترمذي وابن جرير وغيرهما من حديث عبد الله بن عبد الرحمن الجمحي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن
ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في مناحبة (ألم غلبت الروم) الآية " ألا احتطت يا أبا بكر فإن البضع ما
بين ثلاث إلى تسع؟ " ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو أنه قال
ذلك والله أعلم. وقوله تعالى: (لله الامر من قبل ومن بعد) أي من قبل ذلك ومن بعده فبنى على الضم لما قطع
المضاف وهو قوله قبل عن الإضافة ونويت (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام
على فارس أصحاب كسرى وهم المجوس وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء
كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم. وقد ورد في الحديث الذي رواه الترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار من
حديث الأعمش عن عطية عن أبي سعيد قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا
به وأنزل الله (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) وقال الآخرون بل كان نصر الروم
على فارس عام الحديبية. قاله عكرمة والزهري وقتادة وغير واحد ووجه بعضهم هذا القول بأن قيصر كان قد نذر لئن
أظفره الله بكسرى ليمشين من حمص إلى إيليا وهو بيت المقدس شكرا لله تعالى ففعل فلما بلغ بيت المقدس لم
يخرج منه حتى وافاه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه مع دحية بن خليفة فأعطاه دحية لعظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى
إلى قيصر فلما وصل إليه سأل من بالشام من عرب الحجاز فأحضر له أبو سفيان صخر بن حرب الأموي في جماعة
من كبار قريش وكانوا بغزة فجئ بهم إليه فجلسوا بين يديه فقال أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
فقال أبو سفيان أنا فقال لأصحابه وأجلسهم خلفه إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذب فكذبوه فقال أبو سفيان فوالله
لولا أن يأثروا علي الكذب لكذبت فسأله هرقل عن نسبه وصفته فكان فيما سأله أن قال: فهل يغدر؟ قال قلت لا ونحن
منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها يعني بذلك الهدنة التي كانت قد وقعت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش عام الحديبية
على وضع الحرب بينهم عشر سنين فاستدلوا بهذا على أن نصر الروم على فارس كان عام الحديبية لان قيصر إنما وفى
بنذره بعد الحديبية والله أعلم.
ولأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن هذا بأن بلاده كانت قد خربت وتشعبت فما تمكن من وفاء نذره حتى أصلح
ما ينبغي له إصلاحه وتفقد بلاده ثم بعد أربع سنين من نصرته وفى بنذره والله أعلم.
والامر في هذا سهل قريب إلا أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين فلما انتصرت الروم على فارس فرح
المؤمنون بذلك لان الروم أهل كتاب في الجملة فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس كما قال تعالى: (لتجدن أشد الناس
عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى - إلى قوله - ربنا آمنا
فاكتبنا مع الشاهدين) وقال تعالى ههنا (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثني أسيد الكلابي قال سمعت العلاء بن الزبير الكلابي
يحدث عن أبيه قال رأيت غلبة فارس الروم ثم رأيت غلبة الروم فارس. ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك
في خمسة عشر سنة.
436

وقوله تعالى: (وهو العزيز) أي في انتصاره وانتقامه من أعدائه (الرحيم) بعباده المؤمنين وقوله تعالى: (وعد الله
لا يخلف الله وعده) أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق وخبر صدق لا
يخلف ولا بد من كونه ووقوعه لان الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلين إلى الحق ويجعل لها العاقبة
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وفق العدل. وقوله تعالى:
(يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها
وشؤونها وما فيها فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة
كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة قال الحسن البصري والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره
فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقال ابن عباس في قوله تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة
هم غافلون) يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال
أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس
بلقاء ربهم لكافرون (8) أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة
وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
(9) ثم كان عقبة الذين أساؤا السوأى أن كذبوا بأيت الله وكانوا بها يستهزؤن (10)
يقول تعالى منبها على التفكر في مخلوقاته الدالة على وجوده وانفراده بخلقها وأنه لا إله غيره ولا رب سواه فقال (أو لم
يتفكروا في أنفسهم) يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء من العالم العلوي والسفلي وما بينهما من
المخلوقات المتنوعة والأجناس المختلفة فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلا بل بالحق وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى
وهو يوم القيامة ولهذا قال تعالى (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) ثم نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به
عنه بما أيدهم به من المعجزات والدلائل الواضحات من إهلاك من كفر بهم ونجاة من صدقهم. فقال تعالى (أولم
يسيروا في الأرض) أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماعهم أخبار الماضين ولهذا قال (فينظروا كيف كان عاقبة
الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة) أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم قوة أيها المبعوث إليهم محمد
صلى الله عليه وسلم وأكثر أموالا وأولادا وما أوتيتم معشار ما أوتوا ومكنوا في الدنيا تمكينا لم تبلغوا إليه وعمروا فيها أعمارا طوالا
فعمروها أكثر منكم واستغلوها أكثر من استغلالكم ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا أخذهم
الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبين بأس الله ولا دفعوا عنهم مثقال ذرة
وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي وإنما أوتوا من أنفسهم حيث
كذبوا بآيات الله واستهزأوا بها وما ذاك إلا بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم ولهذا قال تعالى " ثم كان عاقبة الذين
أساءوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون) كما قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به
أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) وقال تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وقال تعالى (فإن تولوا فاعلم أنما
يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم) وعلى هذا تكون السوأى منصوبة مفعولا لأساؤا وقيل بل المعنى في ذلك (ثم
كان عاقبة الذين أساءوا السوأى) أي كانت السوأى عاقبتهم لانهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون. فعلى هذا
تكون السوأى منصوبة خبر كان هذا توجيه ابن جرير ونقله عن ابن عباس وقتادة ورواه ابن أبي حاتم عنهما وعن
الضحاك بن مزاحم وهو الظاهر والله أعلم لقوله (وكانوا بها يستهزئون).
الله يبدؤ الخلق ثم يعيده فم إليه ترجعون (11) ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون (12) ولم يكن لهم من
شركائهم شفعاؤا وكانوا بشركائهم كفرين (13) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون (14) فأما الذين آمنوا وعملوا
437

الصالحات فهم في روضة يحبرون (15) وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب
محضرون (16)
يقول تعالى (الله يبدأ الخلق ثم يعيده) أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته (ثم إليه ترجعون) أي يوم
القيامة فيجازي كل عامل بعمله. ثم قال (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) قال ابن عباس: ييأس
المجرمون وقال مجاهد يفتضح المجرمون وفي رواية يكتئب المجرمون (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء) أي ما
شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم. ثم قال تعالى
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال قتادة هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين
وخفض هذا إلى أسفل سافلين فذلك آخر العهد بينهما ولهذا قال تعالى (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في
روضة يحبرون) قال مجاهد وقتادة: ينعمون وقال يحيى بن أبي كثير يعني سماع الغناء. والحبرة أعم من هذا كله قال العجاج:
فالحمد لله الذي أعطى الحبر * موالى الحق إن المولى شكر
فسبحن الله حين تمسون وحين تصبحون (17) وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون (18)
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيى الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون (19)
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة الدالة على كمال
قدرته وعظيم سلطانه عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه. ثم اعترض بحمده
مناسبة للتسبيح وهو التحميد فقال تعالى (وله الحمد في السماوات والأرض) أي هو المحمود على ما خلق في
السماوات والأرض ثم قال تعالى (وعشيا وحين تظهرون) فالعشاء هو شدة الظلام والاظهار قوة الضياء فسبحان خالق
هذا وهذا فالق الاصباح وجاعل الليل سكنا كما قال تعالى (والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها) وقال تعالى
(والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى) وقال تعالى (والضحى والليل إذا سجى) والآيات في هذا كثيرة. وقال
الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زياد بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال " ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفى؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى سبحان الله حين
تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ". وقال الطبراني حدثنا مطلب بن
شعيب الأزدي حدثنا عبد الله بن صالح حدثني الليث بن سعد عن سعيد بن بشير عن محمد بن عبد الرحمن بن
البيلماني عن أبيه عن عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من قال حين يصبح سبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون الآية بكمالها أدرك ما فاته في يومه ومن قالها حين يمسي
أدرك ما فاته في ليلته " إسناد جيد (1) ورواه أبو داود في سننه وقوله تعالى (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من
الحي) هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة وهذه الآيات المتتابعة الكريمة كلها من هذا النمط فإنه
يذكر فيها خلقه الأشياء وأضدادها ليدل خلقه على كمال قدرته فمن ذلك إخراج النبات من الحب والحب من النبات
والبيض من الدجاج والدجاج من البيض والانسان من النطفة والنطفة من الانسان والمؤمن من الكافر والكافر من
المؤمن. وقوله تعالى (ويحيي الأرض بعد موتها) كقوله تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا
فمنه يأكلون - إلى قوله - وفجرنا فيها من العيون) وقال تعالى (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت
وأنبتت من كل زوج بهيج - إلى قوله - وأن الله يبعث من في القبور) وقال تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي
رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا - إلى قوله - لعلكم تذكرون) ولهذا قال ههنا (وكذلك تخرجون).
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20) ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزوجا

(1) في النسخة المكية: ضعيف.
438

لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (21)
يقول تعالى (ومن آياته) الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)
فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين ثم تصور فكان علقة ثم مضغة ثم صار عظاما شكله على شكل الانسان ثم كسا الله
تلك العظام لحما ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير ثم خرج من بطن أمه صغيرا ضعيف القوى والحركة ثم
كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ويسافر في أقطار الأقاليم
ويركب متن البحور ويدور أقطار الأرض ويكتسب ويجمع الأموال وله فكرة وغور ودهاء ومكر ورأي وعلم واتساع في
أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه فسبحان من أقدرهم وسيرهم وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت
بينهم في العلوم والفكرة والحسن والقبح والغنى والفقر والسعادة والشقاوة ولهذا قال تعالى (ومن آياته أن
خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون). وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد وغندر قالا حدثنا عوف عن
قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم
على قدر الأرض جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك " ورواه
أبو داود والترمذي من طرق عن عوف الاعرابي به وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقوله تعالى (ومن آياته أن
خلق لكم من أنفسكم أزواجا) أي خلق لكم من جنسكم إناثا تكون لكم أزواجا (لتسكنوا إليها) كما قال تعالى (هو
الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) يعني بذلك حواء خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر
الأيسر. ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكورا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم إما من جان أو حيوان لما حصل
هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس ثم من تمام رحمته ببني آدم أن
جعل أزواجهم من جنسهم وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة ورحمة وهي الرأفة فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته
لها أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد أو محتاجة إليه في الانفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك (إن في ذلك لآيات لقوم
يتفكرون).
ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعلمين (22) ومن
آياته منامكم باليل والنهار وابتغاؤكم من فضله إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون (23)
يقول تعالى (ومن آياته) الدالة على قدرته العظيمة (خلق السماوات والأرض) أي خلق السماوات في ارتفاعها
واتساعها وسقوف أجرامها وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات وخلق الأرض في انخفاضها وكثافتها وما فيها
من جبال وأودية وبحار وقفار وحيوان وأشجار. وقوله تعالى (واختلاف ألسنتكم) يعني اللغات فهؤلاء بلغة العرب
وهؤلاء تتر لهم لغة أخرى وهؤلاء كرج وهؤلاء روم وهؤلاء إفرنج وهؤلاء بربر وهؤلاء تكرور وهؤلاء حبشة وهؤلاء هنود
وهؤلاء عجم وهؤلاء صقالبة وهؤلاء خرز وهؤلاء أرمن وهؤلاء أكراد إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى من اختلاف لغات
بني آدم واختلاف ألوانهم وهي حلاهم فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة كل له عينان
وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر بل لا بد أن يفارقه بشئ من السمت أو الهيئة أو الكلام
ظاهرا كان أو خفيا يظهر عند التأمل كل وجه منهم أسلوب بذاته وهيئة لا تشبه أخرى ولو توافق جماعة في صفة من
جمال أو قبح لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر (إن في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم بالليل
والنهار وابتغاؤكم من فضله) أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار فيه تحصل الراحة وسكون
الحركة وذهاب الكلال والتعب وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والاسفار في النهار وهذا ضد النوم (إن في
ذلك لآيات لقوم يسمعون) أي يعون. قال الطبراني حدثنا حجاج بن عمران السدوسي حدثنا عمرو بن الحصين
العقيلي حدثنا محمد بن عبد الله بن علاثة حدثنا ثور بن يزيد عن خالد بن معدان سمعت عبد الملك بن مروان يحدث
439

عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " قل
اللهم غارت النجوم وهدأت العيون وأنت حي قيوم يا حي يا قيوم أنم عيني واهدئ ليلي " فقلتها فذهب عني
ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون (24) ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم
تخرجون (25)
يقول تعالى (ومن آياته) الدالة على عظمته أنه (يريكم البرق خوفا وطمعا) أي تارة تخافون مما يحدث بعده من
أمطار مزعجة وصواعق متلفة وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه ولهذا قال تعالى (وينزل من
السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها) أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شئ فلما جاءها الماء (اهتزت وربت
وأنبتت من كل زوج بهيج) وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة ولهذا قال (إن في ذلك لآيات
لقوم يعقلون).
ثم قال تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) كقوله تعالى (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا
بإذنه) وقوله (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين
قال: والذي تقوم السماء والأرض بأمره أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض
غير الأرض والسماوات وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم ولهذا قال تعالى (ثم إذا دعاكم دعوة
من الأرض إذا أنتم تخرجون) أي من الأرض كما قال تعالى (يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا
قليلا) وقال تعالى (فإنما هي زجرة واحدة * فإذا هم بالساهرة) وقال تعالى (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم
جميع لدينا محضرون).
وله من في السماوات والأرض كل له قانتون (26) وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى
في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (27)
يقول تعالى (وله من في السماوات والأرض) أي ملكه وعبيده (كل له قانتون) أي خاضعون خاشعون طوعا وكرها.
وفي حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا " كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة "
وقوله (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس يعني أيسر عليه وقال
مجاهد الإعادة أهون عليه من البداءة والبداءة عليه هينة وكذا قال عكرمة وغيره وروى البخاري حدثنا أبو اليمان أخبرنا
شعيب أخبرنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى كذبني ابن آدم
ولم يكن له ذلك وشتمني ولم يكن له ذلك فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي
من إعادته وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الاحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " انفرد
بإخراجه البخاري كما انفرد بروايته أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة به وقد رواه الإمام أحمد
منفردا به عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة حدثنا أبو يونس سليم بن جبير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه أو
مثله. وقال آخرون كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السواء وقال العوفي عن ابن عباس كل عليه هين وكذا قاله الربيع بن
خيثم ومال إليه ابن جرير وذكر عليه شواهد كثيرة قال ويحتمل أن يعود الضمير في قوله (وهو أهون عليه) إلى الخلق
أي وهو أهون على الخلق. وقوله " وله المثل الاعلى في السماوات والأرض) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
كقوله تعالى (ليس كمثله شئ) وقال قتادة مثله أنه لا إله إلا هو ولا رب غيره وقال مثل هذا ابن جرير وقد أنشد
440

بعض المفسرين عند ذكر هذه الآية لبعض أهل المعارف.
إذا سكن الغدير على صفاء * وجنب أن يحركه النسيم
يرى فيه السماء بلا امتراء * كذاك الشمس تبدو والنجوم
كذاك قلوب أرباب التجلي * يرى في صفوها الله العظيم
وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع بل قد غلب كل شئ وقهر كل شئ بقدرته وسلطانه الحكيم في أقواله وأفعاله شرعا
وقدرا وعن مالك في تفسيره المروي عنه عن محمد بن المنكدر في قوله تعالى (وله المثل الاعلى) قال لا إله إلا الله.
ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم
كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون (28) بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من
أضل الله وما لهم من نصرين (29)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين به العابدين معه غيره الجاعلين له شركاء وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من
الأصنام والأنداد عبيد لملك له كما كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك. تملكه وما ملك. فقال تعالى
(ضرب لكم مثلا من أنفسكم) أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم
فأنتم فيه سواء) أي يرضى أحدكم أن يكون عبده شريكا له في ماله فهو وهو فيه على السواء (تخافونهم كخيفتكم
أنفسكم) أي تخافون أن يقاسموكم الأموال. قال أبو مجلز إن مملوكك لا تخاف إن يقاسمك مالك وليس له ذاك.
كذلك الله لا شريك له. والمعنى أن أحدكم يأنف من ذلك فكيف تجعلون لله الأنداد من خلقه وهذا كقوله تعالى
(ويجعلون لله ما يكرهون) أي من البنات حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا وجعلوها بنات الله وقد
كان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في
التراب فهم يأنفون من البنات وجعلوا الملائكة بنات الله فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم فهذا أغلظ الكفر وهكذا في
هذا المقام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه وأحدهم يأبى غاية الاباء ويأنف غاية الانفة من ذلك أن يكون عبده شريكه في
ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه (تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا).
قال الطبراني حدثنا محمود بن الفرج الأصبهاني حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي حدثنا حماد بن شعيب عن حبيب بن
أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان يلبي أهل الشرك لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك
تملكه وما ملك. فأنزل الله تعالى (هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم
كخيفتكم أنفسكم) ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأولى والاخرى. قال
تعالى (كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون). ثم قال تعالى مبينا أن المشركين إنما عبدوا غيره سفها من أنفسهم وجهلا
(بل اتبع الذين ظلموا) أي المشركون (أهواءهم) أي في عبادتهم الأنداد بغير علم (فمن يهدي من أضل الله)
أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم (وما لهم من ناصرين) أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير ولا محيد
لهم عنه لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر
الناس لا يعلمون (30) * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين (31) من الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون (32)
441

يقول تعالى: فسدد وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم الذي هداك الله لها وكملها
لك غاية الكمال وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده
وأنه لا إله غيره كما تقدم عند قوله تعالى (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) وفي الحديث " إني
خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم " وسنذكر في الأحاديث أن الله تعالى فطر خلقه على الاسلام ثم طرأ
على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية. وقوله تعالى (لا تبديل لخلق الله) قال بعضهم معناه لا
تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها فيكون خبرا بمعنى الطلب كقوله تعالى (ومن دخله كان
آمنا) وهو معنى حسن صحيح وقال آخرون هو خبر على بابه ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على
الجبلة المستقيمة لا يولد أحد إلا على ذلك ولا تفاوت بين الناس في ذلك. ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي
وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله (لا تبديل لخلق الله) أي لدين الله وقال
البخاري قوله (لا تبديل لخلق الله) لدين الله خلق الأولين دين الأولين الدين والفطرة الاسلام. حدثنا عبدان أخبرنا
عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من مولود
يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء " ثم يقول
(فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) ورواه مسلم من حديث عبد الله بن وهب عن
يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري به وأخرجاه أيضا من حديث عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي معنى هذا الحديث قد وردت أحاديث عن جماعة من الصحابة. فمنهم الأسود بن سريع
التميمي. قال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا يونس عن الحسن عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
وغزوت معه فأصبت ظفرا فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " ما بال أقوام جاوزهم
القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟ " فقال رجل يا رسول الله أما هم أبناء المشركين فقال " لا إنما خياركم أبناء المشركين " - ثم
قال - " لا تقتلوا ذرية لا تقتلوا ذرية " - وقال - " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو
ينصرانها " ورواه النسائي في كتاب السير عن زياد بن أيوب عن هشيم عن يونس وهو ابن عبيد عن الحسن البصري به.
ومنهم جابر بن عبد الله الأنصاري قال الإمام أحمد حدثنا هاشم ثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس عن الحسن عن جابر عن
عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرا وإما
كفورا " ومنهم عبد الله بن عباس الهاشمي قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة حدثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم "
أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعا بذلك
وقد قال الإمام أحمد أيضا حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال: أتى علي
زمان وأنا أقول أولاد المسلمين مع المسلمين وأولاد المشركين مع المشركين حتى حدثني فلان عن فلان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سئل عن أولاد المشركين فقال " الله أعلم بما كانوا عاملين " قال فلقيت الرجل فأخبرني فأمسكت عن قولي ومنهم
عياض بن حمار المجاشعي قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد حدثنا هشام عن قتادة عن مطرف عن عياض بن حمار
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته " إن ربي عز وجل أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي
هذا: كل ما نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم وحرمت
عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم
عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه
نائما ويقظان ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا فقلت رب إذا يثلغ رأسي فيدعه خبزة قال استخرجهم كما استخرجوك
واغزهم نغزك وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك قال: وأهل الجنة
ثلاثة ذو سلطان مقسط متصدق موفق ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ورجل عفيف متعفف ذو عيال -
442

قال - وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا
يخفى له طمع وإن دق إلا خانه ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك " وذكر البخيل والكذاب
والشنظير الفحاش انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن قتادة به وقوله تعالى (ذلك الدين القيم) أي التمسك
بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس فهم
عنه ناكبون كما قال تعالى (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) وقال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك
عن سبيل الله) الآية. وقوله تعالى (منيبين إليه) قال ابن زيد وابن جريج أي راجعين إليه (واتقوه) أي خافوه
وراقبوه (وأقيموا الصلاة) وهي الطاعة العظيمة (ولا تكونوا من المشركين) أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له
العبادة لا يريدون بها سواه. قال ابن جرير حدثني يحيى بن واضح حدثنا يونس عن ابن إسحاق عن يزيد بن أبي مريم
قال مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل فقال عمر ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ ثلاث وهن المنجيات: الاخلاص وهي
الفطرة فطرة الله التي فطر الناس عليها والصلاة وهي الملة والطاعة وهي العصمة فقال عمر صدقت. حدثني يعقوب
أنبأنا ابن علية أنبأنا أيوب عن أبي قلابة أن عمر رضي الله عنه قال لمعاذ ما قوام هذا الامر؟ فذكر نحوه وقوله تعالى (من
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه
وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض وقرأ بعضهم فارقوا دينهم أي تركوه وراء ظهورهم وهؤلاء كاليهود والنصارى
والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الاسلام كما قال تعالى (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله) الآية فأهل الأديان قبلنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة. وكل
فرقة منهم تزعم أنهم على شئ وهذه الأمة أيضا اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلا واحدة وهم أهل السنة
والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من
قديم الدهر وحديثه كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سئل صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم فقال " من كان
على ما أنا عليه اليوم وأصحابي "
وإذا مس الناس ضرا دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون (33) ليكفروا
بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (34) أم أنزلنا عليهم سلطنا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون (35) وإذا
أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون (36) أو لم يروا أن الله يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (37)
يقول تعالى مخبرا عن الناس أنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق
منهم في حالة الاختيار يشركون بالله ويعبدون معه غيره. وقوله تعالى (ليكفروا بما آتيناهم) هي لام العاقبة عند
بعضهم ولام التعليل عند آخرين ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك ثم توعدهم بقوله (فسوف تعلمون) قال بعضهم
والله لو توعدني حارس درب لخفت منه فكيف والمتوعد ههنا هو الذي يقول للشئ كن فيكون ثم قال تعالى منكرا على
المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان. (أم أنزلنا عليهم سلطانا) أي حجة (فهو
يتكلم) أي ينطق (بما كانوا به يشركون) وهذا استفهام إنكار أي لم يكن لهم شئ من ذلك، ثم قال تعالى (وإذا
أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) هذا إنكار على الانسان من حيث هو
إلا من عصمه الله ووفقه فإن الانسان إذا أصابته نعمة بطر. وقال (ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) أي يفرح في
نفسه ويفخر على غيره وإذا أصابه شدة قنط وأيس أن يحصل له بعد ذلك خير بالكية. قال الله تعالى (إلا الذين صبروا
وعملوا الصالحات) أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء كما ثبت في الصحيح " عجبا للمؤمن لا
يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " وقوله تعالى
443

(أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله فيوسع على قوم
ويضيق على آخرين (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون).
فأت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون (38) وما
آتيتم من ربا ليربوا في أمول الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون
(39) الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه
وتعلى عما يشركون (40)
يقول تعالى آمرا بإعطاء (ذي القربى حقه) أي من البر والصلة (والمسكين) وهو الذي لا شئ له ينفق عليه أو له
شئ لا يقوم بكفايته (وابن السبيل) وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره (ذلك خير للذين يريدون
وجه الله) أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى (وأولئك هم المفلحون) أي في الدنيا والآخرة. ثم قال تعالى
(وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله) أي من أعطى عطية يريد أن يرد عليه الناس أكثر مما أهدى
لهم فهذا لا ثواب له عند الله بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة ومحمد بن كعب والشعبي وهذا
الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه إلا أنه قد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة قاله الضحاك واستدل بقوله تعالى (ولا
تمنن تستكثر) أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه وقال ابن عباس: الربا رباءان فربا لا يصح يعني ربا البيع وربا
لا بأس به وهو هدية الرجل يريد فضلتها وأضعافها ثم تلا هذه الآية (وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند
الله) وإنما الثواب عند الله في الزكاة ولهذا قال تعالى (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) أي
الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء كما جاء في الصحيح " وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها
الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تصير التمرة أعظم من أحد " وقوله عز وجل (الله
الذي خلقكم ثم رزقكم) أي هو الخالق الرازق يخرج الانسان من بطن أمه عريانا لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى
ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك والرياش واللباس والمال والاملاك والمكاسب كما قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن سلام بن شرحبيل عن حبة وسواء ابني خالد قالا دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلح شيئا فأعناه فقال " لا
تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤسكما فإن الانسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ثم يرزقه الله عز وجل " وقوله تعالى (ثم
يميتكم) أي بعد هذه الحياة (ثم يحييكم) أي يوم القيامة وقوله تعالى (هل من شركائكم) أي الذين تعبدونهم
من دون الله (من يفعل من ذلكم من شئ) أي لا يقدر أحد منهم على فعل شئ من ذلك بل الله سبحانه وتعالى هو
المستقل بالخلق والرزق والاحياء والإماتة ثم يبعث الخلائق يوم القيامة ولهذا قال بعد هذا كله (سبحانه وتعالى عما
يشركون) أي تعالى وتقدس وتنزه وتعاظم وجل وعز عن أن يكون له شريك أو نظير أو مساو أو ولد أو والد بل هو الاحد
الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون (41) قل
سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين (42)
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي وغيرهم المراد بالبر ههنا الفيافي وبالبحر الأمصار والقرى وفي رواية عن
ابن عباس وعكرمة: البحر الأمصار والقرى ما كان منهما على جانب نهر وقال آخرون بل المراد بالبر هو البر المعروف
وبالبحر هو البحر المعروف. وقال زيد بن رفيع (ظهر الفساد) يعني انقطاع المطر عن البر يعقبه القحط وعن البحر
يعني دوابه. رواه ابن أبي حاتم وقال حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد بن المقري عن سفيان عن حميد بن قيس الأعرج
444

عن مجاهد (ظهر الفساد في البر والبحر) قال فساد البر قتل ابن آدم وفساد البحر أخذ السفينة غصبا وقال عطاء
الخراساني المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى وبالبحر جزائره. والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون ويؤيده ما قاله
محمد بن إسحاق في السيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم صالح ملك أيلة وكتب إليه ببحره يعني ببلده ومعنى قوله تعالى
(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي. وقال أبو
العالية: من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض لان صلاح الأرض والسماء بالطاعة ولهذا جاء في الحديث
الذي رواه أبو داود " لحد يقام في الأرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا " والسبب في هذا أن الحدود إذا
أقيمت انكف الناس أو أكثرهم أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات وإذا تركت المعاصي كان سببا في حصول البركات من
السماء والأرض. ولهذا إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك
الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية وهو تركها فلا يقبل إلا الاسلام أو السيف فإذا أهلك الله في زمانه
الدجال وأتباعه ويأجوج ومأجوج قيل للأرض أخرجي بركتك فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها
ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس وما ذاك إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فكلما أقيم العدل كثرت البركات
والخير. ولهذا ثبت في الصحيحين أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب وقال الإمام أحمد بن
حنبل حدثنا محمد والحسين قالا حدثنا عوف عن أبي مخذم قال وجد رجل في زمان زياد أو ابن زياد صرة فيها حب يعني
من بر أمثال النوى مكتوب فيها هذا نبت في زمان كان يعمل فيه بالعدل وروى مالك عن زيد بن أسلم أن المراد بالفساد
ههنا الشرك وفيه نظر وقوله تعالى (ليذيقهم بعض الذي عملوا) الآية أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات
اختبارا منه لهم ومجازاة على صنيعهم (لعلهم يرجعون) أي عن المعاصي كما قال تعالى (وبلوناهم بالحسنات
والسيئات لعلهم يرجعون) ثم قال تعالى (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) أي من قبلكم
(كان أكثرهم مشركين) أي فانظروا ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.
فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون (43) من كفر فعليه كفره ومن
عمل صلحا فلأنفسهم يمهدون (44) ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إنه لا يحب الكافرين (45)
يقول تعالى آمرا عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن
يأتي يوم لا مرد له من الله) أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له (يومئذ يصدعون) أي يتفرقون ففريق في الجنة
وفريق في السعير ولهذا قال تعالى (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون * ليجزي الذين آمنوا
وعملوا الصالحات من فضله) أي يجازيهم مجازاة الفضل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله
(إنه لا يحب الكافرين) ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.
ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم
تشكرون (46) ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا
نصر المؤمنين (47)
يذكر تعالى نعمه على خلقه في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته بمجئ الغيث عقبها ولهذا قال تعالى
(وليذيقكم من رحمته) أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد (ولتجري الفلك بأمره) أي في البحر وإنما
سيرها بالريح (ولتبتغوا من فضله) أي في التجارات والمعايش والسير من إقليم إلى إقليم وقطر إلى قطر (ولعلكم
تشكرون) أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من النعم الظاهرة والباطنة التي لا تعد ولا تحصى. ثم قال تعالى
(ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا) هذه تسلية من الله تعالى لعبده
445

ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه وإن كذبه كثير من قومه ومن الناس فقد كذبت الرسل المتقدمون مع ما جاءوا أممهم به من الدلائل
الواضحات. ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم وأنجى المؤمنين بهم (وكان حق علينا نصر المؤمنين) أي هو حق
أوجبه على نفسه الكريمة تكرما وتفضلا كقوله تعالى (كتب ربكم على نفسه الرحمة) وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي
حدثنا ابن نفيل حدثنا موسى بن أعين عن ليث عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما من امرئ مسلم يرد عن حوض أخيه إلا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم
القيامة " ثم تلا هذه الآية (وكان حقا علينا نصر المؤمنين).
الله الذي يرسل الريح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلله
فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون (48) وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين (49)
فانظر إلى اثر رحمت الله كيف يحيى الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شئ قدير (50) ولئن
أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (51)
يبين تعالى كيف يخلق السحاب الذي ينزل من الماء فقال تعالى (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا) إما من البحر
كما ذكره غير واحد أو مما يشاء الله عز وجل (فيبسطه في السماء كيف يشاء) أي يمده فيكثره وينميه ويجعل من القليل
كثيرا ينشئ سحابة ترى في رأى العين مثل الترس ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق وتارة يأتي السحاب من نحو البحر
ثقالا مملوءة كما قال تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت -
إلى قوله - كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) وكذلك قال ههنا (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في
السماء كيف يشاء ويجعله كسفا) قال مجاهد وأبو عمرو بن العلاء ومطر الوراق وقتادة يعني قطعا. وقال غيره متراكما
كما قاله الضحاك وقال غيره: أسود من كثرة الماء تراه مدلهما ثقيلا قريبا من الأرض وقوله تعالى (فترى الودق يخرج من
خلاله) أي فترى المطر وهو القطر يخرج من بين ذلك السحاب (فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون)
أي لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم. وقوله تعالى (وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله
لمبلسين) معنى الكلام أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قانطين أزلين من نزول المطر إليهم قبل ذلك فلما
جاءهم جاءهم على فاقة فوقع منهم موقعا عظيما وقد اختلف النحاة في قوله (من قبل أن ينزل عليهم من قبله
لمبلسين) فقال ابن جرير هو تأكيد وحكاه عن بعض أهل العربية. وقال آخرون من قبل أن ينزل عليهم المطر من قبله
أي الانزال لمبلسين ويحتمل أن يكون ذلك من دلالة التأسيس ويكون معنى الكلام أنهم كانوا محتاجين إليه قبل
نزوله ومن قبله أيضا قد فات عندهم نزوله وقتا بعد وقت فترقبوه في إبانه فتأخر ثم مضت فترقبوه فتأخر ثم جاءهم بغتة
بعد الا ياس منه والقنوط فبعد ما كانت أرضهم مقشعرة هامدة أصبحت وقد اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج
ولهذا قال تعالى (فانظر إلى آثار رحمة الله) يعني المطر (كيف يحيى الأرض بعد موتها) ثم نبه بذلك على إحياء
الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها فقال تعالى (إن ذلك لمحيي الموتى) أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء
الأموات (إنه على كل شئ قدير) ثم قال تعالى (ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون) يقول
تعالى (ولئن أرسلنا ريحا) يابسة على الزرع الذي زرعوه ونبت وشب واستوى على سوقه فرأوه مصفرا أي قد اصفر وشرع
في الفساد لظلوا من بعده أي بعد هذا الحال يكفرون أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم كقوله تعالى (أفرأيتم ما
تحرثون - إلى قوله - بل نحن محرومون) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع حدثنا هشيم
عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: الرياح ثمانية أربعة منها رحمة وأربعة منها عذاب فأما الرحمة
فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر والعاصف والقاصف وهما
في البحر فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة فجعله رخاء ورحمة وبشرى - بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب
446

تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل وإن شاء حركه بحركة العذاب فجعله عقيما وأودعه عذابا أليما
وجعله نقمة على من يشاء من عباده فيجعل صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه والرياح مختلفة في مهابها صبا ودبور
وجنوب وشمال وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف فريح لينة رطبة تغذي النبات وأبدان الحيوان وأخرى تجففه
وأخرى تهلكه وتعطبه وأخرى تسيره وتصلبه وأخرى توهنه وتضعفه وقال ابن أبي حاتم حدثنا ابن عبيد الله بن أخي
ابن وهب حدثنا عمي حدثنا عبد الله بن عباس حدثني عبد الله بن سليمان عن دراج عن عيسى بن هلال الصدفي عن
عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الريح مسخرة في الثانية - يعني الأرض الثانية - فلما أراد الله أن يهلك عادا
أمر خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا تهلك عادا فقال يا رب أرسل عليهم الريح قدر منخر الثور قال له الجبار تبارك
تعالى لا إذا تكفأ الأرض ومن عليها ولكن أرسل عليهم بقدر خاتم فهي التي قال الله في كتابه (ما تذر من شئ أتت
عليه إلا جعلته كالرميم) " هذا حديث غريب ورفعه منكر والأظهر أنه من كلام عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنه.
فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (52) وما أنت بهد العمى عن ضللتهم إن تسمع إلا
من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (53)
يقول تعالى كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون وهم مع
ذلك مدبرون عنك كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم بل ذلك إلى الله فإنه تعالى بقدرته
يسمع الأموات أصوات الاحياء إذا شاء ويهدي من يشاء ويضل من يشاء وليس ذلك لاحد سواه ولهذا قال تعالى (إن
تسمع إلا من يؤمن بآياتهم فهم مسلمون) أي خاضعون مستجيبون مطيعون فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه
وهذا حال المؤمنين والأول مثل الكافرين كما قال الله تعالى (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم
إليه يرجعون) وقد استدلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بهذه الآية (إنك لا تسمع الموتى) على توهيم عبد الله
ابن عمر في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر بعد ثلاثة أيام ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم حتى
قال له عمر يا رسول الله ما تخاطب من قوم قد جيفوا؟ فقال " والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكن لا
يجيبون " وتأولته عائشة على أنه قال " إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق " وقال قتادة أحياهم الله له حتى سمعوا
مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة والصحيح عند العلماء رواية عبد الله بن عمر لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه
كثيرة من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححا له عن ابن عباس مرفوعا " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه
في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ". وثبت (1) عنه صلى الله عليه وسلم لامته إذا سلموا على أهل القبور أن
يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم السلام عليكم دار قوم مؤمنين وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ولولا هذا
الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد والسلف مجمعون على هذا. وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت
يعرف بزيارة الحي له ويستبشر فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم " وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدري قال
رأيت عاصما الجحدري في منامي بعد موته بسنتين فقلت أليس قد مت؟ قال بلى قلت فأين أنت؟ قال أنا والله في
روضة من رياض الجنة أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى بكر بن عبد الله المزني فنتلقى
أخباركم قال قلت أجسامكم أم أرواحكم؟ قال هيهات قد بليت الأجسام وإنما تتلاقى الأرواح قال قلت فهل
تعلمون بزيارتنا إياكم؟ قال نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس قال قلت فكيف
ذلك دون الأيام كلها؟ قال لفضل يوم الجمعة وعظمته قال وحدثنا محمد بن الحسين ثنا بكر بن محمد ثنا حسن القصاب
قال كنت أغدو مع محمد بن واسع في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان فنقف على القبور فنسلم عليهم وندعو لهم

(1) من هنا إلى الآية التالية زيادة من النسخة المكية وهو غير موجود في النسخة الأميرية.
447

ثم ننصرف فقلت ذات يوم لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين؟ قال بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما
قبلها ويوما بعدها. قال ثنا محمد ثنا عبد العزيز بن أبان قال ثنا سفيان الثوري قال بلغني عن الضحاك أنه قال: من زار
قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس علم الميت بزيارته فقيل له وكيف ذلك؟ قال لمكان يوم الجمعة. حدثنا خالد بن
خداش ثنا جعفر بن سليمان عن أبي التياح يقول كان مطرف يغدو فإذا كان يوم الجمعة أدلج: قال وسمعت أبا التياح
يقول بلغنا أنه كان ينزل بغوطة فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه فرأى أهل القبور كل صاحب قبر
جالسا على قبره فقالوا هذا مطرف يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة؟ قالوا نعم ونعلم ما يقول فيه الطير قلت
وما يقولون؟ قال يقولون سلام عليكم حدثني محمد بن الحسن ثنا يحيى بن أبي بكر ثنا الفضل ابن الموفق ابن خال
سفيان بن عيينة قال لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا فكنت آتي قبره في كل يوم ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ثم
إني أتيته يوما فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه
عليه سحنة الموتى قال فكأني بكيت لما رأيته قال يا بني ما أبطأ بك عني قلت وإنك لتعلم بمجيئي؟ قال ما جئت مرة إلا
علمتها وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك قال فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا حدثني محمد حدثنا يحيى بن
بسطام ثنا عثمان بن سويد الطفاوي قال وكانت أمه من العابدات وكان يقال لها راهبة قال: لما احتضرت رفعت رأسها
إلى السماء فقالت يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي لا تخذلني عند الموت ولا توحشني. قال
فماتت فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور فرأيتها ذات يوم في منامي فقلت لها يا أمي كيف
أنت؟ قال أي بني إن للموت لكربة شديدة وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان ونتوسد السندس
والاستبرق إلى يوم النشور فقلت لها ألك حاجة؟ قالت نعم قلت وما هي؟ قالت لا تدع ما كنت تصنع من زيارتنا
والدعاء لنا فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك يقال لي يا راهبة هذا ابنك قد أقبل فأسر ويسر بذلك من
حولي من الأموات حدثني محمد ثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان ثنا بشر بن منصور قال لما كان زمن الطاعون كان
رجل يختلف إلى الجبان فيشهد الصلاة على الجنائز فإذا أمسى وقف على المقابر فقال آنس الله وحشتكم ورحم
غربتكم وتجاوز عن مسيئكم وقبل حسناتكم لا يزيد على هؤلاء الكلمات قال فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى
أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو قال فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاؤني فقلت ما أنتم وما حاجتكم؟ قالوا نحن
أهل المقابر قلت ما حاجتكم؟ قالوا إنك قد عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك قلت وما هي؟ قالوا
الدعوات التي كنت تدعو بها قال قلت فإني أعود لذلك قال فما تركتها بعد وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل
الحي من أقاربه وإخوانه. قال عبد الله بن المبارك حدثني ثور بن يزيد عن إبراهيم عن أيوب قال: تعرض أعمال الاحياء
على الموتى فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءا قالوا اللهم راجع به.
وذكر ابن أبي الدنيا عن أحمد بن أبي الحواري قال ثنا محمد أخي قال دخل عباد بن عباد على إبراهيم بن صالح وهو
على فلسطين فقال عظني قال بم أعظك أصلحك الله؟ بلغني أن أعمال الاحياء تعرض على أقاربهم من الموتى فانظر
ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك فبكى إبراهيم حتى أخضل لحيته. قال ابن أبي الدنيا وحدثني محمد بن
الحسين ثني خالد بن عمرو الأموي ثنا صدقة بن سلمان الجعفري قال: كانت لي شرة سمجة فمات أبي فتبت وندمت
على ما فرطت ثم زللت أيما زلة فرأيت أبي في المنام فقال أي بني ما كان أشد فرحي بك وأعمالك تعرض علينا فنشبهها
بأعمال الصالحين فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا فلا تخزني فيمن حولي من الأموات قال فكنت
أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر وكان جارا لي بالكوفة أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور يا مصلح الصالحين
ويا هادي المضلين ويا أرحم الراحمين. وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة وكان بعض الأنصار من أقارب
عبد الله بن رواحة يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة كان يقول ذلك بعد أن استشهد
عبد الله. وقد شرع السلام على الموتى والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال. وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته
إذا رأوا القبور أن يقولوا سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا
448

ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن
لم يسمع المسلم الرد والله أعلم.
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو
العليم القدير (54)
ينبه تعالى على تنقل الانسان في أطوار الخلق حال بعد حال فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم
يصير عظاما ثم تكسى العظام لحما وينفخ فيه الروح ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوى ثم يشب قليلا قليلا
حتى يكون صغيرا ثم حدثا ثم مراهقا ثم شابا وهو القوة بعد الضعف ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم وهو
الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة ولهذا قال تعالى
(ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء) أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد (وهو العليم
القدير) قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن فضيل ويزيد حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي قال: قرأت على ابن
عمر (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا) فقال (الله الذي خلقكم
من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا) ثم قال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قرأت علي
فأخذ علي كما أخذت عليك ورواه أبو داود والترمذي وحسنه من حديث فضيل به ورواه أبو داود من حديث عبد الله بن
جابر عن عطية عن أبي سعيد بنحوه.
ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون (55) وقال الذين أوتوا العلم والأيمن لقد
لبثتم في كتب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون (56) فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا
معذرتهم ولا هم يستعتبون (57)
يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان وفي الآخرة يكون منهم
جهل عظيم أيضا فمنه إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم
وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم قال الله تعالى (كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في
كتاب الله إلى يوم البعث) أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا فيقولون لهم
حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة (لقد لبثتم في كتاب الله) أي في كتاب الأعمال إلى يوم البعث أي من يوم خلقتم إلى
أن بعثتم ولكنكم كنتم لا تعلمون قال الله تعالى (فيومئذ) أي يوم القيامة (لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم) أي
اعتذارهم عما فعلوا (ولاهم يستعتبون) أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا كما قال تعالى (وإن يستعتبوا فما هم من
المعتبين).
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بأية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون (58)
كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون (59) فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (60)
يقول تعالى (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل) أي قد بينا لهم الحق ووضحناه لهم وضربنا لهم فيه
الأمثال ليستبينوا الحق ويتبعوه (ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون) أي لو رأوا أي آية كانت سواء
كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها ويعتقدون أنها سحر وباطل كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه كما قال تعالى (إن
الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ولهذا قال ههنا (كذلك يطبع
الله على قلوب الذين لا يعلمون * فاصبر إن وعد الله حق) أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم فإن الله تعالى منجز لك ما
449

وعدك من نصره إياك عليهم وجعله العاقبة لك لا مرية فيه ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هدى يتبع بل الحق كله منحصر
فيه قال سعيد عن قتادة نادى رجل من الخوارج عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الغداة فقال: (ولقد أوحي إليك وإلى
الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فأنصت له علي حتى فهم ما قال فأجابه وهو في
الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقد رواه ابن جرير من
وجه آخر فقال: حدثنا وكيع حدثنا يحيى بن آدم عن شريك عن عثمان عن أبي زرعة عن علي بن ربيعة قال: نادى رجل
من الخوارج عليا رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر فقال (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن
عملك ولتكونن من الخاسرين) فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين
لا يوقنون). (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي علي بن الجعد أخبرنا شريك عن عمران بن ظبيان عن ابن
يحيى قال صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج (لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين) فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا
يوقنون. (ما روي في فضل هذه السورة الشريفة واستحباب قراءتها في الفجر)
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عبد الملك بن عمير سمعت شبيب بن روح يحدث عن رجل من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح فقرأ فيها الروم فأوهم فلما انصرف قال " إنه يلبس علينا القرآن فإن أقواما
منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء فمن شهد منكم الصلاة معنا فليحسن الوضوء " وهذا إسناد حسن ومتن حسن
وفيه سر عجيب. ونبأ غريب وهو أنه صلى الله عليه وسلم تأثر بنقصان وضوء من ائتم به فدل ذلك على أن صلاة المأموم متعلقة بصلاة
الامام. آخر تفسير سورة الروم ولله الحمد والمنة.
سورة لقمان
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) تلك آيات الكتب الحكيم (2) هدى ورحمة للمحسنين (3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم بالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5)
تقدم في أول سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه السورة وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى
وشفاء ورحمة للمحسنين وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها وما
يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ووصلوا أرحامهم وقراباتهم وأيقنوا
بالجزاء في الدار الآخرة فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك لم يراءوا به ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكورا فمن فعل ذلك
كذلك فهو من الذين قال الله تعالى (أولئك على هدى من ربهم) أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي (وأولئك
هم المفلحون) أي في الدنيا والآخرة.
ومن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين
(6) وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا فبشره بعذاب أليم (7)
لما ذكر تعالى حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه كما قال تعالى (الله نزل أحسن الحديث
450

كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله) الآية عطف بذكر حال
الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب كما قال
ابن مسعود في قوله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) قال هو والله الغناء.
روى ابن جرير حدثني يونس بن عبد الاعلى قال أخبرنا ابن وهب أخبرني يزيد بن يونس عن أبي صخر عن ابن معاوية
البجلي عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية (ومن الناس
من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) فقال عبد الله بن مسعود الغناء والله الذي لا إله إلا هو يرددها ثلاث
مرات: حدثنا عمرو بن علي حدثنا صفوان بن عيسى أخبرنا حميد الخراط عن عمار عن سعيد بن جبير عن أبي الصهباء
أنه سأل ابن مسعود عن قول الله (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) قال الغناء وكذا قال ابن عباس وجابر وعكرمة
وسعيد بن جبير ومجاهد ومكحول وعمرو بن شعيب وعلي بن نديمة. وقال الحسن البصري نزلت هذه الآية (ومن
الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم) في الغناء والمزامير: وقال قتادة قوله (ومن الناس من
يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله علم) والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكن شراؤه استجابة بحسب المرء من
الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضر على ما ينفع وقيل أراد بقوله (يشتري لهو الحديث)
اشتراء المغنيات من الجواري قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن خلاد الصفار عن
عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل بيع المغنيات
ولا شراؤهن وأكل أثمانهن حرام وفيهم أنزل الله عز وجل علي (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل
الله) " وهكذا رواه الترمذي وابن جرير من حديث عبيد الله بن زحر بنحوه ثم قال الترمذي هذا حديث غريب وضعف
علي بن يزيد المذكور (قلت) علي وشيخه والراوي عنه كلهم ضعفاء والله أعلم وقال الضحاك في قوله تعالى (ومن
الناس من يشتري لهو الحديث) قال يعني الشرك وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم واختار ابن جرير أنه كل كلام
يصد عن آيات الله واتباع سبيله وقوله (ليضل عن سبيل الله) أي إنما يصنع هذا للتخالف للاسلام وأهله. وعلى
قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة أو تعليلا للامر القدري أي قيضوا لذلك ليكونوا كذلك وقوله تعالى (ويتخذها
هزوا) قال مجاهد يتخذ سبيل الله هزوا يستهزئ بها وقال قتادة يعني ويتخذ آيات الله هزوا وقول مجاهد أولى
وقوله (أولئك لهم عذاب مهين) أي استهانوا بآيات الله وسبيله أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.
ثم قال
تعالى (وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا) أي هذا المقبل على اللهو واللعب
والطرب إذا تليت عليه الآيات القرآنية ولى عنها وأعرض وأدبر وتصامم وما به من صمم كأنه ما سمعها لأنه يتأذى
بسماعها إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها (فبشره بعذاب أليم) أي يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله
وآياته.
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنت النعيم (8) خالدين فيها وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم (9)
هذا ذكر مآل الأبرار من السعداء في الدار الآخرة الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وعملوا الأعمال الصالحة التابعة
لشريعة الله (لهم جنات النعيم) أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسار من المآكل والمشارب والملابس والمساكن
والمراكب والنساء والنضرة والسماع الذي لم يخطر ببال أحد وهم في ذلك مقيمون دائما فيها لا يظعنون ولا يبغون عنها
حولا وقوله تعالى (وعد الله حقا) أي هذا كائن لا محالة لأنه من وعد الله والله لا يخلف الميعاد لأنه الكريم المنان
الفعال لما يشاء القادر على كل شئ (وهو العزيز) الذي قهر كل شئ ودان له كل شئ (الحكيم) في أقواله وأفعاله
الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم
عمى) الآية. وقوله (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا).
خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وبث فيها من كل دابة وأنزلنا من السماء ماء
451

فأنبتنا فيها من كل زوج كريم (10) هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلل مبين (11)
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما فقال تعالى (خلق السماوات بغير
عمد) قال الحسن وقتادة ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية. وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد لها عمد لا ترونها. وقد
تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد بما أغنى عن إعادته (وألقى في الأرض رواسي) يعني الجبال أرست
الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء ولهذا قال (أن تميد بكم) أي لئلا تميد بكم. وقوله تعالى (وبث
فيها من كل دابة) أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها ولما قرر
سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله (وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم) أي من كل زوج من
النبات كريم أي حسن المنظر وقال الشعبي والناس أيضا من نبات الأرض فمن دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار
فهو لئيم وقوله تعالى (هذا خلق الله) أي هذا الذي ذكره تعالى من خلق السماوات والأرض وما بينهما صادر عن فعل
الله وخلقه وتقديره وحده لا شريك له في ذلك ولهذا قال تعالى (فأروني ماذا خلق الذين من دونه) أي مما تعبدون
وتدعون من الأصنام والأنداد (بل الظالمون) يعني المشركين بالله العابدين معه غيره (في ضلال) أي في جهل
وعمى (مبين) أي ظاهر واضح لا خفاء به.
ولقد آتينا لقمان الحكمة أن أشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غنى حميد (12)
اختلف السلف في لقمان هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين الأكثرون على الثاني وقال سفيان
الثوري عن الأشعث عن عكرمة عن ابن عباس قال كان لقمان عبدا حبشيا نجارا وقال قتادة عن عبد الله بن الزبير قلت
لجابر بن عبد الله ما انتهى إليكم من شأن لقمان؟ قال كان قصيرا أفطس الانف من النوبة وقال يحيى بن سعيد
الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال كان لقمان من سودان مصر ذو مشافر أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة وقال
الأوزاعي حدثني عبد الرحمن بن حرملة قال جاء رجل أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد بن المسيب لا
تحزن من أجل أنك أسود فإنه كان من أخير الناس ثلاثة من السودان بلال ومهجع مولى عمر بن الخطاب ولقمان الحكيم
كان أسود نوبيا ذا مشافر وقال ابن جرير حدثنا وكيع حدثنا أبي عن أبي الأشهب عن خالد الربعي قال كان لقمان عبدا
حبشيا نجارا فقال له مولاه اذبح لنا هذه الشاة فذبحها قال أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ثم مكث ما
شاء الله ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها قال أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب فقال له مولاه أمرتك أن تخرج
أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما فقال لقمان إنه ليس من شئ أطيب
منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا وقال شعبة عن الحكم عن مجاهد كان لقمان عبدا صالحا ولم يكن نبيا وقال
الأعمش قال مجاهد كان لقمان عبدا أسود عظيم الشفتين مشقق القدمين وقال حكام بن سالم عن سعيد الزبيدي عن
مجاهد كان لقمان الحكيم عبدا حبشيا غليظ الشفتين مصفح القدمين قاضيا على بني إسرائيل وذكر غيره أنه كان قاضيا
على بني إسرائيل في زمان داود عليه السلام وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا الحكم حدثنا عمرو بن قيس قال
كان لقمان عبدا أسود غليظ الشفتين مصفح القدمين فأتاه رجل وهو في مجلس ناس يحدثهم فقال له ألست الذي كنت
ترعى معي الغنم في مكان كذا وكذا؟ قال نعم قال فما بلغ بك ما أرى؟ قال صدق الحديث والصمت عما لا يعنيني
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا صفوان حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد عن جابر قال: إن الله رفع
لقمان الحكيم بحكمته فرآه رجل كان يعرفه قبل ذلك فقال له ألست عبد بني فلان الذي كنت ترعى بالأمس؟ قال بلى
قال فما بلغ بك ما أرى؟ قال قدر الله وأداء الأمانة وصدق الحديث وتركي مالا يعنيني فهذه الآثار منها ما هو مصرح فيه
بنفي كونه نبيا ومنها ما هو مشعر بذلك لان كونه عبدا قد مسه الرق ينافي كونه نبيا لان الرسل كانت تبعث في أحساب
452

قومها ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة إن صح السند إليه فإنه رواه ابن جرير
وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة قال كان لقمان نبيا وجابر هذا هو ابن يزيد الجعفي وهو
ضعيف والله أعلم وقال عبد الله بن وهب أخبرني عبد الله بن عياش القتباني عن عمر مولى غفرة قال وقف رجل على
لقمان الحكيم فقال أنت لقمان أنت عبد بني الحسحاس؟ قال نعم قال أنت راعي الغنم؟ قال نعم قال أنت الأسود؟
قال أما سوادي فظاهر فما الذي يعجبك من أمري؟ قال وطئ الناس بساطك وغشيهم بابك ورضاهم بقولك قال يا
ابن أخي إن صغيت إلى ما أقول لك كنت كذلك قال لقمان غضي بصري وكفي لساني وعفة طعمتي وحفظي فرجي
وقولي بصدقي ووفائي بعهدي وتكرمتي ضيفي وحفظي جاري وتركي ما لا يعنيني فذاك الذي صيرني إلى ما ترى
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن فضيل حدثنا عمرو بن واقد عن عبدة بن رباح عن ربيعة عن أبي الدرداء أنه قال
يوما وذكر لقمان الحكيم فقال ما أوتي عن أهل ولا مال ولا حسب ولا خصال ولكنه كان رجلا صمصامة سكيتا طويل
التفكر عميق النظر لم ينم نهارا قط ولم يره أحد قط يبزق ولا يتنخع ولا يبول ولا يتغوط ولا يغتسل ولا يعبث ولا
يضحك وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد وكان قد تزوج وولد له أولاد فماتوا فلم يبك
عليهم وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتى. وقد ورد أثر غريب عن قتادة رواه
ابن أبي حاتم فقال حدثنا أبي حدثنا العباس بن الوليد حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد الخزاعي حدثنا سعيد بن بشير عن
قتادة قال: خير الله لقمان الحكيم بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة على النبوة قال فأتاه جبريل وهو نائم فذر
عليه الحكمة أو رش عليه الحكمة قال فأصبح ينطق بها قال سعيد فسمعت عن قتادة يقول قيل للقمان كيف اخترت
الحكمة على النبوة وقد خيرك ربك؟ فقال إنه لو أرسل إلي بالنبوة عزمة لرجوت فيه الفوز منه ولكنت أرجو أن أقوم بها
ولكنه خيرني فخفت أن أضعف عن النبوة فكانت الحكمة أحب إلي. فهذا من رواية سعيد بن بشير وفيه ضعف قد
تكلموا فيه بسببه فالله أعلم والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي
الفقه في الاسلام ولم يكن نبيا ولم يوح إليه وقوله (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي الفهم والعلم والتعبير (أن اشكر
لله) أي أمرناه أن يشكر الله عز وجل على ما أتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء
جنسه وأهل زمانه ثم قال تعالى (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه) أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين
لقوله تعالى (ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون) وقوله (ومن كفر فإن الله غني حميد) أي غنى عن العباد
لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا فإنه الغني عمن سواه فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه.
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يبنى لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم (13) ووصينا الانسان بولديه حملته أمه
وهنا على وهن وفصله في عامين أن أشكر لي ولولديك إلى المصير (14) وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به
علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلى ثم إلى مرجعكم فأنبئكم بما كنتم
تعملون (15)
يقول تعالى مخبرا عن وصية لقمان لولده وهو لقمان بن عنقاء بن سدون واسم ابنه ثاران في قول حكاه السهيلي
وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر وأنه آتاه الحكمة وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه فهو
حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ولهذا أوصاه أولا بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا ثم قال محذرا له (إن
الشرك لظلم عظيم) أي هو أعظم الظلم قال البخاري حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة
عن عبد الله قال: لما نزلت (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنه ليس بذلك ألا تسمع لقول لقمان (يا بني لا تشرك
بالله إن الشرك لظلم عظيم) " ورواه مسلم من حديث الأعمش به ثم قرن بوصيته إياه بعبادة الله وحده البر بالوالدين
453

كما قال تعالى (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) وكثيرا ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن
وقال ههنا (ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن) قال مجاهد مشقة وهن الولد وقال قتادة جهدا
على جهد وقال عطاء الخراساني ضعفا على ضعف وقوله (وفصاله في عامين) أي تربيته وإرضاعه بعد
وضعه في عامين كما قال تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) ومن ههنا
استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر لأنه قال في الآية الأخرى (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا) وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارا ليذكر الولد بإحسانه المتقدم
إليه كما قال تعالى (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ولهذا قال (أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير) أي
فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء قال ابن أبي حاتم حدثنا زرعة حدثنا عبد الله بن أبي شيبة ومحمود بن غيلان
قالا حدثنا عبيد الله أخبرنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن وهب قال: قدم علينا معاذ بن جبل وكان بعثه
النبي فقام وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن
تطيعوني لا آلوكم خيرا وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار إقامة فلا ظعن وخلود فلا موت. وقوله
(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما) أي إن حرصا عليك كل الحرص على أن
تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك ولا يمنعك ذلك من أن تصاحبهما في الدنيا معروفا أي محسنا إليهما
(واتبع سبيل من أناب إلي) يعني المؤمنين (ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون) قال الطبراني في
كتاب العشرة حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد حدثنا مسلمة بن
علقمة عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال أنزلت في هذه الآية (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس
لك به علم فلا تطعهما) الآية قال كنت رجلا برا بأمي فلما أسلمت قالت يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت
لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي فيقال يا قاتل أمه فقلت لا تفعلي يا أمه فإني لا أدع
ديني هذا لشئ فمكثت يوما وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت فمكثت يوما آخر وليلة لم تأكل فأصبحت قد
جهدت فمكثت يوما وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها فلما رأيت ذلك قلت يا أمه: تعلمين والله لو
كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا لشئ فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي فأكلت.
يبنى إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف
خبير (16) يبنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور
(17) ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور (18) واقصد في مشيك
واغضض من صوتك إن أنكر الأصوت لصوت الحمير (19)
هذه وصايا نافعة قد حكاها الله سبحانه عن لقمان الحكيم ليمتثلها الناس ويقتدوا بها فقال (يا بني إنها إن تك
مثقال حبة من خردل) أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل وجوز بعضهم أن يكون الضمير في
قوله إنها ضمير الشأن والقصة وجوز على هذا رفع مثقال والأول أولى وقوله عز وجل (يأت بها الله) أي
أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط وجازى عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما قال تعالى
(ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا) الآية وقال تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره *
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء أو غائبة ذاهبة في
أرجاء السماوات والأرض فإن الله يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في
الأرض. ولهذا قال تعالى (إن الله لطيف خبير) أي لطيف العلم فلا تخفى عليه الأشياء وإن دقت ولطفت
وتضاءلت (خبير) بدبيب النمل في الليل البهيم وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله (فتكن في صخرة) أنها
454

صخرة تحت الأرضين السبع وذكره السدي بإسناده ذلك المطروق عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة من
الصحابة إن صح ذلك ويروى هذا عن عطية العوفي وأبي مالك والثوري والمنهال بن عمرو وغيرهم وهذا والله
أعلم كأنه متلقى من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب والظاهر والله أعلم أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها
لو كانت داخل صخرة فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه. كما قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا
ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لو أن أحدكم يعمل في
صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائنا ما كان ". ثم قال (يا بني أقم الصلاة) أي بحدودها
وفروضها وأوقاتها (وأمر بالمعروف وانه عن المنكر) أي بحسب طاقتك وجهدك (واصبر على ما أصابك) علم
أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر وقوله (إن ذلك من عزم
الأمور) إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور. وقوله (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تعرض بوجهك عن
الناس إذا كلمتهم أو كلموك احتقارا منك لهم واستكبارا عليهم ولكن ألن جانبك وابسط وجهك إليهم كما جاء
في الحديث " ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الازار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها
الله " قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله (ولا تصعر خدك للناس) يقول لا تتكبر فتحتقر عباد الله
وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك وكذا روى العوفي وعكرمة عنه وقال مالك عن زيد بن أسلم (ولا تصعر
خدك للناس) لا تتكلم وأنت معرض وكذا روي عن مجاهد وعكرمة ويزيد بن الأصم وأبي الجوزاء وسعيد بن
جبير والضحاك وابن زيد وغيرهم وقال إبراهيم النخعي يعني بذلك التشديق في الكلام. والصواب القول الأول
قال ابن جرير: وأصل الصعر داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها حتى تفلت أعناقها عن رؤوسها فشبه به الرجل
المتكبر ومنه قول عمرو بن حي التغلبي:
وكنا إذا الجبار صعر خده * أقمنا له من ميله فتقوما
وقال أبو طالب في شعره:
وكنا قديما لا نقر ظلامة * إذا ما ثنوا صعر الرؤوس نقيمها
وقوله (ولا تمش في الأرض مرحا). أي خيلاء متكبرا جبارا عنيدا لا تفعل ذلك يبغضك الله ولهذا قال (إن الله
لا يحب كل مختال فخور) أي مختال معجب في نفسه فخور أي على غيره وقال تعالى (ولا تمش في الأرض
مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا) وقد تقدم الكلام على ذلك في موضعه وقال الحافظ أبو
القاسم الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى حدثنا أبي عن ابن أبي
ليلى عن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ثابت بن قيس بن شماس قال: ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فشدد فيه فقال (إن الله لا يحب كل مختال فخور) فقال رجل من القوم والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي
فيعجبني بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاقة سوطي فقال " ليس ذلك الكبر إنما الكبر أن تسفه الحق وتغمط
الناس " ورواه من طريق أخرى بمثله وفيه قصة طويلة ومقتل ثابت ووصيته بعد موته. وقوله (واقصد في مشيك)
أي امشي مشيا مقتصدا ليس بالبطئ المتثبط ولا بالسريع المفرط بل عدلا وسطا بين بين. وقوله (واغضض من
صوتك) أي لا تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ولهذا قال (إن أنكر الأصوات لصوت
الحمير) وقال مجاهد وغير واحد إن أقبح الأصوات لصوت الحمير أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في
علوه ورفعه ومع هذا هو بغيض إلى الله وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم لان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقئ ثم يعود في قيئه " وقال النسائي عند تفسير
هذه الآية حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا "
455

وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجة من طرق عن جعفر بن ربيعة به وفي بعض الألفاظ بالليل فالله أعلم.
فهذه وصايا نافعة جدا وهي من قصص القرآن العظيم عن لقمان الحكيم وقد روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء
كثيرة فلنذكر منها أنموذجا ودستورا إلى ذلك. قال الإمام أحمد حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا ابن المبارك أخبرنا
سفيان أخبرني نهشل بن مجمع الضبي عن قزعة عن ابن عمر قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن لقمان الحكيم
كان يقول إن الله إذا استودع شيئا حفظه " وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد الأشج حدثنا عيسى بن يونس عن
الأوزاعي عن موسى بن سليمان عن القاسم بن مخيمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قال لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه
يا بني إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل مذمة بالنهار " وقال حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان بن ضمرة حدثنا
الثري بن يحيى قال: قال لقمان لابنه يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وقال أيضا حدثنا
أبي حدثنا عبدة بن سليمان أخبرنا ابن المبارك حدثنا عبد الرحمن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: قال
لقمان لابنه يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الاسلام يعني السلام ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى
تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.
وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار حدثنا ضمرة عن حفص بن عمر قال: وضع
لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل فقال يا بني لقد وعظتك
موعظة لو وعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن عبد الباقي المصيصي حدثنا
أحمد بن عبد الرحمن الخزاعي ثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي حدثنا أنس بن سفيان المقدسي عن خليفة بن
سلام عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات
أهل الجنة: لقمان الحكيم والنجاشي وبلال المؤذن " قال الطبراني أراد الحبش.
(فصل في الخمول والتواضع)
وذلك متعلق بوصية لقمان عليه السلام لابنه وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابا
مفردا ونحن نذكر منه مقاصده قال: حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا عبد الله بن موسى المدني عن أسامة بن زيد
ابن حفص بن عبد الله بن أنس عن جده أنس بن مالك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رب أشعث ذي طمرين
يصفح عن أبواب الناس إذا أقسم على الله لابره " ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت وعلي بن زيد عن
أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وزاد " منهم البراء بن مالك " وروي أيضا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " طوبى للاتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يفتقدوا أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة
غبراء مشتتة " وقال أبو بكر بن سهل التميمي حدثنا ابن أبي مريم حدثنا نافع بن يزيد عن عياش بن عباس عن
عيسى بن عبد الرحمن عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل
يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له ما يبكيك يا معاذ؟ قال حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمعته يقول " إن
اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يعرفوا
قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة " حدثنا الوليد بن شجاع حدثنا غنام بن علي عن حميد بن
عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رب ذي طمرين لا
يؤبه له لو أقسم على الله لابره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لاعطاه الله الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئا " وقال
أيضا حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن من أمتي من لو أتى باب أحدكم يسأله دينارا أو درهما أو فلسا لم يعطه ولو سأل الله الجنة لاعطاه إياها ولو
سأله الدنيا لم يعطه إياها ولم يمنعها إياه لهوانه عليه ذو طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لابره " وهذا مرسل
من هذا الوجه وقال أيضا حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جعفر بن سليمان حدثنا عوف قال: قال أبو هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الامراء لم
456

يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصف لهم حوائج أحدهم تتجلجل في صدره لو
قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم " قال وأنشدني عمر بن شيبة عن ابن عائشة قال: قال عبد الله بن المبارك:
ألا رب ذي طمرين في منزل غدا * زرابيه مبثوثة ونمارقه
قد اطردت أنواره حول قصره * وأشرق والتفت عليه حدائقه
وروي أيضا من حديث عبيد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعا " قال الله: من أغبط
أوليائي عندي مؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأعطاه في السر وكان غامضا في
الناس لا يشار إليه بالأصابع إن صبر على ذلك " قال ثم أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال " عجلت منيته وقل تراثه
وقلت بواكيه " وعن عبد الله بن عمرو قال: أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء؟ قال الفرارون
بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم. وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم
القيامة ألم أنعم عليك ألم أعطك ألم أسترك؟ ألم... ألم... ألم أجمل ذكرك ثم قال الفضيل إن استطعت
أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محبوبا عند الله. وكان ابن
محيريز يقول اللهم إني أسألك ذكرا خاملا وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك
واجعلني في نفسي من أوضع خلقك وعند الناس من أوسط خلقك ثم قال:
(باب ما جاء في الشهرة)
حدثنا أحمد بن عيسى المصري حدثنا ابن وهب عن عمر بن الحارث وابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن
سنان بن سعد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " حسب امرئ من الشر - إلا من عصم الله - أن يشير الناس إليه
بالأصابع في دينه ودنياه وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم " وروي مثله عن إسحاق بن
البهلول عن ابن أبي فديك عن محمد بن عبد الواحد الأخنسي عن عبد الواحد بن أبي كثير عن جابر بن عبد الله
مرفوعا مثله وروى عن الحسن مرسلا نحوه فقيل للحسن فإنه يشار إليك بالأصابع فقال إنما المراد من يشار
إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق: وعن علي رضي الله عنه قال: لا تبدأ لان تشتهر ولا ترفع شخصك
لتذكر وتعلم واكتم واصمت تسلم تسر الأبرار وتغيظ الفجار وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: ما صدق الله
من أحب الشهرة وقال أيوب ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه وقال محمد بن العلاء من أحب الله
أحب أن لا يعرفه الناس وقال سماك بن سلمة إياك وكثرة الأخلاء وقال أبان بن عثمان إن أحببت أن يسلم إليك
دينك فأقل من المعارف كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم وقال حدثنا علي بن الجعد
أخبرنا شعبة عن عوف عن أبي رجاء قال: رأى طلحة قوما يمشون معه فقال ذباب طمع وفراش النار وقال ابن
إدريس عن هارون بن أبي عيسى عن سليم بن حنظلة قال: بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال:
إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وقال ابن عون عن الحسن خرج ابن مسعود فاتبعه أناس فقال والله لو تعلمون ما
أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان وقال حماد بن زيد كنا إذا مررنا على المجلس ومعنا أيوب فسلم ردوا ردا
شديدا فكان ذلك نعمة وقال عبد الرزاق عن معمر كان أيوب يطيل قميصه فقيل له في ذلك فقال إن الشهرة فيما
مضى كانت في طول القميص واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم فلبسهما أياما ثم
خلعهما وقال لم أر الناس يلبسونهما وقال إبراهيم النخعي لا تلبس من الثياب ما يشهر في ألفتها ولا ما يزدريك
السفهاء. وقال الثوري كانوا يكرهون من الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب
الرديئة التي يحتقر فيها ويستذل دينه. وحدثنا خالد بن خداش حدثنا حماد عن أبي حسنة صاحب الزيادي قال: كنا
عند أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال إياكم وهذا الحمار النهاق وقال الحسن رحمه الله إن قوما
جعلوا الكبر في قلوبهم والتواضع في ثيابهم فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرق بمطرقه ما لهم
457

تفاقدوا. وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام قال لبني إسرائيل ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان وقلوبكم
قلوب الذئاب البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية:
(فصل في حسن الخلق)
قال أبو التياح رضي الله عنه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا وعن عطاء عن ابن عمر قيل يا رسول الله
أي المؤمنين أفضل؟ قال " أحسنهم خلقا " وعن نوح بن عباد عن ثابت عن أنس مرفوعا " إن العبد ليبلغ بحسن
خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف العبادة وإنه ليبلغ بسوء خلقه درك جهنم وهو عابد " وعن سيار بن
هارون عن حميد عن أنس مرفوعا " ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " وعن عائشة مرفوعا " إن العبد ليبلغ
بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار " وقال ابن أبي الدنيا حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس حدثنا
عبد الله بن إدريس أخبرني أبي وعمي عن جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم عن أكثر
ما يدخل الناس الجنة فقال " تقوى الله وحسن الخلق " وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار فقال " الأجوفان:
الفم والفرج " وقال أسامة بن شريك كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته الاعراب من كل مكان فقالوا يا رسول الله ما
خير ما أعطي الانسان؟ قال " حسن الخلق ".
وقال يعلى بن سماك عن أم الدرداء عن أبي الدرداء يبلغ به قال: ما من شئ أثقل في الميزان من خلق حسن
وكذا رواه عطاء عن أم الدرداء به وعن مسروق عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " إن من خياركم أحسنكم أخلاقا "
حدثنا عبد الله بن أبي الدنيا حدثنا محمد بن عيسى عن محمد بن أبي سارة عن الحسن بن علي قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق كما يعطي المجاهد في سبيل الله يغدو عليه الاجر
ويروح " وعن مكحول عن أبي ثعلبة مرفوعا " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم
إلي وأبعدكم مني منزلا في الجنة مساويكم أخلاقا الثرثارون المتشدقون المتفيهقون " وعن أبي أويس عن
محمد بن المنكدر عن جابر مرفوع " ألا أخبركم بأكملكم إيمانا أحاسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافا الذين يؤلفون
ويألفون " وقال الليث عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن بكر بن أبي الفرات قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما حسن
الله خلق رجل وخلقه فتطعمه النار " وعن عبد الله بن غالب الحداني عن أبي سعيد مرفوعا " خصلتان لا يجتمعان
في مؤمن البخل وسوء الخلق " وقال ميمون بن مهران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من ذنب أعظم عند الله من سوء
الخلق " وذلك أن صاحبه لا يخرج من ذنب إلا وقع في آخر. قال حدثنا علي بن الجعد حدثنا أبو المغيرة
الأحمسي حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن رجل من قريش قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من ذنب أعظم عند الله
من سوء الخلق إن الخلق الحسن ليذيب الذنوب كما تذيب الشمس الجليد وإن الخلق السئ ليفسد العمل
كما يفسد الخل العسل " وقال عبد الله بن إدريس عن أبيه عن جده عن أبي هريرة مرفوع " إنكم لا تسعون الناس
بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط وجوه وحسن خلق " وقال محمد بن سيرين حسن الخلق عون على الدين.
(فصل في ذم الكبر) قال علقمة عن ابن مسعود رفعه " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ولا يدخل النار من في قلبه
مثقال ذرة من إيمان " وقال إبراهيم بن أبي عبلة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " من كان في قلبه
مثقال ذرة من كبر أكبه الله على وجهه في النار " حدثنا إسحاق بن إسماعيل حدثنا أبو معاوية عن عمر بن راشد عن
إياس بن سلمة عن أبيه مرفوعا " لا يزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب عند الله من الجبارين فيصيبه ما أصابهم
من العذاب " وقال مالك بن دينار ركب سليمان بن داود عليهما السلام ذات يوم البساط في مائتي ألف من
الانس ومائتي ألف من الجن فرفع حتى سمع تسبيح الملائكة في السماء ثم خفض حتى مست قدمه ماء البحر
فسمعوا صوتا لو كان في قلب صاحبكم مثقال ذرة من كبر لخسف به أبعد مما رفع قال حدثنا أبو خيثمة حدثنا
458

يزيد بن هارون عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الانسان حتى إن
أحدنا ليقذر نفسه يقول: خرج من مجرى البول مرتين. وقال الشعبي من قتل اثنين فهو جبار ثم تلا (أتريد أن
تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض) وقال الحسن عجبا لابن آدم يغسل الخرء
بيده في اليوم مرتين ثم يتكبر يعارض جبار السماوات. قال حدثنا خالد بن خداش حدثنا حماد بن زيد عن علي بن
الحسن عن الضحاك بن سفيان فذكر حديث ضرب مثل الدنيا بما يخرج من ابن آدم. وقال الحسن عن يحيى عن
أبي قال إن مطعم بن آدم ضرب مثلا للدنيا وإن قزحه وملحه. وقال محمد بن الحسين بن علي رضي الله عنه " ما
دخل قلب رجل شئ من الكبر إلا نقص من عقله بقدر ذلك. وقال يونس بن عبيد ليس مع السجود كبر ولا مع
التوحيد نفاق ونظر طاوس إلى عمر بن عبد العزيز وهو يختال في مشيته وذلك قبل أن يستخلف فطعن طاوس في
جنبه بأصبعه وقال ليس هذا شأن من في بطنه خرء فقال له كالمعتذر إليه: يا عم لقد ضرب كل عضو مني على
هذه المشية حتى تعلمتها قال أبو بكر بن أبي الدنيا كان بنو أمية يضربون أولادهم حتى يتعلمون هذه المشية.
(فصل في الاختيال)
عن ابن أبي ليلى عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعا " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه " ورواه عن إسحاق بن
إسماعيل عن سفيان عن زيد بن أسلم عن ابن عمر مرفوعا مثله وحدثنا محمد بن بكار حدثنا عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره وبينما رجل يتبختر في برديه أعجبته
نفسه خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة " وروى الزهري عن سالم عن أبيه بينما رجل إلى آخره.
أو لم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجدل
في الله بغير علم ولا هدى ولا كتب منير (20) وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آبائنا
أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير (21) *
يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة بأنه سخر لهم ما في السماوات من نجوم يستضيئون بها
في ليلهم ونهارهم وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد وجعله إياها لهم سقفا محفوظا وما خلق لهم في
الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب
وإزاحة الشبه والعلل ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم بل منهم من يجادل في الله أي في توحيده وإرساله الرسل
ومجادلته في ذلك بغير علم ولا مستند من حجة صحيحة ولا كتاب مأثور صحيح ولهذا قال تعالى (ومن الناس
من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) أي مبين مضئ. (وإذا قيل لهم) أي لهؤلاء المجادلين
في توحيد الله (اتبعوا ما أنزل الله) أي على رسوله من الشرائع المطهرة (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا)
أي لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين قال الله تعالى (أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون)
أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه ولهذا قال تعالى
(أو لو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير).
ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عقبة الأمور (22) ومن كفر فلا
يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور (23) نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى
عذاب غليظ (24)
يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه الله أي أخلص له العمل وانقاد لامره واتبع شرعه ولهذا قال (وهو
محسن) أي في عمله: باتباع ما به أمر وترك ما عنه زجر (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي فقد أخذ موثقا
459

من الله متينا أنه لا يعذبه (وإلى الله عاقبة الأمور * ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي لا تحزن عليهم يا محمد في
كفرهم بالله وبما جئت به فإن قدر الله نافذ فيهم وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما علموا أي فيجزيهم عليه (إن الله
عليم بذات الصدور) فلا تخفى عليه خافية ثم قال تعالى (نمتعهم قليلا) أي في الدنيا ثم (نضطرهم) أي
نلجأهم (إلى عذاب غليظ) أي فظيع صعب مشق على النفوس كما قال تعالى (إن الذين يفترون على الله
الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون).
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون لله ما في السماوات
والأرض إن الله هو الغنى الحميد (26)
يقول تعالى مخبرا عن هؤلاء المشركين به أنهم يعرفون أن الله خالق السماوات والأرض وحده لا شريك له ومع هذا يعبدون معه
شركاء يعترفون أنها خلق له وملك له ولهذا قال تعالى (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد
لله) أي إذا قامت عليكم الحجة باعترافكم (بل أكثرهم لا يعلمون) ثم قال تعالى (لله ما في السماوات والأرض)
أي هو خلقه وملكه (إن الله هو الغني الحميد) أي الغني عما سواه وكل شئ فقير إليه الحميد في جميع ما خلق له
الحمد في السماوات والأرض على ما خلق وشرع وهو المحمود في الأمور كلها.
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلم والبحر يمده من بعد سبعة أبحر ما نفدت كلمة الله إن الله عزيز حكيم (27)
ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس وحدة إن الله سميع بصير (28)
يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ولا اطلاع
لبشر على كتبها وإحصائها كما قال سيد البشر وخاتم الرسل " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " فقال
تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله) أي ولو أن جميع
أشجار الأرض جعلت أقلاما وجعل البحر مدادا وأمده سبعة أبحر معه فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته
وجلاله لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولو جاء أمثالها مددا وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ولم يرد الحصر ولا
أن ثم سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم كما يقوله من تلقاه من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب بل كما قال تعالى
في الآية الأخرى (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) فليس
المراد بقوله " بمثله " آخر فقط بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله ثم هلم جرا لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته قال الحسن البصري
لو جعل شجر الأرض أقلاما وجعل البحر مدادا وقال الله إن من أمري كذا ومن أمري كذا لنفد ماء البحر وتكسرت
الأقلام. وقال قتادة قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فقال الله تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة
أقلام) أي لو كان شجر الأرض أقلاما ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه. وقال
الربيع بن أنس إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها وقد أنزل الله ذلك (ولو أن ما في
الأرض من شجر أقلام) الآية يقول لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما لانكسرت الأقلام وفني ماء
البحر وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شئ لان أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي حتى يكون هو
الذي يثني على نفسه إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود قال ابن إسحاق حدثني
محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة يا محمد
أرأيت قولك (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلاكما " قالوا ألست تتلو فيما
جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شئ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم "
وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) الآية. وهكذا روى عكرمة وعطاء بن يسار
وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية والمشهور أنها مكية والله أعلم وقوله (إن الله عزيز حكيم) أي عزيز قد عز كل
460

شئ وقهره وغلبه فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه حكيم في خلقه وأمره وأقواله وأفعاله وشرعه وجميع
شؤونه وقوله تعالى (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى
قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة الجميع هين عليه (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) (وما أمرنا إلا واحدة
كلمح البصر) أي لا يأمر بالشئ إلا مرة واحدة فيكون ذلك الشئ لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده (فإنما هي زجرة واحدة
فإذا هم بالساهرة) وقوله (إن الله سميع بصير) أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى
نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة ولهذا قال تعالى (ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) الآية.
ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وأن الله بما
تعملون خبير (29) ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه البطل وأن الله هو العلى الكبير (30)
يخبر تبارك تعالى أنه (يولج الليل في النهار) يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذاك ويقصر هذا وهذا يكون زمن الصيف
يطول النهار إلى الغاية ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار وهذا يكون في زمن الشتاء (وسخر الشمس
والقمر كل يجري إلى أجل مسمى) قيل إلى غاية محدودة وقيل إلى يوم القيامة وكلا المعنين صحيح ويستشهد للقول
الأول بحديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه الذي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه
الشمس؟ " قلت الله ورسوله أعلم. قال " فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأذن ربها فيوشك أن يقال لها ارجعي
من حيث جئت " وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي
رباح عن ابن عباس أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها فإذا غربت جرت بالليل في
فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها قال وكذلك القمر إسناده صحيح وقوله (وأن الله بما تعملون خبير) كقوله
(ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض) ومعنى هذا أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء كقوله تعالى (الله
الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن) الآية وقوله تعالى (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه
الباطل) أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق أي الموجود الحق الاله الحق وأن كل ما سواه باطل فإنه
الغني عما سواه وكل شئ فقير إليه لان كل ما في السماوات والأرض الجميع خلقه وعبيده لا يقدر أحد منهم على تحريك
ذرة إلا بإذنه ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى (ذلك بأن الله هو الحق
وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير) أي العلي الذي لا أعلى منه الكبير الذي هو أكبر من كل شئ
فكل شئ خاضع حقير بالنسبة إليه.
ألم تر أن الفلك تجرى في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (31) وإذا غشيهم
موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلى كل ختار كفور (32)
يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر لتجري فيه الفلك بأمره أي بلطفه وتسخيره فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل
بها السفن لما جرت ولهذا قال (ليريكم من آياته) أي من قدرته (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) أي صبار
في الضراء شكور في الرخاء ثم قال تعالى (وإذا غشيهم موج كالظلل) أي كالجبال والغمام (دعوا الله مخلصين له
الدين) كما قال تعالى (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) وقال تعالى (فإذا ركبوا في الفلك)
الآية قال تعالى (فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد) قال مجاهد أي كافر كأنه فسر المقتصد ههنا بالجاحد كما قال
تعالى (فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) وقال ابن زيد هو المتوسط في العمل وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد
في قوله تعالى (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد) الآية فالمقتصد ههنا هو المتوسط في العمل ويحتمل أن يكون
مرادا هنا أيضا ويكون من باب الانكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في البحر ثم بعد ما
461

أنعم عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام والدؤوب في العبادة والمبادرة إلى الخيرات فمن اقتصد
بعد ذلك كان مقتصرا والحالة هذه والله أعلم. وقوله تعالى (وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور) فالختار هو الغدار
قاله مجاهد والحسن وقتادة ومالك عن زيد بن أسلم وهو الذي كلما عاهد نقض عهده والختر أتم الغدر وأبلغه. قال
عمر بن معد يكرب:
وإنك لو رأيت أبا عمير * ملأت يديك من غدر وختر
وقوله (كفور) أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها.
يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا
تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (33)
يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد وآمرا لهم بتقواه والخوف منه والخشية من يوم القيامة حيث (لا يجزي والد عن
ولده) أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه ثم عاد بالموعظة عليهم
بقوله (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة (ولا يغرنكم بالله الغرور) يعني
الشيطان. قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه وليس من ذلك شئ بل كان كما قال
تعالى (يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) قال وهب بن منبه قال عزير عليه السلام: لما رأيت بلاء قومي
اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي فتضرعت إلى ربي وصليت وصمت فأنا في ذلك التضرع أبكي إذا أتاني الملك فقلت
له خبرني هل تشفع أرواح الصديقين للظلمة أو الآباء لأبنائهم؟ قال إن القيامة فيها فصل القضاء وملك ظاهر ليس فيه
رخصة لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا عبد عن
سيده ولا يهتم أحد به غيره ولا يحزن لحزنه ولا أحد يرحمه كل مشفق على نفسه ولا يؤخذ إنسان عن إنسان كل
يهمه همه ويبكي عوله ويحمل وزره ولا يحمل وزره معه غيره. رواه ابن أبي حاتم.
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي
أرض تموت إن الله عليم خبير (34)
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلامه تعالى بها فعلم وقت الساعة لا يعلمه
نبي مرسل ولا ملك مقرب (لا يجليها لوقتها إلا هو) وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته
الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ولكن إذا
أمر بكونه ذكرا أو أنثى أو شقيا أو سعيدا علم الملائكة الموكلون بذلك. ومن شاء الله من خلقه وكذلك لا (تدري نفس
ماذا تكسب غدا) في دنياها وأخراها (وما تدري نفس بأي أرض تموت) في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان لا علم
لاحد بذلك وهذه شبيهة بقوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) الآية. وقد وردت السنة بتسمية هذه
الخمس مفاتيح الغيب.
قال الإمام أحمد حدثنا زيد بن الحباب حدثني حسين بن واقد حدثني عبد الله بن بريدة سمعت أبي بريدة يقول:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في
الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) هذا حديث صحيح الاسناد
ولم يخرجوه. (حديث ابن عمر) قال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله " (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدرى نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) انفرد بإخراجه البخاري فرواه في
462

كتاب الاستسقاء في صحيحه عن محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان بن سعيد الثوري به ورواه في التفسير من وجه
آخر فقال حدثنا يحيى بن سليمان حدثنا ابن وهب حدثني عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر أن أباه حدثه أن
عبد الله بن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم " مفاتيح الغيب خمس " ثم قرأ (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما
في الأرحام) انفرد به أيضا. ورواه الإمام أحمد عن غندر عن شعبة عن عمر بن محمد أنه سمع أباه يحدث عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أوتيت مفاتيح كل شئ إلا الخمس " (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) (حديث ابن مسعود) رضي الله عنه
قال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن شعبة ثني عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: قال عبد الله أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح
كل شئ غير خمس (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما
تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) وكذا رواه عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة به وزاد في
آخره: قال قلت له أنت سمعته من عبد الله؟ قال نعم أكثر من خمسين مرة ورواه أيضا عن وكيع عن مسعر عن
عمرو بن مرة به وهذا إسناد حسن على شرط السنن ولم يخرجوه (حديث أبي هريرة) قال البخاري عند تفسير هذه الآية
حدثنا إسحاق عن جرير عن أبي حيان عن أبي زرعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوما بارزا للناس
إذ أتاه رجل يمشي فقال يا رسول الله: ما الايمان؟ قال " الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن
بالبعث الآخر " قال يا رسول الله ما الاسلام؟ قال " الاسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة
المفروضة وتصوم رمضان " قال يا رسول الله ما الاحسان؟ قال " الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه
يراك " قال يا رسول الله متى الساعة؟ قال " ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها: إذا ولدت
الأمة ربتها فذاك من أشراطها وإذا كان الحفاة العراة رؤوس الناس فذاك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله. " (إن
الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) الآية ثم انصرف الرجل فقال " ردوه علي فأخذوا ليردوه فلم
يروا شيئا فقال " هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم " ورواه البخاري أيضا في كتاب الايمان ومسلم من طرق عن أبي
حيان به وقد تكلمنا عليه في أول شرح البخاري وذكرنا ثم حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في ذلك بطوله وهو من
إفراد مسلم (حديث ابن عباس) قال الإمام أحمد حدثنا أبو النضر حدثنا عبد الحميد حدثنا بهز حدثنا عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فأتاه جبريل فجلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا كفيه على ركبتي
النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الاسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الاسلام أن تسلم وجهك لله عز وجل وتشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله " قال فإذا فعلت ذلك فقد أسلمت؟ قال " إذا فعلت ذلك فقد أسلمت " قال
يا رسول الله فحدثني ما الايمان؟ قال " الايمان أن تؤمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وتؤمن بالموت
وبالحياة بعد الموت وتؤمن بالجنة والنار والحساب والميزان وتؤمن بالقدر كله خيره وشره " قال فإذا فعلت ذلك فقد
آمنت؟ قال " إذا فعلت ذلك فقد آمنت " قال يا رسول الله حدثني ما الاحسان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الاحسان أن تعمل
لله كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك " قال يا رسول الله فحدثني متى الساعة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي - سبحان الله -
في خمس لا يعلمهن إلا الله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا
تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) ولكن إن شئت حدثتك بمعالم لها دون ذلك - قال
أجل يا رسول الله فحدثني. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا رأيت الأمة ولدت ربتها - أو ربها - ورأيت أصحاب البنيان يتطاولون
في البنيان ورأيت الحفاة الجياع العالة رؤوس الناس فذلك من معالم الساعة وأشراطها " قال يا رسول الله ومن
أصحاب البنيان الحفاة الجياع العالة؟ قال " العرب " حديث غريب ولم يخرجوه (حديث رجل من عامر) روى الإمام أحمد
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل من بني عامر أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال
أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه " اخرجي إليه فإنه لا يحسن الاستئذان فقولي له فليقل السلام عليكم أأدخل " قال فسمعته
463

يقول ذلك فقلت السلام عليكم أأدخل؟ فأذن لي فدخلت فقلت بم أتيتنا؟ قال " لم آتكم إلا بخير أتيتكم بأن تعبدوا
الله وحده لا شريك له وأن تدعوا اللات والعزى وأن تصلوا بالليل والنهار خمس صلوات وأن تصوموا من السنة
شهرا وأن تحجوا البيت وأن تأخذوا الزكاة من أغنيائكم فتردوها على فقرائكم " قال فقال فهل بقي من العلم شئ لا
تعلمه؟ قال " قد علمني الله عز وجل خيرا وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس (إن الله عنده علم
الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) " الآية وهذا إسناد صحيح وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد جاء رجل
من أهل البادية فقال إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث وقد علمت متى ولدت فأخبرني
متى أموت فأنزل الله عز وجل (إن الله عنده علم الساعة - إلى قوله - عليم خبير) قال مجاهد وهي مفاتيح الغيب التي
قال الله تعالى (وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو) رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال الشعبي عن مسروق عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت: من حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب ثم قرأت (وما تدري نفس ماذا تكسب غدا)
وقوله تعالى (وما تدري نفس بأي أرض تموت) قال قتادة أشياء استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكا مقربا ولا نبيا
مرسلا (إن الله عنده علم الساعة) فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو في أي شهر أو ليل أو نهار
(وينزل الغيث) فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلا أو نهارا (ويعلم ما في الأرحام) فلا يعلم أحد ما في الأرحام
أذكر أم أنثى أحمر أو أسود وما هو (وما تدرى نفس ماذا تكسب غدا) أخير أم شر ولا تدري يا ابن آدم متى تموت
لعلك الميت غدا لعلك المصاب غدا (وما تدري نفس بأي أرض تموت) أي ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه
من الأرض أفي بحر أم بر أو سهل أو جبل. وقد جاء في الحديث " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة "
فقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير في مسند أسامة بن زيد حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبد الرزاق
أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما جعل الله ميتة عبد بأرض إلا جعل
له فيها حاجة " وقال عبد الله ابن الإمام أحمد حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن أبي
إسحاق عن مطر بن عكامس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قضى الله ميتة عبد بأرض جعل له إليها حاجة " وهكذا رواه
الترمذي في القدر من حديث سفيان الثوري به ثم قال حسن غريب ولا يعرف لمطر عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وقد
رواه أبو داود في المراسيل فالله أعلم. وقال الإمام أحمد حدثنا إسماعيل حدثنا أيوب عن أبي المليح بن أسامة عن أبي عزة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله قبض روح عبد بأرض جعل له فيها - أو قال بها - حاجة " وأبو عزة هذا هو بشار بن
عبيد الله ويقال ابن عبد الهذلي وأخرجه الترمذي من حديث إسماعيل بن إبراهيم وهو ابن علية وقال صحيح. وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عصام الأصفهاني حدثنا المؤمل بن إسماعيل حدثنا عبيد الله بن أبي حميد عن أبي المليح
عن أبي عزة الهذلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها " ثم
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله عنده علم الساعة - إلى - عليم خبير) (حديث آخر) قال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا
أحمد بن ثابت الجحدري ومحمد بن يحيى القطعي قالا حدثنا عمر بن علي حدثنا إسماعيل عن قيس عن عبد الله قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة " ثم قال البزار وهذا الحديث لا نعلم أحدا يرفعه إلا
عمر بن علي المقدمي. وقال ابن أبي الدنيا حدثني سليمان بن أبي مسيح قال أنشدني محمد بن الحكم لأعشى همدان
فما تزود مما كان يجمعه * سوى حنوط غداة البين مع خرق
وغير نفحة أعواد تشب له * وقل ذلك من زاد لمنطلق
لا تأسين على شئ فكل فتى * إلى منيته سيار في عنق
وكل من ظن أن الموت يخطئه * معلل بأعاليل من الحمق
بأيما بلدة تقدر منيته * إن لا يسير إليها طائعا يبق
أورده الحافظ ابن عساكر رحمه الله في ترجمة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث وهو أعشى همدان وكان الشعبي زوج
أخته وهو مزوج بأخت الشعبي أيضا وقد كان ممن طلب العلم والتفقه ثم عدل إلى صناعة الشعر فعرف به وقد روى
464

ابن ماجة عن أحمد بن ثابت وعمر بن شبة كلاهما عن عمر بن عكرمة مرفوعا " إذا كان أجل أحدكم بأرض أتت له إليها حاجة
فإذا بلغ أقصى أثره قبضه الله عز وجل فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما أودعتني " قال الطبراني حدثنا إسحاق بن
إبراهيم حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن أيوب عن أبي المليح عن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ما جعل الله منية عبد
بأرض إلا جعل له إليها حاجة " آخر تفسير سورة لقمان والحمد الله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
سورة السجدة: روى البخاري في كتاب الجمعة حدثنا أبو نعيم حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج عن
أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل السجدة و (هل أتى على الانسان) ورواه
مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري به وقال الإمام أحمد حدثنا أسود بن عامر أخبرنا الحسن بن صالح عن ليث عن
أبي الزبير عن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ألم تنزيل السجدة و (تبارك الذي بيده الملك) تفرد به أحمد.
بسم الله الرحمن الرحيم
ألم (1) تنزيل الكتب لا ريب فيه من رب العلمين (2) أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتيهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ههنا وقوله (تنزيل الكتاب لا ريب
فيه) أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل (من رب العالمين) ثم قال تعالى مخبرا عن المشركين (أم يقولون افتراه)
أي اختلقه من تلقاء نفسه (بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون) أي يتبعون
الحق.
الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولى ولا
شفيع أفلا تتذكرون (4) يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما
تعدون (5) ذلك علم الغيب والشهدة العزيز الرحيم (6)
يخبر تعالى أنه الخالق للأشياء فخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش وقد تقدم
الكلام على ذلك (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) أي بل هو المالك لازمة الأمور الخالق لكل شئ المدبر لكل
شئ القادر على كل شئ فلا ولي لخلقه سواه ولا شفيع إلا من بعد إذنه (أفلا تتذكرون) يعني أيها العابدون غير
المتوكلون على من عداه تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير أو نديد أو عديل لا إله إلا هو ولا رب
سواه وقد أورد النسائي ههنا حديثا فقال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب حدثني محمد بن الصباح حدثنا أبو عبيدة الحداد
حدثنا الأخضر بن عجلان عن أبي جريج المكي عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدي فقال " إن الله خلق
السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش في اليوم السابع فخلق التربة يوم السبت والجبال
يوم الأحد والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء والدواب يوم الخميس وآدم يوم الجمعة
في آخر ساعة من النهار بعد العصر وخلق من أديم الأرض أحمرها وأسودها وطيبها وخبيثها من أجل ذلك جعل الله
من بني آدم الطيب والخبيث " هكذا أورد هذا الحديث إسنادا ومتنا وقد أخرج مسلم والنسائي أيضا من حديث حجاج
ابن محمد الأعور عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا السياق. وقد علله البخاري في كتاب التاريخ الكبير فقال وقال بعضهم أبو هريرة عن كعب الأحبار وهو
465

أصح وكذا علله غير واحد من الحفاظ والله أعلم وقوله تعالى (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه) أي
يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة كما قال تعالى (الله الذي خلق سبع سماوات ومن
الأرض مثلهن يتنزل الامر بينهن) الآية وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة
خمسمائة سنة وسمك السماء خمسمائة سنة: وقال مجاهد وقتادة والضحاك النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام
وصعوده في مسيرة خمسمائة عام ولكنه يقطعها في طرفة عين ولهذا قال تعالى (في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون
* ذلك عالم الغيب والشهادة) أي المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على أعمال عباده يرفع إليه جليلها وحقيرها
وصغيرها وكبيرها هو العزيز الذي قد عز كل شئ فقهره وغلبه ودانت له العباد والرقاب الرحيم بعباده المؤمنين فهو
عزيز في رحمته رحيم في عزته وهذا هو الكمال العزة مع الرحمة والرحمة مع العزة فهو رحيم بلا ذل.
الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الانسان من طين (7) ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (8) ثم سواه
ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصر والأفئدة قليلا ما تشكرون (9)
يقول تعالى مخبرا أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها وقال مالك عن زيد بن أسلم (الذي أحسن كل شئ
خلقه) قال أحسن خلق كل شئ كأنه جعله من المقدم والمؤخر ثم لما ذكر تعالى خلق السماوات والأرض شرع في
ذكر خلق الانسان فقال تعالى (وبدأ خلق الانسان من طين) يعني خلق أبا البشر آدم من طين (ثم جعل نسله من
سلالة من ماء مهين) أي يتناسلون كذلك من نطفة تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة (ثم سواه) يعني آدم لما
خلقه من تراب خلقه سويا مستقيما (ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والابصار والأفئدة) يعني العقول (قليلا ما
تشكرون) أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عز وجل فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عز وجل.
وقالوا أإذا ضللنا في الأرض أئنا لفى خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون (10) * قل يتوفاكم ملك الموت الذي
وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون (11)
يقول تعالى مخبرا عن المشركين في استبعادهم المعاد حيث قالوا (أئذا ضللنا في الأرض) أي تمزقت أجسامنا
وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت (أئنا لفي خلق جديد) أي أئنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك وهذا إنما هو
بعيد بالنسبة إلى قدرهم العاجزة لا بالنسبة إلى قدرة الذي بدأهم وخلقهم من العدم الذي إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول
له كن فيكون ولهذا قال تعالى (بل هم بلقاء ربهم كافرون) ثم قال تعالى (قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم)
الظاهر من هذه الآية أن ملك الموت شخص معين من الملائكة كما هو المتبادر من حديث البراء المتقدم ذكره في سورة
إبراهيم وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور قاله قتادة وغير واحد وله أعوان وهكذا ورد في الحديث أن
أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد حتى إذا بلغت الحلقوم تنازلها ملك الموت قال مجاهد حويت له الأرض
فجعلت مثل الطست يتناول منها متى يشاء. ورواه زهير بن محمد عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه مرسلا. وقاله ابن عباس رضي
الله عنهما وروى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا يحيى بن أبي يحيى المقري حدثنا عمر بن سمرة عن جعفر بن محمد
قال سمعت أبي يقول: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا ملك
الموت أرفق بصاحبي فإنه مؤمن " فقال ملك الموت: يا محمد طب نفسا وقر عينا فإني بكل مؤمن رفيق واعلم أن ما في
الأرض بيت مدر ولا شعر في بر ولا بحر إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات حتى أني أعرف بصغيرهم وكبيرهم
منهم بأنفسهم والله يا محمد لو أنى أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.
قال جعفر بلغني أنه إنما يتصفحهم عند مواقيت الصلاة فإذا حضرهم عند الموت فإن كان ممن يحافظ على الصلاة دنا منه
الملك ودفع عنه الشيطان ولقنه الملك لا إله إلا الله محمد رسول الله في تلك الحال العظيمة وقال عبد الرزاق حدثنا
466

محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال سمعت مجاهدا يقول: ما على ظهر الأرض من بيت شعر أو مدر إلا وملك
الموت يطرف به كل يوم مرتين وقال كعب الأحبار والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلا وملك الموت يقوم على
بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوقاه. رواه ابن أبي حاتم وقوله تعالى (ثم إلى ربكم ترجعون) أي
يوم معادكم وقيامكم من قبوركم لجزائكم).
ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا فارجعنا نعمل صلحا إنا موقنون (12) ولو شئنا
لاتينا كل نفس هديها ولكن حق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين فذوقوا بما نسيتم لقاء
يومكم هذا إنا نسينكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون (14)
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة وقالهم حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عز وجل حقيرين ذليلين ناكسي
رؤوسهم أي من الحياء والخجل يقولون (ربنا أبصرنا وسمعنا) أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك كما قال تعالى
(أسمع بهم أبصر يوم يأتوننا) وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم (لو كنا نسمع أو نعقل ما
كنا في أصحاب السعير) وهكذا هؤلاء يقولون (ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا) أي إلى الدنيا (نعمل صالحا إنا
موقنون) أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقاءك حق وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى دار الدنيا
لكانوا كما كانوا فيها كفارا يكذبون بآيات الله ويخالفون رسله كما قال تعالى (ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا
نرد ولا نكذب بآيات ربنا) الآية وقال ههنا (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) كما قال تعالى (ولو شاء ربك لآمن من
في الأرض كلهم جميعا) (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) أي من الصنفين فدارهم
النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك. (فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا) أي
يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ ذوقوا هذا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به واستبعادكم وقوعه وتناسيكم له إذا
عاملتموه معاملة من هو ناس له (إنا نسيناكم) أي سنعاملكم معاملة الناسي لأنه تعالى لا ينسى شيئا ولا يضل عنه
شئ بل من باب المقابلة كما قال تعالى (فاليوم ننساكم نسيتم لقاء يومكم هذا) وقوله تعالى (وذوقوا عذاب
الخلد بما كنتم تعملون) أي بسبب كفركم وتكذيبكم كما قال في الآية الأخرى (لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا * إلا
حميما وغساقا) - إلى قوله - (فلن نزيدكم إلا عذابا).
إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15)! تتجافى جنوبهم عن
المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما
كانوا يعملون (17)
يقول تعالى (إنما يؤمن بآياتنا) أي إنما يصدق بها (الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا) أي استمعوا لها
وأطاعوها قولا وفعلا (وسبحوا بحمد ربه وهم لا يستكبرون) أي عن اتباعها والانقياد لها كما يفعله الجهلة من
الكفرة الفجرة قال الله تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). ثم قال تعالى
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) يعني بذلك قيام الليل وترك النوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة قال
مجاهد والحسن في قوله تعالى (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) يعني بذلك قيام الليل وعن أنس وعكرمة
ومحمد بن المنكدر وأبي حازم وقتادة هو الصلاة بين العشاءين وعن أنس أيضا هو انتظار صلاة العتمة رواه ابن
جرير بإسناد جيد وقال الضحاك وهو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة (يدعون ربهم خوفا
وطمعا) أي خوفا من وبال عقابه وطمعا في جزيل ثوابه (ومما رزقناهم ينفقون) فيجمعون بين فعل القربات
اللازمة والمتعدية ومقدم هؤلاء وسيدهم وفخرهم في الدنيا والآخرة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله بن رواحة
467

رضي الله عنه
وفينا رسول الله يتلو كتابه * إذا انشق معروف من الصبح ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا * به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه * إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وقال الإمام أحمد حدثنا روح وعفان قالا حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا عطاء بن السائب عن مرة الهمداني عن ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبة
فيما عندي وشفقة مما عندي ورجل غزا في سبيل الله تعالى فانهزموا فعلم ما عليه من الفرار وما له في الرجوع
فرجع حتى أهريق دمه رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي فيقول الله عز وجل للملائكة انظروا إلى عبدي رجع
رغبة فيما عندي ورهبة مما عندي حتى أهريق دمه " وهكذا رواه أبو داود في الجهاد عن موسى بن إسماعيل عن
حماد بن سلمة به بنحوه. وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل
عن معاذ بن جبل قال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوما قريبا منه ونحن نسير فقلت يا نبي الله أخبرني
بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه تعبد الله
ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال ألا أدلك على أبواب
الخير؟ الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل - ثم قرأ (تتجافى جنوبهم عن
المضاجع - حتى بلغ - جاء بما كانوا يعملون) ثم قال - ألا أخبرك برأس الامر وعموده وذروة سنامه؟ - فقلت
بلى يا رسول الله فقال - رأس الامر الاسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله - ثم قال - ألا أخبرك
بملاك ذلك كله؟ فقلت بلى يا نبي الله فأخذه بلسانه ثم قال كف عليك هذا فقلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون
مما نتكلم به؟ فقال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال على مناخرهم إلا
حصائد ألسنتهم؟ " ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجة في سننهم من طرق عن معمر به وقال الترمذي حسن
صحيح ورواه ابن جرير من حديث شعبة عن الحكم قال: سمعت عروة بن الزبير يحدث عن معاذ بن جبل أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له " ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة والصدقة تكف الخطيئة وقيام العبد في جوف
الليل " وتلا هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون) ورواه
أيضا من حديث الثوري عن منصور بن المعتمر عن الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم
بنحوه ومن حديث الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت والحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ مرفوعا بنحوه
ومن حديث حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر عن معاذ أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى
(تتجافى جنوبهم عن المضاجع) قال " " قيام العبد من الليل " وروى ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان
الواسطي حدثنا يزيد بن هارون حدثنا قطر بن خليفة عن حبيب بن أبي ثابت والحكم وحكيم بن جرير عن
ميمون بن أبي شبيب عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال " إن شئت نبأتك بأبواب
الخير الصوم جنة والصدقة تطفئ الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (تتجافى
جنوبهم عن المضاجع) الآية ثم قال حدثنا أبي حدثنا سويد بن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن عبد الرحمن بن
إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم
القيامة جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع فينادي ليقم الذين
كانت (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآية - فيقومون وهم قليل " وقال البزار حدثنا عبد الله بن شبيب حدثنا
الوليد بن عطاء بن الأغر حدثنا عبد الحميد بن سليمان حدثني مصعب عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال بلال
لما نزلت هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) الآية كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلون بعد المغرب إلى العشاء فنزلت هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع) ثم قال لا نعلم روى أسلم عن بلال
468

سواه وليس له طريق عن بلال غير هذه الطريق. وقوله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة
أعين) الآية أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات التي لم
يطلع على مثلها أحد لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من الثواب جزاء وفاقا فإن الجزاء من جنس العمل
قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم أخفى الله لهم ما لم ترعين ولم يخطر على قلب بشر. رواه ابن أبي
حاتم قال البخاري قوله تعالى (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) الآية حدثنا علي بن عبد الله
حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال الله
تعالى " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " قال أبو هريرة اقرءوا إن
شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) قال وحدثنا سفيان حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة
قال: قال الله مثله قيل لسفيان رواية قال فأي شئ؟ ورواه مسلم والترمذي من حديث سفيان بن عيينة به وقال
الترمذي حسن صحيح ثم قال البخاري حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا أبو أسامة عن الأعمش حدثنا أبو صالح عن
أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت
ولا خطر على قلب بشر ذخرا من بله ما اطلعتم عليه " ثم قرأ (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما
كانوا يعملون) قال أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح قرأ أبو هريرة (قرأت أعين) انفرد به البخاري من هذا
الوجه وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى قال أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب
بشر " أخرجاه في الصحيحين من رواية عبد الرزاق قال ورواه الترمذي في التفسير وابن جرير من حديث
عبد الرحيم بن سليمان عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله ثم قال
الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال حماد بن سلمة عن ثابت بن أبي رافع عن أبي هريرة رضي الله عنه قال
حماد أحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من يدخل الجنة ينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه في الجنة ما لا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " رواه مسلم من حديث حماد بن سلمة به وروى الإمام أحمد
حدثنا هارون حدثنا ابن وهب حدثني أبو صخر أن أبا حازم حدثه قال سمعت سهل بن سعد الساعد رضي الله
عنه يقول شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا وصف فيه الجنة حتى انتهى ثم قال في آخر حديثه " فيها مالا عين
رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " ثم قرأ هذه الآية (تتجافى جنوبهم عن المضاجع - إلى قوله -
يعملون) وأخرجه مسلم في صحيحه عن هارون بن معروف وهارون بن سعيد كلاهما عن ابن وهب به وقال ابن
جرير حدثني العباس بن أبي طالب حدثنا معلى بن أسد حدثنا سلام بن أبي مطيع عن قتادة عن عقبة بن عبد الغافر
عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يروي عن ربه عز وجل قال " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " لم يخرجوه وقال مسلم أيضا في صحيحه حدثنا ابن أبي عمر وغيره
حدثنا سفيان ثنا مطرف بن طريف وعبد الملك بن سعيد سمعا الشعبي يخبر عن المغيرة بن شعبة قال سمعته على
المنبر يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سأل موسى عليه السلام ربه عز وجل ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال هو رجل يجئ
بعدما أدخل أهل الجنة الجنة فيقال له ادخل الجنة فيقول أي رب كيف وقد أخذ الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟
فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول رضيت رب فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال
في الخامسة رضيت رضيت ربي فيقول هذا لك وعشرة أمثاله معه ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول
رضيت رب قال رب فأعلاهم منزله قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين
ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر " قال ومصداقه من كتاب الله عز وجل (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من
قرة أعين) الآية ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر وقال حسن صحيح قال ورواه بعضهم عن الشعبي عن المغيرة
ولم يرفعه والمرفوع أصح قال ابن أبي حاتم حدثنا جعفر بن المدائني حدثنا أبو بدر بن شجاع بن الوليد حدثنا
469

زياد بن خيثمة عن محمد بن جحادة عن عامر بن عبد الواحد قال: بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في
مكانه سبعين سنة ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له قد أنى لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول
من أنت؟ فتقول أنا من المزيد فيمكث معها سبعين سنة ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له قد
أنى لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول من أنت؟ فتقول أنا التي قال الله (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة
أعين) وقال ابن لهيعة حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كل يوم
من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم وذلك قوله تعالى (فلا تعلم
نفس ما أحفي لهم من قرة أعين) ويخبرون أن الله عنهم راض وروى ابن جرير حدثنا سهل بن موسى الرازي
حدثنا الوليد بن مسلم عن صفوان بن عمرو عن أبي اليمان الهوزني أو غيره قال: الجنة مائة درجة أولها درجة فضة
وأرضها فضة ومساكنها فضة وآنيتها فضة وترابها المسك والثانية ذهب وأرضها ذهب ومساكنها ذهب وآنيتها ذهب
وترابها المسك والثالثة لؤلؤ وأرضها اللؤلؤ ومساكنها اللؤلؤ وآنيتها اللؤلؤ وترابها المسك وسبع وتسعون بعد ذلك
مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ثم تلا هذه الآية (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم) وقال
ابن جرير حدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا معتمر بن سليمان عن الحكم بن أبان عن الغطريف عن جابر بن زيد
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح الأمين قال " يؤتى بحسنات العبد وسيئاته ينقص بعضها من بعض فإن
بقيت حسنة واحدة وسع الله له في الجنة قال فدخلت على بزداد فحدث بمثل هذا الحديث قال فقلت فأين ذهبت
الحسنة قال (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم) الآية قلت قوله تعالى (فلا تعلم
نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) قال العبد يعمل سرا أسره إلى الله لم يعلم به الناس فأسر الله له يوم القيامة قرة
أعين.
أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستون (18) أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنت المأوى نزلا بما كانوا
يعملون (19) وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي
كنتم به تكذبون (20) ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون (21) ومن أظلم ممن
ذكر بأيت ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون (22)
يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنا بآياته متبعا لرسله بمن كان فاسقا أي
خارجا عن طاعة ربه مكذبا لرسل الله إليه كما قال تعالى (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين
آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) وقال تعالى (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا
الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) وقال تعالى (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب
الجنة) الآية ولهذا قال تعالى ههنا (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) أي عند الله يوم القيامة وقد
ذكر عطاء بن يسار والسدي وغيرهما أنها نزلت في علي بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط ولهذا فصل حكمهم
فقال (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها وهي الصالحات
(فلهم جنات المأوى) أي التي فيها المساكن والدور والغرف العالية (نزلا) أي ضيافة وكرامة (بما كانوا
يعملون * وأما الذين فسقوا) أي خرجوا عن الطاعة فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها كقوله
(كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها) الآية قال الفضيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة وإن
الأرجل لمقيدة وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم (وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون) أي
يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا وقوله تعالى (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) قال ابن عباس
470

يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه وروي
مثله عن أبي بن كعب وأبي العالية والحسن وإبراهيم النخعي والضحاك وعلقمة وعطية ومجاهد وقتادة وعبد الكريم
الجزري وخصيف وقال ابن عباس في رواية عنه يعني به إقامة الحدود عليهم. وقال البراء بن عازب ومجاهد
وأبو عبيدة يعني به عذاب القبر. وقال النسائي أخبرنا عمرو بن علي أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي عن إسرائيل عن
أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي عبيدة عن عبد الله (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) قال
سنون أصابتهم وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثني عبد الله بن عمر القواريري حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة
عن قتادة عن عروة عن الحسن العوفي عن يحيى بن الجزار عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الآية
(ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر) قال القمر والدخان قد مضيا والبطشة واللزام ورواه مسلم
من حديث شعبة به موقوفا نحوه وعند البخاري عن ابن مسعود نحوه وقال عبد الله بن مسعود أيضا في رواية
عنه العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم قال السدي وغيره لم
يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير فأصيبوا أو غرموا ومنهم من جمع له الأمران وقوله تعالى
(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها) أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها ثم بعد ذلك
تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها. قال قتادة إياكم والاعراض عن ذكر الله فإن من أعرض عن
ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز وعظم من أعظم الذنوب ولهذا قال تعالى متهددا لمن فعل ذلك (إنا
من المجرمين منتقمون) أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام. وروى ابن جرير حدثني عمران بن بكار
الكلاعي حدثنا محمد بن المبارك حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله عن عبادة بن نسي عن
جنادة بن أمية عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ثلاث من فعلهن فقد أجرم: من عقد لواء في
غير حق أو عق والديه أو مشى مع ظالم ينصره فقد أجرم يقول الله تعالى (إنا من المجرمين منتقمون) " ورواه
ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن عياش به وهذا حديث غريب جدا.
ولقد آتينا موسى الكتب فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبنى إسرائيل (23) وجعلنا منه أئمة
يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون (24) إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيمة فيما كانوا فيه
يختلفون (25)
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله موسى عليه السلام أنه آتاه الكتاب وهو التوراة وقوله تعالى (فلا تكن في
مرية من لقائه) قال قتادة يعني به ليلة الاسراء ثم روي عن أبي العالية الرياحي قال حدثني ابن عم نبيكم يعني
ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أريت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال
شنوأة ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ورأيت مالكا خازن النار والدجال "
في آيات أراهن الله إياه (فلا تكن في مرية من لقائه) أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به.
وقال الطبراني حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن علي الحلواني حدثنا روح بن عبادة حدثنا
سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (وجعلناه هدى لبني
إسرائيل) قال جعل موسى هدى لبني إسرائيل وفي قوله (فلا تكن في مرية من لقائه) قال من لقاء موسى ربه
عز وجل وقوله تعالى (وجعلناه) أي الكتاب الذي آتيناه (هدى لبني إسرائيل) كما قال تعالى في سورة الإسراء
(وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا من دوني وكيلا) وقوله تعالى (وجعلنا
منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون) أي لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك زواجره
وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ويدعون إلى الخير ويأمرون
471

بالمعروف وينهون عن المنكر ثم لما بدلوا وحرفوا وأولوا سلبوا ذلك المقام وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم
عن مواضعه فلا عملا صالحا ولا اعتقادا صحيحا ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب) قال قتادة
وسفيان لما صبروا عن الدنيا وكذلك قال الحسن بن صالح قال سفيان: هكذا كان هؤلاء ولا ينبغي للرجل أن
يكن إماما يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا قال وكيع قال سفيان لا بد للدين من العلم كما لا بد للجسد من
الخبز وقال ابن بنت الشافعي قرأ أبي على عمي أو عمي على أبي سئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه الصبر
من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ألم تسمع قوله (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا) قال لما أخذوا
برأس الامر صاروا رؤوسا قال بعض العلماء بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ولهذا قال تعالى (ولقد آتينا
بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الامر)
الآية كما قال هنا (إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) أي من الاعتقادات والأعمال.
أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مسكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون (26) أو
لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعمهم وأنفسهم أفلا يبصرون (27)
يقول تعالى أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم
إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل فلم يبق منهم من باقية ولا عين ولا أثر (هل تحس منهم من أحد أو تسمع
لهم ركزا) ولهذا قال (يمشون في مساكنهم) أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين فلا
يرون فيها أحدا ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها (كأن لم يغنوا فيها) كما قال (فتلك بيوتهم خاوية بما
ظلموا) وقال (وكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا
في الأرض - إلى قوله - ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) ولهذا قال ههنا (إن في ذلك لآيات) أي إن في
ذهاب أولئك القوم ودمارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ونجاة من آمن بهم لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل
متناظرة (أفلا يسمعون) أي أخبار من تقدم كيف كان أمرهم وقوله تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى
الأرض الجرز) يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح وهو ما تحمله
الأنهار ويتحدر من الجبال إلى الا راضي المحتاجة إليه في أوقاته ولهذا قال تعالى (إلى الأرض الجرز) وهي
التي لا نبات فيها كما قال تعالى (وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) أي يبسا لا تنبت شيئا وليس المراد من
قوله (إلى الأرض الجرز) أرض مصر فقط بل هي بعض المقصود وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي
المقصودة وحدها ولكنها مرادة قطعا من هذه الآية فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل
عليها مطرا لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة وفيه
طين أحمر فيغشى أرض مصر وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء وذلك الطين أيضا لينبت الزرع فيه
فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم وطين جيد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم
المنان المحمود أبدا وقال ابن لهيعة عن قيس بن حجاج عمن حدثه قال: لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن
العاص وكان أميرا بها حين دخل بؤونة من أشهر العجم فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها قال
وما ذاك؟ قالوا إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها
وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في النيل فقال لهم عمرو إن هذا لا يكون في
الاسلام إن الاسلام يهدم ما كان قبله فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء فكتب عمرو إلى عمر بن
الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا فألقها في
النيل فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر. أما
بعد فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجري وإن كان الله الواحد هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك.
472

قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة وقد قطع الله
تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له ولهذا قال
تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون)
كما قال تعالى (فلينظر الانسان إلى طعامه أنا صبينا الماء صبا) الآية ولهذا قال ههنا (أفلا يبصرون) وقال
ابن أبي نجيح عن رجل عن ابن عباس في قوله (إلى الأرض الجرز) قال هي التي لا تمطر إلا مطرا لا يغني
عنها شيئا إلا ما يأتيها من السيول وعن ابن عباس ومجاهد هي أرض باليمن وقال الحسن رحمه الله هي قرى
فيما بين اليمن والشام. وقال عكرمة والضحاك وقتادة والسدي وابن زيد الأرض الجرز التي لا نبات فيها وهي
مغبرة قلت وهذا كقوله تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) الآيتين.
ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين (28) قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون
(29) فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون (30)
يقول تعالى مخبرا عن استعجال الكفار ووقوع بأس الله بهم وحلول غضبه ونقمته عليهم استبعادا وتكذيبا وعنادا
(ويقولون متى هذا الفتح) أي متى تنصر علينا يا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتا تدال علينا وينتقم لك منا فمتى
يكون هذا ما نراك أنت وأصحابك إلا مختفين خائفين ذليلين قال الله تعالى (قل يوم الفتح) أي إذا حل بكم
بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الآخرة (لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون) كما قال تعالى
(فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم) الآيتين. ومن زعم أن المراد هذا الفتح فتح
مكة فقد أبعد النجعة وأخطأ فأفحش فإن يوم الفتح قد قبل رسول اله صلى الله عليه وسلم إسلام الطلقاء وقد كانوا قريبا من
ألفين ولو كان المراد فتح مكة لما قبل إسلامهم لقوله تعالى (قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم
ينظرون) وإنما المراد الفتح الذي هو القضاء والفصل كقوله (فافتح بيني وبينهم فتحا) الآية وكقوله (قل
يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق) الآية وقال تعالى (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) وقال تعالى
(وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا) وقال تعالى (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ثم قال تعالى
(فأعرض عنهم وانتظر إنهم منتظرون) أي أعرض عن هؤلاء المشركين وبلغ ما أنزل إليك من ربك كقوله تعالى
(اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو) الآية وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك وسينصرك على من
خالفك إنه لا يخلف الميعاد وقوله (إنهم منتظرون) أي أنت منتظر وهم منتظرون ويتربصون بكم الدوائر (أم
يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) وستري أنت عاقبة صبرك عليهم وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك
وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك من وبيل عقاب الله لهم وحلول عذابه بهم وحسبنا الله ونعم
الوكيل. آخر تفسير سورة السجدة ولله الحمد والمنة.
سورة الأحزاب
قال الإمام أحمد حدثنا خلف بن هشام حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن زر قال: قال لي أبي بن كعب
كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية فقال قط لقد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة
ولقد قرأنا فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم ورواه النسائي من وجه آخر
عن عاصم وهو ابن أبي النجود وهو أبو بهدلة به وهذا إسناد حسن وهو يقتضي أنه قد كان فيها قرآن ثم نسخ
لفظه وحكمه أيضا والله أعلم.
473

بسم الله الرحمن الرحيم
يا أيها النبي اتق الله ولا تطع الكافرين والمنفقين إن الله كان عليما حكيما (1) واتبع ما يوحى إليك من ربك
إن الله كان بما تعملون خبيرا (2) وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (3)
هذا تنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه تعالى إذا كان يأمر عبده ورسوله بهذا فلان يأتمر من دونه بذلك بطريق الأولى
والأحرى وقد قال طلق بن حبيب: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك
معصية الله على نور من الله مخافة عذاب الله. قوله تعالى (ولا تطع الكافرين والمنافقين) أي لا تسمع منهم
ولا تستشرهم (إن الله كان عليما حكيما) أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه فإنه عليم بعواقب الأمور حكيم في
أقواله وأفعاله ولهذا قال تعالى (واتبع ما يوحى إليك من ربك) أي من قرآن وسنة (إن الله كان بما تعملون
خبيرا) أي فلا تخفى عليه خافية وتوكل على الله أي في جميع أمورك وأحوالك (وكفى بالله وكيلا) أي وكفى
به وكيلا لمن توكل عليه وأناب إليه.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللأي تظهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم
أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل (4) أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله
فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت
قلوبكم وكان الله غفورا رحيما (5)
يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا معروفا حسيا وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه
ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت علي كظهر أمي أما له كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه
فدعاه ابنا له فقال (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم)
كقوله عز وجل (ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم) الآية. وقوله تعالى: (وما جعل أدعياءكم
أبناءكم) هذا هو المقصود بالنفي فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم كان النبي
صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة فكان يقال له زيد بن محمد فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الالحاق وهذه النسبة بقوله تعالى:
(وما جعل أدعياء كم أبناءكم) كما قال تعالى في أثناء السورة (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول
الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) وقال ههنا (ذلكم قولكم بأفواهكم) يعني تبنيكم لهم قول لا
يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا فإنه مخلوق من صلب رجل آخر فما يمكن أن يكون له أبوان كما لا يمكن أن يكون
للبشر الواحد قلبان (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل) قال سعيد بن جبير (يقول الحق) أي العدل وقال
قتادة (وهو يهدي السبيل) أي الصراط المستقيم وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش
كان يقال له ذو القلبين وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر فأنزل الله تعالى هذه الآية ردا عليه. هكذا
روى العوفي عن ابن عباس وقاله مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة واختاره ابن جرير. وقال الإمام أحمد حدثنا
حسن حدثنا زهير عن قابوس يعني ابن أبي ظبيان قال إن أباه حدثه قال قلت لابن عباس: أرأيت قول الله تعالى:
(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) ما عنى بذلك؟ قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي فخطر خطرة فقال
المنافقون الذين يصلون معه ألا ترون له قلبين قلبا معكم وقلبا معهم فأنزل الله تعالى: (ما جعل الله لرجل من
قلبين في جوفه) وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن صاعد الحراني عن عبد بن حميد
وعن أحمد بن يونس كلاهما عن زهير وهو ابن معاوية به ثم قال وهذا حديث حسن وكذا رواه ابن جرير وابن أبي
474

حاتم من حديث زهير به. وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري في قوله (ما جعل الله لرجل من قلبين في
جوفه) قال بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ضرب له مثل يقول ليس ابن رجل آخر ابنك وكذا قال مجاهد
وقتادة وابن زيد أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى
أعلم. وقوله عز وجل: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الاسلام من
جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة وأن هذا هو العدل
والقسط والبر. قال البخاري رحمه الله حدثنا يعلى بن أسد حدثنا عبد العزيز بن المختار عن موسى بن عقبة قال
حدثني سالم عن عبد الله بن عمر قال إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلا زيد بن
محمد حتى نزل القرآن (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن
موسى بن عقبة به وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ولهذا قالت
سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة رضي الله عنهما: يا رسول الله إنا كنا ندعو سالما ابنا وإن الله قد أنزل ما
أنزل وإنه كان يدخل علي وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال صلى الله عليه وسلم " أرضعيه تحرمي عليه "
الحديث ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجة الدعي وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش
مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه وقال عز وجل (لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا
قضوا منهن وطرا) وقال تبارك وتعالى في آية التحريم (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) احترازا عن زوجة
الدعي فإنه ليس من الصلب فأما الابن من الرضاعة فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين
" حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب " فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب فليس مما نهى عنه في
هذه الآية بدليل ما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي من حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن
الحسن العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على
حمرات لنا من جمع فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول " أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " قال أبو عبيدة وغيره
أبيني تصغير ابني وهذا ظاهر الدلالة فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر. وقوله (ادعوهم لآبائهم) في شأن
زيد بن حارثة رضي الله عنه وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان وأيضا ففي صحيح مسلم من حديث أبي عوانة
الوضاح بن عبد الله اليشكري عن الجعد أبي عثمان البصري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم " يا بني " ورواه أبو داود والترمذي وقوله عز وجل: (فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين
ومواليكم) أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم أي
عوضا عما فاتهم من النسب ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء وتبعتهم ابنة حمزة
رضي الله عنها تنادي يا عم يا عم فأخذها علي رضي الله عنه وقال لفاطمة رضي الله عنها دونك ابنة عمك
فاحتملتها فاختصم فيها علي وزيد وجعفر رضي الله عنهم في أيهم يكفلها فكل أدلى بحجة فقال علي رضي الله
عنه أنا أحق بها وهى ابنة عمي وقال زيد ابنة أخي وقال جعفر بن أبي طالب ابنة عمي وخالتها تحتي يعني
أسماء بنت عميس فقضى بها النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الام " وقال لعلي رضي الله عنه " أنت
مني وأنا منك " وقال لجعفر رضي الله عنه " أشبهت خلقي وخلقي " وقال لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا "
ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها أنه صلى الله عليه وسلم حكم بالحق وأرضى كلا من المتنازعين. وقال
لزيد رضي الله عنه " أنت أخونا ومولانا " كما قال تعالى: (فإخوانكم في الدين ومواليكم) وقال ابن جرير حدثنا
يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: قال أبو بكرة رضي الله عنه قال الله عز
وجل: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) فأنا ممن لا
يعرف أبوه فأنا من إخوانكم في الدين قال أبي: والله إني لأظنه أنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه وقد
جاء في الحديث " من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم إلا كفر " وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد في التبري من
475

النسب المعلوم ولهذا قال تعالى: (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين
ومواليكم) ثم قال تعالى: (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في
الحقيقة خطأ بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه كما أرشد إليه في
قوله تبارك وتعالى آمرا عباده أن يقولوا (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وثبت في صحيح مسلم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله عز وجل قد فعلت ". وفي صحيح البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن اجتهد " وفي الحديث الآخر " إن
الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والامر الذي يكرهون عليه " وقال تبارك وتعالى ههنا (وليس عليكم جناح
فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما) أي وإنما الاثم على من تعمد الباطل كما قال
عز وجل: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) الآية. وفي الحديث المتقدم " من ادعى إلى غير أبيه وهو
يعلمه إلا كفر " وفي القرآن المنسوخ فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق
أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنه أنه
قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل معه الكتاب فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورجمنا بعده ثم قال قد كنا نقرأ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم عليه السلام فإنما أنا عبد الله فقولوا عبده ورسوله " وربما قال معمر
" كما أطرت النصارى ابن مريم " رواه في الحديث الآخر " ثلاث في الناس كفر الطعن في النسب والنياحة
على الميت والاستسقاء بالنجوم ".
النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله من المؤمنين
والمهجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتب مسطورا (6)
قد علم الله تعالى شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم: على أمته ونصحه لهم فجعله أولى بهم من أنفسهم وحكمه فيهم كان مقدما
على اختيارهم لأنفسهم كما قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في
أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) وفي الصحيح " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب
إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وفي الصحيح أيضا أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله والله
لانت أحب إلي من كل شئ إلا من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال يا رسول
الله والله لانت أحب إلي من كل شئ حتى من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم " الآن يا عمر " ولهذا قال تعالى في هذه الآية
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة حدثنا إبراهيم بن المنذر حدثنا
محمد بن فليح حدثنا أبي عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم (النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم) فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " تفرد به
البخاري ورواه أيضا في الاستقراض وابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن فليح به مثله ورواه أحمد من
حديث أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه وقال الإمام أحمد
حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) عن أبي سلمة عن
جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا
فإلى ومن ترك ما لا فهو لورثته " ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل به نحوه وقوله تعالى: (وأزواجه أمهاتهم)
أي في الحرمة والاحترام والتوقير والاكرام والاعظام ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن
وأخواتهن بالاجماع وإن سمى بعض العلماء بناتهن أخوات المؤمنين كما هو منصوص الشافعي رضي الله عنه
476

في المختصر وهو من باب إطلاق العبارة لا إثبات الحكم وهل يقال لمعاوية وأمثاله خال المؤمنين؟ فيه قولان
للعلماء رضي الله عنهم ونص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا يقال ذلك وهل يقال لهن أمهات المؤمنات
فيدخل النساء في جمع المذكر السالم تغليبا؟ فيه قولان صح عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لا يقال ذلك
وهذا أصح الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه. وقد روي عن أبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهم
أنهما قرآ (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وروي نحو هذا عن معاوية ومجاهد
وعكرمة والحسن وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي رضي الله عنه حكاه البغوي وغيره واستأنسوا عليه
بالحديث الذي رواه أبو داود رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا ابن المبارك عن محمد بن عجلان
عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما أنا لكم بمنزلة
الوالد أعلمكم فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه " وكان يأمر بثلاثة أحجار
وينهى عن الروث والرمة. وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث ابن عجلان والوجه الثاني أنه لا يقال ذلك
واحتجوا بقوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم). وقوله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى
ببعض في كتاب الله) أي في حكم الله (من المؤمنين والمهاجرين) أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين
والأنصار وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم كما قال ابن عباس وغيره:
كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للاخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا قال
سعيد بن جبير وغير واحد من السلف والخلف. وقد أورد فيه ابن أبي حاتم حديث عن الزبير بن العوام فقال حدثنا
أبي حدثنا أحمد بن أبي بكر المصعبي من ساكني بغداد عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن
أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار (وأولوا الأرحام
بعضهم أولى ببعض) وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا فوجدنا الأنصار نعم الاخوان
فواخيناهم ووارثناهم فآخى أبو بكر رضي الله عنه خارجة بن زيد وآخى عمر رضي الله عنه فلانا وآخى عثمان
رضي الله عنه رجلا من بني زريق بن سعد الزرقي ويقول بعض الناس غيره قال الزبير رضي الله عنه وواخيت أنا
كعب بن مالك فجئته فابتعلته فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى فوالله يا بني لو مات يومئذ عن الدنيا ما ورثه غيري
حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا. وقوله تعالى: (إلا أن
تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والاحسان والوصية وقوله تعالى:
(كان ذلك في الكتاب مسطورا) أي هذا الحكم وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض حكم من الله مقدر
مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير. قاله مجاهد وغير واحد وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت
لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سبحانه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي
والله أعلم.
وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا (7)
ليسألوا الصدقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما (8)
يقول تعالى مخبرا أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء أنه أخذ عليهم العهد والميثاق في إقامة دين الله تعالى
وإبلاغ رسالته والتعاون والتناصر والاتفاق كما قال تعالى: (إذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة
ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال
فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم وكذلك هذا ونص من بينهم
على هؤلاء الخمسة وهم أولوا العزم وهو من باب عطف الخاص على العام وقد صرح بذكرهم أيضا في هذه الآية
وفي قوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى
477

أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فذكر الطرفين والوسط الفاتح والخاتم ومن بينهما على الترتيب فهذه هي الوصية
التي أخذ عليهم الميثاق بها كما قال تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى ابن مريم) فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله
عليهم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا محمد بن بكار حدثنا سعيد بن بشير حدثني قتادة عن
الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن
نوح) الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم " كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث فبدأ بي قبلهم " سعيد بن بشير فيه
ضعف وقد رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به مرسلا وهو أشبه ورواه بعضهم عن قتادة موقوفا والله أعلم.
وقال أبو بكر البزار حدثنا عمرو بن علي حدثنا أبو أحمد حدثنا حمزة الزيات حدثنا عدي بن ثابت عن أبي حازم
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خيار ولد آدم خمسة: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم. موقوف وحمزة فيه ضعف وقد قيل إن المراد بهذا الميثاق الذي
أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه السلام كما قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن
أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: ورفع أباهم آدم فنظر إليهم يعني ذريته وإن فيهم الغني والفقير وحسن
الصورة ودون ذلك فقال: رب لو سويت بين عبادك فقال إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج
عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة وهو الذي يقول الله تعالى (وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم
ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم) وهذا قول مجاهد أيضا وقال ابن عباس الميثاق الغليظ
العهد وقوله تعالى (ليسأل الصادقين عن صدقهم) قال مجاهد المبلغين المؤدين عن الرسل وقوله تعالى
(وأعد للكافرين) أي من أممهم (عذابا أليما) أي موجعا فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم
ونصحوا الأمم وأفصحوا لهم عن الحق المبين الواضح الجلي الذي لا لبس فيه ولا شك ولا امتراء وإن كذبهم من
كذبهم من الجهلة والمعاندين والمارقين والقاسطين فما جاءت به الرسل هو الحق ومن خالفهم فهو على الضلال
كما يقول أهل الجنة (لقد جاءت رسل ربنا بالحق).
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون
بصيرا (9) إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون
بالله الظنونا (10)
يقول تعالى مخبرا عن نعمته وفضله وإحسانه إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم عام تألبوا عليهم
وتحزبوا وذلك عام الخندق وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة على الصحيح المشهور وقال موسى بن
عقبة وغيره كان في سنة أربع وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفرا من أشراف يهود بني النضير الذين كانوا قد
أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر منهم سلام بن أبي الحقيق وسلام بن مشكم وكنانة بن الربيع خرجوا
إلى مكة فاجتمعوا بأشراف قريش وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ووعدوهم من أنفسهم النصر والاعانة فأجابوهم إلى
ذلك ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضا وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدهم أبو
سفيان صخر بن حرب وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر والجميع قريب من عشرة آلاف فلما سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي
الله عنه فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب وحفر وكان في حفره ذلك آيات
ودلائل واضحات وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريبا من أحد ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة
كما قال الله تعالى (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم) وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم
478

نحو من ثلاثة آلاف وقيل سبعمائة فأسندوا ظهورهم إلى سلع ووجوههم إلى نحو العدو والخندق حفير ليس فيه
ماء بينهم وبينهم يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم وجعل النساء والذراري في آطام المدينة وكانت بنو
قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرق المدينة ولهم عهد من النبي وذمة وهم قريب من ثمانمائة مقاتل
فذهب إليهم حيي بن أخطب النضري فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم
الخطب واشتد الامر وضاق الحال كما قال الله تبارك وتعالى (هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا)
ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريبا من شهر إلا أنهم لا يصلون إليهم ولم يقع بينهم قتال إلا أن عمرو بن
عبد ود العامري وكان من الفرسان الشجعان المشهورين في الجاهلية ركب ومعه فوارس فاقتحموا الخندق وخلصوا
إلى ناحية المسلمين فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل المسلمين إليه فقال إنه لم يبرز إليه أحد فأمر عليا رضي الله عنه
فخرج إليه فتجاولا ساعة ثم قتله علي رضي الله عنه فكان علامة على النصر. ثم أرسل الله عز وجل على
الأحزاب ريحا شديدة الهبوب قوية حتى لم يبق لهم خيمة ولا شئ ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار حتى
ارتحلوا خائبين خاسرين كما قال الله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا
عليهم ريحا وجنودا) قال مجاهد وهي الصبا ويؤيده الحديث الآخر " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور "
وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا داود عن عكرمة قال: قالت الجنوب للشمال ليلة
الأحزاب انطلقي ننصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت الشمال إن الحرة لا تسري بالليل قال فكانت الريح التي أرسلت
عليهم الصبا ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج عن حفص بن غياث عن داود عن عكرمة عن ابن عباس
رضي الله عنهما فذكره وقال ابن جرير أيضا حدثنا يونس حدثنا ابن وهب حدثني عبيد الله بن عمر عن نافع عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أرسلني خالي عثمان بن مظعون رضي الله عنه ليلة الخندق في برد شديد
وريح إلى المدينة فقال ائتنا بطعام ولحاف قال فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لي وقال " من أتيت من أصحابي
فمرهم يرجعوا " قال فذهبت والريح تسفي كل شئ فجعلت لا ألقى أحدا إلا أمرته بالرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال فما
يلوي أحد منهم عنقه قال وكان معي ترس لي فكانت الريح تضربه علي وكان فيه حديد قال فضربته الريح حتى
وقع بعض ذلك الحديد على كفي فأبعدها إلى الأرض.
وقوله " وجنودا لم تروها " هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرعب والخوف فكان رئيس كل قبيلة يقول يا
بني فلان إلي فيجتمعون إليه فيقول النجاء النجاء لما ألقى الله عز وجل في قلوبهم من الرعب وقال محمد بن
إسحاق عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان رضي الله
عنه يا أبا عبد الله رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبتموه؟ قال نعم يا ابن أخي قال وكيف كنتم تصنعون؟ قال والله لقد
كنا نجهد قال الفتى والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أعناقنا. قال: قال حذيفة رضي الله
عنه يا ابن أخي والله لو رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت فقال:
" من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم؟ - يشترط له النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع - أدخله الله الجنة " قال فما قام رجل ثم
صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من الليل ثم التفت إلينا فقال مثله فما قام منا رجل ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويا من
الليل ثم التفت إلينا فقال " من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع؟ - يشترط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة -
أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة " فما قام رجل من القوم من شدة الخوف وشدة الجوع وشدة البرد
فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة اذهب فادخل في
القوم فانظر ما يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا " قال فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله عز وجل تفعل
بهم ما تفعل لا تقر لهم قرارا ولا نارا ولا بناء فقام أبو سفيان فقال يا معشر قريش لينظر كل امرئ من جليسه.
قال حذيفة رضي الله عنه فأخذت بيد الرجل الذي إلى جنبي فقلت من أنت؟ فقال أنا فلان بن فلان ثم قال أبو
سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام لقد هلك الكراع والخف وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم
479

الذي نكره ولقينا من هذه الريح ما ترون والله ما تطمئن لنا قدر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناء فارتحلوا فإني
مرتحل ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم
ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أن لا تحدث شيئا حتى تأتيني لو شئت لقتلته بسهم قال حذيفة رضي الله عنه
فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي في مرط لبعض نسائه مرحل فلما رآني أدخلني بين رجليه وطرح علي
طرف المرط ثم ركع وسجد وإني لفيه فلما سلم أخبرته الخبر وسمعت غطفان بما فعلت قريش فانشمروا
راجعين إلى بلادهم وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا عند
حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجل لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت: فقال له حذيفة أنت كنت
تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا رجل
يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة " فلم يجبه منا أحد ثم الثانية ثم الثالثة مثله ثم قال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة قم فأتنا
بخبر من القوم " فلم أجد بدا إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال: " ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي " قال فمضيت
كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد قوسي وأردت أن أرميه ثم
ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تذعرهم علي ولو رميته لأصبته قال فرجعت كأنما أمشي في حمام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أصابني البرد حين فرغت وقررت فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم
أزل نائما حتى الصبح فلما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قم يا نومان " ورواه يونس بن بكير عن هشام بن سعد
عن زيد بن أسلم قال إن رجلا قال لحذيفة رضي الله عنه نشكو إلى الله صحبتكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم أدركتموه ولم
ندركه ورأيتموه ولم نره فقال حذيفة رضي الله عنه ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه والله لا تدري يا ابن
أخي لو أدركته كيف كنت تكون لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة ثم ذكر نحو ما تقدم
مطولا. وروى بلال بن يحيى العبسي عن حذيفة رضي الله عنه نحو ذلك أيضا وقد أخرجه الحاكم والبيهقي في
الدلائل من حديث عكرمة بن عمار عن محمد بن عبد الله الدؤلي عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال ذكر حذيفة
رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جلساؤه أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا. فقال حذيفة لا
تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعودا وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا وقريظة لليهود أسفل
منا نخافهم على ذرارينا وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحا في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما
يرى أحدنا أصبعه فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن بيوتنا عورة وما هي بعورة فما يستأذنه أحد
منهم إلا أذن له ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا حتى أتى
علي وما علي جنة من العدو ولا من البرد إلا مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي قال فأتاني صلى الله عليه وسلم وأنا جاث على ركبتي
فقال: " من هذا؟ " فقلت حذيفة قال " حذيفة " فتقاصرت الأرض فقلت: بلى يا رسول الله كراهية أن أقوم فقمت
فقال: " إنه كائن في القوم خير فائتني بخبر القوم " قال وأنا من أشد الناس فزعا وأشدهم قرا قال فخرجت فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته " قال فوالله ما
خلق الله تعالى فزعا ولا قرا في جوفي إلا خرج من جوفي فما أجد فيه شيئا قال فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم " يا حذيفة لا
تحدثن في القوم شيئا حتى تأتيني " قال فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد فإذا
رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويمسح خاصرته ويقول الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك
فانتزعت سهما من كنانتي أبيض الريش فأضعه في كبد قوسي لا رميه به في ضوء النار فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "
لا تحدثن فيهم شيئا حتى تأتيني " قال فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت
العسكر فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم. وإذا الريح في عسكرهم ما
تجاوز عسكرهم شبرا فوالله إني لاسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها ثم خرجت نحو
النبي صلى الله عليه وسلم فلما انتصفت في الطريق أو نحوا من ذلك إذا أنا بنحو من عشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين فقال أخبر
480

صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن
رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف فأومأ إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي فدنوت منه فأسبل علي شملة وكان رسول
الله إذا حزبه أمر صلى فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون وأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا
اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا) وأخرج
أبو داود في سننه منه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى من حديث عكرمة بن عمار به وقوله تعالى: (إذ
جاءوكم من فوقكم) أي الأحزاب (ومن أسفل منكم) تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أنهم بنو قريظة (وإذ
زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر) أي من شدة الخوف والفزع (وتظنون بالله الظنونا) قال ابن جرير ظن
بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين وأن الله سيفعل ذلك وقال محمد بن إسحاق في قوله
تعالى: (وإذ زاغت الابصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا) ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق
حتى قال معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يقدر على
أن يذهب إلى الغائط وقال الحسن في قوله عز وجل (وتظنون بالله الظنونا) ظنون مختلفة ظن المنافقون أن
محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق وأنه سيظهره على الدين كله ولو كره
المشركون وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عاصم الأنصاري حدثنا أبو عامر ح وحدثنا أبي حدثنا أبو عامر
العقدي حدثنا الزبير يعني ابن عبد الله مولى عثمان رضي الله عنه عن ربيع بن عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق يا رسول الله هل من شئ نقول فقد بلغت القلوب الحناجر؟
قال صلى الله عليه وسلم " نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا " قال فضرب وجوه أعدائه بالريح فهزمهم الريح وكذا رواه
الإمام أحمد بن حنبل عن أبي عامر العقدي.
هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا (11) وإذ يقول المنفقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله
ورسوله إلا غرورا (12) وإذ قالت طائفة منهم يأهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي
يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا (13)
يقول تعالى مخبرا عن ذلك الحال حين نزل الأحزاب حول المدينة والمسلمون محصورون في غاية الجهد
والضيق ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم إنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالا شديدا فحينئذ ظهر النفاق وتكلم الذين في
قلوبهم مرض بما في أنفسهم (وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا) أما
المنافق فنجم نفاقه والذي في قلبه شبهة أو حسكة لضعف حاله فتنفس بما يجده من الوسواس في نفسه لضعف
إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال. وقوم آخرون قالوا كما قال الله تعالى (وإذ قالت طائفة منهم يا أهل
يثرب) يعني المدينة كما جاء في الصحيح " أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين فذهب وهو أنها
هجر فإذا هي يثرب " وفي لفظ المدينة فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا إبراهيم بن مهدي حدثنا
صالح بن عمر عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من سمى المدينة يثرب فليستغفر الله تعالى إنما هي طابة هي طابة " تفرد به الإمام أحمد وفي
إسناده ضعف والله أعلم ويقال إنما كان أصل تسميتها يثرب برجل نزلها من العماليق يقال له يثرب بن عبيد بن
مهلاييل بن عوص بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح. قاله السهيلي قال وروي عن بعضهم أنه قال: إن
لها في التوراة أحد عشر اسما: المدينة وطابة وطيبة والمسكينة والجابرة والمحبة والمحبوبة والقاصمة والمجبورة
والعذراء والمرحرمة. وعن كعب الأحبار قال: إنا نجد في التوراة يقول الله تعالى للمدينة يا طيبة ويا طابة ويا
مسكينة لا تقلي الكنوز أرفع أحاجرك على أحاجر القرى وقوله (لا مقام لكم) أي ههنا يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في
481

مقام المرابطة (فارجعوا) أي إلى بيوتكم ومنازلكم (ويستأذن فريق منهم النبي) قال العوفي عن ابن عباس
رضي الله عنهما هم بنو حارثة قالوا بيوتنا نخاف عليها السراق وكذا قال غير واحد وذكر ابن إسحاق أن القائل
لذلك هو أوس بن قيظي يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة أي ليس دونها ما يحجبها من العدو فهم
يخشون عليها منهم قال الله تعالى (وما هي بعورة) أي ليست كما يزعمون (إن يريدون إلا فرارا) أي هربا
من الزحف.
ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لأتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا (14) ولقد كانوا عهدوا الله من قبل
لا يولون الأدبر وكان عهد الله مسؤولا (15) قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون
إلا قليلا (16) قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله
وليا ولا نصيرا (17) *
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين (يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا) أنهم لو دخل عليهم
الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ثم سئلوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعا
وهم لا يحافظون على الايمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع هكذا فسره قتادة وعبد الرحمن بن زيد
وابن جرير وهذا ذم لهم في غاية الذم ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا
الادبار ولا يفرون من الزحف (وكان عهد الله مسؤولا) أي وأن الله تعالى سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من
ذلك ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم بل ربما كان ذلك سببا في تعجيل أخذهم
غرة ولهذا قال تعالى (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) أي بعد هربكم وفراركم (قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير
لمن اتقى) ثم قال تعالى (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) أي يمنعكم (إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم
رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) أي ليس لهم ولا لغيرهم من الله مجير ولا مغيث.
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخونهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا (18) أشحة عليكم فإذا جاء
الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يخشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة
حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعملهم وكان ذلك على الله يسيرا (19)
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم عن شهود الحرب والقائلين لاخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم
وخلطائهم (هلم إلينا) أي إلى ما نحن فيه من الإقامة في الظلال والثمار وهم مع ذلك (لا يأتون البأس إلا
قليلا * أشحة عليكم) أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم وقال السدي (أشحة عليكم) أي في الغنائم (فإذا جاء
الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) أي من شدة خوفه وجزعه وهكذا
خوف هؤلاء الجبناء من القتال (فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد) أي فإذا كان الامن تكلموا كلاما بليغا
فصيحا عاليا وادعوا لأنفسهم المقامات العالية في الشجاعة والنجدة وهم يكذبون في ذلك وقال ابن عباس رضي
الله عنهما (سلقوكم) أي استقبلوكم وقال قتادة أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا قد
شهدنا معكم وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق وهم مع ذلك أشحة على الخير أي ليس فيهم خير قد
جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير فهم كما قال في أمثالهم الشاعر:
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة وفي * الحرب أمثال النساء العوارك
أي في حال المسالمة كأنهم الحمر والاعيار جمع عير وهو الحمار وفي الحرب كأنهم النساء الحيض ولهذا
482

قال تعالى (أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا) أي سهلا هينا عنده.
يحسبون الأحزاب لم يذهبوا وإن يأت الأحزاب يود لو أنهم بأدون في الاعراب يسئلون عن أنبائكم ولو
كانوا فيكم ما قتلوا إلا قليلا (20)
وهذا أيضا من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف (يحسبون الأحزاب لم يذهبوا) بل هم قريب منهم
وإن لهم عودة إليهم (وإن يأت الأحزاب يودوا لو أنهم بأدون في الاعراب يسألون عن أنبائكم) أي ويودون إذا
جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم
مع عدوكم (ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا) أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلا قليلا لكثرة جبنهم
وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم.
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21) ولما رأى المؤمنون
الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما (22)
هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس
بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل صلوات
الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين ولهذا قال تعالى للذين تقلقوا وتضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم
الأحزاب (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال تعالى
(لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) ثم قال تعالى مخبرا عن عباده المؤمنين المصدقين بوعود الله
لهم وجعله العاقبة حاصلة لهم في الدنيا والآخرة فقال تعالى (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله
ورسوله وصدق الله ورسوله) قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة يعنون قوله تعالى في سورة البقرة (أم حسبتم
أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين
آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب) أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والامتحان الذي
يعقبه النصر القريب ولهذا قال تعالى (وصدق الله ورسوله). وقوله تعالى (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) دليل
على زيادة الايمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم كما قال جمهور الأئمة إنه يزيد وينقص وقد قررنا ذلك في
أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ومعنى قوله جلت عظمته (وما زادهم) أي ذلك الحال والضيق والشدة
(إلا إيمانا) بالله (وتسليما) أي انقيادا لأوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
من المؤمنين رجال صدقوا ما عهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا (23) ليجزى
الله الصدقين بصدقهم ويعذب المنفقين ان شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما (24)
لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد الذي كانوا عاهدوا الله عليه لا يولون الادبار وصف المؤمنين
أنهم استمروا على العهد والميثاق و (صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه) قال بعضهم أجله وقال
البخاري عهده وهو يرجع إلى الأول (ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا) أي وما غيروا عهد الله ولا نقضوه ولا
بدلوه قال البخاري حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه
قال: لما نسخنا المصحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها لم أجدها إلا مع
خزيمة بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين (من المؤمنين رجال
صدقوا ما عاهدوا الله عليه) تفرد به البخاري دون مسلم وأخرجه أحمد في مسنده والترمذي والنسائي في التفسير من
483

سننهما من حديث الزهري به وقال الترمذي حسن صحيح وقال البخاري أيضا حدثنا محمد بن بشار حدثنا
محمد بن عبد الله الأنصاري حدثني أبي عن ثمامة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال نرى هذه الآية نزلت في
أنس بن النضر رضي الله عنه (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) الآية انفرد به البخاري من هذا
الوجه ولكن له شواهد من طرق أخر قال الإمام أحمد حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان بن المغيرة عن
ثابت قال أنس: عمي أنس بن النضر رضي الله عنه سميت به لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه وقال
أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عز وجل
ما أصنع قال فهاب أن يقول غيرها فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال له
أنس رضي الله عنه يا أبا عمرو أين واها لريح الجنة إني أجده دون أحد قال فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه قال
فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر فما عرفت أخي إلا
ببنانه قال فنزلت هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
وما بدلوا تبديلا) قال فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم ورواه مسلم والترمذي والنسائي
من حديث سليمان بن المغيرة به ورواه النسائي أيضا وابن جرير من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس
رضي الله عنه به نحوه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حميد عن أنس رضي
الله عنه قال إن عمه يعني أنس بن النضر رضي الله عنه غاب عن قتال بدر فقال غبت عن أول قتال قاتله رسول الله
صلى الله عليه وسلم المشركين لئن أشهدني الله عز وجل قتالا للمشركين ليرين الله تعالى ما أصنع قال فلما كان يوم أحد انكشف
المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني
المشركين - ثم تقدم فلقيه سعد يعني ابن معاذ رضي الله عنه دون أحد فقال أنا معك قال سعد رضي الله عنه فلم
أستطع أن أصنع ما صنع فلما قتل قال فوجد فيه بضع وثمانون ضربة سيف وطعنة رمح ورمية سهم وكانوا يقولون
فيه وفى أصحابه نزلت (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد بن
حميد والنسائي فيه أيضا عن إسحاق بن إبراهيم كلاهما عن يزيد بن هارون به وقال الترمذي حسن. وقد رواه
البخاري في المغازي عن حسان بن حسان عن محمد بن طلحة عن مصرف عن حميد عن أنس رضي الله عنه به
ولم يذكر نزول الآية ورواه ابن جرير من حديث المعتمر بن سليمان عن حميد عن أنس رضي الله عنه به: وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن الفضل العسقلاني حدثنا سليمان بن أيوب بن سليمان حدثنا عيسى بن موسى بن
طلحة بن عبيد الله حدثني أبي عن جدي عن موسى بن طلحة عن أبيه طلحة رضي الله عنه قال: لما أن رجع
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحد صعد المنبر فحمد الله تعالى وأثنى عليه وعزى المسلمين بما أصابهم وأخبرهم بما لهم فيه
من الاجر والذخر ثم قرأ هذه الآية (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه) الآية
كلها فقام إليه رجل من المسلمين فقال يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلت وعلي ثوبان أخضران حضرميان فقال
(أيها السائل هذا منهم) وكذا رواه ابن جرير من حديث سليمان بن أيوب الطلحي به وأخرجه الترمذي في
التفسير والمناقب أيضا وابن جرير من حديث يونس بن بكير عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن
أبيهما رضي الله عنه به وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس وقال أيضا حدثنا أحمد بن عصام
الأنصاري حدثنا أبو عامر - يعني العقدي - حدثني إسحاق - يعني ابن طلحة بن عبيد الله - عن موسى بن طلحة
قال: دخلت على معاوية رضي الله عنه فلما خرجت دعاني فقال ألا أضع عندك يا ابن أخي حديثا سمعته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه " ورواه ابن جرير حدثنا أبو كريب
حدثنا عبد الحميد الحماني عن إسحاق بن يحيى بن طلحة الطلحي عن موسى بن طلحة قال: قام معاوية بن أبي
سفيان رضي الله عنه فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " طلحة ممن قضى نحبه " ولهذا قال مجاهد في قوله
484

تعالى (فمنهم من قضى نحبه) يعني عهده (ومنهم من ينتظر) قال يوما فيه القتال فيصدق في اللقاء وقال
الحسن (فمنهم من قضى نحبه) يعني موته على الصدق والوفاء ومنهم من ينتظر الموت على مثل ذلك ومنهم من
لم يبدل تبديلا وكذا قال قتادة وابن زيد وقال بعضهم نحبه نذره: وقوله تعالى (وما بدلوا تبديلا) أي وما
غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين قالوا
(إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا * ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار) وقوله
تعالى (ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم) أي إنما يختبر عباده بالخوف
والزلزال ليميز الخبيث من الطيب فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل مع أنه تعالى يعلم الشئ قبل كونه ولكن
لا يعذب الخلق بعلمه فيهم حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم
والصابرين ونبلو أخباركم) فهذا علم بالشئ بعد كونه وإن كان العلم السابق حاصلا به قبل وجوده وكذا قال
الله تعالى (ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على
الغيب) ولهذا قال تعالى ههنا (ليجزي الله الصادقين بصدقهم) أي بصبرهم على ما عاهدوا الله عليه وقيامهم
به ومحافظتهم عليه (ويعذب المنافقين) وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره فاستحقوا بذلك عقابه
وعذابه ولكن هم تحت مشيئته في الدنيا إن شاء استمر بهم على ما فعلوا حتى يلقوه فيعذبهم عليه. وإن شاء تاب
عليهم بأن أرشدهم إلى النزوع عن النفاق إلى الايمان والعمل الصالح بعد الفسوق والعصيان ولما كانت رحمته
ورأفته بخلقه هي الغالبة لغضبه قال (إن الله كان غفورا رحيما).
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا (25)
يقول تعالى مخبرا عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ولو أن الله
جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد ولكن قال
تعالى (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم) سلط عليهم هواء فرق شملهم كما كان سبب اجتماعهم من الهوى
وهم أخلاط من قبائل شتى أحزاب وآراء فناسب أن يرسل عليهم الهواء الذي فرق جماعتهم وردهم خائبين
خاسرين بغيظهم وحنقهم لم ينالوا خيرا لا في الدنيا مما كان في أنفسهم من الظفر والمغنم ولا في الآخرة بما
تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صلى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله واستئصال جيشه ومن هم بشئ وصدق همه
بفعله فهو في الحقيقة كفاعله. وقوله تبارك وتعالى (وكفى الله المؤمنين القتال) أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم
ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم بل كفى الله وحده ونصر عبده وأعز جنده ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
" لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده فلا شئ بعده " أخرجاه من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفي الصحيحين من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى
رضي الله عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال " اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم
الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم " وفي قوله عز وجل (وكفى الله المؤمنين القتال) إشارة إلى وضع الحرب
بينهم وبين قريش وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم قال محمد بن إسحاق
لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا " لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم
تغزونهم " فلم تغز قريش بعد ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة. وهذا
الحديث الذي ذكره محمد بن إسحاق حديث صحيح كما قال الإمام أحمد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبو
إسحاق قال سمعت سليمان بن صرد رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب " الآن نغزوهم ولا
يغزونا " وهكذا رواه البخاري في صحيحه من حديث الثوري وإسرائيل عن أبي إسحاق به وقوله تعالى (وكان الله
485

قويا عزيزا " أي بحوله وقوته ردهم خائبين لم ينالوا خيرا وأعز الله الاسلام وأهله وصدق وعده ونصر رسوله وعبده
فله الحمد والمنة.
وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا (26)
وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شئ قديرا (27)
قد تقدم أن بني قريظة لما قدمت جنود الأحزاب ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من
العهد وكان ذلك بسفارة حيي بن أخطب النضري لعنه الله دخل حصنهم ولم يزل بسيدهم كعب بن أسد حتى
نقض العهد وقال له فيما قال ويحك قد جئتك بعز الدهر أتيتك بقريش وأحابيشها وغطفان وأتباعها ولا يزالون
ههنا حتى يستأصلوا محمدا وأصحابه فقال له كعب بل والله أتيتني بذل الدهر ويحك يا حيي إنك مشئوم
فدعنا منك فلم يزل يفتل في الذروة والغارب حتى أجابه واشترط له حيي إن ذهب الأحزاب ولم يكن من أمرهم
شئ أن يدخل معهم في الحصن فيكون له أسوتهم فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ساءه وشق عليه
وعلى المسلمين جدا فلما أيده الله تعالى ونصره وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة مؤيدا منصورا ووضع الناس السلاح فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة في بيت أم
سلمة رضي الله عنها إذ تبدي له جبريل عليه الصلاة والسلام معتجرا بعمامة من إستبرق على بغلة عليها قطيفة من
ديباج فقال: أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم " قال لكن الملائكة لم تضع أسلحتها وهذا الآن
رجوعي من طلب القوم ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة وفي رواية فقال له
عذيرك من مقاتل أوضعتم السلاح؟ قال " نعم " قال لكنا لم نضع أسلحتنا بعد انهض إلى هؤلاء قال صلى الله عليه وسلم
" أين؟ " قال بني قريظة فإن الله تعالى أمرني أن أزلزل عليهم فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره وأمر الناس بالمسير
إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر وقال صلى الله عليه وسلم " لا يصلين أحد منكم العصر إلا
في بني قريظة " فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق فصلى بعضهم في الطريق وقالوا لم يرد منا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير وقال آخرون لا نصليها إلا في بني قريظة فلم يعنف واحدا من الفريقين وتبعهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمسا وعشرين ليلة فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم سعد بن معاذ
سيد الأوس رضي الله عنه لانهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية واعتقدوا أنه يحسن إليهم في ذلك كما فعل
عبد الله بن أبي بن سلول في مواليه بني قينقاع حين استطلقهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فظن هؤلاء أن سعدا سيفعل
فيهم كما فعل ابن أبي في أولئك ولم يعلموا أن سعدا رضي الله عنه كان قد أصابه سهم في أكحله أيام الخندق
فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكحله وأنزله في قبة في المسجد ليعوده من قريب وقال سعد رضي الله عنه فيما دعا به:
اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها ولا
تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة فاستجاب الله تعالى دعاءه وقدر عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم طلبا
من تلقاء أنفسهم فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم فلما أقبل وهو راكب على حمار
قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم ويرققونه عليهم ويعطفونه وهو
ساكت لا يرد عليهم فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم. فعرفوا أنه
غير مستبقيهم فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى سيدكم " فقال إليه
المسلمون فأنزلوه إعظاما وإكراما واحتراما له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم فلما جلس قال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم " إن هؤلاء - وأشار إليهم - قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت " فقال رضي الله عنه وحكمي نافذ
486

عليهم؟ قال " نعم " قال وعلى من في هذه الخيمة؟ قال " نعم " قال وعلى من ههنا - وأشار إلى الجانب
الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض بوجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إجلالا وإكراما وإعظاما - فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
" نعم " فقال رضي الله عنه إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذريتهم وأموالهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد
حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة " وفي رواية لقد حكمت بحكم الله " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالأخاديد فخدت في الأرض وجئ بهم مكتفين فضرب أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة وسبى من
لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم وهذا كله مقرر مفصل بأدلته وأحاديثه وبسطه في كتاب السيرة الذي أفردناه
موجزا وبسيطا ولله الحمد والمنة ولهذا قال تعالى (وأنزل الذين ظاهروهم) أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على
حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أهل الكتاب " يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل كان قد نزل
آباؤهم الحجاز قديما طمعا في اتباع النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل (فلما جاءهم
ما عرفوا كفروا به) فعليهم لعنة الله وقوله تعالى (من صياصيهم) يعني حصونهم. كذا قال مجاهد وعكرمة
وعطاء وقتادة والسدي وغيرهم من السلف ومنه سمي صياصي البقر وهي قرونها لأنها أعلى شئ فيها (وقذف في
قلوبهم الرعب) وهو الخوف لانهم كانوا مالئوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم وليس من يعلم كمن لا يعلم
وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليعزوهم في الدنيا فانعكس عليهم الحال وانقلب إليهم القال انشمر
المشركون ففازوا بصفقة المغبون فكما راموا العز ذلوا وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا وأضيف إلى
ذلك شقاوة الآخرة فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة ولهذا قال تعالى (فريقا تقتلون وتأسرون
فريقا) فالذين قتلوا هم المقاتلة والاسراء هم الأصغر والنساء وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم بن بشير أخبرنا عبد
الملك بن عمير عن عطية القرظي قال عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة فشكوا في فأمر بي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظروا هل
أنبت بعد؟ فنظروني فلم يجدوني أنبت فخلى عني وألحقني بالسبي وكذا رواه أهل السنن كلهم من طرق عن
عبد الملك بن عمير به وقال الترمذي حسن صحيح ورواه النسائي أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي
نجيح عن مجاهد عن عطية بنحوه وقوله تعالى (وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم) أي جعلها لكم من قتلكم
لهم (وأرضا لم تطئوها) قيل خيبر وقيل مكة رواه مالك عن زيد بن أسلم وقيل فارس والروم وقال ابن جرير
يجوز أن يكون الجميع مرادا (وكان الله على كل شئ قديرا) قال الإمام أحمد حدثنا يزيد أخبرنا محمد بن
عمرو عن أبيه عن جده علقمة بن وقاص قال: أخبرتني عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت يوم الخندق أقفو
الناس فسمعت وئيد الأرض ورائي فإذا أنا بسعد بن معاذ رضي الله عنه ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل
مجنه قالت فجلست إلى الأرض فمر سعد رضي الله عنه وعليه درع من حديد قد خرجت منه أطرافه فأنا أتخوف
على أطراف سعد قال وكان سعد رضي الله عنه من أعظم الناس وأطولهم فمر وهو يرتجز ويقول:
ليث قليلا يشهد الهيجا جمل * ما أحسن الموت إذا حان الاجل
قالت فقمت فاقتحمت حديقة فإذا فيها نفر من المسلمين وإذا فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيهم رجل عليه
تسبغة له تعني المغفر فقال عمر رضي الله عنه ما جاء بك؟ لعمري والله إنك لجريئة وما يؤمنك أن يكون بلاء
أو يكون تخور قالت فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي ساعتئذ فدخلت فيها فرفع الرجل التسبغة
عن وجهه فإذا هو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فقال: يا عمر ويحك إنك قد أكثرت منذ اليوم وأين التخور
أو الفرار إلا إلى الله تعالى؟ قالت ورمى سعدا رضي الله عنه رجل من قريش يقال له ابن العرقة بسهم له وقال له
خذها وأنا ابن العرقة فأصاب أكحله فقطعه فدعا الله تعالى سعد رضي الله عنه فقال: اللهم لا تمتني حتى تقر
عيني من بني قريظة قالت وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية قالت فرقأ كلمه وبعث الله تعالى الريح على
المشركين (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) فلحق أبو سفيان ومن معه بتهامة ولحق عينيه بن بدر
487

ومن معه بنجد ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من
أدم فضربت على سعد رضي الله عنه في المسجد قالت فجاءه جبريل عليه السلام وأن على ثناياه لنقع الغبار
فقال أو قد وضعت السلاح؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح! أخرج إلى بني قريظة فقاتلهم قالت فلبس
رسول الله صلى الله عليه وسلم لامته وأذن في الناس بالرحيل أن يخرجوا فمر على بني تميم وهم جيران المسجد فقال " من مر
بكم؟ " قالوا مر بنا دحية الكلبي وكان دحية الكلبي يشبه لحيته وسنه ووجهه جبريل عليه الصلاة والسلام فأتاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء قيل لهم أنزلوا على حكم رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر فأشار إليهم إنه الذبح قالوا ننزل على حكم سعد بن معاذ رضي الله
عنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنزلوا على حكم سعد بن معاذ " فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ رضي الله
عنه عنه فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حمل عليه وحف به قومه فقالوا يا أبا عمرو حلفاؤك ومواليك
وأهل الكتاب (1) ومن قد علمت قالت فلا يرجع إليهم شيئا ولا يلتفت إليهم حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه
فقال: قد آن لي أن لا أبالي في الله لومة لائم. قالت قال أبو سعيد فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قوموا إلى
سيدكم فأنزلوه " فقال عمر رضي الله عنه سيدنا الله قال " أنزلوه " فأنزلوه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احكم فيهم " قال
سعد رضي الله عنه فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم وتقسم أموالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد
حكمت فيهم بحكم الله تعالى وحكم رسوله " ثم دعا سعد رضي الله عنه قال اللهم إن كنت أبقيت على نبيك من
حرب قريش شيئا فابقني لها وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك قال فانفجر كلمه وكان قد
برئ منه إلا مثل الخرص ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها فحضره
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما قالت فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر رضي الله
عنه من بكاء عمر رضي الله عنه وأنا في حجرتي وكانوا كما قال الله تعالى (رحماء بينهم) قال علقمة فقلت أي
أمه فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قالت كانت عينه لا تدمع على أحد ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته
صلى الله عليه وسلم وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
نحوا من هذا ولكنه أخصر منه وفيه دعا سعد رضي الله عنه.
يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا (28) وإن
كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (29)
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ممن يحصل لهن عنده
الحياة الدنيا وزينتها وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل
فاخترن رضى الله عنهن وأرضاهن الله ورسوله والدار الآخرة فجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا
وسعادة الآخرة. قال البخاري حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن
عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخير أزواجه قالت
فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " وقد علم أن
أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال " إن الله تعالى قال (يا أيها النبي قل لازواجك) " إلى تمام الآيتين
فقلت له ففي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة وكذا رواه معلقا عن الليث حدثني يونس
عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها فذكره وزاد قالت ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت وقد
حكى البخاري أن معمرا اضطرب فيه فتارة رواه عن الزهري عن أبي سلمة وتارة رواه عن الزهري عن عروة عن
عائشة رضي الله عنها وقال ابن جرير حدثنا أحمد بن عبدة الضبي حدثنا أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه

(1) في النسخة المكية: أهل النكاية.
488

قال: قالت عائشة رضي الله عنها لما نزل الخيار قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني أريد أن أذكر لك أمرا فلا تقضي فيه
شيئا حتى تستأمري أبويك " قالت قلت وما هو يا رسول الله؟ قالت فرده عليها فقالت وما هو يا رسول الله؟ قالت
فرده عليها فقالت وما هو يا رسول الله؟ قالت فقرأ صلى الله عليه وسلم (يا أيها النبي قل لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا
وزينتها) إلى آخر الآية قالت فقلت بل نختار الله ورسوله والدار الآخرة قالت ففرح بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا ابن
وكيع حدثنا محمد بن بشير عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت آية
التخيير بدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا عائشة إني عارض عليك أمرا فلا تفتاتي فيه بشئ حتى تعرضيه على أبويك
أبي بكر وأم رومان رضي الله عنهما " فقلت يا رسول الله وما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم " قال الله عز وجل (يا أيها النبي قل
لازواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله
والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما " قالت فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ولا أؤامر في
ذلك أبوي أبا بكر وأم رومان رضي الله عنهما. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم استقرأ الحجر فقال " إن عائشة رضي
الله عنها قالت كذا وكذا " فقلن ونحن نقول مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن كلهن ورواه ابن أبي حاتم عن أبي
سعيد الأشج عن أبي أسامة عن محمد بن عمرو به قال ابن جرير وحدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثنا أبي حدثنا
محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى
نسائه أمر أن يخيرهن فدخل علي فقال " سأذكر لك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أباك " فقلت وما هو يا رسول
الله؟ قال " إني أمرت أن أخيركن " وتلا عليها آية التخيير إلى آخر الآيتين قالت: فقلت وما الذي تقول لا تعجلي
حتى تستشيري أباك؟ فإني أختار الله ورسوله. فسر صلى الله عليه وسلم بذلك وعرض على نسائه فتتابعن كلهن فاخترن الله
ورسوله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم حدثنا يزيد بن سنان البصري حدثنا أبو صالح عبد الله بن صالح حدثني الليث
حدثني عقيل عن الزهري أخبرني عبد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قالت عائشة
رضي الله عنها أنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه فقال صلى الله عليه وسلم " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي
حتى تستأمري أبويك " قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قال " إن الله تبارك وتعالى قال
(يا أيها النبي قل لازواجك) الآيتين قالت عائشة رضي الله عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله
ورسوله والدار الآخرة. ثم خير نساءه كله فقلن مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن. وأخرجه البخاري ومسلم
جميعا عن قتيبة عن الليث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها مثله. وقال الإمام أحمد حدثنا
أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاخترناه فلم يعدها علينا شيئا أخرجاه من حديث الأعمش. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر عبد الملك بن عمير
حدثنا زكريا بن إسحاق عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول
الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له ثم
أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت فقال عمر رضي الله عنه
لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد - امرأة عمر - سألتني النفقة
آنفا فوجأت عنقها فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه وقال " هن حولي يسألنني النفقة " فقام أبو بكر رضي الله
عنه إلى عائشة ليضربها وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده فنهاهما
رسول الله فقلن والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده قال وأنزل الله عز وجل الخيار فبدأ
بعائشة رضي الله عنها فقال " إني أذكر لك أمرا ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك " قالت وما هو؟ قال
فتلا عليها (يا أيها النبي قل لازواجك) الآية قالت عائشة رضي الله عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى
ورسوله وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت فقال صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى لم يبعثني معنفا ولكن بعثني
489

معلما ميسرا لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها " انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري فرواه هو والنسائي
من حديث زكريا بن إسحاق المكي به. وقال عبد الله بن الإمام أحمد حدثنا شريح بن يونس حدثنا علي بن
هاشم بن البريد عن محمد بن عبيد الله بن علي بن أبي رافع عن عثمان بن علي بن الحسين عن أبيه عن علي
رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه الدنيا والآخرة ولم يخيرهن الطلاق وهذا منقطع. وقد روي عن
الحسن وقتادة وغيرهما نحو ذلك وهو خلاف الظاهر من الآية فإنه قال (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا
جميلا) أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن وقد اختلف العلماء في جواز تزوج غيره لهن لو طلقهن على
قولين أصحهما نعم لو وقع ليحصل المقصود من السراح والله أعلم قال عكرمة وكان تحته يومئذ تسع نسوة خمس
من قريش عائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة رضى الله عنهن وكانت تحته صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي النضيرية (1)
وميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن
وأرضاهن أجمعين
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا (30) *
ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صلحا نؤتها أجرها مرتين واعتدنا لها رزقا كريما (31)
يقول تعالى واعظا نساء النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة واستقر أمرهن تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فناسب أن يخبرهن بحكمهن وتخصيصهن دون سائر النساء بأن من يأت منهن بفاحشة مبينة. قال ابن عباس رضي
الله عنهما: وهي النشوز وسوء الخلق وعلى كل تقدير فهو شرط والشرط لا يقتضي الوقوع كقوله تعالى: (ولقد
أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك) وكقوله عز وجل (ولو أشركوا لحبط عنهم ما
كانوا يعملون) (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) (لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما
يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار) فلما كانت محلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظا صيانة
لجنابهن وحجابهن الرفيع ولهذا قال تعالى (من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين) قال
مالك عن زيد بن أسلم (يضاعف لها العذاب ضعفين) قال في الدنيا والآخرة: وعن ابن أبي نجيح عن مجاهد
مثله وكان ذلك على الله يسيرا) أي سهلا هينا. ثم ذكر عدله وفضله في قوله: (ومن يقنت منكن لله
ورسوله) " أي يطع الله ورسوله ويستحب (نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما) أي في الجنة فإنهن في
منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين فوق منازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى
العرش.
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا
معروفا (32) وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة آتين الزكاة وأطعن الله ورسوله
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (33) واذكرن ما يتلى في بيوتكن من
آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا (34)
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك فقال تعالى مخاطبا لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بأنهن
إذا اتقين الله عز وجل كما أمرهن فإنه لا يشبههن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ثم قال تعالى:
(فلا تخضعن بالقول) قال السدي وغيره يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ولهذا قال تعالى:

(1) في البغوي: الخيبرية.
490

(فيطمع الذي في قلبه مرض) أي دغل (وقلن قولا معروفا) قال ابن زيد قولا حسنا جميلا معروفا في الخير
ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها: وقوله
تعالى: (وقرن في بيوتكن) " أي الزمن بيوتكن فلا تخرجن لغير حاجة ومن الحوائج الشرعية الصلاة في
المسجد بشرطه كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات " - وفي رواية -
" وبيوتهن خير لهن " وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا حميد بن مسعدة حدثنا أبو رجاء الكلبي روح بن المسيب ثقة
حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن يا رسول الله ذهب الرجال
بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى فمالنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " من قعدت - أو كلمة نحوها - منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى " ثم قال لا
نعلم رواه عن ثابت إلا روح بن المسيب وهو رجل من أهل البصرة مشهور.
وقال البزار أيضا حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام عن قتادة عن مورق عن أبي الأحوص
عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون
بروحة ربها وهي في قعر بيتها " ورواه الترمذي عن بندار عن عمرو بن عاصم به نحوه. وروى البزار بإسناده
المتقدم وأبو داود أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها وصلاتها في
بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها " وهذا إسناد جيد وقوله تعالى: (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال
مجاهد كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية. وقال قتادة (ولا تبرجن تبرج الجاهلية
الأولى) يقول إذا خرجتن بن بيوتكن وكانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك وقال مقاتل بن
حيان (ولا تبرجن تبرح الجاهلية الأولى) والتبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها
وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج. وقال ابن جرير حدثني ابن زهير
حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا داود يعني ابن أبي الفرات حدثنا علي بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال تلا هذه الآية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) قال كانت فيما بين نوح وإدريس وكانت ألف
سنة وإن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل وكان رجال الجبل صباحا وفي
النساء دمامة وكان نساء السهل صباحا وفي الرجال دمامة وإن إبليس لعنه الله أتى رجلا من أهل السهل في
صورة غلام فآجر نفسه منه فكان يخدمه فاتخذ إبليس شيئا من مثل الذي يزمر فيه الرعاء فجاء فيه بصوت لم يسمع
الناس مثله فبلغ ذلك من حوله فانتابوهم يسمعون إليه واتخذوا عيدا يجتمعون إليه في السنة فيتبرج النساء للرجال
قال ويتزين الرجال لهن وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى
أصحابه فأخبرهم بذلك فتحولوا إليهن فنزلوا معهن وظهرت الفاحشة فيهن فهو قول الله تعالى (ولا تبرجن تبرج
الجاهلية الأولى) وقوله تعالى: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) نهاهن أولا عن الشر ثم
أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وإيتاء الزكاة وهي الاحسان إلى المخلوقين
(وأطعن الله ورسوله) وهذا من باب عطف العام على الخاص. وقوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وهذا نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا لأنهن سبب نزول
هذه الآية وسبب النزول داخل فيه قولا واحدا إما وحده على قول أو مع غيره على الصحيح وروى ابن جرير عن
عكرمة أنه كان ينادي في السوق (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) نزلت في
نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وهكذا روى ابن أبي حاتم قال حدثنا علي بن حرب الموصلي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا
حسين بن واقد عن يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) قال نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقال عكرمة من شاء باهلته إنها نزلت
في شأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان المراد أنهن كن سبب النزول دون غيرهن فصحيح وإن أريد أنهن المراد فقط
491

دون غيرهن ففي هذا نظر فإنه قد وردت أحاديث تدل على أن المراد أعم من ذلك (الحديث الأول) حدثنا الإمام أحمد
حدثنا عفان حدثنا حماد أخبرنا علي بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر
بباب فاطمة رضي الله عنه ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول " الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) " ورواه الترمذي عن عبد بن حميد عن عفان به وقال حسن
غريب (حديث آخر) قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا أبو نعيم حدثنا يونس عن أبي إسحاق أخبرني أبو داود عن
أبي الحمراء قال: رابطت المدينة سبعة أشهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر جاء
إلى باب علي وفاطمة رضي الله عنهما فقال " الصلاة الصلاة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) ". أبو داود الأعمى هو نفيع بن الحارث كذاب (حديث آخر) وقال الامام أيضا حدثنا
محمد بن مصعب حدثنا الأوزاعي حدثنا شداد بن عمار قال دخلت على واثلة بن الأسقع رضي الله عنه وعنده قوم
فذكروا عليا رضي الله عنه فشتموه فشتمته معهم فلما قاموا قال لي شتمت هذا الرجل؟ قلت قد شتموه فشتمته
معهم ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت بلى قال أتيت فاطمة رضي الله عنها أسألها عن علي رضي
الله عنه فقالت توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست أنتظره حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي وحسن وحسين رضي
الله عنهم آخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى عليا وفاطمة رضي الله عنهما وأجلسهما بين يديه وأجلس
حسنا وحسينا رضي الله عنهما كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساءه ثم تلا صلى الله عليه وسلم هذه الآية
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وقال " اللهم هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي
أحق ". وقد رواه أبو جعفر بن جرير عن عبد الكريم بن أبي عمير عن الوليد بن مسلم عن أبي عمرو الأوزاعي
بسنده نحوه زاد في آخره قال واثلة رضي الله عنه فقلت وأنا يا رسول الله صلى الله عليك من أهلك؟ قال صلى الله
عليه وسلم " وأنت من أهلي " قال واثلة رضي الله عنه وإنها من أرجى ما أرتجى ثم رواه أيضا عن عبد
الاعلى بن واصل عن الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب عن كلثوم المحاربي عن شداد بن أبي عمار قال
إني لجالس عند واثلة بن الأسقع رضي الله عنه إذ ذكروا علي رضي الله عنه فشتموه فلما قاموا قال اجلس حتى
أخبرك عن هذا الذي شتموه إني عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم فألقى صلى الله عليه وسلم عليهم
كساء له ثم قال " اللهم هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " قلت يا رسول الله
وأنا؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت " قال فوالله إنها لأوثق عمل عندي.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح
حدثني من سمع أم سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فأتته فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها
خزيرة فدخلت عليه بها فقال صلى الله عليه وسلم لها " ادعي زوجك وابنيك " قالت فجاء علي وحسن وحسين رضي الله عنهم
فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة وهو على منامة له وكان تحته صلى الله عليه وسلم كساء خيبري قالت وأنا في الحجرة
أصلي فأنزل الله عز وجل هذه الآية (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قالت
رضي الله عنها فأخذ صلى الله عليه وسلم فضل الكساء فغطاهم به ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال " اللهم هؤلاء أهل
بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " قالت فأدخلت رأسي البيت فقلت وأنا معكم يا رسول الله؟
فقال " إنك إلى خير إنك إلى خير " في إسناده من لم يسم وهو شيخ عطاء وبقية رجاله ثقات (طريق أخرى) قال
ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا سعيد بن زربي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن
أم سلمة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة رضي الله عنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببرمة لها قد صنعت فيها عصيدة
تحملها على طبق فوضعتها بين يديه صلى الله عليه وسلم فقال: " أين ابن عمك وابناك؟ " فقالت رضي الله عنها في البيت فقال
صلى الله عليه وسلم " ادعيهم " فجاءت إلى علي رضي الله عنه فقالت أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت وابناك قالت أم سلمة رضي الله
492

تعالى عنها فلما رآهم مقبلين مد صلى الله عليه وسلم يده إلى كساء كان على المنامة فمده وبسطه وأجلسهم عليه ثم أخذ بأطراف
الكساء الأربعة بشماله فضمه فوق رؤوسهم وأومأ بيده اليمنى إلى ربه فقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب
عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " (طريق أخرى) قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن
الأعمش عن حكيم بن سعد قال ذكرنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند أم سلمة رضي الله عنها فقالت في
بيتي نزلت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قالت أم سلمة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى بيتي فقال: " لا تأذني لاحد " فجاءت فاطمة رضي الله عنها فلم أستطع أن أحجبها عن أبيها ثم جاء
الحسن رضي الله عنه فلم أستطع أن أمنعه أن يدخل على جده وأمه وجاء الحسين فلم أستطع أن أحجبه عن جده
صلى الله عليه وسلم وأمه رضي الله عنها ثم جاء علي رضي الله عنه فلم أستطع أن أحجبه فاجتمعوا فجللهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكساء
كان عليه ثم قال " هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا " فنزلت هذه الآية حين اجتمعوا على
البساط قالت فقلت يا رسول الله وأنا؟ قالت فوالله ما أنعم وقال " إنك إلى خير " (طريق أخرى) قال الإمام أحمد
حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن أبي المعدل عن عطية الطفاوي عن أبيه قال إن أم سلمة رضي الله عنها
حدثته قالت: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي يوما إذ قالت الخادم إن فاطمة وعلي رضي الله عنهما بالسدة قالت فقال
لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قومي فتنحي عن أهل بيتي قالت فقمت فتنحيت في البيت قريبا فدخل على وفاطمة ومعهما
الحسن والحسين رضي الله عنهم وهما صبيان صغيران فأخذ الصبيين فوضعها في حجره فقبلهما واعتنق عليا
رضي الله عنه بإحدى يديه وفاطمة رضي الله عنها باليد الأخرى وقبل فاطمة وقبل عليا وأغدق عليهم خميصة سوداء
وقال اللهم إليك لا إلى النار أنا وأهل بيتي قالت فقلت وأنا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم " وأنت "
(طريق أخرى) قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا الحسن بن عطية حدثنا فضيل بن مروزوق عن عطية عن أبي
سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها قالت إن هذه الآية نزلت في بيتي (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) قالت وأنا جالسة على باب البيت فقلت يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال صلى الله عليه وسلم
" إنك إلى خير أنت من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم " قالت وفي البيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين
رضي الله عنهم (طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضا عن أبي كريب عن وكيع عن عبد الحميد بن بهرام عن
شهر بن حوشب عن أم سلمة رضي الله عنها بنحوه (طريق أخرى) قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا خالد بن
مخلد حدثني موسى بن يعقوب حدثني هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عبد الله بن وهب بن زمعة قال
أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها قالت إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم
ثم أدخلهم تحت ثوبه ثم جأر إلى الله عز وجل ثم قال: " هؤلاء أهل بيتي " قالت أم سلمة رضي الله عنها فقلت
يا رسول الله أدخلني معهم فقال صلى الله عليه وسلم " أنت من أهلي "
(طريق أخرى) رواها ابن جرير أيضا عن أحمد بن محمد الطوسي عن عبد الرحمن بن صالح عن محمد بن
سليمان الأصبهاني عن يحيى بن عبيد المكي عن عطاء عن عمر بن أبي سلمة عن أمه رضي الله عنها بنحو ذلك.
(حديث آخر) قال ابن جرير حدثنا ابن وكيع حدثنا محمد بن بشر عن زكريا عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت
شيبة قالت: قالت عائشة رضي الله عنها خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن
رضي الله عنه فأدخله معه ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة رضي الله عنها فأدخلها معه ثم جاء علي
رضي الله عنه فأدخله معه ثم قال صلى الله عليه وسلم (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ورواه
مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عن محمد بن بشر به (طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا
شريح بن يونس أبو الحارث حدثنا محمد بن يزيد عن العوام يعني ابن حوشب رضي الله عنه عن ابن عم له قال: دخلت
مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه فقالت رضي الله عنها: تسألني عن رجل كان
493

من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تحته ابنته وأحب الناس إليه؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليا وفاطمة
وحسن وحسينا رضي الله عنهم فألقى عليهم ثوبا فقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا " قالت فدنوت منهم فقلت يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم " تنحي فإنك على خير ". (حديث
آخر) قال ابن جرير حدثنا ابن المثنى حدثنا بكر بن يحيى بن زبان العنزي حدثنا مندل عن الأعمش عن عطية عن
أبي سعيد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نزلت هذه الآية في خمسة: في وفي علي وحسن وحسين
وفاطمة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) " قد تقدم أن فضيل بن مرزوق رواه
عن عطية عن أبي سعيد عن أم سلمة رضي الله عنها كما تقدم. وروى ابن أبي حاتم من حديث هارون بن سعد
العجلي عن عطية عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفا والله سبحانه وتعالى أعلم. (حديث آخر) قال ابن جرير
حدثنا ابن المثنى حدثنا أبو بكر الحنفي حدثنا بكير بن مسمار قال سمعت عامر بن سعد رضي الله عنه قال: قال
سعد رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل عليه الوحي فأخذ علي وابنيه وفاطمة رضي الله عنهم فأدخلهم
تحت ثوبه ثم قال " رب هؤلاء أهلي وأهل بيتي " (حديث آخر) وقال مسلم في صحيحه حدثني زهير بن حرب
وشجاع بن مخلد عن ابن علية قال زهير حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثني أبو حيان حدثني يزيد بن حبان قال
انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلمة إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه فلما جلسنا إليه قال له حصين لقد
لقيت يا زيد خيرا كثيرا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا حدثنا يا زيد
ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفوا فيه ثم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله
تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال: " أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم
ثقلين أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله عز وجل ورغب فيه ثم قال
وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثا " فقال له حصين ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه
من أهل بيته؟ قال نساؤه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده قال ومن هم؟ قال هم: آل علي
وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم قال كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال نعم ثم رواه عن
محمد بن الريان عن حسان بن إبراهيم عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حبان عن زيد بن أرقم رضي الله عنه
فذكر الحديث بنحو ما تقدم وفيه فقلت له من أهل بيته نساؤه؟ قال لا وأيم الله إن المرأة تكون مع الرجل
العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده هكذا
وقع في هذه الرواية والأولى أولى والاخذ بها أحرى. وهذه الثانية تحتمل أنه أراد تفسير الأهل المذكورين في
الحديث الذي رواه إنما المراد بهم آله الذين حرموا الصدقة أو أنه ليس المراد بالأهل الأزواج فقط بل هم مع
آله وهذا الاحتمال أرجح جمعا بينها وبين الرواية التي قبلها وجمعا أيضا بين القرآن والأحاديث المتقدمة إن
صحت فإن في بعض أسانيدها نظرا والله أعلم ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم داخلات في
قوله تعالى: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) " فإن سياق الكلام معهن ولهذا
قال تعالى بعد هذا كله (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) أي واعملن بما ينزل الله تبارك
وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنة قاله قتادة وغير واحد واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها
من بين الناس أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما
أولاهن بهذه النعمة وأحظاهن بهذه الغنيمة وأخصهن من هذه الرحمة العميمة فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم
الوحي في فرائض امرأة سواها كما نعى على ذلك صلوات الله وسلامه عليه قال بعض العلماء رحمه الله لأنه لم
يتزوج بكرا سواها ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها فناسب أن تخصص بهذه المزية وأن
494

تفرد بهذه المرتبة العلية ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث
" وأهل بيتي أحق " وهذا يشبه ما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى
من أول يوم فقال: هو مسجدي هذا فهذا من هذا القبيل فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء كما ورد
في الأحاديث الاخر ولكن إذا كان ذاك أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته
بذلك والله أعلم وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الوليد حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن
عن ابن جميلة قال إن الحسن بن علي رضي الله عنهما استخلف حين قتل علي رضي الله عنهما قال: فبينما هو
يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجره وزعم حصين أنه بلغه أن الذي طعنه رجل من بني أسد وحسن رضي الله
عنه ساجد قال فيزعمون أن الطعنة وقعت في وركه فمرض منها أشهرا ثم برأ فقعد على المنبر فقال: يا أهل
العراق اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم وضيفانكم ونحن أهل البيت الذي قال الله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم
الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال فما زال يقولها حتى ما بقي أحد من أهل المسجد إلا وهو يحن بكاء
وقال السدي عن أبي الديلم قال: قال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل من أهل الشام أما قرأت في
الأحزاب (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال نعم ولا نتم هم؟ قال نعم
وقوله تعالى: (إن الله كان لطيفا خبيرا) أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة وبخبرته بكن وأنكن أهل لذلك
أعطاكن ذلك وخصكن بذلك قال ابن جرير رحمه الله واذكروا نعمة الله عليكن بأن جعلكن في بيوت تتلى فيها
آيات الله والحكمة فاشكرن الله على ذلك واحمدنه (إن الله كان لطيفا خبيرا) أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في
البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة. وهي السنة خبيرا بكن إذ اختاركن لرسوله أزواجا وقال قتادة (واذكرن ما
يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) قال يمتن عليهن بذلك رواه ابن جرير وقال عطية العوفي في قوله تعالى
(إن الله كان لطيفا خبيرا) يعني لطيفا باستخراجها خبيرا بموضعها ورواه ابن أبي حاتم ثم قال وكذا روى عن
الربيع بن أنس عن قتادة.
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات
والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم
والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما (35)
قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عثمان بن حكيم حدثنا عبد الرحمن بن شيبة قال سمعت أم
سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم ير عني منه
ذات يوم إلا ونداؤه على المنبر قالت وأنا أسرح شعري فلففت شعري ثم خرجت إلى حجرتي حجرة بيتي فجعلت
سمعي عند الجريد فإذا هو يقول عند المنبر " يا أيها الناس إن الله تعالى يقول (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات) " إلى آخر الآية وهكذا رواه النسائي وابن جرير من حديث عبد الواحد بن زياد به مثله (طريق أخرى عنها)
قال النسائي أيضا حدثنا محمد بن حاتم حدثنا يزيد أخبرنا عبد الله بن شريك عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أم
سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله مالي أسمع الرجال يذكرون في القرآن والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله
تعالى (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب عن أبي معاوية عن
محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول
الله أيذكر الرجال في كل شئ ولا نذكر؟ فأنزل الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات) الآية
(طريق أخرى) قال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: قالت أم سلمة رضي الله عنها يا رسول الله يذكر
495

الرجال ولا نذكر فأنزل الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات) الآية حديث آخر قال ابن جرير حدثنا أبو كريب
قال حدثنا سنان بن مظاهر العمري حدثنا أبو كدينة يحيى بن المهلب عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال: قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات فأنزل الله تعالى (إن المسلمين
والمسلمات) الآية وحدثنا بشر حدثنا يزيد حدثنا سعيد عن قتادة قال دخل نساء على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن قد ذكركن الله
تعالى في القرآن ولم نذكر بشئ أما فينا ما يذكر؟ فأنزل الله تعالى (إن المسلمين والمسلمات) الآية فقوله تعالى
(إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) دليل على أن الايمان غير الاسلام وهو أخص منه لقوله تعالى
(قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) وفي الصحيحين " لا يزني
الزاني حين يزني وهو مؤمن " فيسلبه الايمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين فدل على أنه أخص منه كما قررناه
في أول شرح البخاري وقوله تعالى (والقانتين والقانتات) القنوت هو الطاعة في سكون (أمن هو قانت آناء الليل
ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) وقال تعالى (وله من في السماوات والأرض كل له قانتون) (يا مريم
اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين) (وقوموا لله قانتين) فالاسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو الايمان ثم القنوت
ناشئ عنهما (والصادقين والصادقات) هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة ولهذا كان بعض الصحابة رضي
الله عنه لم تجرب عليه كذبة لا في الجاهلية ولا في الاسلام وهو علامة على الايمان كما أن الكذب أمارة على النفاق
ومن صدق نجا " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وإياكم والكذب فإن الكذب
يهدى إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار. ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا ولا
يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " والأحاديث فيه كثيرة جدا (والصابرين والصابرات) هذه
سجية الاثبات وهي الصبر على المصائب والعلم بأن المقدر كائن لا محالة وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند
الصدمة الأولى أي أصعبه في أول وهلة ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها (والخاشعين والخاشعات)
الخشوع السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث
" أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (والمتصدقين والمتصدقات) الصدقة هي الاحسان إلى الناس
المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ولا كاسب يعطون من فضول الأموال طاعة وإحسانا إلى خلقه وقد ثبت في
الصحيحين " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله - فذكر منهم - ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله
ما تنفق يمينه " وفي الحديث الآخر " والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار " والأحاديث في الحث عليها كثيرة
جدا له موضع بذاته (والصائمين والصائمات) وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة " والصوم زكاة البدن " أي يزكيه
ويطهره وينقيه من الاخلاط الرديئة طبعا وشرعا كما قال سعيد بن جبير من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في
قوله تعالى (والصائمين والصائمات) ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا
معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له
وجاء " ناسب أن يذكر بعده (والحافظين فروجهم والحافظات) أي عن المحارم والمأثم إلا عن المباح كما قال عز
وجل (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون) وقوله تعالى (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن
عبيد الله حدثنا محمد بن جابر عن علي بن الأقمر عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات " وقد رواه أبو
داود والنسائي وابن ماجة من حديث الأعمش عن الأغر أبي مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم
بمثله وقال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه إنه
قال: قلت يا رسول الله أي العباد أفضل درجة عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " قال
496

قلت يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله تعالى؟ قال " لو ضرب بسيفه في الكفار والمشركين حتى ينكسر ويختضب
دما لكان الذاكرون الله تعالى أفضل منه " وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم عن العلاء عن أبيه
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فأتى على جمدان فقال " هذا حمدان سيروا
فقد سبق المفردون قالوا وما المفردون؟ قال صلى الله عليه وسلم " الذاكرون الله كثيرا والذاكرات " ثم قال صلى الله عليه وسلم اللهم اغفر
للمحلقين " قالوا والمقصرين قال " اللهم اغفر للمحلقين " قالوا والمقصرين قال والمقصرين تفرد به من هذا
الوجه ورواه مسلم دون آخره وقال الإمام أحمد حدثنا حجين بن المثنى حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد بن أبي
زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قال: إنه بلغني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما
عمل آدمي عملا قط أنجى له من عذاب الله تعالى من ذكر الله عز وجل " وقال معاذ رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا
أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ومن أن تلقوا
عدوكم غدا فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم " ذكر الله عز وجل " وقال الإمام أحمد
حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال إن رجلا سأله فقال أي المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله تعالى ذكرا قال فأي
الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله عز وجل ذكرا ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله ذكرا فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنه ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أجل
وسنذكر إن شاء الله تعالى بقية الأحاديث الواردة في كثرة الذكر عند قوله تعالى في هذه السورة (يا أيها الذين آمنوا اذكروا
الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) الآية إن شاء الله تعالى وقوله تعالى (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) خبر
عن هؤلاء المذكورين كلهم أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم مغفرة منه لذنوبهم وأجرا عظيما وهو الجنة.
وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله
فقد ضل ضللا مبينا (36)
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق
ليخطب على فتاه زيد بن حارثه رضي الله عنه فدخل على زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها فخطبها فقالت لست
بناكحته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بلى فانكحيه قالت يا رسول الله أؤامر في نفسي؟ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية
على رسول الله صلى الله عليه وسلم (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله) الآية قالت قد رضيته لي يا رسول الله منكحا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم قالت إذا لا أعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكحته نفسي وقال ابن لهيعة عن أبي عمرة عن عكرمة
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش لزيد بن حارثة رضي الله عنه فاستنكفت منه
وقالت أنا خير منه حسبا وكانت امرأة فيها حدة فأنزل الله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الآية كلها وهكذا قال
مجاهد وقتادة ومقاتل ابن حيان أنها نزلت في زينب بنت جحش رضي الله عنها حين خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه
زيد بن حارثة رضي الله عنه امتنعت ثم أجابت وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نزلت في أم كلثوم بنت عقبة بن أبي
معيط رضي الله عنها وكانت أول من هاجر من النساء يعني بعد صلح الحديبية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال قد قبلت
فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه يعني والله أعلم بعد فراقه زينب فسخطت هي وأخوها وقال إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فزوجنا عبده قال فنزل القرآن (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا) إلى آخر الآية قال أمر أجمع
من هذا (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) قال فذاك خاص وهذا أجمع وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم على جليبب امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال حتى
استأمر أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذا قال فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها فقالت لاها الله إذن ما وجد رسول الله
497

صلى الله عليه وسلم إلا جليبيبا وقد منعناها من فلان وفلان قال والجارية في سترها تسمع قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بذلك فقالت الجارية أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه قال فكأنها جلت عن
أبويها وقالا صدقت فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن كنت رضيته فقد رضيناه قال صلى الله عليه وسلم فإني قد رضيته قال فزوجها
ثم فزع أهل المدينة فركب جليبب فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم قال أنس رضي الله عنه فلقد
رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا حماد يعني ابن سلمة عن ثابت عن كنانة بن
نعيم العدوي عن أبي برزة الأسلمي قال إن جليبيبا كان امرءا يدخل على النساء يمرنهن ويلاعبهن فقلت لامرأتي لا
تدخلن عليكن جليبيبا فإنه إن دخل عليكن لأفعلن ولأفعلن قالت وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أيم لم يزوجها حتى
يعلم هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار زوجني ابنتك قال نعم وكرامة يا رسول الله ونعمة
عين فقال صلى الله عليه وسلم إني لست أريدها لنفسي قال فلمن يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم لجليبيب فقال يا رسول الله أشاور أمها فأتى
أمها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك فقالت نعم ونعمة عين فقال إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجليبيب فقالت
أجليبيب ابنه أجليبيب ابنه؟ ألا لعمر الله لا نزوجه فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره بما قالت أمها قالت
الجارية من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها قالت أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ ادفعوني إليه فإنه لن يضيعني فانطلق
أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال شأنك بها فزوجها جليبيبا قال فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة له فلما أفاء الله عليه قال
لأصحابه رضي الله عنهم هل تفقدون من أحد؟ قالوا نفقد فلانا ونفقد فلانا قال صلى الله عليه وسلم انظروا هل تفقدون من أحد
قالوا لا قال صلى الله عليه وسلم لكنني أفقد جليبيبا قال صلى الله عليه وسلم فاطلبوه في القتلى فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه
فقالوا يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه فقال قتل سبعة وقتلوه هذا
منى وأنا منه مرتين أو ثلاثا ثم وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه وحفر له ماله سرير إلا ساعد النبي صلى الله عليه وسلم ثم وضعه في قبره
ولم يذكر أنه غسله رضي الله عنه قال ثابت رضي الله عنه فما كان في الأنصار أيم أنفق منها وحدث إسحاق بن عبد الله بن
أبي طلحة ثابتا هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قال اللهم صب عليها صبا ولا تجعل عيشها كدا وكذا كان فما
كان في الأنصار أيم أنفق منها هكذا أورده الإمام أحمد بطوله وأخرج منه مسلم والنسائي في الفضائل قصة قتله وذكر
الحافظ أبو عمر بن عبد البر الاستيعاب أن الجارية لما قالت في خدرها أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ نزلت هذه
الآية (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقال ابن جريج
أخبرني عامر بن مصعب عن طاوس قال إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر فنهاه وقرأ ابن عباس رضي الله عنه
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) فهذه الآية عامة في جميع
الأمور وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشئ فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لاحد ههنا ولا رأي ولا قول كما قال تبارك
وتعالى (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا
تسليما) وفي الحديث والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ولهذا شدد في خلاف
ذلك فقال (ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) كقوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم).
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى
الناس والله أحق أن تخشيه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج
أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا
يقول تعالى مخبرا عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لمولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه وهو الذي أنعم الله عليه أي بالاسلام ومتابعة
الرسول (وأنعمت عليه) أي بالعتق من الرق وكان سيدا كبير الشأن جليل القدر حبيبا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له الحب
498

ويقال لابنه أسامة الحب ابن الحب قالت عائشة رضي الله عنها ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمره عليهم ولو عاش
بعده لاستخلفه رواه الإمام أحمد عن سعيد بن محمد الوراق ومحمد بن عبيد عن وائل بن داود عن عبد الله البهي
عنها وقال البزار حدثنا خالد بن يوسف حدثنا أبو عوانة ح وحدثنا محمد بن معمر حدثنا أبو داود حدثنا أبو عوانة أخبرني
عمر بن أبي سلمة عن أبيه قال حدثني أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي بن
أبي طالب رضي الله عنهما فقالا يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقلت علي
والعباس يستأذنان فقال صلى الله عليه وسلم أتدري ما حاجتهما؟ قلت لا يا رسول الله قال صلى الله عليه وسلم لكني أدري قال فأذن لهما قالا يا
رسول الله جئناك لتخبرنا أي أهلك أحب إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد قالا يا رسول الله ما
نسألك عن فاطمة قال صلى الله عليه وسلم فأسامة بن زيد بن حارثة الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوجه
بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها وأمها أميمة بنت عبد المطلب وأصدقها عشرة دنانير وستين درهما
وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدا من طعام وعشرة أمداد من تمر قاله مقاتل بن حيان فمكثت عنده قريبا من سنة أو
فوقها ثم وقع بينهما فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله يقول له " أمسك عليك زوجك واتق الله " قال
الله تعالى (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارا
عن بعض السلف رضي الله عنهم أحببنا أن نضرب عنها صفحا لعدم صحتها فلا نوردها وقد روى الإمام أحمد ههنا
أيضا حديث من رواية حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه فيه غرابة تركنا سياقه أيضا وقد روى البخاري
أيضا بعضه مختصرا فقال: حدثنا محمد بن عبد الرحيم حدثنا يعلى بن منصور عن حماد بن زيد حدثنا ثابت عن
أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن هذه الآية (وتخفي في نفسك ما الله مبديه) نزلت في شأن زينب بنت جحش
وزيد بن حارثة رضي الله عنهما وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن حاتم بن مرزوق حدثنا ابن عيينة عن علي بن
زيد بن جدعان قال سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى (وتخفي في نفسك ما الله
مبديه) فذكرت له فقال لا ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها فلما أتاه زيد رضي الله عنه
ليشكوها إليه قال اتق الله وأمسك عليك زوجك فقال قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه
وهكذا روي عن السدي أنه قال نحو ذلك
وقال ابن جرير حدثني إسحاق بن شاهين حدثني خالد عن داود عن عامر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لو كتم
محمد شيئا مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن
تخشاه) وقوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) الوطر هو الحاجة والارب أي لما فرغ منها وفارقها
زوجناكها وكان الذي ولي تزويجها منه هو الله عز وجل بمعنى أنه أوحى أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود
من البشر قال الإمام أحمد حدثنا هاشم يعني ابن القاسم أخبرنا النضر حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس رضي
الله عنه قال لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة اذهب فاذكرها علي فانطلق حتى
أتاها وهي تخمر عجينها قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها
فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك قالت ما أنا بصانعة شيئا حتى
أؤامر ربي عز وجل فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن وجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن ولقد رأيتنا حين دخلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم فخرج الناس وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام فخرج رسول الله
واتبعته فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهن ويقلن يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد
خرجوا أو أخبر فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقي الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا
به (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية كلها ورواه مسلم والنسائي من طرق عن سليمان ابن المغيرة به
وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على
499

أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول زوجكن أهاليكن وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات وقد قدمنا في سورة النور عن محمد بن
عبد الله بن جحش قال تفاخرت زينب وعائشة رضي الله عنهما فقالت زينب رضي الله عنها أنا التي نزل تزويجي من
السماء وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها أنا التي نزل عزري من السماء فاعترفت لها زينب رضي الله عنها وقال ابن
جرير حدثنا ابن حميد حدثنا جرير عن المغيرة عن الشعبي قال: كانت زينب رضي الله عنها تقول للنبي صلى الله عليه وسلم إني لأدلي
عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلي بهن: إن جدي وجدك واحد وإني أنكحنيك الله عز وجل من السماء وإن
السفير جبريل عليه الصلاة والسلام وقوله تعالى (لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن
وطرا) أي إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء وذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنى زيد بن حارثة رضي الله عنه فكان يقال زيد بن محمد فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله
تعالى (وما جعل أدعياءكم أبناءكم) إلى قوله تعالى (ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله) ثم زاد ذلك بيانا وتأكيدا
بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها لما طلقها زيد بن حارثة رضي الله عنه ولهذا قال تعالى
في آية التحريم (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) ليحترز من الابن الدعي فإن ذلك كان كثيرا فيهم وقوله تعالى
(وكان أمر الله مفعولا) أي وكان هذا الامر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه وهو كائن لا محالة كانت زينب رضي
الله عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا (38)
يقول تعالى (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها
التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه وقوله تعالى (سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي هذا حكم الله تعالى في
الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشئ وعليهم في ذلك حرج وهذا رد على من توهم من المنافقين نقصا في تزويجه امرأة زيد
مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي وكان أمره الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه
ولا معدل فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الدين يبلغون رسلت الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا (39) ما كان محمد أبا أحد
من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما (40)
يمدح تبارك وتعالى (الذين يبلغون رسالات الله) أي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها (ويخشونه) أي يخافونه ولا
يخافون أحدا سواه فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى (وكفى بالله حسيبا) أي وكفى بالله ناصرا
ومعينا وسيد الناس في هذا المقام: بلى وفي كل مقام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل
المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع فإنه قد كان
النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة وأما هو صلى الله عليه وسلم فإنه بعث إلى جميع الخلق عربهم وعجمهم (قل يا أيها الناس إني
رسول الله إليكم جميعا) ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم
بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله في ليله ونهاره وحضره وسفره وسره وعلانيته فرضي الله عنهم
وأرضاهم ثم ورثة كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا فبنورهم يقتدي المهتدون وعلى منهجهم يسلك الموفقون فنسأل
الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم قال الإمام أحمد حدثنا ابن نمير أخبرنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي
البختري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال
ثم لا يقوله فيقول الله ما يمنعك أن تقول منه فيقول رب خشيت الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى " ورواه أيضا عن عبد
الرزاق عن الثوري عن زيد عن عمرو بن مرة ورواه ابن ماجة عن أبي كريب عن عبد الله بن نمير وأبي معاوية كلاهما
500

عن الأعمش به وقوله تعالى (ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم) نهى أن يقال بعد هذا زيد بن محمد أي لم يكن أباه
وإن كان قد تبناه فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم الطيب والطاهر من خديجة رضي
الله عنها فماتوا صغارا وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية فمات أيضا رضيعا وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات:
زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى
أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر.
وقوله تعالى (ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) كقوله عز وجل (الله أعلم حيث يجعل
رسالته) فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بالطريق الأولى والأحرى لان مقام الرسالة
أخص من مقام النبوة فإن كل رسول نبي ولا ينعكس وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث
جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قال الإمام أحمد حدثنا أبو عامر الأزدي حدثنا زهير بن
محمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثلي في النبيين كمثل رجل بنى
دارا فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون لو تم موضع
هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة " ورواه الترمذي عن بندار عن أبي عامر العقدي به وقال حسن صحيح
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا المختار بن فلفل حدثنا أنس بن مالك
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي " قال فشق ذلك على
الناس فقال ولكن المبشرات قالوا يا رسول الله وما المبشرات؟ قال رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة
وهكذا رواه الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني عن عفان بن مسلم به وقال صحيح غريب من حديث المختار بن
فلفل
(حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي حدثنا سليم بن حيان عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال
ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام " ورواه البخاري ومسلم
والترمذي من طرق عن سليم بن حيان به وقال الترمذي صحيح غريب من هذا الوجه (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا
أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مثلي ومثل
النبيين كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة " انفرد به مسلم من رواية الأعمش به
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن زيد حدثنا عفان بن عبيد الراسي قال سمعت أبا
الطفيل رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نبوة بعدي إلا المبشرات قيل وما المبشرات يا رسول الله؟ قال:
الرؤيا الحسنة أو قال الرؤيا الصالحة " (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام بن
منبه قال هذا ما حدثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى
بيوتا فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا
وضعت ههنا لبنة فيتم بنيانك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا اللبنة " أخرجاه من حديث عبد الرزاق (حديث آخر) عن
أبي هريرة رضي الله عنه أيضا قال الإمام مسلم حدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وعلي بن حجر قالوا حدثنا إسماعيل بن
جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع
الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة
وختم بي النبيون " ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث إسماعيل ابن جعفر وقال الترمذي حسن صحيح (حديث آخر)
قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة
501

ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية به (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عبد
الرحمن بن مهدي حدثنا معاوية بن صالح حدثنا سعيد بن سويد الكلبي عن عبد الاعلى بن هلال السلمي عن
العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم " إني عند الله لخاتم النبيين وإن ادم لمنجدل في طينته "
(حديث آخر) قال الزهري أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس
على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي " أخرجاه في الصحيحين وقال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق
حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن جبير قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال " أنا محمد النبي الأمي ثلاثا ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه وعلمت
كم خزنة النار وحملة العرش وتجوز بي وعوفيت وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب
بي فعليكم بكتاب الله تعالى أحلوا حلاله وحرموا حرامه " تفرد به الإمام أحمد
ورواه الإمام أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الله بن شريح الخولاني عن
أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فذكر مثله سواء والأحاديث في هذا كثيرة فمن
رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به وإكمال الدين الحنيف له
وقد أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم في السنة المتواترة عنه أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام
بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ولو تحرق وشعبذ وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنيرنجيات فكلها محال
وضلال عند أولي الألباب كما أجرى الله سبحانه وتعالى على يد الأسود العنسي باليمن ومسيلمة الكذاب باليمامة من
الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ما علم كل ذي لب وفهم وحجى أنهما كاذبان ضالان لعنهما الله وكذلك كل مدع
لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال فكل واحد من هؤلاء الكذابين يخلق الله تعالى معه من الأمور ما
يشهد العلماء والمؤمنون بكذب من جاء بها وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون
بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ويكون في غاية الإفك والفجور
في أقوالهم وأفعالهم كما قال تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم) الآية وهذا
بخلاف حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنهم في غاية البر والصدق والرشد والاستقامة والعدل فيما يقولونه ويأمرون
به وينهون عنه مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات والأدلة الواضحات والبراهين الباهرات فصلوات الله وسلامه
عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسماوات.
يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا (41) وسبحوه بكرة وأصيلا (42) هو الذي يصلى عليكم وملئكته ليخرجكم
من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما (43) تحيتهم يوم يلقونه سلم وأعد لهم أجرا كريما (44)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بكثرة ذكرهم لربهم تبارك وتعالى المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن لما لهم في
ذلك من جزيل الثواب وجميل المآب قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن سعيد حدثني مولى بن
عباس عن أبي بحرية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند
مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم
ويضربوا أعناقكم " قالوا وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم ذكر الله عز وجل وهكذا رواه الترمذي وابن
ماجة من حديث عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن زياد مولى ابن عباس عن أبي بحرية واسمه عبد الله بن قيس البراغمي
عن أبي الدرداء رضي الله عنه به قال الترمذي ورواه بعضهم عنه فأرسله قلت وقد تقدم هذا الحديث عند قوله تعالى
(والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) في مسند الإمام أحمد من حديث زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عباس أنه بلغه
502

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه فالله أعلم وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا روح بن فضالة
عن أبي سعيد الحمصي قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: دعاء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أدعه: اللهم
اجعلني أعظم شكرك وأتبع نصيحتك وأكثر ذكرك وأحفظ وصيتك ورواه الترمذي عن يحيى بن موسى عن وكيع عن أبي
فضالة الفرج عن بن فضالة عن أبي سعيد الحمصي عن أبي هريرة رضي الله عنه فذكر مثله وقال غريب وهكذا رواه الإمام أحمد
أيضا عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن فرج بن فضالة عن أبي سعيد المري عن أبي هريرة رضي الله عنه
فذكره وقال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس قال سمعت عبد الله بن
بشر يقول جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم من طال عمره وحسن
عمله وقال الآخر يا رسول الله إن شرائع الاسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به قال صلى الله عليه وسلم " لا يزال لسانك رطبا
بذكر الله تعالى " وروى الترمذي وابن ماجة الفصل الثاني من حديث معاوية بن صالح به وقال الترمذي حديث حسن
غريب وقال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث قال: إن دراجا أبا السمح
حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أكثروا ذكر الله تعالى حتى
يقولوا مجنون " وقال الطبراني حدثنا عبد الله بن أحمد حدثنا عقبة بن مكرم العمى حدثنا سعيد بن سفيان الجحدري
حدثنا الحسن بن أبي جعفر عن عقبة بن أبي شبيب الراسبي عن أبي الجوزاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " اذكروا الله ذكرا كثيرا " حتى يقول المنافقون أنكم تراءون وقال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني
هاشم حدثنا شداد أبو طلحة الراسبي سمعت أبا الوزاع جابر بن عمرو يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مامن قوم جلسوا مجلسا لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة " وقال علي بن أبي طلحة
عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (واذكروا الله ذكرا كثيرا) إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة إلا
جعل لها حدا معلوما ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر فإن الله تعالى لم يجعل له حدا ينتهي إليه ولم يعذر أحدا في
تركه إلا مغلوبا على تركه فقال: (اذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر
والحضر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال.
وقال عز وجل (وسبحوه بكرة
وأصيلا) فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثيرة
جدا وفي هذه الآية الكريمة الحث على الاكثار من ذلك وقد صنف الناس في الاذكار المتعلقة بآناء الليل والنهار
كالنسائي والمعمري وغيرهما ومن أحسن الكتب المؤلفة في ذلك كتاب الاذكار للشيخ محي الدين النووي رحمه الله
وقوله تعالى (وسبحوه بكرة وأصيلا) أي عند الصباح والمساء كقوله عز وجل (فسبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون * وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون) وقوله تعالى: (هو الذي يصلي عليكم
وملائكته) هذا تهييج إلى الذكر أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم كقوله عز وجل (كما أرسلنا فيكم رسول منكم
يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون * فاذكروني أذكركم واشكروا لي
ولا تكفرون) وقال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملا ذكرته في ملا
خير منه والصلاة من الله تعالى ثناؤه على العبد عند الملائكة حكاه البخاري عن أبي العالية ورواه أبو جعفر الرازي عن
الربيع بن أنس عنه وقال غيره الصلاة من الله عز وجل الرحمة وقد يقال لا منافاة بين القولين والله أعلم وأما الصلاة
من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار كقوله تبارك وتعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد
ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب
الجحيم * ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم *
وقهم السيئات) الآية وقوله تعالى: (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء
ملائكته لكم يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين (وكان بالمؤمنين رحيما) أي في الدنيا
503

والآخرة أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم وبصرهم الطريق الذي ضل عنه وحاد عنه من سواهم
من الدعاة إلى الكفر أو البدعة وأتباعهم من الطغام وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر وأمر ملائكته
يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي عدي عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه
رضي الله عنهم وصبي في الطريق فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول ابني ابني وسعت
فأخذته فقال القوم يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار قال فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال " لا والله لا يلقي
حبيبه في النار " إسناده على شرط الصحيحين ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ولكن في صحيح الامام
البخاري عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد أخذت صبيا لها فألصقته
إلى صدرها وأرضعته فقال صلى الله عليه وسلم أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟ قالوا لا قال صلى الله عليه وسلم " فوالله
لله أرحم بعباده من هذه بولدها ". وقوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام) الظاهر أن المراد والله أعلم تحيتهم أي
من الله تعالى (يوم يلقونه سلام) أي يوم يسلم عليهم كما قال الله عز وجل (سلام قول من رب رحيم) وزعم قتادة أن
المراد أنهم يحيي بعضهم بعضا بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة واختاره ابن جرير: (قلت) وقد يستدل له
بقوله تعالى (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) وقوله تعالى:
(وأعد لهم أجرا كريما) يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر
مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
يا أيها النبي إنا أرسلناك شهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (46) وبشر المؤمنين بأن لهم
من الله فضلا كبيرا (47) ولا تطع الكافرين والمنفقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا (48)
قال الإمام أحمد حدثنا موسى بن داود حدثنا فليح بن سليمان حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار قال لقيت
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه
لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) وحرزا للأميين فأنت
عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح
ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا
غلفا وقد رواه البخاري في البيوع عن محمد بن سنان عن فليح بن سليمان عن هلال بن علي به ورواه في التفسير
عن عبد الله قيل ابن رجاء وقيل ابن صالح عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن هلال عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عمرو
به ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن عبد الله بن رجاء عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون به
وقال البخاري في البيوع وقال سعيد عن هلال عن عطاء عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه وقال وهب بن منبه إن الله
تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعياء: أن قم في قومك بني إسرائيل فإني منطق لسانك بوحي وأبعث
أميا من الأميين أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته ولو
يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه أبعثه مبشرا ونذيرا لا يقول الخنا أفتح به أعينا كمها وآذانا صما وقلوبا
غلفا أسدده لكل أمر جميل وأهب له كل خلق كريم وأجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره
والحكمة منطقة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والحق شريعته والعدل سيرته والهدى إمامه
والاسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلال وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأعرف به بعد
النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد العيلة وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة
وأهواء متشتتة وأستنقذ به فئاما من الناس عظيمة من الهلكة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف
504

وينهون عن المنكر موحدين مؤمنين مخلصين مصدقين لما جاءت به رسلي ألهمهم التسبيح والتحميد والثناء
والتكبير والتوحيد في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم يصلون لي قياما وقعودا ويقاتلون في
سبيل الله صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفا يظهرون الوجوه والأطراف ويشدون الثياب في
الانصاف قربانهم دماؤهم وأنا جيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار وأجعل في أهل بيته وذريته
السابقين والصديقين والشهداء والصالحين أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون وأعز من نصرهم وأيد من دعا
لهم وأجعل دائرة السوء على من خالفهم أو بغى عليهم أو أراد أن ينتزع شيئا مما في أيديهم أجعلهم ورثة لنبيهم
والداعية إلى ربهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم أختم بهم
الخير الذي بدأته بأولهم ذلك فضلي أؤتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم هكذا رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه
اليماني رحمه الله ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد الرحمن بن صالح حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن
عبيد الله القرشي عن شيبان النحوي أخبرني قتادة عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت (يا أيها
النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) وقد كان أمر عليا ومعاذا رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن فقال انطلقا فبشرا
ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا إنه قد أنزل علي (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا) " ورواه الطبراني عن
محمد بن نصر بن حميد البزار البغدادي عن عبد الرحمن بن صالح الأزدي عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله
العرزمي بإسناده مثله وقال في آخره " فإنه قد أنزل علي يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على أمتك ومبشرا بالجنة ونذيرا
من النار وداعيا إلى شهادة أن لا إله إلا الله بإذنه وسراجا منيرا بالقرآن " فقوله تعالى: (شاهدا) أي لله بالوحدانية
وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة وجئنا بك على هؤلاء شهيدا كقوله: (لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا) وقوله عز وجل (ومبشرا ونذيرا) أي بشيرا للمؤمنين بجزيل الثواب ونذيرا للكافرين
من وبيل العقاب وقوله جلت عظمته (وداعيا إلى الله بإذنه) أي داعيا للخلق إلى عبادة ربهم عن أمره لك بذلك
(وسراجا منيرا) أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند. وقوله
جل وعلا (ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم) أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه (ودع أذاهم) أي
اصفح وتجاوز عنهم وكل أمرهم إلى الله تعالى فإن فيه كفاية لهم ولهذا قال جل جلاله (وتوكل على الله وكفى بالله
وكيلا).
يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا (49)
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة منها إطلاق النكاح على العقد وحده وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها وقد
اختلفوا في النكاح هل هو حقيقة في العقد وحده أو في الوطئ أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال واستعمال القرآن إنما هو في
العقد والوطئ بعده إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده لقوله تبارك وتعالى (إذا نكحتم المؤمنات ثم
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها وقوله تعالى (المؤمنات) خرج
مخرج الغالب إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق وقد استدل ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد
ابن المسيب والحسن البصري وعلي بن الحسين زبن العابدين وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا
إذا تقدمه نكاح لان الله تعالى قال (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) فعقب النكاح بالطلاق فدل على أنه لا يصح
ولا يقع قبله وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وطائفة كثيرة من السلف والخلف رحمهم الله تعالى وذهب مالك
وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى صحة الطلاق قبل النكاح فيما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فعندهما متى
تزوجها طلقت منه واختلاف فيما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فقال مالك: لا تطلق حتى يعين المرأة وقال أبو
505

حنيفة رحمه الله كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية
قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن منصور المروزي حدثنا النضر بن شميل حدثنا يونس يعني ابن أبي إسحاق قال سمعت
آدم مولى خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق قال
ليس بشئ من أجل أن الله تعالى يقول (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) الآية وحدثنا
محمد بن إسماعيل الأحمسي حدثنا وكيع عن مطر عن الحسن بن مسلم بن يناق عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
إنما قال الله عز وجل (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن) ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح وهكذا روى محمد بن إسحاق
عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال الله تعالى (إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن)
فلا طلاق قبل النكاح وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لاطلاق
لابن آدم فيم لا يملك " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وقال الترمذي هذا حديث حسن وهو أحسن شئ
روي في هذا الباب وهكذا روى ابن ماجة عن علي والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" لا طلاق قبل النكاح " وقوله عز وجل: (فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن
المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها (1) من شاءت ولا يستثني من هذا إلا المتوفى عنها
زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا وإن لم يكن دخل بها بالاجماع أيضا وقوله تعالى: (فمتعوهن وسرحوهن
سراحا جميلا) المتعة ههنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها قال
الله تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) وقال عز وجل (لا جناح
عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا
بالمعروف حقا على المحسنين) وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد وأبي أسيد رضي الله عنهما قالا: إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك فأمر أبا أسيد أن يجهزها
ويكسوها ثوبين رازقيين. قال علي بن أبي طلحة رضي الله عنهما إن كان سمى لها صداقا فليس لها إلا النصف وإن
لم يكن سمى لها صداقا أمتعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل.
يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزوجك اللاتي أتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك
وبنات عمتك وبنات خالك وبنات خلتك التي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد
النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزوجهم وما ملكت أيمنهم
لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفورا رحيما (50) *
يقول تعالى مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهى الأجور ههنا كما قاله مجاهد
وغير واحد وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونشا وهو نصف أوقية فالجميع خمسمائة درهم إلا أم حبيبة بنت أبي
سفيان فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار وإلا صفية بنت حيي فإنه اصطفاها من سبي خيبر ثم
أعتقها وجعل عتقها صداقها وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس
وتزوجها رضى الله عنهن أجمعين وقوله تعالى (وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك) أي وأباح لك التسري مما
أخذت من المغانم وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ومارية القبطية أم
ابنه إبراهيم عليهما السلام وكانتا من السراري رضي الله عنهما وقوله تعالى: (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات
خالك وبنات خالاتك) الآية هذا عدل وسط بين الافراط والتفريط فإن النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل
بينه وبينها سبعة أجداد فصاعدا واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة

(1) في النسخة المكية: في قرئها.
506

بهدم إفراط النصارى فأباح بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة وتحريم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ
والأخت وهذا شنيع فظيع وإنما قال (وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك) فوحد لفظ الذكر
لشرفه وجمع الإناث لنقصهن كقوله: (عن اليمين والشمائل) (يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعل
الظلمات والنور) وله نظائر كثيرة وقوله تعالى: (اللاتي هاجرن معك) قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا محمد بن
عمار بن الحارث الرازي حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن السدي عن أبي صالح عن أم هانئ قالت خطبني
رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم أنزل الله تعالى: (إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت
يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك) قالت فلم
أكن أحل له لم أكن ممن هاجر معه كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن عبيد الله بن موسى به ثم رواه
ابن أبي حاتم من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح عنها بنحوه ورواه الترمذي في جامعه وهكذا قال أبو
رزين وقتادة أن المراد من هاجر معه إلى المدينة وفي رواية عن قتادة (اللاتي هاجرن معك) أي أسلمن وقال
الضحاك قرأ ابن مسعود (واللائي هاجرن من معك)
وقوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك) الآية أي ويحل لك
أيها النبي المرأة المؤمنة إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك وهذه الآية توالي فيها شرطان
كقوله تعالى إخبارا عن نوح عليه السلام إنه قال لقومه (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله
يريد أن يغويكم) وكقول موسى عليه السلام (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) وقال
ههنا (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) الآية وقد قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق أخبرنا مالك عن أبي حازم
عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياما
طويلا فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شئ
تصدقها إياه؟ فقال ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس
شيئا فقال لا أجد شيئا فقال التمس ولو خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل
معك من القرآن شئ؟ قال نعم سورة كذا وسورة كذا السور يسميها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم زوجتكما " بما معك من
القرآن " أخرجاه من حديث مالك وقال الإمام أحمد حدثنا عفان حدثنا مرحوم سمعت ثابتا يقول: كنت مع أنس
جالسا وعنده ابنة له فقال أني جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا نبي الله هل لك في حاجة فقالت ابنته ما كان
أقل حياءها فقال هي خير منك رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها انفرد بإخراجه البخاري من حديث مرحوم بن
عبد العزيز عن ثابت البناني عن أنس به: وقال أحمد أيضا حدثنا عبد الله بن بكير حدثنا سنان بن ربيعة عن
الحضرمي عن أنس بن مالك أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ابنة لي كذا وكذا فذكرت من حسنها
وجمالها فأثرتك بها فقال قد قبلتها فلم تزل تمدحها حتى ذكرت أنها لم تصدع ولم تشك شيئا قط فقال لا
حاجة لي في ابنتك لم يخرجوه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا ابن أبي
الوضاح يعني محمد بن مسلم عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خوله بنت
حكيم وقال ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن وابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه أن خولة بنت
حكيم بن الأوقص من بني سليم كانت من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية له عن سعيد بن عبد
الرحمن عن هشام عن أبيه كنا نتحدث أن خولة بنت حكيم كانت وهبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة صالحة.
فيحتمل أن أم سليم هي خولة بنت حكيم أو هي امرأة أخرى. وقال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن إسماعيل
الأحمسي حدثنا وكيع حدثنا موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب وعمر بن الحكم وعبد الله بن عبيدة قالوا: تزوج
رسول الله ثلاث عشرة امرأة ستا من قريش: خديجة وعائشة وحفصة وأم حبيبة وسودة وأم سلمة وثلاثة من بني
507

عامر بن صعصعة وامرأتين من بني هلال بن عامر ميمونة بنت الحارث وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم وزينب أم
المساكين وامرأة من بني بكر بن كلاب من القرظيات وهي التي اختارت الدنيا وامرأة من بني الجون وهي التي
استعاذت منه وزينب بنت جحش الأسدية والسبيتين صفية بنت حيي بن أخطب وجويرية بنت الحارث بن
عمرو بن المصطلق الخزاعية وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها
للنبي) قال هي ميمونة بنت الحارث فيه انقطاع هذا مرسل والمشهور أن زينب التي كانت تدعى أم المساكين
هي زينب بنت خزيمة الأنصارية وقد ماتت عند النبي صلى الله عليه وسلم في حياته فالله أعلم والغرض من هذا أن اللاتي وهبن
أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير كما قال البخاري حدثنا زكريا بن يحيى حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه
عن عائشة قالت كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى
(ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) قلت ما أرى ربك إلا
يسارع في هواك وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا محمد بن منصور الجعفي حدثنا يونس بن
بكير عن عنبسة بن الأزهر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها
له ورواه ابن جرير عن أبي كريب عن يونس بن بكير أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له وإن ذلك
مباحا له ومخصوصا به لأنه مردود إلى مشيئته كما قال الله تعالى (إن أراد النبي أن يستنكحها) أي إن اختار
ذلك.
وقوله تعالى (خالصة لك من دون المؤمنين) قال عكرمة أي لا تحل الموهوبة لغيرك ولو أن امرأة وهبت نفسها
لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئا وكذا قال مجاهد والشعبي وغيرهما أي إنها إذا فوضت المرأة نفسها إلى رجل
فإنه متى دخل بها وجب عليه بها مهر مثلها كما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في تزويج بنت واشق لما فوضت فحكم لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم بصداق مثلها لما توفي عنها زوجها والموت والدخول سواء في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في
المفوضة لغير النبي صلى الله عليه وسلم فأما هو عليه الصلاة والسلام فإنه لا يجب عليه للمفوضة شئ ولو دخل بها لان له أن
يتزوج بغير صداق ولا ولي ولا شهود كما في قصة زينب بنت جحش رضي الله عنها ولهذا قال قتادة في قوله
(خالصة لك من دون المؤمنين) يقول ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم وقوله
تعالى (- قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم) قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن وقتادة
وابن جرير في قوله (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر وما شاءوا من
الإماء واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم وهم الأمة وقد رخصنا لك فلم نوجب عليك شيئا منه (لكيلا يكون
عليك حرج وكان الله غفورا رحيما).
ترجى من تشاء منهن وتأوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقر أعينهن
ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن والله يعلم ما في قلوبكم وكان الله عليما حليما (51)
قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن بشر حدثنا هشام بن عروة عن أبية عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغير من
النساء اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم قالت ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداق؟ فأنزل الله عز
وجل (ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء) الآية قالت إني أرى ربك يسارع لك في هواك وقد تقدم
أن البخاري رواه من حديث أبي أسامة عن هشام بن عروة فدل هذا على أن المراد بقوله (ترجي) أي تؤخر
(من تشاء منهن) أي من الواهبات (وتؤوي إليك من تشاء) أي من شئت قبلتها ومن شئت رددتها ومن
رددتها فأنت فيها أيضا بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فأويتها ولهذا قال (ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح
عليك) قال عامر الشعبي في قوله تعالى (ترجي من تشاء منهن) الآية كن نساءا وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل
ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحن بعده منهن أم شريك وقال آخرون بل المراد بقوله (ترجي من تشاء منهن)
508

الآية أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن فتقدم من شئت وتؤخر من شئت وتجامع من شئت وتترك
من شئت هكذا يروى عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وأبي رزين وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم
ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجبا
عليه عليه صلى الله عليه وسلم واحتجوا بهذه الآية الكريمة وقال البخاري حدثنا حبان بن موسى حدثنا عبد الله هو ابن المبارك
أخبرنا عاصم الأحول عن معاذ عن عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن نزل هذه الآية
(ترجى من تشاء منهن وتؤوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك) فقلت لها ما
كنت تقولين؟ فقالت كنت أقول إن كان ذلك إلي فإني لا أريد يا رسول الله أن أؤثر عليك أحدا فهذا الحديث عنها
يدل على أن المراد من ذلك عدم وجود القسم وحديثها الأول يقتضي أن الآية نزلت في الواهبات ومن ههنا
اختار ابن جرير أن الآية عاما في الواهبات وفي النساء اللاتي عنده أنه مخير فيهن إن شاء قسم وإن شاء لم
يقسم وهذا الذي اختاره حسن جيد قوي وفيه جمع بين الأحاديث ولهذا قال تعالى (ذلك أدنى أن تقر أعينهن
ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن) أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم فإن شئت قسمت
وإن شئت لم تقسم لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ثم مع هذا إن تقسم لهن اختيارا منك لا أنه على سبيل
الوجوب فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلتك في ذلك واعترفن بمنتك عليهن في قسمتك لهن وتسويتك
بينهن وإنصافك لهن وعدلك فيهن وقوله تعالى (والله يعلم ما في قلوبكم) أي من الميل إلى بعضهن دون
بعض مما لا يمكن دفعه كما قال الإمام أحمد حدثنا يزيد حدثنا حماد بن سلمة عن أيوب عن أبي قلابة عن
عبد الله بن يزيد عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول " اللهم هذا فعلي فيما
أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ورواه أهل السنن الأربعة من حديث حماد بن سلمة وزاد أبو داود بعد قوله
" فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " يعني القلب وإسناده صحيح ورجاله كلهم ثقات ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى
(وكان الله عليما) أي بضمائر السرائر (حليما) أي يحلم ويغفر.
لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزوج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شئ
رقيبا (52)
ذكر غير واحد من العلماء كابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جرير وغيرهم أن هذه الآية نزلت
مجازاة لازواج النبي صلى الله عليه وسلم ورضا عنهن على حسن صنيعهن في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة لما خيرهن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الآية فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزائهن أن الله تعالى قصره عليهن وحرم عليه
أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجا غيرهن ولو أعجبه حسنهن إلا الإماء والسراري فلا حرج عليه فيهن ثم
إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك ونسخ حكم هذه الآية وأباح له التزوج ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج
لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن قال الإمام أحمد حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها
قالت ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء ورواه أيضا من حديث ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن
عمير عن عائشة ورواه الترمذي والنسائي في سننيهما وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة حدثنا عبد
الرحمن بن عبد الملك بن شيبة حدثني عمر بن أبي بكر حدثني المغيرة بن عبد الرحمن الخزاعي عن أبي النضر
مولى عمر بن عبد الله بن وهب بن زمعة عن أم سلمة أنها قالت: لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له أن
يتزوج من النساء ما شاء إلا ذات محرم وذلك قول الله تعالى (ترجي من تشاء منهن) الآية فجعلت هذه
ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة الأولى ناسخة للتي بعدها والله أعلم وقال آخرون بل
معنى الآية (لا يحل لك النساء من بعد) أي من بعد ما ذكرنا لك من صفة النساء اللاتي أحللنا لك من نسائك
509

اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك وبنات العم والعمات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من
أصناف النساء فلا يحل لك وهذا ما روي عن أبي بن كعب ومجاهد في رواية عنه وعكرمة والضحاك في رواية
وأبي رزين في رواية عنه وأبي صالح والحسن وقتادة في رواية والسدي وغيرهم قال ابن جرير حدثنا يعقوب حدثنا
ابن علية عن داود بن أبي هند حدثني محمد بن أبي موسى عن زياد عن رجل من الأنصار قال قلت لأبي بن كعب
أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال وما يمنعه من ذلك؟ قال قلت قول الله تعالى (لا
يحل لك النساء من بعد) فقال إنما أحل الله له ضربا من النساء فقال تعالى (يا أيها النبي إنا أحللنا لك
أزواجك) إلى قوله تعالى (إن وهبت نفسها للنبي) ثم قيل له (لا يحل لك النساء من بعد) ورواه عبد الله بن
أحمد من طرق عن داود به وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان
من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك
حسنهن إلا ما ملكت يمينك) فأحل الله فتياتكم المؤمنات وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي وحرم كل ذات
دين غير الاسلام ثم قال (ومن يكفر بالايمان فقد حبط عمله) الآية
وقال تعالى (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن إلى قوله تعالى خالصة لك من دون
المؤمنين) وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء وقال مجاهد (لا يحل لك النساء من بعد) أي من بعد ما
سمى لك من مسلمة ولا يهودية ولا نصرانية ولا كافرة وقال أبو صالح (لا يحل لك من النساء بعد) أمر أن
لا يتزوج أعرابية ولا عربية ويتزوج بعد من نساء تهامة وما شاء من بنات العم والعمة والخال والخالة إن شاء
ثلاثمائة وقال عكرمة (لا يحل لك النساء من بعد) أي إلي سمى الله واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية
عامة فيمن ذكر من أصناف النساء وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعا وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد
كثير ممن حكينا عنه من السلف فإن كثيرا منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم ثم أورد ابن جرير على
نفسه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها وعزم على فراق سودة حتى وهبت يومها لعائشة ثم أجاب
بأن هذا كان قبل نزول قوله تعالى (لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج) الآية وهذا الذي
قاله من أن هذا كان قبل نزول الآية صحيح ولكن لا يحتاج إلى ذلك فإن الآية إنما دلت على أنه لا يتزوج بمن
عدا اللواتي في عصمته وأنه لا يستبدل بهن غيرهن ولا يدل ذلك على أنه لا يطلق واحدة منهن من غير استبدال
فالله أعلم فأما قضية سودة ففي الصحيح عن عائشة رضي الله تبارك وتعالى عنها وهي سبب نزول قوله تعالى
(وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) الآية وأما قضية
حفصة فروى أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه من طرق عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن
صالح بن صالح بن حيي عن سلمة بن كحيل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق
حفصة ثم راجعها وهذا إسناد قوي وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا أبو كريب حدثنا يونس بن بكير عن الأعمش عن
أبي صالح عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي فقال ما يبكيك؟ لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلقك إنه
كان طلقك مرة ثم راجعك من أجلي والله لئن كان طلقك مرة أخرى لا أكلمك أبدا ورجاله على شرط
الصحيحين وقوله تعالى (ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن) فنهاه عن الزيادة عليهن إن طلق
واحدة منهن واستبدال غيرها بها إلا ما ملكت يمينه وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديث مناسبا ذكره ههنا فقال
حدثنا إبراهيم بن نصر حدثنا مالك بن إسماعيل ثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله القرشي عن زيد بن
أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل بادلني امرأتك
وأبادلك بامرأتي أي تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي فأنزل الله (ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك
حسنهن) قال فدخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة فدخل بغير إذن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
510

" فأين الاستئذان؟ فقال يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ثم قال من هذه الحميراء إلى
جنبك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه عائشة أم المؤمنين قال أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق؟ قال يا عيينة إن
الله قد حرم ذلك فلما أن خرج قالت عائشة من هذا؟ قال هذا أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه ثم
قال البزار: إسحاق بن عبد الله لين الحديث جدا وإنما ذكرناه لأنا لم نحفظه إلا من هذا الوجه وبينا العلة فيه.
يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير نظرين إنيه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا
فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبي فيستحى منكم والله لا يستحى
من الحق وإذا سألتموهن متعا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا
رسول الله ولا أن تنكحوا أزوجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما (53) إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن
الله بكل شئ عليما (54)
هذه آية الحجاب وفيها أحكام وآداب شرعية وهى مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت
ذلك في الصحيحين عنه أنه قال وافقت ربي عز وجل في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم
مصلى فأنزل الله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلي) وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر
والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب وقلت لازواج النبي صلى الله عليه وسلم لما تمالان عليه في الغيرة (عسى ربه إن
طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن) فنزلت كذلك وفي رواية لمسلم ذكر أسارى بدر وهي قضية رابعة وقد قال
البخاري حدثنا مسدد عن يحيى عن حميد أن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب يا رسول الله يدخل عليك
البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول
الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش التي تولى الله تعالى تزويجها بنفسه وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في
قول قتادة والواقدي وغيرهما وزعم أبو عبيدة معمر بن المنى وخليفة بن خياط أن ذلك كان في سنة ثلاث فالله
أعلم قال البخاري حدثنا محمد بن عبد الله الرقاشي حدثنا معتمر بن سليمان سمعت أبي حدثنا أبو مجلز عن
أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون
فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا
القوم جلوس ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقي
الحجاب بيني وبينه فأنزل الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير
ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا) الآية وقد رواه أيضا في موضع آخر ومسلم والنسائي
من طرق عن معتمر بن سليمان به ثم رواه البخاري منفردا به من حديث أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله
تعالى عنه بنحوه ثم قال حدثنا أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك قال:
بنى النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا فيجئ قوم فيأكلون ويخرجون ثم يجئ
قوم فيقولون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعوه فقلت يا رسول الله ما أجد أحدا أدعوه قال " ارفعوا
طعامكم " وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال
" السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته " قالت وعليك السلام ورحمة الله كيف وجدت أهلك يا رسول الله
بارك الله لك؟ فتقرى حجر نسائه كلهن يقول لهن كما يقول لعائشة ويقلن له كما قالت عائشة ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة فما أدري أخبرته
511

أم أخبر أن القوم خرجوا فرجع حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخله والاخرى خارجه أرخى الستر بيني وبينه
وأنزلت آية الحجاب انفرد به البخاري من بين أصحاب الكتب الستة سوى النسائي في اليوم والليلة من حديث
عبد الوارث ثم رواه عن إسحاق هو ابن منصور عن عبد الله بن بكير السهمي عن حميد عن أنس بنحو ذلك وقال
رجلان انفرد به من هذا الوجه وقد تقدم في إفراد مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس وقال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو المغفر حدثنا جعفر بن سليمان عن الجعد أبي عثمان اليشكري عن أنس بن
مالك قال: أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه فصنعت أم سليم حيسا ثم جعلته في تور فقالت اذهب بهذا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم واقرأه مني السلام وأخبره أن هذا منا له قليل قال أنس والناس يومئذ في جهد فجئت به فقلت يا رسول الله
بعثت بهذا أم سليم إليك وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل فنظر إليه قال ضعه فوضعته في
ناحية البيت ثم قال اذهب فادع فلانا وفلانا فسمى رجالا كثيرا وقال ومن لقيت من المسلمين فدعوت من
قال لي ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملاى من الناس فقلت يا أبا عثمان كم كانوا؟
فقال كانوا زهاء ثلاثمائة قال أنس فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم جئ به فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا وقال
ما شاء الله ثم قال ليتحلق عشرة عشرة وليسموا وليأكل كل إنسان مما يليه فجعلوا يسمون ويأكلون حتى
أكلوا كلهم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعه قال فجئت فأخذت التور فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر
أم حين أخذت قال وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية
وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء ولو أعلموا كان ذلك
عليهم عزيزا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجره وعلى نسائه فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب
فخرجوا وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيرا
وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي) الآيات قال أنس فقرأهن
علي قبل الناس فأنا أحدث الناس بهن عهدا وقد رواه مسلم والترمذي والنسائي جميعا عن قتيبة عن جعفر
بن سليمان به وقال الترمذي حسن صحيح وعلقه البخاري في كتاب النكاح فقال: وقال إبراهيم بن طهمان عن
الجعد أبي عثمان عن أنس فذكر نحوه ورواه مسلم أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن عمر
عن الجعد به وقد روى هذا الحديث عبد الله بن المبارك عن شريك عن بيان بن بشر عن أنس بنحوه ورواه
البخاري والترمذي من طريقين آخرين عن بيان بن بشر الأحمسي الكوفي عن أنس بنحوه ورواه ابن أبي حاتم أيضا
من حديث أبي نضرة العبدي عن أنس بن مالك بنحو ذلك ولم يخرجوه ورواه ابن جرير من حديث عمرو بن
سعيد ومن حديث الزهري عن أنس بنحو ذلك وقال الإمام أحمد حدثنا بهز وهاشم بن القاسم قالا حدثنا
سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس قال لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد اذهب فاذكرها على
قال فانطلق زيد حتى أتاها قال تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري وذكر تمام الحديث كما
قدمناه عند قوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا) وزاد في آخره بعد قوله: ووعظ القوم بما وعظوا به قال
هاشم في حديثه (لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) الآية وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث
جعفر بن سليمان به وقال ابن جرير حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب حدثني عمي عبد الله بن
وهب حدثني يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن بالليل إذا تبرزن
إلى المناصع وهو صعيد أفيح وكان عمر يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحجب نساءك فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفعل
فخرجت سودة بنت زمعة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت امرأة طويلة فناداها عمر بصوته الاعلى: قد عرفناك يا سودة
حرصا على أن ينزل الحجاب قالت فأنزل الله الحجاب هكذا وقع في هذه الرواية والمشهور أن هذا كان بعد
512

نزول الحجاب كما رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله
عنها قالت: خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها فرآها
عمر بن الخطاب فقال يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين قالت فانكفأت راجعة ورسول الله
صلى الله عليه وسلم في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عرق فدخلت فقلت يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر كذا
وكذا قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العرق في يده ما وضعه فقال إنه قد أذن لكن أن تخرجن
لحاجتكن لفظ البخاري فقوله تعالى (لا تدخلوا بيوت النبي) حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله
صلى الله عليه وسلم بغير إذن كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الاسلام حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم
بذلك وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والدخول على النساء الحديث ثم
استثنى من ذلك فقال تعالى (إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه) قال مجاهد وقتادة وغيرهما أي غير
متحينين نضجه واستواءه أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه
الله ويذمه وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن وقد صنف الخطيب البغدادي في
ذلك كتابا في ذم الطفيليين وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها ثم قال تعالى (ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا
طعمتم فانتشروا) وفي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دعا أحدكم أخاه
فليجب عرسا كان أو غيره " وأصله في الصحيحين وفي الصحيح أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى ذراع
لأجبت ولو أهدى إلى كراع لقبلت فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض
ولهذا قال تعالى (ولا مستأنسين لحديث) أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذين استرسل بهم الحديث ونسوا
أنفسهم حتى شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم) وقيل
المراد إن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك من شدة حيائه
عليه السلام حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك ولهذا قال تعالى (والله لا يستحى من الحق) أي ولهذا نهاكم
عن ذلك وزجركم عنه ثم قال تعالى (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) أي وكما نهيتكم عن
الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهن فلا ينظر إليهن ولا يسألهن
حاجة إلا من وراء حجاب وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن مسعر عن موسى بن
أبي كثير عن مجاهد عن عائشة قالت: كنت آكل مع النبي صلى الله عليه وسلم حيسا في قعب فمر عمر فدعاه فأكل فأصابت أصبعه
أصبعي فقال حسن أو أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين فنزل الحجاب (ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن) أي هذا
الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب وقوله تعالى (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا
محمد بن أبي حماد حدثنا مهران عن سفيان عن داود بن هند عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى (وما كان
لكم أن تؤذوا رسول الله) قال نزلت في رجل هم أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده قال رجل لسفيان أهي
عائشة؟ قال قد ذكروا ذلك وكذا قال مقاتل بن حيان وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وذكره بسنده عن السدي
أن الذي عزم على ذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك ولهذا أجمع العلماء
قاطبة على أن من توفى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده لأنهن أزواجه في الدنيا
والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته هل يحل لغيره أن يتزوجها؟ على
قولين مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله (من بعده) أم لا فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فما
نعلم في حلها لغيره والحالة هذه نزاعا والله أعلم وقال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب
حدثنا داود عن عامر أن نبي الله صلى الله عليه وسلم مات وقد ملك قيلة ابنة الأشعث يعني ابن قيس فتزوجها عكرمة بن أبي
513

جهل بعد ذلك فشق ذلك على أبي بكر مشقة شديدة فقال له عمر يا خليفة رسول الله إنها ليست من نسائه إنها لم
يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها وقد برأها الله منه بالردة التي ارتدت مع قومها قال فاطمأن أبو بكر رضي الله
عنه وسكن وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله (إن ذلكم كان عند الله عظيما) ثم قال
تعالى (إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شئ عليما) أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم
فإن الله يعلمه فإنه لا تخفى عليه خافية (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
لا جناح عليهن فئ ابائهن ولا أبنائهن ولا اخوانهن ولا أبناء أخواتهن ولا نسائهن ولا ما
ملكت أيمانهن واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيدا (55)
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب بين أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم كما استثناهم
في سورة النور عند قوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباءهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن
أو إخوانهن أو بني أخواتهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) وفيها زيادات على هذه وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى
عن إعادته ههنا وقد سأل بعض السلف فقال: لم لم يذكر العم والخال في هاتين الآيتين؟ فأجاب عكرمة
والشعبي بأنهما لم يذكرا لأنهما قد يصفان ذلك لبنيهما قال ابن جرير حدثني محمد بن المثنى حدثنا حجاج بن
منهال حدثنا حماد حدثنا داود عن الشعبي وعكرمة في قوله تعالى: (لا جناح عليهن في آبائهن) الآية قلت ما
شأن العم والخال لم يذكرا؟ قال لأنهما ينعتانها لأبنائهما وكرها أن تضع خمارها عند خالها وعمها وقوله
تعالى: (ولا نسائهن) يعني بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات وقوله تعالى (وما ملكت أيمانهن)
يعني به أرقاءهن من الذكور والإناث كما تقدم التنبيه عليه وإيراد الحديث فيه قال سعيد بن المسيب إنما يعنى به
الإماء فقط رواه ابن أبي حاتم وقوله تعالى: (واتقين الله إن الله كان على كل شئ شهيدا) أي واخشينه في
الخلوة والعلانية فإنه شهيد على كل شئ لا تخفى عليه خافية فراقبن الرقيب.
إن الله وملئكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما (56)
قال البخاري: قال أبو العالية صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة صلاة الملائكة الدعاء وقال ابن
عباس: يصلون يبركون هكذا علقه البخاري عنهما وقد رواه أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية
كذلك وروي مثله عن الربيع أيضا وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس كما قاله سواء رواهما ابن أبي
حاتم وقال أبو عيسى الترمذي وروي عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب الرحمة
وصلاة الملائكة الاستغفار ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو الأودي حدثنا وكيع عن الأعمش عن عمرو بن مرة
قال الأعمش أراه عن عطاء بن أبي رباح (إن الله وملائكته يصلون على النبي) قال صلاته تبارك وتعالى سبوح
قدوس سبقت رحمتي غضبي والمقصود من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده
في الملا الاعلى بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين وأن الملائكة تصلي عليه ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي
بالصلاة والتسليم عليه ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا
علي بن الحسين حدثنا أحمد بن عبد الرحمن حدثني أبي عن أبيه عن أشعث بن إسحاق عن جعفر يعني ابن
المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام هل يصلي ربك؟ فناداه ربه عز
وجل: يا موسى سألوك هل يصلي ربك فقل نعم أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي فأنزل الله عز وجل
على نبيه صلى الله عليه وسلم (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما)
514

وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا
وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته) الآية وقال تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا
أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم) الآية وفي الحديث إن الله
وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وفي الحديث الآخر اللهم صل على آل أبي أو في وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لامرأة جابر وقد سألته أن يصلي عليها وعلى زوجها صلى الله عليك وعلى زوجك وقد جاءت الأحاديث
المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالامر بالصلاة عليه وكيفية الصلاة عليه ونحن نذكر منها إن شاء الله ما تيسر والله
المستعان قال البخاري عند تفسير هذه الآية حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد أخبرنا أبي عن مسعر عن الحكم عن
ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال قولوا
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد
وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الحكم قال: سمعت ابن أبي ليلى قال لقيني كعب بن
عجرة فقال ألا أهدي لك هدية؟ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا يا رسول الله قد علمنا أو عرفنا كيف السلام عليك
فكيف الصلاة؟ فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد
مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وهذا الحديث قد
أخرجه الجماعة في كتبهم من طرق متعددة عن الحكم وهو ابن عتيبة زاد البخاري وعبد الله بن عيسى كلاهما عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى فذكرهم وقال ابن أبي حاتم حدثنا الحسين بن عرفة حدثنا هشيم بن بشير عن يزيد بن
أبي زياد حدثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال لما نزلت (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) قال: قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك؟
قال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد
مجيد وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وكان
عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول وعلينا معهم ورواه الترمذي بهذه الزيادة ومعنى قولهم أما السلام عليك
فقد عرفناه هو الذي في التشهد الذي كان يعلمهم إياه كما كان يعلمهم السورة من القران وفيه السلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته (حديث آخر) قال البخاري حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث عن ابن الهاد عن
عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله هذا السلام فكيف نصلي عليك:
قال قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل
محمد كما باركت على آل إبراهيم قال أبو صالح عن الليث: على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل
إبراهيم حدثنا إبراهيم بن حمزة حدثنا ابن أبي حازم عن يزيد يعني ابن الهاد وقال كما صليت على إبراهيم وبارك
على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم وأخرجه النسائي من حديث ابن الهاد به (حديث
آخر) قال الإمام أحمد قرأت على عبد الرحمن: مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن عمرو بن سليم أنه قال
أخبرني أبو حميد الساعدي أنهم قالوا يا رسول الله كيف نصلي عليك قال قولوا اللهم صل على محمد وأزواجه
وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وقد أخرجه بقية الجماعة سوى الترمذي من حديث مالك به
(حديث آخر) قال مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: قرأت على مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر
أخبرني محمد بن عبد الله بن زيد الأنصاري قال وعبد الله بن زيد هو الذي كان أرى النداء بالصلاة أخبره عن أبي
مسعود الأنصاري قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد أمرنا الله أن
515

نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل
محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد والسلام كما قد علمتم وقد رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن جرير من حديث مالك به وقال الترمذي حسن صحيح وروى الإمام أحمد وأبو داود
والنسائي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم في مستدركه من حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي
عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبي مسعود البدري أنهم قالوا يا رسول الله أما السلام فقد عرفناه
فكيف نصلى عليك إذا نحن صلينا في صلاتنا فقال قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وذكره ورواه
الشافعي رحمه الله في مسنده عن أبي هريرة بمثله ومن ههنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على
المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير فإن تركه لم تصح صلاته وقد شرع بعض المتأخرين
من المالكية وغيرهم يشنع على الإمام الشافعي في اشتراطه ذلك في الصلاة ويزعم أنه قد تفرد بذلك وحكى
الاجماع على خلافه أبو جعفر الطبري والطحاوي والخطابي وغيرهم فيما نقله القاضي عياض عنهم وقد تعسف
هذا القائل في رده على الشافعي وتكلف في دعواه الاجماع في ذلك وقال ما لم يحط به علما فإنا قد روينا وجوب
ذلك والامر بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة كما هو ظاهر الآية ومفسر بهذا الحديث عن جماعة من
الصحابة منهم ابن مسعود وأبو مسعود البدري وجابر بن عبد الله ومن التابعين الشعبي وأبو جعفر الباقر ومقاتل بن
حيان وإليه ذهب الشافعي لا خلاف عنه في ذلك ولا بين أصحابه أيضا وإليه ذهب الإمام أحمد أخيرا فيما حكاه
عنه أبو زرعة الدمشقي به وبه قال إسحاق بن راهويه والفقيه الإمام محمد بن إبراهيم المعروف بابن المواز المالكي
رحمهم الله تعالى حتى إن بعض أئمة الحنابلة أوجب أن يقال في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم كما علمهم أن يقولوا لما سألوه
وحتى إن بعض أصحابنا أوجب الصلاة على آله وممن حكاه البندنيجي وسليم الرازي وصاحبه نصر بن إبراهيم
المقدسي ونقله إمام الحرمين وصاحبه الغزالي قولا عن الشافعي والصحيح أنه وجه على أن الجمهور على
خلافه وحكوا الاجماع على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث والله أعلم والغرض أن الشافعي رحمه الله
يقول بوجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة سلفا وخلفا كما تقدم ولله الحمد والمنة فلا إجماع على خلافه
في هذه المسألة لا قديما ولا حديثا والله أعلم ومما يؤيد ذلك الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من رواية حياة بن شريح المصري عن أبي
هانئ حميد بن هانئ عن عمرو بن مالك أبي علي الحسيني عن فضاله بن عبيد رضي الله عنه قال سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم رجل يدعو في صلاته لم يمجد الله ولم يصل على النبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عجل هذا ثم دعاه فقال له
أو لغيره إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله عز وجل والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع بعد بما شاء
وكذا الحديث الذي رواه ابن ماجة من رواية عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد الساعدي عن أبيه عن جده
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ولا صلاة لمن لم
يصل على النبي ولا صلاة لمن لم يحب الأنصار ولكن عبد المهيمن هذا متروك وقد رواه الطبراني من رواية
أخيه أبي بن عباس ولكن في ذلك نظر وإنما يعرف من رواية عبد المهيمن والله أعلم
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا إسماعيل عن أبي داود الأعمى عن بريدة قال: قلنا يا
رسول الله قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ قال قولوا اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك
على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد أبو داود الأعمى اسمه
نفيع بن الحارث متروك (حديث آخر) موقوف رويناه من طريق سعيد بن منصور ويزيد بن هارون وزيد بن
الحباب ثلاثتهم عن نوح بن قيس حدثنا سلامة الكندي أن عليا رضي الله عنه كان يعلم الناس هذا الدعاء اللهم
516

داحي المدحوات وبارئ المسموكات وجبار القلوب على فطرتها شقيها وسعيدها اجعل شرائف صلواتك
ونوامي بركاتك ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والمعلن
الحق بالحق والدامغ لجيشات الأباطيل كما حمل فاضطلع بأمرك بطاعتك مستوفزا في مرضاتك غير نكل
في قدم ولا وهن في عزم واعيا لوحيك حافظا لعهدك ماضيا على نفاذ أمرك حتى أورى قبسا لقابس آلاء
الله تصل بأهله أسبابه به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والاثم وأبهج موضحات الاعلام ونائرات
الاحكام ومنيرات الاسلام فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون وشهيدك يوم الدين وبعيثك
نعمة ورسولك بالحق رحمة اللهم أفسح له في عدنك واجزه مضاعفات الخير من فضلك مهنآت غير
مكدرات من فوز ثوابك المحلول وجزيل عطائك الملول اللهم أعل على بناء الناس بناءه وأكرم مثواه لديك
ونزله وأتمم له نوره واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة مرضي المقالة ذا منطق عدل وخطة فصل.
وحجة وبرهان عظيم هذا مشهور من كلام علي رضي الله عنه وقد تكلم عليه ابن قتيبة في مشكل الحديث وكذا
أبو الحسين أحمد بن فارس اللغوي في جزء جمعة في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن في إسناده نظرا قال
شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي: سلامة الكندي هذا ليس بمعروف ولم يدرك عليا كذا قال وقد روى الحافظ
أبو القاسم الطبراني هذا الأثر عن محمد بن علي الصائغ عن سعيد بن منصور حدثنا نوح بن قيس عن سلامة
الكندي قال كان علي رضي الله عنه يعلمنا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول اللهم داحي المدحوات وذكره.
(حديث آخر) قال ابن ماجة حدثنا زياد بن عبد الله حدثنا المسعودي عن عون بن عبد الله عن أبي فاختة عن
الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال إذا صليتم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنوا الصلاة عليه
فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه قال قالوا له علمنا قال قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركتك
على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول
الرحمة اللهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والآخرون اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد وهذا موقوف وقد روى إسماعيل القاضي عن عبد الله بن عمرو أو
عمر على الشك من الراوي قريبا من هذا (حديث آخر) قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا مالك بن
إسماعيل حدثنا أبو إسرائيل عن يونس بن حباب قال خطبنا بفارس فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا
أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) فقال أنبأني من سمع ابن عباس يقول هكذا أنزل فقلنا أو قالوا يا
رسول الله علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت
على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد وارحم محمدا وآل محمد كما رحمت آل إبراهيم إنك حميد مجيد
وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد فيستدل بهذا الحديث من ذهب
إلى جواز الترحم على النبي صلى الله عليه وسلم كما هو قول الجمهور ويعضده حديث الاعرابي الذي قال: اللهم ارحمني ومحمدا
ولا ترحم معنا أحدا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حجرت واسعا وحكى القاضي عياض عن جمهور المالكية منعه
قال وأجازه أبو محمد بن أبي زيد (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن
عاصم بن عبيد الله قال: سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من صلى
علي صلاة لم تزل الملائكة تصلى عليه ما صلى علي فليقل عبد من ذلك أو ليكثر ورواه ابن ماجة من
حديث شعبة به
(حديث آخر) قال أبو عيسى الترمذي حدثنا بندار حدثنا محمد بن خالد بن عثمة حدثني موسى بن يعقوب الزمعي
حدثني عبد الله بن كيسان أن عبد الله بن شداد أخبره عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أولى الناس بي
517

يوم القيامة أكثرهم على صلاة تفرد بروايته الترمذي رحمه الله ثم قال هذا حديث حسن غريب (حديث آخر)
قال إسماعيل القاضي حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتاني آت من ربي فقال لي ما من عبد يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه بها عشرا فقام إليه رجل فقال يا
رسول الله ألا أجعل نصف دعائي لك؟ قال إن شئت قال ألا أجعل ثلثي دعائي لك؟ قال إن شئت قال ألا
أجعل دعائي لك كله قال إذن يكفيك الله هم الدينا وهم الآخرة فقال شيخ كان بمكة يقال له منيع لسفيان عمن
أسنده قال لا أدري (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي حدثنا سعيد بن سلام العطار حدثنا سفيان الثوري عن
عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في جوف الليل
فيقول جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه فقال أبي يا رسول الله إني أصلي من الليل أفأجعل لك
ثلث صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشطر قال أفأجعل لك شطر صلاتي؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلثان قال
أفأجعل لك صلاتي كلها قال إذن يغفر الله ذنبك كله وقد رواه الترمذي بنحوه فقال حدثنا هناد حدثنا قبيصة
حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبي بن كعب عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب
ثلثا الليل قام فقال يا أيها الناس أذكروا الله اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء
الموت بما فيه قال أبي قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال ما شئت
قلت الربع قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت فالنصف قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت
فالثلثين قال ما شئت فإن زدت فهو خير لك قلت أجعل لك صلاتي كلها قال إذن تكفي همك ويغفر لك
ذنبك ثم قال هذا حديث حسن وقال الإمام أحمد حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
الطفيل بن أبي عن أبيه قال: قال رجل يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال إذن يكفيك الله
ما أهمك من دنياك وآخرتك (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا أبو سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ويونس
هو ابن محمد قالا حدثنا ليث عن يزيد بن الهاد عن عمرو بن أبي عمر عن أبي الحويرث عن محمد بن جبير بن
مطعم عن عبد الرحمن بن عوف قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته حتى دخل نخلا فسجد فأطال السجود حتى خفت
أو خشيت أن يكون قد توفاه الله أو قبضه: قال فجئت أنظر فرفع رأسه فقال مالك يا عبد الرحمن؟ قال فذكرت
ذلك له فقال إن جبريل عليه السلام قال لي ألا أبشرك إن الله عز وجل يقول من صلى عليك صليت عليه ومن
سلم عليك سلمت عليه (طريق أخرى) قال الإمام أحمد حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا سليمان بن
بلال حدثنا عمرو بن أبي عمر عن عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الرحمن بن عوف قال:
قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدفته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجدا فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض
نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست فرفع رأسه فقال من هذا؟ قلت عبد الرحمن قال ما شأنك؟ قلت يا رسول
الله سجدت سجدة خشيت أن يكون الله قبض روحك فيها فقال إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عز وجل يقول
لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت لله عز وجل شكرا ورواه إسماعيل بن
إسحاق القاضي في كتابه عن يحيى بن عبد الحميد عن الدراوردي عن عمرو بن عبد الواحد عن أبيه عن عبد
الرحمن بن عوف به ورواه من وجه آخر عن عبد الرحمن (حديث آخر) قال أبو القاسم الطبراني حدثنا
محمد بن عبد الرحيم بن بجير بن عبد الله بن معاوية بن بجير بن ريان حدثنا يحيى بن أيوب حدثنا عبيد الله بن عمر
عن الحكم بن عيينة عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال خرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم لحاجة فلم يجد أحدا يتبعه ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه فوجد النبي صلى الله عليه وسلم ساجدا في مشربة فتنحى عنه
من خلفه حتى رفع النبي صلى الله عليه وسلم رأسه فقال أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدا فتنحيت عني إن جبريل أتاني فقال
من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشر صلوات ورفعه عشر درجات وقد اختار هذا الحديث
518

الحافظ الضياء المقدسي في كتابه المستخرج على الصحيحين وقد رواه إسماعيل القاضي عن القعنبي عن
سلمة بن وردان عن أنس عن عمر بنحوه ورواه أيضا عن يعقوب بن حميد عن أنس بن عياض عن سلمة بن
وردان عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب بنحوه (حديت آخر) قال الإمام أحمد حدثنا أبو
كامل حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت بن سليمان مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه فقالوا يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك فقال إنه أتاني
الملك فقال يا محمدا أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول أنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه
عشرا ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا؟ قلت بلى ورواه النسائي من حديث حماد بن
سلمة به وقد رواه إسماعيل القاضي عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن عبيد الله بن
عمر عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة بنحوه (طريق أخرى) قال الإمام أحمد حدثنا شريح حدثنا أبو معشر عن
إسحاق بن كعب بن عجرة عن أبي طلحة الأنصاري قال أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما طيب النفس يرى في وجهه
البشر قالوا يا رسول الله أصبحت اليوم طيب النفس يرى في وجهك البشر قال أجل أتاني آت من ربي عز وجل
فقال من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر
درجات ورد عليه مثلها وهذا أيضا إسناد جيد ولم يخرجوه (حديث آخر) روى مسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي من حديث إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشرا قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وفي
الباب عن عبد الرحمن بن عوف وعامر بن ربيعة وعمار وأبي طلحة وأنس وأبي بن كعب: وقال الإمام أحمد حدثنا
حسين بن محمد حدثنا شريك عن ليث عن كعب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صلوا علي فإنها زكاة لكم
وسلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في أعلى الجنة ولا ينالها إلا رجل وأرجو أن أكون أنا هو تفرد به أحمد وقد
رواه البزار من طريق مجاهد عن أبي هريرة بنحوه فقال حدثنا محمد بن إسحاق البكالي حدثنا عثمان بن سعيد
حدثنا داود بن علية عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا علي فإنها زكاة لكم
وسلو الله لي الدرجة الوسيلة من الجنة فسألناه أو أخبرنا فقال هي درجة في أعلى الجنة وهي لرجل وأنا أرجو أن
أكون ذلك الرجل في إسناده بعض من تكلم فيه (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا يحيى بن إسحاق حدثنا
ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن بريح الخولاني سمعت أبا قيس مولى عمرو بن العاص سمعت عبد الله بن عمرو
يقول: من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه وملائكته لها سبعين صلاة فليقل عبد من ذلك أو
ليكثر وسمعت عبد الله بن عمرو يقول خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودع فقال أنا محمد النبي الأمي قاله
ثلاث مرات ولا نبي بعدي أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش
وتجوز بي عوفيت وعوفيت أمتي فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله
وحرموا حرامه (حديث آخر) قال أبو داود الطيالسي حدثنا أبو سلمة الخراساني حدثنا أبو إسحاق عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من ذكرت عنده فليصل علي ومن صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشرا ورواه النسائي في اليوم
والليلة من حديث أبي داود الطيالسي عن أبي سلمة وهو المغيرة بن مسلم الخراساني عن أبي إسحاق عمرو بن
عبد الله السبيعي عن أنس به (حديث آخر) عن أنس قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن فضيل حدثنا يونس بن
عمرو عن يونس بن أبي إسحاق عن يزيد بن أبي مريم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى علي صلاة
واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عبد
الملك بن عمرو وأبو سعيد حدثنا سليمان بن بلال عن عمارة بن غزية عن عبد الله بن علي بن الحسين عن أبيه
519

علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل علي وقال أبو سعيد
فلم يصل علي ورواه الترمذي من حديث سليمان بن بلال ثم قال هذا حديث حسن غريب صحيح ومن الرواة
من جعله من مسند الحسين بن علي ومنهم من جعله من مسند علي نفسه
(حديث آخر) قال إسماعيل القاضي حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة عن معبد بن بلال العنزي حدثنا
رجل من أهل دمشق عن عوف بن مالك عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن أبخل الناس من
ذكرت عنده فلم يصل علي (حديث آخر) مرسل قال إسماعيل وحدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم
سمعت الحسن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب امرئ من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي (حديث آخر)
قال الترمذي حدثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا ربعي بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن إسحاق عن سعيد بن
أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ورغم
أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه
الجنة ثم قال حسن غريب قلت وقد رواه البخاري في الأدب عن محمد بن عبيد الله حدثنا ابن أبي حازم عن
كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه ورويناه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة
عن أبي هريرة قال الترمذي وفي الباب عن جابر وأنس قلت وابن عباس وكعب بن عجرة وقد ذكرت طرق هذا
الحديث في أول كتاب الصيام عند قوله: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما) وهذا الحديث والذي قبله
دليل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي ويتقوى
بالحديث الآخر الذي رواه ابن ماجة حدثنا جنادة بن المغلس حدثنا حماد بن زيد حدثنا عمرو بن دينار عن جابر بن
زيد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي الصلاة علي أخطأ طريق الجنة جنادة ضعيف ولكن رواه
إسماعيل القاضي من غير وجه عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسي الصلاة
علي أخطأ طريق الجنة وهذا مرسل يتقوى بالذي قبله والله أعلم وذهب آخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في
المجلس مرة واحدة ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس بل تستحب نقله الترمذي عن بعضهم ويتأيد بالحديث
الذي رواه الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما جلس قوم مجلسا لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلا كان عليهم ترة يوم القيامة
فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم تفرد به الترمذي من هذا الوجه ورواه الإمام أحمد عن حجاج ويزيد بن هارون
كلاهما عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة مرفوعا مثله ثم قال الترمذي هذا حديث حسن
وقد روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه وقد رواه إسماعيل القاضي من حديث شعبة عن سليمان عن ذكوان
عن أبي سعيد قال ما من قوم يقعدون ثم يقومون ولا يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم إلا كان عليهم يوم القيامة حسرة وإن دخلوا
الجنة لما يرون من الثواب وحكي عن بعضهم أنه إنما تجب الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام في العمر مرة واحدة
امتثالا لأمر الآية ثم هي مستحبة في كل حال وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الاجماع على وجوب
الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة قال وقد حكى الطبري أن محمل الآية على الندب وادعى فيه الاجماع قال ولعله فيما زاد
على المرة والواجب فيه مرة كالشهادة له بالنبوة وما زاد على ذلك فمندوب ومرغب فيه من سنن الاسلام وشعار أهله
(قلت) وهذا قول غريب فإنه قد ورد الامر بالصلاة عليه في أوقات كثيرة فمنها واجب ومنها مستحب على ما نبينه فمنه
بعد النداء للصلاة للحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حياة حدثنا كعب بن علقمة أنه سمع
عبد الرحمن بن جبير يقول إنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص يقول إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعتم مؤذنا فقولوا
مثل ما يقول ثم صلوا على فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة
لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة وأخرجه مسلم وأبو داود
520

والترمذي والنسائي من حديث كعب بن علقمة (طريق أخرى) قال إسماعيل القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر حدثنا
عمرو بن علي عن أبي بكر الجشمي عن صفوان بن سليم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل الله
لي الوسيلة حقت عليه شفاعتي يوم القيامة (حديث آخر) قال إسماعيل القاضي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا
سعيد بن زيد عن ليث عن كعب هو كعب الأحبار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلوا علي فإن
صلاتكم على زكاة لكم وسلوا الله لي الوسيلة قال فإما حدثنا وإما سألناه قال الوسيلة أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا
رجل وأرجو أن أكون أنا ذلك الرجل ثم رواه عن محمد بن أبي بكر عن معتمر عن ليث وهو ابن أبي سليم به وكذا
الحديث الآخر قال الإمام أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا بكر بن سوادة عن زياد بن نعيم عن
ورقاء الحضرمي عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من صلى على محمد وقال اللهم أنزله المقعد
المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي وهذا إسناد لا بأس به ولم يخرجوه (أثر حسن) قال إسماعيل القاضي
حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان حدثني معمر عن ابن طاوس عن أبيه سمعت ابن عباس يقول: اللهم تقبل شفاعة
محمد الكبرى وارفع درجته العليا وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى عليهم السلام إسناد
جيد قوي صحيح.
ومن ذلك عند دخول المسجد والخروج منه للحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا ليث بن
أبي سليم عن عبد الله بن الحسن عن أمه فاطمة بنت الحسين عن جدته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ثم قال اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج صلى
على محمد وسلم ثم قال اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك وقال إسماعيل القاضي حدثنا يحيى بن عبد
الحميد حدثنا سفيان بن عمرو التميمي عن سليمان الضبي عن علي بن الحسين قال قال علي بن أبي طالب رضي الله
عنه: إذا مررتم بالمساجد فصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وأما الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة فقد قدمنا الكلام عليها في التشهد
الأخير ومن ذهب إلى ذلك من العلماء منهم الشافعي رحمه الله وأكرمه وأحمد وأما التشهد الأول فلا تجب فيه قولا
واحدا وهل تستحب؟ على قولين للشافعي ومن ذلك الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة فإن السنة أن يقرأ في التكبيرة
الأولى فاتحة الكتاب وفي الثانية أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي الثالثة يدعو للميت وفي الرابعة يقول اللهم لا تحرمنا
أجره ولا تفتنا بعده قال الشافعي رحمه الله حدثنا مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري أخبرني أبو أمامة بن سهل بن
حنيف أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الامام ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد
التكبيرة الأولى سرا في نفسه ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويخلص الدعاء للجنازة وفي التكبيرات لا يقرأ في شئ منها ثم
يسلم سرا في نفسه ورواه النسائي عن أبي أمامة نفسه أنه قال من السنة فذكره وهذا من الصحابي في حكم المرفوع
على الصحيح ورواه إسماعيل القاضي عن محمد بن المثنى عن عبد الاعلى عن معمر عن الزهري عن أبي أمامة بن
سهل عن سعيد بن المسيب أنه قال: السنة في الصلاة على الجنازة فذكره وهكذا روى عن أبي هريرة وابن عمر والشعبي
ومن ذلك في صلاة العيد قال إسماعيل القاضي حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي حدثنا حماد بن أبي
سليمان عن إبراهيم عن علقمة أن ابن مسعود وأبا موسى وحذيفة خرج عليهم الوليد بن عقبة يوما قبل العيد فقال
لهم إن هذا العيد قد دنا فكيف التكبير فيه؟ قال عبد الله فتكبر تكبيرة تفتتح بها الصلاة وتحمد ربك وتصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تكبر وتفعل مثل ذلك ثم تقرأ ثم تكبر وتركع ثم
تقوم فتقرأ وتحمد ربك وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تدعو وتكبر وتفعل مثل ذلك ثم تركع فقال حذيفة وأبو موسى صدق أبو
عبد الرحمن إسناد صحيح ومن ذلك أنه يستحب ختم الدعاء بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قال الترمذي حدثنا أبو داود حدثنا
النضر بن سهيل عن أبي قرة الأسدي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: الدعاء موقوف بين السماء
والأرض لا يصعد منه شئ حتى تصلي على نبيك وكذا رواه أيوب بن موسى عن سعيد بن المسيب عن عمر بن
521

الخطاب ورواه معاذ بن الحارث عن أبي قرة سعيد بن المسيب عن عمر مرفوعا وكذا رواه رزين بن معاوية في
كتابه مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلى علي فلا تجعلوني كغمر
الراكب صلوا علي أول الدعاء وآخره وأوسطه وهذه الزيادة إنما تروى من رواية جابر بن عبد الله في مسند الامام
عبد بن حميد الكشي حيث قال: حدثنا جعفر بن عون أخبرنا موسى بن عبيدة عن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم عن أبيه
قال: قال جابر قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تجعلوني كقدح الراكب إذا علق تعاليقه أخذ قدحه فملأه من الماء فإن كان له
حاجة في الوضوء توضأ وإن كان له حاجة في الشرب شرب وإلا أهرق ما فيه اجعلوني في أول الدعاء وفي وسط الدعاء
وفي آخر الدعاء وهذا حديث غريب وموسى بن عبيدة ضعيف الحديث ومن آكد ذلك دعاء القنوت لما رواه أحمد
وأهل السنن وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي الجوزاء عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني
رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر اللهم اهدني فيمن هديت وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت وبارك لي
فيما أعطيت وقني شر ما قضيت فإنك تقضي ولا يقضى عليك وإنه لا يذل من واليت ولا يعز من عاديت تباركت
ربنا وتعاليت وزاد النسائي في سننه بعد هذا وصلى الله على محمد ومن ذلك أنه يستحب الاكثار من الصلاة عليه يوم
الجمعة وليلة الجمعة قال الإمام أحمد حدثنا حسين بن علي الجعفي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن أبي
الأشعث الصنعاني عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه
خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول
الله وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت؟ يعني وقد بليت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث حسين بن علي الجعفي وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان
والدار قطني والنووي في الاذكار (حديث آخر) قال أبو عبد الله بن ماجة حدثنا عمرو بن سواد المصري حدثنا عبد الله بن
وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسى عن أبي الدرداء قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة فإنه مشهود تشهده الملائكة وإن أحدا لا يصلي علي فيه إلا عرضت علي صلاته
حتى يفرغ منها قال قلت وبعد الموت؟ قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء فنبي الله حي يرزق هذا
حديث غريب من هذا الوجه وفيه انقطاع بين عبادة بن نسي وأبي الدرداء فإنه لم يدركه والله أعلم
وقد روى البيهقي من حديث أبي أمامة وابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في الامر بالاكثار من الصلاة عليه ليلة الجمعة ويوم
الجمعة ولكن في إسنادهما ضعف والله أعلم وروى مرسلا عن الحسن البصري فقال إسماعيل القاضي حدثنا
سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم سمعت الحسن البصري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تأكل الأرض جسد من
كلمه روح القدس مرسل حسن والنووي في الاذكار وقال القاضي وقال الشافعي أخبرنا إبراهيم بن محمد أخبرنا
صفوان بن سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا كان يوم الجمعة وليلة الجمعة فأكثروا الصلاة علي هذا مرسل وهكذا يجب على
الخطيب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر في الخطبتين ولا تصح الخطبتان إلا بذلك لأنها عبادة وذكر
الله شرط فيها فوجب ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها كالاذان والصلاة هذا مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله ومن ذلك أنه يستحب
الصلاة والسلام عليه عند زيارة قبره صلى الله عليه وسلم قال أبو داود حدثنا ابن عوف هو محمد بن المقري حدثنا حياة عن أبي صخر
حميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما منكم من أحد يسلم علي إلا رد الله
علي روحي حتى أرد عليه السلام تفرد به أبو داود وصححه النووي في الاذكار ثم قال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح
قال: قرأت على عبد الله بن نافع أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم تفرد به أبو داود أيضا وقد
رواه الإمام أحمد عن شريح عن عبد الله بن نافع وهو الصائغ به وصححه النووي أيضا وقد روي من وجه آخر عن علي
رضي الله عنه قال القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتابه فضل الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا إسماعيل بن أبي أويس حدثنا
522

جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عمن أخبره من أهل بيته عن علي بن
الحسين بن علي أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهر عليه علي بن
الحسين فقال له علي بن الحسين ما يحملك على هذا؟ قال أحب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له علي بن الحسين هل
لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟ قال نعم فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
تجعلوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم فتبلغني صلاتكم وسلامكم في إسناده رجل
مبهم لم يسم وقد روي من وجه آخر مرسلا قال عبد الرزاق في مصنفه عن الثوري عن ابن عجلان عن رجل يقال له
سهيل عن الحسن بن الحسن بن علي قال رأى قوما عند القبر فنهاهم وقال إن النبي صلى الله عليه وسلم " قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا
تتخذوا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني فلعله رآهم يسيئون الأدب برفع أصواتهم فوق الحاجة
فنهاهم وقد روى أنه رأى رجلا ينتاب القبر فقال: يا هذا ما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء أي الجميع يبلغه صلوات
الله وسلامه عليه دائما إلى يوم الدين وقال الطبراني في معجمه الكبير حدثنا أحمد بن رشدين المصري حدثنا سعيد بن
أبي مريم حدثنا محمد بن جعفر أخبرني حميد بن أبي زينب عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ثم قال الطبراني حدثنا العباس بن حمدان
الأصبهاني حدثنا شعيب بن عبد الحميد الطحان أخبرنا يزيد بن هارون بن أبي شيبان عن الحكم بن عبد الله بن خطاب
عن أم أنيس بنت الحسن بن علي عن أبيها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله عز وجل (إن الله وملائكته يصلون
على النبي) فقال إن هذا هو المكتوم ولولا أنكم سألتموني عنه ما أخبرتكم إن الله عز وجل وكل بي ملكين لا أذكر عند
عبد مسلم فيصلي على إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين ولا يصلي علي
أحد إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك ويقول الله وملائكته جوابا لذينك الملكين آمين غريب جدا وإسناده به ضعف
شديد وقد قال الإمام أحمد حدثنا وكيع عن سفيان عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام وهكذا رواه النسائي من حديث سفيان الثوري
وسليمان بن مهران الأعمش كلاهما عن عبد الله بن السائب به فأما الحديث الآخر من صلى علي عند قبري
سمعته ومن صلى علي من بعيد بلغته ففي إسناده نظر تفرد به محمد بن مروان السدي الصغير وهو متروك عن
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعا قال أصحابنا ويستحب للمحرم إذا لبى وفرغ من تلبيته أن يصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه الشافعي والدارقطني من رواية صالح بن محمد بن زائدة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
قال كان يؤمر الرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على كل حال وقال إسماعيل القاضي حدثنا عارم بن
الفضل حدثنا عبد الله بن المبارك حدثنا زكريا عن الشعبي عن وهب بن الأجدع قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يقول: إذا قدمتم فطوفوا بالبيت سبعا وصلوا عند المقام ركعتين ثم ائتوا الصفا فقوموا عليه من حيث ترون
البيت فكبروا سبع مرات تكبيرا بين حمد الله وثناء عليه وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة لنفسك وعلى المروة مثل ذلك
إسناد جيد حسن قوي قالوا ويستحب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مع ذكر الله عند الذبح واستأنسوا بقوله تعالى (ورفعنا لك
ذكرك) قال بعض المفسرين يقول الله تعالى لا أذكر إلا ذكرت معي وخالفهم في ذلك الجمهور وقالوا هذا موطن يفرد فيه
ذكر الله تعالى كما عند الاكل والدخول والوقاع وغير ذلك مما لم ترد فيه السنة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (حديث آخر) قال
إسماعيل القاضي حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا عمرو بن هارون عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن
أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلوا على أنبياء الله ورسله فإن الله بعثهم كما بعثني في إسناده ضعيفان وهما
عمرو بن هارون وشيخه والله أعلم وقد رواه عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عبيدة الزبيدي به ومن ذلك أنه
523

يسحب الصلاة عليه عند طنين الاذن إن صح الخبر في ذلك على أن الامام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قد رواه
في صحيحه فقال: حدثنا زياد بن يحيى حدثنا معمر بن محمد بن عبيد الله عن علي بن أبي رافع عن أبيه عن أبي رافع
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل ذكر الله من ذكرني بخير إسناده غريب
وفي ثبوته نظر والله أعلم
(مسألة) وقد استحب أهل الكتابة أن يكرر الكاتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما كتبه وقد ورد في الحديث من طريق
كادح بن رحمة عن نهشل عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة
جارية له ما دام اسمي في ذلك الكتاب وليس هذا الحديث بصحيح من وجوه كثيرة وقد روي من حديث أبي هريرة
ولا يصح أيضا قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي شيخنا أحسبه موضوعا وقد روى نحوه عن أبي بكر وابن عباس ولا
يصح من ذلك شئ والله أعلم وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لآداب الراوي والسامع قال: رأيت
بخط الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كثيرا ما يكتب اسم النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر الصلاة عليه كتابة قال: وبلغني أنه كان
يصلي عليه لفظ (فصل) وأما الصلاة على غير الأنبياء فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث اللهم صل
على محمد وآله وأزواجه وذريته فهذا جائز بالاجماع وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم فقال قائلون
يجوز ذلك واحتجوا بقول الله تعالى (هو الذي يصلي عليكم وملائكته) وبقوله (أولئك عليهم صلوات من ربهم
ورحمة) وبقوله (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم) الآية وبحديث عبد الله بن أبي أوفى
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال اللهم صل عليهم فأتاه أبي بصدقته فقال اللهم صل على آل أبي
أوفى أخرجاه في الصحيحين وبحديث جابر أن امرأته قالت يا رسول الله صل علي وعلى زوجي فقال صلى الله
عليك وعلى زوجك قال الجمهور من العلماء لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة لان هذا قد صار شعار للأنبياء إذا ذكروا
فلا يلحق بهم غيرهم فلا يقال قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم وقال عليا صلى الله عليه وسلم وإن كان المعنى صحيحا كما لا يقال قال محمد عز
وجل وإن كان عزيزا جليلا لان هذا من شعار ذكر الله عز وجل وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنة على الدعاء
لهم ولهذا لم يثبت شعار لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته وهذا مسلك حسن وقال آخرون لا يجوز ذلك لان الصلاة
على غير الأنبياء قد صارت من شعار أهل الأهواء يصلون على من يعتقدون فيهم فلا يقتدى بهم في ذلك والله أعلم ثم
اختلف المانعون من ذلك هل هو من باب التحريم أو الكراهة التنزيهية أو خلاف الأولى؟ على ثلاثة أقوال حكاه الشيخ
أبو زكريا النووي في كتاب الاذكار ثم قال والصحيح الذي عليه الأكثرون أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار أهل البدع
وقد نهينا عن شعارهم والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود قال أصحابنا والمعتمد في ذلك أن الصلاة صارت
مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله تعالى فكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان
عزيزا جليلا لا يقال أبو بكر أو علي صلى الله عليه وسلم هذا لفظه بحروفه قال وأما السلام فقال الشيخ أبو محمد الجويني من
أصحابنا هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء فلا يقال علي عليه السلام وسواء في هذا
الاحياء والأموات وأما الحاضر فيخاطب به فيقال سلام عليك وسلام عليكم وهذا مجمع عليه انتهى ما ذكره
(قلت) وقد غلب في هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر
الصحابة أو كرم الله وجهه وهذا وإن كان معناه صحيحا ولكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فان هذا من باب
التعظيم والتكريم فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين قال إسماعيل القاضي
حدثنا عبد الله بن عبد الواحد حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثني عثمان بن حكيم بن حنيف عن عكرمة عن ابن عباس أنه
قال: لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة وقال أيضا حدثنا أبو
بكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن جعفر بن برقان قال كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله: أما بعد فإن ناسا
من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة وإن ناسا من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عدل
524

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاءك كتابي هذا فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما
سوى ذلك أثر حسن قال إسماعيل القاضي حدثنا معاذ بن أسد حدثنا عبد الله بن المبارك أخبرنا ابن لهيعة حدثني
خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن نبيه بن وهب أن كعبا دخل على عائشة رضي الله عنها فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفا من الملائكة حتى يحفون بالقبر يضربون بأجنحتهم يصلون على النبي
صلى الله عليه وسلم سبعون ألفا بالليل وسبعون ألفا بالنهار حتى إذا انشقت عنه الأرض خرج في سبعين ألفا من الملائكة يزفونه (فرع)
قال النووي إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول صلى الله عليه فقط
ولا عليه السلام فقط وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله (يا أيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما) فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليما.
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (57) والذين يؤذون المؤمنين
والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتنا وإثما مبينا (58)
يقول تعالى متهددا ومتوعدا من أذاه بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص
عياذا بالله من ذلك - قال عكرمة في قوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله) نزلت في المصورين وفي الصحيحين
من حديث سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز
وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون يا خيبة الدهر
فعل بنا كذا وكذا فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ويسبونه وإنما الفاعل لذلك هو الله عز وجل فنهى عن ذلك هكذا
قرره الشافعي وأبو عبيدة وغيرهما من العلماء رحمهم الله وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى (إن الذين يؤذون
الله ورسوله) نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حيي بن أخطب والظاهر أن الآية عامة في
كل من آذاه بشئ ومن آذاه فقد أذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله كما قال الإمام أحمد حدثنا يونس حدثنا
إبراهيم بن سعد عن عبيدة بن أبي رائطة الحذاء المجاشعي عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الرحمن بن المغفل المزني
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي
أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن يأخذه وقد رواه الترمذي من حديث
عبيدة بن أبي رائطة عن عبد الرحمن بن زياد عن عبد الله بن المغفل به ثم قال وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا
من هذا الوجه.
وقوله تعالى (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا) أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم
يفعلوه (فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا " وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه
على سبيل العيب والتنقص لهم ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الكفرة بالله ورسوله ثم الرافضة الذين ينتقصون
الصحابة ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم فإن الله عز وجل قد أخبر أنه قد رضى عن
المهاجرين والأنصار ومدحهم وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم وينتقصونهم ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا فهم
في الحقيقة منكسوا القلوب يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين وقال أبو داود حدثنا القعنبي حدثنا عبد العزيز
يعني ابن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أنه قيل يا رسول الله ما الغيبة؟ قال ذكرك أخاك بما يكره قيل أفرأيت
إن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته وهكذا رواه الترمذي
عن قتيبة عن الدراوردي به ثم قال حسن صحيح وقد قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سلمة حدثنا أبو كريب حدثنا
معاوية بن هشام عن عمار بن أنس عن أبن أبي مليكة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه أي الربا أربى
عند الله قالوا الله ورسوله أعلم قال أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم ثم قرأ (والذين يؤذون
525

المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا).
يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين
وكان الله غفورا رحيما (59) * لئن لم ينته المنفقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك
بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا (60) ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا (61) سنة الله في الذين خلوا من قبل
ولن تجد لسنة الله تبديلا (62)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم تسليما أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات - خاصة أزواجه وبناته لشرفهن - بأن يدنين
عليهم من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء والجلباب هو الرداء فوق الخمار قاله ابن
مسعود وعبيدة وقتادة والحسن البصري وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاء الخراساني وغير واحد وهو بمنزلة الازار
اليوم قال الجوهري الجلباب الملحفة قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها:
تمشي النسور إليه وهي لاهية * مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق
رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عينا واحدة وقال محمد بن سيرين سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل (يدنين
عليهن من جلابيبهن) فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى وقال عكرمة تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الطهراني فيما كتب إلي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن خيثم عن صفية بنت
شيبة عن أم سلمة قالت لما نزلت هذه الآية (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن
الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثني الليث حدثنا
يونس بن يزيد قال وسألناه يعني الزهري هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة؟ قال عليها الخمار إن كانت
متزوجة وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات وقد قال الله تعالى (يا أيها النبي قل لازواجك
وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن) وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء
أهل الذمة وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن واستدل بقوله تعالى (ونساء المؤمنين) وقوله (ذلك أدنى أن
يعرفن فلا يؤذين) أي إذا فعلن ذلك عرفهن أنهن حرائر لسن بإماء ولا عواهر قال السدي في قوله تعالى (يا أيها
النبي قل لازواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) قال كان ناس من
فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة فيعرضون للنساء وكانت مساكن أهل المدينة
ضيقة فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن فإذا رأوا المرأة
عليها جلباب قالوا هذه حرة فكفوا عنها وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا هذه أمة فوثبوا عليها وقال مجاهد
يتجلبن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة وقوله تعالى (وكان الله غفورا رحيما) أي لما سلف
في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك ثم قال تعالى متوعدا للمنافقين وهم الذين يظهرون الايمان ويبطنون
الكفر (والذين في قلوبهم مرض) قال عكرمة وغيره هم الزناة ههنا (والمرجفون في المدينة) يعني الذين يقولون
جاء الأعداء وجاءت الحروب وهو كذب وافتراء لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق (لنغرينك بهم) قال علي بن
أبي طلحة عن ابن عباس أي لنسلطنك عليهم وقال قتادة لنحرشنك بهم وقال السدي لنعلمنك بهم (ثم لا
يجاورونك فيها) أي في المدينة (إلا قليلا ملعونين) حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين
مبعدين (أينما ثقفوا) أي وجدوا (أخذوا) لذلتهم وقلتهم (وقتلوا تقتيلا). ثم قال تعالى (سنة الله في الذين خلوا
526

من قبل) أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الايمان يسلطون
عليهم ويقهرونهم (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.
يسئلك الناس عن الساعة قل إنما علمها عند الله وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا (63) إن الله لعن الكافرين
وأعد لهم سعيرا (64) خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا (65) يوم تقلب وجوههم في النار يقولون
يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا (66) وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم
ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا (68)
يقول تعالى مخبرا لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة وإن سأله الناس عن ذلك وأرشده أن
يرد علمها إلى الله عز وجل كما قال الله تعالى في سورة الأعراف وهي مكية وهذه مدنية فاستمر الحال في رد
علمها إلى الذي يقيمها لكن أخبره أنها قريبة بقوله (وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا) كما قال تعالى:
(اقتربت الساعة وانشق القمر) وقال (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون) وقال (أتى
أمر الله فلا تستعجلوه). ثم قال تعالى: (إن الله لعن الكافرين) أي أبعدهم من رحمته (وأعد لهم
سعيرا) أي في الدار الآخرة (خالدين فيها أبدا) أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها
(لا يجدون وليا ولا نصيرا) أي وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه ثم قال (يوم تقلب وجوههم في
النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا) أي يسحبون في النار على وجوههم وتلوى وجوههم
على جهنم يقولون وهم كذلك يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول كما أخبر
الله عنهم في حال العرصات بقوله (ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا * يا
وياليتني لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا) وقال
تعالى: (ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين) وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا
أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) وقال طاوس: سادتنا
يعني الاشراف وكبراءنا يعني العلماء رواه ابن أبي حاتم أي اتبعنا السادة وهم الامراء والكبراء من المشيخة
وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا وأنهم على شئ فإذا هم ليسوا على شئ (ربنا آتهم ضعفين من
العذاب) أي بكفرهم وإغوائهم إيانا (والعنهم لعنا كبيرا) قرأ بعض القراء بالباء الموحدة وقرأ آخرون بالثاء
المثلثة وهما قريبا المعنى كما في حديث عبد الله بن عمرو أن أبا بكر قال يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في
صلاتي قال: " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك
وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " أخرجاه في الصحيحين يروى كثيرا وكبيرا وكلاهما بمعنى صحيح واستحب
بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه وفي ذلك نظر بل الأولى أن يقول هذا تارة وهذا تارة كما أن
القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ أحسن وليس له الجمع بينهما والله أعلم وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا
محمد بن عثمان بن أبي شيبة حدثنا ضرار بن صرد حدثنا علي بن هشام عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه في
تسمية من شهد مع علي رضي الله عنه الحجاج بن عمرو بن غزية وهو الذي كان يقول عند اللقاء يا معشر الأنصار
أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا * ربنا آتهم ضعفين من العذاب
والعنهم لعنا كبيرا).
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها (69)
527

قال البخاري عند تفسير هذه الآية حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا روح بن عبادة حدثنا عوف عن الحسن ومحمد
وخلاس عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن موسى كان رجلا حييا وذلك قوله تعالى: (يا
أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) " هكذا أورد هذا الحديث
ههنا مختصرا جدا وقد رواه في أحاديث الأنبياء بهذا السند بعينه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
موسى عليه السلام كان رجلا حييا ستيرا لا يرى من جلده شئ استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما
يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة وإن الله عز وجل أراد أن يبرئه مما قالوا
لموسى عليه السلام فخلا يوما وحده فخلع ثيابه على حجر ثم اغتسل فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإن الحجر
عدا بثوبه فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملا من بني
إسرائيل فرأوه عريانا أحسن ما خلق الله عز وجل وأبرأه مما يقولون وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر
ضربا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبا من أثر ضربه ثلاثة أو أربعا أو خمسا قال فذلك قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) " وهذا سياق حسن مطول وهذا الحديث
من أفراد البخاري دون مسلم وقال الإمام أحمد حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلاس ومحمد
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما
قالوا وكان عند الله وجيها) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن موسى كان رجلا حييا ستيرا لا يكاد يرى من جلده شئ
استحياء منه " ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه عنه في تفسيره عن روح عن عوف به ورواه ابن
جرير من حديث الثوري عن جابر الجعفي عن عامر الشعبي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا وهكذا رواه
من حديث سليمان بن مهران الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير وعبد الله بن الحارث عن ابن عباس
في قوله (لا تكونوا كالذين آذوا موسى) قال: قال قومه له إنك آدر فخرج ذات يوم ويغتسل فوضع ثيابه على صخرة
فخرجت الصخرة تشتد بثيابه وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل قال فرأوه ليس بآدر فذلك
قوله: (فبرأه الله مما قالوا) وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما سواء. وقال الحافظ أبو بكر
البزار حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدمي قالا حدثنا يحيى بن حماد حدثنا حماد بن سلمة عن
علي بن زيد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان موسى عليه السلام رجلا حييا وأنه أتى أحسبه قال الماء ليغتسل
فوضع ثيابه على صخرة وكان لا يكاد تبدو عورته فقال بنو إسرائيل إن موسى آدر أوبه آفة - يعنون أنه لا يضع ثيابه -
فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال أو كما قال -
فذلك قوله: (فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) "
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا سعيد بن سليمان حدثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله: (فبرأه الله مما قالوا) قال صعد
موسى وهارون الجبل فمات هارون عليه السلام فقال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته كان ألين لنا منك
وأشد حياء فآذوه من ذلك فأمر الله الملائكة فحملته فمروا على مجالس بني إسرائيل فتكلمت بموته فما عرف
موضع قبره إلا الرخم وإن الله جعله أصم أبكم وهكذا رواه ابن جرير عن علي بن موسى الطوسي عن عباد بن
العوام به ثم قال وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى وجائز أن يكون الأول هو المراد فلا قول أولى من قول الله
عز وجل (قلت) يحتمل أن يكون الكل مرادا وأن يكون معه غيره والله أعلم قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية
حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما فقال رجل من الأنصار إن هذه
القسمة ما أريد بها وجه الله قال فقلت يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر
وجهه ثم قال " رحمة الله على موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر " أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن
528

مهران الأعمش به (طريق أخرى) قال الإمام أحمد حدثنا حجاج سمعت إسرائيل بن يونس عن الوليد بن أبي
هشام مولى همدان عن زيد بن زائدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه " لا يبلغني أحد
عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر " فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مال فقسمه قال
فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة قال فثبت حتى سمعت
ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول إنك قلت لنا: " لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا " وإني مررت
بفلان وفلان وهما يقولان كذا وكذا فأحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشق عليه ثم قال " دعنا منك لقد أوذي موسى
بأكثر من هذا فصبر " وقد رواه أبو داود في الأدب عن محمد بن يحيى الذهلي عن محمد بن يوسف الفريابي عن
إسرائيل عن الوليد بن أبي هشام به مختصرا " لا يبلغني أحد عن أحد شيئا إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم
الصدر " وكذا رواه الترمذي في المناقب عن الذهلي سواء إلا أنه قال زيد بن زائدة ورواه أيضا عن محمد بن
إسماعيل عن عبد الله بن محمد عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل عن السدي عن
الوليد بن أبي هشام به مختصرا أيضا فزاد في إسناده السدي ثم قال غريب من هذا الوجه وقوله تعالى: (وكان
عند الله وجيها) أي له وجاهة وجاه عند ربه عز وجل قال الحسن البصري كان مستجاب الدعوة عند الله وقال
غيره من السلف لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه ولكن منع الرؤية لما يشاء الله عز وجل وقال بعضهم من وجاهته
العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال (ووهبنا له من رحمتنا أخاه
هارون نبيا).
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا (70) يصلح لكم أعملكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله
ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (71)
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه وأن يعبدوه عبادة من كأنه يراه وأن يقولوا (قولا سديدا) أي مستقيما لا
اعوجاج فيه ولا انحراف ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم أي يوفقهم للأعمال
الصالحة وأن يغفر لهم الذنوب الماضية وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها ثم قال تعالى:
(ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) وذلك أنه يجار من نار الجحيم ويصير إلى النعيم المقيم. قال ابن
أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عمرو بن عوف حدثنا خالد عن ليث عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال: صلى
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال " إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله
وتقولوا قولا سديدا " ثم أتى النساء فقال " إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولا سديدا " وقال ابن أبي
الدنيا في كتاب التقوى حدثنا محمد بن عباد بن موسى حدثنا عبد العزيز بن عمران الزهري حدثنا عيسى بن سبرة عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر إلا سمعته يقول (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا) الآية غريب جدا وروى عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن محمد بن
كعب عن ابن عباس موقوفا: من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله قال عكرمة القول السديد لا إله إلا الله
وقال غيره السديد الصدق وقال مجاهد هو السداد وقال غيره هو الصواب والكل حق.
إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان
ظلوما جهولا (72) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين
والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما (73)
529

قال العوفي عن ابن عباس يعني بالأمانة الطاعة عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها فقال لآدم:
إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال يا رب وما فيها؟
قال إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت فأخذها آدم فتحملها فذلك قوله تعالى: (وحملها الانسان إنه كان
ظلوما جهولا) وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: الأمانة الفرائض عرضها الله على السماوات والأرض
والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذبهم فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه من غير معصية ولكن تعظيما لدين الله أن
لا يقوموا بها ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها وهو قوله تعالى: (وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا) أي
غرا بأمر الله وقال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن
منها) قال عرضت على آدم فقال خذها بما فيها فإن أطعت غفرت له وإن عصيت عذبتك قال قبلت فما كان إلا
مقدار ما بين العصر إلى الليل من ذلك اليوم حتى أصاب الخطيئة وقد روى الضحاك عن ابن عباس قريبا من
هذا وفيه نظر وانقطاع بن الضحاك وبينه والله أعلم وهكذا قال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك والحسن
البصري وغير واحد: إن الأمانة هي الفرائض وقال آخرون هي الطاعة وقال أعمش عن أبي الضحى عن مسروق
قال: قال أبي بن كعب من الأمانة أن المرأة أؤتمنت على فرجها وقال قتادة الأمانة الدين والفرائض والحدود
وقال بعضهم الغسل من الجنابة وقال مالك عن زيد بن أسلم قال الأمانة ثلاثة الصلاة والصوم والاغتسال من
الجنابة وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها وهو
أنه إن قام بذلك أثيب لان تركها عوقب فقبلها الانسان على ضعفه وجهله وظلمه إلا من وفق الله وبالله المستعان
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا عبد العزيز بن المغيرة البصري حدثنا حماد بن واقد يعني أبا عمر الصفار
سمعت أبا معمر يعني عون بن معمر يحدث عن الحسن يعني البصري أنه تلا هذه الآية (إنا عرضنا الأمانة على
السماوات والأرض والجبال) قال عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم وحملة العرش
العظيم فقيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت وما فيها؟ قال قيل لها إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت
قالت: لا ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد وذللت بالمهاد قال فقيل لها هل
تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت وما فيها؟ قال قيل لها إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت قالت: لا ثم
عرضها على الجبال الشم الشوامخ الصعاب الصلاب قال قيل لها هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت وما فيها؟
قال لها إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت قالت: لا وقال مقاتل بن حيان إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع
بين الإنس والجن والسماوات والأرض والجبال فبدأ بالسموات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة فقال لهن أتحملن
هذه الأمانة ولكن على الفضل والكرامة والثواب في الجنة؟ فقلن يا رب إنا لا نستطيع هذا الامر وليس بنا قوة
ولكنا لك مطيعين ثم عرض الأمانة على الأرضين فقال لهن: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها مني وأعطيكن الفضل
والكرامة في الدنيا؟ فقلن لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعين مطيعين لا نعصيك في شئ
أمرتنا به ثم قرب آدم فقال له أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم ما لي عندك؟ قال يا
آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة وإن عصيت ولم
ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار قال رضيت يا رب وأتحملها فقال الله عز وجل
عند ذلك قد حملتكها فذلك قوله تعالى: (وحملها الانسان) رواه ابن أبي حاتم وعن مجاهد أنه قال عرضها
على السماوات فقالت يا رب حملتني الكواكب وسكان السماء وما ذكر وما أريد ثوابا ولا أحمل فريضة قال
وعرضها على الأرض فقالت يا رب غرست في الأشجار وأجريت في الأنهار وسكان الأرض وما ذكر وما أريد ثوابا
ولا أحمل فريضة وقالت الجبال مثل ذلك قال الله تعالى: (وحملها الانسان إنه كان ظلوما جهولا)
530

في عاقبة. أمره وهكذا قال ابن جريج وعن ابن أشوع أنه قال لما عرض الله عليهن حمل الأمانة ضججن إلى الله ثلاثة أيام
ولياليهن وقلن ربنا لا طاقة لنا بالعمل ولا نريد الثواب ثم قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هارون بن زيد بن
أبي الزرقاء الموصلي حدثنا أبي حدثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذه الآية (إنا عرضنا الأمانة على
السماوات والأرض) الآية قال الانسان بين أذني وعاتقي فقال الله عز وجل إني معينك عليها إني معينك على
عينيك بطبقتين فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق ومعينك على لسانك بطبقتين فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق
ومعينك على فرجك بلباس فلا تكشفه إلى ما أكره ثم روي عن أبي حازم نحو هذا وقال ابن جرير حدثنا
يونس حدثنا ابن وهب قال قال ابن زيد في قول الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض
والجبال) الآية قال إن الله تعالى عرض عليهن الأمانة أن يفترض عليهن الدين ويجعل لهن ثوابا وعقابا ويستأمنهن
على الدين فقلن لا نحن مسخرات لأمرك لا نريد ثوابا ولا عقابا قال وعرضها الله تبارك وتعالى على آدم فقال بين
أذني وعاتقي قال ابن زيد فقال الله تعالى له: أما إذا تحملت هذا فسأعينك أجعل لبصرك حجابا فإذا خشيت أن
تنظر إلى ما لا يحل لك فأرخ عليه حجابه وأجعل للسانك بابا وغلقا فإذا خشيت فأغلق وأجعل لفرجك لباسا فلا
تكشفه إلا على ما أحللت لك وقال ابن جرير حدثني سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية حدثنا عيسى بن
إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء فأرسلوا به فمنهم رسول الله ومنهم نبي ومنهم نبي رسول
ونزل القرآن وهو كلام الله وأنزلت العجمية والعربية فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السنن بألسنتهم ولم يدع الله
تعالى شيئا من أمره مما يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم إلا بينه لهم فليس أهل لسان إلا وهم يعرفون
الحسن والقبيح ثم الأمانة أول شئ يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب الناس ثم يرفع الوفاء والعهد والذمم
وتبقى الكتب فعالم يعمل وجاهل يعرفها وينكرها ولا يحملها حتى وصل إلي وإلى أمتي ولا يهلك على الله إلا
هالك ولا يغفل إلا تارك فالحذر أيها الناس وإياكم والوسواس الخناس فإنما يبلوكم أيكم أحسن عملا "
هذا حديث غريب جدا وله شواهد من وجوه أخرى ثم قال ابن جرير حدثنا محمد بن خلف العسقلاني حدثنا
عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي حدثنا أبو العوام القطان حدثنا قتادة وأبان بن أبي عياش عن خليد العصري عن
أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خمس من جاء بهن يوم القيامة مع إيمان دخل الجنة: من
حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس
بها وكان يقول وأيم الله لا يفعل ذلك إلا مؤمن وأدى الأمانة " قالوا يا أبا الدرداء وما أداء الأمانة؟ قال رضي الله
عنه الغسل من الجنابة فإن الله تعالى لم يأمن ابن آدم على شئ من دينه غيره وهكذا رواه أبو داود عن محمد بن
عبد الرحمن العنبري عن عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن أبي العوام عمر بن داود القطان به وقال ابن جرير
أيضا حدثنا تميم بن المنتصر أخبرنا إسحاق عن شريك عن الأعمش عن عبد الله بن السائب عن زاذان عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال يكفر
كل شئ إلا الأمانة يؤتي بصاحب الأمانة فيقال له أد أمانتك فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له أد
أمانتك فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له أد أمانتك فيقول أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟
فيقول اذهبوا به إلى أمه الهاوية فيذهب به إلى الهاوية فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها
فيضعها على عاتقه فيصعد بها إلى شفير جهنم حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين "
قال والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الوضوء والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع فلقيت
البراء فقلت ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال صدق وقال شريك وحدثنا عياش العامري عن زاذان عن
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ولم يذكر الأمانة في الصلاة وفي كل شئ إسناده جيد ولم
531

يخرجوه ومما يتعلق بالأمانة الحديث الذي رواه الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب
عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة
نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة. ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال:
ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك تراه منتبرا وليس
فيه شئ قال: ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى
يقال إن في بني فلان رجلا أمينا حتى يقال للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان
ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلما ليردنه على دينه وإن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على
ساعيه فأما اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلانا وفلانا وأخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش به. وقال
الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة
وعفة طعمة هكذا رواه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما وقد قال
الطبراني في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حدثنا يحيى بن أيوب العلاف المصري حدثنا
سعيد بن أبي مريم حدثنا ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد عن ابن حجيرة عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا حفظ أمانة وصدق حديث وحسن خليقة وعفة طعمة " فزاد في
الاسناد ابن حجيرة وجعله في مسند ابن عمر رضي الله عنهما وقد ورد النهي عن الحلف بالأمانة قال عبد الله بن
المبارك في كتاب الزهد حدثنا شريك عن أبي إسحاق الشيباني عن خناس بن سحيم أو قال جبلة بن سحيم قال
أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي لا والأمانة فجعل زياد يبكي ويبكي فظننت أني أتيت أمرا
عظيما فقلت له أكان يكره هذا؟ قال نعم: كان عمر بن الخطاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهي وقد ورد في
ذلك حديث مرفوع قال أبو داود حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس حدثنا زهير حدثنا الوليد بن ثعلبة الطائي عن ابن
بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف بالأمانة فليس منا " تفرد به أبو داود رحمه الله.
وقوله تعالى: (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) أي إنما حمل بني آدم الأمانة وهي
التكاليف ليعذب الله المنافقين منهم والمنافقات وهم الذين يظهرون الايمان خوفا من أهله ويبطنون الكفر متابعة
لأهله (والمشركين والمشركات) وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله (ويتوب الله على
المؤمنين والمؤمنات) أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته
(وكان الله غفورا رحيما) آخر تفسير سورة الأحزاب ولله الحمد والمنة.
سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير (1) يعلم ما يلج
في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور (2)
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا
والآخرة المالك لجميع ذلك الحاكم في جميع ذلك كما قال تعالى (وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في
532

الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) ولهذا قال تعالى ههنا (الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في
الأرض) أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره قال تعالى: (وإن لنا للآخرة والأولى) ثم قال عز وجل
(وله الحمد في الآخرة) فهو المعبود أبدا المحمود على طول المدى وقوله تعالى: (وهو الحكيم) أي
في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره (الخبير) الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شئ وقال مالك عن الزهري
خبير بخلقه حكيم بأمره ولهذا قال عز وجل (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها) أي يعلم عدد القطر
النازل في أجزاء الأرض والحب المبذور والكامن فيها ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته (وما ينزل
من السماء) أي من قطر ورزق وما يعرج فيها أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك (وهو الرحيم الغفور) أي
الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة الغفور عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه.
وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربى لتأتينكم علم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات
ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتب مبين (3) ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات
أولئك لهم مغفرة ورزق كريم (4) والذين سعو فئ ايتنا معجزين أولئك لهم عذاب من رجز
أليم (5) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدى إلى صراط العزيز الحميد (6)
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد لما
أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد فإحداهن في سورة يونس عليه السلام وهي قوله تعالى: (ويستنبئونك أحق هو
قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين) والثانية هذه (وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم) والثالثة
في سورة التغابن وهي قوله تعالى: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك
على الله يسير) فقال تعالى: (قل بلى وربي لتأتينكم) ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره فقال: (عالم الغيب لا
يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) قال مجاهد وقتادة لا
يعزب عنه لا يغيب عنه أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شئ فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت فهو
عالم أين ذهبت وأين تفرقت ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شئ عليم ثم بين حكمته في إعادة الأبدان وقيام
الساعة بقوله تعالى: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة ورزق كريم * والذين سعوا في آياتنا
معاجزين) أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله (أولئك لهم عذاب من رجز أليم) أي لينعم
السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين كما قال عز وجل: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة
أصحاب الجنة هم الفائزون) وقال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم
نجعل المتقين كالفجار).
وقوله تعالى: (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها
وهي أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله
تعالى في الدنيا رأوه حينئذ عين اليقين ويقولون يومئذ أيضا (لقد جاءت رسل ربنا بالحق) يقال أيضا (هذا ما وعد
الرحمن وصدق المرسلون) (لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث) (ويرى الذين أوتوا العلم
الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد) العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا
يمانع بل قد قهر كل شئ وغلبه الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا.
وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفى خلق جديد (7) افترى على الله كذبا
533

أم به جنة بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلل البعيد (8) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم
من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لاية لكل عبد
منيب (9) *
هذا إخبار من الله عز وجل عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك (وقال
الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق) أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب
وتمزقت كل ممزق (إنكم) أي بعد هذا الحال (لفي خلق جديد) أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك وهو في هذا
الاخبار لا يخلو أمره من قسمين إما أن يكون قد تعمد الافتراء على الله تعالى أنه قد أوحى إليه ذلك أو أنه لم يتعمد لكن
لبس عليه كما يلبس على المعتوه والمجنون ولهذا قالوا: (أفترى على الله كذبا أم به جنة) قال الله عز وجل رادا عليهم
(بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد) أي ليس الامر كما زعموا ولا كما ذهبوا إليه بل محمد صلى الله عليه وسلم
هو الصالح البار الراشد الذي جاء بالحق وهم الكذبة الجهلة الأغبياء " (في العذاب) أي الكفر المفضي بهم إلى
عذاب الله تعالى (والضلال البعيد) من الحق في الدنيا ثم قال تعالى منبها لهم على قدرته في خلق السماوات
والأرض فقال تعالى: (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلقهم من السماء والأرض) أي حيثما توجهوا وذهبوا فالسماء
مظلة عليهم والأرض تحتهم كما قال عز وجل (والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون * والأرض فرشناها فنعم
الماهدون) قال عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة (أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من
السماء والأرض) قال إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك رأيت السماوات والأرض.
وقوله تعالى: (إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء) أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم
وقدرتنا عليهم ولكن نؤخر ذلك لحلمنا وعفونا ثم قال (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) قال معمر عن قتادة
(منيب) تائب وقال سفيان عن قتادة المنيب المقبل إلى الله تعالى أي إن في النظر إلى خلق السماوات والأرض
لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجاع إلى الله على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد لان من قدر على خلق
هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعراضها إنه لقادر على إعادة الأجسام
ونشر الرميم من العظام كما قال تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى)
وقال تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون)
ولقد آتينا داود من فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد (10) أن أعمل سبغت وقدر في السرد
واعملوا صلحا إني بما تعملون بصير (11)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة
والملك المتمكن والجنود ذوي العدد والعدد وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبح به تسبح معه
الجبال الراسيات الصم الشامخات وتقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات وتجاوبه بأنواع اللغات
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته ثم
قال صلى الله عليه وسلم: " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود " وقال أبو عثمان النهدي ما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا وتر
أحسن من صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ومعنى قوله تعالى (أوبي) أي سبحي قاله ابن عباس ومجاهد
وغير واحد وزعم أبو ميسرة أنه بمعنى سبحي بلسان الحبشة وفي هذا نظر فإن التأويب في اللغة هو الترجيع فأمرت الجبال
والطير أن ترجع معه بأصواتها وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي في كتابه - الجمل - في باب النداء منه
534

(يا جبال أوبي معه) أي سيري معه بالنهار كله والتأويب سير النهار كله والإساد سير الليل كله وهذا لفظه وهو
غريب جدا لم أره لغيره وإن كان له مساعدة من حيث اللفظ في اللغة لكنه بعيد في معنى الآية ههنا والصواب أن المعنى في قوله
تعالى (أوبي معه) أي رجعي معه مسبحة كما تقدم والله أعلم وقوله تعالى: (وألنا له الحديد) قال الحسن البصري
وقتادة والأعمش وغيرهم كان لا يحتاج أن يدخله نارا ولا يضربه بمطرقة بل كان يفتله بيده مثل الخيوط ولهذا قال
تعالى: (أن اعمل سابغات) وهي الدروع قال قتادة وهو أول من عملها من الخلق وإنما كانت قبل ذلك صفائح
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا ابن سماعة حدثنا ابن ضمرة عن ابن شوذب قال: كان داود عليه السلام
يرفع في كل يوم درعا فيبيعها بستة آلاف درهم ألفين له ولآله وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري
(وقدر في السرد) هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع قال مجاهد في قوله تعالى
(وقدر في السرد) لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر وقال الحكم بن عيينة لا
تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق وهكذا روي عن قتادة وغير واحد وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس السرد: هو
حلق الحديد وقال بعضهم يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق واستشهد بقول الشاعر.
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع السوابغ تبع
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة داود عليه الصلاة والسلام من طريق إسحاق بن بشر وفيه كلام عن أبي إلياس عن
وهب بن منبه ما مضمونه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكرا فيسأل الركبان عنه وعن سيرته فلا يسأل أحدا إلا أثنى
عليه خيرا في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام قال وهب حتى بعث الله تعالى ملكا في صورة رجل فلقيه داود عليه
الصلاة والسلام فسأله كما كان يسأل غيره فقال هو خير الناس لنفسه ولامته إلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملا
قال ما هي؟ قال يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين يعني بيت المال فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عز وجل
في الدعاء أن يعلمه عملا بيده يستغني به ويغني به عياله فألان الله عز وجل له الحديد وعلمه صنعة الدروع فعمل الدروع
وهو أول من عملها فقال الله تعالى: (أن اعمل سابغات وقدر في السرد) يعني مسامير الحلق قال وكان يعمل الدرع
فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله وأمسك الثلث يتصدق به يوما بيوم إلى أن
يعمل غيرها وقال إن الله تعالى أعطى داود شيئا لم يعطه غيره من حسن الصوت إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش
إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته عليه السلام
وكان شديد الاجتهاد وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير وكان قد أعطي سبعين مزمارا في حلقه
وقوله تعالى (واعملوا صالحا) أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم (إني بما تعملون بصير) أي مراقب لكم
بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى علي من ذلك شئ.
ولسليمان الريح غدوها شهرا ورواحها شهرا وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن
يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتمثيل وجفان كالجواب
وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليلا من عبادي الشكور (13)
لما ذكر تعالى ما أنعم به على داود عطف بذكر ما أعطى ابنه سليمان عليهما الصلاة والسلام من تسخير الريح له تحمل
بساطه غدوها شهر ورواحها شهر قال الحسن البصري كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بإصطخر يتغدى بها
ويذهب رائحا من إصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق واصطخر شهر كامل للمسرع وبين إصطخر وكابل شهر كامل
للمسرع وقوله تعالى (وأسلنا له عين القطر) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني
وقتادة والسدي ومالك عن زيد بن أسلم وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد القطر النحاس قال قتادة وكانت باليمن
535

فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام قال السدي وإنما أسيلت له ثلاثة أيام وقوله تعالى:
(ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه) أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه بإذن ربه أي بقدره وتسخيره لهم
بمشيئته ما يشاء من البنايات وغير ذلك (ومن يزغ منهم عن أمرنا) أي ومن يعدل ويخرج منهم عن الطاعة (نذقه من
عذاب السعير) وهو الحريق وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريبا فقال حدثنا أبي حدثنا أبو صالح حدثنا معاوية بن
صالح عن أبي الزهراء عن جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الجن على ثلاثة
أصناف صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء وصنف حياة وكلاب وصنف يحلون ويظعنون " رفعه غريب جدا وقال
أيضا حدثنا أبي حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني بكر بن مضر عن محمد بن بحير عن ابن أنعم أنه قال: الجن ثلاثة
أصناف صنف لهم الثواب وعليهم العقاب وصنف طيارون فيما بين السماء والأرض وصنف حياة وكلاب قال
بكر بن مضر ولا أعلم إلا أنه قال حدثني أن الانس ثلاثة أصناف صنف يظلهم الله بظل عرشه يوم القيامة وصنف
كالانعام بل هم أضل سبيلا وصنف في صور الناس على قلوب الشياطين وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا علي بن
هاشم بن مرزوق حدثنا سلمة يعني ابن الفضل عن إسماعيل عن الحسن قال الجن ولد إبليس والانس ولد أدم ومن
هؤلاء مؤمنون ومن هؤلاء مؤمنون وهم شركاؤهم في الثواب والعقاب ومن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله
تعالى ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان. وقوله تعالى: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل) أما
المحاريب فهي البناء الحسن وهو أشرف شئ في المسكن وصدره وقال مجاهد المحاريب بنيان دون القصور وقال
الضحاك هي المساجد وقال قتادة هي القصور والمساجد وقال ابن زيد هي المساكن وأما التماثيل فقال عطية العوفي
والضحاك والسدي التماثيل الصور قال مجاهد وكانت من نحاس وقال قتادة من طين وزجاج
وقوله تعالى: (وجفان كالجواب وقدور راسيات) الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء كما قال
الأعشى ميمون بن قيس:
تروح على آل المحلي جفنة * كجابية الشيخ العراقي تفهق
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما كالجواب أي كالجوبة من الأرض وقال العوفي عنه
كالحياض وكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم والقدور الراسيات أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا
تتحول عن أماكنها لعظمها كذا قال مجاهد والضحاك وغيرهما وقال عكرمة أثافيها منها وقوله تعالى: (اعملوا آل داود
شكرا) أي وقلنا لهم اعملوا شكرا على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا وشكرا مصدر من غير الفعل أو أنه مفعول
له وعلى التقديرين فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول والنية كما قال الشاعر.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة * يدي ولساني والضمير المحجبا
قال أبو عبد الرحمن السلمي الصلاة شكر والصيام شكر وكل خير تعمله لله عز وجل شكر وأفضل الشكر الحمد رواه ابن
جرير وروى هو وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح وهذا يقال لمن
هو متلبس بالفعل. وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولا وعملا قال ابن أبي حاتم حدثنا
أبي حدثنا عبد الله بن أبي بكر حدثنا جعفر يعني ابن سليمان عن ثابت البناني قال كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله
وولده ونسائه الصلاة فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فغمرتهم هذه الآية
(اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور) وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحب الصلاة إلى
الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم
يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى وقد روى أبو عبد الله بن ماجة من حديث سعيد بن داود حدثنا يوسف بن محمد بن
المنكدر عن أبيه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام لسليمان يا بني
536

لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيرا يوم القيامة وروى ابن أبي حاتم عن داود عليه الصلاة والسلام
ههنا أثرا غريبا مطولا جدا وقال أيضا حدثنا أبي حدثنا عمران بن موسى حدثنا أبو زيد قبيصة بن إسحاق الرقي قال: قال
فضيل في قوله تعالى: (اعملوا آل داود شكرا) قال داود يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال الآن شكرتني
حين قلت إن النعمة مني وقوله تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) إخبار عن الواقع.
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا
يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14)
يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام وكيف عمى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة فإنه مكث
متوكئا على عصاه وهي منسأته كما قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد مدة طويلة نحوا
من سنة فلما أكلتها دابة الأرض وهي الأرضة ضعفت وسقط إلى الأرض وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة تبينت
الجن والإنس أيضا أن الجن لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون ويوهمون الناس ذلك وقد ورد في ذلك حديث مرفوع
غريب وفي صحته نظر قال ابن جرير حدثنا أحمد بن منصور حدثنا موسى بن مسعود حدثنا أبو حذيفة حدثنا إبراهيم بن
طهمان عن عطاء عن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كان نبي الله
سليمان عليه السلام إذا صلى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها ما اسمك؟ فتقول كذا فيقول لأي شئ أنت فإن كانت
تغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت فبينما هو يصلى ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها ما اسمك؟ قالت
الخروب قال لأي شئ أنت؟ قالت لخراب هذا البيت فقال سليمان عليه السلام اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم
الانس أن الجن لا يعلمون الغيب فنحتها عصا فتوكأ عليها حولا ميتا والجن تعمل فأكلتها الأرضة فتبينت الانس أن
الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين قال وكان ابن عباس يقرؤها كذلك قال فشكرت الجن
للأرضة فكانت تأتيها بالماء وهكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث إبراهيم بن طهمان به وفي رفعه غرابة ونكارة والأقرب
أن يكون موقوفا وعطاء بن أبي مسلم الخراساني له غرابات وفي بعض حديثه نكارة وقال السدي في حديث ذكره عن
أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم قال: كان سليمان عليه الصلاة والسلام يتحرر في بيت المقدس
السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر فيدخل فيه ومعه طعامه وشرابه فأدخله في المرة التي توفي فيها
فكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا ينبت الله في بيت المقدس شجرة فيأتيها فيسألها فيقول ما اسمك فتقول
الشجرة اسمي كذا وكذا فإن كانت لغرس غرسها وإن كانت تنبت دواء قالت نبت دواء كذا وكذا فيجعلها كذلك حتى
نبتت شجرة يقال لها الخروبة فسألها ما اسمك قالت أنا الخروبة قال ولأي شئ نبت؟ قالت نبت لخراب هذا المسجد
قال سليمان عليه الصلاة والسلام ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها
وغرسها في حائط له ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات ولم تعلم به الشياطين وهم في ذلك يعملون
له يخافون أن يخرج عليهم فيعاقبهم وكانت الشياطين تجتمع حول المحراب وكان المحراب له كوى بين يديه وخلفه
فكان الشيطان الذي يريد أن يخلع يقول ألست جلدا إن دخلت فخرجت إن ذلك الجانب فيدخل حتى يخرج من
الجانب الآخر فدخل شيطان من أولئك فمر ولم يكن شيطان ينظر إلى سليمان عليه السلام في المحراب إلا احترق فمر
ولم يسمع صوت سليمان ثم رجع فلم يسمع ثم رجع فوقع في البيت ولم يحترق ونظر إلى سليمان عليه السلام قد سقط
ميتا فخرج فأخبر الناس أن سليمان قد مات ففتحوا عليه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها
الأرضة ولم يعلموا منذ كم مات فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها يوما وليلة ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد
مات منذ سنة وهي في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه فمكثوا يدينون له من بعد موته حولا كاملا فأيقن الناس عند
537

ذلك أن الجن كانوا يكذبونهم ولو أنهم يطلعون على الغيب لعلموا بموت سليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له
وذلك قول الله عز وجل (ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب
ما لبثوا في العذاب المهين) يقول تبين أمرهم للناس أنهم كانوا يكذبونهم ثم إن الشياطين قالوا للأرضة لو كنت
تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ولو كنت تشربين الشراب سقيناك أطيب الشراب ولكنا سننقل إليك الماء والطين قال
فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت قال ألم تر إلى الطين الذي يكون في جوف الخشب؟ فهو ما تأتيها به الشياطين
شكرا لها وهذا الأثر والله أعلم إنما هو مما تلقي من علماء أهل الكتاب وهي وقف لا يصدق منه إلا ما وافق الحق ولا
يكذب منها إلا ما خالف الحق والباقي لا يصدق ولا يكذب وقال ابن وهب وأصبغ بن الفرج عن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم في قوله تبارك وتعالى (ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته) قال: قال سليمان عليه السلام
لملك الموت إذا أمرت بي فأعلمني فأتاه فقال: يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه
صرحا من قوارير وليس له باب فقام يصلي فاتكأ على عصاه قال فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكئ على
عصاه ولم يصنع ذلك فرارا من ملك الموت قال والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي قال فبعث الله عز
وجل دابة الأرض قال والدابة تأكل العيدان يقال لها القادح فدخلت فيها فأكلتها حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل
عليها فخر ميتا فلما رأت ذلك الجن انفضوا وذهبوا قال فذلك قوله تعالى: (ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل
منسأته) قال أصبغ بلغني عن غيره أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر وذكر غير واحد من السلف نحوا من هذا والله
أعلم.
لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور
(15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناه بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل (16) ذلك جزيناه بما كفروا وهل نجزى إلا الكفور (17)
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها وكانت التبابعة منهم وبلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام من جملتهم وكانوا في
نعمة وغبطة في بلادهم وعيشهم واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم وبعث الله تبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن
يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ثم أعرضوا عما أمروا به فعوقبوا بإرسال السيل
والتفرق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفصيله وبيانه قريبا وبه الثقة قال الإمام أحمد رحمه
الله حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن وعلة قال سمعت ابن عباس يقول إن
رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل هو رجل ولد له عشرة فسكن اليمن منهم
ستة وبالشام منهم أربعة فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير وأما الشامية فلخم وجذام
وعاملة وغسان ورواه عن عبد عن الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به وهذا إسناد حسن ولم يخرجوه وقد رواه الحافظ أبو
عمر بن عبد البر في كتاب القصد والأمم بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم - من حديث ابن لهيعة عن علقمة بن
وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكر نحوه وقد روي نحوه من وجه آخر وقال الإمام أحمد أيضا وعبد بن حميد
حدثنا يزيد بن هارون حدثنا أبو حباب عن يحيى بن أبي حية الكلبي عن ابن هارون عن عروة عن فروة بن مسيك
رضي الله عنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فقاتل
بمقبل قومك مدبرهم فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتى تدعوهم إلى الاسلام فقلت يا رسول الله أرأيت سبأ
واد هو أو جبل أو ما هو؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا بل هو رجل من العرب ولد له عشرة فتيامن ستة وتشاءم أربعة تيامن الأزد
والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار الذين يقال لهم بجيلة وخثعم وتشاءم لخم وجذام وعاملة وغسان وهذا أيضا
538

إسناد حسن وإن كان فيه أبو جناب الكلبي وقد تكلموا فيه لكن رواه ابن جرير عن أبي كريب عن العنقري عن أسباط بن
نصر عن يحيى بن هانئ المرادي عن عمه أو عن أبيه - شك أسباط - قال قدم فروة بن مسيك رضي الله عنه على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فذكره (طريق أخرى) لهذا الحديث: قال ابن أبي حاتم حدثنا يونس بن عبد الاعلى حدثنا ابن وهب حدثني ابن
لهيعة عن توبة بن نمير عن عبد العزيز بن يحيى أنه أخبره قال كنا عند عبيدة بن عبد الرحمن بأفريقية فقال يوما ما أظن قوما
بأرض إلا وهم من أهلها فقال علي بن أبي رباح كلا قد حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قدم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن سبأ قوم كان لهم عز في الجاهلية وإني أخشى أن يرتدوا عن الاسلام أفأقاتلهم فقال
صلى الله عليه وسلم: ما أمرت فيهم بشئ بعد فأنزلت هذه الآية (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية) الآيات فقال له رجل يا رسول الله
ما سبأ؟ فذكر مثل الحديث الذي قبله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأ؟ ما هو أبلد أم رجل أم امرأة؟ قال صلى الله عليه وسلم: بل رجل
ولد له عشرة فسكن اليمن منهم ستة والشام أربعة أما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير غير ما
حلها وأما الشام فلخم وجذام وغسان وعاملة فيه غرابة من حيث ذكر نزول الآية بالمدينة والسورة مكية كلها والله سبحانه
وتعالى أعلم.
(طريق أخرى) قال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا أبو أسامة حدثنا الحسن بن الحكم حدثنا أبو سبرة النخعي عن
فروة بن مسيك الغطيفي رضي الله عنه قال: قال رجل يا رسول الله أخبرني عن سبأ ما هو أرض أم امرأة؟ قال صلى الله عليه وسلم
ليس بأرض ولا امرأة ولكنه رجل ولد له عشرة من الولد فتيامن ستة وتشاءم أربعة فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة
وغسان وأما الذين تيامنوا فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وحمير وأنمار فقال رجل ما أنمار؟ قال صلى الله عليه وسلم: الذين منهم
خثعم وبجيلة ورواه الترمذي في جامعه عن أبي كريب وعبد بن حميد قال حدثنا أبو أسامة فذكره أبسط من هذا ثم قال
هذا حديث حسن غريب وقال أبو عمر بن عبد البر حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا أحمد بن
زهير حدثنا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي حدثنا ابن كثير هو عثمان بن كثير عن الليث بن سعد عن موسى بن علي عن
يزيد بن حصين عن تميم الداري رضي الله عنه قال إن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن سبأ فذكر مثله فقوي هذا
الحديث وحسن قال علماء النسب - منهم محمد بن إسحاق - اسم سبأ عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان وإنما
سمي سبأ لأنه أول من سبأ في العرب وكان يقال له الرائش لأنه أول من غنم في الغزو فأعطى قومه فسمي الرائش
والعرب تسمي المال ريشا ورياشا وذكروا أنه بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم وقال في ذلك شعرا:
سيملك بعدنا ملك عظيم * نبي لا يرخص في الحرام ويملك بعده منهم ملوك
يدينوه القياد بكل دامي
ويملك بعدهم منا ملوك * يصير الملك فينا باقتسام
ويملك بعد قحطان نبي * تقي مخبت خير الأنام * يسمى أحمد يا ليت أني
أعمر بعد مبعثه بعام * فأعضده وأحبوه بنصري * بكل مدجج وبكل رام
متى يظهر فكونوا ناصريه * ومن يلقاه يبلغه سلامي
ذكر ذلك الهمذاني في كتاب - الإكليل - واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوال (أحدها) أنه من سلالة إرم بن سام بن
نوح واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق (والثاني) أنه من سلالة عابر وهو هود عليه الصلاة والسلام
واختلفوا أيضا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا (والثالث) أنه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل
عليهما الصلاة والسلام واختلفوا في كيفية اتصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضا وقد ذكر ذلك مستقصى الامام
الحافظ أبو عمر بن عبد البر النمري رحمة الله تعالى عليه في كتابه المسمى - الانباه على ذكر أصول القبائل الرواه
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: كان رجلا من العرب يعني العرب العاربة الذين كانوا قبل الخليل عليه الصلاة والسلام من سلالة
سام بن نوح وعلى القول الثالث كان من سلالة الخليل عليه السلام وليس هذا بالمشهور عندهم والله أعلم ولكن في
539

صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بنفر من أسلم ينتضلون فقال ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا فأسلم قبيلة
من الأنصار والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ - نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين
بعث الله عز وجل عليهم سيل العرم ونزلت طائفة منهم بالشام وإنما قيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قيل باليمن، وقيل
إنه قريب من المشلل كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
إما سألت فإنا معشر نجب * الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ولد له عشرة من العرب أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب
اليمن لا أنهم ولدوا من صلبه بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب
النسب ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة أي بعد ما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم منهم
من أقام ببلادهم ومنهم من نزح عنها إلى غيرها. وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضا
سيول أمطارهم وأوديتهم فعمد ملوكهم الأقادم فبنوا بينهما سدا عظيما محكما حتى ارتفع الماء وحكم على حافات ذينك
الجبلين فغرسوا الأشجار واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن كما ذكر غير واحد من السلف منهم قتادة أن
المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك
ما يملؤه من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف لكثرته ونضجه واستوائه وكان هذا السد بمأرب بلدة بينها وبين صنعاء
ثلاث مراحل ويعرف بسد مأرب وذكر آخرون أنه لم يكن ببلدهم شئ من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شئ من
الهوام وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج وعناية الله بهم ليوحدوه ويعبدوه كما قال تبارك وتعالى: (لقد كان لسبأ
في مسكنهم آية) ثم فسرها بقوله عز وجل: (جنتان عن يمين وشمال) أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك
(كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور) أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد وقوله تعالى
(فأعرضوا) أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله كما قال
الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام (وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها
عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا
يهتدون) وقال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه بعث الله تعالى إليهم ثلاثة عشر نبيا وقال السدي أرسل الله عز
وجل إليهم اثني عشر ألف نبي والله أعلم وقوله تعالى: (فأرسلنا عليهم سيل العرم) المراد بالعرم المياه وقيل
الوادي وقيل الجرذ وقيل الماء الغزير فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كرز حكى
ذلك السهيلي وذكر غير واحد منهم ابن عباس ووهب بن منبه وقتادة والضحاك أن الله عز وجل لما أراد عقوبتهم بإرسال
العرم عليهم بعث على السد دابة من الأرض يقال لها الجرذ نقبته قال وهب بن منبه وقد كانوا يجدون في كتبهم أن سبب
خراب هذا السد هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السنانير برهة من الزمان فلما جاء القدر غلبت الفأر السنانير وولجت إلى
السد فنقبته فانهار عليهم وقال قتادة وغيره الجرذ هو الخلد نقبت أسافله حتى إذا ضعف ووهى وجاءت أيام السيول صدم
الماء البناء فسقط فانساب الماء في أسفل الوادي وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ونضب الماء عن
الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال فيبست وتحطمت وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة كما قال الله
تبارك وتعالى (وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والحسن
وقتادة والسدي وهو الأراك وأكلة البربر (وأثل) قال العوفي عن ابن عباس هو الطرفاء وقال غيره هو شجر يشبه
الطرفاء وقيل هو السمر والله أعلم وقوله (وشئ من سدر قليل) لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر
قال (وشئ من سدر قليل) فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال
العميقة والأنهار الجارية تبدلت إلى شجر الأراك والطرقاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل، وذلك بسبب كفرهم
وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ولهذا قال تعالى (ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا
540

الكفور) أي عاقبناهم بكفرهم قال مجاهد ولا يعاقب إلا الكفور وقال الحسن البصري صدق الله العظيم لا يعاقب
بمثل فعله إلا الكفور وقال طاوس لا يناقش إلا الكفور وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا أبو عمر بن
النحاس الرملي حدثنا حجاج بن محمد حدثنا أبو البيداء عن هشام بن صالح التغلبي عن ابن خيرة وكان من أصحاب
علي رضي الله عنه قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة والضيق في المعيشة والتعسر في اللذة قيل وما التعسر في
اللذة؟ قال لا يصادف لذة حلالا إلا جاءه من ينغصه إياها.
وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين (18) فقالوا
ربنا بعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار
شكور (19)
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهنئ الرغيد والبلاد المرضية والأماكن الآمنة والقرى
المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها بحيث أن مسافرهم لا يحتاج إلى حمل
زاد ولا ماء بل حيث نزل وجد ماء وثمرا ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم
ولهذا قال تعالى (وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها) قال وهب بن منبه هي قرى بصنعاء وكذا قال أبو
مالك وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ومالك عن زيد بن أسلم وقتادة والضحاك والسدي وابن زيد وغيرهم
يعني قرى الشام يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة وقال العوفي عن ابن
عباس القرى التي باركنا فيها بيت المقدس وقال العوفي عنه أيضا هي قرى عربية بين المدينة والشام (قرى
ظاهرة) أي بينة واضحة يعرفها المسافرون يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى ولهذا قال تعالى: (وقدرنا فيها
السير) أي جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه (سيروا فيها ليالي وأياما آمنين) أي الامن حاصل لهم في
سيرهم ليلا ونهارا (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم) وقرأ آخرون (بعد بين أسفارنا) وذلك أنهم
بطروا هذه النعمة كما قاله ابن عباس ومجاهد والحسن وغير واحد وأحبوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى
الزاد والرواحل والسير في الحرور والمخاوف كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت
الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها مع أنهم كانوا في عيش رغيد في من وسلوى وما يشتهون من مآكل
ومشارب وملابس مرتفعة ولهذا قال لهم (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله) وقال عز وجل (وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها)
وقال تعالى: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها
الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) وقال تعالى في حق هؤلاء (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا
أنفسهم) أي بكفرهم (فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق) أي جعلناهم حديثا للناس وسمرا يتحدثون به
من خبرهم وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنئ تفرقوا في البلاد ههنا وههنا
ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ وتفرقوا شذر مذر
وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان حدثنا إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال سمعت أبي
يقول سمعت عكرمة يحدث بحديث أهل سبأ قال (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال - إلى
قوله تعالى - فأرسلنا عليهم سيل العرم) وكانت فيهم كهنة وكانت الشياطين يسترقون السمع فأخبروا الكهنة بشئ
من أخبار السماء فكان فيهم رجل كاهن شريف كثير المال وأنه خبر أن زوال أمرهم قد دنا وأن العذاب قد أظلهم
فلم يدر كيف يصنع لأنه كان له مال كثير من عقار فقال لرجل من بنيه وهو أعزهم أخوالا يا بني إذا كان غدا
541

وأمرتك بأمر فلا تفعله فإذا انتهرتك فانتهرني فإذا لطمتك فالطمني قال يا أبت لا تفعل إن هذا أمر عظيم وأمر
شديد، قال يا بني قد حدث أمر لا بد منه فلم يزل به حتى وافاه على ذلك فلما أصبحوا واجتمع الناس قال يا
بني افعل كذا وكذا فأبى فانتهره أبوه فأجابه فلم يزل ذلك بينهما حتى تناوله أبوه فلطمه فوثب على أبيه فلطمه فقال
ابني يلطمني؟ علي بالشفرة قالوا ما تصنع بالشفرة؟ قال أذبحه قالوا تريد أن تذبح ابنك؟ الطمه أو اصنع ما
بدا لك قال فأبى قال فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك فجاء أخواله فقالوا خذ منا ما بدا لك فأبى إلا أن يذبحه
قالوا فلتموتن قبل أن تذبحه قال فإذا كان الحديث هكذا فإني لا أرى أن أقيم ببلد يحال بيني وبين ابني فيه اشتروا
مني دوري اشتروا مني أرضي فلم يزل حتى باع دوره وأرضه وعقاره فلما صار الثمن في يده وأحرزه قال: أي قوم
إن العذاب قد أظلكم وزوال أمركم قد دنا فمن أراد منكم دارا جديدا وحمى شديدا وسفرا بعيدا فليلحق
بعمان ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير وكلمة - قال إبراهيم لم أحفظها - فليلحق ببصرى ومن أراد
الراسخات في الوحل المطعمات في المحل المغممات في القحل فليلحق بيثرب ذات نخل فأطاعه قومه
فخرج أهل عمان إلى عمان وخرجت غسان إلى بصرى وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات
النخل قال فأتوا على بطن مر فقال بنو عثمان هذا مكان صالح لا نبغي به بدلا فأقاموا به فسموا لذلك خزاعة
لانهم انخزعوا من أصحابهم واستقامت الأوس والخزرج حتى نزلوا المدينة وتوجه أهل عمان إلى عمان وتوجهت
غسان إلى بصرى هذا أثر غريب عجيب وهذا الكاهن هو عمرو بن عامر أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأ وكهانهم
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار في أول السيرة ما كان من أمر عمرو بن عامر الذي كان أول من خرج من بلاد
اليمن بسبب استشعاره بإرسال العرم عليهم فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامر من اليمن فيما حدثني به أبو
زيد الأنصاري أنه رأى جرذا يحفر في سد مأرب الذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاءوا من أرضهم
فعلم أنه لا بقاء للسد على ذلك فاعتزم على النقلة عن اليمن وكاد قومه فأمر أصغر ولده إذا أغلظ له لطمه أن يقوم
إليه فيلطمه ففعل ابنه ما أمره به فقال عمرو: لا أقيم ببلد لطم وجهي فيها أصغر ولدي وعرض أمواله فقال
أشراف من أشراف اليمن اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا منه أمواله وانتقل هو في ولده وولد ولده وقالت الأسد لا
نتخلف عن عمرو بن عامر فباعوا أموالهم وخرجوا معه فساروا حتى نزلوا بلاد عك مجتازين يرتادون البلدان
فحاربتهم عك وكانت حربهم سجالا ففي ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه:
وعك بن عدنان الذين تلعبوا * بغسان حتى طردوا كل مطرد
وهذا البيت من قصيدة له قال ثم ارتحلوا عنهم فتفرقوا في البلدان فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام
ونزلت الأوس والخزرج يثرب ونزلت خزاعة مرا ونزلت أزد السراة السراة ونزلت أزد عمان عمان ثم أرسل
الله تعالى على السد السيل فهدمه وفي ذلك أنزل الله عز وجل هذه الآيات وقد ذكر السدي قصة عمرو بن عامر
بنحو مما ذكر محمد بن إسحاق إلا أنه قال فأمر ابن أخيه مكان ابنه - إلى قوله - فباع ماله وارتحل بأهله فتفرقوا
رواه ابن أبي حاتم وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد أخبرنا سلمة عن ابن إسحاق قال يزعمون أن عمرو بن عامر
وهو عم القوم كان كاهنا فرأى في كهانته أن قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم فقال لهم إني قد علمت أنكم
ستمزقون فمن كان منكم ذا هم بعيد وحمل شديد ومزاد حديد فليلحق بكأس أو كرود قال فكانت
وادعة بن عمرو ومن كان منكم ذا هم مدن وأمر دعن فليلحق بأرض شن فكانت عوف بن عمرو هم الذين
يقال لهم بارق ومن كان منكم يريد عيشا آنيا وحرما آمنا فليلحق بالأرزين فكانت خزاعة ومن كان منكم يريد
الراسيات في الوحل المطمعات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس والخزرج وهما هذان
الحيان من الأنصار ومن كان منكم يريد خمرا وخميرا وذهبا وحريرا وملكا وتأميرا فليلحق بكوثى
وبصرى فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ومن كان منهم بالعراق قال ابن إسحاق وقد سمعت بعض أهل
542

العلم يقول إنما قالت هذه المقالة طريقة امرأة عمرو بن عامر وكانت كاهنة فرأت في كهانتها ذلك فالله أعلم أي
ذلك كان. وقال سعيد عن قتادة عن الشعبي: أما غسان فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق بالشام وأما
الأنصار فلحقوا بيثرب وأما خزاعة فلحقوا بتهامة وأما الأزد فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق. رواه ابن أبي
حاتم وابن جرير ثم قال محمد بن إسحاق حدثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة واسمه ميمون بن
قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوة * ومأرب قفى عليها العرم
رجام بنته لهم حمير * إذا جاء ماؤهم لم يرم
فأروى الزروع وأعنابها * على سعة ماؤهم إذ قسم
فصاروا أيادي ما يقدرون * منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب وتبديل
النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام لعبرة ودلالة لكل عبد صبار على المصائب شكور
على النعم. قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن وعبد الرزاق المعني قالا أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق عن
العيزار بن حريث عن عمر بن سعد عن أبيه هو سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر يؤجر
المؤمن في كل شئ حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته ". وقد رواه النسائي في اليوم والليلة من حديث أبي
إسحاق السبيعي به وهو حديث عزيز من رواية عمر بن سعد عن أبيه ولكن له شاهد في الصحيحين من حديث أبي
هريرة رضي الله عنه " عجبا للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان
خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك لاحد إلا للمؤمن ". قال عبد حدثنا يونس عن سفيان
عن قتادة (إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) قال كان مطرف يقول: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي
شكر وإذا ابتلي صبر.
ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين (20) وما كان له عليهم من سلطن إلا لنعلم من
يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك وربك على كل شئ حفيظ (21)
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس
والهوى وخالف الرشاد والهدى فقال (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه) قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره هذه
الآية كقوله تعالى: إخبارا عن إبليس حين امتنع من السجود لآدم عليه الصلاة والسلام ثم قال (أرأيتك هذا الذي
كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا) وقال (ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم
وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) والآيات في هذا كثيرة وقال الحسن البصري لما أهبط
الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء هبط إبليس فرحا بما أصاب منهما وقال إذا أصبت من الأبوين ما
أصبت فالذرية أضعف وأضعف وكان ذلك ظنا من إبليس فأنزل الله عز وجل: (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه
فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين) فقال عند ذلك إبليس لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح أعده وأمنيه وأخدعه
فقال الله تعالى وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت ولا يدعوني إلا أجبته ولا يسألني إلا
أعطيته ولا يستغفرني إلا غفرت له رواه ابن أبي حاتم. وقوله تبارك وتعالى: (وما كان له عليهم من سلطان)
قال ابن عباس رضي الله عنهما أي من حجة وقال الحسن البصري والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شئ
543

وما كان إلا غرورا وأماني دعاهم إليها فأجابوه. وقوله عز وجل (إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في
شك) أي إنما سلطناه عليهم ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة وقيامها والحساب فيها والجزاء فيحسن عبادة ربه عز
وجل في الدنيا ممن هو منها في شك.
وقوله تعالى (وربك على كل شئ حفيظ) أي ومع حفظه ضل من ضل من اتباع إبليس وبحفظه وكلاءته سلم
من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.
قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك
وما له منهم من ظهير (22) ولا تنفع الشفعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال
ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير (23) *
بين تبارك وتعالى أنه الاله الواحد الاحد الفرد الصمد الذي لا نظير له ولا شريك له بل هو المستقل بالامر وحده
من غير مشارك ولا منازع ولا معارض فقال (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله) أي من الآلهة التي عبدت من
دونه (لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض) كما قال تبارك وتعالى: (والذين تدعون من دونه ما
يملكون من قطمير). وقوله تعالى (وما لهم فيهما من شرك) أي لا يملكون شيئا استقلالا ولا على سبيل
الشركة (وما له منهم من ظهير) أي وليس لله من هذه الأنداد من ظهير يستظهر به في الأمور بل الخلق كلهم
فقراء إليه عبيد لديه قال قتادة في قوله عز وجل (وما له منهم من ظهير) من عون يعينه بشئ ثم قال تعالى
(ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) أي لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في
شئ إلا بعد إذنه له في الشفاعة كما قال عز وجل (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) وقال جل وعلا (وكم من
ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) وقال تعالى: (ولا
يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
سيد ولد آدم وأكبر شفيع عند الله تعالى أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم أن يأتي ربهم
لفصل القضاء قال " فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني ويفتح علي بمحامد لا أحصيها الآن ثم يقال
يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع " الحديث بتمامه. وقوله تعالى (حتى إذا فزع عن
قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق) وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع
أهل السماوات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي. قاله ابن مسعود رضي الله عنه ومسروق وغيرهما
(حتى إذا فزع عن قلوبهم) أي زال الفزع عنها قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وأبو عبد الرحمن
السلمي والشعبي وإبراهيم النخعي والضحاك والحسن وقتادة في قوله عز وجل (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا
ماذا قال ربكم قالوا الحق) يقول خلى عن قلوبهم وقرأ بعض السلف وجاء مرفوعا إذا فرغ بالغين المعجمة
ويرجع إلى الأول فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضا ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم
الذين يلونهم لمن تحتهم حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ولهذا قال تعالى (قالوا الحق) أي أخبروا
بما قال من غير زيادة ولا نقصان (وهو العلي الكبير). وقال آخرون بل معنى قوله تعالى (حتى إذا فزع عن
قلوبهم) يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ورجعت إليهم
عقولهم يوم القيامة قالوا ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم الحق وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا قال ابن أبي
نجيح عن مجاهد (حتى إذا فزع عن قلوبهم) كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن (حتى إذا فزع
عن قلوبهم) يعني ما فيها من الشك والتكذيب وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (حتى إذا فزع عن
544

قلوبهم) يعني ما فيها من الشك قال فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم (قالوا ماذا قال
ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير) قال وهذا في بني آدم هذا عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الاقرار وقد اختار
ابن جرير القول الأول أن الضمير عائد على الملائكة وهذا هو الحق الذي لامرية فيه لصحة الأحاديث فيه
والآثار ولنذكر منها طرفا يدل على غيره. قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه حدثنا
الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة قال سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول إن نبي الله صلى الله عليه وسلم
قال " إذا قضى الله تعالى الامر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا
فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق
السمع هكذا بعضه فوق بعض - ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من
تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها
وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدق بتلك
الكلمة التي سمعت من السماء " انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم من هذا الوجه وقد رواه ابن داود والترمذي
وابن ماجة من حديث سفيان بن عيينة به والله أعلم (حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر وعبد
الرزاق قالا حدثنا معمر أخبرنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه قال عبد الرزاق من الأنصار فرمي بنجم فاستنار فقال صلى الله عليه وسلم " ما كنتم تقولون إذا كان
مثل هذا في الجاهلية؟ " قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم. قلت للزهري أكان يرمى بها في الجاهلية؟
قال نعم ولقد غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته
ولكن ربنا تبارك وتعالى إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح
السماء الدنيا ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش
ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء وتخطف الجن السمع
فيرمون فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يفرقون فيه ويزيدون " هكذا رواه الإمام أحمد وقد أخرجه
مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبيد الله أربعتهم عن الزهري عن
علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل من الأنصار به وقال يونس عن رجال من الأنصار رضي
الله عنهم وكذا رواه النسائي في التفسير من حديث الزبيدي عن الزهري به ورواه الترمذي فيه عن الحسين بن
حريث عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما عن
رجل من الأنصار رضي الله عنه والله أعلم.
(حديث آخر) قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف وأحمد بن منصور بن سيار الرمادي والسياق لمحمد بن
عوف قالا حدثنا نعيم بن حماد حدثنا الوليد هو ابن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله بن أبي
زكريا عن رجاء بن حياة عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله تبارك وتعالى
أن يوحى بأمره تكلم بالوحي فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة من خوف الله تعالى
فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام
فيكلمه الله من وحيه بما أراد فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة كلما مر بسماء سماء يسأله
ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول عليه السلام قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل
فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض " وكذا رواه ابن جرير وابن خزيمة عن
زكريا بن أبان المصري عن نعيم بن حماد به. وقال ابن أبي حاتم سمعت أبي يقول: ليس هذا الحديث بالتام
عن الوليد بن مسلم رحمه الله وقد روى ابن أبي حاتم من حديث العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن
545

قتادة أنهما فسرا هذه الآية بابتداء إيحاء الله تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم بعد الفترة التي كانت بينه وبين عيسى عليه
الصلاة والسلام ولا شك أن هذا أولى ما دخل في هذه الآية.
قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلل مبين (24) قل لا تسئلون عما
أجرمنا ولا نسئل عما تعملون (25) قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم (26) قل أروني
الذين ألحقتم به شركاء كلا بل هو الله العزيز الحكيم (27)
يقول تعالى مقررا تفرده بالخلق والرزق وانفراده بالإلهية أيضا فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء
والأرض أي بما ينزل من المطر وينبت من الزرع إلا الله فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره وقوله تعالى (وإنا أو
إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) هذا من باب اللف والنشر أي واحد من الفريقين مبطل والآخر محق لا
سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال بل واحد منا مصيب ونحن قد أقمنا البرهان على
التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى ولهذا قال (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال
مبين). قال قتادة قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين والله ما نحن وإياكم على أمر واحد إن أحد
الفريقين لمهتد وقال عكرمة وزياد بن أبي مريم معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين. وقوله تعالى
(قل لا تسئلون عما أجرمنا ولا نسئل عما تعملون) معناه التبري منهم أي لستم منا ولا نحن منكم بل ندعوكم
إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراد العبادة له فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء
منا كما قال تعالى (فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا برئ مما تعملون).
وقال عز وجل (قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم *
ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين). وقوله تعالى: (قل يجمع بيننا ربنا) أي يوم القيامة يجمع بين
الخلائق في صعيد واحد ثم يفتح بيننا بالحق أي يحكم بيننا بالعدل فيجزي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن
شرا فشر وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية كما قال تعالى (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون
* فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون * وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك
في العذاب محضرون) ولهذا قال عز وجل (وهو الفتاح العليم) أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور.
وقوله تبارك وتعالى: (قل أروني الذين ألحقتم به شركاء) أي أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أندادا
وصيرتموها له عدلا (كلا) أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل ولهذا قال تعالى: (بل هو الله)
. أي الواحد الاحد الذي لا شريك له (العزيز الحكيم) أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شئ وغلبت كل
شئ الحكيم في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علوا كبيرا والله أعلم.
وما أرسلنا إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (28) ويقولون متى هذا الوعد إن
كنتم صادقين (29) قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون (30)
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم تسليما (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) أي إلا إلى جميع
الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) (تبارك الذي نزل
الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) (بشيرا ونذيرا) أي تبشر من أطاعك بالجنة وتنذر من عصاك بالنار
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) كقوله عز وجل (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (وإن تطع أكثر من
في الأرض يضلوك عن سبيل الله) قال محمد بن كعب في قوله تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس) يعنى إلى
546

الناس عامة وقال قتادة في هذه الآية أرسل الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم فأكرمهم على الله تبارك
وتعالى أطوعهم لله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو عبد الله الظهراني حدثنا حفص بن عمر العدني حدثنا
الحكم يعني ابن أبان عن عكرمة قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: إن الله تعالى فضل محمدا صلى الله عليه وسلم
على أهل السماء وعلى الأنبياء. قالوا يا ابن عباس فبم فضله الله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى
قال (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) وقال النبي صلى الله عليه وسلم (وما أرسلناك إلا كافة للناس) فأرسله
الله تعالى إلى الجن والإنس. وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما قد ثبت في الصحيحين رفعه عن جابر
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة
شهر وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم
تحل لاحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " وفي الصحيح
أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " بعثت إلى الأسود والأحمر " قال مجاهد يعني الجن والإنس وقال غيره يعني العرب
والعجم والكل صحيح. ثم قال عز وجل مخبرا عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة (ويقولون متى هذا الوعد
إن كنتم صادقين) وهذه الآية كقوله عز وجل (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها
ويعلمون أنها الحق) الآية ثم قال قال تعالى: (قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون) أي لكم
ميعاد مؤجل ممدود لا يزاد ولا ينقص فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم كما قال تعالى: (إن أجل الله إذا جاء لا
يؤخر) وقال عز وجل: (وما نؤخره إلا لأجل ممدود * يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد)
وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالتي بين يديه ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم
إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين
استضعفوا أنحن صددنكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين
استكبروا بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا
العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون (33)
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الايمان بالقرآن وبما أخبر به من أمر
المعاد ولهذا قال تعالى (وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه) قال الله عز وجل متهددا
لهم ومتوعدا ومخبرا عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم (يرجع بعضهم إلى بعض القول
يقول الذين استضعفوا) وهم الاتباع (للذين استكبروا) منهم وهم قادتهم وسادتهم (لولا أنتم لكنا مؤمنين)
أي لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل وآمنا بما جاءونا به فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا (أنحن
صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم)؟ أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا
برهان وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بهم الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك ولهذا قالوا (بل كنتم
مجرمين * وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار) أي بل كنتم تمكرون بنا ليلا ونهارا
وتغرونا وتمنونا وتخبرونا أنا على هدى وأنا على شئ فإذا جميع ذلك باطل وكذب ومين قال قتادة وابن زيد (بل
مكر الليل والنهار) يقول بل مكركم بالليل والنهار وكذا قال مالك عن زيد بن أسلم مكركم بالليل والنهار (إذ
تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا) أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبها وأشياء من المحال تضلونا بها
(وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) أي الجميع من السادة والاتباع كل ندم على ما سلف منه (وجعلنا الأغلال
547

في أعناق الذين كفروا) وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم (هل يجزون إلا ما كانوا يعملون) أي
إنما نجازيكم بأعمالكم كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم وللاتباع بحسبهم (قال لكل ضعف ولكن لا
تعلمون) قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء حدثنا محمد بن سليمان بن الأصبهاني عن
أبي سنان ضرار بن صرد عن عبد الله بن أبي الهذيل عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن
جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها ثم لفحتهم لفحة فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب " وحدثنا أبي حدثنا
أحمد بن أبي الحواري حدثنا الطيب أو الحسن عن الحسن بن يحيى الخشني قال ما في جهنم دار ولا مغار ولا
غل ولا قيد ولا سلسلة إلا اسم صاحبها عليها مكتوب قال فحدثته أبا سليمان يعني الداراني رحمة الله عليه فبكى
ثم قال ويحك فكيف به لو جمع هذا كله عليه فجعل القيد في رجليه والغل في يديه والسلسلة في عنقه ثم أدخل
النار وأدخل المغار؟ اللهم سلم.
وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون (34) وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا
وما نحن بمعذبين (35) قل إن ربى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون (36) وما
أموالكم ولا أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صلحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا
وهم في الغرفات آمنون (37) والذين يسعون فئ ايتنا معجزين أولئك في العذاب محضرون (38) قل إن
ربى يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين (39)
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم وآمرا له بالتأسي بمن قبله من الرسل ومخبره بأنه ما بعث نبيا في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه
ضعفاؤهم كما قال قوم نوح عليه الصلاة والسلام (أنؤمن لك واتبعك الأرذلون) (وما نراك اتبعك إلا الذين هم
أراذلنا بادي الرأي) وقال الكبراء من قوم صالح (للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه
قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون * قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون) وقال عز وجل (وكذلك فتنا بعضهم
ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين) وقال تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية
أكابر مجرميها ليمكروا فيها) وقال جل وعلا (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها
تدميرا) وقال جل وعلا ههنا (وما أرسلنا في قرية من نذير) أي نبي أو رسول (إلا قال مترفوها) وهم أولوا النعمة
والحشمة والثروة والرياسة قال قتادة هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر (إنا بما أرسلتم به كافرون) أي لا
نؤمن به ولا نتبعه. قال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا محمد بن عبد الوهاب عن
سفيان عن عاصم عن أبي رزين قال كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم
كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل. فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم قال فترك تجارته
ثم أتى صاحبه فقال دلني عليه قال وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إلى م تدعو؟ قال: " أدعو
إلى كذا وكذا " قال أشهد أنك رسول الله قال صلى الله عليه وسلم " وما علمك بذلك؟ " قال إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس
ومساكينهم قال فنزلت هذه الآية (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) الآية قال
فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل تصديق ما قلت وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل
قال فيها وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم فزعمت بل ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل. وقوله تبارك وتعالى إخبارا
عن المترفين المكذبين (وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين) أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد واعتقدوا
أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة وهيهات لهم
548

ذلك قال الله تعالى (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون) وقال تبارك
وتعالى: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون)
وقال عز وجل (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه
كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا) وقد أخبر الله عز وجل عن صاحب تينك الجنتين أنه كان ذا مال وثمر وولد ثم لم يغن
عنه شيئا بل سلب ذلك كله في الدنيا قبل الآخرة ولهذا قال عز وجل ها هنا (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر)
أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب فيفقر من يشاء ويغني من يشاء وله الحكمة التامة البالغة والحجة القاطعة الدامغة
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ثم قال تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى) أي ليست هذه
دليلا على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم. قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا كثير حدثنا جعفر حدثنا يزيد بن الأصم عن أبي
هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم " ورواه مسلم وابن ماجة من حديث كثير بن هشام عن جعفر بن برقان به ولهذا قال الله تعالى: (إلا من
آمن وعمل صالحا) أي إنما يقربكم عندنا زلفى الايمان والعمل الصالح (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) أي
تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف (وهم في الغرفات آمنون) أي في منازل الجنة العالية آمنون
من كل بأس وخوف وأذى ومن كل شر يحذر منه. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي حدثنا
القاسم وعلي بن مسهر عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن في الجنة لغرفا ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها " فقال أعرابي لمن هي؟ قال صلى الله عليه وسلم " لمن طيب الكلام
وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام " (والذين يسعون في آياتنا معاجزين) أي يسعون في الصد عن
سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته (فأولئك في العذاب محضرون) أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها
بحسبهم. وقوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي بحسب ماله في ذلك من
الحكمة يبسط على هذا من المال كثيرا ويضيق على هذا ويقتر على هذا رزقه جدا وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركها
غيره كما قال تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا) أي كما هم متفاوتون
في الدنيا هذا فقير مدقع وهذا غنى موسع عليه فكذلك هم في الآخرة هذا في الغرفات في أعلى الدرجات وهذا في
الغمرات في أسفل الدرجات وأطيب الناس في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه "
رواه مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقوله تعالى: (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) أي مهما أنفقتم من
شئ فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب كما ثبت في الحديث
" يقول الله تعالى أنفق أنفق عليك " وفي الحديث أن ملكين يصبحان كل يوم يقول أحدهما اللهم أعط ممسكا تلفا ويقول
الآخر: اللهم أعط منفقا خلفا وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش إقلالا " وقال ابن أبي حاتم
حدثنا أبي عن يزيد بن عبد العزيز الفلاس حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال بلغني عن حذيفة رضي الله
عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذار الانفاق " ثم تلا
هذه الآية (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين) وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي حدثنا روح بن حاتم
حدثنا هشيم عن الكوثر بن حكيم عن مكحول قال بلغني عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا إن
بعد زمانكم هذا زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده حذار الانفاق " قال الله تعالى: (وما أنفقتم من شئ فهو
يخلفه وهو خير الرازقين) وفى الحديث " شرار الناس يبايعون كل مضطر ألا إن بيع المضطرين حرام ألا إن بيع
المضطرين حرام المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله إن كان عندك معروف فعد به على أخيك وإلا فلا تزده هلاكا
إلى هلاكه " هذا حديث غريب من هذا الوجه وفى إسناده ضعف وقال سفيان الثوري عن أبي يونس
الحسن بن يزيد قال: قال مجاهد لا يتأولن أحدكم هذه الآية (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) إذا كان عند
549

أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه فإن الرزق مقسوم
ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون (40) قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا
يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون (41) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا
ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون (42)
يخبر تعالى أنه يقرع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم
يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى فيقول للملائكة (أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) أي أنتم
أمرتم هؤلاء بعبادتكم كما قال تعالى في سورة الفرقان (أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل) وكما يقول
لعيسى عليه الصلاة والسلام " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما
ليس لي بحق " وهكذا تقول الملائكة (سبحانك) أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله (أنت ولينا من
دونهم) أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء (بل كانوا يعبدون الجن) يعنون الشياطين لانهم هم الذين زينوا لهم
عبادة الأوثان وأضلوهم (أكثرهم بهم مؤمنون) كما قال تبارك وتعالى (إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا
شيطانا مريدا لعنه الله) قال الله عز وجل (فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا) أي لا يقع لكم نفع ممن كنتم
ترجون نفعه اليوم من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم اليوم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرا
(ونقول للذين ظلموا) وهم المشركون (ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون) أي يقال لهم ذلك تقريعا
وتوبيخا.
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا
إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين (43) وما آتيناهم من كتب يدرسونها
وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير (44) وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار وما آتيناهم فكذبوا رسلي
فكيف كان نكير (45) *
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون منه العقوبة والأليم من العذاب لانهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات يسمعونها
غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم) يعنون أن دين آبائهم هو
الحق وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل عليهم وعلى آبائهم لعائن الله تعالى (وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى)
يعنون القرآن (وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين) قال الله تعالى (وما آتيناهم من كتب
يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير) أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن وما أرسل إليهم نبيا قبل
محمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا يودون ذلك ويقولون لو جاءنا نذير أو أنزل علينا كتاب لكنا أهدى من غيرنا فلما من الله علينا
بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه ثم قال تعالى (وكذب الذين من قبلهم) أي من الأمم (وما بلغوا معشار ما آتيناهم)
قال ابن عباس رضي الله عنهما أي من القوة في الدنيا وكذا قال قتادة والسدي وابن زيد كما قال تعالى (ولقد مكناهم
فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شئ إذ كانوا
يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون * أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم
كانوا أكثر منهم وأشد قوة) أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله ولهذا قال
(فكذبوا رسلي فكيف كان نكير) أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي.
قل إنما أعظكم بوحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين
550

يدي عذاب شديد (46)
يقول تبارك وتعالى قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون (إنما أعظكم بواحدة) أي إنما آمركم بواحدة
وهي (أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) أي تقوموا قياما خالصا لله عز وجل من غير هوى ولا
عصبية فيسأل بعضكم بعضا هل بمحمد من جنون فينصح بعضكم بعضا (ثم تتفكروا) أي ينظر الرجل لنفسه في أمر
محمد صلى الله عليه وسلم ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكر في ذلك ولهذا قال تعالى: (أن تقوموا لله مثنى
وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة) هذا معنى ما ذكره مجاهد ومحمد بن كعب والسدي وقتادة وغيرهم وهذا هو
المراد من الآية فأما الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي هشام بن عمار حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عثمان
بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول " أعطيت
ثلاثا لم يعطهن أحد قبلي ولا فخر: أحلت لي الغنائم ولم تحل لمن قبلي كانوا قبلي يجمعون غنائمهم فيحرقونها
وبعثت إلى كل أحمر وأسود وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أتيمم بالصعيد
وأصلي فيها حيث أدركتني الصلاة قال الله تعالى: (أن تقوموا لله مثنى وفرادى) وأعنت بالرعب مسيرة شهر بين
يدي " فهو حديث ضعيف الاسناد وتفسير الآية بالقيام في الصلاة في جماعة وفرادى بعيد ولعله مقحم في الحديث من
بعض الرواة فإن أصله ثابت في الصحاح وغيرها والله أعلم.
وقوله تعالى: (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال البخاري عندها حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد
ابن حازم حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم
الصفا ذات يوم فقال " يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش فقالوا مالك؟ فقال " أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو
يمسيكم أما كنتم تصدقوني " قالوا بلى! قال صلى الله عليه وسلم " فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " فقال أبو لهب تبا لك ألهذا
جمعتنا " فأنزل الله عز وجل (تبت يدا أبي لهب وتب) وقد تقدم عند قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين). وقال
الإمام أحمد حدثني أبو نعيم حدثنا بشير بن المهاجر حدثني عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خرج إلينا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فنادى ثلاث مرات فقال: " أيها الناس أتدرون ما مثلي ومثلكم؟ " قالوا الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم
" إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم فبينما هو كذلك أبصر العدو فأقبل لينذرهم وخشي
أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه أيها الناس أوتيتم أيها الناس أوتيتم " ثلاث مرات وبهذا الاسناد قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة جميعا إن كادت لتسبقني " تفرد به الإمام أحمد في مسنده.
قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجرى إلا على الله وهو على كل شئ شهيد (47) قل إن ربى يقذف بالحق
علم الغيوب (48) قل جاء الحق وما يبدئ البطل وما يعيد (49) قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن
اهتديت فبما يوحى إلى ربى إنه سميع قريب (50)
يقول تعالى آمرا رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين (ما سألتكم من أجر فهو لكم) أي لا أريد منكم جعلا ولا عطاء على
أداء رسالة الله عز وجل إليكم ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله (إن أجري إلا على الله) أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله
(وهو على كل شئ شهيد) أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه. وقوله عز
وجل: (قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب) كقوله تعالى: (يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) أو يرسل
الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض وهو علام الغيوب فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض. وقوله تبارك
وتعالى (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) أي جاء الحق من الله والشرع العظيم وذهب الباطل زهق واضمحل كقوله
551

تعالى: (بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق) ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ووجد
تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة جعل يطعن الصنم منها بسية قوسه ويقرأ (وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقا) (قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وحده عند هذه الآية كلهم
من حديث الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عبد الله بن سخبرة عن ابن مسعود رضي الله عنه به أي لم يبق
للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة وزعم قتادة والسدي أن المراد بالباطل ها هنا إبليس أنه لا يخلق أحدا ولا يعيده
ولا يقدر على ذلك وهذا وإن كان حقا ولكن ليس هو المراد ههنا والله أعلم. وقوله تبارك وتعالى (قل إن ضللت فإنما
أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) أي الخير كله من عند الله وفيما أنزله الله عز وجل من الوحي والحق
المبين فيه الهدى والبيان والرشاد ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما سئل
عن تلك المسألة في المفوضة أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله
بريئان منه. وقوله تعالى: (إنه سميع قريب) أي سميع لأقوال عباده قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه وقد روى
النسائي ههنا حديث أبي موسى الذي في الصحيحين " إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا ".
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (51) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان
بعيد (52) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد (53) وحيل بينهم وبين ما يشتهون وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل
بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب (54)
يقول تبارك وتعالى (ولو ترى) يا محمد إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة (فلا فوت) أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ
(وأخذوا من مكان قريب) أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب بل أخذوا من أول وهلة. قال الحسن البصري حين
خرجوا من قبورهم وقال مجاهد وعطية العوفي وقتادة من تحت أقدامهم وعن ابن عباس رضي الله عنهما والضحاك
يعني عذابهم في الدنيا وقال عبد الرحمن بن زيد يعني قتلهم يوم بدر والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة وهو الطامة
العظمى وإن كان ما ذكر متصلا بذلك وحكى ابن جرير عن بعضهم قال إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة
والمدينة في أيام بني العباس رضي الله عنهم. ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية ثم لم ينبه على ذلك وهذا أمر
عجيب غريب منه (وقالوا آمنا به) أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله كما قال تعالى: (ولو ترى إذ
المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون) ولهذا قال تعالى (وأنى
لهم التناوش من مكان بعيد) أي كيف لهم تعاطي الايمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة وهي
دار الجزاء لا دار الابتلاء فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى
قبول الايمان كما لا سبيل إلى حصول الشئ لمن يتناوله من بعيد. قال مجاهد (وأنى لهم التناوش) قال التناول
لذلك وقال الزهري التناوش تناولهم الايمان وهم في الآخرة وقد انقطعت عنهم الدنيا وقال الحسن البصري أما إنهم
طلبوا الامر من حيث لا ينال تعاطوا الايمان من مكان بعيد وقال ابن عباس رضي الله عنهما طلبوا الرجعة إلى الدنيا
والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة. وكذا قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله. وقوله تعالى: (وقد
كفروا به من قبل) أي كيف يحصل لهم الايمان في الآخرة وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل (ويقذفون بالغيب
من مكان بعيد) قال مالك عن زيد بن أسلم (ويقذفون بالغيب) قال بالظن قلت كما قال تعالى: (رجما بالغيب)
فتارة يقولون شاعر وتارة يقولون كاهن وتارة يقولون ساحر وتارة يقولون مجنون إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة
ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد (ويقولون إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) قال قتادة ومجاهد يرجمون بالظن لا
بعث ولا جنة ولا نار. وقوله تعالى: (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما يعني
552

الايمان وقال السدي (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) وهي التوبة وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله. وقال مجاهد
(وحيل بينهم وبين ما يشتهون) من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل وروي نحوه عن ابن عمر وابن عباس والربيع بن
أنس رضي الله عنهم وهو قول البخاري وجماعة والصحيح أنه لا منافاة بين القولين فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في
الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه. وقد ذكر ابن أبي حاتم ههنا أثرا غريبا عجيبا جدا فلنذكره بطوله فإنه قال:
حدثنا محمد بن يحيى حدثنا بشر بن حجر الشامي حدثنا علي بن منصور الأنباري عن الرقي بن قطامي عن سعيد بن
طريف عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) إلى آخر الآية
قال كان رجل من بني إسرائيل فاتحا إن يتح الله تعالى له مالا فمات فورثه ابن له تافه أي فاسد فكان يعمل في مال الله
تعالى بمعاصي الله تعالى عز وجل فلما رأى ذلك أخوات أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه فضجر الفتى فباع عقاره بصامت ثم
رحل فأتى عينا بحاجة فسرح فيها ماله وابتنى قصرا فبينما هو ذات يوم جالس إذ شملت عليه ريح بامرأة من أحسن الناس
وجها وأطيبهم أرجا أي ريحا فقالت من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا امرؤ من بني إسرائيل قالت فلك هذا القصر وهذا
المال؟ فقال نعم. قالت فهل لك من زوجة؟ قال لا. قالت فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك؟ قال قد كان ذاك قال
فهل لك من بعل؟ قالت لا قال فهل لك إلى أن أتزوجك؟ قالت إني امرأة منك على مسيرة ميل فإذا كان غد فتزود زاد يوم
وائتني وإن رأيت في طريقك هولا فلا يهولنك فلما كان من الغد تزود زاد يوم وانطلق فانتهى إلى قصر فقرع رتاجة فخرج
إليه شاب من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا أي ريحا فقال من أنت يا عبد الله؟ فقال أنا الإسرائيلي قال فما حاجتك؟
قال دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها قال صدقت قال فهل رأيت في الطريق هولا؟ قال نعم ولولا أنها أخبرتني أن
لا بأس علي لهالني الذي رأيت قال ما رأيت؟ قال أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بكلبة فاتحة فاها ففزعت فوثبت
فإذا أنا من ورائها وإذا جراؤها ينبحن في بطنها فقال له الشاب لست تدرك هذا هذا يكون في آخر الزمان يقاعد الغلام
المشيخة في مجلسهم ويسرهم حديثه قال ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بمائة عنز حفل وإذا فيها جدي
يمصها فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة فقال لست تدرك هذا هذا يكون في آخر الزمان ملك
يجمع صامت الناس كلهم حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة قال ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل
إذا أنا بشجر فأعجبني غصن من شجرة منها ناضرة فأردت قطعة فنادتني شجرة أخرى يا عبد الله مني فخذ حتى ناداني
الشجر أجمع: يا عبد الله منى فخذ فقال لست تدرك هذا هذا يكون في آخر الزمان يقل الرجال ويكثر النساء حتى أن
الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن قال ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل فإذا أنا برجل قائم
على عين يغرف لكل إنسان من الماء فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشئ قال لست تدرك
هذا هذا يكون في آخر الزمان القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله تعالى قال ثم أقبلت حتى إذا
انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها وإذا رجل قد أخذ بقرنيها وإذا رجل قد أخذ بذنبها وإذا راكب قد
ركبها وإذا رجل يحتلبها فقال أما العنز فهي الدنيا والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها وأما الذي قد أخذ بقرنيها
فهو يعالج من عيشها ضيقا وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه وأما الذي ركبها فقد تركها وأما الذي يحلبها فبخ
بخ ذهب ذلك بها قال ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل يمتح على قليب كلما أخرج دلوه صبه في
الحوض فانساب الماء راجعا إلى القليب قال هذا رجل رد الله عليه صالح عمله فلم يقبله قال ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي
السبيل إذا أنا برجل يبذر بذرا فيستحصد فإذا حنطة طيبة قال هذا رجل قبل الله صالح عمله وأزكاه له. قال ثم أقبلت حتى
إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل مستلق على قفاه قال يا عبد الله ادن منى فخذ بيدي وأقعدني فوالله ما قعدت منذ خلقني
الله تعالى فأخذت بيده فقام يسعى حتى ما أراه فقال له الفتى هذا عمر الابعد نقد وأنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك أمرني الله
تعالى بقبض روح الابعد في هذا المكان ثم أصيره إلى نار جهنم قال ففيه نزلت هذه الآية (وحيل بينهم وبين ما يشتهون) الآية
هذا أثر غريب وفي صحته نظر وتنزيل الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا كما
553

جرى لهذا المغرور المفتون ذهب يطلب مراده فجاءه ملك الموت فجأة بغتة وحيل بينه وبين ما يشتهي. وقوله تعالى:
(كما فعل بأشياعهم من قبل) أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم
يقبل منهم (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله
التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون). وقوله تبارك وتعالى (إنهم كانوا في شك مريب) أي كانوا في
الدنيا في شك وريبة فلهذا لم يتقبل منهم الايمان عند معاينة العذاب. قال قتادة إياكم والشك والريبة فإن من مات على
شك بعث عليه ومن مات على يقين بعث عليه. آخر تفسير سورة سبأ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولى أجنحة مثنى وثلث وربع يزيد في الخلق ما يشاء
إن الله على كل شئ قدير (1)
قال سفيان الثوري عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت لا أدري ما فاطر السماوات
والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما لصاحبه أنا فطرتها أي بدأتها وقال ابن عباس رضي الله عنهما
أيضا (فاطر السماوات والأرض) أي بديع السماوات والأرض وقال الضحاك كل شئ في القرآن فاطر السماوات والأرض فهو خالق السماوات
والأرض. وقوله تعالى: (جاعل الملائكة رسلا) أي بينه وبين أنبيائه (أولي أجنحة)
أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعا (مثنى وثلاث ورباع) أي منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له
أربعة ومنهم من له أكثر من ذلك كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة الاسراء وله ستمائة
جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ولهذا قال جل وعلا (يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شئ
قدير) قال السدي يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء وقال الزهري وابن جريج في قوله تعالى: (يزيد في الخلق
ما يشاء) يعنى حسن الصوت رواه عن الزهري البخاري في الأدب وابن أبي حاتم في تفسيره وقرئ
في الشاذ (يزيد في الحلق) بالحاء المهملة والله أعلم.
ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم (2)
يخبر تعالى أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع قال الإمام أحمد حدثنا علي بن
عاصم حدثنا مغيرة أخبرنا عامر عن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال إن معاوية كتب إلى المغيرة بن شعبة: اكتب لي بما
سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني المغيرة فكتبت إليه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا انصرف من الصلاة " لا إله إلا
الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا
ينفع ذا الجد منك الجد " وسمعته ينهى عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال. وعن وأد البنات وعقوق
الأمهات ومنع وهات. وأخرجاه من طرق عن وراد به وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول " سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء
والأرض وملء ما شئت من شئ بعد اللهم أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما
أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " وهذه الآية كقوله تبارك وتعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا
554

كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله) ولها نظائر كثيرة. وقال الامام مالك رحمة الله عليه كان أبو هريرة رضي
الله عنه إذا مطروا يقول مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ هذه الآية (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا
مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) ورواه ابن أبي حاتم عن يونس عن ابن وهب عنه.
يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خلق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى
تؤفكون (3)
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فليفرد
بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ولهذا قال تعالى: (لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) أي فكيف
تؤفكون بعد هذا البيان ووضوح هذا البرهان وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان والله أعلم.
وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك وإلى الله ترجع الأمور (4) يا أيها الناس إن وعد الله حق فلا تغرنكم
الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور (5) إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب
السعير (6)
يقول تبارك وتعالى وإن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيها جئتهم به من التوحيد فلك فيمن سلف
قبلك من الرسل أسوة فإنهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم (وإلى الله ترجع
الأمور) أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء. ثم قال تعالى: (يا أيها الناس إن وعد الله حق) أي المعاد كائن لا
محالة (فلا تغرنكم الحياة الدنيا) أي العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا
تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية (ولا يغرنكم بالله الغرور) وهو الشيطان قاله ابن عباس رضي الله عنهما أي لا
يفتنكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرار كذاب أفاك وهذه الآية كالآية التي في آخر
لقمان (فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) وقال مالك عن زيد بن أسلم هو الشيطان كما قال المؤمنون
للمنافقين يوم القيامة حين يضرب (بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب * ينادونهم ألم نكن
معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور) ثم بين
تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) أي هو مبارز لكم بالعداوة فعادوه أنتم أشد
العداوة وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به (إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) أي إنما يقصد أن يضلكم حتى
تدخلوا معه إلى عذاب السعير فهذا هو العدو المبين نسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان وأن يرزقنا اتباع
كتابه والاقتفاء بطريق رسوله إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير وهذه كقوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس
للظالمين بدلا).
الذين كفروا لهم عذاب شديد والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر كبير (7) أفمن زين له سوء عمله
فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرت إن الله عليم بما يصنعون (8)
لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد لانهم أطاعوا الشيطان
وعصوا الرحمن وأن الذين آمنوا بالله ورسله (وعملوا الصالحات لهم مغفرة) أي لما كان منهم من ذنب (وأجر كبير)
على ما عملوه من خير ثم قال تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) يعني كالكفار والفجار يعملون أعمالا سيئة
555

وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا أي أفمن كان هكذا قد أضله الله ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه
(فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء) أي بقدره كان ذلك (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) أي لا تأسف
على ذلك فإن الله حكيم في قدره إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي لماله في ذلك من الحجة البالغة والعلم التام
ولهذا قال تعالى: (إن الله عليم بما يصنعون). وقال ابن أبي حاتم عند هذه الآية حدثنا أبي حدثنا محمد بن عوف
الحمصي حدثنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني أو ربيعة عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائط بالطائف يقال له الوهط قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله تعالى
خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ومن أخطأه منه ضل فلذلك أقول جف
القلم على ما علم الله عز وجل " ثم قال حدثنا محمد بن عبدة القزويني حدثنا حسان بن حسان البصري حدثنا
إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي عن سعيد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى رضي الله عنه
قال خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " الحمد لله الذي يهدي من الضلالة ويلبس الضلالة على من أحب " وهذا أيضا
حديث غريب جدا.
والله الذي أرسل الريح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور (9) من كان
يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصلح يرفعه والذين يمكرون السيئات لهم
عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور (10) والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزوجا وما تحمل من أنثى ولا
تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتب إن ذلك على الله يسير (11)
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها كما في أول سورة الحج ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك
فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها (اهتزت وربت وأنبتت من
كل زوج بهيج) كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها أنزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعا ونبتت
الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض ولهذا جاء في الصحيح " كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق
ومنه يركب " ولهذا قال تعالى: (كذلك النشور) وتقدم في الحج حديث أبي رزين قلت يا رسول الله كيف يحيي الله
الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلى الله عليه وسلم " يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلا ثم مررت به يهتز خضرا؟ " قلت
بلى قال صلى الله عليه وسلم " فكذلك يحيي الله الموتى ". وقوله تعالى: (من كان يريد العزة فلله العزة جميعا) أي من كان يحب أن
يكون عزيزا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده لان الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وله العزة
جميعا كما قال تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)
وقال عز وجل (ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا) وقال جل جلاله (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن
المنافقين لا يعلمون) قال مجاهد (من كان يريد العزة) بعبادة الأوثان (فإن العزة لله جميعا) وقال قتادة (من كان
يريد العزة فإن العزة لله جميعا) أي فليتعزز بطاعة الله عز وجل وقيل من كان يريد علم العزة لمن هي (فإن العزة لله
جميعا) وحكاه ابن جرير. وقوله تبارك وتعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب) يعني الذكر والتلاوة والدعاء قاله غير
واحد من السلف. وقال ابن جرير حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي أخبرني جعفر بن عون عن عبد الرحمن بن
عبد الله المسعودي عن عبد الله بن المخارق عن أبيه المخارق بن سليم قال: قال لنا عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه
إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى إن العبد المسلم إذا قال سبحان الله وبحمده والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر تبارك الله أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من
الملائكة إلا استغفروا لقائلهن حتى يجئ بهن وجه الله عز وجل ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه (إليه يصعد الكلم الطيب
556

والعمل الصالح يرفعه) وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا سعيد بن الجريري عن عبد الله بن شقيق
قال: قال كعب الأحبار إن لسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لدويا حول العرش كدوي النحل يذكرن
لصاحبهن والعمل الصالح في الخزائن، وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار رحمة الله عليه وقد روي مرفوعا. قال
الإمام أحمد حدثنا ابن نمير حدثنا موسى يعني ابن أبي مسلم الطحان عن عون بن عبد الله عن أبيه أو عن أخيه عن
النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الذين يذكرون الله من جلال الله من تسبيحه وتكبيره وتحميده
وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شئ يذكر
به " وهكذا رواه ابن ماجة عن أبي بشر بكر بن خلف عن يحيى بن سعيد القطان عن موسى بن أبي مسلم الطحان عن
عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبيه أو عن أخيه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه به. وقوله تعالى: (والعمل
الصالح يرفعه) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما الكلم الطيب ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عز
وجل والعمل الصالح أداء الفريضة فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عز
وجل ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به وكذا قال مجاهد العمل الصالح يرفعه
الكلام الطيب وكذا قال أبو العالية وعكرمة وإبراهيم النخعي والضحاك والسدي والربيع بن أنس وشهر بن حوشب وغير
واحد وقال إياس بن معاوية القاضي لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام وقال الحسن وقتادة لا يقبل قول إلا بعمل.
وقوله تعالى (والذين يمكرون السيئات) قال مجاهد وسعيد بن جبير وشهر بن حوشب هم المراءون بأعمالهم يعني
يمكرون بالناس يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عز وجل يراءون بأعمالهم (ولا يذكرون الله إلا
قليلا) وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هم المشركون والصحيح أنها عامة والمشركون داخلون بطريق الأولى
ولهذا قال تعالى: (لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور) أي يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لاولي البصائر
والنهي فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله
تعالى رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي أما المؤمنون المتفرسون فلا
يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية. وقوله تبارك وتعالى (والله خلقكم من
تراب ثم من نطفة) أي ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين (ثم جعلكم أزواجا) أي ذكرا
وأنثى لطفا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجا من جنسكم لتسكنوا إليها وقوله عز وجل (وما تحمل من أنثى ولا تضع
إلا بعلمه) أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شئ بل (ما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات
الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: (الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما
تغيض الأرحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال) وقوله عز وجل (وما يعمر
من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) أي ما يعطي بعض النطف من العمر الطويل يعلمه وهو عنده في الكتاب
الأول (وما ينقص من عمره) الضمير عائد على الجنس لا على العين لان الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى
لا ينقص من عمره وإنما عاد الضمير على الجنس قال ابن جرير وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه أي ونصف ثوب آخر
وروي من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في
كتاب إن ذلك على الله يسير) يقول ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد
قضيت ذلك له فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر والحياة يبالغ العمر
ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له فذلك قوله تعالى: (ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير)
يقول كل ذلك في كتاب عنده وهكذا قال الضحاك بن مزاحم وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه (ولا ينقص
من عمره إلا في كتاب) قال ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها ألا ترى الناس
يعيش الانسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا وقال قتادة والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين
557

سنة وقال مجاهد (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق الخلق
على عمر واحد بل لهذا عمر ولهذا عمر هو أنقص من عمره فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ وقال بعضهم بل
معناه (وما يعمر من معمر) أي ما يكتب من الاجل (ولا ينقص من عمره) وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند
الله تعالى سنة بعد سنة وشهرا بعد شهر وجمعة بعد جمعة ويوما بعد يوم وساعة بعد ساعة الجميع مكتوب عند الله
تعالى في كتابه. نقله ابن جرير عن أبي مالك وإليه ذهب السدي وعطاء الخراساني واختار ابن جرير الأول وهو كما
قال وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان قال سمعت ابن وهب
يقول حدثني يونس عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من سره أن يبسط له
في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود من حديث يونس بن يزيد الأيلي به.
وقال ابن أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الوليد حدثنا الوليد بن الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو سرح حدثنا
عثمان بن عطاء عن مسلمة بن عبد الله عن عمه أبي مسجعة بن ربعي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ذكرنا عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الله تعالى لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد
فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر " وقوله عز وجل (إن ذلك على الله يسير) أي سهل عليه
يسير لديه علم بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته فإن علمه شامل للجميع لا يخفى عليه شئ منها.
وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية
تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون (12)
يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة خلق البحرين العذب الزلال وهو هذه الأنهار السارحة
بين الناس من كبار وصغار بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والامصار والعمران والبراري والقفار وهي عذبة سائغ
شرابها لمن أراد ذلك (وهذا ملح أجاج) أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار وإنما تكون مالحة
زعافا مرة ولهذا قال (وهذا ملح أجاج) أي مر ثم قال تعالى: (ومن كل تأكلون لحما طريا) يعني السمك
(وتستخرجون حلية تلبسونها) كما قال عز وجل (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان) وقوله
جل وعلا (وترى الفلك فيه مواخر) أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهو
صدره وقال مجاهد تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام وقوله جلا وعلا (لتبتغوا من فضله)
أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر. وإقليم إلى إقليم (ولعلكم تشكرون) أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم
هذا الخلق العظيم وهو البحر تتصرفون فيه كيف شئتم وتذهبون أين أردتم ولا يمتنع عليكم شئ منه بل بقدرته قد
سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض الجميع من فضله ورحمته.
يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كل يجرى لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين
تدعون من دونه ما يملكون من قطمير (13) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاؤكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم
القيمة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير (14) *
وهذا أيضا من قدرته التامة وسلطانه العظيم في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر
هذا فيعتدلان ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول هذا ويقصر هذا ثم يتقارضان صيفا وشتاء (وسخر الشمس والقمر)
أي والنجوم السيارات والثوابت الثاقبات بأضوائهن أجرام السماوات الجميع يسيرون بمقدار معين. وعلى منهاج
558

مقنن محرر تقديرا من عزيز عليم (كل يجري لأجل مسمى) أي إلى يوم القيامة (ذلكم الله ربكم) أي الذي فعل
هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره (والذين تدعون من دونه) أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من
تزعمون من الملائكة المقربين (ما يملكون من قطمير) قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وعكرمة وعطاء وعطية
العوفي والحسن وقتادة وغيرهم القطمير هو: اللفافة التي تكون على نواة التمرة أي لا يملكون من السماوات والأرض شيئا
ولا بمقدار هذا القطمير ثم قال تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) يعني الآلهة التي تدعونها من دون الله لا
تسمع دعاءكم لأنها جماد لا أرواح فيها (ولو سمعوا ما استجابوا لكم) أي لا يقدرون على شئ مما تطلبون منها
(ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي يتبرؤون منكم كما قال تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا
يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء بعبادتهم كافرين) وقال تعالى:
(واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا * كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا) وقوله تعالى (ولا ينبئك
مثل خبير) أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها قال قتادة يعني نفسه تبارك وتعالى
أخبر بالواقع لا محالة.
يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنى الحميد (15) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد (16) وما
ذلك على الله بعزيز (17) ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى
إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير (18)
يخبر تعالى بغنائه عما سواه وبافتقار المخلوقات كلها إليه وتذللها بين يديه فقال تعالى: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى
الله) أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات وهو تعالى الغني عنهم بالذات ولهذا قال عز وجل (والله هو
الغني الحميد) أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه. وقوله
تعالى: (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد) أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم. وما هذا عليه بصعب
ولا ممتنع ولهذا قال تعالى: (وما ذلك على الله بعزيز). وقوله تعالى: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) أي يوم القيامة
(وإن تدع مثقلة إلى حملها) أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه
(لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى) أي وإن كان قريبا إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها كل مشغول بنفسه وحاله قال
عكرمة في قوله تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها) الآية قال هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة فيقول يا رب سل هذا
لم كان يغلق بابه دوني وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة فيقول له يا مؤمن إن لي عندك يدا قد عرفت كيف كنت
لك في الدنيا وقد احتجت إليك اليوم فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه حتى يرده إلى منزل دون منزله وهو في النار وإن
الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني أي والد كنت لك؟ فيثني خيرا فيقول له يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من
حسناتك أنجو بها مما ترى فيقول له ولده يا أبت ما أيسر ما طلبت ولكني أتخوف مثل ما تتخوف فلا أستطيع أن أعطيك
شيئا ثم يتعلق بزوجته فيقول يا فلانة أو يا هذه أي زوج كنت لك فتثني خيرا فيقول لها إني أطلب إليك حسنة واحدة
تهبيها لي لعلي أنجو بها مما ترين. قال فتقول ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئا إني أتخوف مثل الذي
تتخوف يقول الله تعالى: (وإن تدع مثقلة إلى حملها) الآية ويقول تبارك وتعالى: (لا يجزي والد عن ولده ولا
مولود هو جاز عن والده شيئا) ويقول تعالى: (يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ
شأن يغنيه) رواه ابن أبي حاتم رحمه الله عن أبي عبد الله الظهراني عن حفص بن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة
به ثم قال تبارك وتعالى: (إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة) أي إنما يتعظ بما جئت به أولو
البصائر والنهي الخائفون من ربهم الفاعلون ما أمرهم به (ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه) أي ومن عمل صالحا فإنما
559

يعود نفعه على نفسه (وإلى الله المصير) أي وإليه المرجع والمآب وهو سريع الحساب وسيجزي كل عامل بعمله إن
خيرا فخير وإن شرا فشر.
وما يستوى الأعمى والبصير (19) ولا الظلمات ولا النور (20) ولا الظل ولا الحرور (21) وما يستوى الاحياء
ولا الا موت إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (22) إن أنت إلا نذير (23) إنا
أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم
رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتب المنير (25) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير (26)
يقول تعالى كما لا تستوى هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير لا يستويان بل بينهما فرق وبون كثير وكما لا
تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور كذلك لا تستوي الاحياء ولا الأموات وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين
وهم الاحياء وللكافرين وهم الأموات كقوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن
مثله في الظلمات ليس بخارج منها) وقال عز وجل (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان
مثلا) فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات
ذات الظلال والعيون والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج منها بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا
والآخرة حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم.
وقوله تعالى: (إن الله يسمع من يشاء) أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها (وما أنت بمسمع من في
القبور) أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها كذلك هؤلاء
المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ولا تستطيع هدايتهم (إن أنت إلا نذير) أي إنما عليك البلاغ
والانذار والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء. (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) أي بشيرا للمؤمنين ونذيرا للكافرين
(وإن من أمة إلا خلا فيها نذير) أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر وأزاح عنهم
العلل كما قال تعالى: (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) وكما قال تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله
واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) الآية والآيات في هذا كثيرة. وقوله تعالى:
(وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات) وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات
(وبالزبر) وهي الكتب (وبالكتاب المنير) أي الواضح البين (ثم أخذت الذين كفروا) أي ومع هذا كله كذب
أولئك رسلهم فيما جاءوهم به فأخذتم أي بالعقاب والنكال (فكيف كان نكير) أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيما
شديدا بليغا والله أعلم.
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف
ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والا نعم مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من
عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28)
يقول تعالى منبها على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشئ الواحد وهو الماء الذي ينزله من السماء
يخرج به ثمرات مختلفا ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض إلى غير ذلك من ألوان الثمار كما هو مشاهد من تنوع
ألوانها وطعومها وروائحها كما قال تعالى: في الآية الأخرى (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع
560

ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الاكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) وقوله
تبارك وتعالى: (ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها) أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو
المشاهد أيضا من بيض وحمر وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة مختلفة الألوان أيضا. قال ابن عباس رضي
الله عنهما الجدد الطرائق وكذا قال أبو مالك والحسن وقتادة والسدي ومنها غرابيب سود قال عكرمة الغرابيب الجبال
الطوال السود وكذا قال أبو مالك وعطاء الخراساني وقتادة وقال ابن جرير والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد
قالوا أسود غربيب ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى: (وغرابيب سود)
أي سود غرابيب وفيما قاله نظر وقوله تعالى: (ومن الناس والدواب والانعام مختلف ألوانه كذلك) أي كذلك
الحيوانات من الناس والدواب وهو كل ما دب على القوائم والانعام من باب عطف الخاص على العام كذلك هي
مختلفة أيضا فالناس منهم بربر وحبوش وطماطم في غاية السواد وصقالبة وروم في غاية البياض والعرب بين ذلك
والهنود دون ذلك ولهذا قال تعالى: في الآية الأخرى (واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)
وكذلك الدواب والانعام مختلفة الألوان حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد منهم مختلف الألوان بل الحيوان
الواحد يكون أبلق فيه من هذا اللون وهذا اللون فتبارك الله أحسن الخالقين. وقد قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده
حدثنا الفضل بن سهل حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان بن صالح حدثنا زياد بن عبد الله عن عطاء بن السائب عن سعد بن
جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أيصبغ ربك قال صلى الله عليه وسلم " نعم صبغا لا ينفض أحمر
وأصفر وأبيض " وروي مرسلا وموقوفا والله أعلم. ولهذا قال تعالى: بعد هذا (إنما يخشى الله من عباده العلماء) أي
إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم الموصوف بصفات الكمال
المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) قال الذين يعلمون أن الله
على كل شئ قدير. وقال ابن لهيعة عن ابن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس قال: العالم بالرحمن من عباده من لم
يشرك شيئا وأحل حلاله وحرم حرامه وحفظ وصيته وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله وقال سعيد بن جبير الخشية هي
التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل وقال الحسن البصري العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغب الله
فيه وزهد فيما سخط الله فيه ثم تلا الحسن (إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور) وعن ابن مسعود
رضي الله عنه أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال أحمد بن صالح المصري عن
ابن وهب عن مالك قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله في القلب. قال أحمد بن صالح
المصري معناه أن الخشية لا تدرك بكثرة الرواية وإنما العلم الذي فرض الله عز وجل أن يتبع فإنما هو الكتاب والسنة وما
جاء عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من أئمة المسلمين فهذا لا يدرك إلا بالرواية ويكون تأويل قوله: نور يريد به
فهم العلم ومعرفة معانيه. وقال سفيان الثوري عن أبي حيان التيمي عن رجل قال: كان يقال العلماء ثلاثة عالم بالله
عالم بأمر الله وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله
تعالى ويعلم الحدود والفرائض والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض والعالم
بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عز وجل.
ن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور (29)
ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور (30)
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والانفاق مما رزقهم الله
تعالى في الأوقات المشروعة ليلا ونهارا سرا وعلانية (يرجون تجارة لن تبور) أي يرجون ثوابا عند الله لا بد من
561

حصوله كما قدمنا في أول التفسير عند فضائل القرآن أنه يقول لصاحبه إن كل تاجر من وراء تجارته وإنك اليوم من وراء
كل تجارة ولهذا قال تعالى: (ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات
لم تخطر لهم (إنه غفور) أي لذنوبهم (شكور) للقليل من أعمالهم. قال قتادة كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه
الآية يقول هذه آية القراء قال الإمام أحمد حدثنا أبو عبد الرحمن حدثنا حياة حدثنا سالم بن غيلان قال: إنه سمع دراجا
أبا السمح يحدث به أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الله تعالى
إذا رضي عن العبد أثنى عليه بسبعة أصناف من الخير لم يعمله وإذا سخط على العبد أثنى عليه بسبعة أضعاف من الشر
لم يعمله) غريب جدا.
والذي أوحينا إليك من الكتب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31)
يقول تعالى (والذي أوحينا إليك) يا محمد من الكتاب وهو القرآن (هو الحق مصدقا لما بين يديه) أي من الكتب
المتقدمة بصدقها كما شهدت هي له بالتنويه وأنه منزل من رب العالمين (إنه بعباده لخبير بصير) أي هو خبير بهم بصير
بمن يستحق ما يفضله به على من سواه ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر وفضل النبيين بعضهم على بعض
ورفع بعضهم درجات وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ثم أورثنا الكتب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن
الله ذلك هو الفضل الكبير (32)
يقول تعالى: ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم المصدق لما بين يديه من الكتب الذين اصطفينا من عبادنا وهم هذه
الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه) وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب
لبعض المحرمات (ومنهم مقتصد) هو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض
المكروهات (ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات
وبعض المباحات. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من
عبادنا) قال هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله فظالمهم يغفر له ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا
وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب وقال أبو القاسم الطبراني حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبد الرحمن بن معاوية
العتبي قالا حدثنا أبو الطاهر بن السرح حدثنا موسى بن عبد الرحمن الصنعاني حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " قال ابن عباس رضي الله عنهما السابق بالخيرات
يدخل الجنة بغير حساب والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة
محمد صلى الله عليه وسلم وكذا روي عن غير واحد من السلف أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج
وتقصير. وقال آخرون بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب.
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا علي بن هاشم بن مرزوق حدثنا ابن عيينة عن عمرو عن ابن عباس رضي الله عنهما
(فمنهم ظالم لنفسه) قال هو الكافر وكذا روى عنه عكرمة وبه قال عكرمة أيضا فيما رواه ابن جرير وقال ابن أبي نجيع عن
مجاهد في قوله تعالى: (فمنهم ظالم لنفسه) قال هم أصحاب المشأمة وقال مالك عن زيد بن أسلم والحسن.
وقتادة هو المنافق ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة وهذه الأقسام الثلاثة كالاقسام الثلاثة المذكورة في أول سورة
الواقعة وآخرها والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة وهذا اختيار ابن جرير كما هو ظاهر الآية وكما جاءت به
الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضا ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر.
(الحديث الأول) قال الإمام أحمد حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن الوليد بن العيزار أنه سمع رجلا من ثقيف
562

يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية (ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) قال: " هؤلاء كلهم بمنزلة
واحدة وكلهم في الجنة " هذا حديث غريب من هذا الوجه وفي إسناده من لم يسم وقد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من
حديث شعبة به نحوه ومعنى قوله بمنزلة واحدة أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة وإن كان بينهم فرق في
المنازل في الجنة (الحديث الثاني) قال الإمام أحمد حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا أنس بن عياض الليثي أبو حمزة عن
موسى بن عقبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " قال الله
تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) فأما
الذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حسابا يسيرا وأما الذين
ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلافاهم الله برحمته فهم الذين يقولون (الحمد لله
الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور * الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب) "
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم حدثنا أسيد بن عاصم ثنا الحسين بن حفص حدثنا سفيان عن الأعمش عن رجل عن
أبي ثابت عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " (ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا
فمنهم ظالم لنفسه) - قال - فأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يصيبه الهم والحزن ثم يدخل الجنة " ورواه ابن جرير من
حديث سفيان الثوري عن الأعمش قال ذكر أبو ثابت أنه دخل المسجد فجلس إلى جنب أبي الدرداء رضي الله عنه فقال
اللهم آنس وحشتي وارحم غربتي ويسر لي جليسا صالحا فقال أبو الدرداء رضي الله عنه لئن كنت صادقا لأنا أسعد به
منك سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أحدث به منذ سمعته منه ذكر هذه الآية (ثم أورثنا الكتاب الذي
اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) فأما السابق بالخيرات فيدخلها بغير
حساب وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيصيبه في ذلك المكان من الغم والحزن وذلك قوله
تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن). (الحديث الثالث) قال الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا
عبد الله بن محمد بن العباس حدثنا ابن مسعود أخبرنا سهل بن عبد ربه الرازي حدثنا عمرو بن أبي قيس عن ابن أبي
ليلى عن أخيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم
سابق بالخيرات بإذن الله) الآية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلهم من هذه الأمة " (الحديث الرابع) قال ابن أبي حاتم
محمد بن عزيز حدثنا سلامة عن عقيل عن ابن شهاب عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أمتي
ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب وثلث يحاسبون حسابا يسيرا ثم يدخلون الجنة وثلث
يمحصون ويكشفون ثم تأتي الملائكة فيقولون وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده يقول الله تعالى صدقوا لا إله إلا أنا
أدخلوهم الجنة بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار وهي التي قال الله تعالى (وليحملن أثقالهم
وأثقالا مع أثقالهم) وتصديقها في التي فيها ذكر الملائكة قال الله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من
عبادنا) فجعلهم ثلاثة أفواج وهم أصناف كلهم فمنهم ظالم لنفسه فهذا الذي يمحص ويكشف " غريب جدا (أثر عن
ابن مسعود) رضي الله عنه قال ابن جرير حدثني ابن حميد حدثنا الحكم بن بشير عن عمرو بن قيس عن عبد الله بن
عيسى رضي الله عنه عن يزيد بن الحارث عن شقيق أبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: إن هذه الأمة
ثلاث أثلاث يوم القيامة ثلث يدخلون الجنة بغير حساب وثلث يحاسبون حسابا يسيرا وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى
يقول الله عز وجل ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى فتقول الملائكة هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك
شيئا فيقول الرب عز وجل أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي. وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية (ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا) الآية (أثر آخر) قال أبو داود الطيالسي عن الصلت بن دينار بن الأشعث عن عقبة بن صهبان
الهنائي قال سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى (ثم أورثنا الكتاب الذين أصفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه)
563

الآية فقالت لي يا بني هؤلاء في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالحياة والرزق وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم قال فجعلت
نفسها رضي الله عنها معنا وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع وإلا فهي من
أكبر السابقين بالخيرات لان فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله قال أمير
المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى (فمنهم ظالم لنفسه) قال: هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل
حضرنا وسابقنا أهل الجهاد رواه ابن أبي حاتم.
وقال عوف الاعرابي حدثنا عبد الله بن الحارث بن نوفل قال حدثنا كعب الأحبار رحمة الله عليه قال: إن الظالم لنفسه من
هذه الأمة والمقتصد والسابق بالخيرات كلهم في الجنة ألم تر أن الله تعالى قال (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من
عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير * جنات عدن يدخلونها - إلى
قوله عز وجل - والذين كفروا لهم نار جهنم) قال فهؤلاء أهل النار رواه ابن جرير من طرق عن عوف به. ثم قال حدثني
يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن علية أخبرنا حميد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال إن ابن عباس رضي الله
عنهما سأل كعبا عن قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا - إلى قوله - بإذن الله) قال تماست
مناكبهم ورب كعب ثم أعطوا الفضل بأعمالهم ثم قال ابن جرير حدثنا ابن حميد حدثنا الحكم بن بشير حدثنا عمرو بن
قيس عن أبي إسحاق السبيعي في هذه الآية (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) الآية قال أبو إسحاق أما ما
سمعت من ذي ستين سنة فكلهم ناج ثم قال حدثنا ابن حميد حدثنا الحكم حدثنا عمرو عن محمد بن الحنفية رضي
الله عنه قال إنها أمة مرحومة الظالم مغفور له والمقتصد في الجنان عند الله والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله.
ورواه الثوري عن إسماعيل بن سميع عن رجل عن محمد بن الحنفية رضي الله عنه بنحوه. وقال أبو الجارود: سألت
محمد بن علي - يعني الباقر - رضي الله عنهما عن قول الله تعالى (فمنهم ظالم لنفسه) فقال هو الذي خلط عملا
صالحا وآخر سيئا. فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام. وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع
الأقسام الثلاثة في هذه الأمة فالعلماء أغبط الناس بهذه النعمة وأولى الناس بهذه الرحمة فإنهم كما قال الإمام أحمد رحمه
الله حدثنا محمد بن يزيد حدثنا عاصم بن رجاء بن حياة عن قيس بن كثير قال قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء
رضي الله عنه وهو بدمشق فقال ما أقدمك أي أخي؟ قال حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما قدمت
لتجارة؟ قال لا قال أما قدمت لحاجة قال لا قال أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال نعم قال رضي الله
عنه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من سلك طريقا يطلب فيها علما سلك الله تعالى به طريقا إلى الجنة وإن الملائكة
لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم
على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب إن العلماء هم ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما
ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر " وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث كثير بن قيس ومنهم من يقول
قيس بن كثير عن أبي الدرداء رضي الله عنه وقد ذكرنا طرقه واختلاف الرواة فيه في شرح كتاب العلم من صحيح
البخاري ولله الحمد والمنة وقد تقدم في أول سورة طه حديث ثعلبة بن الحكم رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا
أبالي ".
جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (33) وقالوا الحمد لله الذي أذهب
عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور (34) الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها
لغوب (35)
564

يخبر تعالى أن هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة مأواهم جنات عدن
أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عز وجل (يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا) كما ثبت
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء "
(ولباسهم فيها حرير) ولهذا كان محظورا عليهم في الدنيا فأباحه الله تعالى لهم في الآخرة وثبت في الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة " وقال " هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
وقال ابن أبي حاتم حدثنا عمرو بن سواد السرحي أخبرنا ابن وهب عن أبي لهيعة عن عقيل بن خالد عن الحسن عن أبي
هريرة رضي الله عنه قال إن أبا أمامة رضي الله عنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم وذكر حلي أهل الجنة فقال " مسورون
بالذهب والفضة مكللة بالدر وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة وعليهم تاج كتاج الملوك شباب جرد مرد مكحولون ".
(وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن) وهو الخوف من المحذور أزاحه عنا وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من
هموم الدنيا والآخرة وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم
ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن " رواه ابن أبي حاتم من حديثه.
وقال الطبراني حدثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا موسى بن يحيى المروزي حدثنا سليمان بن عبد الله بن وهب
الكوفي عن عبد العزيز بن حكيم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ليس على أهل لا إله إلا الله
وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد
لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور " قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: غفر لهم الكثير من السيئات
وشكر لهم اليسير من الحسنات (الذي أحلنا دار المقامة من فضله) يقولون الذي أعطانا هذه المنزلة وهذا المقام من
فضله ومنه ورحمته لم تكن أعمالنا تساوي ذلك كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لن يدخل أحدا منكم عمله
الجنة " قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال " ولا أنا إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل " (لا يمسنا فيها نصب ولا
يمسنا فيها لغوب) أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب وكأن المراد بنفي
هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم والله أعلم فمن ذلك أنهم كانوا يدأبون أنفسهم في العبادة في
الدنيا فسقط عنهم التكليف بدخولها وصاروا في راحة دائمة مستمرة قال الله تبارك وتعالى: (كلوا واشربوا هنيئا بما
أسلفتم في الأيام الخالية).
والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزى كل كفور (36)
وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صلحا غير الذي كنا نعمل أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم
النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير (37)
لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان مآل الأشقياء فقال (والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم
فيموتوا) كما قال تعالى: (لا يموت فيها ولا يحيى) وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أما أهل النار
الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون " وقال عز وجل (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) فهم
في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم ولكن لا سبيل إلى ذلك قال الله تعالى: (لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف
عنهم من عذابها) كما قال عز وجل (إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون * لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون) وقال
جل وعلا (كلما خبت زدناهم سعيرا) (فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا) ثم قال تعالى: (كذلك نجزي كل كفور)
565

أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق وقوله جلت عظمته (وهم يصطرخون فيها) أي ينادون فيها يجأرون إلى
الله عز وجل بأصواتهم (ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل) أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير
عملهم الأول وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون فلهذا لا يجيبهم
إلى سؤالهم كما قال تعالى مخبرا عنهم في قولهم (فهل إلى مرد من سبيل * ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن
يشرك به تؤمنوا) أي لا يجيبكم إلى ذلك لأنكم كنتم كذلك ولو رددتم لعدتم إلى ما نهيتم عنه ولذا قال ههنا (أو لم
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) أي أو ما عشتم في الدنيا أعمارا لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به
في مدة عمركم؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد ههنا فروي عن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله
عنهما أنه قال مقدار سبع عشر سنة. وقال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر قد نزلت هذه
الآية (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة وكذا قال أبو غالب الشيباني. وقال
عبد الله بن المبارك عن معمر عن رجل عن وهب بن منبه في قوله تعالى: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) قال
عشرين سنة. وقال هشيم عن منصور عن زاذان عن الحسن في قوله تعالى: (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر)
قال أربعين سنة وقال هشيم أيضا عن مجالد عن الشعبي عن مسروق أنه كان يقول: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ
حذره من الله عز وجل وهذه رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما فيما قال ابن جرير حدثنا ابن عبد الاعلى حدثنا بشر بن
المفضل حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد قال سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: العمر الذي أعذر
الله تعالى لابن آدم " أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر " أربعون سنة. هكذا رواه من هذا الوجه عن ابن عباس رضي
الله عنهما به وهذا القول هو اختيار ابن جرير، ثم رواه من طريق الثوري وعبد الله بن إدريس كلاهما عن عبد الله بن
عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله (أو لم
نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) ستون سنة فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما وهي الصحيحة في نفس
الامر أيضا لما ثبت في ذلك من الحديث كما سنورده لا كما زعمه ابن جرير من أن الحديث لم يصح في ذلك لان في
إسناده من يجب التثبت في أمره وقد روى أصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه أنه قال: العمر الذي عيرهم الله به في
قوله (أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر) ستون سنة. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا دحيم حدثنا ابن أبي
فديك حدثني إبراهيم بن الفضل المخزومي عن ابن أبي حسين المكي أنه حدثه عن عطاء هو ابن أبي رباح عن ابن
عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان يوم القيامة قيل أين أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه
(أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) " وكذا رواه ابن جرير عن علي بن شعيب عن إسماعيل بن أبي
فديك به وكذا رواه الطبراني من طريق ابن أبي فديك به وهذا الحديث فيه نظر لحال إبراهيم بن الفضل والله أعلم
(حديث آخر) قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن رجل من بني غفار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة لقد أعذر الله
تعالى إليه لقد أعذر الله تعالى إليه " وهكذا رواه الامام البخاري في كتاب الرقاق من صحيحه حدثنا عبد السلام بن مطهر
عن عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغ ستين سنة " ثم قال البخاري تابعه أبو حازم وابن عجلان عن سعيد
المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما أبو حازم فقال ابن جرير حدثنا أبو صالح الفزاري حدثنا محمد بن
سوار أخبرنا يعقوب بن عبد الرحمن بن عبد القادر أي الإسكندري حدثنا أبو حازم عن سعيد المقبري عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من عمره الله تعالى ستين سنة فقد أعذر إليه في العمر " وقد رواه الإمام أحمد
والنسائي في الرقاق جميعا عن قتيبة عن يعقوب بن عبد الرحمن به ورواه البزار قال: حدثنا هشام بن
يونس حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
566

" العمر الذي أعذر الله تعالى فيه إلى ابن آدم ستون سنة " يعني (أو لم نعمركم ما
يتذكر فيه من تذكر). وأما متابعة ابن عجلان فقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو السفر يحيى بن محمد بن عبد الملك بن
قرعة بسامرا حدثنا أبو عبد الرحمن المقري حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عز وجل إليه في العمر " وكذا
رواه الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن هو المقري به ورواه أحمد أيضا عن خلف عن أبي معشر عن أبي سعيد
المقبري. (طريق أخرى) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ابن جرير حدثني أحمد بن الفرج أبو عتبة الحمصي حدثنا
بقية بن الوليد حدثنا المطرف بن مازن الكناني حدثني معمر بن راشد قال: سمعت محمد بن عبد الرحمن الغفاري
يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أعذر الله عز وجل في العمر إلى صاحب الستين
سنة والسبعين " فقد صح هذا الحديث من هذه الطرق فلو لم يكن إلا الطريق التي ارتضاها أبو عبد الله البخاري شيخ
هذه الصناعة لكفت. وقول ابن جرير إن في رجاله بعض من يجب التثبت في أمره لا يلتفت إليه مع تصحيح البخاري
والله أعلم. وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة فالانسان لا يزال في ازدياد إلى كمال الستين
ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم كما قال الشعر:
إذا بلغ الفتى ستين عاما * فقد ذهب المسرة والفتاء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به ويزيح به عنهم العلل كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة كما
ورد بذلك الحديث قال الحسن بن عرفة رحمه الله حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي حدثنا محمد بن عمرو عن
أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز
ذلك " وهكذا رواه الترمذي وابن ماجة جميعا في كتاب الزهد عن الحسن بن عرفة به ثم قال الترمذي هذا حديث غريب
لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وهذا عجب من الترمذي فإنه قد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا من وجه آخر وطريق أخرى عن
أبي هريرة حيث قال حدثنا سليمان بن عمرو عن محمد بن ربيعة عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي
الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك " وقد رواه الترمذي في
كتاب الزهد أيضا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري عن محمد بن ربيعة به ثم قال هذا حديث حسن غريب من حديث أبي
صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه وقد روى من غير وجه عنه هذا نصه بحروفه في الموضعين والله أعلم. وقال الحافظ
أبو يعلى حدثنا أبو موسى الأنصاري حدثنا ابن أبي فديك حدثني إبراهيم بن الفضل مولى بني مخزوم عن المقبري عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " معترك المنايا ما بين الستين إلى السبعين " وبه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم " أقل أمتي أبناء سبعين " إسناده ضعيف (حديث آخر) في معنى ذلك قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده حدثنا
إبراهيم بن هانئ حدثنا إبراهيم بن مهدي عن عثمان بن مطر عن أبي مالك عن ربعي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال يا
رسول الله أنبئنا بأعمار أمتك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما بين الخمسين إلى الستين " قالوا يا رسول الله فأبناء السبعين قال صلى الله عليه وسلم
" قل من يبلغها من أمتي رحم الله أبناء السبعين ورحم الله أبناء الثمانين " ثم قال البزار لا يروى بهذا اللفظ إلا بهذا
الاسناد وعثمان بن مطر من أهل البصرة ليس بقوي وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثا وستين سنة وقيل
ستين وقيل خمسا وستين والمشهور الأول والله أعلم وقوله تعالى: (وجاءكم النذير) روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما وعكرمة وأبى جعفر الباقر رضي الله عنه وقتادة وسفيان بن عيينة أنهم قالوا يعني الشيب وقال السدي وعبد
الرحمن بن زيد بن أسلم يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ ابن زيد (هذا نذير من النذر الأولى) وهذا هو الصحيح عن قتادة
فيما رواه شيبان عنه أنه قال: احتج عليهم بالعمر والرسل وهذا اختيار ابن جرير وهو الاظهر لقوله تعالى: (ونادوا يا
مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون * لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون) أي لقد بينا لكم الحق على
ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتم وقال تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقال تبارك وتعالى (كلما ألقي فيها
567

فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شئ إن أنتم إلا في ضلال
كبير) وقوله تعالى: (فذوقوا فما للظالمين من نصير) أي فذوقوا عذاب النار جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة
أعماركم فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه من العذاب والنكال والأغلال.
إن الله علم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذات الصدور (38) هو الذي جعلكم خلائف في الأرض
فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا (39)
يخبر تعالى بعلمه غيب السماوات والأرض وأنه يعلم ما تكنه السرائر وما تنطوي عليه الضمائر وسيجازي كل عامل
بعمله. ثم قال عز وجل (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض) أي يخلف قوم لآخرين قبلهم وجيل لجيل قبلهم.
كما قال تعالى: (ويجعلكم خلفاء الأرض) (فمن كفر فعليه كفره) أي فإنما يعود وبال ذلك على نفسه دون غيره
(ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا) أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى وكلما استمروا فيه
خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين.
قل أرءيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات أم
آتيناهم كتابا فهم على بينت منه بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا (40) إن الله يمسك السماوات
والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا (41)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين (أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله) أي من الأصنام والأنداد
(أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات) أي ليس لهم شئ من ذلك ما يملكون من قطمير وقوله
(أم آتيناهم كتابا فهم على بينة منه) أي أم أنزلنا عليهم كتابا بما يقولونه من الشرك والكفر؟ ليس الامر كذلك (بل إن
يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا) أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وآراءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم وهي
غرور وباطل وزور ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره وما جعل فيهما من القوة
الماسكة لهما فقال (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) أي أن تضطربا عن أماكنهما كما قال عز وجل
(ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) وقال تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) (ولئن
زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو وهو مع ذلك حليم غفور أن يرى عباده
وهم يكفرون به ويعصونه وهو يحلم فيؤخر وينظر ويؤجل ولا يعجل ويستر آخرين ويغفر ولهذا قال تعالى: (إنه كان
حليما غفورا). وقد أورد ابن أبي حاتم ههنا حديثا غريبا بل منكرا فقال حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا
إسحاق بن إبراهيم حدثني هشام بن يوسف عن أمية بن سهل عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه الصلاة والسلام على المنبر قال: " وقع في نفس موسى عليه الصلاة
والسلام هل ينام الله عز وجل فأرسل الله تعالى إليه ملكا فأرقه ثلاثا وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ
بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فيجلس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومه فاصطفقت يداه فانكسرت
القارورتان قال ضرب الله له مثلا إن الله عز وجل لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض " والظاهر أن هذا الحديث
ليس بمرفوع بل من الإسرائيليات المنكرة فإن موسى عليه الصلاة والسلام أجل من أن يجوز على الله سبحانه وتعالى
النوم وقد أخبر الله عز وجل في كتابه العزيز بأنه (الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض)
وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له
568

أن ينام يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور أو النار لو كشفه
لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " وقد قال أبو جعفر بن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا عبد الرحمن
حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل قال: جاء رجل إلى عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه فقال من أين جئت؟
قال من الشام قال من لقيت؟ قال لقيت كعبا قال ما حدثك؟ قال حدثني أن السماوات تدور على منكب ملك قال
أفصدقته أو كذبته؟ قال ما صدقته ولا كذبته قال لوددت أنك افتديت من رحلتك إليه براحلتك ورحلها كذب كعب إن الله
تعالى يقول (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) وهذا إسناد صحيح
إلى كعب وإلى ابن مسعود رضي الله عنه ثم رواه ابن جرير عن ابن حميد عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال ذهب
جندب البجلي إلى كعب بالشام فذكر نحوه. وقد رأيت في مصنف للفقيه يحيى بن إبراهيم بن مزين الطليطلي سماه -
سير الفقهاء - أورد هذا الأثر عن محمد بن عيسى بن الطباع عن وكيع عن الأعمش به ثم قال وأخبرنا زونان يعني عبد
الملك بن الحسين عن ابن وهب عن مالك أنه قال السماء لا تدور واحتج بهذه الآية وبحديث " إن بالمغرب بابا للتوبة لا
يزال مفتوحا حتى تطلع الشمس منه " قلت وهذا الحديث في الصحيح والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا (42)
استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنت الأولين فلن تجد لسنت
الله تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا (43)
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم قبل إرسال الرسول إليهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من
إحدى الأمم أي من جميع الأمم الذين أرسل إليهم الرسل قاله الضحاك وغيره كقوله تعالى: (أن تقولوا إنما أنزل
الكتاب على طائفة من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين * أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم
بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها) وكقوله تعالى: (وإن كانوا ليقولون لو أن
عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين * فكفروا به فسوف يعلمون) قال الله تعالى: (فلما جاءهم نذير)
وهو محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم وهو القرآن المبين (ما زادهم إلا نفورا) أي ما ازدادوا إلا كفرا إلى
كفرهم. ثم بين ذلك بقوله (استكبارا في الأرض) أي استكبروا عن اتباع آيات الله (ومكر السئ) أي ومكروا بالناس
في صدهم إياهم عن سبيل الله (ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله) أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون
غيرهم. قال ابن أبي حاتم ذكر علي بن الحسين حدثنا ابن أبي عمر حدثنا سفيان عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إياك ومكر السئ فإنه لا يحيق المكر السئ إلا بأهله ولهم من الله طالب) وقال محمد بن كعب
القرظي ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به من مكر أو بغي أو نكث وتصديقها في كتاب الله تعالى (ولا يحيق المكر
السئ إلا بأهله) (إنما بغيكم على أنفسكم) (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) وقوله عز وجل (فهل ينظرون
إلا سنة الأولين) يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره (ولن تجد لسنة الله تبديلا) أي لا تغير ولا
تبدل بل هي جارية كذلك في كل مكذب (ولن تجد لسنة الله تحويلا) أي (وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له) ولا
يكشف ذلك عنهم ويحوله عنهم أحد والله أعلم.
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه
من شئ في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا (44) ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها
من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا (45)
569

يقول تعالى قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا
الرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها فخلت منهم منازلهم وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم بعد كمال القوة وكثرة
العدد والعدة وكثرة الأموال والأولاد فما أغنى ذلك شيئا ولا دفع عنهم من عذاب الله من شئ لما جاء أمر ربك لأنه
تعالى لا يعجزه شئ إذا أراد كونه في السماوات والأرض (إنه كان عليما قديرا) أي عليم بجميع الكائنات قدير على
مجموعها ثم قال تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) أي لو آخذهم بجميع
ذنوبهم لأهلك جميع أهل السماوات والأرض وما يملكونه من دواب وأرزاق. قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن سنان
حدثنا عبد الرحمن حدثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كاد الجعل أن يعذب في
جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) وقال سعيد بن جبير والسدي
في قوله تعالى: (ما ترك على ظهرها من دابة) أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب (ولكن يؤخرهم إلى أجل
مسمى) أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ ويوفي كل عامل بعمله فيجازي بالثواب أهل الطاعة
وبالعقاب أهل المعصية. ولهذا قال تبارك وتعالى (فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا). آخر تفسير سورة
فاطر ولله الحمد والمنة.
سورة يس: قال أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة وسفيان بن وكيع حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرواسي عن الحسن بن صالح عن
هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شئ قلبا
وقلب القرآن يس ومن قرأ يس كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات " ثم قال هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من
حديث حميد بن عبد الرحمن وهارون أبو محمد شيخ مجهول. وفي الباب عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولا
يصح لضعف إسناده وعن أبي هريرة رضي الله عنه منظور فيه. أما حديث الصديق رضي الله عنه فرواه الحكيم
الترمذي في كتابه نوادر الأصول. وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو بكر البزار حدثنا عبد الرحمن بن الفضل
حدثنا زيد هو ابن الحباب حدثنا حميد هو المكي مولى آل علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لكل شئ قلبا وقلب القرآن يس " ثم قال لا نعلم رواه إلا زيد عن حميد. وقال الحافظ
أبو يعلى حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل حدثنا حجاج بن محمد عن هشام بن زياد عن الحسن قال سمعت أبا هريرة رضي
الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ يس في ليلة أصبح مغفورا له ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدخان أصبح
مغفورا له " إسناده جيد. وقال ابن حبان في صحيحه حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف حدثنا الوليد بن
شجاع بن الوليد السكوني حدثنا أبي حدثنا زياد بن خيثمة حدثنا محمد بن جحادة عن الحسن عن جندب بن عبد الله
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله عز وجل غفر له ". وقد قال الإمام أحمد
حدثنا عارم حدثنا معتمر عن أبيه عن رجل عن أبيه عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " البقرة
سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) من تحت العرش
فوصلت بها - أو فوصلت بسورة البقرة - ويس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله تعالى والدار الآخرة إلا غفر له
واقرؤوها على موتاكم " وكذا رواه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الاعلى عن معتمر بن سليمان به. ثم قال
الإمام أحمد حدثنا عارم حدثنا ابن المبارك حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن
يسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اقرأوها على موتاكم " يعني يس ورواه أبو داود والنسائي في اليوم والليلة
وابن ماجة من حديث عبد الله بن المبارك به إلا أن في رواية النسائي عن أبي عثمان عن معقل بن يسار رضي الله عنه
570

ولهذا قال بعض العلماء من خصائص هذه السورة أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى وكأن قراءتها عند الميت
لتنزل الرحمة والبركة وليسهل عليه خروج الروح والله تعالى أعلم. قال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا أبو المغيرة حدثنا
صفوان قال: كان المشيخة يقولون إذا قرئت يعني يس عند الميت خفف الله عنه بها. وقال البزار حدثنا سلمة بن شبيب
حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لوددت أنها في قلب كل
إنسان من أمتي " يعني يس.
بسم الله الرحمن الرحيم
يس (1) والقرءان الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صرط مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم
(5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غفلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعكرمة والضحاك
والحسن وسفيان بن عيينة أن يس بمعنى يا إنسان وقال سعيد بن جبير هو كذلك في لغة الحبشة وقال مالك عن
زيد بن أسلم هو اسم من أسماء الله تعالى (والقرآن الحكيم) أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه (إنك) أي يا محمد (لمن المرسلين * على صراط مستقيم) أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم. (تنزيل
العزيز الرحيم) أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين كما قال
تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير
الأمور). وقوله تعالى (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) يعني بهم العرب فإنه ما أتاهم من نذير من قبله
وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم كما أن ذكر بعض الافراد لا ينفي العموم وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة
في عموم بعثته صلى الله عليه وسلم. قوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا). وقوله تعالى (لقد حق القول
على أكثرهم) قال ابن جرير لقد وجب العذاب على أكثرهم بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون
(فهم لا يؤمنون) بالله ولا يصدقون رسله.
إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنما تنذر من اتبع الذكر
وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11) إنا نحن نحى الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل
شئ أحصيناه في إمام مبين (12)
يقول تعالى إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غل فجمع
يديه مع عنقه تحت ذقنه فارتفع رأسه فصار مقمحا ولهذا قال تعالى (فهم مقمحون) والمقمح هو الرافع رأسه كما قالت
أم زرع في كلامها: وأشرب فأتقمح، أي أشرب فأروي وأرفع رأسي تهنيئا وترويا واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر
اليدين وإن كانتا مرادتين كما قال الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا ابتغيه * أم الشر الذي لا يأتليني
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر لما دل الكلام والسياق عليه. وهكذا هذا لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع
571

العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (إنا جعلنا في
أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) قال هو كقوله عز وجل (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) يعني
بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير. وقال مجاهد (فهم مقمحون) قال رافعي
رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم فهم مغلولون عن كل خير وقوله تعالى (وجعلنا من بين أيديهم سدا) قال
مجاهد عن الحق (ومن خلفهم سدا) قال مجاهد: عن الحق فهم مترددون. وقال قتادة في الضلالات وقوله تعالى
(فأغشيناهم) أي أغشينا أبصارهم عن الحق (فهم لا يبصرون) أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه قال ابن
جرير: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقرأ (قأغشيناهم) بالعين المهملة من العشا وهو داء في العين
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الاسلام والايمان فهم لا يخلصون إليه وقرأ
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ثم قال: من منعه الله
تعالى لا يستطيع. وقال عكرمة قال أبو جهل لئن رأيت محمدا لأفعلن ولأفعلن فأنزلت (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا -
إلى قوله - فهم لا يبصرون) قال وكانوا يقولون هذا محمد فيقول أين هو أين هو؟ لا يبصره رواه ابن جرير، وقال
محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب قال: قال أبو جهل وهم جلوس إن محمدا يزعم أنكم إن
تابعتموه كنتم ملوكا فإذا متم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه
ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك وفي يده حفنة من تراب وقد
أخذ الله تعالى على أعينهم دونه فجعل يذرها على رؤوسهم ويقرأ (يس * والقرآن الحكيم - حتى انتهى إلى قوله
تعالى - وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون) وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا
رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار فقال مالكم؟ قالوا ننتظر محمدا قال قد خرج عليكم فما
بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم ذهب لحاجته فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب.
قال وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال: " وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحا وإنه لآخذهم " وقوله تبارك وتعالى
(وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي قد ختم الله عليهم بالضلالة فما يفيد فيهم الانذار ولا يتأثرون
به وقد تقدم نظيرها في أول سورة البقرة وكما قال تبارك وتعالى (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو
جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) (إنما تنذر من اتبع الذكر) أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون
الذكر وهو القرآن العظيم (وخشي الرحمن بالغيب) أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى يعلم أن الله مطلع عليه
وعالم بما يفعل (فبشره بمغفرة) أي لذنوبه (وأجر كريم) أي كثير واسع حسن جميل كما قال تبارك وتعالى (إن
الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير). ثم قال عز وجل (إنا نحن نحيي الموتى) أي يوم القيامة وفيه
إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة فيهديهم بعد ذلك إلى الحق كما
قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب (اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون) وقوله
تعالى (ونكتب ما قدموا) أي من الأعمال وفي قوله تعالى (وآثارهم) قولان (أحدهما) نكتب أعمالهم التي
باشروها بأنفسهم وآثارهم التي آثروها من بعدهم فنجزيهم على ذلك أيضا إن خيرا فخير وإن شرا فشر كقوله صلى الله عليه وسلم: " من
سن في الاسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن سن في
الاسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ " رواه مسلم من
رواية شعبة عن عون بن أبي جحيفة عن المنذر بن جرير عن أبيه جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وفيه قصة
مجتابي الثمار المضريين ورواه ابن أبي حاتم عن أبيه عن يحيى بن سليمان الجعفي عن أبي المحياة يحيى بن يعلى
عن عبد الملك بن عمير عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه فذكر الحديث بطوله ثم تلا هذه الآية (ونكتب ما قدموا
وآثارهم) وقد رواه مسلم من رواية أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير بن المنذر بن جرير عن أبيه فذكره وهكذا
572

الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا من ثلاث: من علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده " وقال وسفيان الثوري عن أبي
سعيد رضي الله عنه قال سمعت مجاهدا يقول في قوله تعالى (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم) قال ما
أورثوا من الضلالة. وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قوله تعالى (ونكتب ما قدموا وآثارهم)
يعني ما آثروا يقول ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم فإن كانت خيرا فلهم مثل أجورهم لا ينقص من أجر من
عمل به شيئا وإن كانت شرا فعليهم مثل أوزارهم ولا ينقص من أوزار من عمل بها شيئا ذكرهما ابن أبي حاتم وهذا
القول هو اختيار البغوي. (والقول الثاني) أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية قال ابن أبي نجيح
وغيره عن مجاهد (ما قدموا) أعمالهم (وآثارهم) قال خطاهم بأرجلهم وكذا قال الحسن وقتادة (وآثارهم)
يعني خطاهم. وقال قتادة لو كان الله عز وجل مغفلا شيئا من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار ولكن
أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته فمن استطاع
منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل. وقد وردت في هذا المعنى أحاديث (الحديث الأول). قال الإمام أحمد
حدثنا عبد الصمد حدثنا أبي حدثنا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال خلت البقاع
حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: " إني بلغني أنكم تريدون أن
تنتقلوا قرب المسجد " قالوا نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: " يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم دياركم تكتب
آثاركم " وهكذا رواه مسلم من حديث سعيد الجريري وكهمس بن الحسن كلاهما عن أبي نضرة واسمه المنذر بن
مالك بن قطعة العبدي عن جابر رضي الله عنه به. (الحديث الثاني) قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن الوزير
الواسطي حدثنا إسحاق الأزرق عن سفيان الثوري عن أبي سفيان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب
ما قدموا وآثارهم) فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: " إن آثاركم تكتب " فلم ينتقلوا تفرد بإخراجه الترمذي عند تفسير هذه الآية
الكريمة عن محمد بن الوزير به ثم قال حسن غريب من حديث الثوري ورواه ابن جرير عن سليمان بن عمر بن خالد
الرقي عن ابن المبارك عن سفيان الثوري عن طريف - وهو ابن شهاب أبو سفيان السعدي - عن أبي نضرة به وقد روي
من غير طريق الثوري فقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا عباد بن زياد الساجي حدثنا عثمان بن عمر حدثنا شعبة عن سعيد
الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من
المسجد فنزلت (ونكتب ما قدموا وآثارهم) فأقاموا في مكانهم وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الاعلى حدثنا
الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفيه غرابة من حيث ذكر نزول هذه الآية والسورة
بكمالها مكية فالله أعلم. (الحديث الثالث) قال ابن جرير حدثنا نصر بن علي الجهضمي حدثنا أبو أحمد الزبيري
حدثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت منازل الأنصار متباعدة من المسجد فأرادوا
أن ينتقلوا إلى المسجد فنزلت (ونكتب ما قدموا وآثارهم) فقالوا نثبت مكاننا هكذا رواه وليس فيه شئ مرفوع
ورواه الطبراني عن عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم عن محمد بن يوسف الفريابي عن إسرائيل عن سماك عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يتحولوا إلى
المسجد فنزلت (ونكتب ما قدموا وآثارهم) فثبتوا في منازلهم. (الحديث الرابع) قال الإمام أحمد حدثنا حسن
حدثنا ابن لهيعة حدثني حيي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال توفي
رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " يا ليته مات في غير مولده " فقال رجل من الناس ولم يا رسول الله؟ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة " ورواه النسائي عن
يونس بن عبد الاعلى وابن ماجة عن حرملة كلاهما عن ابن وهب عن حيي بن عبد الله به وقال ابن جرير حدثنا ابن حميد
573

حدثنا أبو تميلة حدثنا الحسين عن ثابت قال مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويدا فلما
قضينا الصلاة قال أنس مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي فقال يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا
تنافي بينه وبين الأول بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأولى والأحرى فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلان تكتب
تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى والله أعلم وقوله تعالى: (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) أي
وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ والامام المبين ههنا هو أم الكتاب قاله مجاهد وقتادة
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وكذا في قوله تعالى (يوم ندعو كل أناس بإمامهم) أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم
بما عملوه من خير أو شر كما قال عز وجل (ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء) وقال تعالى: (ووضع الكتاب
فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا
حاضرا ولا يظلم ربك أحدا).
واضرب لهم مثلا أصحب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم
مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم
لمرسلون (16) وما علينا إلا البلغ المبين (17)
يقول تعالى واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك (مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) قال ابن إسحاق فيما
بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه أنها مدينة أنطاكية وكان بها ملك يقال له أنطيخس بن
أنطيخس بن أنطيخس وكان يعبد الأصنام فبعث الله تعالى إليه ثلاثة من الرسل وهم صادق وصدوق وشلوم فكذبهم
وهكذا روي عن بريدة بن الخصيب وعكرمة وقتادة والزهري أنها أنطاكية وقد استشكل بعض الأئمة كونها أنطاكية بما
سنذكره بعد تمام القصة إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما) أي بادروهما بالتكذيب (فعززنا بثالث) أي قويناهما وشددنا
أزرهما برسول ثالث. قال ابن جريج عن وهب بن سليمان عن شعيب الجبابي قال كان اسم الرسولين الأولين شمعون
ويوحنا واسم الثالث بولص والقرية أنطاكية (فقالوا) أي لأهل تلك القرية (إنا إليكم مرسلون) أي من ربكم الذي
خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له وقاله أبو العالية وزعم قتادة أنهم كانوا رسل المسيح عليه السلام إلى أهل
أنطاكية (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر فلم لا أوحي إلينا مثلكم ولو كنتم
رسلا لكنتم ملائكة وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة كما أخبر الله تعالى عنهم في قوله عز وجل (ذلك بأنه كانت تأتيهم
رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا) أي استعجبوا من ذلك وأنكروه وقوله تعالى: (قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا
تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين) وقوله تعالى حكاية عنهم في قوله تعالى (ولئن أطعتم بشرا
مثلكم إنكم إذا لخاسرون) وقوله تعالى: (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا
رسولا) ولهذا قال هؤلاء (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم
إنا إليكم لمرسلون) أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام
ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كقوله تعالى: (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما
في السماوات وما في الأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون) (وما علينا إلا البلاغ المبين)
يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والاخرى وإن لم تجيبوا فستعلمون
غب ذلك والله أعلم.
قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم
574

قوم مسرفون (19)
فعند ذلك قال لهم أهل القرية (إنا تطيرنا بكم) أي لم نر على وجوهكم خيرا في عيشنا. وقال قتادة يقولون إن أصابنا
شر فإنما هو من أجلكم. وقال مجاهد يقولون لم يدخل مثلكم إلى قرية إلا عذب أهلها (لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) قال
قتادة بالحجارة وقال مجاهد بالشتم (وليمسنكم منا عذاب أليم) أي عقوبة شديدة فقالت لهم رسلهم (طائركم
معكم) أي مردود عليكم كقوله تعالى في قوم فرعون (فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا
بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله) وقال قوم صالح (اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله) وقال قتادة
ووهب بن منبه أي أعمالكم معكم. وقال عز وجل (وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا
هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) وقوله تعالى: (أئن ذكرتم بل
أنتم قوم مسرفون) أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا
وتهددتمونا بل أنتم قوم مسرفون. وقال قتادة أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم منا بل أنتم قوم مسرفون.
وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسئلكم أجرا وهم مهتدون
(21) ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عنى
شفعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إني إذا لفى ضلل مبين (24) إني امنت بربكم فاسمعون (25)
قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب الأحبار ووهب بن منبه أن أهل القرية هموا بقتل رسلهم
فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى أي لينصرهم من قومه قالوا وهو حبيب وكان يعمل الحرير وهو الحباك وكان رجلا
سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة (1) وقال ابن إسحاق عن رجل سماه عن
الحكم عن مقسم أو مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال اسم صاحب يس حبيب وكان الجذام قد أسرع فيه.
وقال الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز كان اسمه حبيب بن سري وقال شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس
رضي الله عنهما قال اسم صاحب يس حبيب النجار فقتله قومه وقال السدي كان قصارا وقال عمر بن الحكم كان إسكافا
وقال قتادة كان يتعبد في غار هناك (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم (اتبعوا من
لا يسألكم أجرا) أي على إبلاغ الرسالة (وهم مهتدون) فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.
(وما لي لا أعبد الذي فطرني) أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له (وإليه ترجعون)
أي يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر (أأتخذ من دونه آلهة) استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع
(إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من
الامر شيئا فإن الله تعالى لو أرادني بسوء (فلا كاشف له إلا هو) وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه ولا ينقذونني
مما أنا فيه (إني إذا لفي ضلال مبين) أي إن اتخذتها آلهة من دون الله وقوله تعالى: (إني آمنت بربكم
فاسمعون) قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب يقول لقومه (إني آمنت بربكم)
الذي كفرتم به (فاسمعون) أي فاسمعوا قولي ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله (إني آمنت بربكم) أي الذي
أرسلكم (فاسمعون) أي فاشهدوا لي بذلك عنده وقد حكاه ابن جرير فقال وقال آخرون بل خاطب بذلك الرسل وقال
لهم اسمعوا قولي لتشهدوا لي بما أقول لكم عند ربي إني آمنت بربكم واتبعتكم وهذا القول الذي حكاه عن هؤلاء أظهر
في المعنى والله أعلم. قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما وكعب ووهب رضي الله عنهم فلما قال
ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن له أحد يمنع عنه وقال قتادة جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول اللهم
اهد قومي فإنهم لا يعلمون فلم يزالوا به حتى أقعصوه وهو يقول كذلك فقتلوه رحمه الله.

(1) في النسخة المكية: النظرة.
575

قيل ادخل الجنة قال يليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربى وجعلني من المكرمين (27) * وما أنزلنا على قومه
من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة وحدة فإذا هم خامدون (29)
قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنهما وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصه من دبره وقال
الله له (ادخل الجنة) فدخلها فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها وقال مجاهد قيل لحبيب النجار
ادخل الجنة وذلك أنه قتل فوجبت له فلما رأى الثواب (قال يا ليت قومي يعلمون) قال قتادة لا تلقى المؤمن إلا ناصحا
لا تلقاه غاشا لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من
المكرمين) تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة الله وما هجم عليه وقال ابن عباس نصح قومه في حياته بقوله (يا
قومي اتبعوا المرسلين) وبعد مماته في قوله (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) رواه ابن
أبي حاتم وقال سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أبي مجلز (بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين) بإيماني
بربي وتصديقي المرسلين ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من الثواب والجزاء والنعيم المقيم لقادهم ذلك إلى
اتباع الرسل فرحمه الله ورضي عنه فلقد كان حريصا على هداية قومه. قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن
عبيد الله حدثنا ابن جابر هو محمد عن عبد الملك يعني ابن عمير قال: قال عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم
ابعثني إلى قومي أدعوهم إلى الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني أخاف أن يقتلوك " فقال لو وجدوني نائما ما أيقظوني
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " انطلق " فانطلق فمر على اللات والعزى فقال لأصبحنك غدا بما يسوءك فغضبت ثقيف فقال يا
معشر ثقيف إن اللات لا لات وإن العزى لا عزى أسلموا تسلموا يا معشر الاحلاف إن العزى لا عزى وإن اللات لا
لات أسلموا تسلموا قال ذلك ثلاث مرات فرماه رجل فأصاب أكحله فقتله فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " هذا مثله كمثل
صاحب يس " (قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين). وقال محمد بن إسحاق عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار أنه ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني
مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يقول له أتشهد أن
محمدا رسول الله؟ فيقول نعم ثم يقول أتشهد أني رسول الله فيقول لا أسمع فيقول له مسيلمة لعنه الله أتسمع هذا ولا
تسمع ذاك؟ فيقول نعم فجعل يقطعه عضوا عضوا كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه فقال كعب حين قيل له
اسمه حبيب وكان والله صاحب يس اسمه حبيب. وقوله تبارك وتعالى (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء
وما كنا منزلين) يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى عليهم لانهم كذبوا رسله وقتلوا وليه
ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم بل الامر كان أيسر من
ذلك. قاله ابن مسعود فيما رواه ابن إسحاق عن بعض أصحابه أنه قال في قوله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده
من جند من السماء وما كنا منزلين) أي ما كاثرناهم بالجموع الامر كان أيسر علينا من ذلك (إن كانت إلا صيحة
واحدة فإذا هم خامدون) قال فأهلك الله تعالى ذلك الملك وأهل أنطاكية فبادوا عن وجه الأرض فلم يبق منهم باقية
وقيل (وما كنا منزلين) أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذابا يدمرهم وقيل
المعنى في قوله تعالى (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء) أي من رسالة أخرى إليهم قاله مجاهد وقتادة
قال قتادة فلا والله ما عاتب الله قومه بعد قتله (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون) قال ابن جرير والأول أصح
لان الرسالة لا تسمى جندا. قال المفسرون بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام فأخذ بعضادتي باب
بلدهم ثم صاح فيهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون عن آخرهم لم يبق فيهم روح تتردد في جسد وقد تقدم عن كثير من
السلف أن هذه القرية هي أنطاكية وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من عند المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام
كما نص عليه قتادة وغيره وهو الذي لم يذكر عن واحد من متأخري المفسرين غيره وفي ذلك نظر من وجوه (أحدها)
576

أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى: (إذ أرسلنا
إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون - إلى أن قالوا - ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون * وما علينا إلا
البلاغ المبين) ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام والله تعالى أعلم
ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم (إن أنتم إلا بشر مثلنا) (الثاني) أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم
وكانوا أول مدينة آمنت بالمسيح ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربعة اللاتي فيهن بتاركة وهن القدس لأنها
بلد المسيح وأنطاكية لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها والإسكندرية لان فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة
والمطارنة والأساقفة والقساوسة والشمامسة والرهابين. ثم رومية لأنها مدينة الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده
ولما ابتنى القسطنطينية نقلوا البترك من رومية إليها كما ذكره غير واحد ممن ذكر تواريخهم كسعيد بن بطريق وغيره من
أهل الكتاب والمسلمين فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله وأنه
أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم والله أعلم. (الثالث) أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول
التوراة وقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وغير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك
أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ذكروه عند قوله تبارك وتعالى:
(ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى) فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية
أخرى غير أنطاكية كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة
مدينة أخرى غير هذه المشهورة المعروفة فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك والله سبحانه
وتعالى أعلم فأما الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني حدثنا الحسين بن إسحاق التستري حدثنا
الحسين بن أبي السري العسقلاني حدثنا حسين الأشقر حدثنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس
رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى عليه الصلاة والسلام يوشع بن نون والسابق
إلى عيسى عليه الصلاة والسلام صاحب يس والسابق إلى محمد صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه " فإنه حديث
منكر لا يعرف إلا من طريق حسين الأشقر وهو شيعي متروك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزءون (30) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم
لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: (يا حسرة على العباد) أي يا ويل العباد وقال قتادة (يا حسرة
على العباد) أي يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله وفرطت في جنب الله وفي بعض القراءات (يا
حسرة العباد على أنفسها) ومعنى هذا يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب كيف كذبوا رسل الله وخالفوا أمر
الله فإنهم كانوا في الدار الدنيا المكذبون منهم (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) أي يكذبونه ويستهزئون به
ويجحدون ما أرسل به من الحق. ثم قال تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) أي
ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة ولم يكن الامر كما
زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم من قولهم (إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا) وهم القائلون بالدور من الدهرية
وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها فرد الله تبارك وتعالى عليهم باطلهم فقال تبارك
وتعالى (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون). وقوله عز وجل (وإن كل لما جميع لدينا
محضرون) أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيام بين يدي الله جل وعلا فيجازيهم بأعمالهم
كلها خيرها وشرها ومعنى هذه كقوله جل وعلا (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم) وقد اختلف القراء في أداء هذا
الحرف فمنهم من قرأ (وإن كل لما) بالتخفيف فعنده أن إن للاثبات ومنهم من شدد (لما) وجعل إن نافية ولما
577

بمعنى إلا تقديره وما كل إلا جميع لدينا محضرون ومعنى القراءتين واحد والله سبحانه وتعالى أعلم.
وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنت من نخيل وأعناب وفجرنا
فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحن الذي خلق الا زوج كلها مما تنبت
الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)
يقول تبارك وتعالى (وآية لهم) أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى (الأرض الميتة) أي
إذا كانت ميتة هامدة لا شئ فيها من النبات فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج
ولهذا قال تعالى: (أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) أي جعلنا رزقا لهم ولانعامهم (وجعلنا فيها جنات من
نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون) أي جعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة يحتاجون إليها (ليأكلوا من ثمره)، لما امتن
على خلقه بإيجاد الزروع لهم عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها وقوله جل وعلا (" وما عملته أيديهم) أي وما ذاك
كله إلا من رحمة الله تعالى بهم لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم قاله ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة ولهذا قال
تعالى (أفلا يشكرون) أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى واختار ابن
جرير - بل جزم به ولم يحك غيره إلا احتمالا - أن ما في قوله تعالى: (وما عملته أيديهم) بمعنى الذي تقديره
ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي غرسوه ونصبوه قال وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
(ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أفلا يشكرون) ثم قال تبارك وتعالى (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما
تنبت الأرض) أي من زروع وثمار ونبات (ومن أنفسهم) فجعلهم ذكرا وأنثى (ومما لا يعلمون) أي من مخلوقات
شتى لا يعرفونها كما قال جلت عظمته (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون).
وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم
(38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق
النهار وكل في فلك يسبحون (40)
يقول تعالى ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة خلق الليل والنهار هذا بظلامه وهذا بضيائه وجعلهما
يتعاقبان يجئ هذا فيذهب هذا ويذهب هذا فيجئ هذا كما قال تعالى: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا) ولهذا
قال عز وجل ههنا (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي نصرمه منه فيذهب فيقبل الليل ولهذا قال تبارك وتعالى (فإذا
هم مظلمون) كما جاء في الحديث " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم "
هذا هو الظاهر من الآية وزعم قتادة أنها كقوله تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) وقد ضعف ابن
جرير قول قتادة ههنا وقال إنما معنى الايلاج الاخذ من هذا في هذا وليس هذا مرادا في هذه الآية وهذا الذي قاله ابن
جرير حق وقوله جل جلاله (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) في معنى قوله (لمستقر لها)
قولان أحدهما أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض في ذلك الجانب وهي أينما كانت فهي
تحت العرش وجميع المخلوقات لأنه سقفها وليس بكرة كما يزعمه كثير من أرباب الهيئة وإنما هو قبة ذات قوائم
تحمله الملائكة وهو فوق العالم مما يلي رؤوس الناس فالشمس إذا كانت في قبة الفلك وقت الظهيرة تكون أقرب ما
تكون إلى العرش فإذا استدارت في فلكها الرابع إلى مقابلة هذا المقام وهو وقت نصف الليل صارت أبعد ما تكون إلى
العرش فحينئذ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث قال البخاري حدثنا أبو نعيم حدثنا الأعمش عن
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس فقال صلى الله عليه وسلم " يا
578

أبا ذر أتدري أين تغرب الشمس؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم. " فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فذلك قوله
تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) " حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي حدثنا وكيع عن
الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى:
(والشمس تجري لمستقر لها) قال صلى الله عليه وسلم " مستقرها تحت العرش " هكذا أورده ههنا وقد أخرجه في أماكن متعددة
ورواه بقية الجماعة إلا ابن ماجة من طرق عن الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن عبيد عن الأعمش عن
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس فقال صلى الله عليه وسلم " يا أبا ذر أتدري
أين تذهب الشمس؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم " فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عز وجل فتستأذن في
الرجوع فيؤذن لها وكأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها " ثم قرأ " (والشمس
تجري لمستقر لها) " قال سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس " أتدري أين تذهب؟ " قلت الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم " فإنها تذهب حتى
تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها ويقال لها ارجعي من
حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) ".
وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال في قوله
تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) قال إن الشمس تطلع فتردها ذنوب بني آدم حتى إذا غربت سلمت وسجدت
واستأذنت فيؤذن لها حتى إذا كان يوم غربت فسلمت وسجدت واستأذنت فلا يؤذن لها فتقول إن المسير بعيد وإني إن
لا يؤذن لي لا أبلغ فتحبس ما شاء الله أن تحبس ثم يقال لها اطلعي من حيث غربت قال فمن يومئذ إلى يوم القيامة لا ينفع
نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا وقيل المراد بمستقرها هو انتهاء سيرها وهو غاية ارتفاعها
في السماء في الصيف وهو أوجها ثم غاية انخفاضها في الشتاء وهو الحضيض (والقول الثاني) أن المراد بمستقرها
هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكور وينتهي هذا العالم إلى غايته وهذا هو مستقرها الزماني
قال قتادة (لمستقر لها) أي لوقتها ولأجل لا تعدوه وقيل المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد
عليها ثم تنتقل في مطالع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها يروى هذا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وقرأ ابن
مسعود وابن عباس رضي الله عنهم (والشمس تجري لا مستقر لها) أي لا قرار لها ولا سكون بل هي سائرة ليلا
ونهارا لا تفتر ولا تقف كما قال تبارك وتعالى (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم
القيامة (ذلك تقدير العزيز) أي الذي لا يخالف ولا يمانع (العليم) بجميع الحركات والسكنات وقد قدر ذلك ووقته
على منوال لا اختلاف فيه ولا تعاكس كما قال عز وجل (فالق الاصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك
تقدير العزيز العليم) وهكذا ختم آية حم السجدة بقوله تعالى: (ذلك تقدير العزيز العليم) ثم قال جل وعلا
(والقمر قدرناه منازل) أي جعلناه يسير سيرا آخر يستدل به على مضي الشهور كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار
كما قال عز وجل (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج). وقال تعالى: (هو الذي جعل الشمس
ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب) الآية وقال تبارك وتعالى: (وجعلنا الليل والنهار آيتين
فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه
تفصيلا) فجعل الشمس لها ضوء يخصها والقمر له نور يخصه وفاوت بين سير هذه وهذا فالشمس تطلع كل يوم وتغرب
في آخره على ضوء واحد ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ثم يطول
الليل ويقصر النهار وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا
قليل النور ثم يزداد نورا في الليلة الثانية ويرتفع منزلة ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبسا من الشمس حتى يتكامل
نوره في الليلة الرابعة عشرة ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. قال ابن عباس رضي الله
579

عنهما وهو أصل العذق. وقال مجاهد العرجون القديم أي العذق اليابس يعني ابن عباس رضي الله عنهما أصل العنقود
من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى وكذا قال غيرهما ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديدا في أول الشهر الآخر والعرب
تسمي كل ثلاث ليال من الشهر باسم باعتبار القمر فيسمون الثلاث الأول غرر واللواتي بعدها نقل واللواتي بعدها تسع
لان أخراهن التاسعة واللواتي بعدها عشر لان أولاهن العاشرة واللواتي بعدها البيض لان ضوء القمر فيهن إلى آخرهن
واللواتي بعدهن درع جمع درعاء لان أولهن أسود لتأخر القمر في أولهن منه ومنه الشاة الدرعاء وهي التي رأسها أسود
وبعدهن ثلاث ظلم ثم ثلاث حنادس وثلاث دأدى وثلاث محاق لإنمحاق القمر أو الشهر فيهن وكان أبو عبيدة رضي
الله عنه ينكر التسع والعشر. كذا قال في كتاب غريب المصنف وقوله تبارك وتعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك
القمر) قال مجاهد لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا
وإذا ذهب سلطان هذا جاء
سلطان هذا وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الحسن في قوله تعالى: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) قال
ذلك ليلة الهلال. وروى ابن أبي حاتم ههنا عن عبد الله بن المبارك أنه قال إن للريح جناحا وإن القمر يأوي إلى غلاف
من الماء وقال الثوري عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا. وقال
عكرمة في قوله عز وجل (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) يعني أن لكل منهما سلطانا فلا ينبغي للشمس أن تطلع
بالليل. وقوله تعالى: (ولا الليل سابق النهار) يقول لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار
فسلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل وقال الضحاك لا يذهب الليل من ههنا حتى يجئ النهار من ههنا وأو ماء
بيده إلى المشرق وقال مجاهد (ولا الليل سابق النهار) يطلبان حثيثين يسلخ أحدهما من الآخر والمعنى في هذا أنه
لا فترة بين الليل والنهار بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا. وقوله
تبارك وتعالى (وكل في فلك يسبحون) يعني الليل والنهار والشمس والقمر كلهم يسبحون أي يدورون في فلك
السماء. قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في
فلك بين السماء والأرض. رواه ابن أبي حاتم وهو غريب جدا بل منكر قال ابن عباس رضي الله عنهما وغير واحد من
السلف في فلكة كفلكة المغزل وقال مجاهد الفلك كحديد الرحى أو كفلكة المغزل لا يدور المغزل إلا بها ولا تدور إلا
به.
وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ
لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)
يقول تبارك وتعالى ودلالة لهم أيضا على قدرته تبارك وتعالى تسخيره البحر ليحمل السفن فمن ذلك بل أوله سفينة نوح
عليه الصلاة والسلام التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم عليه
الصلاة والسلام غيرهم ولهذا قال عز وجل (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم) أي آباءهم (في الفلك المشحون) أي في
السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين قال ابن عباس
رضي الله عنهما المشحون الموقر وكذا قال سعيد بن جبير والشعبي وقتادة والسدي وقال الضحاك وقتادة وابن زيد
وهي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام. وقوله جل وعلا (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) قال العوفي عن ابن عباس
رضي الله عنهما يعني بذلك الإبل فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها وكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة في
رواية عبد الله بن شداد وغيرهم وقال السدي في رواية هي الانعام. وقال ابن جرير حدثنا الفضل بن الصباح حدثنا
محمد بن فضيل عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أتدرون ما قوله تعالى (وخلقنا لهم من
مثله ما يركبون)؟ قلنا لا قال هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها وكذا قال أبو
مالك والضحاك وقتادة وأبو صالح والسدي أيضا المراد بقوله تعالى: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) أي السفن
580

ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جل وعلا (إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية * لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن
واعية). وقوله عز وجل (وإن نشأ نغرقهم) يعني الذين في السفن (فلا صريخ لهم) أي فلا مغيث لهم مما هم فيه
(ولا هم ينقذون) أي مما أصابهم. (إلا رحمة منا) وهذا استثناء منقطع تقديره ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر
ونسلمكم إلى أجل مسمى ولهذا قال تعالى: (ومتاعا إلى حين) أي إلى وقت معلوم عند الله عز وجل.
وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها
معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله
أطعمه إن أنتم إلا في ضلل مبين (47)
يقول تعالى مخبرا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها وما يستقبلون بين
أيديهم يوم القيامة (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) قال مجاهد من الذنوب وقال غيره بالعكس (لعلكم
ترحمون) أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون
عنه. واكتفى عن ذلك بقوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) أي على التوحيد وصدق الرسل (إلا كانوا
عنها معرضين) أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها. وقوله عز وجل (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) أي
وإذا أمروا بالانفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين (قال الذين كفروا للذين آمنوا) أي عن الذين
آمنوا من الفقراء أي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالانفاق محاجين لهم فيما أمروهم به (أنطعم من لو يشاء الله
أطعمه) أي وهؤلاء الذين أمرتمونا بالانفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه فنحن نوافق مشيئة الله تعالى
فيهم (إن أنتم إلا في ضلال مبين) أي في أمركم لنا بذلك قال ابن جرير ويحتمل أن يكون من قول الله عز وجل
للكفار حين ناظروا المؤمنين وردوا عليهم فقال لهم (إن أنتم إلا في ضلال مبين) وفي هذا نظر والله أعلم.
ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة وحدة تأخذهم وهم يخصمون (49)
فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون (50)
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم (متى هذا الوعد) (يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها) قال الله
عز وجل (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون) أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة وهذه والله أعلم نفخة
الفزع ينفخ في الصور نفخة الفزع والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم فبينما هم
كذلك إذ أمر الله عز وجل إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يطولها ويمدها فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتا
ورفع ليتا وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار
تحيط بهم من جوانبهم ولهذا قال تعالى: (فلا يستطيعون توصية) أي على ما يملكونه الامر أهم من ذلك (ولا إلى
أهلهم يرجعون) وقد وردت ههنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق التي تموت بها
الاحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ثم بعد ذلك نفخة البعث.
ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد
الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة وحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم
نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54)
581

هذه هي النفخة الثالثة وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور ولهذا قال تعالى: (فإذا هم من الأجداث
إلى ربهم ينسلون) والنسلان هو المشي السريع كما قال تعالى: (يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب
يوفضون). (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها
فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم لأنه بالنسبة
إلى ما بعده في الشدة كالرقاد. قال أبي بن كعب رضي الله عنه ومجاهد والحسن وقتادة ينامون نومة قبل البعث قال قتادة
وذلك بين النفختين فلذلك يقولون من بعثنا من مرقدنا فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون قاله غير واحد من السلف
(هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) وقال الحسن إنما يجيبهم بذلك الملائكة، ولا منافاة إذ الجمع ممكن والله
سبحانه وتعالى أعلم. وقال عبد الرحمن بن زيد: الجميع من قول الكفار (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد
الرحمن وصدق المرسلون) نقله ابن جرير واختار الأول وهو أصح وذلك كقوله تبارك وتعالى في الصافات (وقالوا يا
ويلنا هذا يوم الدين * هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون) وقال الله عز وجل (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما
لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم
البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) *
وقوله تعالى: (إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون) كقوله عز وجل (فإنما هي زجرة واحدة * فإذا
هم بالساهرة) وقال جلت عظمته (وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب) وقال جل جلاله (يوم يدعوكم
فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا) أي إنما نأمرهم أمرا واحدا فإذا الجميع محضرون (فاليوم لا تظلم نفس
شيئا) أي من عملها (ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون).
إن أصحب الجنة اليوم في شغل فكهون (55) هم وأزواجهم في ضلل على الأرائك متكئون (56) لهم فيها
فكهة ولهم ما يدعون (57) سلم قولا من رب رحيم (58)
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات فنزلوا في روضات الجنات أنهم في شغل عن غيرهم
بما هم فيه من النعيم المقيم والفوز العظيم قال الحسن البصري وإسماعيل بن أبي خالد في شغل عما فيه أهل النار من
العذاب وقال مجاهد (في شغل فاكهون) أي في نعيم معجبون أي به وكذا قال قتادة وقال ابن عباس رضي الله
عنهما فاكهون أي فرحون قال عبد الله بن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن
وقتادة والأعمش وسليمان التيمي والأوزاعي في قوله تبارك وتعالى (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون) قالوا
شغلهم افتضاض الابكار وقال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عنه (في شغل فاكهون) أي بسماع الأوتار
وقال أبو حاتم لعله غلط من المستمع وإنما هو افتضاض الابكار. وقوله عز وجل (هم وأزواجهم) قال مجاهد
وحلائلهم (في ظلال) أي في ظلال الأشجار (على الأرائك متكئون) قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة ومحمد بن
كعب والحسن وقتادة والسدي وخصيف (الأرائك) هي السرر تحت الحجال (قلت) نظيره في الدنيا هذه التخوت
تحت البشاخين والله سبحانه وتعالى أعلم. وقوله عز وجل (لهم فيها فاكهة) أي من جميع أنواعها (ولهم ما
يدعون) أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ. قال ابن أبي حاتم حدثنا محمد بن عوف الحمصي حدثنا
عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار حدثنا محمد بن مهاجر عن الضحاك المعافري عن سليمان بن موسى حدثني كريب أنه
سمع أسامة بن زيد رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا هل مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها هي
ورب الكعبة نور كلها يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد، ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل
كثيرة ومقام في أبد في دار سلامة وفاكهة خضرة وخير ونعمة في محلة عالية بهية " قالوا نعم يا رسول الله نحن
المشمرون لها. قال صلى الله عليه وسلم " قولوا إن شاء الله " فقال القوم إن شاء الله وكذا رواه ابن ماجة في كتاب الزهد من سننه من
582

حديث الوليد بن مسلم عن محمد بن مهاجر به. وقوله تعالى: (سلام قولا من رب رحيم) قال ابن جرير قال ابن
عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (سلام قولا من رب رحيم) فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجنة وهذا
الذي قال ابن عباس رضي الله عنهما كقوله تعالى: (تحيتهم يوم يلقونه سلام). وقد روى ابن أبي حاتم ههنا حديثا
وفي إسناده نظر فإنه قال: حدثنا موسى بن يوسف حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب حدثنا أبو عاصم
العبداني حدثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام
عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى: (سلام قولا من رب رحيم) قال فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى
شئ من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم " ورواه ابن ماجة في
كتاب السنة من سننه عن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب به. وقال ابن جرير حدثنا يونس بن عبد الاعلى أخبرنا
ابن وهب حدثنا حرملة عن سليمان بن حميد قال سمعت محمد بن كعب القرظي يحدث عن عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه قال: إذا فرغ الله تعالى من أهل الجنة والنار أقبل في ظلل من الغمام والملائكة قال فيسلم على أهل الجنة
فيردون عليه السلام قال القرظي وهذا في كتاب الله تعالى (سلام قولا من رب رحيم) فيقول الله عز وجل سلوني
فيقولون ماذا نسألك أي رب؟ قال بلى سلوني قالوا نسألك أي رب رضاك قال رضائي أحلكم دار كرامتي قالوا يا رب
فما الذي نسألك فوعزتك وجلالك وارتفاع مكانك لو قسمت علينا رزق الثقلين لا طعمناهم ولأسقيناهم ولألبسناهم
ولا خدمناهم لا ينقصنا ذلك شيئا قال تعالى إن لدي مزيدا قال فيفعل ذلك بهم في درجهم حتى يستوي في مجلسه
قال ثم تأتيهم التحف من الله عز وجل تحملها إليهم الملائكة ثم ذكر نحوه. وهذا خبر غريب أورده ابن جرير من طرق
والله أعلم.
وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) * ألم أعهد إليكم يا بني ادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين
(60) وأن اعبدوني هذا صرط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)
يقول تعالى مخبرا عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة من أمره لهم أن يمتازوا بمعنى يميزون عن المؤمنين في موقفهم
كقوله تعالى: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) وقال عز وجل
(ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) (يومئذ يصدعون) أي يصيرون صدعين فرقتين (احشروا الذين ظلموا
وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم
أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو
لهم مبين وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم ولهذا قال تعالى: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) أي قد
أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتي وهذا هو الصراط المستقيم فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان
فيما أمركم به ولهذا قال عز وجل (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) يقال جبلا بكسر الجيم وتشديد اللام ويقال جبلا
بضم الجيم والباء وتخفيف اللام ومنهم من يسكن الباء والمراد بذلك الخلق الكثير قاله مجاهد وقتادة والسدي
وسفيان بن عيينة. وقوله تعالى: (أفلم تكونوا تعقلون) أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من
عبادته وحده لا شريك له وعدو لكم إلى اتباع الشيطان. قال ابن جريج حدثنا كريب حدثنا عبد الرحمن بن محمد
المحاربي عن إسماعيل بن رافع عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا
الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم * ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون * هذه
جهنم التي كنتم توعدون) (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) فيتميز الناس ويجثون وهي التي يقول الله عز وجل
583

(وترى كل أمة جاثية * كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون).
هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا
أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون
(66) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67)
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعا وتوبيخا (هذه جهنم التي كنتم توعدون) أي
هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) كما قال تعالى: (يوم يدعون إلى نار
جهنم دعا هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون). وقوله تعالى: (اليوم نختم على
أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما
اجترموه في الدنيا ويحلفون ما فعلوه فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت. قال ابن أبي حاتم
حدثنا أبو شيبة إبراهيم بن عبد الله بن أبي شيبة حدثنا منجاب بن الحارث التميمي حدثنا أبو عامر الأزدي حدثنا
سفيان عن عبيد المكتب عن الفضل بن عمرو عن الشعبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا عند النبي
صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال صلى الله عليه وسلم " أتدرون مم أضحك؟ " قلنا الله ورسوله أعلم قال صلى الله عليه وسلم " من مجادلة
العبد ربه يوم القيامة يقول رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول بلى فيقول لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي
فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه ويقال لأركانه انطقي بعمله ثم
يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل " وقد رواه مسلم والنسائي كلاهما عن أبي
بكر بن أبي النضر عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي عن سفيان هو الثوري به. ثم قال
النسائي لا أعلم أحدا روى هذا الحديث عن سفيان غير الأشجعي وهو حديث غريب والله تعالى أعلم. كذا قال
وقد تقدم من رواية أبي عامر عن عبد الملك بن عمرو الأسدي وهو العقدي عن سفيان وقال عبد الرزاق أخبرنا
معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنكم تدعون مفدما على أفواهكم بالفدام فأول ما
يسئل عن أحدكم فخذه وكتفه " رواه النسائي عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق به وقال سفيان بن عيينة عن
سهيل عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل قال فيه " ثم يلقى الثالث
فيقول ما أنت؟ فيقول أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصمت وصليت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع -
قال - فيقال له ألا نبعث عليك شاهدنا؟ - قال - فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه فيختم على فيه ويقال لفخذه
انطقي - قال - فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي يسخط
الله تعالى عليه " ورواه مسلم وأبو داود من حديث سفيان بن عيينة به بطوله ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله حدثنا
أبي حدثنا هشام بن عمار حدثنا إسماعيل بن عياش حدثنا ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر
رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول عظم من الانسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من
الرجل اليسرى " وروى ابن جرير عن محمد بن عوف عن عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن عياش به مثله.
وقد جود إسناده الإمام أحمد رحمه الله فقال حدثنا الحكم بن نافع حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة
عن شريح بن عبيد الحضرمي عمن حدثه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول
عظم من الانسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال " وقال ابن جرير حدثنا يعقوب بن إبراهيم
حدثنا ابن علية حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: قال أبو بردة قال أبو موسى هو الأشعري رضي الله عنه
يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول نعم أي رب عملت عملت
584

عملت قال فيغفر الله تعالى لذنوبه ويستره منها قال فما على الأرض خليفة ترى من تلك الذنوب شيئا وتبدو
حسناته فود أن الناس كلهم يرونها ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ويقول أي
رب وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل فيقول له الملك أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟
فيقول لا وعزتك أي رب ما عملته فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى على فيه قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه
فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى ثم تلا (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما
كانوا يكسبون) وقوله تبارك وتعالى: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) قال
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها يقول ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى فكيف يهتدون
وقال مرة أعميناهم وقال الحسن البصري ولو شاء الله لطمس على أعينهم فجعلهم عميا يترددون وقال السدي يقول
ولو نشاء أعمينا أبصارهم وقال مجاهد وأبو صالح وقتادة والسدي فاستبقوا الصراط يعني الطريق وقال ابن زيد يعني
بالصراط ههنا فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم وقال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما (فأنى
يبصرون) لا يبصرون الحق. وقوله عز وجل (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) قال العوفي عن ابن عباس
رضي الله عنهما أهلكناهم وقال السدي يعني لغيرنا خلقهم وقال أبو صالح لجعلناهم حجارة وقال الحسن
البصري وقتادة لأقعدهم على أرجلهم ولهذا قال تبارك وتعالى (فما استطاعوا مضيا) أي إلى أمام (ولا
يرجعون) إلى وراء بل يلزمون حالا واحدا لا يتقدمون ولا يتأخرون.
ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68) وما علمنه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69)
لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رد إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط كما قال تبارك وتعالى
(الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو
العليم القدير) وقال عز وجل (ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا) والمراد من هذا
والله أعلم الاخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال لا دار دوام واستقرار ولهذا قال عز وجل (أفلا يعقلون)
أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سن الشيبة ثم إلى الشيخوخة ليعلموا أنهم خلقوا لدار
أخرى لا زوال لها ولا انتقال منها ولا محيد عنها وهي الدار الآخرة. وقوله تبارك وتعالى (وما علمناه الشعر وما
ينبغي له) يقول عز وجل مخبرا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه ما علمه الشعر (وما ينبغي له) أي ما هو في طبعه فلا
يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتا على وزن منتظم بل إن أنشده زحفه أو لم
يتمه وقال أبو زرعة الرازي حدثنا إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي أنه قال: ما ولد عبد المطلب ذكرا ولا
أنثى إلا يقول الشعر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب الذي أكله الأسد بالزرقاء قال
ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن هو البصري قال إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت:
* كفى بالاسلام والشيب للمرء ناهيا *
فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله
* كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا *
قال أبو بكر أو عمر رضي الله عنهما أشهد أنك رسول الله يقول تعالى (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) وهكذا
روى البيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس السلمي رضي الله عنه " أنت القائل:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة.
585

* فقال إنما هو بين عيينة والأقرع فقال صلى الله عليه وسلم " الكل سواء " يعني في المعنى صلوات الله وسلامه عليه والله أعلم.
وقد ذكر السهيلي في الروض الأنف لهذا التقديم والتأخير الذي وقع في كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا البيت مناسبة أغرب
فيها حاصلها شرف الأقرع بن حابس على عيينة بن بدر الفزاري لأنه ارتد أيام الصديق رضي الله عنه بخلاف ذاك
والله أعلم وهكذا روى الأموي في مغازيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر وهو يقول " هاما "
فيقول الصديق رضي الله عنه متمما للبيت:
من رجال أعزة علينا * وهم كانوا أعق وأظلما
وهذا لبعض شعراء العرب في قصيدة له وهي في الحماسة وقال الإمام أحمد حدثنا هشيم حدثنا مغيرة عن الشعبي
عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة:
* ويأتيك بالاخبار من لم تزود * وهكذا رواه النسائي في اليوم والليلة من طريق إبراهيم بن مهاجر عن الشعبي
عنها. ورواه الترمذي والنسائي أيضا من حديث المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها
كذلك ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. وقال الحافظ أبو بكر البزار حدثنا يوسف بن موسى حدثنا أسامة
عن زائدة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل من الاشعار:
* ويأتيك بالاخبار من لم تزود * ثم قال ورواه غير زائدة عن سماك عن عطية عن عائشة رضي الله عنها وهذا في
شعر طرفة بن العبد في معلقته المشهورة وهذا المذكور عجز بيت منها أوله.
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار من لم تزود
ويأتيك بالاخبار من لم تبع له * بتاتا ولم تضرب له وقت موعد
وقال سعيد بن عروة عن قتادة قيل لعائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر؟ قالت
رضي الله عنها: كان أبغض الحديث إليه غير أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل ببيت أخي بني قيس فيجعل أوله آخره وآخره أوله
فقال أبو بكر رضي الله عنه ليس هذا هكذا يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إني والله ما أنا بشاعر وما ينبغي لي "
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وهذا لفظه وقال معمر عن قتادة بلغني أن عائشة رضي الله عنها سئلت هل كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشئ من الشعر؟ فقالت رضي الله عنها: لا إلا بيت طرفة
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا * ويأتيك بالاخبار ما لم تزود
فجعل صلى الله عليه وسلم يقول " من لم تزود بالاخبار " فقال أبو بكر ليس هذا هكذا فقال صلى الله عليه وسلم " إني لست بشاعر ولا ينبغي لي "
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي أخبرنا أبو عبد الحافظ حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن نعيم وكيل المتقي ببغداد
حدثنا أبو محمد عبد الله بن هلال النحوي الضرير حدثنا علي بن عمرو الأنصاري حدثنا سفيان بن عيينة عن
الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا.
تفاءل بما تهوى يكن فلقلما * يقال لشئ ما كان إلا تحققا
سألت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي عن هذا الحديث فقال هو منكر ولم يعرف شيخ الحاكم ولا الضرير وثبت
في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ولكن تبعا لقول أصحابه رضي
الله عنهم فإنهم يرتجزون وهم يحفرون فيقولون.
لأهم لولا أنت ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا * وثبت الاقدام إن لاقينا
إن الالى قد بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا
586

ويرفع صلى الله عليه وسلم بقوله أبينا ويمدها وقد روى هذا بزحاف في الصحيحين أيضا وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين وهو راكب
البغلة يقدم بها في نحور العدو:
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا هذا وقع اتفاقا من غير قصد لوزن شعر بل جرى على اللسان من غير قصد إليه وكذلك ما ثبت في
الصحيحين عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه فقال صلى الله عليه وسلم:
هل أنت إلا أصبع دميت * وفي سبيل الله ما لقيت
وسيأتي عند قوله تعالى (إلا اللمم إنشاد
إن تغفر اللهم تغفر جما * وأي عبد لك ما ألما
وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعرا ولا ينبغي له فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم (الذي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ولا كهانة
ولا مفتعل ولا سحر يؤثر كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعا
وشرعا كما رواه أبو داود قال حدثنا عبيد الله بن عمرو حدثنا عبد الله بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب حدثنا
شرحبيل بن يزيد المعافري عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قال سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " ما أبالي ما أوتيت إن أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر من قبل نفسي "
تفرد به أبو داود وقال الإمام أحمد رحمه الله حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن الأسود بن شيبان عن أبي نوفل قال سألت
عائشة رضي الله عنها هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بسائغ عنده الشعر؟ فقالت قد كان أبغض الحديث إليه وقال عن
عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء ويدع ما بين ذلك وقال أبو داود حدثنا أبو الوليد
الطيالسي حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " لان يمتلئ جوف
أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا " انفرد به من هذا الوجه وإسناده على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال
الإمام أحمد حدثنا قزعة بن سويد الباهلي عن عاصم بن مخلد عن أبي الأشعث الصنعاني ح وحدثنا الأشيب فقال عن
أبي عاصم عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قرض بيت شعر بعد
العشاء الآخرة لم تقبل له صلاة تلك الليلة " وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب
الستة والمراد بذلك نظمه لا إنشاده والله أعلم على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين الذي كان
يتعاطاه شعراء الاسلام كحسان بن ثابت رضي الله عنه وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي
الله عنهم أجمعين ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ومنهم أمية بن أبي الصلت
الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم " آمن شعره وكفر قلبه " وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت
يقول صلى الله عليه وسلم عقب كل بيت " هيه " يعني يستطعمه فيزيده من ذلك وقد روى أبو داود من حديث أبي بن كعب
وبريدة بن الحصيب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن من البيان سحرا وإن من الشعر
حكما " ولهذا قال (وما علمناه الشعر) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر (وما ينبغي له) أي وما يصلح له
(إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) أي ما هذا الذي علمناه (إلا ذكر وقرآن مبين) أي بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره
ولهذا قال تعالى: (لينذر من كان حيا) أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض كقوله (لأنذركم به
ومن بلغ) وقال جل وعلا (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير
البصيرة كما قال قتادة حي القلب حي البصر وقال الضحاك يعني عاقلا (ويحق القول على الكافرين) أي هو رحمة
للمؤمنين وحجة على الكافرين.
587

أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها
يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الانعام التي سخرها لهم (فهم لها مالكون) قال قتادة مطيقون أي جعلهم
يقهرونها وهي ذليلة لهم لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ولو شاء لا قامه وساقه وذاك دليل منقاد معه
وكذا لو كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير. وقوله تعالى: (فمنها ركوبهم ومنها يأكلون) أي
منها ما يركبون في الاسفار ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والاقطار (ومنها يأكلون) إذا شاءوا نحروا
واجتزروا (ولهم فيها منافع) أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين (ومشارب) أي من ألبانها
وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك (أفلا يشكرون) أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره؟.
واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون (74) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75) فلا يحزنك
قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون (76)
يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة وترزقهم وتقربهم
إلى الله زلفى قال الله تعالى: (لا يسطيعون نصرهم) أي لا تقدر الآلهة على نصر عابديها بل هي أضعف من
ذلك وأقل وأذل وأحقر وأدحر بل لا تقدر على الاستنصار لانفسها ولا الانتقام ممن أرادها بسوء لأنها جماد لا تسمع ولا
تعقل وقوله تبارك وتعالى: (وهم لهم جند محضرون) قال مجاهد يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام
محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم
وقال قتادة (لا يستطيعون نصرهم) يعني الآلهة (وهم لهم جند محضرون) والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا
وهي لا تسوق إليهم خيرا ولا تدفع عنهم شرا إنما هي أصنام وهكذا قال الحسن البصري وهذا القول حسن وهو
اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى وقوله تعالى: (فلا يحزنك قولهم) أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله (إنا نعلم ما
يسرون وما يعلنون) أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك يوم لا يفقدون من
أعمالهم جليلا ولا حقيرا ولا صغيرا ولا كبيرا بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديما وحديثا.
أو لم ير الانسان إنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسى خلقه قال من يحيى
العظم وهى رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر
الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)
قال مجاهد وعكرمة وعروة بن الزبير والسدي وقتادة جاء أبي بن خلف لعنه الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم
وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم " نعم يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم
يحشرك إلى النار " ونزلت هذه الآيات من آخر يس (أو لم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة) إلى آخرهن وقال ابن
أبي حاتم حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عثمان بن سعيد الزيات عن هشيم عن أبي
بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن العاص بن وائل أخذ عظما من البطحاء ففته بيده ثم
قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم "
قال نزلت الآيات من آخر يس ورواه ابن جرير عن يعقوب بن إبراهيم عن هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير
فذكره ولم يذكر ابن عباس رضي الله عنهما وروى من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء
588

عبد الله بن أبي بعظم ففته وذكر نحو ما تقدم وهذا منكر لان السورة مكية وعبد الله بن أبي بن سلول إنما كان بالمدينة
وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في أبي بن خلف أو العاص بن وائل أو فيهما فهي عامة في كل من
أنكر البعث والألف واللام في قوله تعالى: (أو لم ير الانسان) للجنس يعم كل منكر للبعث (أنا خلقناه من
نطفة فإذا هو خصيم مبين) أي أو لم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة فإن الله ابتدأ خلق الانسان من
سلالة من ماء مهين فخلقه من شئ حقير ضعيف مهين كما قال عز وجل (ألم نخلقكم من ماء مهين * فجعلناه في
قرار مكين * إلى قدر معلوم) وقال تعالى: (إنا خلقنا الانسان من نطفة أمشاج) أي من نطفة من أخلاط متفرقة
فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته كما قال الإمام أحمد في مسنده حدثنا أبو المغيرة
حدثنا جرير حدثني عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بشر بن جحاش قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في
كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال الله تعالى بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى
إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أتصدق وأنى
أوان الصدقة؟ " ورواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن جرير بن عثمان به. ولهذا قال
تعالى: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة
العظيمة التي خلقت السماوات والأرض للأجساد والعظام الرميمة ونسي نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى
الوجود فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده. ولهذا قال عز وجل (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة
وهو بكل خلق عليم) أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت قال الإمام أحمد
حدثنا عفان حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله
عنهما ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول " إن رجلا حضره الموت فلما يئس من الحياة أوصى
أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا جزلا ثم أوقدوا فيه نارا حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت
فخذوها فدقوها فذروها في اليم ففعلوا فجمعه الله تعالى إليه ثم قال له لم فعلت ذلك؟ قال من خشيتك فغفر الله عز
وجل له " فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته صلى الله عليه وسلم يقول ذلك وكان نباشا وقد أخرجاه في الصحيحين من حديث عبد
الملك بن عمير بألفاظ كثيرة منها أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر في يوم
رائح أي كثير الهواء ففعلوا ذلك فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال له كن فإذا هو
رجل قائم فقال له ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له. وقوله تعالى:
(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار
خضرا نضرا ذا ثمر وينع ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا توقد به النار كذلك هو فعال لما يشاء قادر على ما يريد لا
يمنعه شئ قال قتادة في قوله (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) يقول الذي أخرج
هذه النار من هذا الشجر قادر على أن يبعثه وقيل المراد بذلك شجر المرخ والعفار ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد
قدح نار وليس معه زناد فيأخذ منه عودين أخضرين ويقدح أحدهما بالآخر فتتولد النار من بينهما كالزناد سواء وروي
هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي المثل: لكل شجر نار واستمجد المرخ والغفار وقال الحكماء في كل شجر
نار إلا العناب.
أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقدر على أن يخلق مثلهن بلى وهو الخلق العليم (81) إنما أمره إذا
أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحن الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون (83)
يقول تعالى مخبرا منبها على قدرته العظيمة في خلق السماوات السبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت والأرضين السبع
وما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار وما بين ذلك ومرشدا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء
589

العظيمة كقوله تعالى: (لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس) وقال عز وجل ههنا (أوليس الذي خلق
السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) أي مثل البشر فيعيدهم كما بدأهم قاله ابن جرير وهذه الآية
الكريمة كقوله عز وجل (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى
بلى إنه على كل شئ قدير) وقال تبارك وتعالى ههنا (بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له
كن فيكون) أي إنما يأمر بالشئ أمرا واحدا لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
إذا ما أراد الله أمرا فإنما * يقول له كن قوله فيكون
وقال الإمام أحمد حدثنا محمد بن نمير حدثنا موسى بن المسيب عن شهر عن عبد الرحمن عن أبي ذر رضي الله عنه قال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم وكلكم
فقير إلا من أغنيت إني جواد ماجد واجد أفعل ما أشاء عطائي كلام وعذابي كلام إذا أردت شيئا فإنما أقول له
كن فيكون). وقوله تعالى: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شي وإليه ترجعون) أي تنزيه وتقديس وتبرئة من
السوء للحي القيوم الذي بيده مقاليد السماوات والأرض وإليه رجع الامر كله وله الخلق والامر وإليه يرجع العباد يوم
المعاد فيجازي كل عامل بعمله وهو العادل المنعم المتفضل. ومعنى قوله سبحانه وتعالى (فسبحان الذي بيده ملكوت
كل شئ) كقوله عز وجل (قل من بيده ملكوت كل شئ) وكقوله تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) فالملك
والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت ورهبة ورهبوت وجبر وجبروت ومن الناس من زعم أن الملك هو عالم
الأجسام والملكوت هو عالم الأرواح والصحيح الأول وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم. قال الإمام أحمد
حدثنا شريح بن النعمان حدثنا حماد عن عبد الملك بن عمير حدثني ابن عم لحذيفة عن حذيفة رضي الله عنه قال:
قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال " سمع
الله لمن حمده - ثم قال - الحمد لله ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة " وكان ركوعه مثل قيامه وسجوده مثل
ركوعه فانصرف وقد كادت تنكسر رجلاي. وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث شعبة
عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة مولى الأنصار عن رجل من بني عبس عن حذيفة رضي الله عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يصلي من الليل وكان يقول " الله أكبر - ثلاثا - ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة " ثم استفتح فقرأ البقرة ثم
ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكان يقول في ركوعه " سبحان ربي العظيم " ثم رفع رأسه من الركوع فكان قيامه
نحوا من ركوعه وكان يقول في قيامه " لربي الحمد " ثم سجد فكان سجوده نحوا من قيامه وكان يقول في سجوده
" سبحان ربي الأعلى " ثم رفع رأسه من السجود وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده وكان يقول " رب
اغفر لي رب اغفر لي " فصلى أربع ركعات فقرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة أو الانعام - شك شعبة - هذا
لفظ أبي داود. وقال النسائي: أبو حمزة عندنا طلحة بن يزيد وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة كذا قال: والأشبه
أن يكون ابن عم حذيفة كما تقدم في رواية الإمام أحمد والله أعلم. وأما رواية صلة بن زفر عن حذيفة رضي الله عنه
فإنها في صحيح مسلم ولكن ليس فيها الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة. وقال أبو داود حدثنا أحمد بن صالح
حدثنا ابن وهب حدثني معاوية بن صالح عن عمرو بن قيس عن عاصم بن حميد عن عوف بن مالك الأشجعي رضي
الله عنه قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الله ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف سأل ولا يمر بآية عذاب
إلا وقف وتعوذ قال ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه " سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة " ثم
سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة سورة ورواه الترمذي في
الشمائل والنسائي من حديث معاوية بن صالح به. آخر تفسير سورة يس ولله الحمد والمنة.
(تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله سورة الصافات)
590